نهاية المطلب في دراية المذهب

الجويني، أبو المعالي

مقدمات

نهاية المطلب في دراية المذهب لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني رحمه الله تعالى (419 - 478 هـ) حققه وصنع فهارسه أ. د/ عبد العظيم محمود الدّيب دار المنهاج

الطبعة الأولى 1428هـ-2007م جميع الحقوق محفوظة للناشر دار المنهاج للنشر والتوزيع لصاحبها عمر سالم باجْخَيفْ وفقه الله تعالى المملكة العربية السعودية - جدة حي الكندرة- شارع أبها تقاطع شارع ابن زيدون هاتف رئيسي 6326666 - الإدارة 6300655 المكتبة 6322471 - فاكس 6320392 ص. ب 22943 - جدة 21416 لايسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه، وبأي شكل من الأشكال، أو نسخه، أو حفظه في أي نظام إلكتروني أو ميكانيكي يمكِّن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه، وكذلك لا يسمح بالاقتباس منه أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبقاً من الناشر ¬

_ ISBN 978-9953-498-07-2 WWW. Alminhaj.com E-mail: [email protected]

نهاية المطلب في درَايةَ المذَهَب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 127) (رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف: 10) (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران: 8)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ للهِ الذي وفَّقَ منِ اجتباهُ منْ عبادِهِ للتَّفقُّهِ في الدِّينِ، ونوَّهَ بذلكَ في الذِّكرِ الحكيمِ بقولهِ سبحانَهُ وتعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ سيدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، القائلِ: "خيارُكُمْ في الجاهليَّةِ خيارُكُمْ في الإسلامِ إذا فَقُهُوا" (¬1). أمَّا بعدُ: فبينَ أيدي العلماءِ من تراثِ الفقهاء ما لَو جمعوا كنوزَهُ، ونقَّدُوا جوهرَهُ .. لزانُوا جِيدَ اَلمجتمعِ اَلإنسانيَّ بعِقْدٍ ثمينٍ. وهذِهِ السَّماتُ تنطبقُ تماماً على هذا الكتابِ الموسوعيِّ "نهاية المطلب" للإمامِ اَلعظيمِ إمامِ الحرمينِ الجوينيِّ، الذِّي يعدُّ من أعظمِ كتبِ الشَّافعيَّةِ القديمةِ، ومنْ أثبتِ المراجعِ في نسبةِ المذهبِ للإمامِ الشَّافعي فهذا الميراثُ الأصيلُ الذِّي يخرجُ إلى فضاءِ الطِّباعةِ الرَّحيبِ لأوَّلِ مرَّةٍ، بعدَ ما يقاربُ الألفَ سنةٍ على تأليفِهِ .. لَيؤكِّدُ معنى الخيريَّةِ المتجدِّدَةِ في هذه الأمَّةِ التي لا تختصُّ بزمنٍ دونَ آخرَ، بلْ لا زالتْ مسيرةُ استخراجِ الكنوزِ قائمةً على قدمٍ وساقٍ في كل عصرٍ ومصرٍ. ¬

_ (¬1) "البخاري" (3494)، ومسلم (2526) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

كلمة الناشر

كلمة الناشر وقدْ قيَّضَ اللهُ لهذا التُّراثِ العظيمِ عَلَماً منْ أعلامِ العصرِ، وهو متمرِّسٌ في إخراجِ الكنوزِ العلميَّةِ في حللِ التَّحقيقِ ترفلُ، وهو الشَّيخُ العلاَّمةُ الدُّكتورُ عبدُ العظيمِ الدِّيبُ. وممَّا زادَ الكتابَ رفعةً وإشراقاً هو ما حلاَّهُ بِهِ من تحقيقاتٍ سنيَّةٍ، وتعليقاتٍ علميَّةٍ، فكانت نهايةً في الإتقانِ، وغايةً في الإحسانِ. وكيفَ لا يكونُ الحالُ كذلِكَ وقدِ استغرقَ المحقَّقُ في هذا العملِ المباركِ زُهاءَ خمسةٍ وعشرينَ عاماً؟! فكان بهذا قد أنفقَ أنفسَ أوقاتِهِ خدمةً لتراثِ إمامِ الحرمينِ؛ ليزفَّهُ إلى الهداةِ المتفقِّهَةِ مجلوّاً لا لبْسَ فيه ولا إبهامَ. وإنّا لنأمُلُ أنَ يكون هذا العملُ نموذجاً للتحقيقاتِ العلميَّةِ الأصيلةِ لذلك التُّراثِ النائمِ في الأدراجِ والمكتباتِ، وهذا ديدنُ دارِنا منذُ تأسيسِها وللهِ الحمدُ والمنَّةُ. كما نتوجَّهُ إلى اللهِ سبحانَهُ وتعالى بالدعاءِ الضّارِعِ أن ينفعَ بهذا العملِ الإسلامَ والمسلمينَ في مشارقِ الأرضِ ومغارِبِها، وأن يحيَ بِهِ العلمَ وأهلَهُ؛ إنَّهُ سميع مجيبٌ. ودارُ المنهاجِ إذْ تخرجُ " نهايةَ المطلبِ " في (21 مجلداً) وهو الكتابُ المحاوي العظيمُ .. لا تقفُ عندَ هذا الحدِّ، بل سيتلوهُ بإذنِ اللهِ تعالى وتوفيقِهِ الكثيرُ الطَّيّبُ، وَفْقَ المنهجِ الَّذي يسيرُ في اتِّجاهينِ: أوَّلهُما: طباعةُ القديمِ الَّذي لم يُسبَقْ طبعُهُ ونشرُهُ؛ ككتابِ " الخلاصةِ " لحجَّةِ الإسلامِ أبي حامدٍ الغزاليِّ رحمهُ الله" (¬1). ¬

_ (¬1) وقد صدر كتاب "الخلاصة" حديثاً في مجلد ضخم عن دارنا.

وثانيهِما: المطبوعُ المنشورُ الَّذي اعتراهُ الخللُ وغيَّرتْهُ العِللُ، رغمَ أهمِّيَّتِهِ ونفاستِهِ؛ ككتابِ " كفايةِ الأخيارِ " (¬1). ونحنُ نَهيبُ في هذه العُجالةِ بأولى الأقلامِ اللاَّمعةِ والأفكارِ المتخصِّصَةِ أن تُمِدَّنا بِرُؤاها حولَ منشوراتِنا ما دامَ ذلكَ يخدُمُ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ، ويرتقي بالكتابِ إلى قمَّةِ الإتقانِ، ونحنُ على استعدادٍ لتقبُّلِ ما فيهِ الصَّلاحُ والنَّجاحُ. واللهَ تعالى أسألُ أنْ يسلُكَ بنا مسلكَ الصَّالحينَ، ويدفعَ عنَّا كيدَ الحاسدينَ، ويوفِّقَنا لِما فيهِ رضاهُ. آمينَ وأخيراً نشكرُ كلَّ من ساهمَ وأعانَ في إخراجِ هذا الكتابِ المباركِ، في كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ العملِ، ونقولُ لهمْ جميعاً: (جزاكمُ اللهُ عنَّا وعنِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ خيرَ الجزاءِ، وأجزلَ لكُمُ المثوبةَ والعطاءَ، ومنحنا جميعاً التَّوفيقَ والسَّدادَ). اللَّهُمَّ؛ ارزقْنا الإخلاصَ في القولِ والعملِ، وحُسْنَ الختامِ عندَ انتهاءِ الأجلِ. والحمدُ للهِ الَّذي بنعمتِهِ تتمُّ الصَّالحاتُ، وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ. الناشِر أبو سعيد/عمر سالم سعيد باجخيف حُرِّر في جدَّة (19) ربيع الآخر (1428هـ) ¬

_ (¬1) انظر مقدمتنا لـ "كفاية الأخيار" لتعرت مدى التصحيف الذي خامر هذا الكتاب.

شكر وامتنان

شكر وامتنان أتوجه شاكراً لكادرنا العلمي والمهني الذي كان يعمل خلف للأضواء باجتهاد ودأب حثيثَين نحواً من أربع سنوات متتالية دون فتور أو مَلَلٍ في خدمة هذه الموسوعة الفقهية "نهاية المطلب" وإلى الله تعالى أتوجه أن ينفع بهذا الكتاب المسلمين أينما كانوا وأن يثيب كل من ساعد في إخراجه خير ما يجزى الصالحين. وكتَبَهُ محمد غسّان نصوح عزقول المشرفُ على أعمالِ البُحوثِ والنشرِ بمركز دار المنهاج للدراسات والتحقيق العلمي

قالوا عن الإمام

قالوا عن الإمام الفِقهُ فِقهُ الشَّافِعيِّ، وَالأَدبُ أَدَبُ الأَصْمَعيِّ، وَحسن بَصرِه بالوَعْظِ للِحَسَنِ البصرِيِّ، وكيفما كان فهو إمام كل إمام ... ولولاه لأصبح مذهب الحديث حديثاً. الباخرزي في دمية القصر التبييْن لابن عَسَاكر وظني أن آثار جده واجتهاده في دين الله يدوم إلى يوم الساعة، وإن انقطع نسله من جهة الذكور ظاهراً، فنشر علمه يقوم مقام كل نَسَبٍ، ويغنيه عن كُلِّ نَسَبٍ مُكتَسَبٍ. التبييْن للحافظ ابن عساكر عن عبد الغافر الفارسي المتوفي سنة 529هـ ولا يشك ذو خبرةٍ أن إمام الحرمين كان أعلم أهل الأرض بالكلام والأصول والفقه، وأكثرهم تحقيقاً، بل الكُلُّ مِنْ بحرِهِ يغترفون، وأن الوجود ما أخرج بعدَهُ لَهُ نظيراً. تاج الدين السبكي المتوفي سنة 771هـ ¬

_ * مذهب الحديث: مذهب الشافعية.

قالوا عن "نهاية المطلب"

قالوا عن "نهاية المطلب" استفاض بين الأصحاب وأئمة المذهب قولهم: "منذ صنَّف الإمام (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام" ابن حجر الهيثمي المتوفي سنة 973هـ المذهب الكبير المسمى بنهاية المطلب في دراية المذهب ما صنف في الإسلام قبله مثله التبييْن للحافظ ابن عساكر نقلاً عن عبد الغافر الفارسي المتوفي سنة 529هـ النهاية في الفقه لم يصنف في المذهب مثلها فيما أجزم به تاج الدين السبكي المتوفي سنة 771هـ

إهداء

إهداء أهدى هذا العمل الذي هو نتيجة عمري، وثمرة دهري. إلى رجال لم أرهم بعيني، ولكن ألمحهم بخاطري. رجال يملأ قلوبهم الإيمان، ويعمر صدورهم القرآن، ويرفع رؤوسهم للإسلام. رجال في قلوبهم نور، وفي وجوههم نور، وفي صدورهم عزم وتصميم، رجال بأيديهم معاول ومناجل، معاول ترك صروح الظلم والطغيان، ومناجل تجتث جذور الشر والفساد. رجال سيرفعون رأس هذه الأمة، ويطهرون ديارهم من جحافل التتار الجدد وحفدة أوربان الثاني، وفردريك، وريتشارد، ولويس التاسع. رجال سيردون لهذه الأمة مجدها وعزها، ويعيدونها إلى كتاب ربها وسنة نبيها حتى تأخذ مقعدها في قيادة البشرية وإنقاذ الإنسانية. إلى هؤلاء الرجال هديتي عبد العظيم

يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذُّلِّ أحْجَما ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيَّرته لي سلما إذا قيل: هذا منهل. قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحرِّ تحتمل الظما القاضي الجرجاني، صاحب الوساطة والمتوفي سنة 392هـ عاب التفقه قوم لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... ألا يرى ضوءها من ليس ذا بصر الإمام أبو الحسن التميمي، منصور بن إسماعيل المتوفي سنة 306هـ

دعوة واقتداء

دعوة واقتداء وإني -على نهجي الذي انتهجت منذ أول كتاب نشرت- أدعو النقاد إلى إظهاري على أوهامي فيها، وتبيين ما دق عن فهمي من معانيها، أو ندَّ عن نظري من مبانيها؛ وفاءً بحق العلم عليهم، وأداءً لحق النصيحة فيه، لأبلغ بالكتاب فيما يستأنف من الزمان، أمثل ما أستطيع من الصحة والإتقان. والنشر فنٌ خفيّ المسالك، عظيم المزالق، جمّ المصاعب، كثير المضايق، وشواغل الفكر فيه متواترة، ومتاعب البال وافرة، ومُبهظات العقل غامرة، وجهود الفرد في مضماره قاصرة؛ يؤودها حفظ الصواب في سائر نصوص الكتاب؛ ويُعجزها ضبط شوارد الأخطاء، ورجعها جميعاً إلى أصلها؛ فيأتي الناقد وهو موفور الجمام فيقصد قصدها، ويسهل عليه قنصها. ومن أجل ذلك قلت -وما أزال أقول-: إنه يجب على كل قارئ للكتب القديمة أن يعاون ناشريها بذكر ما يراه فيها من أخطاء؛ لتخلص من شوائب التحريف والتصحيف الذي منيت به، وتخرج للناس صحيحةً كاملةً. والله ولي التوفيق من كلمات العلامة المحقق السيد أحمد صقر رحمه الله

شكر واجب

شكر واجب " من لم يشكر الناس لم يشكر الله ". (رواه الترمذي وحسَّنه) أجده حقّاً واجباً ودَيْناً في عنقي أن أقدم الشكر لشيوخٍ كبارٍ، وأساتذةٍ أجلاء إخوة كرام، وأبناء بررة وتلامذة مخلصين. أشكر شيخي العلامة أبا فهر محمد محمود شاكر؛ فقد كان كلما تذاكرنا في مجلسه أمر (نهاية المطلب) يُعلي من شأن الكتاب، ومكانته، وأهمية الاشتغال به، وأن نصوص التراث ليست سواء، ويُعْظم إخرات هذا الكتاب، مما كان يشد من أزري، ويقوِّي من عزمي، وما أكثر ما أفدتُ من علمه وتوجيهه، رحمه الله وأجزل مثوبته. وأشكر أخي وصديقي العلامة محمود محمد الطناحي، فقد كان حفياً بهذا الكتاب، ونوه به في كتابه الفذ (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) وحمَّلني أمانة نشره كما شاركني في معاناة بعض نصوصه وغوامضه. رحمه الله ونور ضريحه. وأشكر علامة القراءات والنحو الشيخ عنتر حشاد، رحمه الله، والأستاذ محمد محمد مقلد خبير اللغة العربية، والأخ الدكتور علي أحمد الكبيسي الأستاذ بجامعة قطر، والأخ الدكتور خالد فهمي الأستاذ بجامعة المنوفية، فقد بذلوا جميعاً من وقتهم وجهدهم الكثير في البحث والمناقشة حول بعض ما كنا نلقاه من غرائب اللغة والأساليب. كما أشكر كلَّ من أعاننا ويسر لنا السبيل للحصول على صور المخطوطات: أشكر الأخ الصديق الصدوق علامة عصرنا فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي الذي ذلل لنا الكثير من العقبات. وأشكر الأخ العربي التركي الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو على ما قدم لنا من عونٍ في هذا المجال، فلولا الأخ التركي المتعرب مصطفى شاهدي خبير المكتبات، الذي كلفه بمرافقتنا -أثناء رحلتنا إلى استانبول- ما استطعنا أن نصل إلى شيء مما وصلنا إليه؛ فبخبرته ومهارته فَلَيْنا مكتبات استانبول فلياً، فجزاه الله عنا خير الجزاء، وأعان الله الدكتور أكمل على ما تطوّقه أخيراً من حمل أمانة منظمة المؤتمر الإسلامي.

كما أشكر الأستاذ الدكتور كمال عرفات المدير العام الأسبق لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن. والشكر أيضاً لأبنائي البررة وتلامذتي النجباء: الدكتور إبراهيم عبد الله الأنصاري المدرس بكلية الشريعة بجامعة قطر، والدكتور -قريباً- محمد المصلح المدرس المساعد بكلية الشريعة بجامعة قطر، والمهندس عبد الله النعمة مدير جمعية قطر الخيرية؟ فقد كنت أفكر في إقامة حفلٍ بمناسبة الانتهاء من العمل في تحقيق الكتاب، اقتداءً بسنة السلف الصالح، وإحياء لنهجهم، فقد ذكروا أن إمام الحرمين لما انتهى من تأليف (نهاية المطلب) عقد مجلساً للاستبشار والتهنئة احتفالاً بإتمامه، وبذلك مضت سنة الأئمة وعلماء الأمة، فقد قيل في وصف احتفال ابن حجر العسقلاني بالانتهاء من كتابه (فتح الباري)، قالوا في وصف الحفل وكثرة الحضور: "ومنهم من حضر ولم يسمع". نعم، كنت أفكر في شيء من ذلك، من باب التأسي والاقتداء، وإحياء سنن الأولين، ومن باب " فتشبّهوا ". وما إن علم أبنائي الكرام هؤلاء، حتى سبقوني وأعدوا العدة، ونظموا، ورتبوا لحفل ضخم ما كان يدور بخلدي أن أصنع مثله، كما تولى الدكتور إبراهيم الأنصاري تقديم المتحدثين بالحفل، وألقى الدكتور محمد المصلح كلمة الأبناء والطلاب خلع علينا فيها من فواضل أدبه ما لا نستحق، مما يجعلني أشعر فعلاً بعجز الكلمات عن الوفاء بحقهم. كما يجب علي أن أشكر كلَّ العلماء والزملاء، والإخوة والأبناء الذين أجابوا الدعوة وشرّفوا الحفل، وإن كان جمعهم الكريم يستعصي على الحصر والذكر، فلا يفوتني أن أسمي هؤلاء الأعلام الكبار الذين كانوا زينة حفلنا، وهم علامة العصر الأخ الكريم الشيخ يوسف القرضاوي والعلامة الحبيب بلخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، والأستاذ الدكتور الشيخ خالد المذكور رئيس لجنة استكمال تطبيق الشريعة بالكويت، هؤلاء الكرام كانوا المتحدثين في الحفل، فطوّقوا جيدنا بدُررٍ ولآلئ من طيب نفوسهم وعالي أدبهم، فأنى أطيق شكرهم، وأوفي حقهم؛ أسأل الله سبحانه أن يجزيهم عني خير الجزاء. وأخص بالشكر أيضاً العلامة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي سلطنة عُمان، والشيخ عبد الرحمن شيبان وزير الأوقاف الأسبق بالجزائر، ورئيس جمعية العلماء بها الآن، وعلامة الشام فضيلة الشيخ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور، والأستاذ الدكتور إبراهيم صالح النعيمي مدير جامعة قطر الأسبق.

أما فضيلة الشيخ عبد السلام البسيوني الداعية الأديب الناثر الشاعر، اللغوي، الإعلامي، فقد أتحفنا بقصيدة عصماء من روائع شعره، بثنا فيها خالص حبه، وصادق تقديره، وأفاض علينا من حسن أدبه وجمال خلقه، فأدعو الله سبحانه أن يجزيه عني خير الجزاء، وأن يثيبه على ما يبذله من نفسه وجهده في سبيل الدعوة ليل نهار أسال الله أن يتقبل منا ومنه، وأن يجعل جهده الخارق، وعمله الدائب في ميزانه، يوم العرض على الخبير البصير، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. كما أشكر كلَّ من احتفى بهذا الكتاب وعرف قدره، وكان حريصاًَ على نشره، أشكر الأخ الأستاذ الدكتور عبد الغفار الشريف الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الكويت الذي كان يودّ أن يكون هذا الكتاب من منشورات إدارة التراث بوزارة الأوقاف الكويتية. أشكر الأستاذ الدكتور إبراهيم صالح النعيمي مدير جامعة قطر، ذلك الرجل الذي عرف قدر هذا الكتاب -مع بعده في تخصصه- وكان حريصاً كل الحرص أن يكون هذا الكتاب من مطبوعات جامعة قطر، وفعلاً ذلّل كل الصعاب، وتخطى كلَّ القيود، ودارت المطبعة حتى انتهت من صف الجزء الأول والثاني، ولكن قدر الله وما شاء فعل. أشكر الأخ الأستاذ الدكتور أحمد نور سيف مدير دار البحوث في دبي، فقد كان أيضا حفياً بالكتاب حريصاً على أن يخرج من دار البحوث للدراسات الإسلامية ونشر التراث كما أشكر معالي الشيخ أحمد زكي يماني صاحب مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، على ما كان من حفاوته واهتمامه. أما الشيخ الجليل الشيخ بكر أبو زيد رئيس المجمع الفقهي، فقد كان يتمنى أن يكون هذا الكتاب من مطبوعات المجمع، وقد قال لي بالحرف الواحد -وهو يشد على يدي-: " أريد أن أُعلن في الجلسة الختامية أن المجمع سيطبع كتاب (نهاية المطلب) "، قال لي هذا مرتين في يومين متتاليين عندما كان المجمع يعقد دورتَه الرابعة عشرة في الدوحة. أشكر كل هؤلاء الكرام وأسال الله أن يجزيهم عني خير الجزاء، أما الذين لم تسعفنا الذاكرة أسماءهم الآن -وهم كثر- فأسألهم الصفح والعفو، وهم لذلك أهل، واللهَ الكريمَ أسأل أن يتولانا جميعاً بعفوه ولطفه ورحمته، وهو نعم المولى ونعم النصير. عبد العظيم

خطبة الكتاب

خطبة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم باسم الله وحده ولا شيء معه دائماً وأبداً، ونحمده سبحانه وتعالى، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، اللهم إنا نعوذ بك من الخطأ والخطل، والخلل والزلل، وسيئ القول والعمل، ونصلي ونسلّم على صفوتك من خلقك وخاتم رسلك سيدنا محمد النبي الأمي، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين. وبعد فهذا مقام الشكر، مقام الحمد، مقام الثناء على الله بما أنعم فأوفى، فالحمد لله. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]. {الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].

{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74]. {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36]. {وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. ... من مأثور الدعاء وموجزه: " ربِّ أنعمت، فزِدْ ". ولكني أقول: ربِّ أنعمت، فأعني على شكرك وذكرك، وحسن عبادتك، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19]. لم يبق لي إلا أن أحمد وأشكر، فقد كان إتمام هذا الكتاب غايةَ مناي ومنتهى أملي، وكم تضرعت إليه سبحانه مناجياً في ظلمة الليل البهيم: " اللهم أني أسالك أن تَنْسَأ في الأجل حتى أُتم هذا العمل " فالحمد لله أجاب سُؤْلي، وحقق أملي، وأمدني بحوله وقوته، فقد كنت دائما أبرأ إليه سبحانه من حولي وقوتي، وألوذ بحوله وقوته، فوهبني، ولم يمنعني، وأعطاني ولم يحرمني، وشد من أزري، وسدد خطاي، حتى وصلت بهذا العمل إلى نهايته، وسرت به إلى غايته، فلم يبق لي من سؤال إلا أن أسأله سبحانه أن يعينني على أداء حق الحمد والشكر، فلو عشت ما بقي من أيامي ساجداً مسبحاً حامداً، ما وفّيت نِعَمَه سبحانه. وما بقي إلا أن أسأله سبحانه أن ينعم علينا بحسن الخاتمة، وأن يجعل خيرَ أعمالنا خواتيمها، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه.

صحبتي لإمام الحرمين

صحبتي لإمام الحرمين: هذا الكتاب ثمرة صحبة طويلة لإمام الحرمين، أَرْبت هذه الصحبة على الأربعين عاماً، وهذه الصحبة لم تكن عن اختيار مني أو تدبير، بل العكس هو الصحيح، فقد كنت أُقدِّر لدراساتي وحياتي العلمية طريقاً غير هذا الطريق، ومَيْداناً غيرَ هذا الميدان، وفعلاً قدرتُ ودبرتُ، واخترتُ موضوعَ رسالتي للماجستير. وبينا أنا في منزل أستاذي الدكتور مصطفى زيد أعرض عليه خُطة الموضوع، وكان به مُرحِّباً، إذ دق جرس الهاتف وأخذ أستاذي الدكتور مصطفى في محادثةٍ طويلة، عرفتُ منها أن الذي على الطرف الآخر هو أستاذُ أستاذي الشيخ محمد أبو زهرة، ولما طالت المحادثة، ووجد أستاذي أنه قد شُغل عن ضيفه كثيراً، أراد أن يجاملني، فقال للشيخ أبو زهرة: عندي فلان، وهو يقرئك السلام، ثم أردف: هنِّئه، غداً سنعرض موضوعَ رسالته على القِسْم، فسأل الشيخُ أبو زهرة عن الموضوع، وما إن أجابه الدكتور مصطفى حتى احتدَّ الشيخ أبو زهرة، وفهمت أنه يرفض الموضوع (¬1)، والدكتور مصطفى يدافع، ويقول: اطمئن يا أستاذنا، عبد العظيم من أولادنا، لا تخف، أنا أضمنه، إنه من المتحنثين [وكنت أسمع هذه الجملة أول مرة تجري في حديثٍ بين شخصين وعهدي بها أنها من ألفاظ الكتب والمعاجم]. ثم انتهت المكالمة. وراح الدكتور مصطفى في صمت، ولم يُقبل على ما كنا فيه من مراجعة خُطة الموضوع، ولما رأى في عيني التساؤلَ، قال: انتهى الأمر، نبحث عن موضوع آخر، وأُسقط في يدي، وظهر علي الضيق والألم، بل والغضب المتمرد، فقال الدكتور مصطفى مجيباً عن كل التساؤلات التي تمور بداخلي: أنا لا أستطيع أن أخالف أمر الشيخ أبو زهرة. ثم أجاب عن عدة أسئلة لم أتفوَّه بها: هو ¬

_ (¬1) كان الموضوع عن الربا وصوره في بعض المعاملات المعاصرة، وكان المدُّ الاشتراكي في عنفوانه، فخشي الشيخ أبو زهرة من الوقوع تحت ضغط الواقع وتبريره، وكان ذلك شائعاً، وكلٌّ يحاول إلباس التأميم والمصادرة عمامة الإسلام، فمن هنا جاء رفض الشيخ رحمه الله وبرّد مضجعه.

رئيس قسم وأنا رئيس قسم صحيح لكنه أستاذي، هو في كلية وأنا في كلية أخرى، ولكنه أستاذي، هو لا يملك أن يمنعني من التصرف ولكنه أستاذي. ثم قال مجاملاً: والله يا عبد العظيم أنا أكثر ألماً منك، ثم تمتم: ليتني ما ذكرت له الموضوع، وفعلاً هزتني هذه الكلمات، وبدأ الغضب الثائر في داخلي ينزاح ويترك مكانه هدوءاً وبرداً وأمناً. وهنا التمع وجه الدكتور مصطفى قائلاً: اسمع يا عبد العظيم لعل الله أراد بهذا لك خيراً. بل هو بالقطع كل الخير. لن نُضيّع وقتاً، سنتخذ طريقاً آخر، بعيداً تماماً عن هذا الطريق. تذكرُ كتابَ " البرهان في أصول الفقه ". تذْكرُه لا شك. أنت نسختَ لي منه صفحات منذ مدة بعيدة. ما رأيك أن تكون رسالتك تحقيق البرهان؟ وقبل أن أجيب أردف قائلاً: تَذْكُر المقابلات بين نُسخ المخطوطات التي قمتَ بها معاونةً لنا حينما كنّا نحقق كتاب " السِّير الكبير بشرح السرخسي " (¬1). سيكون العمل ممتعاً لك. ستتعلم شيئاً جديداً. ستدخل ميداناً رحباً فسيحاً. كل ذلك وأنا في صمتٍ متأمل. فقال: لماذا لا تتكلم؟ ما رأيك؟ وقبل أن أجيب قال: اعتمد على الله. على بركة الله. الموضوع موضوعي. وعليّ إجازته من مجلس القسم، ابدأ اليوم، فكِّر في خُطة الموضوع والمقدمة والدراسة، اذهب إلى دار الكتب، وجدِّد صلتك (بالبرهان). وأخيراً وجدت نفسي، فقلت مجيباً أستاذي: على بركة الله. الحمد لله، قدّر الله وما شاء فعل، قلت ذلك باطمئنانٍ، ورضا، وثقة، مما جعل أستاذي يقبل عليّ معانقاً، قائلاً: مبروك. ¬

_ (¬1) كانت جامعة القاهرة قد قررت نشر هذا الكتاب استجابة لطلب الجمعية الشيبانية الأوربية، التي كان من عملها نشر مؤلفات محمد بن الحسن الشيباني، وقد ألفت الجامعة لجنة لذلك العمل يتولى مدير الجامعة بنفسه إدارة العمل وتوفير احتياجاته، ويقوم أستاذنا الدكتور مصطفى زيد بتحقيق النص وإقامته، ويقوم العلامة أستاذ أستاذنا الشيخ أبو زهرة بالتقديم للكتاب، وكتابة ما يحتاج من شرح وتعليقات.

هكذا كانت صلتي بإمام الحرمين بغير تقديرٍ أو تدبيرٍ منِّي، بل على عكس ما قدرتُ ودبرت، ولكن الله إذا أراد أمراً قدّره، وهيأ له أسبابه، فمن ذا الذي أمسك ما سيّره، أو قدّم ما أخره، سبحانه سبحانه ما أعظم شأنه. اندفعتُ في طريقي مع إمام الحرمين في صحبة طويلة، عشت معه في (نيسابور) حيث نشأ، ورأيت بيته حيث درج، وصَحِبْته إلى مجالس شيوخه، ومدارس أساتذته، ثم جلست إليه مع تلاميذه نسمع له، حيث أُجلس للتدريس وهو في نحو العشرين من عمره، وأَصَخْت إليه، وهو يخطب بالجامع المنيعي (أكبر جوامع نيسابور)، ورأيته والناس حوله يبكون ببكائه في مجالس وعظه وتذكيره. ثم رأيته يصول ويجول في ميدان المناظرة يقمع دعاة الفتنة، ويرد شبهاتِ الزائغين، ويكشف زيفَ المبتدعين. ثم رأيته يصطلي بنار المحنة ولهيبها، فيضطر للهجرة، ويصابر ويصبر، ويحتسب، من غير أن يتزعزع، أو يتلجلج. ثم تتبّعتُ آثاره ومصنفاتِه، ورأيت كيف جال في أكثر من علم، وبرع في أكثر من فن، فخلف مصنفاتٍ تربو على الأربعين عدّاً، منها ما يصل إلى نحو عشرين مجلداً، أسعفتنا الأقدار ببعض هذه المصنفات، فسلمت من المحن التي ابتلي بها تراث أمتنا، وبعضها سمعنا به ولمَّا نره بعد. وأخذتُ مع هذا أعالج كتابه (البرهان) وأمازجُه، وأطيل الإصغاء؛ محاولاً أن أعي ما يريد الإمام أن يقوله في (لغز الأمة) (¬1)، وما زلت أسمع من الإمام وأُنصت إليه سنوات، حتى حسبتُ أنني فهمت عنه، وعرفت ماذا يريد أن يقول في كتابه. كانت هذه هي المرحلة الأولى من تلك الصحبة المباركة مع شيخي وإمامي، إمام الحرمين، استمرت هذه المرحلة سبعَ سنواتٍ مباركات، وكان من ثمرتها: ¬

_ (¬1) لغز الأمة هو اللقب أو الاسم الذي أطلقه السبكي على البرهان. (الطبقات: 5/ 192).

1 - دراسة طبعت وحدها بعنوان (إمام الحرمين - حياته وعصره - آثاره وفكره). 2 - تحقيق وتقديم كتاب (البرهان في أصول الفقه). ... ثم استأنفتُ المسيرةَ مع إمام الحرمين، أستمع إليه وأنصت، وأطيل الاستماع والإنصات، وأُديم التأمل فيما أسمع من مؤلفاته كلها، وبخاصة كتابه الأكبر (نهاية المطلب) وأعرض ما أراه عنده، وما أسمع منه على ما سبقه من كتب المذهب، وأقارنه بما بعده من فقه الأئمة، محاولاً بذلك أن أصل -قدر الوُسع- إلى خصائص فقهه، ومنزلته في مجال الفقه، وكان من ثمرة هذه المرحلة البحثُ الذي قدمته للحصول على درجة الدكتوراة بعنوان: (فقه إمام الحرمين - خصائصه - أثره - منزلته). وكان من الحقائق التي ظهرت لي، واستقرت عندي أن علم إمام الحرمين الأول هو علم الفقه، وأن الاشتغال بكتبه وآثاره في علم الكلام، واعتباره متكلماً، قد شغل الناس -بغير حق- عن فقهه، ومنزلته، وجهوده، وأثره في إقامة المذهب الشافعي. وكان من آثار هذه المرحلة وثمراتها أيضاً أنني قرأتُ كتابه (الغياثي) كلمة كلمة، وهيأته للتحقيق، وقد سجلت ذلك في مقدمتي لرسالة الدكتوراة، حيث قلت: " وكان من خيرات هذا البحث تحقيقُ كتاب (الغياثي) الذي يكاد يكون منتهياً، أما كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) فسيكون تحقيقه ونشره هو الثمرة التالية إن شاء الله ". ثم قلت: " إن هذا البحث -على تواضعه- قد أتاح لنا الاتصالَ بتلك الثروة الفقهية النادرة، والاطلاعَ على ذخائرها وكنوزها، واكد لي صدق ما كنتُ -وما زلت- أردده دائماً: من أننا لم نعرف من تاريخنا إلا ما أريد لنا أن نعرف، ولم نر من تراثنا إلا ما أريد لنا أن نرى. ويوم أن تتاح لنا الفرصة لمعرفة تاريخنا كاملاً، ودراسة تراثنا كاملاً، يومها سنرى

أية أمة هذه!! التي قادت العالم أكثر من ألف عام، وأية شريعة هذه التي أضاءت الدنيا، وبددت دياجيرها. ولْنقل للحيارى الباحثين عن النجاة، والضاربين في كل اتجاه؛ جرياً وراء السراب، لنقل لهم ما قيل لبحارة السفينة التي ضلَّت طريقَها، حتى نَفِد منها الماء العذب، فأخذت تستغيث، فجاءها الرد: ألقوا دَلْوكم حيث أنتم. وتكررت الاستغاثة، وتكرر الردّ: ألْقوا دَلْوكم حيث أنتم .... فعادت الدلاء بالماء عذباً سائغاً، ذلك أنهم كانوا فوق مياه نهر (الأمازون) التي يدفعها النهر في المحيط، وهم لا يشعرون. فيا أيها الحيارى الجارون وراء السراب: " ألقوا دلوكم حيث أنتم. لنُلْقِ الدلاء، فما أزخر الأعماق عندنا بالعذب الفرات " (¬1). كان هذا ما قلته، وهو يعبر عن إعجاب وتقدير لما اطلعت عليه -على قلّته- من تراثنا الفقهي. ... أثمرت هذه المرحلة إذاً هذا البحثَ (فقه إمام الحرمين: خصائصه - أثره - ومنزلته) ثم تحقيقَ كتاب (الغياثي). ورحت أتطلع لما وعدتُ به من تحقيق (نهاية المطلب)، ووقفت أسائل نفسي: هل أستطيع أن أقوم بهذا العمل؟ هل أتمكن من جمع صورٍ لمخطوطاته المبعثرة في خزائن العالم؟ وهل ستكوّن هذه الأجزاء نسخة كاملة؟ وفي كم من الزمن أستطيع أن أصل إلى هذا؟ وهل أُطيق قراءةَ هذا النصِّ وأُقيم تصحيفَه، وأصوب تحريفَه؟ ثم هل بقي في العمر فسحة تسع هذا العمل؟ وضعت هذه الأسئلة أمام عيني، ورحت أقلب الأمر على وجوهه، ووقفت حائراً ¬

_ (¬1) من مقدمة فقه إمام الحرمين: 16.

متردداً: أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، يدفعني حبي لإمامي، وعشقي لتراثه، فأتقدم، وتردُّني هذه الصعوبات فأتأخر. وما هو إلا أن شرح الله صدري، وربط على قلبي، فحزمت أمري، وعقدتُّ عزمي، فنفضت يدي من كل عملٍ سوى هذا العمل، وأقبلت عليه إقبال عاشق ولهان، وقضيت هذه السنوات التي تربو على الخمس والعشرين، أسيرَ هوى إمام الحرمين وكتابه، أبذل في سبيل ذلك كل ما أُطيق، بل فوق ما أطيق، أرتحل وراء المخطوطات حيث يعزّ جلبُ صورها بالمراسلات، والرجاءات، والوساطات، وأتابع إعدادها للعمل: من نقلٍ من الميكروفيلم إلى الأوراق، ثم أعكف عليها مفهرساً مرتباً، وفي ذلك من العناء ما فيه، " لا يعرف الشوق إلا من يكابده ". ناهيك عما كان يحدث من مفاجآت حيث كنا نلهث وراء تصوير المخطوط، ونبذل ما نبذل، ثم نفاجأ بعد إظهار الفيلم أنه ليس من (نهاية المطلب) ولكنه من كتاب آخر، أخطأ مفهرسو الخزانة وسجّلوه باسم نهاية المطلب. ولكن المفاجأة الأبشع أن يشتبه رقم المخطوط ورمزه على المصوِّر فيترك (نهاية المطلب) وهو بين يديه ويصوّر لنا كتاباً آخر، ومن أعجب العجب أنّ ذلك تكرر معنا أربع مرات متتاليات، تأتينا مكررةً صورةُ كتابٍ آخرَ غيرِ الذي نريده، مع أننا كنا لا نألو جهداً في توضيح المطلوب: حيث كنا نرسل صورةً لصفحة فهرس الخزانة، ونبين عليها الرقمَ المطلوب، ونذكُر بدءَ الجزء وخاتمته، ونؤكد أن هذا هو المطلوب!!! ومع ذلك كان ما كان. وأخيراً قيض الله لنا من أهل العلم مَنْ أعاننا على الحصول على الصورة المطلوبة، فجزاه الله خير الجزاء. والحديث عن المعاناة في هذا الجانب ووصف ما لقيناه وكابدناه، يضيق به المقام، وله مجالٌ غير هذا المجال. وإنما ألمحت إلى طرفٍ من هذا العناء لأقول: لو أن هناك عملاً مؤسسيّاً يرعى تحقيق التراث ويعمل على حمايته ونشره، لو كانت هناك مؤسسات فاعلة جادة في هذا المجال، لتولّت عن المحققين هذه المرحلة المرهقة المتعبة من العمل، ولقامت هي بجمع صور المخطوطات جمعاً مستقصياً بما يكون لديها من أجهزة

متخصصة في هذا الشأن، ثم نقلتها من الميكروفيلم على الأرواق، وقدمتها جاهزة للمحققين، أتمنى أن يعود لأمتنا وعْيُها؛ فتعرف لهذا التراث حقَّه وقدره.!! ... أما معاناة النص المخطوط، قراءةً وفهماً وتقويماً وتوضيحاً، وإضاءةً لِغَوامضه، وحلاًّ لمشكلاته، وجلاءً لمُعْوِصاته، فهذا هو عمل المحقق على الحقيقة، وهو لعمري عملٌ ممتع حقاً -على ما يأكل من الوقت والجهد- يعرف ذلك كلُّ من شرح الله صدره من أهل هذا الفن؛ من أجل هذا لم أكن أَضنّ على الكلمة أصوّب تصحيفها، أو الجملة أُقيم خَلَلَها، أو الفقرة أتبيّن مغزاها ومرماها، باليوم واليومين، بل بالأسبوع والأسبوعين، بل أحياناً تظل الكلمة أو الجملة تراوحني وتغاديني إلى ما شاء الله، حتى يفتح الله لنافيها وجهاً. وكم من ليالٍ قضيتها وصورة الكلمة تلازمني في فراشي، وتشاركني وسادي، وكم من مرَّة أهب من فراشي فرحاً مسروراً، مكبراً مهللاً، فقد انكشفت صورة الكلمة الصحيحة، أو استقام لي بناء الجملة، وأسجل ذلك حامداً شاكراً، عادّاً ذلك آية على رضا الله وقبوله وتوفيقه. انقطعت لهذا الكتاب عن دنيا الناس، ووهبت له وقتي، وجهدي، وسرّي، وعلانيتي (¬1)، وبفضلٍ من الله وعونٍ انتصرت على نفسي، ورددتها عما كانت تجاذبني نحوه، وتدفعني إليه: ¬

_ (¬1) ما انشغلت عن الإمام إلا به، فقد أخرجتُ في هذه الفترة القسم الأول من كتابه (الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية). ثم كان من فضل الله أن كلل مسعانا بالنجاح، فاحتفلت جامعة قطر بالذكرى الألفية لميلاد إمام الحرمين سنة 1419 هـ بإقامة ندوة عالمية قُدِّمتْ فيها أبحاث علمية رصينة شملت المجالات المتعددة لفكر الإمام ومنزلته وأثره، بلغت هذه الأبحاث نحو الثلاثين بحثاً، وكان لنا شرف الإعداد لهذه الندوة والإشراف عليها منذ قدمنا فكرتها إلى طباعة بحوثها.

* من المشاركة في المؤتمرات والندوات، وفيها الذِّكْر والصِّيت، ولقاءُ الأعلام، ووراءها ما وراءها، وناهيك عن الأضواء والفلاشات. * وكذلك المشاركة في التلفزة -بعد أن أخذتُ من ذلك بنصيب- وكنت مندفعاً في تياره، إلا أنني أمسكت وتماسكت سريعاً، ثم أحجمت وامتنعت امتناعاً جازماً. * أما الصحف والمجلات، فلم يكن لنا فيها إلا أنَّةُ المكلوم، ونَفْثةُ المصدور، نشارك بها أحياناً: صرخة في وجه تزييف، أو كشفاً لتضليل، أو ردّاً لانحراف. * ولكني مع ذلك -بحكم النشأة في العمل الإسلامي- لم أغب عن هموم أمتي ومتابعة ما يجري من حولي؛ فكم من مرة كنت أتناول بطاقة لأسطر عليها صرختي وآهتي، وأبثها مواجعي وآلامي، ثم أضعها جانباً، ولا أهيئها للنشر؛ لابدّ للمكروب أن يتأوّه. * بل شغلت بهذا الكتاب عن قضية من أخطر قضايانا الفكرية، وأعني بها هذا الخلل العتيد في فهم تاريخ أمتنا؛ فعندي أنه ما لم يصحح الدعاة وقادة العمل الإسلامي، وعلماء الأمة، أقول: العلماء والدعاة وقادة العمل الإسلامي، ما لم يصحح هؤلاء فهمهم لتاريخ الإسلام والمسلمين، فلن تستقيم الأمة على طريق. وليس في هذا الكلام أدنى مبالغة، فالذي يحرِّك الأمة ويقودها، ويضيء لها الطريق هو ثقافتها، ولا ثقافة بغير تاريخ. وعندي في هذا الموضوع الكثير الكثير مما يصحح أخطاء وأكاذيب تعلمناها وصارت عندنا بدهيات ومسلمات، وما زال الدعاة والعلماء يرددونها، ويتخذونها مرتكزاً لأفكارهم، ومنطلقاً لآرائهم، ومستنداً لأحكامهم. بل الأدهى من ذلك أن هذه الأكاذيب والأغاليط التاريخية شكّلت وِجدانَ هؤلاء العلماء، وصاغت عواطفَهم، لم يَنْجُ من هذا أحد "إلا من رحم ربَّك وقليلٌ ما هم". وويلٌ للعقل من العاطفة، "حبك الشيء يُعمي ويُصم" رواه أبو داود وسكت عنه.

نعم، هذا ما نراه من الواقع الثقافي لعلماء الأمة -مع اعترافنا بعلمهم وفضلهم- وما نراه من الدعاة وقادة العمل الإسلامي - مع تقديرنا لجهادهم وتضحياتهم، إن هؤلاء وهؤلاء يسلّمون بتلك المقولة التي صارت إحدى دعائم ثقافتنا، وأعني بها: " القول بأن الإسلام لم يُطَبَّق إلا في عصر الراشدين، بل إن الانحراف بدأ منذ عصر الخليفة الثالث " هذه المقولة تجدها صريحةً حيناً، وبين السطور حيناً، حتى إنك لتجد العلمانيين والملاحدة الذين يناوئون الدعوة إلى الإسلام يَجْبَهون الدعاة والعلماء بما في كتبهم، وما سطروه بأيديهم: قائلين لهم: أيَّ إسلام تريدون؟ إسلام عثمان بن عفان!! الذي رتع في مال الأمة وأباحه لبني أمية، ونفى أبا ذرٍّ رضي الله عنه، وأَرْكبَ قبيلته بني أمية رقابَ العباد، فجعلهم الولاة، والقادة، وخَزَنَة بيت المال. أم تريدون إسلام معاوية وعمرو بن العاص الذي خدع أبا موسى الأشعري يوم التحكيم، أم تريدون إسلام يزيد الذي أباح المدينة لجنوده، وضرب الكعبة وهدمها بالمنجنيق، وقتل الحسين؟؟ أم تريدون إسلام أبي العباس السفاح؟ أم إسلام هارون الرشيد وليالي ألف ليلة وليلة؟ ... إلخ. ولا يجد الإسلاميون جواباً!! كيف!! وهذه المعاني مبثوثة في كتبهم، ودائرة على ألسنتهم!! وعندما يُفحمون ويسقط في أيديهم يلجؤون إلى جوابٍ يظنون أنه ينفعهم ويخرجهم من ورطتهم؟ فيقولون: " إن الإسلام يحكم على البشر، والبشر لا يحكمون على الإسلام، فنحن لا ندعو إلى إسلام الأمويين، ولا إلى إسلام العباسيين، وإنما ندعو إلى الإسلام الصحيح الثابت في القرآن والسنة ". ولكن هذا يرتد إلى نحورهم بداهةً، فيقال لهم: ما أشد غروركم، إذا كان الصحابة، والجيل الأول خير القرون قد عجزوا عن تطبيق الإسلام، فكيف تستطيعون أنتم تطبيقه؟؟ نريد مناهج قابلة للتطبيق؟ شيوعية، اشتراكية، ليبرالية، رأسمالية. هكذا يتكلم العلمانيون وأعداء الحل الإسلامي. والإسلاميون -علماؤهم ودعاتهم - ينقطعون، ولا يُحيرون جواباً.

أرأيت إلى خطورة هذه القضية، قضية التاريخ) (¬1)!! لقد سادت حضارتنا أكثر من ألف عام، وارتادت أمتنا للبشرية طريق الأخوة والأمن والأمان والحق والعدل، وحملت لواء العلم والفكر، والأدب والفن، في أطهر خُلق وأسمى سلوك. هذه حقائق ومسلّمات يعترف بها العدوّ قبل الصديق، وسَجَّلها شُرّاح الحضارات، وفلاسفة التاريخ، ولكن عَجَزْنا حتى الآن أن نستخرج منها نموذجاً لصورة الإسلام مطبقاً نباهي بها الدنيا، وندعوها إليه، وبقي علماؤنا ودعاتنا يردّدون أكاذيب عن عثمان رضي الله عنه، ونفيه أبا ذرّ، وعن يزيد بن معاوية وإباحته المدينة، وهدمه الكعبة، وعبثه برأس الحسين، وكل ذلك باطل لا أصل له.!!! ليس هذا استطراداً ولا خروجاً عما نحن فيه، وإنما أردت بهذا أمرين: الأول - أن أقول: إنني سعدتُ بكل ما فاتني بسبب إمام الحرمين وكتابه إلا هذه القضية، فكم كنت أتمنى أن أعطيها جهداً أكبر، ووقتاً أكثر، ولكن ضعفت المُنّة، وضاق الوقت حتى عن إتمام بعض ما بدأت (¬2). ¬

_ (¬1) هذا استطرادٌ في غير محله، ومعالجةُ موضوع تاريخي طويل الذيول في مقدمة كتاب فقهي غيرُ مستحسن، والناس على تفاوت نزعاتهم تتحفظ على هذه الجزئية من المقدمة، ولذا فدار المنهاج تعتبر ذلك رأياً خاصاً للمحقق، فلزم التنويه والتنبيه. (الناشر). (¬2) كان من عملنا في هذا المجال: ذ * بحث بعنوان (المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي) نشر في سلسلة كتاب الأمة رقم 27. * ومجموعة بحوث جمعت في كتاب بعنوان (نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي) - دار الوفاء بمصر. * بحث بعنوان (الزبير بن العوام - الثروة والثورة) نشر بحولية كلية الشريعة - جامعة قطر. العدد (3) وما زال في حاجة إلى مزيد بسط. * بحث بعنوان (من أخبار يزيد بن معاوية تحقيق وتمحيص) نشر بحولية مركز بحوث السيرة والسنة - جامعة قطر، العدد (9). * وبحث لم ينشر يؤكد أن أبا ذر لم يخرج إلى الربذة منفياً. =

الثاني - والسبب الثاني في بسط هذه القضية هنا هو إظهار خطورتها، والتنبيه لآثارها؟ إبراء للذمة، وإعذاراً إلى الله تعالى، آملاً أن يَنْهَدَ لهذا الأمر من شباب العلماء والباحثين من يحقق الأمل، ويكمل العمل. نعم، انقطعتُ لإمام الحرمين وكتابه عن كل هذه المجالات، أو بالأحرى صرفني الله عنها، فقد كانت متاحة ميسورة، مدَّ اليد، فتركناها -بعد أن ذقنا حلاوتها- عن قُدرةٍ عليها، ورغبة فيها، وذلك لا يكون إلا بفضلٍ من الله وعونه؟ فله سبحانه الفضل والمنة. كنت أقول لمن يدعوني للمشاركة في هذا العمل أو ذاك: إن إمام الحرمين يجالسني، ويراوحني ويغاديني، وهو أمامي على المكتب يأخذ على يدي إن هي امتدت لغير كتابه، كنت أستشعر هذا المعنى حقيقةً، فما كنت أغادر مكتبي إلا مضطراً لأداء واجب عزاءٍ أو نحوه، وكنت أعود مسرعاً، وكأني أقدّم للإمام عذري. ومضت السنون وتطاولت الأعوام، وطال العمل واستطال، وأنا صابرٌ جَلْد، غيرُ ضجرٍ ولا ملول، بل مستمتع مسرور، ومَنْ حولي يعجبون، وعن الكتاب يتساءلون: كل هاتيك الأعوام في كتاب واحد؟؟ {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52] "لا يعرف الشوق إلا من يكابده". تجاوزت الأعوام الخمسَ والعشرين عدّاً وأنا في صحبة إمام الحرمين، أعطيه ويعطيني: أعطيه وقتي وجهدي، وصبري واتئادي، وتأملي وأناتي، وحبي وعشقي، وشغفي وهيامي. ويعطيني كل يومٍ جديداً، يمنحني فرائد من الفقه، ودقائق من الأصول، وأوابد من النحو، ونوادر من اللغة، وشوارد من الحديث؛ ويطوف بي مرابع، ومجالس ومدارسَ، أسمع فيها من أعلام أمتي وأئمتها. ¬

_ = * وتحت الأعداد بحث عن عثمان ومال الأمة، وآخر عن قواد عثمان وعماله، وآخر مطول عن يزيد بن معاوية.

وقد كان في هذا الانقطاع مكافأة أخرى؛ إذ كان مُغترباً لي وملجأ ألوذ به من واقع فاسد مفسد، واقع بئيس، ابتلينا به وقُدِّر علينا أن نعيشه مقهورين، قدّر علينا أن نعيش هذا الزمان الذي نرى أمتنا تتحرك على المحندر بعد أن تمزقت دولاً متناحرة، ووصل الأمر أن حاضر الأمة -بعد أن ضل عن معرفة أعدائها- راح يشتبك مع ماضيها بحثاً عن ذرائع تبرر ما نحن فيه من هوان، فصرنا نستدعي رموزَ أمتنا وعظماءَ تاريخنا لنحاسبهم، فنجلدهم، ونركلهم، ونصفعهم، ثم نقتلهم سحلاً، واستشرى هذا الداء حتى عمّ وطمّ، فوجدنا من يلمز أول الخلفاء الراشدين واصفاً إياه بالديكتاتورية.!! واغوثاه!! ثم واغوثاه!! ... ومما يجب أن أذكره أن كثيراً من أبنائي وتلاميذي -وقد أحسنوا الظن بي- كانوا يغْشَون مجلسنا راغبين في تلقي العلم على طريقة الأسلاف. ولكن هموم العيش، وواجبات الوقت، ووعورة الطريق، وبُعد الشقة، أعجزهم عن الاستمرار -ولا ألومهم- فانصرفوا إلى الدراسة الرسمية، ومنهم من حصل فعلاً على الدكتوراة، وبعضهم في الطريق. ولكن واحداً منهم استطاع أن يقهر كلّ الشواغل، ويدفع كل الصوارف، فشرح الله صدره، وأنار قلبه، فدامت صحبتُه لنا سنوات مباركات تزيد على العشر، وفي كل يوم يزداد حباً للعلم، وعشقاً للدرس، حتى صار الدأب في البحث طبعَه، والرغبة في استقصاء المسائل عادتَه. ولما رأيته قد استوى عوده، واستقام أُملُوده، جعلت أقول له: يا بني يكفيك هذا معي، ابحث عن دراسة رسمية تنال بها (شهادة)، فالعصر عصر الشهادات، فكان لا يزيد عن أن يقول -في تواضع- " أريد أن أتعلم، أين أنا من العلم!! ". ذلكم هو ابني الحبيب وتلميذي النجيب: الأستاذ علي حسن الحمادي ومن عجب أن دراسته في أصلها (البكالوريوس) ليست في العلم الشرعي،

ولكنه -بفضل الله- طوّف بالمكتبة الإسلامية والعربية تطواف محب عاشق، لا متعجّل أو مُكرَه، فعرف أمهات المصادر والمراجع في كل الفنون تقريباً، وبالصبر والمصابرة سَلِسَ له قيادها، ولان له عصيّها، وانفتحت له مغاليقها، وانكشفت له مُعْوِصاتها، فصار يحسن التلقِّي منها، ويجيد الأداء عنها، فاستكمل بذلك عُدة الباحث، وملكة المحقق. وإني أضرع إلى الله سبحانه أن يديم عليه نعمة خب العلم، وعشق البحث، وأن يوفقه لخدمة تراث أمتنا العظيم، الذي صار من أكثر الناس له عشقاً. كما أسأله سبحانه أن يجزيه خير الجزاء على ما قدّم لنا من عون في إخراج هذا الكتاب؛ فقد وفر لنا أوقاتاً ثمينة، وساعات غالية بتنقيره وتنقيبه عن مسائل الخلاف في كتب المذاهب الأخرى، وعن متون الحديث، حينما يعزّ الوصول إليها في المراجع القريبة والمواضع المعهودة. كما أسأله سبحانه أن يوفقه لإخراج ما بين يديه من كنوز مذهب إمامنا الشافعي والله خير معين وناصر. ... ثم بعد،،، أستعير من إمام الحرمين قوله في خطبة هذا الكتاب، فأقول: "إن هذا العمل هو على التحقيق نتيجة عمري، وثمرة فكري في دهري". كما أستعير منه ما قاله حين عجب من نقد (الصيدلاني) لشيخه (القفال) فيما لا يستحق النقد، فتضرع إلى الله قائلاً: " نسأل الله تعالى حسن الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا، وهو ولي التوفيق ". ومن كل من ينظر في عملنا هذا نرجو دعوةً لنا بظهر الغيب، وأن يهدي إلينا عيوبنا، وأن يلحق بالكتاب ما يتاكد لديه من تصويبات. أما الذي يسرف على نفسه وعلينا بالعيب والطعن، وتتبع المعايب والمثالب،

فنقول له: حنانيك!! لو رأيت (النهاية) وهي أجزاء مفرقة، وأشلاء مبعثرة، وحاولت قراءتها في هاتيك الأوراق، وعانيت مطالعتها في تلك الصفحات، لأقصرت وأقلَلْت.!! " والذي لا يردّه ذو مُسكة، ولا يرى خلافه ذو حُنكة، أن المتعنت تعبانُ متعب، والمنصف مستريحٌ مريح. ومن ذا الذي أُعطي العصمة، وأحاط علماً بكل كلمة؟ ومن طلب عيباً وجده، فإنني أهل لأن أزلّ، وعن درك الصواب -بعد الاجتهاد- أضلّ!! فمن أراد منا العصمة، فليطلبها لنفسه أولاً، فإن أخطأته، فَقَدَ عذره وخاب، وإن زعم أنه أدركها، فليس من أهل الخطاب " (¬1). كما أستعير من ياقوت الحموي أيضاً ماختم به خطبة كتابه، فما أشبه حاله بحالي، حتى كأنه ينطق بلساني فأقول بقوله: " ولما تطاولت في جمع هذا الكتاب الأعوام، وترادفت في تحصيل فوائده الشهور والأيام، ولم أنته منه إلى غاية أرضاها، وأقف على غَلوة (¬2) -مع تواتر الرشق- فأقول: هي إياها، ورأيت تعثر قمر ليل الشباب بأذيال كسوف شمس المشيب وانهزامه، وولوجَ ربيع العمر على قيظ انقضائه بأمارات الهرم وانهدامه، وقفتُ هاهنا راجياً فيه نيل الأمنيّة، بإهداء عروسه إلى الخطاب قبل المنية، وخشيتُ بغتة الموت، فبادرت بإبرازه الفَوْتَ. على أنني من اقتحام ليل المنية عليّ قبل تبلّج فجره على الآفاق، لجدّ حذر ... وسألت الله عز وجل ألا يحرمنا ثواب التعب فيه، وألا يكلنا إلى أنفسنا فيما نحاوله وننويه، وجائزتي على ما أوضعت إليه ركاب خاطري، وأسهرت في تحصيله بدني وناظري، دعاءُ المستفيدين الناظرين، وذكر زكيٌّ من المؤمنين بأن أحشر في زمرة الصالحين ". ¬

_ (¬1) من كلام ياقوت الحموي في مقدمة كتابه (معجم البلدان). (¬2) الغَلوة: مقدار رمية سهم، وتقدر بثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة.

وأسأله سبحانه أن يهب لي خاتمة الخير، ويقيني مصارع السوء، ويتجاوز عن سيئاتي، ولا يفضحني بها يوم العرض، وأن يحلّني دار المقامة من فضله، بواسع عطائه وبالغ نواله، إنه الجواد الكريم، الغفور الرحيم، وإليه ضراعتي أن يغفر لوالدي، وأن يرحمهما كما ربياني صغيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (¬1). الدوحة فجر يوم الإثنين الثالث والعشرين من ذي الحجة 1423 هـ الموافق الرابع والعشرين من فبراير 2003 م ... ¬

_ (¬1) لقارئ هذه الخطبة أقول: قد لا يكون الكلام قد أخذ حقه من الاتساق، والأسلوبُ قد أخذ حظه من الانتظام، فإن رأيت شيئاً من هذا، فلا تعجل باللوم، ومهّد لي عذري، فقد كتبت هذه المقدمة، وأنا على حال من البأس مضاعفة: بأس في الجسد، تمثل في آلام في القلب، حذر معها الأطباء من القيام بأي مجهود، والاستعداد لعمل جراحة ليست بالهينة، مع تقدم السن وضعف الجسم، مما جعل الفكر مشتتاً، والذهن موزعاً. وبأس آخر جاء ضِعفاً على الأول، فها هي طبول الحرب الإنجلوأمريكية تدق منذرة بحرب ماحقة تهدّد باجتياح دار السلام: بغداد، مدينة المنصور، حاضرة الرشيد، والمأمون، والمعتصم، مقرّ دار الحكمة، ومقام أبي حنيفة النعمان، وأحمد بن حنبل، بغداد التي ظلت حاضرة الإسلام، بل حاضرة الدنيا قروناً، سيطبق عليها تتار العصر غداً أو بعد غد، وحكام المسلمين اليوم مثل أسلافهم سنة 656 هـ عندما اجتاح هولاكو بغداد، وإذا كانت المقادير في الجولة الأولى أسعفتنا بعد عامين فقط 658 هـ بسيف الدين قطز (وعين جالوت) التي ثأرت لبغداد وردت التتار القدامى على أعقابهم، فهل نأمل في سيف الدين قطز بعد عامين؟ قولوا: اللهم آمين.

تصدير بقلم العلامة فقيه العصر فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي

تصدير بقلم العلامة فقيه العصر فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أكمل لنا دينه، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، والقرآن إماماً ومحمداً نبياً ورسولاً، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه إلى يوم الدين (أما بعد). فيسرني أن أصدر هذا الكتاب الكبير (نهاية المطلب في دراية المذهب) لإمام الحرمين الجويني رحمه الله، بتحقيق أخينا البحاثة الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب، حفظه الله، وسدد خطاه. ولا سيما أن كلية الشريعة بجامعة قطر تقيم ندوة علمية عالمية، بمناسبة مرور ألف سنة هجرية على ميلاد الجويني، فقد ولد رضي الله عنه سنة 419 من الهجرة باتفاق المؤرخين. ولي في هذا التصدير كلمات ثلاث: كلمة عن الكتاب، وموضوعه، وقيمته. وكلمة عن مصنفه الكبير، ومنزلته في علوم الإسلام. وكلمة عن محققه، ومستوى تحقيقه.

1 - الكتاب

1 - الكتاب أما الكتاب، فهو ذخيرة ثمينة من ذخائر تراثنا الفقهي الزاخر، يعرفه المشتغلون بفقه المذهب الشافعي، ويدركون قيمته، فهو أحد الأعمدة التي يستند إليها، ويعول عليها، وهو ينشر لأول مرة؛ فقد كان كنزاً مطموراً، برغم شهرته، ولكنه لم تكن منه نسخة كاملة مجموعة في مكتبة واحدة، يسهل تناولها والعكوف عليها. ومن المعروف: أن في كل مذهب من المذاهب المتبوعة كتباً متميزة تعد (أمهات) فيه. وليس السبب في ذلك هو (كمها) أو سعتها وكثرة أوراقها وصفحاتها فحسب، بل العمدة فيها هو (الكيف) قبل (الكم)؛ لما تعتمده من تأصيل، وما تحتويه من تدليل، وما تتخذه من نهج علمي، يميزها عن غيرها. ألف إمام الحرمين كتاب (النهاية) في سنواته الأخيرة، أي بعد أن اكتمل نضجه، وأخرج زرعُه شطأه، واستغلظ واستوى على سوقه، أراد أن ينهض بمهمة في المذهب لا يقوم بها غيره، من تهذيب المذهب بكتاب (يحوي تقرير القواعد، وتحرير الضوابط والمعاقد، في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصَّل منها والمجموع، ويشتمل على حل المشكلات، وإبانة المعضلات، والتنبيه على المعاصات ... ) كما قال رحمه الله في مقدمة الكتاب. بل قال في مقدمته هذه الكلمة المعبرة عن نظرته إلى الكتاب وقيمته عنده: (وهو -على التحقيق- نتيجةُ عمري، وثمرة فكري في دهري) (¬1)! ومن قرأ لفقهاء الشافعية بعد إمام الحرمين، وجدهم مزهوِّين كلَّ الزهو، فخورين كل الفخر، بكتاب إمامهم هذا، فطالما نوهوا به، وعظموا قدره، وأشاروا إلى تفرده وتميزه. انظر إلى ما قاله ابنُ عساكر عنه في كتاب (تبيين كذب المفتري): أنه ما صُنّف في الإسلام مثله! ¬

_ (¬1) اقتبسنا هذه الكلمة من مقدمة الكتاب عند الدكتور الديب.

وقد اعتبره الإمام النووي في (المجموع) أحد كتب أربعة تعد أساسية في المذهب. وقال عبد الغافر الفارسي فيما نقله تاج الدين السبكي: " وصار أكثر عنايته مصروفاً إلى تصنيف (المذهب الكبير) المسمى بـ (نهاية المطلب في دراية المذهب) حتى حرره وأملاه، وأتى فيه من البحث والتقرير، والسبك والتنقير، والتدقيق والتحقيق، بما شفى الغليل، وأوضح السبيل، ونبه على قدره ومحله في علم الشريعة، ودَرَّس ذلك للخواص من تلاميذه، وفرغ منه ومن إتمامه، فعقد مجلساً لتتمة الكتاب، حضره الأئمة الكبار، ودعَوْا له وأثنَوْا عليه، وكان من المعتدِّين بإتمام ذلك، الشاكرين لله عليه؛ فما صنف في الإسلام قبله مثلُه؛ ولا اتفق لأحد ما اتفق له، ومن قاس طريقته بطريقة المتقدمين في الأصول والفروع وأنصف: أقرَّ بعلو منصبه، ووفور تعبه ونَصَبه في الدين، وكثرةِ سهره في استنباط الغوامض، وتحقيق المسائل، وترتيب الدلائل " (¬1). فانظر إلى هذه الجملة، تعرف قيمة الكتاب عند العلماء، ولا سيما الشافعية (ما صُنف في الإسلام قبله مثله)! وقال تاج الدين السبكي: ومن تصانيفه (النهاية) في الفقه: لم يصنف في المذهب مثلها فيما أجزم به (¬2). وعلق علامة المتأخرين من الشافعية ابن حجر الهيتمي (ت 973 هـ) صاحب (تحفة المحتاج في شرح المنهاج) وغيره من الكتب في أثناء كلام من (ذيل تحرير المقال) على قولهم: إنه منذ صنف الإمام كتابه (النهاية) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام، فقال: " لأن تلميذه الغزالي، اختصر النهاية المذكورة في مختصر مطول حافل، وسماه (البسيط) واختصره في أقلَّ منه وسماه (الوسيط) واختصره في أقل منه وسماه (الوجيز)، فجاء الرافعي، فشرح الوجيز شرحا مختصراً، ثم شرحاً ¬

_ (¬1) طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي: 5/ 177، 178. (¬2) المصدر السابق ص 171.

2 - المصنف

مبسوطاً، ما صنف في مذهب الشافعي مثله ... ثم جاء النووي واختصر هذا الشرح، ونقحه وحرره، واستدرك على كثير من كلامه ... وسماه (روضةَ الطالبين) .. ، ثم جاء المتأخرون بعده فاختلفت أغراضهم ". والعجيب أني قرأت لابن حجر نفسه في كتابه (كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع) أن أعظم مؤلفات الشافعية، هو المجموع للنووي (¬1). فلعل كلَّ واحد من هذه الكتب الثلاثة كان أعظمَ بالنسبة لزمنه: النهاية للجويني، وشرح الوجيز للرافعي، والمجموع للنووي، وكل منهم له قدره ووزنه وأثره، ولا حرج على فضل الله. 2 - المصنّف أما مصنف الكتاب فهو إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت 478 هـ) أحد عمالقة الفكر الإسلامي، والعلم الإسلامي، الذي شرَّق صِيتُه وغرَّب. واعترف بفضله القاصي والداني، وأثنى عليه السابقون واللاحقون والمحْدَثون إلى يومنا هذا. إمامٌ وابنُ إمام، وفقيه وابن فقيه، أخذ العلم كابراً عن كابر. قال معاصره الإمام أبو إسحاق الشيرازي: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهةُ هذا الزمان! وقال له مرة: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، لقد استفاد من علمك الأولون والآخرون. وقال الحافظ أبو محمد الجرجاني: هو إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره. وقال قاضي القضاة أبو سعيد الطبري، وقد قيل له: إنه لقّب إمام الحرمين: بل هو إمام خراسان والعراق، لفضله وتقدمه في أنواع العلوم. وقال العلامة تاج الدين ابن السبكي في ترجمته في (طبقات الشافعية): هو الإمام ¬

_ (¬1) انظر: ص 276 من (كف الرعاع) المطبوع مع الزواجر، طبعة دار المعرفة - بيروت.

شيخ الإسلام، البحر الحبر، المدقق المحقق، النظار الأصولي المتكلم، البليغ الفصيح الأديب، العَلَم الفرد، زينةُ المحققين، إمام الأئمة على الإطلاق. ونقل ابن السبكي عن الحافظ عبد الغافر الفارسي قولَه فيه: فخر الإسلام، إمام الأئمة على الإطلاق، حبر الشريعة، المجمع على إمامته .. من لم تر العيون مثله قبله، ولا ترى بعده .. رباه حِجرُ الإمامة، .. وأرضعه ثدي العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ويفع (¬1). اهـ. في فقه الشافعية: إذا قيل: قال الإمام، أو اختاره الإمام، أو نحو ذلك، فلا إمام غيره، ولا تقال بهذا الإطلاق على أحد سواه. وقد وصفه بعضهم وقد كان لا يزال في شبابه، فأضفى عليه من الفضائل والمناقب: ما لا يجتمع في العادة مثلها لفرد، ولكن الله يختص بفضله من يشاء. قال: فالفقه فقه الشافعي، والأدب أدبُ الأصمعي، وحسن بصره بالوعظ للحسن البصري .. وكيفما كان فهو إمام كلِّ إمام، والمستعلي بهمته على كل هُمام ... إذا تصدر للفقه فالمزني من مُزْنته قطرة، وإذا تكلم (من علم الكلام) فالأشعري من وَفْرته شعرة، وإذا خطب ألجم الفصحاء .. (¬2)! وقال ابن خلكان في ترجمته: أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته، المتفق على غزارة مادته، وتفننه في العلوم، من الأصول والفروع والأدب، وغير ذلك. وتفقه في صباه على والده أبي محمد، وكان يُعجب بطبعه وتحصيله وجودة قريحته، وما يظهر عليه من مخايل الإقبال، فأتى على جميع مصنفات والده، وتصرف فيها، حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق (¬3). تكوّن إمام الحرمين تكوّناً علمياً قوياً منذ صباه، وتفقه على والده الإمام أبي محمد الجويني وأخذ علوم عصره عن أفذاذ رجالها المعروفين في وقتهم: من العربية، ¬

_ (¬1) انظر: الطبقات الكبرى للسبكي: 5/ 165 - 174. (¬2) الطبقات الكبرى: 5/ 178. (¬3) وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 167 , 168 الترجمة رقم (378).

والقراءات والحديث، والتفسير، وأصول الدين، والفقه، وأصول الفقه. وجمع الكثير من مصادر العلم في معارف عصره -بالإضافة إلى ما وجده عند والده- وأقبل على هذه المراجع ينهل منها ويعلّ، في لهفة وشوق، وفي دأب وصبر، مواصلاً الليل بالنهار، يقرأ ويحصل، ويفهم ويهضم. يقول معاصره عبد الغافر الفارسي: سمعته في أثناء كلامٍ له يقول: "أنا لا أنام ولا آكل عادةً، وإنما أنام إذا غلبني النوم، ليلاً كان أو نهاراً، وآكل إذا اشتهيت الطعام في أي وقت كان! ". وكان لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أي نوع كان. قال عنه أحد شيوخه في النحو والأدب، وقد قرأ عليه بعض كتبه -وهو إمام الأئمة- مستزيداً من العلم، وطالباً له عند أهله، قال: ما رأيت عاشقاً للعلم -أيَّ نوع كان- مثلَ هذا الإمام؛ فإنه يطلب العلم للعلم (¬1)! ونقل عنه السبكي قوله: ما تكلمت في علم الكلام كلمة، حتى حفظت من كلام القاضي أبي بكر (يعني الباقلاني) وحده: اثنى عشر ألف ورقة. هذا من كلام شخص واحد في علم واحد! فكيف بكلام غيره، وبالعلوم الأخرى التي له فيها اليد الباسطة، والتصانيف المستكثرة: فقهاً وأصولاً وغيرها؟ ومراده بحفظ تلك الكتب: فهمها والقدرة على استحضارها عند الحاجة. ويحكى أنه قال للغزالي يوماً: يا فقيه: فرأى في وجهه التغير، كأنه استقل هذه اللفظة على نفسه. فقال له: افتح هذا البيت، ففتح مكاناً وجده مملوءاً بالكتب، فقال له: ما قيل لي: يا فقيه (¬2)، حتى أتيت على هذه الكتب كلها! (¬3) ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى: 5/ 179، 180. (¬2) في نفسي شيء من هذه الحكاية، إذ لا معنى لتغير الغزالي من قوله له: يا فقيه! والسبكي قد ذكرها بصيغة التمريض (يحكى). (¬3) المصدر السابق 185.

وقد قال عن نفسه: (قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً) (¬1) 50000، فهل يقصد الضرب؟! 50000 × 50000= 2500000000 هذا مستحيل، أو يقصد العطف؟ أي 50000 + 50000= 100000 أظن هذا هو المقصود والمعقول، ولا أحسبه يقصد العدد حقيقة، إنما المقصود كثرة ما قرأ وحصّل من العلوم العقلية والنقلية. عبقرية متميزة: كان إمام الحرمين عبقريَّ زمانه -وما بعد زمانه- في العلوم التي تجمع بين العقل والنقل، وهي: علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف. وربما يظن كثير من الناس أن علم الفقه علم نقلي بحت، وهو كذلك عند الكثيرين، ولكنه -عند إمام الحرمين ومن جرى مجراه- له ارتباط وثيق بالعقل، في التأصيل والتدليل، والتقرير والتعليل، وربط المسائل بجذورها، ورد الفروع إلى أصولها، وقياس الأشباه بأشباهها، ومراعاة الجوامع والفوارق، ورعاية العلل والمقاصد. الاستقلال في التفكير والاستقلال. في التعبير: تميز إمام الحرمين بالاستقلال في التفكير، والاستقلال في التعبير. فهو في أصول الدين أشعري، ولكنه قد يخالف الأشعريَّ، برغم تعظيمه لقدره، وتقديره لفضله. وهو في فروع الفقه شافعي، ولكنه قد يستقل عن الشافعي بمسائلَ، وينفرد بنظراتٍ، وأفكار واجتهادات فقهية، لم يسبق بها أحد. وهو واضع اللمسات الأولى في مقاصد الشريعة، حيث أشار إليها في (البرهان) وتحدث عن المصالح الضرورية والحاجية والتكميلية. ¬

_ (¬1) أعلام النبلاء: 18/ 471. والطبقات الكبرى: 5/ 185.

ثم جاء تلميذه الغزالي وصاغها صياغة جديدة متكاملة، ووضع أسس البناء لهذه النظرية، التي توسع فيها الشاطبي فيما بعد. وعبارات إمام الحرمين في أكثر من كتاب له، بل في كل ما عرف من كتبه: تدل على أنه شخصية مستقلة الفكر، وإن انتسب إلى الأشعري اعتقاداً، وإلى الشافعي فقهاً، بل مع تعصبه للشافعي إلى الحد الذي جار على بعض المذاهب الأخرى، وبعض الأئمة مثل أبي حنيفة، كما تجلى ذلك في كتابه (مغيث الخلق في اختيار الأحق)، وفي حديثه -في بعض الأحيان- عن الإمام مالك، واسترساله في المصلحة المرسلة. استمع إليه، وهو يقول في (الغياثي): " ومعظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف، يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب، متضمَّنه كلامُ من مضى، وعلوم من تصرَّم وانقضى " (¬1). وفي موضع آخر يقول: " ولو ذهبت أذكر المقالات وأستقصيها، وأنسبها إلى قائليها .. لخفت خصلتين: إحداهما: خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها، وتعافها نفسي الأبية وتجتويها، وهي سرد فصل منقول، عن كلام للمتقدمين مقول. وهذا عندي بمنزلة الاختزال والانتحال، والتشبّع بعلوم الأوائل، والإغارة على مصنفات الأفاضل! " (¬2). فهو إذن يبحث عن الجديد، ويعاف تكرار القديم. ثم يقول: " وحق على كل من تتقاضاه قريحته تأليفاً، وجمعاً وترصيفاً: أن يجعل مضمون كتابه: أمراً لا يلفى في مجموع، وغرضاً لايصادَف في تصنيف " (¬3). وفي مكان آخر من الكتاب نفسه يقول: " لست أحاذر إثبات حكم لم يدوِّنه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء؛ فإن معظم ¬

_ (¬1) الغياثي بتحقيق د. الديب: فقرة (45). (¬2) المصدر السابق: فقرة (242). (¬3) الغياثي: نفس الفقرة.

مضمون هذا الكتاب لا يُلفى مُدوَّناً في كتاب، ولا مُضمَّناً لباب. ومتى انتهى مساق الكلام إلى أحكام نظمَها أقوامٌ، أحلْتها إلى أربابها، وعزَيْتها إلى كتابها. ولكني لا أبتدع، ولا أخترع شيئاً، بل ألاحظ وضع الشرع وينبوعَه، وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه. وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدَّة، التي لا توجد فيها أجوبة العلماء مُعدّة" (¬1). وهذا شائع في كتبه كلها، وهو يعتد بذلك ويباهي به، إلى حدٍّ قد تصفه بالعُجب أو الغرور، ولكنها -كما قال أخي عبد العظيم- الثقة الكاملة بالنفس، يقول في (البرهان) معقباً على ماعرض فيه لأنواع الجموع: (ونحن من هذا المنتهى نفرع ذِروةً في التحقيق لم يُبلغ حضيضُها، ونفترع معنى بكراً، هو -على التحقيق- منشأ اختباط الناس في عماياتهم) (¬2). ولقد أقر الفقهاء، والأصوليون، والمتكلمون، من بعده، بأصالته وتقدمه، واستقلاله في العلم والفكر، فهو نسيج وحده فيما يصنف ويكتب، غير مقلد لأحد قبله. يقول التاج السبكي في (طبقاته) عن كتابه (البرهان): " اعلم أن هذا الكتاب وضعه الإمام في أصول الفقه على أسلوب غريب، لم يقتد فيه بأحد، وأنا أسميه (لغز الأمة) لما فيه من مصاعب الأمور، وأنه لا يخلي مسالة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار، يخترعه لنفسه، وتحقيقات يستبدّ بها، وهذا الكتاب من مفتخرات الشافعية " (¬3). فانظر إلى هذه العبارات " لم يقتد فيه بأحد " وقوله: " عن اختيار يخترعه لنفسه، وتحقيقات يستبد بها " مما يدل على أن الرجل من المبدعين، وأصحاب العقول المبتكِرة. ¬

_ (¬1) الغياثي: فقر ة (378). (¬2) انظر: البرهان: فقرة (234) ج 1/ 328. (¬3) الطبقات الكبرى: 5/ 192.

وفي موضع آخر يعلق السبكي على ما وصفه بتحامل الإمام المازَري وغيرِه من علماء المالكية الذين شرحوا (البرهان) مبيناً سببَ هذا التحامل في رأيه، فقال: " إنهم يستصعبون مخالفةَ الإمام أبي الحسن الأشعري، ويرونها هُجنةً عظيمة، والإمام -إمام الحرمين- لا يتقيد لا بالأشعرىِ ولا بالشافعي، لا سيما في (البرهان)، وإنما يتكلم حسب تأدية نظره واجتهاده، وربما خالف الأشعريَّ، وأتى بعبارة عالية، على عادة فصاحته، فلا تتحمل المغاربة أن يقال مثلُها في حق الأشعري ". قال السبكي: وقد حكينا كثيراً من ذلك في شرحنا على (مختصر ابن الحاجب) (¬1). وقد استدل الحافظ السيوطي (ت 911 هـ) في رسالته (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) بعبارة السبكي هذه: أن إمام الحرمين لا يتقيد بالأشعري ولا بالشافعي، وإنما يتكلم حسب ما يؤديه إليه نظره واجتهادُه: أن هذا الإمام قد استقل بالاجتهاد، وتحرر من التقليد (¬2). ونقل عن ابن المنيّر أنه قال في حق إمام الحرمين: له علو همة إلى مساواة المجتهدين. ووصفه الحافظ القزويني بأنه: المجتهد ابن المجتهد (¬3). ومما يؤكد ذلك: ما ذكره الدكتور الديب قي تحقيقه للبرهان من جملة فهارس لها دلالتها وأهميتها في آخر الكتاب، ومنها ثلاثة فهارس ننبه عليها هنا: 1 - فهرس المسائل التي خالف فيها إمامُ الحرمين الشافعيَّ، وقد أحصاها، فكانت أربعاً وعشرين مسألة. 2 - فهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين الأشعري، وقد حصرها في ثلاث مسائل. ¬

_ (¬1) الطبقات: 5/ 192. (¬2) الرد على من أخلد إلى الأرض ص 194 تحقيق د. فؤاد عبد المنعم. (¬3) نفسه.

3 - فهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين القاضي أبا بكر الباقلاني، وهو الرجل الثاني بعد الأشعري، وقد أحصاها، فكانت إحدى وأربعين (41) مسألة (¬1). وهو يتحدث عن الإمام الأشعري بكل احترام وتقدير، ولكن لا يمنعه هذا أن يقول في بعض المسائل: ورأي الأشعري مختبط في هذه المسائل! وكيف لا وقد علق على قولة لوالده، الإمام المعروف فقال: وهذه زلة من الشيخ رحمه الله! (¬2). وأما استقلاله في (التعبير) فهو ظاهرة ملحوظة في كل ما يكتب، فمعجمه اللغوي رحب، ومفرداته كثيرة، وهو ينتقي منها ويتأنق فيها، إلى حد الإغراب في بعض الأحيان، ولا يكاد يستخدم عبارات من قبله، وكثيراً ما يلتزم السجع، كما هو نمط عصره، وأغلبه مستساغ، وقليل منه متكلف، وقد رأيناه يلتزم السجع في بعض كتبه مثل (غياث الأمم) فهو مسجوع من أوله إلى آخره، إلا ماندر. وأحياناً أخرى يتحرر من السجع، ويمضي مسترسلاً، ككبار البلغاء. قال ابن خلكان: ورزق من التوسع في العبارة ما لم يُعهد من غيره (¬3). عقل كبير وقلب كبير: وكما تميز الإمامُ الجويني بعقله الكبير، تميز بقلبه الكبير، فقد اتفق مؤرخوه أن الرجل كان من (أصحاب القلوب) الذين لهم مع الله تعالى حال ومقام، وكان إذا ذكّر الناس في مجلسه بكى وأبكى الحاضرين. وهذا مع أن الذين يشتغلون بالقضايا العقلية، والمجادلات الكلامية، يصابون بجفاف الروح، وقسوة القلوب، إلا من رحم ربك، من القلائل الذين احتفظوا بقلوبهم حية لم تمت، سليمة لم تسقم، صافية لم تشب، ومنهم إمام الحرمين. وقد قال هو رحمه الله بحق: " من ضرِي بالكلام صَدِي جنانه! " قال مؤرخه عبد الغافر الفارسي: " كان من رقة القلب بحيث يبكي إذا سمع بيتاً، ¬

_ (¬1) انظر: هذه الفهارس في أواخر الجزء الثاني من (البرهان) ص 1443 - 1449. (¬2) انظر: شذرات الذهب لابن العماد: 3/ 360. (¬3) وفيات الأعيان: 3/ 168.

أو تفكَّر في نفسه ساعة، وإذا شرع في حكاية الأحوال، وخاض في علوم الصوفية في فصول مجالسه بالغدوات: أبكى الحاضرين ببكائه، وقطّر الدماء من الجفون بزعقاته ونعراته وإشاراته، لاحتراقه في نفسه، وتحققه بما يجري من دقائق الأسرار " (¬1). اهـ. وقد تجلّى ذلك في خلقه وسلوكه مع من حوله، ومن ذلك خلق التواضع، فقد ذكروا: " أنه كان من التواضع لكل أحد بمحلٍّ يتخيل منه الاستهزاء، لمبالغته فيه. ومن حميد سيرته: أنه ما كان يستصغر أحداً حتى يسمع كلامه، شادياً كان أو متناهياً .. صغيراً كان أو كبيراً، ولا يستنكف أن يَعزي الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، وإن كان من تلاميذه ". " وإذا لم يرض كلام أحد زيّفه، ولو كان أباه أو أحد الأئمة المشهورين " (¬2). فهذا كله ينطق بأن هذا الإمام قد رُزق من نقاء القلب ما رُزق من ذكاء العقل، والله يختص بفضله من يشاء. الإخلاص والشجاعة: ومن الفضائل التي تميز بها إمام الحرمين، وتبدو واضحة لكل من درس حياته وتراثه بلا تعصب له ولا عليه: الإخلاص في طلب الحقيقة، عن طريق العقل الناقد، والشرع الضابط، فإذا كَشفت له الحقيقة قناعَها، ومدت له شعاعَها، بادر إلى الإيمان بها واعتناقِها، والإعلانِ عنها، بشجاعة لا نظير لها، وإن كانت مخالفة لما عليه الجمهور، أو ما عليه المذهب، وما مضى عليه دهراً من حياته، وقضى سنين عدداً وهو يدرسه ويصنّف فيه، ويذود عنه، ويحث على اتباعه. وهذا واضح في مذهبه (العقدي) أكثر منه في مذهبه الفقهي. فمن المعروف والمشهور: أن إمام الحرمين كان من كبار متكلمي الأشاعرة، المؤوِّلين لآيات الصفات وأحاديثها، المدافعين عن التأويل. وقد برز في (علم الكلام) واشتهر به، وصنف فيه التصانيف التي سارت بذكرها الركبان، مثل (الشامل) و (الإرشاد) ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى: 5/ 180. (¬2) المرجع السابق، وانظر: شذرات الذهب: 3/ 360.

و (اللمع) و (النظامية) وغيرها، وأخذ عنه هذا العلم كثيرون من تلاميذه النوابغ، وكان يتكلف في تأويله والدفاع عن مذهبه الأشعري إلى حد الاعتساف أحياناً، الذي لايرضاه المنصفون. وهذا شأن البشر. وقد ذكر مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي في (سير الأعلام) ما جرى بينه وبين أبي القاسم بن بَرهان من مناظرة في (أفعال العباد). ومن المعروف لدى المتمرسين بمسائل الكلام: أن مذهب الأشعري في أفعال العباد من أضعف المذاهب، حتى ضرب به المثل في الخفاء، فقيل: أخفى من كسب الأشعري. ومع هذا كان الجويني في أول أمره يجادل عنه ويرد على خصومه، ويتأول صريح القرآن، وهو ما نقله الذهبي عن العلامة الحنبلي ابن عقيل في (فنونه) قال: قال عميد المُلك: قدم أبو المعالي، فكلم أبا القاسم بن بَرهان في العباد: هل لهم أفعال؟ فقال أبو المعالي: إن وجدت آية تقتضي ذا، فالحجة لك. فتلا: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) [المؤمنون: 63] ومد بها صوته، وكرر: (هم لها عاملون) [المؤمنون: 63] وقوله تعالى: (لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 42] أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال (أي ابن بَرهان): " والله إنك بارد. تتأول صريحَ كلام الله، لتصحح بتأويلك كلامَ الأشعري!! وأكَلَه ابن برهان (أي أعياه) بالحجة، فبهت " (¬1). هكذا كان أبو المعالي إمام الحرمين، دهراً من حياته، ولا غرو أن اعتبره بعض الباحثين المؤسس الثاني للمذهب الأشعري، وكتب أستاذنا الشيخ علي جبر في كلية أصول الدين رسالة الأستاذية له عن (إمام الحرمين باني الأشعرية الحديثة) وإن لم نرها مطبوعة. ولكن الله شرح صدره للحق، فوجدناه في أواخر حياته قد غير نهجه، ورجع عن طريق التأويل -طريق الخلف- إلى طريق السلف في ترك الخوض، والانكفاف عن التأويل، كما أثبت أن للإنسان قدرة مؤثرة في أفعاله بإقدار الله تعالى وتمكينه، وليست مستقلة عن القدرة الإلهية. ولم يستنكف عن إعلان ذلك بكل ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء جـ 18/ 469.

صراحة وجلاء. وهو ما ذكره في (الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية) (¬1). قال إمام الحرمين: " اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما يبرزه أفهام أرباب اللسان فيها. فرأى بعضهم تأويلَها، والتزامَ ذلك في القرآنِ وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراءِ الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى. والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقداً: اتباعُ سلف الأمة، فالأولى الاتباع، وتركُ الابتداع. والدليل السمعي القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة حجةٌ متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوةُ الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة. فإذا تصرَّم عصرهم وعصرُ التابعين على الإِضراب عن التأويل؛ كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحْدَثين، ولا يخوضَ في تأويل المشكلات، ويكلَ معناها إلى الرب. وعند إمام القراء وسيدهم الوقف على قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: 7]، من العزائم، ثم الابتداء بقوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران: 7]، ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة. ¬

_ (¬1) طبعت في القاهرة بتحقيق المحدث الفقيه الحنفي المعروف الشيخ محمد زاهد الكوثري. وقد طبعت تحت عنوان (العقيدة النظامية) ويبدو أن الذي طبع منها فقط هو جانب العقيدة، وهو ما وجد منها، إذ لم يعثر على باقيها إلى الآن.

فلتُجْرِ آيةَ الاستواء والمجيء (¬1) وقوله: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75]. وَيَبْقَى (وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]. و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر: 14]. وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه، فهذا بيان ما يجب لله" (¬2). ونقل الحافظ الذهبي عن الفقيه غانم الموشيلي قال: " سمعت الإمام أبا المعالي يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما اشتغلت بالكلام " (¬3). وقال الذهبي: " قال الحافظ محمد بنُ طاهر: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب -وكان يختلف إلى درس الأستاذ أبي المعالي في الكلام- فقال: سمعت أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به " (¬4). وقد علق السبكي على هذا القول فقال: يشبه أن تكون هذه الحكاية مكذوبة على إمام الحرمين، وابن طاهر عنده تحامل على إمام الحرمين، والقيرواني المشار إليه: رجل مجهول. ولكن يعكر على هذا ما نقله الموشيلي عنه، ولم يتعقبه السبكي، ثم الأقوال الأخرى لإمام الحرمين في رجوعه إلى طريق السلف تؤكد صحةَ هذه الرواية. كما أن روايات الحفاظ لا تسقط بمثل التهم التي ذكرها السبكي، وأي تحامل على إمام الحرمين في هذه الرواية؟ بل فيها ما يرفع من قدره. وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي قال: "حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور" (¬5). ¬

_ (¬1) آية المجيء قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22]. (¬2) العقيدة النظامية: ص 23، 24. وقد نقل هذا النص الذهبي في (الأعلام) ج 18/ 473، 474. (¬3) سير أعلام النبلاء: 18/ 473. (¬4) المنتظم: 9/ 19، وطبقات السبكي: 5/ 186. (¬5) طبقات السبكي: 5/ 191.

وهذه الرواية قد أقرها السبكي، ولم يعترض عليها. قال الذهبي: "وقرأت بخط أبي جعفر (محمد بن أبي علي): سمعت أبا المعالي يقول: قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهي أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يُدركني الحق بلُطف بره، فأموتَ على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني (¬1)! يعني: نفسه. يقصد بالذي نُهي عنه أهل الإسلام: علم الكلام، فقد نهى عنه إمامه الشافعي، ونهى عنه مالك وأحمد، وغيرهما من الأئمة". ويبدو أنه تأول نَهْي أهل الإسلام أنهم نهوا من يخاف عليه السباحة في هذا البحر الخضم، ويخشى عليه من الغرق، وهو يرى نفسه أقوى من ذلك. كما قصد بتخلية أهل الإسلام وعلومهم الظاهرة: أنه دخل في العلوم العقلية والفلسفية وتغلغل فيها، ولم يشتغل بالعلوم النقلية من الحديث والآثار ونحوها، كما اشتغل بها غيره. وهذا القول من هذا الإمام الكبير الذي أنفق عمره في هذا اللون من الثقافة العقلية التي امتزجت بفلسفة اليونان وجدلياتهم، التي لا تنفع غليلاً، ولا تهدي سبيلاً .. هذا القول يؤكد أن لا طريق أهدى ولا أجدى من طريقة القرآن في تأسيس العقيدة، وهي الأقرب إلى الفطرة، والألصق بالعقل والوجدان، وهو ما كان عليه الصحابة وتابعوهم بإحسان. وإنما يستفاد من (علم الكلام) في الدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين من أصحاب الأديان والفلسفات الأخرى، والفرق المبتدعة. ¬

_ (¬1) الخبر في (المنتظم) لابن الجوزي: 9/ 19، وأعلام النبلاء: 18/ 471، و (طبقات الشافعية) للسبكي: 5/ 585.

وهو ما وضحه من بعد، تلميذه حجة الإسلام الغزالي، حين بين أن علم الكلام: علم مُحْدَث أريد به حراسة عقائد العوام من تشويش المبتدعة. وقال في (الإحياء): (اعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها، فالقرآن والأخبار (أي الأحاديث) مشتملة عليه. وما خرج عنهما، فهو إما مجادلة مذمومة، وهي من البدع ... وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفِرق لها، وتطويلٌ بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات، تزدريها الطباع، وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لايتعلق بالدين، ولم يكن شيء منه مألوفاً في العصر الأول، وكان الخوض فيه بالكلية من البدع، ولكن تغير الآن حكمُه، إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونبتت جماعة لفقوا لها شُبَهاً، ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً، فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذوناً فيه، بل صار من فروض الكفايات. وهو القدر الذي يقابل به المبتدع، إذا قصد الدعوة إلى البدعة، وذلك إلى حد محدود) (¬1). فلا غرو أن يروى عن إمام الحرمين ما رُوي من البراءة من (علم الكلام) والعودة إلى طريقة القرآن (¬2). وقد اجتهد العلامة تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى: أن ينحو بهذا الكلام الجلي الواضح من إمام الحرمين، منحى آخر غيرَ ما يتبادر منه، دفاعاً منه عن (علم الكلام) الموروث، ووجه كلمات هذا الإمام العظيم الشجاع المخلص، إلى معانٍ متكلفة لا ينشرح لها الصدر. وتحامل السبكي على شيخه الإمام الذهبي، تحاملاً لا يقبل من مثله في مثله؛ فالواقع أني ما رأيت مؤرخاً منصفاً مثلَ الذهبي، حتى مع أعلام المعتزلة وأمثالهم. على أن إمام الحرمين ليس هو وحده الذي انتهى إلى رفض التأويل، وترجيح مذهب السلف، وتفويض حقائق هذه الألفاظ ومعانيها إلى الله تعالى. ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين ج 1/ 22، 23 طبعة دار المعرفة - بيروت. (¬2) اقرأ تفسيراً مخالفاً ينكر هذا الرجوع فيما يأتي ص 206 تحت عنوان (موقف إمام الحرمين من علم الكلام). عبد العظيم.

فقد رجع من قبله شيخه أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة) وفي (رسالة إلى أهل الثغر) وغيرهما. ورجع من بعده تلميذه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، وذلك في كتابه: (إلجام العوام عن علم الكلام). ولكن موقف شيخه إمام الحرمين كان أصرح وأوضح، فإن الغزالي اعتبر علم الكلام شأنَ الخواص، وجمهرةُ العلماء من الفقهاء والمفسرين والمحدثين والمتكلمين، وغيرهم يعتبرون من العوام في هذا الأمر عند الغزالي. أما الخواص، فقد يوجد في كل عصر منهم واحد، أو اثنان. ورجع بعد ذلك: الفخر الرازي (ت 606 هـ) الذي كان من أكبر المحامين المدافعين عن التأويل، وصنف فيه أكثر من كتاب، مثل (تأسيس التقديس) وغيره. ثم قال في الطور الأخير من حياته العلمية: " لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: أقرأ في الإثبات: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي "! (¬1) وجاء في (طبقات الشافعية) لابن قاضي شهبة: 2/ 82 ما نصه: قال ابن الصلاح: أخبرني القطب الطوغاني مرتين: أنه سمع فخر الدين الرازي يقول: ياليتني لم أشتغل بعلم الكلام! وبكى (¬2). قال الإمام الشوكاني في (إرشاد الفحول): " وهؤلاء الثلاثة، أعني: الجويني والغزالي والرازي، هم الذين وسعوا دائرة التأويل، وطولوا ذيوله، وقد رجعوا آخراً إلى مذهب السلف، كما عرفت، فلله الحمد، كما هو أهله " (¬3). ¬

_ (¬1) سير النبلاء: 21/ 500. (¬2) ذكر ذلك الشيخ شعيب الأرناؤوط في مقدمته لكتاب (أقاويل الثقات) للشيخ مرعي الحنبلي ص 22 نشر مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬3) إرشاد الفحول 2/ 49 بتحقيق د. شعبان محمد إسماعيل.

على أن إمام الحرمين لم يكتف بالرجوع إلى مذهب السلف نظرياً، بل حث الأئمة والمسؤولين عن قيادة الأمة -والمحافظة على الدين أول واجباتهم- أن يجعلوا مذهب السلف ونهجهم في تعلم التوحيد هو ما ينبغي أن يعلم للكافة. أكد في (الغياثي): " أن الذي يحرص الإمام عليه: جمعُ عامة الخلق على مذهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء، وزاغت الآراء: وكانوا رضي الله عنهم ينهَوْن عن التعرض للغوامض، والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرَوْن صرفَ العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكّفون -رضي الله عنهم- عما تعرض له المتأخرون عن عيّ وحَصَر، وتبلُّدٍ في القرائح. هيهات! فقد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً، وأرجحهم بياناً، ولكنهم استيقنوا أن اقتحام الشبهات، داعية الغوايات، وسبب الضلالات، فكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلوْن، وإليه مدفوعون، فإن أمكن حملُ العوام على ذلك، فهو الأسلم " (¬1). ونعم ما أوصى به هذا الإمام. فكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف إمام الحرمين وعلم الحديث: عُرف إمام الحرمين بالتقدم والإمامة في عدد من العلوم الإسلامية: مثل أصول الدين، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف، ولكن لم يكن له قدم راسخة في الحديث وعلومه. وسبحان من وزع المواهب. وقد عبر عن هذا الجانب مؤرخو الإمام والمعقبون عليه، بعبارات مختلفة، مغزاها كلها: أنه لم يكن من أهل هذا الشأن. ¬

_ (¬1) انظر: الغياثي: فقرة (280) بتحقيق د. عبد العظيم الديب.

قال ذلك السمعاني في (أنسابه): " كان قليل الرواية للحديث معرضاً عنه " (¬1). وقال ياقوت في (معجم البلدان) نفس ما قاله السمعاني (¬2). وقال الحافظ ابن حجر في (التلخيص) في تعليقه على ما قاله إمام الحرمين حول ثبوت الطمأنينة في الاعتدال: وهو من المواضع العجيبة التي تقضي على هذا الإمام بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها، فإن ذكر الطمأنينة في الجلوس ثابت في الصحيحين (¬3). وقال نحوه من قبله ابن الصلاح في (الفتاوى الحديثية) وهو -كابن حجر- من الشافعية المرموقين. ولعل أشد العبارات في ذلك هي عبارة الإمام الذهبي في (أعلام النبلاء)، حيث قال: " كان هذا الإمام، مع فرط ذكائه، وإمامته في الفروع وأصول المذهب، وقوة مناظرته: لا يدري الحديث، كما يليق به، لا متناً ولا إسناداً. ذكر في كتاب (البرهان) حديث معاذ في القياس، فقال: هو مدون في الصحاح، متفق على صحته. قلت -والقائل الذهبي-: بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة، عن رجال من أهل حمص عن معاذ، فإسناده صالح (¬4). ا. هـ. وقد أغضبت هذه العبارة أخانا الدكتور عبد العظيم الديب، محقق كتب الإمام، كما أغضبت من قبله العلامة تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى. والعبارة فيها شدة ولا ريب، ولكن لا إلى الحد الذي أغضب الشيخ السبكي والدكتور الديب، فقد قيد الذهبي قوله بأنه " لا يدري الحديث كما يليق به " سواء كان هذا الضمير للحديث أم للإمام نفسه، أي لا يدريه على الوجه اللائق بهذا العلم أو بهذا الإمام (¬5). وهذا حق لا أحسب أن إمام الحرمين نفسَه ينكره. وقوله عن حديث ¬

_ (¬1) الأنساب: 3/ 386. (¬2) معجم البلدان: 2/ 193. (¬3) تلخيص الحبير 1/ 256، 257 بتعليق عبد الله هاشم اليماني. (¬4) أعلام النبلاء: 18/ 471، 472. (¬5) اقرأ الفصل السادس من هذه المقدمات. (عبد العظيم).

معاذ ما قال لا يتفق مع ما قرره أهل الحديث إلا بتاويل وتكلف. وقد رأيناه في كثير من الأحيان يستدل بأحاديث ضعيفة، بل شديدة الضعف، حتى في الأصول (¬1)، وأحاديث لا يعرفها المحدثون أنفسهم، وقد يعزو الحديث إلى غير من أخرجه، أو إلى غير صحابيه ... إلى آخره. وفي رأي: أن الرجل غني عن هذا كله، فهو -بلا نزاع- ليس من المدرسة الحديثية النقلية، بل هو من المدرسة التي تجمع بين العقل والنقل، وكلامه نفسه رضي الله عنه يدل على هذا بوضوح وصراحة. وقد رد هو والباقلاني من قبله والغزالي من بعده: حديث " لأزيدن على السبعين " في الاستغفار لابن أُبيّ، وهو متفق عليه، لاعتقادهم أنه ينافي الفهم الصحيح لآية (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة: 80]. لنقرأ له هذه العبارة في (البرهان) يقول: وهو يناقش تحمل الرواية وجهة تلقيها: " ولو عُرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأَبَوْه ... وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول، وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسائل صادفها خارجة في الرد والقبول على ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، قإذا صادفناه لزمناه، وتركنا وراءه المحدثين يتقطعون في وضع ألقاب، وترتيب أبواب " (¬2). فهذه نظرته إلى (المحدثين) عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول، وهو لا يعبأ أن يتركهم وراءه يتقطعون قي وضع ألقاب، وترتيب أبواب! على أن هذا -عدم دراية الحديث كما يليق به- ليس خاصاً بإمام الحرمين، بل هو عام في فحول المدرسة الأشعرية كلها. ¬

_ (¬1) كاستدلاله بحديث (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم) البرهان: فقرة (1548) وقد ضعفه ابن حزم وابن عبد البر وغيرهما، وقال الألباني في سلسلة (الضعيفة) رقم (58): موضوع. واستدلاله بحديث "اختلاف أمتي رحمة" الغياثي (277) والحديث لم يعرف له سند. وقد افترض إمام الحرمين في (الغياثي) اندراس الشريعة، وانقراض حملتها تماماً وبنى على ذلك أحكاماً، وهو مخالف لأحاديث (بقاء الطائفة المنصورة) التي صحت واشتهرت واستفاضت عن عدد من الصحابة، وربما تواترت. (¬2) البرهان: ج 1 فقرة (592) وفقرة (593).

فهكذا كان الأشعري والباقلاني من قبل، وكذلك كان الغزالي والرازي والآمدي وغيرهم من بعد. وربما أغناه عن العناية بالحديث رجال نذروا أنفسهم لخدمته، وهيأهم الله لذلك، وخصوصاً من الشافعية، وكل ميسر لما خلق له. وقد كان في عصر إمام الحرمين من هؤلاء أمثال الحافظ المتقن الكبير، أبي بكر البيهقي (ت 458 هـ) صاحب (السنن الكبرى) و (معرفهّ السنن والآثار) و (جامع شعب الإيمان) وغيرها من الموسوعات، والذي قال فيه إمام الحرمين نفسه: "ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منة، إلا البيهقي؛ فإنه له على الشافعي منة، لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله" (¬1). إمام الحرمين ومعاصروه: عاصر إمام الحرمين علماء كبار كثيرون من مختلف المذاهب، فقد كان القرن الخامس الهجري، حافلاً بالنوابغ في مختلف أنواع العلوم والدراسات الإسلامية، في المشرق والمغرب (الأندلس). ففي المغرب كان ابن حزم الظاهري (456 هـ) وابن عبد البر المالكي (463 هـ) وفي المشرق ظهر القاضي أبو الطيب الطبري في الفقه (448 هـ) وكما ظهر البيهقي في الحديث (458 هـ) والخطيب البغدادي (463 هـ) وكلهم شافعية. ونبغ في الفقه والنظر: أبو إسحاق الشيرازي (456 هـ). وأبرز من يقارن بإمام الحرمين في الفقه هو: أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) وهو شافعي كإمام الحرمين، وكلاهما له كتاب كبير في الفقه: ألف ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى للسبكي: 4/ 10 في ترجمة البيهقي. وقد وقع للبيهقي مع والد إمام الحرمين الشيخ أبي محمد حادثة معروفة، حين شرع فىِ تاليف كتاب المحيط) الذي عزم فيه ألا يتقيد بالمذهب، وإنما يعتمد على الأحاديث. وأصدر منه ثلاثة أجزاء اطلع عليها البيهقي. وكتب له رسالة يبين له فيها أوهامه وأغلاطه فيما استند إليه من حديث، فشكر له الشيخ وأعرض عن تكميل الكتاب وقد ذكر ذلك الأستاذ السيد أحمد صقر في مقدمته لكتاب البيهقي في (مناقب الشافعي). وكذلك د. أحمد بن عطيه الغامدي في مقدمته لكتاب (البيهقي وموقفه من الإلهيات).

الماوردي كتاب (الحاوي) في فقه الشافعية، كما ألف إمام الحرمين (النهاية)، وكلاهما له كتاب في السياسة الشرعية: الماوردي له كتاب (الأحكام السلطانية) الشهير، وإمام الحرمين له كتاب (غياث الأمم) أو الغياثي. ولكن لكل من الرجلين شخصيته المتميزة فيما يكتب ويصنف، فإمام الحرمين أبعد وأعمق، والماوردي أقرب وأسهل. إمام الحرمين يُعمل العقلَ أكثر من النقل، والماوردي يعمل النقل أكثر من العقل، وقد يعبر عن هذا فيقال: الأول عقله أكبر من علمه، والثاني علمه أكبر من عقله. وكأن إمام الحرمين يصنف للمنتهين، والماوردي يصنف للمبتدئين والمتوسطين، الأول مولع بالأصيل والجديد، والثاني مهتم بتقرير التليد. الأول همه ماذا يقول؟ والثاني همه -مع هذا- ماذا قال السابقون؟ الأول محسوب على أهل الإبداع، والثاني محسوب على أهل الاتباع. ولكل منهما فضله وأثره، وسوقه، ومحبوه، وأجره إن شاء الله، وإن جار الإمام الجويني على عصريِّه الماوردي، وأساء إليه، كما سنرى، غفر الله له. كلمة عتاب لإمام الحرمين (¬1): هذا هو إمام الحرمين: إمام علا القمة بجدارة، وأوفى على الغاية في فكره وفقهه، وفي إنتاجه وعطائه، وفي مكارمه وفضله، وفي غيرته على دينه ودفاعه عنه، ومع هذا، فالكمال لله تعالى وحده، والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم. وكم كنت أتمنى لهذا الإمام الكبير ألا يبالغ في مدح نظام الملك، كما هو ظاهر في أكثر من موضع في كتابه (الغياثي) وفي مقدمته خاصة، حين قال في قصيدة له يمدحه بها: وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وأَسْقَيتها، حتى تمادى بها المدى فلما اقشَعَر العودُ منها وصَوَّحت ... أتتك بأغصان لها تطلبُ الندى وقد قال التاج السبكي: " إنه وجد بخطه رضي الله عنه في خطبته للغياثي -وهو عنده بخطه- أنه قد ضرب على البيتين الأخيرين، قال السبكي: وسررت بذلك، فإني سمعت شيخ الإسلام -يعني والده التقي السبكي- رحمه الله يحكي عن شيخنا ¬

_ (¬1) هذا تعبير فضيلة الدكتور القرضاوي ورأيه، ونحن مأمورون بذكر محاسن موتانا؛ كما في الحديث الصحيح. اهـ (الناشر).

أبي حيان: أنه كان يتعاظمهما، ويقول: كيف يرضى الإمام أن يخاطب (النظام) بهذا الخطاب؟! ثم يذم الدنيا التي تُحْوج مثل الإمام إلى مثل ذلك! " (¬1). وما يدرينا لعل نيته في ذلك خير ينشده للدين أو للمسلمين، وإنما لكل امرىء ما نوى (¬2)، أو لعلها لحظة ضعف مما يعتري البشر، استدركها الإمام على نفسه، وإنما استعظمت منه لأنه عظيم حقاً. كما كنت أود ألا يغلو في نقده للمذهب الحنفي، إلى حد العنف الجارح، الذي لا يليق من أهل العلم بعضهم لبعض، كما بدا ذلك في كتابه (مغيث الخلق في اختيار الأحق). وقد أنكر بعضهم نسبة الكتاب إليه، ولعل أخي عبد العظيم منهم، وكم أتمنى أن يصح ذلك. ولكن وجدت في أواخر (البرهان) (¬3) ما يؤيد بعض ما في الكتاب. كما أن المؤرخين من بعده نسبوا الكتاب إليه. وقد وعد الدكتور الديب أن ينشر بحثاً موثقاً بالقرائن والأدلة: أن هذا الكتاب -أو بعضه على الأقل- مدسوس على إمام الحرمين. وإني لأرجو مخلصاً أن يوفق إلى ذلك. وكذلك لم أكن أحب له أن يشتد في نقد إمام دار الهجرة مالك بن أنس، لأمور لم تثبت عنه، كالقول بقتل الثلث لإبقاء الثلثين، ونحو ذلك - وإن كان في بعض الأحيان قيدها بقوله: إذا صح ذلك عنه، وهذا هو الواجب، واللائق بمثله. وأيضاً لم أكن أود من رجل كبير مثله أن يتحدث عن معاصره قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي (ت 450) بمثل تلك اللهجة الساخرة المهينة (¬4)، التي قرأناها ¬

_ (¬1) الطبقات: 5/ 209. (¬2) حقا لم يكن نظام الملك مجرد صاحب سلطان وصولجان، ولكنه كان من أهل الفقه والحديث، وهو الذي قضى على التمزق والطائفية، وأحيا السنة، وأنشا المدارس النظامية، وهو صانع النصر التاريخي في معركة (ملاذ كرد) التي أسر فيها امبراطور الروم. وقد بلغ من مكانته ومنزلته أنهم قالوا: "يوم مات نظام الملك رئي مكتوباً في السماء: اليوم رفع العدل من الأرض". وكم أتمنى أن يتحقق أملي في أن أكتب ترجمة وافية لنظام الملك. (عبد العظيم). (¬3) البرهان: فقرة (1553) ص 1364، 1365 من الجزء الثاني. (¬4) انظر ما قاله عنه في (الغياثي) فقرات: (209، 232، 233).

3 - المحقق

في أكثر من موقع، ولا سيما في كتابه (الغياثي)، واستقبلناها بالغرابة والإنكار، وهو ما جعل سلفنا -رضي الله عنهم- يحذرون من أخذ أقوال المتعاصرين بعضهم في بعض! ويبدو أن هذا الإمام الفذ -مع عقله الكبير- كان حار العاطفة، حاد المزاج، فلا يبعد أن تغلبه -مثل كثير من العظماء- حدة الطبع، فتدفعه إلى المبالغة في المدح إذا مدح، وإلى الإسراف في النقد إذا نقد، وهذا يؤكد أن الإنسان هو الإنسان، وإن بلغ في العلم والفضل ما بلغ، وقد قال الشاعر قديماً: من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط؟! ومهما يكن الأمر، فحسنات الرجل أكثر، وفضائله أغزر، ومكارمه أكبر، والله أعلم بالسرائر، وفي الحديث الذي استدل به الشافعية: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" (¬1) وفي رواية: "لم ينجسه شيء" (¬2) فكيف إذا كان بحراً زاخراً؟ غفر الله لإمام الحرمين وجزاه خيراً عما قدم لدينه وأمته. 3 - المحقق وأما المحقق، فهو الأخ الصديق الصدوق: الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب، الذي أعرفه منذ كان طالباً في القسم الابتدائي بمعهد طنطا الديني (¬3)، وتربطني به منذ ذلك الزمن صلة وثيقة، لم تزدها الأيام إلا قوة، وإن كان يصغرني ببضع سنوات. ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم عن ابن عمر. وذكره في صحيح الجامع الصحيح (416). (¬2) رواه ابن ماجه عن ابن عمر. المصدر السابق (417). (¬3) عرفني به صديقي وصديقه وبلديّه أخي الحبيب محمد الدمرداش سليمان مراد، رفيقي في المسكن والدراسة والدعوة والمعتقل، والذي وافته المنية في ريعان شبابه في صيف 1962 عليه رحمة الله ورضوانه، وقد كنا مجموعة من الشباب الأزهري المسلم، تلاقت على الدعوة الإسلامية أفكارهم، وتحابت قلوبهم، واتحدت غاياتهم، واتضحت مناهجهم، منهم: أحمد العسال، ومحمد السيد الوزير، ومحمد الصفطاوي، وآخرون من المتميزين، منهم من قضى نحبه ومنهم من يتتظر، وما بدلوا تبديلاً.

ولا تمنعني أخوتي وصداقتي له أن أوفيه حقه من التقدير، فقد قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152]. وكما أن العدل يوجب أن تقول فيمن تحب: ما هو عليه، فهو يوجب أن تقول فيه: ما هو له. (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [هود: 85]. عرفت الدكتور الديب -منذ يفاعته- رجل صِدْق: صِدْقٍ مع نفسه، وصدق مع ربه، وصدق مع إخوانه، وصدق مع الناس أجمعين، مستمسكاً بالعروة الوثقى لا انفصام لها. وعرفته قوي الإيمان، عميق اليقين، نير البصيرة، نقيَّ السريرة، يقظَ الضمير، حي القلب، جياش العاطفة، طاهر المسلك، بعيداً عن الريبة. وعرفت فيه الحماسة والغيرة لما يؤمن به، لا يضن بجهد ولا وقت ولا نفس ولا نفيس في سبيل ما يؤمن به، مدافعاً عنه، وإن خالفه الناس. وقد يغلو في الدفاع عن بعض الفصائل الإسلامية، حتى يكاد يحسبه سامعه من المتشددين، وما هو منهم. تجسدت فيه الأخلاق العريقة للقرية المصرية -قبل أن تُغزى بآفات الحضارة الحديثة- من الحياء والإباء، والشهامة والوفاء، والبر والصلة، كما يتجلى ذلك في إهداءاته لكتبه، وشكره لشيوخه وزملائه، وكل من عاونه بجهد. أحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا أزكيه على الله تعالى. وقد تجلت هذه الفضائل التي عُرف بها الديب يافعاً وشاباً، في حياته العلمية المباركة، كهلاً وشيخاً، ومن شب على شاب عليه. وإذا رأيتَ من الهلال نمؤَّه ... أيقنت أن سيصير بدراً كاملا! فالدكتور الديب رجل عالم بحاثه دؤوب، طويلُ النفس، دقيق الحس، نافذ البصيرة، متمكن من مادته، قادر على الموازنة والتحليل، له ملكة علمية أصيلة يقتدر بها على الفهم والفحص، والنقد. صبور على متاعب العلم، وللعلم متاعب ومشقات

لا يدركها إلا من مارسها وعايشها، كما قال الشاعر: لا يعرف الشوقَ إلا من يكابده ... ولا الصبابةَ إلا من يعانيها! وقديماً قالوا: إن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، وقد أعطى الرجلُ العلمَ كلَّ نفسه، وكلَّ جهده، وكلَّ وقته، وأعطاه العلم ما يستحق. وأنا أعرف أن الدكتور الديب رجلٌ له قلم رشيق بليغ، كما تجلى ذلك في بعض ما كتب من مقالات ورسائلَ وكتبٍ. ومع هذا لم يشغل (التأليفُ) وقته، كما شغله (التحقيق) فقد اختار الطريقَ الوعر، والمهمةَ الأصعب، وهو لها بتوفيق الله: بما لديه من مؤهلات عقلية وعلمية ونفسية؛ فقد حفظ القرآن من صغره في الكتّاب، وتكون في معاهد الأزهر، الابتدائية والثانوية، ثم في كلية (دار العلوم) بالجامعة، وكان فيها فحولٌ في علوم العربية والشريعة. وملك مفاتيح العلم، وعاش يقرأ ويدرس ويناقش، ويتعلم من كبار الشيوخ، وأساتذة التحقيق، وقد اكتملت له الخصال أو المزايا الست، التي أوصى بها شيخُه الإمام الجويني طُلأبَ العلم، فيما أنشدوا له من شعر، حيث قال: أصخ، لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء، وحرصٌ، وافتقار، وغربة ... وتلقينُ أستاذ، وطولُ زمان وقد عكف الأخ عبد العظيم منذ دخل ميدان التحقيق على تراث إمام الحرمين، فهو مولع بالرجل منذ عرفه في دراسته عنه بالماجستير والدكتوراه بدار العلوم. بل هو في الحقيقة (عاشق) لإمام الحرمين، كما تحس بذلك إذا تحدث عنه أو كتب عنه. والعاشق تهون عليه الصعاب، ويجد البعيد قريباً، والحَزْنَ سهلاً، في سبيل معشوقه. ولقد بلغ من إعجاب الدكتور الديب بشيخه -بل من عشقه له- أنه لا يطيق أحداً ينكر عليه بعض هفواته، ولو كان من الشافعية أنفسهم، مثل ابن الصلاح، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهما.

وجلُّ ما ينكرانه إنما يتعلق بالحديث، والإمام لا يزعم أنه من رجاله، فلا غرو أن يقع منه ما لا يرضاه المحدثون من أقوال وتأويلات. ويذكِّرني الدكتور الديب هنا بالعلامة تاج الدين السبكي، الذي تحامل بعنف على العلامة الكبير شمس الدين الذهبي لما ذكره عن إمام الحرمين في (سير أعلامه). والرجال الكبار -وخصوصاً المستقلين بالفكر منهم- لا يعيبهم أن تقع منهم هفوات، فكما قال الشاعر: كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه. وقديماً قالوا: لكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة. أخرج الدكتور الديب قبل ذلك من كتب إمام الحرمين (البرهان) في أصول الفقه، وهو كما قال التاج السبكي (لغزُ الأمة). وقد أمضى في تحقيقه سبع سنوات كاملة، صحب فيها الإمام وبرهانه، لم يدخر فيها وسعاً، ولم يضن بوقت ولا جهد، متنقلاً بين القاهرة ودمياط، حيث توجد النسخة الأصلية التي اعتمد عليها أساساً، يعالج فيها المخطوط ويمازجه، والمخطوط عبارة عن أكثر من أربعمائة ورقة، لا رباط بينها إلا أنها في مظروف واحد، عليه أن يعيد ترتيبها وترقيمها، بعد أن غَيَّر فيها مَنْ غير، وما أشقها من مهمة، وما أعسره من واجب! وقد وفقه الله عز وجل لتحقيقه، وتولت نشره (إدارة إحياء التراث الإسلامي) في دولة قطر بعناية مديرها أخينا وصديقنا الكبير الشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري رحمه الله، وجزاه خيراً، وكتب لها المحقق مقدمة، وتوطئة تتضمن: تعريفاً موجزاً بإمام الحرمين، وتعريفاً بالبرهان، وإضاءة بين يدي التحقيق. واستُقْبل الكتاب من العلماء والمهتمين بأصول الفقه خاصة في العالم العربي والإسلامي استقبالاً حسناً، وقدروا للمحقق هذا الصنيع، الذي قرب إليهم هذا الكتاب، الذي طال انتظاره. وأخرج بعد ذلك له أثرين مهمين: 1 - (الغياثي) أو (غياث الأمم) في السياسة الشرعية، وهو نسيج وحده، وقد

قدمه بدراسة رائعة كشفت عن مكنونه، وعرفت بحقيقة مقصوده، وبينت ما سُبق به الإمام، وما أُخذ عنه، وإن لم ينسب إليه. 2 - و (الدرة المضية في الخلاف بين الشافعية والحنفية). وقدم لها بدراسة مهمة ونافعة كذلك. أما تحقيق (النهاية) أو نهاية المطلب، فقد كان حلماً وأمنية له، منذ عرف إمام الحرمين، ثم غدا أملاً ورجاء، ثم تحول إلى حقيقة منذ بدأ يبحث عن نسخه منذ سنة 1975 م. ومنذ وصل إلى قطر سنة 1976 م، وهو مشغول بالكتاب. ومنذ أكثر من عشرين عاماً، وهو عاكف على (النهاية) أو (نهاية المطلب) أعظم آثار الإمام الفقهية، وأبرز ما يعرف بقدره في الفقه، ومنزلته في التأصيل والاستنباط. عايشه هذه السنين ورافقه: يقرؤه على مهل، ويجتهد أن يفهمه على الصواب ما أمكن، وأن يفسر غامضه، ويفك طلاسمه. وأنا أدرى الناس بما عاناه الدكتور الديب فى تحقيقه لهذا المخطوط، من حيث جمع أصوله المبعثرة في شتى مكتبات العالم، فقد ظل يقرأ فهارس المخطوطات، ويتتبعها، ويزور المكتبات هنا وهناك بنفسه، ويسأل العارفين، ويستعين بالأصدقاء، وأنا منهم، ليبحثوا له عن نسخ من الكتاب، حتى جمع أقصى ما يمكن الحصول عليه من أجزاء الكتاب من مظانه في العالم، عن طريق التصوير طبعاً. جَهِد د. الديب جهده، حتى جمع من الكتاب أكثر من عشرين نسخة صورها من مكتبات العالم: في القاهرة والإسكندرية وسوهاج من مصر، ودمشق وحلب من سورية، والسلطان أحمد وآياصوفيا من تركية. ولكن لم توجد منه نسخة كاملة. وبلغ عدد مجلداتها (44). وعدد أوراقها (10336) ونسخت بخط اليد في (14590) صفحة. هذا، بالإضافة إلى المختصرات والنصوص المساعدة، وهي تسعُ نسخ، بلغ عدد مجلداتها (15) وعدد أوراقها (3755) تقريباً.

ليس هيناً ما قام به الدكتور الديب من تحضير وتهيئة للعمل الكبير الذي نهض له، وهو له أهل، ليُخرج (النهاية) إلى النور، ويحيلها من مقبور إلى منشور. وقد قال بعض العلماء: من نشر مخطوطة، فكأنما أحيا موءودة!. فكيف إذا كانت هي (النهاية)؟! ثم بدأ يقرأ النص قراءة العارف الخبير، ولكنه يقرأ نصاً غير عادي، لرجل غيرِ عادي. فبعض المصنفات تكون ترديداً لكلام السابقين، أو تكراراً وتأكيداً له، فيستطيع قارئها أن يبحث عنها فيما نقلت عنه. أما إمام الحرمين، فهو -كما ذكرنا- مستقلٌّ في تفكيره، مستقلُّ في تعبيره، فيحتاج من محققه إلى فهم دقيق، وتأمل عميق، وصبر جميل، ومراجعة طويلة، حتى يفهم ما يريد المصنف. على أن إمام الحرمين كثيراً ما يُغرِب في تعبيره، فيظل المحقق يبحث طويلاً في المعنى المراد، حتى يجده باليقين أو بالظن. وقد يظل أسابيع أو شهوراً، يفتش عن المعنى، ويبحث عن المظان، ويشاور من يثق به، إلى أن يشرح الله صدره لما يختار. أضف إلى ذلك ما تعانيه المخطوطات أبداً من كلمات مطموسة، أو مخرومة، كلها أو بعضها، أو لعلها سقطت من المصنف نفسه أثناء الكتابة، كما يحدث لكل مؤلف، زيادة عما يصنعه النساخون بالكتب من تصحيف وتحريف، ومسخ وتغيير، وخصوصاً الجهلة منهم! زد على ذلك ما يستشهد به المصنف رحمه الله من أحاديث، بعضها لا يكون معروفاً عند الفقهاء، وفي كتب الفقه المألوفة، بحيث نجده، في تلخيص الحبير، أو سنن البيهقي، أو غيرهما من الكتب التي هي مظان هذا اللون من الأحاديث. ينتمي الأخ الدكتور الديب إلى مدرسة في التحقيق، متميزة، شيوخها الكبار: آل شاكر، أحمد ومحمود، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر، رحمهم الله، وأمثالهم.

ومن أبنائها: الدكتور عبد الفتاح الحلو والدكتور محمود الطناحي رحمهما الله، والدكتور الديب، حفظه الله، وأمثالهم، وهي مدرسة تعنى بخدمة النص ذاته، وتقديمه للقارىء بيِّناً واضحاً مفهوماً، كما أراده مصنفه، بقدر الاستطاعة، ولا تُثقل كاهلَ المتن المحقق بكثرة التعليقات التي لا لزوم لها، وتوسيعها بغير حاجة، كما يفعل الكثيرون؛ حتى رأيت بعضهم يترجم في تعليقاته لأبي بكر وعمر والخلفاء الأربعة، ولأبي حنيفة ومالك والأئمة الأربعة، وللبخاري ومسلم والأئمة الستة. وتتسع التعليقات حتى يصبحَ الكتاب أضعافَ حجمه، وفي ذلك إرهاق للقارىء مادياً ونفسياً وعقلياً، لا طائل تحته. وقد أصبحت أقرأ هذه الترجمات للأعلام في كل كتاب محقق، ولو كان رسالة صغيرة، فهي أعلام تتكرر دائماً. كما يهتم بعضهم بذكر كل الفروق بين النسخ بعضها وبعض، وإن لم يكن لها ضرورة ولا فائدة للقارىء بحال. كما هو شأن بعض المستشرقين ومن يتبعهم، وربما كان المستشرقون معذورين، لأنهم كانوا يخافون أن يكون أي فرق بين النسختين أو النسخ مؤثراً في المعنى، وهو لا يشعر، لعجمته، فما عذر العربي المتمرس بالعربية؟! ومن أصدق وأبلغ ما قرأتُ هنا ما قاله أخي عبد العظيم: "والتعليق على المخطوطات: فن قائم بذاته، يحتاج إلى دُربة، ومهارة، وحذق، وإحساس صادق بما يحتاج التعليق، وبما لا يحتاج، وبما يحتاج إلى الشرح، وبما لا يحتاج، وكيف يكون الشرح، وكيف يكون التعليق، كما يحتاج إلى مهارة بارعة، وقدرة فائقة على الإيجاز، فالإطناب يحسنه كل أحد، أما الإيجاز، فهو المحك والفيصل، فمن الصفحات الكثيرة التي يقرؤها المحقق عن عَلَم من الأعلام، أو عن رجل من رجال السند، أو عن حديث من الأحاديث، أو حادثة من الحوادث - يحتاج إلن بضعة أسطر، بل بضعة جمل من هذه الصفحات، وهنا تكون المهارة، ويكون الحس الصادق، ومن قبل ومن بعد يكون توفيق الله سبحانه، فيما يختار وفيما يدع" (¬1). ¬

_ (¬1) من مقدمة (الدرة المضية) ص 115.

ولقد زرت الدكتور الديب في (مخبئه العلمي) أو في (ورشة العمل) التي يزاول فيها مهنته، ويمارس تحقيقه، وهي حجرة كبيرة فيها عدة مكاتب، ومجهزة بما سماه الدكتور (حافظ عصرنا) الكومبيوتر، وبالجهاز القارىء للمخطوطات، وبالمراجع المختلفة: من فقهية وحديثية ولغوية، وغيرها. ورأيته يستعين بكتب الشافعية، وخصوصاً البسيط للغزالي تلميذ إمام الحرمين، وهو مخطوط مصور عنده، وهو أوسع كتب الغزالي الفقهية، ويعتبره الكثيرون مختصراً أو كالمختصر للنهاية، ويستعين بالمجموع والروضة للنووي، وبمختصر النهاية لابن عبد السلام، ولابن أبي عصرون وغيرهما، حتى يطمئن إلى حسن فهمه للنص. قدم الدكتور الديب من قبل دراسة عن إمام الحرمين: حياته وآثاره، حصل بها على درجة (الماجستير) من كلية دار العلوم، وأخرى عن (فقه إمام الحرمين) حصل بها على درجة (الدكتوراه) مع مرتبة الشرف، والتوصية بطباعة الرسالة وتبادلها مع الجامعات. وهذا كله ساعده على فهم إمام الحرمين، وكتابه المتميز (نهاية المطلب). كما قدم أكثر من دراسة، عن كل كتاب حققه من كتبه: من (البرهان) و (الغياثي) و (الدرة المضية) إذ كتب لها مقدمات علمية مستفيضة، تلقي أضواء كاشفة عليها لمن يقرؤها. فكتب للبرهان مقدمة من 68 صفحة. وكتب للغياثي مقدمة من 155 صفحة. وكتب للدرة المضية مقدمة من 132 صفحة. هذا عدا الفهارس المفصلة في نهاية كل كتاب. وبين الأخ الديب وإمام الحرمين نسب جامع، وصفات مشتركة، جعلته ينجذب إليه، كما قال الشاعر: شبيه الشيء منجذب إليه. وصح في الحديث " الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف ".

وما أجمل أن يرتبط المرء بمثل هؤلاء الأئمة أصحاب العقول الكبيرة، والقلوب المشرقة، ليعايشهم ويتأسى بهم. ونرجو أن يكون لأخينا الدكتور الديب نصيب أوفى من كل خير في شيخه وأستاذه وحبيبه إمام الحرمين. لقد قدم الدكتور عبد العظيم الديب للمكتبة الإسلامية خدمةً جليلة، بتحقيق هذا الكتاب الفذ، ولا يسعنا، بل لا يسع أي مسلم يهتم بدينه وثقافته وحضارته إلا أن يشكر للدكتور الديب ما قام به من جهد وعناء طوال تلك السنين. ومهما نشكره ونقدِّر فضله، فلا نملك أن نوفيه حقه، إنما الذي يوفيه جزاءه، ويشكر سعيه حقاً، هو الله تبارك وتعالى، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً. جزى الله أخانا الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب عن عمله ودأبه، ومعاناته في سبيل العلم، خير ما يجزي العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، من ورثة النبيين، ونفع الأمة بما يقدمه من إحياء لتراثها، وخدمة لدينها، وجعل ذلك في ميزانه يوم القيامة حسنات ودرجات عنده -تبارك وتعالى- {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182]. ***

مقدمات نهاية المطلب

مقدّمات نهاية المطلب سنلتزم في هذه المقدمات أمرين: أولاً - الإيجاز. ثانياً - البقاء في دائرة الكتاب الذي نقدّمه، بمعنى أن نقتصر على ما يبين موقع صاحبه ومكانته في سلسلة أئمة المذهب وتطوّره، وعلى ما يوضح مكانة الكتاب وأثره، ثم ما يعرّف به، ويبين خصائصه، ويضيء طريق مُطالعه والناظر فيه. ولذا ستقع المقدمة في الفصول الآتية: الفصل الأول - من تاريخ الحياة الفقهية حتى عصر الإمام الشافعي. الفصل الثاني - المذهب الشافعي: من التأسيس إلى الاستقرار، مع شيء من مصطلحاته. وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول - الإمام الشافعي. المبحث الثاني - حملة الفقه عن الإمام الشافعي. المبحث الثالث - مرحلة تحرير المذهب. المبحث الرابع - من مصطلحات المذهب. الفصل الثالث - تعريف بإمام الحرمين ومنزلته بين أئمة المذهب. الفصل الرابع - تعريف بنهاية المطلب، وبيان منزلته بين كتب المذهب.

الفصل الخامس - وفيه مبحثان: المبحث الأول - من ملامح منهج إمام الحرمين. المبحث الثاني - أسلوب إمام الحرمين. الفصل السادس - إمام الحرمين وعلم الحديث. الفصل السابع - من سمات وضوابط منهجنا في التحقيق. الفصل الثامن - تعريف بالنسخ المخطوطة ووصف لها، ونماذج منها ***

الفصل الأول من تاريخ الحياة الفقهية حتى عصر الإمام الشافعي

الفصل الأول من تاريخ الحياة الفقهيَّة حتى عصر الإمام الشافعي

الفقه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

الفقه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم - أشرقت الأرض بنور ربها، وصدع محمد صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، وأخذ يسعى في أرجاء مكة، ونور السماء بين يديه، يبدد جيوش الظلام التي تحاصر العرب وتسد عليهم منافذ الهدى. - وكان أول منفذ يخرج منه هؤلاء المحاصَرون هو تحريرهم من العبودية للطواغيت، والارتفاع بهم إلى المنزلة العظمى: إلى عبادة الله وحده، وكان الصراع طويلاً مريراً؛ حيث أَلِفَ الملأ من قريش الظلامَ؛ ولم تقوَ عيونُهم على استقبال نور الله؛ فقضى الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عَشرَةَ سنة، وهو يحاول أن يطهر القلوب والعقول من الزيغ والضلال ويغرس فيها الإيمان بالله وحده، ومن هنا كان القرآن المكي -وهو يقرب من ثلثي القرآن الكريم (¬1) - متجهاً إلى إثبات وجود الله، وأنه وحده المستحق للعبادة، وأن هناك يوماً للحساب، حيث الجنة للطائعين، وجهنم للعاصين. وفي سبيل ذلك يضرب لهم المثل بالأمم السابقة وما أصابها حين عَتَوْا واستكبروا. - ولما طال عنادهم وعتوُّهم أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وأحسن أهلُها الأنصارُ استقبال الهدى وأهلَه، وصار للإسلام دولة منذ أن استقر في المدينة، وعلى طول عشر سنوات مشرقة بنور الرسالة، نزل فيها باقي القرآن الكريم، وهو المدني من القرآن، وهو يزيد على الثلث قليلاً. - كان المسلمون في دولتهم الجديدة يتقلبون في معايشهم: طعاماً وشراباً، وزواجاً وطلاقاً، وسفراً وإقامة، وحرباً وسلماً، وفق تشريع السماء، حيث كان ¬

_ (¬1) الخضري، محمد الخضري بك، رحمه الله، تاريخ التشريع: 15.

التشريع هو الغالب على القرآن المدني، وكان التشريع في القرآن الكريم ينزل إما بدءاً، وإما حلاً لإشكال، أو إجابة لسؤال. - وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ القرآن عن ربه، ويفصِّل مجملَه، ويُبين مشكلَه، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يسألونه عما نزل في القرآن؛ فيبين لهم، ويستفتونه؛ فيفتيهم. - وكان عليه الصلاة والسلام ملجأ أصحابه: يُهرعون إليه كلما عرض لأحدهم أمر في أي شأن من شؤون الدين أو الدنيا، وكان عمادَ الحياة ومركزَها، تعرض الحادثة، أو يسأله أصحابه، فيجيب بما في القرآن إن وجده، أو بما يوحى إليه في الموقف والحادثة، أو يجتهد رأيه، أو يتوقف حتى تجيبه السماء. - وقد اختلف العلماء حول اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال: إنه مبلغ عن ربه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وليس له حق الاجتهاد، ومنهم من قال: له حق الاجتهاد في الأمور الدنيوية دون غيرها، وقيل: كان له أن يجتهد إذا خشي فوت الحادثة (¬1)، والجمهور على أن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم جائز وواقع فعلاً " وموضوعه متنوع، ديني، أو دنيوي مغيب أو شاهد " (¬2). وأدلة الجمهور على ذلك كثيرة، مثل: حديث نسل الممسوخ (¬3)، وحديث عذاب القبر، ورأيه في أسرى بدر (¬4). - ومما هو واضح أن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتعلق بالنصوص وفهمها؛ "لأن المرادات من النصوص واضحة عنده صلى الله عليه وسلم فليس اجتهاده في معرفة المراد من المشترك ونحوه، ولا تعارض عنده، فليس الاجتهاد ¬

_ (¬1) انظر: عبد العلي محمد نظام الدين الأنصاري. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: 2/ 366. (¬2) فضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى. اجتهاد الرسول: 167. (¬3) اجتهاد الرسول: 60، 61. (¬4) فواتح الرحموت (مصدر سابق): 2/ 366.

لدفعه، وإنما اجتهاده بإلحاق مسكوت بمنطوق" (¬1). - ويجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في اجتهاده، والتعبد به فيما يختص بالأمور الدينية، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقره على الخطأ، وأما في الأمور الدنيوية، فلا يجب العمل باجتهاده صلى الله عليه وسلم. - وكما وقع الاجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم وقع من صحابته رضي الله عنهم في عصر (¬2) البعثة في حضرته وفي غيبته، وبإذنه وبغير إذنه، وكان صلى الله عليه وسلم يَبْلُغه، فيقر المصيبَ على صوابه، ويصحح للمخطىء خطأه. - وقد أفتى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم جمعٌ من الصحابة، منهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين، وعلي كرم الله وجهه، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري. رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً. وقيل (¬3): كل من ولي عملاً للنبي صلى الله عليه وسلم بعيداً منه صار مفتياً، مثل معاذ بن جبل والي اليمن، ومثل أبي عُبيدة بن الجراح الذي كان أمير سرية الخَبَط، وأفتاهم بأكل الحوت، ومثل أبي سعيد الخدري. وممن توفي في الحياة النبوية ونقلت عنهم فتاوى صادرة في العهد النبوي: عثمان بن مظعون، وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما. ومما يجدر ذكره أن إطلاق لقب فقهاء على ذوي الرأي والحجا عرف مبكراً في ذلك العصر، عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه: "أن ناساً من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ¬

_ (¬1) المصدر السابق نفسه. (¬2) ما ذكرناه رأي الجمهور والمسألة محل خلاف. انظر في ذلك: الآمدي، الإحكام: 4/ 335، الخضري. محمد الخضري بك. أصول الفقه: 373، واجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم (مرجع سابق): 155. (¬3) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: 1/ 172.

أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالاً من قريشٍ المائةَ من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم ... فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حديث بلغني عنكم"، فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئاً ... " (¬1). هكذا، يقول أنس رضي الله عنه: (فقهاء الأنصار). - وعلى هذا مضى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، لا مصدر للأحكام في حقيقة الأمر إلا الوحي ينزل بدءاً بتشريع، أو حلاً لإشكال، أو إجابة لسؤال. وما على الرسول إلا البلاغ، ومن البلاع البيان والتفصيل. وإذا أقرت السماء اجتهاداً وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم أو صحبه، صار ذلك في منزلة الوحي من السماء؛ فمضى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن هناك اختلاف في حكم من الأحكام؛ إذ كان الوحي مستمراً، وللسماء القول الفصل عند اختلاف الآراء في شأن من الشؤون. ومن الطبيعي ألا يكون في مثل هذه الظروف افتراض لحوادثَ وقعت ووضع أحكام لها، لأن وضع الأحكام كما أشرنا كان للوحي. - ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن التشريع الإسلامي بمعنى سن الأحكام الشرعية وإنشائها لم يكن إلا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنه هو فقط؛ إذ لم يجعل الله لأحد غيرِ نبيه سلطةَ التشريع (¬2)، ومن رحمة الله سبحانه بأمته أن رسوله صلى الله عليه وسلم لم يفارق هذه الدنيا إلا وقد اكتمل بناء الشريعة، وحُفِظ مصدرها وعمادُها (القرآن) مكتوباً كله في العظام واللخاف، وفي حنايا الصدور، ومبيناً ومفصلاً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) البخاري: فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم حديث رقم 3147، مسلم: الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم حديث رقم 1059. (¬2) فضيلة الشيخ محمد علي السايس. نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره: 11، 12.

الفقه في عصر الخلفاء وكبار الصحابة

الفقه في عصر الخلفاء وكبار الصحابة - ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى -بنفسي هو وبأبي وأمي وبالناس أجمعين- وبدأ بانقطاع الوحي عصر جديد، حمل عبءَ الحياة فيه، وقيادةَ الدولة المسلمة الخلفاءُ الراشدون، وكبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. والحياة لا تقف، والوقائع تتجدد، والأحداث تفرض نفسها تتطلب الحكم والفتيا، وتلح في الجواب. وضاعف من ذلك أن عصر الخلفاء الراشدين كان عصراً خصباً مليئاً بالأحداث؛ كانت الدولة غضة في أول أمرها؛ حيث يكون النمو وثباً وقفزاً، فمنذ بويع أبو بكر رضي الله عنه ماجت البادية بالردة، وتحفزت فارس، وتأهبت الروم، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه في قمع الردة، وتأديب المترصدين المتحفزين، الذين أحاطوا بالدولة المسلمة يريدون أن يسدوا على الدعوة المنافذ، ويطفئوا نور الله، وتابع على ذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما. وفي عصر علي كرم الله وجهه كان ما كان!! وفي مثل هذه الحياة النابضة تتوالى المسائل، وتتجدد الأحداث، فكيف كان موقف الصحابة رضي الله عنهم؟؟ - وجد الصحابة بين أيديهم القرآن الكريم وعرفوا من بيانه وتفصيله ما رأَوْه وسمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليهم أن يواجهوا ما يجدّ عليهم من مسائل. وقد كان الموقف عصيباً، فمن يقتعد مقعد النبوة، ويتصدى للفتيا؟؟، ولكن إرادة الحياة غلابة، والأمر لا يتصل بحياة فرد، وإنما بكينونة أمة، وحياة رسالة، واستمرار دينٍ، أراده الله خالداً عاماً. أقبل الصحابة على القرآن الكريم، وعلى ما بين أيديهم من سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلمهم بمنزلتها من القرآن، وكما قلنا: كانت الأحداث تتجدد، والوقائع تتعدد، فما لم يجدوا في الكتاب والسنة، كان ملجؤها (الرأي) فقد رأَوْا آياتِ القرآن

تدعو للتفكر والنظر (¬1) وسن لهم ذلك صلى الله عليه وصلم باجتهاده أمامهم، وبإقراره من اجتهد منهم على اجتهاده. - لجأ الصحابة إذاً إلى الرأي فيما لم يجدوه منصوصاً في الكتاب، ولم تَجْرِ به سنة، ولكنهم -رضي الله عنهم- كانوا يستشعرون خطورةَ منصب الإفتاء، فيتحرجون، ويتدافعون " قال عبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى: أدركت عشرين ومائةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم محدِّث إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا " (¬2)، فكانوا لذلك يتشاورون في أحكام الوقائع ورعاً من كل منهم أن ينفرد بالحكم، وكان لذلك أثرهُ في ناحيتين: * ظهور الإجماع، كمصدر من مصادر الفقه، فهو في الواقع لون من الاجتهاد: الاجتهاد الجماعي (¬3). * عدم اتساع الخلاف بين الصحابة (¬4). - وكان الرأي عند الصحابة بمعناه الواسع، " فكانوا يطلقون كلمة الرأي عك ما يراه القلب بعد فكرٍ وتأمل، وطلبٍ لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات " (¬5) ولم يكونوا يعرفون الأسماء والألقاب التي وضعها الأصوليون فيما بعد، قال إمام الحرمين رضي الله عنه: " ولو عُرضت الكتب التي صنفها القياسون في الفقه مع ما فيها من المسائل ... والصور المفروضة، وبدائع الأجوبة ... والعبارات المخترعة ... كالجمع والفرق، والنقض والمنع؛ والقلب وفساد الوضع ... ونحوها، لتعب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في فهمها؛ إذ لم يكن لهم عهد بها، ومن فاجأه شيء لم يعهده، احتاج إلى رد الفكر إليه ليأنس به " (¬6). ¬

_ (¬1) العقاد: عباس محمود العقاد، رحمه الله - التفكير فريضة إسلامية: من ص 6 - 21. (¬2) انظر نشأة الفقه الاجتهادي (مرجع سابق): 75. (¬3) الأستاذ الجليل الشيخ علي حسب الله - أصول التشريع الإسلامي. ط 2: 75. (¬4) تاريخ التشريع للخضري: 129. (¬5) نشأة الفقه الاجتهادي للسايس: 37. (¬6) إمام الحرمين. الغياثي، فقرة: 667.

- وكان اجتهاد الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- واستعمالهم (الرأيَ) في المسائل التي لا نص فيها، أما ما كان من عمر رضي الله عنه من رأيٍ في سهم المؤلفة قلوبهم وحد السرقة عام المجاعة (¬1)، فهو لَوْنٌ من توجيه النصوص وفهمها لا تعطيلها، أو الافتئات عليها. حاشا لله. خصائص الفقه في عصر الخلفاء وكبار الصحابة - ويمكن أن نوجز ملامح الحياة الفقهية في هذا العصر فيما يلي: * أن الفقه ظل محصوراً في دائرة الوقائع التي تحدث فعلاً، فلم يكن هناك مجال لافتراض وقائعَ واستنباط أحكامٍ لها، وهم كانوا يتورعون عن الفتوى فيما وقع. * أنهم كانوا يؤكدون أن ما رأَوْه من رأيٍ عرضةٌ للخطأ، ولذلك كان الرجل منهم يرفض أن يقال عن رأيه: هذا حكم الله (¬2). * ويتصل بذلك أن احترام الرأي الآخر كان سمة ظاهرة واضحة؛ لأن كل صاحب رأي كان يفرض الخطأ في رأي نفسه ورعاً وخشيةً. * وقد كان الخلاف في الرأي ضيقاً محصوراً طوال هذا العصر. * ظهر في هذا العصر (الإجماع) كمصدر من مصادر الأحكام. * ظل الفقه بغير تدوين وكتابة، وإنما تصدر الفتوى أو الحكم، فيتناقله المسلمون شفاهاً، ويشيع بحسب الحاجة إليه. * خلَّف هذا العصر مجموعة من الأحكام والفتاوى ظلت محل عناية الأئمة والفقهاء (¬3)، وبخاصة تلك الأحكام التي غيرت بعضَ ما جرى عليه العمل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مثار بحث وخلاف بين الأئمة. فمن هذه الفتاوى والاجتهادات، إمضاء عمر رضي الله عنه الطلاق الثلاث بكلمة ¬

_ (¬1) انظر نشأة الفقه الاجتهادي للسايس: 65. (¬2) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري: 117. (¬3) نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره: 77.

واحدة، وعدم تقسيم أرض سواد العراق، وضرب الخراج عليها، وكذا ما كان من عمرَ في سهم المؤلفة قلوبهم، وفي حد السرقة عام المجاعة، وما كان من عثمانَ رضي الله عنه في ضوالِّ الإبل، حيث رأى التقاطها وتعريفها. ومن المسائل الاجتهادية الأخرى التي جرت بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف فيها الرأي: ميراث الجد مع الإخوة الأشقاء أو لأب، وفي بعض صور ميراث الجدة، وكذلك المسألة المشركة (الحجرية)، والخلاف في (العَوْل)، وفي حجب الأم من الثلث إلى السدس باثنين من الإخوة، وفي تحريم المرأة تحريماً مؤبداً على من نكحها في العدة، وفي توريث الزوجة المطلقة فراراً من الميراث، وكذلك الخلاف في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، وكذلك الخلاف في نفقة المبتوتة وسكناها، وغير ذلك كثير. وقد كانت هذه الفتاوى والاجتهادات -بحق- ثروة فقهية، نظر فيها الأئمة المجتهدون، وأخذوا بما قاله الصحابي، ولم يُخالَفْ فيه، أي بما أجمعوا عليه، أما قول الصحابي وراء ذلك فقد كان الأخذُ به موضع خلافٍ بين الأئمة. فقد رأى بعضُهم أقوال الصحابة حجة واجبة الاتباع، ورأى عصرَهم عصر تفسير وتكميل على حين لم ينظر آخرون إليها تلك النظرة (¬1). * كان من أسباب الخلاف بين الصحابة اختلافُ النظر والرأي وتقدير الأمور، وذلك أمر فطري، وكذلك بسبب اختلاف فهمهم للقرآن ومعرفتهم بالسنة. * لم يكن الصحابة على درجة واحدة في استعمال الرأي، بل كان منهم من يتحرج ويهاب الفتيا، وأولئك في الواقع الذين لم تضطرهم الظروف إلى القطع والحسم بإبداء الرأي، ومنهم من برع في الرأي، وقدر عليه، وأشهرهم عمر رضي الله عنه، حيث كانت أعباء الحكم تدعوه لأن يبت في القضايا والأمور ولا يتحاماها. ولقد عُرف بالفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نفساً ما بين رجل وامرأة، وكان منهم المكثرون والمتوسطون والمقلّون. ¬

_ (¬1) الأستاذ الجليل الشيخ عبد الوهاب خلاف، رحمه الله - تاريخ التشريع الإسلامي: 280.

الفقه في عصر صغار الصحابة والتابعين

المكثرون من الفتيا: والمكثرون الذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر. ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم. المتوسطون في الفتيا: والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل. فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم جزء صغير جداً. ويضاف إليهم: طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن الحصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان. المقلون من الفتيا: وهم البقية الباقية من جملة المفتين، وهم أكثر من مائة نَفْسٍ، لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان (¬1). الفقه في عصر صغار الصحابة والتابعين - وبعد عهد الصحابة الخلفاء استمرت الحياة في توثبها، والأحداث في تجددها، بل جدت على الحياة الإسلامية عناصرُ جديدة كان لها أبلغ الأثر في التشريع والفقه. من ذلك: * تمكن الإسلامُ من قلوب الشعوب غير العربية، وتطلَّعَ أبناؤها إلى المشاركة في ¬

_ (¬1) ر. إعلام الموقعين لابن القيم: 1/ 12. بتصرفٍ يسير.

الحياة الإسلامية، وكان لهؤلاء أعراف وعادات، وحضارات وعقائد وفلسفات، أثرت في تفكيرهم وتوجيههم. * بدأت الفرق السياسية: من خوارج وغيرها تظهر، ويناصر كلَّ فرقة جماعةٌ يتعصبون لآرائها. * انتشر الصحابة في الأمصار الإسلامية، فأصبح الإجماع عسراً. * شاعت رواية الحديث، حيث اشتدت حاجة المسلمين إليها طلباً لأحكام الحوادث المتجددة، وحيث السنة أوسع مصادر الفقه لتعرضه للتفصيل (¬1). وفي غمرة الفرق وحاجة الناس للحديث اندس الوضاعون للحديث ينصرون فرقَهم بما يكذبون لها، ويحطمون أعداءهم بما يكذبون عليهم، أو يدسون للإسلام والمسلمين جملةً انتقاماً لدولهم الذاهبة ومللهم الغاربة. - في هذا الموج الصاخب كان المعتصَمُ كتابَ الله، وما صح من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكان علم ذلك إلى نفر بقي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جماعة من كبار التابعين كانوا تلاميذَ لأئمة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، تجرد هؤلاء للعلم، وجعلوه غايتهم، فاعتزلوا الفتن وأهلَها (¬2)، فكانوا النجومَ التي يُهتدى بها في الظلمات، وقد توزعوا أو توزعتهم الأقدار على الأمصار الإسلامية. فكان في المدينة: زيد بن ثابت ت 45 هـ، وعائشة أم المؤمنين ت 58 هـ، وجابر بن عبد الله ت 58 هـ، وأبو هريرة ت 59 هـ، وعبد الله بن عمر ت 73 هـ، رضي الله عنهم جميعاً، وعبد الملك بن مروان، أمير المؤمنين ت 86 هـ، وسعيد بن المسيب بن حَزْن المخزومي رأس علماء التابعين ت 93 هـ، وعروة بن الزبير بن العوام. ت 94 هـ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. ت 94 هـ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. ت 98 أو 99 هـ، وسليمان بن ¬

_ (¬1) انظر نشأة الفقه الاجتهادي للسايس: 78، 88، وتاريخ التشريع الإسلامي للخضري: 133. (¬2) تاريخ المذاهب الفقهية لأبي زهرة: 31.

يسار، مولى ميمونة أم المؤمنين. ت 100 هـ وقيل: 107 هـ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. ت 106 هـ، وخارجة بن زيد بن ثابت. ت 100 هـ، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ت 106 هـ، وأبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه. ت 105 هـ، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المعروف بزين العابدين. ت 94 هـ، ونافع مولى عبد الله بن عمر. ت 117 هـ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. ت 94 هـ وقيل: 104 هـ، ومحمد بن مسلم المعروف بابن شهاب الزهري. ت 124 هـ، وأبو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين المعروف بالباقر. ت 114 هـ، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان فقيه المدينة. ت 131 هـ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، فروخ، التيمي، مولاهم، أبو عثمان المدني (ربيعة الرأي) ت 136 هـ وقيل: 133، وقيل: 142. وفي مكة: عبد الله بن عباس رضي الله عنه ت 68 هـ، وعَبيدة بن عمرو السلماني المرادي ت 72 هـ، ومجاهد بن جبير، مولى بني مخزوم ت 103 هـ، وعكرمة مولى ابن عباس ت 105 هـ، وعطاء بن أبي رباح مولى قريش ت 114 هـ، وعبد الله بن أبي مُلَيْكَة ت 117 هـ، وأبو الزبير محمد بن مسلم، مولى حكيم بن حزام ت 127 هـ، وعمرو بن دينار أبو محمد الأثرم الجمحي، مولاهم ت 126 هـ. وفي الكوفة: عبد الله بن مسعود ت 32 هـ، وأبو موسى الأشعري ت 44 هـ رضي الله عنهما، وعلقمة بن قيس النخعي ت 62 هـ، ومسروق بن الأجدع الهمداني ت 63 هـ، وشريح بن الحارث الكندي القاضي ت 78 هـ، وإبراهيم بن يزيد النَّخعي ت 95 هـ، والأسود بن يزيد النَّخَعي ت 95 هـ، وسعيد بن جبير، مولى والبة ت 95 هـ، وقيس بن أبي حازم، الأحْمَسي الكوفي ت 98 هـ، وشقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي، الكوفي ت نحو 100 هـ، وأبو بردة عامر بن أبي موسى الأشعري، الفقيه، التابعي الشهير، قاضي الكوفة بعد شريح ت 103 هـ، وعامر بن شراحيل الشعبي، علامة التابعين ت 104 هـ، وأبو عبد الله، الحكم بن عُتَيْبة، الكِندي، مولاهم، الكوفي ت 115 هـ، ومحارب بن دثار، السدوسي، أبو مطرّف، الكوفي، مولاهم ت 116هـ، وحماد بن سليمان ت 120 هـ.

وفي البصرة: أبو العالية، رُفَيعْ بن مهران الرّياحي، مولى امرأة من رِياح، بطن من تميم، ت 90 هـ، وأبو العالية، البرَّاء -مشدَّداً- زياد بن فيروز البصري ت 90 هـ، أنس بن مالك الأنصاري، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ت 93 هـ، وأبو الشَّعثاء جابر بن زيد صاحب ابن عباس ت 93 هـ، ومطرِّف بن عبد الله الشِّخِّير، العامري، البصري ت 95 هـ، وزُرَارة بن أوفى الحَرَشي، البصري، قاضيها. ت 95 هـ، وأبو قِلابة عبد الله بن زيد، الجِرمي، إمام البصرة في الفقه ت 104 هـ، والحسن البصري، الحسن بن يسار، أبو سعيد، التابعي، أحد أئمة الفقه ت 110 هـ، ومحمد بن سيرين مولى أنس بن مالك. ت 110 هـ، وقتادة بن دعامة السدوسي. ت 118 هـ. وفي الشام: عبد الرحمن بن غانم الأشعري. ت 78 هـ، وأبو إدريس الخَوْلاني ت 80 هـ، وقَبيصة بن ذؤيب ت 86 هـ، وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان ت 101 هـ، ورجاء بن حَيْوة الكندي شيخ أهل الشام ت 112 هـ، ومكحول بن أبي مسلم مولى امرأة من هذيل ت 113 هـ، وسلمان بن موسى الأموي، الدمشقي، الفقيه ت 119 هـ، وعبد الله بن أبي زكريا الخُزاعي، أبو يحى، الشامي، الفقيه ت 117 هـ. وفي الفسطاط: عبد الله بن عمرو بن العاص ت 65 هـ، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليَزني، مفتي أهل مصر ت 90 هـ، ويزيد بن حبيب، مولى الأزد ت 128 هـ. وفي اليمن: طاوس بن كَيْسان، الجَنَدي، اليماني، توفي بمكة في موسم الحج سنة 106 هـ، ووهب بن منبه الصنعاني، عالم أهل اليمن ت 114 هـ، ويحيى بن أبي كثير، مولى طيّء ت 129 هـ (¬1). ... ¬

_ (¬1) راجع (تاريخ التشريع الإسلامي) للخضري: 124 - 138، (والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي): 291 - 306، وراجع تهذيب التهذيب لابن حجر، وخلاصة الخزرجي، لترى ترجمة وافية لهؤلاء الأعلام.

هؤلاء الأعلام الذين ذكرناهم ليسوا كلَّ الفقهاء والمفتين في هذا الدور، بل هم رؤوس الفقه والفتوى في هذه الأمصار، والأقاليم، ولم يكونوا وحدهم، بل كان هناك فقهاء ومفتون في مختلف الأمصار الإسلامية، في الشمال الإفريقي، وفي أقاليم فارس، وغيرها. وإنما عُنينا بهذه الأقاليم؛ لأمرين: الأول: أن هذه المنطقة: الجزيرة العربية، بحجازها ويمنها، وعراقها، وشامها، كانت هي مركز الدولة الإسلامية، التي كان فيها عُظْم الصحابة رضوان الله عليهم، ومن تبعهم بإحسان، وحمل فقههم وعلمهم من التابعين. الثاني: أن الدولة الإسلامية ظلت حتى أوائل القرن الثاني الهجري، أو قرب منتصفه دولة مركزية تحت إدارة واحدة، وقيادة واحدة تخضع للحكم المباشر، الذي كانت هذه المنطقة مقرّاً له، ومن هنا كان التأثير العلمي والفكري لها وحدها إلى أن نمت وترعرعت مراكز علمية أخرى فيما استُقبل من الزمان. خصائص الفقه في هذا الدور - نتيجة لما تقدم من تغير في تكوين المجتمع وتوزع أهل الفتيا على الأمصار، وما جدَّ من عوامل أخرى، تميز هذا الدورُ من التشريع بمميزات أهمها: * كانت مصادر الفقه كما هي في الدور السابق: الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم الرأي، وكانوا يأخذون بإجماع الصحابة إن وجد، فإن اختلف الصحابة، اختاروا من أقوالهم، وغالباً يأخذ كلُّ تابعي رأيَ شيخه من الصحابة (¬1). ¬

_ (¬1) نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره لأستاذنا فضيلة الشيخ السايس: 78.

* عُني رجال هذا الدور من الصحابة والتابعين بجمع السنة التي رويت عن كبار الصحابة. * وكذلك عُنوا بجمع تلك الثروة الهائلة من فتاوى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قول الصحابة عندهم حجة، كما أشرنا آنفاً. * كان لهم ولا شك دور هام في الاجتهاد فيما يجد من شؤون هذا المجتمع المتوثب من حولهم، مما لم يرد فيه نص أو فتوى من الصحابة (¬1). - وكنا قد أشرنا إلى أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يتحرج، ولا يُقدم على الفتوى كعبد الله بن عمر، ومنهم من كان يفتي برأيه ويتوسع في ذلك كعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود. وكان ذلك نواة لاختلاف الاتجاه بين التابعين، " فقد اتضح الفرق بين المنهاجين، واتسعت الفرجة بينهما: فمنهم من كان يُفتي برأيه غيرَ متوقف إذا لم يجد نصاً، ولا فتوى صحابي، ومنهم من لا ينطلق في الاجتهاد إن لم يجد ما يعتمد عليه من السنة أو القرآن الكريم " (¬2). وكان اتساع الهوة بين المنهاجين نتيجة ظروف المجتمع التي أشرنا إليها، فقد رأى أهل الرأي أن أمر الحديث قد اتسع، ودخل مجاله من لا يخشى في الله إلاًّ ولا ذمة، فبعد أن كان الرجل تعروه رِعدة وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3)، أصبح الوضع والكذب وسيلة للدفاع عن الفِرق والأهواء (¬4). رأى أهلُ الرأي ذلك، فخافوا من أن يُزيَّف عليهم حديث، فكان اعتمادهم على الرأي أكثرَ من بحثهم عن الحديث. ¬

_ (¬1) تاريخ المذاهب الفقهية لأبي زهرة: 31. (¬2) المصدر السابق نفسه: 33. (¬3) انظر: ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري، الطبقات الكبرى: 3/ 110 وهو يروي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه. (¬4) انظر بحثاً قيماً عن الوضع في الحديث في كتاب (السنة قبل التدوين) لمحمد عجاج الخطيب: 186 وانظر أيضاً السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: 89.

عصر الأئمة المجتهدين

ورأى أصحاب الحديث الفتنَ والأهواء، فخافوا، وتورعوا عن أن يقولوا برأيهم حتى لا تؤوَّل هذه الآراء، أو يُقتدى بهم؛ فجعلوا كلَّ همهم البحثَ عن الحديث، والاعتصامَ به في مُدْلَهَمِّ الفتن. ومن هنا ظهر أخص ما يميز هذا الدور وأعني به وجودَ نوعين من الفقه: فقه الرأي، وكان بالعراق، وفقه الأثر، وكان بالحجاز (¬1). - وقد كان هذا العصر الأساسَ للازدهار الفقهي في العصر التالي، حيث بدأ تدوين السنة وتدوين الفقه، كما تحددت مناهج الفقه وطرقه. عصر الأئمة المجتهدين (من أوائل القرن الثاني الهجري إلى ما بعد منتصف القرن الثالث). نستطيع أن نحدد أبرز ملامح المجتمع على النحو التالي (¬2): * هدأت الفتوحات، وبلغت الدولة أقصى اتساعها. * بدأ الرخاء يلقي ظلاله الوارفة على أقطار الدولة الإسلامية. * تم الامتزاج بين العرب والموالي، حيث تعرب هؤلاء، وشاركوا العرب في سياسة الدولة، وتبليغ الرسالة، بل فاقوهم في كثير (¬3) من الأحيان. * بدأ تَمَثُّل الحضارت القديمة التي حملها أبناؤها من الموالي، والتي تُرجمت علومها وفلسفتها إلى العربية؛ فحيث الهدوء والرخاء والفراغ من الفتح كان المجال مفتوحاً، والفرصة متاحة لتناول ثمار تلك الحضارات، وإعادة تشكيلها وهضمها. * تطورت الحياة العقلية وارتقت وازدهرت، وانتشرت حلقات الدرس والبحث، وأقبلت الأكباد الظامئة على الارتواء من العلم. * ما قلناه لا يتنافى مع ما حدث من انقلاب العباسيين على الأمويين في تلك ¬

_ (¬1) تاريخ المذاهب الفقهية لأبي زهرة: 35. (¬2) انظر تاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم، وظهر الإسلام لأحمد أمين. (¬3) يرى ابن خلدون في مقدمته أن أكثر حملة العلوم الإسلامية من الموالي: 4/ 1247.

الفترة، وما كان من ثورات هنا أو هناك، فهذه الفترة تزيد على مائة وخمسين سنة، فلا ينقض ما قلناه حدوث قلاقل في شهور أو سنة أو سنتين، فى هذا الجانب من الدولة أو ذاك. - كان من الطبيعي أن يواكب هذا الاستقرار والاتساع الحضاري، وهذا الرقي والنهوض الفكري والعقلي، كان من الطييعي أن يواكب ذلك ازدهارٌ في الفقه وعلوم الشريعة، وقد تمثل هذا الازدهار (¬1) في: * ازدياد حفاظ القرآن، والعناية بأدائه ورواية قراءاته، فقد كان هذا العصر هو العصر الذي استقرت فيه القراءة عند القراء السبعة. * تدوين السنة؛ فقد كان هذا عصراً مجيداً للسنة؛ حيث أخذ رواتها يتنبهون إلى وجوب تصنيفها بحسب الموضوع، وظهر من رجال السنة طبقة بعد طبقة، قامت الطبقة الأولى بتدوين السنة مختلطة بفتاوى الصحابة كالموطأ للإمام مالك، وقامت الطبقة الثانية بتدوين الحديث وحده، فألفوا ما عرف بالمسانيد، وأشهرها: مسند أحمد بن حنبل. ثم جاءت الطبقة الثالثة فأتمت عمل الطبقتين السابقتين؛ إذ قامت بنقد ما وجدته أمامها من أحاديث، كما ينقد الصيرفي الدنانير؛ فكان من ذلك الكتب الصحاح، وأشهرها: البخاري (ت 256 هـ)، ومسلم (ت 261 هـ). كما ظهر علمُ الرجال الذي يبحث في حال الرواة وجرحهم وتعديلهم. * كما ظهر في هذا العصر تدوين علم أصول الفقه لأول مرة، وكان إمام الأصوليين وواضع أساس هذا العلم هو الإمام الشافعي. * ظهور المصطلحات الفقهية، وكان ذلك نتيجة طبيعية لظهور النشاط الفقهي والخلاف بين الأئمة، وتدوين أصول الفقه. * تفريع المسائل، فقد كان الفقه قبل هذا الدور يغلب عليه الاقتصار على إبداء ¬

_ (¬1) انظر تاريخ التشريع للخضري: 177.

الحكم فيما وقع فعلاً، أما في هذا الدور فقد توسع الفقهاء في تصور المسائل وفرضها ووضع الأحكام لها (¬1). - وكنا قد أشرنا من قبل إلى ظهور مدرستين في الفقه: مدرسة الأثر بالمدينة، ومدرسة الرأي بالعراق، وفي هذا العصر ازداد التمايز بين المدرستين، واتضحت مناهجهما، حتى صار يطلق على العراقيين أهل الرأي. - وأحب أن أؤكد هنا أن هذا الكلام على إطلاقه بعيدٌ عن الواقع، بل هو من الأحكام العامة التي شاعت، وفُهمت على غير حقيقتها، وأخذت أكبر من حجمها، ذلك أن العراق لم يكن به فقهُ الرأي فقط، بل كان فيه الرأي مع الحديث، وكان في المدينة أيضاً الرأي بجوار الحديث، ألم تَر أنه كان بين فقهاء المدينة والمفتين بها (ربيعة الرأي). و"كان أهل الحديث يعيبون أهلَ الرأي بأنهم يتركون بعض الأحاديث لأقيستهم، وهذا من الخطأ عليهم، ولم نر فيهم من يقدم قياساً على سنة ثبتت عنده، إلا أن منهم من لم يُرْوَ له الأثر في الحادثة، أو روي له، ولم يثق بسنده، فأفتى بالرأي، فربما كان ما أفتى به مخالفاً لسنة لم تكن بمعلومة له، أو عُلمت، ولكنه لم يثق بروايتها" (¬2). فالقول بأن هؤلاء أهل رأي وهؤلاء أهل أثر بهذا الإطلاق وهذا التعميم، يوحي بما ليس مقصوداً، ويفهم منه غيرُ ما وقع. روى سفيان بن عيينة (¬3) مناظرة بين أبي حنيفة إمامِ أهل الرأي (¬4) والأوزاعي (¬5) من أئمة الحديث، وكيف اختلفوا في القول برفع اليدين عند الركوع، وكل منهما في هذه ¬

_ (¬1) نشأة الفقه الاجتهادي لأستاذنا الشيخ السايس: 91. (¬2) تاريخ التشريع للخضري: 146. (¬3) سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد الأعور الكوفي توفي سنة 198 هـ (خلاصة تذهيب الكمال). (¬4) أبو حنيفة النعمان بن ثابت توفي 150 هـ. (¬5) عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو توفي 157 هـ (تهذيب التهذيب: 6/ 238).

المناظرة يحاول أن يثبت رأيه بأن الحديث الذي يعتمده أثبتُ من حديث صاحبه وأوثق، وقد انتصر أبو حنيفة صاحبُ الرأي في إثبات أن معتمده من الحديث أقوى من معتمد الأوزاعي صاحبِ الحديث. وقد أورد هذه المناظرةَ الشيخُ الخُضري وعلق عليها قائلاً: " وهذه المحاورة بدون أن نناقش أقوالها تدل على ما كان لكل فريق عند الآخر، وتدل على أن الجميع واقفون عند حد السنة متى وثقوا بها من روايتها " (¬1). فالفرق إذاً بين المدرستين فرقٌ في مقدار الأخذ بالرأي، حيث يكثر منه أهل العراق، ولا يكثر منه أهل المدينة، وفرق في نوع الرأي، حيث كان أهل العراق يسيرون في أكثر رأيهم على منهاج القياس، فتبع ذلك أن كثرت التفريعات الفقهية في العراق، والإفتاء فيما لم يقع لاختبار الأقيسة، وذلك ما يسمى بالفقة التقديري (¬2). ولم يوجد هذا النوع من الفقه في المدينة؛ لأن الأساس كان المصلحة، وهي لا تتحقق إلا في الوقائع؛ فلا يجيء فيها الفرض والتقدير. هذا الكلام كتبناه وقررناه منذ نحو أربعين عاماً في مقدمات كتابنا (فقه إمام الحرمين). وعندما جاءت المناسبة لإعادته هنا نظرنا فيه، وفيما كُتب في هذه المسألة، وجدنا أن ما قلناه قد ذكره بوضوح أتم شيخُنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة - ومن عجب أن ما قاله الشيخ لم يشع ولم نره في الأبحاث والدراسات، وظل كل من كتب في تاريخ الفقه ومقدماته يقررون أنه نشأ مدرستان: مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، مع أن كتاب الشيخ الذي قال فيه ذلك شائع متداول، منذ سنة 1948 م، وهو كتابه بعنوان (الإمام الشافعي) فقد جاء فيه ما نصه (¬3): "يجب أن نشير إلى أنه قال بعض كتاب الفقه في هذا المقام إنه ظهر مدرستان للفقه ¬

_ (¬1) تاريخ التشريع للخضري: 147. (¬2) تاريخ المذاهب الفقهية لأبي زهرة: 36. (¬3) ر. الإمام الشافعي: حياته وعصره: 42، 43، 44.

استقامت كل واحدة على منهج واحد معين، وأن الفقهاء كانوا إلا قليلاً يسيرون على منهج إحدى المدرستين لا يخالفونه إلى نهج الأخرى، إحدى المدرستين مدرسة الحديث وكانت بالمدينة، والثانية مدرسة الرأي وكانت بالعراق. وعندي أن المدارس لا تتميز بالرأي والحديث، بل تتميز بمنهاج من تلقوا عنهم وطريقة الرأي، وكثرة فتاوى الصحابة وقلتها، ومن المقرر أن الفقهاء السبعة الذين كانوا أساتذة الفقه الحجازي قد كان لهم رأي كثير". انتهى بنصه. وهذا كلامٌ واضح مبين، ينطق بأن الشيخ لا يرى لهذه التسمية وجهاً، فليس هناك مدرسة حديث ومدرسة رأي، وإنما الخلاف بين مدرسة العراق ومدرسة المدينة هو في منهج الاستدلال وطريقة الرأي. بل رفض شيخنا أبو زهرة مجردَ افتراض أن هناك من يقدم رأيه على الحديث الشريف، حيث قال: " ولا يصح أن نفرض بأي صورة من صور الفروض أنهم يصدقون بنسبة الحديث، ويقدمون فهمهم في الإسلام على قول صحيح النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك كلامُ قوم بور، ظهروا في هذا الأيام، وظهر أمثالهم من قبل في أهل الأهواء والبدع والمنحرفين، ومحال أن يكون ذلك من أئمة الإسلام الأعلام الذين فتحوا عيون الفقه، وعبَّدوا مشاربه " (¬1). اهـ وينبغي أن نشير هنا إلى تلك العبارة التي تتقاذفها الألسن، في مقام السخرية والاستهزاء، والاتهام بالتعصب الأعمى، تلك العبارة التي تُروَى عن أحد الأئمة متعصباً لمذهبه، فيقول: " كل ما كان من آيةٍ أو حديث بخلاف ما عليه أصحابنا، فهو إما مؤول أو منسوخ ". لقد سمعنا هذه العبارة ممن هم في مقعد الأساتذة يعلموننا إياها دليلاً على استمكان التعصب الذي يُعمي صاحبَه، فينصر رأي مذهبه على الآية والحديث، حيث يجعل (الرأي) أولاً، ويخضع الآية والحديث له ثانياً. ¬

_ (¬1) تاريخ المذاهب الإسلامية: 289.

هكذا، سمعنا هذه العبارة بهذا التفسير، ونحن نحبو في أول طريق الطلب، هكذا قرئت لنا، وظلت تقرأ حتى أيامنا هذه، يحملها (الأساتذة) جيلاً عن جيل، ويلقنونها لتلاميذهم، بهذا المعنى، ودليلاً على التعصب وإفساده للحياة الفقهية. ولما قدر الله لنا صحبة أئمتنا والتلمذة لهم، والعيشَ في كنفهم، والاطلاعَ على شيء من أخبارهم، ومعرفة طرفٍ من أخلاقهم، بدأت أتململ حينما أسمع باحثاً مرموقًا يحكي هذه العبارة -بهذا الفهم- في قاعة المؤتمرات والندوات أمام عشرات العلماء، ومئات الطلاب، ورحتُ أقرأ هذه العبارة قراءة أخرى عكس ما تُقرأ وتتردد عليه، رحتُ أقرأ هذه العبارة في ضوء معرفتي المتواضعة بتاريخ أئمتنا، وأخلاقهم، وورعهم. وأحببتُ قبل أن أصرح بهذه القراءة، وأُعلي بها صوتي، أن أعرف أولاً من صاحبها؛ لأرى مكانته ومنزلته فى الفقه، وقبل ذلك أعرف طرفاً من سيرته، فإذا بي أجد صاحب هذه العبارة هو: الإمام الجليل، أبو الحسن الكرخي، شيخ الحتفية في عصره، وهو عبيد الله بن حسن بن دلال، توفي عن ثمانين سنة في شعبان سنة 340. أما سيرته، فقد ذكر كل من ترجم له: " أنه كان قانعاً متعففاً، صبوراً على الفقر، عزوفاً عما بأيدي الناس، فقد كان من العلماء العباد الزهاد، كان صوّاماً قواماً، ذا تهجدٍ وتألّه، وزهدٍ تام ". ذكره بهذا أربعة ممن ترجموا له من مخالفيه في المذهب، وهم الخطيب البغدادي الشافعي الشديد على الأحناف، المتوفى سنة 463 هـ، والإمام الذهبي السلفي المتشدد، المتوفى 648 هـ، والإمام ابن كثير، السلفي الشافعي المتوفى سنة 674 هـ، وابن العماد الحنبلي، المتوفى سنة 1089 هـ (¬1). ¬

_ (¬1) ر. تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي: 10/ 353، سير أعلام النبلاء: 15/ 426، البداية والنهاية: 11/ 225، وشذرات الذهب: 2/ 358.

كما أيد الخطيب، والذهبي، وابن كثير، ورعه وزهده، وصدقه مع الله، وأنه مستجاب الدعاء، بقصة أوردها الثلاثة بألفاظٍ واحدة تقريباً، وألفاظها عند الذهبي: قال: حدثني أبو القاسم الصيمري قال: حدثني أبو القاسم بنُ علانَ الواسطي، قال: لما أصابَ أبا الحسن الكرخي الفالجُ فى آخر عمره، حضرته، وحضر أصحابه: أبو بكر الدامغاني، وأبو علي الشاشي، وأبو عبد الله البصري، فقالوا: هذا مرض يحتاج إلى نفقة وعلاج، والشيخ مقل، ولا ينبغي أن نبذله للناس، فكتبوا إلى سيف الدولة بن حمدان، فأحس الشيخ بما هم فيه، فبكى، وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني، فمات قبل أن يحمل إليه شيء، ثم جاء من سيف الدولة عشرة آلاف درهم، فتُصدِّق بها عنه". لما عرفتُ هذا. عرفت صاحب العبارة وسيرته، قلت: سبحان الله!! هذا العالم العابد الزاهد، مستجاب الدعاء، الذي لم يتعلق من دنيا الناس بشيء، كيف تُقرأ عبارته هذه القراءة؟؟ فتأكد لي صحة قراءتي لهذا القول، فقد صح عندي، ولا يصح في العقل غيره - أن الإمام أبا الحسن الكرخي يقول: ما كان لنا ولشيوخنا أن نخالف أمر الله، فنترك الآية أو الحديث إلى الرأي، فإذا وجدت شيئاً من هذا، فاعلم أنه ترجح عندنا صرفه عن ظاهره بدليلٍ، أو تأكد عندنا أنه منسوخ، أو أن الحديث لم يصح، ومعاذ الله أن نترك الآية والحديث لرأينا. هكذا قرأنا هذه العبارة، ولا يصح غيرُ هذه القراءة في ضوء العصر الذي قيلت فيه، وفي ضوء المعرفة بصاحبها وسيرته. أما أن تقرأ هذه العبارة تلك القراءة الشائنة، فذلك أثر من آثار ثقافة شوهاء نحو تاريخنا بشقيه السياسي والفكري. وكم أتمنى أن يعثر باحث على أول من ردّد هذه العبارة، وقرأها هذه القراءة، فإني أشم فيها ذَفَر المستشرقين، وقمامة أفكارهم. ويؤكد صحة قراءتي ما قاله شيخنا الإمام أبو زهرة حين قال: "ونحب أن نُقرر هنا

أنه في حال الأخذ بالرأي عند من يأخذون به في مقابل الحديث، لا يُعدّ الحديث صحيحَ النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم ينكرون هذه النسبة، ويعتبرون الخبر المروي شاذاً في متنه، إذ أنه يخالف القواعد المقررة الثابتة المأخوذة من مقاصد الشريعة العامة، ونصوصها الخاصة" (¬1). * نعود إلى ملامح العصر فنقول: كان طبيعياً أن يصطبغ الفقه في كل إقليم بصبغة تختلف عن غيره من الأقاليم نتيجة لاختلاف الأعراف والتقاليد والظروف، ولذلك كثرت رحلات الفقهاء من إقليم إلى آخر للتعرف على ما عند الفقهاء الآخرين والاستفادة بفقههم. ... - ونحب أن نؤكد هنا أن تسمية هذا العصر بعصر الأئمة المجتهدين، فيها شيء كثير من التجوّز، وذلك من ناحيتين: أ- أن كل ما كان من فتاوى الصحابة والتابعين في القرن السابق، إنما هو اجتهاد لا شك في ذلك، فكل المفتين الذين ذكرنا أسماءهم آنفاً -وغيرهم- كانوا أئمة مجتهدين. ب- أن الاجتهاد لم ينقطع -على الأصح- طوال هذه القرون، بل هو فرضٌ واجب في كل عصر، على حدّ تعبير السيوطي في عنوان رسالته: (الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض) وإنما سوغ هذا الإطلاق، وتسميةَ هذا العصر بعصر الأئمة المجتهدين عدةُ أمور: أ- أن هذا العصر هو الذي وُضعت فيه مناهج الاجتهاد، وضوابطه، وصار لها ألقابٌ، وأسماء، ومصطلحات، كما تمايزت فيه مناهج الأئمة بعضها عن بعض. ب- أنه العصر الذي دوّن فيه الفقه بصفته فناً مبوّباً مفصلاً، مستقلاً عن غيره من الفنون. ¬

_ (¬1) تاريخ المذاهب الإسلامية: 289.

ج- أنه العصر الذي أنجب الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة التي استمرت دون غيرها من مذاهب الأئمة الذين لم تدوّن مذاهبهم -وما أكثرهم- أو التي دوّنت، ولم يقم بها أتباعها؛ فنسيت. - لقد حفظ لنا تاريخُ الفقه أسماء لثلاثة عشر إماماً مجتهداً دوّنت مذاهبهم، وعُمل بها، بقي منها المذاهب الأربعة المعروفة، ونُسي باقيها، بمعنى أنه لم يتيسر لهم من الأتباع من ينشر علمهم، وبقي حبيساً في بطون الكتب، من أشهر هؤلاء: الإمام الأَوْزاعي، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ولد سنة 88 هـ وتوفي سنة 157 هـ. والإمام الليث بن سعد، الذي قال فيه الشافعي: كان الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به ت 175 هـ. والإمام داود الظاهري، داود بن علي بن خلف الأصبهاني، المعروف بالظاهري، كان تلميذاً للشافعي (¬1)، ومن أشد المدافعين عن مذهبه، والداعين إليه، ثم استقل بمنهجه وأصوله ومذهبه، وألف كثيراً من الكتب، في الفقه، وفي الأصول، وقد استمر مذهبه شائعاً متبعاً، ثم اضمحل في منتصف القرن الخامس، ولد داود بالكوفة سنة 202 هـ، وتوفي سنة 270 هـ. والإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، كان شافعياً في أول أمره، ثم استقل بمذهبه، وقد ترك لنا ثروة علمية هائلة، في الفقه، والأصول والخلاف، والتفسير، والحديث، والتاريخ، ولد سنة 224 هـ، وتوفي سنة 310 هـ. وعدوا من هؤلاء أيضاً: الحسن البصري ت 110هـ، وسفيان الثوري ت 161 هـ، وسفيان بن عيينة. ت 198 هـ، وإسحاق بن راهويه ت 238 هـ، وأبو ثور. ت 240 هـ. ¬

_ (¬1) لعل في العبارة تجوزاً؛ إذ كيف يكون تلميذاً للشافعي مع أنه ولد سنة (202)، فالمقصود بالتلمذة هنا اتباعه، والعمل بأصوله ومناهجه.

- وقد خلف لنا هذا الدور ثروة فقهية طائلة، حيث ضبطت الأصول، وتمهدت الفروع، وأصبح الإلمام بجزئيات الفقه وكلياته لا يحتاج إلى كبير عناء. وكانت الكتب التي خلفوها -وما زالت- زاد الفقهاء وإمامَهم. ***

الفصل الثاني المذهب الشافعي: من التأسيس إلى الاستقرار، مع شيء من مصطلحاته

الفصل الثاني المذهب الشافعي: من التأسيس إلى الاستقرار، مع شيء من مصطلحاته وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول - الإمام الشافعي. المبحث الثاني - حملة الفقه عن الإمام الشافعي. المبحث الثالث - مرحلة تحرير المذهب. المبحث الرابع - من مصطلحات المذهب.

المبحث الأول: الإمام الشافعي

المبحث الأول: الإمام الشافعي لا أريد هنا أن أكتب ترجمة للإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، فقد ترجم له كثيرون قديماً وحديثاً تراجمَ مطولة، وموجزة، وهي متاحة ميسورة، مَدَّ اليد لمن يطلبها، ولا أريد أن أقع فيما تبّرم به إمام الحرمين، وحذَّر منه حين قال: " ومعظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب، متضمنه كلامُ مَنْ مضى، وعلوم من تصرّم وانقضى" (¬1)، وأملي أن ألتزم نُصحه ومنهجه، فقد قال: " حقٌّ على من تتقاضاه قريحته تصنيفاً، وجمعاً وترصيفاً أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يُلفى في مجموع، وغرضاً لا يصادف في تصنيف " (¬2). ومن هنا سأحاول أن أشير إلى معنىً ظهر لي أثناء مراجعتي وتأملي لتراجم الإمام الشافعي التي أفاد وأجاد في كتابتها السابقون واللاحقون، وعسى أن يوفقني الله في الإبانة والتعبير عن هذا المعنى الذي أدركته. إن المتأمل في حياة الإمام الشافعي يستطيع أن يرى أن الأقدار قد هيأت للشافعي، وهيأت الشافعيَّ، قد هيأت للشافعي البيئة بعنصريها الزمان والمكان، وساقته المقادير بوقائعَ ومواقفَ أو ساقتها له. فقد ولد الشافعي في سنة 150 هـ، فكانت نشأته وحياته في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، حيث كان العصر -كما رسمنا ملامحه فيما سلف- عصرَ رخاء وسَعة، واستقرار وعمران، ومن الناحية الفكرية كان التدوين قد بدأ، وشاعت الكتابة، وكان العلم قد استبحر، وتنوعت فنونه، وأخذت مناهج كل فن تتضح وتتمايز، فبدأ تدوينُ السنة، وتدوين الفقه، وتدوين القراءات، واللغة، وغيرها، وبدأت حلقات العلم، ومجالس المناظرة. ¬

_ (¬1) ر. الغياثي: فقرة رقم 45. (¬2) ر. السابق نفسه: فقرة رقم 242.

وقد نقول: إن الفقه كان أسبق كل هذه الفنون نضوجاً، فكان الإمام أبو حنيفة، وتلاميذه قد ملؤوا العراق علماً سارت به الركبان إلى الآفاق، وارتحل الناس إليه من كل فجّ، وفي المدينة كان مالك إمام دار الهجرة، قد علا ذكره، وانتشر علمه، وأخذ يُرسي قواعدَ منهج جديد، ومذهب يغاير مذهب أهل العراق، وأخذت الدنيا تموج بالعلم. في هذا الزمان جاء الشافعي. وأما المكان، فقد اتسعت مساحته، وترامت أطرافه فيما بين فلسطين، ومكة المكرمة، ومضارب هُذيل بالبادية، والمدينة المنورة، واليمن، ثم بغداد، ثم مكة، ثم بغداد، ثم مكة، فبغداد، فمصر. قدَّرتْ أمُّ الشافعي -كما تقول الروايات- أنها تنتقل بابنها الطفل القرشي المطلبي من غزة إلى مكة المكرمة، حفاظاً على نسبه الشريف، حيث ينشأ بين من يعرفه من قومه وعشيرته، ولكن الأقدار أرادت هذا الانتقال لأمرٍ أكبر، ولشأن أعظم، فقد نشأ هذا الطفل، فوجد حوله حلقات العلم تملأ الحرم الشريف: الفقهاء، والقراء، والمحدِّثون، والمفسرون. ووجد نفسه بين عرب أَقْحاح، يعرفون للسان العربي مكانته، ويَرَوْن اللحنَ هُجنة تُزري بصاحبها، فدفعته نفسُه الأبية إلى أن يلحق بالبادية، يلازم هُذيلاً -من أفصح قبائل العرب- يظعن بظعنهم، ويقيم بإقامتهم، ويحفظ الأشعار، ويستوعب اللغة، ويقول هو عن ذلك: " خرجت عن مكة، فلازمت هذيلاً بالبادية، أتعلم كلامها، وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة، جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الآداب، والأخبار " ا. هـ طالت إقامته بالبادية حتى بلغت -في رواية عند ابن كثير- عشرَ سنوات، فاستقام لسانه، واستعصى على اللحن، حتى قال فيه معاصره ابنُ هشام صاحبُ السيرة: " الشافعي تؤخذ منه اللغة " (¬1)، ويكفيك دليلاً على هذا أمران: أ- أن الأصمعي -وهو مَنْ هو في مجال اللغة- يجلس بين يديه يُصحح عليه أشعار الهُذليين. ¬

_ (¬1) ر. مقدمة الشيخ شاكر للرسالة ص 13، 14 ففيهما كلام مفيد في هذا المعنى، بل اقرأ المقدمة كاملة، ففيها من العلم ما لا يصح أن يفوتك.

اشتغال الشافعي بالفقه

ب- والأمر الثاني أن تنظر في كتبه، وبخاصة (الرسالة) بخط الربيع، التي أخرجها العلامة الشيخ أحمد شاكر محافظاً على لغة الشافعي، منبهاً على أن ما يخالف معهودنا من النحو واللغة إنما هو صحيح فصيح، وإن جهله مَنْ جهله. [ودَعْ عنك العبثَ الذي قام به محققو عصرنا الأشاوس بنص الرسالة، بدعوى تصويب الأخطاء اللغوية، حتى تجرّأ بعضهم على الشيخ شاكر، وسخر منه، لاستمساكه -فيما زعم- بالأخطاء التي في نسخة الربيع!!! أي والله!!! تصوَّر!!! سبحان الله!!! وهو وحده المستعان على كل بَلِيّة]. اشتغال الشافعي بالفقه أتقن الشافعي اللغة، وشغل بها، وبروايتها، وبرواية الأدب والأشعار، ولكن قيض الله له من يَلْفته إلى ميدان آخر: إلى الفقه والحديث؛ فقد لقيه مسلم بن خالد الزنجي شيخ الحرم ومفتي مكة وهو خارج يطلب النحو، فدار بينهما حوار حكاه الشافعي بقوله: " قال لي: يا فتى من أين أنت؟ قلتُ: من أهل مكة. قال: وأين منزلك بها؟ قلتُ: بِشعب الخَيْف. قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من ولد عبد مناف. قال: بخٍ بخٍ؛ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة؛ ألا جعلت فهمك هذا في الفقه، فكان أحسن بك " وُيروى أن الذي وجهه إلى الفقه آخرُ غيرُ مسلم بن خالد، ولا مانع أن يكون هذا قد تكرر من أكثر من شخص. كان الشافعي قد حفظ القرآن الكريم قبل أن يخرج إلى البادية، فيضيف إليه الإحاطة بلغة العرب وآدابها وأشعارها؛ فيصبح بهذا محيطاً بكتاب الله لفظاً ومعنىً، ولذا ما إن استجاب لتوجيه من وجهه، وجلس في حلقات الفقه والحديث حتى ظهرت مواهبه، فلم يمض كثير وقت حتى استحق الإمامة في الدين، فقد أجازه شيخ الحرم، مسلمُ بنُ خالد بالإفتاء، وكانت سنه نحو الخامسة عشرة!!! ولا عجب في هذا، فالفتى قد عرف كتاب الله نصاً حينما حفظه عن ظهر قلب، وقد أحاط به استنباطاً حين حفظ اللغة، ووعى أشعارها وآدابها، وعرف تصرُّفَ العرب في لغتها، وهذه كانت أدوات الصحابة رضوان الله عليهم في فتاواهم، وقد رأينا الشافعي الإمام، وهو يُنظِّر لأصول الفقه، ويضع ضوابط الاجتهاد وشروطه يكتفي بهذا؛ فيقول:

مدرسة مكة

" من عرف كتاب الله نصاً واستنباطاً، استحق الإمامةَ في الدين " (¬1) وقد علق إمام الحرمين على عبارة الشافعي هذه، قائلاً: " جمع الإمامُ المطّلبي الشافعي رضي الله عنه الصفات اللازمة في المجتهدين في هذه الكلمة الوجيزة ... وكل التفاصيل التي قدمناها مندرجة تحت هذه الكلم " (¬2). قد يفُهم من هذه الروايات التي نصح فيها الناصحون الشافعي بالاشتغال بالفقه بأن ذلك كان بعد السنوات العشر التي قضاها في البادية، ولكن هذا غير صحيح؛ فقد صحت روايات عن الشافعي أنه قال عن اشتغاله باللغة، وإقامته بالبادية: " ما أردتُ بهذا إلا الاستعانة على الفقه ". والذي لا يصح في العقل غيره أن الشافعي ما كان منقطعاً في البادية هذه السنوات العشر انقطاعاً متصلاً، بل كان يرواح بين الإقامة في مكة والارتحال إلى البادية، بل إن الروايات التي رُويت عن نُصحه بالاشتغال بالفقه توحي بأن ذلك كان أثناء اشتغاله باللغة والتردّد على البادية. فالمراحل متداخلة، وليست متتابعة، وعلى هذا يمكن أن تُفهم هذه الروايات، فهو قد خرج أولاً إلى البادية لطلب اللغة، ولما اشتغل بالفقه -استجابةً لنصح الناصحين- وجد أن اللغة أَلْزم للفقه، فزاد اشتغاله بها، والارتحال من أجلها، وصح ما روي من قوله: " إنه ما أراد باللغة والشعر إلا الاستعانة على الفقه ". فتكون السنوات العشر، أو الإحدى عشرة، قبل رحيله إلى الإمام مالك بالمدينة قد كانت بين حلقات الفقه، والارتحال إلى البادية. (جاء إلى مكة وهو ابن عامين ورحل إلى مالك وهو ابن ثلاثة عشر عاماً). مدرسة مكة كانت مكةُ إذاً مراحَ طفولة الشافعي، ومربعَ صباه، ودار نشأته، ومجلى نبوغه، ففيها حفظ القرآن الكريم، وأتمه وهو بعدُ غضّ الإهاب طري العود، وفي البادية من ¬

_ (¬1) ر. الرسالة: فقرة رقم 46. (¬2) ر. الغياثي: فقرة رقم 577، 578. بتصرف يسير.

الرحلة إلى الإمام مالك

حولها أخذ اللغة، وحفظ الشعر، وأحاط بالأخبار، وعرف الأنساب، وحذَق الرميَ، وفي مجالس علمها تلقى السنَّة عن أعلامها، والفقهَ عن شيوخها وأئمتها، كل ذلك في نحو عشر سنوات مباركات أو أكثر منها قليلاً، كان يراوح فيها بين الإقامة للارتواء من حلق العلم، والارتحال لارتضاع اللغة من نبعها الصافي بالبادية. وكانت مكة تمثل بين مراكز العلم والفقه مدرسة متميزة، ذات خصائص ومنهج خاص بها، قال ذلك -بحق- شيخنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة، قال: " تتميز بأنها تُعنى بتفسير القرآن، وتعرّف أسباب نزوله، ورواية تفسيره، وتفهم القرآن على ضوء ذلك، وفي ضوء لغة العرب، وبعض عاداتهم (¬1) " فهي مدرسة ابن عباس التي اتخذها مقاماً له. " وكانت المماثلة في الجملة قائمة بين ابن عباس والشافعي: فالشافعي كان فصيح البيان، كما كان ابن عباس من قبل، وكان يُعنى بعلم القرآن كما عُني ابن عباس وأجاد، وكان يعنى بالشعر كما يعنى بالفقه كما فعل ابن عباس، ثم كان يحضر دروسه طالبو القرآن، وطالبو الحديث، وطالبو الفقه، ورواة الشعر والعربيه، كما كان الشأن مع ابن عباس. فهل كان الشافعي يجعل من ابن عباس مَثلَه الكامل ويترسم خطاه؟ أيّاً كان الأمر، فمن المؤكد أن الشافعي بإقامته في مكة ودراسته بها قد استفاد علماً لم يكن بالعراق ولا بالمدينة، وهو الأخذ بطريقة ابن عباس في العناية بدراسة القرآن، والعناية بمجمله ومفصله، ومطلقه، ومقيده، وخاصه وعامّه؛ حتى خرج بفقهٍ جديد، غير ما في العراق وما في المدينة " (¬2). الرحلة إلى الإمام مالك بعد أن أحاط الشافعي بعلم شيوخه في مكة المكرمة من المحدثين والفقهاء، وبلغ بينهم من المنزلة ما بلغ تاقت نفسه للهجرة إلى المدينة؛ فقد كانت شهرة مالك قد طبقت الآفاق، وسارت بها الركبان، وسواء كانت رحلته إلى مالك بنصحٍ وتوجيهٍ، أو بباعث شخصي خاص به -وهذا ما نرجحه- فقد أحب أن ينظر في الموطأ قبل أن يلقى ¬

_ (¬1) ر. الشافعي: حياته وعصره: 42 - 45. (¬2) السابق: نفسه.

مالكاً، وتُجمع الروايات على أنه استعار الموطأ وحفظه عن ظهر قلب، وتحدد بعض الروايات أنه حفظه في تسع ليالٍ. ولم يشأ -وهو الشريف النسيب- أن يلقى مالكاً الذي يتحدث الناس بمهابته ومكانته من غير أن يحمل كتاباً من والي مكة، فحمل الكتاب إلى والي المدينة، الذي صحبه إلى باب مالك، في قصة لسنا لتفصيلها ولا لإيجازها، ولكن الذي يعنينا منها أن الذي شفع عند مالك، وقدّم الشافعي له -بحق- هو علم الشافعي: قراءته للموطأ ظاهراً، وليس كتاب الوالي. ذلك أن مالكاً رضي الله عنه نظر إلى الشافعي، ورأى حداثة سنه، فقال له: تجيء الغد، والتْمس من يقرأ لك، فقال له الشافعي: أنا أقرأ ظاهراً. فلما كان الغد جلس الشافعي بين يدي مالك، فقرأ ظاهراً والكتاب في يده، كما روى عن هذا اللقاء العلمي الأول، يقول: قرأت قدراً ثم تهيبت مالكاً، فأمسكت، فأشار: زِدْ، وكلما هبتُه وأمسكت يقول: يا فتى زِدْ، أعجبه حسنُ قراءتي وإعرابي. جلس الشافعي إلى مالك، وقرأ عليه الموطأ في أيامٍ يسيرة، ثم لزمه يتفقه علمه، ويدارسه المسائل، ويتأمل منهجه في الفتوى والاستنباط. وقد تنبأ له مالك بأنه سيكون ذا شأن فقال له: " يا غلام، إن الله ألقى في قلبك نوراً، فلا تطفئه بالمعصية "!! لزم الشافعي مالكاً، وحاز فقهه، ولكن في كم من السنين؟ وكم سنة دامت هذه الصحبة؟ * أكثر الروايات أنه لزمه حتى وفاته في سنة 179 هـ، وعلى هذا يكون بقاؤه في المدينة ستة عشر عاماً؛ فقد رحل إليها وسنه ثلاثة عشر عاماً، أي في سنة 163 هـ باتفاق. * ويقول الشيخ زاهد الكوثري -في تعليقاته على ترجمة ابن عبد البر للشافعي في الانتقاء-: إنه رحل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً، وعلى ذلك تكون صحبته لمالك وبقاؤه في المدينة أربع سنوات فقط، يستدل على ذلك بأن الشافعي يروي عن مالك -في غير الموطأ- بثلاث وسائط فأكثر. * وتكاد تجمع الروايات على أن مسلم بن خالد أجازه بالفتوى في سن خمسة عشر، وكان ذلك في مكة بالطبع؛ فيكون بقاؤه في المدينة مدة سنتين فقط.

الرحلة إلى اليمن

والذي نقوله للجمع بين هذه الروايات -وهو صحيح إن شاء الله-: إن صحبة الشافعي لمالك استمرت حتى وفاته فعلاً، أي لمدة ستة عشر عاماً، ولكنها لم تكن إقامة دائمة متصلة بالمدينة، بل كان يقيم بالمدينة ما شاء الله أن يقيم، ثم يعود إلى مكة فيقيم بها ما شاء الله أن يقيم، ثم يرحل إلى المدينة، " بل ربما إلى غيرها من البلاد والأمصار الإسلامية، يستفيد في هذه الرحلات ما يستفيده المسافر الأريب من علمٍ بأحوال الناس وأخبارهم، وشؤون اجتماعهم، فلم تكن ملازمته لمالك رضي الله عنه بمانعة من سفره واختباراته " على حد تعبير شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الشافعي. ولكن الذي لا يصح مع هذا هو قول العلامة الكوثري: " إنه انتقل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً؛ فالانتقال إلى اليمن، والانشغال بالولاية، مع بعد الشقة يقطع صحبته لمالك التي تضافرت الروايات أنها استمرت حتى وفاة مالك سنة 179 هـ هذا أولاً، وثانياً - المتفق عليه أن انتقاله إلى اليمن كان ليتولى (ولاية)، فهل يصح أن يكون ذلك وسنه سبعة عشر عاماً؟؟ وأما الاستدلال بأنه يروي عن مالك بثلاثة وسائط فأكثر، فمع قوة هذا الاستدلال، فلا ينهض دليلاً على أن الشافعي انتقل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً، فالجهة مُنْفكّة -كما يقول المناطقة- ولا ينهض دليلاً على انقطاع تلمذة الشافعي لمالك ومدارسته له، فلم لا يكون انصراف الشافعي مع مالك إلى مدارسة الفقه وطرق الاستنباط، أما الأخبار والآثار، فكان يحصلها من تلاميذ مالك، ثم إن الشافعي الْتقى بفقه مالك وأخبار مالك مرة ثانية حينما انتقل إلى مصر، وكان بها أعلام تلاميذ مالك، فسمع منهم ودارسهم، فمن هنا كانت الوسائط. ثم نحن قد أثبتنا أن اتصاله بمالك والتلمذة له -مع أنها دامت حتى وفاته- إلا أنها كانت منقطعة تتخللها رحلات عن المدينة إلى مكة أو غيرها، فمن هنا كان الأخذ عن مالك بالوسائط. الرحلة إلى اليمن بعد وفاة الإمام مالك، واستقرار الشافعي بمكة، وكان قد حاز فقه مدرسة المدينة، وأحاط بمنهجها، وضم ذلك إلى ما تلقاه عن شيوخ مكة ومدرستها، وصار من أعلام

الشافعي يحمل إلى بغداد

الفقهاء، بعد ذلك آن له أن يدخل ميداناً آخر، فتطلعت نفسه إلى عمل يسدّ به خَلَّتَه، ويدفع حاجته، وفي زيارةٍ لوالي اليمن إلى مكة كلّمه بعض القرشيين في شأن الشافعي؛ فصحبه معه، وهناك ولاه على نجران، وفي هذا العمل ظهرت مواهب الشافعي، وذكاؤه وخبرته بالناس، ونبله وشرف نسبه، إلى علمه وفقهه، فذاع في الناس ذكره، وشاع عدله، ثم إنه في نجران رأى تطبيقاً عملياً لأحكام الجزية وقضايا نصارى نجران. ومضى الحال على ذلك نحو خمس سنوات، والأمور توحي بالاستقرار والاستمرار، ولكن فوجىء الشافعي بتهمة غليظة!! اتهم بمناهضة الدولة، والانضمام إلى العلويين الذين يدبرون للانقلاب على أبناء عمهم العباسيين، وتلك تهمة عقوبتها حزُّ الرؤوس. أما لماذا اتهم؟ فتفصل الروايات أسباب ذلك الاتهام، وخلاصته ترجع إلى الاستقامة الكاملة، والحرص على العدل الكامل، ففي كل زمانٍ ومكان يحاول المحاولون أن يأكلوا بالولاة، يميلونهم حيث يشاؤون، فمن استعصى عليهم، فله الوشاية، والسعاية. أما لماذا كانت هذه التهمة بالذات، فالشافعي مأثور عنه، وثابت في شعره وأقواله حبُّ آل البيت، يصرح بذلك ويتمدّح به، فوجد الساعون الوشاة في هذا ما يرشحه لهذه التهمة، وأنها أليق شيء به. الشافعي يحمل إلى بغداد تتفق الروايات على أن الشافعي حمل إلى بغداد في سنة 184 هـ، ولكنها تختلف في أنه حمل من اليمن أم من مكة، ويمكن الجمع بينها بأنه اتهم باليمن، ثم حمل من مكة أثناء تردّده عليها لزيارة أهله. حُمل الشافعي متهماً إلى بغداد هو ومَنْ معه من (المتآمرين) التسعة، وتصف الروايات المصير الذي كان ينتظره، حيث أدخلوا على الرشيد وبين يديه النِّطْع والسيف، وتستطيع أن ترى معي الآن الشافعيَّ الأبي الحسيب النسيب وهو يدخل على الرشيد عالي الهامة، مرفوع القامة، مُدِلاًّ بعلمه، واثقاً بذكائه، شامخاً بمواهبه،

مطمئناً لبراءته، فيروع الرشيدَ مرآه، ويعجب بمخايله، فيفسح له ليلقي بحجته، فيؤخذ ببلاغته وبراعته، ويدرك أنه من أهل العلم - فقد كان الخلفاء حتى ذلك العصر ممن يشتغلون بالعلم، ويدارسون أهله، ويحضرون مناظراتهم، ويحكمون بينهم. ترك الرشيد القضيةَ، وخاض مع (المتهم) في ضروب من العلم، فوقع في قلبه، وكان محمد بن الحسن حاضراً، فقال لمحمد بن الحسن: خذه إليك حتى أنظر في أمره، ووصله بخمسين ألفاً، فرقها الشافعي على مَنْ بباب الخليفة، قبل أن يبرح. ويلوح لي أن (قرار الاتهام) كان أحدَ الأسباب التي لفتت نظر الرشيد إلى الشافعي، وجعلت اللقاء يجري على هذه الصورة، فقد روَوْا أن مَنْ رفع أَمْر الشافعي إلى الرشيد قال في (عريضة الاتهام): " إن فيهم رجلاً من ولد شافع المطلبي يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه ". المهم أن الشافعي نجا من القتل الذي سيق له!! والأهم أنه وجد نفسه في نفس اللحظة في معية محمد بن الحسن، ينزل عليه، ضيفاً في بيته!! سبحان من له الأمر والتدبير!! ماذا لو لم يذهب الشافعي إلى اليمن؟ وماذا لو ذهب إلى اليمن ولم يُقَيَّض له الحاسد الواشي ليتهمه؟ من كان سينقل الشافعي من اليمن إلى العراق؟ ومن كان سيصرف الشافعي عن العمل بالولايات والإدارات؟ إنها الأقدار. هيأت للشافعي أن ينتقل إلى العراق، وأن يلقى محمدَ بنَ الحسن، وأن يكون ذلك في سن النضج واستحصاد الخبرة. أقبل الشافعي على حلقة محمد بن الحسن، يأخذ، ويدوّن، ويدارس، ويناقش، ويناظر. لم يناظر محمد بن الحسن في أول الأمر، وإنما كان يناقش تلاميذه بعد أن ينصرف عن الحلقة، ولما علم بذلك محمد بن الحسن دعاه لمناظرته، فتردّد الشافعي حياءً وتقديراً لمنزلة محمد وسنّه، ولكن محمد بن الحسن أصرّ؛ فكانت بينهما

عود إلى مكة

مناظرات، ملأت أخبارها بغداد، وشهد هارون الرشيد بعضَها، وأُعجب بالشافعي. ظل الشافعي بالعراق، يدرس، ويسمع، ويناظر حتى أتقن طريقة العراقيين، وجمع علمهم إلى ما جمعه من علم مالك ومدرسة المدينة، وإلى ما حصله قبلاً من مدرسة مكة، وإلى ما تلقاه من علماء اليمن. وكانت إقامته في العراق في هذا القَدْمة نحو عامين، حمل فيهما من علم محمد بن الحسن وحده وِقْر بعير، ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه. وقيل: إن إقامته ببغداد كانت خمس سنوات، وأنه لم يغادرها إلا بعد وفاة محمد بن الحسن في عام 189 هـ. عودٌ إلى مكة عاد الشافعي إلى مكة، وطالت إقامته بها نحو تسع سنوات، كانت هذه الفترة من أخصب الفترات في حياة الشافعي، فقد عاد إلى مكة بعد أن استوعب علم هاتيك البلاد والأمصار التي زارها، ومناهج هذه المدارس التي جلس إلى شيوخها، فكانت هذه الفترة فترة التأمل والنقد، وكانت مكة أنسب الأماكن لهذه التأمل والاختبار، فهي بعيدة عن ضجيج بغداد ومناظراتها، ومصارعة المذاهب والتيارات التي تموج بها، ثم فيها الاستقرار في كنف الأهل والعشيرة، والأنس ببيت الله الحرام. ثم هي مثابة العلماء يفدون إليها في كل موسم، فيلقاهم، ويفيد ما عندهم، ويختبر ما عنده. في هذه السنوات التسع عكف الشافعي على وضع مقاييس وقواعد يرجع إليها عند الاختلاف، فأخذ يبحث في القرآن الكريم: ناسخه ومنسوخه، والعام والخاص، وطرق الدلالة، وفي السنة ومنزلتها من الكتاب، وصحيحها وسقيمها، وكيف تستنبط الأحكام إذا لم يكن قرآن وسنة، وضوابط الاجتهاد، و .... ومن هنا بدأ استقلال الشافعي بمذهبٍ أو بمنهج خاص (¬1). ¬

_ (¬1) ر. الشافعي، حياته وعصره: 26، 27.

إلى بغداد طواعية

إلى بغداد طواعية رحل الشافعي إلى بغداد طواعية هذه المرة، فلماذا؟ وما الذي دعاه إلى الانتقال إلى بغداد؟ كان الشافعي في القَدْمة الأولى قد حصَّل علم أهل العراق، وأحاط بما عند فقهائهم، وعرف مناهجهم، وخصائص مذهبهم، وسمع ما عندهم من آثار وأخبار، فلأيّ أمرٍ يعود الآن؟ لم يعد الشافعي هذه المرة ليأخذ من العراق، وإنما عاد ليعطي، كان الشافعي قد رأى بعينيه مكانة بغداد وسعة سوق العلم، وكثرة مجالسها وحلقاتها، وأنها تموج بأفواج العلماء من كل حدب وصوب، فقد كانت حاضرة الدّولة، بل حاضرة الدنيا، فمن أراد أن يعلن جديداً، أو يُذيع مذهباً، أو ينشر رأياً، فلن يجد أعلى من منابر بغداد. من أجل هذا قصد الشافعي بغداد -هذه المرة- ليقرر مذهباً جديداً، وفقهاً جديداً، لا هو بالفقه المالكي الذي حصَّله على مالك وعلماء المدينة، ولا بالفقه الحنفي الذي حمله عن محمد بن الحسن وعلماء العراق. دخل الشافعي بغداد هذه المرة ليكون صاحب حلقة يدرِّس ويقرر، لا ليسمع ويتلقى، دخل الشافعي المسجد الكبير في بغداد واتخذ مجلسه في صدر حلقته، وكان في المسجد عشرات الحلقات، انفض أكثرها، واتسعت حلقة الشافعي، ورفع به أصحاب الحديث رؤوسهم، وأطلقوا على الشافعي. (ناصر الحديث) (¬1). في بغداد هذه المرة أظهر الشافعي مذهبه، ووضع كتبه، ووضع ضوابط مذهبه: وضع كتبه التي عرفت بالمذهب القديم، ووضع ضوابط مذهبه في (الرسالة) التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي. وكان بقاؤه في بغداد مدة سنتين، إذ جاءها سنة 195 هـ وغادرها سنة 197 هـ. ¬

_ (¬1) عن منهج الشافعي في الاستنباط، الذي جمع به بين المدرستين اقرأ بحثاً قيماً بعنوان (منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه والأصول) للعلامة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية، بيروت، دار ابن حزم، 1420 هـ، 1999 م.

عود إلى مكة، فبغداد ثالثة، فمصر (97 - 98 - 99)

عود إلى مكة، فبغداد ثالثةً، فمصر (97 - 98 - 99) عاد الشافعي إلى مكة بعد أن أرسى قواعد مذهبه في العراق، وترك وراءه كتبه وتلاميذه يحملون علمه، وينشرون مذهبه. ويلوح لي أن عودته إلى مكة لم تكن للإقامة والاستقرار، فقد كان وراءه عملٌ في بغداد لم ينضج بعد، وفيما أقدر أن عودته إلى مكة كانت للبّر بآله وقومه وعشيرته ولشهود الموسم. ولذا نراه يشد الرحال عائداً إلى بغداد في سنه 98 هـ ولكنه لم يتلبّث بها إلا قليلاً حتى غادرها إلى مصر. فما الذي أزعجه عن بغداد فلم يُلق عصا الترحال بها؟ لم تذكر روايات المترجمين للشافعي سبباً مقنعاً لذلك، وأقرب تعليل ما قاله شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة، من أنه حين عاد إلى بغداد وجد وجهها قد تغير، فقد انتهى عهد الأمين بن هارون الرشيد، وبدأ عهد المأمون، ورأى الشافعي غلبة العنصر الفارسي على الدولة؛ فقد كان الفرس جيشَ المأمون الذي حارب به أخاه الأمين، وقضى عليه. أدرك الشافعي ذلك، ورأى المأمون يقرب المعتزلة -وإن لم يكن قد ظهر خطر ذلك بعد- فلم ينشرح صدره للإقامة ببغداد. الشافعي في مصر تغير وجه بغداد؛ فلم تطب الإقامة بها، فلماذا اختار مصر؟ ولماذا لم يرجع إلى مكة؟ نذكّر بما هيأته الأقدار للشافعي، فقد ذكر ياقوت في معجم الأدباء أن الشافعي لقي ببغداد الوالي العباسي على مصر، فدعاه إلى مصر، وطلب أن يصحبه إليها، وقبل دعوته واختار الذهاب إلى مصر.

فقه الشافعي في مصر

وعلى هذا يكون الشافعي قد استقر على ترك بغداد لما رأى من تغير وجهها، ولما استشعره -بفراسته- من ظهور أمر المعتزلة، فجاءته دعوة والي مصر لتحدد الجهة التي يترك بغداد إليها، وليست الدعوة -فيما نقدر- صالحةً وحدها لتغيير قراره بالبقاء في بغداد، وإنما جاءته وهو يهم بالرحيل عن بغداد لتحدد وجهته التي ينتقل إليها، ولا مانع أن نقول: إنها أيضاً صادفت رغبة في نفس الشافعي الذي كان يرى في الانتقال والترحال معرفةً وخبرة بالحياة والناس، وإحاطة بما عند من يلقاهم من العلماء والقراء والمحدثين. ومعروف مشهور أقوال الإمام الشافعي في مدح السفر وتعديد فوائده. فقه الشافعي في مصر نزل الشافعي بمصر، فوجد حياة تموج بالفقه والفقهاء، وجد فقه الإمام الليث، وفقه الإمام الأوزاعي، وفقه الإمام أبي حنيفة، وفقه الإمام مالك. وعلى عادة أئمتنا -قديماً- رضوان الله عليهم، كانوا يرون أن الاحتفال بمن يقدم إليهم من العلماء لا يكون إلا بعقد مجالس العلم، والاستماع إلى ما عنده، وعَرْض ما عندهم، ويتبع ذلك المُدارسة والمناظرة، كل ذلك طلباً للحق، وتحصيلاً للفوائد والفرائد. اطلع الشافعي على ما عند علماء مصر، واتخذ حلقته في جامع عمرو بالفسطاط، وأقبل عليه الفقهاء يسمعون ويدارسون، حتى انحاز إليه الكثير من أتباع مالك وأبي حنيفة، بل من رؤوسهم مَنْ صار من أخص تلاميذ الشافعي مثل: عبد الله بن عبد الحكم، ومحمد ابنه، والبويطي، والمزني، فقد كانوا يقولون بقول مالك قبلاً. استقر الشافعي في مصر نحو خمس سنوات فقط، ولكنها كانت سنوات مباركات؛ فإذا أحصينا ما ألفه الشافعي وأملاه من كتب، وما قعد له من دروس ومواعظ، وما عقد من مناظرات ... إذا أحصينا ذلك، وجدنا أن الزمن الذي قضاه

في مصر لا يمكن أن يسع ذلك في العرف والعادة، ومن هنا عُدَّ هذا من الكرامات. طابت الإقامة للشافعي بمصر، ولكن لم تطل، فقد وافاه الأجل المحتوم ليلة الجمعة بعد المغرب، ودفن بعد العصر من يوم الجمعة آخر يوم من شهر رجب سنة 204 هـ. ... ونعود، فنذكر بأننا لا نقدم ترجمة للشافعي وإنما ننبه إلى معنىً لاحظناه أثناء قراءاتنا لتراجم الإمام الشافعي، وهو ما هيأته الأقدار للشافعي، وهيأت الأقدار الشافعي به، ونلخص ذلك فنقول: لقد هيأت الأقدار للشافعي أمّاً تعرف قيمة شرف النسب ومنزلته، فتنتقل بابنها إلى مكة، وهناك يعرف قيمة العربية وفصاحة اللسان، فيطلب اللغة في البادية، وهيأت له من يوجهه إلى الفقه، فيجعل اللغة وعلوم العربية والشعر والأدب في سبيل الفقه، وهيأت له شيوخاً في مكة ورثوا فقه ابن عباس، وهيأت له التلمذة على مالك خاصة وفقهاء المدينة ومحدِّثيها بعامة، وقدر الله أن ينشأ فقيراً، فلو كان ذا مالٍ وفير، ربما كان اشتغاله بتثميره، ونشأته في الوفرة والدعة غيرت مجرى حياته. وأوضح ما تراه من ذلك هو رحلته -من أجل العمل والارتزاق منه- إلى اليمن، وإتهامه بسبب هذا العمل وحمله قسراً إلى بغداد ليضرب عنقه، وتَهْيئة محمد بن الحسن ليكون في مجلس الخليفة ساعة مثوله بين يديه، فيجتمع له أمران في لحظة واحدة، نجاته من السيف بمساعدة من محمد بن الحسن، ثم لقاؤه واتصاله بمحمد بن الحسن وعلم محمد بن الحسن!!! فيحمل علمه وعلم العراقيين عامة. ثم يعود إلى مكة، ويتردد بينها وبين العراق، ولكن تهيىء له الأقدار من الأحداث ما يزهده في العراق، ومن يدعوه إلى مصر، فيلقى فيها من العلم والعلماء، والأخبار والأحداث (¬1)، ما يجعله يُخرج للدنيا هذا العلم الذي ملأ سمع الزمان، وانتقل إلى كل مكان. هذا ما هيأته الأقدار للشافعي. ¬

_ (¬1) انظر الشكل رقم (1) لترى كيف حاز الشافعي فقه الأمصار كلها في الصفحة التالية.

شيوخ الإمام الشافعي

أما ما هيأت الأقدار الشافعيَّ به، فقد وهبه الله حافظةً لاقطة، وذاكرة واعية، وذكاءً نادراً؛ وعقلاً صافياً، وقلباً تقياً نقياً، وجناناً ثابتاً، ولساناً فصيحاً مبيناً، وخُلقاًَ رصياً. كان الشافعي أحد عباقرة الدنيا، وواحداً من نوادر الموهوبين الذين قلّما ترى الدنيا مثلهم، وحسبك أن تعلم أنه لما أراد أن يقصد مالكاً من مكة أحب أن ينظر في الموطأ قبَل أن يلقى مالكاً، يقول: " استعرت الموطأ، فحفظته في تسع ليالٍ " ولما لقي مالكاً قرأه عليه ظاهراً من حفظه، وكانت سنه يومئذ ثلاث عشرة سنة. وما أصدق ما قاله له الإمام مالك: "إن الله ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بالمعصية". نعم ألقى الله!! وهَبَ الله!! وصدق الإمام مالك، فبهذا النور الذي هيأته به الأقدار، وألقته في قلبه أجازه شيخ الحرم مسلم بنُ خالد الزنجي بالإفتاء، وهو ابن خمسَ عشرة سنة!! تأمل!! يُفتي في حرم الله، في البلد الأمين وهو ابن خمس عشرة سنة، ومكة يومئذ مثابة العلماء والفقهاء. ثم تأمل!! لقد ملأ الشافعي طباق الأرض علماً، وملأ سمع الدنيا، وخلف كل هذا العلم، مع رحيله المبكر: في الرابعة والخمسين من عمره!! وكيف لو عاش إلى الرابعة والثمانين!! ... هذا هو إمامنا الشافعي رضي الله عنه، لم نقصد أن نترجم له، وإنما أردنا أن نتأمل مواقف وأحداثاً في سيرته، تظهر فيها حكمة الله جل وعلا، وما يختاره ويهيئه سبحانه لمن يرثون نبيه، فيحملون أمانته، ويبلغون رسالته. شيوخ الإمام الشافعي ذكر أصحاب التراجم شيوخاً مباشرين للإمام الشافعي وعّدوا منهم عشرين شيخاً خمسة منهم في مكة، وستة في المدينة، وأربعة في اليمن، وخمسة في العراق.

ولسنا نريد أن نترجم لهم، وإنما نريد أن نعرّف بهم فقط، أو بالتحديد أن نضبط أسماءهم، ونوضحها كاملة، فقد ذكرت مختصرة في الشكل رقم (1). شيوخه في مكة: 1 - سفيان بن عيينة، أبو محمد سفيان بن أبي عمران، أصله من أهل الكوفة، ورحل واستوطن مكة. ت 198 هـ 2 - مسلم بن خالد بن مسلم بن سعيد (الزنجي) أصله من أهل الشام، وكان أبيض مشرباً بحُمرة؛ فسمي (الزنجي) من باب الأضداد. ت 180 هـ 3 - داود بن عبد الرحمن العطار، كان أبوه نصرانياً من أهل الشام، فخرج منها ونزل مكة، وولد له أولاد فأسلموا، فكان -مع كفره- يعلمهم القرآن والفقه، ويحثهم على ملازمة أهل الخير، ونبغ منهم داود هذا، وقد ولد سنة 100 هـ، وتوفي 174 هـ 4 - ابن أبي رَوَّاد (بفتح الراء وتشديد الواو المفتوحة) هو عبد المجيد بن عبد العزيز الأزدي مولى المهلّب أبو عبد الحميد، المكي، ت 206 هـ. 5 - سعيد بن سالم القداح، أبو عثمان، المكي، خراساني الأصل، ويقال: كوفي، سكن مكة توفي قبل سنة 200 هـ. شيوخه في المدينة: 6 - مالك بن أنس (وكفى). ت 179 هـ 7 - عبد العزيز الدرَاوَرْدي، عبد العزيز بن محمد بن أبي عُبيد الدرَاوَرْدي، أبو محمد، المدني، مولى جهينة، وأصله من دَرَاوَرْد قرية بخراسان، ولد بالمدينة ونشأ بها، وبها عاش، وبها توفي سنة 187 هـ 8 - عبد الله الصائغ، وهو عبد الله بن نافع، الصائغ المخزومي، مولاهم، أبو محمد، المدني، ت 206 هـ 9 - إبراهيم بن محمد، وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، الأسلمي ويكنى أبا إسحاق، مولى لأسلم؛ توفي بالمدينة سنة 184 هـ

10 - إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق، المدني ت 183 هـ. 11 - ابن أبي فُدَيْك (مصغراً) وهو محمد بن إسماعيل بن مسلم، واسمه دينار الديلي، مولاهم، وكنيته أبو إسماعيل، المدني ت 200 هـ شيوخه في اليمن: 12 - أبو أيوب، مطرِّف بن مازن، الكناني، مولاهم، قاضي صنعاء. ت 191 هـ 13 - هشام بن يوسف، الصنعاني، أبو عبد الرحمن، قاضي صنعاء. ت 197 هـ 14 - عمرو بن أبي سلمة، التنِّيسي، أبو حفص الدمشقي، مولى بني هاشم، روى عن الأوزاعي. ت 214 هـ 15 - يحيى بن حسان بن حيان التِّنيسي البكري، أبو زكريا البصري. ت 208 هـ شيوخه في العراق: 16 - وكيع بن الجراح بن مليح، الرُّؤَاسي، أبو سفيان، الكوفي، الحافظ. ت 197 هـ 17 - أبو أسامة الكوفي، وهو حماد بن أسامة بن زيد القرشي، مولاهم، أبو أسامة الكوفي. ت 201 هـ 18 - محمد بن الحسن. ت 189 هـ 19 - إسماعيل بن عُليّة البصري، وهو إسماعيل بن إبراهيم، بن سهم، بن مِقْسَم الأسدي، أسد خزيمة، مولاهم، الإمام، أبو بشر، البصري، أصله كوفي، وعُلية أمه، وكان يكره أن ينسب إليها. ت 193 هـ ويلتبس بابن عُلية الآخر (ابنه) إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم، وكنيته: أبو إسحاق، فالأب ثقة إمام، قالوا فيه: " ريحانة الفقهاء " والآخر جهمي " مذاهبه عند أهل السنة مهجورة ". ت 218 هـ 20 - عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن عُبيد الله بن الحكم بن أبي العاص، الثقفي، أبو محمد، البصري. ت 194 هـ

المبحث الثاني: حملة الفقه عن الإمام الشافعي

المبحث الثاني: حملة الفقه عن الإمام الشافعي (¬1) لقد حظي بالجلوس إلى الشافعي والأخذ عنه خلائق لا يحصون عدّاً، ولكن اشتهر بالنقل عنه، وحَمْلِ علمه عشرةٌ: أربعة منهم نقلوا المذهب القديم الذي أملاه بالعراق، وهؤلاء هم: 1 - الزعفراني، أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح البغدادي الزعفراني، سُمع يقول: إني لأقرأ كتب الشافعي وتقرأ عليَّ منذ خمسين سنة. ت 260 هـ 2 - أحمد بن حنبل، أعرف من أن يعرّف، ولد سنة 164 هـ وتوفي 241 هـ 3 - أبو ثور، إبراهيم بن خالد بن اليمان، الكلبي البغدادي، تبع الشافعي، وحمل فقهه، وأقرأ كتبه، وكان له مع ذلك اجتهاداته التي استقلّ بها، حتى عُدَّ من الأئمة أصحاب المذاهب. ت 240 هـ 4 - الكرابيسي، أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي البغدادي، جمع بين الفقه والحديث، أخذ الفقه عنه خلق كثير. ت 245 هـ أما رواة المذهب الجديد، فهم ستة: 1 - البويطي، أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي المصري، نُسب إلى بويط من صعيد مصر، وهو أكبر أصحاب الشافعي المصريين، وله المختصر المشهور الذي اختصره من كلام الشافعي رضي الله عنه، ولما اختصره قرأه على الشافعي بحضرة الربيع، فلهذا يُروى عن الربيع أيضاً، وكان الشافعي يعتمد البويطي في الفتيا، واستخلفه على أصحابه بعد موته. وكانت وفاته ببغداد سنة 232 هـ ¬

_ (¬1) انظر الشكل الثاني الذي يبين سلسلة التفقه عن الشافعي.

الشكل الثاني: يبين سلسلة التفقه عن الشافعي إلى ما قبل ظهور طريقتي الخراسانيين والعراقيين من الطبقة الأولى: (الذين جالسوا الشافعي وسمعوا عنه) اشتهر بالنقل عنه عشرة من كبار الصحابة: أ- رواة المذهب القديم 1 - الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني* (ت 260 هـ) 2 - ابن حنبل* (ت 241 هـ) 3 - أبو ثور* (ت 240 هـ) 4 - أبو علي الكرايسي* (سنة 245 هـ) ب- رواة المذهب الجديد 1 - البويطي* (ت 231 هـ) 2 - حرملة * (ت 243) 3 - الربيع الجيزي* (ت 256 هـ) 4 - المزني * (سنة 264 هـ) 5 - الربيع* (ت 270 هـ) 6 - يونس بن عبد الأعلى* (سنة 264 هـ) من الطبقة الثانية: 1 - إبراهيم* البلدي (نحو 299 هـ) 2 - أحمد * بن بنت الشافعي (ت 295 هـ) 3 - أحمد بن سيار (ت 268 هـ) 4 - الأنماطي* (ت 288 هـ) 5 - داود بن علي * (ت 290 هـ) 6 - عبدان (ت 293 هـ) 7 - محمد بن نصر المروزي* (ت 294 هـ) من الطبقة الثالثة: 1 - أبو أحمد الجرجاني (ت 365 هـ) 2 - أبو إسحاق المروزي * تفقه بابن سريج (ت 340 هـ) 3 - الاصطخري* فقيه العر اق (ت 328 هـ) 4 - أبو بكر الإسماعيلي * (ت 371 هـ) 5 - أبو بكر الصبغي (ت 342 هـ) 6 - أبو بكر الصيرفي* تفقه بابن سريج (ت 330 هـ) 7 - أبو بكر الفارسي * تفقه بابن سريج وقيل باصحاب الشافعي (ت 305 وقيل 350 هـ) 8 - أبو بكر المحمودي * المروزي (ت بعد 300 هـ) 9 - أبو بكر النيسابوري ابن خزيمة (ت 311 هـ) 10 - ابن الحداد * تفقه بابي إسحاق (ت 345 هـ) 11 - ابن حَزبويه* البغدادي (ت 319 هـ) 12 - أبو الحسن الجوري (ت بعد 300 هـ) 13 - أبو حفص ابن الوكيل البابشامي (ت بعد 300 هـ) 14 - الخِضري * شيخ القفال (نحو 373 هـ) 15 - ابن خيران * تفقه بالأنماطي (ت 320 هـ) 16 - زاهر السرخسي* تفقه بأبي إسحاق (ت 389 هـ) 17 - الزبيري * أبو عبد الله صاحب الكافي (ت 317 هـ) 18 - أبو زرعة الدمشقي الثقفي (ت 302 هـ) 19 - أبو زيد المروزي* شيخ القفال (ت 371 هـ) 20 - ابن سريج* تفقه بالأنماطي (ت 306 هـ) 21 - سهل الصعلوكي* (ت 404) 22 - الشيخ أبو حامد الاصفراييني (ت 406) 23 - القاضي أبو حامد المرورّوذي * (ت 362) 24 - صاحب التقريب: القاسم بن محمد الشاشي* (ت نحو 339 هـ) 25 - صاحب التلخيص: ابن القاص * تفقه بابن سريج (ت 335 هـ) 26 - أبو الطيب بن سلمة* (ت 308 هـ) 27 - أبو علي الطبري* تفقه بابن أبي هريرة (ت 350 هـ) 28 - أبو علي بن أبي هريرة* تفقه بابن سريج وأبي إسحاق (ت 345 هـ) 29 - أبو عوانة (ت 336 هـ) 30 - أبو القاسم الصيمري تخرج به الماوردي (ت 386 هـ) 31 - القفال الكبير* (ت 365 هـ) 32 - الماسَرجسي* أبو الحسن (ت 384 هـ) 33 - ابن المنذر (ت 319 هـ) 34 - أبو يحى البلخي * (ت 330 هـ) ¬

_ * نجمة يعني أنه مذكور في (نهاية المطلب)

2 - حَرْملة بن يحيى بن عبد الله بن حَرْملة بن عمران بن قُراد، التُّجِيبي: نسبة إلى قبيلة تُجِيب: بضم المثناة الفوقية وكسر الجيم وسكون الياء. وقولهم: قال حرملة، معناه قال الشافعي في الكتاب الذي نقله عنه حرملة، فسُمّي الكتاب باسم راويه مجازاً. روي عن الخطابي أنه قال: إن أصحاب الشافعي المتقدمين يعتمدون روايات المزني، والربيع المرادي عن الشافعي ما لا يعتمدون حرملة والربيع الجيزي، ت 243 هـ 3 - الربيع الجيزي، أبو محمد، الربيع بن سليمان بن داود، الأزدي، مولاهم، المصري، الأعرج، وقيل: ابن الأعرج، والجيزي نسبة إلى الجيزة تقع قبالة القاهرة على الجانب الغربي من النيل، كان فقيها صالحاً، وعلى طول صحبته للشافعي كان قليل الرواية عنه، وإنما روى عن عبد الله بن عبد الحكم كثيراً، وعن ابن وهب. ت 256 هـ 4 - المزني، أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق، المزني، المصري، الإمام الجليل ناصر المذهب، كان معظماً بين أصحاب الشافعي، وكان جبلَ علمٍ، مناظراً محجاجاً، زاهداً مجتهداً، صنف كتباً كثيرةً: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمختصر، والمنثور، والمسائل المعتبرة، والترغيب في العلم، وكتاب الوثائق، وكتاب العقارب، وكتاب نهاية الاختصار، وهو إمام الشافعيين، وأعرفهم بطرقه وفتاويه، وما ينقله عنه. ومختصره أصل الكتب المصنفة في مذهب الشافعي، وعلى مثاله رتبوا، ولكلامه فسروا وشرحوا، وأخذ عنه خلائق من علماء خراسان والعراق والشام، توفي بمصر سنة 264 هـ 5 - يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان، أبو موسى، الصَّدَفي، المصري، الفقيه المقرىء، قرأ القرآن على ورش وغيره، وأقرأ الناس، روى عنه مسلم والنسائي وأبو عوانة، والنيسابوري، صاحب الشافعي، وأحد رواة مذهبه الجديد، وانتهت إليه رياسة العلم بمصر، وهو من المكثرين في الرواية عن

بقية ممن جالسوا الشافعي

الشافعي والملازمين له، كان كثير الورع، متين الدين، توقي بمصر سنة 264 هـ ودفن في مقابر الصدقة. 6 - الربيع المرادي، أبو محمد، الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل، المرادى، مولاهم، المؤذن، المصري، راوي اكثر كتب الشافعي، وقال الشافعي في حقه: " الربيع راويتي " وقال: "ما أخذ مني أحد ما أخذ الربيع" وهو أثبت أصحاب الشافعي في الرواية عنه؛ حتى لو تعارض هو وأبو إبراهيم المزني، لقدم الأصحاب روايته، مع علو قدر أبي إبراهيم علماً وديناً، وجلالة، وموافقة ما رواه للقواعد، وكانت الرحلة في كتب الشافعي إليه من الآفاق، وكانت وفاته بمصر سنة 270 هـ بقية ممن جالسوا الشافعي: وممن جالسوا الشافعي وأخذوا عنه -غير هؤلاء العشرة الأشهر ذكراً وأثراً- ترجم السبكي وغيره لعشراتٍ منهم، نذكر بعضهم؛ تبعاً لشهرتهم، ولدوران ذكرهم في الكتب، فمن هؤلاء: 1 - ابن مهدي، عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، أبو سعيد، الأزدي، مولاهم، البصري، اللؤلؤي، إمام أهل الحديث في عصره، وهو الذي سأل الشافعي أن يضع له بعض ضوابط في الاستنباط للأحكام، فألف الشافعي الرسالة، وحملها إليه الحارث بن سريج، النقال. ت بالبصرة 198 هـ 2 - الأصمعي عبد الملك بن قُرَيب بن عبد الملك بن علي بن أصمع، إمام اللغة والأدب والأخبار، ت 216 هـ 3 - الحُمَيْدي، أبو بكر، عبد الله بن الزبير بن عيسى، القرشي، الأسدي، المكي، أبو بكر الحميدي نسبة إلى حُمَيد بن زهير بن الحارث بن أسد، محدّث مكة ومفتيها، قال الحاكم: هو لأهل الحجاز في السنة كأحمد بن حنبل لأهل العراق. ت 219 هـ

انتشار المذهب وشيوعه في الآفاق

4 - أبو عُبيد، القاسم بن سلاّم، الإمام الجليل، الأديب الفقيه المحدث، صاحب التصانيف الكثيرة، صاحب كتاب الأموال، وغريب الحديث، تفقه على الشافعي، وناظره في معنى (القُرء) هل هو الطهر أو الحيض، إلى أن رجع كل منهما إلى ما قاله صاحبه، وهي مناظرة مشهورة تروى في كتب الفقه. ت 224 هـ 5 - ابن مِقلاص، الإمام، أبو على عبد العزيز بن عمران بن أيوب بن مقلاص، الخزاعي، مولاهم، المصري الفقيه، كان فقيها زاهداً. ت 234 هـ 6 - قَحْزَم بنُ عبد الله بن قَحْزَم، أبو حنيفة، الأسواني، آخر من صحب الشافعي موتاً، قال ابن عبد البر: روى عنه كثيراً من كتبه، وكان مفتياً، وأصله من قبط مصر، قالوا: ما أخمل ذكرَه إلا إقامتُه بأسوان، بأقصى صعيد مصر. ت 271 هـ 7 - أخت المزني، كانت تحضر مجلس الشافعي، نقل عنها الرافعي في زكاة المعدن، فإنه صح أن الحول فيه لا يشترط، ثم قال: وفيه قول: "أنه يشترط، نقله البويطي"، إنما رواه المزني في المختصر عمن يثق به عن الشافعي، واختاره، وذكر بعض الشارحين أن أخته روت له ذلك، فلم يحب تسميتها. ... انتشار المذهب وشيوعه في الآفاق ثم توالى حملة الفقه طبقة بعد طبقة، كل طبقة عن سابقتها، ولم يكونوا سواء في حَمْل المذهب ونشره، فمنهم المقلّ في التأليف ومنهم المكثر، ومنهم النَّظََّار الذي يُعنى بعلم الخلاف، ومنهم الذي يهتم بالتدريس والتعليم، ومنهم من برع في الأصول والتخريج على نصوص الشافعي، وهم أصحاب الوجوه في المذهب، بل منهم من وصل إلى درجة الاجتهاد المطلق، وقد عُني كثير من الأئمة بالترجمة لعلماء المذهب، والتعريف بهم، فيما عرف بكتب (الطبقات)، وتنوعت طرقهم في التقسيم على الطبقات، ومفهوم الطبقة، كما تنوعت في البسط والإيجاز، وسنشير إلى طرفٍ من ذلك فيما يأتي.

حول طبقات علماء المذهب

حول طبقات علماء المذهب: ترجم مؤلفو كتب الطبقات لعلماء المذهب وأعلامه، وهم يقسمونهم ويرتبونهم على طبقات زمنية، فمنهم من جعل أهل كل مائة سنة طبقة، كالسبكي، ومنهم من جعل كل عشرين سنة طبقة، كابن قاضي شُهبة، ومنهم من جعل كل خمسين سنة طبقة، كابن كثير، ثم عاد فقسم كل طبقة خمس مراتب، كل مرتبة عشر سنين، فيما عدا الطبقة الثالثة فقد جعلها مرتبتين، وكلَّ مرتبة خمساً وعشرين سنة، وكذلك الطبقة الرابعة جعلها مرتبتين، لكن جعل الأولى عشرين سنة، والثانية ثلاثين سنة. وجعل كل خمسين طبقة ابن هداية الله الحسيني (ت 1014 هـ). المهم أن الترتيب على السنين هو السائد والملتزم لدى الجميع عادةً، لكن هناك من رتب على الألفبائية مثل ابن الصلاح، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات (إذا عُدّ من كتب الطبقات). لكن ابن الملقن في طبقاته (العِقد المُذْهَب في طبقات حملة المذهب) انفرد بأمرٍ لم أره عند غيره من أصحاب كتب الطبقات، فقد قسم كلَّ حملة المذهب بدءاً من تلاميذ الإمام الشافعي إلى المعاصرين له -أي لابن الملقن- إلى طبقتين فقط، بمفهومٍ آخر ومعيارٍ آخر غير المعيار الزمني؛ ذلك أنه عَنَى بالطبقة هنا المنزلة والمكانة، والأثرَ في المذهب، فالطبقة الأولى عنده ومثلها الثانية كل منهما تبدأ بتلاميذ الشافعي والآخذين عنه، وصولاً إلى أوائل القرن الثامن، حيث انتهى بطبقاته، قبل أن يُلحقهما بمَنْ عاصَرهم من العلماء، وسماهم الطبقة الثالثة. فالفرق إذاً بين الطبقتين ليس السبق الزمني، وإنما هو المنزلة والمكانة. وقد سمى الطبقة الأولى "طبقة أصحاب الوجوه ومن داناهم، وعددهم يُنيف على الخمسمائة". وقال عن الطبقة الثانية: " نذكر فيها جماعات دون أصحاب الوجوه ومن داناهم، وعددهم يُنيف على سبعمائة ". ثم قسم الطبقة الأولى إلى أربع وثلاثين طبقة، يرتب كلاً منها على حروف

المعجم، وأما الطبقة الثانية فقد قسمها إلى ست وثلاثين طبقة كذلك. ويؤكد أنه عَنَى بالطبقة المكانة والمنزلة قولُه عن الطبقة الثانية (دون أصحاب الوجوه ومن داناهم) وقولُه في أول الذيل الذي صنعه لطبقاته: "رتبتُه على حروف المعجم، لا على السِّير". وصنيعُ ابن الملقن هذا في حاجة إلى دراسةٍ لمعرفة المعايير التي قدّم بها من قدم وأخَّر بها من أخَّر، ولنرى هل التزم المعيار الزمني داخل الطبقات الفرعية، أم راعى المنزلة والمكانة، ولنُحصي من قدَّمهم، وندرس أحوالهم، ولماذا قدمهم. نقول ذلك لما هو معروف من منزلة ابن الملقن ومكانته، فنظره في رجال المذهب وتصنيفه لهم يستحق كل اهتمام ودراسة، فعسى أن يَنْهَد أحدٌ من شباب الباحثين لهذا الأمر، كما يجعل من غرضه إعادة إخراج طبقات ابن الملقن، فقد خرجت في طبعة لا خير فيها، كثيرة التصحيف والتحريف والتشويش، تمثل أبشع صورة للعبث بالتراث. هذا، وقد رأينا العلاّمة أحمد بك الحسيني في الجزء الأول من مقدمته الضافية لكتابه (مرشد الأنام لبّر أم الإمام) (¬1) يستخدم عبارة ابن الملقن، فعند ذكره " من انتسب إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه من حين تدوين مذهبه إلى وقتنا هذا " قال: "ولنتكلم عليهم في فصول: (الفصل الأول: في سرد أسماء أصحابه الآخذين عنه ومَنْ بعدهم من أصحاب الوجوه ومن داناهم) ولكنه اختلف عن ابن الملقن في أمور: 1 - قسمهم إلى طبقات متبعاً تقسيم السبكي على المئات: كل مائة طبقة. 2 - انتهى بهم إلى آخر الطبقة التاسعة (الذين توفوا فيما بين التسعمائة والألف)، ولم يذكر ممن توفي أوائل القرن الحادي عشر إلا الشمس الرملي، وعبد العزيز ¬

_ (¬1) تقع هذه المقدمة في جزأين كبيرين، كل جزء يزيد على ثمانمائة صفحة بخط اليد، فأما الكتاب فيقع في أربعة وعشرين مجلداً في شرح ربع العبادات فقط، من كتاب الأم، كما هو واضح من اسمه، ولا يزال مخطوطاً أيضاً.

الزمزمي، وقال: " هؤلاء هم أصحاب الوجوه، وأصحاب المصنفات المعتبرة في المذهب ". 3 - أنه لم يجعل مَنْ دونهم طبقةً خاصة، بل سردهم في الفصل الثاني ضمن ذكره للمنتسبين للشافعي جميعاً. 4 - أنه لم يجعل أحداً ممن سمع الشافعي وجالسه، وكذا كل من تُوفي قبل الثلثمائة، لم يجعل أحداً من هؤلاء دون أصحاب الوجوه ومن داناهم. 5 - أنه نص على أصحاب الوجوه بأعيانهم، وميزهم عمن (داناهم) وهو يسردهم معاً. 6 - وقف بأصحاب الوجوه عند سنة 740 هـ وهي السنة التي توفي فيها آخر أصحاب الوجوه أبو خلف الطبري. ... هذا وقد تصفحنا عدداً من كتب الطبقات: 1 - طبقات العبادي المتوفى 458 هـ 2 - طبقات الشيرازي المتوفى 476 هـ 3 - طبقات ابن الصلاح ت 643 هـ 4 - طبقات السبكي المتوفى 771 هـ 5 - طبقات الإسنوي المتوفى سنة 772 هـ 6 - طبقات ابن كثير (¬1) 776 هـ 7 - طبقات ابن قاضي شهبة 851 هـ 8 - طبقات ابن هداية الله ت 1014 هـ فلم نجد أحداً من هؤلاء يُعنَى بتمييز أصحاب الوجوه، وإثبات هذه الصفة لهم عناية النووي، ويبدو أن الاتفاق على حصر أصحاب الوجوه غير ممكن؛ فهذا يقتضي ¬

_ (¬1) نص ابن كثير -فيما رأينا- على بعض أصحاب الوجوه، وكذلك صنع ابن قاضي شهبة.

من أصحاب الوجوه

نَخْل فقه كل واحد من هؤلاء، ومعرفة ما خرّجه من وجوه لم يُسبق بها. ومع ذلك هناك اتفاق على عددٍ ليس بالقليل بأنهم من أصحاب الوجوه. الإمام النووي هو الأكثر عناية بهذا الشأن والذي تأكد لي بعد طول البحث والتقصي في المؤلفات التي تؤرخ للمذهب ورجاله، أن النووي كان أكثر عناية والتفاتاً إلى تمييز أصحاب الوجوه عن غيرهم، والنصِّ عليهم في كتابه (تهذيب الأسماء واللغات). والنووي هو أهل هذا الشأن؛ فجهده وجهاده في الفقه -مع الرافعي- هو تحرير المذهب، أي تنقيحه، وتحديد ما يصح أن ينسب إلى الشافعي، ويسمى مذهباً له، وتمييزه عن غيره من تخريجات، واجتهادات لمجتهدي المذهب على طول القرون التي سبقت عصره. (وسيأتي مزيد إيضاح لهذه القضية). ولذا كان حاضراً في ذهنه، ماثلاً أمام عينه منزلة أعلام المذهب وأئمته في هذا الشأن، فحيثما ذكر واحداً منهم ميزه من هذه الجهة، وقال: " من أصحاب الوجوه ". وهذا يؤكد ما قلناه من قبل: إن الإحاطة بجميع أصحاب الوجوه غير ميسورة، فالنووي لم يترجم في تهذيبه لجميع رجال المذهب، فهناك كثير من أصحاب الوجوه غير المذكورين في (تهذيب الأسماء واللغات). وسنعرّف ببعض أصحاب الوجوه فيما يأتي: من أصحاب الوجوه سنعرّف في الصفحات الآتية بالمشهورين من أصحاب الوجوه ممن نصَّ عليهم النووي في تهذيبه، وابن كثير، وابن قاضي شهبة في طبقاتهما، وكذلك أحمد بك الحسيني، وابن سُميط العلوي، وسنقتصر على من له ذكر في كتابنا هذا (نهاية المطلب)، وسنرتبهم على تاريخ الوفاة الأسبق فالأسبق، فمنهم:

(من الطبقة الثانية) 1 - أحمد بن سيار بن أيوب، أبو الحسن المروزي السياري. سمع عَبْدَان بن عثمان، وعفان بن مسلم، وسليمان بن حرب، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، وروى عنه النسائي، وابن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي. ت 240 هـ. 2 - محمد بن نصر المروزي إمام أهل الحديث في عصره، كان أعلم الناس باختلاف الصحابة، ولد ونشأ بنيسابور. سمع من هشام بن عمار، وهشام بن خالد، والربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى، وتفقه على أصحاب الشافعي. وروى عنه أبو العباس السراج، ومحمد بن المنذر ت 294 هـ 3 - أبو جعفر الترمذي، محمد بن أحمد بن نصر شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن سريج، ت 295 أربع وتسعين سنة. (من الطبقة الثالثة) 4 - أبو الطيب بن سلمة، محمد بن الفضل بن سلمة بن عاصم البغدادي، واشتهر بأبي الطيب بن سلمة نسبةً إلى جده. قال الخطيب البغدادي: يقال: إنه تفقه على ابن سريج. ت 308 هـ. 5 - أبو عبد الله الزبيري. ويعرف بصاحب الكافي، وهو الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام، الأسدي. ت 317 هـ 6 - ابن حَرْبَوَيْه، القاضي، أبو عُبيد، علي بن الحسين بن حرب بن عيسى البغدادي، قاضي مصر. حمل العلم عن أبي ثور، وداود الظاهري. توفي ببغداد سنة 319 هـ 7 - أبو حفص بن الوكيل، البابشامي، عمر بن عبد الله بن موسى.

فقيه جليل، من نظراء ابن سريج، وأصحاب الأنماطي، وتفقه عليه، وهو من كبار المحدثين، وكانت وفاته ببغداد سنة 320 هـ 8 - ابن خيران: أبو علي الحسين بن صالح، أحد أركان المذهب ببغداد، تفقه بالأنماطي، ت 320 هـ 9 - أبو بكر النيسابوري، عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون، مولى آل عثمان رضي الله عنه. سمع يونس بن عبد الأعلى، والربيع، والمزني، وأبا زُرعة، وروى عنه الدارقُطني وجماعة كان من أحفظ الناس للفقهيات واختلاف الصحابة. ت 324 هـ 10 - أبو سعيد، الإصطخري، الإمام الجليل، حسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن الفضل بن بشار بن عبد الحميد، قاضي (قم). كان هو وابن سريج شيخي الشافعية ببغداد. ت 328 هـ 11 - أبو يحيى البلخي، زكريا بن أحمد بن المحدث يحيى بن موسى ختّ، القاضي الكبير، من كبار أئمة الشافعية. ت 330 هـ 12 - أبو بكر الصيرفي، محمد بن عبد الله البغدادي. الإمام الجليل الأصولي، كان يقال: أعلم خلق الله بالأصول بعد الشافعي، تفقه على ابن سريج، وشرح رسالةَ الشافعي. ت 330 هـ 13 - ابن القاص، الشيخ، الإمام، أبو العباس، أحمد بن أبي أحمد الطبري. أخذ الفقه عن ابن سريج، صاحب المفتاح، والمواقيت، وأدب القاضي، والتلخيص، وهو أنفسها، وقد اعتنى الأصحاب بشرحه، فشرحه أبو عبد الله الختن، ثم القفال، ثم أبو علي السِّنجي، وآخرون. توفي بطرسوس سنة 332 هـ 14 - أبو إسحاق المروزي، إبراهيم بن أحمد بن إسحاق. تفقه على ابن سُريج. وإليه تنتهي طريقة العراقيين والخراسانيين، شرح مختصر المزني، وانتقل آخر عمره إلى مصر، وجلس مجلس الشافعي، فاجتمع الناس عليه، توفي بمصر، ودفن عند الشافعي سنة 340 هـ

15 - أبو بكر الصِّبغي، أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد بن عبد الرحمن بن نوح، النيسابوري. توفي 342 هـ وهو غير أبي بكر الصِّبغي النيسابوري الآخر الذي اسمه محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين المتوفى سنة 344 هـ. فهما متفقان في الكنية والنسبة واللقب، ولا يختلفان إلا في الاسم وسنة الوفاة. 16 - ابن أبي هريرة: أبو علي الحسن بن الحسين، الإمام الجليل، القاضي، أحد رفعاء المذهب، تفقه بابن سريج وأبي إسحاق المروزي، ت 345 هـ. 17 - ابن الحداد، أبو بكر، محمد بن محمد بن جعفر، الكناني، المصري الإمام الجليل، صاحب (الفروع) وهو من نظار الأصحاب وكبارهم، وله كتاب (الباهر)، و (أدب القضاء) و (جامع الفقه) وقد عني بكتابه الفروع عظماء الأصحاب، فشرحه القفال، وأبو علي السنجي، والقاضي، وغيرهم. ت 345 هـ 18 - أبو علي الطبري، صاحب الإفصاح، الحسين بن قاسم، له الوجوه المشهورة في المذهب، والإفصاح شرحٌ على المختصر، تفقه على أبي علي ابن أبي هريرة، سكن بغداد، وتوفي بها سنة 350 هـ. 19 - أبو بكر الفارسي، أحمد بن الحسن (¬1) بن سهل، من أئمة الأصحاب ومتقدميهم، صاحب (عيون المسائل)؛ من تلاميذ ابن سريج، وفي تاريخ وفاته اختلاف واضطراب، قيل: ت سنة 305، وقيل: سنة 350 وهو ما ذكره النووي في تهذيبه، وهو الأرجح، فقد صح أنه كان موجوداً في ذي الحجة من سنة 339 هـ، ذكر ذلك السبكي في ترجمته، واستدلّ عليه بما فيه مقنع. 20 - أبو بكر المحمودي، محمد بن محمود المروزي، المعروف بالمحمودي، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وأخذ عن عَبْدان تلميذ المزني والربيع. توفي بعد 300 هـ ¬

_ (¬1) كذا في طبقات السبكي، وعند العبادي، وكذلك النووي: " أحمد بن الحسين " (ر. طبقات السبكي: 2/ 184، وطبقات العبادي: 45، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 195).

21 - ابن القطان، أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي، آخر أصحاب ابن سريج وفاة، أخذ عنه علماء بغداد. ت 359 هـ 22 - الإمام، سهل الصعلوكي، هو محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان، العِجلي، الأصبهاني، ثم النيسابوري. تفقه على أبي إسحاق المروزي. ت 369 هـ 23 - أبو زيد المروزي، محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد، الفاشاني، من قرية فاشان، إحدى قرى مرو (بفاء مفتوحة ثم ألف ثم شين معجمة ثم ألف ثم نون) من أصحابنا الخراسانيين، من أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظراً، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وروى عنه الحاكم والدارقطني. ت 371 هـ 24 - أبو أحمد الجرجاني، محمد بن إبراهيم بن الصباغ، صاحب أبي إسحاق الشيرازي، تفقه على أبي إسحاق المروزي. ت 373 هـ 25 - الماسَرْجِسي، أبو الحسين، محمد بن علي بن سهل، النيسابوري، شيخ القاضي أبي الطيب، أخذ عن أبي إسحاق المروزي، وصحبه إلى مصر، ولازمه إلى أن توفي، فانصرف إلى بغداد، ثم إلى خراسان ومات بها. ت 384 هـ 26 - أبو بكر الأُودني، محمد بن عبد الله بن محمد بن نصير بن ورقة، البخاري، روى عنه الحاكم وغيره، كان إمام الشافعيين بما وراء النهر، توفي ببخارى سنة 385 هـ 27 - أبو القاسم الصيمري، عبد الواحد بن الحسين بن محمد، القاضي، نزيل البصرة، ارتحل إليه الناس من البلاد، وهو ممن تفقه عليه الماوردي، وصنف كتباً كثيرةً، منها الإيضاح. ت 386 هـ 28 - زاهر السرخسي، أبو علي، زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى، منسوب إلى سَرَخْس من نواحي خُراسان. تفقه على أبي إسحاق المروزي 389 هـ 29 - الخِضري، أبو عبد الله محمد بن أحمد المروزي، إمام مرو، ومقدم الشافعية، أحد شيوخ القفال. ت في عشر الثمانين والثلاثمائة. (نحو 373 هـ)

30 - أبو الحسن الجوري (¬1)، القاضي، علي بن الحسين. منسوب إلى (الجور) بضم الجيم من بلاد فارس، لقي أبا بكر النيسابوري، وحدث عنه وعن جماعة، ومن تصانيفه كتاب المرشد، في شرح مختصر المزني. ت بعد 300 هـ (من الطبقة الرابعة) 31 - الحَليمي، أبو عبد الله، الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الجرجاني. أحد أئمة الدهر وشيخ الشافعيين بما وراء النهر، روى عنه الحاكم وغيره. ت 403 هـ 32 - أبو علي السِّنجي، الحسين بن شعيب بن محمد المروزي، والسِّنجي نسبة إلى (سِنج) قرية من قرى مرو. إمامُ زمانه في الفقه، تفقه على الإمامين شيخي الطريقتين: أبي حامد الإسفراييني شيخ العراقيين، وأبي بكر القفال المروزي، شيخ الخراسانيين، وجمع بين طريقتيهما، وشرح المختصر شرحاً مطولاً، وشرح أيضاً تلخيص ابن القاص، وفروع ابن الحداد، وهو والقاضي حسين أنجب تلامذة القفال. ت 430 هـ 33 - الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، إمام في الكلام والأصول والفقه وغيرها، أقام بالعراق مدةً، ثم رجع إلى وطنه إسفراين، فطلب منه أهل نيسابور الانتقال إليهم، فأجابهم، وبنَوْا له مدرسة عظيمة، فلزمها إلى أن توفي بها. ت 418 هـ 34 - أبو عاصم العبادي، القاضي، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد، الهروي، صاحب المؤلفات المتعددة. ت 458 هـ 35 - القاضي حُسين، الإمام، المحقق، أبو علي، حسين بن محمد بن أحمد، المرورّوذي. أحد رفعاء المذهب، ومن له الصِّيت في الآفاق، وهو من أجلّ أصحاب القفال المروزي، تخرج عليه كثير من الأئمة، له شرح على فروع ابن الحداد. ومتى ¬

_ (¬1) وهو الوحيد الذي وجدنا العبادي في طبقاته ينص على أنه من أصحاب الوجوه (ر. طبقات العبادي: 85).

تحديد أصحاب الوجوه

أُطلق (القاضي) في كتب متأخري الخراسانيين، كالنهاية، والتتمة، والتهذيب، وكتب الغزالي، ونحوها، فإياه يعنون. ت 462 هـ ونكتفي بهؤلاء، وقد عُنينا بهم، لأن أسماءهم وردت موجزة في الأشكال البيانية الملحقة بهذا المبحث (شكل رقم 2، 3، 4) فأردنا أن نعرف بهم بعض التعريف. تحديد أصحاب الوجوه: أشرنا من قبل إلى أن الاتفاق على أصحاب الوجوه ليس ميسوراً، وقد صدّق قولَنا هذا العلامة بن سُمَيط العلوي الحضرمي (1277 هـ-1343 هـ)، فقد عدّدَ من أصحاب الوجوه قوماً، اتفق مع أحمد بك الحسيني في بعضهم، وزاد عنه بعضاً آخر، لم يعدّه الحسيني منهم. فمن هؤلاء الذين زادهم ابنُ سُميط: 1 - أبو علي بن خَيْران. 2 - أبو علي بن أبي هريرة. 3 - ابن الحداد. 4 - القفال الشاشي. 5 - أبو عبد الرحمن القزاز. فهؤلاء لم يعدَهم الحسيني من أصحاب الوجوه، لا سهواً، ولا اختصاراًَ، بل ترجم لهم، ولم يقل: (من أصحاب الوجوه) كما قال في الذين عدّدهم. بل إن عبارة ابن سُميط توحي بأنه يرى أن أصحاب الوجوه موجودون في الطبقات بعد الرابعة، حيث يقول: "ثم جاء بعدهم بقية أصحاب الوجوه طبقة بعد طبقة" (¬1). وقد خالفه في ذلك السيد علوي بن أحمد السقاف المتوفى 1335 هـ وهو -أيضاً- من محققي المتأخرين، حيث ينقل عن ابن حجر الهيتمي المتوفَّى سنة 974 هـ ما لفظه: " وفي الاصطلاح المرادُ بالأصحاب المتقدمون، وهم أصحاب الأوجه غالباً، وضُبطوا بالزمن، وهم من الأربعمائة " (¬2). فأنت تراه متفقاً في ذلك مع أحمد بك الحسيني، وهذا هو المقبول والراجح، وإن كنا لا نمنع أن يوجد آحاد بعد ذلك لهم القدرة على التخريج. ¬

_ (¬1) ر. الابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج: 7، 8. (¬2) ر. الفوائد المكية: 46.

من غير أصحاب الوجوه، أعمدة وأركان للمذهب

من غير أصحاب الوجوه، أعمدة وأركان للمذهب: ولم يكن أصحاب الوجوه وحدهم أصحاب الأثر في نشر المذهب وشيوعه، فإذا كان أصحاب الوجوه هؤلاء قد أفادوا المذهب بتفريعهم وتَخريجهم على نصوص الشافعي -على ما سنشرح معنى الوجهين بعدُ- فإن هناك من الأصحاب من أوتي القبول في التدريس، والقدرة على المباحثة، فكثر تلاميذُه، وحملوا المذهب، وانساحوا به في الأرض. ومنهم من وهب القدرة على التصنيف والإملاء، فحملت كتبه إلى الآفاق، وحَفِظَتْ مادةَ الفقه، ويسَّرت التفقه على المذهب. ومن الأصحاب من مُنح القدرة على المناظرة، ونصرة المذهب أمام المخالفين، ومنهم من جمع الله له كلَّ ذلك، ولا حرج على فضل الله. ونذكر بعض المشهورين من هؤلاء، سرداً بدون ترجمة؛ طلباً للإيجاز، فمنهم: 1 - داود الظاهري، أبو سليمان داود بن علي بن خلف، كان من أجل أنصار الشافعي قبل أن يستقل بمذهب الظاهر. ت 270 هـ 2 - الأنماطي، أبو القاسم، عثمان بن سعيد بن بشار توفي 288 هـ 3 - عَبْدان بن محمد بن عيسى، الإمام، أبو محمد، المروزي ت 293 هـ 4 - ابن بنت الشافعي، أحمد بن عبد الله بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع ت 295 هـ 5 - إبراهيم بن محمد البلدي ت (نحو 299 هـ). من الطبقة الثالثة 6 - أبو زُرعة الدمشقي، القاضي، محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة، الثقفي، مولاهم، الدمشقي. ت 302 هـ

7 - ابن سُرَيْج (¬1)، أبو العباس، أحمد بن عمر البغدادي ت 306 هـ 8 - أبو عَوانة، الإسفراييني، الحافظ، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، بن زيد النيسابوري ت 316 هـ 9 - أبو الوليد النيسابوري، حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القرشي، الأموي ت 349 هـ 10 - القاضي أبو حامد المرورّوذي، أحمد بن بشر بن عامر العامري. ت 362 هـ 11 - القفال الكبير، الشاشي، أبو بكر، محمد بن علي بن إسماعيل. ت 365 هـ 12 - أبو بكر الإسماعيلي، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس، الإسماعيلي. ت 371 هـ 13 - صاحب التقريب، الإمام أبو الحسن القاسم، ابن القفال الشاشي الكبير، القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل. ت نحو 399 هـ من الطبقة الرابعة 14 - أبو الحسن المحاملي، أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي، المعروف بابن المحاملي. ت 415 هـ 15 - القفال الصغير، المروزي، أبو بكر، عبد الله بن أحمد بن عبد الله. ت 417 هـ 16 - الصيدلاني، أبو بكر، محمد بن داود بن محمد الدّاودي. ت 427 هـ 17 - الجويني، أبو محمد، والد إمام الحرمين، عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حَيُّوية. ت 438 هـ 18 - القاضي أبو الطيب الطبري، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر. ت 450 هـ ... ¬

_ (¬1) لم يذكر أحد من أصحاب الطبقات أنه من أصحاب الوجوه، ولكن الإمام أكثرَ من حكايات الوجوه عنه في (النهاية).

العراقيون والخراسانيون

العراقيون والخراسانيون (¬1) كما أشرنا من قبل انساح الفقه الشافعي في دار الإسلام، يحمله الأصحاب جيلاً عن جيل، حتى وصلنا إلى نهايات القرن الرابع وأوائل القرن الخامس، فظهر مصطلح: أصحابنا الخراسانيون، وأصحابنا العراقيون. ثم تبع ذلك ما سُمي طريقةَ العراقيين، وطريقة الخراسانيين. ونحب أن نؤكد هنا عدة أمور: 1 - أن هذه النسبة: عراقي أو خراساني، لا علاقة لها بالِعْرق والميلاد، وإنما تأتي هذه النسبة من الشيوخ والتلقي، وموطن المدَارَسة، والتّلْمذة، فقد يكون الصاحب خُراسانيّ الأصل والعِرْق، والمولد، ولكنه عاش في العراق، وسمع شيوخ العراق، فهو حينئذٍ عراقي، وأوضح مثالٍ على ذلك الشيخ أبو حامد الإسفراييني، شيخُ طريقة العراقيين، فهو إسفراييني المولد، بل والنشأة، فقد قدم بغداد شاباً، وتفقه على شيوخه العراقيين وتخرّج بهم، فصار بهذا عراقياً، بل هو شيخُ طريقة العراقيين. قال السبكي في ترجمته: "ولد سنة أربع وأربعين وثلثمائة، وقدم بغداد شاباً، فتفقه على الشيخين: ابن المرزبان: [علي بن أحمد، أبو الحسن، البغدادي، المتوفى 366 هـ] (¬2) والداركي (¬3)، [أبو القاسم، عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، والدارَكي نسبة إلى (دارَك) من أعمال أصبهان ت 375 هـ] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر الشكل الثالث. (¬2) ما بين المعقفين زيادة منا لتوضيح ما أورده السبكي. (¬3) طبقات السبكي: 4/ 61 - 65. (¬4) ما بين المعقفين زيادة منا لتوضيح ما أورده السبكي.

الشكل الثالث: يبين أعلام طريقتي الفقه الشافعي ثم الجمع بين الطريقتين: أ- الخراسانيون القفال الصغير المروزي، أبو بكر عبد الله بن أحمد ت 417 هـ شيخ طريقة الخراسانيين ومن أشهرهم: 1 - أبو محمد الجويني ت 438 هـ 2 - الفوراني: أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن فوران ت 461 هـ 3 - القاضي حسين: الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي المروزي ت 462هـ 4 - الشيخ أبو على السنجي: الحسين بن شعيب المروزي السنجي ت 427 هـ وقيل 430 هـ 5 - المسعودي: أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن المسعود بن أحمد المروزي، توفي سنة نيف وعنرين وأربع مئة هـ 6 - إمام الحرمين: عبد الملك بن عد الله بن يوصف الجويني ت 478 هـ ب- العراقيون الشيخ أبو حامد الاسفراييني ت 406 هـ رأس طريقة العراقيين، تبعه جماعة لا يحصون عدداً، أشهرهم: 1 - الماوردي: القاضي أبو الحسن علي بن حبيب ت 450 هـ 2 - القاضي أبو الطيِّب الطبري: طاهر بن عبد الله بن طاهر ت 450 هـ 3 - القاضي أبو علي البندنيجي: الحسن بن عبد الله ت 425 هـ 4 - المحاملي: أبو الحسن: أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم المحاملي، ت 415 هـ 5 - سيم الرازي: أبو الفتح: سليم بن أيوب الرازي ت 447 هـ 6 - أبو إسحاق الشيرازي ت 476 هـ 7 - القاضي أبو علي الفارقي: الحسن بن إبراهيم ت 528 هـ 8 - ابن أبي عصرون: أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي الموصلي ت 585 هـ من جمع بين الطريقتين: أ- هؤلاء خراسانيون جمعوا بين الطريقتين 1 - الشيخ أبو علي السنجي (ت 427 هـ) 2 - أبو عبد الله الحليمي (ت 403 هـ) 3 - المتولي صاحب التتمة (ت 448 هـ) 4 - إمام الحرمين (ت 478 هـ) 5 - الكليا الهراسي (ت 504) 6 - أبو حامد الغزالي (ت 505) ب- هؤلاء عراقيون جمعوا بين الطريقتين 1 - أبو إسحاق الشيرازي (ت 476) 2 - ابن الصباغ صاحب الشامل (ت 477) 3 - الروياني صاحب البحر (ت 502) 4 - القفال الشاشي صاحب الحلية (ت 505)

فها هو الشيخ أبو حامد يولد في إسفراين - بكسر الهمزة والياء، كما ضبطها الفيروزآبادي، وكذلك ابن خلكان، أما ياقوت في معجم البلدان، فقد ضبطها بفتح الهمزة وياءين -وهي بلدة بخراسان من نواحي نيسابور على منتصف الطريق إلى جرجان- فهو خراساني المولد والنشأة، ولكنه عراقي التفقه، فصار من (أصحابنا العراقيين). بل إن هذا ينطبق أيضاً على شيخه الدارَكي، فمع أنه دَارَكي، أصبهاني، نيسابوري، خراساني، وتفقه على الشيخ أبي إسحاق المروزي، ودرّس في نيسابور، إلا أنه انتهى بغدادياً (من أصحابنا العراقيين) وانتهى إليه الفقه في بغداد، وعنه أخذ عامة شيوخها (¬1). 2 - ومما ننبه إليه أيضاً أن الخراسانيين يسمّون أيضاً بالمراوزة، فتارة يقولون: " أصحابنا الخراسانيون "، وأخرى يقولون: " أصحابنا المراوزة "، وهما سواء على حد تعبير ابن الملقن في طبقاته، وقد علل لذلك بقوله: " لأن أكثر الخراسانيين من مرو وما والاها " (¬2) فإن أراد " بما والاها " باقي مدن خراسان: نَيْسابور، وهَراة، وبَلْخ، وما حولها، فهو صحيح إن شاء الله. أما إذا أراد بذلك أن أكثر الخراسانيين من مدينة مرو بذاتها، فهذا خلاف الواقع، فإن مرو ليست كبرى مدن خراسان، فقد حَكَوْا في سبب الجفوة التي كانت بين أبي القاسم الفوراني وإمام الحرمين= أن الفوارني جاء من مرو إلى نيسابور للعزاء في الشيخ أبي محمد والد إمام الحرمين، وكان في تقديره أن المتفقهة في نيسابور سيُجلسونه مكان أبي محمد شيخاً لفقهاء نيسابور؛ فإنهاأكبر من مرو التي كان شيخاً لها، ولكنه فوجىء بأن أهل نيسابور أجلسوا إمام الحرمين مكان أبيه؛ فأظهر أنه جاء للعزاء لاغير. وعلى عادة أئمتنا في ذلك العصر، بقي في نيسابور مدة، ليدرّس، ويناظر، ¬

_ (¬1) السبكي: 3/ 330 - 331. (¬2) ر. العقد المُذهب في طبقات حملة المذهب، لابن الملقن: 216.

وكان إمام الحرمين يغشى حلقته، ويحضر مناظراته، فلم يكن يلتفت إليه، ويحلّه بالمحل اللائق به، فمن هنا كانت هذه الجفوة التي سجلها التاريخ، ورأينا آثارها في كتابنا هذا (نهاية المطلب)، حيث لم يصرح إمام الحرمين باسمه مرة واحدة، على طول هذا الكتاب، وإنما يقول عنه حيث يضطر لذكره: " بعض المصنفين " حتى تسمية كتبه لم يصرح بها إمام الحرمين، وإنما يقول: " وفي بعض التصانيف ". ويعنينا من ذلك أن نثبت أن (مرو) لم تكن أكبر مدن خراسان، على الأقل في ذلك الوقت. فما السبب الذي من أجله ساغ إطلاق لفظ (المراوزة) على (الخراسانيين)؟ أعتقد أن السبب في ذلك هو ما وقع اتفاقاً من أن شيخ الطريقة وهو القفال كان مروزيّاً، وكان شيخه أبا زيد المروزي، وشيخ شيخه أبو إسحاق المروزي؛ فمن أجل ذلك صح وضع أحد الاسمين مكان الآخر، وأن يقال عن أي خراساني: (مروزي) وإن لم يدخل (مرو). واعتبر هذا بما لو كان شيخ الطريقة (بلخياً) أو (هروياً). 3 - والذي ننبه إليه ثالثاً أن بإطلاق لفظ (خراسانيين) في هذا المقام لا يراد به خراسان بحدودها الجغرافية -على سعتها وامتدادها- بل المراد كل الجناح الشرقي لدار الإسلام، فيشمل كلَّ ما وراء النهر إلى حدود الهند والصين. وقد نبه إلى ذلك ابنُ الملقن، فقال وهو يُعدِّد مواطن الخراسانيين: " وجماعة من أصحابنا من بلاد المشرق كأصبهان، وجُرجان، وسمرقند، ونَسف، وهراة، ومرو، وبخارى، وشيراز، والرَّي، وطوس، وهمدان، ودامغان، وساوة، وتبريز، وبيهق، ومَيْهَنة، وإستراباذ، وغير ذلك من المدن الداخلة في أقاليم ما وراء النهر، وخراسان وأذربيجان، وماريدان، وخُوارِزْم، وغَزْنة، وكرمان، إلى بلاد الهند، وجميع ما رواء النهر إلى أطراف الصين والعراقَيْن -يقصد العراق العربي والعراق العجمي- وغير ذلك " (¬1) ا. هـ ¬

_ (¬1) ر. العقد المُذْهب في طبقات حملة المذهب: 216 (بتصرف يسير).

ويبدو أن (نيسابور) كانت عاصمة خراسان، أو كالعاصمة لها، ولهذا عقد ابن الملقن موازنةً بينهما حين قال: " وكل نيسابوري خراساني، ولا عكس؛ فالخراسانيون أعم منهم، وليس الخراسانيون مع نيسابور كالعراقيين مع بغداد، فثم جمعٌ من خُراسان لم يدخلوا نيسابور بخلاف العراقيين، لاتساع بلاد خراسان، وكثرة المدن بها (¬1) ". فواضح أنه يفرق بين بغداد بالنسبة للعراقيين، ونيسابور بالنسبة للخراسانيين؛ فكل عراقي يدخل بغداد، وليس كل خراساني يدخل نيسابور؛ ويعلل ذلك باتساع بلاد خراسان، وإنما نبهنا إلى ذلك، وقلنا: إن المراد في هذا المقام ليس خراسان بحدودها الجغرافية؛ لأننا وجدنا ياقوت في معجم البلدان ينبه على أن ما وراء النهر ليس من خراسان فيقول: " ومن الناس من يُدخل أعمال خوارِزم في خراسان، ويعدّ ما وراء النهر منها، وليس الأمر كذلك " (¬2) وكأني به يردّ على هذا التوسّع الذي رآه في كتب طبقات المذهب ومصطلحاته. والله أعلم. 4 - وننبه أيضا أن لفظ أو مصطلح (العراقيين) يطلق أيضا ويراد به الأحناف، وأوضح ما يمثل ذلك الاستعمال كتاب إمامنا الشافعي بعنوان: (اختلاف العراقيَّين): يعني أبا حنيفة، وابنَ أبي ليلى، وهو ضمن كتاب الأم (الجزء السابع). وأيضاً كتاب الكوثري بعنوان: (فقه أهل العراق وحديثهم). فإذا قيل أو أطلق لفظ (العراقيون) في مقابلة الخراسانيين، فالمراد به الأصحاب من أهل العراق، وأما إذا أطلق في مقابلة مذهب الشافعي أو غيره، فالمراد به أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه. 5 - ومما يلفت النظر أن المصريين لم يكن لهم طريقة خاصة بهم، مع أن المذهب مصري: اكتمل بناؤه، وبلغ أشده بمصر، فلماذا لم نجد طريقة المصريين بجوار طريقة العراقيين والخراسانيين؟ ¬

_ (¬1) السابق نفسه. (¬2) ر. معجم البلدان: 2/ 350.

وإذا قلنا: إن العراق كانت مهوى الأفئدة، ومحط رحال العلماء، حيث بغداد عاصمة دار الإسلام، بل عاصمة الدنيا في ذيّاك الزمان، فما بال خراسان وبلاد المشرق تناصي بغداد وحدها دون مصر؟ والجواب عن ذلك سهل ميسور، يظهر لمن عنده شيء من التأمل في تاريخ أمتنا، يوضح له الحقائق الآتية: 1 - لم تكن بلاد الإسلام على النحو الذي هي عليه الآن من الحدود والسدود، والقيود، وقوانين الجنسية، بل كانت كل بلاد الإسلام داراً واحدة، ينتقل فيها المسلم كيفما شاء، ويستوطن حيثما شاء؛ فلا يصح قياس الغائب على الحاضر، ولا تتصور ما كان على ما هو كائن اليوم. ب- إن الرحلة في طلب العلم كانت ديدن علمائنا وأئمتنا، ينبغ الواحد منهم حيث نبغ، فيأخذ عن أهل بلده، وعلماء إقليمه، حتى إذا شعر أنه حاز كل ما عندهم انتقل إلى جهة أخرى، يبحث عن جديدٍ فيها، ويعرض ما عنده، ويمتحنه بالمناظرة، فيأخذ ويُعطي، ويظل هكذا يعلم ويتعلم طول حياته. وليس من الاستطراد أن أقول: إن هذا -الرحلة في طلب العلم واعتبار كل بلاد الإسلام داراً واحدة- ظل إلى عهد قريب، فقد كان الشيخ محمد الخضر حسين شيخاً للأزهر في عام 1952 م وهو تونسي الأصل، لم يقل أحدٌ يومها: كيف يتولى مشيخة الأزهر (أجنبي)؟ ومن الطريف أن وكيل الأزهر في أيامه كان الشيخ محمد نور الحسن، وهو (سوداني). تأمل. شيخ الأزهر تونسي، ووكيله سوداني، وأين علماء مصر؟ لم يقل أحد ذلك، بل لم يخطر على بال أحد أن ينظر إلى ذلك. كان الشيخ محمد الخضر حسين تونسياً، تخرج في الزيتونة، وعمل بالقضاء، ثم التدريس في الزيتونة، ثم انتقل إلى دمشق واستقر بها، ولكنه عاد فشد الرحال إلى مصر، وتقدم للامتحان بالأزهر، فحصل على شهادة العالمية، وأنشأ بمصر جميعة أهلية (جمعية الهداية) ومجلة الهداية، وخاض معارك أدبية وعلمية ضد الشيخ علي عبد الرازق وكتابه: الإسلام وأصول الحكم. وضد طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي).

وظل يصول ويجول في الساحة الفكرية والسياسية المصرية حتى توفي 1958، ودفن بناءً على وصيته في مقبرة صديقه العلامة أحمد تيمور باشا. ونذكر في هذا الباب أيضاً العلامة الشيخ محمد رشيد رضا الذي رحل من طرابلس لبنان إلى مصر، فأنشأ بها مجلة المنار، وظل علماً من أعلام الفكر، له مدرسته الخاصة التي لها أثرها للآن. توفي سنة 1935 م. ونذكر أيضاً الشيخ الدمشقي محب الدين الخطيب الذي أنشأ بمصر المطبعة السلفية ومكتبة ومجلة الفتح والزهراء، ورأس تحرير مجلة الأزهر. ت 1969 م. فهؤلاء مُثل لما كان عليه الحال في هذا التاريخ القريب. فتأمل كيف صارت أمورنا الآن! ومن يتأمل كتب التراجم والطبقات يجد في هذا الباب (الرحلة في طلب العلم) عجباً، مما يجعله جديراً بأن يكون موضوعاً لبحثٍ أو أطروحةٍ علمية، على أني أريده بحثاً إحصائياً أولاً، بمعنى تتبع الذين ارتحلوا في طلب العلم، وحصر أعدادهم، ومدة ارتحالهم، وعدد المواطن التي ارتحلوا إليها، وأكثر المَواطن اجتذاباً للعلماء في كل عصر، وعدد الذين عادوا إلى موطنهم الأصلي، وعدد الذين استجدّوا لهم موطناً ... إلخ. ثم يأتي بعد ذلك أثر الرحلة في علومهم، ومن تأثر، ومن أثر ... إلخ. جـ- إذا تأملت البندين السابقين سهل عليك أن تعلم أن تلامذة الشافعي الذين كانوا يجلسون إليه ويتلقَّون عنه لم يكونوا جميعاً مصريين، وأن من سمعه وأخذ عنه من المصريين لم يبقوا جميعاً في مصر، وهذا نقوله عن مجرد ملاحظة ويحتاج الأمر إلى إحصاء وتتبع، لسنا له الآن. ولكن المقطوع به أن الذين حملوا المذهب عن تلاميذ الشافعي غير المصريين كانوا أضعاف أضعاف المصريين، ويكفي دليلاً على ذلك ما رواه النووي في تهذيب الأسماء واللغات عن محمد بن أحمد بن سفيان الطرائقي البغدادي أنه كان يقول: "سمعت

عود إلى مسألة الطريقتين

الربيع بن سليمان يوماً، وقد حط على باب داره تسعمائة راحلة في سماع كتب الشافعي رضي الله عنه" (¬1). وربما يغني عن كل ذلك أن نقول: إن الفاطميين دخلوا مصر في سنة 358 هـ واستقروا بها، وقضوا على المذهب الشافعي بها. فإذا عرفنا أنّ ظهور الطريقتين كان في أواخر القرن الرابع وأوئل القرن الخامس، وأن أبا إسحاق المروزي الذي أخذ عنه شيوخ رأسي الطريقتين توفي سنة 340 هـ إذا عرفنا ذلك أدركنا لماذا لم تتميز مصر بطريقة خاصة بها مثل خراسان والعراق، فقد انتهى وجود المذهب في مصر قبل نشوء الطريقتين. عودٌ إلى مسألة الطريقتين أول ما نلاحظه أنه مع كثرة ترداد المصطلح في كتب الأئمة، فتراهم يقولون: في طريقة العراقيين كذا، وفي طريقة الخراسانيين كذا، مع كثرة هذا الترداد لم نجد عناية تذكر بهذه القضية ممن ألف في طبقات المذهب ومصطلحاته؛ فلم نجد كتابة شافيه، ولا كافية في هذا الشأن. فكل ما وجدناه عن الطريقتين عند الإمام النووي في الفصل الذي عقده في مقدمة المجموع لبيان القولين والوجهين والطريقين، كل ما وجدناه هو قوله: " وأما الطرق، فهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، فيقول بعضهم مثلاً: في المسألة قولان أو وجهان، ويقول الآخر: لا يجوز، قولاً واحداً، أو وجهاً واحداً أو يقول أحدهما: في المسألة تفصيل، ويقول الآخر: فيها خلاف مطلق. وقد يستعملون الوجهين، في موضع الطريقين وعكسه " (¬2). ومن بين مؤلفي كتب الطبقات وجدنا ابن الملقن وحده الذي يعقد فصلاً افتتحه بقوله: " وقد انقضى الكلام بحمد الله ومنِّه على الطبقة الأولى بأقسامها مستقصىً، ¬

_ (¬1) ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 48، 49. (¬2) ر. مقدمة المجموع: 1/ 66.

ونختم الكلام فيها بقاعدة مهمة، وهي بيان انقسام أصحابنا إلى عراقيين وخراسانيين" (¬1). ولكنه تحت هذا العنوان لم يزد على بيان من هم العراقيون، ومن هم الخراسانيون، وشغل الفصل كلَّه ببيان مدن خراسان، ومن أَرَّخ لكل مدينةٍ منها، بعد أن قال في مفتتح الفصل: " فاعلم أن أصحابنا تفرّقوا، فالعراقيون أهل بغداد، وما والاها، وقد صنف الخطيب (تاريخ بغداد) وذيّل عليه ابنُ النجار، وابنُ السمعاني " (¬2). ثم أكمل -كما أشرنا- بذكر مدن خراسان ومَنْ أرّخ لها. ولم يُشر إلى معنى الطريقة، ولا متى نشأت، وكيف نميز بين رجال هذه وتلك، بل يُفهم من صنيعه أنه لا يقصد إلى شيء من ذلك، فإنه يدعونا إلى التعرف على الأصحاب العراقيين من خلال تاريخ بغداد وذيوله، والتعرف على الخراسانيين من تاريخ نيسابور للحاكم، وتاريخ أصبهان لأبي نُعيم، وتاريخ مرو لابن السمعاني ... إلخ. ومعلوم أن كل كتاب من هذه الكتب يترجم لكل من دخل المدينة التي يؤرخها ممن لهم شأن: قادة كانوا، أو أمراء، أو شعراء، أو نحاة، أو لغويين، أو فقهاء، فلا علاقة لها بما نحن فيه من معنى الطريقة ورجالها. وفيما عدا ذلك لم نجد إلا شذرات وإشارات تتكرر في كل كتب الطبقات تقريباً، وربما بنفس الألفاظ. فعند الترجمة للقفال المروزي المتوفى 417 هـ يقولون: رأس طريقة أصحابنا الخراسانيين. وعند ترجمة الشيخ أبي حامد الإسفراييني المتوفى 406 هـ يقولون: رأس طريقة العراقيين. ¬

_ (¬1) ر. العِقد المُذْهَب في طبقات حملة المذهب: 215، 216. (¬2) السابق نفسه.

وعند ترجمة الشيخ أبي على السنجي المتوفى 430 هـ يقولون: أول من جمع بين الطريقين. وعند ترجمة الشيخ أبي إسحاق المروزي المتوفى 340 هـ يقولون: وعنده تلتقي الطريقتان. هذا كل ما وجدناه عن الطريقتين. أما معنى الطريقة ومفهومها، فلم نجد عندهم شيئا، وأما عوامل تباين الطريقتين وسبب نشأتهما، فلم نجد شيئاً، كما لم نجد شيئاً ذا بال عن الأصحاب في كل طريقة، وعما امتازت به كتب ومؤلفات كل طريقة. هذا ما وجدناه عند المتقدمين وفي كتبهم. أما المتأخرون، فقد وجدنا خاتمة المحققين منهم العلامة، أحمد بك الحسيني المتوفى 1332 هـ-1914 م يقول في مقدمات كتابه (دفع الخيالات) -بعد أن لخص كلامَ النووي في معنى القولين والوجهين والطريقين- يقول: " وكل ذلك قد بسطته بسطاً وافياً، وبينته بياناً شافياً في مقدمة كتابنا: شرح الأم المسمى (مرشد الأنام لِبّر أُم الإمام) يعز على أهل عصرنا، بل ومن قبلهم بمئين من السنين أن يقفوا عليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " (¬1). فكان هذا القول، بهذا الأسلوب، وبهذه المباهاة دافعاً للبحث عن مقدمته تلك، فهي ما زالت مخطوطة، فوجدنا فيها ما نصه: "تتميم في بيان المراد من قولهم: (طريقة العراقيين وطريقة الخراسانيين) اعلم أن مدار كتب أصحابنا العراقيين أو جماهيرهم مع جماعة من الخراسانيين على تعليق الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وهو في نحو خمسين مجلداً، جمع فيه من النفائس ما لم يشاركه في مجموعه غيره، من كثرة المسائل والفروع وذكر مسائل العلماء وبسط أدلتها والجواب عنها وعنه انتشر فقه أصحابنا العراقيين، وهو شيخ طريقة العراق. وممن تفقه عليه من أئمة الأصحاب أبو الحسن الماوردي، صاحب الحاوي الكبير، والقاضي أبو الطيب الطبري، صاحب التعليقة المشهورة، وسُليم ¬

_ (¬1) دفع الخيالات عن القول الوضاح: 8.

الرازي، صاحب المجرد، وأبو الحسن المحاملي، صاحب المجموع، وأبو علي البندنيجي صاحب الذخيرة، وغير هؤلاء ممن لا يُحصى كثرة. فإذا أطلقوا في الكتب لفظ قال أصحابنا العراقيون كذا، وطريقة أصحابنا العراقيين كذا، فمرادهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني وأتباعه هؤلاء المذكورن. كما أنهم إذا أطلقوا لفظ قال أصحابنا الخراسانيون كذا وطريقة أصحابنا الخراسانيين كذا فمرادهم القفال المروزي، شيخ طريقة خراسان وأتباعه، وهم أبو بكر الصيدلاني، وأبو القاسم الفوراني، والقاضي حسين المرورّوزي، والشيخ أبو محمد الجويني، وأبو علي السنجي، قيل والمسعودي، فتارة يقولون: قال الخراسانيون، وتارة يقولون: قال المراوزة، وهما عبارتان عن معبَّر واحد. فالخراسانيون، وإن كانوا أعم من المراوزة؛ لأن مدن خراسان العظيمة أربعة: مرو، ونيسابور، وبلخ، وهراة، لكنهم يعبرون تارة عن طريقة الخراسانيين بقولهم: قال المراوزة، لأن شيخ طريقة الخراسانيين ومعظم أتباعه مراوزة، فالقفال المروزي أخذ عن أبي زيد المروزي، عن أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني أخذ عن أبي القاسم الداركي، عن أبي إسحاق المروزي، فأبو إسحاق المروزي إليه منتهى الطريقين. وأما إذا قالوا: في كتب الخراسانيين كذا، فإن هذا الإطلاق يشمل كتب أصحاب الطريقة المذكورين وسائر كتب أئمة خراسان، كما أنهم إذا قالوا: في كتب العراقيين كذا، فإنه يشمل كتب أصحاب الطريقة المذكورين وسائر كتب أئمة العراقيين، فمن كتب الخراسانيين: النهاية لإمام الحرمين، والوسيط للغزالي، وتعليق القاضي حسين، والإبانة للفوراني، والتتمة للمتولي، والتهذيب للبغوي، والعدة لأبي المكارم الروياني، وبحر المذهب لأبي المحاسن الروياني وغيرها. ومن كتب العراقيين: المجموع واللباب والمقنع للمحاملي، والذخيرة لأبي علي البندنيجي، والمجرد لسُليم، وتعليق القاضي أبي الطيب الطبري، والحاوي الكبير للماوردي، والمعتمد لأبي نصر البندنيجي، والمهذب والتنبيه للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والشامل لابن الصباغ، والتهذيب لنصر المقدسي، والحلية لفخر الإسلام

الشاشي، والعدة للحسين بن علي الطبري، والذخائر لمجلي، وغيرها. وأما إذا أطلقوا في الكتب لفظ الأصحاب فهذا الإطلاق يعم أصحاب الطريقين ومن عاصرهم ومن كان قبلهم من الأئمة العظام ومن كان بعدهم. ثم بعد أصحاب الطريقين جماعة من الأصحاب ينقلون الطريقين كأبي عبد الله الحَليمي، والروياني صاحب البحر، ومجلي صاحب الذخائر، وإمام الحرمين، والمتولي صاحب التتمة، والغزالي، وغيرهم. وأما أصحاب الوجوه، فهم أخص من لفظ الأصحاب لأن كل من كان من أصحاب الوجوه يدخل تحت لفظ الأصحاب ولا عكس، وأصحاب الوجوه معروفون ويدخل فيهم أصحاب الطريقين" ا. هـ (¬1) هذا ما كتبه الشيخ في المقدمة عن الطريقتين، فإن أراد بقوله: " بسطته، وبينته بسطاً يعز على أهل عصرنا، ومن قبلهم بمئين السنين أن يقفوا عليه " أنه جمع مفرّقه، ولمّ شعثه، ورتب مشوشه، فقد فعل، وجزاه الله خيراً، وهذا أحد الأغراض السبعة التي يصح فيها التأليف. وأما إذا أراد أنه زاد القضيةَ إيضاحاً أو تفسيراً، أو تعليلاً، أو استنبط مما قاله السابقون شيئاً، فلم يكن شيء من ذلك، وما أظنه يقصده. وقد عاصر الشيخَ اثنان من علماء المذهب الذين عُنوا بالكتابة عن تطوره ومصطلحاته، وهما السيد علوي بن أحمد السقاف، المتوفى 1335 هـ-1916 م، وابنُ سُميط العلوي، أحمد بن أبي بكر، المتوفى 1343 هـ-1924 م. الأول له كتاب: (الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد الكلية) وكما هو واضح من عنوانه فإنه يتناول فيما يتناول المصطلحات التي تدور ويتداولها طلاب المذهب الشافعي، وقد أفاد فعلاً في ذكر قواعد وضوابط، ومقدمات ومبادىء لا يستغني عنها طالب العلم، وعقد فصلاً خاصاً بمصطلحات الشافعية أجاد فيه وأفاد ¬

_ (¬1) مقدمة مرشد الأنام: 2/ 678 وما بعدها.

إلا أنه مرّ مرور الكرام على مصطلح الطريقتين، فلم يتكلم فيه بِجملةٍ واحدة. وأما ابن سُمَيْط، فله رسالة لطيفة بعنوان: (الابتهاج في بيان اصطلاحات المنهاج) تحدث في هذه الرسالة عن نشاة المذهب وتطوره، وأهم أعلامه، والمؤلفات المشهورة والمعتمدة حتى عصره، كل ذلك في إيجاني بليغ، لم يزد عن بضع ورقات. ومع ذلك عرض لمصطلح الطريقتين والجمع بينهما كحلقة من حلقات تطوّر المذهب، فتكلم عن نشأتهما، وشيخيهما، ورجالهما، وكتبهما بنحو ما تكلم به الشيخ أحمد بك الحسيني، وربما بالألفاظ نفسها تقريباً، فكلاهما نقل كلام النووي في (تهذيب الأسماء واللغات)، وما جاء في كتب الطبقات. أما البحوث المعاصرة بما فيها الأطروحات الجامعية (¬1)، فلم نجد فيها من التفت إلى هذه المسألة إلا ذلك البحث الرائد (¬2) للعلامة الشيخ محمد إبراهيم أحمد علي من علماء أم القرى، زادها الله تعظيماً وتشريفاً، وقد عزا ما قاله إلى الشيخ أحمد بك الحسيني في مقدمة دفع الخيالات ص 5؛ ولذا جاء كلامه موجزاً عما نقلناه لك آنفاً من مقدمة (مرشد الأنام). وأما شيخنا وشيخُ شيخنا الإمام محمد أبو زهرة، فقد عقد فصلاً، في كتابه الذي كتبه (الإمام الشافعي) (¬3)، بعنوان (المجتهدون في المذهب الشافعي) تحدث فيه عن طبقات المجتهدين في المذهب وأصحاب الوجوه، ولكنه لم يلتفت إلى مصطلح ¬

_ (¬1) رأينا عملين جدين الأول: الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد للدكتور نحراوي عبد السلام رسالة دكتوراة من كلية الشريعة بالأزهر بالقاهرة، مكتبة الشباب، 1408 هـ-1988 م. والثاني بعنوان (المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي) رسالة دكتوراة من كلية الشريعة بالجامعة الأردنية من الدكتور أكرم يوسف عمر القواسمي، عمان دار النفائس، 1423 هـ-2003 م. (¬2) هذا البحث بعنوان: (المذهب عند الشافعية، منشور بمجلّة جامعة الملك عبد العزيز (أم القرى فيما بعد)، العدد الثاني، جمادى الآخرة 1398 هـ- مايو 1978 م الصفحات من 25 إلى 48. (¬3) الإمام الشافعي -حياته وعصره- أراؤه وفقهه: 384.

من ثمار البحث

الطريقتين، مع أنه اعتمد فيما قاله على ما ذكره النووي في مقدمة المجموع، وفيه تعريف وبيان لمعنى الطريقة، ولكن شيخنا صرف النظر عن المسألة بالكلية، وسنحاول تفسير ذلك فيما يأتي. ... من ثمار البحث وبعد هذا البحث والتنقير ومحاولة الاستقصاء لم نجد جديداً نزيده على ما نقلناه لك حول مصطلح (الطريقتين). ولكن ذلك لم يخل من ثمار تستحق أن نسجلها فيما يأتي: 1 - تصحيحُ وهم وقع من شيخنا الإمام محمد أبو زهرة، حين ظن أن (الأستاذ أبا إسحاق) الذي نقل عنه النووي قوله: " إن أصحاب مالك، وأحمد، وأبو داود، وأكثر الحنفية صاروا إلى مذهب أئمتهم رحمهم الله تقليداً لهم، ثم قال: والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي، لا تقليداً له، بل إنهم لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطرق، ولم يكن لهم يد من الاجتهاد، سلكوا طريقه، فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي". سبق إلى ظنه أن الأستاذ أبا إسحاق هو الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فترجم له في حاشية كتابه (¬1)، بناء على هذا الظن. ولكن صاحب هذا القول هو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران المتوفى 418 هـ. والذي جعلنا نتوقف في صنيع شيخنا هو أننا لم نجد أحداً ممن ترجم للشيخ أبي إسحاق الشيرازي لقبه (بالأستاذ)، فدائماً يلقبونه (بالشيخ)، على حين أن أبا إسحاق الإسفراييني لا يذكر إلا بهذا اللقب (الأستاذ)، والذي يتأمل هذه الكتب، كتب التراجم والطبقات، يجد أن هذه الألقاب لم تكن تلقى جزافاً، بل يجد أنها تُلتزم دائماً حتى تصير أعلاماً أو كالأعلام على أصحابها. ¬

_ (¬1) الشافعي - حياته وعصره: 386.

ولكن هذا لم يكن كافياً بالجزم بأن المقصود أبو إسحاق الإسفراييني، فأعدنا قراءة كلام النووي في مصدره الذي أخذ منه شيخنا، وهو (مقدمة المجموع)، فوجدناه ينقل هذا الكلام عن (أبي عمرو) أي (ابن الصلاح) ولما كان الكلام في الفتوى وطبقات المفتين، رجعنا لكتاب (أدب الفتوى) لابن الصلاح، فوجدناه يصرح بالاسم كاملاً، فيقول: " وقد بلغنا عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ... إلخ (¬1) " فانكشف الأمر، واستيقن الظن، وأغنانا عن البحث في مظان أخرى. وهذا مجرد نموذج لمعاناة المحقق وواجبه. 2 - كما ننبه أيضاً لعبارة موهمة وردت في البحث الأصيل لأخينا النبيل الشيخ محمد إبراهيم علي (المذهب عند الشافعية)، فقد جاء عند الحديث عن الطريقتين قوله: " وبقيت طريقة العراقيين وحيدة في الميدان الفقهي الشافعي، فقولها هو المعتمد، حتى نبغ القفال الصغير المروزي، واشتهر بالتدوين في الفقه، وتبعه جماعة لا يُحْصَون عدداً ... ". فهذه العبارة توحي، بل تُصّرح أن طريقة العراقيين تقدّمت في النشأة عن طريقة الخراسانيين وظلت زماناً لا يعرف الفقهُ الشافعي غيرَها، حتى ظهرت طريقة الخراسانيين متأخرة عنها بزمانٍ طويل. هذا ما تقول به العبارة. والواقع أن تمايز الطريقتين في رواية المذهب نشأ في وقتٍ واحد، وما قبلهما لم يكن يوصف بأنه عراقي ولا خراساني. والذي يشهد بأنه نشوء الطريقتين كان متزامناً وفي وقت واحد، بصورة لا تقبل الشك هو النظر إلى ترجمة شَيْخي الطريقتين، الشيخ أبي حامد الإسفراييني، والقفال المروزي، فهما من طبقة زمنية واحدة، بل إن ميلاد القفال شيخ طريقة المراوزة قبل ميلاد أبي حامد شيخ طريقة العراقيين، فقد ولد القفال سنة 327 هـ على حين ولد أبو حامد سنة 344 هـ، وإذا قيل لنا: إن القفال تأخر اشتغاله بالفقه إلى سن الثلاثين، فالجواب أننا لو قدرنا تأخر ميلاده سبعة عشر سنة مثلاً (وهي فترة الطفولة والصبا) ¬

_ (¬1) أدب الفتوى، بتحقيق الدكتور رفعت فوزي: 40.

لوقع ميلاده في السنة نفسها التي ولد فيها شيخ طريقة العراق وهي سنة 344 هـ، أو نقول: إن القفال اشتغل بالفقه سنة 357 هـ بعد ما بلغ سنّ الثلاثين، وأفتى بعد نحو عشر سنوات من اشتغاله بالفقه أي في سنة 367 هـ، وقد ذكروا أن الشيخ أبا حامد كان مبكر النبوغ، فأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، أي في سنة 361 هـ. فهذا التدقيق في تواريخ الميلاد والاشتغال بالفقه يضع أمامك الدليل القاطع بأنهما متعاصران تماماً، وإن تفاوتا بعض التفاوت ميلاداً ووفاةً (القفال 327 - 417 هـ) و (الشيخ أبو حامد 344 - 406 هـ). وواضح أن هذا الوهم بسَبْق طريقة العراقيين مبنيٌّ على ما هو أكبر منه، وهو أن العراقيين كانوا يروون المذهب القديم فقط، والخراسانيون كانوا يروون المذهب الجديد فقط، حتى مطلع القرن الخامس، حين جمع بينهما الشيخُ أبو علي السنجي المتوفى نحو سنة 430 هـ، وهذا هو نص كلامه الذي أَفْهمَ ذلك: " وبظهور هؤلاء العلماء الذين جمعوا بين الطريقتين، بدأ الرافدان الأساسيان الناقلان لفقه الشافعي: قديمه وجديده يلتقيان في قولٍ موحَّد يمثل مذهبَ الشافعي والراجحَ من قوله (¬1) ". وهذا لا قائل به، ولا هو بمعقول، فمنذ قرر الشافعي مذهبه الجديد، ودُوّنت كتبه الجديدة، وهي تُروى في العراق كما كانت تُروى في خراسان. وهذا الوهم جاء الباحثَ من عبارة الشيخ أحمد بك الحسيني -التي هي مصدره-، حيث قال بعد أن ذكر طريقة العراقيين: "وحتى جاء القفال الصغير، وتبعه جماعة ... " (¬2) فأوهم تعبيرُه بـ (حتى) وجودَ (غاية) زمنية، ومدّةٍ بين ظهور الطريقتين. والواقع أن (حتى) في عبارة الحسيني معطوفة على مثلها بالنسبة لطريقة العراقيين، ونص كلامه وهو يتكلم عن تطور المذهب: " ... ثم جاء بعدهم بقية أصحاب الوجوه طبقة بعد طبقة، حتى جاء الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وتبعه جماعة ... وحتى جاء القفال المروزي وتبعه جماعة ... " فعند التنبه لهذا (العطف) لا توحي العبارة بوجود سبق زمني بين الطريقتين. ¬

_ (¬1) المذهب عند الشافعية: 34. (¬2) من مقدمة كتاب (دفع الخيالات). ص 5.

حقيقة المسألة

وخلاصة ما نحاول إثباته هو أن الطريقتين نشأتا معاً بدون فارق زمني، ولم تختص طريقة العراقيين بالمذهب القديم وحده، بل كل واحدة منهما كانت تنقل القديم والجديد معاً. 3 - وأمرٌ ثالث ننبه إليه، وهو أن العلامة أحمد بك الحسيني شبه الطريقتين في المذهب بالمدرستين البصرية والكوفية في علم العربية، وذلك في قوله: " وانتهى فقه الشافعيه إلى الطريقتين، ... ، ولم يوجد بعدهما إلا من هو تابع طريقتيهما، فإما عراقي، وإما خراساني، وكان مثلهما في فقه الشافعي مثل الكوفيين والبصريين في علم العربية " (¬1). وهذا لا يسلّم له، وأقل ما يقال فيه: إنه توسع في العبارة؛ فالذي يتضح من كلام النووي، وهو الأَقْمن بالتعبير عن المذهب: " أن الطرق هي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب " أي أنه خلاف في الرواية، فما يروي فيه المراوزة قولاً قد يروي فيه العراقيون قولين. أما الخلاف بين مدرسة البصرة والكوفة في اللغة، فهو أبعد من الحكاية والرواية عمن تؤخذ منه اللغة، فتراه في التعليل، والتقعيد والتخريج، والله أعلم. حقيقة المسألة والواقع الذي انتهينا إليه -بعد طول التأمل والبحث- أن مسألة الطريقتين أهونُ بكثير من (اسمها) وكثرة تردادها، فحقيقة الأمر تتضح بالنظر إلى الحقائق الآتية: 1 - معلوم أن العلم عندنا يؤخذ بالتلقي عن الشيوخ، وينقل بالرواية والإجازة، فلما انتشر المذهب وحمله تلامذة الإمام الشافعي بعد وفاته إلى العراق وما حولها، وإلى خراسان وما وراءها، -كان ذلك في أول القرن الثالث- وأخذ عنهم تلاميذهم، ثم تلاميذ تلاميذهم عن تلاميذهم، وهكذا ... ، فمع تباعد الديار وتنائي المجامع والمجالس، ومرور الأزمان، وكثرة التدوين والمراجعة، ومضي أكثر من قرن ونصف، أي في أواخر القرن الرابع، ظهر أن ما يحكيه الخراسانيون في مجالس علمهم، وحلقات دروسهم، ويدونونه في مصنفاتهم يختلف عما يحكيه العراقيون في بعض المسائل، ¬

_ (¬1) السابق نفسه.

سواء كانت الحكاية عن إمام المذهب، أو عن أصحاب الوجوه من الجانبين. 2 - لم يدم الأمر على ذلك طويلاً، فقد رأينا من درس على شيوخٍ من الجانبين، وجمع بين الطريقين، وكان ذلك في مطلع القرن الخامس على يد الشيخ أبي علي السِّنجي المتوفى سنة 430 هـ وقيل سنة 427 هـ ولم نصل إلى تاريخ ميلاده، فإذا فرضنا أنه توفي عن ستين عاماً، والمعهود أن يكون قد بلغ درجة الفتوى في سنّ الثلاثين، فمعنى هذا أن الجمعَ بين الطريقتين، قد بدأ في نحو سنة 400 هـ، أي بعد نشأة الطريقتين بنحو ثلاثين سنة. ولسنا نقول: إنه بظهور الشيخ أبي علي السنجي انتهت الطريقتان، وانقطع أثرهما في التدوين والتدريس، بل ظل القرن الخامس يشهد من يجمع من المصنفين بين الطريقتين، ومن يقتصر في تصنيفه على طريقة واحدة من الطريقتين، إلى أن انتهى الأمر بالجمع بين الطريقتين. فكأن تمايز الطريقتين في حكاية المذهب لم يدم طويلاً، بل لم يكد يظهر حتى ظهر الجمع بين الطريقتين. 3 - والحقيقة الثالثة التي نقررها أن العبارة عن الطريقتين ومصنفاتهما فيها كثير من التوسع، وآية ذلك أنهم يعدون إمام الحرمين مروزياً من أركان المراوزة، ومن تلاميذ القفال شيخ طريقة المراوزة، وفي الوقت نفسه يعدونه، ممن جمع بين الطريقتين، وهو فعلاً قد جمع بينهما. كما يعدون كتابه (نهاية المطلب) هذا الذي بين أيدينا من كتب أصحابنا الخراسانيين، ذكر ذلك صراحة التقيُّ السبكي في أول تكملته للمجموع، وهو يعدّد المصادر التي يعتمدها في تكملة شرحه للمهذب، حيث قال: " وعندي من كتب الخراسانيين تعليقة القاضي حسين، والسلسلة، والجمع والفرق للشيخ أبي محمد الجويني، والنهاية لامام الحرمين، والبسيط للغزالي، و ... إلخ" (¬1). وكما ترى يعدّ (النهاية) و (البسيط) من كتب الخراسانيين، وهما يجمعان بين ¬

_ (¬1) المجموع: 10/ 6.

الطريقتين، ولكنه سوى بين المؤلفات التي تحكي طريقة الخراسانيين، والمؤلفات التي تجمع بين الطريقتين، فكأنه ينظر إلى نسبة أصحابها الجغرافية دون لون التفقه وطريقته، وهذا ما عنيناه بالتوسع في العبارة. النتيجة: في ضوء هذه الحقائق الثلاث، وما تقدم من حديث حول مسألة أو مصطلح الطريقتين نستطيع أن نفسر عدم العناية من أئمة المذهب والمؤرخين لتطوره وأعلامه بالكتابة عن الطريقتين؛ حيث لم يكن ذلك بالحجم أو بالشأن الذي يلفتهم إليه، فلم يكن ذلك عن تقصيرٍ منهم - حاشاهم!! وبهذا نكون أيضا قد فسرنا -كما وعدنا- عدم ذكر شيخنا الإمام أبي زهرة مصطلح (الطريقتين) ولو بكلمة واحدة. ثم نعود ونؤكد ما قلناه من قبل، وهو أن العمدة في كل ما كُتب -وقد سجلناه- هو كلام الإمام النووي، رضي الله عنه. وأخيراً نقول: إن النظر إلى الشكل البياني رقم (3) يوضح بإيجازٍ بليغ كلَّ ما قيل عن طريقتي الخراسانيين والعراقيين، فنكتفي به، ونحيل إليه. البصرويون والكوفيون والبغداديون: وقد حكى إمام الحرمين خلافاً بين البصريين والكوفيين في عدة مواضع في كتاب الفرائض، ولكنها كلها تقع بين فقهاء السلف، وليس خلافاً داخل المذهب. ولكن الماوردي في كتابه (الحاوي) حكى خلافاً بين البغداديين والبصريين، نقله عنه النووي في (المجموع)، في حكم الوطء في الحيض، والتصدق بدينارٍ أو بنصف، قال الماوردي: " كان أبو حامد الإسفراييني وجمهور البغداديين يجعلونه قولاً قديماً، وكان أبو حامد المروزي وجمهور البصر لا يجعلونه قولاً قديماً، ولا يحكونه مذهباً للشافعي ... " (المجموع: 3/ 360). ويلوح لي أن هذا خلاف ثانوي داخل طريقة العراقيين، ولذا لم يُشر إليه النووي وهو يتكلم عن الطرق في حكاية المذهب.

المبحث الثالث: مرحلة تحرير المذهب

المبحث الثالث: مرحلة تحرير المذهب يزداد كلامنا عن تحرير المذهب وضوحاً إذا تذكرنا ما قلناه من قبل عن أصحاب الوجوه، وعن المجتهدين من داخل المذهب، وعن رواة المذهب، إذا تذكرنا كل ذلك، عرفنا أن حملة فقه الشافعي من تلاميذه، والأَمَنة على نصوصه ومناهجه، لم يكونوا مجرد نقلة، بل كان فيهم مجتهدون مستقلون وإن انتسبوا إلى الشافعي كالمحمَّدِين الأربعة: محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة محمد بن إسحاق، وابن المنذر محمد بن إبراهيم، وغيرهم. ومنهم من استقل فعلاً بمذهبٍ وعرف به، كأحمد بن حنبل، وداود الظاهري. ومنهم من كان يُخرِّج على أصول الشافعي ونصوصه حيناً، وينفرد برأيه ومذهبه حيناً آخر كالمزني، قال إمام الحرمين في (نهاية المطلب): "إن كان لتخريج مخرّج التحاقٌ بالمذهب، فأَوْلاها تخريج المزني؛ لعلو منصبه في الفقه، وتلقِّيه أصول الشافعي من فَلْق فيه، وإذا تفرد برأي، فهو صاحب مذهب". ومنهم من التزم التخريج على نصوصه وأصوله لم يَخْرج عنها، وهؤلاء هم أصحاب الوجوه الذين ذكرنا طائفة من أشهرهم فيما سلف، وأشرنا إلى "أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني ادعى لهم الاجتهاد المستقل، وأنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليداً له، بل لما وجدوا طرقَه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطرق، ولم يكن لهم بدٌّ من الاجتهاد، سلكوا طريقَه، فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي". وقد ذكر الشيخ أبو علي السِّنجي نحو هذا، فقال: اتبعنا الشافعي دون غيره؛ لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه" (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 1/ 43.

حكى النووي هذا، وعقب قائلاً: " قلت: هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي، ثم المزني في أول مختصره " يعني نَهْيَ الشافعي أصحابه عن تقليده، وأَمْرهم أن يجتهدوا كما اجتهد هو. استبحر الفقه الشافعي وملأ المكان والزمان، فكان له أنصاره وأتباعه في العراق، وفي بلاد الحجاز، واليمن وفارس، وخراسان، وما وراء النهر، وعاصر دولاً وأحداثاً، ونَصَره نظامُ الملك، ومكن له في دولة السلاجقة على اتساعها، وبنى لعلمائه وشيوخه المدارسَ النظامية، ببغداد، ونيسابور، وسائر مدن الدولة. حمل ذلك التيارُ الهادرُ -مع تباعد الأقاليم وامتداد الزمان- تخريجاتٍ وآراءً، تتأثر -لا شك- بالبيئة هنا وهناك، وبالمشارب والمنازع، وأُودع كل ذلك مصنفات المذهب ومدوّناته، وكان فيها -بداهة- ما لا يتفق مع المذهب بصورةٍ أو بأخرى، من البعد والقرب. يقول شيخنا الإمام أبو زهرة: " ولو أننا درسنا آراء فقهاء خراسان ونيسابور، وآراء فقهاء العراق، وحللَّناها، لوجدنا أثر البيئة واختلافَ النزعات يلوح وراءها، ولعل اجتهاد العراقيين، كان أقرب إلى المنقول عن الشافعي من اجتهاد الخراسانيين، والنيسابوريين (¬1) ". وإلى شيء من هذا الفرق بين المدرستين قال النووي: " اعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه، ووجوه متقدمي أصحابنا أتقنُ وأثبتُ من نقل الخراسانيين غالباً، والخراسانيون أحسنُ تصرّفاً وبحثاً وتخريجاً وترتيباً غالباً " (¬2). ... ¬

_ (¬1) ر. الشافعي - حياته وعصره: 385. ويلاحظ أن شيخنا يعطف (النيسابوريين) على (الخراسانيين) من باب عطف الخاص على العام، وليس المغايرة. (¬2) السابق نفسه، عن المجموع: 1/ 69.

معنى تحرير المذهب، ولماذا؟

معنى تحرير المذهب، ولماذا؟ بات الآن واضحاً معنى تحرير المذهب، وهو نَخْل مصنفات أئمته وشيوخه، وبيان ما هو موافق لقول الشافعي وأصوله، حتى يصح أن ينسب إليه، ويتميز عن غيره من الوجوه والاجتهادات التي لا يصح أن تنسب إلى الشافعي، وتُعتبر مذهباً له. أما لماذا هذا التحرير، فيجيبنا على هذا التساؤل، الشيخ محمد إبراهيم علي في مفتتح بحثه بقوله: " تُحتم الأمانة العلمية على الباحث أن يتحرى الصحة التامة في عزو الأقوال إلى قائليها، وخاصة الأقوال الفقهية، لما يترتب على الخطأ في عزوها من نسبة التحليل والتحريم إلى من لم يقل به. ومن ثّم كان لزاماً على كل من يتعرض للبحث الفقهي -وخاصة المقارن منه- أن يعرف الاصطلاح المتفق عليه بين علماء المذهب -أيّ مذهب- والكتب التي اعتُمدت ممثلةً لرأي المذهب ودرجات اعتمادها ". إذاً كان تحرير المذهب ضرورة بمقتضى الأمانة العلمية التي تحتم نسبة الأقوال إلى قائليها، فهذه الأقوال تتعلق بدين الله، تتعلق بالتحريم والتحليل، وقائلها كما سماه ابنُ القيم -رحمه الله- موُقِّعٌ عن رب العالمين، وأي منصب أخطرُ من هذا. وواضح أننا حينما نتكلم عن تحرير المذهب، ببيان وتحديد ما يصح أن يُنسب للإمام الشافعي، ويعتبر قولاً له، واضح أننا حينما نقول ذلك لا يخطر ببالنا أن الوجوه والاجتهادات التي لم تُعدّ من المذهب ليست فقهاً، أو ليست صحيحة، لا يخطر هذا ببال أحد، ولكن أحببنا أن ننبه إليه؛ قطعاً لأي وهم. بل إن هذه الأقوال والاجتهادات -التي لا تُعد من المذهب- أهمُّ المصادر لاجتهادات الفقهاء المعاصرين (الآن)، منها يختارون، وعليها يتكئون، بعد أن يمتحنوا القواعد والأصول التي قامت عليها، والأدلة التي استندت إليها.

شيخا المذهب

شيخا المذهب: في مفتتح القرن السابع الهجري، وجد أئمةُ المذهب هذه الثروة الفقهية الهائلة التي نمت وترعرعت واكتملت في غضون القرون السابقة، فكان من طبيعة الأمور، وسنن التطور أن ينصرف عملهم وجهدهم إلى تحرير المذهب، لم يكن أمامهم إلا العمل في هذا المجال، فقد كان الفقه قد نَضِج، وصار بعيداً -كما قال إمام الحرمين-: " أن تقع مسألة لم يُنصّ عليها في المذهب، ولا هي في معنى المنصوص، ولا مندرجة تحت ضابط ". ومن هنا كان قَدَرُ الشيخين: الرافعي، عبد الكريم بن محمد القزويني. ت 624 هـ، والنووي، يحيى بن شرف المُرِّي. ت 676 هـ أن يصرفا جهدهما، ويستفرغا وُسعهما في تتقيح المذهب وتحريره: الأول في كتابه (فتح العزيز بشرح الوجيز)، المسمى بالشرح الكبير، و (المحرر)، والثاني في (روضة الطالبين)، و (منهاج الطالبين)، و (المجموع) شرح المهذب لأبي إسحاق الشيرازي (لم يتمه) عُني هذان الإمامان الجليلان بتتبع كتب المتقدمين، والنظر في الأقوال والأوجه والاجتهادات والاختيارات، ووزن الأدلة وتقديرها، لتحديد ما هو المذهب منها. ولهذا اصطلح علماء الشافعية بعدهما على تلقيبهما بشيخي المذهب، وصار القول المعتمد في المذهب ما اتفق عليه الشيخان، فإن اختلفا، فما جزم به النووي، ثم ما جزم به الرافعي. "فَرَأْيُ الشيخين مقدم حتى لو عارضه نصُّ الشافعي، مع أن نص الشافعي في حقهم كنص الشارع في حق المجتهد. وقد عللوا هذا التقديم بأن المتبحر في المذهب -كأصحاب الوجوه- له رتبة الاجتهاد المقيد، ومن شأن هذا أنه إذا رأى نصاً خرج عن قاعدة الإمام، ردّه إليها - أي أَوَّلَه- إن أمكن، وإلا عمل بمقتضى القاعدة، وخالف نص الإمام، فقد ترك الأصحاب إذاً نصوص الشافعي الصريحة، أو أوّلوها؛ لخروجها عن قاعدته. فلا ينبغي الإنكار على الأصحاب في مخالفة النصوص، ولا يقال: إنهم لم يطلعوا

إمام الحرمين وتحرير المذهب

عليها؛ فإنها شهادة نفي، بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها، وصرفوها عن ظاهرها بالدليل، ولا يخرجون بذلك عن متابعة الإمام الشافعي" (¬1). وبلغ الوثوق بعملهما، والاعتماد على أقوالهما أن منع المتأخرون من الرجوع إلى الكتب المتقدمة على الشيخين واعتمادها في الفتوى، وإن تتابعت على حكم واحد؛ لأن هذه الكثرة قد ترجع إلى الحكاية عن واحد (¬2). وهذا المنع من كتب المتقدمين على الشيخين لا يمكن أن يؤخذ على إطلاقه، بل هو بالقطع خاص بالذين ليسوا من أهل الترجيح والنظر، وبالذين يريدون الحكم المتفق عليه من أقرب طريق. إمام الحرمين وتحرير المذهب: استقر الرأي عند علماء الشافعية أن تحرير المذهب بدأ بجهد الإمامين الرافعي والنووي، وذلك واضح من أعمالهما مطولة ومختصرة، ومن منهجهما الذي صرحا به أو رأيناه مطبقاً ملتزماً في مصنفاتهما. ولكن ألم يسبقهما أحدٌ من أئمة المذهب؟ أستطيع أن أقول: إن إمام الحرمين كان -فيما رأينا للآن- أولَ من عُني بتحرير المذهب، وذلك في كتابنا هذا (نهاية المطلب). صرح بذلك في مقدمته، والتزمه على طول كتابه؛ فقد كان يحكي الأوجهَ والأقوالَ كلها، ويميز ما هو من المذهب عما عداه. بل عندما كان ينصر وجهاً أو يبدي احتمالاً على خلاف المذهب كان يبين ذلك بوضوح تام، ويقول: لكن المذهب كذا" أي غير ما يراه. (وسنبين ذلك، ونؤيده بالأمثلة والشواهد في فصلٍ آتٍ بعنوان: منزلة نهاية المطلب وأثره، فلا نكرر ما سنقوله هناك). ¬

_ (¬1) المذهب عند الشافعي: 39 (بتصرف يسير) وهو عن الفوائد المدنية: 20، 21 عن ابن حجر الهيتمي في الفتاوى: 4/ 324، 325. (¬2) السابق نفسه.

استقرار المذهب: ظلت آراء الشيخين ومؤلفاتهما المعين الوحيد الذي يستقي منه علماء المذهب وأئمتُه، لا يعرفون غير كتبهما، ولايقولون بغير آرائهما، وانشغلوا بمؤلفاتهما -وبخاصة النووي- اختصاراً، وشرحاً، ونظماً، وتحشية، حتى يوفروا منها الزاد والري الذي يناسب مختلف الواردين: من الشُداة المبتدئين إلى الطامحين إلى الاجتهاد المنتهين. وعلى طول القرون الثلاثة منذ وفاة الشيخين الرافعي والنووي في القرن السابع إلى القرن العاشر ظل الحال كما وصفنا؛ فقد كانت كتب الشيخين القطبَ الذي تدور حوله جميع التآليف، ومع ذلك لم يخل زمان من محقِّقٍ ينظر في كلام الشيخين، فيرجِّح بينهما إذا اختلفا، بل يخالفهما أحياناً. وحظي القرن العاشر بعددٍ من هؤلاء المحققين، جمعوا إلى تحقيقاتهم تحقيق من سبقوهم، من هؤلاء: شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، المتوفى سنة 926 هـ والخطيب الشربيني، محمد بن أحمد، شمس الدين، صاحب (مغني المحتاج) المتوفى سنة 977 هـ. والشهاب الرملي -نسبة إلى رملة المنوفية-، أحمد بن حمزة، صاحب (فتح الجواد)، المتوفى سنة 957 هـ. وابنه شمس الدين، محمد بن أحمد بن حمزة، كان يلقب بالشافعي الصغير، صاحب (نهاية المحتاج)، المتوفى 1004 هـ. وابن حجر، الهيتمي، أحمد بن محمد، والهيتمي نسبة إلى محلة أبي الهيتم، وتسمى الآن (الهياتم)، من قُرى دلتا النيل بمصر، صاحب (تحفة المحتاج) ت 974 هـ. هؤلاء المحققون وغيرهم كان لهم من الجهد ما يمكن أن نسميه التحرير الثاني للمذهب فقد أدى اجتهادهم إلى مخالفة الشيخين في شيءٍ من ترجيحاتهما؛ وانتهى الأمر إلى اعتماد (التحفة) لابن حجر، (والنهاية) للشمس الرملي، في حق من لم

يكن من أهل الترجيح، فمن كان من أهل الترجيح، والقدرة على النظر في الأدلة ووزنها وتقديرها، له أن ينظر في كلام الرافعي والنووي، فيرجح ويختار، كما اختار الرملي وابن حجر، ولا يجوز له أن يعدو الرافعي والنووي إلى من فوقهما؛ لما استقر عليه المحققون طوال القرون الثلاثة على أنه لا يجوز العدول عن قولهما. فإذا لم يكن من أهل الترجيح، فكما قلنا: يلزمه اعتماد (تحفة المحتاج) لابن حجر، (ونهاية المحتاج) للشمس الرملي، لا يعدوهما، فإن اتفقا، فلا كلام، وإن اختلفا يختار أيَّهما، على خلافٍ فيمن هو أولى بالتقديم منهما بين علماء الشام وحضرموت، والأكراد، وداغستان (¬1)، وأكثر اليمن والحجاز الذين يقدمون ما في تحفة ابن حجر، وعلماء مصر الذين يقدمون ما في (النهاية) للرملي (¬2). على هذا استقر المذهب في مطلع القرن الحادي عشر واستمر الحال على هذا نحو ثلاثة قرون أو تزيد، أي إلى أوائل القرن الرابع عشر، في هذه القرون كان عمل علماء المذهب -بالدرجة الأولى- هو التحشية على كتب المحققين من علماء الطور السابق، وعُرف من هؤلاء: * الشيخ عطية الأجهوري صاحب حاشية على شرح التحرير، وحاشية على شرح المنهج، وثالثة على شرح ابن قاسم. توفي 1190 هـ. * والشيخ محمد الكردي المدني، صاحب حاشية كبرى على شرح الحضرمية لابن حجر الهيتمي، وأخرى صغرى وحاشية ثالثة على شرح الغاية للخطيب، وهو صاحب الفوائد المدنية فيمن يُفتى بقوله من أئمة الشافعية، وله فتاوى جمعت في مجلدين. توفي سنة 1194 هـ. * والشيخ البجيرمي، العلامة، الفاضل، المحدث أحمد بن أحمد بن جمعة البجيرمي، توفي سنة 1197 هـ. ¬

_ (¬1) تأمل!! (علماء داغستان)، واسأل، لتعرف أن داغستان (الآن) ضمن الاتحاد الروسي، وانظر كيف كنا، وكيف أصبحنا. (¬2) الفوائد المكية: 37، واقرأ (المذهب عند الشافعية)؛ ففيه تفصيل وبيان مفيد.

* والشيخ سليمان الجمل، سليمان بن عمر بن منصور، العجيلي نسبة إلى منية عجيل إحدى قرى الغربية بمصر، المعروف بالجمل، صاحب الحاشية المشهورة على تفسير الحلالين، وله حاشية على شرح المنهج. توفي 1204 هـ. * والشيخ عبد الحميد الشرواني " الداغستاني "، نزيل مكة، صاحب الحاشية المشهورة على تحفة ابن حجر، فرغ من تأليفها 1289 هـ. * الباجوري، العلامة الشيخ إبراهيم الباجوري، (نسبة إلى بلدة الباجور منوفية مصر)، له الحاشية المشهورة على شرح ابن قاسم الغزي. * الشبراملسي (نسبة إلى شبراملس) قرية قريبة من قريتنا، فهو بلدُّينا من الغربية بمصر، وهو أبو الضياء، علي بن علي، صاحب حاشية على شرح ابن قاسم للورقات في أصول الفقه لإمام الحرمين، وحاشية مشهورة على نهاية المحتاج للشمس الرملي، توفي سنة 1087 هـ. * القليوبي، شهاب الدين، أبو العباس، أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي (نسبة إلى قليوب) شمال القاهرة، صاحب الحاشية المشهورة على شرح الجلال المحلي للمنهاج، طُبعت مع حاشية أخرى، واشتهرت: بقليوبي وعميرة، و (عميرة) هو شهاب الدين البرلسي المتوفى سنة 957 هـ، أما قليوبي، فقد توفي سنة 1069 هـ. * ونختم بالعلامة خاتمة المحققين -بحق- أحمد بك الحسيني، شهاب الدين، أحمد بن أحمد بن يوسف، الحسيني المصري، صاحب كثير من المصنفات التي تشهد له بالمنزلة والمكانة في علمي الأصول والفقه، مع الإحاطة بفقه الواقع، ونور البصر والبصيرة، فمن ذلك: إعلام الباحث بقُبح أم الخبائث (الخمر)، ودليل المسافر في مسائل قصر الصلاة والمسافات، وأحكام النية، وتحفة الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد، وغيرها من الكتب والرسائل، ولكن عمدة مؤلفاته هو (مرشد الأنام لبر أم الإمام) الذي وقع ربع العبادات منه في أربعة وعشرين مجلداً، وقدم له في مجلدين كبيرين، توفي رحمه الله سنة 1332 هـ.

الحالة الفقهية المعاصرة

الحالة الفقهية المعاصرة صرفتُ النظر عمداً عن لفظ (النهضة) الذي يستخدمه الباحثون المعاصرون كافة في هذا المقام، حيث يقولون: (النهضة الفقهية المعاصرة)؛ وذلك أن هذا الوصف بـ (النهضة) يأتي معبراً عن ثقافة فاسدة، ومفاهيم مغلوطة، تقوم على أن عالمنا العربي والإسلامي كان في تخلف وانحطاط (كذا، بهذا اللفظ يصفون عالمنا منذ القرن السابع الهجري)، ولم نستيقظ، ولم ننهض إلا بعد أن أخذ بيدنا الغرب. فقد كانت كتب التعليم -وأظنها ما زالت- تضع عنواناً رئيساً يقول: (عصر الضعف والانحطاط) (¬1) ويدرّسون تحت هذا العنوان الفترة التي تبدأ من سقوط بغداد سنة 656 هـ إلى غزو نابليون للشرق. ثم تطالعنا هذه المناهج بعنوان آخر يقول: (عصر النهضة) (¬2) وتبدأ هذه النهضة بغزو نابليون للشرق (¬3)، فقد صوروا لنا هذا الغازي المبير الذي سفك دماء العباد، وخرب البلاد، واتخذ من الأزهر اصطبلاً لخيوله، صوروا لنا هذا الغازي، الصليبي الحاقد بأنه جاءنا بالحضارة والتنوير، وأخذ بيدنا نحو الرقي. ليس هذا استطراداً، ولا بعيداً عن الفقه -الذي هو موضوعنا- ذلك أن هذه الثقافة قادتنا في طريق التبعية للغرب، فأصبحت حياتنا كلها صورة مشوهة منقولة عن حياة الغربيين: في طراز المسكن، والأثاث، والزي، وألوان الطعام، إلى نظم التعليم ومؤسسات الاقتصاد، ومؤسسة القضاء والقوانين ... إلخ فجدت حياةٌ جديدة، في كل مظاهرها، قُنِّن فيها تعاطي الربا، وصناعة الخمور، وصالات القمار، واللهو ¬

_ (¬1) درست أجيالنا هذه الكتب بهذا (التحقيب) في مجال التاريخ السياسي والتاريخ الأدبي. (¬2) حتى الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، كنت أقرأ في كتاب تاريخ الأدب بأيدي أولادي هذه العبارة بنصها " استيقظ الشرق على طلقات مدافع نابليون " يفتتح بها مؤلفو الكتابِ الحديثَ تحت عنوان (عصر النهضة).!!!. (¬3) في وثائق الحملة الفرنسية يسمونها (الحملة على الشرق) ولكن من التضليل المصطلحي سموها في مناهج تعليمنا (الحملة على مصر) حتى يحاصروا الشعور بالوحدة بيننا.

الفاضح، ولم يعد هناك ارتباط بين مواعيد العمل ومواقيت الصلاة ... نشأت لهذا المجتمع مشكلات، وجدت له قضايا، وطُلب من الفقه الإسلامي أن يضع حلولاً لمشكلات لمجتمعٍ غير ملتزمٍ بالإسلام (¬1). هذا هو المأزق الذي يعيشه فقهاء العصر، أعانهم الله، وأنا أتحدث عن صفوة كرام بلغوا من الفضل والفقه والورع درجة تؤهلهم للاجتهاد في نوازل هذا العصر، هؤلاء الصفوة وراء النجاحات التي تحققها المجامع الفقهية، ومراكز البحوث، والموسوعات الفقهية. في ضوء هذا المأزق الذي صورناه تُدرس هذه الجهود إنصافا لهؤلاء الأفاضل. وهناك زعانف كُثر حملوا ألقاباً علميةً، وإن لم تَشَم أنوفُهم رائحة الفقه، راحوا يسخرون من تراثنا الفقهي، ويردّدون ترديد الببغاء: (إنه جهد بشري نشأ لعصرٍ غير عصرنا) ويدعون لاطّراحه وإلقائه وراءنا ظهرياً، والأَخدَ مباشرة من القرآن والسنة، ولو أردت واحداً منهم على أن يقرأ صفحة واحدة من صحيح البخاري ما استطاع أن يقيم لسانه بها إعراباً، ناهيك عن معرفة المعنى اللغوي للمفردات، ولا أقول معرفة العام من الخاص، والمطلق من المقيد، والناسخ من المنسوخ. هؤلاء لا كلام لنا معهم، ولا شأن لنا بهم، ولكنْ للأسف لهم صوتٌ عالٍ، وكثيراً ما يشغبون على الفقهاء الأصلاء المتبتَّلين للعلم والبحث. وبعد نعود فنقول: إننا لم ننس أننا في هذه المقدمات نتكلم عن تطوّر المذهب الشافعي وحاله في هذا العصر. وقد وضح الآن مما أشرنا إليه آنفاً أن الفقه المذهبي -مع أنه ما زال يدرس في كليات الشريعة- لم يعد له مكان في الفتوى، والتشريع، والبحوث، بل صارت كلها دراسات مقارنة، تنظر في كل الفقه الموروث بمذاهبه الأربعة، بل أحياناً الثمانية، وتزن الأدلة وتقدّرها في قضية معينة، وتختار ما تراه ¬

_ (¬1) التعبير الأوضح (لمجتمع غير إسلامي)، ولكني عدلتُ عنه لأنه قد يوحي بتكفير المجتمع، وحاشا لله أن نقول بهذا.

أرجح من بينها، مما يجعلنا نسمي هذا بالاجتهاد الجزئي، فمن أحاط ببابٍ من أبواب العلم، وعرف أدلته يمكن أن يجتهد فيه، ويكون مفتياً في مسائله، قال النووي: "قطع بذلك الغزالي، وصاحبه ابن بَرهان، وغيرهما، ومنهم من منعه مطلقاً، وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة، والأصح جوازه مطلقاً" (¬1). ... ¬

_ (¬1) ر. المجموع: 1/ 43، وانظر تاريخ المذاهب الإسلامية للإمام أبي زهرة: 340.

المبحث الرابع من مصطلحات المذهب وبخاصة ما جاء في نهاية المطلب

المبحث الرابع من مصطلحات المذهب وبخاصة ما جاء في نهاية المطلب القديم والجديد: عُرف في تاريخ المذهب الشافعي مصطلح (القديم) و (الجديد)، بل يقولون: (المذهب القديم) و (المذهب الجديد). وعلى ذلك صار يُنظر في (القول) الذي يُروَى عن الشافعي أقديم هو أم جديد؟ القديم: هو ما أملاه الشافعي وقرره ببغداد من آراء وأقوال فقهية، ورواه عنه تلاميذه العراقيون، وأشهرهم الأربعة الذين عرّفنا بهم من قبل (¬1) (وانظر الشكل الأول)، وقد أُودعت هذه المجموعة من فقه الشافعي كتابه (الحجة)، ويسمى كتابه (العراقي). الجديد: هو الفقه الذي قرره الشافعي وأملاه بمصر، ورواه عنه تلاميذه المصريون، واشتهر منهم الستة المعروفون (¬2). هذا القدر من اصطلاح القديم والجديد متفق عليه بين أهل المذهب، ولكنهم اختلفوا فيما قرره الشافعي أو أملاه في المدة التي كانت بين مغادرته بغدادَ ودخوله مصر واستقراره فيها -وهي نحو عامٍ- هل يُعد هذا من القديم أم يُعدّ من الجديد؟ فابن حجر الهيتمي يرى " أن القديم ما قاله قبل دخولها " (¬3)، وذلك يشمل ما نقل عنه وهو في طريقه إلى مصر قبل دخولها. ¬

_ (¬1) ر. الفصل الأول من هذه المقدمات، ص: 128. (¬2) ر. الفصل الأول من هذه المقدمات، ص: 128، 129. (¬3) تحفة المحتاج: 1/ 45 (عن المذهب عند الشافعية).

في حين أن آخرين يرون أن القديم ما قاله الشافعي بالعراق تصنيفاً، أو أفتى به (¬1)، وأما ما وجد بين مصر والعراق، فالمتأخر جديد، والمتقدم قديم. والرأي الأول أقرب إلى الراجح، وقد أيده الرملي في نهاية المحتاج (¬2). مدى الاختلاف بين القديم والجديد: قد يتبادر إلى الذهن لدى البعض أن الشافعي أضرب عن القديم كَملاً، وأبطله كلَّه، وقد يساعد على ذلك ما روي عن الشافعي: " لا أجعل في حِلٍّ من روى القديم عني "، وما قاله الماوردي من " أن الشافعي غَيَّر جميع كتبه في الجديد إلا الصداق؛ فإنه ضرب على مواضعَ منه، وزاد في مواضعَ " (¬3). وهذا عند التأمل يظهر أنه غير معقولٍ، ولا مقبول، بل الواقع يقول بخلافه، فما يروى من خلافٍ بين القديم والجديد، قدرٌ محصور من فقه الشافعي، بمعنى أن ما حفظه تلامذة الشافعي ببغداد، وروَوْه من فقهه لا يخالف الجديد في كل حرفٍ ورأي. وعلى هذا فما رواه تلاميذ الشافعي العراقيون مما أملاه وقرره بالعراق يعد مذهباً للشافعي غير مرجوعٍ عنه، ما لم يرد فيما أملاه بمصر ما يخالفه. وأما النصوص الموهمة غير ذلك، فصرفها عن ظاهرها ميسور، وربما كان التشديد في عدم رواية القديم، وما يُفيد التغاير بين القديم والجديد خاصاً بالأصول؛ فمن المعروف أن الشافعي أعاد كتابة (الرسالة) في مصر، وغيَّرها عما كانت عليه عندما كتبها بالعراق، وأرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي. أيّاً كان الأمر، فقد وضح ما نحاوله من بيان معنى القديم والجديد. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 1/ 12 (عن المذهب عند الشافعية). (¬2) المذهب عند الشافعية. (¬3) نهاية المحتاج: 1/ 50، ومغني المحتاج: 1/ 13، والفوائد المدنية: 50 (عن المذهب عند الشافعية).

القولان والوجهان

القولان والوجهان: القولان للإمام الشافعي صاحب المذهب، والوجهان للأصحاب الذين عرفوا بأنهم من أصحاب الوجوه. القولان: "قد يكون القولان قديمين، وقد يكونان قديماً وجديداً، وقد يكونان جديدين، وقد يقولهما في وقتٍ، وقد يقولهما في وقتين، وقد يرجح أحدهما، وقد لا يرجح" (¬1). فهذه عدة صور، فما حكم كل صورة. * إن كان القولان (قديمين) بمعنى أنه قالهما قبل الدخول إلى مصر، فإما أن يقول قولاً مخالفاً لهما في الجديد أو لا. فإن قال قولاً يخالفهما في الجديد، فالعمل بالجديد. وإن لم يقل بخلافهما في الجديد، يرجح بينهما بطرق الترجيح التي سنشير إليها، ويعمل بالراجح منهما. وهذا معنى كلام النووي رحمه الله، إذ قال: " واعلم أن قولهم: القديم ليس مذهباً للشافعي، أو مرجوعاً عنه، أو لا فتوى عليه، المراد به قديم نصَّ في الجديد على خلافه. أما قديم لم يخالفه في الجديد، أو لم يتعرض لتلك المسألة في الجديد، فهو مذهب الشافعي واعتقادُه، ويعمل به، ويفتى عليه؛ فإنه قاله ولم يرجع عنه، وهذا النوع وقع منه مسائل كثيرة " (¬2). فإن كانا قديماً وجديداً، فالعمل بالجديد، والقديم مرجوع عنه، وكما قال إمام الحرمين في كتابنا هذا: " المرجوع عنه ليس مذهباً للراجع ". ¬

_ (¬1) ر. مقدمة المجموع: 1/ 66. (¬2) السابق: 68.

" واستثنى الأصحاب نحو عشرين مسألة أو أكثر، وقالوا يفتى فيها بالقديم، وقد يختلفون في كثير منها " (¬1). هذا نص كلام النووي، وقد عدّد نحو عشرين مسألة، مع الخلاف في بعضها، فطالعها إن شئت، ولا داعي للإطالة بذكرها. ولكن هل تعدّ هذه المسائل من مذهب الشافعي، أم يقال: إن أصحاب الشافعي خالفوه في هذه المسائل، وعملوا فيها بخلاف مذهبه؟ الصواب الذي قاله المحققون، وجزم به المتقنون من الأصحاب: أن العمل في هذه المسائل والفتوى بالقديم فيها ليس من مذهب الشافعي (¬2). وخالف آخرون حكى النووي قولهم بقوله: " وقال بعض الأصحاب: إذا نص المجتهد على خلاف قوله، لا يكون رجوعاً عن الأول، بل يكون له قولان " وعقب قائلاً: " قال الجمهور: هذا غلط؛ لأنهما كنصين للشارع تعارضا، وتعذر الجمع بينهما، يعمل بالثاني، ويترك الأول، فإذا علمت حال القديم، ووجدنا أصحابنا أفتوا بهذه المسائل على القديم، حملنا ذلك على أنه أداهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله، وهم مجتهدون، فأفتَوْا به، ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشافعي، ولم يقل أحد من المتقدمين في هذه المسائل: إنها مذهب الشافعي، قال ابن الصلاح: فيكون اختيار أحدهم للقديم فيها من قبيل اختيار مذهب غير الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه؛ فإنه إذا كان ذا اجتهادٍ، اتبع اجتهاده " (¬3). وكل هذا إذا لم يعضد القديمَ حديثٌ صحيح، لا معارض له، فإنه حينئذٍ يكون مذهباً للشافعي؛ عملاً بقوله: " إذا صح الحديث، فهو مذهبي ". ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 1/ 66. (¬2) معنى كلام النووي في السابق نفسه. (¬3) مقدمة المجموع: 1/ 67 (بتصرف).

بل قد رأينا بعض المتأخرين لا يسلم بأن هذه من القديم، ويقول: إنه تتبعها، فوجد أن المذهب فيها موافق للجديد (¬1). * فإن كان القولان جديدين، وقد قالهما في وقتين مختلفين، فالعمل بالمتأخر منهما إن علمه. * فإن كان القولان جديدين، وقد رجح أحدهما، فالعمل بما رجحه. * فإن كانا جديدين، ولم يعلم السابق منهما، ولم يرجح أحدهما، وجب البحث عن أرجحهما، فيعمل به، فإن كان أهلاً للتخريج أو الترجيح، استقل به متعرفاً ذلك من نصوص الشافعي، ومأخذه وقواعده. فإن لم يكن أهلاً، فلينقله عن أصحابنا الموصوفين بهذه الصفة، فإن كتبهم موضحة لذلك، فإن لم يحصل له ترجيح بطريقٍ، توقف حتى يحصل (¬2). * فإن كان القولان جديدين، وقالهما في وقتٍ واحد، ولم يرجح أحدهما، فهو ترديد قولٍ، وتوقفٌ عن الفتوى والحكم، وحصرٌ له في هذين القولين. وحكم العمل في هذه الحالة حكم الحالة السابقة تماماً، من وجوب البحث والترجيح ممن هو أهله ... ويقول النووي وأئمة المذهب: إن ذلك لم يوجد إلا في ست عشرة أو سبع عشرة مسألة. ويقول شيخنا الإمام أبو زهرة: (إن الشافعية يحاولون تقليل عدد هذه المسائل تعصباً للشافعي، ظناً منهم أن ذلك يغض من قدره، ويوحي بقصور اجتهاده، على حين العكس هو الصحيح، قال شيخنا: وإنك لترى الرازي كغيره من متعصبي الشافعية يظنون أن كثرة الآراء للشافعي لا تليق به، فيدفعونها عنه، ويقللون عدد المسائل التي ¬

_ (¬1) المذهب عند الشافعية، أَخْذاً من نهاية المحتاج: (1/ 50) والفوائد المدنية: 242 - 248، والشرواني على التحفة: 1/ 54. (¬2) ر. المجموع: 1/ 68.

قال فيها أكثرَ من رأي، وترى بجوارهم المتعصبين على الشافعي يرون كثرة الآراء منقصة فيه، ودليلاً على عدم الوصول إلى الحق. وذلك نقص في العلم، وقد رددنا زعمهم، وبينا أن العلم يوجب التردد في كثير من الأحيان، وأن التردد عن بينةٍ علمٌ، واليقين عن غير بينة جهل. والحق أن الشافعي كان مخلصاً في طلب ما يعتقد أنه الحق في هذه الشريعة الغراء، والمخلص لا تستحوذ عليه فكرة، ولا يسترقُّه رأي يجمد عليه؛ فإن له مقصداً معيناً، وهو طلب العلم لله. وذلك يجعله يفحص آراءه بميزانٍ ناقدٍ كاشف، ونظرٍ مستبين فاحص، وفوق ذلك كان الشافعي ذا فكرٍ حي متحرك يسير في طلب الغايات العلمية صعداً، لا يسكن إلى غاية حتى يطلب ما وراءها. ومن كانت هذه حاله لا يجمد على آرائه، بل يسبرها دائماً بالميزان الذي يصل إليه في طوره العلمي الأخير" (¬1). وقد ذكر الشيخ أبو زهرة ثماني مسائل من فقه الشافعي له فيها أكثر من قول (¬2)، وكأنه يريد بهذا أن يردّ القول بأن هذه المسائل محصورة في ست عشرة مسألة، ولذا عقب عليها قائلاً: " هذه أمثلة مما عثرنا عليه عند قراءتنا للمجموعة الفقهية المنسوبة للشافعي وتلاميذه، وهي كاشفة عما وراءها ومبينة، وإن لم تكن هي كل ما وجدناه من أقوال الشافعي رضي الله عنه " (¬3). ويبدو أن اعتبار ترديد الأقوال منقصة وقصوراً في فقه الشافعي أمر قديم، فقد وجدنا إمام الحرمين يقول في البرهان: "استبعد مستبعدون من الذين قصرت هممهم عن درك الحقائق ترديدَ الشافعي أقوالَه في المسائل؛ وتخيلوا أن ذلك حكم منه بحكمين متناقضين، وجمعٌ بين تحليل وتحريم في قضية واحدة. وهذا جهلٌ من الظان، وعماية، وقلة دراية؛ فإن التردد الذي ذكره الشافعي نَفْيُ ¬

_ (¬1) الشافعي - حياته وعصره: 181، 182. (¬2) اقرأ هذه المسائل. السابق: 179 - 179. (¬3) السابق نفسه: 179.

المذهب، واعتراف بالاعتراض والإشكال، وتصريح منه أنه لا مذهب لي في الواقعة بعدُ. والشافعي بعدما ردد الأقوال، استقر رأيه على قولٍ واحد في جلة المسائل، ولم يبق على التردد إلا في ثماني عشرة صورة، فهو ليس كثير التردد" (¬1). ولم يكن إمام الحرمين وحده الذي عُني بهذه القضية، بل وجدنا ذلك أيضاً عند الإمام أبي إسحاق الشيرازي (¬2). وفي كتابنا هذا (12/ 229) قال إمام الحرمين أيضاً: " وقول عثمان هذا يدل على أن ترديد القول في الشرع ليس بدعاً، وفي مساق قول عمر ما يدل على مثله. وبالجملة لا ينكر تردد المجتهد في المظنونات إلا أخرق، لا يعرف مسالك الاجتهاد ". قال ذلك تعقيباً على قول عثمان رضي الله عنه في حكم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين، إذ قال رضي الله عنه: " أحلتهما آية، وحرمتهما آية " أي ردّد رأيه، ولم يقطع، وهو يشير إلى آية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30]، فعموم الآية يقتضي الإباحة، وأراد بالآية الأخرى قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. وأما قول عمر الذي يُفهم منه التردد أيضاً، فهو قوله حينما سئل عن ذلك: " أما أنا، فلا أحب أن أفعل ذلك " فكرهه في خاصة نفسه، ولم يقطع بتحريمه. ووضع شمس الدين محمد السلمي الشافعي الشهير بالمناوي رسالة في هذه المسألة وحدها بعنوان: (فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهدٍ واحد). وعنوانها يكفي للدلالة على مضمونها، وهي رسالة كافية شافية، تحقق غرض الشافعية في الدفع عن إمامهم بأسلوب بعيد عن التعصب والإساءة. وإن كانت القضية أصلاً لا تحتاج إلى اتهام ودفاع، كما قال شيخنا أبو زهرة. ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه: ج 2 فقرة: 1553. (¬2) شرح اللمع: 2/ 1075 فقرة: 1219، والتبصرة في أصول الفقه: 511.

الوجهان

الوجهان: الوجه أو الوجهان أو الأوجه، هي لأصحاب الشافعي المنتسبين إلى مذهبه، يخرجونها على أصوله، ويستنبطونها من قواعده، ويجتهدون في بعضها، وإن لم يأخذوه من أصله. فتارة يخرّج من نصٍّ معين لإمامه، وتارة لا يجده، فيخرج على أصوله، بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه، فيفتي بموجبه، وتارة يجد نصاً لإمامه في مسألة، ونصاً على حكم مخالف في مسألة تشبهها، فيخرّج من أحدهما إلى الآخر قولاً، فيقال: في كلا المسألتين قولان، أحدهما بالتخريج، والآخر بالنص. وشرط هذا التخريج ألا يوجد بين النصين فرق، فإن وُجد، وجب أن يقرّهما قرارهما: وعلى ظاهرهما، ويكثر الخلاف في هذا اللون من التخريج، لاختلافهم في إِمكان الفرق (¬1). ومما ينبغي ذكره هنا قولُ إمام الحرمين: " ولعل الفقيه المستقلّ بمذهب إمامٍ أقدرُ على الإلحاق بأصول المذهب الذي حواه من المجتهد -أي صاحب المذهب- في محاولته الإلحاق بأصول الشريعة؛ فإن الإمام المقلَّد المقدّم بذل كُنه مجهوده في الضبط، وَوَضْع الكتاب وتبويب الأبواب، وتمهيد مسالك القياس، والأسباب. والمجتهد الذي يبغي ردّ الأمر إلى أصل الشرع، لا يصادف فيه من التمهيد والتقعيد ما يجده ناقل المذهب في أصل المذهب المفرَّع المرتَّب " (¬2). والكلام على الأوجه من ناحيتين: أولاً- ماذا يعد منها من المذهب، وما لا يعد. إذا خرّج المجتهد المنتسب إلى المذهب على غير قواعد إمامه، وغير مستنبطٍ من نصوصه، فتخريجاته لا تعد وجوهاً في المذهب، بل تعدّ مذهباً خاصاً له، كبعض ¬

_ (¬1) مأخوذٌ من كلام النووي في مقدمة المجموع: 42، 43، ومن الفوائد المكية: 46، 47، ومن أدب الفتوى: 40 - 45. (¬2) الغياثي: فقرة: 631.

تخريجات المزني، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن جرير وغيرهم، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سلف. إما إذا خرّج على أصول إمامه وقواعده، أو خرّج من نصٍّ معين لإمامه، أو اكتفى في الحكم بدليل إمامه من غير أن يبحث عن معارض كفعل المجتهد المستقل في النصوص، فهذه الوجوه تعد من المذهب، قال إمام الحرمين في (نهاية المطلب) في باب ما ينقض الوضوء: " إذا انفرد المزني برأي، فهو صاحب مذهب، وإذا خرج للشافعي قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو ملتحق بالمذهب، لا محالة ". وعقب النووي على ذلك قائلاً: " وهذا الذي قاله الإمام حسن، لا شك أنه متعين " (¬1) وقد ذكر إمام الحرمين هذا المعنى بألفاظ أخرى حيث قال: " إن المفتي يحل في حق المستفتي محل الإمام المجتهد ... ، ثم يقلد المستفتي ذلك الإمامَ المقَّلدَ المنقلبَ إلى رحمة الله تعالى ورضوانه، لا الفقيهَ الناقلَ القيَّاسَ " (¬2). وإذا قلنا: إن هذه الوجوه المخرجة على أصول الشافعي وقواعده، والمأخوذة من نصوصه تلحق بمذهبه، ويقال فيها: هذا مذهب الشافعي، فهل يصح أن تنسب إلى الشافعي قولاً له؟ اختلف الأصحاب في ذلك، والأصح أنه لا يصح نسبته إلى الشافعي قولاً له، اختار ذلك أبو اسحاق الشيرازي، وابن الصلاح، والنووي، قال الشيرازي في (شرح اللمع): "فأما ما يخرجه أصحابنا على قوله، فلا يجوز أن ينسب إليه، ويجعل قولاً له. ومن أصحابنا من أجاز ذلك، وقال: حكمه حكم المنصوص عليه. والدليل عليه أن قول الإنسان ما نص عليه، أو دل عليه بما يجري مجرى النص، فأما إذا لم ينص عليه، ولم يدل عليه بما يجري مجرى النص، فلا يحل أن يضاف ¬

_ (¬1) المجموع: 1/ 72. (¬2) الغياثي: فقرة 633.

إليه، ولهذا قال الشافعي: ولا ينسب إلى ساكت قول" (¬1). وقد ذكر الشيرازي، ذلك المعنى أيضاً في كتابه (التبصرة في أصول الفقه) (¬2) وبه أخذ ابن الصلاح والنووي (¬3). ثانياً - العمل بالوجهين: الوجهان والأوجه لها صور لا تخرج عنها، ولكل منها حكمها: * إذا كان أحد الوجهين منصوصاً أي لإمام المذهب، وما عداه للأصحاب، فالعمل بالمنصوص، إلا إذا كان المخرج من مسألة يتعذر فيها الفرق، فقيل: لا يترجح عليه المنصوص، وفيه احتمال، وقل أن يتعذر الفرق. * إذا كان الوجهان أو الأوجه لواحدٍ من الأصحاب، فإن عرف المتأخر عمل به، وكان ما سبقه مرجوعاً عنه. وإن لم يعرف المتقدم من المتأخر، وجب الترجيح لمن هو أهله على نحو ما ذكرنا في القولين. * إذا كان الوجهان أو الأوجه لأكثر من شخص واحد، فلا اعتبار بالتقدم والتأخر، وهنا أيضاً يجب الترجيح ممن هو أهلٌ لذلك. أما من لم يكن أهلاً للترجيح، فليأخذه عن الأصحاب الموصوفين بذلك، فإن وجد خلافاً بينهم، فليعتمد في الاختيار والتقديم الضوابط الآتية: - يقدم الأكثر والأعلم والأورع. - فإن تعارض الأعلم والأورع، قدم الأعلم. - فإن لم يجد ترجيحاً عن أحد اعتبر صفات الناقلين للقولين والوجهين، فما رواه البويطي والربيع المرادي والمزني عن الشافعي مقدم عند أصحابنا على ما رواه الربيع ¬

_ (¬1) شرح اللمع: 1084 فقرة: 1228. (¬2) التبصرة: 517. (¬3) أدب الفتوى: 44، ومقدمة المجموع: 1/ 43.

الطريقة

الجيزي وحرملة (¬1). (هذا في نقل القولين، وهو مثال لما يجب العمل به في نقل الوجهين). الطريقة: تكلمنا قبلاً عن نشأة الطريقتين، وأعلامهما، والجمع بينهما، وبيان أن ذلك مرحلة في تطور المذهب ونموه. والآن بقي علينا تعريف الطريقة بصفتها مصطلحاً من المصطلحات التي تتردّد في مصنفات المذهب. " الطرق: هي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، فيقول بعضهم مثلاً: في المسألة قولان أو وجهان. ويقول الآخر: لا يجوز قولاً واحداً، أو وجهاً واحداً. أو يقول أحدهما: في المسألة تفصيل، ويقول الآخر: فيها خلاف مطلق. وقد يستعملون الوجهين في موضع الطريقين وعكسه " (¬2). الأصحاب: هم في الأصل أصحاب الشافعي، ثم توسّعوا في اللفظ فأصبح يشمل كل أعلام المذهب وفقهائه، فلم يقتصر على أصحاب الشافعي الذين جالسوه وأخذوا عنه. ثم هم يسمَّوْن الأصحاب، ولو تباعد بينهم الزمان والمكان، ولذا يقول النووي في (تهذيبه): " وهذا مجاز مستفيض للموافقة بينهم، وشدة ارتباط بعضهم ببعض كالصاحب " يعني (كالصاحب) من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ... والأصحاب عند ابن حجر الهيتمي " هم المتقدمون من أئمة المذهب، وهم أصحاب الوجوه غالباً، وضبطوا بالزمن، وهم من الأربعمائة (¬3) ". المتأخرون: وهم من بعد الأربعمائة، كما يفهم من كلام ابن حجر السابق. ¬

_ (¬1) المجموع: 1/ 68 (بتصرف). (¬2) المجموع: 1/ 66. (¬3) قاله في الفتاوى، ونقله عنه السيد علوي السقاف في الفوائد المكية: 46.

من المصطلحات الخاصة برجال المذهب

النص: المراد به نص الشافعي، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، سمي بذلك لأنه مرفوع إلى الإمام، أو لأنه مرفوع القدر لتنصيص الإمام عليه (¬1) من المصطلحات الخاصة برجال المذهب الإمام: حيث يقال (الإمام) مطلقاً، فالمراد به إمام الحرمين. (طبعاً بعد إمام الحرمين) * إذا قيل (الإمام) في كتب التفسير، فالمراد به الفخر الرازي * وفي كتابنا هذا إذا قيل (الإمام)، فالمراد به شيخه ووالده، أبو محمد الجويني. الربيع: إذا أطلق (الربيع) بدون تقييد، فالمراد به الربيع المرادي الشيخان: المراد بهما الرافعي والنووي. الشيوخ: يراد بهذا المصطلح الرافعي، والنووي، ومعهما (السبكي) تقي الدين. القاضي: حيث يطلق (القاضي) فالمراد به القاضي حُسين بن محمد بن أحمد المرورّوزي، عند إمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، ثم شاع وذاع عند الجميع؛ حيث بدأ الجمع بين الطريقتين منذ القرن الخامس. والقاضي: عند أبي إسحاق الشيرازي، وشبهه من العراقيين، هو أبو الطيب الطبري، ولكن هذا توقَّف بعد القرن الخامس، وأصبح القاضي هو القاضي حسين. والقاضي: إذا أطلق في كتب الأصول لغير المعتزلة، فالمراد به القاضي أبو بكر الباقلاني، وأما في كتب الأصول للمعتزلة، فالمراد به القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني. القفال: إذا أطلق في النهاية وغيرها من كتب الخراسانيين كتعليق القاضي حسين، ¬

_ (¬1) السابق نفسه.

والإبانة للفوراني، والتتمة للمتولي، والوسيط للغزالي، والبحر للروياني - فهو القفال الصغير المروزي، أبو بكر، عبد الله بن أحمد بن عبد الله، المتوفى 417 هـ عن تسعين سنة، وهو المذكور في كتب المذهب بعامة بعد الجمع بين الطريقين، وعند المتأخرين؛ فحيثما يقال: القفال مطلقاً، فاعلم أنه القفال المروزي الصغير، وهو رأس طريقة المراوزة، كما قررنا من قبل. * القفال الكبير: وهناك قفالٌ آخر يشترك معه في الكنية، فكل منهما أبو بكر، ولكنهما يتميزان بالإسم والنسبة، فالكبير الشاشي، والصغير المروزي، والشاشي اسمه محمد بن علي بن إسماعيل، والصغير عبد الله بن أحمد بن عبد الله، والكبير أسبق وفاة، فقد توفي 365 هـ. ويتميزان أيضاً بأن الصغير المروزي أكثر ذكراً في كتب الفقه، والكبير أكثر ذكراً في كتب الحديث والتفسير، وإذا ذكر في كتب الفقه قُيِّد، كما فعل الإمام في النهاية. وغير لائق أن نترك الكلام عن القفال الكبير الشاشي دون أن نقول إنه واحدٌ من أئمة المسلمين الذين أثر عنهم أنهم خرجوا غزاة في الجيوش الإسلامية، فقد كان فيمن غزا الروم من أهل خُراسان وما وراء النهر في الغزوة التي سميت عامَ النفير. كما نذكر أنه كان في قلب السياسة، بقصيدته التي أجاب بها هجاء نقفور اللعين، فكان لها وقع الصواعق على الروم وملكهم وقادتهم. وقد أحسن السبكي حين شغل بهذه القصة نحو عشر صفحات من الجزء الثالث من كتابه الطبقات. * وهناك قفالٌ ثالث، وهو ابن القفال الكبير الشاشي، واسمه القاسم، فهو القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل، ومع أنه أولى بلقب (الصغير)، لكنه أبداً لم يعرف به، وذاعت شهرة كتابه (التقريب)، وتخرج به فقهاء خراسان، فغلب اسمُ الكتاب اسمَ صاحبه، فيقال دائماً: صاحب التقريب، كما في النهاية، فلم يذكره إمام الحرمين مرة واحدة باسمه، بل دائماً: (صاحب التقريب) على كثرة ما ذكره. وعندي أن هذا هو الذي أوقع الاختلاف في اسمه، فبعضهم يخطىء، فيقول:

" أبو القاسم " والصواب كما قلنا: أنه (القاسم) وكنيته أبو الحسن. توفي رحمه الله نحو 399 هـ. المحمدون الأربعة: يراد بهم: محمد بن نصر المروزي محمد بن إبراهيم بن المنذر محمد بن جرير الطبري. محمد بن إسحاق بن خزيمة * ومما يدخل في باب المصطلحات، قول السبكي (¬1): ومن مستحسن الكلام: الشيخ والقاضي زينة خراسان: وهما الشيخ أبو علي السنجي، والقاضي حُسين بن محمد بن أحمد المرورّوزي. والشيخ والقاضي زينة العراق، وهما الشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري. * ومن هذا الباب التفرقة بين القاضي أبي حامد، والشيخ أبي حامد: فالأول هو القاضي، أبو حامد، أحمد بن بشر بن عامر العامري، المرورُّذي، بميم مفتوحة، ثم راء ساكنة، ثم واو مفتوحة، ثم راء مضمومة مشدّدة (وقد تخفف) ثم ذال معجمة مكسورة نسبة إلى مرو الروذ، وقد يقال: المرُّوذي بضم الراء الأولى وتشديدها، وحذف الراء الثانية. صنف الجامع في المذهب، واشتهر به، فيقال: صاحب الجامع، وشرح مختصر المزني. توفي سنة 362 هـ وأما الشيخ أبو حامد، فهو شيخ طريقة العراقيين، الشيخ أبو حامد، أحمد بن محمد بن أحمد، الإسفراييني، ويعرف بابن أبي طاهر. توفي سنة 406 هـ * وكذلك التفرقة بين الأستاذ أبي إسحاق، والشيخ أبي إسحاق. فالأول هو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ويقال له غالباًْ الأستاذ أبو إسحاق، وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الأستاذ، الإسفراييني، برع في الكلام والأصول، ثم الفقه، ولذا تراه تكرر في البرهان لإمام الحرمين عشرات المرات على ¬

_ (¬1) قال هذا في ترجمة الشيخ أبي علي السنجي: 4/ 344.

من المصطلحات التي تتردد في كتابنا هذا (نهاية المطلب) ومنها ما هو خاص به، لم نره في غيره

حين لم يذكره بهذه الكثرة في النهاية. قيل فيه: إنه بلغ حد الاجتهاد؛ لتبحره في العلوم، واستجماعه شروط الإمامة، توفي سنة 418 هـ. أما الشيخ أبو إسحاق، فهو الشيخ أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله، الشيرازي الفيروزابادي، صاحب المهذب والتنبيه، بدأ تفقهه بفارس، ثم انتقل مبكراً إلى البصرة، فبغداد، وتفقه فيها على شيخه القاضي أبي الطيب الطبري، وجماعة من مشايخه، فهو عراقي وذاك خراساني، توفي ببغداد سنة 472 هـ. * وهناك أبو إسحاق ثالث، ولكنه لا يشتبه مع هذين، وهو أبو إسحاق المروزي، وهو إمام جماهير الأصحاب، وإليه منتهى الطريقتين، ولعلو منزلته إذا قيل (أبو إسحاق) مطلقاً عرف أنهم إياه يعنون، توفي سنة 345 هـ. من المصطلحات التي تتردّد في كتابنا هذا (نهاية المطلب) ومنها ما هو خاص به، لم نره في غيره وهذه المصطلحات بعضها علمية، وبعضها خاص بالرجال والكتب. فمن المصطلحات العلمية: الاستناد، وقد يقال: الإسناد. وهو مصطلح أصولي: معناه أن يثبت الحكم في الحال بوجود الشرط في الحال، ثم يستند الحكم في الماضي أي يرجع الملك القهقرى لوجود السبب في الماضي، وذلك كالحكم في المضمونات؛ تملك عند الضمان مستنداً إلى وقت وجود سبب الضمان، كما في الغصب، فإن الغاصب يملك المغصوب عند أداء القيمة مستنداً إلى وقت وجود السبب وهو الغصب، فإذا استولد الغاصب الجارية المغصوبة، فهلكت، ثم أدى الضمان، يثبت النسب من الغاصب؛ لأنها صارت ملكه من وقت الغصب وكما في الزكاة؛ فإن وجوبها عند تمام الحول يستند إلى ملك النصاب أول الحول. التبين: وهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي بوجود علة الحكم والشرط كليهما في الماضي، مثل أن يقول في يوم الجمعة: إن كان زيد في الدار، فأنت طالق، ثم يتبين يوم السبت أنه كان في الدار يوم الجمعة، فوقع الطلاق يوم الجمعة، ويعتبر ابتداء العدة منه، لكن ظهر هذا الحكم يوم السبت.

وإتماماً للفائدة نذكر مصطلحين آخرين يتصلان بما سبق ويتم بهما الكلام، وإن لم يكن لهما ذكر في (نهاية المطلب)، فالأحكام تثبت بطرق أربعة هي: الأول - الاقتصار: وهو أن يثبت الحكم عند وجود علته، لا قبله، ولا بعده، كما في الطلاق المنجز، فإن قال: أنت طالق، فيقع الطلاق عند قوله هذا، لا قبله ولا بعده. الثاني - الانقلاب: وهو صيرورة ما ليس بعلة علة، كما في تعليق الطلاق بالشرط، بأن قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق؛ فعند حدوث الشرط ينقلب ما ليس بعلة علة، يعني أن قوله: أنت طالق في صورة التعليق ليس بعلة قبل وجود الشرط، وهو دخول الدار، وإنما يتصف بالعلّية عند الدخول. والثالث والرابع، هما الاستناد والتبين، وقد تقدما. ... الارتكاب: تكرر هذا اللفظ بأكثر من صيغة من صيغ الاشتقاق، في مواضع كثيرة، على طول هذا الكتاب، ومنها على سبيل المثال قوله في خطبة الكتاب: " وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجهٌ غريب منقاس ذكرت ندوره وانقياسه، وإن انضم إلى ندوره ضعف القياس نبهت عليه ... وإن ذكر أئمة الخلاف وجهاً مرتكباً أنبه عليه ". وحين يعرض للاجتهاد في القبلة، يعقب على أحد الوجوه في صورة من الصور قائلاً: " وهذا إن ارتكبه مرتكب، ففيه بعدٌ ظاهر " وفي باب آخر يعقب على أحد الوجوه قائلاً: "ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلاف" وفي كتاب النكاح يعقب على إحدى المسائل قائلاً: " ولما نظر القفال إلى ما ذكرناه، لم يجد فرقاً، وارتكب طرد القياس في المسألتين اللتين ذكرهما صاحب التقريب، وقال أولاً: إنه حكى فيهما نص الشافعي، وقد تتبعت النصوص، فلم أجد ما حكاه من المسألتين منصوصاً ... ". هذه نماذج لورود هذا اللفظ، وصورٌ من اشتقاقاته، ولقد تبادر إلى الذهن أن هذا (الارتكاب) أحد مصطلحات علم الجدل والمناظرة، فبحثت واستقصيت جهدي في كل مظانه: في الكافية في الجدل لإمام الحرمين، المعونة في الجدل لأبي

ومن المصطلحات الخاصة بالكتب والرجال

إسحاق الشيرازي، واصطلاحات المتكلمين والفلاسفة للآمدي، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وتعريفات الجرجاني، وكليات أبي البقاء، ثم غريب ألفاظ الشافعي، ثم معاجم اللغة، ثم معجم الألفاظ التي شرحها ابن خلكان في الوفيات. ويبدو أن المراد بالارتكاب هنا التعسف وركوب الطريق غير السوي، يظهر ذلك من سياق العبارات التي أمامنا، والذي يرشح هذا التفسير أن هذا (الارتكاب) يكون عادة من أئمة الخلاف، عند نصرة كل صاحب رأي لرأيه فيعتسف أيّ طريق، انتصاراً لرأيه، وفراراً من إلزامات خصمه. والله أعلم. ومن المصطلحات الخاصة بالكتب والرجال (¬1): السواد: يعني به الإمام مختصر المزني، وهذا اصطلاح خاص به، فلم نره لغيره. صاحب التلخيص: وهو أبو العباس أحمد بن أبي أحمد، القاص، الطبري، توفي سنة 335 هـ. صاحب التقريب: هو الإمام، أبو الحسن، القاسم بن الإمام أبي بكر محمد بن علي القفال الشاسي، توفي نحو سنة 399 هـ وقد تقدم آنفاً بأتم من هذا. الأستاذ أبو منصور البغدادي، وقد يطلقه، فيقول: الأستاذ بغير قيد، وذلك في كتاب الفرائض فقط، ويسميه إمام الصناعة مطلقاً، فلا يشتبه بالأستاذ أبي إسحاق. وأبو منصور، هو الأستاذ أبو منصور، عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله، البغدادي، التميمي، الإسفراييني، كان يدرّس في سبعة عشر فناً، صاحب (الفرق بين الفرق) ولد ونشأ في بغداد، ورحل إلى خراسان، فاستقر في نيسابور، ثم فارقها، مات في إسفراين سنة 429 هـ. بعض المصنفين: يعني به أبا القاسم الفوراني، صاحب الإبانة، وهو الإمام، أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران، توفي سنة 461 هـ. (وقد بينا حاله مع إمام الحرمين في أكثر من موضع، وأكثر من تعليق) ¬

_ (¬1) انظر الشكل الرابع.

الشكل الرابع: يبين اصطلاح الإمام في الألقاب والكنى التي يطلقها على رجال المذهب الذين لهم ذكر في (نهاية المطلب). 1 - إبراهيم البلدي: إبراهيم بن محمد نسبة إلى بلد. ت قبل 300 هـ. 2 - الأستاذ أبو إسحاق: لا يأتي إلا بهذا اللقب والمقصود أبو إسحاق الإسفراييني. ت 418 هـ. 3 - الأستاذ أبو منصور البغدادي. ت 429 هـ. 4 - أبو إسحاق: ويقيده أحياناً فيقول أبو إسحاق المروزي. ت 340 هـ. وأحيانا المروزي 5 - الاصطخري وأحياناً أبو سعيد الإصطخري. ت 328 هـ. 6 - أحمد بن بنت الشافعي: يأتي هكذا دائماً. ت 295هـ. 7 - أبو بكر الإسماعيلي: يأتي هكذا دائماً. ت 371 هـ. 8 - أبو بكر الطوسي ت420 هـ. 9 - أبو بكر الفارسي: لايأتي إلا هكذا. ت 305 أو 350 هـ. 10 - أبو بكر المحمودي: وقد يقول: المحمودي. ت بعد 300 هـ. 11 - الأودني أبو بكر ت 385. 12 - بعض المصنفين: لا يأتي إلا هكذا، والراد أبو القاسم الفوراني. ت 461 هـ 13 - البويطي: يأتي هكذا دائماً. ت 231 هـ. 14 - أبو ثور: يأتي هكذا دئماً. ت 240 هـ. 15 - أبو جعفر الترمذي- ت 295 هـ. 16 - أبو حامد المروروذي يأتي هكذا والمقصود القاضي أبوحامد. ت 362 هـ. 17 - ابن الحداد: يأتي هكذا دائماً. ت 345 هـ. 18 - حرملة: يأتي هكذا دائماً. ت 243 هـ. 19 - الحسين الكراييسي: ومرة قال: الكرابيسي. ت 245 هـ. 20 - أبو حفص الوكيل: ومرة ابن الوكيل. ت 310 هـ. 21 - الحليمي أبو عبد الله. ت 403 هـ. 22 - الخضري: يأتي هكذا دائماً. ت 373 هـ. 23 - ابن خيران: يأتي هكذا دائماً. ت 320 هـ. 24 - الربيع: يأتي هكذا مطلقاً: فحيث أطلق فهو ابن سليمان المرادي ت 270 هـ. 25 - الربيع بن سليمان الجيزي: يأتي هكذا دائماً. ت 256 هـ. 26 - الزبيري: وأحياناً أبوعد الله الزبيري وقد يذكره بصاحب الكافي. ت 317 هـ. 27 - الزعفراني، الحسن بن محمد ت260 هـ. 28 - الزيادي، أبو طاهر محمد بن محمد ت 411 هـ. 29 - أبو زيد: وقد يرد أبو زيد المروزي، وأحيا ناً الشيخ أبو زيد المروزي. ت 371 هـ. 30 - الساجي، زكريا بن يحيى ت 307 هـ. 31 - ابن سريج: لا يأتي إلا هكذا. ت 306 هـ. 32 - الشيخ الإمام سهل الصعلوكي ت 404 هـ. 33 - الشيخ أبوحامد الاسفراييني. ت 406 هـ. 34 - الشيخ أبو علي: يرد هكذا غالباً، والمراد به: أبو علي السنجي. ت 430 هـ. وقد يرد: الشيخ (مطلقاً) الشيخ في الشرح الشيخ في شرح التلخيص، الشيخ في شرح الفروع الشيخ أبو علي في شرح التلخيص، الشيخ أبو علي في شرح الفروع. 35 - شيخي: المراد به: أبو محمد الجويني الأب. 438 هـ. وأحياناً يقول: شيخنا، وأحياناً: الإمام. ومرة قال: الشيخ الأب. ومرة قال: الشيخ أبو محمد ومرة قال: الشيخ والدي. 36 - صاحب التقريب: لا يأتي إلا هكذا. قبل: 400 هـ. 37 - صاحب التلخيص: يأتي هكذا ومرة قال: أبو العباس. 335 هـ. 38 - الصيدلاني: يأتي هكذا غالباً وأحياناً الشيخ أبو بكر. 427 هـ أو أبو بكر الصيدلاني أو شيخنا أبو بكر الصيدلاني. ونادراً أبو بكر. 39 - الصيرفي أبو بكر محمد بن عبد الله 330 هـ. 40 - أبو الطيب بن سلمة. ت 308 هـ. 41 - أبو عبيد بن حربويه 319 هـ. 42 - أبو علي الطبري: لا يأتي إلا هكذا. ت350 هـ. 43 - أبو القاسم الأنماطي: يأتي هكذا غالباً. ت 288 هـ. 44 - القاضي أبو الطب الطبري: ومرة القاضي أبو الطيب. ت 450 هـ. 45 - القاضي يأتي هكذا مطلقاً، وأحياناً: القاضي حسن. ت 462 هـ. 46 - القفال: يأتي هكذا فقط مطلقاً والمراد القفال الصير المروزي. ت 417 هـ. 47 - القفال الشاشي: لا يأتي إلا هكذا، وهو القفال الكبير. ت 365هـ. 48 - ابن اللبان ت 446 هـ. 49 - الماسَرْجِسِي، أبو الحسن. ت 384 هـ. 50 - المحاملي: يأتي هكذا دائماً. ت 415 هـ. 51 - المزني يأتي هكذا. ت 264 هـ. 52 - أبو نصر الفشيري: الإمام عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم. ت 514 هـ. 53 - ابن أبي هريرة: وأحيا ناً أبوعلي بن أبي هربرة. ت 345 هـ. 54 - أبو الولد النيسابوري ت 349 هـ. 55 - أبو يحيى البلخي ت 330 هـ. 56 - أبو يعقوب الأبيوردي نحو 400 هـ. 57 - يونس بن عبد الأعلى: يأتي هكذا. ت 264 هـ.

بعض التصانيف: ويقصد بها مصنفات الفوراني (بعض المصنفين) وأشهرها (الإبانة). شيخي: يريد به والده الشيخ أبا محمد الجويني. المتوفى سنة 438 هـ. الشيخ: إذا أطلقه الإمام، فهو الشيخ أبو علي الجويني، وكذلك لو قال: الشيخ أبو علي، أو الشيخ في الشرح، فالمراد بهذه كلها الشيخ أبو علي، الحسين بن شعيب بن محمد السنجي، المتوفى سنة 430 هـ ومرة واحدة -فيما أذكر- قال: (الشيخ) وأراد به القفال، وقد بيناها في الحاشية .. الشيخ أبو بكر: ويقصد به أبا بكر الصيدلاني. ت 427 المحاملي: هذا اللقب أو النسبة حمله نحو ستة من أعلام الفقه الشافعي بعضهم أب لبعض، والذي يعنيه الإمام هنا هو أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الضبي، ويعرف بابن المحاملي، صاحب اللباب، والمجموع، والمقنع، وغيرها، وله تعليقة عن الشيخ أبي حامد. والمحاملي هذا هو الأكثر ذكراً وأثراً في الفقه، توفي سنة 415 هـ. المحققون: يستخدم الإمام هذا اللفظ كثيراً، وبالتتبع والملاحظة ظهر أن المحققين عنده هم: 1 - صاحب التقريب. توفي قبل 400 هـ. 2 - القفال الصغير المروزي، عبد الله بن أحمد ت 417 هـ. 3 - الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني. ت 418 هـ. 4 - الشيخ أبو بكر الصيدلاني. ت 427 هـ. 5 - الشيخ أبو علي السنجي. ت 430 هـ. 6 - الشيخ أبو محمد الجويني. ت 438 هـ. 7 - القاضي حسين. ت 462 هـ. أثبات النقلة: يعني بهم الإمام:

1 - الشيخ أبا بكر الصيدلاني 2 - الشيخ أبا علي السنجي 3 - الشيخ أبا محمد الجويني 4 - القاضي حسين الأئمة المعتبرون في المذهب: وهم أثبات النقلة السابقون، وزاد عليهم: الحليمي وهو الإمام الكبير أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد الحليمي، صاحب (المنهاج) في شعب الإيمان، وهو من كبار أصحاب الوجوه. توفي سنة 403 هـ. القفاليون = المراوزة الآخذون عن القفال = أصحاب القفال (يعبّر عنهم بواحدة من هذه العبارات الثلاث) وهم: 1 - أبو بكر الصيدلاني 2 - أبو علي السنجي 3 - أبو محمد الجويني 4 - القاضي حسين. أئمتنا: يعبر الإمام -أحياناً- بهذا اللفظ عن شيوخ المراوزة، وذلك عندما يستحضر صفته المروزية؛ فيقول: أئمتنا ويعني بهم أئمة المراوزة. مَنْ لا أعدل به أحداً من بني الزمان: جاء في كتاب الخلع قول الإمام: " قال من لا أعدل به أحداً من بني الزمان: سألت القاضي -وهو على التحقيق حَبْر المذهب- لم غلّبنا في بعض هذه المسائل حكم المعاوضة؟ وغلبنا في بعضها حكم التعليق؟ وأثبتنا الأحكام على الاشتراك في بعضها؟ ... " وقد يتبادر إلى الذهن أنه يعني بمن لا يعدل به أحدً من بني الزمان، والده الشيخ أبا محمد، ولكن يعكر على هذا أن والده أسنّ من القاضي، حيث توفي سنة 438 هـ. في حين كانت وفاة القاضي سنة 462 هـ. وقد كدنا نقول إن المقصود هو الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم القشيري. فالإمام كان يعتز به ويكثر الثناء عليه، ونقل عنه مسائل في الدور والوصية

في كتابنا هذا، وكان يجلس بين يديه مع أنه تلميذه، ولكن يعكر على هذا أيضاً أن الإمام عبد الرحيم بين وفاته ووفاة القاضي حسين اثنان وخمسون سنة، ولم نجد من يبين لنا تاريخ الإمام عبد الرحمن فإذا فرضنا أنه مات قي نحو الستين من عمره. فيكون عمره عند وفاة القاضي لا يسمح بنقل العلم عنه. ولذا لا يترجح عندنا بعد من يعنيه الإمام هنا. ***

الفصل الثالث تعريف بإمام الحرمين، ومنزلته بين أئمة المذهب

الفصل الثالث تعريف بإمام الحرمين، ومنزلته بين أئمة المذهب

تعريف بإمام الحرمين نتناول في هذه العجالة ترجمة موجزة لإمام الحرمين، نحاول فيها أن نُظهر بعضَ ملامح عصره والعوامل المؤثرة في حياته، وسمات شخصيته. وسآخذ نفسي بأمرين: الأول: الإيجاز؛ ذلك لأنني كتبت عن إمام الحرمين: علمه ومنهجه، ومنزلته، في دراسات أفردتها لذلك، وفي مقدمات كتبه التي وفقني الله سبحانه لتحقيقها ونشرها، ومن أجل هذا سيكون ما اكتبه في جملته معاداً مكروراً، وهذا من أشق الأمور على نفسي، وأثقلها على قلبي، وأصعبها على قلمي، وتلك خطة التزمتها، فمذ حملت القلم، كُرِّه إلى الكتابة في موضوعات معادة مكرورة، ولعل هذا من آثار صحبة إمام الحرمين، فقد كان يقول: " حق على من تتقاضاه قريحته تأليفاً، وجمعاً وترصيفاً، أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يلفى في كتاب، ولا يصادف في تصنيف " أ. هـ ومن بعده قال ابن العربي تلميذُ تلميذه: " لا ينبغي لحصيف يتصدى لتصنيف أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعاً ومبنى، وما سوى هذين الوجهين، فهو تسويد الورق، والتحلّي بحلية السرق " أ. هـ. الثاني: سأحاول أن أضيف جديداً من ملامح شخصية إمام الحرمين، مما رأيته في كتابه أكبر (نهاية المطلب في دراية المذهب). ***

إمام الحرمين في الزمان والمكان

إمام الحرمين في الزمان والمكان ولد إمام الحرمين رضي الله عنه في ثامن عشر المحرم سنة 419 تسع عشرة وأربعمائة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وصلم، وتوفي ليلة الأربعاء بعد صلاة العشاء الخامس والعشرين من شهر رييع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (25 ربيع الآخر سنة 478) فكانت حياته رضي الله عته تسعاً وخمسين سنة وثلاثة أشهر وسبعة أيام. كانت ولادته في نيسابور من أشهر مدن إقليم خراسان، ذلك الإقليم الذي كان من مدنه: هراة، ومرو، وبلخ، وطالقان، ونسا، وأبيورد، وسرخس، وغيرها. هذا ما شغله من الزمان والمكان، مضافاً إليه أنه أُخرج أو خرج -في قصة طويلة- مع نحو أربعمائة من أئمة الإسلام، في المحنة المعروفة بمحنة أهل السنة، فخرج إلى الحرمين الشريفين، وكان الأئمة يقدمونه ليصلِّي بهم، ومن أجل ذلك جاءه هذا اللقب، الذي عرف به: إمام الحرمين هذا كل ما شغله من المكان والزمان، أما المكانة والمنزلة، فقد ملأ سمع الدنيا بمشرقها ومغربها منذ نبغ، وملأ أيامها منذ كان إلى اليوم، بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. العوامل التي ساعدت في بناء شخصيته العلمية أ- بيته ونشأته: ولد إمام الحرمين في حِجْر الإمامة، فوالده هو الإمام أبو محمد، عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني. كان إمام عصره في نيسابور، تفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، وأبي بكر عبد الله بن أحمد القفال المروزي، وقرأ الأدب على والده يوسف الأديب (بجوين)، وسمع أستاذَيه أبا عبد الرحمن السلمي، وأبا محمد بن بابَوَيْه الأصبهاني، وببغداد أبا الحسن محمد بن الحسين بن الفضل بن نظيف الفراء، وغيرهم.

ب- الحياة العلمية في عصره

برع في الفقه، وصنف فيه التصانيف المفيدة، وشرح المزني شرحاً شافياً، وشرح الرسالة للشافعي. وكان ورعاً دائم العبادة شديد الاحتياط، مبالغاً فيه. توفي سنة 438 هـ. هذا والده الإمام الفقيه المحدث الورع العابد، شارح الرسالة والمزني. وأما عمه، فهو أبو الحسن علي بن يوسف الجويني المعروف بشيخ الحجاز، كان -فيما حكاه ياقوت في معجمه- صوفياً لطيفاً ظريفاً فاضلاً، مشتغلاً بالعلم، والحديث، صنف كتاباً فى علوم الصوفية مرتباً مبوباً سماه كتاب السلوة، سمع شيوخ أخيه، وسمع أيضاً أبا نعيم بن عبد الملك بن الحسن الإسفراييني بنيسابور، وبمصر أبا محمد عيد الرحمن بن عمر النحاس، وروى عنه زاهر ووجيه ابنا طاهر الشحاميان، ومات بنيسابور سنة 463 هـ (¬1). أما جده، فكان علمه الذي نبغ فيه وعرف به علم الأدب، قال ياقوت وهو يترجم لوالد الإمام: إنه قرأ عليه الأدب في جوين. فجده أديب مرموق، وعمه محّدث صوفي، ووالده فقيه أصولي، وقد أحسن ابن عساكر التعبير عن ذلك في التبيين، فقال: " رباه حجر الإمامة، وحرك ساعدُ السعادة مهده، وأرضعه ثديُ العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ونبغ " (¬2). ب- الحياة العلمية في عصره: كان القرن الخامس الهجري يمثل أخصب فترات الحصاد لنهضة أمتنا العلمية الرائعة، فقد نبغ فيه أعلامٌ وأئمة في كل فن، نذكر منهم على سبيل المثال: * أبو عبد الرحمن محمد بن الحسن بن بن موسى الأزدي النيسابوري صاحب التصانيف التي بلغت نحو مائة مصنف ت 412 هـ. * القاضي عبد الجبار بن أحمد شيخ المعتزلة، قاضي القضاة، الأصولي، المتكلّم، صاحب المغني، ت 415 هـ. ¬

_ (¬1) معجم البلدان 2/ 193 - بتصرف. (¬2) التبيين: ج 2، ورقة 73 - 74.

* القفال الصغير - المروزي عبد الله بن أحمد أبو بكر، وحيد زمانه، علَم الشافعية، أستاذ أبي محمد الجويني ت 417 هـ. * الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، الإمام في الفقه والأصول ت 418 هـ. * ابن مِسكويه من أعلام علم الفلسفة والأخلاق ت 421 هـ. * ابن سينا الشيخ الرئيس، صاحب الشفاء ت 428 هـ. * عبد القاهر البغدادي بن طاهر بن محمد بن عبد الله، عالم متفنن، صاحب الفرق بين الفرق، كان يدرّس في سبعة عشر فناً ت 429 هـ. * أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني، والد إمام الحرمين، شارح الرسالة، والمزني شيخ الشافعية ت 438 هـ. * البِيروني: محمد بن أحمد أبو الريحان، الرياضي الفيلسوف، صاحب التصانيف التي تفوق العَدَّ في الهيئة والنجوم، والمنطق والفلسفة ت 440 هـ. * أبو عبد الله الخبازي عالم القراءات، والتفسير ت 449 هـ. * أبو عثمان الصابوني، إسماعيل بن عبد الرحمن، شيخ الإسلام، الواعظ، المفسر، المصنف، عمدة التفسير والحديث ت 449 هـ. * الماوردي، أبو الحسن، أقضى القضاة، إمام الشافعية، صاحب الحاوي، والأحكام السلطانية ت 450 هـ. * ابن حزم، علي بن أحمد، الفقيه الصولي الأديب، إمام أهل الظاهر، عبقرية الأندلس، صاحب المحلّى، والإحكام، والفِصَل في الملل والنحل ت 456 هـ. * أبو يعلى، القاضي، محمد بن الحسين الفراء، الفقيه الحنبلي ت 458 هـ. * ابن سيده، علي بن إسماعيل، صاحب المخصص، من أثمن كنوز العربية، وصاحب المحكم والمحيط الأعظم، وشارح الحماسة ت 458 هـ. * البيهقي أبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي، إمام الحديث والفقه، جامع نصوص الشافعي، وناشر علمه ت 458 هـ.

* الفُوراني، أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران، تلميذ القفال، صاحب الإبانة ت 461 هـ. * ابن عبد البر أبو عمر، يوسف بن عبد البر، النمري، القرطبي، المحدث الفقيه، صاحب الاستذكار ت 463 هـ. * الخطيب البغدادي، الحافظ، أبو بكر، أحمد بن علي، صاحب تاريخ بغداد، والكفاية، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، بلغت مؤلفاته نحو ثمانين مؤلفاً، ت 463 هـ. * القُشَيري، عبد الكريم بن هوازن، صاحب الرسالة ت 465 هـ. * الحرة، كريمة بنت أحمد، راوية الصحيح ت 465 هـ. * الباخرزي، علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب، أبو الحسن، أديب من الشعراء والكتاب، له علم بالفقه والحديث، صاحب دمية القصر وعصرة أهل العصر ت 467 هـ * الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، أبو بكر، واضع أصول البلاغة، أحد أئمة اللغة والبيان، صاحب أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز ت 471 هـ. * الباجي، سليمان بن خلف بن سعد، التُّجِيبي القرطبي، أبو الوليد، فقيه المالكية وأحد أعلامهم، أصولي محدث، صاحب إحكام الفصول في أحكام الأصول، وشرح المدونة ت 474 هـ. * والأعلم الشَّنْتَمري، يوسف بن سليمان بن عيسى أبو الحجاج، عالم بالأدب والشعر، صاحب شرح ديوان زهير، وشرح الحماسة، والنكت على كتاب سيبويه، ت 476 هـ. * المجاشعي، علي بن فَضّال بن علي بن غالب، أبو الحسن، صاحب شجرة الذهب في معرفة أئمة الأدب، ت 479 هـ.

* فاطمة بنت الحسن، الكاتبة، وهي التي كتبت كتاب الخليفة إلى طاغية الروم، ت 480 هـ. * السرخسي، محمد بن أحمد بن سهل، شمس الأئمة، إمام الأحناف، صاحب المبسوط، ت 483 هـ. * الزَّوْزَني، حسين بن أحمد، القاضي العالم بالأدب، شارح المعلقات، ت 486 هـ. * ابن بُندار، عبد السلام بن محمد القزويني، شيخ المعتزلة في عصره، له تفسير في 300 جزء، ت 488 هـ. * الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد أبو القاسم، أديب لغوي، مفسر، من الحكماء العلماء، كان يقرن بالغزالي، صاحب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وجامع التفاسير، والمفردات، ت 502 هـ. * الروياني، عبد الواحد بن إسماعيل، فخر الإسلام، إمام الشافعية، صاحب بحر المذهب، ت 502 هـ. * أبو حامد الغزالي، محمد بن محمد، حجة الإسلام، تلميذ إمام الحرمين، الفقيه الأصولي، المتكلم، النظار، المتصوف، قامع الباطنية، وملاحدة الفلاسفة، ت 505 هـ. هؤلاء الأعلام نماذج لآلاف من الأئمة كانت تموج بهم الحياة حول إمام الحرمين، في كل مدن الإسلام وحواضره، كانت مدارس، ومعاهد، ومكتبات، ومجالس علم، ومناظرات، ومحاورات، وجدل وصراع، وهجوم ودفاع، كانت الحياة العلمية والفكرية تمور وتفور، تصطرع فيها تيارات، ومذاهب واتجاهات، كان هناك الفكر الوافد من الترجمات عن اليونانية (علوم الأوائل) وكان هناك بقايا من عقائد وملل بائدة، فظهرت الباطنية، والغنوصية، والقرمطية، والزندقة، إلى جانب الجدل الإسلامي المسيحي، إلى ما كان من تأثر بفلسفة اليونان، في الإلهيات، كل هذا جعل الحياة الفكرية العلمية تعيش أزهى فترات نشاطها، وتوثبها، وقوتها، وحيويتها، وفي هذا الخضم المتلاطم كان إمام الحرمين.

ج- صفاته

ج- صفاته: وكان الأمر الثالث الذي ساعد على بلوغ الإمام هذه المكانة، وجعله يتبوأ هذه المنزلة هو ما يعبر عنه في أيامنا هذه بالاستعداد الفطري، والموهبة، فقد حباه الله سبحانه بصفات نادرة منها: * أنه كان يتمتع بذاكرة نادرة، وحافظة لاقطة، روَوْا عنه أنه " كان يذكر دروساً يقع كل واحد منها في عدة أوراق، ولا يتلعثم في كلمة منها، ولا يحتاج إلى إبدال كلمة منها مكان غيرها، بل يمر فيها مراً كالبرق الخاطف، بصوت مطابقٍ كالرعد القاصف " (¬1). * كما وهبه الله ذكاء نادراً، فقد ظهرت عليه مخايل النجابة والنبوغ من صغره، حتى " كان أبوه يُزهَى بطبعه وتحصيله، وجودة قريحته، وكياسة غريزته، لما يرى فيه من المخايل " (¬2). وقد هيأ له ذلك الذكاء، وهذا النبوغ، تلك المنزلة التي جعلت الأئمة يُقعدونه للتدريس مكان أبيه، وهو دون العشرين سنة (¬3)، على حين كانت نيسابور تموج بالأئمة الأعلام. * كما تميز بصبر ودأب نادرين في طلب العلم والبحث، فمع أنه أقعد للتدريس مكان أبيه مبكراً، إلا أن ذلك لم يشغله عن البحث والدرس، " فكان يقيم الرسمَ في درسه ويخرج منه إلى مدرسة البيهقي يتتلمذ على أبي القاسم الإسكافي " (¬4). " وكان يبكر قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القراءات ويقتبس من كل نوع من العلوم " (¬5). ¬

_ (¬1) وفيات الأعيان 2/ 341. (¬2) تبيين كذب المفتري 2/ورقة 74. (¬3) المنتظم 7 ورقة 1. (¬4) تبيين كذب المفتري: 2/ورقة 75. (¬5) السابق نفسه.

روى ابن عساكر بسنده أن إمام الحرمين كان يقول: "أنا لا أنام، ولا آكل عادة، وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلاً كان أو نهاراً، وآكل إذا اشتهيت الطعام، أيَّ وقت كان" (¬1). * كان يؤمن أن العلم لا نهاية له، ولا حدود، وما كان يترك فرصة يستزيد فيها علماً، إلا واغتنمها، وسعى إليها: في سنة 469 هـ، وهو في ذلك الحين إمام الأئمة، فخر الإسلام، وكان قد جاوز الخمسين من عمره، في ذلك الحين قدم إلى نيسابور الشيخ أبو الحسن علي بن فَضَّال بن علي المجاشعي، النحوي، الأديب، فقابله إمام الحرمين بالإكرام، وأخذ في قراءة النحو عليه والتلمذة له، وكان يحمله كل يوم إلى داره، ويقرأ عليه كتاب (إكسير الذهب في صناعة الأدب) وكان المجاشعي يقول: " ما رأيت عاشقاً للعلم -أي نوعِ كان- مثل هذا الإمام " (¬2). * التواضع " فما كان يستصغر شأن أحد أياً كان، حتى يسمع كلامه، شادياً كان أو متناهياً، فإن أصاب كياسةً في طبع، أو جرياً على منهاج الحقيقة، استفاد منه صغيراً أو كبيراً، ولا يستنكف أن يعزو الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: هذه الفائدة مما استفدته من فلان " (¬3). ولعل أوضح ما يوضح ذلك -مما لا نعرف له مثيلاً- أنه كان لا يستنكف أن يتعلم من تلاميذه بعض الفنون التي نبغوا فيها، ولا يجد في ذلك حرجاً، ولا غضاضة، جاء في ترجمة الإمام عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم أبي القاسم القشيري: " تخرج على إمام الحرمين، وواظب على درسه، وصحبه ليلاً ونهاراً، وكان الإمام يعتد به، ويستفرغ أكثر أيامه معه، مستفيداً منه بعض مسائل الحساب في الفرائض، والدَّوْر، والوصية " (¬4). وليس هذا فقط، بل كان ينقل عنه ما يتعلّمه منه، ويدوّنه في كتبه، قال ¬

_ (¬1) التبيين: نفسه. (¬2) طبقات السبكي: 5/ 180. (¬3) التبين: 2/ورقة 79. (¬4) طبقات السبكي 7/ 165.

د- أساتذته وشيوخه

السبكي: " وأعظم ما عظم به الإمام عبد الرحيم أن إمام الحرمين نقل عنه في كتاب الوصية (¬1)، وهذه مرتبةٌ رفيعة " (¬2) رضي الله عن إمام الحرمين، ورضي الله عن إمامنا الشافعي، الذي كان يقول لتلميذه أحمد بن حنبل: " يا أحمد إذا صح عندك الحديث، فأعلمني به ". * ومع هذا التواضع، كان حرّ الرأي والضمير، لا يقلد أحداً، ولا يلتزم إلا بالدليل، ولا يخضع إلا للبرهان، " فمنذ شبابه رفض أن يقلد والده وأصحابه، وأخذ في التحقيق " (¬3) وفي هذا المجال " لم يكن يحابي أحداً، ولو كان أباه، أو أحد الأئمة المشهورين، قال في اعتراض على والده: هذه زلة من الشيخ رحمه الله " (¬4). * كان من الكرم والسخاء مضرب الأمثال، ولم يشتغل بمالٍ يثمره، أو يدّخره، بل " كان ينفق من ميراثه، ومن معلوم له على المتفقهة " (¬5). * كذلك رزقه الله رقة القلب والخشوع، حتى إنه " كان يبكي إذا سمع بيتاً، أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا وعظ ألبس الأنفس من الخشية ثوباً جديداً، ونادته القلوب: إننا بشر فأسجح، فلسنا بالجبال ولا الحديدا " (¬6). في هذه البيئة العلمية درج، وفي هذا البيت الطاهر نما، وبهذه المواهب الربانية سما ونبغ. د- أساتذته وشيوخه: تتلمذ أول ما تتلمذ، وسمع أول ما سمع من أبيه، الإمام أبي محمد صاحب التفسير الكبير، والتبصرة، والتذكرة، وشرح الرسالة .. وغيرها، فقد "أتى على ¬

_ (¬1) انظر نهاية المطلب 11/ 201، لترى تفصيل ما نقله إمام الحرمين عن تلميذه. (¬2) طبقات السبكي، الموضع السابق نفسه. (¬3) تبيين كذب المفتري: 7 ورقة 74. (¬4) شذرات المذاهب: 32/ 360. (¬5) طبقات السبكي: 5/ 175. (¬6) السابق نفسه: 5/ 167.

هذه المصنفات، وقلبها ظهراً لبطن، وتصرف فيها، وخرج المسائل بعضها على بعض" (¬1). وانكب على علوم عصره وفنونه يأخذها عن أعلامها، فخرج إلى مدرسة البيهقي يأخذ الأصول عن أبي القاسم الإسكافي الإسفراييني. كما درس في أول أمره على الشيخ أبي القاسم الفوراني (¬2). * أما الحديث، فقد سمع من أبي بكر أحمد بن محمد بن الحارث الأصبهاني التميمي، كما سمع من أبي سعد عبد الرحمن بن حمدان النيسابوري النَّضْروي، وأبي حسان محمد بن أحمد المزكي، ومنصور بن رامش. كما سمع من أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن يحيى المزكي، وسمع سنن الدارقطني من أبي سعد، عبد الرحمن بن الحسن بن عَلِيَّك، وسمع من أبي عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النيلي، وأجاز له أبو نُعيم صاحب الحلية، وحدّث. * وأما القراءات، فقد كان يبكر كل يوم إلى مسجد أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القراءات، ويقتبس من كل نوع من العلوم. * وأما النحو فقد درس -مع ما درس في مطلع حياته- كتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب، على مؤلفه الشيخ أبي الحسن علي بن فَضَّال المجاشعي، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. درس إمام الحرمين على هؤلاء الأعلام وغيرهم، ولم يكن هذا هو طريقه الوحيد طبعاً، فقد جاء في (تبيين كذب المفتري) عنه أنه قال عن دراسته لعلم أصول الفقه، على أستاذه أبي القاسم الإسكافي الإسفراييني: "كنت قد علّقت عليه في الأصول ¬

_ (¬1) وفيات الأعيان: 2/ 341. (¬2) ولقد حدثت بينه وبين الفوراني نفرة، حيث رأى أن الفوراني لم يحلّه المحلّ اللائق به، فانصرف عنه، وظل لهذه النفرة أثر في نفس إمام الحرمين، جعلته يكثر من الحط عليه، وإذا تعرض للنقل عنه أو مناقشة آرائه، لم يصرح باسمه، وإنما قال عنه: " بعض المصنفين " وسترى ذلك مراتٍ لا تعدّ ولا تحصى في كتابنا هذا.

أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلّدة". هكذا درس مع أستاذه أجزاء معدودة، " وطالع في نفسه مائة مجلدة " وتلك لعمري هي الدراسة، فمهما اتسع وقت الشيخ لتلميذه، فلن يحيط معه بأكثر من " أجزاء معدودة ". أما المطالعة والتحصيل، فلا حدود لها، وهذا ما يعبر عنه عند علماء التربية المعاصرين، بأن الشيخ لا يعلّم التلميذ العلم، وإنما يعلّمه كيف يتعلم، أي كيف يحصّل العلم. ونستطيع من معايشتنا لإمام الحرمين ومصاحبتنا له هذا العمر، واستماعنا إليه طول هذه السنوات أثناء تحقيقنا لآثاره أن نقول: إنه استوعب علوم عصره، وأحاط بآثار أعلام الأئمة في كل فن، واستوعب علومهم، فمن هؤلاء: الإمام أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، من متكلمي أهل السنة والقاضي عبد الجبار بن أحمد، والنظّام، وأبو علي الجبائي، وابنه أبو الهاشم، والكعبي من متكلمي المعتزلة. * كما ظهر من كتابه الفذ (نهاية المطلب في دراية المذهب) أنه استوعب علم القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المرورُّزي ثم البصري (ت 362 هـ) وعلمَ الشيخ أبي حامد الإسفراييني أحمد بن محمد بن أحمد، ويعرف أيضاً بابن أبي طاهر (ت 406 هـ) وكذلك أحاط بفقه ابن الحداد، أبو بكر محمد بن أحمد القاضي المصري، تلميذ أبي إسحاق المروزي (ت 345 هـ)، فهو كثير النقل عن كتابه الفروع، ومناقشة مسائله. أما ابن سُرَيْج، فهو أحمد بن عمر أبو العباس المتوفى 306 هـ، أحد أعمدة المذهب، فقد تردد ذكره في (النهاية) والنقل عنه مما يوحي بتلمذة الإمام له، والإحاطة بفقهه، وربما كان أكثر من عني الإمام بالنقل عنهم هما الشيخ أبو علي، وصاحب التقريب، فأما الشيخ أبو علي، فهو أبو علي السنجي، الحسين بن شعيب بن محمد، من سِنْجه، أكبر قرى مرو، أول من جمع بين طريقتي الخراسانيين والعراقيين، له شرح الفروع، وشرح التلخيص (ت 430 هـ).

وأما صاحب التقريب، فهو القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل، ابن القفال الكبير محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، وكنية الكبير أبو بكر، أما صاحب التقريب، فكنيته أبو الحسن ويخطىء من يقول: أبو القاسم، بل القاسم اسمه، وقد توفي الكبير 365 هـ، وأما صاحب التقريب، فقد توفي نحو 400 هـ. كما أخذ الإمام عن القفال الأشهر، والأكثر ذكراً في كتب الخراسانيين، وهو القفال الصغير، عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي، وكنيته أبو بكر مثل الكبير، ويفرق بينهما بأن هذا مروزي، والكبير شاشي، وهذا أكثر ذكراً في كتب الفقه، والكبير أكثر ذكراً في كتب التفسير والحديث والأصول والكلام والجدل، وقد توفي القفال الصغير سنة 417 هـ. وكذلك عن القاضيين، القاضي حسين، وهو الحسين بن محمد بن أحمد أبو علي المرورّوزي، وهو الذي إذا أطلق المراوزة (القاضي) فإياه يعنون (توفي 462 هـ). والقاضي الثاني هو القاضي أبو الطيب الطبري، وهو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، وحيث أطلق العراقيون لفظ (القاضي) فإياه يعنون (ت 450 هـ). وكذلك ينقل عن صاحب التلخيص، أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاصّ (ت 335 هـ). كما اعتمد في كتاب الفرائض والوصايا على فقه أبي منصور البغدادي، عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي الأستاذ أبي منصور البغدادي، كان يدرّس في سبعة عشر فناً، وبرع في الجبر والحساب (ت 429 هـ). هؤلاء الأعلام أهم شيوخه وأساتذته، أخذ عمن أخذ منهم مشافهة ومجالسة، وعن باقيهم بالرواية والمطالعة. ***

منزلته العلمية

منزلته العلمية (علومه وفنونه-كتبه ومؤلفاته-منهجه-تلاميذه-أثره) أولاً: علومه وفنونه التي نبغ فيها: مثل كل علماء عصره وأئمته درس كل فنون العصر وعلومه، ما كان يعرف منها بعلوم الوسائل، وما كان يعرف بعلوم الغايات، وهكذا كان علماؤنا، وأئمتنا، ما كانوا يعرفون هذا الذي نسميه (الآن) التخصص الضيق، ولذا نجد كتب التراجم والطبقات تترجم لأحدهم، فتقول -بعد أن تذكر دراسته، وشيوخه- "وعلمه الذي نبغ فيه كذا ... ". نبغ إمامنا في علومٍ وفنون كثيرة، منها: 1 - علم الفقه. 2 - أصول الفقه. 3 - علم الخلاف وعلم الجدل. 4 - السياسة الشرعية. 5 - علم الكلام. 1 - علم الفقه: لقد خالفتُ الترتيب المعهود المعروف عن الإمام، حيث اشتهر بالمقام الأول أنه (متكلم) ولكن طول معايشتي للإمام، وإصغائي إليه، وقراءتي عليه، وسماعي منه ومناجاتي إياه جعل صورته تتضح لي تمام الوضوح، فرأيته فقيهاً أصولياً، قبل أن يكون متكلماً، كما شاع وعرف عنه. رأيته فقيهاً من أعلام الفقه الإسلامي بعامة، والشافعي منه بخاصة، رأيته صاحب المدرسة النظامية، حاملة راية الفقه بنيسابور، ورأيته وقد انتهت إليه رياسة الشافعية

بخراسان، ورأيت معاصريه من الأئمة والمؤرخين، يكبرونه، ويعرفون له منزلته في الفقه، فيقولون عنه: " لولاه، لأصبح مذهب الحديث حديثاً " يعنون بمذهب الحديث، مذهب الإمام الشافعي. ورأيته رضي الله عنه يكره (علم الكلام)، وكأني به قد اشتغل به من باب " إن لم تكن إلا الأسنة مركبا ". ذلك أني رأيته منذ بواكير حياته، وهو في غمرة الاشتغال بالكلام يسخر من المتكلمين، وينهى عن الاستغراق في علم الكلام، فمن ذلك قوله في مقدمة كتابه " الغياثي ": ومن ضَرِي بالكلام صدي جنانه ويقول في البرهان: " وهذا الذي اختلج في عقول المتكلمين وطيْش أحلامهم " (فقرة: 227). قال هذا وغيره في أكثر من كتاب من كتبه المتقدمة، أي قبل ما يقال عن رجوعه عن علم الكلام. من هنا ومحاولةً لتصحيح هذا الفهم الشائع، قدمت (علم الفقه)، على أنه العلم الأول لإمام الحرمين رضي الله عنه. 2 - علم أصول الفقه: علم أصول الفقه هو علم إمام الحرمين الأول كعلم الفقه تماماً، فكلاهما (أول علومه)، إذ هما لا ينفصلان وبخاصة عند كبار الأئمة أصحاب المدارس والتجديد. ويعتبر إمام الحرمين أحد أركان علم الأصول الأربعة، هكذا قال ابن خلدون في مقدمته، حيث عد كتاب (البرهان) لإمام الحرمين أحد الكتب الأربعة التي قام عليها علم أصول الققه، وإليها ترجع معظم المؤلفات في هذا العلم، حيث قال -وهو يتحدث عن علم الأصول- "ومن أحسن ما كتب فيه المتكلمون: 1 - كتاب (البرهان) لإمام الحرمين. 2 - وكتاب (المستصفى) للغزالي. (وهما من الأشعرية). 3 - وكتاب (العمد) للقاضي عبد الجبار بن أحمد.

4 - وكتاب (المعتمد) لأبي الحسين البصري. (وهما من المعتزلة). وكانت الأربعة قواعدَ هذا الفن، وأركانه" ا. هـ. ولم يصلنا من كتب أهل السنة في الأصول مما ألف على طريقة المتكلمين قبل (البرهان) (¬1) إلا أصل الأصول: (الرسالة) للإمام الشافعي. ولقد كان هذا الكتاب فتحاً جديداً في علم أصول الفقه، يؤكد ذلك السبكي في طبقاته قائلاً: " إن هذا الكتاب وضعه إمام الحرمين في أصول الفقه على أسلوب غريب، لم يقتد فيه بأحد، " وأنا أسميه (لغز الأمة) لما فيه من مصاعب الأمور وأنه لا يخلي مسألة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار يخترعه لنفسه، وتحقيقاتٍ يستبدّ بها " (¬2). ثم تحدث عن شراح البرهان ولاحظ أنهم كلهم من المالكية، وأنهم عندهم بعض تحامل على إمام الحرمين، وفسر ذلك " بانهم يستصعبون مخالفة الإمام أبي الحسن الأشعري، ويرونها هُجنة عظيمة، والإمام لا يتقيد لا بالأشعري، ولا بالشافعي، لا سيما في (البرهان) وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده، وربما خالف الأشعري، وأتى بعبارة عالية، على عادة فصاحته، فلا تحتمل المغاربة أن يقال مثلها في حق الأشعري ". وقد حكينا كثيراً من ذلك في (شرحنا على مختصر ابن الحاجب) (¬3). ومع دفاع السبكي وردّه لتحامل شراح البرهان، ومنهم المازري، تراه يثني على المازري قائلاً عنه: "إن هذا الرجل كان من أذكى المغاربة قريحةً، وأحدهم ذهناً؛ بحيث اجترأ على شرح (البرهان) لإمام الحرمين، وهو لغز الأمة، الذي لا يحوم نحو ¬

_ (¬1) لا يعكر على هذا القول كتاب (العدة) لأبي يعلى الفراء الحنبلي، لأن سبقه لإمام الحرمين ليس بذي بالٍ من حيث الزمن أولاً، وثانياً لأن كتاب أبي يعلى لم يقع من الأئمة والعلماء موقع البرهان، ولم يكن له من الأثر ما كان للبرهان. (¬2) الطبقات: 5/ 192. (¬3) نفسه.

حماه، ولا يدندن حول مغزاه إلا غواصٌ على المعاني ثاقب الذهن مبرز في العلم" (¬1). كما أكد ذلك السبكي في عبارة أخرى، فقال: " لم يُرَ أجلّ، ولا أفْحل في علم الأصول من البرهان " (¬2). ثم إن البرهان قد حفظ لنا الآراء الأصولية لجماعة من الأئمة الأعلام ضاعت كتبهم، فيما ضاع من تراث أمتنا ومجدها، فمن ذلك مثلاً: أنه يعرض لآراء القاضي أبي بكر الباقلاني في كل مسألة تقريباً، ولا شك أن هذه الآراء كانت مدونة في كتبه (الأصول الكببر)، و (الأصول الصغير)، و (المقنع)، وغيرها، ولم يصلنا للآن أي من هذه الكتب. كما ورد ذكرٌ في البرهان لآراء (ابن فورك) في (مجموعاته) وللأشعري في كتاب (أجوبة المسائل البصرية) وللقاضي عبد الجبار في (العمد) وفي (شرح العمد)، ولابن الجبائي في كتاب (الأبواب)، وهي كتب لم تصلنا للآن، بل ربما لم نعرف نسبة بعضها إلى أصحابها. وغير هؤلاء كثيرون ذكرهم الإمام، مثل: الدقاق، والصيرفي، وداود، وابنه، والحليمي، والحارث بن أسد المحاسبي، والصيدلاني، و ... هذا ولم يكن (البرهان) هو كتابه الأصولي الوحيد، فله أيضاً: - التلخيص: وهو تلخيص لكتاب الباقلاني (الإرشاد والتقريب). - الورقات: وهو خلاصة موجزة لعلم أصول الفقه، وقد طوّف هذا الكتاب ما طوّف، فشرق وغرب، وحظي بكثير من الشروح، والحواشي، والتعليقات، والنظم، فكان محور التدريس والتحصيل لعلم أصول الفقه زماناً طويلاً. - التحفة في أصول الفقه، وهي من كتب الإمام المفقودة. ¬

_ (¬1) الطبقات: 6/ 243. (¬2) الطبقات: 5/ 343.

3 - علم الخلاف والجدل: يعتبر علم الخلاف والجدل قمة الإحاطة بالفقه والأصول، ودليل الإمامة والتمكن من العلم. فهو في تعريف حاجي خليفة: " علم يعرف به كيفية إيراد الحج الشرعية، ودفع الشبه، وقوادح الأدلّة الخلافية، بإيراد البراهين القطعية، وهو الجدل الذي هو قسم من المنطق، إلا أنه خُصّ بالمقاصد الدينية " (¬1). ويقول ابن خلدون: " ولا بدّ لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد، إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط، وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته " (¬2). وربما كان أوضح دلالة على منزلة علم الخلاف، ما قاله الإمام الشاطبي، واستدلّ عليه بطائفة صالحة من أقوال السلف، قال: " جعل الناسُ العلمَ معرفةَ الاختلاف، قال قتادة: من لم يعرف الاختلاف، لم يشَمّ أنفُه الفقه، وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف القراء، فليس بقارىء، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء، فليس بفقيه، وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك، ردّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه ... إلى آخر الفصل " (¬3). وقد برع إمامنا في هذا العلم، وضرب فيه بسهم وافر، فقد عُني بجانبيه: وسائله، ومسائله. فألف في وسائل علم الخلاف كتابه القيم. (الكافية في الجدل) ويقع في مجلد ضخم، ويعتبر من أهم الكتب في هذا الباب (¬4). ¬

_ (¬1) كشف الظنون: 1/ 721. (¬2) المقدمة: 457. (¬3) الموافقات: 4/ 161 - 162. (¬4) عُنيت بنشره وتحقيقه الدكتورة الفاضلة فوقية حسين محمود، رحمها الله رحمة واسعة.

وألف كذلك في مسائل علم الخلاف، فله في هذا الجانب المؤلفات الآتية: 1 - الأساليب في الخلافيات: ذكره الإمام وأحال عليه في عشرات المواضع من كتبه، وذكر حاجي خليفة أنه يقع في مجلدين (¬1). 2 - العُمَد: وهو من كتبه بالقطع، فقد ذكره في البرهان بصورة قاطعة، لا تدع مجالاً للشك في اسم الكتاب وموضوعه، حيث قال: " وقد أجرينا في (الأساليب) و (العمد) مسائل، ومعتمد المذهب فيها الأخبار ". (فقرة: 48). كما ذكره أيضاً في خاتمة الدّرة المضية، عندما قال: " إنها جاءت إيفاءً بمسائل لم تكن جرت في (العمد) و (الأساليب) "، والدّرة المضية في الخلاف قطعاً، فهي بين أيدينا، فحيثما كانت تكملة وتوفية (للعمد) و (الأساليب)، فالعمد إذاً في الخلاف. 3 - الغنية: واسمه الكامل (غنية المسترشدين)، ذكره كثير ممن ترجموا للإمام كالسبكي والذهبي، ولكن الذي يدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك، هو ما ذكره تقي الدين السبكي في أول تكملته للمجموع: 10/ 7، حيث عده من كتب الأصحاب في الخلاف التي بين يديه، ويرجع إليها، ويستمد منها تكملته للمجموع. ولكن الأكثر وضوحاً، هو ما قاله في (نهاية المطلب) تعقيباً على إحدى المسائل: " وتوجيه القولين قد استقصيناه في (الأساليب) و (الغنية) " ا. هـ. قلت: وهذه الكتب الثلاثة: على أهميتها - لما نعثر عليها للآن. 4 - الدّرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية (¬2): وهو الكتاب الوحيد الذي وصلنا من أصل أربعة كتب ألفها الإمام في الخلاف، ومع أنها نسخة وحيدة إلا أنها عالية الجودة، على نقصٍ في بعض الكلمات، وتآكل في بعض الحروف، وانمحاء في بعضٍ آخر، ولكن كل ذلك -على خطورته- يمكن تداركه، بمزيد من المعاناة والصبر والدأب، وتكرار القراءة، والاستعانة بما كتب ¬

_ (¬1) كشف الظنون: 1/ 75. (¬2) وقد أعاننا الله على إخراج قسم منها، ونسأله أن يتم علينا نعمته فنخرج الباقي.

الإمام عن المسألة في النهاية، وبما جاء في كتب الخلاف المتاحة، ومن قبل ذلك ومن بعده توفيق الله سبحانه، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً. 4 - علم السياسة الشرعية: كان إمام الحرمين مثل كل أئمتنا، يعيش واقعه، ولا ينفصل عنه، يظهر ذلك في علاجه لمسائل الفقه المختلفة، إن في العبادات، أو في المعاملات، وسواء في الأنكحة أو الجنايات، وليس كما قال بعض الباحثين (¬1): " إن المؤسسة العلمية انفصلت مبكراً عن المؤسسة السياسية، فمنذ فجر تاريخنا - بعد العصر الراشدي، بل من يوم مقتل عثمان رضي الله عنه أخذت المؤسسة العلمية في الانفصال عن المؤسسة السياسية، أو تمت العزلة بين الزعامة السياسية، والزعامة الفكرية، وعزلت الزعامة الإسلامية الملتزمة " هكذا قال بنص حروفه. وأقول: إن هذا الكلام باطل ببديهة العقل، وباطل بحقائق التاريخ، باطل ببديهة العقل، فليس يصح في العقل السليم أن أمة هذا حالها (عَزلٌ للزعامة الفكرية وإقصاء لها) تنتج، وتصنع كلَّ هذه الحضارة التي ارتادت للبشرية طريق الحق والعدل والسلام والأمن والإيمان، والإخاء والمساواة، ودانت لها الدنيا أكثر من ألف عام. وباطلٌ بحقائق التاريخ الذي يثبت أن كثيراً من (زعماء السياسة أنفسهم) مَنْ جمع بين الزعامة السياسية والفكرية، مثل عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، وأبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، وغير هؤلاء ممن لا نعلمهم. وباطل أيضا بحقائق التاريخ التي تثبت أن أئمتنا (زعماء الفكر) لم يعتزلوا ولم يُعزلوا أبداً على طول التاريخ، فأبو جعفر المنصور يطلب من الإمام مالك أن يضع له (الموطأ) وهارون الرشيد يطلب من أبي يوسف أن يضع له الخراج، والإمام ¬

_ (¬1) لم ألتزم بعزو هذا الكلام إلى صاحبه، فليس المقصود الرد على شخصٍ بعينه، ولكن الذي يعنينا هذا النمط من التفكير، وصاحب هذا الكلام ليس فرداً، فهذا الكلام أصبح بديهية من البديهيات، ومسلمة من المسلّمات عند كثيرٍ ممن يدعون بالمجددين أو المستنيرين، وهذا الكلام أصلاً مسلوخ من كلام المستشرقين.

أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي، نراه في طليعة جيش الإسلام في موقعة (ملاذ كرد) التي استؤصلت فيها جموع الروم، وأخذ إمبراطورهم أسيراً، تلك المعركة التي كان لها ما بعدها في التاريخ، وأخبارها للأسف مجهلة لعامة مثقفينا وعلمائنا (¬1). والشيخ أبو إسحاق الشيرازي كان في قلب السياسة، يوم أصلح بين الخليفة العباسي في بغداد، والسلطان ملكشاه في (الرّي). والإمام أبو الوليد الباجي هو الذي جيش جيوس المسلمين في معركة (الزلاقة) التي أعادت هيبة المسلمين في الأندلس، ولعدة مئات من السنين. والإمام أسد بن الفرات يقود الجيوش في البر والبحر، ويموت شهيداً وهو من أعمدة الفقه المالكي، صاحب (الأسدية) من أمهات كتب المذهب. وشيخ الإسلام ابن تيمية في قلب السياسة، والسجن، ويجَيِّش الجيوش لحرب التتار. وسلطان العلماء العز بن عبد السلام صانع النصر في معركة عين جالوت. وشيخ الإسلام محمد سعد الدين بن حسن المتوفى سنة 1008 هـ الذي كان بمعية السلطان محمد الثالث في حرب هنغاريا، فلما هم السلطان بالتراجع تحت وطأة الهجوم الصليبي، أخذ شيخُ الإسلام بزمام حصان السلطان، ووجهه ناحية العدو، وصاح زاجراً للسلطان: " إنما نعيش لمثل هذا اليوم!! نموت شهداء، ولا نرى انكسار جيش الإسلام " فكان النصر. وعلماء الأزهر الذين كانوا يناقشون فرمانات السلطان، ويردّونها إذا خالفت الشرع (أي يناقشون دستورية القوانين) والذين انتزعوا وثيقة بحقوق الشعب مكتوبة موقعة من الأمراء المماليك قبل الحملة الفرنسية بسنوات (1794 م). ¬

_ (¬1) اقرأ أخبار هذه المعركة في كتاب (زبدة التواريخ - أخبار الأمراء والملوك السلجوقية - صدر الدين علي بن ناصر الحسيني تحقيق. د محمد نور الدين. (بيروت. دار اقرأ 1405 هـ 1985 م).

هذه نماذج عفو الخاطر، وبادي الرأي، ولكنها كافية ناطقة بتكذيب هذه المقولة التي تزعم (العزلة بين القيادة السياسية والقيادية الفكرية). إن العزل ولا أقول العزلة أو الإنعزال لم يكن إلا في القرنين الماضيين: القرن التاسع عشر والعشرين الميلاديين. وهما فيما يزعمون عصر النهضة، لم يعزل العلماء والأئمة عن قيادة الأمة إلا في هذين القرنين، حين بدأ التغريب في الفكر والثقافة والقوانين ... ولذلك حديث يطول. ولكني أحببت أن أقول: إن انشغال إمام الحرمين بالسياسة الشرعية فكراً وتنظيراً، ثم ممارسة وعملاً إنما هو شأن كل أئمة الإسلام. نجد هذا في ثنايا كتبهم، وفي طيات أقوالهم، وبين فتاويهم وخلال قضاياهم وأحكامهم. كما نجده فيما أفرده طائفة كبيرة منهم من بحوث وكتب مستقلة في السياسة، لم تظفر بعدُ هذه الكتب بمن يعتني بها تحقيقاً وتعليقاً، وطبعاً ونشراً. وكان من هذه الكتب كتاب إمام الحرمين: (غياث الأمم في التياث الظلم) المشهور بالغياثي وهو من أجلّ كتب الفكر السياسي الإسلامي، ولم يعرف وينشر إلا من نحو عشرين عاماً، وقدّر الله لنا شرفَ القيام بهذا العمل. لقد عرف الدارسون والباحثون كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي وشغلوا به منذ قرنٍ تقريباً. والسبب في ذلك هو انشغال المستشرقين به، حيث نشروه وترجموه، وكأننا لا نعرف قيمة علمائنا ولا نعترف بهم إلا إذا نوّه بهم المستشرقون!!، على حين يرى إمام الحرمين - في نقده للأحكام السلطانية .. أنه ليس خالصاً للسياسة الشرعية. وما زال المجال واسعاً أمام دراسة (الغياثي) والمقارنة بينه وبين (الأحكام السلطانية). ولعلّ أحسن وأصدق تقييم لكتاب (الغياثي) ما كتبه العلامة المحقق المرحوم السيد أحمد صقر إذ قال: " يعتبر هذا الكتاب من أجلّ كتب إمام الحرمين قدراً من حيث الموضوع وطريقة العرض، ودقة الأداء، وهو كتاب فريد في بابه، لم

ينسج ناسج على منواله، ولم يخض خائض في تياره، قد تنوّق مؤلفه في رصفه، واتخذ الرمز والإشارة سبيلاً إلى التعبير عن مضمونه الخطير، واتخذ أبحاثه العلمية ذريعة إلى عرضه الأصيل من الكتاب ... ثم تفضيل مؤلِّفه على علماء عصره، وأنه يفوقهم بالبحث العميق، والاستنتاج الدقيق، وفهم أسرار الشريعة على نحو لم يسبقه إليه سابق". ثم قال: " وكتاب الغياثي هو الكتاب الذي فيه لُمَع وإشارات وتلويحات تكشف عن أخلاق كاتبه، وهو في أمسّ الحاجة إلى دراسة واعية متأنية، تضاف إلى الدراسة الجيدة التي كتبها عنه محققه " ا. هـ. وأقول: إن هذا الكتاب يحوي نظريات ومبادىء سياسية تشمل سياسة الدولة بجوانبها المختلفة: الرئاسة، والوزارة، والأمن، والثقافة، والجيش، والضرائب ... إلخ. وكل ذلك في حاجة إلى دراسة فاحصة متأنية من أهل الاختصاص في كل جانب من هذه الجوانب تستخرج مكنونه وتدرك سرّه، لنعرف قدره ومكانه في الفكر السياسي الإسلامي. ثم يشهد لعناية الإمام بهذا الجانب، واهتمامه به، وقصده إليه، أنه كان يأخذ على الفقهاء عدم اعتنائهم به، فقد جاء في كتابه (نهاية المطلب) قوله " ... والشريعة بحاجة إلى أحكام الإيالات، وليس للفقهاء اعتناءٌ بها " (11/ 378) وأحكام الإيالات هي أحكام السياسة الشرعية كما هو معروف. 5 - علم الكلام: هذا هو العلم الذي اشتهر به إمام الحرمين وعرف به أكثر من غيره من علومه، وحظي هذا الجانب بأكبر عناية، فنشرت كتبه في هذا الفن، واعتني بها مبكراً، قبل أن ينشر له كتاب آخر -حاشا الورقات في أصول الفقه- نشر الإرشاد في سنة 1938 م نشره (لوسيان) في باريس، ثم نشر في القاهرة سنة 1984 م، نشره الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد، ثم علق عليه هلموت كلوبفر - القاهرة 1955 م.

ثم نشُرت العقيدة النظامية، نشرها العلامة محمد زاهد الكوثري سنة 1948 م، ثم أعيد نشرها سنة 1978 م. ثم نشُر الشامل سنة 1959 م في أنقره، نشره هلموت كلوبفر، ثم أعيد نشره سنة 1969 م نشره علي سامي النشار وآخرون. ثم نشر لمع الأدلة وشفاء الغليل فيما وقع في التوراة والإنجيل من التحريف والتبديل سنة 1968 م نشرهما معاً في غلافٍ واحد الأب آلار ميشال بدار المشرق ببيروت. ونشرت الدكتورة فوقية حسين محمود لمع الأدلة سنة 1965 م بالقاهرة وأعيد نشر الشفاء أيضاً سنة 1979 م. هكذا رأينا العناية مصروفة كلها إلى كتبه الكلامية نشراً وتحقيقاً، ولم ير شيء من كتبه الأصولية والفقهية النورَ إلا منذ سنة 1980 م، حيث خرج (البرهان في أصول الفقه) ثم خرج (الغياثي) و (التلخيص) و (المجتهدين) حتى وإن حُقَِّقت بعض هذه الكتب قبل ذلك مثل البرهان الذي انتهينا من تحقيقه سنة 1975 م، والغياثي الذي انتهينا منه سنة 1976 م، فلم تتيسر الطباعة والنشر إلا بعد هاتيك السنين. وإذا كان هذا في جانب العناية بالكتب وتحقيقها، فقد كان كذلك في جانب الدراسات، والندوات، والمحاضرات، ففي نحو سنة 1946 م قدم الشيخ علي جبر أطروحته للدكتوراة بعنوان: (إمام الحرمين باني المدرسة الأشعرية الحديثة) إلى كلية أصول الدين بجامعة الأزهر. وفي سنة 1965 م نشرت الدكتورة فوقية حسين محمود بحثاً بعنوان (الجويني إمام الحرمين) كان عمدته وخلاصته التعريف بمنزلة الإمام في علم الكلام، وما تميز به وجدد فيه. وكذلك كانت الدراسات في مقدمة كتبه الكلامية تنحو هذا المنحى، سواء ما كتبه الدكتور محمد يوسف موسى، أو الدكتور علي سامي النشار، أو المستشرق هلموت كلويفر، أو الأب ميشال آلار، أو غيرهم. ثم قُدمت أطروحة بعنوان (منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة) إلى كلية الدعوة

موقف إمام الحرمين من علم الكلام

وأصول الدين بجامعة أم القرى للدكتور أحمد بن عبد اللطيف. هذا هو مكانه في علم الكلام، وهذه هي مؤلفاته في هذا العلم -مع أنه لم يكن علمه الأول، كما أشرنا من قبل- وقد ذكر السبكي " أن المغاربة - حصل لهم بعض التحامل على الإمام، مع اعترافهم بعلوّ قدره، واقتصارهم -لا سيما في علم الكلام- على كتبه، ونهيهم عن كتب غيره " (¬1). هكذا اندفع إمام الحرمين يخوض تيار علم الكلام، مدافعاً عن دين الله ذاباً عن عقائد أهل السنة، يقمع أهل الزيغ والضلال والتعطيل، والتجبسيم والتمثيل. موقف إمام الحرمين من علم الكلام: إن المتتبع لآراء أئمة علم الكلام، كالأشعري، والجويني، والغزالي، والفخر الرازي وغيرهم، يجد أنه مع انشغالهم بعلم الكلام، وركوبهم سفائنه، وجدّهم واجتهادهم فيه، وتشقيقهم وتفصيلهم لقضاياه ومسائله، وتركهم المؤلفات المتعددة، التي تقرأ وتدرس للآن، يجدهم مع ذلك ينهَوْن عن علم الكلام، ويعلنون كراهيتهم للاشتغال به، ويدعون إلى منهج السلف في العقيدة يدعون إلى ذلك صراحة، لا رمزاً. عرف هذا عن هؤلاء الأعلام، وكان التفسير الذي شاع لدى الدارسين والباحثين أن هذا تطورٌ في الرأي والفكر، فهم قد عادوا عن علم الكلام، ورجعوا عن منهجه، ونهَوْا عن التعلق به، وأكثروا الزراية عليه. وكان هذا آخرَ ما استقر عليه رأيهم، هذا هو التفسير السائد المعروف لدى الباحثين والدارسين والعلماء المعاصرين. ولكن يلوح لي أن المسألة ليست قضية تطور أو رجوع، وإنما دخل هؤلاء الأئمة ميدان علم الكلام، وهم على كره لذلك الأمر، فكانوا يخوضون فيه مضطرين، من أجل المنافحة عن دين الله ضد هؤلاء الذين لا يعرفون إلا هذه المناهج، وهذه القضايا التي أخذوها عن اليونان، فرأى هؤلاء الأئمة أن يُحسنوا هذه الطرائق، ¬

_ (¬1) الطبقات: 5/ 193.

ويتعلموا هذه الأساليب، ليعرفوا كيف ينقضونها على رؤوس أصحابها، وليدفعوهم بنفس أسلحتهم، ويهدموا بناءهم بنفس طرائقهم. فالأئمة -أو على الأقل إمام الحرمين فيما أقدِّر- كانوا دائماً على ذكر ووعي بأساليب القرآن، يدعون إليها ويرغبون فيها، ولكنهم في الوقت نفسه درسوا أساليب اليونان (علم الكلام) وتمرسوا بها، ليدفعوا بها شبه المبطلين. والدليل على ذلك أن إمام الحرمين مبكراً في صدر حياته، نجد له لمعاً وإشارات، تسخر من علم الكلام والمتكلمين، في الوقت الذي كان مشتغلاً به أشد الاشتغال. وقد أشرت من قبل إلى سخريته من المتكلمين وكراهيته لعلم الكلام في خطبة كتابه (الغياثي) وفي كتابه (البرهان). والعقيدة النظامية التي قيل إنه رجع فيها إلى مذهب السلف متقدمة قطعاً عن الغياثي، وعن البرهان، فقد ذكر (النظامي) في خطبة الغياثي مصرحاً أن الغياثي جاء وفاءً بوعدٍ قطعه في (النظامي)، ثم هو ذكر الغياثي في البرهان. فإذا كان النظامي -ومنه أخذت العقيدة النظامية- قد أهدي إلى نظام الملك، ذلك الوزير العالم ناصر السنة، الذي تولى الوزارة سنة 455 هـ، فمعنى ذلك أن إمام الحرمين قال ما قاله في العقيدة النظامية من دعوة صريحة إلى مذهب السلف قبل نحو 460 هـ أي قبل وفاة إمام الحرمين بنحو ثمانية عشر عاماً. فإذا عرفنا أنه توفي رضي الله عنه عن تسع وخمسين سنة، وأنه لم يعرف له مؤلف قبل وفاة والده سنة 438 هـ، حين أُقعد للتدريس مكانه، وعُد ذلك من نوادر النبوغ المبكر، إذاً تقع العقيدة النظامية في منتصف عمره العلمي - إن صح هذا التعبير، وليس في أواخر أيامه. وقد يفصل في هذه القضية ويقطع كل شغب ما جاء في كتابنا هذا وهو من أواخر تآليفه حيث يوضح بما لا يدع مجالاً للتأويل نظرته إلى علم الكلام وأنه علم ضروري لقمع المبتدعة، ولو عاد الناس لصفو العقيدة ما كان لنا به حاجة، وهذا نصّ عبارته:

" ولو قيل: العلم المترجم بالكلام هل يُستلحق بفرائض الكفايات؟ قلنا: لو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الإسلام، لكنا نقول: لا يجب التشاغل بالكلام، وقد كنا ننتهي إلى النهي عن الاشتغال به، والآن قد ثارت الآراء، واضطربت الأهواء، ولا سبيل إلى ترك البدع، فلا ينتظم الإعراض عن الناس يتهالكون على الردى، فحق على طلبة العلم أن يُعِدّوا عتاد الدعوة إلى المسلك الحق والذريعة التامة إلى حل الشُّبه، ولما مسّت الحاجة إلى إثبات الحشر والنشر على المنكرين، وإلى الرد على عبدة الأصنام، [صار من فروض الكفايات الاحتواء] على صيغ الحجاج، وإبداء منهاجه. ولا شك أن هذه الآراء الفاسدة لو بُلي الناس بها، لأقام الشرع حجاج الحق من منابعها. فإذاً علم التوحيد من أهم ما يطلب في زماننا هذا، وإن استمكن الإنسان من ردّ الخلق إلى ما كانوا عليه أولاً، فهو المطلوب وهيهات، فهو أبعد من رجوع اللبن إلى الضرع في مستقر العادة " (نهاية المطلب: 17/ 417). وأتمنى أن يَنْهد أحد الباحثين لهذه المهمة، فيقرأ مؤلفات الإمام كلها قراءة متأنية ويحصي كل إشاراته إلى علم الكلام ونظرته إليه، كما يحصي كل إشاراته إلى منهج السلف ودعوته إليه، وأكاد أجزم بصحة قولي هذا: " لم يكن هناك ندم ولا رجوع، وإنما كان علم الكلام هو الأسنة التي لم يكن للمضطر حيلة إلا ركوبها ". والله أعلم ... ... 6 - علم الحديث. 7 - علم اللغة والنحو. 8 - علوم الأدب والبلاغة. 9 - علم الحساب والجبر والمقابلة. هذه من العلوم التي ضرب فيها إمام الحرمين بحظ وافر، عرفنا ذلك من ترجمته والفنون التي حذقها، وشيوخه في كلٍّ منها، كما رأينا أثرها في مصنفاته ومؤلفاته.

وإنما لم نفرد كلاً منها بحديثٍ لأمرين: أ- أنه لم يصنف فيها مؤلفات وكتباً. ب- إيثاراً للإيجاز والاختصار. ولكن الذي نريد أن نعود إليه ونبسط القول فيه هو علمه بالحديث، فقد ظُلم في هذا الجانب ظلماً بيناً (¬1)، وقيل عنه: " إنه لا يُعتمد عليه في هذا الشأن " (¬2) وقيل عنه: " إنه كان لا يدري الحديث لا متناً ولا إسناداً كما يليق به " (¬3) وقيل عنه: " ... كان قليل المعرفة بالآثار النبوية، ولعله لم يطالع الموطأ بحال، حتى يعلم ما فيه، فإنه لم يكن له علم بالصحيحين: البخاري، ومسلم، ولا سنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، لم يكن له بهذه السنن علمٌ أصلاً، فكيف بالموطأ ونحوه ... وإنما كان عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني " (¬4) ... ، وقيل عنه: " إنه عديم المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها " (¬5). هذا فيض من غيض قيل في هذا الصدد. ولقد تتبعت كثيراً، من هذه العبارات، وعايشت المؤلفات التي وردت فيها طويلاً، حتى أحسست روحَها، وشممت أنفاسَها، وسمعت حسّها وجرسَها، مثلما وزنتُ هذه الأقوال وراجعت دليلها وحجتها، فتأكد لي أن مصدر هذا أمران: أحدهما: أن بعض القائلين ينقل عن بعض، حتى يفشو الكلام، ويصبح بالتكرار والاستفاضة من المسلمات والبديهيات التي لا تحتاج إلى دليل. الثاني: أن بعضاً آخر من أصحاب هذه الأقوال عنده نوع تحامل على إمام الحرمين، يبعث على ذلك التحامل اختلافٌ في المذهب، والمنهج، وبخاصة في المذهب الكلامي. ¬

_ (¬1) انظر الفصل السادس من هذه المقدمات. (¬2) مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 6/ 529. (¬3) سير أعلام النبلاء: 18/ 470. (¬4) فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية: 5/ 299 طبعة دار المعرفة. (¬5) تلخيص الحبير: 2/ 50 حديث 5، 6.

ثانيا: كتبه آثاره

وقد تجمع لي قدرٌ صالح من الأدلة القاطعة التي تنفي هذا الكلام، وترد هذا الاتهام، وتثبت علم الإمام بالحديث رواية ودراية، وإن كنا لا نطمع أن نثبت أنه من الحفاظ المحدّثين، ولا هو ادعى لنفسه ذلك، رضي الله عنه. وحين يتم هذا البحث -إن شاء الله- بالمنهج العلمي السليم والأدلة الموثقة، سنرى أن هذه المسلمة -عدم علم إمام الحرمين بالحديث- مثل كثير من المسلمات في حياتنا الفكرية والثقافية في حاجة إلى مراجعة علمية، تقوم على دراسة نصوص أئمتنا وقراءتها، واستخراج الأحكام عليهم من واقع أعمالهم، لا من قول بعضهم في بعض. ونسأل الله أن يعيننا على إخراج هذا البحث قريباً. ... ثانياً: كتبه آثاره: لم تقف جهود الإمام في سبيل الدفاع عن الدين والسنة عند مناظراته ودروسه، ومواعظه وخطبه، بل خلّف مصنفات كثيرة في معارف متنوعة: شملت الكلام، وأصول الفقه، والخلاف، والجدل، والفقه، والتفسير، والخطب والمواعظ. وقد بلغت هذه المؤلفات من التنوع والكثرة حداً جعل السبكي (¬1) يستدل بها على وجود الكرامات، حُسبت أعداد الأوراق التي احتوت عليها كتبه ومؤلفاته، وقسمت على أيام عمره وساعاته، مع ما كان يلقيه من الدروس، ويحضره من مجالس التذكير، فوجد أن عمره لا يفي بذلك!! وقد بلغ عدد ما تحققنا من نسبته إليه أكثر من أربعين عنواناً، ومنها ما هو موجود ومنها ما هو مفقود، وقد أفردنا لذلك فصلاً في كتابنا (إمام الحرمين: حياته وعصره-آثاره وفكره) كما أشرنا إلى كثير منها أثناء حديثنا عن علومه، ونكتفي الآن بسرد أشهرها سرداً مجرداً، فمنها: * في علوم أصول الفقه: التلخيص، والبرهان، والتحفة، والورقات. ¬

_ (¬1) الطبقات: 2/ 343.

* في علم الفقه: نهاية المطلب في دراية المذهب، ومختصر النهاية، والرسالة النظامية في الأركان الإسلامية. * في علم الخلاف والجدل: الأساليب، والغنية، غنية المسترشدين (¬1)، والعُمد، والدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، والكافية في الجدل. * في السياسة الشرعية: الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم). * في علم الكلام: الشامل، والإرشاد، واللمع، وشفاء الغليل، والعقيدة النظامية، وقصيدة على غرار قصيدة ابن سينا في النفس، لم يذكرها أحد ممّن ترجموا له، ولكنها وقعت لنا في غير مظانها، أثناء بحثنا عن مؤلفات الإمام في مكتبات العالم، وله أيضاً مسائل الإمام عبد الحق الصقلي وأجوبتها (¬2). * وله كتاب (في التكفير والتبرؤ) هكذا قال: " لنا مجموع في التكفير والتبرؤ فليتأمله طالبه " (¬3) ولكن لم نعرف عنوانه. ولا موضوعه، وإن كان بعلم الكلام أشبه. * كتاب في النفس: قال عنه في العقيدة النظامية (¬4): " إنه يقع في نحو ألف ورقة " ولسنا ندري عنوانه ولا حقيقة موضوعه. * تفسير القرآن الكريم: ذكره السيوطي في مقدمة الإتقان: (1/ 21) (¬5)، ¬

_ (¬1) كان هناك تكراراً في صياغة عنوان الكتاب فالغنية وغنية المسترشدين شيء واحد. (¬2) وتقع في رسالة لطيفة، أعددناها للنشر، نسأل الله العون حتى ترى النور قريبا. (¬3) البرهان: فقرة 673. (¬4) ص: 59 تحقيق الكوثري. (¬5) جاء عند السيوطي في قطف الأزهار (1/ 312): "قال الجويني في تفسيره: سمعت أبا الحسن بن الدهان يقول ... " فوهم ابننا الفاضل محقق الكتاب فترجم لإمام الحرمين، مع أن السيوطي يقصد بالجويني الشيخ أبا محمد والد إمام الحرمين، ومن عجب أن المحقق الفاصل رجع لبرهان الزركشي وقابل نصّ السيوطي عليه وسجل الفرق بين النصين بأن الزركشي يقول: " أبا الحسين بن الدهان "، ومع ذلك لم يلتفت إلى قول الزركشي " قال الشيخ أبو محمد الجويني " وظل على وهمه في أن السيوطي يريد بالجويني إمام الحرمين.

ثالثا: منهجه في مؤلفاته

وحاجي خليفة في كشف الظنون (1/ 443) وطاش كبري زاده في مفتاح السعادة (2/ 110) ... ثالثاً: منهجه في مؤلفاته: من الطبيعي أن تتنوع المناهج بحسب موضوع كل مؤلف، ولكننا نستطيع أن نشير إلى سمات عامة نجدها في كل مؤلفاته، منها: 1 - الاقتصار على الجديد، وعدم الاكتفاء بحكاية كلام السابقين، وترداد مذاهبهم بدون إضافة أي جديد، أو استثمار ذلك في توليد معنى، أو ابتداع مبنى، فهو لا يدوّن في مصنفاته إلا الجديد الذي " لم يسبق إليه، ولم يزحم عليه " فإذا كان لا بد من حكاية أقوال السابقين، كان ذلك " في معرض التذرع إلى موضوعه، وفى إيجاز، وأحال كل شيء على محله وفنه ". ويصرح بذلك قائلاً: " ... ولو ذهبت أذكر المقالات، وأستقصمها، وأنسبها إلى قائليها وأعزيها (¬1)، لخفت خصلتين: إحداهما: خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها، وتعافها نفسي الأبية وتحتويها، وهي سرد فصول من كلام المتقدمين مقول، وهذا عندي يتنزل منزلة الاختزال والانتحال، والتشبع بعلوم الأوائل، والإغارة على مصنفات الأفاضل" (الغياثي: فقرة 242). فانظر أيّ نفورٍ من هذا: اختزال -انتحال- إغارة. ثم يرسم المنهج لمن يريد أن يؤلف، وهو يعني نفسَه، فيقول: " حق على كل من تتقاضاه قريحته تأليفاً، وجمعاً وترصيفاً، أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يلفى في مجموع، وغرضاً لا يصادف في تصنيف ". 2 - تحديد الغرض والغاية التي يتغياها من كل مؤلّف، وبعبارة أخرى تحرير ¬

_ (¬1) هذا الفعل واوي ويائي: عزا يعزو، وعزا يعزي (كلاهما صواب).

المقصود وتخليصه مما يختلط به، جاء في مفتتح البرهان قوله: " حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلم أن يحيط، بالمقصود منه، وبالموادّ التي يستمد منها ذلك الفن، وبحقيقته وحدّه إن أمكنت عبارة سديدة على صناعة الحد، وإن عسر، فعليه أن يحاول الدرك بمسلك التقاسيم ". وهذا مجرد لمعة مما في مؤلفاته. 3 - تحديد معاني الألفاظ والمصطلحات التي تستخدم في مخاوضاته ومناقشاته، وعرضه لآرائه، يظهر هذا واضحاً في مقدمات كتبه: مثل الإرشاد، ولمع الأدلة، والبرهان، والكافية. 4 - عرض آراء المخالفين وأدلتهم كاملة بكل أمانة ووضوح، ثم مناقشتها ودفعها، وقد رأينا أثر هذا في تلميذه حجة الإسلام الغزالي، الذي قيل: إنه عرض آراء المتفلسفة قبل أن يبين (تهافتها) بأحسن مما عرضها بها أصحابها. 5 - التحرر من كل فكرة سابقة قبل البحث، وعدم التعصب لمذهبٍ بعينه، اسمعه يقول: " وأنا الآن أنخل للناظر جميع مصادر المذاهب ليحيط بها، ويقضي العجب منها، ويتنبه لسبب اختلاف الآراء فيها، وبجعل جزاءنا منه دعوة بخير " (¬1). وأوضح من هذا قوله: " ... وحقنا أن نُحكِّم الأصول فيما نأتي ونذر، ولا نخرج بمسلك الحقائق ذباً عن مذهب " (¬2). 6 - الدقة في الترتيب والتقسيم والتبويب، حتى تجد المسائل يأخذ بعضها بحُجز بعض، ويترتبه بعضها على بعض في تسلسل منطقي بديع، يعمد إلى ذلك عمداً، وينبه إليه في ثنايا كتابه من آن لآخر، مثل قوله: " ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشمل على ما مضى من الكتاب، وعلى ما سيأتي منه، حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب، فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية " (¬3) ¬

_ (¬1) البرهان فقرة: 506. (¬2) البرهان فقرة: 532. (¬3) البرهان فقرة: 486.

هكذا. يجدد العهد بالترتيب، لأنه من أظهر الأعوان على درك مضمون الكتاب. وهذا الاهتمام بالترتيب والتبويب رأيناه أيضاً عند تلميذه حجة الإسلام الغزالي غايةً في الوضوح، والدقة، حتى تفوق فيه على شيخه. 7 - التمييز بين المظنون والمقطوع، وبين ما يكفي فيه غلبة الظن، وما لا بد فيه من القطع، ويعلن أن منشأ الاختلاف في الرأي، وأن الزلل والخطأ في الفكر هو الخلط بين المقطوع والمظنون، ولذا نراه يقدم بين يدي كل قضية يعرضها، التمييزَ بين القطعيات والظنيات، فيقول عن " الخبط والتخليط والإفراط والتفريط " في قضايا الإمامة: " والسبب الظاهر في ذلك، أن معظم الخائضين في هذا الفن يبغون مسلك القطع في مجال الظن، ويمزجون عَقْدهم باتباع الهوى، ويمرحون في تعاليل النفوس والمنى ". ثم يقول: " ونحن بتوفيق الله نذكر معتبراً يتميز به موضع القطع من محل الظن " (¬1). ولا يفوته رضي الله عنه أن يؤكد قيمة هذا الأساس من أسس المنهج؛ فيقول: " ومن وفقه الله تعالى للوقوف على هذه الأسطر، واتخذها في المعْوِصات مآبه ومثابه، لم يعتَصْ عليه مُعضل، ولم يخْف عليه مشكل، وسرد المقصود على موجب الصواب بأجمعه، ووضع كل معلوم ومظنون في موضعه وموقعه " (¬2). ويقول في ختام أحد الفصول مؤكداً التزامه بهذا المنهج: " فقد نجز الفصل، مختوماً على التقدير بالمقطوع به في مقصوده، مثنى مما هو من فن المجتهدات، وقبيل المظنونات " (¬3). ولا يملّ من تأكيد هذا المعنى، والالتزام بهذا المنهج، فيقول في مفتتح الفصل الذى ختمه بالعبارة السابقة: " فنجري على الترتيب المقدّم والملتزم، ونبدأ بالمقطوع به " (¬4). ¬

_ (¬1) الغياثي الفقرات: 69 - 72. (¬2) الغياثي فقرة: 72. (¬3) السابق: 81. (¬4) السابق: 84.

ولو ذهبنا نتتبع الإشارات والتأكيدات لضرورة الالتزام بهذا المنهج، لأعيانا الحصر والعد، وضاقت الأوراق، وكلّت الأقلام. 8 - الإيجاز والميل إلى الاقتصاد في غير مقصود الكتاب: هذه السمة من سمات المنهج كالتي قبلها، لم نصل إليها بالملاحظة والاستقراء لمؤلفاته وآثاره فحسب، ولكنه يعلن عنها صراحة، ويؤكد التزامه بها بوضوح فيقول: " ... على أني آتي فيها بالعجائب والآيات، وأشير بالمرامز إلى منتهى الغايات، وأوثر الأيجاز والتقليل، مع تحصيل شفاء الغليل، واختيار الإيجاز على التطويل، بعد وضوح ما عليه التعويل " (¬1). ويقول عندما يقتضيه الموضوع البسطَ والإطالة: " وعلى المنتهي إلى هذا الموضع أن يقبل في هذه الإطالة عذري، ويحسِّن أمري " هكذا يعتذر إلى قارئه حينما شعر أنه خالف منهجه في التزام الإيجاز، فيمهد عذره قائلاً: " فقد انجرّ الكلام إلى غائلة، ومعاصة هائلة، لا يدركها أولو الآراء الفائلة، والوجه عندي قبض الكلام فيما لا يتعلق بالمقصود والمرام، وبسطه على أبلغ وجه في التمام فيما يتعلق بأحكام الإمام، وفيها الاتساق والانتظام " (¬2). ويكرر هذا المعنى نفسَه قائلاً: " فالوجه البسط في مقصود الكتاب، وإيثار القبض فيما ليس من موضوعه، وإحالة الاستقصاء في كل شيء على محله وفنِّه " (¬3). هكذا حينما تُعوص المشكلة، وتغمض المسألة، لا يتردّد في البسط والتفصيل، أما عندما يتضح المقصود والمعمود، فيجب قبض الكلام وإيثار الإيجاز. 9 - تأصيل المسائل والقضايا: يعمل دائماً على تقديم أصل للمسألة ووضع ضابط لها، ثم يبدأ في مناقشات ¬

_ (¬1) الغياثي فقرة: 9. (¬2) السابق: 152. (¬3) السابق: 273.

الجزئيات والفرعيات في ضوء الأصل الذي أَصَّله. فمن ذلك قوله عند افتتاح الفصل الخاص بالتعديل والجرح: " ونقدم على غرضنا أصلاً هو مرجوع الكتاب وأصل الباب " (¬1) وقوله في موضع سابق: " وفي كل أصل من الأصول قاعدة كلية معتبرة، قكل تفصيل رجع إلى الأصل، فهو جارٍ على السييل المطلوب، وكل ما لم نجد مستنداً فيه، ومتعلقه تخييل ظن، فهو مُطرح " (¬2). 10 - التحري والتدقيق في النقل عن الأئمة السابقين: هذا مما يتبجح به بعض المعاصرين، ويسميه (التوثيق)، ويظنه من بدْع هذا العصر، ولكنه موجود أصيل في تراث أمتنا، وله مكانه ومكانته، وإمام الحرمين يضرب المثل في ذلك. ويعلِّمنا إياه، فيقول: " وحكى القاضي عن العراقيين طريقة أخرى، لم أطلع عليها مع بحثي عنها ". فهو ينسب الطريقة (الرأي) إلى صاحبه، ثم يبين مصدره، وعمن أخذه، ثم يبحث عن صواب النقل حينما يتشكك في صدور هذا الرأي عن المنقول عنه، ويعلن أنه لم يطلع على هذا الرأي للعراقيين (المنقول عنهم) مع طول بحثه. ثم يؤكد خطأ هذا الرأي عنده، فيقول: " ولا شك أن ما حكاه غلط " وهنا غاية الدقة في العبارة: " إن ما حكاه غلط " ولم يقل: أخطأ العراقيون؛ لأنه غير واثق من صحة النقل، فيقول بعد العبارة السابقة مباشرة: " لكني أخشى أن يكون الناقل غالطاً " وتشككه هذا ليس شيئاًً بالهوى والتشهي إنما هو مبني على معرفته بالمنقول عنه، وبحدود المسألة، وقيمة الرأي المنقول، ولذلك يقول: " فلا يستجيز المصير إلى ما حكاه عن العراقيين من أحاط بأطراف الكلام في أحكام هذه المعاملة " أي أن من عرف أطراف الكلام، أي الشادي المبتدىء لا يمكن عقلاً أن يصير إلى هذا الرأي ويقول به. جاء هذا في (نهاية المطلب) عند الكلام عن إحدى مسائل القراض. ¬

_ (¬1) البرهان فقرة: 559. (¬2) السابق: 557.

رابعا: تلاميذه

هذه أهم سمات وملامح منهج إمام الحرمين في مصنفاته بصفةٍ عامة وسنفرد فصلاً لملامح شخصيته وسمات منهجه في كتابه هذا بخاصة. ... رابعاً: تلاميذه: يظهر أثر إمام الحرمين رضي الله عنه في مجال آخر، حيث لمع اسمُه في تاريخ الفقه الإسلامي بصفته أستاذاً ومعلِّماً، وهذه منزلة لا تتاح لكل عالم، فقد يكون الرجل فقيهاً باحثاً يترك أعظمَ المؤلفات، ولكن لا يكون له في تربية الفقهاء وتخريج المتفقة شأن، ولم يكن إمام الحرمين من هؤلاء، فقد تولى التدريسَ وهو في نحو العشرين من عمره، فما إن استحصدت خبرته، ونضِجت معارفُه، وذاع صِيتُه، حتى صارت حلقته كعبة يشد إليها الرحال طالبو الفقه من أنحاء العالم الإسلامي، وحين تربع على عرش المدرسة النظامية بنيسابور التي بناها (نظام الملك) باسمه، صارت نظامية نيسابور ميدان بحث ومناظرة، تخرج فيها على يد إمام الحرمين من الأئمة ما تزدهي بهم نيسابور، ويزهو بهم الفقه الإسلامي إلى اليوم. ولو رحنا نعد هؤلاء الأعلام الذين ذكرت الكتب أنهم تفقهوا بإمام الحرمين -وناهيك بمن لم تذكر- لطال بنا الكلام، ولاستعصى علينا الحصر والإحصاء، ألم يقولوا: إنهم كانوا عند وفاته نحو أربعمائة تلميذ، ولذلك يكفي أن نذكر منهم: حجة الإسلام الغزالي، والكيا الهراسي، والخَوافي (¬1)، والباخرزي، وعبد الغافر الفارسي، وقالوا عنه: أورثته صحبة إمام الحرمين فناً من الفصاحة، وأكسبته إياه سهراً حُمد صباحُه. ومنهم: الإمام أبو نصر، عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم القشيري. ومنهم: هاشم بن علي بن إسحاق بن القاسم الأبيوردي، وغانم الموشيلي، وعبد الكريم بن محمد الدامغاني، وعبد الجبار بن محمد بن أبي صالح المؤذن، ¬

_ (¬1) نسبة إلى (خَواف) بفتح الخاء المعجمة، وفي آخرها الفاء بعد الواو والألف (الأنساب للسمعاني).

خامسا: أثره

وأبو عبد الله الفُراوي، وأبو المظفر الأبيوردي، وأبو الفضل الماهياني، وسعد بن عبد الرحمن الأستراباذي. ومما يذكر في هذا المجال أن إمام الحرمين كان أستاذاً بصيراً بتلاميذه، يُحسن رعايَتهم ويشجعُهم، ويسعَد بنباهتهم ونبوغِهم، وقد وردت عنه كلماتٌ تدل على أستاذيةٍ ماهرة حاذقة، فقد كان الغزالي والكيا الهراسي والخَوافي أنداداً، وتناظروا يوما أمامه، فقال موازناً بينهم: " التحقيق للخَوافي، والجزئيات للغزالي، والبيان للكيا " وقال مرة أخرى: " الغزالي بحر مغدق، والكيا أسد محدق، والخَوافي نار تحرق " (¬1). ... خامساً: أثره: لقد كان إمام الحرمين رائداً مجدداً مجتهداً في أكثر من فن: في الفقه، في الأصول، في علم الخلاف والجدل، في السياسة الشرعية، في علم الكلام، كان له الأثر والريادة والقيادة بما جدد واجتهد، في هذه الفنون التي تحدثنا عنها، وعن دوره فيها آنفا، وكان له الأثر بما خلّف من مؤلفات ظلت تحمل علمه وفكره على كرّ العصور والدهور، وكانت زاداً، ومرجعاً، وموئلاً لمن جاء بعده، واقتفى أثره، رأينا أثر هذه المؤلفات، في آثار كثير من الأئمة، وبخاصة أنجب تلاميذه حجة الإسلام الغزالي، فمؤلفاته تحمل فكر شيخه وعلم إمامه، وأحياناً بألفاظ إمامه وعباراته نفسها. ولقد عقدنا الباب الرابع من كتابنا (فقه إمام الحرمين-خصائصه-أثره ومنزلته) بعنوان (منزلة إمام الحرمين) وجاء في نحو مائة صفحة، فلتراجعه إن شئت، ولا داعي للتكرار والإعادة هنا. ... ¬

_ (¬1) الغزالي: دكتور أحمد فريد الرفاعي: 1/ 98، 99.

الفصل الرابع تعريف بنهاية المطلب، ومنزلته بين كتب المذهب

الفصل الرابع تعريف بنهاية المطلب، ومنزلته بين كتب المذهب

تمهيد

تعريفٌ بنهاية المطلب ومنزلته بين كتب المذهب تمهيد لما استوى علم الفقه على سوقه، واستقامت مناهج الأئمة، ودوّنت المذاهب المتبوعة، وصار لكل إمام تلاميذ ورواة يحملون علمه، ويروون نصوصه، انتشرت هذه النصوص، وصار الفقهاءُ أتباعُ كل إمام يلتزمون نصوصه، ويجعلونها أساس استنباطهم وبحثهم، وموضعَ تفصيلهم وتفريعهم. وكان مختصر المزني الذي جمع نصوص الشافعي من أوفر الكتب حظَّاً وقبولاً لدى علماء الشافعية وأئمة المذهب، فقد شرحه منذ فجر التأليف في المذهب جمعٌ من الأئمة منهم: ابن سريج المتوفى 306 هـ أبو إسحاق المروزي المتوفى 340 هـ أبو علي الطبري المتوفى 350 هـ القاضي أبو حامد المرورُّوذي المتوفى 362 هـ القاضي أبو الحسن الجوري المتوفى بعد 300 هـ الشيخ أبو علي السنجي المتوفى 427 وقيل 430 هـ الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني المتوفى 418 هـ القاضي أبو علي البندنيجي المتوفى 425 هـ القاضي أبو الطيب الطبري المتوفى 450 هـ

الشيخ أبو بكر الصيدلاني المتوفى 327 هـ قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي المتوفى 450 هـ وفي هذا المضمار جرى إمام الحرمين أيضاً، فنسج على منوال هؤلاء الأئمة، وشرح مختصر المزني بكتابنا هذا. (نهاية المطلب في دراية المذهب) وننبه هنا أن المراد بالشرح ليس حل الألفاظ، وبيان غوامض التراكيب، وإنما الشرح الذي رأيناه -في الحاوي للماوردي، وفي النهاية لإمام الحرمين- هو جعل نصّ الشافعي أصلاً تُستنبط منه الأحكام، وحوله يدور التبويب والتفصيل، والمسائل والفروع. ولذا وجدنا إمام الحرمين يقول في مقدمة (النهاية): " وسأجري على أبواب (المختصر) ومسائلها جهدي، ولا أعتني بالكلام على ألفاظ (السواد) (¬1)، فقد تناهى في إيضاحها الأئمة الماضون، ولكني أنسب النصوص التي نقلها المزني إليه، وأتعرض لشرح مايتعلق بالفقه منها -إن شاء الله تعالى- وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجهٌ كريب منقاس، ذكرتُ ندوره وانقياسه ... ". ... ولم يذع وينتشر من هذه الشروح -فيما نقدِّر- سوى اثنين: (الحاوي) للماوردي، و (نهاية المطلب) لإمام الحرمين، ولكن الذي كان له التأثير الأكبر، وصار عليه المعوّل، هو (نهاية المطلب)، فعنه ومنه وحده -تقريباً- كان أَخْذُ الأئمة واستمدادهم، بل شاع بينهم القول: " منذ صنف الإمام كتابه (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام " (¬2). ¬

_ (¬1) السواد: المراد به (مختصر المزني). (¬2) انظر الشكل الخامس.

تحرير المذهب

تحرير المذهب: وبيان ذلك أن تحرير المذهب الشافعي انتهى إلى الإمامين: الرافعي، أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن الفضل، القزويني المتوفى 624 هـ، والإمام النووي، محيي الدين، أبو زكريا، يحيى بن شرف المتوفى سنة 676 هـ فإليهما يرجع الفضل في تحرير المذهب وتنقيحه، وهما العمدة في معرفة ما هو من المذهب، وتمييزه مما ليس منه، فهما شيخا المذهب في لسان من بعدهما من طبقات المذهب، فحيث قيل: (الشيخان) فهما الرافعي والنووي، وإليهما ينتهي الاجتهاد؛ فالراجح ما رجحاه، والمَفْتِيُّ به ما اعتمداه؛ ولم يخرُج مَنْ بعدهما على قولهما، حتى شاع بين المتأخرين قول ابن حجر الهيتمي: " ... ومن جوّز اعتماد المفتي ما يراه في كتابٍ فيه تفصيل لا بدّ منه -ودل عليه كلام النووي في المجموع (¬1) وغيره- وهو أن الكتب المتقدمة على الشيخين لا يعتمد شيء منها إلا بعد مزيد الفحص والتحرّي، حتى يغلب على الظن أنه المذهب، ولا يغتر بتتابع كتب متعددة على حكم واحد؛ فإن هذه الكثرة قد تنتهي إلى واحد: ألا ترى أن أصحاب القفال أو الشيخ أبي حامد مع كثرتهم لا يفرّعون ويؤصلون إلا على طريقته غالباً، وإن خالفت سائر الأصحاب، فتعين سبرُ كتبهم. هذا كله في حكمٍ لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما -وإلا فالذي أطبق عليه محققو المتأخرين- ولم تزل مشايخنا يوصون به، وينقلونه عن مشايخهم، وهم عمن قبلهم، وهكذا -أن المعتمد ما اتفق عليه الشيخان الرافعي والنووي، فإن اختلفا، فالنووي، فإن وجد للرافعي ترجيح دونه فالرافعي-" ا. هـ بنصه (¬2). وهذا كلام واضح مُبينٌ دالٌّ على أن تحرير المذهب، وتمييز ما هو منه عما سواه انتهى إلى الإمامين الرافعي والنووي. ¬

_ (¬1) ر. المجموع للنووي: 1/ 4، ونصُّ كلام النووي الذىِ يشير إليه ابن حجر هو: " واعلم أن كتب المذهب فيها اختلافٌ شديد بين الأصحاب بحيث لا يحصل للمطالع وثوق بكون ما قاله مصنفٌ منهم هو المذهب حتى يطالع معظمَ كتب المذهب المشهورة ". (¬2) ر. تحفة المحتاج بهامش حواشي الشرواني وابن قاسم: 1/ 39.

وإذا نظرنا إلى علمهما نجده -في جملته- يرجع إلى كلام الإمام، أي إلى كتابه " نهاية المطلب ". وبيان ذلك أن فقه إمام الحرمين في (نهاية المطلب) حازه تلميذه (الغزالي) في كتابه (البسيط)، ثم اختصره إلى (الوسيط) ثم اختصر الوسيط في مجلدٍ لطيف سماه (الوجيز) واشتغل الإمام الرافعي (بالوجيز)، فشرحه شرحين: مختصراً لم يسمّه، ومطوّلاً سماه (العزيز) واشتهر (بالشرح الكبير)، كما اختصر الوجيز في مختصرٍ سمّاه (المحرر) (¬1). ثم جاء الإمام النووي فاختصر الشرح الكبير في كتابه (روضة الطالبين)، كما اختصر المحرر إلى (المنهاج). وبعد الإمامين الرافعي والنووي بدأ طور الاستقرار في المذهب، وكان فقههما -ممثلاً في (روضة الطالبين) و (المنهاج) - هو المعتمد، وعليه المدار، فتتابع رجال المذهب على (الروضة) و (المنهاج) شرحاً، واختصاراً، ونظماً، وحواشي، ومضى الحال على ذلك قروناً، حتى استقر المذهب عند شيخي المتأخرين: ابن حجر الهيتمي (974 هـ)، والرملي (1004 هـ) الأول في (تحفته) والثاني في (نهايته)، وكلاهما شرح على (المنهاج) للنووي (¬2) وصار الاعتماد عليهما، ولا يفتى إلا بقولهما. ويصور هذا التسلسل الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي بقوله: "وهذا الاعتماد على كتب ابن حجر (يعني الهيتمي) والرملي ينبغي ألاّ يصرف نظر الباحث عن الحقيقة العلمية وراء ذلك، وهي أن كتب ابن حجر والرملي إنما هي حلقة في سلسلة ذهبية من كتب أكابر العلماء الشافعية، تمتد عبر القرون، حتى تصل إلى مؤسس المذهب (الإمام الشافعي): فالتحفة والنهاية كلاهما شرح لمنهاج الطالبين. ومنهاج الطالبين مختصر النووي من المحرر. والمحرر مختصر الرافعي من الوجيز. والوجيز مختصر ¬

_ (¬1) كذا في البجيرمي على شرح المنهج وغيره أن الرافعي اختصر المحرر من الوجيز، لكن ابن حجر في التحفة يقول: " وتسميته (أي المحرر) مختصراً لقلة لفظه، لا لكونه من كتابٍ بعينه " (الفوائد المكية: 35، والتحفة مع حاشيتي الشرواني وابن قاسم: 1/ 35). (¬2) الفوائد المكية: 36، 37 بتصرف كثير.

نهاية المطلب وتحرير المذهب

من الوسيط. والوسيط مختصر من البسيط والبسيط مختصر من (نهاية المطلب) ونهاية المطلب شرح لنصوص الشافعي التي جمعها (مختصر المزني) " (¬1). وتعبير ابن حجر الهيتمي -الذي تناقلته الكتب عنه- يوحي بأن " اشتغال الناس بكلام الإمام -منذ صنف (النهاية) - دون سواه " كان أمراً مقرراً شائعاً، ذائعاً، بالغاً: حدّ الاستفاضة، ولذلك لم ينسبه إلى أحد، ولم يروه عن راوٍ، كما هو نهج العلماء، وإنما قال: " وقولهم إنه منذ صنف الإمام كتابه (النهاية) ... لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام " (¬2) فأنت تراه يقول: (وقولهم) هكذا، بدون تحديد القائل، وضمير الجمع هنا عائد على علماء الشافعية وأئمتهم، كأنهم تكلموا بذلك جميعاً، واتفقوا عليه. ... نهاية المطلب وتحرير المذهب: ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا: (إن نهاية المطلب) كانت الخطوة الأولى المبكرة في تحرير المذهب، قبل الرافعي والنووي، يشهد لذلك ما يأتي: قولُ الإمام في خطبته: " ... وأبتهل إليه سبحانه في تيسير ما هممت بافتتاحه من تهذيب مذهب الإمام المطَّلبي الشافعي رضي الله عنه، يحوي تقريرَ القواعد وتحريرَ الضوابط، والمعاقد في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصّل منها والمجموع" فهو يؤكد أن عمله هذا تهذيبٌ لمذهب الإمام، وتقرير للقواعد. ثم زاد هذا الأمر إيضاحاً، فقال: "وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجه غريب منقاس ذكرتُ ندورَه وانقياسه، وإن انضمَّ إلى ندوره ضعف القياس، نبهت عليه بأن أذكر الصواب قائلاً: "المذهب كذا" فهو يذكر خلاف الأصحاب، والوجوه المعتمدة في المذهب، منبهاً إلى ما يخرج بندوره وضعف قياسه عن المذهب. ¬

_ (¬1) ر. المذهب عند الشافعية، بحث منشور بمجلة جامعة الملك عبد العزيز -العدد الثاني- جمادى الآخرة 1398 = مايو 1978 ص 47 (بشيء من التصرف). (¬2) انظر مثلا: الفوائد المكية للسيد علوي بن أحمد السقاف: 36.

ثم تابع التأكيد لهذا المنهج قائلاً: " وإن جرت مسألة لم يبلغني فيها مذهب الأئمة، خرّجتها على القواعد، وذكرت مسالك الاحتمال فيها على مبلغ علمي وفهمي ". فهو يؤكد أن المسائل التي لا يجد فيها حكماً لأئمة المذهب سيخرّجها على (القواعد) أي قواعد المذهب. ويشهد لما نحاوله -من إثبات أن هذا الكتاب كان أسبقَ في تحرير المذهب- الاسمُ الذي اختاره له الإمام (نهاية المطلب في دراية المذهب)، فهو اسم معمودٌ مقصودٌ لأداء معنىً وتحقيق غاية، صرح بذلك الإمام قائلاً: " وقد استقرّ رأي على تلقيبه بما يشعر بمضمونه، فليشتهر بـ (نهاية المطلب في دراية المذهب) فمضمونه: (علم المذهب درايةً). ... ثم من يطالع (النهاية) يجد الإمامَ التزمَ بما وعد به من (تهذيب مذهب الإمام المطلبي) فحينما ينقل وجوه الأصحاب، ويكون فيها ما لا يمكن تخريجه على أصول الشافعي ينبه على ذلك، ويميز ما ليس من المذهب عما هو منه، بل قد ينقدح عنده هو وجهٌ يخالف المذهب، فيعرضه، ويقرره، ولكنه يقول معقباً: " والمذهب كذا ". وهاك بعض نماذج وأمثلة مما جاء في (النهاية): * قال في كتاب الزكاة عند الحديث عن زكاة الحلي: " وهذا الذي ذكرته إشكال ابتديته، وليس قاعدةً للمذهب، فحقٌ على من يعتني بجمع المذهب أن يعتمد ما يصح نقله، ويستعمل فكره في تعليله جهده، حتى يكون نظره تبعاً لمنقوله، فأما أن يستتبع المذهَب، فهذا قصد لوضع مذهب " ا. هـ بنصه. فهو يضع الضابط لتحرير المذهب، وهذا الضابط يقوم أولاً على التأكد من صحة النص المنقول عن الإمام الشافعي، وثانياً أن يكون الجهد في التخريج والتعليل والاستنباط (تبعاً لمنقوله) أي ملتزماً به، أما أن يجعل المذهب تابعاً لاجتهاده، وتعليله، " فهذا قصدٌ لوضع مذهب " أي ابتداع مذهب غير المذهب الشافعي، هذا منهجه في نهاية المطلب.

ولكنه مع هذا لا يمنع من إبداء وجوه الاحتمال والإشكال، فيصرح بذلك قائلاً بعد هذا مباشرة: " نعم بعد النقل يحسن إبداء الإشكال، وذكر وجوه الاحتمال في الرأي، لا ليُعتقد مذهباً، ولكن لينتفع الناظر فيها بالتدرب في مسالك الفقه " ا. هـ بنصه. فهو إن عرض في كتابه لوجوهٍ من الاحتمال والإشكال، فذلك للتدرّب في مسالك الفقه، لا أن تُعتقد مذهباً. * وعندما تعرض لعلة الربا في الأصناف الستة وأشار إلى طرفٍ من الخلاف، تجده يكف نفسه عن الاسترسال في ذلك قائلاً: " ولا يليق التعرّض للاختلاف بهذا الكتاب المقصور على بيان مذهب الشافعي وأصحابه، فالوجه الاقتصار على هذا المذهب " ا. هـ * وفي كتاب الغصب في مسألة إيجاب المثل مع اختلاف الأمكنة وأثره في ذلك، كمن غصب ماءً من مسافرٍ في صحراء، تجده يقول: " وحكينا عن شيخنا إيجاب المثل مع اختلاف الأمكنة من غير تفصيل. وهذا منقاس، لكني لست أثق به؛ فإني لم أره في شيء من الطرق، وسبيلي فيما أنفرد بنقله إذا لم أجده في عين طريقة أن أتوقف، ولا أخلي الكتاب عن ذكره " ا. هـ. فهو أولاً يردّ قولَ والده، ثم يعلق أنه لا يثق بنقله، مع أنه يعترف بأنه منقاس، وذلك تطبيق للضابط الذي ذكرناه سابقاً، فهو لا يلتزم إلا باعتماد ما رآه في عين طريقة، أي من طرق نقل المذهب، فلا ينسب إلى المذهب إلا ما يتحقق نقله، (فالمذهب نقلٌ)، أما ما لم يتحقق نقله، فهو لا يخلي الكتاب عن ذكره، ولكنه لا يعدّه من المذهب. * وإذا كان المنقول ظاهر الشذوذ والبعد عن المذهب، لا يتردد في دفعه، ولو كان عن والده، ويحمل ذلك على خطأ الناقل أو المستمع، جاء في كتاب الزكاة عند الكلام عن أخذ المعيبة في الزكاة قوله: " وما حكيته عن شيخي من التسوية بين الضحايا والزكاة في هذه العيوب غير معدود من المذهب، وإنما هفوة من الناقل، أو المستمع " ا. هـ.

* وفي كتاب الصلاة عند الكلام عن اشتراط الطهارة في البدن يعرض لمسألة وصل العظم المنكسر بعظم نجس، فيقول: " ... ولولا أن المذهب نقلٌ، وإلا لكان القياس، بل القواعد الكلية تقتضي أن أقول: لا يُنزع [أي العظم النجس] عند الخوف، وجهاً واحداً، ولا عند الاكتساء بالجلد، وحصول الستر والبطون، وكان لا يبقى احتمال إلا في صورةٍ، ألا وهي إذا أمكن الوصل بعظم طاهر، واعتمد الوصل بالنجس واعتدى، فهل ينزع والحالة هذه؟ الظاهر أنه لا ينزع مع الخوف، وفيه احتمال بسبب تفريطه، وتسببه إلى هذا ... " ا. هـ. وهذا كلام مبين غاية البيَان، بالغٌ النهاية في إثبات ما نحاوله. * وفي كتاب الحجر قال عند الكلام على نفقة المحجور عليه بالإفلاس وزوجه وأقاربه الذين تلزم المفلس نفقتهم، قال: " وفي القلب من نفقة الأقارب مخالجة ظاهرة، ولكن المذهب نقلٌ، ونحن لا نذكر وجهاً إلا عن نقل صريح، أو أخْذٍ من رمز وفحوى في كلام الأصحاب، ولم أر فيما حكيته شيئاًً ". وكان قد ذكر قبل ذلك بسطورٍ ما نصه: " الحاكم قبل تفرقة مال المفلس ينفق عليه، وعلى من تلزمه نفقته من زوجاته وأقاربه الذين يستحقون إنفاقه عليهم .... " ثم قال: "وكان لا يمتنع أن يُلحَقَ في حقوقهم بالفقير الذي لا مال له، ولكن أجمع الأصحاب على ما ذكرناه، فليثق الطالب بما نقلناه" ا. هـ فهو نقل إجماع الأصحاب على النفقة على الأقارب، ولكنه في صدره منه شيء، فلم ير نقلاً صريحاً، ولا مرامز إلى شيء من هذا. * ويعرض صوراً لما يقطع القدوة في صلاة الجماعة وما لا يقطعها، وفي إحداها يميل إلى ما يخالف المذهب، أو بالتحديد يرى احتمالاً آخراً مقابلاً للمذهب، فيعبر عن ذلك قائلاً: "فلو قيل: ينقطع حكم القدوة، لم يكن بعيداً عن القياس، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، والمذهب نقلٌ، وأنا لا أعتمد قط احتمالاً إلا إذا

وجدت رمزاً وتشبيباً لبعض النقلة، فإذا وضح ذلك، عدنا إلى البناء على ما هو المذهب" ا. هـ * ثم نراه في هذا الكتاب لا يُعنى بذكر الخلاف المذهبي، وحيثما تطرّق الكلام إلى مسألة خلافية أحال على (مجموعاته-أي كتبه-في الخلاف)، وإذا ذكر المذهبَ المخالف في مسألة -وما أكثر ما فعل- فهو لا يذكر الخلاف لذاته، فليس هذا معمودَه ولا مقصوده، وإنما الكتاب موضوع لبيان مذهبنا وحفظه وتأصيله، نبه على ذلك مراراً بأجلى بيان، من مثل قوله في باب نكاح المشركات تعقيباً على إحدى المسائل: " ونذكر أصول مذهب أبي حنيفة، والغرض من ذكرها أن يكون تقييداً لمذهبنا في الحفظ؛ فإن الشيء قد يحفظ بذكر ضده " ا. هـ * ومن عنايته بتحرير المذهب أنه يكرر الضابط الذي وضعه لتحرير المذهب، وأشرنا إليه قبلاً، بنفس الألفاظ تقريباً، فيقول: " وحق من يريد الاعتناء بالمذهب أن يفهم ما قيل، ويتثبت في النقل، ثم يحيط بالمشكلات، ويستمسك بها في نصرة قولٍ على قول " ا. هـ (قال هذا في كتاب النكاح في مسألة ما إذا أصدق نسوة في عقد واحد صداقاً واحداً). هكذا: الفهم لما قيل. التثبت في النقل الإحاطة بالمشكلات في التفريع. الاستمساك بها في نصرة قولٍ على قولٍ. فملاك الأمر -كما ترى- قولُ إمام المذهب، ونصوصُه، والتثبتُ من صحة النقل وحسنُ الفهم لها، والتفريعُ عليها، وقد تؤدي المشكلات التي تظهر في التفريع إلى نصرة قولٍ على قول، وترجح صحة نقله. * ولأنه التزم بيان المذهب وتحريره، فهو يورد الوجوه كلها، قويها وضعيفها، ويبذل أقصى الإمكان في توجيهها، عبّر عن ذلك مراراً، من مثل قوله في كتاب

الطهارة: " ومما يجب الاعتناء به أن الوجه البالغ في الضعف -إذا كان مشهوراً- فيتعين ذكر متعلّق له على حسب الإمكان ". وقوله في كتاب الصلاة: " وإذا عسر عليّ في فصلٍ تخريج المذهب المنقول على قياسٍ أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعاب وجه الإشكال، وإيضاح أقصى الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات " (¬1). * ويصرح بأنه ملتزم بذكر المذهب والإحاطة به، فيعتذر عن ذكر الجليات التي قد يقول قائل: لا مجال لمثلها في مثل هذا الكتاب، فيقول: " ولكني أضطر إلى ذكر الجليات؛ إذ التزمت نظم مذهب جامع ". * ومن هذا الباب أيضاً -أعني تأصيل المذهب وتحريره- فحصُه تخريجات المزني وقوله عنها: " والذي أراه أن يُلحق مذهب المزني في جميع المسائل بالمذهب؛ فإنه ما انحاز عن الشافعي في أصلٍ يتعلق الكلام فيه بقاطع، وإذا لم يفارق الشافعيَّ في أصوله، فتخريجاته خارجة على قاعدة إمامه، فإن كان لتخريج مُخرِّج التحاقٌ بالمذهب، فأَوْلاها تخريج المزني لعلو منصبه في الفقه، وتلقّيه أصول الشافعي من فَلْق فيه، وإنما لم يُلحق الأصحابُ مذهبَه في هذه المسألة (¬2) بالمذهب، لأن من صيغة تخريجه أن يقول: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا. وإذا انفرد بمذهب، استعمل لفظة تشعر بانحيازه، وقد قال في هذه المسألة -لما حكى جواب الشافعي-: " ليس هذا عندي بشيء " واندفع في توجيه ما رآه " ا. هـ بنصه فهو يعرف للمزني حقه، ويقر بعلوّ منصبه، ويفضل تخريجاته التي التزم فيها أصول الشافعي على تخريجات غيره، ويجعلها الأَوْلى بالالتحاق بالمذهب، أما التي ¬

_ (¬1) قال هذا تعقيباً على خلاف الأصحاب في وجوب نزع العظم النجس إذا تداوى بوصله بعظمه أحد، وقد أشرنا إلى المسألة آنفاً. (¬2) واحدة من مسائل كتاب الخلع، لا نطيل بذكرها، فقد تُسوّد عدة صفحات.

المذهب الكبير

لا يلتزم فيه أصول الشافعي، فهي ليست من المذهب، مع علوّ منصب صاحبها. والذي نلفت النظر إليه تنبّه إمام الحرمين، وتنبيهه لصيغة المزني وعباراته، ومتى تدل على التزامٍ بأصول المذهب، ومتى تدل على الخروج عليها. * وقد نرى للإمام في كتابه هذا اجتهاداً يخالف فيه المذهب، أو يزيده وجهاً، ولكنه يحرص دائماً على أن يميزه عن المذهب بتعبيرٍ واضح، لا احتمال فيه، من مثل قوله: " كنت أودّ لو قال قائل من أئمة المذهب بكذا ". * بل قد يختار مذهباً مخالفاً، ويعلل لاختياره، ويستدلّ له، ولكنه دائماً يميز اختياره عن المذهب، مثال ذلك: حينما يعرض لرأي الشافعي في الزكاة، وأنه لا يجوز إخراج البدل، وأن الزكاة تخرج من المال الذي تجب فيه الزكاة، فمن كان ماله ذهباً لا يخرج عنه فضة، وهكذا، نجده يشير إلى رأي مالك وقوله: بأن الوَرِق يجزىء عن الذهب، والذهب يجزىء عن الوَرِق، فنراه يعلن ميله لرأي مالك صراحة، فيقول: " وهذا فيه قرب ". ثم يعلل لرأي مالك ويوجهه، فيقول: " إن الماشية إن قدّرت نامية، واعتُقد فيها اختصاص، فلا اختصاص لأحد النقدين عن الثاني بشيء ". ومع هذا فالحرص واضح على عدم عدّ ذلك من المذهب. ونكتفي بهذه النماذج -وما أكثرها في تضاعيف الكتاب- فهي كافية بالغة الدلالة، ونخوض في وجهٍ آخر يبين منزلة كتابنا هذا في بناء المذهب. ... المذهب الكبير: ويؤكد منزلة كتابنا هذا ومكانته في تحرير المذهب وبنائه أنه عُرف باسم (المذهب الكبير) وصار عَلَماً عليه، يشهد لذلك ما ذكره ابن الصلاح في (أدب الفتوى) قال: حدثني أحد المفتين بخراسان أيام مقامي بها عن بعض مشايخه، أن الإمام أحمد الخَوافي قال للغزالي في مسألةٍ أفتى فيها: لقد أخطأت، فقال الغزالي: من أين والمسألة ليست مسطورة؟

الإمام

فقال الخَوافي: بلى، في (المذهب الكبير). فقال الغزالي: ليست فيه. قال ابن الصلاح: ولم تكن في الموضع الذي يليق بها، فأخرجها له الخوافي من موضعٍ أجراها فيه المصنف استشهاداً ... الخ الحكاية". ا. هـ وعقب على هذه الحكاية ابنُ الصلاح قائلاً: " والمذهب الكبير هو نهاية المطلب تأليف الشيخ أبي المعالي الجويني " (¬1). وجاء في مشكل الوسيط قول ابن الصلاح: " وقوله -أي الغزالي- " المذهب البسيط " عبارة خراسانية، ويسمون (نهاية المطلب) المذهب الكبير، أي كتاب (المذهب البسيط)، والله أعلم " (¬2) ا. هـ وقال السبكي في ترجمة عبد الجبار بن محمد الخُواري ت 536 هـ: " تفقه على إمام الحرمين، وعلَّق المذهب عليه وبرع فيه، وكان سريع القلم، نسخ بخطه (المذهب الكبير) للجويني أكثر من عشرين مرة، وكان يكتبه ويبيعه، قلتُ (السبكي): المذهب الكبير هو (نهاية المطلب) " (¬3) ا. هـ وشيوع هذا الاسم (المذهب الكبير) وتسمية (النهاية) به لا يحتاج إلى دليل أكثر من هذا، فهو شائع ذائع، يعرفه كل من له إلفٌ بأمهات كتب المذهب. ... الإمام: يطلق لقب (الإمام) مطلقاً بدون تقييد في كتب الشافعية، ويراد به إمام الحرمين، وهذا الإطلاق مبكرٌ جداً، فقد رأيناه عند البغوي المتوفى سنة 516 هـ، فهل لهذا الإطلاق علاقة بما قام به من تحرير المذهب في كتابه هذا (نهاية المطلب)؟؟ أكاد أجزم بهذا؛ فلم تكن هذه الألقاب تطلق هزلاً، وإذا كان لقب (الإمام) إذا ¬

_ (¬1) أدب الفتوى: 83. (¬2) مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 1/ 471. (¬3) طبقات السبكي: 7/ 144.

أطلق عند رجال أي مذهب، فمعناه مؤسس المذهب، فلا شك أن إمام الحرمين ما صار (الإمام) بعد الإمام الشافعي إلا لأن كتابه صار معتمد المذهب ومرجوعه، فهذه (إمامته للمذهب). وإطلاق هذا اللقب على إمام الحرمين من الشيوع بحيث لا يحتاج إلى إثبات وتدليل. وقد كان شيوع هذا اللقب مبكراً جدّاً؛ فالبغوي المتوفى 516 هـ عن ثمانين عاماً -فقد ولد سنة 436 هـ- ويكاد يكون معاصراً لإمام الحرمين؛ فقد كانت سنُه فوق الأربعين يوم وفاته، وجدناه يقول في (شرح السنة) عند الكلام عن حديث: " مطل الغني ظلم ": " ... قال الإمام: فيه دليل على أنه يجوز لصاحب الحق التشديد على المديون المليء بالقول" (¬1). وبلغ شيوع هذا اللقب حَدّاً صار به علماً على إمام الحرمين، فبين يديّ كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم المتوفى سنة 642 هـ، وقد ورد فيه ذكر إمام الحرمين، والنقل عنه والاستشهاد بكلامه نحو مائتي مرة معظمها بلفظ الإمام، على سبيل المثال جاء في ص 484: " قال الإمام: وهذا عندي خطأ ... " وفي ذات الصفحة يقول: "قال الإمام: والمسألة محتملة مع ما ذكرناه" وفي الصفحة التالية 485 يقول: " قلت أنا: هذا الخلاف بين الإمام والصيدلاني " وفي ذات الصفحة يقول: " وظاهر فحوى كلام الإمام ... " فهذه أربع مرات متتالية في صفحتين متتاليتين مما يشهد بأن ذلك اللقب صار (علماً) على إمام الحرمين. ونجد ابن الصلاح المتوفى سنة 643 هـ -مع تحامله على إمام الحرمين لما بين المحدّثين والمتكلمين- في كتابه (مشكل الوسيط) جعل هذا اللقب (الإمام) علماً على إمام الحرمين، كرر ذلك في كتابه مراراً، في ثنايا تعقبه لمؤلف (الوسيط) أبي حامد الغزالي، وشيخه إمام الحرمين. وكذلك نجد العلائي، خليل بن كيْكلدي المتوفى سنة 761 هـ يحكي في كتابه (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) كلام إمام الحرمين في تعريف الحديث ¬

_ (¬1) شرح السنة: 8/ 194 وهذا عين ما قاله الإمام في النهاية.

المرسل، ثم يعقب على ذلك قائلاً: " هذا كلام الإمام في البرهان " (¬1). وفي أول كتاب العلم -باب فضل العلم- من فتح الباري يطالعنا قول ابن حجر: " وقد أنكر ابن العربي في شرح الترمذي على من تصدّى لتعريف العلم، وقال: هو أَبْين من أن يبيّن " قلت: وهذه طريقة الغزالي وشيخه الإمام أن العلم لا يحد لوضوحه أو لعسره (¬2) " وفي (المنثور) (¬3) نجد قول الزركشي: "وقال الإمام في (الغياثي): أهم المطالب في الفقه التدزب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهو الذي يسمى فقه النفس" (¬4). وتجد الزركشي أيضاً في إعلام الساجد بأحكام المساجد يعرض لحكام الصلاة على سطح الكعبة والخلاف في ذلك، ويحكي رأي إمام الحرمين قائلاً: " وقال الإمام: لا شك أنه يجزئه في السطح (¬5) " وجاء مثل ذلك في مواضع أخرى، على سبيل المثال: ص 95، 99 (¬6) ونجده كذلك في (خبايا الزوايا) يذكره بالإمام مطلقاً في مواضع كثيرة: (انظر مثلاً: ص 59، 85، 96، 159، 197 (¬7)). ¬

_ (¬1) جامع التحصيل في أحكام المراسيل ت 23. (¬2) فتح الباري: 1/ 141. (¬3) المنثور: 1/ 68. (¬4) الغياثي: فقرة: 582. (¬5) إعلام الساجد: 94. (¬6) ومما يذكر هنا أن المحقق الفاضل لم يعرف أن المقصود بالإمام هو إمام الحرمين، ولذا لم يذكر هذه الصفحات له في فهرس الأعلام. (¬7) وهم المحقق الفاضل أبو الفضل إبراهيم رحمه الله في تحقيقه لكتاب (البرهان في علوم القرآن) للزركشي، حيث فهرس تحت لقب إمام الحرمين لفظ الإمام مطلقاً حيثما ورد في الكتاب، على ما جرت به العادة في كتب الشافعية، فقد جاء في كلام الزركشي (2/ 263) قوله: " واستشكله الإمام في تفسيره ... ". ففسر الإمام في الحاشية بأنه (إمام الحرمين)، مع أن المراد بلفظ الإمام هنا الإمام الفخر الرازي، فمن المعلوم أن لقب الإمام مطلقاً بغير قيد في كتب التفسير يراد به الإمام فخر الدين الرازي.

أما شيخا المذهب الرافعي والنووي نجد هذا الإطلاق شائعاً في كتبهما، وبخاصة الشرح الكبير، والمجموع شرح المهذب، وروضة الطالبين، وبلغ شيوع هذا الإطلاق حدّاً لا يحتاج معه إلى إيراد نماذج، وذكر أمثلة، ومواضع وأرقام صفحات، فحيثما قلبت في هذه الكتب تجده أمامك. وكذلك تجد هذا الإطلاق في مؤلفات السبكي التقيّ، والسبكي التاج. كما تجد هذا أيضاً عند الخطيب الشربيني في الإقناع، وفي النهاية لولي الدين البصير، وتتابع على هذا أئمة الشافعية في كتبهم وشروحهم وحواشيهم. وما ذكرناه مجرد أمثلة فقط. فحيثما وجدت لقب (الإمام) مطلقاً -في كتب مَنْ بعد إمام الحرمين- فاعلم أنه إمام الحرمين، وحذارِ أن تظن أنه الإمام الشافعي. ومن أوهام الخواصّ في هذا الباب أن مصحح روضة الطالبين (¬1) -على فضله- قرأ قول النووي: 1/ 215: " قلت لم يجزم الإمام بأنه يكون على ذلك الخلاف، بل قال: في هذا تردد عندي "، فظن خطأً أن هذا الإطلاق يعني أن المقصود هو الإمام الشافعي، وواضح أن مثل هذا لا يكون من كلام الشافعي، فراجَعَ الشرحَ الكبير الذي هو أصل الروضة، وراجعَ المجموع، فوجد العبارة فيهما منسوبةً لإمام الحرمين، فغيّر عبارة النووي حتى صارت: " لم يجزم إمام الحرمين ... " وقال في الهامش: " في الأصل (الإمام) وقد صوّبتها من المجموع للنووي، والشرح الكبير للرافعي " ا. هـ. والواقع أنه خطّأ الصواب، وأتى مكانه بمرادافٍ؛ فالإمام هو إمام الحرمين بعينه. وهذا الوهم إلى هنا أمره محتمل غير خطير، ولكن تُرى ماذا فعل المحقق الكريم بما رآه من عشرات المرات للفظ الإمام، ولم يجد تصريحاً في مصدرٍ آخر بأن ¬

_ = ومما يسجل هنا أن الزركشي كان دقيقاً في استعمال هذا اللقب، فقد رأيناه في كتبه الفقهية يطلق على إمام الحرمين لقب (الإمام) مطلقاً، وأما في البرهان في علوم القرآن فاحتاط للأمر فذكر إمام الحرمين في كل موضع ورد فيه بهذا الاسم (إمام الحرمين) أو يقول: الجويني. (¬1) طبعة المكتب الإسلامي، فقد طبعت بعدها طبعة لا خير فيها، ولا ثقة بها.

المقصود إمام الحرمين؟!! هل فسرها بأنها الإمام الشافعي؟ أم بأي إمام؟ إن هذا الوهم وأمثاله لو لم يتدارك، لقلب الموازين، وغيّر وبدّل، وسمى الأشياء بغير أسمائها، وذلك لعمري خلل عظيم. عُدنا للحديث عن منزلة الإمام. ولعل من أعظم الأدلة على شيوع وذيوع هذا اللقب (الإمام) وإطلاقه على إمامنا أنه انتقل إلى لسان أئمة المذاهب المخالفة، وتردد في كتبهم، فقد وجدنا صاحب مسلّم الثبوت (ابن عبد الشكور) المتوفى 1119هـ -عند الحديث عن تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وهل كان متعبداً بشرعٍ، أو بغير شرع- يقول: " ونفاه المالكية، وجمهور المتكلمين: فالمعتزلة قالوا: التعبد بشرعٍ مستحيل، وأهل الحق: غير واقع، وعليه القاضي، وتوقف الإمام (¬1) والغزالي " (¬2). وعند الحديث عن تعدد العلة وتعليل الحكم بأكثر من علة، يقول: " والإمام قال: يجوز التعدد عقلاً ويمتنع شرعاً " (¬3). والأبلغ من ذلك دلالة أن يذيع تلقيب الإمام بهذا حتى ينتقل إلى لسان أئمة فنون أخرى غير الفقه والأصول، والعلوم الشرعية كلها، فنجده عند أئمة اللغة، وفي كتبهم، فها هو ابن هشام في كتابه الفذ (مغني اللبيب) عند الحديث عن (الواو) ومعانيها يقول: " ونقل (الإمام) في (البرهان) عن بعض الحنفية أن الواو للجمع " (¬4). ... ¬

_ (¬1) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة رقم: 423، حيث يقول الإمام بالتوقف في هذه المسألة. (¬2) ر. شرح مسلم الثبوت: 2/ 183. (¬3) السابق نفسه: 2/ 282، وانظر البرهان: 2/فقرة رقم: 791، حيث يقول الإمام: " تعليل الحكم الواحد بعلتين ليس ممتنعاً عقلاً وتسويغاً، ونظراً إلى المصالح الكلية، ولكنه ممتنع شرعاً " ا. هـ بنصه. (¬4) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 464.

ولم يكن لقب (الإمام) وإطلاقه عليه بغير تقييد هو وحده الذي عظّم به الشافعية إمام الحرمين، فأنت واجدٌ في كتبهم تعظيم الإمام شائعاً بأكثر من لقب، سواء وافقوه أو خالفوه، ويكفي أن نشير إلى نموذج يسير من ذلك، فها هو النووي يحكي كلامه في مسألة من مسائل المياه، فيقول: "قال إمام الحرمين، وهو عمدة المذهب ... " (¬1). وعندما يردّ قوله ويخالفه يقول: "ومن أظرف العجائب قول إمام الحرمين هذا مع علو مرتبته، ونفوذه في العلوم مطلقاً (¬2) ". فمع هذا الرّدّ لقول الإمام إلا أنه لم يسعه إلا الإقرار بعلوّ مرتبته، ونفوذه في العلوم مطلقاً. أما السبكي، فيسميه: "لسان المذهب ولسان الشريعة"، ونص عبارته: " مسألة: اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه أن تَرْك الاستفصال في حكاية الأحوال، مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وهذا وإن لم أجده مسطوراً في نصوصه، فقد نقله عنه لسان مذهبه، بل لسان الشريعة على الحقيقة أبو المعالي رضي الله عنه (¬3) ". ولم يكن هذا -أيضاً- عند علماء الشافعية وأئمتهم، بل رأيناه عند المخالفين، بل أشدهم خلافاً، فقد وجدنا ملا علي القاري، وهو أحد أقطاب الحنفية، وأحد مجددي القرن الحادي عشر، شيخ الإسلام ببلد الله الحرام، وجدناه وقد ألف رسالة في الرد على إمام الحرمين في كتابه (مغيث الخلق (¬4)، قال في مقدّمة هذه الرسالة (¬5) عن إمام الحرمين: " لا شك أن مدار أصول الشافعية، وفروعهم عليه " فمع أن المقام مقام ¬

_ (¬1) المجموع: 1/ 54. (¬2) المجموع: 6/ 525. (¬3) ر. الأشباه والنظائر: 2/ 137. (¬4) هذا الكتاب مزيف مدَّعَّى على إمام الحرمين، وقد صار عندنا من الشواهد والأدلة ما يقطع بذلك، فعسى الله أن ينسأ في الأجل، ويعيننا على إتمام هذا البحث، وإخراجه، فقد ظلم إمام الحرمين بسبب هذا الكتاب ظلماً بينا من بعض المتعصبة. (¬5) مخطوطة بمكتبة الحرم المكي، عندي صورة لها، هدية من الأخ العلامة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء في السعودية.

تعصب مذهبي، وردٌ ومحاجة وخصومة، إلا أن منزلة إمام الحرمين لم تغب عن بال صاحب الرسالة، رضي الله عنه وعن إمامنا، وكل الأئمة الأبرار. ومن أئمة المذهب المالكي نجد الإمام ابن العربي يسمي إمام الحرمين (رأس التحقيق)، ومن عجب أنه يقول هذا في ثنايا ردّه على الإمام واختلافه معه. (انظر المسألة كاملة في أحكام القرآن: 1/ 374). ثم نذكِّر بأن حديثنا هذا هو حديث عن (النهاية) ومنزلتها، فالإمام إنما بلغ هذه المنزلة، واستحق هذه المكانة، وتحلّى بهذه الألقاب لكونه صاحب (النهاية)، ونقرّب ذلك بقولنا: إذا كانوا يقولون: إن الأسلوب هو الرجل، فلم لا نقول نحن هنا: " إن الكتاب هو الرجل ". ... ومن جانب آخر حفظت لنا (النهاية) نصوصاً أصيلة لأئمة كبار، لم تصل إلينا مؤلفاتهم للآن، وتعتبر في عداد المفقود الذي ضاع من تراث أمتتا، مثل مؤلفات ابن سُريج، وابن الحداد، وأبي علي السنجي، والقفال، وصاحب التقريب وغيرهم، احتفظت لنا (النهاية) بكثير من هذه النصوص، بل أهمها، أعني ما هو موضع المناقشة والاستشهاد، أو المخالفة والردّ من أقوال الأئمة الأعلام. ... بقي أن نعرض لقضية اتصال كتب الغزالي (بنهاية المطلب) وابتناؤها عليها، ومع أن ذلك معروف يتردد بوضوح في كتب المذهب الشافعي، ولا يحتاج منا إلى إثبات، ولكن الذي يدعونا إلى ذلك، أن علماً من أعلام الفقه في عصرنا، وهو من الأثبات الذين يعتد برأيهم، ويستمع لقولهم، ناقش في ذلك ذات يوم قائلاً: " إنه رجع إلى (وسيط الغزالي)، فلم يشعر بأن الغزالي يعتمد على إمام الحرمين، أو ينقل عنه ". ومن أجل ذلك نقول: إن مما يؤكد ذلك، ويشهد به أدلةٌ وشواهد، لا تقع تحت حصر وعدٍّ منها: * إن ذلك شاع وذاع عن الغزالي حتى أُوخذ به، وعيب عليه، كما نقله طاش

كبري زاده، بعد أن ترجم له وعدّد مناقبه ومؤلفاته (¬1) - قال: " ومع هذا الفضل الغزير لم يسلم من قيل وقال، حتى خوطب بأنك ما عملت شيئاًً: أخذت الفقه من كلام شيخك، يعني إمام الحرمين في (نهاية المطلب) والتسمية لكتبك من الواحدي (¬2) " ا. هـ وبلغ من ذيوع ذلك القول أن الزركلي جزم به في الأعلام، فقال في ترجمة الواحدي، بعد أن عدد أسماء كتبه: " أخذ الغزالي هذه الأسماء وسمى بها تصانيفه ". وقد ذكر هذه العبارة الصفدي في الوافي، وزاد عليها: " ويقال: إن (نهاية المطلب) لإمام الحرمين، كانت زُبر حديد، فجعلها الغزالي زُبر خشب " (¬3). * إن النووي في المجموع أكثر نقلاً عن (النهاية) وإمام الحرمين، وإذا ذكر الغزالي، أو كتابه البسيط، يذكره تبعاً لإمام الحرمين، ونهاية المطلب، وعباراته عن ذلك غالباً -بل دائماً- " اختاره الإمام، والغزالي في البسيط ". * إن ابن الصلاح والنووي في تعقباتهما للغزالي -في مشكل الوسيط والتنقيح- يقولان -غالباً- وهذا أخذه عن شيخه في (النهاية) وكأنهما يورّكان بالخطأ على إمام الحرمين، ويحمّلانه خطأ الغزالي فيما تعقباه فيه. * ومما يشهد، بل يؤكد اختصار (البسيط) (للنهاية) ما قاله النووي في المجموع: 1/ 146، وسلك إمام الحرمين طريقاً جامعاً مبسوطاً في هذه المسألة، ثم " اختصره الغزالي في البسيط "، فقال: ... وذكر عبارة الغزالي، وعند مقارنتها بعبارة النهاية وجدنا الاختصار واضحاً جلياً. * وأكثر دلالة، وأوضح عبارة قول ابن الصلاح، وهو يتعقب الغزالي في واحدة ¬

_ (¬1) مفتاح السعادة ومصباح السيادة: 2/ 202 طبعة حيدر آباد، عن عبد الرحمن بدوي - مؤلفات الغزالي: 479. (¬2) الواحدي، علي بن أحمد بن محمد بن علي، أبو الحسن الواحدي: مفسر، عالم بالأدب، مولده ووفاته بنيسابور، له البسيط والوسيط والوجيز كلها في التفسير توفي 468 هـ (الأعلام للزركلي، وانظر النجوم الزاهرة: 5/ 104 وطبقات السبكي: 5/ 240). (¬3) الوافي بالوفيات للصفدي: 1/ 274.

من مسائل الوسيط: " وهذا مشكل غير مذكور في (البسيط) وأصله وهو (النهاية (¬1)) ". وقوله في موضع آخر: " كذا وقع في (الوسيط) و (البسيط) وفي أصلهما (نهاية المطلب (¬2)) " فهذا نصٌّ في القضية. * وتستطيع أن ترى هذا بعينك إذا وضعت (النهاية) و (البسيط) بين يديك، ونظرت المسألة الواحدة فيهما، فعلى سبيل المثال لو عرضنا مسألة من مسائل النذر، وهي قوله: " لله علي أن أصوم يوم يقدم فلان ". لو عرضنا هذه المسألة بحروفها في نهاية المطلب، وكذلك بحروفها في (البسيط)، لوجدنا التأثر واضحاً تماماً، لا يحتاج إلى تعليق، فما قدم به الإمام للمسألة من تأصيل قدم به الغزالي بنفس الألفاظ تقريباً، ثم في عرض صور المسألة وتفريعاتها تجد الترتيب هو هو (¬3). * وبعد أن كتبنا هذا، ورتبناه، حصلنا على صورة غير مبتورة للجزء الأول من مخطوط (البسيط)، فوجدنا الغزالي يقول في خطبة الكتاب: " .... وجعلته حاوياً لجميع الطرق، ومذاهب الفرق القديمة والجديدة، والأوجه القريبة والبعيدة، ومشتملاً على جميع ما اشتمل عليه مجموع إمامي إمام الحرمين أبي المعالي قدس الله روحه " وبهذا "قطعت جهيزة قول كل خطيب". * ومع كل ذلك نقول: إننا لا نريد أن نثبت أن الغزالي مجرد ناقلٍ لفقه إمام الحرمين -حاشاه-، فلم يأخذ النهاية عفواً صفواً، وكيف يصح هذا في عقل عاقل، والغزالي هو من هو، إن عمل الغزالي في إعادة صياغة (النهاية)، وترتيبه المسائل والفصول ترتيباً منطقياً، وبناء بعضها على بعض، ليس عملاً هيناً، بل يحتاج إلى عقلٍ ¬

_ (¬1) ر. مشكل الوسيط، مطبوع بهامش الوسيط: 1/ 322 - 323. (¬2) السابق نفسه: 1/ 483 - 484. (¬3) هممت أن أعرض النصين، فوجدت ذلك يستغرق نحو عشر صفحات، فلم أشأ التطويل والإثقال، فراجع ذلك إن شئت.

واعٍ وفكر ثاقب، وذهن متوقد، وقدرة على الإحاطة الشاملة الكاملة بالأبواب والفصول، وإدراك ضوابطها، ومعاقدها، ومفاصلها. ثم إن الغزالي له مع ذلك زياداته، واختياراته. فالقول بأنه اختصر (النهاية) في (البسيط) لا يقدح في منزلته، ولا ينال من علو منصبه، وارتفاع مرتبته. ... ونوجز ما قلناه عن منزلة النهاية ومكانتها فيما يأتي: - إن الإمام حدد الغاية التي يتغياها من تأليفها بقوله: إنه أرادها تهذيباً للمذهب، وسماها اسماً يشعر بمضمونها. - ثم التزم ذلك منهجا له على طول الكتاب، يذكِّر به، ويجدد العهد بالتزامه من حين لآخر. - وقد عرف رجال المذهب ذلك، فسمَّوْها (المذهب الكبير). - وبها عرفوا قدر مؤلفها، فسمَّوْه (الإمام) مطلقاً. - ثم قد حفظت لنا نصوصاً لأئمة كبار لم نعرف عنها شيئاًً للآن. - وعليها بنيت كتب المذهب، حتى استفاض بين أئمته القول: " منذ ألف الإمام كتابه (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس بغير كلامه ". ***

الفصل الخامس

الفصل الخامس وفيه مبحثان. المبحث الأول - من ملامح منهج إمام الحرمين وصفاته. المبحث الثاني - أسلوب إمام الحرمين.

المبحث الأول: من ملامح منهج إمام الحرمين وصفاته على ضوء (نهاية المطلب)

المبحث الأول: من ملامح منهج إمام الحرمين وصفاته على ضوء (نهاية المطلب) لا بدّ من منهج جديد للحكم على المذاهب والرجال: نقدم بين يدي هذا الفصل من مقدمات النهاية دعوةً إلى منهج جديد للحكم على المذاهب والرجال، والتأريخ للعلوم، والفنون، والمذاهب. هذا المنهج يجب أن يقوم على قراءة النصوص وتحليلها، ودراستها وفهمها، ولا نكتفي بنقل ما يقوله السابقون بعضهم في بعض، فلم يعد مقبولاً أن نردّد ما يقوله الأشاعرة عن المعتزلة، والمعتزلة عن الأشاعرة، ولا ما يقوله الشافعية عن الأحناف، والأحناف عن الشافعية مثلاً؛ فمعظم هذه أحكام مطلقة يردّدها لاحق عن سابق، حتى تصبح من كثرة الترداد، والتناقل حقائق ثابتة، ومسلمات بدهية، ومقدمات ضرورية؛ على حين لو قمنا بدراسة النصوص الأصلية لكل جماعة أو مذهب، لوجدنا أن كثيراً من هذه المسلّمات لا ثبات لها. * على سبيل المثال وجدنا معظم الأصوليين -في مبحث الحكم- يقولون: " لا حاكم إلا الله، خلافا للمعتزلة؛ فإنهم يحكمون العقل ". وعندما قمنا بتتبع نصوص المعتزلة في كتبهم الأصيلة لم نجد هذا صحيحاً بهذا الإطلاق، وإنما هذا قول المعتزلة قبل ورود الشرع، أما بعد ورود الشرع، فلا حكم إلا لله، ولا يوجد مسلم يقول بغير هذا. وعلى ذلك تخرج هذه المسألة من علم أصول الفقه إلى علم أصول: الدين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر بحثاً لنا بعنوان: (العقل عند الأصوليين).

* وأحياناً يُخدع الباحث والمؤرخ بكثرة الترداد في الكتب والمصادر، وتبدو له القضية مجمعاً عليها؛ فينقل ذلك مؤكداً له، معتداً به، ويرتب عليه من النتائج والآثار ما يرتب. على حين لو عاد إلى أصول المسألة، وتتبع جذورها، لوجد هذه الكثرة الكاثرة -من القائلين بها، المردّدين لها- ترجع إلى راوٍ واحد، وعنه أخذ الآخذون، وأشاع المشيعون. ومثال ذلك: هذا الخبر المستبشع، الذي لا يصح في عقلٍ سليم، وأعني به ما قيل عن وقعة الحرة، وأن قائد يزيد بن معاوية أباح المدينة لجنوده ثلاثة أيام حتى ولدت خمسة آلاف عذراء بعد تسعة أشهر من ذلك اليوم المشؤوم. هذا الخبر البالغ البشاعة ذاع وانتشر، وأصبح مسطوراً في معظم المصادر والمراجع، وربما كان هذا الشيوع بسبب غرابته وبشاعته؛ فللناس ولوع برواية الغرائب والعجائب، كما يقول ابن خلدون. على حين عند الفحص والبحث، وتتبع جذور الخبر وأصوله، تجد أنه لا أصل له؛ فلم يروه إلا راوٍ واحدٌ تالفٌ كذاب، هو أبو مخنف، لوط بن يحيى، أخباري تالف، لا يوثق به، قال فيه ابن عدي: شيعي محترق، صاحب أخبارهم (¬1). وإنا لنعجب من ترديد هذا الخبر قديماً وحديثاً، مع أنه يحمل في ثناياه أدلة كذبه واختلاقه؛ فهذا الجيش الذي أُلصقت به هذه الفرية كان كله من الصحابة والتابعين؛ فكيف يقبل العقل أن يَفْجروا بعذارى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن أيضاً من بنات الصحابة والتابعين. هذا كله على فرضٍ مستحيلٍ، وهو أن قائد الجيش: مسلم بن عقبة المرّي، وهو العربي القرشي الصحابي، الذي نيف على التسعين من عمره، قد صدر منه الإباحة لجنوده، وما كان هذا من شيم العرب في جاهليتهم وحروبهم القبلية، فكيف يكون منهم هذا بعد أن أنعم الله عليهم بالإسلام!! أليس العربي الجاهلي هو الذي كان يقول: ¬

_ (¬1) ميزان الاعتدال للذهبي: 3/ 420.

وأغض طرفي إن بدت ليَ جارتي ... حتى يواريَ جارتي مثواها * ومن هذا الباب أيضاً نسبة كتاب (تهذيب الأصول) لمؤلفه الإمام أبي حامد الغزالي، فقد شكك في هذه النسبة المستشرق موريس بويج (¬1) -وهو يكاد يكون متخصصاً في دراسة الغزالي- فمع أنه قرأ عبارة الغزالي في مقدمة المستصفى التي يقول فيها: " إنه يريد أن يكتب كتاباً أقل تفصيلاً من كتاب (تهذيب الأصول) " (¬2) وعلى الرغم أن بعض من ترجموا له نسبوه إليه، مثل صاحب (الطبقات العلية في مناقب الشافعية) للفقيه محمد بن الحسن بن عبد الله الحسيني الواسطي المتوفى 776 هـ. وقد عقب الدكتور عبد الرحمن بدوي على ذلك قائلاً: " وكلام بويج هذا يدعو إلى العجب! فكيف يقرر الغزالي نفسُه صراحة: " أنه يريد أن يصنف كتاباً يقع في الحجم دون كتاب (تهذيب الأصول) لميله إلى الاستقصاء والاستكثار " ومعنى هذا أنه يصرّح بأن له كتاباً بهذا الاسم، وإلا لذكر اسمَ مؤلف الكتاب إن كان لمؤلف آخر؛ لأنه لا يتحدث في هذا الموضع إلا عن كتبه هو. كيف يقرر الغزالي هذا كله بصراحة ووضوح، ثم يأتي (بويج) فيقول: " إنه لا يجرؤ أن ينسب إلى الغزالي كتاباً بهذا العنوان " (¬3). وإذا كان المستشرق بويج قد فهم أن الغزالي يقصد بكتاب (تهذيب الأصول) كتاباً لمؤلف آخر، وإذا كان الدكتور عبد الرحمن بدوي قد عجب من هذا الفهم، الذي لا تساعد عليه المناسبة والمقام، بل تؤكد عكسه؛ فإن الذي يفصل في القضية، ويقطع كل تردّد هو ما قاله الغزالي في (المستصفى) في موضع آخر (¬4) حيث قال: " ... وقد أطنبنا في كتاب (تهذيب الأصول) في توجيه الأسئلة على الآية ودفعها ... " اهـ يقصد قوله تعالى: {وَمَن يشَاقِقِ اَلرسُولَ مِن بَعدِ مَا تبَين لَهُ اَلْهُدَى وَيَتَبِع ¬

_ (¬1) مؤلفات الغزالي عبد الرحمن بدوي: 210. (¬2) المستصفى: 1/ 4 (¬3) ر. مؤلفات الغزالي: 210، 211، 471. (¬4) جـ 1: 175.

أولا - بصر وبصيرة بروح الشرع، ومقاصد الشريعة

غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]؛ فهذا تصريحٌ واضح تمام الوضوح بأن كتاب (تهذيب الأصول) من تأليفه. فلو كان (بويج) قد قرأ أعمال الغزالي، ما تشكك في نسبة كتاب (تهذيب الأصول) إليه، ولو كان عبد الرحمن بدوي قد قرأ أعمال الغزالي، لوقع على هذه العبارة، ولجاء ردّه على (بويج) قاطعاً نضاً، لا استنتاجاً، ولكان شافياً مقنعاً لـ (بويج) ولكل المتشككين، ولحسمت القضية، ولم تبق معلقة بين باحِثَين مثبتٍ ونافٍ. فهذا دليل آخر يؤيد دعوتنا إلى ضرورة بناء دراسات الفكر الإسلامي والحكم عليه على تحليل المؤلفات ذاتها، والرجوع إلى مادة المصادر عينها، وهذا يتطلب منا بذل جهودٍ صادقة (لتكشيف) كتب التراث، وفهرستها فهرسة علمية دقيقة. وأعتقد أن ذلك عندما يتم، وتراجع الأحكام والدراسات على ضوء النصوص التراثية، وتحليلها، وفهمها، أعتقد أن كثيراً من الأحكام الموروثة الشائعة بيننا الآن ستتغير، ومميكلون تغيير كثير منها إلى العكس تماماً. بعد هذا التمهيد نأخذ في بيان بعض ملامح منهج إمام الحرمين على ضوء ما ندعو إليه، أي نستخرجها من نصوص كتابه هذا (نهاية المطلب). أولاً - بصر وبصيرة بروح الشرع، ومقاصد الشريعة: * فمن ذلك عندما عرض لأحكام المياه، وذكر حكم الماء إذا خالطه التراب، وكان بحيث لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه، وقول الجمهور: " إنه لا يسلب الماء طهوريته "، ردّ تعليلَهم ذلك الحكمَ: " بأن التراب طهور في نفسه، فهو موافق للماء في صفته، فلا يضر تغير الماء به " وأنكر عليهم هذا التعليل أشدّ الإنكار، قائلاً: " هذا من ركيك الكلام، وإن ذكره طوائف؛ فإن التراب غير مطهّر، وإنما عُلِّقت به إباحةٌ بسبب ضرورة، والكلام في أصله مفرّع على طريقة غير مرضية، وإذا طال التفريع على الضعيف، تضاعف ضعفه ". اهـ

فهو يرفض عدّ التراب مطهِّراً، منكراً أن يكون في استعماله في التيمم معنى التطهير والتنظيف، وإنما " عُلِّق بالتراب إباحةٌ بسبب ضرورة " فهو يرى أن التيمم مبيحٌ، وليس رافعاً للحدث، وقد قال ذلك صراحة عند الكلام على النية في التيمم، قال: " مقصود هذا الفصل القول في كيفية النية في التيمم. وأصل الفصل أن التيمم لا يرفع الحدث، ولكنه يبيح الصلاة، والدليل عليه أن من أحدث أو أجنب وتيمم، ثم وجد الماء، فيلزمه التطهّر بالماء، على حسب ما تقدم من حدثه ... والسبب في التيمم أن من وجد الماء، فهو مأمور باستعماله لرفع الحدث، فإن لم يجده، وظّف الشارع عليه التيمم ليدوم مرونه على إقامة الطهر؛ إذ قد يدوم انقطاعه عن الماء الذي يجب استعماله أياماً، فلو تمادى انكفافه عن الطهارة -وهي ثقيلة- لاستمرت النفس على تركها، فالتيمم إذاً لاطراد الاعتياد في هذه الوظيفة ". اهـ * ويتصل بهذا أنه خالفَ الأصحاب جميعاً في قولهم بضرورة بسط التراب على جميع أعضاء التيمم رادّاً لإعطاء التراب حكم الماء، حيث رأى اختلاف وظيفة كل منهما وهو يؤكد انفراده بهذا، وأن أحداً من الأصحاب لم يسمح به. وهاك نص ما قاله في ذلك: " والذي ذكره الأصحاب أن يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقيناً، ولو تردّد المتيمم في ذلك، وأشكل عليه، وجب إيصال التراب إلى محل الإشكال، حتى يتيقن انبساط التراب على جميع المحل، وهذا على القطع منافٍ للاقتصار على الضربة الثانية؛ فإن الاقتصار عليها يوجب عدم الانبساط، ضرورةً وقطعاً، وليس قصور التراب مع غاية التأني يتفق على ندور، بل هو أمر لا بد عنه. فالذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب جميع المحل بالمسح باليد المغبرة، من غير ربط الفكر بانبساط الغبار. وهذا شيء أظهرته، ولم أر بدّاً عنه، وما عندي أن أحداً من الأصحاب يسمح بأنه لا يجب بسط التراب على الساعدين ". اهـ * وشديد الاتصال بهذا ردّه لغلو بعض الأصحاب في كيفية التيمم، ولتصخ السمعَ لنص عبارته في ذلك، قال: " ... كان شيخي يحكي عن القفال: أنه إذا عبق الغبار

بخلل الأصابع في الضربة الأولى، ثم لم يُنفَض حتى ركب ذلك الغبارَ غبارٌ في الضربة الثانية، فلا يصح التيمم؛ فإن الغبار الأول يمنع الغبار الثاني، ولا يمكن الاكتفاء بذلك الغبار؛ فإنه في حكم غبارٍ حصل على المحل، رُدِّد عليه من غير فرض نقلٍ إليه في أوان فرض النقل". هذا نقل والده عن القفال، ومع علوّ منزلة القفال، وأنه شيخ طريقة الخراسانيين (المراوزة)، وإجلال الإمام له، لم تمنعه جلالته من ردّ الإمام لقوله هذا؛ إذ تعقبه قائلاً: " وهذا عندي غلوٌّ ومجاوزة حدّ، وليس بالمرضي اتباع شَعْب الفكر، ودقائق النظر في الرخص ". ثم يستدلّ لرأيه بدليلين: أولهما- أن ما قاله القفال مخالف لروح الشرع، فيقول: " وقد تحقق من فعل الشارع ما يشعر بالتسامح فيه ". وثانيهما- أنه مخالف للمعقول المشاهد، فيقول في ذلك: " لم يوجب أحد من أئمتنا على الذي يهم بالتيمم أن ينفض الغبار عن وجهه ويديه أولاً، ثم يبتدىء بنقل التراب إليها، مع العلم أن المسافر في تقلباته لا يخلو عن غبارٍ يرهقه (¬1) " وهذا كلام واضح مبين دالٌ على مقصودنا من غير تعليق. * ومن هذا الباب أيضاً خلافه للأصحاب في الاقتصار على ما يطلق عليه الاسم من أركان الخطبة في الجمعة، وبخاصة ركن (الوصية بالتقوى)، فيقول: " إذا قال الخطيب: " أطيعوا الله واجتنبوا معاصيه "، فهذا القدر لو فرض الاقتصار عليه، فالذي يؤخذ من قول الأئمة أنه كافٍ؛ فإنه ينطلق عليه اسم الوصية بالتقوى والخير ". ثم يتبع ذلك قائلاً: " ولكني ما أرى هذا القدرَ من أبواب المواعظ التي تنبه الغافلين، وتستعطف القلوب الأبية العصية إلى مسالك البر والتقوى ... ؛ فلا بدّ من فصلٍ مجموع فيه هزٌّ واستحثاثٌ ". فهو هنا ينظر إلى أقوال الأئمة وطرقهم، وإلى النصوص والأدلة، فيرى هذا القدر من الوعظ محققاً للأركان، مسقطاً للفرض، ولكنه لا يرضى ذلك، ويخالف ¬

_ (¬1) يرهقه: أي يعلوه، ويغشاه: (معجم).

الأئمة؛ فإنه وإن كان كافياً من حيث ينطلق عليه الاسم، ويحقق الشرط، إلا أنه لا يحقق المعنى المطلوب، ومقصدَ الشرع من الخطبة. ومع مخالفته للأصحاب يأخذ في الاستدلال لرأيه بما يجعله هو المذهب، فيقول: " وقد بالغ الشافعي في الاتباع حتى أوجب الجلوس بين الخطبتين ... ؛ فليس يليق بمذهبه أن يعدّ قول الخطيب: "الحمد لله والصلاة على محمد أطيعوا الله" خطبة تامة فهو يحاول أن يجعل قوله هو المذهب مستدلاًّ بأن مذهب الشافعي وجوب الجلوس بين الخطبتين، ولا دليل على ذلك إلا الاتباع، والاتباع أيضاً يقتضي أن مثل هذا لا يصح أن يعد خطبة تامة، فلم يُؤثر قط الاكتفاء بمثل هذا في الخطبة. ثم يسوق دليلاً آخر، فيقول: " ثم إن الشافعي ذكر لفظ (الوعظ) في (الإملاء)، وفيه إشعار بما ذكرته ". اهـ ومعنى هذا أن لفظ (الوعظ) يُشعر بأنه يجب أن تشتمل الخطبة على ما يكفي للزجر، والترغيب والترهيب، ويحرك القلوب، ويهز النفوس. ثم لا ينسى أن يذكر أن خلافه خاص بركن (الوصية بالتقوى) دون غيره من الأركان، فيقول: " أما الاقتصار على كلمة في الحمد، والصلاة، مع أداء معناهما، فلا شك في كفايته؛ فإنما قولي هذا في الوعظ ". اهـ ويستأنس لقوله هذا بقول أبي القاسم الفوراني: " إن مقصود الخطبة الوعظُ " فيقول: " وهذا الآن يشير إلى ما ذكره (بعض المصنفين) (¬1) من أن مقصود الخطبة الوعظُ، والحمد والصلاة ذريعتان ". ثم ينظر إلى ركن آخر من أركان الخطبة، وهو قراءة القرآن، وينقل كلام الأئمة في أنه لا بد من قراءة آية تامة؛ حتى ينطبق عليه اسم القرآن. ولكنه لا يكتفي بهذا. ¬

_ (¬1) دائماً يكني عن (الفوراني) بقوله: (بعض المصنفين)، وأبداً لم يصرح باسمه على طول هذا الكتاب، وهو كثير الحطّ على الفوراني -على حد تعبير السبكي- ولكنه مع ذلك لا يتردّد أن يذكر له صواب رأيه، إذا وجده، وإن أصرّ على عدم التصريح باسمه، كما هو في هذا الموضع.

بل ينظر إلى المعنى، وروح الشرع ومقصده؛ فلا يرضى بهذا، ويخالف فيه، فيقول: " وهذا فيه كلام عندي، فلو قرأ شطراً من آية طويلة، فلست أبعد كفاية ذلك، ولا أشك أنه لو قال: (ثم نظر) لم يكف ذلك، وإن عُدّ آية، ولعل الأقرب أن يقرأ ما لا يجري على نظمه ذكر من الأذكار ". اهـ وهذا كلام واضح مبين، يشهد بأنه ينظر إلى روح الشرع ومقصده، فلا يكتفي بآية تامة (ثم نظر) ويكتفي ببعض آية طويلة إذا أشعر بنظم القرآن، واشتمل على معنى كافٍ. ومما يتصل بالخطبة أيضاً أنه يوجب الاستماع إلى الخطبة من عدد الجمعة، ولا يكتفي بحضورهم الصلاة من غير استماع إلى الخطبة، ويرى أن ذلك هو المذهب، فيقول: " ومن أنكر وجوب الاستماع إلى الخطبة، فليس معه من حقيقة هذه القاعدة (¬1) شيء، فيجب القطع على مذهب الشافعي أنه يجب الاستماع إلى الخطبة، وكيف يستجاز خلاف ذلك على طريق الشافعي في مسلك الاتباع؟ ". اهـ وحقاً وصدقاً أي معنىً لخطبة لا يسمعها المصلون!! ولا يكتفي وهو يعالج هذه القضية بما قدمناه من رده قول القائلين بأنّ سرد الأركان خطبة كاملة، وقوله: " لا بدّ من فصلٍ مجموعٍ فيه هزٌّ واستحثاث " لا يكتفي بذلك بل يعلن عن ثورته وغضبه على هؤلاء الذين يقفون عند الرسوم والأشكال، ولا يبصرون الحقائق، ولا يحاولون إدراك الغايات، ولا يلتفتون إلى روح الشرع، فيقول معبراً عن ثورته، معللاً سبب قصورهم: " وإنما بلائي كله من شيئين: أحدهما - أن بني الزمان ليس يأخذهم في طلب الغايات، لا بل في طلب حقيقة البدايات ما يأخذني؛ فلا يهتدون لما أبغيه من مداركها " ويتوقع عدم قبولهم ما يصل إليه من الحقائق، فيقول: " بل أخاف أن يتبّرموا بها ". ثم يعلِّل عنايته بهذه الأمور، قائلاً: "ثم الأولين لم يعتنوا بالاحتواء على ضبط ¬

_ (¬1) يقصد الاتباع.

الأشياء، والتنبيه على طريق التقريب فيها وبخاصة في الأمور المرسلة التي لا يثبت توقيف خاص شرعيّ فيها، كما نحن مدفوعون إليه من لزوم الاتباع، وترك الاقتصار على أدنى مراتب الأذكار، فلم تثبت في الخطبة ألفاظٌ مخصوصة مثل التشهد والقنوت وغيرهما؛ فجرّ ذلك ما أنهيت الكلام إليه من الترددات". والخلاصة: أن الأحكام تقتضي الإتيان بأركان الخطبة، وهيئاتها، وآدابها، ولكن حقيقة الخطبة هل توجد بسرد الأركان؟ إنه يبحث عن الحقائق والغايات ويشهد له الاتباعُ، فالمأثور من فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة عدمُ الاكتفاء بسرد الأركان والهيئات. * ومسألة أخرى تشهد بالتفاته إلى روح الشرع ومقصوده، وهي الأذان الأول لصلاة الصبح، فينقل مخاوضة الأصحاب ومفاوضتهم في محاولة تحديد وقت محدد لذلك الأذان، ولا يرى التحديد رأياً، فيقول: " إن هذا ليس تحديداً -وإن رَوَوْا فيه حديثاً- فالمراد بتقديم الأذان التهيؤ للصلاة بعد الاستيقاظ من النوم؛ حتى يصادف أول الوقت؛ فالمسألة تقريب، وليست تحديداً ". وكما ردّ القولَ بالتحديد ردّ بقوّة القولَ بجواز الأذان طول الليل، ولم يمنعه من نقده العنيف لهذ القول أن صاحبه هو الشيخ أبو علي السِّنجي الذي يعترف بعلو منصبه، ويكثر النقل عنه، والثناء عليه. * ويدخل في هذا الباب ردُّه وعدم قبوله للتعليلات والتفسيرات التي لا يقبلها العقل، وليس وراءها معنى يرعاه الشرع، مثال ذلك: حينما قال المزني: إن أقل النفاس أربعة أيام مستنبطاً ذلك من أن أكثره ستون يوماً، وأكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وأقل الحيض يوم واحد، فلما كان أكثر النفاس أربعة أمثال أكثر الحيض، كان أقل النفاس أربعة أمثال أقل الحيض، أي أربعة أيام. كذا قال المزني، فغضب إمام الحرمين، ولم يقبل هذا، وردّه قائلاً: " وهذا الفن غير لائق بفقه المزني، وعلوّ منصبه؛ فإن المقادير لا تبنى على الخيالات الشبهية ". ثم العلة التي رآها هو لهذا التقدير هي الوجود الذي ثبت بالاستقراء فقال:

" ولست أرى لهذه الأصول مستنداً غير (¬1) ما تقدم في أعصار الأولين من الوجود " فهو يرى أن تقدير أقل النفاس بأربعة أيامٍ لا مستند له إلا الاستقراء الذي ثبت به عند الأولين هذا (الوجود)، أي وجدوا أن أقلّ ما تنفس المرأة أربعة أيام. * وشبيه بهذا ردّه لقول من قال: " إن من عليه أحداث، مثل من مسَّ، وبال، ثم نام، فإذا نوى رفْع حدث النوم بالوضوء، لم يرتفع حدث البول والمس " فقد سخر الإمام من هذا الكلام، وقال معقباً عليه: " وهذا حَيْدٌ عندي عن الفقه؛ فإن المرعي هو المنع، وهو المعني بالرفع، وما اتحد فلا يتحقق فيه تعدد ولا اختلاف، ولا يترتب بتقدم أولٍ وتأخر ثانٍ ". * ومن هذا الباب أيضاً رده لقول القائلين: " إن الخمر لا يطهر إذا تخللت بطرح شيء فيها؛ بعلة أن ذلك الشيء الذي يطرح فيها يتنجس بملاقاتها، فإذا تخللت الخمر، نجستها هذه الأعيان التي طرحت فيها وتنجست بها عند طرحها ". ناقش ذلك في كتاب الرهن عند الكلام عن رهن العصير الذي يتخمر ثم يعود خلاًّ ... ، وهاك نص عبارته: " وعلل بعص أصحابنا منع تخليل الخمر بطرح شيء فيها، بأن العين الواقعة في الخمر تنجست بملاقاتها، فإذا انقلبت الخمر خلاً، نجسته تيك العين المتنجسة بملاقاة الخمر، وهذا قول غير صادر عن فكرٍ قويم؛ فإنه لا معنى لتنجيس العين إلا اتصال أجزاء الخمر بها، وجوهر تلك العين على الطهارة، فإذا انقلبت الخمر خلاًّ، فمن ضرورة ذلك أن تنقلب تلك الأجزاء التي لاقت العين الواردة على الخمر طاهرةً؛ فلا حاصل إذاً لذلك ". ومع وضوح هذا الكلام، نجده يزيد الأمر إيضاحاً وبياناً، فيستدل بما يبقى في العصير من العناقيد والثجير (¬2)، فإذا تخمر العصير، فقد تنجست هذه الأعيان التي به، فإذا عاد خلاً من غير طرح شيء فيه، فهو طاهر عندهم، مع أن الأعيان التي به ¬

_ (¬1) مفعول ثانٍ لـ (أرى). (¬2) الثجير: ثُفل كل شيء يعصر، كالعنب وغيره. (معجم).

تنجست عندما صار خمراً، فلماذا لم تنجسه؟ وهذا نصّ عبارته في ذلك: " لو التزمنا تمحيص العصير، لنقّيناه من العناقيد، والثجير، والتزمنا تصفيته جهدنا عن الأقذاء، وهذا أمر طويل، لا يستريب مُحصِّل في حيده عن سمت الشريعة ". فتأمل قوله: " لا يستريب محصل في حيده عن صمت الشريعة " فسمت الشريعة: روح الشريعة لا يقبل هذا التشدّد، ومن يقول به لا بصر له بروح الشرع. * ومن ذلك ما قاله عند الكلام على تطهير الأرض التي أصابتها نجاسة مائعة، كالبول مثلاً، فقد ردّ -غاضباً- قول من قال: " يجب رعاية عدد الدّلاء؛ فإذا بال اثنان، لم تتطهر الأرض إلا بصب دلوين " ردّ ذلك قائلاً: " وهذا الفن من الكلام مما لا يقبله لُبّ عاقل، فأيّ معنىً لتعدّد الدّلو، والغرضُ المكاثرة؟ وأي فرقٍ بين أن يجمع ملء دلوين في دَلوٍ عظيم ويصبّ، وبين أن يكون في دلوين فيصبان؟ فأي أثر لصورة الدلو؟ وقد يكثر بول بائل، ويقلّ بول بائلين، فاعتبار مقدار النجاسة، وتنزيلُ مقدار الماء على مقدارها بنسبة المغالبة مقطوعٌ لا مراء فيه ". هكذا دائماً ينظر إلى الحقائق والغايات، وهي روح الشرع، فالمقصود الطهارة، والطهارة تكون بالمغالبة والمكاثرة، سواء حصلت بماءٍ يحويه دلو أو أكثر، ولا عبرة بتعدد الدلاء، ولا بتعدد البائلين. * ويدخل في هذا أيضاً ما قاله عند الحديث عن نقض الوضوء بمسّ الفرج، وكيف الحكم لو كان الممسوس فرج الخنثى؟ وبأي العلامات يُلحق بالذكر؟ وبأيها يُلحق بالأنثى؟ قال: " وأما ما ذكره بعض الناس من النظر في أعداد الأضلاع، فذاك شيء لم أفهمه، ولست أرى فرقاً فيها بين النساء والرجال ". اهـ يشير إلى ما يقوله البعض من أن أضلاع الرجال تنقص واحدة عن أضلاع النساء، زاعمين أن الله عزت قدرته أخذ ضلعاً من آدم، فخلق منها حواء، ناظرين في ذلك إلى الحديث الشريف: " اتقوا الله في النساء؛ فإنهن خُلقن من ضلع أعوج ". وها أنت ترى الإمام لم ير هذا الكلام يستحق الذكر، فأعرض عنه، واكتفى بأن

ثانيا - تحري الدقة والتثبت في النقل عن الأئمة

ردّ باستنكار على قائليه، مزدرياً إياه قائلاً: " فهذا شيء لم أفهمه ". * وشبيهٌ بهذا تماماً ردُّه لتعليل المزني لصحة التيمم من الجنب الذي نسي الجنابة فتيمّم للحدث، حيث أضرب عن ذكر تعليل المزني، وذكر العلة التي ارتضاها، ونص عبارته: " وقد علّل المزني ذلك بعلّة غير مرضية، وليس يتعلق ذكر غلطه بغرضٍ فقهي؛ فلا نتعرض له " ثم ذكر العلة التي ارتضاها، فقال: " والعلة السديدة أن التيمم لا يرفع الحدث، سواء ذكر على الصواب، أو على الخطأ، وإنما مقصود النية استباحة الصلاة، ولا احتفال بذكر غيرها بوجهٍ من الوجوه ". اهـ * ومن هذا الباب أيضاً ردّه لذلك السؤال القائل: " هل يجب الصوم على الحائض في وقت الحيض بدليل وجوب قضائه، أم لا يجب لعدم إمكانه؟ " ويأبى الإصغاءَ لهذا الخلاف قائلاً: " ومن يبغي حقيقة الفقه لا يقيم لمثل هذا الخلاف وزناً ". اهـ ونكتفي بهذه النماذج، فالأمثلة في كتابه هذا لا تعد ولا تحدّ. ثانياً - تحري الدقة والتثبت في النقل عن الأئمة: حينما ينقل الإمام الوجوه والأقوال عن الأصحاب الأعلام الذين يؤخذ عنهم المذهب لا يستسلم لكل ما يُرْوى ويُنقل، بل حينما يلوح الخلل فيما ينقل يأخذ في نقده بما يمكن أن نسميه النقد الداخلي والنقد الخارجي، أو بما يمكن أن نسميه نقد السند والمتن. فمن ذلك حينما نقل الناقلون عن القفال القول بانقطاع النكاح إذا أسلم الزوج المشرك، وعندما أسلم أَحْرم، ثم أسلمت زوجته وهو محرم، وكذا إذا نكح في الشرك، ثم إن المرأة وطئت بشبهة بعد جريان النكاح، وجرت في العدة، فلحق الإسلام النكاح والمرأة في عدة الشبهة، فينقطع النكاح عند القفال في هذه الصورة أيضاً، كذا نقل النقلة. تتبع الإمام هذا القول، وعرف مصدره، ثم قال: " هذا مما حكاه أصحاب القاضي عن القفال على هذا النسق، وأورده بعض المصنفين عنه على هذا الوجه ".

إذاً فمصدر هذا الكلام القفال المتوفى سنة 417 هـ نقله عنه أصحاب القاضي المتوفى سنة 462 هـ ولما لم يطئمن الإمام إلى نسبة هذا إلى القفال، بحث عنه عند من اختص بنقل نصوص القفال، وهو الصيدلاني المتوفى سنة 427 هـ، فلم يجده؛ بل وجد الصيدلاني نقل عكسه، ونص عبارته: " ولم يورد الصيدلاني هذا في طريقه (أي مؤلَّفه) المقصور على مذهب القفال ومسلكه، بل أورد عنه ضد ما أوردناه ". اهـ فهو يردّ حكاية أصحاب القاضي عن القفال، ويقبل حكاية الصيدلاني عنه، فهو أولى وأحرى بالقبول، أولاً - لأنه ينقل عن شيخه مباشرة، وثانياً - لأن مؤلفه خاص بنقل نصوص القفال. ثم لا ينسى أن يشير إلى (بعض المصنفين) فيمن يضعف نقلهم، ولا يصحح روايتهم، ويعني -دائماً- ببعض المصنفين أبا القاسم الفوراني، وهو كثير الحط عليه وتضعيفه من جهة النقل، على حد تعبير السبكي. * ومن هذا الباب أيضاً ما جاء في مسألة وطء الأب جارية الابن، وثبوت الاستيلاد بهذا الوطء، وهل هناك فرق بين الموسر والمعسر؟ فنجد الإمام يقول: " فأما الفصل بين الموسر والمعسر في ثبوت الاستيلاد عند وطء الأب جارية الابن، فلم أره لصاحب التقريب، مع اعتنائي بالبحث عن كتابه، ولم ينقل أصحابنا هذا القول إلا عنه ". فها أنت تراه يبحث عن المصدر الذي استقى منه الأصحاب هذا " الفصل بين الموسر والمعسر "، فلا يجد لهم سنداً إلا كلام صاحب التقريب. فيبحث في كتابه (التقريب) بعناية، ولا يجد هذا بين دفتيه، فيعجب أشد العجب، ويسجل عجبه، وأنه لا يجد سنداً لهذا الوجه. ومما لا حظناه أن الرافعي حكى هذا عن (التقريب) أيضاً، وحكى قول الإمام في المسألة، ولكنه لم يشر إلى تشككه في نسبة هذا القول المحكي عن صاحب التقريب" (¬1). ¬

_ (¬1) ر. الشرح الكبير: 8/ 183.

* وفي مسألة من مسائل القراض -لا نُطيل بذكرها- يقول: " وحكى القاضي عن العراقيين طريقة أخرى، لم أطلع عليها من مسالكهم، على طول بحثي عنها ". فالمنهج -كما ترى- نسبة الطريقة إلى أصحابها، ومعرفة الناقل، ثم عندما وجد المنقول غير صحيح ولا مقبول رجّح الخطأ في النقل، ولذا " أطال البحث عن مسالك العراقيين ". ثم عقب قائلاً: " ولا شك أن ما حكاه غلط " أي فقهاً. ولذا يتردّد في نسبة هذا الغلط إلى العراقيين (أي أئمة العراق من أصحابنا) فيقول: " ولكن أخشى أن يكون الناقل غالطاً " ثم يؤكد هذه الخشية، ويجعلها استبعاداً عقلياً، فيقول: " فلا يستجيز المصير إلى ما حكاه عن العراقيين من أحاط بأطراف الكلام في أحكام هذه المعاملة ". اهـ وكأنه بهذا يقطع بخطأ النقل، فلا يجوز عقلاً أن يقع في هذا الخطأ من عنده إحاطة بأطراف المسألة. * وهذا المنهج -حملُ الخطأ على النقل- عليه شواهد وأمثلة كثيرة: منها ما جاء في النفقة على اللقيط المنبوذ من ماله، فقد قال: " وذكر العراقيون وجهاً بعيداً: أن القاضي لا يأذن له (أي ملتقط المنبوذ) في صَرْف مال الطفل إلى نفقته، وهذا بعيد، لا أعرف له وجهاً، ولا آمن أن يكون غلطةً من ناسخ " فعندما وجد الخطأ واضحاً غير محتمل على أي وجه، لم يحمل القائل على الجهل، وعدم الفقه، ولكن ردّ القول برفق، وجعل له احتمالاً آخر، وهو أن يكون غلطة من ناسخ. * ومن هذا أيضاً ما ذكره في كتاب الحج عن الكلام عند فوات الحج والصد عن البيت وأن من فاته الحج وصُدّ عن البيت يلزمه دمان: دم الفوات ودم الحصر، قال وهو يحكي أقوال أئمة المذهب: " وذكر صاحب التقريب خبطاً في كتابه مشعراً بأنه لم يقف على كلام ابن سريج، فلا معنى لذكره، وقد يحمل ما في الكلام من الخبط على خلل النسخة ". فهو يدقق فيما يُنْسب إلى الأئمة، وحينما يرى في كتبهم ما لا يليق بهم، يبحث،

ويتقصى، ويراجع أكثر من نسخة، وأكثر من مصدر، ويجعل لاحتمال خلل النسخة مجالاً. * وإذا كنا قد سجلنا هذا منهجاً لإمام الحرمين، وأقمنا الدليل عليه من نصوص عباراته في كتابنا هذا، فقد سبقنا إلى ذلك إمامٌ جليل من أئمة المذهب، وهو شهاب الدين أبو إسحاق، إبراهيم بن عبد الله، المعروف بابن أبي الدم المتوفى سنة 642 هـ، فقد وصف الإمامَ بأنه " معروف بشدة تتبعه كلامَ من تقدمه بالبحث والتحقيق "، وذلك عندما نقل في كتابه (أدب القضاء) ما حكاه إمام الحرمين عن أبي حنيفة في تعريف المدعي والمدعى عليه، وهاك عبارته بنصها، قال: " وقال الإمام: المدعي عند أبي حنيفة من يثبت الشيء لنفسه، والمدعى عليه من يثبت عن غيره، وفي نسخة أخرى (أي من النهاية): " من ينفيه عن غيره ". هذا نقل الإمام عن ذلك الحبر الإمام، ولم يزد عليه شيئاًً، مع شدة لتبعه كلامَ من تقدّمه بالبحث والتحقيق ". فابن أبي الدم يعجب من نقل الإمام عن أبي حنيفة هذا الحدَّ للمدعي والمدعى عليه، بدون أن يبين خلل هذا الكلام، أو يبحث عن زلله، " ولم يزد عليه شيئاًً " وهذا غير معهود من إمام الحرمين. وواضح أن ابن أبي الدم راجع نقل الإمام في نسخةٍ أخرى من النهاية، ولم يرتض هذا ولا ذلك. وبعد أن بين بطلان حد المدعي من جهة المعنى، بأن يكون المدعي وكيلاً، أو وصيّاً، أو ناظر وقف، فهو لا يُثبت لنفسه، بعد هذا قال: إن بطلان حد المدعى عليه واضح لا يحتاج إلى كلام؛ فهو كلام غير مستقيم -على النسختين- " وإنما صوابه: ينفيه عن نفسه " (¬1) ثم قال: " وعندي أن هذا زلل من النساخ؛ فإن منصب هذا الإمام (يعني أبا حنيفة) أجلّ من قول مثل هذا " (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الذي قدره ابن أبي الدم هو الذي تجده في مصادر الأحناف، انظر على سبيل المثال: الاختيار: 2/ 109، وتحفة الفقهاء: 3/ 181، وبدائع الصنائع: 6/ 224، وروضة القضاة: 1/ 165، 166. (¬2) ر. أدب القضاء، لابن أبي الدم، بتحقيق محمد الزحيلي: 185.

ثالثا - الاهتمام بوضع القواعد والضوابط

ويعنينا من عرض هذه المسألة إثبات ما نحاوله " من أن شدة تتبع كلام المتقدمين بالبحث والتحقيق " كان صفة لازمة لإمام الحرمين، عرف بها، وشاعت عنه. ثالثاً - الاهتمام بوضع القواعد والضوابط: اهتم إمام الحرمين في كتابه هذا بوضع القواعد والضوابط اهتماماً بالغاً، وإذ نقول ذلك لا نقوله لما رأيناه من كثرة القواعد والضوابط التي رأيناها في كتابه، وإنما نقوله بلسانه، حيث أعلن مراراً وتكراراً: " أن من أجلّ مقاصده في هذا الكتاب هو التقعيد والتأصيل للأبواب والفصول، ووضع الضوابط التي تلم شعثها، وتجمع متفرقها " قال ذلك أوّلاً في خطبة الكتاب، حيث وصفه بأنه " يحوي تقرير القواعد، وتحرير الضوابط والمعاقد " ثم ردّده على طول الكتاب بأكثر من عبارة، ووضحه بأكثر من أسلوب، وهاك بعض نماذج وشواهد لما نقوله: * من هذا الباب ما قاله في فصل شرط التيمم تقديم طلب الماء، حيث عقب على ذلك قائلاً: " ومما أحرص عليه جهدي أن أضبط مواضع الانتشار، وأوضح مقام الاستبهام، على مبلغ الإمكان، وقد يتأتى ذلك بأن نقدم المعلومات، حتى يرجع موضع الإشكال إلى ما يقرب النظر فيه ". اهـ فهو يؤكد حرصه على ضبط مواضع الانتشار ثم هو يرى أن ذلك قد يكون بالتدريج، حيث يقدم المعلوم، لينطلق منه لتعليم المجهول. وهذا ما استقر عليه علماء التربية المعاصرون، حيث يقررون أن الانتقال من المعلوم إلى المجهول هو الطريقة الصحيحة للتربية والتعليم. * ولعل العبارة الآتية التي جاءت تعقيباً على مسألة من مسائل كتاب القراض، تكون أكثر إيضاحاً لهذا المعنى الذي أشرنا إليه. قال: " ... وقد بان الآن ومما أُجريه في هذا المجموع -ولا شك في تبرّم بني الزمان به- أني كثيراً ما أجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تُفضي إلى مقر المذهب آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب، والنظر. وهذا من أشرف مقاصد الكتاب، فلست أخل به لجهل من لا يدريه". اهـ

فهو يؤكد أن هذا المنهج -المباحثة- يفضي إلى مقر المذهب، أي معاقده وضوابطه. * ويؤكد أنه لا يحب أن تشغله التفاصيل والتقاسيم، بل يأتي منها بقدرٍ؛ توطئة لذكر المعاقد، أي القواعد والضوابط. وقد عبر عن ذلك بما قاله تعليقاً على تفريعه لبعض قضايا الإجارة، وما لو غصب غاصب الأرض المستأجرة؛ قال: " وقد أكثر الأصحاب في التفاصيل والتقاسيم، وهذا فنٌّ لا أوثره في هذا المجموع، وقد تولّع المصنفون بتطويل الكلام بالإعادات، ونحن إذا كنا نضطر إلى مجاوزة الحد في كشف المشكلات، فينبغي أن نؤثر قبضَ الكلام في المعادات، ونقتصر على ذكر المعاقد والمرامز ". * وفي كتاب الصلاة، بعدما أطال النَفَس في حكم قصر الصلاة عندما ينزل المسافر مقيما أثناء السفر، وسبب هذه الإقامة، وأنواع المسافرين بهذا السبب، قال: " وقد بقي وراء ذلك أهمُّ شيء بالاعتناء به، وهو نظام الفصل وترتيب القول فيه؛ فإنه كبر قدره، وانتشرت أطرافه ". فهو يجعل الضابط الذي يلم شعث الفصل، ويجمع انتشاره أهم ما يعنيه، فهو أهم شيء في الفصل، ثم يأخذ في وضع الضابط، فيصوغه في دقةٍ وإحكام، ولا نرى داعياً للإطالة بذكره هنا؛ فليس هذا موضوعَنا. * وفي باب (الاستطابة) عندما يتكلم عن ضرورة رعاية العدد في أحجار الاستجمار، يعتذر عن الإطالة في الحديث عن ذلك قائلاً: " وإن أطلت الكلام في هذا، فليحتمل " معلّلاً هذه الإطالة بأنها كانت من أجل استخلاص الضابط الذي انتهى إليه، مؤكداً أن ذلك هو غرضُه الأهم، من وراء هذا العمل، أي من وراء هذا الكتاب، فيقول: " فإن غرضي الأظهر في وضع هذا الكتاب التنبيه على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صور الأحكام والمسائل فيها غير معدومة في المصنفات، فهذا أصل الباب، ومنه تتشعب المسائل ". " بل يعلن تبرّمه وشكواه -مراراً- من أن الأصحاب انصرفوا عن هذا الجانب أعني

التقعيد، ووضع الضوابط - ولم يعتنوا به العناية اللائقة، فيقول: " ... هذا ما أطلقه الأصحاب، وما ذكروه كلام مرسل، ومقصودنا ضبطه، ولم يهتم به أئمة المذهب، ولم يعملوا فيه وفي أمثاله القرائح الذكية، واكتفى الناقلون عنهم بظواهر الأمور، وانضم إليه قلة البحث، فصار أمثال ذلك عماية عمياء، والموفق من يهتدي إلى المأخذ الأعلى؛ فإن مذهب إمامنا الشافعي تَدْواره على الأصول، ومآخذ الشريعة " ثم استمرّ، فوضع ضابطاً شاملاً جامعاً (¬1). * وحينما ينتشر الفصل، ويتشعب بصورة لا يمكن وضع ضابط يلم شعثه، ويجمع متفرقه، لا يتردد أن يعلن ضيقه وتبرّمه وأن ذلك شديد على نفسه، مثال ذلك: ما جاء في باب صلاة المسافر واشتراط مفارقة المنازل؛ حتى يسمى مسافراً خائضاً في السفر، يفصل بين الخارج من بلدة والخارج من قرية، ثم من كان من أهل الخيام، ويحكي ما قاله الأصحاب في ذلك، وينتشر الكلام فيما يعدّ من البلدة وما لا يعدّ، وما يعدّ من القرية وما لا يعدّ، ويطول الكلام ويتشعب، ولا يمكن وضع ضابط له، فيعلن أن ذلك شديد على نفسه، فيختم الكلام قائلاً: " فهذا منتهى التفصيل في المواضع التي يعتبر مجاوزتها، وما فصّلته غاية الإمكان فيه، وأشد ما أعانيه في هذا المجموع أمثال هذه الفصول؛ فإنها في الكتب منتشرة لا ضبط لها، ولست أرى فيها اعتناء من الأولين لمحاولة الضبط، والله ولي الإعانة والتوفيق، بمنّه ولطفه " فهذه العبارات تنطق بشدة تشوفه إلى وضع الضوابط والمعاقد، وتعبر عن ضيقه وتبرّمه لقلة عناية الأولين بهذا الجانب. * وحينما تنتشر أطراف بعض الفصول، وتشتبك بفصولٍ وأبواب أخرى ينبه إلى أنه سيذكر الضابط في أخص الفصول به، وأولاها بذكره، ففي فصل النهي عن الاحتكار من كتاب البيوع، أخذ يفرق بين المحتكر الذي يلحقه اللعن والوعيد، ومن يدخر في وقت الرخاء، أو من يدّخر لأهله في وقت المخمصة واستحلال الميتة، وماذا يدّخر، ¬

_ (¬1) لا نريد أن نطيل بذكر هذا الضابط وأمثاله؛ فليس هذا مكانه، ولو ذكرنا هذه الأمثلة والنماذج التي نومىء إليها، لخرجت هذه المقدمات عن وضعها، حيث يصير حجمها أضعافاً.

رأى أن استيفاء الكلام ليس في هذا الموضع، فعقب قائلاً: " فالقول في هذا وفي كل ما يدّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين " ثم بين الموضع المناسب له، فقال: " وسأذكر فيه في باب المضطر أصلاً يرقى عن مجال الفقهاء، وننبه على قاعدة عظيمة إن شاء الله عز وجل ". اهـ * وفي فصل ضرب الجزية وأنها على الرجال دون النساء ومن في حكمهم بعد تقرير هذا كخلاصةٍ للباب، قال: " ثم استيفاء مقصود الفصل يستدعي تقديم قاعدة بدّدها الأصحاب فلفَّقناها من كتبٍ، ولا بد من ضبطها، والإحاطة بها، ثم بعدها نخوض في المقاصد ". هكذا يقدّم القاعدة وضبطها، ثم إذا تمت الإحاطة بها، يمكن الخوض في الفصل، أي في تفاصيل المسائل والصور معتمداً على القاعدة مرجعاً. ثم هو كما ترى يجدد الشكوى من قلة العناية من الأصحاب بقضية الضوابط والقواعد. * وفي هذا المجال يزاوج بين منهجين، فحيناً يذكر المسائل، والصور، حتى إذا فرغ من تفصيلها وبيانها، استنبط منها الضابط الذي يجمع متفرقها، ويلم شعثها، كما مثلنا آنفا، وآناً يقدم الأصول والضوابط قبل الخوض في المسائل والتفاصيل، فمن ذلك: " فصل نكاح المشركين على غير شرط الشرع إذا أسلما معاً أو متعاقبين " قال: " هذا الفصل يستدعي تقديم أصول لا يستقلّ مقصود الفصل دونها، وهي أركان الباب، فالوجه أن نذكرها على نهاية البيان ثم نعود إلى الفصل، ونُتْبعه بعد نجازه مسائلَ الباب ". * وشبيه بهذا ما قاله في مفتتح أحد فصول الخلع، حيث بدأ بوصف منهجه في مطلع الفصل، وأخذ بيدنا، ووضعها على تفاصيله، وطريقة تدريجه، وهذا نص كلامه: "والقول في ذلك ... (أي موضوع الفصل) مضطرب، ونحن نرى أن نجمع العِوض في نوعين، ونأتي في واحدٍ بالمسائل اللائقة مرسلة، ونذكر في كل مسألة ما بلغنا من قول الأئمة، حتى إذا استوعبنا مضمون كل نوعٍ بالمسائل، انعطفنا على

رابعا - الالتزام بترتيب مختصر المزني

ذكر جامعٍ ضابط إن شاء الله عز وجل، ثم نحتم الفصل بعثرات وقعت، لا نعدها من المذهب، ولا نرى ترك نقلها". اهـ فها هو وضع خطوات المنهج مقدِّماً بها للكلام في الفصل، وهي كما ترى: 1 - عرض الموضوع في صورة مسائل تستوعب مضمونه. 2 - حكاية أقوال الأئمة في كل صورة ومسألة. 3 - وضع ضابط جامع، أخذاً من هذه المسائل والصور. 4 - ذكر العثرات التي لا تعد من المذهب (مقتصراً على من يستحق أن تحكى أقواله). * ومن هذا ما جاء في باب الأذان عند حديثه عن أن الغرض من الأذان الإبلاغ، والإسماع حيث قال: " وإذا سبق الفقيه إلى اعتقاد ذلك، ورام الجريان على مراسم هذا المذهب في محاولة هذا الضبط في مكان الانتشار، فسيطرأ عليه التشوف إلى ضبطِ أقل ما يراعى في إجزاء الأذان مما يتعلق برفع الصوت، وهذا يستدعي تقديم أصل مقصودٍ في نفسه، وبذكره ينتظم ما نريد ". اهـ وفي موضع آخر من باب الأذان يقول: " وهذه مسائل أرسلناها، وحكينا ما قيل فيها، ونحن الآن نبغي فيها ضابطاً، ونؤثر تخريج محل الوفاق والخلاف عليه إن شاء الله تعالى ". هكذا (يقدم أصلاً أو يبغي ضابطاً)، فهو متشوف أبداً إلى التأصيل والتقعيد، ووضع الضوابط. رابعاً - الالتزام بترتيب مختصر المزني: اختار إمام الحرمين في كتابه هذا أن يلتزم الجريان على ترتيب (مختصر المزني)، وأكد ذلك في خطبة كتابه قائلاً: " وسأجري على أبواب المختصر ومسائله جهدي "، هذا وعده في خطبة الكتاب، وقد وفى به فعلاً، فجاء كتابه على ترتيب أبواب المختصر ومسائله.

وقد قلنا -من قبل- في كلامنا عن منزلة (النهاية): إنها شرحٌ (لمختصر المزني)، بمعنى أنه كان يأتي بالجملة من المختصر -الذي هو عبارة عن نصوص الشافعي- ويجعلها أصلاً للباب: يدور عليها التفريع، ومنها يكون الاستنباط، وعليها يقوم بناء القواعد والضوابط، مضى الإمام في كتابه على ترتيب أبواب المختصر ومسائله بهذا المعنى. أثر هذا الالتزام في كتاب النهاية: لقد أدى هذا الالتزام بترتيب المختصر الذي فرضه الإمام على نفسه إلى حرمانه من التبويب والتفصيل والتفريع بالأسلوب المنطقي الرائع الذي رأيناه في كتابه (البرهان) والذي بلغ القمّة، وأوفى على الغاية في كتابه (الغياثي)، حيث قسّم الكتاب إلى (أركان) وكل ركن إلى (أبواب)، وكل باب إلى (فصول)، وكان ينبه إلى وجه هذا التقسيم وسرّه في أوائل (الأركان) و (الأبواب) و (الفصول)، ويبين كيف يُبنى بعضها على بعض، ويتولّد بعضها من بعض، وكان الإمام على ذُكرٍ -دائماً- لأثر هذا الترتيب، ينبهنا إليه، ويذكرنا به، فيقول مثلاً: " ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشتمل على ما مضى من الكتاب، وعلى ما سيأتي منه، حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب؛ فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية " (¬1). كان المأمول والمعقول أن تكون (النهاية) -وهي من أواخر تآليف الإمام- أن تكون أكثر ضبطاً، وأبلغ إحكاماً في الترتيب والتبويب، وأن تُبرّ (¬2) في ذلك على مؤلفاته كلها، ولكن الجريان على ترتيب (المختصر) حال دون ذلك. حقاً، وجدنا الإمام -أحياناً- عندما تطول الأبواب والفصول يضع لها ترتيباً منطقياً، واضح المعالم، بيّن القسمات، وينبهنا إلى هذا الترتيب، ويدلنا عليه. ¬

_ (¬1) البرهان: 1/فقرة: 486، وانظر مقدمتنا لكتاب (الغياثي) ص 64 م. (¬2) أبرّ (بالراء المهملة) على أقرانه: زاد عليهم، وغلبهم (القاموس المحيط، والمعجم الوسيط).

ولكن الذي لم يتحقق في (النهاية) هو البناء العضوي المتكامل، أو الوحدة العضوية، التي تجعل الكتاب خلْقا سوياً متناسق الأعضاء، كل باب منه، وكل فصل فيه، يُبنَى على ما قبله، ويلد ما بعده، على صورة منطقية، وهيئة عقلية. لم يتحقق هذا في (النهاية). تبرّم الإمام بهذا الترتيب: ولم يكن الإمام راضياً على هذا الترتيب الذي التزمه في كتابه (النهاية)، ولكنه اتبعه (تيمُّناً) بترتيب المزني في (مختصره)، وقد صرح بذلك قائلاً: " ذكر المزني أحكام جناية المكاتَب، وأحكامَ الجناية عليه في أبواب، ولو نظم جميعها في تقسيمٍ، لكان أضبط، ولكننا تيمنَّا بالجريان على مراسمه ". ومرة ثانية يعلن عدم رضاه عن هذا الترتيب، عندما قال: " ولو لم نلتزم الجريان على ترتيب (السواد) (¬1)، لأخرنا هذا الفصل إلى ذاك الباب، لانعطافه في جوانبه على مضمون ذلك الباب (¬2)، ولكن نتبع الترتيب، ومسلك الشارحين ". الخروج على ترتيب المختصر أحياناً: ومع إعلان التزامه بترتيب المختصر، وتيمنه باتباعه، كان ينبهنا إلى أنه يخرج -مضطراً- على هذا الترتيب، معتذراً بأنه خروج (محتمل)؛ حيث يكون في أضيق الحدود، مثال ذلك قوله - في كتاب البيوع: "ونحن قد التزمنا في هذا المجموع الجريان على ترتيب المختصر في الأبواب والمسائل، فإن اقتضى الحالُ في بعض ¬

_ (¬1) السواد: أي مختصر المزني. ولفظ (السواد) يأتي بمعنى المتن والأصل، وهذا غير منصوص في المعاجم، ولكني أخذته عن شيخي شيخ العربية، الشيخ محمود محمد شاكر، برّد الله مضجعه. (¬2) الباب المشار إليه هو (باب مكاتبة بعض العبد) والفصل الذي كان يتمنى تأخيره هو الفصل الذي عقده لأحكام (المنازعة بين عبدٍ يدّعي الكتابة، وبين وارثين) وتمام عبارته: ( ... إذا كاتب الرجل عبداً ومات، وخلفه مكاتباً، وترك ابنين معترفين بالكتابة، فهذا يتعلق بأطراف الكلام في مكاتبة بعض العبد، وسيأتي فيها باب معقود، ولو لم نلتزم الجريان على ترتيب (السواد)، لأخرنا هذا الفصل إلى ذلك الباب.

المواضع تقديمَ مؤخرٍ، وتأخير مقدمٍ؛ حتى يلقَى الناظرُ المقاصدَ مجموعة، سهُلَ احتمال هذا". وفي كتاب البيوع أيضاً، يعلن مرة ثانية أنه سيخرج على ترتيب المختصر، فيقول عند الكلام عن العيوب في المبيع: " وقد رأينا أن نأتي في هذا الباب بفصول العيب متوالية، ولا نلتزم ترتيب (السواد) ". ثم يشتد به الضيق، ويزداد التبرّم، فيعلن أن ترتيب المختصر لا يُقبل، وأنه لن يلتزمه، وذلك قوله في آخر باب صوم التمتع بالعمرة إلى الحج: " ثم ذكر المزني في آخر الباب طرفاً من الكلام في طواف الوداع، فلم أر ذكره؛ فإن ذكر طواف الوداع قبل بيان أركان الحج بعيدٌ عن الترتيب المطلوب " انتهى بنصه. بل تندُّ منه لفظةٌ مُعْرِبةٌ عن بالغ نقده حينما يقول: " لم يرعَ المزني ترتيب مسائل الحج كما ينبغي، بل أتى بها إتياناً يُشعر بقصد التشويش، ولكنا التزمنا الجريان على ترتيب المختصر ". انظر " يُشعر بقصد التشويش "! * وأحياناً يعتذر عن التشويش وعدم الترتيب، والإتيان بالمسائل في غير موضعها، وكأنه يعلن أنه لم يفعل ذلك عن غفلة، ولكنه الالتزام بترتيب (المختصر)، ففي كتاب الغصب عند الكلام عن ضمان المغصوب، والقيمة المعتبرة في هذا الباب - قال بعد انتهاء الباب: " ثم ذكر الشافعي جملاً تتعلّق بقضايا الضمان في تصرفات صاحب اليد المضمنة (¬1)، وتلك الأحكام تأتي مفرّقة في محالّها، ولكنا نتبع ترتيب (المختصر)؛ فنذكر منها ما يليق بشرح السواد ". * ومن هذا الباب ما جاء في كلامه عن أحكام العبد المأذون له في التجارة، فقد قال: " وفي المأذون وتصرفاته، وتصرفات المولى فيما في يده أحكام سيأتي ذكرها في كتاب النكاح -إن شاء الله تعالى- ولو جمعنا أحكام المأذون، لطال الباب، ولسنا نلتزم مثل هذا؛ فإنه يُحْوِج إلى الخروج عن التزام ترتيب (السواد) ". اهـ ¬

_ (¬1) أي ذكرها في المختصر.

فها هو ينبه إلى أن بعض أحكام المأذون ستأتي في كتاب النكاح، وأن حقها أن تكون هنا، وأن يجمع كل أحكام المأذن في نسق واحد، ولكنه لا يفعل؛ لأن هذا سيُحْوِجه إلى الخروج عن ترتيب (السواد)، وقد ألزم نفسه به. هذه نماذج من عبارات الإمام تكفي لبيان أثر التزامه ترتيب المختصر، وأن تيمُّنه بهذا الترتيب هو الذي حال بينه وبين ما عهدناه في كتبه الأخرى من إحكامٍ وضبطٍ في الترتيب والتبويب والتفصيل، وأنه كان أمام ترتيب المختصر، بين مخالفة يسيرة محتملة، وبين اتباعٍ والتزام على غير رضاً، ينبه على سببه، ويبين ما كان ينبغي أن يكون، والمواضع التي عبر فيها الإمام عن ذلك لا تقع تحت خصر، وما ذكرناه مجرد أمثلة ونماذج. الترتيب بين النهاية والبسيط: كتاب (البسيط) للإمام الغزالي حجة الإسلام، مبنيٌّ على كتاب شيخه (النهاية) ولكن الغزالي استطاع أن يأتي بترتيب بديع، بلغ الغاية في الضبط والإحكام؛ حيث أخذ فقه إمام الحرمين، ولكنه لم يلتزم ترتيبه، بل اتبع ترتيباً عجيباً لم يسبق إليه، يقوم على منطق واضح القسمات، بيِّن الملامح، فهو -فيما نعلم- أول من قسم الفقه إلى أرباع، ونص على ذلك صراحة: ربع العبادات، وربع المعاملات، وربع المناكحات، وربع الجراح. ثم يبدأ كلّ كتابٍ بتمهيد، ثم يبين في سطورٍ معدودات، أقسام الكتاب، وأبوابه، وموضوع كل منها، ولنعرض ما جاء في أول كتاب الحج نموذجاً لهذا الترتيب: افتتح كتاب الحج بذكر أدلة الحج، ثم قال: " هذا تمهيد الباب، ومقاصده يحصرها ثلاثة أقسام: الأول - في المقدمات والسوابق، وهي شرائط صحة الحج ووجوبه، ومواقيت الحج. الثاني - في المقاصد، وهي ما يجب فعله وتركه في الحج، وكيفية وجوه أدائه.

خامسا - الغرض من النظر في فقه السلف

الثالث - في التوابع واللواحق، وهي فوات الحج والدماء الواجبة فيه، وأبدالها ". اهـ. ثم إذا جاء إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة، قسمها إلى أبواب، والباب إلى فصول، والفصل إلى مسائل أو مباحث، فإذا شذّ عن ذلك شيء أتى بها آخراً تحت عنوان (فرع) أو (فروع). وقد كان الغزالي متفطناً لقيمة عمله، مباهياً به، وذلك قولُه في خطبة الكتاب: " وقد أتيتُ فيه بترتيبٍ، خف -مع كبر حجم الكتاب- محمله، وسهل مع غموض معانيه تناوله؛ ترغيباً لأولي المآرب، وتسهيلاً على الراغب الطالب ". اهـ خامساً - الغرض من النظر في فقه السلف: يعرض إمام الحرمين في بعض المسائل لفقه السلف وآرائهم في المسألة، ويتغيا بذلك غرضين يحددهما بقوله. " وقد أرى في بعض الفصول حكاية مذهب السلف لغرضين: أحدهما - أني أرى مذهبين في طرفي النفي والإثبات، ومذهب الشافعي يتوسطهما. الثاني - أن من الأحكام ما يظن بعض الناس أنه متفق عليه، فأحكي فيه خلافاً أصادفه لمقصود في التفريع ". قال هذا بعد أن حكى مذهب أبي سلمة بن عبد الرحمن، ومذهب طاوس، في مسألة من مسائل التيمم، ليبين أن كلاًّ منهما في طرف، وأن مذهب الشافعي بينهما. ثم ليؤكد أن الحكم الذي اشتهر بأن حضور الماء يبطل التيمم، هناك من السلف من يقول بخلافه، وأن القول بأن التيمم استباحةٌ وليس رفعاً هناك من يخالفه. سادساً - الغرض من ذكر المذاهب المخالفة: أكد إمام الحرمين -كما أشرنا من قبل- أنه وضع هذا الكتاب لبيان مذهب الشافعي وتحريره، وأنه ليس من غرضه ذكر المذاهب المخالفة؛ ومن أجل هذا رأيناه يعلل

لإيراده أحياناً بعض مسائل الحنفية وغيرهم، ويبين أن ذلك أيضاً من أجل بيان وتوضيح مذهب الشافعي. ولذلك رأيناه يقول: " ونحن نأتي بها (أي المسائل التي خالف فيها أبو حنيفة) ونخرجها على أصلنا، ونبين مذهب أبي حنيفة فيها، وننبه على مأخذه. والغرض من ذكر مسائل الخلاف بيان الأصول التي بنيت عليها، والفرق بين الأصول ". * ويؤكد هذا المعنى بصورة أكثر وضوحاً، عندما يعقب على مسألة من مسائل كتاب النكاح، وخلاف أبي حنيفة فيها، فيقول: " ونذكر أصول مذهب أبي حنيفة والغرض من ذكرها أن يكون تقييداً لمذهبنا في الحفظ؛ فإن الشيء قد يحفظ بذكر ضده ". سابعاً - إنصافٌ للمذاهب المخالفة: مع تمذهب الإمام وشافعيته، لا يتردد في نصرة المذهب المخالف حين يرى أن الحق معه، ففي مسألة من مسائل كتاب الصداق، بعد أن يورد مذهب محمد بن الحسن، نجده يقول: " وهذا الذي ذكره غير بعيد عن مسلك الفقه " ثم يقول: " وكنا نود لو كان هذا مذهباً لبعض الأصحاب ". قال هذا تعقيباً على قول محمد بن الحسن: " إن زاد المسمى على مهر المثل، وزادها بالشرط، لغا الشرط، وصحت التسمية، وإن نقص ... إلى آخر المسألة ". * وبعد أن حكى قول أبي حنيفة: " إن على من ترك التكبيرات الزائدة في صلاة العيد السجودُ " قال: " وكنت أود أن يصير إلى ذلك صائر من أصحابنا؛ من جهة أن التكبيرات الزائدة في صلاة العيد قريبة الشبه بالقنوت ". * بل لا يتردد في وصف مذهب أبي حنيفة في إحدى المسائل " بأنه منتظم "، وأن " الذي أطلقه أصحابنا فيه إشكال ". وهذه هي مسألة المُحرز من قطار الإبل، وهذا نصُّ ما جاء فيها: قال الأئمة: قطار الإبل محرز بالقائد.

وقال أبو حنيفة: إن قادها، فالمحرز هو البعير الأول، وإن ساقها، فالجميع محرزٌ به، وإن ركب واحداً، فمركوبه، وما أمامه، وواحد من ورائه، مُحرز به. وهذا المذهب منتظم. والذي أطلق أصحابنا فيه إشكال". اهـ ثم فسر كلام الأصحاب بما يوافق مذهب أبي حنيفة، وعقب قائلاً: " ولا يجوز أن يعتقد الأمر إلا كذلك ". * وفي مسألة من مسائل الوديعة واختلاف المودِع والمودعَ وكان الإيداع من شخصين، وكيفية إجراء الخصومة معهما، يقول: " وذكر أئمتنا في طرقهم أن اليمين الواحدة تكفيه في حقهما، وقال أبو حنيفة: لا بد أن يحلف لكل واحد منهما يميناً، وهذا عندي محتملٌ في القياس؛ فإن خصومة كل واحد منهما منفصلة عن خصومة الثاني. وهذا احتمال، والمذهب ما نقلته ". فها هو يرى أن القياس قول أبي حنيفة، ويعلل لهذا الرأي، ولكنه يميز بين ما يُبديه من رأي والمذهب، فيقول: " والمذهب ما نقلته ". * وفي فصل زكاة الحلي بعد أن أفاض في بيان المذهب، وأن الزكاة لا تجب في الحلي عندنا، وذكر مذهب أبي حنيفة، وخلافه في ذلك عقب قائلاً: " ولا يخفى على ناظرٍ في وجه الرأي أن الأصح في القياس إيجاب الزكاة في الحلي ". فهو -كما ترى- ينصف المذهب المخالف، وكأنه يرى رأيه، ولكنه دائماً يؤكد " أن المذهب نقلٌ ". * وفي مسألة من مسائل طلاق المريض، والتفريع على القديم والقول بالفرار من الميراث، يذكر مذهب أبي حنيفة في المسألة، ثم يقول: " وكنت أودّ لو كان ذاك مذهباً لأصحابنا ". * وفي التيمم يكاد ينصر مذهب مالك في الاكتفاء على الكفين، مستدلاً بما رواه عن عمار بن ياسر: " التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة للكفين " فيقول إمام

الحرمين: " وهذا الخبر بعيدٌ عن قبول التأويل ". * بل لا يتردد في إنصاف أبي القاسم الفوراني الذي لم يذكره باسمه مرةً واحدة على طول الكتاب، فيقول عنه دائماً: " بعض المصنفين " وهو كثير الحط عليه، ومع ذلك لا يتردد في إنصافه عندما يرى الحق في جانبه. ترى ذلك في أكثر من موضع، ولا داعي للإطالة بذكر المسائل والأمثلة، ونكتفي بالرمز إلى ذلك. ثامناً - معرفة الواقع والإحاطة به: إن من يقرأ كتابنا هذا يجد الإمام -عندما يتكلم في قضية من القضايا- عارفاً بواقع الحياة من حوله، محيطاً بدقائق المسألة التي يتكلم فيها بصورة تلفت النظر، ولنضرب لذلك أمثلة: * فالذي يقرأ كلامه عن بيع النخيل المؤبر، ولمن تكون الثمرة، ويرى وصفه للطلع، وحديثه عن ذكوره وإناثه، وشرحه لكيفية التأبير، وتشقيق الطلع أو تشققه، وعادة الذين يعملون بالتأبير وأنهم يؤبرون بعضاً، ويتركون بعضاً، وأن الريح تنقل طلع الذكور، فتقوم بالتأبير. وأن الطلع لا يخرج كله في وقت واحد، بل يخرج متداركاً بعضه وراء بعض إذا كان نوع النخيل واحداً. أما إذا كان النخيل مختلف الأنواع، فلا يتدارك الطلع، بل يتقدم بعضه، ويتأخر بعضه .... إلى آخر ما قال. إن من نشأ في القرى، وعاش بين من يقومون على بساتين النخيل، لو قيل له: صف هذا الذي يعملون، ما استطاع أن يأتي بمثل هذا الوصف، وهذا التدقيق. وقس على ذلك كلامه في قضايا الصناعات: من قِصارة، وصباغة، وخياطة، ونحوها. وهذا يؤكد أن أئمتنا وفقهاءنا -وإمام الحرمين نموذج منهم- لم يكونوا منفصلين عن مجتمعهم وواقعهم كما يزعم الزاعمون.

* ومثال آخر عند حديثه عن استئجار الأرض للزراعة، واشتراط إمكان حصول الماء لها، ثم كلامه عن نهر النيل بمصر -وهذا عجيب جداً- والزراعة (البَعْلية) (¬1) على شاطئيه، وطريقة الري بالحياض، التي تعلمناها في المدارس في كتب الجغرافيا بالخرائط والصور، والشرح والتمثيل. إن من يقرأ كلام الإمام يعجب أشد العجب، كيف أحاط بهذه الأمور بهذه الدقيقة، وهو لم يرحل إلى مصر، وبالقطع لم يقع في يده كتاب من كتب الجغرافيا؛ فإن ذلك شيء لم يكن موجوداً من قبل!!! وأنا -لمعرفتي بدّقة هذا الكلام- أجزم أن إمام الحرمين استوصف واستفصل من أحد الفقهاء -أو غير الفقهاء- الذين عاشوا في مصر، وعاينوا هذه الأمور. * وقريب من هذا حديثه في كتاب الزكاة عن بساتين النخيل التي تُطلع مرتين في العام، وعن البساتين التي تحوي أكثر من نوع من النخيل يختلف أوان جدادها، وعمن يملك أكثر من بستان في تهامة ونجد غيرها، وتختلف أوقات الجداد، وكيف تحسب الزكوات في كل حالة، إن من يقرأ كلامه في هذا الموضع يخيل إليه أنه عايش أصحاب هذه البساتين، وعرف أحوالها. وليس من المعقول أن نقول: إن هذه المعرفة بهذا التفصيل وقعت له عرضاً في السنوات الأربع التي جاور فيها الحرمين الشريفين؛ فإن هذه المعرفة -بهذه الدقة- لا بد أن تكون مقصودة، وتحصيلها والإحاطة بها عن قصدٍ وتتبع. * ومن هذا أيضاً معرفتُه بمصطلحات التجار، وألفاظ المتعاملين في السوق، واعتمادها في الأحكام، ففي باب بيع المرابحة والحطيطة يذكر المصطلح الدائر على الألسنة باللغة الفارسية، كأن يبيعه بربح (ده يازدة) أو (دو بازدة)، ويعرض لهذه المسألة في الجزء الذي أفرده للجبر والحساب، وألحقه بالوصايا. ¬

_ (¬1) الزراعة البعلية في مصر، وهي التي يسمونها أيضاً (ريَّ الحياض): هي التي تعتمد على مياه الفيضان، بمعنى أن يبذر الفلاح البذور في الأرض التي غمرها الفيضان لمدة نحو شهرين - بعد انحسار الماء عنها، ولا تروى بعد ذلك، وأغلب ما يزرع بهذه الطريقة العدس، والفول، ويكون أجود ما يكون عندما يزرع بهذه الطريقة.

فهناك يعرض للخلاف بين الفقهاء والحُسّاب في طريقة حساب الخسائر، فيقول: " وإن باعه بخسران (ده يازده)، فالذي ذهب إليه جمهور الفقهاء أن العشرة تجري أحد عشر، ونحط منها جزءاً. والذي رآه الحُسّاب أن لفظ خسران (ده يازده) معناه نقصان عُشرٍ تام، وهو نقيصة درهم من عشرة. والذي ذكره جماهير الفقهاء متَّجهٌ في اللفظ، ولا وقع لهذا في الباب الذي نحن فيه؛ فإن هذا الباب ليس مُداراً على الألفاظ ومعانيها، وإنما هو مدار على ما يقع ". تأمل قوله: " مدار على ما يقع "، فهو يرعى اصطلاح الناس، وواقعهم، والمعنى الذي يفهمونه من ألفاظهم ومصطلحاتهم، وإن خالف مدلول الألفاظ ومعانيها. ثم هو يجري في بابٍ على ما يليق به، ففي باب الطلاق والخلع يدير الباب على معاني الألفاظ ومدلولاتها، حيث لا يوجد ما يخرجها عن ذلك. * وربما كان من ذلك تنبيهه إلى رعاية العرف وتحكيمه، من مثل قوله: " ومن لم يمزج العرف في المعاملات بفقهها، لم يكن على حظٍّ كاملٍ فيها " وقوله: " والتعويل في التفاصيل على العرف، وأعرف الناس به أعرفهم بفقه المعاملات ". * ويعد من هذا الباب -البصر بالواقع- أيضاً ما قاله عند الحديث عن الكفاءة في النكاح، وقد جعل منها الانتساب إلى شجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى العلماء وإلى الصالحين، ثم استثنى الانتساب إلى عظماء الدنيا، فقال: " فأما الانتساب إلى عظماء الدنيا -وجماهيرهم ظلمة، استولَوْا على الرقاب، فهم يُعظَّمون رغبة ورهبة، والشرع بائح بحط مراتبهم في الدين- فلا تعويل على أنسابهم، وإن كانوا قد يتفاخرون بها ". فهذا يوحي، بل يشهد وينطق بأنه يعيش واقعه، وأنه غير راضٍ عن واقع الحال الذي استولى فيه الظلمة على الرقاب.

تاسعا - البراعة في التشبيه والتمثيل لتوضيح المعاني

تاسعاً - البراعة في التشبيه والتمثيل لتوضيح المعاني: بقليل من التأمل والتنبه يدرك من يطالع كتابنا هذا اتباع الإمام لأسلوب التشبيه والتمثيل، لبيان المعنى الذي يقصد إليه، فمن ذلك: * عندما تحدث عن الجبر والمقابلة، والاعتماد عليه في استخراج الوصية بالنسبة إلى ما تبقى من الأنصباء، وضرورة الجبر والمقابلة للوصول إلى سرّ النسبة، قال: " وأصل الجبر أسرار النسبة. ولو اطلع مطلع على سرّ النسبة، لم يحتج إلى شيء من مراسم الحُساب، ولكن الوصول إلى حقائق النسب ليس بالهين ... وأشبه شيء بالنسب والطرق الموضوعة في الحساب - الذوقُ في الشعر مع العروض؛ فمن استدّ ذوقه، قال الشعرَ، ومن لا يترقى ذوقه، نَظَم، وقام له العروض مقام الذوق إذا أحكم مراسمها. كذلك طرق الحُسّاب إذا تمرن المرء عليها، أهدته إلى إخراج المجاهيل، وقد تطول دُربته فيها، فيتطلع إلى إدراك النسب ". ولسنا بحاجة إلى أن نلفت نظرك إلى ما في هذا التشبيه من دقة، وطرافة، وذوق، ومهارة، ودلالة على سعة المعارف، وخصوبة الذاكرة. فهو يشبِّه المهارة في إدراك النسبة بين الأعداد وعلاقتها بعلم الجبر الذي يؤدي في حقيقته إلى الوصول إلى النسبة ومعرفتها. يشبِّه ذلك بالذوق الشعري وعلاقته بعلم العروض، فكما أن صاحب الذوق الشعري يقول الشعر طبيعةً من غير معاناة تعلم، فيقع موزوناً مقفىً، فلا يحتاج إلى علم العروض. فكذلك من مهر في إدراك النسبة بين الأعداد، وصار ذلك سليقةً وطبعاً له، لا يحتاج إلى علم الجبر ليكشف له هذه النسبة. * ومن ذلك تشبيهه وتصويره لتطهير البئر إذا تنجست، وقد تبدو هذه المسألة هينة لمن ينظر إلى حالنا اليوم ووفرة الماء في البيوت، وجريه في أنابيب محكمة نظيفة، ويصب علينا من صنابير (حنفيات) ذات أشكال وألوان من التجمل والتفنن.

ولكن لو تصورت جماعة في بادية أو قرية ليس عندهم مصدر للماء إلا بئر، منه يستقون ويتطهرون، فإذا وقعت فيه فَأْرةٌ وماتت فيه، وتحللت، فأية كارثة تحل بهم -وما أكثر ما كان يحدث هذا- فكيف يطهرون هذه البئر؟ وكم دلواً ينزحون؟ ومتى يصلون إلى يقين الطهارة؟ والماء يتجدد ويختلط طاهره الذي يَنْبع بالمتنجس والنجاسة تفتتت وتهرّأت في الماء. كارثة تتكرر في هذه البيئات، وكان بعض الأئمة يُفتي بطَمّ البئر، وحفر غيرها!! وإلى أن يتم حفر غيرها ماذا يفعل الناس؟ ولكن إمام الحرمين يرى "أن يُنزح مثلُ ماء البئر مراراً، فيصير النزح المتدارِك مع حركة الماء ودفعه أجزاء النجاسة كالماء الجاري، فالعيون تفور بمياه جديدة، فتدفع النجاسات، وهي تنزح، فتطهر". ثم قرّب هذه الصورة بتمثيل عملي عجيب، حيث قال: " وإن أراد الإنسان أن يقف على حقيقة هذا اتخذ طاساً مثقوباً، وسدّ ثُقبته، وصب فيه مقداراً من الماء، ووضعه على ماء في مِركن، وفتت فيه شيئاًً، وفتح الثقبة، وهي مثال العين الفوارة، ثم يتخذ آلةً في نزح الماء عن الطاس على مثال الدَّلو، بالإضافة إلى ماء البئر، فلا يزال ينزح، والماء يفور، وهو يقدّر ما يخرجه، وقد تقدّر عنده ماء الطاس أولاً، فهو دائب كذلك، حتى لا يبقى مما فتته شيء، وقد صفا الماء، فليتخذ ذلك دستوره في ماء البئر، ويقيس فورانَ العيون وجمةَ البئر، وما ينزحه، بما ضربته مثلاً ". تأمل كيف صوّر نزحَ البئر، وتطهيرَ مائه من هذه النجاسة التي تفتتت وانتشرت، صوّر ذلك بهذا الجهاز البديع الذي اخترعه؛ حتى يؤكد إمكان تحقيق التطهير بهذه الطريقة. * والأمثلة على هذه البراعة كثيرة بين يديك، وفيما ذكرناه الكفاية لإيضاح المعنى الذي نريده. * ومما يستحق أن نسجله هنا أننا كنا نعجب من براعة الإمام الغزالي في هذا الباب، وبخاصة في كتابه (المنقذ من الضلال) و (تهافت الفلاسفة)، حتى بلغ بي

عاشرا - التمسك بالخبر وتقديمه على القياس

الإعجاب أن اقترحت على أحد الباحثين أن يجعل أطروحته بعنوان (البراعة والتفنن في ضرب المثل عند أبي حامد الغزالي) والآن عرفت أن هذه البذرة كانت عند إمام الحرمين، فنمت وترعرعت، واهتزت وربت عند تلميذه الإمام الغزالي. عاشراً - التمسك بالخبر وتقديمه على القياس: وكان من حق هذا البند أن يكون الأول في الترتيب، ولكني أخرته لعدةِ معانٍ رأيتها، منها: * أنني كتبت فصلاً كاملاً وافياً في كتابنا (فقه إمام الحرمين خصائصه وأثره) عن هذا البند، وكان الممكن أن أنقله كاملاً أو ألخصه هنا، ولكن هذا شيء أكرهه، ولذا حاولت في هذا الفصل عن منهج الإمام أن أشير إلى خصائص من فقه الإمام غير ما كتبته هناك. * ولأهمية هذا لم أشأ أن أغفله، بل رأيت الاكتفاء بالإشارة إليه، بضرب مثال واحد، في مسألة من مسائل القَسْم بين الزوجات، فيما إذا تزوج ثيباً، وأقام عندها أكثر من الثلاث (التي هي حق العقد)، فعليه أن يقضي كلّ ما أقامه عندها (الحق مع الزيادة) أما إذا أقام عند البكر أكثر من السبع (التي هي حق العقد)، فيقضي الزيادة فقط دون حق العقد. وسبب هذا الفرق أنه في حال الثيب ورد خبر فالتزم به، وفي حال البكر لم يرد خبر فرجع إلى التمسك بالقياس، وهو عدم بطلان حق صاحب الحق إذا أخذ أكثر من حقه. وهاك نص عبارته في هذا الموضوع، قال: " ولسنا نفي بمعانٍ جامعة فارقة، وإنما ندور على مقتضى الخبر، فإذا لم نجد متعلقاً فيه، رجعنا إلى التمسك بالقياس، ومن القياس الجلي ألا يبطل حق صاحب الحق إذا أخذ كثر من حقه. فأجرينا الزيادة على حق البكر على هذا القياس، وتركنا ما ذكرناه في حق الثيب من بطلان حقها -إذا طلبت الزيادة وأجيبت- على موجب الخبر ". * والمعنى الثالث الذي من أجله أخرنا هذا البند أن نتيمن بجعله مسك الختام.

المبحث الثاني: أسلوب إمام الحرمين

المبحث الثاني: أسلوب إمام الحرمين أسلوب الإمام في مؤلفاته يضعه في الطبقة الأولى من البلغاء والأدباء، فهو واحد من فرسان البيان المعروفين، فمع أنه يكتب في فنون علمية دقيقة: علم الكلام وعلم الأصول، وعلم الفقه، إلا إنك تجد في أسلوبه طلاوة وعذوبة، مع جزالة وفخامة في الوقت نفسه، وإن وجدتَ غرابة في بعض الألفاظ، فلن تجدها حوشيَّة خشنة، وإنما تأتي الغرابة من بُعد ما بيننا وبين عصر الإمام، وطغيان العُجمة واللكنة على لغتنا نحن، عرف له ذلك معاصروه ومترجموه، فها هو عبد الغافر الفارسي يقول: " أخذ من العربية وما يتعلق بها أوفرَ حظ ونصيب؛ فزاد فيها على كل أديب، ورُزق من التوسع في العبارة وعلوِّها ما لم يُعهد من غيره، حتى أنسى ذكرَ سحبان، وفاق فيها الأقران، وحمل القرآن، فأعجز الفصحاء اللُّد، وجاوز الوصف والحد (¬1) ". وقال صاحب المسالك والممالك، ابنُ فضل الله العُمري: " أفصحُ الفقهاء لساناً، وأوضح البلغاء إحساناً، لعباراته في الفقه نزعاتٌ أدبية، ونزغات عربية، كأنما جاء بها من البادية، تلاعبها أعطاف ريحها، وتجاذبها أطراف البداوة إلى لِمم شيحها (¬2) ". لم يَغب عنا أن شرطنا في هذه الفصول أن نلتزم بما يستخرج ويستنبط من (نهاية المطلب) ولكنا لم نستطع أمام شهادة بهذا المستوى، وبهذا القدر إلا أن نتحفك بها. ونعود إلى (نهاية المطلب)، فنجد الأسلوب الرشيق الأنيق، والألفاظ الدقيقة الواضحة، والكلام الجزل الفصيح، فهو بحق أسلوب علمي متأدب، فمع أن لغة ¬

_ (¬1) طبقات السبكي: 5/ 174. (¬2) مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: 6/ 285.

الفقه، ومصطلحاته تحتاج إلى الدقة والصرامة، ومع أن لغة العلم تتجرد من العاطفة والمجاز، مع كل هذا، والتزام الإمام به، إلا أنك تلمح سمات الجمال والطلاوة في أسلوبه، تقرأ كتابه فتجد ذلك واضحاً ملموساً، لا يحتاج إلى استدلال، ولكنا نضع أمامك شيئاًً مما رأيناه يستلفت النظر، وسنلتزم الإيجاز، فنقتصر على أقل ما يكفي للاستشهاد من الكلمات: * فمن ذلك قوله: " ومن الأصول الخفية أن مَحَطَّ القياس قد يضيق، فيدق النظر، وهو يمشي مشي المقيد، ثم قد يقف، ويضطر الفقيه إلى حكمٍ، فيصرفه إلى أقرب الوجوه إليه ". تأمل التعبير، وانظر إلى الصورة المتحركة " مَشْي المقيد ". * وفي كتاب العتق - باب جناية المكاتب على سيده، وهو يتكلم عن إنشاء المريض الكتابةَ، ووصيته بها، يقول: " وقد أتيت على هذه الأبواب فقهاً وحساباً، في كتاب الوصايا، ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفس، ومهدت الأصول، ونظمت المسائل، وعند الصباح يَحْمَد القوم السُّرى ". تأمل الصورة الأدبية: " ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفَّس "، وانظر الإيقاعَ في قوله: " ومهدت الأصول، ونظمت المسائل " مما يسميه علماء البلاغة: " الازدواج " أو حسن التقسيم. أما ختام العبارة بالمثل السائر: " عند الصباح يحمد القوم السُّرَى " فلا يحتاج إلى أن أنبه إليه. * وفي موضع آخر، يقول: وههنا وقفة طال فيها نظرنا، فليأخذ الناظرُ المقصودَ عفواً صفواً، " فرب ساعٍ لقاعد ". ولست بحاجة إلى التنبيه إلى ما في العبارة، من طرافةٍ وطلاوة، وما تحمله من روع تكاد تقرب من الفكاهة. * وربما تكون روح الفكاهة والدعابة أوضح في العبارة التي قالها عن القاضي حسين، فعندما ناقش مسألة من مسائل الجنايات، وهي إذا قتل أخوان أبويهما: أحدهما قتل

الأب، والآخر قتل الأم، وأيهما يقدم للقصاص؟ هل بالسبق أم بالقرعة؟ قال معقباً على ذلك -بعد أن استوفى المسألة بحثاً وتمحيصاً-: " ولقد رأيت في مرامز كلام الأصحاب ما يدل على القرعة، والقاضي لم يذكرها، واقتصر على أن قال: لو ابتدر أحدهما، وقتل صاحبه، كان كذا وكذا. وهذا فرار من الزحف ". انظر روعة تشبيه التمثيل لإغفال القاضي قولاً من الأقوال في المسألة. * وفي كتاب الفرائض، عند الكلام عن كيفية توريث من يدلي من ذوي الأرحام بقرابتين، ذكر قولَ الأستاذ أبي منصور وما يراه في المسألة، ثم قال: " وقد أورد القاضي أبو محمد في كتابه: أن أبا يوسف لا يورث بقرابتين، ونحن نقول: الرجوع إلى ما نقله الاستاذ أبو منصور أولى؛ فإنه إمام الصناعة مطلقاً، " وكل الصيد في جوف الفَرَا " (¬1). * وقال في (باب في أقسام الضرب) من كتاب الفرائض، وهو يصف طريقة تعلم الحساب، قال: " ولْيعلم الطالب أن الشرط الأول على من يبغي المهارة أن يحفظ الآحاد، بحيث لا يحتاج إلى التفكر فيها، وهي طريحة ساعده " (¬2). وقال في كتاب القَسْم والنشوز فيما لو أراد الزوج أن يزيد النوبة على الثلاث "ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يجوز، إذ لا موقف بعد المجاوزة ... فربما نجعل النوبة ستة أو أكثر منها، وهذا يؤدي إلى مهاجرة في حق اللواتي تتأخر نوبُهن، ثم يترتب عليها انتساج وحشةٍ بين الزوج وبين المتخلفات، وإلى تأكد ألفةٍ تنتهي إلى المِقَة، فيحصل من السرف في الازدياد مقتتٌ ومِقَة" ولا يخفى على الفطن ما في الكلام من محسنات البديع. * وتقرأ في الجزء 15 ص 471، 472 قوله: " وهذا موقف لا يجوز للفقيه الاكتفاء فيه بالاتباع، ولا يسوغ أن يخطوَ الخطو الوِساع ". والحق أن التمثيل والاستشهاد على أن " لعباراته في الفقه نزعاتٌ أدبية، ونزغات عربية " أمرٌ يحِّير من يحاوله: أيّ العبارات يأخذ وأيها يدع، فالكتاب بين يديك، لا تجد فقرة فيه، إلا وهي صالحة للتمثيل والاستشهاد. فنكتفي بما حاولناه، ونأخذ في بابةٍ أخرى من أسلوب ولغة الإمام. ¬

_ (¬1) انظر ج 9/ 249. (¬2) انظر ج 9/ 265.

إمام الحرمين واللغة

إمام الحرمين واللغة: وإذا تركنا الفصاحة والبلاغة، وتحدثنا عن إحاطة الإمام باللغة وتصرفه فيها متناً وقواعد، لوجدنا معجم الإمام في (نهاية المطلب) يحوي مفرداتٍ، ومشتقاتٍ، وصيغاً غيرَ معهودةٍ لنا الآن، ولكنها صحيحة فصيحة، غير حُوشيةٍ ولا جافية، ولكننا نحن الذين بعدت بيننا وبين لغتنا الشقة، باعد بيننا وبينها العجمة التي سادت لغتنا اليومية، وأسماءَ متاجرنا ومصانعنا، وأدواتِ معيشتنا، وأسماء ما نطعمه ونشربه، ونلبسه ونركبه، بعد أن (فَرْنجنا) تعليمنا ومناهجنا، ففعلنا بأنفسنا ما عجز الاستعمار أن يفعله بنا. ولهذا الانقطاع عن تراثنا، وأصيل لغتنا، أصبح الاتصال بأئمتنا، والتلمذة لهم، وقراءة كتبهم، أصبح ذلك أمراً عسيراً، وصار بعض (الدكاترة) يعزو ما يعجز عن معرفة وجهه في كتب التراث إلى الخطأ، ويقوم بتغييره، فيقول في المقدمة: " إن من عمله في تحقيق الكتاب تصويب الأخطاء النحوية واللغوية، من غير حاجة إلى تنبيه " فيغير لغةَ صاحب الكتاب الذي بينه وبين المحقق مئات السنين، وُينطقه بلغة عصرنا، وهذا من أخطر الجنايات التي ارتكبت في حق تراث أمتنا، وعلم أئمتنا، ارتكبها كثير من محققي العصر والأوان، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً. وقد سنَّ لنا أئمة هذا الفن، فن التحقيق الذين يُهتدى بهم، سنّ لنا هؤلاء الأئمة المحافظةَ على لغة المؤلف صاحب الكتاب حتى فيما يختص بقراءته التي كان يقرأ القرآن عليها، فها هو العلامة الشيخ أحمد شاكر يضبط لفظ (القُرَان) بضم القاف وفتح الراء مخففة وتسهيل الهمزة، في كل موضع ورد فيه اللفظ في رسالة الشافعي، اتباعاً للإمام الشافعي -مؤلف الرسالة- في رأيه وقراءته، فقد ورد بسندٍ اعتمده الشيخ شاكر أن الشافعي كان إذا قرأ قوله تعالى {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]، هَمَز (قَرأْتَ) ولم يهمز (القُران)، وهي قراءة عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أُبي (¬1). ¬

_ (¬1) ملخصاً من تعليق الشيخ شاكر على الرسالة: 14 حاشية رقم (4).

وقد أشار العلامة الشيخ بكر أبو زيد إلى نحو هذا، حيث أخذ على الذين ينشرون تراث شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعضهم غير الرسم في الآية الكريمة {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] فقد كانت في الأصول المخطوطة، وفي بعض الطبعات (بالظاء) (بظنين)، وهذا الرسم (بالظاء) هو الموافق للقراءة التي كانت سائدة في بلاد الشام، ومصر، واليمن في عصر ابن تيمية، ولذا قال الشيخ: " فينبغي عند تحقيق كتب شيخ الإسلام عدم التصرف في الرسم للآيات التي يستشهد بها، حتى تكون على وفق رسم المصاحف السائدة في عصرنا (¬1) ". ونحن نقول مع الشيخ: إن هذا الأمر يعسر القيام به، لصعوبة الإحاطة بعلوم القراءات وعلم الرسم، رسم المصحف، بل والعلم بتاريخ انتشار القراءات وأماكن شيوعها، وتكليف المحقق معرفة بأيها كان يقرأ المؤلف. وإذا عَسُر هذا بالنسبة للقرآن العظيم، فهو بالنسبة للحديث الشريف ميسور، فمعلوم أن الروايات تتعدد بالنسبة للحديث الواحد، وتختلف فيما بينها في بعض ألفاظها، كما في كتب اختلاف الموطآت وغيرها، ومعلوم أن عدداً من كتب الحديث المطبوعة الآن من رواية واحدة فحسب، كسنن أبي داود، فإن النسخة المطبوعة من رواية اللؤلؤي، مع أن هناك غيرها من الروايات كان معروفاً متداولاً قبلُ. ومن هنا على المحقق ألا يعجل بتغيير ألفاظ الأحاديث التي في الكتاب الذي يحققه، لتوافق اللفظ الموجود في كتب الحديث التي بين يديه، فهو لا يدري أيَّ رواية وقعت للمؤلف، وغاية ما عليه أن ينبه في الحاشية على اختلاف اللفظ الذي يجده (¬2). وإذا كان هناك بالنسبة للقرآن والحديث، فهو بالنسبة للغة أيسر، وألزم، وأوجب، فعلى المحقق إذا وجد ما لا يتفق ومعلومه عن النحو واللغة ألا يسارع بالتخطئة، والتغيير، بل يجب أن يبحث في كتب النحو واللغة، وعليه أن يستعين بأهل الصناعة، حتى لا يخطِّىءَ الصواب، ويغيرَ لغة المؤلف، ويُنطقَه بما لم ينطق به. ¬

_ (¬1) ر. المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، الشيخ بكر بن عبد أبو زيد: 54. بتصرف. (¬2) السابق نفسه (بتصرف).

وقد نبه الشيخ أحمد شاكر إلى شيءٍ من هذا، حين قال - في تعليقه على سنن الترمذي: 1/ 440: " وقد رأيت كثيراً من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة؛ ظناً منهم أنه خطأ ". قال هذا وهو يتحدث عما رآه من اختلاف رواية الحديث الشريف: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى "، وهو كلام نفيس يدل على سعة اطلاع وطول باع، ونور بصرٍ وبصيرة، يحسن أن نأتي به بتمامه، قال رحمه الله وطيب ثراه تعقيباً على هذا الحديث: " قال النووي في شرح مسلم: "ليلني: هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياءٍ قبل النون، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد". وهكذا طبع في صحيح مسلم بحذف الياء في طبعة بولاق (1: 128) وفي طبعة الآستانة (2: 30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود، وكتب بهامشها في حديث أبي مسعود أن في نسخةٍ ليليني " وضبط بتشديد النون، وفتح الياء قبلها. ولكن في نسخة مخطوطة عندي من صحيح مسلم -يغلب عليها الصحة- بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخةٍ (ليلني) بحذف الياء. وقال المباركفوري في شرح الترمذي: 1/ 193: " قد وقع في بعض نسخ الترمذي: (ليلني) بحذف الياء قبل النون، وفي بعضها بإثباتها ". أقول (¬1)، وإني لم أرها في شيء من نسخ الترمذي بحذف الياء، وأظن أن حذفها فيه وفي غيره من تصرف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء: بفتحها وتشديد النون؛ ذهاباً منهم إلى الجادَّة (¬2) في قواعد النحو، بجزم الفعل المعتل بحذف حرف العلة. وقد رأيت كثيراً من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة، ظناً منهم أنه خطأ، والدليل على ظن التصرف منهم أن الشارح ¬

_ (¬1) القائل الشيخ شاكر، فما زال الكلام له. (¬2) يعني المألوف المعروف من قواعد النحو.

1 - استعمالات على غير المعهود في قواعد اللغة، فمن ذلك

المباركفوري نقل عن الطيبي قال: " من حق هذا اللفظ (ليليني) الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدناه بإثبات الياء وسكونها في سائر كتب الحديث، والظاهر أنه غلط ". هكذا أثبت الشيخ أن أصل الكلمة كان بإثبات الياء وسكونها في سائر كتب الحديث. ثم عقب على كلام الطيبي قائلاً: " وليس هذا غلطاً كما زعم الطيبي، بل إثبات حرف العلة في مثل هذا ورد في الحديث كثيراً، وله شواهد من الشعر، وقد بحث فيه العلامة ابنُ مالك في كتاب (شواهد التوضيح) بحثاً طويلاً (70 - 76) ... (¬1) ". وقد أطلنا هذا النقل من كلام الشيخ -على غير منهجنا- لترى صرامة المنهج في التحقيق، وترى كيف عنَّى الشيخُ نفسَه وراء لفظة واحدة، وتتبع النسخَ والروايات لكي يضع يدكَ بيقين على أن أصل هذه الكلمة كانت بإثبات الياء، فتعاورها النقلةُ والنساخ، ما بين من يظن أنه يصححها بالتفنن في ضبط، ومن يظن أنه يصوبها بحذف الياء، حتى انتهى الشيخ إلى أن الأصل أنها بالياء، وأنها صحيحة. وبهذا نصل بك إلى ما وجدناه من ظواهر واستعمالات لغوية عند إمام الحرمين جاءت على غير المألوف والمعهود، وأننا التزمنا -بعون الله- بصرامة المنهج، فلم نعجل بتخطئتها. وسنحاول أن نصنف هذه الظواهر والاستعمالات، ونعدّدها على النحو الآتي: 1 - استعمالات على غير المعهود في قواعد اللغة، فمن ذلك: * إثبات ياء المخاطبة في نحو: أنت قلتيه ورميتيه، وذلك قوله في كتاب اللعان: " إذا قال الزوج لزوجته: ما ولدت هذا الولد بل استعرتيه، أو التقطتيه ". * ومن هذا أيضاً حذف النون من الفعل المضارع المرفوع تخفيفاً، وذلك قوله -في كتاب الوصايا-: " وقد يخرجوها إذا دقَّ الحساب من الكسور ... إلخ " فالمشهور المعروف (يخرجونها). ¬

_ (¬1) سنن الترمذي: 1/ 440، 441.

ولكنا لم نعجل بحمل الأمر على خطأ الناسخ، أو لحن المؤلف -كما يبادر إلى ذلك البعض- وأخذنا في البحث فوجدنا ابنَ مالك يقول: " حذف نون الرفع في موضع الرفع لمجرد التخفيف ثابت في الكلام الفصيح نثره ونظمه ". ثم وفّى المسألة بذكر الأمثلة، وأفاض في التعليل النحوي لهذا الحذف (¬1). * ومن ذلك حذف الفاء في جواب (أما) على غير معهودنا ومألوفنا، ومن طريف ما يحكى في هذا الموضع أن العلاّمة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية المتوفى 1354 هـ-1935 م، كان في مناظرة، فوقع حذفُ الفاء في جواب (أما) في كلامه، فظن مناظرُه أنه يستطيع إحراجه، فقال له: " أين الفاء؟ " فأجابه الشيخ على البديهية: " ذهب بها الكوفيون يا بصريّ ". ويبدو أن هذه اللغة كانت شائعة في القرن الخامس الهجري، فأنت واجدٌ هذا في كتب الغزالي، وأبي إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني، وغيرهم، وليس في (نهاية المطلب) وحده. وقد رأيت من أفاضل المحققين من ضرب إسقاط الفاء في جواب (أما) مثلاً للأخطاء النحوية التي وجدها عند المؤلف، وصوَّبها من غير إشارة إليها، وتنبيه عليها في الحاشية. ومقابل هذا كم من محقق غيَّر، ولم ينبه، ولم يُشر. وقد بلغ حذف هذه الفاء -في كتابنا هذا- من الكثرة حدّاً جعل التمثيل له بذكر جملة من كلام الإمام غيرَ ذي جدوى. وقد أكثر الغزالي من حذف هذه الفاء، حتى علق النووي في التنقيح على قوله: " أما قولنا: تراب، يندرج تحته الأعفر ". قال النووي: "هكذا هو في النسخ (يندرج) بغير فاءٍ، والمشهور في العربية جواب أما بالفاء، وقد أكثر المصنف وغيره من حذف هذه الفاء، وهي لغة صحيحة، ¬

_ (¬1) ر. شواهد التوضيح، بتحقيق الدكتور طه عبد المحسن: 58، 59.

وقد جاءت متكررة في الأحاديث الصحيحة، وغيرها من كلام العرب، لكن الفصيح المشهور إثباتها" ا. هـ كلام النووي ويعنينا مما قال أمران: 1 - أن ذلك كان شائعاً في استعمال الأئمة في ذلك العصر. 2 - أنه لغة صحيحة، جاءت بها الأحاديث الشريفة. * ومن ذلك حذف حرف العطف في مثل قوله -في كتاب الطلاق-: ولو قال رجل لامرأته: أنت طالق لرضا فلان، زعم أنه أراد بما قال تعليلاً، وقع الطلاق ناجزاً. اجتمعت نسختان هنا على حذف واو العطف بين الجملتين: قال رجل لامرأته ... [و]، زعم أنه أراد ... لم أعجل بزيادة (واو العطف) -مع أنه الأيسر والأسهل- وتوقفت أراجع المسألة في مظانها، فوجدتُ ابنَ مالك يقرر أنه يجوز حذف حرف العطف، ويضرب لذلك أمثلةً، وشواهد من الجامع الصحيح لأبي عبد الله البخاري، منها قوله صلى الله عليه وسلم: " صلى رجل في إزارٍ ورداء، في إزارٍ وقميص، في إزارٍ وقباء " والأصل: صلى رجلٌ في إزار ورداء [أو]، في إزارٍ وقميص، [أو] في إزارٍ وقَباء " فحذف حرف العطف مرتين لصحة المعنى بحذفه ". ا. هـ وفي الحديث فائدة أخرى، وهي مجيء الماضي بمعنى الأمر، أي: ليصلِّ الرجل (¬1). * ومن ذلك رفع المستثنى في كلام تام موجب، وقد جاء ذلك نادراً جدّاً، وهو سائغ، وعليه جاء حديث أبي هريرة -في رواية النسفي-: " كل أمتي معافىً إلا المجاهرون " بالرفع (¬2). * إعادة الضمير مؤنثاً على مذكر، ومذكراً على مؤنث. ونكتفي بهذه النماذج، وهناك غيرها لم نذكره هنا، وهو مبينٌ موضحٌ في حواشي الكتاب. ¬

_ (¬1) ر. شواهد التوضيح: 117. (¬2) السابق نفسه ص 94.

ب- استخدام أساليب على غير المعهود المشهور، مثل

ب- استخدام أساليب على غير المعهود المشهور، مثل: * استعمال (بلى) بمعنى نعم في جواب الكلام الموجب. * تكرار (بين) مع الاسم الظاهر في مثل قوله: " بين ثبوت الرق، وبين استبقاء النكاح " والمعهود المشهور أنها لا تكرر إلا مع الضمير، مثل: والفرق بين الأنام وبينه. * دخول الباء على غير المتروك في نحو استبدلت الدراهم بالدنانير، وذلك إذا أمن اللبس. ... جـ- استعمال أدوات على غير المعهود في استعمالها، مثل: * (مهما) بمعنى (إذا) وهذا الاستعمال شائع عند الغزالي وغيره، تجده عند السرخسي في المبسوط، بل تجده عند الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170 هـ في معجمه العبقري (كتاب العين (¬1)). * (إذا) بمعنى: إذْ * (إِذْ) بمعنى: إذا (¬2). * (ما) للعاقل. * (ثمَّ) للقريب. * وكذا إنابة حروف الجر بعضها عن بعض، ومن هذا كثير، نبهنا على عُظْمِه في الحواشي. ... د- ألفاظ يستعملها الإمام على غير أوزانها، وصيغها المعهودة، وعامة ما وجدناه من ذلك في مصادر الثلاثي مثل: * صَدَر، وحَدَث، ونَفَر، مكان صدور، وحدوث، ونفور. ¬

_ (¬1) انظر عبارة الخليل في رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة) بقلم العلامة الشيخ أحمد شاكر، وتعليق العلامة الشيخ عبد الفتاح أبي غدة: 47. (¬2) انظر في ذلك (شواهد التوضيح: 62).

هـ- استعمال ألفاظ لم نجدها في المعاجم بنفس المعنى الذي استعملها فيه الإمام مثل

* وبَدْو مكان بُدُوّاً مصدراً لـ (بدا) بمعنى ظهر. * وسكوناً مكان (سَكَناً) في نحو قوله عن قسمة العقار: " إذا أمكن الانتفاع بكل حصةٍ منه (سكوناً) يريد (سَكَناً)، ويبدو أن هذا الوزن من المصدر كان شائعاً في الاستعمال في هذا المعنى، في لسان ذلك العصر. هـ- استعمال ألفاظ لم نجدها في المعاجم بنفس المعنى الذي استعملها فيه الإمام مثل: كلمة (البين) في قوله في بيع التولية: " وحقيقة التولية إحلالُ المولَّى محلّ المولِّي، حتى كأن المولِّي مرفوع من (البين) ". وقوله في مسألة إعراض الغانم عن حصته من الغنيمة: " ظاهر كلام الأصحاب أن من أعرض عن حصته أخرج من (البين)، ويقدر كأن لم يكن، ويخمس المغنم، ويصرف أربعة أخماسه إلى الباقين " تكررت هذه الكلمة بهذا المعنى في أكثر من موضع من كتابنا هذا، كما وردت بهذا المعنى ذاته في كتابه (البرهان في أصول الفقه)، ولم نرها مستعملة بهذا المعنى في المعاجم. وكما استعمل لفظاً صحيحاً خطّأه الإمام النووي، وظهر أنه صواب منصوص في كتب اللغة. وذلك لفظ (طريان) في نحو قوله: " طريان الحيض "، " طريان العجز "، " طريان السفر "، " طريان الخوف ". كذا استعملها الإمام، وتكررت مراراً، واستعملها تلميذه الغزالي في الوسيط، قال في كلامه عن المستحاضة: " ... وقال الشافعي رضي الله عنه: تقضي خمسة عشر يوماً، وكأنه لم يخطر له (الطريان) -أي طريان الحيض- في وسط النهار ". عقب الإمام النووي على ذلك قائلاً: "قوله: (الطريان) هكذا يتكرر في

ز- استعمل كلمة (كما) بمعنى (عندما) أو (لما)،

الوسيط، وهو تصحيف، وصوابه (الطرآن (¬1)). ولمنزلة الإمام النووي ومكانته، كدتُ أستسلم لقوله، ولكن إحساسي بقدرة إمام الحرمين، وإحاطته باللغة دفعني إلى مزيد من البحث، حتى وجدتها في كتاب (التكملة والذيل والصلة للصغاني) و (تهذيب اللغة)، فقد نقلا عن ابن الأعرابي قوله: " طرى يطرِي إذا أقبل، وطرى يطري إذا تجدد، وطرى يطري إذا مرّ " فالفعل يائي، وعليه يكون المصدر (طريان)، وليست الألف في (طرى) مسَّهلة عن الهمزة، حتى نهمز المصدر (طرآن). ز- استعمل كلمة (كما) بمعنى (عندما) أو (لمَّا)، في مثل قوله: " ... فأما التقدم على الإمام، (فكما) وقع أبطل الصلاة " و" ... (فكما) لابس الإمام السجود، حكمنا ببطلان صلاة الإمام"، " ولو تيمم، ولبس الخف، نظر: فإن كان التيمم لإعواز الماء، فلا يستفيد به المسح عند وجود الماء، بل (كما) وُجد بطل التيمم، ولزم نزع الخف "، " فأما المبتدأة، فهي التي (كما) يبتديها الدم تطبق الاستحاضة، وتتصل الدماء ". ونكتفي بهذه الأمثلة، ففيها غَنَاء، فقد تكررت بهذا المعنى مرات تستعصي على العد والحصر. وقد وجدنا هذا الاستعمال عند الغزالي، وعند السرخسي في المبسوط، وعند الرافعي في الشرح الكبير، وعند نجم الدين النسفي في كتابه طلبة الطلبة. وقد تعقب الإمام النووي -في التنقيح- الغزاليَّ في الوسيط، فقال: " لفظة (كما) يستعملها المصنف وغيره من الخراسانيين بمعنى (عند) وليست عربية ولا صحيحة (¬2) ". ¬

_ (¬1) التنقيح، بهامش الوسيط: 1/ 442. (¬2) ر. التنقيح بهامش الوسيط: 1/ 426.

كذا قال الإمام النووي طيب الله ثراه، ولم نصل إلى أصلٍ لها في العربية، وراجعنا أصحاب الصناعة، فلم نجد عندهم جواباً بعد. ح- ومما يستحق أن يسجل في ختام هذا الموضع هو أن إمام الحرمين كان يستخدم مفردات وألفاظاً غير معهودة في معجمنا اللغوي، ولساننا المعاصر. وقد يقول قائل: إن هذا أمر بدهي مُسلَّم، لا يحتاج إلى الإشارة إليه، أو التنبيه عليه، ونقول: نعم، هو كذلك، ولكن أردنا أن نشير إلى ذلك، لأمرٍ أهم يتعلق بمنهج التحقيق. وسأضرب مثلاً بلفظة واحدة جاءت في كلام الإمام، وهو يتحدث عن كراء الأرض للزراعة، واشتراط إمكان وجود الماء وتوقعه، وتحقُّق ذلك أو عدمه في الأرض التي يرويها (النيل) ... قال الإمام: " ولو كان بالقرب من (ضيفة) النيل أرضٌ .... الخ " كذا بهذا الرسم الواضح ضاد، فياء، ففاء، فتاء مربوطة. وفي نسخة أخرى: " ضفة النيل ". فهنا يجري الذهن مع المألوف المعهود: (ضفة) وتصحيف (ضفة) إلى (ضيفة) أمر قريب متوقع من النساخ. ولقد هممت فعلاً باعتماد النسخة المساعدة (ضفة) وصرف النظر عن نسخة الأصل، لاسيّما وأن الأمر لا يتعلق به خطأ أو صواب. ولكني أحجمت وتوقفت وتذكرت القاعدة التي أكدها أئمة الصناعة، وهي: إذا اختلفت نسختان في لفظة، فجاءت إحداهما بها مأنوسة معهودة، والأخرى جاءت بها غير معهودة، فالصواب في جانب التي جاءت بها غير معهودة؛ وذلك أن الناسخ يصحف غير المعهود إلى المعهود الذي يسبق إلى ذهنه. وفعلاً صَدَقتْ القاعدة، فوجدنا كلمة (ضيفة) صحيحة، وإن كانت غير مألوفة، وهي بمعنى (جانب) الوادي أو النهر. ***

الفصل السادس إمام الحرمين وعلم الحديث

الفصل السادس إمام الحرمين وعلم الحديث

تمهيد

إمام الحرمين وعلم الحديث تمهيد: نقدم بين يدي الفصل بعض الضوابط والمبادىء راجين أن يفهم ما نقوله في ضوء هذه الضوابط والمبادىء، وهي: 1 - إننا لا نحاول أن نثبت أن إمام الحرمين كان من المحدثين الحفاظ، وأئمة الحديث وحملته، لا ندعي نحن ذلك، ولا ادعاه إمام الحرمين لنفسه؛ فهو يقول في كتابه (الغياثي): " فليطلب الحديث طالبه من أهله " (فقرة 148)، وفي كتابه هذا (نهاية المطلب) يقول: " وقد راجعتُ بعض أئمة الحديث، فلم يُثبت رفع اليدين في القنوت "، وفي موضع آخر يقول: " ولكن أخبرني من أثق به من أئمة الحديث أن الذي ظهر وصحّ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - التختّمُ في ... " قال هذا في كتاب الجنائز عند الكلام عن مخالفة أهل البدع في شعارهم. وعند الكلام عن تلقين المقر بالحد الرجوعَ عن إقراره، يروي أن النبي صلى الله عليه وسم قال للمقر: " ما إخالك سرقت! قل: لا " ثم عقب قائلاًَ: " وقد سمعت بعض أئمة الحديث لا يصحح هذا اللفظ، وهو: " قل: لا ". وقد تكرر منه نحو هذا كثيراً. فهذه الأقوال تنطق بأنه لا يدّعي لنفسه أنه من أهل الحديث وأئمته، بل يدعونا ويعلمنا أن نأخذ كل فن من أهله. ولا شك أن إمام الحرمين في هذا مقتدٍ بالإمام الشافعي الذي كان يقول لتلميذه أحمد بن حنبل: " يا أحمد، إذا صح عندك الحديث، فأعلمني به ".

2 - إن علم الحديث ليس بالعلم الذي يمكن الإحاطة به إحاطة كاملة، فما من محدث حافظ إلا وتعقبه متعقب في حديث أو أكثر. وعبر عن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: " ولا يمكن لواحد أن يحيط بجميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدعي. والدليل على ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه - وهو الذي لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم حضراً ولا سفراً سأل عن ميراث الجدة، فأخبره المغيرةُ بنُ شعبة، ومحمد بنُ مَسْلمة بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك عمر رضي الله عنه، خفيت عليه أحكام: منها حكم المجوس في الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (¬1) ا. هـ. 3 - ثم إن هذا العلم ليس من العلوم التي تقبل الشركة، بل هو علم من يهب له نفسَه، ويعطيه كلَّه، ولا يلتفت إلى غيره، قال الخطيب البغدادي: " علم الحديث لا يعلق إلا بمن قصر نفسَه عليه، ولم يضم غيره من الفنون إليه. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: أتريد أن تجمع بين الفقه والحديث؟ هيهات! وقد كان شيخ الإسلام، أبو إسماعيل ابن الأنصاري، الأصبهاني، الهروي، يقول: هذا الشأن -يعني الحديث- شأن من ليس له شأن سواه " (¬2). 4 - إنني لا أنصب نفسي محامياً عن إمام الحرمين؛ فليست المسألة مسألة اتهام ودفاع، وتعصب وتحزب، وإنما هي مباحثة علمية نبغي بها وجهَ الصواب، والبحثَ عن الحقيقة بدليلها، ووزن الأمور وتقديرها، متجردين من الهوى والميل، سائلين الله سبحانه أن يلهمنا الصواب، ويعصمنا من الزلل، وأن يقيض لنا منصفين ينظرون في كلامنا هذا بعين الإنصاف. 5 - إن إمام الحرمين وحده- فيما أعلم- حظي بهذا القدر من الهجوم في هذا ¬

_ (¬1) رفع الملام عن الأئمة الأعلام: 5 - 7. (¬2) الرسالة المستطرفة: 221.

خطة هذا الفصل وطريقته

الباب، وبهذه الحدة، وحده دون غيره من الفقهاء، حاشا تلميذه الغزالي، فقد ناله قدرٌ من ذلك، ولعله أصيب به تبعاً لشيخه. 6 - كنت أتمنى أن أقوم بدراسة إحصائية استقصائية لكل الأحاديث التي استشهد بها إمام الحرمين في كتبه كلها، نجمعها كلها في صعيدٍ واحد ثم نُجري الدراسات الآتية: * توزع على دواوين السنة لنرى كم حديثاً منها أخرجه البخاري؟ وكم حديثاً أخرجه مسلم؟ وكم حديثاً أخرجه أبو داود؟ وهكذا. * ثم تُقسم بحسب الصحة أولاً قسمين ما بلغ درجة الصحة والحسن، وما دون ذلك، ثم يقسم ما نزل عن درجة الحسن إلى الضعيف الذي يصلح للاستدلال به في فضائل الأعمال، وإلى ما دون ذلك. * ثم يُنظر في هذا الضعيف هل استدل به وحده، أم استأنس به مع حديث أو قياس؟ * ثم ينظر هل استدل بهذا الضعيف دون غيره من الفقهاء والأئمة؟ أم أن هذه الأحاديث دائرة متداولة في كتب الفقهاء؟ * وننظر أيضاً في أحاديث الخلاف، وما تكلم فيه من أحاديث الخصوم، وكيف ردّها. * وننظر في الأحاديث التي أخذها عليه وعلى الغزالي ابنُ الصلاح والنووي، أو ابن حجر؟ وكم مما أخذه ابنُ الصلاح ردّه عليه النووي أو ابن حجر، وكم مما أخذه النووي ردّه عليه ابنُ حجر أو غيره. كان هذا تصوّرنا لهذا الفصل ولحسم هذه القضية، ولكن لم يسعفنا الوقت ولا الجهد، ولذا سنتناول هذه القضية على نحو آخر فيما يأتي. خُطة هذا الفصل وطريقته: سنسير في هذا الفصل على الخطوات الآتية: أولاً - ذِكْرُ الناقدين والمتحاملين على إمام الحرمين في هذا الجانب. ثانياً - النظر في الأسباب والعلل التي سوّغوا بها ما يقولون. ثالثاً - بيان أن الأوهام الحديثية لا يكاد ينجو منها أحد. رابعاً - ذكر نماذج من كلام إمام الحرمين في نقد أحاديث الخصوم.

أولا - الذين رأيناهم نقدوا إمام الحرمين، وضعفوه في الحديث هم

أولاً - الذين رأيناهم نقدوا إمام الحرمين، وضعفوه في الحديث هم: 1 - السمعاني، أبو سعيد، عبد الكريم بن محمد بن منصور المتوفى سنة 562 هـ. 2 - ياقوت الحموي الرومي البغدادي المتوفى سنة 646 هـ. 3 - الإمام ابن الصلاح المتوفى سنة 643 هـ. 4 - الإمام النووي المتوفى سنة 656 هـ. 5 - شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ. 6 - الإمام الذهبي المتوفى سنة 748 هـ. 7 - الإمام الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852 هـ. فهؤلاء -فيما نعلم- هم الذين صدرت منهم عبارات عالية تُضعِّف إمام الحرمين في الحديث، وإذا وجد غيرهم، فهم لهم تبع، وعنهم ينقلون. ويحسن أن نذكر نماذج لهذه العبارات، ونناقشها، وننظر في مدى صحتها أو بطلانها. ثانياً - عرض لأقوالهم ومناقشتها: * أما السمعاني في (الأنساب) فقد قال -بعد أن ذكر لنا من سمع الإمام منهم الحديث، ومن سمعوه منه- قال: "وكان قليل الرواية للحديث معرضا عنه" (¬1). وهذه العبارة بنص حروفها، وفي نفس سياقها قالها ياقوت في (معجم البلدان) (¬2)، ولم يزيدا على ذلك. وليس فيما قالاه شيء؛ فلم يزعم أحد أن إمام الحرمين كان من المشتغلين بعلم الحديث، وإن كانت العبارة فيها شيء من القسوة والتحامل، فلا يقال لكل من اشتغل بعلوم أخرى غير علم الحديث: إنه معرض عن الحديث. * ولكن الذي يستحق أن يناقش هو ابن الصلاح في مشكل الوسيط تعليقاً على عبارة الغزالي في باب (دفع الصائل): أما جواز الاستسلام، فإن كان الصائل مسلماً محقوناً، فقولان: أحدهما - الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه ¬

_ (¬1) الأنساب: 3/ 386. (¬2) معجم البلدان: 2/ 93.

في وصف الفتن: " كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " اهـ. علق ابن الصلاح على ذلك قائلاً: " ذكر شيخُه (أي إمام الحرمين) أنه حديث صحيح، ولا اعتماد عليه في هذا الشأن، ولم أجده في الكتب الخمسة (¬1) المعتمدة " ا. هـ مشكل الوسيط (ورقة 118 ب) (¬2). ويحسن هنا أن نأتي بعبارة إمام الحرمين بتمامها، حتى نرى كيف اجتزأ منها ابن الصلاح هذه الفقرة، وحكم عليها هذا الحكم، قال إمامنا: " وحاصل المذهب في أصل التمهيد قولان: أحدهما - أن الاستسلام غير جائز؛ فإن المهجة المصول عليها محترمة، والشخص الصائل ظالم ساقط الحرمة؛ فيجب إيثار الذَّب عن المهجة المحترمة؛ ولا يسوغ بذلها لشخص ساقط الحرمة. والقول الثاني - يجوز الاستسلام، ومعتمده الأخبار الصحيحة، منها ما روي عن حذيفة بن اليمان: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ما سيكون من الفتن، فقال حذيفة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أدركني ذلك الزمان؟ فقال: " ادخل بيتك وأخمل ذكرك " فقال: أرأيت لو دخل بيتي؟ فقال: إذا راعك بريق السيف، فاستر وجهك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " وفى بعض الأخبار: " ولتكن خيرَ ابني آدم " عَنَى صلى الله عليه وسلم قابيل وهابيل. وصح عن عثمان رضي الله عنه أنه استسلم يوم الدار، وقال: " لا أحب أن يراق فيّ محِجمة دم ... " (¬3). ونلاحظ أمرين: 1 - أن إمام الحرمين لم يستشهد بحديث واحد، ولم ينسب له الصحة بعينه. 2 - أن الإمام ابن الصلاح حكم على العبارة المجتزأة التي لخصها الغزالي من كلام شيخه ¬

_ (¬1) الكتب الخمسة المعتمدة: هي البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وهذا اصطلاح خاص بابن الصلاح (ر. مقدمة ابن الصلاح: 585). (¬2) هامش الوسيط: 6/ 529. (¬3) نهاية المطلب: الجزء 17 من مخطوطة (هـ) ورقة 120 يمين (تحت الطبع).

هذا الحكم القاسي؛ فنفى صحة الحديث، وقال: لم أجده في الكتب الخمسة المعتمدة، وقال عن إمام الحرمين هذه الكلمة الغليظة: " لا اعتماد عليه في هذا الشأن ". * أما الحافظ ابن حجر، فقد كان أشد عنفاً حيث قال في التلخيص: " هذا الحديث لا أصل له من حديث حذيفة. وإن زعم إمام الحرمين في النهاية أنه صحيح ". ثم اتبع ذلك بنقل كلام ابن الصلاح، فقال: " وقد تعقبه ابن الصلاح، قائلا: لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة، وإمام الحرمين لا يعتمد عليه في هذا الشأن. انتهى" (¬1). * وقبل أن نعلق على هذا الكلام، ونبين ما فيه نورد ما قاله ابن قدامة في المغني عن المسألة نفسها، وعن الحديث نفسه، كذلك ما قاله ابن ضويان في منار السبيل، قال ابن قدامة: " وأما من أُريدت نفسه أو ماله، فلا يجب عليه الدفع لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة: (اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك السيف، فغط وجهك ... وفي لفظٍ: فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، ولأن عثمان رضي الله عنه ترك القتال مع إمكانه، مع إرادتهم نفسه " (¬2). وقال ابن ضويان: " فإن كان ثَمَّ فتنة، لم يجب الدفع عن نفسه، ولا نفس غيره، لقصة عثمان رضي الله عنه، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفتنة: " اجلس في بيتك، فإن خقت أن يبهرك شعاع السيف، فغطِّ وجهك، وفي لفظٍ: فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " (¬3) ا. هـ فهما يسوقان الحديث على نحو سياقة إمام الحرمين، بل إن إمام الحرمين أشار إلى أن ما يستدلّ به مأخوذ من معاني عدة أحاديث، وليس حديثاً واحداً. ... ومما يستحق أن نذكره هنا أن ابن الصلاح وابن حجر قد عقد كل منهما كتابه أصلاً ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير: 4/ 157 كتاب الصيال حديث رقم 2143. (¬2) المغني: 10/ 353. (¬3) منار السبيل 2/ 317.

لأمرٍ لا يتعلق مباشرة بإمام الحرمين، فابن الصلاح يتحدث في مشكل الوسيط للغزالي، وابن حجر يتحدث في تخريج أحاديث الرافعي في الشرح الكبير، فكان كل منهما يترك صاحبَ كتابه ويصعد إلى إمام الحرمين، حقا إن الغزالي تلميذ إمام الحرمين تلقى منه مباشرة، والرافعي وإن كان بينه وبين إمام الحرمين ثلاثة شيوخ في ثلاث طبقات في تفقهه، فهو أيضاً تلميذ إمام الحرمين، ولكن هل هذا كافٍ في أن يصعد كل من ابن الصلاح وابن حجر إلى إمام الحرمين بنقده العنيف وتخطئته دون إشارة إلى صاحب كتابه الذي يعلّق أصلا عليه؟؟ أليس هذا تحاملاً واضحاً!! ... أحقاً أخطأ إمام الحرمين؟؟ بعد هذه الملاحظات ننظر، فنجد الحق في جانب إمام الحرمين، فهذه الألفاظ التي أوردها إمام الحرمين جاءت في أحاديث صحيحة، صححها ابن حجر نفسه، وأما من حيث الرواية عن حذيفة رضي الله عنه، فقد صحت بمعناها عنه، ثم للفقهاء طريقتهم في إيراد الحديث بالمعنى مع الاقتصار على موضع الاستدلال، درجوا على ذلك، ليس عن عجز وقلة معرفة بالحديث، بل رعايةً للاختصار، وتوضيحا للحكم، والتفاتاً إليه، أو بتعبيرٍ آخر، بُعداً عن الحشر والتطويل، وآية ذلك أن المحدثين الفقهاء لم يخرجوا في مؤلفاتهم الفقهية عن هذا المنهج، ومثالهم الواضح الإمام الطحاوي، المحدث الجليل، فمع جلالته في علم الحديث رواية ودراية، تراه في مؤلفاته الفقهية يجتزىء من الحديث بموضع الاستدلال فقط، وغالبا ما يكون بالمعنى، ليدخله في صياغة العبارة وسياقها، بدون قلق أو اضطراب، ومن يتأمل كتابه (مختصر الطحاوي)، في الفقه يجد ما نقوله واضحاً جلياً. ثم بعد ذلك نقول: * روى الحاكم في المستدرك عن حذيفة رضي الله عنه قال: قيل يا أبا عبد الله ما تأمرنا إذا اقتتل المصلون؟ قال: آمرك أن تنظر أقصى بيتٍ من دارك، فتلج فيه، فإن دُخل عليك، فتقول: ها بُؤْ بإثمي وإثمك، فتكون كابن آدم، قال الحاكم:

" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه " (¬1) وسكت عنه الذهبي، ولكن قال الألباني في الإرواء: " هو على شرط مسلم وحده، ففيه الحسين بن حفص لم يخرج له البخاري " (¬2). فهذا هو حديث صحيح عن حذيفة، وإن لم يكن بلفظ " كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " فهو بمعناه، فقوله " فإن دُخل عليك، فتقول: ها بُؤْ بإثمي وإثمك، فتكون كابن آدم " ليس لهذه العبارة معنىً إلا أنه يكون كابن آدم المقتول، لا القاتل، أي عبد الله المقتول، لا القاتل. * وقد روى أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وابن حبان، والبيهقي من حديث أبي موسى نحو حديث حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيّكم، وقطعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل بغي على أحدٍ منكم، فليكن كخير ابني آدم ". أخرجه أبو داود رقم 4259، والترمذي: 2314، وابن ماجه رقم 3961 ووابن حبان: 7/ 579 - 580 رقم 5931، وأحمد: 4/ 408، 416، والبيهقي: 8/ 191 (¬3) فهذا حديث صحيح أيضاً بمعنى حديث حذيفة. * وأخرج أحمد في المسند، من حديث خباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: فإن أدركت ذاك، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " (¬4). ¬

_ (¬1) المستدرك: 4/ 444 - 445. (¬2) الإرواء: 8/ 102. (¬3) وانظر تلخيص الحبير: 4/ 158 حديث رقم 2146، والإرواء: 8/ 102، في تخريج حديث رقم 2451. (¬4) المسند: 5/ 110 ورواه الآجري في الشريعة ص42 - 43، والطبراني في الكبير: رقم 3629 - 3631.

* "ويشهد له حديث جندب بن سفيان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم ... فقال رجل من المسلمين: فكيف نصنع عند ذلك يا رسول الله؟ قال: "ادخلوا بيوتكم واخملوا ذكركم، فقال رجل: أرأيت إن دُخل على أحدنا بيته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتمسك بيده، ولتكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل ... " أخرجه الطبراني في الكبير: 2/ 77 رقم 1724" (¬1). * ومن حديث سعد بن أبي وقاص نحو حديث أبي موسى، وفيه: " فإن دخل عليَّ بيتي، فبسط يده إلي ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم " رواه أحمد: 1/ 185، وأبو داود برقم 4257، والترمذي كتاب الفتن. رقم 2304، وصحيح الترمذي: 1785. * ومن حديث خالد بن عرفطة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا خالد، إنها ستكون بعدي أحداث وفتن واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول، لا القاتل، فافعل " أخرجه أحمد: 5/ 292، والحاكم: 4/ 517 وسكت عنه، كما سكت عنه الذهبي أيضاً، ورواه الطبراني في الكبير: رقم 4099. فهذه مجموعة أحاديث صحيحة (صححها الألباني) في الفتن، فيها معاني وألفاظ ما أورده إمام الحرمين، فحينما قال إمام الحرمين: " والقول الثاني معتمده الأخبار الصحيحة " لم يخطىء، وأقصى ما يمكن أن يقال: " إنه وهم في نسبة هذا اللفظ وجَعْلِه من حديث حذيفة " أما أن تستعمل هذه الألفاظ العالية: - " لا اعتماد عليه في هذا الشأن ". - " زعم أنه صحيح ". - " لا أصل له ". (ولا يخفف من هذا أنه أكمل العبارة بقوله: " لا أصل له من حديث حذيفة "، فلا يقال لا أصل له إلا للباطل المفترى). * وإذا أردت أن تُدرك ما في كلام ابن الصلاح وابن حجر من تحامل، قارنه بكلام ¬

_ (¬1) ر. الإرواء: 8/ 103 - 104.

الألباني في الإرواء الذي قاله حُكماً على عبارة ابن ضويان في منار السبيل، وهي قريبة من عبارة إمام الحرمين، قال ابن ضويان: " فإن كان ثم فتنة، لم يجب الدفع عن نفسه، ولا نفس غيره، لقصة عثمان رضي الله عنه، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفتنة: " اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف، فغطِّ وجهك، وفي لفظٍ، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " ا. هـ. علق الألباني قائلاً: صحيح. وهو من أحاديث جمع من الصحابة رضي الله عنهم. وذكر خمسة أحاديث بشواهدها عن جمع من الصحابة، وليس فيها حديث واحد باللفظ نفسه، وبالسياقة عينها التي ساقها عليه ابن ضويان، إنما هو المعنى، والألفاظ في جملتها (¬1). والعجب الأكبر من الحافظ ابن حجر، فبعد أن قال: " وإن زعم إمام الحرمين في النهاية أنه صحيح " والزعم مطية الكذب كما هو معروف، أورد الأحاديث الصحيحة بمعنى وألفاظ ما جاء به إمام الحرمين، وإن لم يورد حديث حذيفة الذي رواه الحاكم من أكثر من طريق (¬2). ولعل أوضح ما يشهد لنا قولُ صاحب البدر المنير في خلاصته بعدما حكى معنى قول ابن الصلاح: لم أجده في الكتب الخمسة، والعجب من إمام الحرمين كيف قال: هذا حديث صحيح. قال صاحب الخلاصة: قلت: لكنه يروى من رواية جمع من الصحابة كما ذكرتهم في الأصل. (أي البدر المنير) فها هو الحافظ سراج الدين بن الملقن صاحب البدر، والخلاصة، يستدرك على ابن الصلاح، ويرد قوله، ويستغربه. ... * وربما كان أبلغ مما سبق دليلاً على التحامل ما جاء من ابن الصلاح وابن حجر تعليقاً على ما ورد في النهاية والوسيط، في مسألة خطبة الجمعة، وهل يجوز قطعها ¬

_ (¬1) الإرواء: 8/ 100 - 104 حديث رقم 2451. (¬2) تلخيص الحبير: 4/ 157 - 158 حديث رقم 2145، 2146.

بكلامٍ من غيرها، فقد استدل إمام الحرمين على جواز ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كلّم قتلةَ ابن أبي الحُقَيْق، أبي رافع اليهودي، حينما وافَوْه يوم الجمعة وهو على المنبر، في القصة المعروفة ... " جاء في النهاية: ... كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي الحُقَيْق، ووقع كذلك في بعض نسخ الوسيط. فانظر ماذا قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط؟ قال: " قوله: وسأل ابنَ أبي الحقيق عن كيفية القتل بعد قفولهم من الجهاد " هكذا وقع في البسيط، وهو من السهو الفاحش، وقد غُيّر في بعض النسخ إلى صوابه، وصوابه ما قاله الإمام الشافعي: " وسأل الذين قتلوا ابنَ أبي الحقيق " ا. هـ بنصه من مشكل الوسيط (1/ورقة 142 - أ، ب). أما ابن حجر فقد عقد في التلخيص تنبيهاً قال فيه: أورده إمام الحرمين والغزالي بلفظٍ عجيب: قال: " سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنَ أبي الحقيق عن كيفية القتل " وهو غلط فاحش، وأعجبُ منه أن إمام الحرمين قال: صح ذلك. ا. هـ كلام ابن حجر. هكذا وصف بفحش الغلط، وعجبٌ من قول الإمام صح ذلك!! ثم استدرك الحافظ على نفسه، فاستأنف كلامه قائلاً: " ويجوز أن يكون سقط من النسخة لفظ (قتلة) قبل ابن أبي الحُقيق. " ا. هـ بنصه. قلت: ألا يشهد ذلك بالتحامل ومحاولة تلمس الخطأ للإمام!! فهل يجوز في عقل عاقل أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم (المقتولَ)؟ وكيف يرد هذا بخاطرٍ؟ كيف يُسال المقتول عن كيفية القتل؟ إن الأمر أقرب وأيسر، وهو كما قال الحافظ نفسه: سقط لفظ (قَتَلة) قبل ابن أبي الحقيق. هكذا أدرك الحافظ الصواب، ولكن بعد أن قسا في قوله، وأغلظ في لفظه، فنسب الإمام إلى فُحش الخطأ، وعجب من قوله: صحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ابن أبي الحقيق.

وقد ظهر الوسيط محقَّقاً، وَوُجِدت نسختان بغير سقط للفظة (قتلة) وإن كان ابن الصلاح لم يعجبه ذلك، فقال: وقد غُيِّر هذا في بعض النسخ. فكأن ترك أو إسقاط لفظ (قتلة) كان عن قصدٍ وعمد!! كيف هذا؟ الله أعلم. ولعل هذا هو الذي جعل موفق الدين الحموي في (شرح مشكلات الوسيط) يستجيب لهذا الكلام، ويتلمس له الصواب، فيقول: " يريد الغزالي أنه سأل قتلة ابن أبي الحقيق عن كيفية قتله، وإنما أهمل الشيخ ذكر القتلة لاشتهاره عند نقلة الحديث، وصار هذا من قبيل حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى: (واسأل القرية)، وبه خرج الجواب " ا. هـ بنصه شرح مشكلات الوسيط (ورقة 57/أ، ب). وهو كما ترى دفاع غير مستساغ ولا مقبول، وإنما هو من باب مجاراة الخصم، والله أعلم. والصواب، هو ما عاد إليه الحافظ ابن حجر، من أن لفظة (قتلة) سقطت من الناسخ، وتعاقب عليها النساخ، وقد وُجدت نسختان من الوسيط بغير هذا السقط كما ألمعنا إلى ذلك آنفاً. ولكي تُدرك أننا مصيبين في عدّ هذا تحاملاً من ابن الصلاح وابن حجر قارن هذا بمنهج إمام الحرمين حين يجد الخطأ في كلام مخالفيه فاحشاً، يردّه عنهم، ولا يقبل نسبته إليهم، بل يحمل ذلك على النقلة، أو النساخ، أو سوء الفهم، فمن ذلك قوله: " وقد نُقل عن أبي هاشم أنه كان لا يحرم السجود بين يدي الصنم، ويقول: المحرّمُ القصد) فيرفض نسبة هذا القول إلى أبي هاشم المعتزلي -والمعتزلة خصومه- ويقول: " وهذا لم أطلع عليه من مصنفات الرجل، مع طول بحثي عنها " ثم يعرض رأي أبي هاشم صحيحاً كما رآه وحققه، ثم يبدأ في الرد عليه، وبيان فساده، فجمع أنه لا يقر رأي أبي هاشم، فهو لا يرضى في الوقت نفسه أن يزيَّف عليه، وأن يتزيد النقلة عليه بهذه الصورة.

فإذا عرفنا أن أبا هاشم هذا من أئمة الاعتزال، وأن إمام الحرمين لقي الأذى من المعتزلة، وأُخرج وأوذي مع نحو أربعمائة من أهل السنة، اضطروا للهجرة من خراسان بسبب تسلط هؤلاء عليهم، فيما هو معروف بمحنة أهل السنة. إذا عرفنا ذلك، أدركنا أيَّ درجة من الإنصاف كان عليها إمامنا. ومن ذلك ما قاله عند المخاوضة في بعض مسائل الحج من كتابه (نهاية المطلب)، وقد رئي لأحد رفعاء المذهب كلاماً لا يستقيم على أصول المذهب، نجده يشير إليه، ولا ينقله في كتابه، بل يقول: " .. لا معنى لذكره وقد يحمل ما في الكلام من الخبط على خلل النسخة ". فهذا منهج الإمام يرى الخطأ ماثلاً أمامه، ولكنه لا ينسبه إلى صاحب الكتاب فِعْلَ المتشهي إلى التخطئة، بل يدعو إلى حمل الخطأ على الناسخ، أو الناقل، وهذا قاله صراحة في كتابه (البرهان): " فالأولى أن يُوَّرك بالخطأ على النقلة ". هكذا!! لا أن يرى خطأ الناسخ واضحاً، فيحمله على إمامنا، " ويجعله من فاحش الخطأ "، و"يعجب من قول إمام الحرمين: صح هذا"!! وكيف يصح في عقل عاقل أن يُصحح إمامُ الحرمين تكليم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقتول؟!! ... * ونموذج آخر: كان المثال الذي قدمناه مع ابن الصلاح، وابن حجر، أما هذا النموذج، فمع ابن الصلاح، والنووي، فقد وقع في (الوسيط) وفي بعض نسخ (نهاية المطلب): " لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك ... " والصواب أن أم سليم هي أم أنس لا جدته، وقد علق على هذا الخطأ ثلاثة من الأئمة الذين لهم مؤلفات عن (الوسيط)، وهم الإمام ابن الصلاح، والإمام النووي، والإمام بن أبي الدم، وقد رأينا أن نعرض تعليقاتهم بنصها لما يأتي: أ- أنها انتقلت من (الوسيط) إلى تعقب (النهاية) وصاحبها. ب- أنها تكشف عن مناهج ثلاثة في تفسير هذا الخطأ وتعليله. ولنبدأ بابن الصلاح، قال: "قوله: (لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك).

هذا غلط تسلسل وتوارد عليه أبو بكر الصيدلاني، ثم إمام الحرمين، ثم تلميذه صاحبنا (يعني الغزالي) ثم تلميذه محمد بن يحيى، فلا خلاف بين أهل الحديث، وأهل المعرفة بالصحابة، وبالأنساب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، وفي الصحيحين الإفصاح بذلك " ثم استمر يعلل هذا الخطأ من هؤلاء الأئمة، ويفسره، ويبين سببه، فقال: "ولكن من أعرض عن علم الحديث، مع ارتباط العلوم به، وقع في أمثال هذا، وما هو أصعب منه من التمسك بالحديث الضعيف، واطراح الصحيح، وإن ارتفعت في علمه منزلته، وأسأل الله عفوه وفضله، آمين" ا. هـ بنصه (مشكل الوسيط 1/ 50 ب - بهامش الوسيط: 1/ 342). أما الإمام النووي رضي الله عنه، فقد قال: " قوله (لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك ... إلى آخره) صوابه: أم أنس، فهي أمه بلا خلاف بين العلماء من الطوائف، لا جدته، وقد قال بأنه جدته أيضاً الصيدلاني، ثم إمام الحرمين، ثم الروياني، ثم محمد بن يحيى صاحب الغزالي، وهو غلط فاحش .... وأم سليم: سهلة، وقيل: رميثة، وقيل غير ذلك، ا. هـ بنصه (ر. التنقيح في شرح الوسيط بهامش الوسيط: 1/ 343). وأما ابن أبي الدم، فقد قال: " ... الصواب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، وهي امرأة أبي طلحة، ذكره علماء الحديث وغيرهم، منهم أبو داود في سننه، وهو كذلك في النسخ الصحيحة من (النهاية)، وقد يوجد في بعض منها مثل ما في (الوسيط) وهو غلطٌ من النساخ" (ر. إيضاح الأغاليط الموجودة بالوسيط: 3 أ- بهامش الوسيط: 1/ 342). قلت (عبد العظيم): هكذا رأينا اختلاف المناهج الثلاثة في تفسير هذا الخطأ: أ- فابن الصلاح يفسر ذلك بالإعراض عن علم الحديث، ويجعله سبب الوقوع في هذا الخطأ، ثم راح يعرض بأخطاء "أصعب من ذلك الخطأ، من التمسك بالحديث الضعيف: واطراح الصحيح" ويعني هؤلاء الأئمة " الذين ارتفعت منزلتهم في علومهم " الصيدلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، ومحمد بن يحيى.

ويرى ابن الصلاح أن هذا ذنب وإثم، ظهر ذلك من ختام تعليقه هذا بقوله: " وأسأل الله عفوه وفضله، آمين ". ب- وأما الإمام النووي، فقد اكتفى بقوله: " وهو غلط فاحش " بعد أن بين تسلسله عند الأئمة الذين ذكرهم الغزالي، وزاد عليهم (الإمام الروياني). جـ- وأما الإمام ابن أبي الدم، فقد ذكر أنه في بعض نسخ النهاية، بل في القليل من نسخها، كما يفهم من عبارته التي نقلناها بنصها آنفاً (ووقع لي نسخة صحيحة من النهاية). ثم زاد، فبرأ إمامنا من هذا الخطأ، وكذلك الغزالي، وجعل هذا من غلط النساخ. وأقول ثانية: لقد ظهر لي تحامل ابن الصلاح -وغيره- على إمام الحرمين، وعلى الغزالي، رأيت ذلك في كثير من تعقباته الحديثية، حتى إنه يدفعه التحامل إلى الوقوع في بعض الأخطاء، التي تعقبه في بعضها الإمام النووي، وأثبت أن الصواب مع إمام الحرمين، والغزالي. * وهاك مثالاً آخر من كلام الحافظ ابن حجر: جاء في كتاب الوصايا عند الكلام على من تصح له الوصية - قولُ إمام الحرمين تعليقاً على حديث: " لا وصية لقاتل ": وهذا الحديث ليس على الرتبة العالية في الصحة، والصحيح: " لا وصية لوارث " ا. هـ عقب الحافظ في التلخيص قائلاً: " وأما قول إمام الحرمين: ليس هذا الحديث في الرتبة العالية من الصحة، فعجيب، فإنه ليس له في أصل الصحة مدخل ... " (¬1). وواضح أن إمام الحرمين لا يعني (بالصحة) المعنى المصطلح عليه المعروف لدى علماء الحديث، وإلا لو كان يعني ذلك، لقبل الحديث، ولما وسعه ردّه، فإن ¬

_ (¬1) ر. التلخيص: 3/ 197.

الأحاديث الصحيحة -كما هو معلوم- متفاوتة في درجة الصحة، ومعلوم أيضاً أن أدنى درجة في الصحة تحكم للحديث بالقبول. فإذا ردّه إمامُ الحرمين، تعيّن على من يبغي الإنصاف أن يفسر كلام الإمام في ضوء هذا الردّ للحديث. ومثل الحافظ ابن حجر، وهو من أعلام المذهب، لا يغيب عنه ما قاله إمام الحرمين في البرهان من أن معيار القبول والرد للأحاديث " هو ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، فإذا صادفناه، لزمناه، وتركنا وراءه المحدثين يتقطعون في وضع ألقاب، وترتيب أبواب " (¬1). فالإمام لا يُعنى بالألقاب والمصطلحات الحديثية، وربما كانت مثل هذه العبارات سبباً في هذه الجفوة بينه وبين المحدّثين، وهي التي جعلتهم، يشتدون عليه، ويخطِّئونه. * والإمام الذهبي أيضاً: نعرض هنا لما قاله الإمام الذهبي في ترجمة إمام الحرمين في (سير أعلام النبلاء: 18/ 471)، فقد قال: " قلت: كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب، وقوة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به؛ لا متناً ولا إسناداً؛ ذكر في كتاب (البرهان) حديث معاذ في القياس، فقال: هو مدون في الصحاح متفق على صحته (¬2). قلت: بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة، عن رجالٍ من أهل حمص؛ عن معاذ، فإسناده صالح " ا. هـ كلام الإمام الذهبي. هكذا يلقيها الإمام الذهبي تهمة عريضة: " لا يدري الحديث لا متناً ولا إسناداً "، فإذا أقام دليلاً على هذه التهمة، نجده يقدم حديث معاذ، وقولَ إمام الحرمين " هو مدون في الصحاح " فهل هذا يصلح دليلاً على أن إمام الحرمين لا يدري الحديث لا متناً ولا إسناداً؟؟ ¬

_ (¬1) ر. البرهان في أصول الفقه: فقرة رقم 593. (¬2) ر. البرهان: فقرة 720.

وهل ما قاله الذهبي في الحديث أثبت وأقوم وأصح مما قاله فيه إمام الحرمين؟ لقد قال إمام الحرمين عن الحديث: " هو مدوّن في الصحاح " وهو كذلك، فقد رواه " أبو داود "، و" الترمذي " وهما من أصحاب الصحاح الستة. وقال متفق على صحته، وهو لا يعني بهذا المصطلح الحديثي " متفق عليه بين البخاري ومسلم " ولا اصطلاح " صاحب المنتقى " ما اتفق عليه البخاري ومسلم وأحمد، فمن يقرأ النص كاملاً في البرهان يدرك أنه يقصد بالاتفاق تلقي علماء الأصول له بالقبول. فماذا قال الذهبي عن الحديث؟ قال: " إن الحارث بن عمرو فيه جهالة ". وهذا الكلام لا يسلم للذهبي، فقد تعقبه الشيخ شعيب الأرناؤوط بقوله: " ممن مال إلى القول بصحة هذا الحديث أبو بكر الرازي الجصاص، وأبو بكر بن العربي، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وقالوا: الحارث بن عمرو ليس بمجهول العين، لأن شعبة بن الحجاج يقول عنه: إنه ابن أخي المغيرة بن شعبة، ولا بمجهول الوصف؛ لأنه من كبار التابعين في طبقة شيوخ أبي عون الثقفي المتوفى سنة 116 هـ. ولم ينقل أهل الشأن جرحاً مفسراً في حكمه، ولا حاجة في الحكم بصحة خبر التابعي الكبير إلى أن ينقل توثيقه عن أهل طبقته، بل يكفي في عدالته وقبول روايته ألا يثبت فيه جرح مفسّر، عن أهل الشأن؛ لما ثبت من بالغ الفحص عن المجروحين من رجال تلك الطبقة؛ فمن لم يثبت فيه جرح مؤثر منهم، فهو مقبول الرواية. والشيوخ الذين روى عنهم هم من أصحاب معاذ، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهولاً، ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة، ولا يُدخله ذلك في حيز الجهالة، وإنما يدخل في المجهولات إذا كان واحداً، فيقال: حدثني رجل أو إنسان. وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين، والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى. وقد خرج الإمام البخاري الذي شرط الصحبة حديث عروة البارقي: "سمعت

الحيَّ يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات. وقال مالك في القسامة: أخبرني رجل من كبراء قومه، وفي الصحيح عن الزهري: حدثني رجال عن أبي هريرة: " من صلى على جنازة، فله قيراط ". وانظر الفقيه والمتفقه: 1/ 188، 190، وإعلام الموقعين: 1/ 202. اهـ كلام الشيخ شعيب الأرنؤوط بنصه (¬1). وانظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 552. فهذا اتهام الذهبي ودليله، وما قاله أهل الصناعة في هذا الدليل. ولكنا نريد أن نؤكد ما قلناه من أن إمام الحرمين لا يعني بقوله: " إنه مدون في الصحاح " إنه في الصحيحين، وأن (الصحاح) يطلق على الكتب الستة، كان ذلك وما زال. فمن ذلك قول محدث العصر الشيخ أحمد شاكر في مقدمته الماتعة لسنن الترمذي، وهو يتحدث عن سبق المسلمين إلى صناعة الفهارس، قال: " وهذه كتب رجال الحديث أكثرها وضعت كتباً على معنى الفهارس، فإنك تجدهم يذكرون الراوي المترجم، ويذكرون أين روايته من الكتب الستة، خصوصاً فيما صنع لتراجم الرواة في الصحاح الستة أو السبعة " انتهى بنصه (¬2). فهل يبقى لاتهام الذهبي سندٌ بعد هذا. * وشيخ الإسلام ابن تيمية: لقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في إمام الحرمين، وعلمه بالحديث في أكثر من موضع، في أكثر من كتاب من كتبه، وسنكتفي منها بموضعين: الأول - جاء في كتاب (الفتاوى الكبرى): " ... ولم يكن الواحد من هؤلاء -يعني إمام الحرمين، والغزالي، وابن الخطيب- يعرف البخاري ومسلماً، وأحاديثهما ¬

_ (¬1) ر. تعليقات الشيخ شعيب على سير أعلام النبلاء: 18/ 472. (¬2) مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي ص 55.

إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر -عند أهل العلم بالحديث- وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك؛ ففيها عجائب" (¬1). والموضع الثاني -في الفتاوى- قال: "إن أبا المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه كان قليل المعرفة بالآثار النبوية، ولعله لم يطالع الموطأ بحال، حتى يعلم ما فيه؛ فإنه لم يكن له بالصحيحين: البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، وأمثال هذه السنن علمٌ أصلاً، فكيف بالموطأ ونحوه، وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني" (¬2). فنحن أمام قولٍ صريح واضح مفصل يتهم إمام الحرمين بأنه كان لا يراجع كتب الحديث، وكان اعتماده على سنن الدارقطني، ولم ير سنن أبي داود عمدة الأحكام، ولا غيره من الكتب الستة. وربما كان دفع هذا الكلام أيسر من سابقه، وذلك بأكثر من دليل، منها: 1 - إن إمام الحرمين استدل بأكثر من حديث، وعزاه صراحة إلى أبي داود، مثل حديث الفأرة التي ماتت في السمن، فقد قال: رواه أبو داود في سننه، وكان كما قال، وتكرر هذا مراراً. 2 - يورد أحاديث كثيرة مستشهداً بها، يرويها أبو داود وغيره، وعند مراجعة لفظ الحديث نجد أن اللفظ الذي اختاره الإمام وأورده هو لفظ أبي داود، مثل حديث خزيمة بن ثابت في المسح على الخفين، وحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه. وحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث " فقد رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ولم يورد أحدهم لفظَ (عنه) إلا أبو داود. حقاً رواه مسلم بلفظ ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى: جمع عبد الرحمن بن قاسم، طبعة الملك خالد: 4/ 71، 72. (¬2) الفتاوى الكبرى، في ستة أجزاء، تحقيق عبد القادر عطا، القاهرة، دار الريان للتراث، 1408 هـ: ج 6 ص 166.

عنه أيضاً، وسواء كان إمام الحرمين أخذه عن مسلمٍ أو عن أبي داود، فهذا ينفي أشد النفي القول بأنه لا علم له بالصحيحين، ولا بأبي داود، ولا بأصحاب السنن. 3 - بل مما يشهد بحفظه لسنن أبي داود أو على الأقل مراجعته لها استشهاده بقول أبي داود في الحديث، وردّه لأحاديث الخصوم بقول أبي داود فيها. فعندما ردّ قول الأحناف بجواز إخراج الدقيق في صدقة الفطر، مستدلين بحديث أبي سعيد الخدري: وفيه: " أو صاعاً من دقيق ". يرد إمام الحرمين قائلاً: " قلنا: قال أبو داود: زاده سفيان من عند نفسه مذهباً، فأُنكر عليه، فتركه من الحديث " وسفيان هو سفيان بن عيينة. فهذا من إمام الحرمين شاهد صدق على حفظه لأبي داود. وارجع إلى أبي داود، لترى أن الأمر كما قال إمام الحرمين، بشيء من التصرف. 4 - وربما كان أبلغ ردّ لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وإبطالٍ له من أساسه، هو حديث أبيض بن حمال الذي استشهد به إمام الحرمين في إحياء الموات، وفيه أن أبيض استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحَ مأرب، فأراد أن يقطعه إياه، ويروى: فأقطعه، فقيل: إنه كالماء العِدّ، قال: " فلا إذاً ". هذا الحديث من رواية أبي داود والترمذي، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، والدارقطني. فانظر بأي لفظٍ رواه إمام الحرمين، لقد اعتمد إمام الحرمين في روايته لفظ هذه الدواوين جميعاً، ولم يعتمد لفظَ الدارقطني. فهل يصح بعد ذلك القول: إنه لم يكن يعرف إلا سنن الدارقطني؟ أم يصح لنا أن نقلب القضية، ونقول: إنه كان يعرف كل كتب السنة إلا سنن الدارقطني؟ كلا لن تقول هذا؛ فهذه المبالغات لا مجال لها في البحث العلمي المنصف النزيه، المتجرد عن العاطفة. بل يكفينا أننا أسقطنا بهذا الدليل القاطع القول بأنه لم يكن يعرف إلا سنن الدارقطني.

وهذا يدعونا أن نكرر هنا ما قلناه مراراً من أن تاريخنا الفكري -مثل تاريخنا السياسي- في حاجة إلى مراجعة، وإعاد قراءة، تقوم على تحليل نصوص الأئمة، وقراءة آثارهم، والحكم عليهم من داخلها، ونبذ هذه الأحكام العشوائية، التي يقولها الخصوم بعضهم في بعض، ويتناقلها الناس، وتشيع، وتغطي على الأعين والبصائر، وتصبح حقائق، وهي محض زيف وهوى. بابةٌ أخرى: لم يكتف شيخ الإسلام ابن تيمية بتضعيف إمام الحرمين في الحديث، بل تعرض لمنزلته في الفقه، وفي المذهب الشافعي، فأزرى به، وحطَّ عليه، وجعله لا شأن له في المذهب، ولا وزن له بين علماء الشافعية، وذلك عندما قال: " ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي فإذا لم يسوّغ أصحابهم أن يُعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه، كيف يكون حالهم في غير هذا، وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يُتخذ إماماً في مسألة واحدة من مسائل واحدة من مسائل الفروع، فكيف يُتخذ إماماً في أصول الدين؟ مع العلم بأنه إنما نبل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة. وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقلٌ جمعه، أو بحث تفطن له، فلا يُجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه، فكيف (بالكلام) الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بالشرك بالله ذنب أعظم منه " (¬1). وكنا نود ألا تدفع الخصومة مع الأشاعرة والمؤِّولة شيخ الإسلام إلى الدخول في هذا الباب، وأن يقصرها على الجانب الكلامي. فشيخ الإسلام بهذا أنكر الشمس في رابعة النهار، فالشافعية يحلون إمام الحرمين بالمحل الأعظم، ومدار فقههم على ما قاله إمام الحرمين، ويكفي أنهم يجميع طبقاتهم منذ وفاة إمام الحرمين لا يذكرونه في كتبهم إلا بـ (الإمام) مطلقاً، فحيثما ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى، القاهرة، دار الريان، 1408 هـ (في ستة أجزاء) جزء 6 ص 616.

وجدتَ: " قال الإمام "، أو " وهذا ما حكي عن الإمام " ونحو هذا، فاعلم أن (الإمام) هو إمام الحرمين. ولا أدري كيف ساغ لشيخ الإسلام وهو من هو معرفةً بعلوم الأمة، ومنزلة الأئمة، كيف ساغ أن يقول هذا عن إمام الحرمين، وهو صاحب (البرهان في أصول الفقه) الذي لم يؤلف في الإسلام مثله؟ إن من يؤصل للفقه ويضع له قوانين الاجتهاد، وأصول الاستنباط، في (البرهان)، (والتلخيص) و (الورقات)، كيف يقال عنه: " غايته من مذهب الشافعي نقلٌ جمعه "؟!! كيف؟ وكتابه (البرهان) أحد الأعمدة الأربعة التي قال عنها ابن خلدون: قام عليها علم أصول الفقه، بل هو أول كتاب لأهل السنة في الأصول بعد رسالة الشافعي. وها هي نصوص إمام الحرمين دائرة في كتب الشافعية، لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة من أي كتاب، أفمن كان بمثل هذه المنزلة يقال فيه: " اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يتخذ إماماً في مسألة واحدة من مسائل الفروع "؟!! لا أريد أن أسترسل في بيان منزلة إمام الحرمين في الفقه، فتوضيح الواضح من أشكل المشكلات، ولعل في الفصل الذي مرّ آنفاً عن منزلة النهاية غناء ومقنعٌ. بالإضافة إلى كتابنا بعنوان: (فقه إمام الحرمين-خصائصه-وأثره-ومنزلته). أما كلام شيخ الإسلام عن أصحاب الوجوه في المذهب وأن إمام الحرمين ومثله الغزالي ومن نحا نحوهما ليسو من أصحاب الوجوه، فهذا أمر آخر لا نظن أنه يغيب عن شيخ الإسلام، فأصحاب الوجوه هم الذين فرعوا المسائل على نصوص الشافعي، واستنبطوا أحكامها على أصوله، ومعلوم لكل من له دراية بالفقه أن ذلك أمرٌ له نهاية، تلك طبيعة الأشياء، وقد كان في القرنين السابقين على إمام الحرمين فُسحة كافية لتشقيق المسائل وتفريعها، ولذلك لم يوجد مجال لاستنباط، وتفريع جديد، منذ انتهى القرن الرابع الهجري، أي كان الأئمة قد فرغوا من التفريع والتخريج قبل أن يولد إمام الحرمين.

ومن العجيب الطريف الذي يدفع هذا الكلام عن إمام الحرمين هو كلام شيخ الإسلام نفسه، فقد أحلَّ ابنَ سُريج بالمحل الأسمى من الفقه والمذهب، وسماه الشافعي الثاني، وهو كما قال. فماذا يقول شيخ الإسلام إذا قلنا له: ليس لابن سريج وجه في المذهب؟ هل سيعود فيحط عليه ويزري به، ويقول: إنه مثل إمام الحرمين ليس من أصحاب الوجوه؟؟!! وظني بل أكاد أجزم أن هذا الكلام مزيف على شيخ الإسلام بن تيمية، فمن كان في مثل مكانه ومكانته لا يغيب عنه هذا الأمر في نشأة المذهب الشافعي وتطوره، ومعنى الوجوه وأصحابها. ثم إن شيخ الإسلام معروف بالإنصاف والاعتدال مع الخصوم، فمع حِدّته وغَضْبته وعنفه أحياناً، لكنه أبداً لا يسلب خصومه محاسنَهم، ولا يُنكر علمَهم، ولا يبهتهم ويبخسهم حقهم. كل هذا يجعلني أقول: إن هذا الكلام لفَّقه بعضُ الصغار من المتعصبة، وأدخلوه في كلام شيخ الإسلام إرضاء لنزعاتهم، وأسلوب هذه الفقرات، وصياغتها ينطق بأنها ليست من كلام شيخ الإسلام وأنها مزيفة عليه، وغريبة عن نهجه وخلقه. وهذا ليس بغريب، فقد سبق أن زيف مزيفون مثل هذا على الإمام الغزالي، وأدخلوا في كلامه جملاً مقيتة فيها إساءة إلى الإمام أبي حنيفة. كما زيفوا على إمام الحرمين ذلك الكتيب القبيح المسمى (مغيث الخلق في اتباع المذهب الأحق) بما فيه من خزعبلات وترهات ضد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان. وقد تَجمَّع لدى العبد الفقير إلى لطف مولاه أدلة كافية لدحض هذه الفرية، وإظهار براءة إمام الحرمين منها. ولم أصل إلى كلام شيخ الإسلام هذا في طبعة الفتاوى التي جمعها ابنُ قاسم، وآمل ألاّ يوجد فيها -فهي النسخة المعتمدة- حتى يبرأ شيخ الإسلام من هذا الكلام من أقصر طريق.

ثالثا - الأوهام الحديثية لا يكاد يخلو منها أحد

ثالثاً - الأوهام الحديثية لا يكاد يخلو منها أحد: لم يخل متعقِّب ممن تعقب إمام الحرمين من متعقِّب تعقَّبه وخطّأه في تعقبه، فمن ذلك: * تعقب ابنُ الصلاح في مشكل الوسيط حديثَ سلمان عن شرب ابن الزبير من طست كان فيه شيء من دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لم أجد لهذا الحديث أصلاً بالكلية. " قال الحافظ ابنُ حجر: " كذا قال: وهو متعقَّب ". (ر. التلخيص: ح رقم 18) * حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لأسماء -عن دم الحيض-: " حتيه، ثم اقرصيه. ثم اغسليه بالماء ". قال الحافظ ابن حجر: " زعم النووي في شرح المهذب أن الشافعي روى في الأم أن أسماء هي السائلة. بإسناد ضعيف. وهذا خطأ، بل إسناده في غاية الصحة. ثم قال: " وكأن النووي قلد في ذلك ابنَ الصلاح. " (ر. التلخيص. حديث رقم 26) * ويتعقب ابنُ حجر النوويَّ في عزوه حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه ببئر معونة، ثم ترك " حيث عزاه إلى المستدرك للحاكم، قال ابن حجر: " وليس هو فيه، وإنما أورده الحاكم وصححه في جزء له مفرد في القنوت ". ثم أشار ابن حجر -في ذكاء- إلى سبب وهم النووي، فقال: " ونقل البيهقي تصحيحه عن الحاكم؛ فظن الشيخ أنه في المستدرك " (¬1) * في حديث المسح على الخفين: " واستيعاب الكل ليس بسنة، مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على خفيه خطوطاً من الماء، قال ابن الصلاح: تبع فيه الإمامَ، فإنه قال في النهاية: إنه صحيح، وليس بصحيح، وليس له أصل في كتب الحديث ". ا. هـ ¬

_ (¬1) ر. التلخيص: 1/ 245 حديث رقم 370.

قال الحافظ: " وفيما قال نظر، فقد رواه الطبراني في الأوسط، وهو في بعض نسخ ابن ماجه دون بعض - ثم قال: إسناده ضعيف جداً " (بتصرف من التلخيص. حديث رقم 218.). * في حديث استحباب التصدق بدينار للواطىء في إقبال الحيض، وفي إدباره بنصف دينار، في كلام الحافظ المفصل الوافي عن الحديث جاء قوله: " وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وهو الصواب ... وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في شرح المهذب والتنقيح، والخلاصة أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم، وتبع النووي في بعض ذلك ابنَ الصلاح " انتهى ملخصاً من كلام الحافظ (¬1) (ر. التلخيص. حديث رقم 227). ويعنينا من هذا أن ابن الصلاح والنووي -على جلالتهما- لم يسلما من تعقب ابن حجر. * وفي أحاديث الوتر يتعقب ابنُ الصلاح إمام الحرمين في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة واحدة، فيقول ابن الصلاح: " لا نعلم في روايات الوتر -مع كثرتها- أنه عليه الصلاة والسلام أوتر بركعة واحدة فحسب ". ويتعقب ابنَ الصلاح الحافظُ بقوله: " قد روى ابنُ حبان من طريق كريب، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة " (¬2). * ومرة أخرى يتعقب ابنُ حجر ابنَ الصلاح، وذلك في حديث السلام في ختام الصلاة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله ... " وأنكر ابنُ الصلاحِ الرواية التي فيها: " وبركاته " وقال: " هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث " فتعقبه الحافظ بقوله: هذه الزيادة في صحيح ابن حبان، وعند ابن ماجه أيضاً، وكذا عند أبي داود، فيتعجب من ابن الصلاح، وإنكارها. انتهى كلام الحافظ ابن حجر بتصرف (¬3). ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير: 1/ 164 حديث 227. (¬2) تلخيص الحبير: 2/ 15 حديث 515. (¬3) ر. التلخيص: 1/ 271 حديث رقم 420.

* في عبارة واحدة يتعقب الحافظ ابنُ حجر الطحاويَّ والنووي؛ فقد أنكر الطحاوي أن تكون جلسة الاستراحة في حديث أبي حميد الساعدي الذي وصف فيه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ بعد أن أورد الحديث في تلخيص الحبير: " وهي كما تراها فيه " (¬1). ثم استطرد الحافظ يتعقب النووي، فقال: " وأنكر النووي أن تكون في حديث المسيء صلاته، وهي في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته عند البخاري في كتاب الاستئذان " (¬2) ا. هـ * وقع في (المهذب) رواية في دعاء الرفع من الركوع، بلفظ: " أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد، كلنا لك عبد ... " بإسقاط الألف من (أحق)، وإسقاط الواو من (وكلنا لك عبد). وقد تعقبه النووي بقوله: " إن الذي عند المحدثين بإثباتهما ". فتعقّب الحافظُ النوويَّ بقول: " هو في سنن النسائي بحذفهما " (¬3). فكما ترى يغيب عن النووي رواية النسائي بحذف (الألف) و (الواو) فينكرها على صاحب المهذب، فيتعقبه الحافظ. * حديث: " مانع الزكاة في النار " قال ابن الصلاح: " لم أجد له أصلاً " وتعقبه الحافظ بقوله: " وهذا عجيب من ابن الصلاح؛ فقد رواه الطبراني في الصغير فيمن اسمه محمد " (¬4). * علق ابنُ الصلاح على قول الإمام الغزالي:، ولو توحشت إنسية، ولم يمكن ردّها، فهو كالصيد يذبح في كل موضع، وكذا لو تنكس بعيرٌ في بئر وخيف هلاكه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " لو طعنت في خاصرتها، لحلت لك "، فخصص ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير: 1/ 259 حديث 390. (¬2) تلخيص الحبير: 1/ 259 حديث 390. (¬3) ر. التلخيص: 1/ 244 حديث 367. (¬4) ر. التلخيص: 2/ 149 حديث 811.

المراوزة الخاصرةَ ليكون الجرح مذفِّفاً، فلا يجوز جرح آخر، وإن كان يفضي إلى الموت". علق ابن الصلاح على ذلك بقوله: " هذا الذي ذكره من الحديث اختصار من الحديث الذي استدل به في ذلك شيخُه إمام الحرمين ... وأخطأ في قوله: " ولو طعنت في خاصرتها "، وإنما قال: " في فخذها " ... ؛ فلا يثبت -والحالة هذه- ما رامه المراوزة من تخصيص الخاصرة وأشباهها .. " ا. هـ كلام ابن الصلاح. وقد تعقب الحافظ ابن حجر ابنَ الصلاح، فقال: " أنكر ابنُ الصلاح على الغزالي لفظَ (الخاصرة) .. ولا إنكار؛ فقد رواه الحافظ أبو موسى في مسند أبي العُشَراء له بلفظ: " لو طعنت في فخذها أو شاكلتها، وذكرت اسمَ الله، لأجزأ عنك "، والشاكلة الخاصرة ". ا. هـ كلام الحافظ (¬1). فها هو ابن الصلاح -على منزلته في علم الحديث- ينكر لفظ (الخاصرة) ولا يحفظها: ويتعقب الغزالي وشيخَه، فيتعقبه الحافظ، ويثبت له أن هذه اللفظة واردة في الحديث، وأنه لا محل لإنكارها، ولا حق له في تعقب الغزالي وشيخه (¬2). * قال الغزالي في الوسيط: " أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية في حال كفره ارتقاباً لإسلامه ". وقد تعقبه النووي بقوله: " هذا غلط صريح بالاتفاق من أئمة النقل والفقه، بل إنما أعطاه بعد إسلامه " انتهى. ¬

_ (¬1) ر. مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 7/ 105، وتلخيص الحبير: 4/ 134 حديث 1935. (¬2) ومن الملاحظات التي يجب تسجيلها هنا، أن الحافظ ابن حجر رفق بإمام الحرمين -على غير عادته- حيث قال في تنبيه له حول هذا الحديث نفسه (حديث أبي العُشَراء قال: وقع لإمام الحرمين فيه وهمٌ؛ إذ جعل المخاطب بذلك أبا العُشَراء الدارمي، وإنما هو أبوه. ثم قال: ويجوز أن يكون ذلك من النساخ، كان يكون سقط من النسخة: " عن أبيه " ا. هـ وسبحان الله مقلب القلوب، فهذه أول مرة يحمل الحافظُ فيها الخلل على النساخ، ولا يحمله على إمام الحرمين وقد رأيناه في أكثر من موضع مثل هذا تماماً يعنفُ الإمام، ويُغلظ له، ويحمله الخطأ، مع أن حمله على الناسخ أقرب من هذه الحالة. والله أعلم بالقلوب.

وتعقب ابنُ الرفعة النوويَّ، فقال: " هذا عجيب من النووي كيف قال ذلك؟ وقد نص الشافعيُّ في الأم (¬1): " أنه صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بنَ أمية قبل أن يسلم " وقد جزم ابنُ الأثير في الصحابة أن الإعطاء كان قبل الإسلام. وكلام النووي نفسه في تهذيب الأسماء واللغات في ترجمة صفوان: " أنه شهد حنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم كافراً " ومعلوم أن الإعطاء كان من غنائم حنين، فأيُّ قوليه كان أولاً؟؟ الله أعلم (¬2). * ذكر الإمام حديثَ أم سلمة: " أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ "، وجعل القصة لعائشة وحفصة على خلاف المشهور من أنها مع أم سلمة وميمونة. وتعقبه الحافظ سراجُ الدين بن الملقن في (تصحيح المنهاج)، بأن ذلك لا يعرف. وقد تعقب الحافظُ ابنُ حجر شيخَه ابنَ الملقن، وردّه قائلاً: " وُجد في الغيلانيات من حديث أسامة على وَفْق ما نقله القاضي والإمام، فإما أن يُحمل على أن الراوي قَلَبه ... وإما أن يحمل على التعدد، ويؤيده حديث عائشة عند مالك: أنها احتجبت من أعمى، فقيل لها: إنه لا ينظر إليك، قالت: " لكني أنظر إليه ". انتهى بتصرف يسير من كلام الحافظ ابن حجر (¬3). * ومن هذا الباب أيضاً ما كان من ابن الجوزي حين وهم في أكثر من حديث عدّها في الموضوعات، منها حديث: " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم " وابن حبان أيضاً يقول عن هذا الحديث: " إنه لا أصل له ". وقد تعقبهما الحافظ ابن حجر، فقال: "إسناده حسن، وقال عن ابن الجوزي، وابن حبان: " لم يصيبا جميعاً "، والحديث له أصل من حديث أبي موسى، واللوم ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة: تلخيص الحبير: 3/ 236 حديث: 1501، والأم للإمام الشافعي: 2/ 72، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 249. (¬2) راجع في هذه المسألة: تلخيص الحبير: 3/ 236 حديث: 1501، والأم للإمام الشافعي: 2/ 72، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 249. (¬3) ر. التلخيص: 3/ 308، 309 حديث 1588.

فيه على ابن الجوزي أكثر، لأنه خرج على الأبواب" (¬1). والحديث أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب رقم 23، وقد صححه الألباني في صحيح أبي داود، والمشكاة، وصحيح الجامع، وصحيح الترغيب. فلم يسلم ابن الجوزي، وابن حبان -على منزلتهما- من التعقب. * يقول السيوطي في ترجمته الموجزة لنفسه، في آخر الجزء الثاني من المزهر، يقول: " لزمت في الحديث والعربية شيخَنا الإمام العلامة تقي الدين الشبلي الحنفي، فواظبته أربع سنين ... ورجع إلى قولي مجرداً في حديثٍ؛ فإنه أورد حديث ابن أبي الجمرا في الإسراء، في شرح الشفا، وعزاه إلى ابن ماجة، فاحتجتُ إلى إيراده بسنده، فكشفت ابن ماجه، فلم أجده، فمررت على الكتاب كله، فلم أجده، فاتهمت نظري، فمررت مرة ثانية، فلم أجده، فعدت ثالثة، فلم أجده!! ووجدته في معجم الصحابة لابن قانع، فجئت إلى الشيخ وأخبرته، فبمجرد ما سمع مني ذلك أخذ نسخته، وأخذ القلم، وضرب على ابن ماجة، وألحق ابن قانع في الحاشية. فأعظمت ذلك، وهبته لعظيم منزلته في قلبي، واحتقاري في نفسي، وقلت: ألا تصبرون لعلكم تراجعون!!، فقال: لا. إنما قلّدت في قولي: " ابن ماجة " البرهان الحلبي " (¬2) انتهى. وقد آثرت إيراد النص بتمامه لما فيه من فوائد بجوار ما نحاوله من إثبات أن أكابر الأئمة يقعون في الوهم، ولا يحط ذلك من قدرهم، ولا يزري بمنزلتهم، فبجوار ذلك ترى صورة رائعة من صبر العلماء، فتأمل كيف صبر السيوطي على قراءة ابن ماجة، ثلاث مرات من أجل الوصول إلى سند حديث، يريد أن يورده مسنداً. ئم تأمل كيف يلزم السيوطي ذلك العلامة الشافعي شيخاً حنفياً يأخذ عنه الحديث، والعربية ويستمر ذلك أربع سنوات، ويتحدث عنه بهذا الإجلال والتقدير. نضع هذه ¬

_ (¬1) ر. التلخيص: 2/ 118 حديث 761. (¬2) المزهر: 2/ 657.

أمام أعين الذين لا يرون في تاريخنا الفكري إلا صوراً من الصراع المذهبي ومتى يحدث هذا؟ يحدث في القرن التاسع والعاشر، في القرون التي يسمونها عصر الضعف والانحطاط. * والحافظ بن حجر الذي رأينا كثيراً من تعقباته وشدته أحياناً على من يتعقبه، لا يسلم من الوهم، ويقيض الله له من يتعقبه. وذلك أنه في كتابه الماتع (فتح الباري) وهو يشرح حديث زيد بن أسلم عن أبيه: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولىً له يدعى هُنيّاً على الحمى، فقال: يا هُنيّ، اضمم جناحَك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل ربَّ الصُّريمة ورب الغُنَيمة، وإياي ونَعَم ابن عوف، ونَعَم عثمان بن عفان؛ فإنه إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإنّ رب الصُّريمة ورب الغُنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببينة، فيقول: " يا أمير المؤمنين "! أفتاركهم أنا، لا أبالك؟ فالماء والكلأ أيسر عليّ من الذهب والورِق، وايم الله، إنهم لَيَرون أني قد ظلمتهم؛ إنها لَبلادُهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لوَلا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميتُ عليهم من بلادهم شبراً ". وهذا الحديث رواه البخاري من طريق مالك: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه. وقد ختم الحافظ شرحه للحديث قائلاً: " وهذا الحديث ليس في الموطأ " (¬1). وقد تعقبه العلامة محمد فؤاد عبد الباقي قائلاً: " هذا الحديث في الموطأ كتاب (60) كتاب دعوة المظلوم (¬2)، باب (1) ما يُتقى من دعوة المظلوم: حدثني مالك عن زيد بن أسلم ". ا. هـ ¬

_ (¬1) ر. فتح الباري: 6/ 175 - 177. كتاب الجهاد (56) - باب (180) إذا أسلم قومٌ في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم. حديث رقم 3059. (¬2) ر. الموطأ: 2/ 1003 حديث رقم (1) من كتاب دعوة المظلوم. وليس في الكتاب إلا باب واحد، به حديث واحد، هو هذا الحديث.

ويلوح لي أن الحافظ لم يجد الحديث في أبواب الجهاد من الموطأ، فظن أنه ليس في الموطأ، فأراد أن يفيد قارىء (الفتح) هذه الفائدة، فوهم في ذلك. * والمجد بن تيمية يقول عن حديث جبير بن مطعم: " يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمور الناس شيئاًً، فلا يمنعن أحداً طاف بالبيت وصلى أيّة ساعة شاء من ليل أو نهار ". يقول المجد: " رواه الجماعة إلا البخاري " ويلزم من ذلك أن يكون عند مسلم، وقد تعقبه الحافظ ابنُ حجر بقوله: " وهذا وهم منه، تبعه عليه المحب الطبري، فقال رواه السبعة إلا البخاري، وابنُ الرفعة، فقال: رواه مسلم ولفظه: " لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أي ساعة شاء من ليلٍ أو نهار ". وكأنه -والله أعلم- لما رأى ابنَ تيمية عزاه إلى الجماعة دون البخاري اقتطع مسلماً من بينهم، واكتفى به عنهم، ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية، فأخطأ مكرراً " انتهى بنصه من كلام الحافظ ابن حجر (¬1). * وينبه الحافظ في التلخيص إلى وهمٍ آخر لابن الرفعة في حديث: " خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء، إلا ما غير طعمه أو ريحه " قال الحافظ: " عزا ابن الرفعة هذا الاستثناء إلى رواية أبي داود " فقال: ورواية أبي داود: " خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه " ووهم في ذلك، فليس هذا في سنن أبي داود أصلاً ". انتهى بنصه (¬2). * وينكر ابن الرفعة رواية السمك والجراد -في حديث: " أحلت لنا ميتتان "- فيقول: قول الفقهاء: السمك والجراد، لم يرد ذلك في الحديث، وإنما الوارد: " الحوت والجراد " فيتعقبه الحافظ ابنُ حجر بقوله: " وهذا مردود؛ فقد وقع في رواية ابن مردويه: " السمك والجراد " (¬3). ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير: 1/ 190 حديث رقم 276. (¬2) تلخيص الحبير: 1/ 14 - 16 حديث رقم 3. (¬3) ر. التلخيص: 1/ 25 - 26 حديث رقم 11.

* ونظل مع ابن الرفعة أيضاً، فقد عزا حديث أبي هريرة: " إذا قام أحدكم في المسجد عن مجلسه، فهو أحق به إذا عاد إليه " عزاه ابن الرفعة إلى البخاري، وليس فيه، بل هو من أفراد مسلم، نص على ذلك عبد الحق والحميدي (¬1). * والحافظ ابنُ تيمية شيخ الإسلام الذي بلغ في الحديث من المنزلة، أن قيل فيه: " كل حديث لا يعرفه ابنُ تيمية لا أصل له " لا يسلم من مثل هذه الأوهام؛ فقد جاء في رسالته إلى السلطان الملك الناصر ص 16: " ... فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما غُزي قومٌ في عقر دارهم إلا ذَلُّوا "؟ فأورده حديثاً مرفوعاً. وقد تعقبه الشيخ العلامة أبو غدة، فقال: " الله أعلم بثبوته ". وعنده أن هذا من قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبةٍ طويلة، أولها: " أما بعد؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله الذلَّ ... فوالله الذي نفسي بيده: ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذَلّوا ... ". وقد أورده منسوباً إلى سيدنا علي أبو العباس المبّردُ في أوئل كتابه " الكامل ": 1/ 20 من طبعة سنة 1977 م، 1/ 29 من طبعة 1406 هـ، وكذلك أورده الجاحظ في (البيان والتبيين: 2/ 53)، وأيضاً ابنُ أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة: 2/ 74) وأبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني: 15/ 43) (¬2). * ويقع شيخُ الإسلام أيضاً في الاستشهاد بالحديث الضعيف، بل البالغ الضعف، بل ذكره ابن الجوزي في الموضوعات. فقد جاء في فتاوى شيخ الإسلام، وهو يتحدث عن الإلهام وكونه طريقاً للترجيح قولُه: " القلب المعمور بالتقوى إذا رجَّح بمجرد رأيه، فهو ترجيح شرعي. قال: فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما يظن معه أن هذا الأمر، أو هذا الكلام أَرْضى لله ورسوله، كان هذا ترجيحاً بدليلٍ شرعي (¬3). ¬

_ (¬1) ر. التلخيص: 3/ 142 حديث رقم 1335. (¬2) ر. رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمية) للشيخ أحمد شاكر، بعناية وتعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وهذا من تعليقة في ص 14 من الرسالة المذكورة. (¬3) اقرأ في هذا الموضوع بحثاً قيمّاً وافياً للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي بعنوان: (الإلهام =

والذين أنكروا كونَ الإلهام ليس طريقاً إلى الحقائق مطلقاً أخطئوا؛ فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه، كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة، فإلهام مثل هذا دليلٌ في حقه. وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة، والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثيرٌ من الخائضين في المذاهب والخلاف، وأصول الفقه. وقد قال عمر بنُ الخطاب: اقربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة، وحديث مكحول المرفوع: " ما أخلص عبدٌ العبادةَ لله تعالى أربعين يوماً إلا أجرى الله الحكمة على قلبه، وأنطق به لسانَه " وفي رواية: " إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ". انتهى بنصه (¬1). وحديث مكحول هذا عن أبي أيوب الأنصاري أورده ابنُ الجوزي في الموضوعات: في (باب من أخلص لله أربعين صباحاً). وقد ذكر في الباب ثلاثة أحاديث جعل أولها حديث مكحول هذا عن أبي أيوب الأنصاري ثم ثنى بحديثٍ عن أبي موسى الأشعري، والثالث عن ابن عباس رضي الله عنهم، وكلها بمعنى واحد وألفاظ متقاربة (¬2). وقد أورد السيوطي حديث مكحول هذا في الجامع الصغير عن أبي نعيم في الحلية، ورمز له بالضعف. أما المناوي في الفيض، فقد رجح الحكمَ عليه بالوضع؛ إذ قال: أورده ابن الجوزي في الموضوعات، ولخص ما قاله ابن الجوزي في سنده قائلاً: فيه يزيد الواسطي، وهو يزيد بن يزيد بن عبد الرحمن الواسطي كثير الخطأ، وحجاج مجروح، ومحمد بن إسماعيل مجهول، ومكحول لم يصح سماعه من أبي أيوب الأنصاري ". ¬

_ = والكشف والرؤى، هل تعد مصادر للأحكام الشرعية؟ - حولية كلية الشريعة بقطر، العدد السادس 11 - 73. (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 20/ 42 - 47. (¬2) الموضوعات لابن الجوزي: 3/ 144 - 145.

رابعا: من كلام إمام الحرمين في متن الحديث وصناعته

ثم قال عمن تعقب ابنَ الجوزي بأن الحافظ العراقي اقتصر في تخريج الإحياء على تضعيفه: وهو تعقب لا يسمن ولا يغني من جوع (¬1). تنبيه وبيان: ونؤكد أننا بتسجيل هذه الأوهام، ورصدها والتنبيه عليها لا نريد -حاشا لله- الانتقاص من هؤلاء الأئمة الأعلام أو الحط عليهم -نعوذ بالله من ذلك- وإنما أحببنا فقط أن نذكِّر بما هو معروف مقرر من قصور الإنسان، واستيلاء النقص على قوى البشر. وعليه يكون ما وقع فيه إمام الحرمين من أوهام أو أخطاء من هذا الباب، ولا يترتب عليه تلك الأحكام القاسية المزرية التي قيلت فيه. رابعاً: من كلام إمام الحرمين في متن الحديث وصناعته: بل إننا نجد للإمام كلاماً في الصناعة الحديثية من التضعيف والتصحيح، ونقد السنن والمتن، والكلام في الرواة، وذكر ما قاله أئمة الصناعة فيهم. نجد من هذا الشيءَ الكثير، مما يشهد أنه كان على درجةٍ من حفظ الحديث، ولم يكن معرضاً عنه، أو لا يدريه كما قال فيه القائلون. وسنعرض هنا لبعض نماذج من كلام الإمام في عدد من الأحاديث لتكون دليلاً على ما قلناه: * يردّ الإمامُ ما روي من حديث عائشة وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " النفاس أربعون يوماً ". يردّ الإمام هذا، فيقول: " قال أئمة الحديث: حديث عائشة موضوع، وحديث أنس تفرّد به عن جميل سلامُ بن سَلْم، وهو متروك " (¬2). هذا ما قاله إمام الحرمين عن الحديثين، فماذا قال أئمة الحديث؟ ¬

_ (¬1) ر. فيض القدير: 6/ 43 - 44. (¬2) الدرة المضية: 67 مسألة رقم 39.

لو راجعتَ ما قاله الدارقطني، والزيلعي، وابن حجر، وابن الجوزي (¬1) عن الحديثين، لرأيت أنه لم يخرج عما قاله إمام الحرمين، ولأدركت منزلة إمام الحرمين من الصناعة الحديثية، فالذي يقول هذا من حافظته، ويدوّنه من ذاكرته، كيف يقال: إنه لا يدري الحديث، أو كان قليل المراجعة لكتب الحديث!! * وفي أحاديث التيمم، يردّ ما استدل به الأحناف على جواز التيمم بالرمل قائلاً: " فإن قالوا: روى أبو هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله: إنّا بأرضٍ رملة تصيبنا الجنابة والحيض والنفاس، ولا نجد الماء أشهراً، فقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالرمل ". قلنا: رواه المثنى بن الصباح، وهو ضعيف صاحب مناكير، ثم روى عمرو بن شعيب هذه القصة، وفيها: " عليكم بالتراب ". ثم المراد بالرمل الرمل الذي يخالطه التراب؛ فإن العرب لا تَقِرّ إلا في موضع العشب، ولا نبات حيث لا تراب (¬2) ". فهو يردّ الحديث بالنظر في سنده، وتضعيف راويه، ثم بالنظر في متنه، فعلى فرض صحته، فالمراد به الرمل الذي به تراب ينبت عشباً في بيئة تصلح للاستقرار. وقد روى ابنُ قدامة هذا الحديثَ في المغني، وضعفه بما ضعفه به إمام الحرمين (¬3) كما تكلم الذهبي في ميزان الاعتدال عن المثنى بن الصباح بنحو ما قاله عنه إمام الحرمين (¬4). * عند ذكر الخلاف مع الأحناف في أقل الحيض، وأنه عندهم ثلاثة أيام يقول: "ولهم روايات يتمسكون بها، منها: ما رواه أبو أمامة الباهلي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أقل ما يكون من ¬

_ (¬1) ر. سنن الدارقطني: 1/ 220، نصب الراية: 1/ 206، والتلخيص: 1/ 171، والعلل المتناهية: 1/ 386. (¬2) الدرة المضية: 25 مسألة رقم 11. (¬3) المغني لابن قدامة: 1/ 249. (¬4) ميزان الاعتدال: 1/ 435.

الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثاً، وأكثر ما يكون عشرة أيام، فإذا رأت أكثر من ذلك، فهو استحاضة". قلنا: يرويه عبد الملك، وهو مجهول، عن العلاء بن كثير، وهو ضعيف، عن مكحول، وهو لم يلق أبا أمامة" (¬1). وانظر سنن الدارقطني، ونصب الراية، لترى ما قاله إمام الحرمين عن الحديث بنصه تقريباً (¬2). ثم قال الإمام في المسألة نفسها: " فإن روَوْا عن واثلة بن الأسقع أنه عليه السلام قال: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام ". قلنا: يرويه حماد بنُ منهال، وهو مجهول عن مكحول، ولم يسمع من واثلة (¬3) ". وما قاله إمام الحرمين في الحديث هو بنصه تقريباً ما قاله أئمة الحديث: الدارقطني، والزيلعي، والذهبي (¬4). وفي المسألة نفسها يرد أثراً للأحناف عن ابن مسعود وأنس وعثمان بن أبي العاص، قائلاً: " حديث عبد الله يرويه هارون بنُ زياد القُشيري، وهو ضعيف جداً. وحديث أنس يرويه الجَلْد بنُ أيوب، وليس يساوي في الحديث شيئاًً، وحديث عثمانَ يرويه الأشعث بنُ سَوَّار، وهو ضعيف، عن الحسن، ولم تثبت رواية الحسن عن عثمان. " (¬5) ا. هـ بنصه. وهذا الذي قاله إمام الحرمين هو بعينه ما قاله الدارقطني والذهبي والزيلعي، ومما ¬

_ (¬1) الدرة المضية: 55 مسألة رقم 31. (¬2) سنن الدارقطني مع التعليق المغني: 1/ 218، ونصب الراية: 1/ 191. (¬3) الدرة المضية الموضع السابق نفسه. (¬4) انظر: نصب الراية 1/ 192، وسنن الدارقطني: 1/ 219، وميزان الاعتدال 1/ 420. (¬5) الدرة المضية: 56 المسألة رقم 31.

يستحق أن يسجل أن قول إمام الحرمين عن الجَلْد بن أيوب: " ليس يساوي في الحديث شيئاًً " هو عبارةُ أحمد بن حنبل بعينها في الحكم على الجَلْد (¬1). * وحين يعرض لخلاف الأحناف في دخول وقت العشاء يقول: " فإن رَوَوْا عن جابر في حديث السائل عن أوقات الصلاة: " أن بلالاً أذن للعشاء حين ذهب بياضُ النهار ". قلنا: يرويه صدقةُ بنُ عبد الله الدمشقي عن عبيد الكلاعي، عن سليمان بن موسى، قال أحمد بن حنبل: " صدقة ليس بشيء " (¬2). وقد نقل الذهبي تضعيف أحمد لصَدَقة بن عبد الله على نحو ما قاله إمام الحرمين (¬3). * وحين يردّ قولَ أبي حنيفة: إن التثويب أن يقول المؤذن بعد الفراغ من الأذان: حي على الصلاة، حي على الفلاح " يقول: " فإن روَوْا أن بلالاً كان إذا أذن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف على الباب، فقال: الصلاة يا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح ". قلنا: يرويه موسى بن محمد بن الحارث التيمي عن أبيه عن بلال، وموسى ضعيف، ومحمد لم يلق بلالاً، ويرويه أيضاً كامل أبو العلاء السعدي، ولم يلق بلالاً. ثم لا اختصاص لهذا الحديث بأذان الصبح، ولعله كان ينبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين (¬4) ". وقد قال يحيى بنُ معين عن موسى بن محمد هذا: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال مرة: ضعيف. ¬

_ (¬1) ميزان الاعتدال: 1/ 420. (¬2) الدرة المضية: 78 مسألة 43. (¬3) ميزان الاعتدال: 2/ 310. (¬4) الدرة المضية: 83، 84 مسألة رقم 47.

وقال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك (¬1). * لا يفتتح الإمامُ الصلاة ما لم يفرُغ المقيم من الإقامة عندنا. وقال أبو حنيفة: يقوم الإمام إذا بلغ الحيعلة، ويكبر إذا لفظ الإقامة. قال الإمام: فإن رَوَوْا عن عبد الله بن أبي أوفى: " أنه كان إذا قال بلال: قد قامت الصلاة، نهض النبي صلى الله عليه وسلم، وكبّر ". قلنا: " يرويه حجاج بن فرّوخ، وهو مجهول " (¬2). وعن حجاج هذا قال ابن معين: ليس بشيء، وضعفه النسائي (¬3). * وعند الاختلاف في الجهر بالتأمين، وقول الحنفية: لا يجهر الإمام ولا المأموم، ويستدل الأحناف فيما استدلوا به بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الإمام ولا الضالين، فأنصتوا " يرد إمام الحرمين هذا الحديث قائلاً: " هذا الحديث يرويه محمدُ بنُ يونس، وهو ضعيف " ثم الإنصات هو السكوت، والمأموم يؤمن ولا يجهر عند أبي حنيفة. فإن قالوا: روى وائل أن النبي صلى الله عليه وسلم خفض صوته بآمين ". قلنا: قال الدارقطني: رواه شعبة، ووهم فيما روى، والصواب أنه رفع بها صوته، فقد تعارضت الروايات (¬4). وقد قال أئمة الحديث في هذين الحديثين بنحو ما قاله إمام الحرمين (¬5). * وقد اعتمد الأحناف في قولهم: لا تسن الإقامة للنساء على حديث: "ليس على النساء أذان ولا إقامة"، فردّه إمامُ الحرمين قائلاً: ¬

_ (¬1) ر. ميزان الاعتدال: 4/ 218. (¬2) الدرة المضية: 92 مسألة رقم 56 (بتصرف). (¬3) ر. ميزان الاعتدال: 1/ 464. (¬4) الدرة المضية: 103، 104، مسألة رقم 65. (¬5) ر. نصب الراية: 1/ 369، ميزان الاعتدال: 4/ 74.

قلنا: " يرويه الحكم بنُ عبد الله الأَيْلي، وبُريدُ بنُ السمط: الأول متروك، والثاني مجهول (¬1) ". فإذا نظرنا في كتب الرجال، نجد الإمام أحمد يقول عن الحكم هذا: " أحاديثه كلها موضوعة، وابن معين يقول فيه: " ليس بثقة "، وقال السعدي وأبو حاتم: " كذاب "، وقال عنه النسائي والدارقطني: " متروك (¬2) ". * وخالفنا الأحناف في السجود على كَوْر العمامة، حيث أجازوا ذلك، وروَوْا فيه حديثاً: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على كَوْر عمامته " وقد ردّ إمام الحرمين الحديث قائلاً: " هذا الحديث رواه أبو زرعة في كتاب، فقال: اضربوا عنه، فإنه منكر، وقد رَوَوْه عن أبي هريرة، وهو الذي أنكره أبو زرعة. وربما روَوْه عن ابن عباس مرفوعاً، ومداره على محمد بن زياد الطحان، وهو متروك. وربما روَوْه عن جابر مرفوعاً، ومدار رواته عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي: قال يحيى بنُ معين: عمرو ليس بثقة، وجابر لا يحتج بروايته (¬3) ". وقد ضعف أهل الصناعة أحاديث ابن عباس، وأبي هريرة، وجابر بنحو ما ضعفها به إمام الحرمين (¬4). * القنوت في صلاة الصبح سنة عندنا. وخالف الأحناف في ذلك، وكان مما استدلوا به أن قالوا: روت أم سلمة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القنوت في الفجر ". ¬

_ (¬1) الدرة المضية: 86 مسألة رقم 50. (¬2) ر. ميزان الاعتدال: 1/ 572. (¬3) الدرة المضية: 118، 119 مسألة رقم 75. (¬4) ر. نسب الراية: 1/ 384، ونيل الأوطار: 2/ 288، وتلخيص الحبير: 1/ 253، ح 377، وميزان الاعتدال: 1/ 379، 3/ 268، 552.

وقد ردّ هذا الحديث إمامُ الحرمين قائلاً: " يرويه محمدُ بن يعلى السُّلمي عن عِنبسة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن نافع، عن نافع، وكلهم ضعفاء إلا نافعاً، وهو لم يلقَ أُمَّ سلمة. فإن قالوا: روى ابن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً، لم يقنت قبله ولا بعده ". قلنا: يرويه أبو حمزة، ميمون القصاب، ولا يحتج به. ويتجه حمله على غير الصبح، والدليل عليه ما روي: أنه قيل لأنس: " إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، فقال: ما زال يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا (¬1) ". ولو نظرنا فيما قاله أئمة الحديث، لوجدناهم يُضعِّفون الحديثين بمثل ما قاله إمام الحرمين، وبعبارة أخرى: وجدنا إمام الحرمين يحكم على الحديثين بمثل ما قاله أئمة الحديث. فنجد الدارقطني يقول عن رواة حديث أم سلمة: " محمد بن يعلى، وعنبسة، وعبد الله بن نافع كلهم ضعفاء، ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة (¬2) ". وهذه كما ترى عبارة إمام الحرمين نفسها، ونجد ابنَ الجوزي يقول عن الحديث نفسه: " تفرد به عِنبسة، قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: هو صاحب أشياء موضوعة لا يحل الاحتجاج به (¬3) ". ومما يجب أن نسجله هنا أن حديث ابن مسعود الذي ضعفه إمام الحرمين لا وجود له في سنن الدارقطني، نقول ذلك حتى نقطع قولَ الذين يقولون: إن اعتماد إمام الحرمين كان على سنن الدارقطني وحدها. هذا، وحديث ابن مسعود معلول -كما قال إمام الحرمين- بأبي حمزة ميمون ¬

_ (¬1) الدرة المضية: 126، 127 مسألة رقم 83. (¬2) سنن الدارقطني: 1/ 28. حديث رقم 5. (¬3) العلل المتناهية: 1/ 445.

الخبر المتواتر

القصاب، قال ابن حبان في كتاب الضعفاء: كان فاحش الخطأ كثير الوهم، يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، تركه أحمد بن حنبل، ويحيى ابن معين " انتهى (¬1). ونكتفي بهذه النماذج من كلام إمام الحرمين في نقد الأحاديث والرجال، وفي الجمع بين المتعارض منها، وهي ناطقة شاهدة بعنايته بعلم الحديث، مبينة عن إحاطته بعلم الرجال، دالّةُ على معرفته بالجرح والتعديل. وفي كتابه (الدرّة المضية) من هذا الباب مئات من الأحاديث التي تكلم -بعلم- في نقد رجالها، وتوجيه متنها. جانبٌ آخر من الاشتغال بالصناعة الحديثية: لقد عقد الإمام في كتابه البرهان كتاباً سماه كتاب الأخبار، تناول فيه الحديث بصفته الأصل الثاني من أصول التشريع، ولكنه تناول فنون الأحاديث ومراتبها، وناقش أصول الرواية وضوابطها، وخالف المحدثين في شيء من قواعدهم وضوابطهم، وأسمائهم وألقابهم، وإليك طرفاً من ذلك: الخبر المتواتر: عقد إمام الحرمين في البرهان فصلاً بعنوان (القول في الخبر المتواتر (¬2)) يصف فيه الخبر المتواتر والأقوال فيه وفي إفضائه إلى العلم، ويعرض الشرائط التي رآها من تعرضوا للحديث المتواتر، ومنها اشتراط صدوره عن عدد، ويقول: " إن الناس اضطربوا في ذلك اضطراباً فاحشاً (¬3) " ويعرض هذه الآراء ويتعقبها بالحجة والبرهان حتى يبطلها واحداً واحداً. ثم يقول: "فإن قيل: فما الذي ترضَوْنه في ذلك؟ قلنا: الخوض فيما نؤثره يستدعي تقديم أمر. وهو أن العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مرتبة على ¬

_ (¬1) ر. كتاب المجروحين، لابن حبان: 3/ 5، 6، وانظر أيضاً ميزان الاعتدال: 4/ 34. (¬2) البرهان فقرة: 491 وما بعدها. (¬3) البرهان فقرة: 494.

في خبر الواحد

قرائن الأحوال وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها. ولا سبيل إلى جحدها إذا وقعت وهذا كالعلم بخجل الخجل، ووجل الوجل، ونشط الثمل ونحوها، فإذا ثبتت هذه القرائن ترتب عليها علوم لا يأباها إلا جاحد، ولو رام واجد العلوم ضبطَ القرائن ووصفَها بما تتميز به عن غيرها لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فكأنها تدق عن العبارات". ثم ينتهي إلى قوله: " لا يتوقف حصول العلم بصدق المخبرين على حد محدود، وعد معدود، ولكن إذا ثبتت قرائن الصدق، ثبت العلم به (¬1) ". ثم يقول: " وأنا الآن أنخل للناظر جميع مصادر المذاهب ليحيط بها، ويقضي العجب من الاطلاع عليها. ويتنبه لسبب اختلاف الآراء فيها ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير " (¬2). ويستمر في عرض وجهة نظر أصحاب الآراء والمذاهب، لا مجرحاً ولا مسفهاً، بل مبيناً موضع الشبهة، وسر الزلل، وكأنه يعتذر عنهم، أو هو بالتأكيد يعتذر عنهم. ثم يختم المسألة بخلاصة رأيه معتزاً به مباهياً. فيقول: " والجملة في ذلك أن التواتر من أحكام العادات، ولا مجال لتفصيلات الظنون فيها، فليتخذ الناظر العادة محكمة. وقد أتى هذا المقدار على أسرار لا تحويها أسفار وهو على إيجازه لا يغادر وجهاً من البيان تمس الحاجة إليه. وينزل كل كلام وراءه كالفضل المستغنى عنه " (¬3). في خبر الواحد: ويناقش خبر الواحد من جهة كونه يوجب العمل، فيقول: " وأطلق الفقهاء القول بأن خبر الواحد لا يوجب العلم ويوجب العمل، وهذا تساهل منهم. والمقطوع به أنه لا يوجب العلم ولا العمل. ¬

_ (¬1) البرهان فقرة: 503. (¬2) البرهان فقرة: 506. (¬3) البرهان فقرة: 515.

القاعدة في الخبر الصادق عنده

فإنه لو ثبت وجوب العمل مقطوعاً به، لثبت العلم بوجوب العمل، وهذا يؤدي إلى إفضائه إلى نوع من العلم. وذلك بعيد؛ فإن ما هو مظنون في نفسه يستحيل أن يقتضي علماً مبتوتاً. فالعمل بخبر الواحد مستند إلى الأدلة التي سنقيمها على وجوب العمل عند خبر الواحد. وهذا تناقشٌ في اللفظ، ولست أشك أن أحداً من المحققين لا ينكر ما ذكرناه (¬1) ". القاعدة في الخبر الصادق عنده: ثم يعقد فصلاً عن تقاسيم الأخبار، ويناقش آراء الأئمة في المقطوع بصدقه والمقطوع بكذبه، ثم يخرج بقاعدة مؤداها: " كل خبر يخالفه حكم العرف فهو كذب (¬2) " ويعطي العرف كل منزلة في هذا. رأيه في العمل بالمراسيل: فأما رأيه في المراسيل فيدل على ذهن أصولي فذ، كما يدل على تحرر في الرأي والفكر. فأبو حنيفة رضي الله عنه قائل بالمراسيل بجميع صورها قابل لها، عامل بها. والشافعي يرد المراسيل ولا يقبلها. وهنا يعرض إمام الحرمين حجج القائل بها والرافض لها، بكل أمانة وثقة ودقة، كدأبه في المسائل. ثم يقرر رأيه غير متأثر بمذهب من المذاهب، وإنما ناظراً لقاعدة الباب مراعياً للأصل الذي يبني عليه لا غيره، والأولى أن ننقل كلامه في هذا الموضع بنصه حيث يقول: ¬

_ (¬1) البرهان فقرة: 538. (¬2) البرهان فقرة: 534.

موجز لبعض آرائه في الحديث

" فإذا وضح اعتبار ما تمسك به النفاة والمثبتون، فقد جاز أن نوضح المختار قائلين: قد ثبت أن المعتمد في الأخبار ظهور الثقة في الظن فإن انخرمت الثقة، اقتضى انخرامها التوقف في القبول. وهذا الأصل مستنده الإجماع الذي ثبت نقله من طريق المعنى استفاضة وتواتراً، فإذا سبرنا ما ردوه وما قبلوه يحصل لنا من طريق السبر أنهم لم يَرْعَوْا صفات تعبدية كالعدد والحرية، وإنما اعتمدوا الثقة المحضة، فلتعتبر هذه قاعدة في الباب. ومساقها يقتضي رد بعض وجوه الإرسال وقبول بعضها (¬1) ". فهو يرى أن المراسيل يقبل بعضها ويرد بعضها، لا يميل إلى رأي الشافعي، ولا إلى رأي أبي حنيفة، وإنما يعتمد القاعدة والأصل الذي اعتبر في صدق الأخبار. وبعد أن يقرر هذا يقول: " ثم مخالفة الشافعي في أصول الفقه شديدة، وهو ابن بجدتها وملازم أرومتها ". ولذا يعود إلى تخريج كلام الشافعي وتوجيهه بما يوافق رأيه الذي رآه. وتراه يعتز ويتيه بذلك قائلاً: " ولكني رأيت في كلام الشافعي ما يوافق مسلكي هذا وتقر به الأعين. قال رحمه الله: مرسلات ابن المسيب حسنة. وشبب بقبولها والعمل بها (¬2) ". فهو يعرف للشافعي قدره في الأصول، وفضله على هذا الفن ولذا يستروح لموافقته. موجز لبعض آرائه في الحديث: وخوفاً من الإطالة نوجز بعض آرائه في الحديث التي انفرد بها أو خالف فيها، فمنها: - يخالف أبا إسحاق الإسفراييني (الأستاذ) في أن (الخبر المستفيض) قسم بين المتواتر وبين المنقول آحاداً، ويرد زعمه بأنه يقتضي العلم نظراً (¬3). ¬

_ (¬1) البرهان فقرة: 579. (¬2) انظر البرهان فقرة: 581. (¬3) انظر البرهان فقرة: 519.

- يخالف القاضي أبا بكر في إلحاق مسألة رد رواية الصبي بالمظنونات ويرى أنها من القطعيات (¬1). - يخالف الشافعي والقاضي وينفرد برأي في مسألة التصريح بالتعديل والتجريح حيث يرى " أن الأمر في ذلك يختلف باختلاف المعدل والجارح (¬2) ". - في فصل تحمل الرواية وجهة تلقيها يعرض لمسألة ما إذا كانت النسخة بيد عدل غير الشيخ، وكان الشيخ لا يحفظ حديثه. ويقرر أن هذا سماع غير صحيح، وإن كان القاضي قد تردد فيه (¬3). - إذا انفرد راوٍ بزيادة عن غيره. يرى التفصيل فيها، فيقول: هي مقبولة إذا سكت الحاضرون عن نقل ما تفرد به بعضهم، فأما إذا صرحوا بنفي ما نقله، فهذا يعارض قول المثبت ويوهيه (¬4). - ينفرد برأيه عن المحدثين فيما إذا قال الرجل: رأيت في صحيح محمد بن إسماعيل البخاري، ووثقت باشتمال الكتاب عليه، فعلى الذي سمعه يذكر ذلك أن يثق به، ويلحقه بما تلقاه بنفسه ورآه ورواه من الشيخ المسمع. ثم يقول: ولو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه؛ فإن فيه سقوط منصب الرواية عند ظهور الثقة وصحة الرواية وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول. وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسائل صادفها خارجة في الرد والقبول على ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، فإذا صادفناه لزمناه، وتركنا وراءه المحدثين ينقطعون في وضع ألقاب وترتيب أبواب (¬5) ". فهو يقرر رأيه بحسب القاعدة الأصولية التي اعتمدها، صارفاً النظر عن الأسماء والألقاب التي يضعها المحدثون، غير مبال بخلافهم. ¬

_ (¬1) انظر البرهان فقرة: 552. (¬2) نفس المصدر فقرة: 560، 561. (¬3) نفس المصدر فقرة: 586. (¬4) نفس المصدر فقرة: 608. (¬5) البرهان فقرة: 592، 593.

أئمة الحديث يعتدون بآراء إمام الحرمين في الصناعة الحديثية

أئمة الحديث يعتدّون بآراء إمام الحرمين في الصناعة الحديثية: ويشهد لمنزلته في الحديث اعتماد رجال الحديث لآرائه واعتنائهم بتسجيلها في كتبهم، وذكرهم لها مذهباً ورأياً معتداً به مع آراء المحدثين. جاء في كتاب الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع للقاضي عياض ص 75: " فإن كان الشيخ لا يمسك كتابه هو، وإنما يمسكه عليه ثقة عارف سواه، وإن كان الشيخ يحفظ حديثه، فالحال واحدة، وإن كان لا يحفظه فاختلف هاهنا، فرأى بعضهم أن هذا سماع غير صحيح، وإليه نحا الجويني من أئمتنا الأصوليين ". كما نقل عنه رأيه في موضع آخر. قال: " وقال الإمام أبو المعالي الجويني في كتابه البرهان في الإجازة لما صح من مسموعات الشيخ أو لكتاب عينه: تردد الأصوليون فيه: فذهب ذاهبون إلى أنه لا يتلقى بالإجازة حكم، ولا يسوغ التعويل عليها عملاً ورواية. واختار هو التعويل على ذلك مع تحقيق الحديث (¬1) ". وفي ص 42 أيضاً ينقل رأيه في إجازة الشيخ لمعين على العموم والإبهام، دون تخصيص ولا تعيين لكتب ولا أحاديث، فيقول: فهذا الوجه هو الذي وقع فيه الخلاف تحقيقاً، والصحيح جوازه، وصحت الرواية والعمل به بعد تصحيح شيئين: تعيين روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها، وصحة مطابقة كتب الراوي لها. وهو قول الأكثرين، والجمهور من الأئمة، والسلف ومن جاء بعدهم من مشايخ المحدثين والفقهاء والنظار. وهو مذهب الزهري ومنصور ابن المعتمر ... ويستمر في ذكر أئمة الحديث ثم يقول: وهو الذي عليه عمل الشيوخ وقووه، وصححه أبو المعالي واختاره هو وغيره من أئمة النظار المحققين) اهـ. فهو يستظهر لكل هؤلاء الأئمة بإمام الحرمين، وينص عليه دون غيره من أئمة النظار والمحققين. ¬

_ (¬1) الإلماع ص 89.

وابن الأثير أيضاً: وبعد القاضي عياض وجدنا ابنَ الأثير في مقدمة كتابه (جامع الأصول) يعقد باباً بعنوان (الباب الثالث في بيان أصول الحديث، وأحكامها، وما يتعلق بها) يقول تحت هذا العنوان: " ما نثبته في هذا الباب من أصول الحديث وأحكامها، وشرح أقوال الفقهاء وأئمة الحديث، وذكر مذاهبهم، واصطلاحاتهم، فإنه منقول من فوائد العلماء، وكتبهم وتصانيفهم التي استفدناها وعرفناها، مثل كتاب (التلخيص (¬1)) لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وكتاب (المستصفى) لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وكتاب (التقويم) لأبي زيد الدبوسي، وكتاب (أصول الحديث) للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، وكتاب (المدخل إلى الإكليل) له، وشيء من رسائل الخطيب أبي بكر بن ثابت البغدادي، وكتاب (العلل) للإمام أبي عيسى الترمذي، وغير ذلك من كتب العلماء وتصانيفهم، رحمة الله عليهم. فجمعت بين أقوالهم، واختصرت من كل واحد منهم طرفاً يليق بهذه المقدمة (¬2) ... " إلخ فانظر كيف سلك إمام الحرمين مع أئمة الحديث وحُفاظه: الحاكم، والخطيب البغدادي، والترمذي، بل الأعجب أنه عدّ كتابه قبل كتبهم، وقدّمه في الذكر عليهم. شيوخ إمام الحرمين في الحديث، وتلاميذه: ونذكر بما ثبت من سماعه الحديث، وأخذه إياه عن شيوخه وأئمته، مثل والده، والشيخ أبي حسان، محمد بن أحمد المزكي، وأبي سعد، عبد الرحمن بن حمدان النضْرَوي، وأبي عبد الله، محمد بن إبراهيم بن يحيى المزكي، وأبي سعد، عبد الرحمن بن الحسن بن عَلِيَّك، وأبي عبد الرحمن، محمد بن عبد العزيز النِّيلي، وغيرهم. ¬

_ (¬1) انظر ما قاله إمام الحرمين عن الحديث في كتابه (التلخيص) الفقرات: 964 - 1184. (¬2) مقدمة جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: 68، 69.

وروى عنه: زاهر الشحَّامي، وأبو عبد الله الغُراوي، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وغيرهم. * وجمع أربعين حديثاً عرفت باسمه، وقرئت عليه (¬1). * وقد رأيناه في نهاية المطلب يعتز بمسموعاته في الحديث، ويحرص على روايتها، ومن ذلك قوله: " قد قدمنا في صدر الباب تباين المذاهب واختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد، وسبب التردد اختلاف الأخبار والآثار. ونحن نذكر منها ما فيه مَقْنَع من مسموعاتنا، أخبرنا ... " (¬2) وروى من الأخبار من مسموعاته، وكأنه يتيمّن بذلك في ختام كتابه. ... عودٌ على بدء. وتؤكد ما قلناه قبلاً (¬3) أننا لا نريد ولا نحاول أن نثبت أن إمام الحرمين كان من أئمة الحديث وحفاظه. وكل الذي نتغياه أن نقول لبعض الأغرار من نابتة العصر، وبعض من أعماهم التعصب، أولئك الذين يقعون في الأئمة، ويسوّدون صفحات بحوثهم، ويرددون في دروسهم القول بأن هذا الإمام أو ذاك كان لا يدري الحديث ولا علم له به، بل جمح يبعضهم الهوى، فقال عن إمام الحرمين والغزالي: إنهم من أعداء السنن. يقولون ذلك متكئين على ما نقلناه عن الأئمة الكبار، ابن الصلاح، والنووي، وشيخ الإسلام، والذهبي. نقول لهؤلاء: حنانيكم، أقصروا، إن ما كان عند هؤلاء من علم الحديث مع أنه ليس من علومهم - أكثر مما عند كثير من المختصين بعلم الحديث في عصرنا، وما قدمناه آنفاً من نماذج لعلم إمام الحرمين لن نجد في محدّثي عصرنا من يحفظ مثله. ¬

_ (¬1) ر. طبقات السبكي: 171، 181. (¬2) نهاية المطلب: ج 19 ص 503. (¬3) انظر ما سلف في أول هذا الفصل.

وننبه هنا أن كلام الأئمة الكبار بعضهم في بعض يجب أن يؤخذ بحذر، وبخاصة عند اختلاف المذاهب والمشارب، كما في حال هؤلاء الأئمة مع إمام الحرمين. كما أن كلام الكبار بعضهم في بعض يمكن احتماله، أما أن يطير به بعض الشداة، ويرددونه، فهذا ما قصدنا دفعه، والتنبيه إلى خطورته. ونختم هذا الفصل بهذه الكلمة المضيئة لإمام العلم والعمل، الإمام ابن القيم، إذ قال: " لو كان كل من أخطأ، أو غلط تُرك جُملةً، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم، والصناعات والحكم، وتعطلت معالمها (¬1) ". ونضيف ما جاء عن ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله): " قال الثوري رحمه الله: " عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة " (¬2). ثم قال ابن عبد البر: " ومن لم يحفظ من أخبارهم (¬3) إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات، والغضب والشهوات، دون أن يُعنى بفضائلهم حُرم التوفيق، ودخل في الغيبة، وحاد عن الطريق. جعلنا الله وإياك ممن يسمع القول فيتبع أحسنه " (¬4). ... ¬

_ (¬1) مدارج السالكين: 2/ 39. (¬2) عُزيت هذه الحكمة إلى ابن عيينة، عزاها ابن الجوزي في مقدمة صفة الصفوة ص 45، وقال الشيخ أبو غدة: عزيت إلى ابن عيينة في غير مصدر (مقدمة الانتقاء ص 6). (¬3) عَنَى الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة. (¬4) ر. جامع بيان العلم وفضله: 2/ 199 (آخر باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض).

الفصل السابع منهج التحقيق وعملنا في الكتاب

الفصل السابع منهج التحقيق وعملنا في الكتاب

عن التحقيق ومفهومه

منهج التحقيق وعملنا في الكتاب عن التحقيق ومفهومه: التزمت في تحقيق هذا الكتاب، المفهوم الدقيق لمعنى التحقيق، والمنهج الدقيق الذي قرره أئمة هذا الفن من العلماء والأئمة المعاصرين والأقدمين، وعلى رأسهم شيخي، أبو فهر الشيخ محمود محمد شاكر، شيخ العربية، رحمه الله وتقبله في الصالحين. يقوم هذا المنهج على أصل واحد هو " إخراج الكتاب على الصورة التي أرادها له مؤلفه " فإذا لم يتيسر، أو بالأحرى إذا استحال ذلك، فليكن على أقرب الصور إليها. وهذا ليس بالعمل الهين، بل هو الميدان حقاً، الذي بذل فيه العلماء من شيوخ هذا الفن وفرسانه جهودهم، وظهرت فيه آثارهم، نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، العلامة الشيخ نصر الهوريني، والشيخ الجليل محمد بن عبد الرحمن، المعروف بقطة العدوي، ومِنْ بعدهم شيخ العروبة أحمد زكي باشا، وأحمد باشا تيمور، والإمام محمد محمود التركزي الشنقيطي. والشيخ عبد الغني محمود، والعلامة محب الدين الخطيب. وتبعهم في جيلٍ تال، العلامة المحدث الفقيه الأصولي الأديب الشيخ أحمد شاكر، وأستاذنا الجليل الأستاذ عبد السلام هارون، والعلامة الشيخ السيد أحمد صقر، والأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، والأستاذ مصطفى السقا، والأستاذ إبراهيم الأبياري، وواسطة العقد، شيخي الجليل، أبو فهر الشيخ محمود محمد شاكر. ثم تلا هؤلاء، أو جاء معهم الدكتور إحسان عباس، والدكتور ناصر الدين الأسد، وشيخ الشام أحمد راتب النفاخ، وأحمد بن محمد بن مانع، والشيخ حمد الجاسر.

ثم كان من الجيل الذي يليهم، أخونا المرحوم الدكتور عبد الفتاح الحلو، والصديق الكريم الدكتور محمود محمد الطناحي، برد الله مضجعه (¬1). تذكَّر: قلتُ على سبيل المثال. لم أذكر لك هؤلاء نافلة ولا تزيُّداً، وإنما لتوازن بين أعمالهم، وبين ما تطلع علينا به المطابع الآن من تحقيقات، يهولك منظرها، ويعجبك مرآها، وتقلِّب النص بين يديك، فتجد الفتى قد افتات على مؤلف الكتاب، وأثقل هوامشه إثقالاً بتعليقاتٍ لأدنى ملابسة، (كما يقولون) بل بدون ملابسة، وتجد النص الأصلي ممزقاً في رؤوس الصفحات، مبعثراً بين أرقام الهوامش، وتحاول أن تقرأ النص الذي هو موضوع الكتاب، وعماده ومَعْمُوده، فتجده غير مستقيم، به من خلل التصحيف والسقط ما به، مع فواصل، وعلامات، إن ساعدتك على قراءة النص مرة، تضلّك مرات ومرات، ويكابد الباحث ما يكابد، ويعاني ما يعاني، وهو يتخبط بين الهوامش وفروق النسخ، محاولاً إقامة النص، وفهم مراد المؤلف. وهيهات، هيهات. لقد كنا نسعد كل السعادة، ونَهشّ ونَبَشّ حينما نسمع أن كتاباً من الأمهات، والمراجع قد طبع، ونقول: منارةٌ قد أضيئت، وطريق مُهّدت، وأقيم عليها الصُّوى. أما الآن، فكلما سمعنا أن كتاباً قد خرج، نضع أيدينا على قلوبنا، وكم من باحث اشترى كتاباً من الكتب الأمهات المحققة، وذهب به فرحاً مسروراً، وأمضى الليل به حفيا، ولكنه في الصباح أرسل يردُّه إلى مَنْ باعه إياه، ثم أقبل إلى الطبعة القديمة من الكتاب يحنو عليها كالمعتذر لها، عن همه بالاستغناء عنها وهجرها إلى تلك الخلوب!!! ¬

_ (¬1) توفي رحمه الله في صباح يوم الثلاثاء، السادس من ذي الحجة (1419 هـ)، الموافق الثالث والعشرين من مارس (1999 م)، توفي فُجاءة، وهو في أوج عطائه، وأقصى توهُّجه، فانْهدّ بموته ركن من أهم أركان الثقافة العربية والإسلامية، وقبر معه علمٌ أي علم، وطويت بموته المدرسة الشاكرية، وقد كان رحمه الله حفياً بهذا الكتاب (نهاية المطلب)، يتمنى أن يراه مطبوعاً، ووجّه للعبد الفقير نداء في كتابه الفذ (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) يحثني على إخراجه، وكم كنتُ أتمنى أن أسعده بإهدائه أول نسخة تخرج من المطبعة.

نعم. كم من كتاب خرج بهذا التحقيق (العصري) مثقلاً بالحواشي والتعليقات، ينوء بما يسمونه التخريج والتوثيق، وأما النص -الذي هو عمل المحقق أصلاً- ففيه ما فيه من الخلل والاضطراب، فماذا تُغني هذه التعليقات إذاً!؟ ومن قبل تنبه علماء أجلاء، ومحققون أصلاء إلى هذه القضية، ونبهوا عليها، فها هو الشيخ عبد الله دراز يتحدّث عن عمله في تحقيق كتاب الموافقات، فيقول في مقدمته: " إنه إقامة النص، وتخليصه من التصحيف والتحريف "، ويسخر في مهارة وخفة من هذه التعليقات إياها، فيقول: " ولم أَرُمْ الإكثار في هذه التعليقات، وتضخيمها بالَّلم من المصنفات للمناسبات، بل جعلت المكتوب بمقياس المطلوب، واقتصرت على المكسوب في تحقيق المرغوب، إلا ما دعت ضرورة البيان إليه في النادر الذي يتوقف الفهم عليه " (¬1) اهـ. وانظر كلام الميمني في منهج التحقيق عن إثبات الفروق والإسراف فيها: يقول الأستاذ عبد العزيز الميمني: " ... غير أني لم أنبه على أغلاط الأصل إلا على شيء نزر، رأيت في التنبيه عليه فائدة أو داعياً، وأغفلت منها قدراً جمّاً عدد الرمل والحصى، لأني لم أَرَ في ذكرها غرضاً غيرَ تسويد الكتاب، وتضييع أوقات القارىء فيما لا يجديه، وغير إبراز هوى النفس الأمّارة، المكنون في التحذلق والتفيهق، ورغماً لأنف من يستنكره عليَّ من نابتة العصر المتبجحين، فإني أرى -ولا كفران- أنه: إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عليَّ لئامُها" (¬2) ومن أسفٍ غاب هذا المنهج عن كثيرين، وراج عند الناس هذا المنهج الآخر، حتى إنك لتجد أحدهم يقلِّب الكتاب بين يديه، فإذا وجده مثقلاً مظلماً بالتعليقات، تزدحم حواشيه بأسماء المراجع والمصادر، وأرقام الأجزاء والصفحات، قال في إعجاب، وهو يضغط على ألفاظه: " هذا كتاب مخدوم "!!! للأسف راجت العملة الرديئة. ¬

_ (¬1) مقدمة الموافقات: 1/ 13. (¬2) مقدمة سمط اللآلي، تأمل هذا الكلام، وغضبة الرجل على هذا (اللون من التحقيق).

لكن انظر عملَ (محمد أبو الفضل إبراهيم) في تاريخ الطبري، وعمل إحسان عباس في الوفيات لابن خلكان، وفي الفوات لابن شاكر، وعمل كبار المحققين وشيوخهم عامّة، تجد نصاً مستقيماً، لا تصحيف، ولا تحريف، ولا خلل ولا اضطراب، وتجد أن عمل المؤلف خلص له، فخرج كتابه على النحو الذي أراده، وبقي المحقق متوارياً خلف النص، لا يظهر قلمه إلا " فيما دعت ضرورة البيان إليه " على حد تعبير الشيخ الجليل عبد الله دراز، فنادراً ما تجد تعليقاً في تحقيقات هؤلاء الأعلام، ولكن حينما تعثر على هذا التعليق النادر تدرك أنه كان ضرورة اقتضاها إما استقامة العبارة وسلامتها، أو فهم المرمى والمغزى الذي يريده صاحب الكتاب. وأستطيع أن أتخذ هذا مقياساً للحكم على هذه التعليقات وقيمتها، فكل تعليق يستطيع قارىء الكتاب ودارسه أن يقرأ كلام المؤلف، ويفهم مراده دونه، فهو نافلة، قد يكون حلْية وزينة، أو تحسينياً، كما يعبر الأصوليون، وقد يصل إلى أن يكون ثقلا، وغثاثة، وغتامة، أو مجلبة للضيق والغم. هل من عذر لهؤلاء؟ نستطيع أن نميز بين هؤلاء طائفتين، طائفة تطلعت إلى سوق النشر، فرأتها ذات بريق، وضجيج وعجيج، ولها أعلام وبيارق، ووراءها قطوف وثمار، وعجزت أن تدخلها من أي باب، فلم تجد غير باب التحقيق، فولجت منه جهلاً واجتراءً، وذهولاً وغفلةً عن معنى التحقيق، ظانين أنه مجرد نقل من ورقٍ بالٍ عتيق، إلى ورق ابيضَ صقيل، وقد عبرت الدكتورة بنت الشاطىء عن عمل هؤلاء بقولها: " إنهم لم يقصدوا إلى شيء من النشر العلمي، ولا عنَّاهم أن يثقلوا على أنفسهم ببعض أعبائه وتبعاته، ولا أن يضبطوا أقلامهم بشيء من نظمه ومناهجه، وإنما اتخذوا النشر وسيلة ارتزاق فحسب، وجعلوا طبع المخطوطات تجارة، لا مجال فيها لتقدير حرمة النصوص، أو احترام أمانة العلم " اهـ بنصه (¬1). ¬

_ (¬1) تراثنا بين شرق وغرب -محاضرات ألقتها على الدارسين بمركز تحقيق التراث، بدار الكتب بمصر- مطبوعة على الآلة الكاتبة ص 6.

ولذلك لا تعجب إذا سمعت أن فلاناً أخرج كتاباً من عشرة مجلدات أو أكثر، في عام أو أقل. على حين تجد العلامة الشيخ محمود محمد شاكر أبا فهر يمضي زهرة عمره بمعاونة أخيه المحدث العلامة الشيخ أحمد شاكر في إخراج ستة عشر مجلداً من تفسير الطبري، لم تزد عن ثلث التفسير إلا قليلاً، حيث وقفت الأجزاء الستة عشر في أثناء تفسير سورة إبراهيم. وتجد علاّمة الهند محمد حميد الله يقول بالحرف الواحد: " ... صرفت عشر سنوات في تصحيح نسخة الغياثي، وإعدادها للنشر" وهو كتاب من مجلد واحد (¬1). ونجد الشيخ عبد الرحمن الخضري شيخ علماء دمياط، يقول عن كتاب البرهان في أصول الفقه، حينما عثر على نسخته المخطوطة: " ... فأخذته وأغثته، وجعلته في حضانتي، ووضعته في كفالتي، وشرعت أعالجه، وباللطف أمازجه، متأنياً بلا ملل، حتى زال معظم الخطر والخلل، ووضعت كل عضو منه في موضعه، فاستراح نوعاً، ولم يتجاف عن مضجعه، وأنفقت في إصلاحه سنتين، حتى صار قرير العين ... " وكان من نعمة الله علينا -ونعمه لا تعد ولا تحصى- أن هيأنا لخدمة هذا الكتاب وإخراجه أيضاً، فأنفقنا في ذلك سبع سنين دأباً، وكنت أقول لمن يعجب من ذلك مستكثراً هذا الزمن: إذا كان شيخ علماء دمياط قد أنفق سنتين في ترتيب أوراقه، وقراءته، أكثير على من كان في مثل عجزي وضعفي وتقصيري أن ينفق سبع سنوات في قراءته، ونَسْخه، ومقابلته، والتعليق عليه، والتعريف به، وفهرسته وإخراجه؟ وحينما نجد أن الشيخ أحمد شاكر يقول: " إنه سلخ في تحقيق رسالة الشافعي نحو ثلاثة أعوام ". حينما نجد ذلك أليس من حقنا أن نفزع لهذا السيل المتدفق من الكتب الأمهات، التي يبلغ كل واحد منها من المجلدات عدداً؟ ونسأل الله السلامة. وبالنسبة لي شخصياً فقد عانيت من طول العمل في نهاية المطلب (علم الله) ¬

_ (¬1) كان لنا -بفضلٍ من الله وتوفيقه- شرف السبق إلى نشره.

لا متضجراً، ولا متمللاً، ولا متعجلاً. ولكن فقط سئمت السؤال: ألم تنته بعد؟. وفي عيون بعض السائلين وراء التعجب شيء لا أدرك كنهه، وكأنهم يستكثرون، أو لا يصدقون أن ينفق باحث في كتاب واحد كل هذه السنوات التي فاقت الخمس والعشرين سنة. والله وحده المستعان!!! * وهناك طائفة أخرى من المحققين، لا تعوزهم القدرة، ولا ينقصهم حسن النية، ولكن أخرجهم عن المنهج القويم شعورهم بأن الناس من حولهم لا يقدرون قيمة عمل المحقق في قراءة النص، وإقامته، ورأوا الكتاب المحقق منشوراً باسم مؤلفه طبعاً، لا باسم المحقِّق، فخافوا أن يسألهم الناس أين أنتم؟ فانصرفوا إلى الهوامش يثقلونها بالحواشي، والتعليقات، وفروق النسخ، والمراجع والمصادر، ولسان حالهم يقول: ها أنذا. واشتغلوا بهذه التعليقات، وأكثروا، وتزيّدوا منها، حتى صرفتهم عن عملهم الأصيل، في إقامة النص، وسلامته. وكان على هؤلاء أن يدركوا أن العلم عندنا دين، والعمل به عبادة، فلا يلتفتوا إلا إلى رضا الله سبحانه وتعالى، ويعلموا أن عمل المحقق وجهده الذي يصل فيه الليل بالنهار، دائماً خلف ستار، فهو دائماً متوارٍ في الظل خلف النص الذي يحققه، لا يراه الناس، ولا ذكر له عندهم. ومن وفقه الله يسعد بهذا، ولا بأس عليه، ويحتسبه عند الله، مسروراً بأن لم يذكره أحد، فهو بذلك قد نجا بدينه من أحد الذئبين الجائعين اللذين حذر منهما المصطفى صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف (أي الشهرة) لدينه " حديث صحيح رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وابن حبان في صحيحه، من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، كما رُوي من وجه آخر عن عدد من الصحابة، وقد عُني بشرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي رضي الله عنه.

ورضي الله عن إمامنا الشافعي، فقد كان يقول: " وددت لو أن الناس انتفعوا بهذا العلم، ولم ينسبوا إلي منه حرفاً ". وهذه سنة العلماء إلى يوم الناس هذا، فقد كتب الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله، يقول: " ... إنا لا نكتب بحمد الله ليقال: بحث واستقصَى، واستوعب وأحصَى، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، بل نكتب ما نكتب لنسد فراغاً، ولينتفع بما نكتب أهل العلم، إنْ واتتنا القوة لسد الفراغ، وأسعفنا التوفيق من الله، وجعل من كلامنا ما ينفع الناس" ولقد أشار رحمه الله إلى من أشرنا إليهم آنفاً، فقال: " ولقد وجدنا علماء أفاضل من قبلُ ومن بعد يُعْنَوْن أشد العناية بأن يشعر القارىء عند قراءة ما يكتبون بعظيم جهدهم، فيذكروا للمسألة الواحدة، أو للخبر الواحد مصادر مختلفة، ما بين مخطوط ومطبوع .... ولقد نهج ذلك المنهاج المتكلف شبابنا الذين يكتبون، فظنوا أنه كلما عُني أحدهم بالإكثار من المصادر، كان ذلك دليلاً على أنه يفهم نظام البحث الحديث، وأنه مجدد فيما يكتب ... ". ومع كل ذلك. دائماً لا يصح إلا الصحيح، وأبداً لا يذهب العرف بين الله والناس، فيبقى للمحقق -إن أخلص لله عمله- مع ثواب الله وأجره، تقدير العلماء الأصلاء، والباحثين الصادقين، وتبقى النصوص العلمية التي نفض عنها غبار الزمن، وجفَى وجهَها للناس، تبقى هذه النصوص هي المادة التي يشكِّل منها العلماء أعمالهم، والتِّبر الذي يصوغ منه الباحثون جواهرهم، ودُرَرَهم. ***

ملامح المنهج

ملامح المنهج وإذا كنا نستطيع أن نعبر عن كنه التحقيق ولُبِّه في جملة واحدة، فيمكن أن نقول: " التحقيق إقامةٌ وإضاءة " نعني بذلك إقامة النص، صحيحاً سليماً مستقيماً، لا تصحيف، ولا تحريف، ولا عِوَج، ولا اضطراب، ولا قلق، ولا خلل. ونعني بالإضاءة إيضاح ما أبهم من لفظ أو عبارة، بسبب غرابة في المفردات، أو دقةٍ في الصياغة، أوخفاءٍ في المعنى المراد. إذا كان هذا هو التحقيق، فما الخطوات التي تحقق ذلك. أولاً: نترك الحديث عن الخطوات الأولية، التي تتعلق بما يمكن أن نسميه الإعداد للعمل، ونعني بها: • جمع نسخ المخطوط جمعاً مستقصياً من جميع مكتبات العالم (المراد صورها طبعاً). • جمع ما يتصل بهذا المخطوط من شروح، ومختصرات، مطبوعة ومخطوطة كلما أمكن ذلك. • الحصول على مؤلفات صاحب المخطوط مطبوعة أو مخطوطة. • الحصول على مؤلفات شيخ صاحب المخطوط التي في الموضوع نفسه، مطبوعة، أو مخطوطة قدر الطاقة. • الحصول على مؤلفات تلاميذ صاحب المخطوط التي في الموضوع نفسه، مطبوعة، أو مخطوطة إذا احتاج الأمر، أو تيسر ذلك. • البحث عن الكتب الأمهات في موضوع المخطوط، والتي هي مظنة النقل عنه.

• إعداد مراجع مناسبة في موضوع الكتاب المراد تحقيقه، مطولة ومختصرة. • هذا بجانب المراجع العامة المعروفة، من معاجم لغوية، وكتب الطبقات، والأعلام، ... • ترقيم صور المخطوطات إن لم تكن مرقمة، وفهرستها على التوازي، بمعنى أن يجمعها كلها فهرس واحد يبين أين يقع الموضوع المطلوب في كلِّ منها. • قراءتها قراءة سريعة، للتحقق من تسلسلها، وعدم تشويش ترتيبها، وحصر مواضع الخرم إن كان. • تقسيم النسخ بحسب الجودة إلى فروع، وأمهات، واختيار الأصل من بينها. • نَسْخ المخطوطة، وإعدادها للعمل. هذه أهم الخطوات الأولى، وتركُ الحديث عنها ليس تهويناً لشأنها، فهذه المرحلة تحتاج إلى جهد ودأب، ومعرفة بمظان المخطوطات وفهارسها، ثم السعي في تصويرها. وهذا عمل شاق يؤود الباحث ويرهقه، وبخاصة في عالمنا هذا، حيث الجهات والمراكز التي تمتلك المخطوطات، وصورَها تضنّ بها ضناً، ولا تسمح بها إلا بعد التي والّلتيا -إن سمحت- ويظل الباحث يدأب ويسعى ويتابع بكل وسيلة، حتى يحصل على بغيته -إن حصل عليها- بعد زمان، يصل أحياناً إلى سنوات، ما بين طلبٍ ضائع، وآخرَ مرفوض، وثالث مشروط بالتبادل، ورابع مقبول تحول دون إجابته الإمكانات. مما يضطر الباحث أحياناً إلى ركوب (الصعب)، وأحياناً إلى تدبير رحلة إلى أكثر من دولة، حيث خزائن المخطوطات التي يتوقع طلبته فيها، وقد يعود من بعضها بلا شيء، ليواصل البحث عن دروب أخرى. وبخاصة عندما يكون النص المراد تحقيقه من عدة مجلدات، كما هو واقعٌ معنا في كتابنا (نهاية المطلب). فقد بلغت نسخ الكتاب أكثر من عشرين نسخة، تعاونت جميعاً بالكاد على تكوين نص الكتاب، وكانت هذه النسخ مبعثرة بين مكتبات العالم من شرقٍ وغرب، وشمال وجنوب.

ثانيا: خطوات العمل

فلنترك هذه المرحلة، فالحديث عنها يطول، ولكن أمره مفهوم. إن شاء الله. ثانياً: خطوات العمل (¬1): الواجبات التي يجب أن يلتزم بها المحقق، والصفات التي يجب أن يتحلى بها: 1 - رعاية حرمة النص: وأولها أو مِلاكها الذي تتفرع عنه كل الصفات، هو رعاية حرمة النص، فالمحقق يتكلم إلى الناس بلسان صاحب الكتاب، فعليه أن يتأنى، ويتريث، ويتلبث، حتى لا يُنطق الكتاب بغير ما قاله صاحبه، فهذا يكون كذباً وتزييفاً، والعياذ بالله. 2 - العلم والإحاطة بالفن موضوع الكتاب الذي يحققه: أن يكون على علم ودراية بالفن الذي يحقق فيه، أي بالفن الذي هو موضوع الكتاب الذي يحققه، فإن كان يحقق كتاباً في أصول الفقة يجب أن يكون على علم بأصول الفقه، ودراية به، تتيح له القدرة على قراءة النص الذي يحققه، ولو مستعيناً بقراءة أصول الفقه مسألة مسألة في مرجع آخر، واستحضارها قبل أن يقرأ النص المحقق. 3 - العلم والدراية بالمصطلحات: أن يكون على علم ودراية بمصطلحات الفن موضوع الكتاب الذي يحققه، فعدم العلم بهذه المصطلحات وإلْفها باب واسع من أبواب الخلل والخطر، والمحقق الثقة، والذي يعرف للنص حرمته، إذا تعذر عليه شيء من ذلك يتوقّف، مثل ما حدث من الدكتور عبد الله الجبوري في تحقيقه لكتاب طبقات الأسنوي، ففي ترجمة ¬

_ (¬1) توثيق نسبة النهاية إلى مؤلفها: يقتضي المنهج وقواعد الصناعة أن يقوم المحقق بتوثيق نسبة الكتاب المحقَّق إلى مؤلفه، مع أن ذلك في كتابنا هذا يعتبر من نافلة القول، فقد بلغت نسبة هذا الكتاب إلى إمام الحرمين حدّ التواتر الذي يوجب العلم الضروري، فمحاولة الاستدلال على ذلك ضربٌ من التزيد لا معنى له. وخضوعاً لصرامة المنهج وضعنا هذه الحاشية؛ حتى لا يدّعي علينا مدّعٍ أننا قصرنا في حق المنهج، ولم نلتزم بقواعده.

4 - ألا يعتمد على إلفه ومعتاده من أساليب اللغة ومفرداتها،

الإمام أبي بكر المحمودي، ورد قولُ الإسنوي: " ذكره الرافعي في مواضع منها: في الحيض في الكلام على (قَوْلَيْ السَّحْب واللَّقْط) " (¬1) اهـ. فأشار المحقق في الهامش قائلاً: كذا وردتا في الأصول. أي أنه متوقف في قراءة الكلمتين وحسناً فعل، فدل على علمه وخلقه، فهناك من يغيِّر ما لا يفهم، أو يفسره تفسيراً خاطئاً، يسد على القارىء الأبواب. وهذا الكلام وجدته في (النهاية) عن أبي بكر المحمودي فعلاً، وهو عن حكم التلفيق لمن تتداخل أيام حيضها وأيام طهرها، وهل (تلقُط) أيام حيضها وتجمعها، وتعتبر الباقي طهراً، أم (تَسْحَب) حكمَ الحيض على أيام النقاء بين الدمين؟ في تفصيل طويل، وخلاف بين الأصحاب، يراجع في مظانه. ومما يستحق الإشارة هنا أن المصباح المنير، لم يذكر أيّاً من اللفظين (السَّحْب واللَّقط) مع أنهما من ألفاظ الشرح الكبير، فلعل صاحبه رضي الله عنه، لم يعتبرهما من الغريب. كما لم أجدهما في أنيس الفقهاء، ولا حلية الفقهاء، ولا كشاف اصطلاحات الفنون، ولا التعريفات، ولا الكليات، ولا في المعاجم أيضاً. وربما كان أخصر مثال نذكره هنا للخطأ الذي وقع نتيجة لعدم الإحاطة بالمصطلحات، هو ما ذكره أحدهم عن المعتزلة، وأنهم يقولون بالتعديل والتجويز (بالزاي المعجمة). 4 - ألاّ يعتمد على إِلفْه ومعتاده من أساليب اللغة ومفرداتها، فيخطِّىء ما عداها، فكم من صواب أصيل غير معروف ولا مألوف لنا، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: ما كان معنا في (نهاية المطلب)، فقد جاء في باب مسح الخف قوله: " فلو كان شيء من محل الفرض بادياً، فلا يجوز المسح أصلاً. ولا يضر بَدْوُ القدم من أعلى الخف، بسبب اتساع الخف، فالستر المرعي فيه هو الستر من أسفل الخف والجوانب ". فلفظ (بَدْو) جاء بهذا الضبط في نسخة الأصل، وهو بمعنى الظهور، مصدر بدا ¬

_ (¬1) طبقات الإسنوي: 2/ 377.

أي ظهر. ولكن المسموع المشهور في مصدر بدا بمعنى ظهر (بُدُوّاً) و (بداءً). ورعاية للتثبت والتوقف راجعت المعجم الوسيط، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، فوجدت أن تقديري صواب، وأن هذا الضبط في المخطوط خطأٌ من الناسخ، فالفعل مصدره المنصوص في المعاجم الثلاثة بُدُوّاً وبداءة، فقمت بتصويب النص، وغيرته إلى (بُدُوّاً)، وحرصاً على حرمة النص، واحتراماً للضبط الموجود في المخطوطة، قمت بالتعليق في الهامش، وتسجيل هذا التغيير، وسببه، والمعاجم التي استندتُ إليها. وانتهى الأمر. ولكن في مراجعة ثانية -وما أكثر المراجعات- حاك في الصدر شيء، فراجعت القاموس المحيط، فكانت المفاجأة الكبرى، إذ وجدت الأصل صحيحاً، والتغيير الذي قمتُ به عدوان على النص، حملني عليه قصور المعاجم الثلاثة التي راجعتها، حيث اكتفت بذكر بعض مصادر الفعل (بدا) دون بعضها. أما الفيروزآبادي، فقد قال في القاموس: " بدا بَدْواً، وبُدُوّاً، وبداءة: ظهر " فأورد الوزن الذي ظننته خطأ أوّل أوزان المصدر، وردني عن التغيير الذي قمت به، مخطِّئاً ما كان صواباً. مثال ثان: وردت هذه اللفظة عند إمام الحرمين في النهاية أيضاً: " وفي بيع بزره خلاف " وردت لفظة (بزر) بالزاي، والمشهور المتداول (البذر) بالذال. فهنا يسرع المحقق إلى تغييرها، وكتابتها (بالذال) عملاً بالمنهج المعروف. وأعني به: " الكتابة على القواعد الإملائية المعهودة، بدون التنبيه إلى ذلك في الهامش ". ولكني توقفت وتريثت، وساءلت المعاجم، فإذا بالفرق واضح لائح، فالبذر بالذال في الحبوب كالحنطة والشعير ونحوها. والبزر بالزاي في الرياحين والبقول. وأما الضبط، فالباء مع الذال مفتوحة لا غير، ومع الزاي، بالفتح والكسر. وهنا أفاد التريث، والتوقف، فرأيت أن ما في المخطوط صواب، وكادت الواقعة تقع بتخطئته. وعندي من هذا الباب عشرات الأمثلة.

5 - كذلك على المحقق ألا يعتمد على مألوفه من قواعد اللغة

5 - كذلك على المحقق ألا يعتمد على مألوفه من قواعد اللغة: نحوها وصرفها، فيسارع بتغيير ما يراه مخالفاً لما علِمه أو تعلّمه، بل عليه أن يتأنى، ويتوقف ويراجع كتب اللغة، فإن لم يجد عندها الجواب، فعليه أن يسأل علماء اللغة وأساطينها. وفي كل الحالات إذا لم يجد وجهاً لما في المخطوط، وانتهى الأمر بعد المراجعة والمباحثة إلى تغييره، فيجب أن يثبت ذلك في الهامش بوضوح، ذاكراً المراجع والمحاولات التي قام بها. فقد يصل باحث آخر فيما بعد إلى وجه من الصواب لهذا الذي غيره. وأمثلة ذلك كثيرة منها: قال صاحب المخطوط: وهو يتحدث عن فرائض الوضوء: " أما الفرائض، فست " فجاء المحقق، فغيرها إلى " فستة " وعلق في الهامش قائلاً " لا يصلح ست من حيث اللغة ". نظر في ذلك إلى أن المعدود مذكر (فرض)، ولذا يجب تأنيث العدد معه. وهذه قاعدة مشهورة. ولكنه لو توقف قليلاً وراجع كتب اللغة القريبة، لوجد أن المعدود إذا تقدم، تجوز الموافقة في التذكير والتأنيث، وعليه فإن المخطوط كان صحيحاً. والذي خطَّأ الصواب هو المحقق. مثال ثان: وهو مما عانيته في (نهاية المطلب) قال إمام الحرمين: " أما من حكم بالانتقاض مطلقاً، لم يجعل للشرط موقعاً ". فها أنت تراه أسقط الفاء في جواب " أما " وهنا توقفت، وتأنَّيتُ، وتلفت أبحث عن المراجع النحوية، فأسعفتني الذاكرة بما كنت قد قرأته قريباً عن الشيخ محمد بخيت بن حسن المطيعي، أحد شيوخ الأزهر وأعلامه ومفتي الديار المصرية في زمانه، وقد كان في مناظرة يتدفق بالدفاع عن رأيه، فقاطعه أحد شهود المناظرة من معارضي رأيه، قائلاً: أسقطت الفاء في جواب " أما " فأجابه الشيخ على البديهة. " الاستغناء عن الفاء في جواب " أما " لغة الكوفيين، فافهم يا بصري ". وهنا طبعاً عرفت صواب ما لم يكن مألوفاً لي صوابه، ووجدت هذه إحدى خصائص لغة إمام الحرمين، فقلما يأتي بالفاء في جواب " أما ". ومثال ثالث: من (نهاية المطلب أيضاً): كثر في عبارة الإمام تكرار (بين) مع الاسم الظاهر، من مثل قوله: " والفرق بين البيع وبين الهبة " والمعروف المشهور أن

هذا لا يجوز إلا مع الضمير، حينما تتحدث عن علي وإبراهيم مثلاً، ثم تقول: " والفرق بين علي وبينه " فحينئذ فقط يجوز تكرار لفظ (بين). هذا هو المشهور الذي نعرفه، وعليه شواهد من الشعر والنثر، لا نطيل بإيرادها. ولكني توقفت أيضاً، وبحثت حتى أعياني البحث، وأنا موقن أن للأمر -لا شك- وجهاً في اللغة، فمحال أن تجتمع عدة نسخ في عدة مواضع على هذا التعبير، ويكون خطاً، وظللت أسائل من أتوقع عنده العلم من أهل اللغة، حتى أفادني بعضهم ممن له إلف بالأساليب القديمة بأن ذلك وارد في كثير من النصوص، وجائز، ثم دلني على موضعه من كتب اللغة، فنبهتُ في الهامش على صواب عبارة المخطوط، حتى لا ينسبنا أحد، إلى الذهول عن هذا الخطأ، وحتى أفيد من يطلع على المخطوط بعد ذلك، علماً جديداً بصحة هذا التعبير، وبالطبع أسندت ذلك إلى المرجع. أما أخونا عالم اللغة الذي ساعدنا، فسيكون ذكره في مقدمة الكتاب مع قائمة العلماء والخبراء والباحثين الذين أفادونا بعلمهم، وساعدونا بجهودهم. ولإمام الحرمين عدة خصائص أسلوبية أضنانا بالبحث عن تخريجها، والتأكد من صوابها، سيكون بيانها في الجزء الخاص بالفهارس -إن شاء الله تعالى- فنكتفي منه بهذين المثالين. - قارن هذا العناء بمثال آخر: قال صاحب المخطوط: " ... فإن (قَدِموا) على هذا الفعل، وجب عليهم كذا ... الخ ". فغيرها المحقق، فصارت فإن أقدموا .. ثم في الهامش علق قائلاً:، " الأصل: قدموا، والصواب أقدموا كما هو معروف " اهـ بنصه. فهنا استسلم المحقق لمألوفه ومحصوله اللغوي، وخطَّأ المخطوط، وغير لغة مؤلفه، وتحكم فيها بلغته هو، وقصَره وحصره على ما يعرفه هو من اللغة. والواقع أن قَدِم بمعنى أقبل، منصوصة في أقرب المعاجم إليه لو أراد التثبت والتحقق، جاء في المعجم الوسيط: قدِم على الأمر يقدَم قدوما: أقبل عليه، ولكنها العجلة، التي ستجعلنا نتكلم لغة جديدة، وننطق أئمتنا بلغة غير التي كانوا يتكلمون بها.

6 - الحذر من التصحيف والتحريف

- ومثال آخر أعجب من هذا، جاء في أحد كتب السيرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام الحديثُ المعروف المتفق عليه: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا (يكسِفان) لموت أحد، ولا لحياته ". فإذا بالمحقق يغيرها إلى (ينكسفان) قائلاً: في الأصل (يكسفان). واعجب معي لماذا غيرها؟ لم يقل لنا!! واللفظ وارد في حديث شريف، لماذا لم يرجع به إلى مصدره في الصحيحين أو أحدهما إذا لم يعجبه لفظ (يكسفان)؟. وبعمله هذا أوهمنا أن (يكسفان) من الأخطاء اللغوية التي يصار إلى تصحيحها من غير بيان السبب أو المصدر. مع أنها واردة في نص الحديث. ولكن أتاه كل هذا الخلل من صفتين: الجرأة، والاعتماد على محصوله ومعلومه من اللغة. وهذا المحقق نفسه، وفي الموضع نفسه، من الكتاب نفسه، يقول الكتاب: " كَسَفت الشمس يوم وفاة إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيضبطها (كُسِفت)، بضم الكاف وكسر السين، مجانباً الصواب المحفوظ في القرآن الكريم: " فإذا برق البص وخَسَف القمر " ولكنها الجرأة والعجلة. أكتفي بهذه الأمثلة في هذا الباب وعندي منه -على جذاذات- ما يملأ مجلداً كاملاً، تجمَّع لدي من طول معاناتي، ومطالعاتي، فأخذت أدون وأسجل. وفي النية -إذا نسأ الله في الأجل- أن نخرجه، مدققاً موثقاً، مبيناً أسماء الكتب التي وقع فيها هذه الأوهام، ليكون استدراكاً وتصحيحاً، وإنصافاً لأئمتنا، أصحاب هذه الكتب، وتدريباً وتنبيهاً لأبنائنا الشُّداة المبتدئين، عسى أن يكون في ذلك فائدة لهم. 6 - الحذر من التصحيف والتحريف: وهذا في الحقيقة أُسُّ العمل وصلبه، ودواعيه كثيرة، وأبوابه متعددة، ولا منجى منه إلا بتوفيق الله سبحانه وإلهامه الذي يهبه لمن يشاء، كفاء إخلاصهم، وصبرهم ومصابرتهم، ومثابرتهم. فكم من كلمات تهجم العين عليها، فتقرؤها قراءة خاطئة، وكم من كلمات يصحفها الناسخون.

وأحياناً تكون الكلمة مع تصحيفها وتحريفها تتوافق مع السياق والسباق على نحوٍ ما، ولكن المحقق المتأني المتريث، مع دُربته وتذوقه يدرك أن فيها نوعاً من القلق. فيظل يدير العبارة على أنحاء من القراءة، ويدير الكلمة على أنحاء من الصور، متأملاً، متأنياً بلا ملل، مستبصراً مستلهماً إلى أن يصيح: وجدتها. ودائماً سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا. وعندي من الأمثلة التي عانيتها مع شيخي إمام الحرمين (في نهاية المطلب) المئات من الأمثلة النادرة العجيبة، وقلما يمر يوم من غير أن يحدث شيء من هذا، ولكن عن الغرائب والنوادر نتكلم. فمن ذلك: جاء في النهاية تعليقاً على الاستدلال لبعض القضايا، قوله: " وهذه الأدلة تتعلق ببحورٍ لا (تنكر) من قضايا أصول الفقه " هكذا في نسخة الأصل، تنكر وفي النسختين المساعدتين متسع بعد الكاف يجعلها قابلة لأن تقرأ: لا (تكسر) من الكسر (مع ملاحظة أن المخطوطات لا تنقط إلا بعض الحروف، بل أحياناً لا تنقط أصلاً). وقفت أمام العبارة، والمعنى على الجملة مفهوم، والسياق مستقيم، ولكن ما هكذا يكتب الأئمة الأقدمون، فعبارتهم مشرقة، وأسلوبهم مضيء، والكلمة (تنكر) هنا قلقة غير مستقرة، وكأنها رقعة من نسيج سخيف في ثوب محكم النسج، فما قيمة وصف البحور بأنها لا تنكر أو لا تكسر؟. ولكن ما الحيلة؟ انتهى الأمر. ولكن ظللت قلقاً مع قلق اللفظة (تنكر)، وصرت أعود إلى الموضع مرة بعد مرة؛ أحاول أن أدرك موضع الخلل، وذات مرة من هذه المراجعات، أخذت أتصور حروف الكلمة بكل ضبط، وبكل نقط، وأحاول أن أقرأ، وأستعين بالمعجم، فقلت من باب إبراء الذمة أجرب مادة: ن. ك. ز (نكز)، بالزاي، وأخذت أقرأ: وكان العجب: نَكِزت البئرُ: قلّ ماؤها، وأنكز البئرَ: أنفد ماءها. فترجح عندي أن الكلمة هي (تنكز)، وبحور لا تنكز: أي لا تنفد، وهذا هو المناسب، فالبحور توصف بأنها نفدت أو أنفدت. وعندي من هذا أمثلة كثيرة اكتفي بالإشارة السريعة إلى آحاد منها. مثل: قال الإمام: " ... فلا يضر تعرض البيع للنوى" هكذا وقد يمر عليها المحقق مر

7 - ضبط الغريب والمشكل، وتفسيره

الكرام، فالسياق على نحوٍ ما مستقيم، والكلام في البيع. و (النوى) مما يشتمل عليه المبيع، ويباع تبعاً من غير تعرّضٍ له، وانتهى الأمر. ولكن معايشة النص، والوعي الكامل بالسياق، والموضع الذي فيه الكلام، يشعر بأن هنا فجوة، ومع التأني والتلبث والتريث، وسؤال الله من فضله، وَمَضَ النصُّ وَمْضةً كشفت عن الصواب، فإذا هو: " فلا يضر تعرض المبيع للتوى " فتصحفت كلمة المبيع إلى البيع، وكلمة (التوى) بمعنى الهلاك، إلى النوى. ومثال من التصحيفات التي رأيتها في كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، قوله، وهو يترجم لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: " ويقال: إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولا أب وبنوه، إلا أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن ". اهـ فقوله: " لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولا أب وبنوه " كلام غير مستقيم، ولا مدلول له، والسبب في ذلك تصحيف ظريف خفيف عند قراءة النص المخطوط. وذلك أن كلمة: " ولا أب وبنوه " صوابها: وِلاءً: أبٌ وبنوه. ولكن لما كانت المخطوطات القديمة لا تهمز الممدود، بل ولا غير الممدود، فصارت كلمة: (وِلاءً) (لا) النافية وقبلها (و)، وبهذا التصحيف استغلق الكلام. فالمعنى: لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعةُ أجيال متوالية من أب وأبنائه إلا أبو قحافة وأبو بكر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومحمد بن عبد الرحمن. رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا ضاعت الهمزة، فجعلت اللفظة لفظتين، واضطرب السياق. 7 - ضبط الغريب والمشكل، وتفسيره: وهذا أيضاً مثل كل عمل المحقق يحتاج إلى اليقظة، والدقة، وعدم الاعتماد على المعروف لديه، المعلوم عنده. وليس المطلوب ضبط الغريب الذي يحتاج إلى تفسير فقط، ولا المشكل الذي يُشكل إعرابُه فقط، بل المراد إضاءة النص، بضبط اللفظ الذي يساعد على فهم المراد، وإقامته بضبط بنية الكلمة التي قد تنطق خطاً، مثل بعض

الأسماء، والأفعال غير المألوفة، والمشتقات التي كثر فيها الخطأ (أسماء الفاعل، والمفعول، والآلة ... ) وكذا عين المضارع الثلاثي، فقد يبدو أن ذلك سهل ميسور. {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. وأقرب مثال لذلك كلمة (وِلاء) بمعنى الموالاة والتتابع التي وردت في المثال السابق، يتبادر إلى الذهن ضبط أولها (الواو) بالفتح والصواب بالكسر: وِلاء: أما بالفتح، فهي بمعنى: النصرة والموالاة. مثال ثان: جاء في (نهاية المطلب) قولُ الإمام في سبب المنع من السَّلَم في النَبْل: " إنه التركُّب من أركانٍ: الخشب، والعقب، والريش، والنصل في مكان الرعظ " فكيف نضبط هذه الكلمات، مع ملاحظة عدم الوفاء بالنقط؟ كيف نضبط لفظة (الرعظ) بل كيف نرسمها؟ (هل هي بالراء أم بالزاي، بالعين أم بالغين، بالطاء أم بالظاء). من هنا كان لا بد من البحث في المعاجم عن كل صور الكلمة: ر. ع. ط، ز. ع. ط، ر. غ. ط، ز. غ. ط، ر. ع. ظ ... الخ كل الصور. وأخيراً وجدناها في مادة: ر ع ظ، فهي من الفعل رعظ يرعظ (باب فتح): رعظ السهم إذا جعل له رُعظاً. والرُّعْظ مدخل أصل النصل، أو الثقب الذي يدخل فيه أصل النصل. وفي العبارة السابقة أيضاً نجد كلمة (العقب): يتبادر إلى الذهن أنها العقب بفتح وكسر. ولكن عند البحث في مادة الكلمة نجد هذا غير مراد، والكلمة بهذا تكون خطأ ضبطاً ومعنىً. وإنما المقصود هنا: العَقَب بفتحتين. وهو العصب تصنع منه الأوتار. وكم عنَّاني شيخي إمام الحرمين مذ عرفته، بمثل هذه الألفاظ والكلمات. رضي الله عنه، ونفعنا بعلمه، وأعاننا على أداء واجبنا نحوه. • وبعد الضبط يأتي تفسير الغريب، وهنا ذكاء المحقق وفطنته، فلا يجوز أن يسرف في تفسير وشرح ألفاظ، إذا غمضت على العامة، فهي ليست بغامضة على من

8 - علامات الترقيم

يتعاطَوْن الفن الذي فيه الكتاب المحقَّق، فعليه أن يكون قادراً على تمييز واختيار ما يفسِّر، وما يترك لفطنة القارىء ومعرفته. ويسرف أحياناً بعض المحققين في هذا الباب حتى يصل الأمر إلى ما يشبه العبث، فحينما يحقق أحدهم كتاباً من عيون التراث، فيفسر كلمة (حضانة)، ويسمح لقلمه أن يسجل في الهامش: حضن الطائر بيضه حضانة: أي رقد عليه حتى يفرخ!! ألا يستحق التعزير على ذلك؟ والأدهى من ذلك أن أحدهم يتصدى لتفسير ألفاظ، قد لا يكون فيها نوع غموض، ويترك ألفاظاً غير مأنوسة ألبتة. 8 - علامات الترقيم: وهذا في الواقع روح العمل، وقوامه، فوضع هذه العلامات -لا شك- فرع فَهْم المحقق للنص، وآيةُ حسن قراءته، وتمام إقامته، وهي بعد ذلك مُعينة وهادية للباحثين، والدارسين، والعلماء الذين سيطالعون النص من بعدُ. فعلى المحقق أن يتعهد مقاطع الكلام، ويميز بينها، بواسطة هذه العلامات: الفصلة، والنقطة، والشرطة ... ونحوها. ويضع كلاًّ منها في موضعه المناسب، ويرتبط هذا على نحوٍ ما بالضبط، فعندما يميز المحقق بين الواو العاطفة، والواو المستأنفة، فعليه أن يضبط ما بعد الواو المستأنفة، إضاءة للنص، وقطعاً لوهم من يتوهم العطف، فيضرب في بيداء التيه، ويقع بعيداً عن مراد المؤلف ومرمى كلامه. وكذلك رعاية المسائل، وتمييزها بعضها عن بعض، ثم فروع كل مسألة في داخلها، وتقسيمها إلى فقرات، ووسيلة المحقق إلى ذلك: النقطة علامة تمام الكلام، والبدء من أول السطر، ثم البدء من أول السطر مع ترك مسافة، أو مسافتين، أو وضع علامة الانتقال إلى موضوع جديد. كل ذلك (التنسيق) مسؤولية المحقق، وآية قدرته على أداء أمانة التحقيق التي قلنا: " إنها إقامة وإضاءة ". وكم من عبارة انقلب معناها إلى معنىً مغايرٍ تماماً، بسبب هذا الخلل في وضع

نقطة أو فصلة. والأمثلة على ذلك كثيرة، وفيها من العجائب والغرائب ما لا يخطر على بال. وسأكتفي بمثال واحد مما عانيناه في (نهاية المطلب). جاء في قوله عن موجب القتل العمد، وهل هو القود؟ أم الدية، أم الواجب أحدهما على البدل. قال: " وشبب بعض أصحابنا بتخريج القولين على قولنا موجب العمد القود فإن المالية ثابتة ضمناً ولهذا قلنا مستحق القصاص ـ رحع إلى المال دون رصا من عل ـ هـ القصاص وـ س ـ ـ المال ـ فوا ـ محل ال ـ صاص وـ عد ال ـ ر ـ ـ ـ الحامع للطر ـ |ن ـ ـ ال فى الحا ـ ى حطا قولان وفى الحا ـ ى عمدا على قولنا الموح ـ احدهما لا ـ ع ـ ـ هـ قولان مر ـ ـ ان فالاولى الحوار لان المال عـ ـر مـ ـحرد ولا مـ عس " (لاحظ أننا كتبنا العبارة وخاصة السطرين الأخيرين بدون فواصل، ولا نقط تقريباً شبه كتابة المخطوطات). وهنا أخدنا نحاول إقامة السطرين الأخيرين، وقلبنا الأمر على كل وجه، فلم نستطع أن نصل إلى قراءة نطمئن إليها، فأخذنا نرجح أن في الكلام سقطاً، وبدأنا (نجرب) زيادة كلمة هنا أو هناك، حتى كدنا نستقر على هذه القراءة: " ... ويثبت المال بفوات محل القصاص، وبعد الترتيب الجامع للطرق، (يمكن) أن يقال: في الجاني خطأً قولان، وفي الجاني عمداً على قولنا: الموجب أحدهما ... إلخ. وكدنا أن نطمئن إلى ذلك وحُلَّت المشكلة بزيادة لفظة (يمكن)، وانصرفنا عن المسألة، ولكن حائكاً ظل يحوك في الصدر، كيف تتفق النسخ الثلاث على هذا السقط؟ ولكن ما الحل؟ وظللت أعود للمسألة مرة بعد مرة، وتركت المكتوب المحقق، وأتأمل في المخطوطات ذاتها، وفجأة سطعت الفكرة، تجلياً من الله على عباده، فصحت الله أكبر. وصار النص واضحاً صريحاً صحيحاً، لا سقط، ولا خرم، وإنما هو الوقف والابتداء. وهذه هي القراءة الصحيحة: " ... ولهذا قلنا: مستحق القصاص يرجع إلى المال دون رضا من عليه القصاص، ويثبت المال بفوات محل القصاص. وبعدُ. الترتيب الجامع للطرق أن يقال: في الجاني خطأً قولان، وفي الجاني عمداً على قولنا: الموجب أحدهما لا بعينه قولان مرتبان، والأولى الجواز، لأن المال غير متجرد ولا متعين ... ".

9 - الترجمة للأعلام

فها أنت ترى أن حل هذه المشكلة المستعصية كان في إدراك مقطع الكلام، ومعرفة (الواو) وبعد. فهذا الاستئناف، والانقطاع والإضراب عما قبله، جعلنا نقرأ الكلام مستقيماً، لا حاجة فيه إلى تقدير سقط أو خلل. 9 - الترجمة للأعلام: وهذا أيضاً مجال يعتمد على ذكاء المحقق وألمعيته، فليس كل ما يقرؤه المحقق عن العلم المترجم له يكتبه، فما أيسر هذا، وأقربه، ولكن على المحقق أن ينظر أولاً إلى الجانب الذي يتعلق بالفن الذي يحقق فيه، فإذا كان النص المحقق في الفقه مثلا -والعَلَم في كثير من الأحيان له عدة جوانب عرف بها- فعلى المحقق أن يعنى بتعريفه من الجانب الفقهي، شيوخاً، وتلاميذَ، وكتباً، وتأثراً وتأثيراً، وذلك في إيجاز شديد. وهذا الإيجاز هو العمل الصعب حقاً، وهو الذي يدل على قدرة المحقق، وفنه. كما يجب على المحقق أن يفرق بين الأعلام الذائعة المشهورة، والأعلام غير المعروفة، فيوجز في ترجمة الأولى أكثر من إيجازه في ترجمة الأعلام غير المعروفة. وعليه أن يسأل نفسه: ماذا يريد قارىء هذا النص من هذا العلم، فأحياناً لا يحتاج القارىء لمثل هذا الكتاب إلى غير معرفة تاريخ وفاة العلم. كما عليه أن يميز الأعلام بعضهم عن بعض، حينما يذكرهم المؤلف باللقب، أو الكنية، أو النسب، وهنا مجال العمل، وبذل الجهد، فهذا يدخل في باب حل مشكلات النص وإضاءته. مثال ذلك ما عانيته في الأجزاء الأولى من (نهاية المطلب) حين كان الإمام يذكر الأعلام بهذه الطريقة: وحكى الشيخ، وحكى شيخنا، وحكى الشيخ أبو علي، وحكى الشيخ أبو بكر، وحكى القاضي، وحكى أبو بكر الفارسي، وقال أبو زيد، وعن الإمام، ... ونحو ذلك. فهنا كان علينا أن نتوقف حتى نقطع شوطاً في الكتاب، ونحن نسجل هذه الأعلام، ومواضعها، فقد يُبهم في مكان، ويوضح في آخر، وبهذه الطريقة استطعنا أن نميز المقصود ببعض هذه الألقاب وهذه الكنى. ولكن العدد الأكبر منها لم يتضح لنا، فكان

علينا أن نرجع إلى المصادر التي تحكي أقوال أئمة المذهب، وتنسبها إلى قائليها، لنرى هل صرحت باسم صاحب هذا القول الذي ذكره الإمام على الإبهام، بكنيته أو لقبه، فكنا نرجع إلى (المجموع) و (الروضة) للنووي، و (الوسيط) و (الوجيز) للغزالي وشرح الوجيز (فتح العزيز) للرافعي. وقد أفادنا ذلك أحياناً كثيرة. لكن كل ذلك لم يبلغ مبلغ القطع إلا بعد أن انتهينا من ربع العبادات تقريباً، وأحصينا الأعلام، ومواضع ورودها، حتى استطعنا أن نعرف مصطلح الإمام، عندما يقول: أبو بكر، هل هو الصيدلاني أم الفارسي، وحينما يقول: أبو علي، هل هو أبو علي بن أبي هريرة، أم أبو علي السِّنجي أم أبو علي الطبري، أم أبو علي. بن خَيْران ... إلخ ومن هذا الباب أنه يذكر أحياناً بعض الأئمة بقوله: " بعض المصنفين " مجهِّلاً اسمه، ودائماً يذكره في مجال التخطئة والإزراء عليه وعيبه، وحاولت أن أصل إلى من يعنيه بهذا فلم أظفر بقاطع، فخمَّنتُ أنه يعني به الماوردي، وذلك لما رأيته من شدته عليه في كتابه (الغياثي)، فقد ذكره ثلاث مرات عائباً له، وفي إحدى هذه المرات قال: " بعض المتلقين بالتصنيف " فقلت في نفسي: ها هي العبارة نفسها، فالاحتمال أن يكون المعنيُّ بها الماوردي احتمال قريب، ومن هنا راجعت كل المسائل التي قال فيها: " بعض المصنفين " على كتاب الحاوي للماوردي، لأرى هل الماوردي يقول بهذا القول المذكور، في هذا الموضع من كتابه، فلم أجد ذلك، ولا في مسألة واحدة، فقطعت بأنه لا يريد بهذا اللفظ الماوردي. وبقي السؤال من هو؟ إلى أن وصلت إليه بطول تقليبي لطبقات السبكي، فقد رأيته يقول: " وإمام الحرمين كثير الحطّ على الفوراني " ثم رأيته قال: " وحيثما قال في النهاية: بعض المصنفين، فهو يقصد أبا القاسم الفوراني "، فقطعت جهيزةُ قول كل خطيب، كما وجدت هذا أيضاً عند ابن كثير في البداية والنهاية (¬1)، وهو عن ابن خلكان (¬2)، وعدت إلى ما كنت كتبته تخميناً، فمحوته، وكتبته تحقيقاً. فهذا هو العمل في ترجمة الأعلام، وليس المطلوب تفريغ كتب التراجم والطبقات على هوامش الكتاب. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية 12/ 98. (¬2) وفيات الأعيان: 3/ 132.

10 - تخريج النصوص

وقد أخذنا أنفسنا بهذا المنهج: تمييز الأعلام وضبطها، مع الإيجاز في الترجمة، ولم نخرج على ذلك إلا اضطراراً، من أجل إزالة شبهة أو حل إشكال، مثلما حدث في ترجمة (الخِضري) محمد بن أحمد المروزي، حيث قالت بعض المصادر: إنه تتلمذ على القفال، وقالت أخرى: إن القفال تتلمذ عليه، فكان لا بد من الإطالة ببيان القفالِين، وأن القفال الأستاذ، غير القفال التلميذ. وعلى ذلك، فلا خروج على المنهج ولا تناقض. 10 - تخريج النصوص: هذا أيضاً أحد فنون العمل في التحقيق، الذي يحتاج إلى بسط وبيان بحسب طبيعة الكتاب المحقق، ولسنا لذلك الآن. وسنكتفي بالإشارة إلى عملنا في نهاية المطلب: • اقتصرنا على النصوص القرآنية، والحديث، والشعر والحِكم إن وجد، أما نصوص الأئمة، فلم نخرج منها إلا نصوص الإمام الشافعي، وليست كلها، بل النصوص التي ترد في رأس الفصل، ويجعلها الإمام مدار الفصل، أما النصوص الأخرى، فهي إما مفقودة أو مخطوطة، فيما عدا (التلخيص) لابن القاص. * بالنسبة للأحاديث الشريفة التزمنا الإيجاز الشديد في عزوها، على المنهج الآتي: - إذا كان الحديث متفقاً عليه، اكتفيت بعزوه إلى الصحيحين، وغالباً إلى (اللؤلؤ والمرجان). - إذا كان في أحد الصحيحين عزوته إليه، وإلى ما يتيسر من دواوين السنة. - إذا كان في غير الصحيحين، ووصلت إلى درجته، قلت صحيح، وأتبعت ذلك بذكر من خرّجه. - وإذا لم أصل إلى الحكم على الحديث، عزوته إلى من خرّجه، وذكرت ما قيل فيه بإيجازٍ. - عُنيت عناية خاصة بالأحاديث التي انتقدت على إمام الحرمين. وفي جميع الحالات التزمنا أسلوب العزو بالكتاب والباب، ثم برقم الحديث في الكتب التي يتاح فيها ذلك، مع محاولة اختصار اسم الكتاب واسم الباب، فأحياناً كثيرة يعزى الحديث إلى سبعة كتب، فلو لم نلجأ إلى الاختصار، لطال بنا الكلام.

وأما الكتب التي ليس فيها أرقام، ولا أبواب مثل مسند أحمد، فنعزو إليها بالجزء والصفحة. (إمام الحرمين والحديث) (¬1) لكن الأهم من ذلك في مجال الحديث، هو القيام بدراسة حول الأحاديث التي استدل بها إمام الحرمين في النهاية، وتقوم هذه الدراسة على الأسس الآتية: أ- توزيع هذه الأحاديث على دواوين السنة: كم منها في كل كتاب من هذه الدواوين، وهل الأمر كما قيل: إن إمام الحرمين ليس عنده إلا حديث واحد منسوب للبخاري. (وبالتالي بيان النسبة العددية لكل كتاب من دواوين السنة) ب- الأحاديث التي عزاها الإمام إلى مصادرها، ومدى صحة هذا العزو، والأحاديث التي لم يعزها ومصادرها. ج- تقسيم الأحاديث بحسب درجتها الصحيح -الحسن- الضعيف. [وبيان النسبة العددية في كل درجة]. د- الأحاديث التي حكم عليها بالصحة والضعف، ومدى صواب هذا الحكم. هـ- المسائل التي استدل عليها بالحديث الضعيف، وهل كان اعتماده على الضعيف فقط، أم أن الدليل أصلاً يقوم على القياس مثلاً، وذكر الحديث للاستئناس؟ والأحاديث التي أخذها عليه وعلى الغزالي ابنُ الصلاح، كم عددها؟. ز- الأحاديث التي انتصر له فيها النووي وابنُ حجر، وبينا خطأ ابن الصلاح، وصوابَ إمام الحرمين. ح- هل استدل غيره من الأئمة بنفس الأحاديث الضعيفة، أم انفرد وحده بها. ط- هل انفرد وحده بالوقوع في الأوهام الحديثية؟ أم أن ذلك قصور لازم لطبع البشر، لم يسلم منه أحد. ¬

_ (¬1) أفردنا الفصل السادس من هذه المقدمات لهذا الموضوع.

11 - فن التعليق على المخطوطات

11 - فن التعليق على المخطوطات: تعلق المحقق على المخطوطات فن قائم بذاته من فنون الكتابة، فقد تنوعت فنون النثر إلى القصة، والأقصوصة، والرواية، والمقال، والرسالة، والخطبة، والبحث، والتوقيعات، وغيرها، وقد وضع علماء النقد والبلاغة لكل فن من هذه الفنون ضوابط وقواعد، صارت قوانين ملتزمة، يقبل ويرد العمل بحسب هذه القوانين. وآن لنا نحن المشتغلين بالتحقيق أن نضع الضوابط والقواعد لهذا الفن، فن التعليق على المخطوطات، وحبذا لو عقدت ندوة لأهل هذا الفن، وأخرجت لنا -بعد المناقشة والمخاوضة- خصائص وقواعد لهذا الفن، وأبدأ فأتقدم بما أراه من هذه الخصائص والضوابط، آملا أن تكون نواةً وأساساً يكمل وينضج بإضافات ومناقشات أساطين العاملين في مجال التراث. فمن هذه الخصائص: 1 - الإيجاز والبعد عن الحشو والتطويل، وأداء المعنى المطلوب بأقل لفظ، وأخصر عبارة. 2 - أن يضع المحقق نصب عينيه قيمة الكتاب الذي يحققه، ليعرف أيَّ نوعٍ أو أيَّ مستوى من القراء والباحثين سيتناول هذا الكتاب ويتعامل معه، ومن هنا يعرف ماذا يفسر وماذا يدع، وكيف يفسر، وبأي أسلوب. 3 - أن يسأل نفسه دائماً، ماذا يبغي من هذا التعليق، وما فائدته؟ وعلى سبيل المثال والتطبيق لهذا القانون، عند إشارة الإمام في هذا الكتاب إلى المذاهب المخالفة كنت لا أزيد على أن أعزو المسألة إلى موضعها في مصادر المذهب المخالف، مكتفيا بالإحالة على اسم الكتاب والجزء والصفحة ملتزماً " أدب التحقيق " على حد تعبير أستاذنا العلامة عبد السلام هارون رحمه الله، فلن تجد في هذه الإحالات ذكراً للمسائل المحال عليها، لا شرحاً، ولا تلخيصا، ولا مجرد إشارة إليها. ذلك أنني تساءلت ماذا نتغيا من تلخيص مسائل من كتب الأحناف أو المالكية، وإثقال الكتاب بها؟ ما الذي يستفيده قارىء الكتاب من ذلك؟

12 - فروق النسخ

إن كان باحثا يبغي الإحاطة بمذهب الشافعية، فها هو متن الكتاب بين يديه، ولن تفيده هذه النتف بهامش الكتاب شيئاًً. وإن أراد بحثا مقارنا، فالمنهج يقتضيه أن يأخذ مسائل الأحناف -مثلا- من مصادرهم، ولن يغني عنه شيئاًً تلخيص المحقق لهذا المسائل في هوامش الكتاب، بل لا بدّ أن يأخذ هذه النصوص من مصادرها، وينظر فيها بنفسه. ويكفي المحقق أن مهد له السبيل، حيث دلّه على المصادر بالجزء والصفحة، ولم يكن هذا عملا هينا، بل استغرق أوقاتا ثمينة، وجهداً جهيداً. ثم إن هذه المسائل الخلافية بلغت -مع الأحناف وحدهم- أكثر من ثمانمائة مسألة، فلو عرض المحقق كل مسألة في نحو نصف في المتوسط، لتضخم الكتاب، وزادت مجلداته نحو مجلدين أو أكثر، وفي ذلك ما فيه من غير طائل. 12 - فروق النسخ: لقد بقَيت هذا الأمرَ إلى الآخر قصداً، مع أن مكانه في أوائل عمل المحقق -لأدل بذلك على مكانته، لا على مكانه، فهذا أهون أعمال المحقق، وأقلها شأنا. ولكنه يحتاج مع ذلك إلى تأكيد وتنبيه، فقد فشت فاشية بين محققي العصر، تُفرغ في هذا الموضوع جهدَها، وتشغل به هامش الكتاب، بصورة قد تصل إلى نصف الصفحات أحياناً. وهذا عمل غير مقبول، ولا سائغ. وقد نبه إلى هذا شيوخ الفن ورواده، لكن لا أحد يسمع، لقد قال عن هذا العمل شيخنا أبو فهر: " إنه فِعْل أغتام الأعاجم " ذلك أن المستشرق لجهله باللغة لا يعرف ما هو الفرق بين الخلل الناشىء عن جهل الناسخ أو تصحيفه، أو رجع البصر، أو سقطٍ أو نحوه، فتجد المستشرق يثبت كل ذلك. وهذا لا معنى له. وإن جاز في الرسائل الصغيرة، وفي المسائل المعقدة، والقضايا المشكلة، التي يخشى أن يكون لتغير الحرف أو اللفظ أثر في المعنى، فلا يجوز ذلك في النصوص التي تبلغ مجلداً أو عدة مجلدات، ولذلك التزمت منهج هؤلاء الأئمة من شيوخ الفن وأساتذته، فلم أثبت من فروق النسخ إلا ما فيه، أو يحتمل أن يكون فيه أثر في المعنى، مع زيادة حرصٍ في ذلك، بمعنى أنك قد تجد بعضاً مما لا فائدة في إثباته.

13 - الفهارس

أما ما كان مجرد خلل أو خطأ، أو سهو من الناسخ، فلم ألتفت إليه، وتحت يدي عشرات الأمثلة لو ذكرتها لك، لعجبت فعلاً ممن يقول بإثباتها. إن الفروق التي تثبت، ويعتنى بها حقاً، هي ما توحي بأن بعض النسخ تختلف عن بعض في صياغة بعض الأجزاء والعبارات، وقد رأيت هذا ماثلاً تماماً في إحدى نسخ كتاب (الغياثي) الذي أكرمنا الله بتحقيقه، فكانت إحدى النسخ تختلف عن باقيها في صياغة بعض المسائل، مما يوحي بأنها إملاء آخر للكتاب من مؤلفه، أو أحد حفاظه، كما كان يحدث أحياناً، فمثل هذه الفروق يجب أن يُعنى بها، وتكون محلَّ تعليق ودراسة، أما الفروق التي تأتي نتيجة عجز أو خطأ أو سهو أو عجمة، فما معنى تسجيلها؟. ومع ذلك لم أهمل الإشارة إلى أي تغيير في نسخة الأصل، حتى لا يظن ظان أن للمحقق أن يتصرف في النص، فيقتدي بنا، ونتحمل وزر هذه السنة. 13 - الفهارس: " الكتاب من غير فهرس كنز مغلق، فاقرأ الفهرس قبل كل شيء " هذه عبارة شيخي الجليل أبي فهر. كتبها على ظاهر كتاب من كتبه التي حققها. ولن أستطيع (الآن) أن أتكلم عن صناعة الفهارس، ودورها، وأثرها، والملاحظات التي نراها على كثير من الفهارس، وما فيها من خلل أو قصور، فذلك حديث يطول (¬1). فلندع فن الفهارس، وما لنا عنه من حديث، ولنذكر الآن، منهجنا في فهرس النهاية (نهاية المطلب). - إن شاء الله سنخصص مجلداً خاصاً للفهارس التي صنعناها لهذا الكتاب: من الفهارس المعتادة مثل: 1 - الآيات القرآنية الكريمة. 2 - الأحاديث الشريفة. ¬

_ (¬1) كتبنا طرفاً من ذلك في افتتاح الجزء الأخير الخاص بالفهارس من هذا الكتاب، عسى أن يكون فيها بعض الغناء.

3 - الأعلام. 4 - الكتب. 5 - القوافي. 6 - الحكم والأمثال. بجوار هذه الفهارس سنصنع إن شاء الله الفهارس الآتية: 7 - معجم غريب النهاية. 8 - المسائل اللغوية والخصائص الأسلوبية. 9 - المسائل الخلافية بين المالكية والشافعية. 15 - المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية. 11 - المسائل الخلافية بين الحنابلة والشافعية. 12 - المسائل الخلافية بين الظاهرية والشافعية. 13 - مسائل فقه الصحابة. 14 - مسائل فقه السلف. 15 - فهرس القواعد الأصولية (¬1). 16 - فهرس القواعد الفقهية. 17 - فهرس المسائل التي ليست لها أبواب معروفة. 18 - فهرس المسائل الملقبة. 19 - فهرس مبتكر لم نسبق إليه، وهو فهرس الكلمات التي تعذر علينا قراءتها، فقد صورناها من المخطوط، ووضعناها في قائمة مرتبة على الصفحات في آخر المجلد، آملين أن يلهم الله أحد المطالعين قراءة صحيحة لها. وهي كلمات معدودة، وليست في كل جزء. ¬

_ (¬1) لم يسعفنا الوقت، ولا الطاقة والمُنّة بالوفاء بهذا الفهرس، ولا بفهرس القواعد الفقهية الذي بعده.

20 - كشاف برؤوس الموضوعات على حروف المعجم (¬1). وبعد كل هذا، فنحن على ثقة ويقين بأنه لا عاصم من الخلل والزلل إلا المولى سبحانه وتعالى، فهو وحده الملهم للصواب، والهادي إلى سبيل الرشاد، فإليه سبحانه أضرع، وألوذ بحوله وقوته، وأبرأ من حولي وقوتي، مبتهلاً إليه سبحانه أن يتم نعمته، ويختم بالصالحات أعمالنا، ويتقبل منا، إنه نعم المولى ونعم النصير. ... ¬

_ (¬1) لم نستطع الوفاء بهذا الكشاف أيضاً، فهو عمل تنوء به العصبة أولو القوة، ويقع في مجلد كامل، وأملنا أن يعيننا الله سبحانه وتعالى على إتمامه، فنحن جدُّ حراصٍ على ذلك، وبدون هذا الكشاف سيظل نهاية المطلب كنزا مغلقاً، لا يمكن الاستفادة منه كما يجب.

الفصل الثامن نسخ المخطوط، تعريف ووصف

الفصل الثامن نسخ المخطوط، تعريفٌ ووصف

بين يدي التعريف والوصف

بين يدي التعريف والوصف سيطول القول إذا وصفنا ما قمنا به من بحثٍ مستقصٍ في فهارس خزائن المخطوطات حول العالم، ورجعنا إليهم من أهل هذا في مراكز البحوث التي تملك القاعدة للبيانات والمعلومات عن المخطوطات حول العالم. وما تهيأ لنا من زيارات لمكتبات مصر، والسعودية، واستانبول، ولندن، وباريس، والهند، وباكستان، وتونس والجزائر. سيطول بنا القول إذا وصفنا كل ذلك، وما كلفنا من جهد ومال، وما هو أغلى من المال. ولذا نكتفي باستعارة جملة موجزة من الدكتور قاسم السامرائي تعبر عما لقيناه، حيث يقول: " يحتاج المحقق إلى عمر النسور، وخزائن قارون للجري وراء صور المخطوطات، ناهيك عن الصعوبات التي لا يعرفها إلا من عانى التحقيق وتلوَّع قلبه في الحصول على مصورات عن مخطوطات موجودة، ومسجلة في فهارس منشورة ... أما الحصول على مصورة لمخطوطة من مكتبات تركيا، فهو حديث خرافة " (¬1). ¬

_ (¬1) علم الاكتناه العربي الإسلامي: 88 بتصرف.

نسخ المخطوط، تعريف ووصف

نُسخ المخطوط، تعريف ووصف لم تسعفنا المقادير بنسخة واحدة كاملة، ولكن الحمد لله على ما بقي؛ فقد وجدنا أجزاء متفرقة من نسخٍ متعددة، بلغت ثلاثاً وعشرين نسخة، منها ما وجدنا منه جزءاً واحداً وهو معظمها، وأكثر ما وجدناه من نسخة واحدة هو عشرة أجزاء. وهذه النسخ تختلف في تجزئتها، فبعضها بلغ بأجزائها إلى أكثر من ثلاثين جزءاً، وبعضها لم يزد في تجزئتها عن العشرين جزءاً، ومجموع هذه النسخ بأجزائها يكوّن نسخة واحدة، تتكرر في بعض المواضع حتى نجد خمس نسخ في موضع واحد، ولكن في مواضع كثيرة لم نجد إلا نسخة وحيدة، بل وجدنا خرماً في هذه النسخة الوحيدة مرة بسقوط ورقة، ومرة بامّحاء عدة أوراق، أما الخرم الأكبر، فهو ما كان من أواخر ربع المعاملات وأوائل ربع المناكحات (ويشمل هذا الخرم فصولاً من قسمة الفيء، وباب قسم الصدقات، وباب من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم في النكاح وباب الترغيب في النكاح، وباب ما على الأولياء) وفي النية -إن شاء الله- أن نسدّ هذا الخرم بما نجده من مختصر (صفوة المذهب). وقد اتخذنا رمزاً لكل نسخة، تقع كلُّ أجزائها تحت هذا الرمز، بل إننا وضعنا الرمز أحياناً لعدة نسخ، لأنها جاءت من بلدٍ واحد، ووضعها مفهرسو الخزانة تحت رقمٍ واحدٍ، وكأنها نسخة واحدة، مثال ذلك الرمز (ت) للمجلدات التي مصدرها تركيا، والتي بلغت ثلاثة وعشرين مجلداً من خزانة واحدة، وهي من ست نسخ، وقد ميزنا كل نسخة بوضع رقم للرمز ذاته، هكذا: ت 1، ت 2، ت 3، ت 4، ت 5، ت 6، وكان هذا أيسر وأوضح من اتخاذ أكثر من عشرين رمزاً، لثلاث وعشرين نسخة. وهاك وصف هذه النسخ:

النسخة الأولى

النسخة الأولى: ت 1: وجدنا منها الأجزاء الثلاثة الأولى من أول الكتاب، وتشمل: كتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، وأول كتاب الزكاة إلى آخر باب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار، (وتقع هذا الأجزاء -على التوالي- في 232، 221، 229 ورقة). ووجدنا منها أيضا الجزء الخامس، الذي يقع في 224 ورقة، ويبدأ من أول كتاب البيوع إلى آخر باب تجارة الوصي بمال اليتيم. * كتبت هذه النسخة بخط نسخ معتاد، ناسخها عزّ بن فضائل بن عثمان القرشي الحموي. * كتبت سنة 606 هـ. * مقاس: 17×25 سم. * مسطراتها: في كل صفحة 19 سطراً. وهي نسخة جيدة فيما يأتي: * ندرة التصحيف والتحريف مما يشهد بأن كاتبها على علمٍ بما يكتب. * وضوح الرسم؛ فليس هناك تداخل بين الكلمات، ولا بين الحروف في الكلمة الواحدة، والحروف واضحة القسمات لا يشتبه بعضها ببعض، متناسقة في حجمها وترتيبها. * تعنى بالنقط إلى حدٍّ بعيد. ومع ذلك فمن مثالبها ما يأتي: * أسرفت في الضبط، بمعنى أنها تضبط ما لا يحتاج إلى ضبط، فتجدها تضع فتحة على (القاف) من كلمة (قال) و (الباء) من كلمة (باع)، و (ضمة) على العين في كلمة (باعوا)، و (الهاء) في كلمة (لكنه) ... وهكذا. * ومن هنا أخطأت في ضبط كثير من الكلمات، بحيث تضلل القارىء لو استسلم لها، فتضبط مثلاً: (مِلْك) تجعلها (مُلك).

النسخة الثانية

* وفي كثير من الأحيان يكون سبب الخطأ في الضبط عدم وضع علامة الضبط على الحرف المقصود تماماً، بمعنى أن تتحرك علامة الضبط، فتقع فوق الحرف التالي للحرف المقصود، مثل: (القَدْر)، تتحرك الفتحة، فتقع فوق الدال، فتصير (القدَرْ). ومع هذا تظلّ هذه النسخة من أجود النسخ، وقد اتخذناها أصلاً حيث وُجدت، بل كانت هي النسخة الوحيدة في كتاب الطهارة من أوله إلى أول كتاب الحيض (¬1). ... النسخة الثانية: ت 2: وهي نسخة أجود ما فيها خطها، فقد كتبت بخط نسخي غاية في الجودة. وتاريخ نسخها القرن السادس. * مقاس: 17×25 سم * مسطراتها: في كل صفحة 17 سطراً. وقد وقع لنا منها: عشرة أجزاء وهي على الترتيب. الثاني: ويقع في 206 ورقة، ويبتدىء بأول كتاب الحيض، وينتهي بالفصل الثاني في تفصيل القول في الأمي، وهو من لا يحسن قراءة الفاتحة. الثالث: ويقع في 195 ورقة، من أول فرع: إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة، وينتهي بأثناء باب صفة الأئمة. الخامس: ويقع في 197 ورقة، يبتدىء بأول كتاب الزكاة، وينتهي بآخر باب الدين مع الصدقة (من كتاب الزكاة). التاسع: ويقع في 257 ورقة، ويبتدىء بأول بيع الغرر، وينتهي بأثناء باب الرهن. ¬

_ (¬1) قبل أن يقدر لنا الحصول على نسخة (ل)، (م).

العاشر: ويقع في 239 ورقة، ويبتدىء بباب الرهن والحَمِيل في البيع، وينتهي بآخر كتاب الحوالة. الثاني عشر: ويقع في 268 ورقة، ويبتدىء ببقية كتاب الضمان، وينتهي بآخر كتاب الشفعة. الخامس عشر: ويقع في 240 ورقة، ويبتدىء بباب التقاط المنبوذ، وينتهي بأثناء كتاب الفرائض. الحادي والعشرون: ويقع في 198 ورقة، ويبتدىء بباب اجتماع الولاة وتفرقهم، وينتهي بأثناء باب نكاح المشرك. الخامس والعشرون: ويقع في 153 ورقة، ويبتدىء بكتاب الخلع، وينتهي بأثناء كتاب الطلاف. السابع والعشرون: يقع في 162 ورقة، ويبتدىء بباب المطلقة ثلاثاً، وينتهي بأثناء باب كيف يكون اللعان. وأهم سمات هذه النسخة ما يأتي: * جودة الخط التي تشهد بأن صاحبها ناسخ محترف صرف همه إلى جودة الخط، فلم يحسن غيره! * يظهر أثر احتراف الناسخ في تجزئة النسخة، حيث ينهي الجزء في أثناء الفصل قاطعاً للسياق، حرصاً منه على تكثير عدد الأجزاء، بصرف النظر عن تكامل الفصول أو الأبواب. * كثيرة التصحيف والتحريف، الذي لا تكاد تسلم منه صفحة واحدة من صفحاتها، مما يشهد بأن ناسخها لا علاقة له بالعلم الذي ينسخه، بل ولا بعلمٍ غيره، فهو يحسن رسم الحروف لا غير ... * تكاد تلتزم النَّقْط (الإعجام) وما أكثر الخلل فيه. * أما الضبط، فهو يوزع علاماته يميناً وشمالاً، وفوق وتحت من غير خطامٍ ولا زمام، ولعله يجمل الخط بذلك، ولا يعنيه خطأ أو صواب.

النسخة الثالثة

* يكثر فيها السقط بسبب رجع البصر، وبغيره أيضاً. * فيها ما يشهد ببقايا عجمة أصيلة في ناسخها. مثل: تذكير الضمير في مثل " وسبب ذلك جهلها بالنوبة التي استحيضت فيه ". ... النسخة الثالثة: ت 3: ووقع لنا منها أربعة أجزاء. * كتبت سنة 622 هـ. * بقلم نسخ نفيس جداً. * وكاتبها هو عبد الصمد بن مرتضى بن رحمة بن رفاعة الكندي. *مقاس: 20×28 سم. * مسطراتها: 25 سطراً. والأجزاء التي وجدناها من هذه النسخة هي: السابع: ويقع في 189 ورقة، يبتدىء بأول كتاب إحياء الموات، وينتهي آخر كتاب الفرائض. الثامن: ويقع في 220 ورقة، ويبتدىء بأول كتاب الوصايا وينتهي بأثنائه. العاشر: ويقع في 202 ورقة، ويبتدىء بباب ما جاء في الكلام الذي ينعقد به النكاح، وينتهي بآخر كتاب النكاح، يتلوه كتاب الخلع. الثالث عشر: يقع في 218 ورقة، ويبتدىء بكتاب الجراح، وينتهي بآخر باب كفارة القتل، يتلوه في الذي يليه: باب الشهادة على الجناية. وأهم ما تتصف به هذه النسخة ما يأتي: * وضوح الخط. * تُعنى بالنقط. * بها شيء من السقط، وترك بياض.

النسخة الرابعة

* بينها وبين نسخة (ح) نسب واضح؛ فهما من أم واحدةٍ، فبرغمِ تباين الخط، وتباعد الزمن فهناك، أكثر من دليل أو قرينة تؤكد ما نقول، منها: اتفاق النسختين على الخطأ في كثير من الأحوال، وقد يكون هذا الخطأ في رقم حسابي لا مجال للتصحيف أو التحريف فيه، مثل اتفاقهما على وضع لفظ (عشرة) مكان لفظ (أربعة) خطأّ في مسألةٍ من مسائل الوصايا. فمثل هذا الخطأ لا يكون الاتفاق عليه مصادفة، بل هو من الأصل الذي نقل عنه الناسخان. * لم يسلم كاتبها من عجمة قديمة ظهرت في إعادة ضمير المذكر على المؤنث والعكس، والجمع بين (أل) والإضافة، ونحو ذلك. وربما كان من الأدلة على ذلك أنه كان يتوقف في بعض الألفاظ والجمل، فلا يجازف بنسخها، بل يبيّض لها، ويترك مكانها. على حين كان كاتب نسخة (ح)، (وهما منقولتان عن أصلٍ واحد) يجتهد في ملء هذا البياض، وإقامة النص، فلم يترك بياضاً مما تركه كاتب (ت 3)؛ وربما يكون ذلك من تورّعه، وليس من عجمته، والله أعلم. ... النسخة الرابعة: ت 4: كتبت في القرن السابع. * بقلم نسخ جيد. * والذي وقع لنا منها جزء واحد، وهو الجزء التاسع عشر. * ويقع في 117 ورقة يبتدىء بباب الشهادات على الجناية، وينتهي بباب قطاع الطرق. * مقاس: 16×24 سم * مسطراتها: 21 سطراً ***

النسخة الخامسة

النسخة الخامسة: ت 5: كتبت في القرن السابع. * بقلم نسخ معتاد. * والذي وجدناه منها جزء واحد فقط، وهو الجزء العشرون. * ويقع هذا الجزء في 241 ورقة، مقاس 6×25 سم. * مسطراتها: 21 سطراً. ويبتدىء بباب الشهادة على الشهادة، وينتهي بكتاب عتق أمهات الأولاد، وهو آخر الكتاب. وأهم ما يميز هذه النسخة هو: * ذهاب بعض كلمات وبعض أسطر بسبب بلل أصاب أطراف بعض الصفحات. * كثرة التصحيف والتحريف. * ترك بياض أحياناً. * سقطٌ ضاع بسببه أكثر من ورقة، في أكثر من موضع، وبخاصة في أواخرها. ... النسخة السادسة: ت 6: كتبت في القرن السابع. * مقاس: 21×28 سم. * مسطراتها: في كل صفحة 25 سطراً. وقد وقع لنا منها مجلدان: أحدهما - يشمل الأجزاء: التاسع عشر، والعشرون، والحادي والعشرون. وهو في 340 ورقة. ويبتدىء بأثناء كتاب الخلع، وينتهي بآخر كتاب النفقات. أي آخر ربع المناكحات.

ثانيهما - يشمل الأجزاء الخامس والعشرون، والسادس والعشرون والسابع والعشرون، وهو في 328 ورقة. يبتدىء بأثناء كتاب الصيد والذبائح، وينتهي بأثناء عتق أمهات الأولاد، وهو آخر الكتاب (أي أنه ذهب من آخر الكتاب نحو ورقة). * ويلاحظ أن كل مجلد من هذين المجلدين لا يفصل في ثناياه بين الأجزاء التي يقول عنوان غلافه أنه يحويها، بمعنى أن الكلام في كل مجلد والترقيم متصل من أوله إلى نهايته، وكأنه جزء واحد، فلا نجد فاصلاً يبين نهاية أي جزء وبداية جزء آخر، وكأن الناسخ أضرب صفحاً عن تجزئه النسخة المنقول عنها، وجعل الثلاثة جزءاً واحداً. وتتميز هذه النسخة بما يأتي: * أنها من أصح النسخ -إن لم تكن أصحها- التي وجدناها لهذا الكتاب. * يندر جداً أن يقع فيها تصحيف أو تحريف، وحيثما تجده -إذا وجدته- فليس هو من المستبشع الذي يدل على عدم الفطنة والجهل، بل تجده من المحتملات المشتبهات. * يقل فيها (الضبط) و (النقْط) فهو لا يضبط إلا ما يشكل، وسواء من بنيه الكلمة، (الفاء أو العين) أو آخرها، أي إعرابها. * كتبت بخط دقيق بحيث تسع الورقة الواحدة نحو أربع ورقات من نسخة (ت 2). * ومع دقة الخط، وعدم تجميله، فهو في غاية الوضوح. * كل هذا يشهد بأن كاتبها من أهل العلم، وليس ناسخاً محترفاً، بل هو -فيما أُقدّر- أحد العلماء، نسخها لنفسه، وقد حرمنا من معرفة اسمه ذهابُ الورقة الأخيرة من النسخة. ***

النسخة السابعة

النسخة السابعة: س: رمزنا لها بهذا الحرف؛ أخذاً من مصدرها، مدينة سوهاج بصعيد مصر. * تاريخ نسخها 633 هـ. * مقاس: 17×23 سم *مسطراتها في كل صفحة 19 سطراً * ناسخها عبد الله بن جبرائيل بن عبد الله. * والذي وقع لنا منها جزء واحد، هو الجزء السادس عشر، ويقع في 186 ورقة، ويبتدىء من أثناء كتاب الوصايا: فصل -فإن كان أكثر من الثلث، فأجاز الورثة في حياته، لم يجز ذلك، وينتهي بفصلٍ- ذكر الشافعي في أثناء كلامه: " وإن منع الإمام من الفيء إذا فضل عن كفاية المرتزقة ... إلخ " من باب تفريق أربعة أخماس الفيء. * وهي بخط واضح، وبها أثر بلل ذهب بكثير من كلمات ورقاتها الأولى. * قليلة السقط والخلل. * كذلك يقل فيها التصحيف والتحريف. ... النسخة الثامنة: ح: نسبةً إلى مصدرها مدينة حلب بسورية. * تاريخ نسخها 666 هـ. * مقاس: 16×23 سم. * مسطراتها: في كل صفحة 25 سطراً * والذي وقع لنا منها مجلد واحد به قدرٌ من كتاب الوصايا يشمل 113 ورقة من أصل 149 ورقة هي كل أوراق هذا المجلد، ويتلوه بعد الوصايا كتاب الوديعة كاملاً، ثم يبدأ كتاب قسم الفيء، وينتهي المجلد قبل تمامه بفصل قال: ولو كان لرجل أجير يريد أن يجاهد.

النسخة التاسعة

* وهذا المجلد يحوي مجلدين؛ ففي الورقة رقم 65 في أثنائها يقول: انتهت المجلدة الرابعة عشرة، ويضع البسملة، ويستمر. * كثيرة التصحيف والتحريف، ناسخها محترف يرسم ما أمامه بدون أدنى محاولة للفهم، فيجمع بين الكلمتين ويجعلهما كلمة واحدة، ويقطع الكلمة الواحدة، فيجعلها كلمتين، بصورة عجيبة، مثل: " الوصية لأصهاره " يكتبها: " الوصية لأمه تاره ". * وفيه عجمة واضحة جعلته يكتب كلمة (الحرية) = (الهرية). * راجع وصف نسخة (ت 3) فبينها وبين هذه النسخة (ح) نسب وثيق. ... النسخة التاسعة: ط: نسبة إلى مكتبة طلعت بدار الكتب القومية. * كتبت بخط نسخ حديث جيد. * تاريخ نسخها 18 شعبان 1330. * مسطراتها: 21 سطراً. * كاتبها أحد النساخ المتمرسين المتخصصين بدار الكتب المصرية، وهو عبده محمود حمدي. * لم يشر إلى الأصل المنقولة منه. * ومن العجيب أننا لم نجد في مقتنيات دار الكتب هذا الأصل كله، فيما وجدناه من أجزاء النهاية. * كتبت هذه النسخة -كما جاء في خاتمتها- لحساب (العلامة الحسيب النسيب الحبر البحر الفهامة، والعالم العلامة حضرة السيد أحمد بك الحسيني). * قلت: هذا أحد العلماء الكبار الذين أنجبتهم أمتنا، وهو يذكرنا بالإمام القفال الذي كانت صناعته الأقفال في صدر عمره، فصاحبنا أيضاً كان نحاساً، بل كان شيخاً لطائفة النحاسين (صناع القدور والأواني النحاسية)، وكان ينقطع للعلم وقت فراغه

النسخة العاشرة

من حرفته، إلى أن انقطع له تماماً، له العديد من المؤلفات والرسائل، وبلغ من قدرته العلمية أنه تصدّى لشرح (الأم) للإمام الشافعي شرحاً مطوّلاً، حتى وقع ربع العبادات في 24 مجلداً، وقد سمى هذا الشرح اسماً لطيفاً هو: (مرشد الأنام لبرّ أم الإمام). ولم يمهله القدر لإتمامه، فقد توفي بعد عامين فقط من كتابة نسختنا هذه له. * والذي وقع لنا من هذه النسخة الأجزاء: 4، 5، 6. الجزء الرابع: ويبتدىء من أول باب استقبال القبلة، وينتهي بباب وجوب الجمعة. الجزء الخامس: يقع في 232 ورقة ويبتدىء بباب الغسل للجمعة والخطبة، وينتهي بباب البيع في المال الذي تجب فيه الزكاة. الجزء السادس: في 254 ورقة ويبتدىء بباب زكاة المعدن، وينتهي بباب إحرام العبد والمرأة. * وقد اتخذنا هذه النسخة بكل أجزائها نصاً مساعداً (أحياناً) حين تستغلق قراءة جملة، أو تتصحف كلمة؛ فقد كان معها في كل أجزائها نسخ عتيقة أصيلة. والحمد لله. ... النسخة العاشرة: ك: نسبة إلى مصدرها مدينة الإسكندرية. * كتبت بخط نسخ جيد. * تاريخ نسخها: جاء في خاتمتها: " فرغ من نسخه بحمد الله ومنِّه يوم الخميس سلخ شهر رجب المبارك، شهر الله (ثم كلمات استحالت قراءتها انتهت بقوله: وستمائة) فهي إذاً من القرن السابع. * ناسخها: أحمد بن عبد الرحيم الشافعي التنوخي بالجامع الأعلى بحماة المحروسة.

النسخة الحادية عشرة

* والذي وقع لنا منها جزء واحد هو الجزء الثاني في 145 ورقة. * مقاس: 24×18 سم. * مسطراتها: 23 سطراً. ويبتدىء بأول كتاب الزكاة. وينتهي بكتاب الحج. * يكثر فيها الوهم والتصحيف والتحريف الذي يدركه القارىء بسهولة. * يقل فيها السقط ورجع البصر. * واضحة الخط سهلة القراءة. * مشوشة الترتيب في مواضع كثيرة، بمعنى أن أوراقها تفرقت وتناثرت فجمعها من جلدها كيفما اتفق، ورقمها على هذا التشويش، مما يجعل الاستفادة منها تحتاج إلى معاناة وجهد، ولكن الوصول إلى الترتيب الصحيح مع ذلك لم يكن مستحيلاً. * أصابها بلل في أواخرها ذهب بأسطر من رأس الصفحات وأخرى من آخرها. ... النسخة الحادية عشرة: ي: نسبة إلى مصدرها (اليمن). * كتبت بخط نسخ معتاد. * تاريخ نسخها: بآخرها: بلغ مقابلة سنة 674 هـ. * ناسخها: لم يسجل في آخرها اسم ناسخها. * والذي وقع لنا منها جزء واحد، هو الجزء الثامن في 218 ورقة. * مقاس 17×25 سم. * ومسطراتها: 21 سطراً. ويبتدىء بأثناء العارية.

النسخة الثانية عشرة

وينتهي بآخر كتاب المساقاة. (يتلوه في التاسع كتاب الإجارة). * مبتور من الأول. * وهي نسخة جيدة قليلة التصحيف والتحريف. * يقل فيها السقط، بل يكاد ينعدم. * يكثر استخدام النقط، ويقل الضبط بالشكل. ... النسخة الثانية عشرة: هـ 1: نسبة إلى مصدرها الظاهرية. * وقد وصلنا منها مجلد واحد، يغلب على الظن أنه الجزء الثالث. * لم يعرف تاريخ نسخه، ولا اسم ناسخه، ونرجح أنه من القرن السابع. * أصابه البلل إصابة بالغة ذهب بعشر ورقاتٍ كاملة من أوله، وبأجزاء متفاوتة من نحو أربعين ورقة بعدها. * يقع في 222 ورقة. * مسطراتها مختلفة اختلافاً بيِّناً تتراوح السطور ما بين 22 إلى 17 سطراً. * تبدأ من أثناء زكاة التجارة إلى باب إحرام العبد (آخر كتاب الحج). * مكتوب بخط نسخ جيد. * يكاد يلتزم النقط، ويكثر من الضبط بالشكل. * يقل في هذه النسخة التصحيف والتحريف، والسقط. ... النسخة الثالثة عشرة: هـ 2: * تاريخ نسخها: 24 شعبان سنة 565 هـ. * ناسخها: لم نجد ما يدلّ عليه.

* وقد وصلنا منها مجلدان، يختلف الخط قليلاً في أحدهما عن الآخر، ولكن سوّغ لنا عدَّهما نسخة واحدة أمران: أحدهما -أن التمليك والوقف- على الغلاف واحد. ثانيهما - أنه مع وجود بعض الاختلاف في نوع الخط؛ حيث يقرب في أحد المجلدين من الخط الفارسي، ويقرب في الثاني من النسخ إلا أننا نكاد نقطع بأن الناسخ واحد. * أحد المجلدين يقع في 250 ورقة، كامل الأول والآخر، يبتدىء بكتاب البيع، وينتهي بنهاية كتاب الحجر، وليس في بدايته ولا نهايته ما يفيد برقم الجزء. * وثاني المجلدين يقع في 256 ورقة، منها سبع عشرة ورقة بخطٍّ مغاير لباقي المجلد؛ إذ كُتبت بخط نسخ جيد كامل النقط، وكثير الضبط بالشكل، وبدأت هذه الصفحات بالبسملة والدعاء كأنها جزء خاص، ثم بدأ باقي المجلّد بالبسملة والدعاء، واستغرق 249 ورقة، أي ما بقي من المجلد، وهي وحدها تكوّن جزءاً مستقلاً، ألحقت به الأوراق السبع عشرة الأولى. لم نعرف رقم الجزء لا من بدئه ولا من نهايته، أما ما جاء على غلافه بأنه الجزء السابع عشر، فلا ندري أهو خاص بالأوراق الأولى، أم بالمجلد كله. * يبتدىء من أثناء القسامة إلى نهاية كتاب الصيد والذبائح، يتلوه في الذي يليه كتاب الضحايا. * هذه النسخة غاية في الدقة والجودة. * كاتبها على علمٍ بما يكتب، لا يكتب إلا بفهم، ولذا استقامت عبارتها، وكاد أن ينعدم فيها التصحيف والتحريف. * قوبلت على الأصل المنقولة منه في عدة مجالس، يظهر ذلك مسجلاً على هوامشها، وفي نهايتها " بلغ مقابلة ". * كما قوبلت على نسخة أخرى وسجلت الفروق في الهامش. * كتب مجلدها الأول -كما أشرنا- بخط قريب من الخط الفارسي، وهذا المجلد

النسخة الرابعة عشرة

أكثر جودة من الآخر، مع أنه كتب بخط دقيق جداً، والكلمات أقرب إلى التداخل والتراكب، ولعل ذلك لقلة الكاغد، وعدم القدرة على ثمنه، ولذلك تسع الورقة الواحدة من هذا المجلد ما يملأ خمس ورقات أو أكثر من بعض النسخ. * تختلف مسطرات هذا المجلد اختلافاً بيناً ما بين 23 - 27 سطراً في الصفحة الواحدة. * يكاد النَّقط أن ينعدم في هذا المجلد، أما الضبط بالشكل، فلا وجود له بتاتاً. * تصعب القراءة في هذا المجلد جداً، ولكن بعد شيء من الوقت والجهد، والمعاناة والدُّربة يصبح الخطُّ مألوفاً معروفاً، وعندها تكون المتعة بقراءة نصٍّ صحيح مستقيم. * أما مجلدها الآخر، فقد كتب بخط قريب من النسخ، لا يُعنى صاحبه بتجويده وتجميله بقدر ما يعنى بتصويبه وتوضيحه، فأحياناً يكون في الكلمة الواحدة حروف دقيقة وأخرى ضخمة؛ حيث يلجأ إلى تصويب الحرف أو توضيحه بإعادة الضغط على القلم، وزيادة المداد؛ فجاءت الكلمات غير متناسقة حجماً، وكذلك الحروف في الكلمة الواحدة. * ومسطرات هذا المجلد مختلفة وتتراوح ما بين 24 - 27 سطراً. * في هذا المجلد قليل من النَّقط، أما الضبط بالشكل، فلا وجود له، كسابقه. * في هذا المجلد القليل من السقط. * مع أنهما يشتركان في الجودة إلا أن هذا أقل جودة من الأول، بالرغم من أنهما لناسخٍ واحد كما أشرنا. ... النسخة الرابعة عشرة: هـ 3: * وقد وجدنا منها الجزء الثاني عشر. * يقع هذا الجزء في 280 ورقة.

النسخة الخامسة عشرة

مسطراتها 15 سطراً في الصفحة. * يبتدىء هذا الجزء من أول كتاب الشفعة وينتهي بآخر كتاب المساقاة، يتلوه في الذي يليه كتاب الإجارة. * كتب بخط نسخ جيد. * يلتزم النقط تقريباً. * يقل استعمال الضبط بالشكل. ... النسخة الخامسة عشرة: هـ 4: * ولم نجد منها أيضاً إلا جزءاً واحداً، هو الجزء السادس والعشرون، كما ظهر من خاتمته. * يقع هذا الجزء في 227 ورقة، ومسطراتها 17 سطراً في الصفحة الواحدة. * ويبتدىء من أثناء كتاب الجزية إلى أواخر كتاب الأيمان والنذور، (باب من يعتق عليه من مماليكه إذا حنث) يتلوه في الذي يليه (باب جامع الإيمان). * مكتوب بخط النسخ الجيد. * يكاد يلتزم النقط، أما الضبط بالشكل، فهو في حكم النادر. * مبتور من الأول. * في نهايته وقف على طلبة العلم بالجامع الأموي. * جاء في خاتمته عبارة: " قوبل بجميعه وما قبله بمصر ". * روجع على نسخة أخرى، وسجلت فروق النسخ بالهامش. * النسخة بصفة عامة جيدةٌ. ***

النسخة السادسة عشرة

النسخة السادسة عشرة: د 1: نسبة إلى مصدرها دار الكتب المصرية. * كتبت في القرن السابع. * مقاس: 9×27 سم. * ومسطراتها: 23 سطراً. * عليها وقفية مؤرخة سنة 634 هـ. يقول: وقف هذه المجلدة الثانية مع ما قبلها وما بعدها إلى تمام خمس عشرة مجلدة، هي تمام كتاب نهاية المطلب. * في نهاية الجزء السابع، كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله تعالى عبد الله بن جبريل ... بالمدرسة الفاضلية، وهو كاتب نسخة (س) ولكن تختلف تجزئة كل نسخة منهما عن الأخرى. * وقد وجدنا منها جزأين: أحدهما - الجزء الثاني ويقع في 248 ورقة، ويبتدىء بباب الصلاة بالنجاسة، وينتهي بباب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار. ثانيهما - الجزء السابع، ويقع في 342 ورقة، ويبتدىء بكتاب الإجارة، وينتهي بباب ميراث المجوسي، يتلوه في الذي يليه: باب الرد والخلاف فيه. * وهي نسخة لا بأس بها، قليلة التصحيف والتحريف، ويقل فيها السقط. ... النسخة السابعة عشرة: د 2: عليها وقفية مؤرخة 710 هـ. * لم يعرف ناسخها. * مأخوذة بالتصوير الفوتوغرافي عن نسخة في ملك الشيخ عيسى منون رحمه الله. * وجدنا منها الأجزاء العاشر والحادي عشر والثاني عشر في مجلد واحد.

النسخة الثامنة عشرة

تبدأ من أثناء الغصب (فرع: إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة) وتنتهي بآخر الفرائض. * وقد جاءت الأجزاء الثلاثة في 364 ورقة بدون فاصل أو تمييز بين جزء وجزء، مما يوحي بأن الناسخ نسخ هذه الأجزاء متصّلة تصرفاً منه، ولم يعن بتجزئة الأصل المنقول منه. * مقاس: 21×27 * مسطراتها 25 سطراً. * وهي نسخة جيدة. * تكاد تلتزم النقط. * يقل فيها -بل لا يكاد يوجد- الضبط بالشكل. * يقل فيها التصحيف والتحريف. * يندر فيها السقط ورجع البصر. * واضحة الخط سهلة القراءة، لا يكاد يشكل على القارىء حرف أو كلمة منها. ... النسخة الثامنة عشرة: د 3: وهي أوراق أو كراريس (الكراسة عشر ورقات) متفرقة عددها اثنان وتسعون ورقة. * مقاس: 17×25 سم. * ومسطراتها: 21 سطراً. تبدأ من أول الكتاب، وتنتهي بباب ما يفسد الماء. ثم يليها أوراق من كتاب البيوع. ظهر أنها ليست من نهاية المطلب. * تاريخ النسخ القرن السابع. * وقد أفادتنا -على وضعها هذا- في الصفحات الأولى من الكتاب فائدة كبيرة،

النسخة التاسعة عشرة

حيث كانت النسخة المساعدة الوحيدة، حين كانت نسخة الأصل ت 1، فيها أثر بلل ذهب بأطراف أوراق كثيرة من أوائلها، ولم تكن وقعت لنا نسخة (ل) ونسخة (م) بعدُ. * خط نسخ لا بأس به. * يقل فيها استخدام النقط. * ليس بها أي ضبط بالشكل. * قليلة التصحيف والتحريف. * سهلة القراءة واضحة الخط. (بعد قليل من الإلف والدّربة). ... النسخة التاسعة عشرة: د 4: وهي نسخة عتيقة نسخت سنة 562 هـ. * بخط محمد بن عبد الواحد بن حرب القرشي. * والذي حصلنا عليه منها الجزء الثالث، ويقع في 260 ورقة. * مقاس: 6×23 سم. * مسطراتها: في كل صفحة 13 سطراً. يبتدىء بباب استقبال القبلة، وينتهي بفصل تأخر المأموم عن الإمام وتقدمه عليه. * وهي نسخة جيدة يقل فيها التصحيف والتحريف. * تصعب قراءتها على غير المتمرس بالخطوط القديمة، لا سيما أن كاتبها غير محترف للنسخ، ولذا لا يستطيع القارىء تمييز الحروف إلا بعد بعد تدرّب عليها ومعاناة لها. * يقل فيها النّقط، أما علامات الضبط، فلا وجود لها إلا نادراً جدّاً. ***

النسخة العشرون

النسخة العشرون: ص: نسبة إلى مكتبة أيا صوفيا. * والذي وصلنا منها الجزء الرابع ويقع في 188 ورقة. * مسطراتها 25 سطراً ويبتدىء بباب بيع المصراة. وينتهي بباب الرهن والحميل في البيع. * مبتور من الآخر، فقد ذهب من آخره خمسة أبواب من محتويات الجزء التي بينها على الغلاف. * بسبب هذا البتر لم يعرف ناسخه، ولا تاريخ النسخ. * عليها وقفيه باسم السلطان محمود خان سلطان البرَّين والبحرين خادم الحرمين، وقفاً صحيحاً شرعياً. * حرر الوقفية أحمد شيخ المفتش بأوقاف الحرمين الشريفين. * بخط نسخ نفيس جداً. * تكاد تلتزم النّقط. * لا يوجد بها ضبط بالشكل. * قليلة التصحيف والتحريف والسقط. ... النسخة الحادية والعشرون: ل: نسبة إلى مصدرها جامعة استنبول. * وقد وجدنا منها الجزء الأول، ويقع في 344 ورقة. * مقاس: 15×23 سم. * مسطراتها: 25 سطراً. ويبتدىء من أول الكتاب، وينتهي بآخر كتاب الصلاة.

النسخة الثانية والعشرون

* بخط نسخ معتاد. * كتبه إبراهيم بن سعد الله بن جماعة. * تاريخ النسخ: يوم الخميس رابع عشر ذي القعدة من شهور سنة ست وعشرين وستمائة (626 هـ). * يقل فيها التصحيف والتحريف والسقط. * تعتبر من النسخ الجيدة. وقد حصلنا عليها بعد أن قطعنا شوطا طويلاً في العمل، أثناء رحلة إلى مكتبات تركيا وقد ساعدنا الأخ الكريم أكمل الدين إحسان أوغلو مدير مركز الأبحاث للتاريخ والفنون آنذاك، والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الآن؛ أعظم مساعدة، فقد قدم لنا الأخ الكريم مصطفى شاهدي أمين مكتبة مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والآثار ليرافقنا طول هذه الرحلة، ولولا وجود هذا الأخ الكريم معنا ما استطعنا الحصول على هذه النسخة ولا التي تليها؛ ولو كانت هذه النسخة عندنا من أول الأمر، لوفرت علينا عناءً ما بعده عناء في تحقيق الجزء الأول من الكتاب، حيث حققناه عن نسخة وحيدة، أكملنا سقطها وسددنا خرمها بالبحث في كتب المذهب، مع التوسّم والتفرّس، مما أعيانا واستنفد جهداً جهيداً، ووقتاً مديداً. * ومما يذكر أن نسخة (ل) هذه سلمت من بعض الأخطاء التي حمل بسببها ابنُ الصلاح والنووي على إمام الحرمين واتهماه بأنه لا يدري السيرة والسنة، مما يشهد بأن الأئمة لا يصح أن يتحملوا ما يقع في كتبهم من أوهام النَّقلة والناسخين. ... النسخة الثانية والعشرون: م: نسبة إلى مصدرها الخزانة السليمانية. * وقد وجدنا منها الجزء الأول ويقع في 349 ورقة. * مسطراتها: 17 سطراً ويبتدىء من أول الكتاب. وينتهي قبل كتاب الحيض.

النسخة الثالثة والعشرون

* تاريخ النسخ نصف جمادى الأولى سنة 714 هـ. * ناسخها: لم نتمكن من قراءة اسمه ولقبه كاملاً: محمد ... الإسناوي. * كتبت بخط نسخ معتاد. * يقل فيها التصحيف والتحريف والسقط. * يقل فيها الضبط بالشكل. * يكثر فيها النَّقْط. * في هامشها ما يشير إلى أنها روجعت على نسخة أخرى. ... النسخة الثالثة والعشرون: نسخة ق وعلى حين كان الكتاب ماثلاً للطباعة وأثناء تصحيح التجارب جاءنا الخبر عن نسخة أخرى بمكتبة المسجد الأقصى، وزودنا بصورة منها ابننا العزيز رامي سلهب، جزاه الله عنا خير الجزاء. وكان كل الموجود من هذه النسخة الجزء الخامس عشر * ويقع في 185 ورقة. * مسطراتها: 25 سطراً. * يبدأ هذا الجزء من كتاب الضحايا. * وينتهي أثناء باب الامتناع من اليمين، وهو مبتور الآخر. * وهي نسخة حديثة كما يظهر من خطها. * ليس في أول الجزء ولا في آخره ما يشير إلى الناسخ ولا تاريخ النسخ، ولا مكانه، ولا الأصل المنسوخ عنه. * كثيرة التصحيف والتحريف والسقط.

مخطوطات لنصوص أخرى مساعدة

* ومع ذلك أفدنا منها بعض التصويبات والتدقيقات، بيناها في موضعها من الكتاب. مخطوطات لنصوص أخرى مساعدة: بجانب هذه الأجزاء التي وقعت لنا من نسخ النهاية أسعفتنا المقادير بمخطوطات أخرى ساعدتنا كثيراً في عملنا هذا بما يأتي: - إقامة النص وعلاج ما يكون به تصحيف أو تحريف. - سدّ الخرم، وإكمال السقط. - إيضاح النص وكشف ما به من غموض، وحلّ ما به من إشكال. وهذه المخطوطات هي: أ- مختصر النهاية للإمام ابن أبي عصرون المتوفى سنة 585 هـ، اسم هذا المختصر: (صفوة المذهب من نهاية المطلب) وقد أفدنا منه كثيراً في المواضع التي ليس فيها إلا نسخة وحيدة؛ ذلك أن ابن أبي عصرون جرى في اختصاره على ذكر عبارة الإمام في (نهاية المطلب) كما هي بدون تغيير يذكر، وإنما يقوم اختصاره على حذف بعض الأمثلة، وبعض الاستطرادات، والإسهاب في الشرح أحياناً. ب- مختصر العز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هـ واسم هذا المختصر: (الغاية في اختصار النهاية) وهو على غير منهج ابن أبي عصرون، فهو يترك عبارة الإمام جانباً، ويصوغ الفصل صياغة جديدة غاية في الإيجاز. ولذا كانت إفادتنا منه في حل المشكلات والمعوصات من المسائل؛ إذ كان يساعد على فهم المعنى والمغزى من مجمل المسألة، في كثير من الأحيان. جـ- (البسيط) للإمام الغزالي، المتوفى سنة 505 هـ.

والغزالي -كما هو معروف- تتلمذ على إمام الحرمين مشافهة، وكان من أنبغ تلاميذه، وألمع نجوم حلقته. وكتابه (البسيط) هو إعادة صياغة وترتيب (لنهاية المطلب) ذكر ذلك الغزالي في مقدمته، ويعرفه كل من كان على علم بالكتابين (النهاية والبسيط (¬1)). ولذا كان إفادة البسيط لنا مزدوجة، حيث كنا نقرأ فيه المسائل المستغلقة المُعْوِصة، فينكشف لنا سرها، ويتضح لنا مرماها ومغزاها. كما كنا نجد فيه الجمل؛ بل الفقرات الكاملة بألفاظ الإمام ذاتها، فمنه نقوِّم المعوج ونزيل التصحيف والتحريف. ... ¬

_ (¬1) انظر فصل: (منزلة النهاية) من هذه المقدمة.

صور المخطوطات المستعان بها

مصادر المقدمات

مصادر المقدمات 1 - الابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج: أحمد بن أبي بكر بن سُمَيط العلوي الحضرمي ت 1343 هـ. - القاهرة: مطبعة لجنة البيان العربي، 1380 هـ - 1961. 2 - اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -: عبد الجليل عيسى، من أعلام الفقه المعاصرين رحمه الله. - القاهرة: عيسى البابي الحلبي، 1950 م. 3 - الإحكام في أصول الأحكام: سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي الآمدي ت 631هـ. - القاهرة: مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، 1387 هـ - 1968. 4 - إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي، محمد بن محمد بن محمد ت505 هـ. - بيروت: دار الكتاب العربي (مصورة عن طبعة مصرية قديمة 1357 هـ). 5 - آداب الشافعي ومناقبه: ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ت 327 هـ؛ تحقيق الشيخ عبد الغني عبد الخالق. - القاهرة: مكتبة الخانجي. 6 - أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه: أبو عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري ت 643 هـ؛ تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب. - القاهرة: مكتبة الخانجي، 1413هـ - 1992. 7 - أدب القضاء لابن أبي الدم: القاضي شهاب الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن أبي الدم ت 642 هـ؛ تحقيق محمد مصطفى الزحيلي. - ط 2. - دمشق: دار الفكر المعاصر، 1452 هـ - 1982 م. 8 - إرشاد الفحول: محمد بن علي بن محمد الشوكاني ت 1255 هـ. - بيروت: دار الفكر العربي (مصورة عن طبعة أندونيسيا) (د. ت). 9 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: محمد ناصر الدين الألباني؛ إشراف محمد زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1399 هـ - 1979. 10 - الأشباه والنظائر: تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي ت 771 هـ؛ تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وآخر. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1411 هـ - 1991.

11 - الأشباه والنظائر: جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبو بكر بن محمد ت 911 هـ. -القاهرة: دار إحياء الكتب العربية- عيسى البابي الحلبي (د. ت). 12 - أصول التشريع الإسلامي: الشيخ علي حسب الله (من رواد النهضة الفقهية الحديثة - رحمه الله). - القاهرة: دار المعارف، 1959 م. 13 - الأعلام: الزركلي، خير الدين بن محمود بن محمد علي الدمشقي (من نوابغ عصرنا) ت 1396 هـ - 1976 م. - ط 4. - بيروت: دار العلم للملايين، 1979 م. 14 - إعلام الساجد بأحكام المساجد: محمد بن عبد الله الزركشي ت 794 هـ؛ تحقيق الشيخ أبو الوفا مصطفى المراغي. - دولة الإمارات: وزارة الشؤون الإسلامية (عن طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، 1397 هـ). 15 - إعلام الموقعين عن رب العالمين: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية ت 751 هـ)؛ مراجعة وتعليق طه عبد الرؤوف سعد. - القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1968. 16 - الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع: القاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي ت 544 هـ؛ تحقيق العلامة السيد أحمد صقر. - القاهرة: دار التراث، 1970 م. 17 - الإلهام والكشف والرؤى هل تعد مصادر للأحكام: العلامة فقيه العصر الشيخ يوسف القرضاوي. - الدوحة: حولية كلية الشريعة بجامعة قطر، العدد السادس. 18 - الإمام الشافعي: حياته وعصره: فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- من أعلام الفقه وحماة الشريعة في العصر الحديث. - ط2. - القاهرة: دار الفكر العربي، 1367 هـ - 1984 م. 19 - الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد: أحمد نحراوي عبد السلام الإندونيسي. - القاهرة: مكتبة الشباب، 1408هـ - 1988. 20 - الأم: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي؛ وبهامشه مختصر المزني. - القاهرة: كتاب الشعب، 1388 هـ - 1968. 21 - الأنساب: القاضي أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني ت 562 هـ. - الهند: حيدر آباد الدكن، 1962. 22 - البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي ت 774 هـ. - بيروت: مكتبة المعارف، 1974. 23 - البرهان في أصول الفقه: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق عبد العظيم الديب. - الدوحة: الشؤون الدينية، 1399. * ط 3. - المنصورة: دار الوفاء، 1412 هـ - 1992.

24 - البرهان في علوم القرآن: محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي ت 794 هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. - بيروت: دار المعرفة (د. ت) 25 - تاريخ الإسلام السياسي: حسن إبراهيم حسن. - القاهرة: مكتبة النهضة، 1967م. 26 - تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي ت 463 هـ. - القاهرة: مكتبة الخانجي، 1931 م. 27 - تاريخ التشريع الإسلامي: محمد الخضري بن الشيخ عفيفي الباجوري (من أعلام دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، ت 1345 هـ). - ط 7. - القاهرة: المكتبة التجارية، 1965. 28 - تاريخ التشريع الإسلامي: عبد الوهاب خلاف. - ط 6. - القاهرة: 1954م. 29 - تاريخ المذاهب الفقهية: الشيخ محمد أبو زهرة. - القاهرة: دار الفكر العربي (د. ت). 30 - التبصرة في أصول الفقه: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي ت 476 هـ؛ شرح وتحقيق محمد حسن هيتو. - دمشق: دار الفكر، 1980. 31 - تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الدمشقي. - ط 4. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1411 هـ. 32 - تحفة المحتاج بشرح المنهاج: شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي ت 973 هـ (طبعة مصورة عن الطبعة الميمنية بالقاهرة 1315، ومعها حاشيتا الشرواني، وابن قاسم). 33 - تحقيق النصوص ونشرها: عبد السلام هارون (عمدة المحققين). - القاهرة: مؤسسة الحلبي، 1385 - 1965 م. 34 - تشييع الفقهاء الحنفية بالتشنيع على سفهاء الشافعية: ملا علي القاري 1014 هـ (مخطوط بمكتبة الحرم المكي، منه صورة بمكتبتنا). 35 - تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة: العلامة المحدث الشيخ أحمد شاكر ت 1377؛ اعتنى به وعلق عليه العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1414هـ - 1993م. 36 - التفكير فريضة إسلامية: عباس محمود العقاد. - القاهرة: دار الرشاد الحديثة. 37 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852 هـ؛ تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني المدني. - المدينة المنورة: (د. ن)، 1384 هـ - 1964.

طبعة أخرى: تحقيق أبو عاصم حسن بن عباس بن قطب. - جدة: مؤسسة قرطبة، 1416 هـ - 1995. 38 - التلخيص في أصول الفقه: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق عبد الله جولم البيلي، وشبير أحمد العمري. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1996. 39 - التنقيح في شرح الوسيط: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي ت 676 هـ[مطبوع بهامش الوسيط]. - القاهرة: دار السلام، 1417 هـ - 1997. 40 - تهذيب الأسماء واللغات: أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي ت 676 هـ؛ تحقيق شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية. - بيروت: دار الكتب العلمية، (د. ت). -[طبعة مصورة]. 41 - تهذيب التهذيب: الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852 هـ. - بيروت: دار صادر، (د. ت). -[مصورة عن الطبعة الأولى بدائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1325 هـ] 42 - جامع الأصول من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ابن الأثير، الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير ت 606 هـ؛ تحقيق محمد حامد الفقي. - القاهرة: مطبعة السنة المحمدية 1950 م. 43 - جامع التحصيل في أحكام المراسيل: صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي ت 761؛ تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. - بغداد: وزارة الأوقاف، 1978. 44 - جامع الشروح والحواشي: عبد الله محمد الحبشي. - أبو ظبي: المجمع الثقافي، 2004 م. 45 - خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال: الخزرجي صفي الدين أحمد بن عبد الله ت 923 هـ. - القاهرة: المطبعة الخيرية، 1322 هـ. 46 - الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق عبد العظيم محمود الديب. - الدوحة: إدارة إحياء التراث الإسلامي، 1406 هـ - 1986. 47 - دفع الخيالات في رد ما جاء على القول الوضاح من المفتريات: أحمد بك الحسيني الشافعي. - القاهرة: دار الكتب العربية الكبرى - مصطفى البابي الحلبي

48 - الرد على من أخلد إلى الأرض: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال ت 911 هـ؛ تحقيق خليل الميس. - بيروت: دار الكتب العلمية 1983 م. 49 - الرسالة: الإمام محمد بن إدريس الشافعي ت 204؛ تحقيق وشرح العلامة المحدث أحمد شاكر. - القاهرة: مكتبة دار التراث، 1399 - 1979. 55 - الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة: محمد بن جعفر الكتاني ت1345 هـ. - ط4. - بيروت: دار البشائر، 1406 - 1986 م. 51 - رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ابن تيمية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ت 728. - الدوحة: إدارة الشؤون الدينية، 1394 هـ - 1974 م. 52 - روضة الطالبين: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي 676 هـ. - بيروت: المكتب الإسلامي، (د. ت). -[على نفقة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني]. 53 - زبدة التواريخ، أخبار الأمراء والملوك السلجوقية: صدر الدين علي بن ناصر الحسيني؛ تحقيق محمد نور الدين. - بيروت: دار اقرأ، 1405 هـ - 1985 م. 54 - السنة قبل التدوين: محمد عجاج الخطيب. - القاهرة: مكتبة وهبة، 1963 م. 55 - السنة ومكانتها في التشريع: مصطفى السباعي (من نوابغ الدعاة والعلماء في العصر الحديث، رحمه الله وجزاه خيراً). - ط 1. - القاهرة: مكتبة العروبة، 1961. 56 - سنن الترمذي (مقدمة الشيخ أحمد شاكر). - اسطنبول: دار الدعوة، 1401 هـ. 57 - سنن الدارقطني: علي بن عمر الدارقطني ت 385 هـ؛ تصحيح عبد الله هاشم يماني. - القاهرة: دار المحاسن - (ومعه التعليق المغني على سنن الدارقطني). 58 - سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748 هـ؛ إشراف شعيب الأرناؤوط. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1403 هـ - 1983. 59 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب؛ ابن العماد الحنبلي عبد الحي بن أحمد بن محمد ت 1089. - مكتبة القدس، 1350 هـ. 60 - شرح السنة: أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي ت 516 هـ؛ تحقيق شعيب الأرناؤوط، ومحمد زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الاسلامي، 1390 هـ - 1971. 61 - الشرح الكبير: الرافعي، أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القزويني ت 624 (مطبوع بهامش شرح المهذب للنووي). - بيروت: دار الفكر (د. ت). 62 - شرح اللمع: أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي ت 476 هـ؛ تحقيق عبد المجيد تركي. - بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1408 هـ - 1988.

63 - شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: أبو عبد الله محمد بن مالك الطائي الأندلسي ت 672 هـ؛ تحقيق طه محسن. - بغداد: وزارة الأوقاف العراقية، 1405 هـ - 1985. 64 - صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري ت 256 هـ. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401 هـ - 1981. 65 - طبقات الشافعية: الإسنوي، جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي ت 772 هـ؛ تحقيق عبد الله الجبوري. - بغداد: رئاسة ديوان الأوقاف، 1391 هـ. 66 - طبقات الشافعية: ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر ت 774 هـ؛ تحقيق عبد الحفيظ منصور. - بيروت: دار المدار الإسلامي، 2004. 67 - طبقات الفقهاء الشافعية: ابن قاضي شهبة، أبو بكر بن أحمد بن محمد الأسدي الدمشقي ت 851 هـ؛ تحقيق علي محمد عمر. - القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، (د. ت). 68 - طبقات الشافعية: ابن هداية الله الحسيني ت 1014 هـ؛ تحقيق عادل نويهض. - بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1971. 69 - طبقات الشافعية الكبرى: السبكي، أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي ت 771 هـ؛ تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود محمد الطناحي. - القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1385 هـ - 1966. - القاهرة: هجر للطباعة والنشر والتوزيع، 1413 هـ - 1992. 70 - طبقات الفقهاء الشافعية: ابن الصلاح أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري ت 643 هـ؛ تحقيق محيي الدين علي نجيب. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1413 هـ - 1992. 71 - طبقات الفقهاء الشافعية: أبو عاصم محمد بن أحمد العبادي ت 458 هـ. - ليدن: (د. ن)، 1964. 72 - طبقات الفقهاء: أبو إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي ت 476 هـ؛ تحقيق إحسان عباس. - بيروت: دار الرائد العربي، 1401 هـ، 1981. 73 - الطبقات الكبرى: ابن سعد محمد بن سعد ت 230. - القاهرة: دار التحرير (د. ت). 74 - ظهر الإسلام: أحمد أمين. - القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1945. 75 - العقد المذهب في طبقات حملة المذهب: ابن الملقن، أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الأندلسي الشافعي ت 804 هـ. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1417 هـ - 1997.

76 - العقل عند الأصولين: عبد العظيم محمود الديب. - مصر: دار الوفاء بالمنصورة، 1415 - 1995. 77 - العقيدة النظامية: إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، ت 478 هـ؛ تحقيق العلامة محمد زاهد الكوثري. - القاهرة: مطبعة الأنوار، 1948 م. 78 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: عبد الرحمن بن علي بن الجوزي؛ تحقيق إرشاد الحق الأثري. - فيصل آباد (باكستان): إدارة العلوم الأثرية، (د. ت) 79 - علم الاكتناه العربي الإسلامي: قاسم السامرائي. - ط 1. - الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1422 هـ. 80 - الغزالي: أحمد فريد الرفاعي. - القاهرة: دار المأمون، 1936 م. 81 - الغياثي: إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق عبد العظيم محمود الديب. - ط 2. - القاهرة: دار الأنصار؛ 1401 (مصورة عن طبعة الشؤون الدينية بدولة قطر). 82 - فتاوى ابن حجر الهيتمي (الفتاوى الكبرى الفقهية) شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي ت 973. - بيروت: دار الفكر، 1403، 1983 (طبعة مصورة). 83 - الفتاوى الكبرى: ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم، شيخ الإسلام ت 728؛ تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا. - ط 1. - القاهرة: دار الريان للتراث، 1408 هـ - 1988 م. 84 - فتح الباري شرح صحيح البخاري: الحافظ ابن حجر، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني ثم المصري، الشافعي ت 852 هـ؛ بإشراف محب الدين الخطيب، وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. - بيروت: دار المعرفة (مصورة عن طبعة المطبعة السلفية بالقاهرة) (د. ت). 85 - فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد: محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن السلمي المناوي الشافعي ت 747 هـ؛ تحقيق أبي عبد الله محمد بن الحسن بن إسماعيل. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1415 هـ - 1995. 86 - فقه إمام الحرمين: عبد العظيم محمود الديب. - ط 2. - المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر، 1409 هـ - 1988. 87 - الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: محمد بن الحسن الحجوي الفاسي؛ تحقيق عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ. - المدينة المنورة: المكتبة العلمية، 1396 هـ.

88 - فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري (مطبوع بهامش المستصفى للغزالي - طبعة مصورة عن الطبعة الأميرية ببولاق 1322 هـ). 89ـ الفوائد المدنية في بيان اختلاف العلماء من الشافعية: محمد بن سليمان الكردي المدني ت 1194 هـ؛ تصحيح وضبط محمد علي بن حسين المالكي. - القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1357 هـ - 1938. 95 - الفوائد المكية (ضمن مجموعة سبعة كتب مفيدة): السيد علوي بن أحمد السقاف ت 1335. - القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، (د. ت). 91 - فيض القدير شرح الجامع الصغير: عبد الرؤوف المناوي ت 1031 هـ. - بيروت: دار المعرفة، 1391 هـ - 1972. 92 - قطف الأزهار وكشف الأسرار: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال ت 911 هـ؛ تحقيق أحمد محمد الحمادي. - قطر: وزارة الأوقاف 1414 هـ - 1994 م. 93 - الكافية في الجدل: إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق فوقية حسين محمود رحمها الله. - القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، 1399 هـ - 1979 م. 94 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله القسطنطيني كاتب جلبي، مؤرخ تركي متعرب ت 1066 هـ. - استانبول: وكالة المعارف الجليلة، 1943 م. 95 - المجموع شرح المهذب: أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي ت 676 هـ[بهامشه الشرح الكبير، وتلخيص الحبير]. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). -[طبعة مصورة عن طبعة شركة العلماء]. 96 - المداخل لآثار شيخ الإسلام ابن تيمية: بكر بن عبد الله أبو زيد. - مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، 1422 هـ. 97 - المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي: أكرم يوسف القواسمي. - عمان: دار النفائس، 1423 هـ - 2003 م. 98 - مدخل إلى نشر التراث العربي: محمود محمد الطناحي. - ط 1. - القاهرة: مكتبة الخانجي، 1405 هـ - 1984 م. 99 - المذهب عند الشافعية: فضيلة الشيخ محمد إبراهيم أحمد علي، من علماء أم القرى. - مكة المكرمة: مجلة جامعة الملك عبد العزيز - ع 2 ص 25 - 48، جمادى الآخرة 1398 هـ - مايو 1978.

100 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال بن أبي بكر ت 911 هـ، تحقيق محمد أحمد جاد المولى وآخرَين. - القاهرة: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي (د. ت). 101 - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: ابن فضل الله العمري - ت 749 هـ، الجزء السادس (الفقهاء)؛ تحقيق محمد عبد القادر خريسات وآخرَين. - العين - الإمارات: مركز زايد للتراث والتاريخ، 2001 م. 102 - المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ت 405 هـ. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 103 - المستصفى من علم الأصول: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي ت 505 هـ[ومعه فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت]. - طبعة مصورة عن المطبعة الأميرية ببولاق، 1322 هـ. 104 - المسند: الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ت 241؛ تحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. - القاهرة: دار المعارف، 1392 هـ - 1972 (لم يتم). 105 - شرح مشكل الوسيط: أبو عمرو عثمان بن الصلاح ت 643 هـ[مطبوع بهامش الوسيط]. - القاهرة: دار السلام، 1417 هـ - 1977. 106 - معجم البلدان: ياقوت الحموي ت 626 هـ. - القاهرة: مطبعة السعادة 1323 هـ - 1906 م. 107 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري ت 761 هـ؛ تحقيق مازن المبارك، وآخر. - بيروت: دار الفكر، 1979. 108 - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: محمد بن محمد بن الخطيب الشربيني ت 977. - بيروت: دار الفكر (د. ت). 109 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة: أحمد بن مصطفى الشهير بطاش كُبري زَادَه 968 هـ. - حيدر آباد الدكن - الهند: دائرة المعارف النظامية 1328 - 1329 هـ. 110 - مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون ت 808 هـ؛ تحقيق علي عبد الواحد وافي. - القاهرة: دار الشعب (د. ت). 111 - مقدمة ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح الشهرزوري ت 643؛ تحقيق بنت الشاطئ. - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1976.

112 - مقدمة مرشد الأنام لبرّ أُم الإمام (في مجلدين كبيرين) (مصنف ضخم في طبقات علماء المذهب حتى القرن الثالث عشر، وفي كتب المذهب ومصطلحاته، ومقدمات العلم والتعلم): أحمد بك الحسيني ت 1332 هـ. -[منه صورة بمكتبتنا]. 113 - منار السبيل في شرح الدليل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: إبراهيم بن محمد بن سالم ضويان ت 1353 هـ؛ تحقيق زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، (د. ت). 114 - المنتظم: ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، ت 597 هـ. - حيدر آباد الدكن - الهند: دائرة المعارف العثمانية 1357 إلى 1359 هـ. 115 - المنثور في القواعد: بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي الشافعي ت 794 هـ؛ تحقيق تيسير فائق أحمد محمود. - الكويت: وزارة الأوقاف، 1402 هـ - 1982. 116 - المنهج في كتابات الغربيين عن الإسلام: عبد العظيم محمود الديب. - الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية (سلسلة كتاب الأمة العدد رقم 27، ربيع الآخر 1411 هـ). 117 - منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه والأصول: عبد الوهاب أبو سليمان. - بيروت: دار ابن حزم، 1420 هـ - 1999 م. 118 - الموضوعات: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي ت 957 هـ؛ تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. - المدينة المنورة: المكتبة السلفية، 1386 هـ - 1966. 119 - الموطّأ: مالك بن أنس ت 179 هـ. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401 هـ - 1981. 120 - الموافقات: الشاطبي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي ت 790؛ تحقيق الشيخ عبد الله دراز. - بيروت: دار المعرفة (د. ت). 121 - مؤلفات الغزالي: عبد الرحمن بدوي. - الكويت: وكالة المطبوعات، 1977 م. 122 - ميزان الاعتدال: الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد ت 748 هـ؛ تحقيق علي محمد البجاوي. - بيروت: دار المعرفة (د. ت). 123 - نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره: أستاذنا الشيخ محمد علي السايس. - القاهرة: مجمع البحوث الإسلامية، 1970 م. 124 - نصب الراية لأحاديث الهداية (مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي): أبو محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي ت 762 هـ. - ط 2. - جوهانسبرج (جنوب إفريقيا): المجلس العلمي، 1393 هـ.

125 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي ت 1004 هـ. - بيروت: دار الفكر، 1404 هـ - 1984. - (ومعه حاشيتا الشبراملسي والمغربي). 126 - نهاية المطلب في دراية المذهب: إمام الحرمين (وهو الكتاب الذي بين يديك). 127 - نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار: شرح محمد بن علي بن محمد الشوكاني ت 1250 هـ. - بيروت: دار الجليل، 1973. 128 - الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ت 764 هـ؛ تحقيق هلموت ريتر وآخرون. - شتوتغارت: فرانز شتايز: جمعية المستشرقين الألمان، سلسلة النشرات الإسلامية، 1381 هـ/1418 هـ - 1962/ 1997. 129 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان ت 681 هـ؛ تحقيق إحسان عباس. - بيروت: دار الثقافة، (د. ت). ***

كتاب "نهاية المطلب في دراية المذهب" الذي ما صنف في الإسلام مثله. ابن خلكان المتوفي سنة 681 هـ ... استفاض بين الأصحاب وأئمة المذهب قولهم: "منذ صنف الإمام (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام" ابن حجر الهيثمي المتوفي سنة (973 هـ)

بين يدي الكتاب

بين يدي الكتاب بقلم الدكتور محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل " نهاية المطلب " واسطة عقد المذهب، والمنهل الروي لعِلْم الإمام الشافعي المُطَّلبي، وهل شيخا المذهب النووي والرافعي إلا من رواة قصائده؟! فهما اللذان غاصا في لجج " نهايته " مباشرة أو بواسطة، وعبَّا من معين درايته فتضلعا؛ (فكل علمٍ عندهم من رفده). وهذا ما لا يماري فيه المحققون، بل لهجت به ألسن أهل الاطلاع، وكل من جاء بعده اقتفى أثره، واغترف من بحره. والإمام الجويني عَلمٌ من أعلام الفكر الإسلامي، أبدع في ميادين شتى في أصول الثقافة الإسلامية وفروعها؟ ولذلك لُقِّب (الإمام). عقدت الخناصر على فضله، ونطقت الحناجر بتقدمه وسبقه، وتعاضدت آراء الأوائل والأواخر مشيدة بعلو مكانته، ومعترفة بسعة معارفه، ونبل رأيه، ولست في هذه الأحرف معنياً بذكر نتاجه الفكري المتنوع، ولا بإبراز خصائص تراثه؛ فلهذه كتب مستقلة، وبحوث متعددة، ولكن أُرسل أضواء اليراعة على كتابنا هذا: " نهاية المطلب في دراية المذهب " " فالنهاية " كاسمها عرضٌ متكاملٌ لمذهب الإمام الشافعي، وشرحٌ مستوفىّ

دور الاختصار والتهذيب

لآرائه، وعماد قوي لطريقته؛ حتى قال ابن حجر الهيتمي: (منذ صنف الإمام كتابه " النهاية " لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام) (¬1). والواقع إن " نهاية المطلب " لم يكن شرحاً لـ " مختصر المزني " فقط، وإنما كان حاوياً وشارحاً لكتب الإمام الشافعي جميعها؛ ولذلك اشتغل الفقهاء به بعد ظهوره وتحبيره؛ لأنه زبدة المذهب، وخلاصة الأسفار الأربعة التي هي أساس المذهب الجديد، وأعني بذلك: " الأم " و" الإملاء " و" البويطي " و" مختصر المزني "، وهذا ما صرح به بعض المتأخرين؛ إذ اعتبر أن " النهاية " اختصارٌ لهذه الكتب، وزبدة لما تحويه، إلا أن العلامة ابن حجر الفقيه في آخرين يرون أن " النهاية " ليس إلا شرحاً لـ " مختصر المزني " خاصة. وقد جمع محقق " النهاية " (¬2) بين الرأيين جمعاً حسناً متمحضاً عن اطلاع ودراية، فقال: (قلت: كلاهما على صواب، فمن حيث الشكل هي شرح " لمختصر المزني "، أما من حيث الواقع .. فالإمام جمع فيها كل علم الشافعي من كتبه الأربعة). دور الاختصار والتهذيب ولما أكب أهل العلم على " النهاية " باعتبارها عماد المذهب، وزبدة كتب الإمام الشافعي .. أضحت مرجع القوم، ومصدر المذهب، ومعتمد الخاصة، وكتاب الفتوى، وقام حجة الإسلام الغزالي تلميذ الإمام باختصارها في كتابه " البسيط "، حتى كان مبغضو الإمام الغزالي يقولون له: ما صنعت شيئاً، أخذت الفقه من كلام شيخك في " نهاية المطلب " (¬3). ¬

_ (¬1) الفوائد المكية للسيد علوي بن أحمد السقاف (ص: 35). (¬2) هو الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب في بحث سماه " شخصية إمام الحرمين العلمية " ضمن بحوث الذكرى الألفية لإمام الحرمين الجويني (ص: 77). (¬3) طاش كبرى زاده في أواخر ترجمته للإمام الغزالي.

ثم اختصر الإمام الغزالي " الوسيط " من " البسيط " ثم اختصره ووسمه "بالوجيز" فقال قائلهم: حرَّرالمذهبَ حبرٌ ... أحسن الله خلاصه بـ " بسيط " و" وسيط " ... و" وجيز " و" خلا صه " (¬1) ثم تصدَّى الإمام الرافعي لـ " الوجيز " فشرحه شرحاً وافياً، وتوسَّع فيه تدليلاً وتعليلاً وسماه: "العزيز"، واشتهر عند المتأخرين بـ "فتح العزيز شرح الوجيز " وربما أطلقوا عليه: " الشرح الكبير ". وقد خرج أدلته جمعٌ من المحققين، حتى جاء خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني فلخصها، وضم إليها نفائس حديثية في كتابه الموسوم بـ "التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير". ولم يقف الإمام الرافعي عند هذا الحد، بل اختصر " الوجيز " أيضاً في مجلد لطيف سماه " المحرر ". وانبرى الإمام النووي بعده لهذين الكتابين فخدمهما خدمة أهل التحقيق، وهذبهما تهذيب أهل التدقيق، فقد اختصر "الشرح الكبير" في كتابه الجليل " روضة الطالبين "، كما اختصر " المحرر" اختصاراً لا يحبره إلا أمثاله وسماه " المنهاج "، وفضله سارت بها الركبان، وصدرت حديثاً طبعته الجديدة بعناية دار المنهاج. فأما "روضة الطالبي" .. فقد قام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري باختصارها ¬

_ (¬1) فائدة: " الخلاصة " هنا هي مختصر " مختصر المزني" واسمها: " خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر "، وليس هو مختصر لكتاب " الوجيز " كما قد يتوهم البعض فليتنبه لذلك، وهذا الكتاب سيخرج محققاً ومطبوعاً للمرة الأولى ضمن منشورات دار المنهاج بمشيئة الله تعالى.

وسماه " روض الطالب " فاختصر الاسم والمسمى، وشرحه أيضاً، كما قام غيره باختصار " الروضة " إلا أنه لم يشتهر شهرة " الروض ". وأما " المنهاج " .. فإن شروحه وحواشيه ومختصراته تتقاعس العزائم عن تَعدادها، واستقر الأمر أنها من الكتب المعتمدة في المذهب، والمختارة في الدراسة؛ لما اشتملت عليه من التحقيقات. وبنظرة عجلى إلى هذا التسلسل المعرفي ندرك أثر إمام الحرمين في المذهب، بل ومنَّته على كل شافعيٍّ جاء بعده. ودار المنهاج الفتية كعادتها سبَّاقة إلى استخراج كنوز الأوائل، رائدة في خدمة التراث، ولها اليد الطولى في نشر العلوم الشرعية عموماً، وفقه الشافعية خصوصاً، ولا سيما ما كان منها مطموراً في دهاليز النسيان. أوَ لم تخرج لنا " بيان العمراني " يرفل في حلل التحقيق، ويتهادى في ثوبه القشيب؟! ولولا عزيمة صاحب الدار التي لا تعرف التقاعس، وهمته العصامية .. لما اكتحلت أعين الفقهاء بإثمد هذه الموسوعة الفقهية. أوَ لم تهد إلينا هذه الدار " النجم الوهاج " للعلامة الدميري بعد أن استرخى طويلاً وتراكم عليه غبار الإهمال؟! ألم يتحفنا بـ " مختصر حلية أبي نعيم " للعلم المهذب الأستاذ الزاهد الواسطي؟! والقائمة طويلة طويلة في طول همة أبي سعيد: الأستاذ عمر بن سالم باجخيف، أعلى الله تعالى مقامه، وبلغه مرامه، وزاده توفيقاً وإحساناً. وها هو اليوم يتحف الفقهاء في كل صقع بعمدة مذهب الشافعي " نهاية المطلب ودراية المذهب " لإمام الحرمين عبد الملك الجويني، هذا الكتاب الذي عكف عليه أرباب المذهب، وذهبوا في مدحه كل مذهب؛ ولعل دور الطبع أحجمت عن نشره لضخامته وعظم مؤنته؛ بيد أن الحظَّ الأسعد منح هذه الدار شرف نشره، فأعطى القوس باريها، فنقشت حروفه بيراعة الإبداع، وحلّت مظهره بكل ما تختزنه

من رصيد فني، وسكبت على طروسه محاسن خبرتها العالية؛ ليتربع على منصة الجودة، ويعلو سنام التميز، ويتناغم الجَمَالان: جمال المضمون الفقهي، وجمال الإبداع الفني في إيقاع أخاذ. وبعد فلِلّهِ در محقق " نهاية المطلب " الدكتور عبد العظيم محمود الديب ذي العزمات الوثابة؛ فقد اضطلع بتحقيق هذا المصدر المعرق في الأصالة، وأنفق أنفس أوقاته في خدمة تراثنا الشرعي، متمثلاً في إبراز هذا السفر الجليل يتهادى في حلل التحقيق، ويتراءى في جودة التدقيق، فقد قضى -أثابه الله تعالى- نحواً من ربع قرن في العناية بـ " النهاية " إِلى النهاية، فقابل مخطوطاته ببعضها، وبين فوائدها وتنوعها، وخرج أحاديثها وآثارها، وميز صحيحها من سقيمها، وعلَّق على ما يتطلب التعليق من غريبها وغامضها، فما انفكت يده عنها إلا وهي تتلألأ تلألؤ النجوم في سمائها، فتهدي الحائر في ظلمة الليل البهيم، وأهدى هذا السفر إلى متفقهة العصر؛ ليضاف إلى ذلك الرصيد الضخم من التراث الشرعي: هذي الفضائل لا قعبان من لبنٍ ... شِيبا بماء فعادا بعد أبوالا فجزى الله تعالى الدكتور الديب خير ما يجزي الصالحين، وختم لنا وإياه بالحسنى، وأثاب الناشر بما هو له أهل. ***

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخُ [الإمام الأجل فخر الإسلام، إمام الحرمين، والأئمة، مقدَّمُ أهل السنة] (¬1). أبو المعالي عبدُ الملك بنُ عبد الله بن يوسف الجويني، رضي الله عنه: 1 - أحمد الله عزت قدرتُه حقَّ حمده، وأصلي على محمّد نبيّهِ، وخاتم رسله، وعبدِه، وأبتهل إليه في تيسير ما هممتُ بافتتاحه من مذهبٍ (¬2) مُهذَّبٍ، للإمام المُطَّلِبي الشافعي رضي الله عنه، يحوي تقريرَ القواعد وتحرير الضوابط [والمعاقد] (¬3)، في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصَّل منها والمجموع، ومشتملٍ على حل المشكلات، وإبانة المعضلات، والتنبيه على المَعاصات والمُعْوِصات (¬4)، ويُغني عن الارتباك في المتاهات، والاشتباك في العمايات. ولستُ أُطنب في وصفه، وسيتبين شرفَه من يوفّق لمطالعته ومراجعته، وهو على التحقيق نتيجةُ عمري، وثمرةُ فكري في دهري. لا أغادر فيه بعون الله أصلاً ولا فرعاً إلاّ أتيت عليه، مُنتحياً سبيلَ الكشف، مؤثراً أقرب العبارات في البيان، والله المستعان وعليه التُّكلان. ¬

_ (¬1) زيادة من (م) و (ل). (¬2) عبارة (م): تهذيب مذهب الإمام. (¬3) في الأصل: المقاعد، وهذا تقدير منا، صدقته (م)، (ل) بعد حصولنا عليهما مؤخراً. (¬4) عاص الكلامُ وعَوِصَ خفي معناه، وأعْوص في الكلام أتى بالعويص منه، (المعجم) والمعنى أنه ينبه على المواضع الخفية، والتي يصعب فهمها من الكلام، وفي (ل): على المغاصات في المعوصات.

2 - وسأجري على أبواب " المختصر " ومسائلها جهدي، ولا أعتني بالكلام على ألفاظ [السواد] (¬1)، فقد تناهى في إيضاحها الأئمةُ الماضون، ولكنّي أنسبُ النصوصَ التي نقلها المزني (¬2) إليه، وأتعرض لشرح ما يتعلق بالفقه منها، إن شاء الله تعالى. 3 - وما اشتهر فيه خلافُ الأصحاب ذكرتُه، وما ذُكر فيه وجهٌ غريبٌ منقاسٌ، ذكرت ندورَه وانقياسَه، وإن انضم إلى ندوره ضعفُ القياس، نبهتُ عليه، بأن أذكر الصوابَ، قائلاً: " المذهب كذا "، فإن لم يكن له (¬3) وجهٌ، قلتُ بعد ذكر الصواب: وما سوى هذا غلط. وإن ذكر أئمةُ الخلاف وجهاً مرتبكاًً (¬4) أنبه عليه بأن أقول: اتفق أئمةُ المذهب على كذا، فتجري وجوهٌ من الاختصار، مع احتواء المذهب (¬5) على المشهور والنادر. وإن جرت مسألةٌ لم يبلغني فيها مذهبُ الأئمة خرّجتُها على القواعد، وذكرت مسالك الاحتمال فيها، على مبلغ فهمي. ¬

_ (¬1) في الأصل: السؤال. والصواب: "السواد" كما في النسخ الأخرى كلها، والمراد بالسواد (الأصل) أو (المتن) هكذا يُستخدم هذا اللفظ من قبل الأئمة والمؤلفين القدماء في كتبهم ومؤلفاتهم. وسيرد هذا الاستعمال كثيراً في كلام الإِمام، وهو غير موجود في المعاجم. (¬2) المزني، إِسماعيل بن يحيى بن إِسماعيل، أبو إِبراهيم، صاحب الشافعي، وأعرف من أن يعرّف، ومن تصانيفه المختصر الذي يجري إِمامُ الحرمين على منواله في النهاية. توفي بمصر: 264 هـ. (¬3) أول الموجود من نسخة (د 3). (¬4) كذا في الأصل، (د 3): (مرتبكاًً) ولما أصل إِلى المقصود (بالمرتكب) مع طول بحثي. هذا. وعبارة (د 3): " ... وجهاً مرتبكاًً إِجماليا بأن أقول"، وفي (م): (مرتبكاً)، و (ل): (مرتبكاً)، كأختيها، وواضح أنه أحد مصطلحات علم الجدل، وسيأتي توضيح لهذا المصطلح فيما نستقبل من أبواب الكتاب وفصوله. (¬5) المذهب: يريد به كتابه هذا.

وتعويلي في متصرفات أموري على فضل الله تعالى. وقد استقرّ رأيي على تلقيبه بما يُشعر بمضمونه، فليشتهر بـ (نهاية المطلب في دراية المذهب) والله ولي التوفيق، وبيده التيسير، وهو بإسعاف راجيه جدير. ***

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة قال الشافعي رحمه الله: " قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬1) [الفرقان: 48] ... إلى آخره ". 4 - ومقصود هذا الباب تفصيلُ القول في الماء الطاهر، الذي يتغير ببعض الأشياء الطاهرة. فأقول: اختلف طرق الأئمة في ضبط مقصود الباب، فالذي أراه المسلكَ المرضي أن اختصاص طهارات الأحداث بالماء يُتَّبع فيه موردُ الشرع، ولا يُطلب له معنى وعلّة؛ فإنّ طُهْرَ الحدث، واختصاصَه بالماء غيرُ معقول المعنى، وإذا كان كذلك، فالوجه اتباعُ لفظ الشارع، وربطُ الحكم به، وقد مَنّ الله تعالى على عباده بإنزال الماء الطهور؛ فقال عزّ من قائل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وتكرّر ذكرُ الماء في الأخبار المأثورة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فممّا روي قوله صلى الله عليه وسلم: " خُلقَ الماءُ طهوراً " (¬2)، وغيرُه. ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 2. (¬2) حديث: "خُلق الماء طهوراً". قال الحافظ في التلخيص: " لم أجده هكذا "، وهو في حديث أبي سعيد الخدري، " أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر بضاعة "، فقيل له: يا رسول الله، أتتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يُلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" وقد رواه الشافعي: 1/ 21 (السندي)، وأحمد 3/ 15، 16، 31، 86، وأبو داود: الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، ح 66، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، ح 66، والنسائي: المياه، باب ذكر بئر بضاعة، ح 326، والدارقطني: 1/ 30، والبيهقي: 1/ 4. وروى ابن ماجة عن جابرٍ رضي الله عنه: " إِن الماء لا ينجسه شيء " ا. هـ مختصراً من تلخيص الحبير: 1/ 13 - 15. وراجع ما كتبه ابن حجر لترى تصحيحه لحديث =

فالوجه أن يقال: كل ما يسمى ماءً على الإطلاق، ويُفهم من لفظ الماء، فهو على الإطلاق صالحٌ للطهارات، (1 إذا كان طاهراً، وما يتغيرُ تغيُّراً يخرجُ بسببه عن اسم الماء مطلقاً، فهو غير صالحٍ للطهارات 1). وإذا لم يتجه معنىً، ولزم اتباعُ اللفظ، والاقتصارُ على مقتضاه، فموجَب ذلك تحكيم معنى الاسم في النفي والإثبات. هذا بيان ما يضبط مقصودَ الباب، وسنفصله بتخريج المسائل عليه. 5 - فإذا تغيّر الماء بوقوع طاهرٍ فيه، نُظر: فإن تغير ريحُه بمجاورة الواقع فيه، مثل أن يقع فيه كافورٌ صلب، أو ما في معناه من الأدهان ذوات الروايح الفايحة، وهي لا تخالط الماء، بل تعلوه طافيةً، فإذا تغيرّت رائحةُ الماء بهذه الأشياء؛ فالماء طهورٌ؛ فإنه يسمى ماءً مطلقاً، والمتبعُ الاسم. 6 - وإن تغير الماء بمخالطة الواقع فيه، فهو ينقسم على ما رسمه الأصحاب، إلى ما يمكن صونُ الماء عنه، وإلى ما لا يمكن صونُه عنه. فأما ما يمكن صون الماء عنه كالزعفران والدقيق وغيرِهما، فإذا خالط شيءٌ منها الماءَ ولم يغيره، فالماء طهورٌ، مفهوم من مطلق اسم الماء. وإن غيّره، نُظر: فإن تفاحش التغيرُ، بحيث يستجد ذلك المتغير اسماً، بأن يسمى صبغاً أو حبراً؛ فقد خرج عن كونه طهوراً؛ لسقوط اسم الماء المطلق عنه، ولا فرق بين أن يُعرَض على النار أو لا يُعرَض عليها. وإن حصل أدنى تغيّر، ولم يَصِر الماءُ بحيث يتجدد له اسمٌ سوى الماء، فهو على موجب هذه الطريقة طهورٌ؛ فإنه يسمى ماءً على الإطلاق. وما ذكرتُه من تفصيل القول في التغيّر ذكره شيخُنا أبو بكر الصيدلاني (¬2) فيما ¬

_ = "أبي سعيد"، وما قاله في إِسناد حديث " جابر " رضي الله عنهما. (1) ما بين القوسين ساقط من نسخة: د3. (¬2) الصيدلاني، محمد بسن داود الداودي، أبو بكر، تلميذ أبي بكر الققال المروزي، شارح المزني، وشرحه هذا يسمّى عند الخرسانيين "بطريقة الصيدلاني" (طبقات =

جمعه من طريقة القفال (¬1)، ولا [يستدّ] (¬2) في المذهب والخلاف غيره. 7 - فأما إذا كان المغيِّرُ بحيث لا يمكن صونُ الماء عنه، فمعظم ما وقع في هذا القسم يجاورُ الماءَ، كالكبريت في منبع الماء، ومجراه، وكذلك [النُّوْرة في مجرى الماء] (¬3) والقطران الخاثر، الذي فيه دهنيّة. وقد تقدم أن تغتر المجاورة لا أثر له. فأما ما يخالط كالأوراق الخريفيّة إذا انتثرت في الماء وتعفنت، وبليت فيه، فمقتضى هذه الطريقة أن الماء طهورٌ، وإن تفاحش التغيُّر؛ لأن أهل اللسان لا يسلبون عن مياه الغُدران والأنهار اسمَ الماءِ عند تغيرها بما وصفناه، وقد تقرر أن التعويلَ على بقاء الاسم المطلق، ولعل العرب فهمت تعذرَ الاحتراز، وعلمت أن آلةَ الغَسل (¬4) ¬

_ = الشافعية الكبرى: 4/ 148، 149)، وانظر أيضاً: (طبقات الإِسنوي: 2/ 129، 130)، ولم يتعرض السبكي ولا الإِسنوي لتاريخ وفاته، لكن ذكر ابن هداية في طبقاته أنه توفي في نحو سنة 427 هـ. (¬1) القفال، المراد به القفال الصغير، أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله. توفي سنة 417 هـ وهو ابن تسعين سنة، وهو أكثر ذكراً في كتب الفقه، أما الكبير، فهو أكثر ذكراً في كتب التفسير والحديث، والأصول، والكلام، والجدل. واشترك القفالان في أن كل واحد منهما أبو بكر القفال الشافعي، لكن يتميزان بما ذكرنا من مظانهما، ويتميزان أيضاً بالاسم والنسب، فالكبير شاشي، والصجر مروزي، والشاشي اسمه محمد بن علي بن إِسماعيل. وصاحبنا عبد الله بن أحمد بن عبد الله. وهناك قفالٌ صغير آخر يشتبه مع صاحبنا القفال المروزي، وأعني به " القاسم بن محمد بن علي بن إِسماعيل " وهو ابن القفال الكبير الشاشي. والقفال المروزي صاحبنا، هو أحد أئمة الدنيا، وشيخ الخراسانيين، وإذا ذكر القفال مطلقاً، انصرف إِليه. (راجع: طبقات الشافعية الكبرى: 3/ 200 - 202، 472 - 474، 4/ 148، 149، 5/ 53 - 56، تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 2/ 282، 283). (¬2) في الأصل، (د 3): يستمرّ، وقدّرنا أنه تصحيفٌ عن (يستدّ) بمعنى يستقيم؛ فهي أوفق للمعنى، وهذا اللفظ يدور كثيراً على لسان إِمام الحرمين، وفي (م)، (ل): يستمر أيضاً. (¬3) زيادة من (م). (¬4) غسل من باب ضرب، والاسم الغُسل، بضم فسكون، وقد تضم السين أيضاً، هذا وقد ضبطت في الأصل بضم الغين.

الماءُ، فأدامت على ما يتغير بهذه الجهة اسمَ ما هو مُعدٌّ للغسل، فالتعليل ببقاء الاسم، والمظنونُ أن سبَب بقاء الاسم تعذُّرُ التحرّز، فليفهم الفقيه مراتبَ الكلام. 8 - وأما الماء المتغير بالتراب أوانَ المدّ (¬1)، فقد قيل: إن التراب لا يخالط الماء، بل يجاورُه باجزائه المنتثرة فيه، وآيةُ ذلك أن الماء المتغيّر به لو سكن في إناءٍ، لتميّزت أجزاءُ التراب راسبةً. وإن اعترض متكلفٌ من أهل الكلام (¬2) على فصل الفقهاء بين المجاورة والمخالطة، فزعم أن الزعفران ملاقاته مجاورة أيضاًً؛ فإن تداخل الأجرام محال. قيل له: مدارك الأحكام التكليفية لا تؤخذ من هذا المأخذ، بل تؤخذ ممّا يتناوله أفهامُ الناس، لا سيما ما يُبنَى الأمر فيه على معنى اللفظ. ولا شك أن أرباب اللسان لغة وشرعاً قسّموا التغيُّر إلى ما يقع بسبب المجاورة، وإلى ما يقع بسبب المخالطة، وإن كان ما يسمى مخالطة في الإطلاق مجاورة في الحقيقة، فالنظر إلى تصرف اللسان. ومنتهى هذه الطريقة النظر إلى الاسم، وهذا لا انقسام فيه، وإنما الانقسام في أسباب بقاء الاسم وزواله، فهذه هي الطريقة الصحيحة، ونصُّ الشافعي (¬3) في آخر ¬

_ (¬1) أي زمان (المدّ) المقابل (للجَزْر)، وهما يتعاوران البحار، كما هو معروف. (¬2) نلمح هنا تبّرم إِمام الحرمين بأهل الكلام، ولكن الذي نؤكده هو: أنه رفض أن تؤخذ الأحكام التكليفية من غير (ما يتناوله أفهام الناس) ومن غير (ما يقصده أرباب اللسان). (¬3) يشير إِلى نص الشافعي في الأم في آخر حديثه عن المياه، حيث قال: "وإذا وقع في الماء شيء حلال فغير له ريحاً أو طعماً، ولم يكن الماء مستهلكاً فيه، فلا بأس أن يتوضأ به، وذلك أن يقع فيه البان أو القطران، فيظهر ريحه أو ما أشبهه. وإِن أُخذ ماء فشيب به لبن أو سويق أو عسل، فصار الماء مستهلكاً فيه، لم يتوضأ به، لأن الماء مستهلك فيه. إنما يقال لهذا: ماءُ سويق ولبن وعسل، مشوب، وإِن طرح منه فيه شيء قليل يكون ما طرح فيه من سويق، ولبن وعسل مستهلكاً فيه، ويكون الماء الظاهرَ، ولا طعم لشيء من هذا فيه، توضأ به، وهذا ماء بحاله". ثم ضرب عدة أمثلة أخرى لتغير الماء وعدم تغيره، ثم ختم كلامه بالجملة التي أشار إِليها إِمام الحرمين، وذلك إِذ قال: "وهكذا كل ما ألقي فيه من المأكول من سويق أو دقيق ومرق وغيره إِذا ظهر فيه الطعم والريح مما يختلط فيه، لم يتوضأ به، لأن الماء حينئذٍ منسوب إلى ما خالطه منها (الأم: 1/ 6 - دار الشعب- القاهرة). =

الباب موافقٌ لهذه الطريقة؛ فإنه قال في ذكر ما لا يجوز التَوضؤ به، أو غير ذلك، مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق: "حتى يضافَ إلى ما يُخالطه أو خرج منه" وهذا ظاهرٌ في أن أدنى تغيّر لا يُؤثر. 9 - وذكر طوائفُ من أئمتنا مسلكاً آخر في ضبط مقصود هذا الباب، ونفتتحه بالقول في المتغير بمخالطة ما يمكن صون الماء عنه. ذهب أئمّةُ العراق إلى أن الماء إذا تغيّر بالزعفران وما في معناه أدنى تغيّرٍ، خرج عن كونه طهوراً، وهذا ما كان ينقله شيخي (¬1) عن القفال (¬2). ولست أرى لهذا المسلك وجهاً سديداً، لكنّي أذكر الممكنَ في توجيهه، فأقول: لعلّ هؤلاء يقولون: المكلّفون فهموا من ذكر الماءِ في الطهارات أنه شيء لطيفٌ عامُّ الوجود، يقلع آثار النجاسات، ولا يُكسب ما يُغسَل به صفةً في نفسه، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] يشير إلى الماء الباقي على صفاتِ فطرته، والماءُ المتغيّر -على هذا التقدير- خارجٌ عمّا فُهم من صفة الماء، والماء الكثير الذي لا يقبل النجاسة ما لم يتغيّر، إذا تغيَّر بها أدنى تغيّرٍ، صار نجساً، فتغيُّرُ الماء القليل بمخالطة الطاهرات، كتغيّر الماء الكثير بالنجاسة على موجَب هذه الطريقة. فأمّا ما يتغيّر بالمجاورة، كالماء المتغيّر برائحة الكافور الصلب وغيرِه، فيجوز التوَضؤ به عند هؤلاء، وإن كانوا يكتفون في المخالطَة بادنى تغيّر؛ فإنّ اكتساب الماءِ رائحةَ الكافور الواقع فيه كاكتسابه رائحة الكافور بالقرب منه غيرَ واقعٍ فيه. ¬

_ (¬1) شيخي: يريد والده رضي الله عنهما، فهو أستاذه الأول، وهو أبو محمد: عبد الله بن يوسف الجويني إِمام عصره، تفقه على أبي الطيب الصُّعلوكي، وقدم " مرو " قصداً لأبي بكر بن عبد الله بن أحمد القفال المروزي، شرح المزني، وشرح الرسالة للشافعي، كان ورعاً، دائم العبادة، مبالغاً في الاحتياط، توفي سنة 438 هـ (سير النبلاء ج 11 ورقة 137، طبقات السبكي 5/ 73 - 93). (¬2) سبقت ترجمته، وقلنا: إِن المراد به القفال المروزي، المعروف بالصغير، وهذا عند الإطلاق دائماً.

10 - وذكر شيخي: أن صاحب التلخيص (¬1) ذكر قولاً في أنّ الماءَ المتغيّر بمجاورة ما وقع فيه ليس بطهورٍ، وهذا غريب مزيفٌ. ثم قال هذا الفريق: "لو تغيّر الماءُ بمخالطة ما لا يمكن صونُ الماءِ عنه، كالأوراق الخريفية وغيرها، فيجوز التوضؤ به؛ لمكان التعذّر، وهذا كعفونا عمّا يتعذّر الاحتراز منه من النجاسات، كدم البراغيث وغيره". فالماء المتغير إذاً ينقسم إلى ما يتغيّر بالمجاورة، وإلى ما يتغيّر بالمخالطة، فأما ما يتغير بالمجاورة، فطهورٌ على ظاهر المذهب، وفيه القول الغريب الذي ذكره صاحب التلخيص. وأمّا ما يتغيّر بالمخالطة، فإنه ينقسم إلى ما يمكن صونُ الماءِ عنه، وإلى ما يتعذر الاحتراز منه. فأمّا ما لا يمكن التحرّز منه، فإذا حصل التغيّر به؛ فالماء طهورٌ. وما يمكن التحرز منه إذا خالطه، نُظر، فإن لم يُغيّر الماءَ أصلاً، جاز التوضؤ به، وإن غيّره أدنى تغيّرٍ، لم يجز التوضؤ به. 11 - وذكر الشيخ أبو بكر الصيدلاني طريقةً ثالثةً لبعض أصحابنا، وهو النظر إلى التغير بالمخالطة، [قال هؤلاء: كل ما يتغير بالمخالطة] (¬2) فلا يجوز التطهر به، وإن كان مما يتعذّر الاحتراز منه في بعض المياه. ونظر (¬3) أصحابُ هذه المقالة إلى أن التغيّر بالاختلاط في حكم انقلاب الجنس، فكأنّ الماء خرج عن كونه ماءً إذا غيّره ما خالطهُ، من حيث لا يُتوقَّع تميّز أحدهما عن الثاني، واتحد كل واحد من المخالطَيْن بصاحبه. ¬

_ (¬1) صاحب التلخيص هو أحمد بن أبي أحمد الطبريّ، الشيخ الإِمام، أبو العباس، ابن القاصّ، إِمام عصره، وصاحب التصانيف المشهورة " التلخيص " و" المفتاح " و" أدب القاضي " وغيرها، وهو تلميذ أبي العباس ابن سُريج، أقام بطبرستان، وأخذ عنه علماؤها، ثم انتقل إِلى طرسوس، ومات بها في سنة 335 هـ. (طبقات الشافعية الكلبرى: 3/ 59 - 63). (¬2) زيادة من نسخة: (د 3) وهي في (م) أيضاً، ثم وجدناها في (ل) كذلك. (¬3) في الأصل: ولكن نظر ... والمثبت عبارة (م)، (ل).

والمجاورة لا تقتضي هذا المعنى، ثم معظم ما لا يتأتى التصوّن منه [مجاورٌ] (¬1)، والأوراق الخريفية، كالخشب تجاورُ، وليس فيها رطوبات تخالط، حتى لو انتثرت وفيها رطوبة، فخالطت وغيّرت، سلبت الماءَ طهوريَّتَه. فهذا تحصيل طرق الأصحاب، في مقصود هذا الباب. ونحن نرسم الآن فروعاً نذكر فيها مقالات الأئمّة، ونُخرِّجُها على الطرق، فتتهذّب بذكرها القواعد والأصول. فرع: 12 - الماء إذا ألقي فيه ملح، صودف منعقداً عن الماء الأُجاج، فتفاحش تغيُّره به، فقد ذكر أئمّة المذاهب فيه خلافاً، وقالوا: من أصحابنا من جوّز التوضؤَ به؛ لأن الملح انعقد من ماءٍ، فإذا ذاب في ماء عذبٍ، كان [كالجَمْد] (¬2)، يذوب في الماء، وأيضاًً فلا خلاف أن الماء الملح -الذي ينعقد منه الملح- لو انصبَّ في ماء عذبٍ وظهرَ تغيُّره [به] (¬3)، يجوز التوضؤ به؛ فليكن الملح بنفسه (¬4) بمثابته. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز التوضؤ بالماء الذي ظهر تغيُّره بالملح الواقع فيه؛ فإنه مع العلم به لا يسمى ماء مطلقاً، إذا تفاحش تغيُّرُه، وليس الملح من أجزاء الماءِ وجوهره؛ فإن المياه نزلت من السماء عذبة، ثمّ سلكها الله سبحانه وتعالى ينابيعَ في الأرض، فاكتسبَ ما انسلك في السبخات صفاتِها، ثم الملح المنعقد هي أجزاء السبخة تتجمع، وليست أجزاء الماء، ولذلك لا ينماعُ الملحُ في الشمس. وأما انصباب الماء الأُجاج على العذب، فالمتبع فيه الاسم في مجاري الكلام؛ فالناس يقولون: " ماءٌ انصب على ماء "، وكان يجوز التوضؤ بالماء الأجاج عند انفراده، وإذا (¬5) ذاب ملحٌ في ماءٍ يظهر تغيّره به، فيمتنع أهلُ اللسان من تسميته ماء على الإطلاق. ¬

_ (¬1) في الأصل: مجاورة الأوراق، والمثبت عبارة (د 3)، (م)، (ل). (¬2) في الأصل: " كالجامد " والمثبت من: د3، (م)، (ل) والجَمْد بفتح الميم وسكونها: الماء إِذا تجمد، (المعجم والمصباح). (¬3) مزيدة من (م). (¬4) في (م): نفسه، وكذا في (ل). (¬5) في (م): بخلاف ما إِذا ذاب ملح في ماء، فيظهر تغيره به. =

وما ذكرناه في الملح المنعقد من الماء، فأما الملح المنتقَر (¬1) المحتفر من الجبال، الذي لم يُعهد منعقداً من الماء، فإذا ظهر تغيّر الماءِ به، قطعنا بزوال طهوريته، ولم ندرجه في الخلاف أصلاً، ومن ظنّ فيه خلافاًً، فهو غالط. فرع: 13 - إذا وقع في الماء كافورٌ صلبٌ، وغيّر رائحة الماء، فقد ذكرنا أن الماء طهورٌ عند الأئمة، والمجاورة لا أثر لها، فلو كان كافوراً رَخواً (¬2)، فذاب في الماء، وخالطه، وظهرت رائحتُه، والكافور قليل، وسبب تغيّر الماء ظهورُ الرائحة الفائحة الغالبة، فمن لم يكتف من أئمتنا بأدنى تغيّرٍ، واتبع الاسم، حكم بأن هذا الماء طهور. ومن صار إلى أن التغيّر اليسير بالزعفران يسلب تطهير الماء، فقد اختلفوا في الصورة التي ذكرناها، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز التوضؤ به؛ فإنّه متغيّر والكافور مخالط في محل التصوير. وذهب الأكثرون إلى جواز التوضؤ به، فإن الكافورَ وإن كان مخالطاً، فليست المخالطة سببَ التغيّر، وإنما سببُ التغيّر قوة ريح الكافور، فالماء في معنى ما يتغيّر بمجاورة الكافور. فرع: 14 - إذا جرت رياح في الربيع (¬3)، ونثرت الأوراقَ الرطبة، وتغيّرت المياه بها، فمن اتبع المخالطة والمجاورة، منع التوضؤ به إذا تغيّرت المياه بمخالطة الأوراق إياها. ومن اعتبر في أصل الباب التعذّر والتيسُّر في الاحتراز، اختلفوا في هذه الصورة؛ وسبب الاختلاف أن ما تعلق بالأعذار، فكل عذر يعمّ وقوعُه أثّر، وكل ¬

_ (¬1) المنتقر: من انتقر الشيء: احتفره. (المعجم) فالمحتفر هنا عطف بيان للمنتقر. (¬2) رخواً بفتح الراء وكسرها، أي هشّاً. (المختار). (¬3) ذِكْرُ (الربيع) هنا له معنى مقصود؛ إِذ تختلف أوراق الربيع عن أوراق الخريف، بما فيها من (رطوبات) تجعل عصيرها مخالطاً للماء، بعكس أوراق الخريف الجافة، التي لا تخرج عن كونها (مجاورة).

عذر يندر وقوعه، فإذا وقع، تردد الأئمة فيه، فمنهم من ينظر إلى وقوعه إذا وقع، وألحقه بما يعمّ وقوعه، ومنهم من ألحقه بما يتيسّر الاحتراز منه؛ فإن العسر الذي يتعذّر احتماله إنّما يتحقق فيما يعمّ، وما يندر في الأحايين في حكم عارضةٍ تزول. وسيأتي ما يمهّد هذه القاعدةَ في مسائل التيمّم، إن شاء الله عز وجل. فرع: 15 - إذا طُرح كفٌّ من التراب في كوز ماءٍ فكدّره، فمن اتبع اسمَ الماءِ في الطريقةِ المرضيّة جوّز التوضؤ به؛ فإن التغيّر بالتراب لا يسلب اسمَ الماءِ. ومن راعى المخالطةَ، اختلفوا في أن الترابَ مخالطٌ أو مجاورٌ. وقد أجريتُ ذكرَ هذا في أثناء تمهيد الأصل. فإن قيل: إنَّه مجاور، لم يضرّ، وجاز التوضؤ به. وإن قيل: إنه مخالط مغيّر، فقد اختلف هؤلاء الآن في جواز التوضؤ به، فمنعه بعضُهم للتغير والمخالطة، وتيسُّر الاحتراز عنه في هذه الصورة. وأجازه بعضُهم ذهاباً إلى أن التراب طاهر طهورٌ؛ فهو موافق للماءِ في صفته، فلا يضر تغيّر الماء به. وهذا من ركيك الكلام، وإن ذكره طوائف؛ فإن التراب غيرُ مطهرٍ، وإنما عُلِّقت به إباحةٌ بسبب ضرورة. والكلام في أصله مفرعٌّ على طريقةٍ غير مرضيّة، وإذا طال التفريعُ على الضعيف، تضاعف ضعفه. فرع: 16 - إذا صُبَّ على ماءٍ قليلٍ مقدار من الماوَرْد، ولم يكن له طعمٌ محسوس، يخالف طعمَ الماء، ولا ريحٌ، فإن كان مقدارُه بحيث لو فُرض له طعمٌ مخالف لطعم الماءِ لغيَّره، على ما ذكرنا كلامَ الأصحاب في معنى التغير المؤثّر، فإذا بلغ الذي لا طعم له في الكثرة هذا المبلغ، لم يجز التوضُؤ بذلك المختلط؛ فإن ظهور صفة المخالط إن كانت له صفة، إنما أثَّر من حيث أشعر باختلاط الماءِ بغيره، فإذا تحققنا اختلاطهما، فليس المختلط ماءً مطلقاً، ومقدار المخالط كثيرٌ بحيث لا يُعدّ مثله مغموراً.

وإن كان مقدارُ الماوَرْد الخليِّ عن الطعم قليلاً، بحيث لو فرض له طعمٌ، لم يظهر طعمُه في هذا المقدار من الماء، فالوجه أن ننُبّه على مثار الإشكال في ذلك، ثم نوضّح المذهبَ. فنقول: إذا كان مخالطُ الماء جامداً، وكان يسيراً مغموراً، فالجاري على أعضاء الطهارة ماءٌ (¬1) لا شك فيه، وإذا كان المخالط مائعاً، فقد نعتقد أنه لم يجرِ على البدن الماءُ المحض، فمن هذه الجهة تردد الأئمةُ على ما أصف مسالكهم. فأقول: إن كان مع الرجل مقدار من الماء لا يستوعب بدنَه في الغُسل، فصبّ عليه من المَاوَرْد ما كمّله، وكان مقدارُ المَاوَرْد مع ذلك قليلاً، على ما سبق طريقُ اعتبار القلة، فمقدار الماء يجوز استعماله من هذا المختلط، وهل يجوز استعمال الزائد عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - وهو مذهب أبي علي الطبري (¬2) على ما ذكره العراقيون: أنه لا يجوز استعمال الزائد عليه؛ لأنّا لو جوزناه (¬3) -وإنّما كمل مقدار الوضوء بالمخالِط- فنعلم قطعاً أن الماء لم يعم أعضاءَ الوضوء. قال العراقيون: هذا غلطٌ منه، والصحيح استعمال الزائد؛ فإن المخالط مغمور، فكأن المختِلطَ ماءٌ كله. وكان شيخي يصحح الوجه الأول، ويزيّف ما صحّحه العراقيون، ويعتلّ بما وجهنا به ذلك الوجه. ¬

_ (¬1) عبارة (م): "ماءٌ وغيره، وهذا لا شك فيه". (¬2) أبو عليّ الطبري، ويعرف أيضاً بصاحب الإِفصاح. وهو الحسين بن القاسم، وهو عند أبي إسحاق الشيرازي في طبقاته وابن خلكان، والنووي في التهذيب "الحسن بن القاسم" وكذا عند ابن النديم في " الفهرست". توفي سنة 350 هـ. وهو من أصحاب الوجوه المشهورة في المذهب، وصنف في " أصول الفقه "، وفي " الجدل " وفي " الخلاف "، وهو من تلاميذ أبي علي بن أبي هريرة (طبقات الفقهاء للشيرازي: 94، وفيات الأعيان: 2/ 76، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 261، طبقات الإِسنوي: 2/ 154، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 3/ 280، والفهرست لابن النديم: 300). (¬3) جواب "لو": فنعلم قطعاً أن الماء لم يعم أعضاء. وعبارة (م): لأنا لو جوزناه، كمل مقدار الوضوء بالمخالط ....

وما صححه العراقيون يتجه بشيء ظاهر، وهو أن مقدار الماء يجوز استعمالُه قطعاًً وفاقاً، مع العلم بأنه إذا استعمل، فليس ماءً محضاً، وإذا لم يكن محضاً، فليس الواصل إلى الأعضاء ماء. ومن تمام البيان في ذلك أن مقدارَ الماء إن كان يأتي على الوجه واليدين، ويقصُر عن الرجلين، فيصحّ غسل الوجه واليدين بهذا المختلط، وفي غسل الرجلين الخلاف المذكور، وإن كان مقدار الماء كافياً لوضوءٍ، صحّ الوضوءُ به، مع الاقتصاد في استعمال الماء، وفي استعمال الفاضل في طهارةٍ أخرى الخلاف. وإن كان مقدار الماوَرْد في القلَّة، بحيث لا يتبيّن له في الحس أثر في تكميل مقدارٍ، ولا يظهر عند عدمه في الماء قصور في مُدرَك الحس، فلا أثر لذلك المخالِط قطعاً. فإن قيل: قد ذكرتم في أول الكلام تقديرَ طعم المخالط، فما وجه ضبط القول فيه؟ والأمر يختلف بحِدة الطعم ونقيضها، فإن [احتدّ] (¬1) طعمُ الشيء، غلبَ القليل منه، وإن لم [يحتدّ] (¬2)، لم يغلب إلا مقدارٌ زائد. قلنا: أقصدُ (¬3) الأمور ووسطها معتبرنا في ذلك. وقد نجز الغرض من أصل الباب وتفريعه. فصل قال الشافعي: "ولا أكره الماءَ المشمَّسَ إلا من جهة الطب ... إلى آخره" (¬4). 17 - يكره استعمالُ الماءِ المشمَّس في الجواهر المنطبعة، كالرصاص والنحاس ¬

_ (¬1) في الأصل: " اتحد " والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل). (¬2) في الأصل: " يتحد " والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل). (¬3) في (د 3): " قصد "، وكذا في (م)، (ل). (¬4) الأم: 1/ 3.

وغيرهما، وقد نهى عمر رضي الله عنه عن ذلك، وقال: " إنه يُورث البرص " (¬1)، ورُوي أن عائشة، أم المؤمنين رضي الله عنها، كانت تشمّس الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص " (¬2). وقال الأئمة: إنما ثبتت الكراهيّة بشيئين يجتمعان، أحدهما - أن يجرى [التشمِيسُ] (¬3) في البلاد الحارّة، دون المعتدلة والباردة. والثاني - أن يكون التشمِيس في الجواهر التي ذكرناها، فإنّ حَمْيَ الشمس إذا اشتدّ على الماء فيها، فقد يعلوها شىء كالهباء، وهو الضارُّ فيما قيل. فأما التشميس في الخزف والغدران (¬4)، فلا يضرّ أصلاً. وإذا كان المرعيُّ أمراً يتعلق بالطبّ، فلا فرق بين أن يشمَّس الماء قصداً، وبين أن تنتهي الشمس إلى إناءٍ من غير قصدٍ. ¬

_ (¬1) أثر عمر رواه الشافعي في الأم (1/ 3) عن إِبراهيم بن محمد، عن صدقة بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: أن عمر كان يكره الماء المشمس ... الخ. قال الحافظ: "صدقة ضعيف، وأكثر أهل الحديث على تضعيف " إِبراهيم "، لكن الشافعي كان يقول: إِنه صدوق، وإن كان مبتدعاً ... ولحديث عمر الموقوف هذا طريق أخرى، رواها الدارقطني (1/ 39) من حديث إِسماعيل بن عياش، حدثني صفوان بن عمرو، عن حسان بن أزهر، عن عمر، قال: " لا تغتسلوا بالماء المشمس، فإنه يورث البرص " وإسماعيل صدوق فيما يروي عن الشاميين، ومع ذلك لم ينفرد به، بل تابعه عليه أبو المغيرة ... " انظر (التلخيص 1/ 27، 28 ح 8). (¬2) حديث "لا تفعلي يا حميراء ... " أخرجه الدارقطني (1/ 38) وابن عديّ في الكامل (3/ 42)، وأبو نعيم في الطب، والبيهقي (1/ 6) من طريق خالد بن إِسماعيل، عن هاشم بن عروة، عن أبيه عنها. قال ابن عدي: " خالد كان يضع الحديث "، وتابعه وهب بن وهب أبو البخترى، عن هشام، قال: ووهب أشرّ من خالد. راجع (تلخيص الحبير: 1/ 24، 25 ح 5) لترى كل ما قاله الحافظ في رجال هذا الحديث، وطرقه. ونلاحظ أن إِمام الحرمين يورد الحديث بصيغة التمريض: "روي". (¬3) في الأصل: " الشمس " والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل). (¬4) الغدران: جميع غدير، والغدير في الأصل، القطعة من الماء يغادرها السيل، والمراد هنا، تشمس الماء في مقره في الأرض.

وخصصّ الشيخ أبو بكر (¬1) النُّحاسَ بالاعتبار من سائر الأجناس. وأنا أقول: يَبعُد أن ينفصل من إناء الذهب والفضّة، مع طهارتهما شيء محذورٌ، وكان شيخي يطردُ قولَه فيما ينطبع وينطرق. وقال العراقيون: تختص الكراهة بما قُصدَ تشميسه دون ما يتفق، ولم يتعرضوا لتفصيل الجواهر، وهذا غلطٌ. وأنا أقول: ليست الكراهية في هذا الفصل مؤثرةً في تنقيص مرتبة الطهارة؛ فإن سبب الكراهية حِذارُ الوَضَح (¬2)، وهذا يتعلق بالاستعمال في الوجوه كلها. وأما الماء المسخّن، فلا كراهية في استعماله أصلاً. فصل 18 - إزالة النجاسة عند الشافعي رحمه الله تختصّ بالماء، وقد تخيّل رضي الله عنه اختصاص إزالة النجاسة بالماء تعبداً، من حيث رأى الماءَ في الشرع هو المعدّ للطهارات، وقد قررت ذلك على أقصى الإمكان في الخلاف (¬3) مع (¬4) إشكاله. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) الشيخ أبو بكر، لعله يقصد به الصيدلاني، فهو الذي يعبر عنه أحياناً بـ "شيخنا"، وأما (أبو بكر) الباقلاني، فيعبر عنه بـ (القاضي)، والباقلاني أكثر ذكراً في الأصول والكلام، بل لعلّه لا يذكر -عند إِمام الحرمين- في الفقه أصلاً، وأبو بكر الفارسي ذكره مرتين فقط في هذا الجزء الأول (الطهارة). ويقطع كل احتمال أن النووي في المجموع: 1/ 88 نسب هذا الكلام للصيدلاني صراحة. (¬2) الوَضَح: البياض. والمراد هنا داء البرص. (¬3) أي في كتبه التي ألفها في الخلاف، وهي (الأساليب) و (الغنية) و (العمد) و (الدرّة) وهي الوحيدة التي وقعت لنا للآن، وقد نشرت بتحقيقنا، ولكن ليس فيها هذه المسالة. (¬4) في (د 3): وبينا إِشكاله.

باب الآنية

باب الآنية قال الشافعي رضي الله عنه: "ويُتوضاً في جلود الميتة إذا دُبغت ... إلى آخره" (¬1). 19 - الأصل المرجوع إليه في الدِّباغ الحديث، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرَّ بشاةٍ ميّتةٍ لمولاةِ (¬2) ميمونة، وروي لميمونة، فقال: " هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فإنتفعتم به " فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة. فقال: " أيما إهابٍ دُبغ، فقد طهر " (¬3). وروي أنه قال: " أليس في الشث والقرظ ما يطهّره؟ " (¬4). ¬

_ (¬1) ر: المختصر: 1/ 3. (¬2) في (م): لآل. (¬3) حديث شاة ميمونة بهذا السياق الذي ذكره إمام الحرمين، ملفقٌ من حديثين، وقد رواه مسلم الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، ح 363، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، إِلى قوله: " إِنها ميتة " ولفظه في مسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنما حرم أكلها". أما حديث: " أيما إِهابٌ دبغ، فقد طهر "، فقد رواه الشافعي (الأم: 1/ 7) عن ابن عيينه عن زيد بن أسلم سمع ابن وعلة، سمع ابن عباس، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما إِهاب دبغ، فقد طهر " وكذا رواه الترمذي في جامعه: اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دُبغت، ح 1728، عن قتيبة عن سفيان، وقال: " حسن صحيح ". ورواه مسلم، ح 366، بأكثر من طريق كلها عن ابن عيينه، بلفظ " إذا دبغ الإهاب، فقد طهر ". انظر (تلخيص الحبير: 1/ 75، 76 ح 39، 40). (¬4) هذه الرواية أخرجها الدارقطني (1/ 41، 42) بإِسناد حسن، من حديث ابن عباس، ولكن بلفظ: " أوليس في الماء والقرظ ما يطرها "؟ وقال النووي في شرح المهذب: " ليس للشث ذكر في الحديث، وإنما هو من كلام الشافعي ". وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني، شيخ الشافعية في العراق في " التعليقة ": جاء في الحديث: " أليس في الماء والقرظ ما يطهرها؟ " وهذا هو الذي أعرفه مروياً، قال: " وأصحابنا يروونه: الشث والقرظ، وليس بشيء ". =

وروي أنه قال: " إنما حرم من الميتة أكلها " (¬1). وعن سودة بنت زمعة، أنها قالت: "ماتت لنا شاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدبغنا إهابها، فما زلنا ننبذ فيه، حتى صار شَنّاً (¬2) بالاستعمال". 20 - وقد اختلف مذاهبُ الأئمّة في جلود الميتاتِ، والذي نذكره منها لتمهيد أصل الباب - مذهبُ أحمدَ بنِ حنبل (¬3)، وقد صار إلى أنَّ الدباغ لا يطهّر جلدَ ميتةٍ، واستدلّ بما روي عن عبد الثه بن عُكَيْم الجهني: " أنه قال: ورد علينا كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل موته بشهرٍ: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ " (¬4). وكلُّ حديث نُسب إلى كتابٍ، ولم يُذكر حامله، فهو مرسلٌ، والشافعي لا يرى التعلّقَ بالمراسيل. وقد قيل: أراد النهيَ عن الانتفاع قبل الدباغ، فإن اسم الإهاب ¬

_ = والشث: بالثاء المثلثة نبتٌ طيب الرائحة، مرّ الطعم، يُدبغ به. ويروى بالباء الموحَّدة، الشبّ: وهو من الجواهر التي جعلها الله في الأرض، تشبه الزاج يدبغ به. (تلخيص الحبير: 1/ 79، 80 ح 43، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 59). (¬1) هذا جزء من رواية مسلم كما أشرنا آنفاً. (¬2) رواه البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حلف أن لا يشرب نبيذاً، فشرب طلاءً أو سَكَراً أو عصيراً، لم يحنث في قول بعض الناس، ح 6686) والشن: الجلد البالي. (¬3) ر. الإنصاف للمرداوي: 1/ 86، كشاف القناع للبهوتي: 1/ 54. (¬4) حديث عبد الله بن عكيم: استدلّ به الإِمام أحمد كما أشار إِمام الحرميني، وردّه الإِمام كما ترى بالإِرسال، أو بتخصيص النهي بأنه عن (الإِهاب) قبل أن يدبغ، وقد أعله الحافظ في التلخيص، بالاضطراب مع الإِرسال، والانقطاع. وعورض بالأحاديث الدالة على الدباغ، ورجّحت بأنها أصح، وقيل: يمكن الجمع بين أحاديث الدباغ وحديث ابن عكيم بأن النهي الوارد به خاص بالإِهاب قبل الدباغ. أما محدّث الديار الشامية الشيخ ناصر الألباني، فقد صحح حديث ابن عُكيم، وأغلظ في تعقب الحافظ، نافياً الإِرسال والاضطراب. هذا والحديث رواه أحمد في المسند: 4/ 310، 311، وأبو داود: اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، ح 4127، والترمذي: اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، ح 1729، والنسائي: الفرع والعتيرة، باب ما يدبغ به جلود الميتة، ح 4249 - 4251، وابن ماجه: اللباس، باب من قال: لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب، ح 3613، والطيالسي: 1293، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/ 271، والبيهقي: 1/ 14، وابن حبان: 2/ 286 ح 1274، 1275. وانظر (تلخيص الحبير: 1/ 76 - 78 ح 41، وإرواء الغليل: 1/ 76 - 79).

يتناول ما لم يدبغ، فأمّا إذا دُبغ استجدّ اسماً جديداً: يسمّى أديماً أو صَرْمَاً أو سخْتِياناً (¬1). فإذا ثبت أصل الدِّباغ، فالكلام بعده في ثلاثة فصول: أحدها - فيما يقبل الدِّباغ. والثاني - في كيفية الدبِّاغ. والثالث - في حكم الجلد بعد الدِّباغ. [الفصل الأول فيما يقبل الدباغ] (¬2) 21 - فأمّا ما يقبل الدِّباغَ، فالمعتبر عند الشافعي النظرُ إلى طهارة الحيوان، ونجاستِه، في حال الحياة، فكل حيوان كان طاهراً في حياته، فإذا مات طهر جلدُه بالدِّباغ، سواء كان مأكولَ اللحم، أو لم يكن، وكل حيوانٍ كان نجسَ العين في حياته، فلا يَطهُر جلدُه بالدِّباغ. ثم الحيوانات كلها طاهرةُ العيون إلا الكلبَ، والخنزيرَ، والمتولد منهما، أو من أحدهما، وحيوانٍ طاهرٍ. وإثبات نجاسة عين الكلب -ردّاً على أبي حنيفة (¬3) - يتعلق بالخلاف. والذي تَمُسّ الحاجةُ إلى ذكره في تمهيد المذهب، أن الدِّباغ جارٍ مجرى الرُّخَص الّتي لا يتبيّن للناظر فيه معنىً يستقيمُ على السَّبْر؛ فإن جلدَ الميتة نجسُ العين كسائر أجزائها، ولذلك يحرُم بيعُ جلدِ الميتة قبلَ الدباغ، فالمتبعُ في كون الدباغِ مُطَهِّراً، حديثُ شاةِ ميمونة. 22 - ثم اختلفَ نظرُ العلماء: أمّا أحمد بنُ حنبل، فرأى التعلقَ بحديث عبد الله بنِ ¬

_ (¬1) الأديم: الجلد المدبوغ، والصَّرْم بالفتح والسكون: الجلد وهو معرّب، أصله بالفارسية: (جرم) والسَِّخْتِيان: بفتح السين المشددة وكسرها، وسكون الخاء المعجمة، وكسر المثناة الفوقية، جلد الماعز المدبوغ. معرب أيضاً (المصباح والمعجم). (¬2) زيادة من عمل المحقق. (¬3) ر. المبسوط: 1/ 202، بدائع الصنائع: 1/ 63، الهداية مع فتح القدير: 1/ 82، حاشية ابن عابدين: 1/ 139.

عُكَيْم لاشتماله على تاريخٍ مُشعِرٍ بالتأخّر، ورأى حديثَ ميمونة منسوخاً - وقد تكلمنا على الحديث. 23 - وذهب الزهري (¬1) إلى أن جلدَ الميتةِ طاهرٌ من غير دباغٍ، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصّة شاةِ ميمونة: " هَلاّ أخذتم إهابها، فانتفعتم به ". وليس للدِّباغ ذكرٌ في هذه الرواية. ومعظم العلماء رأَوْا التعلق بالروايات التامّة المشتملة على ذكر الدباغ. 24 - وذهب أبو ثور (¬2)، والأوزاعي (¬3) إلى أنه لا يَطهُر بالدباغ إلا جلدُ ما يُؤكل لحمُه إذا مات. وإنما حملهما على ذلك اختصاصُ خبرِ الدباغِ بالشاةِ الميتةِ، مع ما قرّرنا من أن الدباغ في حكم الرُّخص، وسبيلها أن لا يعدّى بها مواضعها في الشرع، ثم لا شك أن كل ما يُؤكل لحمه في معنى الشاة. 25 - وأما أبو حنيفة، فإنّه صار إلى أن جلدَ الكلبِ يَطهُر بالدباغ (¬4). وطريقة مذهبه التعلقُ بعموم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال: " أيّما إهاب دُبغ، فقد ¬

_ (¬1) الزهري: أبو بكر محمد بن مسلم، ابن شهاب الزهري، التابعي. أعلم الحفاظ. توفي سنة 124 هـ. (تذكرة الحفاظ: 1/ 108). (¬2) أبو ثور، إِبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي البغدادي، قيل: كنيته أبو عبد الله ولقبه أبو ثور، كان أحد أئمة الدنيا، فقهاً وعلماً وورعاً، وفضلاً وخيراً، كان يتفقه بمذهب الأحناف، حتى قدم الشافعي بغداد، فلزمه، وهو من جهابذة الحديث، الذابين عن السنة توفي 240 هـ. قال النووي: ومع صحبته للشافعي، فهو صاحب مذهب مستقلّ، لا يعد تفرده وجهاً في المذهب. (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 200، طبقات السبكي: 2/ 74، طبقات الفقهاء للشيرازي: 92). (¬3) الأوزاعي، الإمام عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمِد أبو عمرو الأوزاعي، أحد أماثل المجتهدين، وَأفاضل المحدّثين، وأكابر أصحاب المذاهب المدؤنة المتبوعة، وإن انقرض مذهبه بانقراض أصحابه والمنتصرين له. توفي 157 هـ (ر: الدكتور عبد الله محمد الجبوري - فقه الإِمام الأوزاعي: 1/ 103، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 298، وأعلام الزركلي). (¬4) ر. البدائع: 1/ 85، رؤوس المسائل: 97 مسالة: 4، الهداية مع فتح القدير: 1/ 81، حاشية ابن عابدين: 1/ 136.

طهر " (¬1). وقطع النظر عن اختصاص القصة بالشاةِ. 26 - والشافعي لم يسلك مسلك الأوزاعي في الأخذ بخصوص السبب، ولم ير أيضاًً إجراءَ (¬2) اللفظ العام على كل جلدٍ. ولا يستدّ على السبر غيرُ مذهبه. فأما التعلق بخصوص السبب فغيرُ صحيحٍ؛ فإن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقلٌ بالإفادة؛ فلا يُخصّص بسبب، كما لا يخصّص بمخاطَب. وأمّا أبو حنيفة، فإنه لم يطرد مسلكه؛ إذ حكم بأن جلدَ الخنزير لا يَقبلُ الدباغ (¬3)، ولا ينقدح فرقٌ لفظيٌّ ولا معنويٌّ بين الكلب والخنزير. فأما الشافعي، فإنه نظر إلى ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من استعمال الأشياء الحادّةِ كالشَّثّ والقَرَظِ، وغاص على فهم معنىً، وهو أن سبب حكم الشرع بنجاسةِ الميتات، أنها بانقطاع الحياةِ عنها تتعرض للبلى والعَفن والإنتان، والمصير إلى الحالات المستكرهة، فإذا دُبغ الجلد كما سنصف الدّبْغَ، لم يتعرض للتغير، وقد بَطل حصرُ (¬4) اللفظِ على خصوص السبب، وامتنع التعميمُ لما ذكرنا في جلد الخنزير. وأرشد الدِّباغ إلى معنى يضاهِي به المدبوغُ الحيوانَ في حياته؛ فإن الحياةَ مدْرأةٌ للعَفن، والموتُ [مجلبةٌ] (¬5) له، والدِّباغ يردّه إلى مضاهاة الحياة في الخروج عن قبول التغير المستكره؛ فانتظم له من ذلك اعتبار المدبوغ بالحي. ¬

_ (¬1) سبق الكلام على هذا الحديث. (¬2) إِلى هنا انتهت الأوراق الموجودة من نسخة (د 3). (¬3) ر: مختصر الطحاوي: 17، الهداية مع فتح القدير: 1/ 81، حاشية ابن عابدين: 1/ 136. (¬4) في (م): حمل، وكذا (ل). (¬5) في الأصل: مخيلة، بمعني مظنَّة، وعلامة، وعلة، من الإِخالة، والإِخالة عند الأصوليين هي المناسبة، والمناسبة هي الملاءمة، وهي موافقة الوصف أي العلة للحكم، بأن يصح إِضافة الحكم إِليه (ر. التهانوي، محمد أعلى بن علي - موسوعة اصطلاحات العلوم الإِسلامية: 2/ 454، 6/ 1367 - دار خياط - بيروت - بدون تاريخ - مصورة من طبعة قديمة - 1278 هـ=1860م). والمثبت من (م)، (ل).

فقال: كلُّ ما يكون طاهراً حيّاً، فإذا مات عاد جلدهُ بالدِّباغ طاهراً، وكل ما يكون نجساً حيّاً؛ فالدِّباغ لا يطفر جلدَه، ثم ثبت عنده نجاسةُ عينِ الكلب من نجاسةِ لعابِه. فهذا مأخذُ مذهبِ الشافعي فيما يقبل الدِّباغ وفيما لا يقبل. فرع: 27 - جلدُ الآدمي يخرّج أولاً على طهارة جُثّة الميت من الآدميين، فظاهر النص أن جُثة الميتِ من الآدميين طاهرةُ، وفيه تخريج، وسيأتي ذلك. فإن حكمنا بطهارةِ الجُثة، فالجلدُ طاهرٌ في نفسه، ولكن يَحرُم استعمالُه لما فيه من الامتهانِ، والإذلال. وقد قيل: لو أُبين جزءٌ من الآدميّ؛ فهو نجس لانقطاعه عن حرمة الجملة، وإن كنّا نحكم بطهارة جُثة الميت. وهذا غلطٌ، والوجه اعتبار الجزءِ المبان بالجثة بعد الموت. وإن فَرّعنا على نجاسةِ جُثةِ الآدمي، وحكمنا بنجاسةِ جِلده على ذلك، فالدباغ يُطَهّرهُ على ظاهر المذهب؛ طردًا لما مهدّناه من اعتبار المدبوغ بالحي، والآدمي طاهرٌ في حياته. وقيل: لا يطهرُ؛ لأن الدباغ محرَّم لما فيه من الامتهان، وقد تقرر أن طهارة المدبوغ مأخذها الرُّخَص، والرُّخص لا تُناط بالمعاصي. وهذا فاسد؛ فإن الدِّباغ لا يحرُم لعينه، وإنما يحرُم وقوعُ الامتهان على أي وجهٍ فُرض. الفصل الثاني في حقيقة (¬1) الدباغ 28 - لابد من الاعتناء بفهم الغرض من الدّباغ؛ فإن العلم بحقيقة هذا الفصل مترتب عليه. فأقول: لم يختلف علماؤنا في أن الإهاب قبل الدباغ نجسُ العين، ولذلك امتنع بيعُه، وليس كالثوب المتضمخ بالدم. ثم ألحق ملحِقون الدِّباغ في تفصيله بإزالة النجاسات عن مواردها. ¬

_ (¬1) في (م): كيفية.

وألحقه آخرون بالاستحالةِ من حيثُ إن الجلدَ يستحيلُ عن فَجاجته وتعرُّضه للعَفن بالدبغ - إلى النظافة، ولين العريكة. وهو على الحقيقة بَيْن الإزالة، والاستحالة؛ فإن في الإهاب قبل الدبغ رطوباتٍ فِجّةً، وفضلاتٍ لزجةً [وهي] (¬1) مخامرةٌ [لجِرم] (¬2) الجلد، والفسادُ يتسرعّ إلى تلك الفضلاتِ، ثم يَفسد بفسادها الجلدُ. والغرضُ من الدّباغ انتزاع تلك الفضلات من ظاهر الجلد، وباطنه، بالأشياء الحادة النافذة فيها، كالشثّ، وقِرْف القَرْف المقشر (¬3)، وقُشورِ الرُّمّان، والعَفص (¬4)، والملحِ وغيرِها. فإذا زالت بقي جِرُم الجلدِ طيّبَ الرائحة غيرَ قابل للعَفن، ليّن العريكة، لا يعود فسادُه عند النَّقْع في الماء، فلم يكن الدِّباغ كزالة النجاسة عن شيءٍ طاهر الجوهر، ولم يكن كالاستحالة المعلومة. فإن الاستحالة إنما هي تغيّر صفة المستحيل، لا زوالُ عينٍ عنه، كالخمر إذا زالت شدّتُها واستعقب زوالُها صفةً أخرى، قيل: استحالت؛ فالدباغ من حيثُ إنه فصلُ عينٍ من الجلد يشبه إزالةَ النجاسة، ومن حيثُ إنه يفيد انقلابَ الجلد من النجاسة إلى الطهارة يشبه الإحالة. فلما تردّد الدباغ كذلك، جرى القول في تفصيله متردِّداً. فنقول أولاً: لا بدّ من إزالة الفضلات، ولا يتأتّى قلعُها إلا باستعمال الأشياء الحادّة، ولا يكفي [عقدُ] (¬5) الفضلات، وتجميدُها. فلو شُمّس الجلدُ، وتُرِّب، فالفضلات باقية، ولكنّها جامدة. وآية ذلك أن الجلدْ لو نُقع في الماء بعد ذلك، عاد إلى فساده؛ لأن تلك الفضلات باقية، ولكنّها تعقّدت بالتجفيف، وقد عادت سيّالة بالنقع في الماءِ (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: وهن، وهو تصحيف ظاهر. والمثبت من (د 3)، (م)، (ل). (¬2) في الأصل: لحوم. (¬3) قرفُ كل شيء قشرهُ، والقَرفُ بالفتح شجرٌ يدبغُ به (القاموس، والمعجم) وفي (ل): كالشت، والقرظ، وقرف الرمان. (¬4) العفص: شجرة البلّوط، وثمارها، وهو دواء قابض مجفف (المعجم). (¬5) في الأصل: عند. والمثبت من (د 3)، (م)، (ل). (¬6) في (م): في الماء النقيع، (ل): في النقيع.

فرع: 29 - اختلف أئمتنا في أنه هل يجب استعمال الماء الطهور حالةَ الدَّباغ (¬1)؟: فقال بعضهم: يجب؛ فإن الدَّبغ إزالةُ عينٍ نجسةٍ، كما قررنا ذلك في صورة الدِباغ، فيتعيّن الماء في تلك الإزالة؛ اعتباراً بكل إزالة. وقال المحققون: لا يجب استعمال الماءِ حالةَ الدَّبغ؛ فإن الدَّبغ وإن كان يزيل فضلات، فالجلدُ لا يطهر بزوالها، بل طهارة الجلد بسبب أنه كان متعرّضاً للتغير، وقد خرج بسبب زوال الفضلات عن قبول التغيّر؛ فكان ذلك فيه بمثابة استحالة الخمر خلاًّ؛ إذ لو كان ذلك إزالةً، لحكمنا بطهارة جِرم الجلد قبل انفصال الفضلات عنه. فإن حكمنا بأنه لا يجب استعمال الماء في الدَّبغ، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يجب، فلم يستعمله الدَّابغ؛ فالجلد نجس العين كما كان. وكان شيخي يقول: " إنْ طلب تحصيلَ طهارته، فلا بد من ردّه إلى المدبغ، وإعادة دبغه ". والسبب فيه أن الفضلات انتزعت من داخل الجلد، وكنا على هذا الوجه نؤثر إيصال ماءٍ طَهورٍ. إلى مَنافِذ الداخل. فإن لم يفعل، فحكم النجاسة لا يزول عن الباطن، ثم الماء المجرد لا يصل إلى الباطن حتى يصحبه شيء حِرِّيفٌ حادٌّ يحتدّ الماء به، ويرقّ الحرّيف بالماء، فيصلان. وإذا فرض ذلك، [كان] (¬2) صورة دِباغٍ [ثانٍ] (¬3) فهذا معنى قول شيخي: لا بد من ردّ الجلد إلى المدبغ. 30 - وأنا أقول: إذا حدث نزعُ الفضلات بالأشياء الحادّة، فلا يبعد أن يكتفي بنقع الجلد في ماء طَهور؛ فإنه إذا فَعل ذلك وصل الماء إلى الباطن، ولكن لا يتأتى قَلع الرطوبات ابتداء بمجرّد الماء، ود انقلعت الآن بما تقدم من غير ماءٍ، فلم يبق إلا تعبّدٌ في وصول الماءِ، وهذا يحصل بما ذكرناه من النقع، والعلم عند الله تبارك وتعالى. ¬

_ (¬1) ناقش إِمام الحرمين هذه المسالة في كتابه (الدرة المضية) ص 10. (¬2) زيادة من (م)، (ل). (¬3) زيادة من (م)، (ل).

ثم من أوجب على طريقة شيخي استعمالَ الماء مع شيءٍ حِرّيف، فلا يمتنع عنده استعماله متغيّراً بحرِّيف، وينزل ذلك عنده منزلة التعفير في غسلةٍ من الغسلات السبع من ولوغ الكلب، كما سيأتي. وإن اتجه ما ذكرته من الاكتفاء بنقعه في الماء بعد انقلاع الفضلات؛ فلا يبعد أن أقول: يتعين هذا من حيث إنه إيصال ماءٍ طَهورٍ غيرِ متغير إلى الباطن. ولا يدرأ هذا إلا ظنّ من يظنّ أن الوصول إلى جميع أجزاء الباطن لا يحصل إلا بمصاحبة حريفٍ للماء. والله أعلم. 31 - وكان شيخي يذكر الخلاف في استعمال الماء من وجهٍ آخر، ويقول: ما ذكرناه هو استعمال الماء حالة الدِّباغ. فإذا دُبغ الجلد كما ذكرناه، فلا يخلو ظاهر الجلد عن أجزاء من الشّثِّ لاصقةً به، فهل يجب صب ماءٍ قَراحٍ (¬1) على ظاهر الجلد ليزيل ما ذكرناه؟ فعلى وجهين: أحدهما -وهو الأصح- أنه يجب؛ فإن تلك الأجزاء تنجست بملاقاة الجلد أولاً، وهي باقيةٌ، فلا بد من إزالتها، وليست تلك الأجزاء كداخل الدَّن الذي استحالت الخمر فيها خلاً؛ لأن المراد بالحكم بنجاسة داخل الدَّنّ مجاورة أجزاءِ الخمر إيّاه، وقد انقلبت تلك الأجزاء خلاً طاهراً. وهذا لا يتحقق في الأجزاء التي تنجست بملاقاة الجلد [النجس] (¬2). والوجه الثاني - لا يجب استعمال الماء آخراً؛ فإن المتبع في الحكم بطهارة الجلد بالدِّباغ الخبرُ. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيْما إهابٍ دُبغ، فقد طهر". وهذا قد دُبغ. وليس لقائلٍ أن يقول: عادةُ الدبَّاغين غسلُ الجلود آخراً. فإنّ ذلك ليس كذلك، ونحن نرى الأجزاء التي ذكرناها تُنتقص من الجلود وهي تستعمل، فليقع الاكتفاء بما يُسمى دِباغاً. ثم من أوجب غسل الجلد آخراً يحكم بطهارة عين الجلد قبل الغَسل [ويراه] (¬3) ¬

_ (¬1) قراح: خالص. (¬2) في الأصل: بالنجس، والمثبت من (م)، (ل). (¬3) مزيدة من (م)، (ل).

كالثوب النجس ولا يمتنع بيعه. ومن شرط استعمالَ الماء حالة الدبغ -إذا لم يستعمل- يرى الجلدَ نجسَ العين، كما تقدم تفريعه. الفصل الثالث في حكم الجلد بعد الدّباغ 32 - فالمنصوص عليه للشافعي رحمه الله في الجديد، أن الجلدَ إذا دُبغ، طهر ظاهره وباطنه، وتجوز الصلاة فيه ملبوساً، كما تجوز الصلاة عليه مفروشاً، ويجوز استعماله في الرطب واليابس، ويجوز بيعه. ومذهب مالك (¬1) فيما حكاه أصحابنا أنه لا يطهر بالدباغ إلا ظاهرُ الجلد. وهذا غير صحيح من جهة أن عينَ الجلد كان نجساً قبل الدباغ، ويستحيل أن ينقلب ظاهره طاهراً دون باطنه. ونقل عن الشافعي قولٌ في القديم يمنع بيعَ الجلد بعد الدِّباغ، وكان شيخي يحكي عن القفال: إنه لا ينقدح توجيه هذا القول إلا بتقدير قولٍ للشافعي موافقٍ لمذهب مالك في أن باطن الجلد لا يَطهر؛ إذ لو كان طاهراً، لم يتجّه لمنع البيع وجهٌ؛ إذ البيعُ تارةً يمتنع لتعظيم الحرمة، كما يمتنع بيع الحُرّ، وقد يمتنع لخسّة الشيء، كما يمتنع بيعُ النجاسات، ولو كان المدبوغ طاهراً ظاهراً وباطناً، لما كان فيه مانع عن البيع من الجهتين اللتين ذكرناهما. وقوله عليه السلام: " هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به " عامّ في جهات الانتفاع، غير مُشعر بمنعِ البيع. وعلى الجملة معتقدي أن الأقوال القديمة ليست من مذهب الشافعي، حيث كانت؛ لأنه جزم القول على مخالفتها في الجديد، والمرجوع عنه لا يكون مذهباً للراجع. فرع: 33 - اشتهر اختلاف الأئمة في أن جلد الميتة إذا دبغ، وحكمنا بطهارة باطنه وظاهره، فهل يحل أكله؟ فمنهم من حرّم. وهو الظاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصّة ¬

_ (¬1) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 110 مسألة: 10، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 1/ 178 مسألة: 43، جواهر الإِكليل: 1/ 9.

ميمونة: " إنما حرم من الميتة أكلُها "، فأباح الانتفاعَ بعد الدباغ، وحرم أكل الميتة. ومنهم من أباح؛ لأنه طاهر غيرُ مضرٍّ، وليس في تعاطيه هتك حرمةٍ، ولا يمتنع أن يُجعلَ هذا حدّاً لما يؤكل. ومنهم من قال: ما لا يؤكل لحمه لا يحل أكلُ جلده بعد الدباغ، وما يحل لحمه إذا ذكي، يحلّ جلدُه إذا دبغ بعد الموت؛ فإن الذكاة هو السبب الظاهر في التحليل. فإذا كانت الذكاة لا تفيد في حيوانٍ حِلاًّ، يستحيل أن [يفيد] (¬1) الدبغُ في جلده بعد الموت حِلاًّ. فصل قال الشافعي: " ولا تطهُر بالدباغ إلا الإهاب وحده ... إلى آخره " (¬2). 34 - مقصود هذا الفصل الكلامُ في الشعور والعظام، فنبدأ بالشعور والأصواف والأوبار والرّيش. فنقول: ظاهر نصّ الشافعي هاهنا أنه يَثبت للشعور حكمُ الحياة في الاتصال، وحكم الموت بموت الجملة، أو بالانفصال منها، مع بقاء الحياة. وكلام الشافعي في الجراح يدل على أنه لا يثبت للشعور حكمُ الحياة والموت في الاتصال والانفصال (¬3). وحكى إبراهيم البلدي (¬4) عن المزني: أن الشافعي رجع عن تنجيس الشعور، ¬

_ (¬1) في الأصل: يقبل، والمثبت تقدير منا، صدقته (م)، (ل). (¬2) ر. المختصر: 1/ 3. (¬3) عبارة (م): أنه لا يثبت للشعور حكم الحياة في الاتصال، وحكم الموت بموت الجملة وبالانفصال منها مع بقاء الحياة. (¬4) إِبراهيم بن محمد البَلَدي، نسبة إِلى (بَلَد) كذا قال النووي في تهذيب الأسماء، ولم يعيّن أي بَلَد. وهي عند ياقوت اسمٌ لموضعين، وكذا عند السمعاني في الأنساب، أحدهما - مدينة قديمة على دجلة فوق الموصل، والآخر يقال لمدينة الكَرَج، بين همذان وأصفهان، ولم يذكره ياقوت، ولا السمعاني فيمن نسب إِلى أيهما، وكذا لم نجده في أعلام الزركلي، ولا في سير أعلام النبلاء للذهبي، ولا في وفيات ابن خلّكان، وترجم له السبكي في الطبقة =

فاتفق أئمتنا على أن المسألة على قولين، وعبّر الفقهاء عنها بالتردّد في أن هذه الأشياء هل تحُلُّها الروح عند الاتصال بالحيوان؟ وهل يحُلّها الموت عند الانفصال؟ فأجْرَوا القولين في ذلك، ثم جعلوا الأحكام تفريعاً على ذلك. وهذا إن تجوزوا به على طريق الاستعارة؛ فهو محتمل، وإن أجْرَوه عن عقدٍ، فهو باطل؛ فلا شك أن الشعور بمثابة الناميات، وليس فيها الخاصّية التي تتميّز بها ذوات الأرواح من الناميات. فالوجه أن نقول في التعبير عن القولين: يثبت لها حكم الحياة، والموت، عند الاتصال والانفصال في قول، ولا يثبت لها الحكمان في القول الثاني، وهي كالجمادات في جميع الحالات، وتوجيه القولين يُستقصى في الخلاف. التفريع: 35 - إن حكمنا بأنها كالجمادات، فهي في أنفسها طاهرةٌ في كلِّ حالٍ: اتصلت، أو انفصلت. وإذا مات الحيوان، لم يلحقها حكم النجاسة. وأما شعور الكلب والخنزير، فقد قطع الصيدلاني بنجاستها، وإن كانت جامدة، تغليظاً لحكم هذين الجنسين؛ فإن الحياة دارئةٌ للنجاسة، ثم لم تدرأ نجاسةَ الكلب. فكذلك الجمادية من مقتضيات الطهارة؛ إذ لا نرى جماداً غيرَ مستحيل في حيوانٍ إلا وهو طاهر، فليُسْتثن شعرُهما من الجمادات، كما استُثني من الحيوانات عينُهما (¬1). وقال شيخي: " إذا فرّعنا على هذا القول، فظاهر المذهب أن شعرهما طاهر ". وذهب أبو حامد المرْوَرُّوْذي (¬2) إلى طهارتهما. ¬

_ = الثانية، وكذا ذكره العبّادي في الطبقة الثانية في المقلّين المنفردين بروايات، وروايته هذه عن رجوع الشافعي عن تنجيس الشعور حكاها عنه الغزالي في الوسيط، ومن قبله الماوردي وجماعات، "والرجل معروف الاسم بين المتقدمين غير أن ترجمته عزيزة". ولم نجد من ذكر تاريخ وفاته، ولكنه على أية حال مذكور في الطبقة الثانية، وهم من توفي قبل الثلاثمائة (ر. معجم البلدان لياقوت، والأنساب للسمعاني، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي: 1/ 105، وطبقات السبكي: 2/ 255، والوسيط للغزالي: 1/ 355). (¬1) عينهما: أي الكلب والخنزير. (¬2) أبو حامد، الشيخ أحمد بن بشر بن عامر العامري، المروَرُّوذي بميم مفتوحة، ثم راء ساكنة ثم =

ووجه ما ذكرته أن الشعور على هذا القول من الجمادات، ولا حكم لاتصالها بالحيوانات، فكأنها جمادٌ منفصل عن الحيوان، وليس له حكم الجُزئيةِ؛ فلا يلحقها حكم تغليظ الكلب. وإن فرّعنا على القول الثاني، فلا شك في نجاسة شعر الكلب والخنزير. 36 - فأما ما عداهما من الحيوانات، فنذكرها في قسمين: أحدهما - فيما سوى الآدميّين. والثاني - في الآدميين. أما القسم الأول - فالشعور المتصلة بالحيوانات الطاهرةِ العيون طاهرةٌ. وإذا ماتت، فإنها تنجس بنجاشة الجُثّة؛ إذ هي من أجزائها على هذا القول. ثم إذا دُبغت الجلودُ وطَهرت، فهل تَطهر الشعورُ تبعاً لها، كما كانت طاهرة في الحياة؟ فعلى قولين: أحدهما - لا تَطهر؛ فإن المعتمد في طهارة جلود الميتات بالدِّباغ؛ الخبرُ؛ وقد اقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذكر الإهاب في أخبار الدِّباغ؛ وأيضاً لا أثر للدِّباغ في الشعور؛ فإنه لا يغيّر صفتها. والقول الثاني - حكاه الربيع بن سليمان الجيزي (¬1) عن الشافعي: أنها تطهر تبعاً؛ فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا بأس بمَسْك الميتة إذا دُبغ، ¬

_ = واو مفتوحة، ثم راء مضمومة مشدّدة، ثم واو ساكنة، ثم ذال معجمة، نسبة إلى مرو الروذ. وقد يقال له المرُّوذي تخفيفاً، صدرٌ من صدور الفقه كبير، وبحرٌ من بحار العلم غزير، ويعرف في كتب المذهب بالقاضي أبي حامد، بخلاف الشيخ أبي حامد الإِسفراييني. صحب أبا إِسحاق المروزي، وكتابه (الجامع) أمدح له من كل لسان ناطق، وعنه أخذ فقهاء البصرة. توفي سنة 362 هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 211، طبقات السبكي: 3/ 12، 13، وطبقات الفقهاء: 114). (¬1) الربيع الجيزي، الربيع بن سليمان، أبو محمد الأزدي المصري الأعرج، أحد أصحاب الشافعي، وحملة علمه، ورواة كتبه، له ذكرٌ في المهذب في موضع واحد فقط في روايته عن الشافعي طهارة الشعر تبعاً للجلد، وذكر في الروضة في كتاب الشهادات في روايته عن الشافعي كراهة القراءة في الألحان (طبقات السبكي: 2/ 132، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 187).

ولا بصوفه، وشعره إذا غُسل " (¬1). وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان مطلقاً في الإهاب في أخبار الدباغ؛ فهو محمول على جريان العرف بتبقية الشعور على كثير من الأهب. وأما عدم تأثير الدّباغ فيها، فنقول: أليس حكمنا بنجاستها وإن لم تتعرض للعَفن والبلى تعرضَ الجلود، ولكنها تنجست تبعاً فليكن أمر الطهارة على التبعيّة ثابتاً فيها، وإن لم تتأثّر بالدِّباغ. ثم لقائل أن يقول: لو تُرك الجلد، لتمرّط الشعر منه باسترخاء المنابت وعُفونتها، فإذا تماسكت المنابت بالدّباغ، أثر ذلك في تطاول أمر بقاء الشُعور. فهذا حكم الشعور إذا مات الحيوان. 37 - فأما إذا جُزّت الشعور في الحياة؛ فالقياس الحكم بنجاستها؛ قياساً على سائر أجزاء الحيوانات إذا فصلت في الحياة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أُبينَ عن الحيّ، فهو مَيّت " (¬2). وهذا القياس مجرى مُطّرد في الحيوانات التي لا يُؤكل لحمها. فأمّا الحيوانات المأكولة إذا جُرّ منها شُعورها، فهي طاهرة باتفاق الأمم، والقياس يقتضي النجاسة؛ وسبب طهارتها مسيسُ الحاجة إليها في ملابس الخلق، ومفارشهم. ¬

_ (¬1) حديث: " لا بأس بمسك الميتة " أخرجه الدارقطني: 1/ 47، والبيهقي في السنن الكبرى: 1/ 24 من حديث أم سلمة، وفيه راوٍ متروك، وقال عنه البخاري: منكر الحديث. والمسك: الجلد. وزان فَلس. (¬2) حديث " ما أبين من حي فهو ميت " روي من حديث أبي واقد الليثي، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وتميم الداري رضي الله عنهم، كما روي مرسلاً. وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارمي، والحاكم بألفاظٍ متقاربة مثل: "ما قطع من البهيمة وهي حية"، " ما قطع من حيّ "، ولم يأت بلفظ "ما أبين" إلا الذهبي في تلخيص المستدرك (4/ 124). (ر. أحمد: 5/ 218، أبو داود: الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة ح 2858، وصحيح سنن أبي داود ح 2543، الترمذي: الأطعمة، باب ما قطع من الحي فهو ميت، ح: 1480، ابن ماجه: الصيد، باب ما قطع من البهيمة وهي حية، ح 3216، وصحيح ابن ماجة ح 2206، الدارمي: 2018، الحاكم: 4/ 124، 239، تلخيص الحبير: 1/ 39، ح 14).

ولا تسدّ الشُعور التي تمرط من المُذكَّيات -بالإضافة إلى الحاجات- مسدّاً، فجرى حكمُ الشرع بتطهيرها مجرى الحكم بطهارة الألبان. والقياس أن تنجس؛ فإنها مستحيلات في باطن الحيوانات كالدماء، وسائر الفضلات، ولكن امتن الله تعالى على عباده بإباحتها وطهارتها؛ حتى يتقوّت أرباب المواشي بها، ويستبْقوا أصول المواشي. وأما شعور الحيوانات التي لا تؤكل لحومها، فمقرّةٌ على القياس؛ لأنه ليس يظهر احتياجٌ إليها، بخلاف الأصواف والأوبار. ثم ما يُنتف من الشعر كالمجزوز، وما يَنسلّ بنفسه كذلك، ولا فرق، وليس الجز ذبحاً للشعر، حتى تُعتبر فيه شرائط الذبح (¬1)، وإنما المتّبع الحاجةُ كما تقدم. هذا بيان أحد القسمين. 38 - فأما الثاني - فالغرض منه شعر الآدمي. والوجه بناؤه على القول في نجاسة الآدمي إذا مات. فإن حكمنا بطهارته، فالشعر طاهرٌ إذا فصل منه، وإن حكمنا بنجاسة الآدميّ إذا مات -وهو خلاف ظاهر النص- فإذا انفصل منه الشعر، حُكم بنجاسته. ثم إن حكمنا بنجاسة شعور الآدميين، ففي شُعور رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهان: ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - إجراؤُها على القياس. والثاني - الحكم بطهارتها تخصيصاً له بهذه الكرامة؛ لأنه صح أنه أمر بتفرقة شعره على أصحابه (¬2)، ولم ينههم عن استصحابها في صلواتهم. فإن حكمنا بطهارة شعره بخلاف شعر غيره، ففي فضلات بدنه كبَوْله، ودمه، ¬

_ (¬1) عبارة (ل): حتى يشترط إيمان الذابح. (¬2) الحديث متفق عليه من حديث أن بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم: "ناول الحالق شقه الأيمن، فأعطاه أبا طلحة، ثم ناوله شقه الأيسر، فحلقه، فقال: اقسمه بين الناس". (البخاري الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، ح 170، 171. ومسلم: الحج، باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر، ثم يحلق، ح 1305. وانظر تلخيص الحبير: 1/ 82 ح 45).

وغيرهما وجهان: أحدهما - الجريان على القياس، وقد تقرر أنه عليه السلام كان يتنزه عن فضلاته تنزّهَ غيره. وكان لا يتخصّص عن البشر فيما يتعلق بطهارتي الحدث، والخبث. والثاني - أنها طاهرة؛ لما روي أن أبا طيبةَ الحاجم شَرِب دم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكر عليه. وقال: " إذاً لا يبجع بطنك " (¬1)، وشربت أم أيمن بولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إذاً لا تلج النار بطنك " (¬2). وقد يتجه في الخبرين أن يقال: إنما لم يُنكر عليهما، لعلمه بأنهما تداويا بما شرباه، وقد يجوز التداوي بالأشياء النجسة، كما نذكر ذلك في الأطعمة. فرع: 39 - إذا حكمنا بنجاسة شُعور الآدميين، فما ينتف من اللحية واللِّمّة على العرف الغالب معفوٌّ عنه، وإن كان نجساً كدم البراغيث والبثرات؛ إذ لا يمكن التحرز من انتتافهما. ثم القول في الفصل بين القليل والكثير فيهما كالقول في دم البراغيث، على ما سيأتي ذكره، ولعلّ القليل من الشعر مما يغلب انتتافه مع اعتدال الحال. فهذا كافٍ في التنبيه الآن. ¬

_ (¬1) حديث "أن أبا طيبة شرب دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه" قال الحافظ في التلخيص: الظاهر أن صاحب هذه الرواية غيرُ أبي طيبة، بل هو مولى لبعض قريش، وليس صحيحاً أيضاً، وفي رواية أخرى وردت في حق سالم أبي هند الحاجم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " ويحك يا سالم أما علمت أن الدم حرامٌ، لا تعد " وفي إِسناده مقال أيضاً. أما لفظ " إِذاً لا يبجع بطنك " فلم يورده ابن حجر، هنا، ولكنه في بعض روايات حديث أم أيمن الآتي بعده. وأشار الحافظ إِلى رواية للبزار، وابن أبي خيثمة، والبيهقي في الشعب والسنن: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك رضاً بشرب الحجام. ولم يتكلم فيها (ر. التلخيص: 1/ 30 ح 17، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/ 67). (¬2) حديث أم أيمن له أكثر من رواية ذكرها الحافظ في التلخيص، ووافق ابن دحية أنهما قضيتان وقعتا لامرأتين. وهو حديث ضعيف، من جهة بعض رواته، ومن جهة أن الراوي عن أم أيمن نبيح العنزي، وهو لم يرها. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 31 ح 20، مستدرك الحاكم: 4/ 63، 64، المعجم الكبير للطبراني: 25/ 89، 90 ح 230، أبو نعيم في الحلية: 2/ 67، السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 67، نيل الأوطار: 1/ 106).

40 - فأمّا العظام، فقد قطع الصيدلاني القولَ بأنه يثبت لها حكمُ الحياة، والممات، بخلاف الشُعور، والقُرون، والأسنان، وما أشبهها من العظام. وكان شيخي يُجري فيها القولين المذكورين في الشعور. وأبو حنيفة ألحقها بالشعور؛ فنفى حكم الحياة عنها (¬1). وسبب هذا التردد في العظام، أن الناس يعتقدون أن العظام تألم كسائر أجزاء الحيّ بخلاف الشُعور. والشرع يُبنى في أمثال ذلك على معتقد الناس. وهي أيضاً تتعرض للبلى والعفن والإنتان بالموت. وهذا سبب اقتضاء الموت للنجاسة. والذي يحقق ذلك أن الأصحاب أجمعوا على أن وَدَك عظم الميتة نجس، وقد كان طاهراً في حياة الحيوان المأكول، فلو لم ينجس العظم بالموت، لما تنجس الوَدَك الذي فيه؛ فإن الوَدَك لا يتصف بموتِ ولا حياة. وهذا من لطيف الكلام. وقد بَقَّيتُ فيه مضطرَباً لفكر الفقيه، واقتصرت على التنبيه. ثم من حكم بطهارة عظم الميتة، فيمنع صب شيء رَطب فيه؛ لما فيه من الدسم، فإن أمكن استخراجه بحيلةِ، فيجوز إذ ذاك. فصل 41 - الحيوان المأكول اللحم إذا ذكي، فلا شك في طهارة لحمه وعظمه؛ إذ لا خلاف في تحليلهما، وكذلك لا خلاف في طهارة جلده بالذكاة، قال أئمتنا: المُذكَّى في الحِسّ مَيتةٌ، وهو معرض للتغيّر على ما تقدّم، ولكن أباح الله اللحوم من الحيوانات الطيبة؛ ليتقوّى بأكلها الناس. وكان لا يبعد عن القياس إبقاء جُلودها على قياس جُلود الميتاتِ، ولكنّها مأكولةٌ ¬

_ (¬1) ر. رؤوس المسائل: 99 مسألة: 6، الهداية مع فتح القدير: 1/ 84، حاشية ابن عابدين: 1/ 138.

على الرُّؤوس، والأكارع، والمسموط؛ فهي من أجزاء اللحم، وإن كانت تتجافى عنه بالسلخ. ثم تتبعُ الشعورُ الجلودَ في الطهارة وفاقاً للتبعيَّة المرعيَّة، وإن كان ما ذكرناه من مشابهة الجلود اللحومَ لا يتحقق فيها، وقد ينقدح فيها كلامٌ لطيفٌ: وهو أنه إذا أُوجبَ (¬1) الحكمُ بطهارة الجلد كما سبق تقريره، وللشعر أصول مستترة بالمنابت لا يتأتى استئصالها إلا بالاعتناء بنتف آحادها؛ اقتضى ذلك الحكمَ بطهارتها؛ ثم لا يتبعّض حكم الشَّعر (¬2) في الطهارة، والنجاسة. فأما الحيوان الذي لا يُؤكل لحمُه إذا ذُكِّي، فذكاته كموته عندنا، وحكم الجِلد والشَّعر على ما عُلم في جلد الميتة وشعرها. فرع: 42 - إذا ماتت الدجاجة وفي بطنها بيضة، فإن كانت سيالة بحيث تخالطها الرُّطُوبات، فهي نجسة، وإن اكتست بالقَيْض (¬3) الحائل، فوجهان: أصحهما - الطهارة؛ فإنها ليست متصلةً اتصال خِلقَةٍ بل هي مُودَعة. فصل قال الشافعي: " ولا أكرَهُ من الآنِيةِ إلا الذَّهَبَ والفِضَّةَ ... إلى آخره " (¬4) 43 - استعمال أواني الذهب والفضة محرّم؛ لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الذي يشربُ في آنية الذهب والفضة إنما يُجرجر في بطنه نارَ جهنم " (¬5). ¬

_ (¬1) أوجب الحكم: ثبت. وفي (م): وجب. (¬2) في (م) الشرع. (¬3) القيض: القشرة العليا على بيضهَ الدجاجة (ر. القاموس والمعجم). (¬4) ر. مختصر المزني: 1/ 4. (¬5) حديث: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ... " متفق عليه من حديث أم سلمة، وليس فيه الذهب، وفي رواية أخرى عند مسلم بلفظ: "إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة ... " (البخاري: الأشربة، باب آنية الفضة، ح5634، مسلم: اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، ح 2065، وانظر تلخيص الحبير: 1/ 51 ح 47).

وقد ذكر الشافعي الكراهيةَ، وأراد به التحريمَ، [وهو يعتاد ذلك كثيراً، والدليل على التحريم] (¬1) الوعيد المنقول عن النبي عليه السلام. وحكى العراقيون قولاً للشافعي في أن استعمالَها مكروه غيرُ محرم، ولم يعرِف المراوزة ذلك، ونقلوا نصاً للشافعي في نفي التحريم مجملاً (¬2)، ثم أوّلُوه، وحملوه على أن المشروب في نفسه ليس بمحرّمٍ، فليقع التعويل على التحريم. ثم سلك الصيدلاني، وشيخي، وغيرُهما مسلكاً أسرُده على وجهه، ثم أذكر المختار عندي. قد قالوا: للأئمة طريقان: منهم من خصّص التحريم بالنقدين من غير رعاية معنىً، وزعم أن اختصاص التحريم بهما كاختصاص أحكامٍ بهما من القراض والنقدية وغيرهما. ومنهم من تخيل معنىً محرماً: وهو إفراط الخيلاء والتزيّي بزي الأعاجم، ثم بنَوا على هذا مسائلَ الفصل، كما سيأتي. والذي أراه أن معنى الخيلاء لا بد من اعتباره؛ فإنه مما يَبتدر إلى الفهم، وإذا أمكن اعتبارُ المعنى، فحسمه مع القول بالمعاني بعيد. وسأخرّج على ذلك تفريعَ المسائل في الفصل. 44 - قال الأولون: إذا اتَّخَذَ إناء نفيساً من غير التبرين، فإن كان سببُ نفاسته حسنَ الصيغة، لم يَحرُم استعمالُه كَالزُّجاج؛ فإن مستعمله لا يُنسب إلى السَّرف والخُيلاء. وإن كانت سبب النفاسة عزة الجوهر كالفيروزج، وما في معناه، فجواز استعماله مخرج على اختلاف الأئمة في اعتبار المعنى. فمن خَصّص التحريمَ بالتبرين، لم يُحرِّم غيرَهما. ومن اعتبر الفَخر والسَّرف، حرّم ما علت قيمتُه بجوهره، لتحقق المعنى المعتبر. 45 - وأنا أقول: يَبعد حَسمُ باب النظر مع إمكانه، وقد أجمع القيَّاسون على ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (م)، (ل). (¬2) في (م): "ونقلوا أيضاً للشافعي سلك في نفي التحريم محملا ثم أولوه". وهو تصحيف ظاهر. وفي (ل): "ونقلوا أيضاً للشافعي في نفي التحريم محملاً، ثم أولوه".

استنباط المعنى من الأشياء الستة في الربا، ومسلك المعنى أضيق فيها، فأقول: من خصص التحريمَ بالتبرين، قال: هما يظهران لكافة الناس، فيتبين السّرف من استعمالهما، والجواهر النفيسة يختصّ بمعرفتها ذوو البصائر؛ فجرى الخلاف فيها لذلك. وألحق شيخي البلّور بالزجاج، وألحقه الصيدلاني، والعراقيون بالجواهر النفيسة. 46 - وَيحرم على الرجل التحلّي بالتبرين، كما سأشرحه في كتاب الزكاة. وفي تحريم التحلي بسائر الجواهر احتمالٌ عندي، ولست أحفظ فيه شيئاً. 47 - ومن اتخذ إناءً من نحاسٍ أو غيره، وموّهه بأحد التبرين، فإن كانت المموِّهة تجتمع بالنار، حرم استعمال الإناء، وإن كانت مستهلكةً؛ ففي تحريم الاستعمال على رأي الأئمة وجهان: من اعتبر الفخر حرّم، ومن خصص التحريم بالعين المنصوص عليها، لم يُحرَّم؛ فإن العين مستهلكة. والخلاف عندي [يخرج] (¬1) على ترديد الرأي في الخيلاء، فمن لم يُحرِّم، قال: لا يكاد يخفى المموَّه، ولا يلتبس بالتبرين؛ فلا يظهر معنى الخيلاء. وإن اتخذ إناءً من فضةٍ أو ذهبٍ غشاه بالنحاس؛ فاستعماله على الخلاف: فمن اعتبر العين حرَّم، ومن اعتبر الخيلاء، لم يُحرِّم، ولا يخفى تخريج الخلاف على ما ارتضيته. ولو اتخذ إناءً من ذهب، ثم غشاه بالنحاس من داخله، وخارجه. فالذي أراه القطعُ بجواز استعماله؛ فإن الإناء من النحاس، قد أُدرج فيه ذهبٌ مستتر والله أعلم. 48 - ثم اتفق علماؤنا على أنه لا يختصّ تحريمُ الاستعمال بجهة الأكل والشرب، بل يحرم التوضؤ والتجمير والتبخير وغيرها. وهذا يحقق أن معنى السرف معتبر. وخصص أصحابُ الظاهر التحريمَ بالأكل والشرب. ولم يختلفوا في أن التحريم يَعُمّ الرجال والنساء. ¬

_ (¬1) زيادة من (م)، (ل).

49 - واشتهر اختلاف أئمتنا في أن استصناع هذه الأواني هل يحل؟ وهل للصنعة فيها قيمة، وحرمة؛ حتى يغرَم الكاسر ما ينقُصُه الكسرُ من القيمة؟ فمنهم من ألحقها بآلات الملاهي في إسقاط الحرمة، ومنع الاستصناع. ومنهم من أثبت للصنعة فيها قيمة وحرمة. وكان شيخي يقول: في جواز تزيين البيوت والمجالس بها - من غير أن تستعمل في جهةٍ - وجهان مأخوذان من جواز الاستصناع، فإن منعنا ذلك، لم يبق للصنعة حرمة، ولا [لجواز] (¬1) الاستصناع وجه. والوجه عندي تحريمُ التزيين بها للسرف، مع الخلاف في حرمة الصنعة. فإن قيل: فجوّزوا اقتناء المعازف وآلات الملاهي مع تحريم استعمالها. قلنا: النفوس متشوفة إلى استعمالها. ووجودُها داع إليه، وليس كذلك الأواني؛ فإن النفوس لا تلتذ باستعمالها. 50 - ومن تمام القول في هذا الفصل: الأواني المضببة بالذهب والفضة، فالطريقة المشهورة أن الضبة إن صغرت ومست الحاجة إليها؛ فاجتمع الصغر والحاجة، حلّ الاستعمال. وإن كبرت ولا حاجة، حرم الاستعمال؛ لظهور قصد التزين؛ ووجود العين. وإن صغرت ولا حاجة، أو كبرت ومست الحاجة، فوجهان: فاجتماع الكبر، وانتفاء الحاجة يقتضي التحريم، والصغر مع الحاجة يتضمنان التحليلَ. وإذا وجد صغرٌ ولا حاجة، أو حاجة وكبر، فوجهان (¬2). ومن أصحابنا من قال: لو كانت الضبة تلقى فمَ الشارب، لم يجز وإن صغرت، وتحققت الحاجة. وفي كلام الشافعي دليل على ذلك. وقد رأى الصيدلاني تحريم ذلك مقطوعاً به. ¬

_ (¬1) في الأصل: ولا يجوز. والمثبت من (م)، (ل). (¬2) قال النووي في الروضة: الأصح: يكره. (ر. الروضة: 1/ 45).

والعراقيون وطوائف من الأئمة لم يعتبروا هذا؛ فإن معنى التزيين إذا زال، وظهرت الحاجة، فالتحليل ظاهر (¬1). وكان شيخي يحكي وجهاً في تحريم استعمال المضَيّب كيف فُرض الأمر، تخريجاً على اعتبار عين التبر، وهى موجودة. 5 - وتمام البيان في هذا الفصل يستدعي [بيان] (¬2) أمرين أبهمناهما: أحدهما - الحاجة، والثاني - الكبر والصغر. أما الحاجة فلفظة مبهمة، لم أرَ لها تفصيلاً مقنعاً. وأنا أذكر ما يجري في فكري فأقول: لا شك أنهم ما عَنَوْا بالحاجة الضرورةَ الحاقّة، حتى يُظن أن من اضطر إلى استعمال إناء، ولم يجد غير إناءٍ منكسرٍ وضبّهٍ من فِضَّة، ومست الضرورة إلى شَعْبها (¬3)؛ فإذ ذاك يَشْعَبُه بها، ويستعمله؛ فإن الأمر لو انتهى إلى ذلك، حلّ استعمالُ إناءٍ من ذهب، فليُخرج الفقيهُ هذا التخيّلَ في معنى الحاجة من فكره. ونحن نقول وراء ذلك: الحاجةُ تحتمل معنيين: أحدهما - أن من انكسر إناؤه فَشَعَب موضعَ الكسر بالفِضّة، ولم يزد على مقدار الحاجة في الشَّعب، فهذا التضبيب ليس للزينة، وإنما تضبيب الزينة أن يضيِّب [موضعاً لا كسر] (¬4) فيه، أو يتعدى بالضبّة موضعَ الكسر. فإذا كانت الضبّةُ صغيرةً على قدر حاجة الشَّعب، فليس فيها خيلاء - وإن كان موضع الكسر متسعاً، وكانت الضبة كبيرة على قدر الكسر، فهي على مقدار الحاجة، ولكن كبرها قد يجرّ فخراً. وهذا القائل لا يشترط في الحاجة أن يعدِم شَاعِب الإناء ضَبَّةً من غير التبرين؛ فإن ¬

_ (¬1) في (م): "حاشية: وعند العراقيين وجه أنه لا يحرم المضبب بكل حال". (¬2) مزيدة من (م)، (ل). (¬3) شعبها: من شعب الشيءَ إِذا لمَّ صدعَه، وأصلحه، ويقال في الضد أيضاً. (المعجم). (¬4) في الأصل: "موضع الكسر". وفي (م)، (ل): موضع لا كسر. والضبط بالنصب تصرف من المحقق.

المحذورَ ما يظهر منه الفخر للناظرين، فإذا صغرت [الضبّهُ] (¬1) وانطبعت (¬2) في موضع الكسر؛ فليس في صورتها خيلاء. فهذا وجهٌ في معنى الحاجة. والوجه الثاني - أن يقتصر على مقدار الكسر، ويعدِم ما يُضبّب به من غير التبرين، فإذا ضبب بالفضة على التفصيل المذكور، فهذا تضبيبٌ للحاجة. وتوجيه ذلك أنه في نفسه لو كان يستعمل إناء من فضة إذا استخلى، فما يفعله حرام، وإن كان لا يطلع عليه أحد إلا الله، فكما يحرم الإظهار في ذلك، يحرم الإقدام عليه في الخلوات، فإذا علم الله من رجلٍ تمكنه من شَعْب الإناء بغير التبرين، ثم إنه اعتمد الشَّعْبَ بالفضة، فليس يتحقق مع ذلك الحاجة بوجهٍ بين العبد وربه. فهذان وجهان في الاحتمال، وقد يخطر للناظر أنه إنما يستعمل المضبّبَ على قدر الحاجة، إذا لم يجد إناءً غيره، فأما إذا كان له أوانٍ، فاعتماد استعمال المضبّب لا يجوز، وهذا بعيد. والوجه الاقتصار في التردد على الوجهين المقدّمين في معنى الحاجة. 52 - فأما معنى الصغر والكبر، فقد تردد فيه بعضُ الأصحاب: فذكر بعضُ من صنّف في المذهب أن الكبير ما يستوعب جزءاً من الإناء، مثل أن يستر أسفله، أو جانباً من جوانبه. وهذا غلط؛ فإن الإناء إذا كان كبيراً، وكان أسفله ذراعاً في ذراع مثلاً، فما يأتي على ثلثي الأسفل أو نصفِه كبير متفاحش؛ فلا معتبر بما قال هذا القائل. ولعل الوجه أن يقال: ما يلمع على البعد (¬3) للناظر؛ فهو كبير، وما لا يكون كذلك؛ فهو صغير؛ فيكون مأخذ ذلك مدانياً لمأخذ القليل والكثير، مما يُعفى عنه ¬

_ (¬1) في الأصل: الصبغة. والمثبت من (م)، (ل). (¬2) في (م)، (ل): وانطبقت على. (¬3) في هامش (م) ما نصه "حاشية: قال الرافعي: فإن قيل: ما حد القرب والبعد؟ فلعلك تقول المرجع فيه إِلى العرف. فإذا كان كذلك، فلنقل المرجع في القليل والكثير إِلى العرف، وليكون أيضاً وجهاً للأصحاب". (ر. الشرح الكبير - بهامش المجموع - جـ 1/ 308) والكلام بمعناه، لا بلفظه.

من طين الشوارع إذا قلّ، ولا يُعفى عنه إذا كثُر. وقد يَختلط بذلك طَرفٌ من القول في المموّه، والقولِ في إناء من فضة مغشىً بنحاس، إذا قيل: ما ترون في ضبّةٍ خفيفةِ الوزن بالغَ الصانعُ في ترقيقها وبسطها، فهي تلوح لذلك؟ أو ما ترون في ضبةٍ ثقيلةٍ ضيقة الحجم لا تلوح؟ فيكون مأخذ الإفراط في البسط مع خفّة الوزن من التمويه. ومأخذ الصغَر في مرأى العين مع الثقل من التغشية بالنحاس. 53 - وكان شيخي يقول: لا ينبغي أن يسوّى بين الذهب والفضة في الصِّغَر والكِبَر؛ فإنّ القليل من الذهب في إظهار الخيلاء بمثابة الكثير من الفضة، وأقرب معتبر فيه أن ينظر إلى قيمة ضبة الذهب (¬1) إذا قُوّمت بالفضة. فهذا مبلغٌ كافٍ فيما نبغيه. وقد سمعت شيخي يتردّد في صغار الظروف من الفضة، كظروف الغوالي (¬2) والمَكاحل الصغيرة من الفضة. والوجه عندي تحريم استعمالها. فصل قال الشافعي: " لا بأس بالوضوء من ماء مُشرِك ... إلى آخره " (¬3). 54 - التوضؤ من آنية المشركين جائز، والصلاة في ثيابهم كذلك، إذا لم يغلب على الظن مخامرتهم النجاسات. وقد شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوضأ من ماء في مَزَادَة مُشرِكة (¬4)، ¬

_ (¬1) في هامش (م): "حاشية: قال النواوي: لكن المذهب تحريم المضبب بالذهب مطلقاً". (¬2) الغوالي: جمع غالية، وهو نوع من الطيب، يمزج فيه المسك والعنبر بالبان. (المعجم). (¬3) ر. مختصر المزني: 1/ 4. (¬4) حديث الوضوء من ماء في مزادة مشركة متفقٌ عليه، في حديث طويل عن عمران بن حصين رضي الله عنه. (البخاري: التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه عن الماء، ح 344، مسلم: المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، ح 682). ومن عجب أن محدث الديار الشامية الشيخ ناصر الألباني، يقول في (إِرواء الغليل) -بعد =

وتوضأ عمر رضي الله عنه من ماء في جَرّ (¬1) نصرانية. والقول الضابط في ذلك، أن ما تحققنا نجاستَه، أو طهارته لا يخفى حكمه. فأما ما يُتردّد فيه؛ فإنه ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها - ما يغلب على الظن طهارته؛ فالوجه الأخذ بطهارته. ولو أراد الإنسان أن يطلب يقين الطهارة؛ فلا حرج عليه، بشرط ألاّ ينتهي إلى الوساوس التي تُنكد عيشَه، وتُكَدر عليه وظائف العبادات؛ فإن المنتهي إلى ذلك خارجٌ عن مسالك السلف الصالحين، والوسوسة مصدرها الجهل بمسالك الشريعة، أو نقصانٌ في غريزة العقل. والقسم الثاني - ما يستوي في نجاسته وطهارته التقديران؛ فيجوز الأخذ (2 بطهارته ولو انكفَّ المرءُ عنه، كان محتاطاً. والقسم الثالث - ما يغلب على الظنّ نجاستُه، فللشافعي 2) فيه قولان: أحدهما - ¬

_ = أن نقل هذا عن المجد ابن تيمية وابن حجر-: لم أجده. ثم يذكر بعد ذلك حديث عمران بن حصين نفسه، الذي ذكره ابن حجر في (بلوغ المرام) - بطوله، ثم يعقب عليه قائلاً: "فأنت ترى أنه ليس في الحديث توضؤه صلى الله عليه وسلم من مَزَادة المشركة، ولكن فيه استعماله صلى الله عليه وسلم لمزادة المشركة " اهـ قلت: لا أدري ماذا يقصد شيخنا الألباني بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ من مزادة المشركة، ولكنه استعملها؟. ففيم استعملها صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وفي الحديث ما نصه: " ... دعا النبي صلى الله عليه وسلم بإِناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين ... ونودي في الناس: اسقوا واستقوا ... وأعطى الذي اصابته الجنابة إِناءً من ماء، وقال: اذهب فأفرغه عليك" ففيم استعمل المسافرون في الصحراء هذا الماء؟ أفي غير الشرب والطهارة؟ إِلا إِذا أراد أنه لم يجده بهذا اللفظ. والله أعلم. (ر. سبل السلام: 1/ 71، نيل الأوطار: 1/ 87، وإرواء الغليل للألباني: 1/ 72 - 74). هذا، والمزادة بفتح الميم والزاي، بعدها ألف مدّ، ثم دال مهملة مفتوحة، وهي الراوية، ولا تكون إلا من جلدتين، تقام بثالث بينهما لتتّسع، كما في القاموس. (¬1) أي من جرار نصرانية، فالجرّ جمع جرّة. (القاموس) وفي (م) جرة. ووضوء عمر من جرار النصرانية، رواه الشافعي رضي الله عنه عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب توضأ من ماء نصرانية، في جرة نصرانية (ر. الأم: 1/ 7) ورواه الدارقُطني: 1/ 32، والبيهقي: 1/ 32، وأورده المجد في المنتقى، وحكم عليه بالصحة، ووافقه الشوكاني (ر. نيل الأوطار: 1/ 81). (2) ما بين القوسين ساقط من (م).

أنه يجب الأخذ بنجاسته. والثاني - يجوز الأخذ بطهارته. فوجه جواز الأخذ بطهارته بناء الأمر على ظاهر الطهارة، والمصير إلى أنها مستصحبة إلى أن يطرأ نقيض الطهارة، والاستشهادُ بطهارة الحدث؛ فإن من استيقن طهارةَ الحدث، وغلب على ظنّه الحدثُ بعدها؛ فيجوز الأخذ بما سبق من الطهارة. ووجه من أوجب الأخذَ بالنجاسة أن الطهارة والنجاسة يتطرق إلى [دركهما] (¬1) الاجتهاد، وتنتصب عليهما العلامات، وما كان كذلك، وجب الاستمساك فيه بغالب الظن، كسائر المجتَهدات، وبها ينفصل أمر النجاسة عن أمر الحدث؛ فإن الاجتهاد لا يتطرق إلى دَرْكِ الحدث؛ إذ ليس عليه علامةٌ لائحة بها اعتبارٌ. وتحقيق ذلك أن ما ذكرناه من غلبة الظن لم نعنِ به هاجساً لا مستند له من علامة ظاهرة. ولو كان مع الرجل إناءان: أحدهما طاهر، والآخر نجس، والْتبس عليه الطاهر منهما، فالأخذ بالاجتهاد، وغالب الظن في هذا محتوم؛ فإن معه ماء مستيقنَ [الطهارة، وماء مستيقن] (¬2) النجاسة، وإذا لم يكن معه إلاّ إناء واحد، ففي الأخذ بغلبة الظن في النجاسة القولان. 55 - ونحن نذكر صوراً يتهذب بها القولان: فإذا ظهر اختلاطُ الرجل بالنَّجاسات وعدمُ تصوّنه منها، مسلماً كان أو كافرا، ففي ثيابه وأوانيه القولان. وإذا عَتُقت المقبرة وجرى النبشُ في أطرافها؛ فالغالب على الظن انتشارُ النجاسة فيها. وإذا لم يستيقن نجاسة موضع منها، وغلب على الظن ذلك، ففيه القولان. ففي هذه الصورة نص الشافعي على القولين. ¬

_ (¬1) في الأصل: ذكرهما، والمثبت من (م). (¬2) ساقط من الأصل، والمثبت من (م).

وكذلك القولان في طين الشوارع - إذا غلب على الظن اختلاطُه بالنجاسة. قال شيخي: لو استيقنا نجاسة طين الشوارع، فلا خلاف في العفو عن القليل الذي يلحق ثياب الطارقين؛ فإن الناس لا بدّ لهم من الانتشار في حوائجهم؛ وقد لا يملك كثير منهم إلا ما يكتسبون به، فلو كلفوا الغسل، لغلبت المشقة، وكذلك عفَوْنا عن دم البَراغيث والبَثَرات. ثم كان شيخي يقول: القليلُ المعفوّ عنه ما لا ينسب صاحبه إلى نكبةٍ، أو عثرةٍ، أو قلّةِ تحفظ عن الطين. وسيأتي هذا الفن في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. ***

[باب] السواك

[باب] السّواك (¬1) قال الشافعي: " وأحب السواك للصلاة ... إلى آخر الباب " (¬2) 56 - استعمال السواك مستحب. وفيه أخبار صحيحة تدل على أنه سنّة مؤكدةٌ. منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " (¬3). وقال: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرّب " (¬4). ثم الكلام في آلة السواك، ووقته، وكيفيته. 57 - فأما آلة السواك، فقضبان الأشجار أو عروقها، بها استاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلفُ الصالحون، وظَهر أن الغرض من استعمال السواك إزالة قَلَحِ (¬5) الأسنان. ¬

_ (¬1) في الأصل: "كتاب" والمثبت من (م)، (ل)؛ رعاية لعبارة الإمام نفسه. (¬2) ر. مختصر المزني: 1/ 4. (¬3) حديث: "لولا أن اشق على أمتي .. " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (البخاري: الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، ح 887 والتمني، باب ما يجوز من الَّلوِّ، ح 7240، مسلم: الطهارة، باب السواك، ح 252). وفي رواية لمالك، ولأحمد (واللفظ له): "لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" (الموطأ: 1/ 66 ح115، وأحمد: 2/ 256، والبيهقي: 1/ 35). (¬4) حديث: " السواك مطهرة ... " صحيح رواه أحمد في مسنده: 6/ 47، 62، 124، 146، 238، والشافعي في الأم: 1/ 20، والنسائي: الطهارة، باب الترغيب في السواك، ح 5، وابن حبان: 2/ 201 - حديث: 1064، والبيهقي: 1/ 34، وعلقه البخاري في صحيحه: 4/ 187 مجزوماً به (ر. تلخيص الحبير: 1/ 99 ح 63، إِرواء الغليل: 1/ 105، نيل الأوطار: 1/ 125). (¬5) القَلَح: تغيّر الأسنان بصفرة وخضرة تعلوها. من قَلِحت تقلَح، من باب طرب.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما لكم تدخلون عليّ قُلحاً!! استاكوا " (¬1). ومما يتعيّن الاعتناء به في القواعد، أن من الأصول ما يغلب التعبد فيه، وإن ذكر فيه معنى على بعد، لم يقع في رتبة الجليّات، ومنها - ما يظهر المقصود فيه، ولكنه نُقل مع آلةٍ مخصوصةٍ. فأما ما يقع (¬2) التعبد فيه، فإنه يختص بالآلة المنقولة، كطهارة الحدث، فإنها مختصة بالماء. ورأى الشافعي أن يُلحِق إزالةَ النجاسة بطهارة الحدث، مع ظهور المعنى المقصودِ فيها؛ فقال بتعيّن الآلة في إزالتها. وأما الاستنجاء بالأحجار، فالغرض منه ظاهرٌ وهو قلع عين النجاسة، فلمّا ظهر المقصودُ، لم يختصّ بآلة، بل قيل: كل عين طاهرة منشِّفة غير محترمة؛ فهي صالحة للاستنجاء، فالاستياك عندي في معنى الاستجمار، فالغرض منه إزالة القَلَح، إما بقضبان الأشجار، أو خرقةٍ خشنة. وفيه فيما أظن تثوّبٌ (¬3) خفي من التعبد؛ فإن من تمضمض بغاسول قلاعٍ، فأزال قَلَح أسنانه، فما أراه مقيماً سنةَ الاستياك، وليس ذلك عريّاً عن احتمالٍ بعيد. ولو كان الرجل نقيَّ الأسنان، قويم الطبيعةِ، لا يغشاها قَلَحٌ، فسنة الاستياك لا تسقط عنه. وهذا يقرّبُ معنى التعبد فيه قليلاً. والوجه القطع بأنه لا يتعين في الاستياك آلة، إذا كان يزيل القلحَ. وما ذكرناه من التمضمض لا يزيل القَلَح، ما لم يتحامل معه على الأسنان بدَلْكٍ. وما ذكرناه من نقاء الأسنان غيرُ سديد، فإن كل أحد يغشاه قَلَح، وإن قلّ. فهذا تفصيل القول في آلة السواك، غير أن اتباع السلف حسنٌ في كل شيء. ¬

_ (¬1) حديث: "ما لكم تدخلون علي قلحاً" رواه أحمد في مسنده، واللفظ له: 1/ 214، 3/ 442، والطبراني في الكبير: 2/ 64 ح 1301، 1302، 1303، و12/ 84 ح 12611، والبيهقي: 1/ 39 قال الهيثمي: فيه أبو علي الصيقل، قيل فيه: إنه مجهول. (ر. مجمع الزوائد: 1/ 221، تلخيص الحبير: 1/ 115). (¬2) في (ل): يغلب. (¬3) تثوَّب: طلب الثواب. وفي (م): سرٌّ خفي.

58 - فأما وقت السواك، فالاستياك يتعلق بثلاثة أوقاتٍ: أحدها - تغيّر النَّكهة (¬1) فمهما تغيرت رائحة الفم بأكل طعامٍ رائحته كريهة، أو نومٍ، أو طول أزْمٍ (¬2) استَحْبَبنا الاستياك، وإن لم يُرد المرء صلاةً ولا طهارةً. فهذا وقتٌ. والثاني - القيامُ إلى الصلاة، فمهما أراد الرجل القيامَ إلى الصلاة، استحببنا له أن يستاك، وإن كان لا يتطهّر، قال النبي عليه السلام: " صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاةً بلا سواكٍ " (¬3). والثالث - الوضوء، فيستحب لكل متوضىء أن يستاك. وكان شيخي يقول: ينبغي أن يستاك عند كل صلاة، فإن أخطأه ذلك، فعند كل طهارة، فإن أخطأه ذلك، ففي اليوم والليلة مرةً. وفي السواك سرٌ، سنذكره في أول " باب سنة الوضوء " إن شاء الله عز وجل. 59 - فأما كيفية السواك، [فيديرُ] (¬4) السواك على أسنانه في عرض الوجه، وطوله محاولاً إزالة القَلَح، فإن اقتصر على إحدى الجهتين، فينبغي أن يستاك في عرض الوجه؛ إذ رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان يستاك عرضاً " (¬5)، ولعل فيه ¬

_ (¬1) النَّكهة: ريح الفم. (¬2) الأَزْم: السكوت، والامتناع عن الطعام. وعبارة (م): أو ثوم. (¬3) عزاه السيوطي في الجامع الصغير لابن زنجويه عن عائشة في كتاب الترغيب في فضائل الأعمال؛ ونسب المناوي السيوطي إِلى التقصير؛ لاكتفائه بعزوه لابن زنجويه، وقال: بل هو مخرّج عند أحمد، والحاكم في المستدرك، وصححه، وابن خزيمة، والبيهقي وضعفه. كلهم عن عائشة باللفظ المذكور. وتعقبه النووي كابن الصلاح بأنه من رواية ابن إِسحاق -وهو تقصير- بالعنعنة، فاقتصاره على ابن زنجويه تقصير" ا. هـ بنصه من الفيض. وقد رمز له السيوطي بالضعف، ووافقه الألباني. (ر. فيض القدير: 5/ 225، أحمد: 6/ 271، مستدرك الحاكم: 1/ 146، صحيح ابن خزيمة: 1/ 71، البيهقي في الكبرى: 1/ 38، والصغرى: 1/ 43 ح 80، تلخيص الحبير: 1/ 111 - 112، ضعيف الجامع الصغير للألباني ح 3519، سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1503). (¬4) في الأصل: فتقدير. والمثبت من (م)، (ل). (¬5) حديث كان صلى الله عليه وسلم يستاك عرضاً، ويشرب مصاً، ويتنفس ثلاثاً، ويقول: " هو =

معنىً: وهو أن الاستياك على طول الوجه إن أُديم واقتصر عليه، فقد يَكشِط عمودَ الأسنان، ويقرح اللثَة. ... ¬

_ = أهنأ، وأمراً، وأبرأ" أخرجه البيهقي في السنن: 1/ 40 عن ربيعة بن أكثم، وذكره الألباني في ضعيف الجامع الصغير، وعزاه للبغوي، وابن قانع، والطبراني في الكبير، وابن السني، وأبي نعيم في الطب، كلهم عن بهز، وإلى البيهقي عن ربيعة بن أكثم أيضاً (ر. ح 4557 من ضعيف الجامع الصغير، وح 945 من سلسلة الأحاديث الضعيفة).

باب النية في الوضوء

باب النية في الوضوءِ 60 - طهارات الأحداث تفتقر إلى النّية: وهي الغُسل، والوضوء، والتيمم. وإزالة النجاسة لا تفتقر إلى النية. ونسب بعض الأصحاب إلى ابن سُريج (¬1) وجهاً في اشتراط النيّة في إزالة النجاسة، وهذا غلط، وسنذكر في أحكام النجاسات سببَ هذا الغلط، ثم نذكر كيفية النيّة، ووقتَ النيّة في قسمين. فأما القول في الكيفية، فتأتي كيفيّة النيّة في الغسل والتيمّم في بابيهما. 61 - فأما الوضوء، فينقسم إلى وضوء الرفاهية، وإلى وضوءِ الضرورة، فأما وضوء الرفاهية، وهو وضوء من لا عُذر له من النواقض للطهارة (¬2)، ففي النية مسلكان: أحدهما - التعرّض لرفع الحدث، فإذا نوى المتوضىء رفعَ الحدث، صح وضوؤه وارتفع حدثُه. وإن نوى رفع حدث البول، وكان حدثه نوماً، أو مسّاً، فالوجه القطع بارتفاع الحدث، وصحّة الوضوء، والسبب فيه أن عين الحدث لا سبيل إلى تخيل ارتفاعه، وإنما ثبت بسبب الحدث منعٌ، وهو الحدث على التحقيق، ثم يرتفع ذلك المنعُ بالوضوء، وذلك المنعُ ليس جنساً معيّناً ولا نوعاً مخصوصاً، فإن فُرض ¬

_ (¬1) ابن سُريج، أحمد بن عمر، أبو العباس، القاضي، البغدادي، تفقه بأبي القاسم الأنماطي وغيره. حامل لواء الشافعية في زمانه، وناشر مذهب الشافعي، وتفقه به جماعة من حملة المذهب ورفعائه. توفي سنة 306 هـ (ر. طبقات الشافعية الكبرى: الطبقة الثالثة: 3/ 21، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة الدمشقي: 1/ 48، وطبقات الفقهاء للشيرازي: 108، والأعلام للزركلي). (¬2) يشير بقوله هذا إِلى أصحاب الحدث الدائم مثل سلسل البول، والاستحاضة. وسيأتي الحديث عن نية الوضوء بالنسبة لهم قريباً.

غلطٌ في التعرّض لذكر السبب، فالمقصود ارتفاع الحكم الواقع بذلك السبب، وذلك الحكم لا يتصنّف ولا يتفرعّ. 62 - وكان شيخي يذكر هاهنا في وقوع الغلط في تعيين النيّة أقساماً، لا بدّ من ذكرها على إيجاز، فالعبادات تنقسم: فمنها ما يُشترط التعيين في نيّتها، كالصلاة والصوم، ومنها ما لا يُشترط التعيين فيها. وهذا القسم يَنقسم قسمين: أحدهما - ألا يُشترط التعيين، ولكن لو عيَّن الناوي وغلط، لم يُعتدّ بالعبادة، وهذا كما أنا لا نشترط في نيّة الكفارة التعرض لذكر سببها، ولو نوى من أعتق رقبةً إعتاقها عن يمين، ثمّ تبيّن أنه ما كان حلف، وإنما كان ظاهَر، فالإعتاق لا يقع عن الكفارة التي كانت عليه، وكذلك لو نوى بما يُخرج زكاةَ مالٍ غائب، ثم ظهر له أن ذلك المال كان تالفاً في وقت إخراج الزكاة، فما أخرجه لا ينصرف إلى سائر أمواله. ولو كان نوى بما أخرجه تزكية ماله مطلقاًً، لانصرف إلى ما بقي من ماله الزكاتي. فهذا أحد القسمين. والقسم الثاني - ألا يضرَّ الغلط في التعيين، وكان يذكر من ذلك ما لو نوى الإمامُ إمامةَ زيدٍ، ثم تبين أن المقتدي به عمرو، فلا يضرّ الغلط في ذلك. ثم كان يقول: حقيقة هذا القسم يؤول إلى أن أصل النية في هذه الصورة غيرُ مشروطٍ في صحّة صلاة الإمام، فإذا عين وأخطأ، لم يضرّ؛ فإن أقصى التقدير بطلانُ النية، ولو لم ينو الإمامُ أصلاً، لصحت صلاتهُ. ولم يذكر غَلطَ المقتدي في تعيين إمامه، فإن فيه سرّاً سأُظهره في كتاب الصلاة، وكان يُلحق الغلط في تعيين الحدث بالقسم الأخير. وهذا فيه أدنى نظر على موجب تقسيمه؛ فإن أصل النية لا يسوغ تركه في الوضوء. والذي يكشف الغطاء في ذلك أن المتيمم لو نوى استباحة الصلاة عن الحدث، ثم ظهر له أنه كان جنباً، صح تيمّمه، والغلط من الجنابة إلى الحدث لا أثر له. ولمّا نقل المزني هذا في التيمم، استشهد عليه بغلط المتوضّىء من حدثٍ إلى حدث.

وحكى في غلط المتوضىء إجماعَ (¬1) العلماء. 63 - وأنا أقول: أما سقوط أثر الغلط في التيمم، [فواضح] (¬2)؛ فإن التيمم لا يرفع الحدث أصلاً، وإنما أثره في استباحة الصلاة، والأحداثُ ذُكرت أو لم تُذكر باقية لا تزول، فيظهر التحاقُ التيمم في ذكر الحدث بما لا يشترط فيه النية أصلاً. والوضوء يرفع الحدثَ، ففرض الغلط في تعيينه قريب الشبه بالغلط في تعيين أسباب الكفارات. وسأذكر صورةً بعد ذلك، يتم بذكرها الغرض إن شاء الله تعالى. فهذا ذِكر مسلكٍ واحدٍ في كيفية النية. 64 - فأما الثاني - فهو ألا يتعرّض المتوضىء للحدث في نيته، ولكن ينوي استباحة شيء، فإن نوى استباحة ما يفتقر إلى الوضوء، صح وضوؤه، وارتفع حدثُه، واستباح ما عيّن، وما أضرب عن ذكره. فإذا نوى استباحة الصلاة، ارتفع حدثُه، وزال المانع بالكلية، وكذلك إذا نوى استباحة مس المصحف أو حمله. فأما إذا نوى ما لا يشترط فيه الوضوء، ولكن يستحب كقراءة القرآن عن ظهر القلب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يرتفع حدثه (¬3)؛ فإنه لم ينو ما يمنع الحدثُ منه. والثاني - يرتفع؛ فإنه لما ذكر ما أمر فيه بالوضوء، وإن كان [ندبًا] (¬4)، فقد تعرض للحدث، فارتفع. ولو كان محدثاً، فظن أنه متطهر، فتوضأ، ونوى تجديدَ الوضوء، فالتجديد على الجملة مأمور به، ولكن المذهبَ أن حدثه لا يرتفع؛ إذ التجديد مأمور به، لا لأجل ¬

_ (¬1) ر. المجموع: 1/ 314، لترى أنه نقل الإجماع في هذا أيضاً، ولترى بهامشها عن نسخة الأذرعي: أن النووي أخذ هذا من كلام (الإِمام) في أوائل باب نية الوضوء. ثم استدرك على النووي بكلام الإِمام، والذي نريده الآن هو إِثبات أن إِمام الحرمين هو المعني بقولهم (الإِمام) مطلقاًً. كما ذكرنا في ترجمته. (¬2) يكاد إِمامنا أن يُسقط الفاء في جواب (أما) دائماً. وهي لغة كوفية، وعليها جرت نسخة الأصل، والمثبت من (م)، (ل). (¬3) وهو الأصح (الروضة: 1/ 48). (¬4) في الأصل: نذراً. والمثبت من (م)، (ل).

الحدث، ومن يريد أن يقرأ القرآن عن ظهر القلب مأمور بالوضوء لأجل الحدث؛ فتعلق وضوؤه بقصد رفع الحدث. فرع: 65 - إذا نوى المتوضىء استباحة صلاة بعينها دون غيرها، فعيَّن تيك الصلاة في نيّته، ونفى ما سواها، ففي المسألة وجهان: أحدُهما - أن حدثه باقٍ، ولا يصح وضوؤه أصلاً؛ فإن نيته فاسدة، [فكأنه لم ينو] (¬1) والثاني - يصح وضوؤه (¬2)، ويرتفع حدثه، فيستبيح ما عيّن وما نفى؛ فإن الحدث لا بدّ من تقدير ارتفاعه في استباحة الصلاة المعينة. وإذا ارتفع حكم الحدث، لم يتبعض، ولا خلاف أنه لو عَيّن صلاةً، ولم ينف غيَرها، ارتفع حدثُه، واستباح كلَّ مفتقرٍ إلى الوضوء، فإذا عين ونفى، لغا نفيُه، وصار كما لو عيّن صلاة، ولم ينف غيرها. قال الشيخ أبو بكر (¬3): لو اجتمعت أحداث ونوى رفع بعضها، ونفيَ ما سواها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يصحّ وضوؤه. والثاني - يصحّ ويرتفع جميعُ أحداثه. 66 - ولا بدّ بعد هذه الحكاية من التنبيه لأمرين: أحدهما - أن هذا الاختلاف الذي حكاه في ذكر حَدثٍ من الأحداث يوجب لا محالة اختلافاً فيما تقدم ذكره، في أن من غلط من حدثٍ إلى حدث هل يصح وضوؤه؟ إذ منشاً الكلام فيهما يؤول إلى مآلٍ واحد؛ فإن المعتمدَ في أن الغلط من حدثٍ إلى حدث لا أثر له - ما تقدم ذكره من أن الحدثَ هو المانع الحاصل، وذلك في حكم خصلةٍ واحدةٍ، ولا تتنوع (¬4)، وهذا بعينه يقتضي سقوطَ أثر العدد في أسباب ذلك المانع، وإذا سقط أثر العدد، والاختلاف، استوى الكلام في تعيين حدث من الأحداث، وفي الغلط من حدث إلى ¬

_ (¬1) مطموسة في الأصل. واثبتناها من (م). (¬2) وهو الأصح (الروضة: 1/ 48). (¬3) المراد الصيدلاني، فهذا لقبه، وهذه كنيته. ويتاكد ذلك منْ متابعة المسألة. وأبو بكر (كنية) لعدد ممن يتردد في (النهاية) لكن لا يذكر به مطلقاً غير مقيد إِلا الصيدلاني. (¬4) في (م)، (ل): لا تتنوع (بدون واو).

حدث؛ فإن السرّ ذكر اتحاد ذلك المانع، والاتحاد ينافي التعددَ والاختلاف جميعاً. وسمعت شيخي يذكر وجهاً ثالثاً في ذكر بعض الأحداث، ويقول: " إن نوى رفعَ الحدث الأول، يصح وضوؤه؛ فإنّ ما بعده ليس بحدث، وإن نوى رفع ما بعد الأول، لم يصح ". وكل هذا حيْدٌ عندي عن الفقه؛ فإن المرعيّ هو المنع، وهو المعنيّ بالرفع. وما اتحد، فلا يتحقق فيه تعددٌ، ولا اختلاف، ولا يترتب (¬1) بتقدّم أولٍ وتأخر ثانٍ. فهذا أحد الأمرين اللذين نبهنا عليه. 67 - والثاني - أن الصيدلاني لما ذكر الوجهين -فيه إذا نوى رفع حدث من أحداث- شرط في تخريج الوجهين أن ينوي رفعَ حدث ويَنْفي ما سواه. ومقتضى كلامه أنه لو نوى رفع حدث معينٍ، ولم يتعرض لنفي ما سواه، صح وضوؤه، كما لو نوى استباحة صلاة بعينها، ولم ينف غيَرها، صحّ وضوؤه، وإنما الوجهان فيه إذا نفى في نيته ما سوى الصلاة المعينة. وهذا وهمٌ عندي، أما تعيين الصلاة، فلا بد فيه من الفصل بين أن ينفي ما سوى الصلاة المعينة وبين ألا ينفي، فأما إذا اجتمعت أحداثٌ فنوى رفعَ واحدٍ، ولم ينف غيره فينقدح فيه ذكر الخلاف؛ فإنه لم يتعرّض لما بقي من الأحداث، فقد يتخيل أنه لا يرتفع ما لم يذكره. فأما إذا عيَّن صلاة ولم ينف غيرها، فمقتضى (¬2) استباحة تيك الصلاة ارتفاع جميع الأحداث، وهذا بيّن لا إشكال فيه. فهذا بيان كيفية النية في وضوء الرفاهية. 68 - فأما النية في طهارة الضرورة، وهي طهارة المستحاضة، ومن به سلس البول والحدث الدائم، فقد قال الأئمة: لو نوت المستحاضةُ رفعَ الحدث بوضوئها، واقتصرت على نية الرفع، لم يصح وضوؤها؛ فإن الوضوء لا يَرفع ما سيقعُ من الأحداث بعده، والأحداث الدائمة تقارن الوضوء، فليس رافعاً. ¬

_ (¬1) في (م): ولا تثريب. (¬2) في (م): فمتضمن استباحته لتيك.

وحكى شيخُنا عن القفال: أن صاحب الضرورة لو نوى استباحة الصلاة مقتصراً على ذلك، لم يصح، ولا بد من الجمع بين نية الاستباحة، وبين نية رفع الحدث؛ لينصرف رفعُ الحدث إلى ما تقدم، وينصرف استباحة الصلاة إلى ما يقارِن، أو يتجدّد بعد الوضوء، وهذا غلط، لا يستراب فيه؛ فإن نية الاستباحة تليق بالمتيمّم، وصاحب الضرورة، وهي أيضاً [تُفِيدُ] (¬1) رفع الحدث؛ فإن صاحب الرفاهية لو نوى بوضوئه استباحةَ الصلاة، ارتفع حدثُه؛ فنيّة استباحة الصلاة في حق صاحب الضرورة تُغني عن الرفع، وعن إفادة إباحة الصلاة. والصيدلاني لم يحك هذا عن القفال أصلاً، بل حكى القطعَ بأن نية الاستباحة في حق صاحب الضرورة كافيةٌ. ولست أستريب في نقل شيخنا (¬2) عن القفال شرطَ الجمع بين نية الرفع والاستباحة، ولكنّه خطأ لا شكّ فيه. على أني أقول: لا ينبغي أن نعتقد أن طهارة المستحاضة تؤثر في رفع الحدث أصلاً؛ إذ الطهارة إنما ترفع الحدث إذا تمت، وكيف يُفرض تمامها، والحدث مقارن لها؟ فهذا منتهى القول في كيفيّة النية. 69 - [ووراء] (¬3) جميع ما ذكرناه غَائلةٌ لا يقف على سرّ المذهب من لم يتنبّه لها. فأقول: ظاهر ما ذكره الأئمة أن النية في الوضوء من نية القربات، والشافعي أوجب النيةَ في الوضوء، من حيث أثبت أنّ الوضوءَ قُربةٌ، فعلى هذا إذا نَوى رفعَ ¬

_ (¬1) في الأصل: تقيّد. بهذا الضبط والوضوح، وهو تصحيف ظاهر. والمثبت من (م)، (ل). (¬2) شيخنا المراد به هنا والده، فهو تلميذ القفال، وأما القفال فهو القفال (الصغير) المروزي أبو بكر عبد الله بن أحمد، وهو المراد عند الإِطلاق. هذا. والوجه المحكي عن القفال هنا حكاه النووي في المجموع: 1/ 332 عن أبي بكر الفارسي، والخضري، وأبي بكر القفال جميعاًً، وحكاه الرافعي: 1/ 333 عن أبي بكر الفارسي والخضري، وحكاه الغزالي في الوسيط: 1/ 365 عن الخضري، أما الحاكي هنا (شيخنا)، فلم يذكره أي منهم. (¬3) غير مقروءة بالأصل، وقدرناها في ضوء السياق، وما بقي من آثار الحروف، وقد أكدت (م) صحة تقديرنا، والحمد لله على توفيقه، وكذا (ل) أيضاًً.

الحدث؛ فَيَنْقدح فيه ذكرُ خلافٍ في أنه هل يُشترط أن يضيف الوضوءَ إلى جهة التقرب إلى الله تعالى (¬1)؟ فإن أئمّتنا اختلفوا في أن من نوى صلاة الظهر هل يُشترط في صحة نيته أن يقول: لله تعالى؟ كذا القول فيه إذا نوى رفع الحدث، فيجرى فيه [الخلاف] (¬2) أنه هل يشترط أن يقول بقلبه: فعلتُه لله؟ وقد قطع أئمة المذهب أن المتوضىء لو نوى بوضوئه أداءَ الوضوء، وفرضيةَ الوضوء، صحت نيّته (¬3)، وارتفع حدثة، وإن لم يتعرض للحدث، ولا لاستباحة ما يفتقر إلى الوضوء، وذكروا اختلافاً في أن المتيمّم لو نوى فريضة التيمم هل يكفيه ذلك؟ وفرقوا بين الوضوء والتيمّم بأن الوضوءَ قربةٌ مقصودةٌ في نفسها؛ إذ يُستحب تجديدُها. والتيمم لا يُعنى إلا لغيره؛ ولهذا لا يستحب تجديدُه. فهذه المسالك مُصرّحةٌ بأن نيةَ الوضوء نيةُ القربات، وإن ظن ظانٌّ أن الوضوء إذا كان يقع تنظفاً، ويقع مأموراً به، فالغرض من النية إيقاعُه مأموراً [به] (¬4)؛ فإن من عليه ألفُ درهم، فسلّم الألف إلى مستحق الدين؛ فلا يقع أداء الدين ما لم يقصد أداء الدين، كان ظناً بعيداً عرياً عن التحصيل. فالوجه الاكتفاء بما ذكره الأئمة. هذا تمام المراد في كيفية النية. 70 - فأما القول في وقت النية؛ فهذا يستدعي ذكرَ تردد الأصحاب فيما يُعدّ (¬5) من الوضوء، وسنذكر في باب سنة الوضوء أن المتوضىء يسمي الله تعالى، ويغسل يديه ثلاثاً، ويستاك. ثم اختلف الأئمة في أن هذه السنن هل تعدّ من الوضوء؟ فذهب ذاهبون إلى أنها ¬

_ (¬1) الأصح: لا يشترط (الروضة: 1/ 50). (¬2) مزيدة من (ل) وحدها. (¬3) هذا مسلك ثالث في كيفية النية، زاده الإمام بعد المسلكين اللذين نص على أنه سيذكرهما في الفقرة (61). وهذا ما استقر عليه المذهب، على سبيل المثال: يقول النووي من الروضة: "أما كيفية النية ... فينو أحد ثلاثة أمور ... الخ" (ر. الروضة: 1/ 48). (¬4) زيادة من (م). (¬5) في (م) بعد.

ليست من الوضوء؛ فإن التسمية مندوبٌ إليها عند استفتاح كل أمرٍ ذي بال. وغسل اليدين ثلاثاً سنةٌ (¬1)؛ للتنظّفِ والتنقّي من النجاسة المتوهَّمة، والسواك مستحب في غير الوضوء، كما سبق تقريره في بابه. وهذا وهم عندي؛ فهذه السنن من الوضوء. ولا يمتنع أن يشرع شيءٌ في مواضع، وليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه؛ فإن السجود يعدّ من أركان الصلاة، وإن كان مشروعاً عند التلاوة، وشكر النعم. وأما السواك، فقد ذكرنا أن له أوقاتاً، منها الوضوء، فقد صحّ أنها من الوضوء، ومن قال غير ذلك، فهو غالط. وإن نوى المتوضىء عند التسمية، واستدام ذكر النية حتى غسل بعض وجهه، صحّ وضوؤه، ولا يضر عُزوبُ النية بعد ذلك. ولو نوى عند غَسل الوجه صح، ولم يُعتدَّ بما قدمه على غسل الوجه من السنة؛ فإن النية لا تنعطف على ماضٍ، وإنّما يتعلق حكمها بالحال أو الاستقبال. ولو قيل: يعتدّ بما مضى أخذاً من المتطوّع بالصوم إذا نوى نهاراً، فهو صائم من أول النهار؛ فتكون النية منعطفةً، فيكون وجهاً في الاحتمال، ولكن الصومَ في حكم الخصلة الواحدة، والوضوء يشتمل على أركان متغايراتٍ، فالانعطاف فيها أبعدُ، والمحفوظ في الوضوء أن النية لا تنعطف. ولو نوى المتوضىء عند غسل اليدين، وقلنا: إنه من الوضوء، ثم عَزَبَت نيتُه قبل غَسل الوجه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الوضوء صحيح؛ فإن النية قارنت أولَه. والثاني - لا يصح (¬2)؛ فإن النية لم تقارن فرضاً من أفعال الوضوءِ. والمضمضة والاستنشاق من الوضوءِ بلا خلافٍ؛ فليتفرّعْ عليه مقصود النية. فرع: 71 - إذا نوى المتوضىء بوضوئه رفعَ الحدث والتبرّد، فضمُّ نيةِ التبرّد إلى النيّة المقصودة، لا يضر؛ فإن التبرد يَحصُل حسّاً وإن لم ينو، فلا معنى للنية فيه، ¬

_ (¬1) في (ل): سبب. (¬2) وهو الأصح (الروضة: 1/ 47).

وكل ما يحصل من غير نيّة، فالقصد فيه لاغٍ، لا يُناط به حكم. ولو دخل الإنسان المسجدَ، وتحرّم بالصلاة، ونوى به فريضةَ الظهر وتحيّةَ المسجد، فتتأدى الفريضة، وتحصُل التحيةُ، وليس ذلك تشريكاً؛ فإن التحية كانت تحصل، وإن لم ينوها؛ إذ لا غرض من التحية إلا ألا يجلس مَن دخل المسجد حتى يصلي. ولو نوى المتحرم بالصلاة الفريضةَ والسنة، لم تنعقد صلاته؛ فإنَّ التشريك يمنع العقد. ولو قصد المسبوق بالتكبيرة التي يبتدىء بها العقدَ وتكبيرة الهُويّ، لم تنعقد صلاتُه. ولو نوى المغتسل يوم الجمعة -وكان قد أجنب- (¬1) بغسله غسلَ الجنابة والجمعة، حصل الغرضان، ولو نوى غسلَ الجنابة فحسب، ففي حصول سنة غسل الجمعة قولان، سيأتي ذكرهما. قال الشيخ أبو علي (¬2) في شرح التلخيص: "من أصحابنا من قال: من نوى بغُسله غسلَ الجنابة والجمعة، لم يصح غسلُه أصلاً؛ للتشريك، وكان ذلك كما لو نوى ¬

_ (¬1) في (م): وكان قد أجنب فنوى. (¬2) الشيخ أبو علي المراد هنا، هو الشيخ أبو علي السِّنجي: الحسين بن شعيب بن محمد، من قرية سنج أكبر قرى مرو. عالم خراسان، فقيه عصره، وأول من جمع بين طريقتي العراقيين والخراسانيين، تفقه على شيخ العراقيين أبي حامد الإِسفراييني ببغداد، وعلى شيخ الخراسانيين، أبي بكر القفال المروزي، وله غير شرح التلخيص، شرح المختصر، وشرح فروع ابن الحداد، توفي 430 هـ. وقبره بجنب أستاذه القفال بمرو. وكتاب (التلخيص) المشار إليه من عمل ابن القاصّ: أحمد بن أبي أحمد الطبري، أبو العباس، له غير التلخيص (المفتاح) و (أدب القاضي) و (المواقيت) وغيرها، كان إِماماً جليلاً، تفقه على أبي العباس ابن سريج توفي 335 هـ. وقد شرح التلخيص أكثر من شارح، منهم القفال المروزي عبد الله بن أحمد. والذي جعلنا نرجح أن شارح التلخيص المقصود هنا هو أبي علي السِّنجي أن السِّنجي هو الذي يلقب بالشيخ، حتى عرف بهذا اللقب وشاع عنه، قال السبكي في الطبقات: "فمن مستحسن الكلام الشيخ والقاضي زينة خراسان. والشيخ والقاضي زينة العراق، وهم الشيخ أبو علي السنجي والقاضي الحسين، والشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب" (راجع طبقات السبكي: 3/ 59 وما بعدها، 4/ 344، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 253، 261، طبقات الشافعية للإسنوي: 2/ 297، 298).

المسبوقُ بتكبيرة العقدَ والهُويّ". وهذا بعيد، لم أره لغيره. ووجه خروجه أن يفرعّ على أحد القولين، وأنه لو نوى غسلَ الجنابة ولم يتعرض لغسل الجمعة، لم تتأدّ سنةُ غسل الجمعة، فإذا نواه، فهو تشريك في ظن هذا القائل، وهو بعيد؛ فإن مبنى الطهارات على التداخل. 72 - عدنا (¬1) إلى غرضنا: لو نوى المتوضىء رفعَ الحدث أولاً، ثم عَزَبَت نيتُه؛ فنوى ببقية الطهارة تبرّداً، وهو ذاهل عن نية رفع الحدث، ففي المسألة وجهان: أحدهما (¬2) - أنه لا يصح منه بَقيَّة الطهارة على هذا الوجه؛ فإنَّه لما جرّد قصد التبرد، فكأنّه رفض (¬3) النية، ولو رفضها ورفعها، وجرّد قصد التبرد، لم يعتد بما يأتي به عند الوضوء، فكذلك إذا عزبت، وجرد قصدَ التبرد. والثاني - أنه يقع بقيةُ الطهارة معتدّاً بها؛ فإن النية المنسية، كالنية المذكورة. فإذا نوى التبرّدَ وقد نسي نيةَ رفع الحدث، كان كالجامع بين نية الرفع، وقصد التبرّد. فرع: 73 - المسلم إذا نكح ذميةً، فحاضت، حرُم وطؤها، فإذا طهرت عن الحيض، لم تحلّ للزوج، ما لم تغتسل، فإذا اغتسلت، حلّت له. فإن قيل: كيف تحلّ، ولا يصح الغُسل إلا بالنية، ولا تصْح النيةُ من الكافر؟ قلنا: يتعلّق بالغسل حقان: حق الزوج، وحقُّ الله تعالى، بدليل أن المسلمة إذا طهُرت عن الحيض ضَحْوةً، فللزوج أن يجبرها على الغُسل لتحل له، وإذا كان (¬4) ذلك، قلنا: يصحُّ من الذمية الغُسل إذاً؛ لِحَقّ الزوجِ. فلو أسلمت، فهل يجب عليها إعادة الغُسل إذا صارت من أهل النية؟ فعلى وجهين ¬

_ (¬1) عبارة (م): على التداخل عندنا، ولو نوى ... (¬2) في (م): " أصحهما "، (ل): "أحدهما وهو الأصح". وهذا الوجه هو الصحيح فعلاً (الروضة: 1/ 49). (¬3) رفض النية أي تركها ونقضها. (¬4) لعل كان هنا تامة، والمعنى فإذا تقرر ذلك. وفي (م): كذلك.

مشهورين: والأصح عندي ألا تجب الإعادة؛ فإن القُربة إذا رُوعي فيها معنيان، ثم استقلت بأحدهما، صحت، ولم تجب الإعادة. وكذلك (¬1) قال الشافعي: " الكفارة تجب على الكافر، فإذا أدّاها في كفره ثم أسلم، لم يلزمه إعادة الكفارة " ولعلّ الفارق بين الكفارة -ولا خلاف فيها- وبين الغسل -[وفيه] (¬2) الخلاف- أن الكفارة المؤدّاة بالمال لا تخلو قط عن غرضٍ مرعي لآدمي من تخليصٍ عن رِقٍّ، أو إطعامِ محتاج، أو كسوة عارٍ؛ فكان أمر النية أضعفَ فيها، والغسل قد لا يتعلق بحق آدمي؛ فإن المرأة إذا لم تكن ذات زوج، كان عليها الغسل لله تعالى. 74 - ومما يتعلق بذلك: أن المسلمة إذا امتنعت من الغسل عن الحيض تحت زوجها، فأوصل الزوجُ الماء إلى بدنها قهراً، حلّت له. وهل يلزمها أن تغتسل لله تعالى؛ قال الإمام (¬3) -رحمه الله-: فيه الوجهان المذكوران في الكافرة إذا أسلمت. وفي المسألة احتمالٌ آخر، يُشير إلى القطع بإيجاب الغسل، من حيث إنها امتنعت عن النيّة، وكانت من أهلها. ثم ما ذَكَرناه من صحّة الغسل على التفصيل المذكور في غسل امرأةٍ ذاتِ زوج. فأما ¬

_ (¬1) في (م): ولذلك. (¬2) في الأصل: وفيها. والمثبت من (م)، (ل). (¬3) وقفت طويلاً أمام لفظ (الإِمام) هنا لأعرف من المقصود بالإِمام، ذلك أن هذا اللفظ (الإِمام) لم يرد هكذا مطلقاً بغير قيد أو وصف. إِلا مرتين فقط في هذا الجزء (الطهارة) كله. هذه، والثانية في أواخر كتاب الحيض. وهناك جزمنا بأن المقصود بالإِمام هو والد إِمام الحرمين أبو محمد، وذلك عن طريق ما حكاه عنه ابن أبي عصرون في مختصره. أما هنا، فالأمر مشكل، إِذ هذا القول الوارد هنا المنسوب (للإِمام) هو بعينه ما أسنده النووي في المجموع: 1/ 331 إِلى إِمام الحرمين، وهذا أيضاً ما يفهم من ابن أبي عصرون في مختصره. فهل يكون المقصود بالإِمام هنا (إِمام الحرمين نفسه) وهذا اللفظ من عبارة الناسخ الذي نسخ الكتاب؟ أم أن المقصود هنا أيضاً (بالإِمام) هو الجويني الأب أبو محمد، وتجوّز النووي في نسبة كلام الوالد للابن؟ أمّا ابن أبي عصرون، فالأمر بالنسبة له أيسر، فهو يختصر النص، ويسمعه ذكر الأحكام بدون نسبتها إِلى أصحابها. ولذا لم يفد في هذا الموضع. والذي يغلب على الظن ويترجح لديَّ أنه (أبو محمد الجويني) ويظل للاحتمال مجال. والعلم عند الله. (والآن بعد أن أبحرنا في لُجج النهاية تأكد لدينا بأكثر من دليل صحة ما قدّرناه).

إذا لم تكن الكافرة ذاتَ زوجٍ، فاغتسلت، أو اغتسل الكافرُ ثم أسلما، فيجب إعادة الغسل وجهاً واحداً. وقال أبو بكر الفارسي (¬1): يطرد الخلاف في إجزاء (¬2) الغسل في حق كل كافر. وهذا غلط صريح متروك عليه، وليس من الرأي أن تُحسب غلطاتُ الرجال من متن المذهب. فرع: 75 - من توضأ ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، فهو على طهارته؛ فإن الردّة الطّارئة ليست من الأحداث المبطلة للوضوء. ولو تيمم، ثم ارتد، ثم عاد مسلماً، ففيه وجهان: أحدهما - أنه على تيممه، كالوضوء، والثاني (¬3) - أنه يبطل تيممه؛ فإن حق التيمم أن يستعقب صحةَ الصلاة. ولذلك لا يصح التيمم لصلاة الظهر قبل دخول وقتها. فإذا ارتد المتيمم، فقد انتهى إلى حالة لا يتأتى منه الصلاةُ فيها؛ فضعف التيمُّم لذلك. ومَن ضعَّف التيمم، قضى ببطلانه بحسبانٍ مجرد؛ فإن المتيمم إذا رأى [سراباً] (¬4) ظنه ماءً، ثم تبين أنه ليس بماءٍ، لزمته إعادةُ التيمم بظنٍّ تحقق بطلانهُ. ولو ارتدّ وتوضأ وهو مرتدّ، لم يصح [ذلك منه، ولو ارتد في خلال الوضوء، فإن أدى شيئاً وهو مرتد لم] (¬5) يعتدّ بما جاء به في ردته، وإن لم يأت بشيء، وأسلم ¬

_ (¬1) أبو بكر الفارسي، أحمد بن الحسين بن سهل، ويقال له البلخي أيضاً. صاحب عيون المسائل في نصوص الشافعي، اختلف في طبقته، فقيل: من الثانية، وعدّ من تلاميذ أصحاب الشافعي، وأنه تفقه بالمزني، وقيل: بل من الثالثة ممن تفقه بابن سريج، واختلف في سنة وفاته، فقيل سنة 305 هـ أي قبل ابن سريج بسنة، وقيل توفي سنة 350 هـ (طبقات السبكي: 2/ 184 - 186، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 124، وطبقات العبادي: 45، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 195). (¬2) في (م): إِجراء (بالراء المهملة. وعليها علامة الإِهمال واضحة تماماً). (¬3) وهو الصحيح (الروضة: 1/ 47) (¬4) في الأصل: "شراباً" بالمعجمة، والمثبت من (م) و (ل). (¬5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه على ضوء السياق، مع الاستعانة بمختصر ابن أبي عصرون، ثم تحقق صدق تقديرنا بعد حصولنا على نسخة (م)، وكذلك (ل).

على قُربٍ -حتى لا نقع في تفريع تفريق الوضوء- فالنيةُ تنقطع بطريان الردّة؛ فإذا عاد، ولم يجدد نية في بقية الطهارة، لم يصح وإن أعاد [النية] (¬1) لمّا عاد مسلماً، فقد انقطعت النية، فيكون كما لو قطع المسلم النيةَ، وقسمها على أعضاء وضوئه: فنوى عند غسل الوجه رفع الحدث عن الوجه، وكذلك عند كل عضوٍ، ففيه خلافٌ سيأتي - إن شاء الله عز وجل. ... ¬

_ (¬1) زيادة من (م)، (ل).

باب سنة الوضوء

باب سنة الوضوء 76 - ذكر الشافعي في هذا الباب (¬1) سننه وفرائضه. وابتدأ بغسل اليدين ثلاثاً في ابتداء الوضوء. فيستحب للمتوضىء أن يغسل يديه ثلاثاً، قبل غمسهما في الإناء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده " (¬2). خاطب بهذا العربَ، وكانت قد تقتصر في الاستجمار على الأحجار لعزّة الماء عندهم. وربما كانت تطوف أيديهم على ما تحت الإزار، أو على بثراتٍ [بأبدانهم] (¬3)، فتتنجس وهم لا يشعرون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل اليدين قبل غمسهما احتياطاً واستظهاراً. ثم قال الأئمة: هذه السنة قائمة، وإن استيقن المرءُ طهارة يديه، ولا فرق بين أن يستيقظ من نوم، وبين أن يُقدم على الوضوء عن دوام اليقظة. والذي يحقق هذا أنه عليه السلام ذكر إمكان تَطواف اليد على البدن، وقد يوجد ذلك من المستيقظ في غفلاته، ولعل ذلك أكثر وقوعاً من المتيقظ في تصرفاته وحركاته. وإنما جرى ذكرُ النوم؛ لأنه مظنة الغفلة غالباً، وفي ذكر السبب المترتب على النوم ما يشعر بتعميم المعنى. ¬

_ (¬1) في الأصل: في هذا الباب في سننه وفرائضه. وفي (م)، (ل): كيفية الوضوء في هذا الباب في سننه ... الخ. (¬2) حديث " إِذا استيقظ أحدكم ... " متفق عليه، ورواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن كلهم في الطهارة عن أبي هريرة، واللفظ لمسلم، قال الماوردي وغيره: لم يقل البخاري ثلاثاً. (ر. البخاري: الوضوء، باب الاستجمار وتراً، ح 162، مسلم: الطهارة، باب كراهة غمس المتوضىء وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، ح 278، فيض القدير، تلخيص الحبير بهامش المجموع: 1/ 197). (¬3) في الأصل: بأيديهم، والمثبت تقدير منا صدقته (م) و (ل).

ولو استيقن المتوضىء طهارة يديه، فغسْلُ اليدين سنةٌ في حقه أيضاً، والسبب فيه أن أسباب النجاسة قد يخفى دركها على معظم الناس، فيعتقد المعتقد الطهارة على وجهٍ يرى اعتقادَه يقيناً، وليس الأمر على ما يعتقده، فاطّردت السنّة على الناس كافة. وهذه كالعدّة المنوطة بالوطء، فإنها تجب لتبرئة الرحم، وقد تجب مع القطع ببراءة الرحم؛ تعميماً للباب، وسيجري تقرير هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال بعض المصنفين (¬1): " إذا استيقن المرء طهارة يديه، فلا عليه لو غمس يديه، ولكنا نستحب غسلَ اليدين مع هذا ". وهذا عندي خطأ. فليتقدَّم غسلُ اليدين على غمسهما؛ إذ الغرضُ تعميمُ رعايةِ الاحتياط في حقوق الناس، وذلك يتعلق بالماء. ولو كان يتوضأ من قمقمةٍ، فيستحب غسلُ اليدين احتياطاً للماء الذي يصبّه على يديه، وينقله إلى أعضاء وضوئه. 77 - ثم ذكر الشافعي استحباب التسمية، فإذا أراد المتوضىء استفتاحَ الوضوء فينبغي أن يقول بسم الله. قال النبي عليه السلام: " لا وضوءَ لمن لم يقل باسم الله " (¬2). والتسمية سنة؛ لا يبطل الوضوء بتركها سهواً ولا عمدا. ¬

_ (¬1) بعض المصنفين: يريد إِمامنا به أبا القاسم الفُوْرَاني، فهو يُعمِّي اسمه، ويكثر من الحط عليه، رضي الله عنهما. وسيأتي في بعض التعليقات مزيدُ بيان لهذه القضية بينهما. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ، ولكنه ورد بألفاظ منها: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ". وقد روي من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وسعيد بن زيد، وعائشة، وغيرهم وتعددت طرقه، ولا يكاد يخلو واحد منها عن مقال. وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي وابن ماجة، والدارقطني والحاكم، والبيهقي. وقد قواه ابن الصلاح، والحافظ ابن حجر، وانتهى الألباني إِلى تصحيحه. (ر. أبو داود: الطهارة، باب التسمية على الوضوء، ح 101، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء، ح 25، وابن ماجه: الطهارة، باب ما جاء في التسمية على الوضوء، ح 397 - 400، والدارقطني: 1/ 79، والحاكم: 1/ 146، والبيهقي: 1/ 41، 43، صحيح الجامع الصغير: 7573، الإِرواء، 1/ 122، تلخيص الحبير: 1/ 386 بهامش المجموع).

فصل قال [الشافعي] (¬1): " ويغرف غُرفةً لفيه وأنفه ... إلى آخره " (¬2). 78 - المضمضة والاستنشاق سنتان في الوضوء والغسل جميعاً. ثم الذي نقله المزني أنه يغرف غرفة لفيه وأنفه، فذكر أنه يقتصر على غُرفةِ واحدة لهما. ونقل البويطي (¬3) عن الشافعي أنه يغرف [غرفة لفيه و] (¬4) غُرفة لأنفه. فاختلف أئمتنا، فقال بعضهم: في المسألة قولان: أحدهما - الأوْلى الاقتصارُ على غُرفةٍ واحدة، توقِّياً من السرف في استعمال الماء؛ إذ هما كشيء واحد، وبذلك لا يَغرف لكل مرّة من مرّات المضمضة غُرفة، ويأخذ لكل غسلة من غسلات وجهه غُرفة. والثاني - أنه يأخذ غُرفتين؛ فإن المضمضة والاستنشاق سنتان مُتعلقتان بعضوين. وقال بعض الأئمة: ما نقله المُزني محمولٌ على الأقل. وما نقله البويطي محمول على الأكمل. وقد روى عبدُ الله بنُ زيد (¬5) وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر " أنه غَرف غُرفة واحدة لهما " (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة للتوضيح. (¬2) مختصر المزني: 1/ 6. (¬3) البويطي، أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، نسبة إِلى بويط من صعيد مصر، أحد تلاميذ الشافعي وحملة علمه. توفي سنة 231 هـ (طبقات الفقهاء: 98، طبقات السبكي: 2/ 164 - 170). (¬4) زيادة من (م)، (ل). (¬5) عبد الله بن زيد بن عاصم الصحابي تكرر في المهذب، وهو راوي صفة الوضوء، وحديث الشك في الحدث، وحديث صلاة الاستسقاء، وهو غير عبد الله بن زيد صاحب الأذان، فإِن ذاك ليس له إِلا حديث الأذان. وهو أنصاري مازني يعرف بابن أم عمارة نُسيبة بنت كعب، وهو قاتل مسيلمة الكذاب، شارك وحشياً في قتله، رماه وحشي بالحربة، وقتله عبد الله بن زيد بسيفه. توفي سنة 63 هـ وهو ابن سبعين سنة (تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 267 - 26). (¬6) حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الجمع بين =

وروى عثمانُ وعليٌّ رضي الله عنهما وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا " إنه غرف غرفة لفيه وغرفة لأنفه " (¬1). فإن قلنا: يغرف غُرفةً لفيه وغُرفة لأنفه، فينبغي أن يقدّم المضمضة، فيتمضمض ثلاثاًً بغُرفة، ثم يستنشق ثلاثاًً بغُرفة. 79 - وهذا الترتيب مستحقٌ أو مستحب؟ فعلى وجهين، ذكرهما شيخي: أحدهما (¬2) - أنه مشروط؛ فإنهما سنتان في عضوين مختلفين. والثاني - ليس مشروطاً، ولكنّه مستحب، كتقديم اليمين على اليسار. وإن حكمنا بأنه يغرف لهما غُرفة واحدة، فقد قال العراقيون تفريعاً على ذلك: ينبغي أن يخلط المضمضة والاستنشاق، فيتمضمض ويستنشق مرةً بما معه، ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة؛ فإنّ اتحاد الغُرفة والاقتصارَ على ماء واحدٍ، يدلّ على أنهما في حكم شيء واحد. وقطع أصحابُ القَفّال أن ترتيب الاستنشاق على المضمضة مأمور به، والخلطُ ¬

_ = المضمضة والاستنشاق، حديث متفق عليه (ر. البخاري: الوضوء، باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة، وباب الوضوء من التَّور، ح 191، 199، مسلم: الطهارة، باب آخر في صفة الوضوء ح 235). (¬1) قال الحافظ في التلخيص: "وأما رواية علي وعثمان للفصل (أي بين المضمضة والاستنشاق) فتبع فيه الرافعي الإِمام في النهاية، وأنكره ابن الصلاح في كلامه على الوسيط، فقال: لا يعرف، ولا يثبت، بل روى أبو داود عن علي ضده. قلت: (الحافظ) روى أبو علي بنُ السكن في صحاحه من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: "شهدتُ علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضآ ثلاثاً ثلاثاً، وأفردا المضمضة من الاستنشاق، ثم قالا: هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ". فهذا صريح في الفصل، فبطل إِنكار ابن الصلاح" ا. هـ كما أنكره النووي أيضاً في التنقيح، وبطل إِنكاره بما أبطل به الحافظ إِنكار ابن الصلاح. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 400 - 402 بهامش المجموع، شرح مشكل الوسيط لابن الصلاح، بهامش الوسيط: 1/ 283، التنقيح في شرح الوسيط للنووي، بهامش الوسيط: 1/ 284). (¬2) وهو الأصح (الروضة: 1/ 58).

يجري إذا قلنا: الترتيب ليس مأموراً به، والخلط وإن أجزأ إذا لم نشترط الترتيب ليس مأموراً به. هذا هو الصحيح. ثم المبالغةُ في المضمضة مسنونةٌ وهي ردّ الماء إلى الغلصمة، وكذلك المبالغة في الاستنشاق، وهو تصعيد الماء بالنَّفَس إلى الخياشيم، من غير تكلّف شيء فيه إضرار، وإنما تُستحب المبالغة فيهما في حق غير الصائم، فأما الصائم، فمنهيٌّ عن المبالغة؛ قال النبي عليه السلام للقيط بن صَبِرَة: " أسبغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً " (¬1). فصل 80 - غسل الوجه ركنٌ من الأركان فى الوضوء، شهد له الكتاب، والسنة، والإجماع. وأول ما نعتني بذكره حدُّ الوجه. نقل المُزني: أن حدَّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين، ومنتهى اللحية (¬2). وهذا مأخوذٌ عليه؛ فإنه تعرّض لحد وجوه الملتحين، والغرض حدُّ الوجوه كلها. والشافعي قال: " حد الوجه من منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين، ومنتهى اللحيين، وهما العظمان المكتنفان للوجه، يلتقي طرفاهما عند الذقن، وعليهما منابت الأسنان السفلى " (¬3). ¬

_ (¬1) حديث لقيط بن صبرة رواه الشافعي، وأحمد، وابن الجارود، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وأصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي، والبغوي، وابن القطان (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 32، 33، أبو داود: الطهارة، باب في الاستنثار، ح 142، الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل الأصابع، ح 38، والصوم، باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، ح 788، النسائي: الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق، ح 87، ابن ماجة: الطهارة، باب تخليل الأصابع، ح 448، تلخيص الحبير: 1/ 405 بهامش المجموع) وزادت (م) فيه: وخلل [وادلك] بين الأصابع. (¬2) ر. المختصر: 1/ 6. (¬3) ر. الأم: 1/ 21.

فإن قيل: ما ترون في الأصلع والأغمّ؟ قلنا: سنذكر المذهبَ فيهما، ولكنهما لا يخرمان الحدّ؛ فإن موضع الصلع منبتُ شعر الرأس، وإن انحسر الشعر عنه بسببٍ، والجبهة وإن نبت الشعر عليها ليست منبت شعر الرأس. وذكر الأصحاب عبارةً قريبةً في ذلك، فقالوا: حدّ الوجه في الطول من منحدر تدوير الرأس أو من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يُقبل من الذقن، وفي العَرْض من الأذن إلى الأذن. قال الشافعي: مواضع التحذيف من الوجه. وهذه لفظةٌ فيها بعض الغموض. والذي مال إليه قلبي بعد البحث أن موضع التحذيف يحويه خطٌّ مبتدؤه الطرفُ الأعلى المقبل على الوجه من الأذن ومنتهاه الطرف الأعلى من الجبهة المتصل بالرأس، ونفرض هذا الخَطَّ مستقيماً بين هاتين النقطتين فيقع مورّباً (¬1) في الباطن. ولو قال قائل: التحذيف يحويه خطان محيطان بزاوية قائمةٍ، يذهب أحدهما طولاً من الطرف الأعلى من الأذن، حتى إذا حاذى أولَ تسطيح الجبهة انتهى، ثم يمتد منه خط إلى طرف الجبهة، كان أدخل في الوجه شيئاً من الرأس، فهذا ما أظُنّه، فإن وَقف مُوفَّق على مزيد بيان في ذلك، ألحقه بالكتاب (¬2). وقد قيل: سئل الشافعي عن الوجه، فدعا بحالق حتى حلق موضع التحذيف منه، ¬

_ (¬1) كذا، ولم أجد لها معنى في القاموس، ولا المعجم، ولا المختار، ولا الأساس، وفي اللسان: المورّب: العضو الموفّر، ولعل في العبارة تصحيفاً، ولم أجد النص في مختصر النهاية، ولا الوسيط، ولا الوجيز وشرحه، ولا المجموع. ومن السياق يظهر أن معناه المائل المنحني. وقد صدق تقديرنا -بتوفيق الله- فوجدنا في هامش (م) ما نصه: " المورّب الذي فيه تقويس كالفتر ". (¬2) هذا الغموض الذي رآه الإمام في لفظ الشافعي، وراح يبحث في موضع التحذيف انتهى به إلى الظن بأنه من الرأس. وهذا الظن هو الذي رجحه شيخا المذهب فيما بعد، واستقرّا عليه. قال النووي: " موضع التحذيف من الرأس لا من الوجه على الأصح " (ر. الروضة: 1/ 51).

ثم أشار بيده إلى الوجه، فقد يظن أن على موضع التحذيف شعراً، وهو كذلك، ولكنّه ليس بالخشن. وهو الذي يعتاد النساء نتفه. ولو قيل: مواضع التحذيف هو الجبينان من جانبي الجبهة، ثم يُبَيّن منتهاهما الخطُّ المورّب الذي ذكرته، كان قريباً. والنزعتان من الرأس، وهما خطان محيطان بالناصية. ومما يتعلق بما نحن فيه أن موضع الصلع من الرأس وفاقاً. وأما موضع الغمم، فكان شيخي يقطع بإيجاب إيصال الماء إليه، ويعدُّه من الوجه، وهو ما ذكره الأئمة. وذكر بعض الأصحاب أن شعر الأغم إن استوعب جميع الجبهة إلى الحاجب، وجب غسل الجميع، وإن أخذ بعضَ الجبهة، ففي وجوب غسل ذلك المقدار وجهان. وعندي أن هذا على هذا الوجه غلط، والذي يدور في ظني منه: أن الأغم قد تخالف خلقةُ رأسه خلقة رأس غيره، فلا ينقطع شكل تدوير رأسه عند انقطاع شكل رأس غيره، بل ينتأ [ويبدو] (¬1) شيءٌ من أوائل جبهته متصلاً بتدوير رأسه، وهو الذي يسمى الأكبس (¬2)، ولكنه مقبل في صفحة الوجه، ومثل هذا لا يكون في جميع الجبهة. فالوجه عندي في ذلك أن الجبهة إن كانت على شكلها في التسطيح، فيجب غسلها، سواء نبت الشعر في كلّها، أو في بعضها؛ إذ ليس بالشعر اعتبارٌ. وإن دخل في مرأى العين شيءٌ من صورة التدوير في حدّ الجبهة، فذاك فيه ترددٌ. وعلى الجملة لا يتأتى استيعاب الوجه بالغسل إلا بأخذ أجزاء من الرأس؛ فإن الوقوف على حد الوجه مع تفاوت الخلق غير ممكنٍ، ولا داخل في المقدور، فهذا قولٌ (¬3)، هو منتهى فكري في حد الوجه. ¬

_ (¬1) الأصل: "يبدر" والمثبت من (ل). (¬2) الأكبس: من كَبس فلانٌ كبساً، أقبلت هامته، وأدبرت جبهتُه (المعجم). (¬3) كذا. ولعلها القَول. وهي في (م)، (ل): "قول" كالأصل.

81 - ثم يجب إيصال الماء إلى منابت شعورٍ خفيفةً كانت أو كثيفةً. وهي الحاجبان، والأهدابُ، والعذاران. وهما الخطان المحاذيان للأذنين، والشارب. ثم علّل أئمتنا إيجاب إيصال الماء إلى منابت هذه الشعور بعلتين: إحداهما - أنها تكون خفيفة في الغالب، فإن كثفت على ندور، فلا حكم للنادر. والثانية - أن بياض الوجه محيط بهذه الشعور؛ فتلحق منابتها بالبياض المحيط بها. وهذا ظاهر في الحاجب والأهداب والشارب، والعذارُ كذلك، فإنه يُقبل على بياض الوجه من جانب، وبينه وبين الأذن خط أبيض، لا شعر عليه، وهو من الوجه. 82 - وأما شعر العارض وهو ما ينحط عن الأذن، وشعر الذقن؛ فإن كان كثيفاً، لا يجب إيصال الماء إلى منبته، وإن كان خفيفاً، يجب. والخفيف: الذي يبدو منبته للناظر الجالس من المنظور إليه مجلس المخاطب. ويمكن أن يُقال: الكثيف هو الذي يحتاج في إيصال الماء إلى منبته إلى تكلّف. 83 - ثم من الكلام البيّن الذي يتعين ذكرُه ما أذكره، وكم من بيِّن لا يُعتنَى به؛ ثم تعثُر فيه الأئمة عند مغافصة (¬1) الأسئلة. فأقول: المنبت الذي فصّلته في العارض والذقن هو ما يجب غسله من الأمرد والمرأة، فإذا ستره الشعر، ففيه ما ذكرته. ثم كل شعر يجب غسل منبته يجب استيعاب جميع الشعر بالماء؛ إذا كان في حدّ الوجه، وحدُّ الوجه يُرجَعُ فيه إلى وجوه المُرْد، فإن وُجد (¬2)، غُسِل المنبت، وما هو في حدّ الوجه. فلو طال الشعر، وخرج في [جهته] (¬3) عن حدّ الوجه، فهل يجب إيصال الماء إلى منتهاه؟ فعلى قولين للشافعي: أحدهما - يجب؛ حتى لا يتبعض ¬

_ (¬1) مغافصة: مفاجأة ومغالبة (القاموس). (¬2) وُجد: أي الشعر، والمعنى يغسل منبت الشعر، مع كل ما هو في حد الوجه، أما حكم الشعر إِذا استطال، فقد أشار إِليه قبلاً. (¬3) في الأصل: جبهته.

حكم [الشعر] (¬1) والثاني - لا يجب؛ فإن المغسول هو الوجه، أو (¬2) الشعر الكائن في حده، فأما الزائد، فليس في حدّ الوجه. وللأول أن يقول: اللحية تعد من الوجه اسماً وإطلاقاً. 84 - ولو كثف شعر الذقن، وقلنا: لا يجب إيصال الماء إلى منبته، فيجب إيصال الماء إلى ظاهر ما هو في حدّ الوجه، فأما الزائد، فهل يجب إمرار الماء عليه إلى منتهى اللحية؟ (¬3) فعلى القولين المقدمين، ثم ذكر الزبيري (¬4) صاحب الكافي فيما ذكره (¬5) العراقيون: أنا إذا أوجبنا إفاضةَ الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية الكثيفة، فقد أوجبنا إمرار الماء على الوجه البادي من الطبقة العليا. وهل يجب إيصال الماء إلى الوجه الآخر من تلك الطبقة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب حتى تصير الطبقة مستوعَبةً ظاهراً وباطناً. وهذا إنما وقع له من جهة أنا أوصلنا الماء إلى منبت هذه الطبقة في الجهة البادية. وهو خطأ محض، لا ينبغي أن يُعد من المذهب. 85 - وأما العَنْفَقَة، فإن كانت خفيفةً، وجب إيصال الماء إلى منابتها، وإن كانت كثيفة، ففيها وجهان؛ لترددّها في الشبه بين العذار والشارب، وبين شعر الذقن. ¬

_ (¬1) في الأصل: الشرع. وصدقتنا (ل). (¬2) في (ل): والشعر. (¬3) في (م): العُثنون، وكذا في (ل). (¬4) الزبيري صاحب الكافي، الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوّام وإِليه ينسب، أبو عبد الله، كان إِماماً حافظا للمذهب، له غير الكافي (المسكت) وكتاب (النية) وكتاب (ستر الغورة) وكتاب (الهداية) وغيرها. من أصحاب الوجوه في المذهب، تكرر ذكره في المهذب والروضة، وذكره في الوسيط في باب الحيض، وذكره أيضاً في باب المياه. توفي سنة 317 هـ (ر. طبقات السبكي: 3/ 295، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 256، وطبقات الفقهاء: 108، وطبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 93 - 94). (¬5) في (ل): نقله.

فرع: 86 - غَسل الوجه ثلاثاًً مأمور به؛ والفرض غسلةٌ واحدة، إن استوعبت الوجه، والثانية والثالثة سنة. فلو أغفل المتوضىء لمعةً في الغسلة الأولى، واعتقد أنه استوعب الوجه بها، فغسل ثانية وثالثة على اعتقاد السنة، واستوعب، ففي سقوط الفرض وجهان مشهوران، وهما مرتبان على وجهين، سبق ذكرهما فيمن نسي نية رفع الحدث، وأدى بقيةَ الطهارة على قصد التبرد. وسقوطُ الفرض فيما ذكرناه في الغسلة الثانية أوجَهُ، من جهة أن نية الوضوء مشتَملةٌ، فليست منسيةً، وهو إنما قصد السنة قصداً مبنياً على أن الأُولى استوعبت، وأما إذا نسي النية قُربةً، وجرد قصدَ التبرد (¬1)، فليس للنية في ذكره جريانٌ أصلاً. فرع: 87 - إذا شك، فلم يدْرِ أغسل مرتين أو ثلاثاً، فالذي ذكره شيخي في تصنيفٍ له يسمى "التبصرة" أنه يقتصر على ما جرى منه (¬2)، فإنه إن غسل مرة أخرى، كانت مترددة بين الرابعة -وهي بدعة-، وبين الثالثة، وتركُ السنة أهون من اقتحام البدعة، وليس كالمصلي إذا شك في أعداد ركعات الفريضة؛ فإنه يأخذ بالأقل؛ حتى يستيقن أنه قد أدى الفرض، والمشكوك فيه ليس بفرضٍ هاهنا. وقال غيره: إذا شك، غسل غسلة أخرى؛ فالبدعة اعتمادُ غسلةٍ رابعة من غير سبب يقتضيه، وإذ ذاك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من زاد، فقد أساء وتعدّى وظلم " (¬3)، على أن الغسلة الرابعة وإن كانت مكروهة، فليست بمعصية. وقوله: ¬

_ (¬1) في (م): نسي النية مع وجود قصد التبرد. (¬2) التبصرة: 264. بتحقيق محمد بن عبد العزيز بن عبد الله السديس - مؤسسة قرطبة - الهرم - مصر 1413 هـ-1993م. (¬3) حديث " من زاد فقد أساء ... " رواه النسائي بهذا اللفظ، في قصة أعرابي جاء يسأل عن الوضوء، فأراه النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: " هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدى وظلم ". ورواه أبو داود وابن خزيمة وابن ماجة، كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه. قال الحافظ: رووه مطولاً ومختصر من طرق صحيحة. (ر. النسائي: الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، ح 140، أبو داود: الطهارة، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاًً، ح 135، ابن خزيمة: 1/ 89 ح 174، ابن ماجة: الطهارة، باب =

"أساء" معناه تَركَ الأوْلى، وتعدى حدَّ السنة، ووضَع الشيء في غير موضعه. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يخلل لحيته " (¬1) وهي من السنن في اللحية الكثيفة. وإن كانت خفيفة، وجب إيصال الماء إلى المنابت، والشعور على التفصيل الماضي. فصل 88 - غسل اليدين من أركان الوضوء، ويجب استيعابهما مع المرفقين. و "إلى" في قوله تعالى {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، محمول عند معظم العلماء على الجمع والضم. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "أدار الماء على مرفقيه"، ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " (¬2). ¬

_ = ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه، ح 422، التلخيص: 1/ 408 بهامش المجموع). (¬1) حديث: كان صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته، رواه الترمذي، وابن ماجة، وابن خزيمة، والحاكم، والدارقطني، وابن حبان، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وروي بألفاظ مقاربة من حديث عمار بن ياسر، وعبد الله بن عكبرة (وكانت له صحبة) وأنس وأبي الدرداء، وعن غيرهم من الصحابة، ولم يسلم واحدٌ منها من مقال، فيما قاله الحافظ في التلخيص، وحكى الصنعاني في سبل السلام عن عبد الله بن أحمد عن أبيه: "وليس في تخليل اللحية شيء" ثم عقب قائلاً: "حديث عثمان دال على مشروعية التخليل، فأما وجوبه، فاختلف فيه، ثم قال (أي الصنعاني): والأحاديث الواردة في التخليل، ما سلمت عن الإِعلال والتضعيف، فلم تنهض دليلاً على الإيجاب" ا. هـ. هذا، وقد قال البيهقي في سننه "بلغني عن محمد بن إِسماعيل البخاري، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: هو حسن، وقال: أصح شيء عندي في التخليل حديث عثمان" ا. هـ، وأما الألباني، فقد صحح حديث أنس، من رواية أبي داود وعنه البيهقي، وقال: "له شواهد كثيرة بها يرتقي إِلى درجة الصحة" (ر. أبو داود: الطهارة، باب تخليل اللحية، الترمذي: الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية، ح 29 - 31، ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية، ح 430، تلخيص الحبير: 1/ 414 وما بعدها (بهامش المجموع)، السنن الكبرى: 1/ 54، سبل السلام للصنعاني: 1/ 100 - 101، إِرواء الغليل: 1/ 130 ح 92). (¬2) هذا الحديث رواه الدارقطني، والبيهقي، من حديث جابر بن عبد الله، قال الحافظ: فيه القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال عنه أبو حاتم: متروك، وقال أبو زرعة: منكر =

89 - فإن قُطعت اليد من الكُوع، أو من نصف الساعد، يجب إيصال الماء إلى ما بقي من محل الفرض. وإن صادف القطعُ ما فوق المرفق، سقط الفرض من هذه اليد بسقوط محله، ولكن لو أمسّ عضدَه ماءً، كان حسناً؛ فإنا نستحب للسليم أن يغسل شيئاًً من عضده، وهو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم تطويل (¬1) الغرة، وقد يُظن أن سبب الأمر بغسل طرف العضد الاستظهارُ به ليتيقن غسل محل الفرض من اليد، وليس الأمر على هذا الإطلاق؛ فإن تطويلَ الغرّة سنةٌ مقصودة في (¬2) نفسها، وإن كان يندرج تحتها استيقان الاستيعاب. ¬

_ = الحديث، وكذا ضعفه أحمد وابن معين، وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات، ولم يلتفت إِليه في ذلك، وقد صرح بضعف هذا الحديث ابن الجوزي والمنذري، وابن الصلاح والنووي وغيرهم، ثم قال الحافظ: ويغني عنه ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ حتى أشرع في العضد، ثم قال: "هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ. وأما الزيادة، فلم ترد في هذا الحديث، بل هي في حديث آخر (ر. تلخيص الحبير: 1/ 343 بهامش المجموع، مسلم: الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء ح 246، سنن البيهقي: 1/ 56، سنن الدارقطني: 1/ 83). (¬1) حديث "من استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل" متفق عليه من حديث أبي هريرة، وأوله: "إِن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء" ولمسلم: "فمن استطاع منكم فليُطل غُرته وتحجيلَه"، ورواه أحمد من حديث نعيم، وعنده: قال نعيم: لا أدري قوله: "من استطاع أن يطيل غرته فليفعل" من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 349، اللؤلؤ والمرجان: 1/ 59 ح 141، أحمد: 2/ 334، 523، والبيهقي: 1/ 57). (¬2) يوحي كلام الإِمام أن موضع الغرة في اليدين، وقد تبعه الغزالي، فنقل عبارته في الوسيط، هكذا: "وإن قُطعَ فوق المرفق، استحب إِمساس الماء ما بقي من عضده، فإِن تطويل الغرّة سُنة" ا. هـ (1/ 261). وقد تعقبه ابن الصلاح قائلاً: هذا غير مرضي؛ فإِنه يوهم وجود تطويل المحرة في اليد، ومن المعلوم الشائع اختصاص الغرّة بالوجه، وأن ما في اليدين والرجلين من ذلك هو التحجيل ثم أخذ يعلل هذا ويبحث عن سببه، فقال: "ولعل هذا وقع له مما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "تأتي أمتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غرّته، فليفعل" ولم يقل: فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله، فليفعل، فتوهم أن الغرة شاملة لموضع التحجيل، وليس الأمر على ذلك، فإِنه من الإِيجاز الذي يكتفى فيه بذكر =

والدليل على أن غسل العضد مقصودٌ، أن من اعتلّ وجهُه، وعسر عليه إيصالُ الماء إلى محل الفرض، فلا يُستحب إيصال الماء إلى أجزاءَ من رأسه، لما يُرى (¬1) غسلُها مع الوجه استظهاراً. 90 - وإن صادف القطع مفصلَ المرفق، وهو مركب من منتهى الساعد، وطرف العضد، والطرفان متداخلان، فإذا انفصل عظمُ الساعد، وبقي من طرف العضد ما كان مداخلاً في طرف الساعد - فظاهر ما نقله المزني أنه لا يجب غسل ذلك؛ فإنه قال: " فإن كان أقطعَهما من المرفقين، فلا فرض عليه فيهما " (¬2). وروى الربيع عن الشافعي أنه قال: فإن كان أقطعهما فوق المرفقين، فلا فرض عليه فيهما (¬3) (¬4). ¬

_ = أحد النظيرين، كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ولم يذكر البرد. على أنه قد ورد في بعض روايته: "فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله" فإِن كان مراد المصنف أن تطويل التحجيل مستحب، ونبّه بذكر نظيره من الغرة عليه، فلا محذور فيه، سوى ما فيه من الإِبهام والله أعلم" ا. هـ بنصه (مشكل الوسيط: 1/ 32 أ) عن هامش الوسيط: (1/ 262). أما الإِمام النووي، فكان رفيقاً رقيقاً في تعليقه، حيث قال في التنقيح: "قال أصحابنا وغيرهم: الغرة في الوجه، والتحجيل في اليدين والرجلين، وهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين، وهو سنة. وأطلق المصنف عليه الغرة مجازاً لمقاربَه الغرة، في قوله صلى الله عليه وسلم: " تأتي أمتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل" ا. هـ بنصه (ر. التنقيح للإِمام النووي - بهامش الوسيط - 1/ 262). (¬1) "لما يُرى غسلها مع الوجه" أي بسبب أن غسلها مع الوجه مندوب إِليه للاستظهار به، والاستيقان باستيعاب محل الفرض. والمعنى أن غسل أجزاء من الرأس عند اعتلال الوجه غير مطلوب؛ لأنه ليس مقصوداً في ذاته، وليس كذلك العضد؛ فإِن إِطالة الغرّة مقصودة في ذاتها. (¬2) ر: المختصر: 1/ 7، لترى هذا النص من نقل المزني. (¬3) هذا النص بتمامه في الأم هكذا: "وإذا كان المتوضىء أقطع، غسل ما بقي من المرفقين، وإن كان أقطعهما من فوق المرفقين، غسل ما بقي من المرفقين، وإن كان أقطعهما من المرفقين، ولم يبق من المرفقين شيء، فقد ارتفع عنه فرض غسل اليدين. وأحب إِلي لو أمس أطراف ما بقي من يديه أو منكبيه غسلاً، وإِن لم يفعل، لم يضره ذلك" (ر. الأم: 1/ 33) وانظر هذا النقل أيضاً عند الرافعي في الشرح الكبير عن الربيع: 1/ 350، وأيضاً نقله النووي في المجموع: 1/ 394. وهو ساقط من (م). (¬4) والربيع راوي هذا عن الشافعي هو الربيع المرادي، قال النووي في تهذيب الأسماء =

فمن أصحابنا من غلّط المزني في النقل؛ فإن المِرفق عضوٌ مغسول، وقد سقط بعضُه، فوجب غسلُ باقيه. ومنهم من جعل المسألة على قولين: أحدهما - يجب غسل الباقي. وقد سبق توجيهه. والثاني - لا يجب؛ لأن الغرض بغَسل المرفق ما فيه من عظم الساعد، وهو المقصود بالغَسل، ولكن لا يتأتى غسلُ ما يحاذيه من البَشرة إلا بغسل جميع المرفق، فإذا سقط عَظمُ الساعد، فقد سقَط المقصود، فسقط التابع. وقال بعض أئمتنا: القولان مبنيان على أن اسم المرفق يتناول العظمين المتداخلين جميعاًً، أم يتناول طرفَ عظم الساعد فحسب ولكن مستقره طرف عظم العضد؟ فعلى قولين. وكل ذلك خبطٌ. والوجه القطع بإيجاب غسل ما بقي. فصل 91 - إذا انكشطت جلدةٌ من الساعد، فإن تدلّت، فيجب غسلُ تيك الجلدة؛ فإن أصلها ثابت في محل الفرض، وقد صار ما ظهر مِمّا كان باطناً كالبشرة، وإن انقطعت الجلدة، واتصل طرفٌ منها بالعضد، والتصق به، والباقي منه متجافٍ، فيجب غسل كلا وجهيه من موضع التجافي، نظراً إلى أصله، ولا يجب قلعُ موضع الالتصاق، ولكن يجب إيصال الماء إلى الوجه الظاهر؛ لأن محل الالتصاق وإن كان تحته العضد؛ فإنها جلدةُ الساعد. ¬

_ = ما نصه: " واعلم أن الربيع حيث أطلق في كتب المذهب، المراد به: المرادي، وإِذا أرادوا الجيزي، قيدوه بالجيزي ". والربيع المرادي هو أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي، مولاهم المصري المؤذن، صاحب الشافعي، وخادمه، وهو أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله رواية عنه، وهو راوية كتبه، حتى سمي راوية الشافعي، تكرر ذكره في المهذب، والوسيط، والروضة، توفي سنة 270 هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 188، طبقات السبكي: 2/ 132).

وذكر العراقيون أنه لا يجب غسل ما هو في حدّ العضد، وإنما يجب غسل ما هو في حد المرفق والساعد. وهذا غلط. ولو تدلّت جلد من العضد، ولم تلتصق بالساعد، لم يجب غسلها، نظراً إلى أصلها. وإن التصق طرفٌ منها بالساعد، فلا يجب غسل شيء منها إلا الوجه البادي في محل الالتصاق؛ فإنا لا نوجب القلعَ، فنقيم ذلك القدرَ في محل الالتصاق مقام ما استتر به، ويجب غسل ما تحتها من الساعد في محل التجافي، لا محالة. 92 - ونقل العراقيون نصاً للشافعي، وقالوا: قال رحمه الله: " لو نبت لإنسانٍ يدٌ زائدة من عضده أو كتفه، فإن كانت بحيث (1 لو امتدت، لم تحاذ شيئاًً من محل الفرض في اليد الأصلية، فلا فرض فيها، وإن كانت بحيث 1) [لو امتدت] (¬2) [يحاذي طرف] (¬3) منها شيئاًً من محل الفرض في اليد الأصلية، فيجب غسلُ المقدار المحاذي؛ فإنه اجتمع فيه المحاذَاة واسم اليد " (¬4)، وهذا نقله بعض أئمتنا، كما نقلوه عن الإمام الشافعي، والمسألة محتملةٌ جدّاً؛ إذ محلُّ الفرض العضو الأصلي. ولا خلاف أنه لو نبتت له سِلعةٌ (¬5) من العضد، وكانت بحيث تمتد إلى الساعد، فلا يجب غسل شيء منها إذا كانت متدلية غير ملتصقةٍ. ولكن لم أر في المسألة إلا نقلَ النص للأصحاب. 93 - ولو كانت يمينان لا يتبين الأصلية منهما، فيجب غسلُهما جميعاًً وفاقاً، وهذا في يدين التبس أمرُهما، ومنبتهما من الإبط. ولو كانت إحدى اليدين أصلية ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬2) زيادة من (ل). (¬3) في الأصل: تحاذي طرفاً، والمثبت تقدير منا، والحمد لله وافقتنا: (م)، (ل). (¬4) نص الشافعي هذا عن اليد الزائدة لم أصل إِليه في المختصر، ولا في الأم. (¬5) السِّلْعَةُ: زيادةٌ في البدن كالغدة، تتحرك إِذا حرّكت، وتكون من حمصة إِلى بطيخة (القاموس).

والأخرى زائدة، ومنبتهما دون المرفق، فيجب غسل الزائدة؛ إذ لو كانت سِلعةً، لوجب غسلها لكونها على محل الفرض. فصل قال: " ثُمَّ يَمسَحُ رأْسَهُ ثلاثاًً ... إلى آخره " (¬1). 94 - نذكر أقل ما يُجزىء من المسح، ثم نذكر أكمله. فأما الأقل، فالقول فيه يتعلق بمحل المسح، وبالمقدار المفروض منه. فأما المحل فبشرة الرأس، أما الشعر النابت عليها إذا لم يخرج عن حدّ الرأس، فإن أوقع المسح على طرفِ شعير خارجٍ عن حدّ الرأس، لم يعتد به، وإن تساقط الشعر وزايل المنبتَ، ولكن لم يخرج عن حدّ الرأس، فيجوز إيقاع المسح عليه، فإنه في حد الرأس. ولو كان الشعر متجعداً، وكان تجعده في حد الرأس، ولكن كان بحيث لو مُدَّ، لخرج طرفُه عن حد الرأس، فالطرف الذي يخرج بالمدّ عن حدّ الرأس لا يجزىء إيقاع المسح عليه (¬2). ويجوز إيقاع المسح على أصل الشعر، وما لا يجاوز منه حدّ الرأس، وإن لم يجز إيقاعه على الطرف الذي يخرج عن حَد الرأس. 95 - فأما المفروض؛ فما ينطلق عليه اسم المسح، وإن قل. والمعتمد الذي إليه الرجوع أن استيعاب الرأس بالمسح غيرُ واجب؛ إذ "مسح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بناصيته، وعلى عمامته" (¬3)، ولفظ المسح غير مُشعرٍ ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 7، الأم: 1/ 26. (¬2) ر. المجموع: 1/ 406، لترى النووي ينقل هذا الرأي عن إِمام الحرمين. (¬3) الحديث رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من حديث المغيرة بن شعبة، وأبو داود نحوه من حديث أبي معقل عن أنس (ر. مسلم: الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، ح 81، أبو داود: الطهارة، باب المسح على العمامة، ح 147، تلخيص الحبير: 1/ 95 رقم: 58، سبل السلام: 1/ 106).

في وَضع اللسان بالاستيعاب؛ فالمأمور به مسحُ بَعضِ الرأس، وهو ينطلق على ما قل وكثُر، والمصير إلى التقدير من غير توقيف تحكّمٌ، ثم قال الأئمة: لو مسح بعضاً من شعره، كفى؛ لتحقق الاسم. 96 - وحكى الشيخ أبو علي (¬1) عن بعض الأصحاب - اشتراط إيصال الماء إلى ثلاث شعرات، وهذا القائل أخذ مذهبه من اشتراط حلق ثلاث شعرات للتحلل من النسك، وهذا غلط؛ فإن الحلق في ألفاظ الشارع منوطٌ بالشعر، والشعر لفظُ جمعٍ؛ فَحُمِل على ما هو أقل الجمع. والشعر ليس معنياً مقصوداً في المسح. ولو قيل: الأصل الرأس، والشعر قائم مقامه، وإن لم ينزل منزلة الأبدال، لم يكن بعيداً. وقد سقط إيجاب الاستيعاب، وبطل التقدير، فتعين الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم، والحلق متعلِّقٌ بالشعر لا محالة. فرع: 97 - لو غسل جزءًا من رأسه، سقط الفرض به وفاقاً؛ فإن المسح وإن كان هو المنصوص عليه، فالغَسل فوقه؛ فإجزاء المسح مُنبهٌ على الغَسل من طريق الأولى. ولو بلّل الرجل يده، فلَطَم بها رأسَه، ولم يُجر ماءً، ولا أمرّ يداً، ففي سقوط الفرض وجهان: أحدهما -وهو الذي اختاره القفال- أنه لا يجزىء؛ لأن المرعي فيه ما يسمى مسحاً، والذي ذكرناه ليس مسحاً ولا غسلاً. والثاني -وهو الذي لا يتجه عندي غيرُه- أنه يُجزىء (¬2)؛ لأن الغرض وصولُ الماء إلى الرأس، وقد تحقق، ولا يجوز أن يُعتقد [تعبدٌ] (¬3) في كيفية إيصال الماء، وقد ¬

_ (¬1) المراد أبو علي السنجي في شرح التلخيص، والمحكي عنه ابن القاصّ، صاحب (التلخيص) كما صرح بذلك الرافعي في الشرح الكبير: 1/ 354. (¬2) وهذا هو الصحيح في المذهب (الروضة: 1/ 53). (¬3) مطموسة في الأصل، وقدرناها على ضوء السياق وما بقي من أطراف الحروف. وصدفتنا (م)، (ل).

ظهر أن المقدار الذي ابتلَّ من الرأس كافٍ، فلا أَرَب في إمرار اليد، والقدر المبتل باللطم هو المقدار المبتل بهيئة المسح. فرع: 98 - فهمتُ من مجاري كلام أئمة المذهب تردداً في أن الغَسل هل يُكره إلحاقاً بالسرف في استعمال الماء؟ فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه سرفٌ كالغسلة الرابعة. وصار صائرون إلى أن المسحَ في حكم التخفيف، فإن اتفق الغَسل، لم يكن سَرفاً. وهذا القائل يحتج بأن تكرير المسح بمياه جديدة إذا فرض على التوالي، يؤدي إلى الغسل؛ فإن الغسل إجراءُ الماء، وغالب ظني أن الماء يجري بهذا. ولم أر أحداً يستحب الغسل، [ولو لم] (¬1) يكن الغسل في الشرع سرفاً، لكان محبوباً. ولا خلاف أن غسل الخف بدلاً من المسح مكروه، فإنه تعييبٌ للخف بلا فائدة. فرع: 99 - إذا ألقى المسح على الشعر، ثم احتلق، فالذي قطع به الأئمة أن ذلك غيرُ ضائر؛ فإن سقوط محل الفرض بعد أدائه لا يردّ حكم الحدث؛ والحدث بعد ارتفاعه بالطهر لا يعود حكمه إلا بحدث. وحكى العراقيون عن ابن خَيْران (¬2) (¬3) أنه نَزَّل حلق الممسوح من الشعر منزلةَ نزع ¬

_ (¬1) في الأصل: ولم. والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق، وانظر المجموع: 1/ 410، وصدقتنا (م)، (ل). (¬2) ابن خَيْران، أبو علي الحسين بن صالح، أحد أركان المذهب، ومن كبار أئمته ببغداد، تفقه بأبي القاسم الأنماطي، توفي: 320 هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 361، طبقات الفقهاء: 110، وطبقات السبكي: 2/ 302، 3/ 271 وما بعدها). (¬3) كذا ذكره إمام الحرمين (ابن خيران)، وتبعه الغزالي في الوسيط: 1/ 373، وتعقبه النووي، في التنقيح، وفي المجموع، كما تعقبه ابن الصلاح في مشكل الوسيط فقالا: صوابه ابن جرير. وابن جرير هو أبو جعفر محمد بن جرير الطّبري، الإِمام المطلق، أحد أئمة الدنيا علماً وديناً، صاحب التفسير المعروف باسمه، وصاحب التاريخ أيضاًً المعروف باسمه. توفي 310، (طبقات السبكي: 3/ 121). وهذا من عجائب التصحيف، وحقّاً لا يعرى عن التصحيف أحد، فقد صُحّف ابن =

الخف في حق الماسح، وهذا إنما تخيله من حيث إنه حسب الأصل في محل المسح بشرةَ الرأس، فقدّر الشعر بدلاً عنها، وهذا بعيدٌ جداً، وهو غيرُ محسوب من المذهب. ولو قَلَّم المتوضىء أظفاره، فقد بدا بالقَئم من الظُّفر ما كان [مستترا] (¬1) بالجَلْق (¬2)، فلا يجب إيصال الماء إلى البادي عن الظفر، وابن خيران فيما أظن لا يخالف في ذلك، وإنما بنى ظنّه في حلق الشعر على ما ذكرته من اعتقاده أن الأصل بشرة الرأس، ومثل هذا لا يتحقق في الظُّفر. فهذا منتهى ما أردنا في ذكر المفروض من المسح. 100 - فأمّا الأكمل، فاستيعاب الرأس بالمسح سنة، وقد فرضه مالك (¬3). ثم التكرار في مسح الرأس مستحب عن الشافعي بمياهٍ جديدة. فإن أراد أن يستوعب الرأس [بلل يديه وألصق] (¬4) أطراف الأصابع بأطراف الأصابع، وبدأ بمقدمة رأسه ومرّ ¬

_ = (جرير) على الإِمام بابن (خيران)، وخطورة هذا التصحيف هنا لا تتعلق بنسبة قول إِلى غير صاحبه فحسب، (على ما في ذلك) بل بتقرير المذهب، وتكوينه، ونسبة ما ليس منه إِليه، قال النووي: " وحكي عن مجاهد والحكم، وحماد وعبد العزيز من أصحاب مالك، ومحمد بن جرير الطبري: أنهم أوجبوا طهارة ذلك العضو، ووقع في النهاية والوسيط، في هذه المسألة غلط، فقالا: لا يلزمه غسل ذلك خلافاً لابن خَيْران، فيقتضي هذا أن يكون وجهاً في المذهب، فإن أبا علي بن خيران، من كبار أصحابنا أصحاب الوجوه، ومتقدميهم في العصر والمرتبة، ولكن هذا غلط وتصحيف، وقد اتفق المتأخرون على أن هذا غلط، وتصحيف، وأن صوابه: "خلافاً لابن جرير" بالجيم، وهو إِمام مستقل، لا يعدّ قوله وجهاً في مذهبنا، وقد نقله أصحابنا العراقيون، والخراسانيون أجمعون، والغزالي أيضاًً في البسيط عن ابن جرير. والله أعلم (المجموع: 1/ 393، والتنقيح: 1/ 270، ومشكل الوسيط بهامش الوسيط: 1/ 270). (¬1) مطموسة بالأصل وقدرناها على ضوء السياق، وما بقي من أطراف الحروف، وصدقتنا (م)، (ل). (¬2) الجلْق: من جَلَقَ الشيء يجلقِه كَشَفَه، وجلق رأسه حلقه (المعجم) وفي (م) مستتراً بالمقلوم، وكذا في (ل). (¬3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 119 مسألة: 36، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد: 1/ 169، حاشية الدسوقي: 1/ 88، جواهر الإِكليل: 1/ 14. (¬4) في الأصل: بللُ يديه، ألصق ... ، والمثبت من (ل) وفي (م): ثم ألصق ...

بهما إلى القفا، ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم يأخذ ماءً جديداً ويمسح كذلك ثانية، وثالثة؛ وسبب ردّ اليدين من القفا إلى مقدمة الرأس أن الإمرار من الناصية إلى القفا يُضجعُ الشعورَ، ثم ردّهما يقلبها، فيحصل بالإمرار الأول والرد استيعابُ الشعور. قال أبو بكر الصيدلاني: إنما يَرُدّ الماسح يَده من قفاه، إذا كانت على رأسه شعور تنقلب بترديد الماء. فأما إذا كان الرأس محلوقاً، أو كان عليه ذَوائب، فلا معنى لترديد اليد. ولو مسح الرجل طرفاً من رأسه، ثم مسح طرفاً آخر، لم يكن ذلك من التكرار، وإنما هو مُحاولة الاستيعاب، والاستيعاب سنّة منفصلة عن التكرار. وردّ اليد من القفا إلى الناصية من طلب الاستيعاب. فرع (¬1): قال: " ويمسح أذُنيه ظاهرهما وباطنهما بماء جديد " (¬2) وهذا كما قال. 101 - مسح الأذنين سنة مؤكدة، ولا بد من أخذ ماء جديدٍ لهما، ولو مسحتا بالبَلَل الباقي على الرأس، لم يعُتد بذلك، والأذنان عضوان على حيالهما، ثم المستحب إيصال الماء إلى داخل صدفة (¬3) الأذنين وظاهرهما، فيأخذ المتوضىء البللَ بيديه، ويُدخل مُسبّحتَيهِ في صماخَي (¬4) أُذنيه، ويُديرهما على المعاطف، وُيمرّ الإبهامين على ظهور الأذنين. وكان شيخي يقول: يلصق بعد ذلك كفّيه المبلولتين بأذنيه طلباً للاستيعاب. والتكرارُ محبوب في مسحهما، كما ذكرناه في الرأس. وكان شيخي يذكر وجهين في أن مسح الرقبة سنّةٌ، أو أدبٌ، وكان يروي أن النبي ¬

_ (¬1) في (ل): فصل. (¬2) ر. الأم: 1/ 23، والمختصر: 1/ 7. (¬3) صدفة الأذن: محارتها. (المعجم). (¬4) الصماخ قناة الأُذن التي تفضي إِلى طبلتها. (المعجم).

صلى الله عليه وسلم قال: " مسح الرقبة أمانٌ من الغُلّ " (¬1) ويقول: " لم يرتض أئمةُ الحديث إسنادَه، وسببُ التردد في تسميته سنةً هذا ". ولستُ أرى لهذا التردد حاصلاً، ولم يجر مثلُه في غير ذلك (¬2)، ولم يذكر الصيدلاني مسحَ الرقبة في كتابه أصلاً. فصل قال: " ثُمَّ يغسِلُ رِجلَيه ثلاثاً ... إلى آخره " (¬3). 102 - غَسْل الرجلين مع الكعبين من الأركان، والكعبان هما العظمان البارزان من ¬

_ (¬1) حديث " مسح الرقبة أمان من الغل "، قال عنه الحافظ في التلخيص: أورده أبو محمد الجويني وقال: "لم يرتض أئمة الحديث إسناده؛ فحصل التردد في أن هذا المسح سنة أو أدب" ثم أشار الحافظ إِلى ما قاله إِمام الحرمين هنا قائلاً: " وتعقبه الإمام بما حاصله أن الأصحاب لم يجر لهم تردّد في حكمٍ مع تضعيف الحديث ". هذا وقد قال ابن الصلاح: هذا الحديث غير معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من قول بعض السلف. وقال النووي في المجموع: هذا حديث موضوع، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد في موضع آخر: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في مسح العنق، بل هو بدعة، ولم يذكره الشافعي ولا جمهور الأصحاب. ا. هـ. وتعقبه ابن الرّفعة بأن البغوي من أئمة الحديث، وقد قال باستحبابه، ولا مأخذ لاستحبابه، إِلا خبر أو أثر، لأن هذا لا مجال فيه للقياس، وقد أورد الحافظ حديثاً عن ابن عمر بلفظ: "من توضأ ومسح عنقه وُقي الغل يوم القيامة" وقد صححه الروياني صاحب البحر، ولم يرض الحافظ هذا التصحيح. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ وعنده مزيد بيان وتفصيل. ونحب أن نزيد هنا أموراً: أولها: في كلام الحافظ ما يشهد بأن لفظ (الإِمام) إِذا أطلق، يراد به إمام الحرمين، كما قلناه من قبل، في ترجمته، وفي مناسبات أخرى. ثانيها: أن الحافظ ابن حجر كان مطلعاً على (نهاية المطلب) بل دارساً له عارفاً بدقائقه. ثالثها: أن السنة والأدب يشتركان في أصل الندبية والاستحباب، لكن السنة ما يتأكد شأنها والأدب دون ذلك. كذا قال الرافعي في الشرح الكبير: 1/ 434 وانظر (تلخيص الحبير: 1/ 104، والمجموع 1/ 475، مشكلات الوسيط لابن الصلاح، والتنقيخ للنووي - بهامش الوسيط (1/ 288، 289)، سنن البيهقي: 1/ 60). (¬2) هذا هو التعقب الذي أشار إِليه الحافظ ابن حجر، ونقلناه عنه في الهامش السابق. (¬3) ر. المختصر: 1/ 7.

الجانبين، وهما مَجْمع مفصل الساق والقدم، وعليهما الغَسل - كالمرفقين. ويجب إيصال الماء إلى خلل الأصابع، لا محالة، فإن استيقن المتوضىء ذلك، استحببنا مع ذلك تخليل أصابع الرجلين، وهو من السنن المؤكدة. وفي الأحاديث المتفق على صحتها ما روي أن لَقيطَ بنَ صَبرة قال للنبي عليه السلام: عَلّمني الوضوء يا رسول الله فقال: "أسبغ الوضوءَ، وخَلّل بين الأصابع، وبَالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً"، ثم صح في السُنة من كيفية التخليل ما سنصفه، فيقع (¬1) التخليل من أسفل الأصابع، والبدايةُ بالخنصر من الرجل اليمنى، والختم بالخنصر من الرجل اليسرى، والتخليل يقع بالخنصر من اليد. ثم لست أرى لتعيين [اليد] (¬2) اليمنى أو اليسرى في ذلك أصلاً، إلا نهي الاستنجاء باليمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الاستنجاء باليمبن إكراماً لها" (¬3)، وليس تخليل الأصابع مشابهاً له، فلا حرج على المتوضىء في استعمال اليمين أو اليسار؛ فإن الأمر كذلك في غسل الرجلين، وخلل الأصابع جزء منها، ولم يثبت عندي في تعيين إحدى اليدين شيء. فصل 103 - الترتيب مستحق في الوضوء، وترتيب اليسرى على اليمنى في اليدين والرجلين مستحب. ولا يمتنع أن يقال: ليس هذا من خصائص الوضوء؛ فإنه مأخوذ من قول عائشة رضي الله عنها " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء، حتى في تنعُّله إذا انتعل، وفي ترجُّله إذا ترجّل، وفي شأنه كله " (¬4)، ¬

_ (¬1) في (م)، (ل): فليقع. (¬2) مزيدة من (م)، (ل). (¬3) ورد هذا النهي في الحديث المتفق عليه، المجمع على صحته من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، ولفظه في الصحيحين: " وإِذا أتى الخلاء، فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه " (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 61 ح 151، تلخيص الحبير: 1/ 122). (¬4) حديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله" متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 61 ح 152).

ولو ترك المتوضىء الترتيب ناسياً؛ فالمذهب أنه لا يُعتدّ بوضوئه. 104 - وكان شيخي يحكي قولاً آخر في القديم أن الناسي معذور في ترك الترتيب، وكان يبني هذا على قول الشافعي، في أن من ترك قراءة الفاتحة ساهياً هل يُعذر؟ ويقول: وجه التقريب في ذلك أن قراءة الفاتحة تسقط عن المسبوق إذا صادف الإمامَ راكعاً، والترتيبُ يسقط عن المحدِث إذا اغتسل، كما سنشرحه؛ فاقتضى ذلك تقريباً بينهما في حق الناسي. وهذا عندي إن صح النقل عنه، فهو في حكم المرجوع عنه الذي لا يُعدّ من المذهب، أما الغسلُ، فلا ترتيب فيه أصلاً؛ فإن البدن فيه في حكم العضو الواحد. ولو أحدث الرجل وأجنب، كفاه الغُسل، ولا يجب عليه إيصال الماء إلى أعضاء وضوئه مرتين، مرةً [عن] (1) الوضوء، ومرةً [عن] (¬1) الغسل، وذهب أبو ثور إلى أنه يجب أن يتوضأ ويغتسل، فنسب بعضُ المصنفين هذا إلى بعض أصحابنا، وهو غلط صريح. ثم إذا اندرج الوضوء تحت الغسل [كما] (¬2) ذكرناه؛ فقد اختلف أئمتنا في أنه هل يجب على المغتسل رعايةُ الترتيب في أعضاء الوضوء؟ فقال بعضهم: يجب ذلك؛ فإن الوضوء إنما يندرج تحت الغُسل فيما يوجد في الغسل (¬3)، كما تتداخل العمرة في الحج فيما يوجد منهما في حق القارن، فيطوف طوافاً واحداً، ويسعى سعياً واحداً، ولا تداخل فيما اختص به أحد النسكين؛ فإنّ القارن يقف ويرمي ويبيت، وإن لم تكن هذه المناسك في العمرة. كذلك الوضوء يندرج تحت الغسل، فيما يتعلق بالغسل وإيصال الماء، فأما الترتيب فمما يختص الوضوء به، فيجب الإتيان به. وقال بعضهم: لا تجب رِعاية الترتيب، وهو الأصح؛ فإن الترتيب ليس ركناً مقصوداً، وإنما هو هيئة وكيفية في أداء الأركان، فإذا اندرج فعل الوضوء تحت ¬

_ (¬1) في الأصل: عند الوضوء ... وعند الغسل، وهذا تقدير منا. ووجدناه في (م)، (ل) أيضاً. (¬2) في الأصل، (ل): فيما. والمثبت من (م). (¬3) ر. المجموع: 1/ 447 - 451.

الغُسل، فرعاية الهيئة محال مع هذا، والوقوف والرمي والمبيت مناسك مقصودة، والعمرة تندرج تحت الحج، والحج لا يندرج تحت العمرة. والذي يحقق ذلك أن العمرة لو انفردت، لم تفت، فإذا اندرجت تحت الحج، فاتت بفوات الحج؛ فاعتبار الترتيب بمقتضى الفوات أولى من اعتباره بمناسك مقصودة. 105 - ومما يتصل بما نحن فيه أن من أحدث، ثم انغمس في ماء فغمره، ونوى رفع الحدث، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يرتفع الحدث؛ فإنه لم يأت بهيئة الترتيب المأمور به في الوضوء. والثاني - يرتفع حدثُه؛ لمعنيين: أحدهما - أنه صيّر وضوءه غُسلاً، والغُسل أكمل من الوضوء، فكأن الشرع خفف عن المحدث أمر الطهارة، فاقتصر منه على غَسلِ أطرافٍ ومَسْح بعضها، فإذا آثر الغُسلَ، فقد رقى إلى الأعلى، فأجزأه، والغسل لا ترتيب فيه. والمعنى الثاني - أنه إذا غمرهُ الماء؛ فإنه يترتب على أعضاء الوضوء في لحظاتٍ لطيفة؛ فيقع الترتيب، وإن كان لم يُعتمد. 106 - وإذا انتهى [الكلام] إلى هذا المنتهى، فلا بد من التنبيه لأصلٍ مهم، يوُضَّحُ بالسؤال والانفصال عنه. فإن قيل: فلم شرطتم النية في طهارة الحدث؟ والنيةُ قصدٌ، ولا بد في تقدير القصد من فرض فعلٍ مقصودٍ، وليس في طهارة الحدث فعلٌ مقصودٌ؛ فإن الجُنب إذا برز لموقع القَطْر، حتى استوعب [بدنَه غسلاً] (¬1)، كفاه ذلك، فإذا لم يوجد منه فعل فما متعلّق قصده؟ قلنا: وقوفه حالّ محلّ غُسلٍ ينشئه. فإن قيل: لو ألقي رجلٌ في غمرة، ونوى رفع الحدث فما مقصوده؟ قلنا: إيثارُه المقامَ في تلك الغمرة مقصودُه. فإن قيل: فإن كان لا يُؤْثر المقام فيها، وهو يُغَط وُيغمس قهرآ - قلنا: من ¬

_ (¬1) في الأصل: غَسلاً بدنه. والمثبت من (ل).

ضرورة نية رفع الحدث ربطُها بأمرٍ، وهو الكَوْنُ في الماء، ولو في لحظة، ويستحيل أن ينوي رفعَ الحدث لا بشيء. وإِن تناهى المصوّر في التصوير، ولم نُقدِّر للملقَى في الماء مقصوداً هو كونٌ أو مكثٌ، فقد رأيت للشيخ أبي علي أنه قال: لا يصح الوضوء؛ فإن النية لا تتحقق من غير تعليقٍ بأمر، فإن جمع بين قصد رفع الحدث وبين قطع النية عما هو فيه، فالنية لا تتحقق. فإن قيل: أليس الصائم ينوي ولا يصدر منه فعلٌ؟ قلت: الانكفافُ عن المفطرات مما يتأتى ربطُ القصد والاختيار به، وهذا فيه احتمالٌ وإِشكال ظاهر، والذي يُشعر به كلام معظم الأئمة إِطلاق القول بأن النية تصحّ في حق الملقى في الماء من غير تفصيل؛ فإن الملقى إذا كان كارهاً لما هو فيه، فلا يمتنع أن ينوي رفع الحدث بما هو كاره له، والسر فيه أنه إِذا نوى رفع الحدث بما هو فيه، فيكون ما يلابسه مراداً له من وجه، ومكروهاً له من وجه. وهذا مقامٌ يتعين إِنعامُ الفكر فيه. 107 - وقد عُدنا إِلى ما كنا فيه من أمر الترتيب، فلو انتهى محدث إلى شَط نهر، واغتسل، فأوصل الماء إلى أسافله، ثم انتكس، فأوصل الماء إِلى أعاليه، ففي ارتفاع حدثه وجهان مرتبان على ما إِذا انغمس في ماء: فإِن حكمنا بأن الحدث لا يرتفع إِذا انغمس، فلأن لا يرتفع إِذا انتكس أولى، وإِن حكمنا بأنه يرتفع ثَمَّ، فهاهنا وجهان مبنيان على المعنيين المقدم ذكرهما. فإِن قلنا: يرتفع حدث المنغمس لترتب الماء في أوقاتٍ لطيفة، فهاهنا لا يرتفع؛ لأنه نكس الغسل قصداً. وإِن قلنا: يرتفع حدث المنغمس؛ لأنه جعل الوضوء غسلاً، فهذا المعنى متحقق في هذه الصورة. فرعٌ لابن الحداد (¬1): 108 - قال تفريعاً على أن من أحدث وأجنب، لم تجب عليه رعاية الترتيب في ¬

_ (¬1) ابن الحداد: أبو بكر محمد بن أحمد القاضي المصري، صاحب الفروع، من نظار أصحابنا وكبارهم ومتقدّميهم، في العصر والمرتبة، أخذ الفقه عن أبي إِسحاق المروزي، انتهت إِليه =

أعضاء الوضوء: ولو أوصل المغتسلُ الماء إِلى جميع بدنه إِلا رجليه، ثم أحدث يلزمه أن يتوضأ، ثم يراعي الترتيب في الوجه، واليدين، والرأس، ولا يجب رعاية الترتيب في الرجلين لبقاء حكم الجنابة فيهما؛ ولا يجب الترتيب في طهر الجنابة؛ فإِن شاء قدم غسلَ الرِّجل على غسل الوجه، وإِن شاء أوقعه وسطاً؛ فإِن حكم الترتيب ساقط عنه. فإن قيل: الأصغر يندرج تحت الأكبر، وإِذا بقي من غُسل الجنابة غَسْلُ الرجلين، ثم طرأ الحدث، فالوضوء الآن أكُمل ممّا بقي من الغُسل. قلنا: ذكر الشيخ أبو محمد (¬1) أن الترتيب يُراعَى في الرجل لهذا السؤال، ويتبع حكمُ الجنابة حكمَ الوضوء. وهذا وإِن كان فيه إِخالة في وجوه الاحتمال، فالذي ذكره الأصحاب هو المذهب المعتدّ به. وحكم طهر الجنابة على الجملة أغلب، وهو بأن يُستتبع أوْلى. ثم الذي ذكره الشيخ أبو علي في الشرح (¬2) أن المتوضىء في الصورة التي ذكرناها، إِن نسي حكمَ الجنابة في رجليه، ونوى رَفع الحدث [فالجنابة] (¬3) ترفع عن رجليه في ظاهر المذهب، وإِن لم يتعرض لها؛ فإنّ أعيان الأحداث لا أثر لها، ولا يضرّ الغلط فيها. وحكى وجهاً ثانياً، أن الجنابة لا ترتفع؛ لأن حكمها أغلظ من حكم الحدث الموجب للوضوء، والأعلى لا يرتفع بقصد الأدنى. وهذا ضعيف مزيف، ثم بنى على ذلك أن الجنب لو انغمس في ماء مثلاً، ونوى ¬

_ = إمامة مصر في عصره، اعتنى الأئمة بشرح كتابه الفروع، فشرحه جمعٌ، منهم: القفال المروزي، والقاضي أبو الطيب، وأبو علي السنجي، توفي سنة 345 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 192، وطبقات السبكي: 3/ 79، طبقات الشيرازي: 114، طبقات ابن هداية: 204، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 104). (¬1) المراد به والده، وهو يعبر عنه عادة بـ (شيخي). (¬2) المراد: الشيخ أبو علي السنجي في شرح الفروع. (¬3) في الأصل: والجنابة، والمثبت من (م)، (ل).

رفع الحدث الأصغر، لا شك أن الجنابة لا ترتفع عما خلا أعضاء الوضوء؛ فإِن نيّته لم تشتمل عليه. وفي ارتفاع الجنابة عن أعضاء الوضوء وجهان: أحدهما - لا ترتفع لما سبق من أن الأعلى لا يرتفع بالأدنى. والثاني - ترتفع الجنابة عن الوجه واليدين والرجلين. 109 - وأما الرأس، ففرض الوضوء فيه المسحُ، وفرض الغُسل فيه الغَسل، [فهل] (¬1) يسقط فرض الجنابة عن الرأس؟ ذكر على هذا الوجه وجهين: أحدهما - لا يرتفع؛ لأن نيته لم تتناول غسلَ الرأس. والثاني - يرتفع؛ فإِن غسل الرأس في الوضوء يقوم مقام المسح، وهما جميعاً إيصال الماء. وإِذا جُمع ما ذكره الشيخ الآن إِلى ما قدّمناه في باب [نية] (¬2) الوضوء، من أن الغلط في النية من حدث إلى حدث هل يؤثر؟ انتظم منه أوجه: أحدها - أن الغلط لا يضر أصلاً. والثانٍ- أنه يؤثر ويُفسد النية. والثالث - أن الأدنى يرتفع بالأعلى، إِذا فرض الغلط كذلك. والأعلى لا يرتفع بالأدنى، وهذا ما ذكره الشيخ الأب. فرع: 110 - إِذا خرج من الرجل خارجٌ، فلم يدرِ أمَنيٌّ هو، أم مَذْي، فلا يلزمه الغُسل؛ فإِن الطهر لا يلزم إِلا بيقين، كما سيأتي في بابه. والمقدار المستيقن إِيصال الماء إِلى أعضاء الوضوء، ثم ظهر اختلاف الأئمة في أنه هل يجب رعايةُ الترتيب في هذا الوضوء؟ فقال قائلون: لا يجب؛ فإِن وجوب الترتيب غير مستيقن. وهذا عندي غلط؛ فإِن من أتى بوضوءٍ منكس، فليس هو بمتطهر قطعاًً؛ فإِنه ¬

_ (¬1) في الأصل: فهذا. والمثبت من (م)، (ل). (¬2) في الأصل، (م): سنة.

إِن كان جُنباً، فلم يغتسل، وإِن كان محدثاً، فلم يتوضأ وضوءاً مرتباً، فالوجه أن يغتسل، أو يأتي بوضوء مرتب. ثم مما يُبنى على ذلك، أن المني طاهرٌ، وخروجه يوجب الغُسل، والمذي نجس، يوجب خروجُه الوضوء، فإِن أصاب الخارج المشكلُ الثوب أو البدن، فإِن اغتسل، ولم يغسل موْرِده، وصلى، جاز؛ أخذاً باحتمال كونه منيّاً، ولو توضأ وغسله، وصلى، جاز؛ لاحتمال كونه مذياً. وإِن توضأ، ولم يغسل الخارج وصلى، فعلى الوجهين المذكورين في الوضوء المنكس، فمن أصحابنا من قال: يُجزئه، ويُحط الغَسل (¬1) عنه؛ أخذاً بأنه منيٌّ. ويحط عنه استيعاب البدن؛ أخذاً بأنه مذيٌ. والوجه عندي القطع ببطلان الصلاة؛ لأنه لم يخرج عن موجَبِ واحدٍ من التقديرين، إِذا توضأ ولم يغسل بدنه [وثوبه] (¬2). فصل قال الشافعي: " لو فرّق وضوءَه وغُسلَه أجزأه ... إلى آخره " (¬3). 111 - التفريق اليسير لا يبطل الوضوءَ والغُسل، والتفريق الكثير لا يؤثر أيضاًً في القول الجديد. وقال الشافعي في القول القديم: " التفريق الكثير يُبطل الغسلَ والوضوء ". وهو مذهب مالك (¬4). وذكر الأئمة أن الموالاة مشروطة في الصلاة، ولا يتبين ذلك إِلا بما نشُير إليه. فالصلاة تشتمل على أركانٍ طويلةٍ وأركانٍ قصيرة، أما الطويلة، فالقيام، والركوع، ¬

_ (¬1) بالفتح: أي غسل الثوب. (¬2) زيادة من (م). (¬3) ر. المختصر: 1/ 10. (¬4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 124 مسألة: 45، حاشية الدسوقي: 1/ 90، جواهر الإكليل: 1/ 15، 22.

والسجود، والقعود للتشهد، فمن تناهى في تطويلها، لم يضرّه؛ إِذ لا نهاية لآخرها. وأما القصيرة منها، فالاعتدال عن الركوع، والاعتدال عن السجود، وكأنهما [موضوعان] (¬1) للفصل، فالاعتدال على هيئة القيام يفصل الركوع عن السجود، والقعود بين السجدتين يفصل إِحداهما عن الأخرى، وترك الموالاة في الصلاة معناه تطويل الفواصل قصداً، وذلك مبطلٌ للصلاة على ما سنذكره. إِن شاء الله عز وجل. 112 - توجيه القولين في تفريق الطهارة. من قال: إن التفريق يبطل الطُّهرَ شبهه بالصلاة، ووجه الشبه أن الحدث يَنقُضهما. ومن قال بالقول الجديد، احتج بأن أركان الوضوء لا رابط لها، والركن [ينفصل عما بعده] (¬2)، والزمن القريب المتخلل بين الركنين ليس فيه اشتغال بالطهارة، فالأركان المقصودة فيها كأنها أفرادٌ منبترةٌ، لا ناظم لها، فهي كاقدار الزكاة، يفرّقها [مستوعبها] (¬3)، فيتخلل بين المقدار والمقدار زمان، لا اشتغال فيه بالزكاة، ثم لا فرق بين أن يطول ذلك الزمان المتخلل، أو يقصُر، فلتكن أركان الطهارة كذلك. فإن قيل: إِلى ماذا الرجوع في الفرق بين التفريق اليسير والكثير؟ قلنا: إِذا غسل المتوضىء عضواً، ثم أضرب حتى زال الماء، مع اعتدال الهواء والحال، فهذا كثير. ولا يُفرض ذلك مع برد الهواء، ولا مع الحرّ المفرط، فالوسط هو المعتبر بين الطرفين. ثم ما ذكرناه في تفريقٍ يقع من غير عذرِ، فإن كان سببُ التفريق عذراً من خوفٍ أو نفادِ ماءٍ، فالأصح القطع بأن التفريق لا يُبطل الطهارة. ومن أصحابنا من سوّى بين المعذور وغيره في تخريج المسألة على قولين. ¬

_ (¬1) في الأصل: موضعان. (¬2) في الأصل: يفصل ما بعده، والمثبت تقديرٌ منا، صدقته (م)، وفي (ل): ينفصل مما. (¬3) في الأصل: مستوجبها. والمراد هنا [بمستوعبها] من يستوعب بأقدار الزكاة جميع الأصناف الثمانية. أو من يستوعب المقدار الواجب إخراجه دفعة دفعة.

وكان شيخي يتردد في وقوع التفريق بسبب النسيان، فتارة كان يُلحقه بالأعذار، وتارة كان لا يَعُد النسيان عذراً. ومما يتعين الاعتناء بفهمه أن التفريق في الصلاة إِنما هو تطويلُ ركنٍ قصيرٍ كما سبق، ثم لو فرض تطويله بنسيان وذهولٍ، لم يُقضَ ببطلان الصلاة قولاً واحداً. وبهذا يتبين اتجاه القطع بأن تفريق المعذور لا يؤثر في طهارته. 113 - فإن قيل: لا يبقى مع ما ذكرتموه من كون الناسي المطوِّل معذوراً في الصلاة وجهٌ لتخريج تفريق المعذور على قولين. قلنا: من طول ركناً قصيراً في الصلاة؛ فهو في الصلاة، وإِن طوّل ما حقه ألا يطول. وقد ذكرنا أن المتوضىء في الزمان الذي يتخلل بين الركنين ليس مشتغلاً بالطهارة، ومع هذا يُعد الوضوء قربةً واحدةً. فاِذا تخللت أزمنةٌ متطاولةٌ، ينبتر (¬1) النظام فيها، بسبب أنه يتخللها ما ليس منها، وهذا يستوي فيه المعذور وغيره، وتخلل الأزمنة -على منع التفريق عندي- يتنزل منزلة الأعمال إِذا طرأت على الصلاة، فالقليل معفوٌ عنها، والكثير المتوالي على عمدٍ يُبطل الصلاةَ، وإِذا صدر الكثير مع النسيان، ففي المسألة وجهان، سياتي ذكرهما في الصلاة - إن شاء الله تعالى. فهذا حقيقة القول في تفريق الطهارة. ثم يستوي الغسل والوضوء في أمر التفريق. والوضوء يختصّ بالترتيب من جهة أن الترتيب إِنما يُصوّر فيما يشتمل على أركانٍ متغايرةٍ، وجميع البدن في الغسل كالعضو الواحد في الوضوء. التفريع على قولي التفريق: 114 - إن حكمنا بأن التفريق الكثير يبطل الوضوء، فإذا تخلّل، فسد الوضوء، ولزمه استئنافه. وإِن حكمنا بأن التفريق الكثير لا يبطل الوضوء، فإِذا فرق المتوضىء وضوءه، لم يبطل ما مضى، وله البناء على بقية وضوئه. ثم اختلف أئمتنا في أنه هل يجب تجديد النية في بقية الطهارة؟ فمنهم من قال: ¬

_ (¬1) ينبتر: ينقطع، وفي (ل): فيتبتر.

لا يجب (¬1)، والنية الأولى كافية. ومنهم من قال: لا بدَّ من تجديد النيّة؛ فإِن الطهارة إِذا تفرقت، وعزبت النيّة، فلا يكون ما يأتي به على هيئة القربات، وإِذا عزبت النيّة وتواصلت الأعمال، انبسطت النيةُ عليها حكماً، وانتظمت القُربَة حسّاً. وقد ذكرنا في باب النية أن من نوى رفع الحدث، وعَزَبَتْ نيتُه ونسيها، ثم قصد ببقية الطهارة تبرّداً وتنظّفاً، ففيه خلاف قَدّمتُه، وليس ما ذكرناه الآن في تفريق الطهارة على هذه الصورة، بل إِذا مضى صدرٌ من الطهارة، وتخلّل زمنٌ متطاول، فأتى ببقية الطهارة، والنيّة منسيّة، ولم ينو بالبقية تبرّداً، ولا غرضاً آخر يخالف الطهارة، ولكن انضم إِليه التفريق، ففيه الخلاف. فرع: 115 - إِذا فرق المتوضىء النيةَ على أعضاء وضوئه، فنوى عند غَسل الوجه رفعَ الحدث عن وجهه، وهكذا فعل في باقي أعضائه، ففي صحة الوضوء وارتفاع الحدث وجهان. وكان شيخي يبنيهما على القولين في تفريق الوضوء [فعلاً، ووجه] (¬2) البناء أنا إِذا منعنا التفريق، فالطهر قربة واحدة؛ فينبغي أن يشتمل عليها نية واحدة. وإِن قلنا: يجوز التفريق، فقد قدّرنا كلَّ فرض قربةً بنفسه، كالأقدار التي يفرقها من [يستوعب] (¬3) الزكاة، فلا يمتنع تقسيط النية عليها. والوجه عندي أن يقال: إِن منعنا التفريق فعلاً، لم يجز تفريق النية وتقسيطها. وإِن جوزنا التفريق فعلاً، ففي تجويز تقسيط النية وجهان: أحدهما - الجواز، والثاني - لا يجوز؛ فإِن الوضوء -وإن جُوّز تفريق أركانه- قُربةٌ واحدة يرتبط حكم أوله بحكم آخره؛ فإِن من غسل وجهه، لم يقض بارتفاع الحدث عن وجهه، ما لم يتمم الوضوء؛ إِذ لو أراد مسَّ المصحف بوجهه المغسول، لم يجد إِلى ذلك سبيلاً. ¬

_ (¬1) وهو الأصح (الروضة: 1/ 64). (¬2) في الأصل: " فعلى وجه البناء " والمثبت من (ل). (¬3) في الأصل: يستوجب. والمثبت من (ل).

فصل 116 - قال الأئمة: " الأولى ألا ينشِّف المتوضىء أعضاء وضوئه ". قالت ميمونة (¬1): " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنديل ينشّف به أعضاء طهارته، فأشار بيده، ولم [يمسه] " (¬2). ولو نشف، لم ينته الأمر في ذلك إلى الكراهية، ولكن يقال: تركَ الأوْلى. وقد روي " أنه عليه السلام نشَّف أعضاء وضوئه مرة " (¬3)، وكان عليه السلام يواظب على الأوْلى، ويأتي بما هو جائز في الأحايين، فيتبين الأفضل بمواظبته، والجائز [بنوادر] (¬4) أفعاله. قال العراقيون: لم يصر أحد إِلى أن التنشيف مستحب، والظاهر من مذهب الشافعي أن الأولى تركُ التنشيف. وهذا من كلامهم إِشارة إلى خلافٍ في ذلك، فكأن طائفةً قالوا: لا يترجح التنشيف على تركه. وقد روى الصيدلاني: "أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقةٌ ينشِّف بها" (¬5). ¬

_ (¬1) حديث ميمونة عند الشيخين، البخاري: الغسل، باب نفض اليدين من الغسل بالجنابة، ح 276، ولفظه: " ... فناولته ثوباً، فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه". ومسلم: الحيض، باب صفة غسل الجنابة، ح 317، ولفظه " ... أتيته بالمنديل، فرده" وفي الرواية الثانية: " فلم يمسه " وكذا رواه أبو داود أيضاً. هذا ولم يتعرض الحافظ في التلخيص لحديث ميمونة. (¬2) في الأصل، وفي (ل): " ولم يردّه " والتصويب من إِحدى روايتي مسلم. (¬3) أخرجه ابن ماجة من حديث سلمان الفارسي، بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فقلب جبة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه" وفي الزوائد: إسناده صحيح. (ر. ابن ماجة: كتاب الطهارة، باب المنديل بعد الوضوء، ح 468، التلخيص: ح 113، نيل الأوطار: 1/ 220، 221). (¬4) في الأصل: "بتوارد". والمثبت تقدير منا، وقد صدقته (ل) بحمد الله. (¬5) قال الحافظ في التلخيص: رواه الحاكم من حديث عائشة بهذا اللفظ، وفيه أبو معاذ، وهو ضعيف. ورواه الترمذي من هذا الوجه، وقال: "ليس بالقائم" وقد تتبع طرق الحديث =

وليس هذا بعيداً عن مسالك الإِمكان؛ فإن الذي لا ينشف إِن كان مُبقياً لأثر العبادة، فالمنشِّف متوقٍّ عن التصاق الغبرات بأعضاء وضوئه. 117 - فأما الاستعانة، فالأولى تركها، والأجر على قدر [النصب] (¬1)، وقد روي " أن النبى صلى الله عليه وسلم استعان في وضوئه مرة واحدة بالمغيرة " (¬2)، والسبب فيه أنه كان لهٌ جُبة ضيقة الكُمّين؛ فعسر عليه الانفراد بإِسباغ الوضوء معها، فاستعان. 118 - وكان شيخي يَعُدّ عند نجاز كيفية الوضوء فرائضَ الوضوء وسننَه. فأما الفرائض، فستٌّ في قولٍ، وسبعٌ في آخر: النيةُ، وغَسلُ الوجهِ، وغَسلُ اليدين كذلك، وما ينطلق عليه اسمُ المسحِ في الرأس، وغَسلُ الرجلين مرة واحدة، والترتيب، والموالاةُ على أحد القولين. وأما السنن إِذا جمعت، فهي أربعَ عشرةَ في قولٍ، وخمسَ عشرةَ في قولٍ: التسمية، وغسل اليدين قبل غمسهما، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق: والمبالغة فيهما، إِلا أن يكون صائماً، والتثليثُ في المغسول والممسوح، وتقديم الميامن على المياسر، وتخليل اللحية، وتطويل الغرة، واستيعاب الرأس بالمسح، ومسح الأذنين، ومسح الرقبة، وتخليل أصابع الرجلين، والموالاة على أحد القولين. ¬

_ = الشيخ شاكر، محدث العصر -رحمه الله- وانتهى إلى القول بأن إِسناده صحيح (ر. الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء في التمندل بعد الوضوء 1/ 74 ح 53، الحاكم: 1/ 154، التلخيص، ح 113). (¬1) في الأصل: "النصف". والمثبت تقدير منا، صدقته (ل) و (م). (¬2) هذا اللفظ مستفاد من قصةٍ عن طريق المغيرة بن شعبة أخرجها البخاري ومسلم. (البخاري: كتاب الصلاة، باب الصلاة في الجُبة الشامية، ح 363، ومسلم: كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين ح 75، 80 - الرقم العام 274).

فصل قال: " ولا يحمل المصحفَ ولا يمسه إلا طاهراً ... إلى آخره " (¬1). 119 - يحرم على المحدث مسُّ المصحف، ويستوي في التحريم الأسطر، والحواشي، والدفَّتان. ولو كان في غلاف هُيىّء له، أو صندوق مستصنعٍ له، ففي مس الصندوق المخصوص به، وفي الغلاف، وفيهما المصحف وجهان: َ أحدهما - المنع كالدفَّتين. والثاني - التجويز؛ لأنهما ليسا من أجزاء المصحف. ولا يحرم على المحدث قراءة القرآن عن ظهر القلب، والأولى أن يكون متطهراًً. فإِن قيل: هل تطلقون لفظَ الكراهية على قراءة المحدث؟ قلنا: لا، وكيف ينساغ ذلك وقراءة المحدث عن ظهر القلب من أفضل القربات؟ ولكن الوجه أن يقال: القراءةُ في حال التطهر أوْلى، فلو كان يقرأ القرآن ناظر إِلى المصحف [وكان متطهرٌ] (¬2) يقلّب له الأوراق، فلا بأس. وكان سعد بنُ أبي وقاص رضي الله عنه يقرأ ناظراً، وابنه يقلب له، فأدخل يده تحت ثيابه، فقال له: " قم فتوضأ؛ ما أراك إلا وقد مسست ذكرَك " (¬3). ولو كان المحدث يقلب الأوراقَ بقضيب، فيه وجهان: والأظهر المنع؛ فإِنه وإِن كان لا يمسّ، فهو إِذا قلّب ورقة، كان في حكم الحامل لها، وحرام على المحدث ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 10. (¬2) في الأصل: "ناظراً إلى المصحف متطهراً، يقلب له الأوراق" والمثبت من (ل) وسقطت من (م). (¬3) رواه البيهقي عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: "كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص، فاحتككت، فقال سعد: لعلك مسست ذكرك، فقلت نعم، فقال: قم فتوضأ، فقمت، فتوضأت" (السنن الكبرى: 1/ 88) ولعل هذا هو الذي أشار إليه الحافظ في تعليقه على حديث بسرة في الوضوء من مس الذكر، بقوله: " وفي الباب عن جابر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، ويزيد بن خالد، وسعد بن أبي وقاص و ... " (التلخيص: 1/ 123).

حملُ ورقةٍ من المصحف، سواء مسها في الحمل، أو حملها في غلاف. ولو ستر يدَه بطرف كمّه، وأخذ يُقلب، فالوجه القطع بالتحريم؛ فإن التقليب يقع باليد، لا بالكم. ومن ذكر في ذلك خلافاً، كالخلاف في التقليب بالقضيب، [فهو] (¬1) غالط. هذا في مسّ المحدث. 120 - فأما القول في الحمل، فيحرم على المحدث حملُ المصحف في غلافٍ، ومجرّداً عنه؛ فمهما حمله مقصوداً، عَصى، سواء فُرض حائل من غلاف أو عِلاقةٍ، أو لم يُفرض. ولو حمل صندوقاً، فيه أمتعةٌ، وفي جملتها مصحفٌ، وهو عالم به، ففيه وجهان: أحدهما - لا يعصي؛ فإنه لم يحمل المصحف مقصوداً. والثاني - يعصي؛ فإنّ المصحف من جملة المقاصد، فإن (¬2) كان تبعاً، لم يخرج عن كونه مقصوداً. 121 - واختلف أئمتنا في أنه هل يجب على القُوَّام أن يُراعوا حفظَ الطهارة على الصبيان في مسِّهم المصاحفَ، والألواحَ؟ قال الصيدلاني: هذا الخلاف يقرب من حمل الصندوق وفيه أمتعة سوى المصحف؛ فإِن الصبي ليس له قصد صحيح في الشرع، فكان ضعفُ قصده في الشرع كتوزعّ القصد من الحامل على ما في الصندوق. وهذا غير صحيح؛ فإِن قصدَ الصبي في العبادات التي هو من أهلها كقصد البالغ؛ إِذ لو تكلم في صلاته عامداً، بطلت صلاتُه، وألزمه قيّمُه إِعادةَ الصلاة، فالوجه أخذ المساهلة في باب الطهارة عند المس من تعذّر رعاية ذلك؛ فإِن الطهارة إِن روعيت عند الصلاة، لم تعسر، ومراعاتها في معظم [ساعات النهار عسرٌ، والصبي قد يمس المصحف في معظم] (¬3) النهار. ¬

_ (¬1) في الأصل: في، وقد صدقتنا (ل). (¬2) عبارة (ل): فإذا لم يكن تبعاً، لم يخرج عن كونه مقصوداً. (¬3) ما بين المعقفين مزيد من (ل).

122 - فلو لمس المحدث (¬1)، أو حمل درهماً على نقشه آية، أو ثوباً على طرازه آية، أو كتاباً فيه آيٌ، أثبتت للاحتجاج، أو للتيمن، لا لدراسة القرآن، لم يعصِ، ولو مسّ، أو حمل لوحاً عليه آية، أو بعض آية للدراسة والتلاوة، عصى ربّه؛ فإِنه يصير مجرِّداً قصده إِلى حمل شيء من القرآن مكتوبٍ عليه، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى هرقل، وضمنه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] وعلم أنْ الكتاب تتداوله أيدي الكفار، وهم على أحداثهم وجنابتهم. فصل قال: " ولا يُمنعُ من قراءة القرآن الا جنبٌ ... إلى آخره " (¬2). 23 - يحرمُ على الجنب من المسِّ والحمل ما يحرم على المحدث. ويحرم عليه قراءة القرآن عن ظهر القلب، ولا فرق بين الآية وبين بعضٍ منها، ولو قال: الحمد لله أو بسم الله، فإِن قصد قراءة القرآن عَصى، وإِن قصد ذكر الله والتيمن به، لم يَعصِ. وإِن أجراه على لسانه، ولم يقصد ذكراً، ولا قراءةً؛ فقد كان شيخي يقول: لا يعصي، ويخص تعصيتَه فيه بما إِذا قصد قراءة القرآن. وهذا مقطوعٌ به؛ فإِن القصدَ مرعي في هذه الأبواب. وما ذكرناه في الفصل بين أن يقصد وبين ألا يقصد فيما (¬3) يوجد في الأذكار، ويجري في القرآن. 124 - فأما الحائض، فإنها كالجنب في المنع من قراءة القرآن. وحكى أبو ثور عن أبي عبد الله أنه كان لا يُحرّم قراءة القرآن على الحائض. والظاهر أنه عنى بأبي عبد الله مالكاً (¬4). وحمل بعضُ الأصحاب ذلك على قول ¬

_ (¬1) استئناف للحديث عن المحدث مطلقاًً، بعد أن انتهى الحديث عن مسّ الصبيان، وحملهم عند حفظهم للقرآن. (¬2) المختصر: 1/ 10. (¬3) في (ل): لا يوجد في الأذكار. (¬4) الأقرب فعلاً أنه عنى الإمام مالكاً، فمن مذهبه رضي الله عنه أن قراءة القرَان لا تحرم على =

الشافعى. فإِنه يُكنَى بأبي عبد الله. وهذا بعيد. ثم فرَّع هؤلاء على هذا القول الضعيف تردداً في أنَ تحليل القراءة يختص بالمعلِّمة المحترفة بتعليم القرآن، أو يَعُمّ النسوة؟ فقال قائلون: يختص بالمعلّمة؛ لضرورة الاكتساب؛ وقد يستوعب الحيض شطرَ عمرها، فهو إِذاً يقتصر على ما يتعلق بحاجة التعليم في زمان الحيض. وقال آخرون: يعمّ التحليلُ كافّةَ النسوة على هذا القول؛ فإن المعلمة إِن تحققت فيها حاجةُ التعليم، فغيرها قد ينسى القرآن، فإِذاً على هذا هي كالطاهرة، فلتقرأ ما تشاء؛ إِذ ليس لما يطرأ في حق النسوان من النسيان ضابط، وتقدير. ... ¬

_ = الحائض، إِلا إِذا انقطع الدم عنها (ر. بلغة السالك: 1/ 76، جواهر الإكليل: 1/ 32).

باب الاستطابة

باب الاستطابة 125 - روى الشافعي بإسناده عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: " إنما أنا لكم مثلُ الوالد، فإذا ذهب أحدُكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها لغائطٍ ولا بولٍ، وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمّة " (¬1). وكان رضي الله عنه يذكر في صدر الباب آداباً تتعلق بمضمون الباب. فإذا كان الرجل بارزاً في قومٍ، آثرنا له أن يُبعد، وَيبعد عن أعين الناظرين، ويستترَ بشيءٍ إن وجَدَ، ويُعِدّ الأحجارَ قبل قضاء الحاجة، وَيتَّقي الجلوس في موضعٍ هو مُتحدَّث الناس ومجلسُهم؛ قال النبي عليه السلام: " اتقوا الملاعن وأعدوا النُّبلَ. قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: الجلوس في مجلس الناس ومُتحدثهم " (¬2)، ¬

_ (¬1) حديث " إنما أنا لكم مثل الوالد ... " رواه الشافعي من حديث أبي هريرة (الأم 1/ 18)، ورواه ابن خزيمة: 1/ 43 باب 8620، وابن حبان 4/ 279 ح 1431، والدارمي 1/ 182 ح 1428، وأبو داود: الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، ح 8، والنسائي: الطهارة، باب النهي عن الاستطابة بالروث، ح 40، وأبو عوانة: 1/ 200، وابن ماجة: الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة، ح 313، وصححه الألباني. (ر. التلخيص: 1/ 102 ح 122، وصحيح ابن ماجة ح 252، مختصر المزني: 1/ 11). والرمة: العظام البالية. (¬2) قال الحافظ: "رواه أبو داود، وابن ماجة، والحاكم من حديث أبي سعيد الحميري عن معاذ بلفظ "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، والظل، وقارعة الطريق" وصححه ابن السكن، والحاكم، وفيه نظر" ا. هـ بنصه. ثم قال: رواه مسلم بلفظ: " اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو ظلهم ". وأما الرواية بلفظ: " اتقوا الملاعن وأعدوا النبل " فقال عنها الحافظ: " عن الشعبي مرسلاً، ورواه ابن أبي حاتم في العلل مرفوعاً، وصحح أبوه وقفه " ا. هـ (ر. أبو داود: الطهارة، باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول فيها، ح 26، ابن ماجة: الطهارة، باب النهي عن الخلاء في قارعة الطريق، ح 328، الحاكم: 1/ 167، التلخيص: 1/ 105، 107، ح 132، 139).

والنُّبْل جمع نُبلة وهي الحصاة الصغيرة. ولا ينبغي أن يتدانى مجلسُ اثنين يقضيان الحاجة، ويتحدثان، وينبغي ألا يكشف المرء عورتَه قبل الانتهاء إلى مَوضع الجلوس. قال العراقيون: لا ينبغي أن يبول في الماء الراكد، وتحت الشجرة المثمرة، ولا يستقبل الشمسَ والقمر. ويروون في هذه الأشياء أخباراً. ومن الجوامع الاستنزاه عن البول، قال النبي عليه السلام: " استنزهوا من البول؛ فإن عامةَ عذاب القبر منه " (¬1) ثم من الاستنزاه أن يتوقَّى البولَ في العَزَاز (¬2)، ويرتادَ موضعاً دَمِثًا (¬3)، ولا يستقبلَ مَهابّ الرياح، ويهتمَّ بالاستبراء، فيمكثَ بعد انقطاع القطر، ويتنحنح، وكلٌّ أعرَف بطبعه. والنتر (¬4) مما ورد الخبر فيه، وهو أن يمرّ إصبعاً من أصابعه أسفل القضيب، ليُخرج بقتةً، إن كانت. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البول في الجُحر، وقال: "إنها مساكن إخوانكم من الجن" (¬5). ¬

_ (¬1) حديث " استنزهوا من البول ... " قال الحافظ: " رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وفي لفظ له وللحاكم وأحمد وابن ماجه " أكثر عذاب القبر من البول "، وأعله أبو حاتم، فقال: إِن رفعه باطل " ثم قال: "وفي الصحيح عن ابن عباس فىِ قصة صاحبي القبرين: "أما أحدهما، فكان لا يستنزه من البول" (ر. تلخيص الحبير: 1/ 106 ح 136، والدارقطني: 1/ 128، والحاكم: 1/ 183، وأحمد: 2/ 326، وصحح الشيخ شاكر إِسناده برقم 8313 ج 16 ص 143، وابن ماجة: الطهارة، باب التشديد في البول، ح 348، والبخاري: الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله، ح 216). (¬2) العزاز: الأرض الصلبة. (القاموس) (¬3) دَمث المكان: لان وسهل. (القاموس). (¬4) استنتر من بوله: اجتذبه، واستخرج بقيته من الذكر، والنتر جذبٌ فيه جفوة. (القاموس). (¬5) رواه أحمد: 5/ 82، وأبو داود، الطهارة، باب النهي عن البول في الجحر، ح 29، والنسائي، الطهارة، باب كراهية البول في الجحر، ح 34، والحاكم: 1/ 186، والبيهقي: 1/ 99، وفي الأصل، ومثلها (ل): " الجحرة " وزان عنبة جمع جحر، والتصويب من كتب الحديث.

وإذا كان في بنيانٍ، فإنا نؤثر له إذا أراد دخولَ ذلك البيت أن يقدّم رجله اليسرى، وفي الخروج يقدّم رجله اليُمنى، على الضدِّ من دخول المساجد، والخروج منها. ويقول عند الدخول: بسم الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول عند الخروج: الحمد لله الذي أذهب عنّي ما يؤذيني، وأبقى عليّ ما ينفعني. ولا يستصحب شيئاًً عليه اسمٌ معظم، ولا يدخل ذلك البيتَ حاسِرَ الرأس، ويتكىء إذا جلس على رجله اليُسرى، ولا يستنجي في موضع قضاء الحاجة. وقد وردت أخبار فيما عدَّدْناه. 126 - ثم يتصل بما ذكرناه القول في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة. والكلام في ذلك قسمان: يتعلق أحدهما بما يحرم، ويتعلق الثاني بالآداب. فإذا كان الرجل في مكانِ بارزٍ حرُم عليه استقبالُها، واستدبارُها عند قضاء الحاجة. ولو كان في عَرْصَةِ دارٍ، فهو بارزٌ يحرم عليه الاستقبال والاستدبار للقبلة، وإن كان في بيت يُعدّ ساتراً، لم يحرُم عليه الأمران، ولكن الأدب أن يتوقاهما، ويُهيىءَ مجلسه مائلاً عن الاستقبال والاستدبار (¬1). ولو كان بينه وبين صوب القبلة ما يستره، كفى ذلك، وزال التحريم فيما ذكرناه. وينبغي أن يكون مجلسه قريباً من الساتر. وذكر بعضُ المصنفين أنه ينبغي أن يكون بينه وبين الساتر ما يكون بين الصفّين، وهو قريب من ثلاثة أذرعٍ، وإن كان أقرب، كان الستر أبلغ. وهذا تقريب لا بأس به. ولو تستّر في الصحراء بوَهْدَةِ، أو شيء آخر، زال عنه التحريم، ولو أناخ راحلتَه وتَستَّر بها، فهو مستترٌ، وقد رُوي ذلك عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) هنا في هامش (م) بخط مغاير، ما نصه: "حاشية: ولو كان في مرحاضِ مرتب هُييء لذلك، وهو على جهة القبلة، فلا يحرم، ولا يكره، لكن الأولى أن يجلس مائلاً عن القبلة، ما أمكنه، ويستنجي في مكان قضاء حاجته، بالماء في المرحاض المذكور دون غيره. والله أعلم".

باب في الاستنجاء

ولو أرخى ذيله في قُبالة القبلة، فقد ذكر رضي الله عنه (¬1) فيه: وجهين في أن ذلك هل يكون تستراً؟ والوجه عندي القطع بأنه تستر؛ فإن المحذور ألا يستقبلَ القبلةَ ولا يستدبرها بإحدى سوأتيه، وهذا المعنى يزول بإرخاء الذيل. والقدر المعتبر في الساتر أن يستر من الجالس لقضاء الحاجة ما بين سُرَّتِه إلى موضع قدميه، وهو قريب من مقدار مُؤخَّرة الرَّحْل. [باب] (¬2) 127 - إذا خرج خارجٌ من أحد السبيلين ملوِّث، وجب فيه الاستنجاء. والقول في مضمون الباب يتعلق بفصولٍ: أحدها - فيما يوجب خروجه الاستنجاء. والثاني - فيما يستنجى به. والثالث - في كيفية الاستنجاء. والرابع- في انتشار النجاسة في خروجها. باب في الاستنجاء فصل [فيما يوجب الاستنجاء] (¬3) 128 - فأما ما يوجب الاستنجاء، فكل عينٍ ملوِّثةٍ. والريح لا يوجب خروجُها الاستنجاءَ، ولا فرق في العين الملوثة بين أن تكون نجاسةَ البلوى، وبين أن تكون نجاسةً نادرة، كالدم والقيح. ¬

_ (¬1) الذي ذكَرَ وجهين -كما صرح باسمه النووي- هو (بعض المصنفين) وليس ابن عمر، كما قد يتبادر. وهنا يظهر إِنصاف إِمام الحرمين، فمع تحامله على (بعض المصنفين) -ويعني به أبا القاسم الفوراني- إِلا أن ذلك لم يمنعه من النقل عنه، واختيار (تقريبه) كما مر آنفاً بل يترضى عنه. (ر. المجموع: 2/ 79). (¬2) في النسخ الثلاث (فصل) وسوغ لنا هذا التغيير مضمون كلام الإِمام في السطور التالية. (¬3) زيادة من المحقق.

ولو خرجت حصاةٌ أو دُودةٌ، فلم يقع لوث محسوس، ففي المسألة وجهان: أصحهما - وجوب الاستنجاء؛ فإنها لا تخلو عن لوثةٍ، وإن كانت [خفية] (¬1). [فصل] [فيما يُستنجى به] (¬2) 129 - وأما القول فيما يستنجى به، فإن آثرَ القاضي حاجتَه استعمالَ الماء، فليكن طهوراً، [كما] (¬3) سبق وصفه. وإن آثر الاقتصار على استعمال جامدٍ، فالخبر واردٌ في الأحجار، ولكن كلّ ما يقوم مقامها في المقصود، فهو بمثابتها، ولم يُعيّن الأحجارَ إلا أصحابُ الظاهر، وسنذكر السرَّ المعنوي في ذلك، في الفصل الذي بعد هذا. فليكن ما يستنجى به عيناً طاهرة، منشِّفةً، غيرَ محترمَةٍ. فلو استنجى برَوثة، لم يجز، ولا يُعتدُّ به؛ فإن استعمالها يُثبت في محل النجو نجاسةً زائدةً غيرَ نجاسةِ البلوى. والاقتصارُ على المسحات يختص بنجاسة البلوى، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الروث (¬4) فهذا اشتراط [طهارة] (¬5) المستعمَل. وأما قولنا: "منشِّفة"، فالمعنيُّ به أن الجامدات ينبغي أن تكون بحيث يتأتى بها قلعُ النجاسة، فلو كان ما استعمله أملسَ، لم يعتد به؛ فإنه لا يقلع النجاسةَ، ويبسُطها، ويُعدِّيها عن محلّها، إلى غير محلّها. ¬

_ (¬1) في الأصل: خفيفة، والمثبت من (م)، (ل). (¬2) زيادة من المحقق. (¬3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، وقد صدقتنا (م)، (ل). (¬4) النهي عن الاستنجاء بالروث، رواه الشيخان، وأصحاب السنن، وأحمد، والدارمي (ر. البخاري: الوضوء، باب لا يستنجى بروث، ح 156 وباب الاستنجاء بالحجارة، ح 155، مسلم: الطهارة، باب الاستطابة، ح 262). (¬5) زيادة من (م)، (ل).

وأما قولنا: "غير محترمةٍ"، فالمراد تحريمُ استعمال المطعومات، والأشياء التي عليها كتابة محترمة معظَّمة، مما يُحفظ، فالمحترَم هو الذي يحرم استعمالُه في النجاسة، فإذا فرض استعمالُ محترمٍ، انتسب المستعمِلُ إلى المأثم، وفي سقوط الفرض وجهان: أحدهما - أنه يسقط؛ لحصول ارتفاع النجاسة. والثاني - لا يسقط؛ لأن الاقتصارَ على الأحجار من الرُّخص، والرُّخص لا تناط بالمعاصي. وهذا الاختلاف يُضاهي الاختلافَ في المسح على الخُف المغصوب، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وحكى الأئمّة اختلافَ نصّ الشافعى في الاستنجاء بالتراب، والذي يجب القطع به أنه أراد بالتراب المدَرَ (¬1) المتماسكَ لمَّا نصّ [على] (¬2) الاستنجاء به. ومن شبّب من المصنفين بترديد الجواز في التراب المنتثر، فهو غالط؛ فإنَّ التراب يلتصق بالنجاسة، ولو قُدّر تحامل، انتشرت النجاسة، ونُقلت عن محلها. ونقل البُويطي جوازَ الاستنجاء بالحُممَةِ (¬3)، ونقل غيرُه منعَ ذلك، وقطع المحصّلون بتنزيل النصين على حالين، فإن كانت الحممةُ صُلبةً، لا تنتثر، وتقلع النجاسة، جاز الاستنجاءُ بها، وإن كانت رخوةً تنتثر، لم يجز، وتَخيّلُ التردد في ذلك غلط. ولو استنجى بعصفورةٍ حيّةٍ، عصى ربَّه، وإذا انقلعت النجاسة، ففي سقوط الفرض الوجهان المقدمان في استعمال الأشياءِ المحترمة. ولو استنجى بيد غيره، فهو كالاستنجاء بالعصفورة، ولو استنجى بيد نفسه، فالوجه القطع بالإجزاء؛ لحصول القلع، وانتفاءِ المأثم؛ فإنه لا حرج على المرء في تعاطي النجاسة باليد، ومن خرّج الصورة الأخيرة على الخلاف، فغالط. ¬

_ (¬1) المدر: الطين اللزج المتماسك (المعجم). (¬2) في الأصل: عن، والمثبت تقدير منا، صدقته (م)، (ل). (¬3) الحممة: واحدة الحُمم، وهو الفحم والرماد، وكل ما احترق من النار (المعجم).

أما الاستنجاء بالجلد الطاهر الجافّ، فقد نقل حرملةُ (¬1) امتناعَه، ونقل البويطي أنه يجوز الاستنجاء به، ونقل الربيع أنه إن كان قبل الدباغ، لم يُجْزه، وإن كان بعده يجوز، فمن أصحابنا من يجعل ذلك أقوالاً. ووجّه المنعَ بأنه من المأكولات، ووجّه التحليلَ بكونه طاهراً منشِّفاً غيرَ محترمٍ؛ فإن استعمالَ الجلد في النجاسة غيرُ محرم. ومن فصّل، قال: الجلد قبل الدباغ دسم غير نشاف، وإذا دُبغ، فهو نشاف. ومن أصحابنا من قال: المذهب ما نقله الربيع، والقولان المطلقان في النفي والإثبات محمولان على ما قبل الدباغ وبعده. وكان شيخي يقول: العظم الطاهر إذا جفّ، وصار بحيث لا يؤكل لجفافه، فلا يجوز الاستنجاء به؛ لأنه على الجملة من المطعومات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه طعام إخوانكم من الجنّ" (¬2). ¬

_ (¬1) حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي، المصري، أبو حفص، من أصحاب الشافعي، أحد الحفاظ المشاهير، وكبار رواة مذهبه الجديد، صنف المبسوط، والمختصر. ولد سنة ست وستين ومائة، ومات في شوال سنة ثلاث، وقيل: أربع وأربعين ومائتين. والتجيبي نسبة إِلى تجيب بتاء مثناة من فوق مضمومة، وقيل مفتوحة، ثم جيم مكسورة، بعدها مثناة من تحت، ثم ياء موحدة، وهي قبيلة نزلت بمصر. (له ترجمة في طبقات السبكي: 2/ 127، وطبقات الإسنوي: 1/ 28، وطبقات الفقهاء للشيرازي: 99، ووفيات الأعيان: 2/ 64). (¬2) حديث النهي عن الاستنجاء بالعظم "فإنه طعام إِخوانكم من الجن" رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وساقه في باب ذكر الجن، بأتم مما ساقه في الطهارة، ورواه مسلم من حديث ابن مسعود (ر. البخاري: الوضوء، باب الاستنجاء بالحجارة، ح 155، كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، ح 3860، مسلم: الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، ح 450، تلخيص الحبير: 1/ 109 ح 143).

[فصل] [في كيفية الاستنجاء] (¬1) 130 - فأما القول في كيفية الاستنجاء، فهاهنا ينبغي أن يتثبّت الناظر. فإن أراد القاضي حاجتَه أن يستعمل الماء، فالمرعيُّ فيه إزالة العين والأثر، كما يُعتبر ذلك في إزالة النجاسات كلِّها عن مواردها. فأمّا إذا أراد الاقتصارَ على الأحجار، فمما يجب الاعتناءُ به أن الاقتصار خارج عن قاعدة إزالة النجاسة؛ فإن إزالة أثر نجاسة البلوى ممكن، لا تعذُّر فيه، وقد يكون استعمالُ الأحجار أعسر من استعمال الماء، وليس ذلك على قياس الأبدال، التي يتوقف الأمر فيها على إعواز المبدلات، كالتراب في التيمم مع الماء، وإلا لم يجز الاقتصار على الأحجار عند وجود الماء، وليس ذلك معفوّاً عنه أيضاً، إلحاقاً بما يعفى عنه من دم البراغيث والبثرات وغيرها، وليست نجاسة البلوى متواصلةً كدم الاستحاضة. 131 - وقد ذهب أبو حنيفة (¬2) إلى أن النجاسة معفوٌّ عنها، واعتقد الاستنجاء أدباً، ثم تعدّى من بعد ذلك إلى تقدير المعفوّ عنه من النجاسة بقدر درهم، أخذاً من نجاسة البلوى، وإنما حمله على ذلك خروج الأمر في هذه النجاسة عن قواعد الإزالات والرخص كلها، [بدليل جواز الاقتصار على الأحجار] (¬3)، وهذا غلطٌ ظاهر؛ فإنا على اضطرارٍ نعلم أن الذين كانوا يقتصرون على الأحجار، كانوا يستنزهون عن مثاقيل الذرّ من النجاسة على أبدانهم وثيابهم، ولا يشكّ ذُو فهمٍ أنهم لم يُجروا سائر ¬

_ (¬1) زيادة من المحقق، بناء على قول الإِمام في أول الموضوع: إِنه يقع في فصول أربعة. (¬2) ر. بدائع الصنائع: 1/ 18، الهداية مع فتح القدير: 1/ 187، رؤوس المسائل: 106 مسألة: 13، حاشية ابن عابدين: 1/ 84، 210، 223، 224، 226. (¬3) ما بين المعقفين مقحم بين سطور الأصل، مع إِشارة نسخة أخرى، وبدون تحديد مكانه في النص، فوضعناه حيث قدرنا استقامة الكلام معه، وهو ساقط من (م)، (ل).

النجاسات مجرى نجاسة البلوى، وأنهم كانوا يروْن الاقتصار مختصّاً بهذه النجاسة المخصوصة. ثم ثارت مذاهبُ متناقضةٌ، فيما نَبّهنا عليه من الإشكال والخروج عن القواعد. أما أصحاب الظاهر، فإنهم عينوا الأحجار، ولم يقيموا غيرها (¬1) مقامها، وليس ذلك بدعاً من مذهبهم [في] (¬2) اتباع موارد النصوص. وأما مالك (¬3)، فإنه فَهِمَ التعبدَ بزالة عين النجاسة، والعفو عن أثرها، فأقام غيرَ الحجر مقامه، ولم يوجب رعايةَ العدد، وقال: إذا حصل الإنقاء بحجر أو حجرين، كفى، ولا يشتَرِط رعاية العدد. 132 - وأما الشافعي، فإنه رأى العددَ مرعيّاً، وقال: لو حصل الإنقاء بحجر واحدٍ، تعيّن استعمالُ الثاني والثالث، والإنقاء والعدد جميعاًً مرعيان عنده. وهذا المذهب متردّدٌ بين التعبّد واعتبار المعنى؛ فإنه من حيث أقام غيرَ الأحجار مقام الأحجار، فقد قال: الغرضُ آلةٌ تُنقي، ولا تنقل، فهذا مصيرٌ منه إلى اعتبار الإنقاء، ولما أوجب مراعاةَ العدد، كان هذا خروجاً عن اعتبار الإنقاء. وإنما ذكرت مسالك العلماء تنبيهاً على محلّ الإشكال. ثم ما ذكره الشافعي هو المسلك المقتصد، والمنهج الوسط، ووجهه أنا فهمنا أن الغرض رفعُ عين النجاسة، ومن أنكر هذا الأصل، فهو جاحدٌ؛ فليس استعمالُ الأحجار في الاستنجاء بمثابة رمي الجمار؛ فإن الرميَ لا يعقل منه غرض، ولا محمل له إلا التعبّدُ المحض، والتزام الأمر؛ فتعيّنت الأحجار فيها، وأمّا الاستنجاء، فالغرض منه معقول، لا يُتمارى فيه؛ فاقتضى ذلك إقامةَ غير الأحجار مقام الأحجار. ¬

_ (¬1) ساقطة من: (د 3). (¬2) في الأصل، (د 3)، (م): من. (¬3) ر. الإشراف: 1/ 140 مسألة 67، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد القيرواني: 1/ 151، 155، جواهر الإِكليل: 1/ 19.

وأما العدد، فلا ننكر فيه تعبداً وراء حصول الإنقاء، كالعدد المرعيّ في غسل الإناء من ولوغ الكلب. على أنه لا يمتنع أن يقال: قد يبعُد تقديرُ حصول الإنقاء بحجر واحدٍ، وموقع النجاسة ليس منظوراً إليه، ولا تستمكن اليد من التصّرف التامّ فيه؛ فاقتضى مجموع ذلك استظهاراً باعتبار العدد، ثم إن فرض استيقان الإنقاء على ندور، طُرد التعبّد بالعدد فيه. فهذا وجه معقولٌ، وأصل هذا التخفيف خارج عن قياس الأصول، وإذا اتجّه وجه في أمر الشارع، تعيّن اتباعُه، وقد قال النبي عليه السلام: "وليستنج بثلاثة أحجارٍ" (¬1). وأتاه ابنُ مسعود بحجرين وروثة، فرمى الروثة، وقال: " ابغ لي ثالثاً " (¬2). فأما اعتقاد التخصيص بالحجر، مع فهم كون الإنقاء مقصوداً، فلا وجه له، وإن ورد الأمر مختصاً بالحجر، فهو محمول على الموجود الغالب في حرّة المدينة. فهذا تمهيد مذهب الشافعي. ثم الذي راعاه الشافعيُ عددُ المسحات، فلو استنجى الرجل بحجر له ثلاثة أحرفٍ، واستعمل الأحرف، فقد راعى العدَد. ولو استنجى بحجر، ثم غسله واستنجى به بعد الجفاف ثانيةً، ثم بعد ذلك ثالثةً، كفاه. 133 - وإن أطلتُ الكلامَ فيه، فليُحتمل؛ فإن غرضي الأظهر في وضع هذا الكتاب التنبيهُ على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صُورَ الأحكام، والمسائلَ فيه غيرُ معدومةٍ ¬

_ (¬1) حديث " وليستنج بثلاثة أحجار " جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق الحديث عنه آنفاً (فقرة 125). وبلفظٍ مقارب عند مسلم من حديث سلمان: كتاب الطهارة، باب الاستطابة، ح 262. (¬2) فأما حديث ابن مسعود: " رمى الروثة، وقال: ابغ لي ثالثاً " فالحنفية لم تصح عندهم الزيادة " ابغني ثالثاً " وقالوا: اكتفى صلى الله عليه وسلم بحجرين، فدلّ أن العدد ليس بشرط. وهذه الزيادة رواها أحمد بسنادٍ رواته ثقات، قاله الحافظ في التلخيص. (ر. المسند 1/ 450، تلخيص الحبير: 1/ 110 ح 145).

في المصنفات، فهذا أصل الباب، ومنه تتشعّبُ المسائل. 34 - ثم ينبغي ألا يُحدث نجاسةً سوى نجاسة البلوى، فلو استعمل الرجل روثةً، فقد ذكرنا أن الفرض لا يسقط به، ثم لو أراد بعد ذلك الاقتصار على الأحجار، لم يجز؛ فإنه باستعمال الروث أحدَثَ نجاسةً أجنبيّة، وقد تقرّر أن الاقتصار على الأحجار يختصّ بنجاسة البلوى، فيتعيّن إذاً استعمالُ الماءِ. ولو استعمل حجراً أملسَ، فإنْ نقل النجاسة، تعيّن استعمالُ الماء؛ فإنه كما يختصّ [ما ذكرناه] (¬1) بنجاسةِ البلوى، كذلك يختصّ بالمحلِّ المخصوص. وإن وضع الحجرَ الأملس، ورفعه، ولم ينقل النجاسة، ثم أراد استعمالَ الأحجار المنشِّفة بعد هذا، جاز. ولو استعمل حجراً مُبتلاًّ، لم يجز؛ فإنه لا ينشّف، فإن انبسطت النجاسة بهذا السبب، وتعدّت محلَّها، تعيّن استعمالُ الماء. وإن لم تنبسط النجاسةُ، وأراد أن يستعمل بعد ذلك الحجر المبتلِّ أحجاراً ناشفةً منشفة، فقد كان شيخي يمنع ذلك ويقول: ذلك البلل يتنجّس بملاقاة النجاسة، فيصير في حكم نجاسة أجنبيّة؛ فيتعيّن استعمال الماء. وَلي في هذا نظرٌ؛ فإن عين الماء لا تنقلب نجساً، وإنما تجاوره النجاسة أو تخالطه. 135 - وفي هذا الفصل بقية فقهٍ، تتعلق بكلامٍ بعد هذا. ولو خرجت نجاسةٌ نادرةٌ كالدّم والمذيّ، ففي جواز الاقتصار على الأحجار قولان: أحدهما - يجوز؛ فإنّا لم نتعبّد بالإحاطة بأصناف النجاسات الخارجة. والثاني - لا يجوز؛ فإنه تخفيفٌ غيرُ منقاسٍ، ورد في نجاسة البلوى. وقال العراقيون: القولان في نجاسة نادرةٍ يتعلق بخروجها الوضوء، فأمّا ما يتعلق به الغُسل، وهو دمُ الحيض، فيتعيّن في إزالته الماء قولاً واحداً، وهذا ليس بعيداً عن الاحتمال. ¬

_ (¬1) زيادة من (ل).

136 - ومما يتعلّق بالاستنجاء كيفيّة استعمال الأحجار. وفيه فصلان. أحدهما - في كيفية إعمال الحجر، فينبغي أن يوضع الحجر بالقرب من النجاسة، ثم يجري ملصقاً بالجلد حتى ينتهي إلى النجاسة، ولو وضع على النجاسة، فإنه يخلّف شيئاًً وينقله، ثم إذا انتهى الحجر إلى النجاسة، فلو أجراه على هيئة الإدارة، وكان يبغي أن يلقى كل جزءٍ طاهرٍ من الحجر أجزاء من النجاسة، فهذا إن فعله غيرُ ممتنعٍ. واختلف أصحابنا في أنّه هل يجب ذلك؟ فقال بعضهم: يجب، لما ذكرناه؛ فإنه لو أمرّ الحجرَ من غير إدارةٍ؛ فإنه يلقى الجزءَ الثاني من النجاسة، بما قد تنجّس من الحجر. وهذا غيرُ سديدٍ؛ فإنّا إنّما منعنا استعمال الروث؛ لأنه يُلحق بالمحل نجاسة أجنبيّة، والحجر في الصورة التي فيها الكلام إن تنجس، [فإنما تنجس بنجاسة البلوى، فلا تثبت] (¬1) نجاسة أجنبية، فلئن كان يوجه هذا الوجه، فالسبيل فيه أن من أمرّ الحجر من غير إدارة، فإنه ينقل النجاسة لا محالة، وإن كان يديره، فيخطف النجاسة، ولا ينقلها. وقال بعض الأئمة: لا يجب ذلك؛ فإن هذا تخفيفٌ لا يُوازنه في المساهلة رخصةٌ كما تقدّم، فلا يليق بوضعه تكليف الإدارة، وربط الأمر بكيفيةٍ لا يستقل بها إلاّ رجل صَنَاعُ اليد. وسرّ هذا الفصل يتضح بأمرٍ، وهو أن المقتصر على الأحجار لو كُلّف ألاّ ينقل النجاسةَ في محاولة رفعها أصلاً، لكان ذلك تكليفَ أمرٍ يتعذّر الوفاء به، وذلك لا يليق بالفرائض التي ليست برُخص، فكيف يليق بما مبناه على نهاية التخفيف؟ فالقدر الذي يعسر -مع رعاية الاحتياط- التَصوّنُ منه في النقل، يجب أن يُعفى عنه، وهو بمثابة إلقاءِ الجَبيرة على محل الخلع؛ فإنه لا بدّ من أخذ أطرافٍ من المواضع الصحيحة، حتى تستمسك الجبيرة؛ فإذاً ما ذكره الأصحاب من النقل ومنعه عَنَوْا به ما لا ضرورة إليه، وهذا الذي ذكرته في النقل لم أره منصوصاً عليه للأصحاب، ولكن لا بدّ منه. فهذا أحد الفصلين. ¬

_ (¬1) ما بين المعقفين زيادة من: (د 3)، (م)، (ل).

[فصل] [في العدد] (¬1) 137 - فأما الثاني - فقد تقرّرَ أن العدد مرعيٌ في الأحجار، وقد ذكر الأصحاب وجهين في طريق رعايةِ العدد، فقال قائلون: لا بد من إيصال كلِّ واحدٍ من الأحجار إلى جميع المحَلّ، إلى استيعاب النجاسة. وقال آخرون: يستعمل حجراً في الصفحةِ اليمنى، وحجراً في الصفحة اليسرى، ويستعمل الثالث في ملتقى الحجرين الأولين، وهو المسرُبَة. 138 - توجيه الوجهين من طريق المعنى: من قال بالمسلك الأول، احتجّ بأن فائدة العدد توارُدُ الأحجار على محلٍ واحدٍ، وهذا إنما يتحقّق إذا استعمل كُلَّ حجرٍ في جميع المحل، والمسلك الذي ذكره صاحب الوجه [الثاني] (¬2) لا يتحقق معه فائدة العدد؛ فإنه لا ينتهي في كل موضعٍ إلا حجرٌ واحدٌ، فهو في التحقيق إيصال مسحةٍ بدفعاتٍ إلى جميع المحل. وقد يقال لناصر الوجه الأول: إذا عم الجزء الأولُ جميعَ المحل، فقد رفع طبقةً من النجاسة، ولا ينتهي إلى البشرة إلا الحجر الأخير، فالعدد راجعٌ إلى ترديد الأحجار على النجاسة. وكان شيخي يقول: الوجهان موضوعان على التنافي، فصاحب الوجه الأول لا يُجيز المسلك الثاني، وصاحب الثاني لا يجيز الأوّل. وقال العراقيون: الخلاف راجع إلى الأوْلى، والمسلكان جميعاً جائزان. وهذا الذي ذكروه بعيد في المعنى، ولكن نقل الصيدلاني خبرين نذكرهما. ¬

_ (¬1) زيادة من المحقق، رعاية لتقسيم المؤلف نفسه. (¬2) زيادة اقتضاها السياق، مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، وساقطة من (د 3). وصدقتنا (ل)، (م).

أحدهما - أنه عليه السلام قال: " حجرٌ للصفحة اليُمنى، وحجر للصفحة اليُسرى، وحجر على الوسط " (¬1) وهذا بظاهره يشهد للوجه الثاني. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وليستنج بثلاثة أحجارٍ، يُقبل بواحدٍ، ويُدبر بواحدٍ، ويحلّق بالثالث " (¬2). ومعنى الخبر عند من يرى الوجه الأول أنه يأخذ حجراً، فيمرُّه من مقدم الصفحة اليمنى، فيديره منها إلى الصفحة الأخرى، ثم يأخذ حجراً آخر، ويبدأ من الصفحة اليسرى، وينهيها إلى منتهى الصفحة اليمنى، ثم يدير الحجر الثالث على جميع المحلّ، وهذا القائل يحمل الخبر الذي رويناه أولا على ذلك؛ فيقول: يبدأ بحجر من الصفحة اليمنى إلى منتهى اليسرى، كما تقدّم، فيحمل ما ذكرناه من قوله: حجر للصفحة اليمنى على البداية بتلك الجهة، لا على التخصيص، وقوله: حجر للوسط محمول على الإدارة على جميع المحل، وهذا الأخير بعيد؛ فإنّ حملَ الوسط على الجميع لا يستقيم، فإن قيل: معناه يبدأ بالوسط، فلستُ أرى فيه معنى. والذي ذكره العراقيون من تجويز الأمرين يقوى بهذا الخبر. والعلم عند الله. 139 - ومّما يتعلقّ بكيفيّة الاستنجاء، أنَّ الاستنجاء باليمنى منهي عنه، وهو مكروه غير محرّمٍ، وقد حرّمَه أصحاب الظاهر، ثم إذا كان يستنجي من الغائط، فيستعمل ¬

_ (¬1) قال الحافظ: رواه الدارقطني وحسنه، والبيهقي، والعقيلي في الضعفاء. ا. هـ وقد حسّنه النووي في التنقيح. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 111، ح 148، الدارقطني: 1/ 56 - ح 10، باب الاستنجاء، والبيهقي: 1/ 114، والعقيلي في الضعفاء الكبير 1/ 16، التنقيح - بهامش الوسيط: 1/ 309). (¬2) قال ابن حجر في التلخيص: إِن الرافعي، تبع فيه الغزالي في الوسيط، والغزالي تبع الإِمام في النهاية، والإِمام قال: إِن الصيدلاني ذكره. وقد بيض له الحازمي والمنذري في تخريج أحاديث المهذب. وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط: لا يعرف ولا يثبت في كتاب حديث، وقال النووي في شرح المهذب: هو حديث منكر لا أصل له. ا. هـ بنصه. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 110، 111. ح 147، مشكل الوسيط لابن الصلاح: 1/ 309 بهامش الوسيط).

يُسراه في محل النجاسة، ويصب الماء بيُمناه، وإن كان يستنجي من البول، فلو أخذ الحجر بيمينه وأخذ العضو بيساره، فإنْ كان يحرك يسراه ويمينُه قارّة، فهو مستنجٍ باليَسار، وإن كانت يده اليُسرى مع العُضو قارّة، وكان يحرك الحجر في يده اليمنى، فهو مستنجٍ باليمنى، وإن كان يُعمل يديه ويحرّكهما، فقد ارتكب النهي بتحريكه يمناه. ولا شك بعد هذا كلّه أن الجمع بين الأحجار والماء هو المحبوب، وفيه نزل قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] الآية. [فصل] [في انتشار النجاسة] (¬1) 140 - فأما القول في انتشار النجاسة، فقد نقل المزني: " ويقتصر على الأحجار، ما لم تعْدُ النجاسةُ المخرج " (¬2)، ونقل عن القديم أنه قال: " ويقتصر على الأحجار، وإن انتشر، إذا لم يجاوز العادة في الانتشار ". فأوهم المزني أن المسألة فيها قولان. وكان شيخي ينقل عن الربيع أنه قال: " يقتصر ما دامت النجاسة بين الإليتين، فإن ظهرت على ظاهر الإليتين، فقد تعيّن الماءُ ". وقد ساعد بعضُ الأصحاب المزنيَّ في تخريج المسألة على أقوال، وهذا غلط، لا يعدّ من المذهب، والأصل اعتبار العادة في الانتشار، وما نقل عن الربيع قريبٌ مما ذكره عن الشافعيّ، وإن لم يكن ما ذكره حدّاً يوقف عنده، بل الوجه إحالة الأمر على العادة. وأمّا ما ذكره المزني، فمأخوذ عليه، فإن الشافعيّ قال: " ما لم تعْدُ النجاسةُ المخرجَ، وما حوله "، فأغفل المزني: " وما حوله ". والدليل على ما ذكرناه من رد الأمر إلى العادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الاقتصار على الأحجار رخصةً في ¬

_ (¬1) العنوان من عمل المحقق، أخذاً من تفصيل الإِمام في أول الباب. (¬2) ر. المختصر: 2/ 11.

حق عامّة الخلق، على عموم الأحوال، مع العلم باختلاف الخلق والأحوال، والظاهر الانتشار في غالب الأمر، فلا ينبغي أن نستريب في أن التعدّي المعتاد لا يمنع الاقتصار على الأحجار. 141 - ولكن يتطرّق إلى ذلك إشكال معنوي، فإن النجاسة إذا كانت متبعّرة أو قريبةً من التبعّر، فقد تنفصل من غير تلويثٍ يتعدَّى إلى [ملتقى الشرج] (¬1) إطارِ المنفذ، فإن فُرضتْ لوثَةٌ على الملتقى، فتيكَ تخطفها الأحجار، ويعفى عن الأَثر الباقي، وإن رقَّت النجاسة بَعض الرقّة، وانتشرت إلى معاطف الشرج المطبقة بالمنفذ، فإن النجاسة تغوص في أثناء تلك المعاطف، والأحجار تلاقي ظاهرها، وتبقى الأعيان على تلك المعاطف مندفنةً، وإزالة عين النجاسة لا بدّ منها. وقد بلغني أن بعض الناس سأَلَ عليّاً عن الاقتصار، فلعله رضي الله عنه تفرّس فيه خروجاً عن الاعتدال، فقال: " كنا نبعر بعرات وأنتم تثلطون ثَلطاً " (¬2)، فهذا وجهٌ في الإشكال من جهة المعنى، ولم أذكره لأدعوَ إلى التردّد في أن عين النجاسة إذا انتشرت انتشاراً معتاداً، فهل يجوز الاقتصار على الأحجار فيها؛ فإنّ إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة الاقتصار قاطعٌ، كما سبق ذكره وتقريره. ولكن ينبغي أن يتنبّه الفقيه للعفو عن أعيان النجاسة في الصورة التي ذكرناها. وهذا الإشكال لا [يجري] (¬3) في حق من يستعمل الماء؛ فإنه بلطافته ينفذ إلى ¬

_ (¬1) في العبارة اضطراب واضح: ففي الأصل: " تلويث يتعدى إِلى الشرج ملتقى أطاب المنفذ " وفي د3: " ... تلويث يتعدى إِلى الشرج أطاب المنفذ "، وأطاب الشيء جعله طيباً، أو وجده طيباً، وأطاب: استنجى، وأطاب أزال الأذى والقذر. (المعجم - والقاموس). وفي (ل): "يتعدى إِلى الشرج ويلتقي أطارَ المنفذ " وفي (م) " يتعدى إِلى الشرج ملتقى لطار المنفذ ". والمثبت تقديرٌ منا، مؤلَفٌ من كلمات النسخ الأربع. (انظر العبارة مصورة من المخطوطات في آخر هذا المجلد). (¬2) ثلط الصبي ثلّطاً: سلح سلّحاً غير متماسك. والثلط: الغائط غير المتماسك. وأثر علي رضي الله عنه، رواه البيهقي في السنن الكبرى: 1/ 106. (¬3) في الأصل: يُجدي. والمثبت تقدير منا، وقد صدقته (ل).

حيث تنتهي النجاسة إليه من معاطف الشرج، وإذا استعين بالدّلك مع صب الماءِ وانحصرت بسببه تلك المعاطف، زالت النجاسة. ولو انتشرت النجاسة انتشاراً معتاداً، ولكن ترشّش منها شيء إلى محلٍّ منفصل، فيتعين غسلُ ذلك المحل، وإن كان قريباً من محل النجوِ، وكان بحيث لو فرض اتصال نجاسة البلوى به، لما كان مجاوزاً حدّ الاعتياد، والسبب فيه أنه منفصلٌ عن محلّ النجو بالفاصل الذي لم تبلُغْه النجاسة. هكذا ذكره الصيدلاني، والأمر على ما ذكره. ولو قضى الرجل حاجتَه، ثم قام وخطا، واحتكت إحدى إليتيه بالأخرى، وتعدّت النجاسة بهذا السبب أدنى تعدّ، تعيّن استعمالُ الماء، فإنه المتسبّب إلى التعدّي من غير حاجةٍ وضرورة. فرع: 142 - نصّ الشافعي على أن من توضأ، ثمّ استنجى، ولم يَمسّ فرجَه أنه متطهر، ونصّ أن من قضى حاجته، وتيمّم، ثم استنجى، لم يصح تيمّمه. فمِن أصحابنا من قال: في [المسألتين] (¬1) قولان، وتقدير القولين في الوضوء بعيدٌ جدّاً، ولولا أن المزني نقل في (المنثور) (¬2) قولاً عن الشافعي أن الوضوء لا يصح، لما عددت هذه الطريقةَ من المذهب. وصار الأكثرون إلى القطع بالصحّة في الوضوء، وخرّجوا القولين في التيمّم. والفرق أن التيمّم طهارةٌ ضعيفةٌ، لا تقدم على دخول وقت الصلاة؛ فإنّها طهارة ضرورة، فإذا لم يَستعقب جوازَ الصلاة. لم يصح. وإذا تيمم، ثم استنجى، فالتيمم لم يستعقب جواز الصلاة، وهذا غيرُ سديدٍ (¬3) عندي. ولو كان على بدن المتيمّم نجاسةٌ، ومعه من الماء ما يكفي لإزالتها من غير مزيد، ¬

_ (¬1) في الأصل: المسألة. (¬2) المنثور: كتابٌ للمزني. (¬3) ر. الأم: 1/ 19.

فقد ذكر بعضُ أصحابنا أن تقديم التيمّم على إزالتها مخرج على الخلاف، وهذا بعيدٌ جدّاً، وإن كان الفرق يعسر بينها وبين نجاسة البلوى. ولا نعرف خلافاً في أنّ من تيمّم وهو عارٍ، ثم اكتسىَ، جاز، وإن كان التيمم لا يستعقب جواز الصلاة إلى أن يكتسي. ***

باب الأحداث

باب الأحداث 143 - الأحداث يكنى بها عن نواقض الوضوء والغُسل. ومقصود هذا الباب ذكر ما يوجب الوضوءَ. فنواقض الوضوء أربعةٌ: خروج الخارج عن أحد السبيلين، والغلبةُ على العقل، ولمسُ الرجل المرأة، والمرأة الرجلَ، ومس الفرج. فأما القسم الأول - فكل خارج خرج من أحد السبيلين، أوجب خروجُه الوضوءَ، سواء كان عيناً، أو ريحاً، ولا فرق بين أن يخرج من القبل، أو من الدُبر، وإنما يخرج الريح من قُبل صاحب أُدْرة (¬1)، أو استرخاء أُسْرٍ (¬2)، ولا فرقَ بين أن تكون العينُ الخارجةُ نجاسةً مُعتادة أو نادرةً، فالوضوء ينتقض بجميع ذلك. ولا ينتَقضُ الوضوءُ بالقيء والرُّعاف، والحجامة، والفصد، وخروج شيءٍ من الخارجات من غير المخرج المعتاد عند الشافعي. ومعتمد الشافعي في هذا الباب أن وجوب الوضوء بالأحداث غيرُ معقول المعنى، ثم ما لا يجول القياسُ في إثباته، لا ينتظم القياسُ في نفيه، وإذا كان كذلك، فتصير الظواهر نصوصاً، من جهة أن التحكم بتركها محالٌ، ولا يستدّ (¬3) في معارضتها قياسٌ محقق. 44 - ثم يتّصل بهذا القسم من الأحداث أنه لو انفتح سبيل، وكان يخرج منه ¬

_ (¬1) الأُدرة وزان غُرفة: انتفاخ الخُصية. (المصباح). (¬2) قال الفيروزآبادي في قاموسه، في تفسير قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28]: أي مفاصلهم، أو مَصَرّتي البول والغائط إِذا خرج الأذى تقبّضا، أو معناه: لا يسترخيان قبل الإِرادة. فالمراد هنا: استرخاء العضلات التي تتحكم في المخرج. (¬3) يستد: يستقيم.

الخارجات، فإن انسدّ السبيل [المعتاد] (¬1)، نُظر، فإن كان السبيل المنفتح أسفلَ من المعدة، وكان الخارج غائطاً أو بَوْلاً، فهو حدث ناقض؛ فإنه [قائم] (¬2) مقام السبيل المعتاد. وإن كان ذلك السبيل على المعدة أو فوقها، وكان الخارج النجاسةَ المعتادةَ، ففي انتقاض الطهارة قولان. وإن كان السبيل المعتاد منفتحاً، وانفتح معه سبيل آخر، فإن كان على المعدة أو فوقها، فما يخرج منه ليس بحدثٍ. وإن كان السبيل أسفل من المعد، ففي المسألة قولان، فالتعويل على انسداد المعتاد وانفتاحه، وعلى [محلّ] (¬3) المخرج الجديد. ثم مهما حكمنا بانتقاض الطهارة بخروج الحدث المعتاد من المخرج المنفتح، فلو كان الخارج منه شيئاً نادراً، كالدم وغيره، ففي انتقاض الوضوء قولان: أصحهما - الانتقاض؛ لأن السبيل سبيلُ الحدث، فلا فرق بين أن يكون الخارج منه نادراً، أو معتاداً، كالسبيل المعتاد. والثاني - لا ينتقض الوضوء؛ لأنا إنما نحكم بانتقاض الوضوء بخروج الخارج المعتاد، من حيث نعتقد أن هذا السبيل بدلٌ عن المعتاد، وإنما يتجه هذا في النجاسة المعتادة. وكان شيخي يقول: " إنما نحكم بانتقاض الطهارة بخروج النجاسة النادرة من السبيل المعتاد؛ لأنه لا يخلو خروجها عن خروج شيء من المعتاد، وإن خفي وقلّ ". ثم مهما لم نحكم بانتقاض الطهارة لخروج الخارج من السبيل الجديد، فيتعين إزالة تلك النجاسة باستعمال الماء. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والمثبت تقدير منا، وقد صدقتنا (م)، (ل). (¬2) ساقطة من الأصل، وأثبتناها من: (د 3)، (م)، (ل). (¬3) أثبتناها من (د 3)، (م)، (ل).

145 - وإذا حكمنا بانتقاض الطهارة، ففي جواز الاقتصار على الأحجار في إزالة تيك النجاسة ثلاثة أقوال: أحدها - الجواز، كالسبيل المعتاد. والثاني - أنه يتعين استعمال الماء لندُور المحل، مع أن الاقتصار على الأحجار خارج عن كل قياس. والثالث - أنه إن كان الخارج نجاسةً معتادةً، جاز الاقتصار في إزالتها على الأحجار، وإن كانت نجاسةً نادرةً، لم يجز؛ لأنه يجتمع ندورُ المحلّ والخارج. ثم إذا حكمنا بانتقاض الطهارة، فهل يثبت لذلك المخرج حكمُ السبيل المعتاد، حتى تنتقض الطهارة بمسّه، ويجب الغسلُ بالإيلاج فيه؟ فعلى وجهين. والمذهب أن ذلك لا يثبتُ. ثم هذا التردد على بعده لا يتعدّى أحكامَ الأحداث، فلا يثبت من الإيلاج فيه شيء من أحكام الوطء، سوى ما ذكرناه من التردّد في وجوب الغسل، وكان شيخي يتردّد في تحريم النظر إليه إذا كان فوق السُّرة، وهذا قريب أيضاًً. 146 - القسم الثاني - من نواقض الطهارة الغلبة على العقل، وذلك ينقسم إلى النوم وغيره. فأما غير النوم، فمهما زال العقل بجنونٍ، أو صرعةٍ، أو غَشْيةٍ، أو سكرٍ، ينتقض الوضوء، ولا فرق في هذه الأقسام بين حالةٍ وحالة، فلو جرى شيء منها والمرء قاعدٌ متمكّنٌ، نقض الوضوء، كما لو اضطجع. والدُّوار لا ينقض الوضوءَ مع بقاء التمييز، وقد ظهر اختلافُ قول الشافعي في أن السكران هل يكون كالصاحي في أقواله وأفعاله؟ ولكن السُّكر على القولين حدثٌ في ظاهر المذهب. وذكر بعض المصنفين أنّا إذا جعلنا السكران كالصاحي، لم نجعل السكر حدثاً، ونزّلناه منزلةَ الصاحي، وهذا بعيدٌ. 147 - فأما النوم، فنقول: الغفوة حديث النفس ليس بحَدث، كيف فرض، وإنما التفصيل في النوم إذا تحقق. فلو قيل: صِفوا لنا النومَ، وميّزوه عن الغفوة. قلنا: النومُ يُغَشِّي الرأسَ فتسكن به القوى الدّماغيّة، وهو مجمع الحواسّ، ومنبت الأعصاب، وإذا فترت، فترت

الحركاتُ الإرادية، ثم مبتدؤه من أبخرةٍ تتصعّد، فتوافي إعياءً من قوى الدماغ، فيبدو فتورٌ في الحواس، فهذا نعاسٌ وسِنةٌ، فإذا تم انغمارُ القوة الباصرة، فهذا أوّل النوم، ثم يترتب عليه فتورُ الأعضاء واسترخاؤها، وذلك غمرة النوم، فإذاً لا ينتقض الوضوء بالغفوة، وإذا تحقق النوم، لم يُشترط غايتُه؛ فإن الشافعي صار إلى انتقاض وضوء القائم النائم، ولو تناهى النوم، لخرَّ ساقطاً. ومعظم الإشكال يثور من التهاون بالجليات. 148 - فالآن نتكلم في حالات النائم، ونذكر سرَّ مذهب الشافعيّ، وقد يحتاج إلى الإشارة إلى مذاهب العلماء، ليتخلص من بينها مذهبُ الشافعي. فنقول: ذهب أبو موسى الأشعري في طائفةٍ إلى أن النوم في عينه ليس بحدث كيف فرض، وذهب المزني إلى أن النوم في عينه حدثٌ ناقض للوضوء كيف قُدّر، وطَرَدَ مذهبَه في القاعد المتمكّن من الأرض، وألحق النومَ بسائر جهات الغلبة على العقل، وخرَّج ذلك قولاً للشافعي، وإذا انفرد المزني برأي، فهو صاحب مذهب، فإذا خرَّج للشافعي قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو يلتحق بالمذهب لا محالة. وأما المشهور من مذهب الشافعي، فمسلكه ما نذكره، فنقول: لو لم يثبت عند الشافعي أخبار صحيحة في أن نوم القاعد لا ينقض الوضوء، لكُنَّا ننتحي ما اختاره المزني على قطعٍ، ونجعل النومَ في عينه حدثاً كيف فرض، ولكن روي في نوم القاعد نصوصٌ، فمنها: " ما روي أن النبي عليه السلام خرج للصلاة، فصادف طلحةَ نائماً قاعداً، فاحتوى عليه من ورائه، قال طلحة لما انتبه: يا رسول الله أفي هذا وضوءٌ؟ فقال: لا، أو تضع جنبك " (¬1)، فاستثنى نومَ القاعد، فقال قائلون من حَملةِ المذهب في ضبط المذهب: النوم الناقض هو الذي ينتهي النائمُ فيه إلى حالةٍ يتيسَّر خروج ¬

_ (¬1) لم أصل إِليه عن طلحة، ولكن أخرجه ابن عدي، والبيهقي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهو عند النووي في المجموع، وقد ضعفه البيهقي بانفراد (بحر بن كنيز) به، وقال عنه: ضعيف لا يحتج بروايته. (ر. السنن الكبرى: 1/ 120، نصب الراية: 1/ 45، المجموع: 3/ 120).

الحدث منه، ولو خرج لم يشعر به، فإذا نام القاعد ممكِّناً مقعدته من الأرض، فيبعد خروجُ الحدث، وإن خرج يشعر به غالباً. وهذا الضبط لا أرضاه؛ فإن من نام مستلقياً، فإليتاه ملتصقتان بالأرض، ولو استثفر بتُبانٍ (¬1) ونام مستلقياً، فطهارته تنتقض، مع بُعد خروج الحدث، وينتقض الوضوء بأول حدِّ النوم، كما تقدم معناه. 149 - ومالك يصير إلى أن الطهر لا ينتقض ما لم يثقُل النوم (¬2). فإذاً مأخذ المذهب الظاهر للشافعي، أنه وردت أخبارٌ مطلقة في إلحاق النوم بالحدث، كما روي أنه عليه السلام قال: " من استجمع نوماً، توضأ " (¬3)، وقال صفوان: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كنّا مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليَهُنّ إلا من جنابةٍ، ولكن من غائطٍ وبولٍ ونوم " (¬4)، فأجرى (¬5) النومَ بحكم هذه الظواهر حدَثاً، واستثنى نومَ القاعد للأخبار الصحيحة فيه. 150 - وأما أبو حنيفة، فإنه قال: من نام على هيئة من هيئات المصلّين قائماً، أو راكعاً، أو ساجداًً، لم يبطل وضوؤه (¬6). وظاهر مذهب الشافعي أن الوضوء ينتقض بالنوم على هذه الحالات. وحكى البُويطي قولاً للشافعي مثلَ مذهب أبي حنيفة، وغلّطه معظمُ الأئمة فيه. ثم أبو حنيفة لا يفْصل بين أن ينام في الصلاة، وبين أن ينام وهو غير مصلٍّ، فلا ¬

_ (¬1) التُبانُ وزان رمّان: سراويل صغيرة يستر بها العورة المغلظة. والاستثفار أن يدخل إِزاره بين فخذيه ملوياً. (القاموس). (¬2) ر. حاشية العدوي: 1/ 119، حاشية الدسوقي: 1/ 118، جواهر الإِكليل: 1/ 20. (¬3) رواه البيهقي من حديث أبي هريرة، بلفظ " من استحق النوم " وفسرها: بأن يضع جنبه، ثم قال: لا يصح رفعه (السنن الكبرى: 1/ 119) وقال الحافظ: وروي موقوفاً وإسناده صحيح، وقال الدارقطني في العلل: إِن وقفه أصح. (التلخيص: 1/ 118 ح 160). (¬4) حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه سيأتي في باب المسح على الخفين، الفقرة: 396. (¬5) أي الشافعي رضي الله عنه وأرضاه. (¬6) ر. بدائع الصنائع: 1/ 31، حاشية ابن عابدين: 1/ 95.

يقضي بانتقاض الوضوء إذا جرى النوم على هيئةٍ من هيئات المصلّين: من القيام، والركوع، والسجود، والقعود. ونصّ الشافعي في القديم على أن من نام على هذه الهيئات في الصلاة، لم ينتقض وضوؤه، وإن نام في غير الصلاة قائماً، أو راكعاً، أو ساجداًً، انتقض وضوؤه، واعتمد في هذا القول ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إذا نام العبدُ في سجوده باهى الله عزّ وجلّ به ملائكته، وقال انظروا إلى عبدي روحُه عندي، وجسده بين يديّ ساجد" (¬1). وعندي أن كلَّ قولٍ قديمٍ مرجوع عنه، ومنقول البويطي غلطٌ، فلا يبقى في عقد المذهب إلا مصير الشافعي إلى أن النوم ناقض إلا في حق القاعد، والذي خرّجه المزني أن النوم في عينه حدث كيف فرض، وفي كلام الشافعي تمثيلٌ (¬2) يشير إلى ذلك؛ فإنه قال: "ولا يبين إليّ أن أُوجب الطهارة على النائم القاعد" (¬3). فهذا ضبط قاعدة المذهب. 151 - ثم نتكلّم الآن في نوم القاعد على الرأي الظاهر، فنقول: من نام ومقعدته متمكنة من الأرض، غير متجافيةٍ، لم ينتقض وضوؤه، ولو كانت متجافية، أعني سبيل الحدث، انتقض وضوؤه، ولو مكّن المقعدة من مجلسه، ولكنّه كان مستنداً أو متّكئاً، لم ينتقض وضوؤه، وإن كان بحيث لو سلّ السناد والمتّكاً، لخرّ؛ فإن النظر إلى تمكّن المقعدة. وقد نقل المعلِّقون عن شيخي أنه كان يقول: إذا ظهر اعتماده على السناد بحيث ¬

_ (¬1) حديث " إِذا نام العبد في سجوده باهى الله به ملائكته ... "، قال الحافظ: أنكر جماعة منهم القاضي ابن العربي وجوده، وقد رواه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس، وروي من عدة طرق، لا تخلو واحدة منها من ضعف ا. هـ ملخصاً (التلخيص: 1/ 120 ح 163). (¬2) في (م): ميلٌ. (ل): تخييل. (¬3) نصُّ الشافعي بتمامه هو: " ونحب للنائم قاعداً أن يتوضأ، ولا يبين أن أوجبه عليه، لما روى أنس بن مالك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا ينتظرون العشاء، فينامون، أحسبه قال: قعوداً " (مختصر المزني - بهامش الأم - 1/ 15).

يخرّ لو سُلَّ من ورائه، بطل وضوؤه. وهذا غلط من المعلّقين، والذي ذكروه عنه مذهبُ أبي حنيفة (¬1). فإن قيل: ألستم رأيتم في تمهيد المذهب أن الشافعي اعتمد الخبر؟ فهلاّ قلتم: لا ينتقض وضوء من يُسمَّى قاعداً، وإن كانت مقعدته غيرَ متمكنة؛ استمساكاً بظاهر الخبر؟ قلنا: المتبع وإن كان خبراً، والقياس لا مجال له أصلاً، فلا ينبغي أن نحسم مُدرَك الفهم في مورد الخبر بالكلية؛ فإن هذا سبيلُ مذهب أصحاب الظاهر. فإذاً فهم الشافعي من حال القاعد تمكين المقعدة. فلو نام القاعد متمكّناً، ثم تمايل في نومه -والمعنيُّ بالتمايل التجافي كما يكون- فإن تمايل، ثم انتبه، بطل وضوؤه؛ فإنه ثبت النوم في حال التجافي، ولو في لحظة. وإن انتبه، ثم تمايل، لم ينتقض وضوؤه. وإن لم يدر كيف كان الأمر، فالأصل بقاء الطهارة، فلا يُقضى بانتقاضها مع الشك في طرآن الحدث. 152 - القسم الثالث من الأحداث: اللمسُ: فإذا لمس الرجل امرأة هي محل حلِّه، والتقت البشرتان، انتقضت طهارة اللامس، والمعتمد في هذا ظاهر قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، وقرأ جمع من القُرّاء: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ}، وقد ذكرنا أن الأقيسة لا مجال لها في إثبات الأحداث، ولا في نفيها، فحلت الظواهر فيها محل النصوص، ثم وراء هذا تصرّف في الظواهر، وتردّدٌ من نصّ الشافعي في معناه، ونحن نبيّنه في مثالٍ، ثم نخرِّج عليه المسائل، فنقول: قد اختلف قول الشافعي في أن من لمس واحدةً من محارمه هل تنتقض طهارته؟ ونحن نذكر في توجيه القولين ما يمهد قاعدةَ المذهب. فمن قال بانتقاض الوضوء، اتبع مطلق الاسم، وقال: المحارم تندرج تحت اسم النساء، ومعتمدُ المذهب ظاهر القرآن، وقد قال الله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}. ومن قال: لا ينتقض الوضوء -وهو الأصح عندي- احتجّ بأن اسم النساء وإن كان ¬

_ (¬1) ر. البدائع: 1/ 31، حاشية ابن عابدين: 1/ 95.

يتناول المحارم، فإذا ذكرت الملامسة، وأضيفت إلى النساء، أشعر ذلك بلمس اللواتي يُعنَيْن، ويُقصدْن باللمس، ويُعْدَدْنَ محلاً للمس الرجال، واستمتاعهم. ويعتضد هذا بأمرين: أحدهما - أن من المفسرين من حمل الملامسة على المجامعة، ومنهم من حملها على الجس باليد، ولم يختلفوا في المحل، فليقع الجس عند من يحمل الملامسة عليه في محلّ المجامعة. والثاني - أن الملامسة مذكورة في سياق الأحداث، وهذا يُخيِّل لمساً هو مظنة الاستمتاع. هذا قاعدة المذهب. والصغيرة التي لا تشتهى مُخرّجة على وجهين: مأخذهما ما ذكرناه؛ فإنّهنّ يندرجن تحت اسم النساء؛ اندراج النوع تحت الجنس، ولكنّهنّ لا يُقصدن باللمس. والعجوز وإن بلغت غاية الهرمِ، ينتقض الوضوء بلمسها. وذكر بعض المصنفين فيها وجهين، وهو بعيد غير معتمدٍ. 153 - وفي انتقاض طهارة الملموس قولان: مأخذهما التردد في ظاهر القرآن، فمن استمسك بالظاهر، خصص الانتقاض باللاّمس، و [من فهم منهم] (¬1) اللمس بمعنى الجسّ، كما فهمه من حمله على الجماع؛ قضى بانتقاض طهارة الملموس. 154 - وذكر الصيدلاني في لمس الشعر والسِّن والظفر وجهين، وشبب بأخذهما من الخلاف في أنه هل يثبت لها حكم الحياة؟ وهذا رديء؛ فإنها وإن لم يثبت لها حكم الحياة؛ فإنه يلحقها الحل والحرمة، فالوجه إدراج الخلاف تحت التردّد في الظاهر، ولا يمتنع أن يقال: من لمس شعر امرأةٍ، فقد لمس امرأةً، ولا يبعد أن يمتنع من إطلاقه. والأظهر (¬2) أن الوضوءَ لا ينتقض. وكان شيخي يقطع به، والسبب فيه أنه اجتمع ¬

_ (¬1) في الأصل وفي (د 3): ومنهم من فهم اللمس. وهذا تقدير منا، وفي (م)، (ل): ومن فهم اللمس. (¬2) في (م): الظاهر.

فيه أن يقال: ما لمستُ فلانة، بل لمستُ شعرها، وإن الشعر لا يجرد القصد إلى لمسه، وإن انتحاه مغتلم، فهو كمجاذبة الخمار، وأطراف الثياب. 155 - ولو اتفق التقاء البشرتين بين الرجل والمرأة من غير قصدٍ، فالذي قطع به الجمهور أنه ينتقض الوضوء؛ فإن اللمس حدثٌ، ولا يُعتبر في الأحداث القصدُ، وذكر صاحب التقريب فيه خلافاً، تَلقَّاه من لمس الصغيرة والمحارم؛ فإنّهنّ لا يقصدن باللمس. كذلك لا يقع اللمس قصداً في أصله في هذه الصورة، وهذا بعيد جدّاً من مذهب الشافعي، وهو مذهب مالكٍ (¬1)، ثم لم يتأنّق في توجيه الخلاف المحكيّ، ويمكن أن يتكلّف في إدراجه تحت التردّد المذكور في الظاهر؛ فإن ذكر الملامسة إشعارٌ بقصد التلذذ على الجملة، وقد يظنّ الظانّ خروج ما يقع وفاقاً من هذا. فلينظر الناظر كيف مهدنا أصل المذهب أخذاً من الظاهر، ثم ذكرنا تردداً في معناه، وخرّجنا عليه المسائل المختلفة، مع توقي مسالك القياس. 156 - ولمس المرأة بعد موتها كلمس الصغيرة، ومأخذ الكلامِ ما مضى. وإذا تلامس الرجل والمرأة، انتقض وضوؤهما جميعاًً؛ لوجود الفعل من كل واحد منهما. 157 - القسم الرابع: مسّ الفرج. فنقول: من مسّ ذكره ببطن كفه، انتقض وضوؤه، ومعتمد المذهب في المسألة الحديث، وقد صحّ من طريق بُسرة (¬2) بنت صفوان أن النبي عليه السلام قال: " من مس ذكره، فليتوضأ " (¬3). ثم الكلام متعلقٌ بما يُمس، وبالعضو الذي يقع به المسُّ، ¬

_ (¬1) ر. حاشية العدوي: 1/ 120، حاشية الدسوقي: 1/ 119، جواهر الإِكليل: 1/ 20. (¬2) في الأصل، وفي (د 3): سبرة، والتصويب من الحديث، أكدته (م)، (ل). (¬3) حديث بسرة رواه مالك، والشافعي عنه، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن الجارود، وصححه الترمذي، ونقل عن البخاري أنه أصح شيء في الباب. (ر. التلخيص: 1/ 122 ح 165، الموطأ: 1/ 42، ترتيب المسند للشافعي 1/ 34، أحمد: 6/ 406، 407، أبو داود: الطهارة، باب الوضوء من مسّ الذكر ح 181، =

ولكل واحدٍ مأخذٌ، يتعين الاعتناء به. فأمّا ما يُمس، فالحديث في مسّ الذكر، ولكن الشافعي في الجديد رام أن يُلحق بالذكر السوأةَ الأخرىَ، من حيث رآها في معنى المنصوص عليه، كما ألحق الأَمة بالعبد في سياقٍ قوله عليه السلام: " من أعتق شِركاً له في عبدٍ، قُوِّم عليه " (¬1). ونحن نسوق الترتيبَ في ذلك، فيبين المقطوعُ به، وما يتطرق إليه أدنى تردّد، مع المصير إلى حسم القياس، فالخبر وارد في مس الرجل ذكره، فلم يَسترب الشافعي قديماً وجديداً في أن من مسّ ذكَر غيرِه توضّأ؛ فإن الإنسان لا يمتنع عليه أن يمس ذلك من نفسه، ثم اقتضى ذلك نقض وضوئه، فكان ذلك تنبيهاً لا شك فيه على انتقاض الوضوء بمس ذكَرِ الغير. ومسُّ القبل من المرأة ناقضٌ للوضوء؛ فإنه في معنى المذكور، ومن شبب بخلاف فيه، فقد أبعد. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " إذا مست المرأة قبلَها توضأت " (¬2) ثم المعنيُّ بقبل المرأة في حكم المس ملتقى الشفرين على المنفذ نفسه. وأمّا مس حلقة الدبر -يعني ملتقى المنفذكما مضى- فهذا أبعد قليلاً من قبل المرأة، فقال في الجديد: إنه ناقض، وقال في القديم: إنه لا ينقض. ¬

_ = وصحيح أبي داود: ح 166، الترمدي: أبواب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح 82، وصحيح الترمدي: ح 71، النسائي: الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح 163، وصحيح النسائي: 157، 158، ابن ماجه: الطهارة، باب الوضوء من مسّ الذكر، ح 479، وصحيح ابن ماجه: ح 388، وصححه الأرناؤوط في ابن حبّان: ح 1112، وانظر ابن خزيمة: باب 25 ح 33، والمستدرك: 1/ 137، ومنتقى ابن الجارود: ح 16، 17). (¬1) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (البخاري: كتاب العتق، باب: 4 ح 2522، مسلم: كتاب العتق، 2/ 1139 ح 1501). (¬2) حديث عائشة، رواه الدراقطني وضعفه، وكذا ضعفه ابن حبان، وله شواهد عن غير واحد من الصحابة (ر. التلخيص: 1/ 126، ح 127، الدارقطني: 1/ 147، ح 9، وابن حبان في المجروحين: 2/ 54، والحاكم: 1/ 138، والبيهقي في السنن: 1/ 133).

158 - فأمّا فرج البهيمة فبعيدٌ جدّاً، فلا جرم نص في الجديد على أنه لا يتعلق بمسّه نقض الوضوء، وحكى يونس بنُ عبد الأعلى (¬1) قولاً عن الشافعي: أنه يتعلق به النقض، كما يتعلق بالإيلاج فيه وجوب الغُسل، فلنفهم هذا التدريج في عقد المذهب. ثم نستوعب أطراف الكلام في هذا القسم، فنقول: 159 - من مسّ فرج غيره، انتقض وضوؤه سواء كان الممسوس منه صغيراً أو كبيراً، أو حيّاً أو ميتاً. وكان شيخي يقول: لما قطع الأئمة بانتقاض الوضوء بمس فرج الصغير، وإن كان ابنَ يومهِ، فهمت منه تحريم النظر إليه من غير حاجةٍ، ورأيت أن أحمل ما روي عن النبي عليه السلام: " أنه كان يُقبّل زبيبة الحسن والحسين " (¬2) على جريان ذلك وراء ثوبٍ، وقد رأيت في كلام الأصحاب ما يشير إلى التساهل في المسّ، والنظر إلى فرج الصغير الذي لم يبلغ مبلغ التمييز، مع القطع بانتقاض الوضوءِ بالمس. وقد ذكر الشيخ أبو علي (¬3) في شرح التلخيص أن من جبّ ذكره، فموضع القطع من ¬

_ (¬1) يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان الصَّدَفي: أبو موسى. المصري. من أصحاب الشافعي، وأحد أئمة الحديث، قال عنه الشافعي: ما رأيت بمصر أعقل من يونس بن عبد الأعلى. انتهت إِليه رياسة العلم بالديار المصرية، ولد سنة 170 هـ، وتوفي سنة 264 هـ (طبقات السبكي: 2/ 170، وطبقات الفقهاء: 99، والأنساب للسمعاني في (الصَّدفي) وشذرات الذهب: 2/ 149، وتذكرة الحفاظ: 2/ 527، ووفيات الأعيان: 7/ 249، وطبقات الإِسنوي: 1/ 33). (¬2) حديث تقبيل زبيبة الحسن والحسين، رواه البيهقي، والطبراني في الكبير، وقال البيهقي: إِسناده ليس بالقوي. وليس فيه أنه مسه بيده، ثم صلى ولم يتوضأ، وليس في حديث الطبراني أيضاً أنه صلى ولم يتوضأ، وأنكر ابن الصلاح هذا الحديث على الغزالي، قال الحافظ: والغزالي تبع الإِمام في النهاية فيه، ثم قال: وقال الإِمام في النهاية: هو محمول على أن ذلك من وراء ثوب، وتبعه الغزالي في الوسيط، قلت (الحافظ): وسياق البيهقي يأبى هذا التأويل؛ فإن فيه أنه رفع القميص. (ر. التلخيص: 1/ 127 ح 169، السنن الكبرى: 1/ 137، الطبراني في الكبير: 3/ 51 ح 2658). (¬3) الشيخ أبو علي = السّنجي.

ذكره إذا مُس، يتعلق به النقض. وإن استؤصل، ولم يبق منه شيء شاخصٌ، فيتعلق النقض بموضع الإبانة من جِرم الذكر، وإن اكتسى ذلك الموضع بالجلد وضاهى ما حوله، ولا يختصّ النقض بمسّ [الثقبة] (¬1)، بخلاف مس القبل والدبر. فأمّا مس الخصية والعِجَان (¬2)، وما ليس بفرج، فلا شك أنه لا يتعلق النقض بمس شيءٍ منه. ولو مس ذكراً مباناً، ففيه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه ينتقض الوضوء؛ لانطلاق الاسم على الممسوس، والثاني - لا ينتقض؛ لأنه ساقط الحرمة، وقد فهم ذوو البصائر مما ذكره النبي عليه السلام مسَّ فرج محترم. ولو انبتَّت يد امرأةٍ، فلَمسَها رجل، فالمذهبُ القطع بأن الطهارة لا تنتقض؛ فإن الظاهر المرجوع إليه في الملامسة قولهُ تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، وهذا يقتضي أن يكون الملموس امرأةً، وهذا الاسم لا يتناول العضو الفردَ، والمسّ في لفظ الشرع مُعلّق بالذكر نفسه، وهذا الاسم يتناول المتّصلَ والمُبَان. فرع: 160 - إذا قلنا: لا ينتقض الوضوء بمس فرج البهيمة، فلو أولج الرجل يده في فرج بهيمةٍ، فقد ذكر الأصحاب فيه وجهين، وإنما نشأ هذا التردد من شيء، وهو أن الغسل يجب على المولَج فيه، فباطن الفرج لو لاقاه ذكرٌ، تعلق به الغسل، فإذا لاقاه كفٌ، أمكن أن يتردّد فيه، والظاهر أنه لا ينتقض الوضوء. فهذا منتهى القول فيما يتعلّق بمسّه النقض. 161 - فأما العضو الذي يقع به المس، فبطن الكفّ، وبطون الأصابع، ومأخذ المذهب ما نورده. فأمّا شيخي، فكان يروي عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، لا حائل بينهما، فليتوضأ وضوءه للصلاة " (¬3) فإن ¬

_ (¬1) في الأصل: البقية. والمثبت من (م) و (ل). (¬2) العجان، ككتاب: ما بين الخُصية وحلقة الدبر (مصباح) (¬3) حديث " إِذا أفضى أحدكم بيده ... " رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة، وقال: صحيح سنده، عدول نقلته، وصححه الحاكم، وابن عبد البر، وأخرجه البيهقي والطبراني في الصغير، وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب. ورواه الشافعي =

صحّت هذه الرواية، فالإفضاء باليد قد يظهر منه التعاطي بالكفّ. وأما أنا فأقول: يمكن أخذ هذا من مطلق قوله عليه السلام: " من مس ذكره فليتوضّأ " فإن أعضاء الإنسان في تصرفاته وتاراته تتماسّ وتتلاقى، فإذا قال القائل: مس فلانٌ عضواً من نفسه، لم يعن به التماسّ الذي يقع، وإنما يعني به اعتمادَ الممسوس بالعضو الذي أعدّه الله تعالى للّمس والحس (¬1)، وإنما يقع ذلك ببطن الكفّ والأصابع، وهذا حسنٌ لطيف. لو وقع المسّ بظهر الكف، لم يتعلق به النقض، خلافاً لأحمدَ بنِ حنبل (¬2)، فإنه يسوّي بين ظهر الكف وبطنه. واختلف أئمّتنا في المسّ برؤوس الأصابع، فألحقها ملحقون ببطون الأصابع، وما ينحدر عن رؤوسها؛ فإن هذه الأجزاء متواصلة متضاهية في الصفة؛ إذ بشرة الكف من حيث أعدها الله تعالى لمسّ الممسوسات على صفةٍ من الاعتدال، تخالف بها سائرَ البشرة، في جملة الأعضاء، ورؤوس الأصابع منها بمثابة بطون الأصابع. والظاهر أن الوضوء لا ينتقض؛ فإن اللمسَ المعتاد يقع بالراحة، وبطون الأصابع، وقد ذكرنا في مأخذ هذا الفصل تنزيلَ الأمر على الاعتياد فيه. وأما المسّ بما بين الأصابع، فقد نص (¬3) الشافعي على أنه لا ينقض الوضوء، وقطع به، وهو لعمري أبعد من رؤوس الأصابع، وقد ذكر بعض أصحابنا فيما بين الأصابع خلافاً، وهو بعيد جدّاً. فرع: 162 - قد ذكرنا قولين في انتقاض وضوء الملموس في القسم الثالث. فأما الممسوس فرجُه والماسّ غيرُه (¬4)، فلا ينتقض وضوؤه، ومن أشار إلى خلافٍ فيه، ¬

_ = في الأم. (ر. التلخيص: 1/ 125، 126 ح 166، ابن حبان: 3/ 401 ح 1118، الأم: 1/ 16، السنن الكبرى: 1/ 131). (¬1) (ل) و (م): الجس. (¬2) ر. المغني: 1/ 203، الإنصاف: 1/ 204، كشاف القناع: 1/ 127. (¬3) ر. الأم: 1/ 16. (¬4) المعنى: أن صاحب الفرج الممسوس إذا كان المسّ من أجنبي، وليس منه، فلا ينتقض وضوؤه.

فغالط؛ فإنّ نقض الوضوء في المس (¬1) يتعلق بهتك الحرمة، [لا بما] (¬2) يقصد به التلذذ، والملامسة الناقضة للوضوءِ موضوعها التلذذ، وإن كنّا لا نشترط وقوع ذلك؛ فهي مضاهية للوقاع الذي يستوي فيه المواقع، ومن هو محل الوقاع. فصل 163 - الخنثى ذكر أم أُنثى؟ فإن كان يبول بفرج الرجال، فهو رجل، والآخر ثقب زائد عليه، وإن كان يبول بفرج النساء، فهو امرأة في جميع الأحكام، والآخر سِلعة نابتة، وإن كان يبول بهما جميعاًً، فقد تعذّر التمسكُ بهذا، و [لا] (¬3) ينظر إلى القِلّة والكثرة، إذا كان يبول بهما؛ فإن ذلك لا يُضبط، فإن أمنى بفرج الرجال في أوان البلوغ، ولم يَحِض بفرج النساء، فهو رجل، وإن حاض، ولم يمن، فهو امرأة، وإن حاض وأمنَى، فقد عسر التعلق بهذا أيضاًً. واختلف أئمتنا في نبات اللحية، ونهود الثدي. فكان (¬4) شيخي لا يرى التعلق بهما، ويقول: قد تنبت للمرأة لحية، وقد تكون المرأة [ضَهيأ] (¬5) لا ثدي لها. وذهب بعض الأئمة إلى التعلق بما ذكرناه؛ فإن الغرض التمسك بما يورثُ غلبة الظن، وما قدمناه من المثال، وإن كان ظاهراً، فليس مقطوعاًً به؛ إذ لو كان مقطوعاً به، لاستحال فرض التعارض فيه، ومن اعتبر بنبات اللحية، ونهود الثدي، لا يعوّل على عدم نهود الثديين، ولا يحكم بأن عدم النهود يدل على أنه رجل، ولا يعارض نباتُ اللحية، ونهودُ الثدي شيئاً من العلامات التي اتفق الأصحاب عليها. ¬

_ (¬1) أي مس الذكر. (¬2) في الأصل: [لأنه إِنما] يقصد به التلذذ. والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل). (¬3) مزيدة من (م)، (ل). (¬4) من هنا بدأ خرمٌ جديد في نسخة: (د 3). (¬5) غير واضحة في الأصل، والضهيأ كعسجد: المرأة تضاهي الذكر، في عدم الحيض أو الحمل أو الولادة؛ لأن أعضاء تناسلها لا تزال في الطور الجنيني، والتي لا لبن لها ولا ثدي (القاموس، والمعجم) وبعد أن أثبتناها تقديراً، منا، وجدنا في (م)، (ل): "ظهياً" بالظاء المعجمة، وتنوين الياء مسهلةً عن الهمزة.

وأما ما ذكره بعض الناس مق النظر في أعداد الأضلاع، فذلك شيءٌ لم أفهمه، ولست أرى فرقاً فيها بين النساء والرجال. وكان شيخي يتردد فيه إذا كان يبول بفرج الرجال، ويحيض بفرج النساء، ويميل إلى التعلق [بالمبال] (¬1)، والوجه عندي القطع بتعارض الأمر في ذلك. 64 - فإذا اعتاصت (¬2) العلامات، رجعنا إليه عند بلوغه، فإن ذَكر أنه يميل إلى الرّجال ميلَ النساء إلى الرجال، فهو امرأةٌ، وإن ذكر نقيضَ ذلك، فهو رجل. وإذا أخبر عن نفسه بأنه رجل أو امرأة، أجرينا عليه موجَب قوله؛ فإن ابن العَشْر لو ذكر أنه قد بلغ، صدقناه فيما له وعليه، فإن الإنسان أعرف بما جُبِلَ (¬3) عليه، ولو ذكر أنه رجل، ثم رجع عن ذلك، لم يقبل رجوعه فيما عليه، وأجري عليه حكم قوله الأول، إلا أن يجري ما يكذبه في قوله الأوّل، مثل أن يذكر أولاً [أنه] (¬4) رجل، ثم يلد، فنعلم قطعاًً أنه امرأةٌ. فإن زعم أنه لا يميل إلى الجنسين، أو يميل إليهما، فهو المشكل، ويتعلق به أمرُ المس. فإذا كان مشكلاً ومس ذكره، لم ينتقض وضوؤه، لجواز أن يكون امرأةً، وإن مس ما هو على صورة فرج النساء، لم ينتقض أيضاً، لجواز أن يكون رجلاً. والضابط في ذلك أنا نتعلق بيقين الطهارة، فلا نحكم بانتقاضها إلا بيقين، وهذا الأصل متفق عليه. وفيه غائلةٌ سأنبّه عليها إن شاء الله تعالى. ولو مسّ رجل ذكرَ خنثى، انتقض وضوؤه؛ فإنه إن كان رجلاً، فقد مس الرجل ذكراً، وإن [كان] (¬5) امرأةً، فقد [لمس] (¬6) امرأة. ¬

_ (¬1) في الأصل: " المثال " والمثبت من (م)، (ل). (¬2) اعتاص الأمر: صعب واشتد والتاث، فلم يُعرف صوابه (القاموس). وفي (م): تعارضت. (¬3) في (م): حل. (¬4) مزيدة لاستقامة المعنَى، وقد صدّق تقديرنا نسخة (م)، (ل). (¬5) زيادة اقتضاها السياق. ثم صدقتنا نسخة (م)، (ل). (¬6) في الأصل: مس. والمثبت في (م)، (ل).

وإن مس الرجل فرج النساء، لم ينتقض وضوؤه، لجواز أن يكون رجلاً، وهذا ثقبٌ زائد عليه. والمرأة لو مت منه فرج النساء، بطل وضوؤها؛ فإنها بين أن تكون ماسَّة فرج امرأةٍ، أو لامسةً رجلاً، ولو مسَّتْ ذكره، لم ينتقض وضوؤها، لجواز أن تكون امرأةً، والممسوس عضو زائد عليها. والمتبع في التفاريع استصحاب الطهارة، إلى استيقان الانتقاض. والخنثى إذا مسّ من نفسه أحدهما، لم يبطل وضوؤه، ويبطل إن مسّهماً جميعاًً. وإذا كان الماسُّ غيره، فكل من مَسّ منه ما هو له (¬1)، انتقض وضوؤه، ومن مس ما ليس له، لم ينتقض وضوؤه، كما سبق. 165 - ولو مسّ خنثى ذكر خنثى، أو فرجه الآخر، لم ينتقض وضوؤه، ولا يستيقن انتقاض وضوئه ما لم يمسهما جميعاً. وإن مس أحد الخنثيين ذكرَ صاحبه، ومس الممسوس ذكره الفرجَ الآخر من الماسّ، فنعلم أن طهارةَ أحدهما في علم الله تعالى قد طراً عليها حدث؛ فإنهما لو كانا امرأتين، فقد مس أحدهما فرج امرأة، وإن كانا رجلين، فقد مس أحدهما ذكراً، وإن كان أحدهما ذكراً، والآخر أنثى، فقد تلامسا، ولكن لا نحكم ببطلان طهارة واحد منهما؛ فإن كلّ (¬2) واحدٍ منهما لو انفرد بما صدر منه من مس أحد الفرجين، لما قُضي بانتقاض وضوئه، فصدور فعلٍ من غيره لا يغير فعلَه في نفسه. وهذا بمثابة ما إذا قال رجل، وقد طار طائِرٌ: إن كان هذا غراباً، فامرأتي طالقٌ، وقال آخر: إن لم يكن غراباً، فامرأتي طالق. فلا يُحكم بوقوع طلاق واحد ¬

_ (¬1) واضح أن المعنى إِذا مسّ أحدٌ من الخنثى العضو الذي له مثله، انتقض وضوؤه، لأنه إِن كان رجلاً، فمس ذكر الخنثى، فلا يخلو إِما أن يكون الممسوس ذكره رجلاً أو امراة، فإن كان رجلاً، فقد انتقض وضوؤه بمس ذكره. وان كان امرأة فقد انتقض وضوؤه بلمس امرأة. ولو مس رجل فرج الخنثى، فلا ينتقض وضوؤه، لاحتمال أن يكون رجلاً، وهذا ثقب زائد، ولا نقض مع الاحتمال. (¬2) في الأصل: فإِن كان كل واحد. والمثبت عبارة (م)، (ل).

منهما إذا التبس الأمر، وإن (¬1) كنا نعلم أن الطائر كان توضأً أو لم يكن غراباً، ولكن لو انفرد أحدهما بقوله، لكان الجواب كما ذكرنا، فصدور قولٍ من غيره لا يغيّر حكمه. فرع: 166 - لو توضأ المشكل، ومس ذكره، وصلى صلاةَ الصبح، ثم توضأ، ومس بعده الفرج الآخر، وصلى صلاة الظهر، فنعلم أن إحدى الصلاتين وقعت بعد حدث، ولكن جرى وضوءَان، كما ترى، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين في ذلك: أحدهما - إن إحدى الصلاتين باطلة، لا بعينها، فيجب قضاءُ الصلاتين جميعاً. والثاني - لا يجب قضاءُ واحدةٍ منهما؛ فإن كل صلاة تختص بوضوءٍ، والأصل أنه لم يبطل، وتعدّد الواقعتين كتعدد الشخصية. وهذه الصورة تناظر عندي ما إذا صلّى رجل صلواتٍ باجتهاداتٍ إلى جهات، ولم يتعين له خطأٌ ولا صوابٌ، فالمذهب أنه لا يقضي واحدة منها. فإن قيل: إنما كان كذلك لأن كل صلاةٍ مستندة إلى اجتهادٍ، ولا مجال للاجتهاد في الأحداث. قلنا: بناء الأمر على استصحاب يقين الوضوء متعينٌ في الاجتهاد، ومناطٌ لحكم الله تعالى عند انحسام مسالك الأمارات. فرع: 167 - خروج الخارج من إحدى سبيلي الخنثى المشكل بمثابة خروج النجاسة من سبيل ينفتح أسفل من المعدة، وقد مضى ذلك مفصّلاً، وإن خرج من السبيلين جميعاً، فلا شك في انتقاض الوضوء؛ فإن أحدهما فرجٌ، لا شك فيه. فصل 168 - الأحداث على مذهب عامّة العلماء أربعة. وإنما الخلاف في تعيين بعضها، [وإقامة بعضها] (¬2) مقام بعضٍ، فأما خروج الخارج من السبيلين، والغلبة على ¬

_ (¬1) في (ل): وإن كنا لا نعلم. (¬2) زيادة من (م)، (ل).

العقل، فقد اتفق العلماء عليهما في الأصل. ورأى الشافعي الملامسةَ ومّس الفرج حدثين، وأنكرهما (¬1) أبو حنيفة. وأثبت بدلهما خروجَ الخارج من غير السبيل المعتاد (¬2)، والقهقهة في الصلاة (¬3)، ونفاهما الشافعي. وأكْلُ لحمِ الجزور مما ورد الأمر فيه بالوضوء، والمنصوص عليه (¬4) للشافعي في الجديد أنه لا يوجب الوضوءَ، ومذهب أحمد بن حنبل (¬5) أنه يوجب الوضوء، وقيل: هو قول قديم للشافعي، وإنما صار إليه لما رُوي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنتوضأ من لحم الجزور؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم " (¬6). وأمّا أكل ما مسّته النار من مشويٍّ ومطبوخ، فقد رُوي عن النبي عليه السلام، أنه قال: " توضؤوا ممّا مسته النار، ولو من ثَوْرِ أَقِط " (¬7). ¬

_ (¬1) ر. البدائع: 1/ 30، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 162، 163 مسألة: 79، 81، حاشية ابن عابدين: 1/ 99. (¬2) البدائع: 1/ 24، رؤوس المسائل: 108 مسألة: 15، طريقة الخلاف للأسمَندي: مسألة: 1، حاشية ابن عابدين: 1/ 91. (¬3) ر. البدائع: 1/ 136، رؤوس المسائل: 109 مسألة: 16، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 161 مسألة: 78، حاشية ابن عابدين: 1/ 97. (¬4) ر. المختصر: 1/ 20. (¬5) ر. المغني: 1/ 211، الإنصاف: 1/ 216، كشاف القناع: 1/ 130. (¬6) جزء من حديث رواه مسلم عن جابر بن سَمُرة بلفظ: "أأتوضأ من لحوم الإِبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإِبل"، ورواه عن جابر أيضاً أحمد وابن ماجة، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث البراء بن عازب (ر. تلخيص الحبير: 1/ 115/116 ح 154، ومسلم: الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، ح 360، والمسند: 4/ 288، 303، 5/ 86، 88، 93، 98، 100، 102، 105، 106، 108، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحم الإبل، ح 81، أبو داود الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل، ح 184، ابن ماجة الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، ح 494، وإرواء الغليل: 1/ 152). (¬7) حديث " الوضوء مما مست النار "، أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، بألفاظ مقاربة (ر. مسلم: الحيض، باب الوضوء مما مست النار، ح 352، وصحيح أبي داود: ح 160، وصحيح الترمذي: ح 68، وصحيح النسائي: ح 166) والثور: القطعة من الأقط (مصباح).

ثم رأى الشافعي أن ذلك منسوخ؛ لما روي "أنه عليه السلام في أواخر عمره أكل كتف شاةٍ مشوية، ثم صلّى، ولم يتوضأ" (¬1)، واختلف الأئمة في أن الوضوء المأمور به أولاً كان وضوء الصلاة، أو غسل اليدين، فقال بعضهم: كان [يجب] (¬2) وضوء الصلاة، وقال بعضهم: الوضوء المأمور به في ابتداء الأمر غسل اليدين، قال النبي عليه السلام: " الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم " (¬3) أراد غسل اليدين. فصل 169 - قال الأئمة: من استيقن الوضوء، وشك في الحدث، فله الأخذ بالطهارة استصحاباً لها، واليقين السابق مستصحب، غير متروك بشك الحدث، ولو تيقّن الحدثَ، وشك في الوضوءِ بعده، فهو محدث تمسّكاً باليقين، واستدل الشافعي على تمهيد ما ذكرناه بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن الشيطان ليأتي أحدَكم وهو في الصلاة، وينفخ بين إليتيهِ، ويقول: أحدثتَ أحدثت، فلا ينصرفنّ حتى يسمعَ صوتاً، أو يجد ريحاً" (¬4). ¬

_ (¬1) حديث "أكل كتف شاةٍ مشوية ... " رواه البخاري ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، وابن خزيمة وابن حبان، مع اختلاف يسير في اللفظ. (ر. البخاري: كتاب الوضوء: باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ح 207، 208، وباب من مضمض من السويق ولم يتوضأ، ح 210، ومسلم: كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار، ح 354، 355، تلخيص الحبير: 1/ 116 ح 155). (¬2) في الأصل: تحث. بهذا الإعجام. وواضح أنه تصحيف، وصدقتنا (م)، (ل). (¬3) حديث " الوضوء قبل الطعامَ ... " بهذا اللفظ في مسند الشهاب عن موسى الرضا عن آبائه متصلاً، وعند أبي داود والترمذي عن سلمان: "بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده" (ر. مسند الشهاب، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي: 1/ 205 ح 310، وفيض القدير: 6/ 376 ح 9683). (¬4) حديث "إِن الشيطان ليأتي أحدكم ... " قال الحافظ: تبع الرافعي فيه الغزالي، والغزالي تبع الإمام، وكذا ذكره الماوردي، وقال ابن الرفعة في المطلب: " لم أظفر به يعني هذا الحَديث" ا. هـ كلام ابن الرفعة. وقد ذكره البيهقي في الخلافيات عن الربيع عن الشافعي، =

وقد اتفق الأصحاب على أن من تيقن سبقَ الوضوء، وغلب على ظنّه الحدث، فله الأخذ بالوضوء. وقد ذكرنا قولين للشافعي في أن ما يغلب على الظن نجاسته هل نحكم بنجاسته؟ ومن الأسئلة التي ينبغي أن يُعتنَى بها الاستفراق (¬1) بين غلبة الظن في الحدث، وبينها في النجاسة. والذي كان يذكره شيخي أن الاجتهاد يتطرق إلى تمييز الطاهر من النجس، وسبب ذلك أن للطهارة والنجاسة أماراتٍ، وهي مستند الاجتهاد، وليس للحدث والطهر علاماتٌ يتعلّق بها المجتهد. وفي هذا عندي فضل مباحثةٍ، فأقول: أصل الشافعي في تمييز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات معلوم، سيأتي شرحنا عليه إن شاء الله تعالى، وهذا اجتهاد. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمني صفاتٍ، وفائدةُ ذكرها التمسك بها، فإطلاق القول بأن الاجتهاد لا يتطرق إلى الأحداث غيرُ سديد. ثم موضع القولين في النجاسة ليس فيما يظهر فيه علامة النجاسة من لون، أو ريح، أو طعم، ولكن إذا جرت أحوالٌ يغلب على القلب النجاسةُ فيها، فالقولان يجريان، وإن لم يظهر للحس علامةٌ في النجاسة (¬2)، وهذا كالقولين في المقابر ¬

_ = فذكره بغير إِسناد، دون قوله: أحدثت أحدثت، وكذا ذكره المزني عن الشافعي، وهو في الصحيحين. ا. هـ كلام الحافظ في التلخيص. والمتفق عليه من الحديث هو عدم الأخذ بالشك، وإِجراء الحكم على يقين بصوت أو ريح. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 128 ح 171، وأيضاً ح 157، البخاري: كتاب الوضوء، باب: لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، 1/ 285 ح 137، ومسلم، كتاب الحيض، باب، الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث، فله أن يصلي بطهارته تلك، ح 361، 362، وإِرواء الغليل: 1/ 153 ح 19، وصحيح أبي داود للألباني: ح 162، 163، وصحيح الترمذي ح 64، 65). (¬1) الاستفراق: طلب الفرق. (¬2) في النسخ الثلاث: " وإِن لم يظهر للحس " ويتبادر إِلى الذهن أن (الواو) لا محلّ لها هنا، بمعنى أن محل القولين عدم ظهور علامة للحس، في مقابلة القطع بالنجاسة مع وجود علامة. ولكن للواو هنا حاجة، وهي بمعنى (مع) فهي تقطع الذهن عن السبق إِلى القول باستصحاب اليقين عند عدم ظهور علامة للحس كما في الأحداث. فالمراد هنا التفرقة بين =

العتيقة، وثيابُ من يخامر النجاسات من الكفّار، ومن لا يتقي النجاساتِ من المسلمين، وقد تُفرض أحوال تغلِّب على الظنّ وقوع الأحداث فيها، ولا يَطّرد القولان فيها، فيما ذكره الأئمة. ولعل السبب فيه أن الأحوال التي يغلب ظن النجاسة فيها كثيرةٌ جدّاً، وهي قليلةٌ في [الأحداث] (¬1)، فلا مبالاة بما يندر منها، والتمسك باستصحاب اليقين أقوى، وإذا لم يكن بالإنسان علّة، ففرضُ حالةٍ يغلبُ فيها وقوع الحدث عسير، ومن طلب تصوير ذلك كان متكلفاً. واستصحاب ما يثبت يقيناً أقوى، فيؤول حاصل القول فيه إلى أن الأحوال [المغلِّبة] (¬2) على الظنون غالبةٌ في النجاسة، فاختلف القول في أنها أولى بالاعتبار، أو استصحاب الحال. وأما في الحدث، فلا يغلب فيه حالة تغلّب على الظنّ وقوعَ الحدث، فاتجه القول في الاستمساك باليقين واستصحابه. فهذا منتهى فكري الآن. فإن تطلّع فَطِن لمزيد معنى في الفرق بين البابين، كنت أنا المنبّه عليه. 170 - ثم ذكر صاحب التلخيص: أن اليقين لا يُترك بالظنّ إل في مسائل (¬3) عدّها. ونحن نذكر المستفادَ منها، ونضرب عن التي لا تشكل: [فمّما] (¬4) استثناه؛ أن الناس إذا شكّوا في انقضاءِ الوقت يومَ الجمعة، لم يُصلّوا الجمعة، ولم يستصحبوا اليقين بناءً عليه. ¬

_ = الأحداث، والنجاسات، حيث لا يستصحب يقين الطهارة في النجاسات عند عدم ظهور العلامات الحسية، وسيظهر ذلك من شرح المسألة في السطور الآتية. (¬1) في الأصل: " أحداث " والمثبت تقدير منا صدّقته (م) و (ل). (¬2) في الأصل: "للغلبة" والمثبت تصرّف من المحقق. والحمد لله وجدناه في (م)، (ل). (¬3) المسائل التي عدها صاحب التلخيص هي إِحدى عشرة مسألة، وقد ذكرها عاداً لها فعلاً، هكذا: إِحداها - الثانية ... إِلى الحادية عشرة. (ر. التلخيص لابن القاصّ: 122 - 124) وانظر الأشباه والنظائر للتاج السبكي: 1/ 29، 30، وقد أشار إِلى أن الإمام زاد عليها مسألة الجمعة، وانظر. المجموع للنووي: 1/ 264. (¬4) في الأصل: " فيما " وما أثبتناه اختيار منا رعاية للسياق. وقد طابقته (م)، (ل).

وكذلك الماسح على الخُفّ إذا شك في انقضاء المدة، لم يمسح بناء على أن الأصل بقاء المدة. فيقال: الأصل في كل يومِ وجوبُ الظهر أربع ركعاتٍ، ثم ثبتت صلاة الجمعة بشرائط، وهي طارئة على الأصل، فإذا فرض تردّد وشكٌّ في الجمعة (¬1)، رددنا الشاك إلى أصل صلاة الظهر، وكان ذلك استصحاب لأصلٍ سابق على فريضة الجمعة، وكذلك الأصل غسل القدمين، والمسح رخصة طارئة، منوطة بشرائط، فإذا فرض الشك في بعضها، تعين الرد إلى أصل غسل القدم. والتحقيق فيه أنا لا نشترط غالبَ ظنّ في الفنّ الذي استثناه، بل الشك بمجرده يمنع إقامة الجمعة، والمسح على الخفّ، وهو في التحقيق تمسك باستصحاب [الأصل] (¬2) عند الشك في شرط ما طرأ على الأصل. ومما ذكره أن المسافر إذا انتهى إلى موضع، وشك أن ذلك الموضع موطنه، ومنتهى سفره أم لا؟ قال: إنه لا يقصر، ولا يترخصّ برخص المسافرين، وهذا منتظم على القياس المقدَّم؛ فإن الأصل إتمامُ الصلاة، وإقامة الصلاة في وقتها، والرّخص طارىء مشروط بشرطٍ، فإذا فرض التشكك فيه، رُدّ المكلَّف إلى الأصل. قال: وكذلك (¬3) لو شك، فلم يدر أنوى الإقامة أم لا، لم يترخَّص ما لم ¬

_ (¬1) هذه المسألة -مسألة الشك في انقضاء الوقت يوم الجمعة- ليست من المسائل الإِحدى عشرة التي استثناها صاحب التلخيص. (السابق نفسه). (¬2) في الأصل: " الحال "، والمثبت من (م)، (ل). وهو تعبير الإِمام في المسألة الآتية بعد هذه، وتعبير النووي في التنقيح (ر. الوسيط: 1/ 326 هامش (1)). (¬3) هذه هي المسألة الرابعة التي ذكر الإِمام أنه اختارها من مسائل صاحب التلخيص. وقد أخذ أبو حامد الغزالي هذا عن شيخه، فقال في الوسيط: "واستثنى صاحب التلخيص من هذا أربع مسائل"، وعدد هذه المسائل بنصها. فأوهم أنها كلُّ ما استثناه صاحب التلخيص، مع أن إِمامنا قال: " استثنى مسائل عددها، نذكر منها ". ولذا تعقب النوويُّ الغزالي في التنقيح، فقال: أما قوله: " استثنى أربع مسائل، فقد يُنكر، لأنه يوهم أنه اقتصر على أربع، وليس كذلك، بل قد استثنى في (التلخيص) إِحدى عشرة مسألة، ليس منها مسألة الجمعة ". ا. هـ. (ر. التنقيح - بهامش الوسيط: 1/ 326. والمجموع 1/ 264).

[يبتدىء] (¬1) سفراً على الوصف المعروف فيه. 171 - وذكر الشيخ أبو علي في المسألتين الأخيرتين خلافاًً عن بعض الأصحاب، ولم يحك فيما تقدّم من الجمعة والتشكك في انقضاءِ مدّة المسح خلافاًً. ولعلَّ الفرق في ذلك، أن انقضاء وقت الجمعة والمسح، ليس مما يتعلق باختيار. فإذا فرض الشك فيه، لاح تعيين الردّ إلى الأصل. والانتهاءُ إلى دار الإقامة والعزمُ عليها متعلِّق بفعل الشاك، ومنه يُتلقى معرفته، فإذا جهله من نفسه، فقد يخطر أنه بمثابة ما لو لم يقع ذلك المعنى أصلاً. على أن الوجه ما ذكره صاحب التلخيص. فرع: 172 - قال صاحب التلخيص: إذا استيقن الرجل أنه بعد طلوع الشمس توضأ وأحدث، ولم يدر أن الوضوء هو السابق، أم الحدث، فيقال له: قدّم وهمك على [مبتدإ] (¬2) هذا الزمان، فإن انتهيتَ إلى حدث، فأنت الآن متطهر، وإن انتهيت بوهمك إلى طُهر، فأنت الآن محدِثٌ. وتعليل ما ذكره، أنه إذا انتهى إلى حدثٍ، فقد تيقن أنه رفعَ الحدث الذي انتهى إليه، وشك في أن ذلك الوضوء الرافع للحدث الأول هل نقضه حدثٌ أم لا، فالأصل بقاء الطهارة. وإن انتهى إلى طهر، فقد تيقَّن أنه نقضه حدث، وشك في أن ذلك الحدث هل رفعه طهر أم لا. وذكر الصيدلاني عن بعض الأصحاب أنه يقدم وهمَه كما ذكرنا، ويُضرب عن تعارض الطهر للحدث بعد طلوع الشمس مثلاً، فلا يستمسك بهما، ولكن إن انتهى، إلى حدثٍ، فهو محدث، وإن انتهى إلى وضوءٍ، فهو متطهِّر. وهذا غير صحيح. والصواب ما ذكره صاحب التلخيص. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: " ما لم يبتد " بحذف آخر الفعل، اعتبار بحالة تسهيل الهمزة، واعتبارها ياءً. وقد وافقتنا (م)، (ل). (¬2) مزيدة من (م)، (ل).

باب ما يوجب الغسل

باب ما يوجب الغسل 173 - الأغسال الواجبة أربعة: غسل الجنابة، وغسل الحيض والنفاس، وغسل الولادة، وغسل الميّت. فأما الجنابة، فلها سببان: أحدهما - تغييب الحشفة في فرجٍ، أيّ فرجٍ كان، من الآدمي والبهيمة، ولا يتوقف وجوب الغسل على الإنزال، وفيه أخبار ليس يليق بهذا المجموع ذكرها، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " إذا التقى الختانان، وجب الغسل، فعلتُه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا " (¬1) والذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة، فإن مدخل الذكر في أسفل الفرج، وموضع حديدة (¬2) الخافضة في أعلى فرج المرأة، فإذا غابت الحشفة حاذى موضع ختان الرجل، موضع ختان المرأة، فذاك المعنيُّ بالتقاء الختانين. قال الشافعي: يقال التقى الفارسان إذا تحاذيا، وإن لم يتضامّا (¬3). ولو كان الرجل مقطوعَ الحشفة، فأولج مقدار الحشفة التي كانت من بقيّة ذكره، وجب الغُسل على المولج، ويتعلق به ما يتعلق بتغييب الحشفة نفسها. والإيلاج في فرج الميّت يوجب الغسلَ على المولج، وهل يجب تجديد غسل ¬

_ (¬1) حديث " إِذا التقى الختانان ... " رواه الشافعي في الأم والمزني في مختصره، وحرملة في سننه، وأحمد في مسنده، والترمذي عن عائشة، والبخاري ومسلم بمعناه عن أبي هريرة، وكذلك النسائي (ر. التلخيص: 1/ 134 ح 180، الأم: 1/ 39، المسند: 6/ 161، واللؤلؤ والمرجان: كتاب الحيض باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، ح 199 وصحيح النسائي: ح 185، 186، وصحيح الترمذي: ح 94، 95، وصحيح ابن ماجة: ح 492، اِرواء الغليل: 1/ 163 ح 127). (¬2) حديدة الخافضة: آلة قطع الخافضة، وهي الخاتنة. (¬3) في (م): يتصادما.

الميّت؟ ذكر بعض المصنفين وجهين فيه، والظاهر عندي أنه لا يجب؛ فإن التكليف ساقط، والغسل الواجب فيه ما يقتضيه الموت تنظيفاً وتعظيماً. وكان شيخي يقول: إن أولج بهيمةٌ في فرجٍ، فينبغي أن يجب الغسل على المولَج فيه، اعتباراً بالإيلاج في فرج البهيمة، وهذا فيه نظر عندي من جهة أنه لا يفرض إلا في غاية النُدور. ثم في القدر المولَج واعتباره بالحشفة، كلام موكول إلى فكر الفقيه. فهذا أحد سببي الجنابة. 174 - فأما الثاني - فنزول المنيّ، وهو في اعتدال الحال أبيضُ، ثخين، دافق، ذو دفعات، يخرج بشهوةٍ، ويُعقب خروجُه فتوراً، ورائحته رائحة الطلع، ويقرب من رائحة الطلع رائحة العجين. [وقد] (¬1) تزول بعض هذه الصفات باعتراض إعلالٍ، فيرقّ ويصفرّ، وقد يسيل من غير شهوة، لاسترخاءٍ في أوعية المنيِّ. والمذيُّ (¬2) رقيق يخرج بنشاطٍ، ولا يُعقب خروجُه فتوراً، وحكمه في النجاسة ولزوم الوضوءِ حكم البول. ومَني المرأة أصفر رقيق. وقد زعم الأطبّاء أنه لا يخرج منها، ولا شك أن لها مذيّاً، وإذا هاجت، خرج منها، وهذا أغلبُ فيهن منه في الرجال. والودي (¬3) أبيض، ولا يخرج عند هيجان شهوة، والغالب أنه يخرج عند حمل شيءٍ ثقيلٍ، وهو نجسٌ كالبول. فإذا تحقق الرجل أنه خرج المني منه، لزمه الغُسل. 175 - فإن شكَّ، فلم يدر أن الخارج منيٌ، أو وديٌّ، أو مذيّ، فهذا ممّا يتعين إنعام النظر فيه. وكان شيخي يقول: إن تيقّن أن الخارج منيّ، لزم الغسل، وإن شك، ولم يدر، ¬

_ (¬1) مزيدة لاستقامة المعنى، وصدقتنا (م)، (ل). (¬2) المذي فيه ثلاث لغات: فتح الميم مع سكون الذال، وفتحها مع كسر الذال وتشديد الياء: وزان غني، وكسر الذال مع التخفيف. ويرب حيئنذٍ إعراب المنقوص (المصباح). (¬3) الودْي بفتح وسكون، وقد يكسر ويثقل، وزان مَنِيّ. (المصباح).

استصحب الغُسلَ السابق، ولم يلتزم الغسلَ إلا بيقين. وكان يُجري هذا على الأصل المقدَّم في أن من استيقن الوضوءَ وشكّ في الحدث؛ استصحب الطهر السابق. وهذا لا يشفي الغليلَ؛ فإنه صحّ في الأخبار والآثار تمييز المنيّ بصفاته عن سائر الخارجات. فلئن كان الشاك في الحدث لا يجد علامة يستمسك بها، فالعلامات هاهنا ثابتة، وكشف الغطاء في هذا أن الخروج بالشهوة، مع استعقاب الفتور دلالة قاطعة على أن الخارج منيّ، وليس هذا مما يتضمن غلبة ظن. وكذلك الرائحة التي تشبه رائحة الطلع والعجين من القواطع. وكذلك الخروج بدفقٍ ودفعٍ، وتزريق، من خصائص المنيّ، لا تثبت لغيره. فأما البياض والثخن (¬1) فمما يشترك فيه المنيّ والودي، وقد يرق المني ويصفرّ، ويشبه لونه لون المذي، وهو ماء لزج، يميل إلى الصفرة قليلاً. فإن كان في الخارج صفةٌ واحدة من الصفات الثلاث المقدَّمة، فليس هذا موضع اجتهاد وظنٍّ، بل نعلم أن الخارجَ مني. أما الرائحة والفتور صفتان معلومتان، وأما الدفقُ، فلا يكفي فيه الخروج بدفع، فإن من به [أَدَرٌ] (¬2) يخرج بوله قطراً، ويقع بين القطرة والقطرة فترة، والتعويل على التزريق، وذلك لا يكون إلا مع انتشارٍ وشهوة، ثم لا بد من جريان الفتور، فليس من الممكن أن يزرِّق إلا منتشرٌ، ثم لا ينزل المني إلاّ مع نفسي (¬3) الأرواح، وذاك يقتضي ¬

_ (¬1) المنصوص في المعاجم مصدراً لثَخُن: ثخونة وثخانة، ولكن غلب على إِمام الحرمين استعمال: فَعَل بتحريك العين مكان فعولة، وفعول في مصدر الثلاثي، فيقول مثلاً: إِن تيقنا صَدَرَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدلاً من صدور، و" حَدَث العالم " بدلاً من حدوث. (¬2) أدر يأدَر: أدَراً وأدَرة وأُدْرة، إذا انتفخت خصيته، لتسرب سائل في غلافها، وهي غير واضحة بالأصل، وفي (م): إِدرارٌ، وعبارة (ل): إِدرار بولٍ يخرج بوله قطعاًً. (¬3) كذا تماماً. وفي (م): نغس. بالغين، وليس في المعاجم مادة: ن غ س، وفي (ل): تفشِّي، وهي من ألفاظ الطب والعلاج التي كانت شائعة في ذلك الوقت كما يظهر من السياق، ولكنها غير واضحة لنا (انظر العبارة مصورة من المخطوطات، في آخر هذا المجلد، أملاً بأن =

فتوراً لا محالةَ. ثم لا تفارق المنيَّ الرائحة المختصّة به، في غالب الأمر. فإذاً هذه الصفات قلما تفترق، وإنما تختلف الرقة والثخانة، واللون: بياضاً وصفرةً، فإنْ عدمنا الدلائل الثلاثة القاطعة، ولم نجد إلاّ اللونَ والثخانة، لم نحكم على الخارج بكونه منيّاًً، بل لا يغلب على الظنّ كونُه منيّاً؛ فإن المني في غالب الظن لا يخلو عن مجموع تيك الصفات أو بعضها، فهذا هو الكشف التام في ذلك. والحاصل منه أنا إذا عدمنا القطعَ، ينعدم غلبة الظنّ أيضاً. 176 - وممّا يُشكل في ذلك أن من أكثر الغشيان، فقد تخرج مادة الزرع دماً عبيطاً (¬1)، ويُعقب خروجُه فتوراً؛ لأنه مادة المنيّ، وإنما تخلّف اللونُ عنه، لأن في ممرّه لحمةً غُدديَّةً تبيّض الدمَ المارَّ بها، فإذا ضعفت، لم تلوِّن. فإذا كان الخارجُ دماً عبيطاً، ويَعقب خروجَه فتور، ولكنّا تحققنا أنه المادّة، ففي ذلك وقفة عندي؛ فإنه لا يسمى منيّاًً، ولا يسقط اسمُ المنيّ بالاصفرار ولا بالرّقة، والظاهر أنه يوجب خروجُه الغسلَ إذا كان على الصفات الثلاث المرعيّة، أو على بعضها، فإن اللون لا معوّل عليه. ومما يتعلق بذلك أنه لو خرج من الرجل شيءٌ في نومه، ثم انتبه، وما كان أحسّ في غمرات نومه بشهوة، ولا فتور، ولا تزريق ودَفْقٍ، فإن وجد رائحةَ الطلع، فهو مني، وإن لم يجدها، ولم يجد بياضاً وثَخَناً، فالظاهر أنه ليس بمني. وإن وجد الخارج ثخيناً أبيض، فلا نقطع بأنه مني؛ إذِ الوديّ قد يكون كذلك. فهذا موضع الإشكال. وقد يغلب على القلب أنه مني من جهة أنه لا يليق بصاحب الواقعة الوَدْي، أو ربما كان يذكر حلماً رآه، ووقاعاً تخيّله، ثم شاهد الخارج، فإن كان كذلك، فلا قاطع، فيجوز أن يقالَ: يَستصحب يقينَ الطهر، ويجوز أن نحمل الأمر على غالب الظن، تخريجاً على غلبة الظنّ في النجاسة؛ فإن هذا الذي انتهى الكلام إليه مما يغلب في ¬

_ = يلهمكم الله قراءتها الصحيحة). (¬1) عبيطاً: طرياً - وفي (م): غبيطاً (بالغين).

مثله وقوعُ غلبة الظن. ويتطرق أيضاً إلى قبيله التعلّقُ بالصفات، كما تقرّر ذلك في النجاسات. وليس هذا كما لو توضأ رجلٌ ثم شك: هل أحدث بعده أم لا؟ فإنه لا يغلب في مثل ذلك على الظن أمر يبتنى عليه غلبة الظن في وقوع الحدث، كما تقدم التقرير فيه. وإن لم يغلب على الظن أن الخارج مني، لم يجب الغُسل، ولا شك فيه. 177 - فأما المرأة إن تحقق خروجُ المني منها، ولا يتصوّر الإحاطةُ بذلك إلا بفتور شهوتها، ولا شك أن شهواتِهنّ عند انقضاء الوطر تَفْتُر. فإن علمت ذلك من خروج الخارج، فهو منيّها، ولزمها الغُسل كالرجل، والدليل عليه ما روي أن أم سليم [أم] (¬1) أنس بن مالك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل على إحدانا غُسل ¬

_ (¬1) في الأصل: " جدة أنس " والتصويب من (ل) ومن كتب الحديث. وقد وقع هذا الخطأ في (الوسيط) للإِمام الغزالي أيضاًً، وقد تعقبه ثلاثة من الأئمة الذين لهم مؤلفات عن (الوسيط) وهم الإمام ابن الصلاح، والإِمام النووي، والإمام ابن أبي الدم، وقد رأينا أن نورد تعقيباتهم بنصها لما يأتي: أ- أنها انتقلت من (الوسيط) إِلى تعقب (النهاية) وصاحبها. ب- أنها تكشف عن مناهجَ ثلاثة في تفسير هذا الخطأ وتعليله. ولنبدأ بابن الصلاح، قال: " قوله: (لماروي أن أم سليم جدة أنس بن مالك). هذا غلط تسلسل وتوارد عليه أبو بكر الصيدلاني، ثم إِمام الحرمين، ثم تلميذه صاحبنا (يعني الغزالي) ثم تلميذه محمد بن يحيى، فلا خلاف بين أهل الحديث، وأهل المعرفة بالصحابة، وبالأنساب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، وفي الصحيحين الإِفصاح بذلك " ثم استمر يعلل هذا الخطأ من هؤلاء الأئمة، ويفسّره، ويبين سببه، فقال: " ولكن من أعرض عن علم الحديث، مع ارتباط العلوم به، وقع في أمثال هذا، وما هو أصعب منه من التمسك بالحديث الضعيف، واطراح الصحيح، وإِن ارتفعت في علمه منزلته، وأسأل الله عفوه وفضله، آمين " ا. هـ بنصه (مشكل الوسيط 1/ 50 ب - بهامش الوسيط: 1/ 342). أما الإِمام النووي رضي الله عنه، فقد قال: "قوله (لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك .. إِلى آخره) صوابه: أم أنس، فهي أمه بلا خلاف بين العلماء من الطوائف، لا جدّته، وقد قال بأنه جدته أيضاًً الصيدلاني، ثم إِمام الحرمين، ثم الروياني، ثم محمد بن يحيى صاحب الغزالي، وهو غلط فاحش ... وأم أم سليم: سهلة، وقيل: رميثة، وقيل: غير ذلك " ا. هـ بنصه (ر. التنقيح في شرح الوسيط - بهامش الوسيط: 1/ 343). وأما ابنُ أبي الدم، فقد قال: " ... الصواب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، =

إذا هي احتلمت؟ فقالت أم سلمة: فضحتِ النساء، فَضَحَكِ الله، وهل تحتلم المرأة قط؟ فقال النبي عليه السلام: تربت يمينك فمِما الشبه؟ إذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نَزَع الولد إلى أعمامه، وإذا سبق ماءُ المرأة ماءَ الرجل، نَزَع الولد إلى أخواله. ثم قال لأم سليم: نعم عليها الغسل إذا رأت الماءَ" (¬1). 178 - ومما يتعلق بنزول الماءِ أن من أنزل واغتسل. ثم كان قد بقي شيءٌ من المني فخرج، لزم الغُسل مرّةً أخرى، وإن كان هذا بقيّةَ ماءٍ تدفق معظمه، وهذه البقية ¬

_ = وهي امرأة أبي طلحة، ذكره علماء الحديث وغيرهم، منهم أبو داود في سننه، وهو كذلك في النسخ الصحيحة من (النهاية)، وقد يوجد في بعض منها مثلُ ما في (الوسيط) وهو غلطٌ من النساخ " (ر. إِيضاح الأغاليط الموجودة بالوسيط: 3 أ - بهامش الوسيط: 1/ 342). قلت (عبد العظيم): هكذا رأينا اختلاف المناهج الثلاثة في تفسير هذا الخطأ: أ- فابن الصلاح يفسّر ذلك بالإِعراض عن علم الحديث، ويجعله سبب الوقوع في هذا الخطأ، ثم راح يعرّض بأخطاء " أصعب من ذلك الخطأ، من التمسك بالحديث الضعيف، واطراح الصحيح " ويعني هؤلاء الأئمة " الذين ارتفعت منزلتهم في علومهم " الصيدلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، ومحمد بن يحيى. ويرى ابن الصلاح أن هذا ذنب وإِثم، ظهر ذلك من ختام تعليقه هذا بقوله: " وأسال الله عفوه وفضله، آمين ". ب- وأما الإِمام النووي، فقد اكتفى بقوله: " وهو غلط فاحش " بعد أن بين تسلسله عند الأئمة الذين ذكرهم الغزالي، وزاد عليهم (الإِمام الروياني). ج- وأما الإِمام ابن أبي الدم، فقد ذكر أنه (أي الخطأ) في بعض نسخ النهاية، بل في القليل من نسخها، كما يفهم من عبارته التي نقلناها بنصها آنفاًً ثم زاد، فبرَّأ إِمامنا من هذا الخطأ، وكذلك الغزالي، وجعل هذا من غلط النساخ [قلت: قد صدق الواقع ابن أبي الدم، فقد وقع لنا نسخة صحيحة فيها: " أم أنس "]. وأقول ثانيةً: لقد ظهر لي تحامل ابن الصلاح -وغيره- على إِمام الحرمين، وعلى الغزالي، رأيت ذلك في كثير من تعقباته الحديثية، حتى إِنه يدفعه التحامل إِلى الوقوع في بعض الأخطاء، التي تعقبه في بعضها الإمام النووي، وأثبت أن الصواب مع إِمام الحرمين، والغزالي، وأحصيت شيئاً من ذلك، سيكون -إن شاء الله- موضع مناقشة في أحد فصول المقدّمة التي نعدها لهذا الكتاب، والله المستعان. (¬1) حديث أم سليم، متفق عليه، رواه البخاري: كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة، ح 282، ورواه مسلم: كتاب الحيض: باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، ح 313، وانظر التلخيص: 1/ 135 ح 181.

لا تخرج بشهوةٍ ودفْقٍ وفتورٍ، ولكن قد لا تفارقها الرائحة، فإذا تحقق أنه منيّ، تعلق به وجوبُ الغُسل، سواء خرج قبل البول، أو بعده. فهذا بيان ما يوجب الجنابة. 179 - فأما الحيضُ، فإذا طهرت المرأة، اغتسلت. ودم الحيض، ودم النفاس يجتمع في الرحم، ثم يُزجيه الرحم عند الولادة، ثم قال الأكثرون: إنما يجب الغُسل بانقطاع الدم، وقال بعضُ المتأخرين: يجب بخروج الدم؛ فإن الطهارات تجب بخروج الخارجات، وهذا يضاف إلى أبي بكر الإسماعيلي (¬1). وهو غلط؛ فإن الغُسلَ مع دوام الحيض غيرُ ممكنٍ، وما لا يكون ممكناً يستحيل وجوبُه به، فالوجه أن يقال: يجب الغسل بخروج جميع الحيض، وذلك يتحقق عند الانقطاع، وليس فيما ذكرناه فائدةٌ فقهيّةٌ. 180 - فأما إذا ولدت المرأةُ، ولم تنفَس، فالأصح وجوبُ الغسل عليها؛ فإن الولد ينعقدُ من مائهما جميعاً، ففي انفصاله منها انفصالُ مائها. وهذا التعليل غيرُ مرضيٍّ؛ فإن ما استحال من حال إلى حالٍ، لم يكن له حكم ما كان عليه قبل الاستحالة، والوجه في تعليل ذلك أن الغسل إذا كان يجب بخروج الماء الذي منه خَلْق الولد، فلأن يجب بانفصال الولد نفسِه أولى. ومن أصحابنا من لم يوجب الغسل مصيراً إلى أن الأحداث لا تثبت قياساً، ولم يَرِد في انفصال الولد من غير نفاسٍ توقيف من الشارع. فرع: 181 - ذكر بعض أصحابنا أن منيّ الرجل إذا انفصل من المرأة (¬2)، لزمها الغسل؛ فإنه يختلط منيُّها بمنيّه، فإذا انفصل، فقد خرج منيُّها. ¬

_ (¬1) أبو بكر الإِسماعيلي: أحمد بن إِبراهيم بن إِسماعيل بن العباس، الفقيه الحافظ، أحد كبراء الشافعية، المحدث، المصنف، توفي سنة 371 هـ وله أربع وسبعون سنة. (طبقات السبكي: 3/ 7، والإسنوي: 1/ 346، وطبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 119، والأنساب للسمعاني، وشذرات الذهب: 3/ 72، وتذكرة الحفاظ: 3/ 947). (¬2) أي انفصل بعد الغسل.

وهذا فيه تفصيل عندي، فإن لم تكن الموطوءة ذاتَ منيٍّ، بأن كانت صغيرةَ، لم يلزمها الغُسل، وإن كانت ذات منيٍّ، ولكن لم تقض وطَرَها، فلا يلزمها الغسل؛ فإنه لا يَنفصل لها منيٌّ، وإن انقضى وطرها، فيختلط منيّها بمنيّه، فإن [انفصل] (¬1) بعد أن اغتسلت، فيظهر وجوبُ الغسل عليها، وليس هذا مقطوعاًً به أيضاًً؛ فإنّه قد لا يختلط منيُّها بمنيّه، ولكن يخرج هذا على إيجاب الغسل بالاحتمال الغالب. كما ذكرته. فأما الوضوء فلا شك في وجوبه عليها، فإن ذلك المنفصل يخرج معه شيء من رطوبتها الباطنةِ، لا محالة، فيجب الوضوء لذلك. فأمّا غسل الميّت، فمن فروض الكفايات على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. فرع: 182 - كان شيخي يفرض في أثناء الكلام جنابةً مجردةً من غير حدثٍ، ينقض الوضوء، فكان يصوّر فيه إذا لفّ خرقةً على حشفته، وأولجها؛ فإنه لو فرض الإيلاج دون (¬2) ذلك، يتقدَّم الجماعَ ملامسةٌ. ولو فرض الإيلاج في دبرٍ، أو فرج بهيمةٍ حصل الغرضُ الذي أشار إليه رحمه الله. فإن قيل: إذا أولج الحشفة ملفوفة، فلم يحصل التقاء الفرجين، فلم وَجب الغسل؟ قلنا: هذا تخييل لا مبالاة به، فإن أحكام الوطء [علّقت] (¬3) بالإيلاج في الفرج، وقد حصل هذا. فإن قيل: إذا نزل المنيُّ، فهلا عُدَّ هذا مما يقتضي الجنابة المحضة؟ قلنا: المنيّ لا يتصوّر خروجه وحده، بل يخرج مع رطوبةٍ يتعلق بخروجها وجوب الوضوء. وهذا فيه نظرٌ؛ فإن المنيّ إذا انفصل، فهو طاهر، وتلك الرطوبة التي قدّرناها ينبغي أن تكون نجسةً، ثم يجب الحكمُ بنجاسة المنيّ لذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل، (م): انفصلت. (¬2) دون ذلك: أي دون لف خرقة. (¬3) في الأصل: علق.

وهذه التقديرات إنما ذكرتها؛ لأن من أصحابنا من حكى قولاً بعيداً عن (الأمالي) (¬1) مثلَ مذهب أبي ثورٍ، في أن من أحدث وأجنب، لزمه أن يتوضأ ويغتسل، ولا يندرج الوضوءُ تحت الغسل، فعلى هذا قد يُحوج إلى تقدير الجنابة المحضة. ثم الذي أراه أن الذي لم يُدرِج الوضوءَ تحت الغسل، إنما يقول ذلك إذا تميّز الحدثُ عن الجنابة، فأما إذا كان انتقاض الوضوء بتقدم المس المتصّل بالوقاع، فالأظهر الإدراج هاهنا. ... ¬

_ (¬1) الأمالي: من كتب الإِمام الشافعي، كما هو معروف.

باب غسل الجنابة

باب غسل الجنابة 183 - مضمون الباب بيان كيفيّة الغُسل، فنذكر أقلَّهُ، ثم نذكر أكمله. فأما الأقلّ، فهو إجراء الماءِ على ظاهر البدن ومنابت الشعور الكثيفة والخفيفة. قال النبي عليه السلام: " تحت كل شعرة جنابة، فبلّوا الشعر، وأنقوا البشرةَ " (¬1). وما تقدم في الوضوء من الفرق بين الشعر الكثيف والخفيف لا يجري في الغسل؛ فإن المطلوب فيه استيعاب جميع ظاهر البدن. ولا تجب المضمضةُ والاستنشاق في الغسل عند الشافعي. وفي بعض التعاليق عن شيخي حكايةُ وجهٍ عن بعض الأصحاب، موافقٍ لمذهب أبي حنيفة (¬2)، وهو غلط. ولا يجب الدلك، والغرض جريان الماءِ. ويجب مع الاستيعاب النيّةُ، فإن نوى الجنبُ رفعَ الجنابة، فذاك، وإن نوى رفعَ الحدث الأصغر، لم ترتفع الجنابة، عن غير أعضاء الوضوء. وفي ارتفاعها عن أعضاء الوضوءِ كلامٌ، تقدّم ذكره في باب نيّةِ الوضوءِ. ¬

_ (¬1) حديث " تحت كل شعرة جنابة "، رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبيهقي من حديث أبي هريرة، ومداره على الحارث بن وجيه، وهو ضعيف جداًً، وقال أبو داود: حديثه منكر. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ، (ر. أبو داود: الطهارة، باب الغسل من الجنابة، ح 248، الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة، ح 106، ابن ماجة: الطهارة، باب تحت كل شعرة جنابة، ح 597، البيهقي: 1/ 175، التلخيص: 1/ 142 ح 190). (¬2) أي في فرض المضمضة والاستنشاق في الغسل. ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 135 مسألة 25، رؤوس المسائل 101 مسألة: 8، البدائع: 1/ 21، حاشية ابن عابدين: 1/ 102.

وإن نوى رفعَ الحدث مطلقاًً، ولم يتعرض للجنابة، ولا لغيرها، فالوجه الذي لا يتجّه غيره القطعُ بإجزاء الغُسل؛ فإن الحدث عبارةٌ عن المانع من الصلاة وغيرِها، على أى وجهٍ فُرض. ولو نوت التي انقطع حيضُها بالغُسل استباحةَ الوِقاع، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في صحة الغُسل: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإنها إنما نوت ما يُوجب الغُسل وهو الجماع. والثاني - وهو الأصح أنه يصحّ؛ فإنها نوت حِلَّ الوطء، لا نفسَ الجماع، وحلُّ الوطء لا يوجب الغسل. 84 - فأما الأكمل، فينبغي أن يبدأ فيغسل ما [ببدنه] (¬1) من أذىً ونجاسةٍ، إن كانت، وإن شكّ في نجاسةٍ، احتاط، وأزال الشك باستعمال الماء. ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، كما تقدم وصفه. فإذا انتهى إلى غسل القدمين، فقد اختلف قول الشافعي فيه، فقال في قولٍ: يغسل رجليه، ويُتمّمُ الوضوءَ قبل إفاضة الماء على البدن (¬2). وهذا مما رواه هشامُ ابنُ عروة عن أبيه عُروة، عن عائشة، عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). وقال في (الإملاء): يؤخّر غَسل قدميه حتى يفرغَ من إفاضة الماء على بدنه، ثم يستأخر ويغسل قدميه، وهذا ما رواه ابنُ عباس (¬4) عن خالته ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: بيديه. (¬2) ر. المختصر: 1/ 23. (¬3) حديث عائشة في وصف غسل الرسول صلى الله عليه وسلم: متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 68، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، تلخيص الحبير: 1/ 142 ح 191). (¬4) حديث ابن عباس عن خالته ميمونة، متفق عليه بمعناه، أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الغسل مرة واحدة، 1/ 431 ح 249، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، 1/ 254 ح 317، وانظر تلخيص الحبير: 1/ 143 ح 192.

ثم إذا فرغ مما أمرناه به، تعهّد بالماء معاطفَه، ومغابنه (¬1)، التي يعسر وصولُ الماء إليها، فيأخذ الماء كفّاً كفّاً، ويوصّل الماءَ إلى هذه المواضع، ومن جملتها أصول الشعور الكثيفة، ثم يُفيض الماء فيَحْثي (¬2) على رأسه، ثم على ميامنه، ثم على مياسره، وفي فحوى كلام الأصحاب، استحبابُ إيصال الماءِ إلى كل موضعٍ ثلاثاًً ثلاثاً، فإنا إذا رأينا ذلك في الوضوء، ومبناه على التخفيف، فالغسل بذلك أولى. ثم نؤُثر أن يُتبع الماء يَدَيْه دلكاً؛ فإنه إذا فعل ذلك وصل الماء إلى البدن، ووقع الاكتفاء بما لا سرف في استعماله، ولو لم يستفد به إلا الخروجَ عن الخلاف، كفاهَ؛ فإن مالكاً (¬3) أوجب الدلك. فصل 185 - ذكرنا في باب النية أن طهارات الأحداث تفتقر إلى النيّة، ثم بنينا عليه أنها لا تصحّ من الكافر؛ فإنها بدنيّة محضة، مفتقرةٌ إلى النيّة، وذكرنا التفصيل في الذمّيّة إذا اغتسلت عن الحيض تحت مسلمٍ. وقد ذكر أبو [بكر] (¬4) الفارسي أن الغُسل يصح من الكافر طرداً للباب، استمساكاً ¬

_ (¬1) جمع مغبن، وهو الإبط، وبواطن الأفخاذ عند الحوالب. (معجم). (¬2) الفعل واوي ويائي. (¬3) ر. الإشراف: 1/ 125، مسألة: 47، حاشية الدسوقي: 1/ 90، جو اهر الإِكليل: 1/ 23. (¬4) في الأصل: أبو زيد، وقد ترجح لدينا أنه تصحيف، وأن الصواب أبو بكر بالأدلة الآتية: أ- لم نجد في كتب الطبقات والأعلام من يجمع بين هذه الكنية (أبو زيد) وهذا اللقب (الفارسي) وهو من أهل هذا الشان، وعاش في الفترة المناسبة. (مما راجعناه: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، وطبقات السبكي، وطبقات الإِسنوي، ووفيات الأعيان، وسير أعلام النبلاء، وطبقات الحفاظ، وطبقات ابن قاضي شهبة، وطبقات الفقهاء للشيرازي، وطبقات ابن الصلاح، وطبقات العبادي ... وغيرها). ب- قرأنا المسألة في مظانها عسى أن يصرح أحد الكتب باسم صاحب هذا الوجه، فلم يسعفنا مختصر النهاية لابن أبي عصرون، ولا حواشي التحفة، ولا الروضة، ولا الوسيط، ولا الوجيز، ولا شرحه: فتح العزيز، ولا المجموع للنووي، ولا في شرح المنهاج، وحاشيتي قليوبي وعميرة. =

بغسل الذميّة تحت المسلم، وأجرى ذلك في الكافرة ليست تحت مسلمٍ، وطرده في غسل الجنابة، وهذا مزيَّف. وحكى المحَامليّ في (القولين والوجهين) (¬1) وجهاً: أنه يصحّ من كل كافرٍ كلُّ طهر: غُسلاً كان، أو وضوءًا، أو تيمماً، وهذا في نهاية الضعف. فرع: 186 - تجديد الوضوء مندوبٌ إليه، قال النبي عليه السلام: " من جدّد وضوءَه جدّد الله له إيمانه " (¬2). ¬

__ = جـ- وأخيراً أسعفتنا المقادير، فوجدنا طلبتنا في غير مظانها، إِذ ذكر الرافعي عند الكلام عن النية في الوضوء، بأنها " لا تصح من الكافر، فلو اغتسل الكافر، في كفره أو توضأ، ثم أسلم، لم يعتد بما فعله في الكفر لأنه ليس أهلاً للنية ... " ثم قال: "وقال أبو بكر الفارسي: لا يجب عليه إِعادة الغسل (إِذ صح منه) بدليل صحة غسل الذمية عن الحيض لزوجها المسلم " فهذا تصريح بأن صاحب النقل الذي ذكره إِمام الحرمين هو أبو بكر، وليس (أبو زيد). د- ثم تأكد لدينا هذا بدليل قاطع، ساقته لنا المقادير، حيث نقل مصححو المجموع للنووي بهامشه عن الأذرَعي عن إِمام الحرمين، "وجوب الغسل على الكافر إِذا أسلم، وعدم صحة غسله في كُفره، وتغليطه لأبي بكر الفارسي في الاعتداد بغسل الكافر في كفره". (ر. فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 1/ 212، وهامش ص153 ج 2. والمجموع: 1/ 330). وبعد كل هذا العناء أسعفتنا باليقين نسخة (ل) فقد صرحت بأنه: أبو بكر الفارسي. (¬1) اسم لكتاب من مؤلفات المحاملي. والمحاملي: نسبة إلى بيع المحامل التي يركب عليها على ظهور المطايا، حيث كان بعض آبائه يبيعها في بغداد، وهذا اللقب (المحاملي) حمله نحو ستة من أعلام الفقه بعضهم أب إِلى بعض، والمعني هنا، والذي هو أكثر ذكراً في الكتب، وأثراً في الفقه، هو أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إِسماعيل بن محمد بن إِسماعيل. أبو الحسن، الضبي، ويعرف بابن المحاملي، الإِمام الجليل، من رفعاء أصحاب الشيخ أبي حامد، وبيته بيت الفضل، والجلالة، والفقه والرواية، صاحب اللباب، والمجموع، والمقنع، وغيرها، وله تعليقة عن الشيخ أبي حامد، وصنف في الخلاف، توفي سنة 415 هـ. (طبقات السبكي: 4/ 48 وما بعدها، وطبقات الإِسنوي: 2/ 381، وشذرات الذهب: سنة 415، والبداية والنهاية: 12/ 18، ووفيات الأعيان: 1/ 74، 75، والكامل: سنة 415 هـ). (¬2) حديث: "من جدد وضوءه"، معناه عند البخاري، وأقرب لفظ إِليه ما رواه البيهقي عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من توضأ على طهر كتب الله له عشر =

ولو توضّأ، ولم يُؤدّ بوضوئه شيئاًً، وأراد أن يجدّد، ففي استحباب ذلك وجهان، والأظهر أنه لا يستحبّ؛ فإنه لو استحبّ مرةً، لم يختصّ الاستحبابُ بها، ولم ينضبط القول في ذلك. وقد يشبّه التجديدُ من غير تخلّل شيءٍ بالغسلَةِ الرابعة. وهذا الخلاف عندي فيه إذا تخلّلَّ بين الوضوء الأول والتجديد زمانٌ يقع بمثله تفريق، فأما إذا وصل التجديد بالوضوء، فهو في حكم الغسلة الرابعة. 187 - ثم ذكر الشيخ أبو علي وجهين في استحباب تجديد الغُسل: أحدهما - أنه يُستحب كالوضوء، والثاني - لا يستحبُّ؛ [إذ] (¬1) لم يرد فيه ما ورد في تجديد الوضوء، ولم يُؤثر عن السلف الصالحين. فصل 188 - غُسل المرأة كغسل الرجل، ولا فرق بين البكر والثيّب، ولا يجب إيصال الماء إلى ما وراءَ ملتقى الشفرين؛ فإنا إذا لم نوجب إيصال الماء إلى داخل الفم، فما ذكرناه أولى. وغسل التي انقطعت حيضتُها كغسل الجنابة، غير أنَّا نستحب لها أن تدخل فِرصةً (¬2) من مسكٍ في منفذ الدم، وقد ورد فيه حديث (¬3) عن النبي عليه السلام، فإن لم تجد، فطيباً آخر، فإن لم تجد، فالماء كافٍ. ¬

_ = حسنات" (ر. البخاري: كتاب الوضوء، باب الوضوء من غير حدث، ح 214، والسنن الكبرى: 1/ 162، مصنف عبد الرزاق: 1/ 54 باب هل يتوضأ لكل صلاة أم لا؟) (¬1) في الأصل: إِذا. وهذا تقدير منا، وصدقتنا (م)، (ل). (¬2) فرصة: خرقة أو قطنة، تتبع بها المرأة أثر الحيض (القاموس، والمصباح). (¬3) الحديث: " خذي فرصة من مسك، فتطهري بها، .. " متفق عليه من حديث عائشة، أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب دلك المرأة نفسها إِذا تطهرت من المحيض، وكيف تغتسل وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع أثر الدم، ح 314، وأخرجه مسلم: 1/ 260، كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، ح 332. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 143 ح 193).

189 - الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشربَ، فلا بأس، ولكن ذكر بعضُ المصنفين أنا نستحب له أن يتوضّأ، ثم يأكل، وإن كان الوضوء لا يرفع الحدث. وكذلك إذا أراد الجنبُ أن يجامعَ، فينبغي أن يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة، وهذا الوضوء، وإن كان لا يرفع الحدثَ، فقد ورد فيه خبرٌ عن النبي عليه السلام (¬1). فأما الوضوء بسبب الأكل والشرب، فلم أره إلا في تصنيف لبعض الأئمة (¬2)، وقد روي أن رجلاً سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على حائطٍ، وتيمم، ثم أجاب (¬3). وقيل: إنه كان جُنباً، وكان التيمم في الإقامة ووجود الماءِ، ولكنه صلى الله عليه وسلم أتى به تعظيماً لردّ السلام، وإن لم يُفد التيمم إباحة محظور. ولو تيمم المحدث، وقرأ القرآن عن ظهر القلب، كان جائزاً على مقتضى الحديث. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) الخبر هو "إِذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ" رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم. (ر. مسلم: 1/ 249، كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، ح 308، وأحمد: 3/ 28، وابن خزيمة: 1/ 109، 110 ح 219، 220، 221، وابن حبان: 1/ 11، 12، وتلخيص الحبير: 1/ 141 ح 188). (¬2) بل ورد حديث متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها (واللفظ لمسلم): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة". رواه مسلم: 1/ 248، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع، ح 305، الرقم الخاص: 22، ورواه البخاري: 1/ 468 كتاب الغسل، باب الجنب يتوضأ ثم ينام، ح 288، وتلخيص الحبير: 1/ 140 ح 187. (¬3) متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 76، 77 ح 209).

باب فضل الجنب وغيره

باب فضل الجنب وغيره 190 - مضمون الباب فصلان: أحدهما - أن التوضؤ بما يُفضله الجنب، والمحدث، والحائض جائز، وقد خالف فيه بعض السلف. وغرض الفصل أن الجنب إذا مسَّ الماء، أو الحائضَ، أو المحدثَ على وجهٍ لا يصير الماء مستعملاً، فيجوز استعمال ما مَسّوه؛ فإن أبدانَهم طاهرة. ولو فُسّر فضل هؤلاء بما لم يمسّوه، فلا يتخيّل أحدٌ امتناعَ استعماله. فهذا أحد فصلي الباب. وقد استدلَّ الشافعي بأخبارٍ تدلّ على طهارة بدن الجنب والحائض (¬1)، فأرشدَ مساقُ كلامه إلى أن التصوير على التقدير الذي ذكرناه. فأمّا الفصل الثاني، فمقصوده أن ماءَ الوضوء والغسل لا يتقدّر، وكيف يُعتقد التقدُّر فيه مع اختلاف الجثث والأبدان في الصغر والكبر، ولكنَ المرعيَّ الإسباغُ، مع اجتناب السرف، قال (¬2) الشافعيُّ: قد يَرفُق الفقيه بالقليل فيكفي، ويخرق (¬3) الأخرق بالكثير، فلا يكفي. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 7، ومنها حديث عائشة في الصحيحين: " كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إِناء واحد من الجنابة " (ر. البخاري: كتاب الغسل، باب غسل الرجل مع امرأته، ح 250، مسلم: كتاب الحيض، باب غسل الرجل والمرأة في إِناء واحد في حالة واحدة، وغسل أحدهما بفضل الآخر، ح 319، 321). (¬2) ر. المختصر: 1/ 27. (¬3) خرق يخرق (من باب لعب) حمُق، ولم يرفُق في عمله، وبالشيء: جهله، ولم يحسن عمله. ورفُق: حسن صنيعه. (المعجم).

باب التيمم

باب (¬1) التيمم 191 - التيمم رخصة مختصةٌ بهذه الأمّة، والأصل فيه قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " التراب كافيك، ولو لم تجد الماء عشر حجج " (¬2) وقوله عليه السلام " جُعلت لي الأرض مسجداًً وتُرابها لي طهوراً " (¬3). وأصل التيمم مُجمعٌ عليه. 192 - ثم الباب مُصدَّر بمحل التيمم من البدن. والمتبَّع فيه الكتاب والسنة: أمّا الكتاب، فقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ومن هذا الظاهر ذهب الزهريّ إلى أنه يجب مسح الأيدي في التيممّ إلى الآباط؛ فإن الأيدي في التيمم غير مقيَّدة بالمرافق، كما جرى تقييدها في الوضوء. ¬

_ (¬1) في (ل): كتاب التيمم. (¬2) حديث "التراب كافيك ولو لم تجد الماء عشر حجج" رواه أصحاب السنن عن أبي ذر، ورواه أحمد، والدارقطني، مع تفاوت في اللفظ. (التلخيص: 1/ 154 ح 209، النسائي: الطهارة، باب الصلوات بتيمم واحد، ح 322، وصحيح النسائي: ح 311، وأبو داود: الطهارة، باب الجنب يتيمم ح 332، وصحيح أبي داود: ح 321، 322، الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، ح 124، وصحيح الترمذي: ح 107، وأحمد: 5/ 180، والدارقطني: 1/ 186 ح 1، 2، 3، 4، 5). (¬3) حديث: " جعلت لي الأرض مسجداً ... " أصل هذا الحديث في الصحيحين، من حديث جابر: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ... " كما روي عن أبي هريرة، وحذيفة، وأبي أمامة، وأبي ذرّ، وابن عمر، وابن عباس، وعلي بن أبي طالب (ر. البخاري: التيمم، ح 335، مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، ح 521، 522، 523، التلخيص: 1/ 148 ح 202، وإرواء الغليل: 1/ 315 ح 285).

وأما مالك (¬1)، فإنه قال: التيمم يقع من اليدين على الكفّين ظهراً وبطناً، إلى المفصل. ورَوَى عن النبي عليه السلام بإسناده أنه قال لعمار بن ياسر: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين " (¬2)، وقيل: إن مذهبه (¬3) قولٌ للشافعي في القديم. وهذا الخبر بعيدٌ عن قبول التأويل. والمنصوص عليه في الجديد، وهو على الحقيقة المذهب، أن محل التيمم من اليدين كمحل الوضوء منهما؛ لما رَوى ابنُ عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين " (¬4). وروي " أن النبي عليه السلام تيمّم فمسح بوجهه وذراعيه "، ولا يمكن حمل فعله في التيمّم على غير تأدية الواجب؛ فإن وضعَ الشرع في التيمّم على الاقتصار على مقدار الواجب على ما سيأتي ذلك مشروحاً في فعل التيمم 193 - وأما الحديث الذي رواه مالك، فمُشكلٌ جدّاً، ووجه الكلام عليه أن الحديث مرويّ في مخاطبة عمّار بن ياسر، وقد رئي وكان يتمعك في التراب بسبب ¬

_ (¬1) ر. الإشراف: 1/ 158 مسألة: 106، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 1/ 213 مسألة: 60، حاشية العدوي: 1/ 202، 203، وجواهر الإكليل: 1/ 27. (¬2) حديث عمار رضي الله عنه: متفق عليه بلفظ: "إنما كان يكفيك هكذا" فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفه ضربة على الأرض، ثم مسح به ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه"، وترجم البخاري للحديث (باب التيمم ضربة)، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، والدارمي، والطحاوي، والبيهقي، وفي بعض طرقه: بلفظ ضربتين، كما وقع في بعض طرقه إلى المرفقين، ونقل الحافظ عن ابن عبد البر، أن كل ما روي عنه من ضربتين فيه اضطراب. ا. هـ ولكن صح أن التيمم ضربتان في غير حديث عمار، وسيأتي قريباً. هذا. ولم نجد حديث عمار في الموطأ. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 75، 76 ح 207، والتلخيص: 1/ 153 ح 208، وإرواء الغليل: 1/ 184 - 186). (¬3) مذهبه: المراد مذهب مالك. (¬4) حديث ابن عمر، رواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وأصح منه حديث أبي الزبير عن جابر، قال الحاكم، والذهبي: إسناده صحيح، وقال الدراقطني: رجاله كلهم ثقات. (ر. التلخيص: 1/ 151 ح 207، وانظر تعليق السيد عبد الله هاشم اليماني، بهامش التلخيص، والدارقطني: 1/ 180، 181، والحاكم في المستدرك: 1/ 179، 180، والبيهقي: 1/ 207، والطبراني في الكبير: 12/ 367 ح 13366).

الجنابة، ورأى أن يوصّل التراب إلى جميع البدن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكفيك ضربة للوجه، وضربة للكفّين " والغرض قطعُ توهّمه في إيصال التراب إلى جميع البدن، فجرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة التقليل لمحل التيمّم، متذرِّعاً إلى إيضاح نفي الاستيعاب. ثم ليس يبعد أن يُعبّر ببعض الشيء عن الشيء، وإنما كان يجري الحديث نصّاً لو جَرّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قصده في تبيين محل التيمم، فأمّا والغرض نفي الاستيعاب، والنهي عن التمعّك، فقد يتطرق إليه التأويل، كما ذكرناه. والذي يقرب من ذلك، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فإذا وجدتَ الماء فأمِسَّهُ جلدك " (¬1) وهذا بظاهره يدل على أن أدنى الإمساس كافٍ، وإن كان مسحاً، ولكن لم يقع ذلك غرضاً في الحديث، وإنما المقصود منه استعمال التراب إلى وجدان الماء، فتلخص مذهب الشافعي من المذاهب. والزهري اعتمد فيما زعم ظاهرَ القرآن، وجميع الأخبار التي ذكرناها تخالف مذهبه، وما تمسك به ظاهرٌ تُفسِّره نصوصُ الأخبار. ثم الشافعي رأى حملَ مطلق اليد في التيمم على المقيّد في الوضوء بالمرافق، وهذا وإن لم يعتقده بعضُ الناس، فهو مما يغضّ من ظهور الظاهر. وإذا سقط مذهبُ الزهري، تعارض الحديث من مذهب الشافعي، ومذهب مالكٍ. ومنتهى التصرّف فيه ما ذكرناه، وقد ينقدح في نُصرة مذهب مالك شيء، وهو أن استيعاب الساعدين بضربة واحدة فيه عسر، وإن اقتصر على الكفيّن، فهو هيّن. وإذا تعارض في التعبدات مذهبان، فالتمسك بالأحوط أولى. فصل 194 - مضمون الفصل ذكرُ ما يجب استعماله في أعضاء التيمّم. فنقول: ¬

_ (¬1) حديث: "فإذا وجدت الماء، فأمسه جلدك" جزء من حديث أبي ذرّ الذي سبق آنفاً في صدر الباب.

لا بد من نقل الطَّهور إلى الوجه واليدين، كما سنصفه، فلو ضرب يده على مدرٍ صلبٍ لا غبار عليه، ولم يعلق بيده منه شيء، أو على حجر صلدٍ، ومسح وجهه ويديه، لم يُجزه عندنا. ثم إذا وجب نقلُ شيءٍ، فالشرط أن يكون المنقول تراباً طاهراً خالصاً مطلقاًً، وشرح هذه الألفاظ يوضّح غرض الفصل. فأمّا قولنا: ترابٌ، فيندرج تحته أصناف التراب -وإن اختلفت ألوانه- فمنها الأعفر، والأسود، وهو ما يستعمل في الدواء، والأصفر، والأحمر، وهو الطين الأرمني، والأبيض وهو المأكول من التراب، لا الجص. وقال الشافعي (¬1): والسبخ، والبطحاء، والسبخ التراب الذي لا ينبت فيه، وليس هو الذي يعلوه ملح؛ فإن الملح لا يجوز التيمم به. والبطحاء ترابٌ لين يكون في مسيل الماء، وليس رملاً. وأما قولنا: ينبغي أن يكون طاهراً، فلا شك أن التيمم بالتراب النجس لا يُبيح الصلاة، وهو بمثابة التوضؤ بالماء النجس. 195 - وأما قولنا: ينبغي أن يكون خالصاً، فالتفصيل فيه، أنه إذا اختلط بالتراب زعفران، أو دقيق، أو ما في معناهما، نظر: فإن ظهر المخالط على التراب -والمرعي في الغلبة أن يُرى- لا يجوز (¬2) التيمّم به. وإن كان ذلك المخالط مغموراً؛ لا يظهر، ففي التيمّم وجهان: أحدهما - الجواز؛ فإن المغمور كالمعدوم، اعتباراً بما يخالط الماء ويغمره الماء. والثاني - لا يجوز التيمّم به؛ فإن المخالط، وإن قل يعلق بالوجه واليدين، والتراب كثيف لا يزحزحه، فتبقى أجزاءُ من محلّ التيمّم غيرُ ممسوسة (¬3) بالتراب. وهذان الوجهان مبنيان على ما إذا اختلط بالماء الذي يقصر عن قدر الوضوء من الماورد ما كمله، ففي جواز الوضوء وجهان، ووجه الشبه أنّا في هذه الصورة نعلم ¬

_ (¬1) الأم: 1/ 43، ومختصر المزني: 1/ 28. والكلام هنا بمعناه لا بلفظه. (¬2) جواب الشرط. (¬3) في (د 3): ممسوح.

أن الماء لم يستوعب محلّ الوضوءِ، ولكن المخالط مغمور في الحسّ، كذلك التراب إذا خالط شيئاًً قليلاً، وارتفع المختلط بضرب اليد، [فلا] (¬1) يستوعب الترابُ محلَّ التيمّم. ولو اختلط بالتراب فُتاتةُ أوراق، أو غيرُها، فالظاهر أنه ينزل منزلة الزعفران، وإن كان فيه تيسّر (¬2) التحرز منها؛ فإن التراب الخالصَ غيرُ مُعوزٍ؛ فيكفي غبرةٌ تَثُور من مخدّة أو غيرها. وللمعترض أن يقول: إذا جوّزنا التوضؤ بالماء الذي تغيّره مخالطةُ الأوراق الخريفية، فقد يجد المرء ماءً صافياً، ولا يلزمه العدول عن الماء المتغيّر إليه. وكان شيخي يتردّد فيما ذكرته من تنزيل الأوراق منزلة الزعفران. 196 - وأما قولنا: ينبغي أن يكون مطلقاًً، فيتعلق به أمران: أحدهما - أن سُحاقة الخزف أصلها تراب، ولكنها لا تسمى تراباً مطلقاًً، فهي من التراب، وليست تراباً مطلقاًً، وكان شيخي يذكر وجهين في الطين المأكول إذا شُوي ثم سُحِقَ، والوجه عندي القطع بجواز التيمم، فإن هذا القدر من الشيّ لا يسلبه اسمَ التراب، بخلاف طين (¬3) الخزف والآجر؛ فإذاً الوجه الثاني غلط، غير معتدٍّ به. والثاني: أن الماء المستعمل في رفع الحدث لا يجوز استعمالُه في ظاهر المذهب كما سيأتي. والتراب المستعمل فيه وجهان: أحدهما - وهو المذهب أنه يمتنع استعماله ثانياً، كالماء، والثاني - يجوز استعماله أبداً؛ لأن الماء يرفع الحدثَ، فيجوز أن يتاثر، بخلاف التراب. وهو على الجملة ممّا يؤثِّر الاستعمالُ في تغييره؛ فامتنع استعماله، وإن لم يتغيّر، ثم التراب المستعمل هو الذي التصق بأعضاء التيمم، ثم تساقط وانتثر منه. فهذا عقد المذهب فيما يجوز التيمم به. ¬

_ (¬1) في الأصل: ولا. والمثبت من (م)، (ل). (¬2) (د 3)، (م): قد تيسر التحرز، و (ل): قد يتعسر. (¬3) (ل): طبخ.

197 - فأما النُّورَة والزرنيخ وما أشبههما، فلا يجوز التيمم به، ومعتمد المذهب أن الربَّ تعالى ذكر الصعيدَ، فقال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] واختلف المفسّرون فيه، فقال بعضهم: الصعيد ما يصّعد عن وجه الأرض، وقال بعضهم: صعيداً طيباً، معناه تراباً طاهراً، فصار هذا اللفظ من المجملات، فعوّل الشافعي على الحديث، وهو ما روي أنه عليه السلام قال: " جُعلت لي الأرض مسجداًً وترابها لي طهوراً ". فخصَّ التراب، وقال: " التراب كافيك "، فوقع الاعتماد على اسم التراب، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطّهور في نعت التراب، فصرّح باعتبار الطهارة. فهذا هو عقد المذهب. فرع: 198 - اختلف نصّ الشافعي في التيمم بالرمل، والذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب تنزيلُ النصّين على حالين، فحيث منع، أراد الرمل الخالص الذي لا تراب فيه، وحيث جوّز، أراد الرملَ الذي يشوبه التراب. فإن قيل: قد ذكرتم أن التراب إذا خالطه شيء، فظهر عليه، لم يجز التيمم بذلك المختلط، فما وجه التيمم برمل غالبٍ على تراب؟ قلنا: الرمل ثقيلٌ راسب، والتراب خفيف، فإذا ضرب الضارب يدَه على رملٍ فيه تراب، علا الترابُ وعبق (¬1) باليد، ولم يرتفع معه الرمل، والزعفران خفيف كالتراب، فالذي يرتفع يكون مختلطاً لا محالة، وذكر المحاملي أن من أصحابنا من جعل التيمم بالرمل على قولين، وهذا ضعيف لا أصل له. فصل 199 - قال الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6]، ومعناه فاقصدوا، والذي صار إليه الأئمة أن من يريد التيمم لو برز لمهبّ الرياح حتى سفت الرياحُ الترابَ على وجهه ويديه، ونوى استباحة الصلاة، لم يصح تيممه، فلا بد من نقل التراب قصداً إلى أعضاء التيمم. ¬

_ (¬1) عَبِق: من باب لعب، وعَبِق به الطيب: لزق (القاموس)، (م)، (ل): علق.

ولو نقل التراب من رأسه، أو جزءٍ آخر من أجزاء بدنه من الموضع الذي ليس محلَّ التيمم إلى محل التيمم، صح ذلك. ولو نقل التراب من يديه إلى وجهه، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - الجواز؛ لأن النقل والقصد إليه قد تحقق. والثاني - لا يجوز؛ لأن محلّ التيمم كالشيء الواحد، وينبغي أن يكون النقل من غيره إليه. ولو كان على وجهه غبار، فاكتفى بتَرْدِيده على الوجه، لم يكفه ذلك أصلاً؛ لأنه لم ينقل. ولو مسح وجهه وعليه تراب بيديه، فعبق التراب بيده، ثم ردّه إلى وجهه، فقد كان شيخي يقطع بأن ذلك لا يجوز، وقطع غيرهُ بتخريج ذلك على الوجهين، وهو الوجه؛ فإن التراب إذا عَبِق باليد، فقد انقطع حكم الوجه عنه، فهو الآن تراب على اليد، وفي نقل التراب الذي على اليد إلى الوجه وجهان. ولو يمّمه غيره، فإن كان معذوراً، وقد أذن في ذلك، صحّ، وإن لم يكن معذوراً، فأذن لغيره حتى يَمّمه، ففي المسألة وجهان. وإن يمّمه غيره من غير إذنه، لم يجز، وكان كما لو برز لمهبّ الرياح، كما مضى، وإن أمكنه أن يمتنع، فلم يمتنع، ولكن لم يأذن، فالوجه القطع بالمنع؛ لما ذكرناه. ولو نقل وجهه إلى التراب فمعَّك فيه، فقد كان [شيخي] (¬1) يذكر فيه وجهين، وذكرهما بعض المصنفين. وقطع الصيدلاني وغيرُه القول بالجواز؛ فإن الأصل قصدُ التراب أخذاً من لفظ التيمّم، وقد تحقق ذلك بنقل أعضاء التيمّم إلى التراب، فلست أرى لذكر الخلاف في ذلك وجهاً. وقد ذكر صاحب التقريب (¬2) وجهاً أن من برز لمهبّ الرياح قصداً، حتى سفت ¬

_ (¬1) في الأصل: الشيخ، والمثبت تقدير منا. وقد صدقته (ل). (¬2) صاحب التقريب، هو أبو الحسن: القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي، ابن القفال الكبير، وكنية الكبير أبو بكر، مثل كنية القفال المروزي. قال ابن خلكان: "صاحب التقريب، الذي ينقل عنه في (النهاية) والوسيط والبسيط. وقد ذكره الغزالي في الباب الثاني من كتاب الرهن، لكنه قال: أبو القاسم. وهو غلط صوابه: (القاسم) وأما =

الرياحُ التراب على أعضاء تيمّمه، جاز ذلك؛ فإن القصد قد تحقق، وليس في الكتاب (¬1) تعرضٌ للنقل، والقصد إليه، وهذا وإن أمكن توجيهه، فليس معدوداً من المذهب. فصل 200 - مقصود هذا الفصل، القول في كيفية النيّة في التيمم. وأصل الفصل أن التيمم لا يرفع الحدث، ولكنه يبيح الصلاةَ، والدليل عليه أن من أحدث أو أجنب وتيمم، ثم وجد ماءً، فيلزمه التطهر بالماء، على حسب ما تقدم من حدثه، فإن كان حدثه ناقضاً للوضوءِ، توضأ، وإن كان جنابةً، اغتسل. والسببُ في التيمم أن من وجد الماء، فهو مأمور باستعماله لرفع الحدث، فإن لم يجده، وظّف الشارع عليه التيمم، ليدوم مرونُه على إقامة الطهر؛ إذ قد يدوم انقطاعه عن الماء الذي يجب استعماله أياماً، فلو تمادى انكفافه عن الطهارة -وهي ثقيلة- لاستمرّت النفس على تركها، فالتيمم إذاً لاطراد الاعتياد في هذه الوظيفة، فإذا ثبت ذلك، فلا ينبغي للمتيمم أن ينوي بتيممه رفعَ الحدث، ولو نواه، لم يصح تيمّمه أصلاً. وحُكي عن ابن سُريج أنه قال: التيمم يرفع الحدث في حق فريضة واحدةٍ، فلو نوى الرفعَ، صح على هذا التأويل. وهذا ضعيفٌ معدُودٌ من الغلطات؛ فإن ارتفاع الحدث لا يتبعّض، فلينو المتيمّمُ استباحة الصلاة، لتوافق نيَّتُه موجبَ الشرع، فتصحّ، ثم الطرق متفقة على أنه لو نوى بالتيمم استباحةَ الفريضة والنوافل، صحَّ منه إقامتها جميعاً. والمذهب المقطوع به في طرق المراوزة أن تعيين الفريضة لا يشترط في نيّة التيمم. ¬

_ = كنية صاحب التقريب، فهي: أبو الحسن، ت نحو 400 هـ. (تهذيب الأسماء: 2/ 278، طبقات الشافعية: 3/ 472، ووفيات الأعيان: 4/ 200، 201). (¬1) الكتاب: المراد به (التقريب).

وذكر العراقيون وجهاً بعيداً أن التيمم لا يصح، ما لم ينو المتيمم صلاةً معيّنةً من الفرائض، ثم لا تجوز الزيادة عليها. وذكر الشيخ في الشرح هذا الوجه، وهو مُطَّرحٌ، لا التفات إليه. 201 - ولو نوى بالتيمم استباحةَ الفريضة، ولم يتعرض للنافِلة، فالذي قطع به الصيدلاني أنه يتنفَّل بعد الفريضة، ولا حرج. وهل يتنفّل قبل الفريضة؟ فعلى قولين: أحدهما -وهو المنصوص عليه في الأم- أنه يتنفل، وهو القياس؛ فإن الجمع بين الفريضة والنوافل جائز إذا نواه، فليجز، وإن لم ينوه اعتباراً بالوضوء. ونصّ في الإملاء على امتناع ذلك، فإن النوافل إنما تؤدّى تبعاً للفريضة؛ إذ هو طهارةُ ضرورة [ولا ضرورة] (¬1) في النوافل، فإن تبعت، لم يعتد بها، ولا تتحقّق التبعيّة مع التقدم على الفرض المتبوع. وكان شيخي يحكي قولاً ثالثاً: أن التنفل بعد الفرض لا يجوز، إذا كان المتيمم نوى الفرض، ولم يتعرض للنوافل، وهذا بعيد، لا يخرّج إلا على الوجه المزيّف في اشتراط التعيين، فهذا إذا نوى استباحة الفرض. 202 - فأما إذا نوى استباحة النفل، ولم يتعرض للفرض، فهل يصلّي الفرضَ؟ فعلى قولين مشهورين، وينتظم توجيههما بما قدّمناه. ثم قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: إذا قلنا: يؤدي الفرضَ، فلا كلام. وإن قلنا: لا يؤدي الفرض، فهل يؤدِّي النفلَ أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يؤديه، وهو القياس. والثاني - لا يؤدّيه؛ لأن الأصل أن التيمم لا يصلح إلا للفرض الذي لا بد منه؛ فإنه شُرع للضرورة، فلئن كان التيمم يصلح للنفل مع الفرض للتبعيّة، فلو جُرّد [للنفل] (¬2)، لكان ذلك مناقضاً لقاعدة الضرورة بالكليّة. ¬

_ (¬1) زيادة من: (د 3)، (م)، (ل). (¬2) في الأصل: للتيمم، وواضح أنها سبق قلم. وفي (د 3)، (م): "جرد التيمم، =

وهذا الذي ذكره إنما كان يتجه لو كان يمتنع إقامة النوافل بالتيمم أصلاً؛ لانعدام الضرورة. فإن قيل: فما الاعتذار عن هذا؟ قلنا: الأسفار تكثر، وإعوَازُ الماء فيها يعمّ، والانقطاع عن النوافل عظيم الوقع عند ذوي الدين، وركعتان خفيفتان خير من الدنيا وما فيها، وغاية المسافر [سفراً مباحاً] (¬1) أرباح يرقبها على تجايره (¬2)، وكيف تطيب مع الانقطاع عن النوافل! وعلى الجملة (¬3) ليست الضرورة المذكورة في التيمم إلا حاجة ظاهرة، وهذا متحقق في إقامة النوافل. والذي يعضد ذلك أن إقامة النوافل على الرواحل جائزةٌ في السفر، حيث توجهت، وذلك كَيْلا تتعطّل أوقات المُرفَق (¬4)، فكيف يليق بمحاسن الشريعة انقطاع النوافل في الأسفار. فهذا حاصل القول في ذلك. فرع: 203 - إذا فرعنا على أن من نوى الفرض يتنفّل بعد الفريضة، فلو انقضى وقتُ الفريضة، فهل يتنفل وراء وقت الفريضة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - المنع؛ فإن التبعية تنقطع بانقضاء الوقت، وهذا ضعيفٌ؛ فإن النوافل لا اختصاص لها بالوقت. فرع: 204 - إذا نوى المتيمم استباحة الصلاة، ولم يتعرض للفرض والنفل، ¬

_ = لكان ... " وفي (ل): النفل. (¬1) في الأصل: وغاية المسافر سفر مباح. وهو سبق قلم، ولا نقول خطأ، فإن مثل هذا لا يخطىء فيه أحد. وطبعاً كانت (د 3) صواباً، وصدقتنا (م)، (ل). (¬2) تجايره: أي تجارته. وفي (د 3) محاره رجوعه (المعجم والقاموس) والمعنى عند عودته من سفره. (¬3) هنا خلل في ترتيب نسخة (م)، حيث أقحمت صفحات سبع في غير موضعها. (¬4) في (م): المؤمن، (ل): الموفق. والمرفق من هو محل الإرفاق، اي الإعانة، والمساعدة، والتيسير. وهو هنا صاحب الرخصة.

فالوجه القطع بأن هذا بمثابة ما لو نوى استباحة الفرض والنفل؛ فإن الصلاة اسمٌ للجنس، يتناول الفرض والنفل. فإن قيل: لو نوى المتحرم بالصلاة الصلاةَ، لم تنعقد صلاته إلا نفلاً، فهلاّ كان الأمر في نيّة الصلاة كذلك؟ قلنا: لا يتأتى الجمع بين الفرض والنفل في تحريمةٍ واحدة، فحُمل ما جرى من ذكرِ الصلاة على الأقل، والجمع بين الفرض والنفل بتميمٍ واحد جائز، فحمل ذكر الصلاة فيه على الجنس. وقد سمعتُ شيخي يقول: إن نوى المتيمم الفرضَ والنفل، وعناهما بإجرائه ذكر الصلاة، أداهما، وإن لم يجر ذكر النوعين، فالصلاة المطلقة محمولة على النفل. وهذه الفروع مخرّجة على ظاهر المذهب، وهو أن صحّة التيمم لا تفتقر إلى تعيين الصلاة. فرع: 205 - إذا نوى المتيمم إقامة فرضين بتيمم واحدٍ، ففي صحّة تيممه وجهان: أحدهما - لا يصح أصلاً، ولا يصلح لفرضٍ واحدٍ؛ فإنه أتى بالنيّة على خلاف موجب الشريعة، ففسدت؛ إذ لا معنى للفساد إلا الخروج عن موافقة الشريعة، فكأنه لم ينو أصلاً. والثاني - أن تيممه يصح، ويصلح لفريضةٍ واحدةٍ؛ فإنه تعرض لفريضةٍ وزاد، فتفسد نيّته في الزيادة، وتنحصر في الفريضة الواحدة. وهذا الخلاف يقرب من الخلاف في أن المتوضىء إذا نوى بوضوئه إقامة صلاةٍ واحدةٍ، دون غيرها، ففي صحة الوضوء وجهان؛ فإنه في قصره النية في الوضوء مخالف، كما أنه في التعرض للزيادة على فريضةٍ واحدةٍ مخالف، ولكن التيمم أولى بالفساد لضعفه. فرع: 206 - قد ذكرنا فيما مضى أن المتوضىء لو نوى بوضوئه إقامة الوضوءِ المفروض، جاز، وارتفع الحدث، ولو نوى بتيممه إقامة التيمم المفروض، ففي صحة التيمم وجهان: أحدهما - الصحّة؛ اعتباراً بالوضوء. والثاني - لا يصح، والفرق أن الوضوء قُربةٌ مقصودةٌ في نفسها؛ ولذلك استُحب تجديدُ الوضوءِ، والتيمم غير مقصودٍ في نفسه؛ ولذلك لا يستحب تجديد التيمم.

فصل في كيفية التيمم 207 - لو أخذ المتيمم كفّاً من التراب، ومسح به وجهه، ثم أخذ كفّاً أو كفين، ومسح يديه، واستوعب، جاز. ولكن قد نُقِل من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله اختيار إقلال التراب، ثم إن الاستيعابَ لا بد منه، كما سنصفه مع الإقلال، فلا بد من تأنقٍ (¬1) فيه، فينبغي أن يضرب يديه ضربةً لوجهه، ولا نكلِّفه في الضربة الأولى أن يفرّج بين الأصابع؛ فإنه إنما يلقى وجهُه بطنَ الكف والأصابع، ولا يتأدّى فرضُ جزءٍ من اليد ما بقي جزءٌ من فرض الوجه، ثم اليدان يقربان من مقدار سعة الوجه، ويهون ترديد اليدين على الوجه، ولا خلاف أنه لا يجب إيصال التراب إلى منابت شيءٍ من الشعور، سواء كانت خفيفةً، أو كثيفةً؛ فإن إيصال التراب إلى منابت الشعور الخفيفة أعسر من إيصال الماء اللطيف إلى منابت الشعور الكثيفة. ثم يضرب يديه على التراب، أو على ما يثور منه التراب ضربة ثانيةً، ويفرّج في هذه الضربة أصابعه، ثم يُلصق ظهورَ أصابع يده اليمنى ببطون أصابع يده اليسرى، بحيث لا يجاوز أطرافَ أنامل يده اليمنى المسبِّحةُ من يده اليسرى، ولا يجاوز المسبِّحةُ من يده اليمنى أطرافَ أنامل يده اليسرى، ويمُرّ يده اليسرى حيث وضعَها على ظهر ساعده اليمنى ومرفقه، ثم يقلب بطنَ ساعده اليُمنى على بطن كفّه اليسرى، ويحتوي باليد اليسرى على بطن الساعد من اليمنى، إلى حيث ينتهي الكفّ وبطونُ الأصابع وُيمرّ يدَه اليسرى كذلك، ويجريها على ظهر الإبهام من اليمنى، ثم يصادف الترابَ على يده اليمنى عتيداً (¬2)، فليلصق يده اليسرى بيده اليمنى، ويُجري اليدَ اليمنى على يده اليسرى كما أجرى اليسرى على اليمنى، ثم يخلّل بين أصابعه، بحيث ينتهي المسح إلى جميع خلل الأصابع. فهذا كيفية التيمم. والذي ذكرناه ليس بمنصوصٍ عليه في توقيف الشارع، ولكن ثبت أنا مأمورون ¬

_ (¬1) تأنق في الشيء، أتقنه وجوَّده. (المعجم). (¬2) العتيد: المهيأ والحاضر (المعجم).

بالتقليل، واعتقدنا -مع التقليل والاقتصارِ على ضربتين- وجوبَ الاستيعاب، فكان [هذا] (¬1) أقربَ مسلك يجمع الاستيعابَ، والتقليلَ، والاكتفاء بغبرةٍ تلصق باليد، في ضربتين. فهذا ما ذكره الأئمة. 208 - ثم في الفصل غائلةٌ لا بد من التنبيه عليها، وهى أن الضربة الثانية إذا ألصقت غباراً بالكفين، فالظاهر أنه يصل ما لصق بالكف إلى مثل سعتها من الساعدين، ولست أرى أن ذلك الغبار ينبسط على الساعدين ظهراً وبطناً، ثم على ظهور الكفين. وقد ورد في الشرع الاقتصار على ضربتين، وهذا مشكل جداًً، ومنه ثار خلافٌ بين العلماء، واضطربت لأجله طرقُهم. فأما أبو حنيفة (¬2)، فإنه صار إلى أن المتيمم لو أغفل ربعاً من كل يدٍ، وربعاً من الوجه، جاز، ونظر إلى اقتصار الشارع على ضربتين، وعلم -فيما زعم- أن الاستيعاب لا يتأتى، ولا يحصل مع الاكتفاءِ بضربتين، فاعتقد جواز الإغفال، ثم ذكر الربعَ تقريباً. وأما مالك، فإنه قال: الضربة الأولى قد تستوعب الوجه، والضربة الثانية تستوعب الكفين ظهراً وبطناً، ولا يجب مسح الساعدين أصلاً، وقد ذكرنا أن ذلك قولٌ للشافعي. وأما ما اعتقده أبو حنيفة فغير مرضيّ من جهة أنه لا يوجب نقلَ شيءٍ إلى محل التيمم، بل يقول: لو ضرب يده على صخرة صماء، ولم يعبق شيء بيده، جاز، ولا يمتنع استيعاب الساعدين مسحاً باليد، وإنما الممتنعُ بسطُ غبارٍ عليهما، فإذا كان لا يوجب نقلَ شيء، فلا تفصيل في مُحاولة بسط ما لا يجب نقله، ثم الربع مقدارٌ تحكم به من غير توقيف. ¬

_ (¬1) مزيدة من (م). (¬2) هذه رواية عن أبي حنيفة، ر. المبسوط: 1/ 107، البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 1/ 152. والبدائع: 1/ 46، وفتح القدير: 1/ 111.

209 - وأما ما ذكره الشافعي في الجديد، فمشكل جداًً؛ فإن الغبار لا ينبسط (¬1) على الساعدين قطعاًً، فلا يتجه إلا مذهبان: أحدهما - القول القديم الذي هو مذهب مالك، فيتأتى عليه تقدير بسط الغبار في الضربتين على الوجه والكفين. والمسلك الثاني - أن نوجب إثارة الغبار، ثم نكتفي بإيصال جرم اليد مسحاً إلى الساعدين، من غير أن نتكلف بسطَ التراب في عينه. والذي ذكره الأصحاب أنه يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقيناً، ولو تردّد المتيمم في ذلك، وأشكل عليه، وجب إيصال التراب إلى موضع الإشكال، حتى يتيقن انبساطَ التراب على جميع المحلّ، وهذا على القطع منافٍ للاقتصار على الضربة الثانية؛ فإن الاقتصار عليها يوجب عدم الانبساط ضرورة وقطعاً، وليس قصور التراب مع غاية [التأتي] (¬2) أمراً يتفق على ندور، بل هو أمر لا بد منه، فالذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب جميع المحلّ بالمسح باليد المغبّرة، من غير ربط الفكر بانبساط الغبار. وهذا شيء أظهرته (¬3)، ولم أر بداً منه، وما عندي أن أحداً من الأصحاب يسمح بأنه لا يجب بسط التراب على الساعدين. 210 - ثم قد ذكر المزني فيما نقله أنه يضرب يديه ضربة للوجه أولاً، ولا يفرق بين أصابعه، واتفق أئمتنا على أن تفريق الأصابع في الضربة الأولى لا معنى له؛ فإن التراب اللاصق بخلل الأصابع في الضربة الأولى لا يصير مستعملاً في الوجه، وإنما ينتهي إلى الوجه ما لصق بالكفين، فأما تفريق الأصابع في الضربة الثانية، فمفيد؛ فإنه قد دخل أوان إقامة فرض اليدين، ويجب إيصال المسح إلى خلل الأصابع. ثم كان شيخي يحكي عن القفال: إنه إذا عبِق الغبارُ بخلل الأصابع في الضربة ¬

_ (¬1) انتهى الخلل في ترتيب (م). (¬2) تأتى للأمر: ترفق له، وأتاه من وجهه. (المعجم) وهي في النسختين (التأتّي) ولكنا قدرنا أن ذلك من تصحيف النُّساخ، وعدلنا إلى (التأتي) بالتاء، فهذا هو الأقرب لأسلوب إمام الحرمين، والأشبه بلغته. وهو قالها بالتاء إن شاء الله. ثم صدقتنا (ل). (¬3) يصرح إمام الحرمين بخروجه على المذهب، وأن أحداً من الأصحاب لا يسمح بما سمح به.

الأولى، ثم لم ينفض حتى ركب ذلك الغبار غبارٌ في الضربة الثانية، فلا يصح التيمّم؛ فإن الغبار الأول يمنع الغبارَ الثاني، ولا يمكن الاكتفاء بذلك الغبار؛ فإنه في حكم غبار حصل على المحلّ، ثم رُدّد عليه من غير فرض نقل إليه، في أوان فرض النقل. وهذا لم يذكره الصيدلاني وغيره من أصحاب القفال. وهو عندي غلوٌّ ومجاوزة حدٍ، وليس بالمرضي اتباع شَعْب (¬1) الفكر، ودقائق النظر في الرخص، وقد تحقق من فعل الشارع ما يشعر بالتسامح فيه؛ ولم يوجب أحد من أئمتنا على الذي يَهُم بالتيمم أن ينفض الغبار عن وجهه ويديه أولاً، ثم يبتدئ بنقل التراب إليها، مع العلم أن المسافر في تقلباته لا يخلو عن غبار يرهَقه (¬2)، فلنقتصر على أن تفريج الأصابع في الضربة الأولى ليس بشرط، وليس لاشتراطه معنىً. 211 - وذكر الشيخُ وجهين في أن المتيمم إذا كان يُجري إحدى يديه على الأخرى، فرفع يده قبل استيعاب العضو، ثمَّ أراد أن يعيدها إلى موضعها لاستكمال الاستيعاب هل يجوز ذلك؟ وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأن التراب الباقي على اليد يصير بالفصل (¬3) مستعملاً، فإذا ردّ اليدَ كان ما ردّه مستعملاً. والثاني - يجوز، وهو الأصح؛ فإن المستعمل هو الذي بقي على العضو الممسوح، والباقي على اليد في حكم التراب الذي يضرب عليه اليد مرتين. وهذا ظاهر. والذي أثار هذا الخلاف أن الذي يفضل [على] (¬4) اليد يُعلم أنه قد ينتثر مما اتصل بالعضو الممسوح شيءٌ، ويختلط بالباقي على اليد، فيكون قد اختلط المستعمَل بغير المستعمَل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الشعْبُ: التفَرّق، من شعَب الشيءُ يشعَب شعْباً: تفرّق. (المعجم). (¬2) رهِقه يرهَقه: غشيه. (المعجم). (¬3) في (د 3) و (ل): "بالفضل" بالضاد المعجمة. (¬4) زيادة من (ل).

فصل قال: " ولو نَسي الجنابةَ، فتيمَّمَ للحَدَثِ أجْزَأَه [لأنَّه لو ذَكرَ الجَنَابةَ، لم يكنْ عليه أكثرُ من التيمُّم]، فإذا تيمَّمَ ونوَى استباحةَ الصَّلاة من الحدَث، ثم تبيّن أنَّه كان جنباً، لم يضرّه الغلط ... إلى آخره " (¬1). 212 - وقد عللّ المزني ذلك بعلّةٍ غيرِ مَرضيّةٍ (¬2)، وليس يتعلق ذكر غلطه بغرض فقهيّ؛ فلا نتعرض له. والعلة السديدة أن التيمم لا يرفع الحدث، سواء ذكر على الصواب، أو على الخطأ، وإنما مقصود النيّة استباحة الصلاة، ولا احتفال بذكر غيرها بوجه من الوجوه. وقد ذكرت هذا فيما جمعناه من كلام الأصحاب في باب النيّة للوضوء، فلا حاجة إلى إعادته. فصل 213 - المتيمم إذا وجد الماء خارج الصلاة، وتمكّن منه، بطل تيممه، وقال أبو سلمة بنُ عبد الرحمن (¬3): لا يبطل تيممه ما لم يُحدث، والتيمم عنده رافع للأحداث. وما ذهب إليه جماهيرُ العلماء بطلان التيمم، والدليل عليه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " فإذا وجدت الماء، فأمسِسْه جلدك " (¬4) ولم يقل: فإذا وجدت الماء وأحدثت، فأمسِسْه جلدَك. ¬

_ (¬1) مختصر المزني: 1/ 30. وما بين المعقفين زيادة من نص المختصر. (¬2) علل المزني ذلك بأنه ليس على المحدث عندي معرفة أي الأحداث كان منه، ولا يضر الغلط في تعيينها (ر. المختصر: 1/ 30). (¬3) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، من فقهاء المدينة، أخذ عن زيد بن ثابت، قال الزهري: أربعة وجدتهم بحوراً: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، مات سنة 94 هـ وقيل سنة 104 هـ وهو ابن ثنتين وسبعين. (ر. تهذيب التهذيب: الكنى، وطبقات الشيرازي: 48، 61). (¬4) سبق ذكر هذا الحديث فقرة: 191.

وإذا تيمم وصلَّى، ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة، لم يلزمه قضاء الصلاة. وقال طاوس (¬1): إن كان وقت الصلاة باقياً، فيلزمه إعادة الصلاة، فأما الصلاة التى مرت مواقيتُها في إعواز الماء، فلا تجب إعادتها. وقد أرى في بعض الفصول حكايةَ مذاهب السلف لغرضين: أحدهما - أني أرى مذهبين في طرفي النفي والإثبات، ومذهب الشافعي يتوسّطهما. والثاني - أن من الأحكام ما يظن معظم الناس أنه متفق عليه، فأحكي فيه خلافاًً أصادفه لمقصودٍ في التفريع (¬2). 214 - فأعود إلى تفصيل المذهب وأقول: لو رأى المتيمم ماءً خارج الصلاة، ورأى معه ما يمنع الوصولَ إليه من سبُع أو غيره، فالتيمم لا يبطل، ووجود الماء الذي رآه وعدَمُه بمثابةٍ واحدةٍ. ولو رأى ماءً، وظنه مقدوراً عليه، ثم استبان مانعاً دونه، فقد بطل تيممه أولاً، فإذا ظهر له أن الماء غيرُ مقدورٍ عليه، لزمه إعادة التيمم، والطرق متفقة على هذا. ولو طلع على المتيمم ركبٌ، فعليه طلبُ الماءِ منهم، وإن لم يجد، بطل تيممه، فيعيده. ولو تراءى له سرابٌ، فحسبه ماء، ثم تبين له، بطل تيممه. ولو رأى المتيمم ماءً في قعر بئرٍ، وعلم أنه [لا دلو معه، ولا رِشاء، لم يبطل تيممه؛ لأنه] (¬3) [كما رأى الماء علم أنه] (¬4) غيرُ متمكن منه. ولو ظن أن في رحله دَلواً ورِشاءً، فلما طلب، لم يجد، بطل تيممه. ¬

_ (¬1) طاوس بن كيسان اليماني، أبو عبد الرحمن الحميري، مولاهم، وقيل الهَمْداني، مولاهم، كان يسكن الجند بفتح الجيم والنون بلدة معروفة باليمن، من كبار التابعين، تكرر ذكره في المختصر، وله ذكر في المهذب. توفي بمكة سنة ست ومائة (106 هـ) وكان له بضع وسبعون سنة (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 251 رقم 269). (¬2) تنبه لطرف من منهج الإمام، وسرّ حكايته مذاهب السلف أحياناً. (¬3) زيادة من: (د 3)، (م)، (ل). (¬4) زيادة من (ل) وحدها. و (كما) هنا بمعنى عندما.

فإذاً عقدُ المذهب أن التمكن من استعمال الماء يُبطل التيمم، وكذلك حسبان التمكن يُبطله، وإِن تبين أن الأمر على خلاف ما ظن. ولو وجب على المتيمم طلبُ الماء، ثم طلب، فلم يجد، بطل تيممه. فأما بطلانه بالتمكن من استعمال الماء، فمستفاد من الحديث، كما سبق. 215 - وأما تعليل البطلان بوجوب الطلب، وحسبان التمكن، فنقول: التيمم طهارة ضرورة، والذي يليق بالضرورة أن يحكم بصحة التيمم ابتداء ودواماً، إِذا كان المتيمم بحيث يصح منه الإِقدام على الصلاة بالتيمم، فإِذا وجب الطلب، لم يجز للمتيمم [أن يصلي في تلك الحالة، فإِذا لم يجد، وانكشف الظن، فقد بطل التيمم] (¬1) بطروء حالة امتنع فيها الصلاة بالتيمم. وهذا له استناد إِلى أن التيمّم لا يصحّ من غير تقديم الطلب، كما سيأتي. فلو تيمم ثم طلب الماء، لم يصح تيممه؛ فالأصل في ذلك أن بطلان التيمم لا يتوقف على طريان الحدث، وهو في نفسه غيرُ رافع للحدث، وهو طهارة ضعيفة منوطة بالحاجة. فإِن قيل: المتيمم إِذا أصابته نجاسة، أو عدم ما يتستر به، ثم وجد ساتراً، أو ثوباً طاهراً؛ فقد امتنعت الصلاة بما طرأ، وإِذا أزال المانع، لم تجب إِعادة التيمم. قلنا: المانع الذي فرضه السائل لا اختصاص له بالتيمم، ووجوب طلب الماء مختصٌّ بالتيمم، فقد سقط أثر التيمم بمعنىً مختصٍّ به، فكان سقوط أثره مبطلاً له. ويقرب مما ذكرناه أن المسافر إِذا نوى القصر، ثم شك في صلاته، فلم يدرِ أنوى القصر أم لا، [ثم] (¬2) لم يَدُم الشك، بل كما (¬3) طرأ وخطر، زال، فيجب الإِتمام، ويبطل القصر بخَطْرةٍ زالت؛ لأن الأصل الإتمام. كذلك الأصل استعمال الماء، فإِذا وَهَت الرخصة بطريان تردُّدٍ، بطلت. فهذا كله فيه إِذا رأى المتيمم الماء خارج الصلاة. ¬

_ (¬1) زيادة من نسخة أخرى بهامش الأصل، ومن نسخة: (د 3)، (م)، (ل). (¬2) زيادة من: (د 3)، (م)، (ل). (¬3) كما بمعنى عندما.

216 - فأمّا إذا تحرَّم بالصلاة، ورأى الماء فيها، فالذي نص عليه الشافعي أن التيمم لا يبطل، والصلاة لا تبطل (¬1). وذكر ابن سُريج وجهين في أن المستحاضة إذا شُفيت في أثناء الصلاة، فهل تبطل صلاتُها بانقطاعِ ضرورتها؟ ومذهب المزني أن التيمم يبطل برؤية الماء في أثناء الصلاة، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى تخريج قولٍ موافقٍ لمذهب المزني من مسألة المستحاضة؛ فإنها إذا شفيت، فقد زالت ضرورتُها، كذلك المتيمم إِذا تمكن من استعمال الماء، والأظهر القطع بأن صلاة المتيمم لا تبطل. وإِنما الخلاف في المستحاضة، والفرق أن المستحاضة تجددت عليها أحداثٌ بعد الطهارة، فإذا شُفيت، تعيّن عليها السعي في رفعها؛ إذ (¬2) تمكنت، والمتيمم لم يتجدد عليه حدث (¬3)، والصلاة عاصمةٌ مضنون بها؛ ومن احتاج في تحصيل الماء خارج الصلاة إلى بذل درهمٍ، وهو مغبون فيها، لم يبطل تيممه، فبطلان الصلاة أحقّ بأن يُتوقّى، فكأن المتيمم غيرُ متمكنٍ من استعمال الماء. 217 - ثم إِذا ثبت هذا، فإن أراد المتيمم أن يتمّم الصلاة المفروضة التي هو فيها، فعل، وإِن أراد أن يقلبها نفلاً، جاز، فيصلّي النفل، ثم يتوضّأ، ويفتتح الفريضة. واختلف أصحابنا في أن الأوْلى ماذا؟ فمنهم من قال: الأولى إِتمامُ الفريضة؛ لأنه التزمها بالشروع فيها. ومنهم من قال: الإضراب عن الفريضة أولى؛ للخروج عن الخلاف. وقد رأيت للقاضي أبي الطيب الطبري (¬4) في كتابه المترجم بالمنهاج: أن من ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 31. (¬2) في (د 3): أو، وفي (م): إذا. ونصّ ابنُ مالك على أن (إِذ) تستعمل بمعنى (إذا). (¬3) في (د 3): حدوث. (¬4) القاضي أبو الطيب الطبري: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر: الإمام الجليل، أحد حملة المذهب ورفعائه، نسبته إلى طبرستان، ثم البغدادي، تفقه بأئمة عصره في آمل، ثم نيسابور، ثم بغداد، وفيها حضر مجلس الشيخ أبي حامد الإسفراييني. وعنه أخذ العلم خلق =

أصحابنا من منع إِبطال الفريضة، وأوجب إِتمامها. وهذا وإن كان يتجه في الخلاف، فلست أراه من المذهب، ولا أعتدّ به. وكان شيخي يقول: لا ينبغي أن يخرج من الصلاة فيُحبطَ عملَه، بل ينبغي أن يقلبها نفلاً، ثم كان يردّ الخلاف في الأوْلى إِلى هذا، ويقول: من أصحابنا من قال: إِن إِتمامها على الفرضية أوْلى، ومنهم من يقول: قلبها نفلاً أولى. وذكر العراقيون (¬1) هذا الخلاف في الخروج من الصلاة أصلاً، فقالوا: من أصحابنا من قال: الخروج من الصلاة أوْلى؛ فإِن من العلماء من حرّم الاستمرار على الصلاة بعد رؤية الماء، وهذا يطّرد في الفرض والنفل؛ فإِنهما لا يختلفان فيما يتعلق بالطهارة. ومنهم من قال: إتمامها فرضاً أولى، ولم يتعرضوا لقلب الصلاة نفلاً. والمراوزة لا يمنعون الخروج من الصلاة من غير قلب، في حق من رأى الماء في الصلاة. وهذا [الفصل] (¬2) فيه أدنى استبهامٍ. 218 - [وأنا] (¬3) وراء التنبيه، فليتخذ الناظر مسألة أذكرها أصلاً: وهو أن المسافر الذي يجوز له أن يفطر لو أصبح صائماً، ثم أراد أن يُفطر، فله ذلك؛ فإِن الشروع لا يُلزم عندنا شيئاًً إلا في الحج؛ ولهذا قلنا: الشارع في صوم التطوع، وصلاة التطوع، لا يلزمه إتمامُ ما شرع فيه. ¬

_ = كثير، وأخص تلاميذه وأشيعهم ذكراً الشيخ أبو إِسحاق الشيرازي. شرح مختصر المزني، وصنف في المذهب والخلاف، والأصول والجدل، مات عن سنتين ومائة، سنة 450 هـ، لم يختل عقله، ولا تغير فهمه، يفتي مع الفقهاء، ويستدرك عليهم، ويقضي ويشهد، ويحضر المواكب بدار الخلافة، وهو المعني في فن الفقه (بالقاضي) عند إطلاق الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغيره من العراقيين. والمعني بالقاضي عند المراوزة (الخراسانيين) هوالقاضي حسين (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 246، طبقات الشيرازي: 127، طبقات السبكي: 5/ 12 وما بعدها). (¬1) في (م): " ذكر العراقيون على هذا الخلاف ". (¬2) مطموسة في الأصل. والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل). (¬3) في الأصل: " وأما " والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل).

وأنا أقول: من شرع في الصلاة في أول الوقت، فالذي أراه أنه لو أراد ان يقطعها، قطعها؛ فإنه لا تجب بأول الوقت وجوباً مضيَّقاً، فالأمر موسَّع بعد الشروع، كما كان موسّعاً قبل الشروع، اعتباراً بمسألة الفطر. ومن لزمته فائتة غيرُ مضَيَّقة، فشرع فيها، فما قدمته من القياس يقتضي جوازَ الخروج من الفائتة؛ فإنّها على التراخي. والذي أراه أن من شرعَ في صلاة الجنازة، فله التحلل منها، إذا كانت الصلاة لا تتعطّل بتحلّله، طرداً لما ذكرتُه. ومصداق هذا من نص الشافعي أنه قال: " من تحرّم بصلاةٍ على الانفراد، ثم وجد جماعةً، فله أن يخرج عن صلاته، ليدرك الجماعة "، ولو كان الخروج ممتنعاً، لما جاز بسبب إِدراك فضيلةٍ. نعم، لو شرع الإنسان في الصلاة المفروضة في آخر الوقت، فلا سبيل إلى الخروج أصلاً؛ فإن الواجب قد ضاق وقته؛ إِذ يجب البدارُ إِليه إقداماً (¬1)؛ فلا يجوز الخروج منه. والذي أراه أن المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة في آخر الوقت، لم يجز له الخروج أصلاً. 219 - وهذه فصولٌ رأيتها، فابتديتها (¬2)، وما عندي أن الأصحاب يسمحون بهذا (¬3)، ويجوّزون للشارع في فائتةٍ الخروجَ منها، من غير عذرٍ، إذا كانت الفائتة ¬

_ (¬1) أي مسرعاً. أقدم على العمل: أسرع في إنجازه، بدون توقف. (المعجم). (¬2) أي لم أسبق إليها. (¬3) هكذا يعلن، ويؤكد أنه في هذا مخالف للمذهب، "وأن الأصحاب لا يسمحون بهذا". وقد تبع الغزالي شيخه في الوسيط، فجزم بجواز قطع الفريضة، في أول وقتها، والمقضية على التراخي، وقد تعقبه النووي قائلاً: " أوهم الغزالي بعبارته أن هذا مذهب الشافعي والأصحاب، وليس كذلك، وإنما هو احتمال لإمام الحرمين، كما ذكرته" ثم قال: " إن الغزالي لم يتابع الإمام في البسيط، بل حكى كلام الإمام، ثم قال: وليس في الأصحاب من يسمح بذلك في القضاء، وصلاة الوقت، وإن كان في أول الوقت " ثم عقب النووي قائلاً: " وهذا الذي ذكره في البسيط هو الصواب، وليته قال في الوسيط مثله " ر. المجموع: =

على التراخي، ولكن القياس [عندي ما ذكرته] (¬1) ولو نوقض فيه، ينتثر النظام، ولم يبق للمذهب رابط. 220 - ولو رأى المتيمم الماء في الصلاة، وآثر إتمامها، فتلف الماء وهو في الصلاة، فإِن علم هو بتلفه وهو في الصلاة، فإِذا تحلّل منها، فهو على تيمّمه، (وإِن بقي الماء حتى تحلّل، بطل تيممه) (¬2)، كما (¬3) تحلّل. ولو أريق الماء الذي رآه في الصلاة، وهو لم يشعر، فلما تحلّل أخذ يطلبه، بطل تيمّمه؛ تخريجاً على القاعدة في أن المتيمم إِذا وجب عليه الطلب، بطل تيممه. ولو تحرم المسافر بالصلاة بالتيمم، ثم نوى الإقامة في أثناء الصلاة، فإنه يتمّم الصلاة، ولكن حكمه حكم مقيمٍ، [يتيمّم] (¬4) في الحضر عند عدم الماء نادراً، ففي وجوب القضاء قولان، سيأتي ذكرهما. وهذا إذا لم ير الماء. فأما إذا رأى الماء في خلال الصلاة المفروضة، ونوى مع ذلك الإقامة، فقد قال صاحب التلخيص: تبطل صلاتُه؛ لانضمام نية الإقامة إلى رؤية الماء. ومن أصحابنا من قال: لا حكم لرؤية الماء، وهو كالمعدوم، فتجرّد حكمُ نية الإقامة، وقد مضى حكمها. 221 - ولو رأى المتنفل الماء في صلاته، فالذي ذهب إليه المعظم أنه يتمّم إِذا أراد. وقال ابن سريج: ينقطع النفل بخلاف الفرض. فإن قلنا: لا ينقطع، فإن كان نوى ركعتين أتمهما، وإن كان نوى أربعاً، فهل ¬

_ = 2/ 315، 316، والوسيط: 2/ 451. (¬1) في الأصل: ولكن القياس، ولو نوقض فيه عندي. والمثبت من (د 3)، (م)، (ل). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (د 3). (¬3) أي (عندما)، وهذا الاستعمال وارد كثيراً في لغة إمام الحرمين وغيره من الخراسانيين. (¬4) في الأصل: تيمم. وفي (د 3): ولكن حكمه مقيم في الحضر. والمثبت تقديرٌ منا، صدقته (م)، (ل).

يتعيّن الاقتصار على ركعتين؟ فعلى وجهين، فإن قلنا: له أن يتمم أربعاً، [فلو رأى الماء، وكان نوى ركعتين، فنوى أن يتمم أربعاً] (¬1) فالمذهب أنه ليس له ذلك؛ فإنه في حكم مفتتح نفلاً مع وجود الماء، ولذلك تفتقر الزيادة إلى قصد إليها. ومن أصحابنا من جوّز الزيادة، من حيث إن الزيادة مع المزيد عليها في حكم صلاةٍ واحدةٍ، وهي بمثابة تطويل الصلاة مع وجود الماء. فصل (¬2) 222 - ذكر الشيخ أبو علي في الشرح فصلاً في الرّدة، له أدنى تعلّق بما نحن فيه، فنَسردُه على وجهه. ونقول: المتيمم إذا ارتدّ بعد فراغه عن التيمم، ثم عاد إِلى الإسلام، فهل تلزمه إِعادة التيمم؟ فعلى وجهين. ووجه تعلق هذا بما قدّمناه أنه لما ارتدّ، فقد انتهى إلى حالةٍ يمتنع عليه الصلاةُ فيها، فأشبه ما لو طلع ركبٌ، فطلب الماء ولم يجد. والثاني - لا يبطل تيمّمه؛ فإِنّ تعذّر الصلاة بالردّة لا اختصاص له بالتيمّم، وإنما هو لزوال الإيمان، وهو شرط صحة الصلاة. والمتوضىء إذا ارتدّ بعد الفراغ من الوضوء، لم يبطل وضوؤه على ظاهر المذهب، وذكر الشيخ فيه وجهاً بعيداً، وهو غلط عندي، وقطع بأن الغُسل لا يبطل بطريان الردة بعده بلا خلاف، ولو ارتدّ المتوضىء في أثناء وضوئه، فإن أتى بشيء من الوضوء وهو مرتدّ لم يعتدّ به، وإِن لم يأتِ بشيءٍ، وعاد إِلى الإسلام، فإن قرب الزمان، ولم ينته إلى حد التفريق، ففيه وجهان مأخوذان من التفريق، فإن أوجبنا الموالاة، فقد حكمنا بأن الطهارة تحت رابطة جامعةٍ، فالردّة تنقضها، وإن حكمنا بأن الموالاة، ليست رُكناً في الطهارة، فكأن كل ركن منها عبادة على حيالها. ¬

_ (¬1) زيادة من (م)، (ل). (¬2) في (م) فرع.

ولو ارتد، وطال الزمان، فقد اجتمع التفريق وطريان الردة، فيخرّج على الخلاف مرتباً على ما تقدم. وسنذكر نظير هذا في الأذان في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " ولا يجمع بالتيمم بين [صلاتي فرض] " (¬1) 223 - المتيمم لا يجمع [بين] (¬2) صلاتين مفروضتين بتيمم واحد. وضبط المذهب فيه أن التيمّم طهارة ضرورة، فلا يؤدَّى به ما يؤدَّى إِلا على قياس اتباع الضرورة، ومساق هذا يقتضي أن يجدّد تيمماً لكل فريضة. ثم مذهب الشافعي أن المتيمم يجمع بين فريضةٍ وما شاء من النوافل، وهذا يخرم الضبط من وجهين: أحدهما - أنه لو قيل: لا ضرورة في إقامة النوافل بالتيمم، فينبغي ألا يجوز إقامتها بالتيمم. فالجواب عن هذا سهل، وقد سبق من تقرير الجواب في ذلك ما فيه مقنع. والثاني - أن النوافل فيما يتعلق بالطهارة كالفرائض، وكان لا يبعد في القياس أن يتيمّم لكل نافلة كما يتيمّم لكل فريضةٍ. وقد ذكر بعض المصنفين رمزاً إلى ذكر خلاف؛ فإِنه قال: المذهب أنه يجمع بين فريضة ونوافل بتيمّم، وهذا إشعار بخلافٍ، ولا معوّل على هذا أصلاً. فإذاً وجه التعليل فيه أن النوافل تابعةٌ للفريضة، فكأنها غيرُ منقطعةٍ عنها، وقد صح في الحديث أنها جبرانٌ لنقصان الفرائض، وهي بمثابة إكمال الفريضة بسنّتها وآدابها، والمتيمم لا يكلف أن يقتصر في الفريضة على ما لا بد منه، ثم النوافل بعضها مع بعض في حكم صلاةٍ واحدة؛ إذ لو أراد أن يجمع مائة ركعة تحت تحريمةٍ واحدةٍ، جاز، ¬

_ (¬1) ر. مختصر المزني: 1/ 33، وفي الأصل: بين صلاتين مفروضتين. والتصويب من نص المختصر ومن (م)، (ل)، (د 3). (¬2) زيادة من (د 3)، (م)، (ل).

فكأنها -وإن تفصّلت، وتعدّدت- في حكم صلاةٍ واحدةٍ. فهذا منتهى الإمكان. 224 - وفي الجمع بين صلاتين منذورتين، وصلاةٍ مفروضةٍ وأخرى منذورة قولان [وهذا تخريج على أنَّ المنذور هل يقام مقام المفروض شرعاً، وفيه قولان] (¬1)، سيأتي بيانهما في كتاب النذور - إن شاء الله تعالى. والمقدار الذي يذكر للإيناس: أن من نذر صلاة، فأراد إقامتها قاعداً، مع القدرة على القيام، فهو يخرج على القولين. ولو جمع بين مفروضة وصلاة جنازة، فقد نصَّ الشافعي على جواز ذلك (¬2)، ونصّ على أن صلاة الجنازة لا تقام على الراحلة، ولا تقام قاعداً مع القدرة على القيام، فاضطرب الأئمة في هذين الأصلين، ونحن نذكر كلَّ حكم على حياله. 225 - فأما الجمع، ففي الجمع بين فريضة، وصلاة جنازة، وبين صلاتي جنازة بتيمم واحدٍ أوجه: أصحها - جواز الجمع؛ فإن الصلاة على الميت، وإن كانت من فروض الكفاية؛ فهي كالنافلة، في أنه لا يجب الإقدام عليها، إذا قام بها من فيه كفاية. والوجه الثاني - أنه لا يجوز الجمع؛ فإنها إذا تمت، تكون واقعةً فرضاً. والثالث - أنها إن تعيّنت، بألا يكون مع الإنسان -إذا مات رفيقُه- أحدٌ، فيتعيّن الصلاة عليه، فإذا أراد والحالة هذه أن يجمع بين فريضة وصلاة الجنازة، لم يجز، وإن لم تتعين، فيجوز. فهذا حكم الجمع. 226 - فأما إقامة صلاة الجنازة قاعداً، مع القدرة على القيام، وإقامتها على الراحلة، فقد اختلف أصحابنا فيها، فقال الأكثرون: لا يجوز، وهو الأصح؛ فإن الركن الأظهر في هذه الصلاة، بعد العقد - القيامُ؛ إذ لا ركوع ولا سجود فيها، فالإخلال بالقيام تغيير لوضع الصلاة. وسنذكر في كتاب الصلاة أن المتنفل لو صلّى مضطجعاً، مع القدرة على القعود، ¬

_ (¬1) زيادة من: (م)، (ل)، (د 3). (¬2) ر. مختصر المزني: 1/ 33.

لم يجز؛ من حيث إِن هذا إِخراجُ الصلاة عن وضعها. ومن أصحابنا من أجاز إقامة هذه الصلاة قاعداً؛ من حيث إنها تضاهي النوافل، ومنهم من فصّل بين أن يتعيّن، وبين ألا يتعيّن، كما مضى. 227 - والجمع بين صلاة مفروضة وبين الطواف المفروض بتيمم واحدٍ غير جائز. فأمّا الجمع بين صلاةٍ مفروضةٍ وبين ركعتي الطواف، فيخرّج على أن ركعتي الطواف فرضٌ أم لا؟ وفيه خلاف. فإن حكمنا بأنهما فرض، لم يجز الجمع، وعلى هذا هل يجمع بين الطواف الفرض وبين ركعتي الطواف؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجمع؛ لأنهما فرضان. والثاني - يجمع؛ لأن ركعتي الطواف جزءٌ من الطواف، بمثابة شوط من الأشواط، فإذا طاف، وصلى ركعتي الطواف، كان كمن صلى صلاةً واحدةً. وإِن قلنا: ركعتا الطواف نفل، فلا يخفى الحكم. فرع: 228 - من [نسي] (¬1) صلاةً، ولم يدْرِ عينَها، قضى خمسَ صلواتٍ حتى يخرج عما عليه. ثم هل يجمع بينها بتيَممٍ واحدٍ؟ ما ذهب إليه الأكثرون أنه يصلي الصلوات الخمس بتيمم واحدٍ؛ فإِن الفرض منها واحد. وقال الخِضْري (¬2): يتيمّم لكل صلاة من الصلوات الخمس؛ فإن كل صلاة منها ¬

_ (¬1) في الأصل قضى. والمثبت من (د 3)، (م)، (ل). (¬2) الخضري، محمد بن أحمد المروزي: أبو عبد الله، والخضري بالكسر نسبة إلى الخضر رجل من جدوده. إمام مرو وعالمها، وشيخها، وحبرها، من أقران الشيخ أبي زيد المروزي، وعنه أخذ القفال المروزي، أبو بكر عبد الله بن أحمد، قال السبكي: " وما أرى القفال إلا من المتفقهة على الخضري، وطالما قال القفال: سألت أبا زيد، وسألت الخضري "، وقال ابن خلكان: كان الخضري من أعيان تلامذة أبي بكر القفال الشاشي. ا. هـ. وقد علّق محققا سير أعلام النبلاء: 18/ 172 هامش رفم (4) بما يوحي بالشعور بشيء من التناقض بين عبارة السبكي وعبارة ابن خلكان. ولكن لا تناقض إن شاء الله، فهو (الخضري) تلميذ القفال، وأستاذ القفال فعلاً، تلميذ القفال (الشاشي) (أبو بكر) فخر الإسلام محمد بن علي المتوفى سنة 365 هـ وأستاذ القفال المروزي (أبو بكر) (أيضاً) عبد الله بن أحمد المتوفى سنة 417 هـ. ثم شيخنا الخضري صاحب الترجمة اختلف في تاريخ وفاته، ففي الأنساب واللباب أنه =

يتعين الإقدام عليها؛ فصارت في حكم صلوات مفروضة مقصودة. وقد حكى العراقيون قولين في ذلك، فلو نسي صلاتين من يوم وليلة، أو نسي صلاتين مختلفتين من يومين وليلتين، فيكفيه أن يقضي صلوات يومٍ وليلة؛ فإِنها تشتمل على الصلاتين المختلفتين، فإِذا كان يتيمم، قال صاحب التلخيص: يصلي خمس صلوات بخمس تيمّماتٍ. وقال ابن الحداد: يتيمم، فيصلي الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، بتيممٍ واحدٍ، ثم يتيمم، ويصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، بتيمم آخر؛ فيكون خارجاً عمّا عليه؛ فإِنه لا يفرض على ما ذكره ابن الحداد صلاتان إلا وقد أداهما. فإن قلت: لعلّ المفروض صلاة الصبح وصلاة المغرب، قلنا: فقد أدى صلاة الصبح بالتيمم الأول، ودخلت صلاة المغرب تحت ما أداه بالتيمم الثاني، وهكذا كيف فرضت صلاتان، فلا بدّ من اندراجهما تحت تيممين. والذي ذكره صاحب التلخيص لا ينكره ابن الحداد، ولكن ليس فيه إعمال فكرٍ وتدقيق [نظر] (¬1)، فمن لا يزيد في عدد الصلاة، يصلي صلوات يومٍ وليلةٍ، وقد نسي صلاتين، فلا طريق إلا ما ذكره صاحب التلخيص، ومن حاول الزيادة في الصلوات والنقصان من التيمم فأقرب الطرق ما ذكره ابنُ الحداد. فلو صلى على طريقة ابن الحداد: الظهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاء، بتيممٍ واحد، ثم صلى الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، بتيمم آخر، فلا يخرج عمّا عليه، لجواز أن تكون الفائتةُ الظهرَ والعشاءَ، وقد أدىّ الظهرَ بالتيمم الأول، ولم ينته ¬

_ = توفي في حدود 400 هـ، وفي وفيات الأعيان وطبقات الإسنوي، توفي في عشر الثمانين وثلاثمائة. وفي الشذرات لابن العماد توفي في 373 هـ، وذكره السبكي فيمن توفي بين الثلاثمائة والأربعمائة، ولم يحدد السنة. راجع: طبقات السبكي: 3/ 71، 100، 101، 472، سير أعلام النبلاء: 16/ 313، 18/ 172، وطبقات الإسنو: 2/ 379، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 282، 283. (¬1) زيادة من (م)، (ل).

التيمم الثاني إلى العشاء، وإذا تبين أن المطلوب اليقين، وأشير إلى طلبه، لم يخف الغرض بعد ذلك. ولو كان نسي صلاتين من جنس واحدٍ، وأشكلتا عليه، فلا بدّ من أن يصلي عشر صلواتٍ: صبحين، وظهرين، وعصرين، ومغربين، وعشاءين، ثم على مذهب الخِضْري يتيمم عشرَ مراتٍ، وعلى مذهب سائر الأصحاب، يتيمم، ويصلي صلوات يومٍ وليلةٍ، ثم يتيمم ويصلي صلوات يومٍ وليلةٍ، فيخرج عما لزمه. 229 - ومما يتصل بهذا، أن من كان محبوساً في حُش، وموضعٍ نجس، أمرناه بالصلاة لإقامة حق الوقت، ثم أمرناه عند انقضاء ذلك السبب بالإعادة. ولو أدى وقضى بتيمم واحدٍ، هل يجوز أم لا؟ فعلى وجهين، يقرب مأخذهما مما ذكرناه، فيمن نسي صلاةً من خمس صلوات، لا بعينها. وفي المسألة التي ذكرناها الآن سرّ، سنذكره في قضاء الصلوات، في الباب الذي بعد هذا. إن شاء الله تعالى. 230 - ومن هذا الفن، أن من صلّى منفرداً بتيممٍ، ثم أدرك جماعةً، فأراد إعادتها في الجماعة بذلك التيمم بعينه، فإن قلنا: إن الصلاة المعادة سنّة؛ فيجوز إقامتها بالتيمم الأول، وإن قلنا: إذا أعيدت، فالفرض أحدهما لا بعينه؛ ففي إقامتها ثانية بذلك التيمّم بعينه وجهان، كما سبق، والاكتفاء بتيمم واحد في هذه الصورة أولى؛ فإنه لا يجب الإقدام على إعادة الصلاة ثانية، وإن كنّا نقول عند اتفاقها: الواجبة الأولى أو الثانية، ومن نسي صلاة من خمس تحتم عليه الإقدام على كل صلاةٍ من الصلوات الخمس. فصل 231 - شرطُ التيمم تقديمُ طلب الماء عليه، ولا فرق بين أن يظهر للماء علامات، من خُضرة، وانقضاض طيورٍ، وغيرهما، وبين ألا يظهر، وإنما يجب الطلب إذا كان يتوقع وجود الماء، على قربٍ أو استبعادٍ (¬1)، فأما إذا كان المرء يقطع بأن لا ماء ¬

_ (¬1) على قرب أو استبعاد: أي قريباً كان أو بعيد كما فسرها بذلك الإمام النووي، قال في =

بالقرب منه، وذلك بأن يكون في بعض رمال البوادي، فنعلم ضرورةً استحالة كون الماء، فلا نكلفه التردد للطلب، فإنّ طلبَ ما يعلم الطالب استحالةَ وجوده محال. ثم قال الصيدلاني: لا يُكلَّف الطالب مشقة، بل يطلب على القرب واليسر. وقال صاحب التقريب: لا نكلّفه أن يتردّد، ولكن يكفيه أن ينظر يمنةً ويسرةً، ويردّد الطرفَ حواليه. وكان شيخي يقول: يتردّد قليلاً، ولا نكلّفه أن يبعد. وليس هذا اختلافاً عندي، ولكن إن كان في مستوى الأرض، كفاه أن ينظر، إذا لم يكن ببصره كلال، وإن كان المكان غيرَ مستوٍ، وكان بحيث لا ينفذ فيه البصر، فيتردد قليلاً، وهذا الفصل فيه استبهام. ومما أحرص عليه جهدي، أن أضبط مواقع الانتشار، وأوضحَ مقام الاستبهام على مبلغ الإمكان، وقد يتأتى ذلك بأن نقدم المعلومات، حتى يرجع موضع الإشكال إلى ما يقرب النظر فيه. فلا نكلّفه أن يرتكب خطراً، في نفسه أو ماله بتردّده، ولا نكلّفه أيضاً -والطرق آمنة- أن يبعد عن مجثم (¬1) الرفقة، فرسخاً، أو نصف فرسخ، ولا نقول: لا يُفارق الأطلالَ، وطُنُبَ الخيام، فالوجه القصد في ذلك، أن يطلب الماء من موضعٍ، لو انتهى إليه، واستغاث بالرفقة، لم يبعد عنه غوثُهم، مع ما هم عليه من تشاغلهم بأشغالهم، وتفاوضهم بأقوالهم. فهذا أقرب معتبرٍ في ضبط ذلك. ثم يختلف بأستواء الأرض، واختلافها صعوداً وهبوطاً، وإن كان ينسرح الطرف كفى، وإن احتاج إلى التردد قليلاً، تردد على الضبط الذي ذكرناه. 232 - وتمام البيان في هذا: أن من رأى ماءً على نصف فرسخ، ولم يكن بينه وبينه مانع، فقد نكلّفه أن يحضر الماء، كما سنذكره في الباب الثاني، ولا نقول: ¬

_ = المجموع: 2/ 249 قال إمام الحرمين: "إنما يجب الطلب، إذا توقع وجود الماء توقعاً قريباً، أو مستبعد". (¬1) في (م)، (ل): مخيم.

يجب طلب الماء من الموضع الذي لو تيقن الماءَ فيه، يلزمه إِتيانه. هذا أهون فصلٍ في الباب. وفيه من التردّد ما فيه. والله أعلم. 233 - ولو نزل منزلاً،، طلب الماء عند صلاة الظهر، وتيمم وصلّى، ثم دخل وقت العصر، وهو غير بارحٍ، فإِن استيقن بالطلب الأول، أن لا ماء بالقرب منه، فلا يجب الطلب الثاني؛ لما قدّمناه، من أن الطلب مع استيقان الفقدان محال، وهذا إذا [لم يحدُس] (¬1) شيئاًً من إِطباق غمامة، أو إِمكان سيلان سيل، أو حضور ركب. وإن لم يستيقن بالطلب الأول أن لا ماء، ولكن غلب على ظنه -وذلك يُكتفى به- فالأصح أنه يجب عليه تجديدُ طلب الماء للتيمم الثاني، ولكن الطلب الثاني يكون أخفَّ من الأول. وقد سمعت شيخي يذكر وجهاً: أنه إذا لم يبرح، ولم يتجدد شيء آخر، لا يلزمه تجديدُ الطلب. والأصح الأول. وذكر بعضُ المصنّفين وجهين فيه، إذا انتهى إلى موضع يغلب على الظنّ عدمُ الماء، فهل يجب عليه الطلب، والحالة هذه؟ وليس هذا فيه إذا استيقن عدمَ الماء، بل الوجهان مفروضان فيه إذا غلب على الظن عدمُ الماء، وذِكْرُ الخلاف في الطلب الأوّل بعيد جدّاً. وإنما ذكر الخلاف في الطلب للتيمم الثاني في المكان الواحد، كما حكيته عن شيخي، ولو كان ما حكاه هذا (¬2) الرجل موثوقاً، لكان وجهه، أنه بالطلب لا يستفيد إلا غلبة الظن، وهذا متحقق من غير طلبٍ. ¬

_ (¬1) من حدس الشيء يحدُس، إذا حزره أي قدره (المعجم). ثم هي في الأصل، وفي (د 3): يحدث (بالثاء)، ومثلهما (م) ولكنها لا تستقيم مع نصب شيئاً، كما في النسختين أيضاً. وقد آثرنا تقدير الخطأ في الإملاء (يحدث) على تقدير الخطأ في نصب (شيئاً) وهي في موضع الفاعل. ثم وجدناها في (ل) يحدث شيء. وآثرنا ما قدرناه أولاً؛ لأن التحريف يميل إلى اللفظة المألوفة كما هو معروف، بل المعنى هنا لا يستقيم مع (يحدث). (¬2) هذا الرجل. الإشارة إلى بعض المصنفين ويقصد به الإمام أبا القاسم الفوراني، فإنه كثير الحط عليه، وتضعيفه في النقل، كما أكد ذلك السبكي في طبقاته. ولعلنا أشرنا إلى هذا من قبل.

فإذاً ينبغي أن يتخيّل على هذا ثلاث مراتبَ: إحداها - إذا كان للماء علامة، فالطلب يجب وفاقاً. وإن لم تكن علامة، ولكن لم يغلب على الظن عدم الماء، فيجب الطلبُ في هذه الصورة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (¬1). وإن غلب على الظن فقدُ الماء، ففي وجوب الطلب الخلافُ الذي ذكره، ولست أثق بهذا في الطلب الأول. ... ¬

_ (¬1) ر. البدائع: 1/ 47، الهداية مع فتح القدير: 1/ 120، حاشية ابن عابدين: 1/ 164، 165.

باب جامع التيمم

باب جامع التيمم (¬1) 234 - أصل مذهب الشافعي أن تقديم التيمم للصلوات المفروضة على دخول وقتها غيرُ جائزٍ، فلنعتقد ذلك مذهباً إلى أن يتضح الغرض بالتفصيل. 235 - والذي أرى ذكره مقدماً على تفريعه، أنّ أئمتنا اختلفوا في أن النافلة المؤقّتة، هل يجوز تقديم التيمم على دخول وقتها؟ فمنهم من جوّز ذلك في النوافل؛ فإن الأمر فيها أوسع، ولذلك جاز أداء نوافلَ بتيمّم واحدٍ، ولا يجوز ذلك في الفرائض. ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن تعدُّدَ النوافل لا يتحقق، من جهة أن يُتصور جمع ركعاتٍ في تحريمة، وهي تبعٌ للفرائض، وجُبرانٌ لها، كما تقدم. وهذا المعنى لا يتحقق في التقديم على الوقت. 236 - فإذا تقرّر ذلك، فنحن نذكر مواقيتَ الصلوات في غرضنا. فأما أوقات الفرائض فبيّنة، ووقت الفائتة تذكُّرُها، قال النبي عليه السلام: "من نام عن صلاةٍ أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتُها، لا وقت لها غيره" (¬2) ووقت الصلاة على الميت يدخل بغُسلِ الميت، ووقت صلاة الكسوف يدخل بالكسوف، ووقت صلاة الاستسقاء ببروز الناس إلى الصحراء، ولا يكاد يخفى وقتُ صلاة العيد، فنعود الآن إلى التفريع، فنقول: ¬

_ (¬1) هذا الباب بهذا العنوان أثرٌ من آثار التزام الإمام ترتيب مختصر المزني، فعنه أخذ هذا العنوان، وسنرى التكرار في بعض مسائل التيمم واضحاً لهذا السبب. (¬2) حديث: "من نام عن صلاةِ ... " متفق عليه، بلفظ: " فليصلها، إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " (ر. البخاري: مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلِّ إذا ذكرها، ح 597، مسلم: المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، ح 684، تلخيص الحبير: 1/ 155 رقم 211)

237 - لو تذكّر فائتةً قبل الزوال، فتيمّم لها، ثم لم يقضها حتى دخل وقتُ الظهر، فإن أراد قضاء الفائتة، فعل. وإن أراد إقامة فرض الوقت بدلاً عن الفائتة، ففي المسألة وجهان: أصحهما -وهو مذهب ابن الحداد- أن ذلك يجوز، وأن تيممه صالح لفرض، فيصلح لفرض آخر، وإنما الممتنع الجمع بينهما. والثاني - لا يجوز، وهو اختيار أبي زيد (¬1)؛ لأنه لمّا تيمم قبل الزوال، كان لا يتأتى منه إذ ذاك صلاةُ الظهر، وما لم يستعقب التيمّم جوازه، لم يجز بعده. وما ذكرناه من الخلاف مفرّع على ظاهر المذهب، وهو أن التعيين ليس بشرطٍ في نيّة التيمم، فإن شرطنا التعيين، على الوجه الضعيف، الذي حكيناه، فإذا عيَّن الفائتة، لم يصلِّ بالتيمم غيرَها، وهذا الوجه لا تفريع عليه. 238 - ولو زالت الشمس، فتيمم لصلاةِ الظهر، ثم تذكّر فائتةً، فأراد قضاء تلك الفائتة، بدلاً عن أداء وظيفة الوقت، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من ذكر هاهنا الوجهين المقدّمين فيه إذا تيمم لفائتةٍ، ثم زالت الشمس. ومنهم من قطع بأنه يجوز قضاء الفائتة، في الصورة الأخيرة، وفرّق بينها وبين الصورة الأولى، بأنه لما تيمَّم لقضاء الفائتة، لم تكن صلاة الظهر واجبةً عليه، ولما تيمّم بعد الزوال، فقد كانت الفائتة واجبةً عليه، ولكنّه كان لا يذكر وجوبها، وهذا الفرق ظاهرٌ، ولكنّ مساقَه يقتضي أن من تيقم ضحوةً، قبل تذكر الفائتة، ثم تذكّرها أنه يجوز له قضاؤها، وليس الأمر كذلك. ¬

_ (¬1) أبو زيد المروزي: محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد. من أئمة الخراسانيين، أصحاب الوجوه، وأحد أئمة المسلمين، ومن أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظراً، وهو صاحب أبي إسحاق المروزي، وتفقه عليه القفال أبو بكر المروزي، وفقهاء مرو، وسيأتي في فقرة: 284 قول إمام الحرمين عنه: كان أبو زيد من أذكى الأئمة قريحة. تكرر ذكره في الوسيط، والروضة، ولا ذكر له في المهذب. توفي بمرو سنة 371 هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 34، برقم 350، وطبقات السبكي: 3/ 71 وفيها ينسب إلى فاشان: بالفاء، والشين المعجمة، قرية من قرى مرو).

239 - وقد قال الشيخ أبو علي في الشرح: لو تيمّم لنافلةٍ (¬1) قبل الزوال، ولم يكن عليه فائتة، فهل يتنفل بالتيمم أم لا؛ فيه وجهان: تقدم ذكر أصلهما؛ فإنه لا يتأتى له إقامة فرض به، فهل يتأتى إقامة النفل به؟ فعلى وجهين: أحدهما - يتنفل، وهو الصحيح، والثاني - لا يتنفل؛ فإن أداء النافلة إنما يجوز تبعا للفريضة، لا مقصوداً. فإذا فرّعنا على الصحيح، فلو زالت الشمس، فتيممه صالح لأداءِ نافلةٍ، [وقد] (¬2) ذكرنا قولين في أن التيمم الصالح لأداء نافلة هل يصلح لأداء الفريضة؟ فإن قلنا: إنه يصلح، فيخرّج عليه الخلاف في أنه هل يؤدّي فريضة الوقت، كما ذكرناه في الفائتة، وفريضة الوقت في صورة مسألة ابن الحداد. وهذا الذي ذكر بعيدٌ جداًً؛ فإن تيمّمه في صورة مسألة ابن الحداد استعقب جوازَ إقامة الفائتة، ثم دام إمكان أداء فرض به، حتى دخل وقت فريضةٍ أخرى. وإذا تيمّم لنافلةٍ، ولم يكن عليه فائتة، فتيممه لم يستعقب إمكانَ إقامة فرض به، ولا يمتنع في الدوام أن يصلح التيمم لنفل [بعد الفرض] (¬3) ولا يصلح لفرضٍ؛ فإن من نوى بتيممه الفرضَ والنفلَ، وأدّى الفرضَ، فتيممه يصلح للنفل بعد الفرض، ولا يصلح لفرضٍ آخر. نعم، لو تيمّم لنفلٍ قبل الزوال، وهو ذاكرٌ فائتةً، فتيممه يصلح لقضاء تلك الفائتة في قولٍ، فلو زالت الشمس، فأراد أن يؤدّي وظيفةَ الوقت بدلاً عن الفائتة، فهذا يعود إلى صورة مسألة ابن الحداد. فإن قيل على طريقة الشيخ أبي علي: [نُقدّر] (¬4) صورةً يمتنع فيها تقديمُ التيمم على الوقت وجهاً واحداً. قلنا: لعلّه يقول: إذا تيمّم قبل الزوال لأداء الظهر في وقته، فالتيمم باطل، ¬

_ (¬1) في (م): لفائتة، وتذكّر ما سبق في فقرة: 201، 202. (¬2) في الأصل: وإذا. والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل). (¬3) مزيدة من: (د 3). (¬4) في الأصل: نقدم. والمثبت من: (د 3)، (ل)، وفي (م): نقدم ضرورة.

لا يؤدّى به الظهر بعد الزوال، ولا يصلح لأداء نافلةٍ أيضاً؛ فإن نيّته فاسدةٌ، وليس كما لو نوى بالتيمم إقامة فرضين؛ فإن تيمّمه يصح في وجهٍ؛ لأن الفساد في النية يؤول إلى الزيادة على الصلاة الأولى، فتميّز الفساد عن الصحة، فأما إذا تيمّم لصلاةٍ قبل وقتها، فأصل النية فاسدٌ، فهذا منتهى القول في ذلك. فصل قال: " والسَّفَرُ أَقلُّ ما يَقعُ عليه اسمُ سفرٍ، طال أو قصر ... إلى آخره " (¬1) 240 - القول في السفر الطويل والقصير سيأتي -إن شاء الله تعالى- في كتاب الصلاة، والذي يليق بهذا الفصل أن الرخص تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يختص بالسفر الطويل، وهو الفطر، والقصر، والمسح على الخّف ثلاثة أيام ولياليهنّ. وقسم يتعلق بالسفر القصير والطويل، وهو ترك الجمعة على تفصيل يأتي. وقسم اختلف القول فيه، وهو الجمع بين الصلاتين، وإقامة النافلة على الراحلة أينما توجّهت، وموضع استقصاء ذلك كتاب الصلاة. وعدّ الأصحاب التيمم عند إعواز الماء، مما يجري في السفر القصير والطويل، وهذا مقصود الباب، [وعَنَوْا به] (¬2) أن من كان في سفر قصير، فدخل عليه وقت الفريضة، فتيمّم عند إعواز الماء وصلى، لم يلزمه إعادة تلك الصلاة. 241 - والتحقيق في ذلك عندي أن التيمم لا ينبغي أن يُعدَّ متعلقاً بالسفر، قصر أو طال، ولكنه متعلق بعدم الماءِ وإعوازه، في مكانٍ يغلب إعوازُ الماء فيه، وإعواز الماء في الإقامة نادرٌ، فإن اتفق بأن تغور العيون، وتنقطع الأودية، فهو نادرٌ، وسنذكر حكمه. والذي يُحقق ذلك أن من قَطَن في موضع من البادية يعم فيها عدمُ الماء، فهو مقيم يتيمم، ولا يقضي، فكان أبو ذرٍّ يسكن الرَّبَذَةَ، ويعدم الماء. فقال النبي صلى الله ¬

_ (¬1) المختصر: 1/ 33. (¬2) في الأصل: وعنوانه.

عليه وسلم: " التراب كافيك وإن لم تجد الماء عشر حجج " (¬1) الحديث. وقد حكى شيخنا قولاً غريباً أن سقوط القضاء عن المتيمّم العادم للماء في السفر يختصّ بالسفر الطويل، فلو فرض عدم الماء في السفر القصير، وتيمّم المرء، خرج ¬

_ (¬1) حديث: " التراب كافيك ... " سبق الكلام عنه آنفاًً. والذي نضيفه هنا هو أن السياق بهذه الصورة يوحي بأن أبا ذر سكن الربذة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعروف المشهور، والموثق بحديث زيد بن وهب في البخاري، أنه خرج إلى الرّبذة في عهد عثمان رضي الله عنه، ويمكن الجمع بين هذا وذاك بأن الخروج تكرر، وأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كان للرعي، وليس للإقامة، كما ورد في سياق الحديث الذي رواه أبو داود وأصحاب السنن عن أبي ذرّ: " اجتمعت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غُنَيمة، فقال: يا أبا ذرّ ابدُ فيها [أي اذهب بها إلى البادية]، فبدوت إلى الربذة ". وهذا يمكن أن نعتبره دليلاً آخر أو قرينة على أن خروج أبي ذرّ إلى الربذة، في خلافة عثمان رضي الله عنهما، كان باختياره رضي الله عنه، وليس نفياً من عثمان، حيث إن الربذة كانت معهودة من أبي ذرّ، ومألوفة لديه. وإن كان الأمر لا يحتاج إلى دليل، بعد أن جاء في حديث البخاري المشار إليه، ما نصه: عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذرّ رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفتُ أنا ومعاوية، في {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، فلما قدمت المدينة، كثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: "إن شئت تنحيث، فكنت قريباً" فذلك الذي أنزلني هذا المنزل. فهذا نصٌّ قاطع بأن أبا ذرّ اختار التنحي إلى الربذة باختياره. قال الحافظ في شرح الحديث: "وإذا سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذرّ، وقد بيّن أبو ذر أن نزوله هذا المكان كان باختياره " ا. هـ. بنصه. وهنا إشكال آخر ننبه عليه، وهو أن (الربذة) كما حددها ياقوت ووصفها في معجمه، لم تكن صحراء عديمة الماء، بل هي - كما وصفها: "قرية من قرى المدينة، وكانت من أحسن منزل في طريق مكة، قريبة من ذات عرق" وهي التي كانت حمى لإبل الصدقة، حماها عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه، فكيف يعدم أبو ذرّ فيها الماء؟ والجواب أنه كان يُبعد بغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلباً للكلأ، (ر. تلخيص الحبير: 1/ 154، فتح الباري: 3/ 271 ح 1406، ومعجم ما استعجم للبكري، ومعجم البلدان: مادة: ر. ب. ذ).

وجوب القضاء على قولين، سنذكرهما في المقيم إذا عدم الماء وتيمّم. وهذا غريب جداًً. وقد أشار إليه صاحب التقريب. فصل 242 - التيمّم في كتاب الله تعالى متعلق بشيئين: أحدهما - المرض. والثاني - عدم الماء في السفر قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]. وهذا الفصلُ معقودٌ لبيان المرض الذي يباح التيمّم لأجله، فإذا مرض الإنسان مرضاً يخاف -لو استعمل الماءَ- على روحه، أو كان يخاف على عضوٍ من أعضائه؛ فإنه يتيمّم مقيماً كان أو مسافراً، وإذا برأ (¬1)، لم يُعد صلاةً منها. ولو كان يخاف -من استعمال الماءِ- مرضاً، ثم لو فرض وقوع ذلك المرض، لكان مخيفاً، ففي جواز التيمم قولان: قال العراقيون: نصّ في الأمّ على أنه لا يتيمّم، ونصّ في القديم على أنه يتيمّم، قالوا: قال أبو العباس (¬2)، والإصطخري (¬3): يجوز التيمّم ¬

_ (¬1) برأ، وبرىء، وبرُؤ: شفي. والمشهور برىء بكسر الراء. ولكنها مثلّثة، نص على ذلك النووي في المجموع في أكثر من موضوع وانظر القاموس. (¬2) أبو العباس المقصود هنا هو ابن القاص. صاحب التلخيص، فهو الذي يعول عليه وعلى شرحه كثيراً، ثم يرجح ذلك أيضاً جمعه مع الإصطخري في إسناد القول إليهما، فالقول يسند عادة إلى من في طبقة واحدة، والإصطخري توفي سنة 328 هـ وابن القاص توفي سنة 335 هـ أما أبو العباس بن سريج، فقد توفي سنة 306 هـ ويذكر عادة بابن سريج. هذا والله أعلم. حيث لم نجد هذا القول منصوصاً في المجموع، ولا الشرح الكبير، ولا مختصر ابن أبي عصرون. (¬3) الإصطخري: أبو سعيد: الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن الفضل، بن بشار بن عبد الحميد بن عبد الله بن هانىء بن قبيصة بن عمرو بن عامر. الإمام القدوة العلامة، شيخ الإسلام، من أصحاب الوجوه في المذهب، فقيه العراق، ورفيق ابن سُريج، وممن تفقه على الأنماطي. كان ورعاً، زاهداً، متقللاً من الدنيا، له تصانيف مفيدة، منها كتاب أدب القضاء، تكرر ذكره في الكتب الكبار، منسوب إلى إصطخر، بلدة معروفة من بلاد فارس، توفي سنة 328 هـ (ر. السبكي - الطبقات الكبرى: 3/ 230، وسير أعلام النبلاء: 15/ 250، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 237 ترجمة رقم 356، وله ترجمة في =

قولاً واحداً. والمذكور في الأم محمول على ما إذا كان لا يخاف مرضاً، وهذا هو الصحيح؛ فإنه إذا كان يخاف مرضاًً، وذلك المرض مخيفٌ، فهو كما إذا كان يخاف الهلاك. فإن قلنا: يتيمّم من يخاف مرضاًً، فلو كان يخاف لو استعمل الماء إبطاءَ بُرءٍ، أو شدةَ وجعٍ، فعلى هذا القول وجهان، وقد ذكر العراقيّون خوفَ المرض، وشدةَ الوجع، وإبطاءَ البُرْء في قرَنٍ، وطردوا القولين على الترتيب الذي ذكرناه، وعندي أنهم فهموا من إبطاء البُرْء، وشدة الوجع، المرضَ المخوف؛ فأجْرَوْا الكلامَ في الجميع مجرىً واحداً. والذي نحققه من الطرق يحويه الترتيبُ الذي ذكرته. 243 - والوجه ذِكْرُ القولين كما قدّمنا فيه إذا كان يخاف مرضاًً مخيفاً، ثم ذكر الوجهين في إبطاء البرءِ وشدّة الوجع على أحد القولين. وكأن حقيقة الخلاف يؤول إلى أن التيمم هل يستدعي جوازُه خوفَ الهلاك؟ أم يكفي فيه ضررٌ ظاهرٌ؟ وإن لم يكن فيه خوفُ الهلاك، وهذا مأخوذ من التردّد في شدة الوجع وإبطاء البرء، والوجع قد يشتدّ في جرح، وإن كان يبعد إفضاؤه إلى خوف رو، أو عُضوٍ. 244 - ومما يتعلّق بهذا أنه لو كان يخاف لو استعمل الماء بقاءَ شَيْنٍ، فإن لم يكن الشَيْن على عضوٍ ظاهرٍ، فلا يجوز التيمم لأجله، وإن كان الشيْن المقدّر بحيث لو بقي، لم يكن قبيحاً، فلا ينتصب عذراً، وإن كان يخاف بقاء شيْن قبيح، على عضوٍ ظاهر، ففيه وجهان، ذكرهما العراقيون، وأشار إليهما شيخي، وهذا ملحق بما قدمّناه. 245 - ومن تمام الكلام في هذا: أنه لو كان يخاف سقوطَ منفعةٍ من منافع عضوٍ مع بقاءِ منافع، فالظاهر عندي القطع بجواز التيمم؛ فإن سقوطَ منفعةٍ من المنافع، كسقوط أنملةٍ، أو إصبع من يدٍ، فهذا عذرٌ وفاقاً، وإن كان معظم منفعة اليد تبقى، عند سقوط أُنملةٍ وإصبع (¬1). ¬

_ = الفهرست: 300، وتاريخ بغداد: 7/ 268، وطبقات الشيرازي: 111، والأنساب: 1/ 291، ووفيات الأعيان: 2/ 74، وشذرات الذهب: 2/ 312). (¬1) في هامش (ل) ما نصه: "مثلاً: لا يمكن حمل شيء ثقيل بيده، وتسقط هذه المنفعة خاصة مع بقاء المنافع".

فهذا منتهى القول في ذلك. 246 - وقد عنّ لي أن أجمع قول يتعلّق ببيان الحاجات والضرورات في الأحكام المختلفة: فمما يتعلق بالضرورة أكل الميتة، وتعاطي مال الغير، ومنها جواز الإفطار بعذر المرض، ومنها جواز القعود في الصلاة المفروضة: فأما أكل الميتة، وطعام الغير من غير إذنٍ منه وإباحةٍ، فسيأتي تحقيق القول فيه في موضعه. ولكن أصل المذهب أنه يُشرط في جواز ابتداء الإقدام على أكل الميتة، وطعامِ الغير خوفُ الروح، والسبب فيه أنه تحليل محرّمِ، وقد علّقه الله تعالى بالاضطرار، قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3]. وأما الإفطار بعذر المرض في الصوم المفروض، فلا يشترط فيه خوفُ الروح، ولا الخوفُ على فساد عضوٍ، والدليل عليه أن الإفطار جائز للمسافر الأيد القوي، لما يناله من مشاقّ السفر، ولما يتخلّف عنه من إمكان تهيئة المطاعم. والمرض مقرون بالسفر؛ فلا يخفى على الفطن أن المرض المقرون به لا يشترط فيه خوف الهلاك، ولا يشترط أيضاً إفضاء الصوم إلى مرض مخيفٍ. فإذا ثبت ذلك، فنقول: لا نكتفي أيضاً بما يسمى مرضاً، خلافاً لأصحاب الظاهر، فما ذكره الأصحاب فيه: أنه إن كان يخاف ضرراً ظاهراً، أو كان يزداد بالصوم، ولو أفطر، لوقفَ، أو خف، فإنه يُفطر، وهذا لا يُحصٍّل ضبطاً يُرجَع إليه. 247 - وسأزيد فيه مباحثة، ثم أذكر الممكن في الضبط والترتيب، فأقول: الصوم إذا بلغ بالمكلف شدة الجوع والعطش، وكان لا يخافُ مرضاً، فيجبُ احتمال هذا الجهد؛ إذ الصومُ في نفسه ضررٌ ظاهر، وقد يؤدي أيضاً إلى اختلالِ في البنية، سيّما في حق النحفاء [الممْرورين] (¬1) فالضرر الظاهر أيضاً لا يُبيّن المقصود، وفي ¬

_ (¬1) في النسختين وكذا (م)، (ل): المحرورين، والمحرور هو المغيظ فيما رأيناه في المعاجم، ولعلها (الممرور) كما قدرنا، وهو من هاجت عليه المِرَّة، والمرة أخلاط يفرزها =

الإضراب عن التقريب توريط المرضى في خوف الهلاك؛ فإنهم إذا علموا أنه لا يكتفى باسم المرض، واعتقدوا أن الصوم لا يترك إلا بثَبَت، فقد يصابرون إلى الإشفاء على الموت. فالوجه في ذلك، أن المرض الذي يُفطَر لأجله مما يعمّ؛ إذ الصوم يعمّ المتمكنين، والمرض يُعدّ من الأعذار العامة في هذا الباب وفاقاً، كما أن عدم الماء في السفر يعد عذراً عاماً، وكل عذر نيط به تخفيفٌ، فلا يشترط فيه الانتهاء إلى خوف الهلاك، لسرٍّ خطيرٍ، نبهت عليه في الكتاب المترجم (بالغياثي) (¬1) وهو: أن الحرام لو عم في الزمان وعدِم الحلال، فلا نقول بتوقّف جواز الإقدام على الطعام على الضرورة التي تُشترط في استحلال الميتة؛ إذ لو شرطنا ذلك في حق الناس كافةً، لانقطعوا عن مكاسبهم ومعايشهم، ولانقطع بانقطاعهم الحِرفُ وأسبابُ بقاء العالمين، فالمرعيُّ إذاً والحالة هذه حاجةٌ لو تركوا الأكل عندها، لخيف أن ينقطعوا عن تصرُّفاتهم؛ فإن الحاجة في حق الكافة، تنزّل منزلة الضرورة، في حق الواحد. ومن أراد شرح الفصل، فليطلبه من ذلك الكتاب (¬2). 248 - فنقول الآن: إذا كان المرض مما يعدّ عذراً عاماً، فالتقريب فيه أن كلَّ مرض يمنع من التصرف مع الصوم يجوز الإفطار بسببه، وهو المعني بالضرر الظاهر الذي ذكره الأصحاب. وهذا لطيفٌ حسن؛ فإنه جاز الإفطار لأجل السفر، حتى لا يتعذر على طوائف يُكثرون التقلب في أسفارهم. فإن قيل: قد يتعذر بنفس الصوم -من غير مرضٍ- التصرّفُ. قلنا: هذا يندُر في آحاد الناس؛ فإن أغلب الناس الذين يتأتى منهم التصرف، لا يمتنع عليهم التصرف بالصوم نفسِه. ¬

_ = البدن، تؤثر على مزاج صاحبها (القاموس المحيط، والمعجم الوسيط، والأساس) وهذا هو المناسب للسياق والسباق، والله أعلم. (¬1) الغياثي من كتب إمام الحرمين، واسمه الكامل (غياث الأمم في التياث الظُّلم). وقد أعاننا الله على تحقيقه، وهو من أفضل وأهم ما كتب في السياسة الشرعية. (¬2) انظر الفقرات: 738 - 753. واقرأ الفصل كله.

والذي يحقق هذه اللطيفة أن السفر مُتعب، فقد يظهر أن نفس الصوم مع ضرورة الحركة، يمنع من تصرفات المسافرين؛ فلهذا أبيح للمسافرين الفطرُ، من غير مرض ينضمّ إليه، فالمرض المانع من التصرف في الإقامة، كالسفر مع الصوم. فهذا أقصى الإمكان في ذلك. 249 - فأما العذر الذي يجوز القعود لأجله في الصلاة المفروضة، فقد أجمع الأصحابُ على أن الضرورة ليست معتبرة فيه، ومن أطلق العجز عن القيام، لم يَعْنِ به عدمَ تصوّر القيام، فالذي اعتلقه حفظي من شيخي أن الصلاة لا تُعنى لصورتها، وإنما المقصود الظاهر منها تجديد العهد مراتٍ في اليوم والليلة بذكر الله تعالى، ثم حرم الكلام في الصلاة، وحرم الفعل الكثير، وأُمر المصلي بالاستداد (¬1) في صوب القبلة وكل ذلك [لجمع] (¬2) أسباب حضور القلب، والإكبابِ على الذكر، وقطع الملهيات. فإذا كان المقصود ما ذكرناه، والضرورة ليست شرطاً وفاقاً، فأقربُ معتبر فيه أن يقال: إن كان المرض بحيث لو قام المريض، لألهته الآلام عن ذكر الله تعالى، وهذا إنما يكون عند شدّة الألم، فيقعد حينئذٍ، فهذا هو التقريبُ في ذلك. فمن وجد مأخذاً أقرب وأضبط من هذا، فليلحقه بالكتاب. والله أعلم بالصواب. فصل 250 - إذا عم العذرُ البدنَ في الغُسل، أو جميعَ أعضاء الوضوء، انتقل المعذور إلى التيمم، كما سبق التفصيل، وإن تبغض العذر والصحة، فكان بعضُ البدن صحيحاً، وبعضه جريحاً، فيجبُ غَسْل الصحيح، والتيمم عن الجريح. هذا أصل المذهب. ¬

_ (¬1) الاستداد: الاستقامة. (المعجم). (¬2) في النسختين: يجمع. واخترنا (جمع) للسياق مع (قطع). وقد صدقتنا (م)، (ل).

251 - ولو وجد الرجل من الماء ما لا يكفيه لتمام طهارته، ففي وجوب استعمال ما وجد من الماء قولان سنذكرهما: أحدهما - أنه يجب استعمال الموجود، والتيمم عن باقي المحل. والثاني - أنه يقتصر على التيمم، ولا يجب استعمال ما وجد من الماء. ومن أصحابنا من خرّج تبعّض العذر والجرح في البدن على القولين في تبعّض الماء: أحد القولين: أنه يغسل الصحيح، ويتيمم عن الجريح. والثاني - أنه يقتصر على التيمم، ولا يلزمه غسل الصحيح. وهذا بعيدٌ، والأصح الذي ذهب إليه الجمهور القطعُ باستعمال الماء في الصحيح، والتيمم عن الجريح. والفرق بين هذا وبين وجدانه ما لا يكفي من الماء، أن العذر فيمن بعض بدنه جريح في المحل والبدن، ولو قطعت يدُ الرجل، لم يسقط فرض الوضوء عن وجهه، ورأسه، ورجليه. فإذا كان سقوط اليد لا يُسقط فرض بقية الأعضاء، فاعتلال اليد كيف [يُسقطه] (¬1). فإن قيل: إذا سقط اليد، فليس عنها بدل، وإذا اعتلّت، وجب التيمم، والجمع بين البدل والأصل مستنكر. قيل: التيمم بدلٌ عن اليد العليلة، ووجوب الغسل قارٌّ في الأعضاء الصحيحة. فأما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لتمام الطهارة، فالفرض ثابت في جميع البدن على وجهٍ واحدٍ، فتأدية ذلك الفرض المتَّحد من وجهين، قد يضاهي إعتاق نصف رقبة، وإطعامَ خمسةٍ من المساكين في كفّارة اليمين. ثم إذا ثبت أن الأصح غَسلُ الصحيح، والتيمم عن محل العذر، فلا فرق بين أن يكون المعظمُ جريحاً، أو على العكس، أو يستويان، ولا يختلف ترتيبُ المذهب ¬

_ (¬1) في النسخ كلها: يسقط، بدون هاء الضمير المفعول وقدرنا أن زيادة الضمير تكون أكثر وضوحاً.

بالقلة والكثرة، وإنما نظر إلى القلّة والكثرة أبو حنيفة (¬1). 252 - ثم الكلام في هذا الفصل يتعلق بمن به جرح، وبمن ينخلع عضو منه، فتلقى عليه الجبائر. فلتقع البداية بصاحب الجبيرة، ثم نذكر بعده حكم الجريح، ونحرص على تفصيل الصور؛ فإنها قد تلتبس. فأما إذا انخلع عضوٌ، أو انكسر ومسّت الحاجةُ إلى إلقاء جبائر عليها، ليتقوم أو ينجبر، فإيصال الماء إلى ذلك العضو قبل إلقاء الجبائر غير مضرٍّ، فالوجه أن تلقى الجبيرة على طُهرٍ كامل، كما يلبس الخف على وضوء كاملٍ. ثم لا ينبغي أن يعدو بالجبائر موضعَ الكسر والخلع، وقد تمس الحاجة إلى أخذ مقدارٍ من الصحيح المحيط بموضع الكسر، لاستمساك الجبائر، فلا بأس بأخذ ذلك المقدار للحاجة، ولا ينبغي أن يتعدى من موضع الحاجة، ثم يغسل الصحيح من أعضائه، ويمسح على الجبيرة. وفي المسح مسائل نذكرها، ثم نذكر حكم التيمم، ثم نرمز إلى حكم إعادة الصلاة. 253 - فأما مسحُ الجبيرة بالماء، فواجبٌ، لا اختلاف فيه. واختلف الأئمة في أنه هل يجب استيعابُ الجبيرة بالمسح؟ فقال بعضهم: لا يجب ذلك، بل يكتفى بما يسمى مسحاً كالخف؛ فإن المفروض من مسحه ما ينطلق عليه الاسم. وقال آخرون: يجب الاستيعاب؛ فإن مسح الجبائر أقيم مقامَ غَسل ما تحته؛ فيجب استيعاب الساتر، وليس هذا كالمسح على الخفّ؛ فإنه أثبت رخصة، وتخفيفاً مع القدرة على غَسل القدم؛ فكان الاقتصار على مسح بعض الخف لائقاً به، والمسح على الجبائر ثابت للضرورة؛ فيجب فيه الإتيان بالممكن من الاستيعاب. ومما يتعلق بذلك أن المسح على الخف متأقت بيومٍ وليلةٍ في حق المقيم، بثلاثةِ ¬

_ (¬1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 152 مسألة: 57، المبسوط: 1/ 122 حاشية ابن عابدين: 1/ 171، 172.

أيام ولياليهن في حق المسافر سفراً طويلاً. وهل يتأقت المسح على [الجبائر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتأقت كالمسح على الخف] (¬1). والثاني - لا يتأقت؛ فإن التأقيت ثبت في المسح على الخفين بتوقيفٍ، به نطق الخبر الصحيح، وأما المسح على الجبائر، فلم يرد فيه تأقيت، والسابق إلى الفهم أن مداه [و] (¬2) منتهاه البرء. وهذا الاختلاف إنما يثبت إذا أمكن رفع الجبائر ووضعُها، من غير خلل يعود إلى العضو، فأما إذا كان رفعُ الجبائر يُخل بالعضو، فلا خلاف أنه لا يجب رفعه، وتصوير الخلاف فيه إذا كان يتأتى النزْع والرفع بعد انقضاء كل يوم وليلةٍ، وقد يكون كذلك. فإن كان يتأتى نزعُه في أي وقت قدِّر وفُرض من غير خلل، فلا يجوز المسحُ، ولكن يجب نزعُ الجبائر وغسل ما تحتها، مهما توضّأ صاحب الواقعة. فهذا ما أردنا ذكره في المسح على الجبيرة. 254 - فأما التيمم، فإذا مسح على الجبيرة الملقاة على عضوٍ من أعضاء الطهارة، فهل يجب التيمم مع هذا؟ فعلى وجهين: أصحهما - وجوب التيمم؛ فإن المسح لم يقم مقام ما تعذر من الغَسل، فيثبت التيمم؛ فإنه الغاية المطلوبة، عند تعذر الأصل في الطهارة. وقد أوضحنا أن ما نحن فيه ليس من قبيل الرخص المحضة، كالمسح على الخفين؛ فإن ذلك ثبت مع القدرة على غسل الرِجل. فلو كنا نبغي ثمة غايةً، لكُنَّا نوجب غَسل القدمين. فأمّا ما نحن فيه الآن، فالمرعيّ فيه الضرورة، وتحقق العجز، فالذي يليق بذلك أن نوجب أقصى الإمكان عند تعذر الأصل. ومن أصحابنا من لم يوجب التيمم مع المسح على الجبيرة، وقال: في إيجابه جمعٌ بين بدلين مختلفين عن بدلٍ واحدٍ، وذلك بعيدٌ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (د 3)، (م)، (ل). (¬2) ساقطة من النسختين، (م)، وزدناها رعاية للسياق، وقد وجدناها في (ل).

255 - وهذه الفروع التي نجريها منشؤها، إما من ملاحظة أحكام الرخص، كالمسح على الخفين، فإذ ذاك نكتفي بأقل المسح، ولا نوجب التيمم، وقد نرى تأقت المسح إن أمكن النزع والإعادة كما سبق، وقد نرى القطعَ عن الرخص، فنبغي أقصى الممكن، فنوجب استيعابَ الجبيرة بالمسح، ونوجب معه التيمم كما ذكرناه، ثم متى لم نوجب الجمعَ، تعيّن المسحُ على الجبائر. 256 - ثم إذا أوجبنا الجمع بين المسح والتيمم، فلو كانت الجبيرة على اليد مثلاً وقد مسحها بالماء، فإذا أخذ يتيمم، فمسح بالتراب وجهه، ومسح من يديه ما هو ظاهر، فهل يمسح على الجبيرة بالتراب؟ فعلى وجهين، ذكرهما شيخي في هذا الموضع: أحدهما - أنه يمسحها بالتراب، كما مسحها بالماء. والثاني - ليس عليه مسحُها؛ فإن التراب حكمه ضعيف، فلا يعمل على حائل بينه وبين البشرة. وسنذكر لفظةَ الشافعي في هذا في آخر الفصل. 257 - ثم نشير الآن إلى إعادة الصلاة (1 في هذا الفصل على الخصوص دون غيرها، فإن تحقيق القول في إعادة الصلاة 1) نجمعه في فصلٍ مفردٍ، بعد هذا، على وجهٍ لا يبقى معه غموض إن شاء الله تعالى. فترتيب الشافعي في الجديد أن صاحب الوثء (¬2) والخَلع إن ألقى الجبيرة على غير وضوء كامل، فإذا برأ (¬3)، لزمه القضاءُ قولاً واحداً. وإن أكمل الوضوءَ، ثم ألقاها، ففي وجوب القضاء قولان. وترتيبه في القديم أنه: إن ألقاها على وضوءٍ كامل، وفعل ما أمرناه، ثم بَرَأ، فلا قضاء عليه، وإن ألقاها على غير وضوءٍ، ففي القضاء قولان، فيحصل من ترتيب الجديد والقديم ثلاثة أقوال: أحدها - وجوب القضاء عموماً. ¬

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ل). (¬2) الوثء: توجُّعٌ في العظم من غير كسر، وشبه الفسخ في المفصل. (المعجم) وهي في الأصل: الوثي. بالياء. (¬3) برَأ بفتح الراء، وكسرها، وضمها.

والثاني - نفي وجوبه عموماً. والثالث - الفصل بين أن يُلقيها على طهرٍ، أو على غير طهر، كما ذكرناه. 258 - وقال شيخي: قد حصل مما ذكرناه اختلاف قولٍ [في] (¬1) أنّا هل نوجب تقديم الطهر على الإلقاء؛ فإن من لم يوجب القضاء، وإن لم يتقدم طهر كاملٌ، فقد صرح بأن تقديم الطهر غيرُ واجب، وهذا بيّنٌ بأدنى تأمّلٍ. ثم من يوجب تقديم الطهر يقول: إن ألقاها دون تقديمه، نُظر، فإن كان لا يضر النزع والتطهر، وإعادة الجبائر، فعل ذلك. وإن كان يضر النزع، فعل ما نأمره، ثم قضى. 259 - ومما يتعلق بالفصل تفصيل القول في ترتيب التيمم، وغسل المقدور عليه، فنقول: إن كان الطهر الذي اشتغل به غُسلاً، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يجب رعاية الترتيب، فإن شاء أوصل الماءَ إلى ما يقدر عليه من بدنه أولاً، ثم يتيمم، وإن شاء تيمم أولاً، ثم استعمل الماء غُسلاً ومسحاً على الجبائر؛ وذلك أن سبب التيمم [علة] (¬2) كائنة ببدنه، وهي متحققة لا شك فيها، وليس كما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لتمام طهارته، وقلنا: إنه يستعمله، فإنه يتعين عليه استعمالُ الماء أولاً؛ إذ سبب التيمم ثَمَّ عدم الماء، ولا يتحقق عدمُ الماء ما لم يستعملْه. والوجه الثاني - أنه يجب تقديم الغسل أولاً؛ فإنه الأصل كما ذكرناه فيمن وجد ما لا يكفيه من الماء. هذا إذا كان الطهر غُسلاً. فأما إذا كان وضوءاً، وكانت العلة باليد مثلاً، ففي ترتيب الغسل والتيمّم ثلاثة أوجه: أحدهما - أنه لا ترتيب أصلاً، والخِيَرةُ إليه، فإن شاء قدّم التيمم، وإن شاء أخّره، وإن شاء وسّطه. والثاني - أنه يقدم من الوضوء ما يقدر عليه، وينهيه نهايته، ثم يتيمّم. والثالث - أنه يرعى ترتيبَ الوضوء، فيغسل وجهه، وما يقدر عليه من ¬

_ (¬1) زيادة من (ل). (¬2) في الأصل، (د 3)، (ل) عليه، والمثبت من (م).

[يديه] (¬1)، ثم يتيمم، ثم يمسح برأسه، ويغسل رجليه؛ فإن التيمم بدلٌ عما تعذّر في اليدين، فليأت به حتى يكون مقيماً فرض اليدين أصلاً وبدلاً، ثم ينتقل إلى فرض الرأس؛ فإن الترتيب مستحق في الوضوء. ثم تجديد التيمّم لا بدّ منه لكل فريضةٍ. ورأيت الأصحاب مجمعين على ذلك، وعلى أنه لا تجب إعادةُ الوضوءِ، وهذا وإن كان يتطرق إليه احتمال، فهو متَّفَق عليه. هذا تفصيل القول في صاحب الجبائر. 260 - فأما من به جرحٌ، فإن أَلقى عليه لصوقاً، فهو كالجبيرة في كل ترتيبٍ ذكرناه حرفاً بحرفٍ، وفيه زيادة، وهي أنه إذا كان عليه دمٌ، فيتأكّد فيه وجوب قضاء الصلاة من جهة الدم؛ فإن الدم لم يزل، ولم يقع عن إزالة النجاسة بدل، والعذر نادرٌ لا يدوم، وسنستقصي هذا في الفصل الجامع لأحكام القضاء إن شاء الله تعالى. وإن كان الجرح بحيث لا يحتمل أن يُغطى بلصوق وعصابةٍ، فليس إلا غسل المغسول، والتيمم بسبب العجز عن غسل الجرح، ولا يجب مسح الجرح بالماء، وإن كان لا يضر ذلك وإنما يضر الغسل؛ فإن هذه الأشياء لا يجول فيها القياس، ومسح العصابة والجبائر مما ورد به الأثر والخبر، وأما مسح ما يتعذر غسله، فلا أصل له. وإن كان يتمكن من إلقاء شيء على الجرح، فهل يجب عليه أن يلقيه للمسح عليه؟ كان شيخي يقطع بأنه يجب إلقاء حائل على الجرح، إذا أمكن لإقامة المسح؛ فإنه لو ألقاه، لوجب المسح عليه بدلاً عما تعذّر من الغسل، فيجب التسبب إليه إذا كان ممكناً، ولم أر هذا لأحدٍ من الأصحاب، وفي إيجاب إلقاء حائلٍ ليمسح عليه بُعدٌ، من حيث إنه لا يُلفى له نظير في الرخص، وليس للقياس مجالٌ في الرخص، ولو اتُّبع، لكان أولى شيء وأقربُه أن يمسح الجرحَ عند الإمكان، فإذا كان لا يجب ذلك وفاقاً؛ فإيجاب إلقاء خرقة لأجل المسح لا نظير له في الرخص. ¬

_ (¬1) في الأصل، (د 3)، وكذا (م): بدنه.

وقد يترتب على ذلك مسألة، وهي أن من كان على طهارةٍ كاملةِ، وقد أرهقه حدثٌ، ووجد من الماء ما يكفي لوجهه و [يديه] (¬1) ورأسه، ونقص عن رجليه، ولو لبس الخف، لأمكنه أن يمسح على خفّيه، فهل يجب عليه أن يلبس الخف، ثم يمسح بعد الحدث على الخف؟ قياس ما ذكره شيخي إيجاب ذلك، وهو بعيدٌ عندي والله أعلم. ولشيخي أن ينفصل عما ذكرته في المسح على الخف بما سبق، وهو أنه رخصة محضة، فلا يليق بها، إيجاب لبس الخف، وما نحن فيه من مسالك الضرورات، فيجب فيه الإتيان بالممكن، ومن الممكن إلقاء خرقةٍ يمسج عليها. والله أعلم. ونحن الآن نرسم فروعاً اختلف أئمتنا فيها، ثم نعقد الفصل الموعود في قضاء الصلوات. فرع: 261 - العاري لو صلى قائماً، وأتمّ الركوع والسجود، لكان متناهياً في التكشف، ولو قعد وأومأ، لكان مخلاً بالأركان، ففي كيفية صلاة العاري وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يتم الركوع والسجود والقيام؛ فإن الصلاة هي العبادة المقصودة، والشرائط تجب لها، فلا ينبغي أن يُخل بالأركان رعايةً لشرطٍ، ثم العري لا يزول كله بالقعود. والثاني - أنه يصلي قاعداً، ويومىء بالركوع والسجود، وليس ذلك لرعاية الستر، وإنما هو لتحسين هيئة الصلاة على حسب الإمكان، ومن تمسّك بوجه من هذين الوجهين، يُبطل الصلاة على الوجه الآخر. 262 - وكان شيخي يحكي وجهاً ثالثاً في هذه الصورة، وفي كلّ فرعٍ مما يليها، مما سنذكره. وهو أنه يتخير في إقامة الصلاة على الوجهين جميعاًً. وقيل: هذا مذهب أبي حنيفة (¬2)، ووجهه تعارض الأمرين، وتقابل الأصلين، ولا بدّ من احتمال اختلالٍ في الوجهين جميعاًً. ¬

_ (¬1) في الأصل: وبدنه. والمثبت من (م)، (ل). (¬2) ر. رؤوس المسائل: 144 مسألة: 195، الهداية مع فتح القدير: 1/ 230، حاشية ابن عابدين: 1/ 275.

ولما ذكرناه نظائرُ، منها أنه لو كان محبوساً في موضعٍ نجس، والنجاسة يابسة، فإنه يصلي، وهل يضع جبهته على الأرض أو يُدنيها؟ فعلى الأوجه الثلاثة. وكان يخصص الخلاف بالنجاسة اليابسة، ويقطع في الرطبة بأنه لا يضع جبهته، وغيره لم يفصلوا، بل أطلقوا، ووجه فصله أن النجاسة الرطبة تعلق بالجبهة، فيصير حاملاً للنجاسة ومصلِّياً معها. فمن رأى إتمام السجود قال: إنه ركن، وهو أولى بالمراعاة، ومن قال يُدني، قال: قد يسقط الفرض عن المريض بالإيماء، ولا يسقط الفرض مع النجاسة، على ما سنذكره في فصل القضاء. وفي هذا تلبيس سأذكره. والنص فيما نقله العراقيون يُشير إلى الاقتصار على الإيماء (¬1). 263 - ولو كان محبوساً في موضع نجسٍ، ومعه إزارٌ طاهرٌ إن فرشه يعرى، وإن اتَّزر به، صلى على نجاسة، ففيه الأوً جه الثلاثة: أحدها - أن العري أولى؛ فإن في الناس أمماً يصلون عراةً، ولا قضاء عليهم لو اكتسَوْا، والثاني - الستر أولى؛ فإنه يجب عموماً في الصلاة وغيرها، فكان أولى بالمراعاة، ولا يخفى وجه التخيير في الصور. ولو كان معه إزار نجسٌ، ولو ألقاه، لصلى عارياً، ولو تستر به، لكان حاملاً للنجاسة، ففيه الأوجه المقدمة. فصل 264 - مِن أغمض ما اختبط فيه نقلةُ المذهب، تفصيل القول فيما يجب قضاؤه من الصلوات المختلة، ومالا يجب قضاؤه، وذكر مواقع الوفاق والخلاف، وقد استاق صاحبُ التقريب في ذلك ترتيباً يحوي معظم الطرق، فنتخذه أصلاً، ونُلحق به ما يشذّ عنه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر المختصر: 1/ 34.

فإذا اختلّ شرط من شرائط الصلاة، أو ركن من أركانها في ضرورةٍ أو حاجةٍ، نظر، فإن كان وجوب ما اختل لا يختصّ عند التمكن بالصلاة كستر العورة، فإذا لم يجد الرجل ما يستر به عورته، فصلّى عارياً، فقد أطلق صاحب التقريب أن الصلاة لا تجب إعادتها، من حيث إن الستر ليس من خصائص الصلاة، ولهذا ذهب مالك (¬1) إلى أن من صلى عارياً مع القدرة على الستر، لم تلزمه الإعادة، كمن يصلي في دارٍ مغصوبة. ونحن نرى أن القضاء يجب لورود الأمر بالستر على الاختصاص بالصلاة، قال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، قيل: أراد سترَ العورة. وكان شيخي يفصل القول في صلاة العاري تفصيلاً لا بدَّ منه، وساعده عليه كثير من الأصحاب، فيقول: إن صلّى عارياً في قومٍ يعمّ العريُ فيهم، فلا قضاء عليه، إذا تحول واكتسى. وإن اتفق العريُ نادراً في ناحية يندر ذلك فيها، فهذا يفرّع على أن العاري يُتم الركوع والسجودَ، أم يومىء؟ فإن قلنا: يتم، فظاهر المذهب أنه لا يجب القضاء، كما ذكره صاحب التقريب، ومن أصحابنا من أوجب القضاء؛ للندور، وعدم الدوام. وإن قلنا: يومىء، فالأصح أن القضاء يجب؛ فإنه اختلّت أركان الصلاة بأعذارٍ نادرةٍ لا تدوم. وفي المسألة وجهٌ آخر، أن القضاء لا يجب، وسنبين أصله في أثناء الفصل. والذي أراه أن العري إذا عمّ في قومٍ كما ذكرناه، فالوجه القطع بأنهم يُتممون الركوع والسجود؛ فإنهم يتصرفون في أمورهم لمسيس الحاجة عراةً، فيصلون كذلك، ولا يقضون، وجهاً واحداً. فهذا مما لا يختص وجوبه بالصلاة. 265 - فأما ما يختصّ وجوبُه بالصلاة، كطهارة الحدث، وإزالة النجاسة، وكالأركان في أنفسها، فإذا تطرق الخلل إلى شيء منها، لم يخل: إما أن يكون بعذر عام، أو بعذرٍ خاص، فإن كان السبب عذراً عاماً، فأدى المرء ما كلِّف في الوقت، ¬

_ (¬1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 259 مسألة: 272، جواهر الإكليل 1/ 41.

فلا قضاء عليه. وألحق الأئمة بذلك قعودَ المصلي في الفرض بعذر المرض؛ فإن المرض الذي يجوز القعودُ لأجله يعمُّ إذا أضيف إلى جملة الناس، على ما قربنا القولَ فيه. وعُدَّ من هذا القسم التيمّمُ في السفر، عند إعواز الماء؛ فإن ذلك مما لا يندر. وفي هذا القسم [مزيد مع] (¬1) العموم، وهو أنه إن اختل الوضوء، أثبت الشرع عنه بدلاً، وهو التيمم، فقام في محلّه مقام المبدل. 266 - فأما إذا كان العذر الذي هو سبب الاختلال نادراً، فهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أنه يكون بحيث يدوم غالباً، وإن كان نادراً. والثاني - أن يكون نادراً غير دائم، فإن كان نادراً يدوم كالاستحاضة، وسلسل البول، واسترخاء الأُسْر، ونحوها. فكل اختلال جرّه هذا الفن، فهو معفوٌّ عنه. ثم لا فرق بين خللٍ اقتضى بدلاً، وبين ما لا بدل له أصلاً؛ فإن المستحاضة وإن كانت تتوضأ لكل صلاةٍ مفروضة، فليس للنجاسات الدائمة إزالة، ولا بدل عنه، ولكن لا خلاف في العفو. 267 - فأما العذر النادر الذي لا يدوم، فإذا تضمن خللاً، لم يخْلُ إما أن يكون خللاً مع بدلٍ، أو لم يكن بدل، فإن كان البدل ثابتاً، كما إذا اتفق عدمُ الماء في بلدة، بأن غارت العيون، وانقطعت المياه، فهذا يندر ولا يدوم؛ فإن أهلها يتحولون ويسعَوْن على البدار في إنباط الماء، ثم يتيممون ويُصلون، فإذا وجدوا الماء، فهل يلزمهم القضاءُ؟ فعلى قولين مشهورين. وكذلك إذا أصاب المسافرَ بردٌ وكان جنباً، ولم يتمكن من تسخين الماء الموجود، ولا من ثياب تُدفئه، ولو استعمل الماء البارد، لخاف على نفسه، فإنه يتيمّم، وفي وجوب القضاء قولان. ويندرج تحت ذلك القضاء على صاحب الجبائر؛ فإن ذلك العذر نادرٌ لا يدوم. ¬

_ (¬1) في الأصل وحدها: " من يدفع العمومَ " وهو تحريف واضح.

وقد أثبت الشارع عما تعذر من الغسل بدلاً كما سبق وصفه، فلا جرم اختلف القول في القضاء. وكان شيخي يقول: قال الشافعي (¬1): " إن صحّ ما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان انكسر زنده؛ فالقى عليه الجبيرة، وكان يمسح عليها، فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء الصلوات "؛ فإنقطع بإسقاط القضاء (¬2). وهذا توقف منه في صحة الحديث. 268 - فأما إذا كان العذر نادراً غير دائم، وكان الخلل إلى غير بدل، فظاهر المذهب (¬3) إيجاب القضاء، وهو كما لو عدم الماء والتراب؛ فإن فقدان غبرة (¬4) تثور نادر جداًً غيرُ دائم. فإذا صلى على حسب الإمكان، ثم وجد طهوراً، فالذي يوجد منصوصاً (¬5) للشافعي القطعُ بإيجاب القضاء؛ لندور العذر، ولانتفاء البدل، وعدم الدوام. ومذهب المزني (¬6) أن كل من صلى على حسب ما أمر في الوقت، لم يلزمه القضاء أصلاً، طرداً للقياس. ثم ظاهر مذهب الشافعي أن وقت الصلاة لا يصادفُ عاقلاً قط إلا يلزمه إقامة الصلاة على حسب الإمكان، وإنما يسقط فرضيةُ الصلاة بسقوط التكليف، أو بالحيض في حق المرأة (¬7). وهذا هو مذهب المزني. ثم قال المزني مع اعتقاده ذلك: " من أقام ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 35، والأم: 1/ 38. (¬2) حديث علي رواه ابن ماجه والدارقطني، والبيهقي، قال النووي: اتفقوا على ضعف حديث علي هذا. (ر. سنن ابن ماجه: 1/ 215 ح 657، وتلخيص الحبير: 1/ 146 ح 250، والمجموع: 2/ 324). (¬3) في هامش (م) حاشية نصها: " هذا الذي ذكره ظاهر المذهب، وهو المعتمد عليه، وفيه وجه بعيد أنه لا يصلي في الوقت. والله أعلم " ا. هـ. (¬4) عبارة (ل): فإن فقدان عينهما عذر نادر جداًً. (¬5) ر. الأم: 1/ 44. (¬6) ر. المختصر: 1/ 35. (¬7) ر. الأم: 81.

الصلاة في الوقت على حسب الإمكان، لم يلزمه القضاء أصل " (¬1) وقد أضاف كثير من أئمتنا في الطرق هذا القول إلى الشافعي، وسنذكر من كلام الشافعي في آخر الفصل ما يدل على هذا. إن شاء الله 269 - ومن التبس عليه القبلة، ولم يتمكن من الاجتهاد، ولم يجد من يققده، فيصلي على ما يظنه، ويلزمه القضاء. وقال المزني: لا قضاء عليه. وهو معزِيٌّ (¬2) إلى الشافعي على بعدٍ. وقال أبو حنيفة: كل صلاةِ لو أقيمت على صفةٍ وجب قضاؤها، فلا يجب إقامة تلك الصلاة في الوقت أصلاً (¬3). وهذا أضيف إلى الشافعي قول أيضاً. وفي كلام الشافعي ما يدل عليه، كما سنذكره، وإذ ذاك نُنبّه على سرٍّ إن شاء الله تعالى. 270 - ومما يلحق بهذا القسم أن من صلى وعلى جرحه دم، فالدم ليس عنه بدل. فإذا كان العذر نادراً، غير دائم، فالظاهر القطعُ بوجوب القضاء إلحاقاً بما ذكرناه، وفيه الخلاف المذكور في نظائره. قال صاحب التقريب: العذر الذي يترك المصلي القيام فيه يعدّ من الأعذار العامّة، والعذر الذي يصلي بسببه مضطجعاً من الأعذار النادرة، ولكنها إذا وقعت، دامت في الغالب، فلا قضاء على صاحب هذا. 271 - ولا يخرج عن هذا الضبط الذي ذكرناه إلا الصلاة في شدة الخوف والمسايفة، كما سيأتي وصفها؛ فإنه اختلالٌ ظاهر، في الأفعال، والأركان، وسببه عذرٌ نادر لا يدوم، ثم لا يجب القضاء قول واحداً، وذلك رخصة مستثناة عن القواعد، متلقاةٌ من نص القرآن، قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. 272 - ثم نختم الفصل بأقوالٍ حكاها معظم النقلة، واختص بدرك معناها خواص ¬

_ (¬1) المختصر: 1/ 35، 36. (¬2) الفعل واوي ويائي: عزوته، وعزيته. (¬3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 168.

الفقهاء، وهي أن من أقام صلاة في الوقت على اختلالها، مع بذل الإمكان، ثم أمرناه بالقضاء، فقضاها، فالواجب من الصلاتين أيتهما؟ فعلى أربعة أقوال: أحدها - أن الواجبة هي الأولى. والثاني - أن الواجبة هي الثانية. والثالث - أنهما جميعاًً واجبتان. والرابع - أن الواجبة إحداهما لا بعينها. قال صاحب التقريب: إن قلنا: إن الواجبة هي الأولى، فهذا عينُ مذهب المزني؛ فإن الثانية قضاءٌ، فإذا لم تجب، فقد انتفى وجود القضاء صريحاً. وإن قلنا: الواجبة هي الثانية، فهذا تصريح بأن إقامة الصلاة في وقتها لا يجب كما حُكي عن أبي حنيفة. وإذا قلنا: هما واجبتان، فهذا جريان على ظاهر المذهب في إيجاب أداء حق الوقت، مع إيجاب القضاء. وإذا قلنا: الواجبة إحداهما لا بعينها، فيجب حمل هذا على وجوب إقامتهما جميعاًً، حتى يتأدى بإقاتهما المفروضة منهما، كمن نسي صلاة من صلوات لا يدري عينَها؛ فإنه يلزمه قضاء الصلوات. ويجوز حمل هذا القول على أن القضاء لا يجب؛ فإن من صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة، فصلى مرةً أخرى، فقد قال الشافعي في قولٍ: إن المفروضة إحداهما لا بعينها، وإن كان لا يجب الإقدام على الصلاة الثانية المقامة في الجماعة. فهذا ما وعدنا التنبيه عليه. 273 - وأما السر الذي ذكرناه، فمذهب أبي حنيفة أن الصلاة التي لو أقيمت، لوجب قضاؤها، لا يجوز إقامتها في الوقت، بل يحرم الإقدام عليها مع الخلل، كما يحرم على المرأة إقامة الصلاة في حالة الحيض، وليس هذا مذهباً للشافعي. وذكر بعض المصنفين أن هذا القول البعيد مثلُ مذهب أبي حنيفة، ومقتضى ذلك المنعُ من الصلاة، وتحريمُ الإقدام عليها، وهذا بعيدٌ جداً.

ثم إذا قلنا: يقيم الصلاة في الوقت، ثم يجب قضاؤها، فالمذهب الظاهر أن ما يقيمه في الوقت صلاة، ولكن يجب تدارك النقص الذي فيها. ولا يتأتى استدراك ذلك النقص وحده؛ فيقيم صلاةً كاملةً عند زوال العذر. ومن أصحابنا من قال: ما يقيمه في الوقت تشبُّهٌ بالصلاة، كالإمساك عن المفطرات في نهار رمضان، في حق من أفطر عامداً. وهذا بعيد جداًً؛ لأن النية لا تجب في التشبه بالعبادات، والنية واجبة في الصلاة التي يقيمها في الوقت. وممكن أن يقال: الممسك في رمضان قد فاته وقت النية، والذي يصلي على النقص بخلافه، فالنية كسائر الأركان التي يأتي تصورّها. فإن قيل: هلاّ قلتم: الصلاة المقامة في الوقت فاسدة، كالحجة الفاسدة التي يجب المضيُّ فيها؟ قلنا: إيجاب الإقدام على الفاسد محال، وأما التشبُّه، فلا يبعد إيجابه، وإنما وجب المضي في فاسد الحج من حيث إنه لا يتصور التخلّي (¬1) منه. فهذا مجموع ما أردناه. 274 - ثم مما لا يخفى أن ما وصفناه بالدوام من الأعذار، وربطنا بها إسقاط القضاء، فلو اتفق زواله بسرعة، فهو كالدائم المتمادي، نظراً إلى الجنس، والذي وصفناه بأنه لا يدوم لو اتفق دوامه، [لم] (¬2) يلتحق بما يدوم في جنسه، بل حكمه حكم ما ينقطع على قرب، إِلحاقاً لما يشذّ عن الجنس بالجنس. فهذا تمام القول فيما يتعلق بالقضاء. والله الموفق للصواب. فرع: 275 - قال الصيدلاني: من رُبط على خشبة، فأدركه وقتُ الصلاة. قال: إن كان وجهه إلى القبلة، فصلى على حسب حاله، [لم] (¬3) يلزمه القضاء، كما لو مرض، فصلى بالإيماء على جنْبٍ. وإن لم يكن وجهه إلى القبلة، فيلزمه القضاء. ¬

_ (¬1) تخلّى منه، وعنه: تركه (القاموس) وفي (م): التحلل. (¬2) في الأصل: ثم (¬3) في الأصل: ثم. والمثبت من: (د 3)، (ل) (م).

فأما إيجاب القضاء إذا لم يكن وجهه إلى القبلة، فجارٍ (¬1) على ظاهر المذهب، كما تقدم الكلام في نظائره، وأما قطعه القولَ بإسقاط القضاء عن المستقبِل المربوط، ففيه نظر؛ فإن سبب ذلك عذرٌ نادرٌ لا يدوم، وليس من جنس المرض، حتى يعدّ ملحقاً به. فرع: 276 - إذا ألقى الجبيرة، ثم توهم الاندمال، فبحث، فإذا العذر قائم، فالأصح أنه لا يلزمه تجديدُ التيمم. بخلاف ما لو ظنّ المتيمم العادم للماء أن بالقرب منه ماء، ثم طلب فلم يكن، فإنه يلزمه إعادة التيمم. والفرق أنه يجب طلب الماء على من ظنه، ولا يجب طلب الاندمال. ومن أصحابنا من أبطل تيمّم من ظنّ الاندمالَ، ثم أخلف ظنَّه، كالعادم للماء، ومن قال: لا يجب البحث عن الاندمال، عند إمكانه، وتعلّق الظنُّ به، فليس ما قاله نقيًّا عن الاحتمال. ثم ذكر الشافعي أن المقيم السليم إذا كان واجداًً للماء، فحضرت جنازة، لم يتيمم. وقصد به الردّ على أبي حنيفة؛ فإنه جوّز التيمّم عند خوف فوات صلاة الجنازة (¬2)، وأنكر الشافعي ذلك، واحتج بفصولٍ ظاهرة ليست من غرضنا. فصل 277 - إذا وجد المحدث في سفره من الماء ما لا يكفيه لتمام طهارته، فهل يلزمه استعمالُ الموجود، والتيمّم عن المفقود؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يجب استعمال الماء، ويقتصر على التيمم؛ فإن الماء أصلٌ، والتيمم بدل، ووجود بعض الأصل بمثابة عدمه أصلاً، اعتباراً بمن وجد نصف رقبةٍ في الكفارة المرتَّبة. ¬

_ (¬1) في (ل): فجاز. (¬2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 148 مسألة: 50، المبسوط: 1/ 118، الهداية مع فتح القدير: 1/ 122، حاشية ابن عابدين: 1/ 161.

والقول الثاني - يجب استعمال ما وَجدَ من الماء، والتيممُ بسبب الباقي، كما لو سقط بعضُ أعضاء وضوئه؛ فإنه يجب عليه أن يغسل ما بقي منها. وهذا القول يلتفت توجيهه على جواز تفريق النيّة على أعضاء الوضوء، كما سبق تقريره في تفريع تفريق الوضوء فعلاً، فكأن كلَّ عضوٍ مقصودٌ بنفسه. وتوجيه القولين مستقصىً في الخلاف (¬1). ثم إن أوجبنا استعمال ما وجده، فلا خلاف أنه يجب تقديم استعمال الماء الموجود أولاً؛ فإن سبب التيمم عدمُ الماء، وهذا لا يتحقق ما لم يستعمل ما وجده. 278 - ومما يتفرع أن المتيمم إذا وجد ما لا يكفيه لوضوئه، وعلم مقدارَه، فإنْ كنا لا نوجب استعمالَه، لم يبطل تيممه، وإن كنا نوجب استعمالَه، فيبطل التيمم، فليغسل بما وجده ما قدر عليه، وليجدد التيمم. وفرّعَ: 279 - ابن سريج فرعاً، فقال: الجنب لو اغتسل، وأغفل لمعةً من أعضاء وضوئه ونفِد الماءُ، ثم أحدث، فإنه يتيمم. فلو تيمّم، ثم وجد ماءً قليلاً، لا يستوعب أعضاء وضوئه، ويستوعب اللمعةَ المغفلة، فإنْ فرَّعنا على أنه يجب استعمالُ الماء القليل الذي لا يستوعب الطهرَ، فيبطل التيمم على ذلك. هكذا قال ابن سريج. وعلّل بأن قال: لما أحدث، وتيمّم، وقع تيمّمه عن بقية الغسل، وعن الحدث المتجدد، فلما وجد الماء، تعين عليه صرفُه إلى بقية الغسل، فإذا فعل ذلك، فقد بطل تيممه، فإنه كان التيمم عن الغسل والحدث، ثم بطل ما وقع عن الغسل، والتيمم لا يتبعّض في البطلان؛ فلزمت إعادة التيمم بسبب الحدث الذي كان طراً (¬2). فأما إذا فرّعنا على أن الماء القليل الذي نقص عن الطهر لا يجب استعماله، فقد قال ابن سريج: لا يبطل التيمم على هذا القول؛ فإن التيمم من جهة وقوعه عن ¬

_ (¬1) لم يعرض لهذه القضية في الدّرة المضية، فلعله عرضها في كتاب آخر من كتبه في الخلاف. (¬2) في (د 3): طرداً.

الحدث لا يبطل على هذا القول، فإن الماء الذي وجده قاصرٌ عن الوضوء، فلا يجب استعماله، ولا يؤثر وجودُه في التيمم الواقع عن الحدث، والغسل قد تم. 280 - وهذا عندي غير صحيح؛ فإن التيمم أولاً وقع عن بقية الغسل والحدث، فإن كان لا يبطل بسبب الحدث لو تجرد على هذا القول، فوجب أن يبطل في حق الغسل، ثم لا يتبعض البطلان. ولو كان المعنى الذي ذكره صحيحاً، لوجب ألا يبطل التيمم على القول الأوّل [أيضاً] (¬1)؛ فإن الماء القليل وإن أوجبنا استعماله في الوضوء، لو تجرّد الحدث، فإذا فرضنا بقية الغسل، فالماء مستغرق بها، متعيّن لها، وهو في حكم المفقود، في حق الوضوء، فكان يجب ألا يبطل التيمم لذلك، فإذا بطل فعله، لاستحالة التبعيض كما ذكرناه، وجب طردُ البطلان على القولين جميعاً. وقد حكى الصيدلاني تفريعَ ابن سُريج، ولم يعترض عليه. فصل 281 - نقل شيخي وبعض المصنفين في المذهب: أن المسافرين إذا نزلوا، ودخل وقت الصلاة، وكان عن يمين المنزل أو يساره ماءٌ لو قصده وحصّله، لم يخَفْ على نفسه وماله، ولم ينقطع عن الرفقة، ولم يخرج وقت الصلاة - أنه يلزمه استعمال الماء، ولا يجوز له أن يصلي بالتيمم. قال: وقال الشافعي: " لو كان الماء بين يدي المسافر (¬2)، وهو يمرّ مرّاً، وعلم أنه ينتهي إلى الماء قبل انقضاء الوقت، لو اندفعت العوائق، فيجوز له أن يتيمّم في أول الوقت ". فاختلف أئمتنا في النصّين، فمنهم من قال في المسألتين جميعاً قولان: أحدهما - يتيمّم في الموضعين سواء كان الماء المستيقن عن جانب المنزل، أو بين يديه؛ فإنه ليس واجداًً للماء في الحال؛ وقد علق الله تعالى رخصة التيمم بفقدان الماء حالة التيمم، وهذا المعنى يتحقق فيمن نزل على غير ماءٍ. ¬

_ (¬1) مزيدة من (ل). (¬2) في (ل): " بين يدي المسافر في جهة صوبه، وهو يمرّ ... ".

والثاني - لا يتيمم؛ لأنه متمكن من الوصول إلى الماء على يُسرٍ؛ فكان هذا كوجود الماء في الحال. ومن أصحابنا من أقرَّ النصين قرارهما، وفرّق بأن الماء إذا كان على اليمين أو اليسار، فهو منسوب إلى المنزل، والنازل قد يتيامن ويتياسر وينتشر في حوائجه، ولا يمضي في صوب قصده، ثم يرجع القهقرى، فليس الماء بين أيدي المسافرين منسوباً إليهم، ويشهد لذلك ما روي أن عبد الله بن عمر قفل من سفرةٍ له إلى المدينة، فلما انتهى إلى الحرّة، دخل وقت العصر، فتيمم وصلّى، فقيل له: أتتيمّم وجدرانُ المدينة تنظر إليك، فقال: أو أحيا حتى أدخلها؛ ثم دخل المدينة والشمس حيّة، ولم يقض الصلاة (¬1). فإن قلنا: لا يتيمّم فالمرعيّ فيه الأوصاف التي ذكرناها، وهي الأمن الغالب على النفس والمال، [وألا] (¬2) ينقطع عن الرفقة، فإن كان الماء بمكانٍ لو قصده بمركوبه الذي هو عُدّته وعاد إليها، ثم ارتحل القوم، لتقاعدت دابّتُه، فهذا من الانقطاع عن الرفقة، والماء كالمعدوم في هذه الصورة. ولو لم يكن عليه بأس لو انقطع، ولأمكنه (¬3) أن ينتهي إلى مقصد نفسه، فهذا فيه عُسر، والاحتمال يتطرق إليه. 282 - وإن قلنا: يتيمم، فلو كان الماء على مسافةٍ يجب طلب الماء عند الإشكال (¬4) منه، فلا شكّ أنه يجب استعماله. وإن كان أبعد من مسافة الطلب قليلاً، فلا يبعد أن يقال: إن كان الماء على مسافة ينتشر إليها النازلون في الاحتطاب ¬

_ (¬1) حديث تيمم ابن عمر قبيل دخول المدينة، أصله عند الشافعي، ورواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وذكره البخاري في صحيحه تعليقاً. (ر. البخاري: 1/ 525 كتاب التيمم، باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء ح 337، والأم: 1/ 41، والدارقطني: 1/ 186، ح 2، 3، 4، والحاكم: 1/ 180، والبيهقي: 1/ 233، تلخيص الحبير: 1/ 145، ح 196). (¬2) في الأصل: وإن كان لا ينقطع. (¬3) في (د 3): ولا يمكنه. (¬4) كذا في النسختين وفي (م)، (ل) أيضاًً، والإشكال بمعنى الالتباس.

والاحتشاش، وينتهي إليها البهائم في الرعي، ولم يكن حائل، فيجب تحصيل الماء المستيقن في هذه الصورة، وهذه المسافة تزيد على مسافة الطلب عند الإشكال. ثم إذا جوزنا التيمّم عند بعد الماء، فلا خلاف أن الأولى أن يؤخر الصلاة ليصلي بالوضوء، إذا كان الماء معلوماً، فأما إذا كان يرجو الماء في آخر الوقت، وهو يظنّ ولا يستيقنه، فدخل وقتُ الصلاة، فيجوز إقامة الصلاة بالتيمم في أول الوقت وفاقاً، ولكن اختلف القول في الأَولى، فأحد القولين: أن الأولى تعجيل الصلاة بالتيمم؛ فإن هذه فضيلة ناجزة، ووجود الماء مأمول غيرُ مستيقن. والثاني - أن التأخير أفضل؛ لإقامة الصلاة مع ارتفاع الحدث. ولو لم يغلب الظن في وجود الماء، فلا خلاف أن التعجيل بالتيمم أفضل، ثم إن عجل الصلاة بالتيمم إما في صورة القولين عند رجاء (¬1) الماء، وإما في الصورة الأخيرة، ثم وجد الماء قبل انقضاء الوقت، فلا يلزمه قضاء الصلاة أصلاً. ثم ما ذكرناه من اختلاف القولين في استحباب التعجيل والتأخير فيه إذا كان يقتصر على صلاةٍ واحدةٍ، فإن تيمّم وصلى في أول الوقت، ثم صلى متوضئاً في آخر الوقت، فهو النهاية في إحراز الفضيلة. ولو دخل أول وقت الصلاة، وكان الرجل يرتقب جماعةً في آخر الوقت، فلا خلاف أن تعجيل الصلاة مع الانفراد أولى، فإن الجماعة فضيلة محضة مرقوبة، والتعجيل فضيلةٌ ناجزة، وليس كالصلاة بالوضوء في آخر الوقت؛ فإن الوضوء عند وجود الماء والتمكن منه واجب، فقابل مظنون لو تحقق، لكان واجباً فضيلةً ناجزةً، فخرجت المسألة على قولين. فصل 283 - نصَّ الشافعي على أن طائفةً لو انتهَوْا في السفر إلى بئر، وكانت لا تحتمل إلا نازحاً واحداً، فكانوا يتناوبون عليها، فعلم واحد منهم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد ¬

_ (¬1) (د 3): وجود الماء.

انقضاء وقت الصلاة، لا يتيمم، ويصبر حتى تنتهي النوبةُ إليه، ثم يقضي الصلاة (¬1). وكذلك نصّ على أنه لو كان بينهم دَلوٌ واحدٌ، وكانت النوبة تنتهي إلى واحدٍ بعد فوات وقت الصلاة، أنه يصبر ولا يبالي بفوات الصلاة. وكذلك لو كان بين طائفة من العراة ثوبٌ يتداولونه، فعلم واحدٌ أن الصلاة ينقضي وقتها قبل انتهاء النوبة إليه، قال: يصبر، ولا يصلي في الوقت عارياً. ونص على أن جماعةً لو كانوا في بيت ضيق، أو سفينةٍ، وليس هناك إلا موضع واحد يتأتى فيه القيام في الصلاة، وكانوا يتناوبون عليه، فعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه في الوقت قال: يصلي قاعداً في الوقت. وهذا يخالف نصوصَه في المسائل المتقدمة. 284 - وقد أُلقيت هذه النصوص على أبي زيد المروزي، وكان من أذكى الأئمة قريحة، فلم يلُح له فرق، ورأى تخريجَ المسائل كلها على قولين: أحدهما - أنه يصلي في الوقت على حسب الإمكان. والثاني: أنه يصبر في المسائل كلها، حتى يتمكن من تمام الفرض. وفرّق بعض الأصحاب بأن أمر القيام أهون، بدليل أنه لا يُشترط في النافلة. وهذا فاسد، لا مبالاة به، مع القطع بأن القيام ركن في الصلاة. 285 - ثم لو صلى بالتيمم في هذا المسائل وهي مفروضة في المسافر، فلا قضاء عليه، والماء كالمعدوم في الوقت. وكذلك لو ضاق الوقت، ولاح للمسافر الماءُ، ولا عائق، وعلم أنه لو اشتغل به، لفاته الصلاة، فقد نص الشافعي في ذلك أيضاً على مثل ما نص عليه في الدلو والبئر. وهذه الصورة مندرجةٌ في الخلاف، وتصرّف الأصحاب. ولو فرض ضيق الوقت، وخوف الفوات في المقيم، فلا خلاف أنه لا يتيمم. وإذا قلنا: يصلي قاعداً، ففي وجوب القضاء احتمالٌ، من جهة أن ذلك عذرٌ ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 39، 40. وفي (م): ثم يقضي الصلاة بعد الوقت بالوضوء.

نادرٌ، فلنعرض ذلك على القواعد الممهّدة في إثبات القضاء ونفيه، كما سبق في الفصل الجامع. فصل قال: " ولو نَسي الماءَ في رَحْلِه ... إلى آخره " (¬1). 286 - المسافر إذا كان في رحله ماء، وقد علمه، ثم نسيه، وتيمّم على أنْ لا ماء معه، فظاهر المذهب أنه يلزمه إعادةُ الصلاة بالوضوء، إذا تذكر. وقال أبو حنيفة لا تلزمه الإعادة (¬2). وقد خرّج بعضُ الأصحاب قولاً للشافعي، مثل مذهب أبي حنيفة، من قول قديم للشافعي: أن من نسي قراءة الفاتحة في صلاته، صحت صلاته. وأطلق بعضُ العراقيين حكايةَ القولين. ولو لم يكن في رحله ماء، فأدرج إنسان فيه ماء، من حيث لا يشعر، فتيمم، على اعتقاد أن لا ماء معه، ثم اطلع، فقد ذكر الصيدلاني طريقين، قال: من أئمتنا من جعل هذا كما لو علم الماء، ثم نسيه في رحله. والطريقة المرضيّة القطع أن لا يلزمه قضاء الصلاة. وإن كان في رحله ماءٌ فأضلّه، فإن طلبه، فإنتهى في الطلب إلى غلبة الظن في أنه فاقدٌ للماء، ثم تيمم وصلى، ووجد الماء، فهذا خرّجه أئمة المذهب على القولين فيمن اجتهد في طلب جهة القبلة وصلى، ثم تبيّن له أنه مخطىءٌ، ففي وجوب القضاء قولان. ولو أضلّ رحلَه في الرحال، ثم طلب، ولم يجده، وتيمّم، فهو كما لو أضل الماء في رحله. ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 40. (¬2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 150 مسألة: 54، رؤوس المسائل: 118 مسألة: 24، الهداية مع فتح القدير: 1/ 124، حاشية ابن عابدين: 1/ 166.

ومن أصحابنا من فرَّق بين أن يضل الماء في رحله، وبين أن يُضلّ رحلَه في الرحال، وقال: على من أضل الماء في رحله قضاء، ومن أضل رحله، لم يَقْضِ. وهذا أعدل الوجوه؛ والفرق أن من أضل الماء في رحله، ثم وجده، فالرحل أضبط للماء، من مخيم الرفقة لرحل واحدٍ، وأيضاًً فمن صلى في رحله، وقد أضل الماء فيه، فقد صلى على الماء، ومن صلى، وقد أضل رحله في الرحال، فقد صلى وليس على الماء. ولو أضل الماء في رحله، أو أضل رحله في الرحال، ولم يطلب، أو لم يُمعن في الطلب، بحيث يحصل له غلبة الظن، يلزمه القضاء، قولاً واحداً. ولو تيمّم، ثم رأى بالقرب منه بئراً فيها ماء، فإن كان قد عهد تلك البئر قديماً، ثم نسيها، فهو كما لو نسي في رحله ماء، وإن لم يكن عهد تلك البئر، فهو كما لو أُدرج ماءٌ في رحله، ولم يشعر. وقد يكون للفقيه مزيّة نظرٍ فيه، إذا كان عَهِد البئر، وتقادم العهد، بحيث لا يكون الناسي في مثل ذلك الأمر منسوباً إلى الذهول. فصل 287 - إذا لم يكن مع المسافر ماء، وكان الماء يعرض على البيع، فإن لم يكن معه ما يشتريه به، أو كان، ولكنه مستغرَق بحاجة سفره في ذهابه وإيابه إلى وطنه، فهو كالمفقود، فيتيمم، وسبيل اعتبار الذهاب والرجوع إلى الوطن في ذلك كسبيله في بيان استطاعة الحج. ولو وجد من يُقرضه، فإن كان يملك ما يفي بقضائه، لزمه القبول، فإن لم يكن في ملكه ما يفي بقضائه، لم يلزمه الاقتراض على توقع أن يجد ما يفي به. ولو وهب منه ثمن الماء، لم يلزمه القبول إجماعاً؛ فإن المنّة تثقل فيه، ولو وهب منه الماء نفسه، يلزمه القبول؛ فإنه ممن (¬1) يهون تحمّله، وقد جرى العرف بالبذل والقبول فيه. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ كلها. وله وجه يطلب في كتب النحو.

ولو كان يحتاج إلى رشاءٍ أو دَلْو، فوهب منه، لم يلزمه قبوله. ولو أعير منه، لزمه قبول العارية. وهل يلزمه استيهاب الماء، وطلب العارية في الدَّلو والرشاء؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب؛ لأنه [هيّن] (¬1) الطلب، والمنّة تخف. والثاني - لا يجب؛ فإن التعرض للسؤال صعبٌ على ذوي المروءات، وإن هان قدر المسؤول. ولو كان عليه دينٌ يستغرق ما في يده، فقد كان شيخي يقول: لا يجب شراء الماء؛ فإن من يعتبر في حقّه الاستطاعة في الحج، فنكلفه أن يحط قدر ديونه من ماله، ثم يرعى بعد ذلك الزاد والراحلة، وسائر الأُهب. فإن قيل: إذا كان معه ما يزيد على أهبة السفر، ولا دين عليه، ولكن الماء كان يُباع بغبن، فهل يلزمه الشراء؟ قلنا: لا نكلفه بذلَ شيء، وإن قلّ بغبنٍ، بل يتيمم؛ وذلك أن ضياع المال نُزِّل منزلة الخوف على الروح، ولذلك يجوز الدفع عن المال، بما يجوز أن يُدفع به عن الروح. 288 - ثم اختلف أصحابنا في ثمن مثل الماء، فقال الأكثرون: يُعتبر ثمن مثله في الزمان والمكان الذي مسّت الحاجة، وفي ثمن الماء في البوادي عند الإعواز تقريبٌ لا يكاد يخفى مُدركه، فإن زاد عليه صاحبُ الماء، كانت تلك الزيادة غبناً، فلا يعتبر ثمن الماء حالة الوجود والسلامة. ومن أصحابنا من قال: الماء لا ثمن له، ولكن تعتبر فيه أجرة الناقل، وذلك يختلف بالبقاع، وطول المسافة وقصرها، وهؤلاء بنَوْا هذا الوجه على أن الماء لا يُملك. وهو وجهٌ سخيفٌ ضعيفٌ، نذكره في كتاب البيع. إن شاء الله تعالى. وذكر بعضُ المصنفين وجهاً ثالثاً: وهو أن نعتبر ثمن المثل عند وجود الماء والسلامة، وهذا ليس بشيء، ولكن الذي يوجّه به هذا الوجه، أن غلوَّ ثمن الماء في البادية لا ضبط له، سيما إذا كثر العِطاشُ، وقد ينتهي الأمر إلى حالةٍ لا تغلو فيها ¬

_ (¬1) في الأصل، (م): من.

شربةُ ماءٍ بمالٍ عظيم، وقِيمُ الأشياء تغلو بكثرة الراغبين، ويبعد عن قياس الرخص والتخفيفات أن نوجب على المسافر شراء ماء وضوءٍ واحدٍ بدنانيرَ كثيرةٍ، ونحن لا نكلفه أن يتقلّد مِنَّةَ قبول درهمٍ واحدٍ. وهذا عندي يُحوج الناظرَ إلى مزيد فكرٍ؛ فإن المُهَجَ إذا أشفت على الزهوق، لم تغل المياه على أصحابها، ويعد الكثير -من حيث إنه سِداد الروح- نَزراً قليلاً، وابتياع الماء بهذه الأثمان للاستعمال في المهنة يعد غَبناً. فالأقرب عندي أن يقال: لا نعتبر ثمن الماء عند الحاجة إلى سدّ الرمق؛ فإن ذلك لا ينضبط، ولكن نعتبر المكان والزمان، من غير انتهاء الأمرِ إلى سدّ الرماق والمهج. والله أعلم. 289 - ولو كان مع الرجل ماء وهو يحتاج إليه لسقيه، تيمّم. ثم القول فيما يناله من الضرورة لو توضأ بالماء، كالقول في الخوف المعتبر في المرض. ولو لم يكن به عطش في الحال، ولكن يخاف العطشَ بين يديه، فليتزوّد الماءَ، مستظهراً به، وليتيمم. ولو كان رفيقه يحتاج إلى الماء، تعين عليه تسليم الماء إليه بالثمن، فلا يحلّ له أن يتوضأ (1 قال شيخي: يتزود لرفقائه، ولا يتوضّأ 1)، كما يتزوّد لنفسه. وهذا فيه نظر (¬2). ولو كان هو محتاجاً، فهو أولى بمائه، وله أن يؤثر رفيقه على نفسه، فإن الإيثار من شيم الصالحين. ولو كان رفيقه يلهث عطشاً، وكان صاحب الماء يتزوّد لغَده في [محالّ] (¬3) الخوف، فهذا فيه احتمالٌ عظيم، وتردّد، سأذكره في كتاب الأطعمة، عند تفصيل القول في الضرورات وأكل الميتة، وطعام الغير. ¬

_ (1) ساقط من (د 3). (¬2) في (ل): " وهذا فيه أدنى نظر ". (¬3) في الأصل: مجال.

290 - ولو كان معه بهيمة هي عُدّته، ولو لم يسقها، عطبت، وانقطع هو، سقاها، وتيمّم. ولو كان لا ينقطع بموتها عن سفره، ولكن البهيمة كانت تموت، فلرعاية حرمة الروح المحترمة يسقيها ويتيمم أم يتوضأ؟ فإن حرمة البهائم لا تبلغ مبلغ حرمة الآدميين - كان شيخي يقطع بأنه يسقيها ويتيمّم. والله أعلم. 291 - ولو كان معه ما غيرُ مستغرَقٍ لحاجةٍ حاقَّةٍ، ولا متوقّعة، فصبّه هزلاً، نُظر: فإن كان ذلك قبل دخول وقت الصلاة، فإذا دخل وتيمّم، لم تلزمه إعادة الصلاة؛ فإنه صب الماء في وقت، كان لا يجب فيه الوضوء. وإن صبّ الماء بعد دخول الوقت، فقد تعدّى وعصى، ولكنه يتيمّم، ويصلي، وهل يلزمه قضاءُ الصلاة؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يجب؛ فإنه وإن عصى بما فعل، فلقد تيمّم، وهو فاقدٌ للماء حال التيمّم. والوجه الثاني - أنه يلزمه القضاء لانتسابه إلى المعصية في سبب التيمم، والرخص لا تناط بالمعاصي، ولذلك لا يترخص العاصي بسفره برخص المسافرين. وهذان الوجهان يقربان من مأخذ مسائلَ ستأتي (¬1) في الصلاة. منها أن يُرْدي الرجلُ نفسَه من شاهقٍ، فتنخلع قدماه، ويصلي قاعداً، فإذا برىء، ففي إيجاب القضاء خلافٌ، والأصح أنه لا يجب. فإن قلنا: لا يجب القضاء على من صبّ ماءه، فلا كلام. وإن قلنا: يجب القضاء، فقد ذكر الأئمة وجهين: أحدهما - أنه لا يقضي إلا صلاةً واحدة. والثاني - يقضي أغلب ما كان يؤديه بوضوءٍ واحد في اعتدال حاله، ووسط أمره. وهذا عندي في حكم الغفلة؛ فإنا قدّمنا أن من صبّ الماء قبل دخول الوقت، ثم تيمّم بعد دخول الوقت، لم يلزمه القضاء وجهاً واحداً. وإذا صب الماء في وقت الظهر، فكيف يجب قضاء العصر، والصب مقدم على دخول وقتها. ¬

_ (¬1) في (ل): شتّى.

292 - ولو وَهَبَ الماءَ من إنسان من غير حاجة وعطشٍ، فهو كصب الماء، فإن كان قبل دخول الوقت، فهو كما مضى في الصب، وإن كان بعد دخول الوقت، فيحرم بذلُ الماء، فإذا بذلَ، ووهبَ، وسلَّم، فهل يملك المتهب؟ على وجهين: أقيسهما أنه يملك؛ فإن المالك نافذُ التصرّف في ملكه، وإن عصى بسببٍ لا اختصاص له بوضع التصرف. وهذا الخلاف كالخلاف في أن الوالي إذا ارتشى، فوَهَبَ منه الخصم شيئاً طوعاً، فقد عصى المرتشي، وهل يملك ما أخذه؟ فعلى خلافٍ سيأتي في موضعه. فإن قلنا: إنه يملك المتَّهَب الذي وهب منه، فحكم الواهب في القضاء، كحكم من يصب الماء. وإن قلنا: لا يملك المتّهب ما قبضه، فليستردّه الواهب إن قدر عليه، فإن لم يسترده مع القدرة، وتيمم وصلّى، لزمه الإعادة وجهاً واحداً، ما دام الماء موجوداً؛ فإنه تيمم مع التمكن من استعمال الماء. وإن تلف الماء في يد المتّهب، فلا ضمان عليه أصلاً؛ فإن الهبة ليست من عقود الضمان، وما لا ضمان في صحيحه، لا ضمان في فاسده. ثم من وَقْت فوات الماء على هذا الوجه الذي انتهى إليه التفريع، يكون التفصيل على ما مضى في صبّ الماء. فصل 293 - إذا كان مع الرجل ماءٌ فاضلٌ عن حاجته، واجتمع عليه أقوامٌ، وأراد أن يخصّ بالماء أحوجهم إليه، أو قال لوكيله: سلّم هذا الماء إلى أحوج من عليه طهارة. أو فرضت وصية على هذه الصيغة. فهذا تصوير المسألة. ثم نصور اجتماع أصحاب الحاجات، فإن مات رجلٌ، وحضر جنب، وحائضٌ انقطعت حيضتُها، فالميت أولى بالماء؛ فإن هذا آخر عهده بالطهارة.

ولو كان في الأحياء من أصابته نجاسة، فهو أولى من الجنب والحائض بالماء. وفيه مع الميت وجهان: أحدهما - أن الميت أولى. والثاني - أن من به نجاسة أولى؛ فإن التيمم لا يصير بدلاً عن واجب إزالة النجاسة في حقه، وإذا صلى، لزمته الإعادة على الرأي الظاهر، والتيمم في حق الميت والجنب والحائض بدلٌ عن واجبهم. 294 - ولو اجتمع جنبٌ وحائضٌ انقطعت حيضتُها، فقد ذكر الصيدلاني فيه ثلاثة أوجه: أحدها - أن الحائض أولى؛ لأن حكم حدثها أغلظ. والثاني - أن الجنب أولى؛ فإن الصحابة اختلفوا في تيمم الجنب، ولم يختلفوا في تيمم الحائض؛ فكان الجنب أحوج إلى الماء. هكذا ذكره الصيدلاني، وهو ضعيف جدّاً، ولم يصح عندي توقيف (¬1) يثبت في تيمم الحائض من مذهب الصحابة. والوجه الثالث - أنهما سواء، فيُقرع بينهما. قال بعض المصنفين: قول التسوية يخرّج على أن الحائض تقرأ القرآن، والجنب لا يقراً، فيختص الجنب بالمنع من القراءة، وتختص الحائض بتحريم الوطء، وغيره من وجوه التغليظ. ثم ما ذكرناه من القرعة على الوجه الأخير، يظهر خروجه على قولنا: إن ما يقصر عن تمام الطهارة لا يجب استعماله، والماء المفروض مقدار غُسل واحدٍ وقد اجتمع عليه الجنب والحائض. فإن قلنا، والتفريع على التسوية: الماء القاصر عن الطهر يجب استعماله. فلو قال أحدهما: اقسم الماء بيننا، وقال الثاني: أقرع؛ فإنّك إن قسمت، لم يرتفع حدثُ واحدٍ، فمن الذي يُجاب منهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقسم بينهما؛ لأنا فرعنا على وجوب التسوية بينهما، فإيصال مقدار إلى كل واحدٍ أقرب. والثاني - أنه يُقرع بينهما؛ ليرتفع حدثُ أحدهما. 295 - ولو اجتمع محدث وجنب، والماء مقدار وضوء، وهو يقصر عن الغسل، ¬

_ (¬1) في (ل): "ولم يصح عندي ثبثٌ".

فإن حكمنا بأن الماء القاصر لا يجب أن يستعمل، فالمحدث أولى بالماء؛ فإن الجنبَ لا ينتفع به. وإن قلنا: يجب استعمال الماء، وإن قصر عن تمام الطهر، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن الجنب أولى؛ لغلظ حكم حدثه. والثاني - أن المحدث أولى؛ لأنه يستفيد ارتفاع الحدث بتمامه. والثالث - أنهما سواء، فيقرع بينهما. ولو كان الماء مقدارَ الغُسل، وكان يفضل عن وضوء المحدِث، فإن قلنا: القدر الناقص عن الطهر لا يجب استعمالُه، ولو استعمل المحدث قدر حاجته، فالفاضل منه لا يستعمله الجنب، فعلى هذا الجنبُ أولى؛ لأن حدثه أشدُّ وأغلظ، ولئن قلنا: الناقص عن تمام الطهر يجب استعماله، فلو سلمنا [الماء] (¬1) إلى الجنب، كان فيه حرمانُ المحدِث. ولو توضأ المحدِث، وسلم الفاضل إلى الجنب، لكان جمعاً بين الحقين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الجنب أولى؛ لغلظ حكمه، والثاني - أنه يسلّم إلى المحدِث قدر وضوئه، ويسلم الباقي إلى الجنب. والأصح عندي الوجه الأول. فهذا بيان الحاجات ومراتبها. وقد رتبتها على [التوكيل] (¬2) بالبذل للأحوج. 296 - ثم قد جرى في طرق الأصحاب تصويرُ هذه المسائل فيه، إذا انتهى المحتاجون إلى ماءٍ مباحٍ، فمن يكون أولى به، وذكروا صور الخلاف والوفاق، على ما ذكرناه. وهذا عندي غلط ظاهر، فإن الماء إذا كان مباحاً، وازدحم عليه أقوامٌ، فيجب أن يستووا في تملك ذلك الماء، ولا يتوقف جريان الملك على الحاجة، بل يجب القطع باستوائهم، ويقسم الماء بينهم بالسوية، من غير نظر إلى أحداثهم، وأحوالهم، ولا خفاء بما ذكرناه، من التنبيه على هذا الزلل. 297 - ولو كان للرجل ماءٌ، فهو أولى بمائه من كل مُحدِث، وليس له أن يؤثر ¬

_ (¬1) زيادة لإيضاح المعنى. (¬2) في الأصل: الوكيل.

محدثاً على نفسه، ويتيمّم؛ فإن الإيثار إنما يسوغ في حظوظ الأنفس والمُهَج، لا فيما يتعلق بالقُرب والعبادات. 298 - ثم قال الشافعي (¬1): لو كان للرجل ماءٌ، فمات، ورفقاؤه يحتاجون إليه لسِقاههم (¬2)، ولو غسلوا الميت بمائه، لخافوا، قال: شربوه، ويمموا الميت، وأدَّوْا ثمنَه في ميراثه. فإن قيل: أليس الماء من ذوات الأمثال، فهلاَّ غرموا المثل لورثته؟ قلنا: المسألة مفروضةٌ فيه، إذا كان شربوا الماء في البادية، وله قيمة، وبلدةُ وَرَثَتِه لا قيمة للماء بها، فلو أدَّوْا الماءَ، كان ذلك إحباطاً لحقوقهم، فإذا كان كذلك، فإنهم يغرمون له قيمةَ البادية وقت الإتلاف. والقول في أن ذوات الأمثال كيف تغرم، في غير مكان الإتلاف، من غوامض أحكام الغصوب، وسيأتي ذلك في موضعه. وهذا الرمز مثالٌ اشتمل عليه كلام الشافعي، وإلا كنّا لا نرى ذكره. فرع: 299 - الجنب إذا تيمم، وصلى الفرض، وقلنا: له أن يصلي من النفل ما شاء، فلو أحدث، ثم وجد من الماء ما يكفيه لوضوئه، فتوضأ به. قال العراقيون: له أن يتنفل؛ لأن التيمم المتقدِّم، كان أباح له النوافل، وانحسم التنفل بالحدث الطارىء، وقد ارتفع الحدث بالوضوء، فعاد بعد الوضوء إلى ما كان عليه قبل الحدث، وكان يسوغ له أن يتنفل إذ ذاك. وهذا الذي [ذكروه] (¬3) فيه نظر. والوجه في ذلك أن يقال: الوضوء مع الجنابة لا أثر له، ولا يتضمن رفعَ الحدث الطارىء، ووجوده وعدمه بمثابة، فإذا طرأ الحدث، ثم وجد ماء قليلاً، فيخرّج ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 38 والكلام بمعناه. (¬2) كذا في النسخ الأربع، ولعل لها وجهاً من لهجات العرب في قلب الهمزة هاءً، وإلا فكيف اتفقت النسخ كلها على هذا التصحيف؟ ثم هي من كلام الشافعي، والشافعي تؤخذ منه اللغة. (¬3) في الأصل: " ذكره " والمثبت تقدير منا، وقد صدقتنا نسخة (م)، (ل).

ذلك على أنه هل يجب استعمال الماء القاصر؟ ثم سواء استعمله أو أضرب عنه في القول الثاني، فلا بد من التيمم حتى يستفتح النافلة. والذي ذكروه يقتضي إِفرادَ الوضوءِ بحكمه، مع وجوب الغسل، وفيه بُعدٌ. وهو يشير إلى أن الوضوء لا يندرج تحت الغسل، في حق من أحدث، وأجنب، والمذهب غيره. وفي المسألة احتمال على الجملة. ***

باب ما يفسد الماء

باب ما يفسد الماء قال الشافعي: "وإذا وقع في الماء نقطة خمر أو بولٍ ... الفصل إلى آخره" (¬1). 300 - مضمون هذا الباب: الكلامُ فيما يُفسد الماءَ القليل الناقص عن حد الكثرة، وسيأتي القول في الماء البالغ حدّ الكثرة، في الباب الذي يلي هذا. فمذهب الشافعي أن الماء القليل إذا ورد عليه نجاسةٌ، تنجس بها، تغيّر أوْ لم يتغيّر، ومعتمد المذهب خبران: أحدهما - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجساً" (¬2) فأشعر الحديث بمفهومه أن القاصر عن هذا المبلغ ينجس. والثاني - ما روي أنه (¬3) عليه السلام قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثاًً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده" (¬4) فندب إلى ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 39. (¬2) حديث " إذا بلغ الماء قلّتين "، رواه الشافعي، وأحمد، والأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر (ر. الأم: 1/ 4، أحمد: 2/ 12، 38، أبو داود: الطهارة، باب ما ينجس الماء، ح 63، الترمذي: الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، ح 67، النسائي: الطهارة، باب التوقيت في الماء، ح 52، ابن ماجه: الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس، ح 517، ابن خزيمة: 92، الحاكم: 1/ 132، البيهقي: 1/ 260، التلخيص: 1/ 16 ح 4). (¬3) آخر الموجود من (د 3)، ولم يبق منها إلا أوراق متفرقة من كتاب البيوع. (¬4) حديث " إذا استيقظ أحدكم ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم (ر. البخاري: الوضوء، باب الاستجمار وتراً، ح 162، مسلم: الطهارة، باب كراهة غمس المتوضىء وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، ح 278، التلخيص: 1/ 34 ح 25).

غسل اليدين، عند توقّع النجاسة، فكان ذلك نصّاً في أن النجاسة لو تحققت، لنجّست الماءَ، وإن لم تغيّره. ثم مفهوم ما نقله المزني أن النجاسة إذا كانت بحيث لا يُدركها الطرفُ، لا ينجس الماء، ونصّه في الأمّ أن النجاسة إذا كانت بحيث يتيسر الاحتراز من جنسها -بخلاف دم البراغيث والبثرات- فإذا أصابت الثوبَ وققت بحيث لا يدركها الطرف لقلّتها، فلا يعفى عنها إذا كانت مستيقنةً (¬1). والطريقة المرضية ما ذكره الصيدلاني، فذكر وجهين في الثياب: أحدهما - أنه لا يعفى عن النجاسة، وهو القياس. والثاني - يعفى عنها تمسكاً بسيرة السلف؛ فإنهم كانوا يبرزون لقضاء الحاجة، والذباب يقع على النجاسة، ثم يقع منها على ثيابهم، وكانوا لا يبالون بما يجري من ذلك. 301 - ثم قال: إذا وقعت نجاسةٌ لا يدركها الطرف لقلّتها في ماءٍ قليل، فإنه ينجس وجهاً واحداً، والفرق بين الماء والثوب، والبدن شيئان: أحدهما - أنَّا نتوقع جفاف أرجل الذباب من وقت ارتفاعها من النجاسة إلى وقوعها على الثياب، ولا يتحقق ذلك في الماء؛ فإنه يرطب النجاسة اليابسة ويسيّلها. والثاني - أن المياه القليلة يمكن صونها بالتخمير (¬2) عما يرد عليها، وذلك غير ممكن في الثياب. 302 - وذكر العراقيون طرقاً مضطربة: منها طردُ الوجهين في الماء القليل، إذا كانت النجاسة غيرَ مُدركةٍ لقلّتها. ومنها أن الماء لا ينجس بها، والثوب ينجس؛ لأن في الماء قوةً دافعةً. ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 47. والكلام هنا بمعنى كلام الشافعي لا بنصه. فهل هو بنصه في موضعٍ آخر؟. (¬2) التخمير: التغطية. (المعجم).

وهذا من ركيك الكلام؛ فإن القوة الدافعة ليست أمراً محسوساً، وهي متلقاة من حكم الشارع بالقلتين. فهذا ما يحوي ما ذكره الأصحاب في طرقهم. والصحيح ما حكيناه عن الصيدلاني. فصل. 303 - الماء المستعمل في طهارة الحدث طاهرٌ غيرُ طهورٍ في ظاهر مذهب الشافعي. ومعتمد المذهب أن سلف الأمة في الأسفار وإعواز الماء كانوا لا يجمعون المياه التي يستعملونها في ظروفٍ؛ حتى يستعملوها ثانيةً، بل كانوا يبددّونها، ولا يرد على ذلك أنهم كانوا لا يشربونها مع طهارتها؛ فإن ذلك يُحمل على العيافة التي جُبلت النفوس عليها (¬1)، ولا يجوز تركُ الاحتياط للطهارة الشرعية بمثل ذلك. ومذهب مالك (¬2) أن المستعمل طهور يجوز استعماله، وحكى عيسى بن أبان (¬3) قولاً للشافعي مثل مذهب مالك. وقد غلّطه بعضُ أصحابنا في نقله، وقالوا: لعل الشافعي، كان يذبّ عن مالك، ويرُدّ على من يحاول الرد عليه، وظن عيسى أن مذهبه ما ينصره. ثم إن صحّ هذا مذهباً له، فيجوز استعمال المستعمل ما لم يتغيّر، فهذا مذهب مالكٍ. ثم كان شيخي يقول: أدنى تغيّر يخرجُه عن كونه طهوراً، وهذا جارٍ على قياسه في أن أدنى تغير بالزعفران وغيره يسلب طهوريّةَ الماءِ، ونحن إذا شرطنا تفاحشَ التغيّر وظهورَه، حتى يستجدّ الماءُ اسماً جديداً، فنقول: الماء لا يتغير بملاقاة البشرة ¬

_ (¬1) ر. الدّرّة المضية، مسألة: 24. (¬2) ر. عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 1/ 162 مسألة: 37، وحاشية الدسوقي: 1/ 41، جواهر الإكليل: 1/ 7. (¬3) عيسى بن أبان بن صدقة: أبو موسى، القاضي، من كبار فقهاء الحنفية، توفي سنة 221 هـ، (ر. الجواهر المضية في طبقات الحنفية: 1/ 401).

النقيَّة، وإنما يتغيّر بوسخ أو غيره على محل الطهارة، فليعتبر المعتبر ورودَ شيءٍ طاهرٍ على المَحلِّ وتغيره به، كما سبق في الباب الأول. والتفريع على أن المستعمل ليس بطهورٍ وإن لم يتغيّر. 304 - ثم ذكر أئمتنُا لفظين في ضبط المذهب خرّجوا عليهما المتفق في النفي، والإثبات، والمختلف. فقال بعضهم: إنما لا يُستعمل؛ لأنه أُديَ به الفرض مرةً. وهذا ما ذكره المزني (¬1). وقال بعضهم: إنما لا يستعمل؛ لأنه أُدِّيت به العبادة مرةً (¬2). والمسلكان جميعاًً لا يصلحان لإثبات أصل المذهب لو نُوزعنا فيه، وإنما معتمد المذهب ما قدمناه [من] (¬3) التمسك بسيرة الماضين. ولكن ما كان فرضاً [و] (¬4) عبادة، فلا استرابة في أنه المستعمل الذي استَدْلَلْنا فيه بعادة الماضين، وما وُجد فيه أحد هذين المعنيين تردّد الأصحاب في أنه [معتبرٌ] (¬5) أم لا. وليس منع استعمال المستعمل مما يربط بمعنى صحيح على السَّبْر، والأظهر عندنا ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 39. (¬2) واضح أن المراد بالعبادة أعم من الفرض، فالغسلة الثانية والثالثة، وتجديد الوضوء، أدي به عبادة، ولم يؤد به فرض، أما الغسلة الرابعة، فماؤها طاهر مطهر، لأنها لم يؤد بها عبادة، ولا فرض، وكذلك المستعمل في الوضوء وغُسل الجمعة وسائر المسنونات. وعبارة الغزالي في الوجيز: "لتأدي العبادة به، وانتقال المنع إليه"، ومثلها في الوسيط، وقال الرافعي في فتح العزيز شارحاً المقصود بتأدية الفرض به: " وأما تأدي الفرض به؛ فلأن المراد منه رفع الحدث به، أو رفع منعه، وذلك يقتضي تأثر الماء " وكأنه يعبر بهذا عن انتقال المنع إلى الماء، أما النووي، فقال عن (انتقال المنع): "وهذه العبارة غريبة، قلّ أن توجد لغيره، وفيها تجوز، إذ ليس هنا انتقال محقق، ولكنها صحيحة في الجملة" ا. هـ. (ر. المجموع: 1/ 149 وما بعدها. ثم 161، وفتح العزيز: 1/ 98 ثم 106، 107، والوسيط: 1/ 301). (¬3) في الأصل: (أن). (¬4) في الأصل: أو. (¬5) في الأصل: مُغنٍ.

أن المستعمل في عبادة ليست فرضاً يمتنع استعماله، فتخرَّج المسائل على المسلكين. 305 - فأما المنحدر عن الأعضاء في المرة الأولى، يمتنع (¬1) استعماله؛ لاجتماع الفرضيّة والعبادة، وإن استعمل الماء مرةً رابعةً من غير سببٍ يقتضيها، فقد عُدم المعنيان جميعاً، فليس الماء مستعملاً وهو طهور. وما ينحدر عن الغسلة الثانية (¬2) يخرج على وجهين: أصحهما أنه مستعمل غير طهور، وكذلك الوجهان في الماء المستعمل في تجديد الوضوء. وقد ذكرنا وجهين من كلام الشيخ أبي عليّ في أن تجديد الغسل هل يستحب؟ فإن قلنا: إنه غير مستحبٍ، فالماء المستعمل فيه طهورٌ، وإن قلنا: إنه مستحبٌ، فالقول فيه كالقول في تجديد الوضوء. 306 - وإذا اغتسلت الذميّة عن الحيض تحت مسلم، وكانت طاهرة البدن، فغسلُها واجب، وفي الماء المنحدر عنها وجهان. ووجه تخريجهما أنا إن قلنا: لو أسلمت لا تُعيد الغسل، فقد [تم] (¬3) الغسل في الكفر كما [تتم] (¬4) الكفارة من الكافر. فعلى هذا يكون الماء مستعملاً. وإن قلنا: يجب عليها أن تُعيد الغسل إذا أسلمت، ففي الماء المستعمل في الكفر وجهان خارجان عن المعنيين، فمن اعتبر العبادة، فما أتت به ليس بعبادة، ومن اعتبر أداءَ مفروضِ، فقد أدت مفروضاً. 307 - ومما يتعيّن الاعتناء به في الفصل أن الماء المصبوب على البدن لا يثبت له حكم الاستعمال ما دام متصلاً متردداً على البدن، وإنما يثبت له حكم الاستعمال عند الانفصال. 308 - ولو انغمس جنب أو متوضىء في ماءٍ، غيرِ بالغٍ حدَّ الكثرة، فإذا انفصل عن ¬

_ (¬1) كذا " يمتنع " بدون الفاء في جواب "أما" على لغة الكوفيين، وهو جارٍ كثيراً عند إمام الحرمين. (¬2) في (ل): الثانية والثالثة. (¬3) في الأصل: تمم، والمثبت من (ل) (¬4) في الأصل: تتمم، والمثبت من (ل)

الماء، فالماء مستعمل، لا شك فيه، ولا نقول: لو توضّأ، لكفاه مقدارٌ يسير، ولو صُبّ مثله على هذا الماء، لما صار مستعملاً، فإنه إذا انغمس في الماء، فقد اتصل به جميع الماء، ولم يختصّ الاتصال اسماً وإطلاقاً بما يلاقي بشرته. 309 - ثم إذا انغمس وانفصل، فهل يرتفع الحدثُ؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يرتفع؛ لأن الماء صار مستعملاً بملاقاة أول جزء إياه، فيحصل الانغماس في ماءٍ مستعمل. وهذا وإن كان مشهوراً، فهو غلط عندي؛ فإن الماء إنما يثبت له حكم الاستعمال، إذا انفصل المنغمس فيه عنه، كما أن الماء المصبوب على البدن لا يثبت له حكم الاستعمال، ما لم ينفصل عن البدن. 310 - ولو غمس المتوضىء يده في الماء بعد غسل الوجه، فقد دخل وقتُ أداء فرض اليد، فإن قصد غسلَ يده، فيصير الماءُ القليلُ مستعملاً، وهل يرتفع الحدث عن اليد المغموسة؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين، وإن قصد بوضع اليد في الإناء رفعَ الماء، لم يصر مستعملاً. وإن وضع اليدَ، ولم يخطر له أداءُ الفرض، ولا رفعُ الماء وتنحيتهُ، فهذا يعسر تصويره عندي؛ فإن من ينقل الماء من الإناء. فقصدُه التنحيةُ لا غسلُ اليد في الماء الذي في الإناء. فإن تُصور سقوط القصدين جميعاًً، فهو كما لو قصد غسلَ اليد؛ فإن من نوى وعَزَبت نيتُه، ثم غسل بقية أعضائه من غير قصدٍ، فيرتفع الحدث عن أعضائه. كذلك هذا. 311 - ومن تمام البيان في هذا: أن من صب الماء على رأسه في الغُسل، فتقاذف من الرأس إلى البطن، وخرق الهواءَ إليه، فقد ذكر بعضُ المصنفين أن الماء يصير مستعملاً؛ فإنه انفصل واتصل بالهواء، وخرج في ذلك الوقت عن التردّد على البدن. وهذا فيه فضل نظر؛ فالماء إذا كان يتردّد على البدن، ففي الأعضاء تفاوتٌ في الخِلْقة، وليس البدن سطحاً بسيطاً. وإذا كان كذلك، فيقع في جريان الماء بعضُ التقاذف من عضوٍ إلى عضوٍ، لا محالة. ولا يتأتى التحرز من هذا. كيف؟ ولم يَرد الشرعُ بالاعتناء بهذا أصلاً. فما كان من هذا الجنس، فهو محطوط، لا اعتبار به قطعاًً.

وأما التقاذفُ الذي لا يقع إلا على ندور، فإن كان ذلك عن قصدٍ، فهو مُستعمل، كما قال هذا المصنف. وإن اتفق ذلك عن غير قصدٍ إليه، فلا يمتنع أن يُعذر صاحبُ الواقعة؛ فإن الغالب على الظن أنه كان يقع أمثال ذلك في الزمن الماضي، وما وقع عنه بحث من سائلٍ، ولا تنبية من مرشدٍ والله أعلم. فصل (¬1) 312 - إذا جمع من الماء المستعمل في مقرٍّ ماءٌ بلغ قلتين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - وهو الأصح أنه يعود طهوراً؛ فإن الماء القليل النجس إذا جُمع إليه ماءٌ نجسٌ، فبلغ قلتين، وليس الماء متغيراً، فالكل طهورٌ، فليكن المستعمل كذلك. 313 - ولو انغمس جنبٌ في ماءٍ كثيرٍ، لم يصر مستعملاً، كما لا يصير نجساً إذا وقعت فيه نجاسة. فإذا استويا في ذلك، فليستويا في بلوغ الماء حدَّ الكثرة إجزاءً. والوجه الثاني - أنه لا يعود طهوراً؛ فإن حكم الاستعمال ثبت لكل جزء من الماء حكماً، فكأنه انقلب عن كونه ماء، وصار كمائعٍ من المائعات. وهذا لا يتحقق مع ما ذكرناه من أن الكثير لا يصير مسلوبَ الطّهوريّة بانغماس جُنب أو محدِث. فرع: 314 - إذا تقاطرت قطرات من المنحدر عن أعضاء المُحدِث إلى ماء الإناء، فالمعتبر فيه أن يقال: إن بلغت في المقدار مبلغاً، لو كان لونُه مخالفاً للون الماء، لغيّره، فهذا يُفسد الماء. وعندي أني ذكرت ذلك في الباب الأول بما فيه إقناع. فصل 315 - مضمون هذا الفصل شيئان: أحدهما - في كيفيّة إزالة ما عدا نجاسة الكلب من النجاسات، مع ذكر ما يتعلق بطهارة الغُسالة ونجاستها. ¬

_ (¬1) في (ل): فرع.

والثاني - في نجاسة الكلب. 316 - فأما ما سوى الكلب، فإن كانت النجاسة مُعايَنةً، وكانت عينُها ظاهرة، فإزالتها برفع عينها، وقطع أثرها بالماء الطهور، وليس فيها تعبّدٌ برعاية عددٍ. وإنما التعبد بالعدد في الاستنجاء بالأحجار [عند] (¬1) الاقتصار عليها. ثم إن كان يبقى للنجاسة [طعمٌ، فالنجاسة] (¬2) باقية، وحكمها باقٍ. وإن بقي لونٌ يتيسّر إزالته، فالجواب كذلك. وإن كان اللون عسير الإزالة كلون الحناء، وما في معناه، فلا يضّر بقاؤه. والشاهد فيه ما روي أن نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألنه عن دم الحيض يصيبُ الثوبَ، وذكرن له أن لون الدم يبقى، فقال عليه السلام " الْطَخْنه بزعفران " (¬3)، ولم يكن ذلك تعبداً جازماً، ولكن أبان لهن أن اللون الباقي لا أثر له، أي فإن كرهتنّ رؤيته، فالطخنه بزعفران. وأما الرائحة، فإن لم يكن للنجاسة رائحة قوية، وكانت سهلة الإزالة، فلا بد من إزالتها. 317 - وإن كانت لها رائحة نافذة قويّة، كالخمر العتيقة، وبول المبَرْسَم (¬4)، وما في معناهما، فبقيت مع الإمعان في الغَسل، ففيه قولان: أحدهما - أن حكم النجاسة باقٍ؛ فإن الرائحة في الغالب تزول، والحكم للغالب، والألوان منقسمة إلى ما يعسر زواله، وإلى ما يتيسّر. ¬

_ (¬1) في الأصل: بعد، وقد صدق حدسنا، كما في (م)، (ل). (¬2) زيادة من (م)، وعبارة (ل): للنجاسة تطعم فالنجاسة وحكمها باق (¬3) حديث: " الطخنه بزعفران " قال الحافظ: لا أعلم من أخرجه هكذا، لكن روي موقوفاً، رواه الدارمي عن عائشة، ورواه أبو داود عن عائشة، بلفظ: " فلتغيره بشيء من صفرة " ا. هـ. وصححه الألباني (ر. تلخيص الحبير: 1/ 36 ح 27، الدارمي: كتاب الوضوء، باب المرأة الحائض تصلي في ثوبها إذا طهرت، ح 1011، وأبو داود: الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، ح 357، والصحيح: ح 344). (¬4) المبرسم من أصابه البرسام، وهو ذات الجنب، وهي التهاب في الغشاء المحيط بالرئة (المعجم).

والثاني - أن الروائح تنزل منزلة الألوان، وهذا هو الأصح (¬1)؛ [فإنا] (¬2) نراها في عسر الزوال، وتيسّره كالألوان. واستقصاء القول في هذا الفن يأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى. ولكننا نذكر هاهُنا ما نرى الحاجة ماسّة إليه. 318 - وإن كانت النجاسة حُكميّة، وهي التي لا نعاينها لخفائها، وإن كنا نعلم قطعاً أنها عين، قال الأصحاب: يكفي فيها إمرار الماء مرّة واحدةً على موردها، ويُستحبّ غسله ثلاثاً. 319 - ولو انقلعت النجاسةُ العينية بمرة واحدة، استحببنا الغَسل ثانيةً وثالثةً؛ فإن العينية لا تقصر عن الحكميّة، بل تزيد عليها. 320 - وإذا صُبّ الماء على مورد النجاسة، وانقطعت آثارها، فهل يتوقفُ الحكم بطهارة المحلّ على عصر الثوب مما فيه من البلل؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه لا بد من العصر، وهو مذهب أبي حنيفة (¬3). والثاني - لا يُشترط. قال الشيخ أبو علي: الاختلاف في العصر مأخوذ من الاختلاف في طهارة الغُسالة ونجاستها، فإن حكمنا بطهارة الغسالة المنفصلة، فلا نوجب فصلَها؛ فإنها لو فُصلت، ثم رُدّت إلى الثوب، لم يضرّ؛ فلا معنى في العصر. وإن حكمنا بنجاسة الغسالة لو انفصلت، فالغسالة نجسة ما دامت على المحلّ، فإن عصرت، فالبلل الباقي بعد العصر المعتاد طاهر. وإن تُركت الغسالة حتى جفت، ففي المسألة وجهان: أصحّهما - أن الثوب طاهرٌ؛ فإن زوال البلل بالجفاف كزواله بالعصر، بل هو أبلغ. والثاني - أن الثوب ¬

_ (¬1) في (ل): الصحيح. (¬2) في الأصل: فإنها. (¬3) ر. البدائع: 1/ 84، فتح القدير: 1/ 185، حاشية ابن عابدين: 1/ 221.

لا يحكم بطهارته؛ فإن العصر المأمُورَ به قد تُرك أوّلاً، فبقيت النجاسة حكماً. وهذا ليس بشيء. فهذا بيان حكم العصر. 321 - وأما تفصيل [حكم] (¬1) الغُسالة، فكل ما ينفصل متغيراً، لم يُسْترَب في نجاسته. وأما ما ينفصل غير متغيرٍ، فإنه ينقسم قسمين: أحدهما - أن ينفصل ويُعقب طهارةَ المحل. والثاني - ألا يستعقبَ انفصالُه طهارةَ المحل. فإن انفصل غيرَ متغيّرٍ، وطهُر المحل، فالمنصوص عليه للشافعيّ أن الغُسالةَ طاهرةٌ. وقال أبو القاسم الأنماطي (¬2): إنها نجسة. وخرَّج ذلك قولاً للشافعي، وهو مذهب أبي حنيفة (¬3). وإن انفصل الماء غيرَ متغيرٍ، والمحل بعدُ نجسٌ، ففي المنفصل طريقان: الأصح القطع بنجاسة المنفصل؛ فإنا إنما حكمنا بطهارة الغسالة في الصورة الأولى؛ [لأن] (¬4) البلل الباقي على المحل طاهر، والمتصل جزءٌ من المنفصل. وإلا، فالقياس الجليّ الحكم بنجاسة ما انفصل؛ فإن النجاسة التي انفصلت عن المحل كائنةٌ في الماء لا محالة. فأمّا إذا كان المحل نجساً بَعدُ، فإن نظرنا إلى ظاهر الاتصال، ¬

_ (¬1) زيادة اقتضاها السياق. (¬2) أبو القاسم الأنماطي: عثمان بن سعيد بن بشار، الأنماطي الأصولي، حدث عن المزني والربيع، وهو أول من حمل علم المزني إلى بغداد، وللأنماطي جلالة بمن أخذ عنه العلم من شيوخ المذهب، فقد حمل عنه العلم أبو العباس بن سريج، وأبو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن خيران، ومنصور التميمي، وأبو حفص بن الوكيل البابشامي. ت 288 هـ (طبقات السبكي: 2/ 301، 302). (¬3) ر. تحفة الفقهاء: 1/ 152. وعبارته: إذا وقعت الغسالة في الماء، أو أصابت الثوب أو البدن، ففي منع جواز الصلاة والوضوء المياه الثلاث على السواء؛ لأن الكل نجس. ا. هـ. ويقصد بالمياه الثلاث الغسالة في المرة الأولى والثانية والثالثة. (¬4) في الأصل: فإن.

فذلك يقتضي الحكمَ بنجاسة المنفصل، وإن نظرنا إلى المحل، فهو نجسٌ بعدُ. ومن أصحابنا من طرد القولين فيما انفصل والمحلّ بعدُ نجس، إذا لم يكن متغيراً. وهذا عندي في حكم الخطأ الذي لا يعدّ من المذهب. 322 - ولو غسل ثوباً من النجاسة مراراً، وكان يجمع الغسالات في إناء واحد، وكانت الغُسالة الأولى نجسة، إما لتغيّرها، وإما لانفصالها قبل الحكم بطهارة المحلّ، ثم كانت الغسالات المجتمعة غيرَ متغيرةٍ، فقد ذكر العراقيون وجهين بناءً على أن الغسالة طاهرة: [أحدهما] (¬1) - أن هذه الغُسالات نجسة؛ فإن بعضها انفصل عن البعض (¬2)، وثبت لبعضها حكمُ النجاسة، فإذا اجتمعت وهي في حدّ القلّة، فهي نجسة. والوجه الثاني - أنها طاهرة؛ فإنها في حكم غُسالةٍ واحدةٍ. وهذا ضعيفٌ جدّاً. 323 - ولو طرح الرجل ثوباً نجساً في إجّانة (¬3) فيها ماء، وغسله فيها، فانقطعت آثار النجاسة، ففي المسألة وجهان: أحدهما -وهو الذي قطع به الصيدلاني- أن الثوب لا يطهر أصلاً، والماء ينجس، ولو رُد كذلك إلى الأجّانة وجدّد الماء مراراً، لم يطهر الثوب، ما لم يصب [الماء على الثوب، أو يغمس] (¬4) في ماء كثير. والوجه الثاني - وهو اختيار ابن سُريج أن الثوب يطهر، فلا فرق بين ورود الماء القليل على النجاسة، وبين ورود الثوب النجس على الماء القليل. والغرض انقطاع آثار النجاسة، كيف فرض الأمر. 324 - ثم نقل بعض النقلة عن ابن سُريج أنه يشترط النية في إزالة النجاسة، وهذا غلط صريح. ¬

_ (¬1) زيادة اقتضاها السياق، وقد صدقتنا (م)، (ل). (¬2) في (ل) المحل. (¬3) الإجّانة: إناء تُغسل فيه الثياب. (المعجم). (¬4) زيادة اقتضاها السياق، مكان عدة كلمات ممسوحة تماماًً، ونسجد لله شكراً؛ إذ صدقتنا (م)، (ل).

ونحن نوضح مذهب ابن سُريج في ذلك، فنقول: مِن أصله أن الريح لو ألقت ثوباً نجساً في إجّانة فيها ماء، تنجس الماءُ، ولم يطهر الثوب، ولو طرحه الغاسل فيها على قصد الإزالة، حصلت الإزالة، ولم ينجس الماء، إن لم يتغيّر. وظاهر المنقول عنه أن الماء لو انصبّ من غير قصدٍ على ثوبٍ نجسٍ، وكان ينحدر منه، ودُفَعُ الماء تتوالى، حتى زالت النجاسة، طهر الثوب من غير قصدِ قاصدٍ. وما ذكره من القصد في الصورة الأولى، لم نعدم فيها مخالفاً من الأصحاب؛ فإن منهم من يقول: الغرض زوالُ النجاسة بالماء، فلا أثر للقصد، ولا يمتنع أن يراعى القصدُ في انصباب الماء القليل على الثوب. فهذا تمام ما أردناه: نقلاً واحتمالاً. 325 - وحكى الشيخ أبو علي في الشرح من تفريع ابن سُريج أن الماء القليل لو وردت عليه نجاسة وغيّرته، فلو صبّ عليه ماءٌ على قصد تطهيره بالغمر والمكاثرة، فإن زال التغيّر، وبلغ الماء حدّ الكثرة، فلا شك في طهارة الماء، وإن انغمرت النجاسة، ولم يبلغ الماء حدَّ الكثرة، قال ابنُ سُريج يطهر الماءان، إذا قصد به الغَسْل. ثم قال الشيخ: هذا تفريع منه على أن العصر لا يجب، ولا تُشترط إزالة الغُسالة، فأما إذا شرطنا ذلك -وهو غير ممكن- فإن الوارد لا يتميز عن المورود عليه، فالكل نجسٌ. وهذا عندي -إن صح النقل- من هفوات ابن سُريج، فلا معنى لغسل الماء من غير جهةِ تبليغه قلتين. فإن كان الغرض زوالَ التغيّر، فالماء القليل ينجس عندنا بورود النجاسة عليه، وإن لم يتغير، فليس مما يُتمارى في فساده. ثم قال الشيخ: ينبغي أن يكون الوارد أكثر من المورود عليه، حتى يحصل الغسل بهذه الجهة. والتفريع على الفاسد فاسد. 326 - ومما يتعلق بغُسالة النجاسة: أنا إذا حكمنا بطهارتها، جرياً على النص، فلا يجوز استعمالها ثانيةً، وهي كالماء المستعمل في طهارة الحدث. ثم المستعمل

في الحدث لا يستعمل في الحدث مرة أخرى، وهل يستعمل في إزالة النجاسة؟ فعلى وجهين مشهورين: أصحهما - أنه لا يستعمل فيها، وهو كسائر المائعات. والوجه الثاني - أنه يجوز إزالة النجاسة به؛ فإن الماء فيه قوتان: إحداهما إزالة الحدث، والثانية إزالة الخبث، وقد زالت إحداهما، فبقيت الأخرى. ولولا اشتهار هذا الكلام وإلاّ [ما كنت] (¬1) أضمّن هذا الكتابَ مثلَه؛ فظهور فساده يُغني عن شرحه. والخلاف في غُسالة النجاسة وأنها هل تستعمل في رفع الحدث على ما ذكرناه. والوجهُ القطع بامتناع استعمال المستعمل عموماً. فرع: 327 - قال العراقيون: الماء الذي استُعمل في المرة الأولى في النجاسة لا يستعمل، كما لا يستعمل الماء المنحدر عن الوجه في الغسلة الأولى، والماء الذي يستعمل في الثوب بعد زوال النجاسات ثانية وثالثة هل يستعمل؛ فعلى وجهين كالوجهين فيما ينحدر عن غسل الوجه ثانيةً وثالثةً؛ فإن الثانية والثالثة مندوبٌ إليهما في غسل الثوب، فشابهتا الغسلةَ الثانيةَ والثالثة في الوجه. وفي هذا فضل نظر عندي للفقيه؛ فإن الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء معدودتان من العبادة. ثم قالوا: لو غسل الثوبَ بعد الطهارة غسلةً رابعة، فيجوز استعمال ذلك الماء وجهاً واحداً، كنظير ذلك في غسلات الوضوء. فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في غسل النجاسة، وبيان حكم الغُسالة. وفيه بقايا أخّرناها إلى كتاب الصلاة. 328 - فأما تفصيلُ إزالة نجاسة الكلب، فإذا ولغ الكلب في إناءٍ فيه ماء قليل، أو مائع، ينجسُ الماء والإناء، ثم لا يطهر حتى يُغسل سبعاً، إحداهنّ بالتراب. ومعتمدُ المذهب الحديثُ: روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدكم، فليغسله سبعاً: إحداهنّ بالتراب " (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: فكنت، وأكدت هذا (ل). (¬2) أصل هذا الحديث في الصحيحين، ورواه أحمد، ومالك، وأبو عوانة، والنسائي، وابن =

ثم لا يخفى على ذي بصيرة أن المعنى لا يتطرق إلى العدد، والحدّ بها، ولا إيجاب استعمال التراب، وإذا لم يكن المنصوص عليه معقولَ المعنى، فالوجه الاعتماد على مورد النص، ثم نُلحق به ما في معناه، مما لا يُحتاج فيه إلى استنباط معنىً جامع، وقد يَبْعُد الشيءُ بعضَ البعد عن المنصوص عليه، فيتردد المذهب فيه أولاً (¬1). وبول الكلب، ورجيعه (¬2)، ودمه، وعرقه في معنى لعابه قطعاً؛ فإن اللعاب رشحٌ مما هو في حكم الطاهر فيما يتعلق بالطهارة والنجاسة، فلا فرق بينه وبين العرق، فإذا لاح هذا في العرق، فالبول والرجيع بهذا أولى. ثم مذهب الشافعي أن الكلب إذا كرع (¬3) في ماء قليل، فهو كما لو ولغ فيه؛ فإنه إذا تقرر أنَّ داخل الفم كالظاهر، فالظواهر بجملتها على قضية واحدة. 329 - واختلف قول الشافعي في الخنزير، فقطع بنجاسته، وردّد القولَ في إلحاقه بالكلب، حتى تزال نجاسته، بما تزال به نجاسة الكلب. فالأصح عند العراقيين أنه كالكلب؛ فإنه منصوصٌ عليه في كتاب الله عز وجل تحريماً، وذلك مجمع عليه فيه، وليس منتفعاً به بوجهٍ، بخلاف الكلب، فإذا ثبت في الكلب التعبّد برعاية العدد والتعفير، فالخنزير أولى. والقول الثاني - أن المنصوص عليه لا يتعدَّى، وقد ينقدح للناظر أن للشارع غرضاً في تخصيص الكلب بما ذكر من التغليظ، زجراً عن مخالطته؛ فإن زواجر الشرع تختصّ بما تألفه النفوس؛ ولذلك اختص الحد بشرب الخمر، دون غيره من المحرّمات. فهذا بيان القاعدة. ¬

_ = ماجة، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، عن أبي هريرة، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وبلغت طرقه عن أبي هريرة عشراً، كلها صحيحة، والاختلاف في "إحداهن بالتراب" (ر. إرواء الغليل: 1/ 60 ح 24، التلخيص: 1/ 23 ح 9). (¬1) أولاً: أي ثم يستقر بعد النظر. والمثبت عبارة (م) ففي الأصل " .. فيه ولا بول .. " و (ل): "أو لا بول". (¬2) الرجيع: الروث. (¬3) كرع يكرَع بالفتح: تناول بفيه، أما الولوغ، فيكون باللسان.

330 - ثم نبتدىء -بعد هذا- القولَ في التعفير. أما الغسل سبعاً، فمحتوم، وغير التراب هل يقوم مقام التراب مما يستعان به في إزالة النجاسات، كالأُشنان والصابون وغيرهما؟ محصول ما جمعه الأصحاب من النصوص، والتردد في تنزيلها أقوال: أحدها - أن غير التراب لا يقوم مقام التراب أصلاً؛ فإنه المنصوص عليه، فلا معدل عنه، كما لا يعدل عن التراب في التيمم. والثاني - أن غيره مما يُستعان به يقوم مقامه في الوجود والعدم؛ فإن الغرض بذكره إيجابُ استعمال مُعينٍ (¬1) على القلع. والثالث - أن غيره لا يقوم مقامه مع وجوده؛ فإن عدم التراب ولم يوجد، قام في عدمه غيرُه مقامه. ثم ذكر الأئمة في الطرق كلِّها وجهين في أن غسلة ثامنة هل تقوم مقام التعفير بالتراب أم لا؟ وهذا في نهاية الضعف؛ فإن الغسلة الثامنة لو كانت كافيةً، لما كان لذكر التراب معنى أصلاً، ولقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فليغسله ثامنةً. فإن تخيّل متخيّل إقامة الأُشنان مقام التراب، فلا وجه لتخيّل ذلك في الغسلة الثامنة. وممّا يجب الاعتناء به أن الوجه البالغ في الضعف إذا كان مشهوراً، فيتعيّن ذكر متعلق له على حسب الإمكان. فأقول: أما إقامة الغسلة الثامنة مقام التراب، مع وجود التراب، فلا ينقدح له وجهٌ أصلاً، أما إذا عدم التراب، ففي إقامة الغسلة الثامنة مقامه احتمالٌ على بُعدٍ، فيتعين تخصيص الوجهين في الغسلة الثامنة بحالة عدم التراب. وأما إقامة الأُشنان مقام التراب مع وجوده، فليس ببعيد: من حيث إنه معينٌ للماء كالتراب. 331 - وذكر بعض المصنّفين خلافاً في أن استعمال التراب النجس هل يُسقط واجبَ ¬

_ (¬1) ضبطت في الأصل: بفتح الياء المشددة، وهو عكس السياق تماماً.

التعفير؟ وهذا إن صح النقل فيه يلتفت إلى ما مضى، وهو أن غير التراب هل يقوم مقامه؟ فإن قلنا: لا يقوم غيره مقامه، فقد غلّبنا فيه معنى التعبد، ونزلنا التراب في ذلك منزلته في التيمم؛ فإن التراب النجس لا يصح التيممُ به، وإن أقمنا غير التراب مقامه، فكأنّا راعينا معنى إعانة الماء على قلع النجاسة، فلا يبعد الاكتفاء بالتراب النجس. ومما ذكره هذا الرجل أن الكلب لو ولغ في حفرة محتفرة في التراب، فهل يجب استعمال التراب في محاولة تطهير الحفرة؟ فعلى وجهين. وهذا قريب المأخذ مما ذكرناه؛ فإن الحَفِيرة قد تنجست تربتها، فإن كنا نجوّز التعفير بالتراب النجس، فلا معنى لاستعمال التراب في التراب، وإن منعنا استعمال التراب النجس، فيجب استعمال التراب الطاهر. ومما يتعلق بذلك أن من غسل الإناء سبعاً، ثم ذرّ عليه تراباً، ثم نفضه، لم يُجْزه؛ وذلك لأنّا إن فهمنا معنى الإعانة، فهو غير موجود هاهنا. وإن تمسكنا بالحديث، فمقتضاه استعمال التراب في غسلةٍ من الغسلات السبع؛ فإنه عليه السلام قال: " إحداهنّ بالتراب "، ثم إذا مزج التراب بالماء في غسلة، فينبغي أن يتكدّر الماء بها ويتغيّر، وإلاّ لم يكن ما يأتي به تعفيراً. ولو استعمل التراب في غسلة ثامنةٍ، فقد عفر وِفاقاً. ولو مزج التراب بخلٍّ أو مائع سواه، واستعمله في الإناء، ففي المسألة وجهان - وهذا أيضاًً يلتفت على ما ذكرناه من تغليب التعبّد، أو النظر إلى قلع النجاسة. هذه القواعدُ في إزالة نجاسة الكلب. فرع: 332 - إذا ولغ الكلب في إناء فيه ماء قليل، ثم صبّ عليه الماء وكوثر، حتى بلغ قلتين، فيطهر الماء، لبلوغه حدّ الكثرة، وهل يطهر الإناء؟ فيه ثلاثة أوجه مشهورة، ووجه رابع زاده الشيخ في الشرح. أحد الوجوه - أن الإناء يطهر؛ لأنه صار إلى حالة أخرى لو كان عليها أولاً، لما تنجس؛ إذ الكلبُ لو ولغ في ماء بالغٍ قلتين في إناء، لم ينجس الماء والإناءُ.

والثاني - أن الإناء لا يطهر؛ فإنا قد تُعبدنا في إزالة نجاسة الكلب بغسله سبعاً وتعفيره، ولم يتحقّق ذلك، وإذا ورد تعبد غيرُ معقول المعنى، لم يسقط بطريقٍ مأخذُه المعنى. والأول أصح؛ فإنا بنينا الآخر على الأول كما قررناه، والتعبد لم يتضمّن تنجيس الإناء، وفيه قلتان. فليعُد الأمرُ آخراً إلى ما ذكرناه أولاً. والوجه الثالث - أن الإناء إن تنجس تبعاًً للماء بأن كان ولغ في الماء، ولم يلق شيءٌ منه جِرْمَ الإناء، فإذا بلغ الماء قلتين، وطهر بالكثرة، طهر الإناء تبعاًً لطهارة الماء، كما ينجس ابتداء تبعاً، وإن كان لاقى شيءٌ من الكلب جِرمَ الإناء، فقد تنجس، وهو أصلٌ في النجاسة، فلا يتبع طهارة الماء في الطهارة. وهذا ضعيفٌ لا أصل له. والوجه الرابع - الذي ذكره الشيخ: أنه إن مكث الماء الكثيرُ في الإناء لحظاتٍ يتأتى في مثلها تكريرُ الغسلات السبع، حُكم بطهارة الإناء، وإن لم يمض زمانٌ يتأتى فيه ما ذكرناه، لم نحكم بطهارة الإناء. وهذه الأوجه تجري إذا غُمس الإناء النجس بنجاسة الكلب، أو الثوب النجس في ماءٍ كثير. فالأصح الوجه الأول، ويليه الثاني. والثالث، والرابع لا أصل لهما. 333 - وللفرع غائلة أوْضَحها الشيخُ في الشرح، وهي تحتاج إلى مقدمةٍ. فالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة جامدة، فهل يجب التباعد عن مورد النجاسة بقدر قلّتين؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما في الباب الذي يلي هذا، فإن حكمنا بوجوب التباعد، فلو كان في إناء من جلدٍ نجس قلتان، والتفريع على وجوب التباعد، فالماء كله نجس. وسنوضح ذلك في موضعه إن شاء الله عزّ وجل. فإذا ظهر ذلك، عدنا إلى غرضنا: فإذا بلغ الماء بعد ما ولغ الكلب فيه قلّتين، فإن حكمنا بأن الإناء طاهرٌ، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الإناء نجس، فنجاسة الإناء على هذا كنجاسةٍ حكميّة، أو كنجاسةٍ عينية؟ فعلى وجهين. وهذا تردُّدٌ لطيف. فإن حكمنا بأن نجاسة الإناء كنجاسةٍ عينية، والماء قلتان بلا مزيد، وأوجبنا

التباعد، فيخرج من ذلك أن الماء نجس أيضاًً، كما لو كان الإناءُ من جلدٍ نجسٍ. وإن قلنا: نجاسة الإناء حكميّة، فلا نحكم بنجاسة الماء، ولا نوجب التباعد، وينزل ذلك منزلة ما لو وقع في الماء نقطة بولٍ. وإن نزح من الماء ما نقَصَه عن حدّ الكثرة، فإن جعلنا نجاسة الإناء عينية، فنحكم بنجاسة الماء الآن، سواء أوجبنا التباعد. أو لم نوجبه؛ فإن الماء ناقصٌ الآن، وهو ملاقٍ نجاسةً عينية. وإن حكمنا بأن نجاسة الإناء حكميّة، فبنُقصان الماء لا يصير الباقي نجساً، وقد تناهى الشيخ وألطف (¬1) في ذلك، رضي الله عنه. فرع: 334 - إذا كنا نغسل إناءً، أو ثوباً من نجاسة الكلب، فتقاطرت قطرة من غسلةٍ من الغسلات إلى ثوب، والغُسالة غير متغيرة، فهذا ينبني على القواعد الممهّدة في غُسالة النجاسة، وقد ذكر الأئمة عباراتٍ قريبة تحوي الأصول المقدمة، ونزيد وجوهاً يقتضيها حكم الولوغ. فمن أصحابنا من قال: حكم الغُسالة في كل غسلةٍ كحكم الإناء قبيل تلك الغسلة. ومنهم من قال: حكمها حكم الإناء بعد انفصال تلك الغسالة، ومنهم من قال: هي طاهرة إذا لم تكن متغيرة، ومنهم من قال: لكل غسلة سُبْع حكم الإناء. فالآن نخرّج على هذه العبارات أحكامَ الغسلات. فلو تقاطرت من الغسلة الأولى، فإن قلنا: حكمها حكم الإناء قبيلها، فيغسل ما تقاطر إليه سبعاً إحداهن بالتراب، كالإناء قبل اتصال هذه الغسالة بها. وإن قلنا: حكمها حكم الإناء بعد انفصال الغسالة، فالثوب الذي تقاطر إليه يُغسل ستًّا، وينظر: فإن كان استعمل التراب في الغسلة الأولى، فلا يجب استعماله في الثوب؛ نظراً إلى الإناء بعد الغسلة الأولى، وإن لم يستعمل، فيجب استعمالُه في الثوب نظراً إلى الإناء. وإن حكمنا بطهارة الغسالة، فلا إشكال، وإن حكمنا بأن لها سُبعْ الحكم فيغسل الثوب مرةً واحدةً. ¬

_ (¬1) ألطف: أتحف، ومن مأثور كلام العرب: كم أتحف فلانٌ وألطف. (المعجم).

وإن تقطر من الغسلة الثالثة، ففي وجهٍ يغسل الثوب خمساً، وفي وجه أربعاً، وفي وجهٍ مرةً واحدةً، وفي وجهٍ لا يغسل أصلاً. وإن تقاطر من الغسلة الأخيرة، فإن قلتَ: الغسالة كالإناء بعدَها، فلا ينجس الثوب. وإن قلت: كالإناء قبيلها فمرة، وينطبق عليه وجه السُّبع، فيعود إلى وجهين. ولم أر لأحدٍ من الأصحاب يقول: كل غُسالة كولغة كلب، فلا قائل بذلك، وإن كان محتملاً على بُعدٍ. فرع: 335 - إذا ولغ في ماء قليل كلبان، أو أكثر، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنها ككلبٍ واحدٍ. والثاني - أنه يثبت بسبب ولوغ كل كلب سبعُ غسلات وتعفير. فرع: 336 - حُكي في رواية حرملة عن الشافعي أنه [قال] (¬1) إذا ولغ الكلب في ماء قليل، ووردت عليه نجاسة أخرى، فلا يجب غسل الإناء أكثر من سبع مرّات مع التعفير، وهذا ظاهر مقطوع به (¬2) في الطرق. فصل 337 - النجس من الحيوان: الكلب والخنزير، والمتولّد منهما، أو من أحدهما، وحيوانٍ آخر طاهر، وما عداهما من الحيوانات كلها طاهرة العيون، واللعاب، والسؤور، والعرق، فلا فرق بين المأكول منها وبين المحرّم. ومعتمد المذهب الحديث: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتوضّأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلُّها" (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من (م). (¬2) (م): غير مقطوع به. (¬3) حديث: "أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ " رواه الشافعي في الأم بهذا اللفظ نفسه، عن جابر، وفي مسنده أيضاً، ورواه عبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في السنن. (ر. الأم: 1/ 5، ومسند الشافعي: 8، ومصنف عبد الرزاق: 1/ 77 ح 252، والسنن الكبرى: 1/ 249، 250، والتلخيص: 1/ 29 ح 15).

وتخبّط أبو حنيفة في الأسآر (¬1). فرع: 338 - سؤر الهّرة طاهر، فلو أكلت فأرة، أو تعاطت نجاسةً، فإن لم تغب عن أعيننا، وولغت في ماءٍ قليلٍ، تنجّس، [للقطع باتصال النجاسة به] (¬2) وإن غابت، وجوّزنا أنها ولغت في ماء كثير، أو ماء جارٍ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه ينجس؛ لأنّا استيقنّا النجاسة، ولم نستيقن زوالها. والوجه الثاني - أنه لا ينجس؛ لجواز طهارة فمِها، والأصل طهارة ما ولغت فيه، ويتأكد ذلك بتعذّر الاحتراز، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (¬3). فصل 339 - مضمون الفصل بيان نجاسة الميتات، وما ينجس منها وما [لا] (¬4)، ينجس منها: فأمّا السمك والجراد فميتتهما طاهر حلال، وإذا ماتت سمكة أو جرادة في ماء قليل، فهو طاهر. وأما ما سواهما، فالمذهب أن الآدمي لا ينجس بالموت، ولا ينجس الماء الذي يموت فيه، إذا كان طاهر البدن. وما سواه ينقسم: إلى ما له نفس سائلة، وإلى ما ليس له نفس سائلة [فأما ما له ¬

_ (¬1) ر. مختصر الطحاوي: 16، الهداية مع فتح القدير: 1/ 94 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين: 1/ 148. (¬2) زيادة من (ل). (¬3) هذا جزء من حديث في قصة رواها مالك، والشافعي، وأحمد، والأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، من حديث أبي قتادة. (ر. الموطأ: 1/ 22، ترتيب مسند الشافعي: 1/ 22، أحمد: 5/ 296، 303، 309، وأبو داود: الطهارة، باب سؤر الهرة، ح 75، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة، ح 92، النسائي: الطهارة، باب سؤر الهرة، ح 340، وابن ماجه: الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، ح 367، التلخيص: 1/ 41 ح 36). (¬4) ساقطة من الأصل، والمثبت تقدير منا رعاية للسياق، وصدقتنا (م)، (ل).

نفس سائلة] (¬1)، فإذا مات في ماء قليل، تنجس الماء القليل. وإن لم تكن له نفسٌ سائلة -يعني الدم؛ إذ لا يخلو حيوانٌ عن بلةٍ ورطوبةٍ، ولسنا [نعنيها] (¬2) - فإذا مات شيء منها: كالذباب، والبعوض، والخنافس، والعقارب، وغيرها، في ماء قليل، ففي نجاسة الماء قولان للشافعي: أحدهما - وهو الجديد، ومذهب أيي حنيفة (¬3) أن الماء لا ينجس [بها. والثاني - أنه ينجس] (¬4) قياساً على ما له دمٌ سائل. وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرجاً من [قولٍ] (¬5) منصوص: أنه يفرق بين ما يكثر ويعم، وبين ما لا يكثر، فالذي يعم: كالذباب، والبعوض، وما في معناهما، والذي لا يعم: كالخنافس، والعقارب، والجُعلان. ووُجِّهَ هذا القول بأن المعتمد في توجيه قول الحكم بالطهارة تعذّر الاحتراز، وهذا إنما يتحقق فيما يكثر، فاقتضى ذلك تفصيلاً، [ولا فقهَ] (¬6) في النظر إلى عدم الدم. التفريع على القولين: 340 - إن حكمنا بنجاسة الماء، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الماء لا ينجس، فقد قطع العراقيون بأن ذلك الحيوان ينجس بالموت، ولكن لا ينجس الماء، لتعذّر التَّصوّن، والاحتراز. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والمثبت تقدير منا رعاية للسياق، والحمد لله، فهكذا جاءت (م)، (ل). (¬2) في الأصل: "نُعيّنها" بهذا الضبط، ولعّل الصواب: نعنيها كما أثبتناها. ثم وجدناها في (م)، (ل) كما قدرناها، والحمد لله على توفيقه وإلهامه. (¬3) ر. مختصر الطحاوي: 16، المبسوط: 1/ 51، الهداية مع فتح القدير: 1/ 72، حاشية ابن عابدين: 1/ 123. (¬4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، وهي ساقطة من الأصل بداهة، وقد وجدناها في (م)، (ل). (¬5) زيادة من (م)، وفي (ل): مخرجاً غير منصوص. (¬6) في الأصل: والأفقه عدم الدم. وهو تحريف ظاهر، عكس ما يقتضيه السياق، وقد صدقتنا (م)، (ل).

وقال القفّال: لا ينجس هذا الصنف بالموت على هذا القول، ومأخذ القولين في نجاسة الماء من القولين في نجاسة الميتة. وهذا التردّد عندي يُتلقى من أن المعتمد على قول طهارة الماء ماذا؟ وفيه مسلكان: أحدهما أن المعتمد تعذُّر الاحتراز [فعلى هذا] (¬1) يتجه [ما قال] (1) صاحب التقريب من الفرق بين ما يعم وبين ما لا يعم. والثاني - أن الذي ليست له نفسٌ سائلة إذا مات، فكأنه حجر أو جماد؛ فإن البلى والعفن والإنتان يقع من انحصار الدم في تجاويف العروق واستحالتها، ثم يتمادى إلى الجثة، وهذا يقتضي الحكمَ بطهارتها في أنفسها، وسبب كون الموت علّة في جلب النجاسة أنه يقرّب الجثة من التغيّر، والحيوانات التي نتكلم فيها لا تستحيل بالموت، وهي حيّةٌ وميتةٌ على صفة واحدة. ثم إن حكمنا بأنها لا تنجس بالموت، فلا فرق بين أن تكثر في الماء أو تقل، فالماء طاهرٌ. وإن حكمنا بأنها تنجس بالموت ولكن الماء لا ينجس لتعذر الاحتراز، فلو كثر حتى تغيّر الماء به، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن الماء لا ينجس وإن تغيّر؛ فإن التغيّر غيرُ مرعي في الماء القليل، فلو كان ينجس إذا تغيّر، تنجَّس وإن لم يتغيّر. والثاني - أنه ينجس؛ لأن الاحتراز إنما يتعذّر عما يقلّ من هذا الجنس؛ فإنه قد يلج شيء من طرف الأغطية، فأما الكثير، فمما يُتصوّن منه في العادة، والفرق بين القليل والكثير في الجنس الواحد، نظراً إلى إمكان الاحتراز وتعذره، يوجب الفرق بين الذباب والعقارب، كما قال صاحب التقريب. 341 - فإن قيل: إذا حكمتم بأن هذه الميتات ليست بنجسة، وذكرتم أن كثيرها ¬

_ (¬1) امّحى تماماً من الأصل ما بين المعقفين، وقدرناه على هذا النحو في ضوء السياق، وقبلهما بنحو سطر، وبعدهما بثلاثة أسطر، قرأناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف وظلالها. فنرجو أن نكون وفقنا للصواب. الحمد لله على توفيقه، فقد شهد بصحة تقديرنا (م)، (ل).

وإن غيّر [الماء] (¬1)، فالماء طاهر، فهل يجوز التوضؤ به؟ قلنا: أقرب معتبر فيه أن نجعل تغير الماء بها كتغيره بأوراق الأشجار؛ فإنها بمثابتها على هذا المسلك. ثم وإن حكمنا بطهارة هذه الميتات، فهي محرمة؛ فإنها مستقذرةٌ، مندرجة تحت عموم تحريم الميتة، وقد قال عليه السلام: " أُحلت لنا ميتتان " (¬2). وأما الدود الذي نشْؤُه (¬3) في الماء، والطعام، والفواكه، فلا تنجس إذا ماتت؛ فإنّ نَشْأَها فيه، ولو انعصرت فيما يجري من تصرف وعصرٍ، أو اختلطت (¬4) من غير قصدٍ (¬5)، فلا مبالاة به. ولو جمع جامع شيئاً منها، واعتمد أكلَها، ففي جواز ذلك وجهان: أصحهما - التحريم. والثاني - التحليل؛ فإن دود الخلّ بمثابة جزء من الخل، ودود الجبن كجزء من الجبن طبعاً وطعماً، فإن حرّمنا، فيعود فيها التردّد في النجاسة، لو سئلنا عنها، فإن نجّسناها [فلا كلام، وإن لم ننجسها] (¬6)، فإنما لا تنجس لظهور تعذر الاحتراز؛ من حيث إن الرب تعالى يخلقها فيها. فهذا تمام الكشف تصريحاً وتنبيهاً. فرع: 342 - كل حيوان حكمنا بنجاسة ميتته، فجزؤه نجس، وكل حيوان أبحنا ¬

_ (¬1) زيادة من المحقق، رعاية للسياق. (¬2) حديث: "أحلت لنا ميتتان .. " رواه الشافعي، وأحمد، وابن ماجة، والدارقطني، والبيهقي عن ابن عمر، ورواه الدارقطني في العلل عن زيد بن أسلم موقوفاً، قال: وهو أصح. وصححه الألباني، وضعف الشيخ شاكر سنده، ولكنه قال: إنه ثابت صحيح بغيره. (ر. التلخيص: 1/ 25 ح 11، وأحمد: 2/ 97، 8/ 89 طبعة شاكر ح 5723، التعليق المغني على الدارقطني: 4/ 272، وارواء الغليل: 8/ 164 رقم 2526، وصحيح ابن ماجة: 2/ 232 ح 2679). (¬3) مصدر نَشَأ وزان: نفع ينفع. وهو وزن غير مشهور مثل نشوء، ونشأة. (المصباح). (¬4) في هامش (ل): "اختلطت أي لانت واسترخت". (¬5) (ل): عصر. (¬6) زيادة من (ل) فقط.

ميتته، ففي جزئه وجهان، كالسمك والجراد. وإن حكمنا بطهارة الميتة [التي لا نفس لها سائلة] (¬1) ولم ننجِّسها، ففي جزئها وجهان مرتبان على القسم الأول، وهذا أولى بالنجاسة. وفي طهارة بيض الطيور التي ليست مأكولة اللحم خلافٌ، سيأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى. وبيع دود القز [جائز] (¬2) كبيع النحل؛ فإنه حيوانٌ طاهر منتفع به، بخلاف سائِر الحشرات، وفي بيع بزره (¬3) خلاف، وهو بمثابة بيض الطير الذي لا يؤكل، وهو منتفع به. فرع: 343 - المسك طاهر وفاقاً، وهو أحبّ الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الفأرة (¬4) التي تسقطها الظبية في حياتها وجهان: أحدهما - النجاسة؛ فإنه جزءٌ ذو روحٍ انفصل عن الحيوان. والثاني - أنها طاهرة؛ فإنها تنفصل بطباعها، فكانت [كانفصال الجنين] (¬5). فرع: 344 - إذا وقعت فأرةٌ في ماء قليل، وخرجت منه حيّة، فإن انغمست، فمنفذ النجاسة منها يكون نجساً، وقد لاقى الماءَ، ولكن اختلف أئمتنا، فمنهم من حكم بالنجاسة طرداً للقياس، ومنهم من عفا عن ذلك نظراً إلى اتباع الأوَّلين؛ فإنهم مع ظهور بصائرهم، واتقاد قرائحهم، لم يجعلوا لما ذكرنا وقعاً. ولو اقتصر رجل في الاستنجاء على الأحجار، ثم انغمس في ماء قليلٍ، تنجس الماء وفاقاً؛ فإن لهذا الأثر أحكاماً مفصلة عند الفقهاء. ¬

_ (¬1) زيادة من (ل). (¬2) زيادة من (م)، (ل). (¬3) المراد بيضه أو صغاره، وهي بالزاي والذال معاً. (¬4) الفأرة: جراب المسك الذي يحويه قبل انفصاله من الظبية. (القاموس والمعجم). (¬5) ما بين المعقفين غير واضح أصلاً، وهذا تقدير منا على ضوء السياق، وما بقي من خيالات الحروف، وهو في (م)، (ل).

ولو حمل رجل إنساناً، كان اقتصر على استعمال الأحجار، وصلى، ففي صحة صلاة الحامل وجهان: أقيسهما أنه تفسد صلاة الحامل؛ فإنّ جواز الاقتصار رخصة لا تعدو المترخص. والثاني - تصح صلاة الحامل؛ فإن ذلك الأثر الباقي في حكم معدوم، وهذا ينقضه ما ذكرناه من انغماسه في ماءٍ قليل. ***

باب الماء الذي ينجس والذي لا ينجس

باب الماء الذي ينجس والذي لا ينجس 345 - قد ذكرنا أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة نجّسته، تغيّر الماء أو لم يتغيّر، والماء إذا بلغ حدَّ الكثرة لم يتنجس ما لم يتغير. والمعتمد والمرجوع إليه في حد الكثرة عند الشافعي ما روى عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل نجساً " وروى عن ابن جريج في طريقه "إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر، لم يحمل نجساً" (¬1). والناس على ثلاثة مذاهب: أحدها - أن النظر إلى تغيّر الماء قلّ أو كثر، وهذا مذهب مالك (¬2) رضي الله عنه. ولا يشك منصف أن السلف الصالحين لو رأوْا رطلاً، وقد قطرت فيه قطرات من بول أو خمر، كانوا لا يَروْن استعمالَه وإن لم يتغيّر، وحديث القلتين بمفهومه يردّ هذا المذهب. ولم يستقرّ مذهب أبي حنيفة على حدّ. والذي تقرر عليه أنه إذا وقعت نجاسة في ماء، فمن اغتّرف الماء من موضعٍ يستيقين أن النجاسة لم تنتشر إليه، فهو طاهر (¬3)، وهذا عماية لا يُهتدى إليها. والشافعي لما لم يصح عنده مذهب مالك، ورأى مذهب أبي حنيفة خارجاً عما ¬

_ (¬1) رواية الشافعي لحديث: "إِذا بلغ الماء قلتين ... " في الأم: 1/ 4، والحديث سبق تخريجه، فقرة: 300. وأما التقييد بقلال هجر في رواية ابن جريج، فرواه الشافعي في الأم: 1/ 4، وانظر كلام الحافظ عليه بالتفصيل في التلخيص 1/ 20 ح 4. (¬2) ر. عيون المجالس: 1/ 174 مسألة: 42، حاشية العدوي: 1/ 140، جواهر الإِكليل: 1/ 6. (¬3) ر. مختصر الطحاوي: 16، الهداية مع فتح القدير: 1/ 64 وما بعدها، بدائع الصنائع: 1/ 71، حاشية ابن عابدين: 1/ 128.

يحويه الضبط، استمسك بتوقيفٍ وجده مرويّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمْ رأى الشافعيُّ أن القلة هي الجرّة الكبيرة. ثم روى عن ابن جُريج (¬1) أنه قال: " لقد رأيت قلال هجر، فرأيت القُلة تَسَع قربتين، أو قربتين وشيئاًً "، ثم رأى الشافعي أن يحمل الشيء الذي ذكره ابنُ جريج على نصف قربة، وقال: هو الأقصى، لوجهين: أحدهما - أنه لو كان أكثر من نصف قربة، لما كان يتشكك فيه، ويقول: أو قربتين وشيئاً. والثاني - أنه لو كان أكثر من النصف، لكان يقول: ثلاث قرب إلاّ شيء. ثم ظاهر كلام الشافعي أن القربة الحجازيّة تَسَعُ مائة رطلٍ، والرطل نصف مَن، فالمجموع خمسمائة رطل، وبالمن مائتان وخمسون مناً. وذكر بعض أصحابنا أن القربة تَسَع مائة منّ، فالمجموع ألف رطل. وهذا بعيد؛ فإن القربة لا تَسَع مائةَ مَنٍّ. وذكر الزبيريّ، صاحب الكافي طريقةً [ارتضاها القفال (¬2)، فحمل القلّة على ما يُقلّه حمارٌ أو بعير ضعيف، والوِقرُ (¬3) مائِة وستون مَناً، يُحط للظرف (¬4)، والحبال عشرةُ أمناء (¬5)، فتبقى مائةٌ وخمسون مَنّاً، فالقلتان ثلثمائة منٍّ، ولا يمتنع ما ذكره من التأويل في قلال هجر؛ فإن بها رَوايا لنقل الماء، والذي قاله أقرب من الحمل على الجرّات] (¬6)، ولا يتحقق في هذا ضبط على ما نحاول. ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 4. (¬2) ر. المجموع: 1/ 125، الوسيط للغزالي: 1/ 324. (¬3) الوِقر: الحمل مطلقاً، والوسق حمل البعير خاصة، والوسق ستون صاعاً، والصاع خمسة أرطال وثلث فيكون الوقر (الوسق) = 1/ 3 5 × 60= 325 رطلاً. والرطل نصف منٍّ، فيكون الوقر مائة وستين منّاً. (القاموس والمعجم). (¬4) الظرف: المراد به الوعاء الذي ينقل فيه الماء. (¬5) أمناء جمعٍ مَن مثل سبب وأسباب، والتثنية (منوان). وعند تميم منٌّ بالتشديد، والجمع أمنان والتثنية منان. (مصباح). (¬6) ما بين المعقفين امّحى من الأصل، وقَدّرناه مستعينين بما بقي من خيالات الحروف، وبالسياق، وبالشروح والمختصرات، ونسجد شكراً لله، فقد صدّقتنا نسخة (م)، (ل).

346 - ومما ذكره الأصحاب الاختلاف في أن ما ذكره تقريبٌ أو تحديد، وقالوا: الأصح أنه تحديد. قال الشيخ أبو بكر (¬1) في إيضاح التحديد: لو نقص إستارٌ (¬2) واحدٌ، كان الماء في حدّ القلة. وهذا عندي إفراط؛ فإن هذا المقدار لا يبين، ولا يُحَسّ في القلتين، فالوجه في التفريع على التحديد أنه إذا نقص ما يظهر، ولا يحمل على تفاوت في كُرات الوزن، فهو الذي ينقُص الحدَّ. 347 - فأما من قال: إنه تقريبٌ، فقد تخبطت فيه نقلة (¬3) ألفاظ أئمة المذهب: فأما الصيدلاني، فإنه قال: لو نقص شيء قليل، لم يؤثر، على وجه التقريب، ولم يذكر إلا هذا. وقال بعضُ المصنفين في بيان التقريب: لا يضر نقصان الرطل والمَنّ، ولست أرى لهذا أصلاً. وسمعت شيخي يقول: لو نقص رطلان لا يضر، وكان لا يسمح بثلاثة أرطال. وذكر الشيخ أبو علي في الشرح: أنه لو نقص ثلاثة أرطال لا يضر على وجه التقريب، ولا يزيد على ذلك. ورأيت لصاحب التقريب إشارةً في معنى التقريب إلى حطّ نصف قربة من كل قُلةٍ؛ مصيراً منه إلى [إسقاط] (¬4) ما تردّد فيه ابن جريج؛ إذ قال: أو قربتين وشيئاً. ¬

_ (¬1) المقصود أبو بكر الصيدلاني، فقد سبق أن ذكره إِمام الحرمين بهذه الكنية، وكأنه يحكي عنه ما قيل في التحديد وما قيل في التقريب. (¬2) الإِستار: وزن أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال: درهم وثلاثة أسباع درهم (القاموس والمعجم)، ووجدناها في هامش (ل) أيضاً، وزاد عليها قوله: "الإِستار بوزن الدرهم ستة ونصف، اصطلاحاً، لا تحقيقاً". (¬3) في الأصل: تخبطت فيه ألفاظ نقلة أئمة المذهب. (¬4) مزيدة من (ل).

وهذا بعيدٌ جداًً، وليس بياناً للتقريب، وكأنه يردّ القلّتين إلى أربعمائة (¬1) رطل، وأسقط محل التشكك، ثم يقع في الأربعمائة تقدير التقريب. 348 - وبالجملة، فليس [فيما] (¬2) نقلته شفاءٌ، ولست أعدّ كلام صاحب التقريب من المذهب، وإنما هو خطأ ظاهر. والذي أراه في تفسير ما ذكره الأئمة من أن القليل لا يضر نقصانه، أنا لو فرضنا مقداراً من الزعفران في القلتين، وكان يظهر عليه ظُهوراً مقَدَّراً في الفكر، فلو نقص مقدارٌ من الماء، وكان لو ألقي فيه المقدار الذي ذكرناه، لازداد ظهوره ازدياداً محسوساً، فهذا نقصان يَنقُص الحدّ، وإن كان النقصان بحيث لا يظهر بسببه في الحس تفاوت في ظهور ما يقع فيه، فهو القليل الذي لا يؤثر، ولو فرض هذا التقدير في النجاسة وتفاوت ظهورها، لكان سديداً. والتحديد أسلم وأضبط. والسبب فيه أن الماء القليل ينجس، وهذا الحكم [مستندٌ] (¬3) إلى ثبتٍ شرعي، فإن القياس لا يجول في ذلك. فإن قيل: لم تذكروا في تفسير التقريب أمراً معلوماً؟ قلنا: هذا تعسف؛ فإن التقريب لا يقتضي الإعلامَ والتقديرَ، فمن طلب في بيانه تقديراً، فقد ذَهِل عن مأخذ الكلام، وأقرب مسلكٍ فيه ما ذكرناه. فإن قيل: لو نقَصَ على وجه التقريب مقدارٌ تردَّدَ المرءُ في أنه يظهر أثره حسّاً أم لا، في دفع أثر ما يقع فيه. فهذا فيه احتمال عندي؛ فإنه من وجهٍ يلتفت على أن الأصل هو القلّة. وهذا هو الظاهر؛ ولأجله اخترنا التحديد. ومن وجهٍ يلتفت على أنَّ الأصل ألا يحسّ أثره في تفاوت الدّفع. فهذا أقصى الإمكان في ذلك. فإذاً المعتمد على وجه التحديد النقصانُ المحسوسُ، وعلى وجه التقريب، المعتبرُ تفاوتٌ في تأثير الدفع محسوس. ¬

_ (¬1) على تقدير أن القربة تسعُ 100 منّ، أي 200 رطل. (¬2) في الأصل: ما نقلته. (¬3) في الأصل: مستدامٌ، والمثبت تقديرٌ منا. وهي في (م) و (ل): كالأصل.

349 - ثم الماء الكثير إذا تغيّر بالنجاسة، صار نجساً، وقد ذكرنا في الزعفران الواقع في الماء أن الأظهر اعتبار تفاحش التغير، حتى يزول إطلاق اسم الماء، ولا يراعى في التغيّر بالنجاسة ظهور التغيّر، حتى يسقط اسمُ الماء، بل المرعي ألا تكون النجاسة مغمورة بالماء، ومهما ظهر في الماء صفة من صفات النجاسة، فقد تبين أنها ليست مغمورةً. ولو وقعت نجاسةٌ جامدة في الماء، فتروّح الماء بها، ولم تخالط الماء، فالذي يدل عليه كلام الأئمة أن الماء الكثير ينجس بالتروّح بمجاورة ما وقع فيه. وكان شيخي يحكي في المجاورة كلاماً، ويختار أن الماء لا ينجس بهذا؛ فإنه لو كان بالقرب من الماء جيفةٌ، فتروّح الماء بريحها، لم ينجس، فوقوع عين النجاسة في الماء الكثير غير مؤثّر. والظاهر عندي ما نقلتُه من كلام الأصحاب؛ فإن هذا يعدُّ ظهورٌ لأثر النجاسة؛ فتعاف النفس الماء بسببه. فهذا بيان حدّ الكثرة ومعنى التغيّر بالنجاسة، وهما قاعدتان إليهما استناد فصول الباب. فصل 350 - إذا وقع في الماء الكثير نجاسةٌ مائعة، ولم تغيّره، فالماء طهور، ولا أثر لتلك النجاسة أصلاً. وإن كانت النجاسة ماسكةً (¬1) جامدة، فوقعت في ماء كثيرٍ، فالذي نصّ عليه الشافعي في الجديد أنه يجب التباعد عن موضع النجاسة، بقدر قلّتين، ثم يكون الاغتراف وراءهما، والمنصوص عليه في القديم أنه لا يجب ذلك، وهو الأصح. وفيما بلغنا من المسائل ثلاث مسائل في كل واحدة قولان، القديم فيها أصح من الجديد: إحداها - هذه، وستاتي الأخريان - إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) (ل): جامدة مائلة.

351 - توجيه القولين: من قال يجب التباعد، استدلّ بأن أثرَ كثرة الماء دَفْعُ النجاسةِ ومغالبتُها، وإذا وقع الاغتراف من قرب النجاسة، فالماء الذي وراء المغترف لا أثر له في الدفع، وإذا كان بين المغترف وبين النجاسة قلتان، امتنع نفوذ النجاسة إلى موضع الاغتراف. ومن قال بالقول القديم، قال: النجاسة في الماء الكثير الراكد لا أثر لها، ووجودها كعدمها، وهى مدفوعة الحكم، ولو حكمنا بنجاسة قلتين من كل جانب منها، فيكون الاغتراف متصلاً بماء محكوم بنجاسته، والماء يشيع في الماء، فإذا جاز الاغتراف من ماءٍ متصلٍ بماء نجس، فلأن يجوز من ماء قريب من نجاسةٍ جامدةٍ أولى. 352 - ثم مما يتفرّع على القولين: أنا إذا أوجبنا التباعد بقدر قلّتين، فلا بد من رعاية التناسب في الأبعاد في صوب التباعد، فإذا كانت النجاسة على وجه ماء البحر، فتباعد المرء ذراعاً، فلا يحسب الماء إلى منتهى العمق، بل يحسب ذراعاً في ذراع طولاً وعرضاً وعمقاً، فلا يزال يتباعد على هذه النسبة حتى يبلغ ما يخلِّفه قلتين. وإنما راعينا هذا؛ لأن العمقَ الخارج عن هذه النسبة لا يصلح أن يكون حاملاً، ولو كان الماء الكثير منبسطاً وعمقه شبراً (¬1)، فإذا تباعدنا مقدار [أذرع] (¬2)، اعتبرنا مثلها في العرض ولم نصادف عمقاً يناسب [الطول والعرض، فنحسب ما وجدنا] (¬3)، فنقول: خمسة أذرع في مثلها في عمق شبرٍ [لا] (¬4) يكون قلتين، فلا نزال نزيد حتى يبلغ ما نخلِّفه قلتين، وعلى هذا ما يصوَّر من الصور. 353 - ثم إذا كان الماء قلتين بلا مزيد، فوقعت فيه نجاسة قائمة، فالماء محكوم بنجاسته على قول وجوب التباعد، ولا يكون نجساً على القول الآخر. ¬

_ (¬1) كذا. وهي على تقدير وكان عمقه شبراً، فتقع (شبراً) خبر لكان المقدرة وفي (ل): شبرٌ. (¬2) في الأصل: ذراع، والمثبت من (ل). (¬3) ما بين المعقفين غير مقروء في الأصل، وقدرناه على ضوء السياق، وما بقي من ظلال الحروف، وقد وجدناها طبق الأصل في (م) و (ل). (¬4) غير مقروء في الأصل، والمثبت من (م)، (ل) حيث كنا قدرناها (هل).

ولو نُحّيت النجاسة ورميت، والماء غير متغير، فهو طهور على القولين، ويتأتى استعمال جميعه. وإن تركت النجاسة على الماء، واغترف منه، فقد فصله الشيخ أبو علي في الشرح أفضل تفصيل، وأنا أسوق كلامه على وجهه، بلا مزيد (¬1): فإذا كان في بئرٍ قلتان من الماء، وفيه نجاسةٌ قائمة، فألقى النازح دَلوه، واغيّرف، فنُفرّع التفاصيل على قول وجوب التباعد، ثم نفزعها على القول الثاني. فإذا أوجبنا التباعد، وقد ألقى دلوه، لم يَخْل إما أن يُلقي الدَّلو على وجه الماء، ثم يختطفها من غير أن يغمرها الماء، ثم يُخرجها. فإن ألقاها (¬2) على وجه الماء، وكان أسفل الدَّلو ثقيلاً يطلب الرسوبَ، بحيث ينحدر الماء من العَراقي (¬3) إلى الدلو، فلا يخلو إما أن تقع النجاسة في الدَّلو، أوَّلاً، ثم يتبعها دُفَع الماء، أو على العكس من هذا، فإن ابتدرت النجاسة، ثم تبعها الماء، فالماء عادَ طهوراً؛ لما [فَارقته] (¬4) النجاسة، ثم نقص الماء وهو طهور، فإذا اختطف الدَّلوَ، فالماء الذي في البئر طاهر؛ فإن النجاسة زايلته، وهو كاملٌ (¬5)، والماء الذي في الدَّلو نجس؛ لأنه قليل وفيه نجاسة، وظاهر الدَّلو طاهر؛ لأنه لقي ماء البئر وهو محكوم بطهارته، فإن انفصل الدَّلو، ثم قطرت قطرةٌ مما في الدلو إلى البئر، صار الماء الذي في البئر نجساً؛ لأنه ناقصٌ عن القلتين وقعت فيه نجاسة. 354 - وإن سبقت دُفَعٌ من الماء إلى الدَّلو، ثم تبعها النجاسة، واختطف الدَّلوَ، فالماء الذي في الدلو نجس؛ لأنه قليل وفيه نجاسة، والذي في البئر نجس أيضاً؛ لأنه نقص عن حدّ الكثرة بالدُّفع التي سبقت إلى الدَّلو، والنجاسة بعدُ في الماء، ثم ¬

_ (¬1) (ل): فلا مزيد عليه. (¬2) "ألقاها" أي الدلو، فتأنيثها أكثر من تذكيرها (مصباح). (¬3) قدرنا على ما فهمناه من التصوير أن المقصود بالعَراقي حوافي الدلو أو البئر، لمقابلتها بالصورة الأخرى، ولكن لم نر جمع عِراق -بمعنى شاطىء- على عَراقي، والذي وجدناه بهذا الوزن هو جمع عَرْقُوَه كتَرْقُوَة وهي الخشبة التي توضع معترضة على رأس الدلو. (القاموس والمعجم). (¬4) في الأصل: فارقتها، وهي كذلك في (ل). وفي (م) فارقها. (¬5) كامل: أي قلتان.

فارقت، والماءُ القليل إذا فارقته النجاسة، لم يطهر، وظاهر الدلو نجس؛ لنجاسة ماء البئر. فهذا إذا اختطف الدَّلوَ على [الصورة] (¬1) التي ذكرناها من الماء. فأما إذا انغمرت في الماء، وعلاها الماءُ، ثم أخرجها، والتفريع على قول وجوب التباعد، سواء وقعت النجاسة في الدَّلو، أو بقيت في البئر، فالماءان جميعاًً نجسان: أما الذي فيه النجاسة، فقليلٌ فيه عين نجسة، والآخر انفصل عن نجس، فكان الكل نجساً على قول وجوب التباعد. فأما إذا فرّعنا على القول القديم، ولم نوجب التباعدَ، فالماء قبل اغتراف شيءٍ منه طاهر، فإذا اغترف منه، نُظر. فإن كان الاغتراف خطفاً، فالجواب فيه كما مضى في القول الأوّل، ولا يفترقان في ذلك، ولم نعدْه لوضوحه بأدنى تأمل. فأما إذا انغمرت الدَّلو في الماء، ثم انتزحت، والتفريع على القديم، فإن وقعت النجاسة في الدلو، فلا شكّ في نجاسة الماء الذي فيه، وفي الماء الباقي في البئر وجهان. ولو بقيت في البئر، فماء البئر نجس، وفي الذي في الدَّلو وجهان؛ لأن الماء قبل التفريق طاهرٌ، ثم يكون أحد الماءين نجساً وانفصاله عن ناقصٍ عن القلتين. ولكن كان قبل الانفصال طاهراً، وكما (¬2) نقص كان النقصان مقترناً بزوال النجاسة، فأشعر هذا بطهارة ما لا نجاسة فيه، ومن حيث إن المنفصل الذي فيه النجاسة نجس، وكان الكل على حكم واحدٍ، فإذا حكم بنجاسة البعض، أشعر ذلك بنجاسة الباقي. فهذا منتهى البيان في ذلك. فرع: 355 - إذا كان في إناء قلةٌ نجسة نجاسة حكميّة، وفي إناء آخر قلة أخرى نجسة كذلك، ولا تغيّر، فضمت إحداهما إلى الأخرى، فالماء بجملته الآن طاهرٌ؛ لبلوغه حدّ الكثرة من غير تغيّر، فلو فُرِّق بعد ذلك لم يؤثّر؛ فإن النجاسة بالاجتماع اندفعت، وارتفع حكمها. ¬

_ (¬1) في الأصل: الفورة. والمثبت من (م)، (ل). (¬2) كما: بمعنى عندما. وهذا وارد كثيراً في كلام الإِمام، وغيره من الخراسانيين.

فرع: 356 - إذا صب في ماء بالغٍ قلتين رطل بول، ولم يغيره، فالماء طهور، ويجوز استعمال كله، إلا رطلاً، وهو مقدار البول. ثم في ذلك الرطل وجهان: أصحهما - جواز الاستعمال؛ فإن البول صار مستهلكاً ساقط الحكم. والثاني - لا يجوز استعماله؛ فإنه لو استعمل، لكان استعمل البول يقيناً. وليس بشيء؛ فإنه إذا لم يبق إلا مقدار رطل، فنحن على اضطرارٍ نعلم أنّا استعملنا معظم البول فيما استعملنا قبل، وليس في هذا الباقي إلا مقدار يسير من البول، إن كان. ولو كان معه ماء ينقص عن قلتين برطل مثلاً، فكمّله برطلٍ من بول، فالماء نجس؛ فإنه لم يبلغ الماءُ قلتين، وفيه نجاسة، ولو كمله برطلٍ من ما ورد، ثم وقعت فيه نقطة بول، فينجس الكل؛ فإن الماء قليل، وقد وقعت فيه نجاسة. فرع: 357 - إذا وقف ماءٌ بالغٌ حدّ الكثرة على مستوٍ من الأرض، وانبسط عليها على عمق شبر أو فِتْرٍ (¬1) مثلاً، فليس للماء في مثل هذا المقر ترادٌّ وتدافع، ولا يتقوَّى البعض بالبعض، كما يتقوّى إذا كان للماء عمقٌ مناسبٌ للطول والعرض. فذا وقفت (¬2) نجاسة على طرفٍ من مثل الماء الذي وصفناه -والتفريع على القديم، وهو أنه لا يجب التباعد عن موضع النجاسة- فهل يجب التباعد في هذه الصورة؟ فعلى وجهين، ذكرهما المحاملي في (الوجهين والقولين): أحدهما - لا يجبُ؛ طرداً للقياس. والثاني - يجب؛ فإن أجزاء الماء، وإن كانت متواصلة، فهى ضعيفة، فإذا قرب المغترف من محل النجاسة، كان كالاغتراف من ماء قليل. وهذا الذي ذكره يقتضي مساقه أن يقال: لو كان الماء ناقصاً عن القلتين بمقدارٍ يسيرٍ، وهو منبسطٌ، كما سبق، فلو وقع في طرف منه نجاسة، وجب ألا ينجس الطرف الأقصى على الفور؛ لأن النجاسة لا تَنْبثُّ بسرعةٍ مع انبساط الماء، وضعف ترادّه. وهذا لم يصر إليه أحد من الأئمة. ¬

_ (¬1) الفتر: ما بين الإِبهام، وطرف السبابة، بالتفريج المعتاد بينهما. (مصباح). (¬2) في (ل): "وقعت".

فصل 358 - إذا وقعت نجاسة في ماء بئر، والماء قليل، ينجس. ثم ليس من الصواب نزحُ الماء، وإتعابُ النفس فيه، وقد يتنجس جوانب البئر والدَّلو والرِّشا، بل الوجه أن يكاثَر ماءُ البئر، ويبلغ حدَّ الكثرة، وإذا بلغه ولم يكن متغيراً، فهو طهور، وإن كان متغيراً، زِيد في الماء، حتى يزول التغيّر. ولو كان بالغاً قلتين وقد تغيّر، فالوجه الأيسر المكاثرة إلى زوال التغير. فإن طُرح في الماء المسك أو غيره، مما له رائحة غلاّبة، فزال تغيّر الماء ظاهراً، لم يعد طهوراً؛ فإن هذا غمرٌ وليس بزالة. ولو زال التغيّر على مرّ الزمان، أو بهبوب الرياح، والماء كثير، فهو طهور، وإن طرح في الماء تراب، فأزال أثر النجاسة، فللشافعي قولان: أحدهما - أنه لا يعود طهوراً، كالمسك إذا طرح، والثاني - أنه يعود طهوراً؛ فإن التراب ليست له رائحة فائحة تعم، ولكن له أثرٌ في الإزالة حقيقةً. ومن أغمض ما يرفع في الفتاوى، ويبتلى الناس به النجاسة إذا وقعت في ماء بئر، وتهرأت وتفتتت، ولا يُنزح دلوٌ إلا وفيه جزء منه وإن لطف، فيتعذر استعمال الماء، وإن كان كثيراً غير متغير. وكان شيخي يُسال عن ذلك، فلا يجد (¬1) جواباً، ويقول: الخلاص منه بطمّ (¬2) البئر واحتفار أخرى. وقد رأيت لمحمد بن الحسن (¬3) فيه شيئاً ليس بعيداً عن قياسنا. فأقول: إن أمكن نزف جَمّة (¬4) البئر، واقتلاع شيء من الطين الذي فيه مقرٌّ للماء، ¬

_ (¬1) في (ل): يُحِير. والمراد لم يجد مخرجاً ووسيلةً لتطهير البئر، وإلا فقد أجاب بطمّ البئر. (¬2) في هامش الأصل: "طمّ البئر بالتراب ملأها (مجمل اللغة) ". (¬3) محمد بن الحسن الشيباني، صاحب الإِمام الأعظم أبي حنيفة، وناشر علمه، له آراؤه واجتهاداته التي استقل بها. ت 189 هـ (الجواهر المضية: 2/ 42، الأنساب للسمعاني: 7/ 333). (¬4) في هامش الأصل: "النزف نزح الماء من البئر شيئاً بعد شيء (مجمل) " والمراد مجمل =

فهو الوجه، والماء الذي ينبع جديداً طهور. وإن كانت العيون فوّارةً غزيرة، وكان لا يتأتى نزفُها، فالوجه الإمعان في نزف الدّلاء وِلاءً وتباعاً، بحيث لا تسكن الجمّة عن تحرّكها بالدلو الأولى حتى تلحقَها الثانية، ثم هكذا، حتى ينزح مثل جمّة البئر. هذا ما ذكره. والاستظهار عندي في هذا المسلك أن يُنزحَ بهذا الطريق مثلُ ماء البئر مراراً، فيصير النزح المتدارك، مع حركة الماء ودفعه أجزاء النجاسة، كالماء الجاري، فالعيون تفور بمياه جديدة، فتدفع النجاسات وهي تنزح، فتطهر. وهذا مسلك بين في دفع النجاسة. 359 - فإن أراد الإنسان أن يقف منه على حقيقةٍ، اتخذ طاساً مثقوباً وسدّ ثُقبته، وصبّ فيه مقداراً من الماء، ووضعه على ماء في مِركن (¬1) وفتت فيه شيئاً، وفتح الثُّقبة، وهي مثال العين الفوارة، ثم يتخذ آلةً في نزح الماء عن الطاس على مثال الدَّلو، بالإضافة إلى ماء البئر، فلا يزال ينزح، والماء يفور، وهو يقدّر ما يخرجه، وقد تقدر عنده ماء الطست (¬2) أولاً، فهو دائب كذلك، حتى لا يبقى مما فتته شيء، وقد صفا الماء، فيتخذ ذلك دستوره في ماء البئر. ويقيس فوران العيون وجَمّةَ البئر، وما ينزحه، بما ضربته مثلاً. ولا يكاد يخفى على الفطن إتعابُنَا أنفسنا في تقريب مدارك الحق على طالبيه. 360 - ثم يتم مقصود الفصل بشيء مأخذه الفقه، وهو أن الماء الذي فيه الكلام كثير، زائد مثلاً على قلل، وهو غير متغير في جوهره، فكل دَلْو يخرجه ولا نجاسة فيه، فهو طاهر، ولو غلب على ظنّه أنه لا يخلو دَلو عن شيء من النجاسة المتشَتِّتة، ولم يقطَعْ به، فعندي يخرج الماء على القولين المقدمين فيما يغلب على الظن نجاسته، فإذا أكثر النزحَ، زال غلبةُ الظن في النجاسة، فإذا كان لا يرى أثر النجاسة في المنتزح، فهذا ما لم يستيقن نجاستَه، ولم يغلب على الظن أيضاً نجاسته، فيجوز ¬

_ = اللغة لابن فارس، وفي الهامش أيضاً: " وجمة البئر المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. (مجمل) ". (¬1) المركن: وعاءٌ تغسل فيه الثياب. (المصباح والمعجم). (¬2) " الطست " المراد به " المركن " الذي ذكره آنفاً.

استعماله. فهذا منتهى الإمكان في البيان، والله المستعان. وكل ما ذكرناه في الماء الراكد. وقد بانت قواعد المذهب فيه، ونحن نذكر الآن تفصيل الماء الجاري، إذا وقعت فيه نجاسة، إن شاء الله تعالى. فصل 361 - حقيقة هذا الفصل يستدعي التنبيهَ على أمر يتعلّق بطباع الماء الراكد والجاري: فالماء الراكد المجتمع في مقرٍّ أجزاؤه مترادة متعاضدة، وإذا نال طرفاً من الماء ما يغير ذلك الطرف، انبثَّ في الماء، فإن كان بحيث لا يقوى على تغيير جميع الماء، صار مستهلكاً في الماء، كما لم ترد عليه النجاسة، كأنه يدرأ النجاسة عن موردها، وموردُ النجاسة يُشيع النجاسة بسبب ركود النجاسة في (¬1) الماء. والماء الجاري لا ترادّ فيه، والجريان يمنع شيوعَ النجاسة وانبثاثَها؛ فإن جريان مورد النجاسة يمنع من الانبثاث، والجِرية التي تداني مورد النجاسة لا تدفع النجاسة عن موردها بجريانها؛ فلا النجاسة تشيع، ولا غير مورد النجاسة يؤثر في درء النجاسة عن موردها. فلما اختلف الأمر في وضع الماءين، فقد تختلف التفاصيل في أمر النجاسة. 362 - فنبتدىء الآن القولَ في الماء الجاري. ونقول: الماء الجاري ينقسم أولاً: إلى ما قد تغيره النجاسة المعتادة، وإلى ماء الأودية العظيمة التي لا تؤثر النجاسات المعتادة فيها: فأما الأنهار التي تغيّرها النجاسات في العادات إذا كثرت، فإذا وقعت فيها نجاسة، لم تخل: إما أن تكون قائمة، وإما أن تكون مائعة، فإن كانت قائمة، لم تخلُ: إما أن كانت تجري جَرْيَ الماء، وإما أن تقف والماء يجري عليها. فإن كانت جاريةً مع جريان الماء، ولم يكن جريانها أثقل، فأول القول يأتي مع ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، (م) وفي (ل): " ركود الماء في الماء " ولعل الصواب: "بسبب ركود الماء" وما عداه مقحم في النسخ الثلاث.

ضربٍ من الإجمال، ثم يتفصل شيئاً شيئاً، حتى يبين الغرض. قال الأئمة: ما فوق النجاسة، وهو ما لم يتصل بالنجاسة طهور وِفاقاً، وأما ما هو أمام النجاسة من ماء النهر -وهو ما لم تصل إليه النجاسة- طاهر (¬1)؛ فإنه لم يصل إلى النجاسة، كما لم تصل النجاسة إليه. ثم قالوا: محل النجاسة من الماء نجس، وكذلك ما يقرب منه، مما ينسب إلى النجاسة. هكذا ذكره الصيدلاني، وهو فحوى كلام شيخي. وما عن يمين النجاسة وشمالها، إلى حافتي النهر، مما تردّد فيه أئمة المذهب، فذهب ذاهبون إلى أن في رعاية التباعد في جهة الاغتراف من اليمين والشمال بقدر قلتين - قولين، كالقولين في الماء الراكد. وذكر الأكثرون: أنه إذا حصل التباعد عن مورد النجاسة، وما ينسب (¬2) إليها، جاز الاغتراف قولاً واحداً، ولا يعتبر التباعد بقدر القلتين؛ والسبب فيه أن جريان الماء يمنع من انبثاث النجاسة وتفشيها، فلا حاجة إلى الاستظهار بالتباعد، فإن لم نعتبر القلتين في التباعد، فلا كلام، وإن اعتبرنا القلتين، فقد سبق قياسه وطريقه، فإن لم يكن بين مورد النجاسة وبين شطّ النهر قلّتان، فالماء المقابل للنجاسة إلى ضفة (¬3) النهر نجس كله. 363 - والذي ذكرناه لا يبين إلا بتقريبٍ وضبطٍ فيما ذكره الأئمة من مورد النجاسة. فنقول: إذا لم نوجب التباعد عن مورد النجاسة في الماء الراكد بقدر قلتين، فلو اغترف الماء بقرب النجاسة، والنجاسةُ قائمة، جاز، والمغترَف منه ماء كثير؛ والسبب فيه أن ترادّ الماء يوجب تساوي أجزاء الماء في النجاسة، فالقريب والبعيد على وَتِيرَةٍ. وأما إذا كانت النجاسة على الماء الجاري، فإن الماء يحرك النجاسة، ¬

_ (¬1) هكذا، جواب (أما) بدون فاء، كدأب الإِمام غالباً. وهي لغة كوفية صحيحة. (¬2) في هامش الأصل: قوله: وما ينسب إِليها يريد به الحريم. (¬3) في هامش الأصل: ضفة النهر والبئر جانبه.

والنجاسة تصادمه، فيوجب ذلك تعدّي النجاسة (¬1) في الماء عن محلٍّ واحد؛ فمن هذه الجهة قال الأئمة: لا نغترف مما ينسب إلى النجاسة (¬2). فإذاً جريان الماء يوجب إشاعة النجاسة إلى ما حوالي النجاسة، ويمنع من الإشاعة إلى غير ذلك، والركود يوجب تساوي أجزاء الماء. فليفهم الفطن ما نقول. فإن قيل: فاذكروا عبارة مقربة فيما قيل في محل النجاسة على الماء الجاري. قلنا: ما يحرك النجاسة من الماء، وينعطف عليها من اليمين واليسار، فهو المعني بالذي ذكره الأئمة، فقدْرُ حجم النجاسة من الماء لا شك فيه، ويصدم النجاسة من يمينها ويسارها الماء، ثم يلتف الماء التفافاً، وكل ما يقرب من النجاسة، وما يلاقي النجاسة، أو يلتف عليها، فهو مضاف إلى النجاسة، وهو الذي قيل فيه: إنه لا يغترف منه. وما يبعد قليلاً لا يلقَى النجاسةَ، ولا يلتفُّ عليها، ولا يؤثر في إجرائها، إلا أن يزورَّ المجرى، ويختلف شكلُه، وذلك لا معتبر به. ويمكن أن يقال: إن محل النجاسة ما يغيَّر شكله بجرم النجاسة، ثم يدخل تحت ما ينسب إلى النجاسة مقدارٌ ممّا فوق النجاسة، ومقدارٌ مما تحته، على التقريب الذي ذكرناه. فهذا أقصى الإمكان في ذلك. 364 - ثم نذكر بعد ذلك وجهين بعيدين في شيئين، أحدهما -ما ذكره صاحب التقريب في الماء المنحدر عن النجاسة أمامها. قال: من أصحابنا من أجرى في التباعد عن النجاسة بقدر قلتين فيما انحدر- التردّدَ المذكور في يمين النجاسة ويسارها، وقطع بطهارة ما فوق محلها المنسوب إليها، وفرق بأن صوب النجاسة إلى أمامها وقدامها، ولا اتصال لها بما وراءها، وهذا ليس بشيءٍ؛ فإن انحدار الماء الذي فوق النجاسة إلى النجاسة كانحدار النجاسة إلى أمامها، فلا فرق. ¬

_ (¬1) عبارة (ل): تعدي التقاء النجاسة والماء. (¬2) في هامش الأصل: " حاشية: هذا نقلٌ صريح عن الأصحاب في إِيجابهم اجتناب الحريم في الماء الجاري ".

والوجه الثاني - ذكره شيخي، كان يحكي: إن من أصحابنا من لم يرع للنجاسة على الماء الجاري حريماً، وجوَّز الاغتراف من قربها، كما يُجوِّز ذلك في الماء الراكد، وجعل جريان الماء في دَفْع (¬1) حكم النجاسة القائمة، ككثرة الماء الراكد، وهذا غريب ضعيف لا نعدّه من المذهب. وهذا كله في النجاسة القائمة إذا كانت تجري جَرْيَ الماء. 365 - وأمّا إذا كانت النجاسة واقفة، والماء يجري عليها، فالقول فيما وراء النجاسة وفوقها كما مضى، والقول فيما عن يمين النجاسة ويسارها، كما ذكرناه. وإنما يختلف التفريع فيما ينحدر عن النجاسة، فقال العلماء: قدر القلتين مما ينحدر نجس، وأما ما وراء القلتين مما ينحدر، ففيه اختلاف مشهور: ذهب صاحب التلخيص إلى أنه طاهر؛ فإن النجاسة يتلاشى أثرها، ويزول في مقدار القلتين، فما وراء ذلك طاهر. وقال ابن سريج: كل ما ينحدر عن النجاسة نجسّ، وإن امتدّ الجدول فراسخ، إلا أن يُجمع في حوض مقدارُ قلتين، ويثبت له حكم الركود، فيطهر، ثم ما يخرج من الحوض طاهر، ووجه ذلك ظاهر. وهو الذي أفتى به المفتون. والذي يجب الاعتناء به أنّا ذكرنا أن ما عن اليمين واليسار إذا كان بعيداً لا يصدم النجاسة، فهو طاهر. والظاهر أنه لا يجب اعتبار القلّتين فيما عن اليمين واليسار، فإذا انحدر الماء، فكيف يحكم ابن سريج بنجاسة جميع الماء المنحدر؟ قلنا: إذا امتدّ الماء، كثر اضطراب الماء، والتقت الحواشي على الأوساط، وانعكست الأوساط على الشطين، فيصير الكل كالشيء الواحد. ولا يبين هذا ما لم يكقل الفصل. وإذا انتهيت إلى ما أراه تتمةً لهذا الفصل، نبهت عليه، إن شاء الله عز وجل. وهذا قانون المذهب في أصله. قال صاحب التقريب في النجاسة الواقفة: من أئمتنا من قال: يُراعى فيما فوق ¬

_ (¬1) ضبطت في الأصل: دُفَع (جمع دفعة)، وفي (ل): في التأثير في دفع الماء.

النجاسة من التباعد بقدر قلتين، ما يُراعى في اليمين واليسار، إذا كانت النجاسة واقفةً. وهذا فيه احتمال، وهو أقرب مما ذكره في الفصل الأول من اعتبار القلتين فيما ينحدر والنجاسة جارية جَرْي الماء. وهذا كله في النجاسة القائمة. 366 - فأما إذا وقعت نجاسة مائعة في الماء الجاري، فإن لم تغيّر الماء، وامّحقت في الماء، فلا حكم لها، والماء طاهر كله؛ فإن جميع الماء في النهر يزيد على قلل، وقد درست آثار النجاسة. وما زال الماضون يستنجون من شطوط الأنهار، ولا يرون ذلك منجساً للماء. وكل ما ذكرناه في الأنهار التي لا يبعد تغيّرها بالنجاسات المعتادة، فأما الأنهار العظيمة التي لا يتوقع تغيُّرها بالنجاسات، إذا وقعت فيها نجاسة، والنجاسة جارية، فالذي ذكره معظم الأصحاب القطعُ بألا تباعد بقدر قلتين. وإنما يجتنب محل النجاسة. كما مضى مفصّلاً. ويستوي في ذلك الوراء والأمام، واليمين واليسار. وذكر صاحب التقريب هذا ووجهاً آخر: أنه يجري في اليمين واليسار والأمام من الخلاف في التباعد بقدر القلتين ما ذكرناه. 367 - فأما إِذا كانت النجاسة واقفةً راسيةً في أسفل الوادي العظيم، فلا خلاف أنا لا نحكم بنجاسة ما ينحدر، وهذا محالٌ تخيله، وليكن ما ينحدر عن النجاسة كما عن اليمين واليسار في أمر التباعد. قلتُ: لو وقعت بعرة صغيرة في وادٍ من أوديتنا، وكان لا يتوقّع تغير ذلك الوادي بمثل تلك النجاسة، وإِن كان يتغير بأكثر منها، فإذا تناهى صغر النجاسة، فهي بالإضافة إلى هذا الوادي كالجيفة الواقعة في أسفل الوادي العظيم، فيجب القطع بطهارة ما ينحدر في هذه الصورة. 368 - والذي كنت وعدتُ التنبيه عليه فيما تقدّم، فهذا أوانه. ثم أقول: المبلغُ التوقيفي في حد الكثرة قلتان، فالذي أراه أن النجاسة الواقفة في

النهر، إِذا كانت بحيث يتأتىّ التباعد عن يمينها بقدر قلتين، وكذلك عن يسارها، فلا ينبغي أن يشك في طهارة ما ينحدر، ويلتف البعض على البعض، ولا يتغيّر. فإن قيل: ألستم ذكرتم أن الأصح أنه لا يجب التباعد، وقد قلتم: إن النجاسة المائعة إذا وقعت في الماء الجاري ولم تغيّره، والتف الماء، فالكل طاهر، فهلا قلتم: ما ينحدر في حكم نجاسةٍ مائعة تصير مستهلكةً؟ قلنا: لو صب في ماء متغير بطول المكث مقدارٌ كثير من البول، فلم يتغير به، فالحدّ المعتبر عندنا أن يقال: يقدّر للبول صفةٌ تخالف صفةَ الماء، ويُنظر هل يتغير؟ [فإن كان يتغير] (¬1)، فينجُس الماء. وقد ذكرنا نظير ذلك في الطاهر من المائعات إذا اختلط بالماء، واستقصينا القول فيه؛ فالذي تقدم من النجاسة المائعة يُعتبر فيه ما ذكرناه. فإن كانت مخالفة لصورة الماء، اعتبر التغير، وإن كانت موافقة لصفة الماء، قدّرت مخالفةً، وبني الأمر على ما مضى. فالمقدار الذي هو محل النجاسة على ما فصّلناه، يعتبر في كونه مخالفاً للماء وينظر [أيتغير أم لا] (¬2). فهذا منتهى القول في ذلك. وكان شيخي يقول: إذا كانت النجاسة طافية على الماء الجاري، فأَخْذُ الماء في جهة العمق موازياً للنجاسة يخرّج (¬3) على أَخْذ الماء عن اليمين واليسار في حكم التباعد. ولو كانت النجاسة في أسفل النهر، فأخذ الماء من وجه النهر موازياً للنجاسة، مُخرّجٌ على ما ذكرنا. فهذا منتهى القول. ومن لم يتفطن للغرض بهذه التنبيهات لا يزيده الإكثار إلا دهشةً وعماية. فرع: 369: إذا كان الماء يجري منحدراً في صبب (¬4)، فهو الجاري حقّاً، وكذلك إذا كان يجري في مستوٍ من الأرض، وإن كان ما هو أمام الماء فيه ارتفاع، ¬

_ (¬1) زيادة من (م)، (ل). (¬2) ما بين المعقفين تقديرٌ منا لما امّحى من كلمات الأصل، وهكذا وجدناها في (م)، (ل). (¬3) عبارة (م)، (ل): .. موازياً للنجاسة، كأخذ الماء عن اليمين أو اليسار. (¬4) الصبب من الأرض: المنحدر. (المعجم)

فالماء يترادّ لا محالة، ولكنه قد يجري مع هذا جرياً متباطئاً، فإن ظاهر المذهب أنَّ حكمَه -إذا كان كذلك- حكمُ الماء الراكد، ومن أصحابنا من أجراه مجرى الماء الجاري، وهو ضعيف؛ لا أعده من المذهب. فرع: 370 - إذا جرينا على مذهب ابن سُريج في الحكم بنجاسة [ما ينحدر] (¬1) من النجاسة الواقفة، وإن امتدّ الجدول، فلا يقع الحكم على مذهبه بالنجاسة حالة وقوع النجاسة، ولكن تنجس الجِرْيةُ الأولى التي تلقى النجاسة، فإذا جرت، فينجس ما بين الجرية الأولى إلى موقف النجاسة، وإذا كانت النجاسة تتحرك حركة متباطئة، وكان جري الماء أسرع، فالقول فيما ينحدر كالقول فيه إذا كانت النجاسة واقفةً. ولكن نجاسة الجرية الأولى والنجاسة تتلوها لا (¬2) تبعد بُعدها والنجاسة واقفة لا تتحرك، فليعتبر ذلك بكف تِبْنٍ (¬3) على الجرية الأولى، ويعترض في ذلك أيضاً أن النجاسة إذا تحركت، فالماء الآتي من ورائها يُطَهّر موقفها، ولا يتغيّر. فيقع هذا في تفصيل غسالة لا تتغيّر. ثم يأتي بعده ماءٌ طهور لا يصادف نجاسة، ثم ينظر في الذي قدرناه غسالة مع ما يلت عليه، ويقدّر مخالفاً له في صفته. وقد تمهد جميع ذلك على الاستقصاء فرع: 371 - قد يجتمع في موضعٍ ماءٌ لبعضه حُكمُ الجريان، ولبعضه حكم الركود، كالحوض الذي يدخل إليه ماءٌ ضعيف ويخرج، فالمقدار الجاري هو الذي يدخل ويخرج، وما عن جانبيه وما هو تحت المجرى إلى العمق حكمه حكم الراكد، فلو كان على المقدار الجاري نجاسةٌ تجري جَرْي الماء -والتفريع على أنه لا يجب التباعد لو كان الماء كله جارياً- فلا ينجس الراكد؛ فإنّا نجوز في هذه الصورة ¬

_ (¬1) زيادة من (م)، (ل). (¬2) في الأصل: " ولا " وقدّرنا أن الواو لا محل لها. ثم صدقتنا (ل). (¬3) فليعتبر: يقاس. والتبن ساق الزرع بعدما ينكسر بالدياس (الدراس) وتعلف به الماضية (المعجم والمصباح). والمراد هنا أن يُلقى على وجه الجرية الأولى من الماء مقدار ما يملأ الكف من التبن، لقياس سرعة الجري والبعد عن النجاسة.

الاغتراف من حاشيتي القدر الجاري، فكيف يتعدّى حكم النجاسة إلى ما وراء الجاري، وطرفا الجاري طاهران. وليقع التفريع إذا كانت النجاسة طافيةً وللماء الجاري عمقٌ أيضاً. [فلو] (¬1) وقعت نجاسةٌ على ما له حكم الركود، والمقدار الراكد أقلّ من قلتين، حكمنا بنجاسة الراكد، ثم حاشية الجاري تلقى في جريانها نجاسةً واقفةً، وهي الماء الراكد، فقد يقتضي ذلك نجاسةَ الماء الجاري الضعيف في منحدره. فاقتضى قياس ما تمهد أن النجاسة على المقدار الجاري لا تتعدى إلى الراكد إذا استدّت (¬2)، على استنان (¬3) الجريان، والنجاسة على الراكد إذا كان أقل من قلّتين يتعدى حكمها إلى الجاري. 372 - ولو كان في وسط النهر حفرة لها عمق، وكان يجري الماء عليها، فقد حكى صاحب التقريب نصاً للشافعي، في أن الماء في الحفرة له حكم الركود؛ فإنه قارٌ لا يبرح. ونحن نفصَّل هذا، وينشأ منه مسائل: فإن كان الماء الجاري يقلّب ما في الحفرة ويبدلها، ويخلُفها، فهو جارٍ، وإن كان يلبث الماء قليلاً، ثم يزايل الحفرة، فله في زمان اللبث حكم الركود. وإن كان لا يلبث، بل تثقل حركتُه، ثم يستدّ في المجرى، فله في زمان التثاقل حكم الماء الذي بين يديه ارتفاع، وهو متحرك على بطء. وقد مضى جميع ذلك. وإن كان ماء الحفرة لابثاً وفيه نجاسة، والماء يجري عليها، فماء الحفرة نجس، والجاري عليه في حكم جار على نجاسة واقفة لا تبرح، وقد تفصّل جميع ذلك. ولو كان يتلَوْلَب الماءُ في طرفٍ من النهر، ويستدير، فهو في حكم الراكد عندي؛ فإن ¬

_ (¬1) في الأصل: ولو. وصدقتنا (ل) وحدها. (¬2) استد: استقام. (¬3) استنان مفسرة في الهامش باللغة الفارسية ما ترجمته: الاستنان هو الاستقامة والحركة في يُسرٍ وسهولة. وفي المعجم، سن الماء: صبه على وجه الأرض صباً سهلاً. هذا. وفي الأصل: " استدت وعلى استنان " والمثبت عبارة (ل).

الاستدارة في معنى الترادّ، والتدافع يزيد على الركود. فهذه جمل لا يشذ عنها مقصود، لم نؤثر بسطَها أكثر من ذلك. فرع: 373 - ماءٌ نجسٌ في كوزٍ غُمس في ماءٍ كثير، فإن كان ضيق الرأس، فاتصال الماء الكثير برأس ذلك الكوز لا يؤثر فيما في الكوز. هكذا ذكره الأئمة؛ فإن مجرد الاتّصال لا يُعنى لعينه، وإنما الغرض انبثاث الماء النجس في الماء الكثير، حتى تصير النجاسة مستهلكةً مندرسة الأثر، وهذا لا يتحقق في الصورة التي ذكرناها. ولو كان الكوز واسع الرأس، فعندي أن الغمسة الواحدة لا تُزيل حكمَ النجاسة منها. ومن أراد في ذلك معتبراً، فيقال له: لو كان ماء الكوز متغيراً بزعفران، وقُلب في الماء الكثير، فيزول أثر التغير بالكلية، ولو غُمس الكوز الذي فيه الماء المتغير في ماء كثير لم يزل التغير منه على الفور. نعم، قد يزول التغير إذا تمادى الزمان، فنلتزم بحسب ما ذكرناه أن نحكم بطهارة ماء الكوز، إذا مضى من الزمان ما يزول في مثله تغيّر الماء الذي فرضنا. 374 - وكان شيخي يقول: إذا كان الكوز واسع الرأس، وفيه ماء نجس غير متغير، فغمس في ماء كثير، نحكم بأن الماء الذي فيه يطهر. وهذا لا أعدّه مذهباً. 375 - ولو فرضنا قُلَّتين، في حفرتين، وبينهما نهر صغير غير عميق، وفيه ماءٌ يتّصل أحد طرفيه بإحدى الحفرتين والثاني بالأخرى، فإذا وقعت نجاسة في إحدى الحفرتين، فلست أرى الماء في الحفرة الأخرى دافعاً تلك النجاسة، بحكم الكثرة؛ فإنه ليس بينهما ترادّ وتدافع، وتخلل ذلك النهر الصغير لا يوصل قوة أحد الماءين إلى الأخرى. وليعتبر ذلك بما قدرناه من التغيّر بالزعفران وغيره. فهذا غاية ما عقدنا (¬1) في ذلك. ¬

_ (¬1) في (ل): عندنا.

فرع: 376 - قال العراقيون: إذا رأى ظبيةً من البعد تبول في ماء كثير، فدنا من الماء وصادفهُ متغيراً، وجوّز أن يكون تغيّره من البول، وجوز أن يكون من طول الاستنقاع، فقد نص الشافعي (¬1) على أن الماء نجس، والتغير محال على السبب الذي عاينه [من] (¬2) بول الظبية، دون ما يظنه من الاستنقاع. هكذا نقلوه، ووجهه بيِّن. وفيه احتمال لا يخفى على المتأمل. فصل 377 - قال: "ولو كان مع الرجل إناءان يستيقن أن أحدهما طاهر ... الفصل" (¬3). إذا كان مع الرجل إناءان في أحدهما ماء طاهر بيقين، وفي الثاني ماء نجس، والتبس الطاهر بالنجس، فمذهب الشافعي أنه يجتهد، ويتحرّى، فما أدى اجتهاده إلى طهارته، توضأ به، واستعمله فيما أراد. وكذلك ثلاثة من الأواني: اثنان طاهران وواحد نجس، أو اثنان نجسان وواحد طاهر؛ فالاجتهاد سائغ في جميع هذه الصور. وحكى الصيدلاني عن المزني: أنه لا يجوز الاجتهاد في الأواني. ومذهب أبي حنيفة (¬4) معروف، مذكور في الخلاف. 378 - ثم الكلام في هذه القاعدة يتعلق بأمور: منها - أنه إذا كان إناءان مثلاً، فظاهر المذهب أنه لا بد من الاجتهاد، والاجتهاد يعتمد الأمارات والعلامات، فإذا ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 10. (¬2) زيادة من (ل) وحدها. (¬3) ر. المختصر: 1/ 47. (¬4) مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز الاجتهاد في الأواني. ولم يعرض إمام الحرمين لهذه المسألة في "الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية". فلعله ذكرها في كثاب آخر من كتبه في الخلاف وإليها يشير بقوله: " مذكور في الخلاف " ولنظر مذهب أبي حنيفة، راجع مختصر الطحاوي: 17، رؤوس المسائل: 1/ 122 مسألة 28، حاشية ابن عابدين: 5/ 221.

رأى من البعد كلباً يلغ في أحد الإناءين، ثم التبس، فإذا رأى الماء ناقصاً في أحدهما، أو رأى الماءَ مضطرباً فيه، ورأى قطرات من الماء بالقرب من أحد الإناءين، فهذه العلامات وغيرها متعلق الاجتهاد، فإن لم ير شيئاًً منها، لم يستعمل واحداً من الماءين. وسيأتي ذكرُ ما نأمره به إذا تعذّر الاجتهاد. فهذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: إذا التبس الأمر، فاستعمل أحد الماءين من غير اجتهاد، جازَ؛ بناءً على أن الأصل في الذي استعمله الطهارة، فلا تزول إلا بيقين النجاسة. وهذا وإن كان لا يعسر توجيهه، فهو بعيدٌ عن المذهب جدّاً. ولكن حكاه الصيدلاني على هذا الوجه. وذكر شيخي وبعض المصنفين مسلكاً آخر ثالثاً، وهو أنه لو ظن الرجل طهارة أحد الماءين من غير تعلّق بأمارة، فله التعويل على الظن من غير أن يكون له مستند، فأمّا استعمال أحدهما من غير اجتهاد، ولا ظن، فلا. وهذا أشبه مما حكاه الصيدلاني، ولكنّه أضعف في التوجيه منه؛ فإن الظن لا يغلَّب من غير سبب يقتضي تغليبَه. والأمور الشرعية لا تبنى على الإلهامات والخواطر. فإذاً حصلت ثلاثُ طرق، والمذهب منها الطريقة الأولى. 379 - فإذا فرعنا على أنه لا بد من الاجتهاد، فلو انصبّ أحد الماءين، فهل يجوز استعمال الثاني من غير اجتهاد، وقد انفرد الماء؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما يجوز؛ فإنه مشكوك فيه، والأصل طهارته. والثاني لا بد من الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد وجب متعلقاً بهذا الإناء وبآخر معه، فتبقى فرضيتُه في حق الإناء الثاني. فهذا أجدر (¬1) الأمور في القاعدة. 380 - ومن القواعد في ذلك أنه إذا كان مع الرجل إناءان: أحدهما طاهر والثاني ¬

_ (¬1) في (م)، (ل): أحد الأمور.

نجس، والتبس الطاهر منهما، ومعه ماء مستيقن الطهارة. [أو] (¬1) كان على شط بحرٍ أو نهرٍ، فهل يجوز استعمال أحد الإناءين بالاجتهاد وترك الماء المستيقن؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجوز؛ فإن الاجتهاد إنما يسوغ عند فقدان اليقين، وهو عند زوال اليقين كالضرورة، فلا مساغ مع التمكن من اليقين. ولا يخفى نظائر ذلك. والوجه الثاني - أنه يجوز استعمال أحد الإناءين بالاجتهاد؛ فإن أكثر ما فيه أنه يستعمل ماءً لا يستيقن طهارتَه، مع القدرة على ماء مستيقن الطهارة، وليس ذلك بدعا؛ فإنه لو كان معه ماء مشكوك فيه، وكان على شط بحر، فله استعمال الماء المشكوك فيه مع القدرة على الماء المستيقن الطهارة. والسبب فيه أن الماء الذي لم يستيقن نجاسته في الشرع كالماء الذي يستيقن طهارته. 381 - وهذه القاعدة تنشأ منها مسائل مختلف فيها: منها إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء طهور، وفي الثاني ماء مستعمل، أو ماء ورد، فمن منع الاجتهاد مع القدرة على اليقين، أوجب أن يتوضأ مرتين بالماءين ليستيقن ارتفاع الحدث، ومن جوز الاجتهاد، سوغّ التوضؤ بأحدهما بالاجتهاد. ومنها إذا كان معه ثوبان أحدهما نجس، والآخر ملتبس، ومعه ماء طاهر، يمكنه غسل الثوبين به، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب ذلك. والثاني - يسوغ الاجتهاد. ومنها: إذا كان معه إناءان أحدهما نجس، وفي كل واحدٍ منهما قلة، ولو جمعهما، لكان الكل طاهراً بالكثرة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يجب طلب اليقين الذي ذكرناه (¬2). والثاني - يجوز التعويل على الاجتهاد. وأصل هذه المسائل ما سبق تمهيده. ¬

_ (¬1) في الأصل: وكان. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق، وهي كذلك في المختصر لابن أبي عصرون، ووجدناها في (م)، (ل). (¬2) في (م): اليقين بالمسلك الذي ذكرناه.

382 - ومن الأصول في الفصل أنه إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء. وفي الثاني بول، والتبس، فمن يرى استعمالَ أحد الماءين من غير اجتهاد إما تعويلاً على الظن، أو من غير ظن، فلا يجوِّز استعمال ما في أحد الإناءين وجهاً واحداً؛ إذ لا اجتهاد، ولا يتأتى البناء على أصل الطهارة، وكذلك لو انصبّ ما في أحد الإناءين، فأراد استعمال الثاني من غير اجتهاد، لم يجز وجهاً واحداً هاهنا، وإن ذكرنا وجهين في الماءين، فالفرق (¬1) لائحٌ. فأما إذا أراد الاجتهاد في الماء والبول، فلاحت له [علامة] (¬2)، ففي جواز الاجتهاد وجهان: أشهرهما - المنع؛ لأن الاجتهاد في الأواني ضعيف، ما لم يعتضد برد الأمر إلى استصحاب الطهارة. وهذا المعنى لا يتحقق في ماءٍ وبول. والوجه الثاني - أنه يجتهد تعلّقاً بالعلامات، وهذا يتجه في القياس، والأول أشهر (¬3). 383 - ولو التبست ميتةٌ ومذكاة، [فلست] (¬4) أرى علامة تميز إحداهما عن الأخرى. وكذلك لو التبست أختٌ محرمةٌ برضاعٍ، أو نسبٍ بأجنبتّة، فلا علامة تميّز، والتعويل على الظن محالٌ؛ فالوجه القطع بالتحريم. فهذا بيان قواعد الفصل. ونحن نرسم الآن فروعاً يتم بها الغرض. فرع: 384 - إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء طاهر، وفي الثاني ماء نجس، فأدى اجتهادُه إلى طهارة أحدهما، فتوضأ به، وصلى الصبحَ، ولم يُفضل شيئاً، فلما دخل وقتُ الظهر أدّى اجتهادُه إلى طهارة الثاني، فإن استعمل الثاني ولم يأت الماءُ على ما أتى عليه الأول، فلا تصح صلاتُه؛ فإنه يكون مستصحباً للنجاسة يقيناً. ¬

_ (¬1) في الأصل: والفرق. وأيدتنا (ل) وحدها. (¬2) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها في (م)، (ل)، وكنا قدرناها [أمارة]. (¬3) ر. المجموع: 1/ 194 وما بعدها، وفتح العزيز: 1/ 273. (¬4) زيادة من (م)، (ل).

وإن كان يأتي الماءُ الثاني على ما أصابه الماء الأول، فما نُقل عن نص الشافعي في رواية حرملة أنه لا يجب استعمال الماء الثاني؛ فإنا [إن] (¬1) جوزنا ألا يستوعب بالماء الثاني ما أتى عليه الماء الأول، فيكون ذلك حملاً للنجاسة قطعاًً. وإن أوجبنا أن يأتي بالماء الثاني على جميع ما أتى عليه الأول، فيتضمن ذلك نقضَ الاجتهاد الأول، والاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد. فهذا هو النص وتوجيهه. وقال ابن سُريج: يستعمل الماء الثاني الذي أدى إليه اجتهادُه، ويجب أن يأتي على جميع ما أتى عليه الماء الأول. ووجه ما قاله: أنه يتّبع في كل طهارة اجتهاده الناجز، وهو بمثابة إلزامنا من التبس عليه جهةُ القبلة أن يجتهد عند دخول وقت كل صلاة، وقد يصلي صلوات باجتهادات إلى جهات. وأما [إيجاب] (¬2) استيعاب ما أتى عليه الماء الأول [فليتوقَّى] (¬3) يقينَ النجاسة في الصلاة الثانية، التي يقيمها بالماء الثاني. 385 - فإن فرعنا على النص، فإذا منعناه من استعمال الماء الثاني فيتيمّم، ويصلي ولا يعيد الصلاة الأولى، وهل يعيد الصلاة الثانية؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يعيدها؛ فإنه تيمم وهو ممنوع عن الماء الذي معه، وليس معه ماءٌ مستيقن الطهارة. والوجه الثاني - يعيد الصلاة الثانية، وكلّ صلاة يصليها بعد ذلك بالتيمم، ما دام اجتهاده الثاني مستقراً؛ فإنه تيمم ومعه ماءٌ يظنه باجتهاده طاهراً. وإن فرعناه على تخريج ابن سُريج، فلا نوجب قضاء شيءٍ من الصلوات؛ فإن كلّ صلاة مستندة إلى اجتهادٍ مستقلٍّ بنفسه. وهذا عندي بمثابة ما لو صلى أربع [صلوات] (¬4) بأربع اجتهادات إلى أربع ¬

_ (¬1) مزيدة لاستقامة المعنى. وهي في (م)، (ل). (¬2) مزيدة من (ل)، وفي (م): استحباب ما أتى عليه الماء. (¬3) في الأصل: فيتوقى. وهذا تقدير منا صدقته (م)، (ل). (¬4) في الأصل، (م): ركعات

جهات، فالمذهب أنه لا يجب قضاء شيء منها. وفيها شيء سأذكره في كتاب الصلاة. إن شاء الله تعالى. وما ذكره ابن سُريج كذلك في الظهور، ويتطرّق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى مسألة القبلة. 386 - ولو كانت المسألة بحالها، فأدّى اجتهاده إلى الماء الأوّل، فتوضأ به، وأفضل منه شيئاًً، ثم أدّى اجتهادُه في وقت الصلاة الثانية إلى الماء الثاني، فلا يخلو: إما إن كان ما أفضله من الماء الأول مقدار وضوء، أو كان أقل من ذلك، فإن كان مقدار وضوء، فالقول في أنه هل يستعمل الماء الثاني على الخلاف المقدم، نصاً وتخريجاً، وإنما يختلف بسبب الإفضال أمرُ القضاء. فإن فرعنا على تخريج ابن سُريج، فيستعمل الماء الثاني، ولا قضاء؛ لما ذكرناه. وإن فرعنا على النص، فقد قطع الأئمة بأنه إذا تغيّر اجتهادُه يتيمّم، ويصلي. ويُعيد في هذه الصورة كل صلاةٍ صلاها بالتيمم. هكذا ذكره الشافعي. وعلّل بأن معه ماءً مستيقنَ الطهارة. 387 - فإن قيل: هلا قلتم: امتناع استعماله يُسقط قضاء الصلاة، كما إذا رأى المتيمم ماءً، ورأى معه مانعاً من استعماله، كسبُع أو غيره؟ قلنا: ليس المجتهد آيساً من دَرْك (¬1) اليقين، والاستقرارِ (¬2) على الاجتهاد [الأول] (¬3) عوْداً إليه. هذا هو المنقول الذي بلغني، ولست أنكر تطرقَ الاحتمال إليه. ولكن المذهب نقلٌ. ووجه قضاء الصلاة ليس بالخافي؛ فإنه -لما ذكرناه في جميع حالاته- على تردد، ومعه ماء مستيقن، والذي رأى مع الماء سبعاً على يقين من المانع، فلو أنه أراق الماءين جميعاًً، تخلص عن القضاء في الصلوات التي يصليها بالتيمم. ¬

_ (¬1) بالفتح والسكون. (معجم). (¬2) في الأصل: إذ الاستقرار. والمثبت من (ل). (¬3) زيادة من (م)، (ل). وكنا قدرناها قبلاً هكذا بحمد الله وعونه.

وقد ذكرنا خلافاًً في أن من صَبَّ ماء وضوئه بعد دخول وقت الصلاة من غير غرضٍ، وتيمم وصلى، فهل يلزمه قضاء الصلاة؟ والذي ذكرناه الآن في صب الماءين ليس كذلك؛ فإنه ثمَّ صبّ ماءً طاهراً هَزْلاً من غير غرض، وهاهنا عذرٌ في صب ماء لا يقدر على استعماله؛ فلا يلزمه قضاء الصلوات. ولو صبّ أحدَ الماءين في الآخر حتى يصيرَ مستيقن النجاسة، يسقط القضاء أيضاًً. ولو صبّ الماءَ الثاني، وأبقى الفضلة، وكان يتيمم ويصلي؛ فلا قضاء عليه، لأنه ليس معه ماء مستيقن الطهارة، ولا يغلب على الظن طهارته. وإن صب تلك الفضلة، وبقي الماء الثاني، فهل يقضي الصلوات التي يصليها بتيمّم؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون؛ فإنه ماء مظنون الطهارة، وقد سبق ذلك في الصورة الأولى. 388 - فهذا إذا كان ما أفضله مقدارَ وضوء، فأما إذا كان أقل منه، فيزيد هاهنا التفريع على أن الماء القاصر عن مقدار الطهارة هل يجب استعماله؟ فإن قلنا: يجب، فتفصيل قضاء الصلاة كما مضى فيه، إذا كانت الفضلة مقدار وضوء. وإن قلنا: لا يجب استعمال ما ينقص عن مقدار الطهارة، فوجود تلك الفضلة وعدمها بمثابةٍ واحدةٍ. وهو كما لو صب الفضلة الباقية في الصورة الأولى، وبقي الماء الثاني الذي مال الاجتهاد إليه. وقد مضى ذلك مفصَّلاً. فرع: 389 - ذكر ابن الحداد حكم الإمامة في التباس أمر الحدث في غير الأواني، ثم ذكر حكم الأواني، فنذكر ما ذكره أولاً مقدّمةً، ثم نبني عليها الأواني. إذا جلس اثنان فسُمع منهما صوتُ حدث، وكل واحد منهما ينكر صدروه منه، فإذا انفرد كل واحدٍ وصلى وحده، حكم بصحة صلاة كل واحد منهما. ولو اقتدى أحدهما بالثاني، فأما الإمام، فتصح صلاته؛ فإنه لا تعلق لصلاته بصلاة المقتدي به، وحكمه حكم المنفرد، وأما المقتدي فلا تصح صلاته؛ فإن الحدث إن كان منه، فصلاته باطلة، وإن كان من إمامه، فقد اقتدى بمحدث. ثم كان شيخي يذكر هاهنا اقتداءَ الشافعي بالحنفي، وفيه غموض. ونحن نذكره

موضحاً به المذاهب المختلفة. فإذا توضأ الحنفي واقتدى به الشافعي، فالنية شرط الوضوء عند الشافعي. أما الأستاذ أبو إسحاق (¬1)، فلم يجوِّز الاقتداء بالحنفي، وإن نوى رفعَ الحدث، وصار إلى أنه لا يرى النية واجبةً (¬2)، فلا نعتدّها، وإن جاء بها. وذهب القفال إلى صحة الاقتداء وإن لم ينو الحنفي؛ فإن كلَّ واحدٍ مؤاخذٌ بموجب اعتقاده، والاختلاف في الفروع رحمةٌ. وذهب الشيخ أبو حامد (¬3) إلى أنه إن نوى، صحَّ اقتداء الشافعي به، ولا يضرّ عدم اعتقاد الوجوب، وإن لم ينو، لم يصح اقتداءُ الشافعي به. وهذا لا يناظر ما قدمناه من اقتداء أحد الرجلين بالثاني إذا صدر منهما صوتُ حدث؛ فإن اقتداء المقتدي باطلٌ قطعاًً، على كل تقديرٍ، كما سبق تقريرُه، وأما اقتداء الشافعي بالحنفي، فلا يبطل على كل تقدير؛ فإن معتقد أبي حنيفة إن كان حقاً في نفي وجوب النية - فلا يضر الشافعي أن ينوي، ويعتقدَ وجوبَ النية ويقتدي، فلهذا تردد الأئمة في الاقتداء بالحنفي كما صوّرناه. ¬

_ (¬1) الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإمام، ركن الدين. أحد أئمة الدين، كلاماًً، وأصولاً، وفروعاً. شيخ أهل خراسان، روى عنه البيهقي، وأبو الطيب الطبري، له من التصانيف الفائقة: الجامع في أصول الدين، والرد على الملحدين، وتعليقة في أصول الفقه ومسائل الدور، تكرر ذكره في الوسيط والروضة، ولا ذكر له فى المهذب، ممن قيل عنهم: إنه بلغ حد الاجتهاد. ت 418 هـ (ر. تهذيب الأسماء: 2/ 169، طبقات السبكي: 4/ 256، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 189، وطبقات الشيرازي: 106). (¬2) ر. رؤوس المسائل: 1/ 100 مسألة: 7، طريقة الخلاف للأُسْمَندي: ص 7، مسألة: 2، إيثار الإنصاف لسبط ابن الجوزي: 42، المبسوط: 1/ 72، حاشية ابن عابدين: 1/ 72. (¬3) الشيخ أبو حامد، هو أبو حامد الإسفراييني، أحمد بن محمد بن أحمد، ويعرف بابن أبي طاهر، إمام طريقة العراقيين، وهو متكرر كثيراً في كتب المذهب، وهو غير أبي حامد المرورّوذي، فذاك يُعرف بالقاضي أبي حامد، وصاحبنا يُعرف بالشيخ أبي حامد، ثم هو أكثر ذكراً وتكراراً في الكتب بعامة، وفي كتابنا هذا خاصة، وهو شيخ الماوردي، والقاضي أبي الطيب، وسليم الرازي. توفي 406 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 210 ترجمة رقم 318).

وهذا الاختلاف له التفات إلى تصويب المجتهدَيْن (¬1). ولا وجه للخوض فيه. 390 - ولو وجد شافعي وحنفي نبيذ التمر، فتوضأ به الحنفي، وتيمم الشافعي، واقتدى أحدهما بالثاني، فصلاة المتيمم باطلة عند المتوضىء، وصلاة المتوضىء باطلة عند المتيمم، فهذه الصورة تضاهي اقتداء أحد الرجلين بالثاني، وقد سُمع منهما صوتُ حدث؛ فإن المتيمم يقول: إن كنتُ مصيباً، فأنا مقتدٍ بمن استعمل نجساً، وإن كان إمامي مصيباً، فصلاتي باطلة. والأصحاب أطلقوا الاختلاف في اقتداء الشافعي بالحنفي، ورأَوْا أن الاجتهاد المتعلق بالمذاهب في فروع الشريعة يخالف الاجتهادَ في الأواني، والإشكالَ في تعيين المحدِث، فإن الاجتهادَ في مذاهب الفقهاء لا يتوقع إفضاؤه إلى اليقين، والإشكالات في الوقائع التي ذكرناها يتوقع إفضاؤها إلى اليقين، وإذا كان ذلك ممكناً، فقد يجرّ مصادفةُ الإشكال بطلان الصلاة. 391 - وإذا تقارب ثلاثةٌ، فسمع منهم صوتُ حدثٍ، وتناكروا، فإن صلَّوْا أفراداً، جاز في ظاهر الحكم، والله يتولى السرائر. ولو اقتدى واحد بواحد، فالذي رآه ابن الحداد أنه يصح في هذه الصورة اقتداؤه بأحد صاحبيه، فإن الحدث واحدٌ، والمقتدي يفرض نفسه وإمامه متطهرين، ويقدّر الآخر محدثاً، وهذا التقدير ممكن. وقال صاحب التلخيص: لا يصح اقتداؤه بواحدٍ منهما؛ فإن أمرهما مشكل، والحدث متردد بينهما، فكل واحد منهما في حقه بمثابة الخنثى المشكل، ولا يصح اقتداء الرجل بالخنثى، كما لا يصح الاقتداء بالمرأة (¬2). فهذا إذا اقتدى بأحد صاحبيه. فأما إذا اقتدى بأحدهما في صلاة الصبح، واقتدى بالثاني في صلاة الظهر، فصلاة الإمامين محكوم بصحتها، وأما صلاة المقتدي، فصحيحةٌ خلف إمام الصبح، وظهره فاسدٌ خلف الإمام الثاني؛ فإنا وجدنا لتصحيح ¬

_ (¬1) ر. البرهان في أصول الفقه: 2/فقرة 1455 - 1479، والمنخول للإمام الغزالي: 453، وأصول الفقه للخضري: 374. (¬2) إلى هنا انتهى كلام صاحب التلخيص، وعدنا لكلام ابن الحداد.

الصلاة الأولى مَحْملاً، فتتعين الصلاة الثانية [للبطلان] (¬1). هذا مذهب ابن الحداد. وقال صاحب التلخيص: الصلاتان من المقتدي فاسدتان. وقال أبو إسحاق المروزي (¬2): إن اقتصر على الاقتداء بأحدهما، صحت صلاته في هذه الصورة، وإن اقتدى [بهما] (¬3) فإحدى صلاتيه باطلة، لا بعينها، فيلزم قضاؤهما. فإن قيل: فما الفرق بين مذهبه ومذهب صاحب التلخيص؟ قلنا: لو اقتصر على الاقتداء بأحدهما، فصلاته باطلة عند صاحب التلخيص، وهي صحيحة عند المروزي، وافتراق مذهبهما بيّنٌ. 392 - صورة أخرى: خمسةُ نفرٍ كان منهم صوت حدث، فإن صلَّوْا أفراداً، حُكم بصحة صلاة الجميع ظاهراً، وإن اقتدى أربعةٌ بإمام واحد من غير تناوب، فصلاة الجميع صحيحة عند ابن الحداد والمروزي، وهي باطلة عند صاحب التلخيص، فلا يصح عنده إلا صلاةُ الإمام. فلو تناوبوا في الإمامة، [فصلّى] (¬4) كل واحد منهم صلاةً إماماً، واقتدى به أصحابه، فأمّا مذهب ابن الحدّاد، فتصحّ لكل واحد منهم أربع صلوات، وتفصيلها أنه تصح من كل واحد الصلاة التي هو إمام فيها، وتصح ثلاثٌ سواها أولاً فأولاً، فإذا مضت أربعةٌ، بطلت الخامسة في حقه. فأما إمام الصبح، فتصح منه الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب. وإمام الظهر يصح منه الظهر، ثم يبتدىء، فيعد من الأول ثلاثاًً سوى الظهر، وهي الصبح والعصر والمغرب. ¬

_ (¬1) زيادة اقتضاها السياق، وصدّقَتنا (م)، وفي (ل): للفساد. (¬2) أبو إسحاق المروزي: إبراهيم بن أحمد، تكرر في المهذب، والوسيط، والروضة، وحيث أطلق أبو إسحاق في المهذب، فهو المروزي، وقد يقيدونه بالمروزي، تفقه على أبي العباس بن سريج، وانتهت إليه الرياسة في العلم ببغداد، وشرح المختصر، وصنف الأصول، وأخذ عنه الأئمة، وانتشر به المذهب في العراق، وسائر الأمصار، خرج إلى مصر، وتوفي بها سنة 340 هـ (ر. تهذيب الأسماء: 2/ 175، طبقات الشيرازي: 112). (¬3) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها في (ل). (¬4) في الأصل: فصلاة، والمثبت من (ل)، وجاءت كما قدرناها.

وكذلك القول في إمام العصر والمغرب. أما إمام العشاء، فتصح منه العشاء وثلاثٌ من الأول: الصبح، والظهر، والعصر. فإذاً يصح [من جميعهم الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب] (¬1)، ويفسد منهم العشاء، إلا إمام العشاء، فإنه يصح منه العشاء، ويصح الصبح، والظهر، والعصر، ويفسد المغرب. ولا خفاء بقياس مذهبه. وصاحب التلخيص يصحح لكل واحد الصلاة التي كان إماماً فيها، ويُبطل الباقي. والمروزي يقول: إذا صلى كل واحدٍ خمسَ صلواب، فالصلاة التي كان إماماً فيها صحيحة له، ويقضي الصلوات الأربع؛ لأن واحدة منها فاسدة [لا] (¬2) بعينها. 393 - والذي ذكرناه من التباس الأمر في الحدث نفرضه في الأواني. فإذا كان بين خسمةٍ خمسةُ أوانٍ: واحد نجس وأربعة طاهرة، فأدّى اجتهادُ كل واحدٍ إلى إناءٍ، ثم تناوبوا في الإمامة، فالكلام كما مضى حرفاً حرفاً. وقد يفرض زيادة في الأواني، وهي أن الخمسة إذا اجتهدوا، والنجس من الأواني واحد، فلو اجتهد رجل، فاختار إناء باجتهاده، واجتهد في بقية الأواني، فعيّن في ظنه النجس، فمن استعمل ذلك النجس، لم يقتد به، ويقتدي بالباقين على الصحة، كيف فرض صلاتهم؛ فإن اجتهاده في نفسه، وفي حق إمامه صحيح في حكم قدوته، وهذا لا يتأتى في سبق الحدث؛ إذ ليس ثَم اجتهادٌ، ولا استمساكٌ بدلالةٍ وأمارة عليها تعويل. فإن تكلّف متكلف، وفرض فيه علامات ظنيّة، فيستوي البابان فيما ذكرناه الآن. ولو كان ثلاثةٌ من الأواني الخمسة نجسة، واثنان طاهران، وتناوبوا في الإمامة، فتصح لكل واحد صلاتهُ التي هو إمام فيها، وصلاة أخرى. والبدار إلى [التصحيح] (¬3) فتبطل ثلاثُ صلواتٍ، فيصح لإمام الصبح صلاةُ الصبح، وصلاةُ الظهر، ويبطل باقي الصلوات، ويصح لإمام الظهر صلاة الظهر، وصلاة الصبح، ويصح لإمام العصر صلاة العصر، وصلاة الصبح، وتبطل صلاة الظهر، والمغرب، والعشاء، ويصح ¬

_ (¬1) زيادة اقتضاها السياق، ثم صدقتها (ل)، وهي في (م): ما عدا المغرب. (¬2) زيادة من (ل)، (م). (¬3) في الأصل: "الصحيح" والمثبت من (ل).

لإمام المغرب صلاة المغرب، وصلاة الصبح فحسب، ويصح لإمام العشاء صلاة العشاء، وصلاةُ الصبح، وهذا مذهب ابن الحداد. ولا يخفى مذهب الباقين. ولو كان أربعةٌ من الأواني نجسة، فلا يصح على المذاهب كلها اقتداءُ أحد منهم بأحدٍ من أصحابه؛ فإن كل واحد يعتقد أنه استعمل الطاهر، والباقون استعملوا النجس. وهو كما لو اختلف اجتهاد أربعة في جهات القبلة، واستقبل كلُّ واحدِ جهةً، فلا يصح من بعضهم الاقتداء ببعض لما ذكرناه. فصل 394 - إذا كان معه إناءان أحدهما نجس، وقد التبس عليه النجس منهما، فأخبره ثقةٌ تُقبل روايته بورود النجاسة على إناء عيّنه، لزمه قبول قوله، والمعتبر فيه الرواية، فمن صحت روايته: حرَّاً كان، أو عبداً، ذكراً كان، أو أنثى، فيقبل إخباره فيما ذكرناه. ولكن لا يكفي أن يقول: هذا هو النجس؛ فإن العلماء مضطربون في أسباب النجاسة، فقد يرى المُخبر الشيء نجساً، وليس هو بنجس، فلا بد من ذكر ما رآه وعاينه مفصَّلاً. ولو أخبر مخبرٌ بأن هذا الإناء نجس وفصَّل، فأخبره الثاني بأن النجاسة وردت على الإناء الثاني، وكانت النجاسة واحدة، وهي ولغةُ كلبٍ مرةً واحدةً، وما كان تعدد السبب. فإذا تعارض الخبران، وكان أحد المخبرَيْن أصدق وأوثق عنده من الثاني، فيعتمد قولَ الأوثق منهما، كما إذا تعارض خبران، وأحد الروايتين أوثق. فإن استويا، فلا تعلق بخبرهما. فرع: 395 - قال أئمة العراق: الأعمى لا يجتهد في القبلة؛ فإن عماد الاستدلال فيها البصر، ويجتهد في وقت الصلاة؛ فإنه ينضبط بأورادٍ وأشغال كان يقضيها. وبالجملة ضبط الساعات ليس يعسر على الأعمى بجهاتٍ. وهل يجتهد في الأواني والمياه؟ ذكروا وجهين؛ لتردد هذا الاجتهاد بين القبلة والوقت. والله أعلم. ***

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين 396 - المسح على الخف رخصة قال بها علماء الشريعة، ولم ينكرها إلاّ الروافض، ومن يُعرفُ بالانتماء إليهم من العلماء، ومنكروها هم الذين أثبتوا مسحَ القدم. والأصل فيها الأخبار المشهورة، منها ما روي عن صفوان بن عسّال المرادي (¬1)، أنه قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنّا مسافرين أو سَفْراً ألا ننزع خفافنا فيها ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، لكن من كائط، وبول، ونوم "، وروي أنه صلى الله عليه وسلم: " أرخص للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، إذا تطهر فلبس خفَّيه أن يمسح عليهما " (¬2)، وروي "أن رسول الله ¬

_ (¬1) حديث صفوان بن عسال، رواه الشافعي، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الترمذي، والخطابي، وروى الترمذي عن البخاري قال: هو أحسن شيء في هذا الباب. وقال الألباني في الإرواء: حديث حسن. (ر. مسند الشافعي: 17 - 18، مسند أحمد: 4/ 239، الترمذي: َ الطهارة، باب ما جاء في المسح على الخفين للمسافر والمقيم، ح 96، وصحيح الترمذي: ح 84، والنسائي: الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر، ح 126، 127، وابن ماجه: الطهارة، باب الوضوء من النوم، ح 478، وابن خزيمة: 1/باب رقم 147 ح 193، وابن حبان: 4/ح 1319، والدارقطني: 1/ 196 - 197، والسنن الكبرى: 1/ 276، وإرواء الغليل: 1/ 140 ح 104، وتلخيص الحبير: 1/ 157 ح 216). (¬2) حديث: " أرخص للمقيم يوماً وليلة " رواه من حديث أبي بكرة ابن خزيمة، واللفظ له، وابن حبان، وابن الجارود، والشافعي، وابن أبي شيبة، والدارقطني، والبيهقي، والترمذي في العلل المفرد، وصححه الخطابي ا. هـ كلام الحافظ في التلخيص. ورواه مسلم في الصحيح كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، عن علي رضي الله عنه: 1/ 232 ح 276. (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 42، ابن أبي شيبة 1/ 179، وابن حبان: 4/ 151 ح 1322، وابن خزيمة: ح 192، والسنن الكبرى: 1/ 276، 282، والبغوي في شرح السنة: 237، والتلخيص: 1/ 157 ح 215).

صلى الله عليه وسلم: مسح على خفَّيه" (¬1). 397 - ثم الباب مصدّر بذكر مدة المسح. فالذي صار إليه معظم الفقهاء أن مدة المسح تتأقت، فهو في حق المقيم يومٌ وليلة، وكذلك في حق المسافر سفراً قصيراً، وفي حق المسافر سفراً طويلاً، ثلاثة أيام ولياليهن. ثم يجب نزع الخف، وراء المدة على ما سيأتي مشروحاً - إن شاء الله عز وجل. وقال مالك (¬2): يمسح المقيمُ والمسافرُ ما بدا لهما، ما لم يلزمهما الغُسل؛ فإنه يجب إذ ذاك النزع. وهذا قولُ الشافعي في القديم. وشهد له أخبار: منها حديث خزيمة، قال: "رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام، ولو استزدناه، لزادنا" (¬3). وروي عن أُبي بن عمارة، وهو كان ممن صلّى إلى القبلتين قال: قلت: يا رسول الله أنمسح على الخف يوماً وليلةً؟ قال: نعم، قلت: يومين وليلتين؟ قال: نعم، قلت: ثلاثة أيامٍ؟ قال: نعم، وما شئت (¬4)، وهذه الألفاظ مشكلة، وقد صححها مالك. ¬

_ (¬1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه، متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله، وحديث المغيرة بن شعبة. (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 62 ح 155، 157). (¬2) ر. الإشراف: 1/ 132، مسألة: 56، حاشية العدوي: 1/ 206، الشرح الصغير: 2/ 152، جواهر الإِكليل: 1/ 24. (¬3) حديث خزيمة بن ثابت رواه أبو داود، وبسياقة إِمام الحرمين، ورواه ابن ماجة بلفظ: "ولو مضى السائل على مسألته، لجعلها خمساً"، ورواه ابن حبان باللفظين جميعاًً، ورواه الترمذي وغيره بدون الزيادة. وصححه الألباني بزيادته. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 161 ح 219، أبو داود: الطهارة، باب التوقيت في المسح، ح 157، وصحيح أبي داود للألباني: 1/ 32 ح 142، والترمذي: الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم، ح 95، وابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر، ح 553، وابن حبان: 4/ 158 ح 1329). (¬4) حديث أبي بن عمارة، أخرجه أبو داود، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم في المستدرك، والحديث فيه ضعف، (ر. أبو داود: الطهارة، باب التوقيت في المسح، ح 158، وضعيف أبي داود للألباني ح 28، ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في المسح بغير توقيت، ح 557، الدارقطني: 1/ 198، مستدرك الحاكم مع تعليق الذهبي: 1/ 170، تلخيص الحبير: 1/ 161 ح 220).

ومن يجري على ظاهر المذهب (¬1) يقول: أما حديث خزيمة، فظنٌ منه، والظن يخطىء ويصيب، وأما حديث ابن عمارة، فتأويله عسر، وقد قيل: " لم يُرد رسول الله صلى الله عليه وسلم امتدادَ مدّةِ مسحِ واحد "، وهو كقوله عليه السلام " التراب كافيك، ولو لم تجد الماء عشر حجج ". والوجه عندي المعارضة بنصوص التأقيت، ثم الأصل غسل القدمين، فلا تثبت رخصةُ المسح إلا بثَبَتٍ. 398 - ثم ابتداء المدّة لا يحتسب من وقت لُبس الخف وفاقاً، ومذهبنا أنه يحتسب من أول حدث يقع بعد لُبس الخفين. ويؤثر عن أحمدَ بنِ حنبل أنه قال: يحسب ابتداء المدة من أول مسحٍ (¬2). وهذا غير سديد، ونفش مذهبنا إذا ذُكر أغنى عن ذكر دليل عليه، فلا يدخل وقت المسح واللابس على الطهارة الكاملة، فإذا أحدث، حان وقتُ المسح، فكان ذلك ابتداءَ وقت المسح. 399 - ثم مما يتعلق بأثر المدة أن من لبس الخفَّ مقيماً، ثم سافر، أو لبس مسافراً، ثم أقام، فيختلف أثر المدة. فنذكرُ المقيم يسافر، فمذهبنا أنه إن أحدث في الإقامة، ودخل وقتُ المسح، ولم يمسح عليه، حتى فارق البلد مسافراً سفراً طويلاً، فإنه عند الشافعي يمسح مسح المسافرين، وابتداء المدة من وقت الحدث الذي جرى في الإقامة. وإن ابتدأَ المسحَ في الإقامة مسحَ مَسْحَ المقيمين. والمزني يقول: إذا أحدث مقيماً، مسح مَسْح المقيمين. وقال أبو حنيفة: إذا سافر قبل انقضاء المدة مسح مَسْح المسافرين (¬3). فرع: 400 - إذا أحدث مقيماً، ودخل عليه وقت الصلاة، فلم يمسح حتى انقضى وقت الصلاة وهو مقيم، ثم سافر، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه يمسح مَسْح ¬

_ (¬1) في هامش الأصل: أي مذهب الشافعي رضي الله عنه. (¬2) هذه إحدى الروايتين عن أحمد، والأخرى -وهي المذهب عند الحنابلة- موافقةٌ لمذهبنا. ر. الإنصاف للمرداوي: 1/ 177، المغني: 1/ 327، المبدع: 1/ 142. (¬3) ر. مختصر الطحاوي: 21، البحر الرائق: 1/ 188، حاشية ابن عابدين: 1/ 185.

المسافرين؛ فإنه سافر قبل ابتداء المسح. والثاني - أنه يمسح مسْحَ المقيمين؛ فإنه عصى بتأخير المسح، والرخص لا تناط بالمعاصي، وأيضاً استقر وجوبُ المسح بانقضاء الوقت، فكان ذلك كإيقاع المسح في الإقامة. وهذا غيرُ سديدٍ. أما المعصية، فليست في السفر، وهو سبب الرخصة، وأما لزوم المسح، فغير سديد؛ فإن المسح لا يتعيّن قط، من جهة أنه لو نزع خفّيه وغسل قدميه، فهو الأصل. فرع: 401 - إذا شك، فلم يدر: أمسح في الإقامة أم لا؟ فالأصل عدم المسح، وحكمه -لو لم يجر (¬1) - استكمالُ مدة المسافرين. ولكن أجمع أئمتنا على أنه يمسح مَسْح المقيمين، أخذاً بالأقل. وهذا يناظر ما قدمناه: من أن الماسح لو شك في انقضاء المدة، فالأصل بقاؤُها، ولكن يتعين الأخدّ بانقضائها؛ إذ الأصل وجوبُ غسل القدمين، فلا معدل عنه إلى المسح، إلا بثبَت، وتحقيق، وقد ذكرنا ذلك ونظائرَ لها في مسائل استثناها صاحب التلخيص، إذ قال: لا يترك اليقين بالشك إلا في مسائلَ ذكرَها (¬2). هذا في المقيم إذا سافر. فأما من لبس الخف مسافراً، ثم أقام، فحكم الإقامة مغلَّب في كل حال، فإن مضى في السفر مدةُ المقيم، فأقام، نزع خُفّيه، وكذلك إن مضى كثر منها، فكما (¬3) ¬

_ (¬1) أي: لو لم يجر المسحُ. وفي هامش الأصل: "إِن لم يجر". (¬2) سبق بيان هذه المسائل، وعدّها آنفاً. فقرة: 170. (¬3) كذا في جميع النسخ: " فكما أقام نزع " ومعناها -كما هو واضح من السياق- كلما أقام، أو عندما أقام، وهذا الاستعمال لـ (كما) بهذا المعنى وارد كثيراً في عبارة إِمام الحرمين، في هذا الكتاب خاصة، وقد ظللتُ سنوات أبحث لهذا الاستعمال عن أصل، وأسال شيوخي وأساتذتي، فلم أجد عندهم شفاءً، وأسال أهل هذا الشأن من إِخواني وأقراني، فكانوا يقولون: هي مصحفة عن "كلّما" ويقطعون بذلك، وكنت أردّ ذلك، ولا أقبله، لأمرين: كثرة ورودها وتكرارها، وثانياً لاتفاق جميع النسخ عليها، فيحيل العقل (تصحيفها)، إِلى أن أتاني بخبرها تلميذي النجيب وابني الحبيب البحاثة الدؤوب علي الحمادي. فقد وجد النووي =

أقام، نزع. وإن لم تنقض تمام مدة المقيم، فإذا أقام، استكمل مدة الإقامة، ونزع. واعتبر المزني النسبة، فقال: إن كان مضى في السفر يومان وليلتان، فقد مضى ثلثا المدة، فإذا أقام مسح مَسْح ثلث مدة المقيم، وإن كان مسح في السفر يوماً وليلة، فقد بقي ثلثا المدة، فإذا أقام مسح ثلثي مدة المقيم. ولا حقيقة لما صار إليه. والأصل تغليب حكم الإقامة، كما ذكرناه. 402 - فإن قيل: كل ما يغلَّب فيه حكم الإقامة إذا اشترك فيه الحضر والسفر، فلا فرق بين أن تطرأ الإقامة على السفر، وبين أن يطرأ السفر على الإقامة؛ فإن من تحرم بالصلاة المقصورة مسافراً، ثم انتهت السفينة في أثنائها، إلى الإقامة، فإنه يُتم ولا يقصر، وكذلك لو شرع في الصلاة مقيماً، ثم جرت السفينة، فإنه يتمها. فأما تغليبكم حكمَ الإقامة الطارئة على السفر، فجارٍ على هذا القياس. وأما مصيركم إلى أنه إذا دخل وقت المسح في الإقامة، فسافر يمسح مَسْح المسافرين، فنقضٌ للقاعدة. قلنا: دخول وقت العبادة في الحضر لا يُلزم حكمَ الحضر؛ فإن دخل وقتُ الصلاة عليه، فسافر، يقصر. وقد ذكرنا أسلوب (¬1) هذه المسألة في الخلاف. 403 - ثم المقيم يُتصوّر أن يصلي في اليوم والليلة بطهارة المسح ستَّ صلواتٍ، في مواقيتها من غير جمع، بأن يلبس الخفين، ثم يمضي من أول وقت الظهر مقدارُ أربع ركعات، فيحدث، فهذا أول المدة، فيمسح، ويصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، ويصلي الظهر في أول الوقت أربع ركعات. وقد انقضت مدةُ المسح. فإن جمع بين الظهر والعصر في اليوم الثاني بعذر المطر، فيكون مؤدّياً سبع (¬2) ¬

_ = علق عليها في كتابه (التنقيح في شرح الوسيط) قائلاً: "لفظة (كما) يستعملها المصنف، وغيره من الخراسانيين كثيراً بمعنى (عند) وليست عربية ولا صحيحة" ا. هـ (ر. التنقيح بهامش الوسيط: 1/ 426). (¬1) أي في كتاب (الأساليب) في الخلاف. (¬2) هذه الصفحة (260) من الأصل تلاشت منها خمسة سطور كاملة من أولها، وعبارات وكلمات في ثناياها، لم نستطع قراءتها، فلجأنا إِلى الفيلم نفسه وإِلى الجهاز القارىء، =

صلواتٍ [ونفرض أن] يحدث بعد مضي [مقدار ثماني ركعات] من أول الظهر. ثم يصلّي الصلوات الخمس على ما ذكرنا، ويصلي في أول وقت الظهر الظهرَ والعصرَ جمعاً [وتقديماً]. فصل 404 - نذكر في هذا الفصل [أمرين] إن شاء الله عز وجل: أحدهما -[التفصيل] في اشتراط تقديم الطهارة على لبس الخفين. والثاني - بيان صفة الملبوس الذي يجوز المسح عليه. فأما القول في تقديم الطهارة: فإذا تمكن المرء من الطهارة الكاملة، فلا بدّ من تقديمها على ابتداء اللُّبس، فإذا فرغ من غسل القدمين، فيبتدىء بعد الفراغ منها لُبس الخف الأول. فلو غسل إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى، فأدخلها الخف، ثم أحدث، لم يمسح على خفيه عندنا؛ [وعلة] المذهب [أن] الطهارة إنما تشترط لأجل اللُّبس، فيشترط [تقديمها بكمالها على اللُّبس] كالصلاة مع الطهارة. وقد قرّرْنا هذا المعنى في (الأساليب). فلو غسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ولبس خفيه قبل غسل الرجلين، ثم صب الماء في خفيه حتى حصل غسل الرجلين، ثم أراد المسحَ بعد الحدث، لم يجز؛ فإن اللُّبس ابتداءً وقع من غير طهارة. ولو غسل إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الثانية، وأدخلها الخف، لم ¬

_ = وبالتكبير، والتصغير، وعلى ضوء ما بقي من أطراف الكلمات، وعلى ضوء السياق والسباق، قرأناها قراءة صحيحة -إن شاء الله- وما تعذر علينا قدّرناه من عندنا، وميزناه بوضعه بين المعقفين هكذا []، فكل ما جاء في هذه الصفحة هكذا، فهو تقدير منا من غير حاجة إِلى تنبيه على كل كلمة بعينها. والحمد لله، فقد صدقتنا (م)، (ل) تماماً إِلا كلِمات قليلة اختلف لفظها، واتحد معناها (مترادفة) وقد عدّلناها، كما في (م)، (ل).

يمسح عند مسيس الحاجة، فلو أنه نزع الرجلَ الأولى، وهو بعدُ على الطهارة، وأعادها، فيمسح الآن؛ فإنه كان لبس الخفَّ الثاني على كمال الطهارة، فكان لُبسه صحيحاً. وإنما جرى الخلل في لُبس الخف الأول. فإذا نزع وأعاد، فنجعل كأنّ اللُّبس الأول لم يكن، وقد لبس الآن على كمال الطهارة. 405 - ولو لبست المستحاضة -والحدثُ منها دائمٌ-[الخفَّ] بعد أن توضأت، ثم أرادت المسح على الخف، فقد اختلف أصحابُنا فيه، فمنهم من قال: لا تمسح؛ لأن طهارتها ناقصة، والحدث مقارن لها، وإنما يجوز المسح على الخف بعد تقديم طهارةٍ كاملة رافعةٍ للحدث. ومن أصحابنا من قال: تمسح؛ لأنها تستبيح الصلاة بطهارتها الضعيفة، فإذا كانت صلاتها تصح بطهارتها، فينبغي أن يصح لُبسُها الخف بطهارتها. ومن قال بالأول يقول: إذا كانت تمسح وأصل طهارتها ضعيف، فينضم ضعفٌ إلى ضعفٍ، والرخص لا يعدّى بها مواضعها. ونحن نأمر المستحاضة بأن تجدد الوضوءَ لكل فريضة، لتكون آتيةً بأقصى الممكن مع استمرار الحدث، فكيف يُضم إلى ما بها تركُ غَسل القدمين. ثم قال الصيدلاني: من أجاز لها أن تمسح، فإنما يقول: لو لم تلبس، لكانت تصلّي فريضة واحدة ونوافل، فإذا لبست، وأحدثت حدثاً آخر -سوى حدث الاستحاضة- فإنها تتوضأ، وتمسح، وتصلي تلك الفريضة، وما شاءت من النوافل، وتقتصر (¬1)، ثم تنزع للفريضة الثانية؛ فإن طهارتها الأولى كلا طهارة في حق الفريضة الثانية. وليس كالطهارة التامة في حق غير المعذور؛ فإنها تصلح (¬2) لأداء فرائض لو دامت، فإذا طرأ الحدث، جاز مسح الخف إلى انقضاء المدة المرعيّة. هكذا قال الصيدلاني. وليس هذا خالياً عن إشكال؛ فإن المسح إنما يقع بعد طريان الحدث على الطهارة ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ. والمعنى: تقتصر عليها. (¬2) في (ل): لا تصلح.

التي يُرتب اللُّبس عليها، فكان يحتمل أن يقال: إذا جوزنا لها أن تلبس الخف، فإنها تتوضأ لكل فريضة، وتمسح وتجعل ما [يتجدد] (¬1) من حدث الاستحاضة بمثابة ما يتجدّد من الحدث على الطهارة الكاملة، إلى انقضاء مدة المسح، فهذا تنبيه على محل الإشكال. وما ذكره الصيدلاني مقطوع به على جواز المسح، وهكذا ذكره الأئمة في الطرق، فليس في المذهب تردّدٌ، فلتقع الثقة بما ذكره. 406 - ولو تيمم ولبس الخف، نُظر: فإن كان التيمم لإعواز الماء، فلا يستفيد به المسحَ عند وجود الماء، بل كما (¬2) وُجد، بطل التيمم، ولزم نزع الخف، وتكميل الوضوء. ولو تيمم الجريح، ولبس الخف، ففيه من الخلاف ما ذكرناه في المستحاضة. ثم قال الأصحاب: إنما يمسح إذا أحدث قبل أداء فريضةٍ واحدةٍ، فيتوضأ، ويمسح، ويصلّي تلك الفريضة، وذلك يتصور إذا كان بدنه صحيحاً، وبعضه جريحاً، ولم يكن برجليه جرح، وكان يتمكن من غسلهما. فعلى الوجه الذي نفرع عليه إذا غسل الممكن وتيمّم، فإنه كان يصلي فريضة واحدة، فلو لبس الخف وأحدث، فإنه يغسل الممكن ويتيمم، ويمسح، ويصلي تلك الفريضة مع نوافلَ بلا مزيد، ثم ينزع، ويعود إلى أوّل مرّة. ثم قال الصيدلاني وغيره: إذا لبست المستحاضة، وأرادت المسح في حق فريضة واحدة، فشفيت، أو شفي الجريح، فلينزعا، وليأتيا بطهارة كاملةٍ؛ فإن تلك الطهارة قد انقضت، بما طرأ من الشفاء، وزوال الضرورة، فلا سبيل إلى ترتيب المسح عليه أصلاً. فهذا بيان ما أردناه من تقديم الطهارة على لبس الخف. ¬

_ (¬1) في الأصل: يجدّد. وقد صدقتنا (م)، (ل). (¬2) كذا. وهي في موضع عندما، كما هو واضح من السياق، وقد سبقت الإِشارة إِلق أن هذه (لازمة) من لازمات إِمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، ونقلنا آنفاً عن النووي أنها ليست عربية.

407 - فأما المقصود الثاني، فهو بيان صفة الملبوس، الذي يجوز المسح عليه، فيشترط فيه أمور: منها أن يكون ساتراً لمحل الفرض، وهو القدم إلى ما فوق الكعبين، فلو كان شيء من محل الفرض بادياً، فلا يجوز المسح أصلاً. ولا يضرّ بَدْوُ (¬1) القدم من أعلى الخف بسبب اتساع ساق الخف، والستر (¬2) المرعي فيه هو الستر من أسفل الخف والجوانب. وسنذكر في كتاب الصلاة مقارنة ستر العورة بهذا، وكل واحد من البابين مُجرى على المعتاد فيه. فلو تخرق الخف وبدا شيء -وإن قلّ من محل الفرض- لم يجز المسح على الجديد. وقال مالك (¬3): يجوز المسح على الخف المتخرق، ما دام متماسكاً في الرجل، وإن بدا من الرجل شيء كثير، وعنى بالتماسك أن يكون بحيث يتأتى المشي فيه، على ما سنصف معنى ذلك. وأضيف هذا المذهب إلى الشافعي قولاً قديماً؛ فإن تخرُّقَ الخف قد يغلب [في الأسفار] (¬4)، ويُعوِز [الخارز] (¬5) في الأسفار، ولو شُرط الستر التام، فقد يؤدي ذلك إلى عسرٍ في إقامة هذه الرخصة، والمذهب القول الجديد. ومما يشترط في الملبوس أن يكون فيه قوة، بحيث يعد مثله للتردد فيه في الحوائج. وصرح الصيدلاني بأنا لا نشترط أن يتأتى قطعُ الفراسخ بالمشي فيه. 408 - وهذا من مواقع الانتشار الذي ينبغي أن يُعتنى فيه بتقريب وضبط. فمذهبنا أن من لبس جورباً ضعيفاً لا يعتاد المشي فيه وحده، فلا سبيل إلى المسح عليه، ¬

_ (¬1) بَدْو: مصدر (بدا) بمعنى ظهر (القاموس) وهذا الوزن غير موجود في المعجم الوسيط. (وهذا من مواضع القصور في هذا المعجم، وقد أحصينا من ذلك قدراً يستحق التسجيل والتنبيه، ويظل هذا المعجم مع ذلك من كتب عصرنا التي نباهي بها القدماء). (¬2) كذا (بالواو) في جميع النسخ بدل الفاء، وهو معهود كثيراً في لغة إِمام الحرمين، وغيره من معاصريه. (¬3) ر. الإشراف: 1/ 135 مسألة: 59، حاشية الدسوقي: 1/ 143، جواهر الإكليل: 1/ 24 (¬4) زيادة من (ل) وحدها. (¬5) في الأصل: الخازن. وهذا تقدير منا صدقته (ل).

والسبب فيه أن نزع الجورب يسير، لا يُحتاج فيه إلى معاناة تعبٍ، والغرض من هذه الرخصة إقامة المسح على الملبوس الذي يمشي فيه حضراً وسفراً مقام غسل القدمين، والجورب إنما يلبس لدفع الغبار عن الرجل، ثم العادة جارية بأنه ينزع عند النزول، فلا يبقى في الرجل. ومن لبس خفاً على الجورب، ثم نزع الخف، فإنه ينزع الجورب، كما ينزع اللفافة. فإذاً لا تُفسَّر قوة الملبوس بأن يتأتى قطع مرحلةٍ أو مرحلتين فيه؛ فإن المسافر [قد يكون راكباً في سفره، ولكنه يرتفق] (¬1) بإدامة الخف [في رجله عند نزوله] (1)، غَيْرَ أن الارتفاق إنما يحصل إذا كان الملبوس بحيث يتأتى التردد معه في الحوائج عند الحطّ والترحال، فإن لم يكن كذلك، لم يكن له الارتفاق به واستدامته، فليفهمه الفاهم. وليعلم أن القوة في الملبوس للتردد في الحوائج في المنازل، لا لإمكان (¬2) المشي والترجل في المراحل. ولا يقع الاكتفاء بالساتر، كما يكتفى بالساتر من الجبائر في المسح عليها؛ فإن الرفق في الجبيرة للستر المطلوب فحسب. وأنا أقول: لو ألقى على موضع الخَلْع (¬3) ساتراً، لا نفع فيه، ولا ارتفاق به، فلا يجوز المسح عليه. والرفق اللائق بهذا الباب يستدعي مع الستر إمكان التردد. فقد بان الغرض ووضح. وأنا أعلم أنه لا يتبرّم بتطويلٍ في مثل ذلك إلا غبيّ، لا ينتفع بالنظر في هذا المذهب (¬4)، فإن من أجلّ مقاصدي في وضع هذا الكتاب هذا الفن من الكلام. 409 - ثم يعترض على القاعدة التي مهدناها، أن الرجل لو لبس خفاً من حديد، فإنه يمسح عليه، وإن كان لا يتأتى التردد فيه؛ والسبب فيه أن عسر التردد إنما كان ¬

_ (¬1) ما بين المعقفين تقدير منا، لأن أطراف الصفحة تلاشت تماماً لأربعة أسطر، وقد صدقتنا إِلى حد كبير (م)، (ل). (¬2) في (م)، (ل): لإِمكان (بدون لا النافية). (¬3) المراد الموضع الذي يحتاج إِلى جبيرة، فالخَلع هو التواء العرقوب من غير بينونة (معجم). (¬4) المذهب: المراد هذا الكتاب، فقد كان يسميه: " المذهب " (انظر هذه التسمية في مقدمة المؤلف). وصار هذا اصطلاحاً عند الخراسانيين، يسمونه (المذهب الكبير).

لضعف اللابس، لا لضعف الملبوس، فلا يُنظر إلى أحوال اللابسين؛ فإنها تخرج عن الضبط، وإنما النظر إلى صفة الملبوس. فهذا منتهى النظر في ذلك. 410 - وكان شيخي يقول: لو لف الرجلُ قطعةَ أَدَمٍ على قدمه واستوثق شدَّه بالرباط، فكان قوياً يتأتى التردد فيه، فلا يجوز المسح عليه؛ فإن اللف لا يقوى، ولا يتأتى التردد في الملفوف على ما تقدم الشرح، فإن ألحّ متكلف وصوَّر الاستيثاق بربط الملفوف بخيوط قوية، فمثل هذا تعسر إزالته، وإعادته على هيئته، مع [استيفاز] (¬1) المسافر، ويتعسر معه الارتفاق المعنيّ بالمسح على الملبوس المرفِق. وبالجملة: الغالبُ في الرخص اتباع موارد النصوص، وإنما وردت في الخف وما في معناه. 411 - وكان شيخي يذكر في الملبوس مشقوق المقدّم مخروز الجملة، يشد محل الشق بشَرَج (¬2)، أو تُعطف إحدى الضفتين على الأخرى - وجهين في جواز المسح، أحدهما - المنع؛ فإن هذا سترُ لفٍّ، والأصح القطع بالجواز، إذا كان الستر حاصلاً مستداماً في مدة المسح؛ فإن الستر مع تيسر الارتفاق بهذه الآلة على جريان العرف حاصلٌ، فليقع الاكتفاء بهذا. وقد نجز ما ذكرناه من اشتراط كون الملبوس ساتراً لمحل الفرض، قوياً يُعدّ للتردد في الحاجات. 412 - وقد تردد أئمتنا في اشتراط صفة أخرى في الساتر، وهي أنه لو كان ساتراً لا تبدو منه القدم للناظرين، وكان قوياً يتأتى التردد فيه، كما تقدم شرح ذلك، ولكن ¬

_ (¬1) في الأصل: " استيثاق " والمثبت من (ل). واستيفاز المسافر: أي تعجّله واستنفاره. (¬2) الشرَج بالفتح عُرا العيبة والخباء ونحوه، والمعنى أنه يُشَدّ بواسطة العرا حتى يكون ساتراً. (تهذيب الأسماء واللغات، والمعجم، والمصباح). والشرْج -بالسكون- شدُّ الخريطة، أي ما تشدّ به، والخريطة وعاءٌ من أدَمٍ أو نحوه يُشرجُ على ما فيه (القاموس) فيكون المعنى على هذا، يشدّ بسير: برباطٍ حتى يكون ساتراً، (ر. فتح العزيز للرافعي: 2/ 369 - 371).

كان منسوجاً بحيث لو صب الماء عليه نفذ إلى القدم، ففي جواز المسح عليه خلاف. من أئمتنا من جوز المسح، وهو القياس، ومنهم من منع. وفي كلام الصيدلاني إشارة إليه، ووجهه أن الذي وقع المسح عليه يجب أن يكون حائلاً حاجزاً بين الماء والقدم، فإذا لم يكن كذلك، وكان الماء ينفذ إلى الرجل، فكأنه ليس حائلاً. وهذا بعيد. وقد نصّ علماؤنا على أنه إذا انثقبت ظهارة الخف، ولم تنثقب البطانة بإزاء تلك الثُّقْبة، ولكن انثقبت البطانة من موضع آخر، وانفتقت الظهارة عن البطانة، وكان القدم لا تبدو، ولكن لو صُبّ الماء في ثقبة الظهارة، لجرت إلى ثقبة البطانة، ووصلت إلى القدم، فيجوز المسح والحالة هذه؛ فإذاً لا أثر لنفوذ الماء، ثم الماء في المسح لا ينفذ إلى القدم، وغسل الخف ليس مأموراً به. فرع: 413 - قال الصيدلاني: إذا اتخذ ملبوساً قويّاً من جوهرٍ شفاف يتراءى ما وراءه لصفائه، لا لخلل فيه، فيجوز المسح عليه، وستر العورة في ذلك ينفصل عن ستر القدم؛ فإن المصلي لو استتر بشيء تتراءى منه عورته لصفائِه، أو وقف في ماء صافٍ، لم يكن ساتراً للعورة. والمرعي من الستر في الخف حائلٌ قوي بين يد الماسح وبين القدم، وفي نفوذ الماء من التفصيل ما ذكرناه. فصل 414 - إذا لبس الرجل خفاً، ولبس فوقه جُرمُوقاً (¬1)، ثم أراد المسح على الجرموق، فإن كان الجرموق ضعيفاً: بحيث لا يتأتى التردّدُ فيه، فلا يجوز المسح على الجرموق. ولو كان الجرموق قويّاً، والخف تحته ضعيفاً، فيجوز المسح على الجرموقين؛ فإنهما بمثابة الخفين، والخف بمثابة الجورب واللفافة. وإن كان الخف والجرموق قويين: بحيث يجوز المسح على كل واحد منهما لو انفرد، ففي جواز المسح على الجرموقين -والحالة هذه- قولان: أحدهما -وهو ¬

_ (¬1) الجرموق: كعصفور خفٌّ قصير يلبس فوق خف (القاموس والمعجم).

الذي نقله المزني- أنه لا يجوز المسح عليه. والثاني -وهو الذي نصّ عليه في القديم- أنه يجوز المسح عليه، وهو مذهب المزني. فأما وجه قول المنع، فهو أن الخف بدل عن القدم، فيقع الجرموق بدلاً عن الخف، وليس للبدل في الطهارات بدل. على أن الرخص لا يعدّى بها مواقعها. واحتج المزني بأن قال: "إنما جاز المسح على الخف مِرْفقاً (¬1) للمتردد في سفره وفي المسح على الجرموقين مَرفق ظاهر" (¬2). فنقول: هذا المِرفق تمس الحاجة إليه نادراً، فكان كالقفازين؛ فإن المسافر تشتد حاجته إليهما في شدة البرد، ثم لا يمسح عليهما. وأما الخف، فالحاجة إليه عامة ظاهرة، في حق المقيم والمسافر، ثم لا يعسر إدخال اليد تحت الجرموق ومسحُ الخف، وغسلُ الرجل في الخف عسر جدّاً. التفريع: 415 - إن قلنا: لا يجوز المسح على الجرموقين، نزعهما -[أو] (¬3) أدخل يده تحتهما- ومسح على الخفين. وإن قلنا: يجوز المسح على الجرموقين، فقد ذكر ابن سريج في تنزيلهما ومحلّهما ثلاثةَ أوجهٍ: أحدها - أنه بدل عن الخف، والخف بدل عن القدم، فهو بدل البدل. والثاني - أنهما بمثابة الخف، والخف بمثابة اللفاف، فالجرموق بدل عن القدم. والثالث - أن الخف والجرموق بمثابة ملبوسٍ واحد، وكان الجرموق ظهارةٌ، والخف بطانة. وهذه التقديرات محتملة، لا حاجة إلى توجيهها. 416 - ونحن نفرع على (¬4) جواز المسح على الجرموقين أمرين: أحدهما - اللبس على الحدث. والثاني - النزع. ¬

_ (¬1) بفتح الميم وكسرها (معجم). (¬2) ر. المختصر: 1/ 49. (¬3) في الأصل: وأدخل، وهذا تقدير منا، صدقته (م). (¬4) في الأصل: نفرع عليها على جواز المسح.

فأما تفصيل القول في الحدث، فإن لبس الخفين على طهارة كاملةٍ، ثم لبس الجرموقَ، وهو مستديمٌ للطهارة، فلا إشكال، وإن أحدث بعد لُبس الخفين، لم يخل: إما أن يلبس الجرموق محدثاً، وإما أن يلبسه وهو على طهارة المسح على الخفين، فإن لبس محدثاً، نفرع على هذه التقديرات. فإن قلنا: الجرموق بدل البدل، أو بدل القدم، والخف لفافة، فلا يمسح على الجرموق؛ فإنه ممسوح عليه مقصودٌ، لَبِسه محدثاً، فأشبه ما لو لبس الخف محدثاً، وأراد المسحَ عليه. وإن قلنا: الجرموق فوق الخف، كطاقة فوق طاقة، من ملبوسٍ واحد، فيجوز المسح عليه، ويكون لُبسه على الحدث بمثابة ما لو لبس خفاً متطهراًً، ثم أحدث وألصق طاقةً جديدة بخفه [بخرزٍ أو غراء] (¬1)، فله المسح على الطاقة التي ألصقها بعد الحدث. ولو لبس خفيه وأحدث وتوضأ، ومسح على الخفين، ثم لبس الجرموق وهو على طهارة المسح. فإن قلنا: لو لبسه محدثاً، مسح، فيمسح هاهنا. وإن قلنا: لا يمسح، فهذا يُبنى على أن المسح على الخف هل يرفع الحدث؟ قال قائلون: إن قلنا: يرفعه، فيجوز أن يمسح على الجرموق، بناء على طهارة المسح على الخف، وإن قلنا: لا يرفع المسحُ على الخف الحدثَ، فلا يمسح على الجرموق بناءً على طهارة المسح على الخف. 417 - ثم قال هؤلاء: ما ذكر من الخلاف -في أن المستحاضة إذا توضأت، ولبست الخف هل تمسح- يخرّج على أن طهارة المستحاضة هل ترفع الحدث السابق أم لا؟ وفيه نظر. وكان شيخي يقطع بأن طهارة المستحاضة لا تؤثر في رفع الحدث. وقال هذا القائل: الجريح إذا غَسل ما قدر عليه، وتيمم عن المعجوز عنه، ولبس الخف، ففي جواز المسح خلاف، وهو أيضاً مبني على أن ما جرى من الغسل ¬

_ (¬1) تقدير منا على ضوء ما بقي من آثار الحروف، ونحمد الله؛ فقد صدقتنا (م)، (ل).

والتيمم هل يرفع الحدث؟ وإنما لا يرفع الحدث إذا لم يكن معه غَسل؛ فإن التيمم مع الغَسل بمثابة المسح على الخف مع غسل سائر أعضاء الوضوء. والتزام تخريج الخلاف على الخلاف في ارتفاع الحدث بما يجري في هذه المسائل من الطهارات - غيرُ صحيح؛ فإن طهارة المستحاضة مع مقارنة الحدث إياها يبعد أن ترفع حدثاً. ثم إن صحّ هذا المسلك، فيجب، على موجَبه أن يقال: إذا لبست المستحاضةُ الخف على طهارتها، ولم يتفق حدث بين الفراغ من الوضوء وبين الفراغ من اللبس، ثم استرسل الدم بعد اللبس، إنها تمسح إلى تمام المدة؛ فإن الحدث الأول قد زال، والأحداث المتجددة بعد اللبس لا تمنع استكمال المدة، ولم أر ذلك لأحد. 418 - والوجه عندي في تخريج هذه المسائل أن الطهارة المبيحة للصلاة، إذا لم تكن رافعةً للحدث، هل تفيد المسح على الخف؟ فعلى الخلاف المقدم. فعلى هذا نقول: إن حكمنا بأن المسح على الخف يرفع الحدث، فيجوز المسح على الجرموق بناء عليه، قولاً واحداً، وإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث، فهل يُفيد جوازَ المسح على الجرموق؟ فعلى وجهين، كالوجهين في طهارة المستحاضة. فهذا بيان المراد فيما يتعلق بتخلل الحدث، والمسح بين لبس الخف، ولبس الجرموق. 419 - فأما القول في نزع الجرموقين. فنقول: إذا مسح على الجرموق على قول الجواز، ثم نزع الجرموقين بعد المسح عليهما. فإن قلنا: إنهما بمثابة الطاقة العليا، فلا يضرّ نزعهما، وهو بمثابة ما لو مسح على خفيه، ثم كشط الظهارة منهما. وإن قلنا: الجرموق بدلٌ عن الخف، والخف بدل عن القدم، فإذا نزع الجرموقين، وجب المسح على الخفين. وهل تجب إعادة الطهارة من أولها، أم يجوز الاقتصار على مسح الخفين؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما في نزع الخفين، ولا نوجب نزع الخفين على هذا التقدير الذي ذكرناه.

وإن قلنا: الجرموق خفٌّ، والخف لفافة، فإذا نزع الجرموقَ، لزم نزع الخفين، ثم يجب إعادة الوضوء من أوله، أم يكفي غَسل القدمين؟ فعلى قولين. فهذا إذا نزع الجرموقين. 420 - فأما إذا نزع أحدهما فنقدّم عليه أن الماسح على الخف إذا نزع أحدهما، لزمه نزع الثاني، ثم يجري القولان في إعادة الوضوء، ومما نقدّمه أنه لو كان يغسل رجلاً، ويمسح على خُفٍّ على الرجل الأخرى، فلا يجوز ذلك وفاقاً. ولو أنه في الابتداء لبس خفين، ثم لبس فوق أحدهما جرموقاً، وترك الخف الثاني بادياً، فإن جعلنا الجرموق كطاقةٍ، فلا شَك في جواز هذا. وإن قلنا: الجرموق بدلٌ عن الخف، فلا يجوز؛ فإنه أَثبت بدلاً في إحدى الرجلين، وتركَ الخف -وهو أصلُ الجرموق على هذا التقدير- بادياً، فكان كما لو كان يغسل رجلاً، ويمسح على خف على الرجل الثانية. وإن قلنا: الخف تحت الجرموق لفافةٌ تقديراً، فإذا لبس جرموقاًً واحداً، فكان يمسح عليه، ويمسح على خفٍّ على الرجل الثانية، ففي المسألة وجهان ذكرهما شيخي. أحدهما - لا يجوز ذلك؛ فإن الخف البادي بمثابة لفافة. والثاني - يجوز. وهو الصحيح؛ فإن الخف إنما يقدر [لفافة] (¬1) إذا كان فوقه جرموق. فإذا لم يكن، ترك الخف على حقيقته. هذا تفصيل القول في الابتداء، إذا لبس جرموقاًً وترك خفاً بادياً. فأما إذا لبس الجرموقين ومسح عليهما، ثم نزع أحدهما، فإن جعلناه كطاقةٍ، لم يضر ذلك، وله تبقية الجرموق الثاني، وإن لم نُقدِّر ذلك، فإذا نزع أحدهما، لزمه نزع الثاني. ثم قد مضى تفصيل القول فيه إذا نزعهما جميعاًً. 421 - فإن قيل: إذا جوزتم في الابتداء لبسَ جرموقٍ فوق خف، وترْك الخف ¬

_ (¬1) في الأصل: اللفافة. والمثبث تقديرٌ منا رعاية للسياق، وهي كذلك في (م)، (ل).

بادياً، فهلا جوزتم ردّ الأمر إلى ذلك دواماً وانتهاء؟ قلنا: إنما جوزنا ذلك ابتداء على تقدير الخف لفافاً في أحد الوجهين. فقلنا: الخف البادي لم يكن [مقَدّراً] (¬1) لفافاً إذا لم يكن مستوراً، فأما إذا لبس الجرموقين، فقد ثبت للخفين حكم اللفافة، فإذا نزع أحدهما، ووجب نزع الخف، لزم ذلك في الثاني أيضاً. فهذا تحقيق الفصل. 422 - وقال جماهير أصحابنا: يبنى الدوام على الابتداء. فإن قلنا: يجوز في الابتداء المسحُ على خف وجرموق فوق خف، فيجوز ردّ الأمر إلى ذلك آخراً. وهذا عندي غير مستند إلى بصيرة، فلا ينقدح قطّ ذلك في الانتهاء، إلا على تقدير الجرموق طاقة فوق طاقة. وإذا قلنا: لا يجوز المسح على الجرموقين، فلو أدخل يده تحتهما، ومسح على الخف، وجب القطع بجوازه. وإن جوزنا المسح على الجرموقين، فلو أدخل يده تحت الجرموقين، ومسح على الخف، فإن جعلنا الخف كاللفافة والبطانة، وجب ألا يجوز هذا، وإن جعلناه أصلاً، وجعلنا الجرموق بدلاً، فيجوز حينئذٍ. فصل 423 - من لبس خفّيه على كمال الطهارة، ثم نزعهما وهو على الطهارة الأولى، فلا أثر للنزع، ولا شك فيه. وإن أحدث بعد لبس الخف، ونزعه وهو محدث، فلا شك أنه يستأنف الطهارة التامة، ثم يلبس الخف إن أراد المسح. وإن أحدث، وتوضأ، ومسح على خفيه، ثم نزع وهو على طهارة المسح، فيجب غسل القدمين. وهل يجب استئناف الوضوء؟ فعلى قولين للشافعي. ¬

_ (¬1) في الأصل: مقداراً. والمثبت تقديرٌ منا، وقد صدقته (م)، و (ل).

ثم ذهب بعضُ الأصحاب إلى أن القولين مأخوذان من التفريق هل يبطل الوضوء؟ فإن قلنا: لا يبطل، كفى غسل الرجلين، وإن قلنا: يُبطله، لزم استئناف الوضوء. وهذا غلطٌ عند المحققين؛ فإن القولين يجريان، وإن لم يطل زمانٌ؛ فإنه لو غسل وجهه ويديه، ومسح برأسه وعلى خفيه، ثم نزعهما على الفور، ففي وجوب إعادة الوضوء قولان، وإن توالى ما وصفناه، ولم يتخلّل زمان. قال القفال وغيره من المحققين: القولان مأخوذان من أن المسح على الخف هل يرفع الحدث عن الرجل أم لا؟ وفيه قولان مستنبطان من معاني كلام الشافعي. فإن قلنا: لا يرفع الحدث، فقد ارتفع عن الوجه واليدين والرأس، فبقي الرجلان فيغسلهما. وإن قلنا: ارتفع الحدث عن الرجلين، فإذا بدتا، وجب غسلهما، والحدث قد عاد إليهما، ثم الحدث في عوده لا يتبعض، فيجب استئناف الوضوء من أوله. فرع (¬1): 424 - كان شيخي ينقل من نص الشافعي أن لابس الخفين إذا نزع رجلاً من مقرها، وأنهاها إلى الساق، فهو نازع، وإن بقي منها شيء في مقر القدم، وهو محل فرض الغسل، فليس نازعاً بعد، فلو رد القدم، فالأمر مستدام لا يقطعه ما جرى. ولو توضأ وضوءاً كاملاً، وأدخل إحدى رجليه الخفين، وقرّت في مقرها من الخف، ثم أدخل الثانية، فبقي شيء منها في ساق الخف، وقد أدخل المعظم، فأحدث، بطل اللبس، ولزم نزعُ القدمين، واستفتاحُ الأمر من أوله، فكأنا في الطرفين نستديم ما كانت الرجل عليه، إلى تمام خروجه عن صفته، إما من الخروج إلى الدخول، أو من الدخول إلى الخروج. ولم أر في الطرق ما يخالف هذا. فرع: 425 - إذا سقطت إحدى رجلي الرجل، ولم يبق شيء من محل الفرض، ¬

_ (¬1) سقط هذا الفرع كاملاً من (ل).

فلبس فَرْدَ خُف، وكان يمسح عليه، جاز؛ فإنّ حكم الرجل الأخرى ساقط بالكلّية، وإن بقي شيء من تيك الرجل وإن قل، فإذا لم يواره بملبوسٍ، تعين غسل الرجل الأخرى مع تيك البقية، وهذا أوضح. ***

باب كيفية المسح

باب كيفية المسح 426 - ينبغي أن يقع المسح على ما يواري محل الفرض من القدم، ثم نذكر الأكمل، وبعده الأقل. فأما الأكمل، فمسحُ أعلى الخف وأسفله، إذا لم يكن الأسفل نجساً، ويبلل يديه، ويضع مؤخرة كفّه اليمنى على مقدمة أصابع الرجل من فوق، وأطراف أصابع اليد اليسرى من أسفل مما يلي العقب، وُيمرّ يديه، فتنتهي أطراف أصابع اليمنى إلى الساق، وينتهي مؤخر كفه اليسرى إلى أطراف أصابع الرجل من أسفل، ولا يقصد استيعاب الخف. فإن النبي عليه السلام لم يرد ذلك، وفي الحديث الصحيح "أن النبي عليه السلام مسح على خفه خطوطاً من الماء" (¬1). ولا نستحب التكرار في هذا المسح، بل نكرهه. وهل يُستحب مسحُ عقب الخف، وهو ما يستر العقب المنتصب؟ فعلى وجهين ¬

_ (¬1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف خطوطاً: قال ابن الصلاح: تبع فيه الرافعي الإِمام؛ فإنه قال في النهاية: إنه صحيح، فكذا جزم به الرافعي، وليس بصحيح، وليس له أصل في كتب الحديث ا. هـ. قال الحافظ: وفيما قاله ابن الصلاح نظر، وذكر أن الطبراني رواه في الأوسط عن جابر، وقد عزاه ابن الجوزي إِلى ابن ماجة، عن جرير بإِسناد غير إِسناد الطبراني، وقد استدركه المزي على ابن عساكر في الأطراف، وإِسناده ضعيف جداً. أما قول إِمام الحرمين المذكور، فقد تبع فيه القاضي حسين، وقد عدّ النووي تصحيح هذا الحديث من إِمام الحرمين خطأ فاحشاً. ا. هـ. (ر. الطبراني في الأوسط: 2/ 81 ح 1157، ابن ماجة: الطهارة، باب في مسح أعلى الخف وأسفله، ح 551، مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 1/ 404، التنقيح - بهامش الوسيط: 1/ 404، تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق: 1/ 533، التلخيص: 160، ح 219، والمجموع: 1/ 522).

ذكرهما العراقيون: أحدهما - يستحب؛ فإنه ساتر لما هو محل الفرض من الرجل، والوجه الثاني - لا يستحب؛ فإنه لم يجر له ذكرٌ في شيء من الأخبار، وليس الاستيعاب محبوباً، حتى يقال: ينبغي أن يمسح جميع ما يستر محل الفرض، فهذا بيان الأكمل. 427 - فأما الأقل، فيكفي أول ما ينطبق عليه اسم المسح، وإذا كنا نكتفي في مسح الرأس، وهو أصلٌ بالاسم، فلأن نكتفي به في مسح الخف -وهو رخصة- أَوْلى، ثم لا خلاف أنه لو ألقى الفرض (¬1) على ظهر القدم، جاز، ولو مسح أسفله مقتصراً عليه وهو ما يستر أخمص القدم، فظاهر النص في المخنصر أنه لا يجزئه (¬2). واختلف الأئمة، فقال بعضهم: في المسألة قول آخر: أنه يجزىء، وهو القياس؛ لأن أسفل الخف ساتر لما هو من محل الفرض، فشابه الأعلى. والأظهر ما يدل عليه النص، وهو أنه لا [يكفي] (¬3) الاقتصار على الأسفل؛ إذ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصر على مسح الأعلى، وروي أنه مسح الأعلى والأسفل. ولم يُروَ الاقتصارُ على الأسفل. والمعتمد في الرخص الاتباع. وكان [شيخي] (¬4) يذكر طريقين آخربن: أحدهما - القطع بمنع الاقتصار على الأسفل. والثاني - القطع بجواز الاقتصار، وحمل النص على الأوْلى، مع التأكيد فيه. ولو فُرض الاقتصار على مسح العقب -وهو الذي ذكر العراقيون الاختلافَ في استحباب مسحه عند محاولة الأكمل- فهذا فيه تردّدٌ؛ من جهة أنه ساتر لما هو محل ¬

_ (¬1) في (ل): "ألقى المسح". (¬2) هذا مأخودّ من مفهوم كلام المزني، وليس من نصه. ر. المختصر: 1/ 51. (¬3) في الأصل: يكتفى، وصدقتنا (م)، (ل). (¬4) زيادة، قدرناها على ضوء أسلوب إِمام الحرمين، لضرورة السياق. وقد صح ما قدرناه، فوجدناها في (م)، (ل).

الفرض، وهو دون أسفل الخف، [و] (¬1) من جهة أنه لم يجْر له ذكرٌ في السنن، بخلاف أسفل الخف، فإنه روي مسحُه [مع] (¬2) الأعلى، ولكن العقب ظاهر للناظر كاعلى الخف بخلاف أسفله. فهذا بيان الأقل والأكمل في المسح. ... ¬

_ (¬1) زيادة اقتضاها السياق، وليست في النسخ الثلاث. (¬2) زيادة من مختصر ابن أبي عصرون، ووجدناها في (م)، (ل).

باب الغسل للجمعة والأعياد

باب الغسل للجمعة والأعياد 428 - غسل الجمعة مستحبٌّ مؤكدٌ، وقوله عليه السلام: " غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلم " (¬1)، معناه مأمور [به] (¬2) مؤكد، وأراد بالمحتلم البالغ، لا الذي يحتلم يوم الجمعة، وهو كما روي عن عائشة أنها قالت: " لا تصلي الحائض من غير خمار " (¬3)، أرادت بالحائض البالغة المكلفة. ثم لو أجنب الرجلُ يوم الجمعة، فاغتسل، ونوى بالغسل الواحد غسلَ الجنابة والجمعة جميعاًً، حصلا، وذكر الشيخ أبو علي شيئاًً بعيداً أنهما لا يحصلان، والتشريك في النية يفسد الغسلَ -وقد قدمت ذلك، فيما (¬4) أظن- وهو غلط صريح، غير معدودٍ من المذهب. ولو نوى غُسلَ الجنابة، ولم ينو غُسل الجمعة، ففي حصول غسل الجمعة قولان: أحدهما - لا يحصل؛ فإنه لم ينوه، والثاني - يحصل؛ فإن الغرض من غُسل الجمعة التنظف والتنزه، وقطع الروائح الكريهة، وقد حصل ذلك، وهو شديد الشبه ¬

_ (¬1) حديث غسل الجمعة، متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 163 ح 487، وانظر التلخيص: 1/ 69 - 70). (¬2) زيادة اقتضاها السياق، وصدقتنا (م)، (ل). (¬3) حديث: " لا تصلي الحائض بغير خمار صحيح رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، ومالك، وأحمد، وابن خزيمة، (ر. أبو داود: الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار، ح 641، وصحيح أبي داود للألباني: 596، والترمذي: الصلاة، باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة الحائض إلا بخمار، ح 377، والألباني 311، وابن ماجة: الطهارة، باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، ح 655، والألباني 534، ومسند أحمد: 6/ 150، 259، وابن خزيمة: ح 775). (¬4) ظن إِمامنا صادق، فقد قدم ذلك فعلاً في باب النية في الوضوء.

بتحية المسجد، ومن دخل المسجد، ولم يجلس حتى صلى صلاة مفروضة، أو مسنونة، فقد حصلت تحيةُ المسجد وإن لم ينوها، هذا سماعي من شيخي، ولم أره لغيره من المشايخ. 429 - ولو نوى المغتسل بغُسله غسلَ الجمعة، ولم ينو غسل الجنابة، فالمذهب الظاهر أن غسل الجنابة لا يحصل بهذا؛ فإن غُسل الجمعة لم يُشرع لأجل الحدث، وفيه شيء ذكرته في باب النية للوضوء. إن قلنا: يحصل غسل الجنابة، فيحصل غسل الجمعة. وإن قلنا: لا يحصل غسل الجنابة، فهل يحصل غسل الجمعة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون. وإنما يظهر أثرهما إذا قلنا: لو نوى غسلَ الجنابة، ولم ينو غسل الجمعة، لم يحصل غسل الجمعة، فعلى هذا إذا نوى أولاً غسلَ الجمعة، ولم ينو الجنابة، ثم اغتسل مرة أخرى، ونوى الجنابة، ولم ينو غسل الجمعة، ففي حصول غسل الجمعة الوجهان، والظاهر حصوله. ووجه قول من لا يحصِّله أنه تابع لغسل الجنابة، فيبعد حصوله أول مع بقاء غسل الجنابة. 430 - فإن قيل: إذا قلنا: لو نوى غسل الجنابة مطلقاًً، حصل غسلُ الجمعة، فلو نواه، ونفى غُسل الجمعة، أو صلى كما (¬1) دخل المسجد فريضة، ونفى قصدَ تحية المسجد. فماذا ترون فيه؟ قلنا: فيه احتمالٌ، والظاهر أنه لا يحصل، وسبب الاحتمال أن مجرّدَ الغسلِ في حق من ليس بجنب لا يعتد به من غير نية، وقد يخطر أن الغرض منه [النظافة] (¬2) وإن كانت النية مشروطة في النظافة. فهذا تمام الغرض في ذلك. ¬

_ (¬1) كما: بمعنى عندما وهذا جار كثيراً عند إِمامنا. وأشرنا آنفاً إِلى أنه غير صحيح عَربيّةً. (¬2) زيادة اقتضاها السياق، وصدقتنا (ل).

فصل 431 - " من غسَّل ميتاًً، أمرناه بأن يغتسل ... إلى آخره " (¬1). والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من غسل ميتاًً، فليغتسل، ومن مسّه فليتوضأ " (¬2) وللشافعي وقفةٌ في الحديث، ولكنه أمر بالغسل استحباباً مؤكداً. وقال الأصحاب: آكد الأغسال المسنونة غُسلان، أحدهما - غسل الجمعة، والثاني - الغسل من غسل الميت، وأيهما آكد؟ فعلى قولين مذكورين، أحدهما - غسل الجمعة؛ لصحة الأخبار، وظهور الخلاف في وجوبه؛ فإن طائفة من علماء السلف أوجبوه. والثاني - الغسل من غسل الميت آكد؛ فإنه ورد فيه أمر، والأمر على الوجوب، ولم يعارضه ما يدل على نفي وجوبه، وورد في غُسل الجمعة ما يُسقط وجوبه. 432 - وذكر العراقيون كلاماًً على التقدير وراء هذا، فقالوا: لو صح الخبرُ في الغسل من غسل الميت، فهل يقتضي وجوبَه أم لا؟ فعلى وجهين: ولو قضينا بوجوبه، فعلى ماذا يحمل وجوبه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحمل على نجاسة بدن الآدمي إذا مات، وهو وجه بعيد. ثم على هذا من غسل ميتاًً، فترشش الماء إلى مواضع من بدنه لا يَدريها، فيجب تعميم البدن بالغَسل، ليستيقن طهارة بدنه، بعدما علم نجاسته. ¬

_ (¬1) نص الشافعي: "وأحب الغسل من غسل الميت" ر. المختصر: 1/ 52. (¬2) حديث: " من غسل ميتاً، فليغتسل " أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، وروي مرفوعاً وموقوفاً، والمرفوع فيه مقال. وقد صححه الألباني. (ر. أحمد: 2/ 433، 454، 472، 280، أبو داود: الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت، ح 3161، 3162، الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، ح 993، وصحيحه للألباني: 791، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت، ح 1463، وصحيحه 1995، وابن حبان: 1158، والبيهقي: 1/ 300، 301، تلخيص الحبير: 1/ 136).

والثاني - أنه يحمل على تعبُّدٍ من غير تقدير نجاسة. وهذا التقدير منهم في حكم اللغو عندي؛ فإنهم إن عَنوْا به أنه لو نقل الخبرَ ابتداء من يوثق به، فإذا كنا نقول! فهذا لا حاصل له، ولو فتحنا هذا الفن من التقديرات، لكثر الكلام فيما لا يعنينا، وان عَنَوْا بذلك، أنا لو تبينا صحة الحديث في المستقبل، وهذا مرادهم بالتقدير، فهذا بعيد؛ فإنه لو كان يتبين، لبانَ إلى الآن قطعاًً، فضَعُف ما ذكروه. 433 - ومما زادوه أن الوضوء من مسّ الميت مختلف فيه، فمنهم من حمله على ما إذا مس فرج الميت، ومنهم من استحب الوضوء على التأكيد من مسّه، من غير مس فرج، وهذا ما قطع به المراوزة. ثم في غسل العيد [ووقته] (¬1) كلام، وفي غسل الجمعة أيضاً بقية، تأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله عز وجل. ... ¬

_ (¬1) زيادة من (ل) فقط.

كتاب الحيض

كتاب الحيض (¬1) (¬2) 434 - الأصل في الحيض الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب، فقوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، [البقرة: 222] وسبب نزول الآية مشهور (¬3)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}: "افعلوا كل شيء إلا الجماع " (¬4). والإجماع منعقدٌ على أصل الكتاب، وإن وقع خلاف في التفاصيل. ونحن نصدّر الكلام بفصول: أحدها - في سنّ الحيض. والثاني - في أحكامه. والثالث - في أقله وأكثره وبيان الأدوار. ¬

_ (¬1) ابتداء من هنا عندنا نسختان (ت1)، (ت2). وقد اتخذنا (ت2) أصلاً، (ت1) نسخة مساعدة، واستمر الحال على ذلك إِلى آخر كتاب الطهارة، بل بعد بدء كتاب الصلاة، وإِلى أول (باب استقبال القبلة، ولا فرض إِلا الخمس) حيث صار عندنا أربع نسخ، سنبين حالها في موضعها. إِن شاء الله. ثم أسعفتنا المقادير بنسخة (ل) وهي مستمرة معنا إلى آخر كتاب الصلاة (انظر البيان في أول هذا الجزء). (¬2) أشار النووي إلى صعوبة (كتاب الحيض) ودقة مسائله، وكثرتها، وذكر أنّ ممن عُنوا به إمام الحرمين في النهاية، فمما قال: (اعلم أنّ باب الحيض من عويص الأبواب، ومما غلط فيه كثيرون من الكبار، لدقة مسائله، واعتنى به المحققون، وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة ... وقد جمع إمام الحرمين في (النهاية) في باب الحيض نحو نصف مجلد، وقال بعد مسائل الصفرة والكدرة: "لا ينبغي للناظر في أحكام الاستحاضة أن يضجر من تكرير الصور وإعادتها في الأبواب ... " اهـ (المجموع: 2/ 344، 345). (¬3) يشير إلى ما صح في سبب نزول هذه الآية، من أن العرب في المدينة وما والاها، كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض، ومساكنتها، فنزلت الآية تحلّ كل شيء إلاّ الجماع. (ر. صحيح مسلم: كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، ح 302). (¬4) حديث: " افعلوا كل شيء ... " جزء من حديث أن الذي رواه مسلم (انظر الهامش السابق).

والرابع - في أحكام المستحاضة. فأمَّا الفصل الأول [ففي سن الحيض] (¬1) 435 - القول في سن الحيض مأخوذ من سن البلوغ، فنشير إلى سن [بلوغ الغلام] (¬2): ظاهرُ نص الشافعي في كتاب اللعان يدل على أن بلوغ الغلام ممكن بعد مضي ستة أشهر من السنة العاشرة؛ فإنه قال: إذا جاءت المرأة بولد وزوجها ابن عشر، فالولد يلحقه، ومن ضرورة ذلك تقدير إمكان العلوق في أثناء السنة، وأقل مدة الحمل ستة أشهر. ومن أصحابنا من يقول: يدخل إمكان بلوغ الغلام بنفس الطعن في السنة العاشرة. فأما الجارية، فقد قال بعض أصحابنا: يحتمل أن يدخل وقت إمكان حيضها، باستكمال السنة التاسعة. فعلى هذا، إذا فرعنا على أن الغلام يحتمل أن يبلغ بالطعن في السنة العاشرة، فيتفق وقت الإمكان فيهما، [ومن أصحابنا من قال: قد تحيض الجارية إذا مضت ستة أشهر من السنة التاسعة] (¬3) ومنهم من قال: قد تبلغ بنفس الطعن في التاسعة، وهي على الجملة أسرع بلوغاً، وإنما يتفق ما ذكرناه في البلاد الحارة. قال الشافعي: رأيت جدة باليمن بنت عشرين سنة. ثم المنقول في ظاهر المذهب أن الصغيرة إذا رأت دماً في السنة الثامنة، فهو دم فسادٍ، فليحفظ هذا المذهب. وسنبيّن في فصل الأدوار، حقيقتَها على أقصى الإمكان في البيان إن شاء الله عز وجل. فهذا بيان نقل المذهب في سن الحيض. ¬

_ (¬1) مزيدة من المحقق، اعتماداً على التفصيل الذي ذكره المؤلف. (¬2) في الأصل: " إِلى سن البلوغ " والمثبت عبارة (ل). (¬3) زيادة من: (ت 1)، (ل).

436 - ثم كان شيخي يقول: إذا اتفق ما ذكرناه في البلاد الحارة، فهو على السن المذكور حيض، وإن اتفق في البلاد الباردة التي لا يعهد فيها أمثال ذلك، ففي المسألة وجهان، وهذا الذي حكاه له التفاتٌ على أن سن اليأس في الحيض يعتبر فيه أقصى نساء العالم، أو نساء القطر والناحية، أو نساء العشيرة، وفيه كلام يستقصى في العدّة، إن شاء الله. فأمَّا الفصل الثاني ففي أحكام الحيض 437 - فنبدأ بالطهارة، ونقول: لا يصح منها غسلٌ إلا على قولٍ بعيد، إذا قلنا: تقرأ الحائضُ القرآن، ولا تقرأ الجنب. فلو أجنبت المرأة، ثم حاضت، فلا تقرأ، فلو اغتسلت، قرأت (¬1). قال شيخي: في المناسك أغسالٌ مسنونة في أمورٍ لا تفتقر إلى الطهارة، منها غسل الإحرام، وغسل الوقوف بعرفة؛ فيستحب للحائض هذه الأغسال؛ فإن حقيقة الطهارة ليست مشروطة في شيء من هذه المناسك. ثم نربط بالطهارة جملاً من أحكامها. 438 - فنقول: لا يصح منها شيء مما يشترط فيه الطهارة، كالصلاة، وسجود الشكر، والتلاوة، والطواف. ولا يصح منها ما يتعلق بالمسجد، كالاعتكاف. وأما دخول المسجد، فسنذكر في الصلاة أن الجنب يدخل المسجد عابراً، وأما الحائض، فإن كان يُخشى منها تلويث المسجد، فيحرم عليها دخول المسجد، وإن كانت أحكمت شدادها، وصارت بحيث لا يخشى ذلك منها، فالأصح أنه يحرم عليها دخول المسجد عابرةً بخلاف الجنب؛ لغلظ الأمر في حدثها، وأبعد بعضُ أصحابنا، فألحقها بالجنب، ولا أصل لهذا. وكذلك ذكروا هذين الوجهين في التي طهرت، ولم تتطهر بعد. ¬

_ (¬1) فكأنها لما اغتسلت، رفعت حكم الجنابة التي سبقت الحيض، فبعد أن كانت جنباً حائضاً، صارت حائضاً فقط، فجاز لها قراءة القرآن، عند من يقول: تقرأ الحائض.

439 - ومن أحكامها أنه لا يصح منها الصوم؛ [وهذا] (¬1) لا يُدرَك معناه؛ فإن الطهارة ليست مشروطة في الصوم. ثم لا تقضي الصلاة التي تمرّ عليها مواقيتُها في الحيض، وتقضي ما يفوتها من صيام رمضان. والمتبع في الفرق الشرعُ، وقد سئلت عائشة في الفرق بين الصلاة والصوم، فقالت: " كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة " (¬2) فأبانت أن الاتباع هو الفارق بين البابين، ثم الحيض ينافي صحة الصلاة ووجوبها، وهو ينافي صحة الصوم، وهل يقال: إنه يجب في وقت الحيض، بدليل وجوب قضائه؟ قال قائلون: يجب، والمحققون يأبَوْن ذلك؛ فإن الوجوب شرطُه اقتران الإمكان به، ومن يبغي حقيقة الفقه لا يقيم لمثل هذا الخلاف وزناً. 440 - ومن أحكام الحيض الاستمتاع، فإن الوقاع محرّم، والاستمتاع بالحائض فيما فوق السرة وتحت الركبة جائز، وفي جواز الاستمتاع بما دون السرة وفوق الركبة مع اجتناب الجماع وجهان. وفي النصوص إشارات إليهما. وتوجيههما: من لم يحرِّم احتج بما رَوَيناه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " افعلوا كل شيء إلا الجماع ". ومن حرّم استدل بما روي عن عائشة أنها قالت: " كنت مع رسول الله في الخميلة (¬3)، فحضت، فانسللت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ أنَفِسْتِ؟ فقلت: نعم، فقال: خذي ثياب حيضتك وعودي إلى مضجعك. فنال مني ما ينال الرجل من امرأته، إلا ما تحت الإزار " (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: فإنه. والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬2) حديث عائشة: "كنا نؤمر بقضاء الصوم" متفق عليه، من حديث معاذة عن عائشة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 7 باب 15 ح 192، وانظر تلخيص الخبير: 1/ 163 ح 224). (¬3) الخميلة = القطيفة: دثار له خَمْلٌ. (المصباح). (¬4) حديث: " فنال مني ما ينال الرجل من امرأته " رواه مالك في الموطأ، وإسناده عند البيهقي صحيح، وليس فيه: " ونال مني ما ينال الرجل من امرأته " وقد أنكر النووي في المجموع على الغزالي إيرادها في الوسيط، وقال: هو في ذلك متابع لشيخه. قال النووي: هذه الزيادة غير معروفة في كتب الحديث، ولكن في الصحيحين عن عائشة: كانت إِحدانا إِذا كانت حائضاً، =

ثم إذا طهرت المرأة ولم تغتسل، فأمر تحريم الوقاع، وتفصيل الاستمتاع على ما ذكرناه في حالة الحيض. وقد روى مقسِم (¬1) عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أتى امرأته والدم عبيط، تصدق بدينارٍ، وإن كانت في أواخر الدم، تصدق بنصف دينار " وفي الحديث ضعفٌ، والأصح أن الصدقة لا تجب، بل هي محبوبة. ومن أصحابنا من أوجبها، وهو بعيد، غير معدود من المذهب، ثم المعني بأواخر الدم في تفصيل الصدقة مستحبَّةً أو مستحقَّةً أن يقرُب من الانقطاع. وقال الأستاذ أبو إسحاق: المراد أن تطهر، ولم تغتسل بعدُ، فهذا أوان التصدق ¬

_ = أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتزر بإِزارها، ثم يباشرها، وأما حديث الخميلة، فهو متفق عليه من حديث أم سلمة، دون الزيادة " فنال مني ... " (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 66 ح 168، 170، الموطأ: 1/ 58، البيهقي: 1/ 311، والتلخيص: 1/ 167 ح 230). (¬1) حديث مقسم عن ابن عباس رواه أصحاب السنن، وأحمد، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم. وهو ضعيف كما حكم عليه إِمام الحرمين؛ إِذ قال ابن الصلاح في مشكلات الوسيط: " الحديث ضعيف من أصله، لا يصح رفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإِنما هو موقوف على ابن عباس " ثم أشار إِلى تصحيح الحاكم له، فقال: ولا التفات إِلى ذلك منه؛ فإنه خلاف قول غيره من أئمة الحديث، وهو معروف بالتساهل في مثل ذلك. ا. هـ وقد تبع النوويُّ ابنَ الصلاح فقال: " هو ضعيف باتفاق الحفاظ، وأنكروا على الحاكم قوله: إِنه حديث صحيح. وقد قال الشافعي: هذا حديث لا يثبت مثله " ا. هـ أما الحافظ في التلخيص، فبعد أن أشار إِلى روايات الحديث بطرقه المختلفة، وإِلى من صححه، قال: "الخلاصة: أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم". (ر. أبو داود: الطهارة، باب في إتيان الحائض، ح 264، الترمذي: الطهارة، باب ما جاء في الكفارة، ح 136، والنسائي: الحيض والاستحاضة، باب ذكر ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضها مع علمه بنهي الله تعالى، ح 370، ابن ماجة: الطهارة، باب في كفارة من أتى حائضاً، ح 640، مشكل الوسيط لابن الصلاح، والتنقيح للنووي - كلاهما بهامش الوسيط: 1/ 415، 416، التلخيص: 1/ 291 - 293 ح 228). هذا وقد خالف حكمَ هؤلاء الأئمة الشيخُ أحمد شاكر، والألباني فصححاه. (ر. مسند أحمد: 1/ 272 ح 2458 (الشيخ شاكر)، وصحاح السنن للألباني). قلت، (عبد العظيم): فكيف يُقال عن إِمام الحرمين: إِنه لم يكن يدري الحديث متناً ولا إِسناداً؟.

بنصف دينار، فأما مادام الدم موجوداً، فدينار. وهذا وإن كان قريباً من المعنى، فظاهر الخبر يخالفه. ويتعلق بالحيض أحكام تستقصى في مواضعها، كالاستبراء وغيره. فأمَّا الفصل الثالث فمضمونه بيان أقل الحيض وأغلبه، وأكثره، وذكر الدور 441 - فأما الأقل، فظاهر النص أن أقل الحيض مقدار يوم وليلة، وهي أربع وعشرون ساعة. وقال [في] (¬1) مواضع: أقله يوم، فاختلف الأئمة على طرق: فمنهم [من قال]: (¬2) قولان، ومنهم من قطع باليوم والليلة، وحمل قوله يوم على يوم بليلته. وأبعد بعض أصحابنا، فقطع بأن الأقلَّ يوم، وقد كان الشافعي ذكر يوماً وليلة تعويلاً على الوجود، ثم وجد أقل من ذلك وهو يوم، فرجع إليه واستقر عليه. وأما الأغلب، فست أو سبع؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستحاضة أراد ردَّها إلى غالب الحيض: " تحيَّضي في علم الله ستاً أو سبعاً " (¬3). وأما أكثر الحيض، فخمسة عشر يوماً عند الشافعي. وأما الطهر، فأقله خمسة عشر. ولا حدَّ لأكثره، وأغلبه مع أغلب الحيض ثلاثة ¬

_ (¬1) مزيدة من: (ت 1)، (ل) (¬2) مزيدة من: (ت 1)، (ل) (¬3) " حديث تحيَّضي في علم الله " طرفٌ من حديث طويل في قصة حمنة بنت جحش، رواه الشافعي في مسنده، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم، وحسنه الألباني. (ر. مسند الشافعي: 310، 311، مسند أحمد: 6/ 439، أبو داود: الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، ح 287، والألباني: 267، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة، ح 128، وابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في البكر إذا ابتدئت مستحاضة أو كان لها أيام حيض فنسيتها، ح 627، والدارقطني: 1/ 214 ح 48، والحاكم: 1/ 172، والتلخيص: 1/ 163 ح 223).

وعشرون إن كان الحيض سبعاً، وأربعة وعشرون إن كان الحيض ستاً. والدور عبارة عن حيض وطهر، والذي ذكرناه في ظاهر [هـ] (¬1) تقديرات، والتقدير لا يثبت إلا بتوقف، وليس يصح عند الشافعي خبرٌ في تقدير أقل الحيض وأكثره. 442 - وقد روى أصحاب أبي حنيفة أخباراً توافق مذهبهم في الأقل والأكثر (¬2)، والأقل عندهم ثلاثة أيام، والأكثر عشرة، وجملة تلك الأخبار مردودة عند أئمة الحديث. فليت شعري إلى ماذا الرجوع ولا مجال للقياس، ولم يرد توقيفٌ موثوق به! 443 - فنذكر أمراً راجعاً إلى الفطرة، ثم نذكر معتبر الشافعي، فالحيض دمٌ مجتمع في الرحم، ويزجيه الرحم، وقد ينقطع في الباطن عرق، فيسيل منه دم دائم، وهو الاستحاضة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستحاضة سألته: " توضئي وصلي؛ فإنه دم عرق " (¬3). ثم ليس في الخِلَق والجبلاّت حدٌّ لأقل الحيض وأكثره، ولكنا نعلم قطعاًً أنه لا يدوم؛ فإنه في حكم فضلة تنفضه الطبيعة في نوبة مخصوصة، كسائر الفضلات الطبيعية في اعتدال الحال. ثم [قد] (¬4) يختلط الحيض بالاستحاضة، وأحكامها مختلفة، فيضطر الفقيه إلى درك أقدار الحيض، في طرفي الأقل والأكثر. فهُدي إمام المسلمين الشافعي لأرشد المدارك وأقصدها، فقال: يتعين في ضبط ما نحاول الرجوع إلى الوجود، في اعتدال الأحوال، فما وجد في أقل أدوار الحيض ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) ر. فتح القدير: 1/ 142، حاشية ابن عابدين: 1/ 189، ونصب الراية: 1/ 191، 192. (¬3) حديث: " توضئي وصلي " جزء من قصة فاطمة بنت أبي حبيش عن عائشة، رواه أصحاب السنن، واللفظ لأبي داود، وأصله في الصحيحين (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 70 ح 190، أبو داود الطهارة، باب إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، ح 286، التلخيص: 1/ 167 ح 231). (¬4) زيادة من: (ت 1)، (ل).

حكم به، وما وجد أكثر من غير دوام الدم واستمراره حكم به. قال عطاء: رأيت مَنْ تحيض يوماً، ورأيت من تحيض خمسة عشر يوماً، وعندنا امرأة تحيض يومين يومين. وقال الشافعي: رأيت امرأة لم تزل تحيض يوماً. وقال أبو عبد الله الزبيري: في نسائنا من تحيض يوماً وليلة، وفيهن من تحيض خمسة عشر يوماً. ولا يتصوّر في ذلك مسلك -إذا لم يصح توقيفٌ- إلا الوجود. 444 - فإن قيل: لو وجدنا امرأة تحيض أقل مما ذكره الشافعي، أو أكثر من خمسة عشر، قلنا: أرسل أئمتنا في هذا أوجهاً مختلفة، ومعظم النقلة يتداولونها من غير بصيرة. ونحن نذكرها، ونذكر في معرض التوجيه حقائقها. 445 - فقال قائلون: لا نقصان من الأقل الذي ذكرناه، ولا زيادة على الأكثر؛ فإنّا لو تعديناهما، لم نقف عند ضبط. وهذا ليس بتوجيه (¬1)، مع ما تمهد من وجوب المصير إلى الوجود، ولكن هذا الوجه يُوجّه بأن الحيضَ ومقدارَه ليس من الأمراض، والأعراض التي تُميل [البنية] (¬2) عن الاعتدال. والأمورُ [الصحية] (¬3) إذا استمر عليها عصور، ثم بحث الباحثون عن الوجود فيها، فإن فرض نقصان أو زيادة، فهو ميل عن الاعتدال، فيحمل على الإعلال، لا على الحيض. 446 - ومن أصحابنا من قال: نحن نتبع الوجود كيف فرض، وهذا مذهب ¬

_ (¬1) في (ل): يتوجه. (¬2) في الأصل: البينة، وفي (ت 1): التنبيه. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. وصدقته (ل) بحمد الله. (¬3) في الأصل: العجيبة، وكذا (ت 1). والمثبت تقديرٌ منا، صدقته (ل).

طوائف من المحققين، منهم الأستاذ أبو إسحاق في جواب له، والقاضي حسين (¬1). ووجه هذا بيّن؛ فإن ما حُكِّم الوجود فيه، فالوجه اتباعُه كيف فرض، وقد يستمر شيء في خلق، ثم تختلف الأَهوية والقُطُر (¬2) فيه في عصور أخرى. 447 - ومن أصحابنا من قال: إن وجدنا شيئاًً يخالف ما ذكره الشافعي، ووجدنا مذهباً من مذاهب أئمة السلف الذين يعتمدون الوجود موافقاً له، اعتمدناه وعملنا به، وإن لم نجده موافقاً لمذهبه، لم نعتمده. وهذا فيه إلباسٌ؛ فإنا إذا وجدنا مذهباً ممن يعتمد الوجود؛ فقد ظهر لنا أن هذا الذي قد وجدناه الآن قد وجد قبل هذا، ولكن لم يبلغ الشافعي، ولو بلَّغه موثوق به، لاعتمده لا محالة، وصار إليه. فهذا بيان ما قيل. 448 - فإن قيل: لو رأينا امرأة ترى الدم دائماً؟ قلنا: نقطع بأن الجميع ليس بحيض؛ فإن الجبلّة لا تحتمل ذلك، وإنما يعتمد الوجود إذا كانت ترى طهراً مع الدم. فلو فرض فارضٌ الدم لحظة واحدة، فهذا لا يكون قط حيضاً. فإن قيل: أليس أقل النفاس لحظة واحدة عند الشافعي؟ قلنا: قد تلد المرأة ولا تَنْفَس أصلاً، وهى التي تسمى ذات الجفاف، فيتصوّر ألا ترى إلا دفعة واحدة من ¬

_ (¬1) الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي، المرورُّوذي: القاضي حسين. الإِمام الجليل، أحد رفعاء الأصحاب، تكرر ذكره في الوسيط، والروضة، ولا ذكر له في المهذب، ويأتي كثيراً معرفاً بالقاضي حسين، وكثيراً مطلقاً (القاضي) وهو من أصحاب الوجوه في المذهب، تفقه على القفال المروزي، وهو من أجلّ أصحابه وأنجب تلاميذه، هو والشيخ أبو علي السنجي، قال عنه إِمام الحرمين: " حبر المذهب على الحقيقة " التعليق الكبير المشهور، تفقه عليه جمع من الأئمة منهم: إِمام الحرمين، والمتولي. واعلم أنه متى أطلق القاضي في كتب متأخري الخراسانيين، كالنهاية والتتمة والتهذيب، وكتب الغزالي ونحوها، فالمراد القاضي حسين. توفي 462 هـ (تهذيب الأسماء: 1/ 164، والسبكي: 4/ 356). (¬2) القُطُر جمع قُطْر، والقُطْر: الناحية من الأرض، والمراد اختلاف المناخ الذي يؤثر عادة في الصحة والأجسام. وفي (ل): الفِطَر: جمع فطرة.

الدم، أما الحيض، فلم يُعهد لحظة واحدة، ولا ساعة. 449 - والذي أختاره، ولا أرى العدول عنه، الاكتفاء بما استقر عليه مذاهب الماضين من أئمتنا في الأقل والأكثر؛ فإنا لو فتحنا باب اتباع الوجود في كل ما يُحدَّث به، وأخذنا في تغيير ما تمهّد تقليلاً وتكثيراً، لاختلطت الأبواب، وظهر الخبط والاضطراب، ولزم ألا يمتنع بلوغ الحيض عشرين، ورجوع الطهر إلى عشرة، وانحطاط الأقل إلى ساعة، ثم يجب طرد هذا (¬1) المسلك في الأمور التي يُتبع الوجودُ فيها، حتى لا يمتنع نقصان أقل مدة الحمل عن ستة أشهر، وزيادة أكثره على أربع سنين. فالوجه أن نتبع ما تقرر للعلماء الباحثين قبلنا؛ فإن الغالب على الظن أن ما لم يصح في أعصارهم مع اختلاف خِلَق الخلائق، وتباين الطباع، يندر وقوعه في أعصارنا، وليس دم الفساد نادرَ الوقوع، فلسنا نبغي أمراً مقطوعاًً به، فإنه مُعوز فيما نحن فيه، فالوجه الانتهاء إلى أقل ما نقل، وإلى أما صح في طرفي الأقل والأكثر. وقد أجمع الأئمة على أن المرأة إذا كانت تحيض يوماً وتطهر يوماً على الاستمرار، فلا تجعل كل نقاء طُهراً كاملاً، على ما سيأتي ذلك مشروحاً في بابه إن شاء الله تعالى. 450 - ومن الأصول التي يتعين الاسترواح إليه فيما دفعنا إليه، ما رُوي أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة النسوان " ناقصات عقل ودين، قيل له: ما نقصان دينهن؟ فقال: تجلس إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي " (¬2). فكان قولُ النبي عليه السلام مشيراً إلى ذكر أقصى زمان يُتصور منهن القعود عن وظائف العبادات فيه. فليتخذ المرء ذلك مرجعه في هذا الطرف، وليردّ نظره إلى طرف الأقل، وفيما نبّه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان أقل الطهر أيضاً. ثم يبعد عندي فرض طريان الحيض في رمضان ليلاً، مع انقطاعه قبل الفجر في ¬

_ (¬1) عبارة الأصل: ... ثم يجب طرد هذا. هذا هو المسلك، والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬2) حديث " ناقصات عقل ودين " رواه البخاري: كتاب الحيض، باب (6) ترك الحائض الصوم، ح 304، ورواه مسلم: 1/ 86 - كتاب الإِيمان، باب (34)، بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات ... ، ح 79، البخاري عن أبي سعيد، ومسلم عنه، وعن ابن عمر، وأبي هريرة.

الليلة الطويلة، والمرأة تتمادى على الصوم، فتستتم صوم رمضان، وقد حاضت في الشهر مرة أو مرتين، فدلّت هذه الإشارات على الوقوف عند مواقف الأئمة في الأدوار. وقد نجز منتهى غرضنا من هذا الفصل. الفصل الرابع في أحكام الاستحاضة 451 - فنقول أولاً: دم الاستحاضة في وضع البنْية والجبلّة يسيل من عِرقٍ ينقطع، وليس الدم الذي يُزجيه الرحم من مغيضه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض المستحاضات: " إنه دم عرق ". ثم حكمه على الجملة، حكم حدث دائم من نواقض الوضوء، كسلس البول، واسترخاء [الأُسْر] (¬1). وإذا أطبق حدثٌ من هذه الأحداث، فصاحب البلوى مأمور بأن يتوضأ لكل فريضة، ولا يجمع بين مفروضتين بطهر واحد، على التفصيل المذكور في التيمم، بل هو أولى بذلك، فإن الأحداث تتجدد عليه، والمتيمم لم يتجدد عليه حدث، بل حكم الحدث الأول مستدام. فإذاً المستحاضة ومن في معناها تتوضأ لكل فريضة، وتُقيم بوضوء واحد فريضةً واحدة وما شاءت من النوافل. وقد سبق أن المتيمم لو تيمم لقضاء فائتة، ثم أخّر الفائتة أزماناً، فلا بأس عليه، ولو تيمم في وقت فريضةٍ لإقامتها، ثم لم يتفق حتى خرج الوقت، فأراد قضاءها بذلك التيمم، جاز. 452 - فأما المستحاضة والأحداث تطرأ عليها حالاً على حالٍ، فلو توضأت وابتدرت الصلاة، لكانت ساعية في تقليل الأحداث جهدها، ولو أخرت الصلاة، لكثُر تخلل الأحداث، فما حكم ذلك؟ ¬

_ (¬1) في الأصل، (ت 1): الأسفل. والأُسْر: شدة الخلق، واحتباس البول (معجم). والمراد هنا: استرخاء ما يضبط أمرَ البول، ويتحكم في إخراجه.

اضطرب الأئمة، فذهب ذاهبون إلى أنها مأمورة بمبادرة الصلاة بعد الفراغ من الوضوء، لتقليل ما يطرأ، فلو أخرت، لم تصح فريضتُها. وذهب الخِضْرِيُّ (¬1) من الأئمة إلى أن حكمها حكمُ المتيمم، فلو أفرطت في تأخير الفريضة عن الوضوء، جاز، ولو توضأت لصلاة الظهر بعد الزوال، ثم لم توفَّق لأدائها، حتى تصرّم الوقت، قضتها بذلك الوضوء، قياساً على المتيمم؛ فإن قليل الحدث ككثيره، وقال: الأحداث التي تطرأ فرب الحكم حدث واحد، في حق الفريضة الواحدة (¬2)، قلّت أو كثرت، فهذان الوجهان هما الأصل. وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاًً، وهو أنها لو توضأت للظهر، فالأمر موسّع عليها، مادام الوقت باقياً، فإن صلت في آخر الوقت، وكانت توضأت في أول الوقت، فلا بأس، وإن انقضى الوقت، لم تقض تلك الصلاة. وهذا بعيد عن قياس الشافعي، مشابهٌ لمذهب أبي حنيفة (¬3). 453 - فإن نزّلنا وضوءَها منزلة التيمم في حق الفريضة الواحدة، فلا كلام. وإن منعناها من تأخير الفريضة عند الفراغ من الوضوء، فقد تردد الأئمة على ذلك: فذهب ذاهبون إلى المبالغة في الأمر بالبدار. وقال آخرون: لو تخلل زمن قصير، فلا بأس، وضبطُه على [التقريب] (¬4) عندي، أن يكون على قدر الزمان المتخلل بين صلاتي الجمع في السفر، على ما سيأتي مشروحاً إن شاء الله عز وجل. ثم كان شيخي يحكي في التفريع على الأمر بالمبادرة عن بعض أصحابنا: أنها لو توضأت قبيل الزوال، ولما فرغت زالت الشمس، فإنها تصلي صلاة الظهر، نظراً إلى ¬

_ (¬1) سبقت ترجمته، وقد ضبط في (ت 1) الخُضَري. (¬2) في (ت 1): الأحداث التي تطرأ في الحكم كالمعدومة، في حق الفريضة الواحدة. وكذلك (ل). (¬3) ر. تحفة الفقهاء: 1/ 33، والهداية مع فتح القدير، والعناية: 1/ 160. (¬4) في الأصل: الترتيب، وفي (ت 1): التقرّب. والمثبت من (ل).

الاتصال؛ فإنه المرعيُّ، ولا نظر إلى الوقت؛ فإنها لو توضأت على هذا الوجه بعد الزوال، وأخرت إقامة الصلاة قليلاً، لم يجز، فالاعتبار بالاتصال والانفصال. وهذا بعيد جداًً، والأصح القطعُ بأنها لا تقدِّم الوضوءَ على وقت الفريضة قياساً على التيمم، ثم هي على وجهٍ مأمورة بمزيد احتياط في رعاية الاتصال، لا يؤاخذ به المتيمم، وطهارة التيمم وطَهارة المستحاضة طهارتا ضرورةٍ، فمقتضى المذهب اشتراط إيقاعهما بعد فرضئة الصلاة. 454 - وإذا انتهى الكلام إلى ذلك، نذكر خلافاً ذكره العراقيون في طهارة صاحب الرفاهية، وأنها متى تجب؟ قالوا: من أئمتنا من قال: لا تجب إلا عند وجوب الصلاة؛ فإنها تجب لأجل الصلاة، ولا تجب مقصودة في نفسها. ومنهم من قال: إنها تجب عند الحدث وجوباً موسعاً، وصححوا ذلك (¬1)، ووجهوه بأنها عبادة بدنية وقياس العبادات البدنية ألا يؤتى بها قبل وجوبها، وإنما تُقدم العبادات المالية قبل وقت الوجوب، كالزكاة والكفارة، على تفصيلِ مشهور. وليست طهارة الحدث في هذا، كإزالة النجاسة، فإن الغرض منها ألا تكون النجاسة، وليست [الإزالة] (¬2) معنيةً بالأمر. فرع: 455 - ذكرنا ما يتعلق بتجديد الوضوء، واعتبار وقته في حق من استمر حدثه ودام. ونحن نذكر الآن ما يتعلّق بزالة النجاسة. فالمستحاضة مأمورة بأن تغسل نفسها وتتلجم وتستثفر، وتُحكم الشِّداد جهدها، ¬

_ (¬1) الإِشارة إِلى القول بأنها لا تجب إِلا عند وجوب الصلاة، وقال أبو محمد والد الإِمام في كتابه (الفروق): "أجمع العلماء أنه لا يجب الوضوء ولا الغسل حتى يدخل وقت الصلاة" وعلق النووي قائلا: "وهذا ليس مخالفاً لما ذكر من حكاية الخلاف في وقت الوجوب؛ لأن مراده: لا يكلف بالفعل والله أعلم" ا. هـ. ملخصاً (ر. المجموع: 1/ 466). (¬2) في الأصل: النجاسة. وقد علق على هذه التفرقة بين طهارة الحدث اِزالة النجاسة الإِمام ابن أبي عصرون في مختصره للنهاية قائلا: "قلتُ: لا فرق بينهما؛ فإنه لا يجب اجتناب النجاسة إِلا في الصلاة" (ر. مختصر النهاية: 1/ورقة 193).

وهذا محتوم. وإن كانت تعلم أن النجاسة تبرز مع ذلك؛ فإنها مكلفة بالسعي في تقليلها، وهذا يؤكّد أمرَها بمبادرة الصلاة، لتكون مقللة للحدث. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تلجمي واستثفري (¬1)، [وأنعت] (¬2) لك الكُرْسُُف " (¬3). ثم مهما تحركت العصابة وزايلت موضعها، والنجس دائم، أُمرت بإعادة الغَسل (¬4). وإن كانت قارّة، ولم يظهر نجس من جوانبها، فهل نأمرها بتجديد الغَسْل، ورفع الشِّداد وإعادته، مهما أمرناها بتجديد الوضوء؟ فعلى وجهين مشهوربن: أحدهما - وهو الظاهر: أنا نأمرها بذلك؛ اعتباراً لإحدى الطهارتين بالأخرى. والثاني - أنا لا نأمرها بذلك؛ فإنه قد تمهد في الشرع الأمر بالطهر مع قيام الحدث أو تجدده، وهذا في معنى ما لا ينقاس من التعبدات، فأما الأمر بتجديد الإزالة مع استمرار النجس، فبعيد. وهذا غير سديد؛ فإنه لا خلاف فى الأمر به إذا زالت العصابة، ولا أثر للزوال، إنما الأثر لتجدد النجاسة. وقال الأئمة (¬5): لو لم تزل العصابة ولكن ظهر الدم عليها، أو من جوانبها وهي ¬

_ (¬1) حديث: " تلجمي واستثفري " هذا اللفظ وقع في حديث حمنة بنت جحش الذي سبق في فقرة: 441. واستثفر الشخص بثوبه، اتّزر به، ثم ردّ طرف إِزاره من بين رجليه، فغرزه في حجزته من ورائه. (المصباح). (¬2) في الأصل: وسأبعث. وهو تصحيف ظاهر، أما في: (ت 1)، (ل): وسأنعت. والتصويب من كتب الحديث. (¬3) الكُرسف: بضم، فسكون، فضم: القُطن. (¬4) في هامش (ل) ما نصه: " في (التتمة) عليها أن تغسل فرجها، تحشوه بقطن أو خرقة حتى تردّ الدم، وتعصب فوق ذلك، فلو عصبت فرجها، فخرج الدم قبل أن تصلي، فإن كان لرخاوة في الشد، فعليها أن تجدد الطهارة، وإِن كان لغلبة الدم، فلا شيء عليها، وإِن أرادت أن تتطهر لصلاة أخرى، فإن كانت العصابة قد تحركت عن موضعها، فعليها أن تغسل الفرج، وتعصبه مرة أخرى، وإِن كانت العصابة باقية كما كانت، فوجهان " ا. هـ. بنصه. (¬5) في (ت 1): "الإِمام". وكنت إِلى ترجيحها أميل، ثقة بها لجودتها، ولكن وجدتُ النووي، =

قارّة، فيجب القطع بالأمر بالتجديد، كما لو زالت العصابة. 456 - ومما لا يكاد يخفى أن النجاسة لو ظهرت، فلا ينبغي أن تمنع من النافلة إذا لم تكن منتسبة إلى تقصير. ولو زالت العصابة بنفسها، وكان ذلك بسبب ازدياد النجاسة، فالوجه منعها من النافلة؛ فإن هذا منسوب إليها، وإنما المعفوّ عنه في حق النوافل نجاسات الضرورة التي لا سبيل إلى دفعها. 457 - ومما يتعلق بتمام الفصل ذكرُ انقطاع دم الاستحاضة في الصلاة، وقبل الشروع فيها، والقول في ذلك يتعلق بحالتين: إحداهما - أن تنقطع الاستحاضة انقطاعاً كلياً وتشفى. والثانية: أن تنقطع ثم تعود. 458 - فأما إذا شُفيت، فإن فرض ذلك قبل الشروع في الصلاة، وقد تجدد عليها أحداث مع الوضوء وبعده مثلاً، ثم شفيت، فعليها أن تتوضأ بعد الشفاء للصلاة؛ فإن الضرورة قد زالت، وإنما كان يعفى عما يتجدد لأجل الضرورة. وهذا يتنزل منزلة ما لو تيمم المسافر، ثم تمكن من استعمال الماء قبل الشروع في الصلاة. فإن قيل: أليس اختلف الأصحاب في أن طهارة المستحاضة، هل ترفع الحدث؟ فاذكروا ما قيل فيه، وأوضحوا منه ما يتعلق بالفصل، قلنا: اشتهر الخلاف فيه، فقال قائلون: لا ترفع طهارةُ المستحاضة الحدثَ، بل تُبيح الصلاة كالتيمم؛ فإن الحدث مقارن للطهارة جارٍ معها، وما لم تسلم الطهارة عن مقارنة ناقض لها، لا ترفع ما سبق من الحدث. ¬

_ = يقول عقب إِيراد هذه المسألة، وهذا الحكم: "حكى الاتفاق عليه إِمام الحرمين، وغيره" فبان أنه قول الأئمة. والله أعلم. (ر. المجموع: 2/ 534). وبعد هذا وجدنا عبارة (ل) هكذا: " قلت: لو لم تزل العصابة " أي أن القائل لهذا الرأي وصاحبه هو الإِمام، أي إِمام الحرمين. فهل اطلع النووي على دليل آخر يشهد له بأن (الإِمام) قاله حاكياً له، وليس مبتدئاً إياه؟ أم وقعت له نسخة النهاية المحرّفة هذه؟ العلم عند الله!

وقال آخرون: إنها ترفع الأحداث السابقة، والدمُ المساوق لها لا يعتد به حدثاًً ناقضاً، كما لا يُرى ما يجري منه في الصلاة ناقضاً لها. ثم الأصحاب خصصوا الخلاف بالأحداث السابقة على الطهارة، وما يجري مقارناً لها، فأما ما يقع بعدها، فالطهارة لا ترفعها، ولكن تؤثر في استباحة الصلاة معها، كما يُبيح التيمم الصلاة، مع استمرار الحدث. 459 - فإذا تبين ذلك بنينا عليه غرضنا، وقلنا: إذا توضأت المستحاضة [وجريان الدم مقارن لوضوئها] (¬1)، وجرت أيضاًً الأحداث بحد الوضوء، ثم شفيت، وانقطعت الاستحاضة بالكلية قبل الشروع في الصلاة، فعليها تجديد الوضوء؛ فإنا إن حكمنا بأن وضوءها لا يؤثر في رفع الحدث أصلاًً، فإنما كنا نجوّز لها أن تصلي بذلك الوضوء للضرورة، وقد زالت الضرورة. فأشبه ذلك ما لو رأى المتيمم الماءَ قبل الشروع في الصلاة، وتمكن من استعماله، فإن قلنا: يرفع وضوؤها ما سبق، ولم يُعتد بما يقارن أيضاً، فما جرى بعد الوضوء يستحيل أن يرفعه الوضوء. فإذا شفيت، لزمتها الطهارة، حتى ترفع تلك الأحداث الجارية بعد الوضوء. 460 - ولو شُفيت عقيب الوضوء ولم يجر حدث بعده أصلاً، فالذي صار إليه أئمة المذهب، أنه يلزمها أن تتوضأ؛ فإنا وإن حكمنا بارتفاع الأحداث المتقدمة على الوضوء، فيستحيل أن نحكم بارتفاع ما قارن الوضوء منها؛ فإن الوضوء إنما يرفع حدثاًً متقدماً على أوله. وقال بعض من لا مبالاة به: إذا حكمنا بأن الوضوء يرفع الحدث السابق، فيلزم على مساقه ألا نجعل ما يقارن الوضوء حدثاً، فعلى هذا إذا انقطع عقيب الوضوء، واتصل الشفاء، لم يلزمها الوضوء؛ فإنّ الأحداث السابقة قد ارتفعت، والمقارن لم يكن حدثاًً معتداً به، ولم يجر بعد الوضوء حدث، فلا يلزم تجديد الوضوء. وهذا لا يعد من المذهب. ¬

_ (¬1) الزيادة من: (ت 1)، (ل).

وبهذا التفريع [يهي جداًً] (¬1) مذهب من يصير إلى أن طهارة المستحاضة تؤثر في رفع الحدث. وهذا فيه إذا شُفيت قبل الشروع في الصلاة. 461 - فأما إذا شفيت بعدما تحرقت بالصلاة، ففي المسألة جوابان مشهوران لابن سريج: أحدهما - أن الصلاة تبطل؛ فإن الضرورة قد زالت، وقد تجددت أحداث مع الوضوء وبعده، فلا بد من دفعها عند زوال الضرورة. والوجه الثاني - أن الصلاة لا تبطل، كما لا تبطل صلاة المتيمم برؤية الماء في خلال الصلاة. وقد ذكر بعض أصحابنا في صلاة المتيمم خلافاً إذا رأى الماء في خلالها، أخذاً من الخلاف في طريان شفاء المستحاضة، وهو بعيد. والوجه تخصيص الخلاف بطريان الشفاء، والقطع بأن صلاة المتيمم لا تبطل برؤية الماء. وما ذكرناه فيه، إذا انقطعت الاستحاضة أصلاًً، ولم تعد. 462 - فأما إذا انقطعت زمناً ثم عادت، فنقول: إذا توضأت، ثم انقطع الدم، ثم عاد على الفور، فلا حكم لذلك الانقطاع، وإذا تطاول الزمان ثم عاود، أثرّ ذلك الانقطاع. ولنفرض فيه إذا دخل وقت الصلاة، فتوضأت، ثم انقطع الدم وعاود، فالذي ذكرناه من تطاول الزمان، أردنا به أن يمضي زمان يسع الوضوء والصلاة. والزمانُ القريب ما يقصر عن هذا. فنقول بعد ذلك: إذا انقطع الدم، فينبغي أن تبدُر (¬2) وتتوضأ وتصلي، فإذا فعلت ذلك، فقد صلّت غيرَ محدِثة صلاةً نقية عن الحدث. فإن أخرت (¬3) حتى عاد الدم، [فقد قصرت؛ فيلزمها أن تتوضأ بعد عود الدم؛ لأنا ¬

_ (¬1) في الأصل: على حدا. وهو تصحيف غير مقبول. والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬2) بدر يبدُر إِلى الشيء أسرع. (المعجم). (¬3) المراد أخرت الصلاة عن الوضوء.

قد ألزمناها الوضوءَ لما انقطع الدم] (¬1). فإذا تحقق التقصير منها، [بقي] (¬2) وجوب الصلاة عليها، وإن (¬3) عاود الدم، هذا ما قطع به الأئمة. وإن انقطع الدم، ثم عاد قبل زمان يسع الوضوءَ للصلاة والصلاةَ، فلا يلزمها وضوء آخر بعد عود الدم، ووجودُ ذلك الانقطاع وعدمه بمثابة واحدة. 463 - ولو انقطع الدم، فشرعت في الصلاة من غير تجديد وضوء، فلو تمادى الانقطاع حتى انتهى الزمان المعتبر الذي ذكرناه الآن، فنحكم بأن صلاتها باطلة؛ فإنها تحرمت والوضوء واجب عليها. وإن عاد الدم في الصلاة قبل الزمان المتطاول، فقد بان أن الوضوء لا يجب، ولكنها شرعت في الصلاة على تردُّدٍ ظاهر، وكان ظاهر الحال يشعر بوجوب الوضوء، وإن بان خلاف ذلك آخراً، ففي صحة الصلاة وجهان، ذكرهما العراقيون: أصحهما - أنها لا تنعقد، لما قارن عقدَها من ظهور وجوب الوضوء على غالب الظن، وإن بان خلاف ذلك. والثاني: أنها تنعقد نظراً إلى ما بان آخراً، وهي لم تكن على يقين من وجوب الوضوء عند عقد الصلاة، والأصل براءة الذمة عن كل ما لا يتحقق وجوبه بمسلك شرعي. وقد نجز ما أردنا إيراده في أحكام الاستحاضة. 464 - ثم مقصود هذا الكتاب هو أن الحيض يتصل بالاستحاضة، فيُطبِق الدم، ويتعين تمييز الحيض عن الاستحاضة، لاختلاف حكمهما. وها نحن نستفتح أحكام المستحاضات، ونحن نستعين بالله عزت قدرته. ... ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: في، والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬3) أي مع عود الدم، كما هي عبارة ابن أبي عصرون في مختصره للنهاية. (ر. مختصر النهاية: 1/ 196) وانظر المسألة بتفصيلها في المجموع: 2/ 538 وما بعدها.

باب المستحاضات

باب المستحاضات 465 - القول في المستحاضات، يتعلق بنوعين: أحدهما - أن يُطبق الدم ولا ينقطع. والثاني - أن ينقطع الدم، وهو التلفيق. فأما النوع الأول: فالمستحاضات في التقسيم الأول: مبتدأة، ومعتادة. فأما المبتدأة: فهي التي كما يبتديها الدم تُطبق الاستحاضة، وتتصل الدماء. وهي تنقسم إلى مميزة، وغير مميزة. والمعتادة: تنقسم إلى ذاكرة لعادتها قبل الابتداء بالاستحاضة، وإلى ناسية لعادتها، وهي التي تسمى المتحيرة. والمعتادة الذاكرة: قد تنقسم إلى مميزة، وغير مميزة أيضاً. فإذاً المستحاضاتُ أربع: مبتدأة مميزة. ومبتدأة غير مميزة. ومعتادة ذاكرة. وناسية. 466 - وقد نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أخبار في المستحاضات، فنصدر بها الباب. فمما نقل عنه صلى الله عليه وسلم في المستحاضة المميزة، ما روي عن عائشة: أنها قالت: "سألت فاطمةُ بنت أي حُبَيْش رسول الله، وقالت: إني أُستحاض، فلا أطهر، فقال عليه السلام: إنما هو عرق انقطع، إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة،

وإذا أدبرت فاغتسلي، وصلي" وفي رواية: " دم الحيض أسود له رائحة تعرف " (¬1). والخبر الثاني: في المعتادة، وهو ما روي أن امرأة سألت أمُّ سلمة لها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مستحاضة، فقال عليه السلام: " مُريها فلتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة، فإذا خلّفت ذلك، فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلِّ " (¬2) والخبر الثالث: ما روي أن حمنة بنت جحش استحيضت سبع سنين، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: " تحيّضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء، وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن ". فالظاهر أنها كانت مبتدأة، وقوله عليه السلام: " في علم الله " معناه: فيما علّمك الله من عادات النساء. [المستحاضة الأولى] (¬3) 467 - فنبدأ بالمميزة المبتدأة، وهي التي طبق الدم عليها من أول الأمر، وكان يتميز لها دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفة، كما سنذكرها، ولا يمتنع عليها التمييز، بسبب من الأسباب. 468 - ونحن نذكر ما جاء في صفة دم الحيض: روي أنه صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) حديث فاطمة بنت أبي حبيش، سبق في فقرة 443. (¬2) حديث أم سلمة رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وقد صححه الألباني. (ر. الموطأ: 1/ 62 رقم 105، مسند الشافعي: 311، مسند أحمد: 6/ 320، أبو داود: الطهارة، باب في المرأة تستحاض، ح 274، الألباني رقم 244، والنسائي: الحيض والاستحاضة، باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر ح 355، والألباني: رقم 202، وابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام إقرائها 623، الألباني رقم 506، والتلخيص: 1/ 169 رقم 233). (¬3) زيادة من المحقق.

قال: " إنه أسود محتدم بحراني، ذو دفعات له رائحة تعرف " (¬1) فأما الأسود، فلم يعنِ به أسودَ حالك، وإنما أراد به تعلوه حمرة مجسّدة (¬2)، كأنها سواد من تراكم الحمرة. والمحتدم، أراد به اللذّاع؛ فإنه قد يلذع البشرة بحدّته، وهو يختص برائحةٍ كريهةٍ؛ ولذلك أُمرت إذا طهرت أن تتبع بفِرصةٍ من مسكٍ أثرَ الدم. واختلفوا في البحراني، فمعناه الصحيح أنه ناصع اللون، يقال: دم بحراني وباحريّ، إذا كان لا يشوب لونَه لونٌ. ودم الاستحاضة أحمر رقيق، ضارب إلى الشقرة في غالب الأمر. فإذاً: دم الحيض أقوى لوناً ومتانةً من دم الاستحاضة. 469 - فإذا كان يتميز الدم القوي عن الضعيف -وهذه مبتدأة، لم تسبق لها عادةٌ، واستمرارُ أدوارٍ قبل الابتلاء بالاستحاضة- فهي مردودة إلى التمييز، بشرط أنه يجتمع ثلاثة أركان: أحدها - ألا ينقص الدم القوي عن أقل الحيض، وهو يوم وليلة، على ظاهر المذهب. والركن الثاني - ألا يزيد الدمُ القوي على أكثر الحيض. والثالث - ألا ينقص الدم المشرق الضعيف عن أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوماً. فإن استجمعت هذه الأركان تحيضت في أيام الدم القوي. وهي المعنية بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة " ثم إذا أدبر الدم القوي، فهي الاستحاضة، فتغتسل وتصلي، وحدثها دائم، كما مضى أمرها مفصلاً. فإن عدمت ركناً من هذه الأركان، فقد عجزت عن التمييز، فهي مبتدأة غيرُ مميزة، وسيأتي حكمها إن شاء الله عز وجل، متصلاً بحكم القادرة على التمييز. 470 - ثم مما نمهده في أمرها قبل الخوض في التفريع، أنها في أول الأمر إذا رأت ¬

_ (¬1) " إِنه أسود محتدم بحراني " هذا اللفظ من الزيادات في حديث فاطمة بنت أبي حبيش، الذي تقدم ذكره، وقد علق الحافظ في التلخيص على ذكر الرافعي لهذه الزيادة، فقال: "تبع فيه الغزالي، وهو تبع الإِمام، وفي تاريخ العقيلي عن عائشة نحوه، قالت: دم الحيض أحمر بحراني، ودم الحيض، كغسالة اللحم" وضعّفه (أي العقيلي) ثم قال: والصفة المذكورة وقعت في كلام الشافعي في الأم (ر. التلخيص: 1/ 169 ح 232). (¬2) في هامش (ل): مجسدة أي مشبعة، ومنه قيل للزعفران: جساد. ا. هـ. وفي القاموس، والمعجم: "ثوبٌ مجسَّد، ومجْسَد: أي مصبوغ بالجِساد: وهو الزعفران، وكل صبغ شديد الحمرة".

دماً قوياً أياماً، ثم ضعف الدم وتغيّر، وكل ذلك دون الخمسةَ عشرَ من ابتداء الدم؛ فإنا نأمرها في الشهر الأول بأن تتربص وتتحيّض في ظاهر الأمر، وتنظر ما يكون، فإن انقطع نوع الدم على الأكثر، وامتد بعده النقاء خمسة عشر يوماً، فجميع ما رأته من الدم حيضٌ، وإن كان بعضه ضعيفاً مشرقاً؛ فإنّ المرأة إنما تردّ إلى التمييز عند ضرورة الاستحاضة، فإن تربصت منتظرة لا تصوم ولا تصلي، والزوج معتزل عنها، كما سبقت أحكام الحيض، فزاد الدم على الخمسةَ عشرَ، فقد تبينت الآن أنها مستحاضة. فنقول: بان لنا أن حيضك الدمُ القويُّ الذي رأيتِهِ في أول الأمر، فحكمك فيه حكم الحيض، وقد تقلَّبَتْ (¬1) عن الحيض من وقت تغيّر الدم إلى الضعف والإشراق، فعليها أن تتدارك، وتقضي الصلوات التي تركتها في تلك الأيام. 471 - وإذا مضى الدم المشرق، وبلغ خمسة عشر يوماً فصاعداً، ثم عاود الدمُ القوي، فإنها تتحيّض [ثم] (¬2) إذا مضى في الدور الثاني أيامُ الدم القوي، واستحال ضعيفاً، فكما (¬3) استحال تغتسل وتصلي، ولا تتربص كما تربصت في الشهر الأول؛ فإنها في الشهر الأول لم تعلم كونها مستحاضة، حتى زاد الزمان القوي والضعيف على الأكثر. وهي على بصيرة في الشهر الثاني بكونها مستحاضة. فإن قيل: ستذكرون خلافاًً في أن العادة في المستحاضة المعتادة هل تثبت بمرّة واحدة، فهلاّ خرّجتم هذا الخلاف في تبيّن الاستحاضة، [حتى] (¬4) تنتظر الشهر الثاني على وجه انتظارها في الشهر الأول، ثم لا تنتظر في الشهر الثالث وجهاً واحداً. قلنا: لما أطبق الدم عليها في الشهر الأول، فقد استيقنت أنها مستحاضة، ومما تحقق في الجبلة أن (¬5) الاستحاضة من العلل المزمنة التي تدوم مدة مديدة غالباً؛ فوقع الاكتفاء [لهذا بدور شهر] (¬6). ¬

_ (¬1) تقلّبت: انتقلت (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) "كما" بمعنى عندما. (¬4) في الأصل: هل. والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬5) في الأصل: أن ندور الاستحاضة. بزيادة كلمة ندور. (¬6) في الأصل: بهذا الشهر.

وأما مقدار الحيض في القلة والكثرة، فقد يختلف ولا يطرد، وليس استقراره مقدار مرةً واحدة أمراً ظاهراً موثوقاً به. فقال قائلون: لا بدّ من التكرار، فقد لاح الفرق. على أنا سنذكر أن الأصح أن العادة تثبت بمرة واحدة - إن شاء الله عز وجل. 472 - ثم إذا استمرت الاستحاضة، وتمكنت من التمييز، فإنها مردودة إلى اتباع الدم القوي والضعيف في أدوارها. فلو جاءها دور ورأت في أوله خمسة أيام دماً قوياً، وتحيّضت فيها، وضعف الدم بعدها، فاغتسلت، ثم انقطع الدم على الخمسة عشر وشُفيت، فقال الأئمة: تحيُّضها في هذا الدور خمسة عشر يوماً؛ فإنا تبينا أنها ليست مستحاضة في هذا الدور، وإنما يردّ إلى صفة الدم المستحاضةُ. فصل 473 - حقيقة التمييز في الاستحاضة اتباعُ قوة الدم، وضعفه، مع وجود الأركان التي ذكرناها للتمييز، فإن كانت ترى دماً أسودَ أياماً، ثم دماً أحمر منطبقاً إلى آخر الدور، فهي مستحاضة في زمان الحمرة؛ فإن الأحمر بالإضافة إلى الأسود ضعيف. ولو كانت ترى أولاً دماً أحمر، ثم بعد ذلك دماً أشقر مشرقاً إلى الصفرة، فهي حائض في أيام الحمرة، مستحاضة في أيام الشقرة؛ فإن الأحمر قوي بالإضافة إلى ما بعده من الشقرة. والأمر يختلف في القوة والضعف بالنسب والإضافات. فلو رأت خمسةً سواداً وخمسةً حمرةً، ثم شقرةً إلى آخر الدور، فالدمان الأولان قوتان بالإضافة إلى الشقرة بعدهما والحمرة ضعيفة بالإضافة إلى السواد المتقدم عليها، قويةٌ بالإضافة إلى الشقرة بعدها، ففي المسألة طريقان: من أئمتنا من قطع بأن السواد والحمرة جميعاً حيض؛ لقوتهما، ولإمكان تقديرهما حيضاً. ومن أصحابنا من ذكر وجهين في الحمرة: أحدهما - أنها حيض؛ لقوتها بالإضافة

إلى ما بعدها. والثاني - أنها استحاضة؛ لضعفها بالإضافة إلى السواد المتقدم عليها. 474 - ولو رأت خمسة سواداً، وأحدَ عشر حُمرةً قانية، واصفرّ الدم بعد ذلك، وأشرق وتمادى خمسة عشر يوماً فصاعداً، فاختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم: السواد والحمرة جميعاًً بمثابة سوادٍ مطبقٍ [بالغٍ] (¬1) ستة عشر يوماً، أو حمرةٍ مطبقة في هذه المدة، ولو فُرض كذلك، لكان الدم القوي زائداً على أكثر، فكانت هي فاقدة لما هو من أركان التمييز، مردودةً إلى ما ترد المبتدأة إليه إذا لم تكن مميزة. ومن أصحابنا من قال: نحيّضُها في أيام السواد، ونُلحق الحمرة بدم الاستحاضة؛ لأنها اتصفت بنوعين من الضعف: أحدهما - أنها ضعيفةٌ بالإضافة إلى ما قبلها، والثاني - وقع طرفٌ منها وراء [الأمد الأكثر] (¬2)، فصارت من هذين الوجهين كالشقرة. وكان شيخي يذكر الصورة الأولى: إذا لم يزد الزمان على اكثر، ويذكر الصورة الثانية: وهي إذا كان مجموعهما يزيدان على الأكثر. ثم كان يقول: اختلف أئمتنا في الصورتين. فمنهم من حكم بأن الدمين حيض إذا أمكن الجمع بينهما، وإن لم يمكن الجمع بينهما فوجهان: أحدهما - أنها فاقدة لركن من التمييز. والثاني - أنا نحيّضها في أيام السواد، ونحكم بأن الحمرة بعده استحاضة. ومن أئمتنا من قال: إذا زاد الدّمان على الأكثر، فلتلتحق الحمرة بالشقرة وجهاً واحداً، وتحيُّضُها في أيام السواد، وإذا لم يزد الدّمان على الأكثر، فوجهان: أحدهما - أنهما حيض والاستحاضة بعدهما. والثاني - أن الحيض منهما السواد الأول، والحمرة استحاضة. فهذا منتهى الغرض في التنبيه على وجوه اختلاف الأصحاب في هذا. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، (ت 1). (¬2) العبارة ملفقة من النسخ الثلاث، ففي الأصل: وراء الأمد، وفي (ت 1)، (ل): وراء الأكثر.

475 - ومما نُلحقه بهذا: أن الاعتبار في القوة والضعف باللون المجرد في الدم، فليُفهم ذلك (¬1)، وإن ورد في الخبر صفاتٌ أخرى سوى اللون، من أنه محتدم، ذو دفعات، له رائحة تعرف. وقد قطع به الصيدلاني، وهو متفق علَيه في الطرق، حتى لو رأت خمسةً سواداً مع الرائحة المنعوتة، وخمسة سواداً بلا رائحة، فهما دم واحد وفاقاً، وكذلك لا نظر إلى المتانة والرقة والخثورة، وإنما المعتبر اللون فحسب، فليثق الناظر بذلك. 476 - ولو رأت أولاً خمسة شقرة، ثم خمسةً سواداً أو حمرةً قانية، ثم شقرةً إلى آخر الدور، فالدم في أول الدور ضعيف، ولكن موضعه وأوليته قد تقوِّيه في ظن الفقيه، والدم الثاني قوي في صفته، ولكنه متأخر عن وقته المعتاد غالباً، فاضطرب الأصحاب لذلك. وأنا أرى أن أرسم صوراً، وأذكرَ مذاهب الأصحاب فيها، ثم أختمَها بما يضبط مأخذ الطرق. 477 - صورة: فإذا رأت أولاً خمسة شقرة، ثم خمسة سواداً، ثم استمرت الشقرة، ففي هذه الصورة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يتبع الدم القوي على ما يوجبه التمييز، فنحيّضُها في الخمسة الثانية، ونجعل الخمسة الأولى دم فساد سابق على أول الدور، وهذا قياس التمييز. والوجه الثاني: نحيّضُها في الخمسة الأولى والثانية جميعاًً، أما الخمسة الثانية، فإنها على نعت الحيض وقوته، وأما الأولى فمتقوية بالأولية، والغرض اتباع القوة، والجمع بينهما جميعاًً ممكن. وحكى المحاملي في (الوجهين والقولين) وجهاً ثالثاًً، من أجوبة ابن سُريج: وهو أنها فقدت (¬2) التمييز في الصورة التي ذكرناها؛ فإن النزول عن أول الدور بعيد، ¬

_ (¬1) في هامش (ل) ما نصه: "قال في التتمة: معنى التمييز أن ترى الدم مختلفاً، بعضه أقوى من بعض، والقوة والضعف تتبين بثلاثة أشياء: اللون، والثخانة، والرائحة". (¬2) في (ل): تُسقط التمييز.

فهذه مبتدأة لا تميز، فتردّ إلى أقل الحيض، أو غالبه، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل. 478 - صورة أخرى تماثل التي سبقت: إذا رأت خمسة أولاً شقرة، وعشرةً سواداً، ثم استمرت الشقرة، ففي وجه: حيضُها السواد في العشرة. وفي وجه: تحيّضُها خمسةَ عشرَ يوماً؛ فإن الجمع بين الأوّلية وقوة الدم ممكن. وفي الوجه الثالث الذي حكاه المحاملي: هي فاقدةٌ للتمييز. 479 - صورة أخرى: إذا رأت خمسة شقرة، وأحد عشر سواداً، فقد تجدد في هذه الصورة أمرٌ آخر، وهو أن الجمع بين الأولية والسواد متعذر في هذه الصورة؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لزادت الحيضة على الأكثر، فأما من يتبع السواد فيُحيّضها في الأحد عشر الذي فيه السواد، ومن يجعلها فاقدةً في الصورتين السابقتين، فهذا ظاهرٌ في هذه الصورة. وأما من يحاول الجمع بين الأولية وقوة الدم -وقد تحقق تعذّر ذلك- فالمذهب الظاهر أنها فاقدةٌ للتمييز. وذكر شيخي عند تعذر الجمع في كتاب الحيض من تصنيفه، الذي ترجمه بالمحيط (¬1) وجهاً غريباً، وهو أن من الأئمة من يحيِّضها في الخمسة الأولى، وإن كانت شقرة؛ نظراً إلى الأولية. وتغيُّر الدم إلى السواد، في هذه الصورة عند هذا القائل، كتغير الدم القوي إلى الضعيف. وهذا الوجه هفوة [لا] (¬2) أراه، ولا أعده من المذهب. 480 - صورة أخرى: إذا رأت خمسةً شقرة، وستة عشر يوماً سواداً، فمن اتبع الدم الأسود لا يمكنه أن يُحَيِّضَها في أيام السواد، وإذا تعذّر ذلك، فلا شك في تعذر ¬

_ (¬1) المحيط من مؤلفات والده أبي محمد الجويني، وهو الكتاب الذي أرسل إِليه البيهقي رسالته المشهورة، لما اطلع على أجزاء منه، فلما قرأ رسالة البيهقي، انصرف عن الكتاب، ولم يتمه، وقد كان نحا فيه نحو الاستقلال عن المذهب الشافعي، واستنبط الأحكام من الكتاب والسنة بدءاً. (¬2) ساقطة من النسختين ولا يستقيم السياق بدونها، وعبارة (ل): أراه هفوة، ولا أعده من المذهب.

الجمع، فلا ينقدح في هذه الصورة إلا المصير إلى أنها غيرُ مميزة، ويأتي فيه الوجه الذي ذكره في المحيط، وهو أن نحيّضها في الخمسة الأولى. وهذا غلط. 48 - [فآل] (¬1) محصول المذهب إلى أن من الأصحاب من يتبع الدم القوي متى فُرض. ومنهم من يحاول الجمع بين الأولية والدم القوي إن أمكنه، وإن تعذّر الجمع، جعلها فاقدة للتمييز. ومنهم من يُسقط التمييز، وإن أمكن تقدير الجمع من جهة الزمان. فرع: 482 - ولو رأت المبتدأة في الشهر الأول خمسة عشر يوماً شقرة، وكنا نأمرها بالترّبص، فلما انتصف الشهر، ابتداً السواد، فرأت خمسة عشر سواداً، فلا يكاد يخفى تفريع هذه الصورة، ولكن من يتبع قوة الدم، يأمرها بترك الصلاة، [في النصف الثاني من الشهر. فهذه امرأة على هذه الطريقة أُمرت بترك الصلاة] (¬2) شهراً، أمرت به في النصف الأول للانتظار، ثم إنها تستدركه، وأمرت بترك الصلاة في النصف الثاني لقوة الدم على المذهب الذي نفرع له، ثم إن زاد الدم القوي على الأكثر، فهي غير مميزة؛ فنردّها بعد انقضاء الشهر والزيادة إلى ما تردّ المبتدأة إليه. فصل 483 - قد تستفيد المرأة عادة من التمييز، فترجع إليها عند [تعذر] (¬3) التمييز، وبيان ذلك أنها إذا كانت ترى خمسة سواداً، وباقي الشهر شقرةً، ثم أطبق السواد، وأطبقت الشقرة، وعسر التمييز، فهي مردودة إلى الخمسة التي كانت تتحيّض فيها. بحكم التمييز. وذلك واضح لا خفاء به. ¬

_ (¬1) في النسخ الثلاث: " فقال ". وهو تحريف ظاهر، لا ندري كيف اتفقت عليه. (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: عدم. والمثبت من: (ت 1)، (ل).

فصل 484 - المردودة إلى التمييز إذا تغيّر دمها القوي إلى الضعيف على (¬1) وجدان أركان التمييز، فكما [يتغير] (¬2)، تغتسل وتستفيد أحكام [الطاهرات] (¬3) من الحيض. وقال مالك (¬4): تستظهر بعد التغيّر بثلاثة أيام. ونحن لا نرى ذلك أصلاًً، ولكن أقول: إن انقلب الدم بدفعة من لون [قوي] (¬5) إلى لونٍ دونه، فالحكم ما ذكرناه في استقبال أحكام الاستحاضة. وإن بدت خطوطٌ من الشقرة، وبقيت خطوط من السواد، فالذي أراه أن حكم الحيض قائم؛ فإن السواد باقٍ، واقتران دم ضعيف به لا يخرجه عن حكم قوته. فهذا حكم المبتدأة المميّزة. [المستحاضة الثانية] (¬6) 485 - وأما المبتدأة التي لا تتمكن من التمييز، فكما حاضت أطبق عليها مثلاً لون واحد، فإلى ماذا تردّ؟ في المسألة قولان: أحدهما - أنها تُرد إلى أقل الحيض والثاني - إلى أغلب الحيض، وهو ست أو سبع. وقد رُوِّينا خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره حكم المبتدأة؛ فإنه عليه السلام قال: " تحيّضي في علم الله ستاً أو سبعاً " الحديث. ومن قال: إنها مردودة إلى أقل الحيض، راعى الاحتياط في إدامة وظائف الشريعة وإقامتها؛ إذ ليس معها متعلَّق من اجتهاد أو عادةٍ، والأصل اشتغال الذمة بفرائض الله تعالى. ¬

_ (¬1) "على" بمعنى " مع " قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]. (¬2) في الأصل: تغيّر. وكما: بمعنى عندما، في عبارة الخراسانيين كما نبهنا آنفاًً. (¬3) في الأصل: الطهارات، والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬4) ر. الإشراف: 1/ 191 مسألة 163، جواهر الإِكليل: 1/ 30. (¬5) زيادة من (ل). (¬6) العنوان زيادة من المحقق.

التفريع على القولين: 486 - من قال: إنها مردودة إلى غالب الحيض لم يذكر الست والسبع تخييراً، وتخيُّل ذلك محال، ولكن ننظر إلى عادة النساء، فإن كنّ يحضن سبعاً، حيّضناها من أول الدور سبعاً، وإن كن يحضن ستاً، حيضناها ستاًً، وإن كن يحضن خمساً، حيضناها ستاً؛ فإنها أقرب إلى الخمس، وإن كن يحضن سبعاً أو ثمانياً، أو أكثر حيضناها سبعاً؛ فإن السبعَ أقرب إلى التسع والثمان من الست. واختلف الأئمة في النسوة اللائي تُعتبر هذه (¬1) بهن، فالذي صار إليه الأكثرون اعتبارها بنساء قراباتها. قال الصيدلاني: نحن نعتبر مهر مثل المرأة بنساء العصبات كما سيأتي، والنساء المعتبرات في هذا الباب جملة نساء القرابة، من طرفي نسبها. ومن أئمتنا من قال: نعتبرها بنساء ناحيتها وبلدها، ولا تخصص بنساء العشيرة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تحيّضي ستاًً، أو سبعاً، كما تحيض النساء، وكما يطهرن ". ولم يخصص بنساء العشيرة. ولو كان بعض النساء المعتبرات يحضن ستاًً، وبعضهن يحضن سبعاً، فنردها إلى الست؛ لأن الست متفق عليها؛ إذ في السبع ست. ولو كان بعضهن يحضن خمساً، وبعضهن تسعاً، فهي مردودة إلى الست. 487 - قال شيخي: إذا اعتبرناها بنساء العشيرة وعادتهن تسعٌ مثلاً أو عشر، فيحتمل أن تثبت لها تلك العادة بعينها، ولا تخصص بالست والسبع. وهذا الذي ذكره حسن، ولكني لم أره لغيره، وعندي أنه ما ذكره وجهاً مخرجاً، وإنما أبدى وجهاً من الاحتمال. ثم إذا رددناها إلى الست، أو إلى السبع، فنردّها إلى أغلب الطهر، وتكمل مع زمان الحيض الدورَ بالطهر ثلاثين يوماً، فإن حيَّضناها ستاًً، حكمنا لها أربعة وعشرين يوماًً، وإن حيّضناها سبعاً، حكمنا لها بعد السبع بثلاث وعشرين طهراً. ¬

_ (¬1) في ت 1: يعتبر هذا بهن.

فهذا بيان التفريع على الرد إلى غالب الحيض. 488 - فأما إذا قلنا: إنها ترد إلى أقل الحيض، فإلى كم ترد في الطهر؟ أبعد بعضُ أصحابنا، وذهب إلى أنها ترد إلى أقل الطهر أيضاًً؛ فيكون دورها ستة عشر يوماًً: يومٌ وليلة حيض، وخمسةَ عشرَ يوماًً طهر، ويُحكى هذا عن البويطي. وهو اتّباع لفظٍ وإضرابٌ عن المعنى؛ فإنا إنما رددناها إلى الأقل، حتى تكثر صلواتُها. فأما إذا رددناها إلى أقل الطهر، فالحيض يكُرُّ عليها على قرب، ففي تقليل أمد طهرها تكثير حيضها، وهذا يخالف وضعَ هذا القول. فإذا ثبت أنها [لا] (¬1) ترد إلى أقل الطهر، فإلى ماذا تردّ في حساب الطهر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تكمل بالطهر دورَها ثلاثين يوماًً، فحيضها يوم وليلة، وطهرها تسعةٌ وعشرون يوماً. والثاني - أنا نردها إلى غالب الطهر. ثم الطهر الغالب بين ثلاثة وعشرين، وأربعة وعشرين (¬2). وكان شيخي -على هذا الوجه الذي انتهى إليه التفريع- يرى أنها ترد إلى أربعة وعشرين احتياطاً للعبادة. فهذا بيان ما ترد المرأة المبتدأة إليه من الحيض. 489 - ثم هي حائض في الزمان الذي رُدَّت إليه، وما حكمها وراء ذلك الزمان على اختلاف القولين إلى تمام خمسةَ عشرَ يوماًً من أول الدور؟ فعلى قولين: أصحهما - أن حكمها حكمُ الطاهرات؛ قياساً على المميزة المعتادة؛ فإن المميزة إذا فارقت الدمَ القوي، فهي طاهرة بها حدث دائم، وكذلك المعتادة إذا انقضت أيامُ عادتها، فهي طاهرة إلى عودة الحيض في مفتتح الدور الآخر، فلتكن المبتدأة كذلك وراء أيام الحيضة، ردت إلى الغالب، أو إلى الأقل. والقول الثاني - إنها مأمورة بالاحتياط وراء الحيض إلى انقضاء خمسة عشر يوماًً من ¬

_ (¬1) زيادة من (ت)، (ل). (¬2) في النسختين بين ثلاثة وعشرين، وبين أربعة وعشرين، والمشهور أن (بين) لا تكرر مع الظاهر، وإنما تكرر مع الضمير، وقد جرت على هذا نسخة (ل)، فلم تكرر (بين).

أول الدور؛ فإنا لم نسند أمرها إلى أصلٍ من تمييز ناجزٍ أو عادةٍ سابقةٍ، ولم يُنقل فيها حديث يتحقق أنه في المبتدأة، فاقتضى ذلك احتياطاً. ثم الاحتياط على هذا القول، كالاحتياط في حق الناسية المتميزة، وسيأتي تفسيره فيها، فهو عمدة الكتاب. فصل 490 - ما ذكرناه من شهر التربص، وشهر الشفاء، وما بينهما من الشهور في المميزة يعود في المبتدأة، فإذا استمر الدم بالمبتدأة لمّا رأته، فإنها تتربص خمسةَ عشرَ يوماًً، وهي أوْلى المستحاضات بالتربص؛ فإنها لم يسبق منها في [نُوب] (¬1) الحيض شيء، وليست متمسكة بالتمييز في الحال، فإن انقطع الدم على الأكثر، فالكل حيضٌ، وإن جاوزه، ردت إلى الأقل من أول الدور، أو الغالب كما مضى، ثم لا تتربص في غير الشهر الأول كما تقدم، فإن انقطع الدم على خمسةَ عشرَ في شهر، وشفيت، فالدم بكماله في هذا الشهر حيض؛ فإن الاستحاضة إنما تتحقق إذا جاوز الدم الأكثر. فصل 491 - حكى العلماء بأحكام الحيض، عن [أحمد] (¬2) بن بنت الشافعي مذهباً في المبتدأة، لم يساعده الأصحاب عليه، وذلك أنه قال: إذا انفصل الخامس عشر بالنقاء ¬

_ (¬1) في النسختين: ثوب. وهذا تقدير منا. عسى أن يكون صواباً. وقد صدقتنا (ل) بحمد الله. (¬2) في النسخ الثلاث: محمد بن بنت الشافعي. والذي في كتب التراجم: أحمد بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع، المطلبي الشافعي نسباً ومذهباً، وهو ابن بنت الإِمام الشافعي رضي الله عنه، أمه زينب بنت الإمام الشافعي، يكنى أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن، روى عنه الإمام أبو يحى الساجي، له مسائل انفرد بها في الحج والرضاع وغيرها، توفي سنة 295 (ر. طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 75، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 296 رقم 557، وطبقات السبكي: 2/ 186).

عن السادس عشر، فما وقع في النصف الأول حيض؛ وما وقع في النصف الأخير من الدور استحاضة. وبيان ذلك بالتصوير: إذا استمر الدم عليها، ثم طهرت في السادس عشر، وعاود الدم في السابع عشر واطّرد، فالنصف الأول حيض؛ فإنه لم يتصل آخره بدم في أول النصف الثاني من الدور، فكان ذلك انفصالاً لأحد النصفين عن الثاني. وإن طهرت في الخامس عشر، ثم عاد الدم في أول السادس عشر، فما وقع في النصف الأول حيض أيضاً؛ لأن الدم لم يطرد على آخر النصف الأول مع أول النصف الثاني. فأما إذا استمر الدم على آخر النصف الأول وأول النصف الثاني، فتردّ حينئذ إلى غالب الحيض من أول الدور. وهذا الذي حُكي عنه مذهب يختص به، لا يعد من مذهب الشافعي. وحقيقة المذهب في تقطع الدم بنقاء لا يبلغ أقل الطهر يأتي مستقصىً في باب التلفيق، إن شاء الله تعالى. [المستحاضة الثالثة] (¬1) 492 - المستحاضة الثالثة: هي المعتادة، وهي التي استمرت لها أدوارٌ مستقيمة، ثم استحيضت، وطبق الدم عليها، فهي مردودة إلى عادتها في مقدار الحيض والطهر، ورعاية ترتيب الدور إذا كانت لا تتمكن من التمييز، وإن كانت متمكنة من التمييز، فسنعقد فيه فصلاً في الآخر. ولو كانت لها عادةٌ جارية مدةً، ثم تغيّرت قبل الاستحاضة، وزاد الحيض أو نقص، أو زاد الطهر أو نقص، وما استحيضت، فإن تكرر ذلك على [انتظام ثم] (¬2) استحيضت، فهي مردودة إلى حكم الدور الأخير، فإن جرى التغير مرةً واحدةً، ثم استحيضت، فظاهر المذهب أنها مردودة إلى الدور الأخير. ¬

_ (¬1) العنوان زيادة من المحقق. (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل).

وفي المسألة وجه ثانٍ: أنها ترد إلى العادة [القديمة] (¬1)، ولا اعتبار بما جرى مرةً واحدةً، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬2). 493 - توجيه الوجهين: من قال لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، احتج بأن العادة من العود، وما لا يعود لا يؤثر فيما تكرر عوداً [على بدء] (¬3) قديماً. ومن قال بالوجه الأظهر، احتج بأن المتأخر بالإضافة إلى ما تقدم كالناسخ والمنسوخ، ولا حقيقة [لقول منا] (¬4) يتمسك باشتقاق [لفظ] (¬5) العادة، فإن هذه اللفظة ليست من ألفاظ الشارع، فلا معنى للتعلق بمقتضاها. ولئن كان يبعد ترك عادة قديمة بمرة، فتركها بمرتين لا يغير من الاستبعاد شيئاً. وما ذكرناه متفقاً عليه، ومختلفاً فيه، يتهذب بصور نذكرها: فلو كانت تحيض خمسة أيام، وتطهر خمسةً وعشرين يوماًً، وكانت الأدوار تطّرد كذلك، فجاءها شهر، فرأت ستة دماًً، وأربعةً وعشرين طهراً، فقد زادت حيضتها، فلو زاد عليها دورٌ كذلك، فرأت ستة دماً، وأربعة وعشرين نقاءً، ثم فاتحها الدم وطبق، ولم ينقطع، فهي مردودة إلى حساب الدورين الأخيرين وفاقاً. ولو رأت الستة والأربعة والعشرين مرةً واحدةً، وفاتحها الدم وأطبق، فإن قلنا: تتغير العادة بالمرة الواحدة، [وهو الأصح، فهي مردودة إلى الدور الأخير، فدورها ثلاثون يوماًً كان، لكن ستة من أول الدور حيض، وأربعة وعشرون استحاضة. وإن قلنا: لا تتغير العادة بالمرة الواحدة] (¬6) فهي مردودة إلى عادتها القديمة، فنحيّضها خمسةً من أول الدور، ونحكم لها بالطهر خمسةً وعشرين يوماًً، وكذلك نُدير عليها أدوارها. وكذلك لو فرض نقصان الحيض مع التكرر، ومن غير تكرر، ثم طريان الاستحاضة، فلا يخفى تفريع الخلاف والوفاق. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 200 (¬3) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬4) عبارة الأصل: لمن يتمسك. والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬5) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬6) ساقط من الأصل وأثبتناه من: (ت 1) وجاءت في موضع سقط كبير في (ل).

وكل ما نذكره فيه إذا لم يزايل أول الدم بالتقدم ولا بالتأخر. 494 - وتمام البيان في ذلك في ذكر قاعدة، وهي: أنها إذا كانت تحيض خمسة، وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها شهر، ورأت ستة دماً، وأربعة وعشرين طهراً، ثم رأت الدور الثاني سبعة دماًً، وثلاثة وعشرين طهراً، ثم فاتح الدم وأطبق. فإن قلنا: العادة تثبت بالمرة الواحدة، فالعادة القديمة نسختها الستة والأربعة والعشرون، ثم السبعة والثلاثة والعشرون نسخت الستة قبلها. فالمستحاضة مردودة إلى حكم الدور الأخير حيضاً وطهراً. وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فالأصح أنه لا معتبر بالدورين الآخرين؛ فإنهما مختلفان، لم يتكرر واحد منهما، فالمستحاضة مردودة إلى حساب الأدوار القديمة، فنحيّضها من أول الدم خمسةَ أيام، ونحكم لها بالطهر خمسة وعشرين يوماًً. ومن أصحابنا من قال: الستة متكررة؛ فإن في السبعة ستة، والسابع هو الذي لم يتكرر، فنحيّضها ستة أيام من أول الدور. وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فإن قيل: إذا ردّت إلى الستة في الحيض فإلى ماذا ترد في الطهر؟ قلنا: كان في الأدوار القديمة خمسة وعشرون، ثم رأت في الدورين الأخيرين النقصان في الطهر على وجهين، فرأت في الدور بالستة الطهرَ أربعة وعشرين، ورأت في الدور بالسبعة ثلاثة وعشرين، فنقص في الدور الأول يوم، ونقص في الثاني يومان، فقد تكرر في النقصان يوم واحد، واختُص الدور الأخير بنقصان يوم، فنحط من الخمسة والعشرين ما تكرر نقصانه، وهو يوم واحد، فنحيّضها ستة، ونحكم لها بالطهر أربعة وعشرين، والدور ثلاثون كما كان. هذا تفريع هذا الوجه في الطهر والحيض. 495 - فأما إذا زايل الحيضُ أولَ الدور، فلا يخلو إما أن يزايله بالتأخر، وإما أن يزايله بالتقدم. فإن زايل أولَ الدور بالتأخر، فلا يخلو إما أن يزايل بالتأخر من غير زيادةٍ،

ولا نقصانِ، أو يفرض مع التأخر زيادة أو نقصان. فأما التأخر المحض فنصوّره ونقول: إذا كانت تحيض من أول الشهر خمسة أيام، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فجاءها شهر وحاضت من أوله خمسة، وطهرت خمسة وعشرين، وانتظرت معاودة الحيضة، فلم تعد حتى مضت خمسةُ أيام، ثم رأت الدم في الخمسة الثانية، فالدور الأخير خمسة وثلاثون يوماً، خمسة حيض، وثلاثون طهر. فإن رأت الخمسة الثانية دماً، وطهرت ثلاثين يوماً، فعاودها الدم في الخمسة الثالثة من الشهر، فإذا عاودها الدم، وطبق في هذه الصورة، فهي مردودة إلى هذا الحساب الذي تكرر، فنحيّضها من أول الدم المطبق خمسة، ونحكم لها بالطهر ثلاثين يوماًً، وندير عليها أدوارها على هذا الحساب، ولا نذكر خلافاً. وإن جرى ذلك مرةً واحدةً، وكما (¬1) رأت الدمَ في الخمسة الثانية استمر، فإن فرعنا على الأصح، وهو أن العادة تثبت بالمرة الواحدة، فدورها خمسة وثلاثون كما ذكرناه، ولا مبالاة بخلو أول الدور القديم. وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فالذي صار إليه الأئمة، أنا نحيّضها خمسة من أول الدور؛ فإنه دمٌ في زمن إمكان الحيض، وقد تخلل بينه وبين الدم المتقدم طهر تام، فلا بد من تحيّضها. ثم اختلفوا وراء ذلك، فذهب المحققون إلى تحييضها في الخمسة الثانية، كما ذكرناه، وهو أول الدم المطبق، ثم تحسب بعده خمسة وعشرين طهراً، فإن الطهر ثلاثين لم (¬2) يتكرر، فيعاودها الحيض في الخمسة الثانية أبداً، فإن الفقه في رعاية العدد، لا في خلوّ أول الدور. ومن أصحابنا من قال: نحيضها في الخمسة الثانية وهي أول الدم المطبق، ونحكم ¬

_ (¬1) وكما: بمعنى عندما، وهو استعمال شائع عند الخراسانيين، وليس بعربي ولا صحيح، قاله النووي. (¬2) جملة لم يتكرر هي خبر إِن، وكلمة (الطهر ثلاثين) كمركب، وهي اسم إِن.

لها بالنقاء بقية الشهر، وهو عشرون يوماً، ونحيّضها خمسة من أول الشهر الآتي، والدم مطبق، ثم نعود إلى الحساب القديم، فنحيّضها خمسة من أول الشهر الذي انتهى التفريع إليه، وطهرها خمسةٌ وعشرون، وقد جرى لها قبل الاستحاضة طهر وهو ثلاثون، فزادت خمسة، فنقصنا تلك الزيادة من أول دور الاستحاضة لنعود إلى الترتيب القديم مقداراً وأوّليةً وملازمةً لأوائل الأدوار. 496 - وحقيقة الخلاف آيلةٌ إلى أن من الأئمة من لم يُقم لأولية الدور وزناً، وإنما راعى العدد، وهو الصحيح. ومنهم من راعى الأوّلية بعض المراعاة، فجرّه ذلك إلى التصرف الذي ذكرناه. فهذا مذهب الأئمة في التفريع على الصحيح والضعيف. 497 - وأما أبو إسحاق المروزي، فقد صح عنه في هذه الصورة أنه قال: إذا تأخرت حيضتُها مرةً واحدةً إلى الخمسة الثانية، ثم استمر الدم، فجميعُ ما رأته في هذا الشهر استحاضة، ثم تحيض في أول الدور خمستها، وتعود إلى حسابها القديم. وإنما قال ذلك لاعتقاده في لزوم أول الأدوار، ما أمكن ذلك. وهذا المذهب وإن صح عنه، فهو متروك على أبي إسحاق معدودٌ من هفواته، وهو كثير الغلط في الحيض، ومعظم ما عثَر به إفراطُه في اعتبار أول الدور، ووجه غلطه: أنها إذا رأت الدمَ في الخمسة الثانية، ثم استمرّ، فأول دمها في زمان إمكان الحيض وقد تقدم عليه طهر كامل، فالمصير إلى تخلية هذا الشهر عن الحيض ساقط لا أصل له. ثم نقل النقلة عنه غلطاً عظيماً، فقالوا: عنده أنها لو رأت في الخمسة الثانية دماً، واستمرّ إلى آخر الشهر، ثم رأت نقاءً في خمسة أيام من أول الشهر الثاني، وخمسة وعشرين دماًً، ثم تكرر عليها هذا الترتيب سنين كثيرة، فهذه امرأة لا حيض لها. وهذا بالغٌ في السقوط والركاكة. والذي حكيناه في الشهر الأول إن حمل على عثرة عالم، وقد صح أنه غلط،

فطردُ (¬1) ذلك في الشهور على التصوير الأخير لا يعزى إلى من يعد في [أحزاب] (¬2) الفقهاء. هذا تفصيل القول فيه إذا تأخرت الحيضة من غير زيادة ولا نقصان. 498 - فأما إذا تأخرت الحيضة وزادت، فلا يتصور أن تتبين الزيادة إلا بتكرر الطهر؛ فإن الحيضة إذا تأخرت، ثم استمر الدم بها متصلاً بها، لم يَبن مقدارُها، فنصوّر الزيادةَ، وتكرُّرَها، ووقوعَها قبل الاستحاضة مرةً واحدةً، ونذكر في كل صورة ما يليق بها. 499 - فإذا كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها أول الدور، وكانت ترتقب الحيض فلم تر الدم حتى مضى من أول الدور خمسةُ أيام، ثم رأت الحيض ستة أيام، وطهرت بعد ذلك ثلاثين يوماًً، فقد تكرر الطهر ثلاثين يوماًً مرتين، ورأت الحيض ستة أيام مرة واحدة. فإن رأت بعد الطهرين ستةَ أيام دماًً، وطهرت بعد ذلك ثلاثين، ثم استمر الدم، فقد رأت الستة مرتين، والطهر ثلاثين ثلاث مرات، فهي مردودة إلى ذلك. ومن ضرورة تكرر الزيادة في الحيض قبل الاستحاضة أن يتكرر الطهر ثلاث مراتٍ، فإذا اتصلت الاستحاضة، فنحيّضها من أول الدم (¬3) ستةَ أيام، ونحكم بالطهر بعده ثلاثين، ثم يعود الحيض ستة، والطهر ثلاثين. فإن قيل: هذا بيّن على قياس [مذهب] (¬4) الجمهور، فما الذي يقتضيه قياس أبي إسحاق المروزي مع غلوّه في الامتناع من تخلية أوائل الأدوار؟ قلنا: لا يجوز أن نقدر ¬

_ (¬1) ضبط في (ت 1): فطرَدَ. (¬2) في الأصل: إِلى من يعدُّ فىِ أجواب، وفي: (ت 1): يعد في جواب. وعجيب أن تتفق النسختان على الخطأ في كلمة واحدة. وهو في موضع خرمٍ واسع من (ل). وما اخترناه هو تعبير إِمام الحرمين في مقامٍ آخر (راجع العبارات المصورة من المخطوطات في نهاية المجلد). (¬3) في (ت 1): الدور (¬4) زيادة من: (ت 1).

منه مخالفة الأصحاب في ذلك، في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه لو تأخرت الحيضة [و] (¬1) استعقبت طهراً زائداً، ثم عادت الحيضة والطهر، واستمرت الأدوار على استئخار الحيض، فلا يصير مُسْلِمٌ إلى أن ما يراه ليس بحيض، ثم إذا [اطردت] (¬2) العادات كذلك، ثم استحيضت، يتعين الرد إلى حساب الأدوار الأخيرة، لا محالة. والذي قدمناه من مذهبه فيه إذا تأخرت الحيضة، واتصل الدم، ولم ينقطع، ولو تأخر الدم، وزاد، ولم تتكرر الزيادة، فمن ضرورة تصور الزيادة تكرر الطهر؛ فإن الدم لو تأخر واستمر، لم تَبِن الزيادة. ووجه التصوير أنها إذا كانت ترى الدم خمسة أيام في أول الدور، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فجاءها دور، فلم تر الدم في أوله حتى مضت خمسةُ أيام، ثم رأت الدمَ ستة أيام، ثم طهرت ثلاثين يوماً، ثم رأت الدم، واستمر واستحيضت، فقد كان طهرها خمسة وعشرين يوماًً، فجاءها دور، فلم تر الدم في أوله حتى مضت خمسة أيام، وتكرر عليها الطهر ثلاثين مرتين، وزادت الحيضة مرة واحدة. فإن قلنا: العادة تثبت بالمرة الواحدة، فالتفريع على ما تقدم، وإن قلنا: لا تثبت، فيثبت طهرُها ثلاثين للتكرر. ونردّها إلى الخمسة في الحيض أول الدم، فحيضُها خمسة وطهرها ثلاثون. ولا معنى للتطويل بعد وضوح الغرض. وما ذكرناه في تأخير الحيض مع الزيادة. 500 - ولا يكاد يخفى تأخرها مع فرض النقصان فيها متكرراً، أو غير متكرر. 501 - فإذا تقدّمت الحيضة، وتصوير التقدّم أنها إذا كانت تحيض خمسةً من أول الدور، [وتطهر خمسةَ وعشرين يوماً، فحاضت مرة خمسةً من أول الدور] (¬3) وطهرت عشرين يوماًً، وكانت تقدّر دوام النقاء خمسة أخرى على العادة، فرأت الدم في ¬

_ (¬1) في الأصل: "أو استعقبت"، والمثبت من: (ت 1). (¬2) في الأصل: " طرَتِ " بهذا الضبط والمثبت من: (ت 1). (¬3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (ت 1).

الخمسة الأخيرة، فقد نقص من طهرها خمسة أيام، فإن تكرر ذلك، وتصوير تكرره أن ترى الخمسة الأخيرة دماًً كما صورنا، وتطهر عشرين يوماًً، ثم يعود الدم ويستمر، فقد تكرر دورها خمسةً وعشرين، إذا رأت الطهر عشرين مرتين، فترد إلى ذلك، وتحيّض من أول الدم المستمر خمسة، ونحكم لها بالطهر عشرين، وتدور أدوارها كذلك. ولا مبالاة بمفارقة الدم أول الدور على مذهب الجمهور، ولا يتأتى إلا مفارقة أول الدور؛ فإنا إذا رددناها إلى عشرين في الطهر، فلا بُدّ وأن تفارق الدم الأول. وأما أبو إسحاق، فقياس مذهبه الذي يقرب بعض القرب، أنها لما رأت الدم في آخر الدور أولاً، ثم طهرت بعد ذلك، فتلك الخمسة حيض؛ فإنه احتوشها طهران كاملان، فلما طهرت عشرين من أول الدور الثاني، وعاد الدم في الحادي والعشرين من الدور الثاني، ثم استمر، فالذي ينقدح من مذهبه أيضاًً ما ذكرناه لتكرر نقصان الطهر، وذلك يقتضي لا محالة مزايلةَ أول الدور. وإن قيل: لما استمر الدم، فالعشرة في آخر الدور الثاني استحاضةٌ غيرُ معدودة في حساب، وحيضها الخمسة الأولى من أول الدور، ثم تردّ بعدها إلى خمسةٍ وعشرين طهراً، لتعود الحيضة إلى الدور. وسبب ذلك أن خلو أول الدور لم يتكرر، ومن ضرورة ردّ الحيض إلى أول الدور ردّ الطهر إلى الخمسة والعشرين، فهذا بعيدٌ. وإن كان يليق بعثراته في ملازمة أوائل الأدوار. فالوجه: القطع بما قدمناه من مذاهب الأصحاب. 502 - ولو كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فحاضت خمستها من أول الدور، وطهرت عشرين، فعاجلها الدم، واستمر الدم، فقد نقص طهرها في هذا الدور، وعاد إلى عشرين. فإن قلنا: تثبت العادة بمرة واحدة، فتُرد إلى ما جرى في الدور الأخير، فنحيّضها خمسة من أول الدم، ونحكم لها بالطهر عشرين يوماًً، ثم نحيّضها خمسة، ونحكم

بالطهر عشرين، وهكذا تدور أدوارها، ولا نبالي بمفارقة أول الدور القديم؛ فإنا إذا كنا نثُبت عددَ الطهر ونقصانَ الدور بالمرة الواحدة، فمزايلة أول الدور أيضاًً يثبت بالمرة الواحدة. وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فإذا استمر الدم كما سبق تصويره، فقد اختلف أصحابنا كما سبق، فمنهم من قال: نحيّضها من أول الدم خمسة، ثم نحكم لها بالطهر خمسةً وعشرين، ثم نحيّضها خمسة، فيكون دورها ثلاثين، كما كان قديماً، ولكن زايلت الحيضة أوّلَ الدور بما جرى واتفق. ولكن حساب الدور باقٍ كما كان. ومن أصحابنا من قال على هذا: نحيّضها الخمسة من أول الدم، ونحيّضها خمسة أخرى من أول الدور، فيكون حيضها في هذه الكَرَّةِ عشرةَ أيام، ثم نحكم لها بالنقاء خمسة وعشرين بقية الدور، ثم يعود الحيض خمسة في أول الدور، ويطَّرد الحيضُ خمسة، والطهر خمسة وعشرين، والحيضُ منطبق على أول الدور، كما كان قديماً. وهذا القائل يلتزم من أول استمرار الدم زيادة الحيض، ليعود الحيض إلى الأول، ثم يستمر الحساب القديم، وهذا ساقط، لا أصل له؛ فإن الزيادة في الحيض من غير عادة سابقةٍ محالٌ. والوجه اعتبار العدد، وترك المبالاة بأوّل الدور. وأما أبو إسحاق، فقد اختلف الأصحاب في قياس مذهبه، والظاهر اللائق بمذهبه أنه يجعل الخمسةَ الواقعة في آخر الدور الأول استحاضة متقدمة، ويحيّضها في الخمسة الأولى من الدور، ويُدير أدوارها كذلك. ومن أصحابنا من يقول: قياس مذهبه في هذه الصورة أن يحيّضها في هذه الكَرّة عشرةَ أيام، كما ذكرنا من مذهب بعض الأصحاب الآن، ثم يردّ الأمر إلى الحساب القديم. 503 - ولو كانت تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها شهر وحاضت خمستها، وطهرت خمسة عشر يوماً، وعاود الدمُ، واستمر.

فإن قلنا: تثبت العادة بالمرة الواحدة، فقد صار دورها عشرين: خمسةٌ دمٌ، وخمسةَ عشرَ طهرٌ. وكذلك تدور الأدوار. وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فالمذهب الصحيح أنّا نحيّضها خمسةً من أول الدم المعاود، ونحكم لها بالطهر بعدها خمسة وعشرين، ولا التفات إلى أول الدور، وإنما النظر إلى عدد الحيض والطهر، ومن أصحابنا من قال: نُحيّضها من أول الدم خمسة عشر يوماً، فتقع الخمس (¬1) الأخيرة في أول الدور على الحساب القديم، ثم نحسب من بعد ذلك خمسة وعشرين طهراً، فيعود الحساب في مقدار الحيض والطهر، وأوّليّة الدور إلى ما كان قديماًً. وهذا ضعيف؛ فإنه إثباتُ زيادة في الحيض في هذه المرة من غير أصل. وأما أبو إسحاق: فقد اختُلف في قياسه، فقيل: قياسُه هذا الوجه الذي ذكرناه آخراً. وقيل: بل مذهبه أن العشرة الواقعةَ في آخر الدور استحاضة غيرُ معدودة في حساب، وإنما نحيّضها خمسة من أول الدور، ثم يجري حساب أدوارها كما كان قديماً. 504 - ولو كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فرأت من أول دورها خمستها، وطهرت أربعة عشر يوماًً، ثم رأت الدم واستمر، ولم ينقطع، فالنقاء الذي رأته ناقصٌ عن أقل (¬2) الطهر بيوم. فنقول: أولاً يوم وليلة من أول الدم استحاضة، تكملةً وتتمةً للطهر، هذا لا بد منه، ثم نُفَرِّع المسألة. فإن قلنا: العادة لا تثبت بالمرة الواحدة، فقد اختلف الأئمة فقال الأكثرون: نحذف يوماًً كما ذكرناه من أول الدم؛ استكمالاً للطهر، ونحيّضها بعد هذا خمسة ¬

_ (¬1) (الخَمْس) كذا في النسختين، ووجهها أن المعدود إِذا تقدّم، يجوز في العدد الموافقة في التذكير والتأنيث، ولا تجب المخالفة. ووجدناها بعد ذلك في (ل): الخمسة. (¬2) في: (ت 1): أول الطهر.

أيامٍ، ونحكم لها بالطهر خمسةً وعشرين يوماً، ولا نبالي بمزايلة أول الدور، وإنما يتبع العدد في الحيض والطهر، كما تقرر في الصور المتقدمة. ومن أئمتنا من قال: نحذف كما تقدم يوماًً من أول الدم، ثم نحيّضها العشرة الباقية من الدور، ونحيّضها خمسة من أول الدور الثاني، فيكون حيضها خمسةَ عشرَ، ثم نحكم لها بالطهر خمسة وعشرين، ثم نحيّضها، خمسة من أول الدور الثالث، وندير الأدوار القديمة، كما تقدم هذا المسلك في أمثلة متكررة. وأما أبو إسحاق، فإنه يجعل الدم المبادر في أول الدور الأول استحاضة سابقة، ثم يحيضها في أول الدور الثاني خمسة أيام، كما تقدم. ومذهب أبي إسحاق في هذه الصورة أقرب، وقد وافقه بعضُ الأصحاب. والسبب فيه، أن أول الدم المبادر استحاضة؛ فإن اليوم الأول يكمل به الطهر، فيظهرُ بعضَ الظهور -والحالة هذه- الحكمُ على جميع ما تقدم بالاستحاضة. فهذا إذا قلنا: العادة لا تثبت بالمرة الواحدة. 505 - فأما إذا قلنا: تثبت العادة بالمرة الواحدة، فظاهر المذهب على هذا أنا نحذف يوماًً من أول الدم المبادر كما تقدم ثم نقول: عاد الدور إلى عشرين، فنحيّضها بعد اليوم خمسة، ونحكم لها بالطهر خمسة عشر، وندير على هذا الحساب أَدْوارها. ومن أصحابنا من قال: لا يُرَدُّ الطهر إلى خمسة عشر بما جرى، وإن كنا نرى العادة تثبت بالمرة الواحدة، فإنا لم نتمكن من تحييضها في أول الدم المبادر، والدم يتردّد بين أن يكون حيضاً وبين أن يكون استحاضة، وليس كما لو رأت خمسةَ عشرَ يوماً نقاءً، ثم اطرد الدّم؛ فإن النقاء لا يكون إلا طهراً إذا لم ينقص عن الأقل، فنعتبر (¬1) العادة القديمة بمرة واحدة فيها ليس بعيداً. ثم من جرى على ما ذكرناه، فقد تردد الغائصون على هذا، فذهب المحققون إلى أنا نحذف يوماً، ونحيّضها خمسة أيام بعده، ثم طهرها خمسة وعشرون يوماً. ¬

_ (¬1) كذا في النسختين. ولعلها: فاعتبار. وكذا في (ل): فنعتبر.

وقال آخرون: إذا رأينا ألا نردَّ الطهرَ إلى خمسةَ عشرَ بهذه المسألة (¬1)، فنجعل الدم المبادر في آخر الدور كله استحاضة، ليكمل في هذا الدور الطهر خمسةً وعشرين أيضاًً، كما رآه أبو إسحاق. وهذا فيه بُعد. والأصح المسلك الأول الذي ذكرناه الآن. فصل 506 - قد ذكرنا فيما تقدم أن المبتدأة المميزة تميّز، وترد إلى التمييز إذا تمكنت منه، ووجدت أركانه. وكذلك المعتادة إذا نسيت عادتها القديمة، واستحيضت، وتمكنت من التمييز، فهي مردودة إلى التمييز وفاقاً. 507 - فأما إذا كانت على عادة مستمرة، واستحيضت وهي ذاكرة لعادتها في أدوارها، وكانت تتمكن من التمييز أيضاًً، فإن كان ينطبق مقتضى التمييز على العادة، فهو المراد. وإن اختلفا، فكان التمييز يقتضي مقداراً من الحيض يزيد على العادة أو ينقص منها، فقد اختلف أئمتنا، فمنهم من قال: هي مردودة إلى التمييز؛ فإنه اجتهاد، والعادة في حكم التقليد، والاجتهاد مقدم على التقليد، ويعتضد هذا بأن اختلاف المزاج بالطعن في السن يقتضي في مطرد العرف تغايير في أقدار الفضلات التي تدفعها الطبيعة، فيبعد أن تطّردَ العادة على مقدار واحدٍ، ويتجه اعتبار صفات دم الحيض عند استمرار الدماء. ومن أئمتنا من قال: هي مردودة إلى العادة؛ فإن اعتبارها متفق عليه، والتمييز مختلف فيه، وأيضاًً فإن الرجوع في التمييز إلى لون الدم، ونحن نرى ألوان دماء العروق تختلف اختلافاً متفاوتاً، وقد يصفرّ دم الحيض أيضاً. ومن أئمتنا من قال: يجمع بين العادة والتمييز إذا أمكن الجمع بينهما. ¬

_ (¬1) في (ل): المرة.

والقائلان الأوّلان يستمسكان بأحدهما، ووجه الجمع أنها إذا كانت ترى خمسةً حيضاً، وتطهر خمسة وعشرين، فلما استحيضت، صارت ترى عشرة سواداً، وعشرين صفرة، فنحيّضها في العشرة، ونردّ طُهرَها إلى عشرين، وهذا فيه إشكالٌ من جهة أنا كما نرعى العادة في الحيض، وجب أن نرعاها في الطهر، وفي تحييضها عشرة تنقيص طهرها، وذلك إسقاط صلوات في خمسة أيام، ولكن لا ينقدح في الجمع بين العادة والتمييز إلا هذا. وكذلك لو رأت أولاً خمسةً شقرة في أيام عادتها [ثم رأت في الخمسة الثانية سواداً، ثم ضعف الدم إلى آخر الشهر، فمن يرى الجمعَ يُحيّضها في العشرة، وإن تعذّر الجمع بأن رأت خمسة في أيام عادتها] (¬1) دماًً ضعيفاً، ثم أحد عشر سواداً، فالجمع غير ممكن. فإذا عَسُر [الجمع] (¬2) على رأي من يجمع عند الإمكان، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنها ترد إلى العادة. والثاني - إلى التمييز المحض. والثالث - أنهما يتدافعان، فلا يعتبر واحد منهما، وتجعل هذه كالمبتدأة العاجزة عن التمييز. وقد سبق القول في المبتدأة. وهذا الوجه ضعيف، لا أصل له، ذكره بعض المصنفين. وقد تكرر تعارض أمرين في الدماء، والاختلاف في الجمع إذا أمكن، وفي تعذّر الجمع كما تقدم في الدم الأسود والأحمر مع انطباق الأشقر بعدهما. والذي ذكرناه الآن في اجتماع العادة [والتمييز] (¬3) يضاهي ما تقدم. [فرع] (¬4): 508 - المبتدأة إذا تمكنت من التمييز، ورُدّت إليه، وصارت ترى الدمَ الأسودَ خمسةً، والدم الضعيف خمسة وعشرين، ثم استمر عليها الدم الأسود، ¬

_ (¬1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (ت 1)، (ل). (¬2) زيادة من (ل) (¬3) في الأصل: الدم، والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬4) في الأصل: فصل. والمثبت من باقي النسخ.

وعجزت عن التمييز، فالمذهب الصحيح أنها مردودة إلى الخمسة؛ فإن التمييز عند جريان أركانه أثبت لها عادة، فإذا انخرم التمييز، رُدّت إلى العادة المستفادة بالتمييز. ومن أصحابنا من قال: إذا انخرم التمييز، فلا ننظر إلى أدوار التمييز، ونجعلها كمبتدأة ما تمكنت من التمييز قط. 509 - ولو كانت المسألة بحالها، فاطردت أدوارٌ على انتظام أركان التمييز، ثم استمر الدم على لونٍ واحد، وتعذّر التمييز، ثم جاءها دورٌ، فرأت عشرةً مثلاً سواداً وعشرين شقرة، وقد كانت في الأدوار المستقيمة ترى خمسةً سواداً، فهي الآن مردودة إلى العشرة، ولا يخرّج هذا على الخلاف في تقديم العادة والتمييز؛ فإن الأدوار التي استمرت كانت [تمييزية] (¬1)، وإنما الخلاف في عادات جرت في غير الاستحاضة مع أطهارٍ وأدوارٍ مستقيمة، إذا قيست بالتمييز الممكن عند استمرار الاستحاضة. فصل قال الشافعي: " الصُّفرة والكُدرة في أيام الحيض حيض ... إلى آخره " (¬2). 510 - الصفرة شيء كالصديد تعلوه صُفرة، وليست على شيءٍ من ألوان الدماء القوية والضعيفة. والكدرةُ شيء كدر ليس على ألوان الدماء أيضاً. ونحن نذكر حكمها في حق التي لا تستمر عليها استحاضة. فإذا كانت المرأة ترى خمسةً دماً، وخمسة وعشرين نقاءً، فجاءها شهر، فرأت في أوان الحيض خمسةً صفرةً، أو كُدرة، ثم طهرت، فما رأته حيض؛ فإنها رأته في إمكان الحيض، وأيام العادة. وإن كانت ترى خمسةً دماًً، ثم رأت سبعةً كُدرة في أول دور، ثم طهرت ثلاثة وعشرين، فالخمسة الواقعة في أيام العادة حيض، وما زاد عليها إلى تمام السبعة، فيه ¬

_ (¬1) في الأصل، (ت 1): تمييزاً به. (¬2) ر. المختصر: 1/ 54.

وجهان: أحدهما - أنه ليس بحيض؛ فإنه ليس بدم، وليس في أيام عادة، فينزل منزلة بول دائم. والثاني - أنه حيض؛ فإنه في زمان إمكان الحيض، فأشبه الواقع في أيام العادة. هذا فيه إذا لم تر لَطْخةً من الدم، فأما إذا رأت في أيام العادة مقداراً من الدم، ورأت بعدها دماً، ثم صفرة أو كُدرةً في خمسةَ عشرَ، وهي زمان إمكان الدم، ففي الصفرة الزائدة على أيام العادة وجهان مرتبان على الوجهين في الصفرة الأولى. وهذه الصورة أولى بأن تكون الصفرة فيها حيضاً؛ لأنه إذا تقدم دمٌ، حُملت الصفرة على جزء منه؛ فإنّ تدرّج انقطاع الدم هكذا يكون، والجراحة إذا مجت دماًً عبيطاً، ثم انقطع، فترق أجزاء من بقية الدم مع رطوبات، ويتلون ألواناً كثيرة. وإن لم يسبق دمٌ، فيبعد حملُ الصفرة على الدم إذا لم يتقوّ بالوقوع في عين أيام العادة. فحاصل القول إذاً، أن ما يقوى بالوقوع في أيام العادة، فهو حيض وفاقاًً، وما يقع وراء أيام العادة من الصفرة على ثلاثة أوجه: أحدها - أنها ليست بحيض. والثاني - أنها حيض إذا كانت في الخمسةَ عشرَ. والثالث - أن ما يتقدّمه دم وقع في زمان الإمكان، فهو حيض، وما لا يتقدمه دم، ولا يكون في أيام العادة، فإنه ليس بحيض. ثم كان شيخي رحمه الله يقول: مَنْ يشترط تقدّم دم، يكتفي بلحظة منه، ولا يشترط دوامه يوماًً وليلة؛ فإن الغرض من اشتراط تقدمه ما قدمناه من تخيل تدريج الدم في الانقطاع كما سبق. وهذا لا يختلف بالنقصان عن يوم وليلة. 51 - ومن تمام البيان في ذلك أن المرأة إذا كانت مبتدأة، ورأت أول ما رأت صفرة، أو كُدرة، ثم طهرت، فقد اختلف أئمتنا: فذهب بعضهم إلى أن حكم مردّ المبتدأة على اختلاف القولين كأيام العادة في حق المعتادة، وهذا غيرُ مرضي، والصحيح أن حكم الصفرة في أيام مردّها كحكمها وراء أيام العادة في الخمسةَ عشرَ في حق المعتادة؛ فإنها في زمان إمكان الحيض ولم يسبق لها عادة معتبرة، والمستحاضة

المبتدأة إنما تردّ إلى أقل الحيض أو أغلبه للضرورة. فهذا بيان الصفرة والكدرة. 512 - ثم اختلف أئمتنا في معنى قول الشافعي: "الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض"، على [حسب] (¬1) اختلافهم في المذهب. فقال بعضهم: معناه أنها في أيام العادة حيض. وقال بعضهم: إنها في زمان الإمكان [حيض] (¬2)، وقد روي عن حمنة بنت جحش أنها قالت: "كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة وراء العادة شيئاًً" ثمْ إن جعلنا أيام مردّ المبتدأة كأيام العادة، فإذا رأت صفرة وراء المردّ في الخمسةَ عشرَ، ففيها وجهان، وإن جعلنا المسألة في مرد المبتدأة على وجهين، ففي الزائد أيضاً وجهان مرتبان، فهذا تمام البيان في ذلك. 513 - وقد يتعلق بالمعتادة أن المرأة إذا كانت لها عادات مضطربة، فكانت تحيض في شهر خمسة، وفي شهر ستة، وفي شهر سبعة، ثم تعود إلى الخمسة، والستة، والسبعة، ثم استحيضت، فكيف يكون حكمها؟ وهذا يتعلق به أمور من المستحاضة الرابعة، وهي الناسية، فنذكره في أثناء الناسية المتحيرة - إن شاء الله تعالى. 514 - ومما لم نعده تعويلاً على ما تقدم، ذكرُ التربص في الشهر الأول من شهور المستحاضة والاستمرار بعده على حكم العادة، وبيان شهر الشفاء. ولا ينبغي للناظر في أحكام الاستحاضة أن يتبرم [بتكثير] (¬3) الصور، وإعادتها في الأبواب. 515 - فإذا كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها شهر، فرأت خمستَها، ثم زاد الدم، فتتربص على حكم الحيض؛ فإن الحيضة قد تزيد، فإن انقطع الدم على الخمسةَ عشَرَ، أو على أقلَّ منها، فالكل حيض، وإن زاد على الأكثر واستمرت الاستحاضة، فقد تَبيَّنَّا أن الحيض الخمسةُ الأولى، والزائد عليها استحاضة، فتتدارك ما تركت من الصلوات وراء العادة، ثم في الدور الثاني ¬

_ (¬1) زيادة من (ل). (¬2) ساقطة من غير (ل). (¬3) في الأصل: بتكرير. والمثبت من (ت 1)، (ل).

لا نأمرها بالتربّص، كما سبق بيانه في المميزة والمبتدأة. فإن جاءها دور، ورأت الدم في أوله، فلما زاد على الخمسة، اغتسلت، وأخذت تصلي، ثم انقطع الدم في هذا الدور على خمسةَ عشرَ وشُفيت، فقد علمنا أن جميع ما رأته من الدم حيض؛ فإنه انقطع على الأكثر، ونحن إنما نحكم بالاستحاضة عند زيادة الدم على الأكثر، وقد بان فيما سبق، ولم يضر الإعادة فيه. [المستحاضة الرابعة] (¬1) 516 - فأما المستحاضة الرابعة: وهي الناسية، فحكمها عَمرة (¬2) الكتاب، ونحن نستعين بالله تعالى، ونستوعب تفاصيل القول فيها، ونقدم تصوير أمرها، فنقول: 517 - المرأة إذا كانت لها عادة، فنسيتها لعارض علة، أو كانت في أول أدوارها مجنونة، فاستحيضت وأفاقت، ولم تدر ما كانت عليه، فلا يخلو: إما ألا تذكر شيئاًً أصلاًً، لا مقدارَ الحيض والطهر، ولا وقتَهما، ولا زمانَ الانقطاع، ولا زمان الابتداء، ولكنها أفاقت ورأت الدم المستمر، وفقدت أركان التمييز، وهذه التي لا تذكر شيئاًً تسمى المتحيّرة. وإن كانت تذكر شيئاًً، ففي ذلك القسم نذكر أبواب الضلال، والخلطَ، وغيرهما. 518 - فلتقع البدايةُ بالمتحيرة المطلقة. وقد اختلف قول الشافعي فيها: فقال في قولِ: المتحيرةُ كالمبتدأة، ولكن ابتداء دور المبتدأة من وقت رؤيتها الدم من سن إمكان الحيض، ولا نعرف للمتحيرة ابتداءً، فنردها إلى ابتداء الشهور، والمرعي الشهور العربية المبنية على الأهلّة، فنحيّضها من أول كلّ شهر المقدار الذي ذكرناه في المبتدأة، ثم إذا انقضى ذلك المقدار، فهي طاهرةٌ إلى آخر الشهر؛ فإن المواقيت الشرعية هي الأهلة. ¬

_ (¬1) زيادة من عمل المحقق. (¬2) العَمرة ما يلبس على الرأس، من تاج وعمامة ونحوها (القاموس والمعجم)، فالمراد هنا أن أحكام الناسية هي تاج الكتاب، أي كتاب الحيض، وقد سماها من قبل: عمدة الكتاب. وفي (ت 1) و (ل): "غمرة" بالغين المعجمة: وهي الشدة.

وهذا القول ضعيفٌ مزيفٌ لا أصل له؛ فإنا نجد في المبتدأة مستنداً؛ من حيث رأت دماًً في زمان إمكان الحيض، فجعلنا ما رأته أولَ الحيض، ثم بنينا على ذلك المستند -المستند (¬1) على التفصيل المتقدّم- ما اقتضاه الحال. والمتحيرة لا مستند لها، والتحكم بتطبيق حيضها على أوائل الشهور لا يقتضيه قول الشارع، ولا قياسٌ ولا حكمٌ متلقَى من الفِطر والجبلات. 519 - والقول الثاني - وهو الذي عليه التفريع، وبه الفتوى: إنها مأمورة بالاحتياط. ثم منشأ الاحتياط أن حيضها ليس يتميّز عن استحاضتها، لا بصفة ولا بعادة معلومة، ولا بمبتدأ معلوم يُتخذ مَردّاً. والحيض لا يدوم حتى يقدّرَ سقوط وظائف الشرع عنها. ويبعد أيضاًً تقديرُ جميع ما ترى استحاضة؛ فإن رؤية الدم في زمان إمكان الحيض يقتضي القضاءَ بكونه حيضاً. فإذا تعارضت هذه الأحوال، لم ينقدح إلا الأمر بالاحتياط، ثم من احتمال الحيض في كل وقت ينشأ تحريم الوقاع أبداً، ومن احتمال الاستحاضة في كل وقت ينشاً الأمر [بوظائف الصوم والصلاة، ومن احتمال انقطاع الحيض في كل وقت ينشأ الأمر] (¬2) بالاغتسال لكل صلاة مفروضة. وقد ينبني على هذا الأمرُ بقضاء الصلاة بعد أدائها، على مذهب المحققين، كما سيأتي على الجملة مشروحاً (¬3) إن شاء الله عز وجل. 520 - وتحقيق القول في هذا أن الذي ذكرناه على الجملة من الاحتياط -وسنفصله إن شاء الله- ليس من باب التغليظ والتشديد والأخذ بالأحوط. ومن اعتقد أن هذا احتياطٌ، فليس محيطاً بحقيقة الباب؛ فإن تأبيد التحريم (¬4)، والأمرَ بإقامة وظائف ¬

_ (¬1) في الأصل، (ت 1): "على ذلك المبتدأ المستند" والمثبت عبارة (ل). (¬2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (ت 1)، (ل). (¬3) عبارة (ت 1): كما سيأتي في ذلك مشروحاً (ل) كما سيأتي ذلك مشروحاً. (¬4) المراد تحريم الوقاع.

الشريعة من العبادات، مع تكليف القضاء -كما سيأتي- امتحانٌ عظيم، والمبتلاةُ بهذه الحالة ليست منتسبة إلى ما يوجب عليها تغليظاً، ولا يليق بالدين الحنيفي السمح جمع هذه الأمور احتياطاً؛ فإنا قد نسقط قواعدَ لأدنى ضرر، ولكن أمرناها بما سنذكره ضرورة لا (¬1) يستقيم غيره؛ إذ لو قدّرناها في كل زمان كأنها حائض، لسقطت الصلاة والصوم، [وبقيت] (¬2) دهرَها لا تصلي ولا تصوم، وهذا لا صائر إليه من الأمة، فلو أردنا أن نبعّض الأمرَ، فلا سبيل إليه، ونحن لا نعرف مبتدأ ومنقطعاًً، والأصول كلها ملتبسة. ولو أحْللناها لزوجها أبداً، وهي ترى الدم في زمان إمكان الحيض، لكان ذلك بعيداً. فما نأمرها به في حكم الضرورة، لا في حكم احتياطٍ، ونحن نجد جهةً غيرَه. وينضم إليه أن الاستحاضة في أصلها نادرة، والنسيان على الإطلاق في نهاية الندور، وتنقرض الدهور ولا تُلفى متحيرة. فليس فيما ذكرناه تغليظٌ يعتم، بل هو مرتبط بأندر الأحوال، فاحتمل لذلك. 521 - ثم القول في معنى الاحتياط في حق المتحيرة يفصّل في خمسة أبواب: أحدها - في بيان طهارتها. والثاني - في حق حكم الصلاة المقامة في الأوقات. والثالث - في الصيام وما يتعلق به. والرابع - في قضائها ما يفوتها من الصلاة والصيام. والخامس - في أحكام متفرقة، من تحريم الوقاع والعدة، وقراءة القرآن وغيرها. ... ¬

_ (¬1) كذا في النسختين، ولعلها: ولا يستقيم غيره. وفي (ل): ولكن أمرها بما سنذكره ضرورة لا يستقيم غيره (¬2) في النسختين: وبقي، والمثبت تقديرٌ منا، حيث ساعد عليه ضبط دهر بالفتح نصباً على الظرفية، في نسخة الأصل.

باب في طهارة المتحيرة

باب في طهارة المتحيرة 522 - التفريع على قول الاحتياط: قال الشافعي: " هي مأمورة بأن تغتسل لكل صلاة مفروضة "؛ إذ لا يدخل وقتٌ إلا ويحتمل أن يقدر فيه انقطاع حيضها. فإذا اغتسلت لصلاة الصبح مثلاً، وصلّت، ثم دخل وقت الظهر، فمن الممكن أنها اغتسلت وصلت الصبح في زمان الحيض، وإن حيضها إنما انقطع بعد الزوال، ثم يطَّرد ذلك في جميع أوقات الصلوات؛ فاقتضى ذلك أمرَها بالغُسل لكل صلاة مفروضة. ثم الغُسل في حقها كالوضوء في حق المستحاضة، فيما ذكرناه من الأمر بتجديده لكل فريضة. 523 - وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في أن المستحاضة لو توضأت في الوقت، فهل يجوز لها أن تؤخر إقامة الصلاة عن الفراغ من الوضوء، أم يلزمها تعقيب الوضوء بالصلاة؟ فأما الغُسل في حق المتحيرة، فقد ذهب ذاهبون إلى أنه يجري مجرى الوضوء في التردّد الذي ذكرناه من اشتراط البدار إلى إقامة الصلاة، وهو وهمٌ وغلط من قائله، والسبب فيه أنا إنما أوجبنا على المستحاضة في وجهٍ ظاهرٍ تعقيب الوضوء بالصلاة؛ حتى تقلّ أحداثها؛ إذ لو أخرت، لتجددت أحداث مستغنىً عنها، وهذا لا يتحقق في الغسل؛ فإن عين الدم ليس من موجبات الغسل، بل إنما الموجب له انقطاع الحيض، وليس هذا مما يُتوقع تكرره في أزمنة تتخلل بين الغسل والصلاة. وإن قيل: إذا اغتسلت وأخرت الصلاة، فلعل غُسلها وقع في الحيض، وإنما انقطع بعد الفراغ منه، فهذا المعنى لا يختلف تقديره بأن يقصر الزمان أو يطول؛ فإن

ذلك ممكن تقديره وإن قرب الزمان، وما لا حيلة في دفعه يُقرّ على ما هو عليه. نعم، إن اغتسلت وأخرت إقامة الصلاة، فيتوجه أن نأمرها بتجديد الوضوء قبل الصلاة، حملاً على أنَّ ما رأته دمُ الاستحاضة، وقد كثر وتكرر، ولو وصلت الفراغَ من الغسل باستفتاح الصلاة، لكانت لا تحتاج إلى الوضوء. وهذا تفريعٌ على أن المستحاضة ليس لها أن تؤخر الصلاة عن الفراغ من الوضوء. 524 - ومما يتعلق بغُسل المتحيرة أن الأئمة قالوا: إنما تغتسل في الوقت؛ لأنه طهارة ضرورة، فأشبهت التيمم، وقد ذكرنا وجهاً ضعيفاً في المستحاضة: أنها لو فرغت عن الوضوء مع أول وقت الصلاة، ثم صلّت على البدار، أجزأها ذلك؛ تفريعاً على إيجاب وصل الصلاة بالفراغ [من الوضوء] (¬1) وكان هذا القائل يرى أن الغرض هذا (¬2) في أمر الوضوء، لا إيقاعه في الوقت. فقال قائلون: إذا رأينا ذلك في الوضوء، فنطرد ذلك القياس في غُسل المتحيرة أيضاً، ونقول: لو اغتسلت وأوقعت الفراغ من الغسل مع أول الوقت وصلّت، جاز، وهذا هو الغلط الأول الذي ذكرنا؛ فإنه لا معنى لرعاية الانفصال والاتصال بين الصلاة والاغتسال، وإنما يتأتى ذلك في وضوء المستحاضة، فالوجه القطع بإيقاع الغسل في الوقت؛ فإنه طهارة ضرورة، فأشبهت التيمم. ثم إذا اغتسلت للفريضة، تنفلت ما شاءت كالتيمم. ... ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬2) اسم الإشارة خبر أن، والمعنى أن قائل هذا الوجه الضعيف يرى أن المطلوب وصل الصلاة بالوضوء، لا إيقاع الوضوء في الوقت.

باب في صلاة المتحيرة

باب في صلاة المتحيرة 525 - هي مأمورة بإقامة الصلوات كلِّها ما دامت بحالتها وحيرتها على القول الصحيح. وقد نصّ الشافعي على أمرها بالغسل وإقامة الصلوات في مواقيتها، ولم يتعرض لإيجاب قضاءٍ بعد صدور صورة الأداء منها، مع تفريعه على الاحتياط. وقال الشيخ أبو زيد المروزي: يلزمها القضاء مع الأداء؛ فإنها إذا أدت صلاة الصبح في أول الوقت، أو وسطه، فيحتمل أن حيضها انقطع في آخر الوقت، وأن الغسل والصلاة وقعا في زمان الحيض، فيلزمها -مع ما قدّمته- القضاءُ. وكذلك يجري هذا الاحتمال في كل صلاة من الصلوات الخمس، وإذا فتحنا باب الاحتياط، فيلزم طرده في جميع وجوه الاحتمال؛ إذ ليس وجهٌ أولى بالاعتبار من وجه. 526 - وقد اختلف المحققون في نص الشافعي، فقال قائلون: المذهب المبتوت ما ذكره أبو زيد، والشافعي فتحَ باب الاحتياط، ونبه على الاحتمالات كلّها، ولم يستقصها؛ [فما] (¬1) ذكره ذوو الفطن من أصحابه على القاعدة التي أسسها، هو عين مذهبه. والشافعي، كما لم يذكر إيجاب القضاء لم ينفه أيضاًً. ولا يمتنع أن يقال: لم يخطر له الاحتمال الذي أدركه مَن بعده، ولو خطر، لحكم بموجبه. 527 - ومن أئمتنا من يرى نفي القضاء مذهباً للشافعي، ورأى ما ذكره أبو زيد في حكم تخريج قولٍ منقاسٍ. ¬

_ (¬1) في الأصل: فمما.

فوجهُ قول الشافعي إذاً على هذا، أن المتحيرة لو تعطّلت عن وظائف العبادات عمرَها، لكان بعيداً، ولو تحكّمنا بإثبات أدوراها على الأهلة من غير أصلٍ، لكان بعيداً، فاحتطنا حتى نقيمَ أوراد الشريعة، ولا تتعطل. فأما أن نحكّم في أمرها كلَّ ممكن، فهذا ينتهي إلى حد التعذيب، والشريعة تحط أموراً بدون هذا من الضرر. وقد قال الشافعي في الصوم: إنها تصوم شهر رمضان، ثم تقضي خمسة عشر يوماًً. ولا يتأتى ذلك إلا بأن تصوم شهراً آخر. وسيأتي شرح هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى. وتعرّضه للقضاء في الصوم مع السكوت عنه في الصلاة يدل على أنه حاول الفرق بينهما؛ لأن قضاء الصوم يطَّرد غالباً على الحُيَّض، ولا يجب قضاء الصلوات التي تمر مواقيتها في زمن الحيض. والدليل على أنا لا نراعي كلّ ممكن أن المتحيرة إذا طلقها زوجها، فإنها تعتد ثلاثة أشهر، كما سيأتي ذلك في الباب الخامس، ومن الممكن أن يقال: هي من اللواتي تباعدت حيضتها حتى تصير إلى سن اليأس، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فدلّ على أنه لا يعتبر كلَّ ممكن، إذا عظمت المشقة وظهر الضرر. والوجه: ما قاله أبو زيد؛ فإن مساق الاحتمالات تقتضي القضاء، وليس في إعادتها الصلوات كبيرُ [ضرر] (¬1). 528 - ثم أطلق الأصحاب حكاية مذهب أبي زيد في إيجاب القضاء في الصلوات، ولم يستقصوا القولَ فيه، وأنا أقول مستعيناً بالله: [إنما أوجب] (¬2) القضاءَ لاحتمال انقطاع الحيض في آخر وقت كل صلاة، ورب انقطاعٍ يوجب تدارك صلاتين؛ فإن الحائض إذا انقطع حيضُها قبل غروب الشمس بمقدار يسع خمس ركعاتٍ، يلزمها قضاء الظهر والعصر جميعاًً. وكذلك المغرب والعشاء، لو فُرض الانقطاع آخر الليل. فهذا ما اعتمده أبو زيد في إيجاب القضاء، وهو واضح. ¬

_ (¬1) في الأصل: أمر. (¬2) في الأصل: إذا أوجب.

ولكن في المقدار المقضي كلام ذَهِلَ (¬1) عنه معظم الأصحاب. ثم في كيفية القضاء تفصيلٌ، لا بد من الاطلاع عليه، وقد اتفق لبعض ذوي الفطن من المختلفين إليَّ فِكرٌ غائصة في جهات الاحتمالات، وعرضَها عليَّ، فارتضيتها، ولم أعثر على زللِ فيها، ولا بدّ من إيداعها هذا المذهب (¬2). وحق الناظر في هذا الفصل أن ينعم النظر ويتئد، ويعلم أن شفاء الصدور يحصل عند الفراغ من الفصل. وأنا استفتح القول فيها، ثم أرقى في مسالك الاحتمالات شيئاً شيئاً، ثم ما يتأخر في مساق الكلام قد يَرْفع ما تقدّم، حتى يستقر الغرض في المنقَرَض، وسبيل التعليم فيما يتلقى من الاحتمالات يقتضي هذا التدريج. 529 - فلتقع البداية بما ذكره الأصحاب عن أبي زيد، قالوا: المتحيرة تؤدي كلَّ صلاة في وقتها، ثم تقضيها لاحتمال وقوع الصلاة المؤدّاة في الحيض، مع (¬3) اتفاق انقطاع الحيض في آخر الوقت. والحائض إذا انقطعت حيضتها في آخر الوقت؛ فإنها تلتزم الصلاة على ما سنقرر ذلك في كتاب الصلاة، في أوقات أصحاب الضرورات - إن شاء الله تعالى. ثم قالوا: إذا صلت الظهر والعصر في وقتيهما، ثم غربت الشمس، وقد كانت اغتسلت لكل صلاة مؤدّاة في وقتها، فإن اغتسلت، وصلّت المغربَ، فرضَ الوقت، كفاها ذلك الغسل في قضاء الظهر والعصر، ولكنها تتوضأ لكل فريضة تقضيها لاستمرار الاستحاضة، كما ذكرناه في أحكام المستحاضات. وسببُ الاقتصار على غسلِ في هذه الصورة أن سبب وجوب الغسل احتمال الانقطاع، وهذا بعينه سببُ إيجاب قضاء الظهر والعصر؛ فإن انقطع الدم قبيل ¬

_ (¬1) ذهل من باب: تعب، وتأتي أيضاً من باب: قطع. والأصل فيه اللزوم، ويتعدى بالهمزة: أذهله. وقد يتعدى بنفسه " المصباح والمعجم والمختار ". (¬2) المذهب: المراد به هنا هو هذا الكتاب: نهاية المطلب، وبهذا سماه الإمام في المقدمة. (¬3) ساقطة من (ت 1).

الغروب، فقد اغتسلت مرة للمغرب، فلا يعود إمكان الانقطاع إلى مدة، كما سنكشف الغطاء فيه. وإن لم ينقطع الحيض قبل الغروب، فلا يجب قضاء الظهر والعصر أصلاًً، فلا معنى للأمر بالغُسل لأجلها. وهذا إذا صلّت المغرب أداءً، ثم أرادت قضاء الظهر والعصر. فإن اغتسلت، وقضت الظهر والعصر، ثم أرادت أن تصلي المغرب، فلا بدَّ من غُسلٍ آخر لصلاة المغرب، لاحتمال أن القضاء في الظهر لم يجب، وأنها بعد الفراغ من صورة قضاء الظهر والعصر، قد انقضت حيضتها، فعليها أن تغتسل لصلاة المغرب لهذا، وهذا المقصود بيّن. ولكن الغرض من مقصود الفصل يتبيّن في الآخر. 530 - ثم قال المحققون [تفريعاً] (¬1) على مذهب أبي زيد: إذا أوجبنا قضاءَ كلِّ صلاة، فنقول: إذا أرادت الخروج عنها، فلتغتسل ولتصلِّ صلاة الصبح في أول الوقت، بحيث تنطبق على الأول، ثم تغتسل وتصلي تلك الصلاة في آخر الوقت مرةً أخرى، وينبغي ألا توقع في الوقت إلا أقل من تكبيرة، أو ما دون ركعة، إذا قلنا: لا تدرِك التي تطهر الصلاةَ بإدراك الزمان الذي لا يسع ركعة [تامة] (¬2). وإذا فعلت ذلك، خرجت عن عهدة هذه الصلاة؛ فإن الصلاة الأولى إن قُدّرت في الطهر، فقد حصل بها أداء الفرض، وإن وقعت في دوام الحيض، واستمر إلى انقضاء الوقت، فلا أداء عليها ولا قضاء، وإن قدّر انقطاع الحيض قبيل إنشاء الصلاة في آخر الوقت، فقد اغتسلت وصلّت، والانقطاع لا يتكرر (¬3) كذلك. وإن فرض انقطاع الحيض في أثناء الصلاة الثانية، فهذا التقدير لا يوجب الصلاة؛ فإنا صوّرنا إنشاء الصلاة الثانية على وجهٍ لو قُدّر انقطاعُ الحيض في أثنائها، لما وجب قضاء الصلاة، ولسقط الأداء والقضاء. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: ثانية، والمثبث من (ت 1)، (ل). (¬3) في (ل): والانقطاع يتكرر.

531 - وإن هي أوقعت الصلاة الأولى في أول الوقت على تحقيق التطبيق، ولكنها أخرت الصلاة الثانية، وأقامتها قبل انقضاء خمسة عشر يوماًً، وابتداء المدة من أول وقت الصلاة، فتخرج أيضاًً عما عليها؛ فإن الأولى إن وقعت في الطهر، كفت، وإن فرض الانقطاع في وسط الوقت مثلاً، فالحيض إذا انقطع، لم يعد إلى خمسةَ عشر يوماًً، فتقعُ الصلاة الثانيةُ في الطهر. فهذا إذا صلت مع أول الوقت، ثم فعلت في إعادة تلك الصلاة ما ذكرناه، فقد أدت ما عليها. 532 - ولو صلت في أثناء الوقت أولاً، ثم صلت ثانية في آخر الوقت، كما سبق التصوير فيه، أو أخرت وصلّت في الزمان الذي رسمناه في الصورة الأولى، فلا تخرج عما عليها لجواز أنها كانت طاهرةً في أول الوقت، في زمان يتأتى إيقاعُ الصلاة التامة فيه، ثم طرأ الحيض، وقد لزمتها الصلاةُ بإدراك الطهر في أول الوقت، ثم أوقعت الصلاتين في استمرار الحيض، فتبقى تلك الصلاة في ذمتها. فإذا أرادت الخروج منها، ولم يتفق منها الصلاة في أول الوقت، كما ذكرناه في الصورة الأولى، وقد صلت في أثناء الوقت، فعليها أن تصلي مرتين أخريين سوى ما صلت في وسط الوقت، وتقع الصلاة الثانية بعد انقضاء وقت الرفاهية والضرورة في الخمسة عشر، وابتداءُ الخمسة عشر من افتتاح الصلاة التي أقامتها في وسط الوقت، وتُوقع الصلاةَ [الثالثة] (¬1) في أول السادس عشر، بحيث يكون بين الفراغ من الصلاة التي أقامتها في وسط الوقت وبين ابتداء الصلاة [الثالثة] (¬2) خمسة عشر يوماًً، فإذا فعلت ذلك، خرجت عما عليها في تلك الصلاة، وإنما زادت صلاةً لتركها إقامة الصلاة في أول الوقت كما تقدم ذكر ذلك. وتعليل خروجها عما عليها بثلاث صلوات على الترتيب الذي ذكرناه، أن الخمسة عشر المتخللة -كما تقدم- إن كانت طهراً، فقد وقعت فيها صلاة، وإن كانت حيضاً، ¬

_ (¬1) في الأصل: ثانية، والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل).

فقد وقعت الصلاة الأولى والثالثة في الطهر. وإن قدّرنا أن الحيضة ابتدأت في آخر الصلاة الأولى، فتقع هي والصلاة الثانية في الحيض، وتقع الثالثة في الطهر لا محالة. [واستقصاء القول في هذا يأتي في الباب المشتمل على قضاء الصوم والصلاة] (¬1) وبالجملة تأخيرها الصلاة عن أول الوقت ينزل منزلة ترك الصلاة؛ لجواز أن تكون طاهرة في أول الوقت، ثم يطرأ الحيض بعد [مضي] (¬2) زمان يسع الفريضة من أول الوقت، فلا بد من فرض صلوات. 533 - ثم يحتمل احتمالاً ظاهر أن نوجب على المتحيّرة إقامة الصلاة في أول الوقت؛ فإنها لو علمت أن حيضها يبتدىء بعد انقضاء زمان الإمكان، فعليها البدار إلى إقامة الصلاة مع أول الوقت، ونحن في تفريع الاحتياط نجعل الممكن في حق المتحيرة بمثابة المعلوم المستيقن، ولا يمتنع على هذا الحكم أن يجب عليها إقامةُ الصلاة مرةً ثانيةً في آخر الوقت؛ لجواز وقوع الأولى في الحيض، وانقطاع الحيض في آخر الوقت بحيث يبقى من الوقت زمانٌ يسع الفريضة. ولكن إن طبقت الصلاة الثانية على الآخر، بحيث يوافق التحلل عنها انقضاءُ الوقت، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز أن ينقطع حيضُها في أثناء هذه الصلاة. 534 - ولو خالفت ما أمرناها به، وافتتحت الصلاة الثانية في بقية الوقت، بحيث لو فرض انقطاع الحيض فيها، لما صارت مدركة للصلاة، كما سبق تصوير ذلك، فتخرج عما عليها، ولا يمتنع، والحالة هذه أن يجوز لها تأخير الصلاة الثانية إلى هذا الحد؛ للضرورة التي بها، وازدحام وجوه التشديد عليها، فإذاً توقع الصلاة الثانية على وجه تخرج بها وبالأولى عما عليها، ولا تقع في تغليظٍ آخر. 535 - وما أوردنا إنما يفرض في صلاة الصبح، وصلاة العصر، والعشاء. فأما صلاة الظهر، والمغرب، فلو أوقعتهما في أول الوقت، ثم أوقعتهما في آخر ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل).

الوقت المختص بهما، وقد أثبتنا للمغرب وقتين، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز أن يستمر الحيض على جميع وقت الظهر والعصر، ثم تطهر في آخر وقت العصر، أو آخر الليل بمقدار أربع ركعات [ثلاث من هذه الأربع للمغرب وركعة للعشاء] (¬1) فتصير الآن مدركة للصلاتين، فلتصل الظهر والعصر في أول الوقت، ثم يبتدىء القضاء بعد غروب الشمس، كما ذكرناه للأصحاب. 536 - ثم الآن نرقى من هذه المرتبة، فنقول: إذا أوجبنا على المتحيرة -وقد راجعتنا- قضاءَ الصلوات في يوم استفْتَتْنا فيه، فلو لم تقضها حتى مضت خمسةَ عشرَ يوماً من أول وقت الاستفتاء، فيجب القطع بأنه لا يجب عليها في هذه المدة إلا قضاء صلاة يوم وليلة على مذهب أبي زيد؛ فإنا إنما نوجب القضاء لاحتمال الانقطاع، ولا يتصور أن ينقطع الحيض في الخمسة عشر إلا مرة واحدة، وهذا يقتضي ألا يجب إلا تدارك صلاة واحدة في هذه المدة، إذا كانت تقيم وظائفها في أوائل الأوقات. ويحتمل أن يجب تدارك صلاتي جمع، وهما الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فلما أشكل ذلك، أوجبنا قضاء صلوات يوم وليلة؛ فإن ذلك يشتمل على ما تريد، وتكون هذه كالتي تنسى صلاةً من صلوات يوم وليلة، ولا تدري عينَها، فسبيل الخروج مما عليها إعادة صلوات يوم وليلة. 537 - فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه الآن يخالف ما قدّمتوه من إيجاب قضاء كل صلاة؛ فإنكم صرتم الآن إلى أنه لا يجب عليها في الخمسةَ عشرَ غيرُ قضاء صلوات يوم وليلة؟ قلنا: هذا الذي أغفله الأصحاب، وهو مقطوع به. والذي قدمناه إذا أرادت أن تخرج في كل يوم عما عليها، وكانت تؤثر البدار، وتقدّر كأنها تموت في مختتم كل ليلة، فأما إذا أخرت القضاء، فلا شك أنه لا يجب في الخمسةَ عشرَ إلا ما ذكرناه. وهذا فيه إذا كانت تصلي في أوائل الأوقات، فلو أنها كانت تصلي في أوساط الأوقات، فيتصور أن يجب عليها في الخمسةَ عشرَ قضاءُ صلوات يومين وليلتين؛ ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1).

وسبب ذلك أنها إذا كانت تصلي في وسط الوقت، فقد يطرأ الحيض على صلاة في الوسط، فتبطل وقد ينقطع في وسط أخرى، فتجب، ويتبين فساد عقد هذه الصلاة، ثم يتفق بتوقع الطرآن والانقطاع فسادُ صلاتين مثلين. ثم يُشكل عينُها. ومن فاتته صلاتان متماثلتان، فلا يحصل استدراكهما إلا بقضاء صلوات يومين وليلتين، ولو كانت تصلي في أول الوقت، فيحتمل وقوعُهما في استمرار الحيض، وانقطاع الحيض في أثناء الوقت، ولو فرض ابتداء الحيض في أثناء الصلاة المقامة في أول الوقت، لما وجبت الصلاة؛ فإنها لم تدرك من الوقت ما يسع لإقامة الفريضة، ولا يجتمع الفساد بسببي الطرآن والانقطاع. وهذا بيّن لمن وفق للتأمل. 538 - ثم نرقى من هذه المرتبة، ونجدد العهد أولاً بقاعدة المذهب في المبتدأة، وقد اختلف قول الشافعي في أنها ترد من أول الدم الذي رأته إلى ماذا؟ فقال في قولٍ: " حيضها يوم وليلة "، وقال في قول: " حيضها أغلب الحيض "، ثم إن ردَدْناها إلى أغلب الحيض، فيكون دورُها ثلاثين، سبعة منه حيض، وثلاثة وعشرون منه طهراً. أو ستة حيض، وأربعة وعشرون طهراً، على ما سبق تفصيل ذلك. فإذا (¬1) رددناها إلى أقل الحيض من أول الدم، فالظاهر أنها تُرد إلى أغلب الطهر، وهو ثلاثة وعشرون، (أو أربعة وعشرون) (¬2). وفي المسألة وجه بعيد إذا ردت إلى أقل الحيض أنها تُردّ إلى أقل الطهر أيضاً، فيكون دورُها على هذا الوجه البعيد ستةَ عشرَ يوماًً. فإذا ظهر ما ذكرناه، فنقول: إنما زيّفنا القول بأن المتحيرة كالمبتدأة، من جهة أن ابتداء دورها غيرُ معلوم، والتحكم بردّ ابتداء الدور إلى أوائل شهور العرب بعيدٌ جداًً، وابتداء دور المبتدأة من [أول دمها] (¬3)، فهذا وجهٌ واحد في الفرق بينهما، وإلا فلا يمتنع ردّ المتحيرة إلى ما ردّت إليه المبتدأة: من الأغلب والأقل، حملاً للأمر على ¬

_ (¬1) عبارة (ل) فيها سقط؛ حيث جاءت هكذا: " سبق تفصيل ذلك. وإذا رددنا إلى أقل الطهر أيضاً، فيكون دورها على هذا الوجه البعيد ستة عشر يوماً ... ". (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1). (¬3) في الأصل: أولها. والمثبت من: (ت 1)، (ل).

ما يجري في بيان جنسها، فالذي يتجه إذاً أن نقول: 539 - على المتحيرة في كل دور من أدوار المبتدأة قضاء صلوات يومين وليلتين. فإن قدرنا دورها ثلاثين، فهذه تقضي في كل ثلاثين صلوات يومين وليلتين، إذا كانت تصلي وظيفة الوقت في أثناء الوقت، أو في آخر الوقت، وإن كانت تصلي وظيفة الوقت في أول الوقت، فلا يلزم في دور المبتدأة إلا قضاء يوم وليلة، وقد قررنا ما يقتضي هذا الفرق فيما تقدم. فهذا منتهى الفكر في هذا الفن. 540 - وإن نسبنا ناسب إلى مخالفة الأصحاب، سفهنا عقله، فإن القول في هذه المعاصات يتعلق بمسالك الاحتمالات، وقد مهّد الأئمة القواعد كالتراجم، ووكلوا استقصاءها إلى أصحاب الفطن والقرائح، ونحن نسلّم أيضاًً لمن يبغي مزيداً أن يُبدي شيئاً وراء ما ذكرناه مُفيداً، على شرط أن يكون سديداً. وبالجملة، النظر الذي يفيد المتحيرة تخفيفاً بالغُ الموقع مستفادٌ؛ فإنه إذا اجتمع عليها دوام العلة، واشتدادُ الضرر، لم يكن التشديد فيها لائقاً بالرخص المألوفة في المضايق. ***

باب في صيام المتحيرة على قول الاحتياط

باب في صيام المتحيرة على قول الاحتياط قال الشافعي تفريعاً على قول الاحتياط: 541 - " المتحيرة تصوم شهر رمضان؛ لجواز أن تكون طاهرة في جميع الشهر، ثم لا يسلم لها من صوم الشهر -إن كمل ثلاثين يوماًً- إلا خمسة عشر يوماًً " (¬1)؛ فإنها يجوز أنها كانت حائضاً في خمسة عشر يوماً، فيلزمها قضاءُ خمسة عشرَ يوماًً، ولا يتأتى لها ذلك إلا بأن تصوم شهراً كاملاً؛ حتى تستيقن أنها أتت بخمسة عشر في طهر. 542 - قال أبو زيد: يفسد عليها من صيام كل شهر (¬2) ستةَ عشرَ؛ فإن الخمسة عشر إذا ابتدأ في نصف نهار؛ فإنه ينقطع في مثل ذلك الوقت من النهار الأخير، فينبسط على هذا خمسة عشر يوماًً على ستةَ عشر. وإذا كان ممكناً، فالاحتمال في حقها كاليقين إذا كانت مأمورة بالاحتياط. والذي ذكره الشافعي فيه: إذا كان يبتدئها في أول اليوم بحيث لا يتعدّى إلى السادسَ عشرَ. 543 - ثم اختلف أصحابنا: فمنهم من قطع بما ذكره أبو زيد، ومنهم من رأى المنقول عن الشافعي مذهباً. وهذا التردّد هو الذي ذكرناه للأصحاب في قضاء الصلوات التي تؤديها؛ فإن الشافعي لم يتعرض للقضاء، واستدركه أبو زيد. ثم قال أبو زيد: إذا كنا نأخذ بفساد ستة عشر يوماً، فإذا صامت شهراً آخر، فلا ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 58. (¬2) في (ت 1): من صيام شهر رمضان. وكذا في (ل).

يحصل لها منه إلا أربعةَ عشرَ يوماً، لجواز فساد ستةَ عشرَ يوماًً (1 بخمسة عشر 1) كما سبق، فيبقى عليها قضاء يومين. وسنذكر في باب قضاء الصلاة والصوم كيفية قضاء اليومين، مع ما يتعلق به -إن شاء الله عز وجل. 544 - والذي يجب استدراكه في ذلك، إذا رأينا أن تُردَّ المبتدأة إلى سبعة أيام في ثلاثين يوماًً، ونحكم لها بالنقاء ثلاثة وعشرين يوماًً، فيتجه أن يقدر حيض المتحيرة سبعة في كل ثلاثين؛ فإنه لا فرق بينها وبين المبتدأة إلا في شيء واحد، وهو أنا نعرف ابتداء دور المبتدأة؛ ويستحيل أن نتحكم بتقدير ابتداء الدور للمتحيرة، فأما تنزيلها على غالب الحيض في كل ثلاثين قياساً على المبتدأة، فمتوجِّهٌ لا ينقدح [غيره] (¬2)، فليقدّر لها سبعة أيام في شهر رمضان، ثم قد تفسد ثمانية أيام بسبعة، فيصح اثنان وعشرون يوماً. فإن قيل: هذا عودٌ منكم إلى القول الضعيف في أن المتحيرة كالمبتدأة. قلنا: هي مقطوعة عن المبتدأة في إثبات ابتداء الدور؛ فإن المبتدأة نحيّضها من أول [الدور] (¬3)، ثم نبني أدوارها على ذلك الأول، ولا يتأتى ذلك في المتحيرة على قول الاحتياط. فأما ردّها إلى الغالب فيما يتعلق بالعدد، إذا انتهى تفريعٌ إليه من غير تحكم بإثبات أوّليْة، فلا يتوجه غيره، فأقصى ما يتخيله الفارق، أن المتحيرة قد كانت لها عادات، فلا تأمن تخالف تلك العادات لو رددناها إلى الغالب، والمبتدأة ما سبقت لها عادة. وهذا الفرق لا يرتضيه الفقيه؛ فإن المبتدأة ربما كانت تحيض عشرة، لو لم تُستحض، ثم من حاضت واستحيضت، ونسيت ابتداء دورها، فهي متحيرة، يُفرَّعُ [أمرُها] (¬4) على ما ذكرناه، وإن لم تسبق لها عادة في الأدوار مستقيمة. فهذا منتهى القول في ذلك. والله أعلم. ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1). والمعنى يفسد صيام ستة عشر يوماًً بحيض خمسة عشر يوماًً. (¬2) ساقطة من الأصل وحدها. (¬3) في الأصل: الدم. (¬4) مزيدة من: (ل).

باب في قضاء الصلاة والصوم على قول الاحتياط 545 - المتحيرة التي لا تذكر شيئاً إذا لزمها قضاء يوم، أو نذرت صومَ يومٍ، فأرادت الخروج عما عليها، فقد قال الشافعي: " تصوم يومين بينهما خسمةَ عشر يوماًً ". وأجمع أئمتنا أنه حَسَبَ (¬1) صومَ اليوم الأول من الخمسة عشرَ التي ذكرناها (¬2)، فإنها لو صامت يوماًً وأفطرت خمسة عشرَ يوماً، ثم صامت يوماًً آخر، فيحتمل أن اليوم الأول وقع في آخر حيض، ثم طهرت خمسة عشر، ثم يقع اليوم الثاني في ابتداء حيض جديد، فيكون اليومان واقعين في الحيض، وإذا صامت يوماًً وأفطرت أربعة عشر يوماً، وصامت يوماًً آخر، فإن وقع اليوم الأول في الحيض يقع الثاني في الطهر، وإن وقع الثاني في الحيض، يقع الأول في الطهر. 546 - واستدرك أبو زيد وجهاً في الإمكان، وهو أن يبتدىء الحيض في النصف الأخير من اليوم الأول، ويمتد إلى النصف السادس عشر، فيفسد اليومان في هذا التقدير. والذي نُقل عن الشافعي لا يتجه إلا مع تصوير انطباق الحيض على أول النهار وآخره ابتداء وانقطاعاً، وهذا ليس مما يغلب حتى يقال: الحملُ عليه بناء على الغالب، وتصوير الابتداء والانقطاع في أنصاف النهار في حكم النادر، وقد مضى نظير ذلك في أداء رمضان وقضائه. ¬

_ (¬1) حسب: من باب قتل، أي أحصى وعدّ، وهو المعنى المراد هنا، أما حَسِبَ من باب تعب [وقد تكسر العين في المضارع أيضاًً] فهي التي بمعنى (ظنّ). (المعجم والمصباح) هذا. ولما أصل إلى موضع هذا النص من كلام الشافعي. (¬2) معنى العبارة: أن أئمة المذهب أجمعوا على أن الشافعي رضي الله عنه لم يرد أن تفطر خمسة عشرَ بين اليومين، بل حَسَب اليوم الأول وعدّه من الخمسةَ عشر. وقد حكى النووي نقلَ إمام الحرمين هذه العبارة عن الشافعي، وإجماع الأئمة على هذا التفسير، وجاء بالعبارة كما هي أمامنا بنص حروفها. (ر. المجموع: 2/ 453).

فليقع التفريع على مذهب أبي زيد. فقال الأئمة: إذا أرادت الخروج عما عليها بيقين، فلتصم يوماًً وتفطر يوماً، ثم تصوم الثالث، أو يوماًً آخر إلى آخر الخامس عشر، ثم تفطر السادس عشر، وتصوم السابع عشر، فتخرج عما عليها بيقين، إذا صامت ثلاثة أيام على هذا الترتيب. فإن قُدِّر ابتداءُ الحيض من نصف اليوم الأول، فينقطع في السادس عشر، ويقع السابع عشر في الطهر وإن انقطع الدم في اليوم الأول، فاليوم الثالث يقع في طهر، وإن فرضنا انقطاع الدم في اليوم الثالث فيقع السابع عشر في الطهر، لا محالة. وهذا بيّنٌ. ولو صامت يوماًً، وأفطرت يوماًً، وصامت يوماًً، ثم [صامت] (¬1) الثامن عشر، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز أن ينقطع الحيض في اليوم الثالث، ثم يبتدىء الحيض في الثامن عشر، فيقع الجميع في الحيض. ولو صامت يوماًً وأفطرت يومين، وصامت اليوم الرابع، ثم صامت الثامن عشر، فتخرج عما عليها؛ فإنه إذا قدّر انقطاع الدم في اليوم الرابع، فيقع الثامن عشر في الطهر لا محالة. ولو صامت بدل الرابع يوماًً آخر إلى آخر الخامس عشر، جاز. 547 - والضابط في ذلك أنا نقدر شهراً ثلاثين يوماًً، ونتخيله شطرين: خمسةَ عشر، وخمسةَ عشرَ، فلا بد من صيام ثلاثة أيام، فإن صامت اليوم الأول من الخمسةَ عشرَ الأولى، ثم صامت اليوم الثالث، فبين اليومين في أول النصف الأول يوم فطر، فليقع اليوم الثالث بعد يوم من النصف الثاني، وهو السابع عشر؛ نظراً إلى الفطر المتخلل بين اليومين في النصف الأول، ولو وقع اليوم الثاني في اليوم الرابع، فبين اليومين يومان، فيجوز أن يقع اليوم الثالث بعد يومين من النصف الثاني، وهو الثامن عشر، وإن وقع اليوم الثاني في الخامس عشر، فبين اليومين ثلاثة عشر، فيجوز أن يقع اليوم الثالث في التاسع والعشرين، وحيث يجوز أن تصوم الثامن عشر، فلا شك ¬

_ (¬1) في الأصل: أفطرت، والمثبت من: (ت 1)، وهو الصواب المفهوم من السياق والسباق. وقد أكدته (ل).

في جواز السابع عشر، وكذلك حيث يجوز التاسع والعشرون، يجوز السابع والعشرون، لا محالة. وما ذكرناه حساب لا يخفى على متأمل. [وكل] (¬1) ما ذكرناه مَبني على الأخذ بأكثر الحيض، فإن رأينا الأخذ بأغلب الحيض، فيكفي أن تصوم يوماًً، وتفطر سبعة أيام، وتصوم يوماًً آخر؛ فإن عودَ الحيض لا يقدّر على هذا الحساب؛ إذ الحيض إذا انقطع لا يعود إلا بعد خمسة عشر يوماًً. ولكن هذا وإن كان ظاهراً منقاساً، فإنحن نتبع الأئمة، ونفرعّ في الاحتياط على [تقدير] (¬2) الحيض بالأكثر؛ إذ اقتضى الاحتياط ذلك. ولا نعود إلى حساب الأغلب، ففيما ذكرناه من التنبيه كفاية. وقد كرّرناه في مواضع، ونحن نبغي الاطلاع عليها، فهذا بيان قضاء يوم واحد. 548 - فإن لزمها قضاء يومين، وأرادت إيقاعهما في شهر واحد، فتصوم ستة أيام: تصوم ثلاثة في أول النصف الأول، وثلاثة في أول النصف الثاني، وهي السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر، فتخرج عما عليها؛ فإنه إن انقطع الحيض في آخر اليوم الثالث، فلا يعود في السادس عشر والسابع عشر، وكيفما قُدِّر فيسلم يومان من الحيض. 549 - فلو كانت تقضي ثلاثة أيام، فتُضاعِف الثلاثةَ وتزيد يومين، فتصوم أربعة أيام متوالية من أول الثلاثين، وأربعة من أول السادس عشر على الوِلاء، فتخرج عما عليها. وإن كانت تقضي أربعة، ضعّفناها، وزدنا يومين، فتصوم عشرة أيام: خمسةً من أول الثلاثين، وخمسةً من السادس عشر. وإن كانت تقضي خمسة، فنضعّفها ونزيد يومين، فتصوم على هذا الترتيب اثني عشر يوماًً. وإن أرادت أن تقضي عشرة أيام، ضعّفناها، وزدنا يومين، فتصوم أحد عشر من أول النصف، وأحد عشر من السادس عشر على الوِلاء. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: على ما يقدّر الحيض بالأكثر، والمثبت من: (ت 1)، (ل).

ولو كانت تقضي أربعة عشر يوماًً، ضعّفناها، وزدنا يومين، فتحتاج إلى استيعاب الشهر بالصيام، فتخرج بصوم شهر عما عليها من صوم أربعةَ عشرَ يوماً، وإن كان عليها خمسةَ عشرَ يوماًً تؤدي بصوم الشهر منها أربعة عشر يوماًً، ثم تقضي يوماًً في شهرٍ ثانٍ، كما رسمنا قضاء اليوم الواحد. ولم نبسط القول في تخريج كل صورة لوضوح الأمر. وإذا كان الكلام يدور على احتمال الانقطاع والعَوْد، فإذا فُرض الانقطاع، فلا يفرض العَوْد إلا بعد خمسةَ عشرَ يوماًً، فلا يكاد يخفى تخريج ما ذكرناه بترديد [هذه] (¬1) الاحتمالات والأخذ بالمستيقن. فهذا منتهى المراد في قضاء الصيام. [قضاء الصلاة] (¬2) 550 - فأما إذا فاتتها صلاة، فأرادت قضاءها والخروجَ عنها بيقين، فليقع التفريع على طريقة أبي زيد؛ فإن طريقة الشافعي في ظاهر النص لا تكاد تخفى، ولعلنا نذكر نصاً للشافعي في طواف المتحيرة، وفيه كفاية في محاولة نقل طريقه. 551 - فنقول على مذهب أبي زيد: قضاء الصلاة يجري على قياس قضاء الصوم قطعاًً، وإنما يفترق الباب في أن الصوم زمانه ساعات يوم، والصلاة زمانها الساعات التي تسعها، فحق المفرّع أن يُجري في الساعة التي تسع الصلاة ما أجراه في يوم، في حكم الصوم. فإذا أرادت أن تقضي صلاة، فإنها تقضيها، ثم تصبر ساعة تسع مثل الصلاة التي قضتها، ثم تصلي تلك الصلاة على تلك النية مرة أخرى، ثم إذا انقضى خمسة عشر يوماًً من أول الصلاة الأولى، ومضى من أول السادس عشر ما يسع الصلاة على الجهة التي [تقدمت] (¬3)، فتقضي تلك الصلاة مرة ثالثة، فتخرج عما عليها، وتكون ساعات الصلوات بمثابة الأيام الثلاثة، وهي تريد قضاء صوم يوم. ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬2) العنوان من عمل المحقق. (¬3) في النسختين: تقدم، وتأنيث الفعل هنا وجوباً. وفي (ل): الحد الذي تقدّم.

ثم يخرج فيه ما ذكرناه في الصوم من التصرف، فلو أنها صلت مرة، ثم أوقعت الصلاة الثانية في أول اليوم الثاني، وخللت بينهما يوماً، فإنها توقع الصلاة الثالثة بعد مضي ساعة من [أول] (¬1) السادسَ عشرَ، ولها أن توقعها في مقدار يوم من أول السادس عشر؛ فإنها فرقت بين الصلاتين في الأول بهذا المقدار. ولو صلت مرة، ثم أوقعت الصلاة الثانية في آخر اليوم العاشر، فقد خلّلت بين الصلاتين مقدار عشرة أيام، فإذا أرادت أن تصلي مرّةً ثالثة كما أمرناها، فليمض (¬2) من أول السادس عشر ما يسع الصلاة، ثم يتسع عليها وقت الصلاة الثالثة إلى آخر الخامس والعشرين، فتكون مهلتها بمقدار تفريقها ما بين الصلاتين أولاً، وقد ذكرنا نظير هذا في الصيام. وبالجملة لا فرق بين البابين، إلا فيما ذكرناه من أن الصوم يتسوعب اليوم، بخلاف الصلاة، فيحتبر وقت إقامة الصلاة باليوم كلّه في القياس، واعتبار الاحتياط في التقديم والتأخير. 552 - ولو كانت تريد أن تقضي صلواتٍ كثيرة فاتتها، فالذي ذكره الأئمة أنها تقضيها أولاً، ثم تصبر حتى تمضي [أوقاتٌ مثلُ الأوقات التي وصفتُها، ثم تقضيها جميعاً مرة أخرى إلى آخر الخامس عشر، ثم تصبر حتى يمضي] (¬3) من أول السادس عشر مثل تلك الأوقات، ثم تقضيها مرة أخرى، فتخرج عما عليها، فتكون الصلوات مع اعتبار الوقت الذي يسعها بمثابة صلاة واحدة. والذي ذكره الأئمة صحيح في أنها تخرج عما عليها قطعاًً، إذا فعلت ما ذكروه. ولكن يتأتى الخروج عن عهدة ما عليها مع تخفيف في أعداد الصلاة، والسبب الكلِّي في هذا أن الإشكال إنما ينشأ من تبعّض انقطاع الدم وعوده، فقد يُفرض وقوعُ الحيض في آخر عبادة، ثم يعود في جزء من التي تعاد في السادس عشر، فيفسدان، فمست الحاجة إلى ما رسمه الأئمة في الصلاة الواحدة، من إعادة صلاةٍ ثلاثَ مراتٍ مع رعاية التفريق بين الصلاتين الأوليين وتخيّله أول السادس عشر بمقدارٍ، فأما إذا كانت ¬

_ (¬1) زيادة من (ل). (¬2) (ت 1): فلتقض. (¬3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من: (ت 1).

تقضي صلوات وِلاءً (¬1)، فإن ورد الحيض على طرفٍ في الأول [أو] (¬2) الآخر، فإنما تبطل صلاة واحدة؛ فإن التي لابستها عبادات متميزة، فلا ينسحب توقع الفساد على جميعها بفرض ورود الحيض على طرفٍ في الأول [أو] (¬3) الآخر. 553 - فإذا تقرر هذا، عدنا إلى التفصيل، فنقول: هذه لا تخلو إما إن كانت تقضي صلواتٍ متجانسةً أو مختلفةً، فإن كانت متجانسة مثل إن كانت فاتتها مائة ظهر، فالوجه أن يضعّف عددُ الصلاة، فتصير مائتي صلاة، ويُضمّ إلى المجموع صلاتين، ثم تقسم الجملة نصفين، فتصلي مائة، وصلاة في أول يوم، [ونفرض] (¬4) كأن المائة تقع في أربع ساعات من أول طلوع الشمس، وتقع الصلاة الزائدة على المائة في الساعة الخامسة، ثم إذا مضى خمسة عشرَ يوماًً محسوبة من أول طلوع الشمس، تصلي مائة صلاةٍ وصلاةً، على الترتيب المتقدم، فتخرج عما عليها يقيناً. وقد انحطّ عنها عددٌ من الصلاة، وبيان ذلك أن الذي يفرض طرآنه في هذه الصورة ابتداء الحيض، وانقطاع الحيض، ونحن الآن نفرض التقديرين، فإذا ابتدأ الحيض في نصف الصلاة الأولى، فقد فسد ما أتت به في هذه الخمسةَ عشرَ، ولكن ينقطع في نصف الصلاة الأولى الواقعة في أول السادس عشر، فتفسد هذه أيضاًً، ولكن يصح بعد ذلك مائة صلاة، وكيفما قُدّر طرآن الحيض، فما يفسد من طرف يصح من طرف، وتسلم مائة لا محالة، إذا زدنا صلاتين على الضعف، كما ذكرناه. ولو قيل يطرأ الحيض في اليوم الأول في الصلاة الموفية مائة، فقد صح ما قبلها تسع وتسعون، والحيض ينقطع في مثل ذلك من السادس [عشر] (¬5)، فتصح الصلاة الزائدة على المائة، وتكمل بها المائة. فهذا تقدير طريان الحيض. ¬

_ (¬1) ولاء بالكسر أي متتابعة (المختار، والمعجم). (¬2) في الأصل، (ل): والآخر، والمثبت من: (ت 1). (¬3) في الأصل، (ل): والآخر والمثبت من: (ت 1). (¬4) في الأصل: وتفرع، والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬5) زيادة من: (ت 1)، (ل).

554 - وإن قدرنا الانقطاع، فنقول: لعل الحيض انقطع في الصلاة الزائدة على المائة في اليوم الأول، ففسدت الصلوات كلها لوقوعها في الحيض، ولكن الطهر يمتدّ في أول السادس عشر، بحيث يسع مائة صلاة ونصف صلاة، فتكمل المائة. وإن انقطع في الصلاة الموفية مائة من اليوم الأول، فتصح الصلاة الزائدة، ويصح من السادس عشر تسع وتسعون، فإن عاد الحيض، لم يضر، وقد كملت المائة بما يصح في السادس عشر، وبالصلاة الزائدة على المائة في اليوم الأول، ولا حاجة -مع ما ذكرناه من التصوير- إلى تأخير الصلوات في السادس عشر بمقدارٍ من أول النهار. هذا كله، إذا كانت الصلوات كلها من جنسٍ واحد. 555 - ثم كل صلاة من هذه الصلوات التي ذكرناها تَقدّمَ عليها غُسلٌ، فإن اضطرب فكر الناظر في ذلك، من حيث إن الأغسال تقع في أزمنةٍ (¬1)، فلا مبالاة بهذا؛ فإنه لا ضبط للأزمنة التي تصلي فيها، والناس يختلفون في الحركات والسكنات إبطاء وإسراعاً، فلتعدَّ أزمنةُ الاغتسال كأنها من أزمنة الصلوات. ولكن الذي يجب أن يراعى أن تكون الأزمنة في الأول إذا جمعت، كالأزمنة في السادس عشر، فلو لو تكن كذلك، لفسد النظام، ولأمكن أن يقع ما يزيد على مثل مقدار الساعات الأولى في حيضٍ جديد من السادس عشر. هذا إذا كانت الصلوات من جنس واحد. 556 - فأما إن كانت الصلوات التي تقضيها من أجناس مختلفة: مثل أن يلزمها قضاء الصلوات لعشرين يوماًً، فهي مائة صلاة من خمسة أجناس من كل جنس عشرون، فهذه الصورة فيها إشكال؛ من جهة أنه إن قدّر [فساد] (¬2) صلاة بانقطاع الحيض، وصلاة بابتداء الحيض، فلا يُدرى أن ذلك التقدير في أي جنس يتفق من الأجناس الخمسة، فما من جنس إلا وقد يُفرض بطلان صلاتين منه، كما سنبسط ¬

_ (¬1) كذا. ولعل في الكلام خرماً، تقديره: " في أزمنة متفاوتة " مثلاً. أو هو إيجاز بالحذف يفهم من الكلام. (¬2) في الأصل: قضاء، والمثبت من: (ت 1)، (ل).

وجوه [التقدير] (¬1)، ثم لا يقع هذا إلا في جنس واحد، ولكنه لا يتعين لنا، وتعيين النية شرطٌ في الصلاة، فيخرج من التقدير إيجابُ عشر صلوات سوى عدد التضعيف، صلاتان من كل جنس. ثم الذي يجري إليه الفكر في تصوير ذلك [ما نذكره] (¬2). فنقول: تصلي في أول يوم تقدّره مائة صلاة، عشرين عشرين، ولتجر مثل على ترتيب الأجناس، فتبدأ بالصبح عشرين، ثم كذلك إلى [العشاء] (¬3)، ثم تصلي في الخمسة عشرَ عشْرَ صلوات، كل صلاتين من جنس، ثم إذا دخل الساس عشر، لم تصل حتى تمضي ساعةٌ تسع صلاة، ثم تعيد مائة صلاة من الأجناس على الترتيب المتقدم، فتخرج عما عليها. ولا بد من بسط في [ترديد] (¬4) الاحتمالات. فإن طرأ الحيض على الصلاة (¬5) الأولى في اليوم الأول، فتقع الصلوات المائة والعشرُ الزائدة في الحيض، ولكن ينقطع الحيض في الساعة الأولى من السادس عشر، وتقع المائة التامّة بعدها في الطهر. وإن فرضنا انقطاع الدم في الصلاة الأولى، فتفسد تلك، ويصح ما بعدها، وتستدرك تلك العشرة، أي الفاسدة في الخمسة عشر، وإن فرضنا الانقطاع في الصلاة الثالثة، فيصح ما بعدها، ويفسدُ ثلاثٌ من صلوات الصبح، ثم يبتدىء الحيض بعد مُضى ساعتين ونصف من أول السادس عشر، وقد مضت صلاة في الساعة [الثالثة أو في] (¬6) الثانية صحيحة، وفي العشر صبحان صحيحان، فقد حصل استدراك الثلاث التي بطلت من الأول، وإن انقطع الحيض في الصلاة الرابعة مثلاً، فقد بطلت أربع صلوات، ثم سيعود الحيض بعد ثلاث ساعات ونصف من السادس عشر، وقد وقعت صلاة في الساعة الثانية، وأخرى في الثالثة، ¬

_ (¬1) في الأصل: التقديم، والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: فائدة. وهو خلل ظاهر. والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: العشرين. والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬4) في الأصل: تزيد. والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬5) في (ل): الصورة. (¬6) زيادة من (ل).

وانجبرت صلاتان من الأربع الفاسدة، وفي العشر اثنتان. وعلى هذا التدريج تجري التقديرات كلها. 557 - فإن قيل: أي فائدة في تعرية الساعة الأولى من السادس عشر؟ (1 قلنا: لو صلت في الأول من السادس عشر 1) وقد قضت الصلوات العشرَ في الخمسةَ عشرَ، فنفرض في هذه الصورة ابتداء الحيض في نصف الصلاة الأولى من اليوم الأول، ثم يمتدّ إلى نصف الصلاة الأولى من أول السادس عشر، فتقع الصلوات الخمسةَ عشرَ، ومن جملتها الصلوات العشر في الحيض، وتفسد صلاة مما يقع في السادس عشر، فتستفيد بفرض تأخير ساعةٍ إسقاطَ هذا الاحتمال، وهذا فيما نظنه أقرب الطرق. 558 - ولست أُبعد أن ينقدح لذي خاطر مسلكٌ أقرب من ذلك، والرأي في أمثال ذلك مشترك، وما ذكرناه ليس استدراكاً فقهياً على من تقدم، ولكنهم مهدوا الأصول، ولم ينعموا النظر فيما يتعلّق بالاحتمالات الحسابية، ووكلوا استيفاءها إلى الناظرين، ولا حرج على الناظر في كتابنا أن يزيد طرقاً سديدة ويُلحقها بالكتاب. والله أعلم. ... ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

باب في أحكام متفرقة في الاحتياط

باب في أحكام متفرقة في الاحتياط 559 - قد ذكرنا تفريع الاحتياط في الأصول [وفي هذا الباب] (¬1) نجري أحكاماً متفرقة، وتشتمل على ضبط جامع في قواعد الاحتياط. 560 - فنقول: الوطء محرَّم منها أبداً على قول الاحتياط، لإمكان الحيض في كل وقت. وإذا طلقها زوجها، فالذي صار إليه جماهير الأئمة أنا لا نحمل أمرها على حال من يتباعد حيضها، حتى نقول (¬2): تصبر إلى سن اليأس في قولٍ صحيح، ثم تعتد بثلاثة أشهر، بل نحكم بانقضاء عدتها بثلاثة أشهر من وقت الطلاق؛ فإنا لو حملناها على التي يتباعد حيضُها، لعظم المشقة، وطال العناء باحتمالٍ مجردٍ يخالف غالب الظن. وأما إقامتها وظائفَ الصلاة في الأوقات، فليست من المشقات؛ فإن معظم الخلق لا يتركون الصلاة، وقضاءُ الصوم قاعدةُ الشريعة، فلا يبقى إلا قضاء الصلوات على رأي بعض العلماء، والأمر بأداء الصوم مع القضاء، والغُسل بدلاً عن [الوضوء] (¬3) الذي تكرره المستحاضة، وهذا قريب. فأما تكليفُها أن تبقى أيّماً دهرها باحتمالٍ، فشديدٌ جداًً. 561 - وقد ذكر صاحب التقريب وجهاً: أن أمرها محمولٌ على تباعد الحيض في العدّة، وهذا -وإن كان منقاساً- بعيدٌ في المذهب. 562 - وهي في دخول المسجد كالحائض أبداً. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1) وعبارة (ل): " وهذا الباب يحوي أحكاماً ... " (¬2) ساقطة من (ل). (¬3) في الأصل: الصوم.

563 - وأما قراءة القرآن، فقد ذكرنا قولاً بعيداً، أن الحائض تقرأ [القرآن] (¬1)، وهو على بعده يتجه في المتحيرة؛ فإنه لا نهاية لعذرها. والذي ينقدح لي فيها أنها تقرأ في الصلاة ما شاءت؛ فإنها مأمورة بالصلاة، ولا تصح الصلاة من غير قراءة. ومن منع الحائض من قراءة القرآن، فقد ينقدح على طريقه أنها تقتصر على قراءة الفاتحة في الصلاة؛ فإن الضرورة تتحقق في هذا القدر دون غيره. والظاهر عندي أنها تتنفل بلا حَظْرٍ ولا حجر، كما يتنفل المتيمم، وإن كان التيمم طهارةَ ضرورةٍ. ويُحتمل أن تُمنع من النافلة لاحتمال الحيض، كما تمنع من قراءة القرآن في غير الصلاة. والتيمم وإن كان لا يرفع الحدث، فهو على الجملة يؤثر في رفع منعه. والصلاة تحرم في الحيض، كما تجب في الطهر، فهذه احتمالات متعارضات، لا نَقْلَ عندنا في معظمها، ونصّ أصحابنا في الطرق على أنها تتنفل، كما تتنفل المستحاضات في زمان الاستحاضة. وما ذكرتُه احتمال ظاهر، وإن لم أنقله، اعتباراً بقراءة القرآن. [وإذا جوزنا للحائض قراءة القرآن] (¬2) لكيلا تنسى، فيظهر أن تُمنع من القراءة، لا لهذا الغرض: مثل أنها كانت تكرر سورة الفاتحة، أو الإخلاص، على ما يعتاد بعضُ الناس ذلك. وقد يقول قائل: إذا جاز لها قراءة سورة، جاز قراءة كل سورة، والعلم عند الله. 564 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنا وإن بالغنا في التشديد عليها، فلا نُطرِّق إليها احتمالات التلفيق حتى نقول: هي ممن تحيض يوماًً وتطهر يوماًً. ونحن نقول: في قولٍ النقاء بين الدمين طهر. فلو فرّع مفرع على هذا القول، ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل).

وحمل أمرَها على هذا، لم يجز أصلاًً؛ فإنها مع الجهل بابتداء الدور لا تستقرّ مع احتمال التلفيق على رأي واحتياطٍ قط. ولا يتصور منها معه تدارك شيءٍ لأجل الاحتياط. وكل ما لو قدّر، انسدّ به كل باب، فلا معنى لتقديره وبناء الأمر عليه. فكذلك إذا أمرناها بالاغتسال لاحتمال انقطاع الحيض، فمن الممكن أن ينقطع حيضها في خلال الاغتسال، وهذا لو تحقق، لوجب عليها استئناف الغسل، ولكن لا معنى للأمر (¬1) بهذا الاحتياط؛ فإنها لو استأنفت الغسل، لأمكن ما ذكرناه في الغسل الثاني، وهذا أمرٌ لا ينقطع، ويؤدي إلى التسلسل؛ فليقطع هذا الفن من ابتداء الأمر. 565 - ونحن الآن نحرر مراتب في الاحتياط والتخفيف، ونستتم ما مضى، ونشير إلى مواقف الخلاف والوفاق. فأما احتياطٌ [لا مَردّ فيه] (¬2)، ولا انقطاع له، ولا خلاص منه، فليس مرعياً وفاقاًً، كما ذكرناه في التلفيق، وتقدير الانقطاع في الغسل، أو بعد الفراغ منه. وأما رد المتحيرة إلى المبتدأة بأن يُقدّر ابتداء دورها من الأهلة، ففيه قول بعيد، ولكنه في نهاية الضعف كما سبق. وأما وجوه الاحتياط التي لا تتسلسل، فقد [ذكرناها] (¬3) على القول الصحيح، وظهر لنا أن الشافعي ليس يبني الأمر على غوامض الاحتمال، ولهذا لم يوجب قضاء الصلوات مع أدائها، وظاهر القياس المذهبُ المعزيّ إلى أبي زيد. ولكن عنّ لنا في تفاصيل التفريع أن نعتبر أدوار المبتدأة، وإن لم نعتبر ابتداء الدور، حتي نراعي أغلب الحيض والطهر في بعض مجاري الكلام، وقد تقرر هذا مفصلاً. فهذا منتهى القول في وجوه الاحتياط، والتنبيه على مواقع الخلاف والوفاق في النفي والإثبات. ¬

_ (¬1) عبارة (ل): لا معنى للأخذ بهذا الاحتمال. (¬2) عبارة الأصل: فأما احتياطُ الأمر فيه إِلى التسلسل، ولا انقطاع له .. والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: ذكرها، والمثبت من (ت 1)، (ل).

وأما العدة والحملُ على تباعد الحيض على ما سبق، فاتفاق معظم الأصحاب فيه محمول عندي على تقريب أمرها من أدوار المبتدأة، في عدد الحيض والطهر، فليفهم الفاهم ما نلقيه إليه مستعيناً بالله، ونعم المعين. [فرع] (¬1): 566 - ذكر ابن الحداد فرعاً في طواف المتحيرة، وفيه عثراتٌ وسهوٌ كثير، وقد نبهنا على أمثالها في غير هذا الفرع، فلست أرى التطويل بإعادتها. ولكن [أذكر] (¬2) المسلك الحقَّ، وما يُخرجها [عن] (¬3) الطواف بيقين على قياس أبي زيد. فأقول: نتكلم في الطواف، ثم فيما يتعلق بالطهارة لأجله، فالمتحيرة في النُّسك إذا أرادت أن تطوف، فالطواف ينافيه الحيض؛ إذ الطهارة مشروطة فيه، ولا بد من الإتيان بطواف لا يقع في الحيض. فالقول الوجيز فيه أنا نحسب طوافها وركعتي الطواف كصلاة تقضيها، وإذا أرادت قضاء صلاة واحدة، فقد ذكرنا أنها تصليها ثلاث مرات، وبيّنا أوقاتها، فنُجري طوافها مع ركعتي الطواف على ذلك الترتيب، فتطوف وتصلي، ثم تترك الطواف حتى يمضي من الزمان ما يسع مثل ما تقدم من أفعالها. ثم تطوف وتصلي بعد مضي (4 هذا الزمان 4)، فإذا مضت خمسة عشر يوماًً من أول اشتغالها بالطواف الأول، فتصبر حتى يمضي من أول السادسَ عشر مثلُ الزمان الذي [وسع فعلها] (¬5) الأول، ثم تطوف وتصلي مرة ثالثة. ولست أستقصي أطراف القول؛ فإنه بمثابة ما تقدم من قضاء صلاة من غير تباين، ثم تغتسل لكل طوافٍ، في كل كرّة. وأما ركعتا الطواف، فلا تغتسل لهما؛ فإن ¬

_ (¬1) في الأصل " فصل " بدلاً من (فرع). (¬2) في الأصل: ذكر. والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: من. والمثبت من: (ت 1)، (ل). (4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1). (¬5) في الأصل: يسع شغلها. والمثبت من (ت 1)، (ل).

الطواف إن وقع في حيضٍ، فالركعتان لا يعتد بهما؛ فإن شرط صحتهما (¬1) صحة الطواف قبلهما، وإن فرضنا وقوع الطواف في بقية [الطهر] (¬2) وابتداء الحيض حالة الاشتغال بالركعتين، فإذا اتفق ذلك في كرَّةٍ، فلا بد وأن يقع طواف وركعتان في كرةٍ أخرى من الكرات في طهر، فيقع الاكتفاء بذلك، فإذاً لا يجب تجديد الغسل قطعاً للركعتين في كرَّةٍ من الكرات. ولكن هل تتوضأ [للركعتين] (¬3)، وقد اغتسلت للطواف؟ هذا يخرَّج على أن الركعتين سنة، أم فريضة؟ إن حكمنا بأنهما سنة، فلا تتوضأ؛ فإن للمستحاضة أن تؤديَ فريضةً، وما شاءت من النوافل بوضوء واحد، وإن حكمنا بأن الصلاة فريضة، فهذا يخرّج على خلافٍ متقدّم في التيمم، في أن الصلاة كجزء من الطواف، أو نقدرُها كفرض مبتدأ منقطع عن الطواف، وقد فرّعْنا حكم تجديد التيمم على هذين الطريقين، فإن عددنا ركعتي الطواف كشوطٍ من أشواط الطواف، فلا تتوضأ لهما، وتكتفي بالغسل للطواف، كما لا تتوضأ [لكل شوط من الطواف] (¬4) وإن رأينا الركعتين فرضاً مبتدأً بعد الطواف، فلا تغتسل لهما، ولكن تتوضأ. وذكر الشيخ أبو علي مسألة الطواف في شرح الفروع، وذكر النص، وطريقةَ أبي زيد، وهفواتِ الأصحاب وأطال نَفَسَه، فإنه لم يذكر في احتياط المتحيرة غيرها، فاقتضى الشرحُ [جمعَ] (¬5) أقوال الأصحاب. ونحن لما ذكرنا جميعَ الطرق في الأبواب المتقدمة، رأينا الاقتصارَ في هذا على المسلك الحق في درك اليقين، والذي جددنا العهدَ به القولُ في حكم ركعتي الطواف في أمر الطهارة فحسب، وإلا فالترتيب فيه كالترتيب في قضاء صلاةٍ واحدةٍ، حرفاً حرفاً. ... ¬

_ (¬1) ساقطة من (ت 1). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: لكل ركعتين. (¬4) في الأصل: للطواف. والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬5) في الأصل: جميع، والمثبت من: (ت 1)، (ل).

باب في حكم الناسية إذا كلانت تذكر شيئا

باب في حكم الناسية إذا كلانت تذكر شيئاًً 567 - جميع ما قدمناه في المتحيرة التي لا تذكر شيئاً، وهذا الباب يشتمل على ما إذا ذكرت شيئاًً في ترتيب أمرها في أدوارها، ونبين ما يقتضيه ذكرها من تخفيفٍ عنها في حكم الاحتياط. وعلى الجملة: من أحاط بما قدمناه من قواعد الاحتياط في المتحيرة المطلقة، وهي تخبط في عمايةٍ عمياء، ولا تذكر شيئاًً؛ فيهون عليه مُدرَك اليقين فيه إذا كانت تذكر شيئاًً، وإنما غموض حكم الاحتياط فيما تقدّم، فلا نبسط القول في هذا الباب بتكثير الصور؛ علماً بأن من أحاط بالاحتياط فيما تقدم، يسرع إلى المطلوب في هذا الباب. 568 - فنقول: لو عينت ثلاثين يوماًً، وذكرت أنها كانت تحيض في أوله (¬1)، وينطبق أول حيضها على أول تلك المدة. ونحن فيما نحن فيه نسمي تلك الثلاثين شهراً، فإذا ذكرت ذلك، وزعمت أنها لا تذكر شيئاًً آخر، فتستفيد بما ذكرته أنّا نحيّضها بيقين يوماًً وليلة من أول الشهر، ثم نأمرها بالاحتياط إلى انقضاء الخامسَ عشر، [لاجتماع احتمال] (¬2) الحيض والطهر، والانقطاع بعد اليوم والليلة إلى آخر الخامس عشر. وقد ذكرنا أن وجوهَ الاحتياط تنشأ من هذه الاحتمالات، ثم هي طاهرة بيقين من أول السادس عشر إلى منقرض الشهر. ولو عيَّنت كما ذكرنا شهراً، وذكرت أن حيضها كان ينقطع في آخر الشهر، ولم تذكر غير ذلك، فنحكم لها بالطهر من أول الشهر خمسة عشر يوماًً، ثم يحتمل من أول ¬

_ (¬1) أعاد الضمير مذكراً على معنى: (الدّور)، أو (الشهر). (¬2) في الأصل: لاحتمال الحيض والطهر. والمثبت من (ت 1)، (ل).

السادس عشر الحيض والطهر، ولا يحتمل الانقطاع فيه؛ فإنه لو فرض الانقطاع، لم يعد إلا بعد خمسةَ عشرَ، وقد ذكرت أن حيضها كان ينقطع في آخر الشهر، فإذا بقي يوم وليلة من الشهر، فهي حائض بيقين على حكم العادة، وإذا زال احتمال الانقطاع في النصف الأخير، زال الأمر بالاغتسال، ولا تغتسل إلا مرة واحدة في آخر الشهر؛ فإنه وقت الانقطاع لا غير، وليقس الناظر بما ذكرناه من أمرها أمثاله. فصل في الخلط 569 - هذا قد يهابه المبتدئ، ولا إشكال فيه مع تمهُّدِ ما مضى، ولولا إقامة الرسم في تراجم الأبواب، لما رأيتا إفراد أمثال هذا، فنقول والله المعين: إذا عيَّنت شهراً ثلاثين، كما تقدم، وأبانت المبتدأ والمختتم، وذكرت أنها كانت تخلط الشهر بالشهر حيضاً بحيض، والمراد به أنها كانت حائضاً في آخر كل شهر، وأول كل شهر، ولم تذكر غير ذلك. فهذا هو الذي سماه العلماء الخَلطَ المطلق. فإذا لم تذكر غير ذلك، فوجه تقريب القول، وتسهيل المسلك أنها حائض في اللحظة الأخيرة والأولى من الشهر؛ فإنها ذكرت ذلك، ثم هي مأمورة بأكمل الاحتياط بعد اللحظة الأولى من الشهر إلى آخر الخامس عشر إلا لحظة؛ لاحتمال الحيض والطهر والانقطاع في هذه الأيام، ثم هي طاهرة في اللحظة الأخيرة من الخامس عشر واللحظة الأولى من السادس عشر؛ فإن الحيض لا ينتهي إلى هاتين (¬1) اللحظتين في شيء من جهات التقدير، ثم بعد هذه اللحظة الأولى من السادس عشر إلى اللحظة الأخيرة من الشهر احتمالان: أحدهما - الحيض. والثاني - استمرار الطهر. ولا يحتمل الانقطاع؛ فإن في آخر الشهر حيضاً بيقين. ولو فُرض الانقطاع في النصف الأخير، لم يعد الحيض في آخر الشهر، ثم هي ¬

_ (¬1) في (ت 1): ما بين اللحظتين.

حائض بيقين في اللحظة الأخيرة من الشهر واللحظة [الأولى] (¬1) من مبتدأ الشهر، فهذا حكم الخلط المطلق. 570 - وقد ذكر الأصحاب عبارات في رَوْم التقريب، فصارت مراسمَ في الباب، وقد تعاظمها المبتدئون ورأَوْها أموراً غامضة، وإنما معناها ما ذكرناه، ولكنا نذكرها؛ حتى لا نكون أخلينا الكتاب (¬2) عن فن مألوفٍ فيه. فإذا ذَكَرَتْ الخلط المطلق، فنقدم حيضها إلى الزمان المنقضي (¬3)، على أقصى الإمكان، ونؤخر حيضها في الزمان المستقبل على أقصى ما يتصور، فيقع حساب التقديم في النصف الآخر من كل شهر، ويقع حساب التاخير في النصف الأول من كل شهر، ونستمسك باللحظتين في الآخر والأول. فنقول: أقصى الإمكان في التقديم أن نجعل آخر حيضها اللحظة الأولى من الشهر، فيقع أوله بعد لحظة من السادس عشر (¬4). وأقصى الإمكان في التأخير أن نجعل أولَ حيضها اللحظة الأخيرة من الشهر، فيمتد إلى [آخر] (¬5) الخامس عشر إلا لحظة. ثم نقول: ما يدخل في الحسابين: التقديم والتأخير، فهو حيض بيقين. وهو اللحظتان من الآخر والأول، وما خرج من الحسابين، ولم يلحقه واحد منهما، فهو طهر بيقين، وهو اللحظة الأخيرة من الخامس عشر، واللحظة الأولى من السادس عشر، وما دخل في حساب التأخير فحسب، ففيه أكمل الاحتياط، وما دخل في حساب التقديم فحسب، فليس فيه احتمال الانقطاع، فلا غسل، وإنما فيه احتمال الطهر والحيض. وفيما قدمناه ما يغني عن هذه التهاويل والعبارات والتفاصيل، ولكن رأيت (¬6) ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬2) المراد كتاب الحيض. (¬3) في (ت 1): المقتضي. (¬4) ذلك لأن أقل الطهر خمسةَ عشرَ، فإذا طهرت في اللحظة الأولى من الشهر، فينقضي المستيقن من الطهر، وهو أقله في أول لحظة من السادس عشر. (¬5) زيادة من (ل). (¬6) في (ت 1): ولكنا رأينا، وكذا في (ل).

التأسّي بما ذكر لنتخدّ ذلك دستوراً فيما يجري بعده. إن شاء الله عز وجل. ثم نذكر زوائد من الفوائد في هذه الصورة، يتدرب بها المنتهي والمبتدىء. 571 - فنقول: إذا ذَكَرَتْ الخلط المطلق، وكان في ذمتها صلاة منذورة مثلاً، فأرادت الخروج عما عليها، أو أرادت إقامة صوم يوم واجب عليها، فقد ذكرنا في المتحيرة المطلقة، أن الوجه أن تصلي ثلاث مرات، وتصوم ثلاثة أيام. وذكرنا ما يتخلل بين الكرات من المواقيت. فإذا ذكرت أنها كانت تخلط الشهر بالشهر، فيكفيها أن تقضي ما عليها مرتين: مرة في حساب التقديم، ومرة في حساب التأخير، ولكن لا بد من رعاية وجهٍ يقع به أحدهما في الطهر. فلو صامت يوم السادس والعشرين من شهر، ويوم السادس من الشهر الثاني، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز وقوع اليومين في الحيض، [إن] (¬1) كانت تخلط. ولكن إذا صامت يوم الخامس عشر ويوم السادس عشر، فتخرج عما عليها؛ فإن الحيض لا يدرك اليومين جميعاًً، بل إن أدرك، فإنه يدرك أحدهما. ولو [صامت] (¬2) السابع عشر من شهر، والخامس عشر من الشهر الذي يليه، فإنها تخرج عما عليها؛ فإن الحيض مع تقدير الخلط لا يدرك اليومين جميعاًً في هذه الصورة. ولا يكاد يخفى على من أحكم استخراج الغوامض [المقدمة] (¬3) مأخذ هذا. 572 - ومما نذكره الآن أنا قدّمنا في المتحيرة المطْلقة من مذهب أبي زيد، أنها تصلي كل صلاة، ثم تقضيها كما تفصّل. ولا بد من تفصيل هذا الفن مع ذكرها الخلط. فنقول: نذكر التفصيل في الأيام المقدّمة في الزمان الماضي، ثم نذكر الأيام ¬

_ (¬1) في الأصل، (ل): " وإِن ". والمثبت من: (ت 1). (¬2) في النسختين: "صلت" وواضح أن المقصود: صامت، فإِن المسألة في فرض صوم يومٍ واجبٍ عليها. ووجدناها في (ل) كباقي النسخ. (¬3) زيادة من: (ت 1)، (ل).

المؤخرة المقدّرة في الاستقبال، والأيامُ المقدمةُ تقع في النصف الأخير من الشهر، والمؤخرة تقع في النصف الأول من الشهر. فأما النصف الأخير من كل شهر، فلا يحتمل الانقطاع؛ فإن في آخر الشهر حيضاً معلوماً، وإن انقطع الحيض، لم يعد إلى خمسةَ عشرَ يوماًً، ولكن يلزمها إقامة الصلوات في أوقاتها؛ لإمكان الطهر. ثم لو كانت تصلي في الأيام المتقدمة في أول الوقت وتطبق التكبير على أول الوقت، فلا يلزمها القضاء أصلاًً؛ لأن الصلاة إن وقعت في الطهر، فقد أدت ما عليها، وإن وقعت في الحيض، أو وقع آخرها فيه، فلا تلزمها هذه الصلاة، لا أداءً ولا قضاء، ولا يحتمل أن ينقطع الحيض في آخر الوقت، كما تقدم ذكره. ولو صلت في وسط الوقت، فيتجه أمرُها بالقضاء؛ لاحتمال أن أول الوقت كان عارياً عن الحيض، فلم تصلّ فيه، ولما صلت كانت حائضاً. والذي يقتضيه تحقيق هذا الحساب، أنها لو أوقعت الصلاة بعد مضي مقدار تكبيرة من أول الوقت، فيلزمها القضاء؛ لجواز أن تقع التسليمة في ابتداء الحيض، وقد مضى من أول الوقت، ما يسع صلاة تامةً. ثم يتجه على ما أوضحناه أن نوجب عليها ملازمةَ أول الوقت؛ فإنها لو استيقنت من نوَب حيضها -ولم تكن مستحاضة- أنه إذا مضى من وقت الزوال مقدارُ أربع ركعات تَحيضُ (¬1)، فيتعين عليها إيقاع الصلاة في أول الوقت، وإذا احتمل ذلك، فالاحتمال في قاعدة الاحتياط بمثابة اليقين. ولا يمتنع أن يقال: عليها مع رعاية التطبيق على أول الوقت أن تقتصر على مقدار الفرض؛ فإنها لو [بسطت] (¬2) وطوَّلت، فربما توقع شيئاًً من الصلاة في الحيض، مع القدرة على تبعيد الفرض عن المانع. ولا يبعد أن يقال: يشق عليها مراعاة التطبيق على أول الوقت، والاقتصارُ (¬3) على ¬

_ (¬1) أي أنها تحفظ أن الحيض يعتريها بعد الزوال بمقدار أربع ركعات. (¬2) في الأصل: سقطت. والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬3) معطوف على (مراعاة).

ما لا يتصوّر أقل منه، فنقول: هي بالخيار بين مراعاة التطبيق وقدر الفرض، وبين أن تصلي في الوقت متى شاءت، ثم تقضي تلك الصلاة مرةً أخرى. فهذه جهات الاحتمالات فيما أردناه. 573 - [ومما يليق] (¬1) بتمام البيان في الأيام المقدمة، أنها إذا صلت على وجهٍ يلزمها القضاء، فلو أرادت أن تقضي في الأيام المقدمة لتخرج عما عليها، لم يمكنها؛ لجواز وقوع القضاء في الحيض، ولكن سبيلَها أن تؤخر القضاء، وتصلي في الأيام المقدمة [مثلاً] (¬2) في أوساط الأوقات، ثم تقضي صلواتِ يومٍ وليلة؛ وذلك لأنه لا يبطل من صلاتها إلا واحدة في جميع الأيام المقدمة؛ فإن الصلاة إنما تبطل بتقدير ابتداء الحيض في أثناء الصلاة. و [هذا] (¬3) إنما يتصور مرة واحدة في الأيام المقدمة، ولكن لما أشكلت الصلاة التي قدرنا فسادها، أوجبنا قضاء صلاة يوم وليلة. فهذا تمام الكلام في الأيام المقدّمة. ثم إنما تقضي الصلوات في الأيام المقدّمة والمؤخرة مرتين، كما تقدم، فتصلي مرتين خمساً خمساً، فتصير عشر صلوات. 574 - فأما الأيام المؤخرة، فيحتمل فيها الانقطاع، فلو صلت في أول الوقت، فيلزم القضاءُ لتقدير الانقطاع في آخر الوقت، ووقوع الصلاة المتقدمة في الحيض، فالوجه أن تؤخر الصلاة -إن أرادت ألا تقضي- إلى آخر الوقت. ثم نذكر مقدمةً لغرضنا، وهي أن من لا علّة به إذا أوقع بعضَ الصلاة في الوقت، وبعضها خارج الوقت، فالصلاة مقضية أو مؤداة؟ فيه خلاف، وسيأتي في كتاب الصلاة. فإن قلنا: الصلاة مؤدّاة، فيجوز في حالة الاختيار تأخيرُ الصلاة إلى هذا الحد. ¬

_ (¬1) في الأصل: يتعلق. والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬3) زيادة من: (ت 1)، (ل).

حتى لو لم يقع في الوقت إلا مقدار تكبيرة، جاز، [وكانت الصلاة أداءً] (¬1). وإن قلنا: تصير الصلاة مقضية، فلا يجوز تأخير الصلاة إلى حالةٍ يقعُ بعضُها خارج الوقت. فإذا ثبت ذلك، عدنا إلى غرضنا في الأيام المؤخرة. 575 - فإن قلنا: تكون الصلاة مؤداةً، فلو أوقعت مقدار تكبيرة في الوقت، ووقع الباقي وراءه، فلا قضاء عليها، ولها أن تفعل ما ذكرناه؛ فإن هذه الصلاة إن وقعت في الطهر، فقد خرجت عما عليها، وإن وقعت في الحيض، فنعلم قطعاً أن الحيض طبق وقت الصلاة؛ فإن ابتداء الحيض في الأيام المؤخرة لا يتصور. وإنما الممكن استمرار الحيض، أو الانقطاع في كل وقت يشار إليه. وإنما [ينشأ] (¬2) الاحتياط في هذه الأيام من إمكان الانقطاع. فهذا إذا قلنا: تكون الصلاة مؤداة، وإن وقع بعضُها وراء الوقت. 576 - فأما إذا قلنا: تكون مقضيّة، فلا يجوز لها أن تُخرج شيئاًً من الصلاة عن الوقت، ولكن توقع الصلاة أداءً في آخر الوقت، وكما يلزمها ذلك لتكون مؤدية، يلزمها قضاء الصلاة؛ لجواز أن الحيض انقطع في آخر الوقت (¬3). ثم إذا قضت عقيب الوقت مثلاً، وقد أدت في الوقت، فقد خرجت عما عليها؛ فإن الحيض إن انقطع في الوقت، فالقضاء يقع في الطهر، وإن وقع القضاء في الحيض، فالحيض مستمر قبله إلى اللحظة الأخيرة من الشهر السابق، ولا أداء ولا قضاء. ثم لا يتعين -على إيجاب القضاء- تعقيبُ الوقت بالقضاء، ولكنها تقضي متى شاءت في الأيام المؤخرة، وسيأتي تمام ذلك الآن. وإذا كنا [نوجب] (¬4) الأداء في الوقت، فلا معنى لتكليفها تطبيق الصلاة على آخر ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: بينا. والمثبت من: (ت 1). (¬3) في (ل): (الصلاة). (¬4) في الأصل: نوجز. والمثبت من: (ت 1)، (ل).

الوقت؛ فإنها وإن فعل ذلك، فهي مأمورة بالقضاء، فلتصلِّ في الوقت متى شاءت، ثم لتقض. 577 - ومما ننبه عليه -وإن [كان بيِّناً] (¬1) - أنا ذكرنا أن الصلاة التي نقدر فسادها في الأيام المقدّمة بالوقوع في وسط الوقت، لا تقضيها في الأيام المقدّمة مقتصرة عليها، والتي نأمر بقضائها في الأيام المؤخرة إذا قضتها فيها، كفاها ذلك. والفارق أن القضاء في الأيام المقدمة قد يقع في الحيض مع وقوع الأداء فيه، وأما الأيام المؤخرة، فإنما يجب القضاء فيها في الصورة التي ذكرناها، لإمكان انقطاع الحيض في بقية الوقت. ولو فرض ذلك، فلا يقع القضاء بعده في الحيض قطعاًً. وهذا مُغْنٍ بوضوحه عن مزيد كشف فيه. 578 - ومما يتعلق بذلك أن [الخالطة] (¬2) لو كانت لا تقضي حتى مضت الأيام المؤخرة، فلا يلزمها إلا قضاء صلوات يوم وليلة؛ فإن الانقطاع لا يمكن تقديره في جميع الأيام المؤخرة إلا مرة واحدة، وذلك إذا اتفق، فقد يوجب قضاء صلاة واحدة، ثم تلك الصلاة لا تتعين، فيلزم لأجل ذلك قضاء صلوات يوم وليلة، ثم تقضي هذه الصلوات عند انقضاء الأيام المؤخرة [كما تقضي صلاةً مطلقة في ذمتها، فتأتي بها مرة في الأيام المقدمة، ومرة في الأيام المؤخرة] (¬3) كما تفصّل. ولو أوقعت هذه الصلوات الخمسة (¬4) في آخر زمان من الأيام المؤخرة، كفاها ذلك مرة واحدة؛ فإنا لو فرضنا الانقطاع الآن، لم تجب الصلاة فيما مضى، لا أداءً ولا قضاء، ولكن فيه فضلُ فكرٍ. وهو أن أول الشهر لو حسبناه من أول ليلة، ثم فرضنا الانقطاع في آخر الأزمان المؤخرة، فينقطع في آخر نهار قبل الغروب، ولو فرض ذلك، فقد يلزم الظهر ¬

_ (¬1) في الأصل: ساقط من الأصل. وفي (ت 1): كنا بيَّنَّا. (¬2) في الأصل: الحائض. والمثبت من: (ت 1)، و (ل). (¬3) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬4) كذا بالتأنيث، وهي صحيحة؛ فحيث تقدم المعدود تجوز الموافقة، ولا تجب المخالفة.

والعصر في هذا اليوم، بإدراك زمانٍ في آخر النهار، فيرجع القضاء إلى الظهر والعصر إذا قضت الصلوات الخمس في آخر الأزمان المؤخرة. وهذا لا يدركه إلا موفَّقٌ سديد الفكر، والبليد لا يزداد بالإطناب في البيان إلا دهشةً وتدوّخاً (¬1) والله المستعان. 579 - ومن تمام البيان في ذلك أنا إذا أوجبنا القضاء والأداء في الأيام المؤخرة؛ تفريعاً على أنه لا يجوز إخراج شيء من الصلاة عن وقتها، فلو لم تؤدّ كما أُمرت، ولكن أوقعت التكبيرَ في الوقت والباقي وراءه، ونوت القضاء، فقد عصت بترك الأداء، ولكنها خرجت بالقضاء عما عليها؛ فإنها إن كانت طاهرةً في الوقت؛ فإن الطهر يدوم، فإن [ابتداء] (¬2) الحيض لا يتصور طريانه في الأيام المؤخرة، وإن فرضنا انقطاعاً وراء الوقت، فلا يجب قضاء الصلاة، والحيض مطبق للوقت، وإن فرضنا الانقطاع في آخر الوقت، فقد وقعت التكبيرة في الطهر، فإن فَرضَ متكلفٌ الانقطاع، وقد بقي نصف تكبيرة، فلا يجب قضاء هذه الصلاة، كما لو طبق الحيضُ الوقتَ، وسيأتي ذلك مشروحاً في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. 580 - وإن تركت الخالطة صلاة في الأيام المؤخرة، وأخرجتها عن الوقت، ثم قضتها عقيب الوقت مثلاً، فقد سقط الفرض عنها؛ فإنها إن كانت طاهرة في الوقت، فهي طاهرة في وقت القضاء، وإن انقطع الحيض في آخر الوقت، فقد لزم القضاء وقضت، وإن طبق الحيض الوقتَ، فلا أداء ولا قضاء. وكل ما ذكرناه في صلاة الصبح والعصر والعشاء، فأما صلاة الظهر، فلو وقعت التكبيرة في الوقت، وباقي الصلاة خارجاً، ونحن نجوز ذلك، فلا تخرج عن عُهدة الظهر؛ لجواز أن يقع جميع ذلك في الحيض، ثم يتفق انقطاعُ الحيض في آخر النهار، فيجب قضاءُ الظهر مع العصر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فسبيلها في الظهر أن تؤدي الظهر في أي زمان يتفق، من زوال الشمس إلى انقضاء الوقت، ثم تقضي الظهر بعد الغروب. ¬

_ (¬1) ساقطة من (ل). (¬2) زيادة من: (ت 1)، ل.

ثم قد ذكرنا أن الأيام المقدمة أيام الوضوء، والأيام المؤخرة أيام الغسل، ويمكن ضبط المقصود في ذلك بأن الخالطة في أيام الوضوء تطبق الصلاةَ على أول الوقت، وفي أيام الغُسل قد تطبق التكبير في الصلوات الثلاث: الصبح والعصر والعشاء على آخر الوقت، عما عليها إذا ارتسمت رعاية الأول والآخر، كما رسمنا وقدّمنا ذلك. 581 - وجميع ما ذكرنا فيه إذا لم تذكر إلا خلطاً مطلقاً، فأما إذا ذكرت خلطاً، وقيدته بشيء آخر، فنذكر فيه صوراً ترشدُ إلى أمثالها، وهي بينةٌ بالإضافة إلى ما تقدم. فلو قالت: لا أحفظ شيئاًً إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر، يوماًً بيوم، فمعناه أني كنت حائضاً يوماًً وليلة في آخر الشهر، ويوماً [وليلة] (¬1) في أول الشهر، فقد قيدت الخلطَ بذكر مقدارٍ، فيقدّمُ الحيض أقصى ما يمكن، ويقدر اليوم الأول آخر الحيض، فيقع ابتداؤه أول السابع عشر. وإذا أخرناه على أقصى الإمكان، قدرنا الأولَ اليومَ الأخير من الشهر، والآخرَ آخرَ [اليوم] (¬2) الرابع عشر، فقد دخل في الحسابين اليوم الآخر والأول، فهما حيض، وخرج من الحسابين الخامس عشر والسادس عشر، فهما طهر، وما دخل في الحساب المقدم فَحسْب أيام الوضوء، وما دخل في الحساب المؤخر فَحسْب أيام الغسل. وباقي التفريع [كما] (¬3) تقدم. 582 - ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، وأحفظ أن حيضتي كانت خمسة أيام، فقد قيّدت الخلطَ بذكرها لمقدار حيضتها الأصلية، فتقدّم وتؤخر، ولكن تقدّم الخمسة وتؤخرها، وليس كما تقدم؛ فإنها لم تذكر فيه مقدارَ الحيض فيما سبق (¬4)، فاقتضى الاحتياطُ رعايةَ أكثرِ الحيض في التقديم والتأخير، فإذا ذكرت المقدارَ وربطته بآخر الشهر وأوله، فتقدم الخمسة، وتقدر آخرها اللحظة الأولى من الشهر، فينتهي ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: على ما تقدم. (¬4) في الأصل: فيما سبق (مما سواه) فاقتضى. والمثبت عبارة: (ت 1)، (ل).

أولها إلى السادس والعشرين إلا لحظة من أوله. وإذا أخرنا، قدّرنا اللحظة الأخيرة من الشهر أول الحيض، فينتهي إلى آخر الخامس إلا لحظةً، فقد دخل في الحسابين لحظتان [من الآخر والأول] (¬1)، فهما حيض، وخرج من الحسابين اللحظة الأخيرة من الخامس إلى انقضاء لحظةٍ من السادس والعشرين. فهذه الأيام طهرٌ كلها؛ فإنه لم يلحقها الحيض لا بحساب التقديم، ولا بحساب التأخير، والأيام الداخلةُ في التقديم فحسب أيام الوضوء، والداخل في حساب التأخير أيامُ الغسل، كما تقدم ذكره. 583 - ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس بليلته حائضاً، فقد قيدت الخلط بتعيين يومِ من الحيض، ولم تذكر مقدارَ حيضها القديم، فيقدم حيضُها أقصى ما يمكن، ويقدّر آخر حيضها اليوم الخامس، فينتهي التقديم إلى أول الحادي والعشرين. وإن أخرنا أقصى ما يمكن، قدّرنا الابتداء من اللحظة الأخيرة من الشهر لذكرها الخلط، فينتهي إلى آخر الخامس عشر إلا لحظة، فقد دخل في الحسابين من اللحظة الأخيرة إلى آخر الخامس [فهي حائض] (¬2) في هذه المدة بيقين، والخارج من الحسابين هي اللحظة الأخيرة من الخامس عشر إلى أول الحادي والعشرين، فيكون طاهراً قطعاًً على حكم ذكرها. ولا تخفى باقي الأحكام في هذه الصورة. 584 - ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، أو العَشر الأول بالعَشر الثاني فقد ترددت بين خلطين، وهذا أشد إيهاماً من خلط الشهر بالشهر مطلقاًً؛ فإنها ردّدت قولها بين خلطين، وذكرت إيهاماً في [محلّين] (¬3)، فليس لها والحالة هذه حيض بيقين، ولا طهر بيقين؛ فإن اليقين فيهما إنما يثبت إذا تعين محل الخلط في الذكر، ¬

_ (¬1) في الأصل: لحظتان من الأواخر. (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: في مجلس. ولا معنى لها. والمثبت من: (ت 1)، (ل).

وقدمنا وأخرنا على أقصى التصوير، فما يدخل في الحسابين حيض، وما يخرج عنهما جميعاًً طهر، ونحن في هذه الصورة لا ندري أنتخذّ أصل التقديم والتأخير الشهر أو العشر. ولكنا نقول: لا غسل عليها من السادس والعشرين إلى انقضاء آخر الشهر؛ فإنها إن كانت خلطت الشهر بالشهر، فالانقطاع غير ممكن في هذه الأيام لا محالة، وكذلك إن كانت تخلط العشر بالعشر، فلا يُحتمل الانقطاع في هذه الأيام؛ فإنه لو انقطع، لم يعد إلى خمسة عشر يوماًً، وكذلك لا تغتسل في اللحظة الأولى من الشهر؛ فإنها إن كانت خلطت الشهر بالشهر، فتكون حائضاً في اللحظة الأولى من الشهر، وإن كانت خالطة العشر الأول [بالعشر] (¬1) الثاني، فكذلك لا يحتمل الانقطاع في هذه اللحظة، كما ذكرناه قبلُ، فإذا مضت اللحظة الأولى، احتمل الانقطاع بتقدير أن آخر حيضها اللحظة الأولى، ثم ينسحب إمكان الانقطاع إلى آخر العشر، ويمتدّ بعده بتقدير خلط العشر بالعشر، ويتمادى إلى آخر السادس والعشرين، كما تقدّم، ثم بعد ذلك حكم الوضوء (¬2) إلى انقضاء اللحظة الأولى من الشهر. ولست أطنب في شرح هذا ومثله لبيانه، ومن تدرّب في المشكلات المتقدمة، هان عليه طلبُ اليقين في أمثال الصور التي ذكرناها. فهذه صورٌ في تقييد الخلط بوجوه غير ذلك، تهدي إلى أمثالها. 585 - ولو قالت: لا أحفظ [شيئاًً] (¬3) إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر طهراً بطهر، فكأنها ذكرت أنها كانت طاهرة في اللحظة الأخيرة من الشهر، وفي اللحظة الأولى من أول كل شهر، ولا تستفيد حيضاً مستيقناً؛ فإن أكثر الطهر لا نهاية له، فلا يُفيد مَدُّه في التقديم والتأخير تعيين حيض. ولكن إذا مضت اللحظتان اللتان في آخر الشهر وأوله، فإنا لا نأمرها بالاغتسال ¬

_ (¬1) زيادة من (ل). (¬2) كذا في النسختين، والمعنى أن حكمها الوضوء لا الغسل، كما هو واضح من عبارة مختصر النهاية لابن أبي عصرون، حيث قال: " ثم بعد ذلك تتوضأ إِلى اللحظة الأولى من الشهر ". (¬3) مزيدة من: (ت 1)، (ل).

بعد اللحظة الأولى، حتى يمضي يومٌ وليلة، فإن الطهر إن استمرّ، فلا غسل، وإن ابتدأ حيض، لم ينقطع حتى يمضي أقل الحيض، وهو يوم وليلة، فلو انقضى ذلك، اطرد الأمر بالغُسل إلى اللحظة الأخيرة من الشهر، لاحتمال الانقطاع. 586 - ولو قالت: كنتُ أخلط الشهر بالشهر حيضاً بحيض، وكنتُ طاهرةً في اليوم الخامس، فسبيل التقديم أن نقدّر آخر حيضها اللحظةَ الأولى من الشهر، فتنتهي بالتقديم إلى أول السادس عشر إلا لحظة. وإذا أردنا التأخير، نقدّر أول حيضها اللحظة الأخيرة من الشهر، فينتهي حساب التأخير إلى آخر اليوم الرابع، ولا يتعداه لمكان الطهر في اليوم الخامس، فيخرج من الحسابين من اليوم الخامس إلى مُضي لحظة من أول السادس عشر، فتكون هذه الأيام طهراً بيقين. ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، حيضاً بحيض، وكنت يوم الخامس أو الرابع عشر طاهرة بيقين. فنقول: هي طاهرة يوم الرابع عشر؛ فإنها إن كانت طاهرة يوم الخامس، فيمتد الطهر إلى استيعاب الرابع عشر، فهو طهر في كل تقدير. فهذا المبلغ كافٍ في صور الخلط، وفيه إرشاد إلى أمثاله. فصل في الضلال 587 - وهذا عدّه الفقهاء من غمرات أحكام الناسية، والغرض منه، ومما تقدم من أمثاله بيانُ أحكامٍ مستفادةٍ مِنْ ذِكْرها أشياءَ في أدوارها، مع بقاء الإبهام في أشياء، ثم بوّب العلماء أبواباً وذكروا أسماء وألقاباً، وغرضهم إيناس الناظرين بمدارك التصرّف، ومسالك استخراج اليقين في الأمر بالاحتياط. 588 - والضلال هو الذي نصفه، وهو منقسم إلى الضلال المطلق على الأجمال، وإلى الضلال المقيّد: فأما الضلال المطلق الذي لا تقييد معه، فلا فائدة فيه، مثل أن تقول: أضللت حيضي في دوري، ولم تذكر مقدار الدور وابتداءه، فلا أثر لما ذكرت، فهي متحيرة مطلقة.

وكذلك إن ذكرت أن دورها كان ثلاثين، ولم تذكر ابتداء دورها أنه كان من أي وقت، فلا أثر لما ذكرت، وهي متحيرة. ولو ذكرت ابتداء دورها، وزعمت أنها أضلّت حيضَها فيه، فلا بدّ أن تذكر مقدار الدور لتستفيد من ذكرها. فإذا قالت: كان دوري ثلاثين، وابتداؤه من وقت ذكَرَتْه، وقد أضلَّت حيضها فيه، فمن ضرورة الإضلال ألا تكون خالطة آخِرَ دورٍ بأولِ دورٍ؛ فإنها لو ذكرت خلطاً، فقد سبق حكم الخلط، فإذا ذكرت الضلال، تضمن هذا انحصارَ الحيض في الدور، ولا يبعد في مقتضى الضلال انطباقُ الحيض على أول الدور. 589 - فإذا ذكرت مقدارَ الدور وابتداءَه، وقالت: أضللت حيضي فيه، فلا يخلو إما أن تذكر مقدار الحيض، أو لا تذكر، فإن قالت: لا أدري مقدار حيضي، فلا تستفيد مما ذكرت شيئاًً، إلا أنها لا تغتسل يوماًً وليلة من أول الدور؛ فإن الغسل إنما يجب لاحتمال الانقطاع، والانقطاع غير محتمل في اليوم الأول؛ فإنه لو فرض الانقطاع فيه، لكان من ضرورة ذلك أن تخلط، وقد ذكرت أنها كانت لا تخلط، فإذاً هي في اليوم الأول بين أن تكون طاهرة أو حائضاً، فإذا مضى يومٌ وليلة، اغتسلت لكل فريضة إلى آخر الدور. فهذا إذا لم تذكر مقدار الحيض. (1 وإن ذكرت مع الضلال مقدار الحيض 1)، فقالت: أضللت حيضي، وهو خمسة في دوري، والدور ثلاثون، وهو معلوم المبتدأ، فتستفيد مما ذكرت ألا تغتسل خمسةَ أيام من أول الدور؛ فإن الانقطاع لا يحتمل فيها مع نفي الخلط، وهي بين أن تكون طاهرة أو حائضاً، كما تقدم. ولو عينت للضلال أياماًً من دورها، فإن كان الحيض مثل نصف محل الضلال، أو أقل، فلا يحصل لها حيض معيّن، وإن كان حيضُها أكثرَ من نصف محلّ الضلال، فيثبت لها يقين حيضٍ، على ما سنصف. فإذا ذكرت أنها أضلت خمسةً في العشر الأول ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

من دورها، فتستفيد بهذا أنها طاهرة وراء العشر إلى آخر الدور قطعاً، ثم لا تغتسل في الخمسة الأولى، [من العشر الأولى] (¬1)؛ فإن الانقطاع فيها لا يحتمل، وتغتسل في الخمسة الثانية، ولا تغتسل في بقية الدور؛ فإنها طاهرة بيقين وراء العشرة، ولا يثبت لها في العشر حيض على التعيين مستيقن. ولو كانت حيضتها تزيد على نصف محل الضلال، فيثبت لها حيض معيّن مستيقن. مثل أن تقول: أضللت ستة في العشرة الأولى -ثم الأصل في معرفة مقدار الحيض التقديم والتأخير- فنقدم حيضها على أقصى الإمكان، فنقدر كأن حيضها منطبق على أول المحل، فينتهي الحيض على هذا التقدير إلى آخر السادس، ونؤخر الحيض أقصى ما يمكن فنقدر، كأن آخر حيضها منطبق على آخر العشر. فيقع أول الستّة في أول الخامس، فيدخل في حساب التقديم والتأخير الخامس والسادس، فهما حيضٌ بيقين؛ فإن أقصى التبعيد (¬2) في التقديم والتأخير ما ذكرناه، فما يندرج تحت التقديرين، فهو يقع حيضاً، لا محالة. ثم هي مأمورة بالوضوء في الأيام المقدمة الخارجة عن حساب التأخير؛ فإن الطهر والحيض محتملٌ فيه، ولا يحتمل فيه الانقطاع، وما يقع بعد الحيض (¬3) مما دخل في حساب التأخير ولم يلحقه حساب التقديم، فهي مأمورة بالغسل فيه، لاحتمال الانقطاع في كل وقت من الأوقات هذه الأيام. وقد ذكرنا في الأيام المقدمة في باب الخلط أنها مأمورة بتطبيق الصلاة في أول الوقت، وذكرنا أنها في الأيام المؤخرة مأمورة بتأخير الصلاة، على تفاصيلَ بالغنا في إيضاحها، والأيامُ المقدّمة في الضلال على يقين الحيض في تلك الأحكام التي ذكرناها كالأيام المقدمة في الخلط، والأيام المؤخرة بعد يقين الحيض في الأحكام المذكورة، كالأيام المقدمة في باب الخلط، حرفاً حرفاً. وهذا الذي ذكرناه يجري إذا كانت في الضلال على وجهٍ يقتضي يقين حيضٍ لا محالة. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) في (ت 1): التعيد أو التعبد. (¬3) أي الحيض المستيقن في الخامس والسادس.

590 - ثم عبر الفقهاء عن مقدار يقين الحيض بعبارتين ضابطتين: إحداهما - أنا ننظر إلى المقدار الزائد من الحيض على نصف محل الضلال، فنضعّفه، ونحكم بأنه حيض بيقين من وسط المحل. وبيان ذلك أن الحيض ستة، والمحل عشرة، والستة زائدة على نصف العشرة يوم وليلة. ثم نضعِّفه، فيصير يومين وليلتين، فيكونان حيضاً من وسط المحل، ووسط العشرة الخامس والسادس. وهذا يجري في كل صورة فيها حيض بيقين في صور الضلال. والعبارة الثانية - أنا نضعف الحيض ونقابله بالمحل، فيزيد على المحل لا محالة، فيصير قدر الزيادة حيضاً من وسط المحل، وبيان ذلك أن الستة إذا ضوعفت، فالمبلغ اثنا عشر، وهو يزيد على المحل بيومين، فهو حيض من وسط المحل، فيقاس على هذه الصورة ما في معناها. ولا معنى لتكثير الصور مع القطع بجريان ما ذكرناه واضحاً بيَّنَّاً في كل صورة. 591 - فنذكر صورة أخرى للإيناس. فلو قالت: أضللت يومين في ثلاثة أيام، فتجري الطرق المتقدّمة، ونحكم لها بالحيض في اليوم الثاني. هذا ما يقتضي التقديم والتأخير. وإن أجرينا العبارتين الأخريين، جرتا، فنصفُ المحلِّ يوم ونصف، والحيض يزيد على ذلك بنصف يوم، فنضعّفه فيصير يوماًً وليلة، فهو الحيض من وسط المحل. وكذلك تجري العبارة الأخرى، والأحكام في الوقت المقدّم والمؤخر على الترتيب المقدّم. فهذا كافٍ فيما ذكرناه 592 - فأما إذا ذكرت مع الضلال شيئاًً آخر، فعينت يوماًً للحيض، أو يوماًً للطهر، فنذكر في كل قسم من هذين صوراً. فلو قالت: أضللت خمسةً في عشرة، وأعلم أني كنت حائضاً يوم الخامس، وليلته بيقين، فيحتمل أن يكون هذا آخر حيضها، بأن يقدر أول الحيض من أول

المحل. ويحتمل أن يكون هذا أول حيضها، فينتهي إلى آخر التاسع، فيخرج اليوم العاشر عن الحسابين، فهو طهر بيقين؛ فإنه خارج عن أقصى التقديرين والحسابين؛ فآل محلُّ الضلال إلى تسعة، فكأنها قالت: أضللت خمسةً في تسعة، ولو قالت ذلك، لم يخف تخريج الصور على العبارات الثلاث المقدمة، والطرق السابقة (¬1)، فيقتضي تحييضها اليوم الخامس وليلته. وهو الذي عيَّنته بذكرها. ولو قالت: كنت يوم السابع حائضاً -وإذا ذكرنا يوماًً أردناه بليلته- فإن أخرنا، انتهى إلى آخر المحل، وانتهى (¬2) الأول إلى السادس. وإن قدمنا، فقدرنا السابع آخراً، كان الأولُ الثالثَ، فيخرج الأول والثاني من الحسابين جميعاً، فهي طاهرة فيهما بيقين فنخرجهما من المحل، فكأنها أضلت خمسة في ثمانية أيام، أول المحل اليوم الثالث من العشر الأول، فيقتضي ما تقدم من الطرق أن نحيّضها اليوم السادس والسابع. ولو قالت: كنت يوم الثالث حائضاً بيقين، فنقدّم، ونقدّر أول الحيض اليومَ الأول، فينتهي الآخر إلى الخامس، وإذا أخرنا، فقدّرنا أول الحيض [اليوم] (¬3) الثالث، فينتهي إلى آخر السابع، فيخرج الثامن والتاسع والعاشر عن المحل، ويكون طهراً بيقين، فتكون قد أضلّت خمسة في سبعة، فنحكم بالحيض يقيناً في الثالث والرابع والخامس، على الأصول المقدمة. 593 - فأما إذا ذكرت مع الضلال طهراً بيقين في يوم من المحل، فنذكر في ذلك صوراً. فإذا قالت: أضللت خمسة في عشرة، وكنت يوم الخامس طاهرة بيقين، فهذه تَحسبُ ضلالاً، ولا ضلال؛ فإنا نعلم أن الخمسة لا تقع قبل اليوم الخامس، فهي طاهرة في الخمسة الأولى، وإذا تعينت الخمسة الأولى للطهر، تعينت الخمسة الثانية للحيض، ولا ضلال. ¬

_ (¬1) عبارة (ل): والطرقُ السابقة تقتضي. (¬2) في (ت 1): وارتقى. (¬3) زيادة من: (ت 1)، (ل).

وإن قالت: أضللت أربعة في عشرة، وكنت يوم الخامس طاهرة بيقين، فالأربعة قبل الخامس تحتمل الحيض وتحتمل الطهر، ولا تحتمل الانقطاع، فهي أيام الوضوء، ثم تغتسل في آخر الرابع مرة، ثم تتوضأ من أول السادس إلى آخر التاسع؛ فإن الانقطاع غيرُ ممكنٍ فيها، وتغتسل في اليوم العاشر، لاحتمال الانقطاع في جميع ساعاته، بتقدير استئخار أوّل الحيض عن أول السادس، وانتهاء الانقطاع إلى أوقات اليوم العاشر. ولو قالت: أضللت أربعةً في عشرة، وكنت يوم الرابع طاهرة، فهي طاهرةٌ أيضاً في [الأيام] (¬1) الثلاثة قبل الرابع. فنقول: قد أضلّت أربعةً في ستة، أوّلها اليوم الخامس، فتجري الطرق في [استخراج يقين الحيض كما تقدم ذكره، ولا يكاد يخفى بعد ذلك على الفَطِن] (¬2) استخراج (¬3) اليقين من أمثال هذه الصور. فلنكتف بهذا المقدار في ذلك. فصل 594 - كنا وعدنا في المعتادة أن نذكر التي تختلف عاداتها ثم تُستحاض في آخر الناسية. وهذا أوان تفصيل القول في ذلك. فإذا كانت تحيض من أول شهرٍ ثلاثة، ومن أول شهر خمسة، ومن أول شهر سبعة، ثم تعود إلى الثلاثة، ثم إلى الخمسة، ثم إلى السبعة، ثم تعود وأوائل الحيض منطبقة على أوائل الدور، وأواخرها مختلفة المقدار، ولكنها متسقة في الأدوار [المتعاقبة] (¬4)، فإذا جاءها شهر، فاطرد الدم، فقد اختلف أئمتنا، فقال بعضهم: نردّها إذا استمرّ الدم بها إلى ما كانت عليه في الشهر الذي قبل الاستحاضة، ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: استخراجها. (¬4) زيادة من: (ت 1)، (ل).

حتى إن كان شهر الثلاثة، فنحيّضها ثلاثة من أول الدور أبداً، ولا ننظر إلى ما كانت عليه في غيره من الأشهر. وهؤلاء يقولون: إذا كانت عاداتها المتعاقبة مختلفة، فهي متناسخة، والأخير منها ناسخ لما تقدم. وذهب الأكثرون إلى أنها مردودة إلى ترتيب عاداتها، وهؤلاء يقولون: تباينُ أقدارِ حيضها على الاعتقاب، والانتظام - عادة (¬1) محكوم بها، فإن كان الشهر المتقدم على الاستحاضة شهر الثلاثة، فنردُّها في شهر الاستحاضة إلى الخمسة، ثم إلى السبعة، ثم إلى الثلاثة، فندير عليها أدوارها في الاستحاضة، كما عهدناه قبل الاستحاضة. وهذا الاختلاف الذي ذكرناه لا اختصاص له بقولنا: العادة تثبت بالمرة الواحدة أم لا تثبت؟ وإنما منشأ الخلاف في أن اختلاف أقدار الحيض -وإن كانت على انتظام- هل تنتظم منه عادةٌ أم لا؟ وإن حاضت أول مرة ثلاثة، ثم حاضت خمسةً في الدور الثاني، ثم سبعة في ثالث، ثم استحيضت في الرابع، فلا خلاف أنها لا ترد إلى انتظام تلك الأقدار في الأدوار، وإن قلنا تثبت العادة بالمرة الواحدة، ولكن على هذا الوجه تُردّ إلى أول الدور المتقدّم على شهر الاستحاضة. وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فقد اختلف أئمتنا: فمنهم من قال: نردّها إلى أقل عاداتها؛ فإن الثلاثة موجودة في دَوْر الخمسة. والسبعة، فكأنها متكررة. ومنهم من قال: لا نردّها إلى شيء من تلك الأقدار الجارية في الأدوار، وسبيلها سبيل مبتدأة تستحاض في الدور الأول. وقد مضى التفصيل، وقد مهدنا هذا المسلك في فصول المعتادة. 595 - وكل ما ذكرناه فيه، إذا انتظمت لها أدوارٌ متفقة الأوائل مختلفة الأواخر، على اتساق ونظام، فاستحيضت وعلمت الشهر الذي تقدَّمَ الاستحاضة. فأما إذا كانت عاداتها كما وصفناها، ولكنها قالت: لست أدري أن استحاضتي ¬

_ (¬1) خبر مبتدؤه: تباين أقدار حيضها.

في أي نوبة كانت، ولست أعرف الشهر المتقدم على شهر الاستحاضة، فقد أشكل عليها الأمر في مقدار الحيض، وعلمت أن حيضها كان ينطبق على أوائل الشهور، وهي تعلم أن حيضها كان لا ينقص في نوبةٍ من النُّوَب على ثلاثة، وعلمت أن حيضها كان لا يزيد على سبعة. فإن فرعنا على [أن] (¬1) انتظام العادات المختلفة أمرٌ مستفاد من تكرار العادات، كما سبق، فقد عسر علينا معرفة قدر الحيض في كل نوبة، ولكن سبب ذلك جهلُها بالنوبة التي استحيضت فيها. فنقول: نقضي بما نتحقّقه، ونأمر بالاحتياط فيما لا نعلمه، فنحيّضها ثلاثة أيامٍ من أول كل دَوْر، ثم نأمرها بالاغتسال عقيب الثالث، ثم تتوضأ لكل صلاة، فِعْل المستحاضات إلى آخر الخامس، ثم تغتسل مرة أخرى، لاحتمال الانقطاع بأن نقدر النوبة للخمسة، ثم تتوضأ إلى آخر السابع، ثم تغتسل مرة ثالثة، ثم حكمها حكم الطاهرات المستحاضات إلى آخر الدور. ويحرم على هذه في السبعة من أول [الدور] (¬2) ما يحرم على الحُيّض، ولكن لا نأمرها بالاغتسال إلا في آخر الثالث والخامس والسابع. وإن قلنا: لا يثبت من انتظام عاداتها حكم، وهي مردودة إلى النوبة الأخيرة المتقدمة على الاستحاضة [لو] (¬3) كانت ذاكرة لها، فكيف حكمها وهي جاهلة بها؟. فنقول: قد يظن ظان في التفريع على هذا أنها تكون مردّدة (¬4) بين الثلاثة والخمسة والسبعة؛ فإن نوبتها كانت لا تخلو من هذه الأعداد، ثم يلزم من هذا التقدير أن نحيّضها ثلاثة أيام بيقين، ثم سبيلها في آخر الخمسة والسبعة كما تقدم إذا فرعنا على أنها تستفيد من انتظام عاداتها أمراً، فيتفق التفريعان على الوجهين عند فرض الجهالة. وهذا الظنّ خطأٌ، وآيةُ ذلك استواء التفريع على وجهين مختلفين؛ فالوجه القطعُ ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: الدم. (¬3) في الأصل: ولو. (¬4) في (ت)، (ل): مردودة.

بأنا لا نديرها على الثلاثة والخمسة والسبعة، إذا كنا نردّها إلى النوبة الأخيرة لو كانت عالمةً بها؛ فإن صاحب هذا المذهب لا يلتفت إلى ما قبل النوبة الأخيرة أصلاًً، وما ظنَّه هذا الظان نتيجة الالتفات على ما مضى. فإذاً قد جهلت هذه مقدارَ حيضها، ولكنها علمت مقدارَ الدور، وانطباقَ الحيض على أول الدور، وأنها كانت لا تخلط دوراً بدور، ولا خلاف أنا نعمل بهذا، وإن التبس الأمر في المقدار؛ فإن الناسية لو قالت: كنت لا أخلط دوراً بدور، ولا أذكر غير ذلك، لكنا نبني على هذا ما يليق به من الحكم، فاختلاف المقادير لا يمنعنا من التمسك بانطباق الحيض على أوائل الأدوار. فهذا قولنا في أصل الدور إذا علمته، والأولية. فأما المقدار، ففيه الخلاف المقدَّم: فمن أئمتنا من قال: نحيّضها ثلاثة أيام، وهو أقل عاداتها، ومنهم من يجعلها كمبتدأة لا تعرف شيئاً. ثم القول في المبتدأة قد مضى، وهذا أَقْيس على هذا الوجه الذي نفرع عليه. ثم قد ذكرنا في المبتدأة قولين في أنها هل تؤمر بالاحتياط إلى آخر (¬1) خمسة عشر يوماًً من أول [كل دور، وهما] (¬2) يجريان في هذه، ولا يختص الاحتياط بالسَّبع، كما نفرع على الوجه الأول في استفادة الانتظام من عاداتها؛ فإن ذلك إن قيل به، كان التفاتاً إلى ما تقدّم (¬3)، وذلك يوجب التمسك بنظام العادات، ولا يكاد يخفى بعد وضوح هذه التفاريع أن الأصح استفادةُ الانتظام كما تقدم. 596 - وكل ما ذكرناه في العادة المنتظمة. فأما إذا كان أقدار الحيض منضبطة، فكانت ثلاثة وخمسة وسبعة. ولكن لم تكن عوداتها منتظمة، فمرّة كانت تحيض ثلاثة ثم خمسة ثم سبعة، وأخرى كانت تحيض خمسة ثم ثلاثة ثم سبعة، لا على أمرٍ منظوم يتعلّق [الفقه] (¬4) به، فإذا استحيضت وطبق الدم، فإن رأينا في الصورة ¬

_ (¬1) في (ت)، (ل): انقضاء. (¬2) في الأصل: من أول دورهما. وهو تحريف واضطراب ظاهر. (¬3) في (ت 1): التفاتاً على ما نقدّمه. (¬4) في الأصل، (ت 1): الرقبة.

الأولى، وهي إذا انتظمت العادات أن نردها إلى النوبة الأخيرة، فهذه الصورة أولى بذلك. فإن قلنا في الصورة الأولى بالاستمساك في ترتيب عودات الحيض، فهاهنا لا ترتيب في [العود] (¬1) ولكن الأقدار مضبوطة، فلا زيادة على السبعة، ولا نقصان من الثلاثة، والمتوسطة بين الثلاثة والسبعة خمسة، فإذا استحيضت، والتفريع على استفادة ما يمكن استفادته، فالقول فيها كالقول في التي جهلت النوبةَ المتقدمة على الاستحاضة، وكانت عاداتها منتظمة القدر والعود، ولكنها إذا جهلت، لم تنتفع بما كان من انتظام العود، فعدمُ انتظام العود في الصورة الأخيرة كجهلها بالانتظام الذي كان، فتتحيّض ثلاثة، وتغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة، وتغتسل بعد انقضاء الخمسة، ثم تتوضأ إلى آخر السابع، ثم تغتسل، ثم هي مستحاضة إلى آخر الدور. فهذا منتهى غرضنا في اختلاف العادات، وإن زاد زائدٌ صوراً، لم يخف على الفَطن وجهُ استخراجها، مما ذكرناه الآن من الأصول المتقدمة في أبواب الناسية. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: في الحيض.

باب التلفيق

باب التلفيق 597 - هذا مما يُعدّ من غوامض أبواب الكتاب (¬1) وهو [أصل] (¬2) مستفتح، فلا بدّ من الاعتبار بدرك أصله. والقول فيه يتعلق بنوعين: أحدهما - فيه إذا [تقطَّعَ] (¬3) النقاء والدم، وجرى ذلك في مدة لو طبّق الدمُ فيها، لكان حيضاً، ثم ترى بعد ذلك نقاءً مطرداً خمسةَ عشرَ يوماًً فصاعداً. والأخرى - أن يجري التقطّع ويزيد أمدُه: دماًً ونقاءً على الخمسةَ عشَر، وقد يطّرد ذلك في جميع الأيام. 598 - فأما إذا وقع التقطع في الخمسةَ عشرَ، ورأت بعد ذلك طهراً كاملاً متواصلاً، فنستوعب قواعدَ المذهب في ذلك إن شاء الله، ونسميه التلفيق في غير المستحاضة. فإذا كانت ترى دماًً يوماًً وليلة، ونقاءً يوماًً وليلة، ثم دماً، كما ذكرناه إلى الخمسةَ عشرَ مثلاً، أو إلى مدة أقلَّ منها، فما حكم النقاء المتخلل بين الدماء؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو الذي نص عليه في عدة مواضع أن النقاء حيض، وحكمها فيه حكمُ الحيض. وهذا مذهب أبي حنيفة (¬4). والثاني - أنّ حكمها في زمان النقاء حكم الطاهرات في الصلاة والصوم، وحِلِّ المواقعة وغيرها. ¬

_ (¬1) المراد كتاب الحيض. (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: انقطع، والمثبت من: ت 1. (¬4) ر. المبسوط: 3/ 154، الهداية مع فتح القدير: 1/ 152، حاشية ابن عابدين: 1/ 192.

وقيل: ذكر الشافعي هذا القولَ في مناظرةٍ جرت له مع محمد بن الحسن. توجيه القولين: من قال: حكمُ النقاء الناقص عن أقل الطهر المحتوش بدمين هما حيض - أنه (¬1) حيضٌ. قال: إذا نقص عن الأقل، وأحاط به دمان هما حيض، حُمل النقاءُ على الفترات التي تقع في خلال استرسال الحيض؛ فإن الحيض لا يسيل سيلاناً متصلاً، بل يخرج دُفعة دُفعة، كما دلّ عليه بعضُ الأحاديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والذي يعضد ما ذكرناه أنّ الدم الناقص عن أقل الحيض دمُ فسادٍ، وحكمه حكم الطهر. والنقاءُ الناقص عن الأقل حكمه حكم فترات الحيض. ومن قال: حكمها في زمان النقاء حكمُ الطاهرات، استدلّ بأنها نقية حسّاً، طاهرةٌ قطعاًً، والنقاء مجاوزٌ لأزمنة الفترات في العادات، فثباتُ الحيض ولا حيضَ بعيدٌ. التفريع على القولين: 599 - إن قلنا: حكم النقاء حكمُ الحيض، فهذا يسمى ترك التلفيق، فإن رأت يوماًً وليلة دماًً [ومثله نقاءً] (¬2) ثم مثله دماًً، ثم مثله نقاءً، ثم هكذا، حتى انقطع على الخمسةَ عشرَ، ولم يجاوز، فالكل حيضٌ. ولو رأت يوماًً وليلةً دماًً [وثلاثة عشر يوماًً نقاءً، ويوماًً وليلة دماًً] (¬3) ثم طهراً كاملاً، فهي حائض في الخمسةَ عشرَ يوماً، وإن كانت نقيةً في ثلاثة عشر يوماً. ثم اختلف الأئمة في تفصيل مقدار ما تراه من الدماء: فقال بعضُهم: إنّما يكون النقاء الواقع بين الدَّمين حيضاً، إذا كان كلُّ واحدٍ منهما بالغاً أقلَّ الحيض، فإن نقصا أو نقص أحدهما عن الأقل، فلا يكون النقاء حيضاً، وهذا الوجه مزيَّفٌ. وقال أبو بكر المحمودي (¬4): ينبغي أن يبلغ الدّمان إذا جمع أحدهما إلى الثاني ¬

_ (¬1) " أنه حيض " في محل رفع خبر للمبتدأ " حكمُ النقاء الناقص ... ". (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬3) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬4) أبو بكر المحمودي: محمد بن محمود، أبو بكر المحمودي، المروزي، مذكور في الوسيط في باب الحيض، وتكرر في الروضة، ولا ذكر له في المهذب، ونقل عنه الرافعي في مواضع، منها في الحيض، في الكلام على قولي اللقط، والسحب، أخذ عن الإِمام الحافظ الزاهد، =

أقل الحيض. مثل أن ترى اثنتي عشرة ساعةً دماً، ثم نقاءً إلى الخامس عشر إلا اثنتي عشرة ساعة. ثم ترى في هذه الساعات الباقية دماًً، فالدمان وما بينهما من النقاء حيضٌ. وإن نقص مجموع الدمين عن يوم وليلة، فليس النقاء حيضاً، وما رأته من الدم دمُ فساد، لقصوره عن الأقل. ثم من مذهبه أن اليومَ والليلة لو انقطع على الخمسةَ عشرَ، وكان مجموعهما بالغاً أقل الحيض واقعاً في الخمسة عشرَ يوماًً، فالنقاء حيضٌ، ولا يشترط أن يكون كل دمين بينهما نقاء بالغين (¬1) أقل الحيض، بل يعتبر ما قاله في جملة الدماء الواقعة في الخمسةَ عشرَ. وقال أبو القاسم الأنماطي: لو رأت لحظةً دماً، ثم امتد النقاء إلى آخر الخامس عشر إلا لحظة، ثم رأت فيها دماًً، ثم امتدّ الطهرُ، فالخمسة عشر كلها حيض، وإن نقص ما رأته من الدماء عن الأقل. وهذا سرفٌ ومجاوزةُ حدّ. وأعدل الوجوه ما ذكره أبو بكر المحمودي. 600 - ومن أهم ما يفرّع على هذا القول: أن المرأة إذا رأت دماًً ثم نقاءً، فبماذا تؤمر، على قول ترك التلفيق في [الحال] (¬2) إلى أن يعود الدم أو لا يعود؟ قال أئمة المذهب: إن كان ما رأته من الدم أقلَّ من يومٍ وليلةٍ، فلا نأمرها بالاغتسال؛ فإن الدم إن لم يعد، فالذي انقطع دمُ فسادٍ، ولا غسل فيه. وإن فرض عودُه في الخمسةَ عشرةَ، فذلك النقاء حيضٌ في بعض الوجوه المتقدّمة، وليس على المرأة غسلٌ في استمرار الحيض. فأما إذا كان ما رأته من الدم المتَّصل بالغاً أقل الحيض، فإذا انقطع، وجب ¬

_ = أبي محمد المروزي المعروف بعبدان (بفتح العين، وبسكون الموحدة، تثنية عَبْد) تلميذ المزني والربيع، قال الإِسنوي: لم أقف له على تاريخ وفاة، ولكن ذكره العبادي في طبقة الإصطخري، وأبي علي الثقفي. (ر. طبقات السبكي: 3/ 225، والإِسنوي: 2/ 376، وتهذيب الأسماء 2/ 196، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 1/ 119، والعبادي: 65). (¬1) في (ت 1): بالغاً. (¬2) في الأصل: المآل، والمثبت من: ت 1، ومن مختصر النهاية، (ل).

الغُسل؛ فإنّ الذي رأته حيض، وقد انقطع ظاهراً، فإن قيل: ربما يعود الدم في الخمسةَ عشر، فنتبين على القول الذي نفرع عليه أنها اغتسلت في أثناء الحيض. قلنا: الحكم ينبني على الانقطاع المحسوس، لا على توقُّع العودِ. وهذا متفق عليه في هذه الصورة. ثم ينبني على ذلك إثبات أحكام الطاهرات لها زمانَ النقاء، في الصوم والصلاة، وحلّ الوطء، وغيرها. فإن عاد الدمُ، نتبين بالأَخَرَة وقوعَ ما قدمناه في الحيض، ثم لا يخفى حكمُها، وسبيل تدارك ما يُتدارك منها. 601 - فلو عاد الدم، ثم انقطع على الترتيب الذي عهدناه، فهذا مما تخبط فيه كلامُ المصنفين في كتاب الحيض. وأنا أذكر فيه وجهَ السداد، وطرقَ الاحتمال. فالذي وجب القطع به أن ما ينقطع في النوبة الأولى في الخمسةَ عشرَ لا يعدّ في حكم المتكرر، حتى يُبنى عليه الكلام المعروف في أن العادة تثبت بالمتكرر، وفي ثبوتها بالمرَّة الواحدة الخلاف. بل نقول: كما (¬1) أمرناها بالغسل لما انقطع الدم، ثم أمرنا بتدارك ما مضى -كما تقدم- فإذا انقطع الدم ثانياً، نأمرها بالاغتسال، فقد لا يعود الدم. ثم إن عاد في الخمسةَ عشرَ، فيتدارك كما تقدم. وكذلك الانقطاع الثالث والرابع في نوبة واحدة؛ فإن الحكم بعَوْد الدم وبناء الأمر عليه بعيدٌ في النوبة الواحدة من الحيض، فإذا انقطع الدم على الخمسةَ عشرَ، وامتدّ طهرٌ كامل، ثم عاد الدم على [سجيّة] (¬2) التقطع في الدور الثاني، وكذلك في الدور الثالث مثلاً، فهذا موضع تردّدِ الأصحاب. فذهب ذاهبون إلى أنّ هذا يخرَّج الآن على الأصل الممهّد في أنّ العادة هل تثبت بالمرة الواحدة أم لا؟ فإن قلنا: لا تثبت، فالحكم في الدور الثاني كالحكم في الدور ¬

_ (¬1) كما أمرناها: الكاف هنا للتشبيه، كما هو معروف، والمعنى: " مثلما أمرناها ... فإذا انقطع الدم ثانياً نأمرها .... ". فـ (كما) هنا ليست من الاستعمالات الخاصة بالخراسانيين التى أشرنا إِليها سابقاً. (¬2) في الأصل: نتيجة، والمثبت من (ت 1)، (ل).

الأول. وإن حكمنا بأن العادة تثبت بالمرة الواحدة فقد تمهّد [التقطع] (¬1) في الدور الأوّل، ونحن نفرع على ترك التلفيق، فالنقاء حيض، ولا يوجب الغسل، ولا تثبت أحكام الطهر بناءً على ما عهدناه أول مرّة، ثم من يسلك هذا المسلك، يقطع بأن الأمرَ في الدور الثالث يُخرّج متفقاً عليه؛ فإن التقطع قد ثبت مرتين، ولم يبن وجهٌ في الخلاف. فهذا مسلكٌ. ومن أئمتنا من قال: لو تكرر التقطع مراراً كثيرة، فالحكم في الكرّة الأخيرة كالحكم في الكرة الأولى. وهذا القائل يقول: ليس التقطع مما يثبت على اعتياب، ولا خلاف بين فرق الأصحاب أن الدمَ إذا انقطع مراراً في أدوارٍ، ثم استحيضت المرأةُ، وطبَّق الدمُ من غير تقطّعٍ، فلا نحكم على قول التلفيق بتقطيع (¬2) الحيض في [زمن] (¬3) الاستحاضة، حتى تلقط حيضاً من الخمسة عشر، كما سيأتي ذلك. ونحكم بتخلل دم الاستحاضة في أثناء الحيض، على قولنا بالتلفيق. فإذاً كل دورٍ في التقطع يقدّر كأنه ابتداء التقطع. والسبب فيه أنه إذا انقطع الدم عيناً، فبناء الأمر على عَوْد الدم بعيدٌ. نعم، إن عاد، فاستدراك ما مضى على ما يقتضيه الشرع لا يبعد. فهذا ما ثبت عندي من كلام الأصحاب. 602 - وذكر شيخي أن الدم إذا انقطع في الدور الأول، فيجري فيه التردّد، حتى إذا انقطع أولاً، فليس إلا الأمر بالغُسل، ثم الاستدراك، كما مضى. فإذا انقطع ثانياً، فقد تكرر الآن الانقطاع، فيندرج بالثاني الانقطاعُ الأول في العدد؛ فنحكم بالتكرر. وهذا بعيد، لم أره لغيره؛ فإن الحكم بالتكرر في نوبة واحدة محال، وقد ينقص الحيض ويقتصر على مقدار (¬4)، فبناء الأمر على تقدير العود لا وجه له. نعم، إذا بان ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) في (ت 1): بتقطع. (¬3) في الأصل: فنّ. والمثبت تقديرٌ منا. أما عبارة ت 1، فهي: في الاستحاضة. ومثلها (ل). (¬4) كذا، ولعل في العبارة خرماً، والتقدير: على مقدار يومٍ وليلة.

ذلك في نوبةٍ، ثم بدا مثلُه في نوبةٍ، فقد يتخيل ذلك. ثم ما ذكره شيخي فيه إذا كانت لها عادة في مقدار الحيض، فكانت تحيض خمسة أيام متوالية، ثم جرى من التقطع ما وصفناه، فيحتمل ارتقابُ العَوْد إلى استيفاء ما كانت تراه، فأمّا المبتدأةُ إذا انقطع دمُها في أول نوبة، فلا يخطُر لمحصّل بناء الأمر على العود في النوبة الأولى أصلاًً. 603 - وأنا الآن أجمع في التكرر والاتحاد في قواعد الحيض كلاماً يحوي المقصودَ. وأشير إلى موضع الخلاف والوفاق. فأقول: ما يرجع إلى مقدار الحيض زيادةً ونقصاناً، فيجري فيه أن العادةَ هل تثبت بالمرة الواحدة أم لا؟، كما سبق تقريره، [وهذا] (¬1) مع ملازمة الحيض أول الدّور، والحكم بالاستحاضة يثبت بدورٍ واحد، وجهاً واحداً؛ فإن الدم إذا طبَّق وزاد على خمسةَ عشرَ يوماًً، فقد أمرناها بالتربص إلى الخمسةَ عشرَ، ثم زاد الدم، فنردّها إلى العادة، وفي [الدور] (¬2) الثاني لا نأمرها بالتربص، فإذاً الاستحاضةُ تثبت بدورٍ واحد. وكان من الممكن أن تؤمر بالتربص مرتين عند من لا يُثبت العادة بالمرة الواحدة، ولكنّ الأمرَ مجمع عليه، كما حكيناه. والسبب فيه أنا استيقنّا أنها مستحاضة في الدور الأول، والاستحاضة من العلل التي إذا وقعت، دامت وتمادَت، فيحصل لها بالمرّة الواحدة ظنٌّ غالب في استمرار الدم. فأما زيادة الحيض ونقصانه، فعادات النسوة في ذلك تضطرب (¬3)، ولا يُستبعد توقع الاختلاف فيه، فإن استظهر مستظهر بالتكرر، كان حسناً، وكان سببه ما ذكرناه: أن الحيض فضلة تنفضُها الطبيعة كسائر الفضلات، وقد تختلف الحالات، فتختلف لها أقدار الفضلات، ولكنا لا نتعدى ما حُدَّ لنا في الأكثر والأقل. والاستحاضة دم عرق ينفطر، أو ينقطع، وهو مزمنٌ إذا وقع. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: القدر. (¬3) في الأصل: مضطرب.

قال القفال: لو كانت امرأة تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فرأت خمستها، وانقطع الحيضُ عشر سنين مثلاً، ثم طبَّق الدم، فلا يجوز أن يقال: نردّها إلى (¬1) مقدار الطهر عشر سنين، إذا فرعنا على الوجه الأصح، وهو أن العادة تثبت بالمرة الواحدة. فإذا لم يسغ هذا، فالسنة (¬2) الواحدة في معنى عشر سنين فصاعداً، [فما] (¬3) المنتهى المعتبر في ذلك؟ قال: راجعتُ في ذلك مشايخي، فلم يذكروا ضابطاً، ثم قال: والوجه عندي أن يقال: غايةُ طول الدور تسعون يوماً، الحيض منها ما يتفق، والباقي طهر. واعتبر في ذلك أنّ الشرع جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، فكانت أقربَ معتبر. فلو كانت تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين، فحاضت خمسةً، وطهرت خمسة وثمانين، ثم طبق الدم، فتجعل طهرها خمسةً وثمانين، ودورها تسعين. وإن حاضت خمسةً، وطهرت تسعين، فلا يعتبر هذا في الاستحاضة، ولكن نردها إلى الخمسة والعشرين التي كانت تطهر فيها قديماًً. فإن قيل: هلاّ قلتم: نردُّها إلى خمسة وثمانين، ونطرح الزيادة؟ قلنا: إذا تناهى تباعدُ الحيض، فسبب الاحتباس علة أخرجت الطبيعةَ عن الاعتدال، وجميع أمد التباعد محمول على هذا، فلا نعتبره، ونرجع إلى العادة القديمة. ولا مزيد على ما ذكره القفال. ولكن لو تكرر طهرها سنة [سنة] (¬4) مرتين أو مراراً، ففي ردّها إلى ما تكرر احتمالٌ، والظاهر عندي أنه لا تبالي به وإن تكرر. والله أعلم. وأما مفارقة الدم أول الدور، فإن انضم إليه زيادةُ الطهر، فهو مما يُبنى على الخلاف في المرّة والمرتين. وإن استأخر مدةً، ثم عاد قدرُ الطهر كما كان، فالنظر عند المحققين إلى المقدار. ¬

_ (¬1) في (ت 1)، (ل): في مقدار الطهر إِلى عشر سنين. (¬2) عبارة (ت 1): فالنسبة الواحدة في معنى فصاعداً .... (¬3) في الأصل: في المنتهى. (¬4) مزيدة من (ت 1).

وقد اختبط في ذلك المروزي، كما سبق. وأما تقطّع الدم، فهل يُتلقى أمره من [التكرر] (¬1) في نوبة أو نوبٍ؟، فيه من التفصيل ما ذكرته الآن. ولا خلاف أنه لو تكرر التقطع في مائة نوبة، ثم اطَّرد الدم واستُحيضت، فلا نلتفت إلى قول التلفيق -وإن كنا نرى القولَ بالتلفيق- حتى لو كنا على قول التلفيق نلقط خمسة أيام من خمسةَ عشرَ يوماًً، ثم طبق الدمُ، فنحيّضها خمسة وِلاءً من أول الدم المطبق، هكذا قال الأئمة. وفيه للاحتمال أدنى (¬2) مجال. فهذا مجموع ما يتفرق في أصول الحيض في هذا الفن جمعناه، [لينْظر] (¬3) الناظر فيه مجموعاً. 604 - ثم إذا كنا نجعل النقاء بين الدّمين حيضاً، فلا شك أنا نشترط وقوع الدمين في الخمسة عشر. فلو رأت يوماًً [وليلة] (¬4) دماًً، وأربعة عشر نقاءً، ثم يوماًً وليلةً دماًً، فالدم الثاني استحاضة لوقوعه وراء زمان الإمكان، ثم يكون النقاء طهراً أيضاً؛ فإنه غيرُ محتوشٍ بدَمين هما حيض، وسنبيّن هذا في أحكام التلفيق في المستحاضات. إن شاء الله عز وجل. فأما إذا فرَّعنا على التلفيق، وحكمنا بأن النقاء بين الدَّمين طهر، فإن رأت يوماًً وليلةً دماًً ومثلَه نقاء، ثم يوماًً وليلةً دماً، فالدمان حيضٌ. ولو كان مجموع الدماء في الخمسةَ عشرَ ينقص عن أقل الحيض، فالكل دم فسادٍ، لا شك فيه، فإنّا نُفرّع على أن النقاء طهرٌ. ومن اكتفى بلحظتين في الدم في الخمسةَ عشرَ على قول [ترك] (¬5) التلفيق يعتمد أنّ النقاء حيض، فيضمه إلى الدم. وهذا لا يتصوّر في قول اللقط والتلفيق، على أنّ ذلك الوجه في قول ترك التلفيق ضعيفٌ جدّاً كما مضى. ¬

_ (¬1) في الأصل: التكرير. والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬2) كذا، وقد يبدو للوهلة الأولى أن في العبارة خللاً، ولكنها صحيحة، وواردة كثيراً في كلام الإِمام. (¬3) في الأصل: ولينظر. (¬4) مزيدة من: (ت 1)، (ل). (¬5) مزيدة من: (ت 1). ولا يستقيم الكلام بدونها. ووجدناها في (ل).

فأمّا إذا كان مجموع الدماء في الخمسةَ عشرَ يبلغ أقلّ الحيض [ولكن كل دمٍ في نفسه لا يبلغ أقلَّ الحيض] (¬1). فالمذهب الصحيح أنها حيض؛ فإن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، ثم على قول التلفيق: ينقطع الطهر على الحيض، ولا يبعد أن ينقطع الحيض على الطهر أيضاً. ومن أصحابنا من قال: الدم الناقص ليس بحيض؛ لأنه ينضم إلى قلّته انقطاعه عما قبله وبعده بالنقاء الذي يتخلّل. والدم ينقسم إلى ما هو حيض، وإلى ما ليس بحيض. فأما (¬2) صورة النقاء، وهو عدم الدّم، فمهما (¬3) تحقق، بَعُدَ معه الحكم بالحيض. والمذهب الأول. فإن رأت يوماًً وليلةً دماًً وانقطع، والتفريع على التلفيق، فلا شك أنها تغتسل، وحكمها حكم الطاهرات. وإن رأت دماً ناقصاً عن الأقل، وانقطع، فإن لم نجعل ما رأت حيضاً، فلا غسل، ولكنها تتوضأ وحكمها حكم الطاهرات. وإن فرعنا على المذهب الصحيح، وقلنا: هو حيضٌ إذا عاد في الخمسةَ عشرَ ما يُكمّله، فعلى هذا لا ندري أيعود أم لا، ولو لم يعد، لما وجب الغسل، فكيف الحكم؟ من أصحابنا من قال: لا نوجب الغُسلَ في الانقطاع الأول؛ [فإنا] (¬4) لا ندري أنّ المنقطع حيضٌ أم لا، وإيجاب الغسل من غير ثَبَت يُخالف موضوع الطهارات. ومنهم من قال: نوجب الغسل احتياطاً؛ فإنا أوجبنا الغسلَ على الناسية المستحاضة، لاحتمال انقطاع الحيض من غير قطعٍ، وهذا الاختلاف يقرب من القولين في أن الناسيةَ هل تؤمر بالاحتياط أم لا؟. هذا ما أردنا في ذلك. ولعل الأمر بالاغتسال يتجه؛ فإنّ ما رأته في زمان إمكان الحيض، ونفس الانقطاع ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، وزدناه من: (ت 1)، (ل). (¬2) في (ت 1): قلنا صورة النقاء. (¬3) "مهما": بمعنى (إذا). (¬4) في الأصل: قلنا لا تدري.

لا يخرجه عن كونه حيضاً، حتى تخلو الخمسةَ عشرَ، عن تتمة يوم وليلة. 605 - ومما يتم به التفريع أن الحيض لا يسيل سيلاناً في الغالب، بل يخرج دُفَعاً، والفترة بين الدفعتين حيضٌ قولاً واحداً، ولم يذكر الأصحاب في تمييز الفترة عن النقاء -الذي يقع في القولين- ضبطاً. ومنتهى المذكور فيه أن ما يُعتاد تخلله بين الدُّفع، فهو من الفترات الملحقة بالحيض. وما يزيد على المعتاد [و] (¬1) يكون أكثر منه، [فهو] (¬2) على القولين. ثم جميع النقاء في القولين لا شك فيه، قدر الفترة من أول النقاء الكثير لا يستثنى من القولين، ويلحق بالحيض، وهذا لا خفاء به. ولكن قد ينتفع بذكره المبتدىء (¬3). 606 - وأنا أقول: أقرب مسلكٍ في التقريب الفاصل بين الفترة وبين (¬4) النقاء الذي يلفّق على أحد القولين أن يقال: الحيض يجتمع في الرحم، ثم الرحم يقطّره شيئاً شيئاًً؛ فإنه ليس الرحم منتكساً في الخلقة، حتى يسيل ما فيه دُفعة واحدة، فالفترةُ ما بين ظهور دُفعة إلى أن تنتهي أخرى من الرحم إلى المنفذ، والنقاء الذي في القولين يزيد على ما ذكرناه، حتى كان الطبيعة في مدة النقاء تجمع دماًً آخر في الرحم، ثم يزجيه الرحم على سجية التقطير والدُّفع. فهذا أقصى الإمكان في ذلك، وقد تم تمهيد المذهب في تقطع الدم من غير استحاضة، ومجاوزة الخمسةَ عشرَ. ونحن الآن نبتدىء تفصيل القول في التقطع مع مجاوزة الأكثر وثبوت حكم الاستحاضة. ونرى أن نبتدىء بالمعتادة. ... ¬

_ (¬1) زيادة من (ل). (¬2) في الأصل: فيكون. (¬3) (ت 1): المبتني. (¬4) هكذا يكرر بين مع إِضافتها للظاهر، والمشهور من قواعد اللغة أنها لا تكرر إِلا مع الضمير. ولكن جاء في النحو الوافي لأستاذنا الجليل المرحوم عباس حسن: أنه يجوز تكرارها، إِذا كان المعطوف ظاهراً (النحو الوافي: 2/ 268. هامش رقم 1. الطبعة الثالثة).

باب المعتادة في التلفيق

باب المعتادة في التلفيق 607 - إذا كانت المرأة تحيض خمسة أيام وِلاءً، وتطهر خمسةً وعشرين يوماً، فجاءها شهر، فرأت يوماًً وليلةً دماًً، ومثلَه نقاءً، ثم استمر ذلك في جميع الدَّور، فهي مستحاضة وفاقاًً. ولم يصر أحدٌ من أئمتنا (¬1) إلى تحييضها في جميع أيّام الدم على قول التلفيق لقطاً من جميع الدور، وإن لم تزد الدماء على الأكثر، فمن يلفّق لا يرى الالتقاط إلا من الخمسةَ عشرَ. وهذا يقوي تركَ التلفيق، والمصيرَ إلى أنّ حكم النقاء حكم الحيض. فإذا وضح هذا متفقاً عليه، فنقول: إذا تقطّع الدم على ما وصفناه، فإن قلنا بترْك التلفيق، فنحيّضها في الخمسة (¬2) من أوّل الدّور وِلاءً (¬3)؛ فإن اليوم الأوّل دمٌ، والثالث والخامس دمْ، والنقاء المتخلل حكمه حكم الحيض. وإن فرّعنا على قول التلفيق، فقد كانت حيضتُها قديماًً منحصرة في الخمسة الأولى [وهي لا ترى في الخمسة الأولى] (¬4) الدمَ إلا في ثلاثة أيام، ففي المذهب على قول التلفيق وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تتجاوز أيام عادتها، وتلقط ما ترى فيها، وما يزيد على أيام العادة (¬5) استحاضة. والوجه الثاني -وهو الصحيح- أنا نعتبر عددَ أيام حيضتها قديماً، ولا نبالي أن ¬

_ (¬1) في (ت 1)، (ل): العلماء (¬2) في الأصل: في الخمسة عشرَ. وهو خلاف السياق. (¬3) ولاءً بالكسر: متتابعة. والذي يجري على الألسنة بالفتح، ولكنها تكون بمعنى المِلْك، والنصرة، والقرابة، والقرب، والمحبة (المختار والمعجم). (¬4) ساقطة من الأصل، وزدناها من (ت 1) وعبارة (ل): ونحن لا نصادف -مع التقطع الذي وصفناه في الخمسة الأولى- الدم إِلا في ثلاثة أيام. (¬5) في (ت 1): عادتها

نجاوز أيام العادة، فنلقط من الخمسة عشر إلى استيفاء أيامها إن أمكن، ولا نجاوز الخمسةَ عشرَ قط. كما تقدم؛ فإن رعايةَ مقدار الحيض أولى من ملازمة زمانٍ. ومَن حصرَ اللقط في الخمسة، فإنما يحمله على ذلك ملازمةُ الزمان. وهذا يضاهي مذهبَ أبي إسحاق المروزي في [ملازمة] (¬1) أوائل الأدوار، كما سبق بيانُه، والردُّ على من يصير إليه فيما تقدم. فإن قلنا: لا تجاوز في التلفيق أيامَ العادة، فقد نقص حيضُها، وعاد إلى ثلاثةِ أيام: الأوّل، والثالث، والخامس. وإن جاوزنا أيام العادة، فنقول: لم ينقص مقدارُ حيضها [ولكن] (¬2) تفرق، وكان وِلاءً، فتُحيّضُ المرأة في اليوم الأول، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع، وقد تمّ المقدار. ومما ينبغي أن ننُبه له -وإن مضى مقرراً في مواضع- أن من لا يرى مجاوزةَ أيام العادة، فإنه يقتصر على اللَّقْط من الخمسة، كما سبق إذا تحققت الاستحاضة في الدور الثاني، فأما في الدور الأول، فإنه يأمرها بالتحيّض في جملة أيام الدم الواقعة في الخمسةَ عشرَ؛ فإنه لو انقطع الدم، ولم يزد على الخمسةَ عشرَ، فجميع أيام الدم حيضٌ، وإن زاد على خمستها القديمة. وهذا بيّن. ثم إذا زاد على زمان الأكثر، فتستدرك على القاعدة المقدمة. 608 - ولو كانت تحيض خمسةً، كما فرضنا، فتقطّع الدمُ، فرأت يومين دماًً ويومين (¬3) نقاءً، واستمر الأمر على هذه الجملة. فإن قلنا بترك التلفيق، فإنا نحيّضُها خمسةَ أيام وِلاءً كما تقدم، وإن قلتا بالتلفيق، ولم (¬4) نجاوز أيام عادتها، فنحيّضُها اليومين الأوّلين، ونحيّضها في اليوم الخامس. وهذا منتهى حيضها. وذكر بعض أصحابنا وجهاً ضعيفاً: أنَّا لا نحيّضُها اليومَ الخامس أيضاًً؛ فإنها في ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: بل. (¬3) في ت 1: ويوماً. وهو خلاف الغرض المفهوم من عرض المسألة. (¬4) في ت 1: فإن لم تجاوز.

السادس مستحاضة، فقد اتصل الخامس بدم ضعيف، (1 فضعف واكتسب حكمه. وهذا قد ردّدَه الأصحاب في التفريعات 1). وهذا غلط عندي مطَّرح غيرُ معتدّ به، ولكنا نذكره لنقل ما قيل. وإن رأينا مجاوزة أيام العادة، فنحيّضها في الأول والثاني والخامس والسادس، ونحيّضها في اليوم التاسع على المذهب. ومن الأصحاب من لا يحيّض في التاسع لاتصاله بالعاشر، وهو استحاضة، وهذا ليس بشيء؛ فيعود حيضُها إلى أربعة على وجه المجاوزة، وإلى اثنين على الانحصار في أيام العادة. 609 - ولو كانت تحيض خمسةً وتطهر خمسة وعشرين يوماًً، فتقطع الدم، وكانت ترى يومين دماًً وأربعة نقاءً، ويومين دماً، ثم استمر على هذا الترتيب. فإن قلنا بترك التلفيق، فنحيّضها اليومين من أول الدور فحسب، فإن النقاء بعدهما غيرُ محتوش بحيضين، وهذا ظاهر. وإن فرّعنا على التلفيق، فنخرّجه على ما تقدم من ظاهر المذهب، والوجه البعيد، فإن لم نجاوز أيامَ العادة. حيَّضناها في اليومين الأولين، واستوى التفريع على ترك التلفيق. وعلى القول بالتلفيق، وإن رأينا على المذهب مجاوزةَ أيام العادة، فنحيّضها في اليوم الأول، والثاني، والسابع، والثامن، وفي الثالث عشر على (¬2) المذهب، دون الوجه البعيد. فالمذهب أنّا نُحيّضها فيه على وجه مجاوزة العادة. وقيل: لا نحيّضها؛ لاتصال الثالث عشر بالرابع عشر، وهو استحاضة. 610 - ولو كانت تحيض يوماًً وليلة، وتطهر تسعة وعشرين يوماً، ثم تقطع دمُها، فرأت يوماًً دماً، وليلة نقاءً، وهكذا، ثم استمرّ ذلك، فقد نقص مقدار الدم عن أقل الحيض. فإن فرعنا على ترك التلفيق، ففي هذه الصورة إشكال؛ فإنّ مجاوزة وقت العادة على ترك التلفيق محال، وما رأته من الدم ناقصٌ عن الأقل، وقد اضطرب الأئمة في ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (¬2) في (ت 1): في.

هذه الصورة إذا فرعنا على ترك التلفيق، فقال أبو إسحاق: لا حيض لها على قول ترك التلفيق في هذه الصورة، فإنّ تحييضَها يوماًً محال، وتحييضُها الليلة مع اليوم وليست محفوفة بحيْضَيْن محال، ومجاوزة أيام العادة على القول بترك التلفيق لا سبيل إليه. وقال أبو بكر المحمودي: هذه الصورة يلزم القول فيها بالتلفيق، وإن فرعنا على ترك التلفيق في الجملة؛ فإنه يبعد أن يقال: لا حيض لها، وهي ترى الدمَ في سنّ الحيض، على صفة دم الحيض شطر عمرها؛ فإذاً لا نقول بالتلفيق إلا في أمثال الصور التي ذكرناها. وقد يقع التفريع من قولٍ في قولٍ لضرورة داعيةٍ، [ولمثل] (¬1) ذلك يسلم صاحبُ مذهبٍ إثباتاً، وإن كان أصله النفي لصاحب مذهب الإثبات، ويسلم صاحب الإثبات النفيَ في بعض الصور لصاحب النفي. وقال الإمام (¬2): والذي ينقدح وجه آخر عندي سوى ما ذكرناه، وهو أن نحيّضها في اليوم وفي ليلة النقاء، وفي يوم الدم الذي [بعدها] (¬3)، وفي ذلك ازدياد (¬4) حيضها. ويقع النقاء بين حيضين، [وهو أمثل من العود إلى التلفيق] (¬5)، ومِنْ رفع الحيض بالكلية، وليست زيادة الحيض مستنكرة في تغاير الأدوار، فهذا إذا فرّعنا على ترك التلفيق. ¬

_ (¬1) في الأصل: وبمثل. (¬2) لقد أغرب المؤلف رضي الله عنه بلقب (الإِمام)، فلم ندر من يعنيه به، وأخذنا نبحث، هنا وهناك، ونتتبع أقوال الأئمة في هذه المسألة، في مظانها من أمهات كتب المذهب، إِلى أن هدانا الله إِلى أن المقصود بالإِمام هنا، هو الجويني الكبير: أبو محمد، والد المؤلف. وهو يذكره عادة بـ (شيخي)، وقد تبعنا في القطع بأن الإِمام هنا هو والد المؤلف -الإِمام ابن أبي عصرون في مختصر النهاية (المخطوطة: 1/ 258) والآن يلوح لي أن صحة العبارة: قال الإِمام والدي: ... الخ. والله أعلم. قلت: تأكد هذا بالحصول على نسخة (ل) فعبارتها: " قال الإِمام والدي رحمة الله عليه: ينقدح .. "- وهكذا. لقينا العناء كلَّه بسبب (نقطة) وضعها الناسخ فوق الدال المهملة. ولله الأمر من قبل ومن بعد، نستلهمه الصواب ونستمد منه العون. (¬3) في الأصل: بعد نقاء، وفي (ل): بعده. (¬4) (ت 1): ارتداد. وهو تصحيف ظاهر، ويتأكد هذا بعبارة ابن أبي عصرون في المختصر: 1/ 258. ثم جاءت بها (ل). (¬5) في الأصل: ولا نعود إِلى التلفيق. (مكان ما بين المعقفين). والمثبت من (ت 1)، وظاهرتها (ل).

فأما إذا قلنا بالتلفيق، وصرنا إلى مجاوزة أوقات العادة في اللقط، فلا إشكال، وتستوفي أقلَّ الحيض لقطاً. وإن قلنا: تنحصر في أيام العادة، فيأتي مذهب أبي إسحق في أنه لا حيض لها، كما تقدم، ويأتي حُسنُ (¬1) مذهب المحمودي حُسْناً بالغاً، فنجاوز في هذه الصورة، وإن كنا لا نرى المجاوزة في غيرها؛ فإنّ المجاوزة للحاجة الماسة أهون من رفع الحيض. وهذا أمثل في التفريع على هذا القول من المصير إلى التلفيق على قول ترك التلفيق، كما سبق في مذهب المحمودي، فهذا منتهى التفريع في ذلك. 611 - ثم قد يطرأ في الشهر الثاني في بعض صور التقطع خلوّ أول الدَّوْر عن الدَّم؛ فيتغيّر التفريع على ما سنذكره. وهذا من طريق الحساب يقع في بعض الصور ونحن نوضّح وقوع ذلك تصوّراً، ثم نبني عليه غرضَنا من الحكم إن شاء الله. فإذا كانت تحيض يوماًً وتطهر يوماً، وكان الأمر كذلك في أول دَوْرِ التقطع، فلو أردنا أن نعرف أنَّ الدم هل ينطبق على أوّل الدور الثاني، وكان دورها ثلاثين يوماً قبل التقطع، فنأخذ مُدةَ الدّم ومدّة النقاء، فإن وجدنا عدداً لو ضربنا المدّتين فيه، لردّ الدور من غير زيادة ولا نقصان، فآخِر الدّور نقاء، وأول الدّور الثاني دمٌ. وبيانه أنها إذا كانت ترى يوماًً دماً، ويوماً نقاء، فنأخذ يومين، فنضربهما في خمسة عشر، فيردّ [علينا] (¬2) ثلاثين، فنعلم أن الدم يعود في أول الدور الثاني على سجيته في الدور الأول. وإن كانت ترى يومين دماًً ويومين نقاء، ولا نجد عدداً صحيحاً لو ضربنا فيه الأربعة، لرد ثلاثين -ولا يستقيم الضرب في كسرٍ فيما نحاوله- فنضرب الأربعة في عدد يقرب مردوده من الدور، وقد يزيد وقد ينقص، فالوجه اعتبار الأقرب فالأقرب، فالأربعة لو ضربناها في سبعة، لرد الضرب ثمانية وعشرين، فآخر هذا المردّ طهر، وقد بقي إلى تمام الدور يومان فيقع فيهما الدم، ويقع في أول الدور الثاني نقاء لا محالة. وإن ضربنا الأربعة في ثمانية، ردّ علينا اثنين وثلاثين يوماً، فنعلم أن آخره نقاءٌ، ¬

_ (¬1) ساقطة من (ت 1) و (ل) (¬2) في الأصل، (ت 1): عليه.

وآخره يقع في أول الدور الثاني. وهذا أقرب إلى حصول العلم. ولو كانت ترى ثلاثة دماًً وثلاثة نقاءً، فنأخذ ستّة ونضربها في خمسة، فتردّ ثلاثين، فالآخر نقاء، و [أول] (¬1) الدور الثاني دمٌ. ولو كانت ترى أربعة وأربعة، فنأخذ ثمانية، [ونقرّب] (¬2)، فنضرب في أربعة [فتردّ] (¬3) اثنين وثلاثين، فالأربعة من آخر هذا المبلغ نقاء، فنعلم أن النقاء ينقسم على آخر (¬4) الدور الأول، وأول الدور الثاني، فتكون نقية في يومين من أول الدور الثاني، ثم تعود نوبة الدم. [ولو كانت تحيض خمسة، وترى نقاء خمسة، فنضرب عشرة في ثلاثة، ونقول: الآخر نوبة نقاء، والدم يعاود أول الدور الثاني] (¬5). ولو كانت ترى الدّم ستة، والنقاء ستة، فلو ضربنا اثنا عشر في ثلاثة، لردّ ستة وثلاثين، فآخر المدّة نقاء، وهو الذي ينطبق على أول الدور الثاني. وإذا عرفنا أن [نوب] (¬6) التقطّع تقتضي الدمَ في أول الدور الأول، والنقاءَ في أول الدور الثاني، فلو أردنا أن نعرف ما يكون في أول الدور الثالث، فنأخذ نوبتين ونضرب كما فعلنا أولاً، فيكون آخر المدة الآن دماًً. والضابط فيه أن النوبة الأولى إن كانت دماًً، فآخِر المردود نقاءٌ، وإن كانت نقاءً، فآخر المردود دمٌ. فهذا وجه التقريب الحسابي في ذلك. 612 - ونحن الآن نفض (¬7) المذاهب والأحكام على الصور، فلو كانت تحيض ¬

_ (¬1) مزيدة من (ت 1)، (ل). (¬2) زيادة من (ت 1)، (ل) (¬3) في الأصل: فتراجع، والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬4) ساقطة من: ت 1. (¬5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (ت 1) وقد بدأ من هنا خرمٌ في (ل) بلغ نحو أربع صفحات. (¬6) في الأصل: وجوب التقطع، والمثبت من (ت 1). (¬7) نفض المذاهب على الصور، أي ننزلها عليها، من فضّ المالَ على القوم إِذا قسمه بينهم، وفرّقه عليهم.

عشرة أيام وتطهر عشرين يوماً، فتقطّع الدم والنقاء، فصارت ترى الدم يوماًً وليلة، والنقاءَ كذلك، فآخر العشرة نقاء، فإن قلنا بترك التلفيق، فنحيّضها تسعة أيام من أول الدور الأول (¬1) وِلاءً، ولا نحيّضها اليومَ العاشر؛ فإنه نقاء ليس بعده حيض. وإن قلنا بالتلفيق، نفرّع ذلك على الخلاف المتقدم في أن اللقط من أيام العادة، أو من الخمسةَ عشرَ، فإن لقطنا من العشرة، فنحيّضها خمسة، وإن لقطنا من الخمسةَ عشرَ، فنحيّضها ثمانية. وإن كانت عادتها قديماً كما ذكرناه، فتقطّع الدمُ والنقاء ستاً ستاً، فنقول في الدور الأول: على ترك التلفيق حيضها الستة في أول الدور فحسب. وإن لفّقْنا ولم نجاوز أيام العادة، فكذلك الجواب. فإن لقطنا من الخمسةَ عشرَ، فالستة الأولى حيض، وهل يضم إليها الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر؟ فيه خلاف، وقد ذكرنا نظير ذلك في تمهيد التفريع على التلفيق. ولكن من قال من أئمتنا بتحييضها في هذه الأيام [ضمّاً إلى الستة الأولى، فهو جارٍ على ظاهر قياسه في لقط ما وجد من الخمسةَ عشرَ، ومن لم ير أن يحيّضها في هذه الثلاثة] (¬2)، فليس مذهبه ببعيدٍ في هذه الصورة؛ فإن هذه الثلاثة متصلة بثلاثة واقعةٍ وراء زمان الإمكان، فاقتضى هذا الاتصالُ ضعفاً في الواقع في الخمسةَ عشرَ، وإنما يضعف هذا الوجه جدّاً إذا فرّعنا على ملازمة أيام العادة في التلفيق واللّقط، ثم اتفقت نوبةٌ من الدم، يقع بعضها في آخر أيام العادة، وبعضها وراءها، فمن يقول: لا نحيضها فيما وقع [في آخر أيام العادة، لاتصاله بما وقع] (¬3) وراءها، وإن كان في الخمسة عشر، فهذا في نهاية البعد. فهذا تفريع المذاهب في الدور الأول. ¬

_ (¬1) ساقطة من (ت 1). (¬2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 1). ومكانها خرم في (ل). (¬3) الزيادة من (ت 1)

613 - فأما بيانها في الدور الثاني، وقد مضى في هذا النوع من التقطع أن النقاء ينطبق على أول الدور الثاني، وكانت عادتها قبل التقطع والاستحاضة عشرة. أما أبو إسحاق، فإنه يقول: قد [خلا من] (¬1) أول الدور ستة، فنحيّضها على ترك التلفيق في الأربعة الباقية من العشرة. وغيره من الأئمة يقولون: نجعل ابتداء دورها من اليوم السابع، ونُلحق النقاء في الستة الأولى بالدور الأول، ونقول: صار ذلك الدور ستة وثلاثين يوماً، ثم إن فرعنا على ترك التلفيق، فنحيّضها ستة وِلاءً، أولها السابع من هذا الثلاثين. وإن قلنا بالتلفيق من العشرة، أو من الخمسة عشر، فنحسب ابتداء العشرة وابتداء الخمسةَ عشرَ، من اليوم السابع، والتفريع كما تقدم. فلو كانت تحيض ستة وتطهر أربعة وعشرين، فتقطّع دمها ستة ستة، كما ذكرنا، أمَّا في الدور الأول من التقطع، فنحيّضها الستة الأولى على ترك التلفيق، وهذا مقدار دمها القديم. وإن قلنا بالتلفيق، فلا مزيد على الستة الأولى؛ فإنها استوعبت مقدار الحيض، ولا حاجة إلى اللقط والتلفيق. فتستوي المذاهب في الدور الأول. فأما الدور الثاني، فإنها ترى في أوله ستة نقاءً، فأما أبو إسحاق، فإنه يقول: لا حيضَ لها في هذا الدور؛ فإنه خلا جميعُ أيام العادة عن الدم، وقد سبق تفريع مذهبه في خلو أول الدَّوْر فيما سبق. فأمّا من سواه، فإنهم لا يُخلونَ الدور عن الحيض. ثم اختلف الأئمة، فقال الأكثرون: نحيّضها في الستة الثانية من الدور، على التلفيق وترك التلفيق. وقال آخرون: إذا خلا أول الدور، نحيّضها في الستة المتقدمة الواقعة في آخر الدور الأول؛ فإنّ أوّل الدور الثاني قد خلا، فلا اعتبار به، والحيضةُ إذا فارقت محلَّها، فقد تتأخر وقد تتقدم، وبين الستة الأخيرة في الدور الأول وبين الستة من أول ¬

_ (¬1) في الأصل: قد كان أول الدور. والمثبت من (ت 1).

الدور الأول ثمانية عشر يوماً، فإذا أمكن أن نجعلها حيضاً، جعلناها كذلك. 614 - ولو كانت تحيض سبعة وتطهر ثلاثة وعشرين، فتقطّع دمُها ونقاؤها سبعة سبعة على الاستمرار، فنقول أولاً: في هذه الصورة نضرب نوبتين، وهما أربعة عشر يوماً في اثنتين فتردّ علينا ثمانية وعشرين، فآخر ذلك نوبة من النقاء، فيبتدىء (¬1) الدم في التاسع والعشرين، فيقع يومان من الدم في آخر الدور الأول، وخمسة في أوّل الدور الثاني. فأما أبو إسحاق، فالمحكي عنه أنه يُحيّضها في الخمسة التي وقعت في أوّل الدور الثاني، ويحكم بأن حيضها نقص في هذا الدور. والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنّا نُحيّضها في السبعة كلِّها، ولا يضرّ تقدّم يومين منها على أول الدور الثاني على ما سبق. هذا في المعتادة المستحاضة، إذا تقطع الدم والنقاء عليها. 615 - فأما المبتدأة، فإذا حاضت المرأة، وكما (¬2) رأت الدم في أول نوبة، تقطع واستمرّ، ووضح أنها مستحاضة. أما الشهر الأول، فنأمرها فيه بالتربّص إلى الخمسةَ عشرَ -كما سبق تمهيد ذلك- فإذا جاوزت الدماء الخمسةَ عشرَ، فإذ ذاك يُعلم أنها مستحاضة. وقد تقدم القولان في أن المبتدأة تُردّ إلى يومٍ وليلة، أو إلى أغلب الحيض، وهو ستة أو سبعة. فإذا قرّرنا في المعتادة التفصيلَ، استغنينا عن التطويل في المبتدأة، فإن رددناها إلى يومٍ وليلةٍ، فحكمها حكم معتادةٍ، كانت تحيض (¬3) يوماًً وليلة، وإن رددناها إلى ستة أو سبعة، فهي كامرأة كانت عادتها ستة أو سبعة. وقد مضى ذلك على أكمل وجه مفصلاً. ¬

_ (¬1) في (ت 1): فسترى الدم. (¬2) كذا في النسختين (كما رأت) وهي بمعنى (عندما) كما سبقت الإِشارة إِلى ذلك، وهذا استعمال جار على ألسنة الخراسانيين، وليس بعربي، ولا صحيح، (قاله النووي في التنقيح). (¬3) انتهى هنا السقط من نسخة (ل) الذي بدأ من نحو أربع صفحات

616 - ثم نقل الأئمة عن الشافعي نصاً في المبتدأة إذا تقطع الدم عليها، فننقله على وجهه، ثم نذكر تصرّف الأصحاب فيه، قال (¬1) رضي الله عنه: " إذا تقطّع الدم على المبتدأة في الدور الأول، فكانت ترى الدمَ يوماًً وليلة، ونقاءً مثله، فإنها لا تصوم ولا تصلي في أيام الدم في الخمسةَ عشرَ في الشهر الأول. وتصلي في أيام النقاء وتصوم ". فإذا تبين أنها مستحاضة، ورددناها إلى ما ترد المبتدأة إليه، وهو يوم وليلة، وفرّعنا على ذلك، ورأينا تركَ التلفيق، والحكمَ بأنّ النقاء بين الحيضتين حيض، فالصلوات التي تركتها في أيام الدم وراء اليوم الأول تقضيها؛ فإنا قد تبينا بالأَخَرة (¬2) أن الحيضَ هو اليوم الأول، وما عداه استحاضة. وأمَّا الصلوات التي أقامتها في أيام النقاء، فلا تُعيدُها؛ فإنّها أقامتها في النقاء والطهر. ولقد كانت الصلوات في أيام التربّص بين ألاّ تجب لو انقطع على الخمسةَ عشرَ، وبين أن تجب، والنقاء طهرٌ، فعلى أي حالٍ قُدّر، فلا قضاء. وأما الصوم، فإنّ ذلك إن وقع في شهر رمضان، فلا شك أنها تقضي، ما لم تصمه في أيام الدم، فأما الأيام التي صامتها في النقاء، فقد ردّدَ الشافعي قولَه في أنها هل تقضيها أم لا؟. أحدهما -[أنها] (¬3) لا تقضيها؛ لأنا قد علمنا آخراً أنها كانت أيام النقاء، فليقع الحكم بما علمناه، وأيضاًً؛ فإن الصلاة لا يجب قضاؤها -وإن أقامتها على التردّد- فليكن الصوم بمثابة الصلاة. والقول الثاني - أنه يلزمها قضاء الصَّوْم الواقع في أيام النقاء؛ فإن الصومَ يجب على الحائض، بمعنى أنها تقضيه بخلاف الصلاة، فالصلاة كانت بين أن تصحَّ، وبين ألا تجب أصلاًً، والصوم واجبٌ كيف فرض الأمر. وكان المُوقع متردّداً بين أن يصح وبين ألا يصحَّ، فَوجبت إعادته. ثم قال أبو زيد: القولان في الصوم مبنيان على قولين في أصلٍ، وهو أن الرجل إذا ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 58. وهو معنى كلامه، لا نصه. (¬2) ساقطة من: ت 1. (¬3) زيادة من (ت 1)، (ل).

اقتدى في صلاته بخنثى، فهو مأمورٌ بقضاء الصلاة، لجواز أن يكون الخنثى امرأة، فلو لم يقضها حتى تبيَّن أن الخنثى رجل، ففي وجوب القضاء والحالة هذه قولان؛ فإن الصلاة التي أقامها كانت واجبةً قطعاًً، وقد أقامها مردّدة بين الصحة والفساد، كذلك الصوم في أيام النقاء، والتفريع على ترك التلفيق، ولو انقطع ما تراه على الخمسةَ عشرَ، لكان النقاء حيضاً. قال القفال: ما ذكره أبو زيد إنما يستقيم في الشهر الأول؛ فإنه شهر التربص والتَّوقف، فأمّا إذا بأن أنها مستحاضة في الشهر الثاني، فلا تردّد. وقد طردَ الشافعي القولين [في الصوم في الشهور كلها، فالوجه بناء القولين على القولين] (¬1) المقدّمين في أن المبتدأة وراء المردّ هل تؤمر بالاحتياط إلى خمسةَ عشرَ يوماً؟ وفيه قولان سبق ذكرهما. وإن أمرناها بالاحتياط، فإنها تصوم، ثم تقضي أخذاً بالأحوط في الأداء والقضاء، وإن لم نأمرها بالاحتياط، فلا نوجب قضاء ما أدّته من الصيام. قلت: [كأن الشيخ أبا زيد] (¬2) يطرد القولين في الشهر الأول. وإن فرعنا على أنها غير مأمورة بالاحتياط، لمكان التردّد الذي ذكرناه؛ اعتباراً بالاقتداء بالخنثى. 617 - ومما يتفرع على هذا الذي انتهى الكلام إليه أن المبتدأة لو طبَّق الدم عليها ولم ينقطع، فالذي يقتضيه نصُّ الشافعي في الفصل بين الصوم والصلاة أنها إذا كانت تصلّي وتصوم وراء المردّ في الشهر الثاني فصاعداً، ففي وجوب قضاء الصوم قولان، مأخوذان من الاحتياط، ولا يجب قضاء الصلاة؛ فإنها بين أن تصح، وبين ألا تجب أصلاًً، والصوم واجب على كل حال. ¬

_ (¬1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1)، (ل). (¬2) في (ت 1): كان شيخي أبا زيد، ولا أرى لها وجهاً، وفي الأصل: كان شيخي أبو زيد. وإذا قال: شيخي، فهو يعني والده، ومن أجل هذا قيده هنا بأبي زيد وهو لا يعني به شيخه المباشر، فأبو زيد توفي سنة 371 هـ، هذا على فرض سلامة العبارة من التحريف والسقط. وهو ما لا أرجحه، ولعل الصواب: " وحكى شيخي أن أبا زيد يطرد .. " يساعد على ذلك عبارة (ت 1) والله أعلم. وقد صدق تقديرنا، فصواب العبارة كما في (ل) كأنّ الشيخ أبا زيد.

وهذا الذي ذكرته صرح به الأئمة، ولم أذكره في المبتدأة التي طبَّق عليها الدم استنباطاً. قلت: لو صح القول بالاحتياط في حق المبتدأة في الخمسةَ عشرَ من كل شهر، لم يمتنع أن يغلو غالٍ، فيوجب قضاء الصلوات؛ فإنها لا تفرغ من صلاةٍ إلا ويجوز تقدير وقوع صدرها في بقية الحيض، ولو فُرض ذلك، لكانت الصلاة باطلة، وهي واجبة لمكان الانقطاع في الوقت. وأبو زيد يوجب قضاء الصلوات على المتحيرة (¬1) بمثل ذلك، فلو أوقعت الصلاة في آخر الوقت على وجهٍ لو فرض انقطاع الحيض بعد العقد، لما وجبت الصلاةُ، مثل أن تُوقع ركعةً في آخر الوقت والباقي وراءه، فلا يجب القضاء في هذه الصورة، [إذا] (¬2) قلنا: لا تجب الصلاة بدراك ما يقصر عن قدر الركعة من الوقت. ثم القولان في الاحتياط في الخمسةَ عشرَ، فأمّا ما وراءها، فهي مستحاضةٌ فيه، قولاً واحداً، فلتوقع قضاءَ الصوم فيه إذا أمرناها بالقضاء. 618 - ومما ذكره الأئمة في المبتدأة المستحاضة التي تقطّع الدم عليها مذهبٌ انفرد به [أحمد] (¬3) بن بنت الشافعي، وذلك أنه قال تفريعاً على ترك التلفيق: " إن انفصل آخر الخامسَ عشرَ عن أول السادس عشر، بأن وُجد نقاء في الخامس عشر، أو في أول السادس عشر، أو فيهما، فكل ما في الخمسةَ عشرَ إلى آخر دمٍ فيه حيض "؛ فلم يعتبر الأقل والأغلب في هذه الصورة. وبيان ذلك بالمثال أنّها إذا كانت ترى الدم يوماًً وتطهر مثله، فهي في الخامس عشر ذات دم، وهي ظاهرة في أول السادس عشر، فنحيّضها في الخمسة عشر كلها. فلو كانت ترى الدم يومين والنقاء مثله، فهي نقية في الخامس عشر والسادس عشر، ذاتُ دمٍ في الرابع عشر، فنحيّضها أربعة عشر يوماًً. ولو كانت تحيض ثلاثة وتنقى ثلاثة، فهي ذات دمٍ في الخامس عشر، نقية في أول ¬

_ (¬1) في الأصل: على قول المتحيرة. (¬2) في الأصل: فإِذا. والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: (محمد) وهو وهمٌ أجمعت عليه النسخ الثلاث، وقد تكرر قبل ذلك.

السادس عشر، فنحيّضها الخمسةَ عشرَ كلَّها. ولو كانت تحيض ستة وتنقى مثلَها، فالدم في النوبة الثالثة ينقسم على آخر الخامس عشر، وأول السادس عشر، فلا انفصال الآن، فنرجع إلى ترتيب الأصحاب في ردّها إلى الأقل أو الأغلب كما سبق من كلام الأصحاب. وقد رأيت الحذّاق لا يعدّون مذهبه من جملة المذاهب، ويَروْنه منفرداً بتفصيلٍ، وهو غير مساعَدٍ عليه. 619 - فأما المميزةُ في حكم التلفيق، فوجه تصوير التلفيق فيها بتقدير اعتقاب الدم القوي والضعيف. فإذا كانت ترى يوماًً دماًً أسودَ، ويوماًً دماًً مشرقاً، فنصوّر وِجدانها لأركان التمييز (¬1) وفقدِها لها. فأمَّا تصوير وجود أركان التمييز، فوجهه ألا ترى الدماء القوية إلا في الخمسةَ عشرَ، مثل إن كانت ترى يوماًً سواداً ويوماً شُقْرةً، ثم استمر الدم المشرق في النصف الأخير، فهذه متمكنة من التمييز. فإذا كانت مبتدأة، نفرع أمرَها على القولين في ترك التلفيق، والتلفيقِ: فإن تركنا التلفيق حيّضناها خمسةَ عشرَ يوماًً؛ فإن الخامسَ عشرَ نوبةُ السواد، وإن لفّقنا حيّضناها في أيام السواد، وهي ثمانية، وحكمنا لها بالطهر في أيام الشُّقرة، وحكمنا بذلك في النصف الأخير. وإن كانت معتادة، ففي ردّها إلى العادة خلاف. فإن رأينا ردَّها إلى التمييز، فقد سبق تفصيله، وإن رأينا ردّها إلى العادة، فقد تقدم ترتيبُ القول في تقطّع الدم على المستحاضة المعتادة. وها هنا الآن دقيقة، وهي أنا إذا رَدَدْنا المميزةَ إلى العادة، فلا ننظر إلى صفة الدم أصلاًً، ولا نُعلِّق بها حكماً، كما مضى مشروحاً فيما مضى. فلا جرم نقول: إذا كانت ترى يوماًً سواداً، ويوماًً شُقرةً، والتفريع على اعتبار العادة، فلا نرى ذلك من صور التلفيق، حتى تُخرّج على القولين، ولكن ما نراه ¬

_ (¬1) انظر أركان التمييز في الفقرة: 469.

بمثابة دمٍ دامَ على لون واحد. ولا نظر إلى لون الدم على هذا الوجه. وما ذكرناه فيه إذا انقطع الدم القوي والضعيف على المدّة في الخمسةَ عشرَ. فأما إذا جرى ذلك دائماً في جميع الأيام، فكانت ترى يوماًً سواداً ويوماًً شُقرةً أبداً، فهي فاقدة لأركان التمييز. فإن قيل: كان دورها ثلاثين، وهي الآن لا ترى في الثلاثين إلا خمسةَ عشرَ سواداً، وهذا المبلغ غيرُ زائدٍ على الخمسةَ عشرَ، قلنا: وإن كان كذلك، وفرّعنا على التلفيق، فهي فاقدة لأركان التمييز؛ فإن الحيض حقُّه أن ينحصر في الخمسةَ عشرَ، ولا يسوغ انبساطه على أكثرَ من هذه المدة. وهذا يؤكد القول بترك التلفيق، فإن القائل بالتلفيق يجوّز تقطّع الطهر على الحيض، ويمنع تقطع الحيض على الطهر في أكثر من خمسةَ عشرَ يوماًً. وهذا تصريحٌ باختلاف حكم الحيض والطهر، ولا يتضح بينهما فرقٌ معنوي، فلئن جاز عَوْدُ الحيض قبلَ تمامِ الطهر، فما المانع من بسط خمسةَ عشرَ يوماًً حيضاًً على خمسة عشر يوماًً طهراً؟ فإذاً تبين من وفاق الأصحاب أنها فاقدةٌ للتميز. فإن كانت معتادة، رُدَّت إلى العادة، وجعل كأنّ الدماء على لونٍ واحد مطبق، ولا التفات إلى اختلاف ألوان الدماء؛ فإنه إذا بطل التمييز، لم يكن للون الدم حكمٌ. فافهم. وإن لم تكن معتادة، فهي مبتدأة، ولا تلفيق، ولا اعتبار بتفاوت ألوان الدماء، وحكم لون الدم مرفوعٌ بالكلية. وهذا واضحٌ ولا إشكال فيه. 620 - ونحن نذكر الآن تقطع الدم والنقاء على المتحيرة التي لا تذكر شيئاًً من أمرها، ثم نذكر موجَب التقطع مع أبوابها في الخلط، والضلال. فإذا كانت ترى يوماًً دماًً، ويوماً نقاءً، واستمر ذلك بها، وكانت لا تذكر شيئاً، فنفرّع حكمَها على قولي التلفيق، فإن حكمنا بترك التلفيق، والتفريعُ على قول الاحتياط، فحكمها في زمان الدم ما تقدّم في قضايا الاحتياط، فتغتسل لكل فريضة، لاحتمال انقطاع الدم في كل لحظة، وانقلابها إلى دم الفساد، وتصوم، ويجتنبها زوجها كما مضى حكمها في أثناء الكتاب.

وأما أيامُ النقاء، فهي مأمورة بالاحتياط فيها، والزوج يجتنبها؛ فإن التفريع على ترك التلفيق، ولا يمر بها يوم في النقاء إلا ويُحتمل أن يكون ذلك النقاء حيضاً محتوشاً بحيضين، ولكنا لا نأمرها في أيام النقاء بالاغتسال؛ فإنها إن كانت حائضاً حكماً، فالغسل إنما يجب عند احتمال انقطاع الحيض، وهذا التقدير محال في زمان النقاء قطعاً، وكما لا نأمرها بالاغتسال في أيام النقاء لا نأمرها بتجديد الوضوء؛ فإن الوضوء إنما يؤمر بتجديده عند تجدّد صورة الحدث، وهذا المعنى مفقودٌ قطعاًً في زمان النقاء. نعم، نأمرها بالاغتسال في أثر انقضاء كل نوبة من نُوَب الدم. ثم يكفي ذلك إلى عود الدم. ومن دقيق ما ينبغي أن يُتفطَّن له أنه كلّما عاودَ الدمُ، فلا تُؤمر بالاغتسال مع اللحظة [الأولى؛ فإن الانقطاع إنما يدخل أوان احتماله بعد اللحظة الأولى، من عود الدم، واللحظة] (¬1) الواحدة لا يحيط بها فهم، ولا ينتهي إليها تنصيصُ فكرٍ، ولكن يجري حكمُها في العقل، وتستمر العبارة عنها. فهذا إن فرّعنا على ترك التلفيق. 621 - فأما إذا قلنا بالتلفيق، فالذي نزيده أنها طاهرة في أيام النقاء والزوج يغشاها، ولا يخفى حكم الطهر في حقها، ولا تتوضأ لكل صلاة؛ فإن الحدث ليس متجدداً، وأما إمكان الانقطاع في زمان استمرار الدّم، فجارِ، والأمر بالغسل مترتب عليه. وإن عنَّت صورةٌ يختلف الحكم فيها في التفريع على وجهٍ ضعيف، لم يخفَ درْكُها على الفَطِن المنتهي إلى هذا الموضع، مثل أن نفرعّ على أنّ الشرط ألا ينقص الدم في كل نوبةٍ عن يوم وليلة. وهذا على قول التلفيق في نهاية الضعف، ولكن قد يلتزم الفطن التفريعَ على الضعيف للمرون والدُّرْبة في الكلام على الدقائق، فعلى هذا، مهما عاد دمٌ لا نأمرها بالاغتسال، ما لم يمضِ من زمان الدم يومٌ وليلة، ثم نطرد الأمرَ بالغُسل إن تمادت نوبةُ الدم. 622 - وقد جرى رسم الخائضين في هذا الكتاب بذكر الخلط والضلال مع تقطّع ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 1)، (ل).

الدم في حق الناسية، فإذا كان الدمُ منقطعاً، وذكرت أنها كانت تخلط الشهر بالشهر، حيض بحيض، فالصور تختلف في ذلك، فإن كانت النُّوَب تقتضي أن يُطبق الدم على أول كل شهر، ويخلو عنه آخرُ كل شهر، فنحيّضها في اللحظة الأولى من الدم في أول كل شهر، ولا نحيّضها في اللحظة الأخيرة من الدور، وإن كنا نرى تركَ التلفيق؛ فإنها تصادف في آخر كل دور نقاءً، ونحن إنما نجعل النقاء حيضاً إذا كان محتوشاً بحيضتين، والذي استفدناه من ذكرها الخلطَ الحيضُ في لحظة من آخر الدور ولحظة من أوله، فلا نزيد على هذا. ولا يتأتى الحكم بأن النقاءَ في آخر الدور حيض إلا أن نجعل جميعَه حيضاًً، ونجعل الدمَ المتقدمَ عليه حيضاً، وهذا إن قلنا به، فهو احتكامٌ من غير [ثَبَت] (¬1)، وبناء أمرٍ على قطع. وإن تقطّع الدم تقطّعاًً كان حسابه يوجب خلوَّ آخر الدّور وأوّلِه عن الدم، وقد ذكرت أنها قبل استمرار هذه الحال لها كانت تخلط شهراً بشهر حيضاً، فلا حيض لها بيقين، بحكم ذكرها الخلط [وإن فرّعنا على ترك التلفيق، فإنا لم نصادف دماًً في محل الخلط، ثم إذا بطل الخلط،] (¬2) فقد سقط أثر ذكرها الخلط بالكلّية، وتبين أنّ ما كانت عليه من الخلط قد تحوّل وزال، فهي كالتي لا تذكر من ذلك شيئاًً. وإن تقطّع الدمٌ تقطّعاً يقتضي ترتيبُه أن ترى دماًً في آخر الدور وأوّله، فنجعلها حائضاً في اللحظتين، ثم لا يخفى التفريع بعد ذلك. فهذا ما رأينا ذكره في تقطّع الدم (3 مع ذكر الخلط. ولا يخفى غيره على من يحاوله إن أحكم القواعد المتقدمة. 623 - فأما ذكرها الضلالَ مع تقطّع الدم 3)، فنذكر فيه صورةً واحدةً، ونوضح ما فيها، ثم يهون قياسُ غيرها عليها: فإذا تقطعت الدماء، وكانت تحيض يوماً وليلةً، وتطهر يوماًً وليلةً، وذكرت أنّها كانت تحيض خمسةَ أيامٍ، وقد أضلّتها في ¬

_ (¬1) في النسختين: تثبيت. والمثبت من مختصر النهاية لابن أبي عصرون، ومن (ل). (¬2) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 1)، (ل). (3) ما بين القوسين سقط من (ل).

العَشر الأول من الشهر، فنفرّع هذه الصورةَ على قولنا بترك التلفيق، ثم نفرعها على التلفيق: فإن تركنا التلفيق، ولم نبعد أن يكون النقاء بين الحيضين حيضاًً (¬1)، فمن موجب هذا القول، أنا لا نتجاوز محلَّ الحيض، كما مضى مفصلاً، حتى إذا كانت تحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم تقطع دمُها، فصارت ترى يوماًً دماًً ويوماً نقاءً، فإنها ترى يومَ السادس [نقاءً] (¬2) ولا نتعدى السادس، ولا نجعله حيضاً؛ إذ ليس بعده حيض، فيعود حيضها بسبب التقطع إلى خمسة [أيام] (¬3). فإذا تجدّد العهدُ بهذا، فنعودُ إلى الصورة التي انتهينا إليها، فنقول: حسابُ التقطع يوجب أن تكون نقيةً في اليوم العاشر، ونحن لا نرى تعدِّي المحلّ في ترك التلفيق، فقد خرج اليومُ العاشر من محلّ الضلال، وآل محل الضلال إلى تسعة، فنقول بعد ذلك: ليس لها حيضٌ معيّن بيقين. فإن قيل: قد ذكرتم في أبواب الضلال أن مقدار الحيض إذا زاد على نصف محل الضلال، فلا بدّ أن يثبت حيضٌ بيقين، والحيض في الصورة التي فيها الكلام خمسة، وهي تزيد على نصف التسعة. قلنا: ذلك إذا كانت الدماء مطّردة وِلاءً، فيقتضي الحسابُ ثبوتَ حيضٍ مستيقنٍ لا محالة، فأمّا إذا كانت متقطّعةً، فلا يجري ذلك، وإن كنا نجعل النقاء بين الحيضين حيضاً، ورَوْمُ تحصيل هذا [يُحوِج] (¬4) إلى مزيد بسط. فنقول: نقدّر كأنّ حيضَها قديماًً كان ينطبق على الخمسة الأولى من الشهر، وكانت ترى دماًً متوالياً لا تقطّع فيه، فإذا انقطع، فالخمسة الأولى كلُّها على هذا التقدير حيضٌ مع النقاء المتخلل؛ فإنها في اليوم الأوّل والخامس ترى دماً، ويحتمل أنّ خمستها كانت تقع في الخمسة الثانية، وكانت ترى دماً متصلاً، والآن إذا تقطّع، ¬

_ (¬1) ساقط من (ت 1). (¬2) في الأصل: دماً. وهو خلاف الفرض في المسألة، والمثبت من: ت 1، ومن مختصر ابن أبي عصرون، ومن (ل). (¬3) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬4) في الأصل: يخرج، والمثبت من (ت 1)، (ل).

فإنها لا ترى في السادس دماً، فلا سبيل إلى جعله حيضاً؛ [إذ ليس قبله حيض، ولا نرى مجاوزة العشر، فينقص على هذا التقدير حيضها] (¬1) ويعود إلى ثلاثة أيام. وإن قدّرنا خمستها وسطاً، فقد [تلقى طهراً يعسر] (¬2) تقديره حيضاًً، ولا تتحصّل على حيض مستيقن أصلاًً، والحكم أنا لا نأمرها بالغُسل في الخمسة الأولى؛ إذ انقطاع الحيض فيها غير [مقدّر] (¬3). نعم، نأمرها بغسل واحد في آخر اليوم الخامس، ثم نأمرها بغسل واحد عقيب السابع، وبآخرَ عقيب التاسع، والسبب فيه أنّا نجوّز أن يكون ابتداء دمها من أول الثالث، فينقطع في آخر السابع، ونجوّز أن يكون الابتداء من أوّل الخامس والانقطاع في آخر التاسع. وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنها مأمورةٌ بالاغتسال لكل فريضة في السابع والتاسع؛ فإنّ انقطاع الحيض ممكن في أوساط اليومين. وهذا غلطٌ غير معدودٍ [من] (¬4) المذهب؛ فإنا لو قدّرنا الانقطاعَ في وسط السابع، احتجنا إلى تصوير ابتداء الحيض في وسط الثاني، وهذا التقدير مع التقطّع الذي صوّرناه غير ممكن؛ فإنها في اليوم الثاني نقية، والنقاء إنّما يكون حيضاًً إذا تقدمه حيض. وكذلك القولُ في وسط اليوم التاسع. فهذا مجموع ما ذكره الأئمة في التفريع على ترك التلفيق. 624 - وذكر القفّال شيئاًً آخر، فقال: لو قدّرنا حيضاًً قديماًً في الخمسة الثانية، فإن تقطع [الدم] (¬5) ولم تر في السادس حيضاً، فقد تأخر حيضُها ضرورة بيوم [وفاتَحها] (¬6) في أول السابع، [فتجاوز العشرة، وتجعل ابتداء خمستها من ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ل) (¬2) في الأصل: فقد تلقى طهر العشرة. وهو تصحيف واضح، والمثبت عبارة (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: غير مقدور. (¬4) في الأصل، (ت 1): في. والمثبت من (ل). (¬5) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬6) في الأصل: وفاتحنا.

السابع] (¬1) ويمتدّ إلى آخر الحادي عشر؛ فعلى هذا نأمرها بالاغتسال في آخر الحادي عشر، ثم نقطع وراء ذلك بالطهر. وطردَ هذا المذهبَ في صورة لا بد من ذكرها، فقال: لو كانت تحيض خمسةً من أول كل شهر، فتقطّع تقطّعاًً يوجب خلوَّ أول الشهر عن الدم، وكانت ترى الدمَ في اليوم الثاني، فعنده أن حيضها قد استأخر؛ فنجعل أول خمستها من اليوم الثاني، وتجاوز الخمسة الأولى. وعند غيره نقصت حيضتُها، ولا سبيل إلى مجاوزة الخمسة الأولى. فهذا إذا قلنا بترك التلفيق. 625 - فأمّا إذا رأينا التلفيق، فقد اشتهر الخلافُ في أنها هل تجاوز في اللقط محل العادة؟ وقد مضى ذلك مقرّراً، فإن لم نر المجاوزة، فلا تتعدى العشرةَ التي هي محل الضلال، ولا نجعل لها حيضاً بيقين. والتفريع في جميع الأحكام، كالتفريع على ترك التلفيق، غير أنا نُثبت لها حكمَ الطاهرات قطع في زمان النقاء، ونأمرها بالاغتسال عقيب كل يوم ينقضي من الدم؛ فإنا على تقطّع الحيض نفرعّ، ومهما انقطع الحيضُ وجب الغُسل، وعلى ترك التلفيق لا تصور لانقطاع الحيض في الخمسة الأولى. وإن رأينا مجاوزةَ المحل، فإنا نلقط في بعض التقديرات مما وراء العشرة أيضاً. وبيان ذلك أنا إن قدرنا حيضها في الخمسة الأولى، ورأينا المجاوزة، حيضناها في الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع، وإن قدّرنا حيضها في الخمسة الثانية قديماًً، حيّضناها إذا انقطع في السابع والتاسع والحادي عشر والثالث عشر والخامس عشر. فإن قيل: كيف تجاوزون العشرة، وقد زعمت أنها أضَلَّت حيضتها في العشرة؟ قلنا: هذا بمثابة قولها: كنت أحيض الخمسة الأولى، ثم تقطع دمُها فتجاوز الخمسة الأولى وقد عينتها، فإذا جاوزنا ما عينته حيضاً، [جاوزنا] (¬2) ما عينته محلاًّ ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: فكذلك ما عينته، (ت 1): فكذا ما عينته. والمثبت من (ل).

للضلال، فإذا ثبتت التقديرات، قلنا: فهي حائض في اليوم السابع والتاسع قطعاً، والسبب فيه أنهما يدخلان في كل حساب كيف فُرض الأمر، وما دخل في كل تقدير يفرض للحيض، فهو حيض، وعليه وقع بناء حساب التقديم والتأخير في أبواب الخلط والضلال. فهذا منتهى ما حاولناه في ذكر الضلال مع التلفيق، ومن أحاط بما ذكرناه لم يخف عليه ما يُورد عليه مما سواه. فقد نجزت مسائل الحيض. ونحن الآن نبتدىء بابَ النفاس مستعينين بالله. وهو خير معين. وبالله التوفيق. ***

باب النفاس

باب النفاس 626 - والنفاس في اللغة يتناول الحيضَ، والدمَ الذي يخرج على أثر خروج الولد، وفي حديث عائشة أنها قالت: " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة (¬1)، فحضت، فانسللتُ فقال عليه السلام: مالكِ؟ أَنَفَستِ؟ (¬2) " (¬3)، فَعبّر بالنفاس عن الحيض، والنّفْسُ في اللسان هو الدم نفْسُه كيف فرض، ولكن العلماء يعبّرون بالنفاس عن الدم الذي يخرج عقيب الولادة. وهذا غرضُ الباب ومضمونه، والدم يحتوي عليه الرحم إذا علق بالولد، ثم يُزجيه إذا انفصل الولدُ. وحكم دم النفاس حكم الحيض؛ فإنه الحيضُ بعينه اجتمع، ثم استرخى وانسل. ومضمون الباب تحصره ثلاثة فصول: أحدها - في ذكر أقلِّ النفاس، وأغلبِه، وأكثرهِ. والثاني - أن الحامل هل تحيض؟ وإن حاضت، فكيف يجري حساب دورها الأخير مع النفاس؟ والثالث - في فرض ولدين توأمين بينهما دم، كيف حكمه؟ وعلى أي وجه ينزل حسابه؟ فإذا نجزت هذه الفصول، ذكرنا بعدها حكمَ اتّصال الاستحاضة بالنفاس. ¬

_ (¬1) الخميلة: القطيفة، وهي كساء، أو فراش، أو دثار -وهو المراد هنا- له أهداب. (المعجم والمصباح) (¬2) أَنَفست، بفتح النون. من نَفِست المرأة إِذا حاضت، أما إِذا ولدت فيقال: نُفست بالضم، وبالفتح، والأفصح الضم، أما في الحيض، فالمشهور الفتح؛ بل قيل: لا يجوز غيره (النووي: تهذيب الأسماء واللغات، والمجموع: 2/ 519، والمصباح) (¬3) حديث الخميلة: متفق عليه، من حديث أم سلمة (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 66 ح 170) وقد سبق في الفقرة (440).

[الفصل الأول] (¬1) 627 - فأما الفصل الأول: فأكثر النفاس ستّون يوم عند الشافعي، ومعتمدهُ فيه الوجودُ، كما سبق في الحيض. وأغلب النفاس أربعون يوماًً، وأقل النفاس لحظةٌ واحدة. وعلل بعض أصحابنا ذلك بأن المرأة قد تلد، ولا ترى دماًً أصلاًً، وهي التي تسمى ذات الجفاف، فإذا تُصوّر ذلك، لم يبعد أن ترى الدمَ لحظة. وهذا التعليل باطلٌ ويُلزَم مثله في الحيض، فلا زمان تحيض المرأة فيه إلا ويتصوّر أن يستمر بها الطهر فيه. ثم هذا لا يدل على أن أقل الحيض لحظة، فالمتبع الوجودُ إذاً في قاعدة المذهب. وذهب المزني إلى أن أقل النفاس أربعةُ أيام؛ مصيراً إلى أن أكثر النفاس مثلُ أكثر الحيض أربع مرّات، فليكن أقله مثل أقل الحيض أربع مرّات. وهذا الفن غير لائق بفقه المزني، وعلوِّ منصبه؛ فإن المقادير لا تبنى على الخيالات الشبهية، ولست أرى لهذه الأصول مستنداً غير ما تقدَّم في أعصار الأولين من الوجود. [الفصل الثاني] (¬2) 628 - فأما الفصل الثاني، فلا شك أن الحامل ترى (¬3) الدمَ على ترتيب (¬4) أدوار الحيض، واختلف قول الشافعي في أنه دم حيض، أو دم فساد، والأصح أنه دم حيضٍ (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة من المحقق. (¬2) زيادة من المحقق. (¬3) كذا في النسخ الثلاث، ولعلّ الصواب: "قد ترى الدم ... " ويشهد لذلك التقدير كلام الإمام في الفقرة التالية. (¬4) في (ت 1): على الترتيب في أدوار الحيض. (¬5) في (ل): دم فساد. وهذا هو القول القديم للشافعي، والجديد الأظهر أنه حيض، وسواء ما تراه قبل حركة الجنين وبعدها. وقيل: القولان فيما بعد الحركة، فأما قبلها، فحيضٌ قطعاًً. (ر. الروضة للنووي: 1/ 174).

وتوجيه القولين، وذكْرُ مأخذهما مستقصىً في كتاب العِدَّة، فإن جرينا على أنه دمُ حيضٍ، فحكمه حكمُ الحيض، في كل تفصيل، غيرَ أنه لا يتعلق بتلك الأقراء انقضاء العِدة. والذي يتعلق بأمر النفاس من ذلك أنها إذا كانت ترى أدواراً مستقيمةً في زمان الحمل، والتفريعُ على أنّ الحامل تحيض، فإذا كانت تحيض خمسةً وتطهر خمسة وعشرين، فرأت خمستها، وطهرت عشرة أيام، ثم ولدت ونُفست، ولم يتخلل بين الخمسة التي [رأتها] (¬1) قبل الولادة وبين دم النفاس طهر كامل. فأما دم النفاس، فهو على حكمه، ونقصان الطهر قبله لا يؤثر فيه، واختلف أئمتنا في تلك الخمسة، فذهب بعضهم إلى أنها دم فساد؛ لأنها لم تستعقب طهراً كاملاً، والأصح أنها دم حيض، على القول الذي عليه التفريع؛ فإنّ الدم إنّما يضعف إذا لم يتقدمه طهرٌ كامل، والخمسة مسبوقة بطهر كامل، ونقصان الطّهر يؤثر فيما بعده، ولا ينعكس أثره على الدم السابق، وإذا لم يؤثر نقصان الطهر في النفاس بعده، لم يؤثر في الدّم قبله، والذي يوضّح ذلك أن الولادة إذا تخللت، فهي أقوى في فصل الدم من الطهر الكامل. ولو رأت خمستها، ثم اتصلت الولادة بها ونُفِست من غير طُهرٍ، فالخلاف في الدم المتقدّم على الولادة كما تقدم، وإن لم يتخلل نقاءٌ أصلاً. [الفصل الثالث] (¬2) 629 - فأما " الفصل الثالث " فمضمونه ولادة توأمين بينهما دمٌ، فإذا ولدت ولداً، ورأت دماًً أياماً، ثم ولدت ولداً آخر من ذلك البطن، فالذي رأته من الدم على أثر الولد الأول نفاسٌ أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه ليس بنفاس؛ فإنه متقدم على فراغ الرحم من الولد. والثاني أنه نفاس؛ فإنه على أثر الولادة. ¬

_ (¬1) في النسختين: لأنه. والمثبت من عمل المحقق. ثم صدقتنا (ل)، بحمد الله وتوفيقه. (¬2) زيادة من المحقق.

فإن قلنا: إنه ليس بنفاس، فهل نجعله دمَ حيض أم لا؟ فعلى قولين مرتبين على أن الحامل هل تحيض؟ فإن قلنا: إن ما تراه من الدم يكون حيضاً، فهذا بذلك أولى، وإن قلنا: إنه لا يكون حيضاًً، ففيما نحن فيه قولان. والفرق أنّ الغَالبَ في الحامل أنها لا ترى دماً؛ لانسداد فم الرحم، فإن رأته، فقد يُقَدَّر ذلك دم فسادٍ لندوره، وينزل ذلك منزلة ما لو رأت الصبيّةُ، وهي ابنة ثمانٍ دماًً. فأمَّا إذا ولدت ولداً، وانفتح الرحم، فاسترخاء الدم من الرحم ليس بدعاً، بل النادر ألا ترى دماًً إذا ولدت، ثم إذا جعلنا ما رأته دمَ حيضٍ، فيلزم على هذا الوجه [رعاية] (¬1) قضايا الحيض فيه، حتى إذا زاد على خمسة عشر يوماً، كان الزائد دمَ فساد، والترتيب فيه كالترتيب في دم الحيض إذا زادت نوبته. ثم يترتب على هذا الوجه أنه إذا تقدم على ولادة الولد الأول دمٌ، وتخلّل بينه وبين الدم بعدَ الولد الأول أقلُّ من أقلِّ الطهر، فيلزم من هذا القياس أن نجعل ذلك الدمَ دمَ حيضٍ؛ لأنه لم يتقدمه طهر كامل، وليس ذلك الدم دمَ نفاس حتّى ينفرد بحكمه، كما تقدم في الصورة الأولى، وهذا بعيد عن التحصيل. وباختباط هذه التفريعات يتضح ضعف هذا الوجه. 630 - وإن قلنا: إن ما رأته بين الولدين دمُ نفاسٍ، وهو الصحيح، فإن ولدت الولد الثاني، فرأت على أثره الدمَ أيضاً، فقد ذكر الأئمة اختلافاً في ذلك: وحاصل القول فيها يؤول إلى أن ما رأته على أثر الولدين في حكم نفاسٍ واحد، أو في حكم نفاسين، وفيه الاختلاف. ومنه ينشأ ما سنذكره. فمن أصحابنا من قال: إنهما في حكم نفاسين؛ لمكان الولدين، وانفصال إحدى الولادتين عن الأخرى. ومنهم من قال: إنهما في حكم نفاسٍ واحدٍ؛ فإن الرحم اشتمل على الولدين اشتمالا واحداً، فالفراغ عنهما في حكم ولادةٍ واحدةٍ. فإن قلنا: إنهما نفاسان، فإن ولدت ولداً، ورأت الدمَ ستين يوماً، [ثم ولدت ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. والمثبت من (ت 1)، (ل).

آخر، ورأت على أثره ستين يوماًً دماً] (¬1) فالدماء كلها نفاسٌ. ولو ولدت أولاداً من بطنٍ واحدٍ، ورأت على أثر كل واحدٍ ستين يوماًً دماًً، فالجواب كما سبق، ولكل ولدٍ حكمُ نفاسٍ، ولا يتعلّق حكم نفاسٍ في حسابٍ بنفاسٍ. وإن قلنا: الدماء كلها في حكم نفاسٍ واحدٍ، فينبغي ألا يزيد الدمان جميعاًً على ستين يوماًً، ويحتسب أول الستين من أول الدم الذي رأته على أثر الولد الأول. ويتفرع عليه أنها لو ولدت ولداً، ورأت على أثر الولد الدمَ ستين يوماً، ثم ولدت الثاني، ورأت دماًً، والتفريع على اتحاد النفاس - فقد قال الصيدلاني: اتفق أئمتنا في هذه الصورة أن الولد الثاني ينقطع عن الأول، ويستعقب نفاساً؛ فإن الذي تقدّمه نفاسٌ كامل، ويستحيل أن يقال: إذا ولدت ثانياً، ورأت دماًً على أثره، فلا يكون ذلك نفاساً. وقد سمعت شيخي يقول في هذه الصورة: إذا فرّعنا على اتحاد النفاس، فالذي رأته بعد الولد الثاني دمُ فسادٍ، وهذا ولدٌ تقدّمه النفاس. ويلزم على قياس هذه الطريقة أن يقال: إذا رأت على أثر الولادة الأولى ستين يوماً دماًً، ثم تمادى اجتنان الولد (¬2) الثاني أشهراً، ثم أتت به، ورأت دماًً، فيلزم أن يقال: إنه دمُ فسادٍ. وهذا بعيد جداًً. وبهذا يتبين أنّ كلَّ ولدٍ يستتبع نفاساً، ولا يعتبر حساب نفاسٍ بحساب نفاسٍ. 631 - ومما يتعلق بما نحن فيه، أن الحامل إذا كانت ترى دماًً، وجرى التفريع على أنه حيض، وإن لم يتخلل بينه وبين الولد طهرٌ كامل، فلو رأت الدم خمسةَ أيامٍ، واتصل الولد بها، فلا يكون ذلك الدم المتقدم محسوباً من النفاس أصلاًً. ولو طُلِقت (¬3) المرأة، وبدأت مخايل الولادة، وانحلّ الدم، فالذي قطع به الأئمة ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬2) في (ت 1): التوأم الثاني، وكذا في (ل). (¬3) طُلقَت المرأة: أصابها وجع الولادة، وظهرت علاماتها (المعجم).

أنه ليس من النفاس، وإن أمكن أن يقال: هذا من آثار الولادة. وذكر صاحبُ [الإفصاح] (¬1) وجهاً بعيداً: أن ما كان كذلك، فهو محسوب من النفاس، حتى يعتبرَ ابتداؤه منه، وهذا غير معتدٍّ به في المذهب. نعم، ظهر اختلاف أصحابنا في أنّ الولد إذا بدا، وظهر مع ظهوره الدمُ، فهل يعدُ ذلك من النفاس أم لا يثبت حكمُ النفاس ما لم ينفصل [الولد] (¬2)؟ هذا فيه خلاف مشهور، ووجه الاحتمال فيه ظاهر. فرع: 632 - ذكر الشيخ أبو حامد: أن الدم إذا رأته الحامل، ووقع الحكم بكونه حيضاًً، وإن اتصلت الولادة والنفاس به تفريعاً على أحد الوجهين، فلو رأت النفاس بعد الولد ستين يوماًً، ولم ينقطع الدم، قال: فأحسب [الدمَ] (¬3) بعد الستين حيضاً، وإن لم يتخلل بين منتهى النفاس، وبين الحيض طهرٌ، قياساً على ما لو تقدّم الحيضُ على النفاس واتصل به، ولم يتخلل بينهما طهر كامل، فجعل تقدُّم الحيض على النفاس من غير تخلل طهرٍ كتأخر الحيض واتصاله بآخر النفاس. وهذا متروك عليه. والقياس الذي ذكره غير منتظم؛ فإن الدم المتقدم يتقوّى بتخلل الولادة، واعتقاد أن الولادة إذا تخللت، فهي أقوى من الطهر يتخلّل، وهذا المعنى لا يتحقق في اتصال الدّم بآخر النفاس؛ فإنّ جريان النفاس الكامل يتضمن فراغَ الرحم عن دم الحيض، [فإذا] (¬4) كان تقدّمُ الحيضِ الكامل ثَمَّ يستدعي تخللَ طهر، فتقدم النفاس الكامل لأنْ يقتضي ذلك أولى وأحرى. ¬

_ (¬1) في الأصل: التلخيص. والمثبت من (ت 1) وصاحب الإِفصاح غير صاحب التلخيص، فصاحب التلخيص هو ابن القاصّ أبو العباس المتوفى سنة 335 هـ، وأما صاحب الإِفصاح، فهو أبو علي الطبري، المتوفى سنة 350 هـ والمرجح هنا أنه صاحب الإِفصاح، كما نسبه إِليه الرافعي في الشرح الكبير: 2/ 579، وكذا حكاه عنه النووي في المجموع: 2/ 521. وفي (ل): الإِفصاح. (¬2) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬3) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬4) في الأصل: إِذا كان تقدّم الحيض ... (بدون فاء)، والمثبت من (ل).

وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر ضعيفاً، قد يرجع إلى ما ذكره أبو حامد، و [ذلك] (¬1) أنه قال: إذا كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسةً وعشرين، فرأت خمسةً دماًً، ثم ولدت، فنحسب لها من أول النفاس خمسة وعشرين في تقدير الطهر، وإن لم يكن طهراً، ثم نُقدِّرُ خمسةً دمَ حيض، وإن كانت نفاساً، وقد انقضى في هذين التقديرين ثلاثون يوماًً من النفاس، ثم نحسب خمسة وعشرين في تقدير الطهر، ثم نحسب خمسة حيضاًً تقديراً، وقد تمّ أكثر النفاس. ثم نحسب بعد ذلك خمسة وعشرين طهراً تحقيقاً، ثم يعود الحيض المحقق. وهذا تقدير لا [مُستندَ له ولا ثَبَت] (¬2). ثم قد تؤدي بعض الصور في قياسه إلى عين مذهب أبي حامد، وذلك بأن يفرض حيضَ المرأة خمسة، وطهرها خمسةً وعشرين، ويقدّر أمَدَ النفاس المعتاد خمسةً وأربعين، ثم يفرض رؤية الخمسة قبل الولادة بعشرة أيام، فيحسب تلك العشرة، ويحسب من مدة النفاس خمسة (3 عشر، ثم يحسب خمسة 3) في تقدير الحيض، وقد مضى من أمد النفاس عشرون يوماًً، ثم يحسب الطهر خمسة وعشرين، وقد مضى زمان النفاس. وهذا هو المحكي عن أبي حامدٍ، وهو مزيّف متروك عليه. فرع: 633 - إذا ولدت المرأة، ولم تر على أثر الولادة دماًً أياماً، ثم استرسل الدمُ، فابتداء مدّة النفاس يحسب من وقت الولادة، أو من وقت رؤية الدم؟ اختلف فيه الأئمة: فمنهم من قال: هو محسوب من وقت رؤية الدم؛ فإنه النفاس حقاً، ومنهم من قال: هو محسوبٌ من وقت الولادة، وهذا الخلاف فيه إذا لم يتخلل بين الولادة وبين الدم طهرٌ كامل، فإن تخلل، فسيأتي ذلك بعد هذا. فهذا تمام المراد في إيضاح مضمون الفصول الثلاثة. مع ما يتعلق بها ويتشعب عنها. ¬

_ (¬1) في الأصل: وذكر. والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: لا يستد له، ولا يثبت. والمثبت من (ت 1)، (ل). (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

[اتصال الاستحاضة بالنفاس] (¬1) ونحن الآن نذكر تفصيل القول في اتصال الاستحاضة بالنفاس، ونشير إلى المستحاضات الأربع، في حكم النفاس ونبدأ بالمعتادة. [المعتادة] (¬2) 634 - فنقول: إذا ولدت المرأة مرتين فصاعداً، وكانت تُنفَس أربعين يوماً، فولدت مرة ونُفست، وكان يتوقع انقطاع الدم على الأربعين، فزاد الدمُ وتمادى، فهي مأمورة بالتربّص، وترك ما يتركه الحُيّض، فإن انقطع على الستين، فالكل نفاس، وإن زاد على الستين، فقد بان أنها مستحاضة، ونردّها إلى عادتها القديمة، تبيناً واستناداً (¬3) ونستبين أن ما رأته وراء الأربعين دمَ فساد، كما سبق تقرير ذلك في أحكام ¬

_ (¬1) العنوان من عمل المحقق. (¬2) العنوان من عمل المحقق. (¬3) الاستناد عند الأصولِيين، هو أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر، ويرجع القهقرى حتى يُحكم بثبوته في الزمان المتقدم، كالمغصوب: فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان، مستنداً إِلى وقت الغصب، حتى إِذا استولد الغاصب المغصوبة، فهلكت، فأدى الضمان، يثبت النسب من الغاصب. كذا في التوضيح، في فصل المأمور به المطلق والموقت. واعلم أن الأحكام تثبت بطرق أربعة: الأول - الاقتصار، وهو أن يثبت الحكم عند حدوث علته، لا قبله ولا بعده، كما في تنجيز الطلاق، بأن قال: أنت طالق. والثاني: الانقلاب، وهو صيرورة ما ليس بعلة علة، كما في تعليق الطلاق بالشرط، بأن قال: إِن دخلت الدار، فأنت طالق، فعند حدوث الشرط ينقلب ما ليس بعلة علة، يعني أن قوله: أنت طالق في صورة التعليق ليس بعلة قبل وجود الشرط، وهو دخول الدار، وإنما يتصف بالعلّية عند الدخول. والثالث: الاستناد، وهو أن يثبت الحكم في الحال، بوجود الشرط في الحال، ثم يستند الحكم في الماضي بوجود السبب في الماضي، وذلك كالحكم في المضمونات، فإنها تملك عند أداء الضمان مستنداً إِلى وقت وجود سبب الضمان، وهو الغصب، وكالحكم في النصاب، فإنه تجب الزكاة عند تمام الحول بوجود الشرط عنده، مستنداً إِلى وقت وجود سبب الزكاة، وهو ملك النصاب. =

المعتادة في أدوار الحيض، ثم نحسب وراء الأربعين طهرها المعتاد في أدوار الحيض، ثم نحيّضها المقدارَ المعتاد، وندير عليها أدوارها، ويرجع ترتيب الكلام [إلى] (¬1) القول في المستحاضة المعتادة، [ونقدّر] (¬2) النفاس في أمده بمثابة حيضةٍ من الحيض، ثم نعتبر بعده الطهرَ، كما ذكرناه. ويليق بمذهب أبي حامدٍ أن يقول: أحتسب بعد أمد النفاس حيضةً ثم طهراً؛ إذ لا يبعد عنده اتصال الحيض بالنفاس، كما سبق، وهو باطل غيرُ معتدٍّ به، وهذا إذا كان ثبت لها أمد النفاس قديماً، وتكررت الولادة. فإن ولدت مرة واحدة، ونُفست أربعين وطهرت، ثم اتصلت الاستحاضة بالولادة الثانية، فهذا يخرّج على أن العادة هل تثبت بالمرة الواحدة؟ وهاهنا الأصح ثبوتها بها، فإن الاستمساك بالمرة الواحدة أولى من ردّها إلى [عماية] (¬3) الظنون، ونقدرها مبتدأة، كما سنذكر الآن. [المبتدأة] (¬4) 635 - فأما المبتدأة، فهي التي كما (¬5) ولدت ونُفست استحيضت، وفيه قولان، كالقولين في أمر الحيض: أحدهما - أنها مردودة عند زيادة الدم على الستين إلى أقل ¬

_ = والرابع: التبين، وهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي بوجود علة الحكم والشرط كليهما في الماضي، مثل أن يقول في يوم الجمعة: إِن كان زيد في الدار، فأنت طالق، ثم تبين يوم السبت وجوده فيها يوم الجمعة، فوقع الطلاق في يوم الجمعة، ويعتبر ابتداء العدة فيه. لكن ظهر هذا الحكم يوم السبت. (هكذا في الأشباه وحاشية الحموي) عن (كشاف اصطلاحات الفنون: 3/ 647) (¬1) في الأصل: " في ". والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬2) في الأصل: وتقديم النفاس، والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬3) في الأصل: غاية الظنون، والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬4) العنوان من عمل المحقق. (¬5) (كما) بمعنى (لمّا)، كما هو واضح من السياق، وأحيانا تأتي بمعنى (كلما). ولما أعرف له وجهاً بعد. وأخيراً عرفنا أنها بمعنى (عندما) في استعمال الخراسانيين، وقد بيّنا ذلك من قبل.

النفاس بطريق التبيّن، وهو لحظة واحدة، وما وراءها استحاضة والثاني - أنها مردودة إلى الغالب، وهو أربعون يوماًً. ثم إن كانت معتادة في أدوار الحيض مبتدأة في النفاس، فإذا انقضى ما رددناها إليه من النفاس، حسبنا بعده طهراً من أطهارها، وعادت إلى أدوارها المعتادة. وإن كانت مبتدأة في الحيض، حسبنا نفاسها لحظةً، وجرينا على قياسنا في أمر طهر المبتدأة، كما [مضى] (¬1) مقرراً. وذهب المزني إلى أن المبتدأة في النفاس مردودة إلى الأكثر، وهو ستون (¬2) يوماً. وهذا مما انفرد به، وليس له أصل؛ فإنّه وافق أن المبتدأة في الحيض لا تردّ إلى أكثر الحيض، ولا فرق بين النفاس والحيض، ولم يخالف أن المعتادة في النفاس إذا استحيضت، فهي مردودة [إلى العادة قياساً، وليست مردودة] (¬3) إلى الأكثر. فرع: 636 - إذا ولدت مرةً أو مراراً، ولم تُنفَس أصلاًً، ولم تر دماًً، ثم ولدت ونُفست، واستحيضت، فلسنا نرى ما مضى من حالها فيما تقدم عادةً، حتى نقول: لا نفاس لها، ردّاً إلى ما عُرف من أمرها مرةً أو مراراً، بل نجعلها إذا نُفست، واستحيضت، بمثابة مبتدأة تُنفس وتستحاض؛ فإنها مبتدأة في الصورة التي ذكرناها في النفاس، وإن لم تكن مبتدأة في الولادة، ونحن إنما نتبين النفاس وجريانه على اعتيادٍ أو ابتداء. [المميزة] (¬4) 637 - فأما المميزة، فهي التي تُنفَس وترى دماًً قوياً، ثم ترى دماًً ضعيفاً، ويستمرُّ ويزيد على الستين، فيتبيّن بالأَخَرة أن نفاسَها الدمُ القوي، ثم إن اجتمع التمييز ¬

_ (¬1) في الأصل: جرى. والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬2) قال ابن أبي عصرون في مختصره: "هذا سهو في نقل مذهب المزني؛ فإِن أكثر النفاس عنده أربعون". يقول المحقق: ما نقله إِمام الحرمين هو المشهور من مذهب المزني، ونُقل عنه أيضاً أنه أربعون، وعده النووي في المجموع غريباً (ر. المجموع: 2/ 542، التنقيح للنووي، ومشكلات الوسيط للحموي، كلاهما بهامش الوسيط: 1/ 477). (¬3) زيادة من (ل). (¬4) العوان من عمل المحقق.

والعادة، ففيه الخلاف المشهور في أدوار الحيض. فرع (¬1): 638 - المميزةُ في أحكام الحيض إذا رأت مرة الدم القويَّ، وبلغ أقلَّ الحيض، فصاعداً، ولم يزد على أكثر الحيض، وضعف الدم، وتحقّق أنها مستحاضة، ثم تمادى الدم الضعيف سنةً مثلاً، ولم يعد الدم القوي أصلاً، فالذي يقتضيه قياس التمييز والرد إليه أنها طاهرةٌ، وإن تمادى الدم سنين. وقد يختلج في النفس استبعادٌ في الحكم بطهارتها، وهي ترى الدمَ دائماً. وسببُ أنّا لا نحيّضها [أنها] (¬2) رأت السواد يوم وليلة مرة واحدة، و [لو] (¬3) لم تره، لم تكن مميزة، وكان استمرار الدم بها يوجب أن يدور عليها الحيض على ترتيبٍ وأدوار رسمناها للمبتدأة، ولو تشوّفنا -وقد طال أمرُ الدم الضعيف- إلى تحييضها، فليس معنا مردٌ ضَابط في ذلك ننتهي إليه، وليس لأكثر الطهر ضبطٌ، فنتعلّقَ به. فهذا وجه التنبيه على إشكال الفرع. وأنا أراه ملتفتاً على مسألة ذكرناها من كلام القفّال، في أن المرأة إذا حاضت، ثم طهرت، وتباعد حيضُها سنة أو سنتين، ثم عاودها الدمُ، وقلنا: العادة تثبت بالمرّة الواحدة، فلا نردها إلى الأمد الطويل في الطهر آخراً، إذا طَبَّق الدم عليها، بل نعتبر ثلاثة أشهر، وهو مدة العدة في حق الآيسة. وقد فصلتُ هذا وألحقته بالحاشية (¬4)؛ فلا يبعد أن نقول: إذا تمادى الدمُ الضعيفُ، فلا نُخلي ثلاثة أشهرٍ عن حيض، فظاهر القياس أنها طاهرة، وإن بلغ أمد الطهر الضعيف ما بلغ. والله أعلم. [المتحيرة] (¬5) 639 - فأما المتحيرة في النفاس، فهي التي سبقت لها عاداتٌ قديمة فنسيتها، ثم ولدت ونُفست، واستحيضت قال الأئمة: هي في قولِ كالمبتدأة، وقد تفصّل ¬

_ (¬1) في (ل): فصل (بدلاً من فرع). (¬2) في الأصل: إِذا والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬3) مزيدة من (ت 1)، ومختصر ابن أبي عصرون، ووجدناها في (ل). (¬4) كذا، ولما نعرف المقصود بالحاشية بعدُ. (¬5) العنوان من عملنا.

حكمها. وفي قولٍ نأمرها بالاحتياط، وذلك كلّه بعد أن يزيد الدمُ على الستين، فإذ ذاك ننعطف بالحكم، ونخرِّج الأمر على القولين. ثم [إذا] (¬1) كان تحيرُها في النفاس، وكانت ذاكرةً لعادتها في أدوار الحيض، فليس عليها ترتيب أدوار الحيض؛ فإنها لا تدري أنّ طهرها متى يقدر عودُه بعد منقرض النفاس، وينجرّ عليها من هذا إشكالٌ، لا يكاد يخفى تفريعه؛ فإن ترتيب الطهر والدور وإن أعضل، فإذا كانت ذاكرةً لمقدار الحيض، فتستفيد بذلك أحكاماً بيّنةً. قلت: الصحيح في المتحيرة في أحكام الحيض الردُّ إلى الاحتياط، كما تقدم. والسبب فيه أنا لا ندري مبتدأ دورها ولا سبيل إلى التحكم بإثبات مبتدأ لدورها من غير ثبت، فهذا هو الذي ورّط في الاحتياط. وإذا ولدت ونُفست، فابتداء النفاس معلوم، فيظهر عندي جعلُها كالمبتدأة في النفاس، وإن كان يضعف ذلك في الحيض. فهذا منتهى القول في ذلك. 640 - ومما يتعلق بأحكام النفاس أنه لو تقطّع الدم على النفساء، فكانت ترى يوماًً دماًً، ويوماًً نقاءً، فحكم التلفيق قد مضى مفصلاً. والذي نجدده في أمر النّفاس أنّها لو طهرت في أيام النفاس خمسة عشر يوماًً، ثم عاد الدم في الستين، فقد اختلف أئمتنا في أن العائد نفاسٌ أم لا؟ فمنهم من قال: ليس بنفاس؛ لأنه انقطع وجرى طهرٌ كامل، ومنهم من قال: هو دم نفاس؛ لأنه في الستين. فإن قلنا: إنه ليس بنفاس، فنقدّر الدم العائد حيضاًً. وإن جعلنا الدمَ العائد نفاساً، وكنا نرى ترك التلفيق، فالذي صار إليه الأكثرون أن زمان النقاء حيضٌ، وإن بلغ خمسةَ عشر. ومن أصحابنا من قال: وإن كنا نرى ترك التلفيق، فنقضي بأنها طاهرة في الخمسة عشر ونستثني هذه الصورة في التفريع على هذا القول. ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ل).

641 - ومما يتصل بذلك أن المرأة إذا ولدت، ولم تر الدم خمسة عشر يوماً، ثم رأت الدمَ، فهذا يخرّج على الخلاف المذكور. ففي وجهٍ نقول: هي نفساء؛ لوقوع الدم في الستين. وفي وجهٍ نقول: هي ذاتُ جفاف، لم تُنفس، والذي رأته من الدم حيض. فهذا تمام البيان في ذلك. 642 - وقد ذكر الصيدلاني في تخللِ طهرٍ كامل في الستين تفصيلاً حسناً، فقال: إن عاد الدم في الستين، ثم انقطع على الستين، فالوجهان في أنّ العائد نفاسٌ أم لا في هذه الصورة، فأمّا إذا جاوز الدمُ الستينَ، وصارت مستحاضة، فالذي يعود بعد الخمسةَ عشَر ليس بنفاس وجهاً واحداً، وإنما هو حيضٌ. ولا وجه عندي إلا ما ذكره، وما أطلقه الأئمة منزل على هذا التفصيل قطعاً. والله أعلم (¬1). ... ¬

_ (¬1) تم بحمد الله وعونه وتوفيقه الجزء الأول من نهاية المطلب بتجزئة محققه. حيث اختلفت التجزئة في نسخ المخطوطات اختلافاً متبايناً بلغت معه سبعة وثلاثين جزءاً في بعض النسخ، وفي غيرها كانت نحو أربعة عشر جزءاً. ومن المفارقات أنه لم تنته أية نسخة عند نهاية كتاب الطهارة، كما قدرنا. والله الموفق والهادي إلى الصواب

نهاية المطلب في دراية المذهب لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني رحمه الله تعالى (419 - 478 هـ) حققه وصنع فهارسه أ. د عبد العظيم محمود الديب الجزء الثاني الصلاة الجمعة صلاة العيدين صلاة الخسوف دار المنهاج

الفقه صعب مرامه، شديد مراسه، لا يعطي مقاده لكل أحد ولا ينساق لكل طالب، ولا يلين في كل يد، بل لا يلين إلا لمن أيد بنور الله في بصره وبصيرته، ولطف منه في عقيدته وسريرته. الإمام أبو المظفر السمعاني المتوفي سنة 489 هـ

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة (¬1) 643 - الأصل في الصّلاة: الكتابُ، والسُّنة، والإِجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ومعناه: فرضاً موقوتاً. والآيات المشتملة على ذكر الصّلاة كثيرة. والسنة ما روي عنه عليه السلام أنه قال: "بُني الإِسلام علَى خمسٍ" (¬2) الحديث. وقال: "الصلاة عماد الدين" (¬3) فمن ترك الصلاة، فقد هَدم الدين. وقال: "من ترك الصّلاة متعمداً، فقد كفر" (¬4). وكلام العلماء في تفسير الحديث مشهور، ¬

_ (¬1) من أول كتاب الصلاة إِلى (باب استقبال القبلة وأن لا فرض إِلا الخمس) لا يوجد إِلا نسختان فقط (ت 1)، (ت 2). وقد اتخذنا (ت 2) أصلاً، وجعلنا (ت 1) نصاً مساعداً مع الاستئناس بمختصر ابن أبي عصرون. [وقد أسعفتنا المقادير بعد انتهاء العمل بنسخة في غاية الجودة من أول الكتاب إلى آخر كتاب الصلاة، فأفدنا منها ما شاء الله لنا، وهي التي رمزنا إليها بـ (ل)]. (¬2) حديث بني الإِسلام على خمس، متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 3، 4 ح 9). (¬3) حديث "الصلاة عماد الدين، قال النووي في التنقيح: هو منكر باطل. وتعقبه ابن حجر في التلخيص قائلاً: "قلت: وليس كذلك، بل رواه أبو نعيم، شيخ البخاري، في كتاب الصلاة، عن حبيب بن سليم، عن بلال بن يحيى، قال: جاء رجل إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: "الصلاة عمود الدين"، وهو مرسل رجاله ثقات" والحديث رواه البيهقي في الجامع لشعب الإِيمان، عن عمر مرفوعاً، بسند ضعّفه السخاوي، في المقاصد الحسنة، قال: وهو عند الطبراني أيضاً، وكذا الديلمي، عن علي مرفوعاً (ر. تلخيص الحبير: 1/ 173، الجامع لشعب الإِيمان: 6/ 97 ح 2550، المقاصد الحسنة: ح 632، ضعيف الجامع الصغير: 3568، كنز العمال: 18889، 18890). (¬4) حديث: "من ترك الصلاة متعمداً، فقد كفر" قال الحافظ: رواه البزار، من حديث أبي الدرداء بهذا اللفظ، وله شاهد من حديث الربيع بن أنس، عن أنس عن النبي صلى الله عليه =

وسنذكر الأخبار الواردة في تفصيل الصلوات على حسبِ الحاجة في مظانها. والأمة مجمعة على أنّ الصّلاة ركن الإِسلام. ثم كان المسلمون متعبدين بصلاة الليل في ابتداء الإِسلام على ما يُشعر بها {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]، ثم لما عُرج برسول الله صلى الله عليه وسلم، افترض الله عز وجلّ الصلوات الخمس، في قصة مشهورة، ونسخت فرضية صلاة الليل عن الأمّة، وقيل: إِن فرضيتها باقية على الرسول عليه السّلام، والله أعلم. وليس في القرآن تنصيصٌ على أعيانها وتصريحٌ، ولكن فيه تلويحٌ وإِيماء إِليها، ومما تكلم العلماء عليه منها، قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وقد اختلف العلماء في الصّلاة الوسطى، فالذي اختاره الشافعي أنها صَلاة الصُّبح؛ فإِنها محتوشة بصلاتين ليلتين قبلها، وصَلاتين نهاريَّتين بعدها، وهي حَرِيَّة بمزيد الاستحثاث، من حيث إِن وقتها يُوافي الناسَ وأكثرهم في غمراتِ النّوْمِ والغفلاتِ. ثم الذي ذَكَره الشافعي وإِن كان ظَاهراً، فهو مظنون، والذي يليق، بمحاسن الشريعة، ألا تتبين على يقين؛ حتى يحرص الناسُ على جميع الصّلوات، حتى توافقَ الصّلاة الوسطى، كدأب الشريعة في ليلة القدر. وقد ورد خبرٌ في غزوة الخندق يدل على أن الصلاة الوسطى هي: صلاة العصر (¬1) والله أعلم. ¬

_ = وسلم، وفي الباب عن أبي هريرة، رواه ابن حبان، في الضعفاء .. وأصح ما فيه حديث جابر، بلفظ "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم، والترمذي والنسائي، وابن حبان .. ا. هـ. ملخصاً (ر. تلخيص الحبير: 2/ 148 ح 811، ومسلم: الإِيمان، باب بيان إِطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، ح 82، الترمذي: الإِيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة ح 2618 - 2620، النسائي: الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة ح 465، صحيح ابن حبان: ح 1451) وسيأتي في (باب تارك الصلاة). (¬1) يشير إِلى حديث علي رضي الله عنه، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فقال: ملأ الله قبورهم، وبيوتهم ناراً، كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس، وهي صلاة العصر". وهو متفق عليه (البخاري: الدعوات، باب الدعاء على المشركين، ح 6396، وانظر: 2931، 4111، 4533. مسلم: المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ح 627) ولمسلم أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ح 628، 631.

644 - ثم صَدَّر الشافعي كتاب الصّلاة ببيان المواقيت، واعتمد في باب المواقيت حديثَ جبريل، وأجمعُ الروايات ما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمّني جبريل عند باب البيت مرتين، فصلّى بي الظهرَ حين زَالت الشمس، وصلى بي العصرَ حين كان ظل كلِّ شيء مثلَه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الصبح حينَ حَرُمَ الطعامُ والشرابُ على الصائم، ثم عاد فصلى بي الظهر حين كان ظل الشيء مثله، وصلى بي العصر حين كان ظل كُلّ شيء مِثْلَيْهِ، وصلى بي المغرب كصلاته بالأمس، وصلى بي العشاء حين ذَهب ثلُثُ الليل، وصلى بي الصبح وقد كاد حاجبُ الشمس يَطلع، ثم قال: يا محمد: الوقت ما بين هذين" (¬1). فلتقع البداية بوقت صلاة الظهر تأسياً بما ورد في قصة جبريلَ. فأول وقت الظهر يدخل بزوال الشمس، وهو انحطاطها عن منتهى ارتفاعها، فإذا انحطّت، فهذا زوالها، ثم إِنما يتبين زوَالُها بزيادة الظِّل بعد النقصان، وظل الشمس عند ابتداء طلوع الشمس مستطيل في صَوْب المغرب، ثم كلما ارتفعت الشمس، يتقلص الظل وينقص، فإِذا انتهت الشمسُ إِلى مُنْتهى ارتفاعها، وقف الظل، فإذا أخذ في الزيادة، فهذا أوّل الزّوالِ في الشرع، والشمس لا وقف لها، وهي دائبة في استدارتها على الخط الذي ترسمه، فلو ظن ظان أنها كما (¬2) تنتهي إِلى مداها، تنحط ¬

_ (¬1) حديث صلاة جبريل، رواه الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن خزيمة، والدراقطني، والحاكم. صححه ابن العربي، وابن عبد البر، وحسّنه النووي وابن الصلاح، كما صححه الشيخ أحمد شاكر والألباني. هذا. وقد اعترض النووي على الغزالي في قوله في هذا الخبر: عند باب البيت، وقال: المعروف، عند البيت. قال الحافظ: وليس اعتراضه جيداً، لأن هذا رواه الشافعي هكذا (ر. تلخيص الحبير: 1/ 173 ح 242، ترتيب مسند الشافعي: 1/ 50 ح 145، مسند أحمد: ج 5 ح 3081 تحقيق الشيخ شاكر، أبو داود: الصلاة، باب في المواقيت، ح 393، وصحيح أبي داود: 1/ 79 ح 377، الترمذي: أبواب الصلاة باب ما جاء في مواقيت الصلاة، ح 149، وصحيح الترمذي: 1/ 50 ح 128، وابن خزيمة: ح 325، والدارقطني: 1/ 258، والحاكم: 1/ 193 وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي: 1/ 367، والمشكاة 583، والإِرواء: 249). (¬2) "كما" بمعنى عندما.

ويتصل انحطاطها بآخر ارتفاعها -وإِن كان لا يتبيّن للراصد في الظل- فهذا تخيّل لا اعتبار به في الشرع، والذي يحقق ذلك، أنا أولاً: لا نُبعِد أن يتخيَّل وقوفُ الظل والشمسُ في [آخر] (¬1) الترقي، كما لا نُبعِد ذلك في اعتقادِ أول الانحطاط وقد ورد الشرع بالنهي عن الصلاة في وقت الاستواء، كما سيأتي ذلك في باب الأوقات المكروهة، وذلك الوقت ليس وقتَ إِجزاء الظهر وفاقاً، والذي يدور في خَلَد الفطِن، أنه إِذا بان ازدياد الظل، فنعلم قطعاً أن الشمس قد زالت قبل أن بان للراصد بلحظة. فإِن قال قائل: لو صادف التكبيرة ما قبل زيادة الظل، ثم اتصل على القرب بها ظهور الفيء، فهل تقضون بانعقاد الصلاة في هذه الحالة؟ فالخبير بالمواقيت لا يعجز عن تقسيم وقت وقوف الظل ثلاثة أقسام، حتى يفرض قسماً إِلى آخر الارتفاع، وقسماً إِلى آخر (¬2) تردّد الراصد، وقسما إِلى الزوال. وهذا أقصى مَا يُبديه ذو الفطنة في هذا. ولكن الوجه القطع بأنه لا يدخل وقت إِجزاء الظهر ما لم يتبين ازدياد الظل، وما قبل ذلك معدود في وقت الاستواء. وإِذا وقعت التكبيرة قبل تبيّن ظهور الزيادة، لم يُحكم بانعقاد الصّلاة؛ فإِن المواقيت الشرعية مبناها على ما يُدرك بالحواس، وفي مساق الحديث ما يدل على ذلك؛ فإِن جبريل أبان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخر الوقت بمصير ظل كل شيء مثله، ولا يخفى على المتأمل أن الآخر إِذا تأقَّتَ بذلك، فأول الوقت بظهور أول الظل الزائد. فهذا بيان أول وقت الظهر. 645 - ثم ينقضي وقته إِذا صار ظل كل شيء مثلَه، من أول الزيادة. ولا يحسب المثل من أول ظل الشخص (¬3)، فإِنه لو قُدّر ذلك، فقد يكون الظل وقت الاستواء في ¬

_ (¬1) في الأصل: في أجل. والمثبت من: ت 1، ومن مختصر ابن أبي عصرون. ثم وجدناها في (ل). (¬2) في (ت 1): وقسماً آخر إِلى تردد الراصد. (¬3) الشخْصُ: كل جسم له ارتفاع وظهور، وغلب في الإنسان (المعجم)، والمراد هنا العموم وليس الإنسان وحده.

الشتاء زائداً على الشخص، فالنظر إِلى ما يفيء ويرجع من الظل بعد النقصان، ولا خفاء بمثل ذلك، ولكني أُضطر إِلى ذكر الجليّات؛ [إِذ التزمت] (¬1) نظم مذهب جامع. 646 - وأول وقت العصر يدخل بانقضاء وقت الظهر، فليس بين منتهى وقت الظهر ومبتدأ وقت العصر فاصل وزمان متخلل، ثم صلاة العصر مجْزِئة أداءً إِلى غيبوبة [الشمس] (¬2). ونحن نذكر الآن فصلين في مواقيت الصلاة، بهما تمام البيان. [الفصل الأول] (¬3) 647 - أحدهما: أن معتمد الشافعي في المواقيت بيانُ جبريل عليه السلام؛ والخبر المأثور فيه مشعر بتعرضه لبيان أوائل الأوقات في نوبة، وبيان أواخرها في نوبة، وهذا واضح معترف به في صلاة الظهر. وفي الحديث أدنى غموض؛ فإِنه يخيل أن صلاة الظهر أقامها في اليوم الثاني في الوقت الذي أقام فيه صلاة العصر في اليوم الأول، ومن هذا اعتقد مالك (¬4) أن الوقت مشترك. وقد اضطربت المذاهبُ في وقت الظهر والعصر، وأبعدُها مذهبُ أبي حنيفة؛ فإِنه زعم أن وقت العصر يدخل بمصير ظل كل شيء (5 مثليه، وأن وقت الظهر يمتد إِلى أن يصير ظل كل شيء 5) مثليه، وخالفه صَاحباهُ (¬6)، وقالا: لم يقنع صاحبنا بمخالفة ¬

_ (¬1) في الأصل: لترتيب نظم. والمثبت من: ت 1. (¬2) في الأصل: الشفق. والمثبت من: (ت 1). (¬3) زيادة من المحقق. (¬4) ر. الإِشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 201 مسألة 176، حاشية الدسوقي: 1/ 177، جواهر الإِكليل: 1/ 32. (5) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1). (¬6) فيما رأيناه من كتب السادة الحنفية، عند عرضهم لرأي ومخالفة الصاحبين، لم ينسب أحدٌ هذا =

رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خالف جبريل عليه السلام، ولم يَبْنِ مذهبه على خبر، ولا قياس، وإِنما استمسك بحديث أرسله رسول الله مثلاً، لما قال: "مثلنا ومثل من كان قبلنا" الحديث (¬1)، ثم ليس فيه للأوقات ذكر، وإِنما اشتمل الحديث على كثرة الأعمال وقلتها. فأما متعلق مالك في ادعاء الاشتراك، فما نبهنا عليه في أول العصر بمقدار ما يسع أربع رَكعات، فهذا المقدار يصلح لأداء الظهر والعصر، وهذا مذهب المزني فيما حَكاه الصيدلاني. 648 - وَاقتصد الشافعي، واعتمد الحديث، وفهم من بيان جبريل فَصْلَ أواخر (¬2) الأوقات عن أوائل ما يليها، فعلم من هذا المساق انقطاعَ آخر وقت الظهر من أول وقت العصر، فاعترض له منشأ إِشكال مالك، فرأى في ذلك تقريبا حسناً، وقال صلى جبريل صلاة الظهر في اليوم الثاني في آخر المثل الأول، بحيث انطبق التحلل عنها على انقضاء المثلِ، فقيل: صلى جبريل حين صار ظل كلِّ شيء مثله، وصلى صلاة ¬

_ = القولَ عن مخالفة الإِمام الأعظم الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل- إِلى الصاحبين (ر. المبسوط: 1/ 142، البدائع: 1/ 122، ابن عابدين: 1/ 240، والبحر: 1/ 257) وانظر فتح القدير ونصب الراية وغيرها. (¬1) حديث "مثلنا، ومثل من كان قبلنا" رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر بلفظ: قال صلى الله عليه وسلم: "مثلكم ومثل أهل الكتابين، كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إِلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إِلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إِلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: ما لنا أكثر عملاً، وأقل عطاء؟ قال: هل نَقَصْتُكُم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أُوتيه من أشاء" (رواه البخاري: الإِجارة، باب الإِجارة إِلى نصف النهار، ح 2268، وباب الإِجارة إِلى صلاة العصر، ح 2269، ورواه أيضاً في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، ح 557. ورواه الترمذي: الأدب، باب ما جاء في مثل ابن آدم وأجله وأمله، ح 2871، ورواه أحمد في مسنده: 2/ 6، 111.). (¬2) بين سطور نسخة (ت 1) - تفسير للأوائل والأواخر، بأنها أواخر أوقات الظهر، وأوائل أوقات العصر.

العصر في اليوم الأول حين ابتدأ المثل الثاني متصلاً بانقضاء المثل الأول، فحسنٌ أن يقال: صلى حين صار ظل كل شيء مثلَه، فكانت إِحدى العبارتين مشيرة إِلى آخر المثل، والثانية إِلى الزمان المتصل بالآخر، واحتمال هذا في اللفظين مع إِمكانه وانسياغه في اللسان أمثلُ من التزام الاشتراك، والخروجِ عن مقصود الوقت المؤقّت في فصل أواخر المواقيت عن أوائل ما يعاقبها ويليها. فهذا بيان تأسيس مذهب الشافعي في ذلك، وليس ما ذكره بِدْعاً؛ الله تعالى ذكر بلوغ الأجل في العدة، وعَنى الإِشراف على الانقضاء، فقال: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] معناه: "فراجعوهن" وذكر البلوغ في آية أخرى وأراد الانقضاء، فقال تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} (¬1) [البقرة: 232] وقال الشافعي في تجويز مثل ذلك في اللسان: يقال: بلغ المسافر البلد، إِذا انتهى إِليها، وإِن لم يدخلها، ويقال: بلغها، إِذا دخلها وتوسط [أبنيتها] (¬2). 649 - ثم بعد هذا اعترض إِشكالٌ آخر في الحديث، فإِن جبريل أبان بالتعرض لآخر وقت الظهر انقضاءَ وقته، وجرى على تلك الصيغة في صلاة العصر، والعشاء، والصبح، ما (¬3) يدل على ما يخالف ظاهر المذهب؛ فإِنه صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى صلاة العشاء في النوبة الثانية حين ذهب ثلث الليل، وصلى صلاة الصبح في المرة الثانية حين أسفر، فاقتضى ظاهر ذلك أن وقت الأداء في هذه الصلوات ينتهي بالانتهاء إِلى هذه الأوقات، كما جرى ذلك في صلاة الظهر، ولكن اضطرب الأصحاب في هذا على طرق: فذهب الأقلون إِلى التزام ذلك في هذه الصلوات، والمصيرِ إِلى أن الصلاة تفوت بالانتهاء إِلى هذه الأوقات، وهذا غير معدود من متن المذهب، وقد عزاه الناقلون إِلى الإِصْطخري. ¬

_ (¬1) وتمام الآية {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] ونكاح زوج آخر لا يكون إِلا بعد انقضاء العدة. (¬2) في الأصل: وتوسط فيها. والمثبت من (ت 1). (¬3) (ما) الموصولة هنا فاعل للفعل (جرى).

والذي نص عليه الشافعي وتابعه عليه الأئمة، أن هذه الصلوات لا تفوت بالانتهاء إِلى هذه الأوقات. ورأى الشافعي إِزالة الظاهر فيها؛ لأخبار صحيحة صريحة عنده في امتداد وقت الأداء وراءها؛ فإن النبي -عليه السلام- قال: "من أدرَك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح" (¬1)، فكان ما ذكره جبريل بياناً للمواقيت المختارة في الصلوات الثلاث. وقال قائلون من حملة المذهب: "صلاة العصر والصبح لا تفوت بالانتهاء إِلى المثلين والإِسفار، وصلاة العشاء تفوت بالانتهاء إِلى الزمان المذكور"، وإِنما فصَّل هؤلاء؛ لأن الخبر في إِدراك ركعة ورد في العصر والصبح دون العشاء. وهذا غير مرضي؛ فإِنه ثبت في صلاة العشاء ما يناقض هذا المذهب؛ فإِنا لا نعرف خلافاً في أن الحائض إِذا طهرت، وقد بقي من الليل مقدارُ ركعة، أنها تصير مُدْرِكة لصلاة العشاء، ولو لم يكن ذلك معدوداً من وقت العشاء، لما صارت مدركة لها، كما لو طهرت مع طلوع الفجر. فهذا أحد الفصلين. الفصل الثاني في بيان كلام الأصحاب في وقت الفضيلة، والاختيار، والجواز في صلاة العصر 650 - قال الشيخ أبو بكر (¬2): للعصر أربعة أوقات: وقت الفضيلة: وهو أول الوقت. ووقت الاختيار: وهو يمتد إِلى انقضاء المثل الثاني. ووقت الجواز من غير كراهية: وهو ما بعد ذلك إِلى اصفرار الشمس. ¬

_ (¬1) حديث "من أدرك ركعة .. " متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة، ح 579، مسلم: المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة، ح 608). (¬2) المراد الصيدلاني، كما يفهم من كلامه الآتي عن صلاة الظهر.

ووقت الجواز مع الكراهية: وهو مع الاصفرار إِلى الغروب. وما ذكره سديد. أما الفضيلة، فمأخوذة من الأخبار التي تستحث على مبادرة الصلوات في أوائل الأوقات، ونحن نذكر على الاتصال (¬1)، فهذا بيان وقت الفضيلة. وأما وقت الاختيار: فمتلقى من بيان جبريل، فما دخَل تحت بيانه، فهو مختار، وإِن انحط عن الأفضل. والجواز إِلى الغروب مستفاد من الحديث الذي ذكرناه. والكراهية ثابتة في وقت الاصفرار؛ لأخبار سنرويها في باب الأوقات المكروهة. وللعصر وقت خامس وهو: وقت الجمع بعذر السفر والمطر، كما سيأتي إِن شاء الله تعالى. 651 - فأما صلاة الظهر، فلم يقسم وقتَها الصيدلاني، ولاشك أنه ينقسم إِلى: الفضيلة والاختيار. فأما وقت الفضيلة، فالأولُ. والاختيار ممتد إِلى انقضاء الوقت الذي ذَكره جبريلُ. ولها وقت الجمع، كما سيأتي. فهذا تمام مضمون الفصْلين. 652 - ونحن نذكر الآن وقتَ صلاة المغرب، ووقتَ صلاة العشاء، والصبح. فأما وقت صلاة المغرب، فيدخل بغروب الشمس، وبه إِفطار الصائم، وقد يُشْكل غروبُ الشمس على من يقطن موضعاً محفوفا بالتلال، والجبال، فالرجوع فيه إِلى بَدْو (¬2) الظلام منَ المشرق، فليعلم الطالب أن للطلام طلوعاً وبَدْواً من المشرق عند تحقق غروب الشمس، كما للصبح الصادق طلوعٌ منه في أول النهار. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إِلى المشرق بيده فقال: "إذا أقبل ¬

_ (¬1) كذا في النسختين، ولعل المقصود: ونحن نذكر الأوفات على التوالي، وجاءت (ل) موافقة لهما. (¬2) بهذا الضبط، وهو مصدر غير جارٍ على الألسنة للفعل: (بدا) بمعنى ظهر (القاموس).

الظلام من هاهنا، وأشار إِلى المغرب. وقال: وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم" (¬1). فهذا بيان أوّل وقت صلاة المغرب. فأمّا آخر وقتها، فقد اختلف قول الشافعي فيه، فقال في أحد القولين: يمتّد وقتها إِلى غيبوبة الشفق الأحمر، فبها يدخل وقت العشاء، وليس بين منقرض وقتها ومبتدأ وقت العشاء فاصل من الزمان. وقال في القول الثاني: لا يمتد وقت أدائها إِلى وقت العشاء (¬2). توجيه القولين: من قال: إِنه لا يمتدّ، استدل بحديث جبريل وإِقامته صلاة المغرب في وقتٍ واحد في النوبتين جميعاً، ويشهد لهذا القول اتفاق طبقات الخلق في الأعصار على مبادرة هذه الصلاة في وقتٍ واحد، مع اختلافهم فيما سواها من الصلوات. ومن نصر القول الثاني، استدل بأخبار رواها الأئمة وصححوها (¬3)، منها ما روي "أن النبي عليه السلام صلى المغرب عند اشتباك النجوم" (¬4) وقد ذهب أحمدُ بن حنبل (¬5) إِلى هذا القول، ولولا صحة الأخبار عنده، لما رأى ذلك. ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه بلفظ: "قال صلى الله عليه وسلم: إِذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم" (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 244 ح 668). (¬2) ر. المختصر: 1/ 56. (¬3) في هامش الأصل: صح عند المحققين من المحدثين امتداد وقت المغرب إِلى غيبوبة الشفق. (¬4) لم أصل إِلى الحديث بهذا اللفظ، ولكن وردت أحاديث صحيحة، في أن وقت المغرب ممتدّ إِلى دخول وقت العشاء، منها حديث جابر في إِمامة جبريل عليه السلام، حكى الترمذي أنه أصح شيء في المواقيت، يعني في إِمامة جبريل، ومنها حديث بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم بين المواقيت للسائل عنها، بقوله: "صل معنا هذين اليومين" .. وهذا في صحيح مسلم، وبمعناه في مسلم أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. (ر. التلخيص: 1/ 174 ح 248، وصحيح مسلم: 1/ 426 - 430، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب أوقات الصلوات، ح 612، 613. ونيل الأوطار: 1/ 389 - 391). (¬5) ر. الإِنصاف: 1/ 434، كشاف القناع: 1/ 253، ويستفاد منهما أَن لها وقتين، أحدهما ما نسبه الإِمام لأحمد.

وأما ابتدار الناس إِلى هذه الصلاة، فالسبب فيه -والعلم عند الله- أن العَمَلَة وأصحابَ المكاسب يأوون ليلاً عند الغروب إِلى منازلهم، ووقت الغروب غير بعيد من وقت غيبوبة الشفق، فلو لم يبتدروا هذه الصلاة، لغلبَ فَواتُها على طوائفَ. 653 - التفريع على القولين: إِن قلنا: يمتد الوقت إِلى غيبوبة الشفق، فلا كلام، وإِن حكمنا بأن الوقت لا يمتدّ إِلى الغيبوبة، فإِلى أي وقت يمتد؟ وما التفصيل فيه؟ هذا يستدعي تقديمَ أمرٍ في المواقيت هو مَعْنِيٌّ في نفسه، والحاجة ماسة إِليه فيما نحاوله من وقت صلاة المغرب على قول التضييق، فنقول: مذهب الشافعي أن الأفضل إِقامة الصلوات في أوائل الأوقات، وسيأتي ذلك في فصل بعد هذا. 654 - والذي نذكره منه أن ضبط القول في إِدراك فضيلة الأوّليّة مختلف فيه، وحاصل القول فيه ثلاثة أوجه: وجهان ذَكرهما الشيخ أبو علي، والثالث ذَكرهُ صاحب التقريب. فأحد الوجهين اللذين ذكرهما أبو علي أن وقت الفضيلة يمتد إِلى نصف الوقت في كل صلاة، ووجْهُ هذا، أنه ما لم يتم النصفُ، فمعظم الوقت باق، فيجوز أن يسمى مقيم الصلاة -والحالة هذه- موقِعاً صلاتَه في حدّ الأولية. وهذا بعيد عنْدي؛ فإِن إِقامة الصلاة في أول الوقت يقتضي بداراً، ومن أخَّر الصلاةَ إِلى قريب من نصف الوقت، في حُكم المؤخِّر، ثم من يضبط بالنصف لاشك أنه يجعل البدار أولى، وهذا تقسيم أول (¬1) الوقت إِلى الأفضل وغيره. والوجه الثاني: أن الفضيلة إِنما يُدركها من نطق تكبيرةَ العصر على أول الوقت، وهذا القائل يقول: لا يدرك فضيلة الأوّليّة إِلا من يقدم الطهارة، والتأهب على دخول الوقت، حتى قال هذا القائل: لا يتصور إِدراك فضيلة الأوّلية مع التيمم؛ فإِنَّ شرط التيمم أن يقع بعد دخول وقت الصلاة. وهذا سرفٌ ومجاوزة حدّ؛ فإنَّ الذين كانوا يبادرون الصلاة في أول الوقت كانوا لا يضيقون الأمر على أنفسهم إِلى هذا الحد، فكيف يتخيل المحصّل ثبوت هذا مع العلم بان الأذان والإِقامة كانا يقعان بعد دخول ¬

_ (¬1) في (ل): وهذا تقسيم الأولية إلى الأفضل وغيره.

أوقات الصّلوات، وإِنما اضطربت المذاهب في صلاة الصبح ووقت الأذان لها، كما سيأتي ذلك؛ فالوجهان اللذان ذكرهما الشيخ ضعيفان جداً. والوجهُ الثالثُ: ذكره صاحب التقريب، وهو الأقربُ؛ وذلك أَنَّهُ قال: معنى المبادرة أن يتشمر الإِنسان لأسباب الصّلاة عقيب دخول الوقت، بحيث لا يعد متوانياً ولا مؤخراً لها، والطهارةُ والأذان والإِقامة من الأسباب. ثم قال: "لو وقع في شُغل خفيف من أكل لُقَم أو مخاطبة إِنسان من غير تطويل، فهذا مما لا يفوّت الأوَّليّة". ورأيتُ الطرق مترددة في إِيقاع التستر بعد الدخول. فألحق العراقيون التستر بالطهارة، ولم يَعُدُّوا الاشتغال بها مفوِّتاً للأوَّليّة. وكان شيخي يناقش في هذا من أجل أن فريضة الستر لا اختصاص لها بالصلاة، ولست أرى على الوجه الذي ذكره صاحب التقريب لهذا معنى؛ فإِنَّه صار إِلى أن التناهي في التضييق لا أصل له في تفويت فضيلة الأولية، كما ذكرناه الآن، وليس الزمان الذي يتأتى الستر فيه مما يُنهي الأمر إِلى مجاوزة التقريب في ذلك. 655 - وعلى الجملة [أسوتنا] (¬1) في ذلك كله ما كان يعتاده السلف الصالحون المبادرون لإِقامة الصلوات في أوائل الأوقات، والكلام في مثل ذلك ينتشر، ونحن نحاول ضم النشر ما أمكننا، فنقول: الأذان والإِقامة معتبران بعد وقت الصلاة، وكذلك الطهارة، وكل ذلك من غير تطويل بيّن، ولا تكلّفِ عجلةٍ على خلاف الاعتياد، ويعتبر أيضاً تقديم السنن التي قدّمها الشرع على الفرائض، ثم ما لا يدخل في الحس دخولاً ظاهراً، ولا يؤثر في إِظهار أثر التأخير إِلا للراصد الحاذق، فذاك لو وقع، فغير مؤثر في تفويت الفضيلة، وأكل لقمة يكسر بها (¬2) شهوة الجوع، والتستر مع قرب الثوب من هذا الفن. ثم الذي يتجه في ذلك أن وقت الفضيلة إِن انقسم إِلى الأفضل والفاضل، لم يبعد، فالذي يترك الأذان والإِقامة والستر لا يصير بهذا البدار حائزاً للأفضل، وإِنما تتلقى ¬

_ (¬1) في الأصل: أسلوبنا. والمثبت من: (ت 1). ثم جاءت به (ل) أيضاً. (¬2) في (ت 1): يسكن سَوْرةَ الجوع.

حيازة الأفضل من ترك الفعل الذي لا يُحس له أثر ظاهر في الوقت، ويلحق به أيضاً تقديم الطهارة على الوقت لمصَادفة الأوّلية، فهذا أقصى الإِمكان في ذلك. ثم كان شيخي أبو محمد (¬1) يميل إِلى ضبط الأولية بنصف الوقت، وكان يذكر فيه دقيقة: وهي أن المرعي نصف الزمان الذي دَخَل تحت بيان جبريل عليه السلام، وهذا بيِّن في وقت صلاة الظهر، فأما وقت صلاة العصر فمنتهاه في بيانه عليه السلام أن يصير ظل كل شيء مثليه. والمذهبُ امتدادُ وقت الجواز وراء ذلك. وكان شيخي يقول: وإِن كان كذلك، فالفضيلة متلقاة من نصف المثل الثاني، والأمر على ما ذكره. فهذا حكم ما قيل في ضبط الأوليّة. 656 - ونحن نعود بعد ذلك إِلى صلاة المغرب ووقتِها في التفريع على [قول] (¬2) التضييق، فنقول: أما رعاية التطبيق على أول الوقت، فليس معتبراً، بلا خلاف، وأما النظر إِلى نصف وقته كما سبق نظيره في الفضيلة، فليس معتبراً أيضاً، وإِنما اعتبر الأئمة في وقت المغرب التقريبَ الذي راعاه صاحبُ التقريب في فضيلة الأولية، وقد نص عليه في صلاة المغرب، تفريعاً منه على قول التضييق. فنقول: نَعتبر وقتَ الأذان والإِقامة، ونعتبر وقتَ الطهارة، ثم بعد ذلك -مع الاقتصاد في ذلك كله بين التطويل وبين التعجيل- نرعى وقتاً يسعُ خمسَ ركعات بالفاتحة، وقصار المفصل، وإِنما ذكرنا الخمس؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون ركعتين خفيفتين (¬3) بين الأذان والإِقامة لصلاة المغرب، ولست أرى هذه السنة بمثابة سنة الظهر؛ فإن تقديم سنة الظهر كان مستقراً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشروعاً، وليس كذلك الركعتان قبل فرض المغرب؛ فإن الصحابة كانوا لا يبتدرونها، كالذي ينتهز فرصة؛ فإن المؤذن كان ¬

_ (¬1) هنا صرح الإِمام بكنية والده (أبو محمد). مما يؤكد بقطع بأنه يعني (بشيخي) والده. رضي الله عنهما. (¬2) زيادة من: (ت 1). (¬3) في هامش (ت 1): مما يحفظ: ركعتان من الخير، هما اللتان بين الأذان والإِقامة.

لا يصل أول كلمة الإِقامة بآخر كلمة الأذان في المغرب، فهذا ما أردناه في ذلك. ثم إِن أكل لُقَماً يلتحق بما لا يحس له أثر في الوقت. وعلى الجملة: الأمر في وقت المغرب أضيق قليلاً مما جعلناه معتَبَرَنا في الأولية؛ لأن الأثر يسرع ظهوره في وقت المغرب بازدياد مبادىء الظلام. 657 - ثم ذكر العراقيون وراء ما ذكرناه اختلافاً في أمرٍ، وهو يستدعي تقديم أصلٍ آخر مقصودٍ في المواقيت، فنقدمه على دأبنا فيما نُقدِّم، ونقول: من أوقع في غير صلاة المغرب ركعةً في الوقت، ووقعت بقيةُ الصلاة وراء منتهى الوقت، فقد اختلف الأئمة في أن الصلاة مؤداة أو مقضية؟ فمنهم من قال: هي مقضية، مهما وقع التحلل [وراء] (¬1) الوقت. ومنهم من قال: هي مؤدّاة اعتباراً بإيقاع ركعة في الوقت. وذكر شيخي في بعض الدروس: أن الأمر منقسم، والواقع في الوقت مُؤدّى، والواقع ورَاءه مقضي. وسيظهر أثر هذا في باب القصر. ومن آثاره الناجزة جواز اعتماد ذلك؛ فإِن حَكمنا بأن الصلاة تصير مقضية أو يصير بعضها مقضياً، فلا يجوز التأخير إِلى هذا الوقت قصداً، وإِن قلنا: هي مؤداة كلها، فقد كان شيخي يردد جوابه مع ذلك في أنه هل يجوز التأخير إِلى هذا الحدّ؟ والمسألة محتملة. والظاهر عندي منعُ التأخير؛ فإنَّ جَعْل الصلاة مؤداةً مأخوذ عندي من وقت العقد والنيَّة، وما أرى إِخراج بعض الصلاة عن الوقت قصداً جائزاً (¬2). ومما يليق بتمام ما نحن فيه، أن الأئمة ذكروا الركعة فيما يقع في الوقت، فإِنها القدر الذي يقال فيه: إِنَّه معتد به محسوب. وهو الذي يشترط إِدراكه من صلاة الجمعة، [وكان شيخي يردّ ذلك مراراً إِلى] (¬3) تفصيل المذهب في إِدراك الفريضة في ¬

_ (¬1) في الأصل: في الوقت. والمثبت من (ت 1). (¬2) "جائزاً" مفعول ثانٍ لـ (أرى). (¬3) في الأصل: "وكان شيخي يردد ذلك مراراً إلى تفصيل ... ". وفي (ت 1): "فكان شيخي مراراً يرد ذلك إلى ... ". وفي (ل): "ورأيت شيخي مراراً يرد إلى ... ". والمثبت عبارة مؤلفة من النسخ الثلاث.

حق أصحاب الضّرورات، وسيأتي قولٌ ظاهر في اعتبار تكبيرة العقد في حقوقهم، والذي ذكره ونزَّله غير بعيد، فهذا بيان ما قَدَّمنا. 658 - وذكر العراقيون في صلاة المغرب تردداً واختلافاً، في أَنَّا إِذا ضيقنا وقت المغرب، فهذا التضيق لابتداء العقد، أمْ هو جارٍ في الصلاة كلها حلاً وعقداً؟ فأحد الوجهين - أن التضييق يشمل الصلاة، حتى إِذا وقع بعضها وراء الوقت الذي يسمع ما وصفناه، وقع في الخلاف المقدّم الآن، في أن الصلاةَ مقضيةٌ أو مؤدّاةٌ وجهاً واحداً. الوجه الثاني: أن التضييق في ابتداء العقد، حتى لو مدّ المصلي الصلاة وأخرجها عن الوقت المعتبر، فالصلاة كلها مؤداةٌ، وجهاً واحداً، وجواز المدِّ يمتد إلى غيبوبة الشفق، وإِنما اختصت صلاة المغرب بذلك عند هذا القائل من بين الصلوات، لما روي عن النبي عليه السلام "أنه قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب" (¬1). وهذا -إِذا حمل على الأمر المعتاد- قصدٌ لإِخراج أفعال الصلاة عن الوقت المذكور، وكان شيخي يذكر هذا في مقتضى ما ذكره العراقيون، ويقول: من جوز في غير صلاة المغرب إِيقاع بعض الصلاة وراء الوقت، ففي تجويز ذلك في صلاة المغرب عنده خلاف؛ لاختصاصها بالتضييق. وهذا وإِن كان يبتدره فهمُ المبتدىء، فهو غلطٌ عندي، والوجه مَا ذكره العراقيون؛ للخبر، ولأن وقت المغرب على قول التضييق خارج عن الضبطِ، فردُّ الأمر إِلى وقت العقد، والاتساع في وقت التحلل حسنٌ بالغ عندي. ثم قَطعَ أئمتنا بأن من أخرج بعض الصّلاة عن الوقت وإِن منعنا ذلك، فالصلاة صحيحة، وقالوا: إِن خطر للناظر أن القضاء لا يصح بنية الأداء، فهو مردود عليه؛ ¬

_ (¬1) حديث قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم سورة الأعراف في صلاة المغرب، رواه البخاري من حديث زيد بن ثابث، والنسائي، والترمذي، وأحمد. (ر. البخاري: الأذان، باب القراءة في المغرب، ح 764. والترمذي: الصلاة، القراءة في المغرب: 2/ 113 ح 308، 309، والنسائي: 1/ 214، القراءة في المغرب، ح 989، ومسند أحمد: 5/ 418، والتلخيص: 1/ 175 ح 249).

فإِنا نصحح نية الأداء في محل الضرورة، كما لو صام المحبوس شهراً حسبه شهر رمضان، ثم بان أنه ذو القعدة بعد مضي شهر رمضان، فيقع الاعتداد بما جاء به. وهذا عندي صحيح إِذا كان لا ينضبط الوقت الذي إِليه التّأخير، وكان يعزم (¬1) المؤخِّر أنه يسع الصلاة، ثم يتفق خروج بعضها، فأمّا إِذا كان ينضبط في العلم أن الوقت لا يسع إِتمام الصلاة، ثم قلنا: إِن الصَّلاة مقضية، فإذا نوى الأداء والوقتُ وقتُ القضاء على بصيرة، لم تصح الصلاة أصلاً، وهذا بمثابة ما لو نوى الأدَاء في صلاة يبتديها بعد الوقت. ولو أنشأ الصلاة في بقية الوقت، وكان يسع تمام الصّلاة، ثم مَدَّهَا قصداً حتى خَرجَ الوقت، فالذي رأيت الطرق عليْه أن الصَّلاة لا تفسد، تفريعاً على أَنَّ الصّلاة مقضية، فإنه لما نوى الأداء كان الأداء ممكناً، فطريان حكم القضاء غير ضائر، وليس كما إِذا خرج بعض الجمعة عن الوقت، على ما سيأتي؛ فإن الإِيقاع في الوقت شرط صحة الجمعة، ولذلك لا يصح قضاؤها، والوقت ليس شرطاً في غيرها من الصلاة، ولذلك يصح القضاء في غيرها. فرع: 659 - إِذا مضى بعد الغروب على قول التضييق ما وصفناه، فإقامة السنة بعد الفريضة محبوبة، ثم هي مؤداة. وفي هذا بقية نظر؛ فإن السنة التابعة للفريضة وقتُها وقتُ الفريضة، فينبغي على قياس تجويز أداء سنة صلاة المغرب أن يجوز افتتاح أداء الفرض في وقت أدَاء السنة، والوجه في هذا عندي: أَنَّا اعتبرنا مقدار خمس ركعات بعد التأهّبِ، فإن مضى ما يسَعُ خمساً، فالسنة بعدها نافلة محبوبة، تسمى صلاة الأوَّابين، وما أراها بمثابة سنة الظهر التي تلي الصلاة (¬2). وكان كثير من السلف يستغرق ما بين الفراغ من فرض صلاة المغرب إِلى أول وقت العشاء بالنوافل، فالمعدود وقتاً للمغرب بعد انقضاء وقت التأهب ما يسع قدر خمس ركعات. ثم إِن وقعت الركعتان قبل الفرض، فذاك، وإِن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي (ت 1)، ثم وجدناها في (ل) "يُقدر"، فهل "العزم" ومعناه الإرادة والتصميم وعقد النية يؤدي معنى "التقدير" فتكون "يعزم" مضمَّنة معنى "يقدر"؟ (¬2) في (ت 1): "تلي العصر". والمراد التي تلي صلاة الظهر، كما صرح به ابن أبي عصرون في مختصره للنهاية.

قُدّرتا بعد الفرض، فوقتهما وقتٌ لافتتاح الفرض، وأما ما يزيد على ذلك على قول التضييق، فهو خارج عن الوقت، وما يفرض فيه من نافلة، فليس على حقيقةِ توابع الفرائض. وقد نجز القول في وقت المغرب. 660 - فأما وقت العشاء، فيدخل أوله بغيبوبة الشفق الأحمر. والشمسُ إِذا غربت يعقبها حُمرة، ثم ترِقُّ إِلى أن تنقلب صفرةً، ثم يبقى بياضٌ. وأَول وقت العشاء يدخل بزوال الحمرة والصفرة. وبين غيوبة الشمس إِلى زوال الصفرة، يقرب ممّا بين الصُّبح الصّادق إِلى طلوع قرن الشمس، وبين زوال الصفرة إِلى انمحاق البياض، يقرب مما بين الصبح الصادق والكاذب، فهذا بيان أول وقت العشاء. وآخره في بيان جبريل إِلى مضيّ ثلث الليل وقد روي عن النبي عليه السلام في حديث صحيح أَنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل" (¬1) واختلف قول الشافعي في وقت الاختيار لصلاة العشاء لمكان الخبرين. ¬

_ (¬1) الشطر الأول: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" متفق عليه، من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان 1/ 59 ح 142). وأما الشطر الثاني: "ولأخرت العشاء إِلن نصف الليل" فرواه الترمذي بلفظ: "إِلى ثلث الليل أو نصفه"، وأحمد في مسنده، وصححه الشيخ شاكر، ح 7406، 9589، 9590، ورواه ابن ماجة، وفي هذه الروايات الشك في ثلث الليل أو نصفه، ورواه الحاكم، وفيه إِلى نصف الليل، بغير شك، وقال صحيح على شرطهما، وليس له علّة، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي: 1/ 36، 37، ورواه النسائي، وابن خزيمة، وعلقه البخاري، وابن حبان، وصححه الأرناؤوط. هذا. وقد قال النووي في المجموع عن هذا الحديث: "وأما الحديث المذكور في النهاية والوسيط، فهو بهذا اللفظ منكر لا يعرف، وقول إِمام الحرمين: إِنه حديث صحيح، ليس بمقبول منه، فلا يغتر به" ا. هـ بنصه. قال الحافظ في التلخيص معلقاً على ذلك: "وكأنه تبع في ذلك ابن الصلاح، فإنه قال في كلامه على الوسيط: لم أجد ما ذكره من قوله "إِلى نصف الليل"، في كتب الحديث مع شدة البحث. وهذا يتعجب فيه من ابن الصلاح أكثر من النووي، فإنهما وإِن اشتركا في قلة النقل من مستدرك الحاكم، فإِن ابن الصلاح كثير النقل من سنن البيهقي، والحديث فيه أخرجه من الحاكم. ا. هـ. كلام الحافظ بنصه. (ر. التلخيص: 1/ 64، 65 ح 67، وسنن الترمذي: الصلاة، باب ما جاء في تأخير صلاة =

وفي ذلك شيءٌ يجبُ التنبيه لهُ، وهو أن الحديث المشتمل على نصف الليل كان يجب أن يُقطع بتنزيل المذهب عليه، ويُحمل حديث جبريل على أن مد الوقت إِلى الثلث فحسب لدرء المشقة، فإِنه عليه السلام قال في الحديث الآخر: "لولا أن أشق عَلى أمتي" فهذا الترتيب موجب لقطع القول، ولكن، ما استاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الذي فيه السواك مقصوداً فيما يبين المواقيت، ويمكن أن يقال: أراد عليه السلام التقريب بذكر النصف وأرسله مثلاً، وأما حديث جبريل فمسوق للمواقيت، فكان التعلّق به أولى. ثم ما وراء الوقت المختار إِلى الفجر الصادق وقتٌ لأداء العشاء جوازاً على المذهب الظاهر، وقد تقدّم استقصاء ذلك في أثناء الفصول الماضية. 661 - وأمّا وقت صلاة الصّبح، فإِنه يدخل بطلوع الفجر الصادق، ويتقدّم الصّادقَ الكاذبُ، فيبدو الكاذبُ مستطيلاً، ثم يَمَّحق، ويبدو الصَّادق مستطيراً، ثم لا يزال الضوء إِلى ازدياد، ولا حكم للفجر الكاذب أصلاً، وسبيله سبيل كوكب يَطلع ويغرب، وهذا متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير" (¬1). ووقت الاختيار إِلى الإِسْفار، ووقت الجواز إِلى طلوع الشمس. فهذا بيان مواقيت الصّلاة ترتيباً على بيان جبريل. ¬

_ = العشاء الآخرة، ح 167، وتعليقات الشيخ شاكر بهامشه (1/ 310، 311)، والحاكم: 1/ 146، وابن ماجة: الصلاة، باب وقت صلاة العشاء، ح 691، وصحيح ابن ماجة: ح 565، وابن حبان: ح 1540، وسنن البيهقي: 1/ 36، 37، وشرح مشكل الوسيط لابن الصلاح، والتنقيح للنووي، كلاهما بهامش الوسيط: 2/ 18). (¬1) حديث: لا يغرنكم الفجر المستطيل ... ، رواه الترمذي من حديث سَمُرَة، بلفظ مقارب، وهو في مسلم، بألفاظ كلها مقاربة لهذا المعنى، ورواه أبو داود، والنسائي. (ر. مسلم: الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، ح 1094، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في بيان الفجر، ح 706، أبو داود: الصوم، باب وقت السحور، ح 2346، النسائي: الصيام باب كيف الفجر، ح 2173، والتلخيص: 1/ 177 ح 255).

فصل قال: "ولا أذان إِلا بعد دخول الوقت" (¬1). 662 - هذا وإِن كان من أحكام الأذان، ولكنه ذكره في المواقيت لتعلّقه بها. فنقول: الأذان لكل صلاة لا يجزىء ولا يُعتد به ما لمْ يدخل وقت الصلاة، إِلا صلاة الصبح، فإن الأذان قبل الصبح مجزىءٌ عند الشافعي، وقد صح عنده بطرقٍ: أن بلالاً كان يؤذن بليلٍ لصلاة الصبح (¬2). ثم اضطرب أئمتنا في أن الأذان إِلى أي حدّ يقدم على الصبح؟ فقال بعضهم: إِذا مضى الوقت المختار للعشاء، دخل وقت الأذان للصّبح. فإِن جعلناه ثلث اللّيل، فإِذا مضى، جاز الأذان للصبح. ومنهم من قال: لا يعتد به ما لم يوقع في النصف الثاني، وهذا القائل يمنع ذلك قبل مضي النصف، وإِن كان يرى الوقت المختار ثُلُثاً. ومن أصحابنا من قال: لا يعتدّ بالأذان إِذا تفاحش التقديم، وإِن وقع في النصف الثاني، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يقع سحراً قريباً من الصبح. ثم وجد هؤلاء متمسكاً في ذلك من الحديث، فَرَوَوْا عن سعد القَرَظ أنه قال: "كان الأذان لصلاة الصبح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشتاء لسُبُعٍ بقي من الليل، وفي الصيف لنصفِ سُبُع بقي من الليل" (¬3)، وروى صاحب التقريب هذا ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 72. (¬2) حديث أن بلالاً كان يؤذن بليلٍ، متفق عليه من حديث ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود (ر. اللؤلؤ والمرجان 2/ 6 ح 662، 663، 664). (¬3) حديث سعد القرظ، رواه البيهقي في المعرفة، ورواه الشافعي في القديم، قال النووي في المجموع: هذا حديث باطل، غير معروف عند أهل الحديث، نقله الغزالي وغيره. وساق الحديثَ على نحو ما حكاه إِمام الحرمين هنا عن صاحب التقريب: "سبع ونصف شتاء، وسبع صيفاً". (ر. معرفة السنن والآثار: 2/ 210 ح 2415. المجموع: 3/ 88، فتح العزيز: 3/ 38، 39، ومشكل الوسيط لابن الصلاح والتنقيح للنووي بهامش الوسيط: 2/ 20، والتلخيص: 1/ 179 ح 257).

في كتابه، وفيه أنه قال: "لسُبع ونصف بقي من الليل في الشتاء، ولسبع بقي في الصيف". وعندي أن هذا ليس تحديداً، وإِنّما هو تقريب، والمعتبر فيه على التقريب أَنَّ وقت هذه الصلاة يوافي الناس وهم في غفلةٍ، وللشرع اعتناء بالحث على أول الوقت، فلو صادف التأذين أولَ الوقت، فإِلى أن ينتبه النائم وينهض ويلبس ويستنجي ويتوضأ، يفوته أول الوقت، فقدم التأذين بقدر ما إِذا فُرض التهيؤ أمكن مصَادفة أول الصبح، وهو يقرب من السبُع ونصف السبُع، ولاشك أن ذلك ليس بحد على هذا الوجهِ الذي نفرعّ عليه، وإِنما يشترط هذا القائل التقريب. ولا نعتد بالأذان إِذا فرض بُعدٌ مفرط عن الصبح؛ لأنه دعاء إِلى صلاة الصبح، فينبغي أن يكون قريباً منها. وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً رابعاً بعيداً، أنه يجوز الأذان للصبح في جميع الليل اعتباراً له بنية الصوم، فكما يعم جوازُ نية الصوم للغد جميعَ الليل، فكذلك القول في الأذان للصبح، ولولا عُلُوُّ قدر الحاكي، وأنه لا ينقل في الشرحين (¬1) إِلا ما صح وتنقح عنده، لما كنت بالذي يستجيز نقل هذا. وكيف يحسن الدعاء لصلاة الصُّبح في وقت الدعاء إِلى صلاة المغرب، وإِلى صلاة العشاء، والسَّرَف في كُلّ شيء مُطَّرَح. ثم لو اكتفى المؤذّنُ للصُّبح بالتأذين قبل الصبح، جاز. ولا شك أنه لا يعتد بالإِقامة إِلا بعد طلوع الفجر. والأولى أن يكونَ في المسجد مؤذنان: يؤذن أحدهما قبل الفجر، ويؤذن الثاني بعد طلوع الفجر، وهكذا كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإِن بلالاً كان يؤذن بليل، وابن أم مكتوم كان يؤذن إِذا طلع الفجر، ثم كان يقيم بلال عند قيام الصلاة. قال شيخنا أبو بكر: إِن لم يكن في المسجد مؤذنان، فينبغي أن يؤذن المؤذن مرتين، مرة قبل الفجر، ومرة بعده، وإِن أراد الاقتصار على مرة واحدة، فالأولى أن يؤذن بعد الصبح. هذا ما قطع به في طريق الأوْلى، وهو مقطوع به لاشك فيه. ¬

_ (¬1) المراد شرح تلخيص ابن القاص، وشرح فروع ابن الحداد.

663 - فإِن قيل: قد ذكرتم أوجهاً في ضبط القول في التأذين لصلاة الصُّبح، وكل واحدٍ يسير إِلى مَسْلَكٍ في المعنى قريب أو بعيد، فمن يعتبر انقضاء الوقت المختار للعشاء، فالمرعي عنده ألاّ ينتظم (¬1) هو وأذان العشاءِ، فيلتبس الأمر. ومن راعى إِيقاعه في النصف الأخير يعتبر مع ما ذكرناه انقضاء معظم الليل. [ومن يقرب، يعتبر] (¬2) تحقيق الدعاء للصلاة، مع التهيؤ لها، وهذه معان. والشافعي نص فيما نقله المزني (¬3) أَنَّ تقديم التأذين ليس بقياس. قلنا: لو ردّ الأمر إِلى نظرنا، ولم يرد في صلاة الصبح ما يدل على جواز تقديم التأذين لها، لكنا نرى التقديم بمسلك المعنى، ولكن إذا ورد، فما ذكرناه استنباطات، فلا تستقل بأنفسها دون الاعتضاد بمورد الشرع. فصل (¬4) 664 - من بقية القول في المواقيت في حالة الرفاهيَة، القولُ في الاجتهاد فيها. اتفق الأئمة على أن المحبوس الذي لا يتأتى منه الوصول إِلى دَرك (¬5) اليقين في الوقت، بحيث لا يخشى الفوات، يجتهد برد الظن إِلى تأريخات وتقديراتِ أزمنة ومحاولة ضبطٍ بأورادٍ أو غيرها، وكيف لا؟ وقد رأى الشافعي للمحبوس في المطامير (¬6) أن يجتهد في طلب شهر رمضان، ثم إِن بان أنه أصاب، وقع الاعتداد بما جاء به، وإِن وقع صومُه بعد شهر رمضان، صح، وتأدّى الفرضُ بنية الأداء، وإِن ¬

_ (¬1) في (ت 1): ألا ينتظر فيه أذان العشاء ... وجاءت مثلها (ل). (¬2) في الأصل: حتى يقرب. والمثبت من: (ت 1). (¬3) ر. المختصر: 1/ 56. (¬4) في (ت 1): فرع. ومثلها جاءت (ل). (¬5) "درك" بفتح الراء وسكونها: اسم مصدر من الإدراك. (المعجم). (¬6) المطامير جمع مطمورة: وهي الحفرة تهيأ تحت الأرض ليحفظ فيها البُر، والفول، ونحوه، والبناء تحت الأرض، وهي السجن أيضاً، وهو المراد هنا. (المعجم والمصباح).

وقع قبل شهر رمضان، وتبين أمره بعد انقضاء الشهر المطلوب، ففي المسألة قولان، وسيأتي ذلك في موضعه. وكان شيخي يُجرِي الصلاة في حق المحبوس، وفي حق من اعتاص الأمر عليه مجرى الصوم، في صورة القطع نفياً وإِثباتاً، وفي صورة القولين، ويقول: الصلاة أولى بذلك من الصّوم؛ فإِن الأمر فيها أخف، ولذلك سقط قضاؤها عن الحُيَّضِ، وإِن لم يسقط عنهن قضاء الصَّوم. فأمّا إِذا كان بحيث لو صبر، لانتهى إِلى وقتٍ يستيقن دخولَ وقت الصلاة، فهل يجتهد في الوقت ويصلي بناء على الاجتهاد؟ فيه خلاف، وجماهير الفقهاء على تجويز ذلك؛ فإِن أسباب الظنون فيها ممكنة، ويشهد لذلك، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبنون أمر الفِطر على الظن، ولذلك اتفق في زمن عمر وقوعُ الفِطر في النهار، في قصة ستأتي في موضعها. وكان الأستاذ أبو إسحق يمنع الاجتهاد في الصُّورة التي نحن فيها، ويرى تقريب ذلك من اختيارٍ له في صورةٍ ظهر الاختلاف فيها، وهي أنّه إِذا كان مع الرجل إِناءان، أحدهما طاهر، والثاني نجس، وقد أشكل عليه أمرُهما، فإِنّه يجتهد ويتحرى، فلو كانا معه، وكان معه إِناء ثالث مستيقن الطهارة، ففي جواز اعتماد الاجتهاد خلافٌ مشهور. 665 - ومما يتعين النّظر فيه، أن أول الفجر إِذا بدا لأحَدِّ الناس بصراً وأشدِّهم نظراً، فلا شك أنّه طلع الفجر في علم الله قبيل إِدراك من وصفناه، فلو اجتهد المجتهد في صلاة الصبح، ثم بدا الفجر، وكانت الصلاة وقعت في وقت يعلم أنها فيه انطبقت على أول الفجر، ولكن كان ذلك في زمانٍ لا يتصور أن يتبين فيه الفجر للناظر، فالذي كان يقطع به شيخي، أن هذه الصلاة واقعة شرعاً قبل الوقت، وكان يُنزل هذا منزلة وقوع عقد صلاة الظهر في وقت الاستواء، ووقوف الظل، هذا حفظي عنه، وهو الذي طرده في أمر الصوم، وسأذكر فيه قولاً شافياً، في الصوم إِن شاء الله تعالى.

فصل قال: "والوقت الآخر وقت العذر والضرورة" (¬1). 666 - [جمع الشافعي بين العذر والضرورة] (¬2) ولَعله عبر بهما عن معبَّر واحدٍ، وأراد بيان أوقات صلوات أصحاب الضرورات، وهذا مقصود الفصل، والأصحاب يعبرون بالعذر عن السَّبب الذي يجوِّز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً، وهو السفر والمطر، كما سيأتي بيانه إِن شاء الله تعالى. وغرض الفصل الكلام في زوال الضرورات المؤثرة في منع وجوب الصّلاة في بقايا الأوقات، فنذكر جنساً واحداً من أصحاب الضرورات، ونسوق حكم الفصل فيه، ثم نذكر في خاتمة الفصل أعدادهم واستبانةَ الأحكام فيهم. فالمرأة إِذا طهُرت من حَيضٍ أو نفاس في آخر النهار، وقد بقي من النهار إِلى الغروب ما يسع مقدارَ ركعة، فقد صارت مُدْرِكةً لصلاة العصر، ولو أدْركت من النهار ما لا يسع ركعةً تامة، بل كان يسع قدرَ تكبيرة واحدة مثلاً، ففي إِدراكها صلاة العصر قولان للشافعي: أحدهما - أنها تصير مدركةً، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬3)، والثاني - لا تصير مدركة، ما لم تدرك مقدار ركعة، وهذا اختيار المزني. توجيه القولين: من اكتفى بإِدراك مقدار تكبيرة قال: قد أدركتْ شيئاً من الوقت، فلو فرض وقوع التكبيرة فيه، لكان ركناً من الصلاة مُقيَّداً (¬4)، فإِذا لم يُشترط إِدراك مقدار الصلاة بتمامها، فالتكبيرة كالركعة، وهذا القول متجه في القياس. ومن قال باشتراط مقدار الركعة، احتج بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: ¬

_ (¬1) المختصر: 1/ 57. (¬2) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 196، 238، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 262 مسألة: 214. (¬4) في النسختين: مفيداً (بالفاء)، ولعلّ الصواب (بالقاف) أخذاً من عبارة الفقهاء،: تقيّدت الركعة بكذا وكذا. أي أُدْركت. ثم (ل) وفيها: "معتداً به".

"من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر" وهذا قد تمسك المزني بمفهومه. وليس في الحديث ما يدل على التعرض لزوال الضرورات، بل ظاهر معناه: إِن تلبس بفعل الصلاة وتحرم بها، صار مؤدياً للصلاة، ولم يكن قاضياً إِذا أدرك مقدار ركعة، وهذا يدل على توجيه ما سبق من ذكر الأداء والقضاء في وقوع بعض الصلاة وراء الوقت. ثم الجواب السديد عن الحديث، أن ما ذكره الفقهاء من إِدراك مقدار تكبيرة فليس مما يفرض وقوعه، ويقدّر تعلق الحسّ بهِ، وإِنما ذكروه تقديراً لبيان مناط الأحكام على التقديرات، وإِن كان لا يقع، ومقصود حَمَلَةِ الفقه في التقديرات بيانُ مأخذ الأحكام، وتمهيد طرق الاستنباطات في مواقع الإِمكان، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتعرض لمثل هذا، وإِنما ينوط حكمَه وقضاءه بما يقدّر وقوعه، وأقلُّ ما يحصل إِدراكه مقدارُ ركعة، ولعلّه لا يفرض أيضاً إِلا مع الترصد، وإِحضار الذِّهن، فجرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يقع، وهو اللائق بمنصبه، وجرى كلام الفقهاء على التقدير. 667 - ومما يتعلق به المزني أنه قال: "إِدراك الجمعة يختص بمقدار ركعة، ولا يحصل بأقلَّ منها" (¬1) وهذا الذي ذكره غير واقع؛ فإِن الأصل إِقامة الصّلاة أربع ركعات، والجمعة مُغَيَّرةٌ عنها بشرائط، والقياس، أن من عَدِم الجماعة في جميعها أو في شيء منها، لم يكن مدركاً لها، وكان مردوداً إِلى الركعات الأربع، ففي إِدراك الجمعة إِسقاطٌ للرَّكعتين، فكان حكم الإِيجاب أغلب، وهذا المساق يقتضي أن يُغلَّب حكم الإِيجاب في مسألتنا، ويكتفى بمقدار تكبيرة. ونظير ما نحن فيه: لو أوقع المسافر تكبيرةً في الحضر وهو في السفينة، فَجَرَت، يلزمه الإِتمام، وإِن لم يتم ركعة في حالة الإِقامة، فهذا بيان القولين. 668 - ثم أجمع علماؤنا على أنها تصير مدركةَ الظهرَ على الجملة بإِدراك وقت العصر، وإِنما الاختلاف في أنها بماذا تصير مدركة لها؟ فقال الشافعي في قولٍ: مهما ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 58.

أدركت العصر فقد أدركت فريضة الظهر. ثم يخرّج ذلك على ما تقدّم، فإن قلنا: تُدرك العصر بمقدار تكبيرة، فتدرك الظهر به أيضاً، وإِن شرطنا ركعةً، فعلى ما نرى. وقال في قول آخر: إِنما تصير مدركة للصلاتين بإِدراك أربع ركعات وزيادة، ثم تلك الزيادة تكبيرة أو ركعة على ما تقدّم. وأبو حنيفة (¬1) لا يجعلها مدركة لصلاة الظهر ما لم تدرك من وقت الظهر شيئاً. وتعليل مَذْهبنا أنّ وقت العصر على الجملة وقتُ الظهر في حال العذر، والذي نحن فيه وقت الضرورة، ولا يبعد أن يعتبر فيه وقت الضرورة بوقت العذر، فإذا غيَّر العذرُ ترتيبَ الوقت في إِدراك الصّلاتين، غيرت الضرورةُ حُكمَ الإِدراك، حتى كأن من زالت ضرورته في حكم من أخر الصلاة بعذر إِلى آخر الوقت. 669 - فأمَّا توجيه القولين في أنها تصير مدركة للظهر بماذا؟ فوجه قول من قال: يكفي فيهما مقدار ركعة أو تكبيرة أن الغرض إِدراك وقتٍ مشترك، وليس المطلوبُ إِيقاعَ الصَّلاتين وجوداً في الوقت؛ فإِنها لو حاولت ذلك، لم تتمكن من إِقامة الظهر في وقت العصر، والمقدار الذي ذكرناه يحصل بإدراك مقدار ركعة فما دونها. ومن قال: لا يحصل الإِدراك إِلا بمقدار ركعة وزيادة، اعتلّ بأنا إِنما جعلناها مدركة للصلاتين تمسكاً بالجمع وحملاً على الجمع، فلتدرك زماناً يتصور أن يقع صورة الجمع فيه، وذلك بوقوع صلاة تامة في الوقت وبعض الأخرى. فإن حكمنا بأن الرّكعة فما دونها تكفي، فلا كلام، وإِن شرطنا أربع ركعاتٍ وزيادة، فالركعات في مقابلة صلاة الظهر، والزيادة في مقابلة صلاة العصر، أم الأمرُ على العَكس من ذلك؟ قولان مخرّجان من معاني كلام الشافعي: أصحهما - أن الركعات في مقابلة صلاة الظهر؛ فإنها الصلاة الأولى، ولو فرض الجمع، لكانت البداية بصلاة الظهر على الرأي الظاهر، ولو أدركت مقدار ركعة فحسب، لأدركت العصر، ولم تدرك الظهر على القول الذي نفرع عليه، وإِذا كانت تدرك العصر بركعة ¬

_ (¬1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 197. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 262 مسألة 214.

أو تكبيرة، فينبغي ألا يقابلها عند الزيادة إِلا ذلك المقدار. والقول الثاني: أن الركعات في مقابلة صلاة العصر؛ فإِنه إِذا اقتضى الحالُ الحُكمَ بإِدراك الصّلاتين، فالظهر تابعة في الإِدراك للعصر؛ فإنها أُدركت بسبب إِدراك العصر، فينبغي أن يكون الأكثر في مقابلة المتبوع، والأقل في مقابلة التابع، وكأَنَّ هذه المسائل وما فيها من الاختلاف يدور على أن الرخصة في الجمع عند العذر، كأنها عوض عن الالتزام عند زوال الضرورة. ْفهذا عقد المذهب. ثم سيظهر أثر القولين الأخيرين في صلاة المغرب والعشاء الآن. 670 - ثم اختلف القول في أنا هل نعتبر مع إِدراك ركعة، أو تكبيرة في الصلاتين، أو في العصر، وفي إِدراك الركعات والزيادة إِدراكَ (¬1) زمان الطهارة؟ والأصح أنه لا يشترط؛ لأن الطهارة لا تكون شرطاً في التزام الصَّلاة، وإِنما تشترط في العقد والصحة؛ إِذ الصّلاة تجب على المحدث، ويعاقَب على ترك التوصل إِليها. والقول الثاني: أنا نشرط مع ما ذكرناه إِدراكَ زمان الإِتيان بالطهارة. والقولان أراهما مخرَّجين، وقدْ ذكرَهمَا الصيدلاني قولين مطلقين. 671 - فإِن قيل لنا: جمعتم أقوالاً في أحكام، فعبروا عن جميعها في الصلاتين، واذكروا ما تجمع، وأعلمونَا بما تصير الطاهرة عن الحيض مدركة للصلاتين؟ قلنا: يحصل ممّا ذكرنا ثمانية أقوال: أحدها - أنها تدركهما بمقدار تكبيرة. والثاني - بتكبيرة وزمان الطهارة. والثالث - بركعة. والرابع - بركعة وزمان الطهارة. والخامس - بأربع ركعات وتكبيرة. ¬

_ (¬1) مفعول للفعل (نعتبر) السابق.

والسادس - بما ذكرنا الآن وزمان الطهارة. والسابع - بخمس ركعات. والثامن - بخمس ركعات وزمان الطهارة. فهذا بيان المذهب في الظهر والعصر. وإِذا طهرت في آخر الليل، فالتفصيل في إِدراك صلاة العشاء ما ذكرناه قبلُ في صلاة العصر، والتفصيل في صلاة المغرب، كالتفصيل في صلاة الظهر، ويظهر الآن ما وعدنا قبلُ. فإن قلنا: الركعات الزائدة في مقابلة الصّلاة الأولى، فيكفي ثلاث ركعات وتكبيرة: الثلاث في مقابلة المغرب، والتكبيرة في مقابلة العشاء، أو أربع ركعات: الثلاث في مقابلة المغرب، والرابعة في مقابلة العشاء. وإن قلنا: الركعات في مقابلة الصلاة الثانية، فلا بد من أربع ركعات وتكبيرة: الأربع نظراً إِلى عدد ركعات العشاء، والتكبيرة في مقابلة المغرب، أو خمس ركعات: الأربع في مقابلة العشاء، والركعة في مقابلة المغرب، ثم إِذا اجتمع ما زدناه في صلاة المغرب والعشاء إِلى ما مضى، انتظم من المجموع اثنا عشر قولاً. فهذا مجامع الكلام في ذلك. 672 - ثم نذكر بعد ذلك ثلاثة أشياء لنعطف على ما تقدم، ونلحق كل شيء بمحله: أحدها - أن إِدراك التكبيرة واعتباره قولٌ صحيح، كما تقدّم، وهو في التحقيق تقدير؛ فإِنّ إِدراك الزمان الذي يسع مقدار تكبيرة، ليس بمحسوس، ولكن الكلام يجري على التقدير؛ فلو فرض فارض إِدراك زمان يسع بعض تكبيرة ولا يدرك تمامها، فكان شيخي يتردد في هذا، وفيه احتمال ظاهر؛ إِذ إِدراك الوقت متحقق في هذا، ولكن ليس [المدرَك مقداراً] (¬1) يسع رُكناً، فهذا أحد الأشياء. ¬

_ (¬1) في النسختين: ليس للمدرك مقدار يسع ركناً. والمثبث تقدير منا بمساعدة السياق، ومختصر ابن أبي عصرون. ثم صدقتنا (ل).

والثاني - أنا ردَّدْنا ذكر الركعة: والمراد بذكر الركعة (¬1) إِدراكُ زمانها، فكان شيخي يقول: المعتبر ركعة تشتمل على أقل ما يُجزىء، وجرى له في تحقيق هذا مرّةً، أنا نعتبر ركعة من العقد، والركوع من غير قيام وقراءة، نظراً إِلى ركعةِ مسبوقٍ يدرك الإِمامَ راكعاً، وهذا فيه بُعد عندي. والثالث - أنّا اعتبرنا في قولٍ في مقابلة إِحدى الصلاتين ركعات، وقلنا في صلاتي الظهر والعصر: نعتبر أربع ركعات ويحتمل عندي أن [نعتبر] (¬2) ركعتين؛ نظراً إِلى الصلاة المقصورة؛ فإنا اعتبرنا وقت الجمع بداراً إِلى إِلزام الصلاتين، فتعتبر الصّلاة المقصورة؛ اكتفاء في الحكم بالإِدراك بالركعتين، وفي مذهب الصيدلاني إِشارة إِلى هذا، وإِن لم يكن مصرحاً به. والذي ذكرناه أن جميع وقت العصر وقتٌ للظهر، نظراً إِلى الجمع، فإن قلنا: لا يشترط في إِقامة الظهر تأخير العصر عنه، ولا يرعى الترتيبُ في إِقامتهما، فلا وقت من العصر يشار إِليه إِلا وهو صالح لإِقامة الظهر. وإِن قلنا: يجب تقديم الظهر، فجميع وقت العصر وقتٌ للظهر إِلا مقدار أربع ركعات في آخر الوقت؛ فإنه على رعاية الترتيب لا يتصور إِقامة الظهر في هذا الوقت. قال الشيخ أبو بكر: الذي أراه أنه يرعى مقدار ركعتين في آخر الوقت اعتباراً بالقصر، فأما وقت العصر، فقد دخل مع اعتبار الجمع إِذا مضى من أول وقت الظهر ما يسع أربع ركعات، فإنه لابد من اعتبار الترتيب في إِقامة العصر في وقت الظهر، فجميع وقت الظهر وقتٌ للعصر، إِلا ما يسع مقدار أربع ركعاتٍ من أول الوقت؛ فإنه لا يتصور إِقامة العصر في ذلك الوقت. قال الصيدلاني: ينبغي أن يعتبر الصلاة المقصورة في ذلك أيضاً. فهذا منتهى القول في هذه الفصول. ¬

_ (¬1) في ت 1: ذكر الركعة وإِدراك زمانها. (¬2) في الأصل: يدرك. والمثبت من: ت 1.

673 - ومما يتعلق بهذا الفصل: القول في خلو أول وقت الظهر عن الحيض مع طريان الحيض بعده، فإِذا كانت المرأة طاهراً في أول وقت الظهر، ثم حاضت واستمر الحيض بها، فالذي صار إِليه الأئمة أنها إِذا لم تدرك من أول الزمان ما يسع الصّلاة التامّة، فإنها لا يلزمها الظهر، فإِنه لو فرض افتتاحها الصّلاةَ مع أول وقت الظهر، ثم طرأ الحيض، فلا تتم الصّلاة. وإِذا فرض انقطاع الحيض في آخر وقت العصر، فلو تطهرت وتحرّمت لاستتبَّت لها الصّلاة، فظهر الفرق بين طريان الحيض على الوقت، وبين انقطاعه في الوقت. وذهب أبو يحى البلخي (¬1) -من أئمتنا- إلى أن القول في إِدراك أول الوقت في رعاية التكبيرة على قول، والركعة على آخر، والنظر في إِدراك صلاة العصر بإدراك وقت الظهر كالقول في إِدراك الظهر في آخر العصر، وهذا متروك على أبي يحيى، وهو رديٌ جدّاً، وفيما ذكرناه من قول الأئمة ما يوضح بطلان هذا المذهب. 674 - ثم من تمام القول في هذا الطرف، أن من الضرورات الجنون؛ فلو أفاق المجنون في آخر وقت العصر، ثم عاد الجنون متصلاً بأول وقت المغرب، فهذا في الترتيب بمثابة ما لو كانت المرأة طاهرة في أول الوقت، ثم طرأ الحيض؛ فإِن طريان الجنون فيما ذكرناه يمنع تقدير جريان الصّلاة على الصحة، لو فرض التحرم بها عقيب الإِفاقة من الجنون، كما يمتنع صحة الصّلاة لو طرأ الحيض بعد أول الظهر. 675 - وهذا أوَانُ ذكر أصحاب الضرورات بأجمعهم. والصفة الجامعة لهم ما يمنع وجوب الصلاة. والموصوفون بذلك: الصبي، والمجنون، والحائض، والنفساء، والمغمى عليه، والكافر، فمن هؤلاء من لا تصح منه الصّلاة كما لا تجب، ومن هؤلاء من لا يجب عليه الصّلاة وإِن كان يصح منه كالصبي، فإِذا زالت ¬

_ (¬1) أبو يحيى البلخي: زكريا بن أحمد بن يحيى بن موسى. القاضي الكبير، قاضي دمشق، تكرر ذكره في المهذب، والوسيط، وهو من كبار الأصحاب، أصحاب الوجوه، أصله من بلخ، فارق وطنه من أجل الدين، وقطع نفسه للعلم، توفي بدمشق سنة 330 هـ. (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 272، طبقات السبكي: 3/ 298، وشذرات الذهب: 2/ 326).

هذه الصفات في آخر الوقت، ففيه التفاصيل المقدمة. والإِغماء كالجنون عندنا في إِسقاط قضاء الصلوات، ولا فرق بين الإِغماء الذي يقصر عن يوم وليلة، وبين ما لا يقصر عن هذه المُدَّة. وأبو حنيفة يقول: الإِغماء القاصر عن يوم وليلة كالنوم (¬1). ولو زالت الضرورة في آخر وقت الصبح، فما يجري من القول في التزام الصّلاة، يختص بصلاة الصبح؛ فإِنها ليست مجموعة إِلى صلاة قبلها، ولا إِلى صلاةٍ بعدها، فلا يلزم بإِدراكها غيرُها. فهذا مجامع أحكام الأوقات في أصحاب الضّرورات. 676 - وممّا نذكر في باب المواقيت: أنّ الصلاة تجب عند الشافعي بإِدراك أول الوقت، ثم إِن كان في الوقت فسحة، فهي وَاجبة وجوباً موسعاً، وخلاف أبي حنيفة (¬2) في ذلك مشهور. وفي هذه المسألة غائلة أصولية، ذكرتها في مصنفاتي (¬3)، فليطلبها من يريدها. ثم المذهب الظاهر أن من أخَّر الصلاة إِلى وسط الوقت، ومات، فلا يلقى الله عَاصياً، وظاهر المذهب أن من أخَّر الحج مع الاستطاعة، ومات، مات عاصياً، وفي المسألتين جميعاً خلاف، وسنجمع القول في ذلك في كتاب الحج. ... ¬

_ (¬1) ر. مختصر الطحاوي: 24، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 264 مسألة 215، رؤوس المسائل: 139 مسألة: 46، حاشية ابن عابدين: 1/ 512. (¬2) ر. رؤوس المسائل للزمخشري: 138 مسألة: 45، حاشية ابن عابدين: 1/ 238. (¬3) ر. البرهان في أصول الفقه: القول في الصيغة المطلقة، وبخاصة الفقرات: 143 - 153.

باب صفة الأذان

باب صفة الأذان 677 - لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وشرع الجماعات في الصلوات، وانتشر الإِسلام، وكثر المسلمون فكان منهم المكتسبون والملابسون لما يتعلق بإِصلاح المعايش، وكانوا لا يشعرون بدخول المواقيت فتفوتهم الجماعة، شق ذلك عليهم، واحتاجوا إِلى أمارة يعرفون بها الوقت، فاجتمعوا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واشْتَورُوا، فقال بعضهم: نضرب بالناقوس، وقال آخرون: تلك عادة النصارى، وقاك آخرون: نوقد بالليل، وندخّن بالنهار، فقال آخرون: تلك عادة المجوس، ثم تفرقوا، ولم يجتمعوا على رأي. قال عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاري: كنت بين النائم واليقظان إِذ نزل ملك من السماء عليه ثيابٌ خضر، بيده ناقوس، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قلت: أضرب به في مسجد رسول الله، فقال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: بلى، فاستقبل القبلة، وقال: الله أكبر. وذكر الأذان، ثم استأخر غير بعيد، وأقام، فلما أصبحتُ أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرتُ له ذلك. فقال: رؤيا حق، ورؤيا صدق إن شاء الله، ألقِه على بلال، فإنه أندى صوتاً منك، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي لأؤذن مرة، فأذّنت، فلما سمع عمر صوته، خرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما رأى، فقال: الحمد لله، فذلك أَثْبَتُ. ثم أتاه بضعةَ عشر من الصحابة قد رأى كلهم مثل ذلك (¬1). فهذا أصل الأذان. ¬

_ (¬1) حديث عبد الله بن زيد في قصة الأذان صحيح، رواه أبو داود، وابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، والحاكم. (ر. التلخيص: 1/ 197 ح 291، أبو داود: الصلاة، باب كيف الأذان، ح 499، وصحيح أبي داود: 1/ 98 ح 469، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، 189، ابن ماجه: الأذان، باب بدء الأذان، ح 706، صحيح ابن خزيمة: ح 371، ابن حبان: ح 1677، الحاكم: 3/ 336، البيهقي: 1/ 390).

واعتمد الشافعي في باب الأذان حديثَ أبي محذورة، قال عبد الله بنُ مُحَيْريز: كنت في حجر أبي محذورة، فلما أردت الخروج إِلى الشام قلت: إِني خارج إِلى الشام، وإِني أخشى أن أُسأل عن تأذينك، فأخبرني به، فقال: نعم! كنت عاشر عشرة، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، ونزل منزلاً، فأذن بلال، فجعلْنا نصرخ عليه ونستهزىء به، فبعث إلينا رسول الله، حتى وقَفْنا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعتُ صوته قد ارتفع، فأشاروا إليَّ، وصدقوا، فأرسل كلَّهم وحبسني، ثم قال: قل الله أكبر -ولا شيء أكره إليّ من رسول الله ولا مما يأمرني به- وسَرَدَ الأذان، ونصَّ على الترجيع بالأمر بالشهادتين سراً، ثم قال: ارجع ومُدَّ من صوتك، وقل أشهد أن لا إله إِلا الله، ثم ذكر هكذا إِلى آخر الأذان، ثم أدناني فمسح يده على ناصيتي ووجهي، فما بلغت يده صدري حتى عادت تلك الكراهية كلها محبّةً، ثم ألقى إِليَّ صُرةً فيها دُريهمات، فقلت: يا رسول الله اجعلني مؤذن مَكة، فبعثني إِلى عتّاب بن أَسيد، فكنت أؤذن عنده (¬1). فهذا هو الأصل في الأذان. 678 - ثم الذي نرى تقديمه القول في أن الأذان من السنن، أم من فروض الكفايات؟ وقد ذكرَ بعض المصنفين في المذهب: أنّ الأصحّ الذي، ذهب إِليْه جمهور الأئمة أن الأذَان من فروض الكفايات، على ما نفصله في التفريع، وقال: ذهب أبو سعيد الإصطخري إِلى أن الأذان سُنة، فحكي هذا حكاية الشَّوَاذِّ والنوادِر. وقال الصيدلاني: الأذان عندنا مستحب، ولم يحك عن أصحابنا إِلا هَذا، قال: وذهب بعض أهل العلم إِلى أنه فرض على الكفاية. ¬

_ (¬1) حديث أبي محذورة، رواه مسلم من غير تربيع (الله أكبر) وبدون ذكر القصة، وساقه بتربيع التكبير في أوله، الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، وقال ابن القطان: الصحيح في هذا تربيع التكبير. (ر. مسلم: كتاب الصلاة، باب صفة الأذان، ح 379، وأبو داود: الصلاة، باب كيف الأذان، ح 502، والنسائي: الأذان، باب كيف الأذان، ح 631، 632، وصحيح سنن النسائي 1/ 135 ح 613، 614، وابن ماجه: الأذان، باب الترجيع في الأذان، ح 708، 709، وصحيح ابن خزيمة: ح 379، والتلخيص: 1/ 196).

والمذهب الذي عليه التعويل ما ذكره الشيخ أبو بكر. ثم نستكمل التفريع على مَا ذكره بعض المصنفين، ونذكر ما يتحصل آخراً. فإِن قلنا: إِنّه فرض على الكفاية، فقد قال هذا الرجل: الصحيح أنه يجب في اليوم مرة واحدة في كل محلة، والذي يقرب في ضبط هذا أن يترتب المؤذنون في محالّ البلدةِ، بحيث لا يبقى قطرٌ منها لا يبلغها صوت مؤذن، وَحُكي عن عطاء أنه أوجب الأذان على هذا الترتيب على الكفاية في اليوم والليلة خمس مرات. ولم أر هذا المذهب مَعْزياً إِلى أحد أصحابنا. قال: وذهب ابن خَيْران إِلى أن الأذان يجب في كل جمعة مرة. فهذا ما حكاهُ في فرض الكفاية وتفريعه. ونحن نُوجه هذا، فإِن ما يعد من فروض الكفايات سيأتي مجامعه في كتاب السير، ولكن من أظهر فنون فروض الكفايات ما يتعلق باستيفاء الشعائر الظاهرة المستمرة في الشريعة، وهذا يظهر في شعارٍ لو خلا عنه قُطْر، لتنادى الخلق بالإِنكارِ والاستنكارِ، وقد صح أن رد جواب المسَلِّم من فروض الكفايات، من حيث إِن ذلك من شعائرِ الإِسلام، فالأذان بذلك أولى. ثم لا يُؤْذِنُ الشعار بالدَّرْس إِذا كان مما يقامُ في اليوم والليلة مرّة واحدة. وأما وجه ما ذكره ابن خَيْران، فهو أن الأذان دعاء إِلى الجماعات، وإِنما تجب الجماعة على الأعيان، مع الاختصاص بأوصافٍ معروفة يوم الجمعة، فاختص الأذان الذي هو دعاء إِليها بكونه فرضاً على الكفاية. وسمعت شيخي يفرِّع على هذا الوجه، ويذكر فيه اختلافاً، ويقول: من أئمتنا من قال: الأذان فرضٌ يوم الجمعة، وهو الأذان الذي يقام بين يدي الخطيب؛ فإِنّه من الشعائر المختصة بصلاة الجمعة، فلا يمتنع القضاءُ بفرضيته كالجماعة، والخطبةِ، وقيامِ الخطيب في الخطبتين، وقعودِه بينهما. ومنهم من قال: يسقط بالأذان الذي يؤتى به لصلاة الجمعة، وإِن لم يكن بين يدي الخطيب، واتفق هؤلاء أن الأذان ينبغي أن يكون لصلاة الجمعة، ولا يسقط بأذانٍ لصلاة أخرى في يوم الجمعة، فإِن ذلك عند هذا القائل مختص بصلاة الجمعة على الخصوص.

ثم لا يكاد يخفى معنى فرض الكفاية فيما ذكرناه. فإِذا قام بالأذان -الذي يبلغ أهلَ البلدة- رجل أو رجال، سقطت فريضة الأذان عن الباقين، وسيأتي فصل بعد ذلك في أنه إِذا سقط فرض الكفاية على رأي من يقول بالفرضيّة، فكيف الترتيب في استحباب الأذان لآحَاد الناس بعد فراغ المؤذنين المسقطِين للفرض؟ 679 - فإِن فرعنا على ما كان يصححه شيخي، وقطع الصيدلاني به، وهو أن الأذان سنة، فلو أطبق أهل ناحيةٍ على تركه، وتعطيل المساجد منه، وقُدِّمَ إِليهم نذير، فلم يقبلوا واستمروا عليه، فهل يقاتَلون؟ ما ذهب إِليه الأصحابُ أنهم لا يقاتَلون، وحكَوْا عن أبي إسحق المروزي أنه قال: إِنهم يقاتلون (¬1)، وإِن (¬2) حكمنا بأن الأذان في وضع الشريعة سنة، واستدلّ هؤلاء بما روي أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمانه كانوا إِذا مَرُّوا بناحية، ولم يسمعوا صوت الأذان، صابحوا أهلها بالقتال. وربما تعلقوا من طريق المعنى بأن النفوس لا تطمئن إِلى إِماتة الشعائر الظاهرة إِلاَّ إِذا أضمروا ردَّ الشريعة، واعتقدوا بطلانها. ونحن نقول (¬3): أما الخبر، فلا حجة فيه؛ من جهة أنهم كانوا يَرَوْن ترك الأذان علامةً في أن أهل الناحية من الكفار؛ إِذْ كانوا قاطعين بأن قابلي الإِسلام، ومصدقي الرسل في علو الدين وصدمة الشريعة، وصفوة الملة، كانوا لا يتركون الأذان، ولم يكن ذلك عندهم -في حُكم عرف الزمان- أمراً مظنوناً، بل كان مقطوعاً به، والدليل عليه أن أبا إسحق لما رأى نَصْب القتال إِنّما رآه إِذا أُنذروا، فامتنعوا، واستمروا، وكان رسول الله وأصحابه يشنون الغارة على أهل النّاحية -إِذا علِموا أن لا أذان فيهم- من غير إِنذار وإِعلام، وإِشعار. وأما ما ذكروه من إِنذار ترك الشعائر بالخلو عن الاعتقاد، فليس وراءه حاصل؛ فإِنهم إِذا اعتقدوا كون الأذَان سنة، وتناجى بذلك الخواص والعوام، وشهروا فيما بينهم، وانضم إِلى ذلك عسر القيام بدرك مواقيت الصلاة، فينبني عليه ترك الأذان على ¬

_ (¬1) ر. الغياثي: فقرة 291. حيث قطع إمام الحرمين هناك بأنهم يقاتَلون. (¬2) أي مع حُكمنا بأن الأذان سنة. (¬3) أي ردّاً على القائلين بقتالهم.

تدريج، ثم يستمر، فحملُ الأمر على وجه واحد، -سيما مع إِطباق القوم على بذل كنه الجهْدِ في إِقامة فرائض الشرع- تحكُّمٌ (¬1)، وقتلُ النفوس، وسفكُ الدماء من غير ثَبَت لا سبيل إِليه. ثم الذي نختم هذا الفصل به أن هذا المحكي عن المروزي على قولنا: إِن الأذان سنة، وهذا مُضطرب؛ فإِن كل ما يتعلق بتركه في عاقبة الأمر قتلٌ، وهو نهاية العقوبات، فيستحيل القضاء بكونه سُنة، ومن حقيقة السنن جواز تركها، وما يجوز تركه يستحيل أن يَجُرَّ قتلاً. نعم: إِن قال ذلك قائلٌ، على قولنا: إِنّه من فروض الكفايات -فإِذا عطله أهل ناحية، كانوا بمثابةِ وَاحدٍ عطل فرضاً من فرائض الأعيان؛ إِذ الحرج ينال الكافة من فرض الكفايات، كما ينال الحرجُ الواحدَ في فرض عينٍ- كان (¬2) مُتَّجِها، فإِذاً، القتال باطل، ثم المصير إِليه على قولنا: الأذان سنة، لا أصل له أصلاً. وليس مَا ذَكَرناه من طريق رد مذهبٍ بمسلك الفقه في أساليب الظنون، ولكن الكلام في نفسه غير منتظم. فهذا تفصيل المذهب في أن الأذان سنة، أو فرض كفاية. والقول في الإِقامة كالقول في الأذان في جميع ما ذكرناه. فصل قال: "ولا أحب أن يكون في أذانه وإقامته إلا قائماً مستقبل القبلة ... إلى آخره" (¬3). 680 - ثَم ينبغي للمؤذن أن يؤذن قائماً، مستقبل القبلة، ولو ترك القيام ¬

_ (¬1) خبر لقوله: فحملُ الأمر. (¬2) جملة: (كان متجهاً) واقعة في جواب إِن قال ذلك قائل. (¬3) ر. المختصر: 59.

والاستقبال، أو ترك أحدهما، فذكر شيخي وجهين في الاعتداد بأذانه، وذكرهما بعض المصنفين. وظهر ميله إِلى أنهما شرط في الأذان في كتابه المترجم "بمختصر المختصر" (¬1)، وكان يوجه ذلك بأن شرائط الشعار متلقى من استمرار الخلق على قضية واحدة، وهذا ما بنى عليه الشافعي مذهبه في إِيجاب القيام في الخطبتين، والقعود بينهما في يوم الجمعة. والأصح القطع بأن القيام والاستقبال ليسا مشروطين في الأذان. 681 - ثم إِذا فرعنا أن الأَوْلى أو المشروط هو الاستقبال، قلنا: لو التوى يميناً وشمالاً في الحيعلتين، كان حسناً، حتى يُسمعَ النواحي، وكان ذلك معتاداً مألوفاً من دأب المؤذنين في العُصُر الخالية، ولكن لا ينبغي أن يستدير على المئذنة، بل يُقر قدميه قرارهما، ويلتوي يميناً وشمالاً بقدر التفات المسلم في آخر الصلاة. ثم اختلف الأئمة، فقال الأكثرون: يقول: حيَّ على الصلاة مرتين عن يمينه، ثم يقول: حيَّ على الفلاح مرتين عن يساره، وهذا ما عليه العمل، وكان القفال يرى أن يقسّم الحيعلتين على الجهتين، فيقول: حيَّ على الصلاة عن يمينه، ثم حيَّ على الصلاة عن يساره، ثم حيَّ على الفلاح عن يمينه، ثم حيَّ على الفلاح عن يساره. ثم الذي ذهب إِليه الأصحاب استحباب الالتفات على الوجه المذكور في الإِقامة. وحكى بعض المصنفين (¬2) أن القفال ذكر مرّة أن الالتفات غير محبوب في الإِقامة. وهذا غير صحيح، والرجل غير موثوق به فيما ينفرد بنقله. ¬

_ (¬1) من كتب أبي محمد الجويني. (¬2) لم يصرح إِمام الحرمين بمن يعنيه ببعض المصنفين، الذي ينقل عنه هنا، والذي يصفه بأنه غير موثوق به فيما ينفرد بنقله، وقد ترجح عندنا أنه الإِمام أبو القاسم الفوراني، وسيأتي توضيحٌ لذلك، ومزيد بيان. (بعد أن سجلنا هذا تأكد هذا الترجيح، وصار يقيناً أنه يعني أبا القاسم الفوراني، ولعلنا نعرض لذلك في بعض ما نستقبل من التعليقات).

فصل 682 - الترجيع مأمور به عندنا في الأذان، وهو أن يقول عقيب التكبيرات الأُوَل في صدر الأذان: أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين، وكذلك يقول: أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، ولا يمد صوته، ثم يعود ويرجع إِلى سجيته في رفع الصوت، فيقول مادّاً صوته: أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين، وأشهد أن محمداً رسول الله مرتين. والترجيع منصوص عليه في قصة أبي محذورة. وأما أبو حنيفة (¬1) فإِنه لم ير الترجيع، وحمل حديث أبي محذورة على أن النبي عليه السلام كرر الشهادتين سرداً على أبي محذورة لتأكيد حفظه في التلقين؛ إِذْ كان صبياً، ثم لما رآه استظهرَ، أَمَرَه بأن يرجع ويمدّ صوته، فهذا طريقه. وأما مالك (¬2) فقد حكى الصيدلاني من مذْهبه أَنّهُ كان يرى الترجيع، ولا يزيد في كلمات الأذان، وكان يقول: ينبغي للمؤذن أن يقول مرة واحدة أشهد أن لا إِله إِلا الله، ثم مرة أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يرجّع فيمد صوته، فيقول: أشهد أن لا إِله إِلا الله رافعاً صوته مرة واحدة، أشهد أن محمداً رسول الله مادّاً صوته. وما ذكره الشافعي أقصد الطرق، ومعتمده قصة أبي محذورة، وهي مدوَّنة في الصحاح. وما قدره أبو حنيفة من ترديد الكلام لاستمرار حفظ المتلقن غيرُ صحيح من أوجه: أحدها - أنه خصص كلمتي الشهادتين بهذا، وعُسْرُ الحفظ، والتلقين كان متوقعاً في غيرهما. والثاني - أنه صح أن أبا محذورة كان يرجّع في أذانه طول زمانه، وهذا قاطع في أنه ¬

_ (¬1) ر. مختصر الطحاوي: 25، رؤوس المسائل: 136 مسألة: 43. حاشية ابن عابدين: 1/ 259. (¬2) ر. الإِشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 215 مسألة: 193، حاشية الدسوقي: 1/ 193، جواهر الإِكليل: 1/ 36.

فهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ بالترجيع. والثالث -وبه يبطل مذهب مالك- أن أبا محذورة قال: "لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة" وأراد أصناف الكلِم في الأذان، وإِنما يبلغ هذا العدد إِذا حُسب الترجيع من الأذَان وَكُرِّرَ مرتين، [فاستدّ] (¬1) مذهب الشافعي على قصة أبي محذورة، وعلى ما فهمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى عليه وأخبر عنه. 683 - ثم اختلف أئمتنا في أن الإِتيان بالشهادتين بالصوت الرخيم (¬2) ركن لا يعتد بالأذان دونه أم لا؟ فمنهم من قال: ليس بركن للأذان، ولعله الأصح؛ فإِن مبنى الأذان على الإِسماع، والإِبلاغ، فإِذا لم يشترط ذلك في هذا، دل على أنه ليس رُكنَ الأذان. ومنهم من قال: هو ركن الأذان، لما روي عن أبي محذورة أنه قال: "لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسعَ عشرةَ كلمة" فَعَدَّ ما فيه الكلام من متن الأذان. وذكر بعض المصنفين، أن التثويب على قولنا: "إِنّه مشروع" ليس ركنَ الأذان وجهاً واحداًْ، وإِنما الخلاف في الترجيع، وهذا إِن صح، فسببه أنه صح في الترجيع عَدُّه من [كلم] (¬3) الأذان في قَرَن، ولم يصح مثله في التثويب، وفي التثويب عنْدي احتمال، من جهة أنه يضاهي كلم الأذان في شرع رفع الصوت به، وهو أيضاً موضوع في أثناء الأذان. والأظهر في الترجيع أنه غير معدود من أرْكان الأذان. 684 - ومما يتم القول به في الترجيع، أن المصلي في الصلاة السِّرِّيَّة يقتصر مع سلامة حاسة السمع على إِسماعه نفسَه، والمُرَجِّعُ فيما يأتي به في صوت خفيض كيف ¬

_ (¬1) في الأصل، وفي (ت 1): "فاستمرّ" وهو تصحيف واضح، فلا معنى لها، والصواب ما أثبتناه " فاستدّ": أي: "استقام"، وهو لفظٌ جار على لسان إمام الحرمين بكثرة [ومن عجب أن نسخة (ل) جاءتنا بالتصحيف نفسه]. (¬2) الرخيم: من رخُم الصوت إذا لان وسهل، فهو رخيم. (المعجم). (¬3) زيادة من (ل).

حده؟ كان شيخي يقول: ينبغي أن يُسمع من بالقرب منه، أو أهل المسجد إِن كان واقفاً عليهم، وكان المسجد مقتصِدَ الخِطّة، وهذا فيه احتمال ظاهر، ويحتمل أن يكون المرجِّع كالقارىء في الصلاة السرية، ويحتمل أن يكون فيه رَافعاً صوته قليلاً، كما ذكره شيخي. وهذا ينشأ مما حكي عن مالك، كما ذَكرناه؛ إِذ عدَّ الترجيعَ من كلم الأذان، ولم يزد في الأذان، [ويشبه عندي على هذا] (¬1) أن يقال: يكون صوت المرجع في ترجيعه كصوت الذي يؤذن في نفسه؛ وسيأتي فصلٌ في تعليم الأذان يحوي ذلك وغيره. ثم الذي يؤذن في نفسه لا يقتصر على إِسماعه نفسَه، كما سيأتي إِن شاء الله. فصل قال: "وأحب رفع الصَّوت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك" (¬2). 685 - الأذان مشروع للإِبلاغ والإِسماع، والأصل الذي ذكرناه في الأذان من اجتماع الصحابة واشتوارهم، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألقهِ إلى بلال فإنه أندى صوتاً منك" قاطعٌ في أن الغرض من الأذان الإِسماع والتنبيه على دخول المواقيت، وهذا يقتضي لا محالة رفعَ الصوت، وإِذا كان كذلك، فلو لم يرفع صوتَه بحيث يحصل الإِبلاع، فمقتضى هذا الأصل أنه لا يعتد بالأذان، وإِذا سبق الفقيه إِلى اعتقاد ذلك، ورامَ الجريانَ على مراسم هذا المذهب في محاولة هذا الضبط في مكان (¬3) الانتشار، فسيطرأ عليه التشوّف إِلى ضبط أقل ما يُراعي في إِجزاء الأذان مما يتعلق برفع الصوت، وهذا يستدعي تقديمَ أصل مقصودٍ في نفسه، وبذكره ينتطم ما نريد. ¬

_ (¬1) في الأصل: وشبه هذا عندي أن ... والمثبت عبارة (ت 1). (¬2) ر. المختصر: 60. (¬3) ت 1: مظان. ومعنى العبارة: أن محاولة الضبط في موضع الانتشار، أي تشعب الآراء، وتعدد الأقوال ستؤدي إلى التطلع إلى ضبطِ أقل ما يجزىء من رفع الصوت.

فنقول: إِذا كان في المسجد مؤذن راتب، فأذن، وحضر من الجمع من حضر، فلا شك أن الذين حضروا يكتفون بالأذان الراتب، والإِقامة الراتبة، ولا يؤذن واحد منهم. ولو صلى الناس في الجَمْع الأول، ثم حضر جمع آخر، وأرادوا عقد جماعة في ذلك المسجد بعينه، فقد قال صاحب التقريب: لا ينبغي أن يؤذن مؤذنُ الجمع الثاني مع الإِسماع والإِبلاغ؛ فإِن ذلك إِن فُرِضَ، جَرَّ لبساً، وتعاقبت الأصوات، والتبس الأمرُ. ولكن هل يؤذن مؤذنٌ في نفسهِ من غير إِبلاغٍ في رفع الصوت؟ ذَكر صاحبُ التقريب نصوصاً مضطربة في ذلك، وانتزع منها قولين: أحدهما - أنهم يكتفون بما سبق من الأذان الراتب؛ فإِنه يتضمن دعاء كل من يحضر أولاً وآخراً إِلى انقضاء الوقت، فليقع الاكتفاء به. والقول الثاني - أنه يؤذن المؤذن في نفسه ولا يبالغ في رفع الصوت، ويقيم، فهذا على قولٍ أذان ليس فيه إِبلاغ في رفع الصوت. والقول الثاني حكاه المزني عن الشافعي في الأذان والإِقامة من غير إِبلاغ في الرفع، في المختصر الكبير. قال صاحب التقريب: هذا فيمن يحضر المسجد الذي جرى فيه الأذان، وقد انقضى الجمع الأول، فأمَّا إِذا أذن مؤذنو المصر على مواضعهم، وبلغت أصواتُهم الناسَ في رحالهم، فأرَاد من لا يحضر المسجد أن يصلي في بيته، فهل يؤذن ويقيم؟ أم يكتفي بأذان المؤذنين في المصر؟ قال: هذا محتمل، يجوز أن يقال: يكتفي بأذان البلد، ويجوز أن يقال: يؤذن ويقيم. 686 - وممّا نذكره مرسلاً، أن المرأة لا تؤذن رَافعةً صوتَها، ولو أذنت في جمع الرجال لا يعتدّ بأذانها وفاقاً، وذلك يناظر حكمنا بامتناع اقتداء الرجال بها، وإِن كانت صلاتها صحيحة، والقياس أن من صحت صلاتُه، صح الاقتداء به، ولكن ظاهر النص أن المرأة تقيم ولا ترفع صوتها، وكان شيخي يقطع بأن المرأة ليست مأمورة بالأذان، وهذا ما قطع به العراقيون.

وحكى صاحب التقريب عن الشافعي في الأم أنه قال: "ليس على النساء أذان، وإِن جمعن الصلاة، فإِن أذَّنَ وَأقمن، فلا بأس، وإِن تركت الإِقامة، لم أكره لها مِن تركها ما أكره للرجال" (¬1). هذا لفظ الشافعي في "الأم". ومساقه مشعر بأمور منها: أن الإِقامة على الجملة مَأمور بها في حقها؛ فإِنه قَدَّر في تركها كراهية، وحطّ قدرها عن كراهية التركِ في حق الرجال، وتَخصيصُه الإِقامة بالذكر في الكراهية دَليل على فصله بين الإِقامة والأذان، وهو مشعر بأن لا كراهية عليها في ترك الأذان، وقول الشافعي في الأذان والإِقامة "لا بأس" مشير إِلى أن الأمر لا يظهر في الأذان والإِقامة جميعاً، فهذه وجوه في التردد. ونظم الأئمة من مجموع ذلك أقوالاً: أحدها - أن المرأة لا تؤذن وتقيم. والثاني - أنها تؤذن وتقيم. والثالث - تقيم ولا تؤذن، ثم إِن أذنت لم ترفع صوتها. ومما نذكره مرسلاً أن الرجل إِذا انفرد بنفسه في الصلاة، وكان ذلك في موضعٍ لم ينته إِليه صوتُ مؤذن، فظاهر المذهب، أنه يؤذن ويقيم، وهو المنصوص عليه في الجديد. وفي بعض التصانيف قولٌ محكي عن الشافعي في القديم، أنه لا يؤذن المنفرد ولكنه يقيم. وقال بعض أئمتنا: إِن كان يرجو حضور جمعٍ، فالأذان مأمور به، وإِن كان لا يرجو، فلا يؤذن. وإِذا رأينا له أن يؤذن، فالظاهر أَنا نُؤثر له رفعَ الصوت، والأصل فيه ما روي أن النبي -عليه السلام- قال لأبي سعيد الخدري: "إنك رجل تحب الغنم والبادية، فإذا ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 73. وسياقة عبارة الشافعي بهذه الصورة فيها حذفٌ، وتمامها: "وليس على النساء أذان ولا إقامة، وإن جمعن الصلاة. وإن أذن وأقمن، فلا بأس. ولا تجهر المرأة بصوتها، تؤذن في نفسها، وتُسمع صواحباتها إذا أذنت، وكذلك تقيم إذا أقامت، وكذلك إن تركت الإقامة، لم أكره لها من تركها ما أكره للرجال، وإن كنت أحب أن تقيم".

دخل عليك وقت الصلاة فأذّن وارفع صوتك؛ فإِنه لا يسمع صوتك حجر ولا مَدَر إِلا يشهد لك يوم القيامة" (¬1). ومن أئمتنا من قال: إِن كان يرجو حضورَ جمع، رفع صوته، وإِن كان لا يرجو أذَّنَ في نفسه، وحديث أبي سعيد الخدري وقول الرسول له ليس نصاً في حالة انفراده؛ فإِنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لذلك، وليس يبعد عن الحال أنه كان يتبدّى (¬2) مع عُصبة من خدمه وحشمه. 687 - فهذه مسائل أرسلناها وحكينا ما قيل فيها، ونحن الآن نبغي فيها ضابطاً، ونؤثر تخريج محل الوفاق والخلاف عليه إِن شاء الله تعالى. فالغرض الأظهر الذي انبنى عليه أصل الأذان إِظهار الدعاء إِلى الصلاة، وإِعلام الناس دخول الوقت، والغرض من الإِقامة إِعلام من حضر أو قرب مكانُه ممن يحضر أَنَّ الصلاةَ قد قامت، وهذا واضح بينٌ. ثم من اندرج تحت الدعاء وحضرَ الجمع، فهو مدعوٌّ مجيب، فلا يؤذن ولا يقيم، ومن لم يحضر أصلاً، ولزم موضعَه، ولكن ¬

_ (¬1) حديث أبي سعيد أخرجه البخاري مع اختلاف في اللفظ: الأذان، باب رفع الصوت بالنداء، ح 609، ورواه مالك في الموطأ على نحو البخاري: ص 69، الصلاة، ح 5. هذا. وسياق إِمام الحرمين للحديث مخالف لما في البخاري والموطأ، وقد تبعه في هذا الغزاليُ في الوسيط، قال النووي في تنقيح الوسيط: هذا الحديث مما غيره المصنف، وشيخه، وصاحب الحاوي، والقاضي حسين، والرافعي، وغيرهم من الفقهاء، فجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم هو قائل هذا الكلام لأبي سعيد، والصواب ما ثبت في صحيح البخاري والموطأ وجميع كتب الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري أنّ أبا سعيد الخدري قال له: "إِني أراك تحب الغنم والبادية .... " قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا. هـ وقد نقل الحافظ اعتذار ابن الرفعة عن الأئمة الذين أوردوا الحديث مغيَّراً، لكنه قال: إِن في جوابه تكلفاً. (ر. التنقيح للنووي، ومشكل الوسيط لابن الصلاح - بهامش الوسيط: 2/ 43، 44، التلخيص: 1/ 193 ح 285). وأخيراً -ونحن نراجع تجارب الطباعة- ظهر البدر المنير مطبوعاً، فرأينا ابن الملقن يقول (3/ 311): "وأبدى ابن الرفعة في مطلبه عذراً حسناً لهؤلاء الجماعة" فانظر الفرق بين الموقفين من اعتذار ابن الرفعة. (¬2) أي يخرج إِلى البادية.

بلغه الدعاء العام، فالأصح أنه يؤذن، ولكن [ليس] (¬1) أذانه إِقامةَ الشعار الذي وصفناه؛ فإِنه ليس يَطلبُ دعاءَ جمع، وقد قام بالدعاء العام المرتَّبون له. وكذلك المنفرد الذي لا يرجو حضور الجماعة، فإِن لم تبلغه دعوةٌ عامة، ففيه خلاف حكيته، وهو بالأذان أولى. ثم ينتظم من كونه أولى، مع ما تقدم في حق من بلغته الدعوة أقوال: أحدها - يؤذنان (¬2)، والثاني - لا يؤذنان، والثالث - يؤذن المنفرد، حيث لم تبلغه دعوة، ولا يؤذن من بلغته دعوة. [ولا ينبغي أن يختلف القول في المنفرد الذي لم تبلغه دعوة] (¬3) وهو يرجو حضور جمع. ثم من لم تبلغه الدعوة وهو يرجو [حضور جمع] (¬4)، فنرى له رفعَ الصوت، ومن لا يرجو، ولم تبلغه دعوة ففي رفع الصوت تردّد وخلاف، ومن بلغته دعوة وهو يصلي في رَحلِه، ولا يقصد جمع طائفة، ففي رفع الصوت خلاف، وهو أوْلى بألاّ يرفعَ صوته. ويترتب من المسألتين ثلاثة أوجه: فحيث نقول: لا يرفع، لا نكره رفع الصوت، ولا ننهى عنه، بل هو أولى قطعاً، وإِنما الكلام في الاعتداد بالأذان من غير رفع الصوت، وقد يُنهى عن رفع الصوت في بعض الصور، كما نصّ عليه، فالمرأة ممنوعة من رفع الصوت منعَ تحريم. ومن حضر الجمع الثاني في المسجد الذي أقيم فيه الأذان الراتب والجمع الراتب، لا يحرم عليه رفع الصوت بالأذان، ولكن الأولى ألا يرفع. ثم حيث حرّمنا الرفع -وهو في حق المرأة- فهل [يشرع] (¬5) الأذان؟ فيه التردد المقدم، والأظهر أنه لا يشرع، وحيث ننهى ولا نُحرِّم، فهو في الأذان من غير إِبلاغ ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، ثم (ل). (¬2) "يؤذنان": أي من بلغته الدعوة، ومن لم تبلغه. (¬3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من: (ت 1). وهو في (ل) أيضاً. (¬4) زيادة من المحقق رعاية للسياق، وللإِيضاح. حيث حذفت النسخ كلها (المفعولَ به). (¬5) في الأصل كما في (ت 1): يسوغ. والمثبت تقدير منا رعاية لعبارة الإِمام في المسألة نفسها، وهو أيضاً تعبير ابن أبي عصرون، في مختصره. وقد ساعدتنا (ل).

في رفع الصوت [أوْلى] (¬1)، فينتظم في الصّورتين في شرع الأذان من غير رفع الصوت ثلاثةُ أوجه، من حيث ترتُّبُ صورةٍ على أخرى في الأوْلى، وكذلك يجري ترتيبُ كل مسألةٍ على الأخرى من طريق الأولى. ثم في كل صورة استحببنا الأذان، فلا شك أنا نؤثر فيها الإِقامة، وحيث لا نرى الأذان من جهة كون الإِنسان مدعوّاً مجيباً في الجمع الأول، فلا إِقامة، وحيث لا نرى الأذان في غير هذه الصورة من الصور المقَدَّمة، ففي شرع الإِقامة خلاف. فهذا ضبط هذه المسائل. 688 - وقد خرج منها أن أصل الأذان الإِبلاغ، وما عداه مما [شرعناه] (¬2) إِذا لم يكن فيه معنى الإِبلاغ، ففي أصل شرعه تردد، ثم من يراه [يثبته] (¬3) تشبيهاً بما هو للإِبلاع، [ثم ما هو للإِبلاغ] (¬4) يتعين فيه الوفاء بتحقيق الإِبلاع، وذلك برفع الصوت، والذي ليس إِبلاغاً لابدّ فيه من نَوْع رفعٍ، على ما سنشير إِلى ضبطه. فإِن قيل: فما الذي تراعونه في أقل درجات رفع الصوت في الأذان من المبلِّغ؟ قلنا: [ينبغي] (¬5) أولاً: أن تبلغ أصواتُ المؤذنين أهلَ الناحية، فإن قام بذلك رجل واحد جَهْوَرِيُّ الصوت، كفى، وإِن قام به عدد في المحالّ، جاز، كما تقدّم ذلك، حيث ترددنا في أَنَّ الأذان فرض على الكفاية أم لا. ثم الغرض من إِبلاع الأذان أمران: أحدهما - التنبيه على دخول الأوقات، والثاني - الدعاء إِلى الجماعات، فليبلغ صوتُ كلّ من يقوم بالتبليغ من يحضر الجمع، أو يُتصوّر حضوره في الأمر الوسط، فقد يحضر الجمع طوائفُ تمتلىء بهم أرجاء المسجد، وقد لا يحضر إِلا شرذمة تقوم بهم الجماعة، فالوجه اعتبار الوسط، ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، وصدّقتها (ل). (¬2) في الأصل: سوغناه، والمثبت من (ت 1)، (ل). (¬3) مطموسة في (ت 1). وغير مقروءة في الأصل، والمثبت تقدير منا، والحمد لله صدقتنا (ل). (¬4) زيادة من: (ل). (¬5) زيادة من (ت 1)، ثم ساعدتها (ل).

وهؤلاء هم الذين عبر عنهم الأئمة بأن المؤذن يُبْلِغ جيران المسجد. فإِن قيل: هلاَّ نُزِّلَ أقلّ الرفع على ما يدعو أقلّ الجمع؟ قلنا: ليس ذلك بأذانٍ يسمى إِبلاغاً، وشَهْراً، وإِقامةً للشعار، فليدع الداعي جمعا وسطاً، فهو أقلُّ مرعيٍّ في ضبط الإِسماع والإِبلاغ، ولو أذن المؤذن في نفسه لا يبلغ بذلك شرذمة، والذي يطرأ علينا في ذلك أنه لو كثر عدد المؤذنين، ولم ينته كلّ مؤذن في نفسه إِلى ما ذكرناه، ولكن عمَّ الأذان البلدة بكثرة الدعاة لا برفع الصوت، فهذا فيه احتمال ظاهر. فهذا في أذان الإِبلاغ، فأمَّا حيث يؤذن المؤذن في نفسه، فلو اقتصر فيه على حدِّ قراءة القارىء في الصلوات السرية، فلا يكون ما جاء به أذاناً ولا إِقامة، فليرفع صوته. قلنا: والضبط فيه أنه يعني تنبيه من حضر أو على حَدِّه (¬1)، وإِن لم يحضر أحد. فهذا تمام ما انتهى إِليه الفكر في تقاسيم الأذان، وفيما يُراعى فيها من رفع الصوت. فصل قال: "ويكون على طُهر فإن أذن جنباً كرهته" (¬2) 689 - أذان الجنب والمحدِث معتدّ به، فإِنا إِن نظرنا إِلى نفس الأذان، فهو دعاء وأذكار، وإِن نظرنا إِلى مقصود الأذان، فلا ينافيه الحدث، غير أنا نكره الأذان من غير طُهر، وسبب ذلك على الجملة أنه إِن حضر الجَمْعَ، فإِنه خيرٌ كثير (¬3)، وقبيح أن يدعو ولا يُجيب بنفسه، فكان في حكم من يعظ ولا يتعظ، وتسوء الظنون به أيضاً. ثم الكراهية في الجنابة أشدّ، من جهة أن الشغل في رفعها أكثر، وإِن انتظر ¬

_ (¬1) أي على قدر تنبيه من يكون حاضراً. (¬2) ر. المختصر: 1/ 60. (¬3) المعنى أن المؤذن إن حضر الجمعَ -الذي أجاب الأذان- وصلى معهم، فقد ناله خير كثير، حيث جمع بين أجر الأذان وأجر الإجابة.

المؤذن، كان أمدُ الانتظار أطولَ، وعلى الجملة حدث الجنابة أشد وأغلظ، وليس الجنب أيضاً من أهل المكث في المسجد للتأذين. والكراهية في الإِقامة أشد منها في الأذان؛ لأن المقيم إِذا كان جنباً، أو حدثاً، فهو حري بأن تفوته الجماعة أو صدْر منها. وإِنما اختلف الأئمة في اشتراط الطهر في خُطبتي الجمعة، كما سيأتي، وإِن كانتا أذكاراً، من جهة الاختلاف في أنهما مُقامتان مقام ركعتين، وهذا قد يتطرق إِليه سؤال، كما سنذكره في موضعه. وأقرب منه التردد في اشتراط الموالاة بينها وبين افتتاح الصّلاة، وهذا يتعذر مع تخلل الطهر بينهما، وبين ابتداء الصّلاة، ولا يتحقق ما ذكرناه في الأذَان والإِقامة. فصل قال: "وألا يتكلم في أذانه، فإن تكلم لم يُعِد" (¬1). 690 - إِذا تكلم المؤذن ولم يرفع صوته، ولم يطوِّل بحيث ينقطع وِلاءُ الأذان، لم يبطل الأذان بما جاء به وفاقاً. والترتيب في مضمون الفصل: أنه إِن سكت سكوتاً طويلاً بحيث يظن السّامعون أنه أضرَبَ قصداً، أو نابه مانع من استتمامِه، ففي بطلانه قولان مرتبان على القولين في تفريق الطهارة. والأذانُ أولى برعاية الموالاة؛ من جهة أن المقصود منه الإِبلاغ والإِسماع، وإِذا تَبَتَّر، التبس الأمر على السامعين، وهجس لهم أن الذي جاء به لم يكن أذاناً، وكان الغرض منه تعليم الغير الأذانَ، أو ما في معنى ما ذكرناه، ولا يتحقق من الوضوء مقصود يُفرض زواله بترك الموالاة والمتابعة. وهذا فيه إِذا ترك الموالاة في الأذان بالسكوت، فأما إِذا طوّل، وضمَّ إِليهِ الكلامَ مع رفع الصوت، فهذا يترتب على السُّكوت، وهو أوْلى بالإِبطال من جهة أنه أبلغ في إِبطال مقصود الأذان، وجَرِّ اللبس على السامعين. ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 60.

وإِذا لم نحكم ببطلان الأذان، فالمؤذن يبني على بقية أذانهِ، ويأتي بها، وهل يبنى غيرهُ عليه؟ فعلى هذا القول قولان، فإِنَّ صدور الأذان من رجلين غاية في جرّ اللبس ومدافعةِ مقصود الأذَان. 691 - ولو أذن مؤذن وأَقام غيره، فالذي قطع به الأئمة أن ذلك جائز، وذَكر بعض المصنفين (¬1) فيه خلافاً، وزعم أنه مبني على أنه لو خَطب رجل يوم الجمعة، وصلى غيره، فهل يجوز ذلك أم لا؟ وهذا بعيد، وتلقِّي الأذان من الخطبتين غير سديد. 692 - ومن تمام القول في ذلك أنه لو تكلم المؤذن ولم يُطوّل ورفع صوته بحيث أسمع من أسمعه الأذانَ، فالذي يقتضيه كلام الأئمة أنه غير ضارٍّ، ولا ينقطع الأذان به، وكان شيخي يتردد في هذا، من جهة أن الكلام يُلبِّسُ على السامعين أمرَ الأذَانِ، كما يتخبط عليهم الأذان بالسكوت الطويل. 693 - ولو ارتدَّ المؤذن، ففيه اختلاف نصوص، وتصرف الأصحاب بالنقل والتخريج. وحاصل القول فيه. أنه إِذا أتى ببقية الأذان مع الردةِ، لم يعتد به، كما سيأتي بعد ذلك القولُ في أذان الكافر. وإِن عاد إِلى الإِسلام على قرب من الزمان من غير أن ينقطع الولاء، ففي المسألة قولان: أحدهما -وهو الأصح- أن الأذان معتدّ به؛ لأن الأذان ليس مفتقراً إِلى نيّة هي رابطته، حتى يُقضى بانقطاعها بطريان الردة. ومن أبطل الأذان ومنع البناءَ عليه، استدل بأن الردة من المحبِطات، فالأذان لو صدر من المرتد، لم يعتد به، وإِن كانت النية غير مرعية فيه، فينبغي أن يحبِط ما مضى بطريانها. ولو طال الزمان، ثم عاد إِلى الإِسلام، ولم يأتِ في زمان الردة بشيء من كَلِم ¬

_ (¬1) ترى هل يقصد إِمام الحرمين بقوله: (بعض المصنفين) الإِمام الماوردي؟؟ أكاد أجزم بذلك، فقد ذكر الماوردي بمثل هذا الأسلوب، بل أشدّ في كتاب الغياثي: انظر الفقرات: 209، 232، 233، 303. والله أعلم. بعد أن كتبت هذا ثبت عندي أنه لا يقصد الماوردي، بل أبا القاسم الفوراني، كما سيأتي إِن شاء الله. (ولم أشأ أن أحذف ما قدّرتُه أولاً).

الأذان. فالقول الآن يتركب من تأثير الرّدة في الإِحباط، ومن تخلل ما يقطع وِلاءَ الأذان، والخلاف فيه يترتب على أحد الأصلين المتجردين: إما تجرد (¬1) انقطاع الوِلاء بسكوت، أو طروء الردة، وقربِ الزمان. فهذا منتهى البيان فيما يتعلق بوِلاء الأذان. فصل قال: "وما فات وقته أقام ولم يؤذن (¬2) ... إلى آخره". 694 - إذا أرادَ قضاء فائتة واحدة، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يقيم لها، ولا يؤذن. ونص في القديم على أنه يؤذن، ويقيم. ونص في "الأمالي" أنه إن رجا جماعةً أذَّن، وإن لم يرجها، اقتصر على الإقامة. فكأنه في "الجديد" اعتبر حرمة الوقت، واعتبر في "القديم" حرمة الصلاة، واعتبر في "الأمالي" الجماعة. ولو أراد أن يقضي فوائت وِلاء، ففي الأذان للأُولى منها الأقوال الثلاثة، ويقيم لها، ولكل فائتة بعدها إقامة، ولا يؤذن لغير الأولى، قولاً واحداً. وقال أبو حنيفة (¬3): يؤذن لكل فائتة ويقيم، ولو كان يقضي فائتة في وقت أداء فريضة، وكان يؤدي بعدها فرضَ الوقت، فإن أدى فرضَ الوقت أوَّلاً، أذَّنَ وأقام، ويقيم للفائِتة ولا يؤذن. ولو أراد تقديم الفائِتة، ففي الأذان لها الأقوال الثلاثة، ثم إن رأى أن يؤذن لها، فلا ينبغي أن يؤذن للأداء بعدها؛ فإِنَّ أذانين لا يتواليان، وإن لم يؤذِّن للفائتة -في قول- بل اقتصر على الإقامة، فيؤذن للصلاة المؤدّاة في وقتها، ويقيم ويؤدي. ¬

_ (¬1) في النسختين: أما (إذا) تجرد انقطاع الولاء ... ويبدو أن (إذا) مقحمة لا معنى لها، كما هو واضح من مختصر ابن أبي عصرون. (وجاءت (ل) بهذا الخلل أيضاً). (¬2) ر. المختصر: 60. (¬3) ر. بدائع الصنائع: 1/ 154، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 191 مسألة 124، حاشية ابن عابدين: 1/ 261.

695 - ومما يتعلق بهذا تفصيل القول في الجمع بين الصّلاتين، فإن قدم العصر إلى وقت الظهر، فلا شك أنه يقدم الظهر، فيؤذن ويقيم، ثم يقتصر على الإقامة لصلاة العصر، ولا يسوغ غير هذا؛ فإنه لو أذن لصلاةِ العصر لانقطع وِلاء الجمع، ولا خلاف أن الموالاة مرعية في جمع التقديم. على أنا ذكرنا أن توالي الأذانين لا سبيل إليه إلا في صورة واحدة على قولٍ، وهي إذا قضى فائتة قبيل الزَّوَال وأذن لها على قولٍ، ثم لمّا فرغ من الفائِتة زالتِ الشمس، فأرَادَ إقامة الظهر في وقته، فإنه يؤذن لا محالة؛ فإن الأذان الواقع قبل الزوال لم يكن معتداً به عن أداء صلاة الظهر، ولم يكن دعاءً إلى صلاة الظهر. ولو أخر الظهر إلى وقت العصر، فسيأتي في كتاب الجمع الخلاف في أنه هل يجب رعاية الترتيب والموالاة في هذا الجمع؟ فإن قلنا: يجب، فيبدأ بالظهر، ثم يأتي بالعصر، قال الأئمة: هل يؤذن لصلاة الظهر أم لا؟ فعلى الأقوال في قضاء الفائتة؛ فإن هذه الصلاة في حكم الفائتة؛ من حيث أخرجت عن وقتها المعتاد، والأذانُ المتفق عليه إنما يجري دُعاءً إلى الوقت المعتاد للصلوات. فإن قلنا: لا يؤذن لصلاة الظهر، فلا يؤذن أيضاً للعصر؛ فإنه على إيجاب رعاية الموالاة يفرعّ، والأذانُ لو تخللَ، لقطعَ الموالاة. وهذا فيه نظر عندي. ويظهر أن نقول: يؤذن قبل صلاة الظهر، ثم ينقدح في تعليل ذلك وجهان: أحدهما - أن الصلاة مؤداة، وهذا وقت أدائها في السّفر إذا أُخِّرت. والآخر - أنه يبعد أن يدخل وقت العصر ولا يؤذن له، ثم لا يمتنع أن يقال: يقع الأذان لصلاة العصر، ويقدّم عليها صلاةُ الظهر، والإنسان يؤذن لصلاة، ثم يأتي بعد الأذان بنوافل وتطوعات إلى أن تتفق الإقامة. فالوجه عندي: القطع بأنه يؤذن قبل صلاة الظهر ويقيم، ثم يقيم بعد الفراغ من صلاة الظهر، ويفتتح صلاة العصر. فهذا كله إذا قلنا: يجب رعاية الترتيب والموالاة.

696 - فأما إذا قلنا: لا يجب رعاية الموالاة والترتيب، فصلاة الظهر على هذا (¬1) مقضِيَّة، فإن قدّمها، ففي الأذان لها الأقوال المقدمة، ثم إن أذن لصلاة الظهر على قول، فلا يؤذن مرة أخرى لصلاة العصر، وإن قلنا: لا يؤذن لصلاة الظهر، فيقيم لها ثم يؤذن لصلاة العصر؛ فإن الموالاة ليست مشروطة، فلا بد من الأذان، فإن صلى العصر أولاً، فيؤذن لها ويقيم، ثم يقيم لصلاة الظهر، ولا يؤذن، كالذي يقيم فريضة مؤداة، ويُعقبها بفائتة يقضيها، فإنه يؤذن ويقيم للصلاة المؤداة، ويقيم للصلاة المقضية. 697 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: يجب رعاية الترتيب، فعليه أن يقدم صلاة الظهر، فلو قدم صلاة العصر، فقد أساء فيما فعل؛ فإنه حرَّم على نفسه رخصة الجمع، وصلاةُ العصر المقدّمة صحيحة، ولكن تعتبر صلاة الظهر في حكم صلاة أخرجت عن وقتها من غير عذر. فإذا وضح هذا، فإذا قدم العصر، فقد قال بعض المصنفين (¬2): صلاة العصر في هذه الصورة في حكم صلاة مقضية؛ فإنها أخرجت عن وقتها المؤقت لها شرعاً في ترتيب الجمع المثبت رخصة. وهذا خطأ صريح لا وجه له؛ فإن صلاة العصر مؤداة في وقتها قطعاً، وما جرى من إخلالٍ بالترتيب آيلٌ إلى صلاة الظهر؛ فإنها خرجت عن حكم الرخصة إلى تفريط التفويت. فهذا منتهى القول في ذلك. ¬

_ (¬1) من هنا سقطت لوحة كاملة من الأصل. واعتمدنا فيها على نسخة: ت 1. (¬2) نسب النووي في المجموع هذا القول إلى صاحب التتمة أبي سعيد المتولّي، وأشار إلى حكاية إمام الحرمين له. في (النهاية). فقد يوحي هذا بأن المعنيَّ (ببعض المصنفين) هو أبو سعيد المتولّي. ولكن هذا غير قاطع، فقد يكون إمام الحرمين حكاه عن (الفوراني)، وهو أيضاً عند أبي سعيد لا سيّما أن أبا سعيد ذكر هذا في التتمة، وهي شرحٌ لـ (إبانة) الفوراني. فلا يمنع هذا من القول بما ترجح لدينا من أن الذي يعنيه إمامنا ببعض المصنفين هو (أبو القاسم الفوراني) والله أعلم.

فصل قال: "إذا سمع المؤذن أحببتُ أن يقول مثل ما يقول ... إلى آخره" (¬1). 698 - إجابة المؤذن مستحبة إذا سمع السامعُ الأذانَ، ولم يكن في الصلاة، والأكمل أن يقول مِثلَ ما يقول حرفاً حرفاً، إلا إذا قال: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فإن المجيب يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنّ معنى الكلمتين الدعاء، ولا يليق بالمدعوّ أن يعيد كلمة الدعاء، ولكن ينبغي أن يقول إذا سمع الدعاء: لا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذا نَقْلُ الأثبات عن السلف، وفيه التبرّي من الحول والقوة، مع الاعتصام بالله تعالى. ثم إذا قال: "الله أكبر" قال مثل ذلك وإذا قال: "لا إله إلا الله" قال مثل قوله. وتستحب إجابة المقيم كما تستحب إجابة المؤذن. وإذا قال المؤذن في صلاة الصبح: "الصلاة خير من النوم" فجوابه به "صدقت وبررتَ" وإذا قال: "قد قامت الصلاة"، فجوابه "اللهم أقِمها وأدِمها، واجعلني من صالحي أهلها". وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع المؤذن يؤذن، فليقل مثل ما يقول المؤذن" (¬2). وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال بعد فراغ المؤذن: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلت له الشفاعة" (¬3). ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 61. (¬2) حديث: "من سمع المؤذن ... " أخرجه الستة من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة (البخاري: كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، ح 611، ومسلم: كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ح 383، والتلخيص: 1/ 210 ح 311). (¬3) حديث "من قال بعد فراغ المؤذن ... " رواه البخاري وأصحاب السنن من حديث جابر، إلا أنه قال: "مقاماً محموداً" بغير تعريف، وعند النسائي، وابن خزيمة بالتعريف فيهما. (ر. =

ثم اختلف نص الشافعي في أن الرّجل لوْ كان في الصّلاة، فسمع الأذان، هل يُجيب أمْ لا؟، فذكر الأئمة قولين، وكان شيخي يذكرهما في الاستحباب، ويقول: لا تستحب الإجابة فيِ الصلاة في قولٍ؛ فإن الصلاة مشحونة بوظائف القراءة والأذكار، فينبغي ألا يُغيَّرَ ترتيبُها ولا يَثبُت فيها حُكمٌ من أمرٍ خارج منها، وفي قولٍ: يستحب؛ فإنها أذكار، ولو أُخِّرت، فقد يطرأ عائق في تداركها، وأيضاً فإنا أمرنا بالإجابة، والإجابة متصلة بالمسمُوع، فإذا أخرت، لم تكن إجابةً، ثم كان يقول: إن قلنا: لا تجب في الصلاة، فإذا تحلَّل، أعاد تلك الكلمات. وذَكر آخرون: أن القولين فى إثبات الكراهية ونفيها، فأمَّا الاستحباب، فلا، قولاً واحداً، وكأنّا نكره في قولٍ، ولا نكره في آخر. وذكر الشيخ أبو علي (¬1) أن المسألة ليست على قولين، بل نقطع بنفي الاستحباب. ولا يكره ولا يستحب، قولاً واحداً، بل هو مباح. وهذه الطريقة هي المرضية. ثم من يرى الإجابة، فلا شك أنه ينهى عنها في أثناء قراءة الفاتحة؛ فإن القراءة يُقطعُ وِلاؤها بكلِّ ذكر. وقد رأيت في كلام صاحب التقريب رمزاً إلى أن إجابة الإقامة -وهي على إدرَاج (¬2) - لا نراها، وإنما تجاب كلمة الإقامة، وهي قول المقيم "قد قامت الصلاة". وهذا فيه احتمال، ولكن الظاهر ما قدّمناه من قول الأصحاب (¬3). ¬

_ = البخاري: كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، ح 614، النسائي: كتاب الأذان، باب الدعاء عند الأذان، ح 680، ابن خزيمة: ح 420، التلخيص: 1/ 210 ح 310). (¬1) في (ت 1): الشيخ أبو بكر. والصواب: أبو علي، كما حكاه عنه النووي في المجموع جزء 3 ص 118. (¬2) إدراج أي إسراع، بمعنى أن المقيم يوالي بين الألفاظ، ولا يرتلها كالأذان، بل يصل بعضها ببعض، وأصل الإدراج: الطي. من أدرجت الكتاب والثوب، إذا طويتهما. (ر. حاشية الشرواني: 1/ 467، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة 81). (¬3) وصف النووي هذا الوجه المحكي عن صاحب التقريب بأنه شاذ ضعيف، وقال: "قطع الأصحاب بخلافه، إلا الغزالي فقد حكى هذا الوجه عن صاحب التقريب، في كتابه البسيط". (المجموع: 3/ 117، 118).

ثم إذا لم يُجب في الصلاة، فينبغي أن يأتي بالأذكار، كما (¬1) يتحلل، ولو طال الفصل. وهذه تشبه ما لو ترك التالي سجدة التلاوة، ففي أمره بالتدارك تفصيل، سيأتي إن شاء الله تعالى. فصل يجمع أحكاماً سهلة المأخذ في الأذان، فنسردها، ونصدِّر كلَّ حكم بقول الشافعي فيه في المختصر. قال: "وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر" (¬2). 699 - والسَّبب فيه أن المسافر حريّ بالتخفيف عنه، ورخص السفر شاهدة في ذلك أيضاً؛ فإن المسافرين مجتمعون إذا نزلوا، فلا حاجة إلى أذان يجمع المتفرقين، بل يكفي إقامة تنبه على قيام الصَّلاة. قال: "والإقامة فرادى" (¬3). 700 - مذهب أهل الحديث (¬4) إفراد الإقامة. ثم مذهب الشافعي المشهور في إفراد الإقامة ما نرى على أبواب مساجد أصحابه، وكأنه - رضي الله عنه - فهم من الإفراد ردَّ التكبيرات الأربع في صدر الأذان إلى شطرها، وذلك يقتضي التكبير مرتين، وردَّ الشهادة إلى مرة، لما ذكرنا من التنصيف. وأما كلمة الإقامة، فإنها على التثنية مستحقة (¬5) في الإقامة فتُثنَّى، ولم يجر لها ذكر في غيرها؛ حتى ترد إلى الشطر فيها. ثم يقول المقيم بعد كلمة الإقامة: الله ¬

_ (¬1) كما: بمعنى عندما. كذا يستعملها الإمام. (¬2) ر. المختصر: 1/ 61. (¬3) المصدر نفسه. (¬4) مذهب أهل الحديث: المقصود به مذهب الشافعية، وهذا اصطلاح شائع في ألسنة الخراسانيين بخاصة، ومنه قول عبد الغافر الفارسي في ترجمة إمام الحرمين: لولاه لأصبح مذهب الحديث حديثاً. (ر. طبقات السبكي: 5/ 178). (¬5) عبارة (ل): "فإنها على التثنية؛ فإنها مستفتحة في الإقامة، ولم يجر لها ذكر ... إلخ".

أكبر، الله أكبر، كما يقوله في الأذان في هذا الوضع، ويقول: لا إله إلا الله. وذهب مالك (¬1) إلى حقيقة الإفراد في جميع الكلم، فيقول: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: قد قامت الصلاة مرةً، الله أكبر مرةً. وقال الشافعي: "إن كنت تتحقق الإفراد، فاقتصر على التكبيرة الوَاحدة، ولا تَعُد إليها بعد كلمة الإقامة"، وللشافعي قول في القديم مثل قول مالك، وحَكى بعض الأصحاب قولاً ثالثاً: أنه وافق مالكاً في جميع مذهبه، إلا أنه كان يرى الله أكبر مرتين في صدر الإقامة [ويقول "الله أكبر" مرة واحدة بعد كلمة الإقامة؛ ليكون قد ردّ الإقامة إلى شطر الأذان] (¬2)، وهو في هذا القول يوحد كلمة الإقامة، كما قال مالك. فهذا بيان المذاهب. والذي استقر عليه مذهبه في الجديد ما ذكرناه. والألفاظ الوَاردة في إفراد الإقامة كثيرة، معظمها في الصحاح، وكل ما روي في التثنية، فمعلول أو مرسل، والاحتجاج على القائلين بالتثنية سهل. 701 - وبالجملة المذاهب ثلاثة: أحدها - التثنية، والثاني - مذهب مالك [وقول] (¬3) قديم في الإفراد، كما تقدمت الحكاية. والوسطُ مذهب الشافعي في الجديد. ومعتمد هذا المذهب ما رواه ابن عمر قال: "كان الأذان مرتين مرتين والإقامة مرة واحدة (¬4) إلا قوله قد قامت الصلاة، فإن المؤذن كان يقولها مرتين" (¬5). ¬

_ (¬1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 216 مسألة 195، حاشية العدوي: 1/ 225، جواهر الإكليل: 1/ 37. (¬2) ساقط من الأصل، والمثبت من: (ت 1)، (ل). (¬3) زيادة من: (ت 1). (¬4) في هامش: (ت 1): أراد بالإقامة أخت الأذان. (¬5) حديث ابن عمر "كان الأذان مرتين ... " صحيح، رواه الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وأبو عوانة، والدارقطني. (ر. أحمد: 2/ 87 وصححه الشيخ أحمد شاكر، ح 5602، 5569، 5570، أبو داود: كتاب الصلاة، باب في الإقامة، ح 510، وصحيحه للألباني ح 482، النسائي: كتاب الأذان، باب تثنية الأذان، ح 628، الدارقطني: 1/ 239، والتلخيص: 1/ 196 ح 290).

ورواه غيره بألفاظ تداني هذا اللفظ، والتعرض لتثنية كلمة الإقامة مرتين نَص في الرد على مالك (¬1)، وهو يبطل أيضاً مذهب أبي حنيفة (¬2) في حمل الإفراد في الإقامة على إفراد الصوت في كل صنف؛ فإن استثناء قد قامت الصلاة مبطل لهذا المسلك في التأويل. 702 - ومما يوضح الغرض أنه وقع التعبير في بعض الألفاظ عن الأذان بالتثنية، مع العلم بأن التكبير فيه مُرَبع، فالإِفراد المذكور في الإِقامة على مقابلة تثنية الأذان يقتضي التشطير لا محالة، ولَمَّا تقرر في عرف الشرع ذلك، كان التكبير مرتين بعد الحيعلتين في الأذان، وبعد كلمة الإِقامة في الإِقامة في حكم المفرد. وهذا إِذا تأمله المُنصِف ألفاه أسدَّ المذاهب وأقواها إِن شاء الله تعالى. 703 - قال: "ويزيد في أذان الصبح التثويب" (¬3). وهو أن يقول المؤذن بعد الحيعلتين: "الصّلاة خير من النوم" مرتين، والذي نص عليه الشافعي في القديم، أن ذلك مستحب مشروع وقد صح أن بلالاً كان يثوِّب كذلك، وقال في "الجديد" (¬4): أكره التثويب (¬5)؛ لأن أبا محذورة لم ينقله. والطريق المشهورة نقل القولين. وقد قال الأئمة: كل قولين أحدهما جديد، فهو أصح من القديم، إِلا في ثلاث مسائل، منها مسألة: التثويب. وسنذكر مسألتين أخريين عند الانتهاء إِليهما. وقد ذكرَ الصيدلاني طريقةً حسنةً، وهي أنه قال: ذهب أصحابنا المحققون إِلى قطع القول باستحباب التثويب، وقد اعتمد الشافعي في الجديد حديث أبي محذورة، وقد صح عنده بطرق أنه كان لا يثوب. وكل حكم اعتمد الشافعي فيه الخبر -وقد بلغه الحديث لا على وجهه أو لم يبلغه التمام- فنحن نعلم قطعاً أنه لو بلغه الحديث على ¬

_ (¬1) في هامش (ت 1): ردّ على مالك وأبي حنيفة. (¬2) ر. المبسوط 1/ 129، بدائع الصنائع: 1/ 148، حاشية ابن عابدين: 1/ 260. (¬3) ر. المختصر: 1/ 61. (¬4) ر. المختصر: 1/ 61. (¬5) في هامش (ت 1): قف على أن الشافعي قال في الجديد: أكره التثويب.

خلاف ما اعتقده وصح على شرطه، لكان يرجع إِلى موافقة الحديث. فكأنه في (الجديد) قال: مذهبي في التثويب ما صح من قصّة أبي محذورة. 704 - قال: "وأحب ألا يُجعَل مؤذن الجماعة إِلا عدلاً ثقة؛ لإِشرافه على الناس" (¬1). قوله: "لإِشرافه على الناس" يحتمل وجهين: أحدهما - لإِشرافه في الغالب على المساكن والبيوت، لصعود منارة أو نَشَز (¬2)، وقد يقع بصره على العورات. والثاني - لإِشرافه على الناس في مواقيت أشرف العبادات. قال: "وأحبّ إليَّ أن يكون صيِّتاً حسن الصوت ليكون أرقَّ لسامعه" (¬3). لأن الدعاء من العادات إِلى العبادات جذبٌ إِلى خلاف ما يقتضيه استرسال الطبائع، فينبغي أن يكون الداعي حلو المقال؛ لترق القلوب، وتميل إِلى الاستجابة. قال: "وأحب أن يكون الأذان على ترسلٍ، من غير بَغْي وتمطيط يزيل نظم حروف الكلم، وتكون الإِقامة على إدراجٍ، مع الوفاء بالبيان" (¬4). وبالجملة الأذان افتتاح الدعاء ليتأهب المتأهبون، فيليق به الترسل لغرض الإِبلاغ، والإِقامة للانتهاض للصلاة وتنبيه الحاضرين، فيليق به الإِدراج، ثم المرعي الوسط في الأمرين جميعاً. ¬

_ (¬1) ر. المختصر 1/ 62. (¬2) النشْز: بفتح الشين وإسكانها ما ارتفع من الأرض (المعجم). (¬3) ر. المختصر: 1/ 62. والصيّت بوزن السيد والهيِّن: هو الرفيع الصوت، وهو فَيْعل من صات يصوت. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي فقرة: 80). (¬4) ر. المختصر: 1/ 62. والترسّل: التبيين، والمترسل: هو الذي يتمهل في تأذينه، ويبين كلامه تبييناً. والبغي: في الأذان: أن يكون رفعه صوته يحكي كلام الجبابرة، والمتكبرين، والمتفيهقين، فالصواب أن يكون صوته بتحزين وترقيق، ليس فيه جفاء كلام الأعراب، ولا لين المتماوتين. والبغي في كلام العرب: الكبر. والإِدراج هو أن يصل الإِقامة بعضها ببعض، وأصل الإِدراج الطي: يقال: أدرجت الكتاب والثوب، ودرجتهما إِدراجاً ودرجاً: إِذا طويتهما على وجوههما. (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 80، 81).

705 - قال: "وأحب أن يكون المصلي بهم صالحاً فاضلاً ... إلى آخره" (¬1). الكلام في صفة الأئمة يأتي بعد ذلك في باب، والغرض الآن ذكر كلام الأصحاب في أن القيام بالتأذين أفضل، أو القيام بالإِمامة؟ وقد اشتهر فيه خلاف، قال الصيدلاني: من أئمتنا من قال: التأذين أفضل؛ فإِن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء" (¬2)، ومنصب الأمين أفضل وأعلى من مرتبة الضامن. وقال عليه السلام: "المؤذنون أطول أعناقاً يوم القيامة" (¬3)، (¬4). وقد اختلف في تفسيره، فقيل: أكثر الناس أتباعاً من الذين شُفعوا فيهم، والعُنق الجمع من الناس. وقيل: معناه أحراهم بالأمن؛ فإن الآمن في المجامع [يتشرف] (¬5)، والخائف يتطامن ويستخفي. وقيل: أصدقهم رجاء، ومن رجا شيئاً امتدّ عُنقه نحو ما يرجوه. وقيل: معناه لا يلجمهم العرق. وكان شيخي يؤثر تفضيل الإمامة، وسمعتُه في نوب يقطع بذلك وزَيفَ ما عدَاهُ، ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 62. (¬2) حديث الأئمة ضمناء (صحيح)، رواه الشافعي عن أبي هريرة بهذا اللفظ، ورواه ابن حبان، وابن خزيمة، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والبزار، عن أبي هريرة أيضاً بلفظ: "الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن" وفي الباب عن عائشة، وعن جابر، وعن أبي أمامة (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 58 ح 174، 175، أبو داود: الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، ح 517، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء أن الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن ح 207، والبزار: 1/ 181 ح 357، وابن خزيمة: 3/ 15 ح 1528 - 1532، والمسند بتحقيق شاكر: 12/ 153 ح 7169، والبيهقي: 1/ 430، وابن حبان: 4/ 560 ح 1672، والحميدي: 2/ 438 ح 999، والطيالسي: 2404، والطبراني في الصغير: ح 289، 586، 783، ومشكل الآثار: 3/ 52، 56، والإِرواء: 1/ 231 ح 217، والتلخيص: 1/ 206 ح 304). (¬3) حديث: "المؤذنون .. " رواه مسلم وأحمد وابن ماجة والبيهقي عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما (ر. مسلم: الصلاة، باب فضل الأذان، ح 387، أحمد: 4/ 95، 98، ابن ماجة: الأذان، باب فضل الأذان ح 725، البيهقي: 1/ 432). (¬4) في هامش (ت 1): وروي إعناقاً، أي إسراعاً. (¬5) في الأصل: "يتشوف" والمثبت من (ت 1). ومعنى يتشرف، أي يظهر، وُيشرف على الناس، ولا يتطامن ويتقاصر ويتصاغر ليخفى عن الناس.

ووجهه لائح؛ فإنَّ أظهر الأغراض من الأذان الاستحثاث على الجماعات، والإمامة عين القيام بعقد الجماعة، والقيام بالشيء أولى من الدعاء إليه. وما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "الأئمة ضمناء" تنبيه على عظم خطر الإمامة، وذلك يشعر بعلو قدرها، مع الحث على التوقي من الغرر. فإن قيل: لم كان لا يؤذن -عليه السلام؟ - قيل: تردد فيه الأئمة، فقيل: كان لا يتفرغ إلى رعاية ذلك، ولم يكن من إقامة الصّلاة بُدٌّ على حال، فآثر الإمامة عليها. وقيل: لو أذّن، لقال: أشهد أن محمداً رسول الله، وهو محمد، فكان خارجاً عن جزل الكلام، ولو قال: أشهد أني رسول الله، لكان تغييراً لنظم الأذان المعروف، ولو قال: حيَّ على الصلاة، لكان معناه: هلموا، وذلك أمر ودعاء، فكان يتحتم حضور الجماعات، فأشفق على أمته، ولم يؤثر أن يُلزمهم ما قد لا يفونَ به. قال: "وأحب أن يكون المؤذن اثنين" (¬1). 706 - إذا كان المسجد كبيرا أو مطروقاً، فينبغي أن يُرتَّبَ فيه مؤذنان، اقتداء بما كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان فيه بلال وابن أم مكتوم، ومن أظهر الفوائد فيه أن يؤذن أحدهما للصبح قبل طلوع الفجر، ويؤذن الثاني بعد طلوعه، قال عليه السلام: "إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابنُ أم مكتوم" (¬2). وإذا كثر المؤذنون، فلا يستحب أن يتراسلوا بالأذان، بل إن وسع الوقت ترتبوا، وإن ضاق تبدَّدُوا في أطراف المسجد وأذَّنوا، فيكون كل واحد منفرداً بأذانه، ويظهر أثر ذلك في الإسماع والإبلاغ. ثم لا يقيم في المسجد إلا واحد. وإن كثر المؤذنون، فولاية الإقامة لمن أذن أولاً، والأصل فيه أن بلالاً غاب عن معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له؛ فأذَّنَ رجل من بني صُداء، فلما رجع بلال، همَّ بأن يقيم في وقت الإقامة، فقال عليه السلام: "إن أخا صُداء قد أذن؛ وإن من أذن فليقم" (¬3). ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 62. (¬2) متفق عليه من حديث ابن عمر (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 278 ح 662). (¬3) حديث: "إن أخا صداء ... " رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وتكلم فيه =

فإن أذن المؤذنون معاً في مواضع متفرقة، وتشاحُّوا في الإقامة، أُقرع بينهم. ولو سبق إلى الإقامة سابق، وقد أذن مؤذن قبله، ففي الاعتداد بالإقامة كلام، وقد ذكرته قبلُ عند ذكر بناء مؤذن في بعض الأذان على من صدر منه صَدْرُ الأذان (¬1). 707 - وممَّا يتعلق بما نحن فيه أن وقت الأذان مفوّض إلى نظر المؤذن العالم العدل، ووقت الإقامة مفوّض إلى إمام المسجد؛ فإنَّ إقامة الصَّلاة إليه، فليراجَع في الإقامة، فإن سَبق إلى الإقامة من يقيم وتعدّى هذا الأدب، كان مُسيئاً، وفي الاعتداد بما جاء به تردّد للأصحاب، ولم يصرِّحوا به، ولكنه بيّن في كلامهم. وإذا كان في المسجد مؤذن راتب، فتقدم عليه متقدم، وأذن، ثم أذن المؤذن الراتب فيه، ففي ولاية الإقامة ومن يكون أولى بها تردد ظاهر، وهو لعمري محتمل، فيجوز أن ينظر إلى تقدم الأذان؛ من جهة أنه يعتد به ويجوز الاكتفاء به، ويجوز أن يقال: إذا لم يقصِّر المؤذن الراتب، فمن سبقه في حكم المسيء، فلا يستحق بإساءته الإقامةَ، والقصة التي ذكرناها لبلال والصُّدائي كانت في غيبة بلال، وكان الصُّدائي أذَّن بإذْنِ رسول الله. قال: "ولا يرزقُ الإمام مؤذناً وهو يجد متطوعاً (¬2) ... إلى آخره". 708 - الإستئجار على الأذان وتفصيل القول فيما يجوز الاستئجار عليه من هذه الأصناف نذكره في أول كتاب الصّداق، إن شاء الله تعالى، والقدر الكافي هاهنا أن الإمام وكُلَّ من يلي بإذن الإمام هذا الأمر يستأجر على الأذان، وهل لآحاد الناس أن يستأجروا مؤذناً؟ فيه خلاف، والمذهب الصّحيح أنه يجوز. ثم الإمام لا يبذل مالَ بيت المال هزلاً، فإن كان يجد من يتطوع بالأذان، لم يستأجر من مال المسلمين، فإن لم يجد متطوعاً، فيستأجر حينئذ. ثم ظاهر النص أنه لا يستأجر أكثر من مؤذن ¬

_ = الحافظ (ر. أحمد: 4/ 169، أبو داود: كتاب الصلاة، باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر، ح 514، والترمذي: كتاب الصلاة، باب من أذن فهو يقيم، ح 199، وابن ماجة: كتاب الأذان، باب السنة في الأذان ح 717، والتلخيص: 1/ 209، ح 308). (¬1) الفقرة: 691، 692. (¬2) ر. المختصر: 1/ 62، 63.

واحد، والمراد به أنه لا يستأجر في مسجد واحد أكثر من مؤذن، ولو كان صوت مؤذن واحد لا يُسمع أهل البلدة، فلا بد من استئجار من يبلُغ صوتهم أهلَ البلدة، وإن بلغوا عدداً. وقد رُوي أن عثمان في خلافته كان يرزق أربعة من المؤذنين، وهو محمول على مَا ذَكرناه من تحصيل الغرض من إسماع أهل البلدة. وحكى بعض المصنفين عن ابن سُرَيج (¬1) أنه كان يجوِّز للإمام أن يستأجر أكثر من واحد. والقول الكافي في ذلك: أن الإبلاغ مما لا شك في جواز الاستئجار بسببه، سواء حصل بواحد، أو جَمْع، فأمّا ما يزيد على هذا من إقامة [مؤذنين] (¬2) في مسجد كبير، فهو في حُكم رعاية الأحرى والكمال، وظاهر النص المنعُ من بذل المال فيه. والوجه عندي فيه أنه إن كان يحتاج إلى المال لأمور واجبةٍ، أو مهمة بالغةٍ في مرتبتها مبلغ أصلِ التبليغ في الأذَان، ولَو صُرِف المال إلى الأولى والكمال، لتعطلت الأصول المرعيّة، فلا نشك أن الصرف إلى التكملة مع تعطيل الأصل غيرُ جائز، فأما إذا وسِعَ المال الأصول، وفَضَلَ، وتصدى للإمام أمران: أحدهما - الاستظهار بالادِّخار واعتماد ذخيرة في بيت المال، والآخر الصرف إلى تكميلات الأمور، فهذا محل النظر، ونصُّ (¬3) الشافعي عندي محمول على هذه الصورة، فلعله يرى الادخارَ، وفيه احتمال ظاهر، والقول في مصارف أموال بيت المال الكبير في هذه الفنون، يتعلق بالإيالة (¬4) الكبيرة، ومن أرادها على كمالها، فعليه بالكتاب "الغياثي" (¬5) من مصنفاتنا. ¬

_ (¬1) في النسختين: ابن شريح. وهو تصحيف ظاهر. (¬2) في النسختين: مؤذن. والمثبت رعاية منا للسياق. ثم جاءت (ل) بنفس الخلل مثل أختيها، ولكن تقديرنا صحيح إن شاء الله، يشهد له قول الإمام -الآتي قريباً- في حكم بذل المال في حسن الصوت ورقته: "وهذا عندي خارج على قياس القول في المؤذن الثاني في المسجد الكبير". (¬3) يشير إلى ما حكاه عن الشافعي آنفاً: "ولا يرزق الإمام مؤذناً، وهو يجد متطوعاً". (¬4) أي سياسة الدولة. (¬5) ر: على سبيل المثال الفقرات: 301، 302، 342. وغيرها.

ولو بلغ اتساعُ المال مبلغاً لا ينقُصه مثل هذا. فالظاهر عندي القطع بصرف المال إلى التكملات. ولو وجدَ الإمام متطوعاً بالأذان حسن الصوت، ووجد آخر بالأجر حسن الصوت، رقيقه، فقد كان شيخي لا يرى بذل المال في تحصيل حُسن الصوت ورقته، وهذا خارج عندي على قياس القول في المؤذن الثاني في المسجد الكبير. 709 - وقد نجزت مسائل الأذان، ونحن نختمها بذكر من هو من أهل الأذان ومن ليس أهلاً له، فنقول: من ليس له قصدٌ صحيحٌ، لو اتفق منه نظم كلمة (¬1) الأذان، فلا يعتد بأذانه، كالمجنون، وهو كالهاذي. والسكران، أمره خارج على الخلاف في تصرفاته، فإن جعلناه من أهلها، فقصده كقصد الصَّاحي، فلو نظم الأذان اعتدّ به. والصبي المميز من أهل الأذان، فإنَّ قصده صحيح في العبادات، وكيف لا يصح أذانه، وإمامته في الصلوات المفروضة صحيحة؟. المرأة إذا أذّنت للرجل أذانَ الإبلاغ، لم يعتدّ بأذانها، كما لا تصح إمامتها، فأمّا إذا كانت تؤذن في نفسها، ففيه الخلاف المقدّمُ في صدر الباب. وأمّا الكافر، إذا أذّن -ويمكن فرض كافر مستمر على كفره مع فرض الأذان- فإن العيسوية (¬2) يقولون: محمد رسول الله إلى العرب. فلا ينافي مُطلقُ الأذان مذهبَهم. ومن أذَّن منهم للمسلمين، لم يعتد بأذانه؛ فإن الأذان دعاء إلى الصلاة، والكافر ليس من أهل الصلاة؛ فكيف يكون من أهل الدعاء إليها، والمرأة لم تكن من أهل إمامة ¬

_ (¬1) "كلمة الأذان": المراد بها كلام الأذان، وهو استعمال صحيح، تطلق (الكلمة) على الكلام، ومشهور قول ابن مالك في (ألفيته): "وكلمةٌ بها كلام قد يُؤم". (¬2) العيسوية: طائفة من اليهود، ذهبت إلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم خصصوا شرعه بالعرب دون من عداهم، وهي تنسب إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني (أو الأصبهاني. ولذا تسمى أيضاً الأصبهانية) وظهرت في أيام المنصور العباسي. (ر. الإرشاد لإمام الحرمين: 338، والملل والنحل للشهرستاني: 2/ 20 بتحقيق عبد العزيز الوكيل).

الرجل، لما فيها من الشهرة، فلم تكن من أهل الأذان، فكيف يغمُض أن الكافر ليس من أهل الأذان، ثم الكافر ممنوع من سَرْد الأذان، وإظهار الشعار، وهو محمُولٌ منه -مع الإصرار- على الاستهزاءِ، كما تُمنع المرأة من أذان الإبلاغ. فهذا تفصيل القول فيما أردناه، فإن قيل: فلم صححتم أذان الجنب، وليس هو من أهل الصلاة؟ قلنا: هو من أهلها ومن أهل التوصل إليها على قرب. فصل قال: "وأحب تعجيل الصلاة لأول وقتها ... إلى آخره" (¬1). 710 - إقامة الصلاة في أوائل الأوقات من أحسن شعائر أصحابنا. والأصل فيه ما روى أبو بكر الصِّديق - رضي الله عنه - عن النبي الصَّادق المصدوق، أنه قال: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله" (¬2). قال أبو بكر: يا رسول الله، رضوان الله أحب إلينا من عفوه. [قال الشافعي رضي الله عنه: ورضوان الله لا يكون إلا للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين] (¬3). وهذا جارٍ في الصلوات المفروضات، خلا صلاة العشاء، ففيها قولان: أحدهما - أن التعجيل أفضل فيها أيضاً، تعلّقاً بعموم الحديث الذي رويناه، والثاني - التأخير أفضل، لما روي عن النبي عليه السلام، أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل" (¬4). ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 63. (¬2) حديث "أول الوقت رضوان ... " قال الحافظ: "رواه الترمذي والدارقطني، من حديث عبد الله بن عمر، وفي الباب عن جرير وابن عباس، وعلي، وأنس، وأبي محذورة، وأبي هريرة" ا. هـ باختصار كبير، ولم تسلم عند الحافظ رواية من مقال. (ر. التلخيص: 1/ 180 ح 259، الترمذي: كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل، ح 172، والدارقطني: 1/ 249 ح 20، 21). (¬3) زيادة من (ت 1)، (ل). (¬4) سبق هذا الحديث في الفقرة (660).

وقد يلوح في هذه الصورة معنى، وهو أن من أقامها فقد يبتدره النوم، ومن أخرها فقد يوفَّق لصلاةٍ أو غيرها من الخيرات قبل المنام. ومما يستثنى من القاعدة، الإبراد بصلاة الظهر، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: قد أكل بعضي بعضاً، فأَذِن لها في نَفَسَينِ، نَفسٍ في الشتاء ونَفَسٍ في الصيف، فأشد ما تجدون من الحرّ من حرها، وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، فإذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة، فإن شدّة الحر من فَيْحِ جهنم" (¬1). فالذي صار إليه معظم الأئمة أن الإبراد بصلاة الظهر في الحرّ سنة. وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أن من أئمتنا من عدَّ الإبرادَ رخصة، ولم يره سنة، والحديث الذي رويناه يدل ظاهره على أن الإبراد محثوث عليه، مأمور به. ثم ذكر الشيخ أبو علي أن الإبراد -رخصةً كان أو استحباباً- مخصوص بالبلاد الحارة. وكان شيخي يُجريه في بلادنا المعتدلة في شدة الحر، فإن الحر في هذه البلاد ينتهي إلى مبلغ يتأذى المشاة فيه بالمشي في إشراق الشمس، فالمرعي رفعُ الأذى. وقد ذُكر أن النهيَ عن استعمال الماء المشمس يختص بما شُمِّسَ في البلاد الحارة، والسببُ فيه، أن المحذور منه أثر طبِّي، وهو يختص بحِلابة تتحلّب من النُّحاس وغيره فتلقَى البشرةَ، وهذا لا يتوقع في البلاد المعتدلة، والتأذي بحرِّ الشمس جار في البلاد المعتدلة والحارة جميعاً. ثم الغرض من الإبراد تأخير الصلاة في الظهر إلى أن يظهر فيء الأشخاص (¬2)، فيمشي الماشون في الفيء إلى الجماعات، وليس المعني بالإبراد الانتهاء إلى برد العَشيِّ؛ فإن ذلك قد لا يحصل في البلاد الحارة، وإن دخل وقتُ العصر. ثم ذكر ¬

_ (¬1) حديث "اشتكت النار ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان 1/ 121 ح 357، وانظر التلخيص: 1/ 181 ح 260.). (¬2) الأشخاص: أي الأشياء الشاخصة المرتفعة: من شَخَص الشيءُ شخوصاً: إذا ارتفع (المعجم).

الشيخ: أن التأخير بسبب الإبراد لا يُخرج الصلاة عن النصف الأوَّل من المثل (¬1) الأول. والأمر على ما ذكره. وإذا وضح أن المقصود من الإبْراد سهولة المشي إلى الجماعات، فلو كان الرجل يصلي في منزله، فلا إبراد في حقه، فليبادر الصّلاة في أول وقتها، وكذلك إن كان ممشى الناس من موضعهم إلى المسجد في كِن، فلا إبراد. وكان شيخي يحكي وجهاً أن من الأئمة من يعمم الإبراد في حق الناس كافة، ولا يعدِم هذا الإنسان (¬2) نظائر ذلك، وفيه معنى: وهو أن الناس يقيِّلون في وقت الاستواء، ويقتضي ذلك تأخيرَ وقت صلاة الظهر قليلاً، وهذا لا أعُدُّه من المذهب، والوجه القطع بالمسلك المتقدم. وذكر بعض المصنفين وجهين في الإبراد بالجمعة: أحدهما - أنه مستحب في أوانه، اعتباراً بصلاة الظهر في كل يوم. والثاني - أنه لا يستحب؛ فإنه لو تأخر خروج الإمام ثم قدّم الخطبتين، فيوشك أن تتأخر الجمعة عن وقت الإبراد في صلاة الظهر، والجماعة فيها [محتومة] (¬3)، وقد يؤدي علم الناس بالتأخير، إلى التكاسل، [ثم تفوت الجماعة] (¬4) إذا تخاذل كثير من الناس. وذكر أيضاً وجهين في الإبراد في المسجد الكبير المطروق، والوجه في منع الإبراد -إن صح الخلاف- أن المسجد الكبير يشهده أصناف، ولا يتأتى التّواجد منهم على حد الإبراد، فقد يسبق أقوامٌ، فيحتاجون إلى الانتظار في المسجد، فأما المسجد الصغير في محلة لا يطرقه إلا مخصوصون في الغالب، فيتأتى منهم التواطؤ على الإبراد، والتنصيص على انتظار وقته، فإن فرض سبق سابق غريب إلى مثل هذا المسجد، فهو في حكم النادر الذي لا يُخرم به الأصل. ¬

_ (¬1) أي أن ظل الشيء لا يزيد عن نصف مثله. (¬2) كذا في جميع النسخ. والمعنى: هذا الإنسان القائل بتعميم الإبراد. (¬3) في النسختين: محثوثة. وهو تحريف، لعل صوابه ما قدرناه. (¬4) عبارة الأصل مضطربة هكذا: "إلى التكاسل في البيوت عن الجماعة إذا تخاذل كثير من الناس" والمثبت عبارة: (ت 1). ثم ظاهرتها (ل).

ومما يتعلق بهذا الفصل، القول في بيان فضيلة الأولية، ومحاولة الضبط فيها بتحديد أو تقريب، وقد ذَكرناهُ في باب المواقيت في الفصل المشتمل على بَيانِ وقت المغرب (¬1). ... ¬

_ (¬1) نهاية الجزء الأول من النسخة التي رمزنا لها (ت 1). وجاء في خاتمتها ما نصه: "تم الجزء الأول من كتاب نهاية المطلب في دراية المذهب، ويتلوه في الثاني إن شاء الله - باب استقبال القبلة، وأن لا فرض إلا الخَمس. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً. كتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى عزّ بن فضائل بن عثمان القرشي. ووافق الفراغ من نسخه لخمس إن بقين من شهر رمضان سنة ست وستمائةٍ. حسبي الله ونعم الوكيل".

باب استقبال القبلة، وأن لا فرض إلا الخمس

باب استقبال القبلة، وأن لا فرض إلا الخَمس (¬1) 711 - الأصل في الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الصَّخرة من بيت المقدس مدّة مقامه بمكة، وهي قبلة الأنبياء، وإياها كانت اليهود تستقبل، وكان عليه السلام لا يؤْثر أن يستدبر الكعبة، وكان يقف بين الركنين اليمانيين، ويستقبل صَوْب الصخرة، فلمّا هاجر إلى المدينة، لم يمكنه استقبالُ الصخرة إلا باستدبار الكعبة؛ فشقّ ذلك عليه، وعيّرته اليهود، وقالوا: إنّه على ديننا، ويصلي إلى قبلتنا، فمكث كذلك ستة عشر شهراً. ثم قال يوماً لجبريل عليهما السلام: "أنى يُكتب أن يُوجّهني رَبي إلى الكعبة" (¬2)؟ فقال: سله؛ فإنّك من الله بمكان، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وصعد جبريل عليه السلام، فلمّا كان وقتُ العصر، وأذّن بلال، خرج النبي عليه السلام ينظر في أطباق السماء، يتوقّع نزولَ جبريل عليه السلام. فنزل عليه السلام بقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] ثمّ ذكر الشافعي أن استقبال القبلة شرطُ صحة الصلاة. واستثنى الصلاةَ في شدّة الخوف، والتحام الفريقين، ومطاردةِ العدوّ، والنوافلَ على الرواحل (¬3). أمّا صلاة شدة الخوف وما يشبهها. فستأتي (¬4) في باب مفرد. وفيها نذكر صلاة الغرقى، والمربوطين على الخشب. ¬

_ (¬1) من باب استقبال القبلة أصبح عندنا أربع نسخ، فاعتمدنا نسخة (د 4) أصلاً، (ت 1)، (ت 2)، (ط) نسخاً مساعدة. (¬2) حديث تحويل القبلة أصله في الصحيحين، من حديث ابن عمر، ومن حديث البراء بن عازب، ولمسلم من حديث أنس نحوه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 105، 106 ح 302 - 304، وانظر تلخيص الحبير: 1/ 214 ح 319). (¬3) ر. المختصر: 1/ 64. (¬4) في الأصل وفي (د 4)، وفي (ط): ستأتي بدون الفاء، وأثبتناها من: (ت 2)، مع أننا =

712 - وأما النوافل على الرواحل، فنستقصي القول فيها هاهنا، وحاصل القول فيها تحويه فصولٌ: أحدها - في طويل السفر وقصيره. والنافلة تقام على الراحلة، وماشياً في السفر الطويل. والأصل فيه (¬1) ما رواه ابنُ عمرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته أين توجهت به. وروي (¬2) أنه عليه السلام كان يوتر على البعير. وروي (¬3) أن عليّاً رضي الله عنه كان يوتر على الراحلة. ثم ترك الشافعي مقصودَ الباب، وأخذ يردُّ على من يوجب الوتر (¬4). ولا يكاد يخفى أنه لا واجب إلاّ الصلوات الخمس. ولعل المعنى في تصحيح النوافل على الرواحل أن الناس لا بدّ لهم من الأسفار، والموفَّق ضنين بأوقاته لا يُزجيها هزلاً. ولولا تجويز النافلة على الراحلة، لانقطع الناس عن معاشهم إذا تركوا السفر (¬5)، أو انقطعوا من النوافل إذا آثروا السفر. قال الشيخ القفال: كان الشيخ أبو زيد كثيرَ الصلاة، يستوعب الأوقات بوظائف العبادات، وكانَ يَبين ذلك في كلامه؛ فكان يقول: "لولا إقامة النوافل على ظهور الدواب، لانقطع اَلناس عن السفر"، وكان غيره يقول: "لولاه (¬6)، لانقطع الناس عن النوافل" فكان يميل كلام الشيخ أبي زيد إلى أن النوافل لابدّ منها. وكان يقدّر أنّ الناس يتركون الأسفار لأجلها. ¬

_ = نرجح أنها من تصرف الناسخ، فقد لاحظنا أن مجيء جواب أما بدون فاء هو لازمة من اللازمات اللغوية في النسخ كلها. (¬1) حديث ابن عمر متفق عليه. (ر. اللؤلؤ والمرجان 1/ 138 ح 406). (¬2) هذا جزء من حديث ابن عمر السابق. (¬3) أثر علي رضي الله عنه رواه عبد الرزاق، والبيهقي، ورواه المزني عن الشافعي في المختصر (ر. مصنف عبد الرزاق: ح 4538، سنن البيهقي: 2/ 6، مختصر المزني: 1/ 64). (¬4) ر. المختصر: 1/ 64. (¬5) أي تركوا السفر من أجل النوافل، كما صرحت بذلك نسخة (ل). (¬6) أي لولا إقامة النوافل على الرواحل.

713 - فإذاً هذه الرخصة ثابتة في السفر الطويل، وهل تثبت في السفر القصير؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يختص بالسفر الطويل؛ فإنه تغيير ظاهر في الصلاة، وترك شرط استقبال القبلة، فهو حَريّ بأن يُشبَّه بالقصر وغيره من خصائص السفر الطويل. والقول الثاني أنه يجري في السفر القصير والطويل؛ فإن الأخبار والآثار مطلقة فيه، لا اختصاص لها بالطويل. والمعنى الذي أشرنا إليه يعمّ السفرين أيضاً؛ فإن احتياجَ الناس إلى الأسفار القصيرة يكثر كثرةَ الاحتياج إلى الأسفار الطويلة. فإن قلنا: إنها تجري فَي الأسفار القصيرة، [فهل] (¬1) يجوز لمن يتقلَّب في البلدة -وهو مقيم- أن يتنفَّل راكباً وماشياً؟ ما ذهب إليه الأئمة -وهو النص (¬2) الباتّ للشافعي- منعُ المقيم من ذلك؛ فإنّ تَرْكَ الاستقبال، وإكثارَ الأفعال في الصلاة من التغييرات الظاهرة، وهي بعيد عن حال المقيم. وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى تجويز ذلك، وكان يتنفّل على دابّته، ويتردد في حارات بغداد. وحكى شيخي عن القفّال أنه كان يقول: "إن كان المتنفّل في الإقامة مستقبلَ القبلة في جميع صلاته، جاز، وإن استدبر في بعض صلاته، لم يجز". 714 - ولا يَبين الغرض في ذلك إلاّ بأمرٍ سنذكره، فنقول: المتنفل لو صلّى قاعداً -مع القدرة على القيام- جاز مقيما؛ فتركُ القيام ممّا يسُوغ؛ مع الإتيان ببقية الأركان. ولو تنفّل الرجل مضطجعاً -مع القدرة- وكان يومىء بالركوع والسجود، فظاهر المذهب المنع؛ فإنّ جواز ترك القيام في حكم الرخصة التي لا يُقاس عليها. ¬

_ (¬1) في النسخ الأربع: (فهو). والمثبت تقدير منا، نرجو أن يكون صواباً. (الحمد لله صدقتنا (ل)). (¬2) ر. الأم: 1/ 84. حيث يقول: "ولا يكون للراكب في مصير أن يصلي نافلة إلا كما يصلي المكتوبة إلى قبلة وعلى الأرض، وما تجزيه الصلاة عليه في المكتوبة؛ لأن أصل فرض المصلين سواء إلا حيث دل كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص لهم" ا. هـ بنصه.

ومن أصحابنا من صحّح النفل من المضطجع، ويرى ترك الركوع والسجود، والاقتصارَ على الإيماء فيهما، بمثابة ترك القيام، وهذا ضعيف. وما رآه الإصطخري من النافلة على الراحلة تصريح بجواز الاقتصار على الإيماء بالركوع والسجود. فإن قيل: لعلّه يُخصص ذلك بالمتقلّب؛ فإنه مضطر، أو محتاج إلى تقلّبه في البلد؟ قلنا: لا وجه لذلك؛ فإن المقيم جُوِّز له أن يمسح على خفّيه يوما وليلة، وقد يتخيَّل ذلك لأجل ما يليق بتقلّب المقيم. ولكن اللابث في مكانٍ واحد يمسح مسح المتردد. فإذن حاصلُ القول: أن ترك القيام جائز في النفل، ثمّ ظنّ قوم أن ترك الركوع والسجود في معناه؛ إجزاءً لهيئات البدن مجرىً واحداً. وذكر الصيدلاني أن المقيم لو كان على دابة واقفة، فاستمكن من إتمام الركوع والسجود، وكان مستقبلاً في صلاة النافلة، صحّت نافلتُه؛ وإن كانت الفريضة لا تصحّ منه -كما تقدّم ذكره- فالخلاف المقدّم فيمن لا يتمّ الركوع والسجود، أو يستدبر القبلة، أو كان يُرْخي (¬1) دابته؛ فإنّ حركتها مضافة إليها. وأما القراءة، وما يجب عقده في النية، أو التلفظ به في التحريم، فالنفل في أصله كالفرض. وصار الأكثرون إلى تخصيص الرخصة بالقيام. 715 - فهذا قولنا في النافلة تقام مع الإيماء، وفي تنفّل المقيم راكباً وماشياً. ولكن مع أمرين آخرين: أحدهما - كثرة الأفعال التي ليست من الصلاة: كالمشي، وحركةُ الدابّة بالمصلي في معنى مشي المصلي. والثاني - تركُ استقبال القبلة. والأصل أن النوافل كالفرائض، فيما يتعلق بالشرائط، فإذا بَعُدَ تجويز التنفل مُومياً -مع الاستقبال، والسكون عن الأفعال التي ليست من الصلاة- كان التنفل على الدابة، وماشياً مع الاستقبال، أبعدَ عن الجواز؛ لمكان الأفعال الكثيرة؛ وكان التنفّل راكباً -مع ترك الاستقبال- على نهاية البُعد؛ لمكان الاستقبال. ¬

_ (¬1) "يُرخي دابته" يقال: أرخى الدابة، ولها: طول لها الحبل. " المعجم " والمراد هنا أنه أطلق حركتها، وتركها تسير.

ولو رتب مرتِّبٌ هذه المسائل بعضَها على بعض، لأشعر الترتيب بتفاوت المراتب وأقدارها في قضايا الفقه. فهذا ترتيب القول في الحال الذي يجوز فيه إقامة النافلة على الراحلة. الفصل الثاني في بيان الفرائض وما في معانيها في ذلك 716 - فالفرائض لا تقام على الرواحل وإن كانت واقفةً، والمصلي مستقبل قادر على إقامة الأركان كلِّها. ولو كان على ظهر بعير معقول، فلا تصحّ الفريضة أيضاً؛ فإن المفترض مأمور بالتمكن في صلاته على الأرض، أو ما في معناها. ويصلي على السفينة وإن كانت تتحرّك به، كما تتحرّك البهائم بأصحابها؛ فالماء على الأرض كالأرض، والسفينة صفائحُ مبطوحة على الأرض، والحيوان -وإن كان معقولاً- غيرُ معدودٍ من أجزاء الأرض. وإقامة الصلاة في السفينة وهي تسير يؤخذ مأخذ الرخص؛ فإن هذه الحركات في حكم الأفعال الكثيرة؛ ولكن لما جاز ركوب البحر، فلا معدل -لمن ركبه- عنه في أوقات الصلوات. والغالب أن السفينة تجري، ولا اختيار في ربطها، فلم يُبال الشرع بتلك الحركات. والمسافر على البرّ يتصوّر منه أن يسكن ويصلي، وإن كانت الضرورة تحمله على ترك النزول في أوقات الصلاة، فرخصةُ الجمع تأخيراً أو تقديماً في معارضة هذه الضرورة كافية. وممّا يتعلق بهذا أن المتردّد على الزواريق (¬1)، [وهو مقيم في بغداد أو غيره، إذا كان يتمّم الأركان، ويستديم الاستقبال، فهل يُصلي الفرضَ، والأفعالُ تكثر بجريان ¬

_ (¬1) جمع زورق، وهو القارب يدفع بالمجاديف. والمراد هنا، القوارب التي كانت تتردّد بالناس بين شاطئي دجلة، داخل بغداد حيث راكبها مقيم.

الزواريق]؟ (¬1) فيه تردد ظاهر، واحتمال؛ فإنه قادر على دخول الشط، وإقامة الصلاة. فليتدبَّر الناظرُ ذلك. ولم يمتنع الأئمة من إقامة الفريضة في زورق مشدودٍ، مع الوفاء بإتمام الشرائط والأركان. وتَحرك الزورق تصعُّداً وتسفّلاً -إذا كان لا يُكثر- كتحرك السرير وغيره تحت المصلي. والصلاة على أرجوحة مشدودة بالحبال ما أراها صحيحة؛ فإن المصلّي مأمور بالتمكن في مكان صلاته، وليست الأرجوحة مكانَ التمكن في العُرف، وليست مبنيةً كالغرفة المعلَّقة، والمتّبع في مثل ذلك العرف. وهذا بمثابة اشتراط الشرع، في صحّة الجمعة، دارَ الإقامة. ثم قالوا: لو أقام قوم في بادية، واكتفَوْا بالخيام، فلا يُجمعُون؛ فإنهم ليسوا في بنيان يُعد بناءً عرفاً. والخيام [للقُلْعة والنُّقْلة] (¬2)، لا للإقامة، فهذا ما أراه في الأرجوحة، وإن كانت لا تتحرك. ولا يخلو ما ذكرته عن احتمال. فإن قيل: أليس قال الشافعي في مسألة الزحام: إذا زُحم الرجل عن السجود، فتمكن من السجود على ظهر [إنسان، ففعل، صحّ؟ فما الفرق بين ما جَوَّزهُ في ذلك، وبين ما منعتموه من الصلاة على ظهر] (¬3) بعيرٍ معقول؟ قلنا: مسألة المزحوم مفروضة فيه، إذا كانت قدماه قارَّتين، فألقى رأسه على ظهر إنسان. ومسألة البعير فيه إذا كانت قدماه على ظهر البعير. 717 - والمعتبر الكلي فيه أن الحيوان ذو اختيارٍ، فاتخاذه مَقرّاً في صلاة يجب القرار فيها ممتنع. وبالجملة، ليس يخلو القلب من احتمالٍ في البعير المعقول، ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، ومن (ط)، وأثبتناه من: (ت 1)، (ت 2). ثم وجدناها في (ل) أيضاً. (¬2) في النسخ الأربع: "المعلقة للنقلة" والمثبت من (ل) وحدها، والقلعة: التحول والارتحال، يقال: "الدنيا دار قُلْعَة: أي تحول وارتحال". (المعجم). (¬3) ساقط من الأصل، ومن (ط)، والمثبت من: (ت 1)، (ت 2). ثم أكدتهما (ل).

ولكن التعويل في قواعد المذهب على النقل. ولو حمل رجال سريراً وعليه إنسان، لم يصلِّ عليه الفرضَ؛ فإنه محمول الناس، فكان كمحمول البهائم، فهذا في الفرائض. 718 - وأما الصلاة المنذورة، ففي جواز إقامتها على الراحلة -كالنوافل- قولان مشهوران، سيأتي أصلهما في كتاب النذور إن شاء الله عزّ وجلّ. وأما صلاة الجنازة، ففي إجازتها على الراحلة كلام، والأصح منعها [لا] (¬1) لأنها فرض كفاية، ولكن [لأن] (¬2) الركن الأظهر منها القيام، وتركُ القيام فيها -وإن قدّرت على مناصب النوافل- كترك الركوع والسجود، والاقتصار على الإيماء في النوافل. ولو أقام صلاة الجنازة على الراحلة قائماً -حيث تجوز إقامة النوافل على الرواحل- فالظاهر عندي جواز ذلك. الفصل الثالث في بيان كيفية إقامة النافلة على الدّابة وفي حق الماشي 719 - وغرض هذين الفصلين يتعلّق بأمرين: أحدهما - في استقبال القبلة في الطريق وما يتعلق بذلك. والثاني - كيفية الصلاة. وما نريده في الأمرين نذكره في الراكب، ثم نذكره في الماشي. أمّا الراكب، فنبدأ بذكر الاستقبال في حقه، وقد اضطربت النصوص، واضطرب لأجلها طرق الأصحاب، والذي يتحصّل ما أنقله، ثم أذكر مبنى المذاهب ومنشأها من طريق التعليل. فمن أصحابنا من قال: يجب استقبال القبلة عند التحريم بالصلاة، وإن تعذَّر ذلك، لم تصح الصلاة أصلاً. ¬

_ (¬1) ساقطة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) زيادة منا رعايةً للسياق، واعتماداً على عبارة ابن أبي عصرون في مختصره.

ومن أصحابنا من قال: إن كان الزمام أو العِنان بيد [الراكب] (¬1)، فتوجيه الدابّة قِبَل القبلة سهل؛ فلا بد منه، وإن كانت الدابّة مقطّرة (¬2)، وكان في توجيه القبلة عسر، فلا يُشترط استقبال القبلة عند التحرّم أيضاً. وذكر الشيخ أبو بكر وجهاً ثالثاً، فقال: إن كان وجْهُ الدابة إلى القبلة عند الهم بالتحريم، فيتعيّن ذلك، وإن كان وجْهها إلى صوب الطريق، فلا يجب صرفها إلى القبلة، بل يتحرك كما تُصادَفُ الدابة. وإن كان وجه الدابة منحرفاً عن القبلة والطريق جميعاًً، فلا يتحرّم. والدابة منحرفة عن الجهتين قطعاً، فإذا أراد صرفَ وجه الدابة ليتحرم، تعين صرفه إلى جهة القبلة، ليتحرم، ثم يستدّ في صوب طريقه. وذكر بعض المصنفين، وشيخي وجهاً آخر: أنه لا تجب رعايةُ استقبال القبلة قط، كيف فرض الأمر. فمجموع ما ذكرناه أربعة أوجه نشير إلى توجيهها، ثم نذكر المعتبر السديد منها 720 - أما من لم يشترط الاستقبال قط، فنقول: إذا كنّا لا نشترط دوامَ ذلك، والتحريمُ عندنا ركن كسائر الأركان، فلا معنى لتخصيصه باشتراط الاستقبال عنده. ومن اشترط قال: ينبغي أن يكون العقد على استجماع الشرائط، ثم استمرار الرخصة في الصلاة على حكم التخفيف، وهذا كاشتراط اقتران النيّة بأول التكبير، ثم لا يضرّ بعد ذلك عزوبُها؛ وإن كانت الأركان بعد التحريم عبادات، والعبادات تفتقر إلى النية. ومن فصل بين أن يكون الزمام بيده، وبين أن يكون مقطَّراً، راعى العسر واليسر في التجويز والمنع. ومن فصل بين أن يكون وجه الدابّة إلى الطريق أو منحرفاَّ [قال: "إن كان الطريق ¬

_ (¬1) في الأصل: الركاب وكذا في: (ط). والمثبت من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) مقطرة: مربوط بعضها ببعض على هيئة قطار. من قطر البعير وأقطره: إذا ربطه بغيره وساقهما سياقاً واحداً (المعجم).

تجاهه، استمر على قصده، وإن كان منحرفاً] (¬1)، فلا بد من التصريف. والصرف (¬2) إلى القبلة أولى، ثم منها إلى الطريق. 721 - والذي نذكر في ذلك يستدعي تقديم مسألةٍ مقصودة: وهي أن الرجل إذا كان في مَرقدٍ (¬3)، وكان يمكنه أن يستقبل القبلة، من أوّل الصلاة إلى آخرها، فيتعيّن ذلك عليه. وهذا يوضح أن الاستقبال [إن حُطّ فسببه تعذُّرُه، وآيةُ ذلك أنه حيث لا يتعذّر، يتعين اعتباره في جميع الصَّلاة. فإن تعذّر الاستقبال] (¬4) في حالة التحرّم، فسَدُّ [باب] (¬5) النفل خروجٌ عن حقيقة المطلب في إجازة النافلة على الراحلة، فإن سبب جوازها ألا ينحسم مع استمرار المسافر في مرّه وذهابه، وإن لم يتعذّر الاستقبال عند العقد، فهذا محل الاحتمال. والظاهر أنه لا بدّ منه، فإن صرفَ الدابة مع اليسر (¬6) في أوّل العقد لا عسرَ فيه، وليس في حكم اللُّبث والنزول لأجل النافلة، والإنسان كثيراً ما يردّد الدابةَ يمنة ويسرة، ثم يعد مارّاً. ثم افتتاح الصلاة أولى الحالات باعتبار ذلك؛ فإنّه أول الأمر، ثم رعاية دوام ذلك اشتراط لُبثٍ في خلاف صوب السفر، وهذا مبطلٌ لغرض الرخصة، واعتبار ذلك بعد العقد لا وجه له؛ إذ لا ركن أولى من ركن، وليس يحسن التمسك بالنية؛ فإنها مبنيةٌ على قضيةٍ أخرى، وهي أنها قصد أو عزم، واستدامتها عسير، ولا سبيل إلى انعطافها، فقُرنت بأول الفعل، ثم عفا الشرع عن استدامتها. ويحتمل ألا يشترط الاستقبال أصلاً، بل يستمر المسافر كيف فرض الأمر على ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل. ومن (ط). وأخذناه من: (ت 1)، (ت 2)، ثم جاءت به (ل). (¬2) في (ت 1): فلا بد من التصريف، فالصرف أولاً إلى القبلة أولى، ثم منها إلى الطريق. وفي (ت 2): فلا بد من التصريف، والتصريف إلى القبلة أولى ثم منها إلى الطريق. (¬3) المرقد مكان الرقاد، والمراد: مرقد على ظهر الدابة. ولم يقل (هودج) لأنه في العرف للنساء؛ كما أن الهودج يزيد بأن يُظَلَّل، وترخى عليه الأستار من جوانبه. (¬4) ساقط من الأصل، ومن: (ط). (¬5) في الأصل: بان. (¬6) كذا في النسخ الأربع، ولعل الصواب: مع السير، والحمد لله؛ صدفتنا (ل).

صوب قصده. ثم من راعى الاستقبالَ في التحريم، ذكر خلافاً في تعيّنه عند التحلّل، وزعم أن هذا الخلاف خارج على أن نيّة الخروج هل تشرط عند السلام؟ وهذا ركيك، صادرٌ عن غير فكر؛ فإن نيّة التحلل إن شرطت، فليس مأخذ اشتراطها ما ظنّه هذا القائل، من أنه أحد طرفي الصلاة؛ وإنّما سبب اشتراطها أنه خطابٌ للآدمي، مخالف لموضوع الصلاة، [فلا بد عنده] (¬1) من نيّةٍ تصرفه إلى مقصود الصلاة، ولا تعلّق لهذا الفنّ بما نحن فيه من أمر الاستقبال. 722 - ومما نذكره في ذلك: أن المسافر إذا مضى في صلاته، فينبغي أن يتخذ طريقَه قبلتَه في دوام الصلاة، فلو انحرف عنها إلى غير القبلة قصداً، بطلت صلاته، ثم الطريق قد تستدُّ، وربّما تدور، فيتبعها كيف فُرضت، ولسنا نعني الطريق المعتدة بالإطراق، ولكنّا نريد صوبَها، فلو تعلّى (¬2) المسافر عن الطريق، ولم ينحرف عن صوبها، وكان يبغي التوقي من زحمةٍ، أو غبار، فلا بأس، ولو كان المسافر راكباً تعاسيف (¬3)، فقد كان شيخي يقول: إن لم يكن له صوب ومقصد، وكان يستدبر تارةً ويستقبل أخرى -فِعْلَ الهائم- فلا يتنفل أصلاً، إذا لم يكن مستقبلاً في جميع صلاته. [وإن لم يكن على طريق، بل كان ينتحي صوباً معلوماً، فهل يتنفل مستقبلاً صوبه]؟ (¬4) فعلى قولين، وتوجيههما أنّا في قولٍ نقول: له مقصد معلوم، وفي قول نقول: ليس ينتحي طريقاً مضبوطاً، والصوبُ متاهة غير منضبطة. ويخرج عن مجموع ما ذكرناه: أن الصلاة في حال الاختيار كلّها، لا بد وأن تكون منوطة بلزوم جهةٍ، وإنما الكلام في تعيّنها. ¬

_ (¬1) في النسخ الأربع: "فلا بدّ عند قائلين" ولعل صوابها " عند قائليه " فأصابها التحريف. وما أثبتناه هو بعينه ما حاوله أحد قراء نسخة (ت 2)، ففيها محاولة محو لعبارة " عند قائلين " وإثبات " عنده " مكانها. وأما نسخة (ل) فقد جاءت بنفس الخطأ تقريباً، وأقول: " تقريباً "؛ لأن في الموضع أثر (أرضة) خرمت أطراف بعض الحروف. والله المستعان. (¬2) تعلى: ارتفع (المعجم)، والمراد هنا تجنب الطريق المطروقة. (¬3) عسف الطريق: سار فيه على غير هدى، وهو يركب التعاسيف: إذا لم يسلك الطريق المستقيم (المعجم). (¬4) ساقط من الأصل و (ط).

وقد انتهى الكلام إلى فروع نرسمها، ونحلّ بتوفيق الله مُعْوِصَها، ونوضِّح مسلكها - إن شاء الله تعالى. 723 - فنقول: من صرف بدنه عن قُبالة القبلة قصداً في غير ما نتكلم فيه، بطلت صلاته، [ولو أماله إنسانٌ قهراً عن القبلة، وأبقاه مائلاً مدةً، بطلت صلاته] (¬1). ولو نسي الرجل أنه في الصلاة، فاستدبر القبلة، ثم تذكر، بنى على صلاته، والشاهد فيه حديث ذي اليدين، كما نرويه في باب سجود السهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استدبر القبلة، وأقبل على الناس بوجهه" (¬2). ولو أماله إنسان عن القبلة لحظة، ثمّ تركه حتى استدّ، ففيه خلاف سأذكره في موضعه من صفة الصلاة. ولو استدبر، وطال الزمانُ مع النسيان، ففيه خلاف، وهو كما لو نسي وأكثر الكلام ناسياً. والجامع أن القليل مع العَمْد والاختيار مبطلٌ، والقليل مع النسيان لا يبطل، والكثير مع النسيان مختلفٌ فيه، وهو مأخوذ من الكلام الكثير الصادر من الناسي، والقليل الصادر من قاهرٍ مع ذكر المصلِّي مختلف فيه، والكثير على هذه الصورة مبطل. وليس هذا موضع ضبط هذه القواعد، وإنما نكتفي منها بتراجم، لنذكر غرضَنا في هذا الفصل بناء عليها. وموضِعُ تعليل هذه الأصول الفصلُ [الذي نذكر فيه كلامَ الناسي، وفصلُ سبق الحدث في الصلاة] (¬3). 724 - فنعود ونقول: إذا نسي المصلي على الدابة الصلاةَ، وصرف الدابّة عن الطريق، فإنْ تذكَّر على القرب، وردّها إلى سمت الطريق، سجد للسهو، وإن طال ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، (ط). (¬2) حديث سجود السهو. متفق علية من حديث أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 115 ح 337). (¬3) عبارة الأصل: نذكر فيه كلام الناسي [ونصله بسبق الحدث] وفصل سبق الحدث في الصلاة. والمثبت من (ت 1)، (ت 2)، وأما (ل) ففيها: "كلام الناسي، ونصله بسبق الحدث".

الزمان، ففي بطلان الصلاة خلافٌ ذكرناه، فإن بطلت، فلا كلام، وإن قلنا: لا تبطل، فيردَّها ويسجد للسهو. وإن جمحت الدابّة، وتعدّت بنفسها، والمصلّي ذاكر، فإن طال الزمان، بطلت الصلاة، وإن تمكن من ردّها على القرب، فقد ذكرنا في مثل هذه الصورة خلافاً فيمن يُصرف عن القبلة، والظاهر هاهنا أن الصلاة لا تبطل، فإنّ نفرةَ الدابّة وجماحَها -مع ردّها على قربٍ- ممّا يعم وقوعه، وتظهر البلوى به، ولو قضينا ببطلان الصلاة بقليل ذلك؛ لأثر ذلك في قاعدة الرخصة، مع العلم بأن هذه الرخصة مبنية على نهاية السعة، وغاية التخفيف. فأمّا صرف الرجلِ الرجلَ عن القبلة، فأمرٌ لا يعهد وقوعه إلا في غاية الندور، فلهذا قطع الأئمة بأن جماح الدابة في زمان قريب لا يبطل الصلاة، ولم أر ما يخالف هذا للأصحاب، ثم إذا سددها، فقد قطع الصيدلاني بأنه لا يسجد؛ فإن سجود السهو لا يثبت إلاّ عند سهو المصلّي بترك شيء، أو فعلِ شيء، ولم يُوجد من المصلي شيء. ولا يجوز غير هذا الذي ذكر. ولو خرجت الدابة من غير جماح عن السمت، والمصلي غافل عنها، ذاكر لصلاته، فإنْ قَصُر الزمان، لم تبطل الصلاة، وإن طال الزمان، ففيه الكلام المقدم. فإن لم تبطل، فقد قطع شيخي بسجود السهو في هذه الصورة. وقياس ما ذكره الصيدلاني أنه لا يسجد؛ لأنه لم يصرف الدابة بنفسه ناسياً، فينسب الخروج عن السمت إليه. ويحتمل على طريقةٍ أن يسجد من حيث إنه غفل عن مستن (¬1) الدابة ومجراها، ولو كان متذاكراً حاضر الذهن، لَمَنَعها من الخروج، فالخلاف في هذه الصورة ظاهر. فإذاً إن نسي، وأخرج الدابة، فالسجود عليه، حيث لا تبطل صلاته. وإن جمحت الدابة، وقهرت راكبها، فلا يسجد، حيث لا تبطل الصلاة قطعاً. وإن كان خروج الدابة عن السمت، لغفلة الراكب، ففي سجود السهو خلاف ظاهر، فهذا بيان حكم الاستقبال في حق الراكب. ¬

_ (¬1) في: (ت 1)، (ت 2): مسيرة.

725 - فأمّا كيفية الصلاة: فإن كان الراكب في مَرْقد، وتمكّن من إتمام الركوع والسجود، فليتمهما، ولو اقتصر على الإيماء، فالتفصيل فيه كالتفصيل في القاعد المتمكن، يومىء بالركوع والسجود، من غير عجز. وإن كان لا يتمكن من إتمام الركوع والسجود لكونه على رحل أو سرج، فيأتي بما يقدر عليه، وينبغي أن يزيد انحناؤه للسجود على انحنائه للركوع؛ ليفصل بينهما. وأنا أرى الفصل بينهَما -عند التمكن- محتوماً متعَيّناً. وهل يجب أن يبلغ غاية وُسعه في الانحناء؟ هذا فيه تردّد وتصرّف عندي؛ والوجه أنّا نكلّفه أن ينحني بحيث يزيد على انحناء الراكع على الأرض. فأما الانتهاء إلى حد انحناء الساجد على الأرض مع التمكن، فهل يُشترط؟ فيه احتمالٌ. والظاهر عندي ألا يتعين، ويكفي انحناءٌ يظهر (¬1) مع مراعاة التمييز بين الركوع والسجود؛ فإن الدواب لها نزقات يخشى منها مصادمات محذورة. فلو قيل: ينحني انحناء لا ينتهي إلى حدّ يتوقع ذلك في أحوال الغفلات، ويكتفى بهذا، لم يبعد والغالب على الظن أن السلف كانوا يقتصرون على هذا المقدار، والعلم عند الله عز وجل. فهذا تفصيل القول في تنفل الراكب. 726 - فأما الماشي، فإنه يتنفل عندنا، وهو يمشي كالراكب، ومنع أبو حنيفة (¬2) تنفل الماشي. ومعتمد المذهب اعتبار الماشي بالراكب، وكل واحد في تخفيفات السفر ورُخَصه كالثاني، والغرض من تجويز النوافل في السفر ألا تتعطل النوافل، وهذا المعنى يعمّ الراكبَ والماشي. ثم نذكر في الماشي كيفية الصلاة أولاً، ونذكر بعده حكمَ الاستقبال. ¬

_ (¬1) في (ت 2): " ... انحناء ظهره "وفي (ل): "انحناء الظهر". (¬2) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 469.

727 - فأمّا الكيفية، فقد نقل الأصحاب عن الشافعي، أن الماشي يركع، ويسجد، ويقعد، ويستقر لابثاً في هذه الأركان، ولا يمشي إلاّ إذا انتهى إلى حدّ القيام، فيمشي قارئاً. وخرّج ابن سريج قولاً: إنه لا يلبث، ولا يضع جبهته على الأرض، بل يومىء راكعاً وساجداً. وكان الشافعي لا يرى تغيير شيء من هيئات الصلاة في حق الماشي، والمشيُ في القيام لا يُسقط القيام. ومن يرى الاقتصار على الإيماء، يحتج بأن سبب تنفل المتنفل ألا ينقطع في حركته في صوب سفره عن الصلاة، وإذا كثرت الصلاة، كثر سبب اللبث، وينتهض ذلك سبباً في الانقطاع عن الرفقة. فهذه كيفية صلاة الماشي. [وظاهر ما نقله الصيدلاني أن الماشي] (¬1) المتنفل يركع ويسجد على الأرض، ويمشي قائماً. وكذلك إذا انتهى إلى القعود، يمشي ولا يقعد. وهذا متَّجِهٌ؛ فإنّ إقامة القيام لهذه الرخصة مقام القعود، بمثابة إقامة القعود -مطلقاً- مقام القيام في التنفل. وقد يتوجّه على هذا سؤال: وهو أن المقيم المطمئن، لو قام بدل القعود في التشهد، فالظاهر أن ذلك لا يجزئه. والسبب فيه أن المتنفل جُوّز له القعود، حتى يكون أسهل عليه، والمشيُ قائماً بدلاً عن القعود أليق بتنفل المسافر الماشي، فليتبع الناظر المعنى في ذلك. 728 - فأما القول في استقباله، فإن أوجبنا الإتيان بالركوع والسجود على اللُّبث، فيجب الاستقبال فيهما، فإنه في هذه الأركان على هذا المذهب الذي نفرع عليه مطمئنٌ، وأثر السفر فيهما عنه منقطع، واستقبال القبلة ممكن، وهذا واضح. ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، ومن (ط). ومثبت في غيرهما من النسخ.

فأمّا الاستقبال عند التحرّم، فالذي قطع الأصحاب به وجوبُه؛ فإنا إذا أوجبناه عند الركوع والسجود، فنوجبه في العقد، وكذلك يستقبل في قعوده متشهداً؛ لمكان لبثه، ثم يكون مستقبلاً حتى يتحلل عن صلاته، ولا وجه إلاّ هذا. فأمّا إذا فرعنا على تخريج ابن سريج ولم نوجب اللبث في الركوع والسجود والقعود، فلا نوجب استقبال القبلة عند إقامة هذه الأركان؛ فإنه يأتي بها مارّاً، فليستقبل صوبَ سفره، كما يفعل ذلك في حالة القيام. ثم إذا انتهى إلى القعود، فلا يومىء إليه إيماء، ولكن يومىء بالسجود، ثم يعتدل قائماً، ويأتي بالتشهد، فيقع القيامُ بدلاً عن القعود فى حق الماشي، كما يقع القعودُ بدلاً عن القيام في حق العاجز المفترض. ثم هذا الفصل سيأتي مشروحاً في أن من عجز عن الحركات في صلاته المفروضة، فهل عليه أن يمثل الأركان في قلبه على صورها؟ وسنذكر ذلك -إن شاء الله- في موضعه. وإذا كان كذلك، فهل يستقبل عند التحريم؟ التفصيل فيه كالتفصيل في الراكب الذي بيده زمام راحلته، وقد مضى ذلك. ثم إن أوجبنا الاستقبال عند التحرم، فهل نوجبه عند التحلل؟ فيه وجهان ذكرتهما في مالك الزمام. فهذا تمام الغرض في تنفّل الراكب والماشي. 729 - ومما يجري في فكر الناظر، أن الراكب لو أوطأ فرسَه نجاسةً، فلا بأس عليه، فليس المتنفل مؤاخذاً بطهارة الدابة، فكيف يؤاخذ بطهارة موطئها؟ نعم! ينبغي أن يكون ما يلاقي الراكبَ وثوبَهُ طاهراً من السرج وغيره. فأما الماشي إذا مشى في نجاسة قصداً، وكان له مندوحة عنه، فالذي أراه: الحكمُ ببطلان الصلاة. ولست أرى عليه أن يتحفّظ، ويتصوّن من ذلك ويرعاه؛ فإن كل رخصة متعلقة بما يليق بها من الحاجة، والطريق تغلب فيها النجاسة، والتصوّنُ منها عسر، ورعاية هذا الأمر يُلهي المسافر عن جميع أغراضه في السفر ليلاً ونهاراً.

وإذا انتهى في ممرّه إلى نجاسة ولا يجد عنها معدلاً، فهذا فيه احتمال، ولا شك أنها إذا كانت رطبة، فالمشي فيها يبطل الصلاة، وإن كان من غير قصدٍ؛ فإن المصلي يصير بالمشي فيها حاملاً للنجاسة. فهذا نجاز ما أردناه في ذلك. فصل قال الشافعي: "إذا كان يصلي على راحلته في سفره فدخل بلدة ... إلى آخره" (¬1). 730 - المتنفل إذا انتهى إلى بلدة أو قرية وهو في أثناء صلاة النافلة على دابته، فإنْ لم يُرد الإقامة بها، وقصد أن ينزل بها ليلةً، أو مدّة لا تزيد على مدّة المسافرين، فله أن يستكمل النافلة على دابته، وإن كان يتردّد لحاجته في النزول (¬2)، فتردّده لذلك بمثابة [استداده] (¬3) في صوب سفره في كيفية الصلاة وترْك الاستقبال. وإن كان وقف دابته في انتهائه إلى منزله، ولو نزل وتمم الصلاة، لم ينقطع عن شيءْ من مآربه، فلو بقي على الدابة، فما ذكره الصيدلاني أنه يصلي كما يصلي، مستداً في صوب قصده. وكذلك إذا ابتدر الركوبَ قبل أن ترحل الرفقة، وكان يصلي راكباً واقفاً، منتظراً انتهاض الرفقة، فيصلي مومياً بالركوع والسجود؛ فإن هذه الرخصة لا تراعى فيها الضرورة الحاقّة، وإنما المرعيُّ مشقةُ السفر على الجملة؛ فإنه مظنّة الحاجة، وعن هذا بُني الرخص في السفر على كونه مظنة للمشاقّ، وإنْ كان قد يفْرض مسافر غيرُ مشقوق عليه. ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 84. (¬2) في النزول: أي بالبلدة. (¬3) في الأصل، (ط): استدارة. وهو تصحيف ظاهر. فالاستداد هو الاستقامة، وهذا من ألفاظ إمام الحرمين التي يستخدمها كثيراً.

وهذا الذي ذكره في الاقتصار على الإيماء في الركوع والسجود منقدح، فأما استقبال القبلة، فالوجه اشتراطها في ظاهر المذهب في حق الواقف، فإنّا ذكرنا أنه إن كان زمام ناقته بيده، تعيّن عليه استقبال القبلة عند التحرم، وفيه من الخلاف ما قدمناه. وقد ذكرنا أن من كان في مرقد وتمكّن من الركوع والسجود، لم يقتصر على الإيماء، وتعيّن عليه الاستقبال في جميع الصلاة؛ فإنّه ليس ملابساً حالةً يعتبر (¬1) فيها الإيماء، وإذا ركب (¬2)، فهذه الحالة يتعذر فيها الإتمام، ولا ننظر إلى أنه لا ضرورة في الركوب؛ فإن هذا يجرّ إسقاطَ الرخصة في السفر في حق من سفرُهُ مباح، ولا ضرورة عليه في ابتداء السفر، ولا حاجة أيضاً؛ فإن القواعد إذا أسست للحاجة، لم يراع في تفاصيلها الحاجة. فهذا إذا لم يقصد الإقامة. 731 - فأمّا إذا انتهى إلى بلدته، أو إلى موضع آخر، ونوى الإقامة بها، وهو في أثناء الصلاة النافلة، فلا يتمم الصلاة راكباً -إذا فرّعنا على الأصح في أن المقيم لا يتنفل راكباً- ولكنه ينزل ويبني على صلاته مستقبلاً، ويتمم الأركان في بقية الصلاة، وهذه الحركات (¬3) تفرض خفيفةً، بحيث لا تبلغ مبلغ الفعل الكثير المبطل للصلاة. وسنذكر تفصيل ذلك في الصلاة المفروضة في حق الخائف إذا كان يقيمها في حالة الخوف راكباً، ثم أمن في أئناء الصلاة، فنزل فبنى. وظاهر نصّ الشافعي في حق الخائف أنه لو افتتح الصلاة آمناً، ثم طرأ الخوف، فركب، لم يصح، وفيه تفصيل طويل. والظاهر عندي أن المتنفل لو أراد الركوب في أثناء الصلاة، فإنه يبني على صلاته، ¬

_ (¬1) في (ت 1)، (ت 2): يغير فيها الإتمام. (¬2) وإذا ركب: أي ابتدر الركوب قبل أن ترحل الرفقة؛ فهذا الكلام من بقية الصورة نفسها. (¬3) وهذه الحركات: أي حركة النزول والتوجه إلى القبلة.

وفي المسألة احتمال، وسبب ظهور ما اخترته أن النفل لا يلزم بالشروع، وافتتاح الركوب في أثنائه كافتتاح الصلاة النافلة راكباً. والعلم عند الله. فصل قال: "ولا يصلّي في غير هاتين الحالتين إلا إلى القبلة ... إلى آخره" (¬1). 732 - حاصل القول في بقية الباب أمران: أحدهما - تفصيل القول في استقبال عين الكعبة، أْو في استقبال جهتها، عند إمكان اليقين. والثاني - طلب القبلة بالاجتهاد عند تعذّر اليقين. فنبدأ بالصور التي يمكن درك اليقين فيها، ونقول: 733 - من كان بمكة في المسجد الحرام، فليعاين الكعبة، وليستقبلها، ثم إن اقترب منها استقبلها استقبالاً [محسوساً] (¬2) مقطوعاً به، ولو وقف على حرف ركن من أركان البيت، وكان يحاذي ببعض بدنه الركن، وبعضه خارج عن مسامتة الكعبة، ففي صحة الصلاة وجهان، ذكرهما بعض المصنفين وغيره. أحدهما - أنه لا تصح الصلاة، وهو الذي قطع به الصيدلاني، فإنه لا يسمى مستقبلاً؛ بل يقال: استقبل بعض الكعبة، والأمر بالاستقبال مضافٌ إلى جميع بدن المصلي. والثاني - يجزئه وتصحّ صلاته؛ فإنه يسمَّى مستقبلاً. وعلى هذا النحو اختلف أئمتنا في أن الطائف -في تردده وتطوافه- لو خرج عن محاذاة الكعبة في الجهة المرعية في محاذاة الطائف ببعض بدنه، وكان محاذياً بالبعض (¬3)، فهل يصحّ طوافه أم لا؟ على ما سيأتي شرح ذلك. ولو اقترب صف من البيت واصطفوا، فقد لا يحاذي الكعبةَ منهم من في جهة ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 64. (¬2) في الأصل، وفي (ط): مخصوصاً. (¬3) في هامش (ل): صورتها أن يحاذي ببعض بدنه الحجرَ.

الاستقبال إلا عشرون أو نيف وعشرون، ويخرج طرف الصف إن زادوا، وكانوا على استطالة واستداد (¬1) عن المُحاذاة، فلا تصح صلاة الخارجين عن المحاذاة في القرب؛ لخروجهم عن الاستقبال، وهذا بيّنٌ. ولو بعدوا ووقفوا في أخريات المسجد، فقد يبلغ الصف ألفاً، وهم معاينون للكعبة، وصلاتهم صحيحة. ونحن -على قطعٍ- نعلم أن حقيقة المحاذاة -نفياً وإثباتاً- لا تختلف بالقرب والبعد، ولكن المتبع في ذلك وفي نظائره حكم الإطلاق والتسمية، لا حقيقة المسامتة، وإذا قرب الصف، واستطال، وخرج طرفُه عن المحاذاة، لم يُسمّ الخارجون مستقبلين. وإذا استأخر الصف وبعُد سمّوا مستقبلين. 734 - وهذه الأحكام مأخوذة في [وضع] (¬2) الشرع من التسميات والإطلاقات. وعلى ذلك بنى الشافعي تفصيلَ القول في الصلاة على ظهر الكعبة، فقال: إن لم يكن على طرف السطح شيء شاخص من بناء الكعبة، فلا تصح صلاة الواقف على الظَّهر؛ فإن من علا شيئاً لم يسمَّ مستقبلاً، ولو وقف خارجاً من الكعبة -على أبي قبيس مثلاً- فالكعبة مستقبلة عن موقفه، وصلاته صحيحة؛ فإنه يسمى مستقبلاً، ولا يختلف ما يطلق من ذلك بعلوّ الواقف وتسفّله. ولو وقف على السطح، وكان على طرف السطح شيء شاخص من البناء بقدر مؤخرة [الرَّحْل] (¬3) وهو واقف في محاذاته، فصلاته صحيحة؛ فإنه يسمى مستقبلاً لذلك الجزء. ولو وضع شيئاً بين يديه ودفعه ونضَّده بالقدر الذي ذكرناه، واستقبله، ¬

_ (¬1) في (ط): واستدارة. وهو تصحيف ظاهر. (¬2) في الأصل: موضع. والمثبت من باقي النسخ. (¬3) في الأصل وفي (ط): الرجُل، والمثبت من (ت 1)، (ت 2): الرحل بالحاء المهملة الساكنة. وعبارة ابن أبي عصرون: بقدر المؤخرة. وفي المجموع للنووي: "إن كان الشاخص ثلثي ذراع، صحت صلاته، وإلا فلا، وقيل: يشترط ذراع، وقيل: يكفي أدنى شخوص، وقيل: يشترط كونه قدر قامة المصلي طولاً وعرضاً، حكاه الشيخ أبو حامد، وغيره، والصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور الأول، وهو ثلثا ذراع" (3/ 199). والذراع في أصح تقدير نحو 46 سنتيمتر، مما يرجح الرّحْل، بالحاء. ثم التقدير بالرحل معهود في لسان الفقهاء.

لم تصحّ؛ فإن ذلك الشيء لم يعدَّ من الكعبة. ولو غرز خشبة واستقبلها، فقد اشتهر في استقباله خلافُ الأصحاب، فمنهم من منع صحة الصلاة؛ فإنَّ ذلك المغروز لا يعدّ بناءً، ومنهم من صحح، فإن من يبني بناءً، فقد يغرز خشبات عند منتهى البناء، ويعدّ ذلك من جملته، و [الأصحّ] (¬1) الأول. ثم لو فرض شخوص خشبة من البناء، فمعلوم أنها في حجمها قد لا تكون على قدر بدن الواقف، وقد ذكرنا خلافاً فيمن وقف على طرف ركن من أركان الكعبة، وخرج بعض بدنه عن المسامتة، وهذه الخشبة الشاخصة، وإن اتصلت اتصال البناء فبدن الواقف خارج عن محاذاتها في الطرفين، فهذا فيه تردّد ظاهر عندي، كما ذكرته. ومما يجب التنبيه له أن الأئمة اكتفَوْا بأن يكون ذلك الشاخص بقدر مؤخرة [الرحْل] (¬2)، ولعلهم راعَوْا فيه أنه في سجوده يسامت بمعظم بدنه ذلك الشاخص بهذا القدر، وهذا فيه شيء -من جهة أنه في حال قيامه خارج بمعظم بدنه عن مسامتة ذلك ْالشيء- وقد ذكرنا تردد الأصحاب في الخروج ببعض البدن عن المحاذاة، ولكن الأئمة نزلوا هذا منزلة ما لو استعلى الواقف، والكعبةُ أسفلَ منه، وهذا فيه نظر من طريق المعنى، فإن جميع الكعبة إذا تسفّل، فهو القبلة بلا مزيد، فُنزل عليه اسمُ الاستقبال، وهذا الشاخص -في حق الواقف على ظهر الكعبة- جزء من القبلة، وفيه من تبعّض الأمر في المحاذاة ما ذكرته. وقد حكى العراقيون وجهاً: أن البناء الشاخص ينبغي أن يكون على قدر قامة المصلي؛ تخريجاً على ما ذكرته من الاحتمال، وهذا الذي ذكروه في الطول يجري في العرض قطعاً، ويخرج منه منع الصلاة إلى العتبة والباب مفتوح. وهذا الذي ذكروه منقاس حسن. ¬

_ (¬1) في الأصل، وفي: (ط) "ولا يصح الأول". (¬2) في الأصل وفي (ط): الرجل.

وممّا حكوه عن ابن سُريج أنه جوّز الوقوف في عرصة الكعبة إذا انهدمت، وإن لم يكن بين يدي الواقف شيء شاخص، وهذا تخريج غريب. ولا شك أنه يجري هذا في ظهر الكعبة أيضاً، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1). والاحتمال ما قدمته. 735 - ولو وقف المصلي في جوف الكعبة واستقبل جداراً، صحت صلاته وفاقاً؛ وإن كان لا يقال: استقبل الكعبة، بل يقال: استقبل جزءاً منها. وإن استقبل الباب وهو مردود، فهو كما لو استقبل جداراً. ولو كان مفتوحاً، والعتبة لاطئة (¬2) وارتفاعها أقل من مؤخرة [الرَّحْل] (¬3) -وهي تداني ثلثي ذراع (¬4) - فلا تصح الصلاة، ولو بلغ ارتفاعها هذا القدر، فالصلاة صحيحة، كما ذكرنا. 736 - ولو انهدمت الكعبة، ووقف الواقف خارجاً من عرصتها، واستقبل العرصة، صحّت الصلاة، ولا يشترط شخوص شيء من الكعبة. فإن وقف في العرصة نفسها فهو كما لو وقف على السطح في كل تفصيل ذكرناه، من اشتراط شاخص بين يديه [كما مضى. ولو احتفر في العرصة حفرة بالقدر المقدم، فما بين يديه] (¬5) من ارتفاع طرف البئر عن موقفه، بمثابة ارتفاع شيء من البناء شاخص، كما تفصّل قبلُ. ولو فُرض غرز خشبةٍ في العرصة، فقد ذكر فيه الخلاف المقدم، ولو نبتت حشيشة، فعَلَتْ، فلا حكم لها في الاستقبال قطعاً، ولو نبتت شجرة من العرصة، فهي كبَنِيَّةٍ من جدار الكعبة، أو كسارية من سواريها؛ إذا استقبلها من دخل الكعبة. فهذا ما أردناه في الاستقبال حالة المعاينة. ¬

_ (¬1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 120، حاشية ابن عابدين: 1/ 612. (¬2) لاطئة أي لازقة. من لطأ بالشيء لطئاً: لصق به. (المعجم). (¬3) في الأصل: الرجل. والمثبت من باقي النسخ. (¬4) هنا تصريح بطول المؤخرة، وتقديرها بثلثي ذراع، مما يؤكد صحة اختيارنا. (¬5) ساقط من الأصل، ومن: (ط).

737 - ومما يتعلق بتمام ذلك أن العراقيين حَكَوْا نصّين ظاهرهما الاختلاف في المكي إذا لم يعاين الكعبة، فنقلوا أنه قال في موضع: "من سهل عليه معاينة الكعبة في صلاته على سهل، أو جبل، تعيّن ذلك عليه". ونقلوا أنه قال: "من كان في مكة في مكان لا يرى منه البيت، لم يجز له أن يترك الاجتهادَ بكل ما يستدل به على الكعبة" ثم قالوا: والنصّان منزّلان على اختلاف حالين، فمن يكون موقفه بحيث تبدو منه الكعبة على [يُسرٍ] (¬1) وسهولة، فتتعين معاينة الكعبة. وحيث يكون بينه وبين الكعبة حائل من جدار، أو جبل، أو غيرهما، فلا نكلفه المعاينة. فظاهر كلامهم اشتراط العيان عند الإمكان، حتى قالوا: لو بنى حائلاً حاجزاً بين موقفه وبين الكعبة، حتى عسرت عليه المعاينة -من غير ضرورة وحاجة- فلا تصح صلاته؛ لتفريطه في ذلك. وهذا كلام فيه إخلال، والذي أراه أن الرجل إذا سوَّى محراباً على العيان، ثم أثبت حاجزاً، فلا بأس، فإنه إذا وقف نقطع بأنه وقف موقفاً يسمى فيه مستقبلاً. وقد ذكرنا أنه لا يعتبر عند الاستئخار من جِرم الكعبة حقيقةُ المحاذاة والمسامتة، وإنما يكتفى بحصول اسم الاستقبال، فالعيان مرعيٌّ ليسوَّى بحسبه محراب عند الإمكان. فأما إذا وقف في عرصة داره بمكة، فلا بأس، ولكن إن سوى محرابها بناءً على العيان في أول البناء، فهو خارج على ما ذكرناه، وإن بنى المحرابَ في البناء على الأدلة، ولم يعتن بالعيان في ابتداء الأمر، أو وقف واقف في بيتٍ من دارٍ لا محراب فيه، واعتمد فيه الأدلة، فظاهر ما نقله العراقيون جواز ذلك، وأنه لا يكلف الترقي إلى سطح الدار مع إمكان العيان فيه، وأطلقوا جواز الاجتهاد في هذه الصورة، واعتمدوا فيه ما صادفوا عليه أهل مكة وهم يصلون في عرصات الدور، وكذلك استفاض ذلك من الأوّلين. ¬

_ (¬1) في الأصل كما في (ت 1) نشز.

وهذا فيه نظر عندي؛ فإن اعتماد الاجتهاد بمكة، مع بناء الأمر ابتداءً على عيانٍ، بعيد، فلينظر الناظر في ذلك مستعيناً بالله تعالى. والذي ذكرناه في قسم انتفاء الاجتهاد، والقدرة على درك اليقين. 738 - ومما يتصل بهذا القسم أن من كان بالمدينة وكان يعاين محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه، فلا اجتهاد له، فإنَّ استداد موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم [مقطوع به، ولا اجتهاد مع إمكان درك اليقين، فلو أراد ذو بصيرة أن يتيامن أو يتياسر عن صوب محراب المصطفى صلى الله عليه وسلم] (¬1)، لم يكن له ذلك، والذي تخيله زلل، فلا اجتهاد إذاً جملةً وتفصيلاً. ولو دخل بلدةً أو قرية مطروقة فيها محراب متفق عليه، لم يشتهر فيه مطعن، فلا اجتهاد له؛ مع وجدان ذلك؛ فإنه فى حكم اليقين، ولو أراد ذو بصيرة أن يتيامن بالاجتهاد قليلاً، أو يتياسر، فظاهر المذهب أنه يسوغ ذلك. وسمعت شيخي يحكي فيه وجهاً - أنه لا يجوز؛ كما ذكرناه في مبهة والمدينة. ومن قال: يتيامن أو يتياسر، يلزمه أن يقول: حق على من يرجع إلى بصيرة إذا دخل بلدة أن يجتهد في صوب القبلة، فقد يلوح له أن التيامن وجه الصواب، وهذا (¬2) إن ارتكبه مرتكب، ففيه بُعد ظاهر، والعلم عند الله. وتفصيل القول في التيامن والتياسر -مع اعتقاد اتحاد الجهة- يَبين بأمرٍ نذكره بعد ذلك في فصول الاجتهاد. إن شاء الله تعالى. وهذا منتهى القول في أحد القسمين. ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، ومن (ط). (¬2) "وهذا إن ارتكبه مرتكب" الإشارة هنا إلى القول بوجوب الاجتهاد في القبلة على ذي البصيرة إذا دخل بلداً، لا على فعل التيامن أو التياسر عن قبلة البلد. والارتكاب كما يفهم من السياق -هنا وفي مواطن أخرى- معناه أن يدفع المناظرَ حب الغلبة إلى التمادي؛ حتى يقول بقولِ بعيدٍ عن المنطق والصواب، وعندها يسمَى (مرتكباً). هذا ولما أصل إلى (الارتكاب) بين مصطلحات الجدل والمناظرة، على كثرة ما راجعت من المؤلفات في هذا الشأن.

739 - فأما القسم الثاني - وهو إذا عَسُر دَرَكُ اليقين، ففيه تفصيل القول في الاجتهاد: فإذا كان الرجل في سفره، وتعذر عليه مدرَك اليقين، فأول ما خاض فيه الخائضون ذكرُ أدلة القبلة، ولست أخوض فيه؛ فإن استقصاء القول فيه يطول، وقد ألف ذوو البصائر فيه كتباً، وشرْطُ هذا الكتاب إذا فرض فيه أمر، أن ينتهي إلى غايته، فلتُطلب أدلة القبلة من كتبها. وذكر الصيدلاني منها مهابّ الرياح، وهذا بعيد عندي جدّاً؛ فإن الرياح لا معوّل عليها، والتفافها في مهابّها أكثر من استدادها، ثم لا يتأتى التمييز فيها. 740 - ومما نذكره في هذا الفصل: أن من يسافر هل يتعين (1 عليه أن يتعلم من أدلة القبلة ما يستقبل به، وهل يلتحق هذا بما يتعين 1) على المكلف تعلمه؟ ذكر بعض المصنفين فيه اختلافاً، وهو لعمري محتمل، فيجوز أن يقال: يجبُ؛ كما يجب تعلم أركان الصلاة وشرائطها، ويجوز أن يقال: لا يجب؛ فإن التباس جهة القبلة مما يندر، وإنما يتعين على كل مكلف تعلم ما يعمّ مسيس الحاجة إليه. 741 - ثم إنما يجتهد البصير، فأما الأعمى، فلا شك أنه لا يتأتى منه الاجتهاد، وليس له إلا التقليد. ومن لا يعرف الأدلة، ولم نوجب عليه التعلم، فإنه يقلّد أيضاً. 742 - والعالم بالأدلة لا يقلد عالماً؛ إذا كان متمكناً من الاجتهاد. وإن التبست عليه الأدلة، وعسر عليه الاجتهاد، فقد نقل المزني عن الشافعي أنه قال: "ومن خفيت عليه الدلائل: فهو كالأعمى" (¬2). وعلى الجملة: اختلف أئمتنا في أنه إذا تعذر على العالم النظر، ولم يعسر على عالم آخر، فهل يقلّد من خفيت عليه الدلائل من لم يخْفَ عليه؟ فمنهم من قال: يقلّد؛ لأنه في حالته كالأعمى الذي لا يتمكن من النظر. ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) ر. المختصر: 1/ 65.

ومنهم من قال: لا يقلد. واختيار المزني أنه يقلد، وقد استدل بنص الشافعي؛ حيث قال: "ومن خفيت عليه الدلائل، فهو كالأعمى" فقد جعل الشافعي فيما ظنه المزني من خفيت عليه الدلائل كالأعمى، والأعمى يقلد، فليقلد من خفيت عليه الدلائل. فقيل له: لا يمتنع أن يكون المعنى من تشبيهه بالأعمى أن يصلي كيف يتفق، كالأعمى الذي لا يجد من يقلده، فإنه يصلي لحقِّ الوقت كيف يتفق، ثم يقضي إذا وُجد من يسدّده. ووجه من لا يرى التقليد: أن البصير إذا توقف لحظة، لم يخرج عن كونه عالماً بالأدلة، والفترات قد تطرأ، والقرائح قد تتبلّد، فلو قلّد، لكان عالما مقلداً عالماً. ثم الاختلاف الذي ذكرناه، في ضيق الوقت، وخشية الفوات، فأما إذا أراد أن يقلد أول الوقت، أو وسطه، فلا سبيل إليه؛ إذ لا حاجة، والتقليد إنما يقام مقام انقطاع النظر عند الحاجة. فإن قيل: إذا جوّزتم إقامة الصلاة بالتيمم في أول الوقت -مع العلم بأن المسافر قد ينتهي إلى الماء في آخر الوقت- فهلاّ جوّزتم التقليد في أول الوقت؛ لإدراك فضيلة الأولية؟ قلنا: إنما جوزنا التيمم على قولٍ؛ من جهة أن الماء في مكان التيمم مفقود، وأما إذا توقف العالم، فهذا تردُّدٌ من ناظر، فلا نجعل هذا بمثابة عدم العلم والنظر رأساً، وفي المسألة -على الجملة- نوع احتمال. ثم إذا جوزنا له أن يقلد، فقلَّد وصلى، صحت صلاته، ولا يلزمه القضاء؛ فإنا نزّلناه منزلة الأعمى في تقليده. وإن قلنا: ليس له أن يقلد، فقد قال شيخي: يصلي على حسب حاله، ثم إذا انجلى الإشكال، يصلي ويقضي (¬1). ويحتمل أن يقال: يقلد ويصلي بالتقليد، ثم يقضي إذا زال الإشكال، ويكون هذا بمثابة ما إذا تيمم في الحضر عند عدم الماء فيه، فقد نقول: يلزمه القضاء، ثم ¬

_ (¬1) أي يصلي ويقضي ما صلاه على حسب حاله، قبل انجلاء الإشكال.

يلزمه أن يتيمم بحق الوقت، فالتيمم بدلٌ عن الوضوء، فنوجب إقامة البدل، وإن أوجبنا القضاء، فكذلك التقليد بدل عن الاجتهاد، فينبغي أن يقلّد، وإن كنّا نوجب القضاء. وهذا القائل يقول: إذا قلنا: يقلّد ويصلي، فهل يقضي؟ فعلى وجهين مبنيين على القولين فيمن تيمم بعذر نادرٍ لا يدوم، ثم زال العذر، فهل يقضي الصلاة؟ فعلى قولين. 743 - ومما يليق بتحقيق القول في ذلك أن ما ذكرناه من التفريع والخلاف فيه إذا انحسم مسلك النظر على الناظر، فأما إذا لم ينحسم نظره، ولكن كان ينظر ويستمرّ في نظره، وعلم أن وقت الصلاة ينتهي قبل أن ينقضي نظره، فيقلد ويصلي لحق الوقت، أو يتمادى في نظره إلى أن يتم اجتهاده؟ هذا ينزل منزلة ما لو تناوب على بئر جماعة، وعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد انقضاء الوقت. وهذا أصل قد ذكرناه، ووقع الفراغ منه في باب التيمم. فهذا تمام ما أردناه. 744 - وإذا جوزنا التقليد، فلا بد من العلم بصفة المقلِّد والمقلَّد، فأما المقلِّد، فهو الذي لا يتصور منه الاجتهاد كالأعمى. وإن كان عالماً بصيراً، فركن إلى دَعة التقليد مع القدرة على الاجتهاد، لم يجز أصلاً. وإن تحيّر وانحسم نظره، ولم يضق الوقت، لم يقلد، وإن ضاق الوقت مع الحَيْرة (¬1)، ففيه الخلاف الذي ذكرناه. وإن لم ينحسم نظره، ولكن علم أنه لا ينتهي نظره في الوقت، فهو كالتناوب على البئر والثوب الذي يصلّي عليه وفيه. وإن كان الرجل جاهلاً بأدلة القبلة، فهذا يبنى على أنه هل يتعيّن عليه تعلّم أدلة القبلة؟ وقد ذكرنا الخلاف فيه. فإن قلنا: لا يتعين، فيقلّد ويصلي ولا يقضي، وإن قلنا: كان يتعين عليه ¬

_ (¬1) عبارة (ت 1)، (ت 2): لم يقلد [وإن ضاق الوقت لم يقلد] وإن ضاق الوقت مع الحيرة، ففيه الخلاف.

التعلم، فلما لم يتعلم، فقد قصر وفرّط، فيلزمه القضاء، ثم يصلي لحق الوقت من غير تقليد، أو يقلد، ويصلي، ثم يقضي؟ فيه تردد ذكرته. فهذا تفصيل القول في صفات المقلد. 745 - فأما من يُقلَّد، فينبغي أن يكون عالماً بأدلة القبلة، وينبغي أن يكون مسلماً؛ لأنه لا تقبل أدلة المشرك بحال. ولو كان فاسقاً، لا يقبل قوله أيضاً. ولا تقبل دلالة صبي كما لا يقلَّد صبي، وإن بلغ مبلغ المجتهدين. والقول الضابط في ذلك أنا نرعى في الدالِّ المقلَّد ما نرعاه في المفتي، غير أن العلم المرعي هاهنا ما يتعلق بأدلة القبلة. 746 - ومما نذكره أن العالم وإن منعناه من تقليد عالم، فلو أخبره إنسان بطلوع الشمس من جهة مخصوصة، فهذا إخبار عن المشاهدة، فيجوز التعويل على قوله -إذا كان عدلاً ثقة- وهذا بمثابة رواية الأخبار، وليس هو من التقليد في شيء. ثم يُشترط في المخبر عن المشاهدات في هذه الأشياء ما يشترط في رواية الأخبار، من: الإسلام، وعدم الفسق، وفي اشتراط البلوغ خلافٌ، مذكور في رواية الأخبار، ومختارُ معظم الأصوليين أنه لا يقبل رواية الصبي، ومَنْ قبلها يشترط أن يكون مميزاً، ولا يكون عرِماً (¬1) كذاباً. فهذا تفصيل القول في صفات المقلِّدين والمقلَّدين، ومن يجتهد، ومن يُخبر عن المشاهدة، وينزل منزلة الرواة. 747 - ونحن نذكر الآن تفصيلَ القول في الإصابة والخطأ بعد الاجتهاد، وسبيل رسم التقسيم فيه أن نتكلّم في الجهتين إذا فرض الخطأ فيهما، ثم نذكر فرض الخطأ في الجهة، (2 الواحدة. فأما إذا قدّرنا الخطأ في الجهتين 2)، فلا يخلو: إما أن يقع ذلك بعد الفراغ من ¬

_ (¬1) العرِم: من عَرَم فلان يعرُم عَرْماً: اشتد، وخبث، وكان شريراً. أو من عَرُم فلانٌ: شرِس واشتد. (المعجم). (2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

الصلاة، أو في أثناء الصلاة؟ فإن قُدّر ذلك بعد الفراغ، فنقول: 748 - إذا اجتهد وصلى إلى جهةٍ وفرغ، ثم تبين أنه أصاب، أو لم يتبين شيء، لا بيقين، ولا بغلبة ظن، بأن جرى ذلك في موضع، فرحل منه وامتد، فلا يجب القضاء أصلاً. وإن صلى وفرغ، ثم تغير رأيه في تلك الصلاة، فإن تبيّن قطعاً أنه قد أخطأ من جهة إلى جهة، ففي وجوب القضاء قولان مشهوران: أحدهما -وهو مذهب أبي حنيفة (¬1) والمزني- أنه لا يجب القضاء، والثاني - أنه يجب القضاء، وتوجيه القولين مذكور في (الأساليب) فليتأمّله الناظر. ثم كان شيخي يقول: إن تبين للمجتهد الخطأ في الصلاة التي أقامها، وتعين له الصواب قطعاً، ففي القضاء القولان المشهوران، وإن تبين الخطأ في الصلاة المؤداة، ولم يتبين الصوابَ وجهتَه، ففي القضاء قولان مرتبان على قولين في الصورة الأولى، وهذه الصورة أولى بألا يجب القضاء فيها؛ فإنه لو قضاها لم يأمن أن يقع له في القضاء مثلُ ما وقع له في الأداء، وهذا سببٌ من أسباب سقوط القضاء، بدليل أن الحجيج إذا وقفوا مخطئين يوم العاشر، لم يلزمهم القضاء، إذْ لم يأمنوا في القضاء مثلَ ما وقع لهم في الأداء. وهذا الترتيب خطأ عندي لا أصل له؛ فإنه إن كان لا يأمن في قضاء الصلاة مثلَ ما وقع له في الأداء، في حالة الالتباس، فيمكنه أن يصبر حتى ينتهي إلى بقعة يتعيّن له فيها يقين الصواب، وهذا يسير لا عسر فيه، وليس كذلك خطأ الحجيج في وقت الوقوف؛ فإنه يطرد فيه زوال الأمن عن وقوع الخطأ في السنين المستقبلة كلها. فهذا إذا فرغ المجتهد ثم تيقن أنه أخطأ في تلك الصلاة بعينها. 749 - فأما إذا تغير اجتهاده، وغلب على ظنه أنه أخطأ في تلك الصلاة، فلا يلزمه قضاؤها؛ إذا كان تغيّر الاجتهاد بعد الفراغ من الصلاة، وهذا يبنى على أصلٍ مقرّر في الشرع - وهو أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. ¬

_ (¬1) ر. رؤوس المسائل: 142 مسألة: 49، حاشية ابن عابدين: 1/ 291.

750 - ومما نُجريه في ذلك قبل مجاوزة الفصل، أن الفقهاء احتجوا بقول على قول بمسائل، والمذهب فيها مضطرب: فمما استشهد به من نصر وجوبَ القضاء: فرض الخطأ في الوقت؛ فمن اجتهد في وقت الصلاة، وأخطأ وتيقن الخطأ، فتفصيل المذهب فيه، أن هذا إن وقع في التأخير، فالوجه: القطع بإجزاء الصلاة، وإن نوى الأداء فيها، فتقوم نية الأداء مقام نية القضاء في ذلك، وهذا يناظر الخطأ في شهر رمضان في حق المحبوس، الذي التبس عليه عين الشهر، فإذا صام باجتهاده شهراً، فوقع بعد رمضان، أجزأه. ولو تبين للذي اجتهد في وقت الصلاة أنه أوقع الصلاة قبل الوقت، فإن تبين ذلك ووقت الصلاة باقٍ بعدُ، تجب إعادة الصلاة في الوقت. وإن لم يتبين ذلك حتى انقضى الوقت، فالذي قطع به الأصحاب وجوب القضاء. وكان شيخي يخرج ذلك على قولين، كالقولين في نظير ذلك في صوم رمضان؛ فإن المحبوس إذا صام بالاجتهاد، ثم تبين له أنه كان صام شعبان مثلاً، وقد انقضى صومُ رمضان، ففي إجزاء ما جاء به قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب الصيام، إن شاء الله تعالى، فلا فرق إذن بين الصلاة والصوم، في فرض الخطأ في الوقت. والذي أراه في ذلك أن الاجتهاد في الوقت إن كان ممن يتأتى منه الوصول إلى اليقين، بأن يَلْبَث ويصبر ساعةً، فإذا فرض الخطأ في التأخير، لم يضر ذلك، وإن فرض من هذا الشخص الخطأ في التقديم، فالوجه القطع بوجوب القضاء، فإن دَرَك اليقين إذا كان ممكناً، فإن سوغنا الاجتهاد، فيظهر فيه أن الاجتهاد يسوغ بشرط الإصابة. فأما إذا كان المرء محبوساً في موضع، وكان لا يتأتى منه الوصول إلى دَرْك (¬1) اليقين، فإذا فرض الخطأ في هذه الصورة، فيظهر حينئذ أن يكون التفصيل فيه، كالتفصيل في شهر رمضان، كما تقدّم. ¬

_ (¬1) "درك": بسكون الراء وفتحها.

751 - ومما أجراه الأصحاب في توجيه القولين، الخطأ في الثوب الطَّاهر والنجس إذا فرض الاجتهاد، وهذا إن سلمه أبو حنيفة، فهو عندنا خارج على القولين في الخطأ في القبلة، وقد ذكرنا نظير ذلك في الخطأ في الأواني في كتاب الطهارة، فليتأمله الناظر ثَمَّ. 752 - والقياس المقنع في ذلك، أن ما يتطرق إليه الاجتهاد من شرائط الصلاة، فإذا فرض فيه خطأ بعد الاجتهاد، فالقاعدة تقتضي تخريج القولين؛ فإن حقيقتها تؤول إلى أنّا -في قولٍ- نكلّف إصابة المطلوب، وفي قولٍ نكلَّف بذلَ المجهود في الاجتهاد، وهذا يجري في كل مجتَهد فيه جرياناً ظاهراً، فإن طرأ في بعض المسائل أمر -كما ذكرناه في تفصيل الخطأ في الوقت- فقد يقتضي ذلك مزيد نظر، كما تقدم الآن. وهذا كله فيما يجري بعد الفراغ من الصلاة. 753 - فأما إذا طرأ ما ذكرناه في أثناء الصلاة، فنذكر يقين الخطأ، ثم نذكر تغيّر الاجتهاد. فأما إذا [تعيّن] (¬1) الخطأ في أثناء الصلاة، لم يخل: إما أن يتعين الصواب أيضاً، (2 وإما ألا يتعين الصواب 2). فإن تعين الصواب والخطأ، فإن قلنا: لو جرى ذلك بعد الفراغ، [لزم قضاء الصلاة، (4 فإذا طرأ في أثناء الصلاة، تبين بطلانها، وإن قلنا لا يجب القضاء إذا بان ذلك بعد الفراغ] (¬3) فإذا طرأ على الصلاة 4) ففي المسألة قولان: أحدهما - لا تبطل الصلاة، ويستدير إلى جهة الصواب، فتقع الصلاة الواحدة إلى جهتين، تشبيهاً له بصلاة أهل مسجد قباء، لما افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس، ثم بلغهم نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن القبلة قد تحولت، فاستداروا إلى ¬

_ (¬1) في الأصل، وفي (ت 1)، وفي (ط): تغير. والمثبت من: (ت 2). (2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (¬3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. ومن (ط). والمثبت من (ت 1). (4) ما بين القوسين ساقط من ت 2.

الكعبة، وصحت صلاتهم، ولذلك سمي المسجد مسجد القبلتين (¬1). هذا إذا تبين الصواب والخطأ في أثناء الصلاة. 754 - فأما إذا بان يقين الخطأ في الصلاة، ولم يتبين الصواب، فإن عسر العثور على الصواب وطلبه، فتبطل الصلاة قطعاً؛ إذ لا سبيل إلى الاستمرار على الخطأ في الصلاة، والتحول إلى الصواب عَسر. فإن احتاج في الوصول إلى اجتهاد -وقد يطول الزمان فيه- ففي بطلان الصلاة على الجملة في هذه الصورة [قولان، مرتبان على القولين في] (¬2) الصورة التي قبلَ هذه، وهي إذا تعين الخطأ والصواب معاً. والصورة الأخيرة أولى بالبطلان؛ والسبب فيه أن في الصورة الأولى تمكَن من الانقلاب إلى جهة الصواب، كما (¬3) تعين له الخطأ، وليس كذلك الصورة الأخيرة؛ فإنه تعين له الخطأ، ولم يتصل بتعين الخطأ إمكان الصواب. فإن قلنا ببطلان الصلاة، فلا كلام، وإن حكمنا بأن الصلاة لا تبطل، فهذا عندي يستدعي تفصيلاً. وأقرب الأصول شبهاً بما انتهى التفريع الآن إليه، ما إذا تحرم المرء بالصلاة، ثم شك في أثناء الصلاة، في صحة نيته، فقال الأئمة: إن مضى ركنٌ، وانتقل المصلي إلى آخر، والشك مستمر، بطلت الصلاة. وإن زال الشك قبل مضى ركن، فلا تبطل الصلاة. وهذا من غوامض أحكام الصلاة، وسأذكره في موضعه. ¬

_ (¬1) الرواية عن تغيير القبلة وأنه كان في مسجد قباء، في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ 1/ 106 ح 304). هذا. والمشهور الآن بين الناس أن المسجد ذا القبلتين هو مسجد آخر غير مسجد قباء، وهو معروف يزار. فلعل التحول حدث في أكثر من مسجد، ففي الصحيحين أيضاً من حديث البراء: "أن رجلاً صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ثم خرج، فمرّ على قوم من الأنصار يصلون إلى بيت المقدس، فقال: إنه يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه توجه إلى الكعبة، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة" فلعل هذه كانت في المسجد الآخر المعروف الآن بذي القبلتين. والله أعلم. (¬2) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (¬3) "كما" بمعنى (عندما). هكذا يستعملها الإمام كثيراً، ننبه على ذلك أحياناً، ونتركه أحياناً.

والقدر الذي يتعلق بما نحن فيه أنّه إن استمر طلب الصواب في أثناء الصلاة زماناً، والتفريع على أن الصلاة لا تبطل، فقد كان شيخي يقول: هذا بمنزلة ما ذكرتُه من الشك في النية. وهذا مشكل عندي؛ فإنه إلى أن يتعين الصواب يكون وجهه منحرفاً عن القبلة. والوجه عندي: أن يمثَّل هذا بما لو صُرف وجه الرجل عن القبلة؛ فإنه إن دام ذلك زماناً، بطلت الصلاة، وإن لم يمض ركن -وإن قصُر الزمان- ففيه الكلام المستقصى في أول الباب. ولقد (¬1) شبهت هذه الصورة بما قدمته؛ لأن الذي صُرف وجهه معذور في نفسه، وكذلك الذي استدبر الكعبة مجتهداً، فهو على القول الذي نفرع عليه معذور، ثم إذا بان الخطأ، فمن وقت بيانه يجعل كالذي يُصرف وجهه عن القبلة، ولا يشك الفقيه أن الأَوْجَه الحكم ببطلان الصلاة؛ لغموض الاستمرار على الخطأ، واستئخار إمكان الصواب. فهذا كله فيه إذا تيقن الخطأ في جهة استقباله. 755 - فأما إذا لم يتيقن، ولكن تغير اجتهادُه، فأدى ظنّه إلى أن القبلةَ ليست في الجهة التي حسبها أولاً، فقد ذكرنا أن ذلك -إن فُرض بعد الفراغ من الصلاة- فلا يجب قضاء الصلاة؛ بناءَ على أن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد. فإذا طرأ ذلك في أثناء الصلاة، فلا سبيل إلى الدوام على موجب الاجتهاد الأول؛ فإن ذلك الاجتهاد قد زال، وحدث ظن يخالفه، ففي بطلان الصلاة قولان: أحدهما - البطلان، لتعذر المضي واختلاف بنائه. والثاني - لا نحكم على الجملة بالبطلان، ويبني على صلاته إن أمكنه البناء، كما سنفصله في التفريع. فإن حكمنا ببطلان الصلاة، فإنها تنقطع، ويفتتح الصلاة إلى الجهة الثانية التي أدّى اجتهاده الثاني إليها. وإن قلنا: لا تبطل صلاته، فينظر: فإن غلب على ظنه بطلان الاجتهاد الأول، ¬

_ (¬1) في (ت 1): ولهذا. وفي (ت 2) وأنا. وفي (ل): "وإنما".

ولم يلح له اجتهاد الصواب، وطال الأمر، فتبطل صلاته قولاً واحداً. 756 - وإن تغير اجتهاده الأول، وغلب على ظنه وجهُ الصواب معاً؛ فإنه يستدير إلى جهة اجتهاده الثاني، ويكون هذا بمثابة ما لو تعيّن له الخطأ والصواب جميعاًً؛ فإنه يستدير إلى جهة الصواب على هذا القول، كذلك القول فيه إذا تبدل الاجتهاد من غير تعين يقين خطأ أو صواب، فأما إذا ظهر له الخطأ في اجتهاده ظنّاً، ولم يغلب على ظنّه وجه الصواب ولم يأيس من الإصابة، لو استتم الاجتهاد، فمصابرة الجهة التي كان عليها محال، والاستمرار على التردد -ولم تَبِن بعدُ جهةٌ يتحول إليها- عَسِر، فالأظهر الحكم بالبطلان، كما تقدم، ومن لم يُبطل، فالقول في الزمان المتطاول الذي لا يحتمل، والقصير المحتمل، وأن الرجوع إلى مضي ركن على حكم اللَّبس أو أقل، أم المعتبر صرف الوجه عن قبالة القبلة؟ كما تقدم حرفاً حرفاً. 757 - والذي [أجدده] (¬1) في هذا القسم، أنا إذا رأينا تمثيل هذا بما إذا صُرف وجه الإنسان عن القبلة، فلو أخذ يجتهد، وتمادى الزمن في هذه الصورة، وبلغ مبلغاً لا يُرى احتماله على القياس الذي رأيناه، من التشبيه بما إذا صرف وجهُ الإنسان عن القبلة، ثم تبين له في أثناء ذلك أنه كان مصيباً في اجتهاده الأول، فالذي أراه في هذا الآن، أن يلتحق بالقياس الذي ذكره شيخي في مضي ركن في زمان التشكك، في أنه هل نوى أم لا؟ إذا استبان بالأَخَرة أنه كان قد نوى؛ فإنه إذا تبيّن له بعد تغير الاجتهاد أنه كان مصيباً، فهو كما إذا تبين له بعد التشكك في النية أنه كان قد نوى، صحَّ (¬2). وهذا واضح فيما أردناه إن شاء الله تعالى. نجز بهذا الفصلُ الذي رسمناه في طريان اليقين في الصواب والخطأ، أو تغير الاجتهاد بعد الفراغ من الصلاة، [وفي أثناء الصلاة] (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل، (ت 2)، (ط): أحدده، وفي (ت 1): (أجرده) والمثبت تقدير منا نرجو أن يكون صواباً. وصدقتنا (ل). (¬2) كذا في النسخ الأربع، عقّب على موضوع الفقرة كلها بكلمة " صح " وقد أسقطتها نسخة (ل)، فاستقام الكلام، ولم ينقص شيئاً. فالله أعلم أيَّ الأمرين أراده المؤلف. (¬3) زيادة من (ت 1)، (ت 2)، (ل).

758 - وبقي الآن الكلامُ في الجهة الواحدة إذا تغير الاجتهاد فيها. فنقول: في مقدمة ذلك: ظهر اختلاف أئمتنا في أن مطلوب المجتهد عين الكعبة أو جهتها، وهذا فيه إشكال؛ فإن المجتهد إذا كان على مسافة بعيدة، فكيف يتأتى منه إصابةُ مسامتة عين الكعبة؟ وكيف يقدر ذلك مطلوباً لطالب؟ والطلب إنما يتعلّق بما يمكن الوصول إليه. وكان شيخي يقول: محل هذا الاختلاف يؤول إلى أن المجتهد يربط فكره في طلبه بجهة الكعبة أو عينها. وليس ذلك واضحاً عندي، ولعل الغرض في ذلك يتضح بمسلكٍ آخر، ذكره العراقيون، وهو أنهم قالوا: هل يتصور دَرْكُ يقين الخطأ في الجهة الواحدة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يتصوّر ذلك، كما يتصور ذلك في الجهتين. والثاني - لا يتصور درك يقين الخطأ في الجهة الواحدة. فإن قلنا: يتصور ذلك، فعن هذا عبّر الأولون؛ إذ قالوا: "المطلوب عين الكعبة". وإن قلنا: لا يتصور درك اليقين فيه، ففي هذا عبر المعبرون، إذ قالوا: " المطلوب جهة الكعبة". وهذا كلام ملتبس، فيه بعد عندي؛ فإن من ظنّ أن جهات الكعبة، أو جهات شخص المصلي في موقفه أربع، فقد بَعُد عن التحصيل بُعداً عظيماً، وكل مَيْلٍ يفرض في موقف الإنسان، فهو انتقال منه من جهة إلى جهة أخرى، فذكر الجهة الواحدة، وفرْضُ الخلاف فيها، وتقدير ردِّ الطلب إلى الجهة، أو عين البيت، كلام مضطرب؛ لا يشفي غليل الناظر الذي يبغي دَرْك الغايات. 759 - فالوجه في ذلك عندي أن يقال: من اقترب في المسجد الحرام من الكعبة، فإنه يصير منحرفاً عنها بأدنى ميل وانحراف، بحيث يُقطع بأنه ليس مستقبلها، [وإذا وقف في أخريات المسجد، فيختلف اسم الاستقبال اختلافاً بيناً] (¬1)، ولذلك لا يصطف في المطاف ثلاثون إلا ويخرج بعضهم عن مسامتة الكعبة، ويصطف في ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، ومن (ط).

مؤخر المسجد ألف، ويسمى كل واحد منهم مستقبلاً. وقد تمهد أن التعويل على الاسم، فلا يسوغ تخيل غيره؛ فإن الخلق لو كُلِّفوا مُقابلة لو مَشَوْا على خطوط مستقيمة من مواقفهم، لاتصلت أجسادهم بالكعبة، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق. ثم إذا تجدّد العهد بهذا، فالذي يقف بعيداً في المسجد، لو انحرف أدنى انحراف لا يخرج عن اسم المستقبل، وإن كان لو انحرف كذلك في المطاف، لكان مائلاً عن المسامتة، فإذا لاح ذلك فيمن يبعد في المسجد بعضَ البعد، فهو فيمن يقطن طرفَ الشرق والغرب أظهر وأبين. 760 - فنبتدىء بعد ذلك، ونقول: إذا وقع الفرض في الماهر المتناهي في العلم بأدلة القبلة، فإنه لا يَقطع بسلب اسم الاستقبال عمن يلتفت على البعد بعضَ الالتفات، وإذا ظهر الالتفات والميل، فيقطع إذ ذاك، ولا يتوقف قطعه بأن يُولِّي الواقفُ سمتَ الكعبة، يمينَه أو يسارَه. [فالصوب] (¬1) الذي لا يقطع الماهر على المتقلّب فيه بالخروج عن اسم الاستقبال، فهو الذي ينبغي أن يسميه الفقيه جهة الكعبة. وإذا انتهى الأمر إلى منتهى يقطع البصير على المنحرف إليه بالخروج عن اسم الاستقبال، فهو جهةٌ أخرى، غيرُ جهة القبلة. ثم حظ الفقيه وراء ذلك أنه يغلب على ظن الماهر أن بعض الوقفات -بين جَرْي الخروج عن اسم الاستقبال- أقرب إلى ابتغاء السداد من بعض، فهل يجب طلب المسلك الأسدّ في الظن؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب، كما لا يجب على الواقف في أخريات المسجد أن يتناهى في الاستداد. والثاني - يجب؛ لأن الذي في المسجد على يقين من أنه بالتفاته القريب غيرُ خارج عن اسم الاستقبال، والبعيد على خطر من ذلك، فيجب عليه طلبُ الأصوب، فهذا هو الوجه. ¬

_ (¬1) في الأصل، وفي (ت 1)، وفي (ط): والصواب. والمثبت من (ت 2).

وما قدمناه للأصحاب لا أراه شافياً. فإن طلب طالب منا أن [نَحُدَّ] (¬1) ما يقع من الالتفات مظنوناً، وما يقع مقطوعاً به، دلّ بطلبه على غباوته وعدمِ درايته بمأخذ الكلام، فليس ذلك أمراً يتصوّر أن يصاغ عنه عبارة حادّة ضابطة، وكيف يفرض ذلك؟ والأمر يختلف ويتفاوت بتفاوت المسافات، والقرب والبعد؟ فالأمر محال على معرفة البصير بأدلة القبلة، وقد تناهى وضوح ذلك إن شاء الله تعالى. فهذه أصول الاجتهاد والتقليد في القبلة. وأنا أرسم بعدها فروعاً توضح بقايا في نفوس الغوّاصين - إن شاء الله تعالى. فرع: 761 - إذا اجتهد الرجل وصلى صلاة إلى جهة، فلمّا دخل وقت الصلاة الثانية، تغير اجتهاده من غير قطعٍ بإصابة وخطأ، فلا شك أنه يصلي الصلاة الثانية إلى الجهة التي اقتضاها اجتهاده الثاني، وكذلك لو تغير اجتهاده ثالثاً في صلاة أخرى حتى صلى صلواتٍ باجتهادات إلى جهات، فالذي قطع به الأئمة، ودلّ عليه النص، أنه لا يجب قضاء شيءٍ من تلك الصلوات؛ فإن كل صلاة منها مستندة إلى اجتهاد، ولم يتحقق الخطأ في واحدة منها. 762 - وذكر صاحب التقريب وجهاً مخرجاً: أنه يجب قضاء هذه الصلوات كلِّها، ولا يخرج هذا الوجه إلا على قولنا: إن من اجتهد وأخطأ يقينا يلزمه القضاء، وهذا وإن كان ينقدح ويتّجه، فهو بعيد في الحكاية، وتوجيهه -على بعده- أنه صلى معظم هذه الصلوات إلى غير القبلة، ونحن نفرِّع على أن من استيقن الخطأ في صلاة معينة، يلزمه قضاؤها، والخطأ هاهنا مستيقن، وإن لم يكن معيناً، فينزل صاحب الواقعة منزلةَ من فسدت عليه صلاة من الصلوات الخمس، وأشكل عليه عينها، فإنه يلزمه قضاء الصلوات كلّها، ولا فرق بين الصورة التي ذكرناها في الاجتهادات، وبين ما استشهدنا به إلاّ أن الصلوات هاهنا استندت إلى اجتهادات، ونحن نفرعّ على أن من ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: يجد. وهو تصحيف واضح، والمثبت تقدير منا برعاية السياق وتوفيق الله. ثم جاءت (ل) بنفس التصحيف: (نجد).

اجتهد، وتعيّن له الخطأ يلزمه القضاء. فهذا وجه. وفي كلام صاحب التقريب وجه (¬1) آخر تلقيته من أدراج كلامه وأنا أذكره في صورة، ثم أبني عليها ما ينبغي. فأقول: إذا صلى صلاتين بالاجتهاد إلى جهتين، فالنص أنهما صحيحتان، لا يجب قضاء واحدة منهما، وإن أوجبنا القضاء على المجتهد إذا تعين له الخطأ في الصلاة. والتخريج الذي حكاه صاحب التقريب -أنه يجب قضاء الصلاتين جميعاًً، وذكر وجهاً ثالثاً- أنه يقضي الصلاة الأولى، ولا يقضي ما أقامه باجتهاده الأخير، وهذا بعيد، وهو في الحقيقة نقض الاجتهاد الأول باجتهاده الثاني. فعلى هذا لو صلى أربع صلوات بأربع اجتهادات إلى أربع جهات، فالنص أنه لا يجب قضاء واحدة منها، والتخريج الظاهر أنه يقضي جميعها، والوجه الغريب أنه يقضي ما سوى الصلاة الأخيرة. والأصح النص وما عليه الجمهور، ثم يليه التخريج على بُعده، والثالث ضعيف جداً. فرع: 763 - إذا اجتهد، فصلى صلاة الظهر إلى جهة، ثم دخل وقت صلاة العصر، فهل يستمر على اجتهاده الأول؟ أم يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية مرّة أخرى؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون، أحدهما - أنه لا يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية مرّة أخرى؛ فإنه لم يتبذل المكان. والثاني - يلزمه؛ لأن الصلاة الثانية واقعة جديدة تستدعي اجتهاداً مبتدأ، وقد ذكرت نظيراً لذلك في طلب الماء في التيمم. وهذا له التفات على مسألة من أحكام الفتاوى، وهي أن المفتي إذا استُفتي، فاجتهد وأجاب، ثم استُفْتي مرة أخرى في تلك الواقعة فهل يستمر على نظره الأول؟ أم يجتهد مرة أخرى؟ فيه كلام مستقصىً في الأصول. ¬

_ (¬1) في الأصل، وفي (ت 1)، وفي (ط). (وجهاً) ولا أدري كيف اتفقت النسخ الثلاث على هذا (الضبط) فلعل الكلام كان مصوغاً بعبارة أخرى. وانفردت نسخة (ت 2) بما أثبتناه.

فرع: 764 - إذا قلّد الإنسان مجتهداً، وتحرم بالصلاة، فمرَّ به مار، وقال: "قد أخطأ بك فلان، والقبلة في هذه الجهة" وعيّن جهة أخرى، فإن علم المقلِّدُ المتحرِّمُ أن الأول كان أعلم من الثاني، فلا يبالي بقول الثاني، وكذلك إذا رآه مثلَ الأول، وإن رآه أعلمَ، من الأول، فيترجح ظنُّه بهذا، فيتنزّل منزلة ما لو اجتهد الرجل بنفسه وتحرّم، ثم تغيّر اجتهاده في أثناء الصلاة وقد مضى ذلك مفصلاً. وفيما نذكره دقيقة، وهي: أن المسألة مفروضةٌ فيه إذا قال المارُّ ما قال مجتهداً. 765 - ولو كان المتحرم بالصلاة أعمى، فأخبره مار به يعرفه الأعمى: إنّك مستقبل الشمس. [وليس يشك الأعمى أن القبلة ليست في صوب مشرق الشمس] (¬1)، فإذا كان المخبر موثوقاً به عند الأعمى، فلا شك أنه يعتمد قوله؛ فإنه في هذه الصورة يُخبر عن أمرٍ محسوس، لا تعلق له بالاجتهاد أصلاً. ولو أخبره مجتهد بأنك على الخطأ قطعاً، فالذي ذكره الأئمة أنه يأخذ بقوله؛ فإن الأول قال ما قال اجتهاداً، وذكر أنه ظان، فنزل قطْع الثاني منزلة إخباره عن محسوس. ولو كان قطع الأول بأن الصواب ما ذكره، ثم قطَعَ الثاني، ولم يكن أعلم من الأول، [فلا يبالي بقول الثاني حينئذٍ، وإنّما قدّم قول الثاني هناك؛ لأنّه وإن لم يكن أعلم من الأوّل] (¬2)، فقطْعه أرجح من ظنّ الأول، وهذا بيّن لا شكَّ فيه. 766 - ولو تحرّم المجتهد البصير باجتهاده بالصلاة، ثم عمي في الصلاة، فأخبره مجتهد أنه مخطىء فلا يبالي به، وإن عَلِمَه أعلمَ من نفسه؛ فإنه عقد صلاته باجتهاد، والمجتهد يعمل باجتهاد نفسه، وإن خالفه من هو أعلم منه. ولو كان أعمى، فقلّد وتحرّم، ثم أبصر في أثناء صلاته، [وكان عالماً قبل أن عمي، فلا يستمر على تقليده، فإن احتاج إلى الاجتهاد في أثناء الصلاة، فهذا يلحق ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، ومن (ط). (¬2) زيادة من: (ت 1)، حيث سقط من الأصل، ومن (ت 2)، ومن (ط).

بما إذا تغيّر اجتهاد البصير في أثناء صلاته] (¬1) وقد ذكرت ذلك موضحاً فيما تقدم. وقد نجز ما أردناه في هذه الفنون تأصيلاً وتفريعاً، والله أعلم. 767 - وممّا نذكره في ذلك أنه إذا اجتهد رجلان، واختلفا في الاجتهاد، فرأى كل واحدِ منهما صوبا وجهةً مخالفة لجهة الثاني، فلا يقتدي أحدهما بالثاني، كما ذكرته في مسائل الأواني حرفاً حرفاً. ولو كان الاختلاف بينهما في تيامن قريب وتياسُر، فإن قلنا: يجب على المجتهد مراعاة ذلك، فالخلاف فيه يمنع القدوة، وإن قلنا: لا يجب مراعاة ذلك، فلا يمنع الخلافُ فيه صحّة الاقتداء. فصل قال الشافعي: "ولو دخل غلام في صلاة، فلم يكملها ... إلى آخره" (¬2) 768 - إذا شرع الصبي في صلاة مفروضة، فبلغ باستكمال السن في أثناء الصلاة، [فالذي قطع به الفقهاء القفاليّون أنه يلزمه إتمامُ تلك الصلاة] (¬3)، ولا إعادة عليه، وكذلك لو فرغ من الصلاة في أول الوقت، ثم بلغ، لم تلزمه الإعادة، خلافاً لأبي حنيفة (¬4) والمزني. ونحن نذكر طريقتهم طرداً، ثم نذكر طريقة العراقيين. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) ر. المختصر: 1/ 69. (¬3) انفردت (ت 1)، (ت 2). بزيادة ما بين المعقفين، ويظهر أن المراد بالقفاليين الخراسانيون، فالمشهور على الألسنة، أن القفال شيخ طريقة الخراسانيين، ويسمّون أيضاً المراوزة، في مقابلة العراقيين، هذا ولم يتبين من النووي في المجموع، ولا الرافعي في الفتح أي القفاليين يعنيه إمام الحرمين (ر. المجموع: 3/ 12، 13، فتح العزيز: 3/ 83، 84). فتسمية المراوزة (الخراسانيين) بالقفاليين اصطلاح لم نره بعدُ لغير إمام الحرمين. والذي يؤكد أنه يعني الخراسانيين، ما سيأتي قريباً من عرض طريقة العراقيين في هذه المسألة في مقابلة طريقة القفاليين (الخراسانيين) هذه. وجاءتنا (ل) بنفس التعبير. (¬4) ر. رؤوس المسائل: 143 مسألة: 50، المبسوط: 2/ 95.

ولو أصبح الصبي صائماً في يوم من رمضان، فبلغ في أثنائه، فقد وافق أبو حنيفة (¬1) والمزني أصحابنا في أنه لا يجب قضاء ذلك اليوم. واعتلَّ أبو حنيفة بأن الصوم لا يجب في هذا اليوم بسبب طريان البلوغ؛ فإن بقية اليوم لا يسع صوم يوم، ولا يتصور إيقاع بعض اليوم في الليل. وأئمتنا قالوا: لا يلزم القضاء، واختلفوا في العلّة، فمنهم من علل بما ذكرته، ومنهم من قال: سبب سقوط القضاء وقوعُ صوم هذا اليوم عن الفرض؛ قياساً على ما لو بلغ الصبي في أثناء صلاة الظهر، ويظهر أثر هذا التردّد فيه إذا بلغ الصبي مفطراً في يومه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب قضاء هذا اليوم؛ فإن البلوغ طرأ عليه، ومنهم من قال: يجب القضاء؛ فإنه لم يقع فيه صوم، وقد صار مكلفاً فيه. وقرّبوا هذا الخلاف من القولين فيه إذا قال: لله عليَّ أن أصوم يوم [يقدم] (¬2) فلان فيه، فقدِم نصفَ النهار، فهل يجب على الناذر قضاءُ يوم؟ فيه القولان المشهوران، على ما سيأتي ذكرهما. ثم ذكر ابن الحداد: أن الصبي إذا صلى يوم الجمعة صلاة الظهر، ثم بلغ -والجمعة لم تفت بعدُ- فعليه أن يقيم صلاة الجمعة، وليس كما لو صلى العبد الظهر، ثم عَتَق، والجمعة بعدُ غير فائتة، فإنه لا يلزمه الجمعة، وكذلك المسافر إذا صلى الظهر، ثم نوى الإقامة والجمعة غير فائتة، وفرق بأن الصبي لم يكن من أهل الفرض، والعبد والمسافر كانا من أهل الفرض، لما صلّيا الظهر. وقد صار معظم الأئمة إلى تغليطه، ونسبته إلى الوقوع في مذهب أبي حنيفة؛ فإن مذهب الشافعي أن الصبي إذا صلى صلاة الظهر في أول الوقت في غير يوم الجمعة، ثم بلغ في الوقت، فلا إعادة عليه، وإن لم يكن الصبي مكلفاً لما صلى الظهر، فهذا منتهى كلام القفال (¬3) وأصحابه. ¬

_ (¬1) ر. الأصل: 2/ 233، 235، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 15 مسألة 498. والمبسوط: 3/ 88. (¬2) الأصل، (ت 2)، (ط) "يقوم فلان فيه" والمثبت من (ت 1). (¬3) إشارة إلى ما نسبه آنفاً إلى (القفاليين).

769 - وأما العراقيون (¬1) فإنهم ذكروا ثلاث طرق: إحداها - ما ذكرناه. والثاني - وهو اختيار ابن سريج، وتخريجُه: أن الصبيَّ إذا بلغ في أثناء الصلاة وبعدها في الوقت، يلزمه إعادة الصلاة، ولم يفرق بين أن يبقى من الوقت ما يسع القضاء، وبين أن يبقى ما يضيق عن إعادة الصلاة، فأوجب الإعادة مهما حصل البلوغ في الوقت. وذكروا طريقة ثالثة عن الإصطخري، فقالوا: إنه قال: إذا بقي من الوقت ما يسع الإعادة، لزمه. وإن كان الباقي من الوقت يضيق عن الصلاة، فلا يجب القضاء، ثم خرّجوا عليه ما إذا بلغ الصبي في أثناء يومٍ من رمضان [وكان] (¬2) قد أصبح صائماً فيه. فأما على النص الظاهر، لا (¬3) يجب القضاء، وكذا مذهب الإصطخريّ، فإنه يعتبر أن يبقى ما يسع العبادة، وبقية اليوم لا يسع صوماً، وحكوا عن ابن سريج أنه أوجب قضاء هذا اليوم؛ فإنه لا ينظر في إيجاب القضاء إلى ضيق الوقت وسعته. وهذا الذي ذكروه في الصوم بعيد جداً. ثم حكَوْا لفظ الشافعي في الصلاة، قالوا: قال الشافعي: "إذا بلغ الصبي في أثناء الصلإة أحببت أن يتمها" (¬4) قال ابن سريج: "هذا يوافق مذهبي" فإنه أحب أن يتم تلك الصلاة، وأوجب الإعادة: أتَمها أو قطعها. وقال أبو إسحاق (¬5): معناه أُحِبُّ (¬6) ¬

_ (¬1) هذا التعبير: "وأما العراقيون" ووضْعُه في مقابلة (القفاليين) يؤكد تفسيرنا وتقديرنا أنه يعني (الخراسانيين). (¬2) في الأصل، (ت 1)، (ت 2): "وقد كان قد أصبح" والمثبت من (ل). (¬3) جواب (أما) بدون الفاء، كدأب الإمام في كثير من المواضع، وهي لغة كوفية. متكررة كثيراً في كلام الإمام. (¬4) ر. المختصر: 1/ 69. (¬5) أبو إسحاق: إذا أطلق فهو المروزي. (¬6) في ت 2: ضبطها هكذا: أحِبُّ الإتمامَ، بضم الباء، فالذي يحب هو الشافعي رضي الله عنه، وأبو إسحاق يحكي معنى نص الشافعي.

الإتمام والإعادة، فرجع الاستحباب إليهما، فأما الإتمام، فواجب، ولا تجب الإعادة (¬1). فأما الذي يجب في ذلك على النص، أن القول في إتمام ما تحرم به ينزل منزلة ما لو تحرم المتيمّم بالصلاة، ثم رأى الماء في أثناء الصلاة، فلا تبطل الصلاة على النص، ثم قد مضى القول في أن الأوْلى أن يتمّها، أو الأوْلى تقليبها (¬2) نفلاً، ويبتدىء الصلاة بوضوء، وذكرنا وجهاً - أنه يجب الإتمام بلا خِيَرَةٍ، وهذا على الجملة كذلك، وتفصيل المذهب ذكرناه (¬3). * * * ¬

_ (¬1) آخر كلام أبي إسحاق. (¬2) في (ل): أن يقلبها، هذا، و" تقليبها " مبالغة في قلبها. (المعجم). (¬3) كذا في جميع النسخ، وعبارة (ل): وهذا على الجملة كذلك في تفصيل المذهب.

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة قال الشافعي: "إذا أحرم إماماً، أو وَحْده، نوى صلاتَه في حال التكبيرة، لا قبله، ولا بعده ... إلى آخره" (¬1). 770 - النية ركن الصلاة وقاعدتها، وهي محتومة باتفاق العلماء، وفي تفصيل القول فيها خَبْط كثير الفقهاء. والذي جر في ذلك معظمَ الإشكالِ الذهولُ عن ماهية النيّة، وجنسها في الموجودات. ونحن نذكر الحق في ذلك، ثم نبني عليه الأغراض الفقهيّة على أبين وجهٍ إن شاء الله تعالى. 771 - فالنيّة من قبيل الإرادات والقصود، وتتعلق بما يجري في الحال أو في الاستقبال: فما تعلق بالحال، فهو القصد تحقيقاً، وما يتعلق بالاستقبال فهو الذي يسمى عزماً، ولا يتصوّر تعلّق النيّة [بماض قطعاً. ثم إن فرض تعلق النيّة] (¬2) بفعل موصوف بصفة واحدة، سهلت النية، وإن كثرت صفات المنوي، فقد تعسر النية، وسأذكر سبب العسر فيه، وقد يظن الأخرق أن النية لها ابتداء، ووسط، ونهاية، وجريان في الضمير على ترتيب، وهذا زلل، وذهول عن حقيقة النيّة. وإنما الذي يجري على ترتيبٍ ما نصفه، فنقول: إحضار علومٍ في الذهن متعلقةٍ بمعلوماتٍ عسر؛ حتى ذهب بعضُ الأئمة في الأصول إلى أن العلْمين المختلفين يتضادان ولا يجتمعان، وهذا خطأ صريح، فإذا كان الفعل موصوفاً بصفات، فالعلوم بها تترتب، وتقع في أزمنة في مطرد العادة. ثم إذا حضرت العلومُ، واجتمعت في الذكر يُوجه القصد إليها، في لحظة، بلا ترتب ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 70. (¬2) ساقط من الأصل، ومن: (ط).

واسترسال. ثم قد تجري العلوم، فيبقى الذهول في أواخر الأمور عن أوائلها، فلا تتوجّه النية إلى الموصوف كما ينبغي. فإن انضم إلى ذلك التلفظُ بشيء آخر سوى المنوي -كالتكبير في حال التحرم- تناهى العسر من اجتماع هذه المختلفات. فقد نصصنا على ماهية النية، وأوضحنا أنها لا تترتب في نفسها، وذكرنا ما يطرأ فيها من عسر (¬1)، وسنبين غرضنا الآن إن شاء الله تعالى. فنقول بعد ذلك: الكلام في ثلاثة فصول: كلام في وقت النية، وكلام في كيفية النية، وكلام في محل النية. [فصل] [في وقت النية] (¬2) 772 - فأفا وقت النية، وهو أغمض الفصول، فليعتنِ الناظر به، ونحن ننقل مقالات الأصحاب فيه مرسلاً، ثم ننبه على مُدرك الحق إن شاء الله تعالى: فمن أئمتنا من قال: ينبغي أن تقترن النية بالتكبير وينبسط عليها، فينطبق أولها على أول التكبير، وآخرها على آخره. وهذا ما كان يراه شيخنا. وكان يستدل بظاهر نص الشافعي - قال: "نوى في حال التكبير لا قبلها ولا بعدها". وذهب بعض أئمتنا إلى أنّه يقدم النية على التكبير. وإذا تمّت، افتتح همزة التكبير متصلة بآخر النيّة. ولو قرن النيّة بالتكبير، لم يجز. وذكر العراقيون والصيدلاني أنه لو قدم كما ذكره المقدِّمون، أو قرن كما ذكره الأوّلون، جاز. ثم ذكر أصحاب هذه المذاهب وجوهَ مذاهبهم مرسلةً، فنذكرها، ثم ننعطف على إيضاح التحقيق إن شاء الله. فأما الذين شرطوا الاقتران، اعتلّوا بأن العقد يحصل بالتكبير، فينبغي أن يكون القصد مقروناً به، وإن تقدّم القصد ثم جرى التكبير -عَرِيّاً عن العقد- لم يرتبط القصد ¬

_ (¬1) في الأصل، وفي (ط): من غير عسر. (¬2) من عمل المحقق.

بالمقصود، ولم يتحقق تعلّق أحدِهما بالثاني. وأما من رأى تقديم النية، اعتلّ بأن النيّة لو بسطت على التكبير، خلا أول التكبير من نيّةٍ تامّة، وإذا قدّمت النيّةُ، ثبت حكمها، فاقترن حكم النيّة التامّة بأول جزء من التكبير. ومن جوّز الأمرين جميعاًً، بنى توجيه مذهبه على المسامحة في الباب، واستروح إلى أن الأوَّلِين كانوا لا يتعرّضوِن لتضييق الأمر في ذلك على الناس. 773 - وهذه المذاهب ووجوهها مختبطة لا حقيقة لها. ونحن نقول: قد سبق أن النية لا يتصوّر انبساطها، وإنما الذي يترتب ذكرُ العلوم بصفات المنوي كما سبق، فمن يُقدّم إنما يقدّم إحضار العلوم، فإذا اجتمعت، ولم يقع الذهول عن أوائلها، وقع القصد إلى المعلوم بصفاته مع أول التكبير، فتكون حقيقة النية في لحظة واحدة مقترنة بأول جزءٍ من التكبير، فهذا معنى التقديم، فالمقدّم [إذاً] (¬1) العلوم (¬2)، والنيّة مع الأول. ومن يظن أن النية منبسطة، فإنما تنبسط أزمنة العلوم، فيبتديها مع أول التكبير، ثم نقدّر تمام حضورها مع آخر التكبير. فعند ذلك يجرد القصد إلى ما حضرت العلوم به، فينطبق هذا القصد على آخر التكبير، وآخر التكبير أول العقد، فمن يحاول الاقتران والبسط، فإنّما يحاول إيقاع القصد مع آخر التكبير. فإذاً سبيل التوجيه -مع ما ذكرناه- أن الأوّل يقول: لو لم تتقدم العلوم على أول التكبير، لم ينطبق القصد على أول التكبير، وإذا خلا أوّل الصلاة عن القصد، لم يجز. ومن شرط الاقتران يقول: النظر إلى حالة العقد، وإنما يقع العقد مع آخر التكبير، ومن خيَّر بين التقديم والتأخير، آلَ حاصل كلامه إلى التخيير بين إطباق القصد على أول التكبير، وبين إطباق النية على أوّل العقد. فهذا بيان هذه الطرق. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) (ت 2): المعلوم.

774 - ولم يتفطّن لحقيقة النيّة أحد من الفقهاء غيرُ القفّال؛ فإنه قال: "النيّة تقع في لحظة واحدة لا يتصور بسطها" وشَرْحُ ما ذكره ما أوردناه. ولو حضرت العلوم قبل التكبير، ثم وقع القصد قبل أول التكبير، وخلا أول التكبير عن النيّة، فلا يصح ذلك عند أئمتنا. 775 - وأبو حنيفة (¬1) يصحح هذا. وحقيقة الخلاف بيننا وبينه يرجع عندي إلى أمر أصولي: وهو أن من يرى تقدّم الاستطاعة على الفعل، فمتعلق القدرة عنده ليس عين الفعل (¬2)، فعلى هذا متعلق القصد يتقدم على وقوع المقصود، كما أن متعلق القدرة متقدم على وقوع المقدور، ثم لا يجوِّز أبو حنيفة أن ينقطع تعلق القصد بغيره عن أول التكبير. فهذا هو الوفاء ببيان حقيقة المذاهب في التقديم والاقتران. ثم فرعّ الفقهاء على هذه الطرق تفريعاتٍ مختلطة صادرة عن اختلاط الأصول. 776 - فأمّا من قال بتقديم النيّة قال: يجب أن يكون مستديماً للنيّة جملةً، إلى الفراغ من التكبير. وهذا أيضاً قول من لم يحط بحقيقة النيّة. وأنا أقول: من ضرورة تقديم النيّة أن تنطبق النيّة على أوّل التكبير، والمقدم هو المعلوم، ثم إذا حضرت العلوم، وقع القصد، فليس ما يدام نيّةً وإنّما هو ذكر النيّة، وذكْرُ النيّة علمٌ بأنها وقعت، كما وصفنا وقوعها. فإذاً هل نشترط دوام العلم بجريان النية إلى الفراغ من التكبير؟ فيه تردد للأئمة على هذه الطريقة: فمنهم من يشترط الدوام، ومنهم من لم يشترط، ولم يوجب أحدٌ بسطَ حقيقة النيّة. وممّا يتم به بيان هذه الطريقة أن من شَرَط التقديم فإنما عَنَى تقديمَ العلوم -كما سبق شرحه- وبنى الأمرَ على مجرى العُرف فيه. فلو قال قائل: لو هجمت العلوم والقصدُ مع أول التكبير، فلا شك أنه يجوز ذلك، لكن هذا لا يقع في مطرد العرف، فهذا تفريع هذه الطريقة. ¬

_ (¬1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 129، حاشية ابن عابدين: 1/ 279. البحر الرائق: 1/ 292. (¬2) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة 176.

777 - فأمّا من قال: ينبغي أن تُبسط النيّة على التكبير، فقالوا: لو افتتح النية مع أول التكبير، وفرغ منها مع تمام. التكبير، فلا شك أنه يجوز. ولو تمّت التكبيرة قبل تمام النيّة، فلا تنعقد الصلاة، وهذا صحيح. ولكن العبارة خطأ؛ فإن النيّة لا تنبسط، وتحصيل هذه الصورة يؤول إلى أن العلوم إذا انبسطت، ولم يجر القصد حتى مضى التكبير، فلا تنعقد الصلاة؛ فإنَّ وقت العقد مقدم على وقت القصد. والذي انسحب (¬1) على آخرِ التكبير لم تكن نيّة، وإنما كان علوماً بصفات المنوي، فإذا نجز التكبير قبل النية، فقدَ تقدم وقتُ العقد على النية. ولو تمَّت النيّة قبل نجاز التكبير، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك. فنذكر ما ذكروه، ثم نوضح حقيقته: فمنهم من قال: لا تصح الصلاة، ويجب استفتاح التكبير، ومحاولة تطبيق النيّة عليه، بحيث ينطبق الأول على الأول، والآخر على الآخر. وهذا مزيف غير سديد. وقال قائلون: يكفي استدامة ذكر النية إلى انقضاء التكبير، ولا يجب إنشاء نيّة أخرى. وأنا أقول: أما من شرط بسط النية، فليس على حقيقة من معرفة النيّة كما تقدَّم ذكره. ولكن وجه ذكر الخلاف أن يقال: من أصحابنا من يشترط بسط مقدمات النيّة على التكبير، ليوافقَ القصدُ حالةَ العقد. وهذا وإن كان معناه ما ذكرناه، فهو رديء في التوجيه. ومن راعى من أئمتنا استدامةَ ذكر النيّة، فهذا تتوقف الإحاطة به على دَركِ الفصل بين إنشاء القصد وبين ذكره. أما إنشاؤه فمفهوم، وأما ذكره، فهو استدامة العلم بجريان القصد حتى ينقضي وقت العقد. 778 - والذي يختلج في الصدر أنه لا ينقدح على القاعدة إلا ثلاثة أوجهٍ، أحدها - محاولة تطبيق [القصد] (¬2) على أول التكبير، والآخر - تطبيق القصد على آخر التكبير، وهو. وقت العقد، والثالث - التخيير بينهما، فأما البسط، فليس له معنى، ولكن لما ¬

_ (¬1) في (ت 1)، (ت 2): استحب. (¬2) في جميع النسخ: "العقد". والمثبت من (ل).

لم تكن النية إلا في خَطْرة، والتكبير يُسمى تكبيرة العقد، وكانت حقيقة النيّة لا تنبسط، ذهب ذاهبون إلى بسط العلم، إلى إنشاء القصد، وذهب آخرون إلى بسط الذكر بعد اتفاق نجاز النية في وسط التكبير. وعندي أن من يشترط مراعاة حالة العقد، فلا يبعد أن يجوّز [تخلية] (¬1) أول التكبير عن افتتاح العلوم بالمنوي، إن كان يتأتى تطبيق القصد على وقت العقد. 779 - فهذا منتهى النقل والتحقيق، ووراء ذلك كله عندي كلام: وهو أن الشرع ما أراه مؤاخذاً بهذا التدقيق. والغرضُ المكتفى به: أن تقع النية، بحيث يعد مقترناً (¬2) بعقد الصلاة. ثم تميز الذكر عن الإنشاء، والعلم بالمنوي عنهما، عسر جدّاً، لاسيما على عامة الخلق. وكان السلف الصالحون لا يرون المؤاخذة بهذه التفاصيل. والقدر المعتبر ديناً: انتفاءُ الغفلة بذكر النيّة حالة التكبير، مع بذل المجهود في رعاية الوقت، فأما التزام حقيقة مصادفة الوقت الذي يذكره الفقيه، فممّا لا تحويه القدرة البشرية. فهذا منتهى الغرض في حقيقة النيّة ووقتها. [فصل] [في كيفية النية] (¬3) 780 - فأما القول في كيفية النيّة، فنذكر كيفيتها في الفرائض المؤدَّاة في أوقاتها، ثم نذكر بعدها أصنافَ الصلوات. فأول ما يُعتنَى به: التعيينُ، ولا بد منه في الصلاة، فليميّز الناوي الظهر عن العصر وغيرِه من الصلوات. وقد ذكرتُ معتمد التعيين في (الأساليب) (¬4) في كتاب الصيام. ¬

_ (¬1) في الأصل وفي (ت 1) وفي (ط): تخيله. والمثبت من: (ت 2). (ل). (¬2) كذا في جميع النسخ، ولعله على معنى (القصد). (¬3) زيادة من عمل المحقق. (¬4) (الأساليب) من كتب الإمام في الخلاف، التي لم تقع لنا للآن.

وأمّا التعرض لفرضية الظهر، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من لم يشترط، واكتفى بالتعيين؛ فإن النيّة إذا تعلقت بالظهر، فالظهر لا يكون إلا فرضاً. ومنهم من شرط التعرض للفرضيّة؛ فإن المرء قد ينوي الظهر، فيقع نفلاً؛ بأن كان أقامه في انفراده، ثم يدرك جماعةً، فيقيمها مرة أخرى. وقد ذكر العراقيون في ذلك تقسيماً، فقالوا: من العبادات ما لا يشترط فيه التعرض للفرضيّة وجهاً واحداً، كالزكاة، فإذا نواها من لزمته، ولم يتعرض للفرضيّة في النيّة أجزأته؛ فإن اسم الزكاة لا يطلق إلا على المفروض، وما يتطوع المرء به يسمى صدقة، فإن أجرى ذكرَ الصدقة، فلا بد من تقييدها بالفرضية. وكذلك الكفارة إن جرت في الذكر، كفت عن الفرضيّة. وإن نوى الإعتاق، فلا بد من تقييده بالفرضية، التي تحل محلّ الكفارة. والحجّ والعمرة والطهارة فلا حاجة إلى تقييدها بالفرضية أصلاً. والصلاة والصوم، إذا عُيِّنا -فجرى ذكر الظهر، أو صوم رمضان- ففي اشتراط ذكر الفرض الخلافُ الذي اذكرناه. وإذا نوى الناوي الصلاةَ وعيّنها، فهل يُشترط إضافتها إلى المعبود بها، مثل أن يقول: فريضة الله أو لله؟ ذكر صاحب التلخيص أن ذلك لا بدّ منه، وبه تتميز العبادة عن العادة. ومن أصحابنا من ساعده على اشتراط ذلك، ومنهم من رأى ذلك مستحباً؛ من جهة أن العبادات لا تكون إلا لله، فذِكْرُها يغني عن إضافتها. 781 - ومما يتعلق بكيفية النيّة: تمييز الأداء عن القضاء، وهذا أصل متفق عليه؛ والسبب فيه أن التعيين إنما يجب للتمييز، وللعبادات رُتب ودرجاتٌ عند الله، فليجرِّد العابد قصدَه في كل عبادة معينة؛ ليتحقق تقرّبه بالعبادة المخصوصة. وإذا كان التعيين لهذا، فرُتْبة إقامةِ الفرض في وقته تخالف رتبةَ تدارك الفائت، فلا بد من التعرض للتمييز. ثم قال قائلون من أئمتنا: ينبغي أن يجري ذكر فريضة الوقت، وبهذا يقع التمييز. وكان شيخي يحكي عن القفال أنه يكفي أن يذكر الأداء. ومن اعتقد مثل هذا في

الاختلاف، فليس على بصيرة في الإحاطة بالغرض (¬1)، فإن الذي يُجريه الناوي معاني الألفاظ، والمقصودُ العلمُ بالصفات، فإذا حصلت العلوم بحقائق صفات المنوي، فهو الغرض، ثم يقع تجريد القصد إلى ما أحاط العلم به. وإذا لاح أن الغرض هذا، فالتنافس في الصلوات (¬2) وتخيّل الخلاف فيها لا معنى له. ومما كان يذكره شيخي أن أصل النية أن يربط الناوي قصده بفعله، ويُخْطِر بباله أني أؤدي الصلاة، أو أقيمها؛ فإنه لو ذكر الصلاة وصفاتها، ولم يعلق قصده بفعله لها، لم يكن ناوياً. وهذا في حكم اللغو عندي؛ فإنه إذا ثبت أن النية قصده، ومن ضرورة القصد أن يتعلق بالفعل، فإن وُجد القصدُ فمتعلّقه فعل الصلاة لا محالة، ولا ينقسم الأمر فيه -تصوراً- حتى يحتاج فيه إلى تفصيل. وإن لم يتعلق القصد بالفعل، فالقصد إذن غير واقع، وإذا لم يقع القصد، فلا نيّة. فهذا بيان كيفية النيَّة. 782 - وذكر بعض المصنفين وجهاً بعيداً: أنه يجب أن تُعلَّق النية باستقبال القبلة، وهذا وجه مزيف مردود؛ فإن الاستقبال إن كان شرطاً، فالتعرض له في نيّة الصلاة لا معنى له، وإن كان ركناً من أركان الصلاة، فليس على الناوي أن يتعرض لتفاصيل الأركان أيضاً. هذا ذكر كيفية النيّة في الصلاة المفروضة. 783 - فأما السنن الراتبة، فلا بدّ من تعيينها في النيّة، ولا بدّ من ذكر إقامتها في الوقت. والقول في إضافتها إلى الله تعالى، على ما تقدّم ذكره. ¬

_ (¬1) في الأصل، (ط)، (ت 1): الفرض، والمثبت من (ت 2). (¬2) في (ت 1)، (ت 2): العبادات، ومثلهما (ل).

[فصل] [في محل النيّة] (¬1) 784 - فأما الكلام في محل النيّة، فمحل النيّة القلب، ولا أثر لذكر اللّسانِ فيه. وما قدمناه من ذكر حقيقة النيّة في صدر هذه الفصول يتبيّن به كل مشكل في التفصيل، فإذا وضح أن النية قصد، فمحل القصد القلبُ. وذكر العراقيون أن من أصحابنا من أوجب التلفظ بما يؤدّي معنى النيّة قبل التكبير، وأخذ هذا من لفظ الشافعي في كتاب الحج، وذلك أنه قال "ينعقد الإحرام من غير لفظ بالنيّة، وليس كالصلاة التي يفتقر عقدها إلى اللفظ". ثم قالوا: هذا الذي ذكره هؤلاء خطأ، والشافعي لم يرد باللفظ التلفظ بالنيّة، وإنما أراد باللفظ التكبير الواجب في ابتداء الصلاة، وهذا (¬2) لا يُعدُّ من المذهب. وقد نجزت قواعد المذهب في النيّة. ونحن نذكر بعد هذا فصولاً وفروعاً، تشتمل (¬3) أطراف الكلام في النية، إن شاء الله عز وجل. فصل 785 - "المتحرّم بالصلاة إذا نوى الخروج من الصلاة، بطلت صلاته" (¬4). قال أبو بكرٍ (¬5) وغيره من الأئمة: لو تردد المصلّي في الخروج، والاستمرار على الصلاة، بطلت صلاته بالتردد، كما تبطل بجزم قصد الخروج. ولم نر في هذا خلافاً. وطريق تعليله أن الصلاة فى حالة العقد تستدعي قصداً مجرداً لا تردّد فيه، ثم اكتفى الشرع بالاستمرار على حكم النيّة، مع عزوبها عن الذكر، ولم يكلف إدامة ذكر ¬

_ (¬1) العنوان من عمل المحقق. (¬2) إشارة إلى وجوب التلفظ بالنية. (¬3) كذا. يُعدِّي الفعل (تشتمل) بنفسه، والمعهود أنه يتعدى بحرف الجر، فهل صح عنده شاهدٌ لذلك؟؟ ثم جاءتنا (ل) وفيها: (تشمل)، فهل ما فيها تصرُّف من الناسخ؟؟. (¬4) لم نجد هذه العبارة في المختصر. (¬5) المراد: أبو بكر الصيدلاني.

النيّة؛ فإن الوفاء بذلك عسرٌ، ثم شَرَطَ ألاّ يأتي بما يناقض جزمَ النيّة، وإن لم يشترط إدامة ذكر ما جزمه. والتردّد يناقض الجزم. وهذا بمثابة الإيمان، فإنا نكلف المرء أن يطلب عقداً مستمرّاً على السداد، ثم لا نكلّفه استدامتَه، بل يطَّردُ عليه حكم الإيمان، غير أنّا نشترط ألا يتشكّك عقدُه. ثم من الأسرار التي يتعين الوقوف عليها أن الموَسوس قد يجري في نفسه التردّد، وليس هو التردد الذي حكمنا بكونه قاطعاً مبطلاً، ولكن الإنسان قد يصور في نفسه تقدير التردد لو كان كيف كان يكون، وذلك من الفكر والهواجس، ولو أبطل الصلاة، لما سلِمت صلاةُ مفكر موسوس. والتردد الذي عنيناه هو أن ينشىء الإنسان التردّدَ في الخروج على تحقيقٍ، من غير تقدير، وتكلف تصوير، وقد يطرأ على نفس المبتلَى بالوسواس تقدير الشرك بالله، مع ركونه إلى استقرار المعتقد، ولا مبالاة به. والعاقل يفصل بين هذه الحالة، وبين أن يعدَم اليقين، ويصادف الشك. 786 - ومما يتعلق بحكم الصلاة في ذلك أن المصلي لو نوى في الركعة الأولى جَزْمَ الخروج في الركعة الثانية، فهو يخرج عن الصلاة في الحال؛ فإنه قطع موجب النية؛ إذ موجبها الاستمرار إلى انتهاء الصلاة، وقد نجز في الحال قطعُ مقتضاها في ذلك. ولو علق نيّة الخروج على أمر يجوز أن يُفرض طريانه، ويجوز ألا يفرض -مثل أن ينوي الخروج لو دخل فلان- فهل يقتضي بطلانَ الصلاة أم لا؟ وجهان مشهوران، أقْيَسُهما: بطلانُ الصلاة؛ فإن الذي جاء به تردّد فيها يخالف موجب النيّة، ويناقض مقتضى استمرارها. والوجه الثاني: أن الصلاة لا تبطل؛ فإنه لا يمتنع ألا يدخلَ مَن ذكره، وتتم الصلاة على مقتضى ما أحدثه من التردد، وهذا غير سديد. فإن حكمنا ببطلان الصلاة في الحال، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الصلاة لا تبطل في الحال، فلو وجدت الصفة التي علق الخروج عليها، وكان ذاهلاً عما قدّمه من تعليق النيّة، فهذا فيه احتمال. وحفظي عن الإمام (¬1) أن الصلاة لا تبطل، وإن حدثت ¬

_ (¬1) المراد والده.

تلك الصفة، وذلك التعليق الذي كان منه، مُحبَط (¬1) لا وقع له، ووجودُه وعدمه بمثابةٍ، وفي كلام الشيخ أبي علي ما يدل على أنّا إذا فرّعنا على وجه الصحة، ولم نبطل الصلاة بما علّق، فإذا وُجدت الصفة نقضي بالبطلان، فإن مقتضى تغييره، وتعليقه هذا. والذي أراه في ذلك أنه إن صح الحكم بالبطلان عند وجود الصفة، فيظهر على هذا أن يقال: نتبين (¬2) عند وجود الصفة أن الصلاة بطلت من وقت تغيير النيّة؛ فإنّا بطريان الصفة نتبين أن ما جرى من التغيير خالف مقتضى النيّة في حكم ما وقع. وفي كلام الشيخ أبي علي في شرح التلخيص ما يدلّ على أن من علق الخروج بانتصاف الصلاة، أو مضيّ ركعةٍ منها، أن الصلاة لا تبطل في الحال. ولو رفض (¬3) المصلي ذلك التردد قبل الانتهاء إلى الغاية التي ضربها، فتصحّ صلاته. وهذا بعيد جداً. فهذا حكم الصلاة في التردد ونيّة الخروج. 787 - فأمّا الحج، فلا تُؤثر فيه نيّة الخروج، ولا تنقطع بالإفساد. وأما الصوم، فقد قال الأئمة: تعليق نيّة الخروج لا تبطله وجهاً واحداً. وجَزْمُ نية الخروج هل تبطله؟ فعلى وجهين. والفرق بين الصلاة والصوم أن الصلاة مشتملة على أفعالٍ مقصودة، وإنما تقع عباداتٍ بالنيات، فكانت النياتُ مرعية معيّنةً، فإذا ضعفت بالتردد، يجوز أن تبطل، والصوم إمساك وانكفاف، والنية لا تليق بالتروك، كما تليق بالأفعال، فلا يضر ضعفُ النيّة. ولا يحتاط الشرع في نيته احتياطَه في الأفعال المقصودة. وأيضاً، فإن الصلاة مخصوصة من بين العبادات بوجوه من الربط، ولا يتخللها ما ليس منها إلا على قدر الحاجة. 788 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن المصلي بعد التحرّم إذا شك، فلم يدرِ أنوى أم ¬

_ (¬1) "محبطُ": أي مهدرٌ، لا أثر له. من: أحبطتُ العمل والدمَ إذا أهدرته. (المصباح). (¬2) سبق تفسير التبين ومعناه في اصطلاح الأصوليين. (¬3) رفض من باب ضرب، وفي لغة من باب قتل أي ترك. (المصباح).

لا، أو تردّد في صحة النيّة؟ فالذي ذكره الأصحاب فيه أنه إن لم يطل التردد، ولم يمض في وقته ركن، وزال الرَّيْب على قربٍ، فالصلاةُ صحيحة. ولو تردد المسافر في نيّة القصر في أثناء الصلاة لحظة، ثم تذكر أنه كان نواه، يلزمه الإتمام. والفرق أن تلك اللحظة -وإن قصرت- فهي محسوبة من الصلاة، مع تخلّف نيّة القصر. وإذا مضى شيء من الصلاة مع تخلف القصر، غُلّب الإتمامُ؛ فإنه الأصل، وإذا كان التردد في أصل النيّة أو في صحّتها، فلا تحسب تلك اللحظة على التردد بل نحفظها، ونقدّر كأن لم تكن، ونعفو عنها، كما نعفو عن الفعل اليسير إذا طرأ في الصلاة. وإن دام الشك حتى مضى ركنٌ على الشك، بطلت الصلاة وإن تذكّر المصلّي النيّة أو صحتها؛ لأن الركن الذي قارنه التردّد لا يعتدّ به، فكأنّه زاد في صلاته ركناً في غير أوانِه، ولو فعل هذا حُكِم ببطلان الصلاة، كما سنذكره. وإن طال زمان التردد، ولكن لم ينقضِ فيه ركن، ففيه وجهان. وهو كما لو طرأ الشك في التشهد الأول وامتدّ. وهذا الخلاف يقرب ممّا إذا كثر الكلام على حكم النّسيان من المصلي، فهل يتضمن ذلك بطلان الصلاة؟ فيه كلام سيأتي في هذا الباب إن شاء الله تعالى. 789 - فهذا ما ذكره الأئمة، وهذا مما يحتاج إلى فضل بيان، فنقول: إن جرى ذلك في الركوع، وزال في ذلك الركوع نفسه، واستمر صاحب الواقعة بعد التذكر ساعة راكعاً، ثم رفع رأسه، فالذي قطع به الأئمّة صحّةُ الصلاة، وإن مضى في حال التردد ما لو قدّر الاقتصار عليه، لكان ركناً، ولكنه لما بقي راكعاً لم يضرّ ما تقدم على هذا. فإن قيل: هلا قدّرتم صورةَ الركوع في حال التردد، مع الطمأنينة في حكم ركوع [زائد مبطل للصلاة؟ قلنا: الركوع الممتد واحدٌ في الصورة، فلا يجعل بعضه كركوع] (¬1) منفردٍ زائدٍ غير محسوب. ولو طرأ ما ذكرناه من التردد، والرجل في القيام، وكان يقرأ الفاتحة مثلاً، فقرأ ¬

_ (¬1) ساقط من: الأصل، (ط).

مقداراً منها، ثم تذكر، فإن أعاد القراءة بعد التذكر، لم يضرّ ما مضى، وإن لم يُعد، فلا تصحّ الصلاةُ، وإن لم يمض في حال التردد ركن تام؛ فإن المعتبر أن يمضي ما لا بدّ منه، ثم لا تتفق إعادتُه. والجملة المغنيةُ عن التفصيل أنّا نجعل ما مضى في حال التردد غيرَ محسوب، ولا معتدّاً به في الصلاة، ولو ترك قراءة حرفٍ واحدٍ من الفاتحة، لبطلت صلاته. ولو تردّد من أول الركوع، ودام التردّد حتى رفع رأسه، ثم تذكّر وأراد أن يعود، ويركع مرةً أخرى في حال الذكر، فالصلاة تبطل في هذه الصورة على ما ذكره الأصحاب؛ فإنه قد تميز الركوع عن الركوع، فيكون صاحب الواقعة بمثابة من يزيد في صلاته ركناً. فإن قيل: لو زاد في صلاته ركناً ناسياً، ثم تبيّن، لم يُقْضَ ببطلان الصلاة؛ فهلا عَذَرْتُم من ركع متردّداً، ثم استدرك بعد التذكر وركع؟ قلنا: من ركع متردداً، فهو عامد في الركوع في حالة لا يحتسب ركوعه، فلا نجعله كالناسي. وهذا مفروض فيه إذا كان من نتكلّم فيه عالماً بحقيقة هذه المسألة. وإذا كان كذلك فالواجب ألا يفارق الركوع ويمُدُّه حتى يزول ما هو فيه من لبسٍ، فإذا لم يفعل ذلك، وارتفع، ثم عاد بعد التذكر، فقد زاد ركناً كان مستغنياً عنه. وإن جرى ما فرضناه من جاهل، فقد نعذره لجهله، كما سنذكر أحكام الجاهلين في أمثال هذا إن شاء الله تعالى. [فهذا بيان ما أردنا بيانه] (¬1). فصل 790 - قال صاحب التلخيص: إذا كبّر وتحرّم بالصلاة، ثم تردّد في أن النيّة هل كانت على شرطها أم لا، فكبّر ثانيةً، آتياً بالنيّة على صفتها المطلوبة. قال: إن كانت الصلاة في علم الله منعقدةً بالتكبيرة الأولى، فقد انقطعت بهذه التكبيرة؛ فإنه قصد بها ¬

_ (¬1) ساقط من: الأصل، (ط).

عقداً، ومن ضرورة استفتاح عقد حلُّ ما كان تقدم؛ فإن المنعقد لا ينعقد عقده إلا بعد حله، ثم يُبتَدأ بعد الحلِّ العقد. ثم لا يحكم -والحالة هذه- بانعقاد الصلاة بالتكبيرة الثانية -وإن كانت على الشرط المطلوب- فإن هذه التكبيرة قد تضمنت حلاً؛ فيستحيل أن تتضمّن عقداً؛ فإن الشيء الواحد لا يصلح -فيما نحن فيه نتكلم- لحكمين نقيضين: الحل والعقد جميعاًً، فهذا ما ذكره. وطائفةُ كافّة الأصحاب عليه من غير مخالفٍ. فالوجه إذن أن يرفع التكبيرَ (1 الأول بسلام أو كلام أو غيره، ثم يبتدىء التكبير 1) الثاني عاقداً، فيحصل الحلّ بما يتقدّم عليه، ويتجرّد هذا التكبير للعقد. 791 - ولو كبر التكبير الثاني على أنه قطع ما كان فيه -إن كان قد انعقد- فقدّر التكبيرَ الثاني قاطعاً محللاً، واستفتح تكبيراً ثالثاً عاقداً، فقد قال الأئمة: تنعقد الصلاة؛ فإن التكبيرة الثانية جرت قاطعةً غير عاقدةٍ، فتتجرد التكبيرة الثالثة للعقد. وهذا فيه إشكال عندي، من جهة أنا نجوّز أن التكبيرة الأولى، لم تكن عاقدة في علم الله تعالى، والتكبيرة الثانية صحت من حيث إنها لم تكن متضمنةً حلاً، فإذَا كبّر التكبيرة الثالثة، فهي تتضمن حلاً لما انعقد، كما صوّرناه، وإذا تضمنت حلاً، لم تقتضِ عقداً؛ فإن التكبيرةَ الواحدةَ لا تصلح للنقيضين جميعاًً. هذا وجه الإشكال. ولكن الجواب عنه: أن التكبيرة الأولى -وإن لم تكن عاقدة في علم الله- فقد قصد صاحب الواقعة بالتكبيرة الثانية حلاّ لما تقدّم، وهذا يُفسد التكبيرة؛ فإنها وإن كانت غير حالة عند الله، فقصد الحل يُفسدها، ويخرجها عن كونها صالحةً للعقد. فإذا فسدت لذلك، فالتكبيرة الثالثة تقع مجرّدةً للعقد، فتصح. ولو ظن أن التكبيرة الثانية تعقد لو صحت، ولم نحكم بفسادها، فأجرى التكبيرة الثالثة، وهو يُجوّز أن الثانية عَقَدت، فيظهر في هذه الصورة أن يقال: تفسد التكبيرة الثالثة؛ من جهة أنه قصد بها حلاً لما اعتقد انعقادَه. فإذاً إنما تنعقد الصلاة بالتكبيرة الثالثة في حق من يعلم أن الثانية لا يجوز أن تكون عاقدةً حتى لا يفرض حل ما عقدَه بالثالثة. فليتأمل الناظر ذلك؛ فإنه بين. ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

792 - قال الشيخ أبو علي: لو كبّر وشكّ كما ذكرناه، ثم قصد التحلل -إن كان عَقْدٌ- عند التكبيرة الثانية، فلو كانت التكبيرة الأولى عاقدة، ما حكمه؟ قال: هذا يُبنى على أن من قصدَ نية الخروج مُعلِّقاً على أمرٍ في المستقبل، فهل يصير في الحال خارجاً أم لا؟ فيه من التردّد ما ذكرناه قبلُ: إن قلنا: يصير خارجاً، فقد خرج بمجرد ما جرى به من الذكر، ولم يتوقف خروجه على جريان التكبير الثاني. فإذا أقدمَ على التكبير الثاني، فيكون متجرداً للعقد، فيصح. هذا تفريع على وجهٍ. وفيه نظر؛ فإنه لو اعتقد أن التحلل يحصل بالتكبير الثاني، فقد جاء به على قصد التحلل؛ [فينبغي أن يفسد بقصده، وإن كان التفريع على أن التحلل] (¬1) وقع قبله، إلا أن يتفطّن صاحب الواقعة لينجِّز الانحلال قبل الإقدام على التكبير الثاني، [فيُقدم عليها عاقداً، فيكون كما قال، فأمّا إذا أقدمَ على التكبير الثاني] (¬2) وهو يظن أن الحلَّ يحصل به، فينبغي أن يفسد لقصده (¬3). ثم فرع على الوجه الثاني -وهو أن من علق الحلّ بأمرٍ في المستقبل، لا تنحل صلاته في الحال- فقال على هذا: يحصل الحلّ عند التكبيرة الثانية، ولا يحصل العقد بها. وهذا التردّد منه دليل على أن من علق التردّد على أمرٍ يقع لا محالة في الصلاة إن دامت، ففي التحلل في الحال قبل وقوع ما جعله متعلقاً للحلّ خلافٌ، كما حكينا ذلك عنه. وهذا ضعيفٌ غير سديدٍ، والوجه: القطع بانتجاز الانحلال في الحال في مثل هذه الصورة؛ فإنا ذكرنا قطعَ الأصحاب بأن من تردّد في أن يخرج أو لا يخرج، ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬3) خلاصة النظر الذي أبداه الإمام في كلام الشيخ أبي علي، أن من أقدم على التكبير الثاني قاصداً به التحلل لا يصح أن تنعقد به الصلاة -حتى لو فرعنا على أن التحلل قد حصل قبله بسبب نيته الخروج من الصلاة- لأنه جاء به على قصد التحلل؛ فيفسد هذا التكبير بهذه النية. ولا يُنجي من هذا الفساد " إلا إذا تفطن صاحب الواقعة، فنجز الانحلال قبل الإقدام على التكبير الثاني "؛ فحينئذٍ يصح التكبير الثاني للعقد، كما قال الشيخ أبو علي.

فنفس تردده يتضمّن الحل في الحال. وإذا علق الحل على أمرٍ سيقع في الصلاة لا محالة، فهذا في اقتضاء الحل في الحال ينبغي أن يكون أظهر أثراً من التردّد في نية الخروج. فصل 793 - المسبوق إذا صادف الإمام راكعاً في الصلاة المفروضة فكبّر، وابتدر الركوع ليدرك الركعةَ، فأوقع بعضاً من تكبيرة العقد بعد مجاوزته القيام، فلا شك أن صلاته لا تنعقد فرضاً؛ فإن الصلاة المفروضة إنما تنعقد ممن يوقع تكبيرة العقد في حالة القيام، ثم إذا لم تنعقد الصلاة، فهل تنعقد نفلاً؟ فإن النافلة تصحّ قاعداً مع القدرة على القيام. اضطربت نصوص الشافعي في هذه المسألة وأمثالها مما سنذكر صورها، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الصلاة تنعقد نفلاً، وأنه إن اختل شرط الفرضية، لم يختل شرط النافلة. وهو قد نوى صلاة، ووصفها بالفريضة، وما جرى يناقض الصفة، فلنترك الصفة، ولتبق الصلاةُ مطلقةً، والصلاة المطلقة مصروفة إلى النافلة. والقول الثاني - أن الصلاة تبطل، ولا تنعقد نفلاً؛ فإنه أوقعَها فرضاً، ففسدت في جهة إيقاعه، وكأن هذا القائل يزعم أن [الفريضة جنسٌ] (¬1) من الصلاة تتميز عن النفل، وهي منفردة في حكمها وليست صلاة وفريضة، فإذا بطلت من جهة الفرض، لم يبق وجه في الصحة. وهذا يرد عليه أن الشافعي يجوّز أن يقلب المفترضُ الصلاة المفروضة. نفلاً بأسباب، ولا معنى للقلب إلاّ من جهة تقدير رفع الفرضيّةِ، وتَبْقية الصلاة مطلقة، وهذا يوجب بقاءها نفلاً، (2 وهو مصرّح بأن الصلاة المفروضةَ فيها حكم الصلاة المطلقة، فكذلك تبقى نفلاً 2) إذا بطلت الفرضيّة عنها. ويمكن أن يقال: من قلب المفروضَة نفلاً، صح؛ لقصده في ذلك، فأما من ¬

_ (¬1) في الأصل وغيره من النسخ: "الفرضية جزء" والمثبت من (ل). (2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

قصد الفرض على وجهٍ لا يصح إيقاع الفرض عليه، ولم يجرِ في قصده أمرُ النفل، فلا يحصل له النفل. والأمر محتمل. 794 - ثم الصورة التي ذكرناها في إيقاع تكبير العقد في الركوع لها نظائر، منها: أن يتحرّم الرجل بصلاة الظهر قبل الزوال [فـ]ـلا (¬1) تنعقد فرضاً، ولكن هل تنعقد نفلاً؟ فعلى قولين. وكذلك لو عقد الصلاة قاعداً مع القدرة على القيام، ففي انعقادها نفلاً ما ذكرناه. وكذلك لو تحرّم بصلاة مفروضة، وصحّت له، ثم أراد أن يقلبَ الظهر عصراً، أو العصرَ ظهراً، فلا ينقلب فرض إلى فرض، وتبطل الفرضيّة التي كانت صحت، ولا يحصل ما نوى القلب إليه. ولكن هل تبقى الصلاة نافلة؟ فعلى القولين اللذين ذكرناهما. ولو كان العاجز عن القيام يصلي قاعداً، فوجد في أثناء الصلاة خِفةً، وأمكنه القيامُ من غير عسر؛ فاستدام القعود؛ فتبطل فرضيةُ الصلاة. وهل تبقى الصلاة نافلةً فعلى القولين. 795 - [والذي ذكرناه، والذي لم نذكره يجمعه أمر، وهو أن من أتى بما ينافي الفرضيّة ولا ينافي النافلةَ، فإذا لم يحصل الفرض، فهل تبقى الصلاة نافلةً؟ فعلى قولين] (¬2) ولا خلاف أن من قلب الفرض نفلاً، فلا يبعد أن ينقلب نفلاً عند مَسِيسِ حاجةٍ إليها. وسنعود إلى هذا في بعض مجاري الكلام، وهو أن الفريضة إذا قلبت نفلاً كيف يكون أمرها إذا لم تكن حاجة؟ وبماذا تُضبط الحاجة؟ [وهذا نذكره] (¬3) في المنفرد بالفريضة إذا وجد جماعةً: كيف يفعل؟ فرع: 796 - إذا أراد المصلي أن يقتدي في صلاته بإمام، فلينو القدوةَ في الوقت الذي ينوي فيه الصلاة -على ما تقدم وقت النية في اقترانها بالتكبير، أو تقدمها- فلو ¬

_ (¬1) في النسخ كلها: "لا" بدون فاء. ثم جاءتنا (ل) بالفاء. (¬2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، و (ط). (¬3) في جميع النسخ "وهذه تذكرة"، والمثبت من (ل).

نوى الاقتداء بعد الفراغ من التكبير، فهو كما لو انفرد بالصلاة، ثم نوى الاقتداء في أثناء الصلاة. وسيأتي تفصيل القول في ذلك مشروحاً إن شاء الله. فصل قال: "ولا يُجزىء إلا قوله: الله أكبر ... إلى آخره" (¬1). 797 - لفظُ التكبير على صفته المعلومة يختص بالعقد؛ فلا تنعقد الصلاة إلاّ بقوله: الله أكبر، أو الله الأكبر. فلو ذكر اسماً آخر من أسماء الله، أو وصَفه بصفة أخرى سوى الكبرياء، فقال: الله أعظم أو أجل، لم تنعقد الصلاة عندنا. وأصل الشافعي تغليب التعبد، والتزام الاتباع، والامتناع من قياس غير المنصوص على المنصوص عليه. ثم الأصل الله أكبر، فإن قال: الله الأكبر، أجزأه عندنا؛ فإن في قوله: الله الأكبر الله اكبر، ولكنّه زاد لاماً، ولم يغير المعنى؛ فيقدر كأنه لم يأت باللاّم، والإتيان بها بمثابة مد -لا يغيّر المقصود- أو تثاؤبٍ أو نحوهما مما لا يغير المعنى. ولو قال: الله الجليل أكبر، ففي صحة الصلاة وجهان: أحدهما - الصحة؛ لأنه أتى بالتكبير، والزيادة غير مغيّرةٍ للتكبير، فصار كما لو قال: الله أكبر. ومنهم من قال: لا تنعقد الصلاة، فإنه خالف مورد الشرع، والذي أتى به زائد، كلمةٌ [مفيدة] (¬2)، يزيدها، فيخرج بزيادتها عن حقيقة الاتباع، وليس كاللام يزيدها من الأكبر؛ فإنها لا تستقل بإفادة معنىً مغيّر. ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 70. (¬2) في جميع النسخ: "مقيدة": بالقاف، بل في (ت 1) تأكيد لذلك؛ إذ ضبطتها بفتحة وشدّة على الياء هكذا: (مقيدة). والمثبت تقديرٌ منا، يساعد عليه قوله الآتي: "وليس كاللام يزيدها من الأكبر؛ فإنها لا تستقل بإفادة معنى". وأما (ل)، فجاءت عبارتها مغايرة هكذا: "والذي أتى به زائداً كلمة مُفسدة يزيدها" ا. هـ وتوجيه ما في النسخ الأخرى: أن كلمة " زائدٌ " خبر للمبتدأ (والذي ... ) والجملة بعدها صفة.

ولو كان قال: "الأكبر الله"، ففي المسألة وجهان، أصحّهما المنع؛ فإنه وإن أتى بالتكبير، فهو في التقديم والتأخير خالف الاتباع مخالفةً واضحةً. ومنهم من قال بالصحة من حيث أتى بالتكبير. وحقيقة الكلام في أمثال ذلك أنا إذا رأينا التعبد متبعاً في شيءٍ، فإن أتى بغير المنصوص، لم يجز، وإن أتى به مع أدنى تغييرٍ خفي، فقد يحتمل، وقد يفرض اختلاف في بعض التغايير. 798 - إذا تمهّد أن أدنى التغيير لا يضرّ، فنفرض صورةً تتعارض الظنون في قرب التغيير، أو بعده، ومجاوزة الحدّ، فلو قال: أكبر الله، فهو كقوله الأكبر الله، هكذا ذكره العراقيّون، وهو الوجه. وكان شيخي يمتنع من طرد الخلاف في قوله: أكبر الله، ويرى أن ذلك غير منتظمٍ، بخلاف قوله: الأكبر الله. وهذا زلل، وهو غير لائقٍ به، مع تميّزه بالتبحر في علم اللسان، فقول القائل: "الله أكبر" مبتدأ وخبر، فلا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ، فنقول زيدٌ قائمٌ، وقائمٌ زيدٌ. فرع: 799 - لا ينبغي أن يبتدىء المقتدي التكبيرَ إلا إذا نجزت تكبيرة الإمام، فلو افتتح التكبير مع الإمام، أو أتى بها في أثناء تكبير الإمام، لم تنعقد صلاته. ولو ساوق المقتدي الإمامَ في الأركان التي تقع بعد العقد، وكان يركع معه، ويرفع معه، جاز. وإنما تمتنع المقارنة في التكبير، والسبب فيه أن إنشاءَ الاقتداءِ إنما يصحُّ بمن انعقدت صلاتُه، وإنما تنعقد الصلاة عند نجاز التكبير. وقد يقول من يحاول التحقيقَ: لا معنى للعقد والحلِّ، ولكن التكبير ابتداء العبادة، والتسليم آخرها. ولكن ما ذكره الأصحاب يوضح أثر العقد؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك، لصحّت مساوقة الإمام في التكبير. ومن الدليل على أثر العقد أن من ابتدأ التكبير ولم يكمله لا نقول: بطلت صلاتُه، بل نقول: لم تحصل، ولم تنعقد في أصلها. وليس كما لو كبّر ثم انكفَّ؛ فإنه قد تبطل صلاتُه بعد القطع بانعقادها.

فصل 800 - إذا صادف المسبوقُ الإمام راكعاً، فكبَّر للعقد قائماً، ثم كبر ليهوي فهذا هو الأمر المدعوُّ إليه. وإن اقتصر على تكبيرةٍ واحدةٍ، وأوقعها في حالة القيام، ولكنّه نوى بها تكبير العقد، وتكبيرَ الهُويِّ جميعاًً، فقد أجمعت الأئمة على أن صلاته لا تنعقد. ولو أتى بتكبيرة واحدةٍ، وقصد بها العقدَ، وقصدَ ترك تكبير الهُوي، صحت صلاتُه. ولو أتى بتكبيرةٍ واحدةٍ، ولم يخطر له تركُ تكبيرة الهُويِّ، ولا قصد التشريك، ولكنه أتى بتكبيرة واحدةٍ مطلقة، فقد حكى العراقيون عن الأمّ، أن الصلاةَ لا تنعقد (¬1)، ويكون هذا كما لو قصدَ التشريكَ بين العقد وتكبير الهُويِّ، وزعموا أن الشرط عند الاقتصار على تكبيرة واحدةٍ، القصد إلى إيقاعها عن جهة العقد، وإذا لم يكن قصد مجرد إلى ذلك، فهو كقصد التشريك. وكان شيخي يذكر هذا وجهاً غيرَ منصوص، ويذكر وجهاً آخر: أن الصلاة تصحّ عند الإطلاق، ووجهه بيِّن منقاس؛ فإن التكبيرة الأولى في وضع الشرع للعقد، فإذا اقترنت النيّة بها، أو بأولها -كما سبق ذلك- فنفس اقتران النية يجردها للعقد، فالذي نسمّيه مطلقاً في حكم المقيَّدِ، بسبب ارتباط نية العقد. وهذا ظاهر. فرع: 801 - إذا كان المرء عاجزاً عن الإتيان بلفظ التكبير، وكان حديث العهد بالإسلام، وقد لا يطاوعه اللسان إلا بمقاساةٍ وتمرينٍ وتعلّمٍ، فينبغي أن يأتي بمعنى التكبير -إن كان يحسن معناه- وقال الأئمة: يتعيّن الإتيان بمعناه -وإن كان بالفارسيّة- ولا يقوم ذكرٌ آخر يُحسنه مقام التكبير؛ فإن معنى التكبير أقرب إليه من ذكر آخر. وقد قال الأئمة: من عجز عن قراءةِ القرآن، أتى بأذكارٍ، ولم يوجبوا الإتيان ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 7، ونص عبارة الشافعي: " ... وإن كبر لا ينوي واحدة منهما، فليس بداخلٍ في الصلاة".

بمعناه، بل قالوا: لو أتى بمعنى الفاتحة، لم يعتد به. وكان شيخي يفرق بين [البابين] (¬1)، ويقول: الغرض الأظهر من قراءة القرآن الإتيان بنظمه على ترتيبه، ثم المعنى تابع للنظم، والمعجز من ذلك هو النظم، واعتبار عين معنى (2 التكبير أغلب. فإذا عجز المصلي عن القراءة، سقط اعتبار المعنى. وليس كذلك التكبير. وتحقيق ذلك أن معنى الفاتحة لا ينتظم ذكراً. ومعنى 2) التكبير ينتظم ذكراً، كما ينتظم التكبير في لفظه، وهو يشير إلى أن الغرض (¬3) الأظهر، والشرف الأبهر في نظم القرآن. وفيه دقيقة، وهي أن النظم إذا كان معجزاً، فلا يتأتى الاحتواءُ على لطف المعاني ودقائقها بالترجمة والتفسير. وسيأتي في فصول القراءة، أن من لا يحسن الفاتحة إذا كان يحسن غيرها من القرآن، فعليه الإتيان بما يحسن من القرآن على قدر الفاتحة، فلو كان لا يحسن من القرآن شيئاًً، ولكنه أتى بأذكار منتظمة تقع تفسيراً لبعض آيات القرآن، وكان ذكراً منتظماً كسائر الأذكار، فالذي أراه: أن ذلك يجزىء، ولا يمتنع إجزاؤه. أما ذكر [تفسير] (¬4) آية حُكْمية، أو آية فيها قصة، أو وعد أو وعيد، فلا يعتد به. وهذا واضح إذا تأمله الناظر. 802 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك: أن من أسلم، فعليه أن يبتدر تعلم شرائط الصلاة وأركانها، فإن قصر، ولم يتعلم التكبير الذي نحن في تفصيله، فلا يُقضى بصحة صلاته. ولو كان الرجل يقطن بادية، والماء مُعوِزٌ بها، وكان يتيمم للصلاة -ولو انتقل إلى قرية، لاستمكن من استعمال الماء- فلا نكلفه الانتقال إلى القرى. وإن كان لا يلقى بالانتقال إليها عسراً. ¬

_ (¬1) في الأصل وفي (ط): الناس. (2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (¬3) عبارة (ت 1): "وهو يشير إلى أن العز والشرف الأبهر في نظم القرآن". (¬4) سقط من الأصل، و (ط).

ولو أسلم في موضع، ولم يجد من يعلّمه فيه التكبيرَ، وكان يقيم معنى التكبير مقامه، ولو انتقل إلى قرية لتأتَّى منه تعلم التكبير، فقد اختلف الأئمة: فذهب ذاهبون إلى أنه يجب عليه الانتقال والتعلم؛ فإن ذلك ممكن لا عسر فيه، وهذا هو الأصح؛ فإن بدل القراءة لا يحل محل التيمم، إذ أمرُ التيمم غيرُ مبنيّ على نهاية الضرورة (1 بل ينويه للتخفيف والترخيص. وإقامة الذكر مقام القراءة مبني على نهاية الضرورة 1)، وهذا يقتضي لا محالة التسبُّبَ إلى تعلم القرآن. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب الانتقال للتعلّم، وينزل إقامة الذكر مقام القراءة منزلةَ إقامة التيمم مقام الوضوء في مكان إعواز الماء (¬2). وهذا ضعيف. فصل 803 - رفع اليدين مع التكبير سنة، وهو شعار من الصلاة متفق عليه في هذا المحل، ولتكن الأصابع منشورة، ولا يُؤثر اعتماد تفريجها، ولا نرى ضمّها، ولتكن بين بين، والضابط في هيئتها أن ينشر الأصابع، ويتركها على صفتها وسجيتها، ولا يعمد فيها ضم ولا تفريج، وإذا فعل ذلك، اقتصد الأمر في الانفراج. ثم الذي شُهر نقلُه عن الشافعي أنه رأى رفع اليدين حَذْوَ المَنكِبين: روى أبو حميد الساعدي في عشرة من جلة الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا قام، اعتدل، ورفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكِبيه" (¬3)، وقيل لما قدم الشافعي ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (¬2) عبارة (ت 2) مضطربة هكذا: " .. منزلة إقامة التيمم في مكان الوضوء في إعواز الماء". (¬3) حديث رفع اليدين متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بهذا اللفظ تقريباً، وفيه زيادة: "وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ... " (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 79 ح 217). وأما حديث أبي حميد بسياقة إمام الحرمين (في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقد رواه أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن حبان، وصححه الألباني، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي، وعزاه للبخاري في: (قرة العينين =

العراق اجتمع إليه العلماء كأبي ثور والحسين الكرابيسي (¬1) وغيرهما، وسألوه عن الجمع بين الأخبار في منتهى رفع اليدين؛ إذ روي أنه رفعهما حذو منكبيه، وروي أنه رفع يديه حذو شحمة أذنيه، وروي أنه رفعهما حذو أذنيه (¬2). فقال الشافعي: إني أرى أن يرفع يديه بحيث يحاذي أطراف أصابعه أذنيه، ويحاذي إبهاماه شحمة أذنيه، وتحاذي ظهور كفه منكبيه، فاستحسن العلماء ذلك منه. وقد تحقق أن الذي رآه أبو حنيفة من محاذاة الأذنين [إنما عنى بها محاذاة الأصابع الأذنين] (¬3)، فعلى هذا يرتفع الخلاف (¬4)، وقد تحققت أن من أئمتنا من يحمل مذهب الشافعي على محاذاة المنكب باليد، بحيث لا تجاوز الأصابع طرف المنكب. ْفيخرج من ذلك، ومما حُكي من جمعه بين أخبار الرفع قولان: أشار إليهما الصيدلاني، أحدهما - مذهب الجمع كما تفصّل. ْوالثاني - محاذاة أطراف الأصابع طرف المَنكِب، والتعويل في ذلك على رواية أبي حُمَيْد الساعدي، ومقتضاها محاذاةُ المَنكِب، لا محاذاةُ الأذن والمَنكِب، وهي أصح الروايات. وهذا بيان صفة اليدين، وذكر منتهى رفعهما. ¬

_ = في رفع اليدين في الصلاة). (ر. أبو داود: كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، ح 730، والترمذي: أبواب الصلاة، ح 304، والنسائي: كتاب السهو، باب رفع اليدين في القيام إلى الركعتين الأخيرتين، ح 1182، وصحيح النسائي للألباني: 1/ 255 ح 1130، وابن حبان: 5/ 178 ح 1865 بتحقيق شعيب الأرناؤوط، والتلخيص: 1/ 219 رقم 328). (¬1) الحسين الكرابيسي أبو علي الحسين بن علي الكرابيسي البغدادي صاحب الشافعي، وأحد رواة مذهبه القديم، وأخذ عنه الفقه خلق كثير. توفي 245، وقيل 248 هـ. (ر. تهذيب الأسماء: 2/ 284، وطبقات السبكي: 2/ 117، وتاريخ بغداد: 8/ 64، وتهذيب التهذيب: 2/ 59، وشذرات الذهب: 2/ 350، وطبقات الشيرازي: 92 - 101). (¬2) انظر هذه الروايات في تلخيص الحبير: 1/ 218 ح 328. وأيضاً نيل الأوطار: 2/ 188 وما بعدها، وكذلك نصب الراية: 1/ 310. (¬3) ساقط من الأصل، ومن (ط). (¬4) ومع ذلك عدها إمام الحرمين وعالجها في (الدرّة المضيّة) مسألة رقم: 62.

804 - والذي يتم به الغرض وقتُ رفعهما وخفضهما. وقد ذكر أئمتنا في وقت الرفع والخفض ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يرفع يديه غير مكبر، فإذا انتهت نهايتَها كبّر، وأرسل مع التكبير يديه، فيقع الإرسال مع التكبير [وانتهاء اليد إلى مقرها من الصدر مع انتهاء التكبير] (¬1)، أو على القرب منه، وهذه رواية أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني - يبتدىء الرفع مع ابتداء التكبير، فيقرب انتهاء التكبير من انتهاء اليد نهايته في الرفع، وهذه رواية وائل بن حُجْر. والثالث - أنه يرفع يديه ويقرهما قرارهما، ويكبر وهُما قارّتان، ثم يرسل يديه بعد الفراغ. وهذه رواية عن ابن عمر. ثم من أئمتنا من رأى الأوجه اختلافاً، وكان شيخي يقول: ليس هذا باختلاف، ولكن الوجوه كلها سائغة؛ إذ الرجوع فيها إلى الأخبار، ولا مطمع في ترجيح وجه على وجه بمسلك معنوي. وإذا صحت الروايات، فلا وجه إلا قبول جميعها، ولم يصح عندنا ترجيح رواية على رواية، بوجه يوجب الترجيح في الروايات. وحكى الأئمة عن الشافعي أنه إذا كان لا يتأتى منه رفع اليد على النظم الذي ذكرناه، وكان يتمكن من مجاوزة الحد الذي ذكرناه في الرفع، فليرفع يديه على ما يتمكن منه، وإن كان مجاوزاً للحد. فصل قال: "ولا يكبر حتى يسوي الصفوفَ خلفه" (¬2). 805 - ينبغي أن يعتني الناس بتسوية الصفوف قبل تكبير الإمام، ثم لا يكبر الإمام حتى يظن أن الصفوف قد استوت. ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل ومن (ط). (¬2) ر. المختصر: 1/ 70.

ثم يقع قيامُ الناس، وهمُّ الإمام بالتكبير بعد فراغ المؤذّن عن الإقامة. وأبو حنيفة يقول: يسوون الصفوف عند قوله: "حي على الفلاح"، وقال: يكبر قبل قوله: "قد قامت الصلاة" (¬1) إلا أن يكون المؤذن هو الإمام، فلا وجه إلا أن يفرغ. فصل "ثم يأخذ كوعه اليسرى ... إلى آخره" (¬2) ْ806 - ينبغي للمصلي أن يضع يمناه على يسراه، وكيفيته أن يأخذ الكوع من يده اليسرى بكف يده اليمنى؛ بحيث يحتوي عليه وكان شيخي يذكر لذلك صورتين، ويحكي عن القفال التخيير (¬3) فيهما: إحداهما - أن يقبض بكفه اليمنى على كوعه من يسراه، ويبسط أصابعه على عرض المفصل. والثانية - أن يأخذ كوعه من يسراه من أعلى، وينشر أصابعه في صوب ساعده، وهو في الوجهين قابض على كوعه، ويده اليمنى عالية. وأبو حنيفة (¬4) يقول: يضع بطنَ كفه اليمنى على ظهر كوعه من يده اليسرى من غير احتواء، ثم يضع يديه تحت صدره. قال الشيخ أبو بكر: لم أر ذلك منصوصاً عليه للشافعي في شيء من كتبه، ولكن الأئمة اعتمدوا فيه نقل المزني، وقالوا: لعل ما نقله اعتمد فيه سماعه من الشافعي. ¬

_ (¬1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 200، تبيين الحقائق: 1/ 108، حاشية ابن عابدين: 1/ 322، وانظر الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية: مسألة رقم 56. (¬2) ر. المختصر: 1/ 70 - 71. (¬3) في (ت 1)، (ت 2): التردد بينهما. (¬4) الذي رأيناه عند الأحناف أن وضع اليدين تحت السرة. وأمَّا الأخذ والوضع وكيفيته ففيها خلاف عندهم. ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 327. مختصر الطحاوي: 26، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 202 مسألة: 138، فتح القدير: 1/ 249.

فصل "ثم يقول: وجهت وجهي ... إلى آخره" (¬1). 807 - ينبغي إذا عقد الصلاة أن يُعْقب عقدها بقراءة: وجهت وجهي .. إلى آخره، ثم يستعيذ قبل قراءة الفاتحة، واختلف قول الشافعي في الجهر بالتعوّذ في الصلاة الجهرية، [فنصَّ في القديم على أنه يجهر في الصلاة الجهرية] (¬2)، ونص في الجديد على أنه لا يجهر بالتعوذ أصلاً. ثم اختلف أئمتنا في أنَّا هل نستحب التعوّذ في مفتتح كل ركعة، أو يقتصر على التعوذ في أول الركعة الأولى؟ وفيه وجهان مشهوران: والأصح - أنه يتعوذ في أول كل ركعة، متصلاً بقراءة القرآن فيها. فصل "ويقرأ فاتحة الكتاب ... إلى آخره" (¬3). 808 - قراءة الفاتحة محتومة على كلِّ مصلٍّ يحسن القراءة. ولا يقوم غيرُ الفاتحة من السور مقامَها، ويجب افتتاحها بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم. فمذهبنا أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة. وقد روى محمد بن إسماعيل البخاري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عدّ فاتحة الكتاب سبع آيات، وعدّ بسم الله آية منها" (¬4)، ثم التسمية من القرآن في أول كل سورة، خلا سورة التوبة، وهي محسوبة ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 71. (¬2) ساقط من الأصل، ومن (ط). (¬3) ر. المختصر: 1/ 71. (¬4) الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر " السبع المثاني " بسورة الفاتحة، وقال: "هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" (ر. البخاري: 5/ 146، 222، كتاب التفسير: تفسير سورة الفاتحة، ح 4474، وتفسير سورة الحجر، ح 4703) وليس فيها أنه صلى الله عليه وسلم عدها سبع آيات، وعدّ البسملة آية منها. ولهذا قال الحافظ في =

آيةً في أول الفاتحة، وهل تكون آية من كل سورة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها آية تامة حيث كتبت في أوائل السور كسورة الفاتحة. والثاني - أنها مع صدر السورة آية، وليست آية تامة إلا في أول الفاتحة، وهذا القائل استدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سورة تجادل عن ربها، وهي ثلاثون آية، ألا وهي سورة الملك" (¬1)، ثم تلك ثلاثون آية دون التسمية، فإذن على هذه الطريقة التسمية من القرآن في أول كل سورة، وإنما اختلف القول في أنها تُعدّ آية بنفسها أم لا؟ وذكر الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب طريقة أخرى، وهي أن التسمية من القرآن في أول الفاتحة، وهل هى من القرآن فى أوائل السور؟ فعلى قولين، والصحيح الطريقة الأولى. وذكر العراقيون خلافاً في أن كون بسم الله من القرآن في أوائل السور معلوم أو مظنون، وهذا غباوة عظيمة؛ لأن ادعاء العلم -حيث لا قاطع- محال. ¬

_ = التلخيص: "إن الإمام نسب هذا الحديث للبخاري وتبعه الغزالي في الوسيط، ومحمد بن يحيى في المحيط، وهو من الوهم الفاحش، قال النووي: لم يروه البخاري في صحيحه، ولا في تاريخه" ا. هـ (ر. التلخيص: 1/ 233) هذا. والمحيط المذكور في شرح الوسيط. أما الحديث على نحو ما ساقه إمام الحرمين فقد رواه البيهقي والدارقطني، وابن خزيمة في صحيحه، (ر. المجموع: 3/ 333، والسنن الكبرى: 2/ 58، وتلخيص الحبير: 1/ 233، والدارقطني: 1/ 307، وصحيح ابن خزيمة: 1/ 248 ح 493 باب رقم 97، ص 251 ح 500 باب رقم 101، والطحاوي: 1/ 199 - 200، والحاكم: 1/ 232 وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين، ولم يوافقه الذهبي). (¬1) حديث سورة الملك .. صحيح. رواه أبو داود: الصلاة، باب في عدد الآي، ح 1400، وصححه الألباني: 1247. وأخرجه الترمذي: فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل سورة الملك، ح 2891، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجة: الأدب، باب ثواب القرآن، ح 3786، والألباني: 3053، وعند أحمد: 2/ 321، وصحح الشيخ شاكر إسناده: ح 7962، 8259. وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة: ح 710. وابن حبان في صحيحه: 3/ 67 ح 787، وحسّن شعيب الأرناؤوط إسناده. والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وانظر تلخيص الحبير: 1/ 233 ح 349.

ثم قراءة الفاتحة ركن في صلاة الإمام والمنفرد، وأما المأموم، فإنه يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وهو حتم واجب عليه، ولا فرق بين أن تكون الصلاة جهرية أو سرية. وحكى المزني قولاً آخر عن الشافعي: أنه إن أسر الإمام، قرأ المأموم حتماً، وإن جهر القراءة، سقطت القراءة عن المأموم. وهذا مذهب مالك (¬1)، والمزني لم ينقل بنفسه عن الشافعي إلا هذا القول، ونقل القول الأول عن الأصحاب عن الشافعي. فهذه قواعد المذهب في القراءة، ونحن الآن نبتدىء تفصيل المذهب في القراءة في فصلين: أحدهما - في قراءة القارىء القادر على القراءة. والثاني - في قراءة العاجز عن قراءة الفاتحة. فأما الفصل الأول 809 - من تمكن من قراءة الفاتحة، لزمته. وقد ذكرنا التفصيل في المأموم. ثم يجب الإتيان بحروف الفاتحة من مجاريها، فلو أخل بحرفٍ، لم تصح الصلاة، ومن الإخلال تخفيف المشدَّد؛ فإن المشدّد حرفان مِثلان أولهما ساكن، وإذا خفَّفَ، فقد أسقط حرفاً. وكان شيخي يتردد في إبدال الضّاد ظاءً في قوله (ولا الضالين)؛ فإن هذا لا يتبين إلا للخواصّ، وهو مما يتسامح فيه عند بعض أصحابنا. والصحيح القطع بأن ذلك لا يجوز؛ فإن الظاء والضاد حرفان متغايران، فإذا حصل الإبدال، فالذي جاء به ليس الحرف المطلوب. 810 - ثم لو ترك الفاتحة من أوجبناها عليه عامداً، لم تصح صلاته، ولو تركها ناسياً، فالمنصوص عليه في الجديد -وهو المذهب- أن الركعة التي خلت عن قراءة الفاتحة لا يُعتد بها، وتركُ القراءة ناسياً كترك الركوع والسجود. ونُسب إلى الشافعي قولٌ قديم: أنه يُعذر التارك ناسياً، وتصح الركعة، وجعل النسيان بمثابة إدراك المقتدي الإمامَ راكعاً؛ فإنه يصير مدركاً للركعة وإن لم يقرأ. وهذا قول متروك، لا تفريع عليه، ولا يعتد به. ¬

_ (¬1) ر. جواهر الإكليل: 1/ 50.

811 - ثم يجب على القارىء رعاية الترتيب في القراءة، فلو قرأ الشطر الأخير من الفاتحة أولاً، لم يعتد به؛ فإن القرآن معجزٌ، والركن الأَبْين في الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب. ولو (¬1) قدم أواخر التشهد، وأخر أوائله، فإن غيره تغيراً يَبطُل به معناه، فلا شك أن ما جاء به ليس محسوباً. وإن تعمد ذلك، بطلت صلاته؛ فإنه جاء بكلام غير منتظم عمداً، وإن كان تقديماً وتأخيراً -وكل كلام مفيد في نفسه- فالذي ذكره الأئمة: أن ذلك لا يضر؛ فإنه جاء بالتشهد، وليس الكلام معجزاً في نفسه، فيؤثرَ فيه تبديل الترتيب، والمعنى لم يختلف. وذكر شيخي فى التشهد -إذا غير ترتيبه تغييراً تقديماً أو تأخيراً- وجهين، وليس ذلك بعيداً، وهو بعينه الخلاف المذكور فيه، إذا قال الأكبر الله؛ فإنه في تغيير الترتيب تاركٌ لطريق الاتباع، وقد ذكرنا أن معتمد الشافعي في العبادات البدنية التي لا تتعلق بأغراض جزويّة (¬2) مفهومة - الاتباعُ (¬3). فهذا تفصيل القول في رعاية الترتيب. 812 - وذكر العراقيون وجهاً أن ترك الموالاة بالسكوت الطويل قصداً عمداً، لا يبطل القراءة، وهذا مزيف متروك، وإن كان لا يبعد توجيهه. وتجب أيضاً رعاية الموالاة في القراءة، فلا ينبغي أن يخلل القارىء بين قراءته سكوتاً طويلاً يقطع الولاء، أو ذكراً ليس من القراءة، فإن تخلل سكوتٌ طويل - ¬

_ (¬1) هذا استطراد للحديث عن الترتيب في التشهد، ليظهر الفرق بين ما تجب رعاية النظم فيه، وما يكتفى فيه بأداء المعنى. (¬2) كذا في الأصل، وفي (ت 1)، وفي (ت 2): حزويه، وفي ط: جزءية (كذا): وواضح من السياق أن المعنى المقصود هو الأغراض الجزئية في مقابلة القضايا الكلية للشريعة ومقاصدها، فالمعنى: أن قراءة الفاتحة وقراءة التشهد من العبادات التي لا تتعلق بمقاصد خاصة بها يمكن إدراكها، ولذا فالمذهب فيها الاتباعُ. (¬3) خبر (أن) في قوله: "أن معتمد الشافعي ... ".

والمعتبر فيه أن يسكت سكوتاً يُشعر مثله بأن القراءة قد انقطعت، إما باختيار أو بمانع- فهذا هو السكوت القاطع للولاء. وأما تخلل الذكر، فالذي ذكره الأئمة أنه إذا أدرج القارىء في أثناء القراءة ذكراً تسبيحاً، أو تهليلاً، فتنقطع موالاة القراءة، وإن كان ذلك الذكر قليلاً واقعاً في زمان لا ينقطع الولاء بالسكوت في مثله. وقد صح عندنا أنا وإن كنا نشترط اتصال الإيجاب بالقبول في العقود، فلو تخلل بين الإيجاب والقبول كلام من أحدهما قريب لا يضر تخلله، على تفصيل وضبط سيأتي في موضعه، ونص الشافعي دال على ذلك، فإنه قال في كتاب الخلع: "لو قال لامرأتيه: خالعتكما، فارتدتا، ثم قالتا: قبلنا، ثم عادتا إلى الإسلام، قبل انقضاء العدة، فالخلع صحيح" (¬1)، وقد تخللت كلمة الردّة. ولو تخلل بين الإيجاب والقبول سكوت طويل، لم ينعقد العقد. فتخلل السكوت استوى فيه القراءة والعقد، وافترقا في تخلل الذكر، والسبب فيه أن من أدرج ذكراً في أثناء القراءة؛ فإنه يجري في انتظام القراءة حتى كأنه منها، وذلك يُغيّر النظمَ والترتيبَ والإعجازَ. والإيجابُ والقبول صادران من شخصين، وقد ورد التعبد باتصال الجواب بالإيجاب؛ فإن للجواب اتصالاً -في مطرد العرف- بالخطاب يكون لأجله جواباً، والسكوت الطويل إذا تخلل يقطع الجوابَ عن الإيجاب. وإذا صدر كلام يسير عن أحد المتعاقدَيْن، لم يُشعر مقداره بإضراب المخاطب عن الجواب - لم يضر تخلله. وفي القراءة يختلط الذكر بالمقروء، ويجري في أدراجه، وليس هذا من قبيل ما ذكرناه من رعاية الاتصال بين الإيجاب والقبول. فيخرج من ذلك أن تخلل الذكر ليس مؤثراً في القراءة من حيث يقطع ولاءها، ولكن من حيث يغير نظمَها. ولو فرض سكوت في أثناء القراءة لا يقطع مثلُه الولاء، وفرض فيه ذكرٌ يسير، لا بصوت القراءة، بحيث لا ينتظم بالقراءة، فلست أبعد في هذه الصورة أن يقال: لا تنقطع القراءة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) ر. الأم: 5/ 185.

813 - وقد ظهر اختلاف الأئمة في أنه إذا أمّن الإمام في آخر الفاتحة، وكان المأموم في أثناء قراءة فاتحته، فأمّن عند تأمين الإمام، فهل تنقطع قراءته بهذا؟ فذهب ذاهبون إلى أن القراءة. تنقطع، وهذا قياس ما ذكرناه. وصار صائرون إلى أنها لا تنقطع، وليس يتجه عندي هذا الوجه إلا بما رمزت إليه من أن المحذور ألاّ ينتظم الذكر بالقراءة، وإذا جرى في أثناء الكلام شيء هو محمل الذكر، ويظهر به أن الذكر لم يجر في نظم القراءة، كالتأمين عند تأمين الإمام، فهذا يبيّن انقطاع الذكر عن الانتظام، فلذلك جرى الخلاف فيه. 814 - وكذلك كان شيخي يذكر خلافاً في أن الإمام لو كان يقرأ السورة، والمأموم في أثناء الفاتحة، فانتهى الإمام إلى آية الرحمة، وطلب للرزق، فقال المأموم: اللهم ارزقنا -وهذا مما نستحبه كما سيأتي- فهل تنقطع القراءة؟ فعلى وجهين. وهو ملتحق بالمعنى الذي ذكرناه في مسألة التأمين؛ فإن ارتباط ما تخلل بما طرأ من الإمام يقطعه عن تخلل الانتظام بالقراءة. 815 - وإذا انتهى الإمام إلى آيةٍ فيها سجدة والمأموم في خلال القراءة، فيسجد، والمأموم يسجد متابعاً لا محالة، وهل تنقطع القراءة؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، فهذا وجه الكشف في تحقيق القول في ذلك. 816 - ومن تمام القول في هذا، أن العراقيين حكَوْا عن نص الشافعي ما يدل على أنه لو ترك الموالاة ناسياً، لم يضر، وهذا مفرعّ على أنه لو ترك القراءة أصلاً، ناسياً، لم يعتد بالركعة، ومع هذا حكَوْا النص في أن ترك الولاء ناسياً غير ضائر. وهذا غير سديد عندي، فإن ترك الولاء إذا كان (¬1) تختل به القراءة، فاذا جرى على حكم النسيان، فهو بمثابة ترك القراءة ناسياً. وقد ذكر شيخي ما ذكره العراقيون وزاد كلاماً، فقال: لو ترك الترتيب في قراءة الفاتحة ناسياً، لم يعتد بقراءته، ولو أخلّ بالموالاة ناسياً، احتسب بالقراءة، وقال ¬

_ (¬1) "كان" هنا تامة بمعنى (وُجد) و (حدث).

في تحقيق الفرق: ولو أخل الرجل بترتيب الأركان ناسياً، فسجد قبل الركوع، لم يعتد بالسجود، ولو طوّل ركناً قصيراً، وأخل بالموالاة بهذا السبب، لم يضر، واعتدّ بما جاء به، فكذلك يفرق بين ترك الترتيب والموالاة على حكم النسيان في القراءة. وهذا صحيح؛ فإن ترك الولاء يُخل بالقراءة إخلالَ ترك الترتيب كما تقدم. فهذا نقل ما قيل، مع ما فيه من الاحتمال. 817 - ولو كرر القارىء الفاتحة [أو كلمة من الفاتحة] (¬1) كان شيخي لا يرى بذلك بأساً إذا كان سبب ذلك شك من القارىء، في أن تلك الكلمة هل أتت على ما ينبغي أم لا؟، فإنه معذور، وإن كرر كلمة منها قصداً من غير سبب، كان يتردد في إلحاق ذلك بما لو أدرج في أثناء الفاتحة ذكراً. 818 - والذي أراه أن وِلاء الفاتحة لا ينقطع بتكرر كلمة منها، كيف فرض الأمر؛ فإن الذي عليه المعول في إدراج الذكر ما قدمناه من انتظام الذكر بالقراءة، وإفضاء ذلك إلى اختلاف النظم، وإذا كرر القارىء شيئاًً من الفاتحة، لم يؤدّ التكرير إلى ما أشرنا إليه. والعلم عند الله. فهذا مجامع القول في قراءة الفاتحة في حق من يحسنها. فأما: الفصل الثاني فهو في تفصيل القول في الأُميّ 819 - والأُمي في اصطلاح الفقهاء من لا يحسن الفاتحة، أو لا يحسن بعضَها، ويحسن بعضها. فأما إذا كان لا يحسن منها شيئاًً، فلا يخلو إما إن كان يحسن شيئاًً من القرآن، أو ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، ومن (ط).

كان لا يحسن شيئاًً من القرآن، [فإن كان يحسن من القرآن سورة أو سوراً، فعليه أن يقول من القرآن] (¬1) ما يقع بدلاً عن الفاتحة. 820 - ثم قال الأئمة: الفاتحة سبعُ آيات، فليأت بسبع آيات، ثم إن كانت قصاراً بحيث لا يبلغ عدد حروفها عددَ حروف الفاتحة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجزئه ما جاء به نظراً إلى مقابلة الآي، ولا مؤاخذة بالحروف وعددها. ومنهم من قال: لا بد من رعاية أعداد الحروف؛ إذ بها حقيقة المقابلة والمماثلة، وأجزاءُ القرآن كالأسباع وغيرها تعتمد الحروف. ولو قرأ آية طويلة بلغ عددُ حروفها عددَ حروف الفاتحةّ، واقتصر عليها، فقد حكى الأئمة أن ذلك لا يجزىء ولا يكفي. ولم أر في الطرق في ذلك خلافاً، فعدد الآي مرعي إذن، وفي عدد الحروف خلاف، ولعل سبب الوفاق في عدد الآي، ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم عد فاتحة الكتاب سبعَ آيات" (¬2)، وقال تعالى في ذكرها {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] فاقتضى اعتناءُ الكتاب والسنة بآياتها عددَ الآي بَدَلَها. والحروفُ على التردد كما حكيناه. 821 - وكان شيخي يقول: إذا راعينا مقابلةَ الحروف، فيجب رعاية الترتيب، كما نصفه: وهو أن يأتي في مقابلة الآية الأولى بآية تشتمل على عدد حروف تلك الآية أو تزيد، وإن كان لا يحسن إلا الآيات القصار، فيقابل الآية بالآيتين، وهكذا إلى تمام الفاتحة. وكان يقول: لو قرأ ست آياتٍ من القصار التي لا تفي حروفُها بعدد حروف الآيات الست الأُوَل، ثم قرأ آية طويلة تجبر ما كان من نقصان، وتقابل حروف الآية الأخيرة، وقد يزيد - قال: هذا لا يجوز؛ فإنه لم يراع في الآيات الست المقابلةَ ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، ومن (ط). (¬2) سبق الكلام عن هذا الحديث آنفاً.

المشروطةَ؛ فصارت الآية الأخيرة في حكم آية واحدة يقابل حروفها حروفَ جميع الآيات. وكان رضي الله عنه يقطع بهذا. والذي أراه أن هذا لا معنى لاشتراطه بعد ما حصلت مقابلة الآي ورعاية عدد الحروف على الجملة. 822 - ولو كان يحسن سبع آيات متفرقات، فيأتي بها وتجزئه. ولو كان يحسن سبع آيات على الوِلاء، فأراد أن يأتي بسبع متفرقة، كان رضي الله عنه يمنع ذلك، وهو ظاهر لا يتجه غيره. وفي الإتيان بسبع آيات متفرقات إذا كان لا يحسن غيرها نظرٌ في صورة واحدة، وهي أن [الآية الفردة] (¬1) قد لا تفيد معنى منظوماً ولو قرئت وحدها مثل قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21]، فيظهر ألاّ يكتفى بإفراد هذه الآيات، فيردّ إلى الذكر، كما سنذكره. 823 - ومما يتعلق بهذا، أنه إذا كان لا يحسن من القرآن إلا آية واحدة مثلاً، فقد ظهر اختلاف أئمتنا في أن الواجب في بدل الفاتحة ماذا؟ فقال بعضهم: يُكرر تلك الآية سبعاً، ويكفيه ذلك، وقال بعضهم: يأتي بها مرة واحدة، ويأتي بالأذكار في مقابلة ست آيات. ولم يوجب أحدٌ الجمع بين التكرار والذكر؛ فإن التكرار إن وجب فعلى مقابلة الآيات الباقية، ولا يجب على مقابلتها بدلان: الذكر وتكرير الآية، وهذا مع الالتفات إلى رعاية الحروف. والخلاف في هذا كله إذا كان يحسن شيئاًً من القرآن. 824 - وأما إذا كان لا يحسن من القرآن شيئاًً، فإنه يأتي بدلاً عن الفاتحة بأذكار، وينبغي أن تكون أذكاراً عربية إن كان يحسنها، ثم ذكر الأئمة التسبيح والتهليل، ولا شك أن المرعي مقابلة الحروف؛ فإنه ليس في الأذكار مقاطع وغايات على مقابلة الآيات، فليس إلا اعتبار الحروف، ثم كان شيخي يقول: إن جرد التسبيح والتهليل جاز، وإن جرّد الدعاء، ففيه احتمال، هكذا كان يقول رضي الله عنه، ولعل الأشبه ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "آيات القراءة" والمثبت مما أفادتنا به (ل).

أن الدعوات التي تتعلق بأمور الآخرة تنزل منزلة التسبيح، وأما بمآرب الدنيا، فيبعد الاعتداد به مع القدرة على غيره (¬1). فرع: 825 - إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة، فهل يكفيه أن يكررها سبعاً؟ أم يأتي بها مرة واحدة، ويأتي بالذكر بدلاً عن الست؟ فعلى وجهين مشهورين، لا يخفى توجيههما. 826 - ولو كان يحسن آية واحدة من الفاتحة، فهل يكفيه أن يكررها أم يأتي بها، ويأتي بست آيات إن كان يحسنها من غيرها؟ فعلى وجهين أيضاً. فإن قلنا: يكفي التكرير، فإن كان يحسن آيتين مثلاً، ففي التكرير احتمال، يجوز أن يقال: يكررهما أربعاً، وقد كفى؛ فإنه أتى بالسبع، وزاد، فليتأمل الناظر ذلك، فهو محل النظر. فهذا الفرع ملحق بما تقدم. فهذا كله إذا كان لا يحسن الفاتحة، ولا شيئاًً من القرآن. وذكر العراقيون: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم أعرابياً كان لا يحسن [الفاتحة ولا] (¬2) شيئاًً من القرآن أن يقول بدل القراءة: "سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله" (¬3). ¬

_ (¬1) انتهى إلى هنا الجزء الثاني من تجزئة النسخة التي نرمز لها (ت 2). وجاء في خاتمة الجزء ما نصه: "تم الجزء الثاني بحمد الله وعونه، وصلى الله على محمد نبيه، وعلى آله وصحبه وسلم، وشرّف وكرّم. يتلوه في الجزء الثالث: فرع إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة، فهل يكفي أن يكررها". (¬2) زيادة من (ت 2). (¬3) حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أعرابياً ... " صحيح. رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي، وابن الجارود، وابن حبان والحاكم، والدارقطني، واللفظ له من حديث ابن أبي أوفى (ر. التلخيص: 1/ 236 ح 351، أبو داود: الصلاة، باب من رأى القراءة إذا لم يجهر، ح 832، وصحيح أبي داود: 1/ 157 ح 742، النسائي: الافتتاح، باب ما يجزىء من القراءة لمن لا يحسن القرآن، ح 924، وصحيح النسائي: 1/ 201 ح 885، المسند: 4/ 353، 356، 382، المنتقى لابن الجارود: ح 189، ابن حبان: ح 6805، الحاكم: 1/ 241، الدارقطني: 1/ 313 - 314، والإرواء: 303).

ثم ذكروا وجهين في أن هذه الأذكار تتعين أم لا. وتعينها بعيد عندنا. 827 - فأما إذا كان يحسن بعض الفاتحة، فيلزم الإتيانُ بما يحسنه، فإن كان من صدر الفاتحة أتى به أولاً، ثم أتى بالبدل عما لا يحسنه. وإن كان يحسن النصفَ الأخير، فيلزمه أن يأتيَ بالبدل أولاً. ثم يأتي بما يحسن، ورعاية الترتيب في هذا واجب، اتفق عليه أئمتنا. وليس علّةُ الترتيب في هذا علةَ الترتيب في تلاوة الفاتحة في حق من يحسنها؛ فإن الترتيب يراعى في قراءة الفاتحة محافظةً على نظمها، وليس بين الأذكار التي قُدّرت بدلاً عن النصف الأول، وبين النصف الثاني انتظام. ولكن هذا الترتيب يُتلقى من اشتراط الترتيب في أركان الصلاة؛ فعليه فرض قبل النصف الثاني، فليُقِمه. ثم ليأتِ بالنصف الثاني. ويجوز أن يقال: يأخذ البدلُ حكمَ المبدل، والترتيب شرط في فاتحة الكتاب لعينها، فنزل بدل النصف الأول منزلته في رعاية ترتيب النصف الآخر عليه. فهذه قواعد المذهب في الفاتحة: ونحن نرسم بعدها فروعاً تستوعب ما شذّ، وتقرّر القواعد. فرع: 828 - الأمي إذا تعلم الفاتحة في أثناء الركعة، نُظِر، فإن تعلَّمها قبل أن يخوض في البدل، فعليه قراءة الفاتحة، وإن فرغ من البدل ولم يركع بعدُ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يلزمه قراءة الفاتحة؛ فإن وقت القراءة ومحلها باقٍ قائم. والثاني - لا يلزم؛ لأن البدل قد تم، وسقط الفرض فيه، فلا معنى لعود الفرض بعد سقوطه، وهو كما لو أتى من لزمته الكفارة بالبدل، فلا أثرَ لوجود المبدل. والقائل الأول يقول: كون الأذكار بدلاً ووقوعها كذلك يتوقف على انقضاء القيام؛ فإن من كان يُحسن الفاتحة قد يُوقع أذكاراً قبل القراءة، فلا يتبين وقوع الذكر بدلاً إلاّ عند الاكتفاء [به] (¬1) والتلبس بالركوع، والصيام الواقع بدلاً في الكفارة مصروف بالنية إليها. وآحاد الأذكار لا تتناوله النية تخصيصاً. ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 2).

829 - ومما يتعلق بهذا، أن الأمي إذا افتتح الصلاة، وقصد إقامة دعاء الافتتاح بدلاً عن الفاتحة، فإنه يقوم مقامها. ولو قصد أن يقع مسنُوناً كما شُرع، فيجب القطع بأن الفرض لا يسقط والقصدُ كما ذكرناه؛ فليأتِ عن الفاتحة ببدلٍ. ولو أتى بأذكار سوى دعاء الاستفتاح، ولم يقصد إقامتها بدلاً، فقد تردد صاحب التقريب في هذا، وهو محتمل (1 حسن. والذي ذكرته من تعليل أحد الوجهين في أول هذا الفرع يشير إلى هذا، فإني قلت: لا يقع الذكر في عينه بدلاً إلا بانقضاء وقته 1)، فلا يمتنع أن يقال: لا بدّ من قصد في إيقاعه بدلاً. 830 - ولو اشتغل بالذكر، ولم ينقضِ بعدُ، حتى تعلم الفاتحة، فالأصحّ الذي يجب القطع به أنه يجب قراءة الفاتحة. وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا يجب قراءة الفاتحة؛ فإن الاشتغال بالبدل يُسقِط رعايةَ المُبدل؛ فإن من شرع في صيام الشهرين المتتابعين، ثم وجد الرقبة، لم يلزمه إعتاق الرقبة. وهذا الوجه أطلقه الناقلون. وهو خطأ صريح عندي؛ فإنا قد ذكرنا أن من كان يحسن نصف الفاتحة، لزمه الإتيان بما يحسن والبدل عما لا يحسن، فالقراءة إذن تتبعض في هذا الحكم، فالوجه القطع بأنه إذا أتى بنصف الأذكار مثلاً، وتعلم الفاتحة، فيتعين الإتيان بالنصف الأخير من الفاتحة وجهاً واحداً، وفي قراءة النصف الأول تردّدٌ، وليس ذلك كالأصل والبدل في الكفارة؛ فإن بعض الرقبة لا يسد مسداً، وهذا واضح. ولو تعلم الفاتحة بعد الركوع، فلا شك أن تيك الركعة مضت معتدّاً بها. فرع: 831 - إذا كرّر فاتحة الكتاب في ركعة مرتين قصداً، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن الصلاة لا تبطل وذهب أبو الوليد النيسابوري (¬2) إلى أن الصلاة تبطل ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (¬2) أبو الوليد النيسابوري: حسان بن محمد بن أحمد بن هارون بن حسان - القرشي الأموي. أحد أئمة الدنيا، تلميذ ابن سريج، مذكور في الروضة في الوتر. توفي سنة 349 هـ. (طبقات =

بهذا، واحتج بأن من زاد في الركعة ركوعا قصداً، بطلت صلاتُه، والقراءة ركنٌ، فإذا تكررت، كان كالرّكوع يكرر، وعدّ الأصحاب هذا من غوامض محالّ الاستفراق (¬1)، والأمر في ذلك قريب. فنقول: إنما تبطل الصلاة بزيادة ركوع، من حيث إن ذلك يُظهر خروج الصلاة عن النظم، والذي يوضّح ذلك أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة؛ لأن النظم لا يفسد به ولا يختل، وإذا زيد ركن، ظهر به الاختلال، وإن كان ركوع واحد لا يبلغ مقدار الفعل الذي يُفسد الصلاة لكثرته، ولكن كالفعل الكثير من جهة اختلاف نظم الصلاة به، ونظم الصلاة لا يختلف بتكرير الفاتحة، فلا يؤثر في بطلان الصلاة. فرع: 832 - ذكر العراقيون عن نصّ الشافعي: "أن الأخرس الذي لا ينطق لسانه بالفاتحة، يلزمه أن يحرك لسانه بدلاً عن تحريكه إياه في القراءة، [والتحريك من غير قراءة كالإيماء بالرّكوع والسجود"، وهذا مشكل] (¬2) عندي؛ فإن التحريك بمجرده لا يناسب القراءة ولا يدانيها، فإقامته بدلاً بعيدٌ، ثم يلزم على قياس ما ذكروه أن يلزموا التصويت من غير حروف مع تحريك اللسان، وهذا أقرب من التحريك المجرد. وعلى الجملة، فلست أرى ذلك بدلاً عن القراءة لما ذكرته، ثم إذا لم يكن بدلاً، فالتحريك الكثير يلتحق بالفعل الكثير، على ما سيأتي مشروحاً في الأفعال. فصل 833 - ذكر صاحب التقريب أن المصلي إذا كان في أثناء قراءة الفاتحة، فنوى قطعها عقداً، ولم يقطعها فعلاً، فلا أثر لهذه النية. وليس كما لو نوى قطع الصلاة؛ فإن ذلك يتضمّن قطع نية الصلاة وهي رابطتها، فإذا عمد قطعها بطلت. وهذا ظاهر لا شك فيه، ولكني أحببت نقله منصوصاً. ¬

_ = الشافعية: 3/ 226، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 271 رقم 442). (¬1) "الاستفراق": طلب الفرق. (¬2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

فصل قال: فإذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال: "آمين" (¬1). 834 - آخر الفاتحة، {وَلَا الضَّالِّينَ}، فإذا انتهت استحببنا لمن أنهاها أن يقول: آمين، وفيه لغتان: القصر والمد، والميم مخففة على اللغتين، والصحيحُ أنه من الأصوات، وُضع لتحقيق الدعاء، والمراد به: "ليكن كذلك" كما أن المراد من قوله: "صه" أي اسكت، فيؤمّن المنفرد والإمام والمأموم. وإذا قال الإمام " ولا الضالين " أمّن، ويؤمّن المقتدون به. 835 - ثم الإمام في الصلاة الجهرية -وفيها الفرض (¬2) - يؤمّن، ويرفع صوته بالتأمين، ويتبع التأمين القراءةَ، وكما يجهر بها يجهر بالتأمين، وهذا يقوّي أحد الوجهين في الجهر بالتعوّذ، فإنه تابع للقراءة كالتأمين. والمأموم يؤمّن وإن لم يكن ذلك آخر تلاوته للفاتحة؛ فإنه كان يستمع، وآخر الفاتحة دعاء، والتأمين بالمستمع المشارك في الدعاء أليق في سجية الداعين منه بالداعي نفسه، فإذا كان الإمام يؤمّن أمّن من خلفه، ولهذا قال أبو حنيفة (¬3): لا يؤمّن الإمامُ ويؤمّنُ المقتدِي، ويُسرّ. 836 - ثم إذا ثبت أن الإمام يجهر بالتأمين، فالمقتدي هل يجهر بالتأمين؟ اختلف نص الشافعي: فقال في موضع: يجهر، وقال في موضع: لا يجهر، واختلف الأئمة، فذهب الأكثرون إلى أن المسألة على قولين، ثم اختلف هؤلاء: فذهب جمهورهم إلى طرد القولين في كل صورة، أحدهما - أن المقتدي لا يجهر، كما لا يجهر بالقراءة وشيء من أذكار صلاته، وإنما الجهر للإمام. ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 71. (¬2) المعنى أن الإمام يؤمن في الصلاة الجهرية، فرضاً كانت، أو نفلاً كالعيدين، والقيام، وغيرها. (¬3) ر. مختصر الطحاوي: 26، رؤوس المسائل: 54 مسألة: 59، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 202 مسألة: 139، الهداية مع فتح القدير: 1/ 256، حاشية ابن عابدين: 1/ 331.

القول الثاني أنه يجهر لما روي عن أبي هريرة أنه قال: "كان إذا أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّن من خلفه، حتى كان للمسجد ضجة، وروي لجة" (¬1) ¬

_ (¬1) حديث أبي هريرة في التأمين. متفق عليه. ولفظ البخاري "إذا أمن الإمام، فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 83 رقم 231). * أما على نحو سياقة إمام الحرمين، فقد قال الحافظ: "لم أره بهذا اللفظ، لكن روى معناه ابن ماجة، عن أبي هريرة، وكذلك أبو داود أيضاً". ا. هـ ملخصاً. هذا: وقد تعقب ابنُ الصلاح في الكلام على الوسيط الإمامَ الغزالي قائلاً: "أورد هذا الحديث، تبعاً لإمام الحرمين في النهاية، وهو غير صحيح مرفوعاً، وإنما رواه الشافعي من حديث عطاء: كنت أسمع الأئمة: ابنَ الزبير، فمن بعده يقولون: آمين حتى إن للمسجد للجة". ا. هـ نقلاً عن الحافظ في تلخيصه. ثم قال الحافظ: وقال النووي مثل قول ابن الصلاح، وزاد -أي النووي-: "وهذا غلط منهما". ا. هـ بنصه. هذا ولم أصل إلى هذا الذي قاله النووي في المجموع عند كلامه على أحاديث الباب: 3/ 369 - 370. فلعله قاله في مكان آخر. ملاحظة: ذكر الحافظ تنبيهاً حول هذا الحديث، قال فيه: "ذكر الغزالي في الوسيط، وفي الوجيز زيادة "ما تقدم من ذنبه، وما تأخر"، قال ابن الصلاح: "وهي زيادة ليست بصحيحة". ثم عقب الحافظ قائلاً: "وليس كما قال، كما بينته في طرق الأحاديث الواردة في ذلك" انتهى كلام الحافظ. قلتُ (عبد العظيم): مراد الحافظ: ليس الأمر كما قال ابن الصلاح بالنسبة للجزء الأول من الزيادة: "ما تقدم من ذنبه" أما زيادة "ما تأخر"، فقد وصفها الحافظ نفسه في الفتح بأنها شاذة من بعض الطرق، وغير صحيحة في البعض الآخر (ر. فتح الباري: الأذان -باب جهر الإمام بالتأمين ج 2 ص 262 حديث 780، وتلخيص الحبير: 1/ 238، 239 ح رقم 354 - 356). * تنبيه واستدراك: كنا قد كتبنا التعليق السابق قبل أن يطبع مشكل الوسيط لابن الصلاح، وتنقيح الوسيط للنووي، وبعد أن رأينا الكتابين تبيّن لنا ما يأتي: 1 - الكلام الذي نقله الحافظ في التلخيص عن النووي، وقلنا: إننا لم نجده في المجموع، وجدناه في التنقيح. 2 - كلام ابن الصلاح بشأن زيادة " ما تقدم من ذنبه وما تأخر " وأنها زيادة غير صحيحة، والتعقيب عليه بعد ذلك، نقول: عبارة ابن الصلاح نقلناها من التلخيص للحافظ، لكننا رأينا العبارة في مشكل الوسيط تختلف، فابن الصلاح يقول عن هذه الزيادة: "إنها غير صحيح منها قوله (وما تأخر) ". ولم يتكلم عن "ما تقدم"، وهذا بخلاف عبارة الحافظ التي نقلها عن ابن =

والمعنى أن المقتدي متابعٌ لإمامه في التأمين؛ فإنه ليس يؤمّن لقراءة نفسه، وإنما يؤمّن بسبب انتهاء قراءة إمامه، فليتبعه في الجهر، كما يتبعه في أصل التأمين. واعتمد أئمتنا من القولين هذا، ولم يَرَوْا في حديث أبي هريرة متعلقاً؛ فإن الناس إذا كثروا وأسمع كل واحد نفسه معاً، فيحصل من مجموع أصواتهم هينمة (¬1) وضجة، فيمكن أن يحمل الحديث على ذلك. ومن أصحابنا من قال: إن لم يجهر الإمام بالتأمين في الصلاة الجهرية، جهر به المقتدي قولاً واحداً. وإن جهر الإمام، فهل يجهر المأموم؛ فعلى قولين، وهذا التفصيل ذكره العراقيون، وكان شيخي لا يراه ولا يذكره. ويمكن توجيه ما فصلوه من القاعدة التي نبهنا عليها في التأمين، وما فيه من رعاية التبعية. 837 - وذكر العراقيون طريقة أخرى، وقالوا: من أئمتنا من قال: ليست المسألة على قولين، والنّصان منزلان على حالين، - فحيث قال: "لا يجهر المأموم"، إذا قلّ المقتدون، وقربوا من الإمام، أو صغر المسجد، وكان القوم يبلغهم صوتُ الإمام، فإذا أسمعهم، كفى ذلك لمن سمعوه، كأصل القراءة. وإن كَبِر المسجد، وكان صوت الإمام لا يبلغ الجمع، فنؤثر للمقتدين أن يرفعوا أصواتهم حتى تبلغ أصواتُ الأقربين الأباعدَ. ثم لا يختص استحباب الرفع بقوم، بل نؤثر للجميع. فهذا منتهى القول في ذلك. 838 - ثم كان شيخي يقول: ينبغي للمقتدي أن يترصد فراغ الإمام عن قوله: "ولا الضالين"، فيبادر التأمينَ حينئذ، فيقع تأمينُه مع تأمين الإمام، وكان يقول: لا تستحب مساوقة الإمام ومقارنته في شيءٍ إلاّ في هذا؛ فإن النبيّ صلى الله عليه ¬

_ = الصلاح، والتي تفيد أن ابن الصلاح يضعف الزيادة كاملة. (ر. التنقيح للنووي، ومشكل الوسيط لابن الصلاح - كلاهما بهامش الوسيط: 2/ 120، 122). (¬1) "الهينمة" الكلام الخفي، غير البين، من قولهم: هينم فلان. إذا دعا الله، وأخفى كلامه. (المعجم).

وسلم قال في حديث صحيح: "إذا قال الإمامُ "ولا الضالين"، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تؤمّن على ذلك، ومن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِر لهُ ما تقدم من ذَنبِه" (¬1). وما ذكره من استحباب المقارنة، يمكن تعليله بأن القوم لا يؤمّنون لتأمينه، حتى يرعوا في هذا ملابسته للتأمين أولاً، وإنما يؤمّنون لقراءته، وقد نجزت قراءته، فإذا وقع التأمين بعد نجاز القراءة، كان في أوانه وحينه. فصل 839 - قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة، وقال أبو حنيفة (¬2): لا تجب في الركعتين الأُخريين، وإنما تجب في الركعتين الأوليين، وطرد مذهبه في جميع الحالات: منفرداً كان المصلي، أو إماماً، أو مقتدياً. 840 - ثم قراءة السورة بعد الفاتحة مسنونة في حق المنفرد والإمام في الركعتين الأوليين، وفي ركعتي الصبح، وهل تستحب قراءة السورة في الثالثة من المغرب، والركعتين الأخريين من الصلوات الرباعية؟ فعَلى قولين منصوصين: أحدهما -وإليه ميل النصوص الجديدة- أنها مستحبة في كل ركعة على إثر الفاتحة، لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "حزرنا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين الأوليين من الظهر، فكانت قدر سبعين آية، وحزرنا قراءته في الركعتين الأخريين، فكان على النصف من ذلك" (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم الكلام عن هذا الحديث، اقرأ التعليق قبل السابق كاملاً. (¬2) ر. مختصر الطحاوي: 28، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 216 مسألة 155، بدائع الصنائع: 1/ 111. حاشية ابن عابدين: 1/ 307. (¬3) حديث أبي سعيد الخدري رواه مسلم بلفظ: كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين، في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال نصف ذلك. وأما لفظ إمام الحرمين: "قدر سبعين آية، فقد قال عنه ابن الصلاح: "هو وهم تسلسل، وتواردوا عليه" كذا حكاه الحافظ عنه (ر. مسلم: الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، ح 452، وأبو داود: الصلاة، باب تخفيف الأخريين، ح 804، التلخيص: 1/ 239 ح 356).

والقول الثاني -وعليه العمل- إن قراءة السورة لا تستحب بعد الركعتين الأوليين؛ فإن بناء ما بعداهما من الركعات على التخفيف، ويشهد له أنه لا يستحب فيهما الجهر في الصلوات الجهرية، ومن يرى قراءة السورة في الركعتين الأُخريين يؤثر أن تكون أخفَّ من الركعتين الأوليين، ويشهد له حديث أبي سعيد الخدري. 841 - ومن تمام البيان في ذلك تفصيل القول في المقتدي: فإن كانت الصلاة جهرية، وكان المأموم يسمع صوت الإمام، فلا يستحب له قراءة السورة، بل يقتصر على قراءة الفاتحة، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ إلاّ بها"، وتمام الحديث أن أعرابياً اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " والشَّمْسِ وَضُحاها " فراسله الأعرابي، فتعسرت القراءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا تحلّل عن صلاتِه، قال: إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة إلاّ بها" (¬1). ¬

_ (¬1) حديث "أن أعرابيا راسل النبي صلى الله عليه وسلم قراءة سورة والشمس وضحاها، فتعسرت عليه القراءة .. " قال الحافظ: "لم أجده هكذا، وروى الدارقطني من حديث عمران بن حصين. كان صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، ورجل خلفه، فلما فرغ قال: من ذا الذي يخالجني سورة كذا؟ فنهاهم عن القراءة خلف الإمام. وعيّن مسلم في صحيحه، هذه السورة " سبح اسم ربك الأعلى " ولم يذكر فنهاهم عن ذلك. بل قال فيه: قال شعبة: قلت لقتادة: كأنه كرهه، قال: لو كرهه لنهى عنه. قال البيهقي: وهذا يدلّ على خطأ الرواية الأولى". ا. هـ بنصه من التلخيص. هذا وقد روي عن عبادة بن الصامت حديث بمعناه. من غير تعيين الرجل والسورة، رواه أحمد، والبخاري في جزء القراءة خلف الإمام محتجاً به، وصححه أبو داود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان والحاكم والبيهقي. (ر. مسلم: الصلاة، باب نهي المأموم عن جهره بالقراءة خلف إمامه، ح 398، أبو داود: الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب ح 823، 324، والترمذي أبواب الصلاة، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام، ح 311 نحوه، قال أبو عيسى حديث حسن، وصححه الألباني: 1/ 199 والمسند: 5/ 313، 316، والدارقطني: 1/ 318 ح 5، وابن حبان: 5/ 1785، 1792، وقال الأرناؤوط: إسناده قوي. والبيهقي في السنن: 2/ 164، والحاكم: 1/ 238، وتلخيص الحبير: 1/ 230 - 231، 239 - 240 ح 342، 343، 357).

ولو كانت الصلاة سرّية أو بَعُدَ موقف المأموم وكان لا يسمع صوت الإمام، فهل يقرأ السورة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقرأ، وهو القياس؛ فإن المقتدي كالمنفرد عندنا، غير أنه حيث يسمع يقدم الاستماع في السورة على القراءة، فإذا كان لا يستمع، فلا معنى لترك قراءة السورة. والوجه الثاني - أنه لا يقرأ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤوا إلاّ بفاتحة الكتاب" ولم يفصل بين صلاة وصلاة. والقائل الأول يؤوّل قولَه على الحكاية المروية في مراسلة الأعرابي إياه، ويخصص النهي عن قراءة السورة بالسامع في الصلاة الجهرية. وكان شيخي يقول: صح، أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتة بين الفراغ من الفاتحة وافتتاح السورة، فليبتدرها المقتدي، فإن انتجزت فيها قراءة الفاتحة، فذاك، وإن بقيت استتمها مع أول السورة. فصل قال: "وإذا فرغ منها وأراد أن يركع ... إلى آخره" (¬1). 842 - ذكرنا تفصيل القول في المفروض والمسنون من القراءة. ولا شك أن السورة تقرأ بعد الفاتحة، فلو قرأ المصلّي السورة أوّلاً، ثم الفاتحةَ، فقراءةُ الفاتحة مجزئة، ولكن هل يعتدّ بقراءة السورة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون وغيرهم، ولا يخفى توجيههما على من يحاوله. 843 - والقيام ركنٌ في صلاة المفترض، ثم لا يضر خفض الرأس على هيئة الإطراق، ولكن يجب نصب الفقار، ولو ثنى شيئاًً من حَقْوه ومحل نطاقه، لم يجز، وإن ثنى فِقار ظهره، ولم يثنِ معقد النطاق -إن أمكن ذلك- فلا يسوغ أيضاً. والمعتبر فيه أنا سنذكر أن الاعتدال عن الركوع واجب، والاعتدال الانتصاب التام، ولولا ما صحّ من هيئة الإطراق، لأوجبنا رفعَ الرأس للاعتدالِ. ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 72.

844 - ثم القدْر الذي تقع قراءة الفاتحة فيه من القيام مفروضٌ، وإذا مدّ المصلّي القيامَ، وزاد على ما يحوي قراءة الفاتحة، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنّا هل نحكم بأن جميع القيام فرض أم لا؟ وبنى هذين الوجهين على الوجهين، في أن من يستوعب رأسه بالمسح، فهل نقول: جميع المسح وقع فرضاً، أم لا؟ وهذا عندي كلام خارج عن ضبط الفقه؛ فإنه إذا جاز الاقتصار على ما يقع عليه اسم المسح، فكيف ينتظم القول بأن الزائد عليه فرض؟ ولولا تعرض هذا الإمام لحكاية هذا، وإلا كنت لا أرى ذكره. ثم إن تخيل متخيل ذلك، فشرطه عندي، أنه لو أوصل الماء إلى رأسه دفعة واحدة بحيث لا يفرض تقدّم جزءٍ على جزء، فليس جزء من هذا أولى من جزء بأن يضاف الفرض إلى المسح الواقع به، فاعتقد معتقدون أن جميعَه يقع فرضاً، وهذا بعيدٌ في هذه الصورة التي تكلّفنا في تصويرها أيضاً. فأما إذا أوصل الماء شيئاًً فشيئاًً إلى رأسه حتى استوعبه بالمسح، فتخيل الفريضة في الأجزاء التي وصل الماء إليها بعد الجزء الأول محال. فأما القيام، فإذا قرأ المصلّي الفاتحة قائماً، ثم مدّ القيام بعد ذلك، فوصف القيام بعد تقدم القراءة بالفرضية لا يقبله محصل، وكيف يوصف بالفرضية ما جاز تركه، وهو متميز عما تقدم محلاً للقراءة المفروضة؟ نعم إن خلا أول القيام من قراءة الفاتحة، ثم افتتح المصلّي القراءة، فما هو محل القراءة مفروض أعني: قراءة الفاتحة، وما تقدم عليه فيه احتمال، من جهة أنه كان يتأتى إيقاع قراءة الفاتحة فيه، وكان لا يسوغ قطعه قبل جريان القراءة. فأما ما يقع بعد القراءة من القيام، فلا معنى لوصفه بالفرضية. 845 - ومما نذكره في القيام، أن بعض الناس قد يعتاد أن يتحرك قليلاً في صوب الركوع، وينحني قليلاً، ثم يرتفع، فمهما زايل الاعتدالَ، وأوقع في حال زواله حرفاً من قراءته الواجبة، فلا يعتد بذلك الواقع خارجاً عن اعتدال القيام. ولو كان يفعل ذلك، ويعود قبل اشتغاله بالقراءة المفروضة، فإن كان ينتهي إلى حدّ الركوع ويعود،

فهذا يُفسد الصلاة عمداً؛ فإنه زيادة ركوع في الصلاة، وسيأتي شرح ذلك. وإن كان يزايل حد اعتدال القيام ويعود، وكان لا ينتهي إلى حد الراكعين، فهذا فيه ترددٌ عندي، والظاهر أنه يُبطل الصلاة، وإن لم يبلغ حد الكثرة في الأفعال؛ لأنه يُعدد القومات في ركعة واحدة، فيصير كما لو عدد الركوع في ركعة؛ فإن من خرج عن الاعتدال، فليس قائماً القيام المعتد به، فإذا عاد، كان ذلك قياماً جديداً، وهو يقرب عندي من انحراف الرجل قصداً عن قُبالة القبلة، وقد ذكرت أن ذلك مبطلاً (¬1) للصلاة؛ فالخروج عن السمت المرعي في القيام ينزل هذه المنزلة. وسمعت شيخي يجعل الانحناء الذي لا ينتهي إلى الركوع بمثابة الأفعال، فإن قلَّ زمانه، لم يضر، وإن كثر، فهو كالفعل الكثير، وهذا بعيد جداً. 846 - ونحن نبتدىء الآن تفصيل القول في الركوع، فنذكر أقله، ثم نذكر أكمله وأفضله. فأما الأقل، فإنه يعتمد أمرين: أحدهما - الانحناء إلى الحد الذي نذكره، والثاني - الطمأنينة، أما الانحناء، فأقلّه أن ينحني حتى ينتهي إلى حدّ لو مد يديه نالت راحتاه ركبتيه، وينبغي أن ينتهي إلى هذا في الانحناء، فلو كان بلوغه لانخناسه وإخراجه ركبتيه وهو مائل شاخص، فهذا ليس بركوع، ولا يخفى ذلك، ولكن مزَجَ انحناءَه بهذه الهيئة، ولم يجرد انحناءه، فوصل إلى ما ذكرناه بهما، فلم يعتد بما جاء به، فليكن بلوغ الحد المذكور بالانحناء. 847 - فأما الطمأنينة في الركوع، فلا بد منها، ولا تصح الصلاة دونها، ثم ليس المعنيُّ منها لُبثاً ظاهراً، ولكن ينبغي أن يفصل الراكع منتهى هُويه عن حركاته في ارتفاعه، ولو بلحظة؛ فإذا فعل ذلك، فقد اطمأن، وإن لم ينفصل آخرُ حركات هُويه عن أول حركات ارتفاعه، بل اتصل الآخر بالأوّل، فهذا رجل لم يطمئن. ومما يتمّ به هذا التحقيق، أن الراكع لو جاوز أقلّ الحد في الهوي والخفض، ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الأربع. مبطلاً، ولا أدري له وجهاً إلا على تقدير سقوط لفظة مثل: يُعد. ثم جاءتنا (ل) وفيها: "مبطل".

واتصلت حركاته، فإن ظن ظان والحالة هذه أن زيادة حركاته وراء أقلّ حد الركوع يحسب طمأنينة، قيل له: ليس كذلك، والرجل غير مطمئن؛ والسبب فيه أنا نشترط الطمأنينة ليتميز الركن بها بانفصاله عمّا قبله وبعده؛ فإنه إذا كان كذلك، كان ركناً معموداً متميزاً، فإذا تواصلت الحركات، فلا يحصل هذا الغرض، فهذا بيان الأقل. 848 - ولا يجب عندنا ذكرٌ في الركوع -خلافاً لأحمد بن حنبل (¬1) - فإن الركوع في نفسه مخالف للهيئة المعتادة، فلم يُشترط فيه ذكر، بخلاف القيام، فإنه واقعٌ في الاعتياد، فخصص بقراءة في العبادة. 849 - فأما بيان الأكمل، فنذكر ما يتعلق بالهيئات، ثم نوضح الذكرَ المشروع فيه. فينبغي للرّاكع أن يجاوز الحدّ الذي ذكرناه في الأقل، ويسوّي ظهره في الرّكوع، وينصب قدميه من موطئهما إلى حَقْوَيه، ويخنِس ركبتيه إلى وراء، ولا نرى له أن يثني ركبتيه، بل ينصب الرجلين، ويثني ما فوقهما على استواء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدّ ظهره وعنقه في الركوع على استواء، بحيث لو صبّ الماء على ظهره، لاستمسك، ويضم راحتيه على ركبتيه والأصابعُ على حِلْيتها (¬2) متوسطة في التفريج، وينبغي أن يوجهها نحو القبلة، وإذا انتهى إلى المنتهى الذي ذكرناه، فيجافي مرفقيه عن جنبيه، ولا نُؤثر له أن يتجاوز في الانحناء الاستواء الذي وصفناه. 850 - فأمّا الذكر المشروع، فينبغي أن يقول إذا ابتدأ الهوي: الله أكبر، ثم اختلف قول الشافعي، فقال في قولٍ: يحذف التكبير حذفاً، ولا يمده، ولا يبسطه، وليس المراد بحذفه أن يوقعه قائماً ثم يبتدىء بالهوي، بل يكبر في هويه، ولكن لا يحاول البسط. ¬

_ (¬1) ر. كشاف القناع: 1/ 390، الإنصاف: 1/ 115، غاية المنتهى: 1/ 141. (¬2) حِلْيتها أي خلقتها وصِفَتها. وفي (ت 1): جبلّتها. والمعنى واحد. أما في (ت 2) فحرّفت إلى حيلتها. (المعجم).

والقول الثاني - أنه يمدّ التكبير، ويبسطه على انتقاله من القيام إلى الركوع. وقد طرد الشافعي القولين في جميع تكبيرات الانتقالات، فمن رأى الحذف حاذر من البسط التغيير، ومن رأى البسط، لم يُحبّ أن يُخلي حالَةً عن الذكر. ثم إذا انتهى إلى الركوع قال: سبحان ربّي العظيم. روى حذيفة بن اليمان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في ركوعه" (¬1)، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، أنت ربّي خشع سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي، وما استقلَّت به قدمي لله رب العالمين" (¬2). فإن سبَّح ثلاثاً وأتى بالذكر الذي رواه أبو هريرة، فحسن، وإن اقتصر على أحدهما؛ فالتسبيح أولى وأشهر، وعليه العمل. ثم كان شيخي يقول: إن كان إماماً لم يزد على التسبيح ثلاثاً، وإن كان منفرداً، فكلما زاد، كان حسناً. 851 - وقد اعتمد الشافعي في الطمأنينة وبيان الأقل في الركوع والسجود، ما رواه ¬

_ (¬1) حديث حذيفة: رواه الدارقطني، وروي نحوه عن ابن مسعود، وأصل هذا الحديث عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان من حديث عقبة بن عامر. (ر. الدارقطني: 1/ 341، أبو داود: الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، ح 869، ابن ماجه: إقامة الصلاة، باب التسبيح في الركوع والسجود، ح 887، الحاكم: 1/ 225، التلخيص: 1/ 242، 243 ح 365). (¬2) حديث أبي هريرة: رواه الشافعي، وليس فيه: ومخي وعصبي، ورواه مسلم من حديث علي رضي الله عنه على نحو ما ساقه إمام الحرمين تماما إلا: (أنت ربي) (وما استقلّت به قدمي) وهي عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، ورواه النسائي عن جابر. (ر. مسلم: 1/ 534، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، ح 771 (جزء منه)، وأبو داود عن علي: الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، ح 760، وصحيح أبي داود للألباني: ح 688، والترمذي: كتاب الدعوات عن علي كذلك، باب 32 ح 3421، 3422، والنسائي عن جابر: التطبيق، باب (114) نوع آخر من الذكر في الركوع، ح 1052، وعن علي، ح 1051، والشافعي في الأم: 1/ 111، وأحمد في المسند عن علي: 1/ 95، 102، 119، والبيهقي: 2/ 87، تلخيص الحبير: 1/ 243، ح 365).

رفاعة بن رافع: أن أعرابيا دخل المسجد وصلّى، فأساء الصلاة، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه السلام، فقال: "ارجع فصل؛ فإنّكَ لم تُصَلِّ، فَرَجَعَ وَصَلى، ثم عَادَ، فسلم، فرد عليه السلام، وقال: ارجع وصلِّ؛ فإنّك لم تصل، فرجع وصلّى، ثم عاد فسلم، فرد عليه، وقال: ارجع وصل فإنك لم تصلّ. فقال الأعرابي: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها، فعَلِّمني!! فقال: تَوَضّأ كما أمرك الله، ثم استقبل القبلة، فقل: الله أكبر، ثم اقرأ ما معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في كل ركعة" (¬1) ولم يأمره بذكرٍ في الركوع والسجود. 852 - ثم ينبغي للمصلّي أن يقيم شعار رفع اليدين، فيرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع، كما يرفع يديه عند تكبيرة العقد. ثم الذي نذكره هاهنا وقتَ الرّفع والخفض، فيرفع يديه عند ابتداء الهُوي، ثم يبتدىء الهوي، ويبتدىء خفضَ اليدين مع الهوي، فينتهي إلى الركوع، وقد انتهت يداه إلى ركبتيه، وإذا أراد رفعَ الرأس من الركوع، ابتدأ رفعَ اليد مع الارتفاع، فيعتدل وقد انتهت يداه في الارتفاع إلى منتهاها، ثم يخفض يديه بعد الاعتدال، فهذا بيان الرفع عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع. ثم يقول الرافع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد. ولا فرق بين ¬

_ (¬1) حديث المسيء صلاته متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، البخاري: كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها ح 755، وأطرافه في 797، 6251، 6252، 6667، وأخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، ح 397. وأما من حديث رفاعة بن رافع، الذي ذكره إمام الحرمين، فقد أخرجه أبو داود: الصلاة، باب من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، ح 858، والنسائي: التطبيق، باب الرخصة في ترك الذكر في الركوع، ح 1054، والحاكم: 1/ 242، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والشافعي في الأم: 1/ 88، وأحمد: 4/ 340، وقال الألباني: رواه البخاري في جزء القراءة: 11 - 12، انظر الإرواء: 1/ 321، 322 ح 289.

أن يكون إماماً، أو مأموماً أو منفرداً، وقد روي أنه صلى. الله عليه وسلم قال: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمدُ ملءَ السموات والأرض، وملء ما شئتَ من شيء بعد، أهل الثناء والمجد حق ما يقول العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيتَ ولا معطيَ لِمَا منعت، ولا ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ" (¬1). ولعلّ هذه الدعوات تليق بالمنفرد، فأمّا الإمام، فيقتصر على قوله: "سمع الله لمن حمده ربّنا لك الحمد"؛ فإنه مأمور بالتخفيف على من خلفه. 853 - ثم ذكر الأئمة أنه يجب الطمأنينة في الاعتدال، كما يجب ذلك في الركوع والسجود، وفي قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي ذكر الطمأنينة في الركوع والسجود، و [أما] (¬2) الاعتدال قائماً وجالساً، فلم يتعرض للطمأنينة؛ فإنه قال: "ثم ارفع رأسك حتى تعتدِلَ قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل جالساً" (¬3). وهذا الركن من ¬

_ (¬1) دعاء الرفع من الركوع روي مختصراً، وكاملاً على نحو ما ساقه إمام الحرمين، والمختصر " سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 80 ح 220) وبتمامه عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس (مسلم: 1/ 347، باب (40) ما يقول إذا رفع من السجود من كتاب الصلاة، ح 477، 478) ووقع في (المهذب) و (الوجيز) كما هنا في النهاية (حق) بدون الهمزة، وحذف الواو في (كلنا لك عبد) وتعقب النووي ذلك بأن الذي عند المحدثين بإثباتهما. وأجاب الحافظ بأنه عند النسائي بحذفهما أيضاً. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 244 ح 367، 368، 369). (¬2) زيادة من: (ت 2). (¬3) نقل الرافعي في الشرح الكبير: 3/ 403 عن إمام الحرمين عبارته هذه: "في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال ... إلخ" وقال الحافظ في التلخيص: "ولم يتعقبه الرافعي، وهو من المواضع العجيبة التي تقضي على هذا الإمام بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها؛ فإن ذكر الطمأنينة في الجلوس بين السجدتين ثابت في الصحيحين ... أما الطمأنينة في الاعتدال، فثابت في صحيح ابن حبان، ومسند أحمد، من حديث رفاعة بن رافع، ولفظه: "فإذا رفعت رأسك، فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها". ورواه أبو علي بن السكن في صحيحه وأبو بكر بن أبي شيبة من حديث رفاعة في مصنفه بلفظ: "ثم ارفع حتى تطمئن قائماً" ا. هـ: التلخيص: 1/ 256 - 257). =

الأركان القصيرة أيضاً، ولو وجبت الطمأنينةُ فيه، لما امتنع مدّه كما في الركوع والسجود. ولم يتعرض للطمأنينة في الاعتدالين الصيدلاني (¬1)، ولكن سماعي من شيخي، وما ذكره بعض المصنفين اشتراطُ الطمأنينة في الاعتدالين، وهو محتمل من طريق المعنى، وسيأتي من بعد ذلك كلام يدل على تردد الأصحاب في أن الاعتدال ركن مقصود في نفسه، أم الغرض هو الفصل بين الركوع والسجود وبين السجدتين؟ فإن جعلناه مقصوداً، فيظهر فيه اشتراط الطمأنينة، وإن لم نجعله مقصوداً، فلا يبعد ألا تشترط الطمأنينة فيه، والعلم عند الله. وما ذكرته احتمال. والنقل الذي أثق به اشتراط الطمأنينة. فصل قال: "وأول ما يقع على الأرض منه ركبتاه ... إلى آخره" (¬2). 854 - نجز القول في الركوع والاعتدال عنه. ثم يهوي المصلّي ساجداً مكبراً، والقول في حذف التكبير وبسطه على ما ذكرناه. ¬

_ = ثم لنا أن نقول: إن الحافظ - على جلالته وتبحره في العلم بالسنة، يعترف أنه لم يعرف أن الطمأنينة في الاعتدال عند ابن ماجة، حتى أفاده بها شيخ الإسلام جلال الدين (ر. التلخيص: 1/ 257 سطر 6). ثم بعد كل هذا نقول: إن إمام الحرمين أنهى تردده قائلاً: "وما ذكرته احتمال، والنقل الذي أثق به اشتراط الطمأنينة" ا. هـ. فهل بعد هذا يستحق أن يعنف به الحافظ كل هذا العنف؟ رضي الله عنهما، وتقبلهما مع الشهداء والصدّيقين. ومما يمكن أن يسجل أيضاً أن الحافظ لم يلتفت أدنى التفات إلى تسليم الرافعي بما نقله عن إمام الحرمين، وصب كل لومه وتعنيفه على الإمام وحده. فلماذا؟ الله أعلم. (¬1) عبارة (ت 2): ... ولم يتعرض للطمأنينة في الاعتدالين. وللصيدلاني إشارة إلى ذلك، ولكن سماعي من شيخي .. (¬2) ر. المختصر: 73.

ثم مذهب الشافعي أن الأوْلى أن يقع منه على الأرض أولاً ركبتاه، ثم يداه. وأبو حنيفة (¬1) يعكس ذلك. وقد روي مثل ما ذكرناه عن النبي عليه السلام. ثم الكلام في السجدة يتعلق ببيان الأقل، ثم بعده بالأكمل الأفضل. 855 - وأما الأقل، فنذكر هيئة البدن فيه، وما يجب وضعه على الأرض، فيجب وضع الجبهة، وفي وجوب وضع اليدين والركبتين وأطراف أصابع الرجلين قولان: أحدهما - لا يجب وضعها، وما يوضع منها فلضرورة الإتيان بهيئة السجود، وهذا القائل يقول: المقصود نهاية الخشوع بوضع أشرف الأعضاء الظاهرة على الأرض. والقول الثاني - أنه يجب وضع هذه الأعضاء، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "أمِرتُ أن أسجدَ على سبعة آراب" (¬2) وعنى بها الوجه واليدين والركبتين والقدمين. وذكر بعض أئمتنا أنه لا يجب وضع الركبتين والقدمين قولاً واحداً، وإنما القولان في وجوب وضع اليدين. ثم إذا أوجبنا وضع اليدين، فهل يجب كشفهما في السجود؟ فعلى قولين. ولا يجب كشف الركبتين والقدمين وفاقاً؛ أما الركبتان، فمتصلتان بالعورة، فلا يليق برعاية تعظيم الصلاة كشفهما، وأما القدمان، فلا يتجه وجوب كشفهما مع تجويز الصلاة مع الخفين. توجيه القولين في اليدين: من قال: يجب كشفهما، احتج بما روي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء ¬

_ (¬1) الذي رأيناه عند الحنفية أنهم يقولون بوضع الركبتين أولاً مثل الشافعية. (ر. مختصر الطحاوي: 27، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 211 مسألة 149، والبحر الرائق: 1/ 335، وابن عابدين: 1/ 335). (¬2) حديث أمرت أن أسجد على سبعة أراب. متفق عليه من حديث ابن عباس: بلفظ: (سبعة أعظم) (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 99، باب (44) أعضاء السجود، ح 276، التلخيص: 1/ 251 ح 376). * و"الآراب" جمع (إِرْب) بكسر فسكون، وهو العضو. (المعجم).

في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا" (¬1) معناه: لم يعطنا شكوانا. ومن لم يوجب كشفهما، احتج أن الغرض المعقول من السجود إظهار صورة التواضع، وذلك يحصل بكشف الجبهة، ولا ينخرم (¬2) بترك الكشف في اليدين. ومن قال بالأول، فله أن يقول: ترك كشف اليدين يحكي صورة الكَسْلى (¬3) ويؤذن بالتنعم الذي يناقض الغرض. فالأعضاء على مراتب ثلاث: أما الركبتان، ففي كشفهما خروج عن هيئة ذوي المروءات، وليس في كشف القدمين معنى يليق بالسجود، أما الجبهة، فكأنها المقصودة بالسجود، فلا بد من كشفها، على ما سنفصل ذلك، والكفان على التردد؛ فليس في ترك كشفهما إخلال بالخضوع، ولكن في ذلك إثبات تنعم وترفه، فاقتضى ذلك اختلافَ القول، كما ذكرناه. 856 - ونحن نذكر الآن أمرين آخرين: أحدهما - تحقيق القول في الوضع ومعناه، والثاني - تفصيل القول في الكشف. فأما الوضع، فقد قال الأئمة: لو أمس جبهتَه الأرضَ وهو مقلّ لها، لا يرسلها، لم يجز، ولم يصح السجود، وقال صلى الله عليه وسلم: "مكّن جبهتك من الأرض يا رباح" (¬4)، وطريق المعنى فيه وهو مدار تفصيل المذهب في السجود، ¬

_ (¬1) حديث خباب بهذا السياق قال الحافظ: "رواه الحاكم في الأربعين له"، وأصله في مسلم وغيره من دواوين السنة، ولكن بغير "جباهنا وأكفنا" وهي موضع الاستشهاد والاستدلال. ملاحظة: قال الحافظ: هو عند مسلم ليس فيه: "جباهنا" و"أكفنا" و"حر". وهو كما قال في اللفظين الأولين. أما (حر) فهي عنده. (ر. مسلم: المساجد ومواضع الصلاة، ح 619، والبيهقي 1/ 438، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: 4/ 1480، التلخيص: 1/ 252 ح/377). (¬2) في (ت 1)، (ت 2): يتحزم. (¬3) جمع: كسِل، وكسلان (المعجم). (¬4) حديث مكن جبهتك من الأرض رواه ابن حبان في حديث طويل، عن ابن عمر، ورواه الطبراني، وقال النووي: لا يعرف، وذكره في الخلاصة في فصل الضعيف. هذا. ولم نصل إلى (رباح) المخاطب بهذا الحديث. (ر. ابن حبان: 5/ 215 ح 1887، والطبراني =

فهو (¬1) أن نهاية التواضع لا يتأتى إلا بتمكين الجبهة من الأرض، والإمساسُ المجرد في حكم الإلمام (¬2) بافتتاح التواضع، وتمامُه التمكن، ثم التمكين عندنا فيه نظر؛ فإن ظاهره يشعر بأن الساجد متعبد بأن يتحامل على موضع سجوده، بحيث يظهر أثر تحامله. وأنا أقول فيه: إن لم يكن موضع سجوده وثيراً محشواً، فيكفي أن يُرخيَ رأسَه ولا يُقلَّ ثِقْله، والسر فيه أن الغرض منه إبداء هيئة التواضع، والاسترسال في المصلّي كالشيء الملقَى، وهو (¬3) أليق بالتواضع من تصنّع التحامل على موضع السجود، والأصل في طلب نهاية التواضع أن الذي يكتفي بإمساس جبهته، الأرضَ، وهو يقلّ ثِقْلَ رأسه، كأنه يتقزّز (¬4) بإقلاله، كالضنين به، والذي يتكلف تحاملاً ليس يحصل بما يأتي به إظهار تواضع، فالأقرب إرخاء الجبهة، قالت عائشة رضي الله عنها: "رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في سجودِه كالخِرقة البالية" (¬5). وإن كان الموضع الذي يسجد عليه محشواً بقطن أو غيره، فكان شيخي يوجب التحامل في مثل هذه الصورة، فيقول: ينبغي أن يتحامل تحاملاً يتبين أثره على يدٍ لو فرضت تحت ذلك المحشو، ولست أرى الأمر كذلك، بل يكفي إرخاء الرأس كيف ¬

_ = في الكبير ح 13566، والبيهقي في دلائل النبوة: 293، التلخيص: 1/ 251 ح 374). هذا. وقد أورده إمام الحرمين موقوفاً على علي كرم الله وجهه، في الدرة المضية - مسألة رقم 75. (¬1) كذا " فهو " بالفاء، مع أنها خبر لقوله: "وطريق المعنى ... " ثم جاءتنا (ل) مخالفة النسخ الأربع بحذف لفظ " فهو " والاستغناء عنها، فصار الخبر " أن " ومعموليها. (¬2) في (ل): الاهتمام. (¬3) ساقطة من (ل). (¬4) في (ل): يتعزز. (¬5) حديث عائشة رضي الله عنها، قال الحافظ: لم أجده هكذا، وقال ابن الصلاح: لم أجد له بعد البحث صحة، وتبعه النووي، فقال في التنقيح: "منكر لا أصل له" ا. هـ. ثم قال الحافظ: نعم قد روى ابن الجوزي نحو هذا في حديث عائشة ليلة النصف من شعبان .. قولها: "فانصرفت إلى حجرتي فإذا أنا به كالثوب الساقط. على وجه الأرض ساجداً" (ر. التلخيص: 1/ 254، ح 378، والعلل المتناهية لابن الجوزي: 2/ 67 ح 917).

فرض محل السجود، فهذا منتهى القول في معنى الوضع والتمكين. 857 - فأما الكشف، فيجب كشف شيء من الجبهة، ثم قال الأئمة: لا يجب وضع جميعها، بل يكفي وضع ما ينطلق عليه الاسم منها، ويجب أن يكشف شيئاًً وإن قلّ من جبهته، وليكن ذلك الموضوع مكشوفاً، ولو كشف شيئاًً ولم يضعه، لم يعتد به، ولو كان بعض ما وضعه مكشوفاً، كفى؛ فإن الفرض يسقط بذلك المقدار المكشوف الموضوع، والباقي لا أثر له. ثم لو سجد على كَوْر (¬1) عمامته، ولم يضع بشرة جبهته على محل سجوده، لم يجز. وكذلك لو كان على جبهته طرة (¬2) ولم يُبعدها وإنما مسها الأرض، لم يسقط الفرض حتى يُنَحِّيها ويمس بشرة جبهته المصلّى. ولو سجد على طرف كم نفسه أو ذيله، فإن كان يتحرك ما يسجد عليه إذا ارتفع وانخفض؛ فإنه لا يجوز؛ فإنه منسوب إليه. وإن طوّل طرفَ كمه، وكان بحيث لا يرتفع بارتفاعه، فإذا سجد على ذلك الطرف أجزأه؛ فإن ذلك الطرف في حكم المنفصل عنه في هذا .. وسيأتي في أحكام النجاسات أمر يخالف هذا في ظاهره، وإذ ذاك نُوضّح الفرقَ. ولو سجد على ذيل غيره، لم يضرّ؛ فإن ذلك الشيء غير منسوب إليه، وكذلك لو سجد على ظهر إنسان واقف في منخفض من المكان، بحيث لا يُفسد هيئة السجود، فيجوز لما ذكرناه، ثم قد نص الشافعي عليه كما تقدم ذكره. وإذا أوجبنا وضع اليدين وكشفهما، فيكشف من كلّ يد شيئاًً، ويكفي الشيء القليل من كل واحدة منهما، وليكن المكشوف موضوعاً، كما ذكرناه في الجبهة. ¬

_ (¬1) كَوْر عمامته: أي: الدور من لفائف العمامة، والمراد هنا سجد على عمامته. (المصباح). (¬2) الطرة: طرف كل شيء، وما تطرّه المرأة من الشعر، وتصففه على جبهتها. وهذا هو المعنى المراد هنا، ولولا أنه سبق مقابلته بكور العمامة، لاحتمل أنه طرف كل شيء يكون على الرأس. ملاحظة: لم يرد لفظ الطرة في غريب ألفاظ الشافعي. ولم يورد المصباح هذا المعنى، بل ذكره الخطابي في غريب الحديث: 2/ 66، والمعجم الوسيط.

فهذا بيان الوضع والكشف. ثم لا يقوم غيرُ الجبهة مقامها، فلو وضع الأنف، ورفع الجبهة، ولم يضعها، لم يجز عندنا. 858 - ومما بقي في ذلك الكلامُ في هيئة الساجد، فيما يتعلق بالأقلّ: وكان شيخي يقول: إن تنكس المرء في سجوده، فتسفَّلَتْ أعاليه، واستعلت أسافله، فهذه الهيئة هي المطلوبة. وإن وضع جبهته على شيء مرتفع، وكان موقع رأسه أعلى من حَقْوه، لم يكن ساجداً، ولم يكن ما جاء به معتداً به، ولو كان مستوياً منبطحاً بحيث يساوي موضع رأسه حَقْوه، فهذا كان يتردد فيه، وهو موضع التردّد. وأنا أقول: إن تقبض وانخنس، ووضع رأسه بالقرب من ركبته، فهذا ليس هيئةَ السجود، ولا يُشعر أيضاً بالتواضع المطلوب، وإن بعد رأسه عن موضع ركبته، فإن موضع جبهته ينخفض عن كتفه لا محالة، فلا يخلو الساجد في المكان المستوي عن هذا الضرب من الانخفاض. والظاهر عندي هاهنا الإجزاء؛ فإن الانخفاض والتواضع ظاهر. وإن كان موضع الرأس مرتفعاً قليلاً، بحيث يساوي الرأس الكتف واليدين، وسببَ الاستواء ما ذكرناه من الارتفاع، فالظاهر المنع هاهنا، وإن لم يكن موضع الرأس أعلى مما وراءه. وكان شيخي يذكر التردد مطلقاً في صورة الاستواء، ويعتبر التسوية بين الحقو وموضع الرأس. ومما يتعلق بهذا أنه لو سجد على وسادة، فإن كان متنكساً مع ذلك، جاز، ولا شك فيه. وإن ارتفع الرأس لهذا السبب، لم يجز أصلاً، وإن كان هذا سببَ الاستواء، ففيه التردد الذي ذكرته. ولو كان في مرض يمنعه من التنكس، وكان لا يتأتى منه هيئة الاستواء أيضاً، ولكن لو وضعت وسادة، لَوَضَع جبهتَه عليها، ولو لم يكن، لانتهى الرأس إلى ذلك الحد من غير وضعٍ على شيء، فهل يجب الوضع على وسادة، أو يدني الرأس جهده

ولا يلزمه الوضع؟ تردد أئمتنا في ذلك، فمنهم من لم يوجب الوضع؛ فإنه وإن وضع فليس منتهياً إلى الحد المطلوب في السجود، ومنهم من أوجب، وقال: على الساجد وضع وهيئة، فإن تعذرت الهيئة، وجب عليه الوضع. وهذا كله كلام في هيئة الساجد في بيان الأقل. فأما الطمأنينة، فلا بد منها في السجود [كما ذكرناه في الركوع. وقد تم بذكرها بيان الأقل المقصود من السجود] (¬1). 859 - فأما بيان الأكمل، فيتعلق بالهيئة والذكر: أمّا الهيئة، فإن كان الساجد رجلاً، فينبغي أن يخوي (¬2) في سجوده، فيفرق ركبتيه ويجافي مرفقيه عن جنبيه، بحيث يُرى عُفْرَة (¬3) إبطيه لو كان مكتفياً برداء، ويُقلّ بطنَه عن فخذيه، ويضع يديه منشورة الأصابع على موضعهما في رفع اليدين، وأصابعه مستطيلة في جهة القبلة مضمومة غير مفتوحة، بخلاف حالة العقد والرفع، وعند الركوع، فلا موضع يؤمر فيه بضمّ الأصابع مع نشرها طولاً إلا في السجود. هكذا ذكره بعض المصنفين وهو سماعي عن شيخي، ولم أعثر في هذا على خبر، ولا يثبت مثله بطريق المعنى والله أعلم. وقد روي عن البراء بن عازب أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى في سجوده" (¬4) و [تفسير] (¬5) التخوية ما ذكرناه، ومنه يقال: خوى ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (¬2) خوى يخوي من باب رمى، وخوى الرجل في سجوده خُويَّاً: رفع بطنه عن الأرض، وقيل جافى عضديه. (المصباح). (¬3) العُفرةُ: بياض ليس بالخالص. (المعجم). (¬4) حديث البراء بن عازب رواه أحمد في مسنده، ورواه النسائي وابن خزيمة، وغيرهما بلفظ مغاير، ومعناه متفق عليه بلفط مغاير، وروي عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم. (ر. مسند أحمد: 4/ 303، النسائي: التطبيق، باب صفة السجود، ح 1105، ابن خزيمة: ح 647، تلخيص الحبير: 1/ 255 ح 383). (¬5) زيادة من (ت 2).

البعير؛ إذا برك على وفاز (¬1) ولم يسترح، ومعناه في اللسان ترك خواً بين الأعضاء. 860 - ومما يتعلق بالهيئة، أن ظاهر النص أنه يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض في السجود، ونقل المزني أنه يضع أصابعه بحيث تكون مستقبلة للقبلة، وهذا يتضمن أن يتحامل عليها، ويوجه رؤوسها إلى قُبالة القبلة. والذي صححه الأئمة أنه لا يفعل ذلك بل يضع أصابعه من غير تحامل عليها. والمرأة لا تؤمر بالتخوية، بل تؤمر بضدها، فلتضم رجليها وتلصق بطنها بفخذيها؛ فإن ذلك أستر لها، ورعاية الستر أهم الأشياء لها. ومما نذكره في الأكمل ألا يقتصر على وضع الجبهة، بل يضع الأنف مع الجبهة. وأما الذكر، فيقول في سجوده ثلاثاً: سبحان ربي الأعلى، إن كان إماماً، ولا يزيد، ليخفف على من خلفه، فهذا بيان السجود في الأقل والأكمل. فصل 861 - الاعتدال من السجود فرض، كما يجب الاعتدال من الركوع، ووجوب الطمأنينة في الجلوس كوجوبها في الاعتدال من الركوع، وقد سبق القول فيه. ثم تكون هيئة الجالس بين السجدتين في يديه ورجليه كهيئة الجالس في التشهد الأول، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويضع يديه منشورتي الأصابع على ما يتصل بركبتيه من فخذيه، ولو انعطف أطراف الأصابع على الركبة، فلا بأس، فليس في ذلك ثَبت. أمّا أصل وضع اليدين على الفخذين محبوبٌ (¬2)، ولو ترك يديه على الأرض من جانبي فخذيه، فهو بمثابة من يرسل يديه في القيام. 862 - ثم يستحب أن يذكر الله تعالى في الجلوس بين السجدتين. وقد روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: ¬

_ (¬1) في (ت 1): "إذا تُركَ على وفانٍ" بهذا الضبط وهذا الرسم، والوفاز: العجلة، وعدم الاطمئنان. (المعجم). (¬2) جواب أما بدون الفاء.

"اللهم اغفر لي واجبرني وعافني وارزقني، واعف عني" (¬1). ثم يسجد سجدة أخرى مثل السجدة الأولى، ثم يرتفع. فإن كانت الركعة تستعقب تشهداً، جلس للتشهد كما سنصفه، وإن كانت تستعقب قياماً، فينبغي أن يجلس على إثر السجدة الثانية جلسةً خفيفةً، ثم ينتهض منها قائماً، وهذه الجلسة تسمى جلسةَ الاستراحة، وهي مسنونة عندنا. والأصل فيه ما رواه مالك بن الحويرث، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الركعة الأولى [والثالثة] (¬2) لم ينتهض حتى يستوي قاعداً" (¬3). ولا يسن في هذه الجلسة ذكر مخصوصٌ. 863 - ولكن اختلف أئمتنا في وقت افتتاح التكبيرة التي ينتقل بها، فمن أصحابنا من قال: يبتدىء التكبيرة محذوفة أو ممدودة مبسوطة مع رفعه الرأس من السجود، وينتهي -وإن مدّت- مع انتهاء الجلسة، ثم يقوم غير مكبر. ومن أئمتنا من قال: يعتدل جالساً من غير تكبير، ثم ينتهض في جلوسه مكبراً إلى القيام. ونصُّ الشافعي رضي الله عنه يدلُّ على هذا في كتاب صلاة العيد، كما سنذكره ثَم إن شاء الله تعالى (¬4). ¬

_ (¬1) حديث ابن عباس: رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم، والبيهقي، مع تفاوت في اللفظ، وصححه الألباني عند الترمذي وابن ماجة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (ر. أبو داود - كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، ح 850، وصحيح أبي داود: ح 756، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، ح 284، وصحيح الترمذي: 233، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، ح 898، والحاكم: 1/ 262، 271، البيهقي: 2/ 122، التلخيص: 1/ 258 ح 387). (¬2) زيادة من (ت 1). (¬3) حديث مالك بن الحويرث: رواه البخاري: 1/ 194، كتاب الأذان، باب من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض، ح 823، والشافعي في مسنده ص 41. بنحو ما ساقه إمام الحرمين. (¬4) قال النووي في التنقيح في شرح الوسيط: إن الإمام الغزالي في الوسيط، وفي البسيط، وشيخه في (النهاية) والصيدلاني، ومحمد بن يحيى، تركوا وجهاً ثالثاً في المسألة: أنه يرفع مكبراً، ويمدُّ التكبير إلى أن ينتصب قائماً؛ حتى لا يخلو شيء من الصلاة عن ذكر، وهذا =

864 - ثم إذا أراد الانتهاض من الجلوس قائماً، فالأحسن أن يعتمد على الأرض بيده؛ فإن ذلك أحزم وأقرب إلى الخضوع، وروي عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام في صلاته وضع يديه على الأرض كما يضع العاجز" (¬1). فصل 865 - إذا هوى ليسجد، فسقطَ، نُظر: فإن سقط على وجهه على الهيئة المطلوبة في السجود، فقد نصّ الشافعي رضي الله عنه أن السجود معتدّ به، وإن لم يوجد فيه وفي الطريق إليه حركات اختيارية من المصلّي، واتفق أئمتنا على ذلك. ولو سقط على جنب، ثم استدّ، واعتمد على جبهته، قال رضي الله عنه: إن قصد باستداده واعتماده أن يأتي بالسجود، وقع ما جاء به سجوداً معتداً به، ولا نظر إلى وقوع الهوي ضرورياً (¬2) لمَّا سقط وخرّ، وإن قصد باستداده أن يستوي ويستقيم، ولم يخطر له السجود، بل جرد قصده إلى الاستقامة، فلا يعتد بما وقع منه عن السجود. وهذا الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه يناظر ما إذا أفاض الناسك، ودخل وقت طواف الزيارة، فلو أفلت منه إنسان، فأخذ يتبعه طائفاً حول الكعبة، فما يقع من ترداده على قصد اتباع غريمه لا يعتد به عن الطواف. وقد ذكرت نظير هذا في كتاب الطهارة، فيمن تعزُب عنه النية، فيغسل رجليه مجرِّداً قصدَه إلى التنظيف، وهو ذاهل عن النية. ذكرت أن من أئمتنا من صحح ¬

_ = الوجه الثالث هو الصحيح عند جماهير الأصحاب. (التنقيح - بهامش الوسيط: 2/ 142). (¬1) حديث ابن عباس: قال عنه ابن الصلاح: لا يصح، ولا يعرف، ولا يجوز أن يحتج به، وقال النووي في شرح المهذب: هذا حديث ضعيف، أو باطل لا أصل له، وقال في التنقيح: ضعيف باطل (ر. تلخيص الحبير: 1/ 260 ح 391. ومشكل الوسيط لابن الصلاح، والتنقيح للنووي - بهامش الوسيط: 2/ 143). (¬2) أي ليس إرادياً واختيارياً.

الوضوء، وهؤلاء طردوا ذلك في الطائف أيضاً، وطردوه في الذي ينتهض من سقطته. وهذا الخلاف على بعده يجري في صورة مخصوصة، وهي أن تجري صورة ركن مع القصد إلى صرفه عن غير جهة العبادة، بسبب الذهول عن العبادة، فلو لم يكن ذاهلاً عنها، بل كان ذاكراً لها، وقصد مع ذلك صرفَ ما جاء به إلى غير جهة العبادة، كأنه يستثنيها عن سَنَن العبادة، ويستخرجها من حكم نظامها. فإذا كان كذلك، فالوجه القطع بأنه لا يقع ركناً معتداً به، وذلك الوجه البعيد مخصوص بالذاهل -في وقت وقوع صورة الركن منه- عن أمر العبادة. فلو استدّ الساقط، ولم يخطر له الانتهاض ولا السجود، فالذي جاء به معتد به وفاقاً. 866 - فقد ترتب مما ذكرناه صورٌ ثلاث: إحداها - أن يقصد الركن، فيقع ركناً، وإن لم تقع حركات هُويه اختيارية. والثانية - ألا يقصد شيئاًً، بل يقع منه صورة السجود، فيعتد بها أيضاً قطعاً. والثالثة - أن يجرد قصده إلى الانتهاض، وهذا ينقسم، فإذا كان ذاكراً للعبادة، وقصد استثناء هذا عن نظامها، فلا يعتد بما يأتي به ركناً، وإن كان ذاهلاً، فالنص أنه لا يعتد به، وفيه وجه مخرَّج، كما ذكرته وطردته، أنه يعتد به، ثم إذا كان ذاهلاً، فلا تبطل الصلاة بما يأتي به، وإن استثنى وهو ذاكر للعبادة، فهذا رجل أتى بصورة ركن عمداً، وسنذكر أن ذلك يبطل الصلاة. 867 - وقد بقي الآن في إتمام ما نحاول شيئان: أحدهما - أن الذي سقط على جنبٍ إذا استوى ساجداً، وقصد الاستقامة، وجرينا على النص في أنه لا يعتد بما جاء به، فإن أراد أن يسجد، لم تنقطع صلاته، فلو أراد أن يديم صورة السجود عن السجود الذي عليه الآن باستدامة تلك الحالة، لا يسقط عنه فرض السجود؛ فإن هذا سجود لم يحتسب أوّله، ولا بدّ من ابتداء سجود معتد به، فكيف السبيل إلى الإتيان به؟ هذا يتعارض فيه أمران: أحدهما - أن يقال: يقوم، ثم يهوي. ساجداً من قيام،

ووجه ذلك أنه كما صرف صورة السجود عن الصلاة، فيصرف الهوي عن الصلاة، فَلْيَعُدْ إلى ما كان، فكأنه لمْ يهوِ، وليبتدىء الهوي، فهذا وجه في الاحتمال. والأظهر عندي أن يعتدل جالساً، ثم يسجد، وعلة ذلك أن الجلسة كافية في الفصل بين السجدتين، فليقع الاكتفاء بها الآن، والذي يسجد السجدة الثانية، يسند سجدته الثانية إلى فاصل يبني عليه ابتداء السجود الثاني. وكان من الممكن أن يؤمر بالقيام والهوي منه إلى السجدة الثانية، فلما لم يرد الشرع بهذا دلّ أن القعود كافٍ، فعلى هذا لو قام -ونحن نكتفي بالقعود- فهذا زاد قياماً في صلاته من غير حاجةٍ، وسأقرر هذا إن شاء الله تعالى عند ذكري زيادة الأركان قصداً في أدراج ذكر الأفعال الكثيرة والقليلة إذا جرت. فهذا أحد الأمرين في تتمة الفصل. الثاني - أنه قد يتخالج في نفس الفقيه أن المصلي مأمور بأفعاله، فإذا جرت حركات الهوي ضرورية، فيستحيل أن تقع مأموراً بها؛ فإن المأمور به يجب قطعاً أن يكون فعلاً للمكلّف. فالوجه في التفصِّي (¬1) عن هذا، أن هذه الحركات غير مقصودة، وإنما الغرض الإتيان بالسجود، ثم يقال عند ذلك: فالسجود لم يقع أيضاً مقصوداً، وهو مقصود قطعاً. وقد مضى في صدر الكلام أن استدامة السجود لا يقع موقع ابتدائه. فالذي أراه -وإن نقلت ما ذكره الأصحاب- أنه لا يعتد بهذا السجود، ولا يكفي، فليعتدل قائماً، ويسجد (¬2) سجدةً عن الاعتدال. والشافعي رحمه الله فرض المسألة فيه إذا سقط على جنب، ثم استقام واستدَّ، فقد حكيت ما ذكره الأئمة، ثم اختتمت الكلام بما عندي فيه. والله المستعان. ¬

_ (¬1) "التفصي": أي الخروج عن هذا الاعتراض المفهوم من الكلام، من قولهم: تَفَصى من الشيء، وعنه، إذا تخفص منه (المعجم). (¬2) في (ت 1)، و (ت 2): وليسجد، و (ت 2) بدون "قائماً". ومثلها جاءت (ل) بدون "قائماً".

فصل 868 - قد ذكرنا تفصيل القول في صفة ركعة واحدة، ولم يبق في كيفية الصلاة (¬1) إلا التشهد والسّلام. أمَّا التشهد، فنذكر أولاً كيفية الجلوس، وهيئة اليدين فيه، ثم نذكر التشهد وما يتصل به، فنقول: ذهب مالك (¬2) إلى أن المصلي يتورك في القعودين جميعاًً. وقال أبو حنيفة (¬3): يفترش في القعودين. وقال الشافعي رحمه الله: يفترش في التشهد الأول، ويتورك في التشهد الثاني. واعتمد مالك خبراً مطلقاً عنده في التورك، واعتمد أبو حنيفة خبراً بلغه في الافتراش. واعتمد الشافعي رحمه الله في الفصل ما روي أن أبا حميد الساعدي قال: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الركعتين، جلس على رجله اليسرى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدم رجله اليسرى، وجلس على مَقْعَدَتِه" (¬4). وإذا ورد في النفي والإثبات خبران مطلقان في واقعة، وورد فيها خبرٌ مفصل، فالمطلقان محمولان على المفصل، لا محالة. ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهت الصفحات التي كتبت بخط حديث في أول الجزء الثاني من نسخة (ت 2). وهو خط مغاير لخط النسخة كلها مما يدلّ على أن هذا الجزء (من أول: فرع إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة) إلى هنا كان ساقطاً مخروماً من النسخة، واستلحقه مالك النسخة بهذا الخط الحديث من نسخة أخرى. (¬2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 250 مسألة: 253، حاشية العدوي: 1/ 240، جواهر الإكليل: 1/ 51. (¬3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 321، 344، ومختصر اختلاف العلماء: 1/ 212 مسألة: 150، فتح القدير: 1/ 271، 274. (¬4) حديث أبي حميد الساعدي: رواه البخاري: 1/ 201، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، ح 828.

869 - فإذا ثبت أصل المذهب فنذكر الآن كيفية الافتراش والتورك. أما المفترش، فهو الذي يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، والقدم من الرجل اليسرى مضجعة، وظهر القدم إلى القبلة، والرجل اليمنى منصوبة، وأطراف الأصابع على الأرض منتصبة [والعقب منتصبة] (¬1). هذه صفة الافتراش. وأما التورك، فصفته أن يضع رجليه على هذه الصفة، ثم يخرجهما من جهة يمينه، فرجله اليسرى مضجعة، واليمنى منصوبة، ثم يمكّن وركه ومقعدته من الأرض. ثم الذي يلوح في الفصل بين الجلستين من جهة المعنى أن المفترش في الجلسة الأولى سيقوم، والقيام عن الافتراش هيّنٌ، وهو عن التورك عسر، فأمَّا الجلسة الأخيرة فليس بعدها عمل، فيليق بها التورك، والركون إلى هيئة السكون. 870 - فإذا بان كيفية الجلوس، فنذكر صفة اليدين وموضعهما من الفخذين. أما اليد اليسرى، فينشر أصابعها مع التفريج المقتصد، وتكون أطراف الأصابع مسامتةً للركبة. وأما اليد اليمنى، فإنه يقبض أصابعه على ما نفصله، فيقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويطلق المسبِّحة. ثم اختلف الأئمة وراء ذلك: فقال قائل: يضمّ الإبهام إلى الوسطى المقبوضة كالعاقد ثلاثاً وعشرين. وقال آخرون: يضم الإبهام كالعاقد ثلاثاً وخمسين. [ومنهم من قال: يطلق الإبهام والمسبحة كالعاقد ثلاثة] (¬2). ومنهم من قال: [يحلق] (¬3) الإبهامَ والوسطى، والخنصر والبنصر مقبوضتان، والمسبحة مطلقة. وهذا الاختلاف الذي ذكره الأئمة لم يبلغني فيه اختلاف روايات عن الذين نقلوا ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) زيادة من: (ت 1). (¬3) في الأصل: يطلق.

كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان صَدَرُ (¬1) ذلك عن روايات، فذاك، وإن لم تكن روايات، فلعلهم تحققوا صحة إطلاق المسبحة، ولم يتحققوا هيئة الإبهام، فينشأ هذا الاختلاف منه. وأثبت كلّ أمراً قريباً عنده. 871 - ثم يؤثر للمصلّي أن يرفع مسبحته عند انتهائه إلى قول: لا إله إلا الله، فيرفعها مع الهمزة في "إلا"، وهل يستحب أن يحركها عند الرفع؛ فعلى وجهين: وهذا الاختلاف متلقى من الرواية، فروي أنه عليه السلام لم يحرّكها، وروي أنه حركها، فقال الكفار: إنه يسحر بها (¬2). ثم يقرب يده اليمنى من ركبته. فهذا بيان هيئة اليدين. فرع: 872 - المسبوقُ إذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير، فالمسبوق سيقوم إلى استدراك ما فاته إذا سلّم الإمامُ، والإمام متورّك، فالمسبوق يفترش؛ فإن هذا ليس آخر صلاته؛ فالافتراش هو الذي يليق بحاله (¬3). وذكر شيخي: أن من أئمتنا من قال: إنه يتورك متابعةً للإمام. وهذا عندي غلط غير معدود في المذهب، فلا أثرَ لتفاوت الهيئة في القدوة. فصل 873 - إذا انتهى الإمام إلى التشهد الأخير، وكان قد جرى ما يقتضي سجودَ السهو، فالذي قطع به الأئمة أن الإمام يفترش؛ لأن عليه شغلاً بعد السهو، والسجود عن هيئة التورك أيسر من القيام. وقال قائلون: يتورك؛ فإن الذي نقله الرواة التورك في الجلسة الثانية مطلقاً، والتعويل الأعظم في العبادات على الاتباع، ومجال الاستنباط ضيق جداً. 874 - وقد حان الآن أن نذكر التشهد والقولَ في ذلك: ¬

_ (¬1) "صدر" أي صُدور كما يستخدم الإمام هذا الوزن كثيراً. (¬2) انظر هذه الروايات في السنن الكبرى للبيهقي: 2/ 130 - 133. (¬3) من هنا بدأ خرمٌ في نسخة (ت 2).

فالتشهد الأخير مفروض عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (¬1). والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركن أيضاً في الجلسة الأخيرة. وفي الصّلاة على الآل قولان: أحدهما - أنها ركن، والثاني - أنها سنة تابعة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مؤكد. والتشهد الأول سنة مؤكدة وهو من الأبعاض، وهل تُشرع الصلاة في التشهد الأول؟ فعلى قولين: أحدهما - بلى (¬2)؛ فإن ما يقع فرضاً في التشهد الأخير، فهو مشروع في الجلسة الأولى كالتشهد، والثاني: لا يشرع؛ فإن الجلسة الأولى مبنية على رعاية التخفيف. ثم إن أوجبنا الصلاة على الآل في التشهد الأخير، ففي شرعها في الجلسة الأولى ما ذكرناه من القولين: إن قلنا إنها لا تجب في الثانية، فلا تشرع في الأولى. ثم نذكر ما رآه الشافعي رضي الله عنه الأفضلَ والأكملَ في التشهد، ونذكر بعده الأقل. 875 - فأما الأكمل، فما رواه ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وصلم يُعلِّمنا التشهدَ، كما يعلّمنا السورة من القرآن: "التحيّاتُ المباركات، الصّلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" (¬3). ¬

_ (¬1) ر. مختصر الطحاوي: 29، حاشية ابن عابدين: 1/ 313، فتح القدير: 1/ 274. (¬2) بلى هنا بمعنى نعم. وهذا الاستعمال صحيح، عليه شواهد من الحديث الصحيح، منها ما في البخاري (6642): "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى". وسنذكر مزيداً من الأمثلة في مواضع أخرى سيتكرر فيها استعمال بلى بمعنى نعم. (¬3) حديث ابن عباس في التشهد رواه مسلم على نحو ما ساقه إمام الحرمين تماماً (لكن) بتعريف (السلام): الصلاة، باب (100) التشهد في الصلاة، ح 403، والشافعي في مسنده: 42، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في التشهد، ح 290، والدارقطني: 1/ 351 ح 8، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في التشهد، ح 900، وانظر تلخيص الحبير: 1/ 264 ح 407.

واختار أبو حنيفة (¬1) روايةَ ابنِ مسعود (¬2). والروايتان صحيحتان، وقد ذكرنا في مسائل الخلاف ما نرجح به رواية ابن عباس (¬3)، فهذا هو الأفضل. وذكر العراقيون في الأفضل عند الشافعي رضي الله عنه طريقين: أحدهما - التحيات المباركات، الصّلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (¬4) أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسولُ الله. والطريقة الثانية في الأفضل - التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله. فأثبتوا الألف واللام في الطريقة الأخيرة، وحذفوا " وأشهد " عند قوله: "وأن محمداً رسول الله". والطريقان جميعاًً مردودان عند المراوزة. والصّحيح ما ذكرناه قبل حكاية طريقي العراقيين، وهو الذي نقله الصيدلاني وشيخي، فهذا بيان الأفضل. 876 - فأما الأقل، فقد ذكر الشافعي الأقل على وجه، وذكره ابن سريج على وجه: فأما ما ذكره الشافعي، فهو: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. هذا ما ذكره الصيدلاني. وذكر العراقيون [في] (¬5) طريقة الشافعي هذا، ونقصوا كلمة واحدة وهي " وأشهد " في الكرَّة الثانية، فقالوا "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". ¬

_ (¬1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 214 مسألة: 152، فتح القدير: 1/ 272، حاشية ابن عابدين: 1/ 342. (¬2) رواية ابن مسعود في التشهد متفق عليها. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 264 ح 408). (¬3) ر. الدرة المضية: ص 132 مسألة رقم: 80. (¬4) إلى هنا انتهى الخرم في نسخة (ت 2). (¬5) في الأصل: وفي (ط): فيه.

والذي ذكروه من إسقاط " وأشهد " فإنها أمثلُ وأليقُ بذكر الأقل، فهذه طريقة الشافعي. وأما ابن سريج فإنه قال: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال الأئمة كأن الشافعي اعتبر في ذكر الأقل ما اتفقت الأخبار عليه، ولم يخلُ عنه حديث، وجعل ما انفرد به الأحاديث غير معدود من الأقل، ولكنه اتبع مع هذا الخبر دون المعنى. وكان ابن سريج راعى الأقل بطريق المعنى بعض المراعَاة، وحذف من الألفاظ ما رأى الباقي مشعراً به، فحذف قوله: "رحمة الله" واكتفىَ بقوله: "سلام عليك أيها النبي" فإن السلام يدل على الرحمة لا محالة، ولم يذكر "علينا"، واقتصر على قوله: "سلام على عباد الله الصالحين". وفي بعض التصانيف: "سلام على عباد الله" من غير ذكر " الصالحين " في طريقة ابن سريج. وهذا غلط لا يعتد به. فهذا تفصيل الأكمل والأقل في طريق أئمتنا والله أعلم. 877 - أما الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الآل، ففيما ذكرناه قبلُ مقنع. ثم قال الصيدلاني: يستحب الإتيان بالصّلاة كما ورد في الحديث، وقد روي: أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: "اللهمّ صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (¬1). ¬

_ (¬1) حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، متفق عليه من حديث كعب بن عجرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 82 ح 227، تلخيص الحبير: 1/ 263، 268، ح 405، 412).

هذا هو الذي ورد في الحديث، ثم قال (¬1): وما يزيده الناس من قولهم: "وارحم محمداً، وآل محمد كما رحمت على إبراهيم"، فليس له ثبت في الحديث، ثم الذي يتلفظ به الناس ركيك في اللغة؛ فإن من الناس من يقول: كما رحمتَ على إبراهيم، وهذا ركيك؛ فإن العرب تقول: رحمته، ولا تقول: رحمت عليه، ومن الناس من علم، فقال: كما ترحمت على إبراهيم إلى آخره، وهذا فيه خلل آخر، وهو أن الترحم يدل على تكلّف في الرحمة وتصنع، وهذا مستحيل في نعت الإله تعالى، وليس له ذكر في الأحاديث (¬2). 878 - ثم قال الصيدلاني: الإمام ينبغي ألا يزيد علي التشهد والصلاة، بل يقتصر، وأراد الصلاة التامة مع ذكر الآل وذكر إبراهيم، وزعم أن الأوْلى ألا يذكر دعوة بعد الصلاة، بل يبادر السلام رعاية للتخفيف على من خلفه، ثم قال: فإن أراد الدعاءَ، فينبغي أن يكون ذلك الدعاء في مقدار أقلَّ من التشهد. والذي ذكره من الاقتصار على التشهد والصلاة في حق الإمام، لم أره لغيره، فأمَّا إذا كان منفرداً، فيأتي بالدعاء بعد الصّلاة، وإن أراد أن يزيد على مقدار أقل (¬3) التشهد، فلا معترض عليه، ولم يصح دعاء معين بعد الصلاة، بل روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر التشهد والصّلاة، ثم قال: "لِيتخيَّرْ أحَدُكم من الدعاء أحبّه، أعجبه إليه" (¬4). كذلك رواه الصيدلاني. فهذا تفصيل القول في التشهد وما يتبعه. ¬

_ (¬1) أي الصيدلاني. (¬2) هذا كله كلام الصيدلاني. (¬3) ساقطة من: (ت 1)، (ت 2). (¬4) حديث الدعاء عقب التشهد: رواه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود بلفظ: "ثم ليتخير ْأحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به" وأخرجه مسلم: بلفظ: "ثم يتخير من المسألة ما شاء". (ر. البخاري: الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، ح 835، مسلم: الصلاة، باب التشهد في الصلاة، ح 402، تلخيص الحبير: 1/ 268 ح 413).

فصل هذا الفصل يشمل السلام والتحلل وما يتعلق به. فنقول: 879 - التحلل عن الصلاة بالتسليم، ولا يقوم غير التسليم مقامه، والخلاف فيه مشهور، والمعتمد فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم" (¬1). ثم الكلام في أقل السلام وأكمله. فأما الأقل، فهو أن يقول: "السلام عليكم". فهذا المقدار لا بد منه، ولا يجب إلا مرةً واحدةً، فإن التحلل يقع بواحدة، ولو قال: "سلامٌ عليكم" ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجزىء، ولا يقع التحلل على الصحة به؛ فإن الأصل الاتباع، ولم ينقل التسليم إلاّ مع الألف واللام، فلزم الإتيان به على وجهه. ومن أئمتنا من قال: يُجزيه؛ فإنّ التنوين في قول القائل: "سلامٌ" يقوم مقام الألف واللام، وليس ذلك مخالفة وخروجاً بالكليّة عن الاتباع. ولو قال: "عليكم السلام" فمن أئمتنا من قطع بالإجزاء، ومنهم من خرّج ذلك على الخلاف، من حيث إنه بالتقديم والتأخير خرج عن حكم الاتباع. وقد ذكرنا أنه إذا قال فى عقد الصلاة: "الأكبر الله" أو "أكبر الله"، فهل تنعقد صلاته أم لا؟ فظاهر نص الشافعي يشير إلى الفرق بين التسليم والتكبير في التقديم والتأخير، فإنه لو قال: "عليكم السلام" كان مُسَلماً، ومن قال: "أكبر الله" لم يكن مُكَبراً. ¬

_ (¬1) حديث تحريم الصلاة .. : رواه الشافعي، وأحمد، والبزار، وأصحاب السنن إلا النسائي، وصححه الحاكم وابن السكن عن علي كرم الله وجهه. (ر. أبو داود: الطهارة، باب فرض الوضوء، ح 61، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، ح 3، وابن ماجة: 1/ 101، كتاب الطهارة وسننها، باب مفتاح الصلاة الطهور، ح 275، وترتيب مسند الشافعي: 1/ 70 ح 206، ومسند أحمد: 1/ 129. وصحح الشيخ أحمد شاكر إسناده ح 1006، 1072، تلخيص الحبير: 1/ 216 ح 323).

وقد جمع الأئمة بين التكبير والتسليم إذا فرض التقديم والتأخير فيهما، فقالوا: فيهما أوجه: أحدها - أنهما لا يجزيان، والثاني - أنهما يجزيان، والثالث - يجزىء التسليم ولا يجزىء التكبير. 880 - وممّا يتعلق ببيان الأقل في التحفل نية الخروج عن الصّلاة، وقد ظهر اختلاف أئمتنا في اشتراطها، فقال الأكثرون: لا يجب ولا يلزم، اعتباراً بسائر العبادات، والنيات تعنى للإقدام على عبادة الله، فأمّا نجازها وانقضاؤها، فإنما هو انكفاف عن العبادة، والنية تليق بالإقدام لا بالتّرك. وقال قائلون: لا بدّ من نية الخروج؛ فإن السّلام في وضعه مناقض للصّلاة؛ فإنه خطاب للآدميين، ولو جرى في أثناء الصلاة قصداً، لأبطلَ الصلاة، فإذا لم يقترن بالتسليم نية تصرفه إلى قصد التحلل، وقع مناقضاً مفسداً. وسائر العبادات تنقسم، فأمّا الصّوم، فينقضي بانقضاء زمانٍ، والحجّ لا يقع التحلّل عنه بما هو من قبيل المفسدات. ثم إن لم نشترط النية ولم نوجبها، فلا كلامَ. وإن أوجبنا، فنشترط اقترانها بالتسليم، فلو تقدمت عليه على جزم وبت، بطلت الصلاة؛ فإنّا قدمنا أن نية الخروج عن الصلاة تقطعها، ولو نوى قبل السّلام الخروجَ عند السلام، لم تنقطع الصلاة بهذا، ولكن لا يكفي هذا، فَلْيَأْتِ بالنية مع السلام. ثم قال علماؤنا: لا يشترط في نية الخروج تعيين السلام، وإنما يشترط التعيين حالة العقد، فإن الغرض من هذه النية صرف السلام إلى قصد الخروج [ولا يخرج المرء إلا عن الصلاة التي شرع فيها، فوقعت نية الخروج] (¬1) بناء على ما تقدم، ونيةُ العقد ابتداء، فيجب تعيين المنوي. 881 - ومما يدور في النفس من هذا، أن المناقض للصّلاة قول المُسَلِّم: "عليكم"، فينبغي أن يقع الاعتناء بجمع النية مع هذه الكلمة، ويجوز أن يقال: " السلام " وإن لم يكن خطاباً، فإنه بنفسه لا يستقل مفيداً، والكلام الذي لا يفيد لو ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

جرى في أثناء الصلاة، أبطل الصلاة، فإذاً هو كلام لا يستقل، وإتمامه خطابٌ، فكان الجميع في حكم الخطاب. 882 - وقد تردد الأئمة في تقديم نية العقد وقَرْنها بالتكبير، وأجمعوا في نية الخروج على أنها تُقرن ولا تقدم؛ فإن نية الخروج إذا تقدمت، فهي مناقضة مفسدة، وهذا فيه نظر، فإني قد ذكرت في تحقيق نية العقد، أن الذي يتقدم ليس بنية، وإنما هو إحضار علومٍ بصفات المنوي، فعلى هذا لو جرى ذكر الصلاة قُبيل السلام، ثم قرن القصد إلى الخروج بالسلام، فما أرى ذلك ممتنعاً. وفيما مهدته من حقائق النيات ما يوضح هذا. 883 - وممّا يليق بتمام القول في هذا أن الأئمة قالوا: السلام من الصلاة، كما أن التكبير العاقد من الصلاة. وأنا أقول: إن لم نشترط نية الخروج، فالسلام في موضعه من الصلاة. وإن قلنا: لا بدّ من نية الخروج، فيبعد عندي أن يكون قصد الخروج مع خطابٍ هو مناقض للصلاة من الصلاة. والعلم عند الله. فهذا تفصيل القول في الأقل. 884 - فأما القول في الأفضل والأكمل، فأول ما نذكر فيه الكلام في [عدد السلام] (¬1) فالّذي نصّ عليه الشافعي رحمه الله في القديم، أن المصلي يقتصر على تسليمة واحدة. ونقل الربيع: أن الإمام إن كان في مسجد صغير وجَمْعٍ قليلٍ، اقتصر على تسليمة واحدة، وإن كثر الجمْعُ، فيُسلّم تسليمتين. والنص الظاهر أنه يسلّم تسليمتين أبداً من غير تفصيل. فحصل من مجموع النصوص ثلاثة أقوال: أحدها -وهو الذي عليه العمل- أنه يسلم تسليمتين، وهذا [هو] (¬2) الّذي تناقله على التواتر الخلف عن السلف. ¬

_ (¬1) في الأصل وفي (ط): عقد الصلاة، وفي (ت 1)، (ت 2): عقد السلام. وعلى ذلك يكون لفظ [عدد] اختيار منا رعاية للسياق، ولا وجود له في أي نسخة من النسخ الأربع. ولفظ [السلام] مأخوذ من: (ت 1)، (ت 2). ثم صدقتنا (ل). (¬2) مزيدة من: (ت 2).

والقول الثاني: وهو المنصوص عليه في القديم، أنه يقتصر على تسليمة واحدة من غير تفصيلٍ. ومعتمد هذا القول ما روي عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمةً واحدة تلقاء وجهه (¬1). فأمّا التفصيل، فالتعويل فيه على إبلاغ الحاضرين، قلّوا أو كثروا، فإن قلنا: يقتصر على تسليمة واحدة، فلتكن تلقاء وجه المسلّم من غير التفات. وإن قلنا يسلم مرتين، فيلتفت في أولاهما عن يمينه، وفي الثانية عن يساره. ثم قال الشافعي: فيلتفت حتى يُرى خداه، فاختلف أصحابنا في معناه، فمنهم من قال: يرى خداه من كل جانب، وهذا بعيد، فإنه إسراف في الانحراف. والصحيح أن المعنيَّ به أن يرى خداه من الجانبين، من كل جانب خد. ثم ذكر العلماء: أنه ينوي السلام على من عن يمينه ويساره من أجناس المؤمنين: من الجنّ، والإنس، والملائكة، ثم مَنْ على اليمين واليسار يقصدون الرد عليه عند الإقبال عليه. وإن فرعنا على قول التفصيل، فالمنفرد والمأموم يقتصران على تسليمة واحدة. ثم يقول المسلّم في كل تسليمة: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم التسليمة الثانية تقع وراء الصلاة، وقد تم التحلل بالأولى، ولو فرض حدث مع التسليمة الثانية، لم تبطل الصلاة، ولكن شرط الاعتداد بالتسليمة الثانية إذا ندَبنا إليها دوامُ الطهارة؛ فإنها وإن كانت تقع بعد التحلل عن الصلاة، فهي من أتباع الصلاة. فالظاهر عندي أن شرط الاعتداد بها الطهارةُ، والله أعلم. 885 - ثم إن كان المصلي إماماً، فإذا تحلّل، فلا ينبغي أن يلبث على مكانه، بل ¬

_ (¬1) حديث عائشة رواه الترمذي: أبواب الصلاة، باب التسليم في الصلاة، ح 296، وابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة، باب من يسلم تسليمة واحدة، ح 919، وابن حبان: 3/ 224 ح 1992، والحاكم: 1/ 230، 231، والدارقطني: 1/ 358. ورواه ابن حبان من وجه آخر: 4/ 72 ح 2433، وهذا إسناده صحيح على شرط مسلم، قاله الحافظ. وأما الأول فالموقوف أصح من المرفوع. وفي كل مقال، (انظر التلخيص: 1/ 485 ح 420).

يثب ساعةَ يسلم؛ وفي الحديث: "إذا لم يقم إمامُكم فانخسوه" (¬1) وهذا يدلّ على أن الجمع محتبسون إلى أن يقوم الإمام، ولولا ذاك، لَما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخسه. ثم إذا وثب أقبل على الناس بوجهه، واختلف أئمتنا في أنه من أي قُطْرَيْه يميل، فمنهم من قال: يولي الناس شقه الأيسر، والقبلةَ شقه الأيمن في التفاته، ومنهم من يعكس ذلك، وإن لم يصح في هذا تعبّد، فلست أرى في ذلك إلاّ التخيير. ثم ينصرف من أي جهة شاء، ولو استوى في حقه الأمران، فالتيامن محبوب في كلّ شيء. فهذا منتهى القول في ذلك. وإن كان في المقتدين بالإمام نسوة، فينبغي أن يلبث ويحتبس الرّجال معه، والنسوة يبتدرن وينصرفن؛ حتى لا يختلطن بالرجال. فصل في القنوت 886 - ذهب الشافعي إلى أن القنوت مأمورٌ به في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعد الركوع، والأصل في ذلك، ما روي عن أنس بن مالك قال: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم، ثم ترك، وأما في الصّبح، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا" (¬2). ¬

_ (¬1) حديث "إذا لم يقم إمامكم ... " لم أجده بهذا اللفظ برغم طول بحثي -فضلاً عن الكتب التسعة- في الكتب الآتية: الجامع الكبير والصغير للسيوطي، السنن الكبرى للبيهقي، سنن الدارقطني، كنز العمال، شرح السنة، مصنف عبد الرزاق، تلخيص الحبير، والعلل المتناهية، وتذكرة الموضوعات، والجامع الأزهر للمناوي، ولم أجده أيضاً عند الماوردي في الحاوي، ولا عند الرافعي في الشرح الكبير، ولا في وسيط الغزالي. ولكن وردت أحاديث تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يجلس في مكانه بعد السلام. انظر نيل الأوطار: 2/ 353. (¬2) حديث: "قنت صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم". المراد على رَعْل وذكوان، وهما =

فإذا ثبت أصلُ القنوت في صلاة الصبح، فالمقدار الثابت فيه ما نقله المزني في المختصر (¬1) وهو: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيتَ، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذِلّ من واليتَ، تباركت ربّنا وتعاليت" (¬2). ثم الذي يجب القطع به أن تتعين هذه الأذكار، ولا يقوم غيرُها مقامَها، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا القنوت كما يُعلّمنا السورة من القرآن. وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس في التشهد. ثم القنوت شديد الشبه بالتشهد الأول؛ فإنهما جميعاًً من أبعاض الصلاة التي يتعلق بها السجود. ووقته إذا رفع المصلّي رأسه من الركوع. ¬

_ = قبيلتان من سُلَيْم، لما قتلوا القراء. وهذا الجزء من الحديث متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 133 ح 393). أما الحديث بتمامه على نحو ما ساقه إمام الحرمين، فقد رواه الدارقطني: 2/ 39 ح 10، 11، والبيهقي: 2/ 201، ورواه أحمد في مسنده. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 244 ح 370). (¬1) المختصر: 1/ 77. (¬2) حديث القنوت بهذه الصيغة صحيح، قال الشافعي: هذا القدر يروى عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال الحافظ: "نعم هذا القدر روي عن الحسن، رواه الأربعة، وأحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، لكن ليس فيه عنه أن ذلك كان في الصبح، بل روَوه بلفظ علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر" ثم قال الحافظ: "رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة، وأنه كان في صلاة الصبح في الركعة الثانية بعد الرفع من الركوع، وصححه (أي الحاكم) وليس كما قال، بل هو ضعيف" ا. هـ. (ر. أبو داود: الصلاة، باب القنوت في الوتر، ح 1425، 1426، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، ح 464، النسائي: قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، ح 1745، ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، ح 1178، التلخيص: 1/ 247 ح 371). وقد رواه البيهقي أيضاً عن ابن عباس، وعن محمد بن الحنفية، وأنه كان في صلاة الصبح. (السنن: 2/ 209 - 210 - باب دعاء القنوت).

887 - ثم قال العراقيون: إذا نزل بالمسلمين نازلةٌ وأرادوا أن يقنتوا في الصلوات الخمس، ساغ، وإن لم يكن، وأرادوا القنوت من غير سبب، قالوا: قال الشافعي رحمه الله في الأم: لا يقنت. وقال في الأملاء: إن شاء قنت، وإن شاء، لم يقنت. ثم جعلوا المسألة على قولين. (1 وكان شيخي يقلب الترتيب ويقول: إن لم تكن نازلة، فلا قنوتَ إلا في صلاة الصبح، وإن كانت نازلة، فعلى قولين 1). ثم ما نقله العراقيون من الإملاء، يشعر بأنه يتخير: إن شاء، قنت، وإن شاء، لم يقنت، وهذا يتضمن أن ترك القنوت في غير صلاة الصبح ليس من الأبعاض، والتخيير مصرح بهذا. وإن كانت نازلة، فقد رأوا القنوت عندها من غير تخيير. ولست أرى مع ذلك القنوت (¬2) من الأبعاض، التي يتعلق بتركها سجود السهو. 888 - وممّا يتعلق بأمر القنوت الجهر والإسرار، وقد ذكر أئمتنا في هذا وجهين: أحدهما - أن الجهر به مشروع (¬3) وهو الظاهر. والثاني - لا يجهر به، اعتباراً بالتشهد وغيره من أذكار الصلاة. ثم إن لم نر الجهر به أصلاً، قنت المأموم، كما يقنت الإمام، قياساً على سائر الأذكار. وإن رأينا الجهر بالقنوت، فالمأموم إن كان يسمع صوت الإمام أمَّنَ، ولم يقنت، وإن كان موقفه بعيداً وكان لا يسمع، ففي قنوته وتأمينه من الخلاف ما ذكرناه في قراءة السورة. والخلاف في قراءة المأموم جارٍ في الصلاة السرية. وإن رأينا الإسرار بالقنوت، فالمأموم يقنت وجهاً واحداً، والسبب فيه أن القنوت إذا رأينا الإسرار به، يلتحق بسائر الأذكار. والسورة وإن كان الجهر بها في بعض ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (¬2) المراد قوت النازلة، غير قوت الصبح. (¬3) (ت 2): مشروع للإمام.

الصّلوات، فأمرها على الانقسام على الجملة، فينزل منزلة انقسام المأموم في القرب والبعد في الصلاة الجهرية. 889 - ومما يتعلق بالقنوت ما أصفه: كان شيخي يرفع يديه في القنوت، ثم كان يمسح بهما وجهه (1 عند الختم، وفي بعض التصانيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه شاهراً ثم يمسح بهما وجهه 1). وقد امتنع كثير من أئمتنا من هذا، فإن دعوات الصلاة ليس فيها رفع اليدين مثل التشهد. وقد راجعت بعضَ أئمة الحديث، فلم يثبت رفعَ اليدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). وكان شيخي يصلّي (¬3) في آخر القنوت، ولم أر لهذا ثَبَتاً، وفيه الإتيان بما هو ركن في الصلاة منقولاً عن محله، وفيه كلام سيأتي في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى. فهذا منتهى الكلام في القنوت. فصل قال: "ومن ذكر صلاة وهو في أخرَى ... إلى آخره" (¬4) 890 - من فاتته صلوات، فلا ترتيب عليه في قضائها، خلافاً لأبي حنيفة (¬5) ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (¬2) في الصحيحين من حديث أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في كل دعاء إلا في الاستسقاء فإنه يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه. (اللؤلؤ: 1/ 173 ح 516) ولكن وردت أحاديث صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه في غير موطن، بل روى البيهقي: أنه رفع يديه في القنوت. قال الحافظ: "فتعين تأويل حديث أنس (أي الوارد في الصحيحين) أنه أراد الرفع البليغ، بدليل قوله: حتى يرى بياض إبطيه" (ر. تلخيص الحبير: 1/ 51 ح 373، سنن البيهقي: 2/ 211 باب رفع اليدين في القنوت). (¬3) أي على النبي صلى الله عليه وسلم. (¬4) ر. المختصر: 1/ 79. (¬5) ر. مختصر الطحاوي: 29، رؤوس المسائل: 1/ 145 مسألة 52، مختصر اختلاف =

ومن فاتته صلاة الظهر، فدخل وقت العصر، فإن قضى ما فاته أوّلاً، ثم أقام فرضَ الوقت، جاز، وإن أدّى فرض الوقت أوّلاً ثم قضى جاز، ولكن الأَوْلَى إنِ اتَّسَعَ الوقتُ أن يقضي ما فات أولاً، ثم يؤدي فرض الوقت. وقد روي في ذلك أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذاً رعايةُ الترتيب بين صلاة مقضية وأخرى مؤداة محبوب، والسبب فيه من طريق المعنى -والعلم عند الله في ذلك- أن الأمر برعاية الترتيب يستحث على إقامة القضاء، ولو ابتدر الرجل فرض الوقت، فقد يؤخر القضاء، وتبقى ذمته مشغولة به، وهذا إذا اتسع الوقت، فأما إذا ضاق الوقت، ولو اشتغل بقضاء ما فاته، لفاتت صلاة الوقت، فلا شك أنّا نوجب تقديم الأداء في هذه الصورة. فصل "وصلاة المرأة كصلاة الرجل ... إلى آخره" (¬1). 891 - لما نَجَز الشافعيُّ صفةَ الصلاة قال: والمرأة في كيفية الصلاة كالرجل، إلا أنّا لا نأمرها بالتخوية في السجود كما سبق؛ وكلّ ذلك للستر. وفي الحديث: "صلاة المرأة في قعر بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها" (¬2). وممّا ذكره الشافعي في سياق ذلك، أن الرجل إذا كان مقتدياً بالإمام، فناب إمامَه ¬

_ = العلماء: 1/ 285 مسألة 242، حاشية ابن عابدين: 1/ 487. (¬1) ر. المختصر: 1/ 80. والكلام هنا بمعنى كلام المختصر، وليس بنصه. (¬2) حديث صلاة المرأة في بيتها (صحيح) رواه أبو داود بلفظ: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" وابن خزيمة، والبيهقي، والحاكم في المستدرك، والبغوي في شرح السنة، والطبراني في الكبير، وعبد الرزاق في مصنفه. (ر. سنن أبي داود: الصلاة، باب التشديد في ذلك (ما جاء في خروج النساء إلى المسجد) ح 570، وصحيح ابن خزيمة: 3/ 94 ح 1688، والسنن الكبرى: 3/ 131، والمستدرك: 1/ 209، والبغوي: 3/ 441، والمعجم الكبير: 9/ 341 ح 9482، والمصنف: 3/ 151 ح 5116، وانظر مجمع الزوائد: "باب خروج النساء للمساجد وغير ذلك ... ").

شيءٌ، فينبغي أن يسبِّح لينَبِّه الإمام، والمرأة لا تسبح، فإن ذلك يَشْهَرها، بل تصفق، والأصل فيه، ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليصلح بين فئتين، فأبطأ مجيئه، فقال بلال لأبي بكر: قد استأخر مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقيم لتصلّي بالناس، فقال أبو بكر: ما شئتَ، فأقام وتقدم أبو بكر، فلما تحرّم بالصلاة حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يصفقون، وكانت الصفوف تخرق وأبو بكر لا يلتفت، فلمّا علم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الصفوف لا تُخرق إلا له، استأخر، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة مشهورة. فلما تحلّل عن صلاته قال: "مالي أراكم تصفقون؟ من نابه شيء، فليسبح، فإن التسبيح للرّجال، والتصفيق للنساء" (¬1). ثم قال القفال: لا ينبغي للمرأة أن تضرب الراحة بالراحة، فإن هذا تصفيق اللهو، ولكن تضرب كفها على ظهر كفها الأخرى. فصل قال: "وعلى المرأة أن تستر جميع بدنِها ... إلى آخره" (¬2). 892 - نذكر ما يجب ستره، وهو الذي يسمى عورة، ثم نذكر كيفية الستر. فنقول: أما القول فيما يجوز النظر إليه وما لا يجوز النظر إليه، فنذكره مستقصى في أول كتاب النكاح إن شاء الله عز وجل، وإنما غرض هذا الفصل ذِكر ما يستر في الصلاة. فنقول: أمّا الحرة فجملة بدنها في حكم الصلاة عورة من قرنها إلى قدمها، إلا الوجه والكفان، أما الوجه فواضح، وأمّا الكف، فلسنا نعني به الراحة فحسب، ولكنا نعني به اليدين إلى الكوع ظهراً وبطناً، فأما أَخْمَص قدمها، ففيه وجهان، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال ¬

_ (¬1) الحديث متفق عليه من حديث سهل بن سعد الساعدي: ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 88 ح 243. بألفاظ مقاربة لما ساقه إمام الحرمين. (¬2) ر. المختصر: 1/ 80.

المفسرون: الوجه والكفّان، وما سوى ما ذكرناه من الحرة، فهو عورة، فلو بدت شعرة من غير (¬1) ما استثنياه، لم تصح صلاتها. 893 - فأما الرجل، فالعورة منه ما بين السرة والركبة، والمذهب أن السرة والركبة ليستا من العورة للرجل. وحكى العراقيون وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب: أن السرة والركبة من العورة، وزيفوا ما حكَوْه. وهو لعمري بعيد غير معدود من المذهب. 894 - وأما الأمَة، فما بين سرتها وركبتها عورة، كالرجل، وما يظهر منها في المهنة، كالرقبة والساعد وأطراف الساق والرأس، فهذه الأشياء ليست بعورة منها، فأمّا ما وراء ذلك مما فوق السرة وتحت الركبة، وهو ممّا لا يظهر في الامتهان والخدمة ففيه وجهان مشهوران. فهذا تفصيل القول فيما يجب ستره. 895 - ونحن نذكر الآن الستر ومعناه، فنقول أولاً: وجوب الستر لا يختص بالصلاة، بل يجب إدامة الستر عموماً، ولو استخلى بنفسه، وتكشف في الخلوة حيث يعلم أنه لا يطلع عليه أحد، فقد ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أنه يحرم التكشف في الخلوة من غير حاجة، وزعم أنه يجب الستر عن الجن والملائكة، كما يجب الستر عن الإنس. وكان شيخي لا يحرم التكشف في الخلوة، ويقول: إذا كان يجوز التكشف بسبب استحداد، أو لقضاء حاجة من غير إرهاق وضرورة، فإيجاب التستر في الخلوة لا معنى له، هذا في غير الصلاة. فأما الستر في الصلاة، فواجب، سواء كان المصلّي في خلوة، أو إذا كان بمرأى من النّاس. 896 - ثم التستر بما يحول بين الناظر وبين لون البشرة، ومن لبس ثوباً صفيقاً، فقد يتراءَى حجمُ أعضائه في الشمس من ورائه، فلا يضر ذلك، فالمرعي باتفاق الأصحاب ألا يبدو السواد أو البياض من وراء الثوب. ¬

_ (¬1) سقط رقم 189 من صفحات المخطوط مع عدم وجود خرم فليلاحَظ ذلك عند تتابع تسلسل أرقام المخطوط.

ولو وقف المصلّي في ماءٍ صافٍ يبدو منه لون بشرته، فليس بمستورٍ. وإن كان الماء كدِراً، فهو مستور، ولو طلى على عورته طيناً، فهو ستر باتفاق أصحابنا، وهو كافٍ مع القدرة على الستر بالثياب. ولو لم يكن معه ثوب، وكان متمكناً من التسبب إلى تحصيل طين ينطلي به، فهل يجب عليه ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - يجب؛ فإنه ستر، والثاني - لا يجب؛ لأنه لو وجب، لدام الوجوب في الصلاة وغيرها، وتكليف ذلك عظيمٌ منتهٍ إلى مشقة ظاهرة. 897 - ثم الستر يراعى من الجوانب ومن فوق، ولا يراعى الستر من أسفل الذيل والإزار. ونص أئمتنا أن من كان يصلي في قميص واحد، على طرف السطح، فإدراك سوأته هين على من هو تحت السطح، وصلاته صحيحة. وهذا عندي فيه للفكر مجال؛ فإن من وقف هكذا فوق مكانٍ مطروق، وكان الريح تعبث بثوبه، فلستُ أستجيز إطلاق القول بأنه يحلّ له ذلك، وهو مُعرَّض للنظر. فإن قال قائل: العرفُ هو المرعي في الستر، والناس يستترون من فوق ومن الجوانب، قيل: هذا كلام عري عن التحصيل؛ فإن العرف لا يطرد بين العقلاء هزلاً في شيء، وأهل العرف إنما لم يراعوا الستر من أسفل من جهة أن التطلع من تحت القميص والإزار غيرُ ممكن إلا بمعاناة وتكلّف، فإذا فرض الموقف على شخص (¬1)، والأعين تبتدر إدراك السوأة، فهذا لا يُعد في العرف ستراً أصلاً، إلا أن يكون الذيلُ ملتفاً بالساق. فرع: 898 - إذا كان في الثوب الساتر خرق، فوضع يده عليه وكان يصلي، فقد ظهر الاختلاف في ذلك. والمذهب عندي تجويز الصلاة، فإن الرجل لو لم يكن في الصّلاة، وفعل ¬

_ (¬1) شخص: مكان مرتفع (المعجم).

ما ذكره، فلست أرى تعصيته، وإلحاقَه بمن يبدو للناس متكشفاً، وإذا ظهر ذلك خَارجَ الصلاة، فالستر لا يختلف بالصلاة والخروج منها. ولو كان يصلي في قميص ساتر [ذي طوق واسع وهو] (¬1) مشدود الإزار، جاز. ولو كان مفتوحَ الإزار، وكان إذا ركع أو سجد تبدو عورتُه، فإذا بدت، بطلت صلاته، فإن كانت لحيته الكثيفة تسد موضع فتح الإزار، ففيه الخلاف المذكور؛ فإنه سَترَ ما يجب ستره بشيء من بدنه. والصحيح ما ذكرناه. ولو كان بحيث تبدو منه العورة، ولكنه في قيامه وانتصابه لا يبدو منه شيء، فهل تنعقد صلاته؛ ثم إن انحنى وتكشف، بطلت صلاته؟ هذا ملتحق بما ذكرناه؛ فإن سبب الستر وعدم التكشف التصاق صدره في قيامه بموضع إزاره، ففيه ما ذكرناه، والمذهب الحكم بالستر في جميع ذلك. فرع: 899 - إذا وجد خرقة لا تستوعب جميعَ ما يجب ستره، فيجب استعمالها. ثم قال العراقيون: من أصحابنا من قال: يستر بها القبل؛ فإن السوأة الأخرى مستترة بانضمام الإليتين. ومنهم من قال: يستر بها السوأة الأخرى؛ فإنها أفحش في الركوع والسجود. ولا يتجه التخيير في ذلك. ثم الفخذ وما دون السرة من العورة، ولا فرق عندنا في وجوب الستر بين السوأة وبين غيرها. 899/م- وأبو حنيفة (¬2) يفصّل ويزعم أن الربع معفوٌّ عنه في التكشف في كل عضو، ويرعى في السوأة تكشف مقدار درهم. ونحن لا نرعى هذا. وإذا كان كذلك، فلا يمتنع أن نقول: ما ذكره الأصحاب في الخرقة وترديد القول في السوأتين في حكم الأوْلى. ولو ستر واجدُ الخرقة بها جزءاً من فخذه، لم يبعد. جواز ذلك. وفي كلام الأصحاب ما يدل على تحتم ستر السوأتين أو إحداهما، وله وجه؛ فإن المرعي هو العرف، وما الناس عليه في ذلك، وليس يخفى أن من ستر شيئاًً من فخذه وترك السوأة بادية، يعد متكشفاً. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 2). (¬2) ر. بدائع الصنائع: 1/ 117، حاشية ابن عابدين: 1/ 273.

فرع: 900 - ذكر العراقيون نصين في العراة لو أرادوا عقد جماعة: أحدهما - أنهم إن انفردوا، فعذرهم تمهد في ترك الجماعة، وإن صلّوا جماعة، وغضوا أبصارهم، فجائز. والثاني - وهو الذي نص عليه في القديم أنهم يصلون فُرادى؛ فإنّ حفظَ العيون فرضٌ، والجماعة نفلٌ، وجعلوا المسألة على قولين في الأوْلى، ولا خلاف أنهم لو عقدوا جماعة، صح ذلك منهم. ثم إمام العراة ينبغي أن يقف وسطهم، كما سنذكر في صلاة النسوة إذا عقدن جماعة. فرع (¬1): 901 - إذا أراد رجل أن يبذُلَ ثوباً، وقد حضر رجل وامرأة على العري، فالمرأة أولى من الرجل وفاقاً، ولو حضر رجلان ولو قسم الخرقة وشقها يحصل في كل واحد بعضُ الستر، ولو خصَّ أحدهما، يحصل له الستر الكامل، فهذه المسألة محتملة، ولعلّ الأظهرَ أن يستر أحدهما، وإن أراد الإنصاف، أقرع بينهما. فرع: 902 - إذا كان يصلي في إزار ساترٍ، فكشف الريح طرف إزاره عن عورته، فإن أمكنه أن يردّه على القرب، لم يضره ما بدا، وإن عسر الردّ وطيرت الريح الإزار، فهذا يفسد الصلاة، وإن تعاطى بنفسه الكشف عمداً، ثم ردّه على الفور، بطلت صلاته. وهذا يطّرد في الانحراف عن القبلة، وإصابةِ نجاسةٍ يابسةٍ الثوبَ، [فإن كان عن قصد، فالفساد]، (¬2) وإن كان عن غير قصد وقرب الزمان، فلا بأس، وإن طال الفصل، بطل. وإن انحل عقدُ الإزار وانسلّ، فردّه، فهو كما لو انكشف طرف منه وأعيد، فلا فرق. فإن قيل: ما المعتبر عندكم في قرب الزمان وبعده؟ وهل ترون ضبطَ هذا تحقيقاً ¬

_ (¬1) هذا الفرع ساقط كله من: (ت 2). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

أو تقريباً؟ قلنا: لعلّ الأقربَ فيه ألا يظهر بين الانكشاف وبين ابتداء الردّ مُكْث محسوس على حكم التكشف. فرع: 903 - الأَمةُ إذا كانت تصلي مكشوفة الرأس، فعَتَقت في أثناء الصلاة فإن كان بالقرب منها خمارٌ، فابتدرته وسترت رأسها، استمرت وبَنَتْ، وكان ما يجري بمثابة تكشف من غير قصد، [تداركه] (¬1) المصلي على الفور. وإن كان الخمار بعيداً عنها، وكانت تحتاج أن تمشي إليه خطوات كثيرة، فهذا عند المحققين ينزل منزلة ما لو سبق الحدث في الصلاة، وسيأتي ذلك على القرب. فإن جرينا على الأصحّ، حكمنا ببطلان الصلاة، وإن فرعنا على القديم فَلْتَمْشِ هذه إلى الخمار وتستتر، ولتبْن على صلاتها، وإن لم تمش، ولكن وقفت حتى أتاها آتٍ بالخمار، ففي بعض التصانيف أن ذلك بمثابة ما إذا أطال الرجل السكوت في صلاته، فإن في بطلان الصلاة وجهين، كذلك هاهنا، وهذا كلام ملتبس. والوجه أن نقول: إن أتاها الخمار في مدة لو مشت فيها، لنالت فيها الخمار، فلا تبطل الصلاة؛ فإن السكون أولى في الصلاة من المشي والعمل، فإن زادت مدة سكونها على مدة مشيها إلى الخمار لو مشت، فإن لم تبن أمرَها على أن تؤتَى بالخمار، ولكن بقيت كذلك، ثم طالت المدة، وزادت على مدة المشي، فالوجه القطع ببطلان الصلاة، وإن بنت أمرها على أن تؤتَى بالخمار بإشارتها إلى إنسان، فأتى بالخمار، فإن زادت المدة وطالت، فهذا سكون طويل، وتركٌ للساتر، وفي معارضته أنها تركت عملاً كثيراً، وفيه احتمال ظاهر، إذا كان كذلك، ولعل الظاهر الحكم بالبطلان، فإنا إذا ألحقنا هذه الصورة بسبق الحدث، وقد ثبت أنه يُسرع المشي في تدارك ما وقع في القول الذي عليه التفريع، فوجود المشي وعدمه بمثابة، فالوجه النظر إلى التسرّع إلى التدارك من غير مبالاة بالأفعال. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "فتداركه"، والمثبت من (ل).

فصل 904 - المصقي إذا سبقه الحدث في الصلاة من غير قصد، فالمنصوص عليه في الجديد أن الصلاة تبطل، ووجهه بيّن من القياس. وقال أبو حنيفة (¬1): لا تبطل الصلاة. وهو قول للشافعي في القديم، وقد بان أن القولَ القديم ليس معدوداً من المذهب؛ فإن الشافعي رحمه الله لما نص عليه في الجديد على جزم، رجع عمّا صار إليه في القديم، ولكن أئمة المذهب يعتادون توجيه الأقوال القديمة على أقصى الإمكان، ثم يفرعون عليه. توجيه القديم: الحديثُ المدون في الصحاح، وهو ما رواه ابن أبي مُلَيكة عن عائشة أنه عليه السلام قال: "من قاء أو رعفَ، أو أمذى في صلاته، فلينصرِفْ، وليتوضأ وليَبْنِ على صلاته ما لم يتكلم" (¬2) وإنما لم يعمل الشافعي به في الجديد لإرسال ابن أبي مُلَيكة؛ فإنه لم يلق عائشةَ ولا حجةَ في المراسيل عنده. وقد روى إسماعيل بن عياش في طريقه عن ابن أبي مليكة، عن عروة عن عائشة، فأسند. وإسماعيل هذا سيء الحفظ، كثير الغلط فيما يرويه عن غير الشاميين. وابن أبي مُلَيكة ليس من الشاميين، فإن جرينا على القول القديم، فكل ما يطرأ على الصلاة مما ينقض طهارة الحدث، أو ينجس ما يجب رعاية طهارته، فالمصلي يسعى في إزالة ¬

_ (¬1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 266 مسألة 218، البدائع: 1/ 220، حاشية ابن عابدين: 1/ 403. (¬2) حديث ابن أبي مليكة عن عائشة. قال الحافظ: رواه ابن ماجة، والدارقطني. (ر. الدارقطني: 1/ 154 ح 11 - 17، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في البناء على الصلاة، ح 1221، وتلخيص الحبير: 1/ 274 ح 430) هذا وقد عد الحافظ قول إمام الحرمين عن هذا الحديث: إنه مدون في الصحاح وهماً عجيباً، تابعه عليه الغزالي في الوسيط. لكننا لم نجد في الوسيط متابعة الغزالي لشيخه في هذه العبارة، بل قال الغزالي عن الحديث إنه روي مرسلاً، أما متابعة الغزالي لشيخه فكانت في البسيط، كما ذكر النووي في التنقيح (ر. التنقيح في شرح الوسيط للنووي - بهامش الوسيط: 2/ 157).

ذلك على أقرب وجه يقتدر عليه، وإن كثرت الأفعال، ومست الحاجة إلى استدبار القبلة ومشى فرسخاً مثلاً، فإنه يبني على صلاته، ولو أمنى أو أمذى، فالكل على وتيرة واحدة. فإن قيل: فَلِمَ خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أشياء معدودة؛ وإذا كان المذهب مبنياً على الخبر بعيداً عن القياس، فهلا اختص بما اشتمل عليه الحديث؟ قلنا: إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجري في الصلاة وِفاقاً؛ فإن الرعاف وذراع (¬1) القيء مما يفرض جريانه في الصلاة إذا تعسر التماسك منهما، وكذلك الرجل المذاء قد يبتلى بالمذي في أثناء الصلاة، فعلمنا قطعاً أن الحديث لو صح، فإنما اختص بهذه الأشياء؛ لأنها الجارية في العرف غالباً، وأبو حنيفة (¬2) حكم بانقطاع الصلاة بخروج المني، ونزَّل الإمذاء منزلة الإمناء، وإن كان منصوصاً في الخبر، وألحقَ سبق البول بالرعاف والقيء. 905 - ولو تحرّم الماسح على خفه بالصلاة، على طهارة المسح، ثم انقضت مدة المسح أثناء الصلاة، بطلت الصلاة وفاقاً -وإن فرعنا على القديم في سبق الحدث- والسبب فيه أنه قصر، حيث لم يرع قدْر المدة وانقضائها، وكان كالذي يتعمد إلى الحدث (¬3). ولو تخرّق خفُّه في الصلاة وبرز القدم، ففي المسالة وجهان: أحدهما - تبطل الصلاة، كانقضاء المدة؛ فإنه مقصر من حيث لم يرع ضعف الخف، وكان كتقصيره في أمر المدة. والثاني - أن التخرق كسبق الحدث؛ فإن التقصير لا يظهر فيه. 906 - ولو رأى المتيمم الماءَ، فالمنصوص عليه في الجديد أن الصلاة لا تبطل، وليس ذلك كسبق الحدث؛ فإن رؤية الماء في نفسها ليست مبطلة للوضوء حتى يتمكن ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والمعروف فيما بين أيدينا من المعاجم: "ذَرْع" فلعل لها وجهاً لا نعرفه، ثم جاءتنا (ل) وفيها: "ذرع". (¬2) ر. البدائع: 1/ 222، حاشية ابن عابدين: 1/ 406. (¬3) أي يقصد إلى الحدث، وفي (ل) "كالذي يتعمد الإقدام إلى الحدث".

الرائي من استعمال الماء [على يسر، والصلاة عاصمة شرعاً مانعة من استعمال الماء،] (¬1) فهذا -مع ما فيه من الغموض- معتمد المذهب الجديد. 907 - ثم قال أبو حنيفة (¬2): من سبقه الحدث في المسجد، فخرج وتوضأ، لزمه أن يعود إلى مكانه من المسجد، وفيه يبني، فلو بنى في بيته على صلاته، لم يجز، وهذا ممّا انفرد به أبو حنيفة، وليس له فيه معتصم. ونحن نقول: إذا رفع المانعَ الطارىء، وهو في منزله، تعيّن عليه البناءُ حيث انتهى إليه، فلو رجع إلى المسجد، بطلت صلاته؛ فإن هذه الأفعال تجرى بعد ارتفاع المانع، فتقع قادحةً في الصلاة، لا محالة، ثم نأمر الساعي في رفع المانع بأن يقتصر من أفعاله على قدر الحاجة، ولا نكلّفه أمراً يخرج به عن مألوف اعتياده من [عَدْوٍ] (¬3) وبدار إلى رفع الحدث، ولكنه يقتصد، وكما يرعى تقليل الأفعال وتنزيلها على حكم العادة، فكذلك يرعى تقريب الزمان؛ فإن دوام المانع مع التمكن من رفعه استصحابٌ لما يناقض الصلاة. 908 - ولو سبق الحدث، ثم استكمل الذي هو صاحب الواقعة الحدثَ، بطلت صلاتُه. وقد ذكر صاحب التقريب أنه لو قطر منه بولٌ سبقاً، فله أن يستتم ذلك البول، ثم يتوضأ، وهذا عندي خطأ إذا كان يمكنه أن يتماسك؛ فإن الذي أتى به حدث على اختيار. ونحن نقول: لو زاد فعلاً من غير حاجة، وبلغ مبلغ الكثرة، بطلت صلاته؛ فالحدث أولى بالتأثير في الصلاة، إذا جرى على حكم الاختيار. 909 - ومما يتعلق بغوامض المذهب أن الأئمة قالوا: لو انكشفت العورة، ثم رد الساتر على قرب، لم تبطل صلاته قولاً واحداً، وطردوا ذلك في نظائر سبقت، ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) ر. البدائع: 1/ 223، حاشية ابن عابدين: 1/ 407. (¬3) في الأصل، وفي (ط) وفي (ت 1): غدو. وساقطة من (ت 2). والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. والحمد لله، صدقتنا (ل).

وما جرى (¬1) مناقض للصلاة، وإن قلّ الزمان وقصر، وكان القياس يقتضي أن ينزل ما ذكرناه منزلة سبق الحدث (¬2). ولكن الأئمة قاطعون بما ذكرته. فلْيتأَمل طالبُ الحقائق ما ذكرناه. ولو كان ذلك محطوطاً عن المصلي لقرب الزمان فيه، للزم أن يقال: لو تعمد المصلي كشف إزاره وردّه على القرب، لا تبطل صلاته. وقد قالوا: إذا تعمد، بطلت صلاته. ولو طيرت الريحُ الإزار وأبعدته، وكان لا يلحق إلا بأفعال كثيرة، فهذا ألحقوه بسبق الحدث، وخرجوه على القولين. 910 - ومما فرعه أبو حنيفة (¬3) على مذهبه في سبق الحدث، أن المصلي إذا سبقه الحدث، وكان ملابساً ركناً من الأركان، مثل أن كان في الركوع أو السجود، قال: بطل ذلك الركن، فإذا أراد البناء، لزمه العود إلى ذلك الركن. وهذا فيه عندي تفصيل في مذهبنا المفرع على القديم، فأقول: إن سبق الحدث قبل حصول الطمأنينة، فمضى إلى التدارك، فيعود إلى الركوع، وإن كان ركع واطمأن ثم أحدث، فإذا أراد البناء ففي إلزامه العود إلى الركوع احتمال. والظاهر أنه لا يعود؛ فإن موجب هذا القول، أن الحدث لا يبطل شيئاًً مضى، وأن من سبقه الحدث يبني، ولا يعيد شيئاًً قد تم على موجب الشرع. [فصل] (¬4): قال: "ولو تكلم أو سلم ناسياً ... إلى آخره" (¬5). 911 - الكلام على عمدٍ مبطل للصلاة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها من كلام الآدميين شيء" (¬6) ولا فرقَ بين أن يكون في مصلحة ¬

_ (¬1) أي ما جرى من انكشاف العورة. (¬2) أي من جعله على قولين، ولكنهم قاطعون بصحة صلاة من ردّ الساتر على قربِ قولاً واحد. فهذا هو (الغامض). (¬3) ر. البدائع: 1/ 223، فتح القدير: 1/ 391. (¬4) في جميع النسخ (فرع) واخترنا ما جاءت به (ل)؛ لأن هذا بالفصل أشبه. (¬5) ر. المختصر: 1/ 80. (¬6) حديث: "إن صلاتنا هذه .. " رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والبيهقي، عن معاوية بن الحكم السلمي. (ر. مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، ح 537، أبو داود: الصلاة، باب تشميت =

الصلاة، وبين ألا يكون كذلك، خلافاً لمالك (¬1)، ولو جاز الكلام في مصلحة الصلاة، لما أمر الرجل بالتسبيح والمرأة بالتصفيق إذا ناب الإمامَ شيءٌ. ثم مضمون هذا الفصل يوضحه أمران: أحدهما - في كلام من ليس معذوراً، والثاني - في المعذور وتفاصيل العذر. فأما غير المعذور، فمهما (¬2) عمد المصلّي مع ذكر الصلاة وعلمه بتحريم الكلام كلاماً (¬3) خارجاً عن مراسم الشرع، في القراءة والتسبيح والدعاء، بطلت صلاته. ثم ما يأتي به، ينقسم إلى كلام مفهوم، وإلى حروف لا تفهم: فأما ما يفهم، فإنه على الشرائط التي ذكرناها، تبطل الصلاة وإن كان حرفا واحداً، فإذا قال: (عِ) أو (قِ) أو (شِ) من وعى ووقى ووشى، بطلت صلاته. وإن كان أتى بحرف لا يُفهِم معنى، فالحرف الواحد لا يبطل الصلاة، وإن والى بين حرفين، بطلت صلاته؛ فإن أقل مباني الكلام في أصل اللسان حرفان. ولو استرسل منه صوت غُفْل لا تقطّع فيه، ولا يسمى حرفاً، فسماعي عن شيخي فيه أنه لا يبطل الصلاة، ولو ذكر حرفاً ووصله بصوت غُفل؛ فإنه كان يتردد فيه، وهو لعمري محتمل؛ فإن الكلام حروف، والأصوات المرسلة من مباني الكلام. والأظهر عندي أنه مع الحرف كحرف مع حرف؛ فإن الصوت الغُفل مَدّة، والمدّات تقع ألفاً أو واواً أو ياءً، وهي -وإن كانت إشباعاً لحركات- معدودةٌ حرفاً، وعندي أن شيخي ما تردد فيها، وإنما تردد في صوت غُفل مع حرف إذا لم يكن ذلك الصوت مَدّة، وإشباعاً لإحدى الحركات الثلاث. 912 - ومما يتعلق بهذا الكلامِ القولُ في التنحنح، فمن تنحنح فاتحاً فاه مغلوباً ¬

_ = العاطس في الصلاة، ح 930، والنسائي: السهو، باب الكلام في الصلاة، ح 1218، التلخيص: 1/ 281 ح 449). (¬1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 263 مسألة: 278، عيون المجالس: 1/ 323 مسألة: 152، حاشية الدسوقي: 1/ 282. (¬2) "فمهما" بمعنى (فإذا). (¬3) "كلاماً" مفعول لـ " عمد " والمعنى: إذا قصد كلاماً خارجاً ....

فيه، وما أتى به لحاجة، فالذي قطع به الأئمة أنه إذا أتى بحرفين، بطلت صلاته. وحكى ابن أبي هريرة نصاً عن الشافعي: أن التنحنح لا يبطل الصلاة أصلاً؛ فإن الذي يأتي به -على ما يُعهد- ليس آتيا بحروف محققةٍ؛ فهو كصوت غُفل. قال القفال: بحثت عن النصوص، فلم أر ما ذكره، وأنا سأعود في أثناء الكلام إلى هذا. وأقول الآن: إذا صار المصلي بحيث لا يتأتى منه القراءة المفروضة ما لم يتنحنح، فكأن (¬1) اختنق أو اغتص بلقمة؛ فإنه يتنحنح ولا يضره ذلك، مع مسيس الحاجة التي وصفناها. ولو كان في صلاة جهرية، وقد عسر عليه الجهر لو لم يتنحنح، وما عسرت القراءة سراً، فهل له أن يتنحنح ليجهر ويقيم شعار الجهر وكان إماماً؟ فيه وجهان مشهوران: أقيسهما: المنع؛ فإن الجهر أدب وهيئة، وترك ما هو من قبيل الكلام حتم، ولا يتجه وجه الجواز إلا بشيء، وهو أن التنحنح في أثناء القراءة يُعد من توابع القراءة، ومن ترديد الصوت بها، ولا يُعد كلاماً منقطعاً عن القراءة. ولعل ابن أبي هريرة نقل ذلك القول في أثناء القراءة، فينقدح توجيهه، وإن لم تكن حاجة ماسة كما ذكرته، وإن كان بعيداً. فأما التنحنح لا في حالة استياق (¬2) القراءة، فيبعد المصير إلى أنه لا يُبطل، فكان مأخذ الكلام في التنحنح الجاري في القراءة [أنه يُبطل في ظاهر المذهب، إذا لم يتعذّر أصل القراءة] (¬3)، فإن تعذر رفعُ الصوت، ففيه الخلاف المعروف، ووجهه أنه مع الحاجة في القراءة كأنه تابع، وعن هذا قد يتجه أنه إذا لم تكن حاجة أيضاً، لا يُبطل، إذا كان في خلال القراءة. وحكى شيخي عن القفال أنه كان يقول: لو طبق شفتيه وتنحنح، لم تبطل صلاته، وإنما التفصيل فيه إذا كان يتنحنح فاتحاً فَاه. وهذا ممّا انفرد به القفال، وصار إلى أن ¬

_ (¬1) كذا في نسخة الأصل وحدها، وفي باقي النسخ: "وكان". (¬2) في (ل): "اتساق القراءة". (¬3) ما بين المعقفين زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

التنحنح مع التطبيق كجرجرة في الحلق، أو قرقرة في التجاويف. ولست أرى الأمر كذلك؛ فإن هذه الأصوات لا تختلف في السمع بالتطبيق والفتح، ومن تنحنح لا يأتي بالحروف الحلقية صريحاً، وإنما هي أصوات تداني الحروف الحلقية، لا يصفها الكتبة ويعرفها من يتأمل. وإذا كان كذلك، فلا فرق بين حالة التطبيق وحالة الفتح. 913 - ولو قرأ المصلي آيةً أو بعضاً من آية، فأفهم بها كلاماً، مثل أن يقول: "خذها بقوة"، أو يقول -وقد حضر جمع فاستأذنوا-: "ادخلوها بسلام"، فإن لم يخطر له قراءة القرآن، ولكن جرد قصدَه إلى الخطاب، بطلت صلاته. وإن قصد القراءة، ولم يخطر له إفهامَ أحد، بحيث لو دخلوا لم يُرد دخلوهم من معنى قوله، [فلا شك أن صلاته لا تبطل، وإن قصد قراءة القرآن وقصد إفهامهم] (¬1)، فالذي قطع به الأئمة أن الصلاة لا تبطل؛ فإنه لا يُجدّ متكلماً، والحالة هذه. وقال أبو حنيفة (¬2): تبطل الصلاة بهذا. 914 - ولو دعا بالفارسية، بطلت صلاته، وكذلك لو أتى بترجمة القرآن. وقد ذكرنا أن ترجمة القرآن لا تقوم مقام القراءة، وخلاف أبي حنيفة مشهور فيه (¬3). ومعتمدنا في وجوب الرجوع إلى الأذكار عند تعذر القراءة، ما روي عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن كان يحسن شيئاًً من القرآن، قرأ، وإن كان لم يحسن شيئاًً، فليحمد الله وليكبر" (¬4). فهذا تمهيد المذهب فيما يأتي به المصلي من الكلام من غير عذر. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) ر. الهداية مع فتح القدير: 1/ 349، تبيين الحقائق: 1/ 157، حاشية ابن عابدين: 1/ 417. (¬3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 260 مسألة 211، رؤوس المسائل: 157 مسألة: 62، المبسوط: 1/ 37، تبيين الحقائق: 1/ 109، فتح القدير: 1/ 247. (¬4) جزء من حديث المسيء صلاته وقد تقدم.

915 - فأما تفصيل القول في المعذور، فنبدأ بالنسيان أولاً، فإذا نسي الرجل كونَه في الصلاة وتعمد الكلام، وهذا هو المعني بكلام الناسي، فهذا غير مبطل للصلاة، خلافاً لأبي حنيفة (¬1)، والمعتمد فيه من جهة السنة قصة ذي اليدين وهي مذكورة في الخلاف. ولو كثر الكلام في حالة النسيان، ففي بطلان الصلاة وجهان: أحدهما - وهو القياس أنه لا تبطل الصلاة؛ فإنه لو أبطل الصلاة [كثيرُه، لأبطلها قليلُه، كحالة العمد، والثاني - إذا كثر أبطل الصلاة] (¬2) لأمرين: أحدهما - أن هيئة الصلاة تزول بكثرة الكلام، وينقطع نظامها، والثاني - أن الناسي يعذر، لأنه قد يبتلى ببادرة، فأما الكثير، فيبعد تصوير النسيان فيه، فإنه يتنبه أو يُنبّه، وما يقع نادراً لا يعتد به، والصائم إذا أكل ناسياً لصومه فإن قل أكله، لم يبطل صومه، وإن كثر، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الكلام الكثير مع استمرار النسيان، فإن قلنا: لا تبطل الصلاة، فلأن لا يبطل الصوم أولى، وإن قلنا تبطل الصلاة [ففي الصوم وجهان مرتبان على المعنيين المذكورين في التوجيه، فإن قلنا ببطلان الصلاة] (¬3)، لندور النسيان الطويل، فهذا يتحقق في الصوم أيضاً. وإن اعتمدنا في الصلاة الهيئة وانقطاعَ النظام، فهذا لا يتحقق في الصوم؛ فإنه ليس بعبادة ذات نظام، وإنما هو انكفاف عن أمور معروفة. 916 - ولو تكلّم الرجل جاهلاً بأن الكلام يحرم في الصلاة، وكان قريب عهدٍ بالإسلام، فلا تبطل الصلاة، وجهله يعذره. والأصل فيه الأخبارُ، وقد رويناها في الخلاف (¬4). ¬

_ (¬1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 269 مسألة: 222، رؤوس المسائل: 159 مسألة: 64، المبسوط: 1/ 170، فتح القدير: 1/ 344، حاشية ابن عابدين: 1/ 413. (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬3) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬4) لم يعرض الإمام لهذه المسألة في الدرة المضية، فلعله ذكرها في كتالب آخر من كتبه في الخلاف.

ولو علم أن الكلام محرّم في الصلاة، ولكن لم يعلم كونَه مفسداً، فتفسد صلاته وفاقاً، وهذا يطرد في الصوم وغيره، وهو يناظر مسألة من كتاب الحدود، وهي أن من شرب الخمر، ولم يعلم تحريمَها لم يحدّ، وإن علم تحريمها، ولم يعلم أنه يُحد شاربُها، حُد، ولم يصر جهله بالحدود دارئاً له. ولو علم أن الكلام على الجملة يحرم، ولكن لم يدْرِ أن الذي جاء به محرم، فقد ذكر بعض المصنفين أن الصلاة تبطل في هذه الصورة، وهذا محتمل عندي، ويظهر المصير إلى أنها لا تبطل الصلاة. فهذا بيان تمهيد عذر الناسي والجاهل. 917 - ومما يلتحق بالنسيان والجهل وهو أولى منها، وهو أنه لو التف لسان الذاكر والقارىء، فجرى بكلام جنسه مبطل للصلاة، فلا تبطل صلاته أصلاً، وعندي أن أبا حنيفة يوافق في هذا، مع مصيره إلى أن الناسي لا يعذر؛ فإن سبق اللسان إلى هذا لا يزيد على سبق الحدث، ومن سبقه الحدث، لا تبطل صلاته. 918 - ومما نذكر في المعاذير أن المصلي لو أكره على أن يتكلم في الصلاة، فتكلم مكرهاً، فهذا كما لو أكره الصائم على الأكل مع ذكره للصوم، وفيه قولان، سأذكر حقيقتهما في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى، والغرض الآن تنزيل المصلي منزلة الصائم. 919 - ومما نذكره متصلاً بالكلام السكوت، فإذا أطال الرجل سكوته، وهو لا يؤمر باستماع وإصغاء، فإن تعمد ذلك في ركن طويل، فقد ذكر القفال وجهين في بطلان الصلاة، أصحهما (¬1) أنه لا تبطل؛ فإن السكوت ليس خارماً لهيئة الصلاة وما فيها من رعاية الخضوع والاستكانة. والثاني - أنه تبطل الصلاة؛ فإن اللائق بالمصلي الذكر والقراءة، والسكوتُ في حكم الإضراب عن وظائف الصلاة وما شرعت الصلاة لأجله. والدليل عليه أنَّ من رأى رجلاً على البعد يتكلم، يسبق إلى اعتقاده أنه ليس في ¬

_ (¬1) في (ت 2): أحدهما.

الصلاة، كذلك إذا رآه في سكتة طويلة؛ فإنه يعتقد أنه ليس في الصلاة. وإن سكت سكوتاً طويلاً ناسياً للصلاة. [فالسكوت الطويل إن قيل: لا يُبطل الصلاة واقعُه على العمد] (¬1)، فلا شك أن واقعَه على النسيان [لا يبطل، وإن قلنا: عمدُه مبطل للصلاة، ففي واقعه على النسيان] (¬2) طريقان: منهم من قال: هو كالكلام الكثير الصادر من الناسي، وفيه الخلاف المقدم، فيعتبر طويل السكوت بكثير الكلام، ومنهم من قال: السكوت الطويل من الناسي -حيث انتهى التفريع إليه- كالكلام اليسير؛ فإن قليل الكلام من العامد مبطل، وقليل السكوت من العامد غيرُ ضائر، فاعتبرنا طويل السكوت بقليل الكلام. فصل قال: "وإن عمل عملاً قليلاً مثل دفعه المارّ بين يديه ... إلى آخره" (¬3). 920 - العملُ القليل على عمد وذِكْرِ الصلاة غيرُ مبطل لها، والعمل الكثير على وجه التوالي والاتصال عمداً - مبطل للصلاة، والدليل على أن القليل غير مبطل للصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في الصلاة أذُنَ ابن عباس، وأداره من يساره إلى يمينه (¬4). ودخل أبو بكرة المسجد، فصادف رسول الله في الركوع، فخاف أن تفوته الركعة فركع منفرداً، ثم وصل إلى الصف بخطوة، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، قال: "زادك الله حرصاً ولا تَعُد" (¬5) ولم يأمره بإعادة الصلاة. ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (¬2) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (¬3) ر. المختصر: 1/ 81. (¬4) حديث ابن عباس متفق عليه. (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 145 ح 437). (¬5) حديث أبي بكرة: رواه البخاري: الأذان، باب إذا ركع دون الصف، ح 783، وأبو داود: الصلاة، باب الرجل يركع دون الصف، ح 683، 684، والنسائي: الإمامة، باب الركوع دون الصف، ح 871، وأحمد: 5/ 39، 45، والطحاوي: 1/ 395، والبغوي في شرح =

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مر المار بين يدي أحدكم وهو في الصلاة، فليدفعه، فإن أبى، فليدفعه، فإن أبى، فليقاتله، فإنه شيطان" (¬1). وقيل في تفسير قوله شيطان، معناه المارّ من شياطين الإنس. وقيل: إنه ليس المقصود من دفعه منعَه، ولكن الشيطان لا يجسر أن يمر بين يدي المصلي وحده، فإذا مر بين يديه إنسي، رافقه، فقوله: "فإنه شيطان" معناه، "فإن معه شيطاناً". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو علم المارّ بين يدي المصلي ما فيه لوقف أربعين" (¬2) وقد اختلف فيه فقيل: أربعين سنة، وقيل: أربعين شهراً، وقيل: أربعين يوماً، وقيل: أربعين ساعة. 921 - فإن قيل: هل من ضبطٍ في الفرق بين العمل القليل والكثير؟ قلنا: لا شك أن الرجوع في ذلك إلى العرف وأهله، ولا مطمع في ضبط ذلك على التقدير والتحديد؛ فإنه تقريب، وطلب التحديد في منزلة التقريب مُحال، ولكن كل تقريب له قاعدة، منها التلقي، وإليها الرجوع، فمطلوب السائل إذاً القاعدة التي عليها التحويم (¬3) في ذلك. فنقول: الآدميُّ ذو حركات وسكنات، ويعسر عليه تكلفُ السكون على وتيرة في زمان طويل، ولا شك أن المصلي مؤاخذ بالخشوع، والخشوع هو إسكان الجوارح، ورأى رسول الله رجلاً يعبث بيديه في الصلاة، فقال: "هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه" (¬4). فالقدر الذي يُحمل صدورُه على ضرورة الخلقة والجبلة، ولا يحمل على الاستهانة بهيئة الخشوع والاستكانة مُحتمل، بل لا بد منه، وما فوقه إلى ¬

_ = السنة: 822، 823، وانظر (الإحسان: 5/ 568، 569، 2194، 2195، وتلخيص الحبير: 1/ 457). (¬1) حديث: "إذا مر المار بين يدي أحدكم ... " متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، في قصة له، مع تفاوت يسير في اللفظ. (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 100 ح 283). (¬2) حديث: "لو علم المار": متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 101 ح 284). (¬3) (ت 1)، (ت 2): التحريم. (¬4) "لو خشع قلب هذا .. " حديثٌ موضوع. (ر. إرواء الغليل: 2/ 92 ح 373).

الانسلال عن الهيئة المطلوبة مضطرب، والفعل فيه تركٌ للأولى، وإذا تعدى الفعلُ هذا المسلك أيضاً، وانتهى إلى الانسلال عن السكون الذي يتميز فيه المصلي عن غير المصلي، فهو المبطل. وعبَّر القفال عن هذا، فقال: كل مقدار من الفعل إذا رآه الناظر من بُعدٍ، غلب على ظنه أن صاحبه ليس في الصلاة، فهو الكثير، فهذا هو المعتبر، وقد ثبت في مضمون الآثار وقول الأئمة أن الصلاة لا تبطل بخطوتين متواليتين، وتبطل بالثالثة وِلاءً، وكذلك لو فرضت ضربتان، فالضربة الثالثة كالخطوة الثالثة. فليتخذ الناظر هذا معتبرَه. وليس الرجوع في هذا التقريب إلى العدد؛ فإن من حرّك إصبعه مراراً كثيرة، لم يقابل ذلك خطوة، ولست أنكر أن التعديد والتقطيع أمر معتبر في هذا الباب؛ فإن الخطوة الواحدة لا تبطل، ولو قطَّعها المصلي، فجعلها ثلاث خطوات متواليات، لبطلت، فإن الخطو الوساعَ إن اتحد لا يعد كثيراً، وإذا تقطع عُدّ كثيراً، ولست أنكر أنه إذا خطا خطوتين واسعتين جداً وِلاءً، فإنهما في العرف قد يوازنان ثلاث خطوات. وقد اضطرب جواب القفال في أن الحركات الكثيرة في إصبع أو كفّ كحركات من يعقد ويحل، أو كحركات من يدير المسبحة هل تبطل الصلاة؟ فقال مرّة: جنس هذه الأفعال لا تبطل الصلاة؛ فإنها في طرف وكُثْر البدن (¬1) ساكن، وهيئة الخشوع غير مختلة. وقال مرة: كثيرها يبطل. معتبراً برتبة الخطى والضربات. 922 - ثم تمام القول في ذلك أن ما استبنَّا بلوغَه حدَّ الكثرة، فمبطل، وما استبنَّا وقوعَه في حدّ القلة، فهو غير مبطل، وما ترددنا فيه، فينقدح فيه أوجه: أحدها - استصحاب صحة الصلاة. والثاني - الحكم بالبطلان؛ فإنا مؤخذون بالإتيان بهيئة مطلوبة، ونحن شاكون في الإتيان بها وامتثال الأمر فيها. والثالث - أنا نتبع غلبة الظن، فإن استوى الظنان، فالأصل دوام صحة الصلاة، ¬

_ (¬1) في (ت 2): اليدين.

والأظهر استصحاب الحكم بدوام الصلاة؛ فإن الهيئة التي ذكرناها وبنينا الكلامَ عليها ليست ركناً مقصوداً في الصلاة، كالركوع والسجود ونحوهما، وكأنها النظام والرابطة لأركان الصلاة، فإذا لم يتحقق انقطاعها، دامت، وسيأتي هذا ومثله مستقصىً في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى. ثم إذا كثر الفعل في الصلاة، ولكنه وقع مقطعاً غيرَ متوالٍ، فلا تبطل الصلاة به، ويمكن أن يفرض في ركعة واحدة طويلة مائة خطوةٍ فصاعداً مع تخلل الفصول الطويلة. ثم المعتبر في الفصل المتخلل بين الفعل والفعل أن يُشعِر بالإضراب عن الفعل، ويتجاوز حد الثاني في قبيلٍ من الفعل يتمادى المرءُ عليه،، فهذا كله في الفعل الكثير الواقع عمداً. 923 - فأما إذا نسي الرجل الصلاة، وأوقع أفعالاً كثيرة، فللأئمة طريقان: أحدهما - أن القول فيها كالقول في الكلام الكثير الصادر من الناسي، وفيه وجهان مذكوران. ومن أئمتنا من قال: أول مبلغ الكثرة في الفعل هو الذي يُبطل الصلاة عمدُه، فإذا وقع هذا من الناسي، لم تبطل الصلاة، وهذا المبلغ من العامد كالكلام اليسير من العامد، فإنَّ يسير الخطاب يَخْرِمُ أُبّهة الصلاة، كما أن كثير الفعل يخرِمُها، وما يجاوز مبلغَ أول الكثرة وينتهي إلى السَّرف، فهو من الناسي كالكلام الكثير في حالة النسيان، فهذا تمام القول في ذلك. فرع: 924 - كان شيخي يذكر في الدروس خلافَ الأصحاب في أن الصوم هل يُشترط في الصلاة؟ حتى لو أكل المصلي أو شرب ولم يفعل فعلاً، تبطل صلاته، وكان يصحح اشتراط الصوم في الصلاة، وهذا الذي قطع به الأئمة في طرقهم، ولم يشر إلى الخلاف كما ذكره غيرُ العراقيين. والوجه الحكم ببطلان الصلاة؛ فإن قليل الأكل كقليل الكلام في منافاة هيئة الصلاة. وبالجملة الغرض الكلي من العبادات البدنية التي لا تتعلق بأغراض ناجزة -كسد الحاجات بسبب بذل الزكوات- تجديدُ الإيمان، ومحادثة القلوب بالمعرفة، والرجوع

إلى الله، وأجمعها لهذا الغرض الصلاة، ولذلك وجب فيها الانقطاع عن أفعال العادة، والانكفافُ عن خطاب الآدميين، والاستواء في صوبٍ واحد وتلقاءٍ واحد، وهو القبلة؛ فإن الانكفاف عن هذه الملهيات والانكبابَ على الأذكار يحصر الذهن ويذكر الحقائق، وقليل الأكل ينافي هذا الغرض، فإن لم نوجب الصوم، ألحقنا الأكل في الصلاة بالأفعال، وقد تفصَّلَ المذهب فيها. وهذا بعيد جداً، فإن أوجبنا الصوم، فكل ما يفسِد الصوم يفسِد الصلاة، وسيأتي تفصيل مفسدات الصوم في كتابه إن شاء الله تعالى. 925 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن المصلي لو زاد ركوعا أو سجوداً عمداً، بطلت صلاته عندنا، وإن كان الركوع الواحد لا يبلغ مبلغ العمل الكثير، وأبو حنيفة (¬1) لا يُبطل الصلاةَ بزيادة ركن، ويرعى فيها كثرةَ الفعل وقلَّته، ومعتمدنا أن الكثرة والقلة لا تُعنيان لأعيانهما، وإنما المتبعُ المعنى، فزيادة ركن يُظهر مخالفة النظم، ويعتبر بضدّ الأركان، وأما الأفعال، فلا بد من جريان قليلها في ضرورة الجبلّة، والقول في كثيرها ما سبق، وسنعود إلى هذا في باب السجود إن شاء الله تعالى. فصل 926 - ما أدرك المسبوق، فهو أولُ صلاة المأموم، وإن كان آخر صلاة الإمام، وقد يخالف أبو حنيفة (¬2) في هذا، ويقول: ما أدركه محسوب له آخراً، وهو يتدارك الأول، وما ذكرناه له آثار، نشير إليها، فنقول: إذا أدرك المسبوق الركعة الأخيرة من صلاة الصبح، وقنت الإمام فيها، فإذا قام المقتدي واستدرك ما فاته، قنت ثانياً؛ فإن القنوت وقع في أول صلاته، ولكنه وقف (¬3) اتباعاً للإمام، ووفاء بما نواه والتزمه من المتابعة. ¬

_ (¬1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 315، 316. (¬2) ر. المبسوط: 1/ 190، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 293 مسألة: 251، رؤوس المسائل: 166 مسألة: 69. (¬3) كذا في جميع النسخ الأربع (وقف) ولعل الصواب: "وقع" أو "قنت".

وإذا أدرك ركعة من صلاة المغرب، وقعد مع الإمام في التشهد الأخير، فإذا سلم الإمام، قام المسبوق، وصلى ركعة أخرى، وجلس للتشهد، وهذا تشهده الأول المحسوب، ثم يصلي ركعة ثالثة ويتشهد مرة أخرى، وهذا مطرد واضح. 927 - ولكن نقل المزني عن الشافعي أنه قال: إذا أدرك المسبوق الإمام في الركعتين الأخيرتين من الظهر أو العصر أو غيرهما، وصلّى مع الإمام ركعتين، ولما سلّم الإمام، قام ليصلي ركعتين، قال الشافعي: يقرأ في الركعتين اللتين يتداركهما السورة مع الفاتحة؛ فاعترض المزني، وقال: ما يدركه المسبوق أول صلاته على مذهب الشافعي، وما يقضيه من الركعتين آخرُ الصلاة، فلِمَ أمر المسبوق بقراءة السورة في الركعتين الأخيرتين من صلاته؟ فاختلف أئمتنا في الجواب، فقال بعضهم: أجاب الشافعي على استحباب قراءة السورة في كل ركعة، ولو أجاب على تَخْلِية الأخيرتين [عن قراءة السورة، لما أمر المسبوقَ بقراءة السورة، كما ذكره المزني] (¬1) وهذا غير مرضي عند المحققين؛ فإن فحوى كلام الشافعي دليلٌ على أنه لم يفرع على الأمر بقراءة السورة في كل ركعة؛ فإنه اعتنى بتصوير هذه (2 الصورة على التخصيص، وأمر فيها بقراءة السورة، فلو كان يأمر بها عموماً، لما كان لاعتنائه لتخصيص هذه الصورة 2) بالذكر معنى، فالصحيح أنه مع التفريع على اختصاص قراءة السورة بالأوليين يأمر المسبوق في هذه الصورة بقراءة السورة. والسبب فيه أن إمامه لم يقرأ السورة في الركعتين الآخرتين اللتين أدركهما المسبوق حتى يقع وقوفُ المأموم لقراءته واستماعه موقع قراءته في نفسه، فقد فاتته قراءة السورة، فليتداركها في الركعتين المقضيتين، فهو إذن قاضٍ لقراءة السورة، وليس مُقيماً وظيفة الركعتين الأخيرتين. وهذا يناظر نص الشافعي في الجمعة، حيث قال: إذا ترك الإمام قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى أعادها في الركعة الثانية مع سورة المنافقين. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل، و (ط). (2) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

فإن قيل: قد قال الشافعي: لو ترك الطائف الرَّمَل في الأشواط الأُوَل من الطواف، لا يتدارك الرمل في الأشواط الأخيرة، فما الفرق؟ قلنا: المشي على الهينة والسكينة سنة في الأشواط (1 الأخيرة، كما أن الرمل سنة في الأشواط 1) الأول، فلو رمل في الأخيرة، لترك سنة ناجزة لتدارك سنة فائتة، وتركُ القراءة في الركعتين الآخرتين لا نعده من السنن، ولكنه من التخفيف الذي تأكد بالاتباع، فليس ترك قراءة السورة هيئة مقصودة، والمشي والسّكينة في الأشواط الأخيرة هيئة مقصودة مأمور بها. فهذا منتهى الإمكان في الفرق، والاحتمال ظاهر في مسألة المسبوق، كما ذكره المزني وتابعه من تابعه. فصل قال: "ويصلي في الجماعة كلَّ صلاة صلاها ... إلى آخره" (¬2). 928 - من صلى صلاة من الصلوات الخمس منفرداً، ثم أدرك جماعة، استحببنا له أن يعيدها في الجماعة، ولا فرق بين صلاة وصلاة. وقال أبو حنيفة (¬3): يعيد الظهر والعشاء، فأما الصبح، والعصر، والمغرب، فلا يعيدها، وبنى مذهبه في الصبح والعصر على أنهما يستعقبان وقتاً مكروهاً، وعنده أن الصلوات، وإن كان لها أسباب، لا تقام في الأوقات المكروهة، وأما المغرب؛ فإنه لم ير إعادتها؛ لأنها وتر النهار، وإذا أعيدت صارت شفعاً. وقد ذكر شيخي في درسه وتعليقه وجهاً عن بعض أصحابنا مثلَ مذهب أبي حنيفة، في أنه لا يعيد هذه الصلوات الثلاث، وإن انفرد بها أولاً وأدرك جماعة ثانياً. وهذا لست أعده من المذهب، ولا أعتد به. فالمذهب القطع بأنه لو انفرد بالصلاة، ثم أدرك جماعة [أعادها، ولا فرق بين صلاة وصلاة. ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (¬2) ر. المختصر: 1/ 282. (¬3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 480.

929 - ولو صلى في جماعة، ثم أدرك جماعة] (¬1) فهل يعيدها مرة ثانية؟ فيه وجهان مشهوران، ذكرهما الصيدلاني وغيره، أحدهما - أنه يعيدها لينال فضيلة الجماعة الثانية أيضاً. والثاني -وهو الأصح عند الصيدلاني- أنه لا يعيدها؛ فإن ذلك لو قيل به، لزم مثله في إدراك جماعة ثالثة ورابعة، وهذا يخالف ما كان عليه الأولون. فإن قلنا: يعيدها، فلا فرق بين صلاة وصلاة؛ فإنا على هذا الرأي نراها صلاة لها سبب، والصلوات ذوات الأسباب لا يكره إقامتها في الأوقات المكروهة، وتكون كما لو انفرد أولاً ثم أدرك جماعةً، وإن لم نر إعادتَها مقصودة، فهو في حكم متنفل متطوّع بصلاة لا سبب لها، فعلى هذا لا يكره ذلك في الظهر والعشاء، ويكره في الصبح والعصر؛ فإنهما يستعقبان وقتا مكروهاً. والصلاة لا سبب لها فيما نفرع عليه. فأما المغرب، فلا تستعقب وقتاً مكروهاً، ولكن التنفل بثلاث ركعات مما لا نراه في غير وتر الليل، فَلْيَزِدْ ركعةً أخرى حتى تصير الصلاةُ أربعَ ركعات. ثم نقول: لا ينبغي أن ينوي الفرض أصلاً في هذا التفريع، بل ينوي صلاة التطوع. 930 - وإذا انفرد بالصلاة أولاً، ثم وجد جماعة، فأعاد الصلاة، فالفريضة أيتهما؟ فعلى قولين: أحدهما - أن الفريضة هي الأولى؛ فإنها لو اقتصر عليها، كفته. والثاني - أن الفريضة إحداهما لا بعينها، والله يحتسب بأكملهما. وذكر شيخي عن بعض الأصحاب أن الفريضة هي الثانية؛ فإنها الكاملة بالجماعة، ويتبين بالأخرة أن الأُولى وقعت نفلاً، وهذا مزيف مردودٌ، ولا أعده مذهباً. ثم قال الصيدلاني: إذا حكمنا بأن الفريضة هي الأولى، فَنَنْدُبُ إلى الثانية في الصبح والعصر؛ فإن هذه صلاة لها سبب، وأما المغرب، فإنه تُعاد أيضاً، ولكن ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 1)، (ت 2).

ينبغي أن يضم إليها ركعة أخرى؛ فإن التنفّل بالثلاث في هذا الوقت غيرُ مأثور ولا مأمور به، وهذا حسن بالغ. ثم إن حكمنا بأن الفرض إحداهما لا بعينها، فلا شك أنا نأمره بأن ينوي الفريضة فيهما جميعاًً، وإن حكمنا بأن الفريضة هي الأولى، فهل ينوي بالثانية المقامة في الجماعة الفريضة؟ تردَّد الصيدلاني فيه، واختار أن ينوي الفريضة، وهذه هفوة؛ فإن أمره بنية الفريضة مع القطع بأن الصلاة التي يقيمها ليست فريضة محال. نعم الوجه أن يقال: وإن حكمنا بأن الصلاة الثانية ليست فريضةً، فينبغي أن ينوي تلك الصلاة، وهي الظهر والعصر، ولا يتعرض للفريضة، فيكون ما جاء به ظهراً مسنوناً، كالظهر من الطفل، وفيما ذكرته احتمال. ولو نوى النافلة، ولم يعيّن الظهر، فيبعد أن يصير بالجماعة في النافلة مستدركاً لِما فاته من الجماعة في صلاة الظهر، فعلى هذا إذا كان ينوي المغرب، فما ذكره الصيدلاني من ضم ركعة رابعة لا أصل له؛ فإن المغرب لا يكون أربع ركعات، ولا تبعُد صلاة مغرب غيرِ مفروضة، والعجب منه مع حسن إيراده في هذا الفصل أنه قال: إذا حكمنا بأن الصلاة الثانية نفل، فيضم ركعةً إلى المغرب، ثم قال: وعلى كلا الوجهين ينبغي أن ينوي الفرض، وهذا خبط وخروج عن الضبط، وقد لاح ما يكتفي به الفطن، والحمد لله وحده. فصل قال: "ومن لا يستطيع إلا أن يومىء أومأ ... إلى آخره" (¬1). 931 - القيام في الصلاة المفروضة ركن مقصود عندنا، فإن عجز عنه المكلّف قعد، فلو اعتمد القادر على شيء في قيامه من غير حاجة وضرورة، أو اتكأ، لم تصح، فليكن مستقلاً في قيامه مقلاًّ نفسه، ولو كان لا يتمكن من القيام إلا متكئاً أو معتمداً، فلا يجوز له أن يقعد، من حيث إنه عجز عن القيام على صفة الاستقلال، بل ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 83.

قيام المتكىء أولى من القعود، فلا يجوز الانتقال إلى القعود إلا عند العجز عن صورة القيام، وإذا عجز عن القيام، قعد حينئذ، ولا يجب في القعود هيئة مخصوصة، فلو قعد مفترشاً، أو متوركاً، أو متربعاً، أو مُقْعياً رافعاً ركبتيه، فكل ذلك جائز. 932 - ولو قدر على القيام ولكن لا يقدر على الركوع والسجود أصلاً، فيلزمه القيام، ثم يومىء بالركوع والسجود. وأبو حنيفة (¬1) يُسقط القيامَ في هذه الصورة، وهذا يدل على أن مذهبه أن القيام ليس ركناً مقصوداً، وهذا ساقط؛ فإنه وإن اعتقده محلاً، فكان يلزمه ليقرأ قائماً. أما نحن، فنوجب القيام لنفسه وعينه، وإذا لم يتمكن من القيام على هيئة الانتصاب، فَلْيَقُم على انحناء، وليتخِذْ في هذا حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم معتمده حيث قال: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما اسْتطعْتم" (¬2)، ولو كان لا يقدر على الارتفاع من حد الراكعين، فالذي دل عليه كلامُ الأئمة أنه يقعد، ولا يجزئه غيره؛ فإن حد الركوع مفارقٌ لحد القيام وحكمه، وهو أيضاً هيئة ركن في نفسه يخالف هيئة القائمين. 933 - ولو عجز عن الانتصاب على قدميه، لكن قدر على الانتهاض على ركبتيه، كان شيخي يتردد في وجوبه، وهو محتمل من جهة أن هذا لا يسمىَ قياماً، والانحناء فوق حد الراكعين يسمى قياماً. 934 - فإذا أراد القعود عند العجز عن القيام، فقد اختلف أئمتنا في الهيئة المختارة المطلوبة، فنقل المراوزة نصين: أحدهما - يفترش كما يفترش القاعد في التشهد الأول، والثاني - أنه يتربع، ثم جعلوا ذلك قولين، ووجهوا قول التربع بأنه لو افترش، لالتبس جلوسه في التشهد الأول بقيامه، ونحن نرى الفصل بين التشهدين في ¬

_ (¬1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 324 مسألة: 288، الهداية مع فتح القدير: 1/ 460، حاشية ابن عابدين: 1/ 299. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 73 ح 846).

حق القادر، بالافتراش والتورك، فينبغي أن يقع الفصلُ بين القعود الواقع بدلاً عَن القيام، وبين القعود للتشهد. والقول الثاني - وهو الذي ارتضاه شيخي: أنه يفترش، فإن التربع ليس يليق بهيئة الخاضعين لله عز وجل في الصلاة، وذكر بعض المصنفين أنه يتورك في القعود الواقع بدلاً، وهذا عندي غلط صريح لا يتوجه. وقد سمعت من أثق به أن القاضي حسين كان يرى الأَوْلى أن ينصب ركبته اليمنى [ويحتبي عليها] (¬1)، كالذي يجلس في اعتيادنا قارئاً على من يقرئه، فهذا خارج عن الإقعاء؛ (3 فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: "لا تُقعوا إقعاء الكلاب" (¬2). وهو منفصل عن الافتراش والتورك، وليس جلسة المتنعمين كالتربع، وإذا لم يرد ثَبَت شرعي، ورُدَّ الأمر إلى نظرنا، وبان أن المطلوب الفصلُ، وتوقَي هيئات أصحاب الترفه والتنعم، فالذي ذكره قريب في ذلك. ولو قعد على رجليه جاثياً على الركبتين، فلست أرى به أيضاً بأْساً، وليس ذلك إقعاء 3)؛ فإن الإقعاء هو الجلوس على الوركين ونصب الفخذ والركبتين وهكذا يكون الكلب إذا أقعى. 935 - فإن عجز عن القعود أيضاً، واضطر إلى الانبطاح، فعل ذلَك، وفي كيفية هيئته اختلاف. فالمذهب المشهور الذي عليه التعويل أنه يقع على جنبه الأيمن مستقبلاً بجميع مقاديم بدنه القبلة، كالذي يوضع في قبره. ¬

_ (¬1) في الأصل وفي (ط): ويحنو على اليسرى، وفي (ت 2)، ومختصر ابن أبي عصرون: يحني على اليسرى. ومطموسة تماماً في (ت 1)، والمثبت في نسخة أخرى: بهامش (ت 2). وهو الصواب -إن شاء الله- فإن الاحتباء هو أن يجلس على إليتيه، ويضم فخذيه وساقيه إلى بطنه. (¬2) حديث النهي عن إقعاء الكلب على نحو ما ساقه إمام الحرمين، رواه ابن ماجه من حديث علي وأبي موسى. وتكلم الحافظ في بعض رواته، وصحح الألباني حديث علي رضي الله عنه. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 225 ح 335. وابن ماجه: إقامة الصلاة، باب الجلوس بين السجدتين، ح 895، وصحيح ابن ماجه: 1/ 47 ح 730). (3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). ومطموس تماماً في (ت 1)، وهو نحو سبعة أسطر.

وقال أبو حنيفة (¬1): ينبغي أن يكون مستلقياً وأخمصاه إلى القبلة على الهيئة المعتادة في المحتضرين، وصار إلى ذلك بعض أصحابنا، وهذا الخلاف ليس راجعاً إلى الأولى، بخلاف ما فرعنا الآن من هيئة القاعد، بل هو اختلاف فيما يجب، وإنما قلنا ذلك؛ لأن أمر الاستقبال يختلف به اختلافاً ظاهراً. وفي بعض التصانيف وجة ثالث، وهو أنه يكون على جنبه الأيمن، ولكن أخمصاه إلى القبلة، وهذا غلط غير معتد به. ولست أرى له وجهاً، والأصل فيما ذكرناه حديث رواه من يُعْتَمَدُ في رؤوس (¬2) مسائله عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يصلّي المريض قائماً، فإن لم يستطع صلى جالساً، فإن لم يستطع القعود (¬3) أومأ، وجعل السجود أخفض من الركوع، فإن لم يستطع صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة وأومأ بطرفه، فإن لم يستطع، صلّى على قفاه مستلقياً، وجعل رجليه مستقبل القبلة" (¬4)، فهذا حديث ساقه عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب القطع باتخاذه مرجعاً، ثم الاستلقاء وإن كان مذكوراً في الحديث، فهو بعد العجز عن الاضطجاع مع الاستقبال بجميع البدن كما نص عليه، ولكنه على الجملة مذكور. وفي الاستلقاء معنى لا يبعد تخيله إذا سبق إليه من لم يبلغه الخبر، وهو أن العاجز يومىء بالركوع والسجود، كما سنذكره، فإذا كان مستلقياً، وقع إيماؤه في صوب القبلة، ولا يكون الأمر كذلك إذا أومأ على جنب، (5 فأما إذا كان على جنب 5) ¬

_ (¬1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 106، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 256 مسألة: 206، الهداية مع فتح القدير: 1/ 458. (¬2) رؤوس المسائل: لعله اسم كتاب لأحد الأئمة ولم نصل إلى اسم صاحبه. (¬3) كذا في الأصل. وفي ط، و (ت 1)، وفي متن الحديث: "إذا لم يستطع أن يسجد أوْمأ" أما (ت 2) فقد سقط منها ذكر حالة القعود، وحالة الاستلقاء. (¬4) حديث علي "يصلي المريض قائماً ... " رواه الدارقطني: 2/ 42 باب صلاة المريض، ومن رعف في صلاته كيف يستخلف. وقد ضعّف الحافظ إسناده. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 226 ح 337). (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

وأخمصاه إلى القبلة، فليس لهذا ذكر في الخبر، ولا يشير إليه معنى متخيل. فهذا كله في القيام والعجز عنه وعن القعود. 936 - ونحن نذكر بعد ذلك الإيماءَ بالركوع والسجود، فأما القاعد إن قدر على الركوع والسجود، وجب عليه الإتيان بهما، وسجوده كسجود القادر على القيام، فأما الركوع، فنذكر حد أقله، قال صاحب التقريب: ينثني مقداراً يناسب انحناءه بالإضافة إلى القيام، فيجعل كأن قامته مقدار انتصابه في قعدته، ويعتبر نسبة انحنائه من قيامه لو كان قائماً، ثم ينثني مثل تلك النسبة في قعوده، وقد رأيت في حد الركوع في ألفاظ الأخبار أنه ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه، وليس ذلك بيانَ الكمال. فإنا ذكرنا أن الأكمل وراء هذا، فيتعين صرف هذا في الحديث إلى بيان الأقل، ثم يعتبر اعتدال الخلقة في طول البدن وقصرها، ثم نتخذ هذه النسبة معتبرنا في حق القاعد. وقد ذكر بعض الأئمة في أقل ركوع القاعد أنه ينحني بحيث يقابل وجهُه ما وراء ركبتيه من الأرض، ثم بأدنى المقابلة يكون مؤدياً لأقل المفروض عليه، وعند تحصيل هذه المقابلة يكون متشوفاً إلى طلب الكمال. وهذا ليس مخالفاً لما ذكرناه قبلُ. 937 - وتمام البيان عندي في ذلك، أنه إذا جاوز وجهه الحد الذي يسامت ركبتيه، فذقنه يحاذي الأرضَ، وليس يبعد أن يقال: طلب الكمال في ذلك بأن يفعل ذلك، ويطأطىء وجهَه حتى يحاذي جبهتُه موضعَ سجوده، وهذا يناظر في هيئة الكمال مدَّ القادر الذي لا مانع به في الركوع ظهره ورقبته على استواء، غير أن الاستواء غيرُ ممكن من القاعد. ولو كان يعجز عن القيام، فأقام القعودَ مقامه، وكان لا يعجز عن هيئة الركوع، تعين عليه أن يرتفع إلى حد الراكعين؛ فإن المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه. 938 - ومما يتعلق بذلك أنه إذا كان لا يقدر على إتمام السجود، لزمه أن يأتي بما يقدر عليه اعتباراً بما مهدناه من وجوب الإتيان بالمقدار المقدور عليه، فلو كان يقدر على مقدارِ أقل الركوع في حق القاعد، فلا نقول: نقسم ذلك المقدار بين الركوع

والسجود، ونصرف شيئاًً إلى الركوع والزيادةَ عليه إلى السجود، فإنا لو فعلنا هذا، كنا مسقطين عنه أقلَّ الركوع مع قدرته عليه، ولكن يأتي بالركوع عما عليه من وظيفة الركوع، ثم ينحني مرةً أخرى عن السجود، ولا يضر استواؤهما، كما يستوي فرضُ القيام في حق القاعد، وفرضُ القعود للتشهد الأخير، ولا يجوز غيرُ هذا، ولو كان يقدر على انثناءٍ يزيد على مقدار الأقل، وكان يزيد على مقدار الكمال أيضاً، فالوجه أن يأتي بما هو على حد الركوع، ثم يأتي بالزيادة على حد الكمال عن السجود؛ فإن الفرق على حسب الإمكان بين الركوع والسجود واجب، وذلك ممكن في الصورة التي ذكرناها، ولا يجب الفرق بين القعود الواقع بدلاً عن القيام، وبين قعود التشهد، وهذا ظاهر، وليس عرياً عن الاحتمال، فَلْيتأمله الناظر. ولو كان يقدر على أقل حد الركوع، وعلى ما ينتهي إلى حد الكمال، فليس يظهر عندي تكليفه الاقتصار على حد الأقل، ليكون الزائد عليه عن السجود، وليترتب عليه تحصيلُ الفرق بين السجود والركوع - ظهورَه (¬1) في الصورة التي قبل ذلك؛ فإن تلك مفروضة في زيادةٍ مجاوزةٍ حدَّ الراكعين، وهاهنا الكلُّ واقع في حد الركوع، ومنعُه من الركوع التام حالةَ الركوع بعيد. 939 - ولو كان يصلي مضطجعاً، أو على قفاه، كما ذكرناه، وكان لا يقدر على الركوع والسجود أصلاً، فقد قال الأئمة: يلزمه أن يومىء بطرفه إلى الركوع والسجود، والذي ذكروه معتضده الحديث الذي رويناه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه نص على الأمر بالإيماء، فليعتقد الفقيه أن الإيماء بالطرف حتمٌ. 940 - فإن لم يبق في أجفانه حراك، لزمه أن يُجريَ صورةَ الركوع والسجود على قلبه، وذلك أيضاً حتمٌ عند الأئمة، وذلك بأن يمثِّل نفسَه راكعاً وساجداً، ثم يجريهما على الذكر تامَّيْن؛ فإنه لا يعجز عن ذلك فكراً إن عجز فعلاً. 941 - ثم إن لم يكن لسانه معتقلاً، أتى بالقراءة وبالأركان، وإن اعتُقل لسانُه، ¬

_ (¬1) "ظهورَه" متصل بقوله: "فليس يظهر"، فهو مفعولٌ مطلق.

لزمه (1 إجراءُ تكبير العقد، والقراءة، والتشهد والصلاة في أوقاتها على قلبه، وهذا أظهر من 1) إجراء الأركان الفعلية على القلب؛ فإن حقيقة الكلام عند أقوامٍ هي الفكر القائم بالنفس، فإن اقمنا كلام النفس مقام قراءة اللسان، لم يبعد (¬2). فإن قيل: ما الذي اعتمدتموه في إجراء ذكر الأركان وتمثيلها في الفكر؟ قلنا: قد ثبت في الحديث أنه أمر المستلقي بالصلاة، والصلاة في الشريعة عبادة مخصوصة، ذاتُ أركان قولية، وفعلية، فلا يُتصور اعتقادها عند سقوط الأفعال الظاهرة إلا بإجرائها في الفكر، وهذا حسنٌ لطيف. فإن قيل، فأسقطوا فريضة الصلاة، لعدم تصوّرها، ولا توجبوا [تخيلها] (¬3)، كما أسقطها أبو حنيفة (¬4)، قلنا: منعنا من ذلك الحديث؛ فإنه عليه السلام أمر المستلقي بالصلاة، وهو ساقط الحركات، ثم إذا اضطررنا إلى الإيجاب، فلا يوجد (¬5) إلا بما ذكرناه، وليس يبعد أن يقال: صلى فلان بقلبه. 942 - ومما يتعلق بإتمام ذلك أن القادر على بعض الركوع وبعض الانحناء للسجود، مأمور بأن يأتي بما يقدر عليه، كما ذكرناه، وهل يجب أن يتخيل تمامه بقلبه ويجريه على ذكره؟ هذا محتمل عندي، يجوز أن يقال: الفكر للعاجز عن أصل الفعل بالكلّية، فأما إذا كان يقدر على شيء من الفعل، أغناه ذلك عن الفكر، وهذا هو الظاهر عندي؛ إذ لا خلاف أن القاعد العاجز عن القيام، لا يلزمه أن يُجري القيام في ذكره، وقد ينقدح فرقٌ في هذا بين القيام المعجوز عنه، وبين الركوع والسجود. فرع: 943 - المفترض إذا عجز عن القيام صلى قاعداً. والمتنفل يصلّي قاعداً مع القدرة على القيام، وهل يتنفل على جنب، أو مستلقياً مومياً، كما يفعله المريض ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (¬2) في (ت 2): ينعقد. وهو تحريف ظاهر. (¬3) في الأصل، و (ط)، و (د 4): تخليها. والمثبت من (ت 2). (¬4) ر. بدائع الصنائع: 1/ 107، الهداية مع فتح القدير: 1/ 459. (¬5) في (ل): "فلا وجه".

المضطر في صلاة الفريضة؟ فيه اختلاف. ولعل الأصحَّ المنعُ؛ فإنه خروج عن هيئة المصلّين بالكلية. قلت: ومن جوَّز ذلك في النفل، فما عندي أنه يجوز الاقتصار على ذكر القلب في القراءة والتكبير والتشهد والتسليم، وهذا يُضعف أصلَ الوجه؛ فإن ذكر القلب إلى قراءة اللسان أقرب من إجراء أمثال الأفعال في الفكر مجرى صورها فعلاً. ولو ارتكب المفرع على هذا الوجه الضعيف جواز الاكتفاء بقراءة القلب، كان طارداً للقياس، ولكنه مسرفٌ في الخروج عن الضبط، منتسب إلى الاقتحام. 944 - وأنا أذكر في ذلك تحقيقاً ينتجح به طالب الفقه، فأقول: قد ذكرنا فيما تقدم في كتاب الطهارة من تقاسيم الضرورات والمعاذير، أنا لا نشترط في القعود في الصلاة المفروضة - بدلاً عن القيام نهايةَ الضرورة، وعدمَ تصوّر القيام في الإمكان. وأنا أقول الآن: ينبغي أن يُشترط في الاضطجاع في الفريضة الضرورةُ، وعدمُ تصور القعود، أو خيفةُ هلاك، أو مرضٍ طويلٍ، وأرى أقربَ المراتب شبهاً بهذا رتبةَ المتيمم في مرض وجُرحٌ به، وقد سبق ذلك مفصلاً. وعلى الجملة لا أكتفي في ترك القعود بالاضطجاع بما أكتفي به في ترك القيام بالقعود. ولعل الشرع جوز التنفل قاعداً تهويناً لأمر القيام، والذي يوضّح الغرضَ في ذلك أن الأئمة لما قسموا الأعذار إلى العامة والنادرة، عَدّوا ما يقعد المصلي لأجله من الأعذار العامة، والمرض الذي لا يتصور معه القيام ليس بعام، ولكنهم لما اعتقدوا أنه يُكتفى في القيام بما دون الضرورة، ألحقوا ذلك بما يعم، وأما ما يضطجع المصلي لأجله، فإنهم ألحقوه بما يندر ويدوم، وهذا مشعر بما ذكرته من اشتراط مزيد ضرورة في الاضطجاع (¬1). ثم إذا صلّى المريض على حسب الإمكان، لم يلزمه القضاء، فإنه إن قعد، فالعذر عام، وإن اضطجع، فالعذر نادرٌ دائم، وقد ذكرنا أنه لا قضاء في القسمين جميعاًً. ¬

_ (¬1) عبارة (ت 2) فيها زيادة وسقط، هكذا: ... في الاضطجاع (فالعذر نادر دائم) وقد ذكرنا.

فصل 945 - إذا كان بالإنسان رمدٌ متمكن مؤلمٌ مؤذٍ، فقال من يوثق به: لو اضطجعت أياماً، وعولجت، برَأت، فهل يصلي مضطجعة لهذا العذر؟ قال العراقيون: هذه المسألة ليست منصوصة للشافعي، وللعلماء فيها اختلاف، ونقلوا خلاف العلماء في جواز ذلك، ثم قالوا: وما يقتضيه أصل الشافعي أنه لا يجوز الاضطجاع لهذا، واستدلوا بما روي أنه لما قرب ابن عباس من العمى، قال له بعض الأطباء: لو صبرت سبعةَ أيامٍ مضطجعاً، وعالجتُك برَأت عينُك، فاستفتى ابنُ عباس رضي الله عنه عائشةَ وأبا هريرة، فلم يرخّصا له في ذلك، وكُفَّ بصرُه (¬1). قلت: إذا لم يكن للشافعي في ذلك نص، وقد نقلوا في ذلك خلاف العلماء، فالمسألة محتملة، وفساد البصر شديد، وتكليف المصلي ما يغلب على الظن منه عماه بعيد، وما ذكروه من حديث ابن عباس واستفتائه تعلقٌ بمذهب آحادٍ من الصحابة، وهو حكاية حال، فلعلهم لم يثقوا بقول الطبيب، ورأَوْا الأمرَ شديداً، والعلاجَ غيرَ مجد، والله أعلم. ثم إن قال قائل: القيامُ في نفسه مقدور عليه، وليس في عينه عجزٌ؟ قيل: إيصال الماء إلى محل الجروح ممكن، ولكن مخوفُ العاقبة (¬2)، ثم إن صح ما قاله ¬

_ (¬1) هذا الأثر عن ابن عباس رواه البيهقي، وفيه أنه سأل عائشة، وأم سلمة، وقد علق عليه النووي في المجموع قائلاً: رواه البيهقي بإسنادين أحدهما صحيح، والآخر ضعيف، ثم تعقب روايتنا هذه قائلاً: "وقع عند الغزالي في الوسيط: أن ابن عباس استفتى عائشة، وأبا هريرة، وهو باطل فلا أصل لذكر أبي هريرة" ا. هـ. وقد تبع النوويُّ ابنَ الصلاح في إنكاره على الغزالي، والحق مع إمام الحرمين وتلميذه الغزالي، فقد قال الحافظ "فأما استفتاؤه لأبي هريرة، فأخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر" ا. هـ. (ر. السنن الكبرى: 2/ 309، والتلخيص: 1/ 228 ح 339، ومشكل الوسيط لابن الصلاح والتنقيح للنووي - بهامش الوسيط: 2/ 108، 109). (¬2) المعنى أنه كما يجوز التيمم مع وجود الماء وإمكان إيصاله إلى محل الجروح؛ خوفاً من العاقبة وفساد الجرح، فيجوز الاضطجاع مع القدرة على القيام إذا كان القيام مخوف العاقبة.

العراقيون، فالذي أراه في ذلك أن القعود إذا كان مُغْنياً في دَرْء غائلة الرمد، قعد بلا خلاف؛ فإنا نكتفي فيما يجوز القعود لأجله بما يُضجر ويُقلق، ويسلب خضوع الصلاة، وهذا المعنى دون خوف فوات البصر، وقد نصّوا على تخصيص المسألة بالاضطجاع، فليتأمل الناظر الفطن مواضع النظر. 946 - ومما يتعلق بصلاة العاجز، أن القادر على القيام إذا طرأ عليه عجز، قعد وبنى، والعاجز عن القيام إذا وجد خفة في أثناء قعوده، قام وانتصب، وبنى على صلاته، ثم إن كان القائم في أثناء قراءة الفاتحة، فعجز، فليختتم القراءة في هُويه إلى القعود؛ فان ذلك أقرب إلى حد القيام، وليس ما ذكرناه استحباباً، بل يجب مراعاة ذلك، بناء على ما ثبت من رعاية الأقرب إلى الامتثال. ولو وجد القاعد في أثناء الفاتحة خفة، وأراد القيام، فلا يقرأ في طريقه إلى القيام؛ فإنه إذا تمكن من إيقاع القراءة في القيام، لم يكتف بما دونه، ثم إذا قام، لم نوجب عليه إعادةَ الفاتحة في القيام، بل يقرأ بقيةَ الفاتحة؛ فإنه إذا كان يبني بعض [الصلاة على بعض، في طوْري النقصان والكمال، فكذلك يبني بعض] (¬1) القراءة على بعض. ومما نذكره في ذلك أن العاجز إذا وجد خفّة، وكان قد فرغ من القراءة، ولم يركع بعدُ، فيلزمه أن يقوم، ثم يهوي راكعاً؛ فإن الهُويَّ من القيام إلى الركوع مأمور به، وقد تمكن هو من ذلك، فَلْيَأْتِ به وكذلك إذا كان فرغ من الركوع، ثم وجد من نفسه خفة لمَّا اعتدل قاعداً، فَلْيَقم ولْيسجد عن قيام تام. 947 - قلت: في هذا المقام لطيفة يقضي الفطِن منها العجَبَ، وأنا أقول فيها: إذا اعتدل العاجز عن الركوع قاعداً، فوجد خفة، فليقم كما ذكرته، ويجب والحالة هذه الطمأنينةُ، على ما ذكره الأئمة في اشتراط الطمأنينة في الاعتدال عن الركوع. فأمّا إذا وجد خفة، وقد قرأ قاعداً، فأمرناه بالقيام ليهوي راكعاً، فأمرُ الطمأنينة في هذا القيام متردد عندي؛ فإنه إن ظن ظان أن الاعتدال عن الركوع ركن مقصود، ¬

_ (¬1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1)، (ت 2).

فما أرى ذلك ظاهراً في هذه القومة، التي وجبت لأجل الهوي منها إلى الركوع؛ فإنها غير مقصودة قطعاً، ولا يمتنع أيضاً أن يقال: ينبغي أن يكون الركوع عن سكون وقيام، وإذا لم نجد نصاً، فالرجوع إلى قضايا النُّهى، وليس لنتائج القرائح منتهى. ولو ركع الراكع، ثم وجد في الركوع خفة، فلا نأمره أن يقوم ويهوي راكعاً، بل نقول: لو فعل ذلك، بطلت صلاته؛ فإنه يكون آتياً بركوعين بينهما قيام في ركعة واحدة، ولكنه إذا وجد خفة كما ذكرناها في الركوع، ففد قال الأئمة: يجوز أن يرتفع راكعاً حتى ينتهي إلى ركوع القادرين على القيام، ولم ينصُّوا على أنه يجب ذلك. وأنا أقول فيه: إذا وجد الخفة قبل حصول الطمأنينة، فالظاهر أنه يجب عليه الارتفاع إلى ركوع القائمين. فإن قيل: قد لابس البدلَ، فهلاَّ جاز إتمامه والاكتفاء به؟ قلنا: نصبُ القدمين إلى معقد النطاق حتمٌ في الركوع كما مضى في فصل الركوع، فَلْيَأت به، وبالجملة، القول في ذلك متردّد محتمل. وإن ركع واطمأن عن قعوده، ثم وجد بعد ذلك خفة، فالظاهر أنه لا يجب الانتهاء إلى ركوع القائمين؛ فإنه وجد الخفة بعد كمال الركوع، ولا يمتنع أن يقال: يجب ذلك، مادام ملابساً للركن، تخريجاً على أن الركن إذا مدّ، فجميعه فرضٌ، أم الفرض منه مقدار الاكتفاء أولاً؟ وقد سبق في هذا كلامٌ تام، في الأمّي إذا تعلم الفاتحة وهو قائم. فلينعم الطالبُ فكره جامعاً وفارقاً في هذه المسائل. ولن ينتفع بهذا المجموع إلاّ من هو في الفقه مطلع على مسالكي في المذهب والخلاف والمأمول من فضل الله أن يُعمّمَ النفعَ به، ويجعلَه خالصاً لوجهه، إنه على ما يشاء قدير، وبإسعاف راجيه جدير. 948 - ولو قدر العاجز عن القيام في أثناء القعود، لم يجز له أن يلبث قاعداً؛ فإن القعود في هذا الوقت مشروط بالعجز، وقد زال العجز، فليترك القعودَ.

ثم قد ذكرنا أنه إن لم يكن ركع، قام وهوى منه راكعاً، وإن كان ركع، قام وهوى ساجداً. فإن كان هذا بين السجدتين، فهذا أوان القعود، فلا يقوم؛ إذ الفاصل بين السجدتين في حق القادر هو القعود. وغرض هذا الفصل أنا حيث نأمره بالقيام لا يجوز له أن يلبث قاعداً، ولو لبث، وقد كان تمم القراءة، فإنما نأمره الآن بالقيام ليهوي راكعاً أو ساجداً، فعلى ماذا يترك قعودَه، ومَا المعتبر فيه؟ فالوجه أن يقدر كأنه قعد [بسبب وقد زال، فليبتدر قطعَ قعوده، ولو مكث كان كما لو قعد] (¬1) قعدةً في أثناء قيامه في حال قدرته، وإن فرض ذلك، بطلت الصلاة به، وكل ذلك إن فرض مع العمد والعلم؛ فإنه لا يجوز. ثم إن أمرناه بأن يقوم، فاشتغل بحركات الانتهاض، وواصلها، كما يفعله في انتقالاته، كفاه ذلك، والمكث الذي ذكرناه وحكمنا بكونه مبطلاً هو الطمأنينة التي وصفناها، فإذا قصد مثلَها مع العلم، كان مبطلاً للصلاة. فهذا منتهى ما نراه في ذلك. 949 - ثم يجوز اقتداء القادر بالعاجز، وكل واحد منهما يصلّي على حسب حاله، فيقوم المقتدي القادر على القيام خلف العاجز، وسيعود ذلك في أحكام الجماعات، إن شاء الله تعالى. فصل 950 - قد ذكرنا (¬2) في خلال الكلام النهيَ عن المرور بين يدي المصلي، وروينا فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال الأئمة: ينبغي أن يكون بين يدي المصلي شيء من جدار، أو سارية، أو مصلَّى، ولْيقع بين موقفه وبين ما بين يديه، ما يكون بين يدي الصفين في توافر الناس، وهو مقدار ذراعين إلى ثلاثة، وفيه ¬

_ (¬1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1)، (ت 2). (¬2) فقرة 920.

مسجد (¬1) على توسع، وإنما رأَوا ذلك، حتى يبين حدّ السجود. وحد مصلَّى المصلِّي، ثم المار يجتنب المرور في ذلك؛ فإنه بمثابة المستحَق لاضطراب المصلّي في حركاته وانتقالاته. ولو كان الرجل يصلّي في صحراء، فحسن أن يغرز بين يديه عَنَزَة (¬2) أو سوطاً، أو ينضد شيئاًً من رَحْله، أو ما شاء، ولعل السر في ذلك أن يبيّن للمار الحدَّ الذي يجتنب المرورَ فيه، فيتنكّبه. وإذا لم يكن بين يديه شيء يُعلِم حدَّه، والمار في مروره يعسر عليه الاشتغال برعاية ذلك، فيكون المصلي في ترك ما يتستر به كالمقصر في الاهتمام بحماية حد صلاته. ثم ليس المرور حراماً في حده، وإن تستر، وإنما هو مكروه، ولا ينتهي دفعُ المصلّي إياه إلى منعٍ محقق، بل يومىء ويشير برفق في صدرِ (¬3) من يمرّ ويبغي تنبيهَه. وهذا كذلك. وإن ورد لفظ القتال حيث قال: "فَلْيُقَاتل"، فهو محمول على إبداء الحدّ (¬4) في محاولة الدفع، والساتر الذي يرعاه، إنما هو إعلام كما ذكرناه، وهو الغرض منه، وليس المقصود التستر الحقيقي به، وليس كما ذكرناه في نصب شيء في سطح الكعبة يستقبله المصلّي؛ فإن ذلك الشاخص قبلةُ المصلّي، ففصّلنا القول في استقباله، وهذا لإعلام الحد. 951 - ولو قصَّر المصلّي ولم يبيّن عَلَماً، ثم أراد أن يمنع المار في حدّه، فهل له ذلك؛ فعلى وجهين: أحدهما - لا؛ لأنه المقصر، والثاني - يمنعه، ويصير دفعه الآن إعلاماً، فَلْيَكتف به المدفوع، فعلى هذا يعود أمرنا المصلّي بنصب عَلَم إلى أَنْ لا يحتاج في أثناء الصلاة إلى الدفع، فإن لم يتفق مست الحاجة إليه، واكتفى المدفوع ¬

_ (¬1) أي مكان سجود وفي (ت 2): وفيه يسجد. (¬2) عَنَزَة بثلاث فتحات: عصا أقصر من الرمح ولها زُج من أسفلها. "المصباح". (¬3) (ت 2): في صده. وفي (ل) "في صلب من يمر". (¬4) كذا في النسخ كلها بالحاء واضحة تماماً. ولعلها: (الجَد) بالجيم، وإلا فالحدّ (بالحاء) تكون بمعنى الحدة.

به، فكأن العلَمَ لو نصب، في حكم الإشارة إلى الدفع، فإذا لم ينصب، فإنشاء الدفع في حكم التصريح بالمقصود. 952 - ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من النهي عن المرور [و] (¬1) دفع المار فيه إذا وجد المارّ سبيلاً سواه، فإن لم يجد، وازدحم الناس، فلا نهي عن المرور، ولا يشرع الدفع. 953 - ولو كان الرجل في صحراء، وخطَّ خطاً بين يديه مُعلماً به حدّه، فقد تردّد في هذا كلام الشافعي في القديم، وأن هذا هل يكون ساتراً؟ فمال إلى الاكتفاء به قديماً، ثم رُئي ذلك القول في الجديد، قد خَطّ عليه الشافعي، فالذي استقر عليه أن الخطَّ لا يكفي؛ إذ الغرض منه الإعلام، وهذا لا يحصل بالخط. فصل قال: "وأحب إذا قرأ آية رحمة أن يسأل ... إلى آخره" (¬2) 954 - الإمام إذا مرّ في أثناء القراءة بآية رحمة، فحسنٌ أن يسأل، وإذا مر بآية عذاب، فحسن أن يستعيذ، وكذلك يفعلُ المأموم المستمع. وقد رُوي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: "صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فقرأ فيهما سورةَ البقرة، وكان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ، وإذا مر بآية تنزيه سبح، وإذا مرّ بآية مثَلٍ فكَّر" (¬3). ¬

_ (¬1) ساقطة من جميع النسخ، وزدناها رعاية للسياق. ثم وجدناها في (ل). (¬2) ر. المختصر: 1/ 83. (¬3) حديث حذيفة رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني، ورواه البيهقي من حديث عائشة (ر. أبو داود: الصلاة، باب ما يقول في ركوعه وسجوده، ح 871، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود، ح 262، النسائي: الافتتاح، باب تعوذ القارىء إذا مرّ بآية عذاب، وباب مسألة القارىء إذا مرّ بآية رحمة، ح 1008، 1009، ابن ماجه: إقامة الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، ح 1351، البيهقي: 2/ 310، تلخيص الحبير: 1/ 240 ح 359، وصحيح أبي داود: 1/ 165 ح 774).

955 - ويتصل بذلك من مذهبنا أن المصلي يدعو بما شاء في صلاته، ولا يشترط أن تكون دعوته واردة في الصلاة، أو مأثورة شرعاً في غير الصلاة، ولكن شرطها أن تكون عربية، ولا يكون فيها خطاب آدمي. وقد ذكرنا أن من عجز عن التكبير العربي أو عن التشهد، فإنه يأتي بمعنى ما عجز عنه بالأعجمية، وذكرنا الآن أنه لا يأتي بدعوة يخترعها بالعجمية. فأمّا الأذكار المسنونة كتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الركوع والسجود وغيرها، فهل يأتي الأعجمي بمعناها؟ تردد الأئمة فيه، وحاصل التردد في الاحتمالات ثلاثة أوجه: أحدها - المنع؛ فإنها مسنونة، وتركُ لسان العجم حتم. والثاني - يأتي بمعناها ويقيمها مقام الأذكار العربية. والثالث - ما يجبر منها بالسجود لو ترك، فيأتي ببدلها بلسانه، وما لا يجبر لا يأتي له ببدل أعجمي. وكان شيخي يتردد في دعاء مخترع يشتمل على وصفِ مسؤول، مثل أن يقول: اللهم ارزقني جاريةَ صفتها كذا وكذا، ويميل إلى المنع من ذلك، والمصير إلى أنه من المبطلات؛ فإنه ينافي تعظيمَ الصلاة. وهذا غير سديد، والوجه ألا يمنع منه؛ فإنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول أحياناً في قنوته، "اللهم أنج الوليد واشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" (¬1) فتسمية الواحد منا في دعائه شخصاً وشيئاًً بمثابة ما صحت الرواية فيه، فأما الأعجمي، فالترتيب فيه أنه لا يأتي بأعجمي مخترع، ويأتي بمعنى ما يجب من الأذكار، وفي معنى ما يسن ولا يجب، ما ذكرناه من الاحتمال. ¬

_ (¬1) حديث: اللهم أنج الوليد. متفق عليه من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 133 ح 392).

فصل قال: "فإذا قرأ آية السجدة، سجد ... إلى آخره" (¬1). 956 - السجود عند الآيات المشتملة على السجود، كما سنذكرها مأمورٌ به، يشهد له السنة المتواترة، وأجمع عليه المسلمون، وليس واجباً، ولكنه مسنون. خلافاً لأبي حنيفة (¬2). 957 - ومضمون الفصل يحويه القول في مقتضي السجود، وفي كيفية السجود، وفي قضائه: فأما، مقتضيه، فتلاوة أربعةَ عشرَ آية معروفة، وموضع السجود فيها مبين. ووافق أبو حنيفة (¬3) في العدد، ولكنا اختلفنا في سجدتين على البدل، فلم نُثبت في " ص " سجدة، وأثبتها أبو حنيفة (¬4)، وأثبتنا في سورة الحج سجدتين، ونفى أبو حنيفة السجدة الأخيرة. ومعتمدنا ما روى عقبةُ بن عامر قال: "سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: في الحج سجدتان؟ فقال: نعم، ومن لم يسجدهما، فلا يقرأهما" (¬5). ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 83. (¬2) ر. مختصر الطحاوي: 29، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 240 مسألة: 185، بدائع الصنائع: 1/ 180، تبيين الحقائق: 1/ 205، فتح القدير: 1/ 465. (¬3) ر. مختصر الطحاوي: 29، بدائع الصنائع: 1/ 193، تبيين الحقائق: 1/ 205، فتح القدير: 1/ 464. (¬4) ر. مصادر الأحناف في الهامش السابق. (¬5) حديث عقبة بن عامر رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدراقطني، والبيهقي، والحاكم (ر. أبو داود: الصلاة، باب تفريع أبواب السجود وكم سجدة في القرآن، ح 1402، الترمذي: أبواب الصلاة، ما جاء في السجدة في الحج، ح 578، المسند: 4/ 151، 155، البيهقي: 2/ 317، وفي المعرفة: 1/ 152، 153، ح 1106، الحاكم: 1/ 221، التلخيص: 2/ 9 ح 487).

ومذهب مالك (¬1) أن سجدات التلاوة إحدى عشرة، ولم يُثبت في المفصل سجدة، وهذا قول للشافعي في القديم، والمعتمد في نُصرته ما روي عن ابن عباس أنه قال: "لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المفصّل بعد ما هاجر" (¬2). واعتمد الشافعي في الجديد ما رواه أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لما تلا: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬3) [الانشقاق: 1] وكان إسلام أبي هريرة بعد الهجرة بسنين (¬4)، ورأى ما أثبته أولى من نفي ابن عباس. وفي بعض التصانيف أن ابن سريج أثبت سجدة "ص"، فصارت السجدات على مخرجه خمسَ عشرةَ سجدة. 958 - ثم إن تلا الرجل آية سجدة، سجد، وإن لم يتل بنفسه، ولكنه كان يستمع إلى قراءة غيره، فتلا وسجد التالي، يسجد المستمع، فالاستماع إذاً يقتضي السجود إذا سجد التالي، فأما إذا لم يسجد التالي، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة، أن المستمع لا يسجد، ويشهد لذلك ما روي: "أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتدارسون القرآن بين يديه، فقرأ قارىء آية سجدة وسجد، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ آخرُ آيةَ سجدة، فلم يسجد، فلم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، قرأ فلان فسجدتَ، وقرأتُ فلم تَسجد، فقال صلى الله عليه وسلم: كنت إمامنا فلو سجدتَ، لسجدنا" (¬5). ¬

_ (¬1) ر. حاشية العدوي: 1/ 318، حاشية الدسوقي: 1/ 307، جواهر الإكليل: 1/ 71. (¬2) حديث ابن عباس: رواه أبو داود، وأبو علي بن السكن في صحيحه، وفيه راويان مضعفان. (ر. أبو داود: الصلاة، باب من لم ير السجود في المفصل، ح 1403، البيهقي: 2/ 312، 313، تلخيص الحبير: 2/ 8 ح 484). (¬3) حديث أبي هريرة: رواه مسلم، وأصله في البخاري (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 116 ح 341، والتلخيص: 2/ 8 ح 485). (¬4) ومن يقرؤها بسنتين، فقد صحف؛ فإن إسلام أبي هريرة كان عام خيبر باتفاق. (¬5) الحديث رواه أبو داود في المراسيل عن زيد بن أسلم، وكذا رواه الشافعي، ونظيره عند البخاري معلقاً عن ابن مسعود من قوله. وقد ذكر الحافظ من وصله فى تغليق التعليق. (ر. التلخيص: 2/ 9 ح 490).

وذكر صاحب التقريب هذا، وذكر معه شيئاًً آخر، وهو أنه قال: نقل البويطي عن الشافعي في مختصره أنه قال: إن سجد القارىء، تأكد السجود على المستمع، وإن لم يسجد القارىء، فسجد المستمع، كان حسناً، وكان مقيماً للسنة، فصار هذا قولاً، وليس يبعد توجيهه، وحُمل ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تدارس أصحابه القرآن على استحثاث التالي على السجود. ولو لم يقصد الاستماع، فلا يسجد وإن سجد التالي، وإن كان قرع سمعَه ما تلاه؛ فإنه إذا لم يقرأ في نفسه، ولم يجرّد قصداً إلى الاستماع، فتقع سجدتُه لو وقعت منقطعةً عن سبب يختاره وينشئه. وكان شيخي يقول: المصلي يسجد إذا سجد إمامه سجودَ التلاوة، لا محالة. ولو كان المصلي يُصغي إلى قراءة قارىءٍ في غير الصلاة، أو إلى قراءة مصل ليس إمامَه، فلا ينبغي أن يسجد أصلاً؛ فإنه ممنوع عن إصغائه، فلا حكم له، وحق الصلاة أن تُحرسَ عن سجودٍ زائدٍ لا يقوى سببُه. فإذاً إنما يسجد المصلي إذا تلا إماماً أو منفرداً، أو إذا سجد إمامُه لما تلا، فيتابعه، فلو تلا الإمامُ، ولم يسجد، لم يسجد المقتدي، ولو سجد، بطلت صلاته. ولو تلا المقتدي، فلا يسجد، كما إذا سها، فإنه لا يسجد للسهو. وذهب أبو حنيفة (¬1) رضي الله عنه أن المصلي المنفرد، والإمامَ إذا سمع غيرَه يتلو، فإنه يسجد إذا سمع خارجاً من الصلاة. وفي بعض طرقنا ما يشير إلى هذا، وهو بعيد جداً. فهذا بيان ما يقتضي سجودَ التلاوة قراءةً واستماعاً، وذِكْرُ أعداد السجدات. 959 - فأما كيفية السجود، فنذكر سجود من ليس في الصلاة، ثم نذكر سجود التالي في الصلاة. ¬

_ (¬1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 187، فتح القدير: 1/ 468، تبيين الحقائق: 1/ 206، حاشية ابن عابدين: 1/ 519.

فأما من ليس في الصلاة، فالكلام في الأقل والأكمل نأتي به ممتزجاً؛ لاختلاف المذهب فيه. فأما الشرائط المعتبرة في الصلاة، فهي بجملتها مرعية في سجود التلاوة، وهي الستر، وطهارة الحدث، والطهارة عن الخبث، واستقبال القبلة. وأما ما لا بد منه، فالاختلاف الظاهر فيه يحويه ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا بد من التحرم بالتكبير والنية والتحلل، فأما السجدة الفردة لا يسوغ تصحيحها. والثاني - ألا يُشترطَ واحدٌ منها، ويكفي الإتيان بصورة السجود مع استكمال الشرائط التي قدمناها، وهذا ما كان لا يذكر شيخي غيرَه. ووجهه أنه لو فرض فيه تحرُّم وتحلل، لكان صلاة، والسجدة الفردة لا يجوز أن تكون صلاة. والوجه الثالث - أن التحرم لا بد منه، فأما السلام، فلا يشترط الإتيان به، ولكن رفع الرأس ينهيه نهايته، وجريان سجود التلاوة في الصلاة شاهد لما كان يذكره شيخي؛ فإنه لا يتصور في الصلاة تحرّم وتحلل. وذكر صاحب التقريب وجهاً زائداً، فقال: إذا قلنا لا بد من التسليم، فمن أصحابنا من أوجب التشهد بعد رفع الرأس ليقع السّلام بعد نجازه، وهذا بعيد. ونص الشافعي يوافق من هذه الوجوه ما كان يذكره شيخي. فهذا ما نذكره الآن في سجود من ليس في الصلاة. وأما من كان يسجد في الصلاة على التفصيل المقدم، فلا يشترط أن يكبر؛ فإنه لا يُتصور التحرمُ عقداً ونيةً وشروعاً، وإذا امتنع ذلك، فاشتراط التكبير، لا معنى له، ولكن ما ذكره الأئمة، أن الساجد يُستحب له أن يكبر إذا هوى ساجداً، ويكبر إذا ارتفع، كما يفعله في سجدات الصلاة. وذكر العراقيون أن ابن أبي هريرة لا يستحب التكبير، لا عند الهوي، ولا عند رفع الرأس، وزعم أن ذلك يشبهها بالسجدات الراتبة. وهذا بعيد لا يعوّل عليه، وعمل السلف على خلافه.

960 - ومما بقي علينا في كيفية السجود كلام يتعلق بالأَوْلى في سجود من ليس في الصلاة. فإن قلنا: التكبير ليس مشروعاً (¬1)، فالمذهب المبتوت أنه مستحب، وحكى العراقيون عن أبي جعفر الترمذي (¬2) من أصحابنا أنه كان يكرهها ولا يراها، ويقول: التكبير شرع لصلاة معقودة، وليست هي صلاة، بل هي سجدة فردة، وهذا بعيد. وإتمام هذا أن نقول: مَنْ شَرطَ التحللَ بالسلام، فلا شك أنه يرعى التحريم؛ [فإن التحلل مترتب على التحرّم،] (¬3) وعلى هذا لا بد من النية، وهي العاقدة في الحقيقة. فأما من لا يشترط التحلّل، فلعله لا يشترط التحرم بالنية أيضاً، كما ذكرناه في السجدة الواقعة في الصلاة، ولكن إيجابَ التكبير واشتراطَه من غير نية بعيد. فهذا تمام البيان في ذلك. ومن لم يشترط التشهد اضطربوا في أن التشهد هل يستحب؟ وهذا لعمري محتمل. وكان شيخي يقوم ويكبر ويهوي عن قيام، ولم أر لهذا أصلاً ولا ذكراً. فهذا منتهى القول. في صفة السجود. 961 - فأما القضاء، فمن تلا آية سجدة، ولم يسجد حتى طال الفصل، فقد فات أوان السجود، فهل يقضيها؟ ذكر صاحب التقريب قولين في قضائها [وقرَّبهما] (¬4) من الاختلاف في أن النوافل إذا فاتت، هل تقضى أم لا؟ وسيأتي ذلك مشروحاً إن شاء الله في باب النوافل. وسجود التلاوة أبعد عندي من قبول القضاء من وجهين: أحدهما - أن ما يتعلق بأسباب، لا بأوقات من النوافل لا يُقضى، كصلاة الخسوف، وسجود التلاوة شبيه بها. ¬

_ (¬1) في (ت 1)، (ت 2): مشروطاً. (¬2) أبو جعفر الترمذي، محمد بن أحمد بن نصر، شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن سريج، وهو ممن اجتمع له إمامة العلم والعمل. ت 295 هـ عن أربعٍ وتسعين سنة (طبقات السبكي: 2/ 187، 188). (¬3) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬4) في (ت 1)، (ط): "وقرنهما" وفي (ت 2): "وقربها".

والثاني - أن الصلاة قُربة كاملة مقصودة، فتقدير القضاء فيها أقرب من تقديره في السجود. وذكر صاحب التقريب في هذا ضبطاً حسناً، وذلك أنه قال: ما لا يجوز التطوع به ابتداءً، فلا يجوز شرع (¬1) قضائه، إذا فات. وقد ذكرنا أن المذهب، أن من أراد أن يسجد من غير سببٍ خشوعاً وتواضعاً لله، لم يجز. فلو قضى سجوداً من غير تلاوة، كان ذلك على صورة سَجْدةٍ لا سبب لها، وهذا ضبط حسن، إذا تدبره الطالب. ثم من تمام البيان في ذلك أن [طول] (¬2) الفصل الذي ذكرناه في تصوير الفوات ليس بخافٍ في الجملة. وبالجملة سجود التلاوة من توابع القراءة، فَلْيَقع متصلاً بها، والمعتبر في انقطاعها أن يغلب على الظن إضراب التالي عنها بسببٍ، أو بغير سبب. ولسنا ننظر في ذلك إلى مفارقة المجلس الذي حوى التلاوة أو ملازمته، وإنما النظر إلى الزمان، كما ذكرناه. وقال صاحب التقريب: إذا كان الرجل في الصلاة، فقرأ قارىء ليس في الصلاة، أو لم يكن إماماً آيةَ سجدة، فالمصلي لا يسجد أصلاً، كما ذكرناه، ولكن إذا تحلَّل، ففي القضاء ما ذكرناه، وهذا فيه نظر؛ فإن الظاهر أن ما جرى، لم يكن مقتضياً لسجوده، وإذا لم يجر ما يقتضي أداء السجود، فالقضاء بعيد، ولكن صاحب التقريب يرى ذلك مقتضياً، ويرى الصلاة مانعة من الأداء، وينزل ذلك منزلة ما لو استمع الرجل وهو محدث، فإذا تطهر؛ فإنه في القضاء يُخرَّج عند الأصحاب على الترتيب المقدم. فرع: 962 - ذكر صاحب التقريب عن الأصحاب، أن الرجل لو خضع لله، فسجد من غير سبب، فله ذلك، ولا بأس. وهذا لم أره إلا له، وكان شيخي يكره ذلك ويشتدُّ نكيره على من يفعل ذلك. وهو الظاهر عندي. ¬

_ (¬1) في (ل): "فرض قضائه". (¬2) في الأصل: " ... في ذلك أن نفول: الفصل الذي ذكرناه .. " والمثبت من باقي النسخ.

فصل قال: "ويقضي المرتد كل ما ترك في الردة ... إلى آخره" (¬1). 963 - من ارتد واستمر، ففاته صلوات في ردته، فيلزمه قضاؤها إذا أسلم، ولو كان قد فاتته صلواتٌ في إسلامه، فارتد، لم يسقط عنه قضاؤها، ولا يخفى مذهب أبي حنيفة (¬2) فيها. وحقيقة مذهبنا أن الردة لا تقطع الخطاب عن المرتد، ولا تخرجه عن التزام أحكام الإسلام، وأبو حنيفة يلحق المرتد بالكافر الأصلي. ولو ارتدت المرأة، فالصلوات التي تمر عليها مواقيتُها في زمان الحيض لا يلزم قضاؤها إذا أسلمت. ولو جن المرتد، ثم أفاق وأسلم، فالظاهر من كلام الأصحاب أنه يلزمه قضاء تلك الصلوات، وفرقوا بين الحائض والمجنون، بأن إسقاط الصلاة عن الحائض ليس رخصة، وإنما هي لأن حالها لا يقبل الصلاة. وكان شيخي يعبر عنه بعبارة رشيقة ويقول: الحائض مكلفة بترك الصلاة، وهذا يتأتى منها في الردة، فكأنها أقامت حكم التكليف في الردة، فلا تدارك له، والمجنون ليس [مُخاطباً بترك الصلاة، وإنما سقط قضاء الصلاة عنه تخفيفاً، والمرتد ليس] (¬3) ممن يخفف عنه. وتمام البيان في ذلك، أن ما ذكروه من إسقاط القضاء في حق الحائض واضح لا شك فيه، وأما إذا جُن المرتد، فيظهر فيه خلاف سيأتي أصله مقرراً في باب صلاة المسافر، وهي أن المعاصي إنما تنافي الرخص إذا كانت في أسباب الرخص ¬

_ (¬1) ر. الأم: 1/ 61. (¬2) ر. مختصر الطحاوي: 29، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 369 مسألة: 278، رؤوس المسائل: 167 مسألة: 70. (¬3) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

كالعبد الآبق لا يترخص برخص المسافرين، فأما إذا لم تكن المعصية في سبب الرخصة، فلا تسقط الرخص؛ فإن المسافرين إذا كانوا يفسقون [بالشراب] (¬1)، فإنهم يترخصون؛ إذ لا معصية في السفر نفسه، كذلك سبب الرخصة الجنون، وهو كائن لا معصية فيه، وسيأتي تمهيد ذلك على أبلغ وجه من البيان في موضعه. إن شاء الله تعالى. 964 - ثم قال الأئمة: السكران إذا فاتته صلوات في سكره، يلزمه قضاؤها، وهذا متفق عليه، فلو جُن السكران، فقد ذكر الأصحاب وجهين في قضاء الصلوات: أحدهما - أنه لا يقضي إلا صلوات أيام السكر. والثاني - أنه يقضي صلوات أيام الجنون؛ فإن جريان الجنون في السكر بمثابة جريانه في الردة؛ إذ السكران مغلّظ عليه في أمر الصلاة، كما أن المرتد مغلظ عليه. وهذا كلام ملتبس لا حقيقة له، والوجه أن يقال: إذا زال السكر والجنون متصل، فلا يجب قضاء الصلوات التي تمضي مواقيتُها في الجنون بعد زوال السكر وجهاً واحداً، بخلاف المرتد يجن؛ فإن المجنون الذي جنّ في ردته مرتد في حال جنونه حكماً، وليس بسكران قطعاً. فأما الزمان الذي اجتمع فيه السكر والجنون، فيجوز أنْ يُقال: هو فيه كالذي يجن وهو مرتد. والذي ذكرناه إذا لم يكن شُربُه سببَ جنونه، فإن كان كذلك، فهذا رجل جنن نفسه، ولو جرى ذلك وفاتت صلوات في الجنون، ففي وجوب قضائها وجهان، سنذكرهما في باب القصر عند جمع المعاصي المؤثرة في الرخص. والله المستعان. ... ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

باب سجود السهو

باب سجود السهو قال الشافعي رحمه الله: "ومن شك في صلاته، فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً ... إلى آخره" (¬1). 965 - إذا شك في الصلاة، فلم يدر أنه صلى ثلاث ركعات، أم صلى أربعاً، وكان رفع رأسه من السجدة الثانية، وتردد بين أن يجلس ويتشهد، وبين أن يقوم إلى الركعة الرابعة، فمذهب الشافعي أنه يأخذ بالأقل المستيقن ويبني عليه، ويقوم إلى الركعة التي شك فيها، ولا يأخذ بالظن، ولا يجتهد. ثم الركعة التي جاء بها عنده مترددة بين أن تكون رابعة كما يقتضيه ترتيب الصلاة، وبين أن تكون خامسة زائدة، وقد تمت الركعات كلّها. ثم يسجد للسهو في آخر الصلاة، كما سنصفه، ولا مجال للاجتهاد والتحري أصلاً؛ إذ التعويل في الاجتهاد على التعلق بالأمارات والعلامات المغلبة على الظن، وليس فيما شك عليه علامة يستشهد بها. وقال أبو حنيفة (¬2): إن كان يتكرر ذلك منه، فيجتهد ويبني على ما يغلب على ظنه، وإن كان يندر ذلك منه، فيقضي الصلاة ويستأنفها. ومعتمدنا في المذهب ما رواه عبد الرحمن بنُ عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم، فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين، فَلْيَبْنِ على واحدة، وإن لم يدر ثنتين صلّى أم ثلاثاً، فليبن على ثنتين، وإن لم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً، فليبن على ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 84. (¬2) ر. مختصر الطحاوي: 30، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 277 مسألة: 232، بدائع الصنائع: 1/ 165، حاشية ابن عابدين: 1/ 506.

ثلاث، ويسجد سجدتين قبل أن يسلم" (¬1). والضابط المعنوي للمذهب أن الركعة التي جاء بها إن كانت رابعةً، فذاك، وإن كانت زائدةً، فالغلطُ بالزيادة لا يفسد الصلاة، والغلط بترك ركعة يفسد الصلاة. ولا علامة يستند إليها الاجتهاد، فتعين من مجموع ذلك وجوبُ البناء على المستيقن. 966 - ثم من غوامض المذهب في التعليل ما نشير إليه، وسيأتي تفصيله في أثناء الباب أن من شك، فلم يدر أتكلمَ ساهياً أم لا؟ فالأصل أنه لم يتكلم، ثم لا يسجد للسهو؛ فإنه لم يستيقن السهو، وإذا شك في عدد الركعات، فيبني على المستيقن، فإنه يجوِّز أن الركعة الأخيرة هي الركعة (¬2) الجارية على الترتيب المقتضى، فهو غير مستيقن بصدور السهو منه، فأمره بسجود السهو خارج عن القاعدة التي أشرنا إليها من أن السهو إذا لم يكن معلوماً، فلا سجود. والذي يُعضّد الإشكال في ذلك النظرُ إلى حالة العَمْد، فإن من أمرناه بالسجود للسهو، وتَرَك السجود عمداً، لم تبطل صلاته، ولو سجد حيث ننهاه عن السجود عمداً، بطلت صلاته. ولمكان هذا الإشكال استثنى العراقيون هذه المسألة، وقالوا: من شك، فلم يدر أَأتَى بشيء من المنهيات، فالأصل أنه لم يأت به، ولا نأمره بسجود السهو إلا في مسألة واحدة، وهي إذا شك، فلم يدر أثلاثاً صلى، أم أربعاً؛ فإنه يبني على اليقين ويسجد، فهذا هو التنبيه على وجه الإشكال. 967 - وقد اختلف علماؤنا في تنزيل ذلك، فقال شيخي، وطائفة من أئمة المذهب: إن متعلق السجود الخبر، ولا اتجاه له في المعنى أصلاً، وقال الشيخ أبو علي: المقتضي لسجود السهو، أن الركعة التي أتى بها آخراً إن كانت زائدةً، فهي ¬

_ (¬1) حديث عبد الرحمن بن عوف، رواه الترمذي، وابن ماجة، من حديث كريب عن ابن عباس، قال الحافظ: وهو معلول. (ر. الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، ح 398، ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن شك في صلاته فرجع إلى اليقين، ح 1209، تلخيص الحبير: 2/ 5 ح 476). (¬2) (ت 1)، (ت 2): الرابعة.

سهو، فيقتضي السجود، وإن كانت رابعةً أتى بها المصلي ولا يدري أصليَّة هي أم زائدة، فتضعف النية فيها، فاقتضى ذلك نقصاناً مجبوراً بسجود. وينشأ من التردد في التعليل مسألة مذهبية، وهي أنه لو صلى هذه الركعة، ثم استيقن في آخر الصلاة أنه ما زاد شيئاًً، وإنما أتى بالركعات الأربع، فقد قال الشيخ أبو علي رحمه الله: إنه يسجد وإن زال الشك؛ لأن تلك الركعة جرت وضعْفُ النية مقارن لها، فلئن زال الشك آخراً، فذلك التردد، قد تحقق مقارناً لما مضى، وكان شيخي يقطع في هذه الصورة بأنه لا يسجد للسهو؛ فإنه كان لا يعتمد معنىً في الأمر بالسجود، وإنما كان التعويل على الحديث، وظاهر الحديث في دوام الشك والتردد. والذي ذكره الشيخ أبو علي منقوض عليه، بما إذا لم يدر الرجل أقضى فائتة كانت عليه أم لا، فأمرناه بقضائها، فإنه يقضيها ولا يسجد للسهو، وإن كان على التردد في أن الصلاة مفروضة عليه أم لا، من أول الصلاة إلى آخرها. ثم الشيخ أبو علي إنما يأمر بالسجود إذا انقضى ركن مع التردد، فأما إذا خطر الشك، ولم يدم وزال، ولم ينقض معه ركن تام، فلا أثر له أصلاً. وقد قدمت تفصيل القول في الركن التام ومقارنة الشك إياه في فصول النية في أول باب صفة الصلاة. فصل قال: "إذا فرغ من صلاته بعد التشهد، سجد سجدتين للسهو، قبل السلام ... إلى آخره" (¬1). 968 - مقصود هذا الفصل بيان محل سجود السهو، فالظاهر المشهور من المذهب أنه يسجد قبل السلام إذا فرغ من التشهد والصلاة وما تخيره من الدعاء، فيسجد سجدتين، ثم يسلم. ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 85.

وأبو حنيفة (¬1) يقول: يسلم ويسجد بعد السلام. وقال مالك (¬2): إن كان السهو نقصاناً من الصلاة، فإنه يسجد قبل السلام جَبراً لذلك النقصان، وإن كان السهو زيادةً في الصلاة، فإنه يسجد بعد السلام، وهذا قول الشافعي في القديم، ثم لا شك أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالسجود قبل السلام، وصح أنه قال: "ويسجد سجدتين بعد السلام" (¬3)، ولا شك في صحة الروايتين، ثم إنه كان مالك حمل إحدى الروايتين على ما إذا كان السهو نقصاناً في الصلاة، وحمل الثانية. على ما إذا كان زيادة في الصلاة. وقال الشافعي: كان مالك لا يدري (¬4) الناسخ من المنسوخ (¬5)، وكان آخر ما فعله ¬

_ (¬1) ر. مختصر الطحاوي: 30، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 274 مسألة: 227، بدائع الصنائع: 1/ 172. (¬2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 275 مسألة: 300، حاشية الدسوقي: 1/ 274، 275، حاشية العدوي: 1/ 277، 278، جواهر الإكليل: 1/ 60. (¬3) سجود السهو قبل السلام ثبث في حديث متفق عليه من حديث عبد الله بن بُحَيْنة (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 114 ح 335. وأما بعد السلام، فقد ثبت في حديث ذي اليدين، وحديث ابن مسعود، وهما في المتفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 114 - 115، ح 336، 337. وانظر تلخيص الحبير: 2/ 2 - 6 ح 469، 470، 481). (¬4) بدأ من هنا خرم من نسخة (ت 2). وهو عبارة عن ورقة بوجهيها. (¬5) نقلُ إمام الحرمين هنا عن الشافعي موهمٌ وغير دقيق؛ فهو يوحي بالعموم وبالقطع، مع أن نص الشافعي -كما سننقله بعد قليل- خاص بالنسخ في سجود السهو بعد السلام، وجاء بأسلوب الاحتمال لا بالقطع؛ إذ قال: "لعل مالكاً"، وتمام عبارته بنصها في كتاب سجود السهو في الأم: "سجود السهو كله عندنا في الزيادة والنقصان قبل السلام، وهو الناسخ والآخِرُ من الأمرين، ولعل مالكاً لم يعلم الناسخ والمنسوخ من هذا" (ر. الأم (الطبعة البولاقية): 1/ 114). هذا، وباب سجود السهو الموجود في الأم من جمع وترتيب السراج البلقيني، وهذه العبارة المذكورة آنفاً أخذها من جمع الجوامع لأبي سهل بن العِفْريس الذي جمع فيه نصوص الشافعي. ومما ينبغي تسجيله أننا احتفينا بتحقيق الأخ الدكتور رفعت فوزي لكتاب الأم، ولكن عجبنا أشد العجب حينما وجدناه أسقط باب سجود السهو من هذه الطبعة بحجة لا تُسلّم له، فحرم قراء طبعته من نصوص للشافعي في هذا الباب لن يصلوا إليها، فأين سنجد كتاب جمع =

النبي صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام، وروى عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام وبعد السلام، وكان آخر الأمرين أنه سجد قبل السلام (¬1)، فهذا كلام الشافعي. وقد جرى للشافعي تردد في بعض المواضع، لما رأى الأخبار صحيحة في التقديم والتأخير تُشير إلى جواز الأمرين جميعاًً، وهذا يعضده أمر في الأصول، وهو أن فِعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتضمن الإيجاب عند المحققين، ولكنه يتضمن الجواز والإجزاء، فلئن صح ما ذكره الزهري أنه سجد قبل السلام آخراً، فهذا لا يُعيِّن ذلك، ولا ينفي جواز ما تقدم. 969 - فإذا لاح مأخذ الكلام، فنذكر ما تحصل من المذهب: فذكر ذاكرون ثلاثة أقوال: أحدها - وهو الظاهر: أن السجود قبل السلام، وإذا وقع بعده، لم يعتد به. والثاني - أن الساهي بالخيار إن شاء قدم، وإن شاء أخّر. والثالث - أنه يفصل بين أن يكون السهو زيادة، وبين أن يكون نقصاناً، وهو المنصوص عليه في القديم، وهو مذهب مالك. وقال بعض أئمتنا: لا خلاف أنه يُجزىء التقديمُ والتأخير، وإنما التردد في بيان الأوْلى والأفضل، ففي قولٍ نقول: الأفضل التقديم، وفي قول: لا نفضل ولا نفرق ويجوز الأمران جميعاًً، وفي قول: يفصل بين الزيادة والنقصان في الأفضل، لا في الإجزاء؛ فإن الأمرين جميعاًً جائزان مُجزيان في الحالتين جميعاًً. فهذه طريقة. وتوجيهها صحةُ الأخبار في التقديم والتأخير جميعاًً. والطريقة المشهورة ردّ التردد إلى الإجزاء والجواز، كما تقدم. [وهذه] (¬2) يظهر توجيهها في طريق المعنى؛ فإن السجود إذا وقع في الصلاة، كان زيادة في الصلاة، ¬

_ = الجوامع لابن العفريس؟ مع أن الباب موجود كاملاً في الطبعة البولاقية. (¬1) حديث الزهري، رواه الشافعي، والبيهقي في السنن: 2/ 341. وانظر التلخيص: 2/ 6، 7 ح 481. (¬2) في الأصل، وفي (ط)، وفي (ت 1): وهذا. وفي (ت 2): سقطت الورقة كاملة. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. وجاءتنا أخيراً (ل) مثل أخواتها.

وإذا وقع وراء ذلك، كان منفصلاً عن تحريمة الصلاة وحكمها، وهما أمران متباعدان، والتخير بينهما بعيد، فرأى الشافعي في ظاهر المذهب؛ التمسك بآخر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن نعتمد في التفريع هذه الطريقة الأخيرة، ونبني الأمرين على التردد في الإجزاء، لا في الفضيلة، فإن فرعنا على المشهور، وهو (¬1) أن السجود قبل السلام، فإن وقع ذلك، فلا كلام، وإن سلم الساهي، ولم يسجد، لم يخل: إما أن يسلم ساهياً ناسياً لسجود السهو، وإما أن يسلم عامداً ذاكراً لسجود السهو، فإن تعمّد وسلم، فقد فوت سجدتي السهو على نفسه، وتركهما عمداً، فالصلاة صحيحة، وقد فاتت السجدتان، وليس سجود السهو واجباً عندنا، بل هو سنة كسجود التلاوة. وإن سلم، وتحلّل ناسياً، ثم تذكر: لم يخل، إما أن يتذكر على القرب، أو يتخلل فصل طويل. فإن تذكر على القرب، فهل يسجد على هذا القول؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - يسجد، ويجعل كأن السلام لم يكن، وهو بمثابة ما لو نسي ركعة وسلم، ثم تذكر على القرب؛ فإنه يبني على صلاته، ويعد السلام الجاري في غير محله سهواً مقتضياً للسجود. والوجه الثاني - أنه لا يسجد، وإن كان سلامه ناسياً؛ فإن السجود مما يجوز تركه قصداً، والسلام ركن جرى في محل جوازه، فاعتقاد خروجه عن وقوعه موقعه لمكان سنة لو تركها قصداً، لجاز، بعيدٌ. والذي يحقق ذلك، أنه بعدما سلم ساهياً، قد يبدو له ألا يسجد إذا تذكر، وسأذكر السر في ذلك الآن. التفريع على هذين الوجهين: 970 - إن حكمنا بأنه لا يعود إلى السجود، فقد تحقق فوات السجود إذا سلم ناسياً. وإن قلنا: يعود، فإن عاد، فهو في الصلاة ولو أحدث بطلت صلاته، ويقدّر ¬

_ (¬1) آخر الورقة الساقطة من (ت 2).

كأنه لم يسلم، ويعتقد أن السلام لم يقع معتداً به، فيسجد سجدتين، ويسلم الآن، ولا وجه غيره. فلو بدا له ألا يسجد أصلاً بعدما تذكر، فقد رأيتُ في أدراج كلام الأئمة تردداً في ذلك، وهو محتمل جداً. والظاهر أنه إذا أراد ذلك، قلنا له: فسَلِّم مرة أخرى، وإن السلام الذي تقدم لم يكن معتداً به، وآية ذلك أنه لو أراد السجود، لكان في الصلاة، ويستحيل أن يخرج من الصلاة، ثم يعود إليها. ويحتمل أن يقال: أمر السلام الذي تقدم على الوقف والتردد، فإن سجد تبيّنا أنه لم يقع التحلل به، وإن أضرب عن السجود لما تذكر، تبَيّنَّا وقوعه موقعه. فهذا كله إذا سلم ناسياً، ثم تذكر أمرَ السجود على القرب. فأما إذا طال الفصل، كما سنذكر الضبطَ فيه، والتفريع على أن حق السجود أن يقدم، فلو جاء بالسجود بعد تخلل الفصل الطويل، فلا يعتد به أصلاً، وقد لاح فواته. والمشكل الآن أن السلام هل وقع ركناً؟ فإن قدرناه ركناً محللاً على الصحة، فلا إشكال، ولو قدره مقدر غيرَ واقع ركناً، فكيف الوجه؟ فأقول: الوجه القطع بصحة التحلل في هذه الصورة، وهذا يعضده ما ذكرناه الآن، من أنه إذا تذكر، ثم بدا له ألا يسجد، أنه لا يعيد السلام. فَلْيتَأمل الفقيه هذا الموضع، فلا وجه غيره. هذا كله تفريع على أن شرط سجدتي السهو وقوعهما في الصلاة. 971 - فأما: إذا قلنا: يجوز إيقاعهما خارجاً من الصلاة، فلو تعمد وسلَّم ذاكراً، وأراد أن يسجد بعد السلام، جاز على هذا [القول] (¬1) إذا كان سجد على القرب. ثم إذا سجد سجدتين، فهل نأمره أن يتشهد؟ القول الوجيز في ذلك، أنهما سجدتان منفصلتان عن الصلاة، فحكمهما حكم سجدة التلاوة، إذا وقعت خارجة من الصلاة، وقد ذكرنا تفصيل القول في أنه هل يتشهد، وهل يتحرم ويتحلل؟ فلا فرق ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 2).

بين سجدتي السهو، وبين سجدة التلاوة في هذا، إلا أن سجدة التلاوة فَرْدة، والسهو سجدتان. ونحن نقطع بأن لا يعود الساجد على هذا القول إلى الصلاة. ولو أحدث، لم تبطل صلاته أصلاً. وقد قال أبو حنيفة (¬1): إنه يسلم، ثم يسجد، وزعم أنه يعود إلى الصلاة، فلو أحدث، بطلت صلاته، وهذا كلام متناقض، ولا معنى للخروج من الصلاة والعود إليها، وهذا مذهب لم يصر إليه أحد من أصحابنا في التفريع على هذا القول. فإن رأينا أن يتشهد: اشتراطاً، أو استحباباً، كما يفعل ذلك في سجدة التلاوة، فإنه يتشهد بعد السجدتين، كما ذكرناه في سجود التلاوة. وحكى الشيخ أبو علي عن الأستاذ أبي إسحاق أنه كان يقول حيث انتهينا إليه في التفريع: إنه يتشهد قبل السجدتين، لتقع السجدتان آخراً، وفي سجود التلاوة يتشهد بعد السجود. وهذا متروك عليه، وهو غير معدود من المذهب. وقد اعتمد فيه على تقديم السجود على السلام؛ إذ تخيل تقديمَ التشهد على السجود، هذا إذا أراد السجود متصلاً. فأما إذا سلم وطال الفصل، ثم أراد أن يسجد سجدتي السهو بعد طول الفصل، فقد ذكر الصيدلاني وجهين: أحدهما - أنه لا يقع الموقع، وطول الفصل يفوّته؛ فإن السجود وإن كان يقع بعد التحلل، فهو متصل بالصلاة، فيجب رعايةُ حقيقة الوصل فيهما، وهذا كالتسليمة الثانية إذا أمرنا بها، فإنها تقع بعد التحلل بالتسليمة الأولى، ولكن شرط الاعتداد بها أن تكون متصلة. والثاني - أنه يقع الموقع وإن طال الفصل؛ فإنه في حكم الجُبران لما وقع في الصلاة وهو مشبه بجبرانات الحج، ثم الجبرانات إن وقعت في الحج أجزأت، وإن وقعت بعده متصلة، أو منفصلة أجزأت. ثم إن قلنا: إذا انفصل وطال الفصل، فقد فات السجود، فينزل هذا منزلة سجدة التلاوة إذا فاتت، وقد ذكرنا قولين، في أنها هل تقضى أم لا؟ ويجري القولان في سجود السهو لا محالة. ¬

_ (¬1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 174.

فآل حاصل الكلام إلى أنا في وجه نحكم بفوات السجود، ونخرّج قولين في القضاء. وفي قول نحكم بأنه لا يفوت، فهذا منتهى البيان في ذلك. 972 - والذي نتعلّق به الآن ضبط القول في الاتصال والانفصال، وهذا فن التزمناه في هذا المذهب (¬1) مستعينين بالله. فالمذهب أن الرجوع فيه إلى العرف في الفصل بين الاتصال والانفصال، ثم الذي ظهر لنا من العرف، أنه إن تخلل زمانٌ يغلب على الظن أنه قد أضرب عن السجود قصداً أو نسيه، فهذا حدّ الانفصال، وما دون ذلك اتصال. ولا يعتبر في ذلك غيرُ الرجوع إلى العرف، فلو طال الزمان على ما ذكرناه مع اتحاب المجلس، فقد تحقق الانفصال، ولو سلم، وفارق المجلس، ثم تذكر على قُرب من الزمان، فهذا محتمل عندي، فإن نظرنا إلى الزمان، فهو قريب، وإن نظرنا إلى العرف، فمفارقة المجلس، [قد] (¬2) يُغَلِّب على الظن الإضرابَ عن السجود كما يُغلّب طويل الزمان على الظن ذلك. والعلم عند الله. وقد ذكر العراقيون في ذلك قولين عن الشافعي، أحدهما - أن المعتبر في ذلك قرب الزمان وبعده، وطوله وقصره. والقول الثاني - قالوا: نص عليه في القديم، أنه يعتبر المجلس، فإن لم يفارقه، فهو متصل، وإن طال الزمان. وإن فارقه، فهو منفصل وإن قرب الزمان. هذا ما أردناه من التفريع في محل سجود السهو. فإن قيل: لو صلى، وأحدث، ثم انغمس في ماء على قرب من الزمان متصل، قلنا: الظاهر أن الحدث يفصل السجود، وإن قرب زمان الطهارة. ثم قد مضى القول فيما يتصل وينفصل على الاستقصاء. 973 - وإن فرعنا على القول القديم الموافق لمذهب مالك، فإن كان السهو ¬

_ (¬1) المذهب: المراد به هذا الكتاب. فهو يسميه: المذهب الكبير. (¬2) في جميع النسخ: "فقد" والمثبت تقدير منا. ثم جاءت به (ل).

نقصاناً، فالتفريع في هذه الحالة كالتفريع على قولنا باشتراط إيقاع السجود في الصلاة، وإن كان السهو زيادة، فالتفريع في هذه الحالة كالتفريع على إيقاع السجود بعد التحلل. فصل إذا شك في أعداد الركعات في أثناء الصلاة، فقد مضى القول فيه مفصلاً، فلو سلم وتحلل، ثم شك بعد التحلل في أنه صلى ثلاثاً أم أربعاً، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن ما يطرأ من الشك بعد التحلل لا حكم له، وقد مضت الصلاة ظاهراً محكوماً بصحتها. وهذا يوجَّه بأنا لو غيّرنا حكم الصلاة التي اتفق التحلل عنها بالشك، لما سلمت صلاةٌ في الغالب عن شك وتردد بعدها، على قرب من الزمان أو بُعْد، فوقع ذلك محطوطاً عن المصلي. والقول الثاني - أنه مؤاخذ بحكم الشك -كما سنوضحه- اعتباراً بطريان الشك في أثناء الصلاة. وهذا القائل يمنع بلوغ هذا الأمر في طريان الشك مبلغ العموم، بل هو مما يندر ولا يعم، فإن فرض موسوس، فالحكم لا يبنى على حالة، وإنما يُبنى على أعم أحوال الناس. ثم قال بعض المصنفين: لو جرى هذا التردّد بعد انفصال الزمان، جرى القولان أيضاً [فإن نحن أسقطنا أثر التردد متصلاً، أسقطناه منفصلاً أيضاً] (¬1) وإن أمرنا المتردد على الاتضال بالتدارك، فإذا انفصل الأمر، فلا تدارك إلا باستئناف الصلاة. وكان شيخي أبو محمد يقول: إنْ جرى التردد بعد انفصال الزمان، فهو محطوط غيرُ معتبر قولاً واحداً، فإن هذا الآن صورة لا مستدرك لغائلتها؛ إذ الإنسان لا يدرك كيف صلى في أمسه، ولو أُمر إذا شك بالقضاء، فسيعود هذا بعينه -إذا طال الزمان- في القضاء، فلا يسلَم من هذا عاقل قط. ولا يجوز فرض الخلاف في هذا. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

فأما إذا قرب التردد، ففيه القولان، كما قدمنا ذكرهما. وهذه الطريقة حسنة بالغة. 974 - وعندي كلام وراءها، وبه تتبين حقيقةُ الفصل. فأقول: لو عرض للإنسان فكرٌ في صلوات أيامه السابقة، فإنه لا يتخيل جريانَها ووقوعَ أركانها في مظانها، فإنها انسلت بجملتها عن ذكره وغابت عن فكره، وإذا كان كذلك، ففرض التردد في تمامها ونقصانها، مع الذهول عن تفصيلها مما لا نعتقد المؤاخذةَ به أصلاً، فأما إذا تحلل عن الصلاة، وتخلل زمان متطاول، ولم يغب عن ذكره تفصيل صلاته، وتردّد مع ذلك في زيادة ونقصان، فتخريج ذلك على القولين [ليس بعيداً على ما تقدم، ولا يمتنع أيضاً إخراج هذا عن القولين] (¬1) من حيث إنه يغلب مع طول الزمان الذهولُ، ويعم الضرر، ثم إذا لم نَحطّ حكم التردد، وقد اتصل، فيجعل كأنه لم يسلّم، وكأنه تردد في الصلاة، فيقوم، ويبني على صلاته، كما سبق. وإذا طال الفصل، ورأينا مؤاخذته، فليس إلا إعادة الصلاة واستئنافها، وقد تم ما نريد من ذلك. فصل قال: "وإن ذكر أنه في الخامسة ... إلى آخره" (¬2). 975 - إذا قام المصلي إلى ركعة، ثم علم أنها خامسة، فمذهبنا أنه كما (¬3) علم ذلك يقطع تلك الركعة، ويعود إلى هيئة القعود، ولا فرق بين أن يتذكر ذلك وهو في قيام الركعة الزائدة، أو في ركوعها، أو كان انتهى إلى سجودها، فعلى أي وجه فُرض، فما جاء به غلط غيرُ محسوب، ولا قادح في صحة الصلاة. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) ر. المختصر: 1/ 85. (¬3) "كما": بمعنى (عندما).

976 - ومن دقيق ما ننبه عليه في ذلك، أنا ذكرنا خلافاً في أن الكلام من الناسي، إذا كثر هل يبطل الصلاة؟ وردّدنا القول في الفعل الكثير من الناسي، كما سبق، والزيادة في الصلاة وإن كثرت، فإنها لا تبطل الصلاة وفاقاً، والسبب فيه أن الذي اعتمده من صار إلى أن الكلام الكثير من الناسي يبطل الصلاة، أنه يخرم نظمَ الصلاة، (1 والزيادة الكثيرة من جنس الصلاة إذا صدرت من الناسي لا تخرم نظم الصلاة 1). 976/م- ومن دقيق القول فيه أن من زاد ركوعاً عامداً، بطلت صلاته عندنا، وإن لم يكن في مقداره موازياً لما يُعد كثيراً من الأفعال، والزيادة وإن قلّت -أعني زيادة ركن- مبطلة، فإنه [اعتماد] (¬2) تغيير الصلاة بما يجانسها، والزيادة الكثيرة مع النسيان لا أثر لها. فليفهم الفاهم ما نبديه من بدائع الفقه. 977 - ثم إذا أمرناه بالعود إلى القعود، فننظر وراء ذلك، فإن لم يكن قد تشهد، قعد وتشهد، وسجد للسهو، وسلم. وإن كان قد تشهد، لم يخل: إما إن كان تشهد على قصد التشهد الأخير، ثم طرأ من الغلط ما طرأ، أو كان تشهده ظاناً أنه التشهد الأول، فإن كان تِشهد على قصد التشهد المفروض، ثم أمرناه بالعَوْد، فهل يتشهد مرة أخرى؟ فيه وجهان معروفان: أحدهما - أنه لا يتشهد، وهذا هو الذي لا ينقدح في المعنى والقياس غيرُه؛ فإنه قد تشهد مرة؛ فإيجاب الإعادة مرةً أخرى لا معنى له، ولكنه غلط لما قام إلى ركعة زائدة، فليعد، وليتدارك غلطته بسجدتين جابرتين للسهو. والوجه الثاني - أنه يتشهد مرة أخرى، وهذا ظاهر النص في السواد (¬3)؛ فإنه قال: سواء قعد في الركعة، أو لم يقعد؛ فإنه يجلس للرابعة ويتشهد. فذهب ابن سُريج إلى موافقة ظاهر النص، وأوجب على الراجع القاطع الركعة ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬3) نُذكر أن المراد بـ " السواد " مختصر المزني.

الزائدة أن يتشهد، وعلل بعلتين: إحداهما - أن الموالاة شرط في الأركان فَلْيَلِ السلامُ تشهداً، وقد انقطع ذلك التشهد الذي جرى قبل القيام إلى الركعة الزائدة عن السلام. فهذا معنى. والثاني - أنه لو لم يعد للتشهد، لوقع السلام فرداً، لا يتصل بركنٍ قبله، ولا يعقبه ركن بعده. وهذان المعنيان جميعاًً فاسدان عندي، أما الموالاة، فلا معنى لذكرها هاهنا، فإن من طوّل ركناً قصيراً ساهياً، فقد ترك الوِلاء ولا تبطل صلاته، وقد بنى الفقهاء الأمر على أن الموالاة إذا اختلت بذلك، وأخطأ في الصلاة، فلا أثر لاختلالها. ثم يجرّ مساق هذا الكلام خبلاً وفساداً؛ فإن التشهد الأول، قد وقع معتداً به، فإن أخرجناه من الاعتداد به، فقد انقطع التشهد الذي نعتدُّه عن الأركان المتقدمة قبلُ، وهذا إن كان اختلالاً، فلا مستدرك لها (¬1) أصلاً، ويجب من مساقه أن تبطل الصلاةُ أصلاً، فإن لم يجز ذلك، فليس إلاّ أن يُحتمل بقطع (¬2) الوِلاء بسبب النسيان. وأما وقوع السلام فرداً، فهو مفرع على النظر إلى الموالاة، وإلا فليس فرداً، فهو منتظم مع الأركان المتقدمة. 978 - ثم فرع ابن سُريج على معنييه مسألة، وهي أنه قال: لو هوى القائم إلى السجود، وقد ترك الركوعَ ناسياً، ثم تذكر، فإن نظرنا إلى مراعاة الموالاة، فلينتصب قائماً، وليركع ليلي الركوعُ القيامَ، ثم يرفع معتدلاً ويسجد، وإن نظرنا في مسألة العود من الركعة الزائدة إلى أن السلام ينبغي ألا يقع فرداً، (3 فالذي يركع يرتفع إلى حد الراكعين، ولا ينتصب قائماً؛ فإن الركوع لا يقع فرداً 3)؛ إذ بعده السجود وغيره من الأركان. 979 - قلت: هذا أوان التنبيه لدقيقة، وهي أنا قد ذكرنا في تفريع صلاة العاجز أنه ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والمتبادر إلى الذهن: "له" فلعله أنث الضمير على معنى الواقعة، أو الحالة مثلاً، والله أعلم. (¬2) كذا في النسخ كلها. ولعلها: (قطع). (3) ساقط من: (ت 2).

لو قرأ الفاتحة قاعداً، ثم وجد خفة، فإنه يقوم ليركع عن قيام، ولم نذكر فيه تردداً، فإن كان ما ذكرناه كذلك، فليجب أيضاَّ عَلى من هوى ساجداً، وترك الركوع أن يقوم لا لموالاةٍ، ولكن ليكون ركوعه عن قيامه. وإن قلنا: لا يقوم من هوى ساجداً، ويكفيه أن يرتفع راكعاً، فيجب أن نقول: من وجد خفة، وقد أقام فرض القراءة في القعود يكفيه أن يرتفع راكعاً؛ فإن القعود الذي جاء به في حال العجز قائم مقام القيام، ولا فرق في ذلك. فلا يؤتينَّ ناظر عن خبالٍ لا حاصل له. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان تشهد على قصد التشهد الأخير، فأما إذا كان تشهد ظاناً أنه التشهد الأول، فالفرض هل يتأدى بذلك أم لا؛ فيه وجهان مشهوران. ومن نظائر هذه الصورة، ما لو أغفل المتوضىء لمعة من وجهه في الغسلة الأولى، ثم تداركها بالثانية، وهو يقصد بها إقامة السنة، فهل يسقط الفرض عن تلك اللمعة؟ فعلى وجهين، فإن قلنا: لا يسقط الفرض، فهو رجل قام إلى ركعة زائدة، ولم يتشهد، فيعود ويتشهد لا محالة، وإن قلنا يسقط الفرض، فليلتحق هذا بالصورة التي تقدم الفراغ منها، وهي إذا تشهد على قصد الأخير، ثم قام. وقد مضى ذلك كافياً. ولو لم يكن له قصد في التشهد، فهو كما لو قصد التشهد الأخير، وتعليل ذلك لا حاجة إلى إيضاحه. فصل قال: "وإذا ترك التشهد الأول حتى قام منتصباً، لم يَعُد ... إلى آخره" (¬1). 980 - التشهد الأول من أبعاض الصلاة، ويتعلق بتركه سجود السهو، وهو من أركان الصلاة (2 عند أحمد بن حنبل 2). ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 86. (2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). ووصفُ التشهد الأول بأنه ركن قولٌ في مذهب أحمد، وعنه أنه سنة، ولكن المذهب أنه واجب، ر. الإنصاف: 2/ 115. وسيأتي بعد ذلك أن إمام الحرمين يصف التشهد الأول عند أحمد بأنه فرض، وبأنه واجب.

ومعتمد المذهب حديث عبد الله بن مالك ابن بُحَيْنَة، قال: "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي: الظهر أو العصر، فقام عن اثنتين، فسبحنا به، فلم يرجع، فلما بلغ آخر الصلاة، انتظرنا تسليمه، فسجد سجدتين، ثم سلم" (¬1) فدل عدمُ رجوعه على أنه ليس ركناً، وسجوده للسهو ناصٌّ على ما ذكرناه من كونه من الأبعاض. 981 - ثم ترتيب المذهب في تركه أنه إن قام المصلي، فاعتدل في وقت التشهد الأول، ثم تذكر ما كان منه، فليس له أن يعود لاستدراك التشهد الأول؛ فإنه قد تلبس بالقيام المفروض، فلا يجوز له أن يقطعه لاستدراك سُتةٍ، هذا إذا اعتدل. والدليل على ذلك عدمُ رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه. 981/م- ولو نهض نحو القيام، ولم يعتدل فتذكر، فقد اختلفت عبارات الأئمة، فذكروا عبارتين نذكرهما، ثم نذكر ما عندنا من التحقيق فيهما إن شاء الله تعالى. قال الشيخ أبو بكر (¬2): إذا لم ينته إلى حد القيام، رجع وتشهد؛ فإنه لم يلابس فرضاً حتى تذكَّر، ثم إذا رجع، وتشهد، فهل يسجد للسهو؟ قال: إن كان انتهى في انتهاضه إلى مبلغ كان أقرب إلى القيام منه إلى القعود، فإن الذي صدر منه فعل كثير أتى به ساهياً، وسنذكر أنه مما يقتضي السجود. وإن كان إلى القعود أقرب، فتذكر ورجع، فلا يسجد، وما أتى به في حكم الفعل القليل، الذي لا يؤثر في الصلاة. فهذا كلامه. وقال شيخي وغيره: إن لم ينته في ارتفاعه إلى حدّ الراكعين بعْدُ، فتذكر ورجع، فالذي صدر منه محطوط عنه، ولا سجود، وإن انتهى إلى حد الراكعين، أو جاوز، ولم يلابس القيام، فإذا تذكر ورجع، سجد للسهو. ¬

_ (¬1) حديث ابن بحينة متفق عليه، وقد مضى آنفاً. (¬2) الشيخ أبو بكر: أي الصيدلاني، كما سيذكره قريباً.

982 - وأنا الآن أذكر مسالك كل فريق، فأقول: اعتمد الصيدلاني كثرةَ الفعل وقلَّته، وأنا أُجري ما قاله في صورة ليس فيها انتهاء إلى هيئة الراكعين، وإن قدّر ملابسة القيام مثلاً، فأقول: إذا كان المصلي قاعداً، وانتصب من غير انحناء، وذهب ناهضاً إلى القيام، فهذا له ممر على هيئة الراكع، فالمرعي في هذه الصورة -على ما ذكره- النظرُ إلى الفعل. ثم الضابط عنده (¬1) في الكثرة أن يكون أقرب إلى القيام، فإذا رجع، سجد للسهو. فإن قيل قد ذكرتم أنه لو خطا خطوتين عمداً، لم يضره، وخطوتان أكثر من الانتهاء إلى القيام في حركات الناهض؟ قلنا: لا نعرف أولاً خلافاً بين أئمتنا في أنه إذا قرب من القيام في الصورة التي ذكرناها فلم يلابس هيئة الراكعين، ورجع، أنه يسجد للسهو. وإذا كان كذلك، فلا ينقدح في ذلك تعليل إلا مجاوزة الفعل حدَّ القلة. ثم الممكن في ذلك عباراتان: إحداهما - أن من حرَّك يداً وسائرُ بدنه قار، فليس فعله على رتبةِ فعل من يحرك جملةَ بدنه. والناهض صعُداً يحرك جملة بدنه. فإن قيل: الماشي كذلك؟ قلنا: ولكن التعويل في الماشي على حركة الرجلين والبدن محمولهما ومنقولهما، فوقع التعويل على حركة الرجلين، والناهض يحرك بدنه قصداً، وهذا ما أراه شافياً للغليل. والمعتمدُ العبارة الثانية، وهي: أن القرب من القيام يُفيد من تغيير هيئة الصلاة على الاختصاص بها ما يفيده الفعلُ الكثير، ولذلك قلنا: إن من ركع ركوعاً زائداً عمداً، بطلت صلاته، وإن لم يبلغ مبلغ الفعل الكثير، لأنه يؤثر في تغيير نظم الصلاة (2 فكذلك القرب من القيام، وإن لم يكن إتياناً بصورة رُكن، فهو مختص بتغيير نظم الصلاة 2)، فكان كالفعل الكثير. وإن كان الناهض أقرب إلى القعود، فهذا يوازي ¬

_ (¬1) ساقطة من: (ت 1). (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

الفعلَ القليل الذي لا يغير نظم الصلاة، فأما الخطوة، فليست في جهة نظم الصلاة وانتقالاتها، فروعي فيها المقدار الكثير، وهذا في نهاية الحسن. 983 - والذي أراه: أنه إن صوَّر متكلف كونَ الناهض على حد يستوي فيه نسبته إلى القعود والقيام، فلو رصع من هذا الحد، لم يسجد، كما لو كان أقرب إلى القعود، وهذا لا شك فيه. هذا كله ترداد على عبارة الشيخ أبي بكر، وقد فرضنا في تنزيل عبارته انتهاضاً لا انحناء فيه. 984 - وأما من ذكر حد الراكعين، فيصور انتهاضاً على هيئة الانحناء، حتى يقدر الانتهاء إلى القيام، فعلى هذا الوجه نُبين معظم أحوال الناهض في العادة، فنقول: إن انتهى إلى حد الراكعين، فتذكر، رجع وسجد للسهو، والسبب فيه أنه أتى بصورة ركن، وقد ذكرنا أن الإتيان بصورة ركن يؤثر في الصلاة، فيبطل عمدُه الصلاة، ويقتضي سهوهُ سجودَ السهو. 985 - وهاهنا لطيفة لا بد من ذكرها، وهي أن الركوع الواقع ركناً شرطُ صحة الاعتداد به الطمأنينة، ولو لم تقع، لم يصح. والركوعُ الزائد المفسد للصلاة، لو فرض على وِفازٍ (¬1) من غير طمأنينة، فهو مبطل للصلاة، فلا يتوقف بطلانُ الصلاة بالركوع الزائد على الطمأنينة، وإن كان يتوقف الاعتداد به ركناً على الطمأنينة. والسبب فيه من جهة المعنى أن المفسد للصلاة إنما يفسدها من جهة أنه يغيّر نظمها، وهذا المعنى يحصل وإن كان الركوع على وفاز. وأما الركوع الذي يقع معتداً به، فالغرض منه، ومن كل حالة من حالات المصلي الخضوع، ولا يتأتى إيقاع الخضوع من غير لبث ومكث، يفصل الركنَ عن الركن. 986 - ومما نقدمه قبل [الخوض] (¬2) في المقصود، أن من يهوي من قيامه إلى ¬

_ (¬1) وِفازْ من وَفَزَ، يفز بكسر العين إذا عجل. ومنه وافزه: أي عاجله، والوفَز: العجلة. (المعجم). (¬2) في الأصل، و (ط)، و (ت 1): الخضوع قبل المقصود.

السجود على هيئة الانحناء ماراً، فليس يحصل في هويه صورة الركوع. وقد ظن أبو حنيفة (¬1) أنها تحصل، فزعم أن القائم إذا هوى ساجداً، فقد حصل الركوع في ممره وهويه، وكفى ذلك، والطمأنينة ليست شرطاً. والأمر على خلاف ما قدر. 987 - وأنا أقول: وإن ذكرت أن الركوع الزائد على وفاز يُفسد، فلا بد من فرض إفراده بصورته، فالقاعد إذا قام قصداً إلى هيئة الراكعين، ولم يطمئن ورجع، فهذا يفسد الصلاة عمدُه، لأنه وإن لم يسكن، فقد صور الركوع لما انتهى إليه، ثم انصرف عنه، فيمثل الركوع، والذي يهوي من قيام، لم يمثل الركوع بوقفةٍ ولا انصراف. 988 - وإذا ثبتت هذه المقدمات، فنحن نتكلم فيما ذكره شيخي وغيرُه من الانتهاء إلى حد الراكعين، فَلْيعلم الطالب أن إدراك هذا ليس باليسير الهين، وأنا بعون الله أذكر فيه ضابطاً حسناً، فأقول: القائم إذا كان يبغي الركوع الكامل والحد الفاصل، فقد وصَفْته في فصل الركوع، وإنما يتبين سره الآن، وقد مضى أن الأوْلى في هيئة الراكع أن يستوي ظهره ورقبته، ولا يخفض شيئاًً عن شيء ولا يرفع، وهذا عندي على نصف حد القيام، وكأنه الوسط بين الانتصاب التام وبين السجود، فلنعتقد ذلك، ولنتخذه معتبرنا. فأقول: قد مضى أن أقل الركوع أن ينحني المصلي حتى يصير بحيث لو مد يديه، نالت راحتاه ركبتيه، مع اعتدال الخلقة. وأنا أقول الآن: بين القيام التام وبين الانتهاء إلى الوسط الذي هو رتبة الكمال مسافة، فأقل الركوع هو أن يصير أقرب إلى الوسط [في انحنائه منه إلى انتصابه، فهذا حدُّ أقلّ الركوع قطعاً. ثم كما تنقسم المسافة من هيئة الانتصاب إلى الوسط] (¬2) في جهة الهوي، فكذلك إذا فرض انتهاض القاعد إلى حد الركوع، فبين قعوده ¬

_ (¬1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 334. وبدائع الصنائع: 1/ 162. (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

والوسط الذي جعلناه معتبرنا في هذا الفصل مسافة، فإن نهض منحنياً، وكان أقرب إلى حد الوسط، فهذا من هذه الجهة انتهاء إلى حد الراكعين، وهو أنقص من الكمال، ولكنه في حد الركوع [فإذا انتهى إلى حد الركوع] (¬1) من قعوده، ثم رجع، سجد، فإن انتهض، ولم يصر أقرب من حد الوسط، فليس منتهياً إلى حد الركوع، فيرجع ولا يسجد. فهذا كشف الغطاء في ذلك كلِّه، وأين يقع هذا الفصل من غوامض الفقهِ؟ فلينظر الطالب في أسراره وليُكْبر الفقهَ في نفسه. 989 - ثم أقول وراء ذلك: من راعى من أصحابنا الانتهاض إلى حد الراكعين، فلو فرض عليه الانتصاب من غير هيئة الانحناء إلى القرب من القيام، فإنه يثبت السجود هاهنا، ولا شك أنه لو فرض على من يراعي الانتهاء إلى قرب القيام أن ينتهي إلى حد الراكعين وصورتهم، ثم يرجع، فإنه يقول: إنه يسجد، فإنه أتى بصورة الركوع وانصرف، فكان هذا ركوعاً زائداً أتى به ساهياًً، فاقتضى سجوداً لا محالة. فهذا نجاز الفصل بما فيه. فصل 990 - قد ذكرنا أن من ترك التشهد الأول ساهياً وانتصب قائماً، فليس له أن يقطع القيام بعدما لابسه؛ فإنه لو فعله، كان قاطعاً فرضاً لاستدراك مسنون، ولو عاد، نُظر: فإن كان معتقداً امتناع الرجوع والقطع، فخالف عقدَه ورجع، بطلت صلاته. وإن كان يعتقد مذهب أحمد بن حنبل في فرضية (¬2) التشهد الأول، فرجع، لم تبطل صلاته. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) إمام الحرمين يقصد بالفرضية هنا الوجوب، كما هو اصطلاح الشافعية (لا يفرقون بين الفرض والواجب) وسيأتي بعد قليل ما يؤكد هذا حيث وصف إمامنا التشهد الأول بالوجوب عند أحمد، والقول بوجوبه هو مذهب أحمد كما أشرنا في تعليق سابق. وقد سبق في كلام إمام الحرمين أنه ركن عند أحمد.

ولو التبس عليه مع انتحاله مذهب الشافعي أن الرجوع ممنوع، فرجع على ظن جواز الرجوع، لم تبطل صلاته، وأُمر بسجود السهو على ما ذكرناه. 991 - ولو كان مقتدياً بإمامٍ، فهمّ إمامُه بالقيام ونهض إليه، فبادره المأموم بحق القدوة، واتفق سبقُه إلى حد القيام، ثم علم الإمام أنه غالط، وما كان انتهى إلى حد القائمين، فرجع إلى التشهد، والمأموم قد انتهى إلى حد القيام التام، فهل يرجع إلى القعود للاقتداء بإمامه؟ اختلف أئمتنا في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أنه يرجع، وفاء بالقدوة التي نواها والتزمها، فان ذلك واجب، وإذا فعل ذلك، لم يكن قاطعاً واجباً لمكان سُنَّة، وإنما يقطع قياماً غلط في ملابسته، بسبب تحقيق موافقته لإمامه. والثاني - أنه لا يقطع القيام، بل يصابره إلى أن يلحقه إمامه فيه، وهذا لا يبين إلا بأن يعلم أن المقتدي لو تقدم على إمامه بركنٍ واحد قصداً، لم تبطل صلاتُه، ولم تنقطع قدوته، وكان ذلك بمثابة ما لو تخلف عن إمامه بركن. وسنذكر ذلك في أحكام الجماعة، ونذكر خلافاً فيه. 992 - فليقع التفريع على ظاهر المذهب. فيخرج عن ذلك أن الخلاف الذي ذكرناه في جواز الرجوع إلى متابعة الإمام، فمن أئمتنا من منعه، وقال: لو رجع مع العلم بامتناع الرجوع، بطلت صلاته. ومنهم من قال: يجوز له الرجوع. ولم يوجب أحد الرجوع؛ فإنه لو قام قصداً، وترك متابعة إمامه في التشهد، لم نقض ببطلان صلاته، وكان في حكم من تقدم على إمامه بركن، فانتظره فيه حتى لحقه. وهذا يتضح بصورة أخرى، وهي أنه لو قام قصداً إلى القيام من غير فرض زلل، وتقدير غلطٍ منه، فالوجه القطع بأنه لا يجوز له قطع القيام في هذه الصورة. وسنذكر نظيراً لذلك على الاتصال، فنقول: إذا رفع المأموم رأسه عن الركوع قبل ارتفاع الإمام قصداً، وانتصب قائماً، فلو أراد أن يرجع، لم يكن [له] (¬1) قطعاً، ولو فعله على علم ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 2).

بامتناع ذلك الرجوع، بطلت صلاته؛ فإنه يكون راكعاً ركوعين في ركعة واحدة، وهو مبطل للصلاة. 993 - ولو كان موقف الإمام بعيداً، فسمع المأموم صوتاً، وحسب أن الإمام قد انتصب، فارتفع، ثم تبين له أن الإمام بعدُ في الركوع، فهل له أن يرجع ويركع؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز الرجوع، كما لو تعمد رفع الرأس من الركوع؛ لأنه لو رجع، كان آتياً بركوعين، وذلك غير سائغ، كما تقدم ذكره في العامد، ومنهم من قال: يجوز الرجوع؛ فإن قيامه كان من غلط، فإذا رجع، كان كما لو لم يقم واستدام الركوع. 994 - ثم إذا قلنا: يجوز الرجوع إلى التشهد، فلو قيل لنا: ما الأولى؟ لم يتجه إلا القطع بأن الأولى ألا يرجع، ويصابر القيام، فلو لم يستفد بذلك إلا الخروج عن الخلاف، لكان ذلك كافياً، فإنه لا يجب عليه الرجوع، وفي العلماء من يصير إلى أنه لا يسوغ الرجوع، فكان إيثار الخروج عن الخلاف أمثل. 995 - ولو رفع رأسه عن الركوع غالطاً كما ذكرناه، ثم هم بالرجوع، فكما (¬1) هم به، ارتفع إمامه من حد الراكعين، فليس له أن يرجع، فإنه إنما كان يرجع لإيثار متابعة الإمام، والآن لا يصادف الإمامَ راكعاً، فلا محمل لعوده إلا تثنية الركوع صورة في ركعة واحدة، وذلك غير سائغ، وتعمده مبطل للصلاة، كما تقدم تقريره. فإن قيل: هلا قلتم: إنه انتصب قائماً غالطاً، فلا يُعتد بانتصابه، فليعد -وإن لم يصادف إمامَه- قطعاً للغلط، ثم يفتتح انتصاباً بعد ذلك؟ قلنا: لا أصل لهذا الكلام؛ فإنه إذا كان يجوز أن يتعمّد فينتصب سابقاً للإمام، فالإصرار على إدامة هيئة القيام، وإن اقترن بالانتصاب غلطٌ (¬2) هو (¬3) الوجه، فإن تعديد الركوع من ¬

_ (¬1) "فكما" بمعنى (عندما)، فتنبه لذلك؛ لأننا لا ننبه إليها دائماً، بل مرة بعد مرة. (¬2) غلطٌ: فاعل "اقترن". (¬3) "هو الوجه" خبرٌ لقوله: "فالإصرار على الانتصاب ... " هذا وعبارة (ت 2): "وهذا هو الوجه".

المبطلات، وتقدّم الإمام بركن من جملة ما يحتمل. فقد تقرر ما حاولناه. ولو كان وقوع مثل ما ذكرناه على وجه الغلط يُثبت الرجوع، لوجب أن يقال: الإمام أو المنفرد إذا قام غالطاً، ولم يتشهد التشهد الأول، فإنه يعود بعد التلبس بالقيام، فإن انتصابه كان على حكم الغلط، فدل على أن التعويل في صورة الخلاف المذكورة في هذا الفرع على المتابعة، والجريان على موجب القدوة، والعود إلى التأسي والاقتداء، وهذا إنما يتحقق إذا كان يصادف الإمام فيما تركه وتقدمه. فهذا حاصل القول في ذلك. فصل 996 - رعاية الترتيب واجبة في أركان الصلاة، فلو أخلّ المصلي بالترتيب قصداً، بطلت صلاته، وإن ترك الترتيب ساهياً، لم يُقْض ببطلان صلاته، ولكن لا يُعتد بما يأتي به على خلاف الترتيب، ثم قد يقتضي ذلك إحباطَ بعض ما يأتي به في الأوساط، كما سنوضحه بالأمثلة والصور. 997 - فنقول: إذا ترك الرجل سجدة في الركعة الأولى، وقام إلى الثانية ناسياً، فما يأتي به من قيام، وقراءة، وركوع في الركعة الثانية، فغير محسوبٍ، ولا مُعتد به؛ فإن الركعة الثانية مرتبة على الركعة الأولى، فما لم يؤدِّ جميعَ أركان الركعة الأولى، لا يحتسب بما يأتي به في الركعة الثانية. وكذلك لو أتم الركعة الأولى، وأخل بركن في الثانية، وقام إلى الثالثة، فلا يعتد بشيء من أعمال الثالثة حتى يتدارك ما أخل به في الثانية. فيخرج من ذلك أن الترتيب مستحق، وتَرْكُه عمداً قاطع للصلاة، مبطل لها، وتركه ناسياً لا يبطلها، ولكن يتضمن ألا يُعتدَّ بما يأتي به على خلاف الترتيب.

998 - ونقل بعض الناس من مذهب أبي حنيفة (¬1) أن الترتيب ليس بمستحق، وهذا غير صحيح من مذهبه، ولكنه يقول: لو ترك أربع سجدات من أربع ركعات، فأعمال الركعات محسوبة، وعلى من ترك السجدات الأربع أن يأتي بأربع سجدات وِلاء في آخر الصلاة، فإذا فعل ذلك، انجبر النقصان، وانقطعت السجدات على مواقعها. وحقيقة مذهبه أن يقول: إذا أتى في كل ركعة بسجدة واحدة، فقد تقيدت كل ركعة بسجدة، والركعة المتقيدة بسجدة في حكم ركعة تامة عنده، ولو أخَّر أربع سجدات قصداً من الركعات، فإنه يأتي بها وِلاء عنده في آخر الصلاة، وتصح الصلاة. ولو أخلى الركعات عن السجدات كلها، فإن كان ذلك عمداً، بطلت صلاته، وإن كان سهواً، لم يعتد بشيء من أعمال تلك الركعات، ومذهبه كمذهبنا في هذه الصورة. وكذلك لو أخلى كل ركعة عن ركوعها، أو قراءتها، فهذا عمدُه مبطل، وسهوه مقتضٍ ألا يحتسب بما يأتي به على خلاف الترتيب، كل هذا مما وافقنا فيه. فخرج عن مجموع ما ذكرناه أن الترتيب مستحق بالاتفاق، فليقع التعويل في الدليل على اشتراط الترتيب بالإجماع. وما ذكره أبو حنيفة في إخلاء كل ركعة عن سجدة واحدة، لم يذكره، لأنه لا يراعي الترتيب، ولكنه اعتقد أن الركعة إذا تقيدت بسجدة، كانت في حكم الركعة التامة، وهذا زلل بيّن؛ فإن الركعة لو تمت، لما وجب تدارك السجدة المتروكة، وأنزلت الركعة المقيّدة بسجدة منزلةَ الركعة التي تدارَك المسبوقُ فيها إمامَه في الركوع؛ فإنها محسوبة، وإن لم يجر فيها القيام على ما يجب عند التمكن. فقد تمهد إذن ادعاء الإجماع في اشتراط الترتيب، وحُمل مذهب أبي حنيفة في ترك أربع سجدات من أربع ركعات على أمر تخيله في تمام كل ركعة واستقلالها بالسجدات المفردات. ¬

_ (¬1) ر. مختصر الطحاوي: 30، بدائع الصنائع: 1/ 167، 168، تحفة الفقهاء: 1/ 392، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 281 مسألة: 236، حاشية ابن عابدين: 1/ 309، 310.

999 - فإذا تمهد ذلك، فنحن نذكر صوراً في ترك سجدات من ركعات على حكم السهو، ونذكر مقتضى المذهب فيها إذا تَفصَّل (¬1) للمصلي بعد السهو كيفية الأمر، ثم نذكر ترك سجدات مع التباس الأمر في الكيفية. فلو ترك سجدةً من الركعة الأولى، وجرى في صلاته على حكم السهو، ثم تذكر كيفية الحال في آخر الصلاة، فنقول: يحصل له من الركعتين الأوليين في الصلاة الرباعية ركعةٌ واحدةٌ؛ فإنه لما قام إلى الركعة الثانية وعليه سجدة من الأولى، فالقيام والقراءة والركوع والاعتدال عنه غير محسوب في الركعة الثانية، لما تقدم تقريره من ترك الترتيب، فلما انتهى إلى السجدتين، احتسبنا له منهما بسجدة واحدة، وتممنا الركعة الأولى، والسجدة الثانية غير معتد بها، وكأنه صلى ركعة واحدة، وأتى لها بثلاث سجدات ساهياً، فيُعتدّ بسجدتين. وتلغى الثالثة. 1000 - ولو ترك سجدة من الركعة الأولى، ثم قام إلى الركعة الثانية ساهياً، ونسي السجدتين جميعاً في الركعة الثانية، ثم أتى في الركعة الثالثة بسجدتين فيحسب له من الركعات الثلاث ركعةٌ واحدة؛ فإن عمله في الركعة الثانية كلا عمل، وما أتى به في الركعة الثالثة قبل السجدتين، فغير محسوب ولا معتد به، فلما انتهى إلى السجدتين، احتسبنا إحداهما، وكملنا به الركعة الأولى، وأحبطنا الثانية، فتحصل له من المجموع ركعةٌ واحدة تامة. 1001 - ولو تبين للذي يصلي أربع ركعات في آخر صلاته أنه ترك من كل ركعة سجدة، فنقول: حصل له ركعة واحدة من الأولى والثانية، وحصلت له ركعة ثانية من الثالثة والرابعة، فيقوم ويضم إليها ركعتين كاملتين ويسجد للسهو، لمكان الزيادة التي يعتد بها. 1002 - ولو ترك سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وأتى بسجدتين في الثالثة، وأتى بسجدة واحدة في الرابعة وأخذ يتشهد على أنه أتى بالركعات الأربع على ¬

_ (¬1) المعنى أننا نذكر مقتضى المذهب في حالة تفصل الأمر، أي اتضح عند المصلي الساهي، وكذلك في حالة التباس الأمر عليه.

كمالها، ثم تذكر حقيقةَ الحال، تبين أنه حصل له من ثلاث ركعات ركعة واحدة، والرابعة ناقصة بسجدة، وإذا تذكر ذلك، فعليه أن يكمل الركعة الأخيرة بسجدة، فإذا فعل، فقد حصلت له الآن ركعتان، فيقوم ويصلي ركعتين تامتين، ثم يتشهد ويسجد سجدتي السهو. 1003 - ومن القواعد الواضحة في مذهب الشافعي في ذلك، أنه لو ترك المصلي سجدات من ركعات، وأشكل عليه مواضعها، وكيفيةُ الأمر في تركها، واستمر الإشكال، فحق عليه أن يأخذ بأسوأ الأحوال، وما يقتضي مزيدَ العمل على أقصى التقدير في التدارك؛ فإن مذهب الشافعي وجوبُ بناء الأمر عند وقوع الإشكال على الأقل المستيقن، وتدارك المشكوك فيه. 1004 - وبيان ذلك بالتصوير، أنه لو علم في آخر الصلاة الرباعية أنه نسي أربع سجدات، ولا يدري كيف جرى تركها، فنقول: لو كان تمم الركعتين الأوليين وترك أربع سجدات من الثالثة والرابعة، وأخلاهما عن السجود وتشهد، وتذكر، لكُنا نقول: اسجد سجدتين وقد تمت لك ثلاث ركعات، فقم إلى الركعة الرابعة، فهذا حكم هذه الحالة لو كانت. ولو كان ترك من كل ركعة سجدة، وبان له ذلك بالأخرة، لكُنا نقول: أنت على ركعتين، فقم إلى ركعتين كاملتين: هما ثالثتك ورابعتك. ولو كان ترك سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وسجدة من الرابعة، لكُنا نقول: إذا بان ذلك، أنت الآن على ركعتين إلا سجدة، فاسجد سجدة وقد حصلت ركعتان، وقم إلى تمام ركعتين. فهذا بيان وجوه الكلام في ترك أربع سجدات [من أربع ركعات، لو تبينت الكيفية، وتفصل الأمر. فإذا علم أنه ترك أربع سجدات] (¬1)، ولم يدر كيف تركها، وكيف انقسم تركها على الركعات، فوجه الأخذ بالأسوأ والبناء على الأقل المستيقن، أن نأخذ بترك ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وسجدة من الرابعة، فيسجد سجدة، وقد تمت ركعتان على قطع، ويقوم إلى ركعتين تامتين، ثم يتشهد بعدهما، ويسجد للسهو، ويسلم. 1005 - وكان شيخي أبو محمد يذكر حيث انتهينا إليه أنه إذا ترك أربع سجدات وأشكل عليه كيفية الأمر، فيسجد سجدتين، ويقوم ويصلّي ركعتين تامتين، وكان يعلل ذلك ويقول: يحتمل أنه ترك السجدتين من الثالثة، والسجدتين من الرابعة، وتمَّمَ الركعة الأولى والثانية. ولو كان الأمر كذلك، لكان الحكم أن يسجد سجدتين، وقد تمت له ثلاث ركعات، ويقوم إلى الرابعة، فإذا أشكل الأمر، فلا يأمن أن يكون الأمر كذلك، فتنحتم سجدتان في الحال، ولو قام، ولم يأت بهما والحالة هذه، بطلت صلاته، فنأمره أن يأتي بسجدتين، ولا يحتسب له إلاّ ركعتان مما أتى به، فيقوم ويصلي ركعتين، فيكون قد أتى بكل ما يقدر وجوبه. وهذا الذي ذكره غير سديد عندي؛ فإن السجدة الثانية لا تقع موقع الاعتداد في حسابٍ أصلاً، وإنما يقدر الاعتداد بسجدةٍ واحدة، وحيث قدر رحمه الله ترك السجدات الأربع من الثالثة والرابعة، فلو سجد سجدتين، حصل له ثلاث ركعات، وإذا كان الإشكال مستمراً، لا يحصل إلاّ ركعتان، والركعتان تحصلان بسجدة واحدة يأتي بها، ثم يقوم إلى ركعتين أخريين تامتين، والسجدة الثانية إنما أوجبها الشيخ أخذاً من تقدير ترك الأربع من الثالثة والرابعة، وفي هذا التقدير لو سجد سجدتين، لحصلت ثلاث ركعات، فلا وجه لما قاله، إلا أنه قد يجب سجدتان في هذا المقام، ولا يجوز تأخيرهما، فَلْيأتِ بهما، وإن كان لا يستفيد بالثانية شيئاًً معتداً به، وهذا مدخول؛ فإن ما لا يُعتد به قطعاً لا معنى للإتيان به، ولئن كان في الاقتصار على سجدة متعرضاً لإمكان تأخير سجدة في حساب، فليحتمَل ذلك في حال الإشكال إذا كان الإتيان بالكمال يحصل. والذي يكشف الغطاء في ذلك أنه إن وجب سجدتان لا يعتد بإحداهما لتقدير أنهما قد يقدر وجوبُهما الآن مع تقدير تحريم تأخيرهما، فهذا يعارضه أن السجدة الثانية قد تكون زائدة والإتيان بسجدة في غير أوانها مبطلٌ للصلاة، وهذا يعارض ما ذكره،

وإذا تعارضا، تعين صرفُ الأمر عند الإشكال إلى ما يقدّر أن يقع معتداً به. وإنما زدت الكلام في ذلك؛ لأن شيخي كان يتولع بما حكيته، ويكرره في دروسه، وهو عندي زلل غير معدود من المذهب أصلاً. وكل ما ذكرناه فيه إذا استمر الإشكال إلى آخر الصلاة على ما يقدره صاحب الواقعة آخر صلاته، ثم تبين الأمر، أو دام الإشكال في الكيفية. 1006 - فأمّا إذا نسي سجدة من الركعة الأولى، وقام إلى الثانية، ثم تذكر في الثانية ما جرى، نُظر، فإن تذكر وهو في أثناء القيام، فلا شك أنه يقطع القيام، ويعود فيستدرك السجدة المنسية. ثم نفصل القول. فنقول: إن سجد في الأولى سجدةً، فلا يخلو إما أن ينتصب عَقِيبَها (¬1) قائماً من غير جلوس، وإما أن يجلس، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فإن لم يجلس، وانتصب قائماً، ثم تذكر وأمرناه بالعود، فيعود ويجلس، ثم يسجد عن جلوسٍ، أم يكفيه أن يسجد عن قيام من غير جلوس؟ ذكر أئمتنا في ذلك وجهين في الطرق كلها: أحدهما - أنه يجلس ثم يسجد، فإن المسألة مفروضة فيه إذا لم يكن جلس على إثر السجدة الأولى، والجلوس بين السجدتين ركن كالسجدة نفسها، وهذا ظاهر المذهب. والوجه الثاني - أنه لا يلزمه الجلوس؛ فإن الغرض من الجلوس الفصلُ بين السجدتين [بانتصابٍ تام، والقيام الذي جرى أفاد ذلك الفصلَ، فليقع الاكتفاء به، وكل هذا في التحقيق يؤول إلى أن الجلسة بين السجدتين ركنٌ مقصود أم الغرض منها الفصل بين السجدتين] (¬2)؟ وسيأتي بعد ذلك من التفريع ما يشهد لهذا الاختلاف. ¬

_ (¬1) "عقيب" بوزن كريم اسم فاعل من قولهم: (عاقَبَه معاقبة، وعقبه تعقيباً)، فهو (معاقب) و (معقب) و (عقيب): إذا جاء بعده، وقال الأزهري: والليل والنهار يتعاقبان، كل واحد منهما عَقِيبُ صاحبه، والسلام يعقب التشهد أي يتلوه، فهو (عقيب) له ... فقول الفقهاء: يفعل ذلك (عَقيبَ) الصلاة، لا وجه له إلا على تقدير محذوف، والمعنى في وقت (عقيب) وقت الصلاة: أي معاقب لها، فيكون (عقيب) صفةَ وقتٍ، ثم حذف من الكلام حتى صَار (عقيب) الصلاة، انتهى بتصرفٍ يسير جداً من (المصباح) فعلى هذا يكون قوله: "ينتصب عقيبها قائماً" معناه ينتصب في الوقت المعاقب لها. (¬2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ط).

ثم من يكتفي بالقيام فاصلاً، فلا شك أنه يمنع الإتيان بذلك عن الجلوس في حال الذكر، وإنما يقيم القيام مقام الجلسة إذا جرى وفاقاً مع النسيان، والسبب فيه أن القيام ركنٌ مقصود في نفسه، فالإتيان به إقدامٌ على زيادة ركن على نظم الصلاة وترتيبها، فيكون كزيادة ركوع أو سجود. ولو قيل: الجلوس أيضاً يقع في أوانه ركناً، ويقع به الفصل بين السجدتين؟ فالجواب أن القيام يخالف مورد الشرع، ففي الإتيان به إتيان بصورة ركن على خلاف الشرع، والمتَّبع الشرعُ في العبادات، هذا أصل الشافعي في قاعدة العبادات. فهذا إذا لم يكن جلس عَقِيب السجدة الأولى من الركعة الأولى، فأما إذا كان جلس، ثم قام قبل أن يسجد السجدة الثانية، نُظر: فإن جلس على قصد الفصل بين السجدتين، ثم طرأت غفلة أذهلته عن السجدة الثانية، فقام، فإذا تذكر، وقطع القيام، فلا يجلس، بل يهوي ساجداً؛ فإن الجلوس قد أتى به على وجهه، ثم قام. وإن جلس على قصد جلسة الاستراحة وقام، فقد أتى بصورة الجلوس، فإن كنا نقيم القيام مقام الجلوس بين السجدتين، فلا كلام، وإن لم نُقمْه مقام الجلوس، ففي الجلوس الذي أتى به على قصد الاستراحة وجهان: أحدهما - أنه كافٍ ولا حاجة إلى الجلوس عند العود. والثاني - أنه لابد من الجلوس؛ فإن الجلوَس الذي أتى به قبل السهو نوى به إقامة السنة، والفرض لا يتأدى بقصد السنة، وهذان الوجهان كالوجهين فيما إذا أغفل المتوضىء لمعةً من وجهه في الغسلة الأولى، ثم تداركها في الغسلة الثانية، وقصد بالغسلة الثانية إقامةَ السنة، ففي سقوط الفرض عن اللمعة التي أغفلها وجهان، تقدم ذكرهما في الطهارة. ولو ترك سجدة من الركعة الأولى، وقام إلى الركعة الثانية، ثم تذكر بعدما انتهى إلى الركوع، فإنه يقطع الركوع ويهوي منه إلى السجود، كما تقدم، ثم التفصيل في القعود كما تقدم.

فصل 1007 - يجمع مجامع الكلام فيما يقتضي سجود السهو، فنذكر ما رسمه أئمة المذهب في التقسيم، ثم نذكر حقيقةً تُطلع الناظرَ على سرّ الفصل إن شاء الله تعالى. قال الأئمة: سجود السهو يتعلق بترك مأمور به، وارتكاب منهي عنه: فأما المأمور به الذي يتعلق به سجود السهو، فلا شك أن من ترك ركناً من صلاته، لم ينجبر ما تركه بسجود السهو، ولا بد من تدارك ما تركه؛ فإذاً لا يتعلق السجود إلا بترك بعض السنن، ولا خلاف أنه لا يتعلق بترك جميعها، وإنما يتعلق ببعضها. فالسنن التي يتعلق السجود بتركها: الجلوسُ للتشهد الأول، والقنوت في صلاة الصبح، وإن عُدَّ الوقوف للقنوت، ثم ذُكر القنوت لم يبعد، والصلاة على الرسول في التشهد الأول مختلف فيه، كما مضى في باب صفة الصلاة، فإن لم نرها، فلا كلام، وإن أمرنا بها، فهي من الأبعاض التي يتعلق السجود بها، والصلاة على الآل مختلف فيها أيضاً، ثم إن اعتبرناها، وأمرنا بها، يتعلق بتركها سجود السهو. ثم سمى الأئمة هذه المأمورات أبعاضاً، ولست أرى في هذه التسمية توقيفاً شرعياً، ولعل معناها أن الفقهاء قالوا: يتعلق السجود ببعض السنن، ثم قالوا: هذه السنن هي الأبعاض التي يتعلق بها السجود، والأبعاض تنطلق على الأقل، وما يتعلق به سجود السهو أقل مما لا يتعلق به السجود من السنن. ثم من أثبت التشهد الأول سنة، ولم يقض بكونه فرضاً، مجمعون على تعلق سجود السهو به، وكذلك من رأى القنوت مأموراً به، رآه من الأبعاض التي يتعلق بتركها السجود. وأبو حنيفة (¬1) لمّا أثبت القنوت في الوتر، علق بتركه السجود، كذلك من رأى القنوت في صلاة الصبح، وفي ذلك آثار عن جهة (¬2) الصحابة. ¬

_ (¬1) ر. مختصر الطحاوي: 30، بد ائع الصنائع: 1/ 167، حاشية ابن عابدين: 1/ 315. (¬2) في (ل): "جلّة".

ويستمر (¬1) على مذهبنا في غير القنوت شيء، وهو أن كل سنة ذهب إلى وجوبها طائفة من الأئمة، فهو (¬2) من الأبعاض، وأحمد بن حنبل أوجب الجلوس الأول، والتشهدَ والصلاة (¬3)، فجرى ما ذكرناه. والقنوتُ في صلاة الصبح لم يبلغني فيه خلاف في الوجوب، فلعل المتبع فيه الآثار. ثم من ترك بعضاً من هذه الأبعاض سهواً، سجد، ومن تركها عمداً، فهل يسجد؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسجد؛ لتحقق الترك، وهذا القائل يرى العمدَ أولى بالجبران، وأبعد بالعذر (¬4). والوجه الثاني - أنه لا يسجد، وهو مذهب أبي حنيفة (¬5)، ووجهه أن الساهي معذور، فأثبت له الشرع مستدركاً. ومن تعمّد الترك، فقد التزم النقصان، فلم يثبت له الشرع سبيلَ الجبران. فهذا تفصيل القول في المأمور به الذي يتعلق بتركه السجود. 1008 - فأما المنهي عنه، فقد قال الأئمة: كل منهي عنه لو تعمده المصلي، بطلت صلاته، ولو وقع منه سهواً، لم تبطل صلاته، فنأمره إذا سها، وأتى به، بالسجود. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ: "ويستمر" وأكاد أقطع أن الصواب هو: "يستد" بمعنى يستقيم؛ فهي الأوفق للمعنى، والأنسب للسياق، ثم هي جارية في لسان إمام الحرمين كثيراً، ثم تصحيفها إلى يستمر من أقرب التصحيفات. والله أعلم. ثم جاءت (ل) بنفس الخطأ: "يستمر". (¬2) كذا بضمير المذكر في جميع النسخ. (¬3) وجوب التشهد الأول، والجلوس له من مفردات مذهب الإمام أحمد، أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فواجب، أو ركن في رواية أخرى، في التشهد الأخير. أما في التشهد الأول، فما رأيناه في كتب الحنابلة أن الصلاة لا تُشرع ولا تُستحب فيه، هذا هو المذهب، واختار بعض أئمة الحنابلة مشروعيتها ولكن دون القول بوجوبها. (ر. المنح الشافيات: 1/ 201، الإنصاف: 2/ 76، 115، 116، المغني: 1/ 606، 610، كشاف القناع: 1/ 388، 390، شرح منتهى الإرادات: 1/ 206، 257، الفروع، 1/ 441، 466، المبدع: 1/ 497، 465، الفتح الرباني بمفردات الإمام أحمد: 1/ 142، 144). (¬4) (ت 1)، و (ت 2): أبعد من العذر. (¬5) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 306، 497.

وطمع المحققون في طرد هذا الحد وعكسه، في قبيل المنهيات، وقالوا: ما كان عمدُه مبطلاً وفاقاً، فسهوه مقتضٍ للسجود وِفاقاً، وما لا فلا، وما اختُلف في أن عمدَه هل يبطل الصلاة؟ اختُلف في أن سهوه هل يقتضى السجود؟ وسنوضح الوفاء بهذا في الطرد والعكس. 1009 - ومما يخرج على الطرد ترك ترتيب الأركان؛ فإن من قام إلى الركعة الثانية ولم يأتِ بسجدة في الأولى، فإن تعمد ذلك، بطلت صلاته، وإن كان ساهياً، استدركَ الركنَ، كما تقدم تفصيله، وسجد للسهو كما تقدم، وكذلك من زاد ركوعاً أو سجوداً عمداً، بطلت صلاته، ومن سها به سجد، ومن تكلم عامداً، بطلت صلاته، ومن سها به سجد. ثم من الأصول التي تلتحق بذلك فيما زعموه، أن من طوَّل ركناً قصيراً، أو نقل إليه ركناً، فجمع بين التطويل، ونقْل الركن، [كمن يقرأ] (¬1) في رفع الرأس من الركوع الفاتحة. قالوا: هذا إذا سها بذلك، يسجد للسهو، وجهاً واحداً، ولو تعمد، بطلت صلاته. ولو قرأ التشهد في القيام، أو الركوع، أو السجود، أو قرأ الفاتحة في القعود في التشهد، فإن جرى ذلك سهواً، ففي الأمر بسجود السهو وجهان، فإن جرى عمداً، ففي بطلان الصلاة وجهان. ولو طول القومة عن الركوع بسكوتٍ، أو ذكرٍ ليس بفرض، ففي كونه مبطلاً عند التعمد وجهان، وكذلك في اقتضائه سجودَ السهو عند السهو وجهان، وقال هؤلاء: إن وُجد تطويل الركن القصير، ونقْلُ ركنٍ إليه، فهذا أوان القطع بالبطلان في العمد، والأمر بالجبران في السهو، وإن وجد تطويلٌ بلا نقلٍ؛ كتطويل القيام عن الركوع من غير نقلٍ، أو وجد نقل بلا تطويل ركن قصير، كالذي يقرأ الفاتحة في التشهد، أو التشهد في القيام، ففي المسألة وجهان في البطلان عند التعمد، والجبران بالسجود عند السهو. ¬

_ (¬1) في الأصل، (ط)، (ت 1): كما تقرر. والتصويب من: (ت 2).

1010 - فهذه طريقة مشهورة للأئمة، ثم إنا نستتمها ونخوض بعد نجازها في طريقة أخرى. قال العلماء: القَوْمةُ عن الركوع قصيرة، لا تطويل فيها، إلا القومة التي شُرع القنوت فيها، وكذلك القَوْمةُ عن الركوع في صلاة التسبيح مطولة بالتسبيح، وقد صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1)، والقيام، والركوع، والسجود، والقعود، والتشهد، كل ذلك طويل. والقعود بين السجدتين مختلف فيه، فالذي ذهب إليه الجمهور، وهو اختيار ابن سريج أنه من الأركان الطويلة، بخلاف القيام عن الركوع، وقال الشيخ أبو علي: هو عندي كالقيام عن الركوع؛ فإن الظاهر أنه مشروع للفصل بين السجدتين، كما أن الاعتدال عن الركوع مشروع للفصل. وهذا الذي ذكره في شرح التلخيص، وهو منقاس حسن، وظاهر قول الأئمة يخالفه. فهذه طريقة ظاهرة سردناها على وجهها، ومغزاها ربط الجبران في حالة السهو بالبطلان في حالة العمد، وفاقاً، وخلافاً، في النفي والإثبات جميعاًً. 1011 - وذكر بعض الأئمة مسلكاً آخر حسناً، وهو حقيقة الفصل عندي، فقال: من قرأ التشهد في قيامه، أو الفاتحة في تشهده عمداً، لم تبطل صلاته وجهاً واحداً، وفي اقتضاء ذلك سجود السهو عند السهو وجهان مشهوران، وقد ذكر بعض أئمتنا: أن من قرأ الفاتحة، أو بعضاً منها في قيامه من الركوع عمداً، لا تبطل صلاته أيضاً. 1012 - والآن ازدحمت المسائل واختلاف الطرق، فالوجه ذكر ما قيل، ثم اختتام الفصل بترجمة تضبط الطرق. فأقول أولاً: المصير إلى بطلان الصلاة على من تعمد، فقرأ التشهد في القيام، أو الفاتحة في التشهد بعيدٌ عن القانون، وسبيل الكلام أن نقول: قد قدمنا أن من قرأ ¬

_ (¬1) صلاة التسبيح، ورد فيها أكثر من حديث مختلف في صحتها، ما بين ذكر حديثها في الموضوعات، كصنيع ابن الجوزي، وبين تصنيف جزء في تصحيحها كصنيع أبي موسى المديني، بل اختلف فيها كلام إمام واحد من أئمة الفقه والحديث كصنيع الإمام النووي. (ر. التلخيص: 2/ 7، ح 482).

الفاتحة مرتين قصداً في القيام، لم تبطل صلاته، وعُدَّ مصير أبي الوليد النيسابوري في ذلك إلى البطلان من هفواته، وعندي أن المصير إلى بطلان الصلاة بسبب قراءة التشهد على وجه التعمد في القيام، أو القراءة في القعود، قريب من مذهب أبي الوليد في الفاتحة؛ فإن قراءة الفاتحة ركنٌ، فإذا [زيدت وأُعيدت] (¬1)، لم يجعلها الأئمة كزيادة ركوع أو سجود. وأما ما حكيته من أن تطويل القيام عن الركوع لا يُبطل الصلاة عند بعض الأصحاب، فالنقل فيه صحيح، ولكن القول فيه يتعلق بترك الموالاة في الصلاة، وهذا أوان بيانه، فأقول: 1013 - ظاهر المذهب أن تطويل الاعتدال عن الركوع غيرُ سائغ؛ فإنه لو ساغ، لم يكن لمصير الأصحاب إلى أن الموالاة شرط في الصلاة معنى؛ فإن الأركان الطويلة إذا كانت تقبل التطويل من غير رعاية [ضبطٍ في ذلك وحدّ، فلا يستقر في رعاية] (¬2) الموالاة كلامٌ، إلا في الاعتدال عن الركوع، وكان السرّ فيه أنه غير مقصود في نفسه، وأن الغرض منه -وإن كان فرضاً- الفصلُ بين الركوع والسجود، فينبغي ألا يطول الفصل فيما لا يقصد به إلا الفصل، فإن تطويلَه تركٌ لوِلاء الأركان في الصلاة. فمن قال: تطويلة لا يبطل الصلاة أصلاً، فلا يبقى عنده للوِلاء في الصلاة معنى. والجلسة بين السجدتين عدها الأكثرون من الأركان المقصودة، فهي مطولة إذن، وقال الشيخ أبو علي: هي كالاعتدال من الركوع. 1014 - وقد قدمنا خلافاً في تطويل الاعتدال عن الركوع من غير نقل ركنٍ إليه، ونحن الآن نزيد طريقة أخرى، صح عندنا النقل فيها، فحاصل القول أن في تطويل قَوْمة الاعتدال عن الركوع أوجه: قال قائلون: عمد التطويل مبطل إلا في محل القنوت، وصلاة التسبيح؛ فإنه تَرْكٌ للوِلاء، والموالاة لا بد منها في الصلاة، والتطويل المجرّد عند هذا القائل من المبطلات. ¬

_ (¬1) في الأصل، (ط)، (ت 1): ارتدّت، واعتدت. (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

وقال آخرون: التعمد بالتطويل المجرد لا يبطل، حتى ينضمَّ إليه نقلُ ركن إليه، وهذ لست أعرف له وجهاً سديداً منقحاً كما أحب. وقال القفال فيما نقل بعضهم عنه: إن قنت في غير موضعه عامداً في اعتداله، بطلت صلاته، فإن طوّل بذكرٍ آخر، ولم يقصد به القنوت، لم تبطل صلاتُه، فصار ذلك طريقة أخرى. وقال طوائف من محققينا: لا تبطل صلاتُه بتطويل الاعتدال على أي وجهٍ فُرض، وهذا وإن أمكن توجيهه، ففيه رفْع معنى الموالاة في أركان الصلاة، كما تقدم. فهذه طرق مختلفة. 1015 - ومن تمام القول في الموالاة أن بعض أصحاب القفال حكى عنه أن من طول السكوت وهو منفرد أو إمام في ركن طويل، بطلت صلاته إذا تعمد، وهذا يختص به إن صح النقل فيه، وهو غريب، فإن أمكن توجيهه؛ فإنه خروج عن هيئة المصلين، فكان كالأفعال الكثيرة المتوالية، ويمكن أن يقال أيضاً، هو في حكم ترك الموالاة؛ فإن الصلاة مبناها على تواصل القراءة، والأذكار والدعوات، فَلْيَتَأمل الناظر اختلاف الطرق. 1016 - وأنا أقول: من ربط الأمر بالسجود بتقدير البطلان عند العمد، فقد طرد قياساً، وإن كان فيه من البعد ما وصفته، من أن المصير إلى بطلان الصلاة بقراءة التشهد في القيام فيه بعض [البعد] (¬1)، ومن قال: لا تبطل الصلاة بذلك وجهاً واحداً، وفي سجود السهو وجهان، فقد يقول: لا تبطل الصلاة بالقراءة في الاعتدال من الركوع، فكأن هذا القائل نحا في السجود نحواً آخر، وهو السرّ الموعود. فقال: التشهد الأول وإن لم يكن ركناً، ولم يكن تعمد تركه مبطلاً للصلاة، ففي تركه سجود السهو، فلا يبعد أن يكون في المنهتات ما ينزل تركه منزلة الإتيان بالتشهد في المأمورات. ¬

_ (¬1) في الأصل، (ت 1)، (ط): "النقد" وفي (ت 2): "التعبد" والمثبت تقديرٌ منا والحمد لله صدقته (ل).

وحاصل القول يرجع عند هذا القائل إلى أمرِ بديع، وهو أن المصلي مأمور بالتصوّن والتحفظ، وإحضار الفكر والذهن، حتى لا يتكلم ولا يفعل فعلاً كثيراً، والأمر في ذلك مؤكد عليه حسب تأكد الأمر بالتشهد، وإن سها وتكلم، فالساهي على الجملة معذور غير مكلف في حالة اطّراده بسهوه، ولكنه يؤمر بالسجود، لتركه التحفظ عن الغفلات بإدامة الذكر، فكأنَّ كلَّ سجوب منوطٌ بترك أمر مؤكد غير محتوم، فالأمر بالتشهد وما في معناه من الأبعاض، والأمر بالتحفظ إذا ظهر تركه والهجوم على منهي عنه من هذا القبيل. فلينعم الناظر نظرَه في ذلك، وليعلم أن المعتمد عند هذا القائل تركُ ما يغير نظمَ الصلاة تغييراً ظاهراً؛ فإنّ ترك التشهد الأول يغير النظمَ الظاهر المألوف في الصلاة، كذلك تركُ التحفظ حتى يؤدي إلى تطويل ركن، أو نقل ركن مما يغير النظمَ الواضح، والشعارَ البيّن فتعلق به على الوفاق والخلاف السجود. وأما ترك تسبيح الركوع والسجود، وتكبيرات الانتقالات، والجهرِ في الجهري، والإسرارِ في السري، فلا تبلغ هذه الأشياء مبلغ تغيير الشعار الظاهر، والنظم المألوف وقد خالف أبو حنيفة (¬1) في بعض ما ذكرناه، فأثبت السجود في الجهر بالقراءة في الصلاة السرية، وفي الإسرار بها في الصلاة الجهرية، وسبب مصيره إلى ذلك تغيير الشعار. 1017 - وقال أبو حنيفة (¬2): على من ترك التكبيرات الزائدة في صلاة العيد السجود، وكنت أود أن يصير إلى ذلك صائر من أصحابنا، من جهة أن التكبيرات الزائدة في صلاة العيد قريبة الشبه بالقنوت في الصلاة المختصة بالقنوت، ولكن قد ينقدح في ذلك فرق لا بأس به، وهو أن التكبير في يوم العيد من شعار اليوم، ولذلك ¬

_ (¬1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 166، تحفة الفقهاء: 1/ 396، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 275 مسألة: 229. حاشية ابن عابدين: 1/ 498. (¬2) ر. مختصر الطحاوي: 30، بدائع الصنائع: 1/ 167، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 275 مسألة: 229، تحفة الفقهاء: 1/ 395.

نستحبه في الطرق والمساجد، وفي أثناء الخطبة، وفي الصلاة، فكأن التكبيرات ليست من خصائص الصلاة بخلاف القنوت. ثم في السجود لترك القنوت آثارٌ عن الصحابة ذكر المزني بعضها. 1018 - ثم نقول: إن صار أصحابنا إلى ربط سجود السهو ببعض السنن المؤكدة، فالذي ذكروه لا يبعد، مع مصيرهم إلى أن سجود السهو سنة، فلا يبعد أن يُجبرَ مسنون بمسنون، وأما أبو حنيفة، فقد علق سجود السهو بسنة، ثم أوجب سجود السهو (¬1)، وإيجاب الجبران في مقابلة ترك المسنون بعيد عن التحصيل. وقد انتهى تفصيل المذهب فيما يقتضي سجود السهو على اختلاف الطرق وتباين المسالك، فإن شذ عن الضبط شيء، تداركناه برسم فروع وفصول إن شاء الله تعالى. فرع (¬2): 1019 - إذا رفع المصلي رأسه عن السجدة الثانية في الركعة الأولى، فظن أنها الثانية، فقعد ليتشهد، فالذي ذكره الأئمة: أنه إن افتتح التشهد، أو طول هذه الجلسة، سجد للسهو. قال الصيدلاني: المقتضي للسجود أحد الأمرين: إمّا الأخذ في التشهد، وإما تطويل القعود، ولم أر في ذلك خلافاً، وكأن التشهد في غير موضعه في تغيير هيئة الصلاة ينزل منزلة ترك التشهد المشروع المسنون في أوانه، وجلسةُ الاستراحة لا تطول وفاقاً، وليس فيه من التردد ما حكيناه في الجلسة بين السجدتين. ثم من قال من أئمتنا: من طوَّل الاعتدال عن الركوع قصداً، أو قنت فيه عمداً، بطلت صلاته، فلا بد وأن يقول: إذا تشهد في جلسة الاستراحة قصداً أو طولها، كان الحكم في بطلان الصلاة عند التعمد، كالحكم في تطويل الاعتدال عن الركوع. فرع: 1020 - نقل الشيخ أبو علي في شرح التلخيص عن ابن سريج أنه قال: من جلس عن قيام في الركعة الأخيرة، فسها، وظن أنه قد سجد، فتشهد، ثم تذكر، ¬

_ (¬1) الذي رأيناه عند الحنفية أنهم يعلقون سجود السهو بواجب، ر. بدائع الصنائع: 1/ 163، 164، تحفة الفقهاء: 1/ 388، حاشية ابن عابدين: 1/ 497. (¬2) في (ت 1)، (ت 2): (فصل) بدل (فرع).

فلا شك أنه لا يعتد بالتشهد، وأنه يسجد ويتشهد مرة أخرى، ثم يسجد للسهو، فإنا نأمر من طوَّل جلسة الاستراحة، أو تشهد فيها بالسجود، وذلك الجلوس مشروع على الجملة، فأما الجلوس عن القيام، فغير مشروع، وإذا تشهد فيه قبل السجود الركن سجد للسهو. 1021 - وقال: لو سجد في الركعة الأخيرة سجدة واحدة، واعتدل جالساً، وظن أنه فرغ من السجدتين وتشهد، ثم تذكر، فيسجد السجدة الثانية، ويعيد التشهد، لا محالة؛ رعايةً للترتيب، ولا يسجد للسهو؛ فإن الجلسة بين السجدتين طويلة، وهي محل الذكر، فلم يطوّل ركناً قصيراً، ولم يأت بجلوس في غير موضعه، والتشهد الذي أتى به بمثابة ذكرٍ آخر من الأذكار يأتي به. فقال أبو علي: يحتمل أن أقول: الجلسة بين السجدتين قصيرة، وهي للفصل كالاعتدال عن الركوع، وهذا قد مضى ذكره، ثم قال: إن سلّمنا أنها طويلة، فقد أتى فيها بالتشهد، وهو على الجملة ركن أتى به في غير أوانه، وقد ذكرنا خلافاً ظاهراً للأصحاب فيمن نقل ركناً إلى ركن طويل، كالذي يتشهد في قيامه، أو يقرأ في قعوده، وهل يسجد للسهو؟ والذي ذكره الشيخ أبو علي حسن بالغٌ جارٍ في قاعدة المذهب. 1022 - وأنا الآن أذكر شيئاًً لا بدّ من التنبيه له، فأقول: الركوع لا يعهد في الصلاة إلا ركناً، فلا جرم نقول: من زاد ركوعاً قصداً، بطلت صلاته، وكذلك القيام لا يكون إلا ركناً، فلو زاد قياماً قصداً، بطلت صلاته، فأما الجلوس، ففي الصلاة جلوس مشروع، وهو الجلوس للتشهد، وجلسة الاستراحة بين السجدتين، فلو جلس المصلي لمَّا انتهى إلى السجود من القيام جلسةً خفيفة، وسجد منها، لم تبطل صلاته؛ فإنه ليس آتياً بما لا يعهد إلا ركناً، وهو في نفسه ليس في حد الفعل الكثير أيضاً. ولكن لو طال الجلوس أو ابتدأ التشهد، فقد أتى بما يغير نظمَ الصلاة تغييراً ظاهراً، فنأمره بسجود السهو. فإن قيل: في الصلاة سجود ليس بركن وهو سجود التلاوة، وسجود السهو؟

قلنا: هما يقعان لعارض يعرض، فكأنهما ليسا من الصلاة، والجلسة المستحبة تقع من نفس الصلاة، وهذا بين. ولو كان قائماً، فجلس، ثم قام عمداً، بطلت صلاته، لا لعين الجلوس، ولكن لأنه قطع القيام ثم عاد إليه، فكان آتياً بقَوْمَتين. فهذا منتهى ما أردناه في ذلك. فرع: 1023 - ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أن القاعد للتشهد لو قرأ سورةً أخرى سوى الفاتحة، كما لو قرأ الفاتحة. وهذا الذي ذكره متجه حسن، من جهة أن المعتبر تغيير الشعار الظاهر في الصلاة، ولكن ينقدح على مذاهب طوائفَ خلافُ ذلك، من جهة أن هذا ليس نقلَ ركن من محله إلى غيره. فصل 1024 - قد ضبطنا فيما تقدم طرقَ الأصحاب فيما يتعلق به سجود السهو تفصيلاً وتعليلاً، ومضمون هذا الفصل الآن شيئان: أحدهما - لو شك هل سها أم لا كيف يكون حكمه؟ والثاني - أنه لو استيقن السهوَ، وشك في سجود السهو فبماذا يؤمر؟ 1025 - أما الشك في السهو، فقد قال الأئمة: السهو ينقسم إلى ترك مأمورٍ، وارتكاب منهي، أما المأمورات، وهي الأبعاض، فإن شك هل ترك شيئاًً منها، (1 فالأصل أنه لم يأت به، فيسجد للسهو. وأما المنهيات، فإن شك في ارتكاب شيء منها 1)، فقد أجمع أئمتنا أنه لا يسجد، كالذي شك هل سلم أو تكلم في صلاته، فلا يسجد، والأصل أنه لم يأت بذلك المنهي، فالمتبع إذاً في الأصلين بناء الأمر على أنه لم يأت بما شك في الإتيان به. قال العراقيون: من شك في الإتيان بمنهي، فلا سجود عليه إلا في مسألة واحدة، ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقطة من: (ت 2).

وهي أنه لو شك المصلي في أعداد ركعات الصلاة، فلم يدرِ أثلاثاً صلّى، أم أربعاً؟ وبنى على المستيقن، فإنه يسجد. وسبب السجود أنه شك هل زاد في صلاته، والزيادة منهي عنها، وقد شك هل أتى بها أم لا، ومع ذلك أجمع الأئمة على أنه مأمور بالسجود، ونطق به الخبر. وذكر الشيخ أبو علي: أن السجود في حق من شك وبنى على المستيقن معلل بأن الركعة التي أتى بها (1 إن كنت زائدة، فقد زاد ساهياً، وإن كانت رابعة، فقد أتى بها 1) وهو على التردد فيها، فوهى بهذا السبب قصدُه في إقامة الفرض، فهذا هو المقتضي للسجود. ثم يتفرع على ما ذكرناه في ذلك: فرع: 1026 - وهو أنه لو بنى على الأقل، وقام إلى ركعة يجوز أن تكون خامسة، فلما انتهى إلى آخر صلاته، تبين أنها كانت رابعة قطعاً، فالذي قطع به الشيخ أبو علي أنه يسجد للسهو. وهو مستقيم على طريقه؛ فإنه قد أدى الركعة الرابعة وهو متردد في فرضيتها. وكان شيخي يقول: لا يسجد في هذه الصورة؛ فإنه لو سجد، لكان ذلك السجود على مقابلة خَطْرة محضة تحقق زوالها، وكان يقول: الوجه في الأمر بالسجود في قاعدة المسألة الخبرُ الصحيح، ولا يستقيم ذلك على وجه من المعنى، ثم الحديث ورد فيه إذا دام الشك، ولم يزُل، فالوجه الاقتصار على مورد الخبر. نعم، لو استيقن أنه زاد ركعةَّ فَي آخر صلاته، فالأمر بالسجود في هذه الصورة مترتب على أصل مجمع عليه مقطوع به؛ فإنه زاد في صلاته أركاناً ناسياً، وهذا مما يقتضي السجود. فهذا كله فيه إذا شك هل سها أم لا. 1027 - فأما إذا استيقن السهو، وشك قبل السلام، فلم يدر أسجد للسهو، أم لا، فَلْيَسْجد؛ فإن سجود السهو مشكوك فيه، والأصل عدمه، فيتعين الإتيان به، ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقطة من: (ت 2).

وكذلك لو شك، فلم يدر أسجد سجدةً أو سجدتين، فيأخذ بأنه سجد سجدة واحدة، ويأتي بسجدة أخرى. ثم أجمع الأئمة قاطبة في أنه بهذا السبب الذي جرى، وهو بناؤه على الأقل وإتيانه بسجده أخرى لا نأمره بسجدتي السهو ابتداءً، وإن كان قياس البناء على الأقل في ركعات الصلاة يوجب أن يسجد هاهنا؛ فإنه يجوز أن تكون السجدة التي أتى بها أو السجدتان جرتا على حكم الزيادة، وأنه قبلهما سجد سجدتين، وحكى الأئمة الوفاق في ذلك من المذاهب كلها. وفي هذه المسألة جرت مفاوضة بين الكسائي (¬1) وأبي يوسف (¬2)، فإن الكسائي قال: من تبحر في صنعةٍ يهتدي إلى سائر الصنائع، فقال أبو يوسف: فأنت متبحر في العربية، فما قولك فيمن شك هل سجد للسهو أم لا؟ فأَخَذَ (¬3) بأنه لم يسجد، فسجد، هل يلزمه السجود لجواز أن السجدة التي أتى بها بعد التردد زائدة؟ فقال الكسائي: لا يسجد، فسأله العلّة، فقال: لأن المصغَّر لا يصغر. فذكر العلة في صيغة مسألة من العربية، وذلك لأن التصغير لو صغر، لصغر تصغير التصغير، ثم هذا يتسلسل إلى غير نهاية. كذلك الذي سجد للسهو في السجود، فلو أمرناه بالسجود لذلك، فقد يسهو على النحو الأول، فلو سجد السجدتين الأخريين اللتين أمرناه بهما، فيحتاج إلى أن يسجد مرة أخرى، ثم يفرض مثل هذه الوسوسة أبداً. فعُدَّ هذا من محاسن آثار فطنة الكسائي؛ فإنه أصاب أولاً في الجواب، ثم طبق مفصل التعليل، وأتى بمسألة من ¬

_ (¬1) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء. الكوفي، مؤدب الرشيد، وابنه الأمين، وجليس الخلفاء، إمام اللغة، والنحو، والقراءات. ت 189 هـ (الأعلام للزركلي). (¬2) أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري. صاحب الإمام الأعظم أبي حنيفة، وقاضي القضاة، وناصح هارون الرشيد، ومؤلف كتاب الخراج له. (ر. الجواهر المضية في طبقات الحنفية: 2/ 220، والبداية والنهاية: 10/ 180). (¬3) كذا في جميع النسخ، وفي (ت 2): "فأخبر" وهي واضحة المعنى، أما "أخذ" فمعناها: رأى واختار، ثم جاءتنا (ل) فكانت مثل سابقاتها: "فأخذ".

العربية وفاء بما كان ادعاه أولاً، من أن التهدّي في صنعةٍ مرشدٌ إلى غيرها. وتمام الحكاية أنه سأله في المجلس بعد إصابته في المسألة الأولى عن الطلاق قبل النكاح في المسألة المشهورة، فقال: لا يقع ويلغو، فسأله العلة، فقال: لا يسبق السيلُ المطر، فاستعمل مثلاً سائراً، وأشار إلى معتمد من يُبطل تعليق الطلاق قبل النكاح؛ فإنه يقول: الطلاق تصرُّفٌ في النكاح فترتب عليه، فتقديره سابقاً غير مستقيم. فرع: 1028 - إذا اعتقد المصلِّي أنه سها، وما كان عَقْدُه متردداً، فسجد سجدتي السهو، ثم تبين له قبل أن يسلم أنه ما كان ساهياً، فقد قال بعض المحققين: يسجد الآن قبل أن يسلم سجدتين، من جهة أن سجدتي السهو المعتقد أوّلاً عينُ السهو، فقد تحقق قبل أن يتحلل عن صلاته أنه زاد في الصلاة سجدتين، وهذا يقتضي السجود. وكان شيخي يقول: لا يسجد في هذه الصورة، وهذا فيه فقه، فلا يمتنع أن يقال: سجدتا سهوه سهوٌ من وجه وجبرانٌ من وجه، فهما يجبران أنفسهما، كما يجبران كل سهو يقع، وهذا كإيجابنا شاة في أربعين شاة، فإذا أخرجها المكلّف فهي تطهر النصاب، والنصاب أربعون، فقد طهرت ما بقى، وطهرت نفسها، وهذا يعتضد بما تمهد من أن السجود يتداخل وإن تعدد السهو. فرع: 1029 - إذا سها وسجد سجدتي السهو، فلما رفع رأسه عن السجدة الثانية، تكلم ناسياً؛ فإنه لا يسجد لمكان هذا السهو، وقد اتفق الأئمة عليه، وهو يقرب من صورة التسلسل من جهة أنه يتوقع أن يسهو مرة أخرى لو أمرناه تقديراً بالسجود ثانياً، والتحقيق فيه أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد السهو عند العلماء، ولذلك أخرنا سجدتي السهو إلى آخر الصلاة، حتى يتقدم عليه كل ما يفرض من سهو، ولما كان السجود يتعدد بتعدد تلاوة الآيات التي تقتضي سجودَ التلاوة، استعقبَ كلُّ تلاوة سجدتَها. فإذا تمهد ذلك، فإن سجد للسهو المتقدم، ثم سها قبل السلام، فيقدر كان هذا السهو تقدم على السجود؛ إذ مبنى الباب على أن السجود لا يتعدد بتعدد السهو، ولهذا أخرنا سجود السهو، فإن اتفق وقوع سهو بعد السجود، فذاك في حكم المجبور بالسجود المقدم.

1030 - وذهب ابن أبي ليلى (¬1). إلى أنه يقتضي كلُّ سهوٍ سجدتين، وهو مع ذلك لا يُعقب كلَّ سهو سجدتين، بل يؤخر السجدات، وقد احتج بما رواه عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل سهو سجدتان" (¬2)، واعتمد الشافعي حديث ذي اليدين، فإنه تعدَّدَ السهو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سلم ناسياً، ثم استدبر القبلة، ثم تكلم، ثم سجد سجدتين. وأما حديث ثوبان، فقد رأى الشافعي فيه محملاً، وذلك أنه أراد عليه السلام أن يبين أن سجود السهو يتعلق بأصناف من السهو بعضها تَرْك، وبعضها فعل، فلا يختص ثبوت السجود بصنف، وهو بمثابة قول القائل: لكل ذنب توبة، أي لا يختص وجوب التوبة بنوع دون نوع. والذي ذكره الشافعي تأويل محتمل، وحديث ذي اليدين لا يقبل وجهاً من التأويل في الغرض الذي نحن فيه. 1031 - ثم قال صاحب التلخيص: لا تتعدد سجدتا السهو إلا في مسائل منها: أن القوم إذا كانوا يصلون الجمعة، فسَهَوْا، وسجدوا، ثم بان لهم أن الوقت خارج، فإنهم يتمون الصلاة ظُهْراً ويسجدون مرة أخرى. وكذلك المسافر إذا سها في صلاة مقصورة وسجد، ثم بان له قبل التحلل أن السفينة قد انتهت إلى دار الإقامة؛ فإنه يتمم الصلاة، ويعيد السجود. والسبب في هذا الجنس أن الصلاة إذا زادت، وانقلبت عن العدد المقدر فيها، فالسجود يقع في وسط الصلاة غيرَ معتد به، فإذا بطل، فلا بدَّ من الإتيان بالسجود في آخر الصلاة، وإن كان يصح الاستثناء لو كان يعتد بالسجودين، ولا يبطُل واحد منهما. ¬

_ (¬1) ابن أبي ليلى: عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عيسى. من أكابر تابعي الكوفة. ت: 82 هـ (وفيات الأعيان: 3/ 126). (¬2) حديث ثوبان: أخرجه أبو داود، وابن ماجة، وأحمد، وصححه الألباني (ر. أبو داود: 1/ 630، كتاب الصلاة، باب من نسي أن يتشهد وهو جالس، ح 1038، وابن ماجة: 1/ 385، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن سجدهما بعد السلام، ح 1219، والمسند: 5/ 280).

ومما استثناه أن المسبوق إذا سجد مع إمامه، وكان سها إمامه، فإذا قام وتدارك ما فاته، فإنه يسجد في آخر صلاة نفسه. وهذا سببهُ أن ما أتى به مع إمامه كان لأجل المتابعة، وسجود السهو ما يأتي به في آخر الصلاة. فصل 1032 - مضمون هذا الفصل أمران: أحدهما: تفصيل القول في أن المقتدي إذا سها وراء الإمام كيف يكون حكمه؟ والثاني - أن الإمام إذا سها، فكيف يجري الأمر في حق المأموم؟ فأما المأموم إذا سها في حال كونه مقتدياً، فالإمام يحمل عنه سهوه، ولا يسجد الإمام بسهو المأموم، ولا يسجد المأموم بسهو نفسه (1 وهذا متفق عليه. ولو كان مسبوقاً، فسها مع إمامه، ثم انفرد بتدارك ما فاته، فلا يسجد في آخر صلاة نفسه 1)؛ فإن السهو الذي جرى مع الإمام محطوط، لا حكم له. 1033 - ثم ذكر صاحب التلخيص جوامع القول فيما يتحمله الإمام عن المأموم، فعدّ من جملتها سجودَ السهو، كما ذكرناه. ومما يتحمله: سجود التلاوة، فإن المأموم لو قرأ آية فيها سجود التلاوة، لم يسجد. ويتحمل عن المقتدي قراءةَ السورة، ودعاء القنوت على التفصيل المذكور في صفة الصلاة. ويتحمل عن المسبوق الذي أدركه في الركوع قراءةَ الفاتحة، واللُّبث في القيام، ولا يتحمل أصل القيام، فلو أوقع المسبوق التكبيرة في الركوع، لم تنعقد صلاته. ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

ومما عده الجهرُ؛ [فإن المأموم لا يجهر بالقراءة] (¬1) في الصلاة الجهرية، ثم قال: لا يجهر المأموم بشيء إلا بالتأمين، وفيه الخلاف المذكور فيما سبق. ومما يتحمله القعدة الأولى في صورةٍ، وهو أن يدرك المسبوق الإمامَ في الركعة الثانية، فإذا قعد الإمام للتشهد، فالمأموم يتابعه، وهو غير محسوب للمقتدي في صلاته، ثم يقوم الإمام إلى الثالثة، فإذا فرغ، لم يقعد، وهذا أوان قعود المأموم لو كان يتمكن، لكنه لا يجلس، فجلوسه في أوانه متحمّلٌ محطوطٌ عنه. فرع: 1034 - المسبوق إذا اقتدى، فلما سلم إمامُه، سلم هذا المقتدي غالطاً، فتذكر، بنى على صلاته، وسجد للسهو؛ فإن سهوه -وهو سلامه- وقع بعد سلام إمامه، فقد سها منفرداً، فكان عليه أن يسجد. 1035 - ولو كان مسبوقاً بركعة، فجلس إمامه للتشهد الأخير، فسمع المسبوق صوتاً، وظن أن إمامه قد تحلل عن صلاته، فبنى الأمر عليه، وقام، وتدارك الركعة، ثم جلس، والإمام بعدُ في الصلاة، فقد قال الأئمة: لا يعتد له بهذه الركعة، فإنه أتى بها مع إمامه، وحكم القدوة متعلّق به، وما نوى الانفراد وقَطْع القدوة، ولكنه ظن أن القدوة [زايلته، وما كان الأمر كما ظنه، ولا يتصور مع بقاء القدوة] (¬2) أن يحتسب بركعة (¬3) للمقتدي، وهو في الصورة منفردٌ فيها - ولو أنه سها في هذه الركعة بأن تكلم ساهياً مثلاً، ثم بان بالأخرة ما بان، فذلك السهو محمول عنه، وهذه الركعة سهو كلها، ولا نأمره أن يسجد بسببها، لأن حكم القدوة باقٍ، ولو كانت المسألة بحالها، فعادَ والإمامُ بعدُ في الصلاة، فإذا سلّم الإمام، قام، وتدارك تلك الركعة، بعد تحلل الإمام، والذي جاء به غير محسوب. 1036 - ولو ظن أن الإمام قد سلم، فقام على هذا الظن، ثم تبين في أثناء القيام أن الإمام لم يتحلل بالسلام، فإن آثر أن يرجع لما تبيّن، فهو الوجه، وإن بدا له أن ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬3) (ت 2): ركعة.

يتمادى ويقصد الانفراد قبل تحلل الإمام، فهذا أولاً مبني على أن المقتدي إذا أراد الانفراد ببقية الصلاة، وقطْعَ القدوة، والإمام بعدُ في الصلاة، فهل له ذلك؟ فيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. فإن منعنا ذلك، تعين على الذي تبين له حقيقةُ الأمر أن يرجع إلى حكم القدوة. وإن جُوِّز له الانفرادُ وقطْعُ القدوة، فإذا قام ساهياً، كما تقدم، ثم بدا له أن يتمادى، ففي المسألة وجهان: أحدهما - ليس له ذلك؛ لأن نهوضه إلى القيام وقع غيرَ معتد به، فينبغي أن يعود، ثم يبتدىء انتهاضاً على بصيرة، ويقطع القدوة، إن أراد قطعها. والثاني - أنه لا يلزمه ذلك؛ فإن الانتهاض إلى القيام في عينه ليس بمقصود، وإنما الغرضُ القيامُ نفسه، وما عداه من الأركان، وقد تمادى الآن فيه، فكان كما لو قصد ذلك عند ابتداء النهوض. ولا شك أن هذا مفروض فيه إذا لم يكن قرأ في القيام، فإنه لو قرأ، ثم تبين له الأمر، فتلك القراءة لا يعتد بها؛ فإذا تمادى وشرعنا له ذلك، فيلزمه أن يقرأ مرة أخرى. فهذا كله في سهو المأموم وتحمّل الإمام عنه. 1037 - وأما تفصيل القول في سهو الإمام، فسنذكر تفصيل القول في المقتدي الذي ليس مسبوقاً، ثم نذكر حكم المسبوق. فأما غير المسبوق، فنقول فيه: إذا سها إمامه سهواً يقتضي السجود، نُظر: فإن سجد الإمام، فعلى المقتدي أن يسجد متابعة له، فلو لم يسجد على قصد، بطلت صلاته، لمخالفته مع بقاء حكم القدوة. فأما إذا لم يسجد إمامه، فالنص أن المقتدي يسجد ثم يسلم. وقال المزني والبويطي: لا يسجد؛ فإنه ما سها هو في نفسه، وإنما كان يسجد متابعة للإمام. وقد ذهب إلى هذا بعضُ أئمتنا، وعبّر عن الخلاف بأن المقتدي يسجد لسجود الإمام (1 أو يسجد لسهوه؟ فظاهر النص أنه يسجد لسهوه، ولما يلحق صلاتَه

من حكم النقصان بسبب اقتدائه، والإمام قَدْ سها، ومذهب المزني والبويطي أنه يسجد لسجود الإمام 1)، وهو مذهب [بعض] (¬2) أصحابنا، وهو منقاس حسن، وإن كان ظاهر النص بخلافه. فهذا إذا لم يكن المقتدي مسبوقاً. 1038 - فأما إذا كان مسبوقاً، فإن سها الإمام بعد اقتدائه، فإن سجد، فظاهر المذهب أنَّ المقتدي المسبوق يسجد معه؛ (3 رعاية للمتابعة. وذكر الشيخ أبو بكر عن بعض الأصحاب أن المسبوق لا يسجد مع الإمام 3)؛ فإن هذا ليس وقتَ السجود في حق المسبوق؛ إذ موضع سجود السهو آخر الصلاة، وهذا غريب، ولكن حكاه الصيدلاني. فإذا جرينا على الأصح وهو أن يسجد، فلو سجد، ثم قام إلى استدراك ما فاته، فهل يسجد في آخر صلاته مرة أخرى؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يسجد؛ لأن السجود الذي أتى به مع الإمام لم يكن في آخر صلاته، وإنما أتى به رعاية للمتابعة، فإذا انتهى إلى آخر صلاة نفسه، فليسجد الآن. والثاني - أنه لا يسجد؛ فإنه قد أتى بحق المتابعة؛ إذ سجد مع الإمام، وليس هو الساهي في نفسه حتى يسجد. فهذا إذا سها الإمام وسجد. فأما إذا لم يسجد الإمام، فظاهر النص أن المسبوق يسجد في آخر صلاة نفسه. وقال المزني والبويطي: لا يسجد، ووافقهما بعض الأصحاب كما تقدم. ثم لا شك أن الإمام إذا لم يسجد، فالمسبوق لا يسجد في آخر صلاة الإمام، فإن هذا سجودٌ في غير موضعه، إذا نظرنا إلى نظم صلاة المسبوق، ولم يسجد الإمام حتى يتابعه. وإنما الخلاف في أنه هل يسجد في آخر صلاة نفسه؟. وهذا كله فيه إذا كان المقتدي مسبوقاً، وقد سها إمامه بعد اقتدائه. ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (¬2) مزيدة من: (ت 1). (3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

1039 - فأما إذا كان سها الإمام قبل اقتدائه، فظاهر المذهب أنه يلحق المقتدى حكمُ السهو، ويكون كما لو سها بعد اقتدائه؛ فإن الصلاة واحدة. ومنهم من قال: لا يلحقه حكم هذا السهو لأنه جرى وهو غير مقتدٍ، وهذا بعيد ضعيف، ولكن حكاه الصيدلاني على ضعفه، فإن قلنا: يلحقه حكم هذا السهو، فهو كما لو سها الإمام بعد اقتدائه، وقد سبق التفصيل فيه. وإن قلنا لا يلحقه، فمما يتفرع عليه، أنه لو لم يسجد الإمام، فلا يسجد هو، وجهاً واحداً، وإن سجد الإمام، فالظاهر في التفريع أنه لا يسجد مع إمامه متابعاً، وقال بعض أصحابنا: يسجد معه متابعاً، ولكن لا يسجد في آخر صلاته. هذا تفصيل القول في سهو الإمام في حق المقتدي [المسبوق] (¬1). فرع: 1040 - المسبوق إذا سها إمامه بعد اقتدائه وسجد، فسجد المقتدي متابعاً، وفرعنا على أن المسبوق يُعيد السجودَ في آخر صلاة نفسه، فلو تحلل الإمام واشتغل بقضاء ما فاته، فسها بعد انفراده سهواً يقتضي السجود، وقد كان لحقه من جهة الإمام سهو، فالمذهب أنه يكفيه عن الجهتين سجدتان؛ فإنَّ مبنى السجود على التداخل كما ذكرناه. وذكر العراقيون وجهاً آخر، فقالوا: من أصحابنا من قال: يسجد أربع سجدات، سجدتين عما لحقه من جهة الإمام، وسجدتين عما وقع له لمّا انفرد، والسبب فيه اختلاف جهة السهو، وهو غير سديد، والوجه القطع بأنه يكفي سجدتان عن الجهتين جميعاًً. فصل 1041 - سجدة الشكر مسنونة عندنا، ووقتها إذا فاجأت الإنسانَ نعمة كان لا يتوقعها، أو اندفعت عنه بليةٌ، من حيث لا يحتسب اندفاعَها، فمفاجأة النعمة دفعاً ونفعاً يقتضي سجودَ الشكر، وفيه أخبار مشهورة، والسجود على استمرار النعمة ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 2).

لا يستحب، وإذا رأى الإنسانُ صاحبَ بلاء، فهاله ما به، فحسنٌ أن يسجد، وقد روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نُغَاشِياً (¬1) فسجد شكراً لله تعالى" (¬2)، والنغاشي الناقص الخلق. ثم قال الأئمة: إن رأى مبتلىً - معذوراً فيما به؛ فلا ينبغي أن يسجد بمرأى منه، فإنه قد يتداخله من ذلك غضاضة، وإن رأى فاسقاً مبتلىً بما يعانيه، فينبغي أن يسجد بحيث يراه، فعساه يرعوي عما يتعاطاه. ثم لا يجوز أن يسجد في الصلاة شكراً، ولو سجد، بطلت صلاته، وإنما جازت سجدةُ التلاوة في الصلاة، لتعلق التلاوة بالصلاة. 1042 - فالسجدات إذن عندنا أربعة أصناف: سجدةُ الصلاة، وسجدة التلاوة، وسجدة السهو، وسجدة الشكر. وسجدة الشكر من جملتها لا تقام في الصلاة. وسجدة الصلاة من أركانها المختصة بها. وسجدة السهو مختصة بها أيضاً، وفي محلّها التفصيل المقدّم في صدر الباب. وسجدة التلاوة تقع في الصلاة وفي غيرها. وسجدة الشكر لا تقع في الصلاة. ثم كيفية سجود الشكر في الأقل والأكثر بمثابة كيفية سجود التلاوة. فرع: 1043 - اختلف أئمتنا في أن سجود الشكر هل يقام على الراحلة إيماء، وماشياً كذلك؟ وهذا الاختلاف بمثابة الاختلاف في أن صلاة الجنازة هل تقام على ¬

_ (¬1) في الأصل، و (ط)، (ت 1): نُغَاشاً. والنُّغاشي: بضم النون، والغين والشين معجمتان، هو القصير جداً الضعيف الحركة، الناقص الخلق. قاله ابن الأثير. (ر. التلخيص: 2/ 11). (¬2) حديث رؤية النغاشي: ذكره الشافعي في المختصر، ولم يذكر إسناده، وكذا صنع الحاكم في المستدرك. وأسنده الدارقطني، والبيهقي وابن أبي شيبة من حديث جابر الجعفي مرسلاً وفيه أن اسم الرجل: زنيم. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ. وفي سجدة الشكر أحاديث غير هذا. (ر. مختصر المزني: 1/ 90، الحاكم: 1/ 276، الدارقطني: 1/ 410، البيهقي: 2/ 371، مصنف ابن أبي شيبة: 2/ 482، تلخيص الحبير: 2/ 11 ح 494، 495).

الراحلة. وسبب الاختلاف في الموضعين جميعاًً أن الركن الأظهر في صلاة الجنازة القيام، فلو أقيمت على الراحلة، لسقط أظهرُ أركانها، كذلك السجدة الفردة إذا اكتفي فيها بالإيماء، كان ذلك في حكم الإسقاط، وذلك كله يشابه إقامة النافلة (1 مضطجعاً إيماء في حالة القدرة، وسيأتي ذلك مشروحاً. وسجدة التلاوة وإن جرت في صلاة النافلة 1) المقامة على الراحلة، فإنها تقع إيماء؛ فإنها تتبع الصلاة، وليست مستقلة بنفسها، وكذلك سجود السهو، وإن أقيمت سجدة التلاوة في غير الصلاة إيماءً على الراحلة، فهي كسجود الشكر. ... ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

باب أقل ما يجزىء من عمل الصلاة

باب أقل ما يجزىء من عمل الصلاة 1044 - مقصود هذا الباب ذكر أقل ما يجزىء من عمل الصلاة، إذا فرض الاقتصار عليه، وأقل المجزىء هو الأركان مع الشرائط. وقد عد صاحب التلخيص أركان الصلاة أربعة عشر، فقال: هو (¬1) النية، وتكبير الإحرام، واستقبال القبلة، والقيام، وقراءة الفاتحة. فهذه خمسة، والركوع (¬2)، والاعتدال عنه، والسجود، والاعتدال عنه على هيئة الجلوس، والسجدة الثانية، فهذه خمسة أخرى، ثم الجلوس الأخير، والتشهد، كما مضى ذكر أقلّه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والسلام. فهذه أربعة أخرى، مجموعها أربعة عشر. ولم يخالَف فيما ذكره إلا في شيئين: أحدهما - أنه عد استقبال القبلة من الأركان، وقد قيل: إنه من الشرائط، وما ذكره أقرب؛ فإن الطهارة تتقدم على الصلاة، وستر العورة لا يختص وجوبه بالصلاة، وكذلك الإيَمان، فلم تكن هذه الخصال أركاناً، بل هي شرائط، ووجوب استقبال القبلة يختص بالصلاة، ولا يجب تقديمه على عقد الصلاة. ومما عورض فيه أنه عد السجدة الثانية، وهي متكررة، ويلزم من ذلك أن يعد الركوع على التكرر في ركعتي صلاة الصبح، وهذا قريب، فإنه أراد أن يذكر ما يجب في الركعة الواحدة، ثم ذكر ما يتعلق بآخر الصلاة، وهو القعود، والتشهد، والصلاة، والسلام. ¬

_ (¬1) كذا بتذكير الضمير في النسخ الأربع، فهل على معنى " الركن " المفرد؟ ثم جاءتنا (ل) وفيها تأنيث الضمير، كما هو المتبادر. (¬2) من هنا بدأ خرم في نسخة (ت 2).

وقد زاد بعض الأئمة الصلاة على الآل، ونية الخروج، كما مضى مفصلاً، ولم يعدّ صاحب التلخيص الطمأنينة في محالها، لأنه رآها هيئة، وإن كانت واجبة، وعدها بعضُ الأئمة ركناً، فهذا مضمون الباب. ***

باب طول القراءة وقصرها

باب طول القراءة وقصرها قال الشافعي: "يقرأ في صلاة الصبح بعد أم القرآن بطوال المفصَّل، وفي الظهر شبيهاً بالصبح، وفي العصر نحو ما يقرأ في العشاء، وفي المغرب بقصار المفصل" (¬1). 1045 - وفي كلام الشافعي ما يشير إلى أن الأوْلى في قراءة الصبح طوال المفصل، وفي المغرب القصار، وفي الظهر والعصر والعشاء الأوساط، ولعل السبب فيه أن وقت الصبح طويل، والصلاة ركعتان، فحسنٌ تطويلهما، ووقت صلاة المغرب ضيق؛ فشرع فيها القصار، وأوقات صلاة الظهر والعصر والعشاء طويلة، ولكن الصلوات كاملة الركعات، [فقد اجتمع في الصبح سعة الوقت، ونقصان الركعات] (¬2) فاقتضى ذلك تطويل القراءة، وقِصَرُ وقت المغرب يقتضي [تقصير القراءة، وسعة الوقت في الصلوات الثلاث يقتضي التطويل] (¬3)، وكمالها بالركعات يعارض ذلك، فترتب عليه التوسط (¬4). قال ابن عباس: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح يوم الجمعة، فقرأ في الركعة الأولى سورة السجدة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] وفي الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]، وقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والسورة التي فيها ذكر المنافقين" (¬5). وعن جابر بن سَمُرَة قال: "قرأ رسول الله ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 92. (¬2) زيادة من (ت 1) حيث سقط من كل النسخ. (¬3) زيادة من (ت 1). (¬4) آخر الخرم في (ت 2). وهو ورقة كاملة. (¬5) حديث ابن عباس عن قراءة (السجدة) و {هَلْ أَتَى}. رواه مسلم بتمامه: الجمعة، باب ما يقرأ في الجمعة، ح 879، وأبو داود: الصلاة، باب ما يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة، ح 1074، 1075، والنسائي: الجمعة، باب القراءة في صلاة الجمعة، =

صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح {يس} و {حم} " (¬1) وعن عمران بن حصين قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، وكان يسمعنا الآية والآيتين" (¬2)، وعن بُريدة الأسلمي، قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (¬3)، وروي أنه قرأ في صلاة العصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ". 1046 - ثم الأمر في تقصير القراءة في المغرب يعمُّ الإمامَ والمنفردَ، لتعلق ذلك بالوقت، وأما ما عداها، فما ذكرناه في حق الإمام؛ حتى لا يتعدى ما رسم له، ولا يتجاوز الحد في التطويل على من خلفه، وقد قال عليه السلام: "إذا صلى أحدُكم بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة" (¬4)، وقال أنس ابن مالك: "ما صلّيتُ خلف أحد أخف صلاة، ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬5). وأما المنفرد، فإن رأى تطويلَ الصلاة الراتبة الواسعة المواقيت، فلا حرج. ... ¬

_ = ح 1422، والترمذي: الجمعة، باب ما جاء فيما يقرأ به في صلاة الصبح يوم الجمعة، ح 520، وأحمد: 1/ 226. (¬1) حديث جابر بن سمرة هذا لم أصل إليه، ولكن عند مسلم في صحيحه: عن جابر بن سمرة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح ق والقرآن المجيد (الصلاة، باب القراءة في الصبح، ح 458)، ورواه البيهقي في سننه: 2/ 382. (¬2) حديث عمران بن حصين: رواه مسلم، ح 398. (¬3) حديث بريدة رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء الآخرة بالشمس وضحاها، ونحوها من السور". ورواه النسائي، وصححه الألباني. (ر. الترمذي: الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العشاء، ح 309، النسائي: الافتتاح، باب القراءة في العشاء الآخرة بـ " والشمس وضحاها " ح 1000). (¬4) حديث إذا صلى أحدكم بالناس ... متفق عليه من حديث أبي مسعود الأنصاري، وحديث أبي هريرة، بمعنى ما ساقه به إمام الحرمين: (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 97 ح 267، 268). (¬5) حديث أنس متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 97 ح 270).

باب الصلاة بالنجاسة

باب الصلاة بالنجاسة (¬1) قال الشافعي: "وإذا صلى الجنبُ بقومٍ أعاد، ولم يعيدوا" (¬2). 1047 - هذا الفصل بأوصاف الأئمة ألْيق، وسيأتي بابُها، ولكنه صدَّرَ الباب بهذا. فمن اقتدى بإنسان ثم تبيّن أنه كان محدثاً أو جنباً، فالإمام يعيد الصلاة، وليس على القوم إعادة عندنا، إذا لم يعلموا بطلان صلاة الإمام. وخالف أبو حنيفة (¬3) فيه. وقال مالك (¬4): إن كان الإمامُ عالماً ببطلان صلاته، [فأمَّ الناسَ] (¬5) على علم، فلا يصح اقتداؤهم به، ويلزمهم إعادة الصلاة؛ فإن الذي جاء به عبث لا حرمة له، وإن كان جاهلاً، فصلاته فاسدة، ولكنه من حيث إنه معذور لا يبعد أن يثاب على عمله، وإن كانت الإعادة تلزمه. وقد ذكر صاحب التلخيص قولاً للشافعي مثلَ مذهب مالك. وسر المذهب المشهور ومُعَولُه، أن المقتدي لو علم أن صلاة إمامه باطلة، واقتدى به، لم تصح صلاته وفاقاً، وكان كما لو استدبر المصلّي القبلة على علم من غير ضرورة، ولو طلب القبلة في محل الاجتهاد، ولم يستيقن إصابةً ولا خطأ، ¬

_ (¬1) من هنا بدأت نسخة (د 1)، فصارت النسخ المساعدة أربعاً مع نسخة الأصل. (¬2) ر. المختصر: 1/ 92. (¬3) ر. مختصر الطحاوي: 31، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 246 مسألة 194، رؤوس المسائل للزمخشري: 170 مسألة: 72. (¬4) ر. المدونة: 1/ 37، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 279 مسألة: 308، القوانين الفقهية: ص 70، تهذيب المسالك للفندلاوي: 2/ 189 مسألة: 35. (¬5) في الأصل، وفي (ط): قام الناسُ، وفي (ت 1): قام بالناس. والمثبت من (ت 2).

فصلاته محكوم بصحتها. وهذا يناظر ما لو اقتدى بإمام، ولم يعلم صحةَ صلاته ولا فسادها. ولو اجتهد، فتبين آخراً أنه كان استدبر القبلة، ففي وجوب القضاء [قولان] (¬1) مشهوران سبقا. وإذا تبين جنابة الإمام وحدثَه، فالذي يقطع به أنه لا قضاء على المأموم، والفرق أنه لا يجب على المقتدي البحثُ عن طهارة إمامه، بل إنما كُلف البناء على الظاهر، فلا ينسب إلى التقصير في طلب مأمور به، ولا تعلق لصلاة إمامه بصلاته على التحقيق، بل كلّ يصلّي لنفسه، والمجتهد في القبلة إذا أخطأ منسوبٌ إلى التقصير في الاجتهاد والطلب، ولو تمم الاجتهاد، لأصاب. ثم لو صلّى وراء الإمام، فتبين أنه كان كافراً، فعلى المأموم إعادة الصلاة هاهنا قولاً واحداً، وذلك لأن الكافر يتميز بالغِيار (¬2) غالباً، ويندر جداً أن يقيم مصرّاً على كفره الصلاةَ على شعار الإسلام، فألحق هذا بما لو اتفق ميلُ الإنسان في مسجد أو دارٍ عن قُبالة القبلة في صلاته لظُلمة أو وجهٍ نادر من وجوه الغلط، فالصلاة تفسد، ولا حكم لما طرأ من الغلط؛ فإن البناء على غالب الأمر. وكذلك لو اقتدى رجل بامرأة على ظن منه أنها رجل، فالصلاة فاسدة بمثل ما قررناه. 1048 - واختلف أئمتنا فيمن اقتدى برجل ثم تيقن أنه موصوف بصنف من صنوف الكفر يستسرّ به غالباً كالزندقة، فمنهم من قال: الاقتداء به على حكم الغلط كالاقتداء بالجنب والمحدِث. ومنهم من قال: الكفر لا يختلف -فيما نحن فيه- حكمه، بل نعمِّم البابَ بإيجاب القضاء على المقتدي فيه؛ فإن التزام تفصيل الأمر بحسب تفصيل الكفر يطول، فالوجه تعميم الباب. ولو اقتدى رجل بمن ظنه رجلاً، فتبين أنه خنثى، فالذي قطع به الأئمةُ وجوبُ ¬

_ (¬1) بياض بالأصل، و (ط)، وساقطة من: (ت 1). وأثبتناها من (ت 2). (¬2) الغيار علامة أهل الذمة، كالزنار للمجوسي ونحوه، يشدُّ على الوسط. (المعجم).

القضاء، وإن وقع ذلك خطأً؛ فإن هذا الشخص لا يخفى حاله، والنفوس مجبولة على إشاعة الأعاجيب، وإن حرص الحارصون على كتمانها. وألحق صاحبُ التقريب هذه الحالة بالجنابة والحدث؛ من حيث إنها تخفى، ورد عليه الكافة ما قاله لما ذكرناه. ولو اقتدى بالرجل، ثم تبين له أنه كان على بدنه أو ثيابه نجاسة خفية، فهذا كالحدث والجنابة، وإن كان عليه نجاسة ظاهرة لا تكاد تخفى، ولكن لم يتفق تأملها، ثم لاحت بعد الصلاة مثلاً، فهذا فيه احتمال عندي؛ فإنها من جنس ما يخفى بندور الظهور وعدم الاطلاع فيه، فشابه هذا الكفرَ الذي يُستتر به غالباً، وقد ذكرنا الخلاف فيه. 1049 - ولو طرأ حدث على الإمام، وبطلت صلاته، لم تبطل صلاة المقتدي عندنا، بل ينفرد ببقية صلاته، وأبو حنيفة يبطل صلاة المقتدي بطريان بطلان صلاة الإمام. فصل 1050 - دم البراغيث وما يسيل من دماء البثرات، يتطرق العفو إليه على الجملة، فنذكر ما يتعلق بذلك، ثم نذكر قاعدة المذهب فيما عداه من النجاسات. فما يخرج من بثرة ببدن الإنسان، أو يتصل به من دماء البراغيث. والبراغيثُ والبقُّ والبعوضُ لا دماء لها في أنفسها ولكنها تقرُص، وتمص الدم، ثم قد تمجها (¬1)، فهو المعنيُّ بدم البراغيث، فإذن القليلُ من ذلك معفو عنه، إذا لم يمكن التحرز والتصون عنه، وهو مما تعم به البلوى، فيتطرق العفو إليه، ثم يتحقق فيما يقل منه شيئان: ¬

_ (¬1) "تمجها": كذا في جميع النسخ بتأنيث الضمير؛ فالأصل: "قد تمجه" ولكن جاء الضمير هنا مؤنثاً على خلاف الأصل، وهو وارد وعليه شواهد، منها ما جاء في صحيح البخاري: " أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة، فخيرٌ تقدمونها إليها " بتأنيث الضمير العائد إلى لفظ (خير). وانظر (شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح: 143).

أحدهما - عمومُ البلوى؛ فإن قليلَه يعم. والآخر - أن المرعيّ في تنزيه البدن والثياب عن النجاسات في الصلاة، تعظيمُ أمرها، وتوقيرُها، وحمل المكلف على إقامتها على أحسن هيئة، وأنظف زينة. والكثير (1 من الفن الذي نحن فيه قد لا يعم وقوعاً، ولا يظهر الابتلاء به، ويفحش أيضاً في النظر، ولكن 1) من حيث لا ينضبط المَيْزُ بين القليل والكثير، بتوقيفٍ شرعي ولا بوجهٍ من الرأي، قال فقهاؤنا: القليل معفو عنه، وفي الكثير وجهان: أحدهما - لا يُعفى عنه لما ذكرناه، والثاني - يُعفى عنه نظراً إلى الجنس، ولما أشرنا إليه من عسر التمييز بين القليل والكثير، وإذا كان كذلك، فَلَوْ لم يُعفَ عن الكثير، لجرَّ ذلك تنغيصاً في العفو عن القليل، من جهة أنه قد يعتقد المعتقد أن ما يراه قليلاً في أوائل حد الكثرة. والظاهر في المذهب الفرق بين القليل والكثير، فليقع التعويل عليه. 1051 - ثم سر هذا الفصل الكلام في ضبط القليل وتمييزه عن الكثير. نقل الرواة عن الشافعي في القديم أنه قال مرة: "القليلُ من دم البراغيث، وما في معناه، قدرُ الدينار"، وقال مرة أخرى: "قدرُ كف"، وهذا مشكل لا نعرف له مستنداً، وهو في حكم المرجوع عنه، فليعتمد مسلكه في الجديد، [وقد استنبط الأئمة وجوهاً من الكلام من مسالكه في الجديد] (¬2)، ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى. فقال قائلون: إن كان موضع التلطخ بحيث يلوح ويلمع للناظر من غير احتياج إلى تأمل، فهذا في حكم الكثير، وهذا يستند إلى خروج رتبة الصلاة عن الجهة المبتغاة في التحسين، ورعاية النظافة، فهذا مسلك. والمسلكُ الأفقه في ذلك: أن المقدار الذي يجري التلطخ به غالباً، ويتعذر التصون منه هو القليل المعفوّ عنه، فنأخذ القليل مما نأخذ منه أصلَ الفصل، وهو ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

تعذّر الاحتراز عنه، وهذا أمثل من رعاية اللمعان والظهور؛ فإن ذلك [لا] (¬1) يستقل بنفسه دون أن يعتبر تعذّر الاحتراز، فإنا سنوضح أن هذا العفو لا يجرى فيما لا يعم وقوع التلطخ به من النجاسات، فإذاً تعذُّر الاحتراز ينبغي أن يتخذ معتبراً في الأصل والتفصيل، وفي تمييز القليل من الكثير. 1052 - ثم من سلك هذا المسلك اضطربوا في أن الأمر هل يختلف باختلاف الأماكن والبقاع، وباختلاف الأزمنة، وفصول السنة؟ والذي ذهب إليه المحققون: أن الأمر يختلف باختلاف الأماكن والأزمنة؛ فإن التفاوت بهذه الجهات غالب بيّن، فمن الوفاء برعاية الاحتراز النظر إلى تفاوت الأسباب. ونقل عن بعض أصحابنا التزامُ التفاوت، ولم يعتبر أقل ما يتوقع في أنقى الأزمنة والأمكنة، ولا أكثرها، ولكن اعتبر وسطاً من الطرفين، وهذا ليس بشيء؛ فإن ضبط هذا الوسط أعسرُ من التزام تتبع الأحوال، فهذا قاعدة الفصل. 1053 - ثم الذي أقطع به أن للناس عادةً في غسل الثياب في كل حين، فلا بد من اعتبارها؛ فإن الذي لا يغسل ثوبه الذي يصلي فيه عما يصيبه من لطخٍ سنةً مثلاً، يتفاحش مواقعُ النجاسة من هذه الجهات عليه، وهذا لا شك في وجوب اعتباره. ومما أتردد فيه أن الثوب السابغ إذا تبددت عليه النجاسةُ فلتفرقها [أثر] (¬2) في العفو -فيما أحسب- ولاجتماعها، حتى يكون ظاهراً لامعاً للناظر أثر في وجوب الغسل، سيما على رأي من يرعى في ضبط القلة الظهورَ واللمعان. وفد نجد في هذا أصلاً قريباً؛ فإن من توالت منه أفعالٌ كثيرة تبطل صلاته، فإن فرقها وتخلل بينها سكينة، لم تبطل صلاته، والاحتمال في هذا ظاهر. 1054 - ومما نختم به مواقع الإشكال في ذلك، أنه لو ارتاب المصلي: فلم يدر أن اللطخ الذي به في حد ما يعفى عنه، أو في حد الكثير الذي لا يعفى، فهذا فيه احتمال ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) في الأصل، (ط)، (ت 1): أثراً. ولا أدري له وجهاً، والمثبت من (ت 2) ثم جاءت بمثلها (ل).

عندي، من جهة أن القليل معفوّ عنه، وقد أشكل أن ما فيه الكلام هل تعدى الحدَّ، أم لا؟ فهذا وجه. ويجوز أن يقال: الكثير فيما عليه التفريع غيرُ معفوٍّ عنه، وقد أشكل أن الذي فيه الكلام هل هو منحط عن الكثير أم لا؟ والأصل إيجاب إزالة النجاسة. ويمكن أن يقرب هذا من صلاة المرء وهو ناسٍ للنجاسة، كما سنذكره في آخر الفصل. ثم يعتضد هذا الكلام بظهور العفو عن النجاسات. فهذا منتهى الكلام في هذا الطرف. ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من تفصيل العفو في دم الإنسان نفسه وصديده الخارج من بثراته، وفيما يناله من آثار البراغيث. 1055 - فأما إذا أصابه دم غيره، فالكثير لا يعفى عنه، وفي القليل وجهان. وهذا وإن اشتهر نقلُه، فلست أرى له وجهاً، والذي يقتضيه قاعدة المذهب القطعُ بإلحاق دم الغير بسائر النجاسات. وكان شيخي يلحق لطخ الدماميل والقروح -إن كان مثلها يدوم غالباً- بدم الاستحاضة، وإن كان مثله لا يدوم غالباً، [كان يُلحقه] (¬1) بدم أجنبي فيما ذكرناه. وهذا ظاهر حسن؛ من جهة أن البثرات تكثر، وقد لا يخلو معظم الناس في معظم الأحوال عنها، ولا يكاد يتحقق ذلك في الدماميل والجراحات، وفي المسألة على الجملة احتمال؛ فإن الفصل بين البثرات، وبين الدماميل الصغار عسر، لا يدركه إلا ذَوُو الدراية، وكبارها مما يدوم الابتلاء بها زماناً. وقد ذكر صاحب التقريب تردداً في هذه الدماميل، وما يخرج من دم الفصد، ومال إلى إلحاقه بدم البراغيث، وصحَّحه على خلاف ما كان يراه الإمام، فاعلم. فهذا كله تفصيل القول في الدماء، وما في معناها من القيح والصديد؛ فإنه دم حائل. ¬

_ (¬1) في الأصل، (ت 1)، (ط): "كان لا يلحقه"، والمثبت من (ت 2)، وصدقتها (ل).

1056 - فأما ما عدا ذلك من ضروب النجاسات، كالبول، والعذرة، وغيرهما، فلا عفو فيها، قلَّت، أو كثرت، ولا يستثنى منها إلا عفو الشرع عن الأثر اللاصق بسبيل الحدث، عند الاقتصار على الأحجار في الاستجمار، وذلك عند الشافعي مخصوص عن جميع جهات النظر، والمتّبع فيه الخبر فحسب. واتخذ أبو حنيفة (¬1) ذلك (¬2) أصلاً في جميع النجاسات المغلّظة عنده، ورَاه قدر الدرهم البغلي. وهذا نظرٌ حائد عن جهة قطْعِنا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطرُدوا هذا العفو في كلِّ نجاسةٍ في كلِّ محل، وكانوا أوْلى من يفهم ذلك من الشارع، لو كان صحيحاً؛ فإذن لا قياس على الاستنجاء، ولا عفو فيما عدا الدم الموصوف. 1057 - وتردد نص الشافعي رحمه الله فيما لا يدركه الطرف لا لخفاء لونه، ولكن لصغر قدره، فقال مرة: لا عفوَ مع تيقن الاتصال. وقالى في موضعٍ: إنه يعفى عنه. وقيل: إنه استشهد عليه بأن السلف كانوا لا يحترزون عن عَوْد الذباب الواقعة على النجاسة وقت قضاء الحاجة إلى ثيابهم، وفي هذا الاستشهاد نظر، من جهة أن أرجل الذباب تجف في الهواء بين ارتفاعها من النجاسة، ووقوعها على الثوب، وآية ذلك أنه لا يظهر لذلك أثر على الثوب، وإن كثر، والقليل إذا توالى، وكثر، ظهر كوَنيم (¬3) الذباب؛ فإن ما يتوالى منه يظهر على الثوب، وأيضاً، فإن التزام ذب الذباب عسر، وهو ملحق بالغبار الذي يلحق بدنَ الإنسان، وهو ثائر من الدِّمَن والمزابل، والمواضع النجسة، فهذا معفو عنه، وإن كان واقعاً قطعاً؛ من جهة أن التحرز لا سبيل إليه. 1058 - ومما يتصل به أن الذي لا يُعفى عنه من النجاسات، إذا صلى الإنسان معها، وهو غير شاعر بها، فإذا تحلل عن الصلاة، واستبان الأمر، فالمنصوص في الجديد ¬

_ (¬1) ر. مختصر الطحاوي: 21، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 131 مسألة: 20، الهداية مع فتح القدير: 1/ 177. (¬2) "ذلك" إشارة إلى العفو عن نجاسة موضع الاستجمار. (¬3) الوَنِيم: خُرء الذباب. (المعجم).

وجوب إعادة الصلاة اعتباراً بالمحدِث، ولا خلاف أن من صلّى ظاناً أنه متطهر، ثم تبين له أنه كان محدثاً يلزمه إعادة الصلاة، ونص في القديم على أن النسيان عذر في النجاسة؛ فإن العفو إليها أسرع منه إلى الحدث، ولا يمكن إنكار ذلك، ولا يبعد أن يعتقد النسيان من المعاذير. 1059 - ولو علم الرجل أن به نجاسة، ثم نسيها، فقد ذكر الأئمة فيه طريقين: أحدهما - القطعُ بأنه لا يعفى عنه. والآخر: تخريج العفو على القولين، كما إذا لم يكن عَلِمه أصلاً. وقال مالك: إن تذكر وعلم ما به من نجاسة، ووقتُ الصلاة قائم بعدُ، قضى، وإن خرج عن الوقت، لم يقض. وقد تحققت من أئمة مذهبه أن مالكاً مهما قال ذلك فليس يوجب الإعادة في الوقت، وإنما يستحبها (¬1). واحتج الشافعي في القديم بما رواه أبو سعيد الخدري رحمه الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي لابساً نعله، فخلع في الصلاة نعله، فخلع الناس نعالَهم، ثم قال: أخبرني جبريل عليه السلام أن على نعلك شيئاًً" (¬2)، ووجه الدليل من بقائه على صلاته، وما كان على علم حتى أخبره جبريل عليه السلام، وقد يمكن أن يقال: لم تكن نجاسة، وإنما كان بلغماً أو غيره مما يليق بالمروءة التحرز عنه. فرع: 1060 - لو وقعت لطخة من بثرة، وقلّت فقد تمهد العفو، ولو اعتمد الرجل إخراج شيء منها ولكنه قليل، ففيه احتمال من طريق المعنى، والظاهر العفو لما روي: "أن ابن عمر حك بثرة بوجهه، فخرج منها شيء، فدلكه بين إصبعيه وصلى" (¬3) ¬

_ (¬1) ر. جواهر الإكليل: 1/ 11، وحاشية الدسوقي: 1/ 68، وشرح زروق: 1/ 94. (¬2) حديث أبي سعيد الخدري: رواه أبو داود، وأحمد، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان، ورواه الحاكم أيضاً من حديث أنس وابن مسعود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس. (ر. أبو داود: الصلاة، باب الصلاة في النعل، ح 650، أحمد: 3/ 20، 92، الحاكم: 1/ 260، 139، ابن خزيمة: 1017، الدارقطني: 1/ 399، تلخيص الحبير: 1/ 278 ح 436). (¬3) حديث ابن عمر: رواه الشافعي، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي، وعلقه البخاري. (ر. البخاري: الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر =

ولا يبعد أن يقال: لعله جرت يده بذلك في غفلة، وقد تطوف اليد على البدن في النوم وأوقات الغفلات، والله أعلم. فهذا منتهى القول، وليس علينا إلا أن نبلغ كلَّ فنٍّ غايته جهدنا، ومن طلب في مواقع التقريب الحد الضابط، فقد طلب الشيء على خلاف ما هو عليه. فصل قال الشافعي: "إذا كان مع الرجل ثوبان أحدهما طاهرٌ والثاني نجس، تحرَّى" (¬1). 1061 - مذهب الشافعي أن من كان معه ثوبان أحدهما طاهر، والثاني نجس، والنجاسة طارئة على النجس منهما، فإنه يتحرى ويجتهد، ويصلي في الذي يؤدي اجتهاده إلى طهارته. وتفصيل القول في الاجتهاد في الثياب عندنا كتفصيل المذهب في الاجتهاد في الأواني، وقد مضى مفصلاً؛ فلا نعيد ممّا تقدم شيئاًً جهدنا. وقال المزني في الثوبين: يصلي مرتين، مرة في هذا الثوب، ومرة في الآخر، فيخرج عما عليه يقيناً، وقال في الإناءين: لا يجتهد، ولا يستعمل دفعتين، بل يتيمم. وعند الشافعي لو صلى في الثوبين دفعتين من غير اجتهاد، كما رآه المزني، فالصلاتان جميعاًً باطلتان. ومعتقد المذهب أن الصلاة بالنجاسة ممنوعة، والإقدام عليها محظور، والاجتهاد ممكن، والعلامات في النجاسات ليست بعيدة، والاجتهاد مرجوع الشريعة في معظم الوقائع. ¬

_ = (1/ 336)، البيهقي في الكبرى: 1/ 141، ومعرفة السنن والآثار: 1/ 236، التلخيص: 1/ 287 ح 466). (¬1) ر. المختصر: 1/ 92.

فإن قيل: قد ذكرتم وجهين فيمن أشكل عليه الأمر في ثوبين كما ذكرتموه، وكان معه ما يتأتى غسل أحد الثوبين به، فهل يلزمه ذلك، أم له أن يعتمد الاجتهاد؟ وسبب الخلاف أن الوصول إلى اليقين، ممكن، وما ذكره المزني وصولٌ إلى اليقين، فهلا خرجتم مذهبه وجهاً؟ قلنا: لا سواء؛ فإن من غسل أحد ثوبيه وصلى فيه، فقد أقدم على الصلاة على يقين من الصحة، ومن صلى مرتين في ثوبين، كما يراه المزني، فكل صلاة مشكلة في نفسها لا مُستند لها من يقين ولا اجتهاد. والذي يحقق ذلك أنه لو كان يكفي اليقين من غير رعاية حالة الإقدام، للزم على مساق ذلك أن من التبست عليه جهات القبلة في السفر، فصلى كما اتفق من غير اجتهاد ولا تقليد مجتهد، ثم تبين أنه كان مستقبلَ جهة القبلة وفاقاً، فلا يلزمه القضاء. وليس كذلك، فدل على فساد ما اعتمد المزني، وهو حسن لطيف، فافهم. 1062 - ولو أصاب ثوبَ الإنسان نجاسةٌ، وأشكل مورد النجاسة، فالوجه غسل جميع الثوب، فإن صب عليه الماء صباً معمّماً مستغرقاً، أو غمسه في ماءٍ جارٍ، أو كثير، فلا شك أنه يحكم بطهارة الثوب، على ما سيأتي بعدَ هذا تفصيل القول في النجاسة الحُكمية والعينية. 1063 - ولو غسل من الثوب نصفه مثلاً، ثم قلَبه، وغسل نصفه الثاني، ولا يصب الماء على جميعه أولاً ولا آخراً، فقد قال صاحب التلخيص: لا يجزئه ذلك؛ فإنَّ ورود النجاسة مستيقن، والغسل على هذه الصفة لا يفيد إزالة النجاسة بيقين؛ فإنه لا يمتنع تقدير النجاسة على منتصف الثوب مثلاً، ولو فرض الأمر هكذا، لكان الغَسل المفروض فاسداً؛ فإنه أتى في النصف الأول على نصف النجاسة تقديراً، فإذا غسل النصف، تعكَّس أثرُ النجاسة من ذلك النصف على النصف الآخر، ويغمض إذْ ذاك مُدركُ الأمر، والأصل بقاء النجاسة، فهذا مذهب صاحب التلخيص. وقال صاحب الإفصاح (¬1): لو غسل الثوب الذي يشكل نصفين في دفعتين، جاز؛ ¬

_ (¬1) صاحب الإفصاح: أبو علي الطبري، الحسين بن القاسم، وقد سبقت ترجمته.

فإنه قد حصل الاستيعاب، وهذا مزيف متروك عليه غير معدود من المذهب. والوجه القطع بما ذكره صاحب التلخيص. 1064 - لو أشكل عليه مورد النجاسة من ثوبه، وكان يعلم أنها على أحد كميه مثلاً، واجتهد، فأدى اجتهاده إلى النجس منهما، فغسله، وأراد الصلاة في الثوب، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن ذلك لا يجوز، وهذا ما كان يختاره شيخي، والثاني: أنه يجوز، وقد صححه الصيدلاني، وهو الظاهر عندي. توجيه الوجهين: من منع، احتج بأن ورود النجاسة مستيقن، فليكن زوالها عن الثوب مستيقناً، وليس كما لو اجتهد في ثوبين أحدهما نجس، وصلى فيما أدى اجتهاده إلى طهارته؛ فإنه ما استيقن نجاسة الثوب الذي صلى فيه قط، ولكن ترددت النجاسة بين الثوبين أولاً وآخراً، والأصل طهارة الثوب الذي صلى فيه، والثوب الواحد قد تحقق نجاسته، فليتحقق طهارته، وذلك بغسل جميعه. ومن جوّز الصلاة في الثوب الواحد على الترتيب الذي ذكرناه، قال: طلب اليقين ليس شرطاً في التوقي من النجاسة، بل الظاهر كافٍ، وإذا فعل بالثوب الواحد ما وصفناه، فالظاهر أنه طاهر؛ فإنه طهّر أحد الكمين بالغسل، والظاهر بحكم الاجتهاد طهارة الكم الثاني. وما ذكرناه في الكمين لا يختص بهما، بل مهما انحصر عنده النجاسة في موضعين من الثوب، ثم اجتهد فيهما، وغسل ما اقتضى الاجتهاد غسلَه، فهو على الخلاف المذكور. 1065 - ولو كان معه قميصان، أحدهما نجس، وأدى اجتهاده إلى أن أحدهما نجس بعينه، فغسَلَه ثم لبسه مع القميص الآخر، وصلى فيهما جميعاًً، فالمسألة على الوجهين المذكورين في الثوب الواحد إذا أشكل مورد النجاسة منه، فغسل بالاجتهاد موضعاً منه، وليس كما لو اجتهد وصلى في أحد الثوبين؛ فإن هذا الثوب لم يكن مستيقن النجاسة قط، والثوبان إذا جُمعَا، فيقين النجاسة فيهما مجموعين، كيقين النجاسة في ثوب واحد.

1066 - ومما لا بد من التنبيه له أنه إذا كان معه ثوبان، نجس وطاهر، وقد أشكل الأمر، فلو غسل أحدهما، ثم صلى من غير اجتهاد في الثاني الذي لم يغسل، ففي صحة صلاته وجهان، فإنه لما صلى كما صورنا، لم يكن على يقين في نجاسةِ أحد الثوبين، وقد مهدنا أصل ذلك في كتاب الطهارة. ولو أصابت نجاسة ثوباً، فغسل موضعاً وفاقاً من غير اجتهاد، ثم أراد الصلاة فيه، لم يجز ذلك وجها واحداً؛ [فإن النجاسة مستيقنة أولاً، ثم لم يوجد قطع ويقين ولا اجتهاد،] (¬1) ولكن أفاد غسل موضع من الثوب، أنّ أمر النجاسة صار مشكُوكاً فيه، والشك المحض لا يعارض اليقينَ السابق، إذا لم يكن صدَرُه عن اجتهاد. فصل قال الشافعي رحمه الله: "إذا أصاب دم الحيض ثوب المرأة ... إلى آخره" الفصل (¬2) 1067 - النجاسة تنقسم إلى حكمية وإلى عينية: والعينية هي التي تشاهد عينُها، والحكمية هي التي لا تشاهد عينُها، مع القطع بورودها على موردها المعلوم. فأما العينية فالغرض إزالة عينها، فلو بقي لونها، أو طعمها، أو ريحها، مع تيسر الإزالة، فالمحل نجس، وإن عسر ذلك في بعض الصفات، فقد قال الأئمة: أما الطعم، فلا يعسر قط إزالته، فما دام باقياً، فالنجاسة باقية، وأما اللون؛ فإن بقي أثر منه مع الإمعان، وبذل الإمكان، فهو معفو عنه. فلو اختضبت المرأة بالحناء وكان نجساً، فإذا غسلت العضو واللونُ باق، فقد زالت النجاسة، والشاهد في ذلك من جهة الخبر، ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان الحيض يصيب ثوباً (¬3) فنغسله، فيبقى لطخة منه، فنلطخه بالحناء ¬

_ (¬1) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (¬2) ر. المختصر: 1/ 94. (¬3) كذا في جميع النسخ، ولعلها: "ثوبنا" وبها جاءت (ل).

ونُصلي فيه" (¬1) فدل على أن ما يبقى من أثر اللون اللاصق معفو عنه. فأما الرائحة إذا كانت ذكية (¬2) بحيث يعسر إزالتها كرائحة الخمر العتيقة، وبول المبَرْسم (¬3)، وما أشبههما، فإذا بقيت مع الإمعان في الغسل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن بقاءها كبقاء الطعم. والثاني - أنها كاللون. ومما يجب التنبيه له أن رائحة الشيء الذكي الرائحة قد تبقى في فضاء بيت، فإن الخمر الذكية (¬4) إذا نقل ظرفها من بيت، وما رشح شيء منها، فقد يبقى رائحتها في فضاء البيت أياماً، فلا اعتبار بمثل هذا، والذي هو في محل القولين أن الخمر إذا أصابت أرضاً، أو ثوباً، ثم غسل، وكان المحل بحيث لو اشتم، لأدركت الرائحة منه، فهذا محل القولين. فأما إذا كانت الرائحة لا تدرك من المحل، وإنما تدرك من هواء البقعة، فلا خلاف في حصول الطهارة. فهذا تفصيل إزالة النجاسة العينية. 1068 - وأما النجاسة الحكمية التي لا تبين عينها، ففي الحديث أن محلّها يُغسل ثلاثاً، ثم أجمع أصحابنا على أن رعاية العدد فيها لا تجب، ويكفي مرور الماء على مورد النجاسة مرةً واحدة، والزيادة احتياطٌ، والسبب فيه أن ما لطف حتى لا يظهر له ¬

_ (¬1) هذا الأثر عن عائشة رواه الدارمي عن معاذة عن عائشة أنها قالت: إذا غسلت الدمَ فلم يذهب، فلتغيره بصفرة أو زعفران، ورواه أبو داود بلفظ: "قلت لعائشة في دم الحائض يصيب الثوب، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره، فلتغيره بشيء من صفرة" (ر. أبو داود: الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، ح 357، الدارمي: ح 1011، التلخيص: 1/ 36 ح 27). (¬2) ذكت الريح: فاحت وانتشرت. (طيبة كانت أو منتنة). (¬3) "المبرْسَم": الذي أصابه البرسام، والبرسام داء يسمى أيضاً: "ذات الجنب"، وهو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة. (المعجم). (¬4) أي الشديدة الرائحة.

لونٌ، ولا طعم، ولا رائحة، [ولا جرم، فمرور الماء عليه بمثابة زوال اللون والطعم والرائحة] (¬1) من النجاسات العينية. ثم لا يخفى على الفطن أنه إذا زالت الصفات، فقد يبقى للظن والتجويز مجال في بقاء شيء خفي على إدراك الحواس، ولكن لا مبالاة به. 1069 - والذي يطلقه الفقيه من أن النجاسة زالت يقيناً كلام فيه تساهل، واليقين الحقيقي ليس شرطاً، وإنما المرعيُّ زوالُ ما نُحسُّه من الصفات. 1070 - ثم قد ذكرنا الإمعان، ونعني به الجريان على المعتاد في قصد إزالة النجاسة من غير انتهاءٍ إلى المشقة الظاهرة، ولا اكتفاءٍ بالغسل القريب. ولما سألت أسماء بنت أبي بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوبَ، فقال عليه السلام: "حُتِّيه، ثم اقرُصيه، ثم اغسليه بالماء" (¬2) استفدنا أمرين: أحدهما - التسبب إلى الإزالة بالحت والقرص، فليعتمد الغاسل من هذا الفن ما يُعين على الإزالة، كالتخليل والدلك بالماء. والفائدةُ الأخرى أنه نص على الماء، فأشعر بأنه لا يجب استعمال غيره. 1071 - ثم في هذا ضبط وتقريب عندي. فأقول: ليدم الغسلُ إلى زوال الطعم وإلى زوال الرائحة من مورد النجاسة على الأصح، فيبقى النظر في اللون، والوجه فيه أنه إن كان سهلَ الإزالة فَلْيُزَل، وإن كان اللون قائماً لا يزول إلا على طول الزمن، فالمعتبر فيه النظر إلى الغُسالة، فما دامت تنفصل متلونة، فهي تقطع من أعيان النجاسة، وإذا انفصلت صافية مع إمعانٍ وتحامل، فهذا كافي، والأثر الباقي معفوّ عنه. ¬

_ (¬1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬2) حديث أسماء متفق عليه، بلفظ: أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال: "تحته ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، ثم تصلي فيه" (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 65 ح 161) وأما رواية: أن أسماء هي السائلة على نحو ما ساقه إمامنا، فهي أيضاً صحيحة، رواها الشافعي، وتعقب الحافظُ النووي وابنَ الصلاح في تضعيفهم إياها قائلاً: بل إسنادها في غاية الصحة. والذين ضعفوها هم الغالطون. (ر. الأم: 1/ 58، التلخيص: 1/ 35 ح 26).

وهذا فيه نظر؛ فإن الثوب إذا صبغ بصبغ نجس، فالصبّاغون لا يحسنون تعقيد الصبغ حتى لا ينفصل في هذه الديار (¬1)، فربما لا ينقطع انصباغ الغُسالات عن الثوب المصبوغ ما بقي منه سِلْك (¬2)، فتكليف ما ذكرناه، عسر جداً في ذلك، ومن يُحسن عقدَ الصبغ، فسبب عدم انفصاله انعقاده، وإلا فالثوب كان قبل الصبغ على وزنٍ، وهو مصبوغاً أكثر وزناً، وإن كان الصبغ معقوداً. وهذا فيه نظر، ويظهر عندي اجتناب مثل هذا الثوب إذا كان الصبغ نجساً؛ فإن العين مستيقنةٌ حساً، والذي ذكره الأصحاب من المعفو عند الأثر أراه فيه إذا لم يُقدّر له وزن، ويسبق السابق إلى أنه لون بلا عين، وإن كان ذلك غير ممكن، ولكن الشرع مبناه على ظواهر الأمور، والله أعلم. وقد قال صاحب التلخيص: إن بقي لون النجاسة أو طعمها، فالنجاسة باقية، وفي الرائحة قولان، وهذا مأخوذ عليه باتفاق الأصحاب، فاللون على التفصيل لا يضر بقاؤه قولاً واحداً، وحديث عائشة نص قاطع في الرد عليه. فصل يجمع النجاسات بأنواعها 1072 - إذا أردنا ضبط القول في النجاسات، ذكرنا تقسيماً يجمع شتات [النظر] (¬3)، وقلنا: ننظر في الجمادات التي ليست خارجة مِن حيوان، ثم ذكرنا الحيوانات، ثم ذكرنا الميتات، ثم نذكر ما يخرج من الحيوانات. فأما الجمادات في القسم الأول، فكلها طاهرة إلا الخمر؛ فإن الشرع نجّسها؛ تأكيداً لاجتنابها، وزجراً عن مخامرتها، وذكر الشيخ أبو علي في المثلَّث (¬4) المسكر ¬

_ (¬1) يعيب الإمامُ صناعة الصبغ في بلاده في ذلك الزمان. (¬2) السلْك: الخيط (المعجم). (¬3) زيادة من (ت 1). (¬4) المثلّث: شرابٌ، وسمي كذلك، لأنه طبخ حتى ذهب ثلثاه. (المعجم).

الذي نحرِّمه ويبيحه أبو حنيفة (¬1) -خلافاً في النجاسة مع القطع بالتحريم، ولست أعرف المصير إلى طهارته، وهو مسكر، مشتدٌّ محرمٌ ملحقٌ بالخمر- وجهاً (¬2). فهذا بيان الجمادات. 1073 - وأما الحيوانات، فكلها طاهرة العيون إلا الكلب، والخنزير، والمتولّد منهما، أو من أحدهما وحيوان طاهر. فكأن الأصلَ طهارة الجمادات والحيوانات إلا ما استثناه الشرع، وسببُ استثناء الخمر من الجمادات كسبب استثناء الكلب والخنزير من الحيوانات، وهو تأكيد قطع الإلف. 1074 - وأما الميتات فالقياس، الحكم بنجاستها؛ فإن الحياة مدرأةٌ للاستحالات، والعفن، والموت مجلبة لها. وقد استثنى الشرعُ من جملة الميتات السمك والجراد، ولا خلاف فيهما. وظاهر المذهب أن جثة الآدمي لا تنجس بالموت، وفيه وجهٌ معروف، وسنذكره في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. فأما سائر الحيوانات إذا ماتت، فكل حيوان له نفس سائلة، (3 فإذا ماتت، فميتاتها نجسة، وكل ما ليس له نفسٌ سائلة 3)، ففي نجاسة ميتاتها خلاف وتفصيل، سبق في كتاب الطهارة مستقصىً. 1075 - وأما القسم الرابع وفيه يتسع الكلام، فهو ما يخرج. فنقول: القول في ذلك: ينقسم إلى رشحٍ، لا يبين -في ظاهر الأمر- فيه اجتماع واستحالة، وهو اللعاب والعرق، والمتبع فيها طهارة عين الحيوان ونجاستها، فإذاً ¬

_ (¬1) ر. مختصر الطحاوي: 281، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 365 مسألة: 2058، حاشية ابن عابدين: 5/ 292. (¬2) وجهاً: مفعول ثانٍ لـ (أعرف)، ثم جاءتنا (ل) وفيها: "وجهاً واحداً". (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

عرق الحيوانات كلها، ولعابُها طاهر، إلا عرقَ الكلب والخنزير، ولعابهما، وقد تفصل ذلك. 1076 - فأما ما يجتمع ويستحيل في الحيوانات ثم يخرج، فالقياس في جميعها النجاسةُ، إلا ما استثناه الشرع، فالأبوال، والأرواث، والدماء، كلها نجسة من جميع الحيوانات، سواء كانت مأكولة اللحم، أو لم تكن، وخلاف أحمدَ بنِ حنبل (¬1) وغيرِه من علماء السلف، ومصيرُهم إلى طهارة أبوال الحيوانات المأكولة مشهور، والأرواثُ في معنى الأبوال عندهم. وقد تكلم الشافعي على أحاديثَ تعلق بها أحمدُ، وهي صحيحة، منها حديث العُرينيين، فإنهم دخلوا المدينة، واجْتَووها واصفرّت ألوانهم، وأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو خرجتم إلى إبلنا، فأصبتم من ألبانها وأبوالها، ففعلوا، فصحّوا، فمالوا على الرعاة، فقتلوهم، واستاقوا الإبل، فألحق النبي صلى الله عليه وسلم الطّلب بهم، فأدْرِكوا، فأمر بهم حتى قطعت أيديهم وأرجلُهم، وسُملت أعينُهم، وألقوا بالحَرَّة يستسقون، فلا يُسقَوْن، حتى ماتوا عطشاً وجوعاً" (¬2). ووجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم جوّز لهم أن يصيبوا من أبوالها. قال الشافعي: هذا الحديث منسوخ (¬3)؛ إذ فيه أنه مثَّل بهم، ثم ما قام في مقامٍ إلا أمر بالصدقة، ونهى عن المَثُلَة، ثم قال: أذِن لهم في التداوي عند الضرورة، والتداوي جائز عندنا بجملة الأعيان النجسة إلا الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) ر. الإنصاف: 1/ 339. (¬2) قصة العرينيين في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه. (ر. اللؤلؤ والمرجان: القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، ح 10860). (¬3) في هامش (ت 1) ما يمكن أن نقرأ منه ما يلي: "جاء في غاية البيان: كان ذلك في أول الأمر، ثم نسخ بعد أن نزلت آيات الحدود ألا ترى .. " ثم عدة جمل غير مقروءة، وكل ما يفهم منها أنها شرح لألفاظ الحديث. مثل (سمل) .. وشرح لألفاظ إمام الحرمين مثل: (المثلة) ثم نقرأ بوضوح ما نصه "وذكر في غاية البيان تفصيل ذلك، وأجاب ابن حجر في شرح البخاري بأن نَسْخَ بعض الحديث لا يوجب نسخ كله". ا. هـ.

سئل عن التداوي بالخمر، فقال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" (¬1). وقد حكى شيخي عن بعض الأصحاب جواز التداوي بالخمر عند ظهور الضرورة، وإذا انتهت التفاصيل إلى ذلك فتذكر فيه (¬2). وهذا القائل يحمل حديث الخمر على علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن السائل عن التداوي بها كان لا ينتفع بها، وهذا بعيد في التأويل، ولكن إذا تمهد في الشرع تحليلُ الميتة حالة المخمصة، وهذا في التحقيق مداواة للضرورة ودَرْء للمخمصة. ثم أجمع الأئمة على جواز التداوي بجملة الأعيان النجسة، [وإن] (¬3) كان في التداوي نوع من الإشكال؛ من جهة أن درءَ الجوع بالميتة معلوم، والاطلاع على أن الأدوية تنفع وتنجع بعيد، وحذاق الصناعة لا يجزمون القولَ بنفع الأدوية وإن تناهَوْا في علومهم، وسنذكر ذلك في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. وقد نص الشافعي رحمه الله على أن من غُصّ بلقمة، ولم يجد إلا خمراً يُسيغها، فإنه يستعمل منها ما يسيغها، وإنما قال ذلك؛ لأن إساغة الغُصة معلومة، بخلاف نفع الدواء. ومما يتعلق به أحمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في أبوال الإبل وألبانها شفاء الذَّرب" (¬4) وهذا لا دليل فيه؛ لأنه مخصوص بالمداوة. ¬

_ (¬1) حديث "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" رواه الطبراني في الكبير من حديث أم سلمة، ورمز له السيوطي بالصحة، ورجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى، وابن حبان، والبيهقي، قال في المهذب " وإسناده صويلح " وقال ابن حجر: ذكره البخاري تعليقاً عن ابن مسعود، قال: وقد أوردته في تغليق التعليق من طرق صحيحة" ا. هـ. (ر. البخاري: الأشربة، باب شراب الحلواء مع العسل، الطبراني في الكبير: 23/ 356، ابن حبان: 2/ 335 ح 1388، أبو يعلى: ح 6966، البيهقي: 10/ 5، التلخيص: 4/ 140، 141، ح 2112، فيض القدير للمناوي). (¬2) "فتذكّر": ضبطت في (ت 1) بفتح الكاف مشددة. وفي (ت 2): "فنذكر" بالنون، ومثلها جاءت (ل). (¬3) في جميع النسخ: "فإن" والمثبت تبعنا فيه نسخة (ل). (¬4) رواه أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنه، بلفظ: "إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذرية بطونهم". (ر. المسند: 1/ 293). =

ومما احتجوا به ما روى البراء ابنُ عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل لحمه، فلا بأس ببوله" (¬1) وهذا يعسُر تأويلُه حملاً على المداوة؛ فإنَّ جواز ذلك لا يختص بما يؤكل، ولكن أقرب مسلك فيه، أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا ينفع شيء من الأبوال، إلا بول ما يؤكل لحمه، والعلم عند الله. 1077 - ثم لا فرق عندنا في التنجيس بين ذرق الطيور ورجيع الحيوانات ومذهب أبي حنيفة معروف في ذرق الحمام وغيرها (¬2)، واختلاف أئمتنا معروف في خُرء السمك والجراد، وكلِّ شيء يخرج منهما، وسبب هذا الاختلاف أنها مستحَلّة الميتات، فإذا فارقت الحيواناتِ في هذه الجهة، ظهر الخلاف فيما ذكرناه. وذكر الصيدلاني وغيره: إنا إذا حكمنا بطهارة ميتات ما ليس لها نفس سائلة، فهل نحكم بطهارة هذه الأشياء منها؟ فعلى وجهين، وهذا أبعد عندي مما ذكرناه في السمك والجراد؛ فإن ميتات هذه الأشياء لا تحل، وإذا حكمنا بأن الآدمي لا ينجس بالموت، لم يقتض ذلك الحكمَ بطهارة فضلاته، ولكن الفرق واضح؛ فإن سبب الحكم بطهارة ما ليس له نفس سائلة أنها إذا ماتت لا تفسد، بل تعود كأنها جمادات، والآدمي بخلاف ذلك، فإنه ينتن إذا مات ويفسد، وسبب الحكم بطهارته ما يتعلق به من تعبُّد الغُسل والحرمة، ولا يظهر في تنجس فضلاته ما يخالف موجَب الحرمة. واختلاف الأئمة في فضلات بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد سبق ذكره في كتاب الطهارة. فهذا تمهيد القول فيما يستحيل في الحيوانات. 1078 - ونذكر الآن ما استثناه الشرع، فنقول أما ألبان الحيوانات المأكولات اللحوم، فلا شك في حلها وطهارتها، وذلك عندي في حكم الرخص؛ فإن الحاجة ¬

_ = والذرَب: داء يعرض للمعدة، فلا تهضم الطعام، ويفسد فيها ولا تمسكه (المعجم). (¬1) حديث البراء بن عازب، رواه الدارقطني بلفظ: "لا بأس ببول ما أكل لحمه" ورواه عن جابر باللفظ الذي ساقه به إمام الحرمين. قال الحافظ: "وإسناد كل منهما ضعيفٌ جداً" (ر. التلخيص: 1/ 43 ح 37). (¬2) ر. البدائع: 1/ 76، حاشية ابن عابدين: 1/ 213، 214.

ماسة إلى الألبان، وقد امتن الله تعالى بإحلالها، فقال: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]. 1079 - ومما يتعلق بقسم الاستثناء القول في المني، فظاهر مذهب الشافعي أن مَنِي الرجل طاهر، ومعتمد المذهب الأخبار، وهي مذكورة في الاختلافات (¬1). وفي منيّ المرأة خلاف، وسببه تردد الأئمة في طهارة بلل باطن فرج المرأة، فلعل من يحكم بنجاسة منيها يقول: هو ليس نجس العين، وإنما ينجس بملاقاة رطوبة باطن فرجها. [وقال صاحب التلخيص: مني المرأة نجس، وفي مني الرجل قولان] (¬2). وهذا أنكره الأصحاب عليه، ورأوا القطع بطهارة مني الرجل. ومن غوامض المذهب ما أبهمه الأصحاب من التردد في رطوبة باطن فرج المرأة، وليس يخفى أن الرطوبة التي في منفذ الذكر إلى الإحليل في معنى رطوبة باطن فرج المرأة، وممرّ المنِيين على الرطوبتين على وتيرة واحدة، فلست أرى بين الرطوبتين والممرّين فرقاً إلا من جهة واحدة، وهي أن ما في الذكر رطوبة لَزِجَة لاحِجة (¬3) لا يخرج منها شيء؛ فلا حكم لها، ولا يمازجها ما يمر بها، وأمثال هذه الرطوبات لا حكم لها في الباطن، وبلل باطن فرج المرأة كثيرٌ يمازج، وقد يخرج، ويكاد أن يكون كمذي الرجل، فإذاً ليس ينقدح في ذلك إلا ما ذكره من تصوير الممازجة في إحدى الرطوبتين، وعدم ذلك في الثانية، فكان مَنيَّها يخرج مع شيء من الرطوبة لا محالة، بخلاف منيه. ثم يبقى بعد هذا تساهل أئمة المذهب في العبارة، وذلك أنهم يقولون: رطوبة باطن فرج المرأة نجسة أم لا؟ وهم يريدون بذلك أن تلك الرطوبة هل يثبت لها ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، ولعلها: "الخلاف": أي كتب الخلاف، ثم جاءت (ل) فإذا بها سقطت منها. (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (¬3) لاحِجَة: في هامش (ت 1): "لَحِجَ في الشيء إذا نشب فيه، ولزمه" مجمل اللغة. ا. هـ. هذا. وقد سقطت اللّفظة من: (ت 2)، وكذا من (ل).

حكمٌ، وهل تنجّس ما يخرج؟ وهل يعتقد في الخارج الامتزاج بها؟ فهذا وجه القول في ذلك. 1080 - فأما منيّ سائر الحيوانات: اختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه: أحدها - أن جميعها نجس إلا منيّ الآدمي، فإن طهارته أُثبتت تكريماً على التخصيص، ليكون أصل فطرته من طاهر. والثاني - أنه يحكم بطهارة مني ما يؤكل لحمه من الحيوانات أيضاً، لأن منيّها يضاهي بيضَ الطائر المأكول. والثالث - أن جملة مني الحيوانات الطاهرة العيون طاهر، نظراً إلى طهارة الحيوانات في أنفسها، فهذا تمام القول في المني. 1081 - وممّا يتعلق بذلك: القول في ألْبان ما لا يؤكل لحمه: فلبن الآدميات حلالٌ طاهر، ولبن غيرهن مما لا يؤكل لحمه حرام، وفي ظاهر المذهب أنه نجس؛ فإن الألبان إنما أبيحت للحاجة، ووقع الحكم بطهارتها تبعاً لمسيس الحاجة إلى تحليلها، وأبعد بعضُ أصحابنا، وحكم بطهارة ألبان الحيوانات الطاهرة العيون، وهذا ساقط غير معدود من المذهب. 1082 - ومما يتعلق بذلك القول في البيض: فكل بائضٍ مأكولِ اللحم، فبيضه مأكول، وما لا يؤكل لحمه من الطير لا يؤكل بيضه، والكلام في طهارته كالكلام في مني الحيوانات التي لا يؤكل لحمها، وهي طاهرة العيون. ومما ذكره الأئمة أن البيضة الطاهرة المأكولة إذا صارت مذرة في الاحتضان، ففيها خلاف، وظاهر المذهب أنها نجسة؛ فإنها دم، ومن أئمتنا من حكم بطهارتها؛ فإنها أصل الفطرة. وكذلك اختلف الأئمة في أن المني إذا استحال في الرحم عَلقة ومُضغةً، فهي نجسة أم لا؟ والخلاف في ذلك أظهر عندي؛ من جهة أن الحكم بطهارة مني الرجل مأخوذ عندي من كرامةْ الآدمي، وهذا يطرد في المضغة، وأما البيض، فليس فيه هذا المعنى، وإنما الطهارة فيه تبع الحل.

قال الشيخ أبو علي: الخمرة المحترمة التي الغرض منها الخَل، تخرّج على هذا الخلاف، فمن أئمتنا من حكم بطهارتها، وبنى على ذلك أنها مضمونة. وهذا بعيد جداً؛ فإن الخمرة المحترمة التي يجب الحدُّ على شاربها يبعد الحكم بطهارتها، والمصيرُ إلى إيجاب الضمان بإتلافها، فالوجه [القطع] (¬1) بأنها ليست مضمونة، وإن حرم إتلافها، كالجِلد الذي لم يدبغ بعدُ. فإذاً انحصر الاستثناء في الألبان، والمني، والبيضُ في معنى المني، فأما ما سوى ذلك من المستحيلات، فنحكم بنجاستها. 1083 - والدماء نجسة، وكذلك القيح والصديد، والمِرّة الصفراء والسوداء. قال الشيخ أبو علي: المشيمة إذا خرجت على الولد، فهي نجسة، وقال: إذا خرج الولد وعليه بلل، فهو نجس، وإن حكمنا بطهارة رطوبة باطن فرج المرأة؛ فإن الولد يخرج من الرحم وعليه رطوبات الرحم، ولو أرخى الرحم رطوبةً، فهي نجسة. وهذا الذي ذكره صحيح، ولكن فيه ذهول عن الحقيقة التي نبهنا عليها في رطوبة باطن فرجها. ولو خرج من باطن فرج المرأة رطوبة، فلا شك في نجاستها، ولكن إذا خرج منه المني، فليس نقطع بخروج رطوبة فرجها، عند بعض الأصحاب، وإذا خرج الولد مبتلاً، فهذه رطوبة خارجة قطعاً متميزة عن الولد. 1084 - وذكر الشيخ أبو علي وجهين في البلغم الذي ينقلع من منفذ المريء: أحدهما - أنه نجس، لأنه مستحيل في الباطن. والثاني - أنه طاهر، كالذي ينزل من الرأس؛ فإنه لا خلاف في طهارته. فرع: 1085 - البلل الذي ينفصل من جرحٍ، لا دمَ ولا صديدَ فيه، أو ينفصل من نَفَّاطَة (¬2) تنفطر، فإن كانت رائحته كريهة، فهو نجس كالصديد، وإن لم تكن رائحتُه كريهة، فقد ذكر العراقيون أنه طاهر، وحكَوْه عن نص الشافعي، وقالوا: إنه ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، و (ط)، و (ت 1). (¬2) النَّفَّاطة: بثرة مملوءة ماء، تظهر في اليد من أثر العمل. (معجم).

كالعرق، وظاهر كلام الشيخ أبي علي أنه نجس، وهو فيما أظن سماعي عن شيخي. فرع (¬1): 1086 - اختلف أئمتنا في الإنفحة، فقال قائلون: إنها نجس، وهو القياس، فإنها لبن مجتمعٌ في باطن الخروف، ويستحيل، فيخرج إذا ذبح الخروف، ويجبَّن به اللبن، والمستحيل نجسٌ. وقال قائلون: إنها طاهرة لإطباق الأمَّة على استحلال الجُبن، مع علمهم بأن انعقاده بالإنفحة، فنزلت الإنفحة من جهة الحاجة منزلة أصل اللبن الذي أبيح لأجل الحاجة، والقياس الحكم بنجاسة الإنفحة، ولكن عمل الناس، وعدم الإنكار من علماء الأعصار (¬2) يدل على الطهارة. 1087 - ومما يتعلق بما ينفصل عن الحيوان، أن كلّ ما أُبين عن الحي فهو ميت، فإن كان الحيوان لو مات لتنجّس، فينجُس الجزء المبان من هذا الأصل، إلا الأصواف والأوبار إذا جُزَّت من الحيوانات المأكولة، على رأي من يُثبت لها حكمَ الحياة في اتصالها. والسبب في ذلك مسيس الحاجة إليها في الملابس والمفارش، مع استبقاء الأصول، فهي نازلة منزلة الألبان التي استثنيت -في الحل والطهارة- من قياس المستحيلات للحاجة. ولو أُبين عضو من آدمي، فإن حكمنا بنجاسة الآدمي لو مات، فالمبان منه نجس، وإن حكمنا بأن الآدمي لا ينجس بالموت، ففي العضو المفصول منه وجهان: أصحهما - الطهارة، اعتباراَّ بَالأصل لو مات. ومنهم من قال: ينجس لسقوط حُرْمته بالانفصال عن جملته، وهذا بعيد، ولكنه قريب من خلاف أئمتنا في أن من قطع فِلْقة من سمكة، فهل تحل أم لا؟ فإن ميتةَ السمك حلال وفي الفِلْقة المُبانة من الخلاف ما ذكرناه. فهذا معاقد المذهب فيما نحكم بنجاسته وطهارته. ¬

_ (¬1) في (ل): فصل. (¬2) كذا في جميع النسخ، وجاءتنا (ل) وفيها: "الأمصار".

فصل قال: "وكل ذلك نجس إلا ما دلت عليه السُّنة من الرش ... إلى آخره" (¬1). 1088 - بول الصبي الذي لم يطعم إلا اللبن نجس، كسائر الأبوال، ولكن ورد فيه تخفيفٌ في كيفية إيصال الماء إلى مورده، وروي عن لبابة بنت الحارث أنها قالت: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحسن أو (¬2) الحسين، فأجلس في حجره، فبال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت لبابة: قلت يا رسول الله: أَغسلُ إزارك؟ فقال: لا، إنما يغسل الثوب من بول الصبيّة، ويرش على بول الغلام، ودعا بماء فرشَّ عليه" (¬3)، فإذاً يجوز الاقتصار على الرش في بول الغلام الذي لم يطعم الخبز، ولا مجال للقياس فيه. ثم ليس في الحديث تعرّض لتطعم الغلام، وإنما فهم الفقهاء ذلك من جهتين: إحداهما - أنه قد نُقل: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالحسن ليسميه ويطعمه" وهذا على قرب العهد بالولادة. والثاني (¬4) - أنه لا يتوهم امتداد هذا الحكم على الدوام، ولا نرى فيه ¬

_ (¬1) ر. المختصر: 1/ 94. (¬2) في النسخ الأربع: (و) والذي في حديث لبابة: الحسين من غير ترديد. ولبابة هي أم الفضل زوجة العباس رضي الله عنه. أما الترديد بلفظ " أو " فقد ورد في أحاديث أخرى، منها حديث أبي السمح عند أبي داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم (ر. أبو داود: الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، ح 376، النسائي: الطهارة، باب بول الجارية، ح 304، ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، ح 526، التلخيص: 1/ 60 ح 33). (¬3) حديث لبابة رواه أبو داود: الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، ح 375، بلفظ: "إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر" وأخرجه ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، ح 522، ورواه الحاكم: (1/ 166)، وأحمد: (6/ 339)، والطبراني في الكبير: (25/ 25، 26)، وصححه الألباني في المشكاة: (501)، وفي صحيح أبي داود: (399)، وفي صحيح ابن ماجة: (421) (وانظر التلخيص: 1/ 37، 38 ح 33). (¬4) كذا في جميع النسخ، وفي (ل): "والثانية": أي الجهة الثانية.

مردّاً (¬1) إلا أن يطعم ويحتوي جوفه على ما يستحيل، واللبن لا يبالى به، ولا يستحيل استحالة متكرّهة. وأما بول الصبية، فمقتضى الخبر أنه يجب غسل الثوب عنه، والمذهبُ إلحاقه بالنجاسات؛ فإنّ ما ذكرناه في الغلام تلقيناه من الحديث، وفي الحديث الفصل بين الصبية والغلام. وذكر الأئمة في الطرق قولاً آخر، أن الصبية كالغلام في جواز الاقتصار على الرش على بوله، وهذا لست أعرف له وجهاً، مع مخالفة القياس والخبر، ولكنه ذكره الصيدلاني وزيَّفه، وذكره غيره أيضاً. ثم لا خلاف في نجاسة بول الغلام، وإنما يختص من بين النجاسات بالاكتفاء بالرش فيه، ثم الذي ذكره الأئمة، أن الرش لا يشترط أن ينتهي إلى جريان الماء، بل يكفي أن يعم الماء موضع البول رشاً، وإن لم يتردد ولم يَقْطُر (¬2). وذكر شيخي: أنه لا يكتفي بنضحٍ وأدنى رش، ولكن يجب أن يكاثره بالماء حتى ينتقع، ولا يجب عصر الغسالة، وبهذا يقع الفرق، وفي وجوب العصر في سائر النجاسات خلاف سيأتي. وهذا الذي ذكره لا أعده من المذهب؛ فإن هذا ليس رشاً، بل هو مكاثرةٌ وغَمرٌ، وتَرْكُ عصر، وقد نذكر أن الأصح أن العصر لا يُشترط في إزالة جميع النجاسات؛ إذا اتفق الزوال. فصل 1089 - نذكر في هذا الفصل شيئين: أحدهما - وصْل العظم المنكسر بعظم نجس. والثاني - وصل المرأة شعرها. فأما الأول - فإذا انكسر عظمٌ من الإنسان، فوصله بعظمٍ نجس، فقد قال الأئمة: ¬

_ (¬1) "مرداً": أي نهاية، ومرجعاً. (¬2) "يَقْطُر": من قطر الماء والدمع قطراً (من باب ضرب): أي سال. (المعجم).

إن لم يتصل، ولم يلتحم، وجب تنحيته، وإن التحم واتصل، ولم يكن في إزالته وقلعه خوف، وجب إزالته، لمكان الصلاة. وإن كان في إزالته خوف، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يُزال إبقاءً على المهجة. والثاني - أنه يزال لحق الصلاة، ونحن نرى سفكَ الدم على مقابلة ترك صلاةٍ واحدة. وهذا بعيد عن القياس؛ فإن المحافظة على الأرواح أهم من رعاية شرط الصلاة. ومما يعترض على ذلك: أن من أخذ خيطاً لغيره، وخاط به جرحه، فلا نكلفه نزعه عند الخوف، قطع الأئمة جوابَهم به، وذلك لأنا نأخذ طعامَ الغير لشدة المخمصة، ونغرَم له القيمة، ونَقِي الأرواحَ بالأموال على شرط الضمان، واستصحاب النجاسة يقدح في الصلاة، ولا مساهلة في الأديان. وهذا عندي تكلّف، والقياس القطعُ بأنه لا ينزع العظم إذا خيف؛ فإنا نحرِّم إمساس الجرح ماء لإزالة نجاسة عليه، وإن كان في إبقائها حملٌ على إقامة الصلاة مع النجاسة، (1 وكل نجاسة يعسر الاحتراز عنها، فإن الشرع يعفو عنها، كما مضى التفصيل فيه. وإن قال قائل: المصلي مع النجاسة 1) يقضيها؛ فإنها مرجوّة الزوال، والعظم النجس الملتحم قائم أبداً. فلا أصل لهذا، [والمستحاضة لا تقضي الصلوات التي أقامتها في زمان الاستحاضة] (¬2)، وقد يقال: ذلك دمٌ جارٍ من غير اختيار، وهذا أدخل العظمَ على عضوه، ولا ثبات لمثل هذا. 1090 - ومما يعنُّ في المسألة من وجوه الإشكال، أن التداوي بالأعيان النجسة جائزٌ وفاقاً، وإنما التردد في التداوي بالخمر. وقد قال الأئمة: لو ألصق ضماداً نجساً على جرحه، نُزع لأجل الصلاة، والسبب فيه -مع الإشكال- أن تحريم أكل النجاسة ¬

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

من باب الأمر بتخير الطيبات في الأغذية، فإذا خيف الهلاك، زال ذلك، ولا تعلق له بالصلاة؛ فإن ما يحويه البطنُ يسقطُ اعتبار طهارته، وإلصاق الضماد النجس بظاهر الجرح يؤثر في الصلاة. 1091 - ومما يشكل أن العظم النجس إذا اكتسى بالجلد واللحم، فقد بَطُن، فتكليفُ إظهارِه ونزعِه بعيد، وقد التحق بالباطن. والذي ذكره الأصحاب من الالتحام عَنَوْا به الاتصالَ، فأما الاكتساء بالجلد واللحم، فالقياس فيه ما تقدم. ولولا أنَّ المذهب نَقْل، وإلاّ لكان القياس، بل القواعد الكليّة تقتضي أن أقول: لا ينزع عند الخوف وجهاً واحداً، ولا عند الاكتساء بالجلد، وحصول التستّر والبطون (¬1)، فكان لا يبقى [احتمال] (¬2) إلا في صورة، وهي أنه إذا أمكن الوصلُ بعظم طاهر، واعتمد الوصلَ بالنجس، واعتدى، فهل ينزع والحالة هذه؟ الظاهر أنه لا ينزع مع الخوف، وفيه احتمال بسبب تفريطه وتسببه إلى هذا. ثم خوفُ فساد العضو عندي في التفاصيل، ينزل منزلة خوف الهلاك، وتلف المهجة. وإذا عسر عليَّ في فصل تخريجُ المذهب المنقول على قياس أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعابُ وجه الإشكال، وإيضاح أقصى الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات. 1092 - ومن تمام الكلام في المسألة: أنه إذا كان رقَع عظمَه بعظم نجسٍ ومات، فقد قال الشافعي: صار ميتاً كلُّه والله حسيبُه، وظاهره يشعر بأنه لا يقلع منه إذا مات؛ فإن التكليف انقطع، وكله ميت، وذلك إشارة إلى نجاسة الميت، وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فقال قائلون: لا يقلع لما أَشْعر به ظاهرُ كلام الشافعي، وفيه تقطيع الميت وهتك حرمته. ¬

_ (¬1) أي عندما يصير تحت اللحم والجلد، فيصبح باطناً. (¬2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

ومن أئمتنا من قال: يقلع؛ فإنا تُعبّدنا بغسله، وذلك العظم يمنع من وصول الماء إلى ما اتصل العظم به، وهذا إن كان يتحقق ففي العظم الظاهر، وأما إذا اكتسى بالجلد، فيبعد كلُّ البعد أن يكشطَ الجلد، ويخرجَ العظم منه، وقد انقطعت وظائفُ الصلاة، والماءُ يجري على بشرة طاهرة، ومصيره إلى البلى، وظهور النجاسات. فهذا بيان ترقيع العظم بالعظم النجس. 1093 - وأما وصل المرأة شعرها بشعر امرأة أو رجل، فقد قال (¬1): والذي إليه الرجوع في ذلك، وهو معتمد الفصل، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة" (¬2). وقال ابن مسعود: ألا ألعن من لعنه الله في كتابه، لعن الله الواصلة، فرجعت امرأة وقرأت القرآن، فلم تجد ذلك، فرجعت إلى ابن مسعود، وقالت: قرأتُ ما بين الدفتين، فلم أجد ما قلتَ. قال: لو قرأتيه (¬3) لوجدتيه، ألم تسمعي الله تعالى يقول: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ثم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللعنَ، وساق الحديث (¬4). واللعنُ من أظهر الوعيد، وما اتصل الوعيدُ به اقتضى ذلك التحريم في النهي، والإيجاب في الأمر. فهذا أصل الفصل. 1094 - ثم أذكر تفصيل مذهب الأئمة، فقالوا: إن قلنا: إن الشعر نجس، فاستصحابُ النجاسة في الصلاة محرم، ولا يتلقى من ذلك التحريمُ في غير الصلاة، ¬

_ (¬1) أي الشافعي، وهذا معنى كلامه. ر. الأم: 1/ 46، والمختصر: 1/ 95. (¬2) حديث لعن الله الواصلة ... متفق عليه، فمعناه في جملة من الأحاديث. (ر. اللؤلؤ والمرجان: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، ح 1375 - 1378). (¬3) كذا في جميع النسخ، بإثبات الياء في (قرأتيه) و (وجدتيه) وهي لغة أشار إليها سيبويه، في الكتاب: 4/ 200 قال: "وحدثني الخليل أن ناساً يقولون: ضربتيه، فيلحقون ... ". وفي خزانة الأدب للبغدادي بتحقيق أستاذنا عبد السلام هارون: 5/ 268، 269 أتى بالشاهد رقم 382 على أن أبا علي قال: "تلحق الياء تاء المؤنث مع الهاء" فراجعه إذا شئت. (¬4) حديث ابن مسعود متفق عليه أيضاً (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 1377).

وإن كان الشعر طاهراً، نظر، فإن كان شعرَ آدمي، فلو أبرزته لزوجها، وكان شعر امرأة، فذلك حرام؛ فإن النظر إلى عضو من أجنبية حرام. وإن كان شعرَ رجل، فنظرها إلى شعر أجنبي، ومسها إياه حرام. فهذا مأخذٌ. [وللنظر] (1) فيه مضطرَب؛ فإن الأئمة اختلفوا في النظر إلى جزءٍ مفصول من امرأة أجنبية؛ من جهة سقوط الحرمة، وعلى هذا (2) بنَوْا بطلانَ الطهارة بمس الذكر المبان، فهذا فنٌّ. وقد يرد عليه أنها لو وصلت بشعرها شعرَ امرأة من محارم الزوج والزوجة، وينتشر الكلام ويخرج عن الضبط. وذهب بعض الأئمة في مذهب آخر فقالوا: إن لم تكن ذات زوج (3 فهذا التزيّن تعرض منها للتهم، وتهدُّف للرّيب، فلا يجوز، وإن كانت ذات زوج 3) ولبّست على زوجها، وخيلت إليه أنه من شعرها، لم يجز. وإن ذكرت له وكان الشعر شعرَ بهيمة، وكان طاهراً في نفسه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لعموم نهيه ولعنه. والثاني - وهو الأصح أنه يجوز؛ لأنه تزيّنٌ منها بحلال، واستمالة لقلب الزوج. قال الصيدلاني: وكذلك ما يشبه هذا من تحمير الوجنة، وما يشبهه مما يخيّل أمراً في الخلقة. 1095 - والذي يتحصل من مجموع ذلك أن ما يقع من مجموع هذه الصورة مستنداً إلى أصلٍ، كاستصحاب نجاسةٍ في الصلاة، أو كإبداء عضوٍ لمن يحرم عليه النظر،

_ (1) كذا في جميع النسخ والمثبت تقديرُ منا، صدقته (ل). (2) "وعلى هذا" أي على الخلاف في حكم النظر إلى جزء مفصول من امرأة أجنبية، وسقوط حرمة الجزء، وأنه لا يطلق عليه اسم امرأة، ولا يقال لمن مسّه: إنه مس امرأة. بخلاف الذكر المبان؛ فإنه يطلق عليه الاسم، فتبطل الطهارة بمسه عند القائلين بهذا الوجه. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

على ما سبق الإيماء إليه، فلا شك في التحريم، وإن كانت برزة [مُربَّأةً] (1) للأجانب، فلا شك في تأكّد الوعيد والتحريم. فيبقى أن تتزين وتستحلي، ولا تكون ذات زوج، [أو كانت ذات زوج، فتلبِّس عليه أو تذكر له، فإن لم تكن ذات زوج] (2) فقد حرَّم الأئمة لما فيه من الريبة؛ إذ يستحيل أن يُحمل نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على التي تتبرج؛ فإنها متعرضة من جهة تبرجها لسخط الله ولعنته، فلا يليق بنظم الكلام أن يذكر من أمرها التبرج، ويذكر الوصل. ويمكن أن نتمثل في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء" (3) ثم قال الأئمة: من قتل مورثه خطأ حُرم ميراثَه؛ من حيث إنه متعرض للريبة، كذلك المستحلية، بل هي أقرب إلى التهمة وإن فعلت ذلك ملبِّسة، فقد قطع الأئمة بالتحريم؛ من جهة أنها مُحْتَكِمة على قلب الزوج بزور وغرور وباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور" (4) وأراد

_ (1) المرأة البرزة: أي التي تجالس الرجال. والمربأة للرجال: بمعنى البرزة أيضاً، من: ربأ الشيء أعلاه ورفعه. (المعجم). هذا وهي في الأصل، (ط)، (ت 2): مرتابة. والمثبت من: (ت 1). وهي فيها واضحة مضبوطة بضم الميم، وبفتح الباء المشدّدة. والله أعلم. ثم جاءتنا (ل) وفيها: "مرئية". (2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (3) حديث: "ليس للقاتل من الميراث شيء" رواه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "ليس للقاتل ميراث"، ورواه ابن ماجة ومالك في الموطأ، والشافعي، وعبد الرزاق، والبيهقي، وروي بلفظ مغاير، عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، وممن أخرجه: الترمذي، وأبو داود، والدارقطني، (ر. التلخيص: 3/ 184 ح 1406 - 1408، والنسائي في الكبرى: الفرائض، باب توريث القاتل، ح 6368، والترمذي: كتاب الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل، ح 2109، وأبو داود: كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، ح 4564، وابن ماجة: كتاب الفرائض، باب ميراث القاتل، ح 2735، ومالك في الموطأ: 2/ 867). (4) حديث: "المتشبع بما لم يُعْطَ ... " متفق عليه من حديث أسماء (ر. اللؤلؤ والمرجان، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط، ح 1379).

صلى الله عليه وسلم أن الذي يتزيا للشهادة (1) بالزور كالذي يُري من نفسه بتغيير الخلقة ما لم يخلقه الله تعالى. ويمكن أن يقرب ذلك من تحريم التصوير. وأما إذا ذكرت للزوج، فهو على الخلاف، وينبغي عندي أن يختص الخلاف بالوصل لمكان النهي، ثم تردُّدُ الأئمة فيه يشبه تردَّدَهم في أن من قتل قصاصاً مورِّثه هل يُحرَم؟ ووجه الشبه أن من أصحابنا من يتعلق بظاهر الخبر، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء"، ومنهم من يتعلق بالمعنى، ولا يرى للتهمة في قتل القصاص موضعاً. ثم يبعد الخلاف في تحمير الوجه بإذن الزوج؛ إذ ليس فيه خبر، وقد يحمرُّ الوجه لعارضِ غضبٍ أو فرع أو كدًّ وإسراع في المشي. وأما تطويل الشعر، فإنه تغيير في الخلقة في الحقيقة. ولست أرى تسويةَ الأصداغ، وتصفيفَ الطُرر محرَّماً. وتجعيد الشعر قريب من تحمير الوجه. والصيدلاني أجرى الخلاف في التحمير كما ذكرته. فهذا منتهى الكلام في ذلك. فصل قال: "وإذا أصاب الأرضَ بول طهُر بأن يُصبَّ عليه ذنوب من ماء ... إلى آخره" (2). 1096 - مضمون هذا الفصل القول في الأسباب التي تُزيل النجاسة. وأما إزالة النجاسة عن الثوب والبدن، فيتعين لها استعمال الماء، بحيث يقلع آثار

_ (1) سببُ ورود الحديث أخرجه مسلم، فتمام الحديث من أوله بلفظ مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور" وقد حكى النووي في شرح مسلم أقوالاً منها قولٌ للخطابي، قال: المراد أن الرجل الذي تطلب منه شهادة زور، فيلبس ثوبين يتجمل بهما، فلا ترد شهادته لحسن هيئته. (2) ر. المختصر: 1/ 95. وهو بمعنى كلام الشافعي.

النجاسة، كما سبق التفصيل فيه، في كتاب الطهارة، وفي هذا الباب. وقد ذكرنا الصفاتِ التي تراعى: من اللون، والطعم، والرائحة. ومما ذكرناه في الطهارة -والحاجةُ الآن ماسة إلى تجديد العهد به إيماء- غسالة النجاسة إذا انفصلت، وحكمُ طهارتها ونجاستها، وقد مضى ذلك مبيناً في كتاب الطهارة. ثم ظهر اختلاف أئمتنا في أنه هل يجب عصرُ الثوب المغسول عن الغسالة على حسب العادة في مثله؟ وقد قال شيخنا أبو علي: هذا الخلاف بعينه، هو الخلاف في نجاسة الغُسالة وطهارتها. فإن حكمنا بنجاستها، فبالحري أن نوجب العصرَ، لفصلها على حسب الإمكان، مع الاقتصاد في الاعتياد، وإن قلنا: الغسالة التي تنفصل بالعصر طاهرةٌ، فلا معنى لإيجاب العصر مع المصير إلى أنّ ما يعصر لو رُدّ إلى الثوب ساغ. فهذا تفصيل القول في العصر. ثم وإن حكمنا بنجاسة الغسالة وأوجبنا العصر، فالبلل الباقي بعد الإمعان في العصر طاهر، وكان من الممكن أن يتوقف الحكم بطهارة الثوب على جفافه عن البلل، فإن معنى الجفاف خطف الهواء أجزاء البلل، ولم يصر إلى اشتراط ذلك أحد. 1097 - ثم ذكر الشافعي في صدر الفصل تفصيلَ إزالة النجاسة التي تصيب الأرضَ. ومعتمد المذهب فيها حديث الأعرابي الذي دخل المسجد، وجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يختص بتكريمه، والرفق به، فقال لذلك في صلاته: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد التحلل: "لقد تحجَّرت واسعاً" ثم قام الأعرابي إلى ناحيةٍ من المسجد، فبال فيها، فهمّ به بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تُزْرِموه" أي لا تقطعوا عليه بوله، ثم قال صلى الله عليه وسلم "صبوا عليه ذَنُوباً من ماء" (1) ولعله صلى الله عليه وسلم

_ (1) حديث الأعرابي. أصله في الصحيحين، متفق عليه من حديث أنس (اللؤلؤ والمرجان: =

علم أنهم لو أزعجوه، لانتشر اللطخ وزاد، فأراد أن تكون النجاسة مجموعة في موضع واحد. وغرضنا الآن أنه قال: "صبوا عليه ذنوباً من ماء"؛ فمذهبنا أن الأرض إذا أصابها بول، أو نجاسة أخرى مائعة، فكوثر موردُ النجاسة بالماء، حتى غلب على عين النجاسة، ولم يُبق شيئاًً من آثاره إلاّ غمَره، كان ذلك تطهيراً. 1098 - وزعم أبو حنيفة أن الأرض لا تطهر بهذا، ما لم يحفر موضعَ النجاسة، وينقل ترابَها (1). والحديث ناصٌّ في الرد عليه، وإنما قال ما قال من جهة حكمه بنجاسة الغُسالة، فالماء المتردد الحائر في مورد النجاسة نجس وفيه النجاسة، وقد قال أبو حنيفة: صبُّ الماء على مورد النجاسة نشر لها، وسعي في زيادة التنجيس، وتوسيعٌ لمكانه. فإن قيل: إذا حكمتم بنجاسة الغُسالة، وأوجبتم عصر الثوب المغسول، فماذا ترون في الأرض؟ قلنا: نقول مادام الماء قائماً حائراً، فهو نجس، والأرض نجسة، فإذا نضب الماء، كان بمثابة العصر في الثوب. ثم لا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف، بل الأرض طاهرة، وإن كانت مبتلة إذا غاض الماء. ثم هذا القياس يقتضي لا محالة (1 أن يقال: إذا أوجبنا عصرَ الثوب، فلو لم يعصر، وترك حتى جف بالهواء، أو قارب الجفاف، ينزل هذا منزلة العصر، بل هو أبلغ منه.

_ = 1/ 64 ح 162) أما صورة القصة، فعند أبي داود: كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول، ح 380، 381، والنسائي: الطهارة، باب ترك التوقيت في الماء، ح 52 - 56، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، ح 147، وابن ماجة: الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل؟ ح 528 - 530. وتُزرموه أي تقطعوا عليه بولته. من زرم البول: انقطع، وأزرم الشيء: قطعه (المعجم). (1) ر. مختصر الطحاوي: 31، بدائع الصنائع: 1/ 89، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 133 مسألة: 22، فتح القدير: 1/ 174، وتحفة الفقهاء: 1/ 145، 146.

فإن قيل 1): إذا أوجبتم الحكم بنجاسة الغُسالة، وعلى هذا القول توجبون العصر، فلو أصاب من تلك الغسالة شيء ثوباً، ثم جف عليه، فلا يطهر ذلك الثوب، فأي فرق بين أن يجف على هذا الثوب، وبين أن يصيب ثوباً آخر، ويجف عليه؟ قلت: الفرق هو ضرورة الغسل، ونحن نعترف أن القياس يقتضي ألا نحكم بطهارة الثوب بالماء القليل، فإن الماء ينبغي أن ينجس بملاقاة النجاسة أول مرة، ثم لا يفيد إذا تنجس تطهيرَ المحل، ولكن جرى حكم الشرع بطهارة الثوب مجرى الرخص كما قررتُه في أساليب (2) مسألة إزالة النجاسة فإذا أصاب شيء من الغسالة ثوباً آخر على حُكْمنا بنجاسة الغسالة، لم يطهر ذلك الثوب بالعصر والجفاف، بل سبيل ما أصاب، كسبيل النجاسة تُصيب ثوباً، وإذا جف عن الثوب الذي ورد عليه، يجب الغسلُ عن هذا، عصراً وفصلاً للغسالة. 1099 - ثم المتبع في نجاسة الأرض أن تصير مغمورة، وذلك يختلف بمقدار النجاسة وكيفيتها، وليكن مقدار الماء المصبوب، من الذنوب، أو القربة على حالة النجاسة. وذكر الصيدلاني: أن من أصحابنا من قال: ينبغي أن يكون الماء المصبوب سبعة أمثال النجاسة، وهذا لست أعرف فيه توقيفاً، ولا له تحقيقاً من جهة المعنى، بل الذي أراه أنه لا يكتفى في المكاثرة والمغالبة بهذا أصلاً. ثم من ركيك ما فرعه المفرعون أن قالوا: قد قال الشافعي: "وإن بال اثنان لم يطهرها إلا دلوان"، فذهب ذاهبون إلى أنه يجب رعاية ذلك، وهذا الفن من الكلام مما لا يقبله لبُّ عاقل، فأي معنىً لتعدد الدَّلو والغرضُ المكاثرة؟ وأي فرق بين أن يجمع ملء دلوين في دَلوٍ عظيم ويصب، وبين أن يكون في دَلوين فيصبان؟ فأي أثر لصورة الدلو؟ وقد يكثر بول بائل، ويقلُّ بولُ بائلين، فاعتبار مقدار النجاسة، وتنزيلُ

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) إشارة إلى كتابه (الأساليب) وهو في علم الخلاف.

مقدار الماء على مقدارها بنسبة المغالبة مقطوعٌ، لا مراء فيه. 1100 - وكل ما ذكرناه والنجاسة التي أصابت الأرضَ مائعة، فأمّا إذا كانت جامدةً، فلا يُحكم بطهارة موردها، مادامت النجاسة شاخصة قائمة، فالوجه نقل تلك الأعيان، ثم صب الماء، والمغالبة بعد ذلك. فهذا بيان استعمال الماء في الأرض، وتنزيل نضوب الماء منزلة العصر في الثوب. 1101 - ثم قال الشافعي: إذا أصاب الأرضَ بول، ثم حميت الشمس عليها أياماً، وزالت آثار النجاسة، لم تطهر الأرض، ما لم يُستعمل الماء على الترتيب المذكور. ونص في القديم على أن الأرض تطهر إذا زالت النجاسة بهذه الجهة، فاتخذ المفرّعون هذا القول القديمَ أصلاً، وخرجوا عليه أشياء كما سنذكرها وِلاءً إن شاء الله. منها أن الزبل (1) إذا اختلط بالتراب وتطاول الزمان، وخرج عن صفته، وانقلب إلى صفة التراب، والتفريعُ على القول القديم، ففي الحكم بطهارته وجهان: أحدهما - نجس؛ فإنَّ عين النجاسة قائمة. والثاني - أنه طاهر لانقلابه تراباً، وللاستحالة أثر في تغيير الأحكام؛ فإن العصير إذا اشتدّ ينجُس، ثم إذا انقلبت الخمر خلاً، فالخل طاهر في نفسه. وقالوا: إذا وقع كلب في المملحة، فانقلب على مر الزمان، ملحاً ظاهراً وباطناً، فهل يطهر؟ وهل نحكم له بما نحكم به للملح، لمكان هذه الاستحالة؟ فعلى الوجهين المذكورين في انقلاب الزبل تراباً. 1102 - ثم مذهب أبي حنيفة أن رماد كل عين نجسة طاهر (2)، وهذا بعيد على مذهب الشافعي، وقد صار إليه أبو زيد المروزي والخِضري (3) من أصحابنا، تفريعاً على القول القديم.

_ (1) في (ت 2): البول. (2) ر. فتح القدير: 1/ 200، بدائع الصنائع: 1/ 85. (3) "الخِضري" جاء في (ت 1) بالحاء المضمومة، والضاد مفتوحة، وهو سبق قلم من الناسخ. عفا الله عنا وعنه.

1103 - ومما أجراه الأصحاب على ذلك أن قالوا: إذا ضُرب اللَّبِن (1) بماءٍ نجس، وجف، فهو نجس، فلو صب على ذلك ماء طهور حتى انتقع ووصل الماء إلى أجزائه، كان هذا بمثابة ما لو أصاب الأرضَ نجاسة فصب الماء عليها، وكوثرت به. ولو اتخذ من ذلك اللَّبِن آجُراً، فهل يطهر؟ قالوا: إن حكمنا بأن الشمس لا تطفر، فالآجر نجس، وإن قلنا: بأن الشمس تطهر، فالنار أقوى أثراً وأبلغ، فينبغي أن يطهر الآجُر. وحاصل هذا القول فيما ذكرناه: أنا على الجديد لا نحكم لشيء أصابته نجاسة بالطهارة، حتى يُصبَّ عليه الماء، كما تفصل، وإن احتُفر الترابُ، ونقل، فهذا من باب إعدام محل النجاسة، وهو كما لو أصابَ ثوباً نجاسة، فقُرض موردها بمقراض ونُحي. فهذا قاعدة المذهب. 1104 - ونصَّ الشافعي في القديم أن الشمس إذا حميت وأزالت عينَ النجاسة، طهر المكان، ونزل منزلة ما لو احتُفر التراب ونُقل، وقد تحقق عدم النجاسة، فخرج أصحابنا على القول القديم فرعين: أحدهما - انعدام العين [بتأثير النار، وهذا التخريج متجه منقدح لا بد منه] (2). والثاني - تغير صفات النجاسة بانقلابها تراباً، أو ملحاً، أو رماداً، كما ذكرناه، وهذا أبعد من جهة أن عين النجاسة قائمة، وإنما تغيرت الصفات، وحالت من نعت الإنتان، وصفة الاستقذار إلى نعتٍ آخر، وكان هذا تخريجاً على التخريج تقريباًً. والذي يقتضيه الترتيب أن يقال: إذا جعلنا خطفَ الشمس والنار لعين النجاسة تطهيراً، ففي تغيّر الصفات وجهان. ثم ينبغي أن تتغير إلى صفات أعيان طاهرة النوع كالذي ينقلب تراباً، أو ملحاً، أو رماداً، فإن هذه أنواع طاهرة في أنفسها.

_ (1) "اللبن" هو القوالب التي تصنع من الطين المخلوط بالتبن ونحوه، ويجفف ويبنى به، وقد يحرق بالنار ويطبخ بها حتى يستحيل إلى آجر، وصناعته تسمى (الضرْب). (2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

وعندي أن جميع ذلك غيرُ معدود من مذهب الشافعي؛ فإنه ينشأ من قول قديم له في الشمس، وقد ذكرنا أن القول القديم مرجوع عنه، غيرُ معدود من المذهب. والذي يحقق ذلك أنا لو فتحنا هذا الباب في النجاسات، فليت شعري ماذا نقول في صخرة صماء أصابتها قطرة من بول، ثم صب عليها دُفعُ الخلِّ الرقيق الثقيف (1) في حدورٍ وصبب! فنعلم قطعاً أن تلك القطرة قد زالت، ولم يبق منها أثر، فإن كنا نرعى زوال عين النجاسة، فينبغي أن نحكم بطهارة تلك الصخرة [على هذه الصورة، ولا يسمح بها أحد ينتحل مذهب الشافعي،] (2) وهذا لازم قطعاً على هذا القياس. فرع: 1105 - إذا فرعنا على القديم، وقلنا: الشمس تطهّر الأرض، وكذلك النار، فلو أصابت النجاسةُ ثوباً، ثم أثرت الشمس فيها، فانقلعت آثار النجاسة، فقد قال أبو حنيفة: لا يطهر الثوب بهذا، وإنما تطهر الأرض؛ فإن في أجزاء. التراب قوة محيلةً تحيل الأشياءَ إلى صفة نفسها، وهذا لا يتحقق في الثياب. وأصحابنا نزلوا الثوب منزلة الأرض، وما ذكره أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه غيرُ بعيد، فليخرج الثوب على وجهين -إن قلنا الشمس تطفَر الأرض- لما ذكرته من الفرق بينهما (3). ثم ذكر بعض المصنفين: أنا إذا حكمنا بأن الثوب يطهر بالشمس، فهل يطهر بالجفاف في الظل؟ فعلى وجهين. وهذا في نهاية البعد، ثم لا شك أن نفس الجفاف لا يكفي في شيء من هذه الصور؛ فإن الأرض تجف بالشمس على قرب، ولم تنقلع بعدُ آثار النجاسة، والمرعي انقلاع الآثار على طول الزمان (4) بلا خلاف، وكذلك القول في الثياب. فرع: 1106 - الآجُرُ الذي كان عُجن بالماء النجس في طهارته كلام، فإن قلنا: إنه نجس -وهو المذهب والقول الجديد- فلو نقع في الماء زماناً، لم يطهر باطنه، فقد

_ (1) ثقف الخل اشتدت حموضته، فصار حريفاً لاذعاً، فهو ثقيف. (2) زيادة من: (ت 1)، (ت 3). (3) ر. الدرة المضية: مسألة رقم 102، 103. (4) في (ت 2): (فلا).

استحجر، ولا يتغلغل الماء إلى أجزائه الباطنة، بخلاف اللَّبِن الذي عجن بماء نجس، ثم صُب عليه الماء، فنفذ؛ فإن هذا ينزل منزلة الأرض النجسة يُصبُّ عليها الماء كما تقدم، فإذا تبين أن باطن الآجُر لا يطهر، حيث انتهى التفريع إليه، فهل يطهر ظاهره إذا أفيض الماء عليه حتى تصح الصلاة عليه؟ قال القفال: يطهر ظاهره؛ فإن الماء يصل إليه، وقال الشيخ أبو حامد: لا يطهر؛ فإنه صار بتأثير النار مستحجراً، فلا يؤثر صب الماء في قلع شيء منه، فلا تزول نجاسة ظاهره بجريان الماء عليه. والأمر في ذلك مفصل عندي: فإن كانت نجاسة الآجر بسبب أنه عُجن ببول أو ماء نجس، فالوجه القطع بأنه يطهر من ظاهره؛ فإن النار قد سلبت الماء، وطيرته قطعاً، ولكنا في التفريع على الجديد لا نحكم بطهارته تعبُّداً، حتى يستعملَ الماء، فإذا جرى الماءُ على ظاهره، فلا يبقى بعد ذلك عذر. فأما إن كان سببُ نجاسة الآجر أنه كان خُلط ترابه بالزبل أو الرماد النجس -على الجديد- فلا يطهر ظاهرُه بصب الماء عليه؛ فإن تلك الأعيان مستحجرة لا يزيلها الماء من ظاهر الآجر. وهذا التفصيل لا بد منه، فإن كان أبو حامد يخالف في طهارة ظاهر الآجرّ وسببُ نجاسته ماءٌ نجس، فلا وجه لخلافه، وإن كان القفال يقول في الآجر الذي سبب نجاسته الزبل والرماد النجس: إنه يطهر ظاهره، فلا وجه لقوله. وإن كانا يُفصِّلان، فلا خلاف بينهما إذاً. هذا تفصيل القول في الأسباب التي تُزيل حكمَ النجاسة، على الوفاق والخلاف. فصل قال: "والبساط كالأرض ... إلى آخره" الفصل (1) 1107 - ذكرنا فيما تقدم تقاسيمَ القول في النجاسات، ثم ذكرنا بعدها ما يزيلها، ومضمون هذا الفصل ما يجب التوقي عنه في البدن، والثوب، والمصلَّى.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 96.

1108 - فإن كان على بدنه نجاسة لا يُعفى عنها، لا تصح صلاته، وإن كان حاملاً نجاسة، لا تصح صلاته، فإن حمل حيواناً طاهر العين، جاز، ولا حكم للنجاسات التي يحتوي عليها جوفُه. نعم منفذ ذلك الطائر قد لاقته النجاسة البارزة منه، وذلك جزء ظاهر نجس. فمن أئمتنا من قال: يُعفى عن هذا القدر إذا لم تكن النجاسة باديةً. ومنهم من جرى على القياس، ومنع صحة الصلاة. فعلى هذا قالوا: إذا اقتصر الرجل على الأحجار في الاستنجاء، فالأثر اللاصق بمحل النجو نجس، ولكنه نجس معفوٌّ عنه في حق المستنجي، فلو حمل مصل هذا الشخصَ في صلاته، ففي صحة صلاته وجهان: أحدهما - الصحة؛ فإن الأثر معفو عنه، ولا حكم له. والثاني - أنه لا يصح؛ فإن العفو مختص بالمستنجي، فلا يتعدى إلى الحامل، والخلاف في المقتصر على الأحجار أظهر، من جهة أن الشرع طهَّر أثرَه بالعفو عما به، ولم يُطَهِّر ذلك في الحيوانات المحمولة، فالوجه القطع فيها بالمنع. 1109 - ولو حمل المصلي بيضة مَذِرةً، حشوها دمٌ، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: النجاسة المستترة بالقيض (1) لا حكم لها؛ فإنها مستترة استتار خلقة، فأشبه النجاسات الكائنة في جوف الحيوان المحمول. ومنهم من قال: حكمها حكم النجاسة البادية؛ فإن نجاسة الحيوان تدرأ حكمها حياةُ ذي الروح، وللحياة أثر في دفع النجاسات، والبيضة جماد. وهذا الخلاف يجري فيمن حمل عنقوداً، قد استحال باطن حباته خمراً، ولكنها مستترة بالقشور من غير رشحٍ. ولو حمل المصلي قارورة مُصَمَّمَة الرأس فيها نجاسةٌ، فظاهر المذهب أن صلاته تبطل؛ فإن هذا الاستتار ليس من جهة الخلقة، وخرّج ابن أبي هريرة (2) ذلك على

_ (1) القيض: القشرة العليا على البيضة. (معجم). (2) ابن أبي هريرة: الإمام القاضي أبو علي الحسن بن الحسين، تففه على ابن سريج، وأبي إسحاق المروزي، وشرح المختصر. ت 345 هـ (طبقات السبكي 3/ 256، البداية والنهاية: =

وجهين كالبيضة المذرة، وهذا مردود عليه. ولو حمل نجاسةً ملفوفة في خرقة أو قرطاسٍ، أو ما أشبههما، فلا أتخيل في ذلك خلافاً، وإنما ذكر ابن أبي هريرة الخلاف فيما يضاهي سترُه للنجاسات سترَ البيض، بحيث لا يتوقع بروزها وظهورها بوجه. فإذا قد ظهر أنا نشترط طهارةَ بدنِ المصلي وثيابِه، التي هو لابسها، وكل ما يلقاه عضو من أعضائه في الصلاة، فلا بد من طهارة موطىء قدميه وموضع أعضاء سجوده؛ فإن الثوب الذي هو لابسه منسوب إليه في الصلاة ملبوساً، والذي يلقاه منسوب إليه ممسوساً، وإذا تحققت الملاقاة بين المصلي والنجاسة، فاختلاف السبب بعد ذلك لا أثر له، ولا بد للمصلي من مكانٍ يصلي عليه، كما لا بد من ثوب يلبسه. 1110 - ولو كان يحاذي بدنَ المصلِّي في سجوده نجس [وكان لا يلاقيه بدنُه ولا ثوبُه، مثل أن يكون على حيال صدره في السجود نجس،] (1) ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الصلاة صحيحة لانتفاء الملاقاة. والثاني - أنها باطلة؛ فإن القدرَ الذي يوازي الساجد ويسامته منسوب إليه (2 مختص به، كما أن قميصه الفوقاني الذي لا يلقَى بدنَه منسوب إليه 2) على الاختصاص باشتراط طهارته، وإن كان لا يلقاه، فهذه الأصول التي تشترط فيها الطهارة. 1111 - وإذا كان يصلي على بساط، وكان يلاقي أعضاؤه في السجود، ويسامتُ بدنُه وثيابُه طاهراً (3)، وكان طرف ذلك البساط نجساً، فلا يضرّ نجاسةُ ذلك الطرف، ولا فرق بين أن يكون ذلك الطرف بحيث يتحرك بحركة المصلي أو لا يتحرك، ولا حاجة إلى تعليل البينات.

_ = 11/ 304، تاريخ بغداد 7/ 298 وشذرات الذهب: 2/ 370، وطبقات الشيرازي: 112). (1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (3) (طاهراً) مفعول لفعلي: يلاقي، ويسامت.

1112 - ولو كان يصلي على بساطٍ صفيق، وكان الوجه الذي يلي الأرض نجساً، ولا نجاسة على الوجه الذي يلي المصلي، صحت الصلاة، ولا يضر نجاسةُ الوجه الذي لا يلي المصلي، وهو بمثابة ما لو كان يصلي المصلي على طبقة طاهرة من أرض، وكان وراءها نجاسة مستترة، بالطبقة العالية، فلا أثر لها، فالصلاة صحيحة. 1113 - ولو كان المرء يصلّي، وكان يحتك في قيامه بجدار نجس، فصلاته باطلة، لملاقاة النجاسة. ولو كان على رأسه طرف عمامة وكان طاهراً، وكان الطرف الآخر من العمامة نجساً، وكان ملقى على الأرض متضمخاً بالنجاسة، فالصلاة باطلة، فاتفق (1) أصحابنا عليه؛ فإن تلك العمامة تعد من ملبوساته، وإن كان ذلك الطرف بعيداً عنه، ولا فرق بين أن يتحرك ذلك الطرف بحركته وبين أن يكون بحيث لا يتحرك بحركته. وهو كما (2) لبس قميصاً طويلاً عليه، وكان بحيث لا يرتفع طرف ذيله بارتفاعه، (3 وكان نجساً، فالصلاة باطلة. ولو كان بيد المصلي طرف طاهر من حبل والطرف الآخر نجس، وهو بحيث لا يتحرك بارتفاعه 3) وانخفاضه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا تصح صلاته، كطرف العمامة. والثاني - تصح؛ فإن العمامة منسوبة إليه لبساً؛ إذ أحد طرفيه مُكوّر على رأسه، والملبوس وإن طال، فالمصلي مأخوذ بطهارته كالقميص وإن كان مستمسكاً بطرف الحبل؛ فليس الحبلُ ملبوسَه، وليس الطرف النجس محمولَه، فإنه لا يرتفع بارتفاعه. ولو استمسك بطرف عمامة على هذه الصورة، لكانت المسألة مختلفاً فيها كالحبل.

_ (1) في (ل) وحدها: "اتفق". (2) في (ل) وحدها: "وهو كما لو لبس". (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

ولو كان شد الطرف الطاهر من الحبل على حبله (1)، أو وسطه، والطرف النجس مُلقىً على الأرض، لا يتحرك، فقد ذكر العراقيون وغيرهم في هذه الصورة وجهين أيضاً؛ فإنه ليس للحبل إليه انتسابٌ، إلا من جهة التمسك، وإن شده على يده (2) أو وسطه، فهو استيثاق للإمساك، وليس بلُبس. ولو كان طرف الحبل بيده والطرف الآخر ملقى على نجاسة يابسةٍ، فهو كما لو كان ذلك الطرف البعيد نجساَّ، فيخرّج على الخلاف المقدم، فلا فرق بين نجاسة الشيء وبين وقوعه على الشيء النجس. 1114 - ولو تمسك بطرف حبل، والطرف الآخر مشدود في عنق كلب، فهو كما لو كان ملقى على نجاسة يابسة، ولو كان الطرف المشدود على الكلب غيرَ بعيد من المصلي، وكان بحيث لو مشى الكلب به، لكان المصلي حامله، فهذه الصورة مرتبة على ما إذا كانت بعيدة، وهي أولى باقتضاء البطلان، وفيها احتمال من جهة أن المصلي ليس حاملَه، ولو كان الطرف الآخر متعلقاً بساجور (3)، والساجور في عنق كلب، ففي هذه الصورة وجهان مرتبان على الوجهين، فيه، إذا كان الحبل يلقى جِرم الكلب، وصورة [الساجور] (4) أولى بالصحة؛ فإن بين الكلب وبين طرف الحبل واسطة وهي الساجور. ولو كان طرف الحبل في عنق حمار، وعلى الحمار نجاسة، فهذه الصورة مختلف فيها، وهي أولى بالصحة من صورة الساجور؛ فإن الساجور لا يبعد أن يعد

_ (1) كذا في جميع النسخ، والحبل يطلق في اللغة على معانٍ عدة منها: حبل العاتق وهو عصب بين العنق والمنكب، فلعله المراد هنا، فالمعنى: "لو شدَّ الطرف الطاهر على عاتقه أو وسطه" فالكلام على التوسع في العبارة أو على حذف مضاف (ر. لسان العرب - مادة: ح. ب. ل). ثم جاءتنا (ل) وفيها: "على يده" فالله أعلم بما قاله المؤلف. وإن كنت أرجح ما في النسخ الأخرى، على (ل)؛ فإن الأصل أن لغة القرن الخامس غير لغتنا، ودائما النساخ يغيرون الكلمات غير المألوفة عندهم إلى كلمات أخرى تناسب السياق. والعلم عند الله. (2) هنا قابل بين يده ووسطه، وفيما مضى من عدة أسطر قابل بين حبله ووسطه، فهل الحبل بمعنى اليد؟ (3) الساجور: القلادة التي توضع في عنق الكلب. (المعجم). (4) ساقطة من الأصل، ومن (ط).

جزءاً من الحبل، والحمار ليس جزءاً من الحبل أصلاً. ولو كان طرف الحبل متعلقاً بسفينة فيها نجاسة، فإن كانت بحيث تنجرّ بالحبل لو جُرّت، فهذه الصورة كصورة الشد على عنق حمار، وإن كانت السفينة بحيث لا تنجر بالحبل لكبرها، فالوجه القطع بصحة الصلاة، فإن الحبل يتعلق بطاهرٍ، ووراء متعلَّقه النجاسة، وليست السفينة جزءاً من الحبل، ولا بحيث تنجر بحركة الحبل، فكان ذلك كما لو كان الحبل متعلقاً بباب بيت، وفي البيت نجاسة. وذكر العراقيون اختلافاً في السفينة الثقيلة والحبل؛ فإن السفينة على حالٍ تجر بالحبال، وهذا بعيد جداً. وقد زيف العراقيون الخلاف فيه، وإن حَكوه، والوجه القطع بالصحة. ولو كان أحد طرفي الحبل متعلّقاً [بالكلب] (1) من غير واسطة، والطرف الآخر تحت قدم المصلي، فتصح صلاته وجهاً واحداً، فإن هذا الطرف في حكم البساط، ولو كان الطرف الذي يصلي عليه المصلي طاهراً، وكان الطرف الذي لا يلاقي المصلّي ولا يسامته نجساً، لم يضر ذلك، وقد قطعنا به فيما تقدم. 1115 - فخرج مما قدمناه أن كل ما ينتسب إلى المصلي ملبوساً، فهو مؤاخذ بطهارة جميعه، فلو كان طرفٌ منه نجساً أو ملقى على نجاسة، لم تصح الصلاة، طال أو قصر. وإن كان ينتسب إلى المصلي انتساب البساط بأن كان تحت قدمه، فإنما يؤاخذ المصلي بطهارة ما يلاقيه أو يوازيه. وإن كان ينتسب إليه من جهة الحمل، فمن ضرورة ذلك أن يكون المصلي رافعه وشايله (2)، وإن انتسب إليه بتمسكه به، والطرف الآخر نجس، وما كان المصلي شايله، ففي هذا الاختلافُ [والتفصيل] (3)، والفرقُ بين أن يكون واسطة أو لم يكن،

_ (1) في الأصل وفي (ط): بالباب. (2) شايله: رافعه. من شاله يشيله شيلاً: رفعه (المعجم). (3) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

ثم الفصل بين أن تكون الواسطة الطاهرة ساجوراً، أو حيواناً، أو صفيحةً طاهرة في سفينة، وحشوها نجس. فصل (1) 1116 - إذا كان المصلي على بساطٍ نجسٍ، وكان فرشَ إزاراً سخيفاً (2) مهلهل النسج، ذكر الأئمة فيه خلافاً، من حيث إنه يُعد حائلاً، والظاهر المنع؛ لأن المصلي وثوبَه الذي هو لابسه يلقى البساط النجس من خلال الفُرَج في أثناء النسج السخيف، والمسألة مصورة في البساط النجس الجاف. 1117 - وإذا منعنا الرجل من الجلوس على الحرير، فبَسَطَ فوقه إزاراً صفيقاً، فجلس عليه، جاز. فلو بسط إزاراً سخيفاً، كما ذكرناه، ففي جواز الجلوس عليه التردد الذي ذكرناه في البساط النجس في حق المصلي. فصل 1118 - المحدِث يدخل المسجد عابراً وواقفاً، والجنب يدخل المسجد عابراً، ويحرم عليه اللُّبث فيه، والحائض إن كان يُخشى منها تلويث المسجد، فهي ممنوعة من الدخول، وليس ذلك من خصائص أحكام الحيض؛ فإنَ من به سلسُ البول، واسترخاء الأسفل، أو جراحة نضاحة بالدم، بحيث يُخشى منه التلويث، يُمنع من دخول المسجد. وإن كان لا يخشى منها التلويث، فهي ممنوعة من المكث، وهل تمنع من العبور؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تمنع؛ لأن حكم الحيض أغلظ من حكم الجنابة. والثاني - وهو الذي اختاره الصيدلاني وقطع به، أنها كالجنب في جواز العبور،

_ (1) في (ل) وحدها (فرعٌ) مكان (فصل). (2) السخيف غير متماسك النسج.

وإنما اختار هذا؛ لأن إثبات حكم [جزئي] (1) لاعتقاد افتراق كلي لا يتجه. وهو بمثابة قولنا: لا يحرم على الجنب ذكر الله، ولا يحرم أيضاً على الحائض، ولا يجب من افتراقهما في أحكامٍ لا تعلق لها على الاختصاص بما نطلبُه أن يفترقا فيما نحن فيه. ويمكن أن يقال: المسلمون مستوون في المسجد؛ فإنه بيت الله، والمؤمنون عباد الله على إضافة التخصيص والتشريف، والمُحْدِث يصحُّ اعتكافه، ولا يحرم عليه اللُّبث، والجنب يحرم عليه الاعتكاف، فلم يكن من أهل اللُّبث؛ إذ لو كان من أهله، لكان من أهل الاعتكاف، والعبور لا يحرم عليه؛ فإنه ليس فيه ما يقتضي تحريم العبور، فلتكن الحائض التي لا يخشى عليها (2) التلويث كذلك. ثم العبور الذي يتّجه هو على الاعتياد والاقتصاد؛ فلا نأمره بالإسراع في المشي، ولعل الضبطَ فيه ألا يعرج في موضع بخط تعريجاً يقضي بأن مثله يكون أقلَّ ما يجزىء في الاعتكاف، إذا جرينا على أن الاعتكاف شرطه اللّبث. ثم لا نؤاخذ العابر بسلوك أقصد الطرق، وكيف يُظن هذا، وله أن يدخل المسجد ابتداءً عابراً، وإنما يتخيل هذا الفرق على مذهب أبي حنيفة (3)، فإنه لا يرى للجنب أن يدخل المسجد، لكن لو كان فيه، فاحتلم، فيخرج. ثم قال: إنه بالخيار إن شاء انتحى أبعد الأبواب، وإن شاء خرج من السبيل الأقرب. ولكن لا ينبغي للعابر عندنا أن يتردد في أكناف المسجد، معتقداً أن له أن يمشي؛ فإن التردد في غير جهة الخروج في حكم المكث. وهذا بيّن. 1119 - وأما الكافر؛ فإن لم يكن جنباً، فله أن يدخل المسجد بإذن واحدِ من المسلمين، وهل له أن يدخل من غير إذن؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يدخل؛ فإن الكافر ليس من أهل من يقيم في المسجد، فكأن المسجدَ يختص بالمسلمين اختصاصَ دار الرجل به.

_ (1) في جميع النسخ: "جديد" والمثبت مما أفدناه من (ل). (2) كذا في جميع النسخ، على التوسع في إنابة حروف الجر بعضها عن بعض، فإن (على) من معانيها المصاحبة. وأما (ل) ففيها: "منها". (3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 115.

والثاني - أنه يدخل؛ فإنه بالجزية، صار من أهل دار الإسلام، (1 والمسجد من المواضع العامة في دار الإسلام 1)، فشابه الشوارع التي يطرقها الكافة. وإن كان الكافر جنباً، فهل يجوز تمكينه من المكث في المسجد؟ اختلف أئمتنا فيه، فمنهم من منع من ذلك؛ فإنه إذا كان يُمنع المسلم الجنب رعايةً لحق المسجد وحرمته، فلأن يمنع الكافر أولى. ومنهم من قال: لا يمنع؛ فإنه ليس معتقداً لاحترام المسجد، ولا تتعلق تفاصيل التكليف به مادام كافراً، وكان الكافرون يدخلون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -مع القطع بأنهم يجنبون- ويجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطوّلون مجالسهم، وربط رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمامةَ على ساريةٍ في المسجد في القصة المشهورة (2). فصل 1120 - صح نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواطن: "المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وبطن الوادي، والحمّام، وظهر الكعبة، وأعطان الأبل" (3)، وقد سبق الكلام على بعض ما اشتمل عليه الحديث. 1121 - والذي نبغيه الآن الحمَّامُ وأعطان الإبل، فأما نهيُه عن الصلاة في الحمّام، فنهيُ كراهية، وذكر الفقهاء معنيين: أحدهما - أنه لا يخلو عن رشاش وبَدْوِ عورات، والثاني أنه بيت الشياطين، وخرَّجوا على ذلك الصلاة في المسلخ، وإن علَّلنا النهي

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (2) حديث ربط ثمامة. متفق عليه من حديث أبي هريرة مطولاً. (اللؤلؤ والمرجان: الجهاد، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه، ح 1152). (3) حديث النهي عن الصلاة في سبعة مواطن، رواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه ابن ماجة من طريق ابن عمر عن عمر، وفي سند كل منهما راو ضعيف. كذا قال الحافظ، فانظر تفصيل قوله في التلخيص: 1/ 215 ح 320.

بالترشش وبدْو العورات، فهذا لا يثبت في المسلخ، وإن عُلّل بأنه بيت الشياطين، فقد يعم ذلك المسلخ. ومما نتكلم فيه الصلاة في أعطان الإبل -نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها- وليس المراد بالأعطان المرابط التي يكثر البول والبعر فيها؛ فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة في الأعطان، وسوغّ الصلاة في مرابض الغنم، ولو كان النهي للنجاسة، استوى الغنم والإبل. والمراد بالأعطان أن الإبل قد تزدحم على المنهل، فتفرَّق أذواداً (1) كلما شرب ذود نُحِّي، حتى إذا توافت [استيقت] (2)، فلا يكثر فيها الأبوال والأرواث، ومُراح الغنم يصور حسب تصوير أعطان الإبل، ثم سبب الفرق بينهما مذكور في الحديث، والإبل لا يؤمن نفرتها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الإبل: "إنها جن خلقت من جن، ألا تراها إذا نفرت كيف تشمخ بآنافها، وقال في الغنم: إنها خلقت من السكينة؟ فإنها من دواب الجنة" (3). ...

_ (1) فتفرق أذواداً: تفرق: تتفرق بحذف تاء المضارعة، والأذواد: جمع ذَوْد، وهو القطيع من الإبل بين ثلاث إلى العشر (المعجم). (2) في جميع النسخ (استبقت) بالباء. ولكن ابن الصلاح قال في مشكل الوسيط: هي بتاء مثناة مكسورة، ثم بياء مثناة من تحت ساكنة، فعلٌ لم يسم فاعله، يقال: ساقها واستاقها، فاعلمه؛ فإنه تصحف" ا. هـ بنصه. (مشكل الوسيط بهامش الوسيط: 2/ 172). (3) جزء من حديث، ساقه الإمام على غير ترتيب وروده في كتب السنة، وقد رواه الشافعي، والبيهقي، وروى أحمد، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والطبراني نحوه. (ر. مسند الشافعي: 2/ 67 ح 19، البيهقي: 2/ 449، المسند: 5/ 56، 57، وابن ماجة: المساجد، باب الصلاة في أعطان الإبل ومراح الغنم، ح 769، وصحيح ابن حبان: 1702، وشرح السنة: 2/ 404 ح 504، والتلخيص: 1/ 276 ح 432).

باب الساعات التي تكره الصلاة فيها

باب الساعات التي تكره الصلاة فيها 1122 - قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهيُ عن الصلاة في خمسة أوقات، روى أبو ذر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة بعد الصبح، حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" (1)، وروى عبد الله الصُّنَابحي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت، فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت، فارقها، فإذا دنت للغروب، قارنها، فإذا غربت، فارقها" (2)، ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات. فإذاً الساعات التي تكره فيها الصلوات بلا سبب خمس: ثلاث منها تتعلق بالزمان من غير تأثير فعلى: أحدها - إذا دنا طلوع الشمس، فاختلف في ذلك، فقال قائلون: إذا بدت بوادي الإشراق، دخل وقت الكراهية إلى طلوع القرصة بتمامها، وقيل:

_ (1) الحديث بقريب من هذا اللفظ متفق عليه من حديث أبي سعيد (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 159 ح 474). وأما عن أبي ذر، فقد أخرجه الشافعي، وأحمد، وابن عدي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في السنن، وفي المعرفة. أما عن أبي هريرة، فقد رواه البخاري ومسلم بلفظ: "نهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس .. " الحديث. قاله الحافظ في التلخيص: (1/ 185، 189 ح 265، 275). وانظر البخاري: مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل الغروب، ح 588، ومسلم صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، ح 825، ومعرفة السنن والآثار: 2/ 275 ح 1316، والسنن الكبرى: 2/ 461، والمسند: 5/ 165، والكامل: 4/ 137 ترجمة عبد الله بن المؤمل، وصحيح ابن خزيمة: 4/ 126 ح 2748". (2) حديث عبد الله الصنابحي: رواه مالك في الموطأ، والشافعي عنه، والنسائي، وابن ماجة (ر. التلخيص: 1/ 185 ح 266) وانظر أيضاً الموطأ: 1/ 219 كتاب القرآن، وترتيب مسند الشافعي: 1/ 55 ح 163، والنسائي: المواقيت، الساعات التي نهي عن الصلاة فيها: 1/ 275 ح 559، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة ح 1253.

يمتد وقت الكراهية إلى استيلاء سلطان الشمس، فإن الشعاع يكون ضعيفاً في الابتداء، ثم يظهر ويُبهر، كما أنها إذا تطفلت (1) للغروب يضعف نورها، وظاهر الخبر يدلى على الوجه الآخر؛ إذ فيه: "فإذا ارتفعت فارقها"، وهذا يظهر الشعاع. وأما الساعة الثانية، فوقت الاستواء إلى أن تزول. وأما الساعة الثالثة، فوقت الغروب، وهذا إذا اصفرت الشمس، وقد ورد في النهي عن تأخير الصلاة إلى اصفرار الشمس أخبار تُحقِّقُ ما ذكرناه. فأما الساعتان الباقيتان المتعلقتان بالفعل، فمن فرغ من فريضة الصبح، كرهنا بعدها كل نافلةٍ، لا أصل لها، ولا سبب، حتى تطلع الشمس. ومن فرغ من فريضة العصر، كرهنا له إقامة ما لا سبب له (2 من النوافل حتى تغرب الشمس. ووجه تعلقها بالفعل أن من غلس بصلاة الصبح، طال وقت الكراهية 2)، وإن أسفر بأداء الفريضة، قصر وقت الكراهية، وكذلك صلاة العصر. 1123 - ثم نتكلم بعد ذلك في الصلاة التي تكره في هذه الأوقات والتي لا تكره، ونتكلم في استثناء زمان واستثناء مكان. فأما القول في الصلوات، فاعلموا أن الصلوات التي لها أسباب كالفوائت المفروضة، (3 وكذلك السنن الراتبة، إن قضيت في هذه الأوقات، لم تكره. ونذكر أولاً قاعدةَ المذهب من الأخبار 3)، ثم نذكر التفصيل. فقد وردت ألفاظٌ تدل على تعميم النهي من غير تفصيل، منها ما روى أبو ذر وابن الصنابحي، وقد وردت أخبار تدل على رفع الحرج على العموم من غير تفصيل، منها ما روى جبير بن مطعم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاًً، فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت، أية ساعة شاء من ليل أو نهار" (4).

_ (1) تطفلت: من طَفَلَت الشمس (بثلاث فتحات) طَفْلاً وطفولاً، مالت للغروب، واحمرت عنده، وأطفلت وطفلت: طَفَلَت. (المعجم). (2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (4) حديث: "يا بني عبد مناف .. " رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن =

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إقامة صلاة في وقت مكروه، روت أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بعد العصر فصلى ركعتين، قالت: فقلت لجاريتي تقدمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولي أَلستَ كنتَ نهيتنا عن الصلاة في هذا الوقت؟ فإن أشار إليك فاستأخري، فقالت الجارية ما رسمتُ، فأشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ، قال: "هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلني عنها الوفد" (1) وروي أنها قالت: "أنقضيها نحن إذا فاتتنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا" (2) فقيل في ذلك: كان رسول الله إذا أقام نافلة، صارت وظيفة محتومة عليه، فقوله: لا. معناه لا يفترض عليكم كما يفترض عليّ. وسئل أبو سعيد الخدري عن حديث أم سلمة، فقال: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ما يؤمر، ونحن نفعل ما نؤمر، وأشار إلى أن ذلك كان من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث الدال على التفصيل في النهي ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى قيس بن [قهد] (3) يصلّي بعد الصبح ركعتين، فقال: ما هاتان الركعتان؟ فقال: هما ركعتا الفجر، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) وقد روي

_ = حبان، والدارقطني، والحاكم، وصححه الترمذي (ر. التلخيص: 1/ 190 ح 276، والأم: 1/ 148، والمسند: 4/ 80، وأبو داود: ح 894 في المناسك، باب الطواف بعد العصر، والترمذي: الحج، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف، ح 868، والنسائي: مناسك الحج، باب إباحة الطواف في كل الأوقات، ح 2924، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، ح 1254، والإحسان: ح 1552، 1553). (1) حديث أم سلمة. متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 159 ح 477). (2) هذه الزيادة رواها حماد بن سلمة بسنده عن ذكوان مولى عائشة عنها - أخرجها الطحاوي، وقد ضعفها البيهقي، ولذا جاء بها إمام الحرمين بصيغة التمريض (روي) (ر. التلخيص: 1/ 188). (3) قيس بن فهد (بالفاء) في النسخ الأربع، وفي التلخيص، وفي الاستيعاب، ولكن الصواب -والله أعلم- قيس بن قهد (بالقاف). (ر. تجريد أسماء الصحابة، والإصابة، والمغني في ضبط الأسماء، وسنن البيهقي). (4) حديث قيس بن قهد. رواه الشافعي، ومن طريقه البيهقي. (ر. التلخيص: 1/ 188، =

عنه عليه السلام في الحديث الصحيح أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتُها لا وقت لها غيره" (1). 1124 - فمذهب الشافعي أنه لا يكره في هذه الأوقات إقامةُ الصلاة التي لها أسباب متقدمة، فالفوائت تقضى في هذه الأوقات والجنازة إذا حضرت لم تؤخر الصلاة. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي لا تؤخّر أربعاً وذكر من جملتها الجنازة إذا حضرت" (2)، ولو اتفق دخول المسجد في وقت من هذه الأوقات، فالذي ذهب إليه الأئمة أنه يقيم تحية المسجد، و (3) هي صلاة لها سبب، وسببها الحصول في المسجد، وهو مقترن بالوقت. وحكى الصيدلاني عن أبي عبد الله الزبيري أنه كان يكره إقامة التحية في هذه الأوقات، ويصير إلى أنها ليست صلاة مقصودة؛ إذ تقوم إقامة فائتة مقامها، وهذا متروك عليه. وإذا جريتُ على طريقة الأصحاب، فلو قصد الحصول في هذه الأوقات لا عَنْ وفاق، فيقيم التحية من غير كراهية، كما لو قصد تأخير الفائتة إلى هذا الوقت، والزبيري يكره التحية، وإن كان دخول المسجد وفاقيّاً. وركعتا الإحرام صلاةٌ وردَ الشرعُ بها، وقد رأيت الطرق متفقة على أنه يكره الإتيان

_ = وترتيب مسند الشافعي: 1/ 57 ح 169، والسنن الكبرى: 2/ 456). (1) حديث من نام عن صلاة .. أصله في الصحيحين، ولفظ مسلم: "من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (ر. اللؤلؤ والمرجان: المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، ح 397). (2) حديث: "لا تؤخر أربعاً .. " قال الحافظ: الذي في كتب الحديث: "لا تؤخر ثلاثاً، الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً" وقد رواه الترمذي من حديث علي، وقال غريب. (ر. الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في تعجيل الجنازة، ح 1075، التلخيص: 1/ 186 ح 267) وسيأتي في الجنائز. (3) كذا بالواو في جميع النسخ، فلا تظن أنها صحفت عن الفاء، ولكن هكذا أسلوب ولغة الإمام تجد فرقاً بين ما نتذوقه في عصرنا وبين ذاك العصر في الأسلوب والألفاظ، والتعابير، واستخدام أدوات الربط خاصة. وهنا أيضاً جاءت (ل) مثل أخواتها الأربع. فتأمل.

بها في الأوقات المكروهة، وعللوا ذلك بأن سبب هذه الصلاة متأخر عنها، وهو الإحرام، وحصوله غيبٌ، فلا يجوز الإقدام عليها لتوقع السبب بعدها، فالصلاة التي لها سبب في غرض الفصل هي التي يتقدمها السبب أو يقارنها. وسجود التلاوة يقام في الأوقات المكروهة لتعلقها بسبب القراءة، وهذا متفقٌ لا كلام فيه. ومما تردد الأئمة فيه صلاة الاستسقاء، وذهب الأكثرون إلى أنها تقام في الأوقات المكروهة، فإن سببها مقترن بها، ومن أئمتنا من لا يرى إقامتها فيها؛ فإنها لا تفوت، ولا يمتنع تأخيرها، فإيقاعها قصداً في الأوقات المكروهة ممنوعٌ، وهذا عند الأوّلين منقوضٌ بالفائتة؛ فإن قضاءها على التراخي، ثم لا يكره إيقاعها في هذه الأوقات، وقد يقول الفقيه في تأخير الفائتة خطرٌ؛ فإنها فريضة. فهذا بيان مواضع الوفاق والخلاف فيما ليس له سبب. 1125 - فأما التنفل الذي يبتديه الإنسان، وليس فيه شرع على التخصيص، فهذا الذي نعنيه بالصلاة التي لا سبب لها، فهذا بيان ما يتعلق بالصلوات. 1126 - فأما استثناء الزمان، فقد روى أبو سعيد الخدري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار، حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" (1)، فاختلف أئمتنا في ذلك فقال قائلون: هذا مختص بمن راح يوم الجمعة مهجراً (2)، وحضر الجامع، وكان يغشاه النعاس في وقت الاستواء، فيصلي ركعتين لطرد النعاس، ولا كراهية، ولا يجوز في حق غير هذا الشخص للحالة المخصوصة التي ذكرناها. وحكى الصيدلاني وجهاً آخر: أنه لا كراهية في يوم الجمعة [في شيء من الصلوات

_ (1) حديث "النهي عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" رواه الشافعي من حديث أبي هريرة، والبيهقي أيضاً، ثم قال (يعني البيهقي): وروي في ذلك عن أبي سعيد الخدري، وعمرو بن عبسة، وابن عمر مرفوعاً. ا. هـ وأصله عند البخاري من حديث سلمان. (ر. سنن البيهقي: 2/ 464، والتلخيص: 1/ 188 ح 273). (2) المراد هنا مبكراً، من هجر إلى الشيء بكر إليه (المعجم).

والأوقات، فقد روي أن الجحيم لا تسعر يوم الجمعة (1)] (2) فهذا مختص من بين سائر الأيام، وهذا ضعيف عندي. 1127 - فأما استثناء المكان، فقد روي أن أبا ذر أخذ بعضادتي الكعبة وقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا جُندب، [صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلاّ بمكة" (3). وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فذهب الأكثرون، إلى استثناء مكة في جميع الصلوات والأوقات، لما روى أبو ذر، وذهب آخرون إلى أن المراد بالاستثناء ركعتا الطواف دون غيرهما من الصلوات. وهذا فيه نظر؛ فإن صلاة الطواف تقع بعد الطواف، فيصير تقدم الطواف سبباً في اقتضائها، فهي صلاة لها سبب، ولا يظهر بها تخصيص، وأجمع الأئمة على أن إقامة الطواف المتطوع به في الأوقات المكروهة لا كراهية فيه، وقد روينا الخبر الصحيح فيه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاًً، فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت في آية ساعة من ليل أو نهار" (4) فهذا تمام القول في ذلك.

_ (1) حديث "أن الجحيم لا تسعر يوم الجمعة" رواه أبو داود، والبيهقي، وهو ضعيف كما قال إمام الحرمين (ر. أبو داود: الصلاة، باب الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال، ح 1083، وضعيف أبي داود للألباني، ح 236، ضعيف الجامع الصغير، ح 1849، البيهقي: 2/ 464، التلخيص: 1/ 339 ح 275). (2) زيادة من: (ط)، (ت 1)، (ت 2)، (د 1). (3) حديث أبي ذر، أخرجه البيهقي، بهذا السياق نفسه، وأخرجه أحمد، والشافعي، وابن خزيمة في صحيحه. وقد تقدّم في أول الباب. (ر. السنن الكبرى: 2/ 461، والتلخيص: 1/ 189 ح 275، والمسند: 5/ 165). (4) حديث: "يا بني عبد مناف ... " رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، وغيرهم. (ر. التلخيص: 1/ 190 ح 276) وقد تقدم آنفاً بأتم من هذا.

1128 - ثم إذا أوقع المرءُ صلاة لا سبب لها في ساعة من الساعات المكروهة، حيث يمنع ذلك وينهى عنه، ففي صحة الصلاة وجهان مشهوران: أحدهما - تصح، فإنَّ الوقت على الجملة قابلٌ لجنس الصلاة، فالنهي عند هذا القائل كراهية في الباب. والثاني - أن الصلاة لا تصح؛ فإن الصلاة لو صحت، لكانت عبادة، والعبادة مأمور بها، والأمر بالشيء والنهي عنه مقصوداً يتناقضان؛ وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن النهي عنها مقصود في نفسه، ولهذا تعلقٌ بقاعدةٍ في الأصول وقررناها في موضعها. 1129 - ولو نذر الرجل صلاة في هذه الأوقات، فهو خارج على الخلاف، فمن أصحابنا من أبطل النذر، ونزله منزلة نذر صوم يوم العيد، ومنهم من صححه. ثم الوقت لا يتعين بالنذر في الصلوات. فإن قيل: فهل يجوز إيقاع هذه المِنذورة في الأوقات المكروهة؟ قلنا: لا شك على هذا الوجه في جوازها، فإنها صلاة مفروضة، فضاهت الفائتة وقضاءها. وفي هذا بقية، ستأتي مشروحة، إن شاء الله عز وجل، في صوم يوم الشك والعيد. فصل يتعلق بما نحن فيه 1130 - وهو أن المسبوق إذا دخل المسجد وصادف الإمام في فريضة الصبح، فلا ينبغي أن يشتغل بالسنة، بل يبادر الاقتداء بالإمام في الفريضة، ثم إذا فرغ منها، فليتدارك السنة. وقال أبو حنيفة: إن علم أنه لو فرغ من السنة، أدرك ركعة من فريضة الصبح، فإنه يشتغل بالسنة. وإن علم أن الجماعة في الفريضة تفوته، فإنه يقتدي حينئذ (1).

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 271 مسألة: 225، حاشية ابن عابدين: 1/ 253 و481.

وقد استدل الشافعي على مذهبه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة" (1). ثم إذا فرغ من الفريضة، فالسنة مقضية، أو مؤداة؟ سيأتي القول في ذلك في التطوع، على إثر هذا إن شاء الله. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة سوى المكتوبة، فالحديث صحيح مسندٌ، والمزني رواه موقوفاً على أبي هريرة. فصل في قضاء النوافل 1131 - فنقول: النوافل تنقسم: فمنها ما علقت بأوقات مفردة كصلاة العيد، ومنها ما شرعت تابعة للفريضة كالنوافل التي تتأقت بأوقات الفرائض، ثم منها ما يقدُمُ الفرائض، ومنها ما يعقبها. فأما ما انفرد منها بأوقات لها، كصلاة العيد، فالأصح أنه يقضى، وللشافعي قول آخر: "أنها لا تُقضى"، وقد ذكره شيخي، وحكاه صاحب التقريب، ولفظ الشافعي فيما حكاه صاحب التقريب عنه: "أن القياسَ والأصلَ أن لا تقضى فائتةٌ أصلاً". ثم ما يتأقت من النوافل، ولا يتبع فريضة أولى بالقضاء عند الشافعي من النوافل التي تتبع الفرائض. فتحصل في المؤقتات بأنفسها، وفي توابع الفرائض ثلاثة أقوال: أحدها - أنه

_ (1) حديث "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة"، أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد بلفظ: "إلا التي أقيمت"، (ر. مسلم: صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، ح 710، وأبو داود: التطوع، باب إذا أدرك الإمام ولم يصل ركعتي الفجر، ح 1266، والترمذي الصلاة، باب ما جاء إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، ح 421، والنسائي: ح 866، 867، الافتتاح، باب ما يكره من الصلاة عند الإقامة، وابن ماجة: إقامة الصلوات، باب ما جاء في إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، ح 1151، وانظر التلخيص: 2/ 23 ح 544).

لا يقضى شيء منها أصلاً؛ فإن الأصل أن الوظيفة المؤقتة إذا فات وقتها، فقد فاتت، لأن صيغة التأقيت تقتضي اشتراط الوقت في الاعتداد بالمؤقت، فإذا انقضى الوقت، فليس الأمر (1) بالأداء أمراً بالقضاء، فإن ثبت في الصلاة المفروضة القضاءُ فبأمر مجدّد عند الشافعي، ثم الفرائض ديون، فإذا أثبت الشرعُ فيها عند الفوات مستدركاً فسببه (2) أنها لوازم، ولا يتحقق ذلك في النوافل. والقول الثاني - أنها تُقضى؛ فإنها مؤقتة، فلتقض كالفرائض. والقول الثالث - أن ما اختص منها بوقت، ولم يكن تابعاً لغيره، قُضي، وما هو تابع لا يقضى. وكان شيخي يلحق صلاة الضحى بصلاة العيد في الترتيب، من حيث إنها مفردة بوقت، وليست تابعة لفريضة. وأبو حنيفة (3) يقول في النوافل التابعة: إن فاتت الفرائض معها، قضيت مع الفرائض، كما كانت تؤدى مع الفرائض، وإن كانت فاتت وحدها، لم تقض، وليس في هذا التفصيل أثر ولا قياس. التفريع: 1132 - إن حكمنا بأن النوافل لا تقضى، فلا كلام، وإن حكمنا بأنها تقضى، (4 فهل تتأقت أم تقضى 4) أبداً؟ فعلى قولين: [أحدهما -وهو اختيار المزني- أنها تقضى أبداً، وهو القياس، قال الصيدلاني: هذا أصح القولين] (5). والأمر على ما ذكره؛ فإن ما فات وقتُ أدائه، وثبت وجوبُ قضائه، فلا وقت أولى بالقضاء من وقت كالفرائض. ْوالثاني - أنها إذا قُضيت تُقضى إلى أمد معلوم لا يتعدى. ثم على هذا القول قولان في النوافل التابعة للفرائض: أحدهما - أن كل نافلة من التوابع فاتت، فإنها تقضى

_ (1) في (د 1)، و (ت 2): فالأمر بالأداء أمرٌ بالقضاء. (2) في (ت 2)، (د 1)، (ط): فيه. (3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 482، وبدائع الصنائع: 1/ 287. (4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1). (5) ساقط من الأصل، دون النسخ الأربع الأخرى.

ما لم يؤدّ المرءُ الفريضة الأخرى المستقبلة، فإذا دخل وقتُها وأدَّاها، فقد انقطع وقت إمكان قضاء الفائتة. وبيان ذلك أن من فاته الوتر، فطلع الفجر، قضاه (1)، فإن هو صلى فريضة الصبح، فلا قضاء بعد ذلك. وهذا القول يجري في التوابع كلها على هذا النسق، ووجهه أن الفريضة الآتية في الوقت المستقبل إذا أُديت، فقد انقطعت التبعية بالكلية باستفتاح الفريضة الآتية (2)، والتوابع ما أثبتت مستقلة، وإنما أثبتت تابعة. والقول الثاني - أن النظر إلى طلوع الشمس وغروبها في ذلك، فمن فاتته سنة ليلية، فإنه يتداركها، ما لم تطلع الشمس، ومن فاتته سنة نهارية كركعتي الفجر، فإنه يتدارك ما لم تغرب الشمس، واعتبار طلوع الشمس مع العلم بأن النهار الشرعي ابتداؤه طلوع الفجر محال. فالقول السديد في ذلك أن الأصل أن لا تقضى النوافل، فإن قضيت، تقضى أبداً، كما ذكرناه. وفي قضاء صلاة العيد، بقيّة ستأتي في كتاب صلاة العيد. وصلاة الخسوف لا تقضى بعد الانجلاء بلا خلاف؛ فإنها في التحقيق ليست بمؤقتة، وهذا يؤكد (3) نفي القضاء في المؤقتات. فأما صلاة الاستسقاء (4 فلا معنى لقضائها، فإن الناس وإن سقوا، فإنهم يأتون بصورة صلاة الاستسقاء 4) ويضمنونها الشكر (5). فهذا تفصيل القول في قضاء النوافل، وقد روى أبو سعيد الخدري قضاء الوتر عن

_ (1) في (ت 2) وفي (ط): فصلاه. (2) كذا: "الآتية" بالتاء في النسخ كلها، ولعلها: "الآنية" بالنون. (3) تعقب ابن أبي عصرون الإمام قائلاً: "قلت: لا وجه لتأكيده، لأن حكم المؤقت يخالف ما ليس بمؤقت" ا. هـ بنصه من مختصر النهاية: 2/ 249. (4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2)، ومن (ط). (5) أي تكون صلاة شكرٍ، لا استسقاء.

النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قال رسول الله: من نام عن صلاة الوتر أو نسيه فليقضه إذا أصبح" (1) وإذا صح خبر في نوع من النوافل، اتجه قياس الباقي عليه. فرع: 1133 - كان شيخي يقول: من صادف الإمامَ في صلاة الصبح وابتدأ الاقتداء به، فإذا فرغ من الفريضة، استدرك ركعتي الفجر، ونوى الأداء؛ فإن الوقتَ باقٍ، وتقديم ركعتي الفجر أدب ورعايةُ ترتيب، والوجه ما قاله، ولو كانت مقضية، لاختلف القول في إمكان تداركها، والعلماء متفقون على أنها تستدرك في الصورة التي ذكرناها. فصل في ترتيب النوافل في المناصب والمراتب، وبيان الأفضل فالأفضل منها: 1134 - فنقول: اتفق أئمتنا على أن أفضلها صلاةُ العيدين، والخسوفين، والاستسقاء، وهذه مُقدَّمةٌ على السنن التابعة للفرائض. ثم أفضلها صلاةُ العيد، فإنها جمعت التأقيتَ وفيه مشابهة الفرائض، وشرعت الجماعة فيها، وهو أيضاً وجه بيّن في مضاهات المفروضات، ثم يليها صلاة الخسوف؛ فإن الجماعة مشروعة فيها، وفيها معنى التأقيت من جهة أنها تفوت كما تفوت المؤقتات بانقضاء الأوقات، وآخرها صلاة الاستسقاء، فالمرعي فيها التأقيت وشَرع الجماعة. 1135 - وهذه الصلوات الخمس مقدَّمة على أتباع الفرائض، ثم أفضلها ركعتا الفجر والوتر، وقد اختلف القول فيهما، فأحد القولين: إن الوتر أفضل من ركعتي الفجر؛ فإن وجوبه مختلفٌ فيه، وتركه على خطر.

_ (1) حديث "من نام عن صلاة الوتر" رواه أحمد بلفظ: فليوتر إذا ذكره، أو استيقظ، ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة. كلهم عن أبي سعيد (ر. المسند: 3/ 31، وأبو داود: الوتر، باب في الدعاء بعد الوتر، ح 1431، والترمذي: الوتر، باب ما جاء في الرجل ينام عن الوتر أو ينسى، ح 465، وابن ماجة إقامة الصلوات، باب من نام عن وتر أو نسيه، ح 1188).

والثاني: أن ركعتي الفجر آكد وأفضل، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا بما فيها" (1)، وقال في صلاة الوتر: "إن الله تعالى زادكم صلاةً هي خير من حمر النَّعَم" (2)، فالصلاة التي قدمت على الدنيا بما فيها آكد وأفضل. وقالت عائشة: "ما كان يتسرع رسول الله إلى شيء تسرعه إلى ركعتي الفجر، ولا إلى غنيمة ينتهزها" (3). وكان شيخي يؤثر أن يقدم صلاة الضحى -من حيث إنها مؤقتة بنفسها- على النوافل الراتبة. وليس الأمر على ما ذكره؛ فإن السلف ما كانوا يواظبون عليها، حسب مواظبتهم على النوافل الراتبة، فالذي أراه أنها مؤخرة عن جميع النوافل الراتبة التابعة للفرائض. وقد قال الشافعي في الوتر: يشبه أن تكون صلاة التهجد، وهذا معناه عند المحققين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالتهجد، وقيل: كان فرضاً عليه، فقال الشافعي: المعنيّ بالتهجد في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] صلاةُ الوتر، وهي التي كانت محتومة عليه، لا يتركها في حضر ولا سفر، وقد ورد في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كتب علي ثلاثٌ، لم تكتب ْعليكم، وذكر من جملتها الوتر" (4)، فإن قيل: قد سمى الله التهجد نافلة في حقه،

_ (1) حديث: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" أخرجه مسلم بهذا اللفظ من حديث عائشة. (مسلم: 1/ 501، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (14) استحباب ركعتي الفجر، والحث عليهما، ح 725). (2) حديث: "إن الله زادكم صلاة ... " رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم من حديث خارجة بن حذافة. وفي الباب عن معاذ بن جبل، وعمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وأبي بصرة الغفاري، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمر، ولم يسلم واحد منها من مقال. (ر. التلخيص: 2/ 16 ح 523، وانظر: أبو داود: الصلاة، باب استحباب الوتر، ح 1418، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل الوتر، ح 452، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر، ح 1168، والدارقطني: 2/ 30، والإرواء: 2/ 156). (3) حديث عائشة متفق عليه بلفظ: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدَّ تعاهداً منه على ركعتي الفجر". (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 141 ح 422). (4) يشير إلى حديث ابن عباس "ثلاث هن علي فرائض، ولكم تطوّع: النحر، والوتر، وركعتا =

فقال: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، فقد قال المفسرون: زيادة لك؛ فإن نوافل غيره تقع جبراناً لنقصان الفرائض، وكانت فرائضه مبرأة من النقصان، فيقع تهجده زيادة طاعةٍ. ...

_ = الضحى" رواه أحمد (واللفظ له) والدارقطني، والحاكم، والبيهقي. وفي كل منها مقال. (ر. التلخيص: 2/ 18 ح 530، والمسند: 1/ 231، والدارقطني: 2/ 21، والبيهقي: 9/ 264، والحاكم: 1/ 300).

باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان

باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان 1136 - السنن الراتبة التابعة للفرائض قد اختلف فيها الأئمة وفي عددها، فقال قائلون: هي إحدى عشرة ركعة، ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، والوتر ركعة. وزاد بعضهم ركعتين أخريين قبل الظهر، فيصير العدد ثلاث عشرة ركعة، ويقع قبل الظهر أربع ركعات. وزاد بعضهم أربع ركعات قبل العصر، فمجموع الركعات سبع عشرة على حسب عدد الركعات المفروضات، وعلى الجملة المتفق عليه آكد مما تطرق الخلاف إليه، ولم يصح عن رسول الله المواظبة على صلاة قبل فريضة العصر حسب ما كان يواظب على سنة الظهر قبله وبعده. وذهب بعض أصحابنا إلى استحباب ركعتين قبل فرض المغرب. وقال أبو عبد الله الخِضْري: ليس لصلاة العشاء سنة ثابتة. فهذا مجموع ما ذكر الأصحاب في السنن الراتبة. فصل 1137 - السنن الراتبة كلها مثنى مثنى إلا الوتر على ما سيأتي التفصيل فيه، وإذا أراد الإنسان أن يتطوع بالصلاة ابتداء، فالأولى أن يأتي بها مثنى مثنى، أيضاً ليلاً ونهاراً، هذا مذهبنا. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة الليل (1)

_ (1) في الأصل، وفي (ت 1): "الليل والنهار". ولفظ والنهار، وارد في غير المتفق عليه في الصحيحين (ر. التلخيص: 2/ 22 ح 543).

مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة يوتر بها ما قد صلى" (1). ثم لا خلاف أن الخِيَرة في التطوع الذي يبتديه المرء إليه في عدد الركعات، فلو أراد أن يصلي مائة ركعة بتسليمة واحدة، جاز، ولو صلى ركعة فَرْدةً، جاز عندنا، وإن كان نهاراً. ثم إن صلى ركعات بتشهد واحد، جاز، وإن كان يقعد على أثر كل ركعتين، ثم يقوم، جاز، فإن تشهدين في أربع ركعات مفروضة موجودة. فإذا كان عدد الركعات إلى المتطوّع، فكل أربع ركعات من جملة صلاته كأربع ركعات مفروضة. وإن كان يجلس للتشهد في إثر كل ركعة، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أنا لا نَلْقَى صلاة على هذه الصورة في الفرائض، والأظهر عندي جواز ذلك؛ فإن له أن يصلي ركعة فردة متطوعاً ويتحلل عنها، فإذا جاز له ذلك، جاز له القيام عنها، وزيادة ركعة أخرى. والجملة فيه أن كل ما يجوز الاقتصار عليه والإتيان بتشهد التحلل في آخره، جاز الإتيانُ بالتشهد فيه مع القيام عنها، ولا يشترط أن تكون صورة الصلاة المتطوَّعِ بها مضاهيةً لصورة الصلاة المفروضة. فعلى هذا لو كان يصلي ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة، وكان يقعد للتشهد في كل ثلاث ركعات، جاز ذلك. 1138 - ولكن وراء هذا إشكال سأبديه في آخر الفصل. فأقول: إذا نوى أن يصلي ركعتين ويتشهد، ثم بدا له أن يزيد ركعتين، فليزد ما شاء، وليقم قاصداً إلى الزيادة على حكم الاستدامة، وهذا في التحقيق نيةٌ في أثناء الصلاة. ولو كان نوى ركعتين، ثم قام إلى الركعة الثالثة ساهياً، ثم تذكر ولم يُرد الزيادة، فليرجع ويسجد للسهو، كما يفعل ذلك في الصلاة المفروضة. ولو أراد أن يتمادى ويزيد، فله ذلك، ولكن هل يعود جالساً؟، ثم يقوم عن

_ (1) حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى ... " متفق عليه من حديث ابن عمر، بنفس اللفظ الذي ساقه به إمام الحرمين. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 144 ح 432).

قعود قاصداً زيادة أم لا يعود بل يتمادى؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يعود؛ فإن انتهاضه كان على حكم السهو، فلا يعتد به، ثم يلزم على هذا أن يسجد للسهو؛ لأن القيام الذي جاء به فقطعه صورة ركن زادها، وليس معتداً بها، وإن قلنا يمرّ ويتمادى ولا يرجع، فكأنا لا نرى انتهاضه سهواً فيتمادى ولا يسجد للسهو. 1139 - وقد ذكرت في باب سجود السهو أن المأموم إذا رفع رأسه قبل الإمام، ظاناً أن الإمام قد رفع، ثم علم أن الإمام في الركوع، فهل يرجع؟ فيه خلاف: من أصحابنا من قال: لا يجوز أن يرجع، ومنهم من قال: يجوز أن يرجع، ولم يوجب الرجوعَ أحد من أئمتنا، والسبب فيه أن تقدمه على الإمام قصداً جائز، كما فرَّعناه. وهذه المسألة التي نحن فيها من التطوع فيها مشابهةٌ لتلك، ولكنْ بينهما فرق؛ فإن قيام المتطوع قصداً إلى ركعة زائدة من غير نية الزيادة في الصلاة، مبطل للصلاة، وقيام المقتدي قصداً قبل الإمام مع استدامة القدوة جائر، فإذا كان ساهياً حمل [عنه] (1)، وكان في رجوعه تعديد صورة الركوع في ركعة واحدة، وفي رجوع المتطوع في الصورة التي نحن فيها قطع لقيام لو تعمده من غير قصد [الزيادة] (2)، لأبطل صلاتَه، فإذا حصل سهواً، يجوز أن يؤمر به ليقطعه، فانتظم الخلاف في التطوع على وجهين، وهو أنه يرجع على وجهٍ لا محالة، ولو لم يرجع، بطلت صلاتُه، وفيه وجهين أنه لا يجوز أن يرجع، والخلاف في مسألة باب سجود السهو أنه في وجهٍ يجوز أن يرجع، وفي وجه لا يجوز أن يرجع، فأما إيجاب الرجوع ثَمَّ، فلا يجري أصلاً، وهذا بيّن لمن تثبت. 1140 - ولو نوى ركعتين ثم قام إلى الركعة الثالثة من غير سهو، ولم يقصد أن يزيد في أعداد ركعاته، فتبطل صلاته لا محالة. ولو نوى أن يصلي أربع ركعات بتسليمة واحدة، ثم بدا له أن يقتصر على ركعتين، فليتشهد، وليسلم.

_ (1) في الأصل وفي (ط)، (ت 1)، (د 1): عليه. والمثبت من (ت 2). (2) زيادة من: (ت 2).

[ولو سلم ساهياً، لم يتحلل، فإذا تذكر، فإن أراد أن يكمل ما نوى أكمل، وسجد للسهو. وإن أراد أن يقتصر، جاز، ولكن لا يكون سلامه تحلّلاً وجهاً واحداً، فإنه جاء بها غالطاً، فليسجد للسهو، وليسلّم عمداً] (1) ولو سلم عمداً، وما قصد الاقتصار على الركعتين، فتصوير هذا عسر، فإن لم يقصد به التحلل، فكأنه يقصد خطاباً وتكليماً عمداً، فتبطل صلاتُه، كما لو خاطب في جهةٍ أخرى عمداً. 1141 - وفي هذا الفصل دقيقة، وهي أن من سلم في آخر صلاته، فالأصح أنه لا يشترط نية الخروج من الصلاة، وإذا سلم المتطوع في أثناء صلاته قصداً، فإن قصد التحلل، فقد قصد الاقتصار على بعض ما نوى، وإن سلم عمداً، ولم يقصد التحلل، فقد حمله الأئمة على كلامٍ عمدٍ مبطل، فكأنهم يقولون: لا بد من قصد التحلل في حق المتنفل الذي يريد الاقتصار. وفي إيجاب قصد التحلل عند السلام في آخر صلاةٍ انتهت نهايتها خلاف، والأصح أنه لا يجب، والفرق ظاهر؛ فإن المتنفل المسلم في أثناء صلاته يأتي بما لم تشتمل عليه نية عقده ولا بد من قصدٍ فيه، فافْهم. 1142 - ومما يتعلق ببقية هذا الفصل ما أحلنا عليه من بقية كلامٍ في التشهد. فنقول: إن نوى أن يصلّي ركعتين بتشهد واحد، ثم بدا له أن يتشهد مرتين على إثر كل ركعة مرة، ولو عقد الصلاة على هذه الهيئة، فالذي أراه أن ذلك لا يمتنع، وإن عقدها على تشهد واحد، وتشهد عقيب الركعة الأولى، فالذي أراه أنه ساهٍ، يسجد للسهو، وإن خطر له أن يتشهد عمداً على إثر الركعة الأولى، فليفعل، وهو كما لو أراد أن يزيد أو ينقص في صلاته، في أثناء النافلة، فليس تغيير الهيئة قصداً بأعظم من التغيير بالزيادة والاقتصار. 1143 - ولو نوى ركعتين مطلقاً، ولم يخطر له تشهدان، ولا تشهد واحد، فالذي أراه أن الصلاة تنعقد على تشهد واحد؛ فإنه المعتاد الغالب. وإن نوى عشر ركعات بتسليمة، ولم يخطر له في التشهد شيء، ولسنا نعهد صلاة

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، ومن (ط).

على هذه الصفة حتى ينزل مطلق العقد عليها، فيظهر عندي أن يجلس على إثر كل ركعتين، وإن أراد مزيداً، فيقصد. 1144 - ومن تمام الكلام في هذا: أنه إذا كان يصلي المكلف صلاةً مفروضة رباعية، فالتشهد الأول من الأبعاض، فلو تركه، سجد للسهو، ولو نوى المتنفل أربع ركعات مطلقاً، فله أن يتشهد في أثناء الصلاة؛ تنزيلاً على الصلاة المفروضة، ولو ترك التشهد الأول، فالذي أراه أنه لا يسجد للسهو في النافلة؛ فإن التشهد في الفريضة مشروع (1 مؤكد، ولا يتحقق هذا التأكيد في النافلة، ولا يبلغ مبلغ الأبعاض المشروعة. ولو نوى أن يصلي أربع ركعات ويتشهد مرتين 1) فلو ترك التشهد الأول قصداً، [فالذي أراه أنه لا يسجد للسهو، ولو ترك المفترض التشهد الأول قصداً] (2)، فالمذهب الظاهر أنه يسجد للسهو؛ فإن التشهد الأول مشروع في الفرض شرعاً، وليس إلى المصلي رفعه، والتشهد في صلاة التطوع إلى قصده، وإن أراد أن يرفعه، كان له رفعه؛ فإنّ رفعه لا يزيد على رفع ركعات، كان نواها. ولو قصد تشهدين، ثم ترك التشهد الأول ساهياً، ففي سجود السهو احتمال، والظاهر أنه لا يسجد، والسبب فيه أن سجود السهو يتعلق من السنن بآكدها الذي يسمى الأبعاض، ولا يتحقق التأكد في حق المتنفل مع أن الأمرَ إلى خيرته في تغيير الصلاة وتبديل هيئاته. 1145 - فهذا تمام القول في ذلك. وما ذكرته من الزيادة والنقصان، فهو في التطوع الذي بيّناه. فأمّا السنة التي حدَّها الشرع وأثبت هيئاتها، فليس إلى المكلف تغييرها، فلو زاد ركعةً ثالثةً في ركعتي الفجر، بطلت تلك الصلاة؛ فإنه خالف وضع الشرع فيها، ولكن يجوز أن يقال: تنقلب تطوعاً أو تبطل؟ فعلى خلاف، سبق في مواضع، وسيعود مشروحاً.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، ومن (ط).

فصل 1146 - للمتنفل أن يصلي قاعداً مع القدرة على القيام، ولو أراد أن يتنفل مومياً مستلقياً أو على جنب، فقد اختلف أئمتنا فيه: والذي اختاره الصيدلاني جواز ذلك، وكان شيخي يحكي هذا ويزيفه، ويقول: إنما ثبت الاقتصار على القعود رخصة في النافلة مع الإتيان بكمال الأركان، فإن أراد أن يسقط جميع الأركان قياساً على القيام الذي أُبدل بالقعود، فقد أبعد، والذي ذكره شيخي حسنٌ متجه، وهذا يلتفت إلى إقامة النافلة على الراحلة في الحضر، وقد قدمت التفصيل فيه في باب استقبال القبلة. فصل 1147 - من نذر صلاة، لزمه الوفاء بها، وهل له أن يقعد فيها مع القدرة على القيام؟ فيه قولان مأخوذان من أصلٍ سنوضحه في النذور، وهو أن الملتزم بالنذر هل يحمل على واجب الشرع، أو يحمل على حكم الاسم المطلق؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما في موضعهما إن شاء الله. ولو نذر أن يقوم في كل نافلة ولا يقعد، فقد قال الصيدلاني: لا نأمره بالوفاء بهذا النذر؛ فإن القعود في النافلة رخصة، ومن أراد أن ينفي الرخصة بنذره، لم يجد إليه سبيلاً، وهو بمثابة ما لو نذر أن يتمم الصلاة في كل سفر، أو يصوم ولا يفطر، وهذا الذي ذكره في نهاية الحسن. ولو نذر أن يصلي أربع ركعات قائماً، لزمه القيام قولاً واحداً؛ لأنه صرح بالتزامه، وهذا كما لو قال: لله علي أن أعتق عبداً سليماً عن العيوب والآفات. لزمه الوفاء، ولو أطلق، ففي إجزاء معيب عنه قولان، ولست أسترسل في مسائل النذور؛ فإنها صعبة المرام، لا يتأتى الخوض فيها إلا بتمهيد أصولها.

فصل قال: "وأما قيام شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إليّ منه ... إلى آخره" (1). 1148 - أراد بقيام شهر رمضان التراويح، ولست أطيل [ذِكْرَ] (2) ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى لعمر رضي الله عنه: أما ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه صلى بأصحابه جماعةً ثلاثَ ليال، ثم ترك الجماعة، فروجع فيها، فقال: خشيت أن تُكتب عليكم، فلا تطيقون" (3) ثم رأى عمر أن يجمع الناس على إمامٍ، لما علم أن الشرع لا يتغير بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (4). 1149 - وقد اختلف أئمتنا في أن الانفراد بها أفضل أم الجماعة؟ وحاصل ما ذكروه أوجه: أحدها - أن الجماعة أفضل تأسياً بسيرة عمر، وما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً. والثاني - أن الانفراد بها أفضل؛ فإنها صلاة الليل، فالاستخلاء بصلاة الليل أولى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فضلُ صلاة الرجل تطوعاً في بيته، على صلاته في المسجد كفضل صلاته المكتوبة في المسجد، على صلاته في بيته" (5) وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من مائة

_ (1) ر. المختصر: 1/ 107. (2) زيادة من (ل). (3) حديث صلاة التراويح: "خشيت أن تفرض عليكم" متفق عليه من حديث عائشة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 145 ح 436). (4) أثر جمع عمر الناس على إمام في صلاة التراويح. هذا الجزء الذي ذكره إمام الحرمين في صحيح البخاري: 2/ 252، كتاب صلاة التراويح، باب (1) فضل من قام رمضان، ح 2010. (5) الحديث معناه في الصحيحين، متفق عليه من حديث زيد بن ثابت بلفظ " ... فإن أفضل =

صلاة في غيره من المساجد، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجدي، وأفضل من ذلك كله رجل يصلي في زاوية ركعتين، لا يعلمها إلا الله تعالى" (1). والوجه الثالث - أنه إن كان حافظاً للقرآن عالماً بأنه لو خلا بنفسه، لما منعه الكسل والفشل (2) عن الصلاة على حقها، فالانفراد أولى، وإن كان لا يحسن ما يصلي به، ولم يأمن أن يثبطه الكسل لو خلا، وإذا كان يصلي في جماعة، أقام الصلاة مقتدياً، فالاقتداء أولى به. 1150 - ثم إن لم تشرع الجماعة فيها، فالسنن الراتبة التابعة للصلوات المفروضات أفضل وأولى منها. وإن قلنا الجماعة مشروعة فيها، فالأصح أيضاً تفضيل السنن الراتبة عليها؛ فإنها لا تتأصل في وظائف المكلف تأصل الرواتب. ومن أئمتنا من شبب بتفضيلها على قولنا باستحباب الجماعة فيها؛ لأن الجماعة أقوى معتبر في التفضيل، كما تقدم ذكرها. 1151 - ثم ذكر الشافعي (3) أن أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعةَ، وأصل هذه الصلاة عشرون ركعة، وسبب زيادته أن أهل مكة يقومون بين كل ترويحتين إلى البيت، فيطوفون سبعة أشواط، ويصلون ركعتين للطواف، فزاد أهل حرم رسول الله

_ = الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 149 ح 447). (1) هذا المعنى عند البخاري، ومسلم من حديث زيد بن ثابت (اللؤلؤ: 1/ 149 ح 447)، وعند الترمذي في باب فضل التطوع في البيت، ح 450، وعند النسائي في قيام الليل، باب الحث على الصلاة في البيوت، ح 1600. قال الحافظ: ولأبي داود: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة" (التلخيص: 1/ 21 ح 541) هذا. ولم أصل إلى هذا اللفظ عند أبي داود (ر. أبو داود: 2/ 145، باب 346 فضل التطوع في البيت، ح 1347). (2) الفشل: التراخي (المعجم). (3) في (د 1)، (ت 2): ثم ذكر شيخي، والصواب: الشافعي، فهذا ما رواه عنه المزني في المختصر: 1/ 107.

صلى الله عليه وسلم في صلاتهم في مقابلة ما يأتي به أهل مكة من الأشواط في خلال التراويح. 1152 - واختلف أئمتنا في معنى قول الشافعي، "وأما شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إليّ منه": منهم من قال: معناه [أن الانفراد بها أفضل من إقامتها في الجماعة، ومنهم من قال معناه] (1) أن الراتبة التي لا يشرع فيها الجماعة أحب إليّ من التراويح التي شرعت الجماعة فيها. فصل 1153 - صلاة الوتر لا تجب عندنا، ولا واجب شرعاً إلا الصلوات الخمس، والخلاف مشهور في ذلك. 1154 - ثم لو أوتر الرجل بركعةٍ واحدةٍ، جاز، ولو أوتر بثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسعٍ، أو إحدى عشرة ركعة بتسليمة واحدة، جاز. وقد نُقل جميع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي بعض التصانيف: أو ثلاث عشرة. ولا ينبغي أن يعتمد ذلك. وهذا التردد في أن الإتيان بثلاث عشرة، هل نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ومن أوتر بما يزيد على الحد المنقول عن المصطفى، مثل أن يوتر بخمس عشرة ركعة فصاعداً، فهل يصح إيتاره؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح وتره؛ فإن الوتر من أفضل السنن الراتبة المشروعة، فلا يجوز تعديتها عن مراسم الشرع، كركعتي الفجر؛ فإنَ من أقام سنة الصبح أربع ركعات، لم يكن مقيماً لهذه السنة، فكذلك من زاد الوتر على ما يصح نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني - يجزىء في الوتر الزيادة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ورد بإقامته

_ (1) ساقط من نسخة الأصل، (ط). دون باقي النسخ.

على أنحاء ووجوه، ففصَل بينهما وبين السنن التي كان لا يقيمها قط -سفراً أو حضراً- إلا على عِدة واحدة. 1155 - ثم من كان يوتر بخمس، أو سبع، أو غيرها من العدد، فكم يتشهد في الصلاة الكثيرة الركعات؟ اختلفت الروايات في ذلك، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بخمس لا يتشهد إلا في الرابعة والخامسة، وبسبع لا يجلس إلا في السادسة والسابعة، وبتسع لا يجلس إلا في الثامنة، والتاسعة، وبإحدى عشرة لا يجلس إلا في العاشرة والحادية عشرة. فهذه الروايات تدل على أنه كان يتشهد مرتين. وروي أنه كان يوتر بثلاث لا يجلس إلا في آخرهن [وبخمس لا يجلس إلا في آخرهن] (1). وقد روت عائشة رضي الله عنها الروايتين (2). وما ذكرناه تردد في الأوْلى على حسب اختلاف الرواية، فلو [آثر] (3) الموتر بإحدى عشرة مثلاً أن يجلس للتشهد في إثر كل ركعتين ثم يقوم، ولا يتحلل، لم يكن له ذلك؛ فإنا نتبع الرواية في هذه الصلاة الراتبة العظيمة القدر، وليس كما إذا أراد الرجل أن يتطوع بعشر ركعات أو أكثر بتسليمة واحدة، وأراد أن يجلس للتشهد على إثر كل ركعتين؛ فإنا قد ذكرنا هذا فيما سبق، والفرق أن التطوعات لا ضبط لها في عدد الركعات، وأقدار التشهدات، وصلاة الوتر حقها أن تُضبط وتحصر على ما يرد في الأخبار. ثم تردُّدُ الأئمة في جواز الزيادة على ما نقل من عدد الركعات؛ من جهة أنا ظننا أن إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها على جهاتها ممهداً للأئمة جواز الزيادة.

_ (1) سقط من الأصل ومن (ط) وحدهما. (2) حديث عائشة عن اختلاف أعداد الركعات في الوتر، وأنه كان لا يجلس إلا في آخرها، وأنه كان يجلس في الأخيرة والتي قبلها. مؤلفٌ من أكثر من حديث، كلها عند مسلم (كتاب صلاة المسافرين، باب 17، 18 - ج 1 من 508 - 514) وانظر (تلخيص الحبير: 2/ 14، 15 ح 512، 514، 516، 517، 518). (3) في النسخ الخمس: أوتر، والمثبت تقدير منا.

وأما التشهد، فالمنقول فيه يشير إلى اتباع ضبط: فأما الاقتصار على تشهد واحد (1 فمحمول على محاولة الفرق بينها وبين صلاة المغرب، وأما الإتيان بتشهدين 1)، فمحمول على تشبيهها بصلاة المغرب، وليس فيها ما يتضمن الخروج عن الضبط بخلاف أعداد الركعات. ثم اختلف أئمتنا: فالذي ذكره المعتمدون أن ما ذكرناه من التشهدين، والتشهد الواحد كلاهما سائغان؛ لصحة الرواية فيهما جميعاًً عن عائشة رضي الله عنها. وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من لم ير [غير] (2) الاقتصار على تشهد واحد في [الآخر] (3)، واعتقدَ أن ما روي عن التشهدين إنما جرى على التفصيل، فكان يصلي أربعاً بتسليمة، ثم ركعة بتسليمة، فيقع تشهدان، وكذلك ما كان يزيد في

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) هذه الزيادة تقدير منا لاستقامة العبارة. وقد أعيانا تقويمها، فمن عجبِ أن تتفق النسخ الخمس على هذا الخلل. ويبدو أن أصل عبارة المؤلف رحمه الله كانت هكذا: "من أصحابنا من لم ير إلا الاقتصار على تشهدِ واحد" فكانت عين الناسخ لا تستوعب أو لا تقبل وجود هذا التتابع [إلا الا] فيسبق الوهم إلى أنه تكرار. وقد قطعت أخيراً بهذا عندما وجدت النووي حكى هذا الكلام عن إمام الحرمين قائلاً: وحكى الفوراني وإمام الحرمين وجهاً أنه لا يجوز الوتر بتشهدين، بل يشترط الاقتصار على تشهد واحد، وحمل هذا القائل الأحاديث الواردة بتشهدين على أنه كان يسلم في كل تشهد. قال الإمام، وهذا الوجه رديء لا تعويل عليه" ا. هـ بنصه (ر. المجموع: 3/ 12). وهذا كما ترى نفس كلام إمام الحرمين، يقرب من حروفه. رضي الله عنهما. وألهمنا الصواب. وتأكد هذا أيضاً بما ثبت عندنا من المقصود بقول إمام الحرمين: "بعض التصانيف"، " بعض المصنفين " إنما يقصد به (الفوراني). والآن حقت علينا سجدة الشكر؛ فقد جاءتنا (ل)؛ ووجدنا عبارتها: "وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من لم ير إلا الاقتصار على تشهد واحد في الآخر" وهذا بعينه هو التقدير الذي قدرتُه، وفسرتُ به خطأ الناسخ؛ فالحمد لله حمداً يوافي نعمه، ودائما وأبداً نلوذ بحوله وقوته، ونبرأ من حولنا وقوتنا، ونسأله أن يقيض لنا من أهل العلم والصلاح من ينظر في عملنا هذا بعين الإنصاف، ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير. (3) في الأصل، (ط)، (ت 1): "الإجزاء"، والمثبت من (ت 2)، وصدقتها (ل).

الركعات. وهذا رديء، لا تعويل عليه، والمذهب طريقة الأصحاب. 1156 - ومن أهم ما يذكر في الوتر أن الأفضل في عِدَّة ركعاتها ماذا؟ فذهب بعض أصحابنا إلى أن الإتيان بثلاث موصولة أفضل، فإن ذلك صحيح وفاقاً، والإيتار بركعة واحدة مختلف فيه، وارتياد ما يصح وفاقاً أولى؛ فإن الصلاة خطيرة عظيمة الموقع، وهذا اختيار أبي زيد المروزي. ومن أصحابنا من قال: الأفضل الإيتار بركعة فردة، وغلا هذا القائل بها، فقال: لو أوتر بإحدى عشرة، وأوتر بركعة فردة، فالركعة الفردة أفضل من إحدى عشرة، وتعلق هذا القائل بما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بركعة واحدة في آخر الليل، يوتر به ما قد صلى" والزيادة على الواحدة ما كان يواظب عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين الجواز بما يندر من أحواله، ويوضح الأفضل بما يواظب. وذكر القفال وجهاً ثالثاً، فاقتصد وأنصف فيه، فقال: لو صلى ثلاثاً في تسليمة، وصلى ركعتين وسلّم، ثم أوتر بركعة، فالثلاث الموصولة تقابل بالثلاث المفصولة، فيقال: الفصل أفضل، فأما إذا قوبل ثلاث بواحدة، فلا شك أن الثلاث أفضل من الواحدة. وذكر بعض أصحابنا وجهاً رابعاً فقال: إن كان ينفرد بالوتر، فالفصل والإيتار بركعة واحدة أفضل، وإن كان يصلي بالناس، فثلاث ركعات موصولة أولى؛ فإن الجماعة تجمع طبقات الناس على مذاهب، فالإيتار بما يجتمع عليه أصحاب المذاهب أولى. وكل هذا التردد بين الثلاث الموصولة، والركعة الفردة، والثلاث المفصولة، فأما الزيادة على الثلاث، فلا يؤثره من طريق الفضيلة أحد من الأئمة، وإنما يحمل فعل الشارع على الجواز، لا على الأوْلى. 1157 - ومما يتعلق بالوتر أن الصدِّيق رضي الله عنه كان يوتر، ثم ينام، ثم يقوم ويصلي [من التهجد ما وُفِّق له، ووتره سابق، وكان عمر ينام ولا يوتر، ثم يقوم

ويصلي] (1) ما اتفق له، ثم يوتر في آخر الأمر، وكان ابن عمر يوتر وينام، ثم يقوم ويصلي ركعة فردة، يصير بها ما يتقدم شفعاً، ثم يصلّي متهجداً، ثم يوتر بركعة فردة، "وكان يسمي ذلك نقض الوتر" (2). فأما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنهما راجعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم وأشار إلى أبي بكر: "أما هذا فأخذ بالحزم، وأما هذا -وأشار إلى عمر الفاروق- فأخذ بالقوة" (3). وميل الشافعي إلى حزم أبي بكر؛ فإن إقامة الصلاة أولى من النوم عليها على خطر الانتباه. وأما نقض الوتر، كما روي عن ابن عمر، فلم يره أحدٌ ممّن يُعتمد من أئمة المذهب. وذكر بعض المصنفين أن الأولى عندنا ما فعله ابن عمر رضي الله عنه. وهذا خطأ، غير معدود من المذهب. والتمسك بسيرة الشيخين أولى، ولم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضُ الوتر. فصل 1158 - لو صلى العشاء أربع ركعات، وصلى بعدها ركعة واحدة وتراً، ولم يزد، فهل يجزيه الوتر؟ تردد أئمتنا فيه، فمنهم من قال: يصح وتره، وهو القياس، ومنهم

_ (1) سقط من الأصل، ومن (ط) وحدهما. (2) حديث نقض ابن عمر للوتر. رواه الشافعي، وأحمد، والبيهقي (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 195 ح 551، المسند: 2/ 135، البيهقي: 3/ 36، التلخيص: 2/ 2 ح 549، وخلاصة البدر: 1/ 183 ح 630). (3) حديث حزم أبي بكر وقوة عمر، مشهور، رواه أبو داود، وابن خزيمة، والطبراني، والحاكم من حديث أبي قتادة. والبزار، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، من حديث ابن عمر، وفي الباب عن أبي هريرة، وجابر (ر. أبو داود: الصلاة، باب في الوتر قبل النوم، ح 143، ابن خزيمة: ح 1084، الحاكم: 1/ 301، ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر أول الليل، ح 1202، ابن حبان: 2437، التلخيص: 2/ 17 ح 526).

من قال: ما جاء به تطوع وليس الوترَ المشروعَ؛ فإن من صفة الوتر أن يوتر ما تقدم عليه من السنن الواقعة بعد فريضة العشاء، فإذا لم يوجد غيرُها، لم يكن وتراً، وفي كلام الشافعي إشارة إلى الوجهين جميعاًً، وميله إلى أن ما يأتي وتر. وإن قصر في ترك السنن قبله. فرع: 1159 - ظاهر المذهب أنه لو أتى بصلاة الوتر قبل فريضة العشاء، لم يعتد بما جاء به وتراً أصلاً. وقال أبو حنيفة (1)، هو وتر. وهو مذهب بعض أصحابنا، والأصح الوجه الأول، ولم يحك بعض أصحابنا غيره؛ لأنها على كل حال مترتبة على سابق. والصحيح من مذهب أبي حنيفة أنه لو اعتقد ذلك عن قصد، لم يعتد بما جاء به، ولو سها ولم يتعمده، فيعتد به، ومن أبعد من أئمتنا في الاعتداد به لم يفصل بين أن يكون ذلك عن نسيان، وبين أن يكون عن قصد وتعمدٍ. فصل 1160 - القنوت لا يشرع في الوتر عندنا إلا في النصف الأخير من رمضان، وهذا مذهب عمر رضي الله عنه، وروى بعض من يعتمد في روايته: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه التراويح عشرين ليلة، ولم يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من الشهر" (2) والرواية غريبة؛ فإن المشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل التراويح في جماعة إلا ثلاث ليال. 1161 - ثم موضع القنوت [عندنا إذا رفع رأسه] (3) من الركوع، [وأبو حنيفة يرى القنوت قبل الركوع] (4).

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 288 مسألة 247، حاشية ابن عابدين: 1/ 241. (2) لم نصل إلى هذه الرواية، فهي غريبة كما قال الإمام رضي الله عنه. (3) سقط من الأصل و (ط) فقط. (4) سقط من الأصل و (ط) فقط.

وقد رَوَوْا عن علي وابن مسعود وابن عباس مثل مذهبهم (1)، ولكن الراوي عن علي الحارث الأعور. قال الشعبي؛ هو من جملة الكذابين (2). وقد صح عن علي أنه قنت بعد الركوع، وحديث ابن مسعود رواه ابن أبي عياش، وقد كذَّبه شعبة، وحديث ابن عباس رواه عطاء بن مسلم الحلبي وكان يروي المناكير عن الثقات. فرع: 1162 - قد اشتهر من فعل الخاص والعام في الفصل والوصل قراءة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في الركعتين الأوليين، وقراءة المعوّذتين وسورة الإخلاص في الثالثة، وقد رأيت في كتاب معتمد أن عائشة رضي الله عنها روت ذلك (3). ...

_ (1) ر. الهداية مع فتح القدير: 1/ 373، والدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية. مسألة رقم: 134، 135. (2) حديث القنوت قبل الركوع، روي من حديث أبي بن كعب، وابن مسعود، ومن حديث ابن عمر، وابن عباس. كذا أورده الزيلعي في نصب الراية: 2/ 123. ولم يشر الزيلعي إلى حديث علي الذي ضعفه إمام الحرمين. وانظر تهذيب التهذيب، والميزان، ونصب الراية، لترى أنهم قالوا في هؤلاء الرواة بمثل ما قاله فيهم إمام الحرمين. (3) حديث عائشة عن القراءة في الوتر رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة. وقد حسنه ابن الملقن في البدر المنير. (ر. أبو داود: 2/ 132، باب ما يقرأ في الوتر، ح 1423، 1424، والترمذي: ح 463 باب ما يقرأ في الوتر، والنسائي: قيام الليل، باب القراءة في الوتر، ح 1730، وابن ماجة: الصلاة، باب ما جاء فيما يقرأ في الوتر، ح 1173 تلخيص الحبير: 2/ 19 ح 533، والبدر المنير: 4/ 332). هذا، ولم نعرف (الكتاب المعتمد) الذي يقول الإمام: إنه رأى فيه هذا الحديث. فهل هو (سنن أبي داود)؟

باب فضل الجماعة والعذر بتركها

باب فضل الجماعة والعذر بتركها 1163 - إقامة الجماعة في الصلوات من شعائر الإسلام، وما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة مادام بمكة، فلما هاجر إلى المدينة، شرع الجماعات، واستحث المسلمين عليها. 1164 - واختلف أئمتنا فيها: فقال بعضهم: إقامة الجماعة سنة مؤكدة. وقال آخرون هي من فروض الكفايات. وقد ذكرنا تردد الأئمة في الأذان في هذا المعنى، ولم ينسب الصيدلاني المصير إلى أن الأذان فرضٌ على الكفاية إلى أئمتنا، وصرح في هذا الباب بحكاية هذا في الجماعة. ثم من قال: إقامة الجماعات فرض كفاية، فلا شك أنه يقول إذا قام بها قوم، سقط الفرض عن الباقين. وقد ذكرنا في الأذان تفصيلاً، وذلك التفصيل على وجهه لا ينتظم ولا يطرد هاهنا، وذكر بعض المصنفين أن الجماعة ينبغي أن تقام في كل مَحِلَّة. وقال الصيدلاني: إذا فعل قوم، سقط الفرض عن الباقين. 1165 - وأنا أقول: أما الجماعة في صلاة الجمعة، ففرض على الأعيان الذين يلتزمون الجمعة، كما سيأتي في كتابها، وإنما الكلام في الجماعة في سائر الصلوات، أما أحمد بن حنبل (1)، وداود (2)، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (3)،

_ (1) وجوب الجماعة متفق عليه في مذهب أحمد، أما كونها شرطاً فقول في المذهب. ر. الإنصاف: 2/ 210، وكشاف القناع: 1/ 454. (2) داود بن علي بن خلف الأصبهاني ثم البغدادي، إمام أهل الظاهر، أحد العلماء الزهاد العباد، قالوا: كان عقله أكبر من علمه ت 270 هـ (ر. تهذيب الأسماء: 1/ 182 رقم 157). (3) محمد بن إسحاق بن خزيمة الإمام من الأصحاب، إمام نيسابور في عصره، أحد المحمدين =

فإنهم أوجبوا الجماعة (1 على كل من يلتزم الصلاة، وشرطوا في صحة الصلاة المفروضة الجماعة 1) كما تشترط في صحة الجمعة. واحتج الشافعي بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، وروي بخمس وعشرين درجة" (2)، وهذا يدل على أن صلاة الفرد صحيحة، والصلاة في الجماعة أفضل. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: "صلاة الرجل مع الواحد أفضل من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أفضل من صلاته مع واحد، وحيثما كثرت الجماعة فهو أفضل" (3) وهذا يدل على صحة صلاة المنفرد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار مشتملة على الوعيد في ترك الجماعة؛ وسببُها أن المنافقين كانوا يتخلفون، ولا يصلون في منازلهم، فكان المقصود من الوعيد حملهم على الصلاة على الرغم منهم. 1166 - فإذا ثبت هذا، فلم نضبط فيما قدمناه قولاً في الجماعة التي يسقط بإقامتها [الحرج] (4) عن الذين لم يحضروها، فنقول: الغرض ظهور الشعار، فلتقم الجماعة في البلدة الكبيرة في مواضعَ بحيث يظهر بمثلها في مثل تلك البلدة الشعار. ولا يخفى أنه لو فرض إقامة الجماعة في طرفِ أو في أطراف، فقد لا يشعر بها أهلُ

_ = الأربعة من أصحاب الشافعي الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، كما قال السبكي في طبقاته. ت 311 هـ (طبقات السبكي: 3/ 109 - 119). (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) وحدها. (2) حديث فضل صلاة الجماعة متفق عليه من حديث ابن عمر، بلفظ "سبع وعشرين". اللؤلؤ والمرجان: ح 381. (وانظر التلخيص: 2/ 25 ح 553). (3) حديث "صلاة الرجل مع الرجل ... " أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، وابن ماجة من حديث أبي بن كعب (ر. أبو داود: الصلاة، باب في فضل صلاة الجماعة، ح 554، النسائي: الإمامة، باب الجماعة إذا كانوا اثنين، ح 843، ابن ماجة: المساجد والجماعات، باب فضل الصلاة في جماعة، ح 790، أحمد: 5/ 140، التلخيص: 2/ 26 ح 554). (4) في الأصل، وفي (ط) وفي (ت 1): الخروج، والمثبت من (ت 2).

البلدة، ويكون جريان ذلك من جهة التمثيل بمثابة عمل من الأعمال لا يُشاع مثله في العرف إذا جرى من شخص أو أشخاص، وقد لا يشعر به معظم أهل البلدة، فَلْيَقِس الناظر ذلك الذي نحن فيه بهذا، ولْيعلم أن الغرض ظهور الشعار. وهذا هو الأصل. فإذاً قد لا يحصل ذلك إلا بأن تقام في كل مَحِلَّة، وقد تصغر القرية فيقع الاكتفاء بجماعة واحدة. 1167 - ومما ينبغي أن ينبه عليه أن الناظر قد يقول: إذا كبرت البلدة، وكثر أهلها وكان معظمهم لا يقيمون الجماعة، وكان الشعار يظهر بالذين يقيمونها، ولكن كان يظهر من أهل البلدة الاستهانة بالجماعة؛ من حيث يتقاعد عنها معظمهم، فإنهم يعصون. وهذا الظن خطأ؛ فإنه ظهر الشعار، وسقط الفرض عن الباقين، وإن كانوا جماهير أهل البلدة. والذي يحقق ذلك أن الصلاة على الموتى من فروض الكفايات، فلو كان لا يصلي عليهم إلا شراذم والباقون يعبُرون ولا يبالون، فالفرض يسقط عن الباقين، فإذاً النظر إلى ظهور الجماعة. وقد يتجه أن نقول: لو كان حضر في [كل] (1) مسجد اثنان - ثلاثة، بحيث لا يبدون للمارين، فلا يحصل ظهور الشعار بهذا. والجملة في ذلك أن كل واحد في نفسه لم يفرض عليه لأجل صلاته جماعة، وإنما الغرض أن يحصل إظهار شعائر الإسلام على الجملة. ولا يمتنع أن يقال: لا يعتبر في القرى الصغيرة القريبة من البلاد إظهار ذلك، إذا استقلت البلاد بإظهار ذلك، فلهذا المعنى اختص وجوب الجمعة بالبلاد والقرى الكبيرة. وفي أهل البوادي إذا كثروا عندي نظر فيما نتكلم فيه، فيجوز أن يقال: لا يتعرضون لهذا الفرض، ويجوز أن يقال: يتعرضون له إذا كانوا ساكنين، ولا شك أن المسافرين لا يتعرضون لهذا الفرض، وكذلك إذا قل عدد ساكنين (2) في بلدة؛

_ (1) سقطت من الأصل ومن (ط) وحدهما. (2) كذا " ساكنين " بالتنكير، في جميع النسخ، ولم تخالفها (ل).

فإنهم وإن أظهروا الجماعة، لا يحصل بهم ظهور الشعار، وقد ذكرنا أن الإنسان في نفسه لصلاته لا يتعرض لهذا الفرض، وإنما المرعيّ فيه أمرٌ كليٌ عائد إلى شعائر الإسلام، فهذا ما أردناه في ذلك. 1168 - ثم كثرة الجَمْع مرغوب فيها، وقد روينا الخبر الدّالّ عليه، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى مع واحد كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن صلى مع اثنين، فإنه له مثل أجرهما من غير أن ينقص من أجرهما شيء" (1)، وحيثما كثرت الجماعة فهو أفضل. ولو كان بالقرب من منزل الإنسان مسجد ولو تعداه، لتعطّل، ولو أقام فيه الشعار، لقامت الجماعة بسببه، فهو أولى من قصد الجماعة الكثيرة، وإن كان المسجد لا يتعطل بسبب تعديه عنه ومجاوزته، فالمذهب أن فضل الجماعة الكثيرة أولى. وذكر بعض أصحابنا أن رعاية حق الجوار لذلك المسجد أولى، وذلك غير سديد؛ فإن صح النقل فيه، فسببه أنه قد يخطر قصد الجماعة الكثيرة لغيره، فيؤدي ذلك إلى تعطيل المسجد، ولعل ذلك في مسجد السكة، فأما إذا كان على طريقه، وكان أقرب من المسجد المشهود، فلا ينقدح الوجه الضعيف في هذه الصورة. فصل 1169 - يجوز ترك الجماعة بالمعاذير، وهي تنقسم إلى أعذار عامة، وإلى أعذار خاصة. فالعامة: كالمطر وما في معناه، وذكر بعض المصنفين في الوحل خلافاً؛ من حيث إنه يتأتى الاستعداد له. والأظهر أنه عذر؛ فإن في التخطي فيه عسراً ظاهراً، وهذا إذا لم يتفاحش. والرياحُ الشديدة أعذار بالليل، وليست أعذاراً بالنهار.

_ (1) لم نصل إلى هذا الحديث مع طول بحثنا في مظانه المختلفة.

1170 - والأعذار الخاصة: كالمرض، وتمريضِ مريض يعتني به الإنسان، وفي تركه إضرار. ومنها قيام الإنسان على مالٍ، لو تُرك، لضاع، أو خيف في تركه ضَياعُه. وذكر بعض الأئمة من الأعذار أن يكون مديوناً معسراً، وقد لا يصدقه مستحق الدين فيحبسه، فله أن يتخلف لذلك. ومنها أن يكون قد استوجب القصاص، ولو ظفر به مستحقه، لقتله، ولو غيّب وجهه، رجا أن يعفوَ عنه إذا سكن غليلُه، فقد جوز الشافعي التخلف بهذا. 1171 - وهذا فيه إشكال عندي؛ من حيث إن سبب التزام القصاص أكبر الكبائر بعد الردة، فكيف يستحق أن يخفف عنه، ويجوَّز له تغييب الوجه عن مستحق القصاص؟ وهذا غامض، وإن لم يتخلف عن الجماعة. ولعل السبب فيه تعرّض القصاص للشبهة؛ فإن مستحق القصاص مندوب إلى العفو في نص كتاب الله عز وجل، فلا يبعد أن يسوغ لمن عليه القصاص أن يُغيِّب وجهَه إذا كان يرتجي عفواً، ولسنا نلتزم الآن في كتاب الصلاة البحثَ عن هذه [المعاصات] (1). وقد سمعت شيخي يذكر فصل القصاص كذلك في كتاب الجمعة، وكان يحكي عن نص الشافعي جوازَ التخلف عن الجمعة لمن عليه القصاص، كما ذكرناه، ولم أر في هذا خلافاً، والذي ذكرتُه الآن نَقَله بعض المصنفين. ومنشأ هذا الإشكال جواز الامتناع من مستحِق الدم، فإن ثبت هذا، لم يخفَ بعده جوازُ ترك الجماعة والجمعة. وأنا بعون الله تعالى أعود في كتاب الجمعة إلى تفصيل المعاذير، ولعلّي ثَمّ أذكر ما فيه شفاء الغليل. 1172 - ثم مما قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مُناديه في الليلة

_ (1) في الأصل، و (ت 1) المغاغات، ولم أجد لها معنى، والمعهود في كلام إمام الحرمين: المعوصات، والمعاصات بالصاد. فلذا اخترنا ما جاء في (ت 2) على أنها أدنى عندي من (ت 1)، ومن الأصل. وأما (ل)، فجاءت بتحريف ظاهر: "المغاصات".

المطيرة، والليلة ذات الريح [يقول] (1) "ألا صلوا في رحالكم" (2). ثم ذكر الصيدلاني استحبابَ هذا النداء، وأن المؤذن يقوله عند فراغه من قوله: حي على الفلاح، وهذا مشكل؛ فإنه لم يصح فيه ثَبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (3)، وتغيير الأذان بشيء يثبت في أثنائه من غير نقلٍ فيه صحيع بعيد عندي، وليس في ذكره بعد الأذان ما يفوّت مقصود النداء. فصل قال: "وإذا وجد أحدُكم الغائطَ ... إلى آخره" (4) 1173 - إذا أرهق الرجلَ حاجةُ الإنسان، وحضرت الصلاة، فينبغي أن يبدأ بقضاء حاجته؛ فإنه إن استدام ما به، امتنع عليه الخضوع، وهو مقصود الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلّين أحدكم وهو يدافع أخبثيه" (5)، وقال: "لا يصلين

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، وهي في الحديث المتفق عليه. (2) حديث "ألا صلوا في رحالكم" رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وأصله في الصحيحين متفق عليه من حديث ابن عمر بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن، إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: "ألا صلوا في الرحال". (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 137 ح 404، المسند: 5/ 24، 74، 75، أبو داود: الصلاة، باب الجمعة في اليوم المطير، ح 1059، النسائي: الإمامة، باب العذر في ترك الجماعة، ح 854، ابن ماجة: الإقامة، باب الجماعة في الليلة المطيرة، ح 936، ابن حبان: 2076، الحاكم: 1/ 293، التلخيص: ح 566). (3) ما استشكله إمام الحرمين من قول الصيدلاني، استنكره الناس حينما قال ابن عباس لمؤذنه: " لا تقل حي على الصلاة. قل: صلوا في بيوتكم " فلما استنكر الناس ذلك، قال ابن عباس: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين والدحْض. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 137 ح 405) فصح بهذا ثبتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما حكاه الصيدلاني، وبذلك لا محل لاستشكال إمام الحرمين ما قاله الصيدلاني. نعم ورد النصّ في حديث ابن عمر عند مسلم، أن قول: "صلوا في رحالكم" كان في آخر النداء، وهذا ما يرجحه إمام الحرمين، حتى لا يدخل في الأذان ما ليس منه. (4) ر. المختصر: 1/ 110. (5) حديث: "لا يصلين أحدكم وهو يدافع الأخبثين" رواه ابن حبان بهذا اللفظ من حديث =

أحدكم وهو ضام وركيه"، وروي أنه قال: "لا تقبل صلاة امرىءً لا يحضر فيها قلبه". (1 ولو حضرت الصلاة وبالرَّجُل جوع مفرط، فليكسر ما به من سَوْرةِ الجوع وكَلَبه بلقم 1) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقيمت العِشاء وحضَر العَشاء، فابدؤوا بالعَشاء" (2) ولم يُرِد الجلوس للأطعمة وترديد الألوان، وإنما أراد تعاطي لقم، كما قدمته. وقد بُلغت عن القاضي حسين أنه قال: "لو صلى وقد ضاق عليه الأمر في مدافعة البول والغائط، وخرج عن أن يأتي منه الخشوع أصلاً لو أراده، فلا تصح صلاته؛ فإن ما هو عليه لا يوافق هيئة المصلين، بل هو في التحقيق هازىء بنفسه مستوعَبُ الفكر بالكلية فيما هو مدفوع إليه، ومن أنكر أن المقصود من الصلاة الخشوع والاستكانة، فليس عالماً بسر الصلاة". وهذا إن صح عنه، فهو بعيد عن التحقيق، ولكنه هجوم على أمر لم يُسبق إليه، ولست أعرف خلافاً أن الساهي اللاهي النازق الذي يلتفت من جانبيه، وإنما يقتصر على قراءة الفاتحة والتشهد، ولا يأتي بذكر غيرهما بعيد عن هيئة المصلين، ثم لم نحكم في ظاهر الأمر ببطلان صلاته. ...

_ = عائشة، ومسلم وأبو داود عن عائشة أيضاً بلفظ: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان" (ر. مسلم: المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، ح 560، وأبو داود: الطهارة، باب أيصلي الرجل وهو حاقن، ح 89، وانظر المسند: 6/ 43، 54، 73، وابن حبان: ح 2071، التلخيص: 2/ 32 ح 567). (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) متفق عليه من حديث أنس بلفظ: "إذا وضع العشاء، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء"، ومتفق عليه بمعناه أيضاً من حديث عائشة، وحديث ابن عمر. (اللؤلؤ والمرجان: 112، 113 ح 327 - 330، والتلخيص: 2/ 32 ح 568).

باب صلاة الإمام قائما بقعود أو قاعدا بقيام

باب صلاة الإمام قائماً بقعود أو قاعداً بقيام 1174 - إذا عجز الرجل عن القيام في الصلاة صلى قاعداً، والأَوْلى به أن يستخلف في الإمامة، فإن صلى بالناس قاعداً، صح، وهم يصلون خلفه قياماً إذا كانوا قادرين. وقال أحمد: يصلون خلف الإمام قعوداً متابعة للإمام (1). وقد صحت أخبار تقتضي ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى الإمام قاعداً فصلّوا قعوداً خلفه أجمعين" (2). والشافعي رأى ذلك منسوخاً بما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره، إذ تقدم وقعد، وكان يصلي قاعداً، وأبو بكر يصلي قائماً خلفه، مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس قيام (3)، فرأى الأخذ بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر والناسَ على قيامهم مع قعود إمامهم، ثم ذكر في الباب أحكاماً من صلاة القاعد يقدر على القيام، أو القائم يعجز عن القيام، وقد استقصيت ما يتعلق بذلك في باب صفة الصلاة على أبلغ وجه وأحسنه. 1175 - ثم قال الشافعي: على الآباء والأمهات أن يعلّموا صبيانهم الصلاة. وهذا بيّن، ثم الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع،

_ (1) ر. الإنصاف: 2/ 261، وكشاف القناع: 1/ 477. (2) جزء من حديث متفق عليه عن عائشة وعن أبي هريرة بلفظ: "إنما جعل الإمام ليؤتم به ... وإذا صلى جالساً، فصلوا جلوساً أجمعون" (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 84 ح 233، 234). (3) متفق عليه في قصة من حديث عائشة رضي الله عنها. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 84 ح 235).

واضربوهم عليها وهم أبناء عشر" (1): قيل: أمر بضربهم على العشر؛ لأنهم يحتملون الضرب، وقيل: السبب فيه أن العشر سن احتمال البلوغ، فلا نأمن أن الصبي العرم بلغ ولا يصدقنا. ...

_ (1) حديث: "مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع .. " رواه أبو داود، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، وهما والترمذي والدارقطني عن سبرة الجهني. (ر. أبو داود: الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، ح 494، 495، الحاكم: 1/ 197، 201، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، ح 407، الدارقطني: 1/ 230، التلخيص: 1/ 84 ح 264).

باب اختلاف نية الإمام والمأموم

باب اختلاف نية الإمام والمأموم 1176 - اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة لا يمنع القدوة عندنا، فيجوز أن يقتدي قاضٍ بمؤد، ومؤد بقاضٍ، ومتنفلٌ بمفترض، ومفترضٌ بمتنفل، والخلاف مشهور مع أبي حنيفة (1)، ومعتمد المذهب أن الاقتداء متابعةٌ في ظاهر الأفعال، والغرض منه أن يربط المقتدي فعلَه بفعل إمامه، حتى لا يتكاسل ولا يتجوَّز في صلاته، وإلا، فكل مصل لنفسه، والنيات ضمائر القلوب، فلا يتصوّر الاطلاع عليها؛ حتى يفرض اقتداءٌ بها. واختلف قول الشافعي في أن إمام الجمعة لو كان متنفلاً، فهل يصح من القوم أداء الجمعة خلفه أم لا؟ وكذلك اختلف قوله في إقامة الجمعة خلف الصبي، وسيأتي ذلك مستقصىً في كتاب الجمعة إن شاء الله تعالى. وسبب اختلاف القول في الجمعة أن الجماعة واجبة فيها، فجرى الأمر فيها على نسق آخر. 1177 - ثم نحن وإن لم نراعِ في صحة القدوة في سائر الصلوات اتفاقَ النيّات، فلا بد من رعاية كيفية الصلاة في ظاهر الأفعال، والقول في ذلك ينقسم: فإن كانت صلاة (2) الإمام في وضعها مخالفة لصلاة المأموم، مثل أن يكون الإمام في صلاة الجنازة، أو الخسوف، والمأموم في صلاة من الصلوات المعهودة، فالأصح أن الاقتداء باطلٌ؛ لأن المتابعة لا بد منها في الأفعال ظاهراً، وذلك متعذر غير ممكن، وأبعد بعض أصحابنا، فجوز الاقتداء. فإن منعنا، فلا كلام.

_ (1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 89، 90، مختصر اختلاف العلماء 1/ 246 مسألة: 193. (2) من هنا بدأ خرم في نسخة (ت 2) وهو عبارة عن فقد ورقة كاملة.

وإن جوّزنا، فتفريعه أن نقول: إذا اقتدى بإمام في صلاة الجنازة، فيبقى قائماً مادام إمامه في الصلاة، فإذا سلم، انفرد المقتدي بنفسه، فيركع ويجري على ترتيب صلاته، ولا يوافق الإمامَ في تكبيرات صلاة الجنازة، والأذكارِ المتخللة بينها، ولا يقدح ذلك في القدوة المعتبرة في ظاهر الأفعال؛ فإن المقتدي بالإمام في صلاة العيد لو لم يكبر التكبيرات الزائدة، وكان الإمام يأتي بها، فلا تنقطع القدوة بهذا السبب. وإذا اقتدى في صلاة معهودة بمن يصلي صلاة الخسوف -والتفريع على الوجه الضعيف في تصحيح القدوة- فإذا ركع الإمام، ركع المقتدي، ثم الإمام يرفع رأسه، ويركع ركوعاً آخر، والمقتدي يستقر في الركوع الأول حتى يعود إليه الإمام، ثم يرتفع معه، إذا رفع رأسه من الركوع الثاني، ولا يرتفع عن الركوع الأول، ثم ينتظره واقفاً حتى يركع ركوعاً آخر، ويرتفع؛ لأنه لو فعل كان مطوّلاً ركناً قصيراً، وإذا انتظر راكعاً، فالركوع ركن طويل يقبل التطويل، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى أنه يوافق إمامه فيركع ركوعين، وإن كان المأموم قد يأتي بأفعال لا تحسب له بسبب الاقتداء، كما سنذكر طرفاً منه الآن. والسبب في ذلك (1) في صلاة الخسوف، أن نظم صلاة الخسوف يخالف نظم الصلاة التي تَلَبَّس المقتدي بها، وإن كان المقتدي يوافق إمامه إذا كان مسبوقاً في أفعالٍ لا تحسب؛ فتلك الأفعال موجودة في صلاة المقتدي على الجملة. فهذا إذا كانت صلاة الإمام مخالفة في وصفها لصلاة المأموم. 1178 - فأما إذا لم تكن الصلاتان مختلفتين في الوضع، ولكن كانتا مختلفتين في عدد الركعات، نُظر: فإن كان عدد ركعات صلاة المقتدي أكثر، فالقدوة تصح بلا خلاف، كمن يقتدي في قضاء صلاة العشاء بمن يصلّي الصبح (2) فهذا صحيح، فيصلي مع الإمام ركعتين، فإذا سلم الإمام، قام المقتدي إلى بقية صلاته، وإنما صح

_ (1) "في ذلك" أي في عدم المتابعة للإمام الذي يصلي صلاة الخسوف؛ لأن المتابعة ستقتضيه أفعالاً تخالف نظم صلاته. (2) انتهى الخرم الذي بدأ من نحو صفحتين في نسخة (ت 2).

ذلك؛ لأن من سبقه إمامُه في [صلاة رباعية بركعتين، فاقتدى به في بقية صلاته، فصورة] (1) صلاته تكون بمثابة اقتداء من يصلي العشاء بمن يصلي الصبح. 1179 - فأما إذا كان عدد ركعات صلاة المأموم أقل، ففي صحة القدوة على ظاهر المذهب قولان في هذه الصورة: أحدهما - الصحة، وهو الظاهر الذي قطع به الصيدلاني، ووجهُه اعتبارُه بالصورة قبيل هذه. فإذا توافقت الصلاتان في النظم، فينبغي ألا يؤثر تفاوت عدد الركعات، كما لو كان عدد ركعات صلاة المأموم أكثر. والقول الثاني - أنه لا تصح القدوة بخلاف الصورة الأولى؛ فإن في الصورة الأولى لا يفارق إمامه، والإمام متمادٍ في صلاته، بل الإمام يفارقه، وهو يقوم إلى بقية صلاته، كفعل المسبوق. بخلاف صورة القولين على ما سنبين في التفريع. فإن صححنا القدوة -على الأصح- فنفرع صوراً، فنقول: إن كان المقتدي في الصبح قضاء أم أداء، والإمام في صلاة رباعية، فيصلي ركعتين مع الإمام، ويجلس معه للتشهد، ثم الإمام يقوم إلى الثالثة، والمقتدي لا يقوم معه أصلاً، وهو بالخيار: إن شاء تحلل عن صلاته، وفارق إمامه، ولا يضره ذلك؛ لأنه معذور بمفارقته، وإن شاء بقي جالساً، وانتظر الإمام، حتى يصلي ركعتين، ويجلس، ويسلم، فيسلم معه. [و] (2) في هذا الانتظار، وفي بقاء المقتدي على حكم القدوة في سهو يقع (3)، كلامٌ [مُفصّل] (4) يأتي في صلاة الخَوْف (5) إن شاء الله تعالى.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل ومن (ط)، وحدهما. (2) "في هذا الانتظار ... " كلامٌ مستأنف، زادته (ل) وضوحاً؛ إذ جعلت (واواً) في أول الفقرة. (3) "يقع" أي أثناء الانتظار من الإمام. (4) في الأصل، وفي (ط) و (د 1) و (ت 2): متصل، وأما (ت 1) فالصفحة كلها مطموسة، ولعلّ الصواب ما قدرناه. أما (ل) ففيها: "كلام مشكل". وفي هامشها: "متصل" نسخة أخرى. (5) في (ت 2): الخسوف. وهو تصحيف.

1180 - فإن قيل: هلاّ تابع الإمامَ في ركعتيه الباقيتين، ثم لا تحسبان [له] (1) كالمسبوق يدرك الإمام رافعاً رأسه عن الركوع، فإنه يتابعه في بقية الركعة، ثم لا تحسب له؟ قلنا: هذا محال؛ فإن المتابعة في ركعة تامة، غير محسوبة، محال، فأما بعض الركعة، فقد لا يحتسب. ثم ذلك في حق المسبوق يقع في صدر الصلاة، فلا وجه إذاً لما قاله السائل. فلو اقتدى في صلاة المغرب بمن يصلي أربع ركعات، فإذا رفع الإمام رأسه من سجود الركعة الثالثة، وقام إلى الرابعة، جلس المقتدي للتشهد، ولم يتابع إمامه أصلاً، [ويسلم] (2). ولو أراد أن ينتظر إمامَه في هذه الجلسة حتى يعود إليه ويسلم معه، لم يكن له ذلك على ظاهر المذهب، فإنه فارقه لمّا جلس للتشهد، فلا ينتظره بعدما فارقه. وليس كما لو كان المقتدي في صلاة الصبح والإمام في الظهر، فإنه يجلس مع إمامه، ثم يقوم الإمام إلى الثالثة، وله أن ينتظره؛ لأنه ما أحدث تشهداً، بل وافق إمامه فيه، فإذا انتظره، كان في حكم المطوِّل المستديم لتشهده، وفي صلاة المغرب تشهد، حيث لم يتشهد إمامه أصلاً، فكل ذلك مفارقة للإمام. 1181 - ومما يليق بتمام التفريع أن المأموم لو كان في قضاء الظهر والإمام في صلاة المغرب، فإذا جلس الإمام عقيب الركعة الثالثة للتشهد، يجلس المقتدي معه للمتابعة، ثم لا تحتسب له هذه الجلسة، فإذا سلم إمامه، قام إلى الركعة الرابعة، ولا يبعد أن يوافق في تشهدٍ لا يحسب له، فأما ركعة تامة، فيستحيل أن يوافق فيها، ثم لا تحتسب له، كما قدمناه في تفريع الصورة المتقدمة.

_ (1) ساقطة من الأصل، ومن (ط)، ومطموسة في (ت 2). (2) في جميع النسخ: "ولم يسلّم" وهو سبق قلم لا شك، ينقضه الجملة بعده، ثم جاءتنا (ل) مؤكدة هذا. (أي بدون لم).

فصل 1182 - إذا أحس الإمام بداخل، فهل ينتظره حتى يدركه؟ أما إذا كان في القيام، فلا ينتظره، فإنه لا يتوقف إدراكه على أن يدركه قائماً؛ إذ لو أدركه راكعاً، لصار مدركاً، ولا ينتظر في السجود أحداً؛ لأن المأموم لا يصير مدركاً بإدراك السجود، فالانتظار إن كان يفيد، فإنما يفيد في الركوع. فإذا أحس الإمام في الركوع بداخل، فهل ينتظره؟ فعلى قولين: أحدهما - لا ينتظره، وهو الأصح، لأنه بانتظاره يطوّل الصلاةَ على نفسه، وعلى السابقين بسبب المسبوق وهذا لا سبيل إليه. والقول الثاني - إنه لا بأس لو انتظر، قال الإمام (1): [وقد] (2) رأيت طردَ القولين لبعض الأئمة في الانتظار في القيام والسجود، لإفادة الداخل بركةَ الجماعة. وهذا لا أعتمده. ثم اختلف أئمتنا في محلّ القولين في الانتظار في الركوع، فمنهم من قال: القولان في بطلان الصلاة، وهذا فيه بعد، ولكن في كلام الشافعي ما يدل عليه، كما سنذكره في كتاب صلاة الخوف إذا زاد الإمامُ انتظاراً في الصلاة. والذي يمكن أن يوجّه البطلان به، أن الذي ينتظر يُعلِّق صلاتَه بغيره، ولا يجوز أن تعلق الصلاةُ إلا بإمامٍ يُقتدى به، وسنذكر في أحكام القدوة والإمامة أن من اقتدى بمقتدٍ، فصلاته باطلة؛ لأنه علق بمن لا يصلح للإمامة، وإذا كانت الصلاة تبطل بهذا، فلا يبعد أن تبطل إذا عُلقت بانتظار من ليس في الصلاة. ومن أئمتنا من قال: القولان في الكراهية. وهذا هو الظاهر، فإن توجيه البطلان تكلف.

_ (1) الإمام هنا يعني به والده الشيخ أبا محمد. (2) في الأصل: ولو.

1183 - ثم إن قلنا: إن الانتظار لا يُبطل ولا يكره، فقد تردد جواب شيخي في أنه هل يُستحب إذا انتهى التفريع إلى هذا؟ والوجه عندي القطع بأنه لا يستحب، بل يعارض توقِّي التطويلَ على الأولين السعيُ في تحصيل ركعةٍ في الجماعة للداخل، فيقتضي تعارضهما جوازَ الانتظار من غير كراهية. ثم ذكر الصيدلاني: "أن الاختلاف فيه إذا كان لا يطوّل على السابقين، وهذا موضع التأمل؛ فإنه لو لم يطوّل الركوعَ الذي هو فيه، لم يحصل للانتظار تصوّر، حتى يفرض التردد فيه، وإن طول الركوع، وزاد على المعتاد فيه، فقد حصل التطويل". فالذي أراه في ذلك أنه إذا طوّل ركوعاً واحداً تطويلاً لو فُضَّ (1) ووزعِّ على جميع الصلاة، لما ظهر في كل الصلاة أثرٌ في التطويل محسوس، ولكن كان يظهر في الركن الذي فرض فيه الانتظار، فهذا موضع القولين. وإن كان التطويل بحيث يظهر على كل الصلاة. ظهوراً محسوساً، فهذا يمتنع عند الصيدلاني قولاً واحداً، وهذا حسن بالغ، ولا وجه إلا ما ذكره. 1184 - والذي يليق بتحقيق هذا: أنا إذا كنا نقول: الانتظار لا يبطل الصلاة على أحد القولين، ويُبطل على القول الثاني، فقطعُنا القولَ بمنع التطويل في الصورة التي ذكرناها لا يوجب قطعاً بالبطلان؛ فإن سبب القطع بالمنع ألا يُطَوِّل على السابقين، وهذا أدبٌ، وليس من مبطلات الصلاة، والذي يقتضيه ما ذكره أنه لو انتظر مرة، أو مرتين، فقد يخرج على القولين إذا كان لا يظهر أثر التطويل في جميع الصلاة، وإن كان ينتظر في كل ركعة، فقد يجر ذلك القطعَ بالمنع، لإفضائه إلى التطويل إذا جمع، ونزّل ذلك منزلة الإفراط في تطويل ركوع واحد.

_ (1) فُض: أي قسّم.

فصل فيمن يصح الاقتداء به 1185 - القياس الظاهر يقتضي أن يقال: من تصح صلاتُه في نفسه، يصح اقتداء الغير به، ولا يقع الاكتفاء بأن يكون المصلِّي مأموراً بصلاته؛ فإنه إذا كان يقضيها، فلا يصح اقتداء من تصح صلاته من غير أمر بالقضاء به، وهذا القياس يجري مطرداً على مذهب الشافعي إلا في موضعين، فنذكر طرد القياس أولاً بالأمثلة، فنقول: يصح اقتداء المتوضىء بالمتيمم الذي لا يقضي الصلاة، ويجوز اقتداء الكاسي بالعاري، إذا كان لا يجب القضاء على العاري، فإن لم يجد المرء ماءً ولا تراباً، وقلنا: إنه يصلي في الوقت ويقضي، فلا يصح اقتداء المتوضىء به، ولا اقتداء المتيمم الذي لا يقضي. 1186 - فأما ما هو مستثنى عن القياس الذي طردناه، فشخصان أحدهما - المرأة. لا يجوز اقتداء الرجل بها أصلاً، وإن كانت صلاتها صحيحةً، وهذا تعليله مشكل، ولكنه متفق عليه، لا نعرف فيه خلافاً، ولو قيل: الإمام يحتاج إلى تبرج وبروز، ولا يليق بمنصب النساء، لم يكن بعيداً، ولكن لا يقتدي الرجلُ بزوجته، وبأخته في داره، فلعل المرعيَّ في الإمامة كمال، وليست المرأة أهلاً له. ولا خلاف أن المرأة يجوز أن تكون إمامةً، لامرأة أو نسوة، فهي إذاً على الجملة من أهل الإمامة، وإنما يمتنع على الرجال الاقتداء بالنساء. ويمتنع اقتداء الرجل بالخنثى المشكل، ولو اقتدى، لزمه القضاء، ولو لم يتفق منه القضاء حتى بان الخنثى رجلاً، ففي وجوب القضاء قولان: أحدهما - لا يجب؛ لأنه قد تبين أنه اقتدى برجل. والثاني - يجب؛ فإنه فى عقد صلاته خالف الأمر، وقد ألزمناه القضاء ظاهراً لذلك، فلا ينقض ما مضى؛ لأن التحرم والعقد كان على ظاهر البطلان. والخنثى لا يقتدي بامرأة؛ لجواز أن يكون رجلاً، فلو اقتدى بامرأة، فألزمناه

القضاء، فلم يقض حتى تبين أنه امرأة، ففي وجوب القضاء القولان المقدمان، كما ذكرناه. فهذا أحد ما استثنيناه. 1187 - والثاني - اقتداء القارىء بالأمي، فنصوّر الأمي ونصفه أولاً، ثم نذكر ترتيب المذاهب. والمعنيُّ بالأمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة، أو كان لا يطاوعه لسانُه على القراءة السديدة، بل كان يُحيل معنى كلمة منها، وإن كان قادراً على التعلم مقصراً فيه، فلا تصح صلاتُه في نفسه، وليس ذلك صورة مسألتنا، وإن كان لا ينطلق لسانه بالصواب، فصلاته في نفسه صحيحة، وهو الأمي الذي نريد تفصيل الاقتداء به. وإن كان يحسن الفاتحة، وكان يلحن في غيرها، فقد قال الأئمة: لا يضرُّ لحنُه في غير الفاتحة، إذا كان عاجزاً عن تسديد اللسان؛ فإنّ صلاته صحيحة، والمقدار الذي هو ركن القراءة هو فيه ليس بأمي. وفي هذا نظر؛ من جهة أنه لو قيل: ليس له في نفسه أن يقرأ بعد الفاتحة ما يلحن هو فيه؛ فإن تلك القراءة ليست واجبة، والتوقي من الكلام واجب، والكلمة التي يلحنها ليست من القرآن، فكأنه يتكلم في صلاته، لما (1) كان ذلك بعيداً عن القياس، فلينظر الناظر في ذلك. وإن كان يردد حرفاً، ثم ينطلق كالذي يردد التاء ثم يجري -وهو التمتام- فليس بأمي، وكذلك الفأفاء، وهو الذي يردد الفاء، فإنه إذا كان يأتي بحرف، وهو معذور فيما يزيد، كالذي يتكلم ناسياً، فالقراءة صحيحة، والزائد محطوط عنه. فإذا تُصوّر الأمي، فالذي نص عليه الشافعي في الجديد أنه لا يصح اقتداء القارىء به، ونص في القديم على جواز الاقتداء به. ونقل بعض الأئمة قولاً ثالثاً: وهو أنه إن كانت الصلاة سرية، جاز الاقتداء به، وإن كانت جهرية، لم يجز الاقتداء به مطلقاً.

_ (1) قوله: "لما كان ذلك بعيداً عن القياس" هو جواب (لو) في قوله: "لو قيل ... ".

1188 - احتج للقديم بأن صلاته صحيحة، وهو من أهل التبرج (1)، احترازاً عن المرأة، فأشبه القارىء، واحتج المزني لما اختار هذا القول بأن اقتداء القائم بالقاعد العاجز عن القيام صحيح، وكذلك اقتداؤه بالمريض المومىء، وكذلك اقتداء المتوضىء بالمتيمم، فإذا كانت القدوة تصح إذا صحت صلاةُ الإمام، سواء كان نقْصُ صلاته راجعاً إلى ركنٍ أو شرط، فليكن العجز عن القراءة السديدة بهذه المثابة، ولا شك في [اتجاه] (2) القياس في نُصرة هذا القول. ثم لا خلاف أنه يجوز اقتداء الأمي بالأمي. ومن قال بالجديد، فليس ينقدح لتوجيهه عندي وجه إلا أن الإمام يتحمل على الجملة القراءة عن المأموم؛ فإنه يتحمل عنه القراءة إذا أدركه المسبوق في ركوعه قولاً واحداً، ولا يجري ذلك في شيء من الأركان، وهذا لا يعارضه سقوط المكث في القيام عن المسبوق؛ فإن القيام تبع للقراءة من جهة أنه محلها، فإذا سقطت، سقط المحل، فإذا وضح ذلك في القراءة، فينبغي أن يكون الإمام على كمالٍ في هذا الركن، حتى يصلح للإمامة لكاملٍ فيه (3). وتحقيق ذلك أنا نقول: كأن قراءة الإمام منقولة إلى المقتدي، ولو قرأ المقتدي ما يقرؤه الأمي، وهو في نفسه قارىء، لم تصح صلاته، ويخرّج عليه جواز اقتداء الأمي بالأمي. وأما وجه القول الثالث (4)، فلا يتبين إلا بتخريج ذلك القول على القول الذي حكيناه في أن القراءة تسقط عن المقتدي في الصلاة الجهرية، ولا تسقط في السرية، فحيث تسقط كأنها وقعت محتملة عن المأموم، فلا بد من اشتراط كمال من يتحمل، وفي السرية تجب القراءة على المقتدي، فلا أثر لعجز الإمام، كما ذكره المزني من

_ (1) "من أهل التبرج": أي من أهل الظهور والبروز، وقد سبق قوله قبلاً: "إن الإمامة تحتاج إلى تبرج وبروز، ولا يليق هذا بمنصب النساء". (2) في الأصل: اتحاد. (3) أي ينبغي أن يكون كاملاً في هذا الركن حتى يصلح لإمامة من هو كامل فيه. (4) الوجه الثالث هو جواز الاقتداء بالأمي في الصلاة السرّية دون الجهرية.

التعلق باقتداء القائم بالعاجز عن القيام. فهذا بيان الأقوال في الاقتداء. 1189 - ثم إن قلنا: يجوز الاقتداء بالأمي، فلا كلام. ولو لم يجز الاقتداء به، فلو كان الرجل يلحن في النصف الأول من الفاتحة، وكان المقتدي يلحن في النصف الأخير منها، فلا يجوز الاقتداء به، وإن كانا أميين، لأن المقتدي في هذه الصورة ليس بأمي في النصف الأول، وإمامه أمّي فيه، فإذا اقتدى به، فقد تحقق اقتداء قارىء في النصف الأول بأمي فيه، ولو فرض اقتداء الإمام في هذه الصورة بمن قدرناه مقتدياً، لم يجز أيضاً لمثل ما ذكرناه، فإذن هما شخصان، لا يجوز اقتداء أحدهما بالثاني. وهذه من صور المعاياة (1) والمغالطة في السؤال، فإن السائل يعرضها ويقول: أيهما أولى بالإمامة؟ والجواب عنها، أن واحداً منهما لا يجوز أن يكون إماماً لصاحبه، لما قدمنا على القول الذي نفرع عليه. 1190 - ومما نفرعه على هذا القول: أن من اقتدى بإمام في صلاة سرية، والمقتدي قارىء، فقد أجمع الأئمة على أنه لا يجب على المقتدي البحثُ عن قراءة إمامه، فإن الغالب أنه قارىء، فيجوز حمل الأمر عليه، كما يجوز حمل الأمر على أنه متطهر، وإن كنا نشترط في القدوة صحة طهارة الإمام. ثم يخرج من ذلك أنه لو بحث، فتبين أنه لم يكن قارئاً، فهو في التفريع كما لو تبين أن الإمام كان جنباً، ولو ظهر ذلك، لم يجب على المأموم إعادة الصلاة. ولو كانت الصلاة جهرية، فتبين فيها كونَه أُميّاً أو قارئاً؛ فإنه يقع الحكم على حسب ما يظهر. ولو كان يُسر بالقراءة في صلاة جهرية، فقد ذهب كثير من أئمتنا إلى أنه يجب الآن بحثه عن حاله؛ فإن إسراره والصلاة جهرية يُخيل مكاتمة نقصه في القراءة. وقال آخرون: لا يجب البحث في هذه الصورة أيضاً، فإن الجهر الذي تركه هيئة

_ (1) المعاياة: يقال: عايا فلانٌ صاحبَه: ألقى عليه كلاماً لا يهتدَى وجهه. فالمعاياة هي: الإلغاز، والمعاجزة. (المعجم).

من هيئات الصلاة، [فلا أثر له، وللإسرار محمل آخر سوى جهله بالقراءة، وهو أنه نسي أن الصلاة] (1) جهرية؛ فأسر بها، فهذا تفريع القول. فرع: 1191 - في [بعض] (2) الأئمة: ما كان يقطع به شيخي وهو مذهب نَقَلَةِ المذهب، أن اقتداء الطاهرة بالمستحاضة صحيح، طرداً للقياس المقدم في رعاية الصلاة (3)، وصلاة المستحاضة صحيحة. وذكر بعض أئمة العراق وجهاً، أنه لا يجوز الاقتداء بها؛ فإن في صلاتها خللاً غيرَ مجبور ببدل، وليست كالمتيمم يقتدي به المتوضىء؛ فإن الإمام، وإن لم يتوضأ، فقد أتى بما هو بدل عن الوضوء. وهو ركيك لا أصل له. فرع: 1192 - من لم يجد ماء ولا تراباً هل يقتدي بمن هو في مثل حاله، ثم يقضيان جميعاًً؟ كان شيخي يتردد في هذه الصورة، من جهة أن صلاة الإمام إن كانت مقضية، فصلاة المأموم كذلك، فيشبه بما لو صحت صلاتهما جميعاًً. ويمكن أن يقال: لا يصح الاقتداء نظراً إلى فساد صلاة الإمام، والعلم عند الله. فهذا مجموع ما يمنع القدوة وما لا يمنعها، وبيان طرد القياس مع الاستثناء منه. فصل 1193 - إذا اجتمعت نسوة في دار فحسن عندنا أن تصلي بهن واحدة منهن؛ فإن اقتداء النسوة بالمرأة جائز، وإذا لم يبرزن في مسجد، فليس في عقدهن الجماعة ما يناقض الستر المأمور به. ثم الجماعة على الصورة التي ذكرناها مسنونة لهن عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (4)،

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، ومن (ط). (2) في الأصل و (ط) و (ت 1): نقض. وفي (ت 2): نقض الإمامة. والمثبت من: (د 1). ثم الكلام على حذف مضاف، والتقدير: فرعٌ في غريب بعض الأئمة. (3) "رعاية الصلاة": أي اعتبار صلاة الإمام، فإن صحت، صحت صلاة المأموم. (4) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 380، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 305 مسألة: 263.

وقد روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر أم ورقة حتى تصلي بالنسوة في دارها" (1). وروي أن عائشة وأمَّ سلمة أمَّتا بنسوة ووقفتا وسطهن (2). وهذا هو المستحب للتي تكون إمامة؛ فإنها لو تنصلت عن الصف كدأب الرجل الإمام، كان ذلك مناقضاً للستر المأمور به. 1194 - فإن قيل: هلا خرجتم استحباب الجماعة على ما قدمتموه في باب الأذان من الاختلاف في أذانهن وإقامتهن؟ قلنا: في الأذان إظهارٌ وتركٌ للستر، وليس في إقامة الجماعة ذلك، ولو خفضت المرأة صوتها، كان ذلك تركاً لمقصود الأذان، فقد بان مفارقة الأذان والإقامة للإمامة، ولما كانت الإقامة لا يشترط فيها رفع الصوت، كان إثباتها في [حقهن] (3) أولى في ترتيب المذهب من الأذان. 1195 - والنسوة لو شهدن المسجد، واقتدين بالرجال، فإن كنّ شوابّ، فلا يستحب ذلك لهن، والستر ولزوم البيت أولى بهن، ولو حضرن، صح اقتداؤهن، ثم لا يشترط في تصحيح الاقتداء [لهن] (4) أن يقتدين وينوي الإمام إمامتهن. وشرط أبو حنيفة (5) في صحة قدوتهن ذلك، وهذا غير صحيح؛ فإنه يجوز عندنا للرجل أن يقتدي بالمنفرد في صلاته، وإن لم ينو إمامة أحد.

_ (1) حديث أم ورقة رواه أبو داود، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي (ر. التلخيص: 2/ 27 ح 556، أبو داود: الصلاة، باب إمامة النساء، ح 591، 592، والدارقطني: 1/ 403، والحاكم: 1/ 203، والبيهقي: 3/ 130). (2) حديث إمامة عائشة رواه عبد الرزاق في مصنفه، والدارقطني، والبيهقي، ومن طريق آخر ابن أبي شيبة والحاكم. وأما حديث إمامة أم سلمة، فقد رواه الشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق (ر. التلخيص: 2/ 42 ح 597، 598، عبد الرزاق: ح 5086، ابن أبي شيبة: 2/ 89، ترتيب مسند الشافعي 1/ 107 ح 315، والدارقطني: 1/ 405، والحاكم: 1/ 203، والبيهقي: 3/ 131). (3) في الأصل، و (ط)، و (ت 1): خفضهن. والمثبت من: (ت 2) و (د 1). (4) مزيدة من: (د 1). (5) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 387، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 266 مسألة: 217.

والعجوز إذا خرجت إلى جمع الرجال، ووقفت في أخريات المسجد (1)، واقتدت، صح ذلك منها، وهل يستحب [ذلك أو يكره؟ أما الكراهية، فلسنا نكره، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه كره] (2) ذلك [إلا] (3) في صلاة الفجر والعشاء، ونحن نعتمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كره للنساء الخروج للجماعة إلا أن تكون عجوزاً تخرج في مِنْقَليها" (4).، والمنقل الخف الخلَق، أراد صلى الله عليه وسلم خروجها للعبادة مبتَذِلة (5)، فإنها لو تشبهت بالشوابّ، فلا شك أنه يكره ذلك لها. ثم إذا نفينا الكراهية، فالذي رأيته للأئمة أنا لا نرجح خروجَها على لزومها بيتها؛ فإنه يتعارض في حقها رعايةُ الستر وإقامةُ الجماعة مع الرجال، فيخرج من تعارض الأمرين نفي الكراهية في الحضور واستواء الأمرين. ولو حضرت شابّة، ووقفت بجنب الإمام واقتدت، فقد أساءت من وجوه، ولكن تصح صلاتها، وصلاةُ الإمام، خلافاً لأبي حنيفة (6)، وخبط مذهبه معروف في ذلك. فصل 1196 - ذكر الشافعي أن الأعمى يجوز أن يكون إماماً للبصير، وهذا خارج على القياس الممهد، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف للإمامة في بعض غزواته ابن أم مكتوم في المسجد (7)، ثم مذهب الشافعي أنا لا نجعل البصير أولى من

_ (1) في (ت 2): الناس. (2) زيادة من (ت 1)، و (ت 2). (3) زيادة من المحقق، بناء على المعروف من مذهب أبي حنيفة (ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 231 مسألة 171، والاختيار: 1/ 59، وحاشية ابن عابدين: 1/ 380). (4) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كره للنساء الخروج للجماعة ... " قال الحافظ: "لا أصل له" ... لكن رواه البيهقي موقوفاً عن ابن مسعود رضي الله عنه (ر. السنن الكبرى: 3/ 131، والتلخيص: 2/ 27 ح 557). (5) اسم فاعل من ابتذل: لبس المِبْذَل. والمبذل: الثوب الخَلَق. (المعجم). (6) ر. رؤوس المسائل للزمخشري: 149 مسألة: 56، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 266 مسألة: 216، البدائع: 1/ 431، تحفة الفقهاء: 1/ 360، الهداية: 1/ 57. (7) حديث استخلاف ابن أم مكتوم. رواه أبو داود عن أنس، ورواه أحمد، ورواه ابن حبان في =

الضرير، ولا الضرير أولى من البصير؛ [إذ في كل واحد منهما أمر يعارض ما في صاحبه، أما البصير] (1) فقد يفرق فكرَه في الصلاة بصرُه، ولكنه مستقل بنفسه في استقباله، والضرير في الأمرين على مناقضته، فاقتضى ذلك أن يستويا. فصل 1197 - يجوز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة وكان منفرداً؛ فإن معنى الاقتداء أن يربط الإنسان صلاته بصلاة غيره، وهذا المعنى يحصل وإن كان الإمام منفرداً؛ وقد روي: "أن عمر كان يدخل فيصادف أبا بكر في صلاة فيقتدي به" وكذلك يفعل أبو بكر إذا دخل فصادف عمر في الصلاة (2). 1198 - وأجمع أئمتنا أن من اقتدى بمأموم لم يجز؛ وتبطل الصلاة، والسبب فيه أن منصب الإمامة يقتضي الاستقلال وكونَ [الإمام متبوعاً قائماً بنفسه، وليس المقتدي كذلك، والذي يحقق ذلك أن سهو] (3) الإمام يلحق المأموم، وسهو المأموم يحمله الإمام، والمقتدي سهوه محمول، ويلحقه سهو إمامه، وهو يُخرجه عن حكم الإمامة، فإن قيل: أليس أبو بكر كان مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، والناس كانوا مقتدين بأبي بكر؟ قلنا: إنما كانوا مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً في المحراب، وكان أبو بكر كالمترجم الذي يبيّن للقوم أحوالَ الإمام وانتقالاته في صلاته. 1199 - ولو اقتدى برجل هو شاكٌ لا يدري أن إمامه مقتد بغيره أم لا، فلا تصح

_ = صحيحه، وأبو يعلى والطبراني عن عائشة، والطبراني أيضاً عن ابن عباس (ر. أبو داود: الصلاة، باب إمامة الأعمى، ح 595، والمسند: 3/ 192، وابن حبان: 2131، 2132 وأبو يعلى: 7/ 434 ح 4456، التلخيص: 2/ 34 ح 575). (1) زيادة من (ت 1) و (ت 2) و (د 1). (2) حديث "أن عمر كان يصادف أبا بكر فيصلي وراءه ... " قال الحافظ: "لم أجده" (التلخيص: 2/ 43 ح 602). (3) سقط من الأصل، ومن (ط) وحدهما.

قدوته مع هذا التردد، كما لو اقتدى بخنثى مشكل. ولو استمر على القدوة ثم بان أن إمامه لم يكن مقتدياً، هل يجب على المقتدي قضاء الصلاة والحالة هذه؟ فعلى قولين كالقولين فيه إذا اقتدى بخنثى، ثم لم يقض الصلاة حتى يتبين أن الخنثى رجل. 1200 - ولو كان يصلي مع رجل وأشكل على كل واحد منهما حالُه، فلم يدر أنه مقتدٍ بصاحبه أو إمامٍ له، فلا تصح صلاة واحدٍ منهما على هذا التردد؛ فإنه لا يدري أيتابع أم يستقل؟ ولو كان يظن كل واحد منهما أنه إمام صاحبه، فتصح صلاته؛ فإنه يمضي في صلاته باختياره ولا ينتظر حكم المتابعة. 1201 - ومما يليق بما نحن فيه أن من اقتدى بإمام، فالأولى ألا يعيّنَه في نيته، بل ينوي الاقتداءَ بالإمام الحاضر، وليس عليه أن يعرفَه بلا شك فيه؛ فإن نوى الاقتداء بزيد، فإن أصاب، فذاك، وإن أخطأ، فالذي ذكره الأئمة أنه لا يصح اقتداؤه، ولا تصح صلاته، وعدوا هذا مما لا يجب التعيين فيه. ولو عينه المرء، فعليه خطر في الخطأ، فإن أخطأ، لم تصح صلاته، وكذلك لو نوى الصلاة على زيد، ثم تبين أن الميت غيرُ من عينه، فلا تصح صلاته، وهذا فيه إشكال من جهة أن من ربط نيته بمن حضر، واعتقده زيداً، فإذا المعيَّنُ غيرُه، فقد اجتمع في نيته تعيين وخطأ في المعيَّن، فيظهر أن يقال: المحكَّم (1) تعيينه وإشارته إلى شخصه، ويسقط أثر خطئه في اسمه. وقد يعنّ للناظر أن يخرّج هذا على مسألةٍ في البيع، وهي أن يقول الرجل: بعتك هذا الفرس، وأشار إلى حمار، ففي صحة البيع وجهان مشهوران سيأتي ذكرهما، فربْطُ الاقتداء بمن في المحراب مع اعتقاده أنه زيد بهذه المثابة. وإن تكلّف متكلّف تصويرَ عقد الاقتداء بزيد مطلقاً من غير ربط بمن في المحراب، فهذا في تصويره عُسْر مع العلم بأنه يعني من خضه، ومن سيركع بركوعه ويسجد بسجوده، والعلم عند الله عز وجل.

_ (1) في (ت 2): الحكم.

فصل يشتمل على ذكر من يقتدي بعد الانفراد، وينفرد بعد الاقتداء. 1202 - فلتقع البداية بمن يعقد الصلاة على حكم الانفراد، ثم يتفق عقد جماعة، فيريد ربطَ الصلاة بالقدوة، وقد اختلف نصوص الشافعي (2 في ذلك: والذي نقله الصيدلاني عن الجديد منعُ ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة (1)، وقال الشافعي 2) في الكبير: "قد كان في ابتداء الإسلام، ثم نسخ، وذكر فيه قصة معاذ، وهي أن المسبوق كان يحضر ويسائل من في الصلاة عما فاته، فيشيرون بالأصابع إلى أعداد الركعات التي فاتت، فكان يبتدر إلى ما فاته، ثم يصلي بصلاة الإمام فيما يصادفه من بقية صلاته، فدخل معاذ يوماً وكان مسبوقاً، فاقتدى، وصلّى ما وجد، ثم قام لمّا سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى ما فاته، ثم لما تحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاته قال: إن معاذاً سن لكم سنة حسنة فاتبعوها" (3). وحكى قولاً في القديم: إن الاقتداء بعد حصول العقد على حكم الانفراد جائز، ووجهه أن القدوة معناها ربط الصلاة بصلاة الغير، وليس ذلك من أركان الصلاة قط؛ فإنه ليس تغييراً لأمر يتعلق بركن أو شرط. 1203 - ثم الظاهر من مذهب الشافعي في الجديد جواز الاستخلاف في الصلاة، على ما سنذكر ذلك مشروحاً إن شاء الله تعالى في صلاة الجمعة، وهو في الحقيقة ابتداء اقتداء، لم يكن حالة العقد؛ فإن القوم يعقدون صلاتهم بزيد، ثم يربطونها في الأثناء بعمرو المستخلَف، وسيأتي شرح الاستخلاف في موضعه. ثم يشهد لجواز الاقتداء أثناء الصلاة خبران، أحدهما - ما روي: "أن رسول الله

_ (1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 390، 401. (2) سقط من (ت 2) وحدها. (3) حديث قصة معاذ .. رواه أحمد في مسنده، ورواه أبو داود (ر. المسند: 5/ 246، وأبو داود: الصلاة، باب كيف الأذان، ح 506، والتلخيص: 2/ 42 ح 596).

صلى الله عليه وسلم أمَّ بأصحابه (1)، ثم تذكر في أثناء الصلاة أنه جنب. فأشار إلى أصحابه: أي كما أنتم قفوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يقطر فتحرم، واستمر الأصحاب على حكم الاقتداء" (2) ومعلوم أنهم أنشؤوا [اقتداء جديداً، فإن] (3) اقتداءهم الأول لم يكن صحيحاً، والثاني - أن أبا بكر في صلاة المرض اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الصلاة، كما مضت القصة. 1204 - ثم إذا ظهر القولان، فقد اختلف أئمتنا في محلّهما، فمنهم من قال: إنهما يجريان في الركعة الأولى، فإذا عقد المنفرد الصلاةَ، ثم اتفقت جماعة وهو في الركعة الأولى، فقولان، فأما إذا صلى ركعة على الانفراد، ثم أراد بعدها الاقتداء، فلا يجوز؛ لأنه يختلف ترتيب الصلاة ويتفاوت. ومنهم من طرد القولين في الصورتين. وإذا جمع الجامع الكلام في ذلك، كان الخارج منه ثلاثة أقوال، أحدها - المنع، والثاني - الجواز، والثالث - الفصل بين أن يقع في الركعة الأولى قبل الركوع أو بعده. فهذا كلامٌ في أحد مقصودي الفصل. 1205 - فأما إذا كان مقتدياً، ثم أراد الانفراد ببقية الصلاة؛ حتى يسبق الإمام، فقد ترددت النصوص فيه، وحاصل المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها - المنع؛ فإنه التزم الاقتداء، وانعقدت الصلاة على حكم المتابعة، فلزم الوفاء. والقول الثاني - له الانفراد؛ فإن إقامة الجماعة كانت مسنونة، [فإذا خاض فيها، لم تلزم] (4) بالشروع؛ فإن من مذهبنا أن السنن لا تلزم بالشروع. والقول الثالث - أنه يفصل بين المعذور وغيره، ويشهد لهذا قصة معاذ: "وقراءتُه

_ (1) كذا: (بالباء) في جميع النسخ، والحديث بمعناه، لا بلفظه، كما يتضح من سياقته. (2) رواه أبو داود، والشافعي من حديث أبي بكرة، وصححه ابن حبان والبيهقي (ر. أبو داود: الطهارة، باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس، ح 233، 234، وابن حبان: 6/ 5 ح 2235، الأم: 1/ 167، التلخيص: 2/ 33 ح 571). (3) سقط من الأصل. ومن (ط) وحدهما. (4) في الأصل و (ط): "فلا اختصاص فيها ثم تلزم".

سورةَ البقرة في صلاة العشاء، وكان اقتدى به رجل كان يعمل طول نهاره، وكان عقل بعيراً كان معه، فانحلّ عقاله، فقام فقطع القدوة، وتجوّز في صلاته، وخرج، فرفعت قصته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر على معاذ تطويلَه، ولم ينكر على من قطع القدوة، ولم يأمره بالقضاء" (1). ثم الأعذار التي تقطع القدوة لأجلها كثيرة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة عندي، وأقرب معتبر فيها أن يقال: كل عذر يجوز ترك الجماعة بسببه، كما سبق في باب الجماعة، وسنعود في كتاب الجمعة، فهو المعتبر في الذي نحن فيه أو ما في معناه. فصل في المسبوق: إذا أدرك الإمام وقد فاته من الصلاة شيء. 1206 - فنقول: إذا أدرك الإمامَ راكعاً، فكبر في قيامه وركع، وصادف الإمام راكعاً، فقد أدرك الركعة، ولو كان الإمام هاماً بالارتفاع، متحركاً في جهته، فأدرك المأمومُ -وهو بعدُ غيرُ مترقٍّ عن أقل حد الركوع- فقد أدرك الركعة. ولو لم يدر هل كان جاوز حد الراكعين أم لا، فالأصل بقاؤه في حد الركوع إلى أن يزول عنه قطعاً. ولكن الأصل أنه لم يصر مدركاً للركوع، فهو على تردد من أمره كما ترى. وقد ألحق أئمتنا هذا بتقابل الأصلين، فذكروا وجهين، ولعلنا نجمع في ضبط ذلك قولاً بالغاً - إن شاء الله تعالى. 1207 - ولو أدرك الإمامَ بعد الارتفاع عن حد الركوع، فلا يكون مدركاً للركعة أصلاً، ويتابع الإمامَ فيما يصادفه فيه، ولا يعتد به له من أصل صلاته.

_ (1) قصة تطويل معاذ أصلها في الصحيحين، متفق عليها من حديث جابر (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 96 ح 266، وقد رويت على أوجه مختلفة (ر. التلخيص: 2/ 39 ح 591).

1208 - ولو أدرك الإمامَ قائماً بعدُ، فإن أمكنه أن يتمم قراءة الفاتحة، ثم يدرك ركوعَ الإمام، فهو المراد، ولو علم أنه لو تمم الفاتحة، لفاته الركوع، فماذا يفعل؟ فيه خلاف معروف، فذهب بعض الأئمة إلى أنه يقطع القراءة، ويبادر الركوع. وسقوطُ بعض القراءة عنده، ليس بأبعد من سقوط تمام القراءة إذا صادف الإمام راكعاً، لمّا كبر وتحرم بالصلاة. ومنهم من يقول: عليه أن يتمم القراءة ولا يقطعها؛ فإنه خاض فيها، فيلزمه إتمامها. وذكر الشيخ أبو زيد في ذلك تفصيلاً حسناً، فقال: إن تحرم بالصلاة وبادر بالقراءة ولم يقدّم عليها دعاء الاستفتاح، ولا التعوذ، ولكنه لمّا تفطَّن لضيق الوقت، اشتغل بالأهم، فإذا ركع الإمام، فهو معذور الآن، فنجعله مدركاً، وإن قدم على القراءة الذكرَ المسنون والتعوذَ، فقد تعرض لخطر الفوات. 1209 - ووجه هذا التفصيل بيّن، ولكنا نوضّحه، ونوضح الوجهين المرسَلَيْن قبله بالتفريع. فأما من لم يفصل فيقول: ليس على المسبوق مبادرة القراءة بل يجري على هيئته وسجيته، والدليل عليه أنه لو قدر على أن يتسرع قبل الشروع، فلم يفعل، لم يختلف حكم إدراكه، فليكن الأمر كذلك بعد التحرم. والأصح ما ذكره أبو زيد من التفصيل؛ فإنه بعد الشروع صار ملتزماً لحكم القدوة، مطالباً بموجبها، فليجر على الأصوب فيما نرسم له. ولا شك، أن الاشتغال بإقامة الأركان أولى، ومن لم يتحرم بالصلاة فهو على خِيَرته في أمر الجماعة. فهذا بيان الاختلاف في هذه الجهة. ولا ينبغي أن يُعتقدَ خلافٌ فيه، إذا تحرّم وسبَّح، وتعوذ، ثم سكت سكوتاً طويلاً، ولم يشتغل بالفاتحة أنه يكون مقصراً، وإنما الخلاف المذكور فيه إذا اشتغل قبل القراءة بالسنن المشروعة في الصلاة، ثم إن أمرناه بالركوع، فاستتم القراءة، وبادر، فأدرك الإمامَ راكعاً، فهو المطلب، وهو مدرِكٌ.

وإذا رفع الإمام رأسه من الركوع، فلا شك أنا لا نجعله مدركاً للركعة، ولكن هل تبطل صلاة المسبوق بمخالفته إياه وترك ما رسم له؟ سنذكر على إثر هذا تفصيلَ المذهب في تقدم الإمام على المأموم بركن أو ركنين. فإن سبقه الإمامُ بركنين في هذه الصورة التي نحن فيها، فتبطل صلاة المأموم، وإن سبقه الإمام بالركوع، ولكنه أدركه عند اعتداله -ونحن قد نقول: إن هذا المقدارَ من التقدم لا يضر (1 في أثناء الصلاة 1) في حق غير المسبوق- فهاهنا إذا خالف المسبوقُ، فسبقه الإمام إلى الاعتدال، أما الركعة، فقد فاتت، وفي بطلان الصلاة وجهان: أحدهما - لا تبطل؛ فإن هذا المقدارَ من التقدم غيرُ ضائر. والثاني - أن الصلاة تبطل؛ فإنه ترك متابعة الإمام فيما فاتت الركعة لأجله، فكأن الإمام سبقه بركعة، وليس كما لو جرى مثل ذلك في أثناء الصلاة، في حق من ليس بمسبوق. فإن قلنا: تبطل صلاته، فلا كلام. وإن قلنا: لا تبطل، فلا ينبغي أن يركع؛ فإنه لو ركع لم يكن الركوع محسوباً له، ولكن ينبغي أن يتابعَ الإمامَ الآن، فيما يأتي به من هُويه إلى السجود، ويقدر كأنه أدركه الآن، ثم لا تحتسب له هذه الركعة. فأما إذا قلنا: إنه يتمم القراءة، فإن تممها وأدرك الإمام راكعاً، فقد حصل تمامُ الغرض، وإن رفع الإمامُ رأسه من الركوع واعتدل، فالمأموم يركع ويرفع وهو مدرك للركعة، معذورٌ في تخلفه، ولو تجاوز الإمامَ، وسبقه بأركان، فلا يضر ذلك. واستقصاء القول في هذا يتعلق بمسألة الزحام على ما سيأتي إن شاء الله. 1210 - ومن تمام البيان في ذلك أن أبا زيد إذا فصل بين أن يُقصِّر وبين أن يبتدِر، فمن تمام كلامه في ذلك أنه لو لم يقصر، فإذا ركع (2) الإمام، ففي المسألة وجهان: في أنه يتم القراءة، أو يقطعها، كما تقدم ذكرهما، والتفريع عليهما. وإن كان مقصراً، فليقرأ من الفاتحة بقدر تقصيره، فإن رفع الإمام رأسه من

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) بدأ من هنا خرمٌ من نسخة (ت 2). وهو صفحة واحدة.

الركوع، فالتفريع الآن كالتفريع فيه إذا أمرناه بالركوع، فخالف أمرنا، وقرأ حتى فاته الركوع، وقد مضى بيان ذلك. فرع: 1211 - في إدراك التكبيرة الأولى من صلاة الإمام رغائبُ وأخبار مأثورة، وقد اختلف أئمتنا في أنه متى يصير مدركاً لفضيلة التكبير؟ فمنهم من قال: إذا أدرك الركعة الأولى ولو بإدراك الركوع، فقد أدرك الفضيلة، فإدراكها مربوط بإدراك الركعة الأولى، وهذا سرفٌ ومجاوزة حدّ. ومنهم من قال: إذا أدرك شيئاًً من قيام الركعة الأولى، فقد أدرك الفضيلة، وإن لم يدرك الإمامَ إلا راكعاً، فهذا قد أدرك الركعة، وفاتته الفضيلة في التكبيرة. ومنهم من قال: المدرك من يكبّر الإمام في [شهوده] (1) وحضوره، ثم يتعقبه في عقد الصلاة، على العقد المرعي المرضي في الاتصال. وهذا هو الأظهر عندي؛ فإن من جرى التكبير في غيبته لا يسمى مدركاً لتكبير العقد، ولا شك أن [من] (2) يجعله مدركاً لها بإدراك القيام؛ فإنه يجعل (3) الاتصال في العقد. والشهود أفضل وأكمل. وذكر بعض مشايخنا في ذلك تفصيلاً، فقال: إن شغله عن الصلاة أمرٌ من أمور الدنيا حتى ركع الإمام، فهو غير مدرك للفضيلة، وإن أقعده عذرٌ، ثم أدرك الركعة الأولى، فهو مدرك. 1212 - وهاهنا دقيقة لا بد من الاهتمام بها، وهو أن من قصر، ولم يكبر حتى ركع الإمام، فكبّر وركع، فهو مدرك وفاقاً، ولا أثر لتقصيره بغيبته أو تأخيره في حضوره؛ فإنه إنما يلحقه حكم الجماعة إذا تحرم، فأما دَرْك الفضيلة، فلا يبعد أن نفصل فيها بين المقصر والمبتدر؛ فإن الغرض من الحث على التكبيرة الأولى الدعاء إلى ترك الملهيات، والبدارُ إلى الصلاة، فليفهم الناظر ذلك.

_ (1) في الأصل، و (ط) و (ت 1): سجوده. وهو تحريفٌ طريف. (2) زيادة من (ل) وحدها. (3) عبارة: (د 1): ... بإدراك القيام، فيجعل الاتصال في العقد والشهود أفضل وأكمل.

فصل في تأخُّر المأموم عن الإمام، وفي تقدمه عليه: 1213 - فنقول: أما تكبيرة العقد، فيجب أن يتقدم الإمام بها (1)، ويقع ابتداء تكبيرة المأموم بعد فراغ الإمام من التكبير، فلو ساوقه المأموم، لم يجز أصلاً، وجوز أبو حنيفة (2) ذلك. فأما ما عداها من الأركان، فيقتضي أدب الشرع فيها أن يتقدم الإمام بالركن، ثم يتلوه المقتدي قبل أن يفارق ذلك الركن، فإذا ركع، ركع بعده، بحيث يدركه في الركوع، فلو ساوقه، وجاراه في سائر الأركان، جاز ذلك، والأولى ما قدمناه. ولو ساوقه في التسليم، [جاز قياساً على سائر الأركان، وكان شيخي قال مرة: التسليم] (3) كالتحريم، فلا تجوز المساوقة فيه، وهذا زلل، غير معدود من المذهب. فإذا وضح ذلك فيه، فنذكر تقدم الإمام، ثم نذكر تقدم المأموم. 1214 - (4 فإذا تقدم الإمام على المأموم 4) من غير عذرٍ بركنٍ، فالذي أطلقه الأصحاب اختلافٌ في ذلك، فقالوا: من أصحابنا من قال: إن تقدم بركنين، ولابس الثالث، بطلت القدوة والصلاة، وإن تقدم بركن واحد ولابس الثاني، لم يضر. ومنهم من عدّ التقدم بركنٍ واحد وملابسة الثاني مبطلاً، وإنما يتم هذا بفرض القول في الركوع مثلاً. فنقول: إذا ركع الإمام، وتخلّف المأموم قائماً من غير عذر، حتى رفع الإمام رأسه، واعتدل، ثم هوى، فسجد، فكما (5) لابس الإمام السجود، حكمنا ببطلان

_ (1) انتهى هنا الخرم في نسخة (ت 2). (2) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 353، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 198 مسألة: 132. (3) ساقط من الأصل ومن (ط). (4) ما بين القوسين سقط من: (ت 2)، (د 1). (5) بمعنى (فعندما).

صلاة المأموم؛ فإن الإمام قد سبق بالركوع، والاعتدال، وهو قائم، ولابس الركن الثالث، ولا يتوقف بطلانُ الصلاة على أن يرفع رأسه من السجود، والمأموم بعدُ قائم وفاقاً. ولو رفع الإمام رأسه من الركوع، والمأموم بعدُ قائم، فهل تبطل بهذا المقدار صلاة المقتدي؟ فعلى وجهين مشهورين. ثم ذهب بعض الأصحاب إلى أخذ هذا الخلاف من التردد في أن الاعتدال عن الركوع ركن مقصودٌ أم لا؟ فإن قلنا: إنه ركن مقصود، فقد فارق الإمامُ ركناً، ولابس آخر مقصوداً، فتبطل صلاة المتخلف، وإن لم نجعل الاعتدال ركناً مقصوداً، توقف الحكم بالبطلان على ملابسة السجود. 1215 - وهذه الطريقة وإن كانت مشهورة، فلست أرضاها؛ فإن الاعتدال من الأركان التي لا بد منها، ولو لم يكن مقصوداً وكان الغرض منه الفصل بين الركوع والسجود، للزم منه أن يقال: إذا فارق حدَّ الراكعين في انتصابه كفى، وإن لم يعتدل قائماً؛ لحصول الفصل، فلا تعويل على هذا عندي. والوجه رد الخلاف إلى شيء [آخر] (1)، وهو أن من أصحابنا من يقول: لا تبطل الصلاة ما لم يسبق بركنين، والمأموم بعدُ في قيامه، ومنهم من يقول: إذا اعتدل، فقد تحقق السبق بركن تام وهو الركوع، فكفى ذلك في الحكم بإبطال الصلاة، فإن اسم المسبوق قد حصل، فإذا تقدم الإمام، فركع، فتلاه المأموم، وأدركه في الركوع، فما سبق الإمام بركنٍ، بل سبق إلى الركن، وتابعه المقتدي. وهو صورة المتابعة. وإذا بقي قائماً حتى يرفع الإمام، فقد سبقه بركن على التحقيق. 1216 - ومن تمام التفريع في ذلك أنا إذا شرطنا سبقَ الإمام بركنين، فإذا رفع الإمام رأسه وهوى، ولم ينته بعدُ إلى السجود، فيظهر عندي أن نحكم ببطلان القدوة، وإن لم يلابس السجود، وإن كنا نشترط التقدّم بركنين؛ فإن التقدم يحصل بمفارقة الاعتدال، ولا يرفع ذلك ظن من يظن أن الاعتدال غيرُ مقصود، فلْيلابس السجودَ،

_ (1) زيادة من: (ت 2)، (د 1).

فإن ذلك باطل، كما تقدم، وأيضاً: فالإمام إذا لابس ركناً، لا يكون سابقاً به ما لم يفارقه، فلو صح ذلك، للزم ألا تنقطع القدوة، حتى يرفع الإمام رأسه من السجدة، والمقتدي بعدُ قائم. فهذا تمام البيان في ذلك. 1217 - ولو فرض السبق في السجود ابتداء، لانتظم ما ذكرناه، فلو رفع الإمام رأسه من الركوع، والمأموم معه، فسجد الإمام ورفع، والمأموم في اعتداله، فهو كما لو بقي في القيام حتى ركع ورفع الإمام، وملابسة السجدة الثانية كملابسة السجدة الأولى، والتفريع كالتفريع. غير أن من أصحابنا من يقول: الجلوس بين السجدتين من الأركان الطويلة؛ فيجعلها مقصودة، ومنهم من يجعلها قصيرة، فهي كالاعتدال من الركوع. 1218 - ومما يليق بتمام البيان في ذلك أن المأموم لو لم ينتسب إلى تقصير في تخلفه، ولكن الإمام أفرط في السرعة، وخالف عادته، فسبق بركن أو بركنين، فمن أئمتنا من يحكم ببطلان صلاة المقتدي، لوجود صورة السبق، ومنهم من قال: لا تبطل صلاة المقتدي لتمهد عذره. وسيأتي شرح هذا في مسألة الزحام. فهذا كله إذا سبق الإمامُ، وتخلف المأموم. 1219 - وأما إذا تقدم المقتدي، فركع قبل الإمام، أو رفع رأسه قبل الإمام، فالذي صار إليه الأئمة أن تقدُّمه مقيسٌ على تقدم الإمام عليه في الوفاق والخلاف حرفاً حرفاً. 1220 - وكان شيخي يقول: تقدم المأموم قصداً يُبطل صلاتَه. حتى إذا ركع والإمام قائم، بطلت صلاتُه، وإن أدركه الإمام في الركوع. وكان يوجّه هذا بأن التخلف صورةُ المتابعة. فإن وجد فيه سرفٌ، ففيه خلاف، فأما التقدم على الإمام فمناقض لصورة الاقتداء، فكما (1) وقع أبطل، وكان يمثل بموقف الإمام والمأموم،

_ (1) "فكما" بمعنى فعندما.

ويقول: تقدمُ المقتدي على الإمام في موقفه بأقل القليل يُبطل القدوة، وتأخره بالمسافة الكثيرة قد لا يبطل صلاته، وتعلق بأخبار فيها وعيد، منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" (1) وما ذكره وإن كان يتجه، فإني لم أره لغيره، فلا أراه من المذهب، والوجه ما قطع به الأئمة (2). ...

_ (1) حديث "أما يخشى الذي يرفع رأسه ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 90 ح 247). (2) إلى هنا انتهت نسخة (د 4) وهي التي اتخذناها أصلاً من أول (باب استقبال القبلة) وجاء في خاتمتها: "تم المجلد الثالث يتلوه باب موقف صلاة الإمام والمأموم أول المجلد الرابع من نهاية المطلب. وفرغ من تعليقه أبو محمد بن عبد الواحد بن حرب القرشي. في العشر الأولى من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين وخمسمائة".

باب موقف صلاة الإمام والمأموم

باب (1) موقف صلاة الإمام والمأموم 1221 - الباب يشتمل على نوعين: أحدهما - الكلام في رعاية أفضل المواقف وذكر الأَوْلى، والثاني - ما يجب رعايتُه في المواقف في الأماكن المختلفة. فأما الأول فنقول فيه: إذا كان يصلي الإمام مع رجل واحد، فينبغي أن يقف ذلك الرجل عن يمينه، ولا يقف عن يساره، ولا وراءه، ولو وقف خلفه أو وراءه، صح. والأصل فيه حديثُ ابن عباس: "فإنه ذكر أنه اقتدى برسول الله وحده في بيت خالته ميمونة، فوقف عن يساره فاقتدى، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرّه من ورائه حتى أوقفه على يمينه" (2)، فدلّ ذلك على الأولى، والصبي الواحد كالرجل في هذا، فكان ابن عباس صبياً إذ ذاك. ولو كان يصلي مع الرجل امرأة واحدة، فتقف وراء الإمام وتتستر به. ولو كان يصلي مع خنثى وحده، فهو كالمرأة فيما ذكرناه. ولو كان يصلّي مع الإمام رجلان، أو صبي ورجل، فإنهما يقفان ويصطفان وراءه. وروي عن علقمة: "أنه دخل على ابن مسعود مع صاحب له، فدخل وقت الصلاة، فأقام أحدهما عن يمينه، والثاني عن شماله، وصلى بهما، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3)، والشافعي رأى هذا منسوخاً، واعتمد في

_ (1) من هنا بدأ اعتماد نسخة (د 1) أصلاً. و (ط) و (ت 1) و (ت 2) نصوصاً مساعدة. والله الموفق والهادي إلى الصواب. (2) سبق الكلام على هذا الحديث في الأفعال القليلة والكثيرة في الصلاة، وأنه عند البخاري (كتاب الأذان) باب (58) إذا قام الرجل عن يسار الإمام، فحوله الإمام. (3) حديث علقمة عن ابن مسعود هذا، أخرجه أبو داود، وفيه أن الذي كان مع علقمة هو الأسود، وأخرجه النسائي أيضاً في كتاب الإمامة، باب موقف الإمام، ح 800، وقال السندي =

الباب ما روى أنس أنه قال: "وقفت أنا ويتيم كان في البيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سليم خلفنا، فصلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) فرأى الشافعي هذا ناسخاً لحديث ابن مسعود، وثبت عنده تأخر هذا الفعل، والله أعلم. وفي بعض كلامه تقديم رواية أنس بأنه كان بحجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، فرأى روايته أثبت، وما رُئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي باثنين، وهذا أسلم من دعوى النسخ. 1222 - وإن كان يصلي برجل وامرأة، فليقف الرجل عن يمينه، وتقف المرأة خلف الرجل المقتدي، فتكون مستترة به عن الإمام، بعيدة عن المقتدي والتفاته. وإن كان رجل وخنثى مع الإمام، فهو كالرجل والمرأة. وإذا كان رجل وخنثى وامرأة، وقف الرجل عن يمينه، والخنثى وراءه، والمرأة وراء الخنثى، وتعليل ذلك بين. وروى الشافعي بإسناده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ أنساً وعجوزاً منفردة خلف أنس" (2)، وإن كان مع الإمام خنثى وامرأة، وقف الخنثى وراء الإمام، والمرأة خلف الخنثى، فهذا بيان ما يرعى في فضيلة الموقف. 1223 - ولو دخل المأموم المسجد، فلا ينبغي أن يقف وحده؛ فإن النبي صلى الله

_ = في شرح النسائي: حملوا هذا الحديث على أنه لعلّه صلى الله عليه وسلم فعله لضيق المكان أحياناً، أو على النسخ. وانظر أبو داود: 1/ 408، باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون، ح 613). (1) متفق عليه من حديث أنس أخرجه البخاري: الأذان، باب (78) المرأة وحدها تكون صفاً، ح 727. وأخرجه مسلم: 1/ 457، كتاب (5) المساجد، باب 48 ح 658 بلفظ: " .. وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى بنا". (2) هذا ولم يورده عبد الباقي في اللؤلؤ والمرجان. و (ر. التلخيص: 2/ 36 ح 582). حديث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ أنساً ... " رواه مسلم: 1/ 458، كتاب المساجد، باب (48) ح 269 بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته. قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا"، ورواه الشافعي في مسنده: 1/ 105 ح 310.

عليه وسلم نهى عن ذلك، فلو وقف وحده، صحت الصلاة مع الكراهية، والأولى لمن لا يجد موقفاً في الصف أن يجرّ أحداً من الصف، والأولى لذلك الواحد المجرور أن يساعده؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فهذا مما يتعلق بغرضنا في هذا النوع. 1224 - فأما النوع الثاني، فنصدّره بأن نقول: المنصوص عليه في الجديد أن موقف المأموم إذا تقدم على موقف الإمام، لم يصح اقتداؤه. وقال مالك: يصح اقتداؤه إذا كان يَشعر بصلاة الإمام (1). وهذا قولٌ للشافعي في القديم. ولو كان موقف المأموم مساوياً لموقف الإمام، ولم يكن متقدماً ولا متأخّراً، جازَ، والأدب أن يتأخر عن موقف الإمام قليلاً. ثم الاعتبار في الموقف بموقف العقبين من الأرض، فإن شخص المقتدي قد يكون أطول فيتقدم موقع رأسه، وإن تأخر ساوى موقع قدمه. وذكرتُ العقب؛ فإنّ قدمَ أحدهما قد يكون أكبر من قدم الثاني، فالعبرة بما ذكرته بلا خلاف. ومما يتعلق بهذا أن الناس يصلون في المسجد الحرام مستديرين حول الكعبة، والإمام الراتب وراء مقام إبراهيم في جهة الباب، فالذين يستديرون من وراء البيت وجوههم إلى وجه الإمام، وتصح الصلاة بلا خلاف، هكذا عُهد الناسُ في العُصُر الخالية، حتى كأن الكعبة هي الإمام، ولعل الحاجة أحوجت إلى تسويغ ذلك؛ فإن الناس يكثرون في المواسم، ولو كلفوا الوقوف في جهة واحدة، لتعذّر ذلك. وقال الأئمة: إذا دخل الناس البيت، فالجهات كلها قبلة، فلا يمتنع أن يقف الإمام والمأموم متقابلين، كما ذكرناه في الاستدارة حول الكعبة. 1225 - واختلف أئمتنا في صورة وهي أنه إذا كان بين الإمام في جهة وقوفه، وبين

_ (1) الذي رأيناه عند المالكية أن تقدم المأموم على الإمام يصح مع الكراهة، (ر. الإشراف: 1/ 300 مسألة: 355، حاشية العدوي: 1/ 271، حاشية الدسوقي: 1/ 331، جواهر الإكليل: 1/ 79، القوانين الفقهية: 81).

الكعبة عشرةُ أذرع، وكان موقفُ المأمومين في جهة أخرى من البيت أقربُ إلى البيت من هذا، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجوز كما لو تقدم واحد في جهته، وكان أقرب إلى البيت. والثاني - يجوز؛ فإن الجهة إذا اختلفت، فلا معنى لاعتبار المقايسة في المسافة؛ فإن اختلاف الجهة أعظم في الاختلاف من الاختلاف في القرب والبعد، (1 فإذا لم نمنع القدوة مع الاختلاف في الجهة والوقوف على هيئة التقابل، فلا معنى وراء ذلك في النظر إلى القرب والبعد 1). وأما إذا اتّحدت الجهة، فيظهر أثر التقدم والتأخر. فهذا بيان ذلك. 1226 - ثم نتكلم بعد هذا في المواقف في الأمكنة المختلفة: والوجه في الترتيب أن نذكر أفرادها والاجتماع فيها، أي في أفرادها، ثم نذكر وقوف القوم في أماكن مختلفة منها. فأما القول في أفرادها، فيتعلق بالمسجد، والملك، والمواضع المشتركة. 1227 - فأما المسجد، فإذا تقدم الإمام وتأخر المقتدي، لم يضر بُعد المسافة -وإن أفرط- إذا كان المسجد واحداً. وكذلك لا يضر اختلافُ المواقف ارتفاعاً وانخفاضاً، حتى لو وقف الإمام في المحراب والمقتدي على منارةٍ من المسجد، أو بئر، وكان لا يخفى عليه انتقالات الإمام، فالقدوة صحيحة؛ وذلك أن المكان مبنيٌّ لجمع الجماعات، فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الصلاة، فلا يؤثر البعد في المسافة. وهذا متفق عليه. ولو كان مسجدان باب أحدهما لافظٌ (2) في الثاني كالجوامع، فإن كانت الأبواب

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). (2) "لافظ" أي لاصق بالأرض نافذ، من غير فاصل بينهما من طريق أو غيره. كذا قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط، وأضاف: "هذا ما أشعرَ به ما علقته من بعض التعاليق الخراسانية، ولم أجد الكلمة في كتب اللغة، وكأنه مستعار من قولهم: لفظ الشيء مِن فِيه، إذا نبذه ورماه، وكأن الباب الموصوف بسهولة النفوذ منه يرمي من أحد المكانين إلى آخر". ا. هـ بنصه (ر. مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 2/ 231).

مفتوحة، فهما كالمسجد الواحد، ولا أثر لانفصال أحد المسجدين عن الثاني بالجدار، وإن كان الباب مردوداً، وكان صوت المترجم يبلغ في المسجد الثاني، وهما معدودان كالمسجد الواحد، فالمذهب الظاهر صحة الاقتداء، فإنهما كالمسجد الواحد. وأبعد بعض أصحابنا، فمنع إذا لم يكن حالة الاقتداء منفذٌ؛ لأن أحدهما يعدّ عند رد الأبواب منفصلاً عن الثاني، ولا يعدّان مجتمعين عرفاً. ثم من منع الاقتداء والباب مردود قالوا: لو كان الجدار الحائل بين المسجدين المانع من الاستطراق مشبكاً، لا يمنع من رؤية مَن هو واقف في المسجد الذي فيه الإمام، فعلى الوجه البعيد وجهان. وما ذكر من رد الأبواب فالمراد إغلاقها، فأما إذا لم تكن مغلقة الأبواب، فهي كالمفتوحة قطعاً، والذي أرى القطعَ به جوازُ القدوة، وإن كانت الأبواب مغلقة، والجدارُ غيرَ نافذ إذا كان المسجدان في حكم المسجد الواحد، وباب أحدهما لافظٌ في الثاني، وهو المذهب، ولست أعد غيره من متن المذهب. 1228 - فأما إذا كان الاقتداء في مواتٍ مشترك في الصحراء، فقد قال الشافعي: "إذا كان بين موقف الإمام وبين موقف المأموم مائتا ذراع، أو ثلاثمائة ذراع، فيجوز الاقتداء، وإن زاد، لم يجز" (1). والذي يجب ضبطه قبل الخوض في التفاصيل، أن الشافعي لم يكتف في جواز الاقتداء بأن يكون المأموم بحيث يقف على حالات الإمام وانتقالاته، وقد نَقَلَ عن عطاء (2) أنه اكتفى بهذا في الأماكن كلها. وبُلِّغت عن مالك (3) أنه صار إلى ذلك، ولم

_ (1) ر. المختصر: 1/ 118. (2) مذهب عطاء هذا نقله الشافعي، وعقب عليه قائلاً: ولا أقول بهذا. (ر. المختصر: 1/ 118). ونص عبارته: "ومذهب عطاء أن يصلي بصلاة الإمام من علمها، ولا أقول بهذا" ا. هـ. (3) القائل " وبلغتُ عن مالك " هو إمام الحرمين، وحقاً ما بلغه؛ فمذهب مالك كمذهب عطاء. (ر. جواهر الإكليل: 1/ 80، وحاشية الدسوقي: 1/ 337، والموسوعة الفقهية " اقتداء ف 16 ").

يفصل بين بقعة وبقعة، وهذا قياس بيّن، ليس يخفى على المتأمل. ولكن الشافعي راعى مع إمكان الوقوف على حالات الإمام أن يكون الإمام والمأموم بحيث يعدان مجتمعين في بقعة، وقال: من مقاصد الاقتداء حضور جَمْعٍ، واجتماعُ طائفةٍ على مكان عند الصلاة في الجماعة. 1229 - ولا يعد من الجماعة أن يقف الإنسان في منزله المملوك، وهو يسمع أصوات المترجمين في المسجد، ويصلي بصلاة الإمام، ثم معتمد الشافعي في الشعائر المتعلقة بالصلاة رعاية الاتباع؛ فإن [مبنى] (1) العبادات عليها وهذا حسن. 1230 - فإذا تبين ذلك، فالمسجد إن كان جامعاً للإمام والمقتدي، لم يضر إفراط البعد؛ فإن المسجد لهذا الشأن، فيحمل الأمر على أن المجتمعين فيه للصلاة متواصلان، فأما الصحراء الموات، فمحطوط عن المسجد، من جهة أنه ليس مكاناً مهيّأً لجمع الجماعات، وهي مشابهة من وجهٍ للمسجد؛ فإن الناس مشتركون فيه اشتراكهم في المسجد، فقال رضي الله عنه: لذلك: "لا يشترط في الموقف اتصال الصفوف"، ثم ضبَطَ القربَ المعتبر بثلاثمائة ذراع. والأصح أن هذا تقريب منه، وليس بتحديد، وكيف يطمع الفقيه في التحديد، ونحن في إثبات التقريب على عُلالة؟ وقد قيل: اعتبر الشافعي في ذلك المسافة التي تنحى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفةٍ من أصحابه عن موضع القتال. وقد قيل: إنها كانت قريبةً مما ذكرناه، فإنه تباعد تباعداً لا ينال المصلي فيه سهمُ الأعداء غلوة (2). ونبال العرب لا تنتهي إلى مثل هذه المسافة، وإنما تعلق الشافعي بذلك؛ لأن في بعض الروايات أن الذين كانوا في الصف في بعض الأحوال كانوا على حكم الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية وإن كانت في صلاة ذات الرقاع، ولا يختار الشافعي العملَ بها، فهي صحيحة، وإذا عدمنا في محاولة الضبط [تقريباً] (3)، اكتفينا بمثل هذا، وعددنا هذا نوعاً من التواصل.

_ (1) في الأصل، (ت 1)، (ط): "معنى"، والمثبت من (ت 2)، ثم صدقتها (ل). (2) الغَلْوة: رمية السهم. وتقدر بثلثمائة إلى أربعمائة ذراع. (المعجم). (3) في (ت 2): "تفريقاً"، وفي باقي النسخ "تفريعاً"، والمثبت جاءتنا به (ل).

1231 - وكنت أود لو قال قائل من أئمة المذهب: يُرعى في التواصل مسافةٌ يبلغ فيها صوتُ الإمام المقتدي، لو رفع صوتَه قاصداً تبليغاً على الحد المعهود في مثله، وهذا قريب مما ذكره الشافعي، وهو نوع من تواصل الجماعات في الصلاة، ولما لم ير الشافعي الاكتفاء بالاطلاع على حالات الإمام وانتقالاته، ولم يجد توقيفاً شرعياً يقف عنده، [أخذ يتمسك بالتقريب، فجز ذلك اختلافاً] (1) في بعض الصور على الأصحاب. 1232 - ومما يتصل على القرب بما نحن فيه أن الأمام لو كان وحده، والمأموم بعيدٌ عن (2) الحد الذي راعيناه في التقريب، فالكلام على ما مضى. ولو قرب من الإمام صف أو واحد، فقُرْب هذا الثاني يقاس بالمقتدي بالإمام [لا بالإمام] (3)، وإنما يرعى ثلاثمائة ذراع بينه، وبين آخر واقف في الصف الذي صح اقتداؤهم. 1233 - وفي بعض التصانيف أنا نرعى المسافة بين المأموم البعيد وبين الإمام، وهذا مزيف لا تعويل عليه، ولكن لا بد من ذكر معناه مع بعده، لأني وجدت رمزاً إليه لبعض أئمة العراق. فأقول في بيانه: إن تواصلت الصفوف على المعهود من تواصلها، فقد يكون بين الواقف الأخير وبين الإمام ميل، أو أكثر، والقدوة صحيحة، والتواصل ثابت، فأما إذا لم يحصل التواصل المألوف، ولكن وقف الإمام، ووقف صفٌ، وبعُد الواقف الذي نتكلم فيه، فالمذهب المبتوت المقطوع به، أنا نرعى المسافة بينه وبين آخر واقف صح اقتداؤه في جهته.

_ (1) في جميع النسخ العبارة هكذا " ... أخذ متمسك بالتقريب جر ذلك اختلافاً" وهي غير مستقيمة فغيرناها على النحو الذي قدرنا أنها حرفت عنه. والله ولي التوفيق. والحمد لله، صدقت (ل) تقديرنا، إلا أنها جاءت بالواو مكان الفاء، "وجز ذلك اختلافاً". (2) كذا في جميع النسخ، ولعلها: "على". وقد جاءت بها (ل). (3) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

وذكر بعض من لا يعتمد [نقله] (1) وجهاً أن الصفوف إذا لم تكن متصلة على الاعتياد، فالذي بعُد موقفه، يراعى قربه من الإمام، وهو غير مقتد (2)؛ إذ ليس الصف على القرب المعتاد منه. فهذا بيان هذا الوجه، وتصويره وإن لم يكن معدوداً من المذهب. 1234 - ولو كان بين المقتدي في الصحراء وبين الإمام نهر جار، فإن كان يُخيض الخائض فيه من غير احتياج إلى سباحة، فلا أثر له، وليس بحائل. وإن كان لا يخيض، فهو يمنع القدوة به. وذكر أئمتنا فيه خلافاً. ثم قال المحققون: المذهب صحة القدوة، وإن عسر من المقتدي التوصّل إلى الإمام، إذا كانت المسافة على النحو الذي ذكرناه؛ فإنه لا حاجة في قضية الصلاة إلى وصول المأموم إلى الإمام. ومن منع، تمسك بأن مثل هذا النهر يعدّ حائلاً، ولا يعد الإمام والمأموم مجتمعين في بقعة جامعة لهما، وظاهر نص الشافعي يشير إلى الجواز؛ فإنه قال: لو اقتدى رجل في سفينة بإمام في سفينة أخرى، صح، كما سنذكر ذلك، وإن كان بين السفينتين قطعة من البحر. وقد ينقدح في ذلك فصل في البعد؛ فإن وصولَ السفينة إلى السفينة ممكن؛ فالبحر في حق السفن كأرض ممتدة، في حق أقدام المشاة عليه، والله أعلم. ولو كان على النهر الكبير جسر ممدود، فالتواصل حاصل وفاقاً. ولو كان بين الواقف والإمام شارع، فظاهر المذهب أن ذلك غير ضائر، وذكر بعض الأصحاب أنه قاطع، وهذا مزيف لا أرى له وجهاً، إلا أن الصائر إليه -فيما

_ (1) زيادة من (ل) وحدها، والذي لا يعتمد نقله هو بعينه (بعض المصنفين)، أي الإمام أبو القاسم الفوراني، فإمام الحرمين كثير الحط عليه، من جهة تضعيفه في النقل، لا من جهة تفقهه، كذا قال السبكي في طبقاته في ترجمة الفوراني. وترى أن إمام الحرمين حفي بأقواله يناقشها، ويعنف في ردها أحياناً، ويعتمدها أحياناً، ولو كان لا يعتمد تفقهه، ما انشغل بفقهه. (2) أي لا يكون مقتدياً إلا إذا كان على حد القرب الذي قررناه.

أظن- اعتقد أن الشارع قد يطرقه رفاق (1) في أثناء الصلاة، وينتهي الأمر إلى حالةٍ يعسرُ فيها -لوقوع الحيلولة- الاطّلاع على أحوال الإمام، فتهيؤ الشارع المطروق لهذا ينتهض حائلاً. وهذا لا أصل له. ثم إن لم يكن من ذكر ذلك بد على بعده وضعفه، فهو في شارع يغلب طروقه. 1235 - ومما يتصل بما نحن فيه أن الإمام والمأموم لو وقفا على ساحةٍ مملوكة هي على صورة الصحراء الموات، فظاهر المذهب أنها كالموات؛ لأنها على صورته في العِيان وإمكان الاطلاع. وذكر شيخي وغيرُه: أنا نراعي فيها اتصال الصفوف، كما سنصفه بعدُ إن شاء الله تعالى؛ فإنّ الموات في حكم الاشتراك مضاه مساوٍ للمساجد، وهذا لا يتحقق في الأملاك. ثم إن جرينا على الصحيح، ونزلناه منزلة الموات في القدوة، فلو وقف الإمام في ملك زيد، ووقف المأموم في ملك عمرو، والموقفان في العِيان على امتداد ساحة واحدة، فقد ذكر الصيدلاني فيه وجهين: أحدهما - المنع وإن قربت المسافة المعتبرة، وهذا ضعيف جداً، ولست أرى له وجهاً يناسب ما عليه بناء الباب. ولا خلاف أنه لو كان في مسجدٍ نهر عظيم، فلا أثر له في قطع القدوة. فهذا حكم المسجد والموات إذا أفرد كل واحد منهما في التفريع. 1236 - فأما الوقوف في الأملاك على تصوير التفريد بأن يقف الإمام والمأموم جميعاًً في الملك، فنقول: إن لم تكن فيه أبنيةٌ، ولكن كان أرضاً ممتدة، فقد تقدم التفصيل فيه، وكذلك إذا اجتمعا في عَرْصة فيحاء من دارٍ. فأما إذا وقفا في دارٍ وفيها أبنية مختلفة، فنقول: إن اجتمع الإمام والمأموم في بناء واحد، فهو كاجتماعهما في عَرْصة الدار كما سبق، فإن اتصلت الصفوف، قطعنا بالصحة، وأما إن لم تتواصل، فالمذهب تنزيله تنزيل الموات، وعندي أن هذا أقرب

_ (1) رفاق جمع رُفقة، والرفقة هي الجماعة، فالمراد يقطع الطريق جماعات. (المعجم).

إلى اقتضاء التصحيح من الساحة المملوكة الممتدة؛ فإن البناء الواحد -وإن اتسعت خِطتُه- يُعد مجلساً جامعاً في العرف. وإن وقف الإمام في بناء، ووقف المأموم في غيره، مثل أن يقف الإمام في صدر صُفّة والمقتدي في العرصة، أو في بناء آخر، فقد أجمع أئمتنا على اعتبار اتصال الصفوف في أبنية الأملاك، واختلاف الأبنية غير معتبر في المسجد وفاقاً؛ فإن الإمام لو وقف في المقصورة، ووقف المقتدي خارجاً منها، فلا أثر لاختلاف الأبنية في المسجد قطعاً؛ فإنه بقعة واحدة مهيأة لجمع الجماعة، ثم إذا اعتبرنا في الدار -عند اختلاف الأبنية- اتصالَ الصفوف، فليعلم الطالب أنا نطلق الاتصال في الصف على صورتين: إحداهما - اتصال الصف طولاً على معنى تواصل المناكب، وهذا يعد صفاً واحداً. والثانية - أن يقف صفٌ، ويقف وراءه صف آخر قريبٌ منه بحيث يكون ما بين الصفين قريباً من ثلاثة أذرع، وهي مكانُ متوسعٍ في سجوده وانتقالاته، فهذا اتصال الصفوف المتعدّدة. فأما إذا أطلقنا اتصال الصفوف عنينا هذه الصورة الأخيرة، وإذا قلنا اتصل صف واحد عنينا تواصلَ المناكب. فنقول الآن: إذا كان الإمام في صُفَّة والمأموم الذي نتكلم فيه في بيت، على جانبٍ من الصفة، بابه لافظٌ (1) في الصُّفة، فإذا دخل صف من الصفة البيتَ، وتواصلت المناكب، فمن يقف في الصف الذي وصفناه، فصلاته صحيحة؛ فإن هذا نهاية الاتصال، ولا يبقى مع هذا لاختلاف الأبنية وقعٌ وأثر أصلاً. 1237 - ثم قال الأئمة: الواقفُ في هذا الصف تصح قدوته. ولو كان بين آخرِ واقف في الصف المحاذي لباب البيت وبين الواقف في البيت موقف رجل، فالصف غير متصل، وقدوة من في البيت باطلة، لاختلاف الأبنية وعدم الاتصال، والبقعة غير مبنية لجمع الجماعات، وكل كائن في بناءٍ من الدار يعد منقطعاً عن الواقف في غيره، فإذا لم يفرض اتصالٌ تام محسوس، فلا اجتماع ولا قدوة. وإن كان بين آخر واقف في الصف المسامت للباب فرجة تسع واقفاً، فقد ذكروا في

_ (1) سبق تفسير كلمة (لافظ) قبل صفحات.

ذلك وجهين، وخرّجوا على ذلك العتبة إذا كانت خالية عن واقف، فقالوا: إن اتسعت لواقف، فلا يصح اقتداء من في البيت، وإن كانت أقل من موقف، والذي في البيت اتصل موقفه بالعتبة - ففيه الخلاف. وعندي أن هذا التدقيق مجاوزةُ حد، ولا ينتهي الأمر في أمثال ما نحن فيه إليه؛ فإنه ليس معنا توقيفٌ شرعي في المواقف، وإنما نبني تفريعات الباب على أمر مرسل في التواصل. 1238 - وإذا دخل صف البيتَ طولاً بحيث يعد ذلك صفاً واحداً عرفاً، فلا يضر خلوّ موقف واقف واحدٍ إذا عد ذلك صفاً. ثم هذا التدقيق فيه إذا خلا موقفُ واقفٍ حسّاً، فأما إذا كان لا يتبين في الصف موقفٌ بين واقفين، ولكن كان الصف بحيث لو تكلف الواقفون فيه تضامّاً، لتهيأ موقفٌ، وكان لا يبين في الصف فرجة محسوسة، فهذا الذي ذكرناه محتمل سائغ؛ فإن ذلك يعدُّ اتصالاً عرفاً، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف. والذي يكشف الغطاء في ذلك أنه لو وقف في الصّفة على باب البيت [واقف، واتصل به موقفُ من في البيت، كفى هذا، ولا حاجة إلى فرض سوى الواحد الواقف على باب البيت] (1) وإذا كان كذلك، فالاتصال مرعي بين هذا الواحد على الباب، وبين من يقف في البيت. قال الأئمة: إذا دخل صف في البيت، واتصل بواحد من الصفة كما قدمناه، فصلاةُ من في هذا الصف في البيت صحيحة، ومن يقف وراء هذا الصف في هذا البيت، فصلاته صحيحة على قياس صلاة الواقفين في الصف، ولو تقدم متقدم على هذا الصف، لم تصح صلاته مقتدياً، وهذا الصف كالإمام، فمن وراءه متصل به، ومن تقدم، فلا يثبت له اتصالٌ بالإمام، ولا بالصف الذي وراءه؛ فإن الاتصال له صورتان: أقربهما - التواصل في صف واحد طولاً، والثاني - وقوف صف وراء صف.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، و (ط) و (ت 2) وأثبتناه من (ت 1).

فهذا إذا كان البيت على جانب من الصفة. 1239 - فأما إذا كان الإمام واقفاً في الصفة، والمأموم في العَرْصة، أو في بناءٍ وارء الصفة، فالذي ذكره الأئمة أنه إن اتصلت الصفوف على ما قدمنا تفسيره، ففي صحة اقتداء هؤلاء الذين وقفوا في بناء آخر وجهان: أصحهما - الصحة لاتصال الصفوف، قياساً على اتصال صفٍّ واحد طولاً، مع تواصل المناكب، إذا دخل في بيت على أحد جانبي الصفة كما سبق. والثاني - لا يصح؛ لاختلاف الأبنية، وعدم تواصل المناكب. وهذا القائل يقول: ما يسمى اتصال الصفوف ليس باتصالٍ حقيقي، وكلُّ بناء مجلس على حياله، والبقعة ما بنيت لتجمع الجماعات، ولم يوجد التواصل بين المناكب، ولو لم يكن بين الواقف في البناء الواقع وراء الصف وبين من في الصفة تواصل الصفوف على قدر ثلاثة أذرع، بل زاد الانفصال على ذلك زيادة بيّنة في الحس، فصلاة من في البناء الواقع وراء الصفة باطلة؛ فإن البناء مختلف والصفوف غير متصلة. 1240 - والضبط فيه أنه إذا اتحد البناء، واتصلت فيه الصفوف، صحت القدوة، وإن اختلف البناء، ولم يكن اتصالُ صفوف، لم تصح قدوة من في بناء غير البناء الذي فيه الإمام. وإن اتصلت الصفوف، واختلف البناء، فإن اتصل صف واحد طولاً، صح. وإن كان اتصل الصفوف وراء الإمام، فوجهان. وإن اتحد بناء، ولم تتصل الصفوف، على الحد الذي ذكرناه، بل وقف الإمام في صدر الصفة، والمأموم على عشرة أذرع مثلاً، فقد ذكر الأئمة فيه الخلافَ المقدم في الملك إذا امتد في العرصة والساحة. والذي أراه القطع بالصحة عند اتحاد البناء؛ فإن البناء جامع. وهذا أجمع من ساحة منبسطة لا تُعدُّ مجلساً واحداً. 1241 - ومما يبقى في النفس [أنا] (1) ذكرنا خلافاً فيه إذا اختلف البناء وراء الصفة، واتصلت الصفوف عرضاً على قدر ثلاثة أذرع.

_ (1) في جميع النسخ: "إذا" وهذا مما أفادتنا إياه (ل) وحدها.

فلو قال قائل: لو كان البيت على جانب من الصفة، ووقف واقفٌ ممن في الصفة على باب البيت، ووقف واقف في البيت على قدر ثلاثة أذرع من الواقف على الباب، فهلا خرجتم ذلك على الخلاف المذكور في تواصل الصفوف عرضاً، مع اختلاف الأبنية؛ فإن المسافة في الطول كالمسافة في العرض؟ قلنا: لم يختلف الأصحاب في منع ذلك طولاً؛ فإن ذلك لا يعد اتصالاً في الصفوف. ووقوف الصف وراء الصف يعد اتصالاً، فأما الطول، فالاتصال فيه بتواصل المناكب. 1242 - ومما يتصل بحكم الدور في المواقف أن صفاً لو وقفوا على مرتفع من الأرض، فهل يعدّون متصلين بالواقفين دونهم؟ قال شيخي: إن كان الواقف المنخفض بحيث ينال رأسُه ركبةَ الواقف المستعلي، فهذا اتصال. وقال صاحب التقريب إن كان رأسه يلاقي قدمَ من علا موقفُه، كان ذلك اتصالاً. وهذا هو المقطوع به. ولست أرى لذكر الركبة وجهاً. والمرعي أن يلاقي شيء من بدن المنخفض شيئاًً من بدن العالي، وهذا قريب في الارتفاع والانخفاض من المسافة بين الصفين، ولو كان الواقف أسفل صبياً لا ينال رأسه مسامتة العالي، لقصر قامته، فلعل ذلك مما يتساهل فيه، وكذلك لو فرض ذلك بين الصفين، فلا يعتد بعدِّ الثلاثة الأذرع، فإن زاد شيء لا يبين في الحس ما لم يذرع، فهو أيضاً غير محتفَلٍ به. 1243 - ثم الرباطات والمدارس، إذا لم تكن مساجد -في المواقف- كالدور المملوكة بلا خلاف، والسبب فيه أن الدور المملوكة إنما ضاق فيها أمر المواقف، من جهة أنها ما بنيت لإقامة الجماعات فيها، وهذا المعنى يتحقق في المدارس والرباطات والدور الموقوفة. وقد تنجَّز القول في المواقف في المواضع الفردة. 1244 - ونحن نذكر الآن ما لو اختلف موقف الإمام والمأموم في البقاع التي ذكرنا تباين حكم المواقف فيها. فلو كان موقف الإمام في المسجد، وموقف المقتدي في مِلكٍ، فهو كما لو كان

موقفهما في بناءين مملوكين؛ فإن كان البيت المملوك على جانب المسجد، وكان بابه لافظاً فيه، فهو كما لو كان الإمام في الصفة والمأموم في بيتٍ بابه نافذ في أحد جانبي الصفة، فيعود كل ما ذكرناه في اتصال الصف طولاً. وإن كان البيت المملوك الذي هو موقف المقتدي وراء المسجد، وكان بابه لافظاً فيه، فهو كبيت وراء صفة فيها موقف الإمام، فيقع التفصيل في اتصال الصفوف عرضاً، ولا أثر لكون أحد الموقفين مسجداً؛ فإن ذلك لا يغير الحكم، ولا يرفع الاختلاف، وما (1) ذكرناه من أن المملوك غير مبني للصلاة، وجمع الجماعات. 1245 - فأما إذا كان الإمام في مسجد والمقتدي في موات، أو شارع يستوي فيه الكافة، فهذا يخرج على القاعدة التي نبهنا عليها الآن، فالأصل أن نجعل كأن الإمام والمأموم في موات، كما قدمنا في الملك والمسجد، حيث قلنا: هو كما لو كانا في ملكين، ولا نقول: نجعل كما لو كانا في المسجد، نظراً إلى كون أحدهما في المسجد، فالحكم يجري على موجب البقعة التي يقتضي الشرعُ فيها ضرباً من التضييق، لا على المسجد الذي يتسع فيه أمر المواقف. فإذا تمهد ذلك، قلنا: إذا كان [الإمام في مسجد والمأموم في مواتٍ أو الشارع، فالقرب المرعي ثلاثمائة ذراع أولا، ثم إذا كان] (2) الموقف وراء المسجد، فيعتبر أول هذه المسافة في حق أول واقف في الموات من أي موضع في المسجد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يعتبر من آخر الصف في المسجد، والثاني - أنه يعتبر من آخر جزء من المسجد، في الجهة التي تلاقي المقتدي، حتى كأنَ جِرْمَ (3) المسجد إمامُه. والصحيح النظر إلى الواقفين في المسجد، كما ذكرناه أولاً. وإذا قلنا بالوجه الثاني، فكأنا جعلنا لكون الإمام والجماعة في المسجد مزيدَ أثرٍ

_ (1) معطوف على (الاختلاف)، فهو داخل ضمن معمول (يرفع). (2) هذا مما جاءتنا به (ل) منفردة عن باقي النسخ. (3) كذا في (ت 2) بالجيم المعجمة، وفي باقي النسخ حرم بالحاء، ورجحنا هذا رعاية لمعنى النص، وقد رأينا النووي في المجموع يعبر بلفظ (حريم) المسجد. (ر. المجموع: 4/ 307).

في توسيع أمر المواقف؛ فإنه ربما يكون بين آخر صفٍ، وبين آخر المسجد ألفُ ذراع، فلا تعتبر تلك المسافة، ويعتبر ابتداءُ الثلاثمائة من آخر المسجد في صوب المقتدي. ثم تمام البيان في ذلك، أن المقتدي لو كان وراء المسجد على محاذاة جدار المسجد، ولم يكن على (1) باب في جهة المقتدي، بل كان الجدار حاجزاً بينه وبين الصفوف، فمن أصحابنا من جعل الجدار قاطعا مانعاً من الاقتداء، إذا كان ذلك الجدار الحائل مانعاً من الاستطراق، وهذا الذي صححه العراقيون. والثاني يصح، وهذا يخرج بناء على قولنا: إن إمامَ المقتدي الواقف خارجَ المسجد جِرمُ المسجد. ثم قال العراقيون: إذا منعنا القدوة والجدار مانعٌ من الاستطراف والنظر، فلو كان الجدارُ مشبكاً، غيرَ مانع من النظر وإن منع الاستطراق، فعلى هذا الوجه وجهان: من جهة أن نفوذ النظر ضربٌ من الاتصال، وهذا كله في موقف المقتدي وراء المسجد. فأما إذا كان وقوفه في أحد جانبي المسجد، فهو كما مضى، فيعتبر القرب والبعد، كما تقدم في الصحاري، ثم لا فرق بين أن يكون باب المسجد مفتوحاً، وبين أن يكون مغلقاً. وذكر صاحب التقريب وجهاً، ومال إليه واختاره: أن الباب إذا كان مغلقاً، لم يصح اقتداء الواقف خارج المسجد، وهذا يطرد في كل واقف خارج المسجد أين وقف. وهذا قريب مما صححه العراقيون، من كون الجدار حائلاً مانعاً. والصحيح عندنا: أن الجدارَ المانع من الاستطراق، وبابَ المسجد المغلق، لا أثر له. ثم حكى الصيدلاني عن صاحب التقريب في تفريع الوجه المحكي عنه أنه قال: إذا كان الباب مفتوحاً، فينبغي أن يقف صف بحذاء الباب، ثم يقف من يقف وراء الصف على حدّ القرب المعتبر في الصحاري، حتى لو وقف واقف قدام الصف المحاذي

_ (1) كذا في جميع النسخ، والصواب -والله أعلم- بدون (على) مع اعتبار (كان) تامة. وبذا يستقيم الكلام.

للباب المفتوح، لم يجز. وهذا حكاه الأصحاب عنه، ولم أره في كتابه. أما اعتبار فتح الباب، فمنصوص له. هذا بيان اختلاف الأماكن في المواقف. 1246 - ولو كان الإمام في مواتٍ، والمأموم في مسجد، لم يختلف شيء من التفاصيل المقدمة. ثم إن كان الإمام متقدماً عن المسجد، والمقتدي واقفاً في آخر المسجد، فهل يعتبر ما بين مقدمة المسجد في جهة الإمام، وما بين موقف المقتدي من طول المسجد في الثلاثمائة الذراع، أم لا نعتبر مسافة المسجد ونرفعها من البين؟ فعلى الخلاف المقدم فيه إذا كان الإمام في المسجد، حيث قلنا: نعتبر ابتداء المسافة من آخر واقف في جهة المقتدي الخارج، أم نعتبر أولَ المسافة من آخر جزء من المسجد في جهة الواقف؟ وهذا بيّن. ولو وقف المقتدي الواقف في ملك في سطحِ داره، متصلاً بسطح المسجد، فهذا الآن يضاهي اتصال ملكِ منبسطِ لا بناء فيه بالمسجد، أو بأرضٍ مباحة، ثم اعتمد الشافعي أثراً عن عائشة، وهو لعمري معتصم عند ضيق القياس، وهو ما روي: "أن نسوة في حجرة عائشة، أردن أن يصلين فيها، مقتديات بالإمام في المسجد، فنهتهن عائشة، وقالت: إنكن دون الإمام في حجاب" (1). فرع: 1247 - إذا وقف الإمام والمأموم في سفينة واحدة، والسفينة مكشوفة، فالذي قطع به أئمتنا: أن النظر إلى البحر الذي عليه السفينة، فنُجريه مجرى الأرض المباحة في المواقف، والسفينة تحت الأقدام كصفائح منصوبة في الصحراء، وقد وقف عليها القوم، فلا أثر لتلك الصفائح.

_ (1) أثر عائشة لم أصل إليه إلا عند اليهقي من رواية الربيع عن الشافعي بلفظ: قد صلى نسوة مع عائشة في حجرتها، فقالت: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب". قال الشافعي رحمه الله: وكما قالت عائشة -إن كانت قالته- قلناه" ا. هـ (ر. السنن الكبرى: 3/ 111). هذا ولم يتعرض الحافظ في التلخيص لهذا الأثر، ولا النووي في المجموع، ولم أصل إليه عند الشافعي.

ولو كانت السفينة مسقفة، والركاب تحت السقف، فنجعل السفينة الآن بمثابة دار مملوكة، وقد تقدم التفصيل فيه. ولو كان الإمام في سفينة أخرى، والسفينتان مكشوفتان، فالذي صار إليه أئمة المذهب جواز الاقتداء، واعتبار القرب والبعد المذكور في الصحاري. وقال أبو صعيد الإصطخري: إن كانت سفينة المأموم مشدودة بسفينة الإمام، بحيث نأمن أنها لا تتقدم على سفينة الإمام، فالقدوة صحيحة على قرب الصحاري، وإن كانتا مطلقتين، قال: لا يصح الاقتداء؛ فإنا لا نأمن أن تتقدم السفينة التي فيها المقتدي في أثناء الصلاة، على السفينة التي فيها الإمام. وهذا متروك على أبي صعيد. والوجه تصحيح القدوة، وعدم المبالاة بما يتوقع من تقدّم، على أن تقدّم السفينة المتأخرة على السفينة المتقدمة بعيد. ثم قال شيخنا أبو بكر (1): وما ذكرناه في سفينتين مكشوفتين، فأما إذا كانتا مسقفتين، وكان الإمام والمأموم تحت السقوف، فالقدوة فاسدة، فإنَّ كلَّ واحدٍ منفردٌ عن الثاني ببيت على حياله، فهو كما لو فرض بيتٌ في بنيان في الصحراء، والإمام في أحدهما، والمقتدي في الثاني. فهذا تمام ما عندنا في المواقف. والله المستعان. ...

_ (1) المراد: أبو بكر الصيدلاني. كما حررناه من قبل.

باب صفة الأئمة

باب صفة الأئمة 1248 - قد ذكرنا فيما تقدم من يصح الاقتداء به ومن لا يصح الاقتداء (1). وهذا الباب معقودٌ لبيان من هو أولى بالإمامة عند فرض اجتماع قوم يصلح كل واحد للإمامة، ولكن الغرض بيان الصفات المرعية في تقديم من هو أولى بالتقديم والإمامة. والأصل أولاً في الباب ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعُصبة وفدوا عليه: "يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله، فإن لم يكن، فأعلمكم بسنة رسول الله، فإن لم يكن، فأقدمكم سِناً. أو قال: أكبركم سِناً" (2)، فصار الحديث أصلاً في التقديم بالفضائل. ثم مذهب الشافعي أن الأفقه الذي يحسن قراءة الفاتحة، مقدَّم على الأقرأ الماهر بالقراءة (3)، إذا كان في الفقه غير مواز لصاحبه، والسبب فيه أن الصلاة إلى الفقه أحوج منها إلى قراءة السورة؛ فإن ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له، ولا يغني فيها إلا الفقه والعلم، ويجوز الاكتفاء بقراءة الفاتحة. وظاهر الحديث الذي رويناه مشعر بتقديم الأقرأ، ولكن الشافعي أوّل الحديث، ونزّله على الوجه الحق، فقال: فإن الأغلب في الصحابة أن من كان أقرأ، كان أفقه.

_ (1) كذا في جميع النسخ، بحذف " به " وهو سائغ جيد، لا غبار عليه. (2) حديث: "يؤمكم أقرؤكم .. " رواه مسلم بنحو هذا السياق. من حديث أبي مسعود الأنصاري، (ر. صحيح مسلم: كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة، ح 673، وتلخيص الحبير: 2/ 32 ح 576). (3) كذا في جميع النسخ، ولعلها (بالقرآن) كما هو وارد في لفظ الحديث الشريف، عن فضل وجزاء القارىء الماهر بالقرآن. مجرد حَدْس. والله أعلم.

وقد روي أنهم كانوا يتلقنون خمساً من القرآن، ثم لا يجاوزونها حتى يعلموا ما فيهن، ويعملوا بما فيهن، فكان القراء فقهاء في ذلك الزمان. وقد قال بعض جلة الصحابة: "نحن في زمان قل قراؤه، وكثر علماؤه، وسيأتي زمان يقل علماؤه، ويكثر قراؤه"، وقيل: كان يستقلّ بحفظ جميع القرآن ستة نفر: أبو بكر، وعثمان، وعلي، وزيد، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود. ثم لحقهم من بعدهم، عبد الله بن عباس، فاستظهر القرآن. وللكلام على الحديث سرٌّ به يتم الغرض وهو: إن عمر كان مفضَّلاً على عثمانَ، وعليّ، والثلاثة الذين ذكرناهم بعدهم، وكان أعلم وأفقه منهم، ولكن كان يعسر عليه حفظ القرآن، وقد جرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعم الأغلب لما قال: يؤمكم أقرؤكم. فهذا ما أردناه. فالقراءة والفقه، مقدمان على جملة الصفات المرعية. والفقه مقدّم على المهارة في القراءة. 1249 - وكان شيخي يقول: الورع مقدم على الفقه؛ فإن المتورع موثوق به، ولا يعدل المحقَقُ بالديانة والورع شيئاًً، وهذا فيه نظر. والوجه عندي أن نقول: الورِع العارفُ بمقدار الكفاية، مقدم على الفقيه [القارىء] (1) الفاسق؛ فإنا لا نأمن ألا يحتفل الفاسق برعاية الشرائط. فأما إذا كان الفقيه ورعاً أيضاً، ولكن فضَلَه في الورع صاحبُه، فالفقه مقدم عندي على مزيّة الورع. 1250 - ثم نتعرض بعد الفقه والقراءة للسن والنسب، فلا يوازيهما في مقصود الباب بعد الفقه والمهارة في القراءة شيء، ثم إذا اجتمع سن ونسب، والمعني بالنسب المعزي (2) إلى قريش، فقد ذكر الشيخ أبو بكر وجهين، وفي بعض التصانيف قولان:

_ (1) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (2) الفعل (عزا) واوي ويائي.

القديم - أن القرشي مقدم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قدموا قريشاً ولا تتقدموها" (1). والمنصوص في الجديد: أن السن مقدّم، لما رويناه في صدر الباب، أنه صلى الله عليه وسلم: ذكر بعد الفقه والقراءة السنَّ، فقال: "وإن لم يكن، فأقدمكم سناً " أو قال: "أكبركم سناً"، قال العراقيون: إنما يؤثر كبرُ السن إذا كان في الإسلام، فلو أسلم شيخ من الكفار، فلا نقدمه لسن أتى عليه في الكفر. وهذا حسن بالغ. ثم كان شيخي يشير إلى الشيخوخة وروى فيها أخباراً، مثلَ قوله صلى الله عليه وسلم: "من إجلالِ الله إجلالُ ذي الشيبة المسلم" (2)، وهذا قد يُخَيِّل أن ابنَ الثلاثين مع ابن العشرين إذا اجتمعا، وابنُ العشرين قرشي، فالقرشيُّ مقدّم، من حيث إن صاحبه ليس شيخاً، ولكن أجمع أئمتُنا على أنا لا نعتبر الشيخوخة، بل يكفي كبرُ السن. والحديث الذي رويناه دال عليه، فإنه قال: "أقدمكم سناً". والذي ذكره شيخنا في حكم من يخصص طرفاً من المسألة بنَصْبِ دليلِ فيه، ومما نجريه في ذلك، أنا قدَّمنا أن الورِع النازل في الفقه، والفقيه الذي ليس بالفاسق إذا اجتمعا، فالفقيه مقدم. ولو اجتمع مرموق في الورع، ورجل مستور فقيه، فالفقيه مقدّم. ولو اجتمع مشهور بالزهد والورع، ورجل مستور أقدم منه سناً، أو قرشي، فهذا فيه احتمال. والذي يقتضيه قياسُ المذهب، تقديمَ النسب والسن. والله أعلم.

_ (1) حديث: "قدموا قريشاً .. " رواه الشافعي، والطبراني والبيهقي، وابن أبي شيبة. قال الحافظ: وقد جمعت طرقَه في جزء كبير. (ر. التلخيص: 2/ 36 ح 579، والسنن الكبرى: 3/ 121، والمصنف: 6/ 401، 402 ح 32386). (2) حديث: "إن من إجلال الله ... " رواه أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري بلفظ: "إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط"، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، ح 4843، وصحيح أبي داود: 3/ 918 ح 4053، وصحيح الجامع: ح 2195 أو ح 2199 في الطبعة الجديدة. والمشكاة: ح 4972، وصحيح الترغيب: 1/ 93).

1251 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المعتبر نسبُ قريش. على ما ذكرناه. وقد يفرض نسب شريف وهو الانتساب إلى العلماء والصالحين، وقد رأيت في كتب أئمتنا تردداً في ذلك، والظاهر أنه لا يختص بالانتساب إلى قريش، بل كل نسب معتبر في كفاءة النكاح، فهو مرعي هاهنا. ولا ينبغي أن يَغْتَرَّ الناظر باستدلال الأصحاب بقوله: "قدموا قريشاً"؛ فإنه من جنس تعلق من يقدم السن بأخبار الشَّيب وتعظيمه. وهذا منتهى القول. 1252 - وقد يعرض للفطن سؤال في السن والنسب، وهو أن نقول: تقابلُ الأخبار هلاَّ دلَّ على استواء السن والنسب؟ وهذا موضع تخيل مثل ذلك؛ فإن الكلام في التقديم، وفي الأَوْلى، والنظر في الصفات، يتقارب مأخذه. ولا يتناقض (1) في هذا المقام الحكمُ بالاستواء، ونحن قد [نَجْبرُ] (2) في كفاءة النكاح بعضَ المناقب ببعض (3)؟. قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن ما تعلق به ناصر كل قولٍ، يشير إلى التقديم، كقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً"، وقوله: "فأقدمكم سناً"، فكأنا نفهم على القطع إذا نظرنا في مأخذ ذلك، أن المسألة على التفصيل والتقديم، ودلالة الشريعة أين وجدت دالّة على ذلك، فنعتقد وجوب التقديم، ثم ننظر في الأَوْلى، وهذا من دقيق النظر. فليفهم الناظر. 1253 - ثم ممّا يراعى في الباب النظافة، والنزاهة، في الثياب، والطهارة.

_ (1) في (ت 2): يتفاوت مأخذه في تناقض. (2) في الأصل وفي (ت 2): بدون إعجام. وفي (ط) نجيز، وفي (ت 1) نخير. وما اخترناه تقدير منا، رعاية للسياق، نرجو أن يكون هو الصواب. (3) آخر السؤال الذي يعرض للفطن. (4) حدث خطأ في ترقيم صفحات المخطوط، فسقط رقم (44 ي وش).

1254 - ولو اجتمع في دار إنسان طائفة، فالإمامة إلى مالك الدار، وإلى من يأذن له المالك. ولو اجتمع في الدار مالك الدار ومكتريها منه، فالمكتري أَولى؛ لأنه مستحق المنافع. ولو اجتمع مستعيرُ الدار وأجانب، فالمستعير أولى. وإن اجتمع المعير والمستعير، فإن رجع في العارية، فهو أولى، وإن لم يرجع، فقد اختلف جواب القفال في ذلك، فقال مرة: المعير أولى، وهو المالك، وليس للمستعير استحقاق، وقال مرة: المستعير أولى؛ فإنه صاحب السكنى إلى أن يُصرف ويُمنع. ولو اجتمع في الدار مالك الدار والسلطان، فالسلطان أولى بالإمامة، وبتقديم من يرى؛ فإن الأئمة رضي الله عنهم كانوا يرون الإمامة للصلوات من أحكام الولايات، وقد وجدت كتب الأصحاب متفقة، ونصَّ الشافعيُّ عليه في المختصر (1)، وعلّتُه أن التقدُّمَ على السلطان، والتقديم بحضرته خروج من موجب المتابعة، وبذل الطاعة. وإذا كان المالك راضياً بإقامة الصلاة في داره، فتعيينه متقدَّماً ومقدَّماً (2)، ليس من تصرفات الملاك، ولا يختلف انتفاع الكائنين في داره بذلك، فهو بالولاية العامة أليق. فإن لم يكن والي، فالمالك أولى من غيره. ولو كان السيد أسكن عبده داراً، فحضر قوم، فالعبد الذي هو ساكنُ الدار أولى بالتقدّم والتقديم، كما ذكرناه في المستعير، ولكن لو كان السيد حاضراً، فهو أولى بذلك، وفي حضور المعير مع المستعير الخلاف المقدَّم. والفرق أن العبد في سكونه (3) ممتثل أمرَ مولاه، وسكون العبد من غرض السيد؛

_ (1) ر. المختصر: 1/ 121. ولفظ الشافعي: "ولا يتقدم أحد في بيت رجل إلا بإذنه، ولا في ولاية سلطانِ بغير أمره". (2) أي تعيين المأموم (المتقدَّم) والإمام (المقدَّم) ليس من تصرفات الملاك. وفي (ل): "فتعيينه مقدَّماً ومقتدياً". (3) "سكونه" أي سكناه وسكنه، تقول: "اتخذت هذا البيت سكونًا، وهذا المكان لا يصلح =

فإنه ملكه، فإذا حضر السيد، فهو المالك، وإليه ترجع فائدة السكون، وفائدة السكون في حق المستعير آيل إليه، فإذا لم يرجع المعيرُ في العارية، فيجوز أن يقدر دوام الحق للمستعير. 1255 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن السلطان لو حضر، وفي المجلس من هو أقرأ أو أفقه منه، فهو المقدَّم، كما يتقدم على صاحب الملك في الدار. 1256 - فرجع ضبط الكلام إلى أن السلطنة مقدمة، ثم يليها الملك للمالك في الموضع المملوك، فإن لم يكن ولاية ولا ملك، فالذي يختص بالصلاة القراءة والفقه، فكانا مقدمين؛ لأنهما مختصان بالصلاة، ثم الفقه مقدّم على القراءة، كما تقدم. وفي الورع سرٌّ؛ فإنه وإن لم يكن شرطاً في الصلاة، فله تعلق عظيم بثقة المقتدي وحسن ظنه في رعاية الإمام شرائط الصلاة. وتفصيل المذهب فيه ما ذكرته. ثم السن والنسب لا تعلق لهما بالصلاة، ولكنهما من موجبات التقديم (1)، والإمامة تقدمٌ؛ فجرى فيهما من التردد ما ذكرناه. 1257 - ومما يتعلق بالباب أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقبل الله صلاة من يؤم قوماً وهم له كارهون" (2)، فإذا كره قوم إمامةَ إنسان، فلا يستحب له أن يصلي بهم، وإن كان فيهم كارهون، فالنظر إلى الأكثر، وهذه الكراهية فيمن لم يقدّمه سلطان، فإن كان (3) منصوباً من جهة السلطان، فلا نظر إلى كراهية القوم إمامته.

_ = سكوناً" وهو استعمال غير مألوف، ولكنه وارد في لسان الفقهاء ومستخدمٌ في ذاك العصر، وسيرد في كتابنا هذا في ربع المعاملات أكثر من مرة بهذا المعنى. (1) في (ت 1) التقوى. (2) حديث: "لا يقبل الله صلاة من يؤم قوماً وهم له كارهون" جاء هذا المعنى في حديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الصلاة، باب الرجل يؤم القوم وهم له كارهون، ح 593، وصحيح أبي داود: 1/ 118 ح 554، والترمذي: الصلاة، باب ما جاء فيمن أم قوماً وهم له كارهون، ح 360، وصحيح الترمذي: 1/ 113 - ح 295، وصحيح ابن ماجة: 1/ 159، كتاب إقامة الصلاة، ح 791، 792، المشكاة: 1123). (3) في (ت 2) فإن لم يكن.

وروى الشافعي في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدُكم في بيت رجل إلا بإذنه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" (1)، والتكرمة طنفسة، أو مصلى، أو بساط في موضع مخصوص يُجلس عليه مالك الدار من يريد إكرامه، فلا ينبغي لمن يدخل دار إنسان أن يجلس على تلك التكرمة من غير إذن مالك الدار (2). ...

_ (1) حديث: "لا يؤمن أحدكم في بيت رجل إلا بإذنه .. " رواه مسلم في صحيحه، وهو جزء من حديث أبي مسعود البدري، بلفظ: " .. ولا تؤمَّن الرجلَ في أهله، ولا في سلطانه ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا أن يأذن لك، أو بإذنه" وبنفس اللفظ تقريباًً، أبو داود، والنسائي، وابن ماجة. (ر. صحيح مسلم: 1/ 465، كتاب (5) المساجد، باب (53) من أحق بالإمامة، أبو داود: الصلاة، باب من أحق بالإمامة، ح 582، والنسائي: الإمامة، باب من أحق بالإمامة، ح 781، وابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة، باب (46) من أحق بالإمامة، ح 980، وتلخيص الحبير: 2/ 36 ح 579، 580). (2) إلى هنا انتهى الجزء الثالث من نسخة (ت 2). وجاء في خاتمته: "كمل الجزء بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم تسليماً. يتلوه في الجزء الرابع إن شاء الله. باب إمامة النساء". وبهذا ينقطع سياق نسخة (ت 2) حيث فقد منها الجزء الرابع.

باب إمامة النساء

باب إمامة النساء روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تقوم إمامة النساء وسطهن"، وروي أن عائشة "صلت بنسوةٍ العصرَ، فقامت وَسْطهن" (1)، وقد تقدم ذلك فيما مضى، وسبق في باب الأركان حكمُ أذانهن وإقامتهن. ...

_ (1) سبق الكلام على الحديثين.

باب صلاة المسافر

باب صلاة المسافر 1258 - القصرُ من السنن المتعلقة بالسفر الطويل، ويستوي فيه حالةُ الخوف والأمن، وخلاف داود مشهور. ثم السفر الطويل عند الشافعي مرحلتان، والمرحلة الفاصلة بين الطول والقصر ثمانية فراسخ، والمرحلتان ثمانية وأربعون ميلاً، كل ثلاثة أميال فرسخ، وألفاظ الشافعي، وإن اختلفت، فإنها راجعة إلى هذا قطعاً، فلسنا نطوّل بذكرها. 1259 - ثم قال الشافعي: "وأكره تركَ القصر رغبة عن السنة" (1). القصر عند الشافعي رخصة، وليس بعزيمة، خلافاً لأبي حنيفة (2). والإفطارُ في رمضان من الرّخص، ثم الصوم عند الإمكان أفضل من الفطر، ولا احتفال بقول من يقول من أصحاب الظاهر: إن الصوم في السفر لا يصح. والمحققون من علماء الشريعة لا يقيمون لمذهب أصحاب الظاهر وزناً. واختلف قول الشافعي في أن القصرَ أفضل من الإتمام، وسبب اختلاف القول، أن الصلاة المقصورة صحيحة وفاقاً، وفي صحة الصلاة التامة، خلاف، والمقصورة المتفق على صحتها أولى من التامة المختلف فيها أيضاً؛ فإن القصر غالب من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواظب إلاّ على الأفضل والأولى. ورأيت في نسخٍ من مذاهب الصيدلاني أن القصر أفضلُ من الإتمام قولاً واحداً، وفي الفطر قولان: أحدهما - أنه أفضل.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 121. (2) ر. مختصر الطحاوي 33، رؤوس المسائل: 173 مسألة 75، بدائع الصنائع 1/ 91، 92.

والثاني - أن الصوم أفضل، وهذا خطأ من النساخ قطعاً، فلا يعتد به. ثم قال الشافعي: "أما أنا، فلا أقصر في أقل من ثلاث مراحل" (1)، [وإنما آثر هذا] (2) للخروج من الخلاف، وإلا فمذهبُه واحد في أقل السفر الطويل، ثم أشعر نصُّه هذا بأن الإتمام في مسيرة يومين أفضل؛ لأن جواز القصر مختلفٌ فيه، والإتمامُ سائغ وفاقاً، فأما إذا بلغ السفر ثلاثَ مراحل، ففي القصر القولان المذكوران. فصل قال: "وإذا نوى السفرَ، فلا يقصر حتى يفارق المنازل" (3) 1260 - إذا هم الرجل بالسفر، لم يقصر حتى يخوض في السفر، وإنما يصيرُ خائضاً في السفر إذا فارق دارَ الإقامة، وهذا نُفصِّله في الخارج من بلد، أو قرية، ثم نذكر في (4) أهل الخيام إذا أقاموا في البادية، ثم رحل راحل منهم. فأما الخارج من البلدة، فلا شك أنه، وإن رحل، وشمّر، وفارق منزلَه، لم يصر مسافراً، حتى يفارق خِطةَ البلدة، وهذا يستدعي تفصيلاً: فإن كانت البلدة مسوّرةً، عليها دروب، فإذا خرج من الدروب، فهذا أول سفره، فيستبيح رخصَ المسافرين. وإن لم يكن البلد مسوراً، ونهض في صوب سفره، فلا بد من مفارقة عمران البلدة. وإن كان وراء العامر خرابٌ، ففي هذا وقوف وتردد، فالذي أشعر به فحوى كلام الصيدلاني، وكلامُ بعض المصنفين: أن مجاوزة العمران كافٍ، والخراب لا حكم له، وظاهر النص دال على ذلك؛ فإنه رضي الله عنه قال: "فلا يقصر حتى

_ (1) ر. المختصر: 1/ 121. ولفظه: "أما أنا، فلا أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيام، احتياطاً على نفسي، وإن ترك القصر مباح لي". (2) في الأصل: "ولا أثر للخروج من الخلاف" والمثبت من (ت 1) وظاهرتها (ل). (3) ر. المختصر: 1/ 122. (4) كذا في جميع النسخ: "في أهل الخيام".

يفارق المنازل"، واسم المنازل يختص بالعامر، الذي يمكن أن يسكن، وهذا يظهر تعليله؛ فإن المسافر هو البارز من مكان الإقامة، والخراب ليس مكان إقامة، فهذا وجهٌ. وهو سديد وتعليله بيّن. ولكن شرط ذلك ألاّ يكون وراء الخراب عمارةٌ معدودة من البلد، فإن كان، فلا شك أن الخراب من البلدة، ولا بد من مجاوزة منتهى العمارة. 1261 - وأما شيخنا فإنه كان يفصل القول في الخراب الواقع على طرف الخِطة، ويقول: إن كانت آثار الأبنية باقية، فلا بد من مجاوزتها؛ فإنها تُعدّ من البلدة، وقد ثبت أن مجاوزة البلدة لا بد منها، ثم كان يقول: يتصور فيها أحوال، نخرّجها على حكم البلدة، ونحن واصفوها، منها: أن يتخذها الناس مزارع، فإذا انقلبت مزارع، فليست الآن من البلدة وفاقاً؛ فإنها خرجت عن أن تكون مساكنَ قصداً. وكان يقول: إن سُوِّرَ العامرُ، وأخرج الخراب، فيكفي مجاوزةُ السور المحوط على العمران؛ فإن سكان البلدة اعتمدوا إخراجَ الخراب، وكان يقول في هذه الصورة: لو سوّروا على العامر، وحوطوا سوراً آخر على الخراب، فلا بد من مجاوزة السورين. ومما يطرأ على الخراب أن يندرس بالكلية، ولا يبقى له أثر. كان يقول: هذا يُخرجها عن خِطة البلدة؛ فإن آثار البنيان يَظهر عدُّها من البلد، فأما الدارس المنطمس، فلا. ومما يذكر في الخراب أنه لو اتخذ منها بساتين، وكانت منازلَ ودوراً، فإن كان ملاكها لا يسكنونها ولا يخرجون إليها إلا متنزهين، أو لنقل الثمار، وإنما يأوي إليها الأكَرَة (1) والنواطير، فهي كالمزارع، فتخرج عن الخطة، وإن كان ملاكها يسكنونها، فهي من البلدة، ولكنها سكنت قديماً دوراً، وهي الآن مسكونة على هيئة أخرى. وكذلك إذا كان ملاكها يأوون إليها منتقلين إليها في بعض فصول السنة، فهي مَحِلة نَزِهة من البلد، فلا بد من مجاوزتها. والذين لا يعدّون الخراب من البلد في الطريقة الأولى يوافقون على هذا التفصيل في البساتين.

_ (1) الأكرة: بفتحات ثلاث جمع أكار، وهو الحراث، من: أكرْتُ الأرض: حرثتها. (المصباح). والمراد هنا كل من يعملون في زراعة الأرض وحراستها.

فهذه طريقة شيخي في الخراب وما يطرأ عليه من التغايير. 1262 - ولو كان الرجل ساكناً قريةً، فالقول في مجاوزة خِطتها وأبنيتها، كما ذكرناه، وبساتين القرى تعد منها قطعاً؛ فإنها تُعدّ من القرى، وإنما التفصيل في بساتين البلاد. فإذا جاوز البنيانَ، وانتهى إلى مزرعة القرية، فقد فارق القريهَ وفاقاً؛ فإنها ليست موضع سكون (1)، ولو كانت بساتينها، وكرومُها غيرَ محوطة على هيئة المزارع، أو مزارعها محوطة، فلا يشترط عندي مجاوزتها؛ لأنها ليست من مساكن القرية، وقد يتردد الناظر في ذلك. والوجه القطع بما ذكرته. فرع: 1263 - قال العراقيون: لو فرضت قريتان أبنية إحداهما متصلة بأبنية الأخرى، فمن خرج من إحدى القريتين في صوب الأخرى، فلا بد من مجاوزتهما جميعاًً؛ فإنهما بمثابة محلَّتين، والذي ذكروه ممكن ظاهر، وقد حكَوْه من نص الشافعي. ولكن للاحتمال فيه مجال بيّن؛ فإن المحال تعزى إلى بلدة، وخِطتُها شاملةٌ لها، أما هاهنا القرية (2) منفصلة عن القرية باسمها وحدودها، والدليل عليه أنه لو فرضت قرى كثيرة متصلة تمتد خطتها مراحل، فيلزم على قياسهم ألا يستبيح الخارج من أقصاها الرخصَ، ما لم يخرج عن جميعها. وهذا بعيدٌ جداً. ثم قالوا: لو انفصلت أبنية إحداهما عن أبنية الأخرى، ولكن كانتا مع ذلك متقاربتين، فمن خرج من إحداهما، كفاه مفارقة أبنيتها، وحَكَوْا عن ابن سُريج أنه قال: لا بد من مفارقتهما جميعاًً، كما لو اتصلت الأبنية، ثم زيفوا هذا، وهو لعمري مزيف، غيرُ منضبط؛ فإن القرب الذي ذكروه لا ضبط له، ولعل الوجهَ في تقريبه أن يكون مثلَ ما يقع بين محلتين متواليتين في بلدة، وهذا باطلٌ، لا أصل له. والوجه في اتصال أبنية القريتين ما ذكرناه من أنّ مجاوزةَ أبنية القرية التي خرج عنها كافية.

_ (1) سكون: أي سَكَنٌ، وسُكنى. وهذا من ألفاظ الإمام واستعمالاته. (2) نذكر بأسلوب الإمام في إسقاط الفاء في جواب (أما).

فهذا في الخروج عن الأبنية. 1264 - فأما المقيم في البريّة، إذا نهض مسافراً من مقامه، فينبغي أن يجاوزَ الخيامَ والأخبيةَ، ومطارحَ التراب، والمواضع الذي يتردد أهل الخيام إليها، وكذلك مجلسهم الذي يشتورون فيه، وهو الذي يسمونه النادي، فهذه المواضع إذا وقعت في صوب خروجه، فلا بد من مجاوزتها. فإن قيل: لم تذكر محتطَبَْ القوم، والموضعَ الذي يستقون منه. قلنا: ذلك يختلف، فإن كانوا يغدون نازلين على الماء أو على الحطب، فهو معتبر، وإن كانوا يحتطبون من بُعد أو يستقون، فلا يعتبر مجاوزة ذلك؛ فإنه غيرُ معدود من مخيّم القوم، ومحل إقامتهم. وقد نص الشافعي أنهم إن نزلوا في بطن وادٍ، وكان السفر في عُرض الوادي، فلا بد من قطعه، وهذا محمول على الغالب؛ فإن الأغلب أن عُرض الوادي يكون منسوباً إلى مخيم النازلين، فإن اتسع عُرض الوادي، وقلّت الخيام، فلا يعتبر جَزْع (1) عُرض الوادي. فإن قيل: هل في اعتبار مجاوزة مطارح التراب والدِّمَن في هذه الصورة، ما يشهد لاشتراط مجاوزة الخراب في البلدة؟ قلنا: هذه الأشياء من مرافق الخيام، ولا بد لها منها، ولا يتحقق مثل هذا في الخراب. فهذا منتهى التفصيل في المواضع التي يعتبر مجاوزتها، وما فصّلتُه غايةُ الإمكان فيه، وأشدُّ ما أعانيه في هذا المجموع أمثالُ هذه الفصول؛ فإنها في الكتب منتشرة لا ضبط لها، ولست أرى فيها اعتناء من الأولين لمحاولة الضبط. والله ولي الإعانة والتوفيق، بمنّه ولطفه. فرع: 1265 - إذا فارق الهامُّ بالسفر العمرانَ كما ذكرنا، وصار خائضاً في السفر، ثم كان خلّف شيئاًً من أمتعته، فعاد إلى البلدة ليحمله، فأراد أن يقصر في البلدة، فهل له ذلك؟ قال الأئمة: إن كانت البلدة وطنَه، وقد أنشأ السفر منه، فإذا عاد إليه

_ (1) جَزْعُ: قَطْعُ. (المعجم).

مستوفزاً، فلا يقصر، وإن كان غريباً في تلك البلدة، وكان قد أقام فيها مدة، ثم فارقها وعاد إليها كما ذكرناه، فهل يقصر؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يقصر؛ فإنه لم تكن البلدة وطنَه، ولكن أقام بها، ثم تقلع عنها، فصارت البلدة في حقه كسائر المنازل، ومن أصحابنا من جعله كالمتوطّن، يسافر ثم يعود. فرع: 1266 - إذا أقام قوم في طرفٍ من البادية، وكانت خيامُهم متبددة متفرقة، فقد ذكر الصيدلاني في ذلك ضبطاً، فقال: إن كانوا بحيث يجتمعون للسمر في نادٍ، وكان يستعير (1) بعضهم من بعض، فهم مجتمعون، فلا بد من مفارقة الخيام. وإن أفرط التباعد بحيث لا يجتمعون، ولا يستعين بعضهم ببعض، فأهل كل خيمة ينبغي أن يفارق خيمته وحريمَها، كما ذكرنا في الخيام. فصل 1267 - إذا خرج مسافراً، يقصر من وقت خروجه ومفارقته الوطن، بشرط أن تكون نيتُه مربوطة بسفر طويل، فأما إذا لم يرتبط قصده بسفر طويل أو قصير، ولم يخطر له مقصد، ولكنه خرج هائماً على وجهه، فهذا لا يقصر ولا يترخص رُخَصَ المسافرين، وإن سافر على هذه السجية ألف فرسخ؛ فإنه لما خرج، كان لا يدري أنه في سفر طويل أو قصير، ثم هذا يجري في كل حالاته، والذي طواه قبلُ من المسافة لا أثر له، وإنما النظر في حاله، وفيما بين يديه. 1268 - ولو أنه خرج لردِّ عبد آبق، أو طلب غريم، وكان لا يدري أنه يُدرك على القرب أو على البعد خصمَه، فحكمه حكم الهائم في بعض السفر، لأنه ليس له مقصد معيّن، ولا نحكم عليه بأنه في سفر طويل أو قصير، والقصرُ الذي نحن فيه مختص بالسفر الطويل. 1269 - ولو خرج مسافراً رابطاً قصده بطيّ مسافةٍ تبلغ مرحلتين، فصاعداً، ثم طرأ عليه بعد خروجه نيةٌ، فعزم أنه مهما (2) لقي فلاناً، انصرف، وإن لم يلقه، تمادى إلى

_ (1) فسر هذه الاستعارة بالاستعانة في الجملة الآتية. (2) "مهما": بمعنى إذا.

مقصده الأول، فظاهر المذهب في هذه الصورة أنه يقصر؛ من جهة أنه خرج ملابساً سفراً طويلاً، وكان ذلك مبتدأ حاله إلى أن يطرأ قاطع، وتوقع الالتقاء بمن عينه لا يقطع حكم سفرِه؛ فإن ذلك أمرٌ مظنون، وملابسته السفرَ الطويل كان مقطوعاً به، فلا ينقطع، ما لم يلق فلاناً، فإذا لقيه، خرج عن كونه مسافراً، وحكمه الآن حكم المقيم، جرياً على حكم نيته، وقد حقَّت وتنجزت، فانقطع سفرُه. فإن ابتدأ وراء هذا سفراً، نظرنا فيه وفي صفته كما تقدم. ومن أصحابنا من يقول: إذا خرج رابطاً نيته بسفر طويل، ثم نوى أنه لو لقيه فلان، لرجع، فقد خرج عن كونه مسافراً سفراً طويلاً، وبطلت النية الأولى، فصار كما لو خرج في الابتداء ونيته الأولى على هذا الوجه. 1270 - وحكى الأئمة عن نص الشافعي مسألة تداني ما ذكرناه، وهي أن الرجل لو خرج عازماً على أن يخرج إلى بلدة عيَّنها في نيته، ويقيم بها أربعة أيام، ثم يخرج منها إلى بلدة أخرى عيَّنها، فإن لم يكن بين منشأ سفره وبين البلدة الأولى مرحلتان، فإنه لا يقصر؛ فإن سفره سينقطع على موجب نيته بإقامته في البلدة الأولى، فهذه سفرةٌ في نفسها، وليست طويلة، فإنْ فرض خروجه إلى البلدة الثانية، فهذه سفرة أخرى جديدة، فإن لم تبلغ المسافة بين البلدتين مرحلتين، فإذا خرج، أخذ في القصر، وكذلك القول في السفرة الثانية. فلو أنه ربط نيته في أول خروجه بالمصير إلى البلدة الثانية من موضع خروجه، وكان جميع المسافة بالغاً مرحلتين، فصاعداً، فإنه يقصر، فلو خرج على هذه الجملة (1) التي وصفناها، ثم بدا له بعد الخروج أن يقيم ببلدة في وسط الطريق أربعة أيام، وليست المسافة الآن بينه وبين البلدة التي ربط النية بها مرحلتين، فإن الشافعي يقصر في هذه الصورة؛ فإن سفره الأول ثبت على وجه يتعلق به القصر، ثم طرأ بعد ذلك نيةٌ أخرى، فلا معوّل على النية الثانية، وحكم النية الأولى قائم، إلى أن ينتهي إلى البلدة التي ربط السفر بها في الكَرة الثانية، فإذا انتهى إليها وقصد الإقامة، بطل الآن السفر، فإذا خرج من البلدة الأولى، فهذا سفر

_ (1) كذا في جميع النسخ، والمعنى: خرج على نية قطع هذه الجملة، أي المسافة بين وطنه والبلدة الثانية.

جديد، فينظر في المسافة من مكان الخروج من هذه البلدة، إلى حيث تعلق به قصد هذا الخروج. فهذا نص الشافعي. 1271 - وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر لما حكيناه من النص، وقال: مهما قصر سفره على الإقامة في البلدة التي عينها ثانياً، ولم تبلغ المسافةُ إليها مرحلتين من أول الخروج، فطريان النية كذلك بمثابة ما لو كانت النية كذلك في ابتداء الخروج، فإذا لم تبلغ المسافة بين منشأ السفر وبين البلدة التي نواها وعينها مرحلتين، انكف عن القصر. فهذا بيان ما أردناه نصاً وتخريجاً. فصل 1272 - إذا انتهى المسافر إلى بلدةٍ أو قرية دون مقصده، ولم يكن له بها حاجة يرتقب نجازها، فإن أقام بها ثلاثة أيام بلياليها، فهو مسافر فيها، وإن أبرم عزمه على مقام أربعة أيام، أو على مقام ثلاثة أيام وزيادة، ولم يكن له حاجة يرقبها، فهو مقيم، ثم لا تتوقف إقامته على مضي ثلاثة أيام، بل كما (1) نوى إقامة أربع صار في الحال خارجاً عن حكم المسافرين في الرخص، فلا يترخص بشيء من رخص المسافرين. وكان شيخي أبو محمد يقول: الثلاثة الأيام التي ذكرناها في مقام المسافر، لا يعد منها يومُ دخوله، ولا يوم خروجه، فلتكن ثلاثاً (2) سوى يوم الدخول ويوم الخروج، وفي كلام الصيدلاني إشار ظاهرة إلى ما ذكره شيخي، وتعليله، أنه في شغل يوم الدخول ليحط ويمهد، وينضد الأمتعة. وهو يومَ الخروج في شغل الارتحال،

_ (1) "كما" بمعنى عندما. (2) كذا " ثلاثاً " بالتذكير، مع أن المراد الأيام، وهي هنا صحيحة لها وجهٌ لا يخفى عليك، واعلم أن المعدود إذا تقدم، جاز في لفظ العدد الموافقة والمخالفة.

فألحقنا يوم دخوله وخروجه بأوقات تردّدِه في طي المراحل. ومما يتعلق بتحقيق ذلك أنا إذا قلنا: لا يحتسب يوم دخوله، أردنا النهار، فحسب، إن دخل نهاراً، ولم نُرد اليوم بليلته، ولو دخل ليلاً، لم نحتسب عليه بقيةَ الليل، فأما أن نقول: لا نحتسب بقية الليل ولا نحتسب الغد أيضاً، فلا. وتعليلُ ما ذكرناه من ذلك واضح، فإن لم نحتسب عليه يوم الدخول لما عليه من الشغل فيه، فهذا لا يدوم يوماً وليلة. وما ذكرناه من مقام المسافر ثلاثة أيام، فهي ثلاثة أيام بلياليها قطعاً، والذي يغمض أنه لو انتهى المسافر إلى المنزل في بقيةٍ من النهار قريبة، مثل أن كان انتهى إلى المنزل بعد وقت العصر قبل الغروب، وكان يقع شيء من شغله في الليل لا محالة، فالذي أراه أن بقية النهار، والليلَ كلَّه غيرُ محسوب من المدة، في هذه الصورة، نظراً إلى الشغل ووقوعه في الليل، فهذا إذا نوى مُقام ثلاثة أيام. وإن نوى مُقام أربعة أيام، أو مُقام ثلاثة أيام ولحظة، ولم تكن إقامته لشغل، كأن يرتقب تجارة، ولكنه جرَّد نية الإقامة في هذه المدة من غير شغل، صار مقيماً، وانقطعت عنه الرخص المشروطة بالسفر وفاقاً. 1273 - فخرج من ذلك أن المكث ثلاثة أيام من غير شغل تَودّع (1) محتمل في حق المسافر، إذ لا يشترط أن يكون المسافر دائباً في حركاته، وذلك غير ممكن، ولا يتصور احتمال مشاق السفر إلا بتودع في البين (2) يُجمّ (3) المسافرَ ودوابَّه، وإذا أفرط السكون، كان ذلك مناقضاً لحال المسافر، وكأن الثلاث فيما قيل آخر حدّ القلة، وأول حد الكثرة، وبها تحدد الخيار في البيع، وأمدُ استتابة المرتد، وغيرُهما، فكان ذلك قصداً وسطاً.

_ (1) التودع: السكون، والاستجمام. من تَوَدعّ: إذا صار صاحب دَعةٍ وراحة. (المعجم). (2) البين: استخدم إمام الحرمين هذا اللفظ في البرهان، وفي النهاية أكثر من مرة، وهو يفهم من السياق، وإن لم نجده -فيما وصلنا إليه من معاجم- منصوصاً. وهو هنا بمعنى الأثناء، أي أثناء السفر. (3) من أجمَّ الإنسانَ والفرسَ. إذا تركه يستريح. (المعجم).

ثم لم نكتف في ذلك بما أشرنا إليه، حتى عضده الخبر والأثر، أما الخبر، فقد روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حرّم على المهاجرين الإقامة بمكة، ثم رخص لهم إذا قدموا أن يمكثوا بعد قضاء النسك ثلاثاً" (1)، وهذا ظاهر في أن هذا المقدار لا يُلحِق الماكثَ بالمقيم. وحرّم عمر على أهل الذمّة الإقامةَ في أرض الحجاز، ثم أجاز لمجتازيهم المكث بها ثلاثة أيام (2). ومذهب أبي حنيفة (3) أن أكثر مدة مُقام المسافر خمسةَ عشر يوماً، وقد روَوْا عن أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجة الوداع عشراً وهو يقصر فيها" (4)، ولم ير الشافعي التعلق برواية أنس في سَفْرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، وآثر على روايته روايةَ جابر (5)؛ فإنه كان أحسن الرواة سوقاً لتفصيل أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي رواه أنس من العشر صحيح، ولكن جابراً روى تفصيله، وقد قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة صبيحة رابعة مضت من

_ (1) حديث يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً، متفقٌ عليه من حديث العلاء بن الحضرمي (ر. التلخيص: 2/ 45 ح 605، واللؤلؤ: 313 ح 858، وهو عند البخاري ح 1832 وعند مسلم ح 1352). (2) الأحاديث الواردة في إخراج اليهود، والنصارى من جزيرة العرب، والتي تؤكد بأنه لا يجتمع في الجزيرة دينان، في غاية الصحة، فهي عند البخاري ومسلم، عن أكثر من صحابي، راجع البخاري الأحاديث ح 2338، وأطرافه 2285، 2328، 2329، 2331، 2499، 2720، 3152، 4248، والأحاديث: 4028، 6944، 7348، وفي مسلم 1551. وإما إجلاء عمر لمن بقي منهم، وأنه أذن لمن يجتاز أو يدخل بالبقاء ثلاثة أيام فقط، فانظر: مصنف عبد الرزاق: 6/ 51 ح 9977، 10/ 357، ح 19360، والسنن الكبرى: 9/ 207، 208، 209، وانظر التلخيص: 2/ 46 ح 609. (3) ر. رؤوس المسائل: 175 مسألة: 76، حاشية ابن عابدين: 1/ 528، وبدائع الصنائع: 1/ 97. (4) حديث أنس رواه الستة. (نصب الراية: 2/ 184). (5) حديث جابر في صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف باسم حديث جابر الطويل، رواه مسلم في صحيحه. (ر. مسلم: 1/ 886، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1218، التلخيص: 1/ 192 ح 283).

الحجة، فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح بالأبطح في الثامن، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، ثم أقام ليلةً بمنى، وليلة بمزدلفة، وثلاثَ ليالٍ بمنى، فكانت إقامته ببقاع متفرقة. وسيأتي في ذلك أمر عظيم يجب الاعتناء به في الخبر ومعناه، وعقد المذهب. ثم إذا حكمنا على من نوى الإقامة أكثر من ثلاثة أيام بأنه مقيم، لم يتوقف انقطاع الرخص منه على مُضيِّ مدة المسافرين، بل كما (1) نوى انكف عن الرخص، فإنه صار مقيماً شرعاً. وكل ما ذكرناه فيه إذا نوى الإقامة في مدةٍ، ولم يعلِّق إقامته بحاجة وشغل. 1274 - فأما إذا سنح له شغل في قرية أو بلدة على طريقه، واحتاج لأجلها إلى الإقامة، فقد ذكر صاحب التقريب فيه أحسن ترتيب، فنسوقه على وجهه، ثم نأتي فيه ببدائع وآيات، قال رضي الله عنه: إن كانت الإقامة من الغُزاة في محاصرةٍ، أو قتال دائمٍ، فالمنصوص عليه للشافعي أنه لو أقام يرقب الفتح، وكان ذلك ممكناً في اليوم مثلاً، ويمكن استئخاره، فإنه يقصر على هذه الحالة ثمانية عشر يوماً بلياليها، قطع بذلك نصُّه. ولو زاد المُقام على هذه المدة، فهل يقصر؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يقصر. والثاني - أنه يقصر أبداً ما استمرت هذه الحال. توجيه القولين: من قال: لا يزيد، فإنما حمله على ذلك أنه صح عنده إقامةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حربٍ في مثلها (2)، وكان يقصر، فأثبت ما ورد،

_ (1) "كما": بمعنى عندما. (2) حديث قصر الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، روي أنه أقام سبعة عشر. رواه ابن عباس، وروى: أنه أقام تسعة عشر يوماً، وروي أنه أقام ثمانية عشر يوماً. رواه عمران بن حصين، وروي: عشرين. قال في التهذيب: اعتمد الشافعي رواية عمران لسلامتها من الاختلاف. ورواية عمران بن حصين، أخرجها أبو داود، والترمذي، والبيهقي. وأما رواية ابن عباس بلفظ (سبعة عشر) فرواها أبو داود، وابن حبان، وروايته بلفظ (تسعة عشر) رواها أحمد والبخاري ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ. (ر. البخاري: تقصير الصلاة، باب =

ولم يتهجم على الزيادة؛ فإن الرخص لا تثبت إلا بالنص. ومن قال: يزيد ما استمرت الحال، احتج بأن قال: عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر منتظراً للفتح، فاتفق المقام في هذه المدة، والظاهر أنه لو تمادى انتظار الفتح، لكان يتمادى على سجيته، وهذا يقرب من القطعيات في مأخذ الكلام على الوقائع، وبمثله أثبتنا استرسال الأقيسة، ووجوه النظر في الوقائع من غير نهايةٍ؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاسوا في مددٍ قياسَ من لا يقول ما يقول عن حصر. فهذا قول الشافعي في الغزاة إذا عَرَّجوا (1) للقتال. 1275 - فأما إذا كانت الإقامة لغرض آخر من تجارة أو غيرها، وكان صاحب الواقعة يُجوّز نجازَها في مدةٍ قريبة، ويجوّز استئخارها، كما سبق تصويره، فإنه يقصر في ثلاثة أيام، وهل يقصر إلى تمام ثمانيةَ عشرَ، كما يفعله الغازي؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يقصر كالغازي. والثاني - لا يقصر فيما يزيد على الثلاث؛ فإن الرخص لا يعدى بها مواضعها، وقد نُقل القصرُ ثمانيةَ عشرَ يوماً في الغزو، فهذه قاعدة النص في الموضعين. 1276 - ثم خرّج الأصحاب في الغازي قولاً من التاجر: أنه لا يقصر وراء ثلاثة أيام، وخرجوا قولاً من الغازي في التاجر: أنه يقصر أبداً، وإن زاد على ثمانيةَ عشرَ يوماً، كما ذكرنا ذلك قولاً في الغازي. فإن قيل: ما وجه تخريج منع القصر في الزيادة على الثلاث في حق الغازي؟ وقد نُقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر في هذه المدة؟ قلنا: وجهه أن هذا المخرج يدَّعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنقل من بقعة إلى بقعة، ومن قلعة إلى قلعة، ومَن سماه عاكفاً أراد به عكوفه على ذلك الشغل في تلك الناحية،

_ = ما جاء في التقصير، ح 1080، أبو داود: الصلاة، باب متى يتم المسافر، ح 1229، 1230، الترمذي: الصلاة، باب ما جاء في التقصير في السفر، ح 545، أحمد: 1/ 223، البيهقي: 3/ 151، ابن حبان: 2739، التلخيص: 2/ 45 ح 607، نيل الأوطار: 3/ 256، نصب الراية: 2/ 86). (1) عرّجوا: أقاموا. من عرّج بالمكان: إذا أقام فيه. (المعجم).

وعلى هذا حمل حاملون ما روي: "أن ابن عمر أقام على القتال بأذربيجان ستة أشهر، وكان يقصر الصلاة فيها" (1). ثم إذا قلنا: يقصر الغازي ثمانيةَ عشرَ يوماً، أو قلنا: ذلك في التاجر، فلو نوى أن يقيم ثمانية عشر يوماً، وجزم قصده فيه، فهل يقصر؟ فعلى قولين: أحدهما - يقصر، كما لو أقام على التردد؛ فإن هذه المدة في حق هؤلاء، كثلاثة أيام في حق المسافر الذي لا شغل له، ثم لو نوى المسافر ثلاثة أيام، قصر فيها، وهذا لا يبين إلا بذكر صورة أخرى: وهي أن المحتاج إذا علم أن شغله لا ينتجز إلا في ثمانيةَ عشرَ يوماً، فهل يقصر على قولنا: إنه يقصر لو كان على ارتقاب من النجاز على القرب، أو على الاستئخار؟ فعلى قولين على هذا القول: أحدهما - أنه يقصر كما لو كان على تردد. والثاني - لا يقصر؛ فإن المتردد لا يكون مطمئناً إلى السكون، والقاطع في الصورة الأخيرة ساكن مطمئن إلى إقامته، فيعدّ من مضاهاة المسافرين. 1277 - فإذا ثبتت هذه الصورة، عدنا إلى البحث عن الصورة المذكورة قبل هذا، وهي أنه إذا جزم عزمه على الإقامة ثمانيةَ عشرَ يوماً، فنقول: إن علم أن الشغل يتمادى إلى مثل هذه المدة، فإذا جزم النية، فهو الخلاف الذي ذكرناه أخيراً. فأما إذا كان على تردد في أمره، وجزم نية الإقامة مع ذلك، فهذا في تصويره عسر؛ فإنا نقول: إن جزم على تقدير بقاء الشغل في هذه المدة، فهو لا يدري أيبقى أم لا؟ فهذا تردد وليس بجزمٍ للقصد، وإن كان معنى قصده جزمَه أن يقيم في هذه المدة قاصداً، وإن انتجز الشغل قبلها، فلا معنى لذكر الخلاف في هذه الصورة؛ فإن هذا رجل جزم نية الإقامة من غير تقدير قتال وشغل، فالوجه أن تقطع الرخص عنه قطعاً، وإن كان القتال دائماً، أو غير ذلك من الحاجات، على التفصيل المقدّم؛ فإنه لم يربط قصدَ إقامته بالشغل، بل جزمه وإن لم يكن شغل، ولا يجوز خلافُ هذا الذي ذكرناه، فهذا ما أردناه في ذلك.

_ (1) حديث إقامة ابن عمر وقصره بأذربيجان، رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح. قاله الحافظ (التلخيص: 2/ 48 ح 610). (الفتح الرباني: 5/ 112 ح 1228، والسنن الكبرى: 2/ 152).

1278 - فإن قيل: الثمانيةَ عشرَ في أي خبر صح؟ وكيف وجه النقل فيه؟ قلنا: هذا الذي سبب بإشكاله في النقل، وها أنا ذاكره فأقول: كنت أظن قديماً أن الإقامة التي اختلفت الرواية في مدتها كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاصرة خيبر، وهكذا سماعي عن شيخي، ثم تبين لي أن اختلاف الروايات في سفرةٍ أخرى، وقد روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً، وقد قدمتُ ذكرَ روايته، وقد روى عمران بن حصين أنه أقام سبعة عشر يوماً، وروى ابن عباس ثمانية عشر يوماً، وروى جابر عشرين يوماً، فاجتمع وجوهٌ من الإشكال، منها أن الأصل في هذه المدة الغزو، والظاهر أن الروايات لم تكن في غزاة؛ فإنها جرت بمكة، فوجه حل الإشكال أنه جرى من الفقهاء في هذا خبطٌ؛ من جهة أنهم لما سمعوا أنه جرى ما جرى بمكة، حملوه على سفر الحج، والذي رَووْه من رواية أنس كانت في الحج قطعاً، فأثبتوه في هذه القصة، والصحيح أن هذه المدة في الإقامة التي اختلفت الرواية فيها في عام فتح مكة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أخذ يريد المسير إلى هوازن، وكانت إقامته على تدبير الحرب، فَلْيَفْهَم الفاهم ذلك. فأما رواية أنس فغلطٌ من الناقل في هذه السفرة، فإنها كانت في الحج. بقيت رواية عمرانَ، وابنِ عباس، وجابر، فمن أئمتنا من قال: في مدة الغازي ثلاثة أقوال مأخوذة من هذه الروايات، ومنهم من قال: المعتبر ثمانيةَ عشرَ يوماً، وما رواه جابر محمول على موافقة رواية ابن عباس، فكأنه عدَّ يوم الدخول والخروج، ورأى ابن عباس أن ينقل مدة الإقامة، وهي ثمانية عشر، ولا يتعرض ليوم الدخول والخروج، فهذا وجه التصرف في الحديث، وبيان ما وقع من ظن الفقهاء فيه (1). 1279 - وقد بقي وراء ذلك أهمُّ شيء بالاعتناء به، وهو نظام الفصل وترتيب القول فيه؛ فإنه كبر قدره وانتشرت أطرافه، فنقول: حال المسافر في التقسيم الأول ينقسم إلى مسافر لا شغل له، وإلى ذي شغل يثبطه (2): فأما من لا شغل له يثبطه، فمدته

_ (1) هذا التصرف من الإمام في هذه الروايات، أي الجمع بينها استحق الثناء من الحافظ ابن حجر حيث قال في التلخيص: وهو جمع متين. (التلخيص: 2/ 96). (2) ثبطه على الشيء: عوقه وبطّأ به (المعجم).

ثلاثة أيام، فإن زاد، فهو مقيم في حاله، لا خلاف على المذهب فيه؛ إذ لا شغل يَحْمل عليه قصدَ الإقامة، ومقام ذلك مقام عذر (1)، وتجريد القصد في الإقامة فوق الثلاث يقطع السفرَ. وإن كان شغلٌ، انقسم إلى ما لا يدري أنه متى ينتجز، وإلى ما يدري أنه سيتمادى: فأما ما لا يدري مدتَه، فإذا وقع التعريج (2) بسببه، والقصدُ متردد على حسب الشغل، فلا يمتنع القصر في الأيام الثلاثة وفاقاً، والزائد عليه ينقسم إلى الغزو وغيره، وقد مضى النص وتصرف الأصحاب، ونحن نحتاج اليوم إلى فَرْقَين: أحدهما - بين ما لو نوى الإقامة من غير شغل، وبين هذا، وحاصله أن الذي لا شاغل له له قصدٌ مجرد في مناقضة السفر، فلم يُحتمل ذلك في أكثر من الثلاث، والذي عنّ له شغل وُجِد في قصده ضَعْفان: أحدهما - أنه مربوط بسببٍ وعذر، والثاني - أنه مردَّد لا جزم فيه، وفيه سرّ وهو أن الأسفار لا تُعنى لأعيانها، وإنما تحتمل مقاساتها لأوطارٍ وأشغال، وقد يتفق مثل ما ذكرناه كثيراً في الأسفار. والفرق الثاني - بين القتال وغيره من المهمات، وذلك من طريق المعنى، فنقول: أولاً [القتالُ] (3) يُثبت في الصلاة تخفيفاتٍ ورخصاً، ستأتي مشروحة في صلاة الخوف، كصلاة ذات الرقاع، وصلاة شدة الخوف، وغيرهما، مما سيأتي إن شاء الله. والآخر (4) أن القتال ينتهي إلى مبلغ لا يجوز الانكفاف، فيسقط فيه أثر قصد الإقامة؛ فإن الشرع جازمٌ أمره بالإقامة، وسائر الحاجات قد لا تكون كذلك. فهذا إذا كان قصد المسافر متعلقاً بشغله متردداً تردده.

_ (1) كذا في النسخ الثلاث، وزاد الأصل شدة فوق الذال. ولعلها محرفة عن (عَدْن) من عدن بالمكان عَدْنا إذا أقام به (المعجم). وتكون العبارة: "ومقام ذلك مقام عَدْن" أي إقامة قاطعة للسفر. والله أعلم. (2) التعريج: الإقامة. (3) في (ت 1): الطريق يثبت .. إلخ، وهي ساقطة من (د 1)، (ط)، والمثبت تقديرٌ منا وقد صدقتنا (ل). (4) (والآخر) بمعنى: وثانياً، معطوفة على قوله: نقول: أولاً القتال يثبت ... إلخ.

فأما إذا جزم قصده في الإقامة في المدة المذكورة، فهذا آخر ما يصوّر، وقد ظهر قصد الإقامة وقوي وقعه، وقد نبهت على سر ذلك وغائلتِه في أثناء الكلام. واعلموا أن المسألة التي توشَحَها (1) أقوالٌ ضعيفة وانتشرت أطرافها، فقد يأتي بعض التفاريع على خلاف الإجماع. وبيانه أنه ينتظم مما ذكرناه، أن التاجر الذي يعلم أن تجارته لا تنتجز إلاّ في سنة، يقيم فيها ويقصر، وهذا بعيد جداً، لا سبيل إلى المصير إليه، وهو نتيجة تفريعاتٍ على أقوال ضعيفة. وقد نجز ما أردناه في ذلك. فرع: 1280 - إذا نوى المسافر الإقامة من غير شغل، لم يترخص، ولا فرق بين أن يجري ذلك في قرية أو في بريّة إذا كانت الإقامة ممكنة، وإن كان لو فرضت، لجرت تعذراً أو عسراً، ولو نوى الإقامة في مفازة لا يتصوّر فيها إقامة أصلاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يترخص؛ لأنه قطع السفر وتعرض للهلاك. والثاني - يترخص؛ فإن الوفاء بهذه النية غيرُ ممكن، فهي لاغية، وحكم السفر بناء على القصد الأول مستدام. فصل يشتمل على ثلاثة مقاصد: 1282 - أحدها - دخول وقت الصلاة على المقيم في الحضر، ثم اتفاق الخروج. والثاني - في قصر الصلاة المقضيّة، والثالث - اقتداء المسافر بالمقيم. فأما الأول، فإذا دخل وقت الصلاة والرجل بعدُ في البلد، ثم خرج مسافراً والوقت باقٍ، وكان الباقي يسع صلاةً تامة، فظاهر النص أنه يقصر في السفر إن أراد، ونص الشافعي على أن المرأة إذا كانت طاهرة، في أول وقت الظهر، فمضى ما يسع أربع

_ (1) في (ت 1): تولجها.

ركعات، ثم حاضت، فيلزمها قضاء هذه الصلاة إذا طهرت، فجعلها مدركة لصلاة الظهر بإدراك ما يسعها من أول الوقت، وقياس ذلك يقتضي أن يقال: إذا كان الرجل مقيماً حتى مضى من أول الوقت ما يسع الصلاة، فقد التزم الإتمام، ثم سافر، فلا يجوز له أن يقصر، فالتزام التمام في حقه كالتزام أصل الصلاة في حق الحائض. فاضطرب أئمتنا: فذهب القيّاسون منهم إلى تخريج المسألة جميعاًً على قولين: أحدهما - إنَّ إدراك أول الوقت على ما ذكرناه ملزم، فالحائض تقضي، والمسافر يتم تلك الصلاة ولا يقصر، وهذا مخرّج على أصلٍ للشافعي خروجاً واضحاً؛ فإن الصلاة عنده تجب كما (1) دخل الوقت، فقد أدركا وقتَ الوجوب، وقد وجبت الصلاة عليها، ثم حاضت، ووجب الإتمام على الآخر، ثم سافر. والقول الثاني - إنه يجوز القصر، ولا يصير المسافر في وسط الوقت ملتزماً للإتمام، والمرأة لا تقضي تلك الصلاة. ووجهه أن الوجوب لا يضاف إلى كل ساعةٍ تسع الصلاة من ساعات الوقت المتَّسع، ولكن إذا مضى الوقت بكماله، فالوجوب مضادت إلى جميعه، فالنظر إلى الآخر، فإذا طرأ الحيض أو السفر، لم نقض بوجوب الصلاة، ولا بوجوب الإتمام. وهذا الخلاف مأخذه من خلاف الأصحاب في أن من أخر صلاة الظهر من أول الوقت إلى وسطه، ثم مات، فهل يلقى الله عاصياً أم لا؟ وفيه خلاف، والأصح أنه لا يكون عاصياً. وفي المستطيع إذا مات ولم يحج خلاف، والأصح أنه يعصي؛ فإنا لو لم نُعصِّه، لما انتهى الحج قط إلى حقيقة الوجوب؛ فإن خاصية الوجوب أنه يعصي بتركه، والصلاة المؤقتة يتصور إفضاء الأمر فيها إلى التعصية بأن يبقى المكلّف حتى ينقضي الوقت عليه وهو غير معذور. 1283 - ومن أئمتنا من أقر النصين قرارهما في الحائض والمسافر، وقال: الحائض تلتزم الصلاة بإدراك ما يسع الصلاة من أول الوقت، والمسافر لا يلتزم الإتمام

_ (1) كما دخل: أي عندما دخل.

إذا خرج في وسط الوقت، وحاول هذا فرقاً عظيماً ولكنه عَسِر، وحاصله أن المسافر مرّ عليه الوقت مسافراً، كما مر عليه الوقت في البلد، وإذا استمر الوقت والتكليف بالصلاة، ففرضية الصلاة لا تضاف على التخصيص إلى وقت معين. والحائض أدركت قبل الحيض وقتاً، ثم استمر المانع، فانحصر الوجوب في وقت الإمكان على التعيين، وهذا لا يتحصل إذا تأمل. والله أعلم. 1284 - ولو انقضى الوقت بكماله في البلد، وجب إتمام القضاء عند أصحابنا. وذهب المزني إلى أنه لا يجب الإتمام، وللمسافر أن يقصر الصلاة التي مرّ وقتها في الحضر، فهو ينظر إلى وقت القضاء، قائلاً: إذا كانت المؤداة تقصر، فالمقضية تقصر. وهذا مما انفرد به دون الأصحاب. 1285 - ولو لم يبق من وقت الصلاة إلا ما يسع ركعة مثلاً، فخرج وهذا المقدار باقٍ، فهل يقصر أم لا؟ والتفريع على أنه يقصر لو خرج في وسط الوقت؟ فعلى وجهين بناهما الأئمة على أن الصلاة لو افتتحت هل تكون قضاء أم أداءً إذا كان المرء مستديماً للإقامة؟ وفيه خلاف قدمناه، فإن قلنا: هي مقضية، فلا تقصر، وإن سافر وقد بقي تكبيرة مثلاً، فإن قلنا: لا يقصر، وقد بقي مقدار ركعة، فهذه الصورة أولى بذلك. وإن قلنا: يقصر في الأولى، ففي هذه الصورة وجهان: وإنما رتبنا الآن الركعة، وقد يدرك بها القصر كالمسبوق يدرك ركعة من الجمعة، فإنه يصير مدركاً لها، ولو أدرك مقدار تكبيرة، لم يكن مدركاً للجمعة، والجمعة على صورة ظهرٍ مقصورة. 1286 - ومما يتعلق بإتمام البيان أن المسافر لو خرج، وقد بقي مقدار ركعتين، فهو في الترتيب كما لو بقي مقدار ركعة؛ فإن الخلاف ينشأ من تردد الأصحاب في أن الصلاة في مثل هذه الصورة لو قدّر الشروع فيها، فتكون مقضية أو مؤداة؟ وهذا يجري في ركعتين وثلاث ركعات يُفرض إدراكها، ويقع شيء وراء الوقت، كما يفرض في إدراك ركعة واحدة، فإذا صارت الصلاة مقضية في حق المكلف قبل البروز، فلا سبيل إلى القصر.

1287 - وحكى شيخي أن من أصحابنا من قال: إن برز وقد بقي مقدار ركعتين، قصر؛ فإنه صادف في السفر وقت القصر، وإن كان أقل من ذلك لم يقصر، وهذا وإن كان يُخيل شيئاًً، فلا أصل له، وربما كان يجمع وجوهاً. فنقول: من أصحابنا من شرط أن يبقى مقدارُ أربعَ ركعات إذا برز، ومنهم من لم يشترط إلا مقدارَ ركعتين، ومنهم من اكتفى بمقدار ركعة، وكان يقطع بأن إدراك أقلّ من ركعة لا يسوِّغ القصر، وبهذا قطع [بعض المصنفين] (1). والصحيح الترتيب الذي ذكرته قبل هذا. 1288 - ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك، أن المرأة لو كانت طاهرة في أول الوقت في مقدار ركعة مثلاً، ثم حاضت، فالمذهب أنه لا يلزمها هذه الصلاة. كما تقدم في أول هذا الكتاب. ومن يجعل المسافرَ كالحائض في إدراك أول الوقت، فلو أدرك قبل الخروج مقدار ركعة أو أقل، والتفريع على أن القصر يمتنع بإدراك مقدار أربع ركعات، فينبغي أن يمتنع بإدراك ما دونها؛ فإن طريان السفر ليس طريانَ مُناقض للصلاة وإتمامها، وطريانُ الحيض ينافي إمكان إتمام الصلاة، فهذا أحد المقاصد. 1289 - فأما القول في قصر الصلاة المقضية، فنقول: أما الصلاة التي فاتت في الحضر وانقضى تمام وقتها فيه، فإذا أراد المسافر قضاءها، أتمها كما تقدم، إلاّ على مذهب المزني. فأما إذا فاتت الصلاة في السفر وأراد قضاءها، فللمسألة ثلاث صور، إحداها - أن يقضيها في ذلك السفر بعينه. والثانية - أن يريد قضاءها في إقامته. والثالثة - أن تفوت في سفر، فيقيم، ثم يسافر، ويريد قضاءها في السفر الثاني. فأما الصورة الأولى، ففي جواز القصر فيها قولان: أحدهما - أنه يقصر قياساً

_ (1) في جميع النسخ: "قطع المصنفون" والمثبت مما جاءتنا به (ل)، وهو الصواب المتفق مع السياق، ومع المعهود من أسلوب الإمام.

للقضاء على الأداء، وقد فاتت في السفر وقضيت في ذلك السفر. والثاني - لا يقصر، ورخصة القصر مخصوصة بالأداء، ولهذا لا تُقضى الجمعة إذا انقضى وقتها، والفقه فيه أن القصر لَعَلَّهُ شُرع تخفيفاً ليكون ذلك استحثاثاً على إقامة الصلاة في وقتها، مع ازدحام الأشغال، وإذا أخرجت الصلاة عن وقتها، فقد زال سبب الرخصة. 1290 - فأما الصورة الثانية، فهي إذا فاتت صلاة في السفر، فأراد المرء قضاءها مقصورة في الإقامة، ففي المسألة قولان مرتبان على الصورة الأولى، وهذا أولى بامتناع القصر؛ فإن حكم الحضر يغلب حكمَ السفر، والرخصة المثبتة في السفر يبعد إقامتها في الحضر، وهي لو جازت، بمثابة تجويز الفطر في الحضر، والمسح ثلاثة أيام. 1291 - والصورة الثالثة -وهي إذا تخللت إقامة- مردَّدة (1) بين الصورتين: إن رتبت على الأولى، فامتناع القصر فيها أولى، وإن رتبت على الثانية، فهي أولى بالجواز، وقد جمع أئمتنا هذه [الصور] (2) وطردوا فيها أقوالاً: أحدها - أن الفائتة لا تقصر قط. والثاني - أنها تقصر أبداً، ولو في الإقامة. والثالث - أنها تقصر في السفر، ولا تقصر في الإقامة، ولا يضر تخلل الإقامة بعد وقوع القضاء والفوات جميعاًً في السفر. والرابع - أنه إذا تخللت إقامة، امتنع القصر في سفرٍ آخر أيضاً؛ لأنه كان في مدة الإقامة المتخللة مأموراً بالقضاء والإتمام، فلزم الجريان عليه، وهذا يلتفت إلى أصل في الغصوب، وهو أن من غصب عبداً قيمته مائة، ثم ارتفعت قيمته بالسوق، فصارت مائتين، ثم تلف، وجب على الغاصب المائتان؛ فإنه كان في وقت ارتفاع القيمة مخاطباً بالرد، فإذا لم يرد، التزم قيمة تلك الحال بالغة ما بلغت.

_ (1) مردّدَّةٌ. تعرب خبراً لقوله: والصورة الثالثة. (2) في النسخ الثلاث: "الصورة" والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. وجاءت (ل) بمثل أخواتها.

1292 - فأما (1) تفصيل القول في اقتداء المسافر بالمقيم، وفي الفصل عقارب (2)، فليتأنَّ الناظر فيها. فنقول: أولاً - إذا اقتدى مسافر بمقيم، لزمه الإتمام؛ فإنه تابعٌ في صلاةٍ تامة، والأصل الإتمام. ولو اقتدى بمقيمٍ يصلّي الظهرَ أربعاً، وقد بقيت ركعتان من صلاته، فإذا اقتدى المسافر، لزمه الإتمام، وإن كان الباقي من صلاته على صورة صلاة مقصورة؛ فإنه وإن كان كذلك، فالصلاة تامة في نفسها، فقد تابع في صلاةٍ تامة. ولو كان المسافر يقصر الظهرَ، فصادف إماماً كان يقضي صلاة الصبح، فأراد المسافر أن يقصر مقتدياً به، بناء على أن اختلاف نية الإمام والمأموم لا يؤثر في القدوة، فإن المقتدي يُتم، فإن صلاة الصبح تامة. [وهكذا الجواب لو كان الإمام في صلاة الصبح مسافراً؛ فإن صلاة الصبح تامة] (3) من المسافر والمقيم، ولو اقتدى مسافرٌ بمقيم، أتم، ولو اقتدى بمسافرٍ يتم، أتم أيضاً؛ فالإمام إذن مسافر متم. 1293 - ولو اقتدى مسافر دخل البلدة مجتازاً بمن يصلي الجمعة في الإقامة، ونوى المسافر الظهرَ المقصورة، ولم ينو الجمعة، فهل يصح قصرُه؟ في بعض التصانيف وجهان - أحدهما - أنه يُتم؛ لأنه خلف مقيم، وصلاة الجمعة في حقه كصلاة الصبح.

_ (1) هذا هو المقصد الثالث والأخير من هذا الفصل. (2) عقارب أي مسائل معقربة، ينبغي التنبيه إليها، والتأني في معالجتها، والحذر من الاستهانة بها كالعقارب. هذا ولم أجد هذا في المظان التي ينصرف الذهن إليها، فلم أجده في حلية الفقهاء، ولا في أنيس الفقهاء، ولا في المصباح المنير، ولا تعريفات الجرجاني، ولا كليات أبي البقاء، ولا كشاف اصطلاحات الفنون، ولا المعجم الوسيط، ولا أساس البلاغة، ولا القاموس المحيط، ولا مختار الصحاح، ولا تهذيب الأسماء واللغات. مما يلفت النظر إلى ضرورة العناية باستخراج غريب ألفاظ الفقهاء في مؤلف حديث. (وقد كنا نسمع هذا التعبير من مشايخنا في أول العهد بالطلب). (3) زيادة من (ت 1).

والثاني - أنه يقصر، لأن الجمعة ظهرٌ مقصورة عند بعض الأصحاب. وتمام البيان في هذا يأتي في كتاب الجمعة عند ذكرنا نيّةَ صلاة الجمعة. والمسألة التي ذكرنا الآن مفروضة فيه إذا لم ينوِ المسافر الجمعة، وإنما نوى قصر الظهر، كما كان ينويه كل يومٍ في سفره. ولو نوى المقيم في الجمعة ظهراً مقصوراً، فهذا هو الذي أحلته على الجمعة، وسيأتي إن شاء الله. 1294 - ولو اقتدى مسافرٌ يبغي القصرَ بمسافرٍ متم، لزمه الإتمام، ثم لو أفسد هذه الصلاة على نفسه والوقت قائمٌ بعدُ، فأراد القصرَ، لم يكن له ذلك؛ فإنه التزم الإتمام بالحالة التي جرت له، فلزمه الوفاء به. ولو تحرم الرجل بالصلاة في البلد، ثم أفسدها على نفسه، وخرج مسافراً والوقت باقٍ، فأراد القصر، لم يكن له ذلك؛ فإنه بالشروع فيها التزم الإتمام. ولو شرع فيها مقيماً، ثم تبين له أنه محدث، وأن صلاته لم تنعقد، فخرج مسافراً والوقت باقٍ، فإنه يقصر إن أراد؛ فإنه ما شرع في الصلاة مقيماً، بل ظن ذلك ظناً، فلم يوجد منه إلا عزْمٌ على الإقدام من غير خوض فيه على الصّحة. وكذلك لو اقتدى مسافرٌ بمقيم، وتبين أن المسافر كان محدثاً، فله أن يقصر؛ فإنه ما خاض في الصلاة تحقيقاً. 1295 - ولو اقتدى مسافر بمن ظنه مسافراً، ثم تبين له أنه مقيمٌ محدِث، وبان له الأمران معاً، فإنه يقصر الصلاة؛ فإنه ما التزم الإتمام، ولم يلزمه ذلك من جهة قدوةٍ صحيحة؛ فإنه قد تبين أن القدوة باطلة، وهذه المسألة أوردها صاحب التلخيص في كتابه، وتابعه عليها المحققون، والتعليل بيّن. وحكى الشيخ أبو علي في الشرح وجهاً أنه يلزمه الإتمام؛ فإنه قد أقتدى بمقيم، وبان ذلك، فإن كانت صلاةُ الإمام باطلة، فصلاة المأموم صحيحة، وجنابة الإمام لا تمنع صحةَ القدوة مع الجهل، ولو منعت، لبطلت صلاة المقتدي، كما لو بان الإمام كافراً، وهذا عزاه إلى محمد، وكثيراً ما يحكي في الشرح عنه، ولست أدري

ما (1) يعني بهذا، ولست أعدّ ذلك من المذهب. وهذا فيه إذا ظنه مسافراً، ثم بان له أنه مقيم محدث معاً، وكذلك لو بان حدثه أولاً، ثم بان أنه مقيم، فالجواب كما سبق. 1296 - ولو اقتدى بمن ظنه مقيماً، فبان أنه مسافر، فعلى المقتدي الإتمام؛ لأنه التزم الإتمام، فلزمه الوفاء بما التزمه. ولو ظنه مقيماً كما ذكرناه، فإذا هو مسافرٌ محدث، فعلى المقتدي إتمامُ الصلاة؛ لأن خوضه في الصلاة صحيح، وقد خاض خوضاً يوجب الإتمام، فلا ينظر إلى فساد صلاة الإمام. ولو اقتدى بمن ظنه مسافراً، فبان له في الصلاة أنه مقيم أولاً، ثم بان له بعد ذلك أنه محدث، فعليه الإتمام، وليس كما لو بانت الإقامة والحدث معاً، أو بان الحدث أولاً؛ فإنه إذا بانت الإقامة، فقد صار ملتزماً للإتمام في دوام الصلاة؛ فإنه إذا بان الحدث بعد ذلك، وصلاة المقتدي صحيحة، فلا يسقط ما لزم من حكم الإتمام ببيان الحدث. ويتنزل هذا منزلة ما لو اقتدى بمن علمه مقيماً، ثم بان أنه محدث، فعلى المقتدي الإتمام للالتزام، كما تقدم تقريره. 1297 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو اقتدى مسافر بمن لا يدري أنه مقيم أو مسافر، فإن بان أنه مقيم، فلا شك أن المقتدي يلزمه الإتمام، وإن بان الإمام

_ (1) في (ت 1): (مَنْ) وعلى هذا يكون إمام الحرمين غيرَ عالم بمن يعنيه الشيخ في الشرح بـ (محمد). على حين انصرف الذهن بداءة إلى محمد بن الحسن. ويكون معنى العبارة على تقدير (ما): أن إمام الحرمين يتعجب من حكاية الشيخ أبي علي لأقوال (محمد) ضمن الوجوه والأقوال في مذهب الشافعي. والله أعلم بالصواب. هذا وقد حكى إمام الحرمين في كتابه (الدرة المضية) قولاً للشافعي عن عيسى بن أبان بن صدقة تلميذ محمد بن الحسن، وقد ناقش أئمة المذهب قبول رواية المخالف عن إمامهم. ورجح النووي قبولها عن عيسى بن أبان، لأنه ثقة. (ر. المجموع: 1/ 204، والدرة المضية: مسألة رقم: 23). مما يرجح أن المقصود هنا ليس محمد بن الحسن، وعلى هذا تصح عبارة (ت 1): "من". وقد حكى عن (محمد) وجهاً في باب الغسل للجمعة والخطبة، فانظر تعليقنا هناك، فبه يتم الكلام.

مسافراً، أو كان المقتدي على تردد في ذلك ابتداء، فالذي صار إليه الأئمة أن المقتدي يلزمه الإتمام؛ فإنه شرع في الصلاة على تردّدٍ من حال الإمام، والأصل الإتمام. وهذا يقتضي أن المسافرَ إن أراد القصر، فينبغي أن يبحث عن حال إمامه، وذلك ممكنٌ لا عسر فيه، فإذا لم يبحث، لزمه الإتمام، هكذا حكى شيخي وغيره عن نص الشافعي. ولصاحب التقريب في هذا تردد سأذكره بعد هذا. إن شاء الله. وإن اقتدى بمسافر، ثم بان أن الإمام متم، فعلى المقتدي الإتمام بلا شك فيه، ولو بان أنه قاصرٌ، وقد نوى المقتدي القصرَ، قصرَ. وتردُّد المقتدي في أن إمامه المسافر هل نوى القصر أم لا؟ لا يُلزمه الإتمام، وليس ذلك كتردّده في أن إمامه مقيم أو مسافر؛ وذلك لأن الاطلاع على كون الإمام مسافراً، ممكن، والبحث عنه يسير، فأما نية الإمام القصرَ أو الإتمام، فلا يتصور الاطلاع عليه (1)، فلذلك لم يكن التردد فيه مؤثراً. وقد حكى شيخي قولاً عن الشافعي: أن المقتدي إذا تردد في صفة إمامه، ثم بان له أنه مسافرٌ قاصر، كان له أن يقصر، كما لو تردد في أن إمامه المسافر هل نوى القصر أم لا، ثم بان أنه قاصر؛ فإنه يقصر. فهذا نجاز الغرض من مقاصد هذا الفصل. فصل 1298 - لا يصح القصر من غير نية، وإذا تحرم المسافرُ بالصلاة مطلقاً، لزمه الإتمام، فإن أراد القصرَ، فلينوه مع التكبير، على الترتيب المقدم في وقت النية، ولو شك هل نوى القصر أم لا؟ لزمه الإتمام، ولو شك كما ذكرناه، [ثم تذكر] (2) أنه كان نوى القصر، لزمه الإتمام، ولا فرق بين أن يتذكر على القرب، وبين أن يدوم

_ (1) كذا في النسخ الثلاث ولها وجه، فلا تحملها على الخطأ. (2) زيادة من (ت 1).

الشك حتى يمضي ركن، ولو شك في أصل النية حتى مضى ركن، فقد ذكرنا أن الصلاة تبطل، ولو زال الشك قبل مُضي الركن، لم تبطل الصلاة، وقد فصلتُ ذلك في باب صفة الصلاة. فإن قيل: ما الفرق بين طريان الشك (1 في أصل النيّة إذا زال قبل مُضي ركن، وبين الشك 1) في القصر إذا زال قبل مُضي ركن؟ قلنا: إذا شك في نية القصر، لزمه الإتمام في تلك اللحظة وإن خفَّت وقلّت، وإذا لزمه الإتمام في بعض الصلاة، لزمه في جميعها، فإنه قد اعتد بتلك اللحظة من حساب التمام، فلا يتبعض الأمر. وإن كان الشك في أصل الصلاة، فلا يعتدّ بتلك اللحظة، وهي غيرُ مفسدة (2) للصلاة، ولأنه إذا تذكر، فالباقي من الركن يحسب، وذلك الشك محطوط عنه غير معتد به. 1299 - ولو اقتدى مسافرٌ بمسافرٍ، ونويا القصر، فلو نوى الإمامُ الإتمامَ، أتمّ، ولزم المقتدي الإتمامُ أيضاً، ولو قام الإمام إلى الركعة الثالثة، فظن المقتدي أنه قصد الإتمام، فعلى المقتدي الإتمامُ بهذا التردد، وهو كما لو تردد في نية نفسه. فإن قيل: كل مقتد بمسافرٍ، فهو على تردد في نيةِ إتمام إمامه، ولا يلزمه الإتمام؟ قلنا: السبب فيه أن نية الإمام مما لا يمكن الاطلاع عليه، فالتردد فيه غير ضائر، فأما إذا قام إلى الركعة الثالثة، فقد ظهر أمرٌ بيّن في الإتمام، فأثَّر التردُّدُ عند ظهور هذا الفعل، ولو رجع الإمام، وقعد، فإنه كان ساهياَّ، فعلى المأموم أن يتمادى فيتم؛ فإنا ألزمناه الإتمام. ولو علم المقتدي أن إمامه ساهٍ، فلا يلزم المقتدي الإتمامُ بغلطِ إمامه، فلو نوى المقتدي الإتمامَ، فليتم، ولكن ليس له أن يقتدي بالإمام في سهوهِ؛ فإن ذلك الفعل ليس محسوباً للإمام، فلا يُحسب صلاةً، ولا يجوز الاقتداءُ بمن لا يُحسب له ما هو فيه صلاة.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) هنا اضطراب في رأس الصفحة 418/ب حيث انتقلت بعد كلمتين اثنتين فقط إلى ص 420/أ (من نسخة ت 1) ففيها تقديم وتأخير، وتشويش نحو صفحة.

1300 - ولو اقتدى مسبوق بإمام يصلي أربعاً، وكان المسبوق أدرك ركعة مثلاً، فقام الإمام إلى الركعة الخامسة غالطاً، فلو أراد المسبوق أن يقتدي به في هذه الركعة في تلافي ما فاته، لم يجز، ولو اقتدى، بطلت صلاته؛ فإنه مقتدٍ بمن ليس في صلاة، وهو بمثابة ما لو اقتدى بمن يعلمه محدثاً أو جنباً، وتصوير هذا في القيام إلى الركعة الخامسة ظاهر؛ فإنه بيّن ولا يخفى. فأما تصوير السهو من المسافر في القيام إلى الركعة الثالثة ممكن (1)، ولكن الاطلاع على سهوه عسرٌ، فإن تُصوِّر، فحكمه ما ذكرنا. 1301 - ومما يتعلق بذلك أن من نوى القصر، ثم قام إلى الركعة الثالثة والرابعة ساهياً، فلما انتهى إلى التشهد، تذكّر ما جرى له من السهو، فليسجد للسهو في آخر الصلاة، وإن خطر له: "أني لو أتممتُ، لكان ذلك سائغاً، فقد صرفت ما فعلته إلى جهة الإتمام الآن"، فيقال: ما جرى غلطٌ، لم ينعكس بعد مُضيه إلى جهة الاحتساب، ولكن إذا نويتَ الإتمامَ، فقم وصل ركعتين، فقد لزمك الوفاء بالإتمام في المستقبل، وما تقدم منه، فهو غلط، فيصلي ركعتين أخريين ويسجد للسهو في آخر صلاته. 1302 - ومما يذكر متصلاً بهذا في اجتماع حكم القصر والإتمام، أنه لو كان مقيماً في ابتداء صلاته، أو في آخر صلاته، فالحكم الإتمام، وإنما يتيسّر فرضُ هذا في السفينة، فلو كان مسافراً في ابتداء صلاته، ونوى القصر، ثم انتهت السفينة إلى موضع إقامته، وهو في الصلاة، لزمه الإتمام تغليباً لحكم الإقامة والإتمام، وهذا واضح على الأصول. 1303 - ولو ابتدأ الصلاة والسفينة في حدّ الإقامة، ثم فارقتها، فالإتمام يتعين، لوقوع عقد الصلاة في الإقامة، فمهما وقع جزء من الصلاة في الإقامة، تعين الإتمام. وهذه المسألة فيها غائلة، وقد تجري في مسائل، فلا بد من الوقوف عليها.

_ (1) "ممكن": جواب أما بدون الفاء، كدأب إمام الحرمين.

فأقول: من نوى القصر، ثم نوى في أثناء الصلاة الإتمامَ، أتمَّ على الصحة، وإن كانت نيةُ الإتمام طارئة، وقد يخطر للفقيه أن النية في أثناء الصلاة لا أثر لها؛ فإن موضع النية ابتداء الصلاة ولكني أقول: المسافر وإن نوى القصرَ، فالإتمام ضمن (1) نيته على أصلنا؛ فإن الأصل الإتمام، ونية القصر قصد إلى الترخص، والترخص مشعر بالتعرض للتمام، وكأنَّ تقديرَ النية فيه: إني أترخصُ، فأقصر إن لم يطرأ ما يقتضي الإتمام، فإن طرأ، فالإتمام جار على أصله. فليفْهَم الناظر هذا فإنه لُباب الفقه. 1304 - وعلى هذا أقول: إذا نوى القصرَ مسافراً، فجرت السفينةُ، وانتهت إلى حدّ الإقامة، وجب الإتمام، ولا حاجة إلى نية الإتمام، فإن الإقامةَ قطعت حكم الرخص، وإذا انقطعت الرخصة، لم يبق إلا الإتمام، والإتمام قد وقع مدرجاً تحت نية الترخص بالقصر. ولو دام السفرُ، وقد نوى القصرَ أولاً، وأتم الصلاة صورةً، لم يعتد بما جاء به زائداً على القصر، ولكن إن كان ساهياً يسجد، وإن تعمد ولم يقصد الإتمام، بطلت صلاته؛ فإنه لا بدّ من شيءٍ قاطعٍ للترخص؛ فإنه قد نواه ابتداء، ثم لم تطرأ إقامة، ولا حالة تقطع الرخصة، وهو أيضاً لم يقطعها بنية الإتمام، فإذا أتم صورة عمداً، ولم يقطع الترخص قصداً، تناقض فعلُه وعقدُه. وإذا انتهى إلى الإقامة في أثناء الصلاة، فقد انقطعت الرخصة، وبقي حكمُ الإتمام. وهذا غائض فقيه. وعليه يُخرّج أنه لو اقتدى بمسافر، ونوى القصر، فأتم إمامُه، فالمسافر يتم، ولا حاجة إلى نية الإتمام، وكأن نية الترخص معلقة في أمثال هذه المسائل باشتراط دوام ما يقتضي الرخصة، وتقدير هذا يؤذن بالإتمام عند انقطاع الشرط، ثم لا يثبت للإتمام عن هذه الجهة حكمُ التعليق؛ فإن الإتمامَ هو الأصل، فليست النية فيه معلّقة.

_ (1) هنا خلل في سياق نسخة (ت 1). حيث بدأت صفحة 418 بكلمتين صحيحتين، ثم انتقلت إلى السطر الثاني من ص 420/أ.

1305 - ولو ابتدأ الذي في السفينة الصلاةَ، وهو في حد الإقامة، فليس في هذه الصورة كبيرُ فائدة؛ فإنه إن نوى الإتمامَ أو نوى الصلاةَ مطلقة، فتوقُّع القصرِ، وهو لم ينو القصر، لا معنى له، وإن نوى القصر وهو في حدّ الإقامة، فهو كمقيم مستقيم ينوي القصرَ. ولو نوى المقيمُ القصر في صلاة، فهذا فيه شيء، من جهة أنا مهدنا أن نية الترخص بالقصر تقتضي من طريق الضِّمْن الإتمامَ، فكان يحتمل أن يقال: بطل قصد الترخُّص، وثبت أصل التمام، ونزل هذا منزلةَ ما لو نوى مسافرٌ القصرَ خلف من حسبه مسافراً، ثم تبين أنه مقيم، فإنه يلزم المقتدي الإتمامُ، ولا تبطل صلاته، فهذا وجه. ويظهر أن يقال: نية القصر من المقيم تُبطل صلاتَه؛ فإنه غير معذورٍ في نيته بوجهٍ، فالذي جاء به نيةٌ فاسدة، وفساد النية يتضمن فساد الصلاة. ولست أعرف خلافاً أن الرجل لو نوى القصر على اعتقاد أنه مسافر، ثم تبين أنه كان انتهى إلى الإقامة، فيلزمه الإتمام، وصلاته صحيحة، وما ذكرته من قصد القصر في حق المقيم من غير تخيل، وهو يشبه عندي من وجهٍ بما لو نوى المتوضىء بوضوئه استباحة صلاة الظهر دون غيرها، ففي فساد النية خلاف مقدم في الطهارة، ووجه التشبيه أن رفع الحدث إذا وقع التعرض له، فإنه لا يتبعض، وإذا قصد تبعيضَه، فمن أئمتنا من أفسد النية، وقال: كأنه لم ينو أصلاً، ومنهم من حذف التخصيص من النية. والذي يجمع بين المسألتين أنه لو نوى صلاة الظهر، لم يحتج إلى ربط القصد بأربع ركعات، بل هي ترتبط بها شرعاً، كذلك من نوى الاستباحة بوضوئه لو لم يعلق قصده بتعميم الاستباحة، صح وضوؤه وجهاً واحداً، ولو نوى استباحة الظهر، ولم ينف غيره، صح وضوؤه، وعمَّ بلا خلاف. 1306 - ومما يدور في خلدي من ذلك أن المسافر لو نوى صلاة الظهر ركعتين جزماً، ولم يخطر له الترخص بالقصر، ففي نيته شيء؛ فإن صلاة الظهر أصلها الأربع، وإنما يقع الاقتصار على ركعتين ترخصاً، وهذا ما قصد الترخّص، ويظهر

هذا التصوير في حق حديث العهد بالإسلام الذي لم يبلغه رخصةُ القصر، لو نوى صلاة الظهر في السفر ركعتين، وظن أنها كصلاة الصبح ركعتان، فهذه صورة تترتب في فكري، وها أنا أجمعُها وألقيها إلى الناظر، وليس عندي فيها نقل. فالذي أراه أن المقيم لو نوى الظهر ركعتين جزماً، ولم ينو الترخص، فينبغي أن تبطل صلاته، ولو نوى الترخص بالقصر، فيه احتمال، ولو نوى المسافر الذي لم يعلم رخصة القصر الظهر ركعتين، فهذا فيه احتمال، ولو نوى من يعلم القصرَ الظهرَ ركعتين، ولم يتعرض للترخص، ولا لنفيها، فهذا محمول على الصحة، وهو الترخّص بعينه، وإن لم يجدّد ذكره. وإن اعتمد نفيَ الترخص وجزمَ النية في ركعتين، فهذا فيه احتمال. فهذا مجموع ما أردته في ذلك. والله أعلم بوجه الصواب فيه. فصل قال: "وإن أحرم خلف مقيم، أو خلف من لا يدري ... الفصل" (1). 1307 - قد ذكرنا فيما تقدم أن من اقتدى بمن علمه مسافراً، ولكن لم يدر أنه هل نوى القصر أم لا، ثم بان أنه كان نوى القصر، فيصح قصر المقتدي، وإن كان لو نوى الإتمام، لزمه الإتمام، فلا يضره هذا التردد، والعلة السديدة فيه أنه مما لا يمكن الاطلاع عليه، فيعذر المقتدي فيه. وفيه دقيقة، وهي أن من الممكن أن يقال: لا يصح القصر مع الاقتداء؛ من حيث إن صلاة المقتدي تقع مترددة، وقد ذكرنا في مواضع أن التردد بين القصر والإتمام، يوجب تغليب الإتمام، ولكن لو قلنا بهذا، لجرّ ذلك سدَّ باب الجماعة في السفر، وهذا بَعيدٌ من محاسن الشريعة، والذي يحقق ذلك ويوضحه أن الشريعة أثبتت رخصةَ إقامة النافلة على الراحلة، مع استدبار القبلة، حتى لا ينقطع المسافر عن النافلة في

_ (1) ر. المختصر: 1/ 135.

سفره، فكيف يليق بهذا (1) أن يسدّ بابَ الجماعة في حق من يترخص بالقصر. 1308 - ثم ذكر الصيدلاني في تعليل جواز القصر مع التردد عند الاقتداء بالمسافر وجهاً لا أرتضيه، ولكنه ربط به مسائل، فأسردها مجموعة، ثم التعويل في التعليل على ما قدمته. قال: ظاهر حال الإمام المسافر القصر، والبناء على الظاهر صحيح، والتردد وراء ذلك غير ضائر، وجمعَ مسائلَ في أحكام النية يحسن ذكرها مجموعة: فلو كان للرجل مالٌ غائب، فأخرج دراهمَ، وقال: هذه زكاة مالي الغائب إن كان باقياً، فبان أنه باقٍ، فالنية صحيحة، والزكاة واقعة موقعها؛ من جهة أنها مستندة إلى مالٍ الأصلُ بقاؤه. وبمثله لو قال: هذه الدراهم زكاة مالٍ، إن استفدته عن إرثٍ مثلاً، وما كان على علمٍ منه، ثم تبين أنه كان استفاد مالاً زكاتياً على ما قدَّره، فالزكاة لا تقع موقعها عليه؛ فإن النية ما كانت مستندة إلى مالٍ كائن، فالأصل عدمُ المال في المسألة الأخيرة، والأصل وجود المال في المسألة التي قبلها، والحكم في التصحيح والإفساد للأصل. 1309 - ولو نوى الرجل في ليلة الشك، في أول شهر رمضان أن يصوم غداً عن الفرض إن كان من رمضان، وما كان لنيّته أصل، فبان الغدُ من رمضان، لم يصح صومه عن الفرض، ولزمه قضاء يوم، ولو كان ذلك في ليلة الثلاثين من رمضان، وكان على شك في أن الغد عيدَ أم هو من رمضان، فقال: إن كان من رمضان، فقد نويت صومَه، وكان من رمضان، فالنيّةُ صحيحة، والفرض معتد به؛ فإنها مستندة إلى أصلٍ، وهو بقاء رمضان. 1310 - ولو شك المتوضىء أنه أحدث، أم لا؟ فتوضأ، ونوى رفعَ الحدث إن

_ (1) كذا في النسخ كلها، وهي صحيحة، وجاءت بها (ل) أيضاً؛ فالمراد: هذا القائل بعدم صحة اقتداء المسافر إذا اقتدى بمن علمه مسافراً من غير أن يطلع على نيته، هل نوى القصر أو نوى الإتمام.

كان أحدث، ثم تبين أنه كان قد أحدث، لم يرتفع الحدث بوضوئه؛ فإنَّ الأصل عدمُ الحدث، وبمثله لو استيقن الحدث، وشك هل توضأ؟ فتوضأ على التردد، ثم تبين أنه ما كان توضأ، فوضوؤه يرفع حدثه؛ فإنه بناه على أصل يقين الحدث؛ إذ كان مستيقناً للحدث شاكاً في الوضوء، وهذه المسألة حسنة. وفي المسألة الأولى من الطهارة تردد؛ فإن أئمتنا ذكروا خلافاً في أن من نوى تجديدَ الوضوء معتقداً أنه ليس محدثاً، ثم تبين أنه محدث، فهل يرتفع حدثه أم لا؟ فظاهر المذهب أنه لا يرتفع الحدث، وعليه بنى الصيدلاني ما ذكره. فهذه مسائل جَمَعَها وهي حسنة. 1311 - ولكن قوله: الأصل في المسافر القصرُ مدخولٌ على مذهبنا؛ فإن الأصل الإتمام في حق الكافة، والصحيح في التعليل ما ذكرناه من عُسرِ الاطلاع على نية الإمام في القصر والإتمام، وقد ذكرنا أنه إذا أشكل على المسافر أن إمامه مقيم أو مسافر، فاقتدى به على الإشكال ثم بان أنه مسافر، وقد كان المقتدي نوى القصرَ على تقديره مسافراً قاصراً، فعلى المقتدي الإتمام، وإن كان إمامه مسافراً قاصراً؛ فإنه كان يمكنه أن يبحث عن حاله ويتبين أنه مسافر أم لا، وليس هذا كعُسرِ الاطلاع على نية الإمام في القصر والإتمام، والإمامُ مسافر. 1312 - وقد ذكر صاحب التقريب وجهاً أنه إذا اقتدى بمن لا يدري أنه مسافر أم مقيم، ونوى القصر على هذا التقدير، ثم بان مسافراً قاصراً أنه يقصر المقتدي، وقاس هذا على ما لو كان متردداً في أن إمامه المسافر هل نوى القصر أم لا؛ فإنه يقصر، إذا بان الإمام قاصراً، وهذا وإن كان مما يمكن التعلق به، ولكن المذهب ما ذكره الأصحاب، ولست أعدّ ما ذكره من المذهب. فرع: 1313 - قال العراقيون: إذا اقتدى مسافرٌ بمسافر، وكان مسبوقاً، فأدرك ركعة من صلاته، فلما تحلل الإمام، ذكر أنه كان قاصراً، فالمقتدي يعوّل على قوله ويقصر. وإن ذكر الإمام أنه كان متماً، فإن تحقق عنده صدقُه، فعليه أن يتم؛ فإنه اقتدى بمتم، وقد تمهد ذلك.

وإن استراب في قوله وكان يجوز له كذبُه، فهل يلزمه الإتمام؟ فعلى وجهين: ذكروهما. والظاهر عندي أنه يلزمه الإتمام. ولو كان الإمام عدلاً موثوقاً به عند المقتدي، فلا يقطع بصدقه أيضاً (1). والذي أراه في هذه الصورة القطعُ بوجوب اعتماد قوله، ولا يشترط في ذلك اليقين؛ فإن العدل الواحد إذا أخبر عن مشاهدةٍ كطلوع شمس، أو غروبها، أو طلوع كوكبٍ عن قطرٍ معلوم، فعلى السامع أن يعتمد قوله، وهذا بيّن لا شك فيه. وصورة الوجهين فيه إذا لم يكن الإمام موثوقاً به، أو كان لا يدري حقيقة حاله بأن كان مستوراً. فصل قال: "وإن رعف، وخلفه مسافرون ومقيمون ... إلى آخره" (2). 1314 - إذا كان يصلي مسافر بمسافرين صلاةً مقصورة، فرعف الإمام، وكان في المقتدين به مقيم، فاستخلفه الراعف، فالمنقول عن الشافعي أن على المقتدين والراعف أن يتموا الصلاة، فأما إيجاب الإتمام على المقتدين، فبيّن؛ فإنهم مقتدون بالمستخلَف المقيم على ما سيأتي تفصيل القول في الاستخلاف، في كتاب الجمعة، إن شاء الله تعالى. فأما إيجاب الإتمام على الراعف، فبعيد، فإنه نوى القصر أولاً، ثم لم يقتد بمقيم، وقد اختلف أصحابنا، فقال بعضهم: مسألة الشافعي فيه مفروضة فيما إذا أزال الراعف ما به من مانع، ثم عاد واقتدى بالمستخلف المقيم؛ فإذ ذاك يلزمه الإتمام، وفي كلام الشافعي ما يدل على أن التصوير هكذا، والدليل عليه أنه قال:

_ (1) أي تكون على وجهين أيضاً. ولكن الإمام يرى أنها لا تكون على وجهين، بل عنده القطع بقوله وجهاً واحداً. (2) ر. المختصر: 1/ 126.

"فعليهم والراعف أن يتمموا؛ لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى كان فيها في صلاة مقيم" وهذا إنما يتحقق في الراعف إذا عاد واقتدى، ثم اقتداؤه يمكن أن يصور ابتداء على قولنا: إن من سبقه الحدث يبني على صلاته، فيرفع المانع، ويعود مقتدياً بالمقيم من غير ابتداء عقد. وسلك بعض الأصحاب مسلكاً آخر، فقال: إذا فرّعنا على القول الجديد وقلنا: تبطل الصلاةُ، فالراعف لا يُتم إذا لم يعد مقتدياً، وإن فرعنا على القول القديم، وهو أن من سبقه الحدث لا تبطل صلاته، فعلى الراعف الإتمام، وإن لم يقتد بالمستخلَف؛ لأنه اجتمع مع مقيم في صلاة واحدة، وقد يعضد هذا بأنه المتسبب إلى تقديمه وإلزام المقتدي به الإتمام. وهذا ضعيف لا أصل له؛ فإنه لم يقتد بمقيمٍ أصلاً، وقد نوى القصر ابتداء، ثم هذا مع ضعفه غيرُ مستقيم في نظم الأقوال قديماً وجديداً؛ فإن الاستخلاف في القديم باطل، وصلاة الراعف في الجديد باطلة، فلا يتسق هذا التفريع إذاً. فصل 1315 - قد ذكرنا أن من برز من وطنه، ثم تذكر شغلاً، فعاد إلى وطنه، ليقضيه على الفور، فلا يقْصُر في خِطة البلد الذي هو موضع إقامته. ولو برز كما ذكرناه، ثم عزم على العود، فقد صار مقيماً على مكانه، فلا يقصر في ذلك المكان مادام فيه؛ فإنه بقَصْد الرجوع قد قطع سفره، فصار على مكانه مقيماً لا يترخص، فلا يتوقف انقطاع حكم السفر على العَوْد إلى البلد، ثم إن بدا له في العود، وأراد أن يستمر في صوب قصده، فقصدُه الثاني لا يرفع قصدَه الأول، بل يبقى حكم الإقامة حتى يفارقَ ذلك المكان، هكذا ذكره الصيدلاني، ولا وجه غيرُه. ولو نوى الرجوع وأثبتنا له حكم الإقامة على مكانه، فإذا نهض راجعاً إلى بلده، والمسافة قريبة، فلا يقصر في طريقه، ولا يقصر في البلد، فإذا خرج من البلد، فيقصر إذا كان سفره طويلاً.

ولو انتهى في حركته الثانية إلى ذلك المكان الذي نوى العَوْد منه، ونزله ليرحل منه، فإنه يقصر فيه؛ فإنه الآن منزل، ولم يصر ذلك المكان بما جرى فيه من القصد موضعَ إقامة، حتى يقال: مهما (1) انتهى إليه ثبت له حكم الإقامة. 1316 - ولو خرج من نيسابور يطلب الرّي، فانتهى إلى نصف الطريق، فقصد الرجوعَ إلى نَيْسابور، فإنه لا يقصر على مكانه؛ فإنه قطع بالقصد الذي جدده سفرَه الأول، فصار مقيماً في مكانه، فإن فارقه راجعاً، قصر؛ فإن المسافة إلى نيسابور طويلة، وإن جدد نيّة سفرته الأولى، فلا يقصر على مكانه، فإذا جاوزه فأمَّ المقصدَ الأول، قصر؛ لأن المسافة إلى الرَّي بعيدة، ولو قصرت المسافة إلى أحد المقصدين، وبعدت إلى الثاني، مثل أن يبقى بينه وبين الرَّي أقل من مرحلتين، ونوى الرجوع، فحكم مكانه ما ذكرناه، فإن انقلب إلى نيسابور، وفارق مكانه، قصر، وإن تمادى وخرج إلى الري، لم يقصر؛ لأن المسافة قريبة، وقد انقطع بالقصد المعترض السفرة الأولى، فهو الآن في مفارقته كأنه مبتدىء سفراً جديداً، وهو قصير، فلا يقصر. 1317 - ولو خرج من نيسابور يطلب مرْوَ، فلما انتهى إلى سَرَخس حوّل قصدَه إلى هراة، فقد انقطع سفره الأوّل، فليس له أن يقصر بسَرَخْس، وإن كان مقامه به مقام المسافرين، ولكن إذا جاوز سرخس متوجهاً إلى هراة، فإذ ذاك يبتدىء القصر، ولو كان يقصد نيسابور من مرو، فصرف لما انتهى إلى سرخس نيته إلى هراة، فقد قلنا: لا يقصر مادام بسرخس، فلو نقض العزم الثاني، واستمر على قصده الأول، فلا يقصر أيضاً حتى يخرج من سرخس نحو نيسابور، فإن السفر الأول قد انقطع، فلا يعود مسافراً حتى يفارق مكانه. 1318 - وقد قال الشافعي: لو خرج المكي حاجاً إلى عرفة، مبرماً عزمه على أن يعود إلى مكة، ويطوف طواف الوداع، ويخرج إلى سفرة بعيدة، فلا يقصر في حجه؛ فإن هذا ليس من سفره الذي عزم عليه من مكة، وإذا عاد إلى مكة، لم يقصر

_ (1) "مهما": هنا بمعنى (إذا).

مادام بها حتى يفارقها إلى جهة سفره، وهذا بيّن. وقال رضي الله عنه: لو خرج مكي إلى جُدّة ليعود منها، ويخرج من مكة إلى سفر بعيدٍ، فلا شك أنه يقصر ذاهباً إلى جُدَّة وراجعاً منها؛ فإنه على مسيرة خمسين فرسخاً، ثم يقصر بجُدةَ أيضاً إذا كان مقامه بها مُقامَ المسافرين. ثم إذا عاد إلى مكة وهو على ألا يمكث بها، بل يرحل كما تقدم تصويره، فهل يقصر بمكة في مقام المسافرين؟ فعلى قولين للشافعي، وهما يجريان في مثال هذه الصورة، فكل من أنشأ سفراً من قُطرٍ، وربط قصده بالانتهاء إلى قطر، وكان يقع في ممره وصوبه بلدةٌ هي وطنه ومستقره، فإذا دخلها دخول عابر، وكان لا يقيم بها إلا مُقامَ منزل، فهل يقصر في تلك البلدة، وهي وطنه؟ فعلى قولين، ولعلّ أقيسَهما أنه يقصر؛ بناء على حكم قصده في سفرته هذه. والثاني - أنه لا يقصر؛ فإنه في محل إقامته، فينافي ذلك رخصَ المسافرين في ظاهر الحال. وهذا بعيد لا يتجه في القياس؛ فإن التعويل في أحكام السفر على ملابسة السفر والقصد، والرجل مسافر مستمر على حكم قصده، ولو كان سفره ينقطع بانتهائه إلى وطنه، للزم أن يقال: إذا برز منها، آمّاً مقصده في سفره، يكون مبتدئاً سفراً، حتى لو كانت المسافة بين بلدته وبين منتهى سفره أقل من مرحلتين، لا يقصر، كما لو نوى الإقامة، ثم أنشأ سفراً [وهذا وإن كان قياس هذا القول، فما عندي أن أحداً يجترىء على التزامه، وركوبه] (1) والله أعلم. فهذا سَوْقُ ما ذكره الصيدلاني. 1319 - وفي هذا الفصل مباحثة لا بد من تدبّرها فأقول: من خرج من وطنه مثلاً، قاصداً موضعاً، وكانت المسافة مرحلة وقد قصد أن يؤوب، ولا يقيمَ في مقصد سفره، إلا مُقامَ المسافرين، فهذا لا يقصر ذاهباً ولا جائياً، ولا في مقصد سفره، وإن كان في حكم مقصده أن يطوي مرحلة ذاهباً، ومرحلة أخرى راجعاً، وناله في ذهابه ومجيئه من المشقات ما ينال قاطعَ مرحلتين متواليتين في صوب واحد، ولكن

_ (1) زيادة من (ت 1). وتأمل كلمة (ركوبه) فهي من ارتكاب المجادل إلزامات مُناظره.

من حيث إن ما يلابسه، لا يعدّ سفراً طويلاً -والرخص لا تجول فيها الأقيسة، بل الغالب فيها الاتباع- وقد رُبط القصر والفطر بالسفر الطويل = امتنعا في الذهاب والإياب، في الصورة التي ذكرناها. 1320 - ولو خرج من وطنه يؤمُّ موضعاً والمسافة مرحلتان، فلا شك أنه يقصر في طريقه ذاهباً وآيباً؛ فإنه في طرفي سفره مستقبل سفراً طويلاً، وظاهر ما نقله الصيدلاني أنه يقصر في مقصده إذا كان لا يقيم بها إلا إقامة مسافر، وهذا مشكل؛ فإن سفره ينقطع على منتهى المقصد، وهو في إيابه في حكم من يبتدىء سفراً، وليس الإياب متصلاً بالذهاب في الحساب، بدليل ما قدمناه من أنه لو كانت المسافة مرحلة، ولكنها تتثنَّى بالإياب، فلا يقصر، ويجعل كأنه لابس سفرين، كل واحد منهما مرحلة، وهذا القياس يقتضي ألا يقصر في مقصد سفره أصلاً، وإن طال السفر. والذي ذكرته ابتداءُ إشكال، وليس عندي فيه نقل أعتمده إلا ما ذكره الشيخ أبو بكر. والله أعلم. فصل 1321 - إذا خرج يقصد موضعاً وكان إليه طريقان، أحدهما مرحلتان، والأخرى أقل منهما، فإن كان سلك الأقصر، فلا شك أنه لا يقصر. وإن سلك الأبعد، نُظر: فإن اختار الأبعد لغرضٍ ظاهر مثل أن كان في الأقصر خوف، أو توعر وحُزونة يظهر ضررُها وأثرها، فلا شك أنه يقصر إذا سلك الأبعد. وإن لم يترجح أحد المسلكين على الآخر بغرضٍ ظاهر، فإذا آثر الأبعد، فهل يقصر؟ فيه اختلافُ نصِّ الشافعي، وقد اختلف الأئمة، فمنهم من جعل المسألة على قولين: أحدهما - أنه يقصر، لملابسته سفراً طويلاً لا معصية فيه. والثاني - لا يقصر؛ فإنه ليس له إرْب بَيّنٌ ظاهر في التزام زيادة المسافة، فهو في حكم من يتعب نفسَه ودابتَه بلا فائدة، وقد أجمع أئمتنا على أن مسافة سفره لو كانت مرحلة واحدة، ولكن كان يذهب يمنة ويسرة، ويتمايل عرضاً وطولاً بحيث تصير

المرحلةُ مرحلتين، فليس له أن يقصر والحالة هذه، وإن ربط قصده بأن يفعل ذلك؛ فإن هذه زيادة تعب لا تفيد، قال الصيدلاني: من كان يركض فرسَه من غير غرضٍ ورياضةٍ، ورعاية أدب معلوم، فهو في إيذائه دابتَه عاصٍ، وإذا كان كذلك، فلأن يكون عاصياً بإيذاء نفسه من غير غرض أولى. ومن أئمتنا من قال: ليست المسألة على قولين، ولكن النّصّين منزلان على حالين، فحيث قال: يقصر، أراد إذا كان له غرض ظاهر. وكان شيخي يتردد إذا كان الطريق البعيد نَزِهةً طيبةً، بخلاف الأخرى، فهل يعد ذلك من الأغراض، حتى يقطع القول بجواز القصر؟ ولعل الظاهر عدُّه من الأغراض. فصل 1322 - مذهب الشافعي أن العاصي بسفره لا يستبيح شيئاًً من رخص المسافرين، والعاصي بسفره كالعبد الآبق، والخارج بغير إذن والديه في سفرٍ يشترط فيه إذنهما، وكذلك الهامّ بقطع الطريق، أو ابتغاء مسلمٍ للقتل وغيره من جهات الظلم. 1323 - والعاصي في سفره يقصرُ إذا لم يكن سفرُه في عينه معصيةً، وقد ذكرت معتمد المذهب في (الأساليب) (1)، وأنا أرمز إليه، لمسيس الحاجة إليه، في نظم الفروع، فنقول: الرخص في السفر أُثبتت في حكم الإعانة على ما يعانيه المسافر من مشاقِّه وكُلَفه، ويبعد في وضع الشرع الإعانةُ على المعصية، وهل يمسح العاصي بسفره يوماً وليلة؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - وهو الأظهر عند نَقَلَةِ المذهب أنه يمسح؛ فإن هذا ليس من رخص المسافرين؛ إذ المقيم يمسح يوماً وليلة. والثاني - لا يمسح، وهذا موجه عندي بأنه تذرعّ إلى المعصية وتسرُّع إليها، ولا فرق في ذلك بين ما يختص بالسفر، أو لا يختص بعد أن يكون من الرخص. وقال شيخي: إذا كان الرجل مقيماً وكان يدأب في معصية لا تتأتى إلا بإدامة

_ (1) سبق أن أشرنا إلى أن (الأساليب) واحدٌ من كتب الإمام في الخلاف، ولما نعرف له أثراً للآن.

الحركة فيها، ولو مسح على خفيه، لكان ذلك عوناً له على ما هو فيه، فيحتمل أن نمنعه من الرخص، وهذا حسن بالغ. 1324 - ومما كان يحكيه شيخي حكايةً: أن المسافر العاصي بسفره، لو اضطر إلى أكل ميتة، ولو أكلها، لتقوى على إمضاء عزمه في إباقه، أو قطع طريقه، فهل يحل له الأكل منها؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يأكل منها؛ فإن إحياء النفس المشرفة على الهلاك واجبٌ، سواء كان المرء عاصياً أو مطيعاً، ولو قلنا: لا يأكل، لكان ذلك سعياً في إهلاكه. والثاني - لا يأكل؛ لأنه لو أكل، لتذرعّ إلى المعصية، ونحن قد نقتل نفوساً في الذب عن درهم، إذا حاولوا أخذه بباطل. وكان الأودني (1) يختار هذا الوجه، وكان من دأبه أن يضنّ بالفقه على من لا يستحقه، ولا يبديه. وإن (2) كان يظهر أثر الانقطاع عليه في المناظرة، فأُلزم هذه المسألة، وأخذ المُلزِم يطول بها، ويقول: هذا سَعْيٌ في إهلاك نفسٍ معصومة مصونة، فكان [الأُودني] (3) يقول لمن بالقرب منه: "تُ. بْ. كُ. لْ" يريد تُبْ، كُلْ، معناه: أيها الساعي في دَمِ نفسه باستمراره على عصيانه، فإن أراد أَكْلَ الميتة، فليتب ولْيأكل. وفي المسألة احتمال ظاهر. ولا خلاف أن العاصي بسفره، غيرُ ممنوع من أكل الأطعمة المباحة، وإن كان يتوصّل بها إلى غرضه، ولكن أكل المباحات ليس [معدوداً من الرخص، وإنما تمتنع

_ (1) الأودني: محمد بن عبد الله بن محمد بن بصير بن ورقة البخاري - الشيخ الجليل، إمام الشافعية فيما وراء النهر في عصره، وأودن التي ينسب إليها قرية من قرى بخارى. قال ابن السمعاني: بضم الهمزة، وقال ابن ماكولا: بفتحها. توفي سنة 385 هـ (طبقات السبكي: 3/ 182، الإكمال: 1/ 320، الأنساب: 1/ 380، وطبقات العبادي: 92، ووفيات الأعيان: 3/ 346). (2) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها: "وإذ كان". (3) زيادة لإيضاح العبارة، كما في الطبقات.

الرخص على العاصي من حيث إنها أثبتت إعانة على] (1) ما يعانيه المرء، ولكن يجوز أن يقال: أكل الميتة ليس من الرخص؛ فإنه واجب على المضطر، ويجوز أن يجاب عنه بالتيمم؛ فإنه واجب على من عدم الماء وهو معدود من الرخص. 1325 - ومما ظهر اختلاف الأصحاب فيه، أن العاصي بسفره إذا عدم الماء، فلا شك أنه يتيمم ويصلي، ولكن هل يلزمه قضاء الصلوات التي يصليها بالتيمم أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يلزمه؛ فإنّ سقوط القضاء من آثار الرخص، والمعاصي لا تستحق التخفيف والترخص. والثاني - لا يقضي؛ فإن التيمم وجب عليه، فخرج عن مضاهاة الرخص المحضة، ثم وجوب القضاء أمر يتعلق [بالمآل] (2)، وثاني الحال (3)، فلا تؤثر المعصية فيها. 1326 - ولو خرج غير عاص، ولكن قصد موضعاً لتجارة، أو زيارة، أو غيرها، ثم طرأ على سفره قصدُ المعصية، فظاهر النص أنه يترخص بناءً على قصده الأول، ولا حكم لما طرأ من القصد، وخرّج ابن سريج قولاً آخر: أنه لا يترخص؛ لأنه لو ترخص، لكان متبلغاً إلى معاصيه بالرخص، وهو من اختياراته، وهو ظاهرُ القياس، وإن كان الأول ظاهرَ النص، ولا خلاف أنه يختلف حكم سفره بقصده الطارىء في تبديل صوبه إلى جهة أخرى، أو قصره سفرَه الطويل على مسافة قصيرة، أو ما جرى هذا المجرى، كما تقدم شرحه. 1327 - ولو أنشأ السفرَ على قصد معصيةٍ، ثم تاب في أثناء السفر، وما غيّر صوب سفره، ولكن بدّل القصدَ، مثل أن كان قَصَدَ مكة ليقتل بها إنساناً، ثم تاب، وصرف قصدَه إلى الحج والعمرة، فالسفر، لم يتبدل، وإنما تبدّل القصد، وكان شيخي يقول: طريان قصد الطاعة على سفر المعصية، كطريان قصد المعصية على سفر

_ (1) زيادة من (ت 1) حيث سقط من الأصل، ومن (ط). (2) في الأصل وفي (ط): بالماء. (3) أي أن القضاء يتعلق بحالٍ تالٍ لحال التيمم، فلا تؤثر المعصية في هذا الحال الثاني.

الطاعة، فالذي يقتضيه قياس النص أن الحكم للقصد الأول، ولا حكم لطريان قصد الطاعة. فأما ابن سريج، فإنه يتبع موجب قصده، طارئاً كان أو مقارناً لإنشاء السفر. فنقول: إذا تاب، نظر: فإن كان بينه وبين المقصد مرحلتان، فصاعداً، قصر، وأفطر، وإن كان، أقل، فلا يترخص برخص السفر الطويل، وهو من وقت توبته كمبتدىءٍ سفراً، وقطع بعض المصنفين بهذا الجواب، في طريان قصد الطاعة ولم يذكر قياس النص، ولا سبيل إلى القطع؛ فإن طريان الطاعة على المعصية، كطريان المعصية على الطاعة. 1328 - ومما ذكره الصيدلاني: أن الرجل إذا عصى بإقامته، كالعبد أمره مولاه أن يسافر في جهة ولا يعرِّج (1) في موضعٍ ما، فأقام من غير عذر، فقد عصى، فهل يمسح في إقامته على الخف يوماً وليلة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يمسح؛ لأن هذا من رخص الإقامة، وهو عاصٍ بها، فصار كما لو كان عاصياً بسفره. والثاني - أنه يمسح؛ فإن المسح لا يختص بالإقامة، ولو قدرنا ارتفاع الإقامة، لكان يمسح، فلا معنى لعدّ المسح من رخص الإقامة، بل هو سائغ سفراً وحضراً، ولكن الإقامة تمنع من الزيادة على يوم وليلة، فهذا أثر الإقامة وخاصيتها، لا أصل المسح. 1329 - وقد ذكر صاحب التلخيص لفظةً مختلة نذكرها عنه، وذلك أنه قال: إنما يقصر المسافر في سفر الطاعة، وهذا يدلّ على أن كون السفر طاعة شرطٌ، وليس كذلك، بل الشرط ألا يكون سفر معصية، فإن كان ما ذكره زللاً في اللفظة؛ من جهة أن اللسان يبتدر إلى مقابلة المعصية بالطاعة ازدواجاً، فهو سهل، وإن كان ذلك عن عَقْدٍ، فهو خطأ باتفاق الأصحاب. 1330 - ثم قال علماؤنا: نحن وإن لم نشترط أن يكون السفر سفر طاعة، فنشترط أن يكون فيه غرض صحيح، كالتجارة، والزيارة وغيرها، فأما إذا كان يتقلب في

_ (1) "يعرّج": أي يقيم.

الأرض وينتقل من بلدة إلى بلدة، وليس له غرض صحيح معقول؛ فإنه لا يترخص [وإن تَحَدد قصدُه في سفره] (1)، وخرج عن مضاهاة من يهيم ولا مقصد له؛ لأن الرخص أثبتت لتحصيل ذريعة إلى تحصيل أغراض المسافرين. وقد قال الصيدلاني: لا يحل للإنسان أن يتعب نفسه ودابته في سفره من غير غرض، فليتحقق السفر على هذا التقدير من غير غرض بسفر المعصية. فإن قيل: إذا جوزنا للذي يسلك أبعد الطريقين من غير غرض أن يقصر، فهلا جوزنا للذي ليس له غرض صحيح في سفره مثلَ ذلك؟ قلنا: ذلك القول أوّلاً بعيد، لا اتجاه له، ثم قد يخطر لناصر ذلك القول أن غرضه في مقصده ثابت ولا مضايقة معه في تغير الطرق، والذي نحن فيه في تفصيل حكم من لا غرض له في مقصدٍ ولا سفر. وكان شيخي يقول: لو كان غرض المسافر أن يرى البلاد، وينظر إليها، فليس هذا من الأغراض التي يُبالى بها، ولا يحتمل العاقل المشاقَّ وركوبَ أخطار الأسفار لأجل ذلك. فروع متصلة بهذا الأصل، منها: 1331 - أن الرجل إذا ردَّى نفسَه من علُو، فانخلعت قدماه، فإذا بَرَأ، فهل يعيد الصلوات المفروضة التي أداها قاعداً؟ المذهب أنه لا يقضيها؛ لأن المعصية انتهت بسقوطه، وما كان عاصياً في دوام قعوده. ومن أصحابنا من قال: إنه يقضي، فإن قعوده كان بسبب المعصية، فجُعل كعين المعصية، وهذا القائل يستشهد بالسُّكْر؛ فإنه ليس معصية في نفسه؛ فإنه ليس فعلاً مقدوراً للمكلف، ولكن لما كان مترتباً على الشرب، لم يتضمن تخفيفاً في باب العبادات.

_ (1) في الأصل، وفي (ط): "وإن لم يجدد سفره في قصده" وفي (ت 1): "وإن تجدد سفره في قصده" وعبارة ابن أبي عصرون: "إن تجرّد سفره في قصده" والمثبت تقديرٌ منا. نرجو أن يكون صواباً؛ فإن المعنى أنه كان يضرب في الأرض، منتقلاً من بلدة إلى بلدة أخرى، في ترتيب وتخطيط معروف له، فهذا يخرجه عن مضاهاة الهائم بغير مقصد، ولكنه لم يخرج عن المسافر في غير غرض صحيح. ثم جاءت (ل) بلفظ (وإن تجدد) مثل (ت 1).

ولمن نصر المذهبَ أن [يَنْفصل] (1) ويقول: السُّكْر محبوبٌ في الجبلات، فلا يمتنع أن يُلحق بالمعاصي، حتى ينزجر الناس من (2) التسبب إليه، ولولا السكر لما اعتمدَ الشربَ، فإن الخمر مرة بشعة (3). 1332 - ومنها أن الرجل إذا تسبَّب إلى إزالة عقل نفسه بسبب ما يُجِنّ، فإذا جُنَّ، ثم أفاق، فالمذهب أنه لا يلزمه قضاء الصلاة التي فاتته في جنونه، وليس كالصلوات التي تمر مواقيتها في زمان السكر، فإنّ الجنون منافٍ لتبعات التكليف. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه مأمور بقضاء الصلوات من جهة تسببه إلى جلب الجنون، كما لو تسبب إلى السكر، وهذه الصورة مرتبة على التي قبلها، وهي إذا ردّى نفسه من شاهق، فانخلعت قدماه؛ فإنه في تلك الصورة لم يخرج عن كونه مكلفاً. ولو كانت المرأة حاملاً، فاستجهضت جنينها ونفِست (4)، فالوجه القطع بأن ما يفوتها من الصلوات في زمان النفاس لا يلزمها قضاؤه. وقد ذكر بعض الأصحاب في ذلك وجهاً بعيداً في وجوب القضاء، من جهة انتسابها إلى تحصيل هذه الحالة المنافية، وهذا أبعد الوجوه، وهو حريٌّ بألاّ يُعد من المذهب أصلاً. وقد ذكرنا فيما تقدم أن المرتدة إذا حاضت (5) وطهرت، وأسلمت، لم يلزمها

_ (1) في جميع النسخ: (يتفضل)، وهو تصحيف ظاهر، والمثبت تقدير منا، رعاية للمعنى، فالمعنى أن الذي ينصر المذهب في عدم إعادة العاصي بإلقاء نفسه، للصلوات التي صلاها قاعداً، له أن ينفصل عن اعتراض من يرى الإعادة مستشهداً بالسكر، ومؤاخذة السكران مدة سكره - فيقول فارقاً بين من ألقى نفسه من شاهق، ومن شرب خمراً: إن السكر محبوب، مرغوب في الجبلات ... إلخ. ثم إن إمام الحرمين يجري على لسانه لفظ (ينفصل) كثيراً كمصطلح جدلي، بمعنى دفع الاعتراض، كما هو وارد في هذا الموضع. (2) كذا، وهي صحيحة، فإن (مِن) تأتي لمعانٍ منها أن تكون مرادفة لـ (عَنْ)، في القرآن الكريم: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء: 97] وانظر مغني اللبيب: 423. (3) بشعة: كريهة. من بشع الطعام بَشَعاً: صار طعمه كريهاً. (المعجم). (4) بكسر الفاء لا غير، وفي النون الفتحُ والضم. (تهذيب الأسماء واللغات). (5) بدأ من هنا [آخر 61 ش] خرم من نسخة الأصل حيث سقطت ورقتان كاملتان (62، 63) وهو =

قضاء الصلوات التي مرت مواقيتها في الحيض، ولو جُنّ المرتدّ، وأفاق، وأسلم، فظاهر النص أنه يلزمه في الإسلام قضاء الصلوات التي مرت مواقيتها في الجنون، وقد ذكرنا تصرف الأصحاب في ذلك ومحاولة الفرق بين الجنون والحيض؛ فإن سقوط قضاء الصلاة في زمان الجنون بعد تقدير الإفاقة تخفيف، وما كان المجنون مخاطباً بأن يترك الصلاة، والحائض مخاطبة بأن تجتنب الصلاة في زمان الحيض، والردة لا تنافي الوفاء بهذا الخطاب، فقد أدَّت ما كلفت في زمان الحيض والردة في أمر الصلاة، وقد ذكرنا ذلك فيما سبق. فرع: 1333 - قال العراقيون: إذا أفطر المقيم في يوم من رمضان لعذر يسوغ الإفطار والتزم القضاء، ثم سافر وشرع في قضاء ذلك اليوم، ثم بدا له في أثناء اليوم أن يفطر مترخصاً، فله ذلك، كما يفطر في أداء رمضان مسافراً، ولو كان أفطر مقيماً عاصياً من غير عذر ثم سافر، وشرع في قضاء ذلك اليوم، ثم أراد أن يترخص بالإفطار بعذر السفر، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإنه كان عاصياً بالإفطار أوّلاً، وكان يجب عليه البدار إلى القضاء، فإذا شرع فيه، لم يجز له قطعه. والثاني - له ذلك؛ فإن السفر يقتضي رخصة الإفطار، وتلك المعصية قد انقطعت، وهو الآن غير عاص بسفره. فصل في بيان رخصة الجمع. فنقول: الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جائز بشيئين: أحدهما - السفر. والثاني- المطر. فنبدأ بالقول في الجمع بعذر السفر، ثم نذكر تفصيل المذهب في المطر إن شاء الله.

_ = ما يساوي عشر صفحات من المنسوخ باليد. وقد استوفينا هذا النقص من نسخة (ت 1).

1334 - فأما الجمع بعذر السفر، فنبدأ فيه بتفصيل السفر، ونقول: الجمع بعذر السفر الطويل جائز، وفي تجويزه في السفر القصير من غير نُسكٍ قولان مشهوران: أحدهما - لا يجوز؛ فإنه تغيير ظاهر في أمر الصلاة، فيختص بالسفر الطويل. والثاني - أنه يسوغ في السفر القصير أيضاً؛ فإنه قد صح تجويزه في حق المقيم بعذر المطر، كما سنذكره، فوضح بذلك أن الأمر هيّن فيه، حتى سبق بعض الأئمة إلى أن وقت الظهر والعصر مشترك، على تفصيل قد بيناه في باب المواقيت. وأما الحاج إذا كان آفاقياً (1) غريباً، فإنه يجمع بعرفة بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة، واختلف أئمتنا في مقتضى الجمع في حقه: فمنهم من قال: سبب الجمع السفر، فعلى هذا يجمع الغريب الذي لابس سفراً طويلاً، وهل يجمع المكي؟ فعلى قولين؛ لأن سفره قصير، والعَرفي (2) الذي أنشأ النسك من وطنه لا يجمع قولاً واحداً على هذه الطريقة؛ فإنه ليس مسافراً، وفي الجمع بمزدلفة قولان في حقه. فهذه طريقة ذكرها الصيدلاني. وغيرهُ من أئمتنا قال: سبب الجمع شغل النسك، فعلى هذا يجمع المكي، ويجمع العَرفي بعرفة أيضاً، فهذا تفصيل القول في السبب الذي يقتضي الجمع في هذا الفن. وإذا قلنا: النسك من غير سفر يقتضي الجمعَ، فأسباب الجمع على ذلك ثلاثة: السفر، والنسك، والمطر. 1335 - ونحن نذكر بعد ذلك تفصيلَ القول في الجمع، فنقول: أما صلاة

_ (1) آفاقياً: منسوب إلى (آفاق) جمع أُفُق بمعنى ناحية وقطر من الأرض. قال النووي: "وهذه النسبة منكرة؛ فإن الجمع إذا لم يسم به لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى واحده" وأنكر على الغزالي هذا الاستعمال. (تهذيب الأسماء واللغات). قلت: وقد أخذ الغزالي هذا من عبارة شيخه إمام الحرمين. ثم قلت: قد أجاز مجمع اللغة العربية في عصرنا هذا النسبَ إلى الجمع. (2) "العَرفي". نسبة إلى عرفات. أي من أهل عرفات نفسها.

الصبح، فإنها فردة لا تجمع إلى صلاة، ولا تُجمع إليها صلاة، وإنما الجمع بين الظهر والعصر تقديماً وتأخيراً، وبين المغرب والعشاء كذلك، تقديماً وتأخيراً. فأما تفصيل التقديم: فإذا قدم العصر إلى الظهر، ساغ وفاقاً بين الأصحاب، وكان الصلاتان جميعاًً مؤداتين، أما صلاة الظهر، فمقامة في وقتها، وأما صلاة العصر، فمقدّمة على وقتها المعتاد، فإذا صحت، لم يتَّجه فيها غيرُ الأداء. ثم لا خلاف أنه يُشترط في هذا الوجه من الجمع الترتيبُ، والموالاة، فلا يجزىء تقديمُ العصر، بل يتوقف إجزاؤه على تقديم الظهر عليه، حتى لو صلى الظهر، ثم العصر، ثم بان فسادُ الظهر بسببٍ، فتفسد صلاة العصر أيضاً وفاقاً، فهذا في الترتيب. أما الموالاة ورعاية الإتباع، فمشروطةٌ أيضاً. ثم نص الشافعي فيه على أن المرعي ألا يتخلل بين الصلاتين إلا زمان الإقامة؛ فإنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بلالاً أن يُقيم بين صلاتي الجمع (1)، فهذا هو المرجوع إليه، ولا يضرّ تخلل كلامٍ أو غيره؛ فإن الإنسان بين الصلاتين، لا يلتزم أحكام الصلاة. وإن طال الفصل، فأما الظهر فصحيح، مقام في وقته، ويجب تأخير العصر إلى وقته. ولا فرق بين أن يتخلل الفصل بعذرٍ أو يتخلل بغير عذر، فحكم تعذّر الجمع ما ذكرناه. 1336 - وعلينا الآن في هذا الطرف فصلان: أحدهما - في نية الجمع. والثاني - في طريان الإقامة. فأما نية الجمع [فالذي] (2) نص عليه الشافعي، وقطع به الأئمة أن نية الجمع واجبة، ولا يصح الجمع دونها، إذا كان الجمع تقديماً، ثم نص الشافعي في الجمع

_ (1) حديث الإقامة بين صلاة الجمع، مروي في الصحيحين، فهو عند البخاري من حديث أسامة بن زيد في الوضوء، باب إسباغ الوضوء، ح 139، وفي الحج، باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، ح 1672. وعند مسلم من حديث جابر الطويل في وصف حج رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1218). (2) زيادة منا رعاية للسياق. وقد صدقتنا (ل).

بعذر المطر أنه ينوي الجمع عند التحرّم بصلاة الظهر، ولو نوى بعد ذلك، لم يصح. ونص في الجمع بعذر السفر أنه لو نوى عند التحرّم بالظهر، أو في أثناء صلاة الظهر، جاز، حتى لو نوى قبل حصول التحلل من الظهر، ساغ. واختلف الأئمة: فقال بعضهم: في المسألتين جميعاًً قولان: أحدهما - أن وقت نية الجمع عند التحرم بالظهر؛ فإنه وقت النية بأركانها وتفاصيلها. والثاني - أن جميع صلاة الظهر وقتٌ لنية الجمع؛ فإن هذه النية تتعلق بصلاة أخرى بعد هذه، فلا يضر تأخرها عن وقت التحرم. وخرّج المزني قولاً ثالثاً في وقت نية الجمع، وهو أنه يجوز إيقاع نية الجمع بعد الفراغ من الظهر، وقبل التحرم بالعصر، وقَبل الأئمة هذا التخريج على هذه الطريقة؛ فإن المجمع يتعلق بالصلاتين، فلا يبعد أَن يكون بنيةٍ واقعةٍ بينهما. 1337 - ومن أصحابنا من أقر النصين في المطر والسفر، ولم يخرج قولين، وفرّق بينهما بأن المطر لا يشترط دوامُه في جميع صلاة الظهر، كما سيأتي شرح ذلك، ويشترط دوام السفر في جميع الظهر، فلا يمتنع أن يكون جميع صلاة الظهر وقتاً لنية الجمع من حيث اشتراطُ دوام سبب الجمع في جميعها، ولا يكون الأمر كذلك في عذر المطر، بل يتعين لنية الجمع وقت التحرم بالظهر؛ فإنه يشترط المطر عنده وفاقاً. والصحيح طريقة القولين لما ذكرناه من أن نية الجمع ترتبط بالصلاتين، فيكفي ربط آخر الظهر بالعصر بنيّة توقع عند الآخر، وهذا لا يختلف بالسفر والمطر. فإن قلنا: ينبغي أن تقع نية الجمع مع تحريمة الظهر، فلا كلام، فوقته كوقت سائر أركان النية. وإن قلنا: يجوز استئخارها عن التحريم، ولكن لا توقع بين الصلاتين، فعلى هذا لو أوقعها مع التحلل عن صلاة الظهر، ولم يقدّمها على التحلل، ولم يؤخرها عنه، فقد رأيت كلامَ الأئمة على تردد في ذلك، فكان شيخي يمنع هذا على هذا القول، ويشترط وقوع النية في صلاة الظهر. والذي اختاره الشيخ أبو بكر أنه يجوز إيقاع نية الجمع، مع التحلل عن الظهر،

وعلل بأن هذا الطرف الأخير من الصلاة الأولى، فإذا قارنته النية، حصل معنى جمع آخر الصلاة الأولى إلى أول الصلاة الثانية. وإذا فرعنا على القول المخرج، وهو تجويز إيقاع نية الجمع بين الصلاتين، فهذا تخريج في الجواز، والصائر إليه لا يمنع إيقاعَ النية في الصلاة الأولى، ولو أوقع نية الجمع مع تحريمة الصلاة الثانية -والتفريع على هذا التخريج- فالظاهر من كلام المفرعين على هذا منع ذلك؛ فإن الذي هوّن التخريج وقوعُ النية بين الصلاتين، فإذا فرض وقوعها مع أول الثانية، فليست واقعة بين الصلاتين، وليس يَبعُد عن القياس تجويزُ ذلك على التخريج؛ إذْ لا فرقَ بين ربط الأولى بالثانية، وبين ربط الثانية بالأولى. نعم لو نوى بعد التحرم بالعصر الجمعَ، فلا أثر لذلك، وصلاة العصر غير منعقدة؛ فإن سبب انعقادها في وقت الظهر الجمعُ، فينبغي أن يقع التعرض له بالنية قبل العقد أو معه، على التقدير الذي ذكرته. وفي كلام الصيدلاني إشارة إليه، فهذا تفصيل القول في وقت نية الجمع. 1338 - ومذهب المزني أن نية الجمع ليست مشروطة، ولكن إذا وقع الجمع على شرطه، كفى وليس كنية القصر؛ فإن الأصل الإتمامُ، ونية القصر تُغيّر الصلاة الواحدة، فلا بد من نيةٍ تُزيل أصلَ الصلاة، وأما الجمع؛ فإنه متعلق بصلاتين، فلا معنى لاشتراط نيةٍ تتعلق بالصلاتين. 1339 - وذكر الصيدلاني [في] (1) مذهبه (2) وجهاً لأصحابنا، وبنى الخلاف في ذلك على الخلاف في أن نية التمتع هل تشترط في التمتع بالعمرة إلى الحج؟ ووجه الشبه بيّنٌ، وهذا وإن كان متجهاً في القياس، فهو بعيد عن مذهب الشافعي، والوجه القطعُ باشتراط نية الجمع في التقديم. فهذا تفصيل القول في نية الجمع.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) مذهبه: أي كتابه، وقد مضت هذه التسمية من قبل. وعبارة (ل): "وذكر الصيدلاني مذهباً وجيهاً لأصحابنا".

1340 - فأما القول في انقطاع السفر، فلا خلاف أنه لو نوى الإقامة في أثناء الظهر، أو انتهى إلى موضع الإقامة، استحال الجمع من غير (1) مطر. ولو (2) حصلت الإقامة بين الصلاتين، امتنع الجمع. ولو تحرّم بصلاة العصر جامعاً، ثم طرأت الإقامة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن صلاة العصر تبطل، فتنقطع رخصةُ الجمع، كما لو حصلت الإقامة في أثناء الصلاة المقصورة؛ فإن رخصة القصر تزول، ويلزمه الإتمام. والوجه الثاني - أن العصر لا يبطل، ويستمر الجمع، بخلاف رخصة القصر، والفرق أن القصر إذا زال، لم تبطل الصلاة، بل لزم الإتمام، ولو قطعنا رخصة الجمع، لأبطلنا صلاة العصر. ولو نوى الإقامة، أو انتهى إلى موضع الإقامة بعد الفراغ من صلاة العصر، فإن قلنا: طريان ذلك على صلاة العصرْ لا يُبطل رخصة الجمع، فطريانُه بعد الصلاة أوْلى بألا يؤثر. وإن قلنا: لو طرأ في أثناء الصلاة، لأبطل رخصة الجمع، فلو طرأ بعدها، فإن غربت الشمس، ثم ثبتت الإقامة، لم يؤثر ذلك. ولو طرأت الإقامة في وقت الظهر أو العصر، فعلى الوجه الذي عليه التفريع وجهان: أحدهما - أن رخصة الجمع لا تبطل؛ فإن الجمع قد مضى، فلا يؤثر في الرخصة ما يطرأ. والثاني - يبطل، ويجب أداء العصر في وقته؛ فإن صلاة العصر قُدّمت على وقتها، فهي كالزكاة تعجل قبل حُؤول الحول، ولو عجلت ثم حال الحول، والمزكي والآخذ خارج عن الشرط المرعي، فالزكاة لا تكون واقعة موقع الاعتداد، فلا يبعد ذلك في رخصة الجمع أيضاً. فهذا كله في الجمع بعذر السفر تقديماً. 1341 - فأما إذا أراد المسافر أن يؤخر صلاة الظهر إلى وقت العصر، فهو جائز

_ (1) من غير مطر: أي قد يصل موطنه، وينتهي سفره، ولكن يجد المطر المبيح للجمع. (2) إلى هنا انتهى الخرم في نسخة الأصل (د 1).

أيضاً، ثم إذا اتفق التأخير بعذر الجمع، فقد ظهر الخلاف في أنا في التأخير هل نشترط رعاية الترتيب والموالاة، بين الظهر والعصر؟ فمن أصحابنا من قال: يشترط ذلك، كما يشترط في التقديم؛ فإن الجمع في صورته يقتضي ذلك. والثاني - لا يشترط بخلاف التقديم، والفرق أن صلاة العصر إذا قُدّمت، فلا تقدّر مقضية أو مؤخرة عن وقتها، فيشترط في صحتها الجمع المحقق صورةً، وذلك يتضمن الترتيبَ والمتابعةَ جميعاًً، فأمّا التأخير، ففائدته إخراج صلاة الظهر عن وقت الرفاهية، ثم صلاة العصر تكون مقامة في وقتها، والظهر مخرجة عن وقت الرفاهية، فلا حاجة إلى رعاية ترتيب أو موالاة. فإن قلنا: لا يشترط الترتيب، ولا الموالاة، في التأخير، فلا تشترط نية الجمع وجهاً واحداً، ولا معنى للجمع على هذا الوجه. 1342 - ثم غلط بعض أصحابنا، وقال: صلاة الظهر على هذا الوجه مقضية، وفائدة الرخصة تجويز جعل الظهر مقضية، وهذا زلل، وقلة بصيرة بالمذهب. والدليل عليه شيئان: أحدهما - أن أصحاب الضرورات إذا زالت ضروراتُهم، وقد بقي إلى الغروب خمسُ ركعات، فنجعلهم مدركين لصلاة الظهر، حملاً على أن الوقت مشترك، ولو كان الظهرُ مقضياً في وقت العصر، في حق المعذور، لما تحقق الاشتراك في الوقت قطعاً، فلزم ألا يكونوا مدركين لصلاة الظهر. والثاني - أن صلاة الظهر لو كانت تصير مقضيةً بالتأخير، لوجب أن يتوسع وقت قضائها في جميع العمر؛ حتى يقال: يقضيها المرء متى شاء، ولا خلاف أنه لا يجوز للمسافر أن يُخرج صلاةَ الظهر عن وقت العصر. فهذا إذا لم نشترط الموالاة والترتيب. 1343 - فأمّا إذا قلنا: لا بد من رعاية الترتيب والموالاة، فليُصلّ الظهرَ أوّلاً، ثم العصر، فلو صلى العصر أوّلاً، صحت منه صلاة العصر بلا شك؛ فإنها صلاة مقامة في وقتها، ولكن بطلت رخصة الجمع، فإذا أراد أن يصلي الظهر، فهي صلاة مقضية فائتة، مقامة في غير وقتها. وأول ما يظهر من ذلك أنا إذا منعنا قصرَ الفائتة في

السفر، نمنع قصرها ونوجب إتمامها، وكأنا نقول: وقتها ينقضي بصحة العصر قبلها. فهذا إذا ترك الترتيب. 1344 - فأما إذا تركَ الموالاة، فصلى صلاة الظهر، ثم خلل فصلاً طويلاً، ثم صلى العصر، فقد أبطل الرخصة، وإذا بطلت، فصلاة الظهر خارجة عن وقتها، غيرُ مقامة على حكم الرخصة، فتكون مقضيةً، ويلزم إتمامُها إذا منعنا قصر الفائتة. وهذه الصورة تفارق تركَ الترتيب؛ فإنه إذا صلى العصر أولاً مخلاً بالترتيب، فيظهر أن نقول: كما (1) صلى العصر، وصحت له، فاتت صلاةُ الظهر، فأما إذا صلى الظهر أولاً، فقد أقدم عليها، وصحت مؤداةً، فخروجها عن كونها مؤداةً بعد وقوعها كذلك، لا يخرج إلا على تَبَيُّن (2) واستناد، ومصيرٌ إلى أن الأمر كان موقوفاً على الوفاء بصورة الجمع، فإن لم يَفِ بها في رعاية الموالاة والمتابعة، فصلاة الظهر خارجة عن وقتها، فتبين أنها وقعت مقضية. 1345 - وأما الصيدلاني فلم يتعرض لذكر الخلاف في الموالاة، وإنما ذكر الخلاف في الترتيب، والذي فهمتُه من مساق كلامه قصرُ الخلاف على الترتيب؛ فإنه ظاهر، فأما اشتراط الموالاة، فلا معنى له عندي. فأما إذا قلنا: تقديم العصر والفراغ منه يُلحق الظهر بالفائتة، فهذا له وجه، فأمّا أن نقول: إذا أقام صلاة الظهر، تَعيّن وصلُ صلاة العصر بها، وصلاة العصر مؤداة في وقتها، فليس لذلك وجه بتّةً، بل إذا قدّم العصر، فيجوز أن نقول: شرط إجزاء صلاةِ العصر مقدَّمة، أن توصل بالظهر، فإن لم توصل، لم تصح؛ فإنها مقدمة بشرط إجزائها، وهي مقدَّمة الموالاة. هذا بيّن، فأمّا إيجاب تعجيل العصر على إثر الفراغ من الظهر في وقت العصر، فبعيد جداً. فَلْيتَأمل ذلك؛ فإنه حسن بالغ.

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) التبيّن والاستناد. من أدلة الأحكام وأصولها، وقد سبق بيان مفهومهما.

1346 - ثم من راعى الموالاة في التأخير، فإذا أخلّ بها، وقد نوى الأداء في صلاة الظهر، وقلنا: الفائتة لا تُقصر، فلا بد من الإتمام عنده، ولكن لم أر أحداً يقول: لا تصح الظهر بنية الأداء وهي مقضية، ونحن وإن كنا نرى القضاء يصح بنية الأداء في بعض الصور، مثل أن يصوم المحبوس مجتهداً شهراً ظاناً أنه شهر رمضان، ثم يتبين أنه شهر بعده، فيصح ما جاء به، وإن نوى الأداء، فالسبب فيه أنه معذور فسومح، وقيل: القضاء قريب من الأداء، فأمّا إذا نوى الأداء في صلاة الظهر، ثم أخلّ بشرط الجمع، من غير عذر، فقد أقام فائتةً بنيّة الأداء من غير عذرٍ قصداً. والذي يتجه في ذلك أن الموالاة إذا اختلت بعذر وقع من غير تقصير منه، فصلاة الظهر صحيحة بنيّة الأداء، وهي فائتة. وإن اعتمد ترك الموالاة، وقد نوى الأداء، ففيه احتمال، ووجهه أن الخلل وقع بعد الصلاة، وإن كان من غير عذرٍ. فهذا التردد جرّه اشتراط الموالاة. والفقه عندي ما أشعر به كلام الصيدلاني: وهو تخصيص الخلاف باشتراط الترتيب في التأخير، فأما الموالاة، فلا معنى لشرطها لما قدمت. 1347 - ثم إن لم نشترط الموالاة، فلا تجب نيّة الجمع، وإن شرطنا الموالاة، فنوجب نية الجمع كما نوجبها في التقديم، والإخلال بنيّة الجمع بمثابة ترك الموالاة. فهذا منتهى الفصل في الجمع بعذر السفر. 1348 - والجمع بين المغرب والعشاء، تقديماً وتأخيراً، كالجمع بين الظهر والعصر في كل ترتيب. والذي يدور في الخلَد أنا إذا وسعنا وقت المغرب، اتّسع الأمر في تصوير الجمع، وإذا ضيقنا وقتَ المغرب، وقد فُرض جمعُ العشاء إليه تقديماً، فيظهر أن يقال: ينبغي أن توقع الصلاتان في وقت يُحكم بأنه وقت المغرب، كما سبق التفصيل في ضبط المغرب ووقته؛ فإنا قد ذكرنا في بيانه ما يوضح أنه يحمل خمس ركعات. وفي هذا نظر، فَلْيتأمل.

1349 - فأمّا الجمع بعذر المطر؛ فإنه سائغ [في الحضر] (1) عند الشافعي، ومعتمد المذهب الحديثُ، وهو ما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة من غير خوفٍ، ولا سفر" (2)، قال الشافعي: قال مالك: ما أراه إلا بعذر المطر" (3)، فاستأنس الشافعي بقول مالك، ولم يَرد ذكرُ المطر في متن الحديث. وجرى هذا مجرى رواية القلّتين، في الماء الكثير، فإن القلة، وإن ترددت بين معانٍ، فلا قائل بشيء منها، فيتعين ردها إلى المختلف فيه، فكذلك حمل الحديث على جمع قال به قائل ممن (4) يُعتبر قوله. ورأيت في بعض الكتب المعتمدة، عن ابن عمر: "أن النبي عليه السلام جمع بالمدينة بين الظهر والعصر بالمطر" (5). 1350 - ثم كان شيخي يحكي وجهين في جواز الجمع بعذر الثلج من حيث إنه لا يبل الثوب، وقَطَعَ غيرُه بتنزيله منزلة المطر. فأما الأوحال، والرياح، وغيرها، فلا يتعلق جواز الجمع بشيء منها وفاقاً. 1351 - ثم الذي جرى عليه أئمة المذهب أن الجمع بعذر المطر جائز تقديماً، وفي جواز التأخير خلاف، والسبب فيه أنه في السفر: إن أخر؛ فإدامة السفر إليه، فأما إن

_ (1) زيادة من (ت 1). (2) حديث الجمع في المدينة من غير خوفٍ، ولا سفر. متفق عليه بهذا اللفظ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، كذا قال الحافظ في التلخيص. وهو عند مسلم بلفظ: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاًً. والمغرب والعشاء جميعاًً في غير خوف ولا سفر". وفي لفظ آخر: "ولا مطر". هذا ولم أجده بهذا اللفظ، ولا بلفظ إمام الحرمين في اللؤلؤ والمرجان. (ر. مسلم: 1/ 489، كتاب صلاة المسافرين، باب (6) الجمع بين الصلاتين في الحضر، ح 705، واللؤلؤ والمرجان: 1/ 139، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، ح 411، التلخيص: 2/ 50 ح 616). (3) الموطأ، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر، ح 4. (4) يريد الإمام مالكاً رضي الله عنه. (5) حديث ابن عمر في الجمع بالمطر. "ليس له أصل، وإنما ذكره البيهقي عن ابن عمر موقوفاً عليه" كذا قال الحافظ (ر. سنن البيهقي: 3/ 168، والتلخيص: 2/ 50 ح 615).

أخر بعذر المطر، فليس إليه إدامة المطر، فربما يُقلع وينقطع قبل دخول وقت العصر أو مع دخوله. وقد قال الصيدلاني: يجوز التقديم ولا يجوز التأخير، فقطع جوابه في النفي والإثبات جميعاًً. وقال بعض المصنفين: يجوز التأخير بعذر المطر، وفي التقديم وجهان، فجرى على الضد مما ينبغي، وهو غلط لا يُبالى به. 1352 - ثم قد ذكرنا في الجمع بعذر السفر طريان الإقاهة بالنية، أو بالانتهاء إلى الإقامة، ونحن نذكر الآن تفصيلَ القول في طريان انقطاع المطر، فنقول: أجمع الأئمة أنه لو تحرم في الظهر بالتقديم مع المطر، ثم انقطع في أثناء صلاة الظهر، ثم عاد وقت التحرم بالعصر، فانقطاعه في أثناء صلاة الظهر لا يضر، ولكن اكتفى معظم الأئمة بوقوع المطر عند عقد الظهر والعصر. وقال أبو زيد: ينبغي أن يكون موجوداً عند التحلل من الظهر أيضاً، ليتحقق اتصال آخر الظهر في العذر بأول العصر. فهذا ما ذكره الأئمة. ثم إذا كنا لا نشترط دوامَ المطر في أثناء الظهر وفاقاً، فلا نشترط المطر في أثناء العصر، بل لو انقطع في أثناء العصر بعد أن كان موجوداً عند العقد، لم يؤثِّر انقطاعه. 1353 - وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً: أن الجمع بعذر المطر يختص بالمغرب والعشاء في وقت المغرب، وأجراه قولاً ضعيفاً، وحكاه العراقيون وأسقطوه، ولم يعدّوه من المذهب، وأوّلوه. وذكر بعض المصنفين في انقطاعه في أثناء العصر أو بعده مع بقاء الوقت ما ذكرناه من طريان الإقامة في هذه الأوقات، إذا كان سبب الجمع سفراً، وهذا بعيدٌ لا أصل له؛ فإن دوامَ المطر إذا لم يعتبر في أثناء الظهر، فكيف يستقيم هذا الترتيب في العصر وما بعده؟

1354 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الذي ظهر للعلماء أن الجمع بعذر المطر سببه الجماعة؛ فإن الناس إذا حضروا والمطر واقع، فيجمعون بين الصلاتين في جماعة؛ حتى لا يحتاجوا إلى عَوْدٍ. فأما إذا أراد الرجل أن يجمع بعذر المطر في منزله، ففيه وجهان ذكرهما الصيدلاني وغيره: أحدهما - المنع، وهو الظاهر لما ذكرناه. والثاني - يجوز طرداً للرخصة؛ فإنها لم ترد مقيدة بالجماعة، وكذلك اختلف الأئمة فيه إذا كان الطريق إلى المسجد في كِن. قال الشيخ أبو بكر: لو حضروا المسجد والسبيل مكشوفٌ، فأرادوا أن يصلّوا أفراداً من غير جماعة، ففيه وجهان أيضاً، لما ذكرناه من ارتباط الجمع في عذر المطر خاصَّة بالجماعة. 1355 - ومما يتعلق برخصة الجمع في السفر والمطر: أن من أراد التأخير -حيث يجوز- فينبغي أن يقصد الترخص بالتأخير، ولو أخر صلاة الظهر من غير نية الرخصة قصداً، كان عاصياً بإخراج الصلاة عن وقتها، وكانت الصلاة المؤخرة المخرجة عن وقتها فائتة، هكذا ذكره شيخي والصيدلاني. وهذا فيه شيء؛ فإنا إذا لم نشترط نية الجمع عند إقامة الصلاة، فلا يبعد أن يقال: نفس السفر يسوغّ التأخير، ويصير الوقت مشتركاً. والعلم عند الله تعالى. ***

كتاب الجمعة

كتاب الجمعة 1356 - الأصل في وجوب الجمعة قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قيل: أراد بالذكر الخطبة، وقيل: أراد الصلاة. وروى الشافعي بإسناده عن محمد بن كعب القُرَظي عن رجل من بني وائل أن النبي عليه السلام قال: "تجب الجمعة على كل مسلم إلا المرأة والصبي والمملوك" (1) وروى أبو الزبير عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في جمعة من الجمع فقال: أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغلوا، وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة، ترزقوا، وتجبروا، وتنصروا، واعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعد وفاتي استخفافاً بها، أو جحوداً لها، وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا لا صلاة له، ألا لا زكاة له، ألا لا حج له، ألا لا برّ له، إلاّ أن يتوب، فإن تاب تاب الله عليه" (2). وأجمع المسلمون قاطبة على وجوب صلاة الجمعة وإن اختلفوا في التفاصيل.

_ (1) حديث "تجب الجمعة ... " رواه أبو داود بلفظ: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض"، ورواه الحاكم، وصححه غير واحد. (ر. أبو داود: الصلاة، باب الجمعة للمملوك والمرأة، ح 1067، التلخيص: 2/ 65 ح 650، والمزني عن الشافعي في المختصر: 1/ 130، والحاكم: 1/ 288). (2) حديث: "توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ... " رواه ابن ماجة، والبيهقي، على نحو ما ساقه إمام الحرمين، وقد ضغفه البيهقي (ر. سنن ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب في فرض الجمعة، ح 1081، وضعيف ابن ماجة للألباني ح: 224، وسنن البيهقي: 3/ 171).

فصل قال: "وتجب الجمعة على أهل المصر، وإن كثر أهله ... إلى آخره" (1). 1357 - صدَّر الشافعي الكتاب بذكر من يلتزم الجمعة من أهل الأمصار والقُرى. ولمن يلتزم الجمعة شرائطُ سنذكرها إن شاء الله، وإنما غرض الفصل ذكر من يبلغه النداء، ومن لا يبلغه، وضبط القول هذا في الفن. 1358 - فأما أهل المصر إذا كانوا على الكمال الذي سنصفه، فيلزمهم الجمعة، وإن كثروا، وكان نداء الجامع لا يبلغهم؛ فإنه إذا كان المصر جامعاً لهم، لزمتهم الجمعة، مع استجماع الخصال التي سنذكرها. 1359 - فأما أهل القرى، فكل قرية ذاتِ بنيان، اشتملت على أربعين، على الصفات المرعية، لزمهم أن يقيموا الجمعة، فإن كانوا على القرب من البلدة، وكان صوت نداء مؤذن الإمام يبلغهم، فأرادوا أن يحضروا البلدة، فلهم ذلك، فيقيمون الجمعة في البلدة، والأوْلى أن يقيموها في قريتهم؛ حتى تكثر الجُمَع في القرى، فإن كانت القرية لا تشتمل على الأربعين من أهل الكمال، نُظر: فإن كان نداء البلدة لا يبلغهم، لم يلزمهم الجمعة، فلا يقيمونها في موضعهم؛ فإنّ ذلك غيرُ ممكن، ولا يلزمهم أن يحضروا البلدة. ومعتمد الشافعي في هذه القاعدة ما رواه عمرو بن العاص عن النبي عليه السلام أنه قال: "الجمعة على من يسمع النداء" (2).

_ (1) ر. المختصر: 1/ 130. (2) حديث: "الجمعة على من يسمع النداء" رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير: "بإسناد ضعيف". وقال الحافظ: "واختلف في رفعه ووقفه"، قال ابن الملقن: "وقفه هو الصحيح". ورواه البيهقي من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (ر. أبو داود: الصلاة، باب من تجب عليه الجمعة، ح 1056، البيهقي: 3/ 173، خلاصة البدر المنير: 1/ 217 ح 760، تلخيص الحبير: 2/ 66 ح 652).

1360 - وضبط المذهب من طريق المعنى أن المصير إلى الجامع إجابة للداعي، فكان المرعيُّ فيه سماعَ النداء، وقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] مشعرٌ باعتبار النداء. ثم قال أئمتنا: إذا أردنا أن نعتبر سماع النداء، فرضنا كونَ المنادي في جهة القرية الذي نُريد اعتبارَ أمرها، ونُقدّره على طرف البلدة في تلك الجهة، ثم نُقدر رجلاً يعدّ صيّتاً عُرفاً، فإذا نادى في جنح الليل عند زوال اللغط، وسكون الأصوات، وركود الهواء، اعتبرنا بلوغ صوته على هذا الوجه، ولا بد من اعتبار سكون الرياح؛ فإن الريح إذا كانت تهب من نحو البلد إلى جهة القرية، فقد يبعد بلوغ النداء بعداً مسرفاً؛ لمكان الريح، ولا يكون هذا بلوغَ النداء، بل هو حملُ الريح للصوت، وإن كانت الريح تهب من جهة القرية إلى البلدة، فإنها تدفع الصوتَ وتمنعه من النفوذ، فلا يكون قصورُ الصوت بسبب بعد القرية. وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يعتبر وقوفَ المنادي في وسط البلدة، وهذا ساقط، غيرُ معتبر؛ فإن البلدة في اتساع خِطتها وكبرها، قد تكون بحيث لو وقف المنادي في وسط البلدة، لم يبلغ صوتُه الأطرافَ، فضلاً عن أن يتعداها إلى قُراها. فإن قيل: لم لَمْ تعتبروا النداء في أهل البلدة؟ قلنا: البلدة بجملتها موضع الجمعة، فلا قُطر فيها إلا ويمكن إقامة الجمعة فيه، ونحن إذا كنا نراعي في القرى بلوغَ النداء، نعتبر موقف المنادي على الطرف في تلك الجهة؛ فما من جادّة معدودةٍ من البلد، إلا ويتأتَّى فيها فرض وقوف المنادي. فأهل البلدة داخلون تحت النداء المقدّر، فهذا واضحٌ. وكان شيخي يقول: لو فرضت قريتان في جهةٍ واحدةٍ، وكانت إحداهما في وهدةٍ، وكان النداء لا يبلغها لذلك، وكان يبلغ القريةَ الأخرى الموضوعة على الاستواء، وهي في مثل مسافة القرية الأولى، فيجب على أهل القرية الموضوعة في الوهدة الجمعةُ، نظراً إلى المسافة في الاستواء، ومصيراً إلى أنهم في محل سماع النداء، ولكن انخفاضَ قريتهم مانع من السماع.

ثم لو كان النداء يبلغُ بعضَ من في القرية، لزمت الجمعةُ أهلَ القرية، ولو كان فيهم من جاوز العادة في حدّة السماع، وكان متميزاً عن الناس بزيادة ظاهرة، كما يحكى من حدةِ بصر زرقاء اليمامة، فلا تعويل على سماع من ينتهي إلى هذا الحد. فصل 1361 - ذكر الأئمة شرائطَ الجمعة على الجمع، وهي خمسة: عدد، ودارُ إقامةٍ، وجماعة، ووقت، وخطبتان. وهذه الأشياء ستأتي مفصلة إن شاء الله. 1362 - فأهونها تفصيل القول في دار الإقامة، فنقول: لو سكن طائفة في طرفٍ من البادية، وكانوا أصحاب خيام وأخبيةٍ؛ فإنهم لا يقيمون الجمعة، ولو أقاموها، لم تصح منهم، والإقامة التي عزموا عليها، لها أحكام من انقطاع الرخص المتعلقة بالسفر وغيره، ولكن الإقامة المشروطة في صحة الجمعة هي إقامة في الأبنية التي لا تُحوّل، والخيام مهيأة للنقل، فلا تكمل الإقامة بها، فإذاً صحةُ الجمعة تستدعي موضعاً فيه أبنية. وقال العراقيون: لو كانت القريةُ من سعف وجريد وخشب وكانت بحيث لا تنقل، فهي من جملة الأبنية، وهكذا تُلفى معظم القرى في الحجاز، والمعتبر ألا تكون الأبنية بحيث يُعتادُ نقلُها. ثم لو أقيمت الجمعة خارجةً من خِطة البلد في موضعٍ، لو برز إليه الهامُّ بالسفر، لاستباح رخص المسافرين، فلا يصح، بل شرطُها أن تقام في خِطة البلد، ولا يضر إقامتها في عَرصة معدودة من الخِطة غيرِ خارجة منها؛ فإن الجماعة إذا كثرت، فقد يعسر اجتماعها في كِن. وأما صلاة العيد فسيأتي أن الأوْلى البروز فيها إلى الجبَّانة (1)، والسبب فيه أن الإقامة أولاً ليست مشروطة في إقامتها، ولا دارَ الإقامة، ثم يشهدها الخيّالة

_ (1) الجبانة: الصحراء. (المعجم).

والركبان، والرجالة، وأخيافُ الناس (1)، ويتعذر اجتماعهم في غير جبّانة، فهذا بيان دار الإقامة. 1363 - ثم نبتدىء بعدها تفصيل القول في العدد، فمذهب الشافعي أن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين. وقد اختلف مذاهبُ السلف في ذلك، وحكى صاحب التلخيص قولاً عن القديم أن الجمعة تصح ابتداء من ثلاثة، والإمام ثالثهم، وقد بحث الأئمة عن كتب الشافعي في القديم، فلم يجدوا هذا القول أصلاً، فردّوه. ومعتمد الشافعي في هذا العدد ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: "مضت السنة أن في كل أربعين، فما فوق جمعة" (2)، واستأنس الشافعي بمذهب عمر بن عبد العزيز (3). ثم قاعدة الشافعي في مسائل الجمعة تدور على شيءٍ، وهو أن صلاة الجمعة مغيرة مخالفة للظهر في سائر الأيام، وهي على صورة صلاة ظهر مقصورة في الإقامة، وقد تمهد في الشرع أنه يُراعَى كمالٌ في الموضع من المقيمين، واجتماعُ شرائط، فالأصل إتمام الصلاة، إلا أن يثبتَ ثَبَت. والجمعة أيضاً جمع الجماعات، ولذلك لا تقام في وقتها جماعة أخرى، فلا بدّ من اعتقاد كثرة، ثم إذا وجدنا مستمسكاً في التقدير ابتدرناه. فهذا بيان قاعدة المذهب. وإذا بعد الاكتفاء بأقل جماعةٍ وأدنى جماعة، ولم يشترط أحدٌ كثر من الأربعين، وانضم إليه اعتبار الأقصى، والاحتياط، كان ما ذكره الشافعي غايةَ الإمكان في ذلك. ثم اختلف أصحابنا في أنا هل نشترط أن يكون إمام الجماعة الحادي والأربعين، أم

_ (1) أخياف الناس: أي مختلف الناس، وضروبهم وأشكالهم. (المعجم) والمراد هنا جميع الناس: صغارهم وكبارهم، رجالهم ونساؤهم، أحرارهم وعبيدهم. (2) حديث جابر: "مضت السنة ... " رواه الدارقطني، والبيهقي. وفيه مقال. (ر. الدارقطني: 2/ 4 باب العدد في الجمعة، والبيهقي: 3/ 177، والتلخيص: 2/ 55 ح 622). (3) ر. سنن البيهقي: 3/ 171، فقه عمر بن عبد العزيز: 55.

يكفي أن يتم به الأربعون؟ ولعل الأظهر أنه يُعَدّ من الأربعين؛ فإن الذي اعتمدناه في ذلك لم يفصل الإمامَ عن المقتدين، والله أعلم. ثم يشترط أن يكون الأربعون على صفات، فينبغي أن يكونوا ذكوراً، بالغين، عاقلين، [أحراراً] (1)، مقيمين، إقامة، لا يظعنون شتاء ولا صيفاً، إلا أن تعِنَّ حاجة، فلو كانوا يرحلون على اعتيادٍ شتاء، أم صيفاً، وينتقلون إلى موضعٍ آخر، فليسوا مقيمين في هذه البقعة، فلا تنعقد الجمعة بهم. 1364 - والآن يتصل بفصل العدد مسألة الانفضاض. وفي كتاب الجمعة ثلاثُ مسائل منعوتة في الفقه، إحداها الانفضاض، والأخرى الازدحام، والثالثة الاستخلاف. 1365 - فأما مسألة الانفضاض: فالقول فيها يتعلق بالانفضاض في أثناء الخطبة، أو بعدها وقبل عقد الجمعة، ثم إذا نجز هذا، تعلق التفصيل بالانفضاض بعد التحرّم بالصلاة. فنقول: أولاً - أجمع أئمتنا أن العددَ المرعيَّ وهو الأربعون في عقد الصلاة مرعيٌ معتبر في الاستماع إلى الخطبة، فما لم يستمع الأربعون على نعوت الكمال، لم يُعتدّ بالخطبة، ثم للخطبة أركان على ما سيأتي إن شاء الله، فلو جاء بركن منها، ثم استمعوا، ثم انفضوا، فإن سكت الخطيب حتى عادوا، وقد عادوا على قربٍ، قبل تخلل فصلٍ طويل، فاندفع في بقية الخطبة، جاز، وصح بلا إشكال، ولو تمادى في الخطبة، وهم منفضون، وما كان بقي منهم أربعون، فالركن الذي جاء به في انفضاضهم، لا يحتسب، ولا يعتد به قولاً واحداً، ونقصانُ واحدٍ من الأربعين، كانفضاض الجميع. وسيأتي في الانفضاض في الصلاة أقوالٌ، منها: أن نقصان العدد بعد عقد الصلاة غيرُ ضائر، ولا يخرّج هذا في الخطبة باتفاق الأئمة، ولم تختلف الطرقُ فيه. والفرق أنا وإن شرطنا الجماعة في الجمعة، فكل مصلٍّ يصلي لنفسه، فإن كان يتسامح

_ (1) زيادة من: (ت 1).

متسامح في نقصان العدد في أثناء الصلاة، فله خروج على هذا الأصل، فأما الخطبة، فالغرض منها استماع الباقين ووعظهم وتذكيرهم؛ فما جرى، ولا مستمعَ، أو مع نقصان عدد المستمع، فقد عُدمَ أصلُ مقصود الخطبة. ولو سكت الإمام، لما انفضّ القوم، فطال الفصل، فعادوا بعد تخلل الفصل الطويل، فهل يبني الخطيبُْ على الخطبة؟ ذكر معظم الأئمة قولين في ذلك، وخرّجوهما على قولين في أن الموالاة هل تشترط في الخطبة؟ وطردوا القولين فيه إذا لم ينفض القوم، ولكن سكت الخطيب سكوتاً طويلاً، تنقطع بمثله الموالاة، فهل يلزمه إعادة الخطبة؟ فعلى قولين. 1366 - ولو انفض القوم بعد الخطبتين، ولم يتحرّم الإمام حتى عادوا، وما عادوا إلا بعد طول الفصل، فإذا عادوا ففي المسألة القولان المذكوران، فإن قلنا: الموالاة ليست مشروطة، تحرّم بالصلاة وتحرموا، ولم يضرّ ما جرى، إذا وسع الوقتُ الصلاةَ، كما سنذكر الوقت وما يتعلق به إن شاء الله. وإن حكمنا باشتراط الموالاة، فقد بطلت الخطبتان، فإن أعادهما على قربٍ، وتحرّم وتحرّموا، ووسع الوقت، جاز ذلك. وإن لم يُعد، فقد قال الشافعي: "أحببت أن يعيدَهما، ولو لم يُعدهما، لم تصح الجمعة"؛ فقوله: "أحببتُ" أثار خلافاً بين الأصحاب، فقال قائلون منهم: يجب عليه الإعادة، ووجهه أن ذلك ما (1) تصح به الجمعة، فعليه التسبب إليه، والسعي في تحصيله؛ إذ هو ممكن، وهو متمكن. وذهب آخرون إلى أنه لا يجب عليه ذلك؛ فإنه قد فعل ما عليه. وفائدة الخلاف أن صلاة الجمعة إذا لم تصح بسبب امتناعه عن إعادة الخطبة، فالذنب في وجهٍ محالٌ على الخطيب في ترك الإعادة، وهو في وجه محال على القوم؛ فإنهم بانفضاضهم جرّوا هذا، وهو قد أدى ما عليه من الخطبتين مرة، وسبب إبطالهما تفرقُهم وطول الفصل.

_ (1) (ما) هنا موصولة بمعنى الذي، وهي خبر (أن).

فهذا تفصيل القول في الانفضاض في الخطبة، أو بين الفراغ منها وبين التحرّم بالصلاة. 1367 - فأما إذا تحرم بالصلاة وتحرموا، ثم انفضوا، ونقص العدد المشروط، فالنصوص مختلفة جداً، وحاصل الضبط أنه اختلف قولُ الشافعي، أولاً، فقال في قول: يشترط في صحة الجمعة بقاء الأربعين على شرائطهم معه من أول الصلاة إلى آخرها، وهذا يتيسرُ توجيهه؛ فإن العدد مرعي في هذه الصلاة، فإذا اختل في جزء من الصلاة، فقد تخلف شرط الصحة، فلا جزءَ من الصلاة، إلا والجماعة الكاملة شرطٌ فيه، وهذا كالوقت؛ فإنه لما كان شرطاً، لا جرَمَ، قيل: لو وقع التسليم وراء الوقت لم تصح الجمعة، وتعين إقامة الظهر قضاء، فكما نشترط الوقت في دوامه، فكذلك نشترط دوامَ العدد التام. والقول الثاني - لا نشترط بقاء تمام العدد؛ فإنهم إذا حضروا أولاً وصح عقدُ الصلاة، فالتزام ضبطهم عسِر، وشرطهم في الابتداء يتعلق باختيار الإمام؛ فإنه لا يتحرم ما لم يحضروا، ورب شيء يُشترط في الابتداء، ولا يشترط دوامه، كالنية؛ فإنها لو عزبت بعد العقد، لم يضر عزوبها. التفريع - 1368 - إن حكمنا أن دوام العدد شرط من الأول إلى الآخر، فلو سمع الخطبةَ أربعون على الشرط وتحرموا، ثم انفضوا، وتحرم بعدهم أربعون، فقد بطلت الصلاة؛ فإن هذا مفروض فيه إذا انفض السامعون، ثم تحرّم اللاحقون. ولا يفرض خلاف أنه لو انفضَّ السامعون، وحضر أربعون آخرون، فتحرم بهم، لم تصح الجمعة، فإن الشرط أن يقع العقد بأربعين سمعوا الخطبة. فأما إذا تحرم السامعون، وتحرّم بعدهم في الركعة الأولى أربعون ما سمعوا الخطبة، ثم انفض السامعون، وثبت اللاحقون، فلا تبطل صلاة الجمعة؛ فإن العدد لم ينقص، وما انفض السامعون حتى تبعهم اللاحقون، وإذا تبعوهم، صاروا في حكم واحد، فإذا ثبتوا، استقلّت الجمعة بهم، وإن انفض السامعون، وكان هذا كما لو سمع ثمانون وتحرّموا، ثم انفضَّ منهم أربعون، وثبت أربعون.

1369 - وهذا يتطرق إليه عندي احتمال، إذا شرطنا بقاء العدد التام في جميع الصلاة، [فلا] (1) يمتنع أن نقول: يُشترط بقاء أربعين قد سمعوا الخطبة. فأما إذا قلنا: لا يُشترط بقاءُ العدد الكامل، فهل يُشترط أن تبقى الجماعة؟ أم لو انفرد الإمام وحده، صحت جمعته من غير بقاء مُقتدٍ؟ فعلى قولين: أحدهما - لا بد من بقاء الجماعة، وذلك بألا ينفضَّ كلُّهم، وهو المنصوص عليه. والقول الثاني - أنه لو بقي وحده، صحّت الجمعة، وهو وإن كان منقاساً، فهو مخرّج ووجهه أن بقاء العدد الكامل إذا لم يكن شرطاً، فلا أثر لبقاء أحد من المقتدين، فإن قلنا: تصح صلاته وحده، فلا كلام، وإن قلنا نشترط جمعاً، فعلى هذا القول قولان منصوصان: أحدهما - لا بد من ثلاثة والإمام الثالث؛ فإن هذا هو الجماعة المطلقة. والقول الثاني - أنه يكفي مقتدٍ واحد؛ فإنّ هذا أقلُّ مراتب الجماعة، فهذا بيان الأقاويل: المنصوص عليها، والمخرج منها. 1370 - وقال المزني: إن انفضوا في الركعة الأولى، ونقص العدد المرعيُّ، بطلت جمعة الإمام، ومن بقي معه، وإن انفضوا في الركعة الثانية، صحت جمعة الإمام، وإن كان وحده واستشهدَ عليه بالمسبوق؛ فإنه إذا أدرك ركعةً، صلى الجمعة، فيقوم عند تحلل الإمام إلى الركعة الأخرى، وإن لم يدرك ركعة، لا يكون مدركاً للجمعة. وهذا الذي ذكره قياس لا بأس به، وقد عدّ معظم أئمتنا هذا قولاً مخرجاً للشافعي، فالتحق بالأقوال المقدمة، وقد أورده المزني إيراد من يبغي تخريج قول للشافعي، فكان كما قدره. ومن أباه، قال: المقتدي المسبوق إذا تبع الإمامَ في الإدراك، لم يبعد؛ فإنّ وضع الشرع على اتباع المقتدي للإمام، فأما أن يقال: إذا صلى الإمام ركعة مع

_ (1) في النسخ الثلاث: "ولا" والمثبت من (ل).

العدد، فقد أدرك الجمعة، وإن انفرد في الركعة الأخرى، فهذا في التحقيق حكم بأن الإمام يتبع القوم، وهذا فيه بعد؛ فإن المسبوق مع إمامه صحت له جمعة تامة، والقوم إذا انفضوا في الركعة الثانية، لم تصح لهم جمعة، فالإمام إذاً يتبع قوماً لم تصح جمعتهم، فهذا وجه الكلام في ذلك. فرع: 1371 - إذا قلنا: لا بد وأن يبقى مع الإمام واحد، أو اثنان، فالظاهر أنا نشترط أن يكونا على الكمال المرعي المشروط؛ فإن الكامل هو الذي يراعى أوّلاً، فليراع آخراً. وذكر صاحب التقريب احتمالاً في أن من بقي لو كان عبداً أو مسافراً، جاز؛ فإن المرعي في الابتداء العددُ الكامل، فاشترطنا عدداً كاملاً، واشترطنا كمالاً في كل واحد، فإذا اكتفينا آخراً باسم الجماعة، فلا يبعد ألاَّ نشترط الكمال، وهذا مزيف غير معتد به. فرع: 1372 - قال شيخي: إذا تحرم الإمام بالصلاة، فتباطأ المقتدون، ثم أحرموا، فقد قال القفال: الضبط المرعي فيه، أنه إذا أدرك الإمامَ أربعون في الركوع، صحت الجمعة، وإن رفع رأسه ثم تحرموا، فلا جمعة، ثم قال: الوجه أن نشترط ألا ينفصل تحرمهم بالصلاة عن تحرم الإمام بما يعد فصلاً طويلاً، وهذا الذي ذكره حسن بالغ. ويجوز أن يقال: ينبغي أن يتحرموا بحيث لا يسقط عنهم من القراءة شيء، ولا يثبت لهم حكم المسبوق؛ فإنهم لو أدركوه في الركوع، فحكم ذلك حيث يصح سقوط القراءة، وهو من أحكام المسبوقين، وإن أدركوه في بعض القيام بحيث لا يتأتى منهم إتمام القراءة، فهذه صورة الاختلاف فيما يفعله المسبوق، فلا يجوز الانتهاء إلى هذا الحدّ في التأخر. فإذاً ما ذكره القفال إدراك الركعة، وما ذكره شيخي النظر إلى التطويل، وما ذكرتُه ثبوت أحكام المسبوقين. فهذا منتهى القول في الانفضاض.

مسألة [الزحام] (1) 1373 - الزحام: يتصوّر في سائر الصلوات، وإنما يذكر في هذا الكتاب (2) لاجتماع وجوه الإشكال فيها (3)؛ فإن الجماعة في هذه الصلاة مستحقة، ومن أسباب الإشكال أن من عسر عليه إقامة الجمعة، ففي بناء الظهر على الجمعة تردد، مبني على أن الجمعة ظهر مقصورة أم لا، ثم في إقامة الظهر قبل فوات الجمعة اختلافُ قولٍ سنذكر قدر الحاجة منه في أثناء المسألة، ثم نبيّنه مفرداً في فصلٍ، وكان شيخي مولعاً بهذه المسألة وجمع فيها كلَّ ما قيل من الوجوه الضعيفة، مخالفاً عادته في ذكر الضعيف من الوجوه، ونحن نسرد طريقته على وجهها، ونذكر في أدراج الكلام التنبيه على التحقيق، فنقول مستعينين بالله: 1374 - إذا زُحم الرجل على السجود في الركعة الأولى، فأول ما فيه (4 أنه إن تمكن من وضع الجبهة على ظهر إنسان على شرط إقامة 4) هيئة السجود، فعل ذلك، وإنما يتأتى هذا بأن يفرض موقف المزحوم مستعلياً حتى يتأتى التنكس منه. فإن تعذر عليه إقامةُ الهيئة المشروطة، فقد ذكر شيخي ثلاثةَ أوجه: أحدها - أنه يأتي بالسجود، ويأتي بأقصى الإمكان فيه، كالمريض يومىء بالسجود على قدر الإمكان. والثاني - لا يفعل ذلك، ولا يعتد بما يأتي به من إيماء، ولكن ينتظر التمكن من السجود، وانجلاء الزحام. والثالث - يتخيّر بينهما. وهذا يُضاهي صلاة العاري قاعداً مومياً، أو قائماً متماً للأركان، أو متخيراً بينهما. ولست أرى لما ذكره وجهاً، ولم يتعرض لهذا أحد من أصحابنا؛ فالاقتصار على

_ (1) زيادة من المحقق. (2) المراد كتاب الجمعة. (3) كذا بتأنيث الضمير، وله وجه لا يخفى عليك. (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

الإيماء خارج عن القانون، لا أصل له، وتشبهه بالمريض ساقط؛ فإن هذا مما يندر ولا يدوم، وتمكن المصلي من السجود قائم، والاستئخار عن الإمام بأركانٍ أقرب من الاقتصار على الإيماء في ركن لا يتطرق إليه التحمل، فإذاً الوجه القطع بألا يومىء، ولكن ينتظر ما يكون ثم يتفرع صور في انتظاره، وفيما يُفضي إليه أمره. كما ستأتي مفصلة إن شاء الله. قال الشيخ أبو بكر: هذا من الأعذار التي يجوز بسببها الانفراد عن الإمام، وقد ذكرنا فيما تقدم أن من التزم الجماعة، وانفرد عن الإمام من غير عذر، ففي بطلان صلاته قولان، وإن كان انفرادُه بعذر، فالمذهب صحة الصلاة، فقال الصيدلاني: إذا وقعت الزحمة، وأحوجت إلى التخلف عن الإمام، فيجوز بسببها نية الانفراد. 1375 - وهذا فيه تفصيل عندي: فإن فُرض الزحام في غير صلاة الجمعة، فما ذكره متجه حسن. وإن كان الزحام في صلاة الجمعة، فيظهر عندي منعه من الانفراد؛ فإن إقامة صلاة الجمعة واجبة قصداً، فإخراج النفس عنها قصداً، ليس يتجه، وقد رأيت الطرق متفقة على أن التخلف بعذر الزحمة لا يقطع حكمَ القدوة على الإطلاق. ولو صار إليه (1) صائر؛ من جهة أن الاتباع -على شرط الوفاء بالقدوة عند الاختيار- متعذر، وإذا تعذر تحقيق الاقتداء فعلاً، وأحوج الازدحام إلى التخلف بأركان، فلو قيل: ينقطع حكم نية القدوة، لم يكن بعيداً عن القياس. ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، والمذهب نقل، وأنا لا أعتمد قط احتمالاً إلاّ إذا وجدت رمزاً وتشبيباً لبعض النقلة. 1376 - فإذا وضح ذلك، عُدنا إلى البناء على ما هو المذهب، وهو أنه إذا عسر عليه السجود لا يومىء، بل ينتظر انجلاءَ الزحام، فإذا قام الإمام إلى الركعة الثانية، وتمكن المزحوم من السجود، فسجد سجدتين، ورفع رأسه، فإن صادف الإمام

_ (1) "إليه" الضمير يعود إلى قطع حكم القدوة بالتخلف، فكان العبارة: لو صار صائر إلى أن حكم القدوة ينقطع بالتخلف، لم يكن بعيداً عن القياس، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب.

قائماً، وقام وقرأ وأتى بالركعة الثانية (1 مع الإمام، فهذا قد أدرك الجمعة بكمالها، وما جرى من التخلف بعذر الزحام، فهو محتمل باتفاق الأئمة. وإن رفع رأسه من السجود، فصادف الإمام في الركوع من الركعة الثانية، فقد اختلف أئمتنا فيه، فمنهم من قال: يبتدر الركوع ابتدار المسبوق، فإذا أدرك الإمام فيه، فقد أدرك الركعة الثانية 1) وتمت له الأولى، وتسقط القراءة عنه في الركعة الثانية؛ لأنه معذور في تخلفه، ولأجل ذلك سقطت القراءة عن المسبوق. ومنهم من قال: لا يركع مع الإمام، بل يشتغل بالقراءة؛ فإنه ليس بمسبوق، وإسقاط القراءة عن المسبوق في حكم رخصة معدولة عن القياس، فلا يتعدى بها مواردها. فإن قلنا: يقرأ، فلا يقطع القدوة، بل يقرأ ويتبع الإمام جهده، ويركع، ويجري على ترتيب صلاة نفسه، رابطاً قلبَه بلحوق الإمام، ويكون مدركاً للركعة الأولى والثانية على حكم الجماعة، وإذا ساغ التخلف بسبب الزحمة بأركانٍ لا يجوز التخلف بها اختياراً، فلا فرق بين أن يزيد ذلك أو ينقص، ثم إذا جرى ذلك، فهو مقتدٍ، ولو سها، كان الإمام حاملاً لسهوه، فهذا إذا أدرك الإمامَ راكعاً. ولو أدركه قائماً، لم يركع بعدُ، فإن لم يتمكن من إتمام القراءة، وركع الإمام، فقد ذكرنا أن المسبوق في هذه الصورة يتم القراءة، أم يبادر الركوع؟ وهذا مضى مفصلاً في موضعه. 1377 - فإذا رفع المزحومُ رأسه من السجود، والإمام في بقية من القيام لا يسع تمام الفاتحة، فإذا قرأ ما قدر عليه وركع الإمام، فهذا يترتب على ما إذا صادف الإمام راكعاً، فإن قلنا ثَمَّ: يقرأ، فهاهنا يقرأ لا محالة، ويجري على ترتيب صلاة نفسه. وإن قلنا: يركع كما يركع المسبوق، ففي قطع القراءة ومبادرة الركوع الخلاف المذكور في المسبوق مع ترتيب. والفرق واضح. ثم الذي يقتضيه القياس، أنا إذا جوزنا له التخلف، وأمرناه بالجريان على ترتيب

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

صلاةِ نفسه، فالوجه أن يقتصر على الفرائض، فعساه يدركُ إمامَه، ويُحتمل أن يسوغ له الإتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط. وقد ذكرنا نظير هذا في المسبوق إذا أدرك الإمام في بقية القيام، فاشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوّذ. 1378 - ولو رفع المزحوم رأسه عن السجود في الركعة الأولى، فوجد إمامه رافعاً رأسه عن الركوع، فقد انتهى في هذه الركعة إلى موضع لو أدركه مسبوق، لم يصر مدركاً للركعة، فكيف المزحوم؟ قال شيخي: إن قلنا: لو أدركه في الركوع، ابتدر، فركع، فِعْلَ المسبوق، فحكمه في هذه الصورة حكمُ المسبوق. ولو أدرك المسبوقُ الإمام رافعاً رأسه، فاقتدى، تابعه في بقية [الركعة] (1)، ولم تكن محسوبةً، كذلك المزحوم على هذا الوجه: يرتفع، ولا يقرأ، ولا يركع، ويتابع الإمام في بقية الركعة، ولا تحتسب له الثانية، والأولى محسوبة، وإذا تحلل الإمام، قام وصلى ركعة أخرى، وقد تمت له الجمعة. وإن قلنا: لو أدرك الإمامَ راكعاً، لم يركع واشتغل بالقراءة، جرى على ترتيب صلاته، ويكون مدركاً للركعة الثانية أيضاً. 1379 - وقد رأيت الطرقَ أشارت إلى أنه إذا صادف الإمامَ رافعاً رأسه من الركوع، فليس له إلا اتباعُ الإمام، ولو جرى على ترتيب صلاة نفسه، لم يكن مدركاً للركعة الثانية، وإذا لم يكن مدركاً للثانية، فجريانه على ترتيب صلاة نفسه مبطل لصلاته؛ فإنها زيادات غير محسوبة، وليس هو جارياً فيها على حكم متابعة، ولا يتصور الانفراد بصلاة الجمعة، والإمام بعدُ في الصلاة فتتعين المتابعة، وهذا حسن، فكأنه إنما يجوز الاقتفاء، والاتباع، والتشوف، إلى اللحوق، ما لم يفرط تقدمُ الإمام، فكأن هذا القائل يقول: إذا صادفه المزحوم في الركعة الثانية على محلٍّ يدرك المسبوقُ بإدراكه الركعةَ، فهذا قريب في حق المعذور، فيتّجه إما اتباعه حيث

_ (1) في النسخ الثلاث: الركوع. والمثبت تقدير منا لاستقامة المعنى. (ومن عجب جاءت (ل) بنفس الخلل).

صودف، وإما الجريان على ترتيب الصلاة، ثم هو يدرك الركعة الثانية في الجهتين جميعاًً. وإن صادفه في الركعة الثانية في محلٍّ لو أدركه مسبوق، لم يصر مدركاً للركعة، فلا يصير المزحوم مدركاً للركعة الثانية؛ فإنه قد أفرط التخلف. 1380 - ورأيت تفريعاً على هذه القاعدة به تمام البيان وكشفُ الغطاء: وهو أن المزحوم لو لم يتمكن من تدارك السجود، ولا من متابعة الإمام في الركعة الثانية، حتى رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم تمكن من السجود، وقد بلغ التخلفُ هذا المبلغ، فلا يصير مدركاً للجمعة، وإن سجد عن الركعة الأولى؛ فإن التخلف جاوز الحدّ، وكأن هذا القائل يقول: تقدُّمُ الإمامِ [بركنٍ أو ركنين، والمقتدي مختار غير ممنوع، يقطع القدوة على التفصيل المقدّم، وإن كان مزحوماً معذوراً، فإذا تقدم الإمام] (1) بما يُدرك به الركعة الثانية، فهذا مع العذر يقطع القدوة، فتفوت الصلاة. فهذا مسلك، والمشهور ما قدمته من طريقة شيخي. 1381 - ولو رفع الساجد رأسه، والإمام في التشهد، فهو كما لو صادفه رافعاً رأسه من الركوع. وليس بعد ذلك تفصيل؛ فإن تقدير الإدراك قد فات برفع الرأس من الركوع، فإذا صادف الإمام في الصلاة، وقد فات محل إدراك المسبوق، فيستوي التفريعُ بعد هذا. 1382 - ولو رفع المزحوم رأسه من السجود، فسلّم الإمامُ، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة: أنه يصلي ركعةً ويضمها إلى الأولى، ويصير مدركاً للجمعة. ثم ذكر شيخي اختلافاً في أنه هل يثبت له في هذه الركعة حكم المقتدي، حتى كأنه مقتفٍ لإمام سابق له بأركان، وفائدة تقديره مقتدياً، أنه لو سها يكون سهوه محمولاً. وهذا بعيد لا أصل له، وكيف يقدّر الاقتداء حكماً، وتحقيقاً بمن ليس في الصلاة.

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1).

ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك أن الإمام لو سلم قبل أن يرفع المقتدي رأسه من السجود الذي زُحم عنه، فقد قال الأئمة: لا يكون مدركاً للجمعة؛ فإن الإمام فارقه قبل إقامة ركعة كاملة، ومن أبعد فأثبت الاقتفاء الحكمي لا يثبته هاهنا؛ فإن ذلك الاقتفاء تبعٌ، لجريان ركعة تامة على تحقيق القدوة. فهذا منتهى القول في قسم واحد من المسألة، وهو أن يسجد المزحوم والإمام في قيام الركعة الثانية، ثم تنقسم الأحوال عند رفعه رأسه كما سبق. 1383 - فأما إذا دامت الزحمةُ حتى ركع الإمامُ في الركعة الثانية، فإذ ذاك تمكن من استدراك ما فاته من السجود، وتصدى له إدراكُ الركوع في الركعة الثانية، فما يفعل والحالة هذه؟ للشافعي قولان فنصوصان: أحدهما - أنه يشتغل بتدارك ما فاته؛ فإن رعاية الترتيب في الصلاة محتومة، وهذا المزحوم قد ركع متابعاً في الركعة الأولى، ولو ركع مرة أخرى، لكان موالياً بين ركوعين في ركعة واحدة، وقد يلزم الرجلَ متابعةُ الإمام ومخالفةُ ترتيب نفسه، ولكن ذلك فيه إذا ابتدأ، فاقتدى وصادف الإمام ساجداً، مثلاً؛ فإنه يهوي ساجداً؛ لأنه التزم المتابعة؛ فلزمه اقتداؤه، وهذا ابتداء الاقتداء، فأما المسألة التي نحن فيها، فقد تابع في الركوع الأول، فيلزمه بحكم ذلك الركوعِ وترتيبِه أن (1) يسجد، فإن أمرناه بالركوع، خالف ذلك الترتيبَ. والقول الثاني - أنه يركع مع الإمام؛ فإن الركعة الأولى قد (2) بعُد تدارك ترتيبها، وأفرط التخلفُ عن الإمام، وإذا عسُر ذلك متصلاً، فلا وجه إلا مبادرة الركوع على اعتقاد أن هذه ركعةٌ جديدة، اتفقت مصادفة الإمام فيها، وقد يتعلق تمام الغرض في التوجيه بالتفريع. فإن قلنا: إنه يركع مع الإمام، فلا يخلو إما أن يوافق، فيركع كما أمرناه، وإما أن يخالف، فيسجد ويتدارك ما فاته في الركعة الأولى، فإن ركع وتمادى مع الإمام، حتى يؤدي الركعة الثانية مع الإمام، فقد أتى بركوعين أحدهما في الركعة الأولى،

_ (1) جملة " أن يسجد " فاعل "فيلزمه". (2) في الأصل: وقد (بزيادة الواو).

والثاني في الثانية، فالمحسوب أيهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن المحسوب هو الأول؛ فإنه أتى [به] (1) على حكم القدوة، وكان معتداً به، فلا ينبغي أن ينقلب عما جرى. والثاني - أنه لا يعتد إلا بالثاني، فإنا بطول تدارك الركعة الأولى، وعُسْر الأمر فيها، كأنا رفضنا تلك الركعة من البَيْن (2)، وقدرنا المزحوم كأنه أدرك هذه الركعة ابتداء، وأدرك الإمام في ركوعها. فإن قلنا: المحسوب الركوع الثاني، فيصير مدركاً للجمعة، وإذا تحلل الإمامُ يقوم، ويصلي ركعة أخرى، وإن قلنا: المحسوب الركوع الأول، وإنما نأمره بالثاني لصورة المتابعة، فيحصل له في ظاهر الأمر ركعة ملفقة، ركوعها في الأولى وسجودها في الثانية، فهل نجعله مدركاً للجمعة بركعة ملفقةٍ؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يصير مدركاً، فيقوم إذا سلم الإمام، ويصلي ركعة أخرى. والثاني - أنه لا يصير مدركاً للجمعة؛ لأنه لم يحسب له مع الإمام ركعة متوالية الأركان، والجماعة على نظامها، وهو ركن الجمعة. التفريع على هذين الوجهين: 1384 - إن جعلناه مدركاً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يصير مدركاً لها، فتتعارض الآن أصولٌ، لا يمكن التنبيه عليها إلا بعد ذكر رسم التفريع على ما ذكره الأئمة: فإذا لم نجعله مدركاً للجمعة، فهل تحسب له هذه الركعة من صلاة الظهر؟ فعلى قولين: أحدهما - تحسب. والثاني - لا تحسب، وهذا يرجع إلى أن صلاة الجمعة ظهرٌ مقصورة؟ أم هي صلاة على حالها وانفرادها؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما. فإن قلنا: هي محسوبة عن ظهر، فلا كلام. وإن لم نحسبها ظهراً، فهل تنقلب صلاته نفلاً أو تبطل؟ فعلى قولين مبنيين على أصل مشهور جارٍ في مسألة معروفة: وهي أن من نوى فرضاً، ولم يحصل

_ (1) زيادة من (ت 1). (2) المعنى: كأننا رفضنا (تركنا) تلك الركعة، وأخرجناها من السياق بسبب طول تداركها، وعُسْر الأمر في استكمال سجودها.

له ما نواه لتخلف شرط في الفرضية، فهل يحصل له النفل؟ فعلى قولين. هكذا رتب الأئمة التفريع وهذا [مختلٌّ] (1) على هذا النسق عندي؛ فإن قصارى التفريع أدى إلى حكمنا ببطلان صلاته في قولٍ، ويستحيل أن نأمره بشيء ونقدر موافقتَه فيه، ثم نُخرج من تفريعنا عليه بطلانَ عمله رأساً. هذا محال، لا يُعتقد في مساق الكلام. والذي يجب القطع به أنا إذا أمرناه بالركوع، فركع، فيتفرعُّ عليه من نتائج الأصول المزدحمة وجوهٌ: أحدها - أنه مدرك للجمعة، وهو الأصح الذي لا ينقدح في الفقه غيرُه. وهذا ينبني على أحد أصلين، إما أن نقول: المحسوب الركوع الثاني، وإما أن نقول: الجمعة تدرك بركعة ملفقة. والوجه الثاني - أنه تحسب له ركعة من الظهر، وهذا على التلفيق وعلى المصير إلى أن الإدراك لا يحصل معه، والظهر تتأدى بنية الجمعة. والثالث - أنه لا يحصل له جمعة، ولا ظهر، ولكن تحسب له ركعة من صلاة التطوع، وأصل هذا بيّن. فأما أن يخرج وجه رابع أن تبطل صلاته، فلا يعتقد ذلك عاقل، فكأنا نقول: هذا القول وهو: الأمر بالركوع من ضرورته أنه يتفرع على وجه يقتضي الصحة لا محالة وإلا فالأمر بما قصاراه (2) الفساد محال. فهذا كله تفريع عليه إذا أمرناه بالركوع مع الإمام، فركع. 1385 - فأما إذا أمرناه بالركوع، فخالفنا وسجد؛ تلافياً لما فاته، فلا يخلو: إما أن يكون جاهلاً بأنه ممنوع من ذلك، وإما أن يكون عالماً: فإن كان جاهلاً، وظن أن الوجه فعله، فأول ما نذكره أن سجوده الذي يأتي به غير محسوب له، فإن رفع رأسه، والإمام بعدُ في الركوع، فابتدر وركع، فقد عاد تفريعه إلى موجب الموافقة، وعذر فيما صدر منه من السجود لجهله. وإن لم يدرك الإمامَ راكعاً، فقام، وقرأ، وركع، وسجد، مقتفياً، لا مقتدياً

_ (1) في الأصل، (ط): مُخيل. والمثبت من (ت 1)، (ل). (2) في (ل): بما يصير إلى الفساد.

على التحقيق، فلم يأت بالسجود مع الإمام على حقيقة المتابعة، فإذا جرى الأمر كذلك، فقد يطلق ظاهراً أن السجود الذي تداركه أوّلاً إن لم يحتسب، فالذي أتى به في الركعة الثانية ينبغي أن يحسب، ولكن إن قدرنا ذلك، فالمزحوم في هذه الركعة الثانية مقتدٍ حكماً، وليس متابعاً عِياناً، وقد اختلف أئمتنا في ذلك: وأحسن ترتيب فيه، أنا إن قدرنا الاحتساب بالسجود في الركعة الثانية، فقد حصلت ركعة ملفقةٌ: ركوعها من الأولى، وسجودها من الثانية، وهل يحصل إدرك الجمعة بركعةٍ ملفقة؟ فعلى ما تقدم. وإن قلنا: لا يحصل، فنقطع تفريعه الآن، فإن قلنا: يحصل، فهذه ركعة في حكم الاقتداء، لا في حقيقة الاقتداء، وقد اختلف الأئمة في أن الجمعة هل تحصل بحكم الاقتداء لا بحقيقته؟ 1386 - وهذا الآن يستدعي تثبتاً، فنقول: إن سجد المزحوم في قيام الإمام قبل ركوعه -كما تقدم تصويره في صدر المسألة- فقد جرى سجوده، وهو متخلف عن الإمام تخلفاً، لو اختاره، بطلت قدوته، ولكن ذلك القدرَ معفو عنه، لعذر الزحام وفاقاً. وإن لم يسجد حتى ركع الإمام في الثانية، ثم أمرناه بالركوع، فسجد، فلا يعتد بالسجود؛ لأنه خالف به، فلو سجد في الركعة الثانية مقتفياً، لا مقتدياً حساً، فهذا اعتقدوه تخلفاً مفرطاً، فترددوا فيه. وخرج من هذا أن ما يقع قبل الركوع ملحق بالاقتداء الحسي، وإن جرى فيه تخلف لا يحتمل في حالة الاختيار. وما يقع بَعْد فوات الركوع اقتفاءً، فهو في حكم اقتداء حكمي لا عِيانيٍّ. ثم في إدراك الجمعة بمثله الخلافُ الذي ذكرناه. 1387 - ثم من تمام التفريع في الصورة أنا إذا لم نجعله مدركاً للجمعة، فهل يكون مدركاً ركعةً من الظهر؟ فعلى قولين مبنيين على أصلين: أحدهما - أن الجمعة ظهر مقصورة أم لا؟ والثاني - أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة؟ ثم إن صححنا الظهرَ، فيقوم عند

تحلل الإمام، ويصلي ثلاث ركعات، وإن لم نصحح، فهل تبطل الصلاة أم تنقلب نفلاً؟ فيه قولان. فإذاً يخرج في صورة اشتغاله بالسجود على ما رسمناه في الصورة التي ذكرنا مع الجهل أوجه: أحدها - أنه مدرك للجمعة. والثاني - أنه مدرك لركعة من الظهر. والثالث - أنه متنفل، والرابع - أنه تبطل صلاته. وتخريج البطلان لا يبعد إذا خالف ما أمرناه به، وإن كان جاهلاً. فأما طرد وجه البطلان مع أمرنا إياه بشيء وامتثاله إياه، فمحال لا أثر له. وهذا كله فيه إذا أمرناه بالركوع، فسجد جاهلاً، ثم رفع، واقتفى الإمامَ، فقرأ، وركع، وسجد. 1388 - فأما إذا رفع رأسه من الركوع الذي اشتغل به، فلم يأت بالركعة الثانية على اتساقها، ولكن صادف الإمام رافعاً رأسه من الركوع، فتابعه، ووقع له ذلك، فأتى بالسجود في الركعة الثانية على صورة المتابعة في الحقيقة، فقد زال أحد الأصلين في أن حكم الاقتداء هل يكون كحقيقة الاقتداء؟ وتجرد الأصل الثاني في أنه أدرك ركعة ملفقة: ركوعها من الأول، وسجودها من الثاني. 1389 - ثم تمام البيان في هذه الطرق أنه إذا اشتغل بالسجود جاهلاً، والتفريع على أنه كان مأموراً بالركوع، فإذا رفع رأسه من السجود، وصادف الإمام رافعاً عن الركوع، فيؤمر في هذه الحالة أنه يتابع الإمام، ثم تتفرع التفاريع، ولا يخرج على هذا القول وجه أنه مأمور بالجريان على ترتيب الركعة الثانية اقتفاء. فليفهم الفاهم ما نجريه. 1390 - فمما أطلقه على ظن غالبٍ في المسألة، أنه ليس في الزمان مَن يحيط بأطراف هذه المسألة، وتنزيلها على حقيقة الأصول فيها. ومن بدائع معانيها ومبانيها ازدحام الأصول المتناقضة فيها، وهي منشأة من زحام وقع فيها، ومغزاها بعدُ مؤخرٌ، سيأتي ذكرنا عليه إن شاء الله عز وجل.

فهذا إذا أمرناه بالركوع، فسجد جاهلاً. 1391 - فأما إذا سجد وخالف عالماً بأنه مخالف لما هو مأمور به، فنقول في ذلك: إن خالف، وهو مستديم لنية القدوة، غيرَ قاطعٍ لها، بطلت صلاته قطعاً. وإن نوى الخروج عن القدوة، فيزدحم كما ذكرناه أصولٌ متناقضة، منها: أن الخروج عن القدوة، هل يجوز من غير عذر؟ فيه قولان، سبق ذكرهما. فإن منعنا ذلك، فحكمه بطلان الصلاة. والأصل الآخر أنه إذا أراد إقامة الظهر، فهذا ظهر قبل فوات الجمعة، ثم العقدُ كان على نية الجمعة، والجمعة ظهر مقصورة، أم صلاة على حالها؟ فإن أبطلنا صلاته بسبب نية الانفراد، فذاك، وإلا لقِيَنَا أصلٌ آخر يقتضي الإبطال في قول، وهو أن الظهر بنية الجمعة كيف تتأدى، فإن لم يبطل لهذا أيضاً على قولٍ وهو أن الظهر بنية الجمعة كيف تتأدى، فإن لم يبطل لهذا أيضاً على قولٍ، لقِيَنَا أمرٌ آخر، وهو أن الظهر قبل فوات الجمعة هل يصح؟ فإن فرعنا على قول الصحة في كل أصلٍ من هذه الأصول، فقد يُخرّج قول آخر في صحة الظهر، وإن لم نصحح الظهر، فقد يخرّج قول في صحة النافلة. فهذا كله تفريع على أنه مأمور بالركوع، ثم فرضنا فيه الموافقة والمخالفة جميعاًً. 1392 - فأما إذا أمرناه بالسجود وتلافي الفائت، ولم نأمره بالركوع، فلا يخلو إما أن يوافق أو يخالف، فإن وافق، وسجد. ثم رفع رأسه، فلا يخلو إما أن يصادف الإمام راكعاً أو رافعاً، فإن صادفه راكعاً، فيقرأ، ويقتفي، أو يركع ويقتدي؟ قد ذكرنا هذا في صدر الفصل، ونحن نعيده على وجه. فلنبدأ بأنه إذا سجد كما أمرناه، فهل يصير مدركاً للجمعة أم لا؟ ذكر الأئمة وجهين في ذلك؛ من جهة أنه سجد مقتفياً، وكان في سجوده على حكم القدوة، لا على حقيقة القدوة، وقد تقدم ابتداءً أنه لو تمكن من السجود، وانجلى الزحامُ، والإمام بعدُ قائم، فسجد، يكون مدركاً للركعة، فقطَعْنا ثَم بالإدراك، وإن أتى بالسجود لا على حقيقة القدوة؛ فإن الإمام سبقه بهما سبقاً، وهو تخلف عنه بسبب

الزحام، تخلفاً، لو تخلف باختياره من غير عذر، لما جاز ذلك، ولكن يمكن فيما تقدم من التلافي والإمام قائم غيرُ منتهٍ إلى الركوع الذي به يدرك المسبوقُ الركعة، فلم نجعل المزحومَ إذا ابتدأ السجود مقتدياً حكماً، بل جعلناه مقتدياً حقيقة، وجعلنا انضمام عذر الزحام إلى تخلفه مع القدرة على ابتداء السجود في القيام في معنى متابعةٍ حسية، فاقتضى ذلك الحكمَ بإدراكه الركعة. 1393 - فأما إذا ابتدأ السجودَ والإمامُ راكع منته إلى ما به يدرك المسبوق -لو دخل الآن- فهذا تخلّف ظاهر -وإن كان العذرُ معه قائماً- يُخرّجُ (1) السجود منه الآن -وإن كان على وفق ما أمرناه به- على وجهين في أنه مقتف على حكم القدوة أو مقتدٍ على حقيقتها. فهذا بيان الخلاف في هذه الصورة، مع التنبيه للفرق بينها وبين الصورة التي تقدمت في الاشتغال بالسجود. وقد وضح أن سبب التردد انتهاءُ الإمام إلى ما به يدرك المسبوق في الركعة الثانية، ثم هو يُضرب عن إمامه، ويتركه في أهم حالات المتابعة، ويشتغل بالسجود. ثم إن جعلناه مدركاً -وهو الظاهر لمكان العذر- فإذا رفع رأسه [من السجود، والإمام رافع] (2) من الركوع، فالمقتدي يجري على ترتيب صلاة نفسه في الركعة الثانية، فيقرأ ويركع ويرفع؛ لأنا أمرناه بالسجود والإمام راكع ليجري على ترتيب صلاة نفسه، فلأن نأمره باعتبار ترتيب صلاة نفسه، وقد رفع الإمام رأسه من الركوع، وجاوز الركنَ الذي يقع به إدراك المسبوق أولى. 1394 - وإن رفع رأسه من السجود والإمام بعدُ في الركوع أيبتدر الركوعَ فعْلَ المسبوق؟ أم يجري على ترتيب صلاة نفسه، فيقرأ ويقتفي؟ الظاهر أنه يجري على ترتيب صلاة نفسه؛ فإنا أمرناه بترك متابعة الإمام في الركوع، والاشتغال بالسجود أوّلاً ليكون جارياً على ترتيب صلاة نفسه، فنستديم هذا القياس.

_ (1) في (ت 1): فخرج، وكذا (ل). (2) زيادة من (ت 1)، (ل).

ومن أصحابنا من قال: يركع ويترك القراءة كما يفعل المسبوق، ولا يكون ذلك تركاً منه لترتيب الصلاة، ولكن يكون ترخُّصاً منه بما يترخص به المسبوق. والقراءة تقع محسوبة له، والترتيب جارٍ مطرد، والقراءة عنه محمولة. ومن أصحابنا من قال: إذا رفع رأسه من [السجود والإمام رافع رأسه من] (1) الركوع، فإنه يؤثر متابعته، ويُزجي (2) معه بقيةَ الصلاة، ثم إذا تحلل، يقوم ويصلي ركعةً أخرى. فإذا قيل لهذا: إنما نُفرعّ نحن على أنه يترك متابعةَ الإمام، فيتدارك ما فاته جارياً على ترتيب صلاة نفسه، فكيف يليق بهذا التفريع أن نأمره آخراً بالمتابعة، وفيها ترك ترتيب صلاة المقتدي بالكلية؟ فيقول مجيباً: نحن لم نأمره بالسجود أوّلاً ليجري على ترتيب صلاة نفسه، ولكن الركعة الأولى قد كان متابعاً في معظمها، فتخلّف بعذر الزحام، فلم يبعد أن يسجد ويتمم القدوة فيها، فأما إذا أخذ يقتفي في الركعة الثانية، ولم يتابع الإمام متابعة حسيّة في شيءٍ منها، فهذا قد يبعد عن شرط القدوة. فإذاً حاصل القول: أنا إذا فرعنا على التلافي، وترك متابعة الإمام في الركعة الثانية، فوافق وسجد، ثم رفع، والإمام رافع رأسه من الركوع، أو منتهٍ إلى التشهد أنه في وجهٍ نأمره بمتابعة الإمام في البقية، ثم نأمره عند التحلل بضم ركعة إلى الركعة الأولى. وفي وجهٍ نأمره بالجريان على ترتيب صلاة نفسه في الركعة الثانية. 1395 - وإن رفع رأسه والإمام بعدُ في الركوع، فإن قلنا: يؤثر المتابعة، وقد صادف الإمامَ رافعاً رأسه، فإيثار المتابعة هاهنا أولى. وإن قلنا ثَمَّ: يجري على ترتيب صلاة نفسه، فهاهنا خلاف؛ لأن حمل القراءة وإسقاطها على طريق الرخصة لا يخرجه عن مراعاة (3 ترتيب صلاة نفسه، بل نجعله كأنه قرأ؛ إذ هذه الركعة على هذه 3) الطريقة محسوبة له، فإذا تابع بعد الرفع،

_ (1) زيادة من (ت 1). (2) يُزجي: يسوق ويكمل. من: أزجَى الشيءَ: ساقه برفقٍ ودفعه. (المعجم). (3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

فذلك غير محسوب له. والذي يعترض في صورة إدراكه راكعاً أن المقتدي ليس مسبوقاً، وقد سبق ذلك في صدر الفصل. فهذا إذا أمرناه بالسجود والإمام رافع، فوافق، وسجد، ثم رفع رأسه، وصادف الإمام راكعاً بعدُ، أو رافعاً رأسه. 1396 - فأما إذا أمرناه بالسجود والتلافي (1)، فخالف وركع، فإن فعل ذلك عمداً مع العلم بأنه ممنوع منه، بطلت صلاته؛ فإنه جاء بركوعٍ زائدٍ عمداً غير محسوب له، وهو منهيٌ عنه. وإن كان جاهلاً، فالركوع غير محسوب، ولكنه إذا سجد مع الإمام، فسجدتاه مع ظاهر الأمر تلتحقان بالركعة الأولى، ولكن الركعة ملفقة، ففي إدراك الجمعة وجهان، ثم في انقلابها ظهراً، ثم لا يبعد تفريع البطلان؛ من جهة أنه خالف ما أمرناه به. فهذه صور مسائل الزحام، وقد حذفت من الترهات (2) والحشو ما لا نهاية له. 1397 - ولو أدرك المقتدي الركعة الأولى بكمالها، وزحم عن السجود في الركعة الثانية، ثم لم يتمكن من السجود حتى سلم الإمام، فإنه يسجد ويتشهد ويسلم، وقد أدرك الجمعة بلا خلاف؛ فإنه أدرك الأولى على حقيقة القدوة، وأدرك معظم الثانية، وهو معذور في التخلف الذي جرى. 1398 - ولو دخل مسبوق وأدرك الإمامَ في ركوع الركعة الثانية، ثم زحم عن السجود، فلم يتمكن منه حتى سلم الإمام، فلا نجعله مدركاً للجمعة؛ فإنه لم يأت بركعة حتى سلم إمامُه. فهذا تمام الصور المقصودة. 1399 - وأنا أختم هذه المسألة بأربعة أشياء تتمةً للغرض: أحدها - ما قد أشرت

_ (1) التلافي: التدارك. من تلافَى الشيء تداركه. يقال: تلافى التقصير. (المعجم). (2) الترّهات: المراد هنا القول الخالي من النفع. وليس الباطل كما قد يتبادر. (المعجم).

إليه في أثناء التفاريع، من أن هذه المسألة يطرأ فيها انقلاب الجمعة ظهراً، ثم إن لم نجوز، فيطرأ انقلابها نفلاً، ثم ينتهي التفريع إلى البطلان، ويجري في الصور أمرُنا المزحوم وموافقته إيانا ومخالفته لنا، فحيث نأمره ويوافقنا، فلا ينبغي أن نفرع قولَ البطلان أصلاً؛ فإن الأمر بالشيء، ثم الحكم بالبطلان محال، وإذا لم نأمره، فجرى شيء منه عن جهل، أو أمرناه، فخالف جاهلاً، فلا يمتنع انتهاء التفريع إلى البطلان. وإذا تفطّن المفرع لهذا، كُفي مُؤْنةَ خبطٍ واختلاط في الظاهر (1)، ورجوع من الأمر، وتصوير الموافقة إلى الحكم بالفساد. والثاني - أنّا حيث نقول: لا جمعة، وتنقلب الصلاة ظهراً في قولٍ، فقد ذكر الشيخ أبو بكر وجهين، في أنا هل نشترط أن يقلبها ظهراً بقصده، أم تنقلب من غير قصده؟ والتوجيهُ فيه: فمن قال: لا نشترط قصدَ القلب؛ فإن الجمعة كصلاة مقصورة، وإن بطل القصر، ثبت الإتمام، من غير حاجةٍ إلى قصدٍ إليه، كذلك هاهنا. ومن قال: نشترط قصدَ القلب إلى الظهر، قال: بين الجمعة والظهر على الجملة تغاير، وليس بين قصر الظهر وإتمامه إلا زوال القصر، فلا بد في بناء الظهر على الجمعة من قصد. ولعلنا نُعيد هذا من بعدُ. والثالث - وهو سر مسألة الزحام وبه تمام شفاء الغليل: وهو أن المزحوم إذا تمكن من السجود، والإمامُ بعدُ في قيام الركعة الثانية، فلا ينتهي تفريع هذه الصورة إلى البطلان، إذا امتثل المزحوم ما يؤمر به في جهة من جهات الكلام. فأما إذا لم يتمكن من السجود حتى انتهى الإمام إلى الركوع في الركعة الثانية، والقولان مشهوران في ذلك، فإن أمر بالركوع، فقد يؤدي إذا وافق إلى الركعة الملفقة، ثم يتسلسل التفريع إلى البطلان لو جرى. وإذا أمرناه بالسجود، فقد نقول في وجه: هو في هذا الجزء من التخلف مقتفٍ، وليس بمقتدٍ حِسّاً، ثم نقول: هل يحصل الإدراك بهذا؟ ثم يترتب عليه أنه ظهر؟ أم نفلٌ؟ أم تبطل؟

_ (1) في (ت 1): الكلام.

وقد حذَّرْنا (1) فيما تقدم مراراً تفريعَ البطلان حيث نأمر فيمتثل أمرنا، ولكن من حيث تتعارض في المتابعة في الركوع، وفي الاشتغال بالسجود -عاقبة فسادٍ، يتجه أن يقال: إذا دام الزحام إلى الانتهاء إلى هذا المنتهى، فتبطل الصلاة بناءً على وجوه الفساد، فلا نأمره حتى يمتثل، بل نقول: تنقطع الصلاة أصلاً، وهذا بالغ حسن. ولكن منشأ الفساد من الركعة الملفقة ضعيف، وكذلك منشأ الفساد من طول التخلف على تقدير أمره بالسجود، مصيراً إلى أنه مقتفٍ، أو طال تخلفه- بعيدٌ، فلما بَعُدا، لم يظهر من أصحابنا من حَكَمَ بالفساد في انتهاء الأمر إلى الركوع، ولكنا نبهنا على ذلك حتى لا يغفل الفطِن عما يطرأ في المسألة من فنون التقديرات. ثم إن ذكر خلاف في أن الجمعة هل تدرك بالركعة الملفقة؟ فلا شك أن ذلك يختص بالجمعة، فلو فرضت الزحمة في غير الجمعة، لا تبطل الصلاة بهذا التقدير. وكذلك ما ذكرناه من الخلاف. في المقتفي والمقتدي يختص بالجمعة؛ فإن الجماعة مستحقة فيها. فقد يبالغ المبالغ في أمر الجماعة، وجريانها عِياناً، أو اتساقها على نظام من غير تقطع، ولا أثر لذلك في سائر الصلوات. والرابع - كان شيخي يحكي خلافاً في التخلف عن الإمام بعذر ذهولٍ أو نسيان، ويقول: من أئمتنا من يُلحق ذلك بالزحام، ومنهم من لا يعذر الناسي؛ لتركه التصون وإدامة الذكر، مع إمكان ذلك، ويجعل من يتخلف ناسياً كمن يتخلف عامداً، ثم لا يخفى ذلك في التفريع على من أحاط بما تقدم. وكان يميل إلى أن الناسي كالمزحوم؛ فإن من نسي الصلاة، وتكلّم فيها، عُذر، ولم تبطل صلاته، وإن كان الكلام عمداً، تبطل الصلاة، والمسألة محتملة؛ فإن النسيان لا ينتهض عذراً في ترك المأمور به، والوفاءُ بالمتابعة مأمور به. وقد نجز غرضنا في الزحام. ولكن لا يضر اختتام المسألة بتجديد العهد بمراتب

_ (1) بهذا الضبط في (ت 1). والمعنى أننا حيث نأمر المزحوم، فيمتثل أمرَنا، فلا يصح عقلاً أن يأتي بما أمرناه، ثم نرتب البطلان عليه في التفريع، وقد حذَّر الإمامُ قبلاً في أكثر من مسألة تفريعَ البطلان، ولا تستغرب قوله: "حذرنا تفريعَ البطلان"؛ فالفعل يتعدّى بنفسه، كما يتعدّى بمن. (ر. المعجم).

الزحام حتى يكون ذلك كالترجمة لما تقدم. فنقول: إذا زحم عن السجود، ثم انجلى الزحامُ والإمام في قيام الركعة الثانية، فيبتدر المزحوم السجودَ وتدارك ما فاته وفاقاً. ثم إذا رفع رأسه من السجود، ففي إدراكه الإمامَ على حالاته تفصيلات مقدمة، لا حاجة إلى إعادة شيء منها، والذي ينبغي أن يكون على ذكر من يبغي ترجمةَ المسألة أن الإمام لو سلم وهو في السجدة الثانية، فلا يكون مدركاً للجمعة؛ فإنه لم يدرك ركعةً والإمام في الصلاة، بل تحلَّل الإمامُ قبل أن تتم له ركعة، وقد رأيت الطرقَ متفقةً على ذلك. ولو رفع رأسه من السجدة الثانية، فسلم الإمام، قبل أن يعتدل المزحوم، فهذا فيه احتمال، والظاهر أن الركعة قد تمت. ولو لم ينجل الزحام حتى ركع الإمام في الركعة الثانية، ففيما نأمره قولان، وهذا عمدة مسألة الزحام، ويتفرع على كلِّ قولٍ الموافقة والمخالفة كما مضى. ولو دام الزحام، وبقي مزحوماً حتى يرفع الإمام رأسه من الركوع، واشتغل بالسجود، وتابع الإمام، فعند ذلك ذهب ذاهبون إلى أن التخلف قد أفرط، وزالت القدوة الحسّيّة، وبقي الاقتفاء الحكمي، ثم ذكروا في إدراك الجمعة خلافاً، وهذا التردد [إنما] (1) ينشأ من فوات الركوع في الركعة الثانية، ويصير الإمام إلى حالةٍ لو أدركه مسبوق، لم يصر مدركاً للجمعة، ولو دام الزحام حتى سلّم الإمام، فلا شك أن الجمعة قد فاتت المزحومَ، ثم بقية التفريع واضحة. والله أعلم. مسألة الاستخلاف: 1400 - اشتهر اختلاف قول الشافعي في أن صلاةً واحدةً هل يجوز إقامتُها خلف إمامين؟ وتصوير ذلك أن تبطل صلاة الأول، فيخلفه مستخلَف، كما سنذكره، فيستديمُ المقتدون حكمَ القدوة معه، كما سنصوره بعد إطلاق القولين.

_ (1) في الأصل. وفي (ط): ثمّ.

والمنصوص عليه للشافعي في الجديد جواز الاستخلاف، وقال في القديم: لا يجوز إقامةُ بقية الصلاة خلفَ الخليفة. ثم اختلف أئمتنا في محل القولين: فمنهم من أجراهما في الصلوات كلها، وهو الظاهر، ومنهم من خصص القولين بصلاة الجمعة؛ فإن الجماعة ركنٌ فيها، ويشترط فيها شرائط، لا يشترط شيء منها في سائر الصلوات، فيليق بها اشتراط اتحاد الإمام. 1401 - ومما نذكره في صورة المسألة قبل الخوض في التفصيل، أن القول اختلف في أنه لو خطب بالناس خطيب، وصلى بهم غيره، فهل يجوز ذلك أم لا؟ وهذا قريب من إقامة الصلاة خلف إمامين. واختلف أئمتنا في ترتيب المذهب: فمنهم من يقول: تجويز ذلك أقرب من إقامة صلاة الجمعة بإمامين؛ فإن ذلك في الصلاة يبترُ صورة القدوة، ويثبت قدوة جديدة، لم تكن، والصلاة عبادة واحدة، والخطبة تنفصل عن الجمعة؛ فتعدد الخطيب والإمام في الصلاة ليس بدعاً. وكان شيخي يرى إقامة الصلاة بإمامين أولى بالجواز من أن يخطب واحدٌ ويصلّي آخر، ويقول: إذا انعقدت الجمعة، فقد اشتمل عقدها على الإمام الأول والمستخلَف، فالنظر إلى اتحاد العقد، وإذا فرض التعدد في الخطيب والمصلّي، فقد انقطع شرطُ الصلاة -وهو الخطبة- عن الصلاة، ولم يقم بهما واحد، مع تميز أحدهما عن الثاني، وكان يقول: في الجديد تردّدٌ في جواز ذلك، وجواز الاستخلاف مقطوع به في الجديد، وقد قطعنا بأن الانفضاض في الخطبة يؤثِّر؛ حيث يختلف القول فيه لو جرى في الصلاة. التفريع على القولين في الاستخلاف في الجمعة: 1402 - إن منعناه، فالإمام الأول إن بطلت صلاتُه بسبق حدثٍ، أو تعمدٍ في الركعة الأولى، والتفريع على القديم، فالذي ذكره الأئمة أن الجمعة قد تعذرت على

استدامة هذه الحالة [إن] (1) وقع ذلك في الركعة الأولى؛ فإن القوم لم يدركوا ركعة تامة مع الإمام، وإن وقع ذلك في الركعة الثانية، انفردوا بها، وأتموا الجمعة، ونزلوا منزلةَ المسبوق إذا أدرك ركعة من صلاة الجمعة؛ فإنه يقوم إلى الثانية منفرداً بها عن تحلل الإمام، ويكون مدركاً للجمعة. وقطعوا بأن صلاة الإمام إن بطلت في الركعة الأولى، فلا جمعة، وإن بطلت في الثانية، أتمَّ القومُ الجمعة، ولا استخلاف. ثم إن حكمنا بارتفاع الجمعة في الركعة الأولى، ففي انقلابها ظهراً، أو نفلاً، أو بطلانها أصلاً، ما قدمناه في مسألة الزحام. 1403 - قال شيخي: قد ذكرنا في مسألة الانفضاض قولين: أن القوم لو انفضوا في الركعة الأولى، ولم يبق إلا الإمام وحده، فتصح جمعته، فعلى هذا لا يمتنع أن نقول: إذا بطلت صلاة الإمام في الركعة الأولى، فزوال الإمام عنهم كانفضاضهم عن الإمام، فإذا كان الإمام يُتم الجمعةَ وإن جرى الانفضاضُ في الركعة الأولى، فكذلك القوم يتمون الجمعة، وإن زال إمامهم في الركعة الأولى. وهذا الذي ذكره قياس حسن، غير أن الأصحاب قالوا: لو بطلت صلاة الإمام في الركعة الثانية، أتموها جمعة، وقد ذكرنا قولاً منصوصاً أن القوم لو انفضوا في الركعة الثانية، فالإمام لا يصلي جمعة، والإمام شيخي جرى على متابعة الأصحاب في الفرق بين الانفضاض وبين زوال الإمام في الركعة الثانية. فالذي يقتضيه القياس عندي تخريج قول من الانفضاض في زوال الإمام في الركعة الثانية؛ إذ لا يكاد يظهر فرق؛ فإن الإمام ركن الجماعة في حق المقتدين، كما أن القوم ركن الجماعة في حق الإمام، وليس ذلك كانفراد المسبوق بركعة؛ فإنه قد صحت الجمعة للإمام والجمع، فأُثبت للمسبوق إدراك الجمعة، على طريق التبعية لأقوامٍ صحت جمعتهم. فهذا تفريعٌ على منع الاستخلاف. 1404 - فأما إذا قلنا: يجوز الاستخلاف. فأول ما نذكره أن الإمام لو أحدث

_ (1) في الأصل، و (ط): بأن.

عامداً، أو أخرج نفسه من الصلاة قصداً، أو سبقه الحدث، فكل ذلك على وتيرة واحدة، والاستخلاف يجري في جميع هذه الصور عندنا. وأبو حنيفة (1) إنما يجوّز الاستخلاف إذا سبقه الحدث، ثم يقول: لا تبطل الصلاةُ بسبق الحدث، فالإمام يستخلف وهو بعينه في الصلاة. وعندنا أنه يجري الاستخلاف مع بطلان صلاة الإمام. وللشافعي قول في القديم أن من سبقه الحدث في صلاته لا تبطل صلاته، ولكن لا ينتظم التفريع في ذلك؛ فإن هذا القول منصوص عليه في القديم، والذي نص عليه في القديم منعُ الاستخلاف، فلا يتأتى في الترتيب تفريعُ جواز الاستخلاف على قولنا بأن سبق الحدث لا يُفسد صلاة الإمام. ثم ما صار إليه أبو حنيفة خليّ عن التحصيل؛ فإن الاستخلاف يليق بزوال الإمام الأول عن الصلاة. 1405 - ثم الذي نبتدئه في ذلك أن المستخلف يشترط فيه أن يَكون عقَدَ الصلاة مع الإمام أولاً، وصار من جملة المقتدين، ثم يستخلَف، فلو بطلت صلاة الإمام أولاً، وأراد أن يستخلف من لم يتحرم بالصلاة بعدُ، حتى يتحرّم ويتقدم ويؤم بهم، فهذا غير جائز في الاستخلاف. وسأذكر حكم هذه الصورة في آخر المسألة إذا تمَّمْتُ غرضي في الاستخلاف. 1406 - فإذا ثبت أن الاستخلاف يختص بمن عقد صلاته قبل بطلان صلاة الإمام، فلا يخلو إما أن يجري هذا في الركعة الأولى، أو يجري في الثانية، فإن جرى في الأولى، فهل يشترط أن يكون الخليفة ممن سمع الخطبة؟ ذكر الأئمة فيه خلافاً في جميع الطرق. ثم الذي صححوه أن ذلك ليس بشرط؛ فإنه إذا عقد صلاتَه، صار في حكم من سمع الخطبة، وضاهى في حكمه حكمَهم. ثم قال الأئمة: إن استخلف الإمام رجلاً مقتدياً به جاز، فلو مضى الإمام على وجهه، ولم يستخلف أحداً، فالقوم يقدّمون خليفة من جملة المقتدين بالإشارة،

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 32، حاشية ابن عابدين: 1/ 403.

واتفق الأصحاب على أن ذلك جائز منهم، ثم قالوا يجب الاستخلاف في الركعة الأولى؛ فإن ذلك إذا اتفق يترتب عليه إدراك الجمعة، ولو أرادوا أن ينفردوا، لم تصح جمعتُهم، وإقامة الجمعة واجبة عليهم، فيتعين الاستخلاف لما ذكرناه. ثم الذي ذكره الأئمة أنه إذا صح الاستخلاف، وتقدم الخليفة، استمر الناس على صلاتهم، ولا حاجة بهم إلى تجديد نية الاقتداء بالخليفة. وفائدة الاستخلاف نزول الخليفة منزلة الإمام الأول، حتى كأنه هو، ولو استمرت الإمامة من الأول، لم يكن لتجديد نية الاقتداء معنى، ولو انقطعت القدوة الأولى، لكان الظاهر في القياس انقطاع الجمعة، ثم إن كان التقديم من القوم، ولم يستخلف الإمام الأول، فيكفي عندي صَدَر (1) هذا من واحد من القوم، ولو شرطنا صدورَه من جميعهم، وهم مائة ألف مثلاً، لعسر الوصول إلى ذلك في أثناء الصلاة. ولو تقدم واحد بنفسه، ولم يقدمه أحد، ففيه احتمال عندي؛ من جهة أنه لم يستخلفه أحد، ويظهر الجواز، من جهة أنه من القوم، فتقديمه نفسَه كتقديمه آخرَ. والله أعلم. 1407 - ولو قدم الإمام إنساناً، وقدم القوم آخرَ، فليس في هذا عندي نقل، والمسألة محتملة. ولعل الأظهر أن المتَّبَع من يستخلفه القومُ؛ فإن الإمام قد بطلت صلاته، وإنما يستخلفُ بعُلْقة إمامةٍ كانت وزالت، والقوم باقون في الصلاة، وهم أولى بالاستخلاف. 1408 - ثم ينبغي أن يجري الاستخلاف على القرب، بحيث لا يطول الفصل، فإن قضَوْا على الانفراد ركناً، ثم استخلفوا، لم يجز. وإن طوّلوا الركن الذي هم فيه، ثم استخلفوا بعد طول الزمان، ففي المسألة احتمال. وكل ما ذكرناه مفرعّ على ما ذكره الأصحاب، من أنهم لو لم يستخلفوا في الركعة الأولى، فلا يصلّون الجمعة.

_ (1) صَدَر بفتحتين أي صدور، واستعمال المصدر بهذا الوزن يجري بصفة شبه دائمة على لسان الإمام.

والذي حكيته عن شيخي في تفريع ذلك على الانفضاض لا تفريع عليه. 1409 - ثم إذا جرى الاستخلاف في الركعة الأولى، فالإمام المستخلَف يصلي الجمعة كالقوم؛ فإنه اقتدى أولاً وعقَد الصلاة، ثم استُخلف، فسبيله في الإدراك كسبيل القوم. وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الاستخلاف في الركعة الأولى. 1410 - فأما إذا تمت ركعة مع الإمام الأول، ثم فسدت صلاته في الركعة الثانية، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يجب الاستخلاف في الركعة الثانية؛ إذ سبب وجوبه في الأولى أنهم لم يدركوا مع الإمام ركعة، فأما إذا صلوا ركعة، فلو انفردوا -وقد فسدت صلاة الإمام- لصحت جمعتُهم؛ فلا يلزمهم الاستخلاف. ثم نص الأصحابُ على أن المقتدين لا يلزمهم الاستخلاف، ولو استخلف الإمامُ لا يلزمهم أن يتابعوه، بل هم بالخيار إن شاءوا، استخلفوا، وإذا استخلف الإمام، فهم بالخيار إن شاءوا، تابعوه واستمروا، وإن شاءوا، انفردوا. ولو اقتدى بعضهم وانفرد آخرون، جاز. 1411 - فإن قيل: لو بقي الإمام الأول، ولم يطرأ ما يبطل صلاته، فلو أراد القوم، أو واحد منهم أن ينفردوا بالركعة الثانية، وينووا قطع القدوة والخروجَ عن المتابعة، فما ترون فيه؟ قلنا: لو جرى هذا في سائر الصلوات، ففي المسألة قولان في حق غير المعذور، كما تقدم ذكره، والذي نراه القطعُ بأن هذا في الجمعة غير جائز، وإن مضت الركعة الأولى على الصحة؛ فإن الجماعة واجبة في الجمعة، فلا يجوز قطع الواجب، فإن قيل: هلا أوجبتم الاستخلاف لتدوم الجماعة؟ قلنا: لم يوجبها أحد في الركعة الثانية؛ فإنهم إنما التزموا الوفاء بما نَوَوْه من الاقتداء الأول، فأما الاستخلاف وإن كان تدوم به الجماعة، فهو ابتداء أمر، فهذا ما أردناه. 1412 - ولو استخلف الإمام في الركعة الثانية مسبوقاً، لم يدرك الركعة الأولى، ففي جواز ذلك قولان: أحدهما - المنع؛ فإن هذا الإمام لا يكون مدركاً للجمعة، كما سنوضحه في التفصيل إن شاء الله. والثاني - الجواز؛ فإنه بمثابة الإمام، حتى كأنه هو، وهذا يترتب عندي على

ما تقدم من أنَّا هل نشترط أن يكون الخليفة قد سمع الخطبة؟ فإن شرطنا ذلك، فلا يجوز استخلاف المسبوق، وإن جوزنا استخلاف من لم يسمع الخطبة، ففي استخلاف المسبوق بالركعة الأولى قولان، والمسألة مفروضة [فيما] (1) إذا اقتدى المسبوق أولاً، وانعقدت صلاته، ثم فسدت صلاة الإمام واستخلفه. ثم قال الشافعي مفرعاً على جواز استخلاف المسبوق: إذا تقدم، فإنه يجري على ترتيب صلاة الإمام، ولتكن صلاتُه على صفة صلاته لو بقي مقتدياً بالإمام الأول، فيجلس إذا انقضت هذه الركعة بقدر جلوس الإمام تقريباًً، ويجلس معه القوم، ثم يومىء إيماءً، فيتحلل المقتدون عن جمعتهم، ويقوم الخليفةُ إلى ما عليه، على ما سنوضح تفصيل ما عليه إن شاء الله. ثم هذا الخليفة لا يكون مدركاً للجمعة بلا خلاف؛ فإنه لم يدرك ركعة من الجمعة مع الإمام. ولو دخل مسبوق واقتدى بهذا المسبوق المستخلف -على قولنا يصح استخلافه- فيكون المقتدي به مدركاً للجمعة، حتى لو أدركه في ركوع هذه الركعة، حُكم بكونه مدركاً للجمعة؛ وذلك أنه يجري على ترتيب صلاة الإمام، حتى كأنه هو في حق المقتدين، ولذلك يتشهد، وليس هذا ترتيبَ صلاة نفسه، فهو في التحقيق حالٌّ في حق المقتدين به محل الإمام الأول لو بقي، ولكنه في نفسه غيرُ مدرك للجمعة. قال ابن سريج: يُخرج في المسبوق الخليفة -على قولنا: يجوز استخلافه- قولان، في أنه هل يصح ظهرُه - على أصلين: أحدهما - أنه نوى الجمعة، وقد ذكرنا قولين في أن الظهر هل يصح بنية الجمعة إذا تعذرت الجمعة؟ والثاني - أنَّ الظهر لو صححناه، لكان قبل الفراغ من صلاة الجمعة، وفي صحة الظهر قبل الفراغ من صلاة الجمعة قولان، وسيأتي ذكرهما. ثم إن صححنا ظهرَه، فلا كلام، وإن لم نصححه -وقد قطع الكافة بأنه لا جمعة له- فتكون صلاتُه نفلاً على [قول] (2).

_ (1) زيادة من (ط). وفي (ل): "فيه". (2) في الأصل و (ط): قولين.

ثم قال: سيأتي الخلاف في أن إمامَ القوم لو كان متنفلاً، فهل يصح منهم الاقتداء به في صلاة الجمعة؟ فإن صححنا ذلك، فلو دخل مسبوق واقتدى به، صار مدركاً للجمعة؛ فإن صلاة الخليفة بين أن تكون ظهراً، وبين أن تكون نفلاً، وكيفما فرض، فيصح الاقتداء به. وإن قلنا: لا يجوز أن يكون إمام الجمعة متنفلاً، فالمسبوق المقتدي به لا يكون مدركاً للجمعة، ولكن يصح اقتداء الذين أدركوا الركعة الأولى مع الإمام الأول به؛ فإنهم لو انفردوا بتلك الركعة، لكانوا مدركين للجمعة، فليس الجماعة مشروطةً في حقهم، فلا يمتنع أن يقتدوا فيها بمتنفل، كما يسوغ ذلك في إقامة سائر الفرائض خلف المتنقل، فأما المسبوق، فالجماعة شرط في إدراكه الجمعة، ثم إذا لم نجوّز أن يكون الإمام متنفلاً، فلا يكون هو مدركاً للجمعة. 1413 - ومما يليق بترتيب الكلام ورعاية النظام فيه، أنا إذا جوّزنا استخلاف المسبوق، فقد التزمنا الحكمَ بصحة صلاته، فكأنا نفرعّ على أن ظهره صحيح، أو ينقلب نفلاً. وأما التفريع على أن صلاته تبطل، فيؤدي إلى منع استخلافه؛ فإن من تبطل صلاته، يستحيل تقديرُه إماماً أولاً، ثم الانعطاف على صلاته بالبطلان آخراً. نعم. إذا منعنا استخلافه، فيخرج في صلاته قولان في أنها ظهر، فإن لم تكن ظهراً، خرج قولان في أنها باطلة أو نفل. هذا تمام القول في استخلاف المسبوق. 1414 - وبقي في إتمام الغرض من المسألة ما وعَدْنا ذكرَه من استخلاف من لم يقتد بالإمام. وتصوير ذلك أنه لو بطلت صلاة الإمام -وقد دخل داخل ولم يقتد بعدُ- فالإمام يأمره حتى يتقدم، ويتحرّم بالصلاة، ويقتدي القوم به. فهذا نفرضه في غير صلاة الجمعة، ثم نذكره في صلاة الجمعة. فإن جرى ذلك في غير الجمعة، فالذي يهب تقديمُه أن هذا ليس باستخلاف،

والمتقدم ليس خليفة، وإنما هو عاقد صلاةَ نفسه، جارٍ على ترتيب نفسه فيها، وقد انقطعت قدوة المقتدين بإمامهم، فإن اقتدَوْا بهذا الرجل، فسبيلهم كسبيل منفردين، يقتدون في أثناء الصلاة، وقد ذكرنا ما فيه من اختلاف القول فيما تقدم. وإن فرضنا هذه الواقعة في الجمعة، ففي صحة الظهر لهذا المتقدم قولان، وفي صحة صلاته على أحد القولين قولان. فإن لم نصحح صلاتَه، فلا يصح اقتداء أحدٍ به، وإن صححنا صلاته، فنقول: إن جرى هذا في الركعة الأولى -والتفريع في جميع ذلك على ما ذكره الأصحاب- فقد انقطعت قدوة القوم، فلا جمعة لهم؛ فإنهم لم يدركوا ركعة مع إمام الجمعة، ولم تصح الخلافةُ على هذه الصورة في حق هذا الداخل. وقد نقول: لا يصح ظهر القوم، والجمعة لا مطمع فيها وفي صحة نفلهم كلام على ما تكرر. فإن صحت صلاتُه، فنوَوا الاقتداء بهذا المتقدم على الصورة التي ذكرناها، فهؤلاء نَوَوا القدوة في أثناء الصلاة، وفيه من الكلام ما مضى. وإن أحسوا بحقيقة الحال، فقطعوا الصلاة، وابتدأ هذا الداخل المحتقدم، ونوى الجمعة، واقتدى القوم به ابتداءً، صحت الجمعة للمتقدم، والمقتدين به، إذا جوزنا أن يخطب رجل، ويصلي الجمعة غيرُ من خطب، فإن لم نجوز، فلا جمعة لهم. ثم لا يخفى بقية التفريع. فهذا تفريع الحكم لو جرى ما ذكرناه في الركعة الأولى. 1415 - فأما إذا جرى في الركعة الثانية، فقد ذكرنا من مذهب الأصحاب أن جمعة القوم صحيحة، وإن انفردوا بالركعة الأخيرة، فلو تقدم الداخل ونوى الجمعة، فاقتدى القوم، فقد نقول: لا تصح صلاة المتقدم الذي نوى الجمعة، فلا يصح اقتداؤهم، مع العلم بذلك، وبطلت صلاتهم. وإن قلنا: تصح صلاة المتقدم ظهراً أو نفلاً، فالقوم قد انقطعت قدوتهم، ولم يصح الاستخلاف، فإن اقتدَوْا به، كان هذا اقتداء طارئاً على الصلاة بعد ثبوت حقيقة الانفراد، وفي جواز ذلك القولان الجاريان في سائر الصلوات. فهذا منتهى القول في الاستخلاف وما يتعلق به.

فصل 1416 - ذكر صاحب التقريب تفصيلاً جامعاً في نية صلاة الجمعة، فقال: اشتهر الخلاف في أن الجمعة ظهر مقصورة أم صلاة على حيالها؟ فإن قلنا هي صلاة بنفسها، وليست ظهراً، فلا بد من نية الجمعة، ولو نوى المرء ظهراً مقصورة، (1 لم تصح جمعته. وإن قلنا: هي ظهر مقصورة، فلو نوى المكلف ظهراً مقصورة 1) ففي صحة الجمعة بهذه النية وجهان: أحدهما - يصح؛ فإنه نوى الصلاة على حقيقتها وصفتها. والثاني - لا تصح الجمعة؛ فإن الغرض الأظهر [من الباب التمييز، وهذه الصلاة، وإن كانت ظهراً مقصورة، فليست كالظهر المقصورة] (2) في السفر، بل هو مقصور متميز، بحكمه، وصفته، وشرطه [عن] (3) كل ظهر مقصورة، فلا بد من تمييزه بما يختص به، وهو الجمعة. ثم ذكر في سياق الكلام شيئاًً، فقال: إذا نوى الجمعة، وقلنا: هي صلاة على حيالها، فذاك. وإن قلنا: هي ظهر مقصورة، فهل يجب التعرض في النية لقصد القصر، أم يكفي نية الجمعة؟ فعلى وجهين: أصحهما - أن نية الجمعة كافية؛ فإنها لا تكون إلا مقصورة. والثاني - لا بد من قصد القصر؛ فإن الأصل الإتمام، وهذا ضعيف، لا اتجاه له أصلاً، ولكنه صرح بنقله مراراً، فنقلناه، وهو غير معدود من المذهب. وجميع ما ذكرناه في الانفضاض، والزحام، والاستخلاف، متعلق بشرط واحد وهو الجماعة، فجرت هذه المسائل الموصوفة متفرعة على حكم الجماعة.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) زيادة من (ت 1). (3) مزيدة من (ت 1).

فصل 1417 - قد ذكرنا في الشرائط المرعية الوقت، فنقول في بيانه: إن وقع شيء من صلاة الإمام والمقتدين به في وقت العصر، فلا تصح الجمعة وفاقاً. ثم نقول: لو وقعت التسليمة الأولى وراء الوقت، فلا جمعة، ثم يعود الترتيب المقدم في أن الجمعة إذا لم تصح، فهل يبنون عليها ظهراً؟ وقد تكرر هذا على الترتيب المعروف مراراً. 1418 - ولو أدرك مسبوق ركعةً من الجمعة مثلاً وتحلل الإمام، والسابقون المقتدون به في الوقت، فقام المسبوق إلى تدارك الركعة التي فاتته، فوقعت ركعتُه، أو آخرُها وراء الوقت، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تصح جمعة المسبوق لوقوع بعضها وراء الوقت، فصار كما لو اتفق ذلك في صلاة الإمام والمقتدين به. والثاني - تصح للمسبوق؛ فإنه تابع للقوم، وقد صحت جمعتهم، وهذا أدرك ركعةً معهم في الوقت، فتبعهم في صحة الجمعة. وعلى الجملة اعتناء الشرع بالوقت أعظم من اعتنائه بالجماعة، ولذلك اختلفت الأقوال في الانفضاض، وإن اختلّت الجماعة به، ولم يختلف المذهب في أن شيئاًً من صلاة الإمام، لو وقعت وراء الوقت، لم تكن جمعة، وإن وقع المعظم في الوقت. والمسبوق لا يمتنع أن ينفرد بركعة، وفي وقوع شيء من صلاته وراء الوقت الخلافُ الذي ذكرناه. ولعلّ السبب فيه أن الجمعة على صورة صلاة مقصورة، أو هي مقصورة على الحقيقة، والاقتصار على الركعتين مشروط بالمحافظة على الوقت، وذلك داخل تحت اختيار الإمام والقوم، فأما اختلال الجماعة في الأثناء والانتهاء، فلا يتعلق بالاختيار كما تقرر في مسألة الزحام.

فصل يجمع تقاسيمَ لا بد من الإحاطة بها 1419 - فنقول: الناس في الجمعة على أقسام، منهم من لا يلزمه حضور الجامع وإقامة الجمعة، ولو حضروا الجامع، فهم على تخيّرهم، إن أحبوا أقاموها، وإن أحبوا أقاموا ظهراً، وهؤلاء: النسوان، والعبيد، والصبيان، والمسافرون، والمترخصون. وذكر صاحب التلخيص في العبد تخريجاً أنه إذا حضر؛ لزمته الجمعة. وهذا غلط باتفاق الأصحاب، ولا يوجد هذا التخريج في جميع نسخ الكتاب، فلعله هفوة من ناقل. 1420 - ثم هؤلاء لا يكمل بهم العدد المشروط قطعاً؛ فإنهم على نقائص ظاهرة لازمة، وصفات الكمال مرعية في العدد الذين تنعقد بهم الجمعة. ومن نصفه حر، ونصفه عبد، في معنى العبد الرقيق. وذكر بعض المصنفين أن الجمعة إذا كانت في نوبة مالك الرق، فلا جمعة؛ فإنه في معنى الرقيق في نوبة السيد، فإن وقعت الجمعة في نوبة من نصفه حر، فهل يلزمه إقامة الجمعة؟ فعلى وجهين، وإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، فلا تلزمه الجمعة أصلاً، وذِكْر الوجهين في نهاية الضعف. والوجه القطع بأنه لا يلزمه إقامة الجمعة. ولا أعرف خلافاً أن المكاتَب لا تلزمه الجمعة وإن كان [مستقلاًّ] (1) بنفسه. وسقوط الجمعة عن المسافر المترخص بالاتفاق أوضح دلالة على أنَّ الكمال والاستقلال مرعيٌ في وجوب الجمعة. وإن كان من نصفه حر في يوم نفسه، فهو في نوبته مدفوع إلى الجدّ في التكسب لنصفه الحر، فهو في شغل شاغل لمكان الرق. ولا شك أن الجمعة لا تنعقد بمن نصفه رقيق، وإنما التردد الذي حكيناه في

_ (1) في الأصل: "متكفلاً". والمثبت من (ت 1).

وجوب الجمعة، فأما أن يعد في العدد المعتبر في عقد الجمعة، فلا. فهذا تفصيل القول في الذين لا تلزمهم الجمعة، ولو حضروها، فهم على تخيرهم، ولا يعدّون في الأربعين. 1421 - ومن الناس من لا يلزمه حضور [الجامع] (1) ولو حضره متبرعاً في وقت الصلاة، أو حضره لشغل، لزمه أن يقيم الجمعة، وهؤلاء هم المرضى، والمعذورون؛ فإنهم عذروا في التخلف، فإذا حضروا لزمهم الجمعة، وهم يعدّون (2) من الأربعين إذا حضروا؛ فإنهم على كمال الصفات. وإن ظن ظان أن المريض كالمسافر في بعض الرخص؛ فإنه يفطر في رمضان إفطار المسافر، ثم الجمعة لا تنعقد بالمسافرين، فينبغي ألاّ تنعقد بالمرضى، فهذا مردود عليه؛ فإن المريض مستوطن من أهل القطر، فمرضه الذي يعذره لا يحطه عن الكمال المعتبر، ولا تعويل على الرخص؛ فإنه أولاً لا يقصر ولا يجمع، وإفطاره ليس ملحقاً بالرخص، بل هو من قبيل الضرورات، وإنما تتميز الرخصة عما يباح للضرورة أو الحاجة؛ من جهة أن المسافر وإن لم يكن محوجاً إلى الرخص، يترخص، حملاً على كون [السفر] (3) مظنة للمشقة، ولا يعتبر فيه الأحوال والآحاد، والمريض إذا وجد خفة في يوم، لم يفطر، ولو وجد قوةً ومُنة في أثناء الصلاة، وكان يصلي قاعداً، لزمه أن يقوم. ومما يتعلق بالمريض والمعذور أن العدد لو كان ناقصاً بواحد مثلاً ولو حضر، لتمّ العدد به، ولو تخلف، لا يمكن إقامة الجمعة، وكانت الجمعة تتعطل بسبب تخلفه، فلا يلزمه أن يتكلف ويحضر؛ فإذاً هو ممن يتم به العدد، ولا يلزمه أن يحضر، ولا يختلف الأمر بين أن تتعطل بسبب تخلفه الجمعة أو لا تتعطل، ولو حضر في وقت الصلاة، لزمته الجمعة، ثم تنعقد الجمعة، وإن كان يصلي قاعداً لمرضه. ولو حضر قبل دخول الوقت، فالوجه القطع بأن له أن ينصرف لو أراد، وإن كان

_ (1) في الأصل: الجمعة. (2) في الأصل، وفي (ط): لا يعدّون. (3) في الأصل، وفي (ط): المسافر.

دخل الوقت، وقامت الصلاة، أقام الجمعة، وإن كان بين دخول الوقت وبين إقامة الصلاة مدة، وكان لا يناله مزيدُ مشقة، في مصابرة الإقامة في الجامع، حتى تقام الجمعة، يلزمه ذلك. وإن كان يناله مشقة في الصبر، فالذي أراه أن ينصرف إن أراد، ولا يلزمه المصابرة، ولعل هذا يُضبط بما ضبط به جواز ترك القيام، وإيثار القعود في الصلاة المفروضة. فهذا بيان القول في المرضى. 1422 - ومن الناس من يلزمهم إقامة الجمعة، وحضور الجامع، ثم ظاهر المذهب أن العدد لا يتم بهم، وهم الذين نَوَوْا إقامة مدّة لأشغالٍ لهم، ثم هم عازمون على الانصراف إلى أوطانهم، إذا قضَوْا أوطارهم، كالتجار والمتفقهة، ولا يعد هؤلاء من أهل البلدة، بل يسمَّوْن الغُرباء، فلا يكمل بهم الأربعون؛ فإنهم ليسوا من أهل البلدة. والذي يحقق ذلك أنا لم نصحح الجمعة من المقيمين في البوادي تحت الخيام والأخبية؛ فإنهم وإن أبرموا العزمَ، فالخيام مهيأة للنقل، فدل أن المعتبر إقامةٌ تامة، في محل مهيّأ لها، ولكن وإن حكمنا بأن العدد لا يتم بهم، فيلزمهم أن يحضروا، ويقيموا الجمعة إذا كملت العِدة بأصحاب الكمال. والسبب فيه أن سقوط الجمعة معدود من قبيل الرخص، وهؤلاء الغرباء إذا أقاموا على الصفة التي ذكرناها، لم يجز لهم أن يترخصوا بشيء من رخص المسافرين، فترتب على ذلك أنه يلزمهم الجمعة، ولا يتم بهم العدد. وذهب بعض أصحابنا إلى أن الغرباء، الذين تلزمهم الجمعة، يحكم بانعقاد الجمعة بهم، وهذا وإن لم يكن ظاهر المذهب، فليس بعيداً عن القياس. فأما أهل الكمال: وهم العقلاء، البالغون، الذكور، الأحرار، المقيمون، الذين يعدّون من أهل البقعة، ولا يعتادون الانتقال شتاء ولا صيفاً، فهم الذين يلزمهم، وتنعقد بهم الجمعة.

1423 - فهذا بيان أحكام طبقات الناس في أمر الجمعة (1 ثم جميعهم على درجاتهم، إذا حضروا وصلّوا الجمعة 1) وقد استجمعت شرائطها، فصلاتهم صحيحة، والسبب فيه أن الجمعة وإن كانت مقصورة في الصورة، فقد أُثبتت لأصحاب الكمال الذين لا عذر لهم، فلأن تصح من أصحاب المعاذير أولى، وهذا مجمع عليه. فصل 1424 - قد ذكرنا فيما تقدم المعاذير التي تترك الجماعات بسببها، وقد قال الأئمة: كل عذرٍ يُرخَص في ترك الجماعات المسنونة يُرخص لأجله في ترك الجمعة أيضاً، وقد مضى تفصيلُها. فمن جملة الأعذار المرض، ومنها تمريض مريضٍ والقيامُ عليه. وقد فصّل الأئمة هذا، فقالوا: إن كان له قريبٌ محتضَرٌ منزول به، فيجوز له ترك الجمعة، والوقوف عنده حتى يقضي نحبه، وإن فاتته الجمعة بهذا السبب، عُذر، والأصل فيه: "ما روي أن ابن عمر كان يَطَّيب يوم الجمعة ليروح إلى الجامع، فأخبر أن فلاناًً البدريَّ منزول به، فحضره وترك الجمعة" (2) وكان هذا البدري سعيدَ بن زيد ابنَ عمر بن نفيل، وهو من العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان قريباً لابن عمر. وجواز ترك الجمعة في هذه الصورة إنما هو لاشتغال القلب، لا لضرر ينال المنزولَ به، ولكن لو قضى نحبه في غيبة من يحضر الجامع، فقد يعظم وقعُه على قلبه، فساغ التخلف بهذا السبب، فليفهم الفاهم هذا وليتخذه أصلاً في الفصل.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) أثر ابن عمر، رواه البخاري في صحيحه، من حديث نافع. (ر. صحيح البخاري: 5/ 13، كتاب المغازي، باب (10) ح 3990، سنن البيهقي: 3/ 185، والتلخيص: 2/ 74، بدون رقم، آخر باب الجمعة).

وقد تقدم أن ترك الجمعة بعذر المطر جائز وفاقاً، وكذلك الوحل الشديد، على ظاهر المذهب. 1425 - والمرض الذي يجوز التخلف به لا يبلغ مبلغ الذي يجوز لأجله القُعود في الصلاة المفروضة، ولكنه مقيسٌ، معتبر بما يلقاه الماشي في الوحل والمطر، وبما ينال من يفوته موتُ قريبه من [المضض] (1)، ولو كان له زوجة أو مملوك، فهو عندي على معنى القريب، ولا يبعد أن يكون المولى كذلك، فإن الأئمة لم يفصلوا في القريب بين من يقرب إدلاؤُه وبين من يبعد. ولو كان ثمَّ مريض، فأراد أن يقوم بتمريضه، ويترك الجمعة، فإن لم يكن للمريض قريب (2)، ولم يكن بينه وبينه سبب مما ذكرتُه، وكان لا ينال المريضَ ضررٌ بمفارقته، فيتعين حضور الجامع، وإن كان المريض قريبَه، وكذلك إن كان للمريض من يتفقده في غيبته. 1426 - فأما إذا لم يكن لذلك المريض من يمرّضه، وكان يناله ضررٌ بغيبته، فهذا أبهمه الفقهاء، ولم يفصلوه على ما ينبغي، وأنا أقول فيه: من أشرف على الهلاك من المسلمين وأمكن إنقاذه، فإنقاذه فرض على الكفاية، ولو تركه أهلُ القُطر حتى هلك حَرِجوا من عند آخرهم، وعليه يخرج إطعام المضطر. وكان شيخي يذكر مجامع فرائض الكفايات في كتاب السير، وسنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وقدرُ غرضنا منه أن الذي يتعلق بفرض الكفاية، في هذا الفن الذي نحن فيه، الإنقاذُ من الهلاك، فأما إذا فرض جائعٌ قد بلغ به الجوع مبلغاً مضراً، فلست أرى تدارك هذا من فروض الكفايات؛ فإن هذا لو قيل به، لأدى إلى تأثيم خلق الله على عموم الأحوال؛ فإن الحاجة عامة، والضرر غالب في الأصحاء والمرضى. نعم يجب على الإمام تعهد هؤلاء وسد خلاّتهم من مال المصالح؛ فإن سبيل تعلّق استحقاق هؤلاء بمال بيت المال، كسبيل تعلق حق الولد الفقير بمال الأب الغني، فإذا كان في

_ (1) في الأصل، وفي (ط): المرض. والمثبت من (ت 1). (2) عبارة (ل): "فإن لم يكن المريض قريبه".

بيت المال مال، فهؤلاء محالون عليه، والدليل عليه أن من اضطر وانتهى إلى خوف الهلاك، فله أن يأخذ مال غيره، ولو جاع، لم يكن له ذلك. ولو خلا بيت المال عن المال، ففي هذا نظر كلي إيالي (1)، استجمعت أطرافاً منه في (الغياثي). وإنما نبهت على هذا المقدار لمسيس الحاجة إليه. فنقول: إن كان غيبة المرء عن المريض تؤدي إلى هلاكه، فلا شك أنه يترك الجمعة، ويقوم عليه سواء كان أجنبياً، أو كان بينه وبينه قرابةٌ، أو سبب، مما سبق ذكره. ولو قيل: ليس القائم عليه بأولى في كفاية ذلك من غيره، فليحضر الجامع، وليكل أمرَه إلى آخر. قلنا: هذا يتوجه إذن في حق كل من يقوم عليه، وفيه ما يؤدي إلى ضياعه، فإذاً يجوز أن يبتدره من يوفَّق لذلك، ويترك الجمعة. وإن لم يكن المريض بحيث يخاف عليه لو ترك، ولكن كان يناله ضرر ظاهر في ذلك، على حد الجوع المضرّ الذي [لا] (2) يبلغ مبلغ الضرورة كما تقدم وصفه، فهل يجوز لمن يريد القيام على المريض أن يترك الجمعة أوْ لا؟ نقول: إن كان يقوم على المريض من يكفيه، ممن لا يلزمه الجمعة مثلاً، فلا يجوز للكامل (3) أن يترك الجمعة بسبب القيام عليه؛ لمكان اشتغال قلبه بالغيبة عنه، بخلاف المنزول به القريب. وإن لم يكن للمريض من يقوم عليه، وكان يناله ضرر لا يبلغ كفايتُه مبلغ فروض الكفايات، ففي جواز القيام عليه، وترك الجمعة بسبب دفع الضرر عنه أوجه، جمعتُها من شرح التلخيص وغيره، أحدها - وهو الأفقه أن يترك الجمعة؛ فإنا لا نشترط في العذر الذي تترك الجمعة لأجله الضرورةَ، وشدةَ الحاجة، ودرءُ ضرر ظاهر عن مسلم ليس بالهين، وإن لم يكن من فروض الكفايات. وهذا القائل لا يفرق بين القريب والأجنبي، وهو اختيار الصيدلاني. والوجه الثاني - أنه لا يجوز ترك الجمعة لهذا؛ فإن هذا كثير، ولو تركت الجمعة

_ (1) إيالي: أي سياسي، والإيالة هي السياسة الشرعية. (2) مزيدة من: (ت 1). (3) الكامل: أي من تجب عليه الجمعة، وتكتمل فيه صفات الوجوب.

لمثله، لأدى إلى تعطيلها، فأما الإقامةُ على قريبٍ منزول به، فهو مما يندُر، وما ينال القلبَ عنه من التأسف على فوته شديد. والوجه الثالث - أنه يفرق بين أن يكون المريض قريباً، أو أجنبياً، والفرق في ذلك يعود إلى اشتغال القلب، وما يناله من مضض الرقة على القريب. فهذا مجموع القول في ذلك. 1427 - وترجمة الفصل أن ترك الجمعة للقيام بفرض كفاية سائغ في القريب والأجنبي، وتركُها بسببِ منزولٍ به جائز في حق القريب، ومن هو على سبب خاصٍ، كما تقدم ذكره، فأما تركها بسبب منزولٍ به أجنبي لمكان صداقةٍ، فلا يجوز أصلاً، إذا لم يكن ثمَّ دفعُ ضرر، وإن كان سبب الإقامة دفعَ ضرر، ليس دفعه من فروض الكفايات، ففيه الأوجه التي ذكرناها. فهذا تمام البيان في ذلك. 1428 - ثم نذكر بعد هذا تفصيلَ القول فيمن يُصلِّي الظهرَ قبل فوات الجمعة، فنقول: أصحاب المعاذير الذين لا تلزمهم الجمعة إذا أرادوا أن يقيموا صلاة الظهر، قبل فوات الجمعة، فيجوز ذلك لهم، ويُجزىء عنهم، ثم إذا كان ذلك العذر بحيث لا يرجى زواله، ولا يتأتى معه حضور الجامع، كالزمانة، فالأولى للموصوف بهذا العذر أن يصلي الظهر في أول الوقت رعاية لتعجيل الصلاة. وكذلك المرأة، وإن كان يتصور منها الحضور، فالأولى أن تلزم بيتها، والأنوثة لازمة، فالأولى لها أن تعجل الصلاة. فأما أصحاب المعاذير التي يتصوّر زوالُها، كالمريض مرضاً يتوقع أن يخف على الفور، وكالعبد يتوقع أن يعتق، والمسافر يتصور أن ينوي الإقامة، فالأولى لهؤلاء أن يؤخروا الظهر إلى فوات الجمعة. وكان شيخي يحكي وجهين في معنى الفوات: أحدهما - أن يرفع الإمام رأسه من الركوع في الركعة الثانية؛ فإنه إذا انتهى إلى ذلك، فقد فاتت الجمعة. والثاني - أن المرعي في هذا تصوّر الإدراك في حق كل واحد، فإن كان منزل من

فيه الكلام بعيداً، بحيث يعلم أنه قد انتهى الوقتُ إلى منتهى لو أنشأ فيه الخروجَ إلى الجامع، لما أدرك الصلاة، فهذا رجل قد فاتته الجمعة، [وربما] (1) يكون تقديراً في هذا الوقت في ابتداء الصلاة، أو لا يكون بعدُ شارعاً، فالمعشر في حق كل شخص تصور إدراكه. 1429 - ثم المعذور إذا صلى الظهر في أول الوقت، ثم زال عذرُه والجمعة غيرُ فائتةٍ بعدُ، فلا يلزمه المصير إلى الجامع؛ فإنه قد أدى فرض وقته، فإذا صلى المريض، والعبد، والمسافر، ثم بَرأَ المريض، وعتق العبد، وأقام المسافر -وإدراك الجمعة ممكن- فلا يلزمهم الجمعة. 1430 - قال ابن الحداد: لو صلى الصبيّ الظهر، ثم بلغ، لزمته الجمعة في هذه الصورة، واعتلّ بأنه أقام الظهر، وهو غير مكلف، وليس كغيره من المعذورين الذين لا تنافي معاذيرُهم التكليف. وقد ذكرنا في آخر باب المواقيت أن هذا مردود عليه؛ فإنه فرعه على قياس مذهب أبي حنيفة في أن الصبيَّ إذا صلى الظهر في غير الجمعة في أول وقته، ثم بلغ في أثناء الوقت، [فلا] (2) يلزمه إعادة الظهر، وإن لم يكن مكلفاً بما صلى. هذا كله في أصحاب المعاذير. 1431 - فأما من لم يكن به عذر ينافي وجوبَ الجمعة، فحقٌ عليه أن يحضرها ويقيمَها، فلو صلى الظهرَ قبل فوات الجمعة، فهل يصح؟ فيه قولان مشهوران: أحدهما - لا يصح؛ فإن الظهر في حقه في حكم البدل عن الجمعة، وإقامة البدل مع

_ (1) في الأصل، وفي (ط): وإنما. (2) من حقنا أن نقطع بأن النسخ الأربع اتفقت على خلل بزيادة (فلا)، فإن الذي نص عليه الأحناف وجوب إعادة الصلاة على الصبي إذا بلغ في أثناء الوقت بعدما صلاها قبل بلوغه. وحكى ابن عابدين إجماعهم على ذلك. ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 238، 494. ثم يؤكد هذا أيضاً أن إمام الحرمين في آخر المواقيت في الموضع الذي أشار إليه آنفاً حكى عن أبي حنيفة مثلما رأيناه عند ابن عابدين، مما يؤكد أنَ زيادة (فلا) خللٌ من النُّساخ والله أعلم. والحمد لله جاءت بدونها (ل) أخيراً.

وجوب المبدل وتصوّر القيام به لا يجزىء. والقول الثاني - يصح؛ فإن الظهر صلاة أُخرى، وهي أكمل في الركعات من الجمعة وأتم [فإن لم نصحح الظهرَ، فالأمرُ بحضور الجمعة قائم] (1). وإذا فاتت، لزم بعد الفوات إقامة الظهر مرة أخرى، وفي رجوع ما جاء به قبلُ نفلاً والحكم ببطلانه القولان المشهوران. وإن حكمنا بصحة الظهر، فيسقط عنه الأمر بحضور الجامع، إذا أقام الظهر؛ فإنه إذا صح الظهر، استحال بقاء الخطاب بغيره في وقته. وهذا فيه أمر غريب؛ فإنه بالإقدام على الظهر في حكم الساعي في ترك الجمعة، وذلك معصية. فكأن ما جاء به طاعة من وجه، معصية من وجه. والاختلاف في صحته قريب من الخلاف في صحة الصلاة المقامة في الوقت المكروه، كما تقدم ذلك في بابه. 1432 - ثم لو صلى الرجل الظهرَ، وأجزأ عنه، وكان معذوراً أو غير معذور، فلو حضر مع ذلك الجامعَ، وصلّى الجمعة، فإن فُرض ذلك في معذورٍ، فهو آت بما هو محثوث عليه، نعني بذلك غيرَ المرأة، فالفرض من الظهر والجمعة أيّهما؟ فهذا ينزل منزلة ما لو صلى الرجل في غير هذا اليوم صلاةً منفرداً، ثم أدرك جماعةً، فأعادها، ففي ذلك اختلاف، قد تقدم ذكره، وإن أردنا تجديدَه فقولان: أحدهما - أن الفرض هو الأول. والثاني - أن الفرض أحدهما لا بعينه، والله يحتسب بما شاء منهما. وهذان القولان في حق المعذور. فأما المصلي بلا عذر إذا صلى الظهر، ثم حضر الجمعة وأقامها، فلا شك أنه خرج عن المأثم الآن، ولكن المفروض من الصلاتين أيتهما، ذكر شيخي هاهنا أربعة أقوال: أحدها - أن المفروض هو الأول؛ فإنه لو اقتصر عليه برئت ذمته، والتفريع على أن الظهر مجزىء.

_ (1) زيادة من: (ت 1).

والثاني - أن الفرض الجمعة؛ فإنه بها خرج عن الحَرَج. والثالث - أنهما جميعاًً فرضان. والرابع- أن الفرض أحدُهما لا بعينه، وقد ذكرنا لهذا نظائر في كتاب الطهارة في باب التيمم عند جمعنا ما يُقضى من الصلوات وما لا يُقضى. 1433 - ويترتب على هذا غائلة: وهي أنا إذا قلنا: هما فرضان، فمن ضرورته أن نقول: خطاب الجمعة باقي إلى الفوات، وإن فرَّعنا على إجزاء الظهر، فهذا يضاهي من الصور المذكورة في التيمم، ما [إذا] (1) أوجبنا إقامة الصلاة في الوقت، ثم أوجبنا قضاءها. وإن قلنا: الفرضُ الجمعة، فهذا يشابه ما إذا قلنا في تلك المسائل: لا يجب فرض الوقت مع الخلل الواقع لعدم الوضوء والتيمم، والواجب هو القضاء عند إمكان الطهارة. وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن من صلى من غير وضوء ولا تيمم، وألزمناه القضاء، فلا يسقط عنه القضاء أصلاً، ما لم يأت به، ومن صلى الظهر، ثم تخلف حتى فاتته الجمعة، فقد سقط الفرض عنه، على قولنا الظهر مُجزىء، وعليه نفرع الآن. نعم [لو] (2) ضممنا في ترتيب المذهب القولَ بأن ظهره لا يصح إلى ما يجزئه، فيخرج حينئذ قول يشبه قولنا بأن القضاء لا بد منه في مسألة التيمم. 1434 - ويخرج من هذه الأقوال مسألة: وهي أن غير المعذور إذا صلّى الظهر، وقلنا: إن ظهرَه يُجزىء، ولو فاتت الجمعة، لا يجب القضاء. فإذا لم تفت، فهل يلزمه أن يحضر ويصلي الجمعة؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يلزمه الآن (3)، وقد سقط الخطاب لما فرغ من الظهر، وقد (4) أساء، وهذا إذا قلنا فرضه الظهر، أو أحدهما، إذا صلى الجمعة أيضاً.

_ (1) زيادة من (ل). (2) زيادة من: (ت 1). (3) ساقطة من (ت 1). (4) في (ت 1): وإن.

والثاني - يلزمه الحضور، وهذا إذا قلنا: هما فرضان، ثم لو فاتت الجمعة، كفى الظهر؛ فإنا لو لم نكتف به، لأوجبنا قضاء الظهر، وقد تقدم الظهر مجزئاً. فليتأمل الناظر حقيقةَ ذلك، وليَحكُم [بخبط] (1) التفريع على أن الأصح أن الظهر غيرُ مجزىء من غير المعذور. فصل 1435 - قد ذكرنا فيما تقدم أن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين من أهل الكمال، وذكرنا اختلافَ الأصحاب في أن الإمام منهم، أو هو الحادي والأربعون، فإذا تجدد ذكر هذا، قلنا بعده: اختلف قول الشافعي في أن إمام الجمعة لو كان صبياً، أو متنفلاً، فهل تصح جمعة القوم خلفه؟ فأحد القولين لا تصح؛ فإن هذه الصلاة مبناها على رعاية الكمال في أهل الجماعة، والإمام ركنُ الجماعة؛ فإنه لا تتصور الجماعة دونه، فإذا كان متنفلاً، فليس في صلاة الجمعة، والصبي وإن نوى الجمعةَ، فصلاته نفل. والقول الثاني - أنه تصح جمعة القوم؛ فإن الغرض حصول الجماعة، واختلافُ نية الإمام والمأموم لا تمنع صحة الجماعة عندنا. واختلاف القول مفرعّ على ما إذا تم الأربعون على الكمال دون الإمام، فأما إذا لم يزد القوم مع الإمام على الأربعين، فكان الإمام صبياً، فلا جمعة؛ فإن العدد قد نقص من أهل الكمال، وكذلك إذا كان الإمام متنفلاً في هذه الصورة. فليفهم الناظرُ موضعَ التفصيل. ولو اقتدى أربعون من أهل الكمال فصاعداً [بإمامٍ] (2)، ثم بان أنه كان محدثاً، ففي صحة جمعتهم قولان أيضاً؛ فإن الاقتداء بالجنب مع الجهالة جائز عندنا في غير صلاة الجمعة.

_ (1) في الأصل، وفي (ط): الخبط. (2) مزيدة من (ل).

1436 - ثم كان شيخي يرتب هذه المسائل، ويقول: في المتنفل، والصبي، قولان، [وفي المحدث قولان] (1)، مرتبان، والجمعة معه أولى بالبطلان، والفرق ظاهر، وسيأتي تفريعات على صلاة الجنب توضح ما ذكرناه إن شاء الله. ولو كان إمام القوم عبداً، أو مسافراً، فإن كان القوم مع الإمام أربعين، فلا جمعة؛ فإنه لم يحصل الكمال في العدد، وإن زادوا، فكمل عدد أهل الكمال دون الإمام، فقد قال شيخي: إن كنا لا نعد الإمامَ من الأربعين، فكأنا لا نعتبر العدد إلا في المقتدين، فنعتبر الكمال فيهم، ولا يضر أن يكون الإمام عبداً، أو مسافراً. وإذا قلنا: الإمام معدود من الأربعين، فإذا تم القوم أربعين على الكمال، وكان الإمام عبداً أو مسافراً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الجمعة تصح، وهو ظاهر المذهب؛ فإن العدد قد تم في كاملين، وجمعة العبد صحيحة. والثاني - أنه لا تصح؛ فإن الإمام إذا عُد في الأربعين، فهو ركن، فينبغي أن يشترط فيه الكمال، وإن كثر القوم وكملوا. وهذا وإن أمكن توجيهه، فلا أعده من قاعدة المذهب. 1437 - وترجمة الفصل أن القوم إن كانوا مع الإمام أربعين، وكان الإمام ناقصاً، أو متنفلاً، فلا تصح الجمعة، وإن زادوا، وكان المقتدون الكاملون أربعين، والإمام متنفل أو صبي، فعلى قولين. وإن [كنا] (2) نشترط أن يكون الإمام زائداً على الأربعين، فإن كان الإمام عبداً أو مسافراً، وقلنا: الإمام زائد، فتصح الجمعة. وإن قلنا: يجوز أن يكون الإمام من الأربعين، فلو كمل الأربعون دونه، وكان الإمام الزائد عبداً أو مسافراً، فقد ذكر الأئمة وجهين، والأصح الصحة. فرع: 1438 - المعذور إذا تخلف وافتتح الظهر، ثم زال العذر في أثناء الصلاة،

_ (1) زيادة من (ت 1). (2) ساقطة من الأصل، ومن (ط).

ونحن نفرع على أن غير المعذور لا يصح ظهره، قال رضي الله عنه (1): أجرى القفال هذا مجرى ما لو تحرم المتيمم بالصلاة على الصحة، ثم رأى الماء في خلال الصلاة، وهذا حسن بالغ، ثم لا يخفى تفريعه في الوجوه المذكورة في التيمم. فصل 1439 - إذا زالت الشمس يومَ الجمعة، وكان الرجل من أهل استيجاب الجمعة، فلا يجوز له أن يسافر حتى يقيم الجمعة. ولو لم تزل الشمسُ بعدُ، فهل يجوز له أن يسافر؟ في نص الشافعي تردُّدٌ. وقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يحرم السفر كما (2) طلع الفجر يوم الجمعة؛ فإن هذا الشعار وإن كان وقته بزوال الشمس، فهو مضاف إلى اليوم، ولهذا يعتد بغُسل الجمعة إذا وقع قبل الزوال. والثاني - أنه يجوز أن يسافر؛ فإن وقت وجوب الجمعة يدخل بزوال الشمس، فلا معنى للحَجْر قبله. ومن أئمتنا من قطع بجواز المسافرة قبل الزوال، وحمل نص الشافعي على التأكّد. 1440 - قال الشيخ أبو بكر: إنما تردد الأئمة فيه إذا لم يكن السفر واجباً، أو لم يكن سفر طاعة، فإذا كان واجباً، أو طاعة، لم يمتنع الخروج قبل الزوال بلا تردد، واستشهد عليه بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جهز جيش مؤتة، وأمّر عليه جعفر الطيار، وذكر ابنَ رواحة إن أصيب جعفر، فخرجوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُكرة يوم الجمعة، فلما تحلّل النبي عليه السلام رأى عبدَ الله بنَ رواحة، فقال: "ما الذي خلفك عنهم"؟ فقال: "أردت أن أصلي الجمعة ثم أروح". فقال عليه السلام: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاًً ما أدركت غُدوتهم" (3).

_ (1) يريد بالقائل هنا شيخه. أبو محمد: الجويني الكبير. (2) "كما" بمعنى "عندما". (3) حديث تخلف عبد الله بن رواحة عن أصحابه، رواه أحمد، والترمذي من حديث مقسم عن ابن =

والذي ذكره فيه بعض النظر: فأما إذا كان السفر واجباً، فلا شك، وهكذا كانت سفرتهم؛ فإن امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم متعيّن، وكان رأَى رأياً، واتبع وحياً، فأما القطعُ بذكره في سفر طاعة لا يجب، ففيه نظر، مع العلم بأن إقامة الجمعة مقدمة على الطاعات التي لا تجب، ولكن ما ذكره متجه؛ من جهة أن الجمعة قبل الزوال لا تجب، فانتظارها قبل الزوال في حكم الطاعة، غير أن مساق هذا يخير في السفر؛ فإن الطاعة إذا لم تجب، جاز تركها بالمباح. فإن قيل: إذا زالت الشمس، لم يتعين إقامة الصلاة؛ فإن الصلاة إن وجبت، فإنما تجب وجوباً موسعاً، وظاهر المذهب أن من أَخَّر الصلاة لأول وقتها، ومات في أثناء الوقت، لم يمت عاصياً، فهلا خرج وجه في جواز السفر بعد الزوال؟ قلنا: الناس تبع للإمام في هذه الصلاة [فلو عجلها] (1)، تعينت متابعته وسقطت خِيرةُ الناس، [في] (2) التأخير، وإذا كان كذلك، فلا يُدرى متى يقيم الإمام الصلاةَ، فتعين انتظارُ ما يكون منه، فهذا وجه التنبيه على أطراف الكلام (3). ...

_ = عباس (ر. الترمذي: 2/ 405، الجمعة، باب ما جاء في السفر يوم الجمعة، ح 527، وأحمد: 1/ 256، والبيهقي: 3/ 187، وذكره البغوي في شرح السنة: 4/ 227، وليس فيه تحديد أنه كان في غزوة مؤتة، والتلخيص: 2/ 70). (1) ساقط من الأصل، ومن (ط). (2) في الأصل وفي (ط): فإن. (3) إلى هنا انتهى الجزء الثاني من نسخة (ت 1). ونص خاتمته: "نجز الجزء الثاني من نهاية المطلب ولله المنة ويتلوه في الثالث إن شاء الله "باب الغسل للجمعة والخطبة" ووافق الفراغ من نسخه لأربع إنْ بقين من شهر ذي الحجة سنة ست وستمائة. الحمد لله رب العالمين كثيراً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلّم. حسبنا الله ونعم الوكيل". كما انتهى هنا أيضاً الجزء الرابع من نسخة (ط) وجاء في خاتمته " .. يليه الجزء الخامس مبدوء أوله بباب الغسل للجمعة والخطبة" وليس فيه تاريخ النسخ.

باب الغسل للجمعة والخطبة

باب الغسل للجمعة والخطبة غسل الجمعة فندوب إليه مؤكد، قال الشيخ أبو بكر: تركه مكروه. وهذا عندي جار في كل مسنونٍ صح الأمر به مقصوداً، وقد ذكرت حقيقة المكروه في فن الأصول. 1441 - ثم لا يستحب غُسل الجمعة إلا لمن يحضر (1 الجامع، وغسل العيد مستحب لمن يحضر 1) المصلى، ولمن يلزم بيته؛ فإنه يومُ الزينة العامة، والأولى أن يقرب غُسل الجمعة من وقت الرواح؛ فإن الغرض التنزه، وقطعُ الروائح الكريهة، ولو اغتسل المرء بعد طلوع الفجر يوم الجمعة أجزأ، وإن كان متقدماً على الرواح بأزمان طويلة، ولو اغتسل قبل طلوع الفجر للجمعة، لم يعتد بغسله، ولو اغتسل للعيد قبل الفجر، ففيه وجهان، سنذكرهما في صلاة العيد. وحكى الشيخ وجهاً عن محمد (2) أن غسل الجمعة قبل طلوع الفجر يجزىء، ثم غلّطه وزيّفه، وهو خطأ لا شك فيه.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) هذه هي المرة الثانية التي يرد فيها إشارة إلى نقل (الشيخ) في الشرح عن (محمد) هكذا مطلقاً بغير قيد ولا وصف. ولا يُدْرى من (محمد) هذا، الذي قال إمام الحرمين: "إن الشيخ كثيراً ما يحكي عنه في الشرح" هل هو محمد بن الحسن كما يتبادر إلى الذهن؟ أم من رجال المذهب؟ وقد أشار النووي والرافعي إلى هذا الذي حكاه إمام الحرمين عن (محمد) ولم ينسباه إلى قائل، ونصُّ عبارة النووي: "وانفرد إمام الحرمين بحكاية وجه أن (غسل الجمعة) يجوز قبل طلوع الفجر كغسل العيد. ا. هـ. ونص عبارة الرافعي: "وفي النهاية حكاية وجه بعيد أنه يجزىء قبل الفجر، كما في غسل العيد". ا. هـ. (ر. المجموع: 1/ 534، فتح العزيز: 1/ 615). وهذه العبارة من النووي والرافعي توحي بأن النقل عن أحد أئمة المذهب أصحاب =

1442 - ومما ذكره الشيخ أبو بكر (1)، وهو واضح، ولكني أحببت نقله منصوصاً، وفيه احتمال أيضاً: إذا قيل: لو سَلِم أعضاءُ الوضوء من إنسان، وتقرح سائر بدنه، وعسر عليه إقامةُ الغسل، فإنا نأمره بأن يتيمم بدلاً عن الغسل؛ فإن التيمم ثابت في الطهارات التي يعجز المريض عنها، وفيه احتمال [من جهة] (2) أن هذا الغُسلَ منوط [في] (3) الشرع بقطع الروائح والتنزه، والتيمم لا يقوم مقامه، والظاهر ما ذكره.

_ = الوجوه، وليس عن محمد بن الحسن. وربما يرجح هذا أن عيسى بن أبان بن صدقة (من أعلام الحنفية)، حينما روى نقلاً عن الشافعي، ناقش أئمة المذهب قضية قبول نقل المخالف عن إمامهم، وعرض النووي نفسُه لهذه القضية، وعلل لقبول النقل بأن عيسى بن أبان ثقة. (ر. المجموع: 1/ 151، والدرة المضية: مسألة رقم 23). وأعني بهذا أن تخريج الوجوه على نصوص الشافعي، وهو استنباطٌ بالرأي والاجتهاد، كان أحق بالتوقف والتردد في قبوله، أي أن سكوت النووي والرافعي ونَقْلَهما حكايةَ إمام الحرمين للوجه في (النهاية) عن (محمد) يدل على أنهما فهما أنه محكي عن أحد أصحاب الوجوه في المذهب، واسمه (محمد). ولكن يبقى السؤال قائماً: من يعني الشيخُ في الشرح (بمحمد)؟ وهذا هو سؤال إمام الحرمين نفسه، حينما أشار إلى وجه له في صلاة المسافر. ومما يؤيد ترجيحنا أن المعنيّ هنا غيرُ محمد بن الحسن، ما رأيناه في كتب الأحناف، حيث لم يذكر خلافٌ في وقت الغسل للجمعة، وإنما الخلاف عندهم في أن الغسل لليوم أو للصلاة، وحتى في هذه لم يشيروا إلى خلاف محمد بن الحسن، بل الخلاف فيهما بين الحسن بن زياد، وأبي يوسف. فكيف يعقل أن يشتهر رأيٌ لمحمد بن الحسن، ويتناقله الشافعية في كتبهم، على حين لا يعرفه الأحناف، ولا يذكرونه في الكتب الأمهات لمذهبهم. (ر. بدائع الصنائع: 1/ 270، فتح القدير: 1/ 67، حاشية ابن عابدين: 1/ 113) والله أعلم. (1) الشيخ أبو بكر، المراد به الصيدلاني، كما عبر عنه الإمام قبل ذلك. وقد تأكد هذا هنا بالرجوع إلى النووي، حيث قال في المجموع: "ولو عجز عن الغسل لنفاد الماء، بعد الوضوء، أو لمرضٍ، أو لبردٍ، أو غير ذلك، قال الصيدلاني، وسائر الأصحاب: يستحب له التيمم، ويحوز به فضيلة الغسل، لأن الشرع أقامه مقامه عند العجز. قال إمام الحرمين: هذا الذي قالوه هو الظاهر وفيه احتمال، من حيث إن المراد بالغسل النظافة، ولا تحصل بالتيمم". ا. هـ. (ر. المجموع: 4/ 534). (2) مزيدة من: (ت 1). (3) في الأصل وفي (ط): إلى.

1443 - [ثم] (1) عدّ صاحب التلخيص الأغسال، [فبدأ بما يجب منها، وهو الأربعة المذكورة في كتاب الطهارة، وزاد بعدها] (2) الأغسال المسنونة، فقال: منها غسل الجمعة، وغسل العيدين، والغسل من غسل الميت، والغسل للإحرام، والغسل للوقوف بعرفة، والغسل لمزدلفة، والغسل لدخول مكة، وثلاثة أغسال أيام التشريق، وهذه الأغسال منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وذكر الغسل لدخول الكعبة، وحكى قولاً في القديم أنه يغتسل لطواف الوداع خاصة. 1444 - وذكر الغسل إذا أسلم الكافر، وهو ثابت، ولكن إن كان الكافر جنباً فأسلم، لزمه الغسل، وإن كان اغتسل في الكفر، فالمذهب أنه لا يصح غسله، وإنما التفصيل والتردد في الكافرة تحت مسلم، تغتسل إذا طهرت عن الحيض، وأبعد بعض أصحابنا، فطرد صحةَ القَوْل في حق كل كافر، وهذا ذكره أبو بكر الفارسي، فغلّطه الأصحاب فيه، وحكاه الشيخ في الشرح. وإن لم يكن الكافر جنباً، فنستحب غُسلاً بسبب الإسلام. واختلف الأئمة في وقته، فمنهم من قال: يسلم ثم يغتسل؛ فإن حق القربات أن تقع بعد الإسلام، ومنهم من قال: يغتسل قبل إظهار الإسلام، وفي الأخبار إشارة إلى هذا، وهذا فيه نظر؛ فإن الأمر بتأخير الإسلام محال، والمعرفة إن ثبتت لا يمكن دفعُها، وإن كان المراد إظهار الشهادتين، فلا وجه لتأخيره؛ فإنه مما يجب على الفور. نعم: لو قيل: لو بدأ تباشيرُ الهداية، فابتدر الكافرُ، واغتسل، ثم أقبل وهداه الله في الحال الذي وصفناه. فهل يعتد به؟ فيه احتمال وتردد. 1445 - ومما ذكره: الغسل بعد الإفاقة من إغماءٍ، أو جنون، وهذا صحيح، وفي مرض وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يغشى عليه، فإذا أفاق قال:

_ (1) زيادة من: (ت 1). (2) الزيادة من (ت 1) وقد أصلحنا تحريفها، فقد كانت هكذا: "ثم عد صاحب التلخيص الاغتسال قيداً بما يجب منها، وهو له أربعة، المذكورة في كتاب الطهارة، وأراد بعد عدّ الأغسال المسنونة ... ".

"ضعوا لي ماء في المِخْضَب" (1)، وكان يغتسل. وقد أوجبه بعض السلف. ومما عده غسل الحجامة، وقد أنكره معظم الأصحاب، وقالوا: لا نعرف له أصلاً. وذكر الغسل على من يخرج من الحمام، وأنكره المعظم من غير سبب يقتضيه. 1446 - ثم قال: بعض هذه الأغسال اختيار، وأراد بذلك أنها لا تبلغ درجة الوَكادة، وعدَّ في ذلك غسل الكافر إذا أسلم، وغسل الحجامة، وغسل الحمام، وعدّ من هذا القسم الغسلَ من غسل الميت، وهذا غلط باتفاق الأصحاب؛ فإنه من الأغسال المؤكدة، وللشافعي قول: إنه آكد من غسل الجمعة، وذكر الساجي (2) وجهاً بعيداً أنه واجب، وكذلك الوضوء من مس الميت، وعندي أني ذكرته في كتاب الطهارة. فصل 1447 - نقل المزني آداباً في الخطبة والأذان، ثم قطع الكلامَ وأتى بكلام آخر (3)، ونحن نرى أن نذكر -بعد هذا- جميعَها وِلاء نَسَقاً (4). والذي ذكره بعد تلك المبادىء تفصيلُ القول في المسبوق إذا أدرك من الجمعة [شيئاًً] (5)، ونحن نستقصي القول في ذلك إن شاء الله، فنفرض قولاً في غير الجمعة، ثم نعود إلى الجمعة.

_ (1) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 84 ح 235). (2) في (ط): الباجي. والساجي هو: زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن، أبو يحيى، أحد الأئمة الثقات، أخذ عن المزني، والربيع. له مصنف في الفقه والخلافيات، سماه أصول الفقه. ت 307 هـ. (طبقات الشافعية الكبرى: 3/ 299). (3) انظر هذا في المختصر: 1/ 136. وسترى أن الأمر كما وصف إمام الحرمين. (4) أي يذكر آداباً في الخطبة والأذان وِلاءً، ولا يقطعها كما فعل المزني في المختصر الذي ألزم نفسَه السيرَ على ترتيبه. وهذا من المواضع التي توحي بتبرم الإمام من ترتيب المختصر. (5) مزيدة من: (ت 1).

1448 - فنقول: إذا قام الإمام في صلاة الصبح إلى الركعة الثالثة ساهياً، فدخل داخل، فاقتدى به على ظن أنها الركعة الثانية، فإن أدرك الركعة بتمامها: قراءتَها وقيامَها، فالمذهب أنه مدرك لهذه الركعة؛ فإنه صلى ركعةً تامة، وغاية ما في المسألة أن الركعة غير محسوبة للإمام، فجعل كان المقتدي اقتدى بإنسان، ثم بان أن إمامه كان محدثاً، فصلاة المقتدي صحيحة، وذكر الشيخ أبو علي وجهاً بعيداً أن المقتدي بالإمام في الركعة الثالثة لا يكون مدركاً للركعة؛ فإنها في حكم اللغو، والغالب أن يظهر مثله؛ فإنها زيادة محسوسة، وطهارة الإمام وحدثُه أمر باطن، فكانت الركعة [الثالثة] (1) في حكم الاقتداء بالكافر؛ فإن الكفر مما يظهر غالباً. وهذا الذي ذكره بعيد جداً، ولو طرد قياسه، للزم أن يقال: لا تنعقد صلاة المقتدي، كما لا تنعقد صلاة من اقتدى بكافرٍ على الجهل بحاله؛ إذ لو علم أن الإمام قائم إلى الثالثة ساهياً، ثم إنه اقتدى به، لم تنعقد صلاته، وقد قطع رضي الله عنه بأن اقتداء المقتدي منعقد في الركعة الثالثة، وقد ينقدح فيه أن سبب انعقاد الصلاة أن الإمام ليس خارجاً عن الصلاة بملابسة السهو الذي صدر منه، والكافر ليس في صلاة أصلاً. فليتأمل الناظر ذلك. فهذا إذا أدرك المقتدي تمامَ الركعة على جهل. 1449 - فأما إذا دخل، فأدركه في ركوع الركعة الثالثة، فإن قلنا: لو أدرك جميعَ الركعة، لم يكن مدركاً، فإذا أدرك الركوعَ، فلأن لا يكون مدركاً أولى، وإن قلنا: إذا أدرك الركعة التامة يكون مدركاً وهو المذهب، فإذا أدرك الركوعَ، فالمذهب وما قطع به الأئمة أنه [لا] (2) يصير مدركاً لهذه الركعة؛ فإن الركوع ليس محسوباً للإمام، فكيف يصير متحملاً عمن أدركه فيه؟ وكذلك لو أدرك المسبوق الإمامَ المحدِث في ركوع ركعةٍ، فلا يصير مدركاً للركعة.

_ (1) زيادة من (ت 1). (2) زيادة من (ت 1).

وذكر الشيخ أبو علي وجهاً بعيداً في شرح الفروع أنه يصير مدركاً للركعة؛ فإنه لو أدرك كلّ الركعة، لكان مدركاً، فكذلك إذا أدرك ركوعَها. وهذا وإن كان بعيداً، فهو عندي يستند إلى أصل، وهو أن قول الشافعي اختلف في أن إمام الجمعة لو بان محدثاً، فهل تصح جمعة القوم أم لا؟ ففي قولٍ تصح، ولا خلاف أن الانفراد بصلاة الجمعة لا يجوز، فإنَّ شرطَ إجزائها والاعتداد بها القدوة، فإذا قضينا بصحة الجمعة، فقد قضينا بصحة القدوة عند الجهالة بحدث الإمام، فعلى هذا لا يمتنع أن نجعل مدرك الركوع من صلاته مدركاً للركعة على الجملة. وهذا كله في غير صلاة الجمعة. 1450 - فأما إذا فرض قيام الإمام في الجمعة إلى الركعة الثالثة ساهياً، فلو دخل مسبوق واقتدى به في هذه الركعة من أولها، وأدرك قيامَها وقرأ ما يجب أن يقرأ، فهل يصير مدركاً لصلاة الجمعة؟ فيه وجهان مشهوران، مبنيان على القولين في أنه لو بان الإمام محدثاً، فهل تصح الجمعة؟ والفرق بين الجمعة وغيرِها من الصلوات أن الجماعة شرط في الجمعة، ومن ضرورة (1) الجماعة إمام يُقتدى به، فإذا تبين أخيراً أن الإمام [محدثٌ] (2)، فقد تحقّقَ انعدام شرط معتبرٍ في صحة الصلاة، ولو اقتدى المسبوق به في الركعة الزائدة، وهو عالم بحاله، لم يصح اقتداؤه وفاقاً. فهذا إذا أدركه في جميع الركعة. فأما إذا أدركه في ركوع الركعة الزائدة، فإن قلنا: لو أدركه في جميعها، لم يكن مدركاً، فما الظن به إذا أدركه في الركوع؟ وإن قلنا: لو أدركه في تمامها، لكان مدركاً، فالمذهب أن الإدراك في الركوع لا يكون إدراكاً، وفيه وجه بعيد في النهاية (3) أنه يصير مدركاً.

_ (1) (ت 1): شرط. (2) هذه الزيادة تقديرٌ منا، حيث سقطت من النسخ الثلاث. ونسجد لله شكراً؛ فقد صدقتنا نسخة (ل) بعد حصولنا عليها. (3) بعيد في النهاية: أي في نهاية البعد.

وهذا ترتيب الشيخ أبي علي في شرح الفروع. واختيارُ ابن الحداد في الجمعة أن المدرك لتمام الركعة لا يكون مدركاً للجمعة. 1451 - ومما يتصل بذلك أن الإمام لو كان نسي السجود من الركعة الأولى، وتداركه في الثانية، فيحصل له من الركعتين ركعة واحدة، على الترتيب الذي تقدم في باب سجود السهو، فإذا قام في الصلاة إلى الركعة الثالثة، فهذه ثالثة في الصورة ثانية في الحقيقة، ولا شك أن من أدركه في جميعها أو ركوعها، فهو مدرك للجمعة، وبمثله لو نسي السجود في الركعة الثانية، وقام إلى الثالثة ناسياً فقيامه وركوعه، ورفعه الرأس في هذه الركعة (1) غيرُ محسوب، بل عمله فيها كلا عمل، وإنما يعتد فيها بما يأتي به من السجود، فالمسبوق لو أدرك في هذه الركعة، فقد أدرك في زائدة، وقد ذكرنا التفصيل فيه على ما ينبغي. 1452 - وابن الحداد يرى أن الاقتداء بالإمام في الركعة الزائدة غيرُ محسوب، وهذا أصح الطرق. 1453 - ونحن نفرع عليه فرعاً هو تمام الكلام. فنقول: إذا كان الإمام نسي السجود من الركعة الأولى، ثم أتى في الركعة الثانية بالسجود، وإنما تنبه لما جرى له عند انتهائه إلى السجود في الركعة الثانية، فقام إلى الركعة الثالثة -وهذا هو الواجب عليه- فهذه صورة المسألة التي [نطلبها] (2)، فلو أدركه مسبوق [في أول] (3) الركعة الثانية، وأقامها بتمامها معه، وظن أنها الركعة الأولى، ثم قام مع الإمام إلى الركعة الثالثة، وأتمها، فلا شك أن المسبوق يصير مدركاً للصلاة؛ فإنه أدرك ركعة محسوبة للإمام. 1454 - ثم قال القفال: إذا سلم الإمام، يسلم معه؛ فإنه قد صلى ركعتين

_ (1) أي الثالثة. (2) في الأصل، وفي (ط): نبطلها. (3) ساقط من الأصل، ومن (ط).

تامتين، وأدرك حقيقة الجماعة في إحداهما، فإن [كان] (1) في حكم المنفرد في الركعة الأولى على ما يرتضيه ابن الحداد، فانفراد المسبوق في صلاة الجمعة بركعةٍ لا يضر، بعد أن يصح له إدراك الركعة (2). ثم وجه على نفسه سؤالاً وانفصل عنه، فقال: لو صح ما ذكرتموه على هذا الوجه، للزم أن يقال: لو نوى الإنسان الانفراد بركعةٍ، ثم اقتدى بالإمام في الركعة الثانية، يصح ذلك منه؟ ثم قال مجيباً: هذا لا يصح في صلاة الجمعة؛ فإنه بنية الانفراد تاركٌ للقدوة في ابتداء الصلاة، والقدوة شرط الجمعة، ووقت نيتها التحرّم، وتكبيرة العقد، وفي المسألة التي نحن فيها نوى القدوةَ في وقتها، فحصلت، وتحقق الإدراك في ركعة. هذا قول القفال، حكاه عنه كذلك الصيدلاني، وقطع به. 1455 - وحكاه الشيخ أبو علي، ثم لم يرضه، وقال: المقتدي على أصل ابن الحداد لم يدرك من صلاة الإمام إلا ركعة واحدة، هي المحسوبة (3)، فإذا اطلع المقتدي أخيراً على حقيقة الحال، وسلَّم الإمامُ، فينبغي أن يقوم ويصلّي ركعةً أخرى، فهذا (4) يُتم صلاتَه، والسبب فيه أن القدوة لم تتحقق في الركعة التي هي صورة ثانية الإمام؛ فإنها لم تكن محسوبة، ولا يصح من المسبوق تقديم الانفراد على الجماعة في الجمعة، فالذي جاء به أولاً انفرادٌ، قبل حصول حقيقة الجماعة في الركعة الأخيرة، فلم يعتد به، فإذا أدرك الركعة المحسوبة، وهي الأخيرة، فليقم بعدها إلى الركعة التي ينفرد بها المسبوق بعد تحلل الإمام، والمسألة محتملة جداً، وما ذكره الشيخ أبو علي متوجه على ما اختاره ابن الحداد وصححه. 1456 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أن الإمام لو نسي السجود من إحدى الركعتين، وقام إلى الثالثة ليتدارك، وكان لا يدري أنه نسي السجود من الأولى أو

_ (1) مزيدة من (ت 1). (2) في (ت 1): ركعة. (3) في (ت 1): وهي محسوبة. (4) في (ت 1): وبهذا تتم.

الثانية، فإذا أدركه المسبوق في هذه الثالثة، فلا شك أنا في التفريع على الصحيح نقول: إذا كان نسي السجود من الثانية، فثالثته غير محسوبة إلا السجود منها، ولو قدرنا ذلك، فلا يكون المسبوق مدركاً على الرأي الظاهر، وإن كان نسي الإمام السجود من الركعة الأولى، فالثالثة محسوبة من صلب الصلاة، والمسبوق مدرك، ولو أشكل الأمر، ولم يدر أنه ترك السجود من الأولى أم من الثانية، فنأخذ في حق المسبوق بالأسوأ، ويُقدر كأنه ترك من الثانية؛ حتى لا يكون مدركاً للجمعة. على الأصح الذي اختاره ابن الحداد. 1457 - ثم حيث قلنا: لا يكون مدركاً للجمعة، فهل يكون مدركاً للظهر؟ فإن الجماعة ليست مشروطة فيها، فهذا ينبني على أن الظهر هل تصح بنية الجمعة؟ وقد مضى التفصيل في الركعة الزائدة إذا أدركها المقتدي في غير صلاة الجمعة. وقد تقرر الغرض من الفصل، فلا حاجة إلى إعادته. فصل قال: "وإذا زالت الشمسُ، وجلس الإمام ... إلى آخره" (1) 1458 - نذكر في هذا الفصل ما يشترط في الخطبتين، وما يستحب فيهما. فنقول أولاً: الخطبتان لا بدّ منهما، ولا تكفي الواحدة، والشافعي اعتمد الاتِّباع، وهو الأصل فيما لا يعقل معناه، ويجلّ خطره، فما صادف الروايات لا يختلف فيها، بل تتفق، [أوجبه محتاطاً] (2)، وعلى هذا بنى العددَ (3) الذي ذكرناه.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 135. (2) في الأصل وفي (ط): أوجه محاطاً. (3) المراد تعدد الخطبة. والروايات التي يشير إليها، منها ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر: "أنه صلى الله عليه وسلم، كان يخطب خطبتين يقعد بينهما" وفي رواية النسائي: "كان يخطب الخطبتين قائماً" وفي أفراد مسلم عن جابر بن سمرة، كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان ... " وفي الطبراني عن السائب بن يزيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب =

وأبو حنيفة لما لم يلزم الاتباع، فلم يزل يخلّ قليلاً قليلاً، حتى اكتفى بأن يقول الإمامُ قبل الصلاة: "سبحان الله" في نفسه (1)، ولا شك أن هذا إسقاطٌ لشعار الخطبة، ومذهبه في هذا بمثابة أصله في أقل الصلاة. ونحن نذكر أركان الخطبتين، ثم نذكر شرائطهما، ثم نعود فنذكر رعاية الآداب فيهما، من أول الافتتاح إلى الاختتام. 1459 - فأما الأركان، فقد قال أئمتنا: المرعيّ المتبع في الخطبتين خمسةُ أشياء:

_ = للجمعة خطبتين يجلس بينهما". (ر. التلخيص: 2/ 58 ح 627، البخاري: الجمعة، باب الخطبة قائماً، ح 920، وباب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة، ح 928، مسلم: الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، ح 861، 862، والنسائي: الجمعة، باب (32) ح 1416 - 1418، والكبير للطبراني: 6661). (1) الخطبة عند الأحناف شرطٌ لصحة الجمعة، ويتحقق الشرط بخطبة واحدة، ويسنّ خطبتان. أما كيفيتهما، فيسنّ أن تكونا خفيفتين، وتكره زيادتهما على قدر سورة من طوال المفصل، كما يكره قِصرهما عن قدر ثلاث آيات. كراهة تنزيه. أما أقلّ ما يتحقق به الشرط (الخطبة) فيكفي فيه تسبيحة، أو تحميدة، حتى لو عطس فحمد الله لعطاسه، ثم نزل عن المنبر، لكفاه ذلك. (لم نر في كتبهم تصريحاً بأنه يكفي تسبيحة في نفسه). ذلك أنهم فسّروا (الذكر) بالخطبة في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فكفى عندهم فيها مطلق الذكر، وأقل ما يقع عليه الاسم. (ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 543، بدائع الصنائع: 1/ 262، 263). وكما ترى ليس معنى كلام الأحناف أنهم يدعون إلى الاكتفاء في الخطبة بتسبيحة أو تحميدة، بل يكرهون ذلك. ولذا كنا نتمنى ألا نرى هذا الغمز من إمام الحرمين للإمام الأعظم أبي حنيفة. رضي الله عنهم جميعاًً. وعسى أن تهيىء لنا الأقدار أدلة تثبت أن هذا الكلام مدسوس على إمام الحرمين، وزيد في كتبه، ومن يدري ربما تقع لنا نسخة عالية الإسناد، قريبة من عصر المؤلف، أو مقروءة عليه خالية من هذا الطعن في أبي حنيفة، وعسى أن يكون قريباً. ويؤيد توقعنا هذا أن الإمام الغزالي تلميذ إمام الحرمين، ابتلي بهذا -في حياته- فدسوا عليه في كتبه طعناً في أبي حنيفة، ولكنه استدرك الأمر. (في قصة تطول، ولها مكان آخر).

الحمد لله، والصلاةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوصيةُ بتقوى الله، وقراءة القرآن، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات. ثم اتفقوا أنه يجب في الأولى والثانية في كل واحدة منهما الحمد لله، والصلاة، والتوصية بالتقوى، فهذه الأركان الثلاثة لا بد منها في كل خطبة. وفي بعض التصانيف (1) أن المقصود حث الناس على التقوى، والحمدُ والصلاة، وإن وجبا جميعاًً وفاقاً، فهما في حكم الذريعتين إلى الوصية بالتقوى، ولا أصل لهذا الكلام، ولا فائدة فيه مع إيجاب الجميع. فأما قراءة القرآن، فقد حكى شيخي أبو محمد وجهين عن أبي إسحاق المروزي في أنها معدودة من الأركان متحتمة أم هي مستحبة؟ ثم قال: إذا أوجبناها، فقد اختلف أئمتنا في محلّها، فمنهم من قال: تختص بالأُولى، فلو أخلى الخاطب الأولى من القراءة، لم يجز، وهذا القائل يقول: تشترك الخطبتان في ثلاثة أركان: الحمد، والصلاة، والحث على التقوى، وتختص الأُولى باستحقاق القراءة فيها، وتختص الثانية بالدعاء. ومنهم من قال: الدعاء يختص بالثانية، فأما قراءة القرآن، فلا يتعين لها واحدة، بل يجب الإتيان بها في إحداهما، وهذا هو الظاهر. وقد حكى شيخنا أبو علي في شرح التلخيص عن نص الشافعي في الإملاء أنه قال: أركان الخطبتين: الحمد، والصلاة، والوعظ. ولم يذكر قراءة القرآن، والدعاء، ولما عدّ صاحب التلخيص الأركان، لم يعدّ القراءة، ولا الدعاء أيضاً. وأما الخلاف

_ (1) تكررت هذه الغمزة الخفيفة (بعض التصانيف) وتبادر إلى ذهننا أنه يقصد (الحاوي) للماوردي، لما رأيناه من غمزه له في (الغياثي) والتعبير عنه بـ (بعض المصنفين) و (المتلقبين بالتصنيف) ونحوها (ر. الغياثي: فقرات: 209، 232، 233، 303). ولكن تتبعنا الحاوي -بعد ظهوره مطبوعاً- في أكثر من موضع، فلم نجد ما أشار إليه إمامنا. رضي الله عنهم جميعاًً. وبعد أن كتبنا هذا، تبين لا أنه يعني أبا القاسم الفوراني، وقد حققنا هذا وأشرنا إليه في سابق تعليقاتنا.

في قراءة القرآن، فقد حكاه شيخي عن أبي إسحاق. وأما التردد في الدعاء، فلا نراه إلا في التلخيص، ولا يحمل سكوت صاحب التلخيص عن ذكر الدعاء على غفلةٍ؛ فإن المقصود الأظهر من كتابه العدّ والحصر، والاستثناء، وقد ظهر وفق قوله من نص الشافعي، الذي نقله عن الإملاء. 1460 - ولو تأمل الناظرُ مقصود الخطبة، ألفاه راجعاً -بعد ذكر الله وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى حمل الناس [على مراشدهم] (1) بالموعظة في كل جمعة، وأما القراءة والدعاء، فلا يبعد من طريق المعنى خروجهما عن الأركان، ولكن هذا غريب، ولم يحكِ خروجَ القراءة فيما أظن غيرُ (2) شيخِنا (3) والشيخ أبي علي، واختص أبو علي بما حكاه (4) نصّاً ونقلاً عن صاحب التلخيص في الدعاء. وذكر العراقيون أنه يجب قراءة القرآن في كل خطبة، وهو مكرر تكرر الحمد والوصية. فهذا مجامع القول في الأركان. 1461 - ونحن نعود إلى قول في التفصيل، [فنقول: أما] (5) الحمد، فقد وجدتُ الطرقَ متفقة في تعيينه، والمصير إلى أنه لا يقوم ذكر الله بسائر وجوه التحميد والثناء مقام الحمد نفسه، وهذا هو اللائق بقاعدة الشافعي في بناء الأمر على الاتّباع؛ فإنّ أحداً ما عدل عن الحمد إلى غيره من وجوه الثناء. وفي بعض التصانيف في ذكر أركان الخطبة إطلاق القول باستحقاق الثناء على الله، وهو مشعر بأن الحمد لا يتعين، بل يقوم غيره مقامه، وهذا لا أعدّه من المذهب، ولا أعتدّ به.

_ (1) في الأصل، وفي (ط): "إلى من أشدهم". وهو تصحيف ظاهر. (2) في (ت 1): "عن" وهو تحريف يغير المعنى تماماً. (3) واضح من السياق أن المراد هنا والده: الشيخ أبو محمد. (4) (ت 1): حكيناه. (5) عبارة الأصل، و (ط): إن الحمد قد ...

1462 - واتفقت الطرق على أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالنبوة والرسالة، وسائر وجوه المناقب التي خصه الله تعالى بها، لا يقوم مقامَ الصلاة عليه، فلا بد منها، ويشهد [لتعينها] (1) وجوبها على التعيين في الصلاة بعد التشهد. وذكر العراقيون ذكرَ الله وذكرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرضوا للحمد ولا للصلاة، وظنّي أنهم أرادوا الحمد والصلاة، ولكنَّ لفظَهم [ما] (2) نقلته. 1463 - فأما القول في الحث على التقوى، فلا شك أن لفظ الوصية ليس معيَّناً، وإنما الغرض الاستحثاث على التقوى بأية صيغة كانت، ثم التقوى تجمع كلَّ وعظ، وهي مشعرة بالإقدام على المأمورات، والإحجام عن المنهيات، وقد بحثت عن الطرق، فلم أرها متعينة، بل الغرض الوعظ، وقد نص عليه الشافعي في الإملاء فيما نقله الشيخ أبو علي، وأبواب المواعظ راجعة إلى الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية، وفي أحدهما إشعار بالثاني، فيقع الاكتفاء به، وأما التحذير عن عقاب الله، والترغيب في ثواب الله، ففي ذكرهما، أو ذكر أحدهما كفاية عن التصريح بالأمر بطاعة الله، والنهي عن مخالفته، فيما أراه. وهذا حقيقة التقوى. فأما الاقتصار على ذكر التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها، فلست أراه كافياً، من جهة أنها مما يتواصى به المعطّلة المنكرون للمعاد. وينبغي أن يكون الوعظ في أول درجاته مشعراً بمواعيد الشرع والتزامها. وكذلك الأمر بالإحسان المطلق، من غير تعرض لذكر الله تعالى، ما أراهُ مجزياً. وأما ذكر الموت، فإن اشتملت الوصية على الأمر بالتأهب والاستعداد له، فهو كاف، وإن لم يَجْر إلا ذكره، فهو من الاقتصار على ذكر فناء أعراض الدنيا فيما أظن. 1464 - ومما يدور في الخلد أن الخاطب لو اقتصر على كلم معدود، ليس فيها هزٌّ، واستحثاث على الخير، أو زجر عن معصية، مثل أن يقول: أطيعوا الله واجتنبوا معاصيه. فهذا القدر لو فرض الاقتصار عليه، فالذي يؤخذ من قول الأئمة أنه كافي؛

_ (1) زيادة من (ت 1). (2) في الأصل، و (ط): من.

فإنه ينطلق عليه اسم الوصية بالتقوى والخير، ولكني ما أرى هذا القدرَ من أبواب المواعظ التي تنبه الغافلين، وتستعطف [القلوب] (1) الأبيَّة العصيَّة، إلى مسالك البرّ والتقوى. وإن كان المتبع مسالكَ الأولين في العُصُر الخالية، فالغرض فصلٌ مجموع يهزّ، ويقع من السامعين موقعاً. وقد بالغ الشافعي في الاتباع حتى أوجب الجلوس بين الخطبتين، كما سأذكره. وليس يليق بمذهبه أن يُعدَّ قولُ الخطيب: "الحمدُ لله، والصلاة على محمد، أطيعوا الله" خطبة تامةً، والعلم عند الله. وقد ذكر الشافعي لفظ الوعظ في الإملاء وفيه إشعار بما ذكرته. أما الاقتصار على كلمة في الحمد والصلاة مع أداء معناهما، فلا شك في كفايته، فإنما قولي هذا في الوعظ، وهذا الآن يشير إلى ما ذكره بعض المصنفين من أن مقصود الخطبة الوعظُ (2)، والحمد والصلاة ذريعتان. 1465 - فأما قراءة القرآن إذا أوجبناها على المشهور، فالذي ذكره الأئمة: لا بد من قراءة آية تامة. وهذا فيه كلامٌ عندي، ولو قرأ شطراً من آيةٍ طويلة، فلست أُبعد كفايةَ ذلك، ولا أشك أنه لو قال: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] لم يكفِ ذلك، وإن عُدَّ آية، ولعل الأقرب أن يقرأ ما لا يجري على نظمه ذكرٌ من الأذكار، وهو المقدار الذي يحرم قراءته على الجنب، ولست أرى للآية الواحدة في هذا الباب ثَبَتاً في التوقيف. ومما لا بد من إجزائه أنه لو قرأ الخطيب آيةً فيها وعدٌ أوْ وعيد، أو حكمٌ شرعيّ، أو معنى مستقل في وقعةٍ، فهذا كافٍ، ولو قرأ من أثناء قصّةٍ ما يحرم قراءتُه على الجنب، ولكن كان لا يستقل بإفادة معنى على حياله، فهذا مما أتردد فيه. 1466 - وبلائي كله من شيئين: أحدهما - أن بَني الزمان ليس يأخذهم في طلب الغايات، [لا. بل] (3) في طلب حقيقة البدايات ما يأخذني، فلا يهتدون

_ (1) ساقطة من الأصل، ومن (ط). (2) لا يفوتنا أن نسجل هنا هذا الإنصاف من إمام الحرمين لـ (بعض المصنفين): أبي القاسم الفوراني - فمع "كثرة الحط عليه" على حد قول السبكي إلا أنه هنا يستشهد بقوله، ويستند إليه، ويعجب به. (3) في الأصل، وفي (ط): لكن. والمثبت من (ت 1).

[لما] (1) أبغيه من مداركها، بل أخاف أن يتبرّموا (2) بها. ثم الأولون لم يعتنوا بالاحتواء على ضبط الأشياء، والتنبيه على طريق التقريب فيها، ويشتد ذلك جداً في الإحالة على الأمور المرسلة، التي لا يثبت توقيف خاص شرعي فيه، كما نحن الآن مدفعون إليه من لزوم الاتباع وتركِ الاقتصار على أدنى مراتب الأذكار، ثم لم تثبت ألفاظ مضبوطة حسب ثبوتها في التشهد والقنوت وغيرهما، فجرّ ذلك ما أنهيتُ الكلام إليه من التردّدات (3). 1467 - وأما الدعاء، فيكفي فيه الدعاء للمؤمنين كافةً، بجهةٍ من الجهات، وأرى ذلك متعلّقاً بأمور الآخرة، غيرَ مقتصر على أوطار الدنيا، والعلم عند الله. فهذا بيان أركان الخطبة. 1468 - وكان شيخي يقول: لو قرأ الخطيب في كل ركن من الأركان آية مشتملةً على المعنى المطلوب، فأتى بآيٍ من القرآن على هذا الترتيب لا يُجزيه. والأمر مقطوع به في المذهب. كما قال؛ فإن الذي جاء به لا يسمى خطبة، وقد تقرر أن الخطبة أوجبت ذكراً، وإن لم يعيَّن، فهو من هذه الجهة كالتشهد والقنوت، غير أن الأذكار متعيّنة فيهما، وهو غير متعيّن في الخطبة، وإلا فالكل سواء في أنه شرع ذكراً، ولكنه عُيّن في التشهد، وأُبهم في الخطبة، وفيه فقهٌ حسن؛ فإن الخطباء لو لزموا شيئاًً واحداً، وأنس به الناس، وتكرر على مسامعهم، لأَوْشَك ألاّ تحصل فائدة الوعظ؛ فإن النفوس مجبولة على قلة الاكتراث بالمعادات، فهذا كذلك، وإن كنت لا أشك في أن الخاطب لو لزم كلمات معهودة في ركن الوعظ، أو كان يُعيدُها، فيكفيه ذلك؛ فإنه قد يختلف السامعون، ويتبذلون في كل وقت.

_ (1) في الأصل، وفي (ط): بما. والمثبت من (ت 1). (2) في الأصل، و (ط): "يبين مواتها". وهو تصحيف عجيب. (3) قال الإمام: إن بلاءه من شيئين، ثم ذكر أحدهما، ولم يذكر الثاني، فهل أضرب عن ذكره؟ -وهو ما أرجحه- وذلك سائغ معهود، أم هو ما أشار إليه من عدم اعتناء الأولين بضبط الأشياء؟ أنا لا أظن ذلك؛ فدائماً هو يعتذر عن الأولين بأنهم أدَّوْا ما عليهم بحسب ما كان مطلوباً منهم في زمانهم. والله أعلم.

فإذن قد تحقق أن قراءة القرآن لاتكفي، نعم. لو أوقع التحميدَ آيةً، فليس يمتنع ذلك، ولو أوقع الوعظَ آية، أو آيات مشتملةً على مواعظ، وما جعلَ جميع الخطبة قراءةً، فلست أبعد إجازةَ ذلك، وقد نص عليه شيخي، ولكن ينبغي ألا تحتسبَ القراءة وعظاً، ويُعتدّ بها عن جهة القراءة أيضاً؛ فإن ذلك لا يليق بمذهبنا. 1469 - ثم سنَحَ في هذا إشكال في التفريع، وهو أنه لو أتى بدل الوعظ بالقراءة، ثم قرأ القرآن عن جهة استحقاق القراءة، ولم أُبعد أن يكفي في الحمد آيةٌ فيها حمدٌ أيضاً، فينعطف الأمر آخراً إلى تجويز ردّ الخطبة كلّها قراءة، وهذا ممتنع. ويخرج منه نتيجةٌ، وهي اشتراط إيقاع الوعظ ذكراً؛ حتى [لا] (1) يؤدي إلى هذا آخراً؛ فإنه قد لاح أن الغرض الأظهر من الخطبة الوعظ. فهذا منتهى القول في أركان الخطبة. 1470 - ثم القيامُ في الخطبتين حتم عند الشافعي في حق القادر على القيام، وكذلك القعود بين الخطبتين، ولا بد من رعاية الطمأنينة في القعدة بين الخطبتين، كما يشترط ذلك في القعود بين السجدتين. فإن قيل [لِمَ] (2) لَمْ تعدّوا القيامَ والقعودَ من الأركان، وعددتموها في الصلاة؟ قلنا: لا حجر في ذلك، فمن [عدّ] (3) ذلك في الخطبة، فقد أصاب، ومن لم يعدهما في الصلاة، وزعم أن القيام والقعود محلاّن، والمقصودُ ما يقع فيهما، فلا بأس عليه. ومن حاول فصلاً، لم يبعد؛ فإن الغرض من الخطبة الوعظ، وهذا أمرٌ معقول، ولا يصح في الصلاة أمرٌ معقول، والأمر في ذلك كله قريب [مع اعتقاد] (4) وجوب القيام والقعود في الموضعين. فهذا أركان الخطبة.

_ (1) زيادة من: (ت 1). (2) زيادة من: (ت 1). (3) زيادة من: (ت 1). (4) في الأصل، و (ط): من اعتبار.

1471 - فأما الشرائط، فلا يختلف العلماء في أن الوقت شرطٌ فيهما، فليقع أول ما يعتد به منها (1) [بعد] (2) الزوال. ثم شرطُ الاعتداد بالصلاة تقدّم الخطبتين، ولما اختصتا بالوجوب من بين سائر الخطب، اشتُرط تقديمهما، حتى يحتبس الناس لانتظار الصلاة ويسمعوا. ولما لم تجب الخطبة في العيد وغيره، لم يضر التأخير، وإن فرض انتشار الناس فيها. 1472 - وفي اشتراط الطهارة عن الحدث والخبث وجهان مشهوران: أحدهما - لا يشترط؛ فإن الغرض منهما الذكر والوعظ، ولا منافاة بين ذلك وبين الحدث. والثاني - أن الطهارة مشروطة، وقد علل هذا الوجهَ بعضُ الأصحاب بأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين؛ فيشترط فيهما الطهارة، وهذا لا أرضاه توجيهاً، مع القطع بأن الاستقبال ليس مشروطاً فيهما. والوجه أن نقول: هذا مبني على اشتراط الموالاة [كما] (3) تقدم؛ فإنه إذا لم يكن متطهراً، فقد يتفرق النظام إذا توضأ قبل الصلاة (4). 1473 - وأجرى الأصحابُ اشتراط الستر في الاعتداد بالخطبة على الخلاف المذكور في الطهر، وسبب اشتراطه بروز الخطيب، وما فيه من هُتكةٍ (5) من الانكشاف لو لم يتستر. 1474 - وأما الاستقبال، فلا أشك أنه ليس شرطاً، بل الأدب أن يستدبر كما سنذكره، ثم لم يشترط أحد الاستدبار أيضاً، فلو استقبل وأسمَعَ أجزأ، وإن خالف الأدب. 1475 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أنا إذا شرطنا الطهارة في الاعتداد بالخطبة، فلو

_ (1) كذا في جميع النسخ: "منها" بالضمير المفرد، على معنى الخطبة. (2) زيادة من: (ت 1). (3) زيادة من (ت 1). (4) أي قبل الصلاة وبعد الخطبة. (5) هُتكة: أي فضيحة. (المعجم).

كان الخطيب يخطب، فسبقه الحدث في أثناء الخطبة، فلو أتى بركنٍ في حالة الحدث، فلا أشك أنه لا يعتد بما جاء به في الحدث، ولكنه إذا جدد الوضوءَ، فيستأنف الخطبة، أو يبني عليها، ويأخذ من حيث جرى الحدث؟ وذكر شيخي في ذلك وجهين مبنيين على أن الموالاة هل تشترط في الخطبة؟ وهذا منه دليل على أنه ليس يتلقى اشتراطَ الطهارة من نفس الموالاة؛ فإنه كان يقول: إن شرطنا الموالاة، وقد اتفق الوضوء على قربٍ من الزمان لا تنقطع بتخلل مثله الموالاة، فهل يجب استئناف (1) الخطبة؟ فعلى وجهين، أحدهما - يجب كالصلاة يطرأ عليها الحدث. والثاني - لا يجب؛ فإن الخطبة لا عقد فيها، وإنما المرعي فيها الموالاة، لغرض تواصل الكلام، وإفادة الوعظ، وإذا لم يتخلل زمان طويل، جاز البناء، وإن جرى الوضوء في زمان طويل، فلا شك أنا نأمره بالاستئناف على قول اشتراط الموالاة. وحفزني على هذا شيء، وهو أن الموالاة إذا اختلت في الطهارة بعذر، فالطريقة المرضية أن ذلك لا يقدح في الطهارة، وإن شرطنا الموالاة فيها، ولكن الذي أراه أن الموالاة إذا انقطعت بعذرٍ في الخطبة، فلا أثر للعذر، وفي انقطاع الخطبة ووجوب الاستئناف الخلاف؛ والسبب في ذلك أن الطهارة غيرُ معقولة المعنى، ولا يختل بترك الموالاة فيها غرض، ولكن من حيث إن الطهارة عُهدت متوالية، كما عهدت مرتبة، اشترطنا في قولٍ الموالاة فيها، فإذا فرض عذرٌ، لم يمتنع أن يعذر صاحب الواقعة، على أنه قد ورد على حسب ذلك أثرٌ عن ابن عمر (2). وأما اشتراط الموالاة في الأذان والخطبة؛ فإنه متعلق بمعنى معقول، فإذا اختل ذلك المعنى المعتبر، لم يظهر فرق بين المعذور وغيره.

_ (1) أي ابتداء الخطبة من جديد. (2) يشير إلى أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - في تفريق الوضوء لعذر، ففي الموطأ عن نافع عن ابن عمر "أنه بال في السوق فتوضأ، فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه، ثم دخل المسجد فدعي لجنازة، فمسح على خفيه، ثم صلى" رواه مالك، وعنه الشافعي، وعلقه البخاري بلفظ آخر (ر. الموطأ: 1/ 60 ح 43، الأم: 1/ 27، البخاري: الغُسل، باب تفريق الغسل والوضوء، قبل ح 265، التلخيص: 1/ 173 ح 116).

فهذا بيان شرائط الخطبة. ومن أخص شرائطها رفعُ الصوت، وسنذكر تفصيلَ القول فيه في الفصل المشتمل على ذكر الإنصات والاستماع. 1476 - والآن بعد ما نجز القول في الأركان، والشرائط، نذكر قولاً في آداب الخطبة وسننها جامعاً، ونعود إلى افتتاح الخطبة، فنقول: إذا رَقِيَ الإمام على المنبر، وانتهى إلى الدرجة التي عليها مجلسه، فيُقبل على الناس ويسلّم عليهم، فأما عندنا، فالأصل في ذلك ما روى ابنُ عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دنا من منبره، سلم على من عند المنبر، ثم يصعد، فإذا استقبل الناس بوجهه، سلم، ثم جلس، ثم إذا جلس أذّن المؤذّنون بين يديه الأذان المشروع" (1) وما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر أذان يوم الجمعة قبل هذا، فلما كثر الناس في زمان عثمان، وعظمت البلدةُ، أمر المؤذّنين، حتى [أذنوا] (2) على أماكنهم، ثم كان يؤذّن المؤذّنون بين يديه إذا استوى على المنبر، ثم الخطيب يجلس والمؤذّن يؤذن، وإذا فرغ، قام وخطب. وينبغي أن يشغل يديه حتى لا يعبث بهما، وقد روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على عَنَزَةٍ، وروي أنه اعتمد على قوس، وروي على سيفٍ، وقد قيل: إنه كان في الحضر يعتمد على عَنَزَة، وكان إذا خطب في السفر اعتمد على قوس أو سيف" (3) والأمر في ذلك قريب.

_ (1) حديث ابن عمر، رواه ابن عدي، أورده في ترجمة عيسى بن عبد الله الأنصاري، وضعفه، وكذا ضعفه ابن حبان. ورواه ابن أبي شيبة عن مجالد عن الشعبي مرسلاً، ورواه البيهقي (ر. التلخيص: 2/ 62 ح 641، ومصنف ابن أبي شيبة: 2/ 114، والسنن الكبرى: 3/ 205، والكامل: 5/ 1893، وخلاصة البدر: 1/ 214 ح 746). (2) في الأصل، وفي (ط): إذا دنوا. (3) حديث اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم على عنزته رواه الشافعي مرسلاً، وحديث الاستناد على القوس رواه أبو داود، وقال الحافظ: "إسناده حسن، وصححه ابن السكن، وابن خزيمة، وله شاهد من حديث البراء بن عازب" عند أبي داود أيضاً. (ر. أبو داود: الصلاة، باب الرجل يخطب على القوس، ح 1096، وباب: يخطب على قوس، =

وإذا شغل إحدى يديه بما ذكرناه، شغل الأخرى بالتمسك بحرف المنبر، وإن لم يتفق ذلك، وضع إحدى يديه على الأخرى، كما يفعله في صلاته، أو أرسل يديه وأقرَّهما. وليس في هذا ثَبَتٌ، والغرض ألا يعبثَ. ثم سبب إقباله على الناس واستدباره القبلة أن يخاطبهم، فإن استدبرهم، وهو يخاطبهم، كان قبيحاً، خارجاً عن حكم عرف الخطاب، ولو وقف في [أخريات] (1) المسجد مستقبلاً للقبلة خاطباً، فإن استدبره الناس، كان قبيحاً، وإن استقبلوه، وأقبلوا عليه، كانوا مستدبرين للقبلة، واستدبار واحدٍ مع استقبال الجميع القبلةَ أحسنُ من نقيض ذلك. 1477 - ثم إذا فرغ من الخطبة الأولى، جلس جلسة خفيفة، وتلك الجلسة واجبة، والغرض يتأدّى بجلسة وطمأنينة، وقد قال الشافعي: يجلس جلسة تسع قراءة الإخلاص، وهي على الجملة في القدْر الواجب والمستحب قريب من الجلسة بين السجدتين. ثم يقوم ويبتدىء الخطبة الثانية، وينبغي أن تكون الخطبة بليغةً قريبةً إلى الأفهام مترقية عن الركيك، خليةً عن الغريب، مائلة إلى القِصر، فقد قال النبي عليه السلام: "قصر الخطبة، وطول الصلاة مَئنة من فقه الرجل" (2). وينبغي أن يأتي الخطيب بالخطبة على ترتيلِ وأناة من غير [تغن] (3) وتمطيط. ثم إذا فرغ من الخطبة الثانية، ابتدأ المؤذّن الإقامةَ، وبنى الخاطب في تسرعه الأمر على أن يقرب وقوفه في المحراب من فراغ المقيم من الإقامة. فهذا بيان أركان الخطبة وهيئاتها، وما يتعلق بآدابها وسننها.

_ = ح 1145، والشافعي في الأم: 1/ 200، والتلخيص: 2/ 64، 65 - ح 648، 649). (1) في الأصل: "آخر باب"، وهو تحريف واضح، والمثبت من باقي النسخ، وأكدته (ل). (2) حديث: "قصر الخطبة ... " رواه مسلم، من حديث عمار، ولأبي داود بمعناه. (ر. مسلم: الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، ح 869، أبو داود: الصلاة، باب إقصار الخطب، ح 1106 التلخيص: 2/ 64 - ح 645، 646). والمئنة بفتح الميم بعدها همزة مكسورة، ثم نون مشدّدة، أي علامة. (المعجم). (3) في الأصل، وفي (ط): تغير.

فصل في الاستماع والإنصات وما يتعلق به 1478 - القول في ذلك ينقسم إلى ما يتعلق بالواجب، وإلى ما يتعلق بالآداب، فلتقع البداية بالأهم، وهو ما يجب، ويتحتم، فنقول: نقل الأئمة قولين في أنه هل يجب على من حضر الصمتُ والإنصاتُ، وهل يحرم عليه الكلام؟ فالذي نص عليه الشافعي في القديم أنه يجب الإنصاتُ، وإدامةُ الصمت على من حضر، وتمكن من الإصغاء والاستماع، وهذا مذهب أبي حنيفة (1). والمنصوص عليه في الجديد أنه لا (2) يحرم الكلام على من شهد، ولا يتعين الصمت. 1479 - فمن قال: يجب، استدل بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وقد قال المفسرون: المراد بالقرآن الخطبة، وإنما سميت قرآناً لاشتمالها على قراءة القرآن. ومن قال: لا يجب الصمتُ، استدل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في أثناء خطبته بما ليس من الخطبة، فإذا كان لا يحرم على الخطيب أن يتكلم بما ليس من الخطبة، لم يحرم على المستمع أن يتكلم أيضاً، وقد روي: "أنه دخل داخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال عليه السلام: "ماذا أعددت لها" فقال: حب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" (3) ولم يرد على من كلمه (4)، ولو كان تكلُّمُ من حضر حراماً، لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) ر. المبسوط: 2/ 28، بدائع الصنائع: 1/ 263، حاشية ابن عابدين: 1/ 551. (2) في (ت 1): أنه يحرم. وهو خلاف المنصوص (ر. الأم: 1/ 180). (3) حديث "أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ... " رواه ابن خزيمة، وأحمد، والنسائي، والبيهقي، عن أنس. (ر. النسائي في الكبرى: العلم، باب إذا سئل العالم عما يكره، ح 5873، أبن خزيمة: 3/ 149 - ح 1769، وأحمد: 3/ 167، والبيهقي: 3/ 221، والتلخيص: 2/ 6 - ح 637). (4) كذا في النسخ الثلاث، ولعل المعنى: ولم يردّ عليه كلامه، ويرفضه. هذا. وقد ضُبطت في =

ونحن نطرد عليه ما ذكره الأئمة في التفريع، ونسوقه أحسن سياق، ثم نذكر غوائلَ يقع التعرض لها، وليستوف الناظر تمام الفصل؛ فإنّ كشف مبادئه في استتمامه. 1480 - قال شيخي: إذا أوجبنا الإنصات والإكباب على الاستماع، فلو دخل داخلٌ وسلم، لم يجب على الحاضرين ردُّ سلامه، بل لا يجوز لهم ردُّ سلامه، فإنا نفرع على إيجاب الإنصات وقطع الكلام، فإن قيل: ردّ السلام من فروض الكفايات. قلنا: ذاك في حق من لم يضيع السلام، فوضَعه (1) في غير موضعه، ومن سلم على رجل وهو في أثناء حاجة يقضيها، لم يستحق ردَّ السلام، وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب السِّيَر، إن شاء الله عز وجل، ففيه تفصيلُ فرائض الكفايات، وما يتعلق بها، فليس إذن للداخل أن يسلّم، وإذا سلم، لم يستحق جواباً، ولا يجوز للحاضرين أن يردّوا عليه، على القول الذي عليه نفرعّ. 1481 - ولو عطس عاطس، فهل يجوز تشميته؟ فعلى وجهين، أحدهما - لا يجوز قياساً على رد السلام، والثاني - يجوز؛ فإنه لا اختيار للعاطس، فهو معذور، فحقه أن يُقضَى حقه، ومن أدب الدين أن يُشمَّت المسلمُ إذا عطس، فأما رد السلام، فلا؛ لأن المسلم ضيع سلام نفسه، وكان مختاراً فيه. فإن جوزنا تشميتَ العاطس، فهل يُستحبُّ؟ فعلى وجهين: أحدهما - بلى (2)، رعايةً لحقه.

_ = (ت 1) هكذا: "ولم يرُد عليّ من كلمةِ". وفيه ما فيه. (1) في (ل): "بوضعه". (2) كذا في النسخ الثلاث. وهو خلاف المعروف المشهور من قواعد اللغة؛ فإن (بلى) حرف جواب، يجاب به في النفي خاصة، ويفيد إبطاله. (ر. ابن هشام - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 154، والمعجم الوسيط). ولكن وقع في كتب الحديث ما يقتضي أن (بلى) يجاب بها الاستفهام المجرد، ففي صحيح البخاري: كتاب الإيمان (83) باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم (3) ح 6642: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى" وباللفظ نفسه عند ابن ماجة، وفي صحيح مسلم: كتاب الهبات (24) باب (3) "كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة": "أيسُرُّك أن يكونوا إليك في البر سواء"؟ قال: بلى. قال: فلا، إذاً" - ح 17 - (1623)؛ =

والثاني - لا؛ فإن الإنصات أهم منه؛ إذ هو واجب، والتشميت لا يجب قط. فهذا إذا فرعنا على وجوب الصمت، فأما إذا لم نحرمه (1) تفريعاً على الجديد، فيجب عليه تشميتُ العاطس. 1482 - وهل يستحب ردُّ السلام، فعلى وجهين، ولا يجب رد السلام، وإن لم نحرمه، لتقصير المسلم لما ذكرناه من وضعه السلام في غير موضعه، وقد ذكرنا أن من سلم على إنسان وهو في قضاء حاجة، لم يلزمه رد سلامه، [وإن] (2) كان لا يحرم عليه، وقد روي: "أن رجلاً سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقضي حاجته، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بعد الفراغ وتيمم، ثم ردّ جوابه" (3). 1483 - وقال شيخنا أبو بكر الصيدلاني: اختلاف القول في الإنصات يستند إلى ما تقدم من الاختلاف في أن حالة الخطبة كحالة الاشتغال بالصلاة أم لا؟ وعلى هذا يبتني الخلاف في أن الطهارة هل تشترط في الخطبة أم لا؟ هذا كلامه. فإن شرطنا الطهارة، حرّمنا الكلام، وإن لم نشترطها، لم نحرم الكلام. 1484 - وكان شيخي يقول: إن أوجبنا الإنصات على من يبلغه صوتُ الخطيب، فهل يجب على من لا يبلغه صوته؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب، ووجهه ظاهر.

_ = وهو عند ابن ماجة باللفظ نفسه. وفي مسلم أيضاً، في حديثٍ طويل: .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الذي لقيتني بمكة" قال (المجيب): "فقلت: بلى" كتاب صلاة المسافرين وقصرها (6) باب إسلام عمرو بن عَبَسَة (52) ح 494 - 832 (ر. صحيح البخاري: 7/ 220، صحيح مسلم: 1/ 569، 2/ 1244، سنن ابن ماجة: 2/ 795 ح 2375، وص 1432 ح 4283، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 154). (1) أي الكلام. (2) في الأصل، و (ط): فإن. (3) حديث عدم رد السلام عند قضاء الحاجة، رواه مسلم، عن نافع عن ابن عمر، ورواه أبو داود، والنسائي، والحاكم، من حديث المهاجر بن قُنْفُذ. (ر. التلخيص: 4/ 94 ح 1832).

والثاني - يجب؛ فإنه لو تلكم من بُعد، لارتفع اللغط، بحيث يمنع الحاضرين من السماع. 1485 - وكان شيخي يقول: في تحريم الكلام في أثناء الخطبة على الخطيب قولان، كالقولين في كلام المستمع، والشافعي في الجديد لما أباح الكلام على الحاضر، احتج بتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته. ولو لم يكن ذلك في محل النزاع، لما احتج به رضي الله عنه. ثم كان يقول: لناصر القول القديم أن يجيب عنه، ويقول: تكلُّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو شرعٌ، وبيانُ حكم؛ فإنه قال لسُلَيك الغطفاني: "لا تجلس حتى تصلي ركعتين" (1)، والخاطب يجوز له أن يضمّن خطبتَه بيانَ حكمٍ، وتعليمَ الناس أمراً شرعياً، سيما إذا كان متعلّقاً بما يليق بالحال، كقوله عليه السلام لسليك: "لا تجلس حتى تصلي ركعتين" ويجوز أن يكون كلامه مع [قتلة] (2) ابن أبي

_ (1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم، كلم سليكاً الغطفاني في الخطبة، رواه مسلم من حديث جابر، ورواه البخاري بدون تسمية سليك. (ر. صحيح مسلم: 1/ 597، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، ح 59 - 875، والبخاري: الجمعة، باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، ح 931، والتهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى، ح 1166، والتلخيص: 2/ 61 ح 639، وخلاصة البدر المنير: 214 ح 744). (2) زيادة لاستقامة المعنى حيث سقطت من جميع النسخ. وقد عقد الحافظ في التلخيص (تنبيهاً) قال فيه: "أورده (حديث كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لقتلة ابن أبي الحقيق) إمام الحرمين والغزالي بلفظ عجيب، قال: "سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي الحقيق، عن كيفية القتل، بعد قفوله من الجهاد" وهو غلط فاحش، وأعجب منه أن الإمام قال: صح ذلك، ويجوز أن يكون سقط من النسخة لفظ (قتلة) قبل ابن أبي الحقيق" ا. هـ. كلام الحافظ بنصه. قلت: آن لنا أن نصرح بما كنا نستشعره من تحامل الحافظ على إمام الحرمين، وشدته في كثير من تعقّباته، فهل يعقل أن يُنسب الإمام إلى الغلط الفاحش هذا، وهل يردُ بخاطرٍ أن يخطىء الإمام فيجعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخاطب القتيل ابنَ أبي الحقيق اليهودي؟! ثم كيف يُعقل أن يُسأل المقتول كيف قُتل؟! والأمر أقرب وأيسر من ذلك، وهو كما قال الحافظ نفسه "سقط لفظ (قتلة) " ولكن بعد أن كان قد وقع في الإمامين، ووصفهما (بفحش الغلط) هذا وقد وُجدت نسختان من الوسيط بغير هذا السقط. =

الحُقيق (1) متعلِّقاً بأمرٍ مهم في الجهاد، وهو من أهم قواعد الشرع (2)، وإنما القولان في تحريم كلامٍ لا يتعلق ببيان الشرع. ثم كان شيخي يقول: لاخلاف أن كلام الخطيب في أثناء الخطبة لا يبطل الخطبة، ولا يقطعها إذا قلّ. وإن طال وكثر، فهو (3) يتعلق بترك الموالاة في الخطبة، وفيه القولان المشهوران. فهذا منتهى كلامه. 1486 - والآن قد حان أن ننبه على حقيقة المسألة، فنقول: كان شيخي وغيره من الخائضين في هذا الفصل يرددون القول في (4) أنه هل يجب الاستماع؟ ويزعمون أن في إباحة الكلام، أو في رفع الحرج فيه إسقاطُ إيجاب الاستماع والإصغاء. وأنا أقول: من أنكر وجوب الاستماع إلى الخطبة، فليس معه من حقيقة هذه القاعدة شيء، فيجب القطع على مذهب الشافعي أنه يجب الاستماع إلى الخطبة، وكيف يستجاز خلاف ذلك على طريق الشافعي في مسلك الاتباع، وقد بنى إيجاب الخطبتين، والقعدةَ بينهما على ذلك، وفهم أن الغرض من الخطبة تجديدُ العهد في

_ = وأين هذا من منهج إمام الحرمين في حمله الخطأ عند مخالفيه على الزلل في النقل عنهم وسوء الفهم لكلامهم؟؟ وإن شاء الله ونسأ في الأجل، وأعان ويسر، سنجمع كل تعقبات الحافظ للإمام، في نسقٍ واحد وننظر فيها، لنرى أسلوب الحافظ في تناولها وعلاجها، وهل تستحق كل هذا (ر. التلخيص: 2/ 61، الوسيط للغزالي: 2/ 282. ولمعرفة منهج إمام الحرمين انظر: إمام الحرمين: حياته وعصره: 78 وما بعدها). (1) ابن أبي الحقيق: أبو رافع، واسمه سلام. عدو الله ورسوله، كان ممن حزب الأحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهت غزوة الأحزاب، ولحق بخيبر، تعقبه خمسة نفر من الخزرج - بعد أن أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجوا إليه بخيبر، فقتلوه في قصة مشهورة، في كتب السير والمغازي (ر. السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 273 وما بعدها، والبداية والنهاية: 4/ 137 وما بعدها). (2) حديث كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لقتلة ابن أبي الحقيق على المنبر رواه البيهقي (ر. السنن الكبرى: 3/ 221). (3) من هنا بدأ خرمٌ في (ت 1) نحو ثلاث صفحات. (4) عبارة الأصل: القول فيه في أنه ... (بزيادة لفظ [فيه]).

كل جمعة بوعظ الناس، وكيف يتحقق مع هذا تجويز ترك الإصغاء إلى الخطبة؟ ولو جاز ذلك، لما كان في إيجاب حضور أربعين من أهل الكمال معنىً وفائدة، ولوجب أن يسوغ أن يحضروا ويناموا، والإمام رافع عقيرته، ويجب على مساق هذا ألا يجب على الخاطب رفعُ صوته بالخطبة. ولا يعتقد هذا ذو بصيرة في المذهب، وقد اشتد نكير أئمتنا على أصحاب أبي حنيفة (1) لما قالوا: ينعقد النكاح بحضور شاهدين لا يفهمان عقدَ النكاح، وقالوا: من لم يفهم من تخصيص النكاح بحضور الشهود أن الغرض أن يتحملوه ويفهموه، فقد بعدوا، وتناهَوْا في العناد والجحد، فيجب من ذلك القطعُ بأنه يجب حضورُ أربعين من أهل الكمال، ويجب أن يُصغوا، ويجب على الخاطب أن يُسمعهم أركان الخطبة، ولو حضر من حضر، وارتفع منهم اللغط على وجه لا يتأتى معه السماع، فهذا قطعاً بمثابة ما لو لم يحضروا، أو انفضُّوا وانصرفوا، وإذا كان كذلك، فيجب تنزيلُ القولين وتقدير تفريعهما على وجه، فنقول: إذا اجتمع في بلدة من أهل الكمال مائة ألفٍ مثلاً، فيجب عليهم إقامةُ الجمعة، ولكن لا يجب عليهم الاستماع؛ فإنَّ ذلك غيرُ ممكن، وإقامة الجمعة من جميعهم ممكن، فيجب الاستماع من أربعين منهم لا بأعيانهم، فنقول: لو شهد أربعون من أهل الكمال، وبعُدَ الآخرون، سقط [الفرض] (2) في الاستماع [عن] (3) الكافة، ولو حضر جمع زائدون على الأربعين، ففي وجوب الإنصات على آحاد من حضر، وأمكن الاستماع منه القولان. ووجه خروجهما أنا لو جوّزنا لكل واحد أن يتكلم، تعويلاً على أنه يبقى أربعون غيرُه، لجرّ ذلك جواز التكلّم، من كل واحد، وهذا يُفضي إلى أن يتكلم جميعُهم، فَيُفْضِي ذلك إلى سقوط الاستماع رأساً، فهذا يضاهي ما لو تحمل جماعة شهادةً، وكان الحق يثبت بشاهدين، فإذا طالب ذو الحق واحداً منهم بإقامة الشهادة، ففي جواز امتناعه عن الإقامة، تعويلاً على أن الغرض يتحصل بغيره خلاف معروف في

_ (1) قضية فَهْم شهود النكاح لما يجري في مجلس العقد موضع خلاف عند الحنفية. (ر. البحر الرائق: 3/ 94، 95، حاشية ابن عابدين: 2/ 273). (2) في الأصل، وفي (ط): الغرض. وهذا تقدير منا رعاية للسياق. وقد أكدته (ل). (3) تقدير منا رعاية للمعنى، وفي النسختين: من. وهذا أيضاً أكدته (ل).

الشهادات، ولكن الأظهر في الشهادة أن [المدعوّ] (1) من الشهود يتعين عليه الإقامة. 1487 - والمنصوص عليه في الجديد أن الإنصات لا يجب، وميل أئمة المذهب إلى الجديد في مجال الخلاف، ولعل الفارق فيه أن المدعوَّ من الشهود قد تعلّق به طلبُ ذي الحق على اليقين، وآحاد من يحضر المقصورة (2) لا يتخصص بمطالبة. وعندي أن هذا يضاهي ما لو قال ذو الحق للشهود وهم مائة: لا تغيبوا، فحاجتي ماسةٌ إلى إقامة الشهادة. فلو غاب جمعٌ منهم، وكان الحق يستقل بمن بقي، فيظهر أن الذين غابوا لا يَحْرَجون (3). وليس تخلو المسألة عن احتمال في ذلك. ثم إذا قيل: التكلم من واحد لا يمنعه من السماع؟ قيل: نعم، ولكن رفع الحرج فيه (4) تسلّط (5) غيره على مثل [ما جاء به] (6)، وإذا فرض ذلك عن جميعهم، صار هينمة عظيمة حاجزة من السماع، فكان [تحريم] (7) ذلك في القديم في حكم سد بابٍ يُفضي -لو فتح- إلى رفع الاستماع رأساً. ثم فيمن بعد، ولا يَسمعُ خلافٌ؛ من جهة أنه قد يجرّ لغطاً مانعاً للحاضرين من [السّماع] (8)، فهذا منّا تنبيهٌ على سرّ المسألة في النفي والإثبات. 1488 - والآن نرتّب المذهبَ بعد هذا، فنقول: لو تكلم جميعُ الحاضرين على وجهٍ انقطعوا به عن السماع رأساً، حَرِجوا قطعاً، بل حَرج الكافة حَرَجَهم بترك فرض

_ (1) في النسختين: المدعى. والمثبت تصرف منا، والحمد لله جاءت بصحته (ل). (2) كذا والمراد الجمعة؛ إذ هي ظهرٌ مقصورة، عند كثيرين. ويجوز أن يراد بها مقصورة المسجد. (3) أي: لا يأثمون، من حرج فلان يحرَج -باب (تعب) - إذا أثم. (4) آخر الخرم في نسخة (ت 1). (5) كذا في النسخ الأربع. ولعل الأولى: تسليط. (6) في الأصل، وفي (ط): مناجاته. والمثبت من (ت 1). (7) في الأصل، وفي (ط): يحرم. (8) في الأصل، وفي (ط): استماع.

الكفاية، وتتعطل الخطبة بسقوط فائدتها من السماع، وإذا تعطلت، فلا جمعة، وينزل هذا منزلة ما لو انفضوا من عند آخرهم. وإن لم ينته الأمر إلى هذا، وسمع الخطبةَ أربعون، صحت الجمعةُ. ثم في تحريم إقدام آحاد الحاضرين على الكلام القولان. ووجه صحة الجديد أن ذلك في حكم العرف لا يؤدي إلى لغطٍ يُسقط سماعَ أربعين، وتصوير أداء ذلك إلى هذا بعيد، وكذلك انتهاء الهمس إلى هينمة حاجزة [بعيد] (1)، فليفهم الفاهم ذلك. وفي تحريم التكلم في تشميت العاطس خلافٌ؛ لأنه ليس مما يتعلق باختيار، فلا يؤدي تجويزُه إلى مانع من السماع؛ إذ هو يقع نادراً من غير اختيار، ثم في التعبد تردُّد بعيد كما رتبه الأئمة. وأما الخاطب، فيجب عليه رفعُ الصوت قطعاً، وإن لم نوجب الإنصات، فإنا مع جواز التكلّم أوجبنا أن يحصل سماعُ أربعين. 1489 - وأما كلام الخطيب فقد حكى شيخي فيه قولين، وهذا غلط عظيم، مشعر بالذهول عن حقيقة المسألة؛ فإن الإمام إذا تكلم، فليس متمادياً في تلك اللحظة على الخطبة، فكان كما لو سكت لحظة، فأما إذا كان [مارّاً] (2) في خطبته، والحاضر يتكلم، فهو في وقت جريان الخطبة مشتغل بما قد يؤدي إلى قطع السماع، فكيف يتشابهان؟ أم كيف يتلقى الفطنُ كلامَ الخطيب من كلام المستمع؟ ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسائل في أثناء الخطبة قتلةَ (3) ابنِ أبي الحُقيق عن كيفيةِ القتل. وشرْحِ ما جرى لهم، وحَمْلُ هذا على شرح مسألةٍ في الشرع تكلف بعيد، لا سبيل إلى قبوله أصلاً.

_ (1) مزيدة من (ت 1). (2) في الأصل، وفي (ت 1): لما رأى. والمثبت تقدير منا، والمعنى: مستمراً في خطبته. والحمد لله جاءت (ل) بموافقة تقديرنا. (3) ها قد ذُكر لفظ (قتلة) هنا. الذي سقط من السياق آنفاً، فأدى إلى أن يحمل الحافظ بن حجر على الإمام، ويصفه (بالغلط الفاحش). رضي الله عن الجميع.

ثم الصيدلاني خرج اشتراط السكوت على أن الخطبة هل تنزل منزلة الصلاة أم لا؟ وعليه خرج اشتراط الطهارة، وهذا في نهاية البعد؛ فإنّ أخْذ تحريم الكلام من غير الجهة التي ذكرناها، وهي توقع إفضاء ذلك إلى اللغط خروج عن المسألة ووضعها. ثم من عجيب الأمر أن الصيدلاني وغيرَه من المحققين لم يمنعوا الخطيبَ من الكلام في الخطبة وإن أوردوا الخلافَ في أنه هل [تشترط] (1) طهارةُ الخطيب. ثم القولان في تحريم الكلام على المستمع مشهوران، فيبعد عندي جداً أن نوجب على المستمع استصحابه الطهارة في استماعه، فإذاً لا تلتقى (2) الطهارةُ وأمرُ الكلام. فهذا منتهى المرام في هذا الفصل. وقد نجز به المقصود الأظهر من ذلك. 1490 - ثم نذكر بعد هذا أموراً تتعلق بالآداب في الباب، فنقول: أولاً - إذا أخذ المؤذن في الأذان بين يدي الخطيب، لم يحرم الكلام، ولكن لا ينبغي أن يبتدىء أحد صلاةً نافلةً بعد افتتاح المؤذِّن أذانَ الخطبة؛ فإن الإمام سيخطب على قُرب وقد تتبتّر (3) عليه الصلاة، أو يقع ابتداء الخطبة في بقيةٍ منها. ولو دخل داخل والإمام في أثناء الخطبة، فمذهب الشافعي أن الداخل يُصلِّي ركعتين خفيفتين، ثم يجلس. وخالف أبو حنيفة (4) فيه، ومعتمد المذهب ما روى جابر: أن سُليكاً الغطفاني دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين وقال: "من دخل والإمام يخطب، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" (5).

_ (1) ساقطة من الأصل، ومن (ط). (2) في (ل): "لا تتلقى الطهارة من أمر الكلام". (3) تتبتّر: تنقطع، والمراد تتشوّش، فلا يتمكن من الخشوع المطلوب. (4) ر. مختصر الطحاوي: 35، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 337 مسألة: 303، البدائع: 1/ 263، 264، حاشية ابن عابدين: 1/ 550. (5) حديث سليك الغطفاني سبق تخريجه.

1491 - ثم إذا فرغ الإمام من الخطبتين، فلا يحرم الكلام ما بين ذلك إلى عقد الصلاة وفاقاً. وقال علماؤنا: كما لا يحرم الكلام لا تحرم الصلاة في هذا الوقت، ومعتمد المذهب ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوم الجمعة من على المنبر، فيقوم الرجل معه، ويكلّمه في الحاجة إلى أن ينتهي إلى مصلاه" (1). 1492 - ومما يتعلق ببقية الفصل أن الشافعي نص فيما نقله صاحب التقريب والصيدلاني على أن من دخل والإمام يخطب، فيجوز له أن يتكلم مادام يمشي ويتخير لنفسه مكاناً، وإنما القولان فيه إذا قعد، ولم أر فيه خلافاً وهو ظاهر، وإن كان الاحتمال متطرّقاً إليه، وظهوره من حيث إنا نأمره أن يصلي ركعتين، وسيذكر الله فيهما، ويقرأ، وذلك يناقض الإنصات، فإذا فرغ من ذلك كله، فإذ ذاك يختلف القول في وجوب الإنصات، فهذا نهاية المرام في ذلك. فصل 1493 - أهل بغداد لا يقتصرون على عقد جمعة واحدة، والطرق متفقة على جواز الزيادة على جمعة واحدة ببغداد، وتردد الأئمةُ في تعليل ذلك، فمنهم من قال: السبب المجوّز لذلك تخلل النهر العظيم بين شقّيه، فانقطع حكم أحد الشقين عن الثاني. ومنهم من قال: علة جواز ذلك ببغداد أنها كانت قرى متفرقة، واتصلت العمارات، وصارت كبلدة واحدة، وكانت الجمعة تقام في كل قرية، فاستمرت تلك العادة بعد اتصال البنيان. وعلل ابن سُرَيْج بكثرة الناس، وأن البقعة الواحدة لا تحتملهم ببغداد. ثم من قال: السبب المجوز تخلل النهر، فيرتب (2) على هذا ألا يقام ببغداد إلا

_ (1) حديث أنس أخرجه البيهقي في السنن: 3/ 224. (2) كذا بالفاء في النسخ الأربع.

جمعتان شرقية وغربية، وينبني عليه أن كل بلدة يتوسط عماراتها نهر لا يُخيضُ ولا يُخاض (1) إلا بالسفن، أو السباحة، فحكمها حكم بغداد. ومن قال: إنما يجوز ذلك لأهل بغداد لكثرة الناس - وهو تخريج ابن سُرَيْج، فعلى هذا لو ازدحم أهل بلدة، وكثروا، وكان يضيق عنهم موضع، فيجوز تعديد الجمعة على حسب الحاجة إذن. ومن قال: سبب تجويز تعدد الجمعة في بغداد أنها كانت قرى، فاتصلت، فلا يجوز ذلك إلا في بلدة تتفق كذلك. ثم تردد صاحب التقريب في هذا، فقال: القرى إذا اجتمعت وصارت بلدة، كما فُرض في بغداد، وصارت القرى كأنها [حارات و] (2) محالّ، فيحتمل أن تثبت على ما هي عليه من حكم التفرق، كما ذكره الأصحاب، ثم قال: على حسب هذا، لو تجاوز هامّ بالسفر قريةً من تلك القرى إلى أخرى، والعمارة متصلة، فينبغي أن يترخص برخص المسافرين؛ فإنه لم يثبت لها حكم الاتحاد. قال: ويحتمل أن يقال: إذا اجتمعت، زال حكم التفرق منها. وصارت البقعة كأنها بنيت على الاتحاد إذ بنيت، فعلى هذا يمتنع إقامة الجمع في تلك البقاع التي كانت قرى بعد التواصل، كما يمتنع في البلدة التي لم تعهد (3) إلاّ على الاتحاد. فهذا تفصيل القول في بغداد. 1494 - فأما ما عداها من البلاد إذا لم يوجد فيها ما يسوّغ الزيادة على جمعة واحدة على التفاصيل المقدمة المستفادة من بغدادَ وعِلَلِها، فلا بدّ من الاقتصار على جمعة واحدة، وهو مذهب معظم الأئمة.

_ (1) خاض الماءَ خوضاً، وخياضاً: دخله ومشى فيه، وأخاض القومُ: دخلت خيلُهم في الماء وأخاضوا خيلَهم الماءَ، وفيه، وأخاض الماءَ: خاضه. (القاموس، والمختار، والمعجم). (2) زيادة من (ل). (3) (ت 1): لم تعهد الاتحاد.

وأجاز أبو يوسف عقدَ جمعتين، ولم (1) يجوز الثالثة. والأصل المعتمد فيه أن الجمعة شُرعت لجَمْع الجماعات، والغرض منها إقامة هذا الشعار في اجتماع الجماعات في كل أسبوع مرة، وإنما يتأتى هذا الغرض بإيجاب الاقتصار على جمعة واحدة. ولو ساغت الزيادة على واحدة، لم ينحصر القول بعد ذلك، وآل مآل الكلام إلى تنزيل هذه الصلاة منزلة سائر الصلوات، فإذاً لا نزيد على واحدة. 1495 - ولو فرضت جمعتان حيث نمنع، فإذا تقدمت إحداهما وسبقت، فهي الصحيحة، والثانية ليست جمعة، وإذا تقدمت واحدة، وتعيّنت -وقد اختلف أئمتنا فيما يقع به السبق والتقدم، فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار بعقد الصلاة- فكل (2) صلاة تقدم عقدُها فهي الجمعة، وهذا هو الأصح. ومنهم من قال: الاعتبار بالخوض في الخطبة، فإذا تقدّم ذلك في أحد الجامعين، فهم المقيمون للجمعة، وإن تأخر عقد الصلاة منهم، وهذا له التفات على أن الخطبتين بمثابة ركعتين. وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً: أن الاعتبار بالتحلل، فكل صلاة سبق التحلل عنها، فهي الجمعة، وهذا ردىء لا اتجاه له أصلاً. 1496 - ثم لو سبقت واحدة على ما وصفنا السبقَ، ولكن كان السلطان في الجمعة المسبوقة، فقد ذكر شيخي في ذلك وجهين: أحدهما - أن الحكم للجمعة التي فيها الوالي؛ فإن لهذه الصلاة ارتباطاً بالسلاطين، فالرجوع إليهم. وهذا بعيد عن مذهب الشافعي؛ فإنه لا اعتبار في الجُمع عندنا بالوُلاة من طريق الاستحقاق، ولكن الأَوْلى أن يراجَعوا، والأصح أن الاعتبار في السبق بما قدمناه قبلُ. ولو وقعت الجمعتان معاً، ولم تتقدم واحدة على الأخرى، لم تنعقد واحدة منهما

_ (1) (ت 1): ولا. (2) جواب إذا.

جمعة، ومن أحاط بما يقع به السبق بنى عليه [ما] (1) يحصل به الجمع. ولو عقدت الجمعتان، ولم يُدْرَ أوقعتا معاً، أو تقدمت إحداهما على الأخرى، فالذي قطع به الأئمة تنزيل هذا منزلة ما لو وقعتا معاً، فلا جمعة لواحد، والله أعلم. 1497 - ومما ينبغي أن يتأمل الآن: أن الجمعتين إذا وقعتا معاً، وكان الوقت باقياً، فمن نتائج هذه الصورة أنا نأمرهم بأن يجتمعوا، ويعقدوا جمعةً، والذي مضى لا حكم له، وإذا أشكل الأمرُ ولم يُدْرَ أوقعت الجمعتان معاً، أم تقدمت إحداهما على الأخرى؟ فلا شك أنا لا نسقط الفرضَ بما مضى، ولكن ما ذكره الأئمة: أنا نجعل هذا كما لو وقعت الجمعتان معاً؛ حتى نأمرَهم بأن يقيموا جمعةً في الوقت. وإذا فعلوا ذلك، سقط الفرض وانقطعت الطَّلِبَة (2). 1498 - وهذا فيه إشكال، فإنا نجوّز أنّ إحدى الجمعتين تقدمت على الأخرى، ولو كان كذلك، فلا يصح عقدُ جمعة أخرى، وإذا فُرضت، فلا تحصل براءة الذمة يقيناً، والذي يقتضيه الاحتياط في ذلك أن يقيموا جمعةً، ثم يصلون من عند آخرهم (3) الظهرَ، فيخرجون عما يلزمهم قطعاً. هذا حكم القياس في طلب اليقين في الخروج عما يلزم. وقد ذكرنا فيما تقدم من مسائل الطهارة: أن الذين أقاموا الجمعة لو شكوا، فلم يدروا أوقعت الجمعة [في الوقت] (4) أو وقع شيء منها وراء الوقت، فالأصل بقاءُ الوقت، واليقين لا يزال بالشك في وقائع مشهورة، وهذه المسألة مستثناة من هذه القاعدة، من جهة أن الأصلَ إقامةُ أربع ركعات، وإقامة ركعتين طارىء معترض، فإذا ترددنا في إجزاء الجمعة، فالأصل إقامةُ أربع ركعات، وما ذكرناه [إبداءُ] (5) وجه القياس.

_ (1) في الأصل، وفي (ط): كما. والمثبت من: (ت 1)، (ل) أيضاً. (2) الطلبة: وزان كلمة، ووزان قِبْلة أيضاً: المطلوب. (المعجم). (3) أي جميعاًً. (4) ساقط من الأصل، ومن (ط). (5) في النسخ الثلاث: "ابدا" بدون همز ولا ضبط. وفي (ل) "كابدا" أي كإبداء.

والذي ذكره الأئمة أنهم إذا أقاموا الجمعةَ في صورة الإشكال مرة أخرى، كَفَتْهم، ونزل ذلك منزلةَ ما لو وقعت الجمعتان معاً، فهذا إذا لم يُدْرَ كيف وقعتا: معاً، أو تقدمت إحداهما على الأخرى. 1499 - فأما إذا تقدمت إحداهما على الأخرى يَقيناً، ولكن أشكلت المتقدمة، وما تعينت أصلاً، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن هذا بمثابة ما لو وقعتا معاً، فيقيمون جمعة أخرى وتكفيهم. والقول الثاني - أنا نأمرهم بأن يصلوا ظهراً، ولا معنى لإقامة جمعة أخرى، وقد صحت واحدة، وهذا حكاه الربيع بن سليمان (1)، وأظهر القولين في الحكاية الأول. 1500 - ولو تقدمت إحدى الجمعتين على الأخرى، وتعينت، فهي صحيحة، وقد فاتت الجمعة في حق الآخرين، فعليهم أن يصلوا ظهراً. ولو تعينت المتقدمة، ثم التبست بعد التعيين، فالذي صار إليه الأصحاب أنهم لا يقيمون جمعة، إذ قد صحت جمعة في البلدة وتعينت، فلا سبيل إلى إقامة جمعة أخرى. ولكن لما طرأ الإشكال بعد اليقين، أوجبنا على جميعهم أن يصلوا ظهراً. وذكر شيخي في بعض دروسه أن من أصحابنا من ألحق هذه الصورة عند طريان الإشكال بما إذا تقدمت جمعة قطعاً، ولم تتعين المتقدمة [قط] (2).

_ (1) هذا اسم لصاحبي الشافعي - رضي الله عنهم - وأحدهما الربيع بين سليمان الجيزي، والثاني الربيع بن سليمان المرادي، ويترجح لدينا أنه المراد هنا، فهو المعروف برواية كتب الشافعي، وأثبت من روى عنه، والإمام في (النهاية) يذكره أحياناً مطلقاً (الربيع) أما الجيزي، فذكره مرة واحدة (للآن) مقيداً باسمه كاملاً. وهناك ربيع ثالث معاصر لهما، واسمه أيضاً: الربيع بن سليمان، نبه على ذلك السبكي (ر. الطبقات: 2/ 135). هذا، وقد تحرف الاسم إلى (الربيع بن سليم) في (ت 1). ولم تعرف طبقات السبكي ولا الأسنوي أحداً بهذا الاسم. (2) في الأصل، وفي (ط): قطعاً.

وهذا وإن كان يتجه في المعنى، فهو بعيد في الحكاية. 1501 - فإن قيل: إذا تقدمت جمعة، فقد صحت في علم الله تعالى جمعة في البلدة، فأمرُ الناس بإقامة الجمعة مرة أخرى، والاكتفاء بها فيه إذا تيقَّنا المتقدمة، ولم تتعين المتقدمة -وهي صورة القولين- مشكل (1)، لا وجه له في القياس، وهو القول المشهور فيما حكيتموه. فما وجهه؟ قلنا: قد ذكرنا صورتين: إحداهما - متفق عليها، وهي إذا شككنا، فلم ندر كيف وقعت الجمعتان: أوقعتا معاً، أو تقدمت إحداهما؟ فالذي قطع به الأئمة أنا نأمر القوم بإقامة جمعة، وهي تكفيهم، وقد ذكرتُ فيه من جهة الاحتمال إشكالاً، ولكن لما اقتضى القياس أمرَ الناس بالإقدام على الجمعة ثانيةً فأمرهم معها بالإقدام على الظهر بعدها بعيد (2). فأما إذا تقدمت جمعة قطعاً، ولم تتعين لنا، فهذه صورة القولين، ووجه الحكم ببطلان الجمعة في قول أن هذه الصلاة مخصوصة بشرائط في الكمال -وقد سبقت- ولا يبعد أن يعتبر في الصحة والاعتداد اليقين، حتى إذا قارنها لبس يُقضى ببطلانها، ويجب على الابتداء إقامةُ جمعةٍ، وهذا أيضاً ظاهر إذا لم تتعين قط، فأما إذا تعينت، ثم التبست، فيبعد في هذه الصورة أن ينعطف البطلان، بعد كمال الشرائط. فهذا نهاية ما يجري في ذلك. 1502 - ولو شرعت طائفة في الجمعة، ثم علموا في أثناء الصلاة أنهم مسبوقون بجمعة صحيحة، فهل يبنون الظهر على الصلاة ويتممونها ظهراً؟ فعلى قولين، تكرر ذكرهما في مواضع. وقد ذكر الأصحاب لما ذكرناه من التباس عقد الجمعتين أمثلة من عقد نكاحين على امرأة واحدة وغيره، ولم أتعرض لتلك الأمثلة؛ فإني لم أر في الجمعتين [ما يفتقر] (3)

_ (1) "مشكل" خبر لقوله: "فأمر الناس". (2) ساقطة من: (ت 1). (3) زيادة من (ت 1).

بيانُ الحكم فيه إلى تلك الأحكام، وكلّها ستأتي في مواضعها - إن شاء الله. فرع: 1503 - إذا تخلف طائفة من الجمعة بعذرٍ، وقلنا: إنهم يصلون الظهرَ، فهل يُقيمون الجماعة؟ اختلف أئمتنا فيه، فيما نقله العراقيون، فقال قائلون: يقيمونها؛ فإن الجماعة محبوبة في الصلاة المفروضة، وهذه الصلاةُ فرضُهم. ومن أئمتنا من قال: لا نُؤثر إقامة الجماعة، وهو مذهب أبي حنيفة (1)؛ فإن أدب الشرع في هذا اليوم يقتضي تخصيصَ الجماعة في هذا الوقت، بصلاة الجمعة. وكان شيخي يقول: الوجه عندي أن لا يشهروا الجماعة، ولو أقاموا في البيوت من غير إظهار وشهر، فلا بأس، وهذا حسن. فصل 1504 - الإمام يقرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة، وفي الثانية {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، وهذا ما نص عليه الشافعي في الجديد (2)، وهو الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونقل الصيدلاني عن القديم أن الإمام يقرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]، وقال: هذا نقله النعمان بن بشير (3)، والأصح الجديد.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 340 مسألة: 306، البدائع: 1/ 270، حاشية ابن عابدين: 1/ 549. (2) ر. المختصر: 1/ 136. (3) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى (سورة الجمعة) وفي الثانية (سورة المنافقون) رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة - ورواه مسلم أيضاً من فعل علي وأبي هريرة، وعنده عن ابن عباس مثله. وأما حديث أنه صلى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية (الغاشية) فهو عند مسلم أيضاً وأبي داود، من حديث النعمان بن بشير، ولأبي داود والنسائي، وابن حبان من حديث (سَمُرَة) نحوه. (ر. التلخيص: 2/ 71 ح 663، 664، ومسلم: الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة =

وقد اشتهر من نص الشافعي في الجديد أن الإمام لو نسيَ الجمعة في الأولى تداركها في الثانية، وجمع بينها وبين سورة المنافقين. ...

_ = الجمعة، ح 877، 878، وأبو داود: الصلاة، باب ما يُقرأ به في الجمعة، ح 1122 - 1125، والترمذي: الجمعة، باب ما جاء في القراءة في صلاة الجمعة، ح 519، النسائي: الجمعة، باب القراءة في صلاة الجمعة، ح 1422، ح 519، وخلاصة البدر المنير: 1/ 221 ح 776، 777).

باب التبكير إلى الجمعة

باب التبكير إلى الجمعة 1505 - والغرض من هذا الباب الكلام على خبر مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما روي أنه قال في مساق حديث: "من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرّب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرّب بيضة، والملائكة على الطرق يكتبون الأول فالأول، فإذا أخذ الخطيب يخطب طَوَوْا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر" (1). 1506 - وقد اختلف أئمتنا في معنى الساعات المذكورة في الحديث، فذهب بعضهم إلى حمل الساعات على الساعات التي قسم عليها الليل والنهار، وحمل الساعة الأولى على الساعة الأولى من النهار، وهكذا إلى استيعاب خمس ساعات، وهذا غلط؛ فإن الماضين ما كانوا يبتكرون إلى الجامع في الساعة الأولى، ثم الساعة الخامسة في النهار الصائف تقع قبل الزوال، وفي اليوم الشَّاتي تقع قريبة من العصر؛ فلم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم ما يذكره أصحاب التقاويم، وإنما أراد عليه السلام الاستحثاثَ على السبق والتقديم، وترتيبَ منازل السابقين [واللاحقين] (2) اللاحقين. فهذا معنى الحديث. وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "من غسَّل واغتسل، وبكَّر وابتكر، وجلس قريباً، ولم يرفث، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (3)، قوله غسّل معناه:

_ (1) حديث التبكير إلى الجمعة متفق عليه من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 165 ح 493). (2) في الأصل: "أو اللاحقين". (3) حديث "من غسل واغتسل ... " رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، =

توضأ، فإن الوضوء تكرير الغسل على الأعضاء، وهو كقولهم: قطّعته آراباً. وقوله: بكر وابتكر معناه: بكّر إلى صلاة الصبح، وابتكر إلى الجمعة. 1507 - ثم يؤثر للرجل أن يأخذ زينتَه على ما سنذكر في صلاة الخوف: ملابسَ الرجال. والثيابُ البيض أحب إلى الله، ويمسّ طيباً إن كان عنده، ويمشي على سجيّته وهِينته (1)، قال عليه السلام: "إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون، ما أدركتم، فصلوا، وما فاتكم، فاقضوا" (2)، والترجل فيه أولى، وروي "أن رسول الله عليه السلام ما ركب في عيد ولا جنازة" (3) وليس في الحديث ذكر الجمعة، ولكن كان عليه السلام يقيم الجمعة في مسجده، وكانت حجرته لافظةً في المسجد. والعُجُز (4) إن حَضَرْن، فلا ينبغي أن يلبسن شهرةً من الثياب، ولا ينبغي أن

_ = والدارمي، كلهم من حديث أوس بن أوس، وقد صححه الألباني (ر. أبو داود: الطهارة، باب في الغسل للجمعة، ح 345، صحيح أبي داود: 1/ 70 ح 333. والنسائي: كتاب الجمعة، باب فضل غسل يوم الجمعة، ح 1382، وباب فضل المشي إلى الجمعة، ح 1385، وباب الفضل في الدنو من الإمام، ح 1399، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، ح 1087، وصحيح ابن ماجة: 1/ 179 ح 891، والمشكاة: 1/ 437 ح 1388، والدارمي: كتاب الصلاة، باب 195، وأحمد: 2/ 209، 4/ 9، 10، 104، وصحيح الجامع: 2/ 1094 ح 6405). (1) يقال: امشِ على هينتك أي على رسْلك. والرِّسْل: التؤدة والرفق (ر. القاموس، والمعجم). (2) إذا أتيتم الصلاة ... متفق عليه من حديث أبي هريرة وأبي قتادة، بلفظ "فأتموا" بدل "فاقضوا" وأخرجه الأربعة أيضاً. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 119 ح 350، ونصب الراية: 2/ 200، والتلخيص: 2/ 28). ومن دقيق الملاحظة أن إمام الحرمين أتى برواية "فأتموا" في كتابه (الدرّة المضية: مسألة رقم 101) وقال: إنها الرواية الصحيحة ونسب رواية (فاقضوا) إلى الغلط، حيث تفرد بها سفيان عن الزهري. ا. هـ. والأمر كما قال، ويؤيده ما قاله الزيلعي والحافظ عن الحديث. (3) حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة" رواه سعيد بن منصور عن الزهري مرسلاً، وقال الشافعي: "بلغنا عن الزهري" فذكره. (ر. التلخيص: 2/ 70 ح 663). (4) عُجُز: جمع عجوز ومثلها عجائز، وعَجَز، وعجزة. (المعجم).

يمسسن طيباً يشهرهن، وروي أن امرأة مرت بأبي هريرة يشم منها رائحة المسك، فقال: أتريدين المسجد، فقالت: نعم، فقال: تطيبت قالت: نعم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما امرأة تطيبت للجمعة لم يقبل الله صلاتها حتى ترجع إلى بيتها وتغتسل اغتسالها من الجنابة" (1). ...

_ (1) حديث أبي هريرة .. رواه ابن ماجة، بلفظ: "تطيبت ثم خرجت إلى المسجد" بدون تعيين الجمعة. وصححه الألباني. (ر. ابن ماجة: كتاب الفتن، باب (19) فتنة النساء ح 4002، وصحيح ابن ماجه: 1/ 366، ح 3233، والتعليق الرغيب: 3/ 94، والصحيحة: 1031).

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف 1508 - القول في صلاة الخوف ينقسم: في التقسيم الأول إلى ما يجري في حال شدة الخوف، ومطاردة العدو والتحام الفئتين، وذاك نذكره في آخر الباب، وإلى ما يجري ولم ينته الأمر إلى شدة الخوف، وهذا القسم ينقسم أقساماً، والجملة المتبعة أن الصلاة لا سبيل إلى إخراجها عن وقتها بسبب الخوف وقيام القتال، فأما الجَمْعُ فمتعلّق بعذر السفر، أو المطر في الحضر. وقيام الحرب لو فرض في غير سَفْرة (1)، فلا يتعلق به جواز الجمع، كما لا يتعلق رخص السفر بالمرض من غير نصٍّ عليها، فإذا كان كذلك، فإن احتمل الأمرُ أن يصلي الإمام والقومُ على نظام الأركان، من غير ركوب وتردّد، فعليهم ذلك. ثم نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةُ الخوف قبل الانتهاء إلى التحام الفريقين على وجوه، وكل وجهٍ يليق بالحال الذي نقل ذلك الوجه فيها، ونحن نأتي عليها إن شاء الله مفصلة. 1509 - وقد بدأ الشافعي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في غزوة ذات الرقاع، وكان المسلمون وقوفاً في وجاه العدو والحرب قائمة، فدخل وقت الصلاة، فأول ما نذكره الرواية في كيفية صلاته، روى الشافعي (2) بإسناده عن مالك عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوَّات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدَع أصحابه صَدْعَيْن في غزوة ذات الرقاع، وفرقهم فرقتين، وانحاز بطائفة فصلى بهم ركعةً، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركعة الثانية، انفرد القوم بالركعة الثانية وأقاموها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم في الركعة الثانية، فلما تحللوا عن صلاتهم، مشَوْا بعد التحلل إلى الصف، وأخذوا أماكن إخوانهم في القتال،

_ (1) سَفْرة: وزان سجدة مفرداً وجمعاً. (المصباح). وفي (ل): سفر. (2) ر. الأم: 1/ 186.

وانحازت تلك الفئة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في القيام ينتظرهم، فاقتَدَوْا به، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتظرهم حتى أقاموا الركعة الثانية، ثم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد، وتشهدوا، فسلم بهم الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذه رواية خَوَّات وهي صحيحة متفق (1) على صحتها، ورواها طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، منهم سهل بن أبي حثمة (2). وروى الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدع المقاتلين صدعين، وتنحى بطائفة، فصلى بهم ركعة، فلما قام إلى الركعة الثانية، مشى المصلون إلى الصف، وأخذوا مواقف إخوانهم، وانحاز أولئك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلوا معه الركعة الثانية، وتحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فمشى هؤلاء إلى الصف في الصلاة، وانحاز الأولون إلى أماكنهم من الصلاة، فأتموا الركعة الثانية، ثم مشَوْا إلى الصف، وقد تحللوا عن الصلاة، ورجع الذين كانوا في الصلاة، وانحازوا إلى أماكنهم في الصلاة، وتمموا الركعة الثانية وتحللوا، وعادوا إلى الصف" وهذه الرواية أيضاً صحيحة (3)، لم يختلف الأئمة في صحتها، وفيها تردد ومشيٌ في الصلاة، فهذا ما يتعلق بالرواية. 1510 - ونحن نبتدىء فنتكلم على تفصيل المذهب إن شاء الله. فأما رواية خوَّات، فقد رأى الشافعي العمل بها، ولكن رواية ابن عمر صحيحة لا مراء فيها، وقد تردد الأئمة في وجه الكلام عليها، فقال قائلون: تجوز إقامة الصلاة على مقتضى رواية ابن عمر، ولكن الأولى روايةُ خوات؛ إذ ليس فيها أعمال

_ (1) الأمر كما قال إمام الحرمين، فرواية خوات بن جبير أخرجها الشيخان. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 161 ح 483، والتلخيص: 2/ 76 ح 669). (2) بفتح الحاء مثلثة الثاء. ورواية سهل بن أبي حثمة متفق عليها أيضاً (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 482). (3) رواية ابن عمر متفق عليها أيضاً. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 161 ح 481، والتلخيص: 2/ 76 ح 669).

في الصلاة، وإنما منتهى الأمر فيها انفراد عن القدوة في ركعة، وفي رواية ابن عمر ترددات في الصلاة ومشي وعَوْدٌ، وفيها الانفراد عن الإمام أيضاً، وفيها انتظار الإمام للطائفة الثانية، كما في رواية ابن عمر، فصحة الروايتين تقتضي تصحيحَ الصلاة على الوجهين جميعاًً. واختصاص رواية خوات بحسن الهيئة في الصلاة، والخلوّ عن الأفعال الكثيرة مع رواية طائفة على حسب روايته، اقتضى تقديمَ روايته من طريق الأَوْلى، فهذه طريقة (1). 1511 - ومن الأئمة من قال: لا تصح الصلاة للطائفتين على مثل ما رواه ابن عمر؛ لأن الأمر ما كان انتهى إلى شدة الخوف، وكان التردد مستغنىً عنه، ولكن الرواية صحيحة، وقد أشار الشافعي إلى ادعاء النسخ فيها، فقال: "غزوة ذات الرقاع من آخر الغزوات (2)، وحديث خوات مقيد بتلك الغزاة، وحديث ابن عمر غير مقيد

_ (1) ناقش إمام الحرمين في البرهان مسلك الاختيار بين الروايتين، وهل هو بالتقدّم والتأخر، أعني بالنسخ، أو بالموافقة للقياس، أو بكثرة الرواة، أو بطريق الأَوْلى. (ر. البرهان: فقرة 405، 1221). (2) لم أصل إلى قول الشافعي إن غزوة ذات الرقاع من آخر الغزوات، وبالتالي نسخ حديث خوات لحديث ابن عمر، لا في (الأم)، ولا في (الرسالة)، ولا في (اختلاف الحديث) ولعله في موضع آخر من كتب الشافعي (ر. الأم: 1/ 186 وما بعدها، الرسالة: الفقرات من 509 - 515، 677 - 681، 711 - 736، واختلاف الحديث بهامش الأم: 7/ 221 - 226). قلت: بل ربما كان الذي وجدناه في كتب الشافعي يدلّ على أنه لا يقول بالنسخ أبداً في هذه القضية، وذلك قوله في (الرسالة): "قال (الشافعي): فقال: فاذكر من الأحاديث المختلفة التي لا دلالة فيها على ناسخٍ ولا منسوخ، والحجة فيما ذهبت إليه منها دون ما تركت. فقلت له: قد ذكرتُ قبل هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف، يوم ذات الرقاع ... (وساق الحديث) ثم أتبعه بحديث ابن عمرَ وغيره من أحاديث صلاة الخوف، فضربها مثلاً "للأحاديث المختلفة التي لا دلالة فيها على ناسخ ولا منسوخ" حيث ذهب إلى حديث خواتٍ دون غيره لوجوه وترجيحاتٍ غيرِ النسخ. (الرسالة: الفقرات: 710 - 736). وربما يشهد لهذا أيضاً أن الإمام النووي حكى القول بنسخ حديث ابن عمر، ولم ينسبه إلى الإمام الشافعي، بل جعله قولاً باطلاً، وجعل صاحبه زاعماً، (والزعم مطية الكذب) ثم =

بها، فهي محمولة على غزاة متقدمة، وما جرى فيها من كيفية الصلاة في حكم الناسخ لما تقدم". فهذا مسلك. وفيه إشكال، فإن الشافعي لا يرى النسخ بالاحتمال، وما لم يتحقق تقدم المنسوخ بالتاريخ على الناسخ، فادعاء النسخ [يبعد] (1) وينأى عن أصله. 1512 - وإن جرينا على الطريقة الأولى، وجوزنا الصلاة على موجب الروايتين جميعاًً، ورددنا الأمر بعد ذلك إلى الأوْلى، فقد قرب الأمر في الكلام على الحديث. 1513 - وإن لم نر العمل في غزاة ذات الرقاع إلا برواية خوات، ولم يثبت عندنا ناسخ على تحقيق، فوجه الكلام أن يقال: إن كانت الحالة مما تحتمل ما رواه خوات، فبعيد جداً تصحيح الصلاة مع الترددات وكثرة الأعمال، والمصير إلى التخيير -والحالة هذه- بعيدٌ عن القاعدة. وإن انتهى الأمر إلى حالة كان لا يتأتى فيها احتمال بقاء كل طائفة على مصابرة العدو

_ = قال: "والصحيح المشهور، صحة الصلاتين، لصحة الحديثين، ودعوى النسخ باطلة. وهذا القول نص عليه الشافعي في الجديد في كتاب الرسالة" ا. هـ. بتصرفٍ يسير (المجموع: 4/ 409). ولما كان إمام الحرمين أشار في (البرهان) إلى نسبة القول بالنسخ إلى الشافعي، وعاد فكرر ذلك هنا مؤكداً له، فقد أجهدت نفسي وبذلت وُسعي بحثاً في كتب الشافعي، وكل ما وصلت إليه يدي من كتب المذهب، فلم أجد من نسب هذا إلى الشافعي، وأخيراً أكرمنا الله سبحانه، وتوج جهدنا، حيث وجدت ابن حجر يقول في الفتح: "ونقل عن الشافعي أن الكيفية في حديث ابن عمر منسوخة، ولم يثبت ذلك عنه" (ر. فتح الباري: كتاب المغازي، باب (31) غزوة ذات الرقاع: 7/ 424) فهل يردّ ابن حجر بذلك على إمام الحرمين، ويعنيه بأنه النافل عن الشافعي نسخ حديث ابن عمر؟ ولم يصرح بذلك؟ ويبقى بعد ذلك أن النووي رضي الله عنه -كما فهمنا من عبارته- لم يصل إليه، أو لم يثبت عنده أن هناك من نقل عن الشافعي دعوى النسخ. ثم إن إمام الحرمين أيضاً ردّ دعوى النسخ، ورآها (مُشْكلة)، لا تتفق مع أصل الشافعي في أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. (1) تقديرٌ منا مكان بياض قدر كلمة في النسخ الثلاث، ولعلنا وافقنا الصواب. والحمد لله وافقتنا (ل).

في مقدار ركعتين من الصلاة، وكان الذي يليق بالحال أن تبادر كل طائفة إلى أماكنها إذا فرغت من ركعة، فهذا عسر في التصوير جداً؛ فإنَ انتهاء (1) الأمر إلى حالة لا تحتمل مقدار ركعة خفيفة في تفريق الفريقين بعيد عن إمكان الإدراك. على أن هذا كيف يُتخيّل، وما كان يقف إلى تمام الركعتين الطائفتان جميعاًً في وجاه العدو، وقد يتوقع من الزوال وتبدل الواقفين خلل عظيم في القتال، ولم ينقل الناقلون في غزوة ذات الرقاع إلا صلاة واحدةً، فالوجه ترجيح رواية خوات بكثرة الرواة وموافقته ما تمهد في قاعدة الصلاة، من ترك الأعمال من غير حاجة، والترجيح من المسالك المقبولة في تقديم رواية على رواية. 1514 - فإذا تمهد الكلام على الروايتين، فليقع التفريع على ألا تصح الصلاة إلا كما رواه خوات، وليعلم الناظر أن النبي عليه السلام إنما فعل ما رواه خوات لمسيس الحاجة إليه، وكان أصحابه يؤثرون الاقتداء به، وألاّ تفوتَهم الجماعة معه، فرأى أقربَ الطرق في التسوية بين الطائفتين، وألْيَقها بالحال ما ذكرناه. وقد قال الأئمة: كان العدو منحرفاً عن جهة القبلة، وكان الحال في القتال يوجب تفريق الجند، في مثل ذلك الزمان، فتنحى بطائفة إلى مسافةٍ لا ينالهم سهامُ الأعداء، هكذا الأمر في غزوة ذات الرقاع، فإن اتفقت حالةٌ تدانيها، أقمنا مثل تلك الصلاة فيها. فإن تكلف متكلف في التصوير، وقال: لو كان الأمر بحيث لا تقوى طائفةٌ على المصابرة إلا في زمان ركعة، فإذا انحازت وصلت ركعة، وأجمتْ نفسها، فقد تقدر على المطاردة بما استروحت إليه من ترك القتال، ولا تقدر على المصابرة في القلّة والانفراد في مقدار ركعتين، فهذا تكلف بعيد، سبق الكلام عليه، [ووضح] (2) أن هذا التفاوت في مقدار ركعة لا يضبطه الحس والإدراك، ثم التردد والمشي والعود إلى الصف أشق وأعظم خطراً؛ فإن الاضطراب والمجيء والذهاب قد يكون سببَ

_ (1) في (ت 1): انتهى. (2) في الأصل، (د 1): وصح. والمثبت من (ت 1)، وبمثلها جاءت (ل).

الانفلال (1) في القتال، ثم تغيير هيئة الصلاة لا يجوز بشيء يحتاج في تصويره إلى [كل] (2) هذا التدقيق، بل إنما يجوز لأمر ظاهر يبلغ مبلغ الحاجة الشديدة والضرورة، فلا مطمع في العمل إلا برواية خوات في صورة يتضح فيها ما رواه ابن عمر. 1515 - وكل ما قدمناه من التطويل تحويم على البوح بذلك؛ إذ لو كان يسهل تصوير صورة لائقة بتلك الروايات (3)، لابتدرنا القول بتنزيل كل رواية على حالة تقتضيها؛ فإنه لا يبعد تجويز تغاير في الصلاة بسبب اختلاف الأحوال في القتال، فإنا سنجوز صلاة عُسفان كما سيأتي لحَالة اقتضتها، وسنذكر احتمال تغايير ظاهرة في الصلاة عند شدة الخوف، فإذن لا مستند لتصحيح ما رواه ابن عمر إلا الرواية المحضة، وقد قدمنا أن رواية خوات مقدمة من طريق الترجيح. ونحن الآن نعود إلى صحة (4) تفصيل القول في رواية خوات بن جبير، فنقول أولاً: الرواية ما قدمناها في كيفية الصلاة، وفيها أنه لما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للتشهد، قام القوم إلى الركعة الثانية، ورسول الله عليه السلام لم يسلم، حتى لحقه القوم ثم سلم. وقد وافق مذهبُ مالك (5) روايةَ خوات، غير أنه رأى أن يتشهد القوم، ويسلم الإمام، ثم يقومون، ويصلون ركعة كما يفعله المسبوق بركعةِ. هذا مذهب مالك، وقيل: إنه قول قديم للشافعي، ولست أدري أن مالكاً روى ما رآه أم هو اختياره من طريق المعنى، ولم يسنده إلى رواية؟ أما الشافعي، فقد روى عن مالك كيفيةَ الصلاة كما سردناها. والذي يتعين ذكره الآن أن ما ذكره مالك -هو القول القديم- لا شك في صحته؛

_ (1) الانفلال: الهزيمة، وفي (ل): الانقلاب. وهو تحريف ظاهر. (2) في النسخ الثلاث: حل. وهو تصحيف نشأ عن أنهم كانوا في أول الأمر لا يكتبون [عكفة] الكاف. بل يكتفون برسمها هكذا (ـ ل) = كل. وقد صدقتنا نسخة (ل). (3) في (ل) "الرواية". (4) في (ت 1): كيفية، وفي (ل): إلى تفصيل. (5) ر. جواهر الإكليل: 1/ 100، حاشية العدوي: 1/ 340، حاشية الدسوقي: 1/ 392.

فإن ذاك لو فرض مع الاختيار لصح، وإنما الكلام في تصحيح ما رواه خوات وصححه الشافعي في الجديد، وكشفُ القول في هذا يأتي عند فرضنا الكلام في حالة الاختيار، فليكن على ذُكر الناظر إلى الانتهاء إليه. 1516 - فالكلام إذن يتعلق بفصول: أحدها - في كيفية هذه الصلاة على الجديد عند الحاجة في القتال. والثاني - في تصوير هذه الصلاة على هذه الصورة عند الاختيار. والثالث - في تصوير تصديع الجند أكثر من صَدْعين، عند احتمال الحال في صلاة ثلاثية، أو رباعية. والرابع - في تصوير سهو الإمام والقوم وما يتعلق به. [الفصل الأول] (1) 1517 - فأما الأول، فقد بان أن القوم ينفردون عن الإمام في الركعة الثانية ويسلمون، والإمام في قيام الركعة الثانية ينتظر الطائفة الثانية، ثم الذي نقله المزني أن الطائفة الثانيةَ إذا لحقت وتحرمت، فالإمام يقرأ بهم فاتحة الكتاب وسورة (2)، وهذا يتضمن أنه في قيامه وانتظاره لا يقرأ الفاتحة؛ فإنه لو قرأها، لما كررها. والذي نقله الربيع أنه في انتظاره يقرأ الفاتحة، ثم إذا لحق القومُ قرأ من القرآن ما يتمكنون في زمان قراءته من الفاتحة. وقد اختلف الأئمة في التصرف في النصين، فمنهم من غلّط المزني، وهو اختيار الصيدلاني، وقال: بقاء الإمام ساكتاً في زمان انتظاره -وهو زمان طويل- بعيدٌ، مخالف لهيئة الصلاة، ولا تمس إليه حاجة؛ فإن الطائفة الثانية يدركون الركعة من غير أن يتكلف الإمام هذا، وتغيير الهيئة لا يُحتمل إلا لحاجة ظاهرة، فالتعويل على ما نقله الربيع.

_ (1) زيادة من عمل المحقق، رعاية لتقسيم المؤلف وترقيمه للفصول الآتية. (2) ر. المختصر: 1/ 142.

ومن أئمتنا من جعل المسألة على قولين، وهذه طريقة مشهورة، فأحد القولين ما نقله الربيع، ووجهه ما ذكرناه، والثاني - أنه لا يقرأ في زمان الانتظار؛ فإنه لو قرأ الفاتحة، لم يكررها، ثم لا يكون مساوياً بين الطائفة الأولى والثانية؛ فإنه قد قرأ الفاتحة والسورة بالطائفة الأولى، فكان حكم التسوية يقتضي أن يقرأهما بالثانية أيضاً، ولو كان يجري في الركعة الثانية على ترتيب صلاة نفسه، لتمادى فيها وركع، ثم انتظرهم في ركوعه حتى يدركوه، ويدركوا الركعة بإدراكه مسبوقين. 1518 - ومما يتعلق بهذا الفصل أنا ذكرنا أن المنصوص عليه في الجديد أن الطائفة الثانية يقومون إلى الركعة الثانية والإمام ينتظرهم ساكتاً، ثم يتشهد إذا عادوا إليه، وذكر العراقيون فيه طريقين: إحداهما - أن ذلك بمثابة القول في قراءته وسكوته في القيام وهو ينتظر، فيخرج على ما تقدم. والثانية - أنه يتشهد كما (1) جلس ولا يسكت حتى يلحقوه. والفرق أنا إنما أمرناه بأن يسكت في قيامه على أحد القولين ليسوّي بين الطائفتين؛ فإنه قد قرأ بالطائفة الأولى الفاتحة والسورة، وهذا لا يتحقق في التشهد؛ فإنه ما تشهد مع الطائفة الأولى أصلاً، وليس في الصلاة [الثنائية] (2) إلا هذا التشهد. فهذا تمام البيان في هذا الفصل. الفصل الثاني في تصوير إقامة هذه الصلاة على هذه الصورة في حالة الاختيار 1519 - وسبيل استفتاح القول فيه أن نتأمل ما فيها من التغايير، ثم نعرضها على الأصول حالة الاختيار. أما الطائفة الأولى، فلم يجر في صلاتها شيء إلا الانفراد عن الإمام بركعة. وأما الإمام، فالذي يوجد منه الانتظار إما في موضع واحد، وإما في موضعين.

_ (1) "كما" بمعنى عندما. (2) في الأصل، (ط): الثانية، والمثبت من (ت 1). وقد جاءت (ل) بنفس ما في الأصل.

وأما الطائفة الثانية، فإنهم يقومون إلى الركعة الثانية على صورة الانفراد، ثم يعودون -على الجديد- ويقتدون. فإن فرضنا هذه الصلاة في حالة الأمن والاختيار، فنقول: إذا انفردت الطائفة الأولى من غير عذر، ففي صحة صلاتهم قولان مشهوران تقدم ذكرهما، وأما الإمام، فإنه ينتظر، وقد ذكرنا في الانتظار في حالة الاختيار قولين، ثم قلنا: إذا لم نأمر به، فهل تبطل به صلاة الإمام أم لا؟ فعلى قولين، فإذا فرضنا الصلاة في حالة الاختيار، وقلنا تبطل صلاة الإمام، فالطائفة الثانية تلحق وقد بطلت صلاة الإمام، ولا يكاد يخفى تفريع ذلك في العلم والجهل. وإن لم تبطل صلاة الإمام بسبب الانتظار، فالطائفة الثانية إن جرت على ما ذكره مالك -وهو القول القديم- فصلاتهم صحيحة؛ فإنهم جروا على الترتيب الشرعي في صلاة المسبوق، وإن جروا على قياس القول الجديد، فقد انفردوا، ثم عادوا فعلَّقُوا صلاتهم بالقدوة، فيجتمع فيهم أصلان: أحدهما - الانفراد من غير عذر. والثاني - أن المنفرد إذا نوى الاقتداء بعد الانفراد، فهل يصح ذلك منه؟ ففي فساد صلاتهم حالة الاختيار عند طريان ما ذكره قولان مأخوذان من هذين الأصلين، فهذا بيان ما أردناه في هذا. فرع: 1520 - إذا أراد الإمام أن يصلي بالطائفتين صلاة المغرب؛ فإنه يصلي بطائفة ركعتين، وبطائفة ركعة، وهذا التفصيل لا بد منه؛ فإن تشطير الثلاث عسر، ثم اختيار الشافعي فيما نقله الأئمة أن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة. وإنما اختار ذلك؛ لأنه لو صلى بالطائفة الثانية ركعتين، لاحتاجوا إلى الجلوس معه في التشهد الأول، ولا يكون محسوباً لهم، وحالة الخوف لا تحتمل هذا. ثم نص الأصحابُ قاطبة على أنه لو صلّى بالطائفة الأولى ركعةَ، وبالثانية ركعتين، جاز. وفي بعض التصانيف (1) عن الإملاء أن الأولى أن يصلي بالطائفة الثانية ركعتين،

_ (1) كنت أظن أن إمام الحرمين يعني بقوله: "بعض المصنفين" و"بعض التصانيف" الماوردي، =

وهذا مزيف لا أعده من المذهب، نعم قد ذكر الصيدلاني "أن علياً رضي الله عنه صلى بأصحابه صلاة المغرب ليلة الهرير، فصلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالثانية ركعتين" (1)، ولكن الشافعي لم يَرَ اتباعَه لما ذكرناه. ثم إذا صلى بالطائفة الأولى ركعتين فمتى ينتظر الطائفة الثانية؟ قال الشافعي: إن انتظرهم في التشهد الأول، فجائز، وإن انتظرهم في قيام الركعة الثالثة، فحسن، فجوّز الانتظارَ في التشهد، واستحب إيقاعَ الانتظار في القيام، والسبب فيه أنه لو انتظر، لم يخل إذا جاءت الطائفة الثانية إما أن يبقى جالساً حتى يجلسوا، ولو فعل ذلك، لكان كلّفهم بما لا يحسب لهم، وإن قام عند لحوقهم، لكان خارجاً عن محل انتظاره، والقياس اللائق بحال المنتظر أن يبقى في محل انتظاره، حتى يلحقه من ينتظره، وأيضاً؛ فإنه لو طال انتظاره في التشهد، وهو قريب محصور، لطال سكوته، والقراءة في قيام الركعة الثالثة ليست بِدْعاً (2)، وقد قال الشافعي في قول

_ = وكتابه الحاوي، وذلك لما كان منه من غمز له في كتابه (الغياثي) ولذلك تتبعتُ هذه الأقوال التي يزيفها إمام الحرمين ويخطِّئها، تتبعتها في الحاوي، فلم أجد الماوردي قائلاً بها. وأخيراً ألقى الله إلينا حكاية ابن كثير عن ابن خلّكان عن بعض فضلاء المذهب أن الإمام يقصد بذلك أبا القاسم الفوراني. ونص عبارة ابن خلكان: "سمعتُ بعضَ فضلاء المذهب يقول: كان إمام الحرمين يحضر حلقة الفوراني، وهو شاب يومئذ، وكان أبو القاسم لا ينصفه، ولا يصغي إلى قوله لكونه شاباً، فبقي في نفسه منه شيء، فمتى قال في نهاية المطلب: وقال بعض المصنفين كذا، وغلط في ذلك، وشرع في الوقوع فيه، فمراده أبو القاسم الفوراني" (ر. وفيات الأعيان: 3/ 132، والبداية والنهاية: 12/ 98، وأيضاًً طبقات السبكي: 5/ 110). (1) حديث صلاة علي رضي الله عنه ليلة الهرير، رواه البيهقي، على نحو ما أورده. إمام الحرمين: "بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين" وفي خلاصة البدر المنير أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة. رواه الشافعي. وليلة الهرير معركة كانت بين علي والخوارج، وقيل هي ليلة صفين. (ر. السنن الكبرى: 3/ 252، خلاصة البدر المنير: ح 796، وتلخيص الحبير: 2/ 78). (2) في (ط) و (ت 1): بدعاء (فقد ضبطت الدال بضمّة). وفي الأصل بدون ضبط ولا همز، فقدرناها هكذا. والله أعلم. وأكدت هذا (ل)، فقد وضعت علامة التنوين على العين هكذا (بدعاً).

ظاهرٍ في الجديد: يستحب قراءة السورة في الركعات كلها. وذكر بعض المصنفين عن الإملاء ما يدل على أن الأولى أن ينتظر في التشهد الأول، وهذا لا أصل له، ولم أره في غير هذا الكتاب (1)، ولا أعتد به. الفصل الثالث فيه إذا صلى الإمام بالقوم صلاة إقامة أربع ركعات، وأراد أن يفرقهم أربع فرق ويصلي بكل فريق ركعة، ثم هم ينفردون بثلاث ركعات. 1521 - وتمام التصوير فيه أن يَقِرَّ ثلاثةُ أرباع الجند في الصف، ويصلي هو بطائفةٍ الركعةَ الأولى، ثم ينفردون بثلاث ركعات ويرجعون إلى أماكنهم، وهو ينتظر الطائفة الثانية في الركعة الثانية، فإذا لحقوه صلاها بهم، فإذا جلس للتشهد الأول، قاموا -على الجديد- ولم يتابعوه في التشهد، أو تابعوه -على القديم- ثم قاموا إلى ثلاث ركعات، فإذا نجزت صلاتُهم، قاموا إلى أماكنهم، ثم الأحسن على النص أن ينتظر الطائفةَ الثالثةَ في الركعة الثالثة، فلو انتظرهم في التشهد، جاز. ثم إذا صلى بهم ركعةً انفردوا بثلاث، ثم ينتظر الطائفةَ الرابعةَ في الركعة الرابعة، فيصليها بهم، ثم يجلس للتشهد، والنص في الجديد أنهم يقومون إلى ثلاث على ترتيب صلاتهم، والإمام ينتظرهم في التشهد حتى يلحقوه، ويتشهدوا، ثم يسلم. فهذا هو التصوير. 1522 - وفي جواز ذلك قولان للشافعي: أحدهما - لا يجوز؛ لأن الرخص لا مجال للقياس فيها، ومعتمدها اتباعُ النصوص، وإنما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفريق الجند فرقتين، فلا مزيد على ما نقل. والقول الثاني - أنه يجوز؛ فإن انتظار الطائفة الثالثة في معنى انتظار الطائفة الثانية،

_ (1) يعني (الإبانة) للفوراني. كما قدّمنا آنفاً.

وقد تمهد [أن] (1) ما لا يجول القياس فيه [يجوز أن يلحق فيه] (2) بالمنصوص ما في معناه. التفريع على القولين: 1523 - إن قلنا: يجوز ذلك، فشرطه أن يظهر مسيس الحاجة إلى ذلك، واقتضاء الرأي له، فأما إذا لم يظهر فيه وجه الرأي، فالزيادة على الحاجة تجري في الترتيب مجرى ما لو جرى ما ذكرناه في حالة الاختيار، وقد بان ترتيب المذهب [فيه] (3) ثم إذا مست الحاجة، جرى في انتظار الطائفة الثالثة ما ذكرناه، قال الشافعي: إن انتظرهم في التشهد الأول، فجائز، وإن انتظرهم في قيام الركعة الثالثة، فحسن، ويصلي بالطائفة الرابعة الركعة الرابعة. ثم المنصوص عليه في الجديد أنهم يفارقونه وهو ينتظرهم حتى يلحقوه، والقديم أنهم يتشهدون معه كما يفعله المسبوق ويسلم الإمام، ثم إنهم يقومون إلى الركعات الثلاث على قياس المسبوق. وإن قلنا: لا يسوغ المزيد على ما نقل عن رسول الله عليه السلام، فلو فعل الإمام، فأحسنُ ترتيب في التفريع على هذا القول أن نقول: أما الطائفة الأولى، فصلاتهم صحيحة؛ فإن انفرادهم ببقية الصلاة موافقة لترتيب الصلاة المنقولة عن الطائفة الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الطائفة الثانية. ولا نظر إلى أدنى تفاوت في زيادة الركعات، وأن الانتظار وقع في وسط الصلاة، بخلاف ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن هذا القدرَ محتمل، وهو على القطع ملحق بالمنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلحاق الأمةِ بالعبد في قوله: "من أعتق شركاً له من عبدٍ قُوّم عليه" (4). ثم إذا انتظر الطائفة الثالثة في الركعة الثالثة، فالمنصوص عليه في هذا القول أن

_ (1) زيادة من (ت 1). (2) زيادة من (ت 1) حيث سقطت من الأصل، ومن (ط). (3) زيادة من (ت 1)، (ل). (4) حديث "من أعتق شركاً له من عبد ... " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 128 ح 958).

هذا غير جائز، والإمام من هذا الوقت مجاوز موقع النص. وخرج ابنُ سريج على هذا القول قولاً آخر أن هذا الانتظار محتمَل، وعلل بأن قال: هذا هو الانتظار الثاني؛ فإنه على التصوير الذي قدمناه [ينتظر] (1) الطائفة الثالثة، فيقع انتظارُه ثانياً لا محالة، وأن الطائفة الأولى لا انتظار معها، قال ابن سُريج: وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظاران: أحدهما - أنه انتظر الطائفة الثانية في قيام الركعة الثانية، فكان هذا انتظاره الأول، ثم لما فارقوه انتظرهم في التشهد، فكان ذلك انتظاراً ثانياً، فالانتظار الثاني للطائفة الثانية يقع وفقاً لما نقل عن رسول الله عليه السلام. ومن نصر النص قال: انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد كان للطائفة الثانية أيضاً، فهو مخالف لما يجري من انتظار طائفة أخرى. وابن سُرَيْج يقول: إذا توافق الانتظاران وقوعاً، فالتفاوت فيمن الانتظار له ولأجله قريب؛ فإن الممنوع مزيدُ انتظارِ في عينه، لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا متجه. التفريع: 1524 - إن جرينا على التخريج، فتصح صلاة الطائفة الثالثة أيضاً. وإن جرينا على النص، فالإمام كان ممنوعاً من الانتظار، ولكن انتظاره الممنوع هل يبطل صلاته أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يُبطل صلاتَه؛ [فإنه] (2) طول ركناً قابلاً للتطويل، وإضمارهُ أن يُلحَقَ غيرُ ضائر. والثاني - يُبطلُ صلاته؛ فإنه في انتظاره صرف جزءاً من صلاته إلى غرض مخلوقٍ؛ فكان ذلك منافياً لما أُمر به المصلِّي من تجريد القصد إلى عبادة الله تعالى. وقد ذكرنا هذا في انتظار الإمام للمسبوقين من غير خوف وحاجة. فإن قلنا: لا تبطل صلاةُ الإمام بانتظاره، فتصح صلاة الطائفة الثالثة أيضاً، وتعود

_ (1) ساقطة من الأصل، ومن (ط). (2) في الأصل، وفي (ط): فلأنه، و (ل): فإن.

فائدة القول إلى نهي الإمام عن هذا الانتظار، وتصح صلاة الطائفة الثالثة؛ فإنهم لم يأتهم فسادٌ من جهة الإمام، ولم يطرأ على صلاتهم إلا الانفراد، وقد تقدم أن انفراد المقتدي بعذر عن الإمام جائز، وإن لم يكن العذر خوفاً في حرب. والذي اتصف به هؤلاء لا ينحط عن عذرٍ في غير حالة الخوف. وإن قلنا: تبطل صلاةُ الإمام بانتظاره في الركعة الثالثة، فأول ما نُفرِّعه أنه إذا قرأ الفاتحة، وأدى المقدارَ الذي لا يظهر أثر الانتظار فيه، ثم أخذ يطوّل قصداً إلى الانتظار، فإذ ذاك أتى بالانتظار المفسد على هذا الوجه، فأما مادام في قراءة الفاتحة والسورة، ولم يجاوز حدّ صلاته لو لم ينتظر، فإذا عزم (1) قبل ظهور التطويل فعلاً على الانتظار، فهذا رجل علق نيته وقصده بما [لو] (2) نَجَزَه (3) أفسد صلاتَه. وقد ذكرت [ذلك] (4) مفصلاً في فصول النية، وأبلغت في البيان والكشف. وعلى الجملة التعويل في ذلك على القصد؛ فإن الرجل لو طول صلاتَه قصداً، ولم يخطر له انتظار، وكان التطويل في ركن [طويل] (5) لم يضر ذلك. فإذا فسدت صلاةُ الإمام بسبب الانتظار المنوي، فإن علمت الطائفةُ الثالثةُ بطلانَ صلاته واقتدَوْا به، فصلاتهم باطلة، وإن لم يعلموا بطلان صلاته، فاقتداؤهم صحيح، وهو بمثابة الاقتداء بالجنب مع الجهل بجنابته وحدثه، ثم يطرأ على صلاتهم (6) الانفراد بعد عقد القدوة. 1525 - ويعترض في ذلك أمران: أحدهما - أنهم انفردوا عن صلاةٍ باطلة في علم الله، وهذا فيه نظر.

_ (1) في (ل): تحرّم. (2) في الأصل، و (ط): لم. (3) نجزه: أتمه، يتعدى بدون الهمزة والتضعيف. (المعجم). (4) مزيدة من (ل). (5) زيادة من (ت 1)، (ل). (6) من هنا بدأ خرم في نسخة (ل).

وكذلك من اقتدى بجنب على جهل، ثم نوى الانفراد عنه، ثم تبين أخيراً حقيقة الحال. وهذا التردد ينبني على أن حكم القدوة هل يثبت إذا كان الأمر هكذا؟ وفيه خلاف ذكرته في الجمعة إذا كان إمامها جنباً، وأدرك المسبوقُ الإمامَ في ركوع ركعة، وكان الإمام محدثاً. ويجوز أن يقال: إذا منعنا المقتدي من الانفراد، فانفراده ببقية صلاته، والإمام جنب غير سائغ من قصد المقتدي، وإضماره مخالفة من يعتقده إماماً. ثم كان شيخي يقول: إذا منعنا الإمام من انتظار الطائفة الثالثة، فلا نقيم لما يجري من العذر وزناً في جواز انفراد، القوم؛ فإن هذا على خلاف وضع الشرع، وفي هذا احتمال؛ فإنهم على الجملة معذورون، فلا يبعد أن يرتب أمره على معذورٍ في غير حالة الخوف، كما مضى ذلك مفصلاً في موضعه. وإن حكمنا بأن صلاة الطائفة الثالثة تصح أيضاً على التخريج، فنرد التفريع في المنع من الانتظار إلى الركعة الرابعة، ثم يتفرع على ذلك ما تقدم على النص في الركعة الثالثة. الفصل الرابع في حكم سجود السهو 1526 - فنذكر حكمَ الطائفة الأولى: فكل سهو وقع للإمام في الركعة الأولى؛ فإنه [يَلْحق] (1) الطائفةَ الأولى [و] (2) ما يصدر منهم في تلك الركعة، فالإمام يحمله عنهم، وما وقع في الركعة الثانية بعد مفارقة الطائفة، فلا يتعدى الحكمُ الساهيَ؛ فإنّ سهوَ الإمام لم يلحقهم، وإن سهَوْا، لم يتحمل الإمام عنهم، ثم حكم الركعة الأولى يمتد ماداموا في السجدة الأخيرة (3).

_ (1) في الأصل، (ط): يلتحق. والمثبت من: (ت 1). (2) مزيدة من: (ت 1). (3) أي من الركعة الأولى.

فإذا رفع الإمامُ رأسه ورفع القومُ رؤوسهم، فلو فرض سهوٌ قبل الانتهاء إلى حد الاعتدال، فهل يكون ذلك على حكم القدوة؟ فعلى وجهين ذكرهما الإمام رضي الله عنه: أحدهما - أن حكم القدوة باق إلى الاعتدال؛ فإن القوم والإمام مصطحبون. والثاني - حكم القدوة ينقطع برفع الرأس من السجود؛ فإن الركعة تنتهي بمفارقة السجدة الأخيرة (1). ثم كان يقول: إذا قلنا رفْعُ الرأس يقطع القدوة، فلو رفع الإمامُ رأسه، وهم بعدُ في السجود، فقد انقطعت القدوة، فلو فرض سهوٌ في هذه الحالة منه أو منهم، فلا يكون على حكم القدوة؛ فإن القوم وإن كانوا في السجود، فقد فارقهم الإمام، وإذا خرج الإمام عن حكم الإمامة، فقد انقطعت القدوة، والأمر على ما قال. ولم يختلف العلماء في أن الإمام في صلاة الرفاهية إذا سلّم، فسها المأموم قبل أن يسلّم، لم يحمل الإمام ذلك السهوَ؛ فإنه سها ولا إمام له. 1527 - ومما يتعلق بهذه المسألة إذا قلنا: لا تنقطع القدوة قبل الاعتدال، فلا يبعدُ على هذا القول أن يقال: إنما ينفرد القوم إذا ركعوا وتركوا الإمام قائماً؛ فإنهم إنما يفارقونه حساً إذ ذاك، وهذا احتمالٌ، والذي نقلته ما تقدم. فهذا تفصيل القول في الطائفة الأولى. 1528 - فأما الطائفة الثانية، فلا يخفى تفصيل السهو في الركعة الأولى من صلاة الطائفة الثانية. فأما إذا قام القوم إلى ركعتهم الثانية والإمام في التشهد ينتظرهم، فلو فرض سهوٌ من القوم في الركعة الثانية، أو من الإمام في التشهد، فهل يثبت حكم القدوة في ذلك السهو؟ فيه وجهان: أحدهما - لا يثبت؛ فإنهم ليسوا مقتدين فيها، بل هم منفردون في الحقيقة. والثاني - يثبت لهم حكم القدوة؛ فإنهم ما فارقوا الإمام مفارقة تامة، بل هو ينتظر القوم في التشهد، وهم صائرون إليه، فحكم القدوة شامل.

_ (1) ساقطة من: (ت 1).

وهذان الوجهان يجريان في المزحوم إذا تخلف، وأمرناه بأن يقتفي الإمامَ، فلو سها، أو سها الإمام، فهل يثبت حكم القدوة في ذلك السهو؟ فعلى ما ذكرناه. وذكر بعض المصنفين أن من كان منفرداً في ابتداء صلاته، ثم وجد جماعةً، فاقتدى في أثناء الصلاة بإمامهم، وجوزنا ذلك على أحد القولين، فالسهو الذي جرى في حالة الانفراد هل يرتفع بالقدوة؟ فعلى وجهين (1). وهذا بعيد جداً، والوجه القطع بأن حكم السهو لا يرتفع بالقدوة اللاحقة؛ فإنه لما سها كان منفرداً، لا يخطر له أمر القدوة، وإنما جرت القدوة من بعدُ متجدِّدةً، ولا انعطاف لها على الانفراد المتقدم. 1529 - ومما يتعلق عندي بهذا الفصل أنا إذا جعلنا الطائفةَ الثانية في الركعة الثانية في حكم المنفردين في السهو، فإذا عادوا إلى التشهد وكان الإمام ينتظرهم، فهل يحتاجون إلى نية القدوة؟ أم هل يعودون إلى القدوة أم لا؟ يستحيل أن يقال: لا يعودون إلى القدوة؛ إذ لو كانوا كذلك لما (2) كان في انتظار الإمام إياهم فائدة ومعنى، وإذا كانوا يعودون، وقد انفردوا على الوجه الذي نفرع عليه في حكم السهو، ففي عود حكم القدوة من غير نية القدوة بعد الانفراد بُعد، ولم أر أحداً من أصحابنا اشترط نية القدوة في العود إلى التشهد. فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأصح أن حكم القدوة لا يرتفع بانفرادهم من حيث الصورة. والله أعلم. فهذا تمام القول في صلاة ذات الرقاع. 1530 - وقد اختلفوا في اشتقاق ذات الرقاع، فمنهم من قال: كان القتال في سفح

_ (1) انتهى كلام "بعض المصنفين" وسبق أن ذكرنا أنه يعني به الإمامَ "الفوراني". (2) إلى هنا انتهى الخرم في نسخة (ل) وهو أصلاً في النسخة التي أخذت عنها (ل)، يشهد لذلك أنه وقع في أثناء الصفحة ووسط السطر، ولم يكن في رأس الصفحة، حتى يحمل على ضياع ورقة منها.

جبل فيه جُدَدٌ بيضٌ وحمر كأنها رقاع. ومنهم من قال: كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاةٌ قد لفّوا على أرجلهم الرقاعَ. فرع: 1531 - إذا كان الإمام والقوم في دار إقامة، فمست الحاجةُ يوم الجمعة إلى إقامة صلاة الجمعة على هيئة صلاة ذات الرقاع: من تفريق القوم فرقتين، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من أجراها لمكان الخوف مجرى صلاةٍ ثنائية مقصورة، أو غير مقصورة، كصلاة الصبح، والإمام يكون في انتظار الطائفة الثانية في صورة منفرد، إلى أن تلحقه الطائفة المنتظرة، وهذا على صورة الانفضاض، والطائفة الأولى انفردوا بركعة والإمام في الصلاة، وهذا غيرُ سائغ مع زوال المعاذير، ولكن احتملنا ذلك لمكان الخوف. 1532 - ومنهم من لم يصحح صلاة الجمعة بسبب الخوف إلا على قياس تصحيحها في حالة الاختيار؛ فإنها صلاة اختُصَّت بشرائطَ في رعاية الجماعة والعدد المخصوص، وكمال الصفات؛ فوجود الخوف وعدمه فيها بمثابة واحدة، وقياس الانفضاض وما فيه قد مضى، فلنجر ذلك القياس بعينه، وإذا أجريناه، فينبغي ألاّ تصحَّ جمعةُ الطائفة الأولى؛ فإنهم وإن صلوا ركعةً في جماعة، فقد انفردوا في الركعة الثانية، ولو فرض انفراد قومٍ بركعة حالة الاختيار قصداً، فلا مساغ لهذا. 1533 - وفي كلام أئمة العراق ما يشير إلى ترددٍ في ذلك في (1) حق المختارين إذا صلوا ركعة مع الإمامِ، تخريجاً على الانفضاض، وهذا بعيدٌ جداً، فأما الخلاف في أن الخوف هل يُسوِّغ هذا، فمحتمل، وأما تجويز ذلك في حالة الاختيار وتخريجه على الانفضاض، فلا وجه له؛ فإن قاعدة الانفضاض على التردد في صحة صلاة الإمام ومن بقي معه، إن نقصوا عن العدد المشروط؛ من حيث إنهم ما انتسبوا إلى أمر فيما جرى. أما تسويغ انفراد طائفةٍ بركعة قصداً، تخريجاً على الانفضاض، فبعيدٌ، لا أصل له.

_ (1) في الأصل، و (ط): وحق.

فصل 1534 - ذكر الشافعي صلاةَ شدة الخوف، ثم ذكر بعدها صلاةَ عُسفان، وينبغي أن يكون فرض الصورة حيث يكون العدوّ في وِجاه القبلة، ولم ينته الأمر إلى الالتحام وشدة القتال والخوف، وقد رُوي أن النبي عليه السلام صلى بعُسفان (1) في مثل الحال التي وصفناها، وصلى معه جميعُ الأصحاب دفعة واحدة، ووقفوا صفين، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى، بقي الصف الأول قائمين ينتظرون ما يكون من العدوّ، وتخلّفوا في السجدتين، وسجدَ وراءهم أهلُ الصف الثاني، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وانتصب الصف الثاني، سجد الحارسون، ولحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما انتهى عليه السلام إلى السجود في الركعة الثانية سجد من في الصف الأول، وحرس من في الصف الثاني، فلما قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتشهد، سجد الحارسون من الصف الثاني، وتناوب الصفان في الحراسة كما رويناه. فهذه صفة صلاته عليه السلام، وتمام النقل فيه أن خالد بن الوليد كان بعدُ مع الكفار، لم يسلم، وكانوا في قُبالة القبلة، فلما دخل وقت العصر تناجَوْا وقالوا: قد دخل عليهم وقت صلاة هي أعز عليهم من أبدانهم وأرواحهم، فإذا شرعوا فيها، حملنا عليهم حملة رجل، فنزل جبريل عليه السلام، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أضمروه، فصلى مع أصحابه كما وصفناه. ثم المنقول تناوب القوم في الحراسة، فلو قام بالحراسة في الركعتين جميعاًً طائفة

_ (1) حديث صلاة عسفان رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وابن أبي شيبة، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، كلهم من حديث أبي عياش الزرقي، وفيه تعيين عسفان، وخالد بن الوليد، وقد رواه مسلم من حديث جابر بدون ذكر عسفان، وخالد (ر. مسلم: صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، ح 839، أبو داود: الصلاة، باب صلاة الخوف، ح 1236، النسائي: الصلاة، باب صلاة الخوف، ح 1550، 1551، أحمد: 4/ 60، ابن أبي شيبة: 2/ 465، الدارقطني: 3/ 60، ابن حبان: 2876، الحاكم: 1/ 337، البيهقي: 3/ 257، صحيح أبي داود للألباني: 1096).

واحدة، وتخلفت فيهما، ثم لحقت، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - المنع؛ فإن المتبع في تغايير وضع الصلاة النصوص، وما يصح النقل فيه، وقد صحت الحراسةُ على التناوب، وفي ذلك معنى معقول؛ فإن [في] (1) الحراسة تخلفاً عن الإمام بأركانٍ، فإذا تناوب فيها القوم، قلّ التخلفُ من كل فريق، وإذا تولاها قوم في الركعتين جميعاًً، كثر تخلفهم، وكانوا خارجين عن اتباع الشارع. 1535 - ومن أئمتنا من جوز ذلك من طائفة واحدة وقال: تصوير ذلك في ركعة واحدةٍ تخلف لا يجوز مثله في حالة الاختيار، وفيه زيادة على الأمر الذي يحتمله، ولو ساغت الزيادة، لم ينضبط منتهاها، وإنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ على التناوب؛ لأن الصحابة كانوا لا يحتملون الإخلال برعاية الكمال في الصلاة، وإقامة الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رعى التَّسوية والنَّصفة فيهم، فإذا رضي قومٌ فينا باحتمال النقيصة، [وإيثار الذب عن الآخرين] (2) في جميع الصلاة، لم يمتنع. ولم يختلف أئمتنا في أن قوماً في الصف الأول لو حرسوا في الركعة الأولى، ثم لحقوا، ثم حرس في الركعة الثانية آخرون في الصف الأول أيضاً، ولم يحرس في الصف الثاني أحد، فاختص بالتناوب مخصوصون، جاز. وقد لا يصلح لذلك إلا مخصوصون في الجند. فهذا المقدار لا خلاف في احتماله وجوازه. 1536 - ولو حرس في الركعة الأولى مَنْ في الصف الثاني، ثم حرس في الثانية من في الصف الأول، وكانت الحراسةُ واقعة على وجه يُفيد ويحصِّل الغرض، فقد كان شيخي يقطع بجواز هذا، وإن كان الأحزم حراسة الصف الأول. قال الشافعي: لو تقدم مَنْ في الصف الثاني إلى الصف الأول في الركعة الثانية، وتأخر مَنْ في الصف الأول، وقلّت أفعالُهم، جاز، وكان حسناً؛ فإنه كلما تقدم الحارسون كان الإمام أَصْون، وكانوا جُنةً لمن وراءهم، فهذا تمام المراد في ذلك.

_ (1) مزيدة من: (ت 1)، (ل). (2) زيادة من (ل).

[وكنا] (1) فرضنا في صلاة ذات الرقاع إقامةَ الصلاة على تلك الهيئة حالة الاختيار، وأجرينا فيه تفصيل المذهب. ولو فرض فارض صلاةَ عُسفان في الاختيار، ففيها تخلّف عن الإمام بأركان من غير ضرورة، وهذا لا مساغ له مع استدامة [نيّة] (2) القدوة قولاً واحداً، كما تمهد فيما سبق. 1537 - ثم ذكر الشافعي صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن النخل (3): صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين وتحلّل، وتحللوا، ثم صلى بطائفةٍ أخرى ركعتين، كانتا له نافلة، ولهم فريضة. ولا اختصاص لجواز ذلك بحالة الخوف أصلاً؛ فإنه لو فرض في حالة الاختيار، جاز؛ إذ منتهاه اقتداء مفترض بمتنفل، وهو جائز عندنا. فصل 1538 - تردد نص الشافعي في وجوب رفع السلاح في الصلاة المقامة في حالة الخوف، وهذا يجري في صلاة عُسفان جرياناً ظاهراً، وفي صلاة ذات الرقاع؛ فإن الطائفة المصلّية وإن كانت متنحية، فهي في معرض الخوف من حيث يُفرض جولان الفرسان، وانتهاء الأمر إلى المطاردة في أثناء الصلاة. ثم تردد أئمة المذهب: فقال قائلون: في المسألة قولان: أحدهما - أن ذلك يجب إقامةً للحَزْم، ويشهد له نص القرآن؛ فإنه تعالى قال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ثم أكد الأمر بالتكرير. والثاني - يستحب ويتأكد ولا يجب.

_ (1) في الأصل، (ط): وكما. (2) في الأصل، و (ط): رتبة. (3) المعروف المشهور، والوارد في معجم ياقوت، ومعجم البكري: "بطن نخل". وقد روى هذه الصلاة البخاري ومسلم من حديث جابر (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 162 ح 484).

ومن الأئمة من قطع القول بوجوب حمل السلاح في الصلاة، ومنهم من قطع بالاستحباب ونَفْي الإيجاب. والذي لا بد من التنبه له أنهم لو بعّدوا الأسلحة عن أنفسهم، وظهر بهذا السبب مخالفةُ الحزم، والتعرضُ للهلاك، فيجب منعُ هذا قطعاً؛ فإنه في صورة الاستسلام للكفار. وإن وضع الواضع سيفَه بين يديه، إذا لم يكن في حال مطاردةٍ، ولم يكن مخالفاً للحزم -ومَدُّ اليد إلى السيف الموضوع على الأرض في اليُسر كمدّ اليد إليه، وهو محمول متقلّد- فلست (1) أرى -لذلك- احتمالَ التردد في الجواز؛ بل الوجه القطع به، وإذا كان يُقطع به في غير الصلاة، فلأن يُقطعَ بجوازه في الصلاة أولى، وأحرى. وإن لم يظهر بتنحية السلاح [إمكانُ] (2) خلل، ولكن لا يؤمن أيضاً إفضاءُ مثل تلك التنحية إلى خلل، [فلعل] (3) التردّدَ واختلافَ النص في هذا. ولكن الأصحاب ذكروا حملَ السلاح في عينه في الصلاة، وأنا أرى الوضع بين اليدين في حكم رفع السلاح وحملِه. والله أعلم. ثم قال الأئمة: من كان واقفاً وسط الصف، فلا ينبغي أن يحمل ما يتأذى به من يجاوره [كالقوس] (4) والجَعْبة المتجافية، فإن كان معه شيء من هذا، فليقف حاشية الصف. 1539 - ثم لو وضع السلاحَ، ورأينا رفعَه واجباً، لم يؤثِّر ذلك في بطلان الصلاة عندي؛ فإنه أمر يحرم على الجملة في الصلاة، وفي غير الصلاة، فلا اختصاص له بالصلاة، وهو على ما أشرنا إليه قريب الشبه بإقامة الصلاة في الدار المغصوبة. ويحتمل أن يقال: إذا ترك الحزمَ وإنما أُثبت تغييرُ الصلاة حَزْماً على وجه لا ينخرم عليه

_ (1) جواب شرط "إن وضع الواضع ... ". (2) في الأصل، (ط)، (ت 1): إلى مكان خلل. والمثبت من (ل). (3) مزيدة من: (ت 1)، (ل). (4) في الأصل، و (ط)، كلمة غير مقروءة، وهي على آية حال اسم آلة من آلات الحرب، والمثبت من (ت 1)، (ل).

النظر في مكيدة الحرب، وإذا خالف الرجل الحزم، كان كما لو صلى صلاتَه وهو مختار، وتفصيل المختار واضح، وقد ذكرناه قبلُ. فصل 1540 - كل ما ذكرناه في غير شدة الخوف، وفي كل حالة يُعتبر (1) ما يليق بها، ويوافقها في التغايير، مع اتباع التصوير كما تقدم. فلو صلى الإمام صلاة عُسفان، حيث لا يوافق الحال، فهو كما لو أقامها في حالة الاختيار. 1541 - فأما إذا اشتد الخوف والتحم الفريقان، وكان لا يتأتى التفريق، ولا صلاة عسفان، ولابس الجند كلُّهم القتالَ والمطاردة، فمذهب الشافعي أنهم لا يُخرجون الصلاة عن الوقت بسبب الخوف أصلاً، بل يقيمون الصلاة مُشاةً وركبانا مطارِدين، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. والأصل في الباب قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قال ابن عمر في تفسير الآية: "مستقبلي القبلة وغير مستقبليها" (2). والأصل الذي لا خلاف فيه أن الصلاة تقام راكباً وماشياً، ويسوغ تركُ الاستقبال في ضرورة القتال وفاقاً، وكذلك يجوز الاقتصار على الإيماء في الركوع والسجود، كما ذكرناه في إقامة النافلة على الراحلة، ومن ضرورة إقامة الصلاة راكباً [الإيماء] (3)، والماشي المقاتل لو تمم السجودَ في المعترك، كان متهدِّفاً لأسلحة الكفار معرِّضاً نفسه للهلاك. ونحن نذكر على الاتصال بذلك أمرين: أحدهما - كثرة الأفعال في الصلاة. والثاني - تلطخ الأسلحة بالدم. فأما القول في الأفعال، فلا شك أن الفعل إذا كثر من غير حاجة إليه، فهو مبطلٌ

_ (1) في (ت): تغيير. (2) ر. البخاري: التفسير، باب قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] ح 4535. (3) زيادة من (ت 1)، (ل).

للصلاة، وفي معناه الزَّعقةُ والصيحة، فلا حاجة إليها، والكمِيُّ المقنع السَّكُوت أَهْيبُ في نفوس الأقران. ولو كثرت أفعالُه في قتاله، وكان يوالي بين الضربات في أقران وأشخاص، فالذي كان يقطع به شيخي أن ذلك لا يقدح في الصلاة، وقياسه بيّن، وليس احتمال ذلك لأجل شدة الخوف بأشد من احتمال الاستدبار، والاكتفاء بالإيماء، وكثرة الضربات في الأقران معتادة، ليست نادرة عند التحام الفئتين. 1542 - وذكر صاحب التقريب نصوصاً للشافعي دالة على أن كثرة الأفعال تبطل، وتوجب قضاء الصلاة، ونقل من النص توجيهَ ذلك، وذاك أنه قال: إقامةُ الفريضة راكباً وماشياً ومستدبراً من الرّخص الظاهرة، والقدْر الذي أشعر به نصُّ القرآن الركوب والمشي، قال الله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وانضم إلى ذلك تفسير ابن عمر حيث قال: "مستقبلي القبلة وغير مستقبليها"، فالزيادة على هذا مجاوزةٌ للنص في محل لا مجال للقياس فيه. وذكر العراقيون هذا قولاً للشافعي، كما ذكره صاحب التقريب، وذكره الشيخ أبو علي في الشرح. 1543 - وسأذكر في ذلك قولاً الآن قاله الأئمة في التفريع على ظاهر المذهب، وهو أن كثرة الأفعال في الأشخاص والأقران المتعددين لا يضر، ولو ردد ذلك الضربَ في قِرن واحد ثلاث مرات، فقد بلغ الفعل في محل واحد حدَّ الكثرة وِلاءً، وهذا مبطل للصلاة؛ فإنَّ ذلك في المحل الواحد نادر، فلا يعد مما يظهر مسيس الحاجة إليه. وأنا أقول: قد ذكر صاحب التقريب في كتاب الطهارة تقاسيم حسنة في الأعذار التي تُسقط قضاء الصلاة، والتي لا تُسقط، والتي يختلف القول فيها، وقد سقتها أحسن سياقة، وغرضي الآن منها أني أجريتُ في التقاسيم قواعدَ هي المرعية، وهي النظر إلى انقسام الأعذار إلى ما يعم، وإلى ما يندر فيدوم، وإلى ما يندر ولا يدوم، ثم العذر العام، والنادر الدائم، يتضمنان إسقاطَ القضاء، والعذر النادر الذي لا يدوم ينقسم القول فيه إلى اختلال لا بدل فيه، وإلى خلل فيه بدل.

ثم قال صاحب التقريب: صلاة شدة الخوف سببها عذر نادر؛ فإن انتهاء الأمر إلى الحالة المحوجة إلى إقامة الصلاة راكباً متردداً مستدبراً نادرٌ، ثم هذا لا يدوم، بل ينتجز الأمر (1) على القرب، ولكن مع ندور ذلك تعلقت به رخصةٌ ظاهرة، وهي صحة الصلاة من غير قضاء. هذا كلامه. وأنا أقول: لمن كان يعد القتالَ من الأعذار النادرة، فليس كذلك؛ فإن القتال في حق المقاتلة ليس نادراً، وإن كان يعدّ حالةَ التفاف الصفوف والتحام الفريقين نادرةً في القتال، فليس كذلك؛ فإن هذا كثير الوقوع، وهو عقبى كل قتال في الغالب. فالترتيب المرضيّ في ذلك أن يُعتمدَ النص، ثم يتلقى من فحواه ما ينبغي أولاً، فالركوب والمشي منصوصٌ عليه، ومما يفهم من فحوى النص ترك الاستقبال؛ فإن الراكب المقاتل المتردّد على حسب ما يقتضيه القتال، لا يتصور أن يلزم الاستداد (2) في جهة واحدة، وهذا يعضده قولُ ابن عمر رضي الله عنه. والاقتصار على الإيماء مستفاد من النص أيضاً؛ فإن هيئة الركوب تقتضيه، وكثرة الضربات في [مقتولين] (3) [وأقرانٍ] (4) في الطراد، أو كثرة الأفعال الدافعة لائقةٌ بالقتال، قريبةُ المأخذ من الإيماء المستفاد من الركوب؛ فإن الاختيار إنما يفرض والصفوف قارّةٌ، وإذا التفَّت، فلا بد من توالي الضرب، أو الاتِّقاء بالحَجَفة (5) والتُّرس. فهذا ينبغي أن يكون محتملاً، وهو الذي قطع به شيخي. وقد نقل صاحب التقريب، والعراقيون، وأبو علي النصَّ، وهو بعيد؛ فإنه من مُتَضمن القتال في غالب الحال عند شدة الخوف. فأما ترديد الضرب في قِرْن واحد، فقد عُد من النادر. وفيه نظر؛ فإنه قد يعم من

_ (1) في (ت 1): الأمن. (2) الاستداد بالسين: الاستقامة. وقد تكررت. (3) في الأصل، (ط): مقبولين و (ت 1) المقتولين. (4) في الأصل، (ط): وقران، و (ت 1): واقتران، والمثبت من (ل). (5) الحجفةُ: الترس من جلود بلا خشب، ولا رباطٍ من عصب. (معجم).

جهة أن القِرْنَ قد يتقي، فتخطئه الضربة، وتمَسُّ الحاجة إلى أخرى، وقد لا تؤثر الضربات لمكان الدروع وغيرها من الملابس الواقية، فالحكم بأن الغالب أن تُريح (1) الضربة والضربات غير ظاهر، وكلام الصيدلاني مصرّح في فحواه، بأن الحاجة إذا مست إلى ترديد الضربة في مضروب واحد، لم تبطل الصلاة؛ فإنه قال لما ذكر هذه المسألة: المعتبر في ذلك كله الحاجة. ولا وجه عندي إلا هذا. 1544 - والقول القريب فيه أنا حكينا قولاً في كتاب الطهارة: أن من صلى كما أمرناه وإن كانت صلاته مُختلّة بسبب عُذر نادر لا يدوم، فلا قضاء عليه، وهذا مذهب المزني، فينبغي أن يُتَّخذ هذا أصلاً، ويُرتّب عليه جريان الضربات في مضروب واحد، وهو أولى بإسقاط القضاء؛ لما أشرت إليه. فأما الأفعال التي لا حاجة إليها، فلا شك أنها إذا كثرت أبطلت. ومما يليق بتحقيق القول في ذلك أن المصلي لو لم يمر به قِرْن، ولكن كان يقتضي ترتيبُ القتال أن يُقصِد وإن لم يُقصَد (2)، فهذا أراه من الأفعال الضرورية؛ فإن من لا يُقْصِد في القتال يُهْتَضم ويُتعسّى (3) في التفاف الصفوف، وهذا واضح إن شاء الله. فهذا ترتيب القول في الأفعال إذا كثرت أو قلت. 1545 - فأما القول في تلطخ السلاح بالدم أو تضمخ المصلي نفسِه، فالذي ذكره الأئمة أنه إذا تلطخ السيفُ بالدم، فإن نحاه على القرب بأن يلقيه، أو يردّه في قرب من زمان الإلقاء إلى قرابه تحت ركابه، فهذا لا يضر، وإن أمسكه ولم يفارقْه، بطلت صلاته. وهذا عندي فيه نظر؛ فإنَّ تلطخ السلاح بالدم والطعن على الوِلاء في شدة

_ (1) في النسخ الأربع، بدون إعجام، وهذا الذي اخترناه هو الصواب -إن شاء الله- وهو موافق لأسلوب إمام الحرمين، وبيانه العالي، فأراح فلانٌ: مات، وأراح فلاناً: أدخله في الراحة. ومن مأثور العرب: أراح فأراح: أي مات فاستريح منه (الأساس، والمعجم). (2) لعلها من أقصد فلاناًَ إذا طعنه، فلم يخطىء مقاتله. (معجم) فيكون المعنى: أن يبادر بالطعن بطعن القِرْن، وإن لم يطعنه. (3) كذا في النسخ الثلاث، والمعنى إذاً: يُطْلب: من تعسَّى صاحبه طلبه. وفي (ل): يتغشى.

الخوف من الأمور العامة في القتال، وقد ثبت أن ما يقتضيه القتال محتمل، فليلحق هذا [به، ولنقلْ: نجاسةُ المستحاضة إذا لم تُبطل الصلاة للبلوى] (1)، فنجاسة السلاح أولى؛ فإنها في حق من يلقَى قتالاً [ضرورية، وتكليفُ المقاتل تنحيةَ السلاح بعيد] (2)، والوجه أن نقول فيمن صلى في حُشٍّ وموضعٍ نجس، وكان محبوساً فيه: إن القضاء لا يجب، وهو مذهب المزني، والقول الظاهر فيه القضاءُ. وفي تنجيس سلاح المقاتل قولان مبنيان، وهذه الصورة أولى بنفي القضاء، لإلحاق الشرع القتالَ بالأعذار المسقطة لقضاء الصلاة، وتنزيله إياه منزلة عذر المستحاضة. والذي يحقق هذا أن الريح إذا طيرت نجاسةً وأوقعتها على ثوب [المصلي] (3)، وتمكن المصلي من نفضها -وهي يابسة- على القُرب، ففعل، لم تبطل صلاته أصلاً، ولو تعاطى نجاسةً بيده قصداً ورماها، بطلت صلاته. فلو كان قياس الاختيار مرعياً في حق الغازي، للزم أن يقال: إذا تعاطى ضرباً، ونحَّى سيفَه على القرب، بطلت صلاته؛ لأنه اختار ذلك. فإن قيل: لا بد من ذلك في القتال. قلنا: ولا بد من استصحاب السيف في شدة الخوف، نعم: لست أنكر أن الحاجة إذا لم تَمَس، لزم تنحيةُ السيف بردِّها إلى القراب تحت الركاب، ولو كان متقلداً سيفاً، فردَّه إلى الغِمد، فهو حامل للنجاسة لا محالة. فهذا بيان ما أردناه في ذلك. فصل 1546 - نقل المزني عن الشافعي نصين في صورتين فنذكرهما، ثم نذكر تفصيل القول فيهما إن شاء الله، قال الشافعي: "إذا كان يصلي الرجل مطمئناً على الأرض، فطرأ الخوف، ومست الحاجة إلى الركوب، فركب، لم تصح الصلاة، ولزمت

_ (1) زيادة من (ت 1)، (ل). (2) زيادة من (ت 1)، (ل). (3) زيادة من (ت 1)، (ل).

الإعادة"، وقال: "لو كان يصلي في شدة الخوف راكباً فأمن، ونزل وأدى بقية الصلاة آمناً، صحت هذه الصلاة" (1). فحسب المزني أن سبب الفرق بين المسألتين أن فعل الراكب يكثر، وفعل النازل يقل، ثم أخذ يعترض ويقول: "ربَّ فارس ماهر يقلُّ فعله في ركوبه، وربَّ أخرقَ يكثر فعله في نزوله". 1547 - ونحن نبدأ بالمسألة الأولى. وهي أن يطرأ الخوف، فيركب. فالنص ما حكيناه، وقد اختلف طرقُ الأئمة فيه: فقال بعضهم: إن كثر العمل في الركوب، بطلت الصلاة، ونصُّ الشافعي محمول على هذه الصورة، وإن قل العمل، لم تبطل الصلاة. وهذا ليس بشيء؛ فإن كثرةَ العمل بسبب الخوف محتملة على قاعدة المذهب، نعم، إن كثُر العمل من غير حاجة، فتبطل الصلاة. وقال بعض الأصحاب: سبب بطلان الصلاة أنه لما شرع في الصلاة، التزم تمامَ الصلاة على شرائطها، فإذا ركب، فهذا خلاف ما التزمه، فبطلت صلاتُه، ولا فرق بين أن يكثر عمله وبين (2) أن يقل، فإن الركوب وإن قلّ العملُ فيه مخالف لوضع الصلاة المفروضة [وقد التزمها تامة] (3)، وهذا ليس بشيء أيضاً؛ فإن من تحرم بالصلاة قائماً، ثم طرأت ضرورة أحوجته إلى القعود والإيماء؛ فإنه يبني على صلاته، فطَرَيَانُ الخوف بهذه المثابة. والله أعلم. والسر في هذا أن الالتزام إنما يؤثر فيما يتعلق بالرخص التي تجرى تخفيفاً مع الاختيار والتمكن، كرخصة القصر، فلا جرم لو نوى الإتمام، لم يقصر. فأما ما يتعلق بالضروريات، فتقدُّم الالتزام عند عقد الصلاة لا يؤثر فيه، كما ضربناه مثلاً من طريان القعود بسبب المرض.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 145. (2) كذا بتكرير (بين) مع الاسم الظاهر، وذلك خلاف المشهور، وله وجه في الصحة، وعليه شواهد. (3) زيادة من (ت 1)، (ل).

5148 - فالطريقةُ المرضية ما ذكره الصيدلاني، فقال: "إذا طرأ الخوف، ولم يكن من الركوب، بدّ، ركب، وبنى على صلاته، ولا إعادة قطعاً، والنص محمول على ما إذا ركب قبل تحقق الضرورة والحاجة". ولا شك أن المذهب ما ذكره الصيدلاني، ولكن ما ذكر في تأويل النص فيه بُعد. فهذا تفصيل القول فيه إذا طرأ الخوف فركب. 1549 - فأما إذا أمن وكان راكباً في صلاته، فنزل، [فالنص] (1) أنّه يبني على صلاته، وهذا منقاس ظاهر، ووجه النظر فيه [أنه] (2) إن قل فعله في نزوله؛ فإنه يبني ولا إشكال، وإن أكثر الفعلَ من غير حاجة، فلا شك في بطلان الصلاة، وإن لم يُحسن النزول إلا بإكثار الأفعال، ففي بطلان صلاته وجهان في بعض التصانيف: أحدهما - أنها تبطل؛ فان هذه الأفعال الكثيرة جرت في حالة الأمن، فأبطلت. والثاني - لا تبطل؛ لأن هذه الأفعال من آثار ركوبه؛ إذ لولاه، لما احتاج إلى النزول، فهي ملحقة بما جرى في حالة الضرورة، وإن وقعت في حالة [الأمن] (3). والمسألة محتملة جداً. فرع: 1550 - ذكر بعض أئمتنا أن طائفةً لو كانوا جلسوا في مكمن، فدخل وقتُ الصلاة، وكانت الحال تقتضي أن يصلوا قعوداً، ولو قاموا لبَدَوْا للعدو [وفسد] (4) التدبير؛ فإنهم يصلون قعوداً وتصح صلاتهم؛ فإن ذلك ليس مما يندر الافتقار إليه في مكائد الحرب. وهو دون إيماء الراكب والماشي. ...

_ (1) عبارة الأصل، و (ط): فإنه يبني ... (2) مزيدة من (ت 1)، (ل). (3) مزيدة من (ت 1)، (ل). (4) في الأصل و (ط): كلمة غير مقروءة. والعبارة كاملة سقطت من (ل).

باب من له أن يصلي صلاة الخوف

باب من له أن يصلي صلاة الخوف 1551 - نذكر في هذا الباب مقاصدَ منها: تفصيلُ الخوف الشديد وسببه، فإذا تحركت الصفوف، والتف الحزبان في قتالٍ واجب، أو في قتالٍ مباح، واقتضت الحال ملابسةَ ما هم فيه، فهذا ما ذكرناه. ولو انهزم العدو، وركب المسلمون أقفيتَهم، وعلموا أنهم لو نزلوا وصلّوا متمكنين، فات العدوّ، فلا يصلّون صلاة الخوف؛ إذ لا خوفَ، وإنما هذا فواتُ مطلوبٍ، والرخص لا يُعدى بها مواضعها. ولو انهزم المسلمون فاتبعهم الكفار، نُظر: فإن حل لهم أن ينهزموا، صلوا صلاة الخوف، وذلك إذا زاد الكفار على الضعف، كما سيأتي في السِّير إن شاء الله، وإن حرمت الهزيمة، لم يجز لهم أن يصلوا صلاة الخوف؛ فإنهم متعرّضون في الهزيمة المحرمةِ لسخط الله، والرخص لا تناط بالمعاصي عندنا. 1552 - وما نفصله الآن القول في القتال الواجب والمباح. فالواجب كقتال الكفار، والمباح بمثابة الذبّ عن المال. فظاهرُ المذهب أنه إن مست الحاجة في الذب عن المال إلى ملابسة قتال، فتجوز صلاة الخوف بسببه، ونقل الأئمة والصيدلاني قولاً عن الشافعي: "أنه لا تجوز إقامة صلاة الخوف في الذبّ عن المال"، وموضع النص أن الرجل لو تبعه سيل وعلم أنه لو مرّ مسرعاً بماله وصلى مارّاً مومياً، سلم وسلم مالُه. ولو صلّى متمكناً، أمكنه أن يهرب، ويتلف ماله، قال: لا يصلي صلاة الخوف. وهذا غريب، وظاهر النصوص الجديدة يخالف هذا؛ فاستنبط أئمتنا من هذا النص قولاً في أن الذاب عن ماله إذا علم أنه لا يتأتى له دفع قاصدٍ مالَه إلا بقتله أو بما يؤدي إلى القتل، فليس له أن يدفعه، وهذا بعيدٌ جداً، وقد

قال عليه السلام: "من قتل دون ماله، فهو شهيد" (1)، فإذا كان يجوز بحكم هذا الخبر أن يعرّض نفسه للهلاك بسبب ماله، فقتلُ الصائل مع الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع أولى وأحرى، من جهة أن الصائل قد أبطل حرمة دمه، لما أقدم عليه. ومن منع قتلَ الصائل على المال، فلا شك أنه يمنع مالك المال من أن يعرِّض نفسه للهلاك في الذب عن المال، وإذا قال هذا، فيكون مخالفاً لنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال قائلون من المحققين: لا خلاف على المذهب أن الذب عن المال جائز، وإن أدى إلى قتل الصائل. ولكن الخلاف في إقامة الصلاة إيماء، وذلك لحرمة الصلاة؛ فإن حرمتها باقية، والصائل إن قتل، فهو ساقط الحرمة. وهذا فيه نظر؛ فإنه إن سقط حرمة الصائل، فحرمة مالك المال غيرُ ساقطة، وهو بملاقاة الصائل مغرّر بروحه، فلا يخرج القول الغريب إلا على ما قاله الأولون، من تقدير قولٍ في أنه لا يجوز الدفع إذا كان يؤدي إلى سفك دم. والقول على الجملة بعيد مزيّف. 1553 - ومما يتعلق بتفصيل الخوف أن الخوف لا يختص بما يجري في القتال، بل لو ركب الإنسانَ سيل، فخاف الغرق، أو تغشاه حريق، أو سببٌ آخر من أسباب الهلاك، ومسّت الحاجة إلى صلاة الخوف؛ فإنه يصلي، ولا يعيد في هذه المواضع كلها. فإن قيل: من أصلكم أن الرخص لا يعدى بها مواضعها، ولذلك لم تثبتوا رخص السفر (2) في حق المريض، وإن كانت حاجة المريض أظهر، وصلاة الخوف تثبت في القتال.

_ (1) حديث: "من قتل دون ماله ... " متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (ر. البخاري: كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله، ح 2480، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان الفاصد مهدر الدم ... ح 226). (2) عبارة (ت 1): لم تثبتوا رخصاً ...

قلنا أولاً: ظاهر القرآن لا تفصيل فيه؛ فإن الرب تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. ثم في هذا تحقيق من الأصول، وهو أنا لا ننكر إجراء القياس في باب الرخص، إذا لم يمنع مانعٌ، والإجماع في منع إجراء رخص السفر في المرض [من أجلّ الموانع] (1)، فلا يمتنع أن نعتقد عدم انحسام القياس الممكن في باب إذا لم يمنع منه أصل. وذكر الأئمة أن المعسر المديون إذا كان لا يصدقه غريمه في إعساره (2)، ولو أدركه، لحبسه، فله أن يهرب ويصلّي صلاة الخوف، إذا كان يعلم أنه لو صلى أدركه الطالب، وهذا منقاس. وفي بعض التصانيف أن من عليه القصاص يصلي صلاة الخوف هارباً، وله أن يهرب لرجاء العفو عنه. وهذا قد ذكرته في أعذار الجماعات، وهو بعيد عندي على الجملة، ولعله إن جُوّز، ففي ابتداء الأمر حين (3) يفرض سكون غليل الطالب قليلاً في تلك المدة، وفي مثل ذلك يرجى العفو، ولا شك أن ذلك لا يدوم أبداً في كل حكم ذكرنا فيه عذراً. وإن صح جواز الهرب فيه، فمن ضرورته تصحيح إقامة صلاة الخوف، ولكن الإشكال في جواز الهرب من مستحق الحق، وليس ذلك كالمعسر يهرب؛ فإنّ أداء الدين غير مستحق عليه. فرع: 1554 - إذا قرب فوات الوقوف، ولو صلى المُحرم متمكناً، لفاتته الحجّة، ولو تسرع، فاتته الصلاة، فهذا عسر في التصوير، ولكن الفقهاء يقدّرون ما لا يدرك حساً، ويُجرون الكلام على التقديرات، كفرضهم مقدار تكبيرة تدرك من آخرِ النهار، وهذا مستحيل في مطّرد العادة، قال شيخي فيما نقله عن القفال: هذا يَحتمل أوجهاً: أحدها - أن يترك الصلاة؛ فإن قضاءها ممكن، وأمر الحج وخطرُ قضائه ليس بالهيّن.

_ (1) زيادة من (ت 1)، (ل). (2) (ل): إعدامه. (3) في (ل) "حيث".

والثاني - أنه يقيم الصلاة في وقتها، ويكل أمر الحج إلى ما يتفق؛ فإن الصلاة تِلْوُ الإيمان، ولا سبيل إلى تخلية الوقت عنها، ولا يسقط الخطاب بالصلاة مع بقاء التكليف. وقيل: إنه يصلي صلاة الخوف ماشياً؛ ليكون جامعاً بين التسرّع إلى الحج، وبين إقامة الصلاة. فإن قيل: كيف يتجه هذا والخوف في فوات شيءٍ كالخوف في فوات الكفار إذا انهزموا؟ وقد ذكرنا أنه لا تجوز صلاة الخوف في ركوب أقفيتهم ليدرَكوا؟ قلنا: هذا سؤال مشكل، ولولاه، لقطعنا بصلاة الخوف، ولكن الحج في حكم شيء حاصل في حق المُحْرم، والفوات طارىء عليه، فهو شبيه من هذا الوجه بمالٍ حاصل يخاف هلاكه، لو لم يهرب به. وهذا لطيف حسنٌ؛ من جهة تحقق الحج في حق المُحرم، مع أن الوقوف عُرضة الفوات، ولم يتحقق بعدُ ملابستُه، وهذا منشأ التردد في المسألة. فهذا تفصيل القول في الخوف. فصل 1555 - إذا رأى سواداً فظنه عدواً، فهرب، ثم تبين أنه لم يكن عدواً وإنما كان إبلاً تسرح، أو ما أشبهها، فإذا صلى صلاة الخوف، ثم بان له حقيقةُ الحال، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما -ولعله الأصح- أنه يقضي؛ فإنه ظن أمراً، ولم يكن كما ظن، وصلاة الخوف نيطت بحقيقة الأمر. والقول الثاني - أنها لا تُقضى؛ فإن الخوف قد تحقق، وهو مناط الصلاة في نص القرآن؛ فإنه تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وهذا الذي فيه الكلام خائف قطعاً. وهذا غير سديد؛ فإنه تعالى أراد الخوفَ في القتال القائم على تحقق، والعلم عند الله تعالى.

1556 - ثم ذكر الأئمة صوراً في القولين منها: أنه لو صلى وكان بالقرب منه حِصن يمكنه التحصن به، فلم يره، أو كان بين العدوّ الذين رآهم وبينه حائل من خندق، أو [ماء لا يُخيض] (1) أو ما أشبه ذلك، وهو لم يره. وكل ذلك يجمعه أنه لو خاف أمراً لو تحقق، لصحت صلاة الخوف معه، ولكن بان أن الأمر على خلاف ما ظنه، ففي صحة الصلاة القولان. 1557 - ثم ذكر الأئمة في تفاصيل ذكر الخوف الاستسلامَ وحكمَه، ونحن نذكر منه قدرَ الحاجة الآن، ونبني عليه غرضَ الباب إن شاء الله تعالى. وذكر شيخي وغيرُه قولين أن من قصده مسلم في نفسه، فهل يجوز له أن يستسلم للهلاك، ولا يذب عن نفسه؟ أحد القولين: إنه يجب الذب؛ فإن الروح لا يحل بذلُه، والدفع سائغ، [فليجب] (2)؛ فإن الصائل لا حرمة له. والقول الثاني - يجوز الاستسلام للهلاك، لأخبارٍ صحيحة، منها ما رواه حذيفةُ بنُ اليمان أن النبي عليه السلام قال: "ستكون فتن كقطع الليل، القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي". فقال قائل: لو أدركتُ هذا الزمان فماذا أفعل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ادخل بيتك" فقال: لو دخل شيء من ذلك بيتي، فقال: إذا أفرقك شعاعُ السيف، فألق ثوبك على وجهك، وكن عبدَ الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل"، وفي بعضِ الروايات: "كن خير ابني آدم". يعني هابيل المستسلم المقتول، ولا تكن قابيلَ القاتل (3).

_ (1) في النسخ الثلاث: "ما لا يختص". وهو من التحريف الخطير الذي يحدث كثيراً من النساخ، بسبب عدم إلف الموضوع وعدم إلف الإملاء الذي كُتب النصّ المنقول به. والمعنى: "بينه وبين العدوّ ماءٌ لا يخاض" أي لا يُعبر إلا سباحة. وقد صدّقتنا نسخة (ل). (2) في الأصل، (ت 1): فليجر، والمثبت من (ل). (3) حديث: "كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل ... " على النحو الذي ساقه إمام الحرمين، مروي عن جمع من الصحابة: عن جندب بن سفيان، وهو عند الطبراني، وعن خباب، وهو عند أحمد، والحاكم، والطبراني أيضاً، وعن خالد بن عرفطة، وعن سعد بن أبي وقاص، وعن أبي موسى الأشعري، وعن أبي ذر، وأخرج الثلاثة أبو داود، وصحّحها الألباني. =

ثم اتفق الأئمة على أنه لا يجوز الاستسلام لكافر من غير فرق بين أن يكون حربياً أو ذمياً؛ فإن الاستسلام للكافر ذلٌّ، وتمكين له من الجناية على الإسلام، وكان شيخي يقول: القولان فيه إذا قصده مسلم مكلَّف يبوء بإثمه، كما ذكره الله تعالى في قصة ابني آدم.

_ = وواضح من سياقة إمام الحرمين لهذا الحديث، أن إمام الحرمين يعتمد سنن أبي داود، ويرجع إليها؛ فقد ساقه بلفظ أبي داود نفسه، فلعله الكتاب الذي يشير إليه أحياناً بقوله: "وفي الكتاب الذي يرجع إليه". ولكن ما رواه إمام الحرمين ليس من حديث (حذيفة) بل هو من حديث أبي موسى الأشعري، والرواية الأخرى، هي من حديث أبي ذرّ رضي الله عنهم جميعاًً. ملحوظة: لعل من حقنا أن نعجب من تحامل ابن الصلاح على إمام الحرمين، ومتابعة الحافظ بن حجر له. جاء في التلخيص عن هذا الحديث الذي رواه إمام الحرمين ما نصه: "حديث حذيفة: "كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل" هذا الحديث لا أصل له من حديث حذيفة، وإن زعم إمام الحرمين في النهاية أنه صحيح، فقد تعقبه ابن الصلاح، وقال: "لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة، وإمام الحرمين لا يعتمد عليه في هذا الشأن". هذا ما ذكره الحافظ في التلخيص عند تخريج الحديث، ولست أدري أئذا استدلّ الإمام بحديث صحيح، وغلط في نسبته إلى الصحابي الذي رواه أيقال له: "هذا باطلٌ لا أصل له"؟ أم يقال: إنه حديث صحيح لكن دخله الوهم في نسبته إلى حذيفة؟، فالفرق شاسع جداً بين "باطل لا أصل له" أي لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكون الحديث صحيحاً في نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الخطأ في اسم الصحابي الذي رواه؟! ولا يخفف من وقع هذا التعبير وقسوته أنه أكمله أو أتبعه بقوله: من حديث حذيفة، أي "لا أصل له من حديث حذيفة" والحديث رواه حذيفة أيضاً، وإن لم يكن على النحو الذي ساقه إمام الحرمين، وقال عنه الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وسكت عنه الذهبي. (ر. التلخيص: 4/ 84 ح 2145، أبو داود: الفتن، باب النهي عن السعي في الفتنة، ح 4257، 4259، 4261، وصحيح سنن أبي داود: 3/ 802، 803 ح 3581، 3582، 3583، وسنن ابن ماجة: كتاب الفتن، باب التثبت في الفتنة، ح 3958، 3561، وصحيح ابن ماجة: 2/ 355، 356 ح 3197، 3200، وسنن الترمذي: الفتن، باب ما جاء في اتخاذ سيف من خشب في الفتنة، ح 2204، وصحيح الترمذي: 2/ 239 ح 1785، وخلاصة البدر المنير: 2/ 330 ح 2479).

ولو قصده صبي أو مجنون، تعيّن دفعُه، ولم يجز الاستسلام. وهذا فيه نظر؛ فإن المحذور قتل مسلم، وهذا متحقق في الصبي والمجنون، ولعله أظهر من جهة أنهما لا يأثمان، وليسا كالسَّبُع يصول، فإنه يتعين دفعُه قطعاً؛ إذ لا حرمة له أصلاً. والوجه طرد القولين في الصبي والمجنون. 1558 - ثم إن تمكن المقصودُ المصول عليه من الهرب، أو التحصّن بحصن، فلا يجوز له الاستسلام للهلكة والحالة هذه. فإذا فرعنا على أن الاستسلام لا يجوز؛ فإن فيه الكفَّ عمن سقطت [حرمتُه] (1) وتعريضَ نفسٍ محترمة للهلاك، فعلى هذا لو تمكن المصول عليه من الهرب، فأبى إلا الوقوفَ، ومصادمةَ الصائل، فهذا فيه احتمال ومنع المصادمة ظاهرٌ؛ فإنه قادر على تنجية نفسه من غير أن يسعى في إهلاك الصائل عليه؛ فليفعل ما ينجيه، ولا يُهلك الصائلَ عليه، ويتطرق إلى جواز المصادمة احتمال؛ من جهة أنه يدفع عن ماله، وإن حلّ له بذلُه، لا (2) لمقابلة المال بالدم، ولكن لسقوط حرمة الصائل. والظاهر عندي القطع بوجوب الهرب، وتحريم مصادمة المسلم عند إمكان الهرب، فلو فعل هذا، لم يفته شيء، ولو لم يدفع عن ماله، فاته المال، فهذا هو الوجه لا غير. 1559 - والذي يتعلق بصلاة الخوف من ذلك أنا سواء أوجبنا عليه الذبَّ عن نفسه، أو جوزنا له الاستسلام؛ فإنه يصلي إذا اختار المصادمة صلاة الخوف؛ فإنه بين أن يجوز له الدفع، وبين أن يجب. والذب عن دم الغير وعن الحُرم، في كل ما ذكرته بمثابة ذب الإنسان عن دم نفسه. ...

_ (1) زيادة من (ت 1)، (ل). (2) ساقطة من: (ت 1).

باب ما له لبسه وما ليس له

باب ما له لبسه وما ليس له 1560 - ذكر في الباب جواز المبارزة، وهذا من كتاب السيَر، وذكر فصلاً فيما يحل لُبسه، وفيما يحرم لُبسه (1). وغرض الفصل أنه يحرم على الرجال لُبس الحرير، وهو حلال للنساء، وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم خرج وعلى إحدى يديه قطعة ذهب، وعلى الأخرى قطعة حرير، وقال: "هما حرامان على ذكور أمتي حل لأناثهم" (2). فيحرم على الرجال لبس الحرير في حالة الاختيار، والقزُّ من الحرير وإن كان كَمِدَ (3) اللون باتفاق الأصحاب، فيحرم لُبسه على الرجال. وقال العراقيون في الثياب المنسوجة من الحرير والغزل: إن كان الحرير أكثر، حرُم لُبسه، وإن كان أقل، حلّ؛ فإن استويا في المقدار، فعلى وجهين، وقال شيخي وطوائفُ: النظر في ذلك إلى الظهور؛ فإن لم يظهر من الحرير شيء، لَبسه، كالخز الذي سَداه إبريسم، ولكنه لا يظهر. وإن ظهر الإبريسم، حرمنا اللُّبسَ، وإن كان قدره في الوزن أقل.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 148. (2) حديث "تحريم لبس الحرير والذهب على الرجال"، روي عن أبي موسى الأشعري، بهذا اللفظ عند الترمذي، وصححه، وروي عن علي بن أبي طالب، عند أحمد في المسند، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 52، 53، 54، ح 51، وأبو داود: اللباس، باب في الحرير للنساء، ح 4057، وصحيح أبي داود: 4322، والترمذي: اللباس، باب ما جاء في الحرير والذهب للرجال، ح 1720، والنسائي: الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال، ح 5144، وابن ماجة اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء، ح 3595). (3) من كَمِد الشيء يكمَد، كَمَداً: تغير لونه، وكَمِدَ الثوب: أخلق، فتغير لونه. (معجم).

وهذا حسنٌ. ولكن موضع النظر أنه إذا كثر الغزل، فلا بد وأن يظهر مع الإبريسم، وإذا ظهرا جميعاًً، لم تعظم الخيلاء، ولم يُعدّ الملبوس حريراً. 1561 - فإن قيل: فهلا اتبعتم اسمَ الحرير؟ فإنه الذي حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، [والعتابي] (1) وإن ظهر، وكثر منه الإبريسم، لا يُعدّ حريراً؟ قلنا: الغزلُ يستعمل في النفيس منه لإقامة الإبريسم، فهو المقصود، وما معه في حكم الاستصلاح له، فإذا كثر، وظهر، فالتحريم قطعاً لا غير. وإن لم يكن كذلك، ففيه الطريقان: من أئمتنا من راعى المقدار، والصحيح مراعاة الظهور، وإن كان الإبريسم أقل. 1562 - ولو اتخذ الرجل جبة حشوها قزٌ أو إبريسم صافي، والظهارة والبطانة قطن أو كتان، فلا خلاف في جواز ذلك؛ فإنّ الحشوَ ليس ثوباً منسوجاً، وليس صاحبه معدوداً لابسَ حرير. ولو لبس مبطّنة، وكانت بطانتها حريراً، وكانت الظهارة البادية خزّاً، أو قطناً، فلُبسه حرام، ولا ينبغي أن يُخرَّج هذا على ما سبق في الأواني من فرض إناءٍ من الذهب قد غشي بالنحاس. وفي هذا سر ينبغي أن ينبه عليه، وهو أن المعنى المعتبر في الأواني الفخر والخيلاء، [وهذا المعنى] (2) ليس يجرى اعتباره في لبس الحرير، والدليل عليه، أنا

_ (1) في الأصل، (ط): العناني، والمثبت من (ت 1)، و (ل) وآثرناه، لأنه تردد في أبواب البيع الآتية إن شاء ولم أجده في أي من المعاجم التي رجعتُ إليها، ولعله اسمٌ لصنف من الثياب كان معروفاً في عصر إمام الحرمين. ثم قد وجدتُ هذا اللفظَ (العتابي) -بالتاء والباء- في الوسيط، وفي مشكل الوسيط، فتأكد أنه نوع من الثياب، وقد أجهد ابن الصلاح رضي الله عنه نفْسَه، وأطال نَفَسَه في الكلام على أنواع الأنسجة والخلاف بينها، وبين "أنه قد يتوهم أن سَدى كل ثوب مطلقاً أظهر من لُحمته، وأن اللحمة مطلقاً أكثر، وأن ذلك ليس كذلك، بل يختلف باختلاف الصنعة" ثم أشار إلى أن الصحيح عند إمام الحرمين مراعاة الظهور، وعند الغزالي أن الأرجح مراعاة اللون، وقال: "هذا أصح، وإليه ذهب أكثر الأصحاب" ا. هـ (ر. الوسيط: 2/ 320، 321، ومشكل الوسيط بهامشه في الموضع نفسه). (2) مزيدة من (ت 1)، (ل).

لما اعتبرنا في الأواني الفخرَ، أجريناه في الجواهر النفيسة، على تفصيلٍ قدمناه، وقد تتحقق النفاسة في غير الإبريسم من الأجناس. وقد ينقدح للناظر أن يقول: ما عدا الإبريسم ترتفع قيمتُه بالصنعة، فهو كالأواني التي قيمتُها في صنعتها. وفيه نظر، ويعضد ما ذكرناه أن الثوب الذي بطانته [حرير] (1) يحرم لبسه على الرجل، وإن كان لا يبدو الحرير للناظرين، فكأن الفخرَ، وإن كان مرعياً في الحرير، فينضم إليه أنه رفاهية وزينة، في خَنَثٍ وإبداء زي، يليق بالنساء دون الرجال، والذي تقتضيه شيمة الشهامة من الرجال اجتنابُه. والمعتمد مع ذلك كله الحديثُ دون المعنى. وإنما الذي نذكره [لضبط] (2) حدودِ المذهب، وتخريج مسائله. وكان شيخي يروي أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرُّوج (3) حرير، وكان يفسر ذلك بالثوب المطرف بالحرير، كالفراء وغيرها. ثم كان يقول: هذا على شرط الاقتصار على التطريف. ومجاوزة العادة، وتعدِّي الطرف انتهاءٌ إلى السّرف، فيحرم إذ ذاك. والقول في ذلك يلتفت على تضبيب الأواني بالفضة، غير أنا راعينا الحاجة ثَمَّ في بعض التفاصيل، ولسنا نرعاها هاهنا. 1563 - وبالجملة القول في لُبس الحرير أهونُ من القول في الأواني، فليفهم الناظر ذلك، ولهذا لم يحرم على النساء لُبس الحرير وإن حرم عليهن استعمال الأواني الفضية، وبين الاعتياد في التطريف، وبين مجاوزته قليلاً إلى السرف الذي لا يشك فيه مجالٌ للنظر.

_ (1) مزيدة من (ت 1)، (ل). (2) في الأصل، و (ط): الضبط. (3) حديث الفروج .. متفق عليه، من حديث عقبة بن عامر، لكن تمامه، أنه صلى الله عليه وسلم، "لبسه، فصلى فيه، ثم انصرف، فنزعه كالكاره له. وقال: لا ينبغي هذا للمتقين" (ر. اللؤلؤ والمرجان: اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة ... ح 1344).

ولست أدري أن الغالب في الباب التحريم، حتى يقال في مظان الإشكال يستديم التحريم إلى ثبوت محلل، أم الغالبُ الإباحة حتى يثبت مُحرِّم، وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "هما حرامان" يوضح أن الغالب التحريم، ثم الثَّبَت الذي نشترطه ليس قاطعاً، بل غلبة الظن كافية؛ فإنا نبيح الدمَ، والبُضع بغلبات الظنون. 1564 - ومما نذكره أن شيخي كان يقول: كما يحرم على الرجال افتراش الحرير، فكذلك يحرم على النساء؛ فإن هذا من السرف المجاوز للحد، وكان يشبّه هذا باستعمال الأواني الفضية، وظاهر كلام العراقيين دليل على أنه لا يحرم عليهن افتراش الحرير؛ فإن الفخر في ذلك قريب، وقد أجاز أبو حنيفة -فيما أظن- (1) للرجال افتراشَ الحرير، وهوَّن الأمر في ذلك. 1565 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن الصبيان هل يجوز أن يُلبسهم القُوَّام الحرير؟ كان شيخي يتردد فيه، ويميل إلى المنع لتغليظٍ فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفي بعض التصانيف القطعُ بجواز ذلك، وهو منقدحٌ على المعنى الذي نبهنا عليه؛ فإنه يليق بالأطفال، قريب من شيم النساء في الانحلال المناقض للشهامة. 1566 - وظاهر كلام الأئمة أن من لبس ثوباً ظهارته وبطانته قطن، وفي وسطه حرير منسوج، لم يحرم. وفيه نظر من طريق الاحتمال والنقل والله أعلم. 1567 - ثم مما نذكره في ذلك أن الرجل إذا فاجأه قتالٌ، فلم يجد إلا حريراً، لبسه، وهذا في حكم الضرورة، وفي الحديث ما يدل على أن نهاية الضرورة في ذلك لا تشترط؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لحمزة في لُبس الحرير لحكةٍ كانت به (2)، هكذا رواه الصيدلاني، وهذا ينبه على قُرب الأمر في ذلك.

_ (1) الأمر كما قال إمام الحرمين، ففي متن تنوير الأبصار: "ويحلّ توسّده (الحرير) وافتراشه" وكذا في متن المختار، وشرحه الاختيار. (ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 226، والاختيار: 5/ 158). (2) حديث الترخيص في لبس الحرير بسبب الحكة، متفق عليه من حديث أنس، وأن الترخيص كان لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام، وليس لحمزة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: =

ولم يخصص الصيدلاني تجويزَ ذلك بالمسافر. وذهب بعض أصحابنا إلى أن ذلك إنما يجوز في السفر، فإذا انضمت حكة إلى السفر المُلهي عن التفقد (1)، وقد قيل: الحرير لا يَقْمَل (2)، فلا بأس. فأما المقيم، فلا يفعل ذلك. والمسألة محتملة، وحديث حمزة مطلَقٌ. وسنذكر طرفاً من الكلام في ألوان الملابس في كتاب صلاة العيدين إن شاء الله. فأما تفصيل القول فيما يتحلى به الرجال والنساء، فسيأتي في باب الحلي من باب الزكاة. إن شاء الله تعالى. فصل 1568 - مما ذكره في الملابس ما قدمته في باب الطهارة، ولكني أعيد الاستقصاء بطرفيه، فقد نص الشافعي على أنه يحرم لُبس جلد الكلب والخنزير، ويجب اجتنابهما لما خُصَّا به من التغليظ، ولا يجوز أن يُلبسه فرسَه أيضاً، والتصرف [فيه] (3) بهذه الجهات محرّم. ولو أراد أن يُلبس كلباً جلدَ كلب، فالظاهر الجواز. وفيه نظر. من جهة أن التصرف فيه، واقتناءه، يخالف ما نأمرُ به من اجتناب ملابسته. وكان شيخي يذكر خلافاً في جواز لُبس سائر الجلود النجسة إذا لم تُدبغ، ويجوّز لُبس الثوب النجس، ويفرّق بأن الجلود نجسة في أعيانها؛ فكان الحكم أغلظ فيها، وفي كلام الصيدلاني ما يدل على أن استعمال النجاسة في البدن لا يجوز في الاختيار. وأما استعمالها في غير البدن كالاستصباح بالزيت النجس، ففيه خلاف، وكان يحرّم ملابسة النجاسة من غير حاجة، وعليه وقع بناء منع البيع، وإن كان من

_ = اللباس والزينة، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها، ح 1345، وقد أشار الحافظ في الفتح، إلى أنهم غلطوا من قال: إن الرخصة كانت لحمزة، (وهو الغزالي في الوسيط). (ر. فتح الباري: 10/ 296). (1) التفقد: المراد تفقد الرجل ثوبه، لإزالة ما به من الهوام. (2) (ل): يعمل. (3) زيادة من (ت 1)، (ل).

النجاسات ما ينتفع به؛ فإن ملابسته تخالف ما أمرناه به، ولهذا منعنا بيع الكلب وإن كان منتفعاً به، وحرمنا أكل كل نجس من غير ضرورة، والاستصباح؛ من حيث لا يمس بدن الإنسان، خُرِّج على الخلاف. فأما تزبيل الأرض بالزبل، فلم يمنع منه أحد؛ لأنه في حكم الضرورة، والحاجة الحاقة، ولم يزل الناس عليه، ونقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ونهاية الضرورة في ذلك ليست مشروطة، فهذا تمام ما أردناه. ...

_ (1) "رواه البيهقي من حديث سعد بن أبي وقاص، وروي عن ابن عمر خلاف ذلك عند الشافعي، وأسنده عن ابن عباس بسندٍ ضعيف" ا. هـ. بنصه من التلخيص: 2/ 78.

كتاب صلاة العيدين

كتاب صلاة العيدين 1569 - الأصل فيها الكتاب، والسنة، والإجماع. قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قيل: أراد صلاة العيد. ونقلُ صلاة العيد متواترٌ والإجماع من الكافة منعقدٌ. وكان رضي الله عنه يصدّر الكتابَ بالاستحثاث على إحياء ليلتي العيد، ويستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحيا ليلتي العيد، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب" (1). 1570 - ثم قال الشافعي: "من وجب عليه حضور الجمعة، وجب عليه حضور العيدين (2) "، فذكر لفظ الوجوب، واللفظ مؤوّل في صلاة العيد، محمولٌ على التأكد، ثم لما جرى ذكر صلاة العيد مقروناً بصلاة الجمعة، أجرى ذكرهما على اتساق. فالذي صار إليه معظم الأئمة أن صلاة العيد سنة مؤكدة. وذهب الإصطخري في طائفة إلى أنها من فروض الكفايات، وهذا التردد يطرد في كل شعيرة ظاهرة في الإسلام، وصلاة العيدين أظهرها، ثم قدمت الترتيب في أمثالها، في أول باب الأذان، وهذا الذي نحن فيه في التفاصيل، وفي نصب القتال عند فرض الامتناع عن الإقامة كما تقدم.

_ (1) حديث إحياء ليلتي العيدين، ذكره الدارقطني في العلل، عن أبي أمامة، ورواه ابن ماجة. وهو حديث ضعيف، أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية: 2/ 56 - 57، والألباني في الضعيفة: ح 521، (وانظر ابن ماجة: الصيام، باب فيمن قام ليلتي العيدين، ح 1782، وخلاصة البدر المنير: 1/ 230 ح 800، والتلخيص: 2/ 80). (2) ر. المختصر: 1/ 149.

1571 - ثم المنصوص عليه للشافعي هاهنا وفي كتبه الجديدة أنه لا يشترط في صحة صلاة العيد، ما يشترط في صلاة الجمعة، فتصح من المنفرد، والمسافر، ومن النسوة في الدور وراء الخدور، وسبيلها كسبيل سائر النوافل، غيرَ أنا نستحب فيها الجماعة. وللشافعي قول في القديم أنه يشترط في صحة صلاة العيد ما يشترط في الجمعة، من العدد، والجماعة، وكمال صفات الأربعين، ودار الإقامة، كما ذكرناه في الجمعة، غير أن خطبتي الجمعة قبلها، وهذا قياس الشرائط، وخطبتا العيد بعد الصلاة، كما سيأتي. ثم إذا مضت الصلاةُ وفُرض إخلال بالخطبة، فيبعد جداً في التفريع على هذا القول أن يقال: ينعطف البطلان على الصلاة. والذي رأيته للأئمة أن صلاة العيد كصلاة الجمعة في القديم في الشرائط، إلا أن الجمعة لا تقام في الجبّانة (1) البارزة من خِطة البلدة، وصلاة العيد تقام بارزة. وعمل الأئمة الماضين أصدق شاهد في ذلك. ولا يمتنع مع المصير إلى التسوية ضرب من الفرق، كما نبهنا عليه من وقت الخطبتين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم صلاة العيد بالمدينة في الجبَّانة. وذكر شيخي: أنا إذا فرعنا على القديم، لم نجوز صلاة العيد، إلا حيث نجوز إقامة صلاة الجمعة، وهذا وإن كان قياساً، فهو في حكم المعاندة لما عليه الناس. 1572 - ثم ذكر الشافعي الغسل وهو محثوث عليه لصلاة العيد، ولو أتى المرء به قبل طلوع الفجر، فهل يعتد به؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - لا يعتد به؛ فإنه لم يقع في يوم العيد، فأشبه غُسلَ الجمعة، كما مضى القول فيه. ومن أئمتنا من جوز إقامة الغسل قبل الفجر، واعتلّ بأن أهل السواد (2) يبتكرون إلى

_ (1) الجبّانة: الصحراء. (معجم). (2) السواد: هنا المراد به القرى، يقال: خرجوا إلى سواد المدينة: أي إلى القرى حولها (المعجم).

المصلى من قراهم؛ ولو لم يغتسلوا قبل الفجر، يعسر عليهم إقامة الغسل، ثم من جوز ذلك فالمحفوظ أن جميع ليلة العيد وقت له، وكان لا يبعد في القياس أن يقرَّب بقريب الأذان لصلاة الصبح. 1573 - ثم قال الشافعي: "وأحب إظهارَ التكبيرِ جماعةً، وفرادى ... إلى آخره" (1) يستحب إظهار التكبيرات، ورفعُ الصوت بها، ليلتي العيد، وفي يوميهما إلى المنتهى الذي نصفه إن شاء الله تعالى، وهذه التكبيراتُ مرسلة يستحب إظهارها في المساجد والطرق، قال الصيدلاني: وفي الحضر والسفر. وليعلم الناظر أن التكبيرات التي تذكر في هذا الكتاب أجناس، ولها مواضع: منها التكبيرات المرسلة، وهي التي نحن فيها، ومنها التكبيرات في أدبار الصلوات، في عيد الأضحى، وأيام التشريق، وقد عقد الشافعي فيها باباً، ومنها التكبيرات الزائدة في صلاة العيد، كما سنذكرها، ومنها التكبيرات في الخطبة كما سيأتي. وإنما نحن الآن في التكبيرات المرسلة، التي لا اختصاص لها بأدبار الصلوات، وهي جارية في العيدين جميعاًً، ويدخل وقتُها بغروب الشمس في ليلة العيد، ثم الناس يصبحون مكبرين، حيث كانوا، وفي الطرق، رافعي أصواتهم، هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم. ثم إلى متى يمتد هذا الجنس؟ اختلف نص الشافعي فقال [في موضع:] (2) إلى خروج الإمام، وقال في موضعٍ: إلى أن يتحرم الإمام بالصلاة. ونقل شيخي نصاً ثالثاً: أنها تدوم إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة، ثم قال: من أئمتنا من قال: النصوص أقوال، فعلى هذا معنى مَدِّه إلى فراغ الإمام يظهر في حق من لم يدرك المصلَّى بعدُ؛ فإنه يكبر مادام الإمام في الصلاة في طريقه، ولا شك أنه لا يُؤْثر له أن يكبر بحيث يجرّ تكبيره لبساً، بأن يعتقد قوم هم في الصلاة في طرف

_ (1) ر. المختصر: 1/ 149. (2) زيادة من (ت 1)، (ل).

المصلى، أنّ هذا تكبير المترجم، فيركعون قبل أوان الركوع. والطريقة المرضية التي لم يذكر الأئمة غيرَها، أن المسألة ليست على اختلاف قول، والمعتبر تحرم الإمام بالصلاة، وهذا اختيار المزني، وما ذكره الشافعي من خروج الإمام، أراد التحرّم، فعبر عنه بما يقرب منه؛ فإنه ليس بين خروج الإمام وبين تحرمه فصل، بل كما (1) ينتهي يكبّر، فجرى ما ذكره الشافعي على مذهب التقريب والاستعارة. وما ذكره من فراغ الإمام عن الصلاة فيما نقله شيخي -ولم أره لغيره- فهو محمول على التكبيرات الزائدة في الصلاة، فكأنه يقول: التكبيرات الواقعة في هذا اليوم تنقطع بفراغ الإمام، ولكن يرد على هذا التأويل تكبيراتُ الخطبة؛ فإنها تقع بعد الصلاة. 1574 - ثم قال صاحب التقريب: التكبيرات المرسلة هل نستحبها على أدبار الصلوات في ليلة عيد الفطر، وفي صبيحتها؟ فعلى وجهين، وكذلك إذا استحببنا التكبيرات في أيام التشريق، في أدبار الصلوات، فهل يستحب إرسال التكبيرات في الطرق، في هذه الأيام؟ فعلى وجهين، والمسألة محتملة، وإيثارها في إثر الصلوات ليلة عيد الفطر أقرب من إرسال التكبيرات في الطرق أيام التشريق، ووجهه إن قلنا به أن الحجيج يكبرون كل يوم عند رمي الجمرات، وذلك لا يجري في أثر صلاةٍ، ونحن نقتدي بهم جهدنا، غير أنا لا نرمي، ونؤثر التكبيرات في الطرق أبداً. فهذا بيان التكبيرات المرسلة في العيدين. 1575 - ثم قال الشافعي: "وأحب للإمام أن يصلي بهم، حيث أَرْفَقُ بهم" (2). هذا أكبر تجمع في السَّنة، وقد يضيق عنهم البنيان، ولهذا كان يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس إلى الجبّان، والذي يعتبر في ذلك أولاً ما هو الأرفق، فإن كان يضيق المسجد عن الجمع برزوا، وقد ثبت أن المسلمين قد كانوا أقاموا صلاة

_ (1) "كما" بمعنى "عندما". (2) ر. المختصر: 1/ 150.

العيد في المسجد بمكة (1). وهذا ثابت لا نزاع فيه، فيمكن أن يقال: هو لسعة المسجد وشَرفه، والضابط فيه أن المسجد المحرم مستثنى من كل اعتبار وقياس، وفيه اتساع الخِطة والشرف، وفعلُ الناس (2). فأما ما عداه من المساجد فإن ضاق عن جمع العيد، فالبروز إلى الجبَّان هو المأمور به، وإن كبر المسجد، أو قل الناس، وإن كان يوماً مطيراً، فلا شك أن الأولى إقامة الصلاة في الجامع، وإن كان السماء مصحية، ولا عذر، والمسجد كان يسع الجمع، فقد ذكر صاحب التقريب في الأَوْلى وجهين: أحدهما - أن الأَوْلى إقامة الصلاة في المسجد؛ فإنه أفضل من الجبان. والثاني - أن البروز أَوْلى؛ فإنَّ أصحاب القرى يشهدون مع دوابّهم، ولا يتأتّى إحضار الدواب إلا في الجبان، والموضع البارز. هذا ما أردناه. 1576 - ثم قال: "ويمشي إلى المصلى" (3)، ينبغي للإمام وغيره أن يمشي إلى المصلى، وفي الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يركب في العيد، والاستسقاء، والجنازة، وعيادة المريض" (4). 1577 - ثم ينبغي أن يبتكر في عيد الأضحى، ويستأخر قليلاً في عيد الفطر، هكذا كان يفعل رسول الله (5)، والسبب فيه أن التضحية تقع بعد الصلاة، فينبغي أن يعجل الصلاة، حتى يتسرع الناس إلى الأضاحي، وتفرقة اللحوم على المحاويج، وتفريق صدقة الفطر في الأولى تقع قبل البروز، فهذا سبب استئخار هذه الصلاة.

_ (1) ر. الأم: 1/ 234. (2) أي ما جرى عليه الناس. (3) ر. المختصر: 1/ 150. (4) سبق الكلام عن هذا الحديث، في الجمعة. (5) قال الحافظ في التلخيص: "من طريق وكيع عن المعلى بن هلال، عن الأسود بن قيس، عن جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا يوم الفطر، والشمس على قدر رمحين، والأضحى على قدر رمح". (التلخيص: 2/ 83 ح 684) ".

1578 - ثم الصلاتان جميعاًً يقعان بعد طلوع الشمس، وكما طلعت، دخل أول وقت صلاة العيد، ثم ينبغي أن يسبق الناسُ الإمامَ؛ فإنه إذا خرج تقدّم وتحرّم بالصلاة، فالوجه أن ينتظروه؛ فإنه لا ينتظر أحداً، فإذا حضر نادى المنادي: "الصلاة جامعة" وكبر الإمام. 1579 - ونحن نصف الآن كيفية صلاة العيد، فأقلها ركعتان، كسائر النوافل، مع نية صلاة العيد، والتكبيرات الزائدة فيها ليست من أركانها، ولا يتعلق بتركها أيضاً سجود السهو، فهذا بيان الأقل. فأما الأكمل، فيتحرم بالصلاة، والذي عليه اتفاق الأئمة، وهو المنصوص عليه في التكبير، أنه يأتي بدعاء الاستفتاح عقيب تكبيرة الإحرام، ثم إذا نجز ابتدأ التكبيرات الزائدة، فيأتي بسبع تكبيرات سوى تكبيرة العقد، وبين كل تكبيرتين مقدار آية، لا طويلة ولا قصيرة، ثم يسبح فيها، ولا يسكت، ويقول "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر" هكذا ذكره الصيدلاني وغيره، فإذا فرغ من التكبيرات السبع، فقد ذكر الأئمة أنه يتعوذ بعد الفراغ من التكبيرات الزائدة؛ فإن التعوّذ حقه أن يتصل بالقراءة، ولا يتخلل بينه وبين القراءة شيء، ثم يستحب رفع اليدين مع كل تكبيرة يريدها، كما يرفع يديه مع تكبيرة العقد. ثم يقرأ بعد التعوذ الفاتحة، ويقرأ سورة "ق" في الركعة الأولى، ثم يكبر ويركع ويتم الركعة، ثم يرفع رأسه ويعتدل إلى الركعة الثانية، ويكبر خمس تكبيرات سوى التكبيرة التي اعتدل بها، على حسب ما ذكرناه في الأولى، ويخلل التسبيح بين التكبيرة التي ارتفع بها وبين التكبيرات التي يفتتحها، ثم كذلك بين كل تكبيرتين، ثم إذا نجزت قرأ الفاتحة، وسورة "اقتربت" ثم يهوي ويتمم الركعة، فهذا بيان كيفية الصلاة. ثم نذكر فروعاً تستوعب الغرض. فرع: 1580 - إذا ترك التكبيرات الزائدة حتى قرأ، ثم تذكر، فهل يكبر الآن قبل الركوع؟ فعلى قولين: المنصوص عليه في الجديد أنه لا يكبر، وقال في القديم: يتدارك التكبيرات.

ووجه القول الجديد أن وقت التكبيرات الزائدة قد فات، فلا تعاد. ووجه القديم أن القيام مادام مستداماً، فوقت التكبير قائم. وذكر الشيخ أبو علي أن حق المتحرم بصلاة العيد أن يعقب التحريمَ بدعاء الاستفتاح كما ذكرناه، فلو أتى بالتكبيرات الزائدة، أو ببعضها، فهل يأتي بدعاء الاستفتاح، فعلى طريقين: أحدهما - أن المسألة على قولين، كالقولين فيه إذا ترك التكبيرات وقرأ، فهل يعيد التكبيرات؟ فعلى ما قدمناه. فهذه طريق. ومن أئمتنا من قطع القول بأن دعاء الاستفتاح لا سبيل إلى استدراكه قولاً واحداً؛ فإنه إذا تأخر عن صدر الصلاة، فقد تحقق الفوات فيه؛ من جهة أنه معروف بالاستفتاح، وموضع الاستفتاح على أثر التحرّم، فإذا تأخّر، وتخلل ذكرٌ أو قراءة فقد تحقق اليأس من الإتيان بالاستفتاح، وليس في التكبيرات الزائدة صفةٌ تسقط بتقدم شيء عليها. 1581 - ثم بنى صاحب التقريب والشيخ أبو علي، على ما قدمناه أصلاً، وهو أنا إن قلنا: يؤتى بالتكبيرات بعد القراءة، فلا كلام، وإن قلنا: التكبيرات قد فاتت ولا تستدرك، فلو أتى بها تاركُها بعد القراءة، فهل نأمره بسجود السهو أم لا؟ ذكر فيه وجهين. وهذا يستدعي ترتيباً، وتجديدَ عهدٍ بشيء تقدم في باب سجود السهو، فنقول: من أتى بركن في غير موضعه، وكان ذلك الركن من جنس القراءة والذكر، فقرأ الفاتحة في التشهد، أو قرأ التشهد في القيام، ففي اقتضاء ذلك لسجود السهو وجهان ذكرناهما، وهذا الذي أوردناه فيه إذا لم ينضمّ إلى النقل تطويلُ ركن قصير، ثم ذكرنا تردداً في أن هذا إن وقع عمداً، فهل يؤثّر في إبطال الصلاة، أم لا؟ وكأنّ من يأمر (1) بسجود السهو فسببه (2) عنده أنه غيّر نظام الصلاة تغييراً واضحاً، فكان قريباً ممّن ترك بعضاً من أبعَاض الصلاة.

_ (1) كذا (يأمر) في النسخ الثلاث. بدون ضمير المفعول. وفي (ل): يأمره. (2) كذا في النسخ الثلاث بالفاء "فسببه" ومثلها جاءت (ل).

فلو نقل ذكراً ليس من الأركان، نظر فيه: فإن كان من أبعاض الصلاة كالقنوت، ففي اقتضاء الإتيان به في غير موضعه للسجود وجهان مرتبان على ما إذا نقل ركناً، وهذا أولى بألا يقتضي سجود السهو، فإن حكمه في وضع الصلاة أهون؛ إذ ليس ركناً، ولو أتى بذكرٍ موظفٍ ليس بركن، ولا بعضٍ من أبعاض الصلاة، في غير موضعه الذي شرع فيه، ففي اقتضاء هذا السجود للسهو وجهان، مرتبان على القنوت، وهذا أولى بألا يقتضي سجودَ السهو؛ فإنه في وضعه دون الأبعاض؛ إذ لا يتعلق به سجود السهو لو تُرك، فكذلك إذا نقل، ويخرّج عليه أنه لو أتى بالتكبيرات بعد القراءة، وقلنا: لا ينبغي أن يأتي بها، وكذلك لو أتى بدعاء الاستفتاح بعد القراءة وقد منعناه منه، ففي اقتضاء السجود في هذه المواضع وجهان، مرتبان على نقل الأبعاض، ويخرّج عليه أنه لو قرأ السورة في التشهد هل يسجد؛ فإن قراءة السورة ليست بركن، ولا بعض. فهذا وجه التنبيه على هذه القاعدة. فإن [زادها] (1) زائد تفصيلاً وترتيباً، لم يخرج ما يأتي به عن الترتيب الذي نبهنا عليه. ولو أتى المصلِّي بذكر غير مشروع، ولم يطوّل به ركناً، فلا يتعلق به سجود السهو، كالذي يأتي بدعاء بعد القراءة قبل الركوع، فهذا لا وقع له ولا أثر. فهذا تمام القول في ذلك. 1582 - ثم ذكر الشافعي بعد الفراغ عن كيفية الصلاة أن الخطبتين بعد الصلاة. والأمر على ما قال. وعليه جرى الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده (2). وقيل: كان مروان يقدّم الخطبة على صلاة العيد؛ فإن الناس كانوا لا يعرّجون على استماع خطبته بعد الصلاة، فحضره أبو سعيد الخدري يوماً، فلما هم بصعود المنبر

_ (1) في الأصل، (ط): رآها، وسقطت من (ت 1)، والمثبت من (ل). والمعنى: إن حاول محاولٌ زيادة تفصيل وترتيب، لم يخرج عما انتهينا إليه. (2) ورد هذا في الصحيحين من حديث ابن عباس، وابن عمر (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 169، 170 ح 505، 508).

جذبه وقال: قد غيرت يا رجل، فقال مروان: دع يا هذا؛ فقد ذهب ما تعلم، فقال أبو سعيد: لكن ما أعلم خير مما تعلم" (1). لكن (2) الخطبتان مسنونتان، فلو قُدِّمتا على الصلاة، ففي الاعتداد بهما احتمال عندي مع الكراهية، ولا يعتد بهما قبل طلوع الشمس. ثم الإمام إذا انتهى إلى مجلسه من المنبر، أقبل على الناس بوجهه وهم يردّون سلامه، قال الشافعي: إن ذلك روي عالياً، وقد اختُلف في معناه، فقيل: معناه أن صوته صلى الله عليه وسلم بالسلام روي عالياً، وقيل: الخبر عالٍ، وهذه عبارة يطلقها أئمة الحديث. 1583 - ثم في المنصوص عليه للشافعي في (الكبير) أنه يجلس بمقدار ما يجلس قبل الخطبتين يوم الجمعة، وهذه الجلسة مقصودها الاستراحة؛ فإن الإنسان قد ينبهر (3) إذا رَقِيَ في المنبر. وحكى العراقيون وجهاً عن أبي إسحاق المروزي أنه كان لا يرى الجلوس ويقول: سبب الجلوس قبل خطبتي الجمعة أن يؤذن المؤذّن، ولا أذان في صلاة العيد. فأما الجلوس بين الخطبتين، فلا شك أنه مشروع، وهو كالجلوس بين خطبتي الجمعة. 1584 - ثم ذكر الشيخ أبو بكر، والعراقيون، وغيرُهم أن الخطيب يأتي قبل الخوض في الخطبة الأولى بتسع تكبيرات، ويأتي قبل الخوض في الثانية بسبع تكبيرات، وسبب العدد الذي ذكرناه تشبيه الخطبتين بركعتي صلاة العيد؛ فإن الركعة الأولى تشتمل على تسع تكبيرات، تكبيرة التحريمة وتكبيرة الهوى إلى الركوع، وسبعٍ زائدة بينهما، والركعة الثانية تشمل على سبع تكبيرات على الترتيب الذي ذكرناه، وقد روي عن ابن مسعود في ذلك أثر (4).

_ (1) حديث أبي سعيد ومروان هذا، رواه إمام الحرمين هنا بلفظ مغاير، وهو متفق عليه عن أبي سعيد الخدري. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 170 ح 510). (2) في (ت 1)، (ل): ثم. (3) "ينبهر" أي يصيبه الدهشة والحيرة، ويغلب. (المعجم). (4) أثر ابن مسعود رواه البيهقي في سننه الكبرى (3/ 299).

ثم قال العراقيون: لو أتى بالتكبيرات التي ذكرناها وِلاء في صدر الخطبة، جاز، ولو كان يخلل أذكاراً بين التكبيرات، جاز، ولكن لا ينبغي أن تكون تلك الأذكار من الخطبة. ولم يأتوا في ذلك بثَبَت يُعتمد. 1585 - ثم قال: "ولا بأس أن يتنفلَ المأموم ... إلى آخره" (1). من شهد المصلى من القوم، وقد ارتفعت الشمس، فلا بأس لو تنفل قبل صلاة العيد أو بعدها؛ فإن الوقت لا كراهية فيه، ولكن ليس الموضع مسجداً حتى يؤمر بأن يحيِّي البقعة، وقد نقل الشافعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من كان يتنفل قبلها وبعدها، ومنهم من كان يتنفل قبلها، ولم يُرِد بنقل ذلك اختلافَ مذاهب الصحابة، ولكن أوضح أنهم كانوا يأتون بالصلاة على حكم الخِيَرة والوفاق. فأما الإمام؛ فإنه لا يتفرغ إلى ذلك؛ فإنه كما (2) ينتهي إلى موضعه، يفتتح صلاة العيد، وإذا تحلل عنها، مشى إلى المنبر، واشتغل بالخطبة، ولا يعرّج على تنفُّل (3) بعدهما بل ينصرف. 1586 - ثم قال: "وأحب حضور العجائز غيرِ ذوات الهيئات" (4). والأمر على ما قال، وكنّ يحضرن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يشهدن الذكر ودعوة المسلمين" (5) وكن يخرجن تَفِلات متلفعات بجلاليب لا يشهرن، وكان يخرج على الصفة التي ذكرناها نسوة فيهن بقيةٌ (6) أيضاً. قال الشيخ: واليوم، فنحن نكره لهن الخروج، وقد روي عن عائشة أنها نهت

_ (1) ر. المختصر: 1/ 153. (2) "كما" بمعنى عندما. (3) في (ت 1): شغل. (4) ر. المختصر: 1/ 54. (5) حديث خروج النساء لمصلى العيد، متفق عليه، من حديث أم عطية. (اللؤلؤ والمرجان: 171 ح 511). (6) أي غير العجائز.

النساء عن الخروج فقيل لها: كن يخرجن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقالت:] (1) لو عاش صلى الله عليه وسلم إلى زماننا، لمنعهن من الخروج" (2). وقد روي أن عبد الله بن عمرو بن العاص رأى [امرأته] (3) خارجة يوم الجماعة فجرّ بعض ثيابها وكان يريد امتحانها، فمرت وما التفتت، وقيل انصرفت من مكانها، فلما عاد عبد الله سألها عن حضورها، فذكرت له القصة، وقالت له: لا أخرج بعد هذا أبداً، فقال عبد الله: أنا الذي جررت ثوبك لأمتحنك، فقالت: فلا أخرج إذاً أبداً، ولو لم يربك مني أمر لَما امتحنتني (4). وقد قال أبو هريرة: "ما نفضنا أيدينا عن تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا" (5). 1587 - ثم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى المصلى من طريق ويعود من طريق" (6). وقد اختلف أئمتنا في سبب ذلك، فمنهم من قال: كان يفعل هذا حذراً من غوائل المنافقين في اليوم المشهود، وقيل: كان [يفعل ذلك لتنال بركته الطريقين. وقيل:

_ (1) مزيدة من (ت 1)، (ل). (2) حديث عائشة متفق عليه بلفظ: "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء، لمنعهن المساجد ... " (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 92 ح 255). (3) مزيدة من (ت 1)، (ل). (4) لم أصل إلى هذه الحكاية عن عبد الله بن عمرو. (5) حديث: "أنكرنا قلوبنا ... " أخرجه الترمذي في المناقب، باب سلوا الله لي الوسيلة 5/ 588 ح 3618، وابن ماجة في الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم، ح 1631، وصححه الألباني. وهو عندهما من حديث أنس. ولم نره من حديث أبي هريرة. (6) حديث: "كان صلى الله عليه وسلم: يخرج إلى المصلى من طريق، ويعود من طريق" أخرجه البخاري من حديث جابر، بلفظ "كان صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق"، وأما عن أبي هريرة فقد رواه الترمذي وأبو داود، وابن ماجة، والحاكم، والبيهقي، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي، وفي الباب عن ابن عمر، وعن أبي رافع، (ر. خلاصة البدر المنير: 1/ 237 ح 826، وسنن الترمذي: 2/ 424، 425، 426، أبواب العيدين، باب ما جاء في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى العيد في طريق ورجوعه من طريق آخر، ح 541، وإرواء الغليل: 3/ 104 ح 637، والتلخيص: 2/ 86 ح 694).

كان] (1) يفعله ليستفتى في الطريقين، فتعم الفوائد، وقيل: لعله كان يسلك أطول الطريقين في خروجه ليكثر خطاه؛ إذ كان يخرج ماشياً، وكان يؤثر في انصرافه أقرب الطريقين؛ إذ لا قربة في الانصراف. وذكر العراقيون عن أبي إسحاق أنه كان يقول: من ذكر معنىً فيما نحن فيه يوجد في غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يؤثَر ويستَحب له مثل ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر معنى كان يختص به [رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نرى لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثار المخالفة] (2) في طريق قصده ورجوعه، بل هو على خيرته في ذلك. ونقلوا عن أبي علي بن أبي هريرة أنه كان يؤثر للناس كافة ذلك، وإن كان المعنى مختصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كالرَّمَل والاضطباع في الطواف. وهذا التردد الذي حكَوْه من هذين الشخصين، يجري في نظائر هذا المعنى في المسائل. 1588 - ثم قال: "ولا أرى بأساً أن يأمر الإمام من يصلي بضعفة الناس" (3). وقد ذكرنا أن المنصوص عليه في الجديد، أنا لا نشترط في صلاة العيد ما نشترطه في الجمعة، فعلى هذا لو انفرد الرجل بصلاة العيد في رحله جاز، ولو فرضت جماعاتٌ متفرقة، صحت الصلوات، ولكن الإمام يمنع من هذا من غير حاجة، حتى تجتمع الجماعاتُ على صعيد واحد؛ فلو علم أن في الناس ضعفة، لا يقدرون على البروز، فحسنٌ أن يأمر إنساناً حتى يصلي بهم في مسجد أو غيره. وإن فرعنا على القديم، فلا يجوز إقامة جماعتين، ولو فُرضتا، لكان القول فيهما على القديم كالقول في صلاة الجمعة، إذا عقدت فيها جمعتان. ...

_ (1) زيادة من (ت 1)، (ل). (2) زيادة من (ت 1). (3) ر. المختصر: 1/ 154.

باب التكبير

باب التكبير 1589 - مقصود الباب تفصيل القول في التكبيرات أدبار الصلوات في الأضحى، وظاهر نص الشافعي أنه يبتدئها على إثر صلاة الظهر من يوم النحر، ويختمها على إثر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. وهو النَّفْر الثاني. وهذا هو المروي عن ابن عباس، وهو إحدى الروايتين عن ابن عمر، وهذا ظاهر المذهب. وذكر الشافعي في موضع آخر أن الناس يبتدئون التكبير على إثر صلاة الصبح، من يوم عرفة، ويختمون إذا كبروا في إثر صلاة العصر، من آخر أيام التشريق. وهذا مذهب عمرَ، وعليٍّ، وإحدى الروايتين عن ابن عمرَ، وابن مسعود (1)، وهو مذهب المزني، واختيار ابن سريج. وقال في موضع آخرَ: يبتدىء التكبير على إثر صلاة المغرب ليلة النحر. ولم يتعرض في هذا النص للختم. فله ثلاثة نصوص في الابتداء، كما ذكرناها، ونصان في الختم. فمن أئمتنا من جعل النصوص أقوالاً، ومنهم من قال: مذهب الشافعي منها البداية بالتكبير عقيب صلاة الظهر من يوم النحر، والختم على التكبير عقيب صلاة الصبح، من آخر أيام التشريق، فيكون المجموع خمسة عشر صلاة. وهذا القائل يقول: قصد الشافعي بغير هذا حكايةَ المذاهب. وقال العراقيون، أما الحجيج، فلا خلاف أنهم يبتدئون عقيب الظهر يوم النحر، وذلك أنهم قبل ذلك يلبون ولا يكبرون قبلَ يوم النحر.

_ (1) انظر مرويات الصحابة الذين أشار إليهم إمام الحرمين، وما قيل فيها، عند البيهقي: 3/ 312 - 314، والدارقطني: 2/ 49 - 51، وإرواء الغليل للألباني: 3/ 124، 125.

والأمر على ما ذكروه. وقالوا أيضاً في الحجيج: إنهم يختمون عقيب صلاة الصبح في اليوم الأخير من أيام التشريق. أما الابتداء، فلا شك فيه، وأما ما ذكروه في الانتهاء، ففيه تردد واحتمال. 1590 - ثم الكلام في هذه التكبيرات في فصولٍ: منها كيفية التكبير، ومنها الصلوات التي يستحب التكبير عقيبها، ومنها مسائل في المقتدي. فأما كيفية التكبير فبيّنةٌ، وينبغي أن يكبر ثلاثاً نسقاً. وقال أبو حنيفة (1): يكبر مرتين. وقد نُقل المذهبان جميعاًً عن الصحابة رضي الله عنهم، واختار الشافعي الزيادة. ثم إنْ مَحَضَ التكبيرَ، جاز، ولو سبّح، وهلل، مع التكبير، ففي بعض التصانيف قول محكي أن تمحيض التكبير أولى، وهذا غير معتد به (2)، ولكن ذكر الصيدلاني عن الشافعي في التكبير: أنه كان يرى أن يقول بعد التكبيرات الثلاث: [الله أكبر] (3) كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، لا إله إلاّ الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر. وقال في القديم يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا. ولست أرى ما نقل عن الشافعي مستنداً إلى خبر ولا أثر، ولكن لعلّه رضي الله عنه ثبت عنده هذه الألفاظ في الدعوات المأثورة، فرآها لائقة بالتكبيرات. فإن قيل [أليس] (4) تكرير تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى للمحرم من تهليل وتسبيح يأتي به، فما الفرق؟ قلنا: قد ثبت أن تكرير التلبية مأمور به أبداً في

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 37، المبسوط: 2/ 43، حاشية ابن عابدين: 1/ 563. (2) سبق أن أشرنا إلى أنه يقصد "ببعض التصانيف" و"بعض المصنفين" الإمام الفوراني، فهو كثير الحط عليه، غفر الله لنا ولهم جميعاًً. (3) مزيدة من (ت 1). حيث سقطت من الأصل، ومن (ط). (4) مزيدة من (ت 1)، (ل).

أوان التلبية، فكان تكرير تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى؛ إذ قد ثبت الأمر بالتكرير، وأما التكبير، فلا يؤثر أن يزيد على ثلاث في أثر الصلوات، فإذا كان كذلك، فالإتيان بعدها بذكر وتهليل تبعاً للتكبير يحسن. فهذا بيان التكبير وما يتصل به. 1591 - فأما القول في الصلوات، فلا شك أن وظائف الفرائض في أيام [التكبير] (1) تستعقب التكبيرَ، ولا فرق بين أن يكون الذي فرغ من الصلاة إماماً، أو مقتدياً، أو منفرداً. فأما النوافل التي يُقيمها المرء في أيام التكبير، فهل يكبر على أثرها؟ في المسألة قولان: أحدهما - لا يكبر؛ فإن النوافل لا نهاية لها. ولا ضبط فيها، والتكبيرات على إثر الصلوات شعائرُ للصلوات المحصورة، كالأذان، والإقامة، والجماعة. والثاني - يكبر على إثر كل صلاة؛ فإن المرعي الصلاة في هذا الوقت المخصوص، فإذا اجتمعا (2)، ظهر الندب إلى التكبير. 1592 - فأما قضاء الصلوات المفروضة، فإن فاتت صلاة في أيام التشريق، وقضاها فيها، فقد قطع الأئمة بأنه يكبر على إثرها، واختلفوا أن التكبير يكون في حكم المقضي كالصلاة، أو يكون في حكم المؤدَّى، وهذا الخلاف قريب من القولين في النوافل، فإن قلنا: إن المتنفل يكبر، فكل صلاةٍ تقام في هذه الأيام تقتضي تكبيراً، فعلى هذا تكون التكبيرات مؤدّاة، ولا نظر إلى صفة الصلاة، وإن خصصنا التكبير بوظائف الفرائض، فيجوز أن يقال: إذا قضيت، فالتكبيرات مقضية أيضاً، تبعاً لها. ولو كانت الصلوات قد فاتت في غير أيام التشريق، فأراد قضاءها في أيام التشريق، فهل يكبر عقيبها؟ فعلى قولين مأخوذين مما ذكرناه، من التردد في أن التكبيرات على إثر المقضية الفائتة في أيام التشريق مقضية أو مؤداة، فإن قلنا: مؤداة،

_ (1) مزيدة من (ت 1)، (ل). (2) "اجتمعا" أي الوقت والصلاة.

كبَّر. وإن قلنا: التكبيراتُ في الصورة المقدّمة مقضية، فهذه المقضيات لا تستعقب التكبيرَ، فإنها ليست من وظائف الوقت، وإن فاتت، لم تكن مستعقبةً للتكبير، فلا قضاء إذن، وهذان القولان هما المذكوران في النوافل. ومن أئمتنا من قطع بأن الفوائت تستعقب التكبيرَ، وإن كانت فاتت في غير أيام التشريق، لمرتبة الفرائض وعلوّ منصبها. والوجه التسوية، فلا أثر لقوة الفرضية، وإنما المرعي ما ذكرناه قبلُ. والصلوات المندوبة (1) كالنوافل بلا خلاف. ومن فاتته صلوات في أيام التشريق، فقضاها في غيرها، لم يكبر قولاً واحداً؛ فإن التكبير من خصائص هذه الأيام، والأصل المرجوع إليه أن هذه الأوقات تقتضي التكبيرَ. ثم تردد الأئمة، فذهب بعضهم إلى أنَّا نستحب التكبيرات فيها أبداً، مرسلة ومقيدة، وهذا وجة حكيته فيما تقدم عن صاحب التقريب. ومنهم من قال: لا نستحبها شعاراً مع رفع الصوت بها إلا مقيدة بأسباب، فكأن الوقت في محل المقتضي والعلّة، والصلواتُ في درجة محل العلة، ثم اختلفت الأقوال والطرق، ففي قول تختص بالفرائض المؤداة، أو بالمقضية، إذا كان فواتها فيها. وفي قولٍ: تتعلق بكل فريضة موقعةٍ فيها، مؤداةٍ كانت أو مقضية، كان فواتها فيها أو غيرها، ولا تتعلق بالنوافل. وفي قول: تتعلق بكل صلاة تقام في هذه الأوقات: نفلاً كانت، أو فرضاً. فأما إقامتها وراء أيام التشريق، فلا قائل به أصلاً، لما ذكرته من أن المقتضي الوقتُ، والتفصيل بعده في تعيين المحل. فهذا تحقيق القول في ذلك.

_ (1) كصلاة الضحى مثلاً، فحكمها حكم النوافل المطلقة.

1593 - وإن قلنا التكبيرات تتقيد بأدبار الصلوات، فلو صلى الرجل، ونسي التكبير، فإن تذكر على قرب من الزمان، كبر. وإن طال الزمان -وقد تمهد في باب السهو الضبطُ في طول الزمان وقصره- فهل يكبر بعد طول الزمان؛ مستدركاً لما تركه من التكبير؟ فعلى وجهين: وهما قريبان من الوجهين، في أن من تلا آية فيها سجود، فلم يسجد حتى تخلل زمانٌ طويل، فهل يسجد بعد طول الزمان؟ فيه خلاف تقدم ذكره في موضعه. 1594 - فأما ما يتعلق من التكبير بالمقتدي والإمام، فقد قال الأئمة: إن سلم الإمام، أو كبر في وقت، كان المقتدي يرى أنه لا يكبر فيه، فهل نُؤثر له التكبيرَ استحباباً اقتداءً بالإمام؟ فعلى وجهين: أصحهما - أن الاقتداء لا أثر له في هذا؛ فإن الإمام إذا تحلل عن صلاته، فقد انقطع أثر القدوة، فليجرِ المرءُ على موجب عقده في التكبير. ومنهم من قال: يتابع إمامَه فيكبر؛ فإن التكبير من توابع الصلاة، ولهذا رأيناه متقيداً بها. وهذا التردد ذكره ابن سريج ثم طرده في العكس، فقال: لو كان الإمام لا يرى التكبيرَ، والمقتدي يراه، فهل يتركه متابعةً له؟ فعلى ما ذكرناه. ولو نسيه الإمام، ولم يأت به، فهذا أيضاً فيه احتمال، والعلم عند الله تعالى. ولو فرض ما ذكرناه في التكبيرات الزائدة في صلاة العيد، فقد قال الأئمة: يتبع المأمومُ الإمامَ نفياً وإثباتاً، ويترك موجب عقده على القياس المتقدم في القنوت، حيث يراه الإمام، ولا يراه المأموم، أو على العكس، وذلك أن تلك التكبيرات تجري في نفس الصلاة، والقدوة قائمة. ولو كان المقتدي مسبوقاً، فتحلّل الإمامُ وكبر، فالمقتدي لا يكبر في أثناء صلاته متابعاً باتفاق الأئمة؛ فإن هذه التكبيراتِ مشروعة وراء الصلاة، والمقتدي بعدُ في الصلاة.

1595 - ثم لا يخفى أن ما نفيناه وأثبتناه من التكبيرات في إثر الصلوات، نعني بها ما يأتي به المرء شعاراً مع رفع الصوت، فأما لو استغرق المرء عمرَه بالتكبير في نفسه، فهو ذكرٌ من أذكار الله تعالى لا يتحقق المنع منه. فصل قال: "ولو شهد عدلان في الفطر ... إلى آخره" (1). 1596 - هذا الفصل فيه اختباطٌ واختلاط، فلا بد من فضل اعتناءٍ به. ونحن نقول في أوله: صلاةُ العيد سنَةٌ على الرأي الظاهر، وعليه التفريع، وهي مؤقتةٌ يدخل أول وقتها بطلوع الشمس يوم العيد، ويمتد إلى زوال الشمس، ثم يلتقي في صلاة العيد أمران: أحدهما - أنا ذكرنا قولين في أن النوافل المؤقتة هل تُقضى إذا فاتت مواقيتها؟ وهذا قد مضى مفصلاً في أحكام النوافل. والثاني - أنا حكينا قولاً للشافعي في تنزيل صلاة العيد منزلةَ صلاة الجمعة وشرائطها، وعلى هذا القول لو فاتت، لم أر أن تُقضى كالجمعة، وإن قلنا: النوافل تُقضى إذا فاتت مواقيتها. ثم قد ينضم إلى هذين الأمرين تفصيلٌ في أداء الشهادة وتعديل الشهود، فينبغي أن يكون المرء على ذُكرٍ في هذه الأمور. 1597 - ونحن نرى أن نبدأ بأمرٍ في أداء الشهادة، ثم نبني عليه في التفاصيل ما ينبغي. فنقول: إذا أصبح الناس يوم الثلاثين من رمضان صياماً، ولم تظهر لهم رؤيةُ الهلال ليلة الثلاثين، ثم استمروا [على الصوم] (2) حتى غربت الشمس، فلو شهد شاهدان بعد غروب الشمس يوم الثلاثين على رؤية الهلال ليلة الثلاثين، فلا نُصغي إلى

_ (1) ر. المختصر: 1/ 156. (2) مزيدة من (ت 1)، (ل).

هذه الشهادة، ولا نقيم لها وزناً، ونقيم صلاة العيد من الغد. والسبب فيه أن هذه الشهادة ما أقيمت في وقتها. وتحقيق القول في ذلك: أن الشهادة تُعنى لفائدةٍ، والناس قد صاموا يوم الثلاثين، وأفطروا عند الغروب، فهذه الشهادة لو قبلت لا تُفيد إلا تركَ الصلاة غداً، وإذا سقطت فائدةُ الشهادة، لم نُصْغِ إليها، وجعلنا وجودَها كعدمها، ورأيت الطرقَ مشيرةً إلى أنا نصلي من الغد، وننوي الأداء، والشهادة بعد الغروب لا أثر لها. وإن قلنا: لا نُصغي إلى الشهادة، فوجودُها كعدمها، ولا فرق بين أن يشهد عدلان، أو مستوران [ثم] (1) يُعدَّلان قبل طلوع [الشمس] (2)؛ فإن النظر في صفات الشهود فرعُ الإصغاء إلى الشهادة وإقامتها. فهذا فيه إذا شهد من شهد بعد غروب الشمس. 1598 - فأما إذا شهد عدلان قبل زوال الشمس يومَ الثلاثين: أنا رأينا الهلال البارحة، فلا شك أنه يُصغى إلى الشهادة، وكذلك إذا كانا مستورين، أصغينا إلى الشهادة، ونظرنا بعدها في العدالة، والسبب في الإصغاء ظاهر، وذلك أنا نستفيد بالشهادة لو ثبتت سقوطَ الصوم في هذا اليوم، وليس كالشهادة المقامة بعد غروب الشمس. فإذا تقرر هذا قلنا: إذا ثبتت العدالة قبل الزوال يوم الثلاثين، وقد قامت الشهادة، أفطرنا أولاً، ثم إن كان في الوقت سعة قبل الزوال، بَدَرْنا وصلينا وعيّدنا ولا شك. وإن قامت الشهادة بعد الزوال، فإنا نصغى إليها لمكان توقع الإفطار في هذا النهار، فهذه فائدة ظاهرة، ارتبطت بالشهادة، فلو جرت الشهادة نهاراً قبل الزوال، أو بعده، فلم يُعدَّل الشهودُ حتى طلعت الشمس يوم الحادي والثلاثين، ثم ظهرت العدالة بعد ذلك، فالناس يقيمون صلاة العيد يوم الحادي والثلاثين، ولا يبالون بما

_ (1) في الأصل: لم. (2) مزيدة من (ت 1)، (ل).

جرى من الشهادة، وإن أصغينا إليها، ثم ينوون والحالة هذه أداء صلاة العيد، ولا يعتقدونها مقضية. ويلتحق هذا بما قدمناه في الصورة الأولى، وهي أن يقيموا الشهادة بعد الغروب، فإن قيل: هلا فرقتم بين هذه الصورة والأولى، من جهة أنكم قد أصغيتم إلى هذه الشهادة نهاراً، ثم التعديل وإن بان آخراً، فقد استند إلى حالة الشهادة، قلنا: لا فرق؛ فإن العدالة عماد الشهادة، وإن تأخر العلم بها، فقد صام الناس وبنَوْا أمرهم على أن يُعيدوا يوم الحادي والثلاثين، فإذا طلعت الشمس، فلا يُصغَى إلى التعديل كما لا يصغى إلى إنشاء الشهادة بعد الغروب، فالتعديل في هذا الوقت ساقطٌ إذن، ولو لم يعدَّلوا، لما كان للشهادة حكم، فكذلك إذا عُدّلوا بعد طلوع الشمس. 1599 - فأما إذا وقعت الشهادة نهاراً، وعدّل الشهود بعد الغروب، قبل طلوع الشمس، فهل نعيِّد غداً، وهل نصلي صلاة العيد حقيقة؟ ذلك أنا هل نحكم في هذه الصورة بفوات صلاة العيد؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها فاتت؛ لأن هذه الشهادة أقيمت نهاراً، وسمعت، ثم عدّل الشهود قبل دخول وقت الصلاة في الحادي والثلاثين، فلنَقْضِ بالفوات، ثم نتكلم بعد ذلك في القضاء. والقول الثاني - لا تفوت؛ فإن التعديل جرى بعد ما أتم الناس الصيام، فتؤول فائدة التعديل، إلى ترك الصلاة، فيسقط أثر التعديل، ومن حكم سقوط أثره أداء الصلاة. فإن قلنا: لا أثر لهذا التعديل، فتؤدَّى الصلاة، كما لو عدّلوا بعد طلوع الشمس. وإن قلنا: قد فاتت الصلاة، فهذا الآن ينبني على أصلين: أحدهما - أن النافلة هل تقضى؟ فإن قلنا: لا تقضى، فلا كلام، وإن قلنا: تُقضَى، فصلاة العيد هل تقضى؟ فعلى قولين مبنيين على أن صلاة العيد هل يشترط فيها ما يشترط في صلاة الجمعة أم لا؟ فإن قلنا: إنها كصلاة الجمعة، فلا تقضى كما أن صلاة الجمعة لا تقضى. 1600 - وقد يطرأ على ما ذكرناه شيء كما نذكره في الصورة التي تلي هذه، فلو شهد الشهود نهاراً وعُدّلوا نهاراً، فالناس يفطرون لا محالة، ثم إن جرى التعديل بعد الزوال، فظاهر المذهب أنا نحكم بفوات صلاة العيد؛ فإن الشهادة سُمعت وعُدلت

وثبت أثرها في الفطر، وقد زالت الشمس، وليس كما لو جرى التعديل بعد الغروب؛ فإن الناس قد صاموا ظاهراً. [وفي] (1) المسألة قول آخر: إن الصلاة لم تفت، ونعيِّد غداً، والسبب فيه أن التردد في الهلال كثيرُ الوقوع، وصلاة العيد من شعائر الإسلام، فيقبح ألا تقام على النعت المعهود في كل سنة، وهي مشبهة عند هذا القائل بالغلط الذي يفرض وقوعه في وقوف الحاج بعرفة، فلو وقفوا يوم العاشر، وقع موقع الإجزاء أداء، واعتد به، وأقيم مقام الوقوف يوم التاسع، فلتكن صلاةُ العيد كذلك. وهذا لطيف حسن. فإن قلنا: هي مؤداة، فيتعين إيقاعها بعد طلوع الشمس، يوم الحادي والثلاثين، وإن جرينا على ظاهر المذهب، وهو أن الصلاة قد فاتته، فإن قلنا: لا تقضى بناء على ما تقدم، فلا كلام، وإن قلنا: إنها تقضى قياساً على سائر النوافل -إذا قلنا إنها مقضية- فيجوز قضاؤها في بقية الثلاثين، ويجوز تأخيرها إلى ضحوة الغد. 1601 - وقد اختلف الأئمة في الأوْلى، فمنهم من قال: الأوْلى الإقامة في بقية النهار؛ فإنه يوم العيد، فالصلاة وإن كانت مقضية، فهي بيوم العيد أليق، ومنهم من قال: الأولى أن تؤخر إلى ضحوة الغد؛ فإن اجتماع الناس فيها أمكن، ولا خلاف أنه إذا كان يشق جمعُ الناس يومَ الثلاثين، فالتأخير إلى الضحوة من الغد أولى. ثم إن قلنا: هي تقضى يومَ الثلاثين، أو ضحوة الحادي والثلاثين (2 فلو اتفق تأخيرها عن الحادي والثلاثين 2)، فهل تقضى بعد ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تُقضى كالفرائض إذا فاتت؛ فإنه لا يتأقت قضاؤها. والثاني - أنها لا تقضى بعد الحادي والثلاثين؛ فإن الحادي يجوز أن يُفرض يوم العيد، فوقوع هذا الشعار فيه يتّجه، فأما إذا فرض بعده فلا. وهذا له نظير على الجملة في النوافل الراتبة، إذا قلنا: إنها تقضى، فهل يتأقت وقت قضائها؟ فيه تفصيل مقدّم.

_ (1) مزيدة من (ت 1)، (ل). (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

فهذا من طريق التشبيه الظاهر. 1602 - ولكن السر عندي في ذلك أن الصلاة إن كانت تقام في جماعة ومشهد من الناس، فيظهر قولنا: لا تقام بعد الحادي والثلاثين؛ فإنه يخالف الشعارَ المعهودَ، ويشيع منه سمعةٌ (1) غيرُ مألوفة في البلاد، لا يدركها إلا خواصُّ الناس، وتعطيل الشعار سنةً أهون من هذا. وإن وقع في الحادي، لم تكن الصلاة فيه بِدْعاً. وإن أراد الناس أن يقضوا صلاة العيد فرادى: من غير إظهار الشعار، فالظاهر أنه لا منع منه بعد الحادي والثلاثين. فهذا وجه التنبيه على سر المسألة. 1603 - ثم مما أجراه بعض الأصحاب في ذلك أنا إذا قلنا: تُقضى الصلاة بعد الحادي، فيمتد إلى شهر، فإن وقع بعد شهر، فعلى وجهين، وهذا عندي على وضوح سقوطه يخرّج على ما فصلته؛ فإن كانت الجماعة لا تقام، فلا معنى لذكر الشهر، وإن كانت الجماعة تقام، فهذا الخيال الفاسد في رعاية الشهر يجري إذاً، ثم لعله في شهر شوال نَقَصَ أو كمل، وفي (2) بقية شهر ذي الحجة وإن كانت عشرين [يوماً] (3). وعلى الجملة لا أعتد بهذا من المذهب. فهذا بيان حقيقة الفصل. ومن تأمل تصانيف الأصحاب، لم يُلْف هذا المساق (4) فيها، ولكني أتيت به على تحقُّق وثقة، ومعظم من خاض فيه غيرُ محيط بحقيقته.

_ (1) ضبطت في (ل): سمعة (بالنصب). (2) أي على هذا الخيال الفاسد تصلّى صلاة عيد الفطر طول أيام شهر شوال، وصلاة الأضحى في العشرين الباقية -بعد العيد- من ذي الحجة، فقوله: "وفي بقية شهر ذي الحجة" معطوف على قوله في شهر شوال. (3) مزيدة من (ل). (4) (ل): الميثاق.

1604 - وتمام الفصل وختامه أن ما أجريته في أثناء الفصل أن من أئمتنا في بعض صور الشهادة والتعديل يقول: وإن ظهر فوات الوقت، فالصلاة مؤداة في صبيحة الحادي، فهذا إنما نُجريه إذا كان الناس معذورين. فأما إذا تركوا صلاةَ العيد على علمٍ وبصيرة حتى فات وقتها، فهي فائتة قطعاً، ولا يصير أحد إلى أنها مؤداة في الحال؛ فإنّ صورة اللَّبس شبهها بعضُ الناس بما يقع للحجيج، و [هذا] (1) لا يتأتى مع تعمد الإخراج عن الوقت؛ فإذاً لا يجري في التعمد إلا ما ذكرناه، من أن صلاة العيد هل تُقضى أم لا؟ وقد سُقنا ما يتعلق بذلك على ما يجب، والله المشكور. فرع: ذكره العراقيون: 1605 - وهو أنه إذا كان يوم العيد يوم جمعة، فحضر من أهل القرى من بلغه النداء، وكان بحيث يلزمهم حضورُ جامع البلدة لإقامة الجمعة، فإذا حضروا للعيد، وعلموا أنهم لو انصرفوا، فاتتهم الجمعة، فهل يلزمهم أن يصبروا ليقيموا الجمعة، أم يجوز لهم أن ينصرفوا ويتركوا الجمعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يلزمهم الصبر، ووجهه في القياس بيّن. والثاني - لهم أن ينصرفوا، وهذا هو الصحيح عندهم، وقد نقلوا فيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرخص لأهل القرى أن ينصرفوا ويتركوا الجمعة (2). ...

_ (1) مزيدة من (ت 1)، (ل). (2) حديث "الترخيص لأهل القرى في الانصراف" رواه أبو داود، وابن ماجة، والحاكم، من حديث أبي هريرة، ورواه النسائي معهم عن زيد بن أرقم، وروي أيضاً عن ابن عمر، وصححه الألباني (ر. التلخيص: 2/ 87 ح 697، وخلاصة البدر المنير: 1/ 238 ح 829، وأبو داود: الصلاة، باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، ح 1070، 1073، وصحيح أبي داود: 1/ 199 ح 945، والنسائي: العيد، باب الرخصة في التخلّف عن الجمعة لمن شهد العيد، ح 1592، وابن ماجة: الصلاة، باب ما جاء إذا اجتمع العيدان في يوم، ح 1310، 1311).

كتاب صلاة الخسوف

كتاب صلاة الخسوف 1606 - ذكر الشافعي في صدر الكتاب أن الخسوف مهما وقع أُمرنا بالصلاة، وإن كان في وقت الاستواء، أو بعد العصر، وقصد به الرد على أبي حنيفة (1)، وقد سبق في هذا باب، وذكرنا أن الصلوات التي لها أسباب، لا تكره إقامتها في الأوقات المكروهة، ونقول بعد ذلك: صح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله صلاةُ الخسوف، ولما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، خَسَفت الشمسُ، فذكر بعض الناس أنها خَسَفت بموت إبراهيم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة" (2). واستفاض النقل من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع المسلمون على صلاة الخسوف. 1607 - ونحن نذكر الآن الأقل في صلاة الخسوف، ثم نذكر الأكمل. فأما الأقل، فركعتان، في كل ركعة ركوعان وقيامان، فيتحرّم ويقرأ الفاتحة ويركع، ثم يرفع، ويقرأ الفاتحة، ثم يركع مرة أخرى، ثم يرفع، ولا يمكث إلا قدرَ الطمأنينة، كما تقدم القول فيها، ثم يأتي بالركعة الثانية على نحو الركعة الأولى، ويتشهد ويسلّم. وتعيين الصلاة في النية لا شك في اشتراطه. فهذا بيان الأقل. ومجموعها ركعتان

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 39، بدائع الصنائع: 1/ 282، المبسوط: 2/ 76، حاشية ابن عابدين: 1/ 565. (2) حديث كسوف الشمس يوم مات إبراهيم عليه السلام، متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 182 ح 530).

فيهما أربع قومات، وقراءة الفاتحة أربع مرات، والركوع أربع مرات، على الترتيب الذي ذكرناه. ولا يجوز أن يركع في ركعة مرة، وفي ركعة ثلاثة، بل هو كما سبق وصفه، فهذا بيان الأقل. 1608 - فأما الأكمل، فهذه الصلاة أطول الصلوات المشروعة، وقد قال الشافعي، في صلاة الخسوف أربع قومات، يقرأ في القومة الأولى بعد دعاء الاستفتاح والفاتحة سورةَ البقرة أو مقدارَها، ويقرأ في القومة الثانية بعد الفاتحة آلَ عمران أو مقدارها، ويقرأ في القومة الثالثة بعد الفاتحة النساءَ أو مقدارَها، ويقرأ في الرابعة المائدةَ أو مقدارَها، فهذا بيان القومات. فأما الركوع فالذي عليه التعويل أنه يسبح في الركوع الأول بمقدار مائة آية مقتصدة، ثم الركوع الثاني يلي في الطول الركوعَ الأول، ويكون أقصر منه قليلاً، قال الشافعي: يسبح في الركوع الثالث بمقدار سبعين آية، وفي الرابع بمقدار خمسين آية، نص الشافعي على ذلك، في الثالث والرابع. وقد نقل الربيع عن الشافعي أنه يسبح في الركوع الأول بمقدار مائة آية، ويسبح في الركوع الثاني بمقدار ثلثي الركوع الأول، وهذا تصحيف منه باتفاق الأئمة؛ فإن ثلثي المائة أقل من سبعين، وقد نص الشافعي في الركوع الثالث على السبعين، فهذا تحريف، فلعله رأى في كتاب أن الركوع الثاني يلي الأول كما نقله المزني، فحسبه ثلثي الأول، قال صاحب التقريب: يكون الثاني بقدر ثمانين آية تقريباًً. فأما السجدات، فلم يتعرض المزني لتطويلها، ونقل البويطي عن الشافعي أن كل سجودٍ على قدر الركوع الذي قبله. وقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في ذلك: أحدهما - أنه [لا] (1) يطوّل السجدتين، بل يأتي بهما على حسب السجود في كل صلاةٍ، من غير تطويل، قال: وهذا ظاهر المذهب؛ فإنه لم يصح فيهما نقلُ التطويل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ومن أئمتنا من قال هما على قدر الركوعين في الركعة، وهذا ما كان يقطع به شيخي.

_ (1) مزيدة من (ت 1)، (ل).

والغرض يتم بفرعٍ نرسمه. 1609 - قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: قاعدةُ الأمر على أن الخسوف إن طال زمانه، طُوّلت الصلاة، وإن قصر زمانه خُففَت الصلاة، فهذا ما نذكره. فلو تمادى الخسوف، فهل يزيد ركوعاً ثالثاً ورابعاً في الركعة، حتى ينجلي الخسوف؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يزيد، وهو المشهور؛ فإن الزيادة على أركان الصلاة ممتنعة في الشرع، وفي تجويز زيادة الركوع ما يخالف هذا. والوجه الثاني - له أن يزيد؛ إذ قد ورد في بعض الروايات. وقد ذهب الإمام أحمد (1) في أصل صلاة الخسوف أن كل ركعة تشتمل على الركوع ثلاث مرات، وصار إلى ذلك بخبر بلغه فيه، ولا محمل له إلا فرضُ الأمر فيه إذا تمادى زمان الخسوف، ولولا ما ذكرنا من الخبر، وإلا لم يكن للزيادة على الركوع وجه، ولكن يقال: إن أراد تطويلاً، فمدُّ المقدار المشروع ممكنٌ، من غير زيادة في صورة الأركان. 1610 - ومما فرّعه الأصحاب في ذلك أن المصلي إذا كان في القيام الأول مثلاً من الركعة الأولى، فانجلى الخسوف، لم تبطل الصلاة، ولم تنقطع بما طرأ، ولكن لو أراد أن يتجوّزَ في صلاته، ويقتصر على ركوع واحد وقَوْمةٍ واحدة في كل ركعة، فهل له ذلك؟ قالوا: هذا ينبني على الزيادة عند فرض امتداد زمان [الخسوف] (2)، فإن [جوّزنا الزيادة] (3)، جوزنا النقصان والاقتصار، وإن منعنا الزيادة، منعنا النقصان من عدد الركوع. 1611 - ولو كان المرء يصلي، فلما تحلل صادف الخسوف قائماً، فهل يعود إلى الصلاة مرة أخرى ويستفتح صلاة الخسوف؟ المذهب أنه يقتصر على الصلاة الأولى. ومن أئمتنا من قال: له أن يعود ويبتدىء صلاةَ خسوف، وهذا خرجه هؤلاء على

_ (1) ر. كشاف القناع: 2/ 64، الإنصاف: 2/ 447. (2) مزيدة من (ت 1)، (ل). (3) زيادة من (ت 1)، (ل).

جواز الزيادة في عدد الركوع، والأصح منع الزيادة، ومنع ابتداء صلاة أخرى بعد صحة الأولى. فرع: 1612 - المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع نُظر، فإن أدركه في الركوع الأول، صار مدركاً لكمال الركعة بإدراك ركوعين، وقومة بينهما، فإن أدرك الإمام في الركوع الثاني من الركعة، فالذي نقله البويطي عن الشافعي أنه لا يصير مدركاً لهذه الركعة أصلاً؛ فإن الركوعين في كل ركعة واحدة من هذه الصلاة بمثابة ركوع واحد من الركعة في سائر الصلوات، والتغليب لمنع الإدراك؛ فإن الحكم بكون المسبوق مدركاً للركعة بإدراك ركوعها، في حكم رخصة نادرة، فلا يعدل بها عن موضعها. وقال صاحب التقريب: إذا أدرك الركوعَ الثاني، فإنا نجعله مدركاً لقومة الإمام قبله، فيقوم عند التدارك، ويصلي ركعةً بقومة وركوع، وإذا جعله مدركاً (1 بإدراك الركوع الثاني للقومة التي قبله، فلا شك أنه يجعله مدركاً 1) للسجدتين (3 بعد الركوع، ويحتسبهما له؛ فإنه أتى بهما مع الإمام بعد ركوع محسوب، وإذا أثر إدراك الركوع في الحكم بإدراك ما قبله [من القيام] (2)، فلا شك أنه يصير مدركاً لما بعده، وإذا صار مدركاً 3) للسجدتين، فلا يأتي بهما مرة أخرى، ولكن يأتي بقيامٍ وركوع فحسب. ووجه التفصيل فيه أنه لو أدرك الركوعَ الثاني من الركعة الأولى مثلاً، فإن صاحب التقريب يقول: أما الركعة الثانية؛ فإنه أتى بها مع الإمام بكمالها، فحسبت له، وحسب له من الركعة الأولى [الركوع] (4)، والقيام المتقدم عليه، والقراءة فيه، والسجدتان، فإذا تحلل الإمام، قام المسبوق وقرأ في قومةٍ، وركع، ثم يعتدل عن قيامه، ويجلس ويتشهد ويتحلل. 1613 - وهذا الذي ذكره غيرُ مرضي؛ فإنه لو صار مدركاً بإدراك الركوع الثاني، لصار مدركاً للركعة بكمالها، حتى لا يقضي منها شيئاًً، فإذا لم يكن الأمر كذلك،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) زيادة من (ت 1). (3) ما بين القوسين سقط من (ل). (4) زيادة من (ت 1)، (ل). والمراد الركوع الثاني من الركعة الأولى.

فينبغي أن لا يصير مدركاً لشيء منها، والدليل عليه أن الأصل الركوعُ الأول، والثاني في حكم التابع له، فإذا فات الأول، فقد فاتت الركعة. ثم يلزم من مساق ما قاله صاحب التقريب أن يأتي بقيام وركوع من غير سجود، وهذا مخالف لنظمِ كل صلاة؛ فالوجه ما نقله البويطي. ثم مذهب صاحب التقريب أنه في الاستدراك يركع، ويعتدل، ثم يجلس عن اعتدال؛ فإن الركوع لا يتم ما لم يعقبه اعتدال تامّ عنه، وهذا فيه شيء يعسر به جريان مذهب صاحب التقريب؛ فإنه جعله مدركاً بإدراك الركوع الثاني للقومة، ثم إنه يأمره بالاعتدال، وهو بعضٌ من القومة التي جعله مدركاً لها، ثم أمره بالعود إليها، ولو قال: يركع في الاستدراك، ثم يجلس عن ركوع من غير اعتدالٍ، لكان هذا مخالفاً لقاعدة المذهب، ولست على تحقق وثقة في أنه هل يأمر بالاعتدال عن الركوع، أم يجوّز الجلوس عن هيئة الركوع من غير اعتدال؟ والظاهر أنه يأمر بالاعتدال، ثم بالجلوس عنه. والعلم عند الله فيه. فهذا بيان كيفية الصلاة. 1614 - ثم السجدتان في صلاة الخسوف، وإن شابهتا الركوعين في استحباب التطويل في وجه، فالجلسة بين السجدتين لا تطويل فيها، ولكنها بمثابة الجلسة بين كل سجدتين، وذلك أن القومة بين الركوعين ليست معينة للفصل بين الركوعين فحسب، ولكنها قومة مقصودة في نفسها، والقراءة ركن فيها، والجلسة بين السجدتين لا تراد إلا للفصل فحسب. فصل قال: "وإذا اجتمع خسوف وعيد واستسقاء ... إلى آخره" (1). 1615 - صور الشافعي اجتماع العيد والخسوف، فاعترض عليه في ذلك، وقيل: أراد كسوفَ الشمس؛ فإنه الذي يقع نهاراً في وقت صلاة العيد، وهذا محال؛ فإن

_ (1) ر. المختصر: 1/ 159.

كسوف الشمس يقع في الثامن والعشرين، أو في التاسع والعشرين، فكيف قدّر الشافعيُّ اجتماع الخسوف والعيد؟ فقال أئمتنا: هذا الذي ذكره السائل مذهب أصحاب الهيئات والمنجمين، وقد روى الزبير بن بكار في كتاب [الأنساب] (1) [أن] (2) ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم توفي في العاشر من ربيع الأول، وقيل: في

_ (1) في النسخ الثلاث: كتاب الأسباب، وهو تحريف واضح، وكتاب الزبير بن بكار، بعنوان (نسب قريش) مثل عنوان كتاب عمه أبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري. وكتاب الزبير بن بكّار الذي يشير إليه إمام الحرمين، مطبوع بتحقيق شيخنا الشيخ محمود محمد شاكر، باسم جمهرة نسب قريش. أما الزبير بن بكار، فهو الزبير بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب بن ثابث بن عبد الله بن الزبير بن العوام، وأبوه أبو بكر غلب عليه اسم بكّار، فسمي الزبير بن بكار، وقد توفي سنة 256 هـ. (تاريخ بغداد: 8/ 467، وشذرات الذهب أحداث سنة 256 هـ، وأعلام الزركلي). وقد أشار ابن العماد إلى ما روي عن كسوف الشمس يوم وفاة إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك يرد على أهل الفلك، لأنه مات في غير يوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، وهم يقولون: لا تنكسف الشمس إلا فيهما. ثم عقب قائلاً: قال اليافعي: "وهذا يحتاج إلى نقل صحيح؛ فإن العادة المستمرّة المستقرة، كسوفها في هذين اليومين، (ر. شذرات الذهب: 1/ 13). هذا، وقد اختلف في تاريخ ولادة إبراهيم عليه السلام، وفي تاريخ وفاته، فقيل: توفي ابن ثلاثة أشهر، وقيل: ابن ثمانية عشر شهراً، وقيل: ابن سنة وعشرة أشهر. (ر. طبقات ابن سعد: 1/ 86، 87، 90 - 92، والوافي بالوفيات للصفدي: 1/ 8، 6، 101، 102، وحدائق الأنوار لابن الديبع 1/ 66). وقد حقق محمود باشا الفلكي في كتابه (التقويم العربي قبل الإسلام، وتاريخ ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم) هذه القضية، فثبت بالحساب الدقيق أن الشمس كَسَفت حقيقة كسوفاً كلياً تقريباًً بالمدينة المنورة، عند الساعة الثامنة والدقيقة الثلاثين بعد منتصف الليل يوم السابع والعشرين من يناير سنة 632 (أي الساعة الثامنة والنصف ضحوة 27/ 1/632) ثم أكمل قائلاً: وإذاً فإن اليوم التاسع والعشرين من شوال سنة عشر للهجرة يوافق اليوم السابع والعشرين من يناير سنة 632). ا. هـ. ص 18، 19 (عن حدائق الأنوار لابن الديبع: 1/ 66، 67). هذا وقد تصحف اسم كتاب الزبير في النسخة الرابعة أيضاً (ل) فصار (كتاب الإنسان). (2) مزيدة من (ت 1).

الثالث عشر، فَخَسَفت الشمسُ، فقال الناس: خَسَفت لموت إبراهيم، وإنما قالوا ذلك، فإنهم رأوا شيئاًً بدعاً على خلاف المعتاد. وقال قائلون: قد يقدر الفقيه أمراً لا يتوقع وقوعُ مثلِه، ويبني عليه مساق الفقه لتشحيذ (1) القريحة والتدرب في مجال الأقيسة والمعاني. فنعود إلى الترتيب ونقدر وقوعَ ما صوره الشافعي، فنقول: الفصل مبناه أولاً على العلم بالأوكد. وقد قدمنا فيما تقدم من الأبواب [أن] (2) صلاة العيد آكد من جميع النوافل، وأن صلاة الخسوف دونها. فنقول: إن ضاق وقت صلاة العيد، وفُرض الكسوفُ، فصلاة العيد تقدم لتأكدها، وهي وصلاة الخسوف متساويتان في خشية الفوات، فقدمت المؤكدة، وإن اتسع الوقتُ لصلاة العيد وصلاة الخسوف، فإن في صلاة الخسوف خشية الفوات لا محالة؛ فإنا لا ندري متى يكون الانجلاء، ولا تعويل على قول المنجمين؛ فقد ذكر طوائف من الأئمة منهم الصيدلاني قولين: أحدهما - أن صلاة الخسوف تقدم؛ فإنا نخشى فواتَها، ووقت صلاة العيد متسع فيما صورنا، وهذا ما كان يقطع به شيخي. والقول الثاني - أن صلاة العيد تقدم لتأكدها، فإن قيل: وقتها متسع؟ قيل: فالعوائق غير مأمونة، والاحتياط الابتدارُ إلى الآكد من الصلوات. ومما نذكره في ذلك أنه لو فرض مع ما ذكرناه شهود جنازة، فصلاة الجنازة مقدّمة على الجميع؛ فإنها فريضة على الكفاية، ويتوقع أيضاً طريان تغايير على الميت بسبب الانفجار، وقد أُمرنا بأن نحذر ذلك جهدنا، وتوقع ذلك يزيد على خشية فوات صلاة غير مفروضة، وقد ورد النهي في الشرع عن تأخير صلاة الجنازة إذا حضرت. ومما يتصل بذلك: أنه لو شُهدت جنازة في يوم جمعة، فإذا اتسع الوقت، اتفق الأئمة على تقديم صلاة الجنازة، فإن فرض متكلف ضِيقَ وقت الجمعة، وخفنا

_ (1) مبالغة في الشحذ. (2) مزيدة من (ت 1)، (ل).

فواتها، وحضرت جنازة، وكان [تغير الميت] (1)، متوقعاً، فالذي قطع به شيخي أن صلاة الجنازة تقدّم؛ فإن صلاة الجمعة إن فاتت خلفها صلاة الظهر مقضية، والذي نحاذره لو وقع من الميت، لم يجبره شيء. وتصوير هذا تكلف؛ فإنّ مقدار صلاة الجنازة، لا يكاد يحس له أثر في التفويت. وإذا اجتمع خسوف وجمعة، وخفنا فوات الجمعة، فلا شك أنا نقدِّمها، وإن اتسع وقت الجمعة، ففي تقديم صلاة الخسوف ما قدمناه من القولين. [خطبة الكسوف] (2) 1616 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنا نرى أن يخطب الإمام عقيب صلاة الخسوف خطبتين، كما نرى ذلك في صلاة العيد، فلو اجتمعت الصلاتان في يوم واحد، فإن ضاق الوقت، ورأينا أن نقدِّم صلاة العيد، فنصليها، ونبتدر بعدها صلاة الخسوف، إن لم ينجل، ثم إذا فرغ منها، خطب الخطبتين للصلاتين جميعاًً، ويأتي فيهما بشعار العيد، ويذكر الخسوف، وتقع الخطبتان على الاشتراك عنهما، ولا يضر ذلك؛ فإن الخطبة ليست مفروضة في الصلاتين جميعاًً، ولو كانت شرطاً، لما تأخرت عن الصلاة، ولوجب تقديمها، كخطبة الجمعة. ثم لو زالت الشمس ووقعت الخطبتان بعد الزوال، فلا بأس؛ فإنهما إن لم يكونا شرطاً، فلا يضر وقوعهما وراء الوقت في ضيق الزمان، وإن كنا لا نؤثر ذلك في اتساع الوقت. 1617 - وقال الشافعي: إذا اتفق الخسوف في يوم جمعة؛ فإنه يخطب للجمعة، ويذكر فيها الخسوف. وذكَرَ في العيد والخسوف أنه يخطب لهما خطبة واحدة، والسبب فيه أن الخطبة

_ (1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (2) العنوان من عمل المحقق.

ليست شرطاً في الصلاتين، فإن وقعت مشتركة، لم يضر، والخطبة شرط الجمعة، فلا معنى لتقدير الشركة فيها، بل ينبغي أن تقع للجمعة، ثم يجري فيها ذكر الخسوف. 1618 - ومما يتعلق بتمام الغرض في الفصل أنه لو اتسع الوقت في جمعةٍ، ورأينا تقديمَ صلاة الخسوف، فلا يستحب إفرادُها بخطبتين؛ فإن الموالاة بين أربع خطب لا سبيل إليها، بل ينبغي أن يقع الاكتفاء بخطبتين للجمعة، وفيهما ذكر الخسوف. ولو فرضنا ذلك في يوم عيد، ورأينا تقديم صلاة الخسوف في اتساع الوقت، فإذا تنجزت الصلاة، فينبغي أن يبتدر صلاة العيد، ثم تقع الخطبتان على الاشتراك عنهما؛ فإن الجمع بين أربع خطب غير متجه. وهذه الصورة تفارق صورة الجمعة؛ فإن الخطب تقع فيها وِلاءً، وهاهنا صلى للخسوف [أولاً] (1)، فلو خطب، فيقع بعدها صلاة العيد، ثم الخطبة للعيد، ولكن لم أر أحداً من الأئمة يأمر بأربع خطب. فصل قال: "ولو خَسَف القمرُ، كان هكذا ... إلى آخره" (2). 1619 - الصلاة عند خسوف القمر، كالصلاة عند كسوف الشمس في كل ترتيب، غير أنا نأمر بالجهر في خسوف القمر؛ فإنها صلاةٌ ليلية، ولا نؤثر الجهر في صلاة خسوف الشمس؛ فإنها تقع نهارية، ولكن لا يبعد من طريق النظر قياسها على صلاة الجمعة، في الجهر بالقراءة، وكذلك صلاةُ العيد، ولكن لم يصح عند [الشافعي] (3) جهرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة فيها. 1620 - ثم الجماعة مشروعة فيها كالعيد والجمعة، حتى ذكر شيخنا الصيدلاني أن

_ (1) مزيدة من (ت 1)، (ل). (2) ر. المختصر: 1/ 160. (3) مزيدة من: (ت 1).

من أئمتنا من خرج في صلاة الخسوفين وجهاً أن الجماعة شرط فيها كالجمعة، وقد مضى في صلاة العيد قولٌ على هذا الوجه. وأبو حنيفة (1) لا يستحب الجماعة في صلاة خسوف القمر، ويرى الاستخلاء بها أولى. ثم تستحب الخطبة ليلاً في خسوف القمر، كما ذكرناه في خسوف الشمس، وأبو حنيفة (2) لا يرى الخطبة في الخسوفين جميعاًً. فصل 1621 - إذا خَسَفت الشمسُ، فلم تتفق الصلاة حتى انجلت، فقد فاتت الصلاة، فلا تُقضَى، وكذلك لو غابت الشمس كاسفةً، فلا صلاة أصلاً [باتفاق] (3) الأصحاب. فأما القمر إذا خسف، ثم انجلى، فلا صلاة بعد الانجلاء كما ذكرناه في الشمس، ثم القمر يختص بما نذكره، فنقول: 1622 - إن بقي الخسوف في القمر حتى طلعت الشمس، فلا صلاة، وإن كان جِرم القمر بادياً، فلا حكم له مع طلوع الشمس. ولو بقي الخسوف حتى طلع الفجر، وكان جِرم القمر بادياً، فالمنصوص عليه في القديم: أنه قد فاتت صلاة خسوف القمر؛ لأن ابتداء النهار قد دخل، فكان هذا كطلوع الشمس، والمنصوص عليه في الجديد على ما حكاه الصيدلاني أن الصلاة لا [تفوت] (4) ما لم تطلع الشمس؛ فإن آثار الظلمة لا تنقطع، ما لم تطلع الشمس، وسلطان القمر يبقى ما بقيت الظلمة. ولو غاب القمر، فالذي رأيت اتفاقَ الأئمة فيه أن غيبوبة القمر لا أثر لها، ولكن

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 39، بدائع الصنائع: 1/ 282، حاشية ابن عابدين: 1/ 566. (2) ر. بدائع الصنائع: 1/ 282، حاشية ابن عابدين: 1/ 565. (3) في الأصل، و (ط): اتفق، وفي (ل): اتفق الأصحاب عليه. (4) في الأصل، و (ط): تقوم.

إن غاب بعد طلوع الشمس، فلا صلاة؛ إذ لو بقي جِرمه، فلا صلاة أيضاً، فإن غاب خاسفاً في الليل، صلينا ولا أثر لمغيبه، وإنما النظر إلى بقاء الليل، وإن غاب خاسفاً بعد طلوع الفجر، ففيه القولان المذكوران. فخرج مما ذكرناه أن الانجلاء في الشمس والقمر يفوت الصلاة، وغروب الشمس كانجلائها، وطلوع الشمس يؤثر في تفويت صلاة خسوف القمر وفاقاً، وفي طلوع الفجر القولان، ولا أثر لغيبوبة القمر من غير انجلاء، فإنما النظر إلى بقاء الليل، والسبب فيه، أن الليل لا يرتبط دوامُه وزوالُه به، فتَواريه بمغيبه خاسفاً بمثابة ما لو جلل الشمس سَحاب، فإنا نصلي لخسوف الشمس والقمر وإن كنا نجوّز الانجلاءَ - بناء على أن الأصل بقاءَ الخسوف، وغروب الشمس يؤثر في فوات الصلاة؛ فإن النهار ينقضي بغروبها. فهذا تمام الغرض في ذلك. 1623 - ثم قال الشافعي: "يصلي الإمام بهم في الجامع ولا يبرز؛ فإنه قد يحصل الانجلاء قبل اتفاق البروز وتفوت الصلاة" (1). ثم ذكر الشافعي أنه لا يُؤْثر الصلاةُ في شيء من الآيات التي تظهر -سوى الخسوف- كالزلازل وما في معناها. والأمر على ما ذكره. ...

_ (1) ر. المختصر: 1/ 157.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء 1624 - إذا أصاب الناسَ جدب، وانقطع المطر في وقت ظهور مسيس الحاجة إليه، أو غارت العيون في ناحية، أو انقطع وادٍ عِدّ (1)، فيُستحب بروز الناس للاستسقاء. ثم الأوْلى أن يبرزوا إلى الصحراء، كما رأيناه في صلاة العيد، وهكذا النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ويؤثر للوالي والرجل المطاع في الناس أن يأمرهم بأن يقدموا صيامَ ثلاثة أيام، ويتوبوا، ويخرجوا عن المظالم، ويستحلّ بعضهم من بعض، ويبعث إلى القرى القريبة، حتى يحضروا، ويكثر الجمع، وإذا كان كذلك، فالغالب أن الجمع لا يحتملهم غيرُ الصحراء، ثم ينبغي أن يخرج الصبيان، وفي إخراج البهائم قصداً تردُّد في النص، فمن أصحابنا من لا يُعلّق بإخراجها أمراً، ومنهم من يستحب إخراجها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا صبيان رضع، وبهائمُ رتّع، ومشايخ ركّع، لصب عليهم العذاب صباً" (2). 1625 - وأما أهل الذمة، فلو خرجوا، ووقفوا ناحيةً، غيرَ مختلطين بالمسلمين، لم نمنعهم، ولو اختلطوا، أو اتصلوا بالمسلمين، مُنعوا. ثم صاحب الأمر يخرج بالناس في اليوم المعتن. وينبغي أن يخرجوا في ثياب بِذْلة وتخشّع، لا في ثياب زينة.

_ (1) العد بكسر العين: الماء الجاري، الذي له مادّة لا تنقطع. (معجم). (2) الحديث أخرجه أبو يعلى، والبزار، والبيهقي عن أبي هريرة. وله شاهد آخر ذكره البيهقي (ر. البيهقي 3/ 345، وخلاصة البدر المنير: 1/ 250 ح 865، والتلخيص: 2/ 97، 98 ح 719).

1626 - ثم كما (1) خرج صاحب الأمر ينادَى: "الصلاة جامعة" ويصلي بالناس ركعتين كصلاة العيد في كلّ ذكرٍ وهيئة. وقد روى ابنُ عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج للاستسقاء متواضعاً متخشعاً، وصلى بالناس ركعتين، كصلاة العيد" (2). ثم قال الشافعي في الكبير: يقرأ في الركعتين بسورة "ق"، واقتربت، كما مضى في صلاة العيد، قال الصيدلاني: قال الأصحاب: ينبغي أن يقرأ في إحدى الركعتين سورة {إِنَّا أَرْسَلْنَا} [نوح: 1] لاشتمالها على قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] الآيات. 1627 - ثم صلاة الاستسقاء في كل المعاني كصلاة العيد، وقال الشيخ أبو علي في الشرح: يدخل وقتُها بطلوع الشمس وينقضي بزوالها، كما ذكرناه في صلاة العيد، وهذا وإن كان وفاءً بالتشبيه على الكمال، ولكني لم أره لغيره من الأئمة، ثم صلاة العيد إذا فاتت، ففي قضائها كلام مفصّل تقدم، ولا يفرض مثل ذلك في صلاة الاستسقاء؛ فإنه لا يتعين بالشرع فيها يوم، وإنما التعيين عند وقوع الجدب إلى الوالي، فإذا لم تتفق إقامة الصلاة في ذلك اليوم؛ فإنهم يقيمونها في غيره أداء، ثم إن سُقي الناس يوم خروجهم، فذاك، وإن لم يُسقَوْا، خرجوا مرة أخرى، وصلّوا، وليس في هذا ضبط ما استمر الجدب. ولكن الوالي صاحب الأمر يرعى في ذلك مقدارَ الضرروة، ويلتفت على ما ينال الناس من المشقة في اجتماعهم، ويجري على ما يليق بالمصلحة في ذلك.

_ (1) "كما" بمعنى "عندما". (2) حديث ابن عباس: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء ... " رواه أحمد والأربعة، وأبو عوانة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الألباني (ر. الترمذي: كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، ح 559، وأبو داود: صلاة الاستسقاء، باب جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، ح 1165، وصحيح أبي داود: 1/ 215 ح 1032، والنسائي: الاستسقاء، باب الحال التي يستحب للإمام أن يكون عليها، ح 1506، وابن ماجة: إقامة الصلوات، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، ح 1266، وخلاصة البدر المنير: 1/ 248 ح 855).

وقد قال الشافعي: إن بلغنا أن طائفةً من المسلمين في جدب، فحسن أن نخرج ونستسقي لهم، وإن لم نَبْتلِ بما ابتلُوا به؛ فإن المسلمين كنفسٍ واحدة. 1628 - ولو سُقي المسلمون قبل اليوم المذكور لموعد الخروج، فقد سمعت شيخي أنهم يخرجون شاكرين، ويصلون ويقيمون ما ورد الشرع به، ويستديمون نعمةَ الله تعالى، ورأيت في الصلاة تردداً عن بعض الأصحاب، فأما استحباب الخروج، وذكر موعظة، فلا شك فيه، وسبب التردد أن الصلاة مخصوصة بالاستسقاء، وقد كُفي الناس. وفي كلام الصيدلاني تردد ظاهر في صورة أخرى، تداني هذه، وهي أن الناس لو لم يُبْلَوْا بالجدب، ولكنهم أرادوا الخروج للاستزادة في النعمة، وأرادوا أن يصلوا صلاة الاستسقاء، فهل لهم أن يقيموا الصلاة؟ فعلى تردد حكاه. 1629 - ثم إذا فرغ الناس من الصلاة حيث نراها، فيتقدم الإمامُ ويخطب خطبتين كما يفعل في العيد، غيرَ أن الأوْلى أن يُكثر الاستغفار في الخطبتين، كما يُكثرُ التكبيرَ في يوم العيد، وسبب الأمر به قوله تعالى في سورة نوح: [10، 11] {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}. ثم حكى الصيدلاني عن النص في (الكبير) أن كل واحدٍ من الحاضرين يُستحب له أن يُخطر بباله ما [جرى] (1) له في عمره من قُربة رآها خالصة لله تعالى، ويسأل الله السقيا عند ذكرها، وذِكْر الحديث المعروف في الذين انسد عليهم فمُ الغار، فتذكروا مثلَ ذلك في الحديث، فنجاهم الله، ثم يكون هذا سراً من غير إظهار؛ فإن ذلك في الجمع الكبير عسير، لا يفي الوقت به تناوباً، وإن ذكروا معاً، لم يُفد ذلك إلا لغطاً، والإسرار أجمل. والمعتمد في الخطبتين ما رواه أبو هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مستسقياً، وصلى، وخطب خطبتين" (2). ثم الإمام يخطب خطبةً مستقبلاً للناس،

_ (1) في النسخ الثلاث: يجري. والمثبت تقدير منا، صدقته (ل). (2) حديث أبي هريرة، رواه أحمد، وابن ماجة، والبيهقي، وقال البيهقي في (الخلافيات) رواته =

ويجلس، ويبتدىء الخطبة الثانية، ثم يُلْحِف في الدعاء، ويحمل الناسَ عليه، ويستقبل القبلة ويستدبر الناسَ الحاضرين، ويدعو سراً وجهراً، هكذا رواه عبد الله بن زيد الأنصاري (1) صاحب الأذان. ثم في الرواية أنه كما تحوّل صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، يحول رداءه، كما سنصفه، ورأى العلماء أن ذلك كان تفاؤلاً، في تحويل الحال من الجدب إلى الخصب (2)، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل (3). ثم الذي نص عليه الشافعي في الجديد أنه يقلب أسفل الرداء إلى الأعلى، والأعلى إلى الأسفل، ويقلب ما كان من جانب اليمين إلى جانب اليسار، وما كان من جانب اليسار إلى جانب اليمين، وهو في ذلك يقلب ما كان يلي البدن إلى الظاهر، وما كان ظاهراً إلى ما يلي ثياب البدن، فيحصل ثلاثة أوجه من القلب والتحويل. ونص في القديم على أنه يكتفَى بنقل ما على الكتف الأيسر إلى الأيمن، ونَقْل ما كان على الأيمن إلى الأيسر، فيحصل نوعان من القلب: أحدهما - من الكتف إلى الكتف، والآخر - قلب الظاهر إلى الباطن، ولعل الشافعي اعتمد في ترك قلب الأسفل إلى الأعلى ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصر على ذلك"، ولكن الشافعي في الجديد ذكر سببه، فقال: كانت عليه خميصة، فثقلت عليه لما حاول

_ = كلهم ثقات، وذكره الألباني في ضعيف ابن ماجة. (ر. ابن ماجة: إقامة الصلوات، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، ح 1268، والبيهقي: 3/ 347، ومسند أحمد: 2/ 326، وخلاصة البدر المنير: 1/ 250 ح 865). (1) حديث عبد الله بن زيد متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 173 ح 515، وصحيح مسلم: كتاب صلاة الاستسقاء، ح 894، وبلفظ مسلم (تقريباًً) ساقه إمام الحرمين، وانظر البخاري: كتاب الاستسقاء، 1005، وخلاصة البدر المنير: 1/ 247 ح 854). (2) قال الحافظ: "روى الحاكم من حديث جابر ما يدل لذلك ولفظه: "استسقى وحول رداءه ليتحول القحط". وفي الطوالات للطبراني من حديث أنس بلفظ: "وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب" ا. هـ (ر. التلخيص: 2/ 204 ح 727، الحاكم: 1/ 326). (3) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل، متفق عليه من حديث أنس (ر. اللؤلؤ والمرجان: السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، ح 1437، التلخيص: 2/ 205 ح 728).

قلبها من الأعلى إلى الأسفل، فترك ذلك واقتصر على القلب من المنكب [إلى المنكب] (1) (2) فإذا صح أنه هم به صلى الله عليه وسلم، وتركه بسببٍ، فإتيان ما هم به أولى وأقرب. فرع: 1630 - لو نذر رجلٌ أن يصلي صلاة الاستسقاء، وكان الوقت وقت جَدْب، لزمه الوفاء بالنذر، نص عليه في (الكبير)، واتفق الأئمة عليه. وهذا يترتب عليه أمرٌ عظيم في النذر: وهو أنه لو نذر إقامة السنن الراتبة، أو نذر إقامةَ صلاة العيد، فكيف سبيل نذره؟ وسيأتي ذلك مستقصىً في النذور، ونحن إن شاء الله تعالى نذكر في النذور ما يضبط قواعدَه؛ فإنها تكاد تخرج عن الضبط. والقدر الذي هو مقصود الفرع الآن أن النذر يجب الوفاء به، ثم تردد أئمتنا في أنه لو نذر صلاة الاستسقاء لأهل ناحية بُلوا بالجدب، وما كان الناذر فيهم، بل كان في موضع خصب، فهل يلزم الوفاء بالنذر على هذا الوجه أم لا؟ فيه تردد في كلام الأئمة. وكذا [لو] (3) نذرَ صلاة الاستسقاء لمزيد السقيا، ولم يكن جدب، فقد ذكرنا استحباب هذا من غير نذر. ثم النذر ينبني على أصل الندب فيه. ولو نذر أن يخرج بالناس، فإن لم يكن مطاعاً فيهم، لم يلزمه السعيُ في إخراجهم، وإن كان مطاعاً، لزمه الوفاء. وفي هذا الفرع غوائل من أحكام النذور لا سبيل إلى ذكرها الآن، ولكنا في كتاب النذور نعيد هذا الفرع، ونعلّق به ما يتعلق به إن شاء الله عز وجل.

_ (1) مزيدة من (ت 1)، (ل). (2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم هم بقلب الرداء ... " رواه أبو داود، والنسائي، وابن حبان والحاكم من رواية عبد الله بن زيد وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الصلاة، باب جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، ح 1164، والصحيح: 1/ 215 ح 1031، النسائي: الاستسقاء، باب الحال التي يستحب للإمام أن يكون عليها، ح 1507، وباب متى يحؤل الإمام رداءه، ح 1511. ابن حبان: 2856، الحاكم: 1/ 327، وخلاصة البدر المنير: 1/ 251 ح 869). (3) مزيدة من (ت 1)، (ل).

باب تارك الصلاة

باب تارك الصلاة 1631 - اختلف مذاهب العلماء في حكم الله تعالى على من يترك الصلاة من غير عذر. فذهب أحمد (1): إلى أنه يكفر، ولو مات قبل التوبة، فهو مرتد، وماله فيء. وتوبتُه عنده أن يقضي تلك الصلاة. وقال أبو حنيفة (2): لا يكفر ولا يقتل أيضاً، ثم قال في رواية: لا يتعرض له، بل يخلّى سبيله؛ فإن الصلاة أمانةُ الله تعالى، فأمره في تركها وإقامتها موكول إلى الله تعالى، وقال في رواية: يحبس ويؤدب، فإن استمر على ترك الصلاة، أدّبناه في وقت كل صلاة، ولا ينتهي الأمر إلى ما يكون سبباً للهلاك. وهذا مذهب المزني. 1632 - وأما الشافعي؛ فإنه رأى قتلَ تارك الصلاة، ومأخذ مذهبه الخبرُ، مع أنه لم يرد في هذا الخبر قتلٌ على التخصيص. والهجوم على قتل مسلمٍ عظيمٌ مشكل، وقد بذلت كنهَ الجهد في كتاب الأسلوب (3). 1633 - ثم مضمون الباب فصول: أحدها - في تصوير الترك الذي يتعلق به استحقاق القتل، والقول في هذا يتعلق بأمرين: أحدهما - في عدد الصلاة. والثاني - في معنى الوقت المعتبر في إخراج الصلاة عنه. 1634 - فأما العدد، فمذهب الشافعي أنه لو ترك صلاةَ واحدة متعمداً من غير

_ (1) ر. كشاف القناع: 1/ 128، الإنصاف: 1/ 404. (2) ر. رؤوس المسائل: 189 مسألة: 90، إيثار الإنصاف: 50، حاشية ابن عابدين: 1/ 235. (3) من كتب إمام الحرمين، وهو يُعرف (بالأساليب).

عُذرٍ، استوجب القتل إذا امتنع من القضاء، فهذا مذهبه، وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة متعمداً فقد كفر" (1) أي استوجب ما يستوجبه الكافر. والصلاة منكَّر في الحديث، ومقتضاها الاتحاد. وحكى العراقيون وراء النص وجهين آخرين: أحدهما - عن الإصطخري: أنه لا يستوجب القتل حتى يترك أربعَ صلوات، ويمتنع عن القضاء، فيقتل بعد الرابعة. والوجه الثاني - حكَوْه عن أبي إسحاق المروزي أنه لا يستوجب القتلَ بترك واحدة، ويُحمل ذلك -وإن كان عمداً- على ذُهولٍ وكسل، فإذا ترك الثانية، فقد عاد، فيلتزم القتل إذا لم يَقضِ. وذكر شيخي مذهب الإصطخري، وحكى عنه أنه يستوجب القتل بترك ثلاث صلوات، فإذا امتنع من القضاء بعد الثالثة، قتل. وفي بعض التصانيف نقل مذهب الإصطخري على أنه لا يخصص بعدد، ولكن إذا ترك من الصلوات ما انتهى إلى ظهور اعتياده تَرْكَ الصلاة، قتل، وإذا لم ينته إلى ذلك لم يقتل. وهذا مذهب غير معتد به. والمعتمد في النقل ما ذكره الأئمة. والمذهب ما نص عليه الشافعي. فهذا كلامنا في العدد. 1635 - فأما الوقت، فذكر الصيدلاني، وغيره: أن القتل إنما يثبت إذا أخرج الصلاة عن وقت العذر والضرورة أيضاً، فإذْ ذاك إذا امتنع يُقتل، فإذا ترك صلاة الظهر حتى دخل وقت العصر، لم نقتله حتى تغرب الشمس، وفي المغرب حتى يطلع

_ (1) حديث ترك الصلاة، رواه البزار بهذا اللفظ، من حديث أبي الدرداء، وله شاهد من حديث الربيع بن أنس عن أنس، وفي الباب عن أبي هريرة، رواه ابن حبان في الضعفاء، وأصح ما فيه، ما رواه مسلم من حديث جابر: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" ا. هـ. ملخصاً من كلام الحافظ (ر. التلخيص: 2/ 148 ح 810، وخلاصة البدر المنير: 1/ 284 ح 990، مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، ح 82) وقد سبق في أول كتاب الصلاة.

الفجر، ويتحقق الترك في الصبح بطلوع الشمس. ولم أر في الطرق ما يخالف هذا. وإذا كنا نجعل الحائض بإدراك شيءٍ من وقت العصر مدركةَ لصلاة الظهر، فلا يبعد أن يقف أمر الترك الموجب للقتل، على انقضاء جميع هذه الأوقات. ثم مما يتصل ببقية ذلك شيئان: أحدهما - أن قول الشافعي اخْتَلَفَ في وجوب إمهال المرتد ثلاثة أيام في الاستتابة، كما سيأتي مشروحاً في موضعه إن شاء الله تعالى، وهذان القولان يجريان في تارك الصلاة، بل هما أظهر هاهنا، لغموض مأخذ القتل في أصل هذا الباب. والثاني - أنه مهما قضى ما ترك خلّيناه، وقضاؤه كعوْد المرتد إلى الإسلام. ومن نام عن صلاة أو نسيها حتى انقضى الوقت، ولزمه القضاء، فليس الوجوب على [الفور] (1)، بل عمره وقتُه، كقولنا في الحج في حق المستطيع. ومن ترك صلاة متعمداً، فوجوب القضاء على الفور، ولهذا يقتل الممتنع من القضاء، ولو لم يكن على الفور، لما تحقق الحمل عليه بالسيف. 1636 - ثم الذي ذهب إليه الأئمة، أنا إذا أردنا قتله، قتلناه بالسيف كما يُقتل المرتد. وعن صاحب التلخيص أنه ينخس بحديدة ويقال له: قم، صلّ، فإن امتثل وإلا استكملنا بهذا النوع قتله. وليس لما ذكره أصل صحيح عند الأصحاب، فهو متروك عليه. ثم إذا قتل، دفن في مقابر المسلمين وصُلِّي عليه، وهكذا سبيل أصحاب الكبائر، وحكى بعض الأصحاب عن صاحب التلخيص أنه إذا دفن في مقابر المسلمين، يسوى التراب ولا يرفع نعش قبره حتى يُنسى ولا يذكر. ولست أرى لهذا أصلاً. ...

_ (1) في الأصل، و (ط): الفوت.

عاب التفقه قوم لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... ألا يرى ضوءها من ليس ذا بصر الإمام أبو الحسن التميمي، منصور بن إسماعيل المتوفي سنة 306 هـ

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز 1637 - ذكر الشافعي آداباً في حق المحتضَر إذا قرب موتُه، فنقول: ينبغي أن يكون في نفسه حسن الظن بالله تعالى عند قرب موته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو حَسن الظن بالله تعالى" (1). ثم ينبغي أن يلقَن الشهادة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله" (2)، وروى معاذ عن النبي عليه السلام أنه قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" (3). ثم لا ينبغي للملقّن أن يلحّ على من قرب أجله، بل يذكِّره الشهادة برفق، بحيث لا يُضجره. ثم مما يؤثر (4) إذا فاضت نفسه، أن يُغمض عينيه رجل رفيق، ويشد لحييه بعصابة؛ حتى لا تبقى صورتُه مشوّهة في المنظر، ويكون هذا عند تحقق الموت،

_ (1) حديث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله" رواه مسلم عن جابر بن عبد الله. (ر. مسلم: كتاب الجنة (51) باب الأمر بحسن الظن بالله (19) ج 3 ص 2205 ح 2877). (2) حديث: "لقنوا موتاكم ... " رواه أبو داود وابن حبان من حديث أبي سعيد، وهو في مسلم عنه وعن أبي هريرة (ر. مسلم الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله، ح 916، 917، أبو داود: الجنائز، باب في التلقين، ح 3117، ابن حبان: 2992، والتلخيص: 2/ 102 ح 732). (3) حديث: "من كان آخر كلامه، لا إله إلا الله ... " رواه أبو داود، والحاكم، وأحمد من حديث معاذ بن جبل، وعند مسلم بمعناه من حديث عثمان رضي الله عنه (ر. مسلم: الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، ح 43، أبو داود: الجنائز، باب في التلقين، ح 3116، أحمد: 5/ 233، 247، الحاكم: 1/ 351، 500 وصححه ووافقه الذهبي، التلخيص: 2/ 103 ح 733، وخلاصة البدر المنير: 1/ 253 ح 877). (4) في (ل) "نؤثره".

من غير تأخير؛ فإنه قد لا تُطاوعُ الأعضاءُ إذا بعد الزمان، وكذلك نُؤثر تليين مفاصله عند الموت؛ حتى لا تبقى منتصبة، فيعسر التصرف فيها عند الغُسل، ومحاولة الإدراج في الكفن. وذكر (1) جملاً من علامات الموت؛ والغرض أنا لا نُحدث شيئاً مما ذكرناه إلا ونحن على تحقق من الموت. وينزع عنه الثياب التي تدفئه إذا مات؛ حتى لا يتسرعّ التغييرُ إليه، ويسجّى بثوبٍ خفيف، ولو وضَع سيفاً أو غيرَه على بطنه حتى لا يربو، فحسنٌ. وقد ورد في بعض الآثار تلاوة سورة يس (2) عند قرب الأمر. والذي كان يقطع به شيخي أن المحتضَر يُلقَى على قفاه، وأخمصاه إلى القبلة، وذكر العراقيون أنه يُلقَى على جنبه الأيمن كما يفعل في لحده، ولست أثق بهذا؛ فإن عمل الناس على خلاف هذا. وإن كان ما ذكرناه منقاساً في رعاية استقبال القبلة. ...

_ (1) "وذكر": أي الشافعي. (2) حديث: "اقرؤوا يس على موتاكم" رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم، وروي معناه موقوفاً، وفيه مقال، ورمز له السيوطي بالحسن، وضعفه الألباني. (ر. أحمد: 5/ 26، 27، أبو داود: الجنائز، باب القراءة عند الميت، ح 3121، النسائي في الكبرى: عمل اليوم والليلة، باب ما يقرأ على الميت، ح 10913، ابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر، ح 1448، الحاكم: 1/ 565، ضعيف أبي داود للألباني: ص 316 رقم 683، ضعيف الجامع الصغير: 1072، والتلخيص: 2/ 104 ح 734).

باب غسل الميت

باب غسل الميت 1638 - نذكر في صدر هذا الباب أموراً تتعلق بآدابٍ في مقدمةِ الغسل، وكيفية الغُسل، ثم نذكر المسائلَ الفقهية إن شاء الله عز وجل، فنقول: الأَوْلى ألا يُنزع عن الميت قميص، بل يغسَّلُ فيه، وإن مست الحاجة إلى مس بدنه باليد في الغسل، فَتق الغاسلُ القميصَ وأدخل يده في موضع الفتق، فإن نزع القميص، جاز، ولكن يجب أن يستر عورة الرجل بثوب يُلقى عليها، والعورة ما بين السرة والركبة، وهذا يُبنى على العلم بأنه يحرم النظر إلى عورته، ويكره النظر إلى سائر بدنه، إلا عند الحاجة. ثم ذكر المزني أنه يعيد الغاسل تليين مفاصله عند الغسل، وتردد أصحابنا، والوجه فيه أن يعلم أن التليين في هذا الوقت، لم يرد فيه أثر، ولم يوجد فيه نصّ للشافعي، ولكن الوجه أن يقال: إن لم تمس حاجة إلى التليين وإعادته، فلا وجه له، وإن مست الحاجة إلى إعادة التليين، فلا معنى للتردد فيه. ثم نقول: ينبغي أن يُغسَّل في موضعٍ خالٍ، لا يطلعُ عليه إلا غاسله، ومن لا بد منه في الإعانة، ولا ينبغي لمن يتعاطى ذلك أن يذكر شيئاً من العلامات التي تكره، فقد يسودُّ وجه الميت بثوران الدم فيه، وقد يميل وجهُه لالتواء عصبٍ، فلو ذُكر، فقد يظن به من لا يدري سوءاً. ثم يفضى بالميت إلى مغتَسله، وهو لوح مهيأ لهذا الشأن، فلو لم يكن، فسرير، وينبغي أن يكون المغتَسل منحدراً في وضعه، حتى لا يقف الماء وينحدر، ثم يعتدّ (1) الغاسل موضعاً (2) فيه ماء كثير، وينحيه من السرير، حتى لا يترشش،

_ (1) اعتدّ الشيء: أحضره، أي يُحضر الغاسل ... (2) في النسخ الثلاث: موضعاً، وبمثلها جاءت (ل)، ولكن أضيف بين سطورها كلمة (مِخضب) والمخضب إناء كبير تغسل فيه الثياب. (المعجم).

ولا يتقاطر إليه، ويكون معه ما يغترف به الماء من ذلك الإناء المنحَّى. 1639 - والأصح المنصوص عليه للشافعي أن بدن الآدمي لا ينجس بالموت؛ إذ لو كان ينجس، لما كان في تنظيفه بالغسل معنى. وذهب أبو القاسم الأنماطي إلى أنه ينجس، واستنبط قوله من أمر الشافعي بتنحية الإناء الكبير الذي فيه الماء. وهذا غير صحيح؛ فإن الشافعي نص على ما يفسد هذا (1)؛ فإنه قال: يُنحَّى حتى تكون النفس أطيب في ألا يتقاطر الماء، ثم الماء المستعمل إذا كثر تقاطره، فقد يثبت إلى ما يتقاطر إليه حكم الاستعمال، فيخرج عن كونه طهوراً، وإن بقي طاهراً. 1640 - ثم إذا أفضى به إلى مغتسله ألقاه على قفاه أولاً، ثم يتقدم، فيجلسه برفق، ويكون ميله (2) إلى وراء، فلا يجلسه معتدلاً؛ فإن الميلَ إلى الاستلقاء أوفق، لما يحاوله مما نذكره الآن. وينبغي إذا أجلسه على الهيئة التي ذكرناها، أن يعتني بحفظ رأسه، حتى لا يميل إلى وراء ميلاً بيناً، ثم إذا أثبته كذلك، اعتمد بيديه على بطنه ماسحاً متحاملاً بقوة -وميل الميت إلى وراء- فإن كان فيه فضلةٌ يخشى مبادرتها خرجت، ثم يأمر من معه في هذا الوقت حتى يصب الماء بقوة، ويُكثر؛ حتى إن كان من شيء خَفي في كثرة الماء. والمجمرةُ -مع الاعتناء بفائح الطيب- تكون عنده في هذا الوقت مُتَّقِدَة. ثم إذا تقدر الفراغُ من هذا المقصود الذي ذكرناه، فيتعهد -وقد ردّه إلى هيئة الاستلقاء- غَسْلَ سوأتيه، ولا يمس بيده واحدة منهما، ثم يلفّ على يده خرقة، ويُمعن في غسل إحداهما، ثم ينحي تلك الخرقة، ويلف أخرى، ويغسل الأخرى، فيكون ما جرى بمثابة الاستنجاء في حق الحي، ثم كل خرقة ردّها، ابتدرها بعضُ من يُعينه وغسلها. ثم إن كان ببدنه قذر اعتنى به، ولف خرقة على يديه وغسله، ثم يتعمد خرقة نظيفة، فيبلها، ويتعهد ثغره، وأسنانه بها، ويكون ذلك كالسواك، ولا يفتح فاه في ذلك، ويتعهد منخريه كذلك، ويزيل أذىً إن كان، ثم

_ (1) إشارة إلى قول الأنماطي. (2) (ل) مثله إلى ورد.

يوضئه وضوءاً تاماً، ثلاثاً ثلاثاً. وذكر الشيخ أبو بكر أنه يأتي بالمضمضة والاستنشاق. وظاهر هذا أنه يوصل الماء إلى داخل فيه وأنفه، ولا يكتفي بإيصال الماء إلى مقادم الثغر والمنخرين، وكان شيخي يقول: يكتفي بإيصال الماء إلى ثغره ومنخره، وهذا معنى المضمضة فيه، وكذلك القول في المنخرين. والذي أرى القطعَ به أن أسنانَه إن كانت متراصة، فلا ينبغي أن يتكلف الغاسل فكّها، وفتحها، لمكان المضمضة، وإن كان فمه مفتوحاً ففي إيصال الماء إلى داخل فمه وأنفه تردد من الأئمة. والسبب فيه أنه قد يبتدر الماء إلى جوفه، فيكون ذلك سبباً في تسارع الفساد والبلى إليه، ونحن مأمورون برعاية صونه جهدنا، وإن كان مصيره إلى البلى. ثم إذا فرغ من ذلك وضَّأه، وتعهد شعره وسرّح لحيته، وشعرَ رأسه إن كان ذا لِمّة، وكانت قد تلبّدت، حتى لا يمتنع بسببها وصول الماء إلى أصول الشعر، ويستعمل مشطاً واسع الأسنان، وَيرْفُقُ جهده؛ حتى لا ينتف شعره، ثم يضجعه على شقه الأيسر ويبتدىء غسله، فيصب الماء على رأسه، وعنقه وشقه الأيمن كلِّه، إلى فخذه، وساقه، ورجله، ثم يلقيه على قفاه برفق، ويضجعه على شقه الأيمن، ويغسل شقه الأيسر، كما تقدم ذكره في الأيمن، وهذه غسلة واحدة، وهو في ذلك كلِّه يُتبع الماءَ يدَه دلكاً، وعليها خرقة. ثم ذكر الشافعي أنه بعد كل غسلة، يُجلسه، ويمرّ يده على بطنه ويردّه، ولكنه يتحامل في المرة الأولى قبل ابتداء الغسل، ويرفُق في غيرها من الكرَّات على حسب ما تقتضيه الحال، ثم يغسله ثانية وثالثة، فإن حصل النقاء المطلوب، وإلا غسله خمساً أو سبعاً، هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّواتي كنّ يغسّلن ابنته زينب فقال: "اغسلنها ثلاثاً، خمساً، سبعاً" (1)، والإيتار مرعي عند محاولة الزيادة على الثلاث، ولا مزيد على الثلاث من غير حاجة.

_ (1) حديث: "اغسلنها ثلاثاً ... " متفق عليه عن أم عطية، ولكن عندهما بعد قوله: خمساً: أو أكثر من ذلك. (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 189، باب غسل الميت، ح 544، والتلخيص: 2/ 107 ح 741).

1641 - واستعمال السدر في بعض الغسلات مما ورد الشرع به (1) رعايةً للتنظيف، ولكن إذا تغير الماء بالسدر تغيراً طاهراً، لم تحتسب تلك الغسلة عن الفرض، ولا بد في إقامة الفرض من إفاضة ماءٍ طهور، وبه الاعتداد، وذكر العراقيون وجهاً بعيداً عن أبي إسحاق المروزي أنه يتأدى الفرض بالماء المتغيّر بالسدر، وإن كان لا يجوز أداءُ الوضوء والغسل به في الجنابة والحَدث؛ فإن الغرض الأظهر من غُسل الميت النظافة، وهذا بعيد غير معتدٍّ به من المذهب. ثم استعمال مقدار يتفق من الكافور في الغسلة الأخيرة حسن، أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم (2)، ورائحته على الجملة مُطردَةٌ للهوام إلى أمد. ثم لم تختلف الأئمة في أنا ننشفه بعد الفراغ من غسله، ويبالغ في تنشيفه حتى لا تبلّ أكفانُه، ولم نر في الوضوء والغسل التنشيفَ، كما تقدم، والفرق لائح، والأوْلى استعمال الماء البارد؛ فإنه يجمع اللحم والجلد، والماءُ المسخن يُرخي ويرهِّل إلا ألاّ يحصل النقاءُ المطلوبُ إلا بالمسخن، أو يكون الهواء بارداً، وكان يعسر استعمال الماء البارد فيه. فهذا بيان كيفية الغسل. 1642 - ثم نبتدىء بعد هذا المسائلَ الفقهية، ونصدّرُها بأن الأقل المجزي، الذي يسقط به الفرض وصولُ الماء إلى جملةِ ظاهر البدن، جرياناً، كما ذكرناه في غُسل الجنابة، وفي اشتراط النية في غسل الميت وجهان مشهوران: أحدهما - تجب؛ فإنه غُسل حُكمي، فشابه غسلَ الجنابة. والثاني - لا تجب؛ فإنها لا تتأتى من الميت، وإيجابها على الغاسل بعيد، والغرض الأظهر من هذا الغسل النظافة أيضاً، ويخرج على هذا الخلاف أن الغريق إذا لفظه البحر، فظفرنا به، فإن لم نشترط النية، فقد تأدى الغُسل بالبحر، وإن شرطنا النية، فلا بد من إعادة الغُسل وإقامة النية، ولو غسل كافرٌ مسلماً، ففي الاعتداد به

_ (1) ورد ذلك في الحديث السابق نفسه. (2) ورد ذلك في حديث غسل زينب رضي الله عنها، المتفق عليه، والذي مضت الإشارة إليه آنفاً.

خلاف، مبنيٌّ على ما ذكرناه من اشتراط النية؛ فإن الكافرَ ليس من أهل النية. ثم الغاسل ينوي إذا شرطنا النية. ومما يتعلق بهذا أن المجنونة إذا طهرت عن حيضها، فلا نبيح للزوج قربانها حتى تغتسل، ولا تتأتى النية منها، ولكن يكفي في استحلالها إيصال الماء إلى بدنها، ثم لو أفاقت، فهل تعيد الغُسل؟ فيه خلاف كالخلاف في الذمية إذا اغتسلت، ثم أسلمت، ولم يصر أحد من أئمتنا إلى أن قيّمها يُغسِّلها، وينوي عنها، كما ذكرنا أن غاسل الميت ينوي، فهذا مما لم يتعرضوا له بنفيٍ وإثبات والله أعلم. فرع: 1643 - إذا غسلنا الميت، فخرجت منه نجاسة، فلفظ الشافعي: أنا نعيد غسله. وقد اختلف الأئمة في المسألة، فذهب بعضهم إلى أنه يعاد غسله من أوله، والذي جرى من الأمر يوجب تجديد غسله؛ فإن الغرض الظاهر تنظيفه كما ذكرناه، ومن أئمتنا من قال: يقتصر على إزالة تلك النجاسة [ولا يعاد غسله] (1). ومنهم من قال: تغسل تلك النجاسة، ثم يجب إعادة الوضوء فيه. فمن رأى الاقتصار على غسل النجاسة، فلا يفرق بين نجاسة ونجاسة، ومحل ومحل، ومن يرى تجديد الوضوء، فلا شك أنه يقول ذلك في نجاسة تبدُرُ من أحد السبيلين، فأما من أوجب إعادة الغُسل، فإن كانت النجاسة خارجة من السبيل، فالغسل، وإن انفجر عرق وظهرت نجاسة، ففي إيجاب إعادة الغسل احتمال عندي، من جهة أن هذا القائل يرى السبب الظاهر في الغسل التنظيف. وهذا يستوي فيه كل نجاسة ومحل، والله أعلم. فصل يجمع تفصيلَ القول في الغاسلِين ومن يكون أَولى 1644 - ونحن نصدّره قبل القول في الأَوْلى، بمن يجوز له أن يغسل، فنقول: أما الزوجة، فإنها تغسل زوجها وفاقاً، والأصل فيه ما روي عن عائشة رضي الله عنها

_ (1) زيادة من (ت 1)، (ل).

أنها "قالت: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه" (1) وقيل: كانت تظن أنهن لو تركن حقوقهن من غسله، تولى أبو بكر الغسل، فلما تولاه علي والعباس، ندمت على ما تركت. والزوج يغسل زوجته عند الشافعي، خلافاً لأبي حنيفة (2)، وقد "صح أن علياً غسّل فاطمة رضي الله عنهما" (3)، فإذا ماتت أمّ ولد الإنسان، أو جاريتُه الرقيقة، فللسيد أن يتولى غُسلها، وإذا مات السيد، فأم الولد هل تغسله؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تغسله (4 فإنها عَتَقَت بموته. والثاني - تغسله 4)، فإنها كانت محلّ حلِّه، وعتقها بمثابة انتهاء النكاح نهايته في حق الزوجة. والأمة المملوكة هل تغسل سيدها؟ فيه وجهان أيضاً، ولعل الأصحَّ المنعُ، فإن الملك فيها انتقل على التحقيق إلى الورثة، ولم يكن الحلّ فيها مقصوداً في الحياة. 1645 - ثم الزوجان عندنا يغسل كل واحد منهما صاحبه، وسببه أن النكاح ينتهي نهايته، فجواز الغسل يعقبه كالميراث، ولا تعويل في جانبها على العدّة؛ فإن العدّة واقعة وراء منتهى النكاح، وليست المرأة زوجة في العدة قطعاً. ولو مات الزوج، فوضعت في الحال حملاً، وانقضت عدتُها، فإنها تغسل زوجها، وإن انقضت العدة، كما يغسل الزوج زوجته، وإن لم يكن معتداً.

_ (1) حديث عائشة: رواه أبو داود، وابن ماجة، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله، ح 3141، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها، ح 1464، وصحيح ابن ماجة: 1/ 247 ح 1196). (2) ر. مختصر الطحاوي: 41، رؤوس المسائل: 192 مسألة: 92، حاشية ابن عابدين: 1/ 575، 576. (3) حديث: "غسل علي لفاطمة رضي الله عنهما" رواه الشافعي من حديث أسماء بنت عميس، وكذا رواه الدارقطني ورواه البيهقي، وإسناده حسن، قاله الحافظ. (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 206 ح 571، الدارقطني: 2/ 79، البيهقي: 3/ 396، التلخيص: 2/ 143). (4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

1646 - ولو ماتت المرأة ولم نُصادِف لها زوجاً، ولا حميماً (1)، ولم تكن حيث ماتت امرأة أيضاً، فالذي قطع القفال به أن الرجل يغسلها في قميص، ويبذل كنهَ الجهد في غضِّ الطرف عنها. وذكر العراقيون وجهاً أنها لا تغسل، ولكن تُيمَّم ويجعل فقدان من يغسلها، كفقد الماء. وهذا وجه بعيد. وكذلك لو مات الرجل ولم يشهد إلا نسوة أجنبيات، فظاهر المذهب أنهن يغسلنه، ويغضضن من أبصارهن، وذكروا وجهاً أنه ييمم. 1647 - ومما ذكره الصيدلاني كلامُ الأصحاب في الخنثى إذا مات على إشكاله، ولم يُعلم له حميم من الرجال أو النساء، قال بعض الأصحاب: يجب أن يشترى له من تركته أمة تغسله. وقال الشيخ أبو زيد: هذا ضعيف لا أصل له؛ فإن المذهب الصحيح أن الرجل إذا خلَّف أمة، لم تغسله؛ من حيث صارت ملكاً للورثة. فالوجه أن يقال: الخنثى يغسله الرجال، أو النساء، مع غض الطرف، وليس أحد الجنسين أولى في ذلك من الثاني. قال القفال في توجيه ذلك: "هذا الخنثى لو فرض طفلاً صغيراً، لجاز للرجال والنساء جميعاً أن يغسّلوه حياً وميتاً، فتستصحب تلك الحالة". ولا حاجة إلى التمسك بهذا؛ فإن مقتضاه جواز ذلك للجنسين في بلوغه استصحاباً لحكم الصغير في حالة البلوغ في الحياة، وهذا لا سبيل إلى التزامه، ولكن ذلك يوجَّه بمسيس الحاجة إلى الغسل، ثم ليس مع ضرورة الغسل جنس أولى من جنس. ويرد في صورة الخنثى الوجه الذي ذكره العراقيون أنه ييمم ولا يغسل، وهذا بعيد غيرُ مرضي. 1648 - فإذا تمهد بما ذكرناه غسل الرجال للنساء وغسل النساء للرجال عند مسيس

_ (1) الحميم: القريب.

الحاجة، فنحن نبتدىء الآن التفصيل فيمن هو أولى بالغُسل عند فرض اجتماع من يصلح لهذا الشأن. فإذا ماتت امرأة، وخلّفت زوجاً وجمعاً من المحارم، من الرجال والنساء جميعاً، كان شيخي وغيره من أصحاب القفال يقولون: نساء المحارم أولى بالغسل من الزوج وغيره من الرجال، فإن لم يكن، فالنساء الأجنبيات أولى من الزوج، فإن لم نجد امرأة أصلاً، فالزوج أولى من الرجال المحارم، فإن لم يكن زوج، فالرجال المحارم، ثم ترتيب الكلام فيهم في الغسل على حسب ترتيبهم في الصلاة، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله عز وجل. وذكر العراقيون نسقاً آخر في الترتيب، فقالوا: في الزوج ونساء المحارم وجهان: أحدهما - أن نساء المحارم أولى. والثاني - أن الزوج أولى؛ فإنه كان ينظر من امرأته في حياتها ما لا ينظر إليه نساء المحارم. والقائل الأول يقول: لا نكاح بعد الموت، وإنما يثبت الغُسل للزوج لحرمة تُبقيها الشريعة بعد انتهاء النكاح نهايته، والمحرمية سببها باق دائم، سيما مع الأنوثة، ثم فرعوا على هذا، فقالوا: إن قلنا: الزوج أولى من نساء المحارم، فلا شك أنه أولى من رجال المحارم أيضاً، وإن قلنا: نساء المحارم أولى من الزوج، ففي رجال المحارم مع الزوج وجهان: أحدهما - المحارم أولى لما ذكرناه من بقاء سبب المحرمية وانتهاء النكاح نهايته. ومنهم من قال: الزوج أولى، لما سبق ذكره. ثم من يرى تقديمَ المحارم، فإنه يقدم أبعدهم على الزوج، ومن يقدم الزوجَ، فإنه يقدمه على أقرب المحارم، ثم ترتيب الأقارب المحارم كترتيبهم في الصلاة. فهذا بيان الطرق في ترتيب من يُغسِّل، وهو فيه إذا كان يُفرض ازدحامُهم وتنافسهم في الغُسل، فإن سَلَّم من قدمناه في الغُسل ذلك لمن نؤخره، (1 جاز لمن نؤخره 1) أن يتعاطى الغسل، [كالزوج إذا سلّم الغسل] (2) لرجال القرابة، ونحن نرى تقديم الزوج.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) زيادة من (ت 1)، (ل).

1649 - وكان شيخي يقول: هذا يجري في الرجال بعضهم مع بعض، فأما النساء، فيجب تقديمهن على جنس الرجال إذا وجدت (1)، وإنما يغسّل الرجال المرأة إذا فقدنا النساء. وهذا القسم عندي فيه احتمال ظاهر، فيجوز أن يقال: من نقدِّمه عند الزحمة، فحق عليه أن يتعاطى [الغسل] (2)، فإنه بحق واختصاصٍ قُدِّم، ويجوز أن يقال: له أن يسلم لغيره. 1650 - ومن دقيق الكلام في هذا الباب أنه لو اجتمع الأصناف المقَدَّمة، فامتنعوا من الغسل، فالوجه أن يقال: يختص بحكم الحَرَج من قوي تقديمه عند فرض الزحمة، ثم لا يسقط عن غيره، بل لو عطله الأدنوْن، والأقربون، تعين على الأجانب القيامُ بذلك؛ فإنه فرضٌ على الكفاية، في حق الناس عامة. وهذا واضح لمن تأمله. والعلم عند الله تعالى. 1651 - وكل ما ذكرناه في المرأة تموت، فأما الرجل إذا مات، فزوجته في غُسله كالزوج في غسل زوجته، وترتيب القول في تقديمها على الرجال المحارم، كما ذكرنا، فالرجال في غسل الرجل كالنساء في غسل المرأة. وحكى شيخي والأئمة عن أبي إسحاق المروزي أنه كان يقول: ليس للزوجة رتبةُ التقدم على أحد، وإنما لها جواز الغسل فحسب، فأما أن تقدم، فلا. وهذا ليس بشيء، فالزوجة في حق الزوج، كالزوج في حق الزوجة، وفي حديث عائشة ما يدل على أن الزوجة أولى من رجال (3) المحارم: "لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه" (4).

_ (1) كذا. على معنى الجمع، أي: إذا وجدت النسوة. (2) مزيدة من (ت 1)، (ل). (3) في (ت 1): نساء، وهو سبق قلم واضح. (4) سبق الكلام عن حديث عائشة أنفاً.

فصل في تزيين الميت بالحَلْق، والقَلْم، وما يتعلق بذلك 652 - فنقول: في قَلْم أظفار الميت وحلق الشعور التي كان يؤمر ندباً بإزالتها من البدن، كشعر الإبط والعانة قولان: أحدهما - أنه يترك؛ فإنه ثبت لها حكم الموت، وهي من جملته، فتدفن عليه، وقد يكون في تعاطي بعض هذه الأمور، ما يناقض موجب التعظيم والاحترام. والقول الثاني - أنها تُزال منه كما يُزيلها الحي من نفسه. والشعر الذي كان يبقيه على نفسه في حياته تزيّناً بها كاللحية وغيرها، فلا شك أنها تبقى عليه، ومن هذا القسم لِمّتُه إن كان ذا لِمة، وهي بمثابة ذوائب المرأة. فأما الشعر الذي كان يأخذه زينةً، لا أدباً شرعياً، كشعر الرأس إذا لم يكن ذا لِمة، فقد اختلف فيه الأئمة على طريقين: فمنهم من خرجه على القولين في القَلْم وحلق الشعور الباطنة، ومنهم من قطع بأن هذا الجنس لا يحلق؛ فإن حلقه زينة، ولا زبنة بعد الموت. فصل 1653 - من مات مُحْرِماً يجب حتماً إدامةُ شعار الإحرام في بدنه، فلا يجوز أن يُقرَّب طيباَّ، ولا يخمّرَ رأسُه، إن كان رجلاً، ووجهها، إن كانت امرأة. ولو ماتت المعتدّة التي كنا نأمرها بالإحداد، واجتناب الطيب في عِدتها، فهل نُقرِّبها طيباً؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا لا نقربها طيباً، كما لا نقرب المحرم؛ استدامةً لحكم الحياة. والثاني - أنا نقربها طيباً بعد موتها؛ فإنا كنّا ننهاها عن استعمال الطيب، حتى لا تتزين للرجال، وتتحزَّن على زوجها المتوفى، وهذان المعنيان لا أثر لهما بعد الموت.

فصل 1654 - الكفار الحربيون لا حرمة لهم، إذا قتلوا أو ماتوا، تركناهم بالقاع، طعمةً للسباع، (1 فإن واريناهم 1)، فسببه أن يُغيَّبوا عن أبصار المسلمين، كما تُغيب الجيف. 1655 - فأما إذا مات فينا ذمِّي، على حرمة الذمّة، فإن لم يكن له ولي من أهل دينه، فلا يجب على المسلمين غُسله، وتحرم الصلاة عليه، قال الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ولو غسَّله مسلم لمكان ذمته وحرمته، فلا بأس. وكان شيخي يقول: تكفينه ودفنه من فروض الكفايات على المسلمين، وليس ذلك كغسله، حتى يجوز تركه، أو كالصلاة حتى يحرم. وفي كلام الصيدلاني ما يدل على أنه لا يجب تكفين الكافر (2) ودفنه، كما لا يجب غُسُله، فإنا إنما التزمنا الذب عنه في حياته، ثم ذكر هذا على العموم في الكفار. وقال إن واريناهم، فلدفع أذيتهم وجيفهم، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر حتى قُلب قتلى بدر من الكفار، في القليب. وهذا الذي جاء به في أهل الحرب، وكلامه عام في كل كافر. وعلى الجملة في وجوب دفن الذمي وتكفينه احتمالٌ ظاهر، كما قدمناه. ومما يتعلق بالفصل أنه لو مات ذمي، وله قريب مسلم، وآخر كافر، فقريبه الكافر أولى بغُسله؛ فإنه أولى بموالاته وميراثه، وإن كان أبعد من القريب المسلم. وهذا واضح لا إشكال فيه. فرع: 1656 - قال العراقيون: لو احترق مسلم ولو أمسسناه ماء، لتهرّأ، فلا نغسله والحالة هذه، بل نيممه، كما نُقيم التيمم مقام الغسل في حق المريض الحي. وهذا الذي ذكروه قياسُ طريقنا.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 1). (2) المراد هنا الذمي.

ولو كان عليه جروح وقروح، وكنا نقدر أنه يتسرع البلى إليه، ويدخل الماء تجاويفه لو غسل، ولكن كان لا يتهرأ، فإنه يغسّل، ولا نبالي بتسارع الفساد إليه، فإن مصيره إلى البلى، والله أعلم وأحكم. ***

باب عدد الكفن وكيف الحنوط

باب عدد الكفن وكيف الحنوط 1657 - تكفينُ المسلم فرضٌ، كما أن غُسلَه والصلاةَ عليه فرضٌ، ونحن نذكر الأقلَّ، الذي يُسقط فرضَ التكفين، ثم نذكر بعده الأكمل والأفضل، إن شاء الله عز وجل. فالثوب الواحد، السابغ، الساتر لجميع بدن الميت لا بدَّ منه، فلو مات، وخلّف ديوناً مستغرقةً للتركة، فمؤنة تجهيزه مقدّمة، فلو قال الغرماء: لا نرضى أن يزاد في كفنه على ثوب واحدٍ، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يكتفى به؛ فإنه ساتر، وإبراء ذمته من الديون أولى من الزيادة. والوجه الثاني - أنه يكفن في ثلاثة أثواب، كما أنه إذا أفلس في حياته، فيترك عليه ثيابٌ تجمّله، من قميص ودرّاعة، وعمامةٍ تليق به، فيراعى هذا المسلك في أكفانه بعد وفاته. 1658 - ولو لم يخلِّف ديوناً، ولكن تنازع الورثةُ في أكفانه، وأرادوا الاقتصارَ على ثوب واحد، فالذي قطع به الأصحاب أنه لا يجوز لهم ذلك، بخلاف الغرماء. وذكر صاحب التقريب أن من أئمتنا من ذكر وجهين في حقوق الورثة أيضاً، كالوجهين إذا نازع الغرماء. وهذا بعيد. 1659 - ومن لم يخلف شيئاً كُفِّن من بيت المال، ثم الذي قطع به الأئمة أنه يكتفى والحالة هذه بثوبٍ واحد سابغ، ولم يصر أحد إلى جواز الاقتصار على ما يستر العورة من الرجل، بل لا بد من ثوبٍ سابغٍ ساتر لجميع البدن. وذكر صاحب التقريب وجهين في أنه هل يجب تكفينه من بيت المال في ثلاثة أثواب أم لا؟ وهذا حسنٌ، فإنا إذا كنا نذكر ذلك في حق الغرماء عند ضيق التركة، فليس يبعد ذلك في مال بيت المال، ثم قال صاحب التقريب: إن قلنا: لا يكفن من بيت

المال إلاّ في ثوبٍ واحد، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يكفن في ثلاثة أثوابٍ من بيت المال، فلو خلّف ثوباً واحداً سابغاً، فهل يُكتفى به على هذا الوجه، أم يستكمل الثلاث من بيت المال؟ فعلى وجهين ذكرهما. أحدهما - وهو الة جاس على ذلك أنا نكمل؛ فإنا نرى الثلاث حتماً على هذا الوجه الذي عليه التفريع، فتكميلها من بيت المال كابتدائها. والثاني - لا يُكمل؛ فإن المتوفَّى إذا خلف ثوباً، فليس هو من أصحاب الضرورات في ذلك، ولا يُتعدّى ما خلفه إلى جهة بيت المال. 1660 - ثم استكمل صاحب التقريب بيانَ هذا الفصل على أحسن سياقَة. فقال: أطلق الأئمة في الطرق أن أقل الكفن ثوبٌ واحد سابغ، ثم رددوا أجوبتهم في الثلاثة كما ذكرناه، وتحصيل القول في ذلك: أن الثوب الواحد السابغ تظهر فيه رعايةُ حق الله تعالى، ولا يجوز الاقتصار على ما يستر العورة، وإن كان يبدو من الميت شيء، لم يجز إلا إذا لم نجد سابغاً، فنضطر إلى الاكتفاء، وعليه يحمل ما روي "أن مصعب بنَ عمير، لما استشهد بأحد وكانت عليه نمرة (1) إذا ستر بها رأسه، بدت قدماه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُدرج فيها ويوضع على قدميه شيء من الإذخر" (2). وهذا محمول على أنه لم يوجد ما يستره ستراً سابغاً في ذلك الوقت، فأما تكفين الميت في ثلاثة أثواب في حق الغرماء، والورثة، وفي حق بيت المال، فهو مما يتعلق برعاية حق المتوفى في نفسه، كما ذكرناه في ثيابه التي تُبَقَّى عليه، إذا أفلس، وأحاطت به الديون. ثم حقق هذا بأن قال: لو أوصى الميت بألا يكفن إلا في ثوب واحد، كَفَى الثوبُ الواحد السابغ؛ فإنه بوصيته رضي بإسقاط حقه. ولو قال: رضيت بأن تقتصروا على ما يستر عورتي، فلا أثر لوصيته في ذلك، ويجب تكفينه في ثوب سابغ ساترٍ لجميع بدنه.

_ (1) في هامش الأصل: "النمرة كساءٌ ملوّن" (وأضاف المعجم) به خطوط بيض وسود. (2) حديث: "كفن مصعب" متفق عليه، من حديث خباب، رضي الله عنه. (اللؤلؤ والمرجان: بابٌ في كفن الميت 1/ 190 ح 547).

وهذا الذي ذكره في نهاية الحسن، واحتج بما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: "إذا مت، فكفنوني في ثوبي الخَلَق؛ فإن الحيَّ أولى بالجديد" (1) فنفذت وصيته. فهذا منتهى القول في أقل الأكفان في تفاصيل الأحوال 1661 - فأما القول في الأكمل، فالرجل يكفن في ثلاثة أثواب، ولا ينبغي أن يزاد على هذا القدر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تغالوا في الأكفان؛ فإنها تسلب سلباً سريعاً" (2). 1662 - ثم الوجه أن نذكر ما تكفن المرأة فيه أولاً، ثم نذكر كفن الرجال. قال الشيخ أبو علي: يجوز أن يزاد عدد أكفان المرأة على الثلاثة، عند أئمتنا، فإنها تُعنى بمزيّةٍ في الستر حيّةً وميتة، ثم يسوغ الاقتصار على الثلاثة، وإن زيد على الثلاثة، فينبغي أن تبلغ خمسة طلباً للإيتار، وليست الخمسةُ وإن أحببناها في حقها بمثابة الثلاثة في حق الرجل، حتى نقول تُجبَر الورثةُ عليه، كما تجبر على الثلاثة. وهذا متفق عليه. ثم إذا كانت تكفن في خمسة، فليكن أحدها إزاراً، والثاني خماراً، وهل يستحب أن تُقَمصَ؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا لا نستحب ذلك، وهو الجديد. والثاني - أنها تُقَمَّصُ؛ فإن ذلك أستر لها، ثم ذكر الشافعي: أنه تُشد عليها أكفانها بشداد، واختلف أئمتنا في أن هذا الشداد من جملة الخمسة، أو هو سادس. فإن قلنا: هو [سادس] (3) [فهو شدادٌ] (4) وراء الأكفان، ثُمّ يُحَلّ في القبر، وينحَّى،

_ (1) خبر وصية أبي بكر أن يكفن في ثوبه الخَلَق. قال الحافظ رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، وليس فيه ما يشهد بأنه يكفن في ثوب واحد، بل فيه، "وزيدوا على ثوبي هذا ثوبين" (ر. البخاري: الجنائز، باب موت يوم الإثنين، ح 1387، التلخيص: 2/ 143، ملحق بالحديث رقم 807، في آخر الكلام). (2) رواه أبو داود من حديث علي بن أبي طالب. (ر. أبو داود: الجنائز، باب كراهية المغالاة في الأكفان، ح 3154، والتلخيص: 2/ 109 ح 747). (3) في الأصل و (ط): شداد والمثبت من (ت 1). وعبارة (ل): فإن جعلته سادساً، فهو شداد ... (4) زيادة من (ت 1).

ويُخرَج، ولا يُترك عليها إلا خمسة. ومن قال هو من الخمسة تركه عليها؛ فإنه من الأكفان. وفي بعض التصانيف وجهان في الشداد إذا كنا نتركه عليها: أحدهما - وهو مذهب أبي إسحاق أنا نشد به وسطها، دون الرَّيْطة (1) الثالثة. والثاني - وهو اختيار ابن سُريج أنه يكون وراء اللفائف حتى يجمعها، ويعصبها، وإن كنا نزيل الشداد، فلا شك أنه يشدّ فوق اللفائف. 1663 - ولا بد الآن من نظم القول. فإن قلنا: لا تُقمَّص، فليس الشداد من الخمسة، فإزار، وخمار، وثلاث لفائف. وإن قلنا: الشداد من الخمسة، ولا قميص، فإزار، وخمار، ولفافتان، وشداد. وإن قلنا: تُقمّص، والشداد من الخمسة، فإزار، وخمار، وقميص، ولفافة واحدة، وشداد. وإن لم نعدّ الشداد، فلفافتان، ولا مزيد على الخمسة؛ فإنه سرف، ومغالاة، وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم. 1664 - وأما الرجل، فلم يختلف العلماء في أنه لا يستحب أن يلبَس قميصاً. ولو كفّن في أكثرَ من ثلاثة، فبلغ عدد أكفانه خمسة، جاز. ولم يكن منتهياً إلى حد السرف. نقله الصيدلاني عن نص الشافعي. والأوْلى الاقتصار على الثلاث. وروي عن عائشة أنها قالت: "كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض، سحُولية، ليس فيها قميص عمامة" (2) ثم إن كان تبلغ أكفانه خمسة، فأحدها قميص، والثاني عمامة، وثلاث لفائف. فانتظم مما ذكرناه استحبابُ الخمسة في المرأة، وجواز تبليغ أكفان الرجل خمسة. ولا ينبغي أن يقمّص الرجل إذا كان عدد الأكفان ثلاثة، وهل تقمص المرأة إذا كان عدد الأكفان خمسة؟ فيه القولان المذكوران.

_ (1) الريطة تُجمع على رياط، وهي كل ثوب لين رقيق، أو الملاءة، وهنا بمعنى الثوب عامة. (المصباح). (2) حديث عائشة، متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: كتاب الجنائز، بابٌ في كفن الميت، ح 548).

وإن [كانت] (1) تكفن في ثلاثة أثواب، فينبغي أن تكون رياطاً سابغةً، وإنما ذكر الشافعي القولين في استحباب القميص إذا كانت تكفن في خمسة أثواب، والسبب فيه أن الإزار والخمار -إذا كانت تكفن في خمسةٍ- أولى من القميص، وإذا كانت تكفن في ثلاثة، فإزار، وخمار، [وقميص] (2)، وإذا لم تكن فوق الثياب لفافة، سابغة، فيكون ذلك خارجاً عن الوجه المختار. ثم ما ذكرناه كلامٌ في الأوْلى، وإلا فلو ستر الميت بقميصٍ سابغٍ، فهو ستر تام، ويبقى الكلام في الثاني، والثالث. ثم ذكر الشيخ أبو علي في الأثواب الثلاثة التي يكفن فيها الرجل خلافاً بين أصحابنا، فقال: منهم من قال: ينبغي أن تكون كلها سوابغ، ومنهم من قال: السابغة الريطةُ العليا البادية، فأما الريطتان الأخريان، فقاصرتان: الأولى - على حدِّ مئزر، يستر من السرة إلى الركبة، والثانية - من الصدر أو فويقه إلى نصف الساق، والثالثة وهي العليا، فتكون سابغة، يفضل منها شيء من جهة الرأس وشيء من جهة القدم، ويكون الفضل الأكثر من جهة الرأس. 1665 - ثم ذكر الأئمة كيفية إدراج الميت في أكفانه، فنسوق ما ذكروه على وجهه: فينبغي أن تفرش الريطةُ العالية في موضعٍ نقي، وتذرّ عليها الحنوط، وتبسط عليه الثانية، ويذر عليها الحنوط، ثم تبسط الثالثة، التي تلي بدنَ الميت ويذرّ عليها شيء صالح من الحنوط، ثم يعدّ مقدار صالح من القطن الحليج ويُعمد إلى شيءٍ، فيلفّ على قدر موزه ويعمِد بها إليتيه (3)، قال الشافعي ويبالغ في ذلك، فظن المزني أنه أراد أن يجاوز بها حدَّ الظاهر، وليس الأمر كذلك، بل أراد بالمبالغة أن يدس بين الإليتين، ويُفضي بها إلى الموضع، ويُبسطُ عليها مقدار عريض من القطن، ثم يشد

_ (1) في النسخ الثلاث: "كان" وهي صحيحة، ولكننا أثبتنا ما جاءت به (ل) لما فيه من مزيد الإيضاح، ومنع اللبس. (2) مزيدة من (ت 1)، (ل). (3) في (ل): الميت.

وراء التُّبَّان (1) ويستوثق منه في الشد حتى إن [حرك] (2) أو زعزع، أمن خروج خارج منه، ثم يعمد إلى منافذه كالعين والأنف والفم والأذن، ويلصق بكل موضع قطنةً، عليها كافور، ليكون مدرأة للهوام. 1666 - ثم أحب الثياب البيض، وقد تواترت الأخبار في الاستحثاث عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الثياب إلى الله البيض يلبسها أحياؤكم، ويكفن فيها موتاكم" (3) وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابٍ بيض، ثم رأى الشافعي تجميرَ الأكفان بالعود، واختاره على المسك لما صح عنده من كراهية ابن عمر لاستعمال المسك في الكفن، فآثر الخروج عن خلافه. 1667 - ثم يجوز تكفين المرأة في الحرير، كما كان يجوز لها لبسه في حياتها، ويمتنع ذلك في الرجال، كما حرم عليهم لبسه في الحياة، ولا يؤثر للنساء أيضاً التكفين في غير القطن والكتان؛ فإنه سرف، وقد ذكرنا أن السرف منهي عنه في الأكفان، وإن فرض نزاع في جنس الكفن، رددنا الأمر إلى ما يتعلق بمرتبة كل شخص، كما نفعل ذلك في حالة الحياة، مع اجتناب الرجال الحرير. 1668 - ثم ذكر العراقيون وجهين في أنه هل يجب استعمال الحَنوط (4)، أم هو مستحب؟ فمنهم من أجراه مجرى الثوب الثاني والثالث، كما قد تقدم شرح المذهب فيها. ومنهم من قال: لا يجب استعماله، وهو الذي يجب القطع به.

_ (1) التبان: مثل سروالٍ قصير، بقدر ما يستر العورة المغلظة. (المعجم، والمختار، والمصباح). (2) في الأصل، (ط)، (ت 1): جرّد. والمثبت من (ل). (3) حديث: "أحب الثياب إلى الله البيض ... " بمعناه أخرجه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي، والشافعي، وأحمد، وابن حبان، والبيهقي، كلهم من حديث ابن عباس. وصححه الألباني (ر. أبو داود: 4/ 209، كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، ح 3878، الترمذي: الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان، ح 994 وابن ماجة: في اللباس، باب البياض من الثياب، ح 3566، والصحيح: ح 2869، والتلخيص: 2/ 69 ح 661). (4) الحَنوط، والحِناط: مثل رسول وكتاب طيب يخلط للميت خاصة (المصباح).

ثم إذا هيئت الأكفان، وضع الميت على وسطها مستلقياً، ثم يعمد إلى الضِّفَّة التي تلي اليمين، وتلوى على اليسار، ويجمع الفاضل من جهة الرأس، فيثنى على وجهه، ويجمع ما انفصل من القدم ويثنى على الساق. فرع: 1669 - إذا ماتت الزوجة، فهل يجب على الزوج مؤنة تكفينها وتجهيزها؟ فعلى وجهين مشهورين، أحدهما - لا يجب؛ فإن النكاح قد انتهى نهايته، فتزول المؤن بانتهائها. والثاني - يجب؛ فإن النكاح وإن انتهى، فإنه يعقب تبعاتٍ كالميراث، والعدة، وجواز الغسل، وإذا مات ابن الرجل، أو أبوه فقيراً، وكان بحيث يستحق النفقةَ في حياته، على الذي بقي حياً، فيجب تكفينه، وتجهيزه وجهاً واحداً؛ فإن السبب الذي كان يستحق به النفقة في حياته القرابة المخصوصة، وهي باقية، وليست كالزوجيَّة التي انتهت بالموت. فصل 1670 - كان الترتيب (1) يقتضي أن نذكر بعد الغُسل والتكفين، الصلاةَ، وحملَ الجنازة، ثم الدفن، وقد نقل المزني فصولاً في الدفن الآن، فنجري على ترتيبه فيها، ونستعين بالله تعالى. 1671 - فالدفن من فرائض الكفايات كالغُسل والتكفين والصلاة، ثم القبر يشق ويلحد، واللحد أولى عندنا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشق لغيرنا واللحد لنا" (2) ولما أراد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

_ (1) يشير الإمام إلى أن هذا ليس هو الترتيب المرضي، ولكنه يسير عليه تبعاً لما التزمه من ترتيب (السواد): أي مختصر المزني. (2) حديث: "اللحد لنا ... " رواه أحمد، وأصحاب السنن عن ابن عباس، وابن ماجة، وأحمد، والبزار من حديث جرير، وصححه الألباني (ر. أبو داود: 4/ 544، الجنائز، باب في اللحد (65) ح 3208، وابن ماجة: في الجنائز، باب في استحباب اللحد، ح 1554، 1555، وصحيح ابن ماجة: 1/ 259 ح 1261، 1262، والنسائي: في =

يدفنوه "أرسلوا وراء شاقٍّ ولاحدٍ، وكانوا يقولون: اللهم اختر لنبيك، فأقبل أبو طلحة اللاحد، فلحد قبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1). ثم يكون الميت في قبره على جنبه الأيمن في قبالة القبلة، وذلك حتم، فإن كان لحداً قُرّب إلى القبلة وألصق بمنتهى اللحد، وأضجع إضجاعاً لا ينكب على وجهه، واستوثق من وراء ظهره بلبنة حتى لا يستلقي، وحسن أن يترك تحت رأسه لبنة، ولو أفضى بوجهه إليها، أو إلى تراب قبره حتى يكون على صورة مستكين لربه، كان حسناً، ولا ينبغي أن يوضع على مخدة، أو مُضرَّبة (2)، وتنضد اللبن على فتح اللحد، وتسد الفُرج بما يمنع [انهيار] (3) التراب فيه. ثم في الآثار: "أن يَحثي (4) كلُّ من دنا حثيات من التراب" (5)، ثم يهال التراب بالمساحي، ويرفع نعش (6) القبر بمقدار شبر، ولا يبالغ في رفعه أكثر من هذا أو قريباً منه، ولا يُجصَّص، ولا يُطيَّن ولو صب [عليه الحصباء] (7) كان حسناً، وقد فعله

_ = الجنائز، باب اللحد والشق، ح 2011، والترمذي: في الجنائز، باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" ح 1045. والتلخيص: 2/ 127 ح 781). (1) خبر أنهم أرسلوا وراء شاق ولاحدٍ ... رواه أحمد وابن ماجة من حديث أنس، وإسناده حسن. قاله الحافظ، وقال الألباني حسن صحيح، ورواه ابن ماجة أيضاً من حديث عائشة وحسنه الألباني. (ر. ابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في استحباب اللحد، ح 1557، 1558، والصحيح: 1/ 259، 260 ح 1264، 1265، والتلخيص: 2/ 127 ح 782). (2) المُضرَّبة، كل ما أكثر تضريبه بالخياطة، وكساء، أو غطاء، كاللحاف، ذو طاقين مخيطين خياطة كثيرة، بينهما قطن ونحوه. (معجم). (3) في الأصل، (ط): انهباب. والمثبت من (ت 1) وأكدتها (ل). (4) "يحثي" بالياء، والفعل واوي، ويائي (المصباح). (5) روى البزار والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم، حثى على قبر عثمان بن مظعون ثلاث حثيات من التراب، وهو قائم عند رأسه، ورواه الشافعي، وأبو داود في المراسيل، وذكر الحافظ أكثر من أثرٍ في حثي التراب، وكذا الدارقطني (ر. التلخيص: 2/ 131 ح 788، والدراقطني: 2/ 76، باب حثي التراب على الميت). (6) النعش: ما يحمل عليه الميت، هذا هو المنصوص عليه في المعاجم، ولكن الإمام يستخدمه هنا بمعنى سطح القبر، ولم أر ذلك فيما بين يدي من معاجم. (7) زيادة من (ت 1)، (ل).

رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر إبراهيم عليه السلام. 1672 - ولو وضع واضع حجراً كبيراً عند رأس القبر، ليُعْلَمَ، ويقصَد للزيارة، فلا بأس به. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه أن يأتيه بحجر أشار إليه، ليضعه على رأس قبر عثمان بن مظعون فأعياه الحجر، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وحسر عن ذراعيه، واحتضن الحجر وشاله، ووضعه على رأس قبره، فقال: "حتى أعرف قبرَ أخي وأدفن إليه من مات من أهلي" (1). 1673 - ثم الأوْلى عند الشافعي تسطيح القبور، وهو أفضل من تسنيمها، وقد صح عنده أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبرَ صاحبيه مسطحة (2)، وسطح رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرَ إبراهيم (3). ومالك (4) يرى التسنيم. وقال ابن أبي هريرة من أصحابنا: إذا عمَّ في بعض البقاع من عادات الروافض

_ (1) حديث: "وضع الحجر على قبر عثمان بن مظعون ... " رواه أبو داود، على نحو ما ساقه إمام الحرمين، بنفس ألفاظه تقريباً. وخرجه ابن ماجة أيضاً وابن عدي، وصححه الألباني. (ر. أبو داود: الجنائز، باب في جمع الموتى في قبر، والقبر يعلم، ح 3206، وابن ماجة: باب ما جاء في العلامة في القبر، ح 1561، وصحيح ابن ماجة: 1/ 260 ح 1267، والتلخيص: 2/ 133 ح 794). (2) حديث تسطيح قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، رواه أبو داود والحاكم، عن القاسم بن محمد، وروى البخاري من حديث سفيان التمار أنه رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنما، قال البيهقي: يمكن الجمع بينهما، أنها كانت مسطحة أولاً، ثم لما سقط الجدار وأصلح في زمن الوليد بن عبد الملك سنمت. (ر. أبو داود: الجنائز، باب في تسوية القبر، ح 3220، والحاكم: 1/ 369، 370، والبخاري: الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ح 1390، والتلخيص: 2/ 132 ح 790). (3) ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رش على قبر إبراهيم الماء، ووضع عليه الحصباء، فاستدلّ الشافعي بهذا، على أن القبر كان مسطحاً، قائلاً الحصباء لا تثبت إلا على مسطح. (ر. التلخيص: 2/ 33، 134 - ح 793). (4) ر. حاشية الدسوقي: 1/ 418، الشرح الصغير: 1/ 560.

التسطيح، فعند ذلك التسنيم عندنا أفضل، مخالفة لعاداتهم. 1674 - وحكى العراقيون عن ابن أبي هريرة في مساق الكلام أنه إذا صار الجهر بالتسمية شعاراً لهم، رأيت الإسرار بها مخالفةً لهم. وهذا بعيد جداً، ولا ينبغي أن يرتكب الإنسان تركَ ما صح وثبت، لهذا المعنى، ثم إن احتمل هذا في هيئة قبر، فطرده في سُنَّة من سنن الصلاة بعيد لا أصل له. قال شيخي أبو محمد: حكى بعض الأصحاب أن الشافعي قال: إن ظهر في ناحية كون القنوت في الصلاة شعاراً ظاهراً لهم تركتُ القنوتَ مخالفةً لهم. ثم قال: وهذا النقل مزيف، والشافعي أعلى من أن يدعو إلى ترك بعضٍ من أبعاض الصلاة بسبب إقامة المبتدعة له، والقول بذلك يرقى إلى التزام أمور لا سبيل إلى التزامها. ومهما اطردت عصابة أهل الحق على السُّنَن، لم يَبِن (1) اختصاص آخرين بها، حتى ينتهي الأمر إلى عدها من شعارهم. وقيل: الأصل في ذلك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم إذا بدت جنازة، فأخبر أن اليهود تفعل ذلك، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم القيامَ ولم يقم" (2)، وهذا قريب؛ فإنه لم يكن القيام أمراً مقصوداً، ولا سنة في عبادة. وأجرى بعض الأئمة التختم في اليسار هذا المجرى، واعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمين، ولكن اشتهر هذا بأهل البدع، وصار شعارهم، فرأينا مخالفتهم، والأمر في هذا قريب أيضاً، ولكن أخبرني من أثق به من أئمة الحديث أن الذي ظهر وصح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم التختُّمُ في اليسار.

_ (1) في (ت 1) "لم يبق". (2) حديث ترك القيام للجنازة، رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، من حديث عبادة بن الصامت. وحسنه الألباني (ر. أبو داود: الجنائز، باب القيام للجنازة، ح 3176، وصحيح أبي داود: 2/ 611 ح 2719، والترمذي: الجنائز، باب ما جاء في الجلوس قبل أن توضع، ح 1020، والنسائي: الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام، ح 1924، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في القيام للجنازة، ح 1544 بنحوه، وبمعناه أيضاً عند مسلم: باب نسخ القيام للجنازة، ح 962، والتلخيص: 2/ 112، 134 ح 751).

1675 - ومما ذكره الأئمة أنه لا ينبغي أن يدخل اثنان في قبرٍ إلا عند موَتان (1) والعياذ بالله، فإذا كثر الموتى أو ضاق المكان، فلا بأس بذلك، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في قبر" (2)، ثم ينبغي أن يقدم الأفضل إلى جدار اللحد مما يلي القبلة، ثم يليه مَنْ يليه في الفضل، وإذا جمعنا بين أم وبنت، قدمت الأم على البنت. قال الصيدلاني: الأم والابن إذا جمعا عند حاجة قدم الإبن لمكان الذكورة، ولا وجه في هيئة الوضع غيره. ومنع الأئمة الجمع بين النسوة والرجال ما بقي في الامتناع منه اختيار، فإن ظهرت الحاجة، فإذ ذاك. ثم قال الشافعي: ينبغي أن يجعل بين الرجل والمرأة حاجزٌ من تراب. 1676 - والمقدار الذي يلحق بما يجب في الباب الدفن في حفرة يعسرُ على السباع في غالب الأمر نبشها، والتوصل إلى الميت فيها، وإذا كان كذلك، فلا يقتصر على أدنى احتفار. ومما يُرعَى أن تكتم روائحُ الميت، فهذان المعنيان يجب رعايتهما. وقد قيل: الأوْلى أن يكون عمق القبر بمقدار بسطة، وهي قامة رجل وسط. 1677 - ثم يُكره للرجل أن يجلس على قبر، أو يتخذه متكأ، وكذلك يكره أن يتوطأ (3) الماشي في مشيه شفير قبر، ولا يجوز البناء في المقابر على قبرٍ، فإن موضع البناء يشغل مواقع القبور، التي تقدر في تلك الأماكن، فإن لم يكن في مقبرة مشتركة، فلا بأس بالبناء.

_ (1) الموتان عكس الحيوان. أي الحياة، والمراد هنا كثرة الموت بالوباء ونحوه، قال الزمخشري: يقال: وقع في الناس: (موتان) بفتح الميم وضمها (أساس البلاغة، والمعجم). (2) حديث: "احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا" رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، من حديث هشام بن عامر، وصححه الألباني. (ر. أبو داود: الجنائز، باب في تعميق القبر، ح 3215، وصحيح أبي داود: 2/ 19 ح 2754، والترمذي: كتاب الجهاد، باب ما جاء في دفن الشهيد، ح 1713، والنسائي: كتاب الجنائز، باب ما يستحب من توسيع القبر، ح 2013، وابن ماجة: كتاب الجنائز، باب ما جاء في حفر القبر، ح 1560 والتلخيص: 2/ 127 ح 780). (3) توطّأ الرجل الشيء برجله: داسه. (المعجم).

1678 - ثم إذا قُبر المسلم في موضع، فلا ينبش موضعه ومضجعه ما بقي منه أثر، وإذا علم أن الأرض أكلته ومحقت أثره بالكلية، فيقبر في ذلك الموضع غيره، ولا يجوز والحالة هذه أن يمنع منه مع مسيس الحاجة، والأولى (1) في حكم نزيلٍ في منزلٍ من موضع مسبَّل على السابلة، فإن غيره من النازلين يحلّون حيث حل. 1679 - ثم ذكر الأئمة صوراً فيها خلاف ووفاق في نبش القبور جوازاً ومنعاً، فالمشهور أنه إذا كان تُرك غُسل الميت، ودفن حيث كان يجب غُسله، يُنبش ويغسَّل ويعاد، وذلك واجب إذا لم يتخلل من الزمان، ما [يتخيل] (2) في مثله تغير الميت، وحكى صاحب التقريب ذلك، وحكى قولاً آخر أنه يكره نبشه لأجل تدارك الغُسل. وهذا غير مرضي، والمذهب وجوب النبش (3 في الحالة التي ذكرناها، لإقامة الغُسل، ثم اللفظ الذي نقله في القول الغريب مقتضاه جواز النبش، مع الكراهية، وليس معناه تحريم النبش، فهذا حكم النبش لأجل الغسل، والأصل فيه وجوب تدارك الغسل. 1680 - ولو دفن، ولم يصلَّ عليه، فلا يجوز النبش لأجل الصلاة، بل يصلى على القبر؛ فإن ذلك سائغ كما سيأتي ذكره. 1681 - ولو لم يكفن ووُوري ففي وجوب النبش 3) ليكفن وجهان مشهوران: أحدهما - المنع من ذلك؛ فإن القبر قد واراه وستره، فليقع الاكتفاء به إذا وقع؛ فإن النبش هتكه، ولا شك أن النبش حرام [لغرض] (4) في نقلٍ يراه [الناس] (5). ومما يجب التنبيه له أنا وإن كنا نجوّز الصلاة على القبر، ونقول إذا قُبر من غير

_ (1) "الأولى": التأنيث على معنى الجنازة أو الجثة. (2) في الأصل، (ط)، (ت 1): يتخلل. والمثبت تقديرٌ منا، والحمد لله صدّقته (ل). (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (4) في النسخ الثلاث: يعرض. والمثبت اختيارٌ من المحقق، ِ وفضلاً من الله ونعمة جاءت به (ل). (5) في الأصل، (ط)، (ت 1): النابش. والمثبت من (ل).

صلاة، فلا ينبش ليصلَّى عليه، ولكن يحرم أن يُفعل ذلك قصداً بل يجب أن يصلى عليه قبل الدفن -وإن كانت الصلاة لا تمتنع بالدفن- فإن في مخالفة ذلك تركَ الشعار العظيم، الظاهر في فرض الكفاية، وفيه إهانةُ الميت فحرم. 1682 - ولو قُبر الميت في أرضٍ مغصوبة، فطلب مالكها إخراجَه، تعيَّن إخراجُه. ولو كفن في ثياب مغصوبة، ودفن، فقد اختلف أئمتنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه يتعيّن النبشُ وردّ الثياب إلى مالكها، كما يجب ذلك بسبب تَخْلِية الأرض المغصوبة وردها، وقال قائلون: لا نفعل ذلك، ولا نجوزه، ونغرَم لمالك الثياب قيمتَها. ثم يتطرق إلى الأرض المغصوبة والكفن المغصوب نوعان من الكلام: أحدها - أنه لو دفن في أرضٍ مغصوبة، وتغير، وكان إخراجه هتكَ حرمةٍ، فالذي أشار إليه الأئمة أنه يخرج مهما (1) طلب المالك، واحتُمل ذلك؛ فإن حرمة الحي أولى بالمراعاة. ويجوز أن يظن ظان تَرْكَه؛ فإنا قد نقول: لو غصب غاصب خيطاً، وخاط به جرحاً، فلا يسلّ الخيط، إذا كان يؤدّي إلى إضرارٍ، وفي القواعد -على ما سنصف- تنزيلُ حرمة الميت منزلةَ حرمة الحي، فيما هذا سبيله، سيّما والأمر في ذلك قريب؛ فإنه سيبلى في زمان ينمحق أثره، والدليل عليه أن مبنى العاريّة على جواز الرجوع فيها، ثم من أعار بقعةً حتى دُفن فيها ميت، ثم أراد الرجوع في العارية، لم يكن ذلك له، وكان هذا من العواري اللازمة، فهكذا في الدفن في الأرض المغصوبة. وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً في الكفن المغصوب، فقالوا: إن تغير الميت، وكان يؤدي النبش إلى هتك حرمته، فلا يردُّ. وكان شيخي لا يرى هذا التفصيل، ويقول: لو بلع لؤلؤةً، ومات، فقد يشق بطنه لردها، ولا [مزيد] (2) على هذا في الهتك، ولكنا نحتمله لرد الحق إلى مستحقه. والله أعلم.

_ (1) "مهما" بمعنى إذا. (2) في النسخ الثلاث: يزيد، والمثبت تقديرٌ منا. وقد صدقته (ل).

وأما إذا كفن في ثياب مغصوبة، فمن قال: لا نجوِّز النبش، ونغرَم له القيمة، فلو عسرت القيمة في الحال، ففي ذلك احتمال ظاهر في جواز النبش، ويتصل الكلام فيه بأنا إذا كنا لا نجد ثياباً غيرها، ولو رددناها، لعرى الميت، فكيف الكلام في ذلك؟ وسأذكر في هذا بعد ذلك بياناً شافياً، إن شاء الله تعالى. 1683 - ومما ذكره الأئمة متصلاً بهذه الفصول المنتشرة أنه ورد في الحديث: "من صلى على ميت وانصرف، فله قيراطٌ من الأجر، ومن اتبع الجنازة، وشهد المرقد، حتى دفن الميت، فله قيراطان" (1). فإن صبر على القبر حتى رُدّ التراب كله، فقد حاز القيراط الثاني من الأجر، وإن نُضد اللبن، ولم يُهل التراب بعدُ، أو لم يستكمل، فقد تردد فيه بعض أئمتنا، والوجه أَن يقال: إذا ووري حصلت الحيازة. فصل في السقط وغسلِه، وتكفينه، والصلاة عليه 1684 - أجمع ترتيب فيه ما ذكره الشيخ أبو علي، وصاحب التقريب، فنطرد ما ذكره الشيخ، ونذكر بعد نجازه عبارةً لصاحب التقريب توهم خلافاً في قضية واحدة. فإذا أسقطت المرأة مُضغة لا تُثبت لها حكمَ استيلاب، ووجوبَ غُرة (2)، [فلا] (3) غُسلَ، ولا تكفينَ، ولا صلاة، ولا يجب الدفن، والأوْلى أن يوارى. 1685 - وإن بدا أثر التخليق فيه، لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يطرِف، أو يصرخ ويستهلَّ، أو يأتي سوى ما ذكرناه بما يدل على الحياة قطعاً، ثم يموت،

_ (1) حديث: "من صلى على ميت". متفق عليه من حديث أبي هريرة، وعائشة. (ر. اللؤلؤ: 1/ 162 ح 551، 552). (2) في (ت 1): عدّة. (3) في الأصل، (ط)، (ت 1): ولا. والمثبت من (ل).

فحكمه حكم سائر الموتى، فيجب غُسلُه، وتكفينُه، ويرعى في كفنه ما يرعى في كفن غيره، ويجب الصلاةُ عليه، ودفنُه وهو كسائر الموتى قطعاً. والحالة الثانية - أن يبدوَ عليه التخليقُ، ولا يظهر بعد الانفصال شيء من علامات الحياة، ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يجب غسله والصلاةُ عليه؛ رعايةً لحرمة حقه. والثاني - لا يجب غُسلُه، ولا الصلاةُ عليه؛ لأنه لم يثبت له موت بعد الحياة. والثالث - أنه يجب غُسلُه، ولا يجب الصلاةُ عليه. [ثم] (1) إن أوجبنا الصلاة، فالكفن التام، واجب كما مضى. وإن لم نوجب الصلاةَ، فيجب دفنه، وفاقاً، والخرقة التي تواريه لفافة تكفيه؛ فالدفن إذاً يجب قولاً واحداً، وكذلك يجب مواراتُه بثوب، وفي غسله والصلاة عليه الأقوال، ثم تمام الكفن يتبع وجوبَ الصلاة. والحالة الثالثة - أن ينفصلَ، ويختلجَ، ويتحرك قليلاً ويجمد، قال (2): لا نصَّ في ذلك، ولكن من أصحابنا من ألحقه بالذي صرخ واستهل ومنهم من ألحقه بمن لا يظهر عليه شيء من علامات الحياة، حتى تجري الأقوال الثلاثة، وما (3) يتصل بها. 1686 - والذي ذكره صاحب التقريب [لم] (4) يغادر فيه من معنى ما ذكره الشيخ شيئاً، غيرَ أنه قال: إن لم يبلغ مبلغاً يُتوقع نفخ الروح فيه، فلا حكم له، وإن بلغ مبلغاً يقدّر نفخ الروح فيه، فإن تحقق عَلم، فكسائر الموتى، وإن لم يظهر عَلَم بعد الانفصال، ففيه الأقوال الثلاثة. ويجوز أن يقال: اختلفت العبارة بين الشيخ وبين صاحب التقريب، بأنه إذا بدا

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، فيما نقدّر. والله أعلم. وقد صدقتنا (ل) بحمد الله وفضله. (2) (قال) أي الشيخ أبو علي. (3) عبارة (ل): وما يتصل بهذا الذي ذكره صاحب التقريب. (4) في الأصل، (ط). ثم.

التخليق، فقد دخل أوانُ توقُّع جريان الروح [وإن] (1) لم يبد بعدُ تخليقٌ، فلم يدخل أوان توقع ذلك. وقد يظن ظان أن أوائل التخليق قد يجري [بينه] (2) وبين جريان الروح زمانٌ [بعيدٌ] (3)، فإن ظننا (4) ذلك، افترق الطريقان في هذا التفصيل. وفيما ذكره صاحب التقريب فقهٌ، يليق بالباب؛ فإن هذا الذي نحن فيه من أحكام الموتى، وهم الذين كانوا أحياءً فماتوا، ثم تحققه (5) يوجب الأحكامَ التي ذكرناها، وفي توقعه تردُّدُ الأقوال. 1687 - ومما يتصل بتمام البيان في ذلك، أنا ذكرنا في الكتب أن المرأة إذا ألقت لحمَ ولدٍ، ولم يبد فيه التخطيط، فهل يتعلق به أميّة الولد، ولزوم الغرّة، وانقضاء العدة؟ فيه طرق ونصوص، فإن قلنا: يثبت بهذا حكم أمية الأولاد، فكيف يكون حكمه فيما نحن فيه؟ فأما صاحب التقريب، فيقطع بأن هذه الأحكام لا تثبت؛ إذ لا تتوقع الحياة قطعاً، وهو المعتبر عنده. وأما الشيخ، فيلزمه أن يخرّج ذلك على الطرق في (6) إثبات أحكام الأولاد له، وهذا إلزام. والذي قاله رعاية التخليق، كما مضى، ولكن يبعد عندي في كل طريق أن تثبت أمية الولد، ثم لا نوجب دفنَه ولفَّه في خرقة. هذا المقدار يجب أن يُنظَر فيه. والله أعلم. ...

_ (1) مزيدة من: (ت 1). وعبارة (ل): وإن يبدُ. (2) في الأصل، و (ط): وبينه. (3) في الأصل، (ط)، (ت 1): بعدُ. (4) في (ل): "فإن قلنا ذلك". (5) "تحققه" أي تحقق الحياة ثم الموت. (6) في الأصل، و (ط): "وفي" بزيادة الواو.

باب الشهيد

باب الشهيد 1688 - من قتل من المسلمين في معترك الشرك، فهو شهيد، وسنذكر حكمه بعد ذكر الشهداء. فلو رجع إلى الغازي سلاحُه، فهلك، أو أصابه سلاحُ مسلم في الحرب خطأ، فهو شهيد، وفاقاً بين الأصحاب. وكذلك لو وطئه دوابُّ المسلمين فمات، فهو كما لو أصابه سلاحُهم خطأ. ولو قُتل صبيٌ، فهو شهيد، وكذلك المرأة. 1689 - ولو انجلى القتال، وهو في مصرع برمق، وكانت فيه حياة مستقرة، لكن كان يموت مما به لا محالة، ثم مات من الجرح الذي أصابه، فهذا هو الذي يسمى المُرْتَب (1)، وفيه قولان مشهوران. ولا بد من تفصيل محل القولين. فإن انجلى القتال وهو حيّ، وكان لا تُرجى حياتُه ومات قريباً، ففيه قولان. وإن انجلى الحرب وهو على حركة المذبوح، فهو شهيد بلا خلاف. وإن كان يُقطع بهلاكه لما به، ولكن بقي أياماً يتصرف، فطريقان: إحداهما - القولان، والأخرى - القطعُ بأنه ليس بشهيد. ولو انجلى الحرب، وكان يخاف موته، وتُرجى له الحياة، فمات، فظاهر المذهب أنه ليس بشهيد. والشاهد فيه حديث سعد بن معاذ؛ فإنه أصابه سهم وكان ترجى حياتُه، ثم اتفق موته فيه، فغسل وصلي عليه. 1690 - والباغي إذا قتله العادل مغسول يصلى عليه، ومن يقتله البغاة من أهل العدل فهل يغسل ويصلى عليه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه شهيد؛ فإنه قتيلُ فئةٍ مُبطلة

_ (1) المرتب: من أرتبه إذا أثبته. والمثبت الذي أثبتته الطعنة، أي حبسته مكانه (المعجم).

في القتال والثاني - ليس بشهيد؛ فإنه ليسَ قتيلَ مشرك. ومن [في] (1) الرفقة إذا قتله قاطعُ الطريق في المكاوحة والقتال، فيه طريقان أحدهما - القطع بأنه ليس بشهيد. ومنهم من خرّجه على الخلاف في العادل إذا قتله الباغي. وذكر الشيخ أبو علي وجهين فيه: إذا دخل الكفار بلاد الإسلام في اختفاء، وقتلوا غيلة من غير نصب قتالٍ مسلماً، فهل يكون شهيداً أم لا؟ فهذا محتملٌ. ويجب القطع بأن من قتله ذمي لا يكون شهيداً. وقال شيخي: لو مات غازٍ في أثناء الحرب حتف أنفه من غير [سبب] (2)، ففي ثبوت الشهادة له وجهان، والوجه عندي القطع بأنه لا يكون شهيداً. وإذا قتل مسلم مسلماً من غير فرض قتال، فلا يثبت له حكم الشهادة. فهذا تفصيل القول فيمن يكون شهيداً. 1691 - والذين ورد فيهم لفظ الشهادة: كالغريب، والغريق، والمبطون، وغيرهم، فلا يثبت لهؤلاء أحكام الشهداء فيما نحن فيه. 1692 - فإذا ثبت من يكون شهيداً، ومن لا يكون شهيداً، فنحن نذكر الآن حكم الشهيد. فنقول: لا يجوز غُسلُه، بل يجب تركه على دمائه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زمِّلوهم يكلومهم ودمائهم" (3) الحديث؛ فإبقاء أثر الشهادة واجب. ولو استشهد جنب، فقد اختلف أبو حنيفة (4) وأصحابه فيه، فظاهر مذهبنا أنه

_ (1) مزيدة من: (ت 1)، (ل). (2) مزيدة من: (ت 1)، (ل). (3) حديث دفن الشهداء بغير غسل أخرجه البخاري من حديث جابر: 2/ 94، كتاب الجنائز: باب (74) من لم ير غسل الشهيد، ح 1346. بلفظ "ادفنوهم". وأما لفظ إمام الحرمين: "زملوهم"، فهو عند النسائي: 4/ 78، كتاب الجنائز: باب مواراة الشهيد في دمه، وعند أحمد أيضاً: 5/ 421، ورواه بهذا اللفظ أيضاً ابن سعد في الطبقات 3/ 562. (4) ر. رؤوس المسائل: 195، مسألة: 95، المبسوط: 2/ 57، حاشية ابن عابدين: 1/ 608.

لا يغسَّل، وخرج ابن سريج وجهاً أنه يغسل. وهذا بعيد غيرُ معتد به. ومما يتعلّق بحكم غُسل الشهيد أنه لو أصابته نجاسة أجنبية، لا من بدنه، أو بسبب تعفره في مصرعه، فهل يجب غَسل تلك النجاسة منه؟ حاصل القول فيه أوجه، استخرجتها من كلام الأصحاب: أحدها - أن تلك النجاسة تُغسل عنه؛ فإنها ليست من آثار الشهادة، ولا يجوز تركها، وهذا القائل يقول: يجب غسلها، وإن كان يؤدي إلى إزالة دم الشهادة. والثاني - أنها لا تغسل؛ فإنا على الجملة نُهينا عن غُسل الشهيد، فيجب ألا يُغيَّر هذا الحكمُ فيه. والثالث - أن ننظر: فإن كان في غسل تلك النجاسة الأجنبية إزالةُ دم الشهادة، لم نغسلها، وإن كان لا تؤدي إزالتُها إلى إزالة دم الشهادة، فيجب إزالتُها حينئذ، وهذا أعدل الوجوه، والمسألة محتملة جداً. فهذا تفصيل القول في النهي عن غُسل الشهيد. 1693 - فأما الصلاةُ عليه، فلا تجب باتفاق أئمتنا. والذي ذهب إليه المحققون أنها غير جائزة، ولو جازت الصلاة على الشهيد، لوجبت. ومن أصحابنا من قال: تجوز الصلاة على الشهداء [ولكنها لا تجب، وكأن هذا القائلَ يعتقد جوازَ ترك الصلاة رخصة؛ لمكان الاشتغال بالحرب] (1) وتوابعه إذا انجلى، فلو تكلف (2) متكلف وصلى، جاز. ثم من جوّز الصلاة لم يجوّز إزالةَ أثر الشهادة، ولم يجوّز الغُسلَ. وإن قيل: فالميت الذي يجب غُسله إذا لم يكن شهيداً، لا تصح الصلاة عليه قبل غُسله، فمن جوّز الصلاة على الشهيد، هل يغسِّله، ثم يصلي عليه؟ قلنا: لا سبيل إلى غُسله، وكأنه مغسول بصوب (3) رحمة الله تعالى.

_ (1) زيادة من: (ت 1)، (ل). (2) في: (ت 1): فرض. (3) صوب رحمة الله: الصوب المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذي. (المعجم).

وقد يطرأ للناظر في ذلك شيء، وهو أن الشهيد إذا كان عليه دمُ الشهادة، فلا يجوز إزالته، وتعيّن بقاؤه، وإن لم يكن عليه دم أصلاً، فلا شك أنه لا يجب غُسله، ولكن في جواز غُسله الذي لا يؤدي إلى إزالة أثر الشهادة تردد، في هذه الصورة، من طريق الاحتمال، كما في (1) جواز الصلاة عليه، فليفهم الناظر ذلك. 1694 - وأما تكفين الشهيد، فلا شك أنه ينزع عنه الدرع، والثياب الخشنة، التي تلبس لمكان (2) آلةٍ في القتال. ولا خلاف أيضاً أن قيِّم الميت الشهيد، لو أراد نزع ثيابه وإبدالَها، فلا حجر عليه في ذلك، ولا نظر إلى ما على ثيابه من دم الشهادة، وإنما النظر إلى ما اتصل ببدنه من أثر الشهادة. وإن أردنا أن ندفنه في الثياب التي عليه، وهي متضمخة بدمائه، جاز. ولا بد وأن تكون سابغةً، فإن لم تكن، وجب الإتيان بثوب سابغ، وما روّيناه في حديث مصعب بن عمير في ستر قدميه بالإذخر محمول على الضرورة. وإن كان الثوب الذي عليه سابغاً، ولكن كان ثوباً واحداً، ونحن نرى إيجاب استعمال ثلاثة أثواب، فنوجب إكمال الثياب، والسبب في ذلك أنّ تركَ غُسله لإبقاء أثر الشهادة، وسبب الامتناع من الصلاة عليه، تعظيمُ قدره، [فأما] (3) تَرْكُ تكفينِه، فليس فيه تعظيم، ولا إبقاء لأثر الشهادة، فهذا منتهى القول في ذلك. 1695 - ونحن نذكر بعد هذا قول الأصحاب في المقتولين حدَّا. أولاً - قال الأئمة: المرجوم في الزنا، يغسّل ويصلَّى عليه، وقد روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ على ماعز؛ إذ رجمه، ولم ينه عن الصلاة عليه" (4)،

_ (1) في (ت 1): لا تجوز. (2) (ل): لتكون آلة في القتال. (3) في النسخ الثلاث: "فإن" والمثبت تقدير منا. ثم جاءت (ل) فإذا بها سقطت منها ضمن عدة جمل. (4) حديث: "الصلاة على ماعز" رواه أبو داود من حديث أبي بَرْزَة الأسلمي بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يصل على ماعز بن مالك، ولم ينه عن الصلاة عليه" وكما =

وكان صلى الله عليه وسلم قد يمتنع عن الصلاة بنفسه لأسباب، فهذا محمول عليه. 1696 - فأما قاطع الطريق إذا قتل، ففي غُسله والصلاة عليه كلامٌ: قال بعض أصحابنا: لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ استهانة به، وتحقيراً لشأنه، وتغليظاً على القطَّاع. وقال بعض أئمتنا: يفرّع أمره على كيفية قتله، فإن قلنا: إنه ينزل من الصليب ولا يترك حتى يتهرأ عليه، فإذا أنزل، غُسل [وكفن] (1) وصلي عليه. وإن قلنا: يترك حتى يتهرأ، فلا يغسل، ولا يصلى عليه؛ فإنه إن قتل (2)، وصلي عليه، ثم صلب فإبقاءُ من صُلّي عليه خارجٌ عن القياس. وإن صُلّي عليه، وهو (3) منكّلٌ به على الصليب، كان بعيداً جداً. فظاهر المذهب أنه يغسل ويصلى عليه. ثم هذا يتفرع على كيفية قتله، فإن قلنا: إنه ينزل من الصليب قبل أن يتغير، فإذا أنزل، فإذ ذاك، يغسل ويصلى عليه، ويكفن، ويدفن. وإن قلنا إنه يترك مصلوباً؛ فإنه يقتل، ويغسل، ويكفّن، ويصلى عليه، ثم يصلب، وكأنَ الهواء قبرُه. ومن أئمتنا من يقول: إنه يُقتلُ بعد الصلب (4)، فيضطر هذا الإنسان إذا قال بذلك، وضم إليه أنه يترك على الصليب، أن يصلي عليه مصلوباً، إذا هلك، ثم لا يمكن فرض الغسل أصلاً، وكان لا يمتنع أن يقتل مصلوباً، وينزل، فيغسل،

_ = ترى هو لفظ إمام الحرمين، وصححه الألباني. ورواه البخاري ومسلم من حديث جابر، دون قوله: ولم ينه عن الصلاة عليه، وأخرجه البخاري في الحدود عن جابر، وفيه فصلى عليه .. ثم قال البخاري: ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري "فصلى عليه". (ر. أبو داود: الجنائز، باب من قتلته الحدود، ح 3186، والحدود، باب رجم ماعز بن مالك، ح 4430، وصحيح أبي داود: 2/ 613 ح 2728، والبخاري: الحدود، باب الرجم بالمصلى، ح 6820، ومسلم: الحدود ح 16، باب رجم الثيّب، ح 1691، والنسائي: الجنائز، باب ترك الصلاة على المرجوم، ح 1958). (1) مزيدة من: (ت 1). (2) ساقطة من (ت 1)، وفي (ل): غسل. (3) في الأصل، و (ط): فهو. (4) أي يقتل وهو مشدود على الصليب.

ويصلى عليه، ثم يرد. ولكن لم أر ذلك في عقوبات القطّاع، ولم يذهب أحد إلى إنزال المصلوب وردّه. والله أعلم. 1697 - وتارك الصلاة الممتنع من قضائها إذا قتل، غسّل، وصلي عليه، عند الأئمة. كالمرجوم في الزنا. وقال صاحب التلخيص: لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يكفن، وتوارى جيفته، ويسوى قبره، ولا يرفع نعشه. ثم قال: قلته تخريجاً. قال صاحب التقريب: لست أعرف لتخريجه وجهاً، وهو متروك عليه، ولعله إنما خطر له ترك الصلاة عليه، من حيث إنه ترك الصلاة في حياته، فتُركت الصلاة عليه، وهذا تخييل، لا ثبات له، ثم إن تُخيّل ترك الصلاة عليه، وتخيل ترك غسله تبعاً لترك الصلاة عليه، فترك تكفينه هُتكة (1)، وقد ذكرنا أن الكافر الذميّ يكفن، وليس تارك الصلاة بأسوأ حالاً منه. 1698 - وأما المرتد إذا قتل على ردته، فلا شك أن لا يغسل، ولا يصلّى عليه، والوجه تنزيله منزلة الحربي الذي نقتله، وقد تقدم ذكره. فصل 1699 - إذا وجدنا بعضاً من آدمي، فإن لم نتحقق أنه ميت، فلا سبيل إلى الصلاة عليه، وإن تحققنا موته، فنقدم ما وجدنا من أعضائه، فنصلّي عليه، ونغسله، ونواريه بخرقة. وقصد الشافعي بذلك الردَّ على أبي حنيفة (2) رضي الله عنهما؛ فإنه قال: "لا نصلي ما لم نجد نصفه، فزائداً" وحقيقة ذلك تستند إلى أن الصلاة على الغائب صحيحة عندنا، كما سيأتي، وهو لا يراها، ويربط الصلاة بما (3) شهد، وحضر.

_ (1) هُتكة: فضيحة. (2) ر. الأصل: 1/ 367، المبسوط: 2/ 54، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 399 مسألة: 377، حاشية ابن عابدين: 1/ 576. (3) كذا (بما) في النسخ الثلاث، وجاءت (ل) بمثل أخواتها. وهو من استعمال (ما) مكان =

1700 - ثم ذكر الشافعي أنه إذا اختلط مسلمٌ بمشركين، وكان لا يتميز لنا، وهو ممن يُصلّى عليه؛ [بأن لم] (1) يكن شهيداً؛ فإنه يصلى عليه بالنية، ولا يضر ألا يتميزَ لنا عينُه. ثم إن صلّينا بالنية، والصلاةُ محتومة، فليت شعري كيف الغُسل والتكفين؟ الذي أراه أنه يغسل جميعُهم؛ حتى يتأدى الغسلُ، في المسلم منهم. وكذلك يكفنون من عند آخرهم. ...

_ = (مَنْ)، وهو وارد على ندورِ أو على تأويل. (1) في الأصل: فإنه لم، و (ت 1): فإن لم. والمثبت من (ل).

باب حمل الجنازة

باب حمل الجنازة 1701 - نذكر في الابتداء كيفيةَ حمل الجِنازة، وفيه مسلكان: نَصِفهما، ونذكرهما، ثم نذكر الأوْلى. أحدهما - الحملُ بين العمودين، وكيفيته أن يتقدم الحاملُ، ويتوسط الخشبتين الشاخصتين، من مقدمة الجنازة، ويضع الصدر الذي بين الخشبتين على كتفه، ثم إن استقل بقوته، فيضع الخشبتين على يمينه ويساره، ويضع الصدرَ على كتفيه. ويحمل مؤخرة الجنازة رجلان؛ فإنه لا يتصور أن يتوسطها شخص؛ فإنه لا يرى موضع قدمه، فإذا [استقلّ] (1) المتقدم بالحمل بين العمودين، فيحمل مؤخرة الجنازة رجلان، فيضع كل واحد منهما عموداً شاخصاً على عاتقه، والعاتق الآخر منه بارز، وليس بين العمودين أحد في المؤخر، فتكون الجنازة محمولة على ثلاثة نفرٍ، وقد يتوسط المتقدم بين العمودين، ويضعف عن الاستقلال، فيحمل العمودين شخصان على عاتقيهما، والمتوسط بينهما، ويحمل المؤخَّرَ رجلان، كما وصفناه، فيكون حمَلةُ الجنازة خمسةَ نفر. فهذا تصوير الحمل بين العمودين. 1702 - وأما الحمل من الجوانب، فهو ألا يتوسط بين العمودين في صدر الجنازة أحد، ولكن يتقدم رجلان، فيضع أحدهما العمود الذي هو الشق الأيمن من الجنازة على عاتقه الأيسر، وعاتقه الأيمن بادٍ، ويضع الثاني العمود الذي يلي الشق الأيسر من الجنازة على عاتقه الأيمن، وعاتقه الأيسر بادٍ، وكذلك يحمل العمودين في مؤخرة الجنازة اثنان، فإن أراد إنسان أن يستدير في الحمل على الجوانب الأربعة في أزمنة، فيحمل كلَّ عمودٍ زماناً، فَعَل (2) ذلك. فيتقدم أولاً، فيحمل الشق الأيسر، من صدر

_ (1) في النسخ الثلاث: اشتغل. والمثبت تقديرٌ منا صدقته (ل). (2) جواب إن أراد.

الجنازة، فإنه يليه من الميت شقُّه الأيمن، فكانت البداية به أولى، وأيضاً، فإنه يحمل ياسرة السرير على كاهله الأيمن، ثم يستأخر، ويحمل ياسرة السرير من مؤخره، ثم يتقدم ويعترض السرير، فيحمل يامنته على كاهله الأيسر، ويتأخر كذلك ويحمل يامنته من مؤخّره، وقد استدار على الجوانب. 1703 - وظاهر نص الشافعي، وما اختاره المزني لمذهبه أن الحمل بين العمودين أفضل، كما سبق وصفُه من الحمل من الجوانب. وهذا ما إليه صَغْوُ الأئمة، وفيه أخبار رواها الشافعي في المختصر، منها ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ رضي الله عنه بين العمودين" (1). وذكر صاحب التقريب تردداً في ذلك، فقال: يحتمل أن يقال: الحمل بين العمودين أفضل، ويحتمل أن يقال: لا فرق بين الحمل بين العمودين، وبين الحمل من الجوانب. والذي ذكره معظمُ الأئمة والعراقيون، تفضيل الحمل بين العمودين، وفي بعض المصنفات، أن الحمل من الجوانب أفضل. وهذا لا أصل له. ...

_ (1) حديث "حمل جنازة سعد .. " رواه الشافعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما روي أيضاً عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم فعلوا ذلك، منهم سعد بن أبي وقاص، وعثمان، وأبي هريرة، وابن الزبير، وابن عمر، وروى البيهقي هذه الأخبار أيضاً. (ر. المختصر 1/ 178، وسنن البيهقي: 4/ 20 - 21، والتلخيص: 2/ 110).

باب المشي بالجنازة

باب المشي بالجنازة 1704 - أولاً الإسراع بالجنازة [مأمورٌ به] (1)، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسراع بالجنازة، فقال: دون الخَبَب؛ فإن كان خيراً، فإلى خير تقدمونه، وإن كان غير ذلك، فبعداً لأهل النار" (2) وروى أبو هريرة (3) رضي الله عنه قريباً من ذلك. وفي آخره "إن كان غير ذلك [فشر تضعونه] (4) عن رقابكم". ثم المشي أمام الجنازة أفضل عند الشافعي للمشيعين، وهذا مذهب أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، ولا فرق بين أن يشيِّع راكباً أو ماشياً، ولا شك أن المشي أفضل؛ فإنه ما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيد، ولا جنازة (5). ...

_ (1) ساقط من الأصل، وفي (ت 1): مأثور. والمثبت من (ل). (2) حديث "ابن مسعود عن الإسراع بالجنازة .. " رواه أبو داود، على نحو ما ساقه إمام الحرمين، ورواه الترمذي وابن ماجة أيضاً عن ابن مسعود، والحديث ضعفه أبو داود والترمذي وابن عدي والبيهقي وغيرهم كما في التلخيص. (ر. أبو داود: الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، ح 3184، والترمذي: الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، ح 1011، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في المشي أمام الجنازة، ح 1484، والتلخيص: 2/ 112 ح 752). (3) حديث أبي هريرة الذي أشار إليه إمام الحرمين هذا، وجعله سنداً للحديث الأول، هو الأصح، فهو متفق عليه بلفظ "أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة، فخير تقدمونها، وإن يك سوى ذلك، فشرٌّ تضعونه عن رقابكم" (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 192 ح 550). (4) في النسخ الأربع: "فحتى تضعوه" والتصويب من نصّ الحديث. (5) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة" سبق تخريجه في آخر كتاب الجمعة.

باب من أولى بالصلاة على الميت

باب من أولى بالصلاة على الميت 1705 - المنصوص عليه للشافعي في الجديد أن الولي أولى بالصلاة (1) على الميت إمامةً، وتقدماً، من الوالي، وإن كان الوالي أولى بالإمامة في سائر الصلوات؛ فإن هذه الصلاة مختصة بالميت، فالمختص به أولى فيها، وليس كذلك الإمامة في الصلوات العامة. ونص الشافعي في القديم على أن الوالي أولى بالإمامة من الوليّ. وهذا مذهب أبي حنيفة (2). 1706 - ثم نتكلم في الأقارب إذا حضروا: أجمع الأئمة على أن الأب أولى، ثم الجد أبو الأب. قال الصيدلاني هما أولى من ابن الميت، وإن كان الابن أولى بعصوبة الميراث من الأب. ثم الذي ظهر من كلام الأئمة أن الابن بعد الأب والجد أولى من غيره لقوة عصوبته، وليس هذا [كولاية] (3) التزويج؛ فإنا لم نثبته في التزويج ولياً أصلاً. وكان شيخي يرتب الأولى في الإمامة ترتيبهم في ولاية النكاح. وفي ألفاظ الشافعي [في] (4) ذكر الولاة: والأولياء بعد الوفاة، هم الأولياء في الحياة، والابنُ لا حظّ له في الولاية أصلاً. وهذا الأصل لو ثبت، اقتضى تقديمَ الإخوةِ وأولياء النكاح على الابن. وقد قطع الصيدلاني بتقديم الأب والجد على الابن وإن كان الابن في العصوبة مقدماً، ولا عصبة معه في الميراث.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 179. (2) ر. مختصر الطحاوي: 41، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 385 مسألة: 363، بدائع الصنائع: 1/ 317، حاشية ابن عابدين: 1/ 590. (3) في النسخ الثلاث: "لولاية" وهو تصحيف واضح، والمثبت تقديرٌ منا. وقد صدقتنا (ل). (4) مزيدة من (ل).

والذي تحصّل من كلامهم أن الولاية والإرث إذا اجتمعا في شخص واحد، كالأب والجد، فهو أولى من الابن، وإذا اجتمع شخصان لأحدهما رتبة الولاية في النكاح، كالأخ، وللثاني قوة العصوبة، والأخ محجوب به، كالابن، ففيه التردّد. والظاهر عندي تقديمُ الابن؛ فإنه يستحق ببنوّته التقديمَ في هذا الحكم، وليس للأخ ولاية الإجبار في النكاح، فقوة العصوبة متقدمة. والعلم عند الله تعالى. ثم ابن الابن في معنى الابن، وإن سفل، ثم إن لم يكن ابن، فالرجوع إلى ترتيب العصبات في ولاية التزويج، وقد ذكرنا قولين في الأخ من الأب والأم، مع الأخ من الأب، وفي الإمامة في صلاة الجنازة الطريقان. منهم من أجرى فيها القولين أيضاً كولاية التزويج، ومنهم من قطع بتقديم الأخ من الأب والأم، وهو الصحيح؛ فإن لقرابة النساء مدخلاً في الصلاة على الميت، كما سنذكره الآن، ولا مدخل لقرابة النساء، في التزويج أصلاً. فهذا هو النظر في ترتيب الأقارب. 1707 - ثم إن لم يكن للمتوفَّى عصبة من الأولياء، ولا من البنين، فالخال أولى من الأجنبي. هكذا ذكره الصيدلاني، وكأنا نرعى في الباب أن يكون المتقدم مخصوصاً بنوع رقَّةٍ على المتوفى؛ فإنه إذا كان كذلك، فدعاؤه أقرب إلى الإجابة. والله أعلم. 1708 - ثم إن لم يكن ولي عصبة، فالمعتِق ذو الولاء أولى بالتزويج، ولعل الظاهر تقديمُه على ذوي الأرحام، كالخال وغيره، وإنما نقدم الخالَ وغيرَه، إذا لم نجد وليّاً عصبة. 1709 - وإذا وضح ما يتعلق بترتيب الأقارب فنتكلم في صفات الأئمة: اشتهر خلاف أئمتنا فيه، إذا اجتمع أخوان أحدهما أفقه، والثاني أسن، فمن الأولى بالإمامة، والأسن يُحسن ما يقع به الاستقلال؟ فمنهم من قال: الأفقه أولى كما نجعله أولى في إمامة سائر الصلوات. وقد سبق ذلك في صفة الإمامة، ومنهم من

قال: الأسن أولى في هذه [الصلاة] (1)؛ لأن دعاءه أقرب إلى الإجابة، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن الله تعالى يستحي أن يرد دعوةَ ذي الشيبة المسلم" (2). ثم من قدّم الأسنَّ، لم يعتبر الشيبة وبلوغ سن المشايخ. وذكر العراقيون أن نص الشافعي يدل على تقديم (3 الأسن على الأفقه في صلاة الجنازة، ونصه في سائر الصلوات يدل على تقديم 3) الأفقه. فمن أصحابنا من جعل المسألة على قولين في جميع الصلوات، نقلاً وتخريجاً، وهذا الذي ذكروه من طرد القولين في جميع الصلوات، لم يذكره المراوزة، بل قطعوا بتقديم الأفقه في غير صلاة الجنازة، وذكروا في صلاة الجنازة الخلافَ. والحر والعبد إذا استويا، فالحر أولى لارتباط ما نحن فيه بالولاية، والرق ينافيها، وتردد شيخي في عبد فقيه، وحرٍّ غير فقيه، في درجةٍ واحدة والمسألة محتملة، كما قال. والعبد القريب مقدّم على الحر الأجنبي، ولو اجتمع عبد أخ من الأب مثلاً وعمٌّ حرٌّ، ففي بعض التصانيف وجهان - أحدهما - أن العبد أولى لقربه، والثاني - العم أولى لولايته وحريته، وقلّما تمر أمثال هذه المسائل في بابٍ إلا دارَ فيه مصير بعض الأصحاب إلى التسوية، لتقارب الأمرين. 1710 - ومما يليق بتمام ما نحن فيه: أن الرجل أولى من المرأة، كيف فُرض الأمر، سواء كان الرجل أجنبياً، أو قريباً، حراً أو عبداً. والمرأة تتأخر عن كل رجل، وإن كانت على قرابة قريبة. قال الصيدلاني: [الصبي] (4) المراهق (5) أولى من المرأة، وإن لم يبلغ سنَّ

_ (1) في النسخ الثلاث: "الصورة" والمثبت من (ل). (2) حديث: "إن الله يستحي أن يرد دعوة ذي الشيبة المسلم" قال عنه الحافظ لا أدري من خرجه (التلخيص: 2/ 118 ح 762). (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (4) زبادة من (ل). (5) (ت 1) المرأة هو أولى. وهو تصحيف عجيب.

التكليف. ولما ذكر صاحبُ التقريب تقديمَ كل رجل على كل (1) امرأة، أبان بعد هذا أن النسوة لو انفردن بالصلاة، سقط الفرضُ بصلاتهن. وفي بعض التصانيف القطعُ بأن الفرضَ لا يسقط بصلاة النسوة المفردات. وسأعود إلى هذا في باب الصلاة. ولا شك أن الرجل أولى بالإمامة، فإن اقتداء النساء بالرجال جائز، ولو تقدمت امرأة لم يصح للرجال الاقتداء بها. 1711 - ومما يتمّ به المقصود: أن القرابة مقدمةٌ على الخصال كلها: من الفقه، والسن، والحرية، إلا الذكورة؛ فإنها مقدمة على القرابة، والذي ذكروه تصريحاً وتلويحاً، أن الخالَ وكل متمسك بقرابة، فهو مقدم على الأجانب، وإن كان عبداً مفضولاً. فهذا منتهى القول في ذلك. 1712 - قال الصيدلاني في آخر هذا الباب: العبد المناسب (2) أولى من نساء القرابة، فإنهما استويا في أن لا ولاية لهما، وانفرد العبد بالذكورة. وهذا كلامٌ مختل؛ فإنه قيّد العبد بالمناسب، والذي ذكره صاحب التقريب: أن الذكر مقدم على كل امرأة في إمامة الصلاة، وهذا هو المذهب الذي لا يجوز غيره؛ لما ذكرت من أن اقتداء الرجل بالمرأة ممتنع، ولا يمتنع اقتداء المرأة بالرجل. ...

_ (1) ساقطة من: (ت 1). (2) المناسب: النسيب: القريب، ومن هنا كان الكلام مختلاً كما قال الإمام، فكأنه يقول: العبد القريب أولى من نساء القرابة.

باب صلاة الجنازة

باب صلاة الجنازة 1713 - ذكر في صدر هذا الباب أن صلاة الجنازة تقام مهما حضرت، في الأوقات كلها، ولا تكره إقامتها في الساعات المكروهة؛ فإنها صلاة ظاهرةُ السبب، ولا كراهة في إقامة الصلوات التي لها أسباب، في الأوقات المكروهة، وقد ورد عن النبي عليه السلام النهيُ عن تأخير صلاة الجنازة مهما (1) حضرت (2). 1714 - ثم ذكر بعد ذلك التفصيلَ في حضور الجنائز، وكيفية وضعها. فإذا شَهِدت (3) جنائز في درجة واحدة، ولم يظهر لبعضها فضل، ففي كيفية وضعها -إذا اكتفى الولاة بصلاة واحدة على جميعها- وجهان في بعض التصانيف. وقد ذكرهما شيخي أيضاً: أحدهما - أنه توضع جنازة بالقرب من الإمام، ثم توضع الأخرى وراءها، ثم الثالثة وراء الثانية، وهكذا بهذه الصورة. والوجه الثاني - أن الجنائز توضع صفاً، والإمام يقف عند واحدة، والباقي يصطف طولاً ذاهبةً في يمين الإمام، والجنازة الثانية عند رأس الأولى، وكذلك إلى حيث بلغت، وانتهت بهذه الصورة، وهذا مذهب أبي حنيفة (4). والأولى الذي قطع به معظم الأئمة الهيئة الأولى في الوضع؛ فإن الإمام يكون وراء

_ (1) "مهما" بمعنى (إذا) كما في نص الحديث: "إذا حضرت". (2) حديث النهي عن تأخير الجنازة أخرجه الترمذي من حديث علي، وكذا ابن ماجة، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وما أرى إسناده متصلاً. (ر. الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في تعجيل الجنازة، ح 1075، وضعيف الترمذي: ح 182، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في الجنازة لا تؤخّر إذا حضرت ولا تتبع بنار، ح 1486، وضعيف ابن ماجة: ص 113 ح 326). (3) "شَهِدت" أي حضرت. (4) ر. بدائع الصنائع: 1/ 315، 316، حاشية ابن عابدين: 1/ 589.

جميع الجنائز في تلك الصورة، وفي الهيئة الثانية لا يسامت الإمام إلا جنازة واحدة، ثم في القرب من الإمام حظ في الشريعة مطلوب، إما بالفضل أو بالسبق. 1715 - ثم الفضل الذي نراعي إذا حضرت الجنائز معاً من غير تقدم وتأخر ما نصفه، فالرجل يُقرَّب إلى الإمام، ثم المرأة وراءه، ولو شهدت جنازة رجل، وصبي، وامرأة وخنثى، فالرجل يلي الإمام، والصبي وراءه، والخنثى وراء الصبي، والمرأة وراء الخنثى. وقد ذكرنا في كيفية الوضع في القبر أن الأفضل يقدم إلى اللحد، ثم الترتيب وراءه، كما سبق بيانه عند مسيس الحاجة إلى جمعهم في قبر واحد، فروعي في الوضع القربُ إلى جهة القبلة، لا معتبر ثَم غيرُها، والقرب من موقف الإمام أوْلى بالاعتبار في الجنائز. فإن استوت الجنائز في الصفات المرعيّة، نظر: فإن ترتبت في الحضور، قدّم الأسبق منها، فالأسبق. وإن حضرت معاً، ولا فرق في الصفات، فإن رضي الأولياء، وضعت في القرب والبعد، كيف اتفق. وإن تشاجروا، فَصَلت القرعةُ شجارَهم. وقد ذكرنا في الوضع في القبر أنه يقدم الأفضل إلى جدار اللحد، فإن استوَوْا في الذكورة، فيعتبر هذا المعنى، إذا لم تترتب الجنائز في الشهود، ولا قرعة مع التفاضُل. ثم المرعي في هذا الباب ما يقتضي في غلبة الظن تقرب الناس إلى الله تعالى بالصلاة عليه، ولا يليق بهذا المقام تقديمٌ لغير ذلك. ويبعد أن يقدم حر على عبد، لمزية الحرية، وليس ذلك كاستحقاق الإمامة وغيرها؛ فإن الحرَّ مقدم من جهة تقدمه في التصرفات على العبد، والإمامة في الصلاة تصرُّف فيها، وإذا مات الحر والعبد استويا في انقطاع تصرفهما، وأقرب معتبر ما ذكرته في هذا المقام، وإذا كان كذلك، فالورع أقرب معتبر إذن. والعلم عند الله تعالى. وهذا مع الاستواء في الذكورة والأنوثة والصبا والبلوغ، والقول في ذلك قريب، وما ذكرناه فيه غُنية. وإن ترتبت الجنائز، فالسبق، وحق القرب، لمن سبق، ولو سبقت جنازة امرأة وتَلتْها جنازةُ رجل، قُرِّبت جنازة الرجل، ونحّيت جنازة المرأة؛ فإن موقفهن -كيف

فرض تقدمهن أو تأخرهن- في [الحياة] (1) مؤخر. ولو شهدت جنازة صبي، ثم جنازة رجل، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أنه لا تُنحى جنازة الصبي، بخلاف جنازة المرأة. والفرق لائح. وذكر صاحب التقريب وجهاً أنه تنحى جنازة الصبي، لشهود جنازة الرجل، كما ذكرناه في المرأة والرجل. ولو سبقت امرأة إلى الجماعة ولحق رجال، استأخرت، ولو شهد صبيان، وقُرّبوا، وشهد رجال قَبْلَ تحرم الإمام، فالظاهر أن الصبيان لا يؤخّرون لحق السبق، ويخرّج فيه الوجه الذي ذكره صاحب التقريب في الجنائز. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليليني ذوُو الأحلام منكم والنهى" (2). فهذا ترتيب القول في ذلك. 1716 - ومما يتعلق بهذا أن من العلماء من قال: إذا حضرت جنازة رجل، أو امرأة، فقد قال أبو حنيفة (3): يقف الإمام في مقابلة صدر الميت، رجلاً كان أو امرأة. وقال أحمد بن حنبل (4): في مقابلة صدر الرجل، وفي مقابلة عجيزة المرأة، كأنه يبغي سترها عمن وراءه.

_ (1) في النسخ الثلاث: "الجنازة". والمثبت مما جاءتنا به (ل). (2) حديث "ليليني منكم أولو الأحلام ... " رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، وأحمد. (ر. مسلم: الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، ح 432، وأبو داود: الصلاة، باب من يستحب أن يلي الإمام، ح 674، والنسائي: 2/ 87، كتاب الإمامة: باب من يلي الإمام، ح 808، وفي باب ما يقول الإمام أيضاً، ح 813، وابن ماجة: كتاب الإقامة، ح 976، وأحمد في المسند 1/ 457، 4/ 122). وفي إثبات الياء وحذفها في (ليلني) بحث نفيس للمغفور له أحمد محمد شاكر. راجعه في سنن الترمذي: 1/ 440، تَفِدْ علماً جديداً. (3) ر. مختصر الطحاوي: 41، بدائع الصنائع: 1/ 312، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 386 مسألة: 364، حاشية ابن عابدين: 1/ 587. (4) ر. كشاف القناع: 2/ 111، الإنصاف: 2/ 516.

قال الصيدلاني: لا نص للشافعي في ذلك، ولكن اختار أئمتنا مذهب أحمد، وقد روي: "أن أنس بن مالك فعل ذلك، ثم روجع في فعله، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم يقف عند صدر الرجل وعجيزة المرأة" (1). وقانون الشافعي اتباع الأخبار. 1717 - ومما نذكره متصلاً بهذا أن الجنازة يسوغ أن تدخل المسجد من غير منع وحجر، خلافاً لأبي حنيفة (2) فكأنه نظر إلى إكرام المسجد، والنظر إلى إكرام المؤمن أقرب عندنا. ولم أر الزيادة على هذا، فإن إعمال الفكر في أمثال هذا لا معنى له، وهو من مواقع الاتباع. فصل 1718 - الصلاة على الغائب مشروعة عند الشافعي، والأصل فيه "أن النجاشي لما مات، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع، وصفّ الأصحاب وراءه وصلّوا على النجاشي بالحبشة" (3). ومعنى المذهب أن الغرض من الصلاة [الابتهال] (4) إلى الله تعالى في التجاوز عن المتوفى، وهذا لا يختلف بالغيبة والشهود. ولو كانت الجنازة حاضرة في البلد، وأمكن (5) إحضارها، ففي الصلاة عليها قبل أن تحضر خلاف، وهو مشبَّه بالخلاف في نفوذ القضاء على من في البلد، مع إمكان

_ (1) حديث أنس في موقف الإمام من الجنازة. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة. (ر. أبو داود: الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه، ح 3194، والترمذي: الجنائز، باب ما جاء أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة، ح 1034، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في أين يقوم الإمام إذا صلى على جنازة، ح 1494، والتلخيص: 2/ 119 ح 763). (2) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 593، وشرح معاني الآثار للطحاوي: 1/ 492، 493. (3) حديث "الصلاة على النجاشي"، متفق عليه من حديث أبي هريرة، وجابر. (اللؤلؤ: 1/ 193 ح 555، 556، 557). (4) في الأصل، و (ط): الانتهاء. (5) (ل): ولم يمكن إحضارها.

الإحضار. والأمر في تجويز الصلاة أقرب عندي، للمعنى الذي ذكرته. وأما القضاء؛ فإنه يتعلق بأمور معتبرة في الإقرار والإنكار، [فاشتراط] (1) الحضور الممكن ثَمّ أولى وأقرب، والصلاة على الميت مقصودها ما ذكرناه. 1719 - ولو شهدت الجنازة، فتقدّم موقف الإمام عليها، فقد خرّج الأصحاب هذا على القولين في تقدم المأموم على الإمام، ونزّلوا الجِنازة منزلة الإمام، والإمام منزلة المقتدي، ولا يبعد أن يقال: تجويز التقدّم على الجنازة أولى؛ فإن الجِنازة ليست إماماً متبوعاً حتى يقال: تعيّن تقديمُه. وإنما الجنازة والمصلون على صورة مجرم يحضر بابَ الملك، ومعه شفعاء. ولولا الاتباع والجريان على سير الأولين، وإلا ما كان يتجه قولُ تقديم الجِنازة وجوباً، فهذا تمام ما أردناه في ذلك. ...

_ (1) في الأصل، (ط): فاشترط. والمثبث من (ت 1). وجاءت (ل) بمثل الأصل، (ط).

باب تكبير صلاة الجنازة

باب تكبير صلاة الجنازة 1720 - صلاة الجنازة تشتمل على أربع تكبيرات، منها تكبيرة التحريم والعقد، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كبر خمساً، كما ذهب إليه الشيعة، ولكن الذي استقر عليه الأربعُ وما عداها منسوخ عند الشافعي (1). وقد صلى النبي عليه السلام على النجاشي، فكبر أربعاً، وصلى على المسكينة التي ماتت ليلاً، فكبر أربعاً، وصلى أنس بالبصرة على ميت، فكبّر أربعاً، فقام العلاء بن زياد وقال: يا أبا حمزة كبرتَ أربعاً، فقال: هكذا رأيتُ رسول الله ضلى الله عليه وسلم. وروي أيضاً عن أنس: أنه قال: "صلت الملائكة على آدم، فكبروا أربعاً، ثم قالوا: هكذا سنتكم يا بني آدم". وكبر أبو بكر على النبي عليه السلام أربعاً، وكبّر عمر على أبي بكر أربعاً، وصهيب على عمر، والحسن على عليّ، والحسين على الحسن أربعاً أربعاً. وروى النَّخَعي أن عمر بن الخطاب جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ (1) أحاديث التكبير على الجنازة التي أومأ إليها إمام الحرمين، والتفاوت في عددها، كلها واردة، على تفاوت في الصحة والضعف، فأحاديث التكبير أربعاً متفق عليها في الصلاة على النجاشي، من حديث أبي هريرة، وجابر، وحديث صلاة أنس، وسؤال العلاء بن زياد له، رواه أبو داود، وخرج مسلم، والنسائي أحاديث التكبير أربعاً، وخمساً (ر. البخاري: كتاب الجنائز، باب (4)، الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ح 1245، وباب (54) التكبير على الجنازة أربعاً، ح 1333. ومسلم: كتاب الجنائز، باب (22) في التكبير على الجنازة، ح 951 - 953، وباب (23) ح 954، وأبو داود: كتاب الجنائز، باب (57، 58)، والنسائي: كتاب الجنائز، باب (76) عدد التكبير على الجنازة، ح 1978، والترمذي: كتاب الجنائز، باب (37) ما جاء في التكبير على الجنازة، ح: 1035، وابن ماجة: الجنائز، باب (24) ما جاء في التكبير على الجنازة أربعاً، وباب (25) ما جاء فيمن كبر خمساً، ح 1502 - 1506، والتلخيص: 2/ 119 - 122 ح 765، 766، 767).

واستشارهم رضي الله عنهم في التكبيرات، فأجمعوا على أن التكبيرات أربع. وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان يصلي، فيكبر على البدري سبعاً، وعلى الصحابي إذا لم يكن بدرياً خمساً، وعلى غيرهم أربعاً. وهذا مذهب غريب، لا قائل به. 1721 - ثم يستحب رفعُ اليدين عند كل تكبيرة، ولم ير أبو حنيفة (1) رفعَ اليدين إلا عند تكبيرة العقد، ورأى رفعَ اليدين عند كل تكبيرة من التكبيرات الزائدة في صلاة العيد. وإذا وضح أن التكبيرات أربع، فلو زاد المصلي تكبيرةً خامسة، فقد خالف ما استقر الشرع عليه، وفي بطلان الصلاة وجهان: أحدهما - لا تبطل؛ فإنها ذكر في الصلاة. والثاني - إنها تُبطل الصلاةَ؛ فإنها بمثابة ركعةٍ تزاد في الصلاة المفروضة. وفي المسألة احتمال ظاهر، لمكان الأخبار والآثار. 1722 - ثم إذا كبر وعقد الصلاة، فقد قال الشافعي: يكبر، ويقرأ. ولم يتعرض لدعاء الاستفتاح، ولا للتعوذ. وقد ذكر الصيدلاني وجهين، وذكر غيره وجهاً ثالثاً، فأحد الوجهين - أنه يدعو للاستفتاح، ويتعوّذ، ثم يقرأ. والثاني - وهو ظاهر النص، أنه يقرأ عقيب التكبير، ولا يدعو، ولا يتعوّذ؛ فإن هذه الصلاة مبناها على الإيجاز، وهو الذي يليق بها؛ لمكان الميت، وما ندبنا فيه إلى أسباب البدار والإسراع؛ ولهذا لا يختلف العلماء في أنا لا نؤثر قراءة السورة مع الفاتحة. والوجه الثالث - أنه يتعوّذ ولا يقرأ وجهت وجهي؛ فإن التعوّذ قريب، وقد ثبت بنص القرآن أنه مشروع، في حق كل من يقرأ القرآن. 1723 - ثم قراءة الفاتحة لا بد منها.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 42، بدائع الصنائع: 1/ 314، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 391 المسألة: 368، حاشية ابن عابدين: 1/ 585.

وأما الجهر، فقد قال الصيدلاني: إن أقيمت الصلاة نهاراً، فلا جهر، وإن أقيمت ليلاً سنّ الجهر فيها، بالقراءة، وقد روي ذلك عن ابن عباس. وفي بعض التصانيف أنه لا يسن الجهر بالقراءة، ليلاً كانت الصلاة أو نهاراً؛ فإن مبنى هذه الصلاة على التخفيف. وهذا متجه عندي. وفي الرواية عن ابن عباس ما يُسقط الاحتجاج بها، فقد روي: "أنه جهر بالقراءة في صلاة الجنازة، ثم قال: إنما جهرت، لتعلموا أن فيها قراءة" (1). وليس في الرواية تقييد بالليل. والظاهر أنه فعل ذلك نهاراً؛ فإن صلاة الجنازة يندر وقوعها ليلاً. 1724 - ثم إذا فرغ من قراءة الفاتحة، كبّر التكبيرةَ الثانية. ويصلي (2 على النبي عليه السلام. والذي نقله المزني: "أنه يحمد الله عقيب التكبيرة الثانية 2) ويصلي ويدعو للمؤمنين والمؤمنات" (3)، واتفق أئمتنا على أن ما ذكره من حمد الله قبل الصلاة غيرُ سديد، ولم نر هذا للشافعي في شيء من منصوصاته. وأما الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فقد تردد فيه أئمتنا، فلم يره بعضهم، ومن رآه فمستنده أن الصلاة وراء التشهد الأخير تستعقب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فهذه الصلاة (4) بتيك (5). وإذا كان لا يصح في ذلك ثَبَت من جهة السنة، فإثبات هذه في

_ (1) أثر ابن عباس، أورده الإمام بمعناه، وهو عند البخاري بلفظ: "عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب. قال: لتعلموا أنها سنة" وعند النسائي نحوه، وعند أبي داود عن مقسم عن ابن عباس. (ر. البخاري: 2/ 91، كتاب الجنائز، باب (65) قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، ح 1335، وأبو داود: الجنائز، باب ما يقرأ على الجنازة، ح 3198، والترمذي: الجنائز، باب ما جاء في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب، ح 1026، 1027، والنسائي: الجنائز، باب (77) الدعاء، ح 1990). (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (3) ر. المختصر: 1/ 183. (4) المراد الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم. (5) أي كتلك.

صلاةٍ (1) مبناها على نهاية التخفيف بعيدٌ. ثم إن كانت الصلاة تستعقب في التشهد دعاءً، فهي مسبوقة أيضاً بأذكار وتمجيدات، فينبغي أن يُصوَّبَ المزني في ذكر التحميد قبل الصلاة. ثم يكبر تكبيرةً ثالثة، ويدعو له. والدعاء له هو المقصود من هذه الصلاة والركن الأوضح. ثم يكبر تكبيرةً رابعة (2 وقد نص الشافعي في معظم كتبه أنه يكبر التكبيرة الرابعة، ويسلّم 2) ومقتضى نصوصه أنه لا يذكر بين التكبير والسلام شيئاً. وفي رواية البويطي: إنه يقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده. وفيما نقله الصيدلاني في هذه الرواية: اللهم اغفر لحيّنا وميتنا. وأما القول في السلام، فقد سبق في صفة الصلاة تفصيلُ المذهب، بعد اختلاف النصوص في عدد السلام استحباباً. قال الصيدلاني: الكلام في تعدد السلام، واتحاده في هذه الصلاة، كالكلام في سائر الصلوات، في تخريج القولين أو تنزيل الأمر على اختلاف الأحوال. وقال بعض أصحابنا: هذه الصلاة أولى بأن يقتصر فيها على تسليمة واحدة، لأنها مبنية على الإيجاز، وسبب ذلك ما أمرنا به من الإسراع في تجهيز الميت، وما نحاذره من التغايير. ثم إن رأينا الاقتصار على تسليمةٍ واحدة، ففي، بعض النصوص: إنه يبتدىء التسليمة منقلباً إلى يمينه ويختمها ووجهه مائل إلى يساره، فيدير وجهه من يمينه إلى يساره في حال التلفظ بالسلام، وقد اخنلف أئمتنا في ذلك، فمنهم من رأى ذلك رأياً، فيحصل توزيع تسليمة واحدةٍ على الجانبين، مع الاقتصار على واحدة، وإسماع مَنْ على اليمين واليسار. ومنهم من يقول: إذا كان يسلم تسليمةً واحدة، فإنه

_ (1) صلاة: أي صلاة الجنازة. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

يأتي بها تلقاء وجهه من غير التفات، وهذا القائل يحمل كلامَ الشافعي على الأمر بتسليمتين. وهذا التردد لم أذكره فيما أظن فيما تقدم، ولا شك أنه جارٍ في جميع الصلوات، مهما (1) رأينا الاكتفاء بتسليمة واحدة. فهذا بيان كيفية الصلاة. 1725 - ثم نحن نذكر الآن بيان الأقل الذي لا يجزىء أقلُّ منه، فالذي قطع به الأئمة أن التكبيرات محتومة، وهي مشبهة بالركعات في الصلوات، ولا شك في كون النية ركناً، وقراءة الفاتحة ركنٌ عندنا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركن، قال الصيدلاني: "وأقلها اللهم صل على محمد"، ولم يتعرض للصلاة على الآل، وقد مضى في سائر الصلوات اختلاف القول في الصلاة على الآل في التشهد، والظاهر هاهنا أنها ليست ركناً، لاختصاص هذه الصلاة بالاختصار. والدعاء عقيب التكبيرة الثالثة لا بد منه، فظاهر كلام الأئمة أنه لا بد من ربط الدعاء بالميت الحاضر، ولا يكفي إرسال الدعاء للمؤمنين. وكان شيخي يقول: يكفي إرسال الدعاء للمؤمنين، والتكبيرة الرابعة لا يعقبها ركن إلا السلام. ثم ذكر الشيخ أبو علي في ذكر الأقل: أنه يكفي أن يقول السلام عليكم، وردّد جوابَه في أنه لو قال السلام عليك، من غير صيغةِ الجمع في الخطاب، فهل يجزىء ذلك، وهل يكفي أم لا؟ ثم قال: الأوْلى الاقتصارُ على تسليمة واحدة، فعلى هذا يقول: السلام عليكم، وهل يؤثر أن يقول: ورحمة الله؟ حكى فيه تردداً من طريق الأوْلى، مَصيراً إلى رعاية الاقتصار. فهذا بيان الأقلّ.

_ (1) "مهما" بمعنى (إذا).

وعلى الجملة إذا فهم الفقيه ابتناء هذه الصلاة على الإيجاز والاقتصار، يعتقد أن ما يصح النقل فيه يجب أن يكون ركناً. ويبعد اشتمالها على سنن لها أثر في اقتضاء التطويل. 1726 - وذكر صاحب التقريب عن البويطي أنه نقل كلاماً للشافعي، وقال في أثنائه: وقد قيل: إن الصلاة دعاء للميت. قال صاحب التقريب: يحتمل أن يكون هذا حكايةً لمذهب الغير، وإن حملناه على مذهب الشافعي، فمقتضى هذا النص سقوطُ فرضية القراءة، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجواز استغراق الصلاة بالدعاء للميت. ولم يتعرض لإسقاط التكبيرات بين العقد والحَل اقتصاراً على الدعاء. واللفظُ صالح له. وهذا غيرُ معدود من المذهب، بل الوجه القطع بحمل ما قال على حكاية مذهب الغير؛ فإن هذه الصلاة ذاتُ حل وعقد، ويشترط فيها من السنن، والطهارة، والاستقبال، ما يشترط في سائر الصلوات. فرع: 1727 - قطع الأئمة بأنه لو سها في صلاة الجنازة، لم يسجد للسهو؛ لأنه لا مدخل للسجود في هذه الصلاة ركناً، فلا يدخلها جبراناً. فصل 1728 - ذكر الشيخ أبو علي أموراً في أحوال الميت يجب الاعتناء بها. فقال: الميت يغسل، ويكفن، ويحمل، ويصلّى عليه، ويدفن. فأما غسله فينبغي أن يقوم به ماهر، مع مُعينٍ إن كان يكتفي بمعين واحد، ثم يوضع على جنازة أو سرير، ويحمله أربعة، ولا يجوز أن تنقص حملته عن أربعة؛ فإنه لو جُوّز النقصان في ذلك، لكان هذا إزراءً بالميت، ولساغَ أن يحمل الميتَ رجل واحد. وهذا ترك (1) لحرمته، وغضّ من قدره.

_ (1) كذا. ولعلها: هتك. وفي (ل): (نزل). ولم أصل إلى مأخذها ومعناها.

وأما الصلاة عليه، فقد حكى (1) في عدد المصلين أوجهاً: قال: من أصحابنا من قال: لا بد من أربعة يصلّون، ومنهم من قال: يكفي واحد يصلي عليه، ثم قال: ومن شرط جمعاً، لم يشترط أن يصلوا جماعةً بل قال: لو صلوا أفراداً، جاز. ثم قال: لا بد أن يتولى دفنَ الميت ثلاثة، ولا يجوز النقصان مع الإمكان. هذا مساق كلامه. 1729 - ونحن نقول: أما كل ما يؤدي إلى إزراءٍ بالميت واستهانةٍ، فلا شك في تحريمه، ولكن فيما ذكره نظر. فأما الغسل، فليس يظهر في إفراد رجل واحد بغسله إزراء، مع ما نقول: إن أقل الغُسل جريان الماء على جميع البدن، وأما قوله: لا يجوز نقصان الحمَلَة عن أربعة، فهذا هفوة؛ فإن الحمل بين العمودين قد يحصل بثلاثة، كما سبق تصويره، وميلُ نص الشافعي إلى أن الأوْلى الحمل بين العمودين، ولا شك أن الطفل الصغير لو احتمله رجل واحد، فلا إزراء فيه، والمرعي في إثبات التحريم ظهور الإزراء، وفي حمل رجلين أيّدين للجنازة احتمال ظاهر. ومما يجب رعايته أن الحَمَلَة ينبغي أن يكونوا بحيث لا يُخاف على الميت الميل والسقوط، وينبغي ألا يحملوه على هيئة قبيحة مزرية. وأما ما ذكره من عدد المصلين، فقد ذكر غيرُه على الوجه الذي ذكره. ولم أر للاقتصار على اثنين ذكراً، وهو محتمل جداً؛ فإنا ذكرنا في مسألة الانفضاض في الجمعة أن من أئمتنا في تفريع الانفضاض من يكتفي بواحدٍ يبقى مع الإمام، فيكون الإمام معه اثنين، وهذا منقدح هاهنا، ملتفت على أن الاجتماعَ يحصل بهذا. وما ذكره من الدفن فيه نظر؛ فإن الطفل الصغير يكفيه واحد، يضعه في قبره، وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم عليه السلام بنفسه في قبره. ولو استقلّ رجلان بوضع الميت في قبره من غير أن يُزرُوا به في هيئة الوضع، فلست أرى بذلك بأساً، والمعتمد في ذلك ترك الاستهانة، واجتناب تعريض الميت للسقوط.

_ (1) فاعل (حكى) ضمير يعود على الشيخ أبي علي.

فصل في المقتدي في صلاة الجنازة 1730 - قال الشيخُ أبو علي: من اقتدى في صلاة العيد بمن يكبر خمساً في الركعة الأولى، فهل يتابعه من يرى التكبيرات سبعاً، ويقتصر على الخمس، أم لا؟ ذكر فيه قولين. وكذلك لو كان المقتدي يرى خمساً، وكان الإمام يكبر سبعاً، فهل يتابعه، فيزيد اتّباعاً؟ فعلى قولين. والذي عندي فيه أن المقتدي لو تابع، أو ترك المتابعة في التكبيرات، أو لم يكبر أصلاً، وكان الإمام يكبر، فلا ينتهي الأمر في ذلك إلى الحكم ببطلان الصلاة؛ فإن هذه التكبيرات ليست من الأركان (1)، حتى يقال: سبق الإمام بها، أو سبق المأموم بها، وفيه احتمال ظاهر. والعلم عند الله. ثم قال الشيخ: لو اقتدى في صلاة الجِنازة بمن يرى التكبيرات خمساً، فهل يتابعه في التكبيرة الخامسة؟ فيه طريقان: منهم من قال: فيه قولان، كالقولين في تكبيرات صلاة العيد، ومنهم من قطع القولَ بأنه لا يزيد في صلاة الجِنازة على أربع تكبيرات، وهذا يلتفت على خلافٍ قدمناه في أن التكبيرة الخامسةَ هل تبطل الصلاة؛ فإن رأيناها مبطلةً، لم يتابِع المقتدي الإمامَ فيها. ثم قال: إذا قلنا: يقتصر المقتدي على أربع، ولا يزيد وإن زاد إمامه، فإذا أتى المقتدي بالأربع، فيسلم، أو ينتظر، ويصبر، حتى يسلمَ إمامه بعد الخامسة؟ فعلى وجهين ذكرهما. وهذا له التفاتٌ إلى ما ذكرته من أن الخامسة هل تُبطل الصلاة؟ وله تعلّقٌ بأن صلاة الإمام إذا كانت على صفةٍ يعتقد المقتدي بطلانَها في عقده لو صدرت منه، فكيف يكون سبيل الاقتداء والحالة هذه؟ [هذا] (2) يخرّج على خلافٍ تقدّم ذكرُه في مسائل

_ (1) الكلام هنا عن صلاة العيد. (2) في النسخ الثلاث: "هذه" والمثبت من (ل).

الأواني، في اقتداء الشافعي بالحنفي مع انطواء صلاة الحنفي على ما يراه الشافعي مبطلاً للصلاة، فإن منعنا ذلك، فليبادر المقتدي إذا كبر أربعاً، وليسلم قبل أن يكبر الإمام التكبيرة الخامسة. ومما ذكره في مساق كلامه أنه لو اقتدى شافعي في صلاة الصبح بمن لا يرى القنوتَ، فإن علم المقتدي أنه لو قنت، سبقه الإمام بالسجود على التفصيل المشهور فيه، فلا يقنت، وإن علم أنه لا يسبقه، إن قنت، فهل يؤثر له القنوت؟ فعلى قولين ذكرهما، كالقولين في تكبيرات صلاة العيد. [وقد انتهى كلامه في هذا المعنى] (1). 1731 - ومما يليق بهذا الفصل ذكر المسبوق في صلاة الجنازة: فلو كبر الإمامُ، ولحق مسبوقٌ قبل التكبيرة الثانية، فإنه يبادر عندنا تكبيرةَ العقد، ويشتغل بالقراءة، ولا يتوقف حتى يكبر الإمام التكبيرة الثانية. وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: يصبر حتى يكبر الإمام التكبيرة الثانية، ثم يعقد الصلاةَ متصلاً بتكبيره الثاني. ثم قال أئمتنا: لو كبر المسبوق، وافتتح قراءة الفاتحة، فكبر الإمام الثانية، وهو بعدُ في القراءة، فالقول في أنه هل يقطع القراءة، أو يتممها، كالقول فيه إذا ركع الإمام في سائر الصلوات، والمقتدي بعدُ في القراءة، والاختلاف مشهور فيه. وهذا فيه نظرٌ عندي؛ فإن المسبوق في سائر الصلوات لو أدرك الإمام راكعاً، صار مدركاً للركعة بإدراك ركوعها، ومن أدرك الإمام في صلاة الجِنازة، مع التكبيرة الثانية، لم نجعله كمن أدرك الصلاة في أولها، فليست مبادرة الركوع بمثابة مبادرة التكبيرة الثانية. فليفهم الناظر ذلك. ولكن إن كان يعذر في ترك بعض القراءة، حتى لا يسبقه الإمام، فقد يتجه ذلك على بُعد. 1732 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أن المسبوق لو لحق الإمامَ في التكبيرة الثانية،

_ (1) زيادة من (ل) وحدها. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 398 مسألة: 376، حاشية ابن عابدين: 1/ 587.

فإنه يكبر، ويقرأ الفاتحة، وإن كان الإمام يصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم، أو يدعو، فلا ينظر إلى ما الإمام فيه، بل يجري على ترتيبِ صلاة نفسه؛ فإن ما يدركه المسبوق أول صلاته عندنا، كما تقدم. ومما يجب الإحاطةُ به في ذلك أن المقتدي المسبوق لو أدرك تكبيرةً واحدةً، وأخذ يجري على ترتيب صلاة نفسه، فسلّم الإمام، ورفعت الجِنازة، فالمسبوق يتم الصلاةَ، ولا يضره رفعُ الجِنازة، وإن حوّلت عن قُبالة القبلة، وإن كنا لا نرى جوازَ ذلك في الجنازة الكائنة في البلدة، في ابتداء عقد الصلاة على الوجه الظاهر، فكان شيخي يقول: المقتدي في صلاة الجِنازة إذا كبر لما كبر إمامه، فكبر إمامه الثانيةَ، فلم يكبر حتى كبر الثالثة من غير عذر، فهذا يقطع القدوة؛ فإن الإمام سبقه سبقاً بيّناً على ما ذكره. وهو مقطوع به عندنا. فصل في الصلاة على القبور 1733 - نقول أولاً: إذا صلى على الميت طائفة، وسقط فرضُ الكفاية بهم، فيجوز أن يصلّي عليه جيل (1) آخر عندنا، والأصل فيه ما روي أن مسكينةً كانت تقمّ المسجد، فمرضت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ماتت فآذنوني، فاتفق أنها ماتت ليلاً، فصلى عليها قوم، ودفنوها ليلاً، ولم يُحبّوا أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم، صلّى على قبرها (2). ولا يؤثر للرجل، إذا صلى على ميت مرة، أن يصلي عليه مرة أخرى، اتفق الأئمة عليه، وقالوا: لا يستحب التطوّع بصلاة الجنازة.

_ (1) الجيل: الأمة. والأمة: الجماعة. (معجم). (2) حديث الصلاة على قبر المسكينة، متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (اللؤلؤ: 1/ 194 ح 560).

فإن قيل: فإذا سقط الفرضُ بصلاة طائفة، فصلاة الطائفة [الثانية] (1) مستغنى عَنها، فتقع تطوعاً، قلنا: نحن نقدّر كأن الآخرين صلوا مع الأولين، ولو صلى جمع على ميت، صحت صلاة جميعهم، وإن كان يقع الاكتفاء ببعضهم. ثم الذي يظهر من كلام الأئمة أن من صلى مرَّةً منفرداً، ثم أدرك جماعةً يصلون، فلا يؤثر له أن يصلي لإدراك الجماعة، بخلاف ما قدمناه في الصلوات المفروضة. ثم ظاهر كلام الأئمة أن من صلى مرة، ثم صلى ثانية، فلا نقضي ببطلان صلاته، ولفظ الصيدلاني: "إنا لا نحب أن يصلي مرة أخرى". والحكم ببطلان صلاة من صلى مرة فيه احتمال عندي. 1734 - ثم إذا دُفن الميت، فالصلاة على القبر جائزة عندنا، والشاهد فيه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة. ثم اختلف أئمتنا في أنا إلى متى نجوّز الصلاة على القبر؟ فقال قائلون: نجوّزها إلى أن ينمحق في الأرض، ويبلَى، ولا يبقى له أثر. وقال صاحب التلخيص: "تجوز إلى شهر، ولا تجوز بعده". ولا ندري لما ذكره ثَبَت توقيفي. وتكلّف بعضُ الناس لها وجهاً، فقال: لعله أخذه من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي؛ فإنه قد قيل: بين الحبشة والمدينة مسيرة شهر. وهذا ليس بشيء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم علم موته يوم مات، وصلى عليه يوم موته. وذكر الشيخُ أبو علي في الشرح وجهاً آخر، وهو أن الصلاة على القبر تجوز إلى ثلاثة أعوام، ولا تجوز بعدها. وهذا غريب غيرُ معتدٍّ به. وفي بعض التصانيف وجه رابع: إنها تصحّ أبداً من غير اختصاص بأمد، وهذا في نهاية البعد، وهو خارج عن الضبط بالكلية. والذي عليه التعويل من هذه الوجوه تجْوِيز الصلاة إلى البلى والامِّحاق.

_ (1) سقطت من الأصل، (ط).

1735 - ثم قال الشيخ أبو زيد: إنما يصلي على القبر من كان من أهل الصلاة يوم الموت، فلو دفن وتمادى الزمان، ولكن كانت التربة حُرّة، لا يبلى دفينها إلا في الأمد الطويل، فلو كان الإنسان إذ ذاك طفلاً غير مميز، أو لم يكن، فوُلد وشبّ، وبلغ، لا يصلي على قبر ذلك الميت. وإن كان من أهل الصلاة يوم الموت، فيصلي على القبر ما لم يبل، كما تقدم. وهذا حسن. ومن أئمتنا من لم يساعده على هذا التفصيل، وجوّز الصلاة في الحالتين جميعاً. ثم من جرى على التفصيل الذي ذكره الشيخ أبو زيد اختلفوا فيمن كان صبياً مميزاً يومئذ، ثم بلغ: فمنهم من قال: هذا يصلي على القبر؛ لأنه يوم الموت كان من أهل الصلاة، ومنهم من قال: لا يصلي بعد البلوغ، وهو اختيار الصيدلاني؛ لأنه يومَ الموت، لم يكن من أهل فرضية الصلاة، ولا اعتبارَ بكونه من أهل الصلاة على الجملة، إذا لم يكن من أهل الفرضية. ومن كان كافراً يوم الموت، ثم أسلم، فالذي أراه أنه يصلي؛ فإنه كان متمكناً من الصلاة بأن يُسْلم، ويصلي، كالمحدث، والمرأة إذا كانت حائضاً يوم الموت، ثم طهرت، فالحيض ينافي صحةَ الصلاة ووجوبَها، ولكن هي على الجملة ممن يخاطَب [بالصلاة] (1) فالذي أراه أنها تصلي، إذا طهرت، عن ذلك. ومما يتعلق بهذا الفصل، أنا إذا راعينا البلى، فإن تحققنا بقاء الميت، أو بلاه، فلا يخفى حكمه، وإن لم ندر، وترددنا، فقد يخطر للناظر بناء الأمر على بقاء الميت، وهو الأصل. ويجوز أن يقال: الصلاة تستدعي يقين البقاء في القبر. 1736 - ومما نذكره في ذلك الصلاة على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب المنعُ منها، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري مسجداً" (2) وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم:

_ (1) زيادة اقتضاها الإيضاح. (2) ورد النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره مسجداً، في الحديث المتفق عليه، الآتي بعد هذا، وروى هذا الحديث مالك في الموطأ، وأحمد في المسند بلفظ: "اللهم =

"لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (1). ويخرّج هذا المنعُ على عللٍ منها: أن من افتتح الصلاة الآن ولم يكن مولوداً ولا موجوداً يوم توفي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في الطريقة المرضية أن هذا يُمنع من إقامة الصلاة على القبر. وذكر الشيخ أبو علي للمنع معنى آخر مأخوذاً، من الحديث: وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث" (2)، وروي أكثر من يومين. وإذا كان كذلك، فلا معنى للصلاة على قبره. ثم ذكر الشيخ أبو علي وجهاً عن بعض الأصحاب أنه تجوز الصلاة على قبره صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ونحن وإن جوّزنا ذلك، فلا يجوز أن يصلَّى عليه جماعة، بل يُصلّى عليه أفراداً، وهذا القائل يحمل المنع من اتخاذ القبر مسجداً على إقامة الجماعة. وتنزيل القبر في ذلك منزلة المساجد المهيأة للجماعات. والعلم عند الله تعالى. 1737 - ومما يتعلق بالقول في الصلاة على القبر أنا وإن جوزنا الصلاةَ بعد الدفن، وقلنا أيضاً: إنه لو دفن ميت، ولم يصلّ عليه، لم ينبش، بل يصلى عليه مدفوناً، فلا يجوز مع هذا كلِّه تأخيرُ الصلاة إلى ما بعد الدفن. ولو فُعل ذلك قصداً حَرِج به أهلُ الناحية، وإن وقعت الصلاة موقعها بعد الدفن. وهذا بيّن لا شك فيه.

_ = لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" مالك عن عطاء بن يسار، وأحمد عن أبي هريرة وعند أبي داود، من حديث أبي هريرة: "ولا تجعلوا قبري عيداً" (ر. الموطأ 1/ 172، كتاب قصر الصلاة: ح 85، والمسند: 2/ 246، وأبو داود: 2/ 534، كتاب المناسك، باب (100) زيارة القبور، ح 2042). (1) حديث "لعن الله اليهود ... " متفق عليه من حديث عائشة، وأبي هريرة. (ر. اللؤلؤ: 1/ 107 ح 306، 307، 308). (2) حديث "أنا أكرم ... " قال الحافظ: لم أجده هكذا، لكن روى الثوري في جامعه: "ما يمكث نبي في قبره أكثر من أربعين ليلة حتى يرفع" ثم أورد الحافظ حديثاً عن أنس مرفوعاً: "مررت بموسى ليلة أسري بي، وهو قائم يصلي في قبره، وذكر أحاديث أخرى، وقال: إنها تقدح في هذه الأحاديث، ثم ذكر أن البيهقي أفرد جزءاً في حياة الأنبياء في قبورهم، فليراجع. كذا قال. (التلخيص: 2/ 125 ح 776).

فصل (1) 1738 - قد ذكرنا أن فرض الصلاة على الميت يسقط بواحد يصلي أو جمع، وأظهرنا الخلافَ في أقله، وقد تردد الأئمة في أن الفرض هل يسقط بصلاة النسوة المجردات. وغرضنا الآن أنه إذا صلى على الميت جمعٌ كثير يقع الاكتفاء ببعضهم، فالذي ذهب إليه الأئمة أن صلاة كل واحدٍ تقع فريضة؛ إذ ليس بعضُهم بأن توصف صلاته بالفرضية أولَى من بعض، فإذا عسر التمييز والتخصيص، فالوجه القضاء بالفرضية في حق الكافة. ويحتمل أن يقال: هو بمثابة ما لو أوصل المتوضىء الماء إلى جميع رأسه دفعةً واحدة، وقد تردد الأئمة في أن الكل يوصف بالفرضية، أم الفرض مقدار الاسم على الإبهام من الرأس، فليخرّج الأمر في الجمع على ذلك. ولكن قد يتخيل الفطن في ذلك فرقاً؛ ويقول: مرتبة الفريضة تزيد على مرتبة السنة، وكل مصل في الجمع الكثير لا ينبغي أن يُحرَم رتبة الفرضية، وقد قام بما نُدب إليه. وهذا لطيفٌ، ثم لا يتحقق مثله في مسح الرأس أيضاً؛ فإن التطوّع بالزيادة على مقدار الفرض في مسح الرأس مشروع، والتطوّع بصلاة الجنازة ممنوع. ثم قال الأئمة: إذا صلى قومٌ على الميت، وسقط الفرض بهم، فيجوز أن يصلِّي عليه آخرون، وإذا صلَّوا كانوا بمثابة ما لو كانوا مع الأولين في جماعة واحدة، وهذا وإن كان يتميز عن الصورة الأولى؛ من جهة ما جرى من التمييز في الترتيب، فوجهه مع ما فيه من الاحتمال الظاهر أن التطوع بصلاة الجنازة غيرُ مشروع، فإذا صح في الأخبار والآثار ترتيبُ الجماعة في إقامة الصلاة على الميت، فالوجه تنزيل المرتبين منزلة المجتمعين في جماعة واحدة.

_ (1) في (ل): (فرع) مكان فصل.

فصل "ولا يُدخل الميتَ قبرَه إلا الرجالُ ... إلى آخره" (1) 1739 - إن كان الميت رجلاً، فلا شك في ذلك، وإن كان امرأة، فالأمر أيضاًً كذلك، ولكن قال الشافعي فيما نقله الصيدلاني: يتولى ذلك زوجها، ومحارمها، وإن لم يكونوا، فعبيدها، فإن لم يكونوا، فخصيان، فإن لم يكونوا، فأرحام، فإن لم يكونوا، فالأجانب. فأما تقديمه الزوج والأرحام الذين هم محارم، فهو حتمٌ قياساً على الغُسل، وأما ذكره الأرحام، الذين ليسوا محارم، فما أراه محتوماً؛ فإنهم في وجوب الاحتجاب عنهم في الحياة كالأجانب، وفي العبيد -وقد انقطع ملكها عنهم بالموت- احتمالٌ ظاهر. وقد ذكرنا تردداً في غُسل الأمة مولاها. وفي الخصيان احتمالٌ بيّن سيأتي ذكره، في أول كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا من يحلّ له النظر، ومن لا يحل. 1740 - وغرض الفصل أن النسوة لا يتولَّيْن دفنَ امرأةٍ، والسبب فيه أنهن يضعفن عن مثل ذلك، وقد يؤدي تعاطيهن لهذا إلى انهتاك في الميّتة، وأيضاًً فإنهن ينكشفن في تعاطي ذلك، ورعاية الستر فيهن أوْلى من رعايته في المتوفاة، فإن لم يوجد غيرهن، فإذ ذاك يفعلن عن اضطرار. ثم ينبغي ألا يتعاطى الدفنَ أقلُّ من ثلاثة، كما تقدم ذكره، فإن زادوا، فقد قيل ينبغي أن يكون عددهم وتراً، ولاستحباب ذلك نظائر في الشريعة، والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى دفنه علي، والفضل، وأسامة، وقد قيل: ممن تولى ذلك عبد الرحمن بن عوف (2)، فإن صح، حُمل تركُ رعاية الإيتار على الجواز.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 184. (2) حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفنه علي والعباس، وأسامة .. "، رواه أبو داود، وفيه أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف. (ر. أبو داود: 3/ 544، كتاب الجنائز، =

1741 - ثم ذكر الشافعي أن الميت يُسلّ من قِبل رأسه، وبيان ذلك أن الجِنازة توضع ورأسها عند مؤخرة القبر ثم يدخل القبرَ من يتعاطى هذا ويسلُّون الميت، فيأخذون مقاديمه، ورأسه، ويدخلونه القبر كذلك، سلاً رفيقاً. وأبو حنيفة (1) يقول: توضع الجنازة على طول القبر في جهة القبلة، ثم يأخذه الرجال عرضاً ويردّونه القهقرى، إلى قبره. وروي عن إبراهيم النَّخَعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل به ذلك (2). قال الشافعي: هذا من أقبح ما يغلط به، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ملصق بالجدار، ولحده تحت الجدار، ولا موضع للجنازة وراء القبر أصلاً. ثم عقد الشافعي باباً فيما يقال إذا أدخل الميت قبره، والدعوات مسطورة، فلتتأمل (3). ...

_ = باب (66) كم يدخل القبر؟ ح 3209، 3210، والثلخيص: 2/ 128 ح 784). (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 406 مسألة: 386، وفتح القدير: 2/ 98، حاشية ابن عابدين: 1/ 600. (2) حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سُل من قبل رأسه .. " رواه الشافعي عن ابن عباس، وروى ابن ماجة عن أبي رافع قال: سلّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ سلا. (ر. المختصر: 1/ 184، والأم: 1/ 241، وابن ماجه: الجنائز، باب ما جاء في إدخال الميت القبر، ح 1551، والتلخيص: 2/ 128 ح 783). (3) ر. المختصر: 1/ 185: باب ما يقال إذا أدخل الميت قبره.

باب التعزية وما يهيأ لأهل الميت

باب التعزية وما يهيّأ لأهل الميت 1742 - التعزية سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عزى مصاباً، فله مثل أجره" (1)، ثم ذكر الشافعي أن من شهد الجنازة، فينبغي أن يؤخر التعزية إلى ما بعد الدفن؛ فإن أولياء الميت لا يتفرغون إلى الإصغاء إلى التعزية، وهم مدفوعون إلى تجهيز الميت. وغرض التعزية الحمل على الصبر بوعد الأجر والتحذير من الوزر في إفراط الجزع، وتذكير المصاب رجوعَ الأمر كلِّه إلى الله. ولا بأس بتعزية أهل الذّمة، ولكن لا يدعى لميتهم الكافر، بل يقال: جبر الله مصيبتك وألهمك الصبر، وما أشبه ذلك. 1743 - وذكر صاحب [التلخيص] (2) في كتابه: أنه لا أمد للتعزية تقطع عنده، بل لا بأس بها وإن طال الزمان. فمن أصحابنا من ساعده على ذلك، فإنه لم يَثبت في ذلك توقيف وثبت. ومنهم من قال: لا تؤثر التعزية بعد الثلاث، فإن فيها تجديدَ ذكر المصيبة، وفي الحديث ما يشهد لهذا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله

_ (1) حديث: "من عزى مصاباً .. " رواه الترمذي، وابن ماجة والحاكم عن ابن مسعود. وقد ضعفه الألباني. (ر. التلخيص: 2/ 138 - ح 799، والترمذي: الجنائز، باب ما جاء في أجر من عزى مصاباً، ح 1073، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عزى مصاباً، ح 1602، والبيهقي: 4/ 95، خلاجمة البدر المنير: 1/ 276 ح 965، ضعيف ابن ماجة: ص 121 ح 350، إرواء الغليل: 765، ضعيف الجامع الصغير: 5696). (2) في الأصل، و (ط): التقريب. والصواب أنه (التلخيص)، فقد نصّ على ذلك النووي، حينما أشار إلى حكاية إمام الحرمين لهذا الوجه (ر. المجموع: 5/ 306). وأكدت (ل) ذلك.

واليوم الآخر أن تحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا الزوجة فإنها تحد على زوجها" (1) ولا يبعد أن تشبه التعزية بالحزن على الميت. 1744 - ثم قال الشافعي: حسن أن يصنع الجيران لأهل الميت طعاماً؛ فإنهم قد لا يتفرغون لذلك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ورد نعيُ جعفر: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً" (2). ...

_ (1) حديث: "لا يحلّ لامرأة ... " رواه مسلم من حديث عائشة، وحفصة. (ر. التلخيص: 3/ 239 ح 1646، مسلم: 2/ 1124، باب وجوب الإحداد ح 1486، 1487). (2) حديث: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً" رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، والشافعي، من حديث عبد الله بن جعفر. (ر. أحمد: 1/ 205، أبو داود: الجنائز، باب صنعة الطعام لأهل الميت، ح 3132، الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت، ح 998، ابن ماجه: الجنائز، باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت، ح 1610، الدارقطني: 2/ 78، الحاكم: 1/ 372، مختصر المزني: 1/ 186، التلخيص: 2/ 138 ح 800).

باب البكاء على الميت

باب البكاء على الميت 1745 - أهل المحتَضَر لو بكَوْا عليه قبل أن تقبض نفسُ الميت، فلا بأس، وإن أمكنهم أن ينكفوا إذا قضى نحبه، فهو الأولى؛ إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجب (1)، فلا تبكين باكية" (2)، وإن غُلبوا، فلا كراهية في البكاء على الجملة، مع توقِّي النياحة، وشق الجيب، وضرب الخدود، وقد ورد الحديث بالنهي عن النُّدبة، ومعناها أن يُذكر من يُبكى له بمناقب، فيقال: واسيداه واكهفاه، وما أشبه ذلك. وقد روي أن خالد بن الوليد لما وقع في الموت، وكان يُغشى عليه ويُفيق والذين بحضرته يندبون، ويقولون: واكهفاه، واجبلاه، فأفاق من غشيته، وقال: إني خُوِّفتُ بما ندبتموني به، وقيل (3) إنه كهفهم وجبلهم. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع حافداً له من أولاد بعض البنات في حجره وهو يجود بنَفْسه، ونَفْسُه تتقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها رحمة وإن الله يرحم من عباده الرحماء" (4).

_ (1) الوجوب: الموت، وقيل: إذا أدخل القبر. والأول أصح. (ر. التلخيص: 2/ 139). (2) حديث: "إذا وجب .. " رواه مالك والشافعي عنه، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، من رواية جابر بن عتيك. (ر. أبو داود: الجنائز، باب في فضل من مات بالطاعون، ح 3111، والنسائي: الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، ح 1847، وأحمد: 5/ 445، 446، والموطأ: كتاب الجنائز 1/ 233، والتلخيص: 2/ 138 ح 801). (3) وقيل أي: وقوْل. وفي (ل): "وقيل: أنت كهفهم". أي قيل له: أنت كهفهم وجبلهم. (4) حديث: "إنها رحمة ... " متفق عليه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ والمرجان: الجنائز، باب البكاء على الميت، ح 531).

وحديث بكائه على ابنه إبراهيم معروف (1) وقد قيل له في ذلك فقال: إنما (2) نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين: أحدهما عند الفرح والآخر عند [الحزن] (3). 1746 - ومما يجب التثبت فيه أن النياحة محرّمة، والأخبار في تغليظ الأمر على النائحة مشهورة، والبكاء ليس بمحرم، والقول الضابط في ذلك أن كلّ قول يتضمن إظهار جزع يناقض الانقياد والاستسلام لقضاء الله، فهو محرم، وشق الجيب، وضرب الرأس والخد، أفعالٌ مشعرة بالخروج عن الانقياد لحكم الله. والذي ظهر في الأخبار ومذاهب الأئمة تحريمُ ذلك، وعندي أن في الاقتصار على الحكم بالكراهية مجال، والتحريم يختص بالقول الذي يخالف الرضا بمجاري القضاء. والعلم عند الله تعالى. والظاهر ما قاله الأئمة، فالمعتمد فيما يحرم ما ذكرناه، ورفع الأصواتِ على إفراطٍ في معنى شق الجيوب. 1747 - ومما اعتنى الشافعي بالكلام عليه، ما روي أنه مات بعض آل عمر (4) وكان النساء يبكين وابن عباس وابن عمر جالسان على باب حجرة عائشة، فقال ابن عباس لابن عمر: هلا نهيتهن، فقد سمعتُ أباك عمر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الميت ليعذّب ببكاء أهله عليه، فسمعت عائشة ذلك، فقالت:

_ (1) حديث بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، (ر. البخاري: كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا بك لمحزونون، ح 1303، ومسلم: كتاب الفضائل، ح 2315، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان، وأبو داود: الجنائز، باب في البكاء على الميت، ح 3126، والتلخيص: 2/ 139 ح 802). (2) حديث "وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين" عند الترمذي: كتاب الجنائز، باب (25) الرخصة في البكاء على الميت، ح 1005، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة غير الترمذي ولفظه عند الترمذي: "صوت عند مصيبةٍ، خمشِ وجوه، وشقّ جيوب، ورنّةِ شيطان" قال النووي في الخلاصة: المراد به الغناء والمزامير. (ر. تحفة الأحوذي: 4/ 85). (3) في الأصل، و (ط): الجزع. (4) الذي عند الشيخين، أن الميت كان من آل عثمان بن عفان (ر. اللؤلؤ: 1/ 185).

رحم الله عمر: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، ولكنه قال: إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله. ثم قالت: حسبكم القرآن قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. ثم فيما ذكرته إشكال أيضاً؛ فإن الزيادة في عذاب الكافر لمكان بكاءٍ يصدر من غيره مشكل، قال المزني: بلغني أن الكفار كانوا يوصون بأن يندَبوا ويُبكَوْا؛ فإنهم يعذبون على وصاياهم. والرواية الصحيحة عن عائشة في ذلك أنها قالت: رحم الله عمر ما كذب، ولكنه أخطأ أو نسي، إنما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهوديّةٍ ماتت ابنتها، وهي تبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم يبكون، وإنها تعذب في قبرها" (1) وهذه الرواية لا تُحوج إلى تأويل أصلاً؛ إذ ليس فيها أنها تعذب بسبب بكائهم. والله أعلم (2). ...

_ (1) حديث: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" متفق عليه عن عمر رضي الله عنه، يرويه عنه ابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم. واستدراك عائشة رضي الله عنها هذا الحديث على عمر مشهور. والروايتان اللتان أوردهما إمام الحرمين، متفق عليهما؛ سواء الأولى التي تحتاج إلى التأويل الذي روي عن المزني، أم الآخرة، التي لا تحتاج إلى تأويل، والتي اعتمدها إمام الحرمين رضي الله عنه. (ر. اللؤلؤ: 1/ 184 الأحاديث من 534 - 539). (2) خاتمة نسخة (ل) التي انتهت هنا جاء فيها ما نصه: "تم بحمد الله ومنّه السفر الأول من (النهاية) وهو آخر كتاب الكنائز (كذا) يتلوه (كتاب الزكاة) إن شاء الله تعالى. كتب من نسخة الفقيه الأجل، الكبير، الإمام، العالم، العامل، الورع، تقي الدين أبي عبد الله، محمد بن الشيخ أبي علي بن رزين، نفعه الله بالعلم، وزينه بالحلم في الدارين. كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله تعالى الراجي عفو الله وكرمه، إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة، غفر الله له، ولجميع المسلمين في ... ها ليلة الخميس رابع عشر ذي القعدة من شهور سنة ست وعشرين وستمائة للهجرة النبوية. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم".

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة (1) باب فرض الإبل السائمة 1748 - الأصل في الزكاة الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (2) [البقرة: 43] وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" (3) الحديث، وروى ابنُ عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا جارت الولاة، قحَطت السماء، وإذا مُنعت الزكاة، هلكت المواشي، وإذا ظهر الزنا، ظهر الفقر، وإذا أخفر أهلُ الذمة، أدِيل [للكفار] " (4). وقال صلى الله عليه وسلم: "ما خالطت الزكاة مالاً إلا

_ (1) هنا انتهت نسخة (ل) وبدأت نسخة (ك) وعادت نسخة (ت 2) بعد انقطاعها، وما زالت نسخة (د 1) أصلاً، يساعدها (ت 1)، (ط)، (ت 2)، (ك)، والله المعين والهادي إلى الصواب. (2) ورد هذا الجزء من الآية الكريمة، في تسع آيات من القرآن الكريم بهذه الصيغة بعينها. أما لفظ الزكاة، فقد جاء في مقام الحث عليها، ومدح فاعليها، اثنين وثلاثين مرة. (3) حديث "بني الإسلام على خمس" متفق عليه، من حديث ابن عمر (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 3 ح 9). (4) حديث: "إذا جارت الولاة" لم أصل إليه بهذا اللفظ، ولكن عند ابن ماجة (فتن) باب العقوبات ح 4019 بمعناه، وهو عن ابن عمر أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمسٌ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن ... ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا ... " وذكره السيوطي في جامعيه بلفظ: "إذا ظهرت الفاحشة، كانت الرجفة، وإذا جار الحكام، قلّ المطر، وإذا غدر بأهل الذمة، ظهر العدوّ" وليس فيه منع الزكاة، وعزاه في الصغير للديلمي في الفردوس، وعزاه في الكبير له، ولابن عدي. ورمز له بالضعف، وضعفه المناوي في الفيض، إلا أنه أضاف قائلاً: "لكن له شواهد". =

أهلكته" (1) وقال صلى الله عليه وسلم: "مانع الزكاة في النار" (2) إلى غير ذلك. وأجمع المسلمون على أن الزكاة من أركان الإسلام. 1749 - والزكاة هي النماء: من قولهم "زكا الشيء" إذا نما. وإخراج الزكاة وإن كان حطّاً من مقدار المال، ولكن يُمْنُ إخراجِه ينمّي المال. قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مالٌ من صدقة" (3). وقال عزّ من قائل: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]. 1750 - ثم الزكاة تنقسم إلى ما يتعلق بالذمة، ولا يختص بمال، وإنما المرعيّ فيه الإمكان، وهو زكاة الفطر، وإلى ما يتعلق بمالٍ، وهو منقسم إلى ما يتعلق بالأعيان، وإلى ما يتعلق بالقيم. فأما ما يتعلق بالقيم، فزكاة التجارة، وأما ما يتعلق بالأعيان، فالأعيان التي تتعلق بها الزكاة: حيوان، وجوهر، ونبات.

_ = وفي جميع النسخ: "أديل الكفار" ولكن المنصوص في المعاجم أنه يتعدى باللام: أديل له: أي نُصر (ر. المعجم والنهاية في غريب الحديث). (1) حديث: "ما خالطت الزكاة مالاً ... " رواه الشافعي، والبخاري في تاريخه، والحميدي، والبزار، والبيهقي (ر. نيل الأوطار: 4/ 211، والترغيب والترهيب: 2/ 63، والحميدي: 1/ 115 ح 237). (2) حديث: "مانع الزكاة ... " رواه الطبراني في الصغير، من حديث أنس، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ر. صحيح الترغيب: 1/ 320 ح 760، والطبراني في الصغير 2/ 58). هذا وقد تعقب ابن الصلاح من استدل بهذا الحديث، وقال: "لم أجد له أصلاً" فتعقبه الحافظ ابن حجر قائلاً: "وهذا عجيب منه؛ فقد رواه الطبراني" (ر. التلخيص: 2/ 157) (3) حديث: "ما نقص مال من صدقة" جزء من حديث رواه مسلم، والترمذي، وأحمد، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ: "ما نقصت صدقة من مال ...... "، (ر. مسلم: البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع، ح 2588، والترمذي: البر والصلة، باب ما جاء في التواضع، ح 2029، أحمد: 2/ 235، 386، 438، الدارمي: 1/ 396، ابن خزيمة: 2438، ابن حبان: 3248)

فأما الحيوان، فالنَّعم، وهي: الإبل، والبقر، والغنم. والجوهر: الدراهمُ، والدنانيُر. والنباتُ: في الزروع، والثمار كلُّ (1) مقتات. 1751 - ثم بدأ الشافعي من زكاة النَّعم بزكاة الإبل، واعتمد في نُصُبها وأوقاصها (2) ما رواه بإسناده عن أنس بن مالك (3) وهو مشهور مذكور في ظاهر المختصر (4). وفي أوله: "هذه الصدقة. بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أمر الله بها". فقوله أولاً: "هذه الصدقة" ترجمة، وعنوانُ الكتاب "الصدقة"، كما يُثبت الكاتب في أول كتاب: "هذا كتاب الصدقات". ثم ابتدأ الكتابَ بعد أن عَنْوَنَه فقال: "بسم الله" وأراد بالفرض التقديرَ: فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، معناه قدّرها، وتقديره إياها إبانتُه لها، ثم اشتمل الحديث على بيان النُّصب، والأوْقَاص.

_ (1) خبر لقوله: "والنبات في الزروع والثمار". (2) الأوقاص: جمع وقص، بسكون القاف، وفتحها. وهو ما بين الفريضتين، وقيل: إنها بالفتح فقط، وغلطوا الفقهاء في إسكانها (قاله ابن بَرّي). وقد ردّ هذا القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما من أئمة الفقه، وأكدوا أن أكثر أهل اللغة قالوه بالإسكان. ثم هو بالسين أيضاً: الوقْس والوقص. قال النووي: رأيته هكذا بالسين في نسخ مختصر المزني عن الشافعي. (والذي في المطبوع: الوقص: بالصاد). ثم: الشَّنَق بمعنى الوقص، ومنهم من جعل الشنق خاصاً بأوقاص الإبل. راجع هذا بتفصيل في: (تهذيب الأسماء واللغات: 4/ 193، والمجموع: 5/ 391، وانظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 141 ففرة: 268، ومختصر المزني: 1/ 195، والقاموس المحيط) (3) حديث أنس رواه الشافعي بطوله، وله عدة طرق، أخرجها أبو داود، والنسائي، والبيهقي، والحاكم، قال ابن حزم: "هذا كتاب في غاية الصحة، عمل به الصديق بحضرة العلماء، ولم يخالفه أحد" اهـ (ر. البخاري: ح 1448 - 1454، 2487، 3106، 5878، 6955، والأم: 2/ 4 والتلخيص: 2/ 158 ح 813). (4) المختصر: 1/ 188. هذا المثبت نص المختصر، وعبارة الأصل، (ت 1): "هذه الصدقة لمستغنيهم. بسم الله الرحمن الرحيم ... الخ"

ونحن نستاق ذكرها من أولها إلى آخرها، ونجري على ترتيب الحديث فيها، حتى يأنسَ الناظر بأصول المذهب في النُّصب والأوقاص، ثم ننعطف على استيعاب خفايا المذهب في كل نوع وفن منها. 1752 - فنقول: أول نصاب الإبل خمس، فليس فيما دون خمسٍ من الإبل شيء، وفي خمس شاة، وفي عشرٍ شاتان، وفي خمسَ عشرةَ ثلاثُ شياه، وفي عشرين أربعُ شياه. فإذا بلغت خمساً وعشرين، وجبت فيها الزكاة من جنسها، ففيها ابنةُ مخاض، وهي التي استكملت سنة، وطعنت في الثانية، فإن لم يكن في ماله ابنةُ مخاض، فابن لبون ذكر، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ستاً وثلاثين، فإذا بلغتها، ففيها بنتُ لبون؛ وهي التي تزيد على التي قبلها بسنة، ثم لا شيء إلى ست وأربعين، وفيها حِقّة، وفى إحدى وستين جذعة. وهذا منتهى الترقِّي في الأسنان. ثم في ستٍّ وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حِقَّتان، ثم لا شيء في زيادتها حتى يبلغ المال مائةً وعشرين، فإذا بلغها وزاد بعيراً واحداً، فيجب في هذا المبلغ ثلاثُ بنات لبون، ثم يستقر الحساب في الأوقاص والنُّصب على عشرٍ عشرٍ، من غير تفاوت، في كل خمسين حِقة، وفي كل أربعين بنت لبون، ففي المائة والعشرين والواحدة ثلاثُ بنات لبون؛ فإنها ثلاث أربعينات. وسنذكر التفصيل في الواحد الزائد. ثم كلما كملت عشر تبدل بنتُ لبون بحقة. هذا ما يقتضيه الحساب، حتى تتمخض الحِقاق، ففي مائة وثلاثين حقة، وابنتا لبون، فإنها خمسون وأربعينان. وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون. وفي مائة وخمسين ثلاثُ حقاق. فإذا زادت عشراً، انتقلنا من الحِقاق إلى بنات اللبون، وزدنا في العدد. ففي مائةٍ وستين أربعُ بنات لبون. وفي مائة وسبعين حِقة، وثلاثُ بنات لبون.

وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون. وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون. وإذا بلغ المال مائتين، فيجتمع فيها حسابُ الحقاق وبنات اللبون؛ فإن المائتين خمسُ أربعينات، وأربع خمسينات؛ ففي المبلغ بحساب الخمسين أربع حقاق، وفيه بحساب الأربعين خمسُ بنات لبون. وسيأتي في ذلك فصلٌ مفرد إن شاء الله تعالى، فهذا بيان النُّصب المرسلة. ونحن ننعطف على الأول، ونأتي في كل مقامٍ بفصلٍ نستوعب ما فيه إن شاء الله تعالى. فصل 1753 - فيما دون خمس وعشرين من الإبل الشاء (1). والمعنى الضابط فيه أن الإبل قد بلغ دون الخمس والعشرين مبلغاً يحتمل المواساة، ولم ير الشارع أن يوجب فيما دون الخمس والعشرين بعيراً، فيكون إجحافاً برب المال، ولم يرَ أن يوجب شقصاً من بعير؛ لما في التشقيص من التعذر، ونقصان القيمة؛ فعدل عن جنس الإبل إلى الغنم، فأوجب في خمس شاةً، وفي عشرين أربعَ شياه، كما تقدم. 1754 - ثم الكلام في هذا يتعلق بأمرين: أحدهما - في إخراج بعيرٍ يُجزىء عن الخمس والعشرين، والآخر في صفة الشاة التي يخرجها، فأما إذا أخرج بنتَ مخاض ومالُه خمس الإبل، فالذي قطع به أئمتنا أن ذلك يجزئه، وتعليله أنها تجزىء في الخمس والعشرين، فلأن تجزىء في الخمس، أوْلى، فهذا متلقى من جهة الفحوى، قريب من استفادة تحريم الضرب، من النهي عن التأفيف، في قوله تعالى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. ثم لو أخرج بعيراً يجزىء عن الخمس والعشرين (2)، ولكن كان لا يساوي شاةً

_ (1) الشاء: جمع شاة (المصباح). (2) المراد أخرجه عن خمسٍ، كما هو واضح من سياق الكلام الآتي.

لعزة الغنم، ورخص جنس الإبل في ذلك القطر، فالذي قطع به الأئمة أنه يجزىء لإجزائه عن الخمس والعشرين. وفي بعض التصانيف عن القفال أنه لا يجزىء، حتى تبلغ قيمته شاةً، وقد ذكره شيخي أيضاً مطلقاً، ولم يَعْزُهُ إلى القفال. واعتبار القيمة بعيدٌ على رأي الشافعي، ولكن المتبع في الباب ما ذكرناه من طريق الفحوى، في الإجزاء [في] (1) الكثير، وإشعار هذا بأنه يجزىء [في] (2) القليل، ولا التفات إلى القيمة، وإن علمنا أن سبب العدول إلى جنس الغنم الترفيه والتخفيف. ولكن إن اتفق على ندور عزةُ الغنم، فالأصل المرعيُّ لا يختلف. 1755 - ثم إذا وضح أن البعير المجزىء عن خمسٍ وعشرين يجزىء عما دون ذلك، فإذا أخرج بعيراً عن خَمسٍ، فقد ذكر الأئمة خلافاً في أن البعير بجملته يقع فرضاً، أم الفرض منه الخُمس، والباقي متطوَّعاً به تبرعاً؟ فقالوا: في المسألة وجهان. وذكر العراقيون أن هذا يناظر ما لو لزمته التضحية بشاة، فلو ضحى ببدنةٍ، أو بقرة، فالبدنة تقع فرضاً، أم الفرض مقدار السُّبُع، والباقي تطوع؟ وهذا التشبيه زلل، والوجه القطع بأن الزيادة على السُّبُع تطوعٌ في الضحايا؛ فإن من أراد الاقتصار على سُبُع بدنة بدلاً عن شاة، جاز له ذلك، فالستة الأسباع الباقية زيادة منفصلة عن السُّبع الكافي، ولكن يخرج ما ذكروه من الخلاف في الهدايا على ما تقدم ذكره في أن من استوعب الرأس بالمسح، فهل يقع الكل فرضاً أم لا؟ والأصح أن الفرض قدرُ الاسم؛ إذ يجوز الاقتصار عليه. فهذا قولنا فيما استشهد به العراقيون في الهدايا. فأما ما فيه كلامنا، فهو على مقتضىً آخر؛ من جهة أنا لا نعرف خلافاً في أنه لو أخرج خُمسَ بعير، بدلاً عن الشاة التي أوجبها الشارع، لم يَجْزِه ولم يكفهِ؛ فليست هذه المسألةُ مناظِرةً لما وقع الاستشهاد به، فخروج الخلاف فيها أَوْجَه.

_ (1) في الأصل، و (ط) و (ت 1): من. والمثبت من: (ت 2)، (ك). (2) في الأصل، و (ط) و (ت 1): من. والمثبت من: (ت 2)، (ك).

ومن يقول: الفرض مقدار الخُمس، فمعناه أنه مقدار الخمس على شرط التبرع بالبقية، حتى يزول عيبُ التشقيص. فليفهم الناظر ذلك. فلو ملك عشراً من الإبل، فأخرج بعيراً واحداً، فقد ذكر الأصحاب أن هذا يخرج على الخلاف المتقدم، فإن قلنا: يقع جميعُ البعير في الخَمس فرضاً، ويقوم مقام شاةٍ؛ فلا يقع الاكتفاء في العَشر ببعيرٍ واحد، بل لا بد من بعيرٍ وشاةٍ، أو بعيرين. وإن قلنا: المفروض من البعير في الخَمس مقدار خُمسه، فيجزىء البعير عن العَشر، والمفروض منه مقدار الخُمسين، والباقي متطوَّع به، كما تقدم تفصيل ذلك. وهذا غير سديد عندي، وخارج عن القاعدة المرضية؛ فالوجه القطع بإجزاء البعير الواحد في العشر لإجزائه في الخمس والعشرين، ومن حاد عن اعتبار الأوْلى من طريق الفحوى، فقد ضل عن سواء طريقه ضلالاً بعيداً، واختبط في أمورٍ خارجة عن الضبط. وإذا وضح هذا في العشر؛ فتفريعه في الخمسةَ عشرَ، وفي العشرين على هذا النحو فالوجه المعتبر (1) أن ما يجزىء عن الكثير يجزىء عن القليل لا محالة. وسنوضح اطّراد ذلك في تفاصيل المذهب بعد هذا إن شاء الله تعالى. فهذا قولنا في هذا الطرف، وهو إذا أخرج بعيراً عن خمس من الإبل، وأقامه مقام شاة. 1756 - ثم ذكر بعض الأصحاب تردداً، في أن البعير المخرجَ عن خمسٍ من الإبل أصل، أم بدل عن الشاة؟ وهذا بعيد؛ فإن إثبات البدل لا يناسب مذهب الشافعي، وإن غلط من ظن ذلك من قول بعض الأصحاب: إن قيمة البعير ينبغي ألا تنقصَ عن قيمة شاة مجزئة.

_ (1) اضطربت النسخ كلها في هذه الجملة، ففي الأصل: "فالوجه المعتبر في"، وفي (ط): "والوجه المعتبر في" وفي (ت 1): "والوجه المصير إلى ما يجزي" والمثبت من (ت 2)، (ك).

ومما يجب التنبه له في هذا المقام أنه لو ملك خمسةُ نفر خمساً وعشرين من الإبل، فكان لكل واحد منهم خُمُسها شائعاً، فإذا أخرجوا بنت مخاضٍ، فيقع خُمسُها عن نصيب كل خليط، ولكن المُلاَّك في الخلطة كالمالك الواحد - على ما سيأتي تمهيدُ القول في الخلطة إن شاء الله تعالى. 1757 - فأما الكلام في جنس الشاة التي يُخرجها عن الخَمس من الإبل فزائداً، إلى الخمس والعشرين، فنقول: أولاً إذا ملك الغنمَ الزكاتيَّ، فلا شك أنه يُخرج من جنس غنمه، أو أفضلَ منه؛ فإن من ملك من المعز أربعين، أجزأته ثنية من المعز. وإن ملك أربعين من الضأن، لم يجزئه إلا ضائنة كما سيأتي، ولا نظر إلى الغنم الغالبة في البلد. وإذا كان يخرج شاةً من (1) خمس من الإبل، فليس المخرَج من جنس مال الزكاة. فالذي ذكره العراقيون: أنه يخرج الشاة من الشاء الغالبة في البلد، وقالوا في استتمام الكلام: من عليه العُشر وزكاةُ الفطر، فيعتبر في العُشر جنس المعشَّر، وفي زكاة الفطر القوتُ الغالب في البلد، فكذلك إذا كان يخرج شاةً من غنمه الزكاتي، فالاعتبار بنوع غنمه، وإن كان يخرج شاةً من خمسٍ من الإبل، فالاعتبار بالغنم الغالبة في البلد. وذكر صاحب التقريب نصّاً عن الشافعي موافقاً لما ذكره العراقيون، ونسب نقله إلى المزني، وغلَّطه في النقل، ونقل نصوصاً مخالفةً لذلك، متضمنها أنه يُخرج شاة من أي نوعٍ كان: جذعةً من الضأن، أو ثنية من المعز، ولا نظر إلى غنم البلد، والذي ذكره صاحب التقريب في نهاية الحسن، وتوجيهُه ما ذكره: وهو أن الشاة أُوجبت مطلقةً في الذمة، فاعتبر اسم الشاة، والشاة الشرعيةُ جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز، ولا يتخصص لفظ الشارع بالعُرف على مذهب المحققين في الأصول، وشبَّه لفظ الشاة في ذلك بلفظ الشاة في الضحية؛ فإنها تجزىء، ولا يعتبر ما يغلب في

_ (1) كذا في النسخ الخمس كلها (من)؛ فلا يسبق الظن إلى أنها محرّفة؛ فقد نصوا في كتب اللغة على أن (مِن) تأتي مرادفة لـ (عَن). (ر. مغني اللبيب على سبيل المثال).

البلدة، حتى لو كان غالب غنم البلدة الضأن، فضحى بثنيةٍ من المعز، أجزأت. والذي ذكره العراقيون توجيهه -على البعد- تنزيلُ المطلق على العُرف في كل زمان. وسيأتي تفصيل المذهب في زكاة الفطر وأنَّ المعتبر فيها القوتُ الغالبُ في ظاهر المذهب، فقد يتمسك بهذا العراقيون. وعلى الجملة ليست زكاة الفطر ممَّا نحن فيه؛ فإن الشارع ذكر فيها أجناساً مختلفة، ثم لم يحمل الأمر فيها على التخيير في ظاهر المذهب؛ فانبنى الأمر فيها على الالتفات إلى الأقوات، والتقديرُ: صاعاً من بُر إن كان قوتاً غالباً، أو صاعاً من شعير إن كان غالباً، وذِكْرُ الشاةِ مفردٌ فيما نحن فيه، واردٌ على الذمة؛ فكان إطلاقها كإطلاق الرقبة في الكفارة، أو كإطلاق الشاة في الضحية، وفي هَدْي المناسك، والتفصيل العويص في الإبل المذكور (1) في الدِّية، وذلك يأتي إن شاء الله تعالى في الديات. وبالجملة تشبيه الشاة فيما نحن فيه بشاة الضحية قريب جداً. فإن قيل: فلتجزىء على طريقة صاحب التقريب شاة معيبة، قلنا: ما وجب لغرض المالية، فهو مقيّدٌ بالسلامة، ولذلك يقيّد إيجاب الغرّة بالسلامة، والضحية تقيّدت بالسلامة عما يقدح في مقصودها، والرقبة في الكفارة متقيدة بما يليق بالمقصود من الإعتاق. فإن قيل: فهلاّ خرج فيما نحن فيه وجهٌ أنه يُخرج الشاة من نوع غنمه إذا كان يملك غنماً؟ قلنا: لا نرى له خروجاً، وإن ذكره بعضُ الضعفة اعتباراً بإبل العاقلة؛ فإنا في طريقةٍ لنا نقول: يُخرج كلُّ غارمٍ من العاقلة من إبله إذا كان يملك إبلاً، والسبب فيه أنه لو كلف تحصيلَ ما ليس له، كان ذلك تكليفَ مشقة مضمومة إلى ما طوقناه من الغُرم من غير جناية، ولا يتبين ذلك إلا في كتاب الديات، والقدر المقنع هاهنا أن اعتبارَ مالِه -وليست الشاة واجبة فيه- بعيدٌ عن قياس الزكاة، فالوجه اعتبارُ مطلق الاسم، مع غرض المالية.

_ (1) كذا في الأصل وباقي النسخ ما عدا (ت 2)، ووجهه أن المراد بـ (المذكور) هو التفصيل، وليس الإبل، أما (ت 2) ففيها: "المذكورة".

فهذا تمام القول في ذلك. 1758 - فالظاهر إذن اعتبار الاسم والمالية، كالضحية مع مقصودها. ويليه على بُعدٍ ما ذكره العراقيون من الرجوع إلى الغالب في البلد، فأما النظر إلى نوع مال المزكي، فقد غلط بالمصير إليه صائرون، ولا يعد هذا من المذهب، بل هو هفوة لا مبالاة بها. ومما يتعلق بذلك أن الجذعة أو الثنية هي المجزئة في هذا المقام، وهل يجزىء الذكر؛ حتى يقبل جذع من الضأن أو ثَنِيّ من المعز؟ فيه وجهان، وسأعيدهما إذا عقدت فصلاً جامعاً -إن شاء الله تعالى- في أن الذكر متى يجزىء في المواشي المخرجة في الزكاة. فهذا نَجاز القول في ذلك. فصل 1759 - في الخمس والعشرين من الإبل بنت مخاض، وهي التي استكملت سنة وطعنت في الثانية، والمخاض اسم للناقة الحامل، والناقة تحمل سنة، وتُحيل سنة، فإذا استكمل ولدُها سنة، وحملت في السنة الثانية، يقال لولدها بنتُ مخاض، أو ابن مخاض. فإذا ولدت الأم الولدَ الثاني، ودرّ لبنُها، فهي لبون، وولدها الأول قد استكمل سنتين، وطعن في الثالثة، وهو ابن لبون، أو بنت لبون. فأما الحِقّة، فهي التي استكملت ثلاثَ سنين، وطعنت في الرابعة، وقد اختلف في اشتقاق هذا الاسم، فقيل: سميت حِقة لأنها على هذا السن تستحق أن يُحمل عليها، وقيل: استحقت الإطراقَ عليها، وأمكن العلوق منها. ْوالجذعة هي الطاعنة في الخامسة. وهذا منتهى أسنان الزكاة.

1760 - فنعود إلى غرض الفصل، فنقول: إذا ملك خمساً وعشرين من الإبل، وكان في ماله بنتُ مخاض مجزئةٌ، فهي واجبُ ماله، وإن لم يكن في ماله بنت مخاض، وكان فيه ابن لبون، أجزأ ابن لبون، وهذا منصوص عليه في الحديث (1)، وهو متفق عليه (2). ثم الأنوثة في الزكاة مبغيّةٌ مطلوبة، والذكورة ملحقة بالعيوب، وإن لم تكن بمثابتها في كل الوجوه، فكأن الشارع رقى في السن، وقبل الذكورة؛ فكان ابنُ لبون بمثابة بنت المخاض، ولكنه يترتب عليه، فلا يُقبل ابنُ اللبون مع وجود بنت المخاض في المال، (3 فإن لم توجد بنتُ المخاض، أجزأ ابنُ اللبون، إذا كان موجوداً في المال 3)، وإن كان شراء بنت المخاض ممكناً. هذا مقتضى النص، وهو مجمع عليه، فلو لم يكن في ماله بنتُ مخاض، ولا ابن لبون، وكان يحتاج إلى تحصيل أحدهما لأجل الزكاة، فالذي نقله الأئمة عن نص الشافعي أنه بالخيار: إن شاء اشترى بنت مخاض وإن شاء، اشترى ابن لبون، قال صاحب التقريب: الوجه أنه يلزمه شراء ابنة المخاض، ووجه قوله أنهما إذا فقدا في ماله، فقد استوى الأمر في بنت المخاض وابن اللبون، وإمكان التحصيل شامل لهما جميعاً، فصار الاستواء في حالة الفقد بمثابة ما لو وجدا جميعاً في مالهِ، ولو كان كذلك، لتعيّن إخراج بنت المخاض، ووجه النص أن الأصل استواء بنت المخاض وابن اللبون؛ فإنهما متعادلان: في أحدهما نقصان السن وزيادةٌ في الصفة، وفي الثاني زيادة السن ونقص الذكورة، وحكم ذلك الاعتدالُ، وإنما يتعين عند الوجود إخراج بنت المخاض لأجل النص، ثم ابن اللبون ليس على حقائق الأبدال، بدليل أنه

_ (1) المراد حديث أنس الذي رواه البخاري في مواضع من صحيحه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك آنفاً. ويقول الحافظ سراج الدين بن الملقن: "حيثما وجدته معزواً إلى أنس، أو إلى أبي بكر، فإنه في البخاري". (ر. خلاصة البدر المنير: 1/ 85، ح 993). (2) ليس المراد هنا المصطلح الحديثي، الذي يعني أن الشيخين اتفقا على إخراجه، فلعل المقصود هنا الاتفاق على صحة الحديث، بالمعنى العام، أو الاتفاق على هذا الحكم، فقد نقل الإجماع على هذا ابن المنذر، والنووي (ر. المجموع: 5/ 400). (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

إذا وجد في ماله ابن اللبون أجزأ، وإن كان تحصيل بنت المخاض ممكناً، فإذاً قُدِّمت بنت المخاض لمكان النص في صورة الوجود. 1761 - ومما يتفرع على ذلك أنه لو كان في ماله بنت مخاض معيبة لا تجزىء وابن لبونٍ ذكر صحيح مجزىء، أجزأ ابنُ اللبون، ووجود تلك المعيبة وعدمها بمثابة واحدة. ولو كان في ماله بنتُ مخاض كريمة لا يؤخذ مثلُها [لكرمها] (1) إلا أن يتبرع بها (2)، وكان في ماله ابن اللبون، فهل يقبل منه ابن اللبون، أم نكلفه تحصيلَ بنت مخاض؟ اختلف أئمتنا: والذي مال إليه جواب أصحاب (3) القفال أنه لا يؤخذ منه ابن اللبون؛ فإن بنت المخاض موجودة، وهي مجزئة لو تبرع ببذلها؛ فلا يُؤخذ منه ابن اللبون، وليس كما لو كانت معيبة؛ فإن المعيبة لا تجزىء أصلاً فهي كالمعدومة. وذكر العراقيون أن الكريمة كالمعدومة، وهي بمثابة المعيبة؛ فإنها إذا لم تكن مأخوذة، فكأنها معدومة، وهذا متجه لا بأس به. وظاهر المذهب غيره. وهذه الترددات سببها خروج ابن اللبون عن قياس الأبدال، مع أنه يترتب على بنت المخاض من وجه، والأئمة تارة يتمسكون بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة يتشوفون إلى طرفٍ من المعنى. ومما ذكره صاحب التقريب متصلاً بذلك أن بنت اللبون هي فريضة الست والثلاثين، فلو عدمها المالك، ووجد في ماله حِقّاً ذكراً، فهل يجزىء الحِقُّ بدلاً عن بنت اللبون، كما يجزىء ابن اللبون، بدلاً عن بنت المخاض؟ تردد في هذا جوابه، وما ذكره من طريق الاحتمال متجه، ولكن الأليق بمذهب الشافعي اتباعُ النص، وتخصيص ما ذكره الشارع من إقامة ابن اللبون مقام بنت المخاض بمحله. 1762 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "فإن لم يكن

_ (1) في الأصل، و (ط): للزمها. ومعلوم أن كرائم الأموال، لا تؤخذ في الزكاة، إلا أن يتبرع صاحبها. (2) (ت 2): والمالك لا يتبرعّ بها. (3) ساقطة من (ت 2).

في ماله بنت مخاض، فابن لبون ذكر" (1)، وقد اختلف في فائدة تقييد كلامه بالذكر، فقال المحصلون: جرى ذلك تأكيداً للذكورة، ومثل هذا كثير، وقال بعض الضعفة: فائدته أن الخنثى لا تجزىء. وهذا هَوَس؛ فإنه إن كان ذكراً، فهو ابن لبون، وإن كان أنثى، فبنت اللبون خير من ابن اللبون. ومن منع هذا [قال] (2)؛ هذا تشويه في الخلقة يمنع صفة الأنوثة وخاصيّتها وصفةَ الذكورة، فكان عيباً مانعاً (3). فصل في الجبران 1763 - جبران نقصان الأسنان ثابت في صدقة الإبل، والأصل فيه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في أثناء نُصُب الإبل وواجباتها: "ومن بلغت صدقته جَذَعة وليست عنده، وعنده حِقة؛ فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا عليه، أو عشرين درهماً" (4). وأصل الجبران متفق عليه، واختصاص جريانه بنُصب الإبل متفق عليه أيضاً، ونحن نذكر تفصيل القول فيه إن شاء الله تعالى. 1764 - فنقول: من ملك ستاً وثلاثين من الإبل، فواجبها بنت اللبون، فإن كانت موجودة في ماله على شرط الإجزاء، فأراد أن يخرج بنتَ مخاض مع الجبران، أو أراد أن يخرج حِقة، ويستردّ من الساعي الجبران، فلا يقبل ذلك منه. نعم لو أخرج حِقّة بدلاً عن بنت لبون، من غير مطالبة بجبران، فهي مقبولة منه؛ فإن ما يقبل من الكثير، فهو مقبول مما دونه، بحكم فحوى الخطاب، كما تقدم.

_ (1) جزء من حديثٍ سبق. (2) في الأصل: "فإن". (3) ر. المجموع: 5/ 389، 402. (4) جزء من حديث أنس السابق.

فأما إذا لم يكن في ماله بنت لبون، وكان في ماله بنت مخاض، فأخرجها، وأخرج معها شاتين، أو عشرين درهماً، فهذا مقبول مجزىء، ولا نكلفه أن يشتري بنتَ لبون، وإن كان ذلك ممكناً متيسراً عليه. وكذلك لو أراد مع عدم بنت اللبون أن يخرج من ماله حِقة ويسترد من الساعي شاتين، أو عشرين درهماً، جاز ذلك. ولو لم يكن في ماله بنت اللبون وكان في ماله جذعة فإن أخرج الجذعة، فقد رقى بسنَّين. فيسترد جبرانين، وهما أربع شياه، أو أربعون درهماً. وكذلك لو كان واجب ماله حِقة، فلم تكن في ماله، وكان في ماله بنت مخاض، فنزل، وأخرجها، وضم إليها أربعَ شياه، أو أربعين درهماً، فما بذله مقبول وفاقاً. وكل مرتبة في الترقي والنزول مقابلة بشاتين، أو عشرين درهماً. 1765 - ولو كان واجب ماله بنتَ لبون، ولم تكن في ماله، وكان في ماله حقة وجذعة، فإن أخرج الحِقة واسترد جبراناً واحداً، جاز، وإن أخرج الجذعة، وأراد استرداد جبرانين، فالذي صار إليه معظم الأصحاب أنه لا يُجاب إلى ذلك؛ فإنه بترقّيه إلى الجذعة، قد تخطّى سناً قريباً ممكناً موجوداً في ماله. نعم، لو اكتفى بجبران واحد، وأقام الجذعة مقام الحِقة، فيسوغ ذلك، أخذاً من الفحوى، كما تقدم ذكره. وقال القفال: لو أخرج جذعة، واسترد جبرانين، جاز؛ فإن الحِقة ليست واجبَ ماله، وإنما واجبُ ماله بنتُ اللبون، فلا أثر لتخطِّي الحِقة عند وجودها، وهذا منقاس حسن، وإن كانت جماهير الأئمة على مخالفته. ولو كان واجب ماله بنتَ لبون، وكان في ماله بنتُ مخاض، وجذعة، ولم يكن في ماله حِقة، ولا بنت لبون، فلو نزل وأخرج بنتَ مخاض مع جبران، أجزأ، وإن أراد إخراجَ الجذعة واسترداد جبرانين، فهل يجوز ذلك؟ أما القفال، فإنه يجوّز ذلك؛ فإنه إذا كان يجوّز إخراج الجذعة مع وجود الحِقة القريبة من بنت اللبون، التي هي واجب ماله، وفي الترقي إلى الجذعة تخطِّي الحِقة؛ إذ الجهة واحدة، وهي

الصعود، فلأن يجوّز إخراجَ الجذعة مع بنت المخاض في جهة النزول [أوْلى] (1). وأما من قال: لا يجوز إخراجُ الجذعة مع وجود الحِقة، فقد ذكروا وجهين في جواز إخراجها، ولا حِقةَ، مع وجود بنت المخاض: أحدُ الوجهين - أنه يتعين إخراجُ ابنة المخاض؛ لأنها أقرب إلى بنت اللبون من الجذعة، والثاني - أنه يجوز إخراج الجذعة؛ فإن الجهة قد اختلفت نزولاً وصعوداً، وليس كما لو كانت الحقة موجودة. 1766 - ومما يتعلق بتفريع الجبران أن من لزمه إخراج جذعة، فلم تكن، فأخرج ثنية، وهي الإبل فوق الجذعة، فإن تبرع بها، فلا شك أنها مقبولة، وإن أراد أن يسترد جبراناً، فهل يجاب إلى ذلك، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجاب، اعتباراً بالترقي من الحِقة إلى الجذعةِ، والثاني - لا يجاب، فإن الثنية ليست من أسنان الصدقة، فلا أثر لتلك الزيادة، والجبران إنما يثبت مع التردد في أسنان الصدقات، وهو على الجملة غير منقاس؛ فيتعين الاتباع فيها. ولا خلاف أن من كان واجب ماله بنتَ مخاض، فأخرج فصيلاً، وضم إليه جبراناً، لم يُقبل منه. والفرق في ذلك بيّن واضح. ثم لا خلاف أن الدراهم التي يخرجها نُقْرة (2)، وكذلك تكون دراهم الشريعة حيث وردت. 1767 - ثم قال الأئمة إن كان رب المال يضم إلى ما يخرجه جبراناً واحداً، وهو شاتان، أو عشرون درهماً، فلو أخرج شاة وعشرة دراهم، لم يقبل وهذا عند الأئمة مشبه بما لو أطعم الحانث في يمينه خمسة وكسا خمسة، فإنه لا يجزىء عما لزمه. وبمثله لو كان يخرج جبرانين فأخرج عن جبران شاتين، وعن جبران عشرين درهماً. فهذا مقبول منه، وهو مشبه بما لو حنث في يمينين، والتزم كفارتين، فأطعم في إحداهما عشرة، وكسا في الأخرى عشرة؛ فإن ذلك يجزىء ويخرج عن الكفارتين جميعاً، فكل جبران مشبه بكفارة.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) النقرة: السبيكة تكون من الذهب أو الفضة. ولكن المقصود هنا الفضة.

1768 - ثم تمام القول في ذلك أن رب المال إذا كان يخرج سنّاً ناقصاً وجبراناً، فلو أخرج شاتين، فقال الساعي: أريد الدراهم، أو على العكس، فالذي نقله المزني أن الخيار في ذلك إلى المعطي. وقال الشافعي في الإملاء: المتبع رأيُ الساعي، وقد اختلف الأئمة في ذلك، فقاك بعضهم: في المسألة قولان: أحدهما - أن الرجوع إلى اختيار الساعي، كما لو ملك المالك مائتين من الإبل، واجتمع حساب الحِقاق وبنات اللبون؛ فإن الساعي هو المتَّبع في [أحد] (1) السنّين، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. والقول الثاني - أن المتبع اختيار المعطي، فإن النبي عليه السلام، قال: "وأخرج معه شاتين أو عشرين درهماً" فكان هذا متضمناً تخييرَ المخرِج صريحاً، وأيضاً؛ فإن الجبران أثبته الشارع تخفيفاً وترفيهاً، حتى لا يحتاج ربُّ المال إلى شراء السن الذي هو واجب المال؛ فالذي يليق بالتخفيف أن تكون الخِبَرةُ إلى المعطي، وليس كذلك إذا اجتمعت الحقاق وبنات اللبون، فإنه لم يتأصل فيه قاعدة مقتضاها الترفيه. وذهب جمهور الأئمة وهو الذي قطع به الصيدلاني أن الاختيار إلى المعطي، في إخراج الشاة والدراهم، قولاً واحداً، كما نقل المزني، وما حكي في الإملاء من أن الاختيار إلى الساعي، فهو محمول عليه إذا كان الساعي هو المعطي. ثم إذا خيّرنا ربَّ المال، فكان هو المعطي، فاختياره غير مرتبط برعاية الغبطة للمساكين، ولكن له أن يخرج الدراهم، وإن كانت الغبطة في إخراج الشاة. وإن قلنا: المتبع رأيُ الساعي؛ فإن الساعي لا يتخير تخبر المتشهي بلا خلاف، بل يتعين عليه رعايةُ الغبطةِ والمصلحةِ للمساكين، فإنه فيما يخرجه يتصرف في أملاك المساكين، فيلزمه الاحتياط فيه. ولو اختلف رب المال والساعي فقال رب المال -والواجب بنت اللبون ولم تكن موجودة في المال-: أنزل إلى بنت المخاض، وأجبر، وقال الساعي: بل أخرج الحِقة، وأنا أجبر، أو على العكس؛ ففي ذلك وجهان، تخريجاً على الخلاف المقدم

_ (1) في الأصل و (ك): آخر، و (ت 2): أخذ. والمثبت من (ت 1).

في الشاة والدراهم، والأصح اتباع رب المال، ومن أصحابنا من قال: يتبع الساعي. ثم إن كان رب المال يبغي ما هو الأصلح للمساكين [خلافه] (1)، فهذا موضع الخلاف، وإن كان ما يؤثره هو الأصلح، فلا يتصور فرض الخلاف فيه؛ فإنَّ الساعي [إن] (2) وافقه، فلا كلام، وإن خالفه، فرأيه غير متبع على خلاف النظر والمصلحة، وإن استوى ما يريد هذا وذاك في الغبطة، فالأظهر عندي اتباعُ رب المال في هذه الصورة. فرع: 1769 - إذا كانت إبله معيبةً كلُّها؛ فإنا نقبل منه معيباً، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، فلو كان واجب ماله بنت لبون، فلم يجدها في ماله، وأخرج بنت مخاض، وضم إليه جبراناً، قبلنا منه. ولو أراد أن يرقى فيخرج حِقَّة معيبة، ويسترد من الساعي جبراناً، فقد قال أئمتنا: لا يجاب إلى ذلك؛ فإن الجبران المسترد قد يبلغ قيمة البعير الذي أخرجه، وهذا يجر تخسيراً محضاً، وضرراً بيّناً على المساكين، والغرض من إخراج الزكاة إفادةُ المساكين، لا الاستفادة منهم. والذي يحقق ذلك أن الجبران بعيد عن مسالك الرأي، والمعتمد فيه الاتباع المحض، وإنما ورد فيما يعم ثبوته، وهو أن تكون الإبل سليمة، أو تكون فيها سليمة. والذي يتجه عندي في ذلك أنا إن جرينا على ظاهر المذهب -وهو أن الخيار إلى رب المال- فينبغي أن يستثنى صورةُ المعيبة عن هذا، لما ذكرناه من أداء الأمر إلى تخسير المساكين، فأما إذا قلنا: الرجوع إلى رأي الساعي، ثم إنه رأى الغبطة للمساكين في أن يبذل الجبرانَ، ويأخذ سنّاً عالياً -وإن كان معيباً- فالوجه القطع بجواز ذلك على هذا الوجه، والذي منعناه ردّ الأمر إلى اختيار رب المال في هذه الصورة، وهذا بيّن، وهو مراد الأصحاب قطعاً.

_ (1) ساقطة من الأصل، و (ط). (2) ساقطة من الأصل، و (ط) و (ت 2) و (ك) والمثبت من: (ت 1).

فصل يشتمل على تفاصيل المذهب في استقرار الفريضة 1770 - قد تبين أن النُّصب والأوقاص غيرُ مستقرة دون المائة والعشرين، وإنما يستقر الحساب من هذا المبلغ، فيجب في كل خمسين حِقَّة، وفي كل أربعين بنتُ لبون. فنبتدىء من هذا المحل، ونقول: لا بد من زيادة على المائة والعشرين، ثم إن زاد بعيراً (1)، تغير الحساب، (2 ووجب ثلاثُ بنات لبون، واختلف أئمتنا في أن الفريضة هل تُبسط على هذا البعير الزائد أم لا؟ فمنهم من قال تنبسط، فإذاً في كل أربعين وثلثِ بعير بنتُ لبون. وهذا في ظاهره مخالف لظاهر النص فيما رواه أنس؛ فإن فيه في كل أربعين بنت لبون، ولكن رُوي في بعض الروايات الصحيحة: "فإذا زادت واحدة على المائة والعشرين، ففيها ثلاثُ بنت لبون". ومن أئمتنا من قال: البعير الزائد يغير الحساب 2) من الاضطراب إلى الاستقرار، ولا يتعلق به من الفريضة شيء؛ فإن حساب الاستقرار مقتضاه تعلقُ بنت اللبون بأربعين، وهو جارٍ مطرد وراء هذه المرتبة. ثم قالوا: لا يمتنع أن يتعلق الحساب بشيءٍ وإن لم يتعلق به شيء من الفرض، واستشهدوا بالإخوة مع الأبوين، فإنه لا حظَّ لهم، ولكنهم يردّون الأمَّ من الثلث إلى السدس. 1771 - ومما يتعلق بذلك أنه لو زاد على المائة والعشرين شقص من بعير، فقد ظهر اختلاف الأئمة في أن الحساب هل يستقرّ به؟ فمنهم من قال: يستقر؛ فإن الزيادة قد تحققت، وفي بعض الروايات في هذا المبلغ: "فإن زاد، ففي كل أربعين بنت لبون". واسم الزيادة يثبت بشقص، وأيضاً: فإن هذه الزيادة لا حاجة إليها في تمهيد حساب؛ فإن الحساب القويم في الاستقرار مقابلةُ كل أربعين ببنت لبون.

_ (1) في (ت 1): "بعيرٌ" بالرفع. وواضح أن النصب على تقدير: "زاد المالُ بعيراً". (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

ومن الأئمة من قال: لا يستقر الحساب ما لم تزد بعيراً؛ اعتباراً بجملة الأوقاص والنصب في زكاة النَّعَم. 1772 - ثم مذهب أبي حنيفة (1) أن الفريضةَ تُستأنف وراء المائة والعشرين، فيجب في كل خمسٍ شاة، إلى بنت المخاض، على تفصيل لهم مشهور، وقد حكى العراقيون أن [ابن جرير] (2) من شيوخنا كان يخيّر وراء المائة والعشرين [بين] (3) مذهب الشافعي في المصير إلى الاستقرار، وبين مذهب أبي حنيفة في المصير إلى الاستئناف، وهذا متروك عليه غير معتد به، وهو في التحقيق خرم للإجماع؛ فإن التخيير مذهب ثالث، وإخراج قول ثالث -والعلماء على قولين- كاختراع ثان والعلماء مطبقون على قولٍ. فهذا منتهى الكلام في هذه المقام، ولا غموض وراء ذلك إلى بلوغ المائتين. 1773 - فنقول الآن: إذا بلغت الإبل هذا المبلغ، فقد اجتمع حساب الحِقاق وبنات اللبون جميعاً؛ فإن المائتين أربع خمسينات، وخمس أربعينات؛ فينشأ من هذا ضروب من الكلام: أولها - أن إخراج الحقاق مجزىء لثبوت حسابها، وكذلك إخراج بنات اللبون، عند رعاية الأصلح للمساكين، كما سنفصله الآن إن شاء الله تعالى. وحكى صاحب التقريب والعراقيون قولاً غريباً للشافعي: أن واجب المال في هذا

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 412 مسألة 391، مختصر الطحاوي: 43. (2) في جميع النسخ "ابن خيران" وهو تصحيف، صوابه: ابن جرير. أي محمد بن جرير الطبري. جاء ذلك التصويب في المجموع للنووي حيث قال: "حكى الغزالي في الوسيط عن ابن خَيْران، أنه قال بالتخيير بين مقتضى مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة، فأوهم (الغزالي) أنه قول أبي علي بن خيران من أصحابنا، وأنه وجه من مذهبنا، وليس كذلك، بل اتفق أصحابنا على تغليط الغزالي في هذا النقل، وتغليط شيخه في (النهاية) في نقله مثله، وليس هو قول ابن خيران، وإنما هو قول محمد بن جرير الطبري". ا. هـ (المجموع: 5/ 401). وحقّاً: لا يَعْرى من التصحيف أحد. (3) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

المبلغ الحِقاقُ. ثم قال صاحب التقريب قاطعاً قوله: هو مؤوَّلٌ محمول على ما إذا لم يكن في المال إلا الحقاق. وذكر العراقيون هذا المسلك، وقالوا: من أئمتنا من أجراه قولاً بأن الاعتبار في زكاة الإبل بالزيادة في الأسنان ما وجدنا إليه سبيلاً، والدليل عليه ترتيب الواجبات في النُّصب، فإنها على الترقي في الأسنان إلى منتهاها، ثم بعد المنتهى الشرعي اعتبر الشارع الزيادة في الإبل، فإذا أمكن اعتبار السن، وجب التمسك به، وإخراج الحِقاق تعلق بالسّن، وإخراج بنات اللبون تعلّق بالعدد. وهذا الذي ذكروه متروك مزيّف، لا يرجع إليه؛ فالذي نقطع به أن بنات اللبون والحِقاق أصلان في هذا المحل، ثم النصُّ، وما صار إليه الأصحاب أن الحقاق، وبنات اللبون إذا وجدت في المال، فالساعي يأخذ الأصلح، والأغبط للمساكين. 1774 - وذكر الصيدلاني، وغيرُه تخريجاً عن ابن سريج في أن الخِيَرةَ إلى رب المال، إن شاء أخرج الحقاق، وإن شاء بنات اللبون. ولا يجب عليه مراعاة الغبطة، كما أنه في ظاهر المذهب يتخيّر في الجبران. وقد تقدم التفصيل فيه. وهذا الذي ذكره قياس ظاهر، وإن كان مخالفاً لظاهر النص، وهو معتضد بظاهر الخبر؛ فإن الخبر كما يتضمن إخراج الحِقاق لِمكان حساب الخمسين، يتضمن إخراج بنات اللبون لمكان حساب الأربعين. 1775 - فان قيل: بماذا توجهون النص؟ قلنا: إذا تعرض كل واحد من السِّنَّيْن للوجوب، وقد وُجدا جميعاً، فلو أخرج أحدَهما على خلاف الغبطة، فهو تارك شيئاً واجباً موجوداً، والجبران واقع في ذمة المخرِج وهو في لفظ الشارع موكول إلى خِيَرة المعطي، فإن فرّعنا على التخريج، فالأمر مفوّض إلى اختيار المالك المعطي. وإن فرّعنا على ظاهر النص والمذهب، فالساعي يأخذ الأصلح والأغبط، فإن وافق ما أخذه وجهَ الغبطة، فلا كلام. وإن أخذ شيئاً، والمصلحة في أخذ الآخر، مثل: إن أخذ الحِقاق وغبطة المساكين في بنات اللبون، أو كان الأمر على العكس، فالذي ذكره الأئمة أنه إن أخذ

ذلك على علم وبصيرة، قاطعاً بأنه تارك للنظر، فما أخذه على هذا الوجه لا يسقط به الفرض، بل هو مردودٌ، وربّ المال مطالَبٌ بالسن الذي فيه الغبطة. فأما إذا اجتهد، وظن أن الذي أخذه الأصلح، وكان مخطئاً في ظنه، فالذي أخذه هل يقع الموقع؟ فيه ثلاثةُ أوجه: اثنان ذكرهما صاحب التقريب. وذكر العراقيون الثالث معهما. فأحد الوجوه - أن المأخوذ لا يقع الموقع؛ لأنه على خلاف موجب الشرع. والثاني - أنه يقع فرضاً؛ فإنه على الجملة أصل، وقد انضم إلى أخذه الاجتهادُ. والقائل الأول يقول: إذا حصل الوفاق على أنه لو تعمد ترك النظر فيما أخذه، لم يقع الموقعَ، وقد تحققنا خطأه بيقين، فينبغي أن يكون هذا بمثابة ما لو تعمد. وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً، فقالوا: إن كان ما أخذه باقياً، ردّه، وطلب الأصلح، وإن فرّقه على المستحقين، فقد وقع الموقعَ، فإنّ تتبعه عسِرٌ. فإن قلنا: ما أخذه يقع الموقع، فهل يجب على رب المال أن يجبر النقص أم لا؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - لا يجب ذلك، وهذا فائدةُ وقوع ما أخذه موقع الإجزاء. والثاني - يجب رعايةً لحق المساكين. وإن فرعنا على وجوبه، فلو كان ذلك المقدارُ من الجبران بحيث يتأتى شراء شقص من بعير به، فكيف حكمه؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا نكلفه ذلك لما في التشقيص من التعذر، بل نأخذ منه في جبران النقصان الدراهمَ والدنانيرَ، بأن ينظر إلى المقدار الذي فات من الغبطة. ومن أئمتنا من قال: يجب صرفه إلى شقصٍ، فإن الأبدال على طريقة الشافعي لا مدخل لها في الزكوات، ولا معدل عن النصوص (1). فإن قلنا: يتعين صرفه إلى جنس الإبل، فقد اختلف أئمتنا، فقال بعضهم: ينبغي أن يكون ذلك الشقص من نوع المأخوذ؛ حتى يتحد قَبيلُ المأخوذ.

_ (1) فيما عدا نسخة الأصل: "المنصوص".

ومنهم من قال: يتعين تحصيلُ الشقص من النوع المتروك؛ فإنه كان الساعي مأموراً بأخذه ابتداءً، فأخطأ. وظاهر النص ما ذكره الأصحاب في الوجهين - أنه يتعين نوع عند الكافة، حيث انتهى التفريع إليه. والخلاف فيما يتعين. ولا يبعد عن القياس عندي في هذا المقام تخييرُ المالك، حتى يقال: إن شاء أخرج من نوع المأخوذ، وإن شاء أخرج من النوع الآخر، بعد أن يتحقق جبران النقصان. وقد أشار إلى هذا بعض المصنفين، وهو متّجه (1)، فتحصل إذاً ثلاثةُ أوجه. 1776 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا جوّزنا له إخراجَ الدراهم، ففي إجزاء إخراج الشقص أدنى نظر، لما فيه من العُسر والتعذر على المساكين، ولهذا اعتبر الشارع الأوقاص بين النصب؛ إذ لو أوجب في كل ما يزيد بحسابه، لاقتضى ذلك إيجابَ قسطٍ. ولمَّا كان التبعيض غيرَ متعذر في النَّقدين، فلا وقصَ عند الشافعي بعد وجوب الزكاة، بل في كل ما زاد بحسابه. فظاهر المذهب أنه إن أخرج شقصاً أجزأه، ولكن لا يلزمه، بل له إخراج الدراهم. 1777 - ثم قال صاحب التقريب: إن قلنا: يتعين إخراج شقص، فلو كان لا يوجد بمقدار الجبران شقص -قال- فالوجه قبول الدراهم في هذه الحالة؛ إذ لا سبيل إلى تكليفه ما لا يقدر عليه، ولا وجه لتأخير حق المساكين، وردد قولَه في غير هذا، مشيراً إلى أنه يتوقف إلى أن يجد جزءاً من بعير. وهذا بعيد جداً غيرُ معتد به. ثم قال: لو ملك خمساً من الإبل وواجبها شاة، فلو كان لا يجد جنسَ الشاة أصلاً، فيؤخذ منه قيمةُ شاةٍ على تقدير الوجود. وحكى الوفاق في هذا. قال: والسبب في الوفاق أن الشاة في وضعها خارجة عن جنس المال، فاحتمل في ذلك قيمة الشاة عند الضرورة.

_ (1) إنصاف لـ (بعض المصنفين)، فلْيُحفظ ذلك.

1778 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الحِقاق وبنات اللبون جميعاً موجودة في ماله. ولو لم يوجد في ماله إلا أحد السنَّين، فلا خلاف أن الساعي يأخذه، ويكتفي به وإن كان الأصلح الآخر، ولا يجب الجبران وفاقاً، وهو بمثابة ما لو وجبت بنتُ مخاضٍ في الخَمس والعشرين، فلم نجدها، ووجدنا ابن اللبون، فإنه يأخذه، ويكتفي به. ولو عُدم السنّان جميعاً في ماله، فلا بد من تحصيل أحدهما. وقد اختلف الأئمةُ في ذلك، فقال بعضهم: يجب شراء الأصلح، كما يجب إخراج الأصلح في ظاهر المذهب عند وجود السِّنَّيْن جميعاً. ومن أئمتنا من خيّر المالك، ولم يُلزمه رعاية الأصلح، وقد سبق لهذا نظيرٌ فيه إذا لم نجد في الخمس والعشرين بنتَ مخاض، ولا ابنَ لبون. غيرَ أنَّا ثَمَّ لا ننظر إلى الأصلح. ولكن إما أن نعيّن ابنة المخاض؟ إذ هي الأصل، وإما أن نخيّر في شرائهما، والمرعيّ الغبطة في مسألتنا أو الخيرة. ولو كان في ماله أربع حقاق وأربع بنات لبون، أخرج الحِقاق، وقُبلت، وإن كانت الغبطة في بنات اللبون؛ فإن بنات اللبون ليست كاملة، فهي كالمفقودة. وكذلك إذا كانت الحِقاق سليمة، وبنات اللبون معيبة، فالمعيب كالمفقود. وقد مضى تفصيل ذلك. 1779 - ومما ينبغي أن نجدّد به العهد أنه جرت فصول متشابهة لا بد من أن [نسردها] (1) ونستاقَها، فنقول: ابنة المخاض وابن اللبون إذا اجتمعا في الخمس والعشرين، فبنت المخاض هي الأصل، وإن كانت الغبطة في ابن اللبون، فلا يجزىء غيرُ بنت المخاض مع وجودها، وإن عُدِما، فالقياس أنه يتعين تحصيل بنت المخاض، وهو وجهٌ، وظاهر النص أنه بالخيار، ولا نظر إلى الغبطة أصلاً. وإن اجتمعت الحقاق، وبنات اللبون، في المائتين، فهما جميعاً أصلان، وليسا

_ (1) في الأصل و (ط): نستردها. والمثبت من (ت 1) و (ت 2).

كبنت المخاض وابن اللبون، والكلام الآن في [أن] (1) الساعي يأخذ الأغبط، أم النظر إلى خِيَرة المالك؟ وقد رتبت (2) فيه ما ينبغي، فظاهر المذهب وجوب رعاية الغبطة. ولا خلاف [أنه] (3) لو وجد أحد السنَّين بكماله دون الثاني أُخذ الموجود، ولم يراع في أخذه الغبطة. وإن فُقِدا جميعاً، ففي تكليف شراء الأغبط خلافٌ ذكرته، فظاهر القياس تخييره؛ فإنهما على البدل واقعان في الذمة، فشابها الدراهمَ والشاتين في الجبران؛ فإنهما لما وقعا في الذمة، ولم يكن أحدهما أصلاً دون الثاني، فالمذهب تخيير المعطي، كيف؟ وفي بنت المخاض وابن اللبون إذا فُقِدا في الخمس والعشرين خلاف، وظاهر النص أن الخِيرة إلى من عليه الزكاة، وإن كانت بنت المخاض في رتبة الأصول لو كانت موجودة، فأما الخلاف الذي ذكرته في رعاية الغبطة في الجبران، فهو في نهاية البعد. ولست أعتد به من المذهب. 1780 - وقد بقي من تمام الفصل شيء يتعلق بحكم الجبران، فنقول: إذا عدم في المائتين الحِقاق، وبنات اللبون؛ فإن اتخذ بناتِ اللبون أصلاً، ونزل منها إلى بنات المخاض فأخرج خمسَ بنات مخاض، وأخرج معها خمسَ جُبرانات: عَشْرَ شياه، أو مائة درهم، جاز ذلك. وكذلك لو قدَّر الحقاقَ أصلاً، وترقَّى منها إلى أربع جذاع، فأخرجها، واسترد من الساعي أربع جبرانات، جاز ذلك، وفي الخيرة في الجبران ما قدمناه من تفصيل المذهب. ولو قدر الحقاق أصلاً، ونزل منها إلى بنات المخاض، وأخرج أربع بنات مخاض، وأخرج معها ثمان جبرانات لسنَّيْن، فلا يجزىء ذلك؛ فإنه في نزوله يتخطى واجباً، وهو بنات اللبون.

_ (1) زيادة من (ت 1) وحدها. (2) في (ت 2): ثبت. (3) في الأصل و (ط) و (ك): ولا خلاف، ولو وجد. والمثبت من (ت 1) و (ت 2).

وكذلك لو قَدَّر بناتِ اللبون أصلاً، ورقى إلى الجذاع، فأخرج خمسَ جذاع، وأراد أن يسترد عشر جبرانات لسنَّين، فلا يجزىء ذلك؛ فإنه في صعوده يتخطى واجباً، وهو الحِقاق، وليس هذا كالصورة التي قدمناها في فصل الجبران، وهي إذا كان واجبُ ماله بنتَ لبون، فرقى إلى الجذعة، ففي جواز ذلك كلام سبق؛ فإن الحقة ليست واجبَ ماله، وإن كان على طريق رقيّه. 1781 - ومما يتعلق بذلك أيضاً أنه لو كان في ماله حقة، وأربع بنات لبون، فلو أخرج بنات اللبون، وأخرج الحقة واسترد من الساعي جبراناً، جاز، ولو جعل الحقة أصلاً، وأخرج معها ثلاث بنات لبون، وثلاث جبرانات، حتى تلتحق بنات اللبون بها بالحقاق، فالمذهب جواز ذلك. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك؛ فإنه في هذا السبيل يُبقي واحدةً من الأصول، وهي بنت اللبون. وهذا مُزيّف، لا أصل له، ولا اعتداد به. فهذا تفصيل القول في الجبران في هذا الفصل. 1782 - ولو أخرج حقتين وبنتي لبون ونصف، لم يقبل منه؛ فإنه تفريق الفريضة. 1783 - ولو بلغت إبله أربعمائة، ففيها عشر بنات لبون، وثمان حقاق، فلو أخرج أربع حقاق، وخمس بنات لبون، ففي إجزاء ذلك وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ فإنه تفريق الفريضة، فأشبه ما ذكرناه في المائتين. والوجه الثاني - يجوز، فكل مائتين أصل، فكأنه اعتبر في إحدى الجملتين حساب الأربعينات، وفي الثانية حسابَ الخمسينات. وهذا الخلاف يجري مهما بلغ المال مبلغاً يشتمل على أربعينات وخمسينات، بحيث يخرج منها بنات لبون وحقاق، من غير تشقيص. وهذا منتهى الغرض في ذلك.

فصل قال: "ولا زكاة حتى يحول عليه الحول ... إلى آخره" (1). 1784 - الأموال التي تقتنى وتجب الزكاة في أعيانها، أو قيمها عند التجارة، فلا (2) تجب الزكاة فيها إلا إذا تم الحول. والأصل فيها ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول" (3) وقد تمهّد أن الشارع أثبت الزكاة في مالٍ نامٍ في جنسه كالنَّعم، وأموالِ التجارة، أو متهيءٍ للاستنماء كالنَّقدين، واعْتَبَرَ أيضاً مقداراً نامياً؛ فإن المالَ القليل لا يظهر له نماء، واعتبر مدةً يُفرض فيها النماء، بالنِّتاج أو الربح، وهو الحَوْل؛ فإنه يشتمل على فنون الأزمنة (4)، ثم إنها تتكرر من بعدُ. والزكاة التي تجب فيما هو عين النماء والفائدة، كالثمار والزروع، فلا يعتبر فيها الحول، والنصاب معتبر على ما سيأتي ذلك مشروحاً. ثم ذكر الأئمة حكمَ الوقص، وتفصيلَ القول في الإمكان وعدمه، وتلفَ المال، بعد الحول وقبله. ونحن نمهد أصولاً، ثم نفرع غرض الفصل إن شاء الله تعالى. 1785 - فنقول: من ملك تسعاً من الإبل، لزمته شاة بلا مزيد، ثم حكى الأئمة قولين عن الشافعي في أن الشاة الواجبة تتعلق بالنصاب والوقص جميعاً، وتنبسط على الجميع، أو تتعلق بالنصاب، والوقصُ عفو، ولا تعلق للزكاة به أصلاً؟

_ (1) ر. المختصر: 1/ 190. (2) كذا بالفاء في جميع النسخ. (3) حديث: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". أخرجه أبو داود، وأحمد، والبيهقي عن علي، والدارقطني من حديث أنس، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1573، والبيهقي 4/ 95، والدارقطني: 2/ 90، 91، وانظر إرواء الغليل: 3/ 254، والتلخيص: 2/ 156 ح 820). (4) فنون الأزمنة: أي أنواعها، بمعنى أن الحول يشمل فصول الطبيعة، من حرٍّ وبرد، واعتدالٍ، وكذلك يشمل المواسم والأعياد، مما له أثر في الرواج، والكساد.

(1 فالمنصوص عليه في الجديد أن الوقص عفو ولا تعلق للزكاة به 1)، وإنما تتعلق الزكاة بالنصاب. وهو مذهب أبي حنيفة (2)، ونص في القديم (3) على أن الزكاة تتعلق بالنّصاب والوقص جميعاً. 1786 - والذي أراه أن في نقل القولين على هذا الوجه لبساً. وأنا أوضّحه في التفريع، إن شاء الله تعالى، فمن نفى التعلّق بالوقص، احتج بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في خمسٍ من الإبل شاة، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ عشراً" (4) وهذا ظاهر [في] (5) نفي التعلّق بالوقص، وإن أمكن أن يقال: معناه لا شيء فيه زائداً، وتمسك هذا القائل بأن قال: من آثر المصير إلى التعلق بالوقص،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ك). (2) ر. البدائع: 2/ 23، ورؤوس المسائل: 220 مسألة: 100. (3) اختلف نقل الشيرازي في المهذب، عن الشافعي، فقد جاء فيه: "قال في القديم والجديد: يتعلّق الفرض بالنُّصُب. وما بينهما من الأوْقاص عفوٌ ... وقال في البويطي (من الجديد): يتعلق الفرض بالجميع ... " وقد سكت عنه النووي في المجموع، ولم يعقب عليه، ولم يشر إلى ما حكاه إمام الحرمين في النهاية، مع أنه كثير النقل عنها. ولكن الذي يستحق النظر حقاً أن النووي -وهو يتحدث عن لفظ الوقص- قال ما نصه: "قال أهل اللغة، والقاضي أبو الطيب، وغيرُهما من أصحابنا: الشَّنق هو أيضا ما بين الفريضتين" ثم قال: "قال الشافعي في البويطي: ليس في الشنَق من الإبل، والبقر، والغنم شيء، قال: والشَّنق ما بين السِّنين من العدد ... هذا نصه في البويطي بحروفه". ا. هـ من المجموع، وقال هذا بنصه أيضاً في تهذيب الأسماء واللغات. فهذا نص يؤكد أن الشافعي يقول في البويطي: "ليس في الأوقاص شيء" وعبارة النووي توحي بأنه ينقل من البويطي بنفسه. إذاً ما قاله الشيرازي من أن الشافعي يقول في البويطي: "يتعلق الفرض بالجميع" غير صحيح، وأن الصواب هو قوله في القديم، كما قال إمام الحرمين. والله أعلم. (ر. المجموَع: 5/ 390، 393، وتهذيب الأسماء واللغات: 4/ 194، والتنبيه: 38، ورؤوس المسائل مسألة رقم 100). (4) رواه أبو داود، والترمذي، والحاكم، من رواية ابن عمر (ر. أبو داود: الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1568، والترمذي: الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم، ح 621، وأحمد: 2/ 14، 15، والحاكم: 1/ 392، وخلاصة البدر: 1/ 297 ح 1022). (5) زيادة من (ت 2).

قال: إنه لو تلف شيء من الوقص بعد الحول، يسقط قسطٌ من الزكاة، وكل ما لا تزيد الزكاة بزيادته، يبعد أن تنقص بتلفه ونقصانه. ومن نصر القول القديم، احتج باتحاد الجنس والصفة واتصاف جملة المال بالكثرة، فلا معنى لتخصيص تعلق الزكاة بالبعض، وقد استشهد هذا القائل بما لو سرق السارق نصاباً وزيادة؛ فإن وجوب القطع يتعلق بالجميع، ولا يختص بمقدار النصاب. ولم يَحْكِ الأئمة في ذلك تردداً. ولا يبين الغرض فيما ذكرناه إلا بالتفريع. وذهب كثير من الأئمة إلى أن من ملك نصابين مثلاً، مثل أن يملك عشراً من الإبل، ولزمه شاتان، فتنحصر كل شاة في الخمسة، ولا تنبسط كل شاة على جميع العشر، وهذا فيه نظر بيّن، ومستدرك عظيم، سنذكره، إن شاء الله تعالى. فهذا أحد الأصول. 1787 - ومن الأصول القولُ في الإمكان، فإذا حال الحول على نصابٍ زكاتي، ولم يتمكن المالك من تفريق الزكاة على المستحقين -كما سنصف الإمكان ومعناه- فهل نحكم بوجوب الزكاة، أو نقول يتوقف وجوبها على تحقق الإمكان، ووجود التمكن من تفرقة الزكاة؟ المنصوص عليه في الجديد أن الزكاة تجب بحولان الحول، ولا يتوقف وجوبها على الإمكان، ونصّ في القديم على أن الزكاة لا تجب إلا عند التمكن من الأداء. توجيه القولين: من قال: الإمكانُ شرطُ الوجوب احتج بأن التكليف شرطه الاستطاعة، والشريعة مبناها على امتناع تكليف ما لا يطاق، فلا يستقيم إذن الحكم بالوجوب مع نفي الإمكان، والدليل عليه الحج مع الاستطاعة؛ فإنه لا يُقضَى بوجوبه دونها. ومن قال: الإمكان ليس شرطَ الوجوب؛ قال: ثبوت الزكاة ووجوبُها حقاً لله تعالى متميز (1) على أدائها وتفريقها على مستحقيها، ونحن نرى الزكاة في قاعدة

_ (1) "متميزٌ" بالرفع خبر (ثبوت).

القياس، وموجب الشرع تستدعي قدراً، وجنساً، ومضيَّ مدة، وقد تجمعت هذه الخصال، وتَمَّ ارتفاقُ المالك، أو تمكنُه من الارتفاق، فينبغي أن يُقتضب (1) من هذه الجهات ثبوت الزكاة حقاً لله تعالى وشكراً لنعمائه. والأداء أمر متميز عن الثبوت، ومن كان عليه دين، وهو غير ممتنع من أدائه، ومستحِقُّه غيرُ مطالبٍ به، فالديْن ثابت، ولكن لا يتعين أداؤه ما لم يطلبه مستحقُّه، كيف، ونحن نحكم بأن الدَّين ثابت على المعسر في حياته، وبعد مماته، حتى يجوز الضمان عنه، وإن كان الأداء غير ممكن. وأما ما ذكره ناصر القول الأول من أن الإطاقة شرط التكليف، ففيما ذكرناه جواب عنه، وما استدل به من الحج، فهو متميز عما نحن فيه. أولاً؛ فإنه عبادة بدنية، وليس أمراً تميز أداؤُه عن وجوبه وثبوته، وهذا يدركه الفطن من قضايا الشريعة. على أن في الحج نظراً، فإن تعليقه بالاستطاعة من ترفيهات الشريعة، والدليل عليه أن المكلَّف لو تكلف المشقة وحجّ وهو غير مستجمعٍ للشرائط المعتبرة في الاستطاعة، فحجه يقع معتداً به عن حجة الإسلام، ولا يقال عبادة بدنية قُدِّمت على وقت وجوبها، كالصلاة تقدَّم على وقتها؛ فلا يقضى بإجزائها. فليتأمل الناظر ذلك. وهو مشبه بالدين المؤجل؛ فإنه ثابت، ولكن مَن عليه الدين مُمهَل غير مشقوق عليه. فهذا هو بيان القولين وتوجيههما في الإمكان. وتمام البيان يأتي بعد ذلك. 1788 - ومن الأصول في الفصل: أن الزكاة إذا وجبت، وتحقق التمكُّن، فلا يجوز تأخيرُ أدائها من غير عذر، وهي مع ارتفاع المعاذير واجبةُ الأداء، على الفور والبدار.

_ (1) كذا في النسخ كلها، (يقتضب) أي يقتطع ويؤخذ من هذه الجهات ثبوت الزكاة. وقد تقرأ على غير هذا الوجه، فإنها غير منقوطة. والمعنى واضح من السياق على كل حال. والله أعلم بالصواب.

وأبو حنيفة يقول: إن وجوب أدائها على التراخي. ويظهر أثر الخلاف في أن الحول إذا حال، وتحقق الإمكان، فلو أخّر من عليه الزكاة حتى تلف المال، استقرت الزكاة في ذمة من التزمها، ولم تسقط. وأبو حنيفة (1) يحكم بسقوط الزكاة، مهما (2) تلف المال الزكاتي. 1789 - ويبقى بعد تمهيد ما ذكرناه القول في معنى الإمكان. قال الأئمة: الأموال تنقسم إلى ظاهرة وباطنة، كما سيأتي ذكرها، فأما الأموال الظاهرة، ففي وجوب صرف زكاتها إلى السلطان قولان معروفان: فإن قلنا: يتعين صرفها إلى السلطان، فلا إمكان -وإن حضر المستحقون- ما لم يتمكن مَنْ عليه الزكاة من تسلميها إلى السلطان، أو الساعي الذي هو منصوبه، وإن قلنا: يفرّق من عليه الزكاةُ الزكاةَ على المستحقين بنفسه، فظاهر المذهب أنا نستحب له الدفعَ إلى السلطان؛ إذ فيه أولاً الخروج عن الخلاف، والسلطان أيضاً أعرف بالمستحقين، وأقدر على البحث عن أحوالهم. فإذا فرعنا على أن للمالك أن يفرق الزكاة بنفسه، وقد تمكن منه، ولكنه كان يؤثر وِجدان السلطان، وتسليمَ الزكاة إليه، فأخر لهذا السبب، فقد اختلف أصحابنا في أنه هل يعذر لهذا السبب؟ فمنهم من قال: يعذر -وإن كان أداء الزكاة على البدارِ- فهذا القدر محتمل. ومن أئمتنا من قال: لا يعذر. وفائدة هذا التردد أنه لو أخر للسبب الذي ذكرناه، فتلف ماله، فسقوط الزكاة عنه يخرّج على الخلاف. هكذا ذكره الأئمة. وهذا فيه فضل نظرٍ عندي، فالوجه أن نقول: إن لم نعذره بهذا السبب، عصّيناه بالتأخير، وضمَّنّاه، وإن عذرناه بالتأخير، فاتفق تلف المال، ففي الضمان وجهان:

_ (1) ر. طريقة الخلاف للأسمندي: 23، مسألة: 9، الغرة المنيفة: 39، تحفة الفقهاء: 1/ 474. (2) "مهما": بمعنى (إذا).

أحدهما - لا يجب؛ لمكان العذر على الوجه الذي فرّعناه عليه. والثاني - يجب؛ فإن هذا وإن كان عذراً عند هذا القائل، فهو عذر تخيّر، والزكاة دَيْن الله تعالى، فيظهر أن يقال: هذا مما نجوّزه، ولكن على شرط التزام سلامة العاقبة، ولا يخفى نظائر ذلك. وهذا بيّن. 1790 - ومما ذكره بعض المصنفين في ذلك أن الأولى في الأموال الباطنة أن يتعاطى المالك بنفسه تفرقةَ الزكاة، ولو دفعها إلى السلطان، جاز. ولو تمكن من الدفع إلى الوالي، فأخر حتى يؤديها بنفسه، فتلف المال، ففي سقوط الزكاة خلاف. 1791 - والقول الضابط في ذلك أن نقول: إن لم يتمكن من عليه الزكاة من تفرقتها أصلاً حتى تلف ماله، سقطت الزكاة تخفيفاً، وعُذِرَ، وإن تمكن، ولكن كان يرتاد (1) الأفضل والأولى، كما تقدم تصويره، [فهو محل النظر والتردد] (2)، ومن تلك الصور أنه إذا كان ينتظر حضورَ قريبه، الذي لا تلزمه نفقته، أو كان يرتقب حضورَ جيرانه -إذا وضح أن صرف الزكاة إلى هؤلاء أولى- أو كان ينتظر حضورَ من حاجته أشدّ، وضرُّه وفاقته أبْين، فإذا فُرض تلف المال في أثناء ذلك، ففي سقوط الزكاة وبقائها خلاف. وكشفُ الغطاء في ذلك أن التأخير إن كان لترو ونظرٍ في صفات المستحقين على قرب، وكان يتمارى (3) في أمر من حضر، فما يُعدّ من الاحتياط والتروّي مع رعاية الاعتدال، فهذا أراه عذراً وجهاً واحداً؛ حتى لا أعصّي المؤخِّر بسببه. فأما التأخير بسبب ارتقاب شهود الأقارب، أو الجيران، فجوازه محتمل، ويظهر أن يقال: لا يجوز؛ فإن الزكاة على الفور، وهذه فضيلة يبغيها، وتأخير الحق من ذي الحق بهذا غيرُ سائغ. نعم لو شهد الأجانب والأقارب، فله أن يختار الأقارب، فأما أن يؤخر لانتظارهم

_ (1) في (ت 2): ولكن كان يرجو بتأخيره زيادة الأفضل. (2) زيادة من هامش (ت 2). (3) يتشكك.

فبعيد. وكذلك القول في انتظار السلطان، كما قدمناه. ثم هذا التردد عندي فيه إذا لم يظهر ضُرُّ مَنْ حضر وشهد، فأما إذا كانوا يتضرَّرون (1) جوعاً، وهو يؤخر إلى حضور جارٍ أو قريب، فلا سبيل إليه قطعاً؛ فإن مدافعاتهم على ضروراتهم، لمزيّة وفضيلة محالٌ. ثم أقول وراء ذلك: حيث امتنع التأخير، فلا شك في وجوب الضمان عند تحقق التلف، وإن سوّغنا التأخير في بعض الصور، مع إمكان البدار، ففي وجوب الضمان مع هذا وجهان؛ نظراً إلى التزام سلامة العاقبة. 1792 - ومما يتعين الاعتناء به أن من قال: الإمكان من شرائط الوجوب، فالذي أراه القطعُ بأن المعنيَّ بالإمكان المشروط في الوجوب تصوّر الأداء، فأما ما يتعلق بإحراز الفضائل، فلا يسوغ المصير إلى أنه شرطُ وجوب الزكاة على هذا القول، وقد صرّح بذلك الصيدلاني في آخر الباب، وليس هو مما يتمارى فيه. 1793 - ومما يتعلق بتمام ذلك أنا إذا فرّعنا على أن الإمكان شرط الوجوب، فلو انقضى الحول، ولا إمكان، حتى مضى شهر مثلاً، فابتداء الحول الثاني يحتسب من مُنقرض الحول الأول، لا من وقت الإمكان، فلا يختلف حساب الأحوال باستئخار الإمكان، مصيراً إلى أن ابتداء الحول الثاني يعقب وجوبَ الزكاة. ولو انقضت أحوال، والمالك على ارتفاقه، والمال على نمائه، وكان المالك لا يتمكن من أداء الزكاة، ثم تمكن، فلا يجوز أن يعتقد أن زكوات تلك الأحوال لا تجب. نعم لو عسر [الارتفاق] (2) بغَصْبٍ في المال، أو ضلالٍ، ففيه أقوال، وتردّدٌ ظاهر، وكذلك لو فرض نتاج بعد الحول الأول، وقبل الإمكان، فهو محسوب من الحول الثاني، كما سيأتي تفصيل القول في النتاج، بناء على أن حساب الحول

_ (1) في (ت 2): يقصرون جميعاً، وفي باقي النسخ "يتضررون" كما هو مثبتٌ؛ فلا يظنن ظانٌّ أنها "يتضوّرون"، كما هو مألوف سمعنا الآن. (2) في الأصل، و (ط): الارتقاب.

لا يختلف باستئخار الإمكان، فالنتاج إذاً وقع في الحول الثاني، فليحسب من فوائد الحول الثاني. وقد نجز عند ذلك غرضنا من تمهيد الأصول، ونحن الآن نبتدىء التفريع والله ولي الإعانة بمنه وفضله. 1794 - فنقول أولاً: من ملك خمساً من الإبل، فانعقد الحول عليه، ثم تلف منه بعير مثلاً، أو خرج عن ملكه ببيع أو هبة، فإذا حال الحول والمال ناقصٌ عن النصاب، فلا شك أن الزكاة لا يجب منها شيء. ولو انقضى الحول على الخمس، واستعقب الإمكان، فلم يؤدّ الزكاة، ولا عذر، حتى تلف المال، أو بعضه، لم يسقط من الزكاة شيء. ولو لم يتمكن من الأداء، حتى تلف جميعُ المال، فلا زكاة. ثم إن قلنا: وجبت بالحول، سقطت بسبب عدم الإمكان. وإن قلنا: الإمكان شرط الوجوب، فالزكاة لم تجب أصلاً، وكان هذا بمثابة ما لو تلف المال قبل حولان الحول. وقد عبّر الأئمة عن القولين، فقالوا: الإمكان في قولٍ شرط الوجوب، وهو القديم، ومذهب مالك (1)، وفي قول هو شرط الضمان، فإذا لم يتمكن حتى تلف المال، فلا ضمان. فهذا إذا لم يتمكن أصلاً. فأما إذا تمكن بعد الحول، ولكن أخّر لعذر من الأعذار التي ذكرناها في صور الوفاق والخلاف، فإذا تلف المال في هذه المدة، ففي سقوط الزكاة وبقائها الخلافُ المتقدم. ولو تلف بعد الحول وقبل الإمكان بعير، فإن قلنا: الإمكان من شرائط الوجوب، فقد سقط جميع الزكاة، فإنه قد نقص المال عن النصاب قبل زمان الوجوب، فكان هذا بمثابة ما لو تلف بعيرٌ قبل (2 انقضاء الحول. وإن قلنا: ليس الإمكان من شرائط الوجوب، فيسقط بتلف بعير قبل 2) الإمكان

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 382 مسألة: 517، حاشية الدسوقي: 1/ 443. (2) ما بين القوسين ساقط من (ك).

خُمس الواجب، ويبقى أربعةُ أخماس شاةٍ. 1795 - ولو انقضى الحول على تسعٍ من الإبل، فتلف قبل الإمكان أربع، وبقيت خمس، فيجتمع الآن أصلان: أحدهما - الإمكان، والثاني أن الزكاة هل تبسط على الوقص، أم ينحصر وجوبها في مقدار النصاب، والوقصُ عفوٌ؟ فنقول في هذه الصورة: إن قضينا بانحصار الزكاة في النصاب، فالنصاب باقٍ، فتجب فيه شاة، ولا يسقط بتلف الوقص شيء، وإن قلنا: تتعلق الزكاة بالنصاب والوقص جميعاً، فهذا يخرج الآن على قولي الإمكان، فإن قلنا: هو شرط الوجوب، فتجب شاةٌ كاملة، ويتنزل هذا منزلة ما لو تلف أربعٌ قبل حلول الحول. وإن قلنا: الإمكان شرط الضمان وليس شرطَ الوجوب، فقد وجبت الزكاة، وهي شاة، وانبسطت على التسع، فإذا تلف أربعٌ قبل الإمكان، سقطت حصتها، وهي أربعة أتساع شاة، وبقيت خمسة أتساع شاة. قلت: وعلى المتأمل هاهنا وقفة، إن كان يبغي دَرْك النهاية، فأقول: لو رُددتُ (1) إلى ما يظهر (2) له، لقلت إن الزكاة تتعلق بالتسع؛ فإن النصابَ والوقصَ من جنسٍ واحد، وإنما القولان في أنا هل نجعل الوقص في حكم الوقاية للنصاب، كما نجعل الربح في القراض وقاية لرأس المال عند فرض الخسران؟ فكأنا في قول نقول: هو وقاية للنصاب، وهو الصحيح، وإن كانت الزكاة تتعلق بالجميع، فإن الزكاة إذا لم تزد بها، لم تنقص بتلفها. وفي قولٍ نقول: ليس الوقص وقاية، بل تتعلق الزكاة على قضيةٍ واحدة بالكل، وإذا تلف البعض، سقطت حصتُه من الزكاة، وهذا ضعيفٌ غير متجه. 1796 - ومن تمام البيان في ذلك أن المشايخ قالوا: إذا ملك نصابين، فواجب كل نصاب منحصر فيه، وزعموا أن هذا متفق عليه، وإنما القولان في النصاب والوقص.

_ (1) في (ت 2): وردت. (2) في (ك): ما لا يظهر.

وتحقيق القول في ذلك أن من ملك نصابين، فالوجه أن يقال: واجب النصابين متعلق بجميع المال، من غير انحصار واختصاص. والدليل عليه أن بنت المخاض واجب نُصب، وهي الأخماس، ثم لا وجه إلا إضافة بنت المخاض إلى جميع الخمس والعشرين من غير حصر وتخصيص، وكذلك إذا وجب في ست وثلاثين بنت لبون، فالوجه إضافتها إلى جميع المال. ثم إذا وضح في الأسنان، فلا شك في اطراد قياسه حيث تكون الزيادة بالعدد. والدليل عليه أنه إذا زاد بعير بزيادة عشرة عند استقرار الحساب، فلا يعتقد عاقل أن البعير وجب في العشرة، ولكن الوجه إضافة الكل إلى الكل، والذي يوضح ذلك، أن باب الخلطة مبناه على تعلّق جميع الواجب بجميع المال، وعليه ابتنى التراجع وتفريعات الخلطة، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. فإذاً خرج من هذا أن حقيقة المذهب أن من ملك نصابين، فواجبهما متعلق بجميع المال، بلا خلاف، ولكن ليس أحد النصابين وقاية للثاني. وإذا ملك الرجل نصاباً ووقصاً، فالوجه انبساط الواجب على الكل، ولكن هل يسقط واجب النصاب بتلف الوقص، أم هو وقاية، والتلف محسوب من الوقص؟ فعلى قولين، كما تقدم ذكرهما. فهذا هو الغرض. ولكن جرت عبارة الأصحاب في أن الزكاة هل تتعلق بالوقص أم لا. فهذا منتهى المراد في ذلك. 1797 - ولو ملك تسعاً من الإبل، وحال الحول، فتلفت خمس، وبقيت أربع قبل الإمكان، فإن قلنا الإمكان من شرائط الوجوب، فتسقط الزكاة بجملتها، ويتنزل منزلة ما لو تلف خمس وبقيت أربع قبل حلول الحول، ولو كان كذلك، لما وجبت الزكاة أصلاً. وإن قلنا: الإمكان من شرائط الضمان، وقد وجبت الزكاة بحلول الحول، فيعود التفريع إلى أن الزكاة تتعلق بالوقص أم لا؟ فإن قلنا: إنها تتعلق بالوقص، فيسقط خمسة أتساع شاة، ويبقى أربعة أتساع، وإن قلنا: تتعلق الزكاة بالنصاب دون

الوقص، فيسقط خُمس شاة، ويبقى أربعة أخماس شاة، وهذا بيّن. والتحقيق فيه ما أجريناه في أدراج الكلام من إيضاح معنى القولين في تقدير الوقص وقاية للنصاب. فصل (1 إذا كانت ماشيته نوعين صحاح ومِراض، فلا نأخذ الفريضةَ مريضة أصلاً، حتى 1) لو ملك خمساً وعشرين من الإبل، وأربعٌ وعشرون منها مِراض وواحدة صحيحة، فلا نقبل الزكاة إلا صحيحةً، وهذا متفق عليه. ولكن قال الأئمة: لو كان في ماله صحيحةٌ كريمة، وباقي ماله مِراض، فلا نأخذ تلك الكريمة، فإنا لو فعلنا ذلك، كنا مجحفين به، ولكن نكلفه شراءَ صحيحة تناسب قيمتُها مالَه. وذكر العراقيون فيه تقريباً في صورة، فنذكرها ليعتبر بها أمثالها. فنقول: من ملك أربعين من الغنم، عشرون منها صحيحة قيمة كل واحدة عشرون درهماً، وعشرون مريضة قيمةُ كل واحدة منها عشرة، فنأخذ نصف قيمة مريضة، وهي خمسة، ونصف قيمة صحيحة، وهي عشرة، فنشتري صحيحة بخمسةَ عشَرَ. وقد أجمع الأئمة قاطبةً على أن المعيبة لا تؤخذ من الصحاح، وإن كانت قيمتُها زائدةً على قيمة الصحيح. 1798 - ثم الذي ذكره علماؤنا أن العيب المرعيّ فيما نحن فيه ما يُثبت الردَّ بالعيب في البيع، ولا تعتبر العيوب المانعة من الإجزاء في الضحايا. وحكى شيخي أن من أئمتنا من اعتبر السلامة عن عيوب الضحايا، والسلامةَ من العيوب التي تثبت الرد، وهذا زلل غير معتد به، والوجه القطع باعتبار عيوب الرد فحسب. ولعل السبب في أن المعيبة لا تجزىء، وإن كانت رفيعة القدر أنه قد يتفق للساعي

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

إمساكُ المواشي [مدّة] (1) إلى أن تتفق تفرقتها، فلو كانت معيبة، فقد تهلك في مدة الحبس، وعلى الجملة للتعبد مدخل في منع إجزاء المعيبة في الزكاة، كما أن له مدخلاً في الضحايا. 1799 - ولو وجب في ماله سِنّان، وكان جميع ماشيته معيبة إلا واحدة، فلو أراد أن يخرج معيبين، لم يقبلا منه، ولو أخرج تلك الصحيحة، وكانت سنَّ الفريضة، أو أعلى من السن، وأخرج مريضة، فالذي قطع به العراقيون والصيدلاني أن ذلك يجزئه؛ لأنه لم يُبق لنفسه صحيحة. وكان شيخي يقطع في دروسه أنه إذا كان في ماله صحيحة واحدة، وواجب ماله أسنان، فلا بد من أن تكون جميعها صحيحة، ولا يكفيه أن يخرج تلك الصحيحة، وكان يعلل بأن من أخرج بعيرين من إبله، فهما يزكيان ماله، وكل واحدٍ منهما يزكي الثاني، وإن كانا مخرجين، فلو أخرج صحيحةً ومريضة، فيلزم أن تزكي المريضةُ الصحيحة. وهذا عندي خروج عن ضبط الفقه، وتقديرٌ بعيد لا حاصل له، والمطلوب ألا يبقى للمالك صحيحة، ويُخرج مريضة، وما بعد ذلك لا أصل له. والزكاة إذا أُخرجت، فالباقي مزكّى بها، فأما الزكاة، فلا تزكي نفسها. 1800 - ومما يتصل بما نحن فيه أن الشافعي قال: "لو كانت ماشيته معيبة، لزمه أن يخرج خيرَ المعيب" فظاهر هذا يقتضي أنا نُلزمه أن يتخير للزكاة أفضل ماله وخيرَه، وقد اتفق أصحابنا على مخالفة هذا الظاهر، وزعموا أن القول به إجحافٌ برب المال. وقد يقول القائل: إذا كان في ماشيته المراض ما هو أقل عيباً، وأقربُ إلى السلامة، فهو بالإضافة إلى ما هو أكثر عيباً، وأظهر مرضاً كالصحاح (2 بالإضافة إلى المريض، وقد ذكرنا أنه إذا كان في ماشيته صحاح، فلا يقبل فيه إلا صحيحة 2)، وإن

_ (1) في الأصل، وفي (ط): هذه. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

كان أكثرُ ماله مراضاً، فهذا فيه احتمالٌ، مع الاعتضاد بظاهر نص الشافعي. ولكن أجمع الأئمة على خلافه؛ فإن المطالبة بالصحيحة -وفي المال صحاح- فيه تعبد، كما ذكرته. ولا تعتبر فيه القيمة وارتفاعها؛ فإنا لا نقبل مريضةً رفيعة القدر، وإن كانت قيمتها تزيد على قيمة صحيحة مجزئة. 1801 - فاما إذا كانت ماشيته كلها مراضاً، فقد عُدمت الصحيحة المعتبرة منه، فيرجع النظر إلى اعتبار الإنصاف. وقد قال الأئمة إذا كانت ماشيته كلها مراضاً، وكانت منقسمةً إلى رديئة، وإلى جيدة مع المرض، فلا نطلب البالغةَ في الجودة، ولا نأخذ الرديئة البالغة في الرداءة، ولكن نأخذ الوسط بين الدرجتين. وحمل معظمُ الأئمة (1 قول الشافعي 1) على هذا، فقالوا: المعنيّ بقوله: [نأخذ] (2) خير المعيبة إلى (3) الوسط منها. وذكر العراقيون في ذلك صورة، وحكَوْا فيها تردداً، وهي أنه لو ملك خمساً وعشرين من الإبل وفيها بنتا مخاض، والإبل كلها مريضة، ولكن كانت إحدى بنتي المخاض من أجود المال مع [العيب] (4)، وكانت الأخرى دونها، فللساعي أن يطلب الأجود، وإن كانت أرفع ما عنده؛ فإنها وقعت سنَّ الزكاة، فهذا مذهب بعض الأصحاب. ومنهم من قال: لا نكلفه ذلك، بل نقنع بالوسط، وإن لم نجد، كلفناه أن يشتريَ بنت مخاض وسط، بالإضافة إلى ماله. وهذا التردد سببه أن خير المعيب بمعنى الأجود وقع سنَّ الفريضة، فشابه ذلك طلب الساعي الأغبط، إذا اجتمعت الحقاق، وبنات اللبون في المائتين، والصحيح الاكتفاء بالوسط. كما ذكرناه.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (3) كذا في جميع النسخ، ولعلها "أي الوسط منها". (4) في الأصل، (ط)، (ك): المعيب.

1802 - ولو ملك خمساً من الإبل المراض، فأراد أن يخرج شاةً مريضةً، لم يكن له ذلك، هذا ما وجدتُ الطرقَ متفقة عليه؛ وذلك أن ما يخرجه ليس من جنس ماله، بل هو واجب مطلق في الذمة، فيحمل على السليم عن العيوب. وكذلك إذا كانت إبله مراضاً وكان واجبها بنتَ لبون، ولم تكن موجودة في ماله، فنزل وأخرج بنت مخاض مريضة، وشاتين للجبران، فنشترط الصحةَ في الشاتين، لما ذكرناه. والدليل عليه أنه متردد بين الشاتين وعشرين درهماً، ولا يتخيل في الدراهم نقصان، لأنه ثبت إخراجها توقيفاً، وقد ورد الشرع بها مطلقةً من غير تفصيل. فصل قال: "وما هلك أو نقص في يد الساعي فهو أمين ... إلى آخره" (1). 1803 - إذا سلّم الرجل الزكاة في أمواله الظاهرة إلى السلطان، أو إلى نائبه، وهو الساعي، فالذي يجب القطع به أن ذمة المعطي قد برئت من الزكاة، وإن لم تصل إلى المستحقين، والسبب فيه أن الشرعَ نصبَ أيدي السلاطين نائبة عن المستحقين، فإذا قبضوها، فقد وقع القبضُ للمستحقين، فيد الساعي كيد ولي الطفل، ولو قبض وليُّ الطفل حقاً للطفل، وتلف في يده، فقد برئت ذمة المؤدي، وهذا يتضح جداً إذا قلنا: لا بد من دفع الزكاة في الأموال الظاهرة إلى الساعي. فأما إذا قلنا لرب المال أن يفرقها بنفسه، فلو دفعها إلى الساعي مختاراً من غير قهر، فتلف (2) في يد الساعي والحالة هذه؛ ففيه اختلاف: من أئمتنا من قال: قد برئت ذمةُ المعطي؛ لأن السلطان على الجملة نائبٌ عن المستحقين، وليسوا متعينين. ومنهم من قال: يد الساعي كيد وكيل المالك، ولو وكل وكيلاً، ودفع إليه زكاة ماله، وأمره بإيصالها إلى مستحقيها، فتلفت في يده، فلا شك أن ذمةَ رب المال

_ (1) ر. المختصر: 1/ 194. (2) كذا "تلف" في جميع النسخ، وتصح على تأويل الزكاة بالحق أو المال.

مشغولة كما كانت، ثم الساعي على الجملة إن كان مفرّطاً في حبس الزكاة عن أربابها، فإنه يضمن لتفريطه، وإن كان يجمع الأموالَ، ويتردد على جباية الزكوات، فاتفق في أثناء ذلك تلفُ بعضها، فهو أمين غير ضامن؛ فإنه لا يجب عليه أن يفرّق كل قليل وكثير حصل في يده، والمرجع في الضمان ونفيه إلى تفريطه وعدم تفريطه. 1804 - ومما يذكر في ذلك أن السلطان لو كان جائراً، فسلّم الزكاة إليه، فتفصيل ذلك على التحقيق الذي نبغيه في هذا المذهب (1)، لا يحتمله هذا المكان، والقول فيه يتعلق بالإيالة (2) الكبيرة، وأحكام الولاة، ولعلّنا نذكر في موضعٍ نراه حظّاً صالحاً منه، تمس الحاجة إليه. والقدر الذي يعتاد الفقهاء ذكره، أن الوالي هل ينعزل بفسقه أم لا؟ وفيه تردد لهم، فإن قضينا بانعزاله، فلا حكم لأخذه، فإن سلّمه إلى المساكين، فهو نحو وكيل، وإن لم يسلّمه إليهم، فذمة المالك مشغولة. وإن قضينا بأن الوالي لا ينعزل بظلمه، فهو في الحكم الذي نحن فيه نازل منزلة العدل، إن قلنا: يتعين دفعُ زكاة الأموال الظاهرة إلى الوالي. وإن قلنا: لا يجب -ولم يكن قهر- فدفع رب المال إليه، فأهلكه، ولم يوصله إلى المستحقين، فالظاهر أنه يجب على المالك تثنية الزكاة، في هذه الصورة لتقصيره. وقد ورد عن النبي عليه السلام في خبر أنه قال في الزكاة: "سلموها إليهم، ولو وضعوها في أفواه دوابهم" (3) أراد استنفقوها، ولعل المراد الاستحثاثُ على اتباع الولاة، وترك الاعتراض عليهم، وبذل الطاعة لهم. ...

_ (1) المذهب: المراد به (هذا الكتاب). (2) "الإيالة الكبيرة": أي السياسة العظمى في أحكام الخلافة والإمامة. (3) حديث: "سلموها إليهم ... " لم نصل إليه فيما رأينا من كتب السنة. ولكن روى الطبراني في الأوسط حديثين بقريب من هذا المعنى، أحدهما عن عبد الله بن عمر، والآخر عن سعد بن أبي وقاص. (مجمع الزوائد: 3/ 80).

باب زكاة البقر

باب زكاة البقر 1805 - اعتمد الشافعي في الباب حديثَ معاذٍ رضي الله عنه، وفي حديثه: "أنه أخذ من ثلاثين من البقر تبيعاً" (1)؛ فليس فيما دون الثلاثين زكاةٌ عند عامة العلماء. وذهب بعض السلف إلى أن في كل خمسٍ منها شاة إلى الثلاثين، وهذا مذهب مهجور لا عمل به، ولا تعويل عليه، ومذهبنا ما ذكرناه. 1806 - ثم التبيع أولاً ذكَرٌ، فإن أخرج تبيعة، قُبلت؛ فإنها أفضل. والتبيع هو الذي استكمل سنة، وطعن في الثانية، ومعتمد المذهب فيه أنه قد ورد في بعض الأخبار الجَذَعُ في مكان التبيع، والجَذَع من البقر، كالجَذَع من الضأن، وليس كالثَّنِيَّة من الضأن. وقد ذكر بعض المصنفين ما ذكرناه، وقال: إنه المذهب، قال: وقيل: التبيع العجل الذي يتبع أمه. وذكر العراقيون في معنى التبيع طرقاً: أحدها - أنه الجَذَعُ، كما سبق تفسيره، قالوا: وهو المختار، قالوا: وقيل: التبيع هو العِجْل الذي يتبع أمه، وقيل: هو الذي بدا قرنُه، وصار يتبع أذنَه. وعندي أن هذا تصرف منهم في مأخذ اللفظ من طريق اللغة، فأما حظ الفقه مما ذكروه، فهو أنه الجَذَع.

_ (1) حديث معاذ رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. (ر. أبو داود: الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1576، والترمذي: الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، ح 623، والنسائي: الزكاة، باب زكاة البقر، ح 2452، وابن ماجة: الزكاة، باب صدقة البقر، ح 1803، والدارقطني: 2/ 102، والحاكم: 1/ 398، والبيهقي: 4/ 98، والتلخيص: 2/ 154 ح 814، وخلاصة البدر: 1/ 286 ح 996).

ثم المذهب الذي عليه التعويل أنه الذي استكمل سنة، وليس لما قيل من أنه العجل الذي يتبع أمه ضبطٌ، فإن كان يتطرق إلى المذهب شيء بعيد، فهو تردّد سنذكره في سن الجذعة من الضأن، وظاهر المذهب أنها التي طعنت في السنة الثانية، ومن أصحابنا من قال: إذا استكملت أشهراً، فهي جذعة. وهذا على بعده يجري في التبيع؛ فإن التبيع والجذع واحد، والمذهب ما ذكرناه. 1807 - ثم لا شيء في الزيادة على الثلاثين حتى تبلغ أربعين، ففيها مُسِنَّة، وهي التي استكملت سنتين، وطعنت في الثالثة، وهي بمثابة الثَّنِيَّة في الغنم، والمسن لا يؤخَذ مكان المسنة؛ فإن الوارد في الخبر المسنة، والتعويل في النصب وواجباتها الأخبارُ. ولو أخرج مسناً بدلاً عن تبيعٍ ذَكر، حيث يؤخذ التبيع، فلا شك في إجزائه؛ فإنه أفضل من التبيع. 1808 - ثم يمتدّ الوقص بعد الأربعين إلى ستين. فإذا بلغت البقر ستين، استقر الحساب، ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. ففي الستين تبيعان، والأوقاص بعد ذلك عشر عشر، ففي سبعين تبيع ومسنة، وفي ثمانين مسنتان، وفي تسعين ثلاثة أتبعة، وفي المائة مسنة وتبيعان، وفي المائة والعشرة مسنتان وتبيع. ويجتمع في المائة والعشرين الحسابان؛ فإنها ثلاث أربعينات، وأربع ثلاثينات، فالواجب أربعة أتبعة، أو ثلاث مسنات. 1809 - ثم الساعي يأخذ الأصلح عند وجود السنَّيْن، أو الاختيار إلى المعطي؟ تفصيل القول في ذلك كتفصيل القول في اجتماع الحِقاق وبنات اللبون في المائتين من الإبل، حرفاً حرفاً، من غير فرق في الأصل والتفريع، ولا مدخل للجبران في زكاة البقر أصلاً؛ فإنا أثبتناه في الإبل اتباعاً، ولا مدخل للقياس في قواعد الأبواب. ***

باب زكاة الغنم

باب زكاة الغنم قال الشافعي: "ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى ما أذكره ... إلى آخره" (1). 1810 - لما أراد رضي الله عنه، أن يذكر نُصب الغنم لم يحضره لفظُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ثابت معنى ما أذكره". ويجوز أن يقال: صادفَ أوقاص الغنم مجمعاً عليه، فلم يتأنَّق في نقل لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي أربعين من الغنم شاة، ثم لا شيء حتى تبلغ مائةً وإحدى وعشرين، ففيها شاتان، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ مائتين وواحدة، ففيها ثلاثُ شياه، ثم يمتد الوقص إلى أربعمائة، فلا شيء في الزيادة إلى هذا المبلغ، ثم إذا بلغت أربعمائة، ففيها أربع شياه، ويستقر الحساب، ففي كل مائةٍ شاة والأوقاص بعد ذلك مائة مائة. 1811 - ثم نؤخذ الجَذَعة من الضأن والثَّنِيَّة من المعز. وأبو حنيفة (2) لا يقبل إلا الثَّنِيَّةَ من النوعين. ومالك (3) يرضى بالجَذَعَة منهما. ومعتمدنا ما رُوي عن سويد بن غَفَلَة، أنه قال: سمعت مصدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أُمرنا بالجَذَعَة من الضأن، والثَّنِيَّة من المعز" (4).

_ (1) ر. المختصر: 1/ 196. (2) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 19. (3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 379 مسألة: 510، حاشية الدسوقي: 1/ 435. (4) حديث سويد بن غفلة، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي (ر. مسند أحمد: 3/ 414، وأبو داود، الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1579، النسائي: الزكاة، باب الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع، ح 2459، والدارقطني: 20/ 104، والبيهقي في الكبرى: 4/ 101، التلخيص: 2/ 513 ح 815).

1812 - ثم المذهب الذي عليه التعويل أن الجَذَعة هي التي استكملت سنة، وقال العراقيون: هكذا رواه الرِّياشي عن الشافعي، ومن أصحابنا من قال: إذا استكملت ستة أشهر، فهي جَذَعَة، وهذا ضعيف، نقلوه وزيّفوه، وفي بعض التصانيف أن الجذعة ما بين الثمانية الأشهر إلى العشرة، ولست أرى لهذا أصلاً، والتعويل على استكمال السنة، وقيل الجذعة من الضأن تحمل، وهي من المعز لا تحمل، وإنما تحمل منها الثَّنِيَّة، ولذلك قوبلت الجَذَعة من الضأن بالثَّنِيَّة من المعز. 1813 - وأما الثَّنِيَّة، فهي التي استكملت سنتين، ولم أر في ذلك تردداً أصلاً، ولا خلاف أن الجَذَعَة من الضأن كالثَّنِيَّة من المعز في الضحايا. فهذا بيان نصب الغنم، وما يجب فيها. فصل يشتمل على بيان أخذ الذكور. 1814 - فنقول: التبيع أولاً ذكر مأخوذٌ، نصاً وإجماعاً، وإن كانت البقر إناثاً. وابن اللبون مأخوذ من الخمس والعشرين من الإبل إذا لم يكن في المال بنتُ مخاض، وإن كانت الإبل إناثاً. فأما القول في غيرهما، فنبدأ بالغنم، ونقول: إن كانت إناثاً، أو كان فيها إناث، فلا نقبل ذكراً، جَذَعاً ولا ثَنِياً، والذكورة في غير موارد النص عيبٌ. وقد ورد الخبر بالجَذَعة والثَّنِيَّة. فإن كانت الغنم كلها ذكوراً، فظاهر القياس والمذهب أنا نأخذ ذكراً، كما نأخذ من الغنم المعيبة معيباً. ومن أئمتنا من قال: لا بد من الأنثى، جَذَعة أو ثَنِيَّة، وإن كانت الغنم ذكوراً اتباعاً للحديث. 1815 - وأما أخذُ المعيب، فليس في الحديث في صفة المأخوذ تعرّضٌ للسليم والمعيب، فحسُنَ حملُ المطلق على اتباع جنس المال، في الصحة والمرض.

1816 - ولو كانت إبله كلها ذكوراً، فهل نأخذ ذكراً؟ التفصيل أنها إن كثرت، وكان الفرض يزيد فيها بزيادة العدد، فهي كالغنم فيما ذكرناه من أخذ الذكور، وإن كانت النُّصب بحيث يزداد الفرض فيها بالترقي من السن، فهذا ينقسم: فإن كان في أخذ الذكر تسوية بين القليل والكثير، كأخذ ابن اللبون بدلاً عن بنت اللبون في الست والثلاثين؛ فظاهر المذهب أنه لا يؤخذ الذكر في هذه المنزلة؛ لأن في أخذه التسوية بين فريضة الخمس والعشرين وبين فريضة الست والثلاثين. ومن أئمتنا من يأخذ الذكر في هذه المنزلة، طرداً للقياس الذي ذكرناه؛ فإنا إذا كنا نأخذ مريضة من مراض، فنقدر الذكر بمثابة معيب. ثم هذا القائل يقول: نأخذ من خمس وعشرين من الإبل الذكور ابنَ مخاض، ولا نكلف المالكَ ابنَ لبون؛ فإنّ ابن اللبون يؤخذ من الخمس والعشرين حيث يكون واجب المال أنثى. 1817 - وإن جمعنا كلام الأصحاب في المواشي، قلنا: أما مواقع النص في التبيع وغيره، فمستنثى، وأما غيره، فلا نأخذ ذكراً وفي المال أنثى. فإن تمحّضَ المالُ ذكوراً، فأوجه: أحدها - أنا لا نأخذ ذكراً من غير فصل. والثاني - أنا نأخذ الذكور من غير فصلٍ. والثالث - أنا نأخذ من الغنم، ومن البقر، وكذلك نأخذ من الإبل، حيث لا يؤدي أخذُه إلى التسوية بين القليل والكثير، كما تقدم تقريره وتصويره. فرع: 1818 - إذا كان يُخرج مالك الإبل الشاةَ عن الخمس، فهل نكلفه إخراج أنثى أم يجزئه الذكر؟ فعلى وجهين، ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - نكلفه الأنثى؛ فإنها الأصل في الزكاة، إلا أن يرد نص في ذكَر. والثاني - يقبل منه الذكر؛ فإنها ليست من جنس ماله، والشاة في هذا الموضع مطلقة في السُّنّة، ليس فيها تعرض للذكورة والأنوثة. وهذا الخلاف الذي ذكرناه يجري في شاة الجُبران؛ إذ لا فرق.

ثم قال الأئمة: الذكورة لا أثر لها في الضحايا، فيجزىء [الذكر] (1) إجزاء الأنثى؛ فإن الغرض اللحم، وما ينتجر (2) من اللحم، فأما الزكاة؛ فإنا نأمل فيها أن [ينتفع] (3) المسكين بأخذها واقتنائها؛ فتقع الأنوثة مقصودة من هذا الوجه. فهذا منتهى القول في أخذ الذكور والإناث. فصل في السخال في الغنم، والصغار في غيرها من المواشي 1819 - فنقول: أولاً إذا ملك الرجل أربعين [سَخْلة] (4)، فالحول ينعقد عليها عندنا، ثم ينقضي الحول، وقد صارت جذاعاً، فيخرج منها جَذَعة إن كانت ضأنية. وخالف أبو حنيفة في هذا، فقال: إذا ملك سخالاً، لا أمهات معها، لم ينعقد الحول أصلاً، حتى تصير جِذاعاً، ثم ينعقد ابتداءُ الحول. 1820 - وإذا ملك نصاب أو نُصباً من كبار الغنم، فحدث في أثناء الحول نتاج، فالسخال تتبع الأمهات في حولها بشرائطَ، منها: أن تكون مستفادة من نتاج الأمهات، فإن استفادَها عن إرث، أو شراء، أو غيرهما، لم تجب الزكاة فيها إلا بحول كاملٍ من وقت الاستفادة، كما سنذكر من بعدُ أن المستفاد من الأموال لا يضم إلى النصب العتيدة في الحول. ولكنْ حولُ كلِّ مستفاد من وقت استفادته. ومما نشترطه أن تكون الأمهات نصاباً، فصاعداً، فإذا حدثت منها السخال، ثم تم حولها، فتجب الزكاة في السخال بحول أمهاتها، حتى لو كان في ملكه مائتان من

_ (1) في الأصل، (ط)، (ت 2): الذي. وهو تحريف واضح. (2) في (ك)، (ت) "يتنجر" والمعنى واحد، وهو ما يتحصل من اللحم، بانتجاره عن العظم. (3) في جميع النسخ: "يقتنع" والمثبت تقدير منا رعاية للمعنى. نرجو أن يكون هو مراد المؤلف. (4) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

الغنم، فنُتِجَتْ سخلةً في اليوم الأخير من الحول، فيجب في المال ثلاثُ شياه، ولولا هذه السخلة، لكان واجب المائتين شاتين. ولو كان يملك تسعاً وثلاثين من الغنم، فنُتِجَت سخلةً، فالآن كما (1) تم النصاب من هذا الوقت، ينعقد ابتداء الحول. ومما نشترطه أن تحدث السِّخال في الحول، فلو انقضى الحول على الأمهات، ثم حدثت السخال في الحول الثاني، فلا زكاة في السخال بحكم الحول الأول، ولكنها يُتربص بها انقضاء الحول الثاني، ثم إذا نُتجت [سخالاً] (2) وقد بقي من حول الأمهات بقية، وماتت الأمهات بعد السخال، وكانت السخال نصاباً، فإذا تم حولُ الأمهات، وجبت الزكاة في السخال بحول الأمهات عندنا. 1821 - وأبو حنيفة (3) يقول: "إن هلك جميع الكبار، انقطع حول السخال، وزالت التبعية"، والسخال لا تتأصل في الزكاة عنده، فإذا صارت ثنايا، فينعقد الحول من ذلك الوقت، ولو بقي من الكبار واحد بقي حولُ السخال، وإن كان ذلك الباقي ذكراً. 1822 - وقال أبو القاسم الأنماطي ينقطع حول السخال بموت الأمهات، كما قال أبو حنيفة (4 إلا أن يبقى من الكبار نصابٌ، فلم يكتف ببقاء واحدٍ كما اكتفى أبو حنيفة 4). 1823 - وهذا غير معدود من المذهب، وإنما مذهب الشافعي ما قدمناه: من أن جميع الكبار لو تماوتت، فتبقى السخال في حول الأمهات بشرط أن تكون نصاباً كاملاً كما قدمنا. 1824 - ثم إذا انقضى حول الأمهات، وأوجبنا الزكاة في الصغار، فكيف التفصيل فيما يخرج منها؟

_ (1) "كما" بمعنى عندما. (2) في جميع النسخ "سخال" بالرفع. و"سخالاً" مفعول ثانٍ لـ (نُتج). (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 274، 404). فالمعنى أنتجها صاحبُها. (3) ر. المبسوط: 2/ 157، حاشية ابن عابدين: 2/ 20. (4) ما بين القوسين ساقط من (ك).

فنقول: إن كان فيها كبيرة أو كبار، فلا تجزىء إلا كبيرة، على القياس الممهد في المراض والصحاح، والأصل فيه ما روي: "أن مصدق عمرَ قال لعمرَ: إن هؤلاء يقولون: يعدّون علينا السخال، ولا يأخذونها، فقال عمر: اعتدّ عليهم بالسخلة، يروح بها الراعي على يديه، ولا تأخذها، ولا تأخذ الأكولةَ، ولا الرُّبَّى (1). ولا الماخضَ (2)، ولا فحلَ الغنم، وخذ الجذعةَ من الضأن والثنيةَ من المعز، وذلك عدل بين غِذاءِ (3) المال وخياره" (4). فهذا إذا كان في المال كبيرة، أو كبار. 1825 - فأما إذا تمحضت السخال أو صغار الإبل والبقر، والصغر هو الانحطاط عن السن المجزىء في الشرع، فما دون بنات المخاض، فصيل وحُوار، كالسخال من الغنم، وما دون التبيع عجاجيل. وتفصيل المذهب فيما يؤخذ منها يقرب مما ذكرناه في أخذ الذكور من الذكور. فمن أئمتنا من قال: يتعين الكبير في جميع ذلك ولا يجزىء إلا كبيرة، وهذا مذهب مالك، وقيل: هو قول قديم للشافعي. ومن أصحابنا من قال: تؤخذ الصغيرة من الصغار، في جميع أجناس المواشي. ومنهم من قال: تؤخذ الصغيرة من الغنم، فأما من البقر والإبل، فحيث يؤدي أخذ الصغير إلى التسوية بين القليل والكثير، فلا نأخذ الصغير، وذلك حيث يكون زيادة الواجب بالترقي في الأسنان، وحيث تكون الزيادة بالزيادة في العدد، فلا يؤدي إلى هذا، فيؤخذ من الإبل والبقر.

_ (1) الرُّبَّى: القريبة العهد بالولادة. إلى خمسَ عشرةَ ليلة ولادتها. (ر. الزاهر: فقرة: 271). (2) الماخض: الحامل التي أخذها المخاض لتضع. (ر. الزاهر: نفسه). (3) الغذاء: بكسر الغين صغار السخال (ر. الزاهر: نفسه). (4) حديث: "اعتد عليهم بالسخلة .. " رواه الشافعي، ومالك في الموطأ، وعبد الرزاق، والبيهقي (ر. الموطأ: 1/ 265، الأم: 2/ 9، 10، مصنف عبد الرزاق: 6808، البيهقي: 4/ 100، الثلخيص: 2/ 154 ح 817).

وهذا وجه عدل متجه، وقد ذكرنا نظيره في [الذكور] (1) وأَخْذها، ولكن بين الوجهين في الفصلين فرقان: أحدهما - في الظهور والصحة (2)، والثاني - في التفصيل، فأما الظهور، فهذا التفصيل في أخذ الصغار منقاس، كما ذكرناه، فأما في [أخذ] (3) الذكور، فقُصاراه أن نأخذ من ست وثلاثين ابن لبون، ونحن قد نأخذ ابن لبون من خمس وعشرين. وهذا يُجاب عنه بأنا إنما نأخذ ابن لبون بدلاً عن بنت المخاض، إذا كان في ماله إناث، فأما إذا كان كله ذكوراً، فنأخذ ابن مخاض عن خمسٍ وعشرين، وابن لبون، من ست وثلاثين؛ فلا يؤدي إلى التسوية، فأما في الصغار، فإذا أخذنا فصيلاً من خمس وعشرين، وفصيلاً من إحدى وستين فيؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير، وهذا بعيد لا وجه لاحتماله، ولكنه على بعده منقولٌ على الصحة، ذكره شيخي والصيدلاني وغيرهما. وهذا في أخذ صغيرٍ من صغار. فأما أخذ ابن لبون من ست وثلاثين، والإبل كلها ذكور، فمن وجَّه المنعَ فيه بأنا قد نأخذ من خمس وعشرين ابنَ لبون إذا كان في الإبل إناث، ولم يكن فيها بنتُ مخاض؛ فإذا أخذناه من ست وثلاثين، كان ذلك تسويةً بين القليل والكثير. وهذا إنما يجاب عنه بأنا إنما نأخذ ابنَ لبون من خمسٍ وعشرين، إذا كان فيها إناث، ولم يكن في المال بنتُ مخاض؛ فإنا نقيم زيادةَ السن في ابن اللبون مقام فضيلة الأنوثة في بنت المخاض، فأما إذا كانت الإبل كلُّها ذكوراً؛ فإنا نأخذ من خمس وعشرين ابنَ مخاض، فيظهر الفصل بين القليل والكثير، فأما أَخْذ فصيل من خمس وعشرين، وأَخْذُه من إحدى وستين، فتسوية على القطع بين القليل والكثير، فكان ظاهر السقوط. فهذا بيان ما وعدنا من الفصل بين أخذ الذكور، وأخذ الصغار في الظهور.

_ (1) في الأصل وغيرها: "الذكورة" والمثبت من (ت 1) وحدها. (2) في (ت 2): واضحة. (3) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

1826 - فأما الفصل بينهما على (1) التفصيل، فهو أن من يفصل في الذكور إنما يقول ذلك في الست والثلاثين فحسب؛ فإن ما (2) يُصوّر من أداء أخذ الذكر إلى التسوية يتحقق في هذه الصورة، ولا جريان لهذا التفصيل في البقر. فأما من يفصل في الصغار، فإنه يطرد المنع حيث يكون ازدياد الفرض بالترقِّي في السن عند وجود الأسنان، وهذا يجري في صورٍ في زكاة الإبل ويجري أيضاً في زكاة البقر (3). ثم قال الأئمة: إن قلنا: لا بد من كبيرة، وإن كانت الماشية صغاراً، فإنا نجتهد في ذلك ونحرص؛ حتى لا نجحف برب المال، فنأخذ جذعة من أربعين من سخال الغنم، قريبة القيمة من سخلة، ونشترط أن تكون سليمة من العيوب. ولا ينبغي أن يظن الفقيه أنا نلتزم التسوية بين قيمة تلك الجذعة وبين السخلة؛ فإن هذا قد لا يتأتى أصلاً؛ إذ قد يكون أكبر سخلة في المال غيرَ مستكملة شهراً، وقد لا تكون شريفة الجنس أيضاً، فليس من الممكن فرض جذعة سليمة على قيمتها، ولكن معتمد هذا القول الاتباع أولاً، ثم بعده يقال: السخال إلى الكبر [ها هي] (4). ولئن أخذنا في سنةٍ جذعة من صغار، فقد نرضى بجذعة من كبارٍ نفيسة، وتمحُّضُ الصغار مما يندر، فيقابل هذا الوفاقُ صوراً غالبة تنحط فيها الجذعة عن أسنان الماشية. غير أنا مع هذا نحرص على ما ذكرناه، فإن أمكننا أن نرضى بجذعة تساوي سخلة [مما] (5) معنا، بأن نفرض شرفاً في جنس السخال، وكانت الجذعة من نوع قريب القيمة، فما عندي أن الأئمة يسمحون بالعدول عن النوع الشريف، وفيه احتمال؛ فإنه يعارض ما ذكرناه. [وإن] (6) عدلنا عن أسنان السخال، فلم نرض بسخلة، فلا يبعد

_ (1) في (ت 1): "في التفصيل". (2) (ت 1): إنما و (ت 2): "فإن جاء ما يصور من إذا أخذ". وفي (ك): "فأما من تصوّر من إذا أخذ الذكر". (3) في (ت 2): في صورةٍ في زكاة البقر، ثم قال ... (4) في الأصل، (ت 1): "ما هي" وفي (ت 2) أُسقطت الكلمة، ولم تأت بها أصلاً. (5) في الأصل و (ط) و (ك): "ما" وفي (ت 2): "فما منعنا" والمثبت من (ت 1). (6) في جميع النسخ ما عدا (ت 1): "أنا عدلنا"، فالمثبت من (ت 1).

أن نعدل عن نوعها، فنرضى بنوع دون نوعها. والعلم عند الله تعالى. 1827 - ولا أحد يصير إلى أنا إذا لم نجد جذعة قريبة من سخلة أنا نعدل إلى الدراهم، فإن هذا يؤدي إلى إيجاب إخراج قيمة سخلة، ولو أجزأت قيمة سخلة، لأجزأت سخلة في نفسها. فلينظر الطالب فيما يرد عليه. 1828 - وقال الشيخ أبو بكر: إذا قلنا: يجوز أن نأخذ صغيرةً من صغار الإبل إذا تمحضت صغاراً، فينبغي أن يحرص الساعي حتى يأخذ من المقدار الكثير [فصيلاً أكبر سناً مما يأخذه مما دونه، حتى يحصل عند الإمكان فصلٌ بين المأخوذ من الكثير] (1) والمأخوذ من القليل، فلو أراد أن يأخذ أكبر فصيل من خمس وعشرين، فالوجه أن يُمنع، ويكلف النظرَ إلى الأسنان عند وجودها، ومعلوم أنه لو ملك خمسة وعشرين من جذاع الإبل، أو ثناياها، فإنا نكتفي منه ببنت مخاض، وهي أول الأسنان المعتبرة، فلينظر الناظر إلى مثل ذلك في الفُصلان (2). ثم يخرج من هذا أنه يأخذ أكبر الفُصلان في المقدار الكثير. وعلى الجملة إن أمكن التفاوت، فهو حتم، والأمر فيه إلى نظر الساعي، واقتصاده (3). ومهما بُلي بهذا المقام، فقد وقع إلى (4) أمر ليس بالهيّن؛ فإن الأسنان إذا كانت موجودة ممكنة، فالمتبع والأسوة فيها الشرع، ولا اجتهاد. وقد كفى الشارع بنصوصه. وإن كانت الفُصلان كلُّها على مرتبة واحدة، فلا بدّ على هذا من التسوية بين القليل والكثير، على الوجه الذي نفرع عليه. 1829 - ثم قال الأئمة: الزكاة تنفصل عن الضحايا بعد تمهيد ما ذكرناه من وجوه: منها - أن الأصح أخذ صغيرة من صغار، حيث تكون زيادة الفرض بالعدد، فنأخذ

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل و (ط) و (ك). (2) بضم الفاء، وكسرها. (3) اقتصاده: أي توسطه. (4) كذا. ومجيء (إلى) بمعنى (في) واردٌ في القرآن الكريم، قال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87].

سخلة من أربعين، وقد اشتدّ في الجديد نكيرُ الشافعي على من يخالف في ذلك، وقال: "قد يكون أقل جذعة تساوي عشرين، وكل سخلة تساوي نصف درهم"، ففي أخذ الجذعة استيعاب ماله، أو الإتيان على معظمه. ولا مدخل للصغير في الضحايا، والسبب فيه أن الزكاة تتعلق بأصناف الأموال وأجناسها؛ ففي أخذ صغيرة من صغار جريان على ذلك، وأما الضحية؛ فإنها لا تتعلق بصنف المال وجنسه، وإنما الأمر بها على صفتها يصادف الذمة. ومما تفارق فيه الضحية الزكاةَ أن الذكر في الضحايا يجزىء، وفي الزكاة التفصيل الذي تقدم، والفرق أن المقصود الأظهر في الضحايا اللحم، والذكورة لا تؤثر فيه، والغرض من الزكاة شرف الجنس إذا كان النصاب شريفاً، والأنثى أشرف في الماشية، وصرّح الصيدلاني بأن الشَّرْقاء (1) والخرقاء (2) مجزئة في الزكاة؛ فإنها ليست معيبة بعيب يؤثر في القيمة والمالية، وهي المرعية في الزكاة، وأما الضحايا، فقد يعتبر فيها استشراف المنظر حُسْناً. وما حكيته عن شيخي من التسوية بين الضحايا والزكاة في هذه العيوب، غير معدود من المذهب، وإنما هو هفوة من السامع أو [المسمِّع] (3). فصل 1830 - إذا اختلف أنواع ماشيةٍ مع اتحاد الجنس، فكان في الإبل مَهْريّة وأرْحَبِيّة، وفيها مُجَيْدِيّة (4)، وكذلك لو فرض اختلاف النوع في الغنم، فكان فيها ضأنية وماعز،

_ (1) الشرقاء: مشقوقة الأذن. (الزاهر). (2) الخرقاء: المثقوبة الأذن ثقباً مستديراً. (المعجم). (3) في الأصل، (ك)، (ت 2): "أو المستمع" وفي (ت 1): "والمسمِّع" والمثبت كما ترى من هذه وتلك. (4) المَهْرية من إبل اليمن، منسوبة إلى مَهْرة بن حَيْدان، وهم قوم من أهل اليمن، وبلادهم الشَحْر، بين عُمان وعدن أَبْين، والأرْحبية، والمُجَيْدِية كذلك من إبل اليمن. (الزاهر: فقرة: 276). =

فقد اختلف قول الشافعي في المأخوذ زكاةً منها، فقال في أحد القولين: ينظر إلى غالب ماله، فإن كان أكثره ضأناً، طلبنا جذعة من الضأن، وإن كان أكثره معزاً طلبنا ثنية من المعز. والقول الثاني: أنا ننظر إلى كل صنف، ونحرص أن نأخذ من كل بقسطه على ما سنفصله في التفريع. توجيه القولين: من قال: ينظر إلى الأغلب الأكثر، استدل بأنا لو تكلفنا النظر إلى كل نوع، فقد تكثر الأنواع في الماشية، وتكون الزكاة حيواناً واحداً، وذلك يعسر جداً، على ما سنبيّن عسره في التفريع. ومن قال: ينظر إلى كلّ صنف، بناه على قاعدة القياس في الصنف إذا اتّحد، شريفاً كان أو خسيساً؛ فإنا نؤثر أن نأخذ من نوع المال، فيلزم هذا الأصل في اختلاف الأنواع. 1831 - التفريع: إن قلنا: نأخذ من غالب ماله، فلو ملك خمساً وعشرين من المعز، وخمسة عشر من الضأن، اكتفينا منه بثنية من المعز، كنا نأخذها لو كانت غنمه كلها معزاً، ولو كان الأكثر ضأناً، طلبنا جذعة من الضأن، كنا نطلبها لو تمحّض المال ضأناً. ولو استوى النوعان في المقدار، فقد نزّل الأئمة هذا في التفريع، منزلة ما لو اجتمع في الإبل البالغة مائتين الحقاقُ وبناتُ اللبون، فظاهر المذهب أن الساعي يأخذ الأشرف، والأصلح، فكذلك ها هنا. ومن قال ثَمَّ: الخِيَرةُ إلى المالك، يَطْردُ هذا القياسَ هاهنا أيضاً. وإن قلنا: ننظر إلى كل نوع، فليس المراد به أنا نأخذ نصف ضأنية، ونصف ماعزة؛ فإن التبعيض فيهما عسر. ولو بذل المالك أشقاصاً، ورضي بها الساعي، لم يَجُزْ، ولم يقع موقع الاعتداد وفاقاً، ولكن المراد باعتبار الأصناف، أنه إذا ملك عشرين من الضأن، وعشرين من المعز، وكانت الثنية من المعز تساوي اثني عشر، والجذعة من الضأن تساوي

عشرين، فإنا نأخذ نصف العشرين تقديراً، ونصف الاثني عشر، وذلك ستة عشر، فنكلفه أن يشتري بهذا المبلغ جذعة من الضأن وسطاً، أو ثنيّةً من المعز شريفة. فهذا معنى النظر إلى الأصناف. وقال الشافعي مفرِّعاً على هذا القول: لو ملك خمساً وعشرين من الإبل، عشرٌ منها مَهْرِيّة وعشرٌ أرحبية، وخمسٌ مُجَيْدية؛ فإنا نقدر خُمْسَي بنتِ مخاض أرْحَبية وخُمْسَي مَهْرِيّة، وخُمْسَ مُجَيْدِية، ونكلفه أن يشتري بها صنفاً من هذه الأصناف التي ذكرناها. فهذا بيان رعاية الأصناف والنظر إليها. ثم إنا نلحق بخاتمة الفصل أموراً يتم بها البيان. 1832 - فنقول: الضأن أشرف من المعز، فلو ملك أربعين من الضأن الوسط، فأخرج ثنيةً من المعز الشريفة، وكانت تساوي جذعة من الضأن الذي يملكه، فهذا محتمل متردد، والظاهر عندي إجزاؤها، وليس كما لو أخرج معيبة قيمتها قيمةُ سليمة؛ فإنا لا نقبلها. والدليل على الفصل بين البابين، أنه لو كان في ماله سليمة، وأغلبه معيب، لم نكتف منه بمعيبة، وإذا كان في ماله ماعزة وضأنية، فإنا قد نأخذ منه ماعزة كما تفصَّل. ثم مما يجب التفطّن له أن الذكورة والصغر ملحقان بالعيب في الزكاة بل قد يزيدان على العيب، بدليل أنا نأخذ من المعيب المتمحّض معيباً، وقد لا نأخذ من الذكور ذكراً، ومن الصغار صغيرة، على التفصيل المقدم. 1833 - ولو كانت ماشيته سمينةً في المرعى، فنطالبه بسمينة، ونجعل ذلك كشرف النوع. قال صاحب التقريب: لو كانت ماشيته كلها ماخضة، لا نطلب منه ماخضة، وهذه الصفة معفوّ عنها، كما يعفى عن الوقص، والذي ذكره حسن لطيف.

وفيه نظر دقيق، وهو أن الماخض (1) قد تتخَيّل حيوانين: الأم، والجنين. وفي الأربعين شاةٌ واحدة؛ فتكليفه ماخضاً لا وجه له، وقد يرد على هذا إيجاب الخَلِفات (2) في المائة من الإبل، ولكن الدية اتباعية، لا مجال للنظر في مقدارها، وصفتها، ومن يحملها، ولا وجه عندي لمخالفة صاحب التقريب فيما ذكره. 1834 - ومما ذكره الأئمة عن صاحب التقريب أن الساعي لا يعتمد كريمةً شريفةً من ماشية الرجل، وقد صح نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أخبار، فلو تبرع الرجل بإخراج تلك الكريمة، فهي مقبولة منه في ظاهر المذهب. قال: ومن أئمتنا من قال: إنها غير مقبولة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن أخذ كرائم أموال الناس" (3). وهذا مزيّف لا أصل له؛ من جهة أن المراد بالنهي منع السعاة من الإجحاف بملاك الأموال، وأمرهم برعاية الإنصاف، ولا يفهم الفقيه من هذا أن المالك لو تبرع ببذل كريمةٍ لا تقبل منه، (5 وهذا الوجه لم أنقله في (الزوائد) (4) من كلام صاحب التقريب. وغالب ظني أني اكتفيت فيه بنقل الأئمة 5). ومما يتصل بذلك أنه لو بذل ماخضاً، قبلت منه على طريقة الأئمة، واعتدّت فريضة كالكريمة في نوعها، أو صفتها. ونقل الأئمة عن داود أنه منع قبول الماخض، مصيراً إلى أن الحمل عيب، وهذا

_ (1) الماخض: الحامل، التي حان وضع حملها. (المصباح). (2) الخلفات: جمع خلفة، وهي الحامل أيضاًً. (المصباح). (3) حديث النهي عن أخذ كرائم الأموال، متفق عليه من حديث ابن عباس، بلفظ: "إياكم وكرائم أموالهم". (ر. البخاري: الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، ح 1458، مسلم: الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ح 19، التلخيص: 2/ 154 ح 816). (4) الزوائد. لا أدري ما المقصود بها!! لم أر هذا اسماً لكتاب من كتب إمام الحرمين. والله أعلم. (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

ساقط من جهة أنه ليس عيباً في البهائم، وإنما يُعد عيباً في بنات آدم (1). وذكر العراقيون أنه لو تبرع بالرُّبَّى -وهي التي تربِّي ولدها- على قرب عهد بالولادة، قُبلت، جرياً على القياس. وحكَوْا وجهاً بعيداً عن بعض الأصحاب أن الرُّبَّى لا تقبل من جهة أنها لقرب عهدها بالولادة تكون مهزولة، والهَزْل (2) عيب. وهذا ساقط، فقد لا تكون كذلك، وقد تكون غيرُ الرُّبَّى مهزولة، والهزال الذي يعد عيباً هو الهزال الظاهر البيّن. فصل 1835 - اختلف قول الشافعي في جواز نقل الصدقات، على ما سيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى، والغرض تفريع مسألةٍ ذكرها الشافعي وهي: إذا كان للرجل أربعون من الغنم، عشرون ببلدة وعشرون ببلدة أخرى، ووجبت الزكاة، فقد قال الشافعي: "يؤدي شاةً بأي البلدين شاء". وقد تردد الأصحاب في هذا، فقال قائلون: هذا تفريع [تجويز] (3) نقل الصدقات، فإن منعنا ذلك، لزم إخراجُ نصف شاة بإحدى البلدتين، وإخراجُ نصفٍ آخر بالبلد الآخر، وتُحْتَمَلُ ضرورة التبعيض، حتى لا يؤدي إلى نقل الصدقة؛ فإن موجب القول بمنع النقل أن أهل كل ناحيةٍ بها المال استحقوا زكاته، وتعينوا لاستحقاقها، فلا يجوز إبطال استحقاقهم بسبب التبعيض، فيجزىء لهذه الضرورة نصفا شاتين، وإن كان ذلك لا يجزىء من غير ضرورة وحاجة. والأئمة وإن اختلفوا في أن إعتاق نصفي عبدين هل يجزىء عن إعتاق رقبة مستحَقة في الكفارة، لم يختلفوا في أن إخراج نصفي شاتين لا يقوم مقام إخراج شاةٍ، من غير ضرورة ولا حاجة، ولكن إذا ثبتت ضرورة، أجزأت.

_ (1) يعني الإماء، وما يترتب على بيع الأمة الحامل، من ملكية الجنين، وغير ذلك. (2) كذا، مصدر هَزَل يهزُل من باب نصر، إذا ضعف؛ فهي صحيحة، وأما عكس الجدّ، فهي: هَزَل يهزِل من باب ضرب. (المعجم). (3) مزيدة من (ت 1)، (ت 2).

ثم تمام التفريع عند هؤلاء أنه إن أمكن التبعيض، فذاك. وإن عسُر، ولم يصادف الإنسانُ نصفَ شاة، فقد قال صاحب التقريب: يخرج قيمةَ شاة (1) حيث عسر. ونحن قد نجوّز إخراج القيمة عند التعذر والعسر، على ما سنقرر ذلك عند ذكرنا منعَ إخراج الأبدال في الزكوات. وقد يخطر لذي نظرٍ أن الشاة التي تساوي عشرين، قد لا يشترى نصفها بعشرة، وإنما يشترى بثمانية، ولكنا عند الرجوع إلى القيمة، لمكان قيام ضرورة، نعتبر قيمةَ النصف بقيمة التمام، ولا نظر إلى ما أشرنا إليه. فإن قيل: إذا جوزتم إخراج نصفي شاتين، وكان ذلك ممكناً، فقد يتوصل مالك المال إلى نصفي شاتين بأقل من عشرين. قلنا: لا نظر إلى ذلك، مع حصول نصفي الشاتين. فهذه طريقة. 1836 - ومن أئمتنا من منع التبعيض، وقال: ينبغي أن يخرج شاة بإحدى البلدتين، والخِيَرةُ في ذلك إليه، وهذا ظاهر النص؛ فإنَّ ذكرَه البلدتين، وانقسامَ المال عليهما، ثم جوابه بأنه تجزىء شاة في إحدى البلدتين دالٌّ على أنه يفرعّ على منع النقل، [وإلا فلا] (2) فائدة -على قولنا بجواز النقل- لتخصيص هذه الصورة بالذكر. وإذا ثبت أنه يخرج شاةً بإحدى البلدتين، فقد اختلف أصحابنا على وجهين في العلة، على هذه الطريقة الصحيحة، فمنهم من قال: سبب جواز ذلك -والتفريع على منع النقل- التبعيضُ والتشقيص، وهوْ مُجتنب في المواشي، وعلى ذلك ابتنى جريان الأوقاص، عفوَه (3) عن مزيد واجب.

_ (1) وذلك لسهولة قسمة القيمة بين البلدين. (2) في الأصل و (ط) و (ك): فلا فائدة، والمثبت من (ت 1)، (ت 2). (3) ساقطة من (ت 1).

ومنهم من قال: علة التخيير بين إخراج شاة [هاهنا] (1) أو بالبلدة الأخرى أن المالك واحد، والمال منقسم، فله بكل بلدة من البلدتين عُلقة، فنفرع عليه التخيير فيما ذكرناه. 1837 - وينبني على هاتين العلتين مسألة وهي أنه إذا كان له أربعمائة من الغنم في أربع بلاد، فواجبها أربع شياه، والتفريع على منع النقل، فإن عللنا بالتبعيض في الصورة المقدمة، فلا يجوز النقل في هذه الصورة؛ بل يتعين إخراج شاة بكل بلدة، وإن علّلنا بأن له بكل بلدةٍ عُلقة، وجنس المال متحد، فهو بالخيار: إن شاء فرّق الشياه، كما ذكرناه في البلاد الأربعة، وإن شاء جمعها في بلدة، أو كما يشاء بعد (2) أن لا يتعدى الأربع البلاد ولا يبعض. 1838 - قلت: تجويز النقل بأن له بكل بلدة مالاً لا أصل له عندي، وإنما يظهر التعليل في الصورة المتقدمة بضرورة التبعيض لا غير، فإن لم يكن بدّ من تخريج المسألة الأخيرة على الخلاف، فلعل الأقرب في التعليل أن الزكاة وإن لم تتبعض في الصورة التي ذكرناها، فالغنم نامية، وهي سريعة المصير ترفّعاً إلى مبالغ يقتضي الحساب تشقيص واجبها على التفريق، وذاك يعسر ضبطه، فيجوز النقل لحسم هذا الإمكان. ومما أقطع به تخريجاً على هذا التنبيه أنه لو كان للرجل عروض تجارة ببلد، وله مال تجارة ببلدة أخرى، ورأس المالين دراهم، فيجب القطع بأنه يخرج زكاة كل مال حيث هو، ولا يجوز النقل على منع (3) النقل، فإن التبعيض لا وقع له في الدراهم بوجه، ولذلك لم يثبت عند الشافعي للدراهم وقص بعد الوجوب، وهذا ظاهر لا ريب فيه. فيظهر بهذا بطلان التعليل بأن له بكل بلدة عُلقة في الجنس الواحد الزكاتي.

_ (1) ساقطة من الأصل و (ط)، و (ك). (2) كذا في النسخ الخمس. والعبارة صحيحة مستقيمة، والمعنى واضح: أي بعد أن يلتزم عَدَمَ تعدي البلاد الأربع، وعدم التبعيض. (3) أي على القول بمنع النقل.

فصل قال: "ولو قال للمصدق هذه وديعة، صَدَّقه ... إلى آخره" (1). 1839 - إذا جاء الساعي يطلب صدقة ماشيته مثلاً، فقال من في يده المال: ليست الماشية لي، وإنما هي وديعة، وليس عندي حساب حولان الحول عليها، أو تفصيل أمرها، أو قال: هي وديعة لذميّ، أو قال: ما تمّ حولها بعدُ، أو قد أديت زكاتَها إلى ساع آخر، مرّ بنا، أو أزلتُ ملكي في أثناء الحول وانقطع الحول، فكيف السبيل إليه؟ فنقول: هذه الصورة تفرع لا محالة على أنه يتعيّن دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى السلطان، فإذا جرى النزاع بين الساعي والمالك، وكان قول المالك يقتضي سقوطَ الطلب عنه لو صُدِّق، فظاهر نص الشافعي يقتضي أنه يُصدَّق، وقاعدة المذهب أن القول في جميع ذلك قولُ رب المال، وإن تُصوِّر في بعضها بصورة من يدعي إذا قال: قد أديت الزكاة. وكأن السر فيه أنّا وإن قلنا: يتعين صرف الزكاة إلى الساعي، فالأصل قول رب المال، وهو الملتزِم، والزكاة تجب لله تعالى، ركناً في الإسلام، ولكن الشارع عيّن له نائباً، وأمره بصرف الزكاة إليه إقامةً لمصلحة كلية، فالقول إذاً قول رب المال في الوجوه التي ذكرناها. 1840 - وإنما الكلام بعد تمهيد القاعدة في أنه هل يحلَّف أم لا؟ وكيف السبيل فيه لو عرضت عليه اليمين فنكل؟ فنقول: ما تحققتُه من الطرق أنه إذا كان الظاهر لا يكذِّب المالكَ، ولم يُتصور بصورة مدّعٍ، مثل أن يقول: ما تمّ حول هذا المال، أو وقع النزاع في سخال، وتاريخ ولادتها، فكان رب المال يقول: ما ولدت في الحول المنقضي، فلا زكاة فيها لحول أمهاتها، وإنما ولدت من بعدُ، فلا ظاهر يكذبه فيما ذكرناه.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 201.

فإن كان المالك مع ما ذكرناه، عدلاً ثقة، عند الساعي، وكان لا يتهمه، فلا يحلِّفه، بل يكتفي بقوله. وإن تصور بصورة مدّعٍ مثل أن يقول: قد أديتُ الزكاة، أو كان الظاهر يخالفه في مثل قوله: ليست الماشية لي، وظاهر اليد يقتضي كونَها له، أو قال: قد قطعت الحول ببيع (1)، ثم استفدت (2)، فإن انضم إلى مخالفة الظاهر في هذه الصورة، كونُه متهماً عند الساعي، [فإنه يحلّفه، وإن لم يكن متهماً عند الساعي] (3) بل كان في ظاهره عدلاً، فهل يحلِّفه؟ فعلى وجهين. ولو كان لا يكذِّبه ظاهر، ولم يكن عدلاً عند الساعي، فالذي ذكره العراقيون أنه لا يحلَّف أيضاًً. ومن أئمتنا من قال: يُحَلّف. 1841 - فحاصل المذهب أنه إذا لم يكن الظاهر مخالفاً له، ولم يكن متهماً، فلا يحلّف. وإن كان الظاهر يخالفه وكان متهماً، حُلّف. وإن خالفه الظاهر وكان عدلاً، أو لم يخالفه الظاهر، ولم يكن عند الساعي عدلاً، ففي تحليفه وجهان. فهذا أصل المذهب، ومستنده ما ذكرته من تأصّل ربّ المال في الزكاة؛ فإليه الرجوع. 1842 - ثم حيث قلنا يحلّفه الساعي، فقد ظهر اختلاف الأئمة في أن اليمين مستحبة أو مستحقة؟ وكل ذلك يؤكد ما ذكرته من أن الأصل رب المال، فإن قلنا: اليمين مستحبة، فلا أثر لعرضها، ولا وقع للنكول عنها. والذي يفرع على ذلك أن الساعي إذا رأى عرض اليمين مستحباً، فالذي أراه أنه على هذا لا ينبغي أن يجزم الأمر باليمين؛ فإن السلطان أَمْرُه ممتَثَل، فإذا أمر، فقد أرهق واقتهر. وقد يخفى على رب المال عقدُ الساعي في أن عرض اليمين ليس بواجب.

_ (1) في (ت 1): ببيعي. (2) استفدت: أي استفدت مالاً استأنفتُ به حولاً جديداً. وعبارة النووي في الروضة: "ثم اشتريته". الروضة: 2/ 340. (3) ساقط من الأصل و (ط) و (ك) و (ت 2)، ومثبت من (ت 1) وحدها.

وإن قلنا: عرضُ اليمين مستحق؛ فإذا حلف رب المال، سقطت الطَّلِبَة في جميع هذه الوجوه. 1843 - وإن نكل عن اليمين، فقد اختلف أئمتنا على أوجه، فمنهم من قال: يقضى عليه بنكوله، وهذا فائدة استحقاق اليمين. فإن قيل: القضاء بالنكول يخالف مذهب الشافعي. قلنا: نحن لا نقضي بالنكول في خصومات الآدميين، لإمكان ردّ اليمين فيها على المدعي، والرد هاهنا غير ممكن، لا على الساعي؛ فإنه نائب، ولا على المساكين، فإنه لا نهاية لهم، فمنتهى الخصومة نكولُه فقضي به. 1844 - ومنهم من قال: لا يقضى بنكوله، جرياً على القاعدة في الامتناع عن القضاء بالنكول. و [خصومة] (1) الزكاة أولى بهذا، لما قدّمنا ذكره في أثناء الكلام؛ إذ قلنا: الوالي في حكم النائب عن رب المال، وإلا فهو الأصل في التزام الزكاة، والمخاطب بها، فإن رأينا وجوبَ التسليم إلى النائب لمصلحة، فلا تخلو القاعدة عن حقيقتها، حتى يقضى فيها بمجرد النكول، من غير حجة تقوم. 1845 - ومن الأئمة من فصّل القول، وقال: إن كان ربّ المال متصوّراً بصورة مدعىً عليه، فلا يقضى بنكوله، مثل أن يقول: لم يحل الحول على هذا المال، أو ليس المال لي، وإنما هو وديعة عندي، فإذا حُلّف، ونكل عن اليمين، لم يقض عليه بنكوله؛ طرداً للقياس في منع القضاء بالنكول. وإن تُصوِّر رب المال بصورة المدعي مثل أن يقول قد أديت الزكاة إلى ساعٍ آخر، أو بعتُ المالَ بيعاً يقطع الحول، فإذا حُلِّف ونكل عن اليمين، يُقضى عليه بنكوله؛ فأنه لو حلف، لكان على صورة مدعٍ مثبت، فإذا احتمل ذلك في تحليفه، فليجر في نكوله على قياس نكول المدعي، ولو نكل المدعي عن اليمين المردودة عليه، لقضي بنكوله. على ما سيأتي تفصيله مشروحاً في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل. 1846 - وهذا -مع أنه أعدل الوجوه- فيه شيء؛ فإن المودع إذا ادّعى رَدَّ

_ (1) في الأصل و (ط) و (ك): حصول.

الوديعة، فاليمين معروضة فيها عليه، وهو على صورة المدعين، ولو نكل، لم يقض عليه بنكوله. [ولكن] (1) سبب منع القضاء عليه إمكانُ الردّ على الخصم، الذي هو مالك الوديعة، والرد غير ممكن في الزكاة، وانضم إليه تصوّر من عليه الزكاة بصورة المدعي، فقيل: إنه يقضى عليه. فإن قلنا: يقضى عليه بنكوله، فلا كلام. وإن قلنا: لا يقضى عليه، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يخلى سبيله، وهذا ظاهر المذهب. 1847 - ومنهم من قال يُحبس، حتى يَحلِف، أو يعترف. وهذا القائل يُعلل ذلك بأنا إذا كنا نخلّيه (2)، فلا فائدة للحكم بوجوب عرض اليمين عليه، والقضاءِ بأن استحلافه مستحق. فإن قُضي عليه بالنكول، فقد أفاد استحلافُه، وإن حبسناه، فيحلف، فقد ظهر وجوب اليمين عند الإنكار. وإن قلنا: لا يحبس، ولا يُقضى عليه، فقد سقط أثر استحقاق الاستحلاف. 1848 - قلت: الحبس ليَحْلف خروجٌ عن قاعدة الشافعي، وانسلال عن الضبط بالكلية؛ فإن مما ظهر تشغيبنا فيه على أبي حنيفة مصيره في القسامة إلى حبس المستَحْلَفين حتى يحلفوا. ولكن يجب القطع بأنه إذا كان لا يحبس، ولا يُقضى بنكوله، فلا يجب استحلافه. ولا يتفرع هذا قطعاً على رأي من يوجب الاستحلاف، ويجب رد الكلام إلى أنا إذا لم نقض بنكوله، فلا يجب استحلافه، فإن قصارى الأمر أن ينكل فيخلّى. وإن قلنا: يُقضى عليه بالنكول، فيجب استحلافه. ومن تخيل خلاف ذلك فقد عاند وجحد.

_ (1) في الأصل و (ط): "ولم يكن". (2) في (ت 2): "نحلفه".

1849 - ويخرج من مضمون ذلك أن الوجه نفيُ إيجاب الاستحلاف؛ من جهة أن القضاء بالنكول عسر، وآل مآل الكلام، إلى أن موضع تسلّط الوالي في المطالبة بالزكاة، أن يعترف الرجل بالزكاة، فإذ ذاك يلزمه التسليم ظاهراً وباطناً، وإن أبى كاذباً عصى ربه باطناً، ولم يتسلط عليه الوالي. 1850 - ومما يتعلق بإتمام الغرض أنا إذا منعنا نقل الزكاةِ، وكان مستحقو الزكاةِ محصورين في البقعة، وقد عُرضت اليمين على رب المال، فنكل، فقد قال كثير من أئمتنا: تُردّ اليمين على المستحقين، وهو الذي ذكره الصيدلاني، ووجهه بيّن؛ فإنا على قول منع النقل نوجب صرف الزكاة إليهم، ولا نجوّز حرمانَهم، فتعيَّنُوا للاستحقاق، ونزلوا منزلةَ من يستحق ديناً. ومن أئمتنا من قال: لا ترد اليمين عليهم، وإن تعيَّنوا بسبب الانحصار ومَنع النقل، وهذا الوجه ذكره العراقيون، وهو في بعض تصانيف المراوزة، ووجه ذلك أنهم وإن تعيّنوا، فسببه انحصارهم، وإلا، فالزكاة تتعلق في قاعدة الشرع بالصفات، لا بالأعيان، ثم من يرى الرد عليهم، فإنما ذاك فيه إذا ادَّعَوْا، والقول في أن دعواهم هل تسمع، وهل لها وقع؟ يخرج عندي على أن اليمين هل ترد عليهم لو نكل رب المال. ومما يخرج على هذا القانون أنا إذا رأينا الرد عليهم، ونزلناهم منزلة مستحقين متعينين للدَّين (1)، فقياس هذا أن تنقطع طلبة السلطان فيه، ويكون الأمر موقوفاً على دعواهم [ورفعهم] (2) ربَّ المال إلى السلطان، فإن سكتوا، وهم أهل رشد لا يولى عليهم؛ فلا يبقى للسلطان في هذا تصرف وسلطنة، على سبيل الابتداء؛ فإن سلطانَه يثبت حيث يكون رأيُه متَّبعاً في الصرف إلى من رأى. 1851 - وقد ينقدح في هذا شيء، وهو أن المستحقين، وإن كانوا محصورين، [فلرب] (3) المال أولاً (4) ألاّ يسوي بين الفقراء، وهم ثلاثة مثلاً، بل يفضل بعضَهم.

_ (1) ساقطة من (ت 1). (2) في الأصل، و (ط) و (ك): فيرفعهم. (3) في الأصل، و (ط)، و (ك): فرب. (4) في (ط) و (ك): أولى.

فيجوز أن يقال: هذا على قولنا بوجوب تسليم الزكاة إلى السطان، يتعلق برأي الوالي، ويزيد وينقص، وإن كان لا يَحْرِم، ثم ما يفوّض إلى الوالي لا يكون تخيُّراً من طريق التمني (1)، بل يرى رأيَه. 1852 - وقد سمعت شيخي يقول: إذا منعنا النقل، وانحصر الفقراء، وزادوا على ثلاثة، فيجب صرف الحصة إليهم، ويجب التسوية بينهم، وإنما يجوز الاقتصار على الثلاثة، (2 وتجوز المفاضلة عند خروجهم عن الضبط الممكن؛ فإن سبب جواز الاقتصار 2) على الثلاثة أنهم أقل الجمع، ولا عدد بعده أولى من عدد، وسبب المفاضلة أن كل من أُعطي أقلَّ، فلو حُرم، لأمكن حرمانه بإقامة غيره مقامه، فأما إذا انحصروا، وامتنع النقل، وتيسر الاستغراق، فالوجه وجوب الصرف إليهم، مع رعاية التسوية. والذي ذكره حسن منقاس إذا قلنا ترد اليمين عليهم، ويخرج عليه أنه لو مات منهم ميت، فحصته من الزكاة مصروفة إلى ورثته الأغنياء، إرثاً على فرائض الله تعالى، وكان شيخي يلتزم جميع ذلك. 1853 - وفيه مستدرك عندي؛ من جهة أن الحاجات هي سبب الاستحقاق، وهي تختلف باختلاف الأشخاص: فرُب رجل تنسدُّ حاجته بمقدارٍ (3)، وحاجة غيره لا تنسد بأضْعافه، فإطلاق التسوية مع ما ذكرناه، لا وجه له. نعم، لو كان المدفوع إليهم لا تنسد حاجتهم أصلاً، فإذ ذاك تتخيّل التسوية. ثم هذا فيه شيء، وهو أن المستكفي في سِداد الحاجة بمقدارٍ قليل، وإن قصر المدفوع إليه عن كفافه، فهو أقرب إلى دفع الضرر عنه، بما يفرض مصروفاً إلى من لا تنسد حاجته إلا بالشيء الكثير، وللخبير في هذا تفكير.

_ (1) في (ت 2): النهي. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (3) في الأصل، و (ط)، و (ك): "تنسد حاجته بمقدار حاجة غيره، وحاجة غيره لا تنسد بأضعافه".

والتفريع إذا بعُد على القاعدة، جرّ خبلاً وأموراً ينبو عنه (1) قياس القواعد الكلية. 1854 - ومما يتعلق بتمام القول في هذا إذا انتهى القول إليه أنا إذا منعنا نقلَ الصدقة، وقد انحصر المستحقون، فلو فرضنا في زكاة العين في المواشي وغيرِها انحصار المستحقين، مع التفريع على منع النقل، وأوجبنا فضَّ الزكاة على جميع الحاضرين، فلو اعتاضوا عن الغنم دراهمَ، فالذي يقتضيه القياس تفريعاً على هذه الأصول جوازُ ذلك؛ فإنهم المستحقون. 1855 - وقد ذكر الأئمة أنه لو مات منهم واحد، ورث حصتَه وارثُه الغني الخارجُ عن صفة الاستحقاق. ولكن يظهر على قاعدة المذهب منعُ ذلك رعايةً للتعبد، ولأجله منعنا أصلَ الإبدال، وإن سلمنا أن سد الحاجة غرضٌ ظاهر في الزكاة. 1856 - ولو أبرأ هؤلاء مستوجب الزكاة، فاستحقاقهم واختصاصهم يقتضي تنفيذَ إبرائهم، ولكن أصل التعبد ينافي ذلك؛ فإن الزكاة عبادة واجبةٌ لله تعالى، فيبعد سقوطُها من غير أداء. ولا نقلَ عن الأئمة في أعيان هذه المسائل. 1857 - ولو وجبت الزكاة، ووقع الحكم بانحصار الاستحقاق في معيّنين، فلم يتفق صرف الزكاة إليهم حتى افتقر طائفة، واتصفوا بالصفات المرعيّة في استحقاق الزكاة، فيحتمل أن يقال: يختص بالزكاة المعيّنون عند الوجوب، ويُجعل اللاحقون كمدد يَلحق الجندَ بعد انجلاء القتال وإحراز المغنم. ويظهر أن يقال: لمن عليه الزكاة الصرف إلى اللاحقين؛ وحرمان الأولين؛ فإن أصلَ الزكاة منوط بالأوصاف، لا بالأعيان، فإن فرض تعيّن، فالحكم بموجبه لأجل الضرورة، لا لأصلٍ متمهدٍ في الشرع.

_ (1) كذا في جميع النسخ، فالضمير عائد على التفريع.

فصل قال "ولو ضلت غنمه أو غُصبها أحوالاً، ثم وجدها، زكّاها لأحوالها ... إلى آخره" (1). 1858 - فأوجب الزكاة في الأحوال التي اطّرد الضلالُ والغصب فيها، وقال بعد ذلك في الضال والمغصوب والمجحود: "لا (2) يجوز فيه إلا واحد من قولين: إما أن لا تجب الزكاة؛ لأنه محول دونه، أو تجب لأن ملكه لم يزل". 1859 - فنقول: الضال، والمغصوب الذي يتعذر انتزاعه من يد الغاصب، والمجحود (3) في يد الجاحد ولا بيّنة، فقد تعذر تصرف المالك فيه، وحيل بينه وبينه، ولكن الملك دائم قائم، فنصُّ الشافعي كما قدمناه ونقلناه. وقد اضطرب الأئمة، فذهب بعضهم إلى القول بوجوب الزكاة قطعاً، كما نصفه في التفريع، وحمل تردد النص على توجيه الحجة على مالكٍ (4) في تفصيلٍ له؛ فإنه قال: إذا مرت أحوالٌ مع اطراد الحيلولة، فتجب الزكاة في السنة الأولى فحسب، فقال الشافعي راداً عليه: هذا التفصيل لا معنى له، إما أن تجب الزكاة بجميع الأحوال؛ نظراً إلى استمرار الملك، وإما ألاّ تجب أصلاً؛ نظراً إلى اطراد الحيلولة، والفصل بين السنة الأولى وما بعدها لا معنى له، فكان كلامُ الشافعي صيغةَ المحاجّة، ولم يكن ترديداً منه للمذهب. ومالك إنما قال ما قال [لأصلٍ] (5) له، وهو أنه قال: إذا مضت السنة، ولم يتمكن مالكُ المال من تأدية الزكاة بعد انقضاء الحول بأشهرٍ، ثم تمكن، فابتداء

_ (1) ر. المختصر: 1/ 203. (2) من هنا بدأ خرم من (ك). (3) انتهى الخرم من نسخة (ك). (4) ر. المدونة: 1/ 132، والإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 384 مسألة: 521. (5) في الأصل، و (ط)، و (ك)، و (ت 1): لا أصل له. والمثبت من (ت 2).

الحول الثاني يحسب عنده من وقت الإمكان، وهذا الأصل يقتضي ما ذكرناه من مذهب مالك. 1860 - ومن أئمتنا من حمل نص الشافعي على ترديد القول والمذهب؛ فإنه لم يتعرّض (1) للسنة الأولى وما بعدها، وذِكْرُه الحيلولةَ [والملكَ] (2) إبداءٌ لتوجيه القولين، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا تجب الزكاة في مدة الحيلولة؛ فإن مبنى الشرع مشعر بأن الزكاة إرفاقٌ في مقابلة ارتفاق المالك، ولذلك تتعلّق الزكاة بالمال النامي جنساً وقدراً، واعتبرت مدةٌ يغلب النماء في مثلها، والحيلولة تمنع الارتفاق. والثاني - تجب الزكاة نظراً إلى الملك، والجنسِ، والقدرِ، مع حولان الحول. وامتناعُ التصرف في حكم مرضِ المواشي، وانقطاعِ نسلها وزيادتِها، وقد يكون مع ما ذكرناه [فحولاً] (3)، ثم الزكاة تجب. وطريان الحيلولة بهذه المثابة. 1861 - ثم الذين جعلوا المسألة على قولين اختلفوا في محلهما، فقال بعضهم: لو غُصب مواشيَه (4)، وكانت تنمو وتتوالد، ثم ردت بعد أحوال إليه، مع الزوائد المستفادة، فيجب إخراج الزكاة للأحوال الماضية، قولاً واحداً. وإنما القولان فيه إذا رجعت الأصول وماتت الزوائد. ومنهم من قال: في الصورتين جميعاً قولان، لصورة الحيلولة وامتناع التصرف. وهذا فيه بُعد.

_ (1) (ك): تنقرض السنة الأولى ... (2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2). (3) في جميع النسخ حرّفت هذه الكلمة، فرسمت هكذا (سحول) أو هكذا (حول) وفي كلا الحالين بغير نقط. وما أثبتناه اختيار منا رعاية للسياق، بمساعدة عبارة الشيرازي في المهذب (ر. المجموع: 5/ 341). والمعنى أن القائل بوجوب الزكاة يوجِّه قولَه بأن الملك متحقق في جنس مالٍ زكاتي بالغٍ النصاب، أما الحيلولة بينه وبين هذا المال، ومنعه من الارتفاق به ونمائه، فهي كآفةٍ من مرضٍ أو انقطاع نسلٍ، ثم قد يكون المال ذكوراً -لا تتكاثر- ومع ذلك تجب فيه الزكاة. "فطريان الحيلولة بهذه المثابة". (4) نائب الفاعل ضمير مقدّر يعود على المالك، و (مواشيه) مفعول به.

ومن فصّل القول في محل القولين، فلو عادت الأصول مع بعض الفوائد، ومات بعضها، فالوجه عنده طرد القولين في صورة تبعض الفائدة؛ نظراً إلى المعلوفة، فإنه لا زكاة فيها لمكان المؤنة، وإن كانت الفوائد تزيد على المؤن. وإن فات في يد الغاصب شيء من الفوائد، وكان يفوت في يد المالك أيضاًً، فهذا لا يبالى به؛ فإنه لا أثر للحيلولة فيه، وإنما هو اتفاق جائحةٍ مثلها لا يسقط الزكاة، لو جرى في يد المالك، فالمعنيُّ بفوات الفوائد أن يُهلكها الغاصب، أو تهلك بسبب زوال نظر المالك. ولو ردت الأصول والفوائد هالكة، وتمكن المالك من تغريم الغاصب، فهو في حكم عود الفوائد بأعيانها. 1862 - ومما تتعين الإحاطة به أنا إذا أوجبنا الزكاة في المغصوب والضالّ، فلا نوجب تعجيلَ إخراج الزكاة أصلاً، ولكن إذا عادت الأموال، فإذ ذاك نوجب إخراج الزكاة للأحوال الماضية، والطرق متفقة على ذلك تصريحاً وتلويحاً، وعدم التمكن من المال مع إيجاب الزكاة ينزل منزلة إيجاب الزكاة بانقضاء الحول من غير إمكان أداء الزكاة. وتحقيق ذلك أنا، وإن غلّبنا تعلّق الزكاة بالذمة، فلا شك في تعلقها بالمال، فلو عسر الإخراج من عَيْن ذلك المال، لم نوجب إخراجها من مال آخر. 1863 - ونقول على موجب ذلك: لو انقضت أحوال في زمان الحيلولة، ثم تلفت الأموال قبل وصولها إلى يد المالك، سقطت الزكوات بتلفها، كما تسقط الزكاة بتلف المال بعد الحول وقبل التمكن من أداء الزكاة. فهذا بيان أصل المذهب في الفصل. فرع: 1864 - لو غُصب (1) عبداً، وكان مغصوباً عند استهلال رمضان، ففي زكاة الفطر طريقان: من أصحابنا من أجراها مجرى زكاة المال؛ حتى تخرَّج على

_ (1) نائب الفاعل: (المالك) مقدّراً.

القولين. ومنهم من قطع بوجوب زكاة الفطر؛ فإنه لا يراعى فيها ماليّة المحل، ويجب إخراجها عن المستولدة، وعن الولد الحر. ولو نشزت امرأة الرجل، وسقطت نفقتُها واستهل الهلال؛ فلا تجب الفطرة على الزوج؛ فإن الفطرة تتبع النفقة، وقد سقطت النفقة بالنشوز، ونفقة المملوك لا (1) تسقط بالغصب. 1865 - ولو أبق العبد، فظاهر كلام العراقيين أن فطرته في إباقه على التردد الذي ذكرناه، وليس إباق العبد بمثابة نشوز المرأة؛ إذ نشوز المرأة يضاد التمكين، والنفقة في حكم العوض عن التمكين، ونفقة المملوك في مقابلة الملك، ويجب على مقتضى هذا أن يقال: لو وجد الآبق طعاماً لسيده في إباقه، حل له أن يأكل منه. وهذا فيه نظر ظاهر، فليتأمله الطالب. وبالجملة إن اتجه سقوط نفقة الآبق، ففي فطرته تأمل على الفقيه. فرع: 1866 - إذا حُبس المرء، وحيل بينه وبين ماله، ولم يثبت على ماله يد، ولكن ضِيقَ الحبس، والإفرادَ عن المال، وعمن يتعلق التصرف به، عَسَّرَ عليه التصرف، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم، تنبيهاً ورمزاً، وجوب الزكاة. ولا وجه غيره. فرع: 1867 - من اشترى نصاباً زكاتياً، ولم يقبضه حتى انقضى حول كامل في يد البائع، فللأئمة تردد في ذلك: فذهب بعضهم إلى أن القول في الزكاة في المبيع قبل القبض كالقول في المجحود والمغصوب. وقال صاحب التقريب: تجب الزكاة قولاً واحداً؛ فإن المشتري قادر على الوصول إليه بأن يسلم الثمن، ويتسلم المبيع، وليس كالمغصوب الذي يتعذر الوصول إليه. وحكى بعض المصنفين عن القفال القطعَ بأنه لا تجب الزكاة في المبيع، لضعف ملك المشتري فيه، ولذلك لا ينفذ تصرفه فيه، وإن أذن البائع، ولهذا يقال: إنه يتلف على ملك البائع، لو تلف في يده. والله أعلم.

_ (1) في (ت 1) لا تسقط إلا بالغصب.

1868 - ثم نختتم الفصل بأمرٍ واضحٍ، فنقول: إذا طرأ على الحول زوال ملكه، ثم عاد، حكمنا بانقطاع الحول، ثم يستأنف بعد عود الملك حولاً جديداً، قولاً واحداً. ولو طرأ علف مؤثر كما سيأتي شرحه، ثم أُسيمَت الماشية، قطعنا الحول، واستأنفنا حولاً جديداً باتفاق، ولا يُبنى على ما تقدم من الإسامة. ولو نوى التاجر الاقتناء في السلعة، ثم جرت تجارة، ابتدأنا حولاً جديداً وفاقاً، ولو طرأ غصب -على قولنا: لا زكاة في المغصوب- ثم زال، فالوجه القطع بانقطاع الحول واستئنافه، كما ذكرناه في نظائره، ولا بناء أصلاً؛ فإن الحيلولة في منع الزكاة، كالعلف، ونية الاقتناء. وسنعود إلى طرفٍ من ذلك عند ذكر السَّوْم والعلف. فصل قال: "وإن ارتد، فحال الحول على غنمه ... الفصل" (1). 1869 - قال الأئمة: من وجبت عليه الزكاة، فارتدّ بعد وجوبها، فالزكاة الواجبة لا تسقط بالردة، وإذا حال الحول في زمان الردة، ففي وجوب الزكاة تفصيلٌ، مخرّج على اختلاف القول في ملك المرتد، فإن قلنا: يزول ملكه بالردة، فلا تجب الزكاة في حال الردة، وإن قلنا: لا يزول ملكه، فتجب الزكاة بحولان الحول في الردة، وإن قلنا: ملكه موقوف، فوجوب الزكاة على الوقف أيضاًً. وسيأتي تفصيل الأقوال في ملكه إن شاء الله تعالى. 1870 - قال صاحب التقريب: لو قلت: إذا ارتد، لم يخرج الزكاة، ما دام مرتداً، لم يكن بعيداً من جهة أن الزكاة قُربة محضة، مفتقرة إلى النية، ولا تجب على الكافر الأصلي -بخلاف الكفارة- فيتعذر أداؤها من المرتد، وقال على هذا: إذا حكمنا بأن ملكه لا يزول، ومضى حول في الردة، لم يخرج الزكاة أيضاًً للمعنى الذي

_ (1) ر. المختصر: 1/ 204.

ذكرناه. ثم قال: إن عاد إلى الإسلام، لزمه إخراج ما وجب في إسلامه، وما وجب في ردته، كما يجب عليه قضاء الصلوات التي مرت مواقيتها في ردته. فخرج مما ذكره [أن] (1) الردة لا تنافي وجوبَ الزكاة، ولكنها تنافي أداءها لتعذّر النية، ثم قال: "ولو قُتل مرتداً فقد أيسنا من تأدية الزكاة على هذا الطريق، فسقطت في حكم الدنيا، ولم تسقط المعاقبة بها في العقبى" (2) هذا تمام كلامه. 1871 - قلت (3): ما قطع به الأصحاب إخراجُ الزكاة لحق المساكين عاجلاً، ولكن يحتمل أن يقال: إنه إذا أسلم، فهل يلزمه إعادة الزكاة؟ فعلى وجهين. وهذا يناظر مسألة، وهي أن الممتنع عن أداء الزكاة، إذا ظُفر بماله، أُخذ الزكاة منه، ولكن إذا لم ينوِ من عليه الزكاة، فهل تسقط الزكاة عنه، بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين، وترك النية بالامتناع، بمثابة ترك النية بالردة، هذا حاصل القول في ذلك. فصل قال: "ولو ضربت غنمَه فحولُ الظباء ... إلى آخره" (4). 1872 - المتولد بين الظبي والغنم لا زكاة فيه عندنا، ولا فرق بين أن يكون الفحول من الظباء والإناث من الغنم، أو تكون على العكس من ذلك، والمرعي أن المتولّد -كيف فرض الأمر-[لا يكون] (5) من جنس الغنم، والمرعي الجنس، كما تقرر ذلك في مسائل الخلاف. ...

_ (1) في الأصل، (ط)، (ك): إلى. (2) القائل: صاحب التقريب، فهذا نهاية كلامه. (3) القائل هنا إمام الحرمين. (4) ر. المختصر: 1/ 204. (5) ساقطة من الأصل، و (ط).

باب صدقة الخلطاء

باب صدقة الخُلطاء قال: "جاء الحديث "لا يجمع بين متفرق ... " (1) الحديث". 1873 - الخُلطة إذا ثبتت على شرطها، صيّرت مال الخليطين كالمال الواحد، في أصل الزكاة، وأخْذها وقَدْرها عندنا. والأصل في الباب ما رواه أنس، وابن عمر، وعمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" (2). زاد ابنُ عمر في روايته "وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" (3) وروى سعد بن أبي وقاص من طريق السائب بن يزيد: "والخليطان ما اجتمعا على الرعي والحوض والفحولة" (4). وعَقْد الباب ما ذكرناه، من أن مال الخليطين إذا صحت الخلطة، كمال مالك واحد، فلو ملك رجلان أربعين من الغنم، لزمتهما شاة واحدة، وإن لم يملك واحد منهما نصاباً كاملاً، ولو ملك اثنان ثمانين: كل واحد أربعين، لم يلزمهما إلا شاة واحدة، كما لو اتحد المالك، ولو ملك عشرة أربعمائة: كل واحد أربعين، لم يلزمهم إلا أربعُ شياه، كما لو كانت الجملة ملك مالك واحد. 1874 - ثم الخُلطة خلطتان: اشتراك، ومجاورة. فأما الاشتراك، فهو أن يملك اثنان أو عدد المالَ، وتشيعَ حصصُهم من غير تعيين، وأما المجاورة، فهو أن يتميز

_ (1) ر. المختصر: 1/ 205. (2) جزء من حديث أنس (كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) الذي سبق في أول الزكاة. (3) هذه الزيادة عند أنس أيضاًً في رواية أبي داود: (الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1567). (4) جزء من حديث سعد بن أبي وقاص، رواه الدارقطني: 2/ 104، والبيهقي: 4/ 106، وقد ضعفه الحافظ (انظر التلخيص: 2/ 155 ح 819، وخلاصة البدر: 1/ 289 ح 1002).

الملك عن الملك، ولكن يتجاور المالان تجاور المال الواحد، مثل أن يملك زيدٌ عشرين من الغنم بأعيانها، ويملك عمرو عشرين، ويتجاور الأغنام، كما سنصف، فيثبت مقتضى الخُلطة إذا استجمعت الخلطة شرائطها، وشرائطُها منقسمة إلى متفق عليه بين الأصحاب، وإلى مختلفٍ فيه، فالمتفق عليه أن يجتمع المالان في المرعى، والمسرح، والمراح، والمشرع (1)، والعبارة عن هذه الأوصاف أن تجتمع اجتماع ملك المالك الواحد، على الاعتياد الغالب فيه. 1875 - واختلف أئمتنا في أمورٍ منها: أنه هل يشترط أن يَتَّحِد رَعْيُها، أو تشترك رُعاتها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نشترط ذلك، ومعنى الوجه قبل التوجيه ألا يختص راع برعاية غنم أحد الخليطين، بل إن اتحد الراعي راعَى المالين جميعاً، وإن تعدد الراعي راعَى كلُّ واحدٍ جميعَ المال، على ما تقتضيه مصلحة الرعي. ومن أئمتنا من قال: لا يضر أن يفرد كل واحد منهما لماله راعياً، يختص به بعد اتّحاد ما ذكرناه، من المراح، والمسرح. وسنبين وجهَ هذا عند ضبط المذهب. 1876 - ومما اختلف فيه الأئمةُ الفحل، فذهب بعضهم إلى أنه يجب أن يكون مشتركاً بين الخليطين، وقال: إن كان مملوكاً، فليكن مشتركاً، وإن لم يكن مملوكاً، يجب أن يشتركا في استعارته -وإن تعدّد الفحل- فالمطلوب الاشتراك عند هذا القائل، كما ذكرناه في الراعي. ولا ينبغي أن يخصص كل مالك غنمه بفحل ينزو عليها، ولا ينزو على غنم صاحبه. ومن أئمتنا من لم يشترط ذلك، وحكم بصحة الخُلطة، وإن انفرد كل واحد بإنزاء فحل على غنمه. ومما اختلف الأصحاب [فيه] (2) حلبُ الألبان [فذهب بعضهم إلى أن شرط الخُلطة

_ (1) المشرع: المراد ورود الماء. مأخوذٌ من المشرعة، وهي شريعة الماء التي يستقى منها، بغير رِشا (المصباح). (2) زيادة من (ت 1)، (ت 2)، حيث سقطت من الأصل ومن باقي النسخ.

أن تحلب الألبان] (1) من المواشي المختلطة في محلبٍ واحد، ثم اقتصد في هذا الوجه، من قَرُب من التحقيق وقال: معناه ألا ينفردَ أحدُ الخليطين بمِحلب، يمنعه عن صاحبه، ولكن إن كان مِحلَب واحد، فيكون بين الخليطين، وإن كانت محالب كانت فوضى (2) بينهما. والغرض ألا يختصَّ أحدهما بآلة في الحلب عن صاحبه، اتحدت أو تعددت؛ فإن المال لو اتحد، فلا يفردُ بعضها بمحلب، فليكن مالاهما بمثابة مال واحدٍ، لمالك واحد، وهذا القائل لا يشترط حلبَ ألبانها في مِحلب واحد؛ فإن ذلك قد لا يعتادُ في مالٍ واحد. وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لو انفرد أحد الخليطين بمِحلَب لا يبذله لصاحبه، جاز، ولم يؤثِّر، وهذا يقرب من الكلام في الراعي كما سبق. والأظهر هاهنا ألا يشترط أن يكون المِحلَب فوْضى؛ فإن الأمر في ذلك قريب، والراعي قوام الأمر، فلو اختص كل مال براعٍ، ظهر منه الانفراد المناقض للخلطة. وأبعد العراقيون في الوجه الأول، فحكَوْا وجهاً بعيداً: أنا نشترط خلط الألبان، ثم زعم هذا القائل أنهما يتسامحان في فضلاتٍ -إن كانت- في الألبان، كما يتسامح المتناهدان (3) في الأطعمة في السفر. وهذا بعيد عن التحصيل ساقط عن قاعدة المذهب. 1877 - ثم الضابط لمحل الوفاق والخلاف في الشرائط، أن كل ما يرجع إلى أنفُس (4) الماشية من الاجتماع الذي يظهر اعتباره في المال الواحد، فهو مرعي في أموال الخلطاء، كالاجتماع في المراح، والمسرح، والمرعى، والمشرع. ولو افترقت في هذه الأشياء، لكانت مفترقة حسّاً في ذواتها غيرَ مجتمعة، وإذا اجتمعت كذلك، فما يتعلق بخفة (5) المؤن، ففيه خلاف، كالاشتراك في الراعي، والفحل، والمِحلَب، كما تقدم، فمنهم من اشترطها، ومنهم من لم يشترطها.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) فوضى: أي شائعة. (3) المشاهدان: من تناهد القوم الشيء تناولوه بينهم. (المعجم). (4) (ك): نفس. (5) في (ت 1)، (ك): (بحقه) وفي (ت 2): "بحقه ففيه".

1878 - ومما تكلم الأئمة فيه أنهم اختلفوا أن القصد هل يراعى في الخلط؟ فمنهم من لم يعتبره، وقال: لو اختلطت الأموال سنة وفاقاً، حصلت الخلطة، ومنهم من يراعي القصدَ حتى لو لم يكن، فكل مالك على الانفراد في ملكه. وهذا يناظر ما سنذكره من أن القصد هل يراعى في الإسامة والعلف؟ ثم كما اختلفوا في أن القصد هل يراعى في الخلطة، أختلفوا في أنها لو افترقت من غير قصد، هل ينقطع حكم الخلطة فيها؟ وهذا كجريان الخلاف في العلف والإسامة جميعاً. 1879 - ثم خلطة الجوار هي التي يشترط فيها على الوفاق والخلاف ما ذكرناه، فأما خُلطة الشيوع والشركة، فلا يشترط فيها شيء مما ذكرناه؛ فإن الحصص شائعة (1) لا تميُّز فيها، نعم، يشترط في الخليطين جميعاً أن يكون كل واحد من الخليطين بحيث يلتزم الزكاة، حتى لو كان أحد الخليطين ذمِّيّاً، أو مكاتباً، لم يثبت حكم الخلطة أصلاً، ومن كان من أهل الالتزام، فله حكم ماله على الانفراد، ولا أثر للخلطة أصلاً. 1880 - ومما يشترك فيه الخليطان جميعاً اشتراط دوام الخلطة في جميع الحول، كما سيأتي ذلك مشروحاً في مسائل الباب. فهذا قاعدة الخلطة، وبيان حصولها، وذكر تأثيرها على الجملة. 1881 - ثم إن الشافعي بين أن اسم الخلطة على الشركة أوقع منه على خلطة الأوصاف، وإنما (2) قال ذلك، لأن الخلطة على سبيل الجوار هي التي ورد فيها الخبر، كما لا يخفى على المتأمل، فقال الشافعي من طريق السنة "إذا ثبت بالخبر حكم خلطة الجوار، وهي المسماة خلطة الأوصاف، فخلطة الشركة باسم الخلطة وحقيقتها أولى (3) ". والأمر على ما ذكره.

_ (1) ساقطة من (ت 2). (2) في الأصل و (ط) و (ك): فإنما. (3) ساقطة من (ت 1).

فصل 1882 - إذا (1) ثبت خلطةُ الجوار على شرائطها المذكورة، فقد ذكرنا أن المالين كالمال الواحد، والخُلطة لهذا الأصل تقتضي تارةً إيجابَ الزكاة، وتارة تتضمن التقليل، وهذا متلقى من مصير المالين في حكم المال الواحد. ثم نقول: من ذلك إذا أقبل الساعي، واقتضى الحال أن يأخذ بنفسه الزكاة، فإنه يأخذها من عُرض المال، من أي ملكٍ يتفق، ثم يثبت الرجوع تارةً، والتراجع من الجانبين أخرى، على ما سنصف. ثم نوضح التعليل. 1883 - فإذا كان بين رجلين أربعون من الغنم، وكانت متجاورة: عشرون منها لزيد، وعشرون لعمرو، وقد استجمعت الخلطة شرائطها، فالواجب شاة، فلو أخذ الساعي شاةً من أغنام أحدهما، سقطت الزكاة عنهما جميعاً، ثم يرجع من أُخذت الزكاة من غنمه على خليطه بقيمة نصف شاة، ولا يرجع عليه بنصف شاة؛ فإن الشاة وقعت زكاةً، وليست من ذوات الأمثال، وهذا بمثابة ما لو قال من عليه شاة عن أربعين لغيره: أدِّ زكاة مالي من مالك، فإذا فعل المأمور، فإنه يرجع حيث يرجع بقيمة الشاة. ولو حال الحول على الأربعين ووجبت الزكاة، وتحقق التمكن، وأتلف مالكُ المال المالَ، فيلزمه إخراجُ شاة للمستحقين؛ فإن الزكاة باقية في ذمته إلى أن يؤديها، وهي شاةٌ، والزكاة في الأربعين المتجاورة قد (2) سقطت عن الخليطين بأداء أحدهما الشاة، فلا رجوع إلا بالقيمة. 1884 - ولو ملك أحدهما أربعين بقرة، وملك الثاني ثلاثين، وخلطا خلطة الأوصاف، فواجب المال مسنةٌ وتبيع، فلو أخذ الساعي تبيعاً من صاحب الأربعين،

_ (1) في (ك) في أول الفصل: (قال) فجعل هذا من كلام الشافعي، كدأب المؤلف في أول الفصول، ولكني لم أجد هذا للشافعي في المختصر. (2) في الأصل و (ط) و (ك): وقد.

ومسنةً من صاحب الثلاثين، فإنهما يتراجعان كما نص الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي صدرنا الباب به، فيرجع صاحب الأربعين على صاحب الثلاثين بثلاثة أسباع تبيع، ويرجع صاحب الثلاثين على صاحب الأربعين بأربعة أسباع مسنة. والرجوع بالقيمة، لا بعين التبيع والمسنة. ولو أخذ الساعي المسنّةَ من صاحب الأربعين، والتبيعَ من صاحب الثلاثين؛ فإنهما يتراجعان، فيرجع صاحب الأربعين على صاحب الثلاثين بثلاثة أسباع مسنّة، وصاحب الثلاثين على صاحب الأربعين بأربعة أسباع تبيع، وليس لقائلٍ أن يقول: إذا أُخذت المسنة من الأربعين والتبيع من الثلاثين، فقد أخذ كلَّ سن من محله، فلا رجوع؛ وذلك أن المالين كالمال الواحد، والمسنة شائعة في جميع المال، وكذلك التبيع. هكذا ذكره شيخي، والشيخ أبو بكر. والأمر كذلك. وتحقيقه أن من ملك سبعين من البقر، وانفرد بملكه، فزكاة ماله مسنة وتبيع، (1 ثم لا نقول: المسنة في أربعين، والتبيع في ثلاثين؛ فإن الأربعين ليست متميزةً عن الثلاثين، ولكن واجب الجميع مسنة وتبيع 1)، فلا جزء من الجميع إلا وفيه جزء من مسنة وتبيع. وبيان ذلك: أن الشرع إذا أوجب في مائتي درهم خمسةَ دراهم، فذاك [بنسبةٍ] (2) من الجزئية معلومة، ففي النصاب رُبع عشر، وهو منبسط على الجميع، ففي كل جزء رُبع عشر، فإذا أوجب الشرع في أربعين شاةً شاة، فلا يتأتى في ذلك عبارة (3) بالجزئية، مع اختلاف صفات الشياه، ولكنه في الحقيقة جزئية، ففي كل شاة ما يخصها من حساب شاة في أربعين. كذلك في كل بقرة ما يخصها من المسنة والتبيع، من حساب مسنة وتبيع في سبعين، فإذا كان كذلك، ومالا الخليطين كمال

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) في الأصل و (ط) و (ك): بنسبته، وفي (ت 2): النسبة. والمثبت من (ت 1). (3) أي اعتبار.

المالك الواحد، فيتضمن ذلك التراجعَ كما سبق تفصيله في الصورتين. ولو وجد الساعي المسنة والتبيع جميعاً في مال صاحب الثلاثين مثلاً وأخذهما، فلا نقول إنه يرجع بقيمة مسنة على صاحب الأربعين، ولكن يرجع عليه بقيمة أربعة أسباع مسنة، وأربعة أسباع تبيع. فقد بان ما نحاول من ذلك إن شاء الله تعالى. 1885 - ولو وجب في الأغنام المختلطة أربع شياه: مثل أن [مَلَكا] (1) أربعمائة: لهذا مائتان، ولهذا مثلها، فأخذ الساعي شاتين من هذا وشاتين من هذا، فالذي ذكره المحققون أنه يرجع كل واحد على الثاني بقيمة نصفي شاتين، للشيوع الذي ذكرناه. ولكنهم قالوا: لا يفيد هذا التراجع؛ فإن الشياه المأخوذة المجزئةَ متساوية، فإذا كان يرجع كل واحد على الثاني بما يرجع به عليه، لم يفد. نعم يخرّج هذا [على] (2) أقوال التقاصّ (3) عند تساوي الدَّيْنين، قدراً وجنساً، وليس كما ذكرناه في السبعين من البقر، وقد أُخذت مسنة من أحدهما، وتبيعٌ من الثاني؛ فإن التراجع في الأسباع يجرُّ اختلافاً في المقدار، والتقاصّ جار في مقدار التساوي من القيمة. وعبر الأئمة في التراجع بالشاتين والمأخوذ منهما أربع شياه بعبارة تشعر بالمقصود. فقالوا: يرجع كل واحدٍ منهما على الثاني (4 بنصفي شاتين، أو 4) بنصفي شاة، وهو شاة؛ فإن الشياه لا تختلف. 1886 - ولو كان بين رجلين مائة وثمانون من الإبل، لواحد مائة، وللثاني ثمانون، فواجب المال حقتان، وبنتا لبون، فلو أخذ الساعي حقتين من صاحب

_ (1) في جميع النسخ ما عدا (ت 2): ملك. فالمثبت منها. (2) مزيدة من (ت 1). (3) في (ت 1): التقايض. (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

المائة، وبنتي لبون من صاحب الثمانين؛ فإنهما يتراجعان، فيرجع صاحب المائة على صاحبه بأربعة أتساع حقتين، وإن شئت قلت: بثمانية أتساع حقة؛ فإن القيمة لا تختلف، ويرجع صاحب الثمانين بخمسة أتساع بنتي لبون، وإن أحببت، قلت: يرجع ببنت لبون وتُسع أخرى. فهذا تحقيق التراجع. 1887 - وفي بعض التصانيف (1) كلامٌ فيه خبط، ونحن ننقله بعد تأسيس المذهب، ونذكر ما فيه. قال: "لو كان واجب المال شاتين، وأخذ الساعي شاةً من أحدهما، وشاةً من الآخر، فلا تراجع؛ لأنه أخذ من كل واحد منهما ما وجب عليه". وهذا قول من لا علم عنده بحقيقة الأصل الذي مهدناه، ولو حمل حاملٌ هذا على سقوط فائدة التراجع، لاستقام في المعنى، ولكن لفظ الكتاب دليلٌ على أن كل واحد منفردٌ بواجبه، لا شيوع له. وهذا خطأ صريح. ثم قال: إن كان الواجب شاتين، فأخذهما من أحد المالين، جاز ويثبت الرجوع. وحكى (2) عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: "إذا تمكن الساعي من أخذ شاة من كل واحد منهما، فليس له أخذ شاتين من أحدهما، حتى يحتاج إلى الرجوع".

_ (1) سبقت الإشارة إلى أنه حيث القول: "بعض المصنفين" أو "بعض المصنفات" فإنما يعني أبا القاسم الفوراني. وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط تعليقاً على عبارة الإمام هذه: "قلت: التصنيف الذي نقل منه ذلك هو كتاب الفوراني أبي القاسم، وهو كثير الميل عليه والتخطئة له، يقول: قال بعض المصنفين كذا، وفي بعض التصانيف كذا، وبلا تسمية ولا كناية، ثم يفرط في تتبعه ومؤاخذته حتى يفضي به إلى الظلم له، وإلى أن يتصف هو بما يصفه من الخطأ والسهو". ا. هـ. ثم تعقبه في المسألة "نقلاً ودلالة" على حد تعبيره، بما لا نطيل بذكره، فراجعه إن شئت (مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 2/ 424 - 426). (2) الذي حكى هو صاحب (بعض التصانيف المشار إليه آنفاً).

وهذا لم أره إلا في هذا الكتاب. وقياس ما ذكره أنه لو أخذ مسنة من صاحب الأربعين، وتبيعاً من صاحب الثلاثين أنهما لا يتراجعان؛ إذ أدى كل واحد منهما واجبه، ويخرج من ذلك أن الساعي [إذا] (1) قدر على أن يأخذ المسنة من صاحب الأربعين، والتبيعَ من الثاني، يلزمه أن يفعل ذلك على مذهب أبي إسحاق. وهذا خبط مطرَح من المذهب، ولا ينبغي أن يطّرق إلى أصول المذهب أمثال ذلك، أو يعتقد أنه من الوجوه الضعيفة، بل هو هفوة نقلناها؛ حتى لا يخلو المجموع عن ذكرها. 1888 - ولو كان واجب المال المختلط شاةً، وأخذ الساعي من أحد الخليطين أكولة (2) أو رُبَّى، فلا يرجع على خليطه بقيمة نصف شاة رُبّى، بل يرجع بقيمة نصف جذعة من الضأن؛ فإنه مظلوم بتلك الزيادة في الصفة، والمظلوم يرجع بالظلم على من ظلمه، دون غيره. 1889 - ثم إنما يظهر القول في التراجع في خلطة الجوار، فأما خلطة الاشتراك، فلا يظهر التراجع فيها، والزكاة المأخوذة من جنس المال؛ فإن المأخوذ يكون مشتركاً بينهما على ما يقتضيه أصل الشركة في أصل المال، نعم لو كان الواجب غير مجانس لأصل المال كالشاة تجب في خمسٍ من الإبل، فقد يفرض الرجوعُ فيه، فإذا كان بين رجلين خمسة من الإبل على اشتراكٍ، فأخذ الساعي من أحدهما شاةً، فإنه يرجع بنصف القيمة على شريكه، ولو كان بينهما عشرة من الإبل على الاشتراك فأخذ الساعي شاة من هذا وشاة من هذا، فأصل التراجع ثابت على قانون المذهب، ولكنه غير مفيدٍ (3) فيقع في التَّقاصّ، كما تقدم ذكره.

_ (1) مزيدة من (ت 1)، (ت 2). وفي (ك): إن. (2) الأكولة: هي التي تسمن للأكل، وليست بسائمة. (الزاهر). (3) في (ت 1) و (ت 2): مقيّد.

فصل قال: "ولما لم أعلم مخالفاً في أن ثلاثة ... (1) الفصل". 1890 - قصد الشافعي بهذا الردّ على مالك (2) في تفصيلٍ له في الخلطة، فإنه قال: إذا لم يكن نصيب بعض الخلطاء نصاباً، لا يلزمه الزكاة بسبب الخلطة، حتى لو كان بين رجلين أربعون من الغنم، لكل واحدٍ عشرون، لم تجب الزكاة على واحد منهما، واعتلّ بأن واحداً منهما لم يخالط من تلزمه الصدقة من غير خُلطة، فأشبه ما لو خالط ذمياً. وهذا غير سديد؛ فإن الخُلطة تؤثر في تبليغ المالين نصاباً، ولا تؤثر الخُلطةُ في إزالة كفر الذمي. ثم ما ذكره مالك يقتضي أن لا تُفيد الخلطة في حق المساكين شيئاً، فإنه إذا كان مال كل واحد بحيث تتعلق الزكاة به، فالخلطة تقتضي تقليل الزكاة، ونحن إذا قلنا: على الخليطين في النصاب الزكاة، فقد جعلنا الخلطة في حق المساكين مفيدةً في هذه الصورة، فكان ذلك حكماً عدلاً؛ إذ تارة تفيد الخلطة للمساكين، وتارة تقلل من حقهم. فصل قال: "وبهذا نقول في الماشية والزرع والحائط ... إلى آخره" (3). 1891 - قد ذكرنا أن المواشي تثبت فيها خلطة الشركة والجوار جميعاً، فأما الزورع والثمار، ففيها ثلاثة أقوال: أحدها - أنها تثبت فيه الخلطتان، فإذا كانت الزروع أو الثمار مشتركة، فبينهما حكم الخلطة. والجوار فيها أن يتجاورا ويتّحد الناطور، والنهر الذي يسقي، وما يمكن تقدير

_ (1) ر. المختصر: 1/ 206. (2) ر. المدونة: 1/ 334، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 393 مسألة: 536. (3) ر. المختصر: 1/ 206.

اتحاده من هذه المرافق لتخف المؤن فيها، ولعل الخلطة تثبت إذا كان بين البستانين بستان، إذا أمكن فرضُ اتحاد المؤن، والناطور. وفي هذا نظر. ولا يمتنع أن يشترط اشتمال حائطٍ واحدٍ على أرْضَين، أو وقوعهما متجاورين من غير حائطٍ، حتى يقال: لا تتميز إحداهما عن الأخرى، بما هو علامة في تعدد الملكين وتميزهما، ولم يتعرض الأصحاب لتفصيل القول في ذلك، والله أعلم. فهذا قول. والقول الثاني - أنه لا تثبت الخلطتان إلا في المواشي؛ فإنهما لو ثبتتا في الزروع والثمار، لما تضمنت قط تخفيفاً عن الملاك أبداً، بخلاف المواشي. والقول الثالث - أن خلطة الشركة تثبت، وخلطة الجوار لا تثبت؛ فإن الشركة فيها كالشركة في المواشي، والجوار عسر التصوير، ولا يتعلق به من تخفيف المؤنة ما به مبالاة. 1892 - فأما الدراهم، والدنانير، وعروض التجارة، فالمذهب أن الجوار لا يثبت فيها، وفي الشركة قولان، وأبعد بعضُ الأئمة، فذكر في خلطة الجوار فيها وجهاً بعيداً، وتصوير الجوار فيها أن يتّحد حانوتها وخازنها، ومعنى الاتحاد قد أوضحناه في جوار المواشي، وهذا بعيدٌ؛ فإن اتحاد الحانوت والخازن لا يؤثِّر أثراً به احتفال. فصل مُشتمل على تفصيل القول في حول الخلطة والانفراد، وما يتعلق بذلك 1893 - فنقول: إذا ثبتت الخلطة بين مالين، لم يخل الأمر من ثلاثة أحوال: إما ألا ينعقد الحول قبل الخلطة، وينعقد الحول مع الخلطة، في حقهما جميعاً. وإما أن ينعقد الحول على مال كل واحدٍ منهما، قبل اتفاق الخلطة، ثم تقع الخلطة في أثناء الحول. وإما أن ينعقد الحول على مال أحدهما على الانفراد قبل الخلطة، ويقع ابتداء حول الثاني مع الخلطة.

فإن كان ابتداء حوليهما مع الخلطة، فلا إشكال، فإذا مضى حول من وقت الخلطة، وجبت الزكاة عليه كما سبق التفصيل، والمالان كالمال الواحد. ومن صور هذا القسم أن يملك أحدهما عشرين من الغنم، وكذلك الثاني، ثم يتفق الخلط، فالحول من وقت الخلط، ولا نظر إلى تاريخ ملكيهما قبلُ؛ فإن الحول لا ينعقد على مال ناقصٍ عن النصاب، فابتداء انعقاد الحول من وقت تمام النصاب بالخلطة. 1894 - ولو ملك كل واحد منهما نصاباً كاملاً، وانفرد به مدة، ثم اتفق الخلط، لم يخل إما أن يتفق تاريخ الحولين، أو يختلف، فإن اتفق التاريخان، فكأن اشترى أربعين من الغنم غرة المحرم، واشترى الثاني أربعين بذلك التاريخ، ثم انفرد كل واحد منهما بملكه شهراً، ثم خلطاه غرة صفر وانقضت السنة: شهر منها على الانفراد، وأحدَ عشرَ في الاختلاط، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يجب في السنة الأولى زكاةُ الانفراد على كل واحد منهما، فيلزم كلَّ واحد شاة؛ فإن السنة قد اشترك فيها الانفراد والخلطة، فالتغليب للانفراد؛ فإنه الأصل، والخلط طارىء. وحكى العراقيون قولاً عن الشافعي: أنه يجب عليهما زكاةُ الخلطة؛ نظراً إلى آخر الحَوْل، فعليهما إذن شاة واحدة. وهذا في السنة الأولى. فأما إذا انقضت السنة الثانية في دوام الخلطة، فلا خلاف أنه يجب عليهما زكاةُ الخلطة، وهي شاة واحدة في السنة الثانية؛ فإن هذه السنة تجردت الخلطة فيها. فهذا إذا اتفق تاريخ ملكيهما. 1895 - فأما إذا اختلف التاريخان، فاشترى أحدهما أربعين غرة المحرم، واشترى الثاني أربعين غرة صفر، ووقعت الخلطة غرة ربيع الأول، فقد جرى مال كل واحد منهما في حول الانفراد شهراً، واختلف تاريخ الحولين أيضاًً؛ فنقول: إذا تم حول الأول، فالمنصوص في الجديد أنه يجب عليه زكاة الانفراد في هذا الحول، وهي شاة، فإذا تم حول الثاني، فتلزمه زكاةُ الانفراد أيضاًً، وهي شاة.

وحكى العراقيون قولاً عن القديم أنه يجب على الأول زكاةُ الخلطة؛ اعتباراً بآخر الحول، وهي نصف شاة، وكذلك يجب على الثاني -إذا تم حوله- نصف شاة اعتباراً بآخر الحول. وذكر ابن سريج قولاً مخرجاً في اختلاف تاريخ الحولين، وهو أنه لا يثبت الخلط مع اختلاف الحولين أبداً، ويجب على كل واحد منهما زكاة الانفراد في جميع الأحوال المستقبلة، واشترط في ثبوت حكم الخلطة اتفاقَ الحولين. وهذا غيرُ مرضيٍّ عند أئمة المذهب. وإذا فرعنا على القول الجديد الأول؛ فإنما يثبت حكم زكاة الانفراد في السنة الأولى، فأما في السنين المستقبلة، فيثبت حكم الخلطة وإن كان التاريخ يختلف. 1896 - ولو تقدّم حول أحدهما على الانفراد، وثبت حول الثاني مع الخلطة، مثل أن اشترى رجل أربعين من الغنم وانفرد بها شهراً، ثم اشترى رجل عشرين، وكما (1) اشتراها خلطها بالأربعين، فإذا تم حول الأول، ففي الجديد تلزمه زكاة الانفراد، وفي القول القديم تلزمه زكاة الخلطة ثلثا شاة، فإذا تم حول الثاني ففي الجديد والقديم تلزمه زكاة الخلطة وهو ثلث شاة؛ فإنه كان مخالطاً في جميع السنة، فيجب عليه بحساب الخلطة. وأما ابن سريج، فإنه يقول: يجب على صاحب الأربعين زكاةُ الانفراد أبداً، لاختلاف التاريخ. وأما صاحب العشرين، فلا تجب عليه الزكاة أبداً؛ لأن الخلطة لا تثبت في حقه، وماله ناقصٌ عن النصاب. 1897 - ومما نذكره في بيان تخريج ابن سريج أن من اشترى عشرين وأمسكها شهراً، ثم اشترى عشرين، فالحول ينعقد عليهما من وقت شراء العشرين الثانية؛ فإنه كمل النصاب الآن، وابتدأ الحول من وقت كمال النصاب. ولو اشترى أربعين، ومضى شهر، ثم اشترى أربعين أخرى، فإذا تم حول

_ (1) "كما" بمعنى عندما.

الأربعين الأولى، ففي الجديد يجب فيه شاة، وفي القديم يجب فيه بحساب الخلطة نصف شاة؛ فإنه كان خليطاً لملكه في آخر الحول، وعلى التخريج يجب في الأربعين الأولى شاة، وفي الأربعين الثانية إذا تم حولها شاة لاختلاف التاريخ في [حولي] (1) الملكين، فكما نمنع حكم الخلطة مع اختلاف التاريخ في ملكي الخليطين، كذلك نمنع هذا بين ملكي مالكٍ واحد. ولو ملك عشرين، ثم عشرين، فابتداء الحول من وقت كمال النصاب، وإذا اشترى أربعة من الإبل، وأمسكها شهراً، ثم ملك ستّة، فالحول ينعقد الآن على العشرة، ولا اعتبار بما تقدم من الملك على الأربعة؛ فإنها لم تكن نصاباً، فلم يختلف تاريخ الحولين؛ إذ لا حول على الأربعة، فهذا بيان قول ابن سريج في تخريجه. وأبو حنيفة (2) يلحق المستفادَ بالأصل في حوله، ولا يعتبر فيه حولاً جديداً، والمسألة مشهورة معه في الخلاف. والسخال إذا حدثت في حول الأمهات، وجبت الزكاة فيها بحول الأمهات، كما تقدم ذكره في زكاة الغنم، وأما الأرباح الطارئة، فسيأتي تفصيل القول فيها في زكاة التجارة، إن شاء الله. 1898 - ولو اشترى رجل أربعين من الغنم، وأمسكها شهراً، ثم اشترى رجلٌ آخر أربعين، وكما اشتراها خلطها بالأربعين الأولى، فإذا تم حول الأولى، ففي الجديد تلزمه زكاة الانفراد شاةٌ، وفي القديم نصفُ شاةٍ، نظراً إلى آخر الحول. وأما الثاني، فالصحيح في الجديد أنه إذا تم حوله يلزمه (3) نصف شاة؛ فإنه كان خليطاً في تمام سنة.

_ (1) في الأصل، (ط)، (ك): جوار. وفى (ت 2): (حول). والمثبت من تصرّف المحقق. (2) ر. رؤوس المسائل: المسألة رقم 102، المبسوط: 2/ 164، طريقة الخلاف للأسمندي: ص 17 المسألة رقم 6. (3) في (ك): لم يلزمه.

وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر على هذا القول: أنه تلزمه شاة في هذه السنة، كأنه منفرد بملكه؛ لأنه وإن كان خليطاً في جميع السنة، فصاحبه لم ينتفع بخلطته، فيبعد أن ينتفع هو ولا ينفع، والتساوي مرعي في الخلطة بين الخليطين. وهذا تخييل لا حاصل له. والوجه اتباع القياس المشهور. وأما القول القديم، فلا يخفى التفريع عليه، وكذلك تخريج ابن سريج. فرع: 1899 - إذا اشترى أربعين شاةً ومضى شهرٌ، ثم ملك أربعين أخرى، ومضى شهر، ثم ملك أربعين أخرى، فعلى القول القديم يجب في الأربعين الأولى إذا تم حولها، ثلث شاة، وكذلك الثانية، والثالثة. وعلى الجديد إذا تم حول الأربعين الأولى، ففيها شاة، لانفرادها في بعض الحول، وفي الأربعين الثانية إذا تم حولُها خلافٌ. ْوالصحيح أنه يجب فيها نصف شاة؛ (1 فإنها كانت خليطة أربعين في جميع حولها، وهذا الحساب يقتضي فيها نصفَ شاة 1). ومن أصحابنا من قال: فيها شاة؛ فإن الأربعين الأولى، لم ترتفق في حولها بالأربعين الثانية، فلم يلحق الأربعين الثانية تخفيف أيضاًً. وهذا بعيد. وأما الأربعين الثالثة، فالصحيح أنه يجب فيها ثلث شاة إذا تم حولُها؛ فإنها في جميع حولها كانت مخالطة لثمانين، فيقتضي هذا الحساب فيها ثلث شاة. ومن أصحابنا من قال: في الأربعين الثالثة شاة؛ فإنه لم يرتفق بها الأربعين (2) الأولى والثانية؛ إذ أوجبنا على هذا الوجه الضعيف في كل أربعين من الأولى والثانية شاة، فكما لم يرتفق بالثانية ما تقدم، فكذلك لا يلحق الثالثة تخفيفٌ من الأملاك المتقدمة. وتفريع تخريج ابن سريج لا يخفى، فهو يوجب في كل أربعين شاة، في

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) كذا في الأصل، (ت 1)، (ط)، (ك) ولعلها بالواو والنون (الأربعون) أما (ت 2) فعبارتها مستقيمة؛ فقد جاءت هكذا "فإنه لم يرتفق في الأربعين الأولى والثانية".

الأحوال المستقبلة، فيتم فيها ثلث ثلث إذا لم يزد المال بالنتاج. فهذا بيان هذه التفاصيل، ذكرها العراقيون وصاحب التقريب. فصل قال الشافعي: "لو كان بين رجلين أربعون شاة، ولأحدهما ببلدٍ أربعون ... إلى آخره" (1). 1900 - هذه غمرة الخُلطة، ومقصودها الكلي أنه إذا كان بين رجلين مال مختلط على الشرط المذكور، وكان لأحدهما مال زكاتي من ذلك الجنس، وهو منفرد به، فللشافعي قولان: أحدهما - أن الاعتبار بالعين التي وقعت الخلطة فيها، ولا يجمع الملك المنفرد إلى مال الخلطة. والقول الثاني - أن الملك المنفرد مضموم إلى المختلط، والعبارة عن هذا القول أن الخلطة خلطة ملك، وبيان القولين يتضح بالتصوير والتفريع. 1901 - فإذا كان لرجل ستون من الغنم، ولآخر عشرون، فخلط صاحبُ الستين عشرين بالعشرين لصاحب العشرين، وانفرد بأربعين، ونفرض اتفاق الحول، حتى لا نقع في التفاصيل المقدمة، ففي قولٍ نقول: الخلطة خلطة ملك، فنضم جميعَ أملاك الخليطين، وهو ثمانون شاة، فالواجب فيها شاة، ربعها على صاحب العشرين، وثلاثة أرباعها على صاحب الستين. وفي قولٍ نقول: الخلطةُ خلطة عين، فالذي كل ماله مختلط وهو صاحب العشرين، فيعتبر في حقه عين ما وقعت الخلطة فيه، ولا يعتبر ما انفرد به خليطه في حسابه، وهو قد خالط عشرين بعشرين، فلزمه بهذا الحساب نصفُ شاة. فأما صاحب الستين فبعض ماله مختلط، وبعضه منفرد. والتفريع على أن الخلطة خلطة عين، ففيما يجب على صاحب الستين في هذا القول أربعة أوجه، يجمعها وجهان أولاً، ثم يتفرع كل واحد إلى وجهين.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 209.

نقول: اختلف أئمتنا في أنا هل نجمع في صاحب الستين بين حكم الانفراد والخلطة أم لا؟ وفيه وجهان: أحدهما - أنا لا نُثبت في حقه إلا أحد الحكمين؛ فإن الجمع بينهما مع اتحاد الملك تناقض. والثاني - أنا نجمع بينهما لاجتماعهما في ملكه. التفريع على الوجهين: إن قلنا: لا نجمع، فقد اختلف الأئمة على هذا الوجه، فمنهم من قال: يغلّب حكم الانفراد، ويجعل كأنه انفرد بستين من الغنم، فيلزمه شاة واحدة في المختلط والمنفرد، وهذا كما أنا نغلب حكم الانفراد إذا جرى في حولٍ انفراد واختلاط. هذا ظاهر المذهب. ومن أئمتنا من قال: نغلّب حكم الخُلطة؛ لأن الخلطة متحققة في بعض ماله، وماله الذي انفرد به منضمٌّ إلى ما وقعت الخلطة فيه، فارتباط الملك أجمع من خلطة الجوار، فعلى هذا نجعل كأن كلَّ الملك مختلط في حقه، ولو كان كذلك، لوجب في الجملة شاة، ويخص صاحب الستين منها ثلاثة أرباعها، فعليه ثلاثة أرباع شاة. وهذا تفريع على أحد الوجهين، وهو أنا لا نجمع بين حكم الانفراد والخلطة. فأما إذا قلنا: نجمع في حقّه بين الأمرين، ففي كيفية ذلك وجهان: أحدهما - أنا نوجب في المنفرد بحسابه وفي المختلط بحسابه. وبيانه أنه قد انفرد بأربعين، فجعل كأنه انفرد بالستين، فنقدر فيه شاة، ففي الأربعين منها ثلثا شاة، ثم نعود، فنقدر كأن الستين مختلطة بالعشرين، والمجموع ثمانون، ففيها شاة فيخص العشرين منها ربع شاة، فيضم ذلك إلى ما أوجبناه في الأربعين بحساب الانفراد وهو ثلثا شاة، فالمجموع خمسة أسداس ونصف سدس. والوجه الثاني - أنا نوجب فيما انفرد به بتقدير انفراده بجميع ماله، كما تقدم، فيلزمه فيه ثلثا شاة، كما تقدم، فأما ما خالط به، فنوجب عليه فيه مثلَ ما نوجبه على خليطه، وقد ذكرنا أنه يجب على خليطه نصف شاة، فكذلك يجب عليه نصف شاة، فنضمه إلى ثلثي شاة الذي أوجبناه في الأربعين المنفردة، فالمجموع شاة وسدس شاة. فهذا بيان الأوجه.

وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً نذكره الآن في هذه الصورة، ولا نعود إليه، وذلك أنه قال: نجعل كأنه انفرد بالأربعين لا مال له غيره، ففيه شاة، ونجعل كأنه خالط بعشرين ولا مال له غيره، فيجب عليه فيه نصف شاة، والمجموع شاة ونصف. وهذا مزيف مطَّرح، وفيه قطع ارتباط الملك بالكلية، ولا سبيل إلى ذلك. 1902 - صورة أخرى: إذا ملك رجلان مائةً وعشرين من الغنم، لكل واحدٍ ستون، فخلطا عشرين بعشرين، وانفرد كل واحدٍ بأربعين، فقد اشتركا في الخُلطة، ولكل واحد منهما انفراد بمالٍ، وليس كالصورة الأولى؛ فإنه انفرد أحدهما دون الثاني، فهذه الصورة نفرعها على أن الخلطة خلطة ملك، أو (1 خلطة عين؟ فإن قلنا: الخلطة خلطة ملك 1)، فنجعل كأن الكل مختلط، ولو كان كذلك، لوجب في الجميع شاة واحدة: على كل واحدٍ نصف شاة. وإن قلنا: الخلطة خلطة عين، فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: منهم من قال: لا نجمع بين الانفراد والخلطة، بل نثبت أحدهما. ومنهم من قال: نجمع بين الأمرين في حق كل واحد منهما. فإن قلنا: لا نجمع، فقد اختلف أئمتنا، فمنهم من قال نغلّب الانفراد، فنجعل كأن كل واحد انفرد بالستين؛ فعلى كل واحد منهما شاة، ومنهم من غلّب الخلطة، وجعل كأن جميع المال مختلط، فعلى كل واحد منهما نصف شاة. فأما من يجمع بين الأمرين، ففي كيفية ذلك وجهان: من أصحابنا من قال: نجعل كأن كلَّ واحدٍ منفرد بالستين، ففيها على هذا التقدير شاةٌ، يخص الأربعين منها ثلثا شاة، ثم نرجع، فنقول: نجعل كأنه خلط ستينه بالعشرين، فيجب في الجملة على هذا التقدير شاة، ويخص عشرين منها ربع شاة. هذا حساب الخلطة، والذي تقدم حساب الانفراد، فنضم الربع إلى الثلثين، والمجموع خمسة أسداس ونصف سدس. وكذلك القول في حق الآخر. ومن أصحابنا من قال: أما حساب الانفراد، فكما ذكرناه، ففي الأربعين ثلثا

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

شاة، وأما مال الخلطة، فنجعل كأنه لا تعلق له بالمال المنفرد، فيجب في الأربعين شاة، نصفها على كل واحد منهما، فنضمه إلى ما وجب بحساب الانفراد، فالمجموع على كل واحد شاة، وسدس شاة. هذا بيان المذهب في هذه الصورة. 1903 - صورة أخرى: إذا ملك رجل أربعين من الغنم، فخلط عشرين منها بعشرين لرجل لا يملك غيرها، وخلط العشرين الأخرى بعشرين لرجل آخر، لا يملك غيرها، فهذا أغمض ما نفرع على هذه القاعدة. فنفرع هذه الصورة على قولي الملك والعين، فنقول: إن قلنا: الخلطة خلطة ملك، فأما من خالط الرجلين، فجميع الأملاك في حقه مجموع؛ فإنه خالط الرجلين، فنقول: جميع الأموال ثمانون وواجبها شاة (1)، فيلزمه بهذا الحساب نصف شاة، وأما كل واحد من خليطه، فماله مضموم إلى جميع خليطيه وهو أربعون، وهل نضمه إلى مال خليط خليطيه؟، فعلى وجهين: أحدهما - أنا نضمه إلى جميع مال خليطه فحسب، ولا نضمه إلى مال خليط الخليط، فيجتمع في حق كل واحد ستون، عشرون له وأربعون لخليطه، فواجبه شاة ويخصه منها ثلث شاة. والوجه الثاني - أنا نضمه إلى جميع مال الخليط، وإلى مال خليط الخليط، فمجموع المال ثمانون، وواجبه على هذا التقدير شاة، فيخص العشرين ربع شاة. فهذا تفريع على قولنا الخلطة خلطة ملك. فأما إذا قلنا: الخلطة خلطة عين، فنقول: في الخليطين، كل واحد منهما لا يملك إلا عشرين، وليس له مال ينفرد به، وقد خلط عشرينه بعشرين، فيعتبر في حق كل واحد منهما حساب الأربعين، ويجب نصف شاة في عشرينه. فأما مالك الأربعين، فقد خالط رجلين، ولم ينفرد بشيء من ماله، ولكنه (2 خالط رجلين، فإن قلنا: نغلب حكم الانفراد، فهو غير منفرد بشيء من ماله، ولكن 2) ما جرد الخلطةَ مع واحد، فنجعله كما لو انفرد بأربعين، ولم يخالط أحداً،

_ (1) في (ت 1): وواجبها مثله. (2) ما بين القوسين ساقط من (ك).

فيلزمه شاة، وكأنا نبطل الخلطة لانقسامها، ولا نثبت لها في حقه أثراً. وهذا الوجه بعيد في هذه الصورة. وإن غلبنا الخلطة وحذفنا (1) الانفراد، وهو الأصح في هذه الحالة، فنجعل كأنه خالط أربعين بأربعين، فيلزمه نصف شاة. وإن قلنا نجمع الحكمين، فنقدر جميع ماله مع كل واحد منهما، ونعرف (2) نسبته فنقول: لو كان جميع ماله مع هذا، لكان ماله ومال خليطه ستين، وواجبه شاة، وحصة الأربعين ثلثا شاة، فحصة كل عشرين من ماله ثلث شاة، ويجتمع ثلثا شاة من الخليطين. ومن أصحابنا من قال: نوجب عليه فيما خلطه بنسبة ما نوجب على خليطه، وقد أوجبنا على كل خليط على قول العين، نصف شاة، فنوجب عليه نصف شاة مع هذا، ونصف شاة مع هذا، فتعود الوجوه إلى ثلاثة. والذي يقتضيه الرأي عندي أن نحذف ما حكيناه من تغليب الانفراد؛ فإن حاصله إيجابُ شاة، وقد جرى ذكر هذا الوجه آخراً، فليقع الاكتفاء بذلك، ويسقط تغليب الانفراد؛ فإنه لا انفراد بشيء وإنما يتجه التغليب إذا جرى الخلطُ في بعض المال دون البعض، ولم يجر في الصورة التي ذكرناها انفراده بشيء من المال أصلاً؛ فلا معنى لما ذكر من تغليب الانفراد، وإبطال الخلطة تكلّفٌ لا وجه له، فقد اتجه إيجابُ شاةٍ، من جهة إلزامنا له بحساب ما يلزم خليطه، وهذا متجه مفهوم على هذه الطريقة؛ فليقع الاكتفاء به. 1904 - صورة أخرى: ملك رجل خمسة وعشرين من الإبل، وملك خمسةُ نفر مثلَ ذلك، خمسةً خمسةً، فخالط صاحبُ الخمسةِ والعشرين، كلَّ واحدٍ من هؤلاء بخمسة خمسة، فإن قلنا: الخلطة خلطة ملك، فنوجب على مالك الخمسة والعشرين نصفَ حِقّة، ونجعل كأن كل الأموال في حقه مجتمعة. وأما في حق كل واحد منهم،

_ (1) حذف الشيء: أسقطه. (المعجم). (2) في (ت 1): وتفرق بسببه.

فوجهان: أحدهما - أنا نضم مالَه إلى جميع مال خليطه فحسب، وهو خمسة وعشرون، فالمجموع في حق كل واحد ثلاثون، وواجبه بنت مخاض، فيخص الخمسة سدسُ بنت مخاض. والوجه الثاني - أنا نضم خمسة كل واحد إلى جميع مال خليطه، وإلى أموال خلطاء خليطه، فعلى هذا نجمع الأموال كلها في حق جميع الخلطاء، فنحسب من خمسين، وواجبه حقّة، فالواجب في كلِّ خمسةٍ عشرُ حِقّة. فأما إذا فرعنا على قول العين، فنعتبر في حق صاحب كل خمسة ما جرت خلطته معه، وهو عشرة، فيجب في كل خمسة شاة. فأما مالك الخمسة والعشرين، فيجري فيه ما تقدم؛ فإن غلَّبنا الخلطة، فنجعل كأنه خالط بخمسة وعشرين خمسة وعشرين، فنوجب عليه نصف حقة. وقال بعض الأصحاب: نبطل الخلطة، ونغلّب الانفراد، فيجب عليه في الخمسة والعشرين بنتُ مخاض، وهذا ضعيف لما تقدم في الصورة الأولى. وأما من يجمع بين الاعتبارين، فوجهان: أحدهما - أنا نضم جميع ماله تقديراً إلى كل خمسةٍ، ويعتبر هذا الحساب، ثم يثبت في الخمسة التي خلطها ما يخصها. ولو خلط خمسة وعشرين بخمسة، لكان واجب المال على هذا التقدير بنتَ مخاض، ففي الخمسة والعشرين خمسة أسداس بنت مخاض، فيخص الخمسة سدس بنت مخاض، ثم يجتمع في الجميع على هذا التقدير خمسةُ أسداسٍ من بنت مخاض. والوجه الثاني - أنا نوجب عليه في كل خمسةٍ خلطها بحساب ما أوجبنا على خليطه. وقد أوجبنا على قول العين على كل خليطٍ شاةً، فنوجب في كل خمسة شاةً، فيجتمع عليه خمسُ شياه، وهذا لا يوافق حكمُه ما تقدم من إبطال الخلطة وإثباتِ حكم الانفراد. ومما تتعين الإحاطة به أن الخلطة في قاعدة الباب لما خففت المؤنة، صيرت المالَيْن كمالٍ واحد، والخلطة في هذه الصورة ونظائرها تفريق ماله، والتفريق يُكثر المؤنة، فهذه الخلطة أثبتت حكمَ التفريق في ملكه، وإن كان الملك جامعاً، ولكن

إبطال الخلطة (1) قبيح، بل الوجه تفريق ماله لموافقة خلطائه، وهذا يُفضي إلى ما ذكرناه. فليفهم الناظر ما ينتهى إليه. 1905 - صورةُ مسألة ابن الحداد في ذلك: إذا ملك عشراً من الإبل، وخلط خمساً منها بخمسةَ عشرَ لرجل، يملك خمسة عشر لا غير، وخلط الخمسة الأخرى بخمسةَ عشرَ لرجل آخر، على حسب ما ذكرناه في الخمسة الأولى. فإن فرعنا على قول الملك، فأما صاحب العشرة، فجميع المال في حقه مجموع، وهو أربعون من الإبل، فيجب على مالك العشرة بهذا الحساب ربع بنت لبون، فأما القول في خليطه على قول الملك، فعلى الخلاف: ففي وجهٍ نضم الخمسة عشر لكل واحد إلى جميع مال خليطه فحسب، وهو عشرة، ونوجب عليه بهذا الحساب ثلاثةَ أخماس بنت مخاض. وفي وجه نضم خمسةَ عشرَ إلى جميع مال الخليط، وإلى مال خليط الخليط، فنجمع الأربعين في حق كل واحد منهما، وواجبها بنت لبون، فيخص كل خمسةَ عشرَ ثلاثة أثمان بنت لبون. وإن فرعنا على قول العين، فيجب على كل واحدٍ من الخليطين في خمسةَ عشرَ ثلاثُ شياه، بحساب ما جرت الخلطة فيه عيناً. فأما صاحب العشرة؛ فإن غلّبنا في حقه أحدَ الحكمين، فيعود الوجه الضعيف والآخر. فقال قائلون: في وجهٍ نبطل الخلطة، ونجعله منفرداً بالعشرة؛ فيلزمه فيها شاتان. وفي وجهٍ نقول: التغليب للخلطة؛ فنجعله مخالطاً للجميع، وماله مع مال خليطه أربعون، فواجب العشرة ربع بنت لبون. وهذا الذي أجاب به ابن الحداد؛ فإنه قال: على صاحب العشرة ربع بنت لبون، وفي كل خمسةَ عشرَ ثلاثُ شياه، فوقع تفريعه على هذا الوجه من قول خلطة الغير. وإن قلنا: يثبت الأمران، فينقدح وجهان: أحدهما - أنا نضم عشرته تقديراً إلى كل خمسةَ عشرَ، فنوجب فيها خمسي بنت مخاض، [فيجتمع] (2) من التقديرين خُمسا

_ (1) في (ت 1)، (ت 2) و (ط): الخلقة. (2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

بنت مخاض. والوجه الثاني - أنا نوجب عليه بالنسبة التي نوجبها على خليطه، وقد أوجبنا على كل خليط بحساب ما وقعت الخلطة في عينه، فعلى هذا نوجب على صاحب العشرة شاتين، كما أوجبنا على كل خليطٍ ثلاثَ شياه. وهذا يوافق ما قدمناه من إبطال الخلطة. ولكن هذا الحكم على هذا التقدير أحسن من المصير إلى إبطال الخلطة مع قيامها. فهذا بيان هذا الأصل. ولا يخفى بعد هذه الصورة شيء على الفطن. إن شاء الله تعالى. فرع: 1906 - إذا ملك الرجل خمسةً وستين من الغنم، وملك رجل آخر خمسة عشر، فخلط خمسةَ عشرَ من ملكه بالخمسةَ عشرَ لصاحبه، وانفرد بالخمسين، فالقدر الذي جرت الخلطة فيه ليس بالغاً نصاباً، فإن قلنا: الخلطة خلطة عين، فوجود هذه الخلطة وعدمها بمنزلةٍ؛ فإن المعول في هذا القول على ما وقعت الخلطة فيه، وهو ناقص عن الحساب، فعلى صاحب الخمس والستين شاة، وليس على صاحب الخمسةَ عشرَ شيء. وإن قلنا: الخلطة خلطةُ ملك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا حكم لهذه الخلطة، فإنا إنما نُتبع الملكَ المنفردَ الخُلطةَ إذا جرَت الخلطةُ في نصاب، فإذا لم يبلغ ما جرى فيه الخلطةُ نصاباً، لم يكن للخلطة حكمٌ. والوجه الثاني - أنا نثبت حكم الخلطة، ونجعل كأن الخمسين مضمومة إلى الثلاثين المختلطة، والمجموع ثمانون، وواجبها شاة، يجب ستة أثمان ونصف على صاحب الخمس والستين، ويجب ثمن ونصفُ ثمن على مالك الخمسة عشر. وعلى هذا وقياسه فليعتبر المعتبر. ***

باب من تجب عليه الصدقة

باب من تجب عليه الصدقة 1907 - المرعيُّ في صفة من يلتزم الزكاةَ الإسلامُ وكمالُه (1)، فلا يُرعى التكليف، والزكاة تجب في مال الصبي وجوبَها في مال البالغ، خلافاً لأبي حنيفة (2). ولا زكاة فيما تحويه يدُ المكاتَب؛ لأنه ناقص الملك، والسيد إذا ملَّك عبدَه نصاباً زكاتيّاً، فإن قلنا: لا يملك العبد بالتمليك، فالزكاة واجبةٌ على السيِّد، والذي جرى من التمليك لا أثر له. وإن قلنا: يملك العبد، فلا زكاة عليه، كما لا زكاة على المكاتب، والمذهب أنه لا زكاة على السيِّد لزوال ملكه. وذكر في شرح التلخيص وجهاً أن الزكاة تجب على السيد، وذلك التمليك لا أصل له؛ فإن السيد يتصرف فيه كيف شاء، ولا ينتهي إلى اللزوم، بخلاف ملك المكاتب؛ فإنه إذا عَتَق، لزم ملكُه، والعبد الرقيق، إذا أعتق، ارتد ملكه إلى المعتِق. وهذا الوجه ضعيفٌ، لا أصل له؛ فإنا إذا قلنا: يملك العبد، فمن ضرورته زوال ملك السيد المملك، ويستحيل إيجاب الزكاة على من لا يملك، وإن كان قادراً على اجتلاب الملك. ومن بعضه رقيق، وبعضه حر إذا استقر ملكه على نصابٍ بسبب نصفه الحر، فالزكاة تجب فيه. وقد نصّ الشافعي على أن من نصفه حر، ونصفه عبد يُكَفّر كفارة الحرّ الموسر، وخالفَ فيه المزني. وإذا كنا نوجب كفارة الأحرار على من بعضه رقيق، فالزكاة بذلك أولى؛ فإن المعتمد في الزكاة الملك التام والإسلام، وقد تحقق ذلك.

_ (1) "وكماله" أي بالحرية. (2) ر. مختصر الطحاوي: 45، بدائع الصنائع: 2/ 4، 5، رؤوس المسائل: ص 208، المسألة رقم 107، المبسوط: 2/ 162.

هذا ما ذكره الإمام (1)، وهو منقاس. وقطع العراقيون بأنه لا تجب الزكاة فيه، لنقصان المالك في نفسه، وهذا بعيد مع ما حكيناه من نص الشافعي في الكفارة. ...

_ (1) الإمام: يعني والده.

باب الوقت الذي تجب فيه الصدقة

باب الوقت الذي تجب فيه الصدقة 1908 - إذا كان السلطان يرى جباية الصدقات، فينبغي أن يبعث السعاةَ الأمناءَ الكُفاة. وإذا كانت أحوال الأموال تختلف، فالوجه أن يعيّن شهراً من السنة يؤدي فيه أرباب الأموال زكاتَهم، فإن وجبت الزكاة قبلُ، انتظر المالكُ مَقْدِم الساعي، وإن كان وقت وجوب الصدقة عليه، فذاك، وإن لم تجب الزكاة، فحسنٌ تعجيلُ الزكاة، حتى لا يتعب الساعي في العَوْد، عند وجوب الزكاة. ثم لا يكلفهم الساعي ردَّ أموالهم من مراعيها إلى القرى؛ فإن ذلك عسر، ولا نكلف الساعي الترددَ على المراعي، ولكن نسلك طريقاً وسطاً، فنرُدُّ الأموال إلى مَنْهلٍ قريب من المرعى والقرى، ويحصرها الساعي، ثم إذا حاول عدَّها ردّها إلى مضيقٍ، وأخرجها منه، فذلك أهون لعدّها ***

باب تعجيل الصدقة

باب تعجيل الصدقة 1909 - إذا انعقد الحول على نصاب زكاتي، جاز تعجيل صدقته قبل وجوبها بانقضاء الحول، وذكر المزني (1) في صدر الباب حديث أبي رافع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكْراً من رجل" (2). والشافعي لم يستدل به في تعجيل الصدقة، وإنما احتج به في جواز استقراض الحيوان، وقد خالف فيه أبو حنيفة (3). وردُّ الحديث إلى تعجيل الصدقة تكلّفٌ. ونُقل عن ابن عمر أنه كان يبعث صدقة فطره إلى من كان تُجمع عنده قبل العيد بيوم أو يومين (4)، وهذا لا يدل على تعجيل الصدقة؛ فإنه لم يرو عنه أنه كان يوصل صدقةَ فطره إلى المستحقين قبل العيد، والظاهر أن الصدقات كانت تُجمع، ثم تفرق يوم العيد.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 211 - 213. (2) حديث أبي رافع رواه مسلم، وأصحاب السنن الأربعة، ورواه مالك في الموطأ والشافعي عنه، ورواه أحمد والدارمي والبيهقي (ر. مسلم: ح 1600، الترمذي: ح 1318، أبو داود: ح 3346، النسائي: ح 4621، ابن ماجه: ح 2285، الموطأ: 2/ 680، الأم: 2/ 20، مسند أحمد: 6/ 375، 390، البيهقي: 4/ 110). (3) حيث لا يجوز عند أبي حنيفة استقراض الحيوان (ر. مختصر الطحاوي: 86، مختصر اختلاف العلماء: المسألة رقم 1083، المبسوط: 12/ 131، البدائع: 5/ 209). (4) أثر ابن عمر رواه مالك، والشافعي، والدارقطني، وابن حبان، والبيهقي، وروى البخاري من حديث ابن عمر أنه كان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. (ر. البخاري: الزكاة، باب صدقة الفطر على الحر والمملوك، الموطأ: 1/ 210، ترتيب مسند الشافعي 1/ 253، الدارقطني: 2/ 152، ابن حبان: 3288، والبيهقي: 4/ 164، والتلخيص: 2/ 164 ح 836، وخلاصة البدر: 1/ 298 ح 1027).

1910 - [ثم] (1) لما علم المزني أن ما ذكره لا حجة فيه في تعجيل الزكاة، احتج بما هو حجة في الباب ظاهرةً، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب ساعياً، فلما رجع شكا ثلاثةَ نفر: خالدَ بنَ الوليد، والعباسَ بن عبد المطلب، وابن جميل (2)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما خالد، فإنكم تظلمون خالداً؛ فإنه حبس أفراسه، وأعتُدَه وروي وأعبده، وروي وأَدْرُعَه في سبيل اللهِ، وأما ابنُ جميل، فما نقم إلا أن أغناه الله، وأما العباس فقد استسلفتُ منه صدقةَ عامين" (3) معناه استعجلت. أما قوله فإنه حبس أفراسه أشبه المعاني أن عمر كان يطلب منه زكاة التجارة في أفراسه وغيرها، فأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حبسها في سبيل الله، وكان الساعي قبل أيام عثمان يطلب زكوات الأموال الباطنة والظاهرة جميعاً، وقصة ابن جميل معروفة. فثبت أن تعجيل الصدقة قبل وجوبها جائز، ووافق أبو حنيفة (4) فيه، ومنع تقديم الكفارة على الحنث، وقال مالك (5) يجوز تقديم الكفارة، ولا يجوز تعجيل الزكاة. ومضمون الباب فصول نرسمها على الترتيب، ونذكر في كل فصل ما يليق به.

_ (1) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (2) ابن جميل: قيل: إنه كان منافقاً، ثم تاب بعد ذلك. قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه في كتب الحديث، ولكن وقع في تعليقة القاضي حسين المروزي أن اسمه عبد الله، وقيل: اسمه حميد، وقيل: أبو جهم، وقيل: أبو جهم بن جميل. اهـ ملخصاً من الفتح: 3/ 333. (3) حديث بَعْث عمر على الصدقة، رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وأحمد (ر. البخاري: الزكاة، باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ح 1468، ومسلم: الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، ح 983، والنسائي: الزكاة، باب إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق، ح 2466، والمسند: 2/ 322). هذا، وقد رواه إمام الحرمين بتقديم وتأخير، وبالمعنى في صدقة العباس رضي الله عنه. (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 455 مسألة رقم 447، حاشية ابن عابدين: 2/ 293. (5) ر. المدونة: 1/ 284، الإشراف: 1/ 386 مسألة 526.

[فصل] 1911 - أما [الفصل] (1) الأول، فمقصوده أن المال إذا كان ناقصاً عن النصاب، فلا يقع تعجيل الصدقة عنه موقعها، على تقدير أنها إذا صارت نصاباً، وانقضى حولها، فالمخرَج زكاتها. هذا لو نواه، ثم جرى الأمر إلى ما قدّره، لم يقع ما أخرجه زكاةً، والسبب فيه أن مبنى هذا الباب، ومبنى تقديم الكفارة، أن الحق المالي إذا قدر تعلقه بسببين، فثبت أحد السببين المقصودين، فيجوز تقديم الحق المالي على وجود السبب الآخر، كما إذا حلف الرجل، ثم كفر بالمال قبل الحنث. ووجوب الزكاة معلق بملك النصاب، وانقضاء الحول، فإذا ثبت النصاب، فقُدّمت الزكاة على انقضاء الحول، جاز، فأما إذا لم يكمل النصاب، فلا (2) يتحقق واحد من السببين، فكان كما لو قدم كفارةَ اليمين على اليمين. 1912 - ولو ملك أربعين من الغنم المعلوفة، وعجل الزكاة على تقدير أن يُسيمها، ثم ينقضي حولُها، لم يجز ذلك؛ لأن المعلوفة ليست مالَ الزكاة، كالناقص عن النصاب. فمعتبر المذهب في ذلك أن الزكاة إنما تُعجل إذا انعقد الحول، فكان المال جارياً فيه. ولو انعقد الحول، فأراد تعجيلَ صدقة سنتين فصاعداً، فأما ما يقع لسنةٍ فمجزىء، وأما الزائد، ففيه وجهان: أحدهما - أنه لا يقع موقع الاعتداد؛ فإنه لم ينعقد الحول في ذلك الزائد. والثاني - يُعتدُّ به إذا دامت الشرائط إلى انقضاء الأحوال؛ فإن المال مال الزكاة، وهو كائن، والحول منعقد عليه، ويشهد لهذا الوجه قصةُ العباس.

_ (1) زيادة من عمل المحقق، بناءَ على تقسيم المؤلف. (2) في (ت 1)، (ت 2): فلم.

1913 - ولو ملك الرجل مائة وعشرين من الغنم، فواجب ماله شاة، فلو زادت واحدةً، فواجبه شاتان، فلو انعقد الحول على مائة وعشرين، فعجل زكاة مائةٍ وواحدة وعشرين على تقدير نتاجٍ في الحول، ففي الشاة الثانية وجهان مرتبان على تقديم زكاة السنة الثانية، فإن قلنا: يجوز تقديم زكاة السنة الثانية، فجواز تقديم الشاة الثانية في الصورة التي ذكرناها أولى، وإن منعنا تقديمَ زكاة السنة الثانية، ففي الشاة الثانية وجهان. والفرق أنه لو اتفق نتاجٌ في آخر الحول الأول، وبلغت الماشيةُ مائة وإحدى وعشرين، وجبت الشاةُ الثانية، وإذا وجبت، فلا حاجة إلى حول جديد، فكان حول المال الذي واجبه شاة منعقداً على ما واجبه شاتان، وليس كذلك حكم زكاة السنة الثانية؛ فإنه لم يدخل حولها أصلاً. 1914 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن صدقة الفطر تجب إذا انقضى رمضان على ما سيأتي، ولو أخرج الرجل صدقة الفطر بعد دخول شهر رمضان، كفاه؛ فشهر رمضان إذا دخل بمثابة الحول إذا انعقد على النصاب. 1915 - فأما إخراج العُشر من الثمار والزروع، ففيه اضطراب. ونحن نأتي به مرتباً إن شاء الله تعالى. فأما الرطب إذا جفّ، وصار تمراً، والعنب إذا صار زبيباً، فقد تعيّن إخراج الزكاة، ولا يكون الإخراج تعجيلاً؛ إذ لو أخر مع التمكن، كان مفرطاً عاصياً. فأما الحب إذا اشتد، ولم يُفرِك (1) بعدُ، ولم يُنْقِ (2)، فالمذهب جواز إخراج الزكاة. وذكر شيخنا وجهاً أنه لا يجوز إخراج الزكاة ما لم يُنقِ، وهذا ضعيف جداً؛ فإنا إذا كنا نخرج الزكاة قبل حلول الحول، فجواز ذلك وإجزاؤه فيما نحن فيه أولى، وقد وجب العشر.

_ (1) أفرك السنبلُ: صار فريكاً، وهو أول ما يصلح أن يفرك ليؤكل. (معجم). (2) أنقى البرُّ: سَمِنَ وجرى فيه الدقيق. (معجم).

ووجه المنع أن النصاب لا يمكن الاطلاع عليه ما لم تحصل التنقية، ونصاب سائر الأموال الزكاتية يمكن إدراكه. قلت: إن لم يكن من هذا الوجه بد، فلعله فيه، إذا كنا لا نقطع بأن في السنبلة نصاباً من الحب، فقد ينتظم أن يقال: لم يتحقق النصاب، وهو الأصل، وأما إذا تحققنا أن السنابل مشتملة على أكثر من النصاب، فلا وجه لمنع تعجيل العشر. هذا بعد اشتداد الحب، وإدراكه. أما إذا ظهر الحب واشتد، ولم يُدرك ولم يُفْرِك بعدُ، فاشتدادُ الحب يناظر بدوّ (1) الزهو والصلاح في الثمار، فأما إذا اشتد الحب وبدا الزهو، فمن الاشتداد إلى التنقية، ومن الزهو إلى الجفاف على الجرين (2) وجهان، في جواز التقديم: أحدهما - يجوز، وهو القياس. 1916 - ومن عجيب ما يجب التفطن له أن الأئمة أطلقوا القول بأن الزكاة تجب باشتداد الحب، وبَدْوِ (3) الزهو، كما سيأتي ذلك في بابهما، ثم ترددوا في تعجيل الصدقة، والتعجيل يقع قبل الوجوب. وهذا اختلاف في التعجيل بعد الوجوب، والسرّ فيه أنا وإن قلنا بوجوب الصدقة بعد الصلاح؛ فإنا لا نوجب إخراجها إلى التنقية والتجفيف، وفائدة الحكم بالوجوب منعُ التصرف في حق المساكين من الزرع والثمار، فصار عدم إيجاب الإخراج قريباً مما قبل حلول الحول في المواشي وغيرها. هذا مع أمرٍ آخر، وهو أنه لو أخرج من الحب قبل التنقية، ومن الرطب (4)، لم يجز. ثم قد يوجّه منعُ التقديم بأن مقدار النصاب لا يتبين على التحقيق قبل الإدراك، والزروع والثمار متعرضة للآفات. والصحيح جواز تعجيل العشر.

_ (1) في (ت 1): بدء. (2) الجرين: الموضع الذي يجمع فيه الثمر ليجفف، والجمعُ جُرُن، مثل بريد وبُرد. (المصباح). (3) "بَدْو": مصدر بدا بمعنى ظهر. وهو بهذا الوزن غير مألوفٍ، ولكنه صحيح منصوصٌ في كتب اللغة. (4) "الرطب": أي قبل التجفيف، والصيرورة إلى التمر.

1917 - فأما إذا نبت الزرع، ولم تبد السنبلة، وطلعت الثمار ولم تزهُ بعدُ، فمن نبات الزرع إلى بَدْوِ الحب واشتداده، ومن طلوع الثمرة إلى الزهو وجهان مرتبان على الوجهين، في الصورة التي قبل هذه، والصورة الأخيرة أوْلى بمنع التعجيل؛ لأنه لم يبد (1) فيها ما يمكن تقدير النصاب فيه تخميناً وخَرْصاً، ومن يخرص إنما يخرص بعد اشتداد الحب وبَدْو الزهو. ولعل الزرع إذا كان بقلاً أولى بالمنع؛ لأن جنس المعشر لم يحدث بعدُ، والطلع هو الذي يلحقه التغايير إلى الجِداد. وذكر شيخي وجهاً في الفرق بين الزروع والثمار، وقال: يجوز التعجيل في الثمار دون الزروع في الصورة الأخيرة، التي نحن فيها، وفرّق بأن النخيل يقبل معاملةً على الثمار قبل بَدْوها، وهي المساقاة، والزروع لا تحتمل ذلك. وهذا غير سديد؛ إذ لا خلاف أنه لا يجوز التعجيل قبل بَدْو الثمار وطلوعها، كما لا يجوز ذلك قبل نبات الزروع، فإن لم يكن من الفرق بد، فما أشرت إليه من الفرق أقرب، وهو أن عين المعشّر مفقودة والزرع بقل، وعين الثمار موجودة وإن كانت غير مؤبّرة بعدُ، فإذا بدا الحبُّ، ولم يشتد، [فلا يتضح إذ ذاك فرق. فخرج مما ذكرناه أن الحب إذا اشتدّ] (2)، وأفرك، فالمذهب جواز التقديم، ومن الاشتداد إلى الإفراك، ومن الزهو إلى الجفاف وجهان: أصحهما جواز التقديم؛ ومن نبات الزرع إلى الاشتداد ومن بدو الثمار إلى الزهو ثلاثة أوجه، مرتبة على الصورة المتقدمة. ولا تعجيل قبل النبات، وقبل بدو الثمار. فهذا مضمون الفصل

_ (1) في (ت 1): يكن. (2) زيادة من: (ت 1) و (ت 2).

الفصل الثاني فيما يفرض على المؤدي والقابض 1918 - قال الأئمة: ينبغي أن يكون قابض الزكاة المعجّلة على صفة الاستحقاق من وقت الأخذ إلى انقضاء الحول، فلو كان فقيرا حالة الأخذ، ولكنه استغنى بمال آخر سوى ما أخذه، أو ارتد، أو مات قبل حلول الحول، فحال الحول وهو غني، أو مرتد، أو ميت، فيتبين أن الزكاة التي عجلها، لم تقع موقعها. اتفق الأئمة عليه. ولو ارتد بعد الأخذ، ثم أسلم قبل انقضاء الحول، فانقضى الحول وهو مسلم، أو استغنى، ثم افتقر، على الترتيب الذي ذكرناه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الزكاة لا تقع موقعها؛ لطريان ما نافى الإجزاء في الأثناء. والثاني - وهو الأصح أنه يجزىء، فإن المعتبر صحةُ الأخذ، وكان من أهله حالة الأخذ، وكذلك يعتبر كونه من أهل الأخذ حالة الوجوب، ليقدر أنه أخذ الزكاة الآن. فأما ما يتخلل بينهما، فلا معنى لاشتراط شيء فيه. ولا خلاف أنه لو لم يكن من أهل الأخذ، فأخذ، ثم صار من أهله، ودام عليه، حتى انقضى الحول، فلا يجزىء ذلك الأخذ أصلاً، وآية ما ذكرناه، تظهر فيه إذا أخذه غنيّاً، ثم استنفقه فقيراً، وحال الحول. فهذا ما يراعى في الآخذ. 1919 - ويشترط في المعطي الباذل صفات وأحوال: ينبغي أن يبقى ماله، فلو تلف، أو نقص عن النصاب نقصاناً يمنع إيجاب الزكاة، كما سنصف ذلك، فيتبين أن الزكاة لم تقع الموقع، وكذلك لو مات صاحب المال، فيخرُج المقدَّمُ عن كونه زكاة؛ فإن الحول ينقطع بموته، وكذلك لو ارتد، وقلنا: الردةُ تمنع وجوبَ الزكاة، كما تقدم تقرير ذلك. فطريان هذه الصفات يبطل إجزاء الزكاة. ثم إذا جرى ما يبطل إجزاء ما عجل، فهل يثبت استردادُ المعجل؟ اضطربت

النصوص وتخبط المذهب، ونحن نستعين بالله ونفصل ما ينبغي أن يذكر، إن شاء الله تعالى. 1920 - فنقول: إن عجل الزكاة، وذكر أنها معجلة، وشرط أن يرجع إن لم تقع الزكاة موقعَها، فإن طرأ شيء مما ذكرناه، فيثبت حق الرجوع في ذلك وفاقاً، والأداء على هذا الشرط لا خلاف ولا إشكال. ولو ذكر أنها زكاتُه المعجلة، ولم يشترط الرجوع، أو علم القابض ذلك من غير ذكر، فهل يثبت الرجوع إذا لم يُجْزِ ما أخرجه؟ فعلى وجهين: أصحهما أنه يثبت حق الرجوع؛ فإنه عيّن الجهةَ، فإذا لم تحصل تلك الجهة، لم يبق بعدها تمليك، فليس إلا الرد. ووجه من قال: لا يرجع أن التمليك قد حصل، فإن حصلت الجهة المعيّنة، فذاك، وإلا فالتنفّل ممكن. ولو قال: هذه صدقتي المعجلة، فإن وقعت الموقع، فذاك، وإلا فنافلة، لكان ذلك صحيحاً، وكان الوفاء به لازماً. وهذا يقرب عندي من أصل في كتاب الصلاة: وهو أن من نوى صلاة الظهر قبل الزوال، فهل تنعقد صلاته نفلاً؟ فعلى قولين. وله نظائر. 1921 - ولو لم يذكر المؤدي أنه زكاة معجلة، (1 ولم يقترن بالقبض عِلْمُ القابض، ثم تبين أنها زكاة معجلة 1) وأنها لم تقع الموقع، ففي الاستراد ثلاثة أوجه: أحدها - لا رجوع. والثاني - يثبت الرجوع. والثالث - يفصل بين أن يكون المسلِّم إلى المسكين الوالي، وبين أن يكون المسلِّم المالك، والرجوعُ (2) والمسلِّمُ السلطان أولى؛ فإنّ تصرفه محمول على صرف

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1) وحدها. (2) في (ت 1) والرجوعَ (بالنصب).

الصدقات المفروضة إلى مستحقيها، وبذلُ المالك ينقسم وجهُهُ. وهذه الصورة مرتبة على الأُولى، ومنع الرجوع أَوْلى فيها، والفرق لائح. 1922 - ولو قال المخرج المالك: هذه صدقته المفروضة، ولم يقل: إنها معجلة، ففيه طريقان: منهم من ألحقه بما إذا ذكر التعجيل، ولم يقيّد بالرجوع. ومنهم من فَصَل بينهما، بأن الصدقة المفروضة قد تكون حالّة واجبة، وما يطرأ بعد قبضها لا أثر له، فإذا أمكن ذلك، فقد انفصل عن التقييد بالصدقة المعجلة. 1923 - فإذاً معنا مراتب: التقييد (1) بالتعجيل والرجوع، يثبت الرجوع فيه وفاقاً. وفي التقييد بالتعجيل أو العلم به خلافٌ. وإذا كان مقيِّداً بالفرض من غير تعجيل، ففيه تردد. وإن كان مُطلِقاً، ففيه أوجه. وهذه المراتب مترتبة فيما نقصده. كما أوضحنا. فرع: 1924 - إذا كنا نرى الاسترداد عند التقييد، ولا نراه عند الإطلاق، فلو اختلف القابض والمسلِّم فقال المسلِّم: قيدتُ فأَرْجِعُ، وقال القابض: بل أطلقتَ ولم أعلم، فالقول قول من؟ فعلى وجهين: أحدهما - القول قول المالك؛ فإن الرجوع إليه، وهو مؤتمن شرعاً، وقد ذكرنا شواهد ذلك في اختلاف الساعي والمصَّدِّق (2). والثاني - أن القول قول القابض؛ فإن المالك اعترف بظاهر التمليك، ثم ادعى ما يُثبت له حقَّ الرجوع والنقض. ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك: أنا إن صدقنا المالك، فقياسه أنه لو قال: لم أشترط التقييد لفظاً، ولكني نويتُ زكاتي المعجلة قصداً وأنا النَّاوي، فصدّقوني. فهذا الفرعُ مبني على أنا لا نصدقه؛ فإنا فرعناه على أن التقييد لا بد منه في ثبوت حق الرجوع ظاهراً، والله يتولى السرائر. نعم إن كنا نثبت الرجوع عند الإطلاق، في أحد الوجوه، فمعناه أنه يصدق في أني

_ (1) في (ت 1) و (ت 2): أما التقييد. (2) "المصَّدِّق" بتثقيل الصاد والدال، مخففة من المتصدّق بالبدل والإدغام (المصباح).

أردت زكاة مالي المعجلة. هذا لا بدّ منه في هذا الوجه. فليفهم المنتهي إليه. فرع: 1925 - إذا أخرج زكاة ماله تعجيلاً، ثم إنه أتلف ماله قصداً، فهل يثبت له حق الرجوع والاسترداد، حيث يثبت له ذلك في التفصيل المقدم؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من لم يثبت له حق الرجوع؛ لأنه المتسبب إلى الإتلاف، وحق الاسترداد في حكم رخصة، تثبت لمن اجتاحت الجائحة ماله. ومنهم من قال: له الاسترداد، لزوال شرط إجزاء الزكاة، والعلمِ بأنها لم تقع الموقع. فرع: 1926 - مما ينبغي أن يتنبه له الناظر في أثناء الكلام أن الزكاة إذا كانت مفروضة، فلا حاجة في أدائها -وقد وجبت- إلى لفظٍ عند الأداء؛ فإن تسليمها في حكم توفية حق على مستحق، فأما من أراد الهبة والمنحة، فلا بد من لفظٍ، كما سنصفه في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى. فأما إذا أراد الباذل صدقةَ التطوّع، ففي الاحتياج إلى اللفظ ترددٌ للأصحاب مرموز، وهو محتمل. والظاهر الذي به عمل الكافة أنه لا حاجة إلى اللفظ في صدقة التطوع؛ تشبيهاً لها بصدقة الفرض، وإن لم تكن مستحقّة. فرع: 1927 - إذا أثبتنا لمن عجل الزكاة استردادَ ما بذله، وكان باقياً في يد من أخذه، أو في تركته إن مات، من غير زيادة، ولا نقصان، فإنه يسترد تلك العين. وإن كانت زادت زيادة متصلة، فلا حكم لها، والعين مستردة معها. وإن كانت زادت زيادة منفصلة قبل أن حدث ما يوجب الاسترداد، فتلك الزيادة هل تسترد مع الأصل؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تسترد؛ فإنها حدثت في ملك القابض، قبل أن حدث ما يوجب الاسترداد. والثاني - تسترد؛ فإن الأمر في الرجوع يستند إلى التبيّن (1)، فكأنا نتبين أن الملك لم يحصل للقابض في أصله إذا حدث ما يوجب الاسترداد، وسيتضح هذا بما نذكره من بعدُ إن شاء الله تعالى.

_ (1) التبيّن: مصطلح أصولي، سبق بيانه. ومعناه بإيجاز، أننا نتبين أن الحكم كان ثابتاً من قبل، ولذا يترتب عليه أثره بأثر رجعي.

1928 - ولو كانت العين ناقصة نقصان صفة، فهل يغرَم للراجع القابضُ أرشَ النقصان أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يغرَم؛ بناء على التبيّن، ولو تلفت العين، وطرأ ما يوجب الاسترداد، غرَّمه القيمة، فنقصان الصفة في معنى فوات الموصوف، وليس كما لو نقصت العين الموهوبة في يد المتَّهب، فأراد الواهب الرجوع؛ فإنه لا نُغرِّمه أرشَ النقصان؛ لأن العين لو كانت فائتة، لم نغرِّمه القيمةَ. ومن أصحابنا من قال: لا يثبت الرجوع بالنقصان، وهو الذي حكاه الصيدلاني عن القفال؛ لأن القابض لم تكن يده يد ضمان وعهدة، وهذا القائل يحكم بانتقاض الملك، من وقت حدوث السبب الذي يوجب الاسترداد. ولما حكى أبو بكر هذا عن القفال، أظهر في المسألة تردّداً، ونقل عن القفال في الاستشهاد مسألةً، وهي أن من اشترى عيناً، وَوَفَر (1) الثمن، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ بالعين؛ فإنه يردّها، فلو صادف الثمن ناقصاً نقصان صفةٍ، قال: يكتفي به ناقصاً، ولا يرجع في مقابلة نقصان الثمن بشيء. وهذا مشكل؛ فإن الذي ذكره الأئمة أن من وجد بالعين المشتراة عيباً، وتمكن من ردّها، فلو رضي بها، لم يرجع إلى أرش، فإنه كان متمكناً من الرد، فإن رضي، لم يرجع. فأما إذا كان العيب في عوض المسترد، فلو قُدِّر تلفُ العوض، لكان يرجع بمثله، أو قيمته، فإلزامه الرّضا بالثمن المعيب بعد الرد بعيد. 1929 - ومما يتعلق بتحقيق القول في المسألة أنه إذا جرت حالةٌ توجب الاسترداد، فلا حاجة عندي إلى نقض الملك والرجوع فيه، بل ينتقض الملك، أو يتبين أن الملك في أصله لم يحصل، أو حصل ثم انتقض، وليس كالرجوع في الهبة؛ فإن الراجع بالخيار، إن شاء أدام ملك المتَّهِب، وإن شاء رجع. وليس لملك القابض وجهٌ إلا وقوعُ المقبوض عن جهة الزكاة، فإذا امتنع وقوعها عنها، زال الملك، ولو قدرنا وقوعها نفلاً -إذا لم تقع فرضاً- فموجب هذا امتناع الرجوع والاسترداد، وتفريعنا على ثبوت الرجوع.

_ (1) وفَرَ: بفتحات ثلاث، من باب (وعد) يتعدى، ولا يتعدى، ويأتي بتشديد الفاء مبالغة، تقول: وَفَرْتُ الشيء إذا أتممته وأكملته. (المصباح).

فإذا تقرر ذلك، فنقول: ما ذكرناه من الرجوع في الزيادة، وتغريم النقصان، على التردد الذي قدمناه فيه، إذا جرت الزيادة والنقصان قبل حدوث السبب. فأما إذا جرت الزيادة بعد السبب، فلا شك أن الزيادة للراجع، فإنها إنما حدثت في ملكه على القاعدة التي ذكرناها. وإن فرض نقصان بعد حدوث انتقاض الملك، أو فرض تلف، فالوجه عندي أن يقال: يجب الضمان؛ فإن العينَ لو تلفت [وهي] (1) على ظاهر ملك القابض، ثم حدث ما يوجب الاسترداد، لوجب على القابض الضمان، وكذلك إذا حصل التلف بعد انتقاض الملك. وهذا يناظر شيئاً: وهو يدُ المستعير، فإنها ثابتة بإذن المالك من غير عدوان، ولكنها يدُ ضمان، وسبب ذلك أن حقيقةَ العارية، أن المستعير ملتزم أن يرد ما قبض، إذا انتفع، فإذا لم يتمكن من الرد، لزمه الضمان. كذلك تعجيل الزكاة، هو على تقدير وقوعها عن الفرض، فإذا لم تقع عنه، فالضمان ثابت. فرع: 1930 - إذا أثبتنا الرجوعَ، وكانت العين تلفت في يد القابض، وأثبتنا الرجوعَ بقيمتها، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في القيمة المعتبرة: أحدهما - أن الاعتبار بقيمة يوم القبض. والثاني - أن الاعتبار بقيمة يوم تلف العين، ولا يخفى توجيههما. وقد ينقدح عندي وجه ثالث في إيجاب أقصى القيم، من يوم القبض إلى التلف؛ بناء على أنا نتبين أن الملك غيرُ حاصل للقابض، واليد يدُ ضمان تبيُّناً، وقد ذكر مثل هذا في يد المستعير والمستام (2)، وهذا الوجه بعيد، في هذا المقام، مع ثبوت ظاهر الملك للقابض.

_ (1) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): "وبُني" والمثبت من (ت 1). (2) "المستام" سام البائع السلعة من باب (قال) عرضها، وسامها المشتري، واستامها، فهو مستام، إذا طلب بيعها منه، أي رغب في شرائها. (المصباح) فيدُ المستام هنا، معناها إذا أخذ السلعة أو البضاعة ليفحصها رغبةً في شرائها.

1931 - ومما يجب التنبيه له في مقام المباحثة التي انتهينا إليها أنا حيث لا نُثبت حقَّ الرجوع، فتقديره ترديد الصدقة المقدمة بين أن تكون عن الفرض، وبين أن تكون نفلاً، ثم لا رجوع في واحدةٍ من الجهتين. وإذا أثبتنا حقَّ الرجوع، فلهذا تقديران، لم يصرح بهما الأصحاب، وحوّم عليهما صاحب التقريب: أحدهما - أن نتبيّن أن ملك المعطي لم يزل، فكان الملك موقوفاً إلى ما ينكشف عنه الأمر في المآل، فإذا حدث أن الزكاة لم تقع موقعها، تبيّنا آخراً أن ملك المعطي لم يزل. هذا تقدير. والتقدير الثاني - أن يُردَّدَ قبضُ القابض بين أن يكون عن زكاةٍ مستحقة، وبين أن يكون قرضاً: فإن وقعت الزكاة موقعها، فلا كلام، وإن لم تقع، فالقابض مستقرض. وهذا في نهاية الحسن. 1932 - ثم من استقرض عيناً، فقد اختلف القول في أن المستقرض متى يملك العين التي قبضها قرضاً؟ فأصح القولين أنه ملكها بالقبض، فعلى هذا لو أراد المُقرض أن يرجع في عين ما أقرض -وهي موجودة- لم يمكنه دون رضا المقترض، وللمقترض أن يأتي ببدلها مِثْلاً أو قيمة على ما يقتضيه الحال. والقول الثاني - أن المستقرض لا يملك ما قبضه قرضاً، ما لم يتصرف تصرفاً يزيل الملك، ثم إذا جرى، تبيَّنا أن الملك انتقل إلى المستقرض قبيل التصرف بزمان، فعلى هذا قبل اتفاق التصرف مهما أراد المُقرض أن يرجع في العين، رجع. فإذا ثبت هذا بنينا عليه ما يُوضحه، وقلنا: إن أثبتنا حق الرجوع، وكانت العين قائمة، فهل للقابض إبدالُها أم لا خِيَرَةَ فيه؟ إن قلنا: بالتبيّن، لم يملك الإبدال. وإن قلنا: بتقدير القرض، ففي ملك الإبدال القولان. فإن قلنا: المُقْرَض (1) يملك بالقبض، فالخِيَرةُ إليه في العين، وإن قلنا: لا يملك ما لم يتصرف، فللمعطي الخيار كما في القرض. ولو قبض القابض الزكاةَ، وباع ما قبض، ثم جرى ما يوجب الاسترداد، فإن

_ (1) في (ت 2): المقْتَرَض.

قلنا: بالتبيّن، فقياسه أن نتبين أن التصرف مردود منتقض، وهذا يناظر ما لو قال السيد لعبده أنت حر يوم يقدم فلان، ثم إنه باع العبد ضحوةً، وقدِم وقتَ الظهر، ففي تبيّن انتقاض البيع قولان، مبنيان على أنه لو كان في يده حتى قدم فلان، فإنه يعَتِق عند قدومه، أو يتبيّن أنه عَتَق من أول النهار، فإن نحن قدّرنا العتق للحال، لم يُنقض تصرفُه المزيل للملك. فإن قيل: ألستَ ذكرتَ أنه إذا حدث ما يوجب الاسترداد، انتقض الملك من غير حاجة إلى النقض، وهذا يوجب ارتداد العين إلى معطيها؟ قلنا: هذا يوجب ثبوت حق المعطي لا محالة، فأما إنه يرجع إلى العين، أو إلى بدلها، فهذا يخرج على ما أوضحناه الآن من التبيّن، أو تقدير الإقراض. فهذا غاية المقصود. ثم إن قدّرنا القرضَ، وكان نقصان، فالوجه القطع بالضمان فيه، كنظيره من القرض. وإن بنينا الأمر على التبيّن، فالوجه الظاهر إثباتُ ضمان النقصان، كما تقدم تصويره في القرض؛ فإن يدَ المقترض لا تنقص في اقتضاء الضمان عن يد المستام. وأما الزوائد المنفصلة، فردّها يخرج على التبيّن. ثم إن جعلناه قرضاً، فهو خارج على الطريقين، أم كيف السبيل فيه؟ فإن جعلنا المقترض مالكاً بالقبض، فالزوائد له، وإن قلنا: يملك بالتصرف، فلو استقرض أغناماً، ثم نُتجت في يده، ثم باعها، واستبقى النِّتاج، فإن قلنا: إن المستقرض يملك بالقبض، فالنتاج للمستقرض، وإن قلنا: إنه يملك بالتصرف، فينقدح في ذلك أمران: أحدهما - أن نقول: نقدّر نقل الملك في الأغنام إلى المستقرض قبل بيعه إياها، والنتاج متقدم على هذا التقدير، فهو للمقرض. والثاني - أنا إذا نقلنا الملك أسندناه إلى حالة القبض، فالنتاج للمستقرض. فهذا وجه المباحثة عن هذه القواعد. فرع: 1933 - ومما يُبتنى على ما تقدم، وهو في التحقيق من أصول الباب: أن من ملك أربعين شاة، وانعقد الحول عليها، فله أن يخرج شاة منها، ومنع أبو حنيفة

ذلك؛ صائراً إلى أن انقضاء الحول يصادف مالاً ناقصاً عن النصاب، فكيف تقدّر وجوب الزكاة؟ وعندنا يجوز ذلك. ثم إن سلمت الأحوال، ولم يطرأ ما يوجب أن يقال: لا تقع الزكاة موقعها. فكيف يقدّر الكلام؟ قال صاحب التقريب: يقدّر كأن ملك المعطي لم يزل عن الشاة التي أخرجها؛ حتى يَنْقضي الحول وفي ملكه نصاب. وهذا فيه نظرٌ عندي؛ فإن تصرّف القابض نافذ، وملكه في ظاهر الأمر جارٍ، ولو باع الشاة التي قبضها، ثم حال الحول، فكيف نقول ملك المعطي قائم فيها؟ ولو اجترأ مفرع على مذهب صاحب التقريب، وقال: إذا كان التعجيل ينقُصُ المال عن نصاب، فلا ينبغي أن يتصرف القابض، كان ذلك فاسداً، فلا معنى للتعجيل إذاً مع القبض على يد القابض. فالوجه أن يقال: تعجيل الزكاة خارج عن قانون القياس، وهو في حكم رخصة، فكأن الشرع جعل الحالة التي يقع التعجيل فيها، كحالة انقضاء الحول، لحاجة المساكين. فإذا انقضى الحول لم يتحقق (1) الوجوب في الحال، ولكن أغنى ما تقدم عن الوجوب. وتأديةُ الواجب رخصةٌ حائدة عن المنهاج المستقيم، في ترتيب الواجب، وبناء الأداء عليه. 1934 - ثم قال صاحب التقريب: إذا أخرج شاة عن أربعين، ثم طرأ ما يمنع إجزاء الزكاة، فإن لم يثبت الاسترداد، فكأنه تطوع بشاة قبل تمام الحول، فينقطع الحول، ولا تجب الزكاة. وإن أثبتنا حقَّ الاسترداد. قال: إن رأينا استرجاع الزوائد، فهذا على قول تبيّن استمرار ملك المعطي، ونفي ملك القابض، فإذا رجعت الشاة بعينها، فتجب الزكاة عند الحول، لمكان النصاب الكامل تبيّناً.

_ (1) كذا في الأصل، (ط)، (ت 1) و (ت 2) والمعنى: لم يتحقق الوجوب عند انقضاء الحول؛ لأنه كان قد سقط بالأداء المعجل قبلاً. هذا وفي (ك) وحدها: "ثم تحقق" مكان "لم يتحقق".

قلت: ويجوز أن يلتفت في تلك الشاة التي تسلط القابض على التصرف فيها إلى المال المجحود والمغصوب. قال: وإن قلنا: الزوائد لا تسترد، فكأنا نقول: زال الملك عن الشاة، ثم عاد عند الاسترداد، فلا تجب الزكاة للحول الماضي، ولكن ينعقد الحول الجديد، من وقت تمام التصاب، بانضمام هذه الشاة إلى ما في يده. 1935 - وذكر العراقيون ثلاثة أوجه فيه إذا أخرج شاة من أربعين، ثم طرأ ما يمنع الإجزاء، ونحن نسرُدها على وجهها، ثم نوضح الخلل فيها. قالوا: إذا اقتضى الحال استرجاعَ الزكاة، وكان ما في يده ناقصاً، وبضم المسترد يكمل، وتم الحول من التاريخ الأول في الحول، فهل يجب إخراج الزكاة الآن إذا تم الحول الأول؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - يجب. والثاني - لا يجب. والثالث - يفصل بين الماشية وغيرها؛ فإن الماشية إنما تجب الزكاة فيها إذا كانت سائمة، والشاة في الذمة ليست بسائمة، والدراهم إذا كانت دَيْناً تضم إلى العين في النصاب. وهذا كلام مختبط، لا صدر (1) له عن معرفة القواعد، ولعلهم صوروا فيه إذا كان القابض أتلف الشاة، فإن كان كذلك، فلا معنى لترديد القول في ذلك؛ فإن المواشي إذا كانت ديوناً لا تجب الزكاة فيها قطعاً، فالوجه التخريج على التبيّن وزوال الملك، كما ذكره صاحب التقريب، مع الالتفات على القول في المجحود والمغصوب. ونقول أيضاًً: من استقرض حيواناً، ففيما يجب عليه خلاف مذكورٌ في القرض، فإذا قررنا معنى القرض في الزكاة، اتجه فيه التردد في أن القابض يطالب بقيمة الشاة أو بشاة. فرع: 1936 - حكى صاحب التقريب نصاً للشافعي، ثم أخذ يتكلم عليه. وذلك أنه قال: لو عجل الإنسانُ زكاة ماله، ثم مات قبل انقضاء الحول، قال الشافعي: تقع

_ (1) "صدر": بفتحتين أي صدور، وهذا الاستعمال في وزن المصدر معهود كثيراً في كلام إمام الحرمين، فيقول مثلاً "حَدَث العالم" بدلاً من "حدوث".

الزكاة عن الوارث، كما كانت تقع عن الموروث لو بقي حياً. ثم قال: هذا النص يحتاج إلى التأويل. فنقول: المذهب الظاهر المنصوص عليه في الجديد أن الحول ينقطع بموت المالك، ويستفتح الوارث حولاً جديداً، وذلك أن المالك قد تبدل، وتجدد ملك لم يكن، ونص في القديم على أن حول الوارث يبنى على حول الموروث، فإذا تم الحول الذي كان للميت، وجبت الزكاة على الوارث. وكأن المورِّث حيٌّ، فإن قلنا بذلك، فالنص يخرَّج عليه. ولكن لا بد من تفصيل، فإذا اتحد الوارث، وورث نصاباً، أو نُصباً، فهو بمثابة المورِّث لو كان حياً، فإذا تم الحول، وجبت الزكاة. وإن تعدّد الورثة، فإن كان المخلَّفُ ماشيةً، فالخلطة ثابتة، والزكاة تجب بحكمها، وإن كان الملك من غير جنس الماشية، وقلنا: تثبت الخلطة فيه، فالجواب كما مضى. وإن قلنا: لا تثبت الخلطة، فقد قال صاحب التقريب لما انتهى إلى ذلك في التفريع: الظاهر أنه إذا نقصت حصة كلّ واحدٍ عن نصاب، وقلنا: لا خلطة، فينقطع الحولُ واعتباره. قال: ويحتمل أن يقال: نجعل الورثة كالشخص الواحد، وكأنه عينُ المتوفى، ونستديم ذلك في حقوقهم في هذه الصورة، فإنا إذا كنا لا نستبعد استدامة الحول مع انقطاع الملك وتجدده، فلا يبعد أن يثبت حكم الخلطة في هذه الصورة على الخصوص. ثم قال: لو اقتسموا المخلَّف قبل انقضاء الحول، وحصل كل واحد على ما هو ناقص عن النصاب، فهذا محتمل أيضاًً، فنجعل كأن لا قسمة، وكأنهم شخص واحد. هذا إذا فرعنا على القول القديم في أن حول الوارث مبني على حول المورِّث. فأما إذا فرعنا على الصحيح، وحكمنا بانقطاع حول المورّث ونصوّر في اتحاد الوارث، حتى لا نقع في تفريع الخلطة، فلا شك أنا نبتدىء حولاً جديداً للوارث، فأما إذا مضى حول، فهل يقع الآن ما أخرجه المورِّث من الزكاة عن حول الورثة؟ قال: يحتمل وجهين، بناء على أن من أخرج زكاة عامين، فهل يعتد بزكاة السنة الثانية؟ فيه وجهان: فما مضى من السنة الكاملة في حق الورثة على هذا كالسنة الثانية

في حق المعجِّل الحي. هذا محتمل، ويجوز أن يقال: لا يقع المخرَج عن الوارث. وهو الظاهر؛ فإنه مالاً جديد، لا يبنى حولُه على الحول الماضي، وليس كسنتين في حق مالكٍ واحد. فهذا تمام كلامه على نص الشافعي. فرع: 1937 - إذا كان للرجل مال غائب، فأخرج الزكاة، وقال للقابض: هذا زكاة مالي الغائب. فنقول: إن كان ذلك المال سالماً، فالمخرج واقع موقعه، وإن تبين أنه كان تالفاً لمّا أخرج الزكاة عنه، فسبيله كسبيل تعجيل الزكاة إذا انخرم شرط من شرائط الإجزاء، وفي ثبوت الاسترداد من التفصيل في مسألة المال الغائب ما في الزكاة المعجلة، إذا لم تقع مجزئة. وجملة التفاريع عائدة من غير فصلٍ. 1938 - ولو أخرج الرجلُ شاةً، وقال: هي زكاة الأربعين من الغنم إن ورثتها عن أبي، ثم وافق تقديرَه التحقيقُ - فالزكاة المخرجة على الظن، لا تقع الموقع؛ فإن النية مقصودة فيها، وهي مردّدة لا استناد لها إلى أصل. ولو كان له مال غائب، فأخرج زكاته على تقدير البقاء، وكان باقياً، وقعت الزكاة موقعها، وصحت النية، وإن لم يكن على يقين من البقاء؛ فإن النية مستندة إلى بقاء المال، والمسألتان تماثلان مسألتين في طرفي رمضان: إحداهما - لو شك الناس فنوى ناوٍ صومَ غده إن كان من رمضان، ولم يسند نيتَه إلى أصل، ثم بان أنه من رمضان، فلا يقع صومُه مجزياً، وإن نوى في الليلة الأخيرة من شهر رمضان صومَ غده، إن كان من رمضان، ثم تبين أنه من رمضان، فالصوم صحيح؛ فإن النية مستندة إلى بقاء رمضان. 1939 - ومما يتعلق ببقية الفصل: [أن] (1) الذي يخرج الزكاةَ عن ماله الغائب إن نوى أنه من (2) ماله إن كان سالماً، وإن كان تالفاً، فنافلة، ثم بان أنه كان تالفاً،

_ (1) زيادة من (ت 1) و (ت 2). (2) كذا. وهي صحيحة؛ فمن معاني (مِن) أنها تأتي مرادفة لـ (عن).

فالمخرَج يقع تطوعاً، وإن كانت نيته في التطوع مترددة. والأصل بقاء المال، ولكن يقع التطوع مجزياً مع هذا التردد وفاقاً. والسبب فيه أن من يخرج الزكاة على ظن، فغالب أمره أنه لا يسترد ما قدمه، ويحتسب به أجراً، وهكذا سبيل تعجيل الزكاة، فمن الوفاء بتصحيح التعجيل الحكمُ بوقوع الصدقة نافلةً لو نواها على التقدير الذي ذكرناه. فرع: 1940 - له التفات على قواعد هذا الباب في الملك والتبيّن. المريض إذا أعتق عبداً يستغرق ثلثَ ماله، ثم وهب منه بعد الإعتاق جاريةً وسلّمها، ووطئها المتَّهِب، وولدت له، ثم مات المريض، وردّ الوارث ما يزيد على الثلث (1)، فالعتق ينفذ لتقدمه، والهبة مردودة، والوارث يسترد الجارية، ويسترد ولدها رقيقاً، إذا كان الإعلاق على علمٍ بحقيقة الحال وحكمها، وقطع شيخي الجواب فيه، وهو كما قال. وقد ذكرنا وجهين في أن الراجع في الزكاة المعجّلة عند طريان ما يقتضي الرجوع هل [يستردّ] (2) الزاوئد؟ والفرق لائح، لا حاجة إلى تكلف إيراده، مع ما ذكرناه من نهاية البيان في تقرير قاعدة المذهب في الزكاة المعجلة. فإن قيل: إذا حكمتم بأن الوارث إذا أجاز، فهو منفِّذ، وليس بمبتدىء في العطاء، فهل يحتمل إذا وقع التفريع عليه أن يقال: الملك في الجارية ينقطع بالردّ؟ قلنا: تحقيق ذلك سيأتي في الوصايا. ولكن إذا جرى هذا، فنقول: مبنى الرد والإجازة في الوصايا على الإسناد (3)، فإذا ردت وصيته، فيتبين أن الملك لم يتمّ بها أصلاً، وإن كنا نرى الإجازة من الوارث تنفيذاً. والقول في هذا يتنزل منزلة القول في الهبة [تُنقض] (4) قبل القبض.

_ (1) أي لم يجز الوصية بالزيادة على الثلث. (2) في الأصل، (ط)، (ك): يشترط. (3) كذا. ولعلها الاستناد. والاستناد عند الأصوليين هو أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر، ويرجع القهقرى، حتى يحكم بثبوته في الزمان المتقدم، كالمغصوب، فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان، مستنداً إلى وقت الغصب. (كشاف اصطلاحات الفنون: 3/ 647). (4) في النسخ الخمس "تنقص" بالصاد المهملة، والمثبت من تصرف المحقق.

وإنما يلتبس الكلام في الوصية؛ من جهة أن المريض إذا تصرف، ووهب كما صورناه، فإن المتّهب يتسلط على التصرفات المفتقرة إلى الملك التام، ولكن سبب تجويز الإقدام عليها تقدير استصحاب حياة الواهب؛ فإن الأصل بقاؤها، فإذا مات واقتضى الحال الرد، نَقضنا ما سبق، وتتبعناه. والملك في الزكاة المعجلة متردد بين الحصول تقدير طارىء عليه يقطعه، وبين الوقف المبني على التبين، فكان الخلاف في استرداد الزوائد لذلك. فصل مضمونه الكلام في استقراض الإمام للمساكين، وفي تأدية الدين من الزكوات إذا وجبت وحلّت 1941 - فنبدأ بالاستقراض، ونقدم عليه أن من وكل وكيلاً حتى يستقرض له شيئاً، جاز ذلك. ثم إن علم المقرض أنه وكيل فلان، فهل للمقرض مطالبةُ هذا الوكيل إذا أراد المطالبة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يطالبه كما يطالب الوكيلَ بالشراء، وإن علم كونه وكيلاً، هذا ظاهر المذهب في الوكيل في الشراء. ومنهم من قال: لا يطالب [الوكيل] (1) بالاستقراض وإن طالب الوكيل بالشراء، والفرق أن الوكيل بالشراء يقول: اشتريت، وهذه الكلمة في صيغتها ملزمة، فيجب الجريان على موجبها، ولو تبرع رجل بضمان مال، للزمه الوفاء به، وإن كان الضامن متبرعاً، فإذا لزمه الضمان وإن كان متبرعاً، فالوكيل بالشراء بمثابته، وأما الوكيل بالاستقراض، فلم يصدر منه ما يتضمن الضمان، ثم ينبني على هذا أنا إن لم نضمن الوكيلَ بالاستقراض، فنقول: لو قبض ما استقرض، وتلف في يده من غير تفريطه، فلا ضمان عليه، والضمان على موكِّله. وإن أوجبنا الضمانَ على وكيل القرض، طولب، ولكنه يرجع على موكِّله؛ فإن يدَه يدُ موكله ولم يوجد منه تفريط.

_ (1) زيادة من (ت 1) و (ت 2).

ولو قال الوكيل: اشتريت العبد لفلان، فأضاف العقدَ إلى موكله فِعْلَ السفير، لم يتعلق به الضمان أصلاً، من جهة أنه لم يُضف العقدَ (1 إلى نفسه، وهو الملزِم، فلم يتضمن اللفظُ التزامَه، كما لو قبل نكاحَ امرأة لرجل، وأضاف العقد 1) إليه، فلا يصير ملتزماً للمهر، والاعتبار باللفظ. فافهم. وليس كما لو علم كونه وكيلاً في الشراء، لأن صيغة اللفظ الالتزام، فكان كما ذكرناه من الضمان؛ فإنه يلزم مع العلم بكون الضامن [متبرعاً في نفسه] (2) متفرعاً على الأصل. فإذا ثبت هذا، قلنا بعده: لو قال المتوسط إذا قبض القرضَ: استقرضتُ هذا لفلان، فلا يتعلق به الضمان، كنظيره من الوكيل في الشراء، وإن لم يكن للّفظ في الاستقراض حكم، ولكنه تضمن نفيَ الضمان، وإثباتَ منزلة السفارة. 1942 - ونحن نقول بعد هذا: إن استقرض الإمام لجماعةٍ من المساكين شيئاً بإذنهم، صح ذلك، وكان القول في أنه هل يطالب، أو إذا تلف المقترَضُ في يده كيف السبيل فيه، على ما ذكرناه في وكيل المستقرِض. وإن لم يوجد من المساكين إذن، ولكن علم الإمام حاجة حاقّة بهم، فاستقرض لهم شيئاً، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أن الاستقراض يقع لخاصّ الإمام، ولا يقع عن المساكين، وعلل الشافعي بأن قال: المساكين أهل رشد، لا يولّى عليهم، فالاستقراض لهم دون إذنهم لا يقع عنهم، وليس كما لو استقرض وليّ الطفل شيئاً له، على حسب النظر، فإنه يقع للطفل. وينبغي أن يقع هذا فيه إذا لم يقصد الإمام بالاستقراض أطفالاً من المساكين، لا أولياء لهم؛ فإن ذلك لو فرض، فهو صحيح، بحكم ولاية الإمام أمثال هؤلاء. والوجه الثاني - يصح الاستقراض للمساكين بحكم الحاجة، كما يصح (3) ذلك لهم

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) مزيدة من (ت 1)، (ت 2). (3) في (ت 1): لا يصح.

إذا أذنوا (1) فيه (2)، وسألوه؛ وذلك أنهم لا يتعينون في نظر الإمام، ولكن الزكاة مصروفة إلى جهة الحاجة، والإمام ناظرٌ لها وفيها نظرَ الوليّ للطفل المولَّى عليه، والتفريع على ما ذكرناه بيّن هيّن. 1943 - فإن لم يصح القرضُ لهم، وقع عن خاصة الإمام، فإن صرفه إلى المساكين، كان متصدقاً بطائفة من مال نفسه. فإن صححنا ذلك، فالقرضُ واقعٌ لمن يقبضه من الإمام، وهو مطالب به، والإمام هل يطالَب في نفسه مطالبةَ الوكيل بالشراء؟ فعلى وجهين. ومما ذكره الأصحاب في تفصيل ذلك: أن رب المال لو جاء إلى الإمام، وسأله أن يسلم شيئاً إلى المساكين قرضاً، ولم يقصد تعجيلَ زكاةٍ، ولكن قصد أن يصرف الصدقات إليه إذا حلّت؛ فقصد في الحال ذلك، فهذا إذا تُصوّر كذلك، يقطع الطِّلْبةَ بالكلية عن الوالي، حتى لو تلف ما قبضه في يده، لم يضمن أصلاً. ولو سأل المساكين ذلك، فتلف ما قبضه في يده، ففي الضمان الخلاف المقدم في وكيل المستقرض. ولو وُجد السؤال من المساكين، وانضم إليه مجيءُ رب المال إليه ومسألتُه أن يصرف طائفةً من ماله إلى المساكين، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة: فذهب بعضهم إلى أنها تلتحق بما لو تمحض سؤال المساكين، كما تقدم. وذهب بعضهم إلى أنها تلتحق بما لو تمحض سؤال رب المال. وقد مضى القول فيه. فهذا ترتيب القول في الاستقراض للمساكين. 1944 - وقد حان أن نذكر صرفه الصدقة إلى هذه الجهة، والمسلك البيّن فيها أنه إذا استقرض لمسكينٍ بإذنه، ثم حلت الصدقة، والمسكين غارمٌ، فإن كان ممّن يحل صرف الصدقة إليه، فَعَل ذلك، فأدّى ديْنه. وإن ارتد، فحلّت الصدقاتُ؛ فديْن

_ (1) في (ت 2): إذا نوى. (2) في (ت 1): له.

المرتد لا يقضى من الصدقة، (1 بل هو مطالب به في نفسه، وكذلك إذا كان غنياً، لمّا حلّت الصدقة، فدينه لا يقضى من الصدقة 1). وبالجملة فرضُه (2) منفصل عن الصدقات، وفي تأديته من الصدقة ما في قضاء الديون من الصدقات، وهو مبيّن مفصّل في قَسْم الصدقات. 1945 - وذكر الشيخ أبو بكر كلاماً فيه إشكال، فقال: لو حلّت صدقةُ زيد، والمستقرض من المساكين ممن يحل له أخذ الصدقة لدَيْنه، ثم استغنى بجهة، أو ارتد، فحلّت صدقةُ عمرو، فلا تصرف إلى دينه [صدقةُ عمرو، ويصرف إلى دينه] (3) صدقة زيد. وهذا ليس بشيء؛ فإنه مديون عليه دين، لا يتعلق بزكاة زيد ولا عمرو، فينبغي أن يكون النظر إلى صفة حالة الآخذ، سواء كان من صدقة زيد، أو من صدقة عمرو، وإنما يتجه ما قاله لو فرع على منع النقل، وصوّر في انحصار المستحقين، ثم فرض طريان التغايير بعد الاستحقاق، فقد لاح ما ذكرناه، ولم يبق في جوانبه غموض. فرع: 1946 - رب المال إذا سلّم الزكاة إلى الوالي، فقد بلغت الصدقة محلّها، فلو تلفت في يده من غير تقصيره مثلاً، فقد وقعت الزكاة موقعها. ولو عجل الزكاة، وسلّمها إلى الوالي، فتلفت في يده، كما تقدم تصويره، ففي بعض التصانيف أنها تقع الموقع كذلك، كما لو وقع التسليم بعد الوجوب. وإن كنا قد نغيّر الأمر في الزكاة المعجلة بالتغايير التي تطرأ وتعرو (4)؛ فإنا بنينا هذه القاعدة على

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) كذا بالفاء، والمعنى فرض الاستقراض في هذه الصورة منفصل عن الصدقات، ولا علاقة له بها، فهو كأي قرض في التأدية من الصدقات. ولو قرئت بالقاف "قرضه"، لكانت العبارة أوضح، ولكن النسخ الخمس كلها بالفاء الواضحة تماماً بدون أدنى لبس. والله أعلم. (3) زيادة من (ت 1)، (ت 2). ثم كأنه يقول: لا تصرف إليه صدقة عمرو؛ لأنه عندما حلّت لم يكن من أهل استحقاق الصدقة، لغناه أو ردته. (4) في (ت 1): تطرد، وتعرو، (ك) سقط "وتعرو".

أن يد الإمام يدُ المحاويج، فما يتلف في يده بمثابة ما يسلّم من الزكاة المعجلة إلى المسكين، ثم تتلف في يده، وهذا غير ضائر، والتلف في يده كإتلافه إياه استنفاقاً، وهذا لائح واضح. ثم الإمام إذا أمسك الصدقة حتى تلفت في يده من غير عذر، فيضمنها للمساكين، وإن كان يحفظها، حتى تكثر ثم تُفرق، فهو معذور؛ فإنه لا يجب عليه أن يفرق كل قليل يحصل في يده، فإذا قُدّر التلف، وكان ينتظر اجتماعاً يُنتظر مثله، ولا يسمى تفريطاً، فلا ضمان عند تقدير التلف في ذلك، وقد بلغت الصدقةُ محلّها. ***

باب النية في إخراج الصدقة

باب النية في إخراج الصدقة قال: "إذا ولي الرجل إخراج زكاة ماله، لم يجزئه إلا بالنية ... إلى آخره" (1). 1947 - الزكاة من أركان الإسلام، والمنصوص عليه للشافعي هاهنا أن النية لا بد منها في تأدية الزكاة، وقال في موضع آخر: "إن قال بلسانه: هذا زكاة مالي، أجزأه"، وقد اختلف الأئمة في هذا النص: فقال صاحب التقريب فيما ذكره الصيدلاني: أراد اللفظَ باللسان مع العقد والنية بالقلب. وقال طائفة من أصحابنا: يكفي اللفظ، ولا نؤاخذه بالنية وتحصيلها. قال (2): وهذا اختيار القفال، واحتج عليه بأمرين: أحدهما - أن الزكاة تخرج من مال المرتد، ولا تصح النية منه. والثاني - أن الاستنابة في الزكاة جائزة، ولو كانت النية مقصودة، لوجب على المتعبّد أن يتعاطاها، فإن النيةَ سرُّ العبادات، والإخلاص فيها، أي في النية. فقد حصل قولان في اشتراط النية على الترتيب الذي سقناه: أحدهما - أن اللفظ كافٍ، ثم إن لم يتلفظ ونوى، أجزأت النية عن اللفظ على هذا القول. والتفريع في الباب على أن النية لا بد منها. ولا عود إلى القول الآخر، وإن اختاره القفال. والكلام في كيفية النية، ووقتها. 1948 - فأما الكيفية، فلو نوى الزكاة المفروضة، كفاه. ولو ذكر الزكاة في مجاري نيته، ولم يتعرض للفرضيّة، ففي المسألة وجهان كالوجهين فيه إذا نوى صلاة الظهر، ولم يتعرض للفرضية.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 215. (2) ساقطة من: (ت 1). والقائل هنا هو الصيدلاني، فيما يحكيه عن صاحب التقريب.

وهذا فيه نظر؛ فإن صلاة الظهر قد تصح نافلةً من الصبي، ومن يصلي الظهر منفرداً، ثم في جماعة، فإن حمل ذكر الفرضية على هذا، كان متجهاً، فأما الزكاة، فلا تنقسم. ولو نوى الصدقة، لم يكف؛ فإنها تتناول المفروضة والنافلةَ جميعاً، ولو نوى الصدقة المفروضة، كفى ذلك. 1949 - ومما يتعلق بذلك أنه لا يلزمه تعيين مالٍ فيما يخرجه؛ فلو نوى الزكاة، ولم يعين مالاً، وله أموال، أجزأه ذلك. ثم لا يزال يُخرِج على الإطلاق حتى يؤدي المقدارَ الواجبَ عليه. ولو عيّن طائفةً من ماله، فقال هذا زكاة مالي الغائب، وله مال غائبٌ وحاضر، فإن كان ماله الغائب باقياً، انصرفت (1) الزكاة عليه (2)، وإن كان تالفاً لما أخرج عنه، فلو أراد صرفَ الزكاة المؤداة إلى المال الحاضر، لم يمكنه. ولو كان أطلق الإخراج، ثم تلف مالُه الغائب، فالزكاة واقعة عن الباقي من ماله، وهذا يلتحق بالقسم المذكور في أقسام النية: وهو إن التعيين قد لا يشترط، ولكن لو فرض التعيين، ثم قدّر خطأٌ، أو تلفٌ في جهة التعيين، فلا تقع الزكاة موقعها. ولو قال: هذا المخرَج عن مالي الغائب إن كان سالماً، وإن لم يكن، فنافلة، صح ذلك. وقد سبق بيانه. ولو قال: هذا عن مالي الغائب، أو نافلة وردد نيته كذلك، فالنية فاسدة؛ فإنها مرددة غير مجزومة، مع تقدير بقاء المال. أما إذا قال: فإن كانت تالفةً (3)، فنافلة، فليس [في] (4) نية الزكاة -عند تقدير بقاء المال-[ترددٌ] (5). وهذا بيّن. ولو قال: هذا عن مالي الغائب، وإن لم يكن سالماً، فعن مالي الحاضر، فقد قال الأئمة: يصح هذا، فإن كان الغائب سالماً، فعنه، وإن لم يكن، فعن

_ (1) (ك): أو صرفت. (2) (ت 1): إليه. وساقطة من (ت 2). وهي صحيحة بتأويل. (3) كذا بالتأنيث على معنى (الأموال). (4) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): "فيه"، والمثبت من (ت 1). (5) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): "تردُّداً"، والمثبت من (ت 1).

الحاضر، والتردد بين الغائب والحاضر مع تقدير التلف والبقاء كالتردد بين الفرض والنفل في التقدير. وذكر صاحب التقريب أن الغائب إن كان تالفاً، ففي وقوع المخرج عن الحاضر احتمال؛ فإن النية مترددة فيه، ولو قيل: هي مترددة في الغائب، لاح الجواب عنه؛ فإن الأصل بقاؤه، وزكاة الحاضر مربوطة بتقدير تلف الغائب. وهذا على خلاف استصحاب الأصل. فإن قيل: النافلة مترددة أيضاًً، قيل: نعم. هي كذلك، وهي تناظر زكاة المال الحاضر، ولكن لا يمتنع أن نشترط في نية الفرض، ما لا نشترط في نية النفل. والعلم عند الله تعالى. وقد سبق في باب التعجيل في النافلة كلامٌ، إذا ضم إلى ما ذكرناه الآن، كفى. ولو قال: المخرَج عن أحد المالين، جاز، ثم له وجهان بعد هذا الإبهام: أحدهما - أن يعيّن أحدَهما، فيتعين، كما يُبهم طلقةً بين زوجتين، ثم يعين. والثاني - أن يترك الأمر مبهماً، فإن كان تلف أحدُ ماليه، فالزكاة واقعةٌ عن الباقي منهما. فهذا ما أردناه في كيفية النية. 1950 - فأما وقت النية، فإن نوى عند الصرف إلى المستحق، كفى، وحَسُن. وإن قدّم النية على الإخراج، ثم أخرج، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - لا تجزىء حتى يقترن القصد بالمقصود، وهذا [لعمرنا قياس القصود] (1) والنيات. والثاني - تجزىء. وتوجيه ذلك يعتضد بأن المقصودَ الأظهر من الزكاة إخراجها، ولهذا تجزىء النيابة فيها، مع القدرة على التعاطي. ولو صرف الزكاة التي يقبضها الوالي إليه، ونوى عند الصرف إليه، كفى ذلك.

_ (1) في الأصل، (ك): "هذا العمر نافياً بين المقصود"، (ت 2): لعمرنا قياس المقصود. والمثبت من (ت 1).

ولو وكل وكيلاً وفوض إليه النية، جاز. ولو نوى هو بنفسه، ولم يفوّض إلى الوكيل إلا التسليمَ إلى المتسحقين، جاز وحسُنَ. ولو نوى عند الصرف إلى الوكيل، ثم الوكيل بعد ذلك فرّق، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بإجزاء ذلك، وجعل اقتران النية بالتسليم إلى الوكيل، بمثابة اقترانها بالتسليم إلى المستحِق. وقال صاحب التقريب: هذا يخرج على الوجهين المذكورين في أن تقدّم النية على الصرف إلى المستحِق هل يجوز أم لا؟ وهذا هو القياس، وليس الوكيل فيما ذكرناه كالوالي؛ فإن يد الوالي يدُ المساكين، بدليل ما تقدم ذكره من أنه لو تلف المخرج في يد الوالي من غير تفريطٍ، وقعت الزكاة موقعها، ولو تلف في يد الوكيل، فالزكاة واجبة في ذمة ملتزمها، والتسليم إلى الوكيل عند فرض التلف في بقاء الزكاة في الذمة، نازل منزلة ما لو ميز المالك ما يريد إخراجه إلى المستحقين، ثم تلف ما ميزه، فالزكاة باقية. فرع: 1951 - الإمام إذا طلب زكاة الأموال الظاهرة، فامتنع مَنْ عليه الزكاة، فالإمام يأخذها قهراً، فإذا لم ينوِ من عليه الزكاة في امتناعه، فالطِّلْبة تنقطع عنه ظاهراً، ولكن هل تسقط الزكاة باطناً بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين مشهورين: وتوجيه وقوعها موقع الإجزاء يستمد من استقلال إجزاء الزكاة بالمقصود الأظهر، وهو سد الحاجة. فإن قلنا: لا تسقط الزكاة باطناً، فنية السلطان لا تكفي فيما يتعلق بالباطن. وإن قلنا: تسقط الزكاة باطناً، فهل يجب على السلطان أن ينوي؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا؛ فإنا نُخَرِّج إجزاء الزكاة على تهوين أمر النية، وإسقاطها. والثاني - يجب على السلطان أن ينوي؛ فإن الوالي فيما يليه من الزكاة بمثابة وليّ الطفل فيما يخرجه من الزكاة، من مال المولَّى عليه. والدليل عليه أن تفريع الباب واقع على اشتراط النية، ولو أخرج المالك زكاة ماله الباطن، من غير نية، لم يجزه ما أخرجه. فإذاً تبيّن بما ذكرناه أن السلطان ينوي، وامتناع من عليه الزكاة يَرُدُّه مولياً عليه في

النية، كما (1) أضحى مقهوراً في أخذ الزكاة (2). فصل 1952 - جرى في أثناء مسائل الباب، لما انتهى القول في أخذ الإمام الزكاة أن في الأموال الظاهرة قولين، وسيأتي توجيههما، والتفريع عليهما. فإذا قلنا: للمالك إخراج زكاتها، فلا خلاف أن الأولى صرفُها إلى الإمام العادل، ولو لم يكن فيه إلا الخروجُ عن خلاف الأئمة، لكان ذلك كافياً. وأما المال الباطن فيتولاه بنفسه، ولا خلاف أن توليه بنفسه أولى من التوكيل. واختلف الأئمة في أن الأولى أن يُخرج بنفسه، أو يسلم إلى الإمام العادل. فقيل: التعاطي أولى، فإنه يكون فيما يخرجه على يقين، وقيل: التسليم إلى الإمام أولى؛ فإنه تفويض وتقليد لوالي المسلمين، ولو أخرج بنفسه، كان على ترددٍ في خطئه وصوابه، في صفات المستحقين. والله أعلم. فصل قال: "ولا يجزىء ورِقٌ عن ذهب ... إلى آخره" (3). 1953 - أجرى الشافعي هذا الأصل في هذا الباب، وشرطُنا اتباعُ ترتيب المختصر. فالواجب عندنا في الزكاة اتباعُ النصوص، ولا مدخل للأبدال واعتبار القيم، فلو أخرج مالك الأربعين من الشاة السائمة قيمة شاة، لم يجزئه، وكذلك القول في

_ (1) بمعنى عندما. (2) ومعنى العبارة أن السلطان ينوي عمن أُخذت منه الزكاة قهراً؛ فإن امتناعه واقتهاره جعله مَوْلياً عليه في النية. (3) ر. المختصر: 1/ 215.

المنصوصات، ولو أخرج بعيراً عن خمسٍ من الإبل، فقد ذكرتُ إجزاءَه، وفصّلتُ المذهبَ فيه، في زكاة الإبل، وإجزاؤه متلقى من فحوى النص، فإن البعير إذا أجزأ عن الخمس والعشرين، فلأن يجزىء عن الخمس أولى. ثم قاعدة المذهب أن كل شيء مجزىء [من] (1) كثير، فهو مجزىء [من] (1) قليل دونه، من غير استثناء. وقد جرى في أثناء التفاريع، أن من ملك مائتي بعير، واجتمعت الحقاق، وبنات اللبون، فأخرج منها ما لا يوافق غبطة المساكين، فكيف السبيل فيه؟ ثم ذكرنا في أثناء التفاريع، أن من أئمتنا من أخذ لجبر النقصان شيئاً من القيمة، وذلك لضرورة التبعيض في النَّعم، فليخرج من ذلك أنه مهما أدى الحساب في زكاة النَّعم إلى تشقيص في مسائل الخلطة، فهذا (2) الخلاف في إجزاء القيمة عن الشقص المقدر قائم. 1954 - ولو وجبت شاة، ثم تلف الأربعون (3) بعد الإمكان، وعسر الوصول إلى الشاة، ومست حاجة المساكين، فالظاهر عندي أنه يخرج القيمةَ للضرورة الداعية، ولا سبيل إلى تأخير حقوق المساكين. ولعل هذا يناظر ما لو أتلف الرجل مثلياً، والتزم المثلَ، ثم أعوز المثل، وتوجهت الطلبة، فالرجوع إلى القيمة. ثم إذا بذل القيمة، ووجد المثل، فهل يجب رد المثل، واسترداد القيمة؟ فيه خلاف معروف، وقد يتجه مثل هذا الخلاف في الزكاة في مثل هذه الصورة، والأشبه في الزكاة إجزاء القيمة وانقطاع الطلبة بالكلية، والسبب فيه أن مقابلة الشيء المثلي بمثله بيّن الغرض، والغالب على حصر الزكاة في المنصوصات التعبّد.

_ (1) كذا في الأصل، (ط)، (ت 1)، (ك)، وهي صحيحة، حيث تأتي (مِن) مرادفةً لـ (عن) وفي (ت 2) وحدها: "عن". (2) جواب مهما. (3) في الأصل و (ط) و (ك): الأربعين.

1955 - ثم الذي يجب تمهيده في ذلك أن المعنى المعقولَ في الزكاة سدُّ الحاجة، ولا سبيل إلى جحد ذلك، ولكن انضم إلى هذا الغرض المعقول تعبّدان: أحدهما - النية، فهي مرعية عند الإمكان، ولكن الزكاة قد تستقل بالغرض الظاهر، وهو سدّ الحاجة، ولذلك وجبت في مال الصبي، ويأخذها الإمام، من الممتنع، وقد يتخيل على البعد أن امتحان ملاك الأموال ببذل أموالهم من غرض التكليف، وهذا يشير إلى إيقاعه عبادةً بالنية. فهذا أحد التعبدين. والثاني - اتباع النصوص. وحكم سدّ الحاجة يقتضي ما يصير إليه أبو حنيفة (1)، ولكن يجب اتباع التعبد معه، كما تجب النية. 1956 - ثم في (2) اتباع المنصوص (3) معنًى على بعد، وهو أن يسلم إلى المساكين من الأموال النامية، حتى ينمو في أيديهم، ويسدّ منهم مسدّاً. وهذا فيه بعض البعد، فلا جرم تستقل الزكاة بالسد عند الضرورة، من غير اتباع النصوص، ويجب بحسب هذا أن يأخذ الإمام ما يجده من مال مَن عليه الزكاة، إذا لم يجد المنصوصَ عليه، كما يأخذ الزكاة قهراً، وإن لم ينو مَنْ عليه الزكاة، ثم إن كان من عليه الزكاة قادراً على أداء المنصوص، ففيه تردد على حسب ما ذكرناه في امتناعه عن النية. فهذا بيان قاعدة المذهب. ولو وجبت شاة في خمس من الإبل فأخرج بعيراً يجزىء عن خمس وعشرين فقد ذكرنا ذلك مفصلاً في أول باب زكاة الإبل، فلا نعيده.

_ (1) أي من جواز إخراج القيمة نظراً لمعنى سدّ الحاجة دون النظر إلى التعبد. (2) ساقطة من (ت 1). (3) في (ت 1) وحدها: "النصوص".

1957 - وذهب مالك (1) إلى أن الوَرِق يجزىء عن الذهب، والذهب يجزىء عن الوَرِق، وهذا فيه قربٌ؛ فإن الماشية إن قدرت ناميةً، واعتُقد فيها اختصاص، فلا اختصاص لأحد النقدين عن الثاني بشيء، ولكن الشافعي حسم الباب، وألزم اتباع النص، مع الإمكان. فليفهم الناظر ما يمرّ به. ...

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 392، مسألة: 534، جواهر الإكليل: 1/ 140، شرح الحطاب: 2/ 354.

باب ما يسقط الصدقة عن الماشية

باب ما يُسقط الصدقة عن الماشية قال: "وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: في زكاة الغنم سائمةً ... إلى آخره" (1). 1958 - زكاة المواشي تتعلق بالسائمة، دون المعلوفة، والمتبع فيه مفهومُ قوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة" (2). 1959 - ولو عُلفت السائمة في بعض الحول، وأسيمت في البعض، فقد اضطرب الأئمة في ذلك، ونحن نصف ما قالوه، على أحسن ترتيب، إن شاء الله تعالى. فمن أئمتنا من قال: إذا اعتلفت السائمة ولو في لحظة، فإنها بذلك تخرج عن حكم السَّوم، وينقطع الحول، فلو أسيمت بعد ذلك، استأنفنا حولاً جديداً. والوجه الثاني - أن اللحظة لا تقطع السوم. ثم اختلف هؤلاء: فقال بعضهم: الحكم للغالب، فإن غلب السوْم في السنة، وجبت الزكاة، وإن غلب العلف، [سقطت] (3). وهذا حكاه صاحب التقريب وزيفه، وهو شبيه في ظاهر الأمر بقولٍ يُحكى (4) فيه إذا اختلف نوع الماشية، فالمأخوذ من أي نوع؟ وفيه قولان تقدّم ذكرهما: أحدهما - أن النظر إلى الغالب. ثم من اعتبر الغالب في السوم والعلف، لو فرض عليه استواؤهما، تردَّد، والأظهر السقوط.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 217. (2) حديث: "في سائمة الغنم زكاة" رواه البخاري في حديث أنس في الصدقات، بلفظ: "وفي صدقة الغنم في سائمتها أربعين إلى عشرين ومائة شاة" وقد تقدم الكلام على حديث أنس. وانظر: التلخيص: 2/ 156، 157، وخلاصة البدر: 1/ 291، ح 1005، 1006. (3) في الأصل، (ت 1) و (ت 2) و (ت 3) و (ك): سقط. والمثبت من (ط) وحدها. وتأنيث الفعل هنا واجب؛ لأن الفاعل ضمير يعود على مؤنث. (4) في (ط) و (ت 2): محكي.

ومن أئمتنا من قال: إن جرى العلف في زمانٍ لو أهملت الماشية فيه، لم تعش وضاعت (1)، فهذا يؤثر في قطع الحول، ولو جرى العلف في زمان لو أُجيع (2) فيه الماشية، لم تضع، فلا يؤثر مثل هذا العلف، والحكم للسّوْم، وهذا ما ذكره الصيدلاني، وشيخنا. واعتبر هؤلاء إمكان العطب والهلاك في مثل زمان العلف. فافهم. وقال الصيدلاني على هذا: لو كان رب الماشية يردُّها ليلاً، وكان يُلقي لها شيئاً من العلف، ويردُّها إلى الإسامة نهاراً، فلا أثر لما يجري ليلا؛ فإنها لو أُجيعت ليلاً، واقتصر على الإسامة نهاراً، لم تهلك. وقد يختلف هذا باختلاف العشب، وقلّته وكثرته، ومسيس الحاجة إلى العلف ليلا، فليتبع فيه المعنى. ولو اعتبر معتبر في هذا المسلك ظهور ضرر بيّن، وإن كان لا ينتهي إلى العطب، لم يبعد. والله أعلم. وذكر الإمام (3) وجهاً آخر، فقال: إن كان العلف بحيث يعد صرفه مؤنة ظاهرة بالإضافة (4 إلى فائدة الماشية، فهو قاطع للحول، وإن كان لا يُحتفَل به، ولا يُعدّ مثله مؤنة بالإضافة 4) إلى [فائدة] (5) الماشية، فلا أثر له. فقد اجتمعت وجوة في قاعدة المذهب. 1960 - ومأخذها عندي يقرب من أصلٍ نذكره، وهو أن القتل يحرم الميراث، ثم أشار بعض العلماء [منا] (6) إلى أن المعنى الكلي فيه مخالفةُ قصد القائل، في استعجال الميراث، وتَعِبَ هؤلاء في إخراج قتل الخطأ على المعنى، ولم يسلموا عن انتقاض

_ (1) ساقطة من (ك) و (ت 1). وضرب عليها في الأصل. (2) في (ط)، (ت 1)، (ت 2): اجتمع. (3) الإمام: يقصد والده. (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (5) زيادة من (ت 1). (6) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

ما أبدَوْه، بحلول الدَّيْن، وعتق المستولدة (1). وتمسك آخرون بظاهر الخبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للقاتل في الميراث شيء" (2). ثم غلا المتعلقون بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وطردوا الحرمان في القتل قصاصاً، أو حداً. كذلك القول في هذا الباب، فاستنبط بعض الأئمة المؤنة عن العلف، وهؤلاء ترددوا على أنحاء، وهذا أصلهم. واعتبر آخرون اسم العلف، لما عسر عليهم طردُ المعنى، من جهة أن الماشية المشتراة للتجارة تجب الزكاة في قيمتها، وإن كانت معلوفة، والمؤنُ تكثر على الحرّاثين في الزرع، وحق الله متعلق [به] (3)؛ فرأى هؤلاء أن يتبعوا اللفظ. ثم غلا بعضهم، فأسقط الحولَ بعلفٍ في لحظة، واقتصد آخرون، فقال بعضهم: ما يقع قوامَ الماشية، واعتبر آخرون ما يعد مؤنة عرفاً، بالإضافة إلى الماشية، فهذا مأخذ الخلاف. ولو اعتلفت الماشية بما لا يُتَقوّم، ولا يُتَموّل، فلست أرى في مثل ذلك خلافاً، وإن اتبعنا الاسمَ.

_ (1) أي ينقض عليهم تعليلهم، حلول الدين إذا قتل المدين دائنه، وعتق الأمة المستولدة، إذا قتلت سيدها. (2) حديث "ليس للقاتل من الميراث شيء" رُوي هذا المعنى بأكثر من لفظ، عن أكثر من صحابي، وهو عند أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومالك في الموطأ، والشافعي، والبيهقي، وعبد الرزاق، والدارقطني، والطبراني. وصححه الألباني (ر. أبو داود: الديات، باب ديات الأعضاء، ح 4564، الترمذي: الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل، ح 2109، النسائي في الكبرى: ح 6368، ابن ماجه: الديات، باب القاتل لا يرث، ح 2646، الموطأ: 2/ 867، ترتيب مسند الشافعي: 2/ 108 - 109، مصنف عبد الرزاق ح 17782، الدارقطني: 4/ 72، البيهقي: 6/ 219، التلخيص: 3/ 84 ح 1358، 1359، 1360، وخلاصة البدر: 2/ 136 ح 1745، 1746، 1747، والإرواء: 6/ 117 ح 1671). (3) في جميع النسخ: بها. والمثبت من (ت 1) وحدها

ولم يصر أحد إلى تلفيق السَّوْم والعلف، حتى إذا جرى في أثناء العلف إسامة في سنة، لو لُفّق وجُمع، وجبت الزكاة. هذا لا قائل به. 1961 - ثم إذا ثبت تفصيل العلف المعتبر، فقد اختلف أئمتنا في أن القصد هل يعتبر في الإسامة والعلف، حتى يقال: إذا اتفقت إسامةُ المعلوفة من غير قصدٍ، لم تجب الزكاة، فإذا اعتلفت الماشية السائمة، من غير قصدٍ، لم تسقط الزكاة. هذا ما ظهر فيه اختلاف الأصحاب، فإن لم يعتبر القصد، فالنظر إلى عين العلف. ولو اعتبرنا القصد، فقد اختلف أصحابنا في معنى القصد، فذهب الأكثرون إلى أن معناه أن الماشية إذا اعتلفت وفاقاً، فهي سائمة. وإن علفها مالكها قصداً، أثر ذلك، على ما سبق التفصيل في مقدار العلف. وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً في معنى القصد، فقال: إن قصد المالك رد السائمة إلى العلف من السوم، فهذا يقطع -إذا جرى- الحولَ، وإن علفها قصداً، ولكن لم يقصد قطعَ السوم، فلا أثر له. وبيانه أن الثلوج إذا تراكمت، وغطت المرعى، فلو ردَّ المالك الماشيةَ إلى العلف للعائق (1) الذي اتفق، وهو على عزْم الإسامة إذا تمكن، فهذا العلف لا يقطع الحول، وإن كثر واتفق مقصوداً، إذا لم يقصد قطعَ الإسامة. فهذا منتهى القول في ذلك. 1962 - وظهر اختلاف الأئمة في أن الغاصب لو أسام الماشية، أو علفها، فهل يختلف الحكم بإسامته وعلفه، أم يدام الحكم الذي كانت الماشية عليه في يد المالك؟ وهذا خرّجوه على أن القصد هل يعتبر في العلف والإسامة؟ وكان شيخي يقول: الخلاف في إسامة الغاصب ظاهر. فأما إذا علف الغاصب بعلفٍ من عنده، فالظاهر أن السوم لا ينقطع؛ إذ لا مؤنة على المالك بما جرى، وما يخرجه الغاصب غير محسوب.

_ (1) في جميع النسخ، ما عدا الأصل: (العايق).

ومن أحاط بما مهدناه في مأخذ الخلاف خرّج هذه المسألة عليه. 1963 - قال الشيخ الإمام (1): إذا قلنا: الغصب وإيقاع الحيلولة يمنع وجوبَ الزكاة، فطريانه في أثناء السنة، (2 ثم زواله، يتنزل منزلةَ طريان العلف على السوم فيما قدمناه، وكذلك إذا اختلفت الخلطة في أثناء السنة 2)، ثم انتظمت، فليخرّج على ما مهدناه في طريان العلف ثم العود إلى السوم. فرع: 1964 - إذا غصب الرجل أربعين من الغنم المعلوفة، ثم أسامها، ومضت سنة في الإسامة، وقلنا بوجوب الزكاة، فإذا استردّ المالك الأربعين من الغاصب، وأخرج الزكاة منها، بناء على ما ذكرناه، فهل يرجع على الغاصب بقيمة الشاة التي أخرجها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع بها؛ فإن سبب وجوب الزكاة الإسامة، التي صدرت من الغاصب. ثم إن جرينا على هذا، فهل له أن يرجع على الغاصب، قبل إخراج الزكاة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يرجع حتى يُخرج ويغرم. والثاني - يرجع قبل الإخراج؛ فإن الزكاة لا رفعَ لها بعد وجوبها، والتمكن من أدائها. وهذا التردد الذي ذكرناه في أصل الرجوع، وتفريعه، يناظر أصلاً، سيأتي في المناسك، إن شاء الله تعالى، وهو أن الحلال إذا حلق شعر محرم وافتدى المحرم، فهل يرجع بما غرِم؟ فيه اختلافٌ، وفي وقت الرجوع خلافٌ أيضاًً. ...

_ (1) الشيخ الإمام: يقصد والده. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

باب المبادلة بالماشية

باب المبادلة بالماشية قال: "ولو بادل إبلاً بإبل ... إلى آخره" (1). 1965 - الزكاة تنقسم إلى زكاة العين، وإلى زكاة التجارة، فأما المال الذي انعقد عليه حول التجارة، فلو جرى في جميعه أو بعضه استبدالٌ في أثناء الحول على حكم التجارة، فالحول لا ينقطع بما يجري من ذلك، كما سيأتي ذلك في بابه، إن شاء الله تعالى. 1966 - فأما الزكاة المتعلقة بأعيان الأموال، فنقول فيها: إذا انعقد الحول على نصابٍ من الغنم، فلو أبدله مالكه في خلال الحول بنصاب مثله من جنسه، فقد انقطع الحول الأول، ويستأنف من وقت ملك الثاني حولاً جديداً؛ فإن الحول كان انعقد على عين النصاب الأول، ثم زال الملك عنه بما جرى من الاستبدال، فانقطع الحول المنعقد على عينه. فكذلك لو انعقد الحول على نصاب معين، ثم جرى الاستبدال في بعضه، فينقطع الحول الأول، لمكان نقصان النصاب، ثم يبتدىء حولاً من وقت الاستبدال لكمال النصاب. وأبو حنيفة يقول: إذا جرى الاستبدال في جميع النصاب، انقطع الحول واستأنفنا حولاً آخر، وإن جرى الاستبدال في البعض، لم ينقطع الحول الأول، وبنى مذهبه على أصلين له: أحدهما - أن نقصان النصاب في أثناء الحول عنده لا يقطع الحول، إذا صادفنا النصاب في أول الحول وآخره. والآخر - أن المستفاد عنده مضمومٌ إلى الأصل، ونحن على مخالفته في الأصلين جميعاً.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 219.

1967 - ولو ملك نصاباً من الدراهم، أو الدنانير، ثم استبدله في آخر الحول بمثله، فلا يخلو إما إن لم يكن على قصد التجارة في إمساكه، وإما إن كان متجراً فيه، كدأب الصيارفة. فإن لم يكن متجراً، فجريان الاستبدال فيه، كجريان الاستبدال في النَّعم التي تتعلق الزكاة بعينها، فينقطع الحول، ويستأنف حولاً جديداً. وإن كان متجراً فيها، فالدراهم مما تتعلق الزكاة بأعيانها. وقد اختلف قول الشافعي في أن المغلّب زكاة العين، أو زكاة التجارة إذا فرض اجتماعهما. وسيأتي شرح ذلك. إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: المغلّب زكاة التجارة، فالمبادلة لا تقطع الحول، وإن قلنا: المغلّب زكاةُ العين، وقد قصد الاتجار ابتداء على الشرط المرعي فيه، فإذا جرى الاستبدال في أثناء الحول، ففي المسألة وجهان، ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أن الحول ينقطع؛ فإنَّ شرط دوام الحول في زكاة العين دوامُ الملك، والاستبدال يخرم الشرطَ، والتفريع على تقديم زكاة العين، فلينقطع الحول، كما ينقطع في نصاب من النَّعم، في مثل هذه الصورة. والوجه الثاني - لا ينقطع. والسبب فيه أن زكاة العين تختص بالأموال النامية في جنسها كالنّعم. والدراهمُ والدنانيرُ ليست ناميةً في جواهرها، وإنما التحقت بالناميات، من جهة أنها مهيأةٌ للتصرف، ومعدةٌ له، والتصرف ممكن فيها على يسر. فإذا كان سبب التحاقها بالناميات هذا، فيبعد أن ينقطع الحول بسبب جريان التصرف، وسبب انعقاد الحول إمكان التصرف. وهذا المعنى يختص بالنقدين. فهذا تفصيلُ القول في جريان المبادلة في الأموال الزكاتية. ولم يختلف علماؤنا في أن من ملك نصاباً من النقد (1) وجرى في الحول، ثم (2 اشترى به عَرْضاً للتجارة، فحول زكاة التجارة محسوبٌ، من وقت ملك الدراهم. وهذا يدل على أن 2) قياس الزكاة في عين الدراهم قريب من قياس زكاة التجارة.

_ (1) (ت 2): النقرة. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

وسنذكر إيضاح هذا المعنى في باب زكاة التجارة. إن شاء الله تعالى. 1968 - ثم إن حكمنا بانقطاع الحول عند جريان المبادلة في النَّعم، فلا فرق أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة وبين ألا يقصد ذلك، ولكنْ تبادل لغرضٍ له صحيح، فالحول ينقطع في الوجهين جميعاً، ومالك (1) يقول: إن قصد أن يتخذ ذلك ذريعة في قطع الحول والفرار من الصدقة، لم ينقطع الحول، وهذا مشهور من مذهبه في الذرائع. ثم قال الصيدلاني: إن قصد الفرار كُره ذلك، ولم يُطلق التحريمَ، وفي بعض التصانيف إنه يأثم بذلك، [و] (2) في التأثيم احتمال؛ من جهة أنه تصرف مسوّغ، ثم إنْ أثَّمناه، فموجب الإثم قصدُه لا محالة. 1969 - ثم ذكر الشافعي المبادلة إذا جرت قاطعةً للحول، كما تقدم تصويرها، فلو رُدّ عليه النصاب الذي خرج عن ملكه بالعيب، فيبتدىء الحول من وقت العود إليه بالرد؛ فإن الملك الحاصل بالرد جديد، ولا يتبين انتقاض المبادلة من أصلها. هذا (3) متفق عليه لا خفاء به. وذكر أيضاً (4) أن المبادلة لو كانت فاسدةً، فالحول لا ينقطع؛ فإنها لم تُزل الملك. وهذا بيّن، والغرض بذكره الردّ على أبي حنيفة، فإن البيع الفاسد المتصل بالقبض يتضمن إزالةَ الملك عنده، ثم ينقطع الحول عند القبض إذا جرت المبادلة والقبض في جميع النصاب. فصل 1970 - ذكر الشافعي تفصيلَ القول في بيع المال الزكاتي، بعد وجوب الزكاة، ورتب في ذلك أصولاً، وهذا يستدعي تقديم بيان المذهب في ذكر متعلّق الزكاة،

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 386، مسألة: 525، حاشية الدسوقي: 1/ 437. (2) زيادة من (ت 1) و (ت 2). (3) (ت 1): وهذا. (4) ساقطة من (ت 2).

وللأصحاب طريقتان في قاعدة المذهب: منهم من قال: في متعلق الزكاة قولان في الأصل: أحدهما - أنها تتعلق بذمة المالك. والثاني - أنها تتعلق بالعين، ثم إذا حكمنا أنها تتعلق بالعين، ففي وجه التعلق قولان: أحدهما - أنها تتعلق بالعين استحقاقاً، فيستحق المساكين جزءاً من المال، والثاني - أنها تتعلق بالعين استيثاقاً. ثم في كيفية الاستيثاق قولان: أحدهما - أنها تتعلق بالعين تعلق الأرش برقبة العبد الجاني. والثاني - أنها تتعلق بها تعلّق الدين بالمرهون. وسيأتي توجيه الأقوال، في أثناء الكلام. وقال ابن سريج: لا خلاف في تعلق الزكاة بالعين، وإنما تردّدُ الأقوال في كيفية التعلق. وحقيقة هذا الأصل تبين بذكر شيئين، نوضحهما، ثم نأخذ في كشف الغطاء. من قال: الزكاةُ تتعلق بالذمة، فعنده أن الأربعين من الغنم إذا وجبت فيها الزكاة، فيجوز بيع جميعها، ثم إن أدى البائعُ الزكاةَ من مالٍ آخر، نفذ البيعُ وتم، وإن لم يؤدّه، فالساعي يأخذ شاةً من الأربعين من يد المشتري. هذا متفقٌ عليه، وإن حكمنا بأن الزكاة تتعلق بالذمة، فهذا أحد الأمرين. والثاني - أنا إذا قلنا: تتعلق الزكاة بالعين استحقاقاً، فلا يتعين على المالك إخراج الزكاة من عين المال، بل لو أراد أداءها من مالٍ آخر، لم تجب الزكاة فيه، جاز وفاقاً. 1971 - فإذا تحقق الأمران، وظهر الاتفاق عليهما، فنقول بعد ذلك: من ظن أن الزكاة لا تعلّق لها بالعين في قولٍ أصلاً، وإنما تتعلق بالذمة المطلقة، فقد غلط، وكان ما قاله غيرَ معدود من المذهب؛ فإنا حكينا الوفاق على أن الساعي يأخذ شاةً من يد المشتري، ومن كان عليه دين مطلق، فباع مالَه، لم يكن لمستحق الدين تعلقٌ بما باعه، وإن تعذر عليه استيفاء دينه، ممن عليه الدين. فإذا أثبتنا للساعي أن يأخذ شاةً من يد المشتري، كان ذلك قاطعاً في التعلّق.

ولكن القول المعروف بقول الذمة معناه عندي، أن العبدَ إذا جنى، وتعلّق الأرشُ برقبته، فباعه السيّد قبل أن يفديه، ففي نفوذ البيع قولان. ثم إن حكمنا بنفوذ البيع، فيصير السيد ببيع العبد ملتزماً للفداء، فإن فداه، فيا حبذا، وإن لم يفده، فالمجني عليه ينقضُ البيعَ، فاعلم. فامتداد يد الساعي خارج على ما ذكرناه. ولكن بين تعلق الزكاة وبين تعلق الأرش فرقٌ، على قول الذمة؛ وذلك أن السيد ليس مطالباً بالفداء أصلاً، إذا جنى عبده، ومالك المال متعبد شرعاً بالزكاة، مأمور بتأديتها، فلما نفذ البيعُ، وتوجه الأمر، أطلق مطلقون القول بأن الزكاة تتعلق بالذمة، على هذا الرأي. ثم إذا أُلزم هؤلاء امتدادَ يد الساعي، لم يجيبوا عنه. فالوجه أن نقول: إذا نفذنا البيع في الجميع، فهذا خارج على أن بيع الجاني نافذ، والتعلق كتعلق الأرش، ولكن المالك متعبَّد بالزكاة مأمورٌ، بخلاف سيد العبد الجاني. فهذا هو حقيقة هذا القول. 1972 - فأما إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، ففي قول نقول: تتعلق تعلق الدين بالرهن، فيؤثّر هذا في منع البيع، في مقدار الزكاة، قبل تأديتها، على ما سيأتي مشروحاً. وفي قولٍ: تتعلق تعلّق الأرش. ثم قال الأصحاب: في نفوذ البيع في مقدار الزكاة قولان، مبنيان على بيع العبد الجاني. وهذا تخليط في المذهب، مشعر بذهول مُورده عن حقيقة الكلام. وبيانُه أنا ذكرنا أن قول الذمة لا محمل له إلا على تجويز بيع الجاني، فهو المعنِيُّ [به] (1) كما تقدم. فإعادة القولين على قول العين خلطٌ، فلينصرف قول جواز البيع في الجاني، إلى قول الذمة، فلا يبقى لقول العين إلا واحدٌ، وهو أن بيع العبد الجاني ممتنع.

_ (1) مزيدة من (ت 1).

ولن يفقه الطالبُ حتى يصرف همّته إلى تفصيل المهمات، وتنزيل كل شيء على حقيقته ومأخذه. 1973 - ونقول: في قولٍ: يستحق المستحقون جزءاً من المال، ويصيرون شركاء فيه، وهذا القول يتطرق إليه إشكال، نبهنا عليه، وهو أن من عليه الزكاة لو أدى الزكاة من مال آخر، جاز على الانفراد، من غير طلب رضا نائب المساكين، وهو الساعي، وهذا يخرم هذا القول. وذكر صاحب التقريب لهذا السبب قولاً، انفرد بنقله مفرعاً على قول [الاستحقاق، فقال:] (1) استحقاق المسكين موقوف، فإن أدى المالك الزكاة من عين مال الزكاة، تبينا (2 أنهم استحقوا عند الوجوب جزءاً من المال، وإن أدى المالك الزكاة من مالٍ آخر، تبينَّا 2) أن المساكين لم يستحقوا من عين المال شيئاً. وسنوضح هذا القول في التفريع إن شاء الله تعالى. 1974 - وبالجملة مثار الأقوال والإشكال تعارُض أمرين مختلفين: أحدهما - أن الأمر والتعبّد توجه على المالك تَوَجُّه الأمر بالديون، وتسلُّط الساعي على عين المال تسلط ذي حق فيها، ومهما ثار إشكال كذلك، ترتب عليه اختلاف المذاهب والأقوال. وقول تغليب الذمة موجّه بتوجّه الأمر، وقول العين موجه بإضافة الشارع الواجب إلى المال في مثل قوله: "في أربعين شاة شاة". فهذا بيان القاعدة. 1975 - ثم قال الأئمة: ما ذكرناه فيه إذا كان الواجب من جنس المال، فأما إذا كان الواجب مخالفاً لجنس المال، كالشاة تجب في خمس من الإبل، فقد قال الأئمة: قول الذمة أوجه، في مثل ذلك؛ إذ ليست الشاة جزءاً من الإبل. قلت: أما تعلق الأرش، والرهن، فمنقدح، وإنما يضعف قول استحقاق جزء

_ (1) زيادة من (ت 1) وحدها. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

[من المال، فليقع الترتيب فيه، ثم من يقدّر استحقاق جزءٍ] (1) في ذلك، يحتاج إلى تقدير الاستحقاق بمقدار قيمة الشاة، وليس يخرج هذا القول عندي إلا على مذهب من يقول: يجزىء بعيرٌ عن [خمسٍ] (2)، وجزء منه على ما يقتضيه التقسيط [واجب] (3) الخَمسِ، والشاة [مقامة] (4) مقامه. فإذا وضح ما ذكرناه تمهيداً، فنحن نخرّج على هذا الأصل فصولاً، مقصودة، تتضح في أنفسها، تهذب الأصل. الفصل الأول في بيع مال الزكاة بعد وجوبها 1976 - فنقول: إذا ملك أربعين من الغنم، ووجبت شاة، فباعها قبل تأدية الزكاة، ففي قولٍ يصح البيع، وهذا يشهر (5) بقول الذمة، وحقيقتُه ما تقدم. ثم إذا اطلع المشتري على حقيقة الحال، والزكاةُ بعدُ ثابتةٌ، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه يثبت له الخيار؛ فإن البيع وإن نفذ، فللساعي أخذُ شاةٍ منها، فتعرضها للأخذ يسلّط المشتري على الفسخ. ومن أئمتنا من قال: لا خيار له، ما لم تؤخذ شاةٌ من يده، ثم إن أُخذت شاة من يده، بطل البيع فيها، بعد الانعقاد. وهل يبطل الباقي؟ فعلى [قولي] (6) تفريق الصفقة.

_ (1) زيادة من (ت 1) و (ت 2). (2) في جميع النسخ: "عشرين" والمثبت تصرُّفٌ من المحقق، يؤيده السياق والكلام الآتي بعدُ. والمعنى إن ملك خمساً من الإبل، فواجبها شاة، ولكن إذا أخرج صاحبها بعيراً، أجزأ، لا شك في ذلك، فهو يجزىء عن الكثير فكيف لا يجزىء عن القليل. ولكنّ الواجبَ جزءٌ منه فقط هو واجب الخمس، والشاة مُقامةٌ مقام هذا الجزء، تفادياً للتشقيص. (3) في الأصل، (ط)، (ك): "والواجب" والمثبت من (ت 1)، (ت 2). (4) ساقطة من الأصل، و (ط) و (ك). (5) يشهر: أي اشتُهر وعرف. (6) في الأصل، و (ط): قول.

وإذا انتهى تفريع إليه، أحلنا استقصاءه على كتاب البيع، فلا [نُطنب] (1) إلا فيما فيه اختصاص بالزكاة (2). فإن قلنا: ينفسخ في الجميع، فيسترد الثمن، وإن قلنا: لا ينفسخ، فللمشتري الخيار من جهة تبعّض ما اشتراه، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. فإن فسخ، فلا كلام، وإن أجاز، فالمذهب أن يجيز الباقي بقسطه. وفيه قول آخر: أنه يجيزه بكمال الثمن، وهذا من فروع التفريق. 1977 - ولو وجبت الزكاة، فباع المالَ، والتفريعُ على الذمة، نفذ. فلو أدى البائعُ الزكاة من مالٍ آخر، فالمذهب أنه ينقطع خيار المشتري؛ فإن سبب خياره توقع الاسترداد، وقد زال هذا بتأدية الزكاة من مالٍ آخر. وفي بعض التصانيف وجه آخر: أن خيار المشتري لا ينقطع بتأدية الزكاة من مالٍ آخر؛ وذلك أن المشتري لا يأمن أن يخرج ما أداه مستحَقاً، فيعود التعلق بالمشتري. ومما يحقق تفريعَ هذا الوجه أن الزكاة إذا وجبت فأداها، ثم أنشأ البيع، صح ولا خيار، وإن كان ما ذكرناه من خروج المؤدَّى مستحقاً متصوراً في هذه الصورة، ولكن الفرق أن الخيار إذا ثبت، ثم أدى الزكاة، فلو أبطلنا الخيار [لكنا مبطلين خياراً] (3) ثابتاً قطعاً بأمرٍ يتطرق إليه احتمال وإمكان، فأما إذا أدى الزكاة، ثم باع، فأصل الخيار لم يثبت، بل الأصل لزوم البيع، وانتفاء الخيار، وهذا واضح، لا شك فيه. هذا إذا فرعنا على قول الذمة. 1978 - فأما إذا فرعنا على قول العين، واخترنا من الأقوال أن المحاويج يستحقون جزءاً، فعلى هذا القول، إذا باع، فالبيع في مقدار الزكاة باطل، وفي الباقي قولان، على تفريق الصفقة.

_ (1) في الأصل، (ط)، (ت 1): يطيب. (2) راجع حديث إمام الحرمين عن أسلوبه في التأليف، في كتابه الغياثي، حيث يقول: "الوجه إحالة الاستقصاء في كل شيء على محله وفنه". (3) زيادة من (ت 1) و (ت 2).

قال الصيدلاني: إن كان الواجب جزءاً من المال، كالعشر في [المعَشّر] (1)، أو ربع العشر، حيث يجب، فالقولان في الباقي على التفريق، فأما إذا كان الواجب حيواناً، فهو غير منسوب إلى المال بطريق الجزئية، وليس متعيَّناً أيضاًً، حتى يكون بمثابة ما لو باع عبداً مملوكاً له، وعبداً مغصوباً، فالوجه عند بعض الأصحاب القطعُ ببطلان البيع في الجميع، على هذا القول. والأشهر جعل المسألة على قولين. ثم الترتيب من منازل التفريع في تفريق الصفقة، فإذا كان المستحق جزءاً، فقولان، وإن باع عبداً مملوكاً، وضم إليه مغصوباً، فقولان مرتبان، والفارق جهالةُ الثمن في المملوك؛ إذ لا جزئية. ولو باع أربعين من الغنم في القول الذي نفرع عليه، ففي البيع في غير الزكاة قولان، وهذه الصورة أولى بالفساد؛ لانضمام شيوع الشاة، مع الجهالة في الثمن عند تقدير التوزيع. فهذه ثلاث مراتب. 1979 - قال صاحب التقريب: إن فرعنا على قول الوقف، قلنا: إن باع ما وجبت الزكاة فيه، ثم لم يؤد الزكاة من مالٍ آخر، بل أخذ الساعي شاةً من جملة الأربعين، فيتبين أن البيع غيرُ منعقد في المأخوذ، وفي الباقي قولان، كما ذكره الأصحاب. وإن [أدى] (2) البائع الزكاة بعد البيع من مالٍ آخر، فقد تبينا آخراً أن المساكين ما استحقوا جزءاً من المال، فهل يصح البيع في مقدار الزكاة؟ (3 فعلى قولي وقف العقود: إن منعنا الوقفَ، فالبيع باطل في مقدار الزكاة 3)، وفي الباقي قولان، كما تقدم. وإن جوّزنا وقفَ البيع، فيصح البيع في مقدار الزكاة، وإذا صح فيه، صح في غيره أيضاًً.

_ (1) ساقطة من الأصل، و (ك) وفي (ط): "الخارج". والمثبت من (ت 1)، (ت 2). (2) ساقطة من الأصل، و (ك)، وفي (ط) و (ت 2) باع البائع، والمثبت من (ت 1). (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

هذا تفريعٌ على قول الاستحقاق من أقوال العين. 1980 - ولو وجبت الزكاةُ في أربعين، فباع منها عشرين، أو ثلاثين، أو أكثر، واستبقى منها مقدار الزكاة، والتفريع على قول الشركة، ففي نفوذ البيع وجهان: أحدهما - النفوذُ؛ فإنه لم يبع جميعَ المال، بل أبقى مقدارَ الزكاة، أو زاد. والثاني - يفسد البيع في مقدار الزكاة؛ فإن تعلّق الشاة شائع في الجميع. والوجه عندي أن نقول: يبطل البيع في جزء من كل شاةٍ، وفي الباقي التفريق، والقول في ذلك الجزء على [ما يقتضيه] (1) توزيع الشاة على الأربعين. 1981 - أما إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، تعلّق الدَّين بالمرهون، فالذي ذكره الأئمة أن البيع في مقدار الزكاة باطل، وفي الباقي قولان، كما تقدم. وذكر بعض المصنفين: أنا على قول الرهن نبطل البيع في الجميع قولاً واحداً؛ فإن التقدير أن جميع المال مرهون بمقدار الزكاة، وليس كما إذا فرعنا على قول الاستحقاق؛ فإن الاستحقاق لا يعم جميع المال، والاستيثاق يعم الجميع. وهذا وإن كان فيه تخييل. فالذي ذكره الأئمة ما تقدم. والتقدير عندهم أن مقدار الزكاة من عين المال مرهون بالزكاة دون الباقي، وإذا كان التقدير كذلك، [فمقتضاه] (2) الفصل بين قدر الزكاة وغيره، في تفريع الفساد والصحة. وهذا هو الحق، وما عداه في حكم هفوةٍ في المذهب. وإن قلنا: التعلق مشبّه بتعلق الأرش، وقلنا: بيع الجاني باطل، فمقدار الزكاة لا يصح البيع فيه؛ وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، كما ذكرناه في قول الرهن. ومن رأى الكلَّ مرهوناً، وقال: يبطل (3) البيع [بحسبه] (4) في الجميع، فلا شك أنه يطرد هذه الطريقة في قول تعلق الأرش، والطريقة خطأ في القولين كما ذكرناه.

_ (1) في الأصل، (ط)، (ك): "والقول في ذلك على يقتضيه" بدون (ما). وفي (ت 2): على نقيضه. والمثبت من (ت 1). (2) في الأصل، (ط)، (ت 2) فمقتضى. وفي (ك): يقتضى. والمثبت من (ت 1). (3) في (ت 1): ببطلان. (4) في الأكل، (ط)، (ك)، (ت 2): "بجنسه" والمثبت من (ت 1).

1982 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أنا إذا فرعنا على قولي تفريق الصفقة حتى انتهينا إليه، فإن قلنا ببطلان البيع في الجميع، فلا كلام، (1 وإن قلنا بالصحة، فللمشتري الخيار؛ لمكان التبعض، فإن فسخ، فلا كلام 1). وإن أجاز، فيجيز بكل الثمن أو بقسطه؟ فعلى قولين مشهورين جاريين في تفريع التفريق، سيأتي بيانُهما في البيوع. إن شاء الله تعالى. 1983 - قال صاحب التقريب: من أئمتنا من قال: يجيز المشتري بجميع الثمن حيث انتهينا إليه، والسبب فيه أن الشاة ليست معينة ولا جزءاً، فأخذها بمثابة عيب شائع في المبيع، وإذا اطلع المشتري على عيب قديم ثم رام الإجازة، فلا يُحَطّ عنه مقدارُ أرش العيب، وإن كنا قد نعتبر أرش العيب في بعض الصور، ولكنه يجيز البيع بالتمام، كذلك القول في مال الزكاة. وهذا تخييلٌ لا تحصيل له، وليس مما يجوز ربط المذهب بمثله. نعم إن لم يكن بدٌّ من استعمال هذا المعنى، فقد استعملناه في تأكيد فساد البيع، والذي يوضح ذلك أنه لو صح ما ذكره، للزم بحسبه القطعُ بصحة البيع؛ فإن بيع المعيب جائز غيرُ ممتنع. فهذا تفريع فصل البيع على تعلق الزكاة، وقد جمعنا أطراف الكلام، حيث انتهينا إلى تفريع تفريق الصفقة، وأوضحنا ما تعلق بخاصية الزكاة. الفصل الثاني في التفريع حكم طريان الوجوب بعد البيع. 1984 - فنقول: من ملك أربعين شاة، وباعها قبل انقضاء الحول، فلا شك في صحة البيع، فلو انقضى حولُ المشتري في ملكه، وأوجبنا الزكاة، ثم إنه اطلع على عيب قديم، فإن فرعنا على قول الذمة كما فصلتُه، نُظر: فإن أدى المشتري الزكاة من

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

عين الأربعين، ثم اطلع، فهل يملك ردَّ ما أبقى؟ فعلى قولين، كما لو اشترى عبدين، فمات أحدهما في يده، ثم وجد في الباقي منهما عيباً، فهل يرده؟ فيه اختلاف قولٍ وتفريع طويل، لا يختص بالزكاة، وسيأتي في موضعه. فهذا إن أدى الزكاة من عين المال. (1 فأما إذا أدى الزكاة من غير المال 1)، والتفريعُ على قول الذمة؛ فإنه يملك الردَّ بالعيب الذي اطلع عليه. وقد يأتي فيه وجه بعيد: أنه لا يرد قدر الزكاة، لجواز أن يكون ما أخرجه مستحَقاً، فيكون مقدار الزكاة معرضاً لأخذ الساعي، وهذا في حكم عيب جديد، يمنع من الرد بالعيب القديم، فهذا في قدر الزكاة، فأما ما وراء قدر الزكاة، فعلى قولي تفريق الصفقة انتهاءً، وهذا وجه ضعيف لا شيء (2)، فلا نعود إليه. 1985 - وإن فرعنا على قول العين، فإن أدى الزكاة من عين المال، فالقولان جاريان في رد الباقي كما تقدم. وإن أدى الزكاة من مالٍ آخر، فإن قلنا: تعلّقُ الزكاة كالرهن أو الأرش، فيجوز الرد بالعيب؛ فإن من اشترى عبداً، فرهنه، أو جنى، وتعلق الأرش [برقبته] (3)، ثم [فك] (4) الرهن، وفدى العبدَ، واطلع بعد ذلك على عيب، فله الرد، ولا أثر لما جرى طارئاً ثم زال. وإن قلنا: يستحق المساكين جزءاً، ولم نفرع على قول الوقف، فقد زال [الملك] (5) عن مقدار الزكاة، ثم لما أدّى من مالٍ آخر، عادَ. وهذا يخرج على أصلٍ، وهو أن الملك الزائل العائد كيف يكون حكمه في تفريع

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) كذا في النسخ الخمس. فهل المعنى: لا وزن له، ولا يساوي شيئاً؟ أم أن الكلمة محرفة عن "لا شك"؟؟ وكيف تتحرف في النسخ الخمس؟. (3) في الأصل، (ط)، (ك): فيه. (4) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): انفك. (5) في جميع النسخ، ما عدا (ت 2): المال.

الرد، وفيه خلاف معروف جارٍ في مسائلَ وأبوابٍ. فلو اشترى الرجل عبداً، ووهبه وسلّمه، ثم عاد إليه بهبة، واطلع على عيبٍ قديم، فهل يرده؟ فيه اختلاف مشهور، يجري في أحكام شتى. هذا بيان ما أردناه. وما أشرنا إليه رمزاً رأيناه بيّناً، فلم نُعده، كالتفريع على قول الوقف، وهو ما حكاه صاحب التقريب. الفصل الثالث 1986 - إذا ملك الرجل أربعين شاة، ووجبت الزكاة فيها، فلم يُخرج الزكاةَ حتى مضى حول ثانٍ، ولم يزد المالُ بالنتاج أيضاًً، فإن قلنا: يستحق المساكين قدر الزكاة من عين المال، فقد نقص النصاب في انقضاء الحول الأول، فلا تجب الزكاة في الحول الثاني، ولا تجب الزكاة على أهل الزكاة، حتى نقدرهم مخالطين، ونوجب زكاة الخلطة. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، أو تتعلق بالعين تعلُّق الدين بالرهن، أو تعلُّقَ الأرش، فيخرج هذا على أن الدين هل يمنع تعلّق الزكاة بالعين؟ وسيأتي شرح ذلك بعدُ، إن شاء الله عز وجل. وإنما ينتظم مرادنا في شرح المشكلات، إذا آثرنا الإيجاز والاختصار في البينات. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المال لا يزيد بالنتاج، فأما إذا كان يزيد بحيث لا ينتقص النصاب، مع تقدير إخراج الزكاة، فلا شك في تجدد الوجوب في آخر كل حول. الفصل الرابع 1987 - لو أصدق الرجل امرأته أربعين من الغنم السائمة، فحال الحول في ملكها، وجبت الزكاة عليها، سواء كان الصداق في يده، أو في يدها، وتعرضه للتشطر، لا يتضمن نفي الزكاة في الشطر الذي يتوقع رجوعه إلى الزوج بالطلاق قبل

المسيس، فإن وجبت الزكاة عليها، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، فلا يخلو إما إن أخرجت الزكاة من عين المال، ثم طلقها، أو أخرجتها من مالٍ آخر، ثم طلقها، أو لم تخرجها أصلاً. فإن أخرجتها من عين المال، ثم طلقها بعد ذلك، ففيما يرجع الزوج به أقوال سيأتي شرحها في كتاب الصداق - إن شاء الله تعالى. أحدها - أن الزوج يرجع في نصف الباقي، ونصف قيمة الشاة التي أخرجتها. والثاني - أنه يرجع بمقدار نصف الأربعين من التسعة والثلاثين، وقد تختلف قيم الشياه. والقول الثالث - أنه بالخيار إن شاء رجع بنصف الباقي، وبنصف قيمة الشاة المخرجة، وإن شاء رجع بقيمة نصف الأربعين، وترك الرجوع في العين، وذلك لمكان تبعض حقه عليه، ولا مطمع في تقرير ذلك، وهو من غمرات كتاب الصداق، وفيها يتبين الحصر والشيوع، وما يتعلق بهما. هذا إذا كانت أخرجت من عين الصداق. 1988 - فأما إذا أَخرجت من مالٍ آخر لها شاةً، ثم طلقها الزوج، فإن لم نجعل حق المساكين شركة، فالزوج يرجع إلى النصف من الأربعين، وطريان الرهن (1) وتعلّق الأرش غيرُ مؤثر. وإن أثبتنا حق المساكين شركةً في المال، فإن فرعنا على قول الوقف الذي حكاه صاحب التقريب، فالجواب كما مضى، فإنها إذا أدت الزكاة من مالٍ آخر، بنينا على ذلك أن لا شركة، وإن فرعنا على ظاهر المذهب، فقد زال الملك عن شاةٍ، وعاد، فيخرج هذا على الملك، الزائل العائد، وفيه وجهان: أحدهما - أنه كالملك الذي لم يزل أصلاً، ويرجع الزوج بنصف الأربعين. والثاني - أنه كالملك الزائل الذي لم يعد، فيجعل كما لو أخرجت شاة من الأربعين، ثم طلقها قبل المسيس. ولكن في

_ (1) إشارة إلى تعلق الزكاة بالأربعين كتعلق الدين بالرهن أو كتعلق الأرش برقبة العبد.

هذا إشكال، وهو أن الشاة التي تخرجها من عين الصداق متعيّنة، فلينتظم (1) أقوال فيما يفعله الزوج في الباقي، كما تقدم. 1989 - فأما إذا زال الملك، وعاد، وقلنا: لا رجوع في الزائل العائد، وهو غير متعيَّن، فإذا لم يرجع فيه، فكيف سبيله في الرجوع في الباقي؟ ذكر الشيخ أبو بكر تردداً حاصله وجهان: أحدهما - أنه في الباقي على الأقوال الثلاثة التي ذكرناها إذا أخرجت الشاة من الأربعين. والثاني - أنه لا يرجع في شيء من الباقي؛ لأن العائد في حكم الشائع، وليس جزءاً يهتدى إليه على (2) الشيوع؛ فيمتنع لهذا السبب الرجوعُ في الباقي، ويتعيّن حقُّ الرجوع في القيمة، فيرجع بنصف قيمة الأربعين. 1990 - ولو وجبت الزكاة عليها، فلم تخرجها حتى طلقها زوجها قبل المسيس، فإن جعلنا حق المساكين شركةً، ولم نفرع على الوقف، فلنجعل كأن تلك الشاةَ مخرجة؛ فإنها لو أدت بعد الطلاق شاةً من موضع آخر، فعود الملك بعد الطلاق لا أثر له، وإنما الاختلاف إذا زال ملكها، وعاد قبل الطلاق. وإن لم نجعل حقَّ المساكين شركة، وجعلناه كالمرهون، فلو امتنعت عن إخراج الزكاة من سائر مالها، فيد الساعي تمتد إلى الصداق لا محالة، فإذا أخذ شاةً، فهو كما لو أخرجت الزكاة من عين الصداق بنفسها قبل الطلاق، ففي رجوع الزوج التفصيل المقدّم؛ وذلك أن المخرج بسبب الوجوب عليها بمثابة ما تخرجه بنفسها. وهل يجب عليها أن تخرج الزكاة من سائر مالها، إذا قدرت عليه؟ فيه تردد للأئمة، منهم من أوجب؛ فإنها قادرة على [تخليص] (3) حق الزوج، ومنهم من لم يوجب.

_ (1) (ت 1): فتنتظم. (2) ساقطة من (ت 1). (3) في الأصل و (ط): تخصيص.

وكذلك لو أصدقها عبداً، فرهنته، فطلقها [هل] (1) يجب عليها فك الرهن؟ والوجه عندي القطع بإلزامها فكَّ الرهن، كما يجب على المستعير ليرهن (2) أن يفك الرهن على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل. وكذلك الوجه القطعُ بإلزامها تأديةَ الزكاة، إلا على قولنا الزكاة شركة؛ فإذ ذاك يحتمل ألا نوجب. فافهم. 1991 - ولو جنى العبد المصْدَق، لم يلزمها فداؤه، وكذلك العبد المرهون، إذا جنى، لم يتوجه على الراهن فداؤه، فإذا فرعنا على أن تعلّق الزكاة بمثابة تعلق الأرش، فلا يلزم المرأة أن تؤدي الزكاة، من مالٍ آخر. فهذا تمام مقصودنا هاهنا، وبقايا التفريعات في الحصر والشيوع في كتاب الصداق. 1992 - ولو طلقها زوجها قبل الحول، فانقضى الحول والأربعون بينهما نصفان، فيجب عليها نصف شاة، لمكان الخلطة، ولا يخفى أمره إذا تم حوله. وقد ذكرنا ما في هذا من خلاف ووفاق، في باب الخلطة. ثم (3) غرضنا في بيان معنى تعلق الزكاة. والله المعين. ...

_ (1) في الأصل و (ط) و (ت 2): حتى، وفي (ك): حين. والمثبت من (ت 1). (2) كذا. والمعنى: أن المستعير يلزمه فك رهن المستعار إذا رهنه. (3) كذا في النسخ الخمس. ولعلها: "تَمَّ غرضُنا" بالتاء المثناة.

باب رهن الماشية

باب رهن الماشية 1993 - مضمون هذا الباب مأخوذ مما تقدم في تعلّق الزكاة. فإذا ملك الرجل أربعين شاة، ووجبت الزكاة فيها، فرهنها، فالقول في صحة الرهن وفساده في قدر الزكاة، كالقول في البيع من غير فرق وترتيب؛ فإنَّ ما صح بيعُه، صح رهنه، وما لا فلا. وإذا أفسدنا الرهن في مقدار الزكاة، ففي الباقي قولان مرتبان الآن على البيع. والرهن أولى بالصحة وأقبل للتفريق؛ من جهة أن جهالة العوض تؤثر في البيع، ولا عوض في الرهن، وكل جزء من المرهون رهنٌ بجميع الدين، وسيأتي ذلك في باب تفريق الصفقة. إن شاء الله تعالى. فليتجاوز الناظر إذا أحلناه (1). ثم ذكرنا تخيّر المشتري على قول تجويز التفريق. والتخيّر (2) ثابتٌ للمرتهن، إذا كان الرهن مشروطاً في بيعٍ، وفائدته أن يفسخ البيع، وإن لم يكن مشروطاً في بيعٍ، فلا معنى لإثبات التخيّر، فإن المرتهن أبداً بالخيار في فسخ الرهن. 1994 - ومما يتعلق بالباب أنه لو رهن نصاباً، قبل وجوب الزكاة، وقلنا: الدين لا يمنع (3 وجوب الزكاة، أو كان للراهن أموالٌ تفي بالدين، فإذا وجبت الزكاة في يد المرتهن، فإن لم يكن للراهن مالٌ سواه، وقلنا: الدين لا يمنع 3)، فقد قال شيخي: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالمال تعلق الدين بالرهن، فحق المرتهن مقدم على الزكاة؛ فإن الرهن في حقه سابق، والمرهون لا يُرهن، فإن كان دينُ المرتهن مستغرقاً لقيمة النعم صُرف إلى دينه.

_ (1) في (ت 1): أجلناه. (2) في (ت 2): التجويز. (3) ما بين القوسين ساقط من (ك).

وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالمال تعلق شركة واستحقاق، فمقدار الزكاة مقدّم على حق المرتهن، وإن قلنا: تعلقه تعلق الأرش، فمقدار الزكاة مقدم أيضاًً؛ فإن العبد المرهون لو جنى، تَعَلَّقَ الأرشُ برقبته، فإن لم يفْدِه الراهن، بيع في الجناية، ولم يُنظر إلى بطلان حق المرتهن من وثيقة الرهن، هكذا رتب رضي الله عنه. والذي أراه أن مقدار الزكاة مقدمٌ، على قولنا إنّ تعلّقها تعلّق المرهون، ولا ينبغي أن يعتمد الباحث اللفظَ، ونحن إنما قدمنا أرش الجناية؛ من جهة أن تعلقه بالرقبة لا يستدعي اختيار الراهن، فإذا كان تعلقُ الأرش يزحم حق المالك في ملكه، فكذلك يزحم حق المرتهن في وثيقته، والرهن إنما يمنع الراهن من اختيار تصرفٍ ينافي ما التزمه للمرتهن، من حق الاختصاص. فأما ما يثبت من غير اختيار، فينبغي أن يزاحم حقَّ المرتهن. وكيف يستقيم الحكم بوجوب الزكاة والمالك لا مال له غيرُ المرهون، ثم يد الساعي مقبوضة عن تتبع المال، الذي وجبت الزكاة بسببه، هذا ما لا يكون. وقد حكينا من وفاق الأئمة أنا إذا فرعنا على القول المشهور بالذمة، ونفذنا البيعَ بعد وجوب الزكاة، فالساعي إذا لم يجد البائعَ، اتبع عينَ المال، وأخذ منه حق المساكين، ثم يبطل البيع في ذلك المقدار، ويتفرع تفريق الصفقة انتهاءً؛ فإذاً ليس من غرض الأئمة في الفرق بين تعلّق الرهن، وتعلق الأرش أن يثبتوا الزكاة في المرهون على قول الأرش، وينفوها على قول الرهن، بل غرضهم أنا على قول الرهن نقطع ببطلان البيع في مقدار الزكاة، وعلى قول الأرش نُردِّد القول كما سبق. فالوجه القطع بإخراج الزكاة من المرهون، إذا كان لا يجد الراهن ما يؤدي زكاةً [غيرَ] (1) المرهون. 1995 - ثم إذا أخرجنا الزكاة عن (2) المرهون، فلو تمكن الراهن وأيسر، فهل يلزمه أن يَرهَنَ مقدارَ الزكاة جبراً للنقص الذي وقع في المرهون بأخذ الزكاة منه؟ قال الصيدلاني: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فيجب ذلك عليه، وإن قلنا: الزكاة تتعلق

_ (1) كذا في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): عن. والمثبت من (ت 1) وحدها. (2) كذا في جميع النسخ وهي مرادفة لـ (من)، نصّ على ذلك أهل الصناعة.

بالعين، ففي وجوب ذلك وجهان، مبنيان على أن الزكاة إذا وجبت في مال القراض، والتفريع على أن العامل لا يملك ما شُرط له قبل المقاسمة، فإذا أخرجت الزكاة منه، فمن أئمتنا من قال: سبيل الزكاة سبيلُ المؤن الواقعة في المال، فتحسب من الربح. ومنهم من قال: إخراجها بمثابة استرداد طائفةٍ من المال. فإن جعلناها كالمؤن، فلا يمتنع ألا نوجب على الراهن جبرَ النقصان إذا أيسر، وإن جعلناها كاسترداد طائفةٍ من مال القراض، فيتجه إيجابُ الجبران. وما ذكره من الاحتمال متجهٌ، ولكن في البناء نظر، من جهة أن نفقات عبيد القراض من الربح، ونفقة المرهون واجبةٌ على الراهن. والوجه أن نقول في تخريج الاحتمال: من رهن عبداً وسلّمه، فجنى جنايةً، وتعلّق الأرش بالرقبة، فلا يجب على الراهن أن يفديه، فلو سلّمه حتى بيع، لم يلزمه للمرتهن بسبب فوات الرهن شيء، والزكاة تثبت قهراً من غير اختيار الراهن، فكان لزومها كلزوم الأرش، ولكن مثار الاحتمال ما قدمناه في تمهيد تعلق الزكاة، وهو أن الأمر متوجه بتأدية الزكاة والتقرب بها على المالك، ولا يتوجه الأمر على السيد في الأرش، فقطعنا القول في الأرش بأنه لا يجب جبرُه للمرتهن. والزكاة من حيث إنها مأمور بها، والمالك مثاب عليها، فإذا اتفق أداؤها من مال الرهن وقعت (1) حقاً للراهن، فاتجه إيجاب الجبران عليه، وإن لم يكن وجوبها باختياره. ثم ينتظم أن نقول: إذا فرعنا على قول الذمة، فهذا يشير إلى تغليب الخطاب، والأمرُ بإيجاب الجبران أوجَهُ. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، فهذا يشير إلى تضعيف تعلق الذمة من وجه، ثم قد يخطر للفقيه أنا إذا فرعنا على قول الاستحقاق والشركة، فذكر الخلاف في الجبران ظاهر، ولكن نفيه أوْجَهُ في القياس. فهذا تحقيق الفصل.

_ (1) في (ت 1): وقطعت.

1996 - ثم قد ذكر الشيخ أبو بكر: أن الراهن إذا كان يتمكن من تأدية الزكاة من مالٍ آخر، فهو محتوم عليه على الأقوال. وإنما التردد في صورة الإعسار، [كما مضى. وأنا أقول: إن قلنا: بوجوب الجبران في صورة الإعسار] (1) إذا طرأ عليها الإيسار، فيجب على الموسر ابتداءً أن يؤدي الزكاة من مالٍ آخر. وإن قلنا [في صورة الإعسار: لا يجب الجبران، فلا يتعين على الموسر تأدية الزكاة من مالٍ آخر] (2) كما لا يجب عليه فداء العبد المرهون إذا جنى. ...

_ (1) ساقط من الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2). (2) ساقط من الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2).

باب زكاة الثمار

باب زكاة الثمار 1997 - روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أوْسُق من التمر صدقة إلى آخره" (1) صدر الشافعي الباب بذكر مذهبه في أن النصاب مرعيٌّ في المعشَّرات، فمن أنبتت له الأرض وأخرجت له الأشجار أقلَّ من نصاب، لم يلزمه العُشر، والمعتمد الخبر. وأوجب أبو حنيفة (2) العشرَ في القليل والكثير، غيرَ أنه قال: ما دون خمسة أوسق يتولاه المالك بنفسه، ولا يلزمه تسليمه إلى الوالي، فإذا بلغ خمسة أوسق، لزمه تسليمه إلى الساعي. وقال داود: ما يوسق من مكيل أو موزون يعتبر فيه خمسة أوسق، ولا تجب الزكاة [فيما] (3) دونه، وما لا يوسق تجب الزكاة في قليله وكثيره. وعندنا ما يوسق فالنصاب مرعي فيه، وما لا يعتاد توسيقه، فالوَسْق معتبر فيه. 1998 - ثم الوَسْق ستون صاعاً، والصاع أربعةُ أمداد، والمُدُّ رِطلٌ وثلث، فمجموع الأوسق الخمسة ثمانمائة مَن (4). ثم الذي قطع به الصيدلاني أن ذلك تقريب، وليس بتحديد، وذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه تقريب كما ذكرناه، والثاني - أنه تحديدٌ، ثم قالوا عليه: إن

_ (1) حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق .... " متفق عليه، من حديث أبي سعيد الخدري. (ر. اللؤلؤ: 569 ح 567). (2) ر. رؤوس المسائل: ص 211، مسألة: 111، ومختصر الطحاوي: 46، وتحفة الفقهاء: 1/ 496. (3) زيادة من (ك) وحدها. (4) المن: رطلان.

نقص ثلاثة أو خمسة أرطال، فلا بأس. والقول في ذلك من خاصية كتابنا؛ فالأولون يتجاوزون أمثالَه، لا عن تقصيرٍ أو عدم إحاطة، ولكن اعتمدوا أفهام طلبة زمانهم، والآن فأمثال هذا مما لا يستقل به بنو الزمان. والله المستعان. وقد قدمنا في كتاب الطهارة تردّدَ الأصحاب في أن قلتين تقريب (1) أو تحديد، أتينا (2) فيه بالكلام البالغ. ونحن الآن نسلك في ضبط القول في هذا مسلكاً عجيباً بدعاً، إن شاء الله تعالى. فنقول: الصاع قد يحوي نوعاً من الحنطة الحدْرة (3) الرزينة، ولو ردَّ مِلأها إلى الوزن، لكانت مبلغاً، وملؤها من الحنطة [الرخوة] (4) دون المبلغ الأول بكثير، وهذا واضح في التصوير، وذلك يجري في التمر العَلِك (5) والزبيب، جريانه في الحنطة والشعير. 1999 - فنقول بعد ذلك: ما علقه الشارع بالصاع، أو المُد، فهو تقدير وِفاقاً، كالصاع في صدقة الفطر، والمد في الكفارة، والفدية. ثم الذي لا أستريب فيه أن الصاعَ والمُدَّ لا يُعنى بهما ما يحوي البر وغيره، وإنما هو مقدار موزون مضاف إلى صاعٍ، أو مد، والصيعان يبعد ضبط أجوافها على وتيرةٍ حتى لا تتفاوت، وقد تكون متسعة الأسافل متضايقة الأعالي على تخريط، ويعسر تساوي صاعين، ثم تفاوت الأوزان في الأنواع ليس من النادر الذي يتسامح فيه. قلت: وكنت بمكة أرى ملء صاعٍ من الحنطة المجلوبة من سراة (6) المسماة

_ (1) في (ت 1): تقدير. (2) في (ت 1) وأتينا. (3) الحدارة في الحنطة: امتلاء حبها وسمنها (الزاهر/فقرة: 453). (4) في الأصل و (ط) و (ك): الوجوه. (5) يقال: طعام عَلِك أي متين مضغُه. (المعجم). (6) سراة: اسمٌ لأكثر من موضع، منها ما هو في بلاد اليمن، أعلى الجبال الحاجزة بين تهامة ونجد. ولم أجد عند ياقوت ما يشتهر منها بالحنطة، كما لم أجد شيئاً عن الحنطة الحجرية. راجعت معجم البلدان لياقوت، والزاهر، وأنيس الفقهاء، وحلية الفقهاء، وغيرها من المعاجم، فلم أظفر بطائل.

الحجرية، تزن خمسة [أمناء] (1)، وملء ذلك بعينه من الحنطة المصرية أربعة، أو أقل، فإذا اتفق الأئمة على مقدارٍ موزون، دلّ أنهم عَنَوْا بالصاع هذا المقدار، فالصاع في الفطرة خمسة أرطال وثلث، والمُدُّ رطل وثلث، ولا ينبغي للفقيه في هذا المقام أن يلاحظ التساوي المرعي في الربويات؛ فإن بيع الحنطة بالحنطة صاعاً بصاع جائز مع اختلاف الأنواع، وتفاوت الأوزان، وذلك لأن المماثلة التي تُعبدنا بها في الربويات لا ترتبط بتعليلٍ معنوي مستقيم على السَّبْر، فاتّبعنا فيه قول الشارع، وقد قال في سياق حديث الربا: "إلا كيلاً بكيل". والذي يوضّح الحقَّ في ذلك أن ما كان مكيلاً في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز بيع بعضه ببعض وزناً بوزن، وإن كان الوزن فيه أحصر وأضبط، وما اعتيد الوزن فيه لا يستعمل الكيل فيه، فقد انفصل هذا الباب مما نحن فيه. هذا قولنا في الصاع والمدّ. 2000 - فأما الوَسْق، فقد فسره أئمة اللغة أنه ستون صاعاً، ولكن لسنا فيه على تحقق ظاهر، ولا يبعد أنه وِقرٌ مقتصد، فلما لم يكن الوَسْقُ كالصاع الذي أوضحناه، تردد فيه الأئمة: فقال بعضهم: الوَسْق ستون صاعاً والصيعان متقدّرةٌ شرعاً، فكل وَسْق بالوزن مائةٌ وستون منّاً، والخمسة الأوسق ثمانمائة منٍّ، فنحمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوسق على هذا، كما نحمل الصاع في نفسه على المقدار الذي ذكرناه. ومن حمل ذلك على التقريب، فأقرب مسلك فيه أن نتخيل الصيعان من الحب الرزين، أو من التمر العلِك، ثم نعتبر الخفيف من كل نوع، ثم يحمل على الوسط. هذا طرِيق التقريب، ويمكن أن يعبر عنه بأن الأوساق هي الأوقار، والوِقر المقتصد مائة وستون مناً، فكل نقصان لو بُثَّ (2)، وفرق على الخمسة، لم يُقَل: إنها منحطة عن الاعتدال، فهو غير ضائر، وما يُظهر الانحطاطَ، فهو مُنْقِصٌ، ولو أشكل

_ (1) جمع من بدون تشديد، وفي (ت 1): أمننا. (2) (ت 1): بُتَّ، و (ت 2): ثبت.

الأمر، فالأظهر على التقريب، أنه لا يؤثر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علّق باسم الأوسق، ولا يبعد أن يميل الناظر إلى النفي استصحاباً للقلة إلى تحقق الكثرة. فهذا منتهى الإمكان الآن. والعجب ممن يطيب له ذكر ثلاثة أرطال، أو خمسة، وهو لا يدري من أين يقول ما يقول. والله ولي التوفيق بمنه ولطفه. فصل قال: "والخليطان في النخل يصَّدَّقان صدقة الواحد ... إلى آخره" (1). 2001 - وقد ذكرنا في باب الخلطة اختلاف القول في أن الخلطة هل يثبت حكمها في النخيل؟ وحاصل المذهب ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا حكم للخلطة فيها، ولكل مالكٍ حكم ملكه، ولا فرق بين الشركة والجوار. والقول الثاني - أنه تثبت [الخلطتان جميعاً. والثالث - أنه تثبت خلطة الشركة، ولا تثبت خلطة الجوار. ثم فرع الشافعي على أن] (2) خلطة الشركة يثبت حكمها، فقال: "لو خلّف ميت نخيلاً مثمرة بين ورثة، فبدا الصلاح في ملكهم، فكانت الثمار خمسة أوسق، إذا صارت تمراً؛ فيجب العشر، فلو اقتسموا النخيل في البستان، قبل بدو الصلاح، وكان لا يبلغ نصيب الواحد خمسة أوسق، فالنخيل متجاورة، وقد زالت الشركة بالقسمة (3)." فإن قلنا: خلطة الجوار كخلطة الشركة، فحكم الزكاة قائم، كما كان قبل القسمة، وإن قلنا: لا تثبت خلطة الجوار، فلا عشر على واحد منهم؛ إذ نصيبه ناقص [عن النصاب] (4).

_ (1) ر. المختصر: 1/ 223. (2) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (3) ر. المختصر: 1/ 223، 224 بمعناه. (4) في الأصل و (ط) و (ك) و (ت 2): عنهم. والمثبت من (ت 1) وحدها.

2002 - اعترض المزني وقال: كيف تصح القسمة في الثمار، والقسمةُ بيعٌ، وبيع الرطب بالرطب باطل، فقال الأصحاب: قال الشافعي في الكبير: لو اقتسموا قسمة صحيحةً، فنبّه على ما ذكرتُه، وغرضه أن يتفاصلا، وتصوير ذلك بوجه من المقابلة ممكن من وجوه: منها أن الورثة اثنان زيد وعمرو وبينهما نخلتان شرقية وغربية، ولكل واحد منهما النصف من أصل كل نخلة وثمرتها، فيبيع زيد نصيبه من النخلة الشرقية، من عمرو أصلها وثمرتها بعشرة، ويبيع عمرو نصيبه من أصل النخلة الغربية وثمرتها، من زيد بعشرة، ثم يتقاصَّان العشرة بالعشرة، فتخلص الشرقية لعمرو، والغربية لزيد. فهذا وجه في التفاصل. ووجهٌ آخر، وهو أن يقول زيد لعمرو: بعت منك نصيبي من أصل النخلة الشرقية، بنصيبك من ثمرة النخلة الغربية، ويقول عمرو لزيد بعت منك نصيبي من أصل النخلة الغربية بنصيبك من ثمرة النخلة الشرقية، فإذا قبلا، خلصت الشرقية لأحدهما بثمرها، وخلصت الغربية للثاني، ولا ربا؛ لأن الجذع من كل نخلة هو المجعول عوضاً للنصيب من الثمرة. وهذا القدر كاف في التصوير. والصيدلاني لما ذكر الوجه الثاني، قال: هذا مما لم يذكره الشيخ (1)، فقضَّيتُ العجب من هذا، فأين يقع التصوير من معاصات الفقه، حتى ينتهي التأنق (2) إلى

_ (1) لم يبين إمام الحرمين المقصود بالشيخ هنا، وهو لقب مشترك أعيانا تتبعه لنعرف من المقصود به، حتى ترجح لدينا، بل تيقّنا أنه عند إطلاقه يريد به الشيخ أبا علي السنجي، ولكن هل يمكن هنا، في هذا الموضع، وهو يجريه على لسان الصيدلاني أن يراد به السنجي أيضاًً؟؟ احتمالٌ قائم ولكن يعكر عليه أن الصيدلاني معاصر للسنجي، فقد توفي الأول سنة 427 هـ والثاني سنة 430 هـ. وغير معهود حكاية أقوال المعاصرين، ونقلها، إلا نادراً!! فهل الصيدلاني يقصد بالشيخ أستاذه أبا بكر القفال المروزي؟ فقد علق على المزني شرحاً يسمى عند الخراسانيين بطريقة الصيدلاني، وقد حررها عن شيخه القفال المروزي، كذا قال السبكي (طبقات الشافعية: 4/ 148، 149). ثم قول إمام الحرمين في السطور التالية، "وكأن الطبقة المتقدمة ... " يشهد بأن (الشيخ) الذي يقصده الصيدلاني ليس من طبقته، بل هو متقدم عليه بيقين، كذلك قوله: "قَطْع الأستاذ"، فهو يعجب من نقد الصيدلاني لأستاذه، لعدم تصوير المسألة. فنستطيع أن نقطع الآن بأن المقصود بالشيخ هو القفال. (2) التأنق: طلب الأعجب، والأكمل. (معجم).

قَطْع (1) الأستاذ في تصوير، وكأن الطبقة المتقدمة فرغوا من معاصات الفقه، وأخذوا يستفرغون بعدها جُمام (2) الكلام في التصويرات. نسأل الله تعالى حسنَ الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا. وهو ولي التوفيق (3). فصل 2003 - الأوسق التي ذكرناها تُعتبر في الزبيب والتمر، لا في العنب والرطب، إلا أن يكون الثمر بحيث لا يجفف، ولو جفف، يفسد، ففيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى، ثم الأوسق معتبرة في الحبوب الزكاتية لا محالة، فلو كانت على الحبوب قشور، فالمعتبر فيها أن الحبوب إن كانت بحيث تطحن مع ما عليها من قشر، كالذرةِ، فهي توسق مع قشورها، وإن كانت لا تطحن مع القشور، لم توسق مع القشور، كالبر وما أشبهه. فصل قال الشافعي: "وثمر النخيل يختلف، فثمر النخيل يُجدّ بتِهامة، وهي بنجدٍ بُسرٌ وبلح ... إلى آخره" (4). 2004 - مضمون هذا الفصل يتعلق بتكميل النصاب، وضم ثمرة نخلة إلى ثمرة نخلة. ْفنقول: أولاً - إذا كان للرجل نخلة تثمر في السنة مرتين: كانت تُثمر وتُجدّ، ثم

_ (1) قطع فلاناً بالحجة، غلبه وأسكته. (معجم)، والمعنى: كيف يصل الأمر في طلب الأكمل إلى المؤاخذة على تصوير المسألة وهل فرغت الطبقة المتقدّمة من مشكلات الفقه، وغوامضه، حتى يؤاخذوا على التصوير. (2) جُمام: جُمام الإناء ملؤه، والمراد هنا تمامُ الكلام، وكلُّه. وفي (ت 1): جملة الكلام. (3) هذا الدعاء يؤكد أن الصيدلاني يقصد (بالشيخ) متقدماً عليه، وليس السنجي. (4) ر. المختصر 1/ 224.

تُطْلِع، وتثمر، وتُجَدّ، فقد قطع الشافعي، واتفق الأصحاب على أنه لا يضم الحَمْل الثاني إلى الحَمل الأول، حتى لو كان كلُّ حَمْلٍ ناقصاً عن النصاب، وكانا نصاباً، فلا عشر، والحَمْلان في السنة الواحدة كالحَمْلين في سنتين إجماعاً. 2005 - ثم إذا تمهد هذا قلنا: نخيل تِهامة أسرع إدراكاً من نخيل نجد، فإذا أطلعت نخيل الرجل بتهامة، ثم أطلعت نخيله بنجد، فقد يضم ثمار نجد إلى ثمار تِهامة، وقد لا يضم. ونحن نذكر الوفاق في طرفي النفي والإثبات، ونذكر موضع الخلاف. فنقول: إن أطلعت نخيلُ تهامة، ثم أطلعت نخيل نجد قبل بدوّ الزهو والصلاح، في ثمار تهامة، فلا خلاف أنا نضم ثمارَ نجدٍ إلى ثمار تهامة، في تكميل النصاب. ولو [جُدّت] (1) ثمارُ تهامة، ثم (2) أطلعت النجديّات، فلا خلاف أنا لا نضم، ثم نفرد ثمرةَ كل ناحية بحكمها. ولو بدا الصلاح في التهاميّات، ولم تُجَدّ بَعْدُ، فأطلعت النجديات، فقد اختلف أئمتنا، فمنهم من يرى الضمَّ، وهو الذي قطع به الصيدلاني، ومنهم من لا يضم؛ فإن النجديات أثمرت بعد وجوب الزكاة في الثمار التهامية؛ إذ الزكاة تجب ببدوّ الصلاح، كما سنصفه إن شاء الله تعالى، فإذا تلاحقت قبل الوجوب، تضامَّت، وإذا وجد آخرها بعد وجوب الزكاة في أولها، فلا ضم وهذا اختاره بعض المصنفين، وزعم أنه المذهب. فإذاً اعتبر بعض الأئمة الزهوَ، واعتبر بعضهم الجِداد، ووجهه أن الثمرة ما دامت على الشجرة، فله حكم التلاحق في العادة، والأحكام تتبع العادات فيما يتعلق [بالمعاملات] (3). ثم الذين اعتبروا الجداد، اختلفت عبارتهم، والمحصَّل منها وجهان: أحدهما -

_ (1) في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك): وجدت. والمثبت من (ت 1). (2) هنا خلل في ترتيب أوراق نسخة (ك). حيث انتقل الكلام متصلاً من نهاية ص 74 إلى أول ص 112. (3) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): العادات. والمثبت من (ت 1) وحدها.

أن الاعتبار بوقوع الجداد، فإن لم يقع، فالثمار النجدية المطلقة (1) تلحق، والثاني - أن الاعتبار بدخول وقت الجداد، فلا ضم ولا إلحاق بعده، وإن تركت الثمار على الأشجار أياماً، فهي في ترك الضم كالمجدودة. 2006 - ثم تمام البيان فيه أنه قد يدخل وقت الجداد، بحيث لو فرض، لم يكن بعيداً، وإن كان تركه أياماً أَوْلى بها، فمن (2) يعتبر وقت الجداد لا عينَه، فالأمر فيه متردد عندي بين أول الوقت في الجداد وبين أوْلى الوقت فيه. ولعل النهاية التي هي الأولى أحق بالاعتبار، حتى تصير الثمار كأنها مجدودة. والله أعلم. 2007 - ثم فرع الشافعي مسألة وقال: إذا كانت له تِهاميّة تثمر في السنة مرتين، فلو أطلعت نجدية قبل جداد الثمرة الأولى، والتفريع على اعتبار الجداد، فثمرة النجدية مضمومة إلى الثمرة الأولى التهامية. فإذا [جُدّت] (3) التهامية، وبقيت ثمار النجدية، ولم تجد، حتى أطلعت تلك التهامية مرة أخرى، قال الشافعي: لا أضم الثمرة الثانية إلى ثمار النجدية، وعلل بأنه لو ضمها إلى ثمرة النجدية، (4 وهي مضمومة إلى الحَمل الأول للتهامية، فيلزم من ذلك ضمُّ الثمرة الثانية إلى التهامية الأولى منها بواسطة النجدية 4)، وذلك ممتنع لا سبيل إليه عنده. وبمثله لو [جُدّت] (5) التهامية في حَملها الأول، ثم أطلعت بعدها نجديّة، فلا تضم إلى الحَمل الأول للتهامية، فلو أطلعت التهامية مرة أخرى، والنجدية لم تجد بعدُ، فالحمل الثاني من التهامية مضمومة إلى ثمار النجدية، على قياس الضم؛ إذ ليس [في هذا الضم] (6)

_ (1) (ت 2): المطلعة. (2) (ت 2): فهل. (3) في الأصل، (ط)، و (ك): وجدت. (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (5) في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك): وجدت. (6) في الأصل و (ط) ليس للضم، وفي (ت 2): ليس في الضم، وفي (ك) ليس الضم. والمثبت عبارة (ت 2).

ما استبدعناه (1) في المسألة الأولى، من ضم حَمْل شجرة إلى حملها. وهذا بيّن. فصل قال الشافعي: "ويُترك لصاحب البستان جيّدُ الثمر ... إلى آخره" (2). 2008 - إذا اشتمل البستان على أنواع محصورة من الثمار، وكان الأخذ من كل نوع بقسطه متيسراً، فإنا نفعل هذا؛ فإن التبعيض فيها لا يجرّ ضرراً. وليس كما إذا تعددت أنواع الماشية، مع اتحاد الجنس؛ فإنّ القول اختلف فيها، ففي قولٍ نعتبر الأغلب، وفي قولٍ نعتبر قيمَ الأنواع ونقسطها، ونأخذ ما يتوزع من قيمتها، ونصرفه إلى نوعٍ. والتشقيصُ على كل قولٍ في الحيوان مجتنب، ولا تعذّر في تشقيص الثمار؛ فإنها قابلة للتجزئة. فأما إذ كثرت الأنواع، وعسر تتبعُ كل نوع، وإخراج العشر من كل واحد، فقد اتفق الأئمة على أنا نعتبر الوسط، فنترك الجيد البالغ من البَرْنيِّ (3) والكَبيس، ولا نأخذ الرديء كالجُعْرور (4) ونحوه، فنرتاد نوعاً وسطاً بين الجيد والرديء، والغرض في الحيوان والمعشرات توفيةُ الوسط على أيسر وجه على المستحقين. ...

_ (1) كذا في جميع النسخ، فهل هي: "استبعدناه"؟ وقد نقل النووي عبارة إمام الحرمين هذه في المجموع بتصرف، فقال: "لأنه لا يلزم من هذا الضم المحذور الذي ذكرناه" (ر. المجموع: 5/ 460). (2) ر. المختصر: 1/ 225. (3) البَرْني: نوعٌ من أجود التمر. وهو فارسي معناه حَمْل مبارك: بَرْ = حِمل، ني = جيد. (ر. المصباح). والكبيس من أجود التمر أيضاًً. (4) جعرور وزان عصفور: نوع رديء من التمر (المصباح). والنهي عن أخذ الجعرور ورد في حديث أبي أمامة بن سهل عن أبيه عند أبي داود: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُعرُورِ ولونِ الحُبَيْقِ أن يؤخذا في الصدقة" قال الزُّهري: لونين من تمر المدينة. (ر. أبو داود: الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، ح 1607).

باب كيف تؤخذ صدقة النخل والكرم والخرص

باب كيف تؤخذ صدقة النخل والكرم والخَرْص 2009 - أولاً - نصدّر الباب بأن الخرص ثابتٌ شرعاً، وقد خرص عبدُ الله بنُ رواحة نخيل خيبر على أهل خيبر، في قصة مشهورة (1)، وكيفية الخرص أن يأتي الخبير بأقدار الثمار، وما تصير إليه إذا جفت الأشجار، ويحزر قدرَ كلِّ نوع على الأشجار، ثم يستبين أن كل نوع إذا جف، فإلى أي مقدار يرجع، ثم يضبط المبلغ ويخبر عنه، فهذا صورة الخرص. ثم اختلف القول في أن الخارص الواحد يكفي أم لا بد من خارصين؟ كما اختلف القول في القاسم، وسأجمع في ذلك قولاً شافياً، أذكر فيه مواقع الوفاق والخلاف، فيما يُشترط العدد فيه، وفيما يكتفى فيه بالواحد، في كتاب الشهادات، إن شاء الله تعالى. 2010 - فإذا ثبت أصلُ الخرص، فالذي نرتبه عليه بيانُ القول في أن العُشر متى يجب في الثمار والزروع؟ فالذي ذهب إليه الأئمة، وشهدت به النصوص أن حق المساكين يتعلق بالثمار إذا بدا الصلاحُ فيها، كما سنصفُ (2 معنى بدو الصلاح في كتاب البيع -إن شاء الله تعالى- وبدو الاشتداد في الحب بمثابة 2) بدو الصلاح في الثمار، وتمام الاشتداد في الحب، ليس شرطاً، كما أن تمام الصلاح غيرُ مرعي في الثمار. ثم إذا وجب حق المساكين، فيجب حقُّهم تمراً وزبيباً، وحباً مشتداً منقًّى، ولا خلاف أن الخطاب بالتأدية لا يتوجه قبل انتهاء مدة المعشَّرات نهاياتِها، التي يتأتى تأدية العشر كما وصفناه منها.

_ (1) حديث خرص عبد الله بن رواحة، رواه أبو داود، والدارقطني عن عائشة (ر. أبو داود: الزكاة، باب متى يخرص التمر، ح 1606، والبيوع، باب في الخرص، ح 3413، والدارقطني: 2/ 134، والثلخيص: 2/ 171 ح 848). (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

فهذا حكم الوجوب من غير إيجاب التأدية، وإن كان تأدية الثمر وما في معناه ممكناً، باعتبار الخرص. 2011 - وذكر صاحب التقريب قولاً غريباً في كتابه: أن حق المساكين إنما يجب عند جفاف التمر والزبيب، وتمييز الحب، وزعم هذا القائل أن وجوب الزكاة في وقت وجوب تأديتها، لا يتقدم الوجوب على الأمر بالأداء. وهذا شبيه بالقول الذي حكيناه في أن الإمكان من شرائط الوجوب، ولعل ما ذكره أقرب في ظاهر النظر من قول الإمكان؛ فإن الواجب التمرُ، وإيجاب التمر قبل وجوده أبعد من الحكم بوجوب زكاة المواشي والنقود في الذمة، مع ارتقاب من يسلّم إليه. وهذا الذي نقله بعيد (1) غير معدود من المذهب عندي. 2012 - ومن أجرى الأبواب كلَّها على قياسٍ، ولا (2) يُجوِّز أن يتميز كل باب بخاصية، فليس مِن طلب الحقيقة في شيء، فليعلم الناظر أن الثمار يخلقها الله تعالى على تدريج، وفيها منتفع عظيم قبل الجِداد والتجفيف؛ فإن الانتفاع بالأعناب، والأرطاب، لا ينقص عن الانتفاع بالتمور والزبيب، وأصل الوضع مشعر بأن الله تعالى إذا أفاد الموسر ثمرةً، وانتهت إلى الانتفاع، فيلزمه أن ينفع المساكين، فهذه القضية تقتضي لا محالة ثبوتَ حق المساكين (3) عند بدو الصلاح، ولكن لو كلفنا أربابَ الأشجار إخراجَ العشر، لعسر عليهم، فقد يريدون (4) أن يجففوا، وحقوق المساكين (5) لا تنقص بالتجفيف قدره (6)، بل تزيد؛ فأوجب الشرع حقَّ المساكين،

_ (1) (ت 2) غير بعيد معدود. (2) (ت 1): ولم يجوّز. (3) عادت نسخة (ك) إلى حيث تسلسلها الأول. فبعد أن قفزت من ص 74 إلى 112، 113، عادت إلى ص 75. (4) كذا. ويمكن أن تكون: "تقدير بدون أن يجففوا ... ". مكان قوله: "فقد يريدون أن يُجففوا". والله أعلم. (5) (ت 1): قد تنتقص. (6) كذا في النسخ الخمس. والمعنى: "لا ينقص قدرُ حقوق المساكين" وهو مفهوم من السياق. ولكن في العبارة خللاً، لعل صوابه: لا ينقص بالتجفيف (قدرها). والله أعلم.

وأخر -لما ذكرناه- التأدية، ثم ألزم [رب] (1) النخيل أن يقوم بمؤنة الجداد والتجفيف في [حصة] (2) المساكين، كما يفعله بحصته، وليس هذا كالإمكان الذي أشرنا إليه؛ فإنه قد يتفق الإمكان مع الوجوب، فإن اتفق تأخّره، ففي الذمة متسع. وليس بدعاً أن يثبت الوجوب مع عسر الأداء، كما في الديون. 2013 - ونحن الآن نذكر آثار الوجوب عند بدو الصلاح، فنقول: من اشترى الأشجار والثمار قبل بدو الصلاح، ولزم له الشراء، ثم بدا الصلاح، فقد تعلّق حق المساكين، فلو رام ردّه بعيب قديم، فهو كما لو اشترى أربعين من الغنم، وحال عليها الحول، ووجبت الزكاة، ثم اطلع على عيب قديم. وقد بان تفريع مثل هذا عند ذكرنا الأقوالَ في متعلق الزكاة في الذمة والعين، وكذلك لو بدا الصلاح، ثم أراد بيعَ الثمار، فهذا بيعُ مالٍ تعلق به حقُّ المساكين، ثم القول في تغليب الذمة والعين [وتخريج] (3) البيع في قدر الزكاة وتفريق الصفقة وراءه على ما مضى، حرفاً حرفاً. 2014 - ومما يجب أن يكون على ذُكر من الناظر في ذلك أن الأوقات التي تجري من بدو الثمرة إلى بدو الزهو، ليست في حكم الحول الذي ينقضي على الأموال الزكاتيه، حتى يقال: من لم يكن ابتداء بدو الثمار في ملكه، وكان ابتداء الزهو في ملكه، لا تلزمه الزكاة، بل لو ملك المالك بجهةٍ من الجهات الثمارَ في أيامٍ قليلة، [وبدا] (4) الزهو، وجبت الزكاة، فبَدْوُ الزهو في حكم استهلال هلال شوال في وجوب فطرة العبيد (5). 2015 - ثم قال الأئمة: إذا أوصى بثمارٍ، ومات، فقبل الموصَى له، ثم أزهت، فالعشر على الموصَى له، وإن كان وُجد الزهو في حياة الموصي، فالعشر واجب عليه، يؤدَّى من تركته.

_ (1) في الأصل، (ط)، (ت 1)، (ك): لرب. والمثبت من (ت 2). (2) في الأصل، (ط)، (ك): رخصة. والمثبت من (ت 1)، (ت 2). (3) في الأصل، (ط)، (ك): ويخرج. (4) في الأصل، (ط)، (ت 1)، (ك): وبدو. والمثبت من (ت 2). (5) في (ت 2): العيد. وهو تصحيف، فالمعنى أن زكاة فطرة العبد تلزم مالكه باستهلال هلال شوال وهو في ملكه، حتى ولو كان تمكله قبل ذلك بيوم واحد.

وإن بدا الزهو بعد موته، وقبل قبول الوصية، فهذا يخرج على أن الملك في الموصَى به، بين موت الموصي وقبول الموصى له لمن؟ وفيه خلاف سيأتي في موضعه. فإن قلنا: الملك في ذلك الزمان للموصى له، نظر: فإن قبل الوصية، فقد تأكد الملك، فالعشر واجب عليه، وإن رد، فقد زال ملكُه بعد ثبوته، ففي وجوب العشر عليه وجهان، وسنذكر نظيرهما في صدقة فطرة العبد الموصى به في فروع ابن الحداد، وإنما لا أستقصيه لأنه بين أيدينا (1). وإن قلنا: الملك موقوف، فإن قبل، بان أنه حصل بموت الموصي، فعلى هذا يلزمه العشر، وإن ردّ، بان أنه لم يحصل بالموت له ملك، فيرد. فعلى هذا لا يلزمه، ويلزم الورثةَ. وإن قلنا: الملك بين الموت والقبول للورثة، فهو ملك ضعيف، فإن رد الموصى له، لزم الورثةَ العشرُ، وإن قبل، فوجهان: أحدهما - يلزمهم؛ لمكان وقوع الزهو في ملكهم. والثاني - لا يلزمهم؛ فإن الملك الذي أضيف إليهم ملكُ تقدير، لا يفيد ارتفاقاً وانتفاعاً، فلا يوجب إرفاقاً. وإن قلنا: الملك للميت إلى قبول الموصَى له، فلا زكاة؛ فإن إيجاب الزكاة ابتداءً على الميت محال، وإذا لم نوجب على الموصَى له والورثة، أسقطنا العشر رأساً. وسنعود إلى ذلك في مسألة الوصية بالعبد، وجريان الاستهلاك (2) بعد الموت. ونذكر -إن شاء الله تعالى- الخيارَ في البيع، والتفريع على أقوال الملك، والقول في عُشر الثمار عند الزهو، وفي زكاة الفطر على وتيرة واحدة. فهذا بيان القول في وقت وجوب العشر.

_ (1) أي سيأتي. (2) في (ت 1)، (ت 2): الاستهلال. والمراد بالاستهلاك: استهلاك الثمار موضع الزكاة.

ثم وراء ما ذكرناه دقيقةٌ، بها ينكشف الغطاء، وسيأتي بابٌ في الزكاة في الأملاك في زمان الخيار، وما يجري فيها من زهو وغيره، وفيه نستقصي هذا إن شاء الله عز وجل. 2016 - فنقول إذا جرى الخرص، فقد اختلف قول الشافعي في أن الخرص هل يُثبت حكماً لا يَثبت دونه؟ فقال في أحد القولين: لا حكم له، إلا أنا نضبط المقدار، ونطلبُ العشرَ في أوانه بحسبه. والقول الثاني - أنا نُثبت حكماً على ما سنصفه، فنقول: الخارص يُضمِّن المالكَ حصةَ المساكين تمراً، ويُطلق تصرفَ المالك في جميع الثمار بما بدا له، وينقلب حق المساكين إلى ذمته. وفي القول الأول لا يتغير بالخرص في ذلك حكم، وحكم تصرف المالك في الثمار، كما سنوضحه الآن. وعبّر الأئمة عن القولين بأن قالوا: الخرص في قولٍ عِبرة (1): أي يفيد الاطلاع على المقدار ظناً وحسباناً، ولا يغيّر حكماً، وفي قول هو تضمين، أي يضمَّن المالك حق المساكين، ويُطلَق تصرفُه في الثمار. فإن قلنا: الخرص عِبرةٌ، فربُّ الثمار يتصرف في تسعة الأعشار، ولا يتصرف في العشر، الذي هو حق المساكين. 2017 - وهاهنا وقفةٌ طال فيها نظرنا، فليأخذ الناظرُ المقصودَ عفواً صفواً، فرب ساع لقاعد. فنقول: أما إذا وجبت الزكاة في المواشي أو غيرِها، ففي قول الذمة يتصرف في الجميع، كما مضى، وفي قول العين لا يتصرف في مقدار الزكاة، فإن تصرف في الجميع، ففيه التفريق والقول الطويل كما مضى، ولو أبقى مقدار الزكاة، وتصرف في الباقي على منعنا التصرفَ في مقدار الزكاة، ففي نفوذ تصرفه فيما يزيد على مقدار

_ (1) عبرة أي تقدير، من عبرت الدراهم واعتبرتها، إذا اختبرتها، وقدّرتُها، وعرفتُ قيمتها. (المصباح).

الزكاة كلامٌ وخلافٌ ألحقته بالحاشية (1) فيما تقدم، والعشر عندنا يتعلق [بالمعشَّر] (2) على حسب تعلّق الزكاة بالنُّصُب، من غير فرق، فما معنى قطع الأصحاب بالتصرف في تسعة أعشار الرطب والعنب؟. والغرض يَبينُ في ذلك بذكر ثلاثة منازل: إحداها - إذا وجبت الزكاة، وتحقق الإمكان، فأرادَ التصرف في بعض المال، على قولنا: يُرَدُّ تصرُّفُهُ في مقدار الزكاة، وقد ذكرنا فيه خلافاً. ووجه المنع شيوع واجب الزكاة في الجميع. [المرتبة الثانية] (3) - ولو حال الحول، ولم يتمكن (4) المالك من تأدية الزكاة، وقلنا بوجوبها، فالتصرف -على المنع- في مقدار الزكاة مردود، وفي الباقي خلاف، فالأولى تنفيذه إذا أبقى مقدارَ الزكاة؛ فإنه غير منسوب إلى التقصير في التأخير، فلو سددنا عليه التصرف فيما يزيد على قدر الزكاة؛ لكان ذلك حجراً مضراً. فهذه المرتبة الثانية. والمرتبة الثالثة - الحكم في الثمار بعد الزهو، على قول العِبْرة، فالذي رأيته للأئمة القطع بنفوذ التصرف في الزائد على قدر الزكاة؛ فإن المنع من التصرف في الثمار بالكلية خروجٌ عن الإجماع، وهو خلاف ما درج عليه السلف، وفيه منع الناس من أكل الرطب والعنب؛ فإن تأدية الزكاة لا تقع إلا من التمر والزبيب، وفيه طرف من المعنى وهو أن مالك الثمار ملتزم مؤنة تربية الثمار إلى جفافها، وهو في ذلك يُرَبِّي حقَّ المساكين، فقوبلت هذه المؤنة بإطلاق تصرفه في التسعة الأعشار، فهذا إذن مقطوع به كما ذكرناه. 2018 - ونعود بعد ذلك إلى تفريع القولين في أن الخرص عِبْرة، أو تضمين؟ فأما

_ (1) لست أدري أي حاشية يعني!! فهل يريد فضول الكلام في التفريعات المتقدمة، أم يقصد الحاشية بمصطلحنا المعاصر (هامش الكتاب)؛ فإن كان كذلك، فلم نجد شيئاً بهامش أية نسخة. (2) في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك): العشر. والمثبت من (ت 1). (3) زيادة من عمل المحقق. (4) (ت 1): وتمكن.

حكم التصرف على قولنا إنه تضمين؛ فإنه يتفرع على أصلٍ نذكره مقصوداً، ثم نفرع عليه التصرف، فإن قلنا: الخرص تضمين، فلو حصل التضمين كما سنذكره؛ فإن فيه تفصيلاً، فلو تلفت الثمار بعد بدو الصلاح وجريان التضمين، فإن أتلفها هو بنفسه، فعليه للمساكين عشرها تمراً؛ فإنه قد ضمن حقَّهم. وإن قلنا: الخرص عبرة، (1 فإن أتلف الرطب، لم يضمن إلا يضمنه متلفُ الرطب على غيره 1)، فليلتزم قيمةَ العُشر لما أتلفه؛ فإنه لم (2) يضمن للمساكين حقهم تمراً. فهذا إذا أتلف وقد جرى الخرص، فأما إذا دخل وقت الخرص، ولم يتفق بعدُ جريانه، فلو أتلف رب الثمار الثمارَ، فإن قلنا: الخرص لو جرى، لكان عبرة، فالجواب كما تقدم. وإن قلنا: الخرص تضمين لو جرى، فإذا أتلف الثمر قبل الخرص، ففيما يلزمه وجهان مشهوران: أحدهما - يلزمه قيمة العشر رطباً، كما أتلفه؛ فإن التضمين لم يجر بعدُ بالخرص. والثاني - يضمن التمرَ؛ فإن العشر قد وجب، ولا يجب العشر إلا تمراً، فيما يقبل التجفيف. وحقيقة هذا ترجع إلى أن الشرع يُلزم التمرَ الجاف، والخرصُ يُظهر مقداره، فأما أن يتضمن الخرص بنفسه إلزاماً لا يقتضيه نفسُ بدو الصلاح، فلا. وهذا حسن في التوجيه. فإذا قلنا: الخرص عِبْرة، فلو جرى التضمين من الخارص صريحاً، والضمان من صاحب الثمار قبولاً، فهو لغو على قول العبرة، ولو أتلف الثمارَ، لم يلتزم إلا قيمة عشر ما أتلف. 2019 - ومما يتعلق بإتمام القول في ذلك أن من أئمتنا من قال: الخرص يتضمن التضمين إذا جرى ذكر ضمان (3 التمر صريحاً، بأن يقول الخارص: ألزمتك حصة المساكين تمراً جافاً، فإن جرى الخرص المجرد من غير ذكر ضمان 3)،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) سقطت من (ت 2). (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

فلا يلزمه عند صدور الإتلاف منه إلا قيمةُ ما أتلف. فإذا جمعنا ما قيل في التضمين إلى قول العبرة، انتظم منه أقوال في أنه إذا أتلف الثمار ماذا يلزمه؟ أحدها - أنه يلتزم التمر، وإن لم يجر خرص، إذا كان الإتلاف بعد بدو الصلاح، مصيراً إلى إلزام الشرع. والثاني - أنه يلتزم التمر (1 إن جرى الخرص، مطلقاً كان، أو مقيداً، ولا يلتزم إلا قيمة ما أتلف إذا لم يجر خرص. والثالث - أنه يضمن التمر 1) إذا جرى ذكر التضمين. وإن لم يجر ذكره، فأتلف لم يلتزم إلا قيمةَ ما أتلف. 2020 - ثم الذي أراه أنه يكفي تضمين الخارص، ولا يشترط قبول المخروص عليه. فإن فرعنا على قول العبرة، فلا يلتزم إلا قيمةَ ما أتلف، ولو جرى التضمين والقبول مثلاً. فهذا بيان الحكم في الإتلاف. ولا يخفى أن الإتلاف قبل بدو الصلاح لا حكم له؛ فإنه قبل وجوب حق المساكين، فهو بمثابة إتلاف مال الزكاة قبل حولان الحول. وكل ما ذكرناه مفروض في الإتلاف. 2021 - فأما إذا تلفت الثمار بآفة سماوية، قبل أوان الجداد، فينبغي أن يعلم الناظر أنا إذا فرعنا على قول العبرة، فلا يخفى القطع بسقوط حق المساكين؛ فإنه تلف حقُّهم، وفات بفوات الثمار، من غير تقصير من المالك، فكان هذا بمثابة تلف مال الزكاة بعد الحول، وقبل الإمكان. وإن قلنا: الخرص تضمين، فالذي أراه أن يسقط الضمان بالتلف؛ فإنه ضمان على شرط ألا تكون جائحة، ولو قيل: تسليطه على التصرف في حق المساكين يُلزمه

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

الضمان وإن تلف، وكأنه قبض حقهم، وألزم ذمته التمرَ إلزامَ قرار -والعلم عند الله تعالى- فهذا (1) احتمال معنوي. والذي قطع به الأصحاب سقوطُ الضمان بالجائحة. فهذا بيان حكم التلف والإتلاف. 2022 - فأما التصرف، فعلى قول العبرة يتصرف فيما يزيد على حقوق المساكين، كما تقدم ذكره، وفي تصرفه في مقدار حق المساكين من التفصيل ما في تصرف مالك المال الزكاتي في حق المساكين، بعد وجوب الزكاة. وإن قلنا: الخرص تضمين، فحيث ثبت ضمان التمر، على ما تقدم تفصيله، نفذ تصرفه في حق المساكين. وحيث قلنا: لا يثبت الضمان، فتصرفه في حق المساكين كتصرفه على قول العبرة. فهذا تمام ما أردناه في ذلك. 2023 - ثم ذكر صاحب التقريب في التفريع على وجه حكاه وجهاً بعيداً، لم أذكره؛ حتى لا يختلط بالمذهب ونظمه، وأنا أذكره الآن. فإذا جرى الخرصُ، ولم يجر ذكرُ الضمان، فقد قال بعض الأصحاب: لا ضمان بمجرد الخرص، فإذا أتلف في هذه الحالة الثمارَ، والتفريع على هذا الوجه الذي انتهينا إليه، فالمذهب أنه يلتزم قيمة ما أتلف. وذكر وجهاً آخر هاهنا، أنه يضمن أكثر الأمرين من مكيلته تمراً جافاً، أو قيمةِ العشر كما (2) أتلفه. وهذا غريب لا أصل له، فليسقط. وبالجملة إذا لم يثبت الضمان على قول التضمين، التحق التفريع بقول العبرة. فرع: 2024 - إذا كان بين رجلين رطب مشترك على النخيل، فخرص أحدهما على الثاني، وألزم ذمتَه حصةَ نفسه تمراً جافاً، فقد قال صاحب التقريب: يتصرف المخروص عليه في الجميع، ويلتزم لصاحب التمر، على قولنا: الخرص تضمين، كما يتصرف في نصيب المساكين بالخرص.

_ (1) جواب: ولو قيل. (2) "كما": بمعنى "عندما".

وإن قلنا الخرص عبرة، فلا أثر للخرص في حق الشركاء. وهذا الذي ذكره بعيد جداً في حق الشركاء، وما يجري في حق المساكين، لا يقاس به تصرف الشركاء في أملاكهم المحققة؛ فإن المذاهب على التردد، في أن المساكين هل يستحقون من عين الثمار، ولا شك أن المالك مطالب بحقهم، وحقوق الشركاء في أعيان الثمار لا مطالبة لأحد على أحد. ثم إن ثبت ما قاله صاحب التقريب، فمستنده عندي خرصُ عبدِ الله بنِ رواحة على اليهود؛ فإنه ألزمهم التمرَ، وكان ذلك الإلزام في حقوق الملاك والغانمين. والله أعلم. والذي لا بد منه في مذهب صاحب التقريب في ذلك، أن الخرص في حقوق المساكين يكفي فيه إلزام الخارص، ولا يشترط رضا المخروص عليه، فأما في حق الشركاء، فلا بد من رضا المخروص عليه لا محالة. فرع: 2025 - سنذكر في كتاب المساقاة اختلاف القول في أن الخرص هل يجري في سائر الثمار؟ وفائدة الخلاف جوازُ المساقاة، أو منعها فيما عدا النخل والكرم، فأما أمر الزكاة، فلا حاجة إلى الخرص في غير النخيل والكروم من الأشجار؛ إذ لا عشر إلا في النخل والكرم، كما سيأتي، ورأيت الأصحاب قاطعين بأن الخرص لا يجري في الزروع أصلاً؛ فإن الحبوب لا يضبطها الخرص، فلا خرصَ، وإن جرى، فلا حكم له أصلاً. فصل 2026 - إذا ادّعى أصحاب الثمار جائحة، وسبباً في ضياع الثمار، فإن كان ما ادَّعَوْه ممكناً غيرَ بعيد، مثل أن يدّعوا اختلال الثمار ببَرَدٍ، ولقد كان البرد وأثره يختلف في الأشجار، اختلافاً متفاوتاً، فإذا ادَّعى صاحب ثمرة أثراً، فما قاله محتمل، وهو مصدق فيه، وإن اتّهم، حُلِّف. وإن ادعى شيئاً يكذبه المشاهدة، مثل أن يدّعي حريقاً، ونحن نعلم أنه لم يقع، فهو مكذَّب.

وإن ادعى أمراً مثله يشيع، ولا يخفى، وقد يفرض خفاؤه على بعد، فالذي ذكره العراقيون أنه لا يقبل قوله، ويطالب بالبينة، وطردوا هذا في الوديعة، فقالوا: إن ادعى المودعَ سبباً في الضياع يشيع مثلُه غالباً، طولب بالبينة، فإن لم يأت بها، لم يحلّف. وقد دل ظاهر كلام الصيدلاني عليه. والذي قطع به شيخي أن كل مؤتمن ادعى شيئاً محتملاً، وإن كان بعيداً، فهو مصدّق مع [يمينه] (1)، وإنما يردّ قوله إذا قطعت بكذبه، وهذا قياس ظاهر؛ فإن المودعَ إذا ادعى ردَّ الوديعة، فالأصل عدم الرد، ولكنه مصدق على (2) يمينه، فيكفي في تصديقه الإمكانُ، وإن بَعُد. فالأمر في تلف الثمار على هذه التقاسيم. ثم من يطلب البينة فيما يظهر غالباً، لا يشترط إقامة البينة في تأثير الحريق الذي ادعاه في ثماره، بل إذا أثبت الأصل بالبينة، صار اختلال ثمرته ممكناً غيرَ بعيد، فيحلف الآن على ما يدعيه من النقصان. 2027 - ثم ذكر الشافعي في الخرص دعوى من المخروص عليه، فقال: "إن قال: قد أحصيتُ مكيلة ما أخذت، فكان كذا ... إلى آخره" (3). إذا صح الخرص من أهله في وقته، فادّعى المخروص عليه آخِراً تفاوتاً، نُظر، فإن قال: اعتمد الخارص في التحيّف قاصداً وظلمني، فلا يقبل ذلك منه؛ فإنه نسبَ مَن هو مؤتمن [شرعاً] (4) إلى ما يخالف منصبه. ولو قال: أخطأ ولم يتعمد، نُظر؛ فإن نسبه إلى خطأ فاحشٍ يبعد (5) أن يقع مثله

_ (1) في الأصل، (ط)، (ت)، (ك): بيّنته. والمثبت من (ت 1)، ويشهد له السياق. (2) "على" تُرادف (مع) قاله أهل اللغة. (3) ر. المختصر: 1/ 237. وتمام عبارة الشافعي: إذا قال (أي المخروص عليه): قد أحصيتُ مكيلةَ ما أخذت، وهو كذا، وما بقي، فهو كذا، فهذا خطأ في الخرص، صُدّق، لأنها زكاة، هو فيها أمين. (4) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (5) هنا خلل آخر في نسخة (ك) حيث انتقلت من آخر ص 78 إلى ص 114.

لذي بصيرة وخبرة، فلا يصدَّق، مثل أن يقول: خرص عليّ مائة وَسْق، وإنما هو خمسون، أو سبعون. والرجوع فيما يُعدُّ غلطاً فاحشاً، إلى أهل البصائر. وإن ادعى غلطاً يقع مثله، فالذي ادعاه ممكن لا ينافى الأمانة، والخبرة، فيقبل ذلك منه، مع يمينه. ولو ادعى غلطاً فاحشاً، فقد قال الأئمة: إن رُدّ قولُه فيما يتفاحش، فقوله مقبول في القدر الذي لا يتفاحش؛ فإن الذي ذكره فيه محتمل، وإنما الزائد هو البعيد، فقوله في القدر الزائد على المحتمل مردود، وقوله في المحتمل مقبول. وسنذكر لذلك نظيراً في العِدَّة، فنقول: يتصوّر أن تنقضي عدّةُ ذات الأقراء باثنين وثلاثين يوماً وساعتين، فلو ادعت انقضاء العدة بأقلَّ من هذه المدة، لم تصدق، فإذا مضت المدة التي يتصوّر الانقضاء فيها، فتصدق الآن، وتكذيبها قبل هذا لا يوجب تكذيبها في المحتمل الممكن. 2028 - ولو ادعى المخروص عليه تفاوتاً يقع مثله بين الكيلين، بأن يفرض [إيفاءٌ] (1) في كَرَّةٍ من غير قصد، واقتصاد في الأخرى، [مثل] (2) أن يقول الخارص: "مكيلةُ الرطب تمراً مائةُ صاع"، فإذا خرج تسعةً وتسعين، فقد يكال، فيخرج مائة في الكرة الثانية، فقد ذكر الصيدلاني والعراقيون وجهين في ذلك، وتصويرها: أن يزعم المخروص عليه أن هذا النقصان كان لزلل قريب في الخرص. ويقول الخارص: بل هو لتفاوتٍ وقع في الكيل، وكان قد فات التمر (3) مثلاً. فمن يُصدِّقُ المخروصَ عليه، فتأويله الحملُ على ذلك في الخرص. ومن لم يصدِّقْه يقول: لم يتحقق النقص. والذي أراه تصحيحُ الوجه الأخير.

_ (1) "انفا" بهذا الرسم وبدون نقط في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك). وفي (ت 1): انفا. والمثبت قراءةٌ منا، نرجو أن تكون صحيحة. والمعنى: "يفرض إيفاءٌ في كرة، وعدم إيفاءٍ في الأخرى". (2) في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك): ثم. والمثبت من (ت 1). (3) فات التمرُ: بمعنى أنه حدث فيه تصرف، فلا يمكن إعادةُ كيله كرَّة أخرى.

ولكن توجيه الأول لا بد من الوقوف عليه. فمن يصدقه يقول: قد يفرض كيل مع رعاية الاقتصاد (1)، فلا يختلف أصلاً، وإن أعيد مراراً، فيقول المخروص عليه: قد اقتصدت، فنقص، فكان لأجل الخرص ما كان، فقد قال ممكناً، فصدّقه القائل الأول. ولا ينبغي أن يعتقد الإنسان أن الكيل يتفاوت لا محالة. فرع: 2029 - قال صاحب التقريب: الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الخارص يُدخل النخيل كلَّها في الخرص. قال: وللشافعي قول في القديم: أن يترك لرب البستان نخلة، أو نخلات، يأكل ثمارها هو وأهله، ولا تكون النخلات محسوبةَّ عَليه. قال: وهذا على مقابلة قيامه بتربية الثمار إلى الجداد، ثم على تعبه في التجفيف بعد الرد إلى الجَرِين. ثم قال: ويختلف هذا باختلاف حال الرجل في قلة عياله وكثرتهم. وهذا ضعيف مرجوع عنه، وفي المصير إليه تغيير القواعد في النُّصب والزكوات. فصل (2) قال: "وإن أصاب حائطه عطش ... إلى آخره" (3). 2030 - إذا خُرصت الثمار، فأصاب الحائطَ عطش، ولو تركت الثمار على النخيل، لأضرت بها، ولو جُدّت على ما هي عليها، لأضر الجِدادُ بالمساكين؛ فإنهم لا يصلون من هذه الثمار إلى حقهم، قال رضي الله عنه: "ينبغي أن يرفع صاحب الحائط الأمر إلى الوالي"، ثم حق الوالي إذا تحقق عنده هذا أن يأذن في قطع الثمار؛ فإن النخيل [إذا بقيت] (4)، رجع النفع في بقائها إلى المساكين في السنين المستقبلة، فالنظر لهم يقتضي هذا أيضاًً.

_ (1) "الاقتصاد": الاعتدال. (2) في (ط)، (ت 2) فرع. مكان فصل. (3) ر. المختصر: 1/ 228. (4) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

2031 - ثم إذا قطعت الثمار كذلك (1)، فقد قال الشافعي: يؤخذ عشر الثمار، أو ثمَنُ عشرها حقاً للمساكين، وهذا اللفظ فيه تردد. ونحن نذكر طرق الأئمة مذهباً، ثم لا يخفى تنزيل اللفظ عليها. قال قائلون: إن قلنا: القسمةُ [إفراز] (2) حق، فيجوز إجراء القسمة في عين الرطب، وإن قلنا: القسمةُ بيع، فهذا يخرج على أن الرطب الذي لا يتأتى منه التمر، هل يجوز بيعُ بعضه ببعض؟ وفيه خلاف سيأتي في كتاب البيع، إن شاء الله تعالى. فإن جوزنا بيع بعضه ببعض، جازت القسمة، وإن منعنا البيع، منعنا القسمة. وهذا القائل يقول في نص الشافعي إنه تردّد منه وإشارةٌ إلى القولين. فإذاً، إذا جوزنا القسمة، فلا كلام. وإن منعناها -وحق المساكين ثابت (3) في عين الثمار- فالوجه تسليم جملة هذه الثمار إلى الساعي، حتى يصير قابضاً لمقدار حق المساكين؛ إذ ملكهم إنما ينحصر في هذه الثمار (4 إذا اتصل القبض بها، والقبض في المشاع إنما يجري بتسليم الكل، والقسمة ممتنعة على 4) هذا القول، فإذا تعين ملك المساكين بيع جميعُ الثمار وسُلم حصةُ المساكين في الثمن إلى الساعي. ولو اشترى المالك حصة المساكين مشاعاً، جاز بعد جريان الإقباض كما ذكرناه. فأما إذا ابتاعه من الساعي قبل تصوير الإقباض، أو فرض اشتراك الساعي، وربّ الثمار في بيع الجميع، فهذا غير جائز؛ فإن حق المساكين إنما يتعيّن وينحصر بالقبض، ونحن وإن قلنا: إنهم يشاركون ربَّ المال في جزءٍ استحقاقا، فلرب المال أن يوفي حقوقهم من مالٍ آخر، فلا يصلح ما نقدره لهم من الملك للتصرف. نعم إذا جرى فيه القبض، تحقق الملك على الأقوال كلها. 2032 - وذكر صاحب التقريب طريقةً أخرى. فقال: المحذور من القسمة في

_ (1) "كذلك": أي في هذه الحالة. (2) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): إقرار. والمثبت من (ت 1). (3) ساقطة من (ت 1). (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

القول الذي انتهى التفريع إليه أنها بيعٌ، وبيع الرطب بالرطب ممنوع، في قواعد الربا، والربا غير معتبر (1) في المقاسمة التي تقع مع مستحقي الزكاة، فيجوز قسمةُ الرطب، وإخراج العشر منه، وإن كنا نمنع قسمةَ الرطب بين الشركاء؛ وذلك أن تعبدات الربا إنما تراعى في البَيْعات (2) الخاصة بين المتعاملين المتعينين، فأما تصرف الإمام لأقوام لا يتعينون، فلا يراعى فيه تعبدات الربا. وقد يقع تصرف عام يمتنع إجراء مثله على الخصوص. ثم زيف هذه الطريقة، وهي مزيفة. والشارع لم يخصص تعبدات الربا بتصرف دون تصرف. 2033 - وذكر أئمة المذهب طريقة أخرى، فقالوا: لا مدخل للأبدال في الزكوات في أصل المذهب، ولكن إذا مست حاجةٌ ظاهرةٌ إلى إخراج البدل، حكمنا بجوازه. وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في إخراج البدل عند مسيس الحاجة إليه، بسبب وجوب شقصٍ من حيوان. فإذا تعلق حق المساكين بالثمار، وعسرت القسمة؛ تفريعاً على منع قسمة الرطب، وقد يتعذر البيع، فإذا أخرج من عليه العشرُ بدلاً، أجزأ، لهذه الحاجة؛ فإن الأصل الذي به استقلال الزكوات سدُّ الحاجات، فإن كان تَعبّدٌ (3) وراء حصول ذلك، فهو متبع، ولكن [لا] (4) يبعد سقوط ذلك التعبد لحاجة، وقد تمهد هذا مذهباً وخلافاً. فإذاً يجوز إخراج القيمة في هذه الصورة إذا حكمنا بتعذر القسمة. 2034 - وذكر بعض الأصحاب وجهاً آخر، فقالوا: نحن وإن حكمنا بأن القسمة بيعٌ، فقد نجيزها للحاجة، حيث نمنع صريح البيع، وهؤلاء جوزوا قسمة الأوقاف للحاجة، وإن امتنع بيعها؛ فإذاً يجوز قسمة الثمار، وإن منعنا بيعها، تخريجاً على هذا.

_ (1) في (ت 1)، (ت 2): ممتنع. (2) (ت 1): البياعات. (3) في (ط)، (ك)، (ت 2): يبعد. (4) مزيدة من (ت 1)، (ت 2).

2035 - ثم قال المحققون: إذا جوزنا أخذ الأبدال للحاجة، وجوزنا القسمة للحاجة، فالساعي إن شاء أخذ عُشرَ القيمة، وإن شاء أخذ عشر الثمر، وهذا القائل يحمل نص الشافعي على هذا المحمل، حيث قال: يأخذ الإمام عشرَ الثمر، أو عشرَ القيمة، فهذا يبتنى على جواز البدل، وجواز القسمة جميعاً. ثم ما ذكرناه ليس تخيُّرَ تشهِّي (1)، ولكن الإمام يرعى الأصلح والأغبط للمساكين. ثم قد تمهد في باب زكاة الإبل أمثالُ هذا في التخيّر، وسبق الخلاف في أن اعتبار الغبطة واجب، أم يتخير المالك، كما يتخير بين الشاتين والدراهم في الجبران؟ وهذا يخرج على ذلك. فإن فوضنا [الأمر إلى] (2) اختيار المالك، فليس عليه رعايةُ الغبطة، وإن فرضناه إلى نظر الساعي، فلا شك أنه يتعين رعاية المصلحة، وقد نقول: للمالك إخراجُ زكاة أمواله الظاهرة بنفسه، فننزله في التفريع منزلةَ الساعي في رعاية الغبطة. فهذا بيان الفصل، وفي الفصل بقية ستأتي في آخر باب الزرع إن شاء الله تعالى. فصل قال: "ومن قطع من ثمر نخلة قبل أن يحلّ بيعه ... إلى آخره" (3). 2036 - مقصود هذا الفصل أن صاحب الثمار إذا قطعها قبل بدو الصلاح والزهو، فله ذلك، ثم لا عشر أصلاً؛ فإن حق المساكين إنما يثبت عند بدو الصلاح، ولكن إن اتفق ذلك، ولم يقصد به الفرار، فلا حرج. وإن قصد بذلك الفرارَ من حق المساكين، فلا يُرد تصرفه، ولكن يكره ذلك، وهو بمثابة بيع أموال الزكاة قبل حولان الحول. وقد مضى القول فيه.

_ (1) كذا بإثبات الياء في جميع النسخ. (2) في الأصل، (ط)، ك: الأموال. وهو تحريف ظاهر. (3) ر. المختصر: 1/ 228.

فصل قال "وفي كلٍّ أحب أن يكون خارصان ... إلى آخره" (1). 2037 - في الخارص والقاسم قولان: ففي قولٍ، نقيمه مقام الشاهد، فلا بد من العدد، وفي قول نقيمه مقام الحاكم، فيكفي واحد. ثم وإن اكتفينا بالواحد، فلا بد وأن يكون حراً عدلاً؛ فإنه بين أن يكون كالحاكم، وبين أن يكون كالشاهد، وما ذكرناه مرعيٌّ فيهما جميعاً. وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً: وهو أنه إذا كان المخروص عليه طفلاً، أو كان فيهم طفل، فلا بد من خارصين، وإلا كفى خارص واحد، وقد ذكر مثلَ ذلك في القاسم، كما سيأتي إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ولا تؤخذ صدقةُ شيء من الشجر، سوى النخل والكرم ... إلى آخره" (2). 2038 - هذا الفصل يحوي ترتيبَ مذهب الشافعي في الجديد، فيما يتعلق العشرُ به، ثم إذا نجز، استعقب ترتيباً لمذهبه القديم. فأما الجديد، فالكلام في الثمار والزروع، أما الثمار، فلا زكاة إلا في ثمرة النخل والكَرْم. وأما الزروع، فقد قال الأئمة: لا تتعلق الزكاة إلا بكل ما يُقتات مع الاختيار، ويستنبته الآدميون قصداً، والغرض أنه لا عُشر في [البذور] (3) التي تنبت في

_ (1) ر. المختصر: 1/ 229. (2) ر. المختصر: 1/ 229. (3) أثبتناها من (ت 1)، (ت 2) مكان كلمة غير مقروءة في النسخ الأخرى، صورتها هكذا. "ال ـ عاس" ولم أصل لكلمة بهذه الصورة ذات معنى. (انظر صورتها في آخر هذا المجلد).

الصحارى. وإن كانت أهل البادية يقتاتونها كالثُّفاء (1)، فإن اقتياتهم لها عن ضرورة ومسيس حاجة. والاقتيات المقرون بالاختيار يغني عن ذكر الاستنبات؛ فإنه ليس فيما لا يستنبت ما يقتات اختياراً، فالحنطة، والشعير، والرّز، والباقلاء (2)، والحِمّص (3)، والذرة، والماش (4)، واللوبيا، أقواتٌ يتعلق العشر بها. وأما السمسم وبزر (5) الكتان، فلا زكاة فيهما؛ فإن كل ما غلبت الدّهنية عليه لا تقوم النفس بتعاطيه. ثم كل ما تتعلق الزكاة به في الجديد، فالنصاب معتبر به. والنصاب خمسة أوسق، كما ذكرناه. 2039 - فأما ترتيب القديم، فكل ما تجب الزكاة فيه في الجديد، فترتيب القديم فيه كالجديد. وفي القديم أشياءُ زائدة أثبت العشرَ فيها: منها الزيتون، أثبت فيه العشر، وزعم أني رأيت الناس عليه، فأشار إلى الاتباع. وذكر في القديم أن قوماً من بني خفاش (6) أخرجوا كتاباً لأبي بكر رضي الله عنه، وكان أمرهم فيه بإخراج الزكاة عن الوَرْس، ثم تردد في صحة ذلك. ثم قال: وإن وجب العشر في الورس، فلا يمتنع وجوبه في الزعفران.

_ (1) الثُّفاء: وزان غراب وقد يثقّل، فيقال: "الثُّفَّاء": هو الحُرْف، وأهل العراق يسمّونه حبَّ الرشاد، ويؤكل في الاضطرار. (ر. الزاهر فقرة 291، والمصباح). (2) الباقلاء هي الفول. (الزاهر: فقرة 290). (3) الحِمص: بكسر الميم وتشديدها، وبِفَتحها أيضاًً، وليس في الحاء إلا الكسر (الزاهر: فقرة: 290، والمصباح، والوسيط). (4) قال في الزاهر: فقرة 290: هو الزن، وقال في المصباح: حبّ معروف. ووصفه المعجم الوسيط بأنه: نبات له حب أُخيضر مدوّر، أصغر من الحِمص يكون بالشام والهند. (5) البزر، بالذال والزاي. (6) في (ت 2) خداش. ولم أصل إلى شي عن بني خفاش، ولا خداش، فلم يذكر أيا منهما القاموس المحيط، ولم أجد منسوباً إليهما في الأنساب، ولم أجد رواية في الكتب التسعة إلا لخداش بن سلامة السُّلمي، وهي لحديث في الأدب، ولم يضبط ابن خلكان في الوفيات، ولا ابن شاكر في الفوات واحدة من اللفظين، ولم يرد تحت مادة (خ. د. ش) ولا (خ. ف. ش) أي اسم في معجم البلدان، ولا معجم ما استعجم.

وحكى العراقيون عن أبي إسحاق أنه كان ينقل قولين عن الشافعي في القديم أن العسل هل يجب فيه العشر على من يشتاره (1)، سواء كان النحل له، أو يشتاره من المواضع المباحة. ومما حكوْا فيه الترددَ في القديم التُّرمس، وهو لا يقتات على اختيار، وذكروا في ترتيب الجديد أنه لا يتعلق به العشر. فهذا مما ذكر في القديم. 2040 - ثم لا مجال للقياس؛ فإن الشافعي اعتمد الآثار واتباعَ السلف، وكان يرى في القديم تقليدَ الصحابة، ولو كان يُحْتَمل القياس ويجوز، لكان السمسم والكتان من الزروع ملحَقيْن بالزيتون؛ إذ المقصود منهما الدهن، ولكن [لم يصر] (2) إلى ذلك أحد. 2041 - [ثم] (3) نقول: أما الزيتون، فالنصاب معتبر فيه، وهو خمسة أوسق، ثم عاقبة الزيتون الزيت، كما أن عاقبة الرطب والعنب التمرُ والزبيب. وقد اضطرب الأئمة في ترتيب القديم في أن العشر يخرج من الزيتون أم من الزيت؟ وحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يتعين الإخراج من الزيت؛ فإنه النهاية المطلوبة كالتمر. والثاني - أنه يتعين إخراج الزيتون؛ فإنه الموسَّق بلا خلافٍ في هذا الترتيب، ولا نقول بتوسيق الزيت أصلاً؛ فليؤخذ العشر مما يوسّق. [و] (4) لما كان العشر مأخوذاً من التمر والزبيب، فالتوسيق يتعلق بهما. والثالث - أن الخيار إلى المالك، إن شاء أخرج العشر من الزيتون، وإن شاء أخرجه من الزيت.

_ (1) اشتار العسل: جناه. (2) في الأصل، (ط)، (ك): ما نص. (3) زيادة من (ت 1) وحدها. (4) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

وعلى الوجوه الموسقُ الزيتونُ بلا خلاف، ثم إن أخرج من الزيتون، فلا كلام. وإن أخرج من الزيت، فيسلم الزيت إلى المساكين. والكُسبُ (1) الذي يتخلّف عن عصر الزيت ليس فيه نقلٌ عندي، ولعل الظاهرَ أنه يُسَلِّم نصيبَ المساكين إليهم، وليس كالقصيل (2) والتبن الذي يتخلف عن الحبوب؛ فإن الزكاة تجب في الزيتون نفسه. ثم على المالك مؤنة فصل الزيت، كما عليه مؤنة تجفيف الرطب والعنب، ولا يجب العشر من الزروع إلا في الحب. وفي المسألة احتمال. فهذا تفصيل القول في الزيتون. 2042 - وأما الورس، ففيه على القديم قولان، [وفي الزعفران قولان مرتبان] (3)، وهو أولى بأن لا يجب العشر فيه؛ فإن الأثر (4) ورد في الورس، وقاعدة ترتيب القديم الاتباع، فالزيتون في القديم في رتبة مقطوع به، وفي الورس تردد، والزعفران أبعد منه. ثم إن أوجبنا العشر في الورس والزعفران، فالظاهر أنه يجب في القليل والكثير، ولا يعتبر التوسيق فيه. وذكر الإمام (5) وغيره أنه يعتبر النصاب فيه؛ طرداً للقياس في الباب، ووجه قول من قال: لا يعتبر النصاب، أن هذه الأشياء يبعد أن يجتمع لمالكٍ واحد منها في السنة خمسةُ أوسق. وقد نقل مطلقاً أخْذُ العشر من الورس، فدل ذلك على أنه كان يؤخذ من القليل والكثير. والعسل أبعد الأشياء. نقله العراقيون. وأرى القول فيه تقريباً من جهة الرأي، من حيث إسناد إلى أثر.

_ (1) الكسب: وزان قُفل: تُفل الدهن، وهو معرب (المصباح). (2) القصيل: ما اقتطع من الزرع أخضر لعلف الدواب. (معجم). (3) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (4) في (ت 2): الأمر. (5) الإمام: يقصد والده.

وكذلك الترمس، وهو -فيما أظن- حبٌّ ببلاد الشام، قريب الحجم من اللوبيا، ولا يقوتُ بل يَهيج الباه. ونقل العراقيون أيضاًً تردداً في العُصفُر. وقد لاح الغرض في ترتيب الجديد والقديم. وذكر الصيدلاني أن في حب العصفُر العشر في القديم. والله أعلم. ***

باب صدقة الزروع

باب صدقة الزروع "ذكر الشافعي رحمه الله في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) [الأنعام: 141] ... إلى آخره". 2043 - قد تقدم الكلام فيما يتعلق العشر به من الزروع، والتفريع على الجديد، ولا عود إلى القديم، وكل قول قديم عندي مرجوعٌ عنه، غيرُ معدود من المذهب. ومقصود الباب أن أجناس الحبوب إذا اختلفت، لم تضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فلا تُضمُّ حنطة إلى شعير، ولا خفاء بما يختلف، وإنما ننصُّ على مأخذٍ يخفى، فالعَلَسُ (2) نوع من الحنطة مضموم إلى كل نوع، وقيل هو حنطةٌ بالشام، حبّتان منه في كِمامٍ (3) واحد في السنبلة. هذا متفق عليه. فأما السُّلْت (4)، فقد اضطربت الطرق فيه، فقيل: إنه على صورة الشعير، ولكن لا قشر له، وطبعه طبعُ الحنطة إلى الحرارة (5)، كذا قاله الصيدلاني. وقد اختلف أصحابنا فيه، فذكر شيخنا أبو علي في شرح التلخيص أوجهاً عن صاحب التقريب، قد رأيتها في كتابه: أحدها - أنه مضموم إلى الشعير، وهو ما يقطع به شيخي نظراً إلى تقارب الصورة. والثاني - أنه مضموم إلى الحنطة، لأنه يسد مسدها. والثالث - وهو الذي قطع به الصيدلاني أنه أصل بنفسه، لا يضم إلى الحنطة،

_ (1) ر. المختصر: 1/ 229. (2) العلس بفتحتين. (الزاهر: فقرة 289). (3) الكمام: بكسر الكاف (الزاهر: فقرة 289). (4) الشُلْت: بضم فسكون. (الزاهر: فقرة 289). (5) أي كالحنطة في ملاسته، وكالشعير في برودته (الزاهر: فقرة 289)

ولا إلى الشعير. ولكن إن بلغ في نفسه خمسة أوسق، وجب العشرُ فيه. وما أرى السُّلتَ النوع الذي يسمى بالفارسية (ترشرجو) (1)؛ فإنه شعير على التحقيق، قد تَضْرَس منه البهيمة، وليس في معنى الحنطة. وما عندي أن السُّلتَ المذكور في الكتب موجودٌ في هذه الديار. 2044 - ثم أخذ الشافعي في الاعتراض على مالك (2) حيث رأى ضم ما سوى الشعير والحنطة بعضه إلى بعض، وما سواهما من الحبوب: كالباقلاء، والحِمّص، والعدس، وغيرها. مما يقوت يسمى القِطْنية (3). وقال الشيخ أبو علي: إن ضممنا السُّلتَ إلى الحنطة، فلا يجوز بيعُه بها متفاضلاً، وإن ضممناه إلى الشعير، لم يجز بيعه به متفاضلاً، وإن قلنا: إنه أصل بنفسه، فيجوز بيعه بالحنطة، والشعير، جميعا متفاضلاً، ولا شك فيما قاله. فصل قال: "ولا تؤخذ زكاة شيء مما يَيْبَس ويداس ... إلى آخره" (4) 2045 - العشرُ إنما يخرج من الحبوب إذا يبست، وديست، ونُقَيت؛ فإنها عند ذلك توسق، ثم قال: "وهذا كما أن العشر لا يؤخذ من الرطب ولا من العنب، حتى يصير تمراً وزبيباً، فلو أخذ الساعي عشرَ الرطب والعنب، وكانا يقبلان التجفيف فالمؤدَّى لا يقع عن الفرض، وعلى الساعي أن يرده، ويطلب حقَّ المساكين تمراً وزبيباً، ولو تلف في يده، يضمن قيمته للمالك" (5)، وهذا واضح فيما ينتهي إلى التمر والزبيب.

_ (1) في (ت 1) ترش جر. وفي ت 2: ترس حو. (2) ر. المدونة: 1/ 248. حاشية الدسوقي: 1/ 449. (3) القِطنية: بكسر القاف، سميت بذلك، لأنها تدّخر، وتخزن، فهي تقطن البيوت مع ساكنيها (المصباح). (4) ر. المختصر: 1/ 231. (5) السابق نفسه، بمعناه، لا بنصه.

فأما ما لا يتأتى منه التمر والزبيب ولو جَفَّا، فسدا، فحكم الزكاة الأخذُ منه، فإنه المنتهى، وليس يُرقب فيه جفاف، ولكن لو أخذ الساعي العشر، كان ذلك قسمةً في الرطب، وقد ذكرنا أن قسمة الرطب قد لا تصح. والتفصيل فيه: أنّا إذا قلنا: القسمة إفراز حق، فيجوز ذلك، والوجه إخراج العشر منه. وإن قلنا: القسمة بيعٌ، ففي بيع ما لا يقبل الجفاف بمثله خلاف، وإن جوزنا البيعَ، جازت القسمة، وإن لم نجوز البيعَ، فقد تقدم التفصيل في القسمة فيما تقدم، حيث ذكرنا جداد الثمرة التي أصابها عطش. فإذا كان جنس الرطب بحيث لا يجفف، فهو بمثابة ما لو صار كذلك بآفةٍ وعطش. وفي ذلك عندي بقيةُ نظر: وذلك أنا إذا قلنا: لا يستحق المساكين جزءاً من المال، فليس تسليم جزء إلى الساعي قسمةَ عندي، بل هو أداء حق (1) المساكين، سِيما إذا غلَّبنا الذمةَ، والتعلقَ بها، فلا يؤثِّر الإشكال في القسمة إلا على قولنا: إن المساكين يستحقون جزءاً من المال. وهذا مما يجب التنبّه له، وهو الذي وعدناه في آخر فصل العطش. والله المستعان. ...

_ (1) عبارة (ت 1): "بل هو أداء حق مستحق، يسمى إذا غلبنا الذمة". و (ت 2): "بل هو أداء حق المساكين سواء إذا غلبنا الذمة".

باب الزروع في الأوقات

باب الزروع في الأوقات قال الشافعي: "الذرة تزرع مرة، فتحصد ... إلى آخره" (1). 2046 - هذا اللفظ الذي صدر الشافعي البابَ به، قد اختلف الأصحاب في معناه. ونحن نذكر أصلاً في الزروع، ثم نعود إلى بيان قول الأصحاب في معنى كلام الشافعي؛ فنقول: من زرع زرعاً وحصده، ثم ابتدأ زرعاً من ذلك [الجنس] (2) بعد حصاد الأول، فإذا أدرك الزرعُ الثاني، فهل يُضم إلى الزرع الأول في تكميل النصاب، أم يفرد كل زرع بنفسه؟ 2047 - أولاً نجدد العهد بما تقدم ذكره في ثمار الأشجار، فنقول: لم يختلف الأئمة في أن النخلة إذا أثمرت وجُدّت ثمرتُها، ثم إنها أطلعت مرة أخرى، فأثمرت، فلا تضم الثمرةُ الثانية إلى الأولى، وإن وقعت الثمرة في أقل من مدة سنة. هذا لا خلاف فيه. وكذلك لو أثمرت نخلةٌ وجدّت، ثم أطلعت نخلةٌ أخرى بعد جِداد الأولى، وإن جرى الأمران في سنة واحدة، فلا تضم ثمرةُ النخلة الثانية إلى ثمرة النخلة الأولى، وقد سبق هذا. 2048 - فإذا تجدد العهد بما ذكرناه في ثمار الأشجار، خُضنا في الزروع، فنقول: إذا اتفق وقت الزراعة ووقت الإدراك، واتحد الجنسُ، فلا شك أن بعض الزروع مضموم في النصاب إلى البعض، اتصلت المزارع أو تباعدت. فأما إذا اختلفت تواريخ الزراعة، واختلفت أوقات الإدراك، فهل يضم بعضها إلى

_ (1) ر. المختصر: 1/ 231. (2) مزيدة من (ت 1).

بعض؟ نص الشافعي على خمسة أقوالٍ ذكر أربعةً منها وِلاءً (1). وذكر قولاً خامساً في الكبير، فنذكر الأقوال الأربعة المنصوص عليها هاهنا، ثم نذكر القول الخامس، ثم نُعقب ذكر الأقوال بتفصيل الصور، وتمييز مواضع الوفاق، عن مواضع الخلاف. فالقول الأول - أن من زرع زرعاً وحصده ثم ابتدأ زرعاً آخر وحصده، فلا يضم أحد الزرعين إلى الآخر، وإن اجتمع الزرعان، والحصادان في سنة واحدة، ويتنزل الزرعان منزلة حَملين لشجرة واحدة، يقع طلع إحداهما بعد جداد الآخر. والقول الثاني - أنه إن وقع البذاران، والحصادان في سنة واحدة، فأحدهما مضموم إلى الثاني، وذلك بأن يكون ما بين الزراعة الأولى وبين الحصاد الآخر أقل من سنة عربية؛ فالبعض مضمومٌ إلى البعض؛ فإن هذه الزروع تقدر مع سنة، وإن كان بين الزراعة الأولى وبين الحصاد من الزرع الثاني سنةٌ، فصاعداً، فقد وقع الحصاد بعد انقضاء السنة، فلا يضم الزرع الثاني إلى الأول إذا فرضنا الكلام في زرعين. والقول الثالث - أن النظر إلى البَذْر، ولا اعتبار بالحصد، فإذا كان بين الزراعة الأولى والثانية أقل من سنة عربية، فالزرع مضمومٌ إلى الزرع، وإن وقع أحد الحصدين وراء السنة من تاريخ الزراعة، ووجه ذلك أن الذي يتعلق بالاختيار والفعل الزراعة، والحصد لا اختيار في دخول وقته، وهو مختلف على حسب اختلاف الأهوية. القول الرابع - أن الاعتبار بالحصد؛ فهذا منتهى الأمر، وفيه استقرار الواجب، فإن وقع الحصدان في سنةٍ، وكان الزمان المتخلل بينهما أقلَّ من سنة عربية، فأحدهما مضموم إلى الثاني، ولا نظر إلى الزراعة، وإن كان بين الحصدين سنة، فلا يُضم أحدهما إلى الثاني. فهذا بيان الأقوال الأربعة المذكورة هاهنا. ونصَّ عَلى قولٍ خامس في الكبير، فقال: إن وقع البذران في سنة، أو وقع الحَصْدان في سنة، فأحدهما مضمومٌ إلى الثاني. وهذا بعيد جداً، ويلزم فيه ألا يفرض زرعان على الاعتياد في سنتين، إلا ويضم

_ (1) ر. المختصر: 1/ 232. بمعناه لا بلفظه.

أحدهما إلى الثاني، فإن زرع سنةٍ، إذا حصد فتمضي أشهرٌ، ويُبْتَدأ الزرع الآخر لا محالة، فلا يقع بين الحصاد والزراعة -إذا لم تعطل السنة- سنةٌ كاملةٌ. فهذا بيان الأقوال وحكايتها. 2049 - وتمام البيان يحصل بما نذكره الآن. فالصورة التي تجتمع فيها الأقوال: أن يُزرعَ زرعٌ ويحصد، ثم يُزرع زرعٌ آخر، فتجتمع الأقوال التي ذكرناها. ويتعين في هذا المقامِ التنبّه لشيء، وهو أنا حكينا الوفاق بين الأصحاب في أن حمل نخلة لا يضم إلى حمل تلك النخلة بعينها، إذا اتفق حملان في سنة، وكذلك أجمع الأصحاب أن نخلةً لو أطلعت بعد جداد ثمرة نخلةٍ، فلا ضم. والزرع في هذه الصورة على الأقوال، والفرق يرجع إلى العادة؛ فإن (1) توجيه هذه الأقوال يرجع إلى المناقشة في حكم العادة، وإلا فالأصل المتبع [أن] (2) ما يُعدّ رَيْع (3) سنة فالأصل فيه الضم. ثم اختلاف تاريخ الزراعات معتاد مطرد، وكذلك اختلاف أوقات الإدراك معتاد غير مستبعد، فأما تعدّدُ حملِ نخلةٍ بعد جداد الأخرى، [فمقدّرٌ] (4) غير واقع، أو نادرٌ في الوقوع؛ [فلذلك] (5) اتفق الأئمة على أن لا ضم؛ فإن النادر بعيدٌ عن التوقع، وواقعُه غير معدود من الريع (6) المتوقع في السنة الواحدة؛ فهذا هو الذي أوجب الوفاق في إحدى القاعدتين، والاختلافَ في الأخرى. وقد تنجز القول في صورةٍ تجري فيها الأقوال في الزروع. 2050 - ولو اختلفت الزراعات في الأوقات، ولكن سبب التفاوت الضرورةُ في تدريج الزراعة، كالذي يبتدىء الزراعة في مبتدأ شهر، ثم لا يزال يواصل إلى

_ (1) في الأصل، (ط)، (ك): في أن. (2) مزيدة من (ت 1)، (ت 2). (3) في (ت 2): زرع. (4) في الأصل، (ط)، (ك): فقدر. (5) في الأصل، (ط)، (ك): فكذلك. (6) في (ت 1): الربع، (ت 2): الزرع.

شهرين، على حسب الإمكان، فهذه الزروع تعدّ زرعاً واحداً، بلا خلاف؛ فإن الزرع الواحد هكذا يفرض، وإذا كان منشأُ الخلاف من تردد أهل العادة (1 إذا روجعوا، فحيث يتفق أهل العادة 1) يزول الاختلاف، ثم إذا تواصلت الزراعة، فيقع إدراك الجميع في أزمنةٍ متقاربة، حتى إذا كان بين الزرع الأول والزرع الأخير شهران، فإنهما قد يدركان معاً، وقد يقع بين الإدراكين أيام معدودة، لا مبالاة بها. وإذا اتفق الزرعان معاً أو على التواصل كما ذكرناه، ولكن اتفق إدراك أحدهما والثاني بعدُ بَقْل، لم يبدُ فيه الاشتداد في الحب، فللأئمة طريقان في ذلك: أحدهما - التخريج على الخلاف. وهذا بعيد. والوجه القطع بالضم، والإلحاقُ في ذلك ظاهر، ولكنه مرتب على ما إذا حُصد زرع، ثم ابتدىء زرعٌ آخر، ولو زُرع زرع وبدا فيه اشتداد الحب فابتدىء زرعٌ آخر، فالصورة الأخيرة أولى بالضم. 2051 - ونحن نعدّد الصور: فإن وقع زرع بعد حصدٍ، فالقولان. وإن وقع زرع بعد بدوّ الاشتداد في [الأول] (2)، فعلى الأقوال، مع ترتيبٍ. وإن وقعت الزروع متواصلةَ، فسبق البعضُ بالإدراك، ولم يبدُ الاشتداد في البعض، فطريقان، والأصح القطع بالإلحاق والضم؛ فإن ذلك يُعدّ زرعاً واحد. فإن قيل: إذا تأخر بدو الصلاح في بعض النخيل، فالموجود المطلَع مضموم إلى المزهي وفاقاً، وإن كان ثمار النخيل أبعد عن الضم. قلنا: لهذا قلنا: الوجه في الزروع القطع بالضم، ثم الفرق أن الذي تأخر عن الإدراك حشيش، وحق المساكين متعلق بالحبّ، ولم يخلق بعد، وثمار إحدى النخلتين وإن لم تزه، فالزكاة ستتعلق بعينها إذا تموّهت (3)، فالعين موجودة، وإنما تخلّفت صفة، والصائر إلى الاختلاف في الصورة التي ذكرناها في الزروع آخراً أبو إسحاق المروزي، فلو أدركت قطعة

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) في الأصل، (ت 1)، (ك): الأقل. (3) تموهت: يقال: تموّه العنب إذا صفا لونه، وظهر ماؤه، وذهبت عفوصة حموضته. (الزاهر: 287).

والأخرى بدا فيها اشتداد الحب، وقد وقعت الزراعة على التواصل، فالضم بلا خلاف، ولو أدركت قطعة وقد بدا الحب في قطعة، ولم يبد التماسك والشدة [بعدُ] (1)، فهذا الآن كثمرة مطلَعة مع أخرى مدركة، فليبتدر (2) الناظر الصور؛ فإن مدار الفصل عليها. 2052 - فإذا بان هذا الأصل في الزروع، عُدنا إلى شرح اللفظ الذي صدَّر الشافعي البابَ به. فقال: "الذرة تزرع مرة، فتحصد، ثم تستَخلِف، فتحصد مرة أخرى، فهو زرع واحد، وإن تأخرت [حَصْدَتُه الأخرى"] (3) هذا كلامه. واختلف أئمتنا في الصورة التي أرادها (5 الشافعي، فقال بعضهم: كلامه محمول على الذرة التي نسميها الهندبة (4) إذا أخرجت سنابلها، فقطعت فتَشْعَب من أصولها أغصان وأخرجت سنابل، فالكل زرع واحد، والأخير مضموم إلى الأول. ومنهم من قال: الصورة التي أرادها 5) أن تتسنبل الذرة، فتشتد؛ فينتشر من سنابلها حبات، بتحريك الرياح، أو وقوع العصافير، فينبت منها زرع، فيُفرِك الأول، ثم يدرك الثاني من بعد. ومنهم من قال: أراد إذا زرعت الذرة، فعلا بعضها، واحتوى على البعض، فبقيت الطاقات الصغار تحت الكبار مخضرة، فأدركت الطوال، ثم كبرت الصغار، وقد حُصدت الكبار. فهذا بيان الصور. 2053 - ونحن نذكر اختلاف الأصحاب في كل صورة من الصور: أما الأول إذا حصدت السنابل، ونبت بعد الحصد أغصان، ثم لحقت وأدركت، فللأصحاب ثلاثةُ أوجه في هذه الصورة: أحدها - أن الثاني لا يضم إلى الأول وجهاً واحداً، وهذا

_ (1) مزيدة من (ت 1). (2) (ت 1): فليتدبّر. (3) في جميع النسخ الخمس: حصده الأخير، والمثبت من نص المختصر: 1/ 231. (4) الهندبة = الهندباء: بقل زراعي مُحول. (المعجم). (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

القائل يأبى حمل كلام الشافعي على هذه الصورة. (1 ويقول: ما لحق في هذه الصورة 1) ثانياً على صورة الحمل الثاني من الشجرة بعد جداد الحمل الأول، فالوجه القطع بأنه لا إلحاق. ومن أصحابنا من قال: هذه الصورة بمثابة ما لو حُصد زرع، ثم زرع آخر، فيخرج على الأقوال. ولكن ثَمَّ في الأقوال انتظر ما بين الزرعين، وهاهنا ينتظر ما بين الزرع الأول ونبات الثاني. ومن أصحابنا من قال: نضم الثاني إلى الأول قولاً واحداً في هذه الصورة، وهذا القائل يحتاج إلى فَرْقين: أحدهما - بين الذرة والنخيل، والفرق أن النخلة ثابتة والأحمال رَيْعُها المتدارك، فكل رَيْع مفصول عما تقدمه، وعما يتأخر عنه، والذرة زرع، لا بقاء له، وإنما هو ريع واحد في نفسه، فإن تأخر بعضُه عُدّ كالشيء الواحد. فهذا فرق. والفرق الثاني - بين هذه الصورة وبينها إذا زرع زرع بعد حصادِ آخر، فنقول: هما زرعان، فَفُصِل أحدهما عن الآخر، والزرع واحد في مسألتنا، ولكن تفرق ريْعه؛ فيضم بعضه إلى البعض. فهذا بيان هذه الصورة. وأما الصورة الثانية: وهي إذا تنثرت حبات، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن هذا كافتتاح زرع بعد إدراك زرع، فيخرج على الأقوال. والثاني - أنا نضم هاهنا قولاً واحداً؛ فإن الثاني لم يقصد زراعته، ولكن اتفقت تبعاً للأول، فهو ملحق به، والجملة معدودة زرعاً واحداً. فأما الصورة الثالثة وهي إذا كان بعض الطاقات كباراً، وبعضها صغاراً، فالذي قطع به جماهير الأصحاب الضمُّ، ولم يصر إلى الإفراد في هذه الصورة أحدٌ إلا أبو إسحاق المروزي، على ما تقدم شرح ذلك. ...

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

باب قدر الصدقة

باب قدر الصدقة قال: "بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره" (1). 2054 - صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب فيما سقت السماء العشر، وفيما سُقي بنضح أو دالية نصفُ العشر (2) واتفق الأئمة أن ما يسقيه نهرُ وادٍ، أو قناةٍ، فهو بمثابة ماء السماء، وإن كانت المؤن قد تكثر على القنوات، وتقرب من مؤنة النضح. والسقيُ بالدَّلو الذي ينتزحه النواضح، والناعور الذي يديره الماء بنفسه على وتيرة واحدة، فإن كلاهما (3) تسبُّبٌ إلى النزح. ثم القول في الثمار والزروع واحد. ولو سُقي بالنهر مدة، وبالنضح مدة، وبني الأمر على هذا، ففي المسألة قولان - أحدهما - أن الاعتبار بالأغلب منهما؛ فإن غلب السقي بالنهر، فالواجب العشر، وإن غلب السقي بالنضح، فنصف العشر. والقول الثاني - أنا نعتبرهما جميعاً، ونوجب بحساب العشر ونصف العشر، على ما يقتضيه التقسيط، حتى إن سقي نصف السقي بالنهر، ونصفه بالنضح، فنوجب

_ (1) ر. المختصر: 1/ 233. (2) ورد هذا المعنى في حديث صحيح رواه البخاري عن ابن عمر، بلفظ: "فيما سقت السماء، والعيون، أو كان عَثَرياً العشرُ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" ح 1483، وروى مسلم نحوه عن جابر، ح 981، وأقرب لفظ إلى ما ذكر إمام الحرمين ما رواه يحيى بن آدم في الخراج من حديث أبانٍ عن أنس. (ر. الخراج: 116 ح 371. وفي الباب أحاديث كثيرة خرّجتها معظم كتب السنة. (ر. التلخيص: 2/ 328 ح 844). (3) كلاهما. هكذا بالألف، وهي صحيحة مع الإضافة إلى الضمير، على لغة من يلزمها الألف دائماً، كالاسم المقصور (تعليقات العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله على شرح ابن عقيل: 1/ 55، 56).

نصف العشر، ونصف نصف العشر، والمجموع ثلاثة أرباع العشر. وهذان القولان يقربان من اختلاف القول فيه إذا اختلفت أنواع النَّعَم، فيخرج الزكاة من الأعم، أو من كل بقسطه؟ فيه قولان. 2055 - ثم الاعتبار في معرفة الأغلب، أو معرفة الأقدار ليجب في كلٍّ بقسطه بماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما - الاعتبار بعدد السقيات، فإذا وقعت سقيتان بالنهر وسقيةٌ بالنضح، فالغلبة على قول اعتبار الغلبة للنهر، وإن أوجبنا في كل بقسطه (1 ضبطنا مقدار كل واحد كما سنصفه، وأوجبنا فيه بقسطه 1). واختلف أئمتنا في أن النظر إلى ماذا في اعتبار الأغلب [أو] (2) في بيان المقدار للتقسيط، فمنهم من قال: الاعتبار بعدد السقيات، ولا يعتبر طول الزمان وقصره، ومنهم من قال: الاعتبار بما به نموُّ الزرع والثمر وبقاؤه، فإن جَرَتْ ثلاث سقيات في شهرين، وسقيةٌ واحدة في أربعة أشهر، فالذي وقع في الأربعة الأشهر أغلب. وعبر بعض أئمتنا بعبارة أخرى، وهي قريبة مما ذكرناه آخراً، فقال: النظر إلى النفع، فإن كان نَفْعُ سَقْيةٍ واحدةٍ أكثر، وكانت أنجعَ من سقيات من جهةٍ أخرى، فالعبرة بالنفع. وهذا ينفصل عن الذي قبله بشيء، وهو أن القائل قبل هذا القول يعتبر المدة [كما] (3) ذكرناه في الشهرين والأشهر. وهذا القائل الأخير لا ينظر. إلى المدة، وإنما (4) ينظر إلى النفع الذي يحكم به أهل الخبرة والبصيرة. ومما يتصل بما ذكرنا أنه إذا استوى السقي بالوجهين على الوجوه في الاعتبار والتفريع على التقسيط، فالأمر هينٌ بيّن، وإن فرعنا على الأغلب، وقد استوى الأمران، فللأصحاب وجهان: أحدهما - أنا نوجب العشر نظراً للمساكين، وقال العراقيون: نرجع من قول التغليب إلى التقسيط؛ إذ ليس أحدهما أغلب من الثاني،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) مزيدة من (ت 1)، (ت 2). (3) مزيدة من (ط)، (ت 1)، (ت 2). (4) (ت 1): ولا.

وهذا منقدحٌ، فإن أشكل الأمر، فلم يُدر الأغلب أيهما، فقد حكي عن ابن سريج أنه قال: يُجعل كما لو استويا إذا تقابل الأمران، فكان ذلك كما لو صادفنا داراً في يد رجلين، فكل واحد منهما يدّعي أن جميع الدار له، فنحكم بأن يد كل واحد منهما ثابتةٌ على نصف الدار. ثم قد ذكرنا حكم الاستواء إذا تحقق، ولا وجه في حالة الإشكال إلا ما ذكروه عن ابن سريج. ومما يجب العلم به أنا إذا اعتبرنا السقيات، فلا شك أنا نراعي سقياً يفيد، فأما سقية لا تفيد أصلاً، فلا اعتبار بها، وكذلك إذا أضرت. فرع: 2056 - إذا كان بناء الزرع والنخيل على السَّيْحِ، والنهر، وماء السماء، فمسّت الحاجةُ إلى النضح، على الندور، فقد ذكر بعض أصحابنا في هذه الصورة أن الاعتبار بالسيح، والنضحُ مطَرحٌ، وهذا ضعيفٌ، لا أصل له. والصحيح أنه معتبر إذا جرى، ثم تفصيله ما ذكرناه. 2057 - ومما يتعلق به تمامُ البيان أن التعويلَ لو كان على السَّيْح، فجرى السقيُ بالنضح، وقلّ قدرُه، فقد شُبّه ذلك بالعلف، إذا جرى نادراً في بعض السنة، حتى يقال: لا يُسقط حكمَ السوم، (1 ولكن بين الأصلين [فرقٌ] وهو أنه إذا جرى العلف في نصف السنة، والسَّوْم في نصف السنة، فالمذهب المتبع سقوط السوم 1) بالكلية، وفي النضح والسيح لا نقول هكذا؛ والسبب فيه أن في السيح والنضح جميعاً زكاة، وإنما الكلام في المقدار، فاتجه التوزيع، أو التغليب. والعلف موجَبه إسقاط الزكاة. على أنه كان من الممكن أن يسقط نصفُ الزكاة، ويجب نصفها نظراً إلى السَّوم والعلف [ولكن لم يصر إلى هذا أحد، وقيل: كأن الزمان الماضي في العلف] (2) المعتبر غيرُ منقضٍ من الحول، بل قيل هو غير محسوب، وزمان السوم قبله يُحبَط ويُسقَط، حتى إذا جرى سَوْمٌ بعد العلف، استأنفنا الحول، وجعلنا تخلّل العلف

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) مزيدة من (ت 1).

المعتبر على التفصيل المقدم، كتخلّل زوال الملك، في أثناء الحول. وما ذكرناه في هذا الفرع فيه، إذا كان البناء على السيح، فوقع النَّضح نادراً، (1 أو كان البناء على النضح، فوقع السيح نادراً 1)، فأما إذا كان البناء عليهما، فلا شك في اعتبارهما إما تغليباً، وإما تقسيطاً. واعتبار العلف والسوم جمعاً بين الإسقاط والإيجاب لا سبيل إليه. نعم. قد ذكرنا عن صاحب التقريب وجهاً غريباً في السوم أن الاعتبار بالغالب، وهو مزيّف كما تقدم. فرع: 2058 - إذا كان رُطبُه لا يقبل التجفيفَ، وإن جفف يفسد، وكذلك العنب، فقد سبق التفصيلُ في المأخوذ منه، والذي نذكره الآن أن الأئمة اختلفوا في كيفية الأوسق: فذهب بعضهم إلى أنا نقدر الجفاف على الفساد، فإن بلغ جافاً خمسةَ أوسق، أوجبنا العشر في المقدار الذي لو جف، لكان خمسة أوسق، وإن كان الرطب خمسة أوسق في نفسه، لم نوجب العشر. ومن أئمتنا من قال: لا نقدر الجفاف -وهو الأصح- ولكنا نقول: إذا بلغ الرطب الذي وصفناه، أو العنب خمسةَ أوسق، وجب العشر، وإن كان جافاً لا يبلغ هذا المبلغ وينقص نقصاناً ظاهراً. فصل قال: "وأخْذُ العُشر أن يكال للمالك ... إلى آخره" (2). 2059 - سبيل إخراج العشر أن يكيل تسعة للمالك، وواحداً للمساكين، وتقع البداية بالمالك؛ فإن نصيبه أكثر، وبتسلّم حقِّه، يبين حقُّ المساكين. وإن كان الواجب نصفَ العشر، يكيل للمالك تسعةَ عشر، وللمساكين واحداً.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) ر. المختصر: 1/ 233.

فصل قال: "وهكذا العشر مع خراج الأرض ... إلى آخره" (1). 2060 - القول في الخراج يتعلق بالسِّير، والجزية. والخراج الثابت على أراضي العراق -من ضرب عمرَ رضي الله عنه- في حكم الأجرة عندنا في ظاهر المذهب، أو في حكم ثمن مؤجلٍ لرقاب الأراضي، وكيفما فرض العشرُ يثبت معه؛ فإن من استأجر أرضاً وزرعها؛ فإنه يؤدي الأجرةَ، ويلزمه العشر في زرعه، ْ خلافاً لأبي حنيفة (2). 2061 - وأما الخراج الذي يضربه الإمام على أراضي الكفار، فهو جزية عندنا، يسقط بإسلام مالك الأرض، سقوط الجزية. وفي بعض التصانيف أن الإمام لو رأى صرفَ العشر إلى خراجٍ يضربه على أراضي المسلمين، فاجتهاده فيه نافد عند أبي زيد المروزي، وهذا ساقط، غير معتد به. وفساده واضح. ...

_ (1) ر. المختصر: 1/ 234. وفيه: "وهكذا نصف العشر ... ". (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 443 مسألة: 436، رؤوس المسائل ص 214، مسألة: 113، المبسوط: 2/ 207.

باب صدقة الورق

باب صدقة الوَرِق (1) قال: "روى أبو سعيد الخُدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة ... إلى آخره" (2). 2062 - روى أبو سعيدٍ الخُدري هذا الحديث (3). والأوقيةُ أربعون درهماً، وخمسُ أواق مائتا درهم، والاعتبار بوزن (4 مكة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الميزان ميزان 4) مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة" (5). ثم نتكلم بعد ذلك في تحقق الوزن، وفي الدراهم المغشوشة. 2063 - فأما تحقيق الوزن، فنقول: لو نقصت من المائتين جبة، فلا زكاة إذا تحقق النقصان، ردّاً على مالك (6)؛ فإنه قال: إذا نقص نقصاناً [تجوّزنا] (7) معه بالمائتين في المعاملة، ولم يكن ذلك النقصان مما يُحْتَفل به، فالزكاة واجبةٌ. وهذا مردود عليه، من جهة أن النصاب تقديرٌ شرعي، والزكاة متعلقة بالعين، وقد تحقق النقصان.

_ (1) الورق بكسر الراء الدراهم، والمراد هنا الدراهم والدنانير، وقال الورِق، من باب التغليب. (2) ر. المختصر: 1/ 234. (3) حديث أبي سعيد: متفق عليه (ر. اللؤلؤ: ح 567). (4) ما بين القوسين ساقط من (ك). (5) حديث: "الميزان ميزان مكة" رواه من حديث ابن عمر البزار (مختصر زوائد البزار: 1/ 507 ح 876) وأبو داود: (3/ 246 ح 3340) والنسائي: (5/ 54 ح 2520) قال الحافظ: وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وأبو الفتح القشيري (ر. التلخيص: ح 853). (6) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 398 مسألة: 550، جواهر الإكليل: 1/ 127. (7) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 1) "يجوز ما معه بالمائتين في المعاملة" والمثبت من (ت 2).

2064 - ثم ذكر الصيدلاني في كتابه (1) لفظاً مشكلاً، وأنا ناقله، قال بعد الرد على مالك، فيما ذكرناه: "فأما التفاوت بين الميزان، فلا حكم له؛ فإذا خرج بأحد الميزانين مائتا درهم، وجبت الزكاة". هذا لفظه في الكتاب. وأنا أقول: إن أراد بهذا أن ينقص بميزان ويخرج بميزان آخر مائتين، وهذا لفظه، فليس على ما يقدره؛ فإنا لا نأمن أن يكون الميزان الذي وفى به مختلاً، والميزان الذي نقص به كان قويماً، فإيجاب الزكاة تعويلاً على الوزن الوافي إيجابٌ على تردد، والأصل براءة الذمة عن الزكاة، فلا نشغلها إلا بيقين. وإن أراد بذكر الميزانين تكرير الوزن، فإن المقدار قد يتفق نقصانه في الظن، في وَزْنةٍ، ثم يتأنَّق الوازن، فَيَفي في كرةٍ أخرى. وهذا الذي يقوله (2) الفقهاء: "النقصان بين الكيلين لا حكم له". وكذلك ما يقع بين الوزنين. وهذا إن أراده، فهو غير متابَع عليه، (3 فإن الوزن حاضر، فإن التبس أمرٌ في كرة، أمكن أن يتثبت في الوزن مراراً حتى يَبين أن ذلك النقصان عن سوء فعل الوازن، ويتوصل في هذا إلى اليقين، الذي لا مراء فيه، فالاكتفاء بالوزن الوافي من غير تثبت مع القدرة عليه 3) لا معنى له. وبالجملة النصاب مقدر، ودرك اليقين ممكن، وإيجاب الزكاة بالشك لا سبيل إليه. 2065 - ومما يتعلق بالغرض في هذا أن النصاب نُقْرة (4) خالصة. ولو كانت الدراهم مغشوشة، فإن بلغت النُّقرة التي فيها خمسَ أواق، وجبت الزكاة، وإلا فلا

_ (1) كتاب الصيدلاني، معروف باسم طريقة الصيدلاني، وهو شرح للمزني، علقه عن شيخه أبي بكر القفال المروزي (الطبقات: 4/ 148، 149). (2) (ت 1): هو الذي نقله الفقهاء. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (4) النُّقْرةُ: القطعة المذابة من الفضة أو الذهب، وقبل الذوب هي تبر. (المصباح)، (المعجم).

وأبو حنيفة قال: إن غلبت النُّقرة، وجبت الزكاة (1)، وهذا زلل بيّن؛ فإن الزكاة أوجبها الشرع في خمس أواقٍ من الورق، والنحاس ليس من الورق. ولو كان معه مائتا درهم نُقرة، ولكن كان بعض ما معه جيداً، وبعضه رديئاً - ونعني بالجودة أن يكون ما نَصِفه بكونه جيداً ليناً تحت المطارق، والرديء فيه تشتتٌ (2) وتفتت لآفةٍ معدنية، أو سبب آخر، والنقرتان جميعاً خالصتان لا يشوبهما غش. فينبغي (3) أن يُخرج من كل نوع حصةً، على القياس الذي مهدناه فيه، إذا كان معه تمرٌ رديء، وتمرٌ جيد، وهذا لائح. فإن أخرج الواجب من النوع الجيد، فقد أحسن، وإن أدّى من كل نوع حصةً، فقد أتى بالواجب. وإن أخرج الجميع من الرديء، فقد قال الصيدلاني: إن أخرج الكل من الرديء، جاز مع كراهيةٍ؛ لأن كل واحدٍ فضةٌ خالصة، وهذا عندي خطأ صريح، إذا تحقق التفاوت في القيمة. ولو جاز هذا، لقلنا: من ملك أنواعاً من الإبل، فأخرج الفريضة من أردئها، جاز. ثم قال الشافعي: "وأكره الورِق المغشوش". هذا لا تعلق له بالزكاة. 2066 - فنقول: الدراهم المغشوشة إن كان مقدار نُقرتها معلوماً، وكان العيار مضبوطاً، فالمعاملة بها جائزة، إشارة إليها وتعييناً، والتزاماً في الذمة. وإن كان مقدار النقرة مجهولاً، ولكن كانت الدراهم رائجةً، فقد اختلف أئمتنا في جواز التصرف بها: فمنهم من منعه، وصار إلى أن المقصود المطلوب مجهول، والجهالة مانعة من التصرف، وليس ذلك بمثابة الإشارة إلى الدراهم (4 الخالصة؛ فإن إحاطة النظر بالمشار إليه إعلامٌ، ولا يُحصي اللَّحظُ ما في الدراهم 4) المغشوشة من النُّقرة.

_ (1) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 31. (2) "ليس المراد من الجيد والرديء الخالص والمغشوش، وإنما الكلام في محض النقرة. وجودته ترجع إلى النعومة، والصبر على الضرب، ونحوهما، والرداءة إلى الخشونة، والتفتت عند الضرب". ا. هـ بنصه عن الرافعي في فتح العزيز بهامش المجموع: 6/ 10. (3) قوله: فينبغي ... إلخ مرتبط بما سبق من قوله: ولكن كان بعض ما معه جيداً، وبعضه رديئاً. (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

ومن الأئمة من جوّز التصرف بها، فإنها رائجة جارية لمكان السكة (1)، والمقصود من النُّقرة جريانُها (2). 2067 - ولا خلاف أن بيع الغالية (3) والمعجونات جائزة، وإن كانت أخلاطها مجهولة الأقدار، وإن أردنا في ذلك فرقا، قلنا: المعجونات لو لم تكن عتيدة (4)، أدَّى فقدها إلى ضررٍ. ومواطأةُ الناس في أقدار أخلاطها غيرُ ممكن، وضبط العيار والمقدار (5) ممكن معتاد في كل ناحية. فهذا منتهى القول في هذا. والله الموفق للصواب. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كانت له فضة، خلطها بذهب ... إلى آخره" (6). 2068 - إذا كان معه فضةٌ مخلوطة بذهب، وكان مقدار كل واحد منهما مجهولاً، وكان علم أن وزن الجميع ألفٌ، ولم يدر أن الذهب منه ستمائة، والفضة أربعمائة، أو على العكس من ذلك، فإن ميّز أحدهما عن الثاني بالنار، وأخرج الزكاة بحسبه، فذاك. وإن لم يفعل هذا، فالذي ذكره الأئمة أن طلب اليقين محتوم في الخروج عن واجب الزكاة، وسبيله أن يأخذ بالأكثر في كلِّ واحدٍ، فيخرج زكاةَ ستمائة من الذهب، وزكاة ستمائة من الفضة؛ فإن الزيادة التي يخرجها من أحد التبرين لا تُجزىء

_ (1) السِّكةُ حديدة منقوشة، تطبع عليها الدراهم والدنانير (المعجم) والمراد هنا لكون هذه النقرة معتمدة للتعامل بها، ومسكوكة على السِّكة. (2) أي جريانها بين الناس، وقبولها في التعامل. (3) الغالية نوعٌ من الطيب، يتكون من أخلاط عدّة، منها المسك والعنبر (المعجم، والمصباح). (4) العتيدة: المهيأة الحاضرة، والمعنى لو لم تكن موجودة متاحة. (5) أي أقدار الدراهم والدنانير. بخلاف الغالية. (6) ر. المختصر: 1/ 235.

عن الآخر؛ فإن الأبدال غير مجزئةٍ في الزكوات. فهذا ما ذكره أئمتنا. ثم ذكروا هندسةً في الاطلاع على مقدار الذهب والفضة، من ذلك المختلط، وهي معروفة (1)، وأهون منها أن يُسبك مقدارٌ نزرٌ من المختلط، ويقاس به الباقي، فإن عسر ذلك، فالوجه ما ذكرناه. وقال العراقيون: إن غلب على ظنه مقدارُ كلِّ تبرٍ، نُظر: فإن كان يُخرج الزكاة بنفسه، فله أن يبني على ظنه، ولا نكلفه طلب اليقين، (2 وإن كان يسلِّم الزكاة إلى الساعي، فإنه لا يعتمد ظنَّه في ذلك، ويقول: خذ بالأكثر، واطلب اليقين 2)، أو ميز أحدَهما عن الثاني. هذا طريقهم. والذي قطع به أئمتنا أنه لا يجوز اعتماد الظن في ذلك. وقياسنا لائح. ووجه الإشكال فيما ذكروه أنا إذا أوجبنا الأكثر، فقد زدنا قطعاً، وإيجاب الزكاة من غير ثَبَت (3) مشكل أيضاًً. ولكن إن أخرج المستيقن من كل تبر، فيُخرج زكاة أربعمائة من الورق، وأربعمائة من الذهب، فيبقى عليه زكاةٌ على قطعٍ، وإسقاط حق المساكين لا سبيل إليه، هذا مقطوع به. وكذلك إذا أخذ ستمائة نُقْرة، وأربعمائة ذهباً، فيجوز أن يكون مصيباً، ولكن إذا لم ينضم إليه ظن، فلا يبرأ به في ظاهر الحكم، وهذا متفق عليه. والكلام فيه إذا ظن، وبنى على ظنه.

_ (1) رضي الله عن إمام الحرمين، لم يشرح لنا هذا النوع من هندسة المعادن، الذي ذكره الأئمة الفقهاء ووضحوه، واكتفى بقوله هي معروفة. ألم يكن يقدّر أن أجيالاً ستأتي بعده، تقرأ كتابه مثلي أنا وهي لا تعرف هذه الهندسة. رضي الله عن أئمتنا كيف عُنوا بفقه الواقع، وأحاطوا خبراً بكل ما يتكلمون فيه. وغفر الله لمجتهدة العصر المحدَثين استطالتهم، وتطاولهم على أئمتنا الأعلام، وإلى الله براءتي مما يقولون. هذا، وقد ذكر ابن الصلاح هذا النوع من الهندسة في مشكل الوسيط، فراجعه إن شئت (2/ 473 بهامش الوسيط). (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (3) ثبت: بفتحتين، أي حجة.

2069 - وهذه المسألة ملتبسة جداً في القياس، ويحتمل من طريق النظر أن يقال: إذا أخرج الزكاة على تقديرٍ في التبرين، من غير ظنٍّ غالب؛ فإنه يَخرج عما عليه غالباً، وليس هذا كما لو شك في أعداد ركعات الصلاة، فإنا في ظاهر المذهب نُوجب عليه الأخذَ بالمستيقن، ولا نُجَوِّزُ التعويلَ على ظنٍّ إن كان، وسببُه أنه استيقن وجوبَ أربع ركعات عليه، فيلزمه أن يؤدي على يقين، وفي المسألة التي نحن فيها لم يستيقن الزكاة على وجه، حتى يلزمه الخروج عما عليه، ومن علم أن عليه دَيْناً لإنسان، ولم يعلم مبلغه، فيلزمه أن يؤدِّي مبلغاً يستيقن معه أنه خرج عما لزمه. ولكن ما ذكرناه قياسه أنه وإن لم يظن، فإذا أخرج ما يجوز أن يكون هو الواجب، كفاه. وبقي عليه بابُ الورع والاحتياط. ومما يُشكل في المسألة فرقُهم بين أن يفرق بنفسه، وبين أن يسلمه إلى السلطان، وهو مشكل؛ من جهة أنه لا يَدَ للسلطان في زكاة التبرين، فإذا سلمت إليه، لم يبعد أن يعوّل (1 على ما يخبر عنه من ظنه، إن كان للعمل بالظن في ذلك مساغ، وإنما 1) يحسنُ النظر في هذه المسألة إذا عسر السبك، والزكاة واجبة على (2) الفور لا يجوز تأخيرها، مع وجود المستحقين. فإن تيسر السبكُ، وجب ذلك، أو الأخذ باليقين، كما صوره المراوزة. فهذا هو الممكن، وبالجملة ما ذكره العراقيون متنفَّس للفكر، وتطريق لوجوه الاحتمال. فصل قال: "ولو كانت له فضة ملطوخةٌ على لجام ... إلى آخره" (3). 2070 - القول فيه أن كل ما يجتمع لو رُدَّ إلى النار، فهو محسوب على المالك في الزكاة، وأما ما لا يجتمع، فمستهلك، لا حكم له.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) هنا خلل آخر في ترتيب صفحات نسخة (ك)، حيث عادت من نهاية ص 125 إلى بداية ص 79. (3) ر. المختصر: 1/ 235.

2071 - ثم ذكر الشافعي من مذهبه أن نصاب أحد النقدين لا يكمل بالثاني، فلو ملك مائةَ درهمٍ وعشرة دنانير، أو ملك مائتي درهم إلا دانق (1)، وملك عشرين ديناراً إلا حبة، فلا زكاة عليه فيهما، وخالف فيه أبو حنيفة (2) على تفصيلٍ لأصحابه في كيفية الضم. فصل قال: "وإن كان في يده أقل من خمسٍ ... إلى آخره" (3). 2072 - المذهب أن من كان له دين على مليء وفيٍّ، فالزكاة فيه كالزكاة في النقد الحاضر، وسيأتي تفصيل ذلك في الديون - إن شاء الله. وغرضنا الآن البناء على وجوب الزكاة في الديون، ثم إن كان الدين على معسر، فهو بمثابة المال المغصوب، وإن كان على جاحد، فكمثلٍ (4)، ثم قد ذكرنا أنّا إذا أوجبنا الزكاة في المجحود والمتعذّر، فلا نوجب إخراج الزكاة في الحالِ منه. 2073 - وإن كان الدين مؤجلاً على مليء وفي، فهو فيما نحن فيه الآن بمثابة المال الغائب، مع أمن الطريق، فتجب الزكاة فيه بحلول الحول. ولكن إذا حال الحول وهو غائبٌ، أو مؤجل، ففي إيجاب إخراج الزكاة (1 في الحال عن الغائب والمؤجل

_ (1) كذا في النسخ الخمس، ولا أدري لها وجهاً بالرفع أو بالنصب من غير تنوين. بعد أن كتبنا هذا وجدنا ابنَ هشام يحكي من مشكلات الجامع الصحيح ما ذكره ابن حجر في فتح الباري من رواية لحديث أبي هريرة: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون" برفع (المجاهرون) وعقب ابن مالك قائلاً: "ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين في هذا النوع إلا النصب، وقد أغفلوا وروده مرفوعاً بالابتداء، ثابتَ الخبر ومحذوفه" (ر. شواهد التوضيح: 94، وفتح الباري: 13/ 97). (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 430 مسألة: 414، المبسوط: 2/ 139، تبيين الحقائق: 1/ 280. (3) ر. المختصر: 1/ 235. (4) أي كمثل المغصوب.

قولان، سيأتي ذكرهما، وليس كالمتعذر؛ فإنه لا يجب إخراج الزكاة 1) عنه، قولاً واحداً، وإنما الخلاف في الوجوب. 2074 - ولو ملك مائةَ درهم نقداً، وكان له مائةٌ مؤجلة، تجب الزكاة فيها، فإذا حال الحولُ على النقد والدين، وجبت الزكاة، فإن قلنا: يجب الإخراج عن المؤجل، فيخرج زكاة النقد والدين، ناجزاً عاجلاً. وإن قلنا: لا يجب إخراج الزكاة عن المؤجل، وفرضنا في مائة مجحودةٍ، والتفريع على وجوب الزكاة، ولكن لا يجب إخراجها، فهل يجب إخراج الزكاة عن المائة النقد؟ ذكر شيخنا وجهين: أحدهما - لا يجب؛ فإنها ناقصة عن النصاب، فإذا لم يجب إخراجُ تمام زكاة النصاب، لم يجب إخراج شيء. والثاني -وهو المذهب الذي لا يتجه غيره- أنه يُخرج زكاة النقد؛ لتمكنه منه، وإنما يعتبر التكميل في وجوب الزكاة، فإذا وقع التفريع في وجوب الزكاة، فالوجه أن يخرج الزكاة عما يتمكن منه. 2075 - ثم قال الشافعي: "وما زاد ولو بقِيراط، فبحسابه". فإذا ملك نصاباً من أحد التبرين، وزيادة، فلا شك في وجوب الصدقة في النصاب، ومذهب الشافعي أنه ليس بعد النصاب في زكاة النقد والتجارة وَقصٌ، ولكن ما زاد ولو قَيراط، فيجب فيه بحسابه، وهو ربع العشر، والأوقاص إنما تثبت في النَّعم توقِّياً من إيجاب الأشقاص في الحيوانات، ولا تعذر في تبعيض الحساب، في القليل والكثير من النقود. 2075/م- ثم عقد باباً في زكاة الذهب (2)، ونصابُه عشرون مثقالاً، وواجبُه ربع العشر، كواجب الوَرِق، ثم تعرض لاشتراط بقاء النصاب في تمام الحول، وقد مضى هذا مستقصًى فيما تقدم. ...

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) ر. المختصر: 1/ 236.

باب زكاة الحلي

باب زكاة الحلي 2076 - ظهر اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلي، فذهب عمرُ، وابنُ مسعود، وعبدُ الله بن عمرو بن العاص، إلى إيجاب الزكاة فيها (1)، وعن ابن عمرَ وعائشةَ وجابر: "لا زكاة فيه" (2)، ففي المسألة إذن قولان مشهوران. واستقصاء توجيههما في الخلاف (3). ثم قال الأئمة: إنما القولان في الحلي المباح، فأما الحلي المحظور، فتجب فيه الزكاة قولاً واحداً. وهذا في الأصل متفق عليه. 2077 - ونحن نذكر أولاً تفصيل المذهب في الحلي المباح والمحظور، ثم نرجع إلى غرضنا من الزكاة، فنذكر حكم الرجال، ثم نذكر حكم النساء. فأما الرجال، فيحرم عليهم استعمال الذهب في جميع الوجوه من غير تفصيل، إلا أن يُجدعَ أنفُه، وتمس حاجته إلى اتخاذ أنفٍ من ذهب، فله ذلك -وإن كان اتخاذه من الفضة ممكناً- فإن الذهب لا يصدأ، وقد صح هذا بعينه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رأى رجلاً مجدوعاً كان اتخذ أنفاً من فضة، فقال: "اتخذه من ذهب؛ فإن الذهب لا يصدأ" (4).

_ (1) أثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة: 3/ 153، والبيهقي: 4/ 139، وأما أثر عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد رواه الشافعي في الأم: 2/ 35، وفي المختصر: 1/ 238، وأما أثر ابن مسعود، فرواه الطبراني في الكبير: ح: 9594، والبيهقي: 4/ 139، والدارقطني: 2/ 108 (ر. التلخيص: 2/ 242، ح 859). (2) أثر ابن عمر في الموطأ: 1/ 250، وكذا أثر عائشة، وأما أثر جابر، فرواه البيهقي: 4/ 138، والدارقطني: 2/ 107 (ر. التلخيص: 2/ 243، ح 860). (3) لم يعرض لهذه المسألة في "الدرة المضيّة" فلعله استقصاها في كتاب آخر من كتبه في الخلاف. (4) حديث: "اتخذه من ذهب ... " أخرجه أحمد: 5/ 23، وأبو داود: الخاتم، باب ما جاء =

فأما التحلي بالفضة، فلا يختلف العلماء في جواز تحلية السيف والمناطق، وآلات الحرب للرجال. وما يليق بتزيين البدن: كالخلاخل والأَسْوِرَة، ونحوها مما يختص به النساء في العرف الغالب، فاستعماله حوام على الرجال. ولعل السبب في إباحة استعمال الحِلية في السيوف، والمناطق، وغيرها، أن المحذور في الرجال الانحلال والتبذل، وما يُشعر بالتخنث، وإذا استعملوا الحلية في السلاح، لم يتحقق ما أشرنا إليه. ويستثنى مما أصَّلْناه الخاتم، فللرجل التحلِّي بخاتمِ الفضة، وقد دَرَج عليه الأولون، فهو مستثنىً بالإجماع، ويحرم على الرجال اتخاذ خاتمٍ من ذهب، وكذلك يحرم عليه تحلية السلاح بالذهب، والمتبع فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج يوماً وعلى إحدى يديه قطعةُ ذهب، وعلى الأخرى قطعة حرير، فقال: "هما حرامان على ذكور أمتي حل لإناثهم". 2078 - وكان شيخي يقول: إن طُوّق خاتم الرجل بشيء من الذهب، وكان يجتمع بالنار لو رد إليها، يحرم ذلك وإن قل؛ طرداً لتحريم استعمال الذهب على الرجال. قال الشيخ الإمام: وفي تمويه حلية السيف بالذهب، بحيث لا يجتمع شيء لو رد إلى النار احتمال، تشبيهاً بالأواني المتخذة من النحاس، إذا مُوّهت بالذهب، كما تقدم (1 في الطهارة، ولو شبه مشبهٌ القليلَ من الذهب 1) في تطويق الخاتم وغيره، بالضَّبة الصغيرة من الذهب، في الأواني، لم يكن مبعداً. ويشهد لذلك أن الرجل وإن حرم عليه لبسُ الحرير، فقد يحل له ثوبٌ [طُرِّز] (2) بالحرير من غير إفحاش. وأنا أخرج على ذلك طُرُزَ الذهب، فإن كانت لا تجتمع لو

_ = في ربط الأسنان بالذهب، ح 4232، والترمذي: اللباس، باب ما جاء في شدّ الأسنان بالذهب، ح 1770، والنسائي: الزينة، باب من أصيب أنفه هل يتخذ أنفاً من ذهب؟ ح 5161 (ر. تلخيص الحبير: 2/ 340 ح 857). (1) ما بين القوسن ساقط من (ك). (2) في الأصل، (ط)، (ك) طرّف. وليس في مادة (ط. ر. ف) هذا المعنى إلا بالهمزة: أُطرف (المعجم، والمصباح).

رُدّت إلى النار؛ فإني أراها كالتمويه، وإن كان الذهب يجتمع كطُرز بغداد ومصر، فالكثير منه يحرم، والصغير خارج على ما ذكرته في [أسنان] (1) الخاتَم. واختلف الأئمة في جواز تحلية السرج واللجام بالفضة: فمنهم من حرم، ومنهم من أجازه تشبهاً بالسيف والمِنطقة؛ من جهة أن الفرس من آلات الرجال في القتال وغيره. وأما تحلية الدواة، فقد وجدتُ الطرقَ متفقةً على منع الرجال منها، وخروجه عن الضبط الذي ذكرناه ظاهر. 2079 - فأما النسوة فكل ما يليق بزينة النفس والتزين للأزواج، فهن غيرُ ممنوعات منه، كالخلاخل والسُّور (2) والقِرَطة وخواتيم الذهب، والمخانق، وغيرها. والذهب في حقوقهن كالفضة. ولو استعملن الحلية في السيوف والمناطق، وآلات الحرب، فهن ممنوعات من ذلك؛ إذ لا يجوز لهن التشبّه بالرجال (3 في ذلك، كما لا يجوز للرجال التشبه بهن 3) في زينة البدن. وإذا امتنع ما ذكرناه، فتحلية السرج واللجام أولى بالمنع. وأما سكاكين المهنة التي لا تراد للحرب، فإذا كانت محلاة، فهل يحرم على الرجال استعمالها؟ ذهب المحققون إلى أنه يحرم على الرجال، وتردد بعض الأئمة فيه، وهو موضع التردد. وعندي أن هذا التردد يُبين اختلافاً في النساء، فإن رأينا في حق الرجال أن نلحقها بآلات الحرب، منعنا النسوة، وإن قطعناها عن آلات الحرب في حق الرجال، ففيه احتمال في حق النساء.

_ (1) في الأصل، و (ك): انسنان، وفي (ت 2): أسباب، والمثبت من (ت 1). والمراد طرف الخاتم وحروفه. (2) سور: جمع سوار، مثل كتاب وكُتُب، ثم أُسكنت الواو تخفيفاً. وقرطة: وزان عنبة، مفردها قرط، بضم أوله، والمخانق جمع مِخْنقة، وهي القلادة. سميت بذلك، لإحاطتها بالعنق. (المصباح). (3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

2080 - فأما تحلية المصاحف بالذهب والفضة، فلأصحابنا فيه طريقان: قال الصيدلاني: أما التحلية بالفضة، فجائزة للرجال والنساء جميعاً، وأما التحلية بالذهب، فجائزة للنساء، وفي جوازها للرجال وجهان: أحدهما - المنع؛ طرداً لمنع استعمال الذهب في حق الرجال. والثاني - يجوز؛ فإنه ليس تحلياً من الرجل، وإنما هو تعظيم لكتاب الله تعالى. فهذه طريقة. وذهب بعض أصحابنا إلى مسلكٍ آخر، فقال: في جواز تحلية المصحف بالفضة والذهب جميعاًً في حق الرجال والنساء خلاف، فلا يختص بالخلاف أحد التبرين، ولا أحد الجنسين. فمن منعه لم يره مما يجوز للرجال في آلات الحرب، ولم يره زينةً للنساء، ومن جوزه حمل على تعظيم كتاب الله وتكريمه، فعلى هذا يستوي فيه التبران، والرجل والمرأة. وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً - فقال: من أصحابنا من جوز تحلية المصحف، ولم يجوّز تحلية غلافه المتصل بالمصحف، وخصص الخلاف بجلد المصحف، ثم زيف هذا الوجه، ومال إلى أنه لا فرق. فإذاً في غلاف المصحف إذا لم يكن متصلاً به تردد عندي، أخذاً من اختلاف الأصحاب في أن المُحْدِث هل يمس غلاف المصحف؟ والله أعلم. 2081 - ثم قال العراقيون: منع أبو إسحاق المروزي تحلية الكعبة والمساجد بخلاف تحلية المصاحف. هذه صيغةُ كلامهم، ولم يذكروا في منع ذلك خلافاً، ولم أعثر على خلافٍ فيه أنقله. وليس يخفى وجه الاحتمال. وكذلك نقلوا عنه تحريم تعليق قناديل الذهب والفضة في المساجد، على ما ذكرناه. وأما تحلية سائر الكتب قد (1) منعها الأصحاب، نصوا عليه. قال الشيخ الإمام: من فصل بين الرجال والنساء في المصاحف، يتطرق إليه أن

_ (1) هكذا بإسقاط الفاء في جواب (أمّا). وهي لغة الكوفيين.

يجوّز لهن تحليةَ كتبٍ يتعاطينها، لاعتقاد ذلك حلية في حقهن، وهذا بعيدٌ، لم يقل به أحد. وبه يتبيّن أن الأولى [رفعُ] (1) الفرق بين الرجال والنساء، في تحلية المصاحف. وردد صاحب التقريب قولَه في جواز استعمال مكحلةٍ من فضة للرجال، وكذلك ملعقة فضة للغالية، وغيرها، لا للأكل به، على شرط الصغر، والأمر محتمل، كما قال. 2082 - ثم قال الإمام: كل حلية أبحناها، فالإباحة جارية إذا لم يكن سَرف، (2 وإن كان فيها سرف 2)، فوجهان، كالمرأة تتخذ خلخالاً من مائتين، وكذلك القول فيما يضاهيه. فإذا جوزنا للرجل تحليةَ سيفه ومنطقته، فليس الحلال منه على حدّ الضبة الصغيرة، في الأواني، حتى يراعى ما سبق، وحتى تعتبر الحاجة أيضاًً، كما تقدم اعتبارها في ضبة الإناء. بل تحلية هذه الآلات من الرجال، كتحلِّي النسوة فيما يجوز لهن. والله أعلم. فهذا ما حضرنا ذكره من القول، فيما يحرم ويحل، من التحلِّي. 2083 - وحظ الزكاة من هذا الفصل: أنا إذا أوجبنا الزكاة في الحلي من غير تفصيل، لم نحتج إلى شيءٍ من هذه التفاصيل في الزكاة. فإن قلنا: لا زكاة في الحلي المباح، وتجب الزكاة في المحظور، فهذا موقفٌ يتعين على الناظر إجالةُ الفكر فيه، بعد الاستعانة بالله. فالذي يعتمده من ينفي الزكاة عن الحلي أنه مصروف عن جهة النماء، وكأنه يعتقد أن الحليَّ عَرْضٌ من العروض، ويعتضد المعنى بأن النقد ليس نامياً في نفسه، وإنما يلتحق بالناميات، من جهة تهيُّئه للتصرف، فإذا اتُّخِذَ منها حلي، زال هذا المعنى، وسياق هذا يقتضي أن يقال: كل حُلي لا يُكسَر (3) على صاحبه، لا زكاة فيه، فإن

_ (1) في الأصل: وقع. (2) ما بين القوسين ساقط من (ك). (3) أي محترم مضمون.

كان يستعمله على وجه محرم، فالتحريم يرجع إلى فعله في الحلي، لا إلى نفس الحلي، نعم. إذا قلنا: تكسر أواني الذهب والفضة على ملاكها، فتجب الزكاة فيها؛ لأن تلك الصنعة مستحقةُ الإزالة شرعاً، فالأواني في حكم الشرع متبرة (1)، وكذلك لو اتخذ من التبر صوراً وآلاتِ ملاهٍ. وهذا الذي ذكرتُه إشكال ابتديتُه، وليس قاعدةً للمذهب، فحق من يعتني بجمع المذهب أن يعتمد ما يصح نقلُه، ويستعملَ فكره في تعليله جهدَه، حتى يكون نظرُه تبعاً لمنقوله. فأما أن يستتبع المذهبَ، فهذا قصدٌ لوضع مذهب. نعم يحسن بعد النقل إبداء الإشكال، وذكْر وجوه الاحتمال في الرأي، لا ليُعتقد مذهباً، ولكن لينتفع الناظر فيها بالتدرب في مسالك الفقه. فننقل ما ذكروه الآن في ذلك. 2084 - قالوا: إذا اتخذ الرجل حُليَّ النساء، وقصد أن يتحلى هو به، لم تسقط الزكاة، وكذلك المرأةُ إذا اتخذت مناطقَ محلاةٍ وسيوفاً، وقصدت أن تستعملها، فعليها الزكاة. وما ذكرناه من الجانبين هو الذي عناه الأئمة بالحلي المحظور، ولو اتخذ الرجل حُليَّ النساء ليُلبسَها نساءه وإماءه، وليعيرها من النساء، فلا زكاة على القول الذي نفرع عليه. وكذلك لو اتخذت المرأة ما يليق بالرجال لتُلبسَها بنيها، وغلامَها، فلا زكاة. 2085 - فإن قيل: فما تعليل المذهب، والحليُّ في نفسه محترمُ الصنعة، غيرُ مكسر على الملاَّك، وعلى كاسره الضمان [وإن] (2) فسدت القصود (3)؟ قلنا: ضبطُ المذهب في ذلك عندي: أن الزكاة تجب في النقد لعينه، وعينُه لا تنقلب، بأن يتخذ منه الحلي، ولا يشترط في جريان الورق في الحول أن يكون مطبوعاً مسكوكاً أصلاً؛ إذ تجب الزكاة في السبائك، والتبر، والحليُّ في معناهما،

_ (1) أي محطمة، مكسّرة، مُهْلكة. (2) في الأصل، (ك): "فإن". (3) (ت 2): العضو.

وإنما يتميز عنها بالاستعمال، فلا يلتحق الحُلي بالعُروض -وهو عين الورِق- إلا بقصد (1 ينضم إليه، وهذا يناظر -على العكس- الثيابَ وغيرَها من السلع؛ فإنها ليست أموال الزكاة في أعيانها، فمن اشترى شيئاً منها، ولم يقصد التجارة، لم يثبت حكمُ الزكاة، ولم يجر الحول، فإذا انضم قصدُ التجارة إلى صور الشراء، ثبت حكم الزكاة، فكما أن العُروض لا تدخل في الزكاة إلا بقصد 1)، كذلك الورِق والذهب بنفس الصنعة لا يلتحقان بالعروض. فهذا قاعدة الكلام. والذي يوضح هذا: أن أئمة العراق، وغيرَهم قالوا: لو اتخذت المرأة حُلياً مباحاً للاستعمال، ثم نوت بعد ذلك أن تكسر الحلي، ولا تستعملَه، فإنه يجري في الحول. فإن كنا نفرع على أن الحُليّ لا زكاة فيه، وهذا قطب الفصل ولبابه، فنتخذه معتبر الفصل، ويشهد لهذا ما ذكره الصيدلاني وغيرُه، من أن الزكاة تجب في أواني الذهب والفضة، على قولنا: لا زكاة في الحلي. فإن قلنا: لا حرمة لصنعة الأواني، فهي في الشرع كالتبر، وإن قلنا: لصنعتها حرمة، فلا يجوز استعمالها، فهي من حيث إنها لا تستعمل كالمكنوز من الحلي، فوضح بما ذكرناه أن الحلي لا تسقط الزكاة عنه بصنعته، وانصرافِه عن التهيّؤ للتصرف، ولا بد من قصد الاستعمال. فإذا تقرر ذلك، قلنا: سقوط الزكاة مع قيام التبر في عينه في حكم الرخصة، والرخص لا تناط بالمعاصي، فإذا قصد استعمالاً محرماً، بطل قصدُه، وإذا بطل قصد الاستعمال -وقد ثبت أن عين صنعة الحلي لا تُسقط الزكاة- تعيّن إيجاب الزكاة. فهذا بيان قاعدة المذهب. 2086 - ولو اتخذ الإنسان حلياً، ولم يقصد استعمالَه، لا في وجهٍ محظور، ولا في وجه مباح، ولم يقصد الكنز، فهذا فيه احتمال لائح، وفي كلام الأئمة إشارة إليه. وقد جرى في أثناء كلام صاحب التقريب -ما يدل على أن الحليَّ المباح- على قول

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

إسقاط الزكاة، لا يعود إلى الحول، ما لم يقصد صاحبُه ردَّه إلى التبر، حتى لو قصد إمساكه حلياً من غير كسر، فلا زكاة. ومجموع ما قيل يوضحه صور نأتي بها، ونذكر في كل صورة ما قيل فيها. فلو اتخذ حلياً، وقصد عند الاتخاذ، أو بعده استعمالاً مباحاً، فهذا هو الذي لا زكاة فيه، في القول الذي نفرع عليه. وإن قصد استعمالاً محظوراً، وجبت الزكاة. وإن قصد أن يكنزه، فالمذهب وجوبُ الزكاة، وما أشرنا إليه من خلافٍ فيه غيرُ معتد به. وإن اتخذ حُلياً، ولم يقصد شيئاً، لا الكنزَ، ولا الاستعمال، فهذا فيه خلاف وتردد ظاهر، فيجوز أن يغلّب حكم جوهره، ويجوز أن يقال: هو مصروف عن جهة النماء، ولم ينضم إليه ما يُلحقه بالتبر، والجاري على القاعدة وجوبُ الزكاة، إذا لم تكن نية وقصد. 2087 - ومن حقيقة هذا الفصل أن من قصد عند الاتخاذ قصداً فاسداً، ثم غير قصده إلى وجهٍ صحيح، فالوجه سقوط الزكاة. فإذا أعاد القصدَ الفاسد، عاد إلى حول الزكاة، فيتبع القصد. ومما يتصل بهذا أن من اشترى شيئاً على قصد التجارة، ثم نوى القِنية، سقطت الزكاة، فلو عاد إلى نية التجارة، لم يعد حول الزكاة بمجرد النية. وأحكام الحلي فيما ذكرناه تتبدل بالقصود والنيات، من السقوط إلى الثبوت. والسبب فيه أن القِنية لا معنى لها إلا الإمساك، فإذا انضمَّت النية إليه، كفت. أما التجارة فتصرفٌ، والنية لا تحصِّلها، وأما الحلي فإنه في نفسه معدول في صُنْعه وصُوره (1) عن جهة النماء، ولكن ينبغي ألا يُضمَّ إليه نية فاسدة وقصد في ترك الاستعمال، ومن هاهنا ظهر الاحتمال فيه إذا لم يكن له قصد أصلاً. وبالجملة لست أرى لاقتران النية بابتداء الاتخاذ أثراً، والطارىء يعمل عمل المقارن، فإن اقتضى ما يطرأُ وجوبَ الزكاة، فسببه الجوهر، وإن اقتضى ما يطرأ

_ (1) (ت 1) معدول صنعةً وصورةً.

السقوطَ، فسببه صورةُ الانصراف عن التصرف، ولا يخفى على ناظرٍ في وجه الرأي أن الأصحَّ في القياس إيجاب الزكاة في الحليّ. ثم ما ذكرناه من القصد وتأثيره، لا يشترط فيه تحقيق القصد بالفعل، ولو قصد الاستعمالَ، كفى ذلك، وإن لم يستعمله. فهذا ما أردناه. فصل قال الشافعي: "وإن انكسر حليها، فلا زكاة فيه ... إلى آخره" (1). 2088 - إذا فرعنا على نفي الزكاة عن الحلي، فلو انكسر الحلي، نُظر، فإن اختل اختلالاً لا يمتنع به استعمال الحلي، فلا حكم له، وإن انكسر وترضَّضَ، وخرج عن صنعته خروجاً لا يقبل الإصلاح، وإن أريد استعمالُه، فلا بد من سبكه، وإعادة صنعته، فإن كان كذلك، فكما (2) انتهى إلى هذه الحالة، جرى في الحول، وتهيّأ للزكاة في أوانها. فأما إذا كان الانكسار بحيث يمتنع الاستعمال معه، ولكنه يقبل الإصلاح، فما حكمه؟ قال الأئمة: إن قصد مالكُه ردَّه تبراً، أو دراهم، وقد انكسر كما وصفناه، فيجري في الحول بلا خلاف، وإن كان المالك مصمماً على إصلاحه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجري في الحول، وحكمه حكم الحُلي، ثم لا يجري في الحول، ولا تتعلق به الزكاة -وإن تمادت الأحوال- فإنه قابل للإصلاح، غيرُ ملتحقٍ بالتبر، وقد انضم إليه القصد في الإصلاح. والوجه الثاني - أنه كما (3) انكسر على ما وصفناه، يجري في الحول، وإن قصد المالك إصلاحه؛ فإنه خرج عن كونه حلياً؛ إذ لا يتأتى استعماله حلياً.

_ (1) ر. المختصر: 1/ 239. (2) "كما" بمعنى: "عندما". (3) "كما" بمعنى: "عندما".

ولو انكسر كما ذكرناه، ولم يقصد إصلاحه، ولم يقصد أيضاًً رده تبراً، أو دراهم، ففي المسألة وجهان، مرتبان على الوجهين في الصورة التي قبل هذه، وهاهنا أولى أن يجري في الحول، من حيث لا ينضم إلى الانكسار قصدُ الإصلاح، بخلاف الصورة التي تقدمت على هذه، وينتظم فيه إذا قصد الإصلاح، أو لم يقصد شيئاً، ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجري في الحول مطلقاً. والثاني - لا يجري ما لم يقصد ردَّه تبراً. والثالث - إن قصد الإصلاح، (1 فهو حلي، وإن لم يوجد هذا القصد، جرى في الحول. 2089 - وتمام البيان فيما ذكرناه: أنا إذا قلنا: لو قصد الإصلاحَ، فهو حُلي، وإن لم يقصد، فإنه يجري في الحول، فعلى هذا لو انكسر، ولم يشعر المالك حتى يُفرض منه قصدُ الإصلاح 1)، وكما (2) عرف قَصَدَ الإصلاح، فهذا فيه تردد من جهة الاحتمال، ولا نقلَ عندي فيه. فنقول: إن لم يشعر حتى مضى حول، ثم كما بلغه الانكسار، قصد الإصلاح، فيجوز أن يقال: على وجه رعاية قصد الإصلاح إذا كان سبب استئخار قصدِه عدمَ معرفته، فإذا قصد، قلنا: يتبين بالأَخَرة أنه مُقَر على حكم الحال، فلا نوجب الزكاة تبيُّناً (3). ويجوز أن يقال: إذا مضى حولٌ ولا قَصْدَ، وجبت الزكاة، لعدم القصد، ثم لا مردَّ لما وجب، وإن قلنا بهذا الاحتمال الأخير، فقد وجبت الزكاة للسنة المنقضية. فإذا قصد الإصلاح، فينقدح وجهان من الاحتمال: أحدهما - أنه ينقلب في المستقبل إلى حكم الحلي؛ فإنه قصد الآن.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) "كما" بمعنى: "عندما". (3) سبق تفسير هذا المصطلح (التبيّن).

والثاني - أنه لا ينفع القصد في الاستقبال بعدما اتفق وجوب. الزكاة؛ فإن الزكاة إذا وجبت، التحق المنكسر بالتبر حكماً، فلا يثبت بعد ذلك حكمُ الحلي ما لم يُعِد الصنعة. ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخف عليه تفريعُ صورةٍ أخرى تَشَذّ عما ذكرناه. ***

باب ما لا زكاة فيه

باب ما لا زكاة فيه 2090 - مضمون الباب أن الزكاة تختص من بين الجواهر بالتبرين، فلا زكاة في اللآلىء، واليواقيت، وغيرهما. وإذا ضبطنا ما ينحصر، كفى ذلك، في نفي ما لا ينحصر. وتعرض الشافعي للعنبر، وذكر أنه لا زكاة فيه، وأشار إلى اختلاف السلف. ***

باب زكاة التجارة

باب زكاة التجارة 2091 - ذهب العلماء المعتبرون إلى إيجاب زكاة التجارة، وقد تقدم في أول الزكاة أن الزكاة تنقسم إلى ما يتعلق بالعين، وإلى ما يتعلق بالقيمة: فأما الأعيان التي تتعلق الزكاة بها، فالنَّعم، والنقدان، والمعشَّرات، كما سبق القول في أصنافها. وأما ما تتعلق الزكاة فيه بالقيمة، فهو مضمون هذا الباب. وذهب أصحاب الظاهر (1) إلى نفي زكاة التجارة، وعزي هذا إلى مالك (2)، وقال الصيدلاني: قد تردد الشافعي في القديم في زكاة التجارة. وهذا لم يحكه عن القديم غيره، فلا التفات إليه. والأصل الذي اعتمده الشافعي حديث حِماس وهو ما روي أن حِماساً (3) قال: "مررتُ على عمر بن الخطاب وعلى عُنقي آدمه (4) أحملها، فقال: ألا تؤدّي زكاتك يا حِماس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين مالي غير هذا وأُهُب (5) في القَرَظ، فقال: ذاك مال، فضَعْ، فوضعتُها بين يديه، فحسبها، فوجدها قد وجبت فيها الزكاة، فأخذ

_ (1) ر. المحلى: 5/ 209. (2) "وعُزي هذا إلى مالك". كذا قال الإمام بصيغة التمريض، ولم نصل إلى هذا فيما بين أيدينا من كتب السادة المالكية. وبمثل قول الإمام قال ابن قدامة في المغني: "وحكي عن مالك وداود أنه لا زكاة في التجارة". (ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 401، المنتقى: 2/ 120، شرح زروق: 1/ 325، الكافي لابن عبد البر: 96، القوانين الفقهية: 103، والمغنى لابن قدامة: 2/ 623). (3) حماس: بكسر الحاء المهملة. (4) آدمة: جمع أديم (المعجم). وذكره الحافظ في التلخيص بلفظ: أُدُم. وهو الجمع المشهور لأديم. (5) الإهاب اسمٌ للجلد قبل أن يدبغ، والقرظ حب معروفٌ، يدبغ به. (المصباح).

عنها الزكاة" (1) وفيه إثبات أصل الزكاة، ودلالة ظاهرة في أن النصاب يُعتبر في آخر الحول؛ فإنه لم ينظر إلى القيم المتقدمة، وإنما اعتبر قيمة الحال، ولعله علم أن الحول كان قد انقضى. 2092 - ثم قاعدةُ الباب تدور على أصولٍ منها: القول في الحَوْل ويلتفّ به النصاب، ووقت اعتباره، ويتصل بذكر النظر في الأثمان التي تُشترى السلع بها، والقول في جنسها، وقدرها. ومن القواعد فيها ما يقع التقويم به، ومنها ما تخرج الزكاة منه. ثم إذا تنجزت القواعد، فالكلام بعدها في الأرباح وأحوالها. 2093 - فأما الحول، فلا شك في اعتباره، ثم الشرط في زكاة الأعيان أن يدوم النصاب في جميع ساعات الحول، فلو انتقص في لحظة [انقطع الحول] (2)، ثم إذا تكامل بعد ذلك، استأنفنا الحول، وقد تقدم هذا في باب المبادلة. فأما زكاة التجارة، ففيها ثلاثةُ أقوال: أحدها - أن نعتبر أن تكون قيمة [عَرْضِ التجارة نصاباً، من أول الحول إلى آخره، حتى لو نقصت قيمة] (3) السوق عن النصاب في لحظة، انقطع الحول. ثم إن فرض كمال بعد ذلك، استأنفنا الحول، فيكون ذلك كزكاة الأموال العينية. والقول الثاني - أنا نعتبر النصاب في أول الحول وآخره، ولا يضر انتقاص القيمة في الأثناء. والقول الثالث - أنا لا نعتبر النصاب في أول الحول، فإذا بلغت القيمة نصاباً في الآخر، أوجبنا إخراج الزكاة، ولا أثر لما يظهر من نقصان قبل ذلك. فأما وجه القول الأول، فالقياس الظاهر، ووجه الثاني أن الأول للانعقاد، فلا حكم به إلا على بصيرة، والآخر لإخراج الزكاة، فأما الأوقات المتخللة، فاتباعها

_ (1) حديث حِماس رواه الشافعي في الأم: 2/ 39، وابن أبي شيبة: 3/ 183، وعبد الرزاق: 4/ 96 ح 7099، والدارقطني: 2/ 125، والبيهقي: 4/ 147. (2) ساقطة من الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2). (3) ساقط من الأصل، (ط)، (ك). وأثبتناه من: (ت 1)، (ت 2).

عسر، والأسعار متقلبة، لا ثبات لها، وليس في الأثناء وقتٌ يختص بابتداء حكم، أو إخراج حق. والقول الثالث وجهه حديث حِماس كما تقدم، ومعناه أن اتباع القيمة متعذِّر، سيّما في حق المسافرين في أسفارهم، وتغلب الأسفار في حق التجار وأموالهم. فنحصر نظرنا على الوقت الذي تخرج الزكاة فيه، ثم نمزج بهذا الذي ذكرناه النظرَ فيما نشتري به العروض. 2094 - فنقول: إن اشترى عَرْضاً عَلى قصد التجارة، إما أن يكون الثمن عرضاً، كان ورثه أو اتّهبه، وإما أن يكون نقداً، أو نصاباً زكاتياً من الماشية. فإن كان الثمن نقداً، لم يخل إما أن يكون نصاباً، أو ناقصاً عن النصاب، فإن كان نصاباً، فالحول يُحسب من وقت ملك النقد بلا خلاف، فلو ملك مائتي درهم [ومضت ستة أشهر، فاشترى عَرْضاً للتجارة] (1) ومضت ستة أشهر أخرى، فقد تم الحول، ولا ينقطع حولُ الدراهم بابتياع العرض؛ فإن الزكاة تتعلق بقيمته، وقيمتُه دراهم، فحول التجارة يبتني على حول النّاضّ وفاقاً. وكذلك لو اشترى عرضاً بعرضٍ للتجارة، وانعقد الحول، ومضت ستة أشهر، فباعه بمائتي درهم، فإذا مضت ستة أشهر أخرى، وجبت الزكاة، فحول النقد مبنيٌ على التجارة، وحول التجارة مبنيٌ على حول النقد أيضاًً اتفاقاً. ولو اشترى عرضاً بنقد، وكان ناقصاً عن النصاب، مثل أن يشتري العرضَ بمائة درهم، فليس للدرهم حولٌ منعقد، حتى يبني عليه. ولكن ننظر إلى قيمة السلعة المشتراة، فإن كانت القيمة مائتين، والثمن مائة، فينعقد الحول من وقت الشراء، وإن كانت قيمة السلعة مائة، ثم بلغت مائتين في آخر الحول، فهذا يخرج على الأقوال في وقت اعتبار النصاب: فإن اعتبرنا الآخر، وجبت الزكاة، وإن اعتبرنا مع الآخر الأول أيضاًً، لم ينعقد الحول ما لم تبلغ قيمة السلعة نصاباً، فإذا بلغتها، انعقد الحول من ذلك الوقت. هذا هو الأصل.

_ (1) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

2095 - وقال الربيع: إذا اشترى سلعة بما ينقص عن النصاب، لم ينعقد الحول، وإن بلغت القيمةُ مائتين، وتمادت السنون، حتى تباع بمائتين، ثم يقع الشراء بهما، فابتداء الحول من وقت النضوض، وبلوغ الناضّ مائتين. وهذا مردود، لا أصل له، وما ذكره من تخريجاته؛ ويلزمه أن يقول: من اشترى عرضاً للتجارة بعرضٍ، كان ورثه، لم تجب الزكاة فيه؛ إذ لا نصَّ. وهذا غير معتد به مذهباً. ثم لم يختلف الأئمة في أن ما يجري من الاستبدالات بعد ثبوت أصل التجارة لا تقطع الحول؛ إذ العروض التحقت بالأموال النامية، بسبب التجارة، من حيث إنها [مُكسِبةٌ] (1) لتحصيل نماء الناميات، وإذا كان كذلك، فلا وجه لانقطاع الحول بالاستبدال، وهو عين التجارة، وأيضاًً فالمعتبر المالية في جهة التجارة، وهي دائمة في تبادل [الأعراض] (2) لا تنقطع. فهذا إذا اشترى العرض بنقد. فأما إذا اشتراه بعرض، فإن كانت قيمةُ المشترى نصاباً، انعقد الحول، وإن كانت أقل من نصاب، خرج على أقوال الحول. ولو اشترى عرضاً بنصابٍ من النَّعم، جار في الحول، فهذا الفصل سيأتي في أثناء الباب إن شاء الله تعالى. 2096 - وتفريع المسائل على الأصح، وهو أن النصاب يعتبر في آخر الحول، فلا عود إلى غيره إلا رمزاً، أو مست الحاجة إليه. 2097 - ثم إن وقع الشراء بعرضٍ، فالتقويم يجري في آخر الحول، بالنقد الغالب في البلد، فإن عم في البلد النقدان جميعاًً، فالذي ذكره الجماهير أنه إذا كان يبلغ نصاباً بأحدهما دون الثاني، فليقوّم بما يبلغ به النصاب.

_ (1) في الأصل، (ك): مكتسبة. (2) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 1) الأعواض. والمثبت من (ت 2) وحدها.

وإن كان يبلغ النصاب بكل واحد من النقدين، وكان التقويم بأحدهم أنفع للمساكين، تعين اعتبار الأنفع، وإن استوى النقدان، في النفع وبلوغ النصاب، فأوجه ثلاثة: أحدها - أن المالك يتخير فيهما. والثاني - أنا [نردّ] (1) نظرنا إلى أقرب البلدان إلينا، فنقوِّم بالغالب في أقرب البلدان، ولا نزال نجول فيها بالفكر، حتى ننتهي إلى بلدةٍ يغلب فيها أحدُ النقدين، ثم إن وجدنا ذلك في بلدةٍ، لم نَعْدُها ووقفنا. والوجه الثالث - أنا نقوّم بالدراهم؛ فإنها على الجملة أقرب من الدنانير، في شراء المستحقات (2). وذكر العراقيون وجها آخر: أن النقدين إذا استويا في الغلبة، وكان التقويم بأحدهما أنفع، فالخيار إلى المالك، حتى لو اختار غيرَ الأنفع، جاز. وهذا لا يعدَم نظيراً في قواعد الزكاة، فإنا ذكرنا إن الخيار بين الشاتين والعشرين في الجبران إلى المعطي، ولا نظر إلى الأنفع، وذكرنا تردداً في مثل هذا الحكم، في اجتماع الحِقاق، وبنات اللبون، في المائتين. ثم قال العراقيون: لو كان التقويم بأحدهما ينقصه عن النصاب، والتقويمُ بالثاني يبلغه، تعيّن الأخذ بما يُبلغه نصاباً، وإنما التخيير في تفاوتٍ يرجع إلى القيمةِ والنفع، مع وجوب الزكاة في الوجهين جميعاًً؛ إذ لا معنى للتخيير بين إيجاب الزكاة، وبين إسقاطها. وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر: وهو أن الواجب اعتبارُه بالدراهم إذا لم يكن الثمن في الأصل نصاباً من النقد، والسبب فيه أن الدنانير بالإضافة إلى الدراهم تكاد أن تكون عَرْضاً، من جهة أن صرف كسور الدنانير إلى المستحقرات عسر، ثم قال: فلو تردد العَرْضُ بين النقدين، وكان يساوي بالدنانير نصاباً، وينقص عن النصاب بالدراهم، فلا زكاة.

_ (1) ساقطة من الأصل، (ط)، (ك). (2) في (ت 1)، (ت 2): المستحقرات. ولعلها أقرب إلى السياق وأولى.

وهذا بعيد جداً. ولكن انتظم نقلُه، من جهة المصير إلى تعيين الدراهم. فهذا تفصيل ما يقع به التقويم. وقد تمهدت قاعدة النصاب والحول، والأصلُ فيما يقع فيه التقويم. ثم هذه الأصول تمهدها فروع، نرسمها. ونقل صاحب التقريب قولاً قديماً: أن التقويم أبداً يقع بالنقد الغالب في البلد، وإن وقع الشراء بنصاب من غير النقد الغالب، (1 فابتداء الحول من وقت ذلك النصاب، ولكن التقويم في آخر الحول بالنقد الغالب 1). وهذا غريب جداً، وليس له اتجاه في المعنى؛ فإنا لم نقطع حول النقد، من حيث اعتقدنا اعتباره في العروض. فرع: 2098 - إذا فرعنا على أن نقصانَ القيمة في أثناء الحول لا يؤثر في حق المتربص بالسلعة، فلو كانت السلعة في أثناء الحول تساوي مائة، فباعها بسلعة أخرى، فالمذهب أن ذلك لا يؤثر. وذكر بعض أصحابنا أن الحول ينقطع في هذه الصورة؛ لأنا كنا نُديم الحول لو استمر ملكه على السلعة الناقصة القيمة، ونتربص منتظرين ارتفاع القيمة، فإذا زال الملك، ابتدأنا الحول في السلعة المستفادة. وهذا ساقطٌ مع ما قررناه من أن المبادلة لا أثر لها في أموال التجارة. فهذا إذن مزيفٌ. ولو باع السلعة في أثناء الحول بمائة درهم، ثم اشترى بها سلعةً، ففي انقطاع الحول خلاف مشهور هاهنا، وهو أمثل من الخلاف الأول. وأنا أفصّل هذا فأقول: إن اشترى عرضاً بمائتي درهم، ثم باعه بعشرة دنانير، في أثناء الحول، فلا نظر إلى نقصان الدنانير؛ فإن المعتبر الدراهم، فإن بقيت الدنانير، قوّمناها في آخر الحول، وإن صرف الدنانير في آخر الحول إلى عرض آخر، لم نبال بما جرى، وقومنا بما بعنا في آخر الحول. وإن اشترى بمائتي درهم، ثم باعه عند انخفاض السعر بمائة درهم، ثم اشترى

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

بهذا عَرْضاً، فهذا موضع الخلاف؛ فإنه لو باع حقق النقصان. ولو اشترى عرضاً بعرض، ثم باع العرض بمائة درهم، وهي النقد مثلاً، فيعود الخلاف. فحصل منه أنه إن لم يبع، فالاعتبار بآخر الحول، على القول الذي عليه التفريع، وإن باع بأقلَّ من النصاب في الأثناء، فإن باع بغير النقد الذي يقع التقويم به، (1 فهو كبيع العرض بالعرض، وفيه تردد ذكرتُه. وإن باع بالنقد الذي يقع التقويم 1) به، فكان ناقصاً، فهذا موضع الوجهين. فرع: 2099 - إذا اشترى عرضاً بمائة درهم، فقد ذكرنا أن الحول من وقت الشراء، على ظاهر المذهب، ولم ينعقد للمائة حول حتى نعتبرَ تاريخه، فإذا تم الحول [فالتقويم] (2) بماذا؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - التقويم بالنقد الغالب، كما مضى مفصلاً. والثاني - أن التقويم بالثمن؛ فإنه وإن لم يكن نصاباً، فهو أخصُّ بالعرض -من حيث إنه ثمنُه- من غيره، وهو من جنس مال الزكاة، والتقويم به ممكن. فرع: 2100 - إذا اشترى عرضاً، ثم اختلفت الأسعار: انخفاضاً وارتفاعاً حتى انقضى الحول، فقوّمنا العرضَ، فلم يبلغ نصاباً، فلا نوجب الزكاة، ولكن نحكم بانقطاع الحول، ونستأنف حولاً جديداً أم ننتظر بلوغَ القيمة نصاباً؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينقطع اعتبار الحول الأول بنقصان النصاب في آخره، ونستأنف حولاً جديداً، حتى لو بلغت القيمة بعد شهرٍ من آخر الحول نصاباً، فلا نوجب الزكاة إلى أن يمضي حولٌ من منقرض الحول الأول. والوجه الثاني - أنه مهما (3) بلغت القيمة نصاباً، أوجبنا [الزكاة] (4)، ولا نحسب مقدار ذلك الزمان، بين النقصان والكمال من أول الحول تقديراً. فإذا مضى شهرٌ،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1)، (ت 2). (2) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (3) "مهما" بمعنى: (إذا). (4) زيادة من (ت 2).

وبلغت القيمةُ نصاباً، أوجبنا الزكاة، ثم نبتدىء حولاً جديداً، من وقت وجوب الزكاة، ولا نرد حول التاريخ الثاني (1) إلى منقرض الحول الأول وفاقاً. 2101 - فإذا ثبت ما ذكرناه، قلنا بعده: لو اشترى عرضاً بمائتي درهم، ثم باعه في أثناء الحول بعشرين ديناراً، فالدنانير عَرْض في هذه الصورة؛ إذ التقويم بالدراهم، فنقوّم الدنانير في الآخر بالدراهم، فإن بلغت نصاباً بالدراهم، أوجبنا الزكاة باعتبار الدراهم، وإن لم تبلغ قيمتُها نصاباً بالدراهم، فيُبنى هذا على الخلاف الذي ذكرناه الآن، في أن العرض إذا لم يبلغ نصاباً، فيسقط الحول الأول، أم لا؟ فإن قلنا: لا يسقط، ولكن نتربص ارتفاع القيمة، فنقول في مسألة الدنانير: نتربص بها إلى أن تبلغ قيمتُها بالدراهم نصاباً فلو بقيت سنين، ولم تبلغ الزكاة، فلا زكاة. وإن قلنا: يسقط حكم الحول الأول ونبتدىء من منقرضه حولاً، فنقول في مسألة الدنانير: سقط حكم الحول الأول وابتدأنا الحول على الدنانير، فعلى هذا ينقلب الأمر إلى زكاة الدنانير، حتى تتعلق الزكاة بأعيانها. ويسقط حكم التجارة، أو يتمادى حكم التجارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن حكم التجارة قائم، والدنانير عرض، فلو مضت سنة أو سنون، وقيمتها لا تبلغ نصاباً من الدراهم، فلا زكاة. والثاني - أنه تنقلب إلى الدنانير؛ فإنها نصاب كامل، وهي من الأموال التي تتعلق الزكاة بأعيانها، ويبعد أن يملك الرجل نصاباً من الدنانير سنين، ولا تلزمه زكاتها. وهذا له التفات إلى اجتماع التجارة في مال تتعلق الزكاة بعينه، وسيأتي هذا مشروحاً إن شاء الله. فإن استدمنا حكم التجارة، فلا كلام، وإن انقلبنا إلى زكاة أعيان الدنانير، فإذا مضى حول، وجب فيها ربع العشر، وإن لم تبلغ قيمتُها نصاباً بالدراهم. ثم على هذا الوجه نعتبر حول الدنانير أيَّ وقت؟ فعلى وجهين: أحدهما - نعتبرها من وقت حصولها وإن تقدم على آخر حول التجارة.

_ (1) (ت 1): ولا نرد تاريخ الحول الثاني إلى منقرض الحول الأول.

والثاني - نعتبر ابتداء حول الدنانير من وقت تقويمنا الدنانير في آخر الحول، وعِلْمنا بأنها لا تبلغ نصاباً تقويماً بالدراهم، والتوجيه لائح لا نتكلف إيراده. فرع: 2102 - إذا قوّمنا السلعة في آخر الحول، فبلغت مائتي درهم، ولم يتفق إخراج الزكاة حتى ارتفع السعر، وصار العرض يساوي ثلاثمائة، بعد شهر من منقرض الحول، فما حكم الزيادة بعد الحول؟ فعلى وجهين: ذكرهما الشيخ أبو علي في شرح الفروع، أحدهما - أنه لا يجب إلا إخراج الزكاة عن المائتين، والمائة الثانية تحسب من حساب الحول الثاني، ثم ننظر إلى آخر الحول الثاني، فإن كانت القيمة زائدة كما عهدتها، أوجبنا الزكاة في آخر الحول. والوجه الثاني - أنا نوجب الزكاة في المائة الزائدة من حساب الحول الأول. وهذا له التفات على أن النصاب إذا لم يكمل في آخر الحول، فهل يتأنَّى حتى يكمل؟ أم يبطل هذا، ويستأنف حولاً جديداً؟ ووجه التشبيه ظاهر. ولو قومنا العرض، فبلغ مائتين في آخر الحول، وزكى المائتين، ثم فُرضت زيادةُ مائةٍ بعد هذا بشهر، فلا خلاف أن المائة الزائدة بعد تأدية الزكاة في المائتين محسوبة في الحول الثاني. فرع: 2103 - إذا قومنا العرض في آخر الحول بثلاثمائة درهم، وباعه صاحب العرض بمائتين، وغُبن في مائة، فيلزمه زكاةُ ثلاثمائة، والمائة التي غبن فيها بمثابة طائفة من ماله، يتلفها بعد وجوب الزكاة فيها، وبمثله لو كانت القيمة مائتين في آخر الحول، فوجد زبوناً وباع السلعة بثلاثمائة، فهذه المائة الزائدة ما حكمها؟ فعلى وجهين: أحدهما - ربح، وهي بمثابة ما لو ارتفعت القيمة بالسوق في آخر السنة؛ إذ لولا السلعة، لما حصلت هذه المائة. والثاني - أنها كسبٌ جديد، يضم إلى المائتين، ويحسب من الحول الثاني؛ فإن القيمة لم تزد، إنما احتال المالك في تحصيلها، فهو كما لو اكتسبها بصنعة وعمل. ومن كان له سلعة قيمتها مائتان، وهو متجر فيها، فورث مائة درهم، فالدراهم تضم من وقت الاستفادة إلى السلعة، ويُعتبر فيها حول جديد لا محالة.

فصل 2104 - الزكاة في ظاهر المذهب، تخرج مما يقع به تقويم السلعة، وقد سبق التفصيل فيما يقع به التقويم، وللشافعي تردد في القديم، وقد جمع صاحب التقريب الجديد والقديم، وقال: حاصل المذهب فيما نحن فيه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يُخرج مما يقوّم به، وهو الجديد، والقديم، وبه الفتوى. والثاني - أنه يخرج الزكاة من أعيان العروض، باعتبار القيمة. والثالث - أنه بالخيار: إن شاء أخرج مما يقع به التقويم، وإن شاء أخرج من العروض. توجيه الأقوال: من قال: لا يجزىء إلا الإخراج مما يقع به التقويم قال: متعلَّق الزكاة معنى العروض، لا أعيانُها، والزكاة تخرج مما تتعلق به، ومن عيَّن العروضَ، احتج بأنها الأموال، والقيم تقدير. ومن خيّر، حمل الأمر على ما وجهنا به القولين، وقال: حكم مجموعهما، والعمل بهما التخيير، وكأن الأمر عنده مشوب، وهذا يناظر [المصيرَ] (1) إلى الخِيَرة، عند تعارض النقدين في الغلبة، والتفريع على الجديد، وهو الأصح. فرع: 2105 - إذا اشترى عرضاً بمائتي درهم، وعشرين ديناراً، فيتعين التقويم بهما جميعاًً، باعتبار التقسيط، ووقت هذا الاعتبار حالَ العقد؛ فإن المثمَّن يتوزع على الثمن في تلك الحالة، والسبيل فيه أن نقول مثلاً: تقوّم الدراهم بالدنانير، فإن كان مائتا درهم تساوي عشرةَ دنانير، أو الدنانير تساوي أربعمائة درهم، فثلثا السلعة يقوَّم بالدنانير، وثلثها بالدراهم في آخر الحول. ويميز الثلث عن الثلثين، فإن بلغ كلُّ واحدٍ منهما نصاباً مما قوّمناه به، فذلك. وإن لم يبلغ كل قسط نصاباً، لانحطاط السعر، فلا زكاة أصلاً. وإن بلغ أحدهما نصاباً دون الثاني، تجب الزكاة في حصة التي بلغت نصاباً، دون الثاني.

_ (1) في جميع النسخ: "الأمر" ما عدا (ت 1)، والمثبت منها.

وإن قال قائل: العرض جنسٌ واحد، والغِنى حاصل بالجميع، وليس في زكاة التجارة وقص، بعد الوجوب، فإسقاط الزكاة عن بعض المال بعيدٌ عن القاعدة الكلية، وإن انقدح قياسٌ جزئي. قلنا: هذا بمثابة استبعاد من يستبعد نفيَ الزكاة عمن ملك عشرين دينار إلا سدس دينار، وملك مائتي درهم إلا سدس درهم، فالغِنى متحقق، ولكن لا نضم نصاباً إلى نصاب. وإن خالف مخالف في النقدين، فلا خلاف أن من ملك أربعةً من الإبل، وتسعةً وثلاثين من الغنم، وتسعة وعشرين من البقر، فلا زكاة عليه. وسبب جميع ما ذكرناه أن الغالب في أمر النصب التعبد الذي لا يعقل معناه. وقد ذكرنا قولاً قديماً من نقل صاحب التقريب ملحقاً بالحاشية (1): أن التقويم أبداً يقع بالنقد الغالب، فعلى هذا يقوّم جميع العرض بالنقد الغالب، فإن لم يبلغ نصاباً، فلا زكاة فيه، وإن بلغ نصاباً، أو نصاباً ووقصاً، وجبت الزكاة في جميعه. هذا موجب هذا القول، ولكنه غير صحيح. فصل 2106 - مضمون هذا الفصل القولُ في الأرباح، وما يضم منها إلى الأصل، وما لا يضم، وما اختلف فيه. فنقول: من ملك عشرين ديناراً، وكما ملكها، اشترى بها سلعة، ثم انقضى الحولُ، والسلعة تساوي أربعين ديناراً، فيجب إخراج الزكاة عن الأربعين؛ فإن الاعتبار في مقدار المال بآخر الحول، (2 وهذا ظاهر على القول الصحيح في أن الاعتبار 2) بآخر الحول، حتى لو نقصت القيمة عن النصاب أول الحول أو في أثنائه، وكَمَل في آخر الحول، وجبت الزكاة. فإذا كنا نعتبر في النصاب في أصل المال آخر الحول، فالربح إذا ألفيناه في آخر الحول، أوجبنا الزكاة [فيهما] (3)، ضماً إلى الأصل.

_ (1) مرة أخرى يشير إلى (الحاشية)، ولعله ملحق بحاشية (التقريب). (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (3) في جميع النسخ "فيها" ما عدا (ت 2) فالمثبت منها.

فأما من قال: نعتبر في النصاب جميع أزمان الحول، كدأبنا في زكاة الأعيان، حتى لو نقص السعر، ورجعت القيمة إلى أقل من النصاب، انقطع الحول، فهذا القائل قد لا يسلّم أن الربح الحاصل في آخر الحول فيه الزكاة، وقياسه يقتضي أن نقول إذا ظهر الربح في أثناء الحول بارتفاع السعر، فظهوره بمثابة نضوضه (1)، وسنذكر اختلاف القول في أن السلعة إذا نضت في الأثناء، وظهر الربح ونضّ، فهل نضم الربح، أو نبتدىء له حولاً، كما (2) يحصل ناضاً؟ هذا ما لا بد منه. ولكن حكى الأئمة القطعَ بإيجاب الزكاة في الربح إذا لم ينضّ في وسط الحول. وسبب ذلك أن أئمة المذهب ينقلون القولَ الضعيف، ثم إذا توسّطوا التفريعَ، لا يفرعون إلا على الصحيح، فوقع القطع تفريعاً على الصحيح، وهو أن الاعتبار في النصاب بآخر الحول. هذا إذا اشترى سلعة، فزادت قيمتُها بالسوق، ولم تنض في خلال الحول. 2107 - فأما إذا اشترى سلعة بعشرين، ومضت ستة أشهر، فباعها عند ارتفاع السعر بأربعين ديناراً، فمضت ستة أشهر أخرى، أما حول العشرين، فقد تم، والكلام في الربح الناضّ، الذي حصل في خلال السنة، ومضى بعد حصوله ستة أشهر، وفيه نصان، فالذي نقله المزني في هذا الباب أن ذلك الربح الذي ينض يبتدىء حوْله، ولا يضم إلى حول رأس المال. ونصُّ الشافعي في القراض يدل على أنه مضموم إلى أصله في حوله. والطريقة المشهورة تأصيل قولين في المسألة: أحدهما - أن الربح وإن نضَّ، فهو مضمومٌ إلى أصله؛ فإنه فائدة مستفادة منه، فكان كالنتاج، ولا خلاف أن النتاج في المواشي مضموم إلى الأمهات في حولها، كما تقدم بيان ذلك. والقول الثاني - وهو المرضي، وهو الذي فرَّع عليه ابن الحداد -أنا نستأنف حولاً

_ (1) نضَّ العَرْض: أي صار نقداً، ببيع أو معاوضة، فالناضُّ من المال ما كان نقداً، وهو ضد العَرْض. والعَرْض بتسكين الراء، من صنوف الأموال، ما كان من غير الذهب والفضة اللذين هما ثمن كل عَرْض. (الزاهر: فقرة 301). (2) "كما" بمعنى (عندما).

جديداً للربح الذي نضَّ؛ فإنه مالٌ جديد، استفاده، لا من عين ماله القديم، وليس كالنتاج؛ فإنه من أعيان الأمهات، وكأن الربح الذي نضَّ مأخوذ من كيس (1) الطالبين، وسببه الرغبات التي فطرها الله تعالى في النفوس. 2108 - ثم ذكر الشيخ أبو علي تردداً للأصحاب في تصوير القولين، وأنا آتي به بيِّناً إن شاء الله تعالى: فلو اشترى السلعة بعشرين، ثم بعد ستة أشهر باعها بأربعين، وبقيت الدنانير إلى آخر الحول، وكان هو على قصد التجارة في أعيان الدنانير، أو كان على عزم أن يشتري بها سلعة، ثم لم يتفق، ففي الربح الحاصل قولان: أحدهما - أنه يعتبر فيه حول مبتدأ من وقعت حصوله. والثاني: يبنى حوله على حول الأصل، فإذا مضت ستة أشهر، من وقت حصوله، فقد تم حول رأس المال، ووجبت الزكاة فيه، فتجب الزكاة في الربح، وإن لم يمض من وقت حصوله إلا ستة أشهر، قياساً على النتاج في هذه الصورة. فأما إذا اشترى سلعة بعشرين ديناراً، وباعها بعد ستة أشهر بأربعين، ولم يقصد التجارة، أو قصد قطعها، فمضت ستة أشهر أخرى، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: نخصّ الربحَ بحولٍ قولاً واحداً هاهنا، وهذا ضعيف. ومن أصحابنا من خرج القولين في هذه الصورة أيضاًً؛ فإنّ تغيُّر قصدِه لا يخرج الربحَ المستفادَ عن كونه ربحاً، ومن يرى الضم فمعوله ضمُّ الفائدة إلى الأصل كالنتاج، وهذا المعنى متحقق في هذه الصورة. ثم إذا فرعنا على أن الربح إذا نضّ يُفرد بحولٍ، فابتداء حوله من أي وقت يحتسب؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه محسوب من وقت النضوض؛ لأن السعر لو بقي مرتفعاً، ولم تنضّ السلعة، إلا في آخر الحول، فالزيادة مضمومة في هذه الصورة، فالسبب الذي أوجب إفراد الربح حصولُه بطريق النضوض. والوجه الثاني - أنه يحتسب ابتداء الحول من وقت الظهور؛ فإنه حاصلٌ بالظهور، ولكن لا ثقة بالأرباح حتى تنض، فإذا نضّ، تبينا بالأخرة حصولَ الربح. وتحققَه

_ (1) أي أن الربح ثمرةُ المهارة في العمل، وليس من عين المال.

عند الظهور. وقد تقدم لهذا نظير في الفروع المتقدمة. هذا بيان الأصل. 2109 - ونحن نذكر الآن صورةَ فرعٍ لابن الحداد نذكر فيه ما تتهذب به الأصول إن شاء الله. فإذا اشترى الرجلُ عَرْضاً بعشرين، ومضت ستةُ أشهر، (1 فباع العرْضَ بأربعين ديناراً، ثم اشترى على الفور بالأربعين عَرضاً، وأمسك ستةَ أشهر، ثم باعه بمائة دينار، قال ابن الحداد: يجب على صاحب المال في آخر الحول زكاة خمسين ديناراً، فإذا مضت ستةُ أشهر 1) أخرى يخرج زكاة العشرين التي استفاد أولاً ربحاً في أثناء الحول، فإذا مضت ستةُ أشهر أخرى، أخرج زكاة الثلاثين الباقية. هذا جوابه. وهو سديد مفرعٌّ على أن الربح إذا نضَّ، استأنفنا له حولاً، ووجه قوله تخريجاً على ذلك، أنه لما اشترى السلعة بعشرين أولاً، فهي رأس المال، فإذا باع بأربعين، فالنصف منها ربح، فإذا اشترى بالمجموع سلعة، ثم باعها بمائة في آخر السنة، فالربح المستجد وهو ستون في آخر الحول منبسط على الأصل والربح المستفاد في أثناء الحول، فيخص رأس المال من الستين ثلاثون، وهذا لم ينض إلا الآن، وهو آخر حول رأس المال، فوجبت الزكاة في الأصل والربح. وهذا يناظر صورةً نَذكرها وهي أنه إذا اشترى عَرْضاً بعشرين ديناراً، وباعها بعشرين، واشترى بها سلعة، وباعها في آخر الحول بخمسين، فتجب الزكاة في الخمسين. فأما قوله: تجب الزكاة في العشرين الزائدة ريعاً في أثناء الحول إذا مضت ستة أشهر، [فصحيح؛ تفريعاً على أن الربح الناض يبتدأ له حول، وقد استفاد العشرين في أثناء الحول، فإذا مضت ستة أشهر] (2) (3 بعد منقرض حول رأس المال، فتمّ الآن حول تلك العشرين. فأما قوله: إذا مضت ستة أشهر 3)، وجبت الزكاة في الثلاثين الباقية، فهذا

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) زيادة من (ت 1) وحدها. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

صحيح؛ فإن هذه الثلاثين ربح على الربح، وقد نضت في آخر حول رأس المال، وهو وسط حول الربح، فيبتدىء لهذه الثلاثين حولاً كاملاً، فإذا انقضى، أوجبنا الزكاة فيه. وما ذكرناه تفريع على أن الربح يُبتدأ له الحول. فأما إذا فرعنا على ضم الربح إلى رأس المال، فنوجب الزكاة في المائة بتمامها، كما (1) حصلت ونضّت. فهذا بيان الفرع الذي ذكره. 2110 - ولو كانت [المسألة بحالها، ولكن لما اشترى بالأربعين السلعة وكانت] (2) تساوي مائة كما تقدم في آخر حول رأس المال، فلم يتفق بيعها حتى مضت ستةُ أشهر، ثم بيعت بالمائة: فأما إخراج الزكاة من الخمسين الأولى، فعلى القياس المتقدم. فأما إذا مضت ستة أشهر من آخر حول رأس المال، والسلعة ما نضّت بعدُ، فإن بيعت بالمائة، أو تركت، فتجب زكاة الخمسين الأخرى الآن، لأن حول العشرين التي كانت ربحاً في خلال الحول قد تم، ولم تنض حصتُه من الربح الثاني في خلال السنة، فتجب الزكاة في ربح الربح، بانقضاء حول الربح الأول، لا محالة. وهذا واضح. وهذه الصورة تنفصل عن الصورة المتقدمة، بما ذكرناه، من أن ربح الربح الأول نضّ في خلال حول الربح الأول، فاقتضى ذلك حولاً لربح الربح، ولم ينض ربح الربح في خلال سنة الربح، وهي الصورة الأخيرة. 2111 - ومما ينبغي ألاّ نغفل عنه -وإن كان بيِّناً- أنا في صورة ابن الحداد إذا جرينا على ما فرع عليه، فتجب الزكاة في الثلاثين الباقية من المائة، بعد سنةٍ من انقضاء السنة الأولى، ثم إذا مضت السنةُ الثانية من تاريخ حول رأس المال، وأوجبنا عند انقضائه زكاة الثلاثين، فلا شك أنا نوجب الزكاة مرةً ثانية في الخمسين الأولى التي

_ (1) "كما" بمعنى (عندما). (2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

أوجبنا الزكاة فيها في آخر حول رأس المال. فهذا تمام البيان فيما ذكره ابن الحداد. 2112 - وذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر لبعض الأصحاب، مخالفاً لمذهبه مع التفريع على أصله، فقال: من أصحابنا من قال: إذا تم حولُ رأس المال، وبيعت السلعة بالمائة، فلا تجب إلا زكاةُ رأس المال، وهو عشرون، فإذا مضت ستة أشهر أخرى، فقد تم حول (1 العشرين المستفادة في البيعة الأولى، فيخرج زكاتها، فإذا مضت ستة أشهر أخرى، فقد تم حول 1) الستين من تاريخ انقضاء حول رأس المال، فيخرج الآن زكاة الستين. وهذا فاسد. ولكن بناه صاحبه على خيال تخيله، وهو أن السلعة في البيعة الأولى نضّت؛ فأثّر نضوضُ رأس المال في انقطاع تبعية الربح الثاني عنه، حتى تجب الزكاة في الربح الذي يخصه بحساب حوله، ثم نضّ الربح الثاني، فابتدأنا من نضوض حصة رأس المال حولاً جديداً. وهذا القائل يقول لا محالة: لو ملك الرجل عشرين ديناراً ستة أشهر، ثم اشترى بها سلعة، فمضت ستة أشهر، فباعها بمائة، لا يزكي إلا عشرين، والثمانون يبتدىء لها حولاً آخر، من آخر حول العشرين، الذي هو رأس المال، وكأنه يقول: إنما يَتْبَعُ الربح إذا دام العَرْض سنة، وهذا ليس بشيء؛ فإن النقد، وإن ظهر، فهو في معنى العَرْض، والعَرْض في معنى النقد، ولولا ذلك، لكان ينقطع حول العَرْض بالنضوض، ولما انبنى حولُ عَرْضٍ على حول النقد المصروف فيه. فالحق ما ذكره ابن الحداد، وما عداه خيال لا حاصل له، ولست أعده من المذهب. وقد ذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر بالغاً في الركاكة والضعف، ولم أستجز نقله في هذا المجموع.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

فصل 2113 - جمع الشافعي بين أن يشتري الرجل عرضاً بدراهم، أو دنانير، أو نصابٍ من الماشية الزكاتية، ثم قال مجيباً: "حولُ التجارة من يوم أفاد النقدَ أو الماشيةَ" (1). وظاهر كلامه يدل على أن ثمن العرض المشترى لو كان نصاباً من النَّعَم السائمة، فالحول يعتبر من يوم ملك النصاب الزكاتي من السائمة. وهذا غامض. وقد اعترض عليه المزني فقال: "جمع الشافعي بين النقد والماشية، وليسا سواء؛ فإن زكاة النقد كزكاة التجارة في القدر، فإن ثبتت التجارة على ملك النقد، فهو لتشابه مقدار الزكاة. فأما زكاة الأربعين من الغنم فشاة، فلا يمكن بناء زكاة التجارة عليه" (2). قال الأئمة: اعتراض المزني صحيح في المعنى مذهباً، ومعناه مضطرب؛ من جهة أن البناء إن امتنع، فليس سببه الاختلاف بدليل أن الاختلاف، لو منع البناء، لجاز البناء مع الاتفاق، حتى لو باع أربعين من الغنم بأربعين من الغنم، لوجب البناء من جهة اتفاق الزكاتين، وليس الأمر كذلك. وقد اختلف أصحابنا فيما نقله المزني: فمنهم من قال: هو غالط في النقل، والوجه القطع بأنه لا يبنى على حول السائمة، كالدراهم؛ من جهة أن العرض مقوم بالدراهم؛ فكأن الدراهم موجودة في معنى عرض التجارة وماليته، وإن لم تكن موجودة. وليس كذلك الماشية؛ فإن عرض التجارة لا يقوم بها، فليست الماشية موجودة، ولا معتبرة في معنى العرض. وهذا هو المذهب. ومن أئمتنا مَنْ أَوّلَ النص على وجهه، فقال: صوّر الشافعي ملك النقد والسائمة وشراء العرض في يوم واحد، وهذا بيّن في لفظة مصرّح به، ثم قال: فحول التجارة من يوم ملك السائمة. فكان هذا إعلاماً منه لذلك اليوم، لا للتأرخ بملك السائمة،

_ (1) ر. المختصر: 1/ 242. وهذا معنى كلام الشافعي، وليس بنص المختصر. (2) ر. المختصر: الموضع السابق نفسه.

وهذا عندي تكلف، واللفظ مشكل. وذهب الإصطخري إلى أن حول التجارة مبنيٌ على حول الماشية؛ فإنها مال زكاتي، وليس كما لو اشترى عرضاً بعرض؛ فإنها لا تجب الزكاة في أعيانها، واستدل على ذلك بأن حول التجارة مبني على حول النقد، مع أن زكاة النقد زكاةُ العين، وزكاة التجارة زكاةُ قيمة. وليس (1) هذا بشيء. وقد ذكرنا سببَ بناء حول التجارة على حول النقد فيما تقدم، والوجه القطع بأن من اشترى عرضاً على قصد التجارة بنصابٍ من النعم السائمة، انقطع حول السائمة، وافتتحنا حولَ التجارة من وقت الشراء، والكلام على النص غامض، والوجه التغليط في النقل. وبالجملة لا نترك قواعد المذهب بغلطات الناقلين. وإذا نجزت هذه الأصول، فإنا نزسم بعدها فروعاً. فرع: 2114 - نقل صاحب التقريب عن ابن سريج أنه إذا اشترى مائتي قفيز من الحنطة بمائتي درهم، ثم إذا انقضى الحول، وتمكن من أداء الزكاة، فأتلف الحنطة، وقيمةُ الحنطة يوم الإتلاف مائتا درهم، كما كانت، ثم غلت القيمةُ وبلغت قيمة المائتين أربعمائة درهم، فهذا يفرع على أن الزكاة تخرج من العين أو القيمة؟ وفيه أقوال قدمناها في أصول الباب. فإن قلنا: الزكاة تخرج من العرض حتماً، فيخرج خمسة أقفزة قيمتها عشرة، وإن قلنا: يتعيّن إخراج القيمة، فإنه يُخرج خمسة دراهم، اعتباراً بالقيمة يومَ الإتلاف، وكان القيمة يومئذ مائتي درهم، وما فرض من زيادة القيمة بعد الإتلاف غيرُ معتبر، ْوهو بمثابة ما لو أتلف الغاصب ثوباً قيمته مائةٌ يومَ الإتلاف. وإن قلنا: يتخير في

_ (1) من هنا بدأت نسخة هـ 1، ولكنها متلاشية من أطراف الأوراق بسبب بلل يذهب بأكثر من نصف الصفحة أحياناً مما يتعذر معه الاستفادة بها، ولذا لن نعتمدها في المقابلة إلا من أول (باب زكاة المعدن) حيث يخف هذا الأثر. ولكن ذلك لن يمنعنا من اللجوء إليها عند المشكلات، والله المعين.

إخراج الزكاة بين القيمة والعين، فيتخير بين إخراج خمسة (1). وبين إخراج خمسة أقفزة قيمتها عشرة. وحكى صاحب التقريب وجهاً عن بعض الأصحاب أن القيمةَ عشرةُ دراهم (2)، وهذا بعيدٌ، لا وجه له، لما ذكرناه في الغصب (3). والممكن في توجيهه أن حق المساكين في طريق ظاهرة لا يتعلق بعين المال تعلق استحقاق، وإنما نَعتمد الذمة، والمتلَف بحكم التفريط كأنه باق؛ من جهة أن الزكاة لم تسقط، فإذا أتلف الحنطة، فهو مأمور بإخراج قيمة ربع عشر ما أتلفه، وقيمة ربع عُشْره عشرة. فرع: 2115 - إذا اشترى للتجارة جاريةً بألف، فولدت ولداً في آخر الحول، وقيمته مائتا درهم، فإن لم تنقُص الجاريةُ بالطلق، فقد قال ابن سريج: لا نوجب على المالك إلا زكاة ألف، ولا نضم الولد إلى الأم؛ فإنه فائدة لا من طريق التجارة. ثم قال: فلو نقصت قيمةُ الجارية، وصارت تساوي ثمانمائة، وقيمةُ الولد مائتان، فنجبرُ نقصان الأم بقيمة الولد، وزعم أن الولد لا تضمُّ قيمتُه إلى قيمة الأم، لزيادة الزكاة. ولكن قيمة الولد تجبر نقصان الأم. وهذا فيه تردّد ظاهر؛ من جهة الاحتمال. أما قوله: لا تُضم؛ فإن هذه الزيادة ليست نتيجة التجارة، فمُتَّجِهٌ حسن. ولكن مساق هذا قد يقتضي أنه لا يجبر به نقصان الأم، ويقال: النقصان حاصل، والولد في حكم التجارة غير معتد به أصلاً، وكأنه وُهب له ذلك الولد. وإن كنا نجبر به النقصان، فلا يمتنع أن يقال: تُضم قيمة الولد إلى قيمة الأم، وإن لم يتفق نقصان؛ فإنه جزء منها، والولد في حكم الملك مضموم إلى الأم. ولا خلاف أنهِ لو اشترى جاريةً، فزادت في يده، وازدادت قيمتها لزيادتها

_ (1) كذا بحذف التمييز للعلم به من السياق. (2) أي إذا قلنا: يتعين إخراج القيمة، يخرج في هذه الصورة عشرة دراهم، باعتبار قيمتها أربعمائة، فربع العشر فيها عشرة. (3) أي لما ذكرناه في تضمين الغاصب القيمة باعتبار يوم الإتلاف، ولا نظر لارتفاعها بعد ذلك.

المتصلة، فنعتبر قيمتها، بالغةً ما بلغت. وقد ينقدح في هذا فرق، من جهة أن إفراد الزيادة المتصلة غير ممكن. والذي ذكره ابن سريج فقيه: أمّا منعُ الضم حيث لا نقصان، فَلِما تقدّم، وأمّا الضم للجبران، فسببه أن الأم انتقصت بسبب الولد، فقيل: نقصانها انفصال الولد، والولد عتيد (1)، فيجعل كأنه لا نقصان، وقياسه يقتضي أن الجارية لو نقصت بالولادة، فأمر الجبران على ما ذكرناه، وإن انتقصت بسبب آخر، فلا يجبر نقصانها بالولد حينئذ. والله أعلم. ومما فرّعه على ما أصّله أن الجارية إذا كانت تساوي ألفاً، فنقصت مائة من قيمتها بسبب الولادة، فصارت تساوي تسعمائة، وقيمة الولد مائتان، فنجبر المائة الناقصة بمائة، من قيمة الولد، ونلغي الأخرى. ومما يعترض فيما ذكرناه أنا إذا لم نضم قيمةَ الولد إلى قيمة الأم، فكيف قولنا في زكاة الولد في السنة الثانية؟ أنخرجه من حساب التجارة في السنين المستقبلة، أم كيف الوجه؟ الظاهر أنا لا نوجب الزكاة؛ فإنه فيما نختاره الآن منفصل عن تبعية الأم، وليس أصلاً في التجارة، ولا نقلَ [إلا] (2) ما ذكرناه عن ابن سريج، وفيه الاحتمال اللائح، وليس تصفو أطراف المسألة عن احتمال. فرع: 2116 - إذا وجبت الزكاة في مال التجارة، فأراد المالك بيعَ المال، ذكر صاحب التقريب تردد الأصحاب في جواز البيع، قبل تأدية الزكاة، وقال: من أصحابنا من خرجه على القولين في بيع مال الزكاة، كالمواشي إذا وجبت الزكاة فيها، ومنهم من مال إلى تجويز البيع. وقال بعض الأصحاب: إن قلنا: الزكاة تؤدى من عين العرض، فهو كزكاة العين إذا وجبت. وإن قلنا: الزكاة تؤدى من القيمة، فالتفصيل في منع البيع وتجويزه، كالتفصيل في خمس من الإبل وجبت فيها الزكاة؛ فإن الشاة ليست من جنسها، كالقيمة ليست من جنس العروض.

_ (1) عتيد: حاضر موجود. (2) في جميع النسخ: أما. والمثبت من (ت 1) وحدها.

قلت: وهذا غفلة عظيمة، وذهول عن أمرٍ لا يخفى على الشادي الفطن، وذلك أن بيع مال التجارة تجارة، فكيف يخطر لذي فهمٍ منعُ ما هو من قبيل التجارة في مال التجارة. ونحن وإن قلنا: إنه يتعيّن إخراج العرض، فسدُّ بابِ البيع لا وجه له، فالذي قدمتُه غلط، غيرُ معدود من المذهب. فإن قيل: أرأيتم لو باع مال التجارة على اقتناء عوضه؟ فهذا قطع للتجارة. فهلاّ خرجتم هذا على تفصيل المنع؟ قلنا: إذا كانت المالية قائمة، فنجعل كأن البيع لم يجر، والدليل عليه أنه لو نوى القِنية، انقطعت التجارةُ بمجرد النية، ولا امتناع فيه. نعم، لا ينقدح الخلاف إلا فيه إذا وجبت زكاة التجارة، فوهب مال التجارة، فهذا يخرج على التفصيل المقدم في زكاة الأعيان؛ فإن الهبة تقطع المالية، وهي متعلق زكاة التجارة، كما أن البيع يقطع الملك في متعلّق الزكاة، فهذا ما لا يجوز تخيّل غيره. فصل قال: "ولو اشترى عرضاً لغير تجارة ... الفصلُ إلى آخره" (1). 2117 - من كانت له عروض ورثها، أو اتهبها، فلو نوى التجارة فيها، لم ينعقد الحول عليها بمجرد النية. ولو اشترى عرضاً، ونوى الاقتناء، أو لم ينو شيئاً، لم ينعقد حول التجارة؛ فإن الشراء في نفسه ليس بتجارة؛ إذ المشتري قد يقتني ولا يتجر، ولو اشترى ونوى التجارة مع الشراء، فينعقد حول التجارة حينئذ، ولو نوى القِنية، أو اشترى [مطلقاً، ثم نوى التجارة، فلا حكم لهذه النية الطارئة، ولو اشترى] (2) شيئاً بقصد التجارة، ثم نوى بعد انعقاد حول التجارة الاقتناءَ، انقطع الحول بمجرد النية للقنية، والسبب فيه أن الاقتناء معناه الحبس للانتفاع، فإذا أمسك ونوى القنية، فقد قرن النية بما هو على صورة الاقتناء في نفسه، فأما إذا نوى التجارة

_ (1) ر. المختصر: 1/ 243. (2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

في مال قِنية، فهذه نية مجردة، وإمساك المال [ليس] (1) على صورة التجارة. وقد حكى العراقيون، عن الكرابيسي أنه قال: قد تثبت التجارة بمجرد النية؛ فإن التربص والانتظار لارتفاع الأسعار من صورة التجارة. وهذا بعيد غيرُ معدودٍ من المذهب. 2118 - ولو اتهب شيئاً ونوى الاتجار، فليس بتجارة، وإن كان يتعلق بقصده، وكذلك إذا احتش، أو احتطب، أو اصطاد، ولو نكحت [المرأة، ونوت التجارة في الصداق، أو خالع الرجلُ امرأةً، ونوى التجارة فيما يستفيد من عوض] (2) الخلع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه متجر، وينعقد الحول؛ لأنه استحقاق مال بمعاوضة. والثاني - أنه ليس يثبت حكم التجارة؛ فإن هذه الجهات لا تعدّ من التجارات في العرف، ولهذا يجوز خلوها من الأعواض الصحيحة. 2119 - ولو اشترى عبداً بثوبٍ، وقصد التجارة، فرُدّ عليه الثوب بالعيب، واسترد العبد منه، نظر، فإن كان الثوب عنده على حكم التجارة، فإذا عاد إليه، يعود على [حكم] (3) التجارة، [وإن كان الثوب على حكم القنية عنده، فإذا اشترى به عبداً على قصد التجارة] (4) ثم رُدّ الثوب عليه، كما صورناه، فيعود الثوب إلى ما كان عليه قبل البيع من حكم القنية؛ فإن التجارة إنما تثبت في العبد بالبيع الذي جرى، وقد زال البيع بالفسخ، فزال حكم التجارة بزواله، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل البيع. ولو كان الثوب عنده للتجارة، ثم جرى الرد كما ذكرناه، فتعود التجارة، والرد يرد الأمر إلى ما كان (5 قبل العقد، حتى كأن العقد، لم يلزم. ثم مما يجب التنبيه له -على ظهوره- أن الرد إذا جرى، رجع الأمر إلى ما كان 5)

_ (1) ساقطة من الأصل، (ط)، (ك). (2) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (3) في الأصل، (ط)، (ك): قصد. (4) زيادة من (ت 1)، (ت 2). (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

من التجارة قبلُ، فما تخلل من البيع لا يقطع الحول؛ فإن الماليّة هي المرعية، وهي متصلة لم تنقطع، وبيان ذلك بالمثال: أن من اشترى أولاً ثوباً للتجارة، ثم باعه بعبد على قصد التجارة، أو مطلقاً، فإذا رد عليه الثوب بالعيب، فقد زال ملكه عن الثوب وعاد، والحول مستمر؛ فإن العبد قام مقام الثوب، وبه استمرت مالية التجارة، ولا تعويل في التجارة على الأعيان، وإنما المتبع فيها المالية. 2120 - ولو كان عنده ثوبٌ للقنية، فباعه بعبدٍ، ولم يقصد التجارة، ثم وجد بالعبد عيباً، فرده بالعيب، وقصد بالرد التجارة في الثوب الذي يسترده، فلا يصير متجراً؛ فإن الاسترداد بالعيب ليس معدوداً من المعاوضة، والتجارة إنما تثبت إذا اقترنت النيةُ بما هو معاوضة، والدليل عليه أن الشفيع إذا أبطل حقَّه من الشفعة في البيع، ثم اتفق رده، فلا تثبت الشفعةُ بسبب الرد، وقد قطع الشافعي بأن الشفعة تثبت في المهور، وبدل الخلع، والصلح عن الدم، وقد ذكرنا خلافاً في أن التجارة هل تحصل مع النية في هذه الجهات، ثم الشفعة لا تثبت في الرد، فكيف تثبت التجارة في الرد. ْومما نذكره أن الثوب أولاً لو كان عنده للقنية، ثم اشترى عبداً بذلك الثوب للتجارة، ثم ردّ الثوب عليه، فلا تثبت التجارة، فإن الرد يرفع العقد، ولا تثبت التجارة من غير عقدِ تجارة، ولم يكن الثوب قبل البيع للتجارة، حتى يقال: انقطع البيع، وعاد إلى ما كان قبل البيع من التجارة. 2121 - ولو كان الثوب عنده في حول التجارة، فاشترى به عبداً لقصد التجارة، ثم نوى اقتناء العبد، ثم رد الثوب عليه، فهذه صورة فيها لطف، فليتأملها الناظر. ْفنقول: نية القنية تقطع الحول أولاً، فإذا رد الثوب بالعيب، فلا نقول: نقدر كأن الحول لم ينقطع؛ فإن المالية المرعية في التجارة قد انقطعت بنية القنية، وإذا انقطعت، انقطع الحول بانقطاعها، وكان ذلك بمثابة زوال الملك عن الأعيان في زكاة الأعيان. فإن قيل: إذا رد الثوب فاجعلوا كأن البيع لم يكن، وافتتحوا حول التجارة؛ فإن

الثوب كان للتجارة في أصله، قلنا: هذا تخيل ظاهر، ولكن القِنية في العبد قطعت حول التجارة، والرد ليس تجارة مستجدة، ولو نوى القِنية ثم نوى التجارة، انقطع الحولُ بنية القِنية أولاً، ثم لم يعد بنية التجارة، حتى تجري تجارةٌ مع نية مقرونة بها، وإنما موضع التخييل والإشكال أن نية القنية لم تجر في الثوب، ولكن الزلل كله يأتي من النظر إلى الأعيان في هذا الباب، ومتعلق الحول والزكاة الماليةُ، ولهذا لا ينقطع الحول بالمبادلات، بخلاف القول في زكاة العين، والمسألة فيها احتمالٌ، في عود الثوب إلى التجارة حتى يبتدىء من وقت الرد في الثوب، وهذا احتمالٌ في مسلك النظر، وإلا، فلا شك في انقطاع الحول بنية الاقتناء، فإذا انقطع الحول، ثم لم يتجدد تجارة، فلا وجه إلا الحكم بارتفاع التجارة، فإن ابتدأ عقدَ تجارة ثبت حكمها، إذ ذاك ابتداءً. فصل قال الشافعي: "إذا اشترى نخيلاً للتجارة ... إلى آخره" (1). 2122 - قاعدة الفصل أنه إذا اجتمع في مالٍ سببُ وجوب زكاة التجارة، وزكاةِ العين جميعاًً، مثل أن يشتري أربعين من الغنم السائمة للتجارة، وينقضي الحول في الحسابين، جميعاًً، فلا خلاف أنا لا نجمع بين الزكاتين، وإنما نوجب إحداهما، وفيما (2) نوجبه قولان مشهوران: أحدهما - أنا نوجب زكاة التجارة؛ فإنها أعم وجوباً؛ إذ تعم جميع صنوف الأموال. والثاني - أنا نوجب زكاة العين؛ فإنها متفق عليها، فكانت أقوى وأولى. هذا إذا اشترى أربعين سائمة للتجارة. ولو اشترى أربعين معلوفةً للتجارة، فقد تجرد فيها جهةُ التجارة، فلو أسامها في أثناء الحول، ولم يقصد القِنية، فقد ذكر أئمتنا طريقين: منهم من قال: المتأخر من

_ (1) ر. المختصر: 1/ 244. (2) في الأصل: "وفيما لا نوجبه".

السببين يرفع المتقدم، ويتجرد قولاً واحداً، ومنهم من قال: المتقدم يمنع المتأخر قولاً واحداً. والفريقان يقولان: صورة القولين إذا وقع السببان معاً، والصحيح طرد القولين في الطارىء أيضاًً. ولكن يحتاج هذا إلى فضل بيان. 2123 - فنقول: إذا اشترى أربعين من المعلوفة للتجارة، ومضت ستة أشهر، وأسامها، واطرد السوم فيها؛ فإن قلنا في اقتران السببين: المغَلَّبُ زكاة التجارة، فلا كلام. وإن قلنا: المغَلَّبُ زكاة العين، فإذا مضت ستة أشهر من وقت شراء الأصل، فأسام، ثم مضت ستة أشهر من وقت الإسامة، فقد تم حول التجارة، ولم يتم حول العين، والتفريع على تغليب زكاة العين، ففي هذه الصورة خلاف: من أئمتنا من قال: نوجب في آخر حول التجارة زكاة التجارة، ونعطل الأشهر الستة الأخيرة من حساب السوم، ثم نبتدىء حولَ السوم وزكاة العين من منقرض سنة التجارة. ومنهم من قال: نبتدىء من وقت الإسامة حولَ زكاة العين، فإذا مضت سنة من وقت الإسامة، وجبت زكاة العين، وعلى هذا تتعطل الستة الأشهر المتقدمة على الإسامة. 2124 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أنا إذا رأينا تقديمَ زكاة التجارة، وقد اشترى أربعين من الغنم السائمة، ومضت سنةٌ من وقت الشراء، والسوم دائم، ثم قوّمنا الأربعين، فلم تبلغ قيمتُها بالنقد نصاباً، فلا وجه لإيجاب زكاة التجارة. وهل تجب زكاة السوم في هذه الصورة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نوجب زكاة السوم؛ فإنا أسقطنا حكمها على القول الذي نفرع عليه، فلا نرجع إليها. والوجه الثاني - أنا نوجب زكاة العين في هذه السنة، وذلك أن سببي الزكاتين قد اجتمعا، وعسر الجمع بينهما؛ إذ ازدحما، فإن قدمنا أحدهما، فليس ذلك إسقاطَ الثاني أصلاً، ولكنه تقديمٌ، وهو بمثابة ما لو قتل رجلٌ رجلين على ترتيب؛ فإنه يُقتل بالأول، ولأولياء الثاني الدية. فلو عفا أولياء الأول، ثبت حق الاقتصاص لأولياء الثاني؛ فإن القصاص كان ثابتاً في حق القتيل الثاني، ولكن قدّم الأول، فإذا سقط، فحق الثاني ثابت، وقياس هذا بيّن في الأصول، لا إشكال فيه.

ولو رأينا تقديم زكاة العين، وقد اشترى أربعين سائمة فنقص عدد الأربعين، ولكن قوّمنا ما بقي، فكان يبلغ نصاباً بالنقد، ففي المسألة الوجهان المقدمان، ففي وجهٍ لا نوجب زكاة التجارة، كما لا نوجب زكاة العين، وفي وجه نوجب زكاة التجارة، كما تقدم. 2125 - ولو اشترى عبداً للتجارة، فاستهل شوال، وجبت فيه زكاةُ الفطر، ولم يمتنع وجوبها مع وجوب زكاة التجارة، خلافاً لأبي حنيفة (1). 2126 - ولو اشترى رجل ثمرة لم يبد الصلاح (2 فيها على قصد التجارة، ثم بدا الصلاح 2) فيها، فتعتبر زكاة العين، وهو العشر، أو زكاة التجارة عند انقضاء الحول من وقت العشر؟ فعلى القولين المقدمين، فإن قدمنا زكاة العين، أوجبنا العشر، وإن قدمنا زكاة التجارة، لم نوجب العشر. ولو قصرت الثمار عن خمسة أوسق، وبلغت قيمتها في آخر الحول نصاباً، ففيه الخلاف المقدم الذي سبق، وكذلك لو بلغت خمسة أوسق، ونقصت قيمتها عن النصاب باعتبار النقد، ففيه الخلاف المذكور. 2127 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا غلبنا العينَ، فإذا أخرجنا العشرَ، فلسنا ننتظر بعد هذا تجدد العشر، وزكاة التجارة إذا استجمعت شرائطها تتجدّد. ولا نقول على تغليب العين يسقط اعتبار التجارة في المستقبل بالكلية؛ فإن التجارة قائمةٌ متجددة في الأحوال المستقبلة، فيجب اعتبارها، فليس للفقيه أن يلتفت إلى كل خيال بعيد، فالوجه إذن أن يبتدىء حولاً بعد العشر للتجارة، ثم لا ينبغي أن يبتدىء حول التجارة من وقت بدو الصلاح، وإن كنا قد نطلق أن العشر يجب عند بدو الصلاح؛ فإن ذلك تقدير، وليس تحقيقاً. والذي يكشف الحق فيه أن الصلاح إذا بدا، فعلى مالك الثمار أن يربي العشر

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 474 مسألة رقم: 466، البدائع: 2/ 74. (2) ما بين القوسين ساقط من (ك).

للمساكين، إلى الجفاف، فيستحيل أن يكون في تربية العُشر، ويكون ذلك الزمان محسوباً من حول التجارة. هذا منتهى المراد. 2128 - وكل ما ذكرناه فيه إذا اشترى ثمرةً لم يبدُ الصلاح فيها، ثم بدا، وكان قَصَدَ التجارةَ لما اشترى، واشترى الثمرة وحدها، فأما إذا اشترى الأشجار ومغارسَها من الأرض، وعلى الأشجار ثمارُها، غيرَ مُزهية، ثم أزهت، فالقول في الثمار ما ذكرناه. فإن رأينا تغليبَ زكاة التجارة، فنوجب ربعَ العشر في قيمة الأراضي، والأشجارِ، والثمارِ، ولا إشكال. وإن قلنا بإيجاب العشر في الثمار، ففي الأشجار وجهان: أحدهما - أنه لا يجب فيها شيء؛ فإن العشر وإن وجب في الثمار، فهو يكفي عن زكاة الأشجار؛ فإن الثمار كما أنها فائدة المالك من الأشجار فالعشر منها فائدة المساكين، فليكتفوا به. والوجه الثاني - أنه تجب زكاة التجارة في الأشجار؛ فإن التجارة فيها [متجردة] (1)، والعشر يختص بالثمار، والدليل عليه أنه يتصور تجرد الثمار في الملك عن الأشجار، ثم يجب العشر فيها، والملك في الأشجار لغير مالك الثمار. وإن قلنا: تجب زكاة التجارة في الأشجار، فالأراضي بذلك أولى، وإن قلنا: لا تجب زكاة التجارة في الأشجار، ففي المغارس وجهان: [والفرق] (2) بُعْدُ الأراضي عن التبعية؛ فإن الثمار جزء من الأشجار، وليست جزءاً من الأراضي. ثم ينبغي أن يقال: كل ما يدخل في معاملة المساقاة يدخل (4 في الخلاف، من (3) الأراضي التي بين الأشجار، وكل ما لا يدخل 4) في معاملة المساقاة (5)، فتجب زكاة

_ (1) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): منجزة، والمثبت من (ت 1). (2) في الأصل، (ط)، (ك): والفرض. (3) كذا. ولعلها: مثل. (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 1) وعبارة (ت 2): " ... وليست جزءاً من الأراضي التي بين الأشجار، وكل ما لا يدخل .. ". (5) يقول النووي في المجموع: 6/ 52: "وهذا قاله الإمام احتمالاً لنفسه".

التجارة فيه قطعاً. وسيأتي ذلك مشروحاً في المساقاة إن شاء الله تعالى. 2129 - ولو اشترى نخيلاً للتجارة، ولم تكن قد أطلعت، ثم أثمرت، فالثمار المتجددة بعد الشراء بمثابة الولد المتجدد لا محالة، وقد ذكرنا فيما تقدم من الفروع عن ابن سريج أن من اشترى جارية للتجارة، فولدت في آخر الحول، ولم تنقص قيمتها، فلا نضم قيمة الولد إلى قيمتها. وقد ذكر الصيدلاني أن الذي ذكرناه من تقديم زكاة التجارة يجري في الثمار المتجددة، ونص على هذا في مجموعه، فعلى هذا نقول: إذا تم حولُ التجارة من وقت شراء الأشجار، قوّمناها مع الثمار، ونجعل الثمارَ بمثابة زيادةٍ متصلةٍ، وبمثابة أرباح متجددةٍ في قيمة العروض، ولا نجعلها كأرباح تنضّ في أثناء الشهر (1)، حتى نجعل المسألة على القولين المقدمين في نضوض الأرباح. وقول ابن سريج يخالف هذا لا محالة. وإذا جمعنا قوله إلى هذا انتظم منه الخلاف لا محالة، ووجه الاحتمال لائحٌ لا خفاء به. وقد يظهر عندي أن يبتدىء -على ما ذكره الصيدلاني- حول التجارة من وقت وجود الثمار، على قولنا بابتداء حول الربح الناض في أثناء السنة، والسبب في ذلك أنا على أحد القولين نبتدىء حولَ الربح من حيث استيقنا حصوله، وهو ما دام في السلعة من حيث القيمةُ غيرُ موثوق به، واستيقان الوجود متحقق في الثمار، فليس كالزيادة المتصلة؛ فإنه لا يمكن إفرادها بالتصرف، وهذا ظاهرٌ في الاحتمال. ولكن الصيدلاني لم يفصّل، وظاهر قوله أن الثمار بمثابة الزيادة المتصلة. ومما ذكره الصيدلاني في ذلك أن من اشترى أرضاً مزروعة على نية التجارة، ففي العشر الخلاف المقدم. فإن قلنا: المغلب زكاة التجارة، فنقوم الجميع كما تقدم. وإن قلنا: نغلب زكاة العين، فالعشر ثابت في الزرع. وفي زكاة التجارة في الأراضي الخلافُ الذي تقدم.

_ (1) كذا في جميع النسخ، ولعلها تحريفٌ صوابه: "في أثناء السنة" كما هي عبارة النووي، في حكايته للأقوال. (ر. المجموع: 6/ 52) وكما هو وارد بعد سطور. ولكن العجب من إجماع النسخ الخمس على: (الشهر).

2130 - ولو اشترى أرضاً للتجارة، واشترى بذراً للتجارة أيضاًً، ثم زرع الأرض بذلك البذر، فقد قال الشيخ: إن غلّبنا زكاة التجارة، فلا إشكال، والوجه تقويم الجميع، ثم لا يخفى ما يزداد في البذر في حكم زيادة متصلة، وإن قلنا: يقدّم العشر، فقد ذَكَر في إتباعِ الأرض العشرَ خلافاً، كما تقدّم. وقد يخطر للفقيه أن التبعية بعيدة في هذه الصورة؛ من حيث تميز البذر عن الأرض أولاً، ثم فرض الزرع، وليس كما لو اشترى الأرضَ مزروعةً. ووجه تخريج الخلاف أن أحد القائلين يعتقد أن من أدى عشر الزرع، فهذا تأدية حق الأرض؛ فإن الزرع فائدة الأرض، وهذا بعيدٌ من مذهبنا؛ فإن العشرَ حق الزرع، ولا تعلق له بالأرض. ثم قال: لو اشترى بذراً للقِنية، وأرضاً للتجارة، ثم زرع أرضَ التجارة ببذر القِنية، فأما الزرع، فواجبه العشر، ولا تبعية أصلاً، وفي الأرض زكاة التجارة هاهنا وجهاً واحداً. وهذا لا شك فيه. ***

باب زكاة مال القراض

باب زكاة مال القراض 2131 - عامل القراض إذا ربح في مال القراض، فقد ظهر اختلاف القول في أن العامل هل يملك حصتَه المسماةَ له من الربح؟ وسنذكر القولين وحقيقتَهما في كتاب القراض، إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: لا يملك العاملُ شيئاً من الربح إلا عند المقاسمة، فقد قال الأئمةُ: تجب زكاة رأس المال والربحِ على المالك، ثم إذا أخرج الزكاة، فقد اختلف أئمتنا في أن الزكاة كيف سبيلُها إذا أخرجها من عين مال القراض؟ فقال بعضهم: الزكاةُ بمثابة المؤن: كأجرة الدلاّل والكيّال، فعلى هذا الزكاة محسوبة من الربح. ومن أئمتنا من قال: ما أخرجه من الزكاة بمثابة طائفة من المال يستردّها المالك، وإذا استرد صاحب المال طائفة من المال، فالمسترد محسوبٌ من رأس المال، والربحُ جميعاً مفضوضٌ (1) عليهما، وعلى ما تقتضيه القسمة والتوزيع، وسيأتي شرحُ ذلك في كتاب القراض. 2132 - وذكر بعض الأئمة [ترتيباً] (2) في هذا الخلاف، فقال: هذا ينبني على أن الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة، فإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، فهي كالمؤن وجهاً واحداً. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فإذا أخرجها من عين مال القراض، فهي مؤنة، أو استرداد طائفةٍ من المال؟ فعلى الوجهين المقدّمين. وهذا الترتيب ليس بالمرضي؛ فلا يمتنع تخريج الخلاف على قول زكاة العين أيضاًً، من جهة شيوع تعلق الزكاة في الجميع، ثم المشكل في ذلك أن الأئمة قطعوا

_ (1) مفضوضٌ: أي مقسومٌ موزع. (2) في الأصل، (ط)، (ك): ثبتا. والمثبت من (ت 1)، (ت 2)، وهو موافق لما سيأتي في السياق قريباً.

بإيجاب الزكاة في جميع المال للأصل والربح، وهذا بيّنٌ في رأس المال وحصّةِ المالك من الربح، فأما حصةُ العامل، فالاحتمال فيها لائح، وذلك أنا وإن لم نملِّك العاملَ، فملك المالك في حصة العامل ضعيفٌ. وقد قدّمنا اختلافَ القول في زكاة المجحود، والمغصوب، والمتعذّر، وحقُّ العامل متأكد في حصته، ولو أراد المالك إبطال حقه من حصته، لم يجد إليه سبيلاً. وإن قلنا: يملك العاملُ حصته بالظهور قبل المقاسمة، فقد ذكر بعض الأصحاب في حصته ثلاثَ طرق: إحداها - تخرج الزكاةُ في حصته على قولين على أصل المغصوب، والمجحود، ووجهُ ذلك: أن العامل لا يتمكن من التصرف في حصته قبل المقاسمة. ومن أصحابنا من أوجب الزكاة على العامل؛ فإنه وإن كان لا يتصرف فيه لنفسه ما دام مختلطاً، فهو قادرٌ على الوصول إليه، بأن يستقسم ويفاصل، فإذا ثبت الملك، والتمكن من الوصول إلى التصرف، فالوجه القطع بوجوب الزكاة. وذكر بعض الأصحاب طريقةً أخرى عن القفال: أن الزكاة لا تجب على المقارض قولاً واحداً، وإن قلنا: إنه يملك حصته؛ وذلك أن الملك وإن ثبت، فهو ضعيف، فكان كملك المكاتب. وهذا ضعيف. والذي قطع به الصيدلاني وجوبُ الزكاة. ثم إن قلنا: ملكه متعلَّق الزكاة، فإن كان نصاباً، وجبت الزكاة، وإن لم يكن نصاباً أخرج على الخلطة، وقد مضى التفصيل [في] (1) الخلطة، فلا نعيده. ثم إذا أوجبنا الزكاة على العامل، فإن أخرج الزكاة من مالٍ آخر، فلا كلام، وإن أراد الإخراج من مال القراض، فقد اختلف الأئمة فيه، فقال بعضهم: لا يجوز للعامل الإخراج منه، فإنا وإن ملكناه، فلا نسلطه على التصرف بنفسه، فلا يُخرج الزكاة منه، ما لم يأذن المالك. والوجه الثاني - ذكر العراقيون أن له أن يُخرج الزكاة من مال القراض، وهذا يمكن

_ (1) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): "على" والمثبت من (ت 1).

تخريجه على ما ذكرناه، من أن الزكاة مؤنةٌ أم استرداد طائفةٍ؟ فإن قلنا: إنه مؤنة، فلا يمتنع أن يخرجها من عين المال، وإن قلنا: الزكاةُ كإخراج طائفةٍ، فيمتنع عليه إخراجُ الزكاة دون الإذن، كما يمتنع عليه التصرف في نصيب نفسه قبل المقاسمة. 2133 - ومما يتم به التفريع أنا إذا أوجبنا الزكاة على العامل، فابتداء حوله من أي وقتٍ يحتسب؟ اختلف أئمتنا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أن ابتداء الحول من ظهور الربح، بارتفاع السعر، ووجه ذلك بيّن. وذهب بعضهم إلى أن الحولَ يحسب من حول رأس المال؛ فإنه الأصل، ووجهه استفادة الربح للمالك والعامل على وتيرة، فإذا كان حول نصيب المالك من يوم ما ملك رأس المال، فكذلك نصيبُ العامل يجب أن يحتسب حولُه من حول رأس المال. 2134 - ومن تمام البيان في هذا الفصل أنا [إذا] (1) قلنا: يجب على العامل زكاةُ نصيبه، فالمالك يُخرج زكاة المال، وزكاةَ نصيبه، والظاهر على هذا القول أنه يكون ما يخرجه من المال بمثابة استرداد طائفة؛ فإن العاملَ اختص بالتزام ما اختصه، والمالك كذلك؛ فبعُد تقدير المؤنة فيه، وإنما يتجه الوجهان على قولنا: لا يملك العامل، ويخرج المالكُ زكاة جميع المال، فكأنَّا في وجهٍ نقول: لا نشترط تمام الملك، فيما شرط للعامل، بل نوجب الزكاة، كما نوجب المؤن، فأما إذا تخصص كلُّ واحد بالتزام ما عليه، فيبعدُ تقدير المؤنة، وقد أشار إلى ما ذكرناه من الفرق بين القولين الصيدلاني، وهو فقيه حسن، ولم يتعرض لتخصيص الوجهين بأحد القولين أحد غيره. وبالجملة القطع بإيجاب الزكاة في جميع الربح على المالك على أحد القولين مشكل، والوجه تخريجه على المغصوب والمجحود والأملاك الضعيفة. ...

_ (1) زيادة من (ت 2) وحدها.

باب الدين مع الصدقة

باب الدين مع الصدقة 2135 - اختلف قولُ الشافعي في أن الدين هل يمنع تعلّق الزكاة بالعين؟ فقال في أحد القولين: "إنه يمنع وجوب الزكاة"، وهو مذهب أبي حنيفة (1). وقال في القول الثاني: "لا يمنع". وتوجيه القولين يتعلق بمسائل الخلاف، ولكنا نذكر ما يتعلق بربط التفريع ونظم المذهب. فمن قال بوجوب الزكاة، فمتعلقه تمامُ الملك، وآيتُه نفوذُ تصرف المالك بما شاء، بما في يده. ومن قال: لا تجب، استدل بمعنيين: أحدهما - ادعاء ضعف الملك؛ من جهة أنه مأمور بصرف ما في يده إلى دينه، وقد يتسلط مستحق الدين على أخذه عند تعذر استيفاء الدين. والثاني - أن الزكاة تجب في الدين، وسبب وجوبها المال الذي في يد من عليه الدين، فلو أوجبنا الزكاة فيما في يده، لكان مالُه سببَ الزكاتين. 2136 - وإذا وضح هذا، فرّعنا عليه، وقلنا: إن حكمنا بأن الدَّين لا يمنع تعلّق الزكاة بالعين، فلو انضم إليه انقطاعُ تصرف المالك، وذلك يُفرض من وجوهٍ نذكرها، منها: أنه لو [أحاط] (2) به الدين، فحجر القاضي عليه لمكان الديون، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك يمنع الزكاة. وإن كان الدين لا يمنع التصرفَ، فلا يتضمن تضعيف الملك، وإذا حجر عليه انْسدَّ طريق التصرف، ولم يستمر ادّعاء

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 50، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 424، مسألة 405، رؤوس المسائل: ص 217، مسألة 116، المبسوط: 2/ 192. (2) في جميع النسخ ما عدا (ط): أحاطت.

الملك التام، فإن لم نجعل الحجرَ مانعاً، فلو مضت سنةٌ، والحجر مستمر، ولم يتفق صرفُ ماله إلى جهة الديون، فتجب الزكاة. وإن جعلنا الحجرَ مانعاً، فلا تجب الزكاة. وإذا جرى الحجر في أثناء الحول، فينقطع الحول بطريان الحجر. ومن الصور في منع التصرف أن من كان عليه دين فرهنَ به النصابَ الزكاتي الذي في يده، فتم الحول، والتفريع على أن الدين لا يمنع تعلق الزكاة، ففي هذه الصورة وجهان، كما قدمناه في المحجور، ومأخذ الخلاف في ذلك انسداد (1) التصرف. فهذا إذا قلنا: مجرد الدين لا يمنع تعلق الزكاة. فأما إذا قلنا: الدين يمَنع تعلق الزكاة بالعين، فلو ملك الرجل أربعين من الغنم السائمة، وكان عليه أربعون من الغنم ديناً في ذمته عن جهة السلم، فهل يمنع هذا الدينُ تعلقَ الزكاة بالغنم السائمة؟ فعلى وجهين مأخوذين من المعنيين اللذين ذكرناهما في توجيه هذا القول، فإن قلنا: المانع تعرُّضُ ماله للصرف إلى دينه، فلا تجب الزكاة. وإن قلنا: المانعُ أداءُ ذلك إلى إيجاب زكاتين بسبب مالٍ واحد، فتجب الزكاة في هذه الصورة؛ فإن مستحق الدين لا يستوجب الزكاة؛ فإن الغنم إذا كانت ديناً، لم تكن متصفة بالسوم، والزكاة لا تجب إلا في السائمة، وسبب ذلك أن الشارع خصص الزكاة بالمال النامي، والدين لا ينمو، وإذا كانت الدراهم ديناً، فهي في معنى النقد؛ من جهة أن سبب الزكاة في النقد تهيؤه للتصرف، وهذا متحقق في الدين على المليء الوفيّ. 2137 - ومما يتفرع على هذا أن من ملك مائتي درهمٍ، وكان عليه [مائة] (2) درهم ديناً، والتفريع على أن الدين مانع، ففي هذه الصورة وجهان، مأخوذان من المعينين، من جهة أن المئة التي هي دين لا تتعلق الزكاة بها، لكونها ناقصة عن النصاب. وكذلك الخلاف لو كان مستحق الدين كافراً أو مكاتباً.

_ (1) في (ت 1): استداد. (2) في الأصل، (ط)، (ك): مائتي.

ولو ملك الرجل نصاباً زكاتياً، وكان عليه دين، وكان يملك من العقار وغيره من صنوف الأموال، ما يؤدي به الدين، فالذي قطع به أئمتنا في الطرق أن الدين لا يمنع تعلّق الزكاة في هذه الصورة. ومذهب أبي حنيفة أن الزكاة لا تجب في هذه الصورة، وقد ذكر شيخي تردداً في هذه الصورة؛ أخذاً مما ذكرناه؛ فإن مستحق الدين يجب عليه الزكاة، بسبب المال الزكاتي، فلو وجبت الزكاة على مالك المال، لأدّى إلى إثبات زكاتين بسبب مالي واحد. وهذا بعيد لا أعدّه من المذهب. 2138 - ومما يتفرع على هذا القول أن الدين إذا لم يكن من جنس المال الزكاتي، مثل أن يكون المال نصاباً من النعم، والدين دراهم، أو كان المال دنانير، والدين دراهم، فالأصح المنع. 2139 - ومما ذكره بعض المصنفين أن الشافعي نص في القديم على أن الدين لا يمنع تعلق الزكاة بالأموال (1 الظاهرة، ويمنع تعلقها بالأموال 1) الباطنة، وقال: من أصحابنا من جعل هذا قولاً ثالثاً، وهذا لا اتجاه له. والصحيح عندنا، أن المراد بهذا أن من ادّعى أن عليه ديناَّ -وإنما ذكر هذا لتسقط الزكاة- فالإمام لا يصدّقه في زكوات الأموال الظاهرة، وأما الأموال الباطنة، فالإمام لا يتولّى، أخذَها، فإذا علم الإنسان أن عليه ديناً، وقلنا: الدين يمنع تعلق الزكاة بالعين، فلا يلزمه إخراج الزكاة. وهذا فيه نظر. فإن قلنا: إن الدين يمنع تعلق الزكاة، واعترف صاحب المال بدين، فالظاهر عندي تصديقه، كما يصدق في ادعاء انقطاع الحول، أو غيره، مما سبق تقريره، فإن المالك مؤتمن فيما يدّعيه من الممكنات، وهذا في الدين أظهر؛ فإن إقراره بالدين ثابت، وهو مطالب بموجبه.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

فرع: 2140 - إذا ملك نصاباً زكاتياً، وانعقد الحول عليه، فقال قبل انقضاء الحول: لله عليّ أن أتصدق بهذا، ثم حال الحول، ففي وجوب الزكاة فيه طريقان: من أئمتنا من قطع بأن الزكاة لا تجب قولاً واحداً، لأنه صار المال مستحقاً قبل دخول وقت الوجوب. ومنهم من خرج الزكاة على القولين، وهذا يقرب مأخذه من مال المحجور عليه المفلس، من حيث إن من جعل ماله صدقة، انحسم التصرف عليه فيه. والظاهر أن لا زكاة؛ لأن ما جعل صدقة، لا يبقى فيه حقيقة ملكه. وكذلك لو كان يملك خَمساً من الإبل، فقال: جعلتها هدايا، ففي وجوب الزكاة التردد الذي ذكرناه، والظاهر أن لا وجوب. وقد ينقدح فرق بين أن يقول جعلته صدقة، وبين أن يقول: لله عليّ أن أتصدق به، فإذا عيّن، ولم يذكر عبارة في الالتزام، فهذه الصورة أولى، بأن يمتنع فيها وجوب الزكاة عند انقضاء الحول. ولو كان له نصاب زكاتي، فقال مطلقاً: لله عليّ التصدق بأربعين شاة، وكان في ملكه أربعون، فحال الحول، وما كان عين المال في نذره، فإن قلنا: الدين لا يمنع تعلّق الزكاة بالعين، فتجب الزكاة. وإن قلنا: الدين يمنع تعلقَ الزكاة، ففي هذه الصورة وجهان: أصحهما - أن الزكاة تجب؛ فإن الوجوب بالنذر ضعيف، وهو مشابه للتبرعات، والناذر بالخيار في نذره، والزكاة وظيفة لله تعالى على عباده، فلا يؤثّر النذر فيما يجب شرعا وظيفةً للمساكين. 2141 - ومما يتعلق بهذا أنه لو وجب الحج على إنسان، فوجوب الحج هل يكون ديناً مانعاً من وجوب الزكاة على قولنا الدين يمنع وجوبَ الزكاة؟ فيه وجهان، وسبب خروجهما أن دين الحج لا يتضيّق، ودين الزكاة لا يقبل التأخير، والمال ليس مقصودَ الحج، ثم دين الحج، ودين النذر [يعتدلان عندي؛ إذ] (1) أحدهما يجب من

_ (1) في الأصل، (ط)، (ك): "ثم دين الحج ودين النذر بعيد لأن عند أداء أحدهما" وهو تصحيف عجيب، وأما (ت 1) فهكذا أيضاًً إلا أنها قالت: "بعيد لأن عندي أداء ... " والمثبت من (ت 2) بمعاونة الرافعي في الشرح الكبير: 5/ 510، 511.

غير اختيارٍ (1)، ولكن ليس المال مقصوداً، والمنذور (2) مقصودٌ في المالية، ولكنه يُدخله الناذر على نفسه متطوعاً. فرع: 2142 - إذا قلنا: الدين لا يمنع تعلّق الزكاة، فإذا وجبت الزكاةُ، فمات قبل أدائها، واجتمعت الزكاة ودين الآدمي، فمن أئمتنا من قال: في تقديم الدين أو الزكاة ثلاثة أقوالٍ ستأتي مشروحة في الوصايا: أحدها - أن دين الله أحق بالتقديم، (4 وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دين الله أحق بالقضاء" (3). والثاني - أن دين الآدمي أحق بالتقديم 4) اعتباراً باجتماع القصاص، وحق قطع السرقة؛ فإن القصاص مقدمٌ. والثالث - أنهما يستويان؛ فإن الحق المالي الذي يضاف إلى الله، عائدته وفائدته ترجع إلى الآدميين أيضاًً، وهم يأخذونها وينتفعون بها. فيجب أن يستويا، وليس كالحد والقصاص؛ [فإن الحد عقوبة مبناها على الدفع، والاندراء، ومن أصحابنا من قطع بتقديم الزكاة؛ فإنها متعلقة] (5) بالعين؛ فلتقدّم على الدين المطلق الذي لم (6) يتعلّق بالعين في حياة من عليه الدين. وكان شيخي يقطع بهذا ويخُصّ إجراءَ الأقوال بالكفارات الماليّة -التي لا تتعلق بالأموال-[مع] (7) الديون المطلقة، ومن أجرى الأقوال في الزكاة بنى ما قاله على أن الغالب في الزكاة التعلُّق بالذمة.

_ (1) شرح وبيان لاعتدالهما أي تساويهما. والمراد هنا دين الحج. (2) هذا هو الثاني المعادل لدين الحج. (3) متفق عليه من حديث ابن عباس، في إجابة السؤال عن قضاء الصوم (اللؤلؤ: 254 ح 705: وقال الحافظ: وله طرق فيهما وألفاظ مختلفة (ر. التلخيص: 2/ 307). (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (5) ساقط من الأصل، (ط)، (ك). (6) سقطت (لم) من (ت 1) وحدها. (7) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2) من. والمثبت من (ت 1)، والمعنى حينما يتعلق بالتركة كفاراتٌ مع ديونٍ مطلقة غير متعلقة بالعين، فتستوي الكفارات مع هذه الديون في عدم التعلق بالعين، ولكنهما يختلفان في أن الكفارات حق لله، والديون حق للآدمي، فهنا تجري الأقوال الثلاثة.

فصل مقصود هذا الفصل وجوب الزكاة في الديون 2143 - فإذا ملك رجل ديناً بالغاً نصاباً على مليّ وفيّ، وكان الدين حالاًّ، فالوجه القطع بوجوب الزكاة إذا حال الحول، ويجب إخراج الزكاة عاجلاً، وقد حكى الزعفراني (1) قولاً في القديم عن الشافعي أن الزكاة في الديون لا تجب أصلاً، وهذا بعيد في حكم المرجوع عنه. والمقطوع به في الجديد وجوب الزكاة: ثم إن كان الدين مجحوداً وعليه بيّنة، فلا حكم للجحد، وإن كان من عليه الدين معسراً، فهو كالمال المغصوب، فأما الدين المؤجل، ففي بعض الطرق أنه غير مملوك عند بعض الأصحاب، فإذاً لا زكاة فيه. وهذا وإن كان يُلفى مذكوراً في نقل المذهب، فهو مزيّف غير معتدّ به. وإن قلنا: هو مملوك، فقد اختلف الأئمة فيه: فقال بعضهم: هو بمثابة المال الغائب الذي يسهل إحضاره، ومنهم من جعله كالمجحود والمغصوب، من حيث إنه لا يتوصل إلى التصرف في المؤجل اختياراً. فإن قلنا: ليس كالمجحود، فهل يجب إخراج الزكاة عنه في الحال إذا وجبت؟ فعلى وجهين: والأصح عندي أنه لا يجب إخراج الزكاة؛ فإنه لو أخرج خمسة نقداً [وماله مؤجل، لكان ذلك إجحافاً به، وما يساوي خمسةً نقداً] (2) يساوي ستةً نسيئة، [ويستحيل] (3) أن نقنع (4) بأربعة مثلاً، فالواجب في توقيف الشرع خمسة (5).

_ (1) الزعفراني: الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، أحد تلاميذ الشافعي، وجلسائه، ممن روَوا عنه المذهب القديم، بل هو أثبت رواة القديم، قال أبو عاصم: الكتاب العراقي منسوب إليه، ت 260 هـ (ر. طبقات السبكي: 2/ 114 - 117). (2) زيادة من (ت 1) وحدها. (3) في الأصل، (ط)، (ك): "ويستحب" وهو تصحيف عجيب. (4) هنا اضطراب آخر في نسخة (ك) حيث انتهت إلى ص 102 وانقطع السياق، حيث يلي هذا صفحات من كتاب الحج، ثم يليها صفحات من كتاب الصيام، ثم بعد الصيام يدخل في باب الحج من أوله، مما يعني أن هنا خرما ذهب بباقي كتاب الزكاة، وأوائل كتاب الصوم. (5) المعنى أنه يستحيل أن نرضى من صاحب الدين بأربعة حالّة، لتكون في قيمة الخمسة الواجبة =

2144 - ولا شك أنه لو أراد أن يُبرىء فقيراً عن دينٍ له عليه (1)، فلا يقع ذلك عن الزكاة؛ فإن تأدية الزكاة من ضرورتها [أن تتضمن] (2) تمليكاً محققاً. فصل 2145 - من التقط لُقَطَة (3) فكانت نصاباً، فإنه يعرّفها سنة، ثم له أن يتملكها في السنة الثانية، وإذا تملكها، كان بمثابة القرض، وفي ملك القرض قولان: أحدهما - أن المستقرض يملك بنفس الإقراض. والثاني - أنه إذا تصرف تصرفاً يستدعي الملك، فيتبيّن حصول الملك قُبيل التصرف. فإذا مضت سنتان من وقت الضياع، ولم يتفق من الملتقط التملك في السنة الثانية، فعثر عليها المالك، ففي وجوب الزكاة عليه (4) في السنة الأولى قولان تقدم ذكرهما، وهما القولان في الضال، والمغصوب، وفي وجوب الزكاة في السنة الثانية قولان مرتبان على القولين في السنة الأولى، وهذه السنة [أولى بسقوط الزكاة من السنة الأولى؛ فإن الملك في هذه السنة معرضٌ للزوال؛ فإنه يتصور] (5) من الملتقط أن

_ = المؤجلة؛ فإن واجب الشرع خمسة، ولا سبيل إلى قبول ما دونها. (راجع أيضاًً فتح العزيز: 5/ 502). (1) في (ت 1): عين. وهو تصحيف ظاهر. (2) ساقط من الأصل، (ط). (3) لُقطة: بفتح القاف على غير قياس، فالأكثر في كلام العرب أن فُعَلة بفتح العين جاء فاعلاً، وفُعْلة بسكون العين جاء مفعولاً. فكان القياس أن تكون اللقطة بفتح القاف علماً على من يلتقط، ولكن أجمع أهل اللغة، ورواة الأخبار على أن اللقطة بفتح القاف: هو الشيء الملتقط. (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 570). (4) الضمير يعود على المالك. (5) زيادة من (ت 1). وفي (ت 2) سقطت جملة: "وهذه السنة أولى بسقوط الزكاة من السنة الأولى".

يتملك، ويده قاصرة عن ذلك في السنة الأولى (1). وإن تملك الملتقط اللقطة في السنة الثانية، وقلنا: يملكها قبل التصرف، فإذا مضى حول كامل، فلا زكاة على صاحب اللقطة في اللقطة، فإن الملك قد زال، وهل تجب الزكاة على الملتقط المتملّك؟ هذا يخرج على أن الدين هل يمنع تعلّق الزكاة بالعين، أم لا؟ وقد مضى تفصيل ذلك على ما شرحناه، ثم صاحب اللقطة يستحق قيمتَها على الملتقط المتملك، ولكنها في حقه ملكٌ ضالٌّ إذا لم يكن عالماً بالملتقط، وقد سبق التفصيل في إيجاب الزكاة في الملك الضال. فصل قال: "ولو أكرى داراً أربع سنين بمائةٍ وستين ديناراً ... إلى آخره" (2). 2146 - إذا أكرى داراً أربع سنين بمائةٍ وستين ديناراً، وسلّم الدارَ وكانت الأجرة حالّة، فإذا مضت سنة، فالذي نقله المزني أنه لا يجب إلا إخراج زكاة ربع الأجرة. والمسألة من أولها إلى آخرها مفروضة فيه، إذا كانت أُجَرُ السنين لا تتفاوت. فإذا مضت السنة الثانية، وجبت زكاة نصف الأجرة لسنتين، ويحط ما أدّاه في السنة الأولى، وهو زكاة [رَيْع السنة] (3). ويجب في السنة الثانية ثلاثةُ أرباع الأجرة لثلاث سنين، ونحط عنه زكاة النصف لسنتين، ونوجب الباقي. ويجب في انقضاء السنة الرابعة زكاة المائة والستين لأربع سنين، ونحط ما مضى من تأدية زكاة ثلاثة الأرباع لثلاث سنين (4). هذا ما نقله المزني. ونقل غيره عن الشافعي إيجابَ الزكاة في تمام المائة والستين عقيب السنة الأولى، وهذا قياس المذهب.

_ (1) ر. الشرح الكبير: 5/ 504. (2) ر. المختصر: 1/ 247، غير أن اللفظ هناك: "بمائة دينار". (3) في (ط) ربع السنة، وفي (ت 1) رُبع لسنة، وفي (ت 2) ربع سنة. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق، فالمعنى زكى في نهاية السنة الأولى رُبع الأجرة فقط. (4) انظر شرحاً وافياً للمسألة، وتمثيلاً بالأرقام في الشرح الكبير: 5/ 514.

وحقيقة الفصل يُتلقَّى من القول في ملك الأجرة، فظاهر المذهب أن المكري يملك الأجرة التامة بنفس العقد، ثم إن فُرض انفساخ العقد بسبب انهدام الدار، فينتقض الملك بعد ثبوته، وهذا التقدير لا يمنع ثبوت الزكاة. ثم من سلك هذا المسلك وجّه القولين بما نصفه، فقال: إن قلنا: تجب زكاة المائة والستين، فوجهه ظاهر؛ فإن الملك ثابت، فإن فُرض فسخ، زال وانقطع، ولا يتبين أن الملك لم يكن ثابتاً قبلُ، فأشبه الصداق قبل المسيس، فإذا قَبضت الصداقَ، ومضى حَوْل، وجبت عليها الزكاة، في جميع الصداق، وإن كان ملكُها في الصداق عرضةً للتشطر، لو قدر طلاق الزوج. ومن قال بما ذكره المزني نقلاً، حاول الفرقَ بين الصداق والأجرة، بأن الصداق إنما يتشطر بتصرفٍ من الزوج في ملكه، وليس ذلك رفعاً للعوض - (1 تبعاً للعقد الموجِب للعوض- 1) بالفسخ، وما يفرض من انفساخٍ، فهو معترض على أصل العقد. 2147 - ومن أئمتنا من قال: القولان في تأدية الزكاة مأخوذان من الملك: فإن قلنا: تجب الزكاة في الكل دفعةً واحدة، عقيب السنة الأولى، [فهذا] (2) جواب على أن الملك يحصل في الأجرة دفعة واحدة مع العقد، وهذا قاعدةُ المذهب والقياش. والقول الثاني - أنه يؤدي الزكاة على التدريج الذي ذكره المزني، وهذا يبتنى على أنا لا نحكم بالملك في الأجرة دفعة واحدةً، ولكن نقف الأمر، فإن مضت المدة سالمةً عن اعتراض ما يوجب الانفساخ، تبيّنا بالأخرة أن الأجرة مُلكت عند العقد، وإن طرأ الانفساخُ بعد مضي ربع المدة، تبيّنا أنه لم يجر الملك إلا في ربع الأجرة، فقد حصل طريقان في الملك، فمن الأئمة من حصَّل الملك قولاً واحداً، وخرّج قول المزني على ضعف الملك، من حيث يتعرض للانفساخ. ومنهم من قال: قول المزني خارج عن ابتناء أمر الأجرة على التبيّن عند طريان

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1). (2) في الأصل، (ط): فهل. وفي (ت 2) فهو.

فاسخٍ أو استمرار سلامةٍ، وقد ذكر الصيدلاني الطريقين جميعاًً في الملك. فرع: 2148 - قال: "فإن غنموا، فلم يقسمه ... إلى آخره" (1). القول في أن الغانمين إذا أحرزوا الغنائم، هل يملكون ما غنموه قبل القسمة، يأتي في كتاب السير، ولكن القدر الذي تَمَسُّ الحاجة إلى ذكره الآن: أن من أئمتنا من قال: لا يملكون، ولكنهم ملكوا أن يملكوا. ومنهم من قال: ملكوا ملكاً ضعيفاً، ومن أعرض منهم عن حقه، سقط حقُّه، كما سيأتي. وحظّ الزكاة من هذا الفصل: أنهم إذا غنموا أنصُباً زكاتية، فإن قلنا: لا يملكون قبل القسمة، فلو حال حول قبل القسمة، فلا زكاة فيها. وإن قلنا: إنهم مالكون، فحاصل ما قاله الأئمة ثلاثةُ أوجه: أصحها -وهو المذهب- أن لا زكاة؛ فإن الملك إن ثبت، فهو في نهاية الضعف والوَهاء. والثاني - أنه تجب الزكاة. والثالث - إن كان فيما غنموه ما ليس بزكاتي، ونحن نقدر أن يقع الزكاتيُّ خُمساً، ولا زكاة في الخمس، فلا زكاة أصلاً؛ فإن للإمام أن يوقع القسمة على الأجناس، على شرط التعديل، فيوقع الزكاتي في الخمس، وإن كان ذلك ممكناً مُقدّراً، فلا زكاة لضعف الملك، وانضمامِ هذا التقدير إلى ضعف الملك. والذي قطع به أئمة المذهمب نفيُ الزكاة، وقد يمتزج بهذا الذي ذكرناه تفاصيلُ القول في الخلطة وهي بينة (2).

_ (1) ر. المختصر: 1/ 248. (2) انتهى إلى هنا الجزء الخامس من نسخة (ت 2). وجاء في خاتمته ما نصه: "تم الجزء الخامس، بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه، وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرّم، وعظم. يتلوه في الجزء السادس -إن شاء الله- باب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار". وهنا انقطع سياق هذه النسخة، وسنلتقي بها -إن شاء الله- من أول (باب البيع الفاسد).

باب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار

باب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار قال الشافعي: "ولو باع بيعاً صحيحاً على أنه بالخيار ... إلى آخره" (1). 2149 - إذا جرى البيع في مال زكاتي بشرط الخيار، أو فرضنا الكلامَ في خيار المجلس، فاختلاف القول في أن الملك في زمان الخيار لمن؟ مذكور في كتاب البيع، ولا نَضْمن استقصاءَه هاهنا. فنفرض البيع قبل وجوب الزكاة، فإن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع، فتم الحول في زمان الخيار، وجبت الزكاة، ثم يتفرع ما تقدّم، وهو البيع هل يبطل في قدر الزكاة؟ وإن بطل، فهل يتداعى إلى الباقي؟ هذا قد تقدم مشروحاً، مبيّناً على تعلق الزكاة بالعين، أو بالذمة، وعلى تفريق الصفقة، فلا نعيد ما مضى. وإن حكمنا بأن الملك في زمان الخيار للمشتري، فيبتدىء عقدُ الحول في حقه من وقت الشراء، والأولى فرض هذه المسائل في زكاة الثمار، حتى [نفرض] (2) بدوّ الزهو في مدة الخيار، ونقول بحسبه: إن يُقدّر ذلك في الخيار، وقلنا: الملك للمشتري، وجبت الزكاة عليه. هذا ما قطع به الأئمة إلا صاحبَ التقريب؛ فإنه قال: وجوب الزكاة على المشتري يُخرّج على قولين، لمكان ضعف ملكه، والعقد عرضة الفسخ، ثم قال: إذا كنا نخرج المسألة في المغصوب على قولين مع قرار الملك، لتعذر التصرف، فالتصرف يتعذر في زمان الخيار، والملك ضعيف، وقد مضت مسائل في ضعف الأملاك، وأوردنا فيما انتهينا إليه ما يليق به.

_ = (ومن هنا كانت المراجعة على نصوص ثلاثة فقط: الأصل، (ط)، و (ت 1)، إذ هذا الجزء ساقط من (ك) ". (1) ر. المختصر: 1/ 248. (2) في الأصل: "نفرع" والمثبت من (ت 1).

ونحن الآن نذكر كلاماً جامعاً في الأملاك إن شاء الله تعالى. 2150 - من اشترى نصاباً زكاتياً، ولم يقبضه حتى انقضى الحول، فقد قدمنا فيه طرقاً للأصحاب، في أول الكتاب، عند ذكر المجحود والمغصوب: فمن الأصحاب من قطع بوجوب الزكاة، ومنهم من خرّجه على المغصوب لتعذر التصرف، قبل القبض، ومن قطع بالوجوب فصَّل بأن المشتري قادر على التوصّل إلى التصرف بأن يوفّي الثمن، أو يقبض دون التوفية، وحكى بعضُ الأصحاب القطع بأن لا زكاة؛ لأن المبيع ليس من ضمان المشتري، فهذه مرتبة في الملك. ومما يلي هذا الكلامُ في الكراء العاجل، وقد تكلمنا عليه، فإن جرينا على الأصح، وهو أن الملك ثابت في الجميع، فإن طرأ انفساخ، انقطع من غير تبيّن، فالكراء المقبوض أولى بالزكاة من البيع؛ فإن التصرف نافذ فيه، وإنما فيه توقع الانفساخ. وإن قلنا: الملك في الأجرة موقوف، فالمبيع أولى بوجوب الزكاة؛ فإن الملك فيه متحقق، وهو عِمادُ الزكاة، والتصرف المجرد مع التوقف في الملك لا يؤكد الزكاة ووجوبَها. 2151 - ومما يتعلق بالملك ملكُ المشتري في زمان الخيار، فالذي ذهب إليه الأئمة أنا إذا حكمنا بأن الملك في زمان الخيار للمشتري، فهو ملك الزكاة، وإن كان يمتنع عليه معظم التصرفات، وإنما قالوا ذلك لأن الملك مصيره إلى اللزوم، والعقد معقود له، فكان الجواز في أوله محتملاً. وذكر صاحب التقريب في ذلك تردداً؛ من جهة امتناع التصرف أخذاً (1) من المجحود والمغصوب. وهذا منقاس. ولم يذكره غيره، ثم تردد فيه إذا كان الخيار مشروطاً لهما جميعاًً، أو للبائع. فأما إذا كان الخيار للمشتري وحده، والتفريع على أن الملك له، فملكه ملك الزكاة بلا خلاف؛ فإن الملك ثابت، والتصرف نافذ، وتمكنه من رد الملك لا يوجب توهيناً، وكذلك إذا قلنا: الملك للبائع، وكان الخيار ثابتاً له، فملكه ملك الزكاة؛ فإن تصرفاته فسخ، وهو منفرد بالفسخ.

_ (1) ساقطة من (ت 1).

2152 - ومن الأملاك التي يتعلق الكلام بها ملك الغانمين قبل القسمة، فإن قلنا: إنهم لا يملكون، فلا يثبت حكمُ الزكاة، وإن قلنا: إنهم يملكون، ففيه التفصيل الذي قدمناه، والأصح أن لا زكاة، والسبب فيه أن الملك في المغنم غير مقصود، وإنما يتحقق القصد عند القسمة، والغرض من الجهاد إعلاء كلمة الله، والذب عن دين الله، ولما كان كذلك، انحط ملك الغانم قبل القسمة، عن ملك المشتري في زمان الخيار. وينحط عن هذا الملك ما نصوّره: إذا أوصى رجل بثمار لإنسان، ومات الموصي، فأزهت الثمارُ بعد موته، وقبل قبول الموصى له، ففي أصحابنا من قال: الملك يكون للورثة إلى القبول، فإذا حصل الزهو، ثم القبول بعده، فالأصح الذي لا يسوغ غيره أن ملك الورثة لا يكون ملك الزكاة، ولا يلزمهم العشر، ولا زكاة فطر العبد الموصى به، في مثل هذه الصورة؛ فإن هذا الملك تقدير، اضطررنا إليه، لما لم نجد مالكاً متعيّناً في هذا الزمان، فلا حاصل لهم في هذا الملك، وهذا الذي ذكرته فيه إذا قدرنا هذا الملك، ثم قبل الموصى له الوصية، فأما إذا ردّ الوصيةَ، فيظهر وجوب الزكاة على الورثة، إذا كان الزهو بين موت الموصي وبين القبول؛ فإن الملك قد رُدّ، ثم تحقق، وفيه الخلاف الذي تكرر أمثاله في الأملاك الضعيفة، التي لا يثبت التصرف فيها. 2153 - فهذه رتب في الأملاك: أعلاها المبيع قبل القبض، والقول في الأجرة منقسم، كما ذكرته، والصحيح أنها مملوكة، وهي أولى بالزكاة من المبيع، لأنها محل التصرف، ثم ينحط عنهما ملك المشتري في زمان الخيار، ثم يليه ملك الغانم قبل القسمة، ويتأخر عن الجميع الملك المقدر كما فرضناه (1). 2154 - ثم من اشترى زوجته، وقلنا: إنه يملكها، فينفسخ النكاح بهذا الملك، وإن كان ضعيفاً وفاقاً؛ فإن سبب ارتفاع النكاح (2 ما بين النكاح 2) وملك اليمين من

_ (1) أي كما فرضنا الملك المقدّر في صورة الموصى به بعد الوفاة وقبل قبول الموصَى له أو ردّه. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

المضادة في وضع الشرع، وإن كان كذلك، فالمضادة تثبت مع الملك الضعيف، ولو قدرنا للوارث ملكاً في زوجته الأمة، وكانت موصى بها لإنسان، فهل ينفسخ النكاح بالملك المقدر؟ فيه وجهان. فليتأمل الناظر منازل الأحكام. والظاهر أنا إذا أثبتنا الملك للغانم، في زوجته قبل القسمة، حكمنا بانفساخ النكاح، وفيه خلاف ظاهر. 2155 - ومن ملك من يعتِقُ عليه ملكاً ثابتاً عَتَق عليه، وإن اشتراه، وقلنا: الملك له في زمان الخيار -ففي عتقه عليه خلاف- إن قلنا: يجوز شرط الخيار في شراء من يعتق على المشتري. وفي حصول العتق في ملك الغنيمة كلامٌ وخلاف، ويبعد العتق ْفي الملك المقدّر كما صورناه، وفيه شيء. فلينظر الناظر إلى هذه الأحكام في هذه المراتب، فأولاها بالنفوذ ما يبتنى على المضادة، كانفساخ النكاح، ويليه العتق لسلطانه، ويتأخر عنه أمر الزكاة التي نحن فيها. 2156 - ومما يتصل بتمام الغرض أنا وإن ترددنا في أن الزكاة هل تجب بملك المشتري في زمان الخيار، فإذا فرّعنا على هذا القول، فينقطع لا محالة [حول] (1) البائع؛ فإن زوال الملك إذا تحقق، قطع الحولَ، وإن لم يكن متأكداً. فهذا منتهى الغرض في الأملاك، وما يتعلق بها في غرضنا. فرع لابن الحداد: 2157 - إذا مات رجل، وخلف نخيلاً مثمرة، وديوناً مستغرقة للتركة، ثم أزهت الثمارُ قبل صرف التركة إلى الديون، فمن أصحابنا من قال: الدين يمنع ثبوت الملك للورثة، فعلى هذا لا عشر عليهم، ولا يجب أيضاًً على الميت؛ فإنه لا يتعبد بعبادة بعد انقطاع التكليف عنه بالموت، ولا شك أنها لا تجب على الغرماء.

_ (1) في الأصل، (ط): حق.

وإن جرينا على المذهب، وحكمنا بأن الملك يثبت للورثة في التركة، وإن كانت الديون مستغرِقةً لها، وقلنا: لا يمنع الدينُ الزكاةَ، فالتركة كالمرهون، وفيه الخلاف المقدم. فإن قلنا: بوجوب الزكاة في المرهون، فمن أئمتنا من قال: إن حكمنا بأن الزكاة تتعلق بالعين، فهي مقدمة، وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة، فعلى ثلاثة أقوال: قال الشيخ أبو علي: الصحيح تقدم الزكاة، وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة، فإن لها تعلقاً على حالٍ بالعين، أقوى من تعلق الدين بالرهن. والدليل عليه أن من وجبت الزكاة في ماله، فتلف قبل الإمكان، سقطت الزكاة، ولو تلف الرهن، لم يسقط الدين، والدين يتعلق بالتركة أيضاًً تعلق استيثاق، فلا وجه لتقديم الزكاة؛ فإنها لا اختصاص لها بالعين، فالوجه التسوية عندي. ثم الأقوال الثلاثة لا تخفى. فإن لم يجد الوارث ما يخرج منه العشر، أخرج العشر لا محالة من ثمار التركة، ثم إذا وجد الوارث بعد هذا ما يفي بمقدار الزكاة، فهل يلزمه أن يغرم للغرماء ذلك القدرَ؟ ذكر وجهين: أحدهما - أنه يجب ذلك؛ فإن العشر إنما وجب على الوارث، وهو المخاطب بها (1)، والتركة مستحقة للغرماء. قال: هذا هو الأصح. ومن أئمتنا من قال: لا يجب على الوارث أن يجبر ذلك؛ فإنه لم يفرط فيه، وإنما وجبت الزكاة بإيجاب الله تعالى، ثم أُخذت من المال، فكانت بمثابة المؤنة في المال، ولا خلاف أن نفقة التركة من وَسَطها، إلى أن يتفق صرفُها إلى الغرماء، فإن كانت النفقة تجب على المالك، فلتكن الزكاة كذلك. ومن قال بالوجه الأول الذي صححه الشيخ (2)، انفصل عن النفقة بأن قال: الزكاة عبادة مقصودة، وجبت فيه، وخُوطِبَ الوارث بها، والنفقة ليس لها تعلق بالذمة على التحقيق، فأخذت من التركة، وهذا إذا كان الوارث لا يجد ما يؤدي العشرَ منه، فأما

_ (1) "بها": الضمير يعود مؤنثاً على الزكاة. (2) "الشيخ": المراد به أبو علي السنجي في شرح فروع ابن الحداد.

إذا وجد ما يُخرج العشرَ منه، فإن قلنا: لو لم يجد الوارث شيئاً، ثم وجد، جبر ما أخرج من التركة، فإذا كان واجداً، لزمه الإخراج منه، وتخليص التركة. وإن قلنا: لا يجب الجبران في الصورة الأولى، فلا تجب تأدية الزكاة في هذه الصورة على الوارث، وإن كان غنيّاً كالنفقة (1). فرع آخر لابن الحداد: 2158 - إذا اشترى رجل شقصاً فيه الشفعة على نية التجارة بعشرين ديناراً، ثم لم يتفق أخذه بالشفعة، حتى مضى حولٌ، وبلغت قيمة الدار (2) مائةً، قال ابن الحداد: يؤدي المشتري الزكاةَ عن مائةِ دينارٍ، والشفيع يأخذ الدار بعشرين ديناراً، والسبب فيه أن ملكه استمر سنة، وأمر الزكاة منقطع عن أمر الشفعة، فجرى كل حكم على مقتضاه. والقياس ما قاله الشيخ أبو علي: من أئمتنا من خرج قولاً في نفي الزكاة لتعرض ملك المشتري للزوال والقطع، ولو تصرف في الدار، فتصرّفه بصدد النقض من جهة الشفيع، وليس كالصداق؛ فإن تصرفات المرأة لا تُنْقَضُ في شيء من الصداق، إذا طلقت قبل المسيس، وقد كانت وهبت وسلَّمت، أو باعت. وهذا الذي ذكره إن كان يتجه تفريعه، فالوجه أن يستثنى منه مقدار عشرين ديناراً؛ فإن ملكه إن كان يعترض عليه، فيُبذل له في مقابلته عشرون، وعين المال غيرُ مقصودٍ في زكاة التجارة، وإنما المقصود المالية، والمالية دائمة في مقدار العشرين. [وقد] (3) يجوز أن يقال في العشرين: إنها وإن كانت قائمة، فتحكُّم المالك مختل فيها أيضاً. وإنما تتحقق التجارة من متحكم مختار، أما الدار، فتصرفه فيها منقوض، والعشرون لا يملك التصرف فيه، قبل قبضه من الشفيع، وهذا تكلُّفٌ، والوجه ما ذكرته من إبقاء الزكاة في العشرين؛ لتحقق المالية على الاستمرار في ذلك المقدار.

_ (1) ساقطة من (ت 1). والمراد بالنفقة هنا: النفقة على التركة إلى أن تُصرَف إلى الغرماء. (2) المراد بالدار الشقص، كما صرح بذلك النووي في حكايته هذا الفرع نفسه عن ابن الحداد (ر. المجموع: 6/ 74) (3) في الأصل، (ط): ولا يجوز.

ثم ذكر الشيخ في التفريع على ما ذكره ابن الحداد وجهاً، وذلك أن المشتري يقول: قد وجبت الزكاة في مالية الدار، فتَخرج الزكاة منها، ثم يكون ذلك بمثابة نقصان في صفة الشقص المبيع، فالشفيع يأخذه إن أراد بعد الزكاة، بتمام العشرين كما لو نقص الشقص بآفة سماوية، وهذا خرجه على الأصل الذي ذكرناه في الفرع المتقدم على هذا، وهو أن العشر إذا أُخرج من التركة، فالوارث لا يجبره، وتكون الزكاة كالمؤنة والنفقة. وهذا الوجه في هذه المسألة ضعيف عندي؛ فإنه إن اتجه في تلك المسألة ما تقدم؛ من جهة أن الورثة لم ينتسبوا إلى شيء لأجله وجب العشر في الثمار، والمشتري لما قصد التجارة، فسبب وجوب الزكاة قصدُه، فحَسْبُ (1) نقصان الزكاة التي وجبت بسبب قصده على الشفيع بعيدٌ، وقد نجز غرض [الفرع] (2). فرع: قال في الكبير (3): "لو باع ثمرةً قبل بدو الصلاح ... إلى آخره". 2159 - نقل الصيدلاني هذا النص عن الكبير، ونحن نصوّر موضعَ النص أولاً، ثم نستوعب تفصيل المذهب فيه. إذا أثمرت نخيلُ إنسانٍ، فباع الثمار قبل بدوّ الصلاح، مطلقاً؛ من غير شرط القطع، فالبيع باطل عندنا، والثمار باقية على ملك البائع، فإذا بدا الصلاح في يد المشتري، فيده ليست يد استحقاق، والعشر يتعلق بعين الثمار -على ما تقدم تفصيل التعلق- والبائع متعبد؛ فإنه المالك، والبيع فاسد، فلو أتلف المشتري الثمارَ، ثم أفلس البائع، وحجر عليه، وأحاطت الديون به، فقد تقدم في باب الثمار اختلافُ

_ (1) حَسَبَ الشيء عدّه من باب نصر. وحساباً أيضاًً. (2) في الأصل، (ط): الفرض. (3) "الكبير" المراد به "المختصر الكبير للمزني" جمع فيه نصوص الشافعي رضي الله عنه على نحو ما فعل في المختصر الصغير المعروف، وقال ابن الصلاح تعليقاً على هذا النقل في وسيط الغزالي: "المزني رحمه الله له (المختصر الكبير) وهو كالمتروك، و (المختصر الصغير) وهو هذا المختصر المشهور المعروف "بمختصر المزني" الذي أكثر تصانيف الأئمة شروح له" (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح، مطبوع بهامش الوسيط: 2/ 470).

القول في أن الخرص حيث يجري - عبرةٌ أو تضمين، ثم ذكرنا أنا إذا جعلناه عبرة، فإذا أتلف (1) الثمارَ، فحق المساكين في الرطب، وإن جعلناه تضميناً، فحقهم بعد الخرص في التمر. وإن بدا الصلاح ودخل [وقت] (2) الخرص، ولم يتفق الخرص فأتلفت الثمار -والتفريع على قول التضمين- ففيما يجب وجهان: أحدهما - على المتلف المالك التمر الجاف، ودخول وقت الخرص كالخرص. والثاني - أنه لا يجب التمر ما لم يجر الخرص، ونص الشافعي في الكبير يدل على أن وقت الخرص بمثابة الخرص، في إيجاب العشر. 2160 - ثم إذا تجدد العهدُ بمواضع الخلاف في ذلك، فنقول: إذا أفلس البائع والديون عليه، والزكاة من جملة الحقوق الواجبة عليه، فإن قلنا: الواجب عشر الثمر رطباً، فيغرم الرطب، أم قيمته نقداً؟ هذا ما تقدم ذكره، تخريجاً على أن الرطب من ذوات الأمثال أم لا، والجريان على أنه مضمون بالقيمة، فقيمة العشر ثابتة في ديونه، ثم يخرج الآن ما قدمناه، من أنه إذا اجتمع دين الله، وديون الآدميين، فما المقدم؟ ففي قولٍ يقدم حقُّ الله تعالى، وفي قولٍ يقدم حق الآدمي، وفي قولٍ لا تقديم، ولا تأخير، وتثبت الديون فوضى (3) على [التضارب] (4) في ماله، وإن ضاق المال أخذ كلٌّ ما يخصه، ومسألة الشافعي في الكبير مفروضة فيه إذا أتلف المشتري الثمار في البيع الفاسد، فالقيمة المأخوذة منه تتعلق بها الزكاة، حسب تعلقها بالعين في بقاء العين، والتفريع على الأصح: وهو أن من وجبت عليه الزكاة، (5 فمات، وخلف ذلك المال، وأحاطت الديون، فالوجه تقديم الزكاة 5)، كما نُقدِّم ديناً متعلِّقاً بالرهن على الديون المرسلة في مرتبةٍ واحدة. ثم قال الشافعي في الصورة التي ذكرناها: إذا ْأفلس البائع، وقد كان أتلف المشتري الثمار -على حكم الفساد- فتؤخذ القيمةُ من

_ (1) (ت 1): تلفت. (2) مزيدة من (ت 1). (3) فوضى: أي شائعة مشتركة لا فرق بين الزكاة والديون. (4) في الأصل، (ط): النصاب. (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

المشتري المتلِف، وهي مائة درهم مثلاً، ثم يصرف عُشرها -وهو عشرة- إلى مستحقي الزكاة يقدَّمون بها، وكان قيمة نصيب المساكين تمراً يساوي عشرين، قال: فهم مقدّمون بالعشرة التي تقدمت، ويضاربون الغرماء بعشرةٍ أخرى إلى تمام قيمة العُشر تمراً، وهذا فرَّعه على أن الخرص تضمين، ثم فرعه على أن دخول وقت الخرص يفيد ما يفيده جريان الخرص على حقيقته، ولهذا أوجب التمرَ، واعتبر قيمته، ولم يعتبر قيمة الرطب، ثم وجد العُشر من قيمة الرطب متعلِّقاً بالقيمة التي غرمها المشتري، والباقي إلى تمام قيمة التمر يُصادف الذمة، فتضارب (1) سائرَ الديون. هذا نص الشافعي، والذي ذكره منقاسٌ على قول الخرص. 2161 - وتمام البيان: أنا إن قدمنا حق الله تعالى، وإن كان مرسلاً، فنقدم العشرين، وإن رأينا تقديم الزكاة لكونها متعلقة بالعين، فإذا غلَّبنا تعلق الزكاة بالذمة، فهو وجه بعيد، فعلى هذا تقع المضاربة بالجميع، من غير تقديم في شيء. وقد يخرج عليه (2) تقديم حقوق الآدميين، تفريعاً على تقديم ديونهم. وإن قدمنا ما نراه متعلّقاً بالعين، فقد يتجه فيه أن ثمن [التمر] (3) بكماله متعلِّق بقيمة الرطب، كما تتعلق الشاة بخمسٍ من الإبل، وإن اختلف الجنس، ولا وجه إلا ما ذكره (4) الشافعي؛ لم (5) يحد عن القياس الظاهر، إلا أن القول قد يعتدل بين مذهب العِبرة والتضمين، ثم على قول العِبرة لا يجب إلا عشرة، وهي مقدّمة على قياس النص، وعلى قول التضمين التقديم بعُشر قيمة الرطب، وإن كان الضمان في قيمة التمر، وهذا لطيفٌ في مأخذه جداً.

_ (1) في (ت 1): فيضارب بها سائر. (2) ساقطة من (ت 1). (3) في الأصل، (ط): المثمن. (4) في (ت 1): والأوجه ما قاله الشافعي. (5) كذا في النسخ كلها، والكلام مستقيم بشيء من التأمل.

فصل قال الشافعي: "ولو اشتراها قبل بدو الصلاح على أن يجُدَّها ... إلى آخره" (1). 2162 - هذه الصورة مصوّرة في بيع يصح، وبيانها أن يشتري الثمارَ قبل بدوّ الصلاح، على شرط القطع، فيصح البيع، فلو لم يتفق القطع وفاء بالشرط، حتى بدا الصلاح، فالزكاة تجب لا محالة، وإن وجبت، فالقطع يُبطل حق المساكين من الثمر المتوقع، ثم إذا أبقينا الثمار، كان ذلك خروجاً عن الشرط المستحق في العقد، فيعسرُ الأمرُ في ذلك قطعاً وإبقاء. 2163 - فأول ما نصفه في ذلك اختلاف القول في أن الفسخ هل يثبت أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما - أن الفسخ يثبت؛ فإن العقد تعذر إمضاؤه لما تقّدم، وكل عقد يتعذر إمضاؤه، فيثبت فيه الفسخ. والثاني - لا يفسخ؛ لأن سبب التعذر طارىء فيه، بعد لزوم العقد، وتسليم الثمن إلى المشتري. فإن قلنا يثبت الفسخ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن العقد ينفسخ كما (2) بدا الزهو، من غير حاجةٍ إلى إنشاء فسخ؛ فإن هذا سبب التعذر، فنفسه يوجب الانفساخ، وهذا القول سيأتي في كتاب البيع، في أن من اشترى حنطة، فانثالت على حنطة أخرى قبل التسليم، فنقول: في قولٍ نفسُ هذا يوجب انفساخ البيع، والأصح أن العقد لا ينفسخ، ولكن للبائع حق الفسخ فيه، فإن اختاره، نفذ، وإلا ْبقي العقد، ثم إن حكمنا بالفسخ، أو الانفساخ، فالتفريع: إن قلنا بالانفساخ، نفذ الفسخ، وارتفع العقد، سواء رضي المتعاقدان بتبقية الثمار، أو طلب البائع الوفاء بالقطع؛ فإن الانفساخ متعلق بصورة الحال، لا يتوقف على تراضيهما،

_ (1) ر. المختصر: 1/ 249. (2) "كما" بمعنى (عندما).

واختلافهما، وإن أثبتنا حق الفسخ، فنقول: إن طلب البائع، فحق الفسخ يثبت لتعارض حق المساكين وحق الوفاء بالشرط، وإن رضي البائع والمشتري بالتبقية، بقّينا الثمار إلى الجِداد، ولا يفسخ البائع ولا المشتري، وإن رضي البائع بالتبقية، وأبى المشتري إلا الوفاء بالشرط، ففي المسألة قولان. أصحهما - أن لا فسخ، وتبقى الثمار؛ فإن الحق في تخلية الأشجار والوفاء بالقطع للبائع، فإذا ترك حقَّ نفسه، كفى ذلك، ولم يكن للمشتري عذر في طلب القطع. والقول الثاني - أن طلبه ثابت؛ فإنه يقول قد استحقت القطع شرطاً، فلا أقبل من البائع تركَ الثمار، وربما يكون للمشتري غرض ظاهر في القطع، والوفاءِ [بشرطه] (1) الذي جرى في طلب القطع. ثم إن حكمنا بالانفساخ أو أثبتنا للبائع حقَّ الفسخ، ففسخ، فالزكاة في الثمار على من؟ فعلى قولين: أقيسهما - أن الزكاة تجب على المشتري؛ فإن بَدْوَ الزهو كان في ملكه، والفسخ لا يرفع العقدَ من أصله تبيناً وإسناداً إلى ما تقدم، ولكنه يقطع العقد في الحال. والقول الثاني - أن العشر يجب على البائع؛ فإن ملكه وإن زال، فسبب العَوْد إليه إنما يمتنع من قطع الثمار، لما فيه من إبطال حق المساكين. ولو قلنا: يفسخ، فالزكاة في الثمار باقيةٌ، فلزم منه أن تبقى الثمار بسبب الزكاة، بعد الفسخ، وكل ما أثبت حقَّ الفسخ من جهة التعذر، فينبغي أن يرتفع بسبب الفسخ، فكأن الملك لم يزل، فرفعناه رفعاً على هذا التقدير، وأوجبنا العشر على البائع، وجعلنا كأنه لم يبع، وقد بدا الصلاح في ملكه، وهذه المسألة لا تبين إلا عند النَّجاز منها؛ فإن الأصل فيها والتفريع عليه يلتف أحدهما بالآخر التفافاً يعسر فيه التفصيل. وهذا منتهى غرضنا الآن، في أنه يتطرق الفسخ إلى العقد. 2164 - وفي المسألة قول آخر أن: لا فسخَ، ولا انفساخَ، ولكن إن طلب البائع القطعَ، قطعت الثمار، وإن قيل: هذا يؤدي إلى أن تنقص حقوق المساكين، قلنا

_ (1) في الأصل، (ط)، (ت 1): بشرط. والمثبت من (هـ 1).

في جوابه: الثمرةُ إذا مُلكت على قضية الشرط، فحق المساكين يثبت فيها على جريان القطع؛ إذْ شرطُ القطع متقدم على وجوب الزكاة، ثم الشرط ثبت على الصحة، ثبوتاً شرعياً، ونحن قد نقطع الثمار بعد وجوب العشر لحاجةٍ داعيةٍ إليه، مثل أن يخاف أن يضرّ بالنخيل إذا قل الماء، فإن قلنا: يقطع الثمار، فقد نقول: لا يُخرِج حق المساكين من عين الثمار؛ فإن قسمة الرطب ممتنعة، وقد تقدم نظيرُ هذا في قطع الثمار، بسبب عطش الأشجار، فعلى هذا يُخرج عشر قيمة هذه الثمار إذا قطعها، وإن جوزنا قسمة الثمار، فيسلم عشر الثمار التي قطعها إلى المساكين، ثم نقول عند ذلك: إذا قلنا: الخرص عِبرة، أو الخرص إذا جرى تضمين، فلا يجب ضمان [التمر] (1) قبل جريانه، فالجواب ما ذكرناه. وإن قلنا على قول التضمين: نفسُ بدو الصلاح يضمّنه [التمر] (1)، فالذي يظهر في هذه الصورة أنه لا يضمن [التَّمْرَ] (1)، وإن فرعنا على الوجه الذي ذكرناه، والسبب فيه أن عين بدو الصلاح إنما يُضَمِّن [التَّمْرَ] (1) إذا كان إبقاءُ الثمر ممكناً. فأما إذا أوجبنا القطعَ على القول الذي فرعنا عليه، فيبعد أن [يضمَّن] (2) التَّمرَ، ثم نمنعه من تصييره تمراً، فليتأمل الناظر ما يمر به. 2165 - ومن بقية الكلام في المسألة: أنا إذا قلنا: ينفسخ العقد أو يفسخ، وجرينا على الأقيس: أن الزكاة تجب على المشتري، فلا نقول: نكلِّف المشتري القطعَ بعد الفسخ، ونُلزمه ما ذكرناه من بذل عشر الثمار، أو عشر قيمتها؛ فإنا لو كنا نسلك هذا المسلك، لأوجبنا الوفاء بشرط القطع، ولم نفسخ العقد، والوجه أن تَبَقِّي الثمار وتبقيةَ عشرها محال؛ فإن الأمر في ذلك قد لا ينقسم، والجملة في ذلك أنا لا نكلف المشتري بعد الفسخ قطعَ جميع الثمار؛ إذ لو كنا نكلفه ذلك، لكلفناه القطعَ وفاءً بالشرط حتى لا يحتاج إلى الفسخ، فإذا فسخنا، فينبغي ألا نعتقد جريان الأمر على

_ (1) في النسخ الثلاث (الثمر) [بالثاء المثلثة] في المواضع الأربعة، والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى: كيف نضمِّنه حقَّ المساكين تمراً [بالمثناة]، ونحن نحكم بقطع الثمار [بالمثلثة]. وصيرورتها تمراً [بالمثناة] لا يكون إلا بالإبقاء حتى تمام الجفاف. (2) في الأصل، (ط): يضم.

حكم القطع في الجميع، ولكن القول في ذلك يخرج على أن الثمار هل تقسَّم، فإن قلنا: لا تقسم، فلا بد من تبقية جميع الثمار، وإن قلنا: إنها تقبل القسمة لو كانت موضوعة على الأرض، فهل نجري القسمة فيها بالخرص؟ فعلى وجهين ذكرناهما فيما تقدم، فلو منعنا القسمة، وهو الأصح، فلو قيل لنا: سبب ثبوت الفسخ إذاً ماذا؟ وأي فائدة في تنفيذه، والثمار تبقى قهراً، وإن لم يرض تبقيتَها البائع؟ قلنا: أما الفائدة، فرجوع تسعة الأعشار إلى ملكه، حتى يزيد في ملكه زيادةً ظاهرة، فكأنا لما تعذر الوفاء بالشرط، لم نرض أن تزيد الثمار للمشتري بسبب التبقية. ثم نقول: إن أخرج المشتري حقّ المساكين من موضع آخر، والتفريع على أن المساكين لا يستحقون شِركاً من الثمار فيرتدّ جميع الثمار إلى البائع، وإن أخذ الساعي العشرَ من عين الثمار، فلا شك أن البائع يرجع بمقدار الزكاة على المشتري؛ فإن الزكاة وجبت عليه دون البائع. فهذا كله على قول منع القسمة، وتبقية الجميع، فإن جوّزنا القسمةَ خَرْصاً سلّطنا البائع على مراده في تسعة الأعشار، وبقَّينا حقَّ المساكين في العشر، ثم يأتي في حق المساكين الخرص والتسليط بسببه على التصرف، إن جعلنا الخرصَ تضميناً، كما قدّمناه في الثمار المملوكة، التي لا تتعلق تبقيتُها بمناقضة شرط. 2166 - ومن لطيف القول في ذلك: أنا إذا حكمنا بالانفساخ، فهذا يقع من غير نظر إلى التراضي من المتعاقدين وإلى الاختلاف بينهما، وإن أثبتنا الفسخَ، (1 فلو رضي المتعاقدان، بقيت الثمار، ولو أبى البائع، أثبتنا الفسخ 1) ولو رضي البائع وأبى المشتري، فقولان مضى ذكرهما. ْوإن جرينا على الصحيح وهو أن البائع إذا رضي، لم يكن للمشتري حق الفسخ، فلو رضي البائع، ثم بدا له أن يطالب بالقطع، فإن فرّعنا على أن المشتري يكلف القطعَ، ولا يثبت الفسخ، فإذا رضي بالتبقية، ثم رجع، فله أن يكلفه القطع،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

ويكون هذا بمثابة ما لو رضيت المرأة بالمقام تحت زوجها المَوْلى، ثم بدا لها، فلها المطالبة مهما أرادت. فأما إذا قلنا: لا يكلف المشتري القطعَ، ولكن يثبت حق الفسخ للبائع، فهذا سببه أن القطعَ متعذر، فإذا رضي بالتبقية، فلو قيل: هذا إسقاط منه لخياره في الفسخ، فلا يعود حقه، كمن اشترى شيئاً لم يره، ثم رآه ورضي به، فلا يعود خياره، وإن لم يرض بعيب. ويجوز أن يقال: سبب خياره ثبوت حق القطع ساعة فساعة، مع تعذر الوفاء به، وهذا يتجدد، فلا يسقط الخيار بالكليّة. 2167 - وهذا تمام المسألة، ولن يقف الناظر على حقيقتها، ما لم يُحط بجميع أطرافها، فهذا تمام القول في هذا، وقد مهدنا فيه ما يرشد إلى بيان ما نورده متصلاً به. إن شاء الله عز وجل فصل قال: "ولو باع المصدّق شيئاً، فعليه أن يأتي بمثله ... إلى آخره" (1). 2168 - مقصود الفصل أن الساعي إذا جمع الزكوات، فليس له أن يبيع أعيان ما أخذ، بل يوصلها إلى مستحقيها. والقاعدة المعتمدة في ذلك أن المالك لا يُخرج أبدال المنصوصات، بل يتيعن عليه المنصوص، وهذا التعبد يجب اتباعه، وهذا المعنى يتحقق في حق الساعي، فإذا لم نُجِز للمالك أن يُخرج ورِقاً عن ذهب في الأموال الباطنة، فهذا مرعي في حق الساعي، ولو ظهرت حاجةٌ في حق الساعي، مثل أن علم المؤنة ستثقل عليه في سَوْق ما جمعه من النَّعم، فله البيع، وكذلك لو لم تكن الطرق آهلة، فيبيع. ولو لم تظهر حاجة من الجهة التي ذكرناها، ولكن كانت الغبطة في البيع، وظهرت غبطة، يجوز للقيم بيعُ عقار الطفل بمثلها، فليس للساعي البيعُ بسبب الغبطة، كما ليس للمالك أن يرعى غبطة المساكين، ويصرف إليهم الأبدال عن

_ (1) ر. المختصر: 1/ 250.

المنصوصات، لمكان الغبطة، حتى لو صرفَ إليهم خمسةَ دنانير، بدل خمسة دراهم، لم يجز ذلك، ولو علق الإنسان نظره، بأن الإمامَ لو رضي بذلك، ورآه رأياً، فهذا من اتباع اجتهاده. وإذا رأى الإمام الجريان على مذهب أبي حنيفة في مجتهدٍ فيه، فحكمه متبع، وليس هذا من غرضنا في المسألة. 2169 - ولو وجبت الزكاة، وقلنا: المالك يتولّى تفرقة الزكاة، فعدِمَ المستحِقَّ في موضعه، وقلنا: عليه والحالة هذه أن ينقل الصدقة إلى بلدة فيها مستحقون، فإن كانت المسافة بعيدةً، واحتاج إلى مؤنةٍ في سوق النَّعَم، أو كان في الطريق خطر، فإن ركب الخطرَ، فتلف ما أخرجه، فهو عليه؛ فإن المخرج لا يصير زكاةً ما لم يصل إلى المستحقين، وليس له أن يُنفق على ما يسوقه، ثم يحسبه من الزكاة. والساعي قد يجوز له أن ينفق على الزكاة المأخوذة على حسب الحاجة من عين الزكاة. والسبب فيه أن ما انتهى إلى يد الساعي، فهو زكاة، وما يفرّقه من المال ليس بزكاة ما دام في يده. والغرض من هذا أنه إذا كان المالك يحتاج إلى بذل مؤنة في النقل، أو ركوبِ غرر، ولو أخرج بدلاً، لم يكن واحد منهما، ففي إخراج البدل تردد في مثل هذه الصورة، قد تمهد أصله في إخراج الأبدال. والقول فيما ينقله ويلتزمه من المؤنة يأتي مستقصىً في نقل الصدقات. إن شاء الله تعالى. فصل قال: "وأكره للرجل شراء صدقته ... إلى آخره" (1). 2170 - إذا تصدق الرجل بشيء مؤدياً فرضاً، أو متبرعاً، ثم رأى ذلك الرجل أن يبيع ذلك الشيء، فيكره للرجل المتصدّق أن يشتريه؛ لأن آخذه قد يسامح المتصدّق، فيكون في حكم الراجع في شيءٍ من صدقته. ولو اشترى، صحَّ. وكان عمر رضي الله

_ (1) ر. المختصر: 1/ 250.

عنه حمل رجلاً على فرسٍ في سبيل الله، فرآه يبيعه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرائه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تعد في صدقتك" (1). ولو وكل وكيلاً حتى يشتريه، فإن كان يعلم أن الوكيل نائبه، فالجواب في كراهيته كما تقدم (2)، وإن كان وكيله مجهولاً، فالكراهية أخف، ولكن لا يؤثر ذلك، ويمكن أن يقال: هذا القسم لا يلتحق بالكراهية، بل هو من باب الأولى (3). ...

_ (1) حديث نهي عمر عن ابتياع فرسه، رواه البخاري: الهبة، باب إذا حمل على فرس، ح 2636، ومسلم في أول كتاب الهبات، ح 1620، وأبو داود: كتاب الزكاة، باب 9، ح 1593، والنسائي في آخر الزكاة، باب شراء الصدقة، ح 2618. (2) أي بعلم البائع للصدقة أن مشتريها وكيل المتصدّق، وذلك لتحقق العلّة، وهي ما ذكر من أنه قد يتسامح مع المتصدق. (3) انتهى إلى هنا نسخة الأصل (د 1) وفي خاتمتها: "نجز الثاني بحمد الله، وعونه وحسن توفيقه. يتلوه في الذي يليه باب زكاة المعدن". ولن نلتقي بهذه النسخة ثانية، فهذا كل ما وجدناه منها. وانتهى هنا أيضاًً نسخة (ت 1) وفي خاتمتها: "كمل الجزء الثالث بعون الله تعالى ومنّه، ويتلوه -إن شاء الله تعالى- في الجزء الرابع منه: باب زكاة المعدن". وانقطع سياقها إلى أن نلتقي بها في أول البيع. وانتهى هنا أيضاًً نسخة (ط) الجزء الخامس منها، وسياقها مستمر في الجزء السادس منها

باب زكاة المعدن

باب زكاة المعدن (1) قال: "ولا زكاة في شيء يخرج من المعادن ... إلى آخره" (2). 2171 - في نَيْل المعادن حقٌّ ثابت، والكلام في تمهيد الباب يتعلق بفصول: منها حق المعدن يختص بالتبرين، الذهب، والفضة، دون ما عداهما، وعلقه أبو حنيفة (3) بكل جوهر منطبع مُنْطرق: كالرصاص، والنحاس، والحديد. وفي الأخبار ما يدل على تخصيص التبرين. والفصل الثاني، والثالث، والرابع (4) في المقدار الواجب، وفي النصاب، وفي الحول. [الكلام في المقدار الواجب] (5). 2171/م- وفيه ثلاثة أقوال: أحدها - أن الواجب ربع العشر؛ اعتباراً بزكاة الدراهم والدنانير. والثاني - أن الواجب في نَيْل المعدن الخمس، وتوجيههما مذكور في الخلاف (6). والقول الثالث - أنا نَفْصل بين ما يؤخذ عفواً من غير كثير تعب، وبين ما يستفاد مع

_ (1) من هنا بدأ الاعتماد على نسخة (هـ 1) أصلاً، (ط) نصاً مساعداً، إلى أن ينتهى الخرم من نسخة (ك)، فتكون نصاً مساعداً ثانياً. إن شاء الله. (2) ر. المختصر: 1/ 250. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 457، مسألة 449، والدرة المضية - مسألة 250. (4) لم يَعْنِ الإمام بهذا فصولاً ذاتَ عناوينَ وأرقام، وإنما قصد أنه سيتناول هذه المسائل فيما يأتي. ولذا ستراه يمزج بين المسائل بدون تفصيلها بفصولٍ وعناوينَ. (5) زيادة على ضوء السياق، حيث مكانه مطموس في الأصل، وساقط من (ط). (6) لم يتعرض الإمام لهذه المسألة في (الدرة المضية)، فلعله يشير إلى كتاب آخر من كتبه في الخلاف، التي لم تصل إلينا للآن.

نَصَب، فنوجب ربعَ العشر فيما يؤخذ مع التعب، ونوجب الخمس فيما يؤخذ نَدْرة (1). فأما من أوجب ربع العشر، اعتبر (2) واجب المعدن بما يجب في جنسه عند انقضاء السنة. ومن أوجب الخمس اعتبر واجبه بواجب [الرّكاز] (3)؛ فإن كل واحد منهما مركوز في الأرض. ووجه قول الفَصْل: أن فيما سقت السماء العشر، وفيما سُقي بنضح ودالية نصفُ العشر، فإذا كان يختلف واجب ما تُخرجه الأرض بقلّة التعب وكثرته، فلا يمتنع مثلُ ذلك فيما يستفاد من النَّيْل. [الكلام في النصاب] 2172 - فإن قلنا: الواجب ربع العشر، فالنّصاب معتبر، وإن قلنا: الواجب الخمس، ففي اعتبار النصاب قولان: أحدهما - يعتبر كما يعتبر النصاب في المعشَّرات عندنا، والثاني - لا يعتبر النصاب، كما لا يعتبر في الغنيمة، وإخراج الخمس منها - النصابُ (4). [الكلام في الحول] 2173 - ثم إن لم يُعتبر النصاب، فلا يعتبر الحول، وإن اعتبرنا النصاب، فهل يعتبر الحول؟ فعلى قولين: النصاب أولى بالاعتبار من الحول، ولذلك (5) اعتبر

_ (1) الندرة بفتح النون، القطعة من الذهب والفضة، توجد في المعدن، وجمعها ندرات، وندر الشيءُ يندُرُ ندوراً خرج من غيره وبرز، والاسم منه الندرةُ، ومنه نادر الجبل، وهو ما خرج منه وبرز (الزاهر فقرة: 308، والمعجم، والمصباح). (2) جواب أما. بدون الفاء على مذهب الكوفيين، واعتبر هنا بمعنى (قاس). (3) في الأصل الزكاة. (4) "النصاب" نائب فاعل للفعل (يعتبر) في الغنيمة ... (5) في (ط) وكذلك.

النصاب في المعشرات، ولم يعتبر فيها الحول، والسبب فيه أنا لم نوجب الحقَّ ما لم يبلغ النصاب مبلغاً يحتمل المواساة في نفسه بمقداره، فأما الحول فمدة الارتفاق، فيبعد إثباتها في مال جملته رَفَق (1)، وفائدة، ونَيْل؛ ولهذا نعتبر حساب النصاب في السخال، ولا نعتبر فيها حولاً مستجداً. هذه قاعدة الباب. والأقوال معلومة. 2174 - وفي القول الثالث وهو الفصل بين نيلٍ ونيلٍ نظر، فلا بد من بيانه. فما يحصل نادراً (2) [جملةً] (3) من غير حاجة إلى طحنٍ، ومعالجة بالنار، فهو الذي فيه الخمس؛ لأنه يحصل مع [خِفّة] (4) العمل، فكان شبيهاً بما سقي بالأنهار، وما يحتاج فيه إلى الطحن والمعالجة، ففيه ربع العشر، كما يسقى بالنضح والدالية. فإن اجتمع كثرةُ النَّيل، وسقوطُ العمل بالطحن والعلاج، فالخُمس. وإن قلّ النَّيْل، ومست الحاجة إلى الطحن والعلاج، فربع العشر. فإن كان يوجد شيئاً فشيئاً، على قلةٍ، ولكن كان لا يحتاج إلى الطحن والنار، أو كان يوجد الشيء الكثير، ولكن مع الطحن والعلاج، ففي هذا تردد للأئمة في الطرق، فمنهم من يعتمد العملَ في إيجاب ربع العشر، وسقوطَه (5) في إيجاب الخمس، ولا ينظر إلى القلة والكثرة، ويجعل الكثرة كاتفاق كثرة الرَّيْع فيما يسقيه النضح، وكاتفاق قلة الرَّيْع فيما يسقيه السماء. وهذا قريب من الضبط. ومنهم من قال: [الاحتفار] (6) من المعدن (7) إذا كان يكثر، عُدّ ذلك من العمل المعتبر، كالطحن والعلاج، فالنظر في ذلك عند هذا القائل إلى نسبة النَّيْل إلى

_ (1) رَفَق بفتحتين، سهل المطلب (المعجم). (2) "نادراً" أي ظاهراً خارجاً من المعدِن كما قلنا في التعليقات آنفاًً. (3) في الأصل: جمله. (4) في الأصل: حَقِّه، ولم أجد لها وجهاً. (5) أي يعتمد سقوطَ العمل في إيجاب الخمس. (6) في الأصل: الاحتقار. وهو تصحيف واضح. والمراد أعمال الحفر. (7) المعدن: المكان الذي عدن فيه الجوهر من جواهر الأرض. وسمي المعدن المأخوذ منه معدناً، باسم المكان (الزاهر والمعجم) والمعدن هو ما يسمى الآن في عرفنا (المنجم).

العمل، أيّ عملٍ كان، ولأهل البصائر في ذلك جهاتٌ في الكلام، فربما يعدّون العمل كثيراً، والنيلَ بالإضافة إليه قليلاً، وربما يعدّون النيلَ كثيراً، والعملَ بالإضافة إليه قليلاً، وربما يعدّون ذلك مقتصداً. [فمن يعد نيله بالإضافة إلى عمله قليلاً، أو مقتصداً، فواجبه ربع العشر، ومن عدّ نيله كثيراً بالإضافة إلى عمله، فواجبه الخمس] (1). فهذا بيان هذا القول في هذه الطريقة. 2175 - ولا يبين تحقيق القول فيه إلا بمزيد كشف، فيه تمام الإيضاح، فنقول: إذا كان استفادةُ دينار في اليوم مقتصداً، فلو استفاد ديناراً إلى قريب من آخر النهار، ثم استفاد بعملٍ قليل ديناراً، في بقية النهار، فلا نقول في الدينارين الخمس، ولكن في الدينار الأول ربع العشر، وفي الثاني الخمس، وتمام القول في ذلك أن الدينار إذا كان مقتصداً في اليوم، فَعَمِل العاملُ طول يوم، فلم يجد شيئاً، ثم إنه وجد في آخر النهار دينارين، فلا ينبغي أن نوجب في جميعه الخمس، ولكن نحط من جملته القدرَ المقتصد، وهو دينار، فنوجب فيه ربع العشر، ونوجب في الزائد الخمس، وهذا فيه احتمال على بعد؛ فقد يقال: الزمان الذي لم يصب فيه فقد [حَبط] (2)، وخاب العاملُ فيه، وهذا الموجود الآن نادر (3) [فيجب] (4) الخمس [فيَ كله، والأوجه ما] (5) قدّمتُه؛ فإنه لو عمل نهاره، ولم يصب شيئاً، ثم أصاب [مقداراً لو يفرق على عمله]، لكان مقتصداً كالدينار يصيبه من آخر النهار، [فينبغي ألا] يجب فيه إلا ربعُ العشر، وإذا كان كذلك، فالوجه [في المسألة الأولى حطّ مقدار] الاقتصاد، ونخصص الباقي بالخمس فهذا [منتهى الكلام في ذلك]. 2176 - وإذا ثبتت الأصول فنبتدىء التفريع بعد ذلك، فإن لم نعتبر فيما يستفيده النصابَ، فلا شك أنا لا نعتبر الحول أيضاًً، ففي كل ما يستفيده واجبه في الحال، قلّ

_ (1) عبارة الأصل هنا مضطربة، وفيها تكرار، وكلمات مطموسة، فأثبتنا عبارة (ط). (2) في الأصل: خبط. (3) نادرٌ: أي بارزٌ وظاهر. (4) في الأصل: في. (5) مطموس في الأصل: وأثبتناه من (ط). وهكذا كل ما بين المعقفين من الصفحات التالية.

أم كثر، وقد مضى التفصيل في أن الواجب ربع العشر أو الخمس. 2177 - وإن قلنا: يعتبر النصاب، ولا يعتبر الحول، [فلا يخلو] إما أن لا يكون له ذهب وفضة إلا ما يستفيده، وإما أن يكون له سوى ما يستفيده من النَّيْل، فالنيل المتواصل بعضُه مضموم إلى بعض، وذلك بأن يدوم العمل على العادة في مثله، ويدوم النَّيْل، فإذا اجتمع من دفعاتٍ نصاب، وجب الحق في الجميع، ما تقدم وما تأخر، وكانت الدَّفَعات مع الاستمرار والتواصل، بمثابة ما يتقدم وما يتأخر في ثمار النخيل، فالبعض مضموم إلى البعض، على التفصيل المذكور في الثمار، وذلك لأنها وإن ترتبت؛ فإنها تُعد دخلَ سنةٍ واحدة، فيعتبر هذا المسلك في النَّيْل، ثم الثمار (1) يضبطها [السنة] (2)، ونيل المعدن [لا يضبطه] (3) السنة، والرجوع في التواصل إلى العرف الواضح بين أهله في الباب، فإن كان العمل متواصلاً، ولكن انقطع النَّيل، ثم بعد تخلل فصل عاد، ففي ضم الأول إلى الثاني اختلاف بين الأئمة: منهم من نظر إلى انقطاع النَّيْل، ولم يضم الأول إلى الثاني. ومنهم من نظر [إلى] (4) تواصل [العمل] (5)، ولم ينظر إلى النَّيل تواصَلَ، أو انقطع، ورأى الضَّم. ولو انقطع العمل، وتخلل فصل يُعدّ مثله [قطعاً، نُظر: فإن أعرض العامل] عن العمل، فهذا باتفاق الطرق يتضمن قطع الأول عن الثاني، [وهذا فيه إذا أعرض مِن] غير عذر، فأما إذا انقطع العمل بعذر، نُظر: [فإن كان ذلك الانقطاع بسبب] الاشتغال بإصلاح آلات العمل كالمعاول وغيرها، [فهذا يعد من تواصل العمل، فلا انقطاع]، وإن كان بسبب مرض أو عارض شغل، [ففيه وجهان: أحدهما - أن ذلك قطع، والثاني - ليس] قطعاً. ورأى الأئمة قطعَ العمل بعذرٍ، بمثابة انقطاع النَّيل في المعدن.

_ (1) ساقطة من (ط). (2) في الأصل: للسنة. (3) في الأصل. لا يضبطها. (4) ساقطة من الأصل. (5) في الأصل: للعمل.

2178 - وانتظم من ذلك أن العمل والنَّيل إذا تواصلا، فالضم، وإن تواصل العمل وانقطع النيل، فوجهان. وإن أعرض من غير عذر، وظهر قطعه للعمل، انقطع وفاقاً. وإن كان معذوراً: [فإصلاح] (1) الآلات بمثابة العمل على المعدن، وفي القطع بعذر المطر وغيره وجهان، ثم نفس قصد الإعراض لا يقطع، ما لم يحقق قصده بالترك زماناً، وليس كقصد القِنية؛ فإن نفسه يقطع الحول في التجارة، ثم إذا لم يقطع ضممنا جميع الدُّفَع، فإذا تم النصاب، فإذ ذاك، نوجب الحق (2). ومن ذلك الوقت ينعقد حول الزكاة في المستقبل. وإن حُكم بالانقطاع في بعض الصور، وكان قد استفاد مثلاً على التواصل تسعةَ عشرَ دينار، ثم انقطع، واستفاد بعد الحكم بالانقطاع ديناراً، أما التسعةَ عشرَ السابقة، فلا واجب فيها، وأما الدينار الذي استفاده آخراً بدَفعة أو على التواصل، فقد ضمّه الأئمة إلى التسعةَ عشرَ؛ فإنه مع الذي تقدم نصابٌ، وقد تحقق كمال النصاب، والحول ليس معتبراً، فيجب إخراج حق المعدن من الدينار الأخير. هذا ما صار إليه جماهير الأئمة، وعلى ذلك بنى ابن الحداد. 2179 - وذكر الشيخ أبو علي في الشرح وجهاً بعيداً عن الأصحاب: أنه كما لا يضم الأول إلى الثاني، لا يضم الثاني إلى الأول، فلا يجب في الدينار شيء من حق المعدن، كما لا يجب في التسعةَ عشرَ، وقال في توجيهه: التسعةَ عشرَ لو بقيت سنين، لم يتعلق بها واجب، فهي كالمنعدمة في هذا المعنى، فكأنها عَرْضُ قِنية، وهذا بعيدٌ، والمذهب كما تقدم. ثم إذا تم النصابُ، فلا خلاف أنا من وقت (3) تمام النصاب نحكم بانعقاد حول الزكاة في المستقبل.

_ (1) في الأصل: بإصلاح. (2) هنا سقط في نسخة الأصل. وهو من وسط الصفحة، مما يوحي بأنه كان ساقطاً من النسخة التي أخذ عنها الأصل، أو أن ناسخ الأصل هو الذي ترك ورقة كاملة بوجهيها. ولذا ستكون هذه الصفحات عن نسخة (ط) وحدها. (من س 6 ص 4 ش). (3) هذه أرقام المخطوطة (ط) إلى أن ينتهى السقط الذي في الأصل.

وهذا الذي ذكرناه تفريع على أن النصاب شرطٌ، والحول غير معتبر. وما كان له مالٌ سوى ما يستفيد من النيل. 2180 - فأما إذا شرطنا الحولَ مع النصاب، فنشترط في النيل المتواصل وقتَ كمال النصاب حولاً كاملاً، وابتداء الحول من تمام النصاب، واشتراط الحول بعيدٌ عن قاعدة المذهب. فأما إذا كان له مالٌ سوى ما يستفيده من النيل، والتفريع على أن النصاب شرطٌ في واجب المعادن، والحول ليس بشرط، فذلك المال لا يخلو إما أن يكون نقداً، وإما أن يكون مال تجارة، فإن كان نقداً؛ مثل إن كان معه مائة درهم، فوجد مائة درهم من المعدن، فالذي ذكره ابن الحداد وتابعه المحققون عليه أنا نوجب في المستفادة من المعدن حقَّها؛ فإنها قد كملت بالمائة العتيدة الموجودة عند العامل على المعدن؛ فإن الشيء في النصاب مضمومٌ إلى جنسه، والحول غير معتبر في النيل على القول الذي نفرع عليه، فقد كمل النصاب لاتحاد الجنس، ولا حول. وذكر الشيخ (1) وجهاً بعيداً: أن حق المعدن لا يجب في هذه الصورة، وهذا وإن أمكن توجيهه على بُعد، فالمذهب ما قدمناه. 2181 - فأما إذا كان عنده مال تجارة، مثل إن كان قد اشترى عرضاً للتجارة بمائة، وبقيت قيمته مائة، واستفاد من نيل المعدن مائة، فنذكر في ذلك ثلاث صور: إحداها - أن يجد المائة مع آخر جزء من الحول، بحيث يتم حول المائة مع هذا النيل، من غير فرض تقدم ولا تأخر، فإن كان كذلك، فحق المعدن واجب في المائة جرياً على ما مهدناه، وتجب زكاة التجارة في العرض المشترى للتجارة، والتفريع على أن الاعتبار في النصاب بآخر الحول، وقد تم النصاب بالنيل، في آخر الحول، فوجب زكاة التجارة في المائة، لكمالها بالنيل في آخر الحول، ويجب حق المعدن في المائة المستفادة لكمالها بمال التجارة، وهذا حسن.

_ (1) "الشيخ" هنا يريد به الشيخ أبا علي السنجي في شرح فروع ابن الحداد، وسيتضح ذلك من الكلام في الفقرة بعد هذه بفقرتين.

ولكن نَيْل المعادن غيرُ مستفاد من جهة التجارة، وقد ذكرنا في زكاة التجارة فرعاً عن ابن سريج أن الجارية المشتراة للتجارة، إذا ولدت، لم يُضم الولد إليها في القيمة، على تفصيلٍ تقدّم، وإن صح أن ولدها لا يضم إليها، فالنَّيل أولى بأن لا يضم، وقد ذكرنا في شراء الأشجار للتجارة أن الثمار في حساب التجارة مضمومة، وهذا أيضاًً يخالف ما ذكره ابن سريج في الولد، ولسنا نحكم بقول ابن سريج على هذه الأصول، بل نستدل بما أجراه (1) على تزييف ما حكيناه عن ابن سريج. ثم هذا فيه إذا وجد المائة مع آخر حول للتجارة. 2182 - فأما إذا كانت عروض التجارة في أثناء حَوْلها وقيمتها مائة، فوجد مائة من النيل (2)، فقياس قول ابن الحداد إيجاب حق المعدن في المائة التي وجدها، فإنا نكمل النصابَ بالمائة في مالية التجارة، ونوجب حق المعدن، وإن كنا لا نوجب إلا زكاة التجارة في مال التجارة، فإن الحول إن كان معتبراً في مال التجارة، فهو غير معتبر في نيل المعادن، على القول (3) الذي نفرع عليه. وفي المسألة وجه آخر، حكاه الشيخ، وذكره العراقيون: أنه لا يجب في النيل حقُّه، وقد تقدم هذا الوجه. 2183 - ولو اشترى عرضاً بمائةٍ للتجارة، وقيمتها مائة، وانقضى حول، ولم تزد قيمة السلعة، ومضى مثلاً شهر من الحول، ثم وجد مائة (4) من نيل المعادن، فهذا ينبني على أنا إذا قومنا سلعةَ التجارة، فلم تبلغ قيمتُها نصاباً، ثم مضى شهر، فارتفعت القيمة، فبلغت نصاباً، فهل نوجب الزكاة الآن؟ فيه خلافٌ شرحته فيما تقدم. فنقول: إذا وجد النيلَ بعد شهر من انقضاء الحول الأول، فهذا على الأصل الذي

_ (1) كذا. ولعلها بما أجريه، أو لعلها بما أجراه ابن الحداد. (2) هذه هي الصورة الثانية من الثلاثة الموعودة. (3) انتهى الخرم الذي كان في نسخة الأصل (هـ 1). (4) هذه هي الصورة الثالثة.

مهدناه، بمثابة ارتفاع السعر، [بعد انقضاء الحول] (1) ثم في ارتفاع السعر خلاف، فإن أوجبنا فيه زكاةَ التجارة، [فنقول: إذا وجد مائة] من نيل المعدن في الحول الثاني، فإن قلنا: تجب زكاة [التجارة بارتفاع السعر]، فتجب زكاة التجارة بسبب وجود النيل، ثم [إذا وجبت زكاة التجارة بسبب] وجود النيل، فلا شك في وجوب حق المعدن [في النيل، وإن قلنا: لا تجب زكاة التجارة] بارتفاع السعر، فلا تجب أيضاًً زكاة التجارة بسبب وجدان النَّيْل، وهل يجب حق المعدن، وإن لم تجب زكاة التجارة؟ الظاهر أنه يجب، وفيه وجه آخر، وهو بعينه في هذا المنتهى بمثابة ما لو وجد النيلَ قبل انقضاء الحول الأول على مال التجارة، فهذا تمام البيان في ذلك. 2184 - وذكر الشيخ أبو علي في الشرح هذه الأحوالَ الثلاثة، ولم يصوّر المال الأول في عرض التجارة، بل صور مائة درهم عتيدة، ووجد مائة من النيل، ثم حكى ثلاثة أحوال: أحدها - أن يجد النَّيْل قبل انقضاء حول المائة العتيدة، وذكر فيه المذهبَ الظاهر، والوجهَ البعيد، وهو بعينه صورة مسألة ابن الحداد، وهذا مستقيم، ثم فرض فيه إذا وُجد [النَّيلُ] (2) مع آخر جزءٍ من حول المائة، فتجب الزكاة في المائة العتيدة، وفي النَّيل حقُّه، وهذا سهو عظيم، فإن المائةَ لا ينعقد عليها حول، حتى يفرضَ له وسط وآخِر، ولا شك أن المائةَ لا زكاة فيها، في الصورة التي ذكرها، وإنما انتظم ما ذكرناه في عَرْض التجارة، والحَوْلُ على ظاهر المذهب ينعقد عليه، والاعتبار فيه بآخر الحول بالنصاب (3). فأما إذا كانت المائة نقداً، ولم يكن متَّجِراً فيها، فمهما وجد المائة من النيل، ففي حق النيل ما قدمناه، والمائة العتيدة تجري في الحول من وقت الكمال، هذا مما لا يتمارى [فيه الفقيه. وقد نجر] الآن تفصيل القول في النصاب، والحول، والتكميل، [والضم.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من نسخة الأصل، حيث أصابها بلل ذهب بأطراف الصفحات من أسفل. (2) مزيدة من (ط). (3) (ط) في النصاب.

وما ذكره] الأئمة في اختتام الكلام أنا إذا أوجبنا الخمسَ [في نيل المعدن، فإنا] نكمل المستفاد من النيل، بمال التجارة، وإن كان [واجبهما يختلف، فالنظر في] التكميل إلى اجتماعهما في اشتراط [النصاب]. فصل 2185 - إنما يخرج حق المعدن عند التنقية، ولا يُجزىء إخراج تراب المعدن مختلطاً بالنَّيْل؛ فإن المقصود مجهول، وعلى العامل على المعدن القيام بمؤنة التنقية، كما على صاحب الزرع تنقية الحب، وعلى صاحب الثمار القطافُ والتجفيفُ على الجرين. ثم قال الأئمة: بيع تراب المعدن وفيه نيله باطل؛ لأن المقصود مجهول، والجهالة مؤثرة في البيع، واشتهر خلاف الأئمة في التعامل بالدراهم المغشوشة، التي لا ينضبط مبلغ التبر فيها، فمن منع وجّه المنع بما ذكرناه من الجهالة، ومن جوّز يستدل بأن المقصود من النقود نفاذُها وجريانُها، وهذا متحقق مع الجهالة بمقدار التبر. قال الشيخ أبو بكر: بيع المعجون جائز، فإن آحاد الأخلاط غيرُ مقصودة، وإنما المقصود المعجون في نفسه، فكأنه في حكم جنس [متحدٍ] (1) وهذا الذي ذكره من تصحيح البيع صحيح، ولكن التعليل بما ذكره مختلّ؛ فإن الغرض يختلف بأقدار الأخلاط، اختلافاً ظاهراً؛ إذ لو رددنا إلى ما ذكرناه من جهالة المقصود، لَمَا صححنا البيع، ولكن السبب الظاهر في تصحيح البيع مسيسُ الحاجة؛ فإن المعاجين لو لم تكن عتيدة مهيّأة عند الاحتياج إلى [استعمالها، لجر ذلك] ضرراً عظيماً، فلا يستقل تعليل صحة البيع، ما لم يعضد [بما ذكرناه، من معنى] الضرورة، فليفهم الناظر ما يمر به. وحكى [الصيدلاني عن القفال] أنه سئل عن بيع الثمار الجافة المختلطة [على ما قد

_ (1) في الأصل: متجدد.

يعتاد في نيسابور،] فقال: إنه جائز، كما يجوز بيع المعجون؛ فإنه يُقصد كذلك، وهذا لا أراه متفقاً عليه؛ إذ لا ضرورة، والأجناسُ المختلفة مشاهدة معاينة. والأطعمة التي تطبخ من أجناس وتباع، كالحلاوات، وما يشبهها، يجوز بيعها، وقد يقال: لا يتحقق فيها من الضرورة ما يتحقق في الأدوية، ولكن لا ينظر إلى تفاصيل الأحوال، والحاجة ماسة إلى الأطعمة، والأدوية، والضرورة الحاقّة المرهقة ليست شرطاً؛ وإذا اشتهر الخلاف في النقود مع نفوذها، فلأن يجري الاختلاف في الفواكه أولى، والأجناس مشاهدة، والناس يتشاحون في أقدار تلك الأجناس. فصل 2186 - مضمون هذا الفصل الكلام في الركاز والغرض يتعلق بفصولٍ، منها: القول في تصوير الركاز، وصفته، ومكانه. ومنها: التفصيل في التداعي فيه. ومنها: بيان حق الله تعالى فيه. والذي أراه تقديمَ حكم الركاز، وبيان حق الله تعالى فيه، فنقول: الكلام في هذا يتعلق بشيئين: أحدهما - الجنس الذي يتعلق به حق الله تعالى. والثاني - مقدار الواجب. فأما الجنس، فقد قال الشافعي في بعض كتبه في الركاز: لو كنت أنا الواجد، لخمّستُ القليل والكثير، ولو وجدت [فخارة لخمّستها] (1)، [والظاهر] (2) من المذهب أن الركاز الذي يتعلق به الحق [هو التِّبران، كما] ذكرناه. وذكر أصحابنا قولاً آخر من تردد الشافعي: [إن كل ما يصادف] موضوعاً على

_ (1) المذهب أن حكم الركاز يختص بالذهب والفضة، وفي غيرهما طريقان: إحداهما - القطع بأنه لا يجب، والثانية - في غير الذهب والفضة قولان: أصحهما - لا يجب. ولذا حمل الأصحاب قول الشافعي: "ولو وجدتُ فخارة، لخمستها" على الورع، لا على أنه واجب (ر. المجموع للنووي: 6/ 99). (2) في الأصل: "فالظاهر"، ولا معنى للفاء؛ فما قبلها لا يناسب ليترتب عليه ما بعدها.

أوصاف الكنوز، فيتعلق به حق [الله تعالى. وذكر الشيخ] أبو علي في شرح التلخيص وجهاً عن بعض الأصحاب [أن حق المعدن] لا يختص بالتبرين، بل يعمّ كلَّ مستفادٍ كما ذكرناه في القول البعيد في الكنز، ثم على هذا لا يختص بما ينطبع ويتطرق كما قال أبو حنيفة، بل يعم كل مستفاد، وهذا بعيد. 2187 - فأما الكلام في المقدار الواجب، والحول، والنصاب، فلا خلاف أن الحول غير مرعي فيه، وواجبه الخمس، وفي اشتراط النصاب قولان: أحدهما - ليس بشرط فيه، والثاني - إن النصاب مرعي فيه، والأصح أن النصاب لا يراعى فيه. ونحن نذكر مراتب في النصاب في أصولٍ متفاوتة، حتى يبين مأخذُ الكلام فيها، فنقول: الزروع والثمار يعتبر النصاب فيها؛ فإنها مطلوبة بالأفعال الاختيارية وإن كان المستفاد منها موكولاً إلى أمور غيبية، فالحاصل منها متعلق بالتعب الذي يكاد أن ينضبط، فاعتبر أن يكون المستفاد بحيث لا يستوعبه مؤن [التحصيل] (1)، وأقدار التعب، والنَّصَب. وأما نيلُ المعادن، فإنه متعلِّق بالعمل بعضَ التعلق، ولكن الاختيار أبعدُ عن هذا الباب منه عن الزروع والثمار. وأما الركاز، فإنه ليس مما يُجرَّدُ الطلب إليه، بل هو مما يقع وفاقاً [غير متعلق بقصد] مضبوط؛ فيبعد اعتبارُ النصاب فيه، فهذا بيان القول [في هذه المراتب. 2188 - ثم] إذا وضح أن واجب الركاز الخمس، فالمذهب الظاهر [أنه يصرف إلى مصرف] الصدقات، وذكر بعض الأئمة قولاً بعيداً: [أنه يصرف مصرف الفيء] وهذا يوجه بأن الركاز مال جاهلي، كما سنصفه [إن شاء الله تعالى، فلا يبعد أن يكون] واجبه مصروفاً إلى مصارف الفيء؛ فإنه في الحقيقة مال جاهلي، اتفق الظفر به من غير إيجاف خيل وركاب، وهو صورة الفيء، وهذا بعيد. والوجه أن يُصرف إلى مصارف الصدقات؛ إذ لو كان كالفيء، لما اختص واجده به، ولصرفت أربعة أخماسه إلى المرتزقة.

_ (1) في الأصل: التعجيل.

فإن قلنا: إنه يصرف إلى الصدقات، فواجب المعادن بذلك أولى، وإن قلنا: إنه يصرف إلى مصارف خمس الفيء، فنقول في نيل المعادن: إن قلنا: واجبه ربع العشر، فهو صدقة، وإن قلنا: واجبه الخمس، فالأصح أنه صدقة، بخلاف واجب الركاز، فإن من صرف واجب الركاز إلى الفيء فمتعلقه أن الركاز مال جاهلي، وهذا لا يتحقق في نيل المعادن. وأبعد بعضُ أصحابنا، فذكر في واجب المعادن على قولنا إنه الخمس قولاً آخر: إنه يصرف إلى جهة الفيء، وهذا ساقط، غير معدود من المذهب. ثم من قال: مصرفه مصرف الصدقات، فلا بد من النية، كالزكوات، ومن قال مصرفه مصرف خمس الفيء، فلا يشترط النية أصلاً، ولا ينحو به نحو القُرَب والعبادات. فهذا منتهى قولنا في هذا الفصل. 2189 - فأما الكلام في الركاز: قال العلماء: هو مال جاهلي، في مكان جاهلي، ونحن نوضح المقصود [في ذلك]، فنقول: نتكلم أولاً في الركاز المأخوذ في بلاد الإسلام، [ثم نذكر ما يوجد في بلاد الكفر. قلنا: ما يوجد في بلاد] (1) [الإسلام، فالكلام] (2) أولاً في صفته، ثم في مكانه. 2190 - فأما في صفته [فينبغي أن يكون مالاً من] ضرب الجاهلية. فإن كان الموجود دراهمَ [من ضرب الإسلام، فليس] له حكم الركاز أصلاً. قال الأصحاب: ما يوجد منه لقطة، ثم ظاهر كلام المعظم أن واجده ينحو به نحو اللقطة، فيعرفه سنة، ثم يتخير بعدها في تملكه. وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أن ما يوجد على هذه الصفة، فهو محفوظ لمالكه أبداً، وإن أخذه السلطانُ، فهو مال لا يدرى مالكه، فإن رأى حفظَه،

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (غير المتلاشي بسبب البلل، بل خرم في العبارة). (2) ما بين المعقفين هنا، وفيما يأتي سببه التلاشي بسبب البلل، فليعرف ذلك بدون التنبيه؛ فإنه يتكرر في كل صفحة عدة مرات.

حفظه، وإن رأى الاستقراضَ منه لمصلحةٍ، فعلى ما سنذكر -في المعاملات- تفصيلَ القول في الأموال الضائعة. قال الشيخ: اللقطة هي التي تنسلُّ من مالكها، فتقع في مضيعة، فأثبت الشارع لآخذها سلطانَ التملك، ليكون ذلك ذريعة في استحثاث الأمناء على الأخذ، فأما ما وضعه مالكه كنزاً، فاتفق العثور عليه، بسبب احتفار الأرض، فليس يثبت فيه حق التملك. قال: وكذلك إذا طيرت الريحُ ثوباً في دار إنسان، فليس ذلك لُقَطة تُملّك بعد التعريف. وذكر غيره أن حكم اللقطة يثبت في هذه المواضع كلها. وهذا قياسٌ متجه. وفيما [ذكره] الشيخ أبو علي فقهٌ. ولو انكشفت الأرض عن كنز بسبب [رجفة، أو سيلٍ] (1) جارفٍ، فصادفه إنسان، فلست أدري ما يقول [الشيخ أبو علي في] ذلك، والمال البادي ضائع الآن، والذي يليق [بقياسه أنا لا نثبت حق] التملك، اعتباراً بأصل الوضع، قياساً على ما [حكيناه عنه، في الثوب تلقيه] الريح في دار إنسان. هذا إذا كان على المال آثار الإسلام. فإن كان الموجود تبراً، أو أواني، وكان يجوز تقديرها جاهلية، ويجوز تقديرها إسلامية، فقد ذكر العراقيون وجهين فيها: أحدهما - أنها كنز، إذ (2) لم يظهر عليها أثر الإسلام. والثاني - أنها لقطة، كما تقدم، إذ لم يظهر عليها آثار الكفر. فهذا قولنا في صفة المال. وذكر الشيخ أبو علي وجهين فيما يتردد بين الجاهلية والإسلام، كما ذكرناه. ثم قال: إن لم نجعله ركازاً، فهل نجعله لقطة؛ حتى تُملَّك بعد سنة التعريف؟ فعلى وجهين، وسبب ذلك ضعفُ أثر الإسلام فيه، فخص الخلاف في التملك بهذه الصورة.

_ (1) كل ما بين المعقفين هنا مطموس مغسولٌ من أطراف صفحات الأصل، فليعلم بدون تنبيه على آحادها. (2) "إذ" هنا وفي الجملة الآتية بمعنى "إذا"، وذلك وارد سائغ، وعليه شواهد.

2191 - فأما الكلام في مكانه، فإن وجدها واجدها في مكان جاهلي، عليه آثار الكفر القديمة، فهذا كنز، في حقه، وكذلك إن صادفها واجدها في مواتٍ، ليس عليه أثر الإحياء. فأما إذا كان في موضع، عليه أثر عمارة الإسلام، فنقدم على ذلك أصلاً، ونقول: من أحيا أرضاً ميتة، وملكها بالإحياء، فإذا فيها كنز جاهلي، صار محيي الأرض أولى به. كذا ذكره الأئمة. ثم هذا يخرج على أصلٍ سيأتي في موضعه وهو أن ظبيةً لو دخلت دار إنسان، فأغلق صاحبُ الدارِ البابَ، فإن قصد بذلك ضبطَ الظبية، ملكها، وإن جرى منه الإغلاق على وِفاقٍ، من غير [قصد]، فهل يصير مالكاً للظبية بصورة الإغلاق؟ فيه وجهان. [والأظهر] أنه لا يملك، لعدم القصد. كذلك من أحيا أرضاً، [ولم يتعرض للكنز]، فلا يصير مالكاً لعين الكنز، ولكن يصير أولى [به من غيره. ومما تعرض] له الأئمة في هذا، أن من أحيا أرضاً، ثم باعها، فإذا فيها كنزٌ، فهو مردود على من أحياها، ولو تداولتها الأيدي، لم يملكوها، وهي مردودة إلى من أحيا. وللكلام في هذا مجال. فإذا قلنا: من أغلق باب داره، لم يملك الظبية، إذا لم يكن قصدٌ، فلو فتح البابَ، وانطلقت الظبية، واصطادها إنسان، [ملكها] (1)، فلا يبعد أن يقال: من أحيا أرضاً، وفيها كنز، فيصير أولى بالكنز، حتى لا يؤخذ والأرض في يده. فإذا زال ملكه، وبطل اختصاصه برقبة الأرض، فلا يبعد أن يقال: ينقطع اختصاصه بالكنز. وما قيل من (2) بقاء حقه يخرج على أنه يملك الركاز بالإحياء، على مذهب من يرى مغلِقَ الباب من غير قصد مالكاً للظبية. فليتأمل الناظر ما ذكرناه في ذلك. 2192 - وتحصل منه أن كون الركاز مالاً جاهلياً، لا بد منه، فأما كونه في مواتٍ، أو مكانٍ جاهلي، فليس شرطاً فَي كونه كنزاً؛ فإن من أحيا مواتاً وفيه كنز، وتمادى

_ (1) في الأصل: فملكها. (2) ط: في.

الزمان، فصاحب الإحياء أولى به، ولكن إذا أخذه، وكان كنزاً ففيه الخُمس، كما تقدم، فرجع ذكر المكان إلى تخصيص من يأخذ، لا إلى كونه كنزاً. والمعنى المعتبر في كونه كنزاً أن يكون عليه علامة الجاهلية، ولكن إن كان [المكان] (1) عاماً، فمن سبق إليه أخذه، وإن كان عليه عمارة الجاهلية، [ولم يملكها] مسلم على التعيين، فهو في معنى العموم، [ولا بد من التنبيه لشيء]، وهو أن المكان الذي عليه أثر الجاهلية، لم يتفق [فيه اختصاصٌ، لا للعام]، ولا لمن يستحق الفيء، حتى يلتحق في أنه لا يختص به أحد كالموات الذي لا اختصاص لأحد به، فهذا تصوير الركاز في بلاد الإسلام. 2192/م- فأما إذا وجد الركاز، في بلاد [الكفار] (2)، نُظر: فإن وُجد في عمارة الكفار، فهو بمثابة أموالهم، فإن أخذناه قهراً بإيجاف الخيل والركاب، فهو غنيمة، وإن ظهرنا عليه، من غير قتال، فهو فيء، ومستحقه أهل الفيء. وإن وجدنا ركازاً في مواتهم الذي لا عمارة فيه، فإن كانوا لا يذبّون عنه، فوجدانه في مواتهم كوجدانه في موات الإسلام، وإن كانوا يذبون عن مواتهم، كما يذبون عن عمرانهم، فقد قال الشيخ أبو علي في هذه الصورة: سبيل ما نجد من مثل هذا الموات، كسبيل ما نجده في عمرانهم، وعمم غيره من الأصحاب القولَ في ذلك، وقالوا ما وجد في موات الكفار، فهو كما يوجد في موات الإسلام، وإن كانوا يذبون عنه. والمسألة محتملة من طريق المعنى. هذا منتهى ما أردناه في تصوير الركاز. 2193 - ومما يتعلق بذلك تفصيل الاختلاف في الركاز، فنقول: قد يمتزج بهذا الفصل ما تمهد من القول في أنه متى يحل للآخذ الركازُ الذي يصادفه؟ ومقصود الفصل بيان الاختلاف، فنقول: من اشترى داراً، فوجد فيها ركازاً، فلا يحل له أخذه بينه وبين الله، ولكن يعرضه على البائع الذي كان قبله مالكاً، ثم إن كان ذلك البائع

_ (1) ما بين المعقفين من الكلمات التي أصابها بلل ذهب بها، في أطراف الأصل. (2) في (ط) الحرب.

وضعه، فيأخذه، وإلا عرضه على من كان بائعاً قبله، فلا يحل إلا [لمن] (1) وضعه، وإلا نرتقي حتى ننتهي إلى من أحيا تلك البقعة [أول مرة]، فنحكم له بأنه يحل له أخذُه، وإن لم يضعه؛ فإنا [قد ذكرنا أن] من أحيا بقعةً، فيصير أولى بركازها. فهذا إذا [أردنا بيانَ ما يحل. 2194 - فإن] رددنا الكلامَ إلى التداعي، فنقول: من اشترى داراً، فوجد فيها ركازاً، ثم قال: أنا وضعته، [فهو لي، وقال بائع الأرض: بل أنا وضعته] (2)، فالقول في صورة التداعي قولُ المشتري، الذي هو صاحب اليد، فإنا نصادف الدار، والركاز في يده. قال الشيخ أبو علي: هذا إذا كان ذلك الموضع، بحيث يتصور من المشتري وضعه في المدة التي تثبت يده فيها على الدار، فإن كان موضعه وصفته، تنافي دعواه على قطعٍ، وكنا نعلم أنه لا يتأتى منه في هذه المدة [هذا الوضع] (3) فلا نصدقه، بل نصدق من كان قبله، على شرط الإمكان الذي ذكرناه، ولا شك فيما ذكره. وإن كان وضعه لا ينافي دعوى المشتري، ولكن كان يغلب على القلب كذبه، فإن كان يمكن على البعد صدقه، فنصدقه (4) بناءً على يده. ومما يتعلق بذلك أنه لو استأجر داراً، أو استعارها، ثم وجد ركازاً، واختلف المكري والمكتري في وضعه، فالقول قول المكتري؛ إذ وضعُه ممكن، وظاهر (5) اليد على الركاز له، فليكن النظر إلى اليد على الركاز. ولو كان استأجر داراً، ثم ردها، ورجعت الدار إلى يد مالكها، ثم قال المستأجر: كنتُ وضعتُ الركاز في الدار، إذ كانت في يدي، وقال المكري: بل كنتُ وضعته قبل أن أكريت الدار منك، فنقول: أولا - لو قال: أنا وضعته بعد رجوع

_ (1) هذه وكلمات بعدها -بين المعقفين- مما ذهب به أثر البلل من الأصل. (2) ساقط من الأصل (من غير البلل). (3) ساقط من الأصل. (4) (ط): فيصدق. (5) (ط) فظاهر.

الدار إلى [يدي] (1)، وكان ما قاله ممكناً، فالقول قوله، وإن قال: أنا وضعته قبل [أن أكريتها]، فقد سلَّم مرور الكنز بيد المستأجر وليس [يدعي ابتداء الوضع] بعد رجوع الدار إلى يده، فقد ذكر الشيخ الإمام [في ذلك تردداً، وهو] لعمري محتمل. والظاهر عندي أن القول فيه قول المكتري، لما نبّه عليه في تصوير المسألة من [أن] (2) تسليم المالك للمكتري حالةٌ تنسخ يد المالك في الكنز، ولو أنشأ المكتري الدعوى فيها، لقبلت دعواه، فإذا أسندها إلى تلك الحالة، قُبلت أيضاًً. فرع: 2195 - إذا وجد الإنسان ركازاً في ملك إنسان، وكان ذلك مستطرَقاً، يستوي الناس في استطراقه من غير منعٍ، فقد ذكر صاحب التقريب في ذلك خلافاً، وفي موضع الخلاف تأمل، وظاهر كلامه أنه أورده في حكمين: أحدهما - أنه إذا وَجَد من ليس مالكاً لتلك الساحة الركازَ، ولم يكن مالك الأرض محيياً على الابتداء، وكان لا يستبين لنا من الذي أحيا تلك الأرض ابتداء، فهل له أخذه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يأخذه؛ لأنه لم يصادفه في مكان مباح، لا اختصاصَ لأحد به، وقد ذكرنا في تصوير الركاز اشتراط ذلك. والثاني - يحل له أخذه؛ فإن الملك، وإن كان مختصا بشخصٍ، فالاستطراق شائع (3)، والمنع زائل، وليس مالك الأرض محيياً، حتى يثبت له الاختصاص، كما سبق. والظاهر عندي أنه لا يصير واجد الركاز في الأرض المملوكة مالكاً له، وإنما الخلاف في حكم التنازع، فإذا قال الواجد: كنت وضعتُه، وقال المالك: بل أنا وضعته، والساحة مستطرقةٌ لا منع فيها، فالقول قول من؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين. أحدهما - القول قول المالك، لظاهر حقه، ويده في الأرض، وهذا هو الظاهر.

_ (1) ما بين المعقفين من الكلمات ذهب به البلل الذي أصاب الأصل. (2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق. (3) (ط): بالاستطرق تتابع.

والثاني - القول [قول الواجد، لأن] يده ثابتة على الكنز الموجود في الحال، وهذا فيه إذا [أخرج الكنز]. فأما إذا تنافس المالك وغيرُه في إخراج الكنز، فهو [مسلَّم إلى المالك] والقول قوله في هذه الصورة، مع يمينه بلا خلاف. فرع: 2196 - من أحيا أرضاً، فظهر [فيها] (1) معدن (2)، [فقد] (3) ملكه، وما يخرجه من نيله يلزمه أن يخرج الحق منه، كما يخرجه من المعدن الذي لم يجر الملك في رقبته، ولو اشترى إنسان تلك الأرض، وقد ظهر فيها المعدن، فإنه يملك الأرض والمعدن، ثم إذا عمل فيه، التزم واجبه. ولو أحيا أرضاً، فإذا فيها ركاز، فقد ذكرنا أنه يصير أولى بالركاز، فلو باع الأرض، لم يصر المشتري أولى بالكنز؛ فإنه ليس من أجزاء الأرض، بل هو [مودع] (4) فيه، ونيل المعدن متَّصِل بالأرض خِلقةً وفطرة. فرع: 2197 - إذا عمل ذمي على معدنِ من معادن الإسلام، فإنا نمنعه، كما سنذكره في كتاب إحياء الموات؛ فإن ابتدر العمل وصادفَ شيئاً، أو صادف ركازاً في موات، فهو ممنوع منه ابتداءً، ولكنه إذا ابتدره، وصادفه، فقد قال الأئمة: إنه [يملكه كما] (5) يملك المسلم الواجد، وليس كرقبة الأرض، فإنه لا يملكها بالإحياء، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وأنا أقول: أما نيل المعدن إذا صادفه، فلا شك أنه يملكه ملكه الحشيش والصيد، فأما واجب [المعدن] (6)، فإن جعلناه صدقة، وهو المذهب، فلا يجب على الذمي، ولكنه يفوز بجميع ما وجده، وإن [قلنا: يسلك] به مسلك الفيء،

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) هذا هو الحكم الثاني الذي أورده صاحب التقريب. (3) في الأصل: وقد. (4) في الأصل: فروع. (5) ساقط من الأصل. (6) في الأصل: الصدقة.

على قولِ الخمس، فيلزمه إخراج الواجب. [فأما إذا وجد] ركازاً على صفته في مكانه، فالذي ذكره الأصحاب أنه يملكه [كما ذكرناه في نيل المعدن] وفي هذا أدنى احتمال عندي؛ فإن الركاز كالحاصل [في قبضة الإسلام، وهو] في حكم مُحَصَّلٍ للمسلمين ضالٍّ عنهم. ثم إذا وقع (1) الحكم بأنه يملك ما يجده، فالقول في الواجب على ما ذكرناه. فإن صرفناه مصرف [الصدقات، لم نوجب عليه شيئاًً، وإن صرفناه مصرف] (2) الفيء، فنأخذ منه خمسه. والله أعلم. ...

_ (1) في (ط): رجع. (2) ساقط من الأصل. (بغير البلل)، وما هو ساقط بسبب البلل وضعناه بين معقفين من غير أن ننبه عليه بصفة دائمة.

باب ما يقول إذا أخذ الصدقة

باب ما يقول إذا أخذ الصدقة 2198 - يستحب للساعي أن يدعو لصاحب المال إذا أخذ الصدقة، لظاهر قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة أبي أوفى فقال: "اللهم صلِّ على آل أبي أوفى" (1)، ثم المستحب الذي ورد به الأثر، وهو لائق بالحال، أن يقول الساعي: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت. 2199 - ثم تكلم الأئمة في اختصاص الصلاة بالأنبياء صلى الله عليهم أجمعين، إذ جرى ذكر الصلاة في قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، فقالوا: لا ينبغي أن يصلّي أحد على غيرهم قصداً، والمتبع فيه ما كان الناس عليه في الأعصار السابقة، قبل ظهور الأهواء، فما كان أحد في الأولين يقول: أبو بكر صلى الله عليه. وهذا كما أن قول القائل: الله عز وجل مما [لا يسوغ] (2) استعماله في حق غير الله. وإن كان الجليل من الجلال، والعزيز من العزة، ثم [ما كان مما] (3) لا يمتنع منه السلف ذكر الصلاة تبعاً للأنبياء في حق غيرهم، إذا ذُكِروا تبعاً، كقول القائل: صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه وأصهاره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل لفظ [الصلاة في حق] (4) غيره، كما ورد في الحديث، أنه قال: "اللهم صلِّ على آل [أبي أوفى" فقال الأئمة: كان الصلاة] حقَه، فله وضعها فيمن شاء،

_ (1) حديث الصلاة على آل أبي أوفى، رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ح 1497. وفي المغازي، ح 4166، والدعوات، ح 6333. ورواه مسلم: كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته، ح 1078. (2) في الأصل: مما يسرع. (3) في الأصل: كما كان لا يمتنع ... (4) ساقط من أطراف الأصل.

[ممّن] (1) يحل له [الدعاء، وهو كمجلس] الكرامة في دار الإنسان، هو أولى به، وله أن يُجلس فيه من أراد. وكان شيخي (2) يقول: السلام بمنزلة الصلاة فيما ذكرناه، فلا نقول: أبو بكر وعليّ عليهما السلام. وظاهر ما ذكره الصيدلاني أن الصلاة على غير الرسل في حكم ترك الأولى والأدب، وهذا لا يبلغ ما يوصف بالكراهية، [وفي هذا نظر] (3)؛ فإن المكروه يتميز عندنا عن ترك الأولى، بأن يُفرض فيه نهي مقصود، كالنهي عن الاستنجاء باليمين، وقد ثبت نهي مقصود في التشبه بأهل البدع، وإظهارِ شعارهم، وذكر الصلاة والسلام [مما اشتهر] (4) بالفئة الملقبة بالرفض، وينضم إليه توقي السلف عن إطلاق ذلك مقصوداً في حق غير الأنبياء، فالقول في ذلك قريب. والله أعلم. ...

_ (1) في الأصل: فيمن. (2) في (ط): ينحى بقول. (3) في الأصل: في هذا أدنى نظر. (4) في الأصل: ما استقل.

باب من تلزمه زكاة الفطر

باب من تلزمه زكاة الفطر 2200 - قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرض زكاة الفطر في رمضان على الناس، صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعير، على كل حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين" (1). وفي بعض الروايات: "أو صاعاً من بُرّ". وذكر الأئمة: أن أبا حنيفة خالف هذا الخبر، من وجوه كثيرة، ولا حاجة [بنا إلى ذكرها، وإن مست الحاجة إلى ذكر مذهب أبي حنيفة في مجاري] (2) الكلام، ذكرنا قدرَ الحاجة منه. 2201 - وزكاة [الفطر تجب] (3) على المرء في نفسه، وتجب عليه بسبب غيره. فأما الشرائط [المرعية في] وجوب الفطرة على الرجل في نفسه، سيأتي (4) فيها فصل يحوي [المعتبرَ فيها]. والشافعي صدّر الباب بتفصيل القول فيمن تجب الفطرة [بسببه على الإنسان] ونحن نقول: لو رددنا إلى القياس الذي عقلناه، لما أثبتنا على الإنسان صدقة فطرة غيره؛ فإن القُربات بعيدة عن التحمل، وإن نحن قلنا: الفطرة غير محتملة، بل وجوبها بسبب الغير، بمثابة وجوب زكاة المال بسبب المال، فهذا بعيد أيضاًً، من جهة أن قريبَ الإنسان ليس محلّ ارتفاقه، كماله، فبَعُد إيجاب إخراج الفطرة عنه قياساً على زكوات الأموال، ولكن أجمع المسلمون على أن الفطرة تجب على الغير، بسبب

_ (1) ر. المختصر: 1/ 252. (2) ساقط من الأصل. (بغير البلل إياه). (3) ساقط من الأصل بالبلل، وكذا ما بعده. (4) جواب (أما) بدون الفاء.

الغير، ثم اضطربت المذاهب، فاعتبر أبو حنيفة (1) في ذلك الولاية، وأوجب على الولي إخراجَ الفطرة عن المُولَّى عليه، ثم نقض هذا، ولم يطرده، وسبيل الرد عليه موضَّح في الأساليب (2)، ونحن لم نستمسك بتعليل (3)، ولكنا [نعتمد] (4) حديثا نقله الأثبات، عن الرسول صلى الله عليه وسلم [وذلك أنه صلى الله عليه وسلم] (5) قال: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" (6)، فالفطرة تتبع المؤنة في أصلها، ثم يعتبر في وجوبها بسبب الغير كونه من أهل الطهرة، على ما سيأتي ذلك في [أثناء] (7) الكتاب -إن شاء الله تعالى- والغرض الآن مقصور على الجهات المرعيّة. ثم نستفتح الآن تفصيلَ ما أجملناه، فنقول: 2202 - الجهات المقتضية للمؤنة تنقسم ثلاثة أقسام: قرابة، وزوجية، وملك. أما القرابة، فتفصيل القول فيما يوجب النفقة منها، وفي الصفات المرعيّة مع القرابة سيأتي مستقصى في كتاب النفقات، إن شاء الله تعالى، وفيه نذكر محل الخلاف والوفاق، فإذا وجب على الأب نفقةُ ولده: صغيراً كان، أو كبيراً، وجب عليه إخراجُ [الفطرة] (8) عنه، إذا كان من أهل الطُهرة، وإذا لم تجب النفقة، لم تجب [الفِطرة] وإذا اختلف المذهب في النفقة، تبعه الاختلاف في [الفِطرة، وهذا] يطّرد، وينعكس، كدأب الحدود الجامعة، المانعة.

_ (1) ر. مختصر اختلاف الفقهاء: 1/ 473، مسألة: 464، مختصر الطحاوي: 51، وانظر الدرة المضية، مسألة 253. (2) الأساليب أحد كتب إمامنا في الخلاف. (3) (ط) بتعامل. ولعلها حرفت عن (تعاقل). (4) في الأصل: نعهد. (5) ساقط من الأصل. (بغير البلل). (6) حديث: أدوا صدقة الفطر ... الدارقطني: 2/ 141، البيهقي: 4/ 161 عن ابن عمر، ورواه الشافعي مرسلاً، ورواه الدارقطني من حديث علي: 2/ 140 (ر. التلخيص: 2/ 352 ح 870). (7) في الأصل: إثبات. (8) ذهبَ من الأصل بسبب البلل، وكذا ما سيأتي بعده.

[وقد ذكر شيخنا] أبو بكر فصلاً بين الصغير والكبير من الأولاد، في حكمٍ يتعلق بالنفقة، ثم ألحق به حكمَ الفِطرة، وذلك أنه قال: إذا استهل هلال شوال، وللطفل الصغير من خاصِّه (1) قوتُ يومه، فلا يجب على الأب نفقته في ذلك اليوم، ويجب عليه فطرته. ولو فرضت هذه الصورة في الابن البالغ، لقلنا: لا فطرة على الابن [البالغ] (2)، لأنه لا يفضل من قوته شيء، ولا تجب الفطرة على الأب أيضاًً، لسقوط النفقة عنه في يوم وجوب الفطرة. ثم قال: نفقة الصغير آكد، ولهذا تتسلط الأم على الاستقراض على الأب في غيبته، وعند امتناعه؛ لمكان نفقة الصغير. وهذا يفضي إلى تقرير النفقة في الذمة من جهة الاستقراض، ومثل ذلك لا يثبت [للابن البالغ] (3) المعسر، فإن كانت نفقة الصغير آكد، عُدّت الفطرة جزءاً من النفقة. وهذا بعيد عن القياس. وقد قال شيخي: لا تجب فطرة الطفل في الصورة التي ذكرها، والقياس ما ذكره. وتردد شيخي في جواز الاستقراض، وقال: القياس المرتضَى امتناعُ ذلك من الأم، إلا أن يسلطها السلطان، فيجري استقراضها مجرى [استقراض] (4) السلطان. فإن جرينا على ما ذكره أبو بكر، كان حكم الطفل في الصورة المذكورة مستثنىً [في العكس، وظاهر المذهب عندي ما ذكره الشيخ أبو بكر، والأقيس ما ذكره] (5) شيخنا. فهذا غرضنا الآن في جهة القرابة.

_ (1) المعنى أن الفطرة تجب باستهلال شوال، فإذا أهل شوال وللطفل قوتُ يومه من خاصِّه: أي ملكه الخاص، فقد استغنى عن نفقة أبيه، فلا تجب على أبيه نفقته، ولكن تجب فطرته (إذا لم يفضل عن نفقته في ذلك اليوم شيء من ماله) والابن الكبير بخلافه، فلو استغنى يوم استهلال شوال، فقد سقطت نفقته عن أبيه، وتبعتها الفطرة في السقوط، ثم تسقط عنه الفطرة أيضاًً إذا لم يبق ما يؤدي به الفطرة بعد نفقة ذلك اليوم. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: للأب الغائب. (4) سقطت من الأصل. (5) سقط من الأصل.

2203 - فأما الزوجية، فالزوج يخرج فطرةَ زوجته، معسرة كانت الزوجة، أو موسرة، بناء على ما مهدناه تلقِّياً من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" والقول في تفصيل الزوجة الأمة، والمكاتبة، منصوص في أثناء الباب، فلم نذكره هاهنا. [فرع (1): 2204 - الابن إذا أعف أباه، فزوجه، فعليه الإنفاق على زوجة أبيه، وهل يجب عليه إخراج الفطرة عنها، فعلى وجهين: أحدهما - تجب، جرياً على إتباع الفطرة النفقةَ، والوجه الثاني - لا تجب، لأن الابن ليس أصلاً في التزام نفقة زوجة الأب، بل الأصل في التزامها الأب، بحكم الزوجية، ولكنها نثبتها وفاءً بالإعفاف، وإذا انحسم القياس، وتعين اتّباع لفظ الشارع، ولم يرد لفظه، والأصل أَنْ لا تُحملَ (2)، فلا نوجب التحمل. والأصح عندي إيجابُ الفطرة؛ لأندراج زوجة الأب [المعسر] (3) فيمن يمونه الابن الموسر. ومما يخرج على هذا الخلاف أن الأب المعسر إذا كان يتعفف بمستولدةٍ له، فالابن يُنفق عليها، وفي إيجاب الفطرة الخلاف المقدم] (4). فرع: 2205 - الزوجة إذا كانت مخدومة، [فعلى الزوج أن يَقيم لها خادمة] (5) تكفيها المَهْن (6) والخدمة، ثم إن استأجر امرأة لخدمتها، لم يخرج الفطرة [عن المستأجرة؛ فإن الأجرة] عوض مَحْض، وليست من المؤن، وإن أخدمها الزوج واحدةً من مماليكه، ففطرتها تجب عليه بحكم الملك، وإن كان ينفق على أمة الزوجة لتخدمها، فقد قال بعض أئمتنا: على الزوج إخراج الفطرة عنها، نظراً إلى

_ (1) هذا الفرع بتمامه سقط من الأصل. (2) أي الأصل براءة الذمة. (3) في (ط) وهي الوحيدة هنا: المعتبر. وقدرنا أنها تصحيف عن (المعسر). بناء على السياق. (4) انتهى السقط الذي أشرنا إليه، وعادت (هـ 1) أصلاً. (5) ساقط من أطراف سطور الأصل، وكذا ما بعده. (6) مهن مهنا من باب قتل ونفع، خدم غيره، والفاعل: ماهن (المصباح).

المؤنة. والأصح عندنا أن ذلك لا يجب، لأمرين: أحدهما - أن نفقة الخادمة قد لا تجب؛ إذ لو حصل الغرض بمستأجرة، أو متبرعة، لكان ذلك ممكناً. والوجه الثاني - أن مؤونة الخادمة تتمة نفقة الزوجة وقد أخرج الفطرة عن زوجته. 2206 - وأما جهة الملك، فعلى المولى فطرة عبيده، وإمائه، وأمهات أولاده، إذا كانوا من أهل الطُهرة. ثم الذي ذهب إليه المحققون أن صدقة الفطر في المملوكين، لا يُنحى بها نحو زكاة الأموال، حتى يراعى في إيجابها تمكن السيد من مملوكه؛ فإن الماليةَ غيرُ مرعيةٍ في هذه القاعدة، ولهذا وجبت الفطرةُ بسبب الابن، والزوجة. والمالية مختلة، في المستولدة، والفطرة واجبة، ولا يمتنع إيجاب الفطرة، وزكاة التجارة (1)، كما تقدم في باب التجارة. وذهب بعض أصحابنا إلى تنزيل فطرة العبد منزلة زكاة الأموال، وبنوا على ذلك أحكاماً: منها - تخريج فطرة العبد المغصوب على القولين المذكورين في زكاة المال المجحود والمغصوب. ْومنها - أن الحول إذا حال على نصاب زكاتي، ولم يتمكن المالك من إخراج الزكاة، حتى تلف [المال، فلا زكاة وإنما الخلاف في أنها وجبت، ثم سقطت، أو لم تجب أصلاً، ولو استهلّ الهلال، ولم يتمكن من إخراج الزكاة حتى تلف] (2) العبد، قال هؤلاء: تسقط الفطرة بتلفه، وهذا بعيدٌ جداً. ثم من سلك هذا المسلك، قال: إن أوجبنا الفطرة بسبب العبد المغصوب، ففي وجوب إخراجها على التعجيل وجهان: أحدهما - أن لا تعجَّل، كما لا تعجَّل [زكاة المال] (3) المغصوب، وإن فرعنا على وجوب الزكاة (4).

_ (1) المراد زكاة تجارة الإماء. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (3) ساقط من أطراف الأسطر، وكذا ما سيأتي بعده. (4) جواب الشرط مفهوم مما قبله.

والوجه [الثاني - أنه يجب] تعجيلها، والفارق بين البابين في ذلك، هو الذي أوجب [عدم] (1) [ترتيب صدقة الفطر على زكاة] المال. وقياسهم هذا يقتضي تخريج هذا الخلاف في موت العبد قبل الإمكان، وكل ذلك تخليط. والوجه القطع بايجاب الزكاة وتعجيلها. فرع: 2207 - إذا أبق العبد، والتفريع على المسلك الضعيف في أن المغصوب لا تجب الفطرة فيه على المولى، ففي الآبق على ذلك تردد: قال قائلون: إنه كالمغصوب؛ لأنه غير مقدور عليه، وقال آخرون: ليس كالمغصوب؛ إذ لا يد عليه. ولا حاصل لهذا، نعم، لو خرج هذا على خلاف الأصحاب في أن الآبق هل، يستحق النفقة، لكان قريباً، وفيه خلاف سنذكره في النفقات، إن شاء الله تعالى. ولا خلاف إذا كانت ناشزة في وقت وجوب الفطرة، فلا يلزم الزوج فطرتَها، فمن جعل إباقَ العبد كنشوز الزوجة في إسقاط النفقة، لم يبعد أن يُسقط الفطرة، ومن لا، فلا. ولنا إلى هذا عودة، على أثر هذا الفصل. وقد نجز عقدُ المذهب، في الجهات التي تقتضي إيجابَ الفطرة بسبب الغير، ولم نَرَ بسط القول في تفاصيل النفقات؛ فإنها مذكورة في موضعها. 2208 - ونحن نختم هذا الفصل ببيان القول في أن الزكاة يلاقي وجوبُها ذمةَ من منه التحمل أم لا ملاقاة معه، وإنما الوجوب على المخاطب ابتداءً؟ والترتيب في ذلك يستدعي صورتين: [إحداهما - أن الكلام] (2) إذا كان في الزوجة وهي موسرة، فإذا أوجبنا الفطرة [على الزوج، فيظهر] في هذه الصورة الخلاف في أن الوجوب هل [يلاقيها؟ وربما] كان يقول الإمام: فيه قولان مستخرجان من معاني كلام الشافعي

_ (1) مزيدة رعاية للسياق. حيث قدرنا سقوطها من (ط) وحيث كانت في الكلمات المغسولة من الأصل. والله أعلم. (2) ساقط من أطراف الأسطر، من الأصل، وكذا ما يأتي بعده.

رضي الله عنه: أحدهما - أن الوجوب يلاقيها. والثاني - لا يلاقيها، وعلى الزوج الفطرةُ ابتداء؛ لأنه صاحب زوجة، فيصير منفعته (1) فيها كملكٍ في نصاب. ثم يُبتنى على القولين أمران: أحدهما - أن الزوج إذا كان معسراً، فهل يلزمها الفطرة، فإن جعلناها بمثابة نصابٍ في زكاة المال، فلا يلزمها شيء، وكأنها بالزوجية مستخرجة عن المخاطبة بالفطرة، وإن جعلناها متأصلةً، وقدرنا الزوج حاملاً عنها، فإذا عسر التحمل بالإعسار، استقر الوجوب عليها. فهذا أحد الأمرين. والثاني - أن المرأة مع يسار الزوج إذا أخرجت فطرة نفسها من غير إذن الزوج، فهل يقع ما أخرجته الموقع؟ فعلى ما ذكرناه، فإن لم يُربط الوجوب بها، لم يُجْزىء ما أخرجت. وإن جعلناها الأصل، وقدرنا الزوجَ حاملاً، أجزأ ما أخرجت. ثم لم يختلف أئمتنا في أن الزوج الموسر إذا أخرج الفطرة عنها، لم يحتج إلى مراجعتها، ولا حاجة إلى نيتها، ثم إلى استنابتها زوجَها، ووجوب الإخراج على الزوج يقطع هذا الخيال. ولو نشزت المرأة وأسقطنا (2) الفطرة عن الزوج، لمكان سقوط النفقة، فالوجه (3) عندي القطع بإيجاب الفطرة عليها، في هذه الحالة، وإن حكمنا بأن الوجوب لا يلاقيها؛ لأنها بنشوزها بمثابة المخرجة (4) نفسَها عن إمكان التحمل عنها. فليفهم الناظر ذلك. وهذا يخالف الإعسار من الزوج، وما ذكرناه ليس خالياً عن احتمال. فهذا بيان إحدى الصورتين. 2209 - فأما الأخرى، فمضمونها فطرة المملوك، والقريب [الفقير، وقد قال] (5) طوائف من المحققين: نقطع بأن الوجوب لا يلاقي هؤلاء، [أما العبد، فلا يقدر]

_ (1) في (ط): متعته. (2) في الأصل: أسقطنا (بدون الواو). (3) جواب (لو). (4) في الأصل: المخرجة (عن) نفسها. (5) ساقط من أطراف الأسطر. وكذلك ما بعده.

على شيء، وأما الفقير المعسر، فلا تجب [عليه] (1) -لو [لم] (2) يكن عنه متحمِّل (3) - فطرة (4) نفسه، فكيف يقال: إن الوجوب يلاقيه. وما قدمناه من اختلاف القول في الزوجة الموسرة قد يتجه؛ من جهة أنها تلتزم فطرة نفسها لو لم يكن عنها متحمل. وقال قائلون: الخلاف في هؤلاء، وأن الوجوب هل يلقاهم، كالخلاف في الزوجة. وهذا بعيد، ولولا لفظ الحديث، لما عددت إجراء الخلاف من المذهب في هذه الصورة، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فرض زكاة الفطر على الناس، على كل حر، وعبد" واللفظ تضمن إضافة الوجوب إلى العبيد والأحرار، فإن قيل: هل وراء التعلق باللفظ مسلك في المعنى؟ قلنا: الممكن فيه أن المولى في حكم الفطرة مادّة العبد ومتعلّقه، وكذلك القول في يسار القريب الملتزم للنفقة، بالإضافة إلى من يُخرج الفِطرة عنه، وإن غمض مُدرك المعنى في واقعة، عسر إجراؤه في التفصيل. فهذا هو الضبط البالغ على حسب الإمكان. 2210 - ثم فيما يجري فيه لفظ التحمل في الشرع مراتب، نذكرها لتُعِين على ضبط الأصول: فالمرتبة العليا - كتأدية الزكاة صَرْفاً إلى الغارم، وهذا [تحمل] (5) على الحقيقة، وارد على وجوبٍ مستقر. والمرتبة الثانية - في تحمل العقل، وقد اضطرب المذهب في أن الوجوب هل يلاقي القاتل؟ أم لا؟ ويظهر الحكم [بإثبات] (6) الملاقاة من [جهة أنه المتلف] (7)،

_ (1) زيادة من (ط). (2) زيادة من (ط). (3) (ط) يتحمل. (4) فاعل تجب. (5) في الأصل: الحمل. (6) في الأصل: بإيجاب. (7) ساقط من الأصل بسبب البلل.

والتحمل تخفيف عنه، والذي يظهر ذلك أن العواقل [لو افتقروا، تعلق الغُرم] بمال القاتل، وهذا ظاهر جداً في أن الوجوب يلاقيه. فإن قيل: فإذ [قد] (1) قطعتم بهذا، فأي أثرٍ لقول من يقول: الوجوب لا يلاقيه؟ قلنا: أثره أن الإبراء لو وُجه عليه، مع تحمل العقل، لغا. ولو فرض ذلك ممن القاتل وارثه، لم يكن وصيّة لوارث، ويجوز أيضاًً أن يقال: هو مع العاقلة كالبعيد منهم مع القريب، ثم لا توجيه (2) على البعيد مع إمكان مطالبة القريب. والمرتبة الثالثة - ما نجز الفراغ منه في صدقة الفطر. ثم هذا ينقسم إلى صورتين، والتحمل في إحداهما أخفى منه في الأخرى، كما سبق تقريره. ومن ضعف التحمل في هذه المرتبة، أن المتحمل لو عجز بعد الالتزام، فلا عَوْد إلى من منه التحمل، بخلاف ما ذكرناه في [الدية] (3). والمرتبة الرابعة - ما سيأتي في كتاب الصوم، في كفارة الوقاع، فإنا نقول: الزوج قد يتحمل عن زوجته الكفارة، وهذا أبعد المراتب؛ إذ فيها أمران غامضان: أحدهما - يوجد في المرتبة المتقدمة، وهو تحمل القُرَب. والثاني - إيجاد الكفارة. وليس الأمر في صدقة الفطر كذلك، فإن الإنسان يُخرج الفطرة عن نفسه، ثم عمّن يمونه. فرع: 2211 - إذا قلنا: الزوج هو المخاطب بفطرة الزوجة، ثم كان معسراً، فنفقة الزوجة قارّة في ذمته، إلى أن يجدها، وليس الأمر في فطرة الزوجة كذلك، وذلك أن الفطرة لا تكتفي بالذمة ما لم يقترن بها إمكان، ولهذا لا تجب الفطرة على من كان معسراً حالة الإهلال عن نفسه، فالقول في فطرة زوجته بهذه المثابة.

_ (1) مزيدة من (ط). (2) في (ط): نوجه. (3) في الأصل: الذمّة.

فصل قال الشافعي "وإنما يجب عليه أن يزكي عمن كان عنده [منهم في شيء من نهار آخر] شهر رمضان ... إلى آخره" (1). 2212 - في وقت وجوب الفطرة أقوال: [أحدها - وهو -المنصوص] (2) عليه في الجديد- أن الفطرة تجب مع أول جزءٍ من الليلة الأولى من شوال، ووجه ذلك أن الصدقة منسوبة إلى الفطرة عن رمضان، وهذا يتحقق بانقضاء شهر رمضان. والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في القديم- أن الفطرة تجب مع أول جزء من يوم العيد، وهو طلوع الفجر، وذلك مذهب أبي حنيفة (3) رضي الله عنه، ووجهه أن أثر الفطر إنما يظهر بالوقت القابل للصوم، وعلى الجملة، فيوم العيد في الفطر وتعينه، كأيام رمضان في تعيّن الصوم. والقول الثالث -حكاه صاحب التلخيص- أن الزكاة لا تجب إلا بالوقتين جميعاًً، وهذا لا يكاد يتجه. التفريع على الأقوال: 2213 - إن حكمنا بأن وقت الوجوب الجزء الأول من ليلة العيد، فلو اشترى مملوكاً بعده، أو ولد له ولد بعده، فلا فطرة عليه فيهما، ولو كانا موجودين ملكاً وولادة في الوقت الأول، ثم زال الملك، ومات المولود، لم تسقط الزكاة. وإذا فرعنا على القديم، أجرينا هذه التفاصيل مع طلوع الفجر من يوم العيد. وإن اعتبرنا الوقتين، قلنا: لو ملك عبداً مع الجزء الأول من ليلة العيد، ثم زال ملكه قبل طلوع الفجر، فلا زكاة، وهذا لا خفاء به. ثم نفرع على اعتبارهما فرعين: أحدهما - أن من ملك عبداً مع الجزء الأول من ليلة

_ (1) ر. المختصر: 1/ 253. (2) ساقط من أثر البلل، ومثله الذي قبله. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 466، مسألة 454، مختصر الطحاوي: 51.

العيد، ثم مات قبل طلوع الفجر، وخلفه وارثه، وطلع الفجر، فلا زكاة؛ إذ لم يجتمع الوقتان (1) في ملك مستمر. [قال الشيخ أبو علي] (2) في شرح الفروع: من أصحابنا من أوجب الزكاة [تفريعاً على قول للشافعي] قديم، في أن حول الوارث يبتني على حول المورّث، [وهذا ضعيف]. والفرع الثاني - أن من ملك عبداً مع الوقت الأول، فزال ملكه قبل طلوع الفجر، ثم عاد، [مَطْلع] (3) الفجر، والتفريع على اعتبار الوقتين، ففي وجوب الزكاة وجهان يلتفتان على عود ملك المتّهب، بعد زواله في حكم الرجوع في الهبة. وكذلك إذا فرض هذا في الصداق في حكم الرجوع إلى عين (4) الصداق، عند فرض الطلاق قبل المسيس. 2214 - ثم اتفق الأئمة على أن الاعتبار بوقت الوجوب، فإذا حكم به، ثم طرأ الإعسار (5)، فالزكاة مستقرة في الذمة، وملتزمها مُنْظَر إلى الوجود، والتمكن، ولو لم يكن من أهل الالتزام في الوقت الأول، ثم استجمع الصفاتِ المرعيةَ بعد ذلك، فلا وجوب. والمذهب أن من صدر منه موجِب كفارة، وكان معسراً، وعاجزاً عن إقامة البدل، ببدنه، فلا تسقط الكفارة. وإن حكمنا بأن الاعتبار في صفتها بحالة الوجوب، فقد ذكر صاحب التقريب وجها (6) أنها لا تجب، قياساً على زكاة الفطر، وأخذاً من حديث الأعرابي (7) كما سنرويه في موضعه. والفرق على [ظاهر] (8) المذهب أن الكفارة شبيهة

_ (1) في (ط): الرقبتان. (2) ساقط بسبب البلل، وكذا ما يأتي بعده. (3) في الأصل: "فطلع" وسقط من (ط) جملة: "ثم عاد مطلع الفجر". (4) في (ط): غير. (5) في (ط): الاعتبار. (6) (ط): قولاً. (7) إشارة إلى حديث الأعرابي الذي واقع امرأته في نهار رمضان، وعجز عن الكفارة. (8) في الأصل: صاحب.

بقيم المتلفات، وجبران ما تحدثه الجناية من نقص، فلم تسقط، وقرّت في الذمة، وليست زكاة الفطر كذلك، بل هي شبيهة بزكاة المال، إذا انقضى الحول والنصاب ناقص. فصل [قال] (1): "وإن كان عبد بينه وبين آخر ... إلى آخره" (2) 2215 - تجب فطرة العبد المشترك على الشريكين، خلافاً لأبي حنيفة (3)، وأصلنا خارج على القاعدة الممهدة في إتباع الفطرة المؤنةَ، فإذا وجبت المؤونة على الاشتراك، وجبت الفطرة كذلك. وأبو حنيفة خالف أصله في إتباع الفطرة الولايةَ؛ فإن ولاية الملك ثابتة على الاشتراك ولا زكاة. وقد قال: لو اشترك رجلان في عبدين، لكل واحد منهما النصف من كل عبد، فلا زكاة وإن كان يبلغ ما يخاطب به كل واحدٍ صاعاً، لو قدر ثبوته، وقالوا: لو اشترك رجلان في ثمانين من الغنم، فعلى كل واحد منهما شاة، والأشقاص تقدر أشخاصاً، فجرى (4) مذهبهم في العبد المشترك خارجاً عن قوانينهم، واستمر قولنا على الأصل. 2216 - ثم لا يخلو العبد المشترك من أحد أمرين: أحدهما - أن لا يكون فيه مهايأة بين الشريكين، والثاني - أن تجري (5) مهايأة بينهما، فإن لم تجر مهايأة، فالأكساب والمؤن على الاشتراك، ما يعم منها، وما يندر، وصدقة الفطر تجري كذلك مشتركة. ثم المذهب يتفصل فيما يخرجه كل واحد منهما، إذا اعتبرنا قوت كلّ مخرِج، وقد

_ (1) ساقط من الأصل ومن (ط). (2) هذا من كلام الشافعي. ر. المختصر: 1/ 253. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 474، مسألة 465، حاشية ابن عابدين: 2/ 75، رؤوس المسائل: 220، مسألة 118. (4) (ط): يجري. (5) في الأصل: أن لا تجري.

اختلف قوتاهما. وهذا سيأتي بعد ذلك. 2217 - وإن جرت مهايأة وتواضع الشريكان على أن يستعمله كل واحد منهما في يوم، فأصل المذهب أن المهأياة لا تلزم، وسيأتي شرحها، في كتاب الرهن -إن شاء الله تعالى- وحقيقتها ترجع إلى مفاصلة في المنافع، وينفرد كل واحد [بمنفعته] (1) في نوبته، ثم المنافع تنقسم فؤائدها، فيما يجري على العادة في الاستفادة، فحكم الاختصاص به جارِ على حكم المهايأة، ثم المؤنة الراتبة تنزل على المنافع، فمن اختص بمنفعة في نوبةٍ، اختص بالتزام مؤنة العبد في تلك النوبة؛ فإن المؤنة تتبع المنافع، وإليه أشار الرسول صلى الله عليه وسلم، في المرهون؛ إذ قال: "الرهن محلوب ومركوب، وعلى من يحلبه ويركبه نفقته" (2). ولئن اختلف المذهب [في نفقة العبد الموصى] (3) بمنفعته أبداً، وكان الأصح توجه النفقة على [الورثة لملكهم] الرقبة، فالسبب فيه مفارقة الملك جهة المنفعة، ولا خلاف أن استحقاق المنفعة لو كان إلى أَمدٍ (4)، فالنفقة على مالك الرقبة. ونفقة الأمة المزوّجة [على زوجها] (5) وإن كان الملك للسيد المزوِّج، تنزيلاً للنكاح في الأمة، منزلة النكاح في الحرة. وما أشرنا إليه فيه إذا افترق الملك واستحقاق المنفعة، فأما إذا اجتمعا، فلا شك أن النفقة تتبع المنفعة، وملكَ الرقبة. وأما الأكساب النادرة كصيدٍ يتفق من عبدٍ ليس اكتسابه بالاصطياد، أو كقبول هبةٍ ووصيةٍ، فالمذهب الأصح أنها لا تختلف بالمهايأة، بل تكون مشتركة أبداً؛ والسبب فيه أن المهايأة مقصودها تفاصُلٌ في المنافع، وإنما يُحتمل ذلك في المعتاد منها المعلوم، وما يندر لو دخل تحت المهايأة، لجر دخولُه جهالةً في [المفاصلة] (6).

_ (1) في الأصل: بمنفعةِ. (2) حديث: "الرهن مركوب ... " رواه الدارقطني: 3/ 34، والحاكم: 2/ 58 من حديث أبي هريرة، وانظر التلخيص: 3/ 83 ح 1242. (3) ساقط من أطراف الأسطر. (4) في (ط): أحد. (5) ساقط من الأصل (بغير البلل إياه). (6) في الأصل: المهايأة.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنها داخلةٌ تحت قضية المهايأة، مَصيراً إلى أن التفاصُل وقع في المنافع، والأكسابُ [نتائجها، فلا مبالاة بالندور فيها. ثم كما اختلف الأئمة في الأكساب] (1) النادرة، اختلفوا في المؤن النادرة، جرياً على إتباع المنفعة المؤنةَ، في محل الوفاق، والخلاف. 2218 - فإذا تمهد ذلك، بنينا عليه أمر الفطرة، وقد اختلف أئمتنا فيها، فذهب بعضهم إلى أنها من المؤنة النادرة، فتخرج على الخلاف المقدم، وقال آخرون: هي من المؤن [المعتادة] (2)؛ لأنها وظيفةٌ معلومة الوقت والمقدار، وهي أقرب [إلى] (3) الضبط من النفقة؛ من جهة أن بناءها على الكفاية، وهي تختلف باختلاف الرغابة والزهادة. ومن قال بالأول، [انفصل] (4) عن هذا بأن قال: يومُ العيد لا يتعين في السنة؛ من جهة اختلاف الأهلة؛ فلا يدرى أن العيد في أي نوبة يقع، وأيضاًً، فالمؤنة الراتبة هي التي تقيم البدن، وتديم التمكن من المنفعة، وليس كذلك زكاة الفطر. فإن جعلناها نادرة [خرجت الآن على] (5) الاختلاف، وإن جعلناها راتبة، فالفطرة على من يقع وقتُ [الوجوب في نوبته] (6) ولم يختلف العلماء في أن العبدَ المشترك لو جنى، لم يختص الأرش بالتزام أحد الشريكين، لمكان المهايأة، وإن جرت الجناية في نوبته؛ والسبب فيه أن الجناية يتعلق أرشها بالرقبة، والملك مشترك، ولم يجر فيه تفاصُل، وآية ذلك: أن المولى لا يلزمه الفداء، بل يخاطَب [بالخِيَرة] (7) كما لا يخفى. 2218/م- ولو كان نصف الشخص عبداً، ونصفه حراً، فالفطرة واجبة، وترتيب

_ (1) ساقط من الأصل. (من غير البلل). (2) في الأصل: المعتبرة. (3) في الأصل: من. (4) في الأصل: تفصل، ومعنى "انفصل عن هذا" أنه خرج عن الاعتراض القائل: إن الفطرة وظيفة معلومة الوقت والمقدار بخلاف النفقة. (5) ساقطة من أطراف أسطر الأصل. (6) ساقط بسبب البلل إياه. (7) في الأصل: بالخريرة.

المذهب في تفصيل ما بين مالك الرق وقدر الحرّية، كتفصيله بين الشريكين في العبد المشترك. ولو فرعنا على أن الفطرة تجب بإدراك الوقتين: غروب شمس النهار الأخير، وطلوع فجر العيد، فاتفق [وقوع] (1) أحد الوقتين في إحدى النوبتين، ووقوع الآخر في الأخرى، فإن كنا نرى لزوم الفطرة على الاشتراك، فلا إشكال، وإن حكمنا بتأثير المهايأة فيها، فنقطع القول في هذه الصورة بثبوتها مشتركة؛ من جهة أنه لم ينفرد واحد منهما في نوبته بموجب الفطرة. فصل وقال: "وإن باع عبداً على أن له الخيار ... إلى آخره" (2). 2219 - من اشترى عبداً بشرط الخيار، ثم استهل الهلال في زمان الخيار، فالقول في زكاة الفطر يبتنى على الملك. وقد تفصل المذهب في حصول الزهو في زمان الخيار، والقول الجامع (3) الآن أن زكاة الفطر يُنحى بها [نحو] (4) زكاة المال في جميع ما قدمناه، إلا أن زكاة الفطر أحق بمجامعة الملك الضعيف، والاكتفاء به؛ من جهة أنها لا [تعتمد المالية] (5) اعتماد زكاة المال، ولذلك اتجه القطع بإيجاب صدقة الفطر [في العبد المغصوب] وكان تنزيله على القولين المذكورين في زكاة المال بعيداً! 2220 - وقد ذكر الشافعي بعد هذا وقوعَ العبد موصىً به، ونحن نرى ضمّ ذلك الفصل إلى هذا، فنقول: إذا أوصى رجل بعبدٍ لرجل، ثم مات الموصي، فاستهل الهلال، وجرى قبول الوصية أو ردها، فالقول بوجوب الفطرة يستدعي تقديمَ مراسم الكلام في الملك، فإذا مات الموصي، ففي الملك الموصى به ثلاثة أقوال - أحدها - أن الملك يحصل للموصى له بموت الموصي، فإن قبل الموصى له الوصية، استمر

_ (1) في الأصل: وفرغ. (2) ر. المختصر: 1/ 253. (3) ساقطة من (ط). (4) مزيدة من (ط). (5) ساقطة من الأصل، بسبب البلل.

الملك، وإن ردَّها، انقطع الملك من وقت ردّه. والقول الثاني - أن الملك يحصل للموصى له بالقبول. والقول الثالث - أن الملك موقوف، فإن قبل الوصية، تبينا حصول الملك له مع موت الموصي، وإن رد، تبينا أن الملك لم يحصل أصلاً. وتوجيه الأقوال وتفريعها يأتي في كتاب الوصايا - إن شاء الله تعالى. 2221 - ومما (1) تمس الحاجة إليه في غرض الفصل أنا إذا قلنا: الملك يحصل بالقبول، ففي الملك للموصَى به ما بين موت الموصي إلى اتفاق القبول وجهان: أحدهما: أن الملك فيه للورثة، والثاني - أن الملك فيه مستصحب للميت في ذلك الزمان. ونحن نفرع بعد ذلك الزكاة، فنقول: إن قبل الموصَى له الوصية، والتفريع على أن الملك يحصل له بموت الموصي، وقد جرى الاستهلال بين الموت والقبول، فزكاة الفطر تجب على الموصى له. وهذا يناظر ما قد تقدم في زمان الخيار، إذا فرعنا على أن الملك للمشتري، وفرضنا انفراده بالخيار. وإذا كان كذلك، [فوجوب الزكاة] (2) مقطوع به، أعني زكاة المال، وإذا قطعنا بوجوبها، فزكاة [الفطر أولى] بالوجوب. وقد ذكرنا وجهاً لصاحب التقريب في أن [الزكاة لا تجب في الملك في زمان الخيار، وإنما قال ذلك إذا كان الخيار لهما؛ فإن ذلك يقصر تصرّفَ المشتري، وقصور التصرف قد يمنع وجوبَ الزكاة في قول مخرّج (3) على المغصوب. وملك الموصَى له على القول الذي نفرع عليه يناظر الانفراد بالخيار، مع ثبوت الملك، من جهة أنه قادرٌ على التصرف والوصول إليه من غير معترض عليه. وإن قلنا: الملك موقوف، فالزكاة تابعة له، وقد قبل الوصية فتبينا وقوع الاستهلال في ملكه.

_ (1) في (ط): وما. (2) ساقط من الأصل (بسبب البلل). (3) في (ط): يخرج.

وإن قلنا: الملك يحصل بالقبول، فلا زكاة على الموصَى له؛ فإن الاستهلال مقدّم على حصول الملك. ثم إن حكمنا على هذا القول بأن الملك قبل القبول للورثة، وقد جرى الاستهلالُ في ملكهم، ففي وجوب الزكاة عليهم وجهان: أحدهما - أنها تجب لمصادفة الوقت الملكَ. والثاني - لا تجب؛ فإن الملك المحكوم به تقدير في حقوقهم، وقد ذكرنا في زكاة الثمار في مثل هذه الصورة، أن الأصح نفيُ الزكاة عنهم، وزكاة الفطر أحرى بالوجوب، لما مهدناه. فإن حكمنا بأن الملك قبل القبول مستدام للميت، فالذي قطع به الأئمة أن الزكاة لا تجب؛ فإن الحكم بوجوبها ابتداءً إيجاب قُربة على الميت؛ وهذا بعيد. وفي بعض التصانيف وجهان: أحدهما - ما ذكرنا. والثاني - أن الزكاة تجب؛ فإن معتمدها الملكُ، والإرفاقُ على أصل الشافعي؛ ولذلك انقدح وجوب الزكاة على الصبي، والمجنون، وإن كان لا يثبت تكليفهما. وهذا الخلاف يخرج عندي على مسألة تردد فيها الإمام، [والدي] (1) [وهي أن الزكاة] هل تجب في نصاب يعزى ملكه إلى حَمْل، فالذي ذهب إليه الأئمة [أن الزكاة لا تجب] فيه؛ فإن حياة الحَمْل غيرُ موثوق بها، وكذلك وجودُه، فإنا [وإن قضينا بأن] الحَمْل يعرف، فالحكم يتعلق به عند انفصاله، وهذا قبل الانفصال غير موثوق به. وذكر شيخي وجهاً في وجوب الزكاة إذا انفصل؛ فيخرج على ذلك ما حكيناه الآن من إيجاب الزكاة على الميت، ولا فصل بأن يقال: الحمل إلى الوجود مصيره؛ فإن الاستصحاب في حق الميت مستند إلى وجوبٍ محقق سابق؛ فيعتدل الأمران في نظر الفطن. فهذا تفريعُ الزكاة مع تصوير القبول من الموصَى له.

_ (1) ساقطة من (ط). وهذا تأكيد أنه إذا قال الإمام، فإنما يقصد والده.

2222 - فأما إذا ردّ الوصيةَ، فإن فرعنا على أذن الملكَ حصل له بالموت، ثم انقطع بالرد، فالذي (1) ذكره الأصحاب وجوبُ الفطرة إذا جرى الاستهلال قبل رده، بناء على الملك. وذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر: أن (2) الفطرة لا تجب في صورة الرد، لضعف الملك، وإفضاء الأمر آخراً إلى الرد، وهذا ضعيف جداً، سيّما في صدقة الفطر. وإن فرعنا على أن الملك يحصل بالقبول، فلا زكاة على الموصَى له، وإن قلنا: الملك للورثة، فيعود الخلاف، ووجوب الزكاة عليهم في صورة الرد أولى؛ فإن الذي كنا نقرره في الملك، أفضى إلى التحقق بسبب الرد، وإن قلنا: الملك للميت، فالكلام كما مضى في نفي الزكاة عنه، أو إيجابها على الوجه البعيد، ولا ينقدح فصلٌ في ذلك بين الرد والقبول. فهذا ما أردناه في ذلك. 2223 - ولو كانت المسألة [بحالها] (3)، ولكن مات الموصي، واستهل الهلال، ثم مات الموصى له قبل الرد والقبول، فهذا فرعه ابن الحداد في صدقة الفطر. ونحن نقدم على غرضه أصلين: أحدهما - في الملك، فنقول: ورثة الموصَى له يتخيّرون بين الرد والقبول تخيّرَ الموصى له لو بقي، خلافاً لأبي حنيفة (4)، فإن قبلوها، فالملك على الأقوال، ففي قولٍ هو حاصلٌ بنفس (5) [موت الموصي] (6)، وقبول الورثة يقتضي إلزاماً و [تثبيتاً] (7)، وفي قولٍ الأمر على [التبيّن، فإن] قبلوا، بان أن الملك حصل بنفس موت الموصي، وفي قولٍ يحصل الملك بالقبول، فعلى

_ (1) في الأصل: الذي بدون فاء. (2) في (ط): "في أن". (3) مزيدة من (ط). (4) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 421. (5) في (ط): نفس. (6) ساقط من أطراف الأسطر. (7) في الأصل: وتبيينا.

هذا يستعقب قبولُ الورثةِ الملكَ، ثم يثبت الملكُ للموصَى له الميت في ألطف لحظة، وينتقل إرثاً إلى ورثته القابلين، وسبيله سبيل التركة، يُقضى منها ديون الموصَى له، وتنفذ وصاياه، ثم لا نقول: يتقدم الملك على قبولهم، مستنداً إلى وقت موت الموصى له؛ فإن قول القبول لا يحتمل إلا استعقابَ الملك. فهذا ما أردناه من القول في الملك. والأصل الثاني - في بيان المذهب فيمن يملك عبداً، لا يملك سواه، واستهل الهلال، فهل يلزمه إخراج الفطرة عنه، وقد تردد الأئمة في ذلك: فذهب الأكثرون منهم إلى إيجاب الفطرة عن العبد، وإن كان لا يملك مولاه غيرَه؛ فإن المعتمد في المال المعتبر في إيجاب الفطرة أن يفضل عن القوت يوم العيد مقدارُ الفطرة، والعبد في نفسه فاضل عن القوت. ومن أصحابنا من قال: لا تجب الفطرة عن العبد؛ فإن الفاضل ينبغي أن يكون مالاً غيرَ ما منه الإخراض. ومن أصحابنا من [فصل] (1) بين أن يكون العبد مستغرَقاً بحاجة الخدمة، وبين أن لا يكون كذلك، فإن كان مستغرقاً بالحاجة، فلا فطرة [فيه] (2) لتعذر تقدير بيعه، وإن لم يكن الرجل محتاجاً إلى الخدمة، فالعبد مال كسائر الأموال. وهذه المسألة فيها وقفة: أما من أوجب الفطرة، فلا التفات له إلاّْ على الذمة، ووجود [المالية في الرقبة] (3)، وأما من يلتفت على تقدير صرف العبد إلى هذه الجهة، [فقد يقال له:] مقدار الصدقة من الرقبة إن كان ينقص من المالية، فالزائد عليه يجب أن يُخرَج قسط من الفطرة عنه، تخريجاً على إيجاب الفطرة عن العبد المشترك، وهذا لا بد منه. ولكن الذي أطلقه الأصحاب نفيُ الزكاة في وجه، ولست أرى لذلك وجهاً، وقد نص الشافعي على أن الطفل إذا كان لا يملك إلا عبداً، وكان مستغرَقاً بحاجة خدمته،

_ (1) في الأصل: قال. (2) زيادة من (ط). (3) ساقط بسبب البلل.

فعلى الأب الموسر إخراجُ الفطرة عنه، وعن عبده، فأما إخراجُ الفطرة عنه، فبين؛ فإن العبد من حيث كان مستغرقاً بحاجته كالمعدوم، وأما إيجابه (1) الفطرة عن العبد، فيدل على أصلين: أحدهما - أن الابن إذا أعفَّ أباه بزوجةٍ، فقد ذكرنا في فطرتها وجهين، فإذا أوجب الشافعي إخراج الفطرة عن عبد الطفل، اتجه به وجوب إخراجها عن زوجة الأب، وحاجةُ الإعفاف، ثَم كحاجة الخدمة هاهنا. وليس ينحسم عندي [تقدير] (2) الخلاف في عبد الطفل، على ما تمهد في زوجة الأب، [ويدل]، (3) نص الشافعي على أنه لا يقدّر بيع العبد، ولا بيع شيء منه، ولا يتغير أمر الفطرة بهذا التقدير، ويتطرق إلى محل النص الإمكان، فليتأمل الناظر ما انتهى [إليه] (4). هذا منتهى الغرض في الأصلين الموعودين، قبل كلام ابن الحداد. ونقول الآن: 2224 - إذا أوصى بعبدٍ لإنسانٍ، ومات الموصِي، واستهل الهلال، ومات الموصَى له، وقبل ورثتُه، فإن فرعنا على حصول الملك بموت الموصي، أو على [قول] (5) الوقف، فقد تحققنا أن الاستهلال وقع في ملك الموصَى له، فتجب الفطرة. قال ابن الحداد: إنما تجب إذا مات موسراً، ولم [يُقدَّر] (6) ملك العبد يساراً مغنياً، تفريعاً على أضعف الوجوه المتقدّمة فيمن لا يملك إلا عبداً. وإن [فرعنا على] (7) أن الملك يحصل بالقبول، فلا زكاة في تركة الموصَى له ولا على [ورثته؛ فإن] الاستهلال سابق على حصول الملك، وهل تجب الفِطرة على

_ (1) في (ط): إيجاب. (2) في الأصل: تقرير. (3) في الأصل: وقد نص .... (4) مزيدة من (ط). (5) مزيدة من (ط). (6) في الأصل: يقرر. (7) ساقط بسبب البلل.

ورثة الموصي، أو الموصي نفسه؟ فيه التفصيل المقدم في صدر الفصل. 2225 - ومن تمام البيان في هذا أن ما ذكرناه مفروض فيه إذا وقع الاستهلالُ بعد موت الموصي، وقبل موت الموصَى له. فأما إذا وقع الاستهلال بعد موت الموصى له، وقبل قبول الورثة، فإن فرعنا على أن الملك يحصل بموت الموصي، فالأصح أنه لا فطرة في تركة الموصَى له؛ فإن سبب الوجوب (1) وجد بعد موته، فلو أوجبنا الفطرة، [لانتسبنا] (2) إلى إثبات إيجابها ابتداءً على ميت. وقد ذكرنا وجهاً عن بعض التصانيف أن الزكاة في مثل هذه الصورة قد يلقى وجوبُها الميتَ ابتداء. وإن وقع الاستهلال مع موت الموصَى له، فهو كما لو وقع بعد موته. وباقي التفريع لا خفاء به. 2226 - ثم إن ابنَ الحداد أجرى في بعض الاستشهاد مسألةً من العتق نحن ذاكروها: وذلك أنه قال: لو أوصى لرجل ببعض أبيه أو ابنه، ومات الموصي، ثم مات الموصَى له قبل القبول، ثم قبل وارثه، فإن صح القبول، وعتَقَ المقبول، فإن كانوا ورثوا عنه مالاً سواه، قُوِّم باقيهِ في تركة الميت، وإن لم يكن ترك الميت شيئاًً، اقتصر العتق (3)، ولم يقوّم عليه، وكلام ابن الحداد [يجرّ] (4) أموراً يقع بيانها في منازل: فمما تقع البداية به أن الأئمة ذكروا وجهين في [أن قبول الورثة] (5) هل يصح في هذه الصورة؟ أحدهما - أنه يصح، وهو القياس، [اعتباراً بقبول] سائر الوصايا. والثاني - لا يصح منهم القبول؛ إذ لو صح، لعتق الشقص المقبول عن الميت

_ (1) سبب الوجوب هنا استهلال شوال. (2) (ط): لانتسبت. (3) في (ط): "اقتصر على العتق" ولعل تمام الجملة: "اقتصر العتق على الشقص". (4) في الأصل: "يجري"، وساقطة من (ط). والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. (5) ساقط من الأصل من أطراف السطور.

الموصَى له، وثبت الوَلاء له، وصَرْفُ العتق إلى الغير، وإثبات الولاء له بعيد، وليس ذلك كقبولهم سائر الوصايا؛ فإن الملك مقدر للموصَى له، ثم ينتقل [منه] (1) إليهم، فاستقرار الملك عليهم. وهذا يناظر اختلافَ القول في أن من مات وعليه كفارة يمين، فاختار الورثة من الخلال الثلاث الإعتاق، فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان: والأصح أن الورثة لو تبرعوا بإعتاق عبدٍ عنه، لم يقع الموقع، ومما يشابه ما ذكرناه بعضَ المشابهة أنه إذا وُهب لطفل من يعتِق عليه، فهل يقبله وليُّه؟ فيه اختلاف -وسيأتي بيان هذه الأصول في كتاب العتق- والأصح تصحيح القبول، وتنفيذ العتق، على تفصيلٍ سنذكره على أثر ذلك، والسبب فيه أن قبول الوارث حالٌّ [محل] (2) قبول المورِّث، فليصح (3) منه ما يصح من قبول الموصَى له. فهذا بيان حكم منزلة المنزلة الثانية في (4) البحث عن تنفيذ العتق في جميع المقبول. والتفصيل فيه إذا فرَّعنا على أن الملك يحصل بموت الموصي مثلاً، فالموصَى له إما أن يقدر صحيحاً إذ ذاك، أو يقدر مريضاً مرض موته، فإن كان صحيحاً، ثم جرى القبول من الورثة، فينفذ العتق في كمال القبول لا محالة، وإن كان مريضاً مرض الموت، فهذا يخرج على أن المريض لو وُهب منه من يعتق عليه، فقبله، فالعتق فيه من ثلثه، أو من رأس ماله؟ وفيه اختلاف مشهور، وهذا بعينه يخرج فيما [نحن] (5) فيه. المنزلة الثالثة في البحث عن [سريان] (6) العتق بعد تقدير نفوذه في المقبول - قال [ابن الحداد] (7): يختلف ذلك بيسار الموصَى له وإعساره، وزعم أنه إن كان

_ (1) في الأصل: منهم. (2) في الأصل: فحلّ. (3) (ط): فليس يصح. (4) (ط): من. (5) مزيدة من (ط). (6) في الأصل: "شيء بأن". وهذا من غرائب التصحيف. (7) ساقط من الأصل، بسبب البلل.

[موسراً، قُوّم] العبد على تركته، وإن كان معسراً، اقتصر العتقُ على المقبول، إذا لم يخلف غيرَه، وهذا الذي ذكره قد وافقه عليه بعضُ الأصحاب، ونزّلوا قبول الوارث منزلة قبول الموصَى له. وليقع الفرض فيه إذا كان صحيحاً عند موت الموصي، والتفريع على الوقف، أو على حصول الملك بموت الموصي، والأصح ما اختاره الشيخ أبو علي، وهو أن العتق لا يسري (1) أصلاً، وإن خلف تركة وافيةً؛ لأن الميت في حكم المعسر، وما خلفه الميت مستغرَق باستحقاق الورثة، ولم يختلف علماؤنا في أن الرجل إذا قال: إذا مت، فأعتقوا عني نصف عبدٍ، فإذا نفذت وصيتُه، لم يَسْر العتق، وما ذكره الأولون من أن قبول الورثة بمثابة قبوله (2) في حياته خطأ من وجهين: أحدهما: أن قبوله صادر عن اختياره، بخلاف قبول الورثة، وما يعتبر فيه اختياره في حقه، لم يقم فيه قبول الورثة مقام قبوله، وليس ذلك كقبول سائر الوصايا؛ فإنهم إنما يقبلونها في حقوق أنفسهم؛ فيجوز أن يقال: ورثوا حقَّ القبول لأنفسهم، والعتق النافذ على الميت ليس من حقوق الورثة، وأيضاًً فإنه إذا قبل في حياته، فله حكم اليسار إن كان يملك مالاً، ولا يثبت حكم اليسار فيما يقع بعد موته بدليل المسألة التي ذكرناها من الوصية بإعتاق نصف العبد. ثم قيد ابن الحداد [تصوير] (3) مسألة العتق بأن قال: إذا أوصى له بنصف أبيه، فلم يعلم به حتى مات، وقد أجمع الأئمة على أن [التقييد بعدم] (4) العلم غير مفيد، ولو [علمه، كان كما] (5) لو لم يعلمه. وقد يجري لابن الحداد تقييدات في الصور [وفاقية، لا] (6) حاجة إليها، هذا منها.

_ (1) في (ط): يرى. (2) في (ط): شابه قبول. (3) في الأصل: تقرير. (4) في الأصل: التنفيذ يقدم. (5) ساقط من الأصل، بسبب البلل. (6) ساقط من الأصل، بسبب البلل.

فصل قال: "ولو مات بعد ما أهل شوال، وله رقيق، فزكاة الفطر عنه، وعنهم في ماله مبدّأة على الدَّين ... إلى آخره" (1). 2227 - قال الأئمة: إذا اجتمعت الديون، وزكاة الفطر، والكفارات المالية، ففي المسألة أقوال: أحدها - أن الحق المالي الواجب لله، مقدم على ديون العباد. والثاني - أن الديون مقدمة. والثالث - أنها مستوية، تزدحم وتتساوى في [التضارب] (2) بالحصص. 2228 - توجيه الأقوال: من قدم حقوق الآدميين استدل بابتنائها على الضِّنّة، وبعدها عن السقوط، واستشهد باجتماع القصاص، وقطع السرقة في اليد الواحدة، فإن القصاص مقدمٌ وفاقاً، ومن قدّم حق الله، احتج أولاً بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "دين الله أحق بالقضاء"، وقال من جهة المعنى: الحقوق المالية مصرفها الآدميون، فكأنها حقوق لهم، وهي معتضدة بحق الله تعالى، ويخرج على ذلك القصاص؛ فإنه عقوبةٌ محضة زاجرة، وكذلك حد (3) السرقة ولا مصرف لقطع السرقة، على نحو مصرف (4) الزكاة، ومن سوّى أضرب عن الترجيح، وقابل مستمسك القائلين بعضه ببعض، ورأى الأمر مفضياً إلى الاعتدال. هذا في زكاة الفطر والكفارات. وأما زكاة المال، فقد تمكن فرضها [بتعلقه] (5) بالذمة بعد الموت، وذلك بأن

_ (1) ر. المختصر: 1/ 254. (2) في الأصل: بالنصاب. (3) (ط): حق. (4) (ط): تصرف. (5) في الأصل: متعلقه.

تجب الزكاة، ويتحقق الإمكان، ويتلف المال، ثم يموت من عليه الزكاة، فالقول في الزكاة في هذه الصورة كالقول في زكاة الفطر، [فأما إذا] (1) تعلقت الزكاة بالمال، فمات، واجتمعت الديون، فالأصح تقديم زكاة المال؛ فإنها متعلقة بعين المال على حالٍ، وإنما التردد في كيفية التعلق، على ما سبق تقريره. وقال بعض أئمتنا: إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فالأقوال الثلاثة في التقديم والتأخير جارية. وهذا ضعيف مزيف. فصل قال: "ولو ورثوا رقيقاً، ثم أهلّ شوال، فعليهم زكلاته بقدر مواريثهم ... إلى آخره" (2). 2229 - من مات وخلف عبداً وورثة، ولم يخلف ديناً، فاستهل الهلال قبل قسمة التركة، فالفطرة تجب في ذمم الورثة؛ لمكان اشتراكهم في الرقيق. ولو [كانت] (3) التركة مستغرقةً بالدين، فظاهر النص وجوبُ الزكاة، من غير فرق بين أن يباع العبد في الدين، أو لا يتفق بيعه فيه، ونقل الربيع عن الشافعي أنه قال: على الورثة إخراج الزكاة عن العبيد إن بقوا لهم، وهذا بمفهومه دليل على أنهم إن بيعوا (4)، فلا زكاة على الورثة. وترتيب القول فيه أن الملك في أعيان التركة حاصل للورثة، وإن كانت مستغرقةً بالديون، وهذا هو المذهب. وذكر بعض أصحابنا قولاً بعيداً: إن الدين المتعلق بالتركة يمنع حصولَ الملك للورثة، وهذا القول ذكره الصيدلاني وشيخي، وغيرهما. ثم رأيت الأمر على تردد في تفريع هذا القول الضعيف، فالذي إليه صَغْوُ معظم المفرعين أن الأمر موقوف،

_ (1) في الأصل: فإذا. (2) ر. المختصر: 1/ 254. (3) في الأصل: قلت. (4) في (ط): يبيعوا.

فإن صُرفت أعيان التركة في الديون، تبينا أن الورثة لم يملكوها، وإن أبرأ أصحاب الدين الميتَ، أو أدى الورثة الدين من خواص أموالهم، واستبقوا التركة لأنفسهم، فيتبين أنهم ملكوا التركة بموت المورث. وما نقله الربيع مشعر بذلك؛ فإنه قال: "عليهم الزكاة في العبيد إن بقوا لهم". [وقال قائلون] (1): الملك يثبت للورثة عند زوال الديون من غير [تبين] (2) [وإسناد] (3)، وهذا في نهاية الضعف. ثم مما يُحتاج إلى التزامه أن الورثة إذا لم يملكوا التركة، فيجب القضاء بتبقيتها على تملك الميت؛ إذ لا سبيل إلى الحكم بالملك فيها للغرماء، ولا يستقيم على مذهبنا إثبات ملكٍ لا مالك له، فإذا لاحت المقدمة، قلنا بعدها: إن جرينا علي الأصح في إثبات الملك للورثة، فالوجه القطع بوجوب زكاة الفطر عليهم، لثبوت ملكهم عند الاستهلال، وقد قطع أئمتنا بأن فطرة العبد المرهون واجبة على الراهن، وسيد العبد الجاني، وعندي أن انسداد التصرف بالرهن لا ينقص عن انسداده بغصب العبد، وقد ذكرنا طريقين في العبد المغصوب، وعادة أئمة المذهب إذا ذكروا شيئاًً ضعيفاً أن لا يعودوا إليه. وإن قلنا: إن الورثة لا يملكون التركة، فلا زكاة عليهم، ولا زكاة على الميت أيضاًً، لما تقدم، وفيه الوجه الضعيف، فلا عود إليه بعد هذا. 2230 - قال شيخنا أبو بكر: إذا ورث الرجل مَنْ يعتِق عليه، ولكن التركة مستغرَقة بالديون، لم يختلف أئمتنا في أنّه لا (4) يعتِق عليه. هكذا قال. فإن قيل: هلا خرجتم هذا على (5) إعتاق الراهن العبدَ المرهون؟ قلنا: قد قطع شيخي والأئمة بأن (6) الوارث إذا أعتق عبداً في التركة المستغرقة بالديون، فنفوذ عتقه خارج على

_ (1) ساقط من الأصل، بسبب البلل. (2) في الأصل: يقين. (3) ساقط من الأصل، بسبب البلل. (4) ساقطة من (ط). (5) (ط): على هذا. (6) (ط): أن.

نفوذ (1) عتق الراهن، وكذلك السيد إذا أعتق عبد عبده المأذون، وقد أحاطت به الديون، فنفوذ العتق خارج على أقوال عتق الراهن، فإذا كان كذلك، فتعليل ما ذكره الصيدلاني أنا لو نفذنا العتق، لألزمناه القيمة، وذلك بعيدٌ من غير صدَر (2) اختيار منه، وإذا أنشأ العتقَ، فقد اختار إزالة المالية، فضمن (3) حقوقَ الغرماء، وشاهد ذلك أن من اشترى النصف من أبيه، وعَتَقَ عليه، سرى العتقُ إلى باقيه (4) على شرط اليسار، ولو ورث النصف من أبيه عتَقَ عليه ما ورثه، ولا سريان؛ إذ لو سرّينا، لغرمناه قيمة الباقي من غير اختيارِ منه، فنفوذ العتق في عبد التركة من غير إنشاء عتق يضاهي السريان، وليس [الاحتمال] (5) منقطعاً (6) مع ذلك، [لحصول] (7) الملك، ولكن لم أجد إلا ما نقله الصيدلاني، والتعويل على النقل. فصل قال: "ومن دخل عليه شوال، وعنده قوتُه، وقوتُ من يقوته ... إلى آخره" (8). 2231 - وجوبُ الفطرة على الإنسان يعتمد الإسلامَ، وكونَه من أهل الملك [التام] (9)، ولا يَشترط استجماعَ (10) شرائط الخطاب، فتجب الفطرةُ في مال الظفل والمجنون.

_ (1) (ط): تفرد. (2) صدر: صدور. وهذا الوزن (فَعَل) يستخدمه الإمام غالباً. (3) (ط): فضم. (4) (ط): أمه. (5) في الأصل: الانقطاع. (6) في الأصل: منقطع. (7) في الأصل: بحصول. (8) ر. المختصر: 1/ 254. (9) مزيدة من (ط). (10) "استجماعَ" مفعول "يشترط" بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود على "وجوب الفطرة".

ومضمون الفصل شيئاًن بعد ذلك: أحدهما - تفصيل القول في اليسار المعتبر في الفطرة، مع ردّ الكلام إلى التفرد بالالتزام عن النفس. والثاني - القول في إخراج الفطرة عن الغير إذا اجتمع جمعٌ، ويتصل به القول فيه وفي غيره إذا ضاق الفاضل عن الوفاء بالجميع (1). 2232 - فأما اليسار الذي اعتبره الأئمة في الفطرة، فليس معناه ملك النصاب الزكاتي، خلافاً لأبي حنيفة (2). ثم الذي ذكره الأئمة في تفسير اليسار، أنهم قالوا: إذا فضل عن قوت المرء وقوت من يقوته صاعٌ، أخرجه، ولا شك أنه لا يحسب عليه دَسْت (3) ثوبٍ، يليق بمنصبه، ومروءته، والذي أراه أن المعتبر فيما لا يحسب في هذا الباب، هو المعتبر في الكفارة، وسنذكر في الكفارات المرتَّبة أنا نُبقي على من التزم الكفارة المرتَّبة عبدَه المستغرَقَ بخدمته، فلا يلزمه إعتاقه عن كفارته، وإذا كان هذا قولَنا فيما يتعلق به حاجةُ الخدمة، فالمسكن أولى بالاتفاق. وسيكون لنا في هذا فضلُ بحض إذا انتهينا إليه. والقدر المغني هاهنا، تشبيه يسار هذا الباب بيسار الكفارات. فإن قيل: المسكنُ والعبدُ مبيعان في ديون الآدميين وفاقاً، وقد حكيتم اختلافَ القول في تقديم ديون الله، وديون الآدميين، فما وجه ذلك؟ قلنا: الديون تجب بطرق في التزامها من فعلٍ أو قول، ووضعُها أن تُلتزم (4) عند وجود أسبابها، والفطرة تجب بإيجاب الله تعالى، وكذلك الكفارات، فتوقَّف وجوبُها على الشرائط المرعية شرعاً، ثم إذا وجبت، فالنظر على التسوية، أو على التقديم، يقع بين [واجبين] (5).

_ (1) (ط): عن الجميع. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 468، مسألة 456، رؤوس المسائل: 220، مسألة 119. (3) الدست من الثياب، ما يلبسه الإنسان، ويكفيه لتردده في حوائجه، والجمع دسوت. مثل: فلس وفلوس. (المصباح). (4) في (ط): على أن تلزم. (5) ساقطة من الأصل.

فإن قيل: المحجور عليه إذا كان عليه كفارات، وقد اطّرد عليه الحجر، فالكفارات على التراخي، وأداء الدين على التضييق، فهل تُجرون الأقوال والحالة هذه؟ قلنا الأقوال في التقديم تُلفَى مرسومة للأصحاب في ازدحام الديون في التركة، وفي إجرائها في حالة الحجر تردد عندنا، أما إن لم نجرها، وقدمنا ديون الآدميين، فهو واضح، وإن أجريناها، فالمرعيُّ حق من عليه الكفارة؛ فإنه قد يحاول تبرئةَ الذمة منها، والتخلصَ من غَرَر الفوات، وهذا التردد عندي قريب من اختلاف القول في أن الديون المؤجلة هل تحل بالحجر حلولَها بالموت؟ ولولا أني وجدتُ رمزاً للأصحاب في أن عبدَ الخدمة غيرُ معتد به في الفطرة، لما قطعت قولي في أن المسكن غيرُ محسوبٍ؛ من جهة أن الفطرة لا بدل لها، بخلاف الكفارات. نعم، الإطعام في المرتبة الأخيرة لا بدل له، ولكن لا يمتنع عودُ القدرة على الصوم. وقد ذكرنا أن الصحيح أن عبد الخدمة في حق من أخرج صاعاً. عن نفسه، يجب إخراج الفطرة عنه، فهو إذن غير محسوب في فطرة المولى، وهو معتد به في الفطرة المضافة إليه، على المذهب الظاهر. فهذا ما أردناه في ذلك. ثم المسكن وعبد الخدمة بعد ثبوت الفطرة مبيعان في الفطرة؛ فإنها بعد الوجوب التحقت بالديون. 2233 - وديون الآدميين تمنع وجوبَ الفطرة وفاقاً، وإن رأينا تقديم الفطرة عليها بعد الثبوت، فليتنبه الناظر لذلك، وليفصل بين شرط الثبوت ابتداء، وبين القول في الازدحام بعد الوجوب، وإنما قلت ما قلته آخراً (1) في الديون، من إجماع الأصحاب على تقديم النفقات على القريب والبعيد على الفطرة، فما لم يفضل عن قوته، وقوتِ كل من يقوته - فاضل، لم يجب إخراج الفطرة. ولو ظن ظان أن دين الآدمي على طريق لا يمنع وجوب الفطرة، كما لا يمنع وجوب الزكاة في قول، كان مُبعداً.

_ (1) في (ط): إجراء.

هذا منتهى نظري. 2234 - والنظر بعد ذلك في الفاضل، فإن فضل صاع من الجنس المجزىء، أخرجه، وإن فضل أقل من صاعٍ، فقد ظهر الخلاف في ذلك: فذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب إخراجه، كما لا يجب إعتاق نصف الرقبة في الكفارة، ولا إطعام خمسة من المساكين، ولا كِسوتهم. ومن أصحابنا من قال: يجب إخراج الفاضل وإن قل قدره. وهذا هو الأوجه. وتهذيب المراتب في هذه القاعدة أن نقول: كل أصل ذي بدل، فالقدرة على بعض الأصل لا حكم لها، وسبيل القادر (1) على البعض كسبيل العاجز عن الكل، والمستثنى من هذا الضبط وجود المقدار من الماء الذي لا يكفي لتمام الطهارة، فيه (2) قولان. وسبب الخلاف ورود الماء مطلقاً في الشرع من غير توقيف [وتقدير، ثم] (3) التيمم مشروط في لفظ الشارع بانعدام جنس الماء، وهذا لا يتحقق في الكفارات المرتبة. وأما الفطرة، فلا بدل عنها، فالوجه إيجاب الميسور منها. وهذا كالساتر للعورة، فإن لم يجد ما يستر تمام العورة، لم يجز له ترك المقدور عليه. وكذلك إذا انتقصت الطهارة بانتقاص بعض المحلّ، فالوجه القطع بالإتيان بالمقدور عليه، وقد ذكر بعض الأصحاب فيه اختلافاً بعيداً، وهو قريب من التردد فيما نحن فيه، ومن انتهى في الكفارة المرتبة إلى إطعام ستين مسكيناً 4)، فلو وجد طعام ثلاثين، تعين عليه إخراجه عندي قطعاً، وكذلك لو وجد طعامَ مسكينٍ [واحدٍ] (5) فإن طعام [كل] (6) مسكين في حكم كفارة. نعم، لو وجد بعضَ مُدٍّ، فقد يتطرق إليه احتمال.

_ (1) في (ط): القدرة. (2) كذا. ولعلها: ففيه. (3) في الأصل: وتقديم التيمم. (4) لأنه لا بدل عن الإطعام. (5) زيادة من (ط). (6) زيادة من (ط).

فهذا آخر ما أردناه في أحد مضموني الفصل، وهو الكلام فيما يخرجه المرء عن نفسه، وشرائط الوجدان واليسار. 2235 - فأما القول في ازدحام أقوامٍ، فللأصحاب فيه خبط عظيم، ونحن لا نألوا جهداً في التهذيب أولاً، ثم نختتم الكلامَ بالتنبيه على الحقائق، التي من الذهول عنها تثور العمايات، والقول في هذا يتعلق بفصلين: أحدهما - في فطرة الرجل في نفسه، مع تقدير (1) إخراجه الفطرة عن غيره، والفاضل صاع واحد. فلتقع البداية بذلك. 2236 - فنقول: إذا فضل عن قوت الرجل وقوت من يقوته صاع، وله زوجة، فالمذهب الأصح أنه يتعين عليه إخراج الصاع الفاضل عن نفسه؛ تأسياً بقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" (2). وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لو أراد إخراج الفطرة عن زوجته، جاز؛ فهو بالخيار بين أن يُخرج عن نفسه، وبين أن يُخرج عنها. وحكى العراقيون وجهاً أنه يتعيّن عليه إخراجه عن زوجته، وهذا بعيد، معدود من غلطات المذهب. أما من خيّر، فلعله تلقَّى مذهبه من مذهب الإيثار في النفقة، لمّا رأى الفطرة متلقاةً من النفقة. وهذا ساقطٌ؛ من جهة أن الفطرة قُربة، ولا إيثار في القُرب. ولست أعرف خلافاً في أن من وجد من الماء ما يكفيه لطهارته، لم يكن له أن يؤثر به رفيقه ليتطهر به. وما تخيله الذاهب إلى التخير من أمر النفقة لا أصل له؛ فإنا لم نُتبع الفطرةَ

_ (1) (ط): تقديره. (2) حديث: "ابدأ بنفسك ... " قال الحافظ: لم أره هكذا، بل في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول". (ر. التلخيص: 2/ 354 ح 872، والبخاري: النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال، ح 5355، ومسلم: كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى ... ، ح 1034).

النفقةَ [عن] (1) معنى (2) معقول، حتى نلتزم تنزيل الفرع على الأصل، إن كان ينتظم ذلك، وإنما اتبعنا فيه الخبرَ. ومما يتعلق بهذا أنه لو فضل صاعٌ، وله أب أو ابن، فلا أحد يصير إلى تقديم أحدٍ من هؤلاء على النفس، وإنما الوجه البعيد في الزوجة؛ من جهة تأكد نفقتها و [مضاهاتها] (3) الديونَ. نعم. الأوجه وجوب تقديم النفس، وذكر الأصحاب أجمعون وجهاً آخر في التخيير. ثم لا فرق في هذا المقام بين القريب والبعيد، فإنا إذا تعدّينا النفسَ، وجوزنا الإخراج عن الغير، ولا (4) مسلك له إلا [تخيّل] (5) الإيثار، ولا اعتراض على المؤثر في تقديم ولا تأخير. 2237 - وممّا (6) يجري في هذا المقام أنا إذا جوّزنا له الإيثار، فلو أراد أن يفضَّ (7) الصاع على جَمْع، فهل، يجوز ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يجوز، وهو الأصح. والثاني - يجوز، وقد قدمنا أن الفاضل لو كان أقلّ من صاع، فالأصح إيجاب إخراجه، والصحيح هاهنا منع الفض؛ إذْ إخراجُ مقدارٍ كامل عن شخص ممكن، والوجه الآخر غيرُ بعيد أيضاًً. فهذا قولنا في ترديد الصاع بين الرجل في نفسه، وبين من يتعلق به. 2238 - فأما إذا فضل صاعان، فأخرج أحدهما عن نفسه، وازدحم الباقون في الآخر، فالقول في ترتيبهم، وتقديم الأولى منهم يطول. ونحن نقول: لتقع البداية

_ (1) في الأصل: مع. (2) (ط): معين. (3) في الأصل: وقصا بها. وهو تصحيف واضح. والمثبت من (ط). (4) (ط): بلا. (5) في الأصل: تخير. (6) في (ط): وما. (7) يفضّ: يفرّق. من باب قتل. (المصباح).

بالنسب والسبب إذا اجتمعا كاجتماع (1) الزوجة والابن. وقد اختلف الأئمة في التقديم، فقال بعضهم: الزوجة مقدمة، وقال آخرون: القريب مقدم، وقال آخرون: لا فرق، وهو متخير. أما تقديم الزوجة، فمتجه من تأكد النفقة. وأما تقديم القريب، فلست أرى له وجهاً، ولم يذكره إلا بعضُ المصنفين. وأما التخيير، فصاحبه لا ينظر إلى المراتب في هذا المقام، وإنما يُجريه على مذهب الإيثار، كما ذكرناه في الفصل الأول المفروض في صدقته وصدقة غيره. وهذا ضعيف في هذا المقام؛ فإن الإيثار إنما يُفهم في ترك الرجل (2) حقَّ نفسه. أما حيث وقع الفرض في فراغه عما عليه، فلا انقداح للإيثار مع تفاوت الرتب (3 وذكر الصيدلاني في هذا المقام وجهاً آخر، وهو أنه يفض الصاع عليهما، وهذا ركيك مع تفاوت الرتب 3) ولا ينقدح إلا حيث ينقدح الإيثار والتخيّر، فأما أن يُثبت هذا الوجه، مع الاعتراف بتفاوت الرتب، فلا وجه لذلك. نعم، إذا ادعى صاحب هذا الوجه أن الزوجة مع القريب في رتبة واحدة، فيجوز أن يَبتني على ذلك الفضَّ والقسمة، ولست أرى لاعتقاد الاستواء وجهاً؛ فإن الفطرة تبعُ النفقة، ونحن لا نسوّي بين الزوجة وبين القريب في النفقة. فأما إذا اجتمع قريبان، والفاضل صاع، فكيف [التفضيل] (4)؟ الذي أراه في ذلك أن الفطرة في هذا المقام تترتب ترتب النفقة، فمن كان أولى بالنفقة، فهو أولى بالصاع الفاضل، ولن تجد في المغمضات أصلاً أقوم من إتباع النفقة المؤنةَ. ثم القول في ازدحام الأقارب في النفقة مستقصىً في كتابها. ولا يجري عندي في هذا المقام وجه التخيير أصلاً، وقد أجراه طوائفُ من أصحابنا. فإذن التخيير على ضعفه لا اتجاه له إلا في المرتبة الأولى، حيث يؤثر المرء

_ (1) في (ط): باجتماع. (2) ساقطة من (ط). (3) ما بين القوسين ساقط من (ط). (4) في النسختين: "التفصيل" بالصاد المهملة.

غيره على نفسه، ثم إذا تفاوتت الرتب، فكما لا ينقدح التخيير، لا ينقدح الفضُّ والقسمة، فالتخيير والفض قريبان. وقد يجري الفضُّ في مقام آخر سننبه عليه إن شاء الله تعالى. 2239 - فإذ نبهنا على الأصل، فنأتي بما صح فيه النقل. فإذا اجتمع الأب والابن، ففيه أوجه: من أصحابنا من أوجب تقديمَ الابن؛ نظراً إلى تأكد نفقته في الصغر، ومنهم من أوجب تقديم الأب لحرمته، ومنهم من خيّر، والتخيير إن خرج، فله مسلك آخر في هذا المقام، وهو اعتقاد استوائهما في النفقة. ووجه الفضّ ينقدح الآن على مذهب الاستواء إن (1) قدرنا البعضَ مجزئاً، ثم المخيَّر قد يجعل التقسيط من خيرته، ويتجه مع اعتقاد الاستواء إبطال (2) التخيير، وتجويز (3) التقسيط أو إيجابه. ولو اجتمع الأب والأم، فقد ذكروا أوجهاً أُخَر: أحدها - الأب أولى، والثاني - الأم أولى، لتأكد الوصاية برعايتها، والثالث - هما سواء، ثم يجري التخيير، والفض، على نحو ما تقدم. ولو اجتمع الأب والأم والابن، جرت الوجوه، وزاد وجهٌ لازدياد العدد، فهذا ما ذكره الأئمة. والأصل ما ذكرتُه من تنزيل الفطرة أولاً على النفقة، فإن اقتضت النفقةُ ترتيباً، اتبعناه، وإن اختلفا في النفقة، انتظم بحسبه اختلافٌ في الفطرة. وإن اتفق على استواءٍ المرتبةُ، انقدح التخيير، والفض على وجهين: أحدهما على الوجوب، والآخر على الخيرة. 2240 - وقد نجز الفصل، وبقي وراءه غائلةٌ لا بد منها، وهي أنا إن قلنا: الصدقة التي يخرجها المرء عن غيره هو متحمل فيها، والوجوب يلاقي من منه التحمل، فمن آثار ذلك أنه يجب عليه تعيين من يخرج عنه بالقصد، وإن كان لا يجب عليه مراجعته، فهذه استنابة شرعية قهرية.

_ (1) (ط): إذ. (2) (ط): وإبطال. (3) عبارة (ط): وتحرير التقسيط إيجابه.

وإن قلنا: الوجوب لا يلاقي إلا المخرِج، فلا معنى للتقديم والتأخير. نعم إن عين من قلنا: إنه مؤخر أفسد بتعيينه ما أخرجه، وكان هذا كما لو نوى إخراج الزكاة عن بضاعةٍ له بالريّ، فإذا هي تالفة. وقد أوضحنا هذا في باب نيةِ الزكاة بما فيه أكمل مقنع. هذا منتهى الفصل تحقيقاً وتلفيقاً والله أعلم. فصل 2241 - ذكر الشافعي في آخر هذا الباب فصولاً تتعلق بصفات من يلتزم الفطرة، وأحكام من يتحمل عنه الفطرة، ونحن نرتبها على مساقٍ يحويها إن شاء الله تعالى. فنقول: الغرض ينتجز بالكلام في الصفات المعتبرة فيمن يلزمه إخراج الفطرة [عن نفسه، وفيمن يلزمه إخراج الفطرة] (1) عن غيره، وفيمن تتحمل الفطرة عنه، وإذا عسر التحمل، فكيف الحكم فيه؟ 2242 - فأما القول في صفات من يُخرج الفطرة عن نفسه، فلا بد وأن يكون محكوماً له بالإسلام، فليس على الذمي فطرة، ويشترط أن يجد في وقت الوجوب شيئاًً فاضلاً عن قوته، وقوتِ من يمونه. ثم تردد الأئمة في صفة ملك الشخص، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا بد وأن يكون من أهل كمال الملك، وزعموا أنه يراعى في وجوب الصدقة على المرء كمالُ ملكه فيما يخرجه، كما يشترط في وجوب الزكاة كمال الملك في النصاب المزكى، فعلى هذا لا تجب الفطرة على المكاتب في نفسه، كما لا تجب الزكاة في أمواله. هذا هو المذهب الظاهر، فلا فرق إذن بين الزكاتين، في اشتراط الإسلام، والملك التام، وإنما يفترقان في أن النصاب معتبر في زكوات الأموال؛ فإن الزكواتِ حقوقُها، فاشترط أن تبلغ مبلغاً يحتمل المواساة، وزكاة الفطر حق البدن؛ فاكتفى فيها بالوجود. ثم كما لا تجب الزكاة على المكاتب في نفسه، لا يجب على المولى

_ (1) ساقط من الأصل.

إخراج الزكاة عنه للحيلولة الواقعة بينهما، المقتضية سقوط نفقته عنه. وذكر ابن سريج قولاً مخرَّجاً إن المكاتب يلزمه إخراج الفطرة عن نفسه، ولم يشترط هذا القائل الملك التام فيما يخرجه، بناء على ترتب الفطرة على النفقة. وحكى الشيخ أبو علي في شرح الفروع وجهاً عن بعض أصحابنا، أن السيد يجب عليه إخراج الزكاة عن مكاتبه، ووقوع الحيلولة بالكتابة كوقوعها بالغيبة والإباق. وهذا بعيد لم يحكه غيرُه. وبنى (1) الأئمة القول المنصوص والمخرَّج، على اختلاف القول في أن المكاتب لو تبرع بشيء من ماله بإذن مولاه، فهل يصح تبرعه، وفيه قولان، ووجه البناء أن من نفَّذ تبرعَه، وجّه ذلك بأن الحق لا يعدوهما، وقد اجتمع في التبرع ملك المكاتب، وإذن مَنْ ضعف الملك بسبب رعاية حقه، ثم صدقة [الفطر] (2) في وضعها واجبةٌ، فصار تقدير الخطاب بها شرعاً بمثابة الإذن الصادر من السيد في التبرع، وأيضاًً فالمكاتب مملوك السيد، وهو مستقل بنفسه بحكم الكتابة، فالأمر دائر بينه وبين مولاه، فلم يتجه إسقاط الفطرة، فإذا لم يكن بد من إثباتها، فلا تجب على السيد لما ذكرناه، ويتعين لالتزامها المكاتب، فرجع حاصل القول في الصفات إلى اعتبار الإسلام، ووجدان ما يُخرج. والأمر في اشتراط تمام الملك على التردد. والذي ذكرناه نصّاً وتخريجاً. 2243 - أما ما يراعى في صفات من يُخرج الفطرة عن الغير، [فمن راعى تمامَ الملك في إخراج الفطرة عن النفس، راعاه في إخراجها عن الغير] (3)، فكما لا يجب على المكاتب إخراج الفطرة عن نفسه، لا يجب عليه إخراج الفطرة عن زوجته، ومن أوجب على المكاتب إخراج الفطرة عن نفسه، أوجب عليه إخراج الفطرة عن زوجته، ولم يعتقد فصلاً بين الإخراج عن النفس، وبين التحمل عن الغير، ولا فرق بينهما باتفاق الأئمة.

_ (1) (ط): وبين. (2) ساقطة من الأصل. (3) ساقط من الأصل.

2244 - فأما الإسلام، فقد اختلف قول الشافعي في أن الذمي إذا ملك عبداً مسلماً، أو كان له ابن مسلم فقير، هل يلزمه إخراج الفطرة عنه؟ فأحد القولين أن ذلك لا يلزمه، والثاني يلزمه. والقولان منطبقان على أن الوجوب يلاقي الشخص، ثم يتحمل عنه المتحمل، وفيه التردد المتقدم، فإن قلنا: الوجوب لا يلاقيه، فلا تجب الفطرة على الذمي بسببه، كما لا تجب عليه الفطرة عن نفسه، وإن قلنا: الوجوب يلاقي الإنسان، ثم يتحمل المتحمل عنه، فوجوب الفطرة على ذلك يعتمد إسلام العبد والقريب، [ثم] (1) الذمي يتحمله تحمل النفقة. وكان يحتمل أن يقال: على قول الملاقاة والتحمل قولان: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أنه لا يتحمل لكفره، ويمتنع التحمل بما يمتنع الالتزام به. هذا متّجه كذلك. ثم إذا قلنا: على الذمي إخراجُ الفطرة عن المسلم، فالنية لا تصح منه، ولم يصر أحدٌ من أصحابنا إلى تكليف مَنْ منه التحمل النية. وكيف يُقدَّر ذلك، وقد يكون صغيراً، فلا خروج لهذا إلاّ على استقلال الزكاة بمعنى المواساة، كما [تخرج] (2) الزكاة من مال المرتد، وقد تقدّم نظائر هذا. هذا بيان صفات المتحمل. فأما الأسباب التي يقع التحمل بِها، فقد مضت مستقصاة في أول الكتاب. فرع: 2245 - ولو أسلمت ذمية تحت زوجها الذمي، ثم استهل الهلال في تخلف الزوج، ثم أسلم في العدة، ففي وجوب النفقة (3) لها في زمان التخلف قولان، وتفصيل. فإن لم نوجبها، لم نوجب الفطرة على الزوج، وإن أوجبناها، ففي الفطرة

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) عبارة الأصل: كما لو الزكاة من مال المرتد. (3) لأنها في فترة تخلف الزوج عن الإسلام عرضة لانفساخ النكاح، إذا لم يلحق بها مسلماً قبل انقضاء العدة، فالنكاح شبه موقوف في فترة تخلفه، ومن هنا جاء القولان في وجوب نفقة الزوجة في هذه الفترة قبل إسلامه.

قولان، كالقولين في الذمي يملك عبداً مسلماً. 2246 - فأما القول فيمن منه (1) التحمل، فلا بد من إسلامه حقيقة أو حكماً، ولا يشترط أن يكون من أهل الاستقلال، لو قدر له مال؛ فإن المال لا يليق بصفات من يتحمل عنه، والإسلام إنما شرط لوقوع الفطرة طهرة، واتفق علماؤنا على أن المسلم لا يلزمُه الفطرة بسبب عبده الكافر؛ وذلك أنا إن قدَّرنا ملاقاةَ الوجوب، فالكافر لا يلاقيه [وجوب الفطرة، وإن لم تقدر الملاقاة، فلا يمتنع أن يكون وجوب] (2) الزكاة مشروطاً برعاية صفاتٍ فيما منه الإخراج، كالنُّصب، وصفاتٍ مخصوصة فيها، فكما اختص وجوبُ الزكاة بمالٍ مخصوص، جرى الأمر كذلك في الفطرة، وقد يكون المتحمل عنه على نعت الاستقلال، لولا سبب التحمل، فإن المرأة الموسرة كذلك، والزوج يتحمل عنها. والضابط في التحمل اتباع المؤنة كما تمهد. فرع: 2247 - إذا أبان الزوج زوجته الحرة، وكانت حاملاً، فنفقتها واجبة، وتجب فطرتها عند الاستهلال، إذا بقيت كذلك، جرياً على ما مهدناه، من إتباع الفطرة النفقةَ. وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب: أنا إن أوجبنا النفقة للحامل، فالفطرة واجبة، طرداً للقياس، وإن أوجبناها للحمل، فلا تجب؛ فإن فطرة الحمل غيرُ واجبةٍ، والنفقة إن صرفت إلى الحامل، فالمقصود الحمل، والأصح الأول. 2248 - ونحن الآن نتكلم في اختلال سبب التحمل بأسباب، ثم نوضح الحكم فيمن منه التحمل، فإن اختل التحمل بفقرِ من يقدّر متحملاً، لو كان غنياً، وكان من منه التحمل فقيراً، أو رقيقاً، فإذا زال التحمل، والشخص الذي يعزى التحمل إليه ليس من أهل الاستقلال، فينتظر من ذلك سقوط الفطرة. فأما إذا عسر التحمل، ولم يعسر تقدير الزكاة من جهةٍ أُخرى، فهذا هو الغرض.

_ (1) "منه" هنا بمعنى (عنه). (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

نصّ (1) الشافعي على أن زوج الحرة إذا كان معسراً، فالأولى لها أن تخرج الفطرة عن نفسها، إذا كانت موسرة، قال: ولا يبين لي أن ذلك عليها. ونصَّ على أن السيد إذا زوَّج أمته من إنسان، فأعسر، فلا فطرة عليه. قال: ويجب على السيد إخراج الفطرة عن أمته المزوّجة، فقال الأكثرون في المسألتين قولان، نقلاً، وتخريجاً؛ فإن الحرة الموسرة من أهل التزام الفطرة لو لم تكن مزوجة، والسيد يلتزم فطرة أمته إذا لم تكن مزوجة، فعُسْر التحمل من الزوج، يُخْلِف قدرةَ [الزوجة] (2)، والتزامَ السيد بسبب الملك. وذهب بعض الأصحاب إلى محاولة الفرق، ولا يكاد ينقدح، ولكن [الذي] (3) ذكروه أن الحرة في النكاح أثبت من الأمة، ولذلك (4) يحتكم الزوج عليها -إذا وفاها حقوقها-[بالمسافرة] (5)، واستغراق ساعات الليل والنهار، [في حق] (6) المستمتع، والأمر في الأمة على خلاف ذلك، فلما ضعف تسلّطُ الزوج على الأمة، بقي حق التحمل بحق الملك، وهذا تكلّف. ومثله لا يوجب قطعاً. ولكن الأولى التنبيه على أمثال ذلك بترتيب الخلاف، على الخلاف. 2249 - ونحن الآن ننظم [مسائل] (7) يجري فيها الاختلاف، ويترتب البعض منها على البعض. فالحرة الموسرة إذا أعسر زوجها، فهل عليها إخراج الفطرة عن نفسها؟ فعلى قولين. وإن كان زوجها مكاتباً، وقلنا: لا يلزمه الفطرة عن نفسه وزوجته، فالحرة هل تُخرج عن نفسها؟ فعلى قولين [مرتبين] (8) على الصورة الأولى، والأخيرة أولى

_ (1) في (ط): عن. (2) في الأصل: الزوج. (3) ساقطة من الأصل. (4) في (ط): وكذلك. (5) ساقطة من الأصل. والمراد استتباعها عند سفره. (6) في الأصل: بحق. (7) في الأصل: مسألة. (8) ساقط من الأصل.

بإلزامها؛ لانحسام إمكان التحمل، فكأن لا سبب في التحمل. [و] (1) إذا زوج المولى أمته من معسر، فوجوب الفطرة على السيد على قولين مرتبين على إعسار زوج الحرة، وهذه الصورة أوْلى بالالتزام لضعف الزوجية، وقوة الملك. فإن زوجها المولى من عبدٍ أو مكاتب، فقولان مرتبان على الصورة الأخيرة، وهذه الصورة أولى بإيجاب الفطرة لتناهي الضعف في الزوج والزوجة، واستمرار الملك. فرع: 2250 - إذا زوج السيد أمته من حُر وسلّمها إليه، وجبت النفقة، والفطرة على الزوج. وإن كان لا يسلمها إلا بعد الفراغ عن الخدمة، ففي وجوب النفقة خلافٌ، سيأتي ذكره في النفقات، والفطرة مرتبة على النفقة، فإن أوجبنا النفقة على الزوج، أوجبنا الفطرة عليه، وإن لم نوجب النفقة، لم نوجب الفطرة، وعلى السيد إخراجُها عن أمته، فإنا إذا لم نوجب النفقة على الزوج، أوجبناها على السيد. ومن أصحابنا من قال: النفقة بينهما، [فالفطرة إذن بينهما] (2) كالعبد المشترك بين شريكين. فرع: 2251 - العبد إذا تزوج بإذن مولاه، فإنه ينفق على زوجته من كسبه، ولا خلاف أنه لا يخرج الفطرة عنها، فإن قال قائل: كسب العبد ملك السيد، فإذا جعلتموه متعلَّقاً لنفقة زوجته، فاجعلوه متعلَّقاً لفطرتها؛ فإن الفطرة تنحو نحو النفقة، قلنا: النفقة تلزمُ ذمةَ العبد، ولكن لما كان النكاح بإذن المولى، اقتضى الإذنُ في الالتزام إذناً في الأداء، ولا محل إلى ذلك أقرب من كسب العبد. أما الفطرة؛ فإنها على من يلزمه النفقة، والعبد ليس من أهل التزام الفطرة، والسيد لم يلتزم نفقةَ زوجةِ عبده، حتى تتبع الفطرةُ النفقةَ. فليفهم الناظر ما يمرّ به. 2252 - ولو ملَّك السيد عبدَه شيئاًً -على قولنا بصحة التمليك- فليس للعبد أن يستقل بإخراج فطرة زوجته عنه (3)، ولو قال له: ملكتك ذلك، وأذنت لك في إخراج

_ (1) مزيدة من (ط). (2) ساقط من الأصل. (3) قد كررنا أن (عن) تاتي مرادفة لـ (مِنْ).

الفطرة، فقد ذكر شيخي في ذلك وجهين، وهو عندي يترتب على ما تقدم في زوجة المكاتب، وما نحن فيه أولى بأن لا يجب؛ فإن العبد لا استقلال له أصلاً، وليس من الفقه النظرُ إلى نفوذ تبرع العبد على قول الملك، قولاً واحداً، مع اختلاف القول في تبرع المكاتَب، فإن ذلك لسبب يشير إلى استقلال المكاتب، وضعف إذن المولى. فإذا استهل الهلال، ثم رام السيد أن يرجع، لم يجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن الاستحقاق إذا ثبت، فلا رَفع له، وهذا بمثابة [لزوم] (1) تعلق النفقة بالكسب. والوجهُ عندنا القطع بأنه لا يجب عليه إخراج الفطرة عن زوجته. ولو ملكه مالاً، والتفريع على ثبوت الملك، وأذن له في أن يخرج فطرةَ نفسه عما ملكه، فلا نجعله ملتزماً للفطرة، حتى يتوجه عليه الخطاب بها؛ فإن ذلك من [مؤن] (2) الملك. والسيد هو الأصل في توجه الخطاب عليه، فلا يجد سبيلاً إلى إزالة الخطاب عن نفسه، ولو أخرج العبد بإذن المولى الفطرةَ عما ملكه، كان ذلك رجوعاً من السيد في ملكه، ورداً له إلى جهة الفطرة. فرع: 2253 - إذا غاب العبدُ، وانقطع خبره، واستهل الهلال، فهل يلزمه إخراج الفطرة عنه؟ ذكر الأئمة في ذلك قولين: أحدهما - أنها لا تجب؛ لأن الأصل براءة الذمة. والثاني - أنها تجب؛ فإن الأصل بقاؤه، وهذا مستدام إلى تحقّق وفاته. وعلى نحو هذا ذكر الأئمة قولين في أن العبد الذي انقطع خبره إذا أعتقه المظاهر عن كفارته، فهل يحل له الإقدام على الوقاع أم لا؟ ففي قولٍ يحل؛ بناء على [الأخذ بحياته، وفي قولٍ لا يحل بناء على] (3) اشتغال ذمته بالكفارة، والمصير إلى اشتراط ظهور براءتها في حل الوطء. وقال الأصحاب في هذا النوع: إنه من تقابل الأصلين، وهذا مما يستهين به

_ (1) زيادة من (ط). (2) في الأصل: فوت. (3) ساقط من الأصل.

الفقهاء، وهو جزء من مغمضات مآخذ الأدلة الشرعية، وكيف يستجيز المحصل اعتقادَ تقابل [أصلين] (1) لا يترجح أحدهما على الثاني، وحكماهما النفيُ والإثبات، وهذا لو فرض، لكان متاهةً ومحارة، لا سبيل إلى بتّ قولٍ فيها في فتوى أو حكم. والوجه في أمثال ذلك ما نصفه، فنقول: إن غاب غيبة قريبة، ولم يظهر انقطاعُ خبره، فالزكاة تلزم، والعتق مُجزىء، وإن كنا لا نستيقن بقاءه، وهو على مائة فرسخ (2)، فلا (3) خلاف في هذه الصورة. وإن انقطعت أخباره لعائق يقتضي مثلُه قطعَ الخبر، فالأمر عندي كذلك، وإذا انقطعت أخباره، ولا عائق يوجب قطعها، فهذا علَم على الموت، ولكن لا يجوز الحكم به في تحقيق الموت، ولا تقسم به المواريث، ولكن إذا اعتضد هذا العلَم بأصلٍ في الشرع، وهو براءة الذمة، كان ذلك مغلباً على الظن في طريق الاجتهاد، أن الذمةَ لا تشغل، وعدم ثبوت الموت متمسك للقول الآخر، فإذا لم يثبت الموت بطريق شرعي، تعين الحكم بالحياة، فإذن هذا مقام في الظنون والاستدلالات، ولا بد من رد هذه المسألة إلى الأصل المقدّم في العبد المغصوب، فإن قلنا: لا زكاة فيه، فما نحن فيه أولى بنفي الزكاة، [وإن] (4) أوجبنا الزكاة في المغصوب، ففي الذي انقطع خبره قولان. وسأجمع في ربع المعاملات إن شاء الله جميعَ المسائل التي خرّجها الفقهاء على تقابل الأصلين. ومما يجب التنبّه له أن خبر الحياة إذا انقطع، فقد يظن الظان أن الموت لو كان، لاستفاض الخبر به، فإذا لم يستفض، لم يتحقق القول بغلبة الظن في الموت، وهذا

_ (1) في الأصل: الأصلين. وعبارة (ط): اعتقاداً يقابل أصلين. (2) ساقطة من (ط). (3) في الأصل، و (ط): ولا. وهذا تقدير منا. (4) في الأصل: فإن.

تلبيس؛ فإن الذي لا يُرْمق (1) قد لا يتحدث بموته، ولكنه يعتني بإنهاء أخبار نفسه، فإذا انقطعت، كان ذلك مسلكاً في الظن بموته. فصل قال: "ولا بأس أن يأخذها بعد أدائها ... إلى آخره" (2). 2254 - غرض الفصل أن من فضل عن قوته صاع، فأخرجه، فلا يمتنع أن يأخذ الصدقةَ، وذلك أنه لا يستدعي وجوبُ هذه الصدقة غِنىً ينافي المسكنةَ والفقر، والزكاة المنوطة بالغنى وهي زكاة المال قد تجب على من يحلّ له أخذ الصدقة؛ وذلك أن الصدقة تؤخذ بجهاتٍ لا يشترط فيها المسكنة، فإن من لزمه دين عن حَمالة يؤدي ما تحمّله من الزكاة، وإن كان غنياً، وابن السبيل يلتزم زكاة ماله الغائب، ويخاطب بإخراجها، ويأخذ من سهم أبناء السبيل، وفي العامل كلام سيأتي. فهذا وجه. وقد يملك الرجل عشرين ديناراً وهو من المساكين، فلا يمتنع على الجملة التزامُ الزكاة وأخذُها. ...

_ (1) لا يُرْمق: بضم فسكون كما في (ط): أي لا يرى، ولا ينظر، والمراد هنا بالذي يُرمق ذو المكانة والمنزلة بين الناس، فمن لم يكن كذلك يموت ولا يسمع به أحد. والمعنى أن انقطاع الخبر، ليس دليلاً على الموت في حق كل أحدٍ، فهناك (غير المرموق) أي حامل الذكر والشهرة، الذي يموت ولا يتحدث بموته أحد. (2) ر. المختصر: 1/ 255.

باب مكيلة زكاة الفطر

باب مكيلة زكاة الفطر قال: "وأي قوتٍ كان الأغلب ... إلى آخره" (1). 2255 - مضمون الباب يحصره فصلان: أحدهما - في الجنس المخرج في الفطرة، فالرجوع فيه إلى الخبر، وقد استوعب الخبر معظم الأجناس، فإن شذ شيء، فهو في معنى المنصوص عليه. والضابط أن المجزىء ثمرٌ وحَب، أما الثمر، فالتمر، والزبيب. والحبّ كل مستنبت مقتات في الرفاهية، وقد ضبطت ذلك على أبلغ وجه في باب المعشَّرات، وإن أحببنا قلنا: يجزىء في الفطرة كل معشَّر. هذا هو المذهب. وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أو صاعاً من أَقِط"، وليست هذه الرواية على الحد المرتضى في الصحة عند الشافعي، وليست على حد التزييف عنده، وإذا (2) اتفق ذلك، تردد قوله، فهذا منشأ اختلاف القول، ثم ألحق الأئمة بالأقِط الجبنَ واللبنَ نفسَه؛ فإنه أولى معتبر فيما يعتمد [للاقتيات] (3) وأما السمن، فلا؛ فإنه ليس قوتاً، وكذلك المَصْل (4)، وإنما القوت اللبن، أو ما ينعقد منه، من غير تفصيل، فالمصل مخيض (5)، والسمن أحد جزئي اللبن، والاقتيات

_ (1) ر. المختصر: 1/ 255. (2) (إذا) بمعنى (إذْ)، وهو استعمال صحيح، غفل عن التنبيه إليه أكثر النحويين، قاله ابن مالك في شواهد التوضيح: 62، 63. (3) في الأصل: الاقتيات. (4) المصل: وزن فلس: عصارة الأقِط، وهو ماؤه الذي يُعصر منه حين يُطبخ، قاله ابن السكيت (المصباح). (5) مخيض: فعيل بمعنى مفعول. من مخض اللبن إذا حركه ليستخرج زبده. (المصباح والمعجم).

يحصل عند اجتماعهما خلقة (1). وذكر العراقيون قولين في اللحم، وهذا فيه بعدٌ؛ فإن الإلحاق بالأقِط فيما قدمناه يقرب من إلحاق الشيء بالشيء إذا كان في معناه، أو يتصل بالتشبيه الظاهر، واللحم بعيد، ولكن كأنهم اعتقدوا الأقِط أصلاً للنص فيه، وترقَّوْا منه إلى اللبن؛ لأنه يقوت، ثم قالوا: إنما يقوت من حيث إنه عصارة اللحم؛ فارتقَوْا منه إلى اللحم. فهذا إجمال القول الكلي فيما يجري في الأجناس. 2256 - والكلام بعد ذلك في الأشخاص والبلاد: أولاً - ذكر بعضُ أصحابنا قولاً مطلقاً: إنه يجزىء الصاع من كل جنس من هذه الأجناس، من كل شخص في كل حالٍ، وهؤلاء تمسكوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "صاعاً من تمر أو صاعاً من بر أو صاعاً من شعير"، وأظهر معاني (أو) التخيير، وهذا غير سديد؛ فإن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم [يُورده] (2) مخيراً، وإنما أراد الإشارة إلى معظم الأجناس (3 في أحوالٍ مختلفة 3)، وهذا يضاهي قولَه تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]. فلا عود إلى هذا القول. والمذهب المبتوت أن القول في إجزاء هذه الأجناس يختلف باختلاف الأحوال. ثم اختلف أئمتنا فيما حكاه العراقيون من (4) المعتبر في ذلك، فقال بعضهم:

_ (1) في (ط): صلفه. (2) في الأصل: لم يرده. (3) ما بين القوسين ساقط من (ط). (4) كذا في الأصل، وهي صحيحة؛ لأن (مِنْ) تاتي مرادفة لـ (في) قاله ابن هشام في مغني اللبيب: 424. وأما (ط) فاختارت (في)، ولكن الصواب ما جاء في الأصل لسببين: الأول: أن (ط) منسوخة بخط حديث في القرن الرابع عشر الهجري. =

المعتبر القوت الغالب في البلد، حتى لو عم البرُّ لم يجزه غيرُه (1). وإن كان في البلد من يليق به اقتيات الشعير. وإن عم الشعير أجزأه، عن الكافة، وإن كان يليق بالأغنياء أن يقتاتوا البر، فهو أوجه. ومن أصحابنا من قال: يُخرج كل (2) واحد ما يليق بمنصبه في الاقتيات، فعلى هذا لا نظر إلى ما يعم في البلد، وإنما النظر إلى ما يليق بحال كل شخص. 2257 - التوجيه: من اعتبر حالَ كل شخص، فوجهه أن عموم أمر لا يليق بحال الشخص لا يغير منصبه، وكما يعتبر وِجدانه وفِقدانُه (3) الفاضل مِن القوت، فينبغي أن يُعتبر ما يختص بحاله. ومن اعتبر القوت الغالب رأى النظر في تفاصيل أحوال الناس بعيداً، والأحوال تحول، ومراتب الناس تتبدل وتزول، فالوجه أن يلحق هذا بقاعدةٍ كلية جسيمة، لا يُعرَّج فيها على التفاصيل، ولا يعدَم الناظر أمثلة ذلك. التفريع: 2258 - إذا أوجبنا جنساً وأخرج جنساً أعلى منه، قُبل، لا شك فيه. وإن أخرج جنساً أدنى [مما] (4) وظفناه عليه، لم نقبله منه. وكان شيخي يرى البرّ أعلى الأجناس، ويقول: إن اكتفينا بالرز في موضع، أجزأ البر فيه، وإن كانت قيمة الرز أكثر، فلا نظر إلى القيم، وإنما النظر إلى شرف القوت، وقد تغلو قيمةُ الشعير بسببٍ، ولا يقوم مقام البر، وإن كانت قيمةُ البر دون قيمته. والبر أعلى من التمر والزبيب، والتمر والزبيب كان يتردد فيهما، ولعل الأشبه تقديمُ التمر. والتمر والزبيب إذا أضيفا إلى الشعير، فالأمر فيه متردد، أما التمر فكان يقدمه على الشعير، ويتردد في الزبيب والشعير.

_ = الثاني: أن القاعدة الصحيحة أنه إذا اختلفت نسختان، وكانت لغةُ إحداهما غير مألوفة والأخرى مألوفة مأنوسة، فالأولى هي الأحق بالاعتماد، طالما كان لها وجه في الصحة؛ وذلك أن الناسخ يميل إلى مألوفه ومعتاده، فيغير ما يظنه مخالفاً للصواب. (1) ساقطة من (ط). (2) عبارة (ط): "يخرج عن كل واحد". (3) في (ط): وجدناه، وفقده. (4) في الأصل: منه.

فإن فرض استواء قوتين، والتفريع على اتباع القوت الغالب في البلد، تعيّن الغالب؛ لاختصاصه بما هو المعتبر في الباب. ولو اعتبرنا كل شخص بنفسه، وكان يليق بمنصب [الواجد]، (1) البرُّ، غير أنه كان يجتزىء بالشعير، [لم يجزئه إلا البر. ولو كان يليق به الشعير، غير أنه كان لا يجتزىء بالشعير] (2) ويتنعم باقتيات البر، فأراد أن يخرج الشعير، فهل يجزئه ذلك؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجزئه؛ نظراً إلى ما يعتاده، ولعل الأصح أنه يجزئه الشعير؛ فإن المتعة (3) المعتبرةَ بحال الزوج وغناه، لا تعتبر بتخرّقه (4) في السخاء، وإنما يعتبر ما يليق بحاله وبماله. ولو أخرج نصف صاع من شعير، حيث يجزىء الشعير، ونصفَ صاع من بُر، فالمذهب أنه لا يجزئه؛ فإن النصوص متبعة، والتبعيض في الجنس يخالفها. فلو قال قائل: لو أخرجت البقية شعيراً، قبلتموه، فاقبلوا أعلى الجنسين. قلنا: لا مبالاة بهذا مع بناء المذهب على الاتباع، ومصيرِنا إلى أن ديناراً لا يقوم مقام درهم. وأبعد بعضُ الأصحاب، فحكم بالإجزاء، وهذا غير معدود من المذهب. ولو استوى جنسان، امتنع التبعيض، بلا خلاف، وإنما الخيال الذي قدمته فيه إذا كان يجزىء الأدنى، ويقبل الأعلى، فإذا جرى التبعيض بينهما، ففيه ما قدمناه. ثم لا مَدْخل (5) للأبدال كما تمهد في أصول الزكوات. 2259 - ولا يُجزىء (6) مُسوّس معيب، وإذا حكمنا بإجزاء الأَقِط، فلا يجزىء المملّح الذي يظهر الملح عليه، لأن الملح غيرُ مجزىء، وهو ينقص من مكيلة

_ (1) في ط: واحد. (2) ساقط من الأصل. (3) عبارة (ط): فإن الشعير هو المعتبر بحال المخرج. (4) تخرق في الكرم اتسع. (معجم). (5) في (ط): لا تدخل الأبدال. (6) في (ط): يجتزىء بمسوس.

الأقِط، فإن أخرج مقداراً زائداً، وكانت (1) الزيادة تقابل مقدارَ الملح، فلا يجزىء أيضاًً؛ لأن جوهر الأقِط قد فسد بالملح، وإن كان التمليح غير مفسد، فالأقِط مجزىء، على شرط مراعاة القدر في مكيلة الأقِط. والرجوع في ذلك إلى أهله. ولا يجزىء الدقيق، وهو في حكم البدل، وذكر بعضُ أصحابنا في الدقيق قولينْ، أخذاً من الأقِط المضاف إلى اللبن، حكاه العراقيون، وهذا مزيف، لا أصل له. هذا قولنا في الأجناس. 2260 - فأما المقدار، فصاع من كل جنس، والصاع أربعة أمداد، والمُدّ رطل وثلث بالبغدادي. فرع: 2261 - إذا كان بين رجلين عبد، فعليهما إخراج الفطرة عنه، فإن قُلنا (2) الرجوع إلى القوت الغالب في البلد، فالمخرج من جنسه، ولا يختلف باختلاف أحوال الشريكين، وإن اعتبرنا كلَّ إنسان بنفسه، وكان قوت أحدهما شعيراً وقوت الآخر برّاً (3)، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن كل واحد منهما يُخرج نصف صاع من قوته، ولا يضر الاختلاف، فيُخرج هذا نصف صاع من شعير، وهذا نصف صاع من بر، وهو اختيار ابن الحداد، وأبي إسحاق المروزي، ووجهه أن كل واحد في نصفه بمثابة مالك عبد تام؛ فاعتبر حال كل واحد، ومن أصحابنا من منع هذا، وهو اختيار ابن سريج، نظراً لاتحاد العبد. وإنما كان يتجه اعتبار كل واحد لو كان مُخرَجه (4) صاعاً كاملاً، فإذا لم يكن كذلك؛ فيجب أن ننزلهما منزلة شخص واحد، فإن جوزنا التبعيض، فلا كلام، وإن منعناه، لم نقل لمن قوته البر أن يخرج الشعير موافقةً لمن قوته الشعير، بل على من

_ (1) في (ط): أو كانت. (2) في (ط): كان. (3) في (ط): بسراً. (4) في (ط): يخرج.

قوته الشعير أن يخرج نصف صاع من بر، ولا وجه له غيره، وإن كان يجر إجحافاً، وبهذا يتجه ما اختاره ابن الحداد. 2262 - ثم ذكر الشيخ في الشرح مسألتين في أحكام التبعيض: إحداهما - أنه قال: إذا ملك الرجل أربعين من الغنم: عشرون منها معزاً، وعشرون، ضأناً، فلا يجزىء نصف ماعز، ونصف ضأن، وفاقاً. والتفصيل فيه مذكور في صدقة النَّعم. ولو خلط رجل عشرين من المعز، بعشرين من الضأن لآخر، وثبتت الخلطة على شرطها (1)، فالذي ذهب إليه الأصحاب، أنهما يُخرجان من الأربعين ما يخرجه مالك هذه الأربعين لو انفرد. وحكى الشيخ وجهاً غريباً أن لمالك المعز أن يخرج نصفاً من ماعز، ومالك الضأن يخرج نصفاً من ضأن، لمكان تميز المِلكين، وهذا في نهاية الضعف، وهو مفسدٌ لقاعدة الخلطة. ومما ذكره في أحكام التبعيض أن طائفةً من المُحْرمين إذا اشتركوا في قتل ظبية (2)، وسنبين [أن] (3) كفارتها على التخيير، فلو أخرج بعضُهم جزءاً من حيوان، وبعضهم الطعامَ، وصام بعضهم نسبة حصته، قال: ذلك مجزىء. [ويجعل] (4) كأن كل واحد منهم انفرد بإتلاف بعضٍ من الظبية. ولو (5) كان كذلك، لتخير بين الخلال الثلاثة. ولو انفرد محرمٌ بقتل ظبية، فهو بالخيار بين الخلال الثلاث، فلو بعّض الأمر، فأخرج للبعض قسطاً من حيوان، وللبعض طعاماً، وصام عن البعض ففي إجزاء ذلك وجهان، ذكرهما الشيخ. ولا خلاف أن من لزمته كفارةُ اليمين، فأراد أن يعتق قسطاً من رقبة، ويطعمَ ثلاثة

_ (1) في (ط): شرطهما. (2) هذه هي المسألة الثانية من المسألتين اللتين أشار إليهما قبلاً. (3) ساقطة من الأصل. (4) ساقطة من الأصل. (5) في (ط): لو (بدون واو).

ويكسوَ آخرين، على نسبة تتلفّق من [الخلال الثلاث] (1)، فلا يجزىء ذلك، وإنما اتجه الخلاف في فدية (2) الصيد؛ من جهة أن حكم الغرامة غالب عليه، ولا يمتنع في حكمها التبعيض، إذا ثبت التخير في الأصل. فصل 2263 - ومصرف صدقة الفطر، مصرف زكوات الأموال، فلا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية، وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى أن الفطرة يُنحى بها نحو الكفارة، والإطعامِ فيها. ْوالمد في الشرع طعام شخصٍ، فيبعد تقديرُ صرفه إلى أشخاص، وواجب الفطرة صاعٌ، فيبعد تنزيله منزلة الكفارة. ثم المتبع النص، والصدقات مضافة إلى الأصناف، والفطرة زكاة، وطعام الكفارة مضاف إلى المساكين. والله أعلم. ...

_ (1) في الأصل: الحال شيء تام. (2) في (ط): بدنة.

باب الاختيار في صدقة التطوع

باب الاختيار في صدقة التطوع 2264 - مقصود الباب الكلامُ على خبرين: أحدهما - قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" (1) وهذا يشير إلى أن الفقير لا يُرى له التصدق بالنزر الحاصل في يده. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في خبر آخر، لما سئل عن أفضل الصدقة، فقال: "جَهد المُقِلّ" (2) قال الأئمة: الخبران منزلان على أحوال الناس: فمن رسخ دينُه، ولاح يقينه، وظهرت ثقته بربه، فلا ينبغي له أن يدّخر شيئاً لغدٍ، ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت بلال، ورأى فيه كسرة خبز، تمعرت وجنتاه، وقال: "أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً" وإن استشعر الرجل ضعفاً في نيته، فلا نؤثر له وهذه حالتُه أن يتصدق بالقليل الذي معه، ويبقى بعد التصدق جزوعاً، سيء الظن. ...

_ (1) جزء من حديث سبق عزوه، والكلام عليه. (2) حديث: "جهد المقل ... " رواه أبو داود عن أبي هريرة وغيره: الزكاة، باب (40) الرخصة في ذلك، ح 1677، وأخرجه النسائي: كتاب الزكاة، باب (49) جَهْد المقل، ح 2527، وأخرجه الدارمي في الصلاة (135)، وأحمد: 2/ 358، 3/ 412، 5/ 178، 179، 265.

ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوالٍ أبو عمرو بن العلاء المتوفي سنة 154هـ

كتاب الصيام

كتاب الصيام 2265 - الأصل في وجوب الصوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] قيل: أراد بها أيامَ رمضان، فذكرها على صفةِ التقليل، تهويناً، وتقريباً، وجرى قوله شهر رمضان تفسيراً لها وبياناً، وقيل: المراد بالمعدودات أيامٌ من كل شهر، وعن معاذٍ رضي الله عنه، أنه قال: " فُرض صوم يوم عاشوراء، ثم نسخ وجوبه، وفُرض صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، وهي الأيام البيض، ثم نسخت فرضيتُها بصوم رمضان " (1). فعلى هذا الأيام المعدودات هي الأيام الثلاثة، وصوم رمضان ناسخٌ لها. فصل قال: " ولا يجزئ لأحدٍ صيامُ فرضٍ ... الفصل " (2). 2266 - الصومُ قُربةٌ مفتقرةٌ إلى النية، ولا فرق بين نوعٍ ونوعٍ، فصوم رمضان إذاً لا يصح إلا بالنية، خلافاً لزفر (3). وكل صومٍ في يومٍ عبادةٌ على حيالها، مفتقرةٌ إلى النية. والنية الواحدة في أول الشهر لا اكتفاء بها، خلافاً لمالك (4). ثم لو نوى صوم

_ (1) حديث معاذ لم أجده إلا عند البيهقي: 4/ 200، باب ما قيل في بدء الصوم. (2) ر. المختصر: 2/ 2. واللفظ في المختصر: " ولا يجوز ". (3) زفر بن الهذيل بن قيس العنبري. من كبار أصحاب أبي حنيفة، وأحد العباد، والمحدِّثين، غلب عليه الرأي. توفي: 158 هـ. (شذرات الذهب: 1/ 243، الأعلام) وعن رأي زفر في عدم اشتراط النية انظر مختصر اختلاف العلماء: 2/ 9 مسالة: 488. (4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 424 مسألة: 623، جواهر الإكليل: 1/ 148.

أيام الشهر، فهل يحصل له صوم اليوم؟ كان شيخي يتردد فيه. وفيه إشكال واحتمال. ومحل النية القلب، ولا أثر للنطق فيها وفاقاً، وإنما التردد في نية الصلاة والحج. وفي الزكاة خوضٌ أيضاً، فأما الصوم، فعماد النية فيه الضمير، وقد قدمت في كتاب الصلاة ماهية النية، فلا حاجة إلى إعادتها. والكلام وراء ذلك يتعلق بفصلين: أحدهما - في كيفية النية، والثاني - في وقتها. [فصل] (1) 2267 - فأما كيفية النية، فالتعيين لا بد منه [عندنا] (2) ولو أطلق الصومَ، لم ينعقد صومُه، ولم يحصل فرض رمضان، وإذا أصبح كذلك، كان مفطراً يتعين عليه الإمساك. وقال أبو حنيفة (3) أداء صوم رمضان لا يفتقر إلى تعيين النية؛ لأنه متعين شرعاً، والقضاء يفتقر إليه، وكذلك المنذور المطلق، والنذر المعيّن عنده كأداء رمضان. ومعتمدنا في المذهب أن تعيّن الشيء شرعاً غيرُ كافٍ، بل العبد متعبد بتجريد القصد إلى ما عيّنه التكليف عليه، ولو كفى تعيين التكليف، لسقط أصل النية، كما ذهب إليه زفر. وفي [التعرض] (4) للفرضية وجهان، سبق نظيرهما في كتاب الصلاة، ولا بد من التعرض للأداء، ومن ضرورة التعرض لحقيقة الأداء إخطار فرض هذا الوقت بالقلب، وتكلف بعض المتأخرين، وقال: يجب أن ينوي أداء رمضان هذه السنة،

_ (1) من عمل المحقق. (2) ساقط من الأصل. (3) ر. المبسوط: 3/ 59، تحفة الفقهاء: 532، رؤوس المسائل: ص 225، مسألة: 122 (4) في الأصل: التعريض.

وهذا عندي غير محتفل به، فإنما هو [تحريف] (1) في الفهم؛ فإن معنى الأداء هو المقصود، ومن ضرورته التعرض للوقت المعين، ولو أجرى الإنسان هذه الألفاظ في ضميره، ولم يلح (2) في فكره معانيها، لم يكن ناوياً؛ فإن النية قصدٌ إلى معنىً، لا إلى كيفية لفظٍ [عنه] (3). [فصل] (4) 2268 - فأما وقت النية، فلا يصح عندنا صومٌ مفروض أداء كان، أو قضاء، أو نذراً، أو مفروضاً شرعياً، بنيةٍ تنشأ نهاراً، بعد سبق جزء منه. ثم المذهب أن وقت نية صوم الغد من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر بعيداً: أنه يجب إيقاعها في النصف الأخير من الليل، أخذاً من وجهٍ يوافق هذا في الأذان لصلاة الصبح. وهذا لا أعده من المذهب. ولو قرن النية بأوّل جزءٍ من النهار، فأتى به مع أول الفجر، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الصوم يصح؛ فإن النية اقترنت بأول العبادة، وهو محلها في العبادات جُمَع. والثاني - لا يصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " (5) والتبييت قصدٌ يُنشأ ليلاً، وأيضاً فليس في القوة البشرية إدراك أول الفجر. وسيكون لنا إلى ذلك عودة، بعد هذا.

_ (1) في الأصل: تحرّزن. (2) في (ط): يكن. (3) في الأصل: عينه. (4) من عمل المحقق. (5) حديث: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام ... " بهذا المعنى رواه أحمد: 6/ 287، وأبو داود: الصوم، باب النية في الصيام، ح 2454، والنسائي: الصيام، باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك، ح 2333، والترمذي: الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، ح730، وابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل، ح 1700، والدارقطني: 2/ 172.

فرع: 2269 - إذا نوى في أول الليل، ثم أقدم على مفطرٍ بعد النية في الليل، لم يقدح ذلك في النية على ظاهر المذهب؛ لأن ما أتى به غيرُ مناقضٍ للنية؛ فإنه نوى صوم غده، ولو وجب الانكفاف عن المفطرات بعد النية، لصار جزء من الليل ملتحقاً بالصوم. وذهب أبو إسحاق المروزي إلى أن النية تفسد بمفطر بعدها، والسبب فيه أن النية تنفصل عن العبادة بمناقضٍ، وليس ذلك صوماً، فإنه لو جدد نيةً بعد ذلك، أجزأه الصوم نهاراً، إنما المحذور انفصال النية عن أول العبادة. فإن قيل: نفس الليل فاصلٌ، قلنا: الضرورة سوغت احتمالَ هذا الفصل؛ فإن تكليفه قرْنَ النية بأول الصوم عسر، فاحتمل. فأما الإقدام على مفطر بعد النية، فمما لا ضرورة (1) فيه. وقيل رجع أبو إسحاق عن هذا عامَ حجِّه، وأشهد على نفسه. وذكر العراقيون أمراً آخر، قريباً مما ذكرناه، فقالوا: من أصحابنا من قال: من نوى في الليل، ثم نام كما (2) نوى، ولم ينتبه إلى طلوع الفجر، صح صومه، ولو تنبه، لزمه تجديد النية قبل الصبح، وكأن هذا القائل يبغي تقريبَ النية من أول العبادة جهده، ولكنه يعذر النائم، فإن المنع من النوم وتكليفَ السهر إلى آخر الليل، يجر ضرراً بيناً. نعم إذا تنبه وتذكر، فلا عذر في تركه تجديدَ النية. وهذا بعيدٌ، لا أصل له، ولكنهم نقلوه وزيفوه. وفي كلامهم تردّدٌ في أن الغفلة هل تتنزل منزلة النوم. والمذهب اطراح هذا الأصل بالكلية. وكل ما ذكرناه من اشتراط التبييت، فهو في الصوم المفروض. 2270 - فأما صوم التطوع، فيصح بنية تنشأ نهاراً قبل الزوال، ومعتمد المذهب الأحاديث، منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف الغدوات على حُجر نسائه، فإن

_ (1) كذا في النسختين، ولعلها: " فمما لا ضرر فيه". (2) أي عندما نوى.

وجد طعاماً أكله، وإن لم يجد، قال: إني إذن أصوم (1). والذي يقتضيه القياس تنزيلُ النفل منزلة الفرض، في وقت النية، ولكنا صرنا إلى ما صرنا إليه للخبر. ولو جرت النية بعد الزوال، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا يصح الصوم؛ لمضي معظم النهار خلياً عن النية، وللمعظم أثر في العبادات، على حال. والقول الثاني- أن الصوم يصح؛ فإنه متطوَّع به، والمتطوِّع بالخيار إن شاء أقل، وإن شاء أكثر. فإن شرطنا بقاء المعظم، فالذي أطلقه الأصحاب في ذلك الزوالُ، ولا شك أن الزوال منتصفٌ إذا حسب الأول من شروق الشمس، فإذا حسب النهار الشرعي من طلوع الفجر، فالمنتصف يقع ضحوة. وكان شيخي يتردد في هذا، وقد تردد فيه أصحاب أبي حنيفة (2) إذ اشترطوا إيقاع النية قبل الزوال، ولعل من اعتبر الزوال، اعتبره لأنه بيّن، وضبطُ وسط الوقت مع الاحتساب من طلوع الفجر عسر. ولا خلاف أن النهي عن السواك منوط بما بعد الزوال؛ فإن المرعي [فيه] (3) ظهور الخُلوف، وهذا في الغالب يختص بما بعد الزوال. 2271 - ثم إذا صححنا صومَ التطوع بنيةٍ تنشا نهاراً، فقد اختلف أصحابنا في أن المتطوع صائمٌ من وقت نيته، أو ينعطف حكم الصوم إلى أول النهار؟ فالذي ذهب إليه القياسون أنه صائم من وقت نيته؛ فإن النية قصدٌ وعزم، ولا انعطاف لواحدٍ منهما، والمنقضي على حكمٍ لا يُتصور تقديرُ انقلابه عنه، بسبب قصدٍ لا أثر له فيه (4).

_ (1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف على حجر أزواجه .. رواه مسلم: الصيام، باب جواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر، ح 1154 وأبو داود: الصوم، باب الرخصة في ذلك، ح 2455، وابن حبان: ح 3620، والدارقطني: 2/ 175، 176. (2) ر. مختصر الطحاوي: 53، طريقة الخلاف للأسمندي: 31، مسألة 13. (3) ساقطة من الأصل. (4) ساقطة من (ط).

وذهب طوائف إلى أنه صائمٌ من أول النهار؛ فإن الصوم لا يتبعض في اليوم، وهو في حكم الخصلة الواحدة. فإن قلنا: إنه صائم من وقت النية، فلو أكل في أول النهار، ثم رام أن ينوي الصومَ بعده، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن ذلك غير سائغ، ومن اعتقد أن من أكل غداءه يومَه صائمٌ بعد فراغه عن الأكل، فهو مقتحم على الإجماع. وفي المسألة وجهٌ بعيد، أن ذلك غير ممتنع، وقد عزاه بعضُ المصنفين إلى ابن سريج وأبي زيد المروزي. والله أعلم. وكان شيخي يقول: الأكل في أول النهار يمنع إمكان الصوم بعده. وإن قلنا: الناوي نهاراً صائم من وقت نيته، لأن معنى الصوم الخَوَى والطَّوَى (1)، وإن أكل المرء في نهاره، لم يكن للصوم بعده معنى، فالخوى في أول النهار شرط (2) وقوع الصوم الشرعي بعده. وكان يذكر وجهين في أن الحيض والكفر في أول النهار إذا زالا، ووقعت النية ضحوة بعدهما، فالصوم هل يصح؛ تفريعاً على أنه صائم من وقت النية؟ وهو لعمري يقرب بعضَ القرب. فأما تصوير الصوم بعد الأكل في النهار، فهو في حكم الهزء عندنا. فرع: 2272 - إذا انعقد الصوم، ثم نوى الشارع في الصوم الخروج منه، ففي بطلان الصوم وجهان، ذكرناهما في كتاب الصلاة، وفرقنا بين الصوم والصلاة؛ فإن المصلي لو نوى الخروج على (3) جزم، بطلت صلاته، وجهاً واحداً. ثم إن قلنا: لا يفسد الصوم، فلو نوى الشارع في صوم القضاء مثلاً، قلبَ الصوم إلى النذر، فلا ينقلب إلى النذر، لا شك فيه. ولكن إن حكمنا بأن نية الخروج لا تُبطل الصومَ، فهو في الصوم الذي شرع فيه، وقَصْدُ النفل لا أثر له.

_ (1) الخوى والطوى: الجوع. (المعجم). (2) عبارة (ط): هو شرع وقوع الصوم ... (3) في (ط): عن. والحرفان يترادفان.

وإن حكمنا بأن نية الخروج تُبطل الصوم، فقَصْد الانتقال يتضمن الخروجَ عما كان فيه، فيبطل ذلك الصومَ المفروضَ، وهل يبقى الصوم نفلاً أم لا؟ فعلى وجهين، وقد سبق لهما نظائر في كتاب الصلاة، منها: أن القادر على القيام إذا تحرم بالصلاة المفروضة قاعداً، فصلاته لا تنعقد فرضاً، وهل تبطل [أم] (1) تنعقد نفلاً؟ فعلى قولين (2). وبين ما ذكرناه الآن في الصوم، وبين ما استشهدنا به تخيل فرق؛ فإن الذي تحرم بالصلاة قاعداً ليس في نيته ما يتضمن رفع النفل، والذي يقصد الانتقالَ تُشعر نيتُه بالخروج عن جميع ما اشتملت عليه النية الأولى. ولكن يجوز أن يقال: الصوم يشتمل المنتقَل إليه والمنتقَل عنه، فالتبديل على الصفات، لا على أصل الصوم. فصل قال: " ولا يجب [عليه] (3) صوم شهر رمضان حتى يستيقن [أن الهلال قد كان ... إلى آخره " (4). 2273 - اعترض على المزني في قوله: " حتى يستيقن "؛ فإن] (5) درك اليقين ليس شرطاً (6)، مع القطع بوجوب الحكم بشهادة شاهدين على رؤية الهلال. ولفظ الشافعي: " حتى يعلم أن الهلال كان " والعلم يطلق [ويراد] (7) به الظن، والمعتمد في الفصل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين " (8) وروي أنه قال

_ (1) في الأصل: أو. (2) في (ط): فيه قولان. (3) زيادة من نص المختصر. (4) ر. المختصر: 2/ 2. (5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (6) أي اعتُرِض على المزني في نقله هذا اللفظ " يستيقن " عن الشافعي. (7) في الأصل: والمراد. (8) حديث: " صوموا لرؤيته ... " رواه مسلم بلفظ: فإن أغمي عليكم، فاقدروا له ثلاثين " من حديث ابن عمر: الصيام: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، ح 1080، ورواه النسائي=

صلى الله عليه وسلم: " لا تصوموا حتى تروه ". فإن شهد على رؤية هلال رمضان ليلةَ الثلاثين من تاريخ شعبان، شاهدان عدلان، وجب القضاءُ بدخول رمضان، ولا فرق بين أن يتفق ذلك والسماء مصحية، أو يتفقَ وفي موضع الهلال علّة من سحاب، أو ضبابٍ، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه اعتبر فيما ذكره أصحابه في الإصحاء عددَ الاستفاضة (1). صائراً إلى أن انفراد معدودين، وقد تراءى الناسُ الهلال محال. وهذا غير سديد؛ فإن الهلال خفيٌّ على حال، وقد تَبْهَرُه (2) الأشعة، فهلاَّ قدّر ذلك علّةً. وإن شهد على رؤية هلال رمضان شاهدٌ واحد، ففي ثبوت الهلال بشهادته قولان: أحدهما - الثبوت، لما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: " تراءى الناس الهلالَ، فرأيته وحدي، فشهدت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام " (3) وهذا (4) القولُ معتضد بقياس جلي -لو اطرد- وهو أن التعرض لهلال رمضان يتعلق بأوقات العبادات، وقولُ العدل الواحد إذا استند إلى المشاهدة مقبولٌ في العبادات؛ اعتباراً بأوقات الصلوات. وهذا مع ظهوره يخرمه اشتراطُ العدد في رؤية هلال شوال، والأصحاب في طرقهم متفقون على اشتراط العدد في هلال شوال، إلا شيئاً ذكره صاحب التقريب، فإنه حكى عن أبي ثور مصيرَه إلى أن هلال شوال يثبت بقول العدل الواحد، ثم قال:

_ =بلفظ إمام الحرمين: الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد، ح 2116، وبنحوه أبو داود: الصوم، باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال، ح 2338، وأحمد: 4/ 321، والدارقطني: 2/ 167. (1) ر. رؤوس المسائل: 229 مسألة: 125، بدائع الصنائع: 2/ 80. (2) " تبهره الأشعة ": أي تغمره، يقال: بهر القمر النجومَ إذا غمرها بضوئه. (المعجم). (3) حديث ابن عمر: " تراءَى الناسُ الهلال ... " رواه أبو داود: الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤيا هلال رمضان، ح 2342، والدارمي: (2/ 9 ح 1691)، والدارقطني: 2/ 156، وابن حبان: 5/ 187 ح 3438، والحاكم: 1/ 423، والبيهقي: 4/ 212 (ر. التلخيص: 2/ 359 ح 880). (4) في الأصل: فهذا.

وهذا لو قلت به، لم يكن بعيداً. وما ذكروه وإن كان غريباً، فهو متجه جداً في القياس، لما ذكرناه من أن الأخبار عن الهلال تعرض لوقت العبادة، فهلال رمضان به يُستبان دخول وقت العبادة، وهلال شوال به يُستبان خروج وقت العبادة. فإن اعتقد معتقدٌ ذلك، جرى المعنى سديداً. وإن جرينا على ظاهر المذهب، فلا يجري توجيه قول الاكتفاء بالشاهد الواحد من طريق المعنى، وإنما مستنده الأثر والخبر، مع التمسك بطرفٍ من الاحتياط للعبادة، وهذا يوجب الفرق بين [الهلالين] (1)، وإليه أشار عليٌّ رضوان الله عليه، إذ قال: " لأن أصوم يوماً من شعبان أحبُّ إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان " (2). وإنما قال ذلك لأنه كان يبالغ في الاحتياط في الشهادة، حتى نقل عنه تحليفُ الشهود، وكان لا يحتاط [في هذا لرمضان] (3) ويقول ما روينا عنه. والشهادة شهادة حِسبة، لا ارتباط لها بالدعاوى. 2274 - وإن قلنا: لا يشترط العدد، فقد اختلف أئمتنا في أنه يُنحى به مع الاكتفاء بالواحد نحو الشهادات، أو ينحى به نحو الروايات: فقال بعضهم: هو رواية على هذا القول، بدليل الاكتفاء بالواحد، وقال آخرون: هو شهادة، والمعتمد في الاكتفاء بالواحد ما قدمناه من الأثر والخبر، وهذا القائل يقول: مراتب الشهادات في العدد، والصفة، متباينة، فقبول الواحد على شرط الشهادة أدنى المراتب، واشتراط الأربعة أعلاها، فإن جعلناه شهادةً، اشترطنا الذكورة، والحرية، ولفظَ الشهادة، والإقامة في مجلس القضاء، وإن جعلناها روايةً [قبلناها] (4) من الأَمَة مع ظهور الثقة، ولم نشترط لفظَ الشهادة، وقلنا: لو أخبر واحدٌ الناسَ بالرؤية، لزم

_ (1) في الأصل: الهلال. (2) أثر علي رضي الله عنه رواه الشافعي في الأم: 2/ 94، والدارقطني: 2/ 170، والبيهقي: 4/ 212 (ر. التلخيص:2/ 402). (3) بياض في الأصل. (4) في الأصل: قبلنا، و (ط): قبلناه.

اتباع قوله، وإن لم يذكره بين يدي قاضٍ، وهذا وإن كان يعضده المعنى فنراه بعيداً عما جرى عليه الأولون في ذلك. ثم في قبول الصبي المميز الموثوق به على وجه الرواية وجهان، مبنيان على قبول رواية الصبيان. 2275 - وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع تردّداً للأصحاب، في أن الهلال هل يثبت بالشهادة على الشهادة؟ وقال: الأصح القطعُ بثبوته، ومن الأصحاب من خرّجه على الخلاف المشهور في ثبوت حقوق الله بالشهادة على الشهادة؛ من جهة أن أمر الهلال يتعلق بمحضِ حق الله تعالى. وهذا بعيدٌ؛ فإن سبب الاختلاف في الحدود كونُ المشهود به عقوبةً لله تعالى، معرضة للسقوط بالشبهات، والأمر في هلال رمضان على نقيض ذلك. ومما أجراه في هذا أنا إذا قلنا: يُسلك به مسلك الرواية، وحكمنا بأنه يثبت بقول الفرع، مستنداً إلى الأصل، فهل يُشترط في الفرع عددٌ؟ فقال: المذهب أنه لا يشترط؛ جرياً على حكم الرواية، وقياسِها. وحُكي عن بعض الأصحاب اشتراطُ العدد في الفرع، وزعم هؤلاء أن قولَ الفروع شهادةٌ، وإن لم نجعل قولَ الأصل شهادة، وهذا بعيد، لا اتجاه له. ثم قال: إذا شرطنا العددَ في [الفرع] (1)؛ فهل نشترط صفة الشهود، حتى لا تقبل من العَبْدَيْن؟ ذكر في ذلك وجهين. وكل ذلك تخليطٌ عندنا. ثم قال: إذا لم نشترط [العددَ في الفرع، نشترط] (2) لفظَ الشهادة، وإن لم نشترطه في الأصل. وصار إلى أن قول القائل: حدّثني فلان أن فلاناً قال: رأيت الهلال، فهذا مردود إجماعاً، ولا شك أن القياس قبولُ ذلك، إذا كان التفريع في الفرع والأصل على الاكتفاء بالواحد.

_ (1) في الأصل: الفروع. (2) ساقط من الأصل.

وبالجملة في هذا الأصل اختباطٌ، من جهة أنه لم يَسْلَم المعنى الذي ذكرناه (1) من الإخبار عن أوقات العبادات، لمكان اشتراط العدد في الشهادة على هلال شوال، ولم يستمر إلحاق الخبر عن هلال رمضان بالشهادات للخبر والأثر، فجرّ ذلك اختلاطاً، وتردداً. وعندنا أن دعوى الإجماع فيما ذكره الشيخ آخراً لا تسلم عن النزاعِ، والاحتمالِ الظاهر (2). فرع: 2276 - إذا شهد عدلان على رؤية هلال رمضان، وجرى القضاء بشهادتهما، وصام الناس ثلاثين يوماً، ثم لم يَرَوْا الهلال ليلةَ الحادي والثلاثين من تاريخ الشهادة، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نُعَيِّد، ونحكم بانقضاء الشهر، بناء على الشهادة في أوله. وذكر ابنُ الحداد أنا نصوم يوم الأحد والثلاثين، وهذا فيه إذا لم يكن في موضع الهلال علة. والذي ذكره مزيّف، غيرُ معدودٍ من المذهب، وهو مذهب أبي حنيفة (3). وإذا شهد على رؤية الهلال شاهد واحد، والتفريع على ثبوت الهلال بقول الواحد، [فإذا بنينا] (4) على ذلك، وصمنا ثلاثين يوماً، وتراءى الناسُ -ولا علة- فلم يرَوْه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في هذه الصورة، فقال بعضهم: لا يثبت هلالُ شوال بناءً على ما تقدم؛ فإن الذي شهد على هلال رمضان لو أنشأ الشهادة على هلال [شوال] (5)، لم تُقبل شهادته وحده؛ إذا لم تتقدم منه الشهادة على هلال رمضان، فإذا لم يثبت هلالُ شوال بقوله ابتداء، فلا يثبت أيضاً بناءً. ومن أصحابنا من قال: يثبت هلال شوال؛ فإن الشيء يثبت مبنياً، وإن كان لا يثبت مبتدأ مقصوداً، والدليل عليه أنه لو شهد على الولادة في الفراش أربع نسوة،

_ (1) في (ط): ذكره. (2) لم يتعرض الإمام للقول القائل بأنه لا يثبت بالواحد. (3) ر. رؤوس المسائل ص 229 مسألة: 125، البدائع: 2/ 80. (4) في الأصل: فأثبتنا. (5) ساقطة من الأصل.

ثبتت الولادة، ويترتب (1) عليها ثبوت النسب، ولو شهدن على النسب، لم يثبت بشهادتهن. وهذا فيه نظر؛ فإن الولادة إذا ثبتت يلحق النسب الفراشَ (2)، [وهو قائم] (3)، لا نزاع فيه، ولم يتحقق مثل ذلك فيما نحن فيه. فرع: 2277 - إذا شرطنا العددَ في هلال رمضان، فالوجه اشتراط العدالة الباطنة، والمعنيّ بها البحث الذي يعتاده القضاةُ بالمباحثة، والرجوعِ إلى أقوال المزكِّين، وإن اكتفينا بقول الواحد، فالعدالة الظاهرة، لا بد منها، فلا يقبل قول فاسقٍ، ولا مريب. وهل يشترط العدالة الباطنة، فعلى وجهين، مبنيين على أن رواية المستور هل يعمل بها؟ وفيه اختلاف ذكرناه في فن الأصول (4). وفي بعض التصانيف: يُكتفى (5) بالعدالة الظاهرة، وليس فيما ذكره فصلٌ بين [قبول] (6) الشهادة [وقبول] (7) الرواية، وهذا بعيدٌ، لا اتجاه له. نعم، قد نقول: ينبغي للقاضي أن يأمر الناس بالصيام لظاهر العدالة؛ فإن الأمر يفوت، ثم يبحث بعد ذلك، ولا يبعد أن يقال: إذا أمر استمروا، ولم يبحث. نعم، إذا استكملنا العدة ثلاثين، فلم يُر هلالُ شوال، فلا بد الآن من البحث عن العدالة الباطنة. فتأملوا ترشُدوا. فصل 2278 - إذا رئي الهلال من بلدةٍ، ولم يُرَ في أخرى، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن حكم الهلال يثبت في خِطة الإسلام؛ فإنه إذا رُئي، لم

_ (1) في الأصل: وقد يترتب. (2) في (ط): بالفراش. (3) في الأصل: وهذا لا نزاع فيه. (4) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة: 553. (5) في (ط): أنا نكتفي. (6) في الأصل: قول. (7) في الأصل: قول.

يتبعض، والناس مجتمعون في المخاطبة بالصيام، والهلال واحدٌ. ومن أصحابنا من قال: إذا بعدت المسافة، لم يعمّ الحكمُ، وللرائين حكمهم، وللذين لم يَرَوْا حكمُهم؛ فإن المناظر في الأهلة تختلف باختلاف البقاع اختلافاً بيناً، فقد يبدو الهلال في ناحية، ولا يتصور أن يرى في ناحيةٍ أُخرى، لاختلافِ (1) العروض (2)، والأهلةِ فيها، ولا خلاف في اختلاف البقاع في طلوع الصبح، وغروب الشمس، وطول الليل، وقصره، فقد يطلع الفجر في إقليم ونحن في ذلك الوقت في بقية صالحةٍ من الليل. التفريع على الوجهين: 2279 - إن عممنا الحكمَ، فلا كلام. وإن لم نعمم، فلا خلافَ في انبساط حكم الهلال على الذين يقعون دون مسافة القصر، من محل الرؤية، وذكر الأصحاب أن البعد الذي ذكرناه، هو (3) مسافة القصر، ولو [اعتبروا] (4) مسافةً يظهر في مثلها تفاوتُ المناظر في الاستهلال، لكان متجهاً في المعنى، ولكن لا قائل به، فإن درك هذا يتعلق بالأرصاد والنموذارات (5) الخفية، وقد تختلف المناظر في المسافة القاصرة عن مسافة القصر؛ للارتفاع والانخفاض، والشرع لم يُبنَ على التزام أمثال هذا، ولا ضبط عندنا وراء مسافة القصر للبعد. 2280 - ومما يتفرع على ذلك أن الإنسان إذا رأى الهلال ليلة الجمعة، وسافر في رمضانَ إلى بلدة بعيدة، وكانوا رأوا الهلال ليلة السبت، فصام المسافر ثلاثين يوماً، من تاريخ الجمعة، فلم ير الناس الهلالَ في المكان الذي انتقل إليه، ليلة الثلاثين من

_ (1) (ط) لاختلافٍ في العروض. (2) جمع عُرْض، وهي الناحية والجهة. (3) في (ط): وهو. (4) في الأصل: اعتُبر. (5) النموذارات: ولعلها من أسماء البروج، أو نحوها مما يؤثر في اختلاف المطالع، وواضح أنها بغير العربية.

تاريخ السبت، وأكملوا العدة، فإن قلنا: لكل بقعة حكمُها، فيجب على هذا المسافر المنتقل أن يتابع أهلَ هذه البقعة، ويصومَ أحداً وثلاثين يوماً؛ فإنه صار من أهل هذه البقعة في آخر الشهر. ولا يخفى على الفقيه أن الحكم لا يختلف في ذلك بقصد الإقامة والسفر. وإن قلنا: حكم الهلال إذا ثبت في موضعٍ عم جميعَ البلاد، فأهل البلدة الثانية متعبدون بحكم ذلك الهلال، إن ثبت عندهم. فإن قيل: [التفريع على هذا الوجه الأخير متجهٌ، لا شك فيه، والتفريع على الأول] (1) [هل يتطرق] (2) إليه احتمال؛ من جهة أنه التزم حكمَ البقعة الأولى، فينبغي أن يستمر ذلك الحكمُ عليه. قلنا: الاحتمال قائم، ولكن ما ذكرناه في التفريع قطع به الأصحاب، لأثرٍ وَرَدَ، اتخذوه متبوعَهم، وهو ما روي أن كُرَيْباً (3) مولى ابن عباس، قال: " بعثتني أم الفضل بنتُ الحارث إلى الشام في حاجة عرضت لها عند معاوية، فرأى الناسُ الهلالَ ليلةَ الجمعة، فصاموا، وصمتُ، فرجعت إلى المدينة، فسألني ابنُ عباس متى رأيت الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة، فقال: أما نحن فرأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم، حتى نرى الهلال، أو نستكمل العدة ثلاثين، فقلت: أوما يكفيك رؤية أمير المؤمنين والناس؟ قال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ابنُ عباس أن لا يفطر، ويقتدي بأهل المدينة " (4). هكذا وجدته في بعض التصانيف، فهذا ما بلغنا في ذلك. والمذهب نقلٌ. وقال شيخي أبو محمد: من رأى هلال شوال، وأصبح معيّداً، وجرت به السفينة، فانتهى إلى بلدة على حدّ البعد، وما كانوا رأَوْا الهلالَ، وصادفهم صائمين، يلزمه أن يمسك عن المفطرات، إذا أثبتنا لكل بقعة حكمَها، وهذا فيه نظر

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في الأصل: يحتمل أن يتطرق. (3) كريب: تصغير كرب. (4) حديث كريب رواه مسلم وأبو داود والترمذي (مسلم: الصيام، باب اختلاف أهل الآفاق في الرؤية، ح2111، أبو داود: الصيام، باب إذا رؤي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة، ح 2332، الترمذي: الصوم، باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم، ح 693).

عندي؛ فإنه ليس فيه أثر، واليوم الواحد يبعد أن يتبعض حكمه. وقد عاين الهلالَ في ليلته في البقعة الأولى. فصل 2281 - إذا رأى الناسُ الهلالَ نهاراً، يوم الثلاثين من شعبان، فهو عندنا لليلة المستقبلة، ولا حكم للهلال في ذلك النهار، ولا فرق بين أن يُرى قبل الزوال أو بعده، خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه (1). 2282 - ومما يتعلق برؤية الهلال أن من رآه وحده، فشهد ورُدّت شهادته، لزمه أن يصوم من غده بناء على مشاهدته، ولو (2) أفطر بالوقاع، لزمته الكفارة العظمى، خلافاً لأبي حنيفة (3). ولو رأى هلال شوال وحده، فردت شهادته، أفطر سراً؛ حتى لا تسوء الظنون به. فصل قال: " ومن أصبح جنباً من جماع، أو احتلامٍ ... إلى آخره " (4). 2282/م- من أصبح وعليه الغسل عن جنابة تقدم سببُها على الفجر، اغتسل، ولا أثر لتأخر الغسل في صومه، وكذلك إذا طهرت المرأة عن الحيض، فنوت الصوم، وأصبحت، واغتسلت، صح صومها. روت عائشةُ: " أن رسول الله صلى الله عليه

_ (1) الذي رأيناه عند الأحناف أن المخالف هنا هو أبو يوسف، وليس أبا حنيفة. وقد أورد صاحب مختصر خلافيات البيهقي المسألة، ونص على أن الخلاف مع أبي يوسف، كما رأيناه في مراجع الحنفية (ر. مختصر الطحاوي: 56، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 7 مسألة 485، البدائع: 2/ 82، مختصر خلافيات البيهقي: 2/ 44). (2) في (ط): فلو. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 9 مسألة 487، رؤوس المسائل: 234 مسألة 130، المبسوط: 3/ 64، بدائع الصنائع: 2/ 80. (4) ر. المختصر: 2/ 4.

وسلم كان يصبح جنباً من جماع أهله، ثم يتم الصومَ " (1) والمعنى أن الصوم لا يشترط فيه الطهر. ولو فرض احتلامٌ في أثناء اليوم، لم يُفسد الصومَ، وقد روى أبو هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من أصبح جنباً، أفطر "، فلما روت عائشةُ الحديثَ قال أبو هريرة: " سمعته من الفضل (2) بن العباس " (3)، قال العلماء: الوجه حمل ما رواه على أن الحكم كذلك كان، ثم نسخ (4)، واستقر الأمر على ما روته عائشة. فصل قال الشافعي: "وإن كان يرى الفجر لم يجب، وقد وجب ... إلى آخره" (5). 2283 - من أقدم على مفطرٍ في آخر النهار؛ ظاناً أن الشمس قد غربت، ثم تبين أنها لم تغرب، لزم القضاء، نص عليه الشافعي. والسبب فيه أنه ظن انقضاء اليوم، ثم تحقق خلافُ ظنه، واليقين مقدم على الظن، ونقل المزني عن الشافعي مثلَ ذلك إذا فرض الغلط في أول النهار، فأكل ظاناً أنه في بقيةٍ من الليل، ثم استبان أنه صادف أكلُه النهارَ، قال: يلزمه القضاء. واختلف أئمتنا في المسألة: منهم من قال: هذا الذي ذكره غلطٌ على الشافعي.

_ (1) حديث عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً ... " متفق عليه (البخاري: الصوم، باب الصائم يصبح جنباً، ح 1925، 1926، ومسلم: الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، ح 1109. (2) في الأصل: أم الفضل بنت العباس. والتصويب من البخاري ومسلم. (3) حديث أبي هريرة متفق عليه، وفيه قصة رجوعه عنه، لما بلغه حديث عائشة، إذ قال: " سمعته من الفضل بن العباس، ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ". وهو عند البخاري ومسلم في نفس حديث عائشة السابق. (4) قال ابن المنذر: أحسن ما سمعت في هذا الحديث أنه منسوخ. (ر. التلخيص: 2/ 388). (5) ر. المختصر: 2/ 4.

ومذهبُه أن الغلط إذا فرض في أول النهار، لم يُفسد الصومَ، ولا قضاء، بخلاف ما لو جرى ذلك في آخر النهار. والفارق أنه إذا أكل في آخر النهار، فالأمر مبنيٌّ على بقاء النهار، فلزم الفطر لذلك، ولم يعذر المخطىء، والأمر في أول النهار مبني على بقاء الليل، فعُذِر المخطىء. وذهب داود (1) إلى أنه (2) في آخر النهار معذورٌ أيضاً. 2284 - وهذا أوان التنبه لحقيقةٍ وهي أن من نسي الصومَ، فأكل، لم يفطر، وسنعقد في ذلك فصلاً، فالأكل في آخر النهار في معنى أكل الناسي، من حيث إنه جرى خطأً، ولا إثم على صاحبه، ولكنه يفارق الناسي من جهة أن الصوم مذكورٌ [للآكل] (3). فإن قيل: هلا خرج ذلك على قولين في خطأ القِبلة؟ قلنا: المخطئ آخراً لا يكاد يصادف أمارةً ظاهرةً في هجوم الليل، ثم استصحاب النهار في معارضة ما يعنّ له، وكان مع ذلك متمكناً من المكث إلى درك (4) اليقين، فاقتضى اجتماع ما ذكرناه -من ذكر الصوم، وضعف الفطر، ووقوعِه على معارضة استصحاب النهار، والقدرة على دَرك اليقين- الفرقَ (5) بين المخطئ في آخر النهار والناسي. فأما إذا جرى ذلك في أول النهار، فالمسألة محتملة، وليس ما ذكره المزني بعيداً، ولكنها تتميز عن الأخرى بالاستصحاب، فقد نقول: الاجتهاد أقوى في الأول من حيث لا يناقضه الاستصحاب. هذا حقيقة القول. 2285 - وتمام البيان في الفصل أن الفطر بالاجتهاد في آخر النهار جائزٌ، وإن كان المصير إلى درك اليقين ممكناً، ويشهد له ما روي: " أن عمر أفطر يوماً، وطائفةٌ

_ (1) في (ط): أبو داود، وهو خطأ. والمراد داود الظاهري. (2) في (ط): أنه المخطىء. (3) في الأصل: الأكل. (4) درك بسكون الراء وفتحها: اسم مصدر من الإدراك. (المعجم). (5) مفعول اقتضى.

معه، فناداه صاحبُ المواقيت: بأن الشمس لم تغب، فقال رضي الله عنه: بعثناك داعياً، وما بعثناك راعياً " (1). وهذا دليلٌ أولاً على أنه لا يجب التوقفُ في الفطر إلى درك اليقين. وفي الأثر إشكالٌ، من جهة أن ظاهرَه مشعرٌ بالإنكار على ذلك المخبر، وما نرى الأمرَ كذلك، بل كان حقاً عليه أن يخبر، فلا محمل لكلام عمر إلا شيئان: أحدهما - النهي عن أصل المراعاة، وهذا فيه نظر أيضاً؛ فإنه ليس يتجه منعٌ عن هذا، فالوجه حمل ما كان منه على (2) بادرة اقتضتها قوةٌ غضبية (3). وكان شيخي يحكي عن شيخه أبي إسحاق الإسفرائيني النهيَ عن الاجتهادِ والاعتمادِ عليه في هذا، وفي وقت الصلاة، إذا أمكن الوصولُ إلى درك اليقين. ولو أفطر الإنسان في آخر النهار مجتهداً، فعليه القضاء، وإن لم يَبِن الخطأ على رأي الأستاذ (4). وعند غيره لا قضاء إذا لم يتحقق الخطأ. ولو أفطر في آخر النهار، من غير اجتهاد، ولا تحقق، ثم لم يتبين [أنه] (5) كان في نهار أو ليل، فالذي قطع به الأصحاب أنه يلزمه القضاء، فإن وجوب الصوم واستصحاب النهار تجرَّدَا، ولم يعارضهما تعلقٌ باجتهاد، ولا [يقين] (6). ولو فُرض في أول النهار اجتهادٌ، ولم يتبين الخطأ، فالوجه القطع بأن لا قضاء [ولو فرض أكلٌ من غير اجتهاد، ولم يتبين أمرٌ، فالوجه القطع بأن لا قضاء] (7) أيضاً اكتفاء باستصحاب الحال.

_ (1) أثر عمر رضي الله عنه رواه البيهقي -بلفظ إمام الحرمين-: 4/ 217، وبلفظ آخر رواه الشافعي في الأم: 2/ 96 (ر. التلخيص: 2/ 403). (2) هذا هو الشيء الثاني لمحملي كلام عمر. (3) وفي هامش الأصل ما نصه: قيل: يجوز أن يقال: إن الإنكار كان في موضعه؛ فإن عمر أفطر بالاجتهاد، وصاحب المواقيت أخبر عن اجتهاد، لا عن مشاهدة، وليس للمجتهد الإنكار على المجتهد. ا. هـ. (4) الأستاذ: أي أبو إسحاق الإسفراييني فهذا لقبه في لسان الإمام. (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: تعين. (7) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

فهذا منتهى الغرض في الفصل. 2286 - وقد قال الأئمة: لو شك الناس يوم الجمعة في خروج الوقت، لم يبتدوا عقدَ الجمعة. قال الصيدلاني: السبب فيه أنهم إذا كانوا كذلك، فسيخرج (1) الوقت وهم في أثناء [الصلاة] (2) غالباً، فلو افتتحوا الصلاةَ، ثم طرأ ذلك في الأثناء، ولم يقطعوا بخروج الوقت، قال: نصَّ الشافعيُّ على صحة الجمعة، مع التردد. وهذا غريب. وقد ذكر صاحب التلخيص في مسائله التي استثناها في ترك اليقين بالشك هذه المسألة، والوجه عندي: أنا إن قلنا: الجمعة صلاةٌ على حيالها، فيتجه ما ذكره الصيدلاني، وإن جعلناها ظهراً مقصورة، فالأصل الظهر، فمهما طرأ شك، لم تصح الجمعة؛ رجوعاً إلى الأصل. فصل قال: " إذا أصبح الرجلُ وفي فيه طعامٌ ... إلى آخره " (3). 2287 - من طلع الفجر عليه وفي فيه طعام، فلفظه، فهو صائم إن كان بيّت النية، ولو أصبح كذلك مخالطاً أهله، نُظر، فإن نزع كما (4) بدا الفجر، وطلع، فصومه صحيح عند الشافعي. وذهب المزني وزفر إلى فساد الصوم، ووجه قولهما أن النهار صادفه، وهو مخالط أهله، والنزع يقع لا محالة مسبوقاً بأول النهار. ووجه قول الشافعي أنه لما طلع الفجر قَرَن بأوله النزعَ، وهو تركٌ، وفساد الصوم معلق بالجماع، أو إدامته، فأما التركُ، فلا يقتضي ذلك.

_ (1) في (ط) فيخرج. (2) بياض في الأصل. (3) ر. المختصر: 2/ 4. (4) كما: أي عندما.

وهذا يتعلق بمسألة في الأصول، لا ينتظم ذكرها هاهنا. 2288 - ولو طلع الفجرُ فاستدام، ولم ينزع، فلا شك في فساد الصوم، وأوجب الشافعيُّ الكفارة. واختلف الأئمةُ في أنا نحكم بانعقاد الصوم، ثم نحكم بعده بالإفساد، أم نحكم بأن الصوم لم ينعقد. فالذي ذهب إليه معظم الأئمة في المذهب أن الصوم لم ينعقد، وسبب وجوب الكفارة منعُ عقد الصوم بالجماع، والمنع في معنى القطع. وذهب شرذمة إلى أنا نحكم بالانعقاد، ثم نقضي بالفساد. والذي تخيله هؤلاء أنه لو نزع، لانعقد صومه، فنفرض الانعقاد في مثل زمان ابتداء النزع، ثم نحكم بالفساد. وهذا خيالٌ؛ فإن النزع، لم ينافِ الصومَ، من جهة قصد الترك، فإذا لم يكن قصدٌ في الترك، وجملة الأحوال جاريةٌ على قصد إيقاع الوقاع وإدامته، فتقديرُ موجَب قصد الترك، مع عدمه، محالٌ. ولو خالط الرجل أهله، ثم لبّى، وأحرم، وقرن تلبيته بالنزع، كما سبق تصويره في الصوم، ففي انعقاد الحج على الصحة وجهان: أحدهما - الصحة، قياساً على الصوم. والثاني - لا ينعقد الحج صحيحاً؛ من جهة أنه كان قادراً على أن ينكف عن التمام، ثم يبتدئ الإحرام، فلا يثبت له التخفيف المنوط بقصد الترك، وليس كذلك الصائم؛ فإنه في ابتداء مخالطته معذور، ولما ابتدأ الانكفافَ، كان معذوراً في انكفافه، مأموراً به، فعُذر، وإن كان على صورة المخالطين إلى تمام النزع. وكل ما ذكرناه مفروضٌ فيه إذا جامع، وكان يُطالع الفجرَ، فجرى الأمرُ على بصيرةٍ منه، نزعاً وإدامة. 2289 - ثم وراء ذلك نظرٌ [للفطن] (1)، فإن أول الفجر ما أراه مدركاً بالحس، وإذا لاح للمراقب، فالطلوع الحقيقي متقدِّمٌ عليه.

_ (1) في الأصل: الفطن.

وكان شيخي يذكر في مجالس الإفادة مسلكين في ذلك: أحدهما - أن هذه المسألة موضوعة على التقدير، كدأب الفقهاء في أمثالها، وإلا فلو اطلع على الصبح، والعادات على اطرادها، فلا ينفع النزعُ؛ فإن الصبح سابق على حالته. هذا مسلك. والثاني - أنا إنما نتعبد بما نطَّلِع عليه، ولا معنى [للصبح] (1) إلا ظهورُ ضوءٍ [للناظر] (2) المعتدل في حاله، [و] (3) الذي يقدر وراء ذلك لا حكم له. وهذا بمثابة علمنا [أن] (4) [الفيء] (5) إذا ظهر للحس؛ فالزوال سابق عليه، ثم لا حكم له. وقد ذكرنا في ذلك كلاماً جامعاً في مواقيت الصلوات. 2290 - ولو خالط أهله، جاهلاً بحقيقة الحال، ثم تبين له أن الصبح كان طلع، فهذا هو الذي تقدم ذكره، في تصوير الأكل على ظن أنه في بقية الليل، ثم يتحقق وقوعه في الصبح، ففي الفطر الخلافُ المقدّم. ثم إذا لم يحكم بالفطر، فلا كلام، وإذا حكمنا بالفطر، ففي الكفارة كلامٌ، سأذكره في فصل عند ذكر جماع الناسي. فصل قال: " وإن كان بين أسنانه ما يجري به الريق ... إلى آخره " (6). 2291 - هذا الفصل يشتمل على أطرافِ الكلام في وصول واصلٍ إلى الجوف، مع سقوط الاختيار. فنقول: إذا وصل إلى داخل حلق الصائم غبارُ الطريق، أو غربلةُ الدقيق، أو طارت ذبابةٌ إلى حلقه، فلا فطر في هذه المواضع وفاقاً، مع ذكر الصوم، وإن كان

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: تداخلت كلمتان، وكأن العبارة: ضوء النهار للناظر المعتدل. (3) في الأصل: فالذي. (4) الأصل: بأن. (5) الأصل: الفجر. (6) ر. المختصر: 1/ 4.

من الممكن التحرزُ عن اطّراق الطرق، وعن [القرب من] (1) الموضع الذي يُغربل الدقيق فيه، ولو أطبق الصائم شفتيه، لأَمِن وصولَ الذباب إلى حلقه. والضابط للمذهب في هذا الفن أن الشرع لم يكلف الصائمَ الامتناعَ من أفعالٍ في العادة يغلب مسيسُ الحاجة إليها، إذا كان الغالب أنه لا يصل الواصل بسببه إلى الجوف. وما ذكرناه من هذا القبيل، فإنّ (2) وصول واصل على ندور، وليس للصائم فيه قصد، وإنما قصدُه في السبب العام الذي يغلب عدمُ الوصول معه، فليُعتقد أن هذا محطوطٌ وفاقاً. ولو تمضمض الصائم، فوصل شيء من الماء إلى جوفه، [ففيه] (3) قولان، سيأتي شرحُهما. وهذا يتميز عما عددناه في محل الوفاق؛ فإن فتح الفم لا يُعدّ مبتدأَ سبب على الاتصال إلى تمام الوصول، والمضمضة سببٌ متواصل، وإن كان يغلب أنه لا يصل. 2292 - فإذاً يتخلص ما نحاوله بذكر ثلاث مراتب: إحداها - أن يغلب عدمُ الوصول، ولا (4) يعد سببُ ما يتفق منه من الأسباب المتواصلة في الإيصال، هذه مرتبة الاتفاق (5) في نفي الفطر. المرتبة الثانية - أن يكون السبب بحيث لا يغلب منه الوصول، وهو الاقتصاد في المضمضة من غير مبالغة، هذه [مرتبة] (6) القولين. والمرتبة الثالثة - التسبب إلى سبب يغلب منه وصول الواصل إلى الجوف، مع وقوع الوصول، من غير قصدٍ إلى عينه، كالمبالغة في المضمضة. وإذا اتفق الوصول مرتباً على مثل هذا السبب، فالأصح حصول الفطر، وأبعد بعضُ أصحابنا، فخرّجه على قولين؛ من حيث لم يكن

_ (1) ساقط من الأصل. (2) عبارة (ط): فن وقع وصول واصل ... (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: فلا. (5) في (ط): " الوفاق ". (6) الأصل: رتبة.

الوصول مقصوداً في عينه، وهذا بعيد. فأما ما يوصل الشيء إلى الجوف لا محالة، فهو مفطر، وإن لم يوجد قصدٌ إلى غير الوصول كفتح الفم في الماء وما في معناه. 2293 - ثم ذكر الشافعي أنه لو بقي شيء في خلَل الأسنان، فجرى به الريق من حيث لم يشعر الصائم، وهذا يخرج على التفصيل المتقدّم. فإن أكل الصائم، ولم يتعهد تنقيةَ الأسنان، [وكان الغالب] (1) في مثله الوصولُ، فإذا اتفق، فهو ملتحق بقسم المبالغة في المضمضة. وإن جرى على الاعتياد في تنقية الأسنان، فبقيت بقيةٌ، فهذا يلتحق بغبار الطريق، ولا نكلفه مجاوزةَ الاقتصاد والاعتيادِ في التنقية، كما لا نكلفه تطبيق الفم حذاراً من الغبار والذباب، ولا نفرق بين قدر السمسمة والزائد عليها. وإن صور مصور قدراً صالحاً، قيل له: اتّئد (2) في التصوير؛ فإن الإفراط فيه يوقع في قسم التفريط في ترك التنقية. 2294 - ولم يختلف المذهب في أن من نسيَ صومه وأكل، لم يُفطر، سواء استقل، أو استكثر، وسواء وُجد ذلك مرة واحدةً، أو تكرر مراراً، وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من أكل ناسياً، لم يفطر " (3) وروي في مأثور الأخبار أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه أكل ناسياً، فلم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطره، فعاد مرة أخرى، أو مرتين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم بفطره. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك بعيد العهد بالصوم " (4)

_ (1) في الأصل: وكذلك الغالب. (2) في (ط): ابتدىء. (3) حديث أبي هريرة متفق عليه بلفظ: " إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 20 ح 710 أما باللفظ الذي ذكره الإمام فقريب منه ما رواه الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسياً، ح 721، والدارقطني: 2/ 180). (4) حديث " إنك بعيد العهد بالصوم " لم نصل إليه مرفوعاً، ولا بهذا اللفظ، وإنما وجدناه=

2295 - ولو أُوجر (1) الصائم وهو مضبوط، لم يفطر، وكذلك إذا ضبطت (2) امرأة صائمة، ووطئت، ولو أكره الرجل بالسيف حتى أكل بنفسه، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا يفطر، لسقوط حكم اختياره، ولكونه مأموراً شرعاً بالأكل، فليس أكله منهياً عنه، فشابه أكلَ الناسي. والثاني - يفطر، لأنه أتى بما هو ضد الصوم، مع ذكره، وليس فيه خبر من جهة الشارع. 2296 - ومن لطيف الكلام في المذهب: أن الناسي، والمكره، إذا صدر منهما صورةُ الحِنث في يمينهما، ففي تحنيثهما قولان، والناسي مقطوع به في الصوم، وفي المكره القولان، والسبب فيه أن الحالف على الامتناع من الشيء ملتزمٌ للتحفظ عنه، مُتخذ (3) يمينَه سبباً مؤكِّداً للوفاء بالتحفظ، فإذا وقع المحلوفُ عليه، جرى القولان، [و] (4) لا يتحقق في الصوم إلا اتباع ذكر العبادة فإن (5) ذاكرها موردٌ فعلَه طوع أو كرهاً على عبادته، والصوم المنسيّ مُزاحٌ (6) عن ذكر الناسي، وأكلُه في حكم الواقع وراءها (7)، على أن الاعتماد في أكل الناسي على الخبر، ولا حاجة إلى هذا [التكلف] (8) بعده.

_ =موقوفاً على أبي هريرة عند عبد الرزاق في مصنفه: " أن إنساناً جاء أبا هريرة قال: أصبحت صائماً فنسيت فطعمت وشربت، فقال: لا بأس، الله أطعمك وسقاك، قال: ثم دخلت على إنسان آخر، فنسيتُ، فطعمتُ وشربت، قال: لا بأس، الله أطعمك وسقاك، قال: ثم دخلت على إنسان آخر، فنسيت وطعمت وشربت، قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تعاود الصيام " (ر. مصنف عبد الرزاق: 4/ 174، ح 7378). (1) أوجرتُ المريض صببت الدواء في حلقه، من باب وعد. (المصباح). (2) ضبطه: حفظه حفظاً شديداً، ومنه ضبط البلاد. والمراد هنا قيّدَه وأعجزه عن الحركة، ومنعه منها. (المعجم والمصباح). (3) في (ط) يتخذ. (4) في الأصل: فلا. (5) في (ط) بأن. (6) (ط) منزاح. (7) كذا بعود الضمير مؤنثاً على معنى العبادة. (8) في الأصل: التكليف.

ولو أغمي على الصائم، فأوجر شيئاً، لا على قصد المعالجة، لم يُفطر، ولو أوجر على قصد المعالجة، ففي حصول الفطر قولان، وإن لم يشعر، وإنما (1) روعي فيه مصلحته، فلحق بما يرعاه من نفسه. والمغمى عليه المُحرم إذا عولج بدواء فيه طيبٌ خارجٌ على هذا الخلاف، على ما سيأتي مشروحاً في موضعه -إن شاء الله تعالى- فصل قال: " فإن تقيأ عامداً ... إلى آخره " (2). 2297 - رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قاء أفطر، ومن ذرعه القيء، لم يفطر " (3) وأراد بقوله صلى الله عليه وسلم: " من قاء " المتعمِّدَ، الذي يستقيء، وعن ابن عمر نفسه: "من قاء، فلا قضاء عليه، ومن استقاء، فعليه القضاء " (4)، وأراد بقوله: (من قاء)، من ذرعه القيء، وقال أبو الدرداء: " قاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفطر ". أراد استقاء، قال ثوبان: " صدق، وأنا صببت له الوضوء " (5).

_ (1) في الأصل: فإنما. (2) ر. المختصر: 2/ 5. (3) حديث: من قاء أفطر، رواه أصحاب السنن، والدارمي، والدارقطني، وابن حبان، والبيهقي، والحاكم، كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعاً بألفاظ متقاربة وأقربها للفظ الإمام ما عند الحاكم في المستدرك- أما الموقوف على ابن عمر، فسيأتي بعد هذا. (أبو داود: الصوم، باب الصائم يستقيء عامداً، ح 2380، الترمذي: الصوم باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء، ح 720، النسائي في الكبرى: 2/ 215 ح 3130، ابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في الصائم يقيء، ح 1676، الدارمي: ح 1729، الدارقطني: 2/ 184، ابن حبان: ح 3518، الحاكم: 1/ 426، البيهقي: 4/ 219). (4) حديث ابن عمر -موقوفاً عليه- رواه مالك في الموطأ: (1/ 304)، والشافعي في الأم: (2/ 100)، والبيهقي في الكبرى: (4/ 219). (5) حديث أبي الدرداء، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم (مسند أحمد: 5/ 195، أبو داود: الصوم، باب الصائم يستقيء عامداً، ح 2381،=

فمن (1) استقاء عامداً، لم يخلُ من ثلاثة أحوال، إما أن يزدرد قصداً شيئاً مما ردَّه، فلا شك في الإفطار، إذا كان كذلك. 2298 - والحالة الثانية أن يستقيء قصداً، ثم يتحفظ، ويعلم أنه لم يرجع شيء إلى جوفه، فإن كان كذلك، ففي الإفطار وجهان: أحدهما - لا يفطر؛ فإن الفطر في هذا القبيل مما يدخل، لا مما يخرج، وإخراج شيء من هذا المسلك يضاهي إخراجَه من السبيلين. والوجه الثاني - أنه يفطر لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " من استقاء عامداً أفطر "، ولم يفصّل بين أن يرجع شيء أو لا يرجع. والحالة الثالثة - أن يستقيء ويتحفظ جهده، فيغلبه الأمر ويرجع (2) شيء إلى حلقه. فإن قضينا بأنه يُفطر إذا استقاء، ولم يرجع شيء، فلا شك أنا نحكم بالإفطار هاهنا. وإن حكمنا بأنه لا يفطر إذا استقاء، ولم يرجع شيء، فهاهنا إذا رجع شيء من غير قصد في الازدراد، خرج المذهب على ما أشرنا إليه في وصول الواصل عند المبالغة. فإن قيل: الغالب أنه لا يرجع شيء إذا استقاء [المرء] (3) فالرجوع نادر. قلنا: ليس كذلك، فإنه يمتزج منه بالريق ما يمتزج، ثم يتفق الازدراد، ولعل سبب النهي عن الاستقاء هذا. فالحكم بالإفطار عند بعض الأصحاب محمول على أن الاستقاء لا يخلو من رجوع شيء. فإن قيل: الماء المستعمل بالمضمضة يمتزج بالريق أيضاًً، فهلا عددتم نفسَ المضمضة من غير مبالغة من الأسباب التي توصل الشيء إلى الجوف؟ قلنا: الكلام على هذا من وجهين: أحدهما - أن الريق في طباعه لا يمازج الماء، ويمتاز عنه بغلظ ولزوجهَ، والذي يمج الماء من فيه لا يجد للماء أثراً إلا البرد، والذي تردّه الطبيعة

_ =النسائي في الكبرى: ح 3123، الدارقطني: 2/ 181، البيهقي: 4/ 220، الحاكم: 1/ 426، التلخيص: 2/ 364 ح 885). (1) (ط) ومن. (2) في (ط): فغلبه الأمر ورجع. (3) ساقطة من الأصل.

[يمازج] (1) الريق، للمجانسة في الغلظ واللزوجة، وشتان ما بين وارد على الفم يُمَجّ، وبين خارج من الحلق يتحفظ عن رجوع ما يقل منه. وإذا قلنا: من استقاء عامداً، أفطر، وإن لم يرجع شيء إلى باطنه، فلو اقتلع نخامة، ولفظها، ففيه وجهان: أحدهما - أنه يفطر، كما لو استقاء. والثاني - لا يفطر، فإن الحكم بالإفطار بالاستقاءة مأخوذ من الخبر، فلا يتعداه. فصل قال الشافعي: " فإن أصبح لا يرى أن يومه من رمضان ... الفصل " (2). 2299 - مضمون الفصل الكلامُ في صوم يوم الشك. وفي النهي عنه بابٌ في آخر الكتاب (3). ولكنا نذكر الآن حظَّ الفقه منه، فنقول: الوجه البداية بتصوير يوم الشك، فلو طبق الغيم موضع الهلال، ليلةَ الثلاثين من شعبان، فنتبَيَّن أن الهلال لم يُر، وأن الغد من شعبان. فلا (4) أثر لعلمنا، أو ظننا أن الهلال كان يُرى لولا السحاب، لكونه على بُعد من الفرصة (5)؛ فإن الذي تُعبّدنا به الاستكمالُ في هذه الحالة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإن غم عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين ". قال الأئمة: إذا كانت السماء مُصْحيةً، ولم يكن في موضع الهلال مانع، وتراءى الناس الهلالَ، فلم ير أحدٌ، فالغد من شعبان، وليس يومَ الشك. وهذا أقرب إلى أن الغدَ من شعبان من الصورة الأولى.

_ (1) غير مقروءة بالأصل. (2) ر. المختصر: 2/ 6. (3) المراد كتاب الصوم. (4) (ط): ولا. (5) كذا، والفرصة معناها النَّوبة، فهل هو المراد هنا؟ وكلمة (من) مزيدة من (ط) فعبارة الأصل: " على بعد الفرصة ".

ولو كانت الرؤية ممكنةً، وقد تحدث الناس بها، [ولم يُسمع] (1) من يثبت الهلال بشهادته أني رأيت الهلال، أو شهد عدل واحدٌ بالرؤية، وقلنا: لا يثبت الهلال بالواحد، أو لهج برؤية الهلال صِبْيةٌ، أو فَسقة، وغلب على الظن صدقُهم، فهذا يوم شك. وإن كان في محل الهلال قِطعُ سحاب، فكان من الممكن أن يُرى، وأن يَخْفى، ولكن لم يتحدث أحد بالرؤية، فقد قال شيخي: اليومُ يومُ شك، ولم يشترط في تصوير الشك التحدثَ بالرؤية. وقال غيره: شرط تصوير الشك التحدثُ بالرؤية. ولا يبعد عندي أن يُفصَّل الأمرُ في ذلك، فيقال: إن كانت الواقعة في بلدة يشتغل أهلها بطلب الهلال، فإذا لم يتحدثوا به، فالوجه أن يكون الغدُ يوم شك. وفيه احتمالٌ على حال. وإن كان الإنسان في سفر وجرى ما صوره شيخي، ولم يبعد أن يكون رأى أهلُ القرى الهلال، فيحتمل أن يكون الغدُ يومَ شك. هذا في التصوير، والغرض وراء ذلك. 2300 - فإذا نوى [الرجل في الليلة [التي] (2) لم يثبت فيها رؤية الهلال أن يصوم غداً، فهذا يتصور] (3) على أوجه: فإن لم يكن معه مستند يثير ظناً، [وردّدَ] (4) النية مع ذلك، وقال: إن كان الغدُ من رمضان، نويت صومَه، فإذا اتفق كونُه من رمضان، وشهدت عليه البينة، فلا يقع صومُه عن رمضان؛ [لأنه لم] (5) يجزم النية، ولم تستند نيتُه إلى أصلٍ، فلم يحصل له العبادة، مع حقيقة التردد في القصد. ولو جزم النية وعقدها، ونوى أن يصوم غداً من رمضان، ولم تستند نيتُه

_ (1) في الأصل: وسمع. (2) كلمة (التي) زيادة من المحقق، رعاية للسياق؛ حيث سقطت من (ط) والعبارة كلها ساقطة من الأصل، كما يظهر من المعقفين. (3) ما بين المعقفين زيادة من (ط): حيث سقط من الأصل. (4) في الأصل: وردّدت. (5) الأصل: فإنه لا.

[المجزومة] (1) إلى أصلٍ يثير ظنّاً، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في المسألة: أحدهما - أنه إذا وافق صومُه رمضانَ، صح واعتدَّ به، لجزمه النيةَ. والثاني - لا يعتد به، كما لو ردّد النية. والتحقيق فيه أن الجزم غير ممكن مع التردّد، فإن صوّر مصورٌ جزماً، فذاك [إجراءُ] (2) حديث نفس، وليست النية حديثاً، وإنما هي قصدٌ واقع، ولا يتصور تجرّده مع التردد في المقصود. ولو ثبت عنده أصلٌ يثير غلبة الظن، كشهادة عدلٍ [أو] (3) صِبيةٍ ذوي رشد، فإذا نوى والحالة هذه أن يصوم غداً إن كان من رمضان، وإلا، فهو تطوع، فظاهر النص أنه إذا بان ذلك اليوم من الشهر، لم (4) يعتد بصومه، لمكان التردد. وذكر طوائف من الأصحاب وجهاً آخر: أن الصوم يصح؛ لاستناده إلى أصل، وهذا لعمري موافقٌ لمذهب المزني. ولو كان معه أصل، وجزم النية، ثم بان أن اليوم من الشهر، فقد كان شيخي يقطع بالاعتداد، ويقول: إن اجتمع التردد، وانتفاء ما يعتمد [فلا اعتداد، وإن اجتمع ما يعتمد] (5) مع جزم النية، اعتد بالصوم. وإن وجد الجزم، ولا مستند، أو جرى التردد مع ثبوت المستند (6) فوجهان. وهذا وإن كان مهذباً، فالذي يقتضيه الفقه في ذلك أنه إن لم يكن أصلُ، لم يعتدّ بالصوم، ردَّدَ أو جزم. وإن كان أصلٌ، ففي الاعتداد بالصوم الخلاف، ردَّدَ، أو جزم؛ فإن الجزم غيرُ متصوّر، ومصوره يقيم حديث النفس قصداً، وليس الأمر كذلك.

_ (1) زيادة من (ط). (2) في الأصل: آخر. (3) في الأصل: وصِبية. (4) في (ط) ولم. (5) ساقط من (ط). (6) في (ط): مستند.

2301 - والمطلوب وراء ذلك كله، فنقول: إن نوى المكلف ليلة الثلاثين من رمضان، أن يصوم غداً إن كان من رمضان، وإن كان عيداً أفطر، فكان من رمضان، صحّ الصوم وفاقاً، نصَّ عليه الشافعي، وقطع به الأصحاب، وبنَوْا ما ذكروه على الاستصحاب. ولا متعلق من هذه الجهة في أول الشهر؛ فإن المستصحبَ شهر شعبان، فإن لم يكن مع [انتفاء] (1) الاستصحاب متعلَّق، فلا اعتداد بالصوم على قياس المذهب، خلافاً للمزني. وإن كانت علامةٌ، فهل تقوم مقام الاستصحاب؟ فعلى وجهين، والعلامات في مجال النظر ومسائل الاجتهاد مقدمةٌ على الاستصحاب، غير أنها ضعيفة في هذا المقام، حتى كأنها مفقودة. فإن قيل: فشهادة العدل الواحد ظاهرةٌ في إثارة الظن، قلنا: ولكن لا متعلق فيها مع حكم الشرع بأنه لا يُعمل بها، والظنون في مسائل الاجتهاد [لها] (2) متعلقات معمول بها إجماعاً، كخبر الواحد، والقياس الفقيه (3)، ووجوه التشبيه، والظن في الاجتهاد لا يُغني بعينه (4)، ما لم يثبت قاطع في العمل به. نعم المحبوس في المطامير (5) إذا التبس عليه شهرُ رمضان، يتحرى جهده، فإذا صام ووافق صومُه شهرَ رمضان، اعتُدّ به وفاقاً، للضرورة الداعية إلى ذلك، فوجب العمل بموجب التحرّي، لمكان الضرورة. وليس على الإنسان في أول الشهر أن ينوي الصومَ، وإن ثبت مستندٌ. وقد ثبت في الشرع ظنُّ المحبوس معمولاً به لضرورته، فصار ظنه كالأقيسة في ازدحام الوقائع؛ فإنا نضطر إلى العمل، ولا متعلق غيرُ القياس. 2302 - ثم قال الأصحاب إذا سقطت العلامات، أو لم يثبت في الشرع [العمل] (6)

_ (1) في الأصل: الانتفاء. (2) في الأصل: بها. (3) كذا. وهي صحيحة، ولا تحتاج إلى توجيه. (4) في (ط): لا يُعنى لعينه. (5) المطامير: طمرت الشيء: سترته، وبنى فلانٌ مطمورة: أي بنى بيتاً في الأرض، وصار علماً على السجن. (المصباح والمعجم). (6) زيادة من المحقق.

بها، فالاستصحاب قانونٌ في الشريعة، كما ذكرناه في آخر الشهر، وله أمثلة نذكر ما يحضرنا منها: فمن استيقن الحدث، وشك في الطهارة بعده، فتطهر على هذا التردد، ثم بان له أنه ما كان تطهر، صح وضوؤُه، بناء على استصحاب الحدث، ولو استيقن الطهرَ وشك في الحدث، فتطهر على التردد، فبان أنه كان محدثاً، لم يصح وضوؤُه؛ بناء على استصحاب الطهر. وقياس مذهب المزني الصحة. ومن أخرج زكاة ماله الغائب، وهو على التردد في بقائه، ثم بان بقاؤه أجزأه المخرَج. ومن أخرج زكاة مال أبيه على تقدير موته، ثم بان موتُه، كما قدّر، لم يعتد بما أخرجه بناءً على بقاء الأب. فهذا وجه ربط النية بالاستصحاب نفياً وإثباتاً. قال الأصحاب: لو نوى أن يصوم غداً من شهر رمضان، أو تطوعاً، لم [تصح] (1) نيتُه من غير تنويعٍ، وتقدير حالٍ بدل حال، ففسدت النية. وليس كما إذا نوى أن يصوم غداً عن رمضان إن كان منه، أو تطوعاً إن لم يكن. والعجب اشتغال المصنفين بأمثال هذه الترهات مع الذهول عن مقصود الكلام. فصل قال: " وإن وطئ امرأته، فأولج عامداً، فعليه القضاء والكفارة ... الفصل " (2). 2303 - من أفطر عامداً في نهار رمضان، بجماع تام، لا شبهة [فيه] (3)، التزم الكفارةَ العظمى، على ما سنصفها. فنستقصي في صدر هذا الفصل ما يوجب الكفارة العظمى، ثم نصفها، وننظر ما يقتضيه الترتيب بعدهما.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ر. المختصر: 2/ 6. (3) ساقطة من الأصل.

فموجِب الكفارة الجماعُ [التام] (1) وهو تغييب الحشفة في الفرج، والمذهب أن الكفارة تثبت بالإيلاج في أي فرج كان، فلو أتى امرأةًُ، أو تلوّط، أو أتى بهيمةً، التزم الكفارة. وذهب بعضُ أصحابنا فيما ذكره بعض المصنفين، وصاحب التقريب إلى إتباع الكفارة الحدَّ، فكل وطء يتعلق الحد بجنسه، تتعلق الكفارة به، وكل وطءٍ اختلف القول في تعلق الحد به، كإتيان البهيمة، ففي وجوب الكفارة به ذلك الخلاف. وهذا رديء مزيف، ولا خلاف في حصول الفطر بإيلاج الحشفة في أي فرج قُدّر. ثم لا تجب الكفارة العظمى بجهةٍ من جهات الفطر خلا الوطءَ، وعلّق مالك وجوب الكفارة بكل فطرٍ يأثم المفطر به (2). ولأبي حنيفة تفصيل (3) متناقض، ليس من شرطنا ذكرُه. 2304 - وإذا بان المذهب في الجنس الموجب للكفارة، فالكلام بعد ذلك في الحال المعتبر، فالعامد الذي لا عذر به، هو الملتزم للكفارة، فأما من وطئ ناسياً للصوم، فظاهر ما نقله المزني أنه لا يفطر، كما لو أكل ناسياً. وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج جماع الناسي على قولين: أحدهما - أنه يتضمن الفطر، والثاني - لا يتضمنه. وأخذ هؤلاء القولين من اختلاف قول الشافعي في المحرم إذا جامع ناسياً. وهذا غير مرضي؛ فإن محظورات الحج تنقسم إلى استمتاعٍ واستهلاكٍ، فالاستمتاع كالطيب ولُبس المخيط، يفصل فيه بين الناسي والعامد، على الأصح، والجماع متردد في نص الشافعي بين الاستمتاع والاستهلاك، ولا انقسام في محظورات

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 433 مسألهَ 644، تهذيب المسالك للفندلاوي: 2/ 319 مسألة 65. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 29 مسألة 512، البدائع: 2/ 97 وما بعدها، فتح القدير: 2/ 263 وما بعدها.

الصوم، فالوجه إجراؤهما على قضيةٍ واحدة في حكم النسيان. فإن حكمنا بأن المجامع ناسياً لا يفطر، فلا كلام. وإن حكمنا بأنه يُفطر، ففي وجوب الكفارة وجهان في بعض التصانيف. فإذا أوجبنا الكفارة على الناسي حيث انتهى الترتيب إليه، توجه إيجاب الكفارة على من يخالط امرأته ظاناً أنه في بقية من الليل، ثم تبين له مصادفة الوقاع النهارَ، فالمذهب حصول الفطر ثمَّ. والأصح أن الناسي لا يفطر بالوطء، ثم إذا ألزمنا الناسيَ الكفارةَ عند الحكم بإفطاره، فتلك الصورة بالكفارة أولى. وهذا لم أقله احتمالاً، بل ذهب إليه طوائف من أصحابنا، فيما عثرت عليه. 2305 - ومما يتعلق بهذا الفصل القولُ في أن المرأة إذا طاوعت، ومكنت، فلا شك أنها تُفطر، وفي وجوب الكفارة عليها ما نُبيّنه. ظاهر النصوص للشافعي أن الزوج يختص بالتزام الكفارة، وقال أبو حنيفة: تلزمها الكفارة، كما تلزمه (1)، ولا تداخل، بل كل واحد يختص بالتزام الكفارة، وهذا قولٌ للشافعي، نص عليه في الإملاء، والقولان يوجّهان في الخلاف. فإن أوجبنا على كل واحد منهما كفارة، من غير تداخل، ولا تحمّل، فلا كلام. وإن أوجبنا الكفارة عليه دونها، ففي تنزيل القول في ذلك مسلكان مأخوذان من نصوص الشافعي. وإن أوجبنا، فَلَنا قولان: أحدهما - أن الوجوب لا يلاقيها، وليس ما يصدر منها من موجبات الكفارة أصلاً. والقول الثاني - أن الوجوب يلقاها، والزوج يتحمل عنها، ثم نقدِّر اجتماع كفارتين في حقه، ونقضي بالتداخل، قضاءنا [به] (2) في الحدود. وهذا بعيد عن القياس، وإن كان ظاهرَ المذهب. ومعتمد الشافعي حديثُ الأعرابي، وسنذكره

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 28 مسألة 511، رؤوس المسائل: 228 مسألة 124، المبسوط: 3/ 72، بدائع الصنائع: 2/ 98. (2) ساقطة من الأصل.

لغرضٍ فقهي فيه، على أثر هذه الفصول. 2306 - ثم يتفرع على ما ذكرنا فروعٌ بها تتبين حقيقةُ القولين. فإن قلنا: لا يلقاها الوجوب قط، فلا إشكال، وإن أثبتنا ملاقاةَ الوجوب، وحكمنا بالتحمل، فلو زنى بامرأة، لزمتها الكفارة؛ إذ ليس بينهما ما يوجب التحمل عنها، ولو كان الواطىء مجنوناً زوجاً، فعليها الكفارة، فإن المجنون ليس من أهل التحمل، ولو كانت المرأة من أهل التكفير بالصوم، أمرناها بصوم الشهرين، فإن التحمل لا يتطرق إلى عبادات الأبدان، وإن كان الزوج من أهل الإعتاق، والمرأة من أهل الإطعام، ففي المسألة وجهان في بعض التصانيف: أحدهما - لا تحمل، ولا تداخل لاختلاف الجنس. والثاني - يتحمل عنها، ثم يندرج الإطعام تحت العتق للاجتماع في المالية. والسيد إذا وطئ أمته، فالملك يقتضي من التحمل ما تقتضيه الزوجية، ولكن كفارة الأمة بالصوم، فيمتنع التحمل من هذه الجهة. فهذا مجموع ما أردناه في ذكر موجِب الكفارة. 2307 - وإذا حصل الإفطار بغير الوقاع، فلا شك أن الكفارةَ العظمى لا تجب عندنا، وهل نوجب مع القضاء مُدّاً على القاضي في الإفطار بالأكل وغيره؟ في المسألة وجهان: أصحهما - أنا لا نوجب؛ فإنه لا ثبت، ولا توقيف فيه، وليس معنا قياسٌ يقتضيه. 2308 - فأما الكلام في صفة الكفارة، فهي مرتبة: عتقٌ، وبعد العجز عنه صيامُ شهرين، فإذا فُرض العجز عنه، فإطعام ستين مسكيناً، وتفصيلها يأتي في كفارة الظهار. 2309 - وهل يجب القضاء مع الكفارة؟ محصول ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - يجب قضاء الإفطار [الحاصل، فإن] (1) الكفارة لا تجبر فساد العبادة.

_ (1) ساقط من الأصل. وعبارتها: يجب الإفطار، والكفارة لا .....

والثاني - لا يجب القضاء مع الكفارة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بالقضاء، لما أمره بالكفارة. والوجه الثالث - أن التكفير إن كان بالإعتاق أو الإطعام، وجب القضاء، وإن كان التكفير بالصيام، لم يجب القضاء والأصح وجوب القضاء (1). فإن قيل: أليس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: " اقضيا يوماً مكانه "؟ (2) قلنا: هذا لم يصححه أهل الحديث.

_ (1) الوجه المعتمد في المذهب هو وجوب القضاء كما اختار الإمام (ر. المجموع: 6/ 331) حيث قال النووي: " الأصح وجوب القضاء ". هذا، وقد استدل النووي بقصة الأعرابي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه. وهي في الصحيحين بدون " صم يوماً " وهذا اللفظ عند أبي داود " قال: كُلْه أنت وأهلُ بيتك، وصم يوماً، واستغفر الله " قال النووي: وإسناد رواية أبي داود جيد إلا أن فيه رجلاً ضعفه، وقد روى له مسلم في صحيحه، ولم يضعف أبو داود هذه الرواية. (2) سياقة إمام الحرمين لهذا الجزء من الحديث بهذه الصورة، ثم ردّه والحكم عليه بعدم الصحة، قد يشكل في السياق، حيث يوحي بأن المعترض يقول بوجوب القضاء، مستدلاً بالحديث، وإمام الحرمين لا يقول بالوجوب، ويردّ استدلاله. ولكن عند التأمل ندرك أن المعترض الذي يستشهد بهذا الجزء من الحديث، لا يعترض على اختيار الوجه القائل بالوجوب، وجعله الأصح، وإنما يعترض على جعل المسألة على ثلاثة أوجه، فكأن إمام الحرمين يقول: لو صح هذا من الحديث، لما كان هناك أوجه، وإنما كان مبتوتاً بوجوب القضاء. وقد تكرر كثيراً في هذا الكتاب قول الإمام: لو صح هذا الحديث، لما قال قائل بخلافه؛ فمذهب الإمام هو الحديث، واصطلاح الخراسانيين أنهم إذا قالوا: " مذهب أهل الحديث "، فهم يعنون مذهب الشافعي. هذا، وزيادة " اقضيا يوماً مكانه " رواها أبو داوود، وابن ماجة، والدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة. ورواها أحمد في المسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورويت مرسلة عن سعيد بن المسيب، ونافع بن جبير، ومحمد بن كعب القُرظي. (ر. أبو داود: الصوم، باب كفارة من أتى أهله في رمضان، ح 2393، ابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان، ح 1671، الدارقطني: 2/ 190 - 191، البيهقي 4/ 226، 227. انظر كلام الحافظ على الزيادة في التلخيص: 4/ 90 - 93).

ولم يختلف الأصحاب أن المرأة يلزمها القضاء، إذا لم بلزمها الكفارة. ولا نقول يتحمل الزوج؛ فإن الكفارة إذا كانت صوماً، لم يتحمل، فما الظن بالقضاء؟ وهذا لا شك فيه. 2310 - ولو جامع في يوم، فالتزم الكفارة، ثم جامع في يومٍ آخر، قبل التكفير، لزمه كفارة أخرى، ولا تداخل، خلافاً لأبي حنيفة (1). 2311 - والمنفرد برؤية الهلال إذا شهد، فردت شهادته، وألزمناه الصومَ، [فلو] (2) جامع، لزمته الكفارة خلافاً لأبي حنيفة (3). فهذا نجاز القول في موجب الكفارة [وفي تفصيل الكفارة] (4) على قدر غرضنا. 2312 - ومما يتعلق بالفصل حديثُ الأعرابي والكلامُ عليه: روي: أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يضرب نحره، وينتف شعره، ويقول: هلكتُ وأهلكت يا رسول الله، فقال: ماذا صنعت؟ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم: " أعتق رقبة ". فضرب يده على سالفته (5)، وقال: لا أملك رقبة غير هذه فقال: " صم شهرين " فقال: هل اُتيت إلاّ من الصوم، فقال: " أطعم ستين مسكيناً "، فقال: والله ما بين لابتيها أفقر مني، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ (6) من طعام يسع خمسةَ عشرَ صاعاً، وكال على قَدْره (7)، فقال

_ (1) ر. الأصل: 2/ 177، المبسوط: 3/ 74، البدائع: 2/ 101، البحر الرائق: 2/ 298، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 35 مسألة 513، رؤوس المسائل: 232 مسألة 128. (2) في الأصل: ولو. (3) ر. الأصل: 2/ 199، مختصر الطحاوي: 55، المبسوط: 3/ 64، البدائع: 2/ 80، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 9 مسألة 487، رؤوس المسائل: 234 مسألة: 130. (4) ساقط من الأصل. (5) السالفة: جانب العنق. (6) وعاءٌ يصنع من خوصِ النخيل المضفور، وهو المِكْتل، والزَّنبيل. وهو بفتح العين والراء. (المصباح). (7) (ط) وكان على قدر.

صلى الله عليه وسلم: " تصدق به "، فقال: على أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي؟ فاحتضن الأعرابي الطعامَ وولى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم " (1). وقد ربط الأئمة أحكاماً بهذه القصة، ونحن نذكرها مرسلة، ثم نتعلق [بالقصة] (2) عند مسيس الحاجة. 2313 - ذكر العراقيون ترتيباً جامعاً حسناً، قد مضى لنا أصله، ولكنا نُعيده لزوائدَ، قالوا: الحق المالي الذي يجب لله تعالى من غير سبب، إذا دخل وقتُ وجوبه، ولم يصادف قدرةً عليه، ولا استمكاناً، فلا يجب الحق، وزوال العجز بعده لا أثر له، وهذا كصدقة الفطر. وما يجب بسببٍ ينقسم إلى ما يحل محل الأبدال، [وإلى ما لا يحل محله: فأما ما يحل محل الأبدال] (3)، فإذا تحقق سببه، وصادف عجزَ صاحب السبب، فيستقر في الذمة، إلى اتفاق اليسار والتمكن، وهو بدل الصيد؛ فإنه يجب بدلاً عن الصيد، والغالب عليه مَشَابِه [الغرم] (4). وأما ما يجب بأسبابٍ، ولا يثبت بدلاً، ولا مشابهاً لبدل، كالكفارات جُمَع، سوى ما ذكرناه، فإذا صادف سببُه العجزَ عن البدل والمبدل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها لا تجب، وإن طرأ الاقتدار من بعدُ، قياساً على زكاة الفطر. والثاني - أنها تثبت في الذمة، ثم الاختلاف في النظر إلى وقت الوجوب والأداء مشهور. وذكر صاحب التقريب ما ذكروه، ولم يستثن جزاء الصيد، ولا ينبغي أن يعتقد في

_ (1) حديث الأعرابي متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (البخاري: الصوم، باب إذا جامع في رمضان، ولم يكن له شيء فتُصدَّق عليه فليكفر، ح 1936، مسلم: الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان، على الصائم، ح 1111)، وهذا بدون زيادة " اقض يوماً مكانه " ففي هذه الزيادة مقال كما مرّ آنفاً. (2) في الأصل: القضية. (3) ساقط من الأصل. (4) في الأصل: العزم.

جزاء الصيد خلاف، وتَرْكُ استثنائه من صاحب التقريب غفلة. وذكر الشيخ في شرح التلخيص ما ذكره هؤلاء، وحكى عن صاحب التلخيص أنه استثنى كفارة الظهار، وقال لا يستحل المظاهر الإقدامَ على الوطء، ما لم يكفر. قال الشيخ أبو علي كفارة الظهار خارجةٌ على الخلاف، ولا معنى لاستثنائها، ثم قصة الأعرابي تعضد إسقاط الكفارة. 2314 - [ومما] (1) تلقاه الأئمة من الحديث التردُّدُ في أن الغُلمة إذا أفرطت هل تكون عُذراً في ترك الصيام؟ أي صيام الكفارة، وسبب هذا -على بعده- قصةُ الأعرابي؛ حيث قال: وهل أُتيت إلاّ من الصوم؟ وترددوا أيضاًً في أن ملتزم الكفارة إذا اتصف بكثرة العيال، وقلة المال، فهل له أن يصرف الطعام إلى أهله؟ وسبب ذلك تلك القصة أيضاً. 2315 - والرأي عندنا إلحاق قصة الأعرابي برخصةٍ خص الشارع بها مُعَيَّناً، وكثيراًً ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم في قصة الأضاحي: " تَجْزِي عنك، ولا تَجْزِي عن أحدٍ بعدك " (2). وجرى مثل ذلك في إرضاع الكبير (3). وهذا وإن كان على بعدٍ، فهو أهون من تشويش أصول الشريعة، لقصةٍ ينقلها آحاد وأفراد.

_ (1) في الأصل: وما. (2) حديث: " تجزئ عنك .. " قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ابن نيار خال البراء بن عازب، وهو متفق عليه. البخاري: العيدين، باب الأكل يوم النحر، ح 955، مسلم: الأضاحي، باب: وقتها، ح 1961. (3) يشير إلى قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، وهي في صحيح مسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما (ر. مسلم: الرضاع، باب رضاعة الكبير، ح 1453، 1454) أي أن الإمام يراها رخصة خصَّ بها الشارع معيناً، فلا تتعداه إلى غيره.

فصل قال: " والحامل أو المرضع إذا خافتا على ولديهما ... الفصل " (1). 2316 - من أفطر بعذر يخصه، فلا يلزمه إلا القضاء، كالمسافر والمريض، ومن أفطر عاصياً بغير وقاعٍ، لزمه القضاء، وفي لزوم الفدية الخلاف المقدم، والحامل إذا كانت تخاف على جنينها لو صامت، فإنها تفطر، وعليها القضاء، وفي لزوم الفدية، وهو مدٌّ مع كل يوم، قولان: أحدهما - أنها تجب، لما روي عن ابن عباس " أنه قال في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]: إنه منسوخ الحكم إلا في الحامل والمرضع " (2). والقول الثاني - لا يلزمها الفدية؛ لأنها وإن كانت تخاف على ولدها، فالخوف يرجع إليها أيضاًً لو أجهضت، فهي كالمريض. ومن قال بالأول كفاه التعلقُ بالتفسير، وقد روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه قال في الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على ولديهما، قضتا، وافتدتا بمدّين من طعام " (3). وله أن يقول أيضاًً: الحامل وإن لم تُجْهِض، فلا بد وأن تلد، فلم يتجدد عليها بالإجهاض مزيد خوف، والأمر راجع إلى الولد. و [المرضع] (4) إذا خافت على ولدها إن صامت، ففيها طريقان: أصحهما القطع بإيجاب الفدية مع القضاء؛ فإنها صحيحة البدن لا عذر بها في نفسها، فهي

_ (1) ر. المختصر: 2/ 9. (2) أثر ابن عباس رواه أبو داود: الصيام، باب من قال: هي مثبتة للشيخ والحُبلى، ح 2317، 2318، (ر. التلخيص: 2/ 400 ح 925). (3) حديث أنس بن مالك الكعبي -المرفوع- رواه أصحاب السنن (أبو داود: الصوم، باب اختيار الفطر، ح 2408، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع، ح 715، النسائي: الصيام، باب ذكر وضع الصيام عن المسافر، ح 2277 وما بعدها، ابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع، ح 1667، 1668). (4) في الأصل: المرأة.

[المطيقة] (1) تحقيقاً، والمفطرة بسبب الغير. وكان شيخي يحكي عن شيخه القفال أن من كان صائماً، فوجد مشرفاً على الهلاك، وتعيّن عليه إنقاذه، وكان لا يتأتى ذلك منه إلا بالإفطار، فإذا أفطر، قضى، وفي التزام الفدية وجهان، فإن هذا إفطارٌ بسبب الغير، وهذا بعيد؛ فإن التعويل في المرضع والحامل على الخبر، ولا مجال للقياس. فإن قيل: لم ضعَّفتم إيجاب الفدية على العاصي بالأكل؟ قلنا: لأن الفدية جابرة حيث [ثبتت] (2)، وما نراها تجبر ما صدر عن العاصي بالفطر، وإن كانت تغليظاً، فليست على قدر ما صدر منه، فالإثم العظيم أليق به. وهذا يضاهي اختلافَ الأصحاب أن من تعمد ترك التشهد هل يسجد؟ ووجه التقريب أن الساهي بالترك أثبت له الشرع مستدركاً وجابراً، والمتعمد لا يستحق ذلك، [فاسْتَدَّ] (3) نقضُ الصلاة عليه. فصل [قال] (4) " ومن حركت القُبْلة شهوته ... إلى آخره " (5). 2317 - لا خلاف أن الاستمناء يفطر، ولا تتعلق الكفارة به عندنا، وعند أبي حنيفة. وإذا قبل الصائم، أو وُجد بينه وبين امرأته التقاء البشرتين، وترتب الإنزال عليه، تعلق الإفطار به. ولو نظر أو ذكر، وأنزل، لم يُفطر.

_ (1) في الأصل: كالمطيعة. (2) في الأصل: بقيت. (3) في الأصل، وفي (ط): " فاستمرّ " والمثبت تقديرٌ من المحقق، رعاية لأسلوب الإمام، واستعماله هذا اللفظ، وهو هنا أوفق للسياق، فالمعنى: المتعمد لا يستحق الجبران، فاستدّ (أي استقام) إبطال صلاته، ونقضها عليه. (4) زيادة من عمل المحقق اتباعاً لصنيع الإمام في أول الفصول. (5) ر. المختصر: 2/ 10.

ولو ضم امرأته إلى نفسه، وبينهما حائل، [فأنزل] (1)، ففي المسألة وجهان ذكرهما شيخي. وهذه [الصور] (2) عندي تدار على القاعدة التي مهدتها في وصول الواصل إلى الجوف مع التسبب إليه، فالاستمناء يُخرج مادة الزرع لا محالة، فكان كاعتماد الأكل والشرب، والنظر والفكر كالأسباب العامة التي لا يغلب وصول الواصل بها إلى الجوف، والضم والالتزام، مع الحائل، في مرتبة المضمضة، والتقاء البشرتين عندي قريب من المبالغة، فيتجه فيه تخريج خلاف لا محالة، وقد وجدت رمزاً إليه للشيخ أبي علي في الشرح. ثم قال الأئمة: إن كانت القبلة تحرك الشهوة، كرهناها للصائم، وإن كانت لا تحركها تحريكاً يخاف منه الخروج عن الضبط، فلا بأس بها؛ قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدانا، وهو صائم، وكان أملككم لإرْبه، بأبي هو وأمي " (3) وقيل: سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة في الصوم فأباحها له، [فسأله آخر فنهاه] (4) فروجع في جوابه صلى الله عليه وسلم، فقال: كان الأول شيخاً، والثاني شاباً (5). وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن قبلة الصائم، فقال: " أرأيت لو تمضمضت " (6) وهذا منه قياس حسن، وفيه إشارة إلى تنزيله القبلة على المضمضة والمبالغة.

_ (1) ساقطة من (ط). (2) في الأصل: الصورة. (3) حديث عائشة: متفق عليه، وله عندهما ألفاظ، البخاري: الصيام، باب المباشرة للصائم، ح 1927 وطرفه: 1928، مسلم: الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، ح 1106 (ر. التلخيص: 2/ 372 ح 890). (4) بياض بالأصل. (5) حديث سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم، رواه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً، ورواه الشافعي وابن ماجة موقوفاً على ابن عباس (أبو داود: الصوم، باب كراهيته للشاب، ح 2387، البيهقي: 4/ 232، الأم للشافعي 2/ 98، ابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في المباشرة للصائم، ح 1688). (6) حديث عمر " أرأيت لو تمضمضت " رواه إمام الحرمين هنا أثراً عن عمر رضي الله عنه، وجعل=

فصل [قال:] (1) " وإن أغمي على رجلٍ ... الفصل إلى آخره " (2). 2318 - إذا نوى الرجل الصوم من الليل، فأغمي عليه نهاراً، فقد اختلفت النصوص: قال هاهنا: إذا [أفاق] (3) في شيء من النهار، صح صومُه. وإن دام الإغماء جميعَ النهار، فلا. وقال في كتاب الظهار: إن دخل في الصوم وهو يعقل، ثم أغمي عليه أجزأه، فاشترط الإفاقة في أول النهار. وقال في كتاب اختلاف العراقيين: إن حاضت المرأة، أو أغمي عليها، قضت، فجمع بين الإغماء والحيض، فظاهره أن حدوث الإغماء في شيء من النهار يفسد الصومَ. والمزني جعل الإغماء كالنوم، وقال: لا يضر أن يستغرق الإغماء جميعَ النهار، بعد تقدم النية ليلاً، فجعل كثيرٌ من أصحابنا ذلك القولَ مُخرَّجاً. وذكر بعض الأصحاب اشتراط الإفاقة في طرفي النهار.

_ =هذا قياساً حسناً من عمر، وهو حديث مرفوع يُروى عن عمر رضي الله عنه، وقد رواه إمام الحرمين مرفوعاً في البرهان: فقرة 717، و1544. فهل رُوي هذا الحديث موقوفاً عن عمر؟ لم نصل إليه بهذا اللفظ موقوفاً، ولكن رووا عن عمر أن زوجته عاتكة قبلته وهو صائم فلم ينهها، ابن أبي شيبة: (3/ 61)، عبد الرزاق: (4/ 187 ح 8429) فلعل إمام الحرمين أخذ الأثر عن عمر من هذا وأخذ القياس على المضمضة من الحديث المرفوع. والحديث المرفوع مروي من حديث جابر عن عمر، رواه أحمد: (1/ 21) وأبو داود: الصيام، باب القبلة للصائم، ح 2385، وابن أبي شيبة: (3/ 61)، والدارمي: (1724)، وابن حبان: (3544)، والبيهقي: (4/ 218)، والحاكم: (1/ 431)، وصححه ووافقه الذهبي. (1) زيادة من المحقق. (2) ر. المختصر: 2/ 12. (3) في الأصل: أقام.

ثم من الأصحاب من جعل المسألةَ على خمسة أقوال: ثلاثةٌ منصوصة، وقولان مخرجان. 2319 - التوجيه: من قال: إن استغراق الإغماء يبطل، والإفاقة في لحظة من النهار لا بد منها -وهذا ما نقله المزني- فوجهه أنا لو رددنا إلى قياس النيات وآثارها، اقتضى أن يُشترطَ ذكرُها، وانبساطُها على جميع أجزاء العبادة؛ (1 فإن النية قصد، والقصد الحقيقي هو المقترن بالمقصود، ولكن استصحاب ذكر النية 1) عَسرٌ غيرُ يسير، والغفلات [لا دفْعَ لها] (2)، فاكتفى الشرع رخصةً بتقديم العزم. وإذا لاح ذلك، فلا أقل من [أن] (3) يقع المعزوم عليه بحيث يُتصور القصد إليه، حتى ينزل منزلة ما يقترن القصد به، والمغمى عليه لم يقع إمساكه مقصوداً، حتى يصرف إلى المعزوم عليه، وينزل منزلة المقصود، فإذا استغرق [الإغماء] (4)، فقد عم ما ذكرناه، فإذا وجدت الإفاقةُ في لحظة -والعبادة لا تنقسم- أتبعنا زمان الإغماء زمانَ الإفاقة. 2320 - ثم ينقدح للناظر مراتب: إحداها - الجنون، وهو يسلب حكم الاختيار بالكلية، ويستأصل قاعدةَ التكليف؛ فيعظم أثره، حتى يصير طريان القليل منه مفسداً للعبادة؛ فإنه يكاد يقلب الإنسان عن خاصية الإنسان، ويلحقه بالأحكام البهيمية. والمرتبة الثانية - الإغماء (5)، وهو تغشية العقل على وجهٍ لا يبقى اختيارٌ في دفعه، ما لم يندفع بنفسه، وليس كالجنون، فاتجه أن نتُبعَ زمانَ الإغماء زمانَ الإفاقة، ونجعلَ مستغرِقه مفسداً. والمرتبة الثالثة - النوم، وهو مزيلٌ للتمييز، ولكنه معرض للإزالة على قصدٍ فَخفَّ (6) أمرُه.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ط). (2) في الأصل: لا تدفع. (3) زيادة من (ط). (4) ساقطة من الأصل. (5) في الأصل: في الإغماء. (6) في (ط): يخف.

والمرتبة الرابعة - اطراد الغفلة، وهي محطوطة بالكلية. هذا الذي ذكرناه هو الأصل، أما الغفلة، فلا خلاف فيها. وأما النوم، فالمذهب فيه ما قدمناه، ومن أصحابنا من جعل مستغرِقَه كمستغرِقِ الإغماء، ويعزى هذا إلى أبي الطيب بن سلمة (1). وألحق بعضُ أصحابنا طارئ الجنون بالإغماء، وهذا في نهاية البعد. فأما نص الظهار، فموجَّهٌ بأن الإفاقة إذا ثبت شرطُها، حلّت في وضعها محل القصد الحقيقي، وهو النية، والنيات محالّها أول (2) العبادات. ومن قال: طريان الإغماء كطريان الحيض، فوجه قوله (3) التشبيهُ، والإغماءُ كالحيض وجوداً؛ من جهة أن [واقعه] (4) لا يُدفع، ثم هو لا يدوم دوام الجنون، فكان كالحيض، ولهذا شابَهه في إسقاط (5) قضاء الصلوات دون قضاء الصوم، وإذا ثبت الشبه وجوداً وحكماً، ألحق به. وأما وجه القول المخرج الموافق لمذهب المزني، فظاهرٌ (6)، ومستنده الاكتفاء بالنية السابقة، وحصول الإمساك. وإذا لم يكن ذكرُ النية شرطاً، فلا يظهر بعد ذلك اشتراطُ الإفاقة. ومن اعتبر الطرفين وهو أضعف الأقوال، اعتقد ما بينهما محتوشاً بهما وحكم بمقتضاهما على ما بينهما. فهذه طريقة الأصحاب (7).

_ (1) أبو الطيب بن سلمة: الإمام محمد بن الفضل بن سلمة بن عاصم البغدادي، اشتهر بأبي الطيب بن سلمة، نسبة إلى جده، من متقدمي الأصحاب، أصحاب الوجوه، تكرر في المهذب والوسيط، والروضة، تتلمذ على ابن سريج، له مصنفات عدة. ت 308 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 246). (2) في (ط): أوائل. (3) في (ط): قول التشبيه. (4) الأصل: دافعه. (5) في (ط) إثبات. (6) في الأصل: فظاهره. وفي (ط) ظاهرٌ (بدون فاء، وبدون هاء الضمير كما أثبتناه). (7) في (ط): للأصحاب.

ومنهم من رأى القطع بما نقله المزني من اشتراط الإفاقة في لحظة -وقد وجهناه- واطَّرح القولين (1) المخرجين، وحمل نصّ الظهار على الإفاقة في اللحظة الأولى على التنصيص على لحظةٍ وفاقاً، من غير اعتناء بتعيينها، وقد يعتاد أمثال ذلك في مجاري الكلام. 2321 - وأما نصه في اختلاف العراقيين، حيث جمع بين الحيض والإغماء، فقد قال بعض الأصحاب: يصرف (2) جوابه إلى الحيض. وهذا سخف في (3) طريق التأويل؛ فإن من ذكر شيئين وعقبهما بحكمٍ، استحال أن يُعتقد ذكر أحدهما، فالوجه حمل ذكر الإغماء على المستغرِق، وهذا أمثل، وإن كان بعيداً. وقد نجز غرض الفصل. 2321/م- ثم ذكر الشافعي بعد هذا: أن الحائض منهيّةٌ عن الصوم، ولو قصدته وأوقعت الإمساك منوياً عَصَت ربَّها، ثم تَقضي الحائض ما امتنع من الصوم بسبب حيضها، ولا تقضي الصلاةَ. وقد ذكرنا ذلك في كتاب الحيض. فصل قال: " وأحب تعجيل الفطر، وتأخير السحور ... إلى آخره " (4). 2322 - والمتبع في ذلك الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: " عجلوا الفطر، وأخروا السحور " (5) وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم السحورَ غداء، فروي أنه

_ (1) في (ط): الوجهين. (2) في الأصل: تصرّف. (3) في (ط): من. (4) ر. المختصر: 2/ 13. (5) حديث: " عجلوا الفطر "، رواه الطبراني في الكبير من حديث حبابة بنت عجلان عن أمها بهذا اللفظ، وعن ابن عباس بلفظ: إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا ونعجل إفطارنا. ورواه أيضاًً ابن حبان وصححه، والطيالسي، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1773 (ر. الطبراني في الكبير: 11485، ابن حبان: 1770، الهيثمي في المجمع: 3/ 155).

كان يتسحر، فقال لطائفةٍ من أصحابه: " هلموا إلى الغَدَاء المبارك " (1). وقال زيد بن ثابت: " كان بين تسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاة الصبح قدرُ خمسين آية " (2). وفي الحث على تعجيل الفطر أخبارٌ. ولا ينبغي لمؤخر السحور ومعجِّل الفطر أن يوقع فعلَه في مظنة التشكك، ودركُ اليقين في الطرفين أهمُّ من كل شيء، وإن جرى الأمر على ظن أو اجتهاد، فقد تفصل هذا فيما مضى. فصل قال الشافعي: " وإذا سافر الرجل ... إلى آخره " (3). 2323 - السفر الطويل يبيح الفطرَ، ولا يبيحه القصير، فالفطر من الرخص المختصة بالسفر الطويل، وقد ذكرنا السفرَ الطويلَ والقصيرَ. ثم الفطر رخصة، والصوم صحيحٌ مجزىء، خلافاً لداود. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في سفره، وأفطر. وعن أنس قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا الصائم، ومنا المفطر، ومنا القاصر، ومنا المتم، ولم يعب بعضنا على بعض " (4) وعن عائشة أنها لما انقلبت عن سفرة حجة الوداع، قال لها

_ (1) حديث: " هلموا إلى الغداء المبارك "، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والبيهقي من حديث العرباض بن سارية (أحمد: 4/ 126، 127، أبو داود: الصوم، باب من سمى السحور الغداء، ح 2344، النسائي: الصيام، باب دعوة السحور، ح 2163، ابن حبان: 3465، البيهقي: 4/ 236). (2) أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه متفق عليه من حديث قتادة عن أنس عن زيد (ر. البخاري: الصوم، باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، ح 1921، ومسلم: الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره، ح 1097). (3) ر. المختصر: 2/ 13. (4) حديث أنس في الصحيحين دون قوله (ومنا القاصر ومنا المتم) (البخاري: الصوم، باب لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضاً في الإفطار، ح 1947، مسلم: الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، ح 1118، ولمسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري وجابر، ح 1116، 1117).

رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا صنعت؟ فقالت: " صمت ما أفطرت، وأتممت ما قَصَرت ". فقال: " أحسنت " (1). وقوله صلى الله عليه وسلم: " الصوم في السفر كالفطر في الحضر " (2). (3) محمول على مكابدة الصوم، مع ظهور الضرر. وروي: " أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في السفر، يُظَلّلُ، وينضح بالماء ويهادَى بين رجلين، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنه صائم، فقال عليه السلام: إن الله عز وجل عن تعذيب هذا نفسَه، لغني " (4). وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصيامُ في السفر " (5) وينزل قوله العام على السبب، ولا يبعد ذلك. فإذا ثبت الأصل، فالمسافر بالخيار بين الصوم والإفطار، والصوم أفضل من الفطر، إذا لم يظهر ضررٌ ظاهرٌ، والقول فيه أنه إن كان يخاف إفضاءه إلى مرض، فهو

_ (1) حديث عائشة رواه النسائي، والدارقطني، والبيهقي، وإسناده صحيح (النسائي: كتاب تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة، ح 1456، الدارقطني: 2/ 188، البيهقي: 3/ 142، خلاصة البدر المنير: 1/ 20 ح 696، التلخيص: 2/ 92 ح 604). (2) حديث: " الصوم في السفر كالفطر في الحضر ". رواه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مرفوعاً، وقال: قال أبو إسحاق: هذا الحديث ليس بشيء (الصيام، باب ما جاء في الإفطار في السفر، ح 1666) ورواه النسائي موقوفاً على عبد الرحمن بن عوف (الصيام، باب ذكر قوله: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، ح 2286، 2287، 2288) (ر. التلخيص: 2/ 394 ح 919). (3) في هامش الأصل: حاشية: تأويل الحديث: أن الفطر جائز في الحضر خارج رمضان، والصوم أفضل منه، كذلك الصوم في رمضان جائز للمسافر، والفطر لمن يتضرر أفضل منه، من المكابدة. (4) حديث: " إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني " هذا اللفظ ورد فيمن نذر أن يحج ماشياً، وهو متفق عليه، وأما ما جاء في الصوم فهو الحديث التالي لهذا السطر. (5) حديث " ليس من البر الصيام في السفر " متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، واللفظ للبخاري (ر. البخاري: الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصيام في السفر، ح 1946، ومسلم: الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، ح 1115).

الذي نعنيه، وعنده يُستحث (1) على الفطر، وإن كان ضررٌ لا يغلب إفضاؤه إلى المرض، فهو من التعب (2) الذي يكثر به الأجر. والمفضي إلى المرض في حكم تعجيل عبادة تُفضي إلى تعطيل أمثالها. وحيث قطعنا بأستحباب الصوم، اختلف القول في القصر والإتمام، وقد قيل: السبب في الفصل عدمُ الاعتداد بخلاف داود، وقيل: " الفاصل أن القاصر ليس مخلياً وقتَ العبادة، بخلاف المفطر "، وترقب القضاء تعويلٌ على أمرٍ مُغَيَّب. 2324 - ثم يتصل بالقول في السفر: أن من أصبح صائماً، ثم أنشأ السفر، لم يجز له أن يفطر، لأن الصوم تأكد بالإقامة، وإتمامه ممكن، من غير ضرار، كما وصفناه. ولو أصبح المسافر صائماً، وقدم الوطنَ، لم يفطر. ومهما اشترك في الصوم الحضرُ والسفرُ، فالتغليب للإيجاب [و] (3) حكم الحضر. ولو أصبح صائماً مسافراً، ثم بدا له أن يترخص بالفطر في دوام السفر، فالذي سمعته من شيخي، ووجدته في فحوى الطُّرُق جوازُ ذلك. وكان من الممكن أن يقال: إذا خاض فيه، التزمه، كما لو نوى الإتمام؛ فإنه لا يقصر. ولو نوى الإتمامَ، ثم فسدت تلك الصلاة، والوقت باقٍ، فيلزمه الإتمام، ويمتنع عليه القصر. ويظهر مما أبديناه من الإشكال: أنا لو قدرنا دوامَ السفر، كدوام المرض، والمريض إذا أصبح صائماً، فله أن يفطر، فلو صح هذا التشبيه، للزم أن يقال: من أصبح صائماً مقيماً، ثم سافر، جاز له أن يفطر، كما لو كان صحيحاً في أول النهار، ثم مرض. وهذا مذهب أحمد (4) والمزني (5) فكأن السفر على رأي الشافعي بين

_ (1) في (ط) مستحث. (2) في (ط) السبب الأنصب. (3) زيادة من (ط). (4) ر. الفروع: 3/ 32، كشاف القناع: 2/ 312. (5) ر. المختصر: 2/ 14، 15.

المرض والترخّص بالقصر، وتواصله يلحقه [بالمرض] (1)، وطارئه لا يجرُّ من (2) المشقة والعسر ما يجره طارئ المرض؛ فإن المرض في عينه يورث العسر. فافهموا مواقع المذهب. وقد احتج المزني في طريان السفر، وجواز الفطر، بسببه بما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم، صام حتى بلغ كراع الغميم (3)، ثم أفطر " فظن المزني أن ذلك كان في يوم واحد، واعتقد أنه صلى الله عليه وسلم، كان مقيماً في أوله مسافراً في أثنائه، وما ذكره وهمٌ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة، وبينه وبين كراع الغميم مسيرة ثمانية أيام، فالمراد بالحديث أنه صام أياماً في سفره، ثم ابتدأ الترخّص (4) بالإفطار لما انتهى إلى كُراع الغميم، و [قد] (5) قيل: تبين هذا للمزني بعد الاحتجاج، فقال للكتبة: خُطّوا عليه، وقد [يُلفى] (6) في [بعض] (7) النسخ استدلاله بالحديث مخطوطاً عليه. فصل قال الشافعي: " ولو قدم من سفره نهاراً مفطراً ... الفصل " (8). 2325 - مقصود هذا الفصل القول (9) في الإمساك عن المفطرات، بعد جريان الفطر في أول النهار.

_ (1) في الأصل: المرض. (2) انتهى الخرم الذي كان في نسخة (ك). وبذا صارت النسخ من هنا ثلاثاً. والله المعين، والهادي إلى الصواب. (3) كُراع الغميم: موضع بالحجاز بين مكة والمدينة، وهو وادٍ أمام عُسفان بثمانية أميال. (معجم البلدان). (4) في (ط) الترخيص. (5) ساقطة من الأصل. (6) في النسخ الثلاث بالقاف وهو تصحيف. (7) ساقطة من الأصل، (ك). (8) ر. المختصر: 2/ 14. (9) ساقطة من (ك).

وأصل [الفصل] (1) أن من أفطر عاصياً عامداً، فالشرع يُلزمه الإمساكَ عن المفطرات في بقية النهار. وهذا يختص بأيام رمضان، فليس على العاصي بالفطر في صوم القضاء، والنذر إمساكٌ. ثم الأمر (2) بالإمساك مشبه بالتغليظ، وطرفٌ من العقوبة، ومضادّةُ القصد، ثم الممسك متشبه، وليس في عبادة، وليس كالمحرم إذا أفسد إحرامه؛ فإنه بعد الفساد في عبادةٍ فاسدة. ويظهر أثر ذلك بأن المفسد للإحرام لو ارتكب محظوراً في إحرامه بعد الفساد، التزم الفدية، والمأمور بالإمساك لا يلتزم بالإقدام على المفطر شيئاً، وإنما يناله المأثم بتركه الأمرَ الجازم، وارتكابه النهي (3) المحرم. وقد ذكر العراقيون وجهين في أن الإمساك المأمور به بعد الإفساد هل يسمى صوماً؟ ولست أرى في الاختلاف فائدة. ويقرب من ذلك أن من أصبح في يومٍ من رمضانَ غيرَ ناوٍ، فلا نجعله صائماً، ويلزمه الإمساك، فلو نوى التطوع بالصوم، وكان ذلك قبل الزوال، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الصومَ لا يصح، وذهب أبو إسحاق إلى صحة الصوم، ووجه الرد عليه ينقسم: فيجوز أن يقال: إن كان الإمساك واجب، ومن نعت التطوع التخير، فلو صح تطوّعه بالصوم، والصوم إمساك منوي، لوقع الإمساك واجباً عن جهة الوجوب، متطوَّعاً به عن جهة التطوع، وهذا متناقض. فهذا وجه. والمسافر عندنا لا يتطوع بالصوم في سفره، وإن كان يسوغ له الإفطار، فليس الصوم مستحَقاً عليه، والتطوع ممتنع، [وسببه أن الذي] (4) حط عنه وجوبَ الصوم الترخيصُ بالفطر، فإن لم يُفطر، فقد (5) ترك الترخص، وليس بين إقامة (6) الصوم

_ (1) في الأصل، (ك): الفطر. (2) في (ط) ثم الإمساك. (3) في (ك): المنهي. (4) في الأصل، (ك): وشبه الذي. (5) في (ط) وقد. (6) في (ط) الإقامة.

وبين الترخص بالفطر مرتبة، والشرع لم يجعل شهر رمضان في حق المسافر كسائر الشهور، حتى يضع فيه أيَّ صومٍ شاء، وأبو إسحاق المروزي لما جوز للمقيم الذي أصبح غير ناوٍ أن يتطوع بالصوم، فإنه على قياسه يجوز للمسافر أن يتطوع، وهذا [حَيْدٌ عن] (1) مذهب الشافعي وقياسِه. 2326 - فإذا ثبت [أن العاصي] (2) بفطره يلزمه الإمساكُ، وتبين أصلُ المذهب فيه، وتعليلُه ومأخذُه، فلو أصبح الرجل في يوم الشك مفطراً، ثم ثبت بالشهادة أنه من رمضان، فظاهر المذهب وجوبُ الإمساك عن المفطرات، ووجه تخريج هذا على القاعدة التي مهدناها في الإمساك إذا (3) قلنا: إنه على مضاهاة العقوبة -والمفطر في يوم الشك ليس يستوجب (4) عقوبة- أنا (5) وجدنا في الشرع تنزيل المخطئ في الشيء الذي يأثم العامدُ فيه منزلة العامد، في بعض الأحكام، لانتسابه إلى ترك التحفظ. وعلى قريب منه يخرج حرمانُ القاتل خطأ الميراثَ. هذا وجهُ ظاهر المذهب. وحكى [البويطي وحرملة فيما نقله] (6) العراقيون قولاً عن الشافعي أن المعذور بالفطر في يوم الشك لا يلزمه الإمساك عن المفطرات، وهذا خارجٌ على القاعدة التي مهدناها خروجاً [ظاهراً] (7). 2327 - فلو أفطر المسافر في سفره، ثم أقام في أثناء اليوم، أو أفطر المريض، ثم زال ما به، فلا يجب عليهما الإمساك، وإن تغيرا إلى الإقامة والسلامة، خلافاً لأبي حنيفة (8). ولو أصبحا مع العذر صائمين، ثم أقام هذا، وصحّ ذلك، تحتم إتمام الصوم.

_ (1) الأصل، (ك): حيّد على. (2) في الأصل، (ك): للعاصي. (3) في (ط): إذ. (4) في (ط): يستلزم. (5) في (ك): لأنا. (6) ساقط من الأصل، (ك). (7) ساقطة من الأصل، (ك). (8) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 42 مسألة 507، اللباب: 1/ 173، الاختيار: 1/ 135.

ولو أصبحا ممسكين غيرَ ناويين، ثم انتهينا إلى الإقامة والسلامة، ففي بعض التصانيف وجهان في وجوب الإمساك، ولست أرى لإيجاب الإمساك وجهاً. 2328 - [و] (1) مَنْ ترك النية وأصبح وهو (2) مفطرٌ، فإذا لم يختلف المذهبُ في نفي وجوب الإمساك إذا كان أكل المريضُ والمسافر، فإذا أصبحا غير صائمين، فهو كما لو أكلا. 2329 - ولو أسلم الكافرُ في أثناء يومٍ، وبلغ الصبي، وأفاق المجنون، فهل يلزمهم الإمساكُ في بقية النهار؟ فعلى أربعة أوجهٍ مجموعةٍ في بعض التصانيف، وهي مفرقة في الطرق: أحدها - أنه يجب الإمساك عليهم؛ لأنهم إن لم يدركوا وقتَ العبادة، أدركوا وقتَ الإمساك، وليسوا كالمسافر يفطر مسافراً، ثم يقيم، فإنه خوطب بالترخص، وهؤلاء كانوا مستأخرين (3) عن التكليف، و [الآن] (4) كلفوا. والوجه الثاني - أنه لا يجب عليهم الإمساك، وهو الأصح؛ فإن وجوب الإمساك تَبِعَ لزومَ الصوم، وهؤلاء لم يلتزموا الصومَ؛ فإنهم لم يدركوا وقتاً يسع الصومَ الشرعي، وشرط التكليف الإمكان. والوجه الثالث - أن الكافر إذا أسلم مأمورٌ بالتشبه؛ فإنه كان متمكناً من تَرْك الكفر، والتوصل إلى الصوم، فإذا لم يفعل، كان في حكم تاركٍ لفريضة الصوم في أول النهار، وهو يلتفت على مخاطبة الكفار بالفروع. والوجه الرابع: أنه يلزم الكافر كما ذكرناه، والصبي أيضاًً، فإنه كان مأموراً بالصوم [أمر] (5) تدريب حسب ما يؤمر بالصلاة. أما المجنون فلا سبيل إلى أمره بالإمساك؛ فإنه لم ينتسب في جنونه إلى تقصير الكافر، ولم يتجه في حقه أمرٌ بالصوم حسب ما تحقق في الصبي.

_ (1) الواو مزيدة من (ط). (2) في (ط) فهو. (3) ي (ط) مستخرجين. (4) في الأصل، (ك): وإلا. (5) في الأصل، (ك): أم تدريب. (وهو سبق قلم).

2330 - ثم قال الأصحاب: الأمر بالقضاء في هذا اليوم فرعُ الأمرِ بالإمساك، فمن أمرناه بالإمساك نأمره بالقضاء. وقال الشيخ أبو بكر: من يوجب التشبه يكتفي به، ولا يوجب القضاء، ومن أوجب القضاء، لم يوجب التشبه. وهذا ليس خلياً عن الفقه، والظاهر (1) عندنا إسقاطُ القضاء، والتشبهِ جميعاً. أما إسقاط القضاء، فلأنه بسبب إدراك الوقت للأداء، وهؤلاء لم يدركوا وقت إمكان الأداء، وكانوا على صفاتٍ في أول النهار لو استمروا عليها تمامَ النهار، لم يُلزموا القضاء. 2331 - وأما الحيض، فإنه خارجٌ عن القانون؛ فإنه منافٍ لإمكان الأداء، ولا ينقدح عندي في أمر الحائض بالقضاء إلا الحملُ على أنه [بأمرٍ] (2) مجدد. ولو أصبحت المرأة حائضاً، ثم طهرت، فلا يلزمها الإمساك بلا خلافٍ (3)، على المذهب. ولا فرق بين أن تصبح ممسكةً أو مفطرة. ومن ذكر وجهين في المسافر إذا أصبح ممسكاً غيرَ ناوٍ، ثم أقام، قطع في الحائض بما ذكرناه؛ لأن الحيض ينافي الصومَ منافاة الأكل، بخلاف السفر، والمرض. فهذا منتهى الغرض في الإمساك، وما يتعلق به في محل الوفاق والخلاف. فصل قال: " إذا أفطر في أول النهار، ثم مرض ... الفصل " (4). 2332 - مقصود هذا الفصل متصلٌ بما تقدم، فإذا أصبح الرجل صائماً، وجامع من غير عذر، ثم مرض في آخر النهار مرضاً يبيح مثلُه الفطرَ، أو جُنّ في آخر النهار، أو أصبحت المرأة صائمةً ومكّنت، وقلنا: عليها الكفارة، ثم حاضت في بقية

_ (1) في (ط)، (ك): وللناظر. (2) في الأصل: أنه مجدد، وفي (ك): محرّداً، وفي (ط): أنه أمر مجدد. (وزيادة الباء تقديرٌ منا). (3) في هامش الأصل، (ك): حاشية: ذكر الشاشي في المستظهري وجهاً: أن الحائض يلزمها إمساك بقية النهار إذا طهرت. (4) لم أصل إلى هذه الجملة في المختصر.

النهار، فهذه أسباب طرأت، لو [اقترنت] (1) بالوقاع، لتضمنت إسقاطَ الكفارة، وانتهضت معاذيرَ في الفطر و (2) منافيةً للصوم، كالجنون، والحيض، ففي سقوط الكفارة في هذه الصورة أقوالٌ ثلاثة: أحدها - أنها لا تسقط، فإنّ الجماع جرى مفسداً؛ فلا أثر لطريان ما طرأ بعده، وكأن هذه الأسباب كانت (3) تنتهض مقتضياتٍ للترخص بالفطر، لو دام الصوم، فإذا تقدم الجماعُ المفسد، فكأن المجامع كما (4) أفسد الصومَ سد على نفسه باب الترخص. والقول الثاني - أن الكفارة تسقط [للشبهة] (5) وتوجيه ذلك لائح. والقول الثالث - أنا نفصل بين طريان ما ينافي الصوم كالجنون والحيض، وما لا ينافي، بل يُثبت رخصةَ الفطر، كالمرض، فتسقط الكفارة بما ينافي؛ إذ تبينا أن الصوم كان لا يتصوّر تمامه، ووضح أنه بالجماع لم يعترض على صوم كان يتم، والمرض [من] (6) أسباب الرخص، وقد تختص [الرخصة] (7) بمن [لم] (8) يفسدها على نفسه. 2333 - ولو أصبح مقيماً صائماً، [وجامع] (9) عاصياً، ثم سافر، لم يختلف قولنا في أن الكفارة لا تسقط؛ فإن طريان السفر لا يرخّص في الإفطار بخلاف، طريان المرض. ولم يجعل أئمتنا مذهبَ أحمد، والمزني -حيث صارا إلى جواز الإفطار في هذا الموضع- شبهةً (10)، فإن ما صارا إليه في مناقضة أصلٍ متمهدٍ ظاهر، وهو

_ (1) غير مقروء في الأصل. و (ك): تقرنت. (2) في (ط): أو. (3) ساقطة من (ط). (4) بمعنى: عندما. (5) الأصل، (ك): للتشبه. (6) مزيدة من (ط). (7) زيادة من (ط). (8) في الأصل: لا. (9) مزيدة من (ط) وحدها. (10) مفعول: يجعل.

تغليبُ حكم الحضر في العبادة، التي يشترك فيها السفر، والحضر. وذكر صاحب التقريب: أن من أصحابنا من خرّج سقوط الكفارة، عند طريان السفر على قولين أيضاًً كالمرض، وهذا بعيد، ولكنه ذكره على ثبت. واختلفت الرواية [في السفر] (1) عن أبي حنيفة (2) وموجَب هذه الطريقة: أنه لو سافر، ثم جامع لم تلزمه الكفارة؛ بناء على درئها بمذهب من لا يوجب (3) الصوم، وهذا تخليط، والأصل القطع بأن طريان السفر لا يؤثر. فصل 2334 - إذا طبق الجنون أياماً من رمضانَ، ثم كانت الإفاقة في بقيةٍ من الشهر، فلا يجب عندنا قضاء الأيام التي مرت في زمن الجنون. وكذلك إذا مضت أيامٌ في الصبا، ثم طرأ البلوغ في أثناء الشهر، أو أسلم الكافر الأصلي. وإنما التردد في اليوم الذي تزول فيه هذه المعاني، كما تقدم ذكرنا له في الإمساك، والقضاء. ووافق أبو حنيفة (4) في الصِّبا والكفر، وخالف في الجنون. وذكر العراقيون عن ابن سريج مثلَ مذهب أبي حنيفة [في الجنون] (5) ثم زيفوا هذا الذي حكَوْه، وقالوا: هو غلط عليه، ولعله لا يصح نقله عنه أصلاً.

_ (1) زيادة من (ط). (2) قد كان إمام الحرمين في منتهى الدقة في عبارته عن الخلاف في هذه المسألة، فقد اختلفت الرواية فعلاً عن أبي حنيفة، فمع أن كافة كتب الأحناف لا تشير إلى خلاف، إلا أن الزمخشري روى هذا الخلاف في رؤوس المسائل الخلافية (ر. المبسوط: 3/ 75، 76، البدائع: 2/ 100، 101، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 30 مسألة 514، البحر الرائق: 2/ 298، فتح القدير: 2/ 337، الاختيار: 1/ 131، رؤوس المسائل: 230 مسألة 126). (3) (ط): يجيز. (4) ر. الأصل: 2/ 183، 200، 201، 202، المبسوط: 3/ 80، 88، 93، مختصر الطحاوي: 55، البدائع: 2/ 87، 88، اللباب: 1/ 172، 173، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 15 مسألة 498، 2/ 16 مسألة 499. (5) ساقطة من الأصل وحدها.

والإغماء إذا استمر أياماً أو طبق جميعَ الشهر، فيجب قضاء الصوم في الأيام المارّة فيه، وهو كالحيض في أنه لا يُسقط قضاءَ الصوم، ويسقط قضاء الصلاة. فصل قال الشافعي: " ولو كان عليه يومٌ من شهر رمضان ... إلى آخره " (1). 2335 - نجمع في هذا الفصل تفاصيلَ الفدية، ومواضعَها. ونبدأ بما تعرض له الشافعي الآن، فنقول: من فاته صيام أيامٍ من رمضان، وتمكن من قضائها، فلا يجوز له أن يؤخر قضاءها إلى شهر رمضانَ في السنة القابلة، وليس ما نذكره استحباباً، بل يتحتم ذلك، مع القدرة، وزوال المعاذير. ولو فرض تأخير القضاء إلى السنة القابلة، من غير عُذرٍ، فيجب مع القضاء لكل يوم مدٌّ من طعام، والمعتمد في أصل التأقيت، وفي الفدية عند الإخلال بالوقت الخبرُ، والأثر، وهما مذكوران في مسائلِ الخلاف، ولا نرى قضاء عبادة يتأقت على الاستحقاق إلا هذا. ولو أخر القضاء سنتين أو سنين، ففي تضعيف الفدية وجهان: أحدهما - أنها لا تتضعّف، ولا يجب بالتأخير سنين إلا ما [وجب بالتأخير] (2) في السنة الواحدة. ثم يجوز أن يكون هذا قضاءً بالتداخل (3)، كما مهدناه في كفارة الوقاع، على قولٍ. والأصح تعدد الفدية، وتجدّدها، فيجب على مقابلة التأخير في كل سنة مدٌّ، فإن أخر سنتين، وجب مع قضاء كل يوم مدان. وهكذا زائداً، فصاعداً؛ فهذا مقامٌ في الفدية. ومما يتعلق بذلك أن التأخير إن كان بعذر، فلا فدية أصلاً، مثل أن يدوم المرض طول السنة، أو يدوم السفر، وكل ما يجوز تأخير أداء الصوم به، يجوز تأخير القضاء به، ثم لا فديةَ.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 17. (2) في الأصل: يجب في السنة. (3) في (ط): بالتواصل.

ومن صُور الفدية أن الشيخ إذا بلغ الهَرَم، و (1) عجز عن الصوم لهَرَمه، لا لمرضٍ زائد عليه، فلا شك أنه لا يصوم، ويلزمه أن يُخرج بدلَ كلِّ يوم مُداً، إذا قدر عليه. وظاهر المذهب: أنه واجبٌ. وحكى العراقيون قولاً عن الشافعي أن الفدية ليست بواجبةٍ، ونسبوا القولَ إلى رواية البويطي، وحرملة، ووجه هذا في القياس بيّن؛ فإن الهَرِم معذور، وقد قال الأئمة بأجمعهم: لو مرض الرجل مرضاً يبيح له الفطر، ثم دام المرضُ حتى مات، لم تجب الفدية في تركته، ولا أعرف في ذلك خلافاً، فلا يبعد أن يعد الهَرَم عذراً دائماً (2)، ولكن هذا القول، مع اتجاهه في القياس، لا يُعوّل (3) عليه في المذهب. ومن صور الفدية إفطار الحامل، والمرضع، وقد تفصّل القول فيهما، فيما تقدم، وذكرنا اختلافَ الأصحاب في إيجاب الفدية على من يتعمد الإفطارَ بالأكل عاصياً. 2336 - ومما يتصل بالفدية أن من مات وعليه قضاءُ أيامٍ من رمضان، وكان متمكناً من القضاء، ولا عذر، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يُخرَج من تركته في مقابلة كل يوم مد، وهذا فيه إذا لزمه القضاء، وانتفى العذر، ومات في خلال السنة. فأما إذا أخّر القضاءَ مقصِّراً إلى شهر رمضان في القابل، والتزم [لذلك الفدية] (4)، ثم مات قبل القضاء، وإخراجِ الفدية، فالذي ذهب إليه الجماهير إيجاب مُدَّيْن، في مقابلة كل يومٍ: مدٌّ في مقابلة الصوم نفسه، ومد في مقابلة التأخير. وحكى العراقيون وجهاً عن ابن سريج أنه قال: يتداخل المدان، ويكتفى بواحد. وهذا بعيدٌ جداً، لا ينقدح له وجه. هذا تفريعنا على القول الجديد.

_ (1) في (ط): أو عجز. (2) في (ط): قائماً. (3) في (ط): معوّل. (4) في الأصل، (ك): الفدية كذلك.

2337 - وللشافعي قولٌ في القديم: أن من مات وعليه صومٌ، صام عنه وليُّه، وقيل نُقل في ذلك خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذه الصيغة (1)، ولست أدري أن الشافعي ترك العمل بالخبر في الجديد؛ لأنه استبان ضعفَه أو ثبت عنده نسخٌ. ثم التفريع في هذا مما لم يتعرض له الأصحاب، فلا سبيل إلى [التحكم] (2) به، والذي يصوم عن الميت الولي، كما ورد في الخبر، أو الوارث أو القريب من غير اعتبار وراثة، أو يناط ذلك بالعصوبة؟ لا نقل عندي في تفصيل هذا. وقد وجدت الأصحاب مضطربين فيمن يرث حدَّ القذف، وذلك بعيد عما نحن فيه. وإن نزلنا هذا القولَ على لفظ الولي، فإنه المنقول، فليس معنا في معناه ثبت نعتمده، والميت في غالب الأمر لا يكون مَوْلياً عليه. وكان شيخي يقول: لا خلاف أنه لا يجب على الولي أن يصوم، وإنما الخلاف في أنه لو صام عن الميت، هل يعتد به. والعلم عند الله تعالى. 2338 - وإذا أردنا جَمْعَ التراجم، قلنا: الفديةُ تتعلق بنفس الصوم تارةً، فتحل محلَّه، وقد تنضم إلى الصوم ولا تبدله، فأما ثبوتها بدلاً عن الصوم [ففي] (3) الشيخ الهِمّ، والذي مات وعليه صومٌ، كان قصر في تأخير قضائه. وأما الفدية [المنضمة] (4) إلى القضاء، فالمتفق عليه منها ما يجب بسبب تأخير القضاء من سنةٍ إلى سنة، والمختلف فيه الفدية في حق الحامل، والمرضع. وفي المتعمد العاصي بالإفطار الخلافُ المقدم. 2339 - ثم جنس الأمداد جنسُ صدقةِ الفطر، والكفارات الواقعة بالإطعام. وكل

_ (1) حديث صيام الولي عن الميت. متفق عليه من حديث عائشة (البخاري: الصوم، باب من مات وعليه صوم، ح 1952، مسلم: الصوم، باب قضاء الصيام عن الميت، ح 1147). (2) في (ط)، (ك): الحكم. (3) الهِمّ بالكسر: الشيخ الفاني، والأنثى: همة (مصباح). هذا وفي نسخة الأصل، (ط): " في الشيخ الهم " وأثبتناها من (ك)، فالعبارة بدونها لا تستقيم هنا. (4) في الأصل، (ك): المتضمنة.

مدٍّ بمثابة كفارة تامّة، فلو أراد من لزمته أمدادٌ جَمْع عدد منها في مسكين واحد، جاز له ذلك؛ إذ لا يجب تفريق المدّ الواحد، وكل مدٍّ كفارة. فصل قال: " فإن بلع حصاةً، أو ما ليس بطعامٍ ... إلى آخره " (1). 2340 - نجمع في هذا الفصل مفسداتِ الصوم، وقد مضى صدرٌ منها، فنرسمها على هيئة الترجمة، ونستقصي ما لم يجرِ ذكره. ونبدأ به. فنقول: وصول الواصل إلى باطن عضوٍ يعد مجوفاً مفطرٌ، على الاختيار والذكر، كما تفصل ذلك. وإذا جاوز شيءٌ الحلقومَ فطَّر، وكذلك ما يجاوز الخيشومَ في الاستعاط. والحقنةُ مفطرةٌ، وكذلك إيصال الشيء إلى المثانة. والمذهب أن ما تجاوز ظاهر الإحليل يُفطر، وإن لم ينته إلى فضاء المثانة. وفيه وجهٌ بعيدٌ، لا أصل له. ولو قطّر شيئاً في أذنه، فانتهى إلى داخل الأذن الباطن، فقد كان شيخي يقطع بأنه مفطر، والذي قطع به الشيخ أبو علي، وطوائفُ من علماء المذهب أنه لا يفطر. وكان الشيخ يراعي الوصولَ إلى ما يُعدّ باطناً، والآخرون يرعَوْن أن يكون في الباطن الذي إليه الوصول قوةٌ تُحيل الواصلَ إليه غذاء، أو دواءً، وداخل الأذن ليس فيه ذلك، والتردد في داخل الإحليل، فوق المثانة، قريب من هذا التردد. ولو [وجأ] (2) الإنسان نفسَه بسكين، فإن انتهى طرفُ السكين إلى باطنٍ كما وصفناه، حصل الفطر، وإن كان نصابُه (3) ظاهراً، وكذلك إذا بلع طرفاً من خيط، وطرفٌ منه بارزٌ، فالفطر يحصل بوصول الطرف [الواصل] (4)، وخالف أبو حنيفة (5) في ذلك. ولو أوصل السكينَ إلى داخل لحم الساق، والفخذ، فلا فطر، فإن [ما

_ (1) ر. المختصر: 2/ 17. (2) في الأصل، (ك): وجه. (3) النصاب مقبض السكين (معجم). (4) مزيدة من (ط). (5) ر. بدائع الصنائع: 2/ 93، البحر الرائق: 2/ 300.

وراء] (1) البشرة، وإن كان من الباطن، فليس جوفاً، وكذلك إن انتهى طرفُ السكين إلى مكان المخ، فلا فطر؛ إذ العضو لا يعد مجوفاً. ولو أوصل الدواء [من شجة آمَّة (2) إلى ما وراء القِحْف (3)، حصل الفطر، ولا يتوقف حصولُه على الوصول إلى ما وراء خريطة (4) الدماغ. وإن أوصل الدواء] (5) إلى جرح نافذٍ إلى الباطن، فإن وصل إلى داخل البطن، حصل الفطرُ، وإن لم ينته إلى الأمعاء. ولو جاوز الدواءُ سطحَ البَشرة، ولم ينته إلى فضاء البطن، فالوجه القطع بأنه لا يفطِّر، فإن الوصول إلى هذا المكان لو كان يفطِّر، لفطَّر وصولُ السكين إليه في ابتداء الجرح، وفي بعض التصانيف غلطٌ ظاهر في الحكم [بالفطر] (6) بمجاوزة الدواء البشرة، وهذا محمول على [تثبّج (7)] (8) العبارة، وسوء الإيراد، والمراد الوصول إلى الباطن كما وصفناه. وقد ينفصل وصول اللبن إلى الباطن في حكم الرضاع، عما يحصل [الفطر] (9) به في بعض التفاصيل، حتى جرى في حصول الرضاع بحقنة اللبن قولان، إلى غير ذلك، على ما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى. 2341 - وداخل الفم والأنف إلى منتهى الخيشوم والغلصمة (10) في حكم الظاهر. والريق السائل من داخل الفم، فالواصل إلى الجوف واصلٌ من ظاهرٍ إلى باطن،

_ (1) في الأصل: فإن جاوز البشرة. (2) أمّه: شجه، والاسم آمة بالمد اسم فاعل، والجمع: أَوَام، بفتح أوله وثانيه مثل دابة ودواب. وسميت هذه الشجة آمّة، لأنها تصل إلى أم الدماغ. (مصباح). (3) القِحفُ بالكسر أعلى الدماغ. (مصباح). (4) الخريطة في الأصل الوعاء، والمراد هنا التجويف العظمي (الجمجمة) التي تحوي المخ. (5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك). (6) زيادة من (ط) وحدها. (7) في الأصل، (ك): تقبح. والمثبت من (ط). (8) ثبّج الرجلُ الكلام عمّاه، ولم يبينه، فالتثبّج مصدر تثبّج بالتشديد. (المعجم). (9) في الأصل، (ط): الفطرة. (10) الغلصمة: صفيحة غضروفية عند أصل اللسان، تنحدر إلى الخلف لتغطية فتحة الحنجرة لإقفالها عند البلع. (المعجم).

ولكن لما عسر التحرز منه، عُفي عنه. ولو انقلع شيء من أسنانه، فازدرده الصائم، أو سال من العُمور (1) دم، فتجرعه على قصدٍ، أفطر. ولو جمع الصائم ريقه، ولم يتركه يجري على الخلقة، ثم ازدرده جملةً، ففي حصول الفطر وجهان: أصحهما أنه لا يفطر، وإنما نشأ الوجهان من لفظ الشافعي، فإنه قال: وأكره العِلْك (2)، فإنه يحلب الفم، فكأنه (3) حاذر اجتماع الريق على خلاف العادة. وقال الأئمة: لو أخرج الصائم لسانه، وعلى طرفه ريقٌ، ثم ردّه، فلا بأس، وإن فارقت عذَبَة (4) اللسان الشفتين، فإن اللسان معتبر بداخل الفم، كيف تقلّب. ولو أخرج شيئاً من ريقه، وتركه على طرف الشفة بارزاً، ثم ردّه إلى فيه، فهو بمثابة ما لو ألقاه على كفه، ثم رده، ثم الفطر يحصل به، وهو المذهب في البلل المتصل بالخيط المجرور، إذا رُدّ، فإن [القلة] (5) فيه (6) لا أثر لها في منع الفطر. وما يقدّر وصوله بالمسام، فلا يتعلق الإفطار به، كالأدهان إذا تطلّى الصائم بها، أو صبها على رأسه. وإدراك الذوق مع مجّ جِرْم (7) المذوق لا يؤثر في الصوم. ولا يفطِّر الاكتحالُ والاحتجامُ، خلافاً لبعض السلف. ولا خلاف أن الافتصاد (8) لا يفطِّر. وما يجري من النخامة من الدماغ إلى الحلقوم، فلا مؤاخذة به. هكذا كان يذكره شيخي، ولو تكلف صرفَه عن سَنَن الخلقة إلى فضاء الفم، ثم ازدرده، فهذا يفطّره.

_ (1) العَمُر بفتح العين: لحم اللثة، والجمع عُمور. (المعجم). (2) العِلْك بكسر العين: ضربٌ من صمغ الشجر، كاللبان، يمضغ فلا يذوب. (معجم). (3) (ط): كأنه، (ك): فكأنهم. (4) عَذَبةُ اللسان، بفتحتين: طرفه (المعجم). (5) في الأصل، (ك): العلّة. (6) ساقطة من (ط) وحدها. (7) جرم بكسر الجيم: الجسد. (معجم). (8) افتصد المريضَ: أخرج جزءاً من دم وريده بقصد العلاج. (معجم).

وأنا أقول: إن كانت النخامة لا تظهر في الفم، وكان لها مَسْلك (1) متردد في الباطن، فلا شك أنه لا مؤاخذة بها. وليس الأمر كذلك؛ فإنها تظهر إذا برزت من الثقبة النافذة إلى الدماغ في أقصى الفم، ثم تجري إلى داخل الحلقوم. فالوجه أن نقول: ما لا يَشعر الصائم به، فهو محطوط عنه، وما يجري منه، وهو على علم وخُبْر، فإن لم يقدر على رده، فلا فطر، وإن قدر على صرفه ومجِّه، ففيه خلافٌ بين الأصحاب: منهم من لم يؤاخِذ به، وحَسَم الباب، ما لم يتكلف صرفَه عن مجراه إلى الفم؛ فإنه إذا فعل ذلك، ثم ردّه، وازدرده، أفطر. ومنهم من حكم بالفطر إذا تركه في مجراه، مع القدرة على مجِّه، وهذا يلتفت على المراتب التي ذكرناها في غبار الطريق وغيره. ومما يلتحق بهذا الفن، القولُ في سبق الماء من المضمضة، والاستنشاق، وفيما قدمناه من البيان مقنع تامٌ فيه. وكان شيخي يحكي عن الأصحاب أن من بلل خيطاً بريقه، وجرّه، ثم ردّه، وغلبه الريق، ولم يمجه بعد حصول ذلك، أفطر. وكان يقول: لست أرى الأمر كذلك؛ فإن ذلك القدر النزر أقلُّ مما يبقى من أجزاء الماء في داخل الفم، بعد المضمضة. والاحتمال في هذا محال (2). فهذا بيان هذا النوع من المفطرات، تأصيلاً وتفصيلاً. 2342 - ومن المفطرات الجماعُ، وقد فصلنا، وألحقنا الاستمناء في الإفساد والإفطارِ بالجماع؛ من حيث كان مقصودَ الجماع. والقيءُ على ما فصلناه. والردة تُفسد كلَّ عبادة، والحيض، والجنون، ينافيان العَقْدَ، ويقطعان الدوامَ. وفي الإغماء ما سبق (3). فهذه جوامع المفسدات.

_ (1) (ط) سلك. (2) كذا في النسخ الثلاث، ولكن الأشبه بعبارات الإمام أن تكون: " وللاحتمال في هذا مجال "، فهذا التعبير يتكرر كثيراً في كلامه. وكما ترى المعنى ينعكس تماماً. (3) عبارة الأصل، (ك): " في الإغماء على ما سبق ".

فصل قال: " وإن اشتبهت الشهور على أسير، تحرَّى ... إلى آخره " (1). 2343 - الأسير المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان، تحرى، وراجع التواريخ المنسلكةَ في ظنه، وقرَّب نظرَه جُهدَه، وصام شهراً. والمسألة مفروضة في استمكانه من معرفة الهلال، فإذا صام شهراً من الهلال إلى الهلال، فإن وافق شهرَ رمضان، فهو المُنى، وإن وافق شهراً بعده، وكانت أيامه قابلةً للصوم، وقع الاعتداد بما جاء به. 2344 - واختلف الأئمة في أن صومه في ذلك الشهر قضاء أم أداء؟ فمن جعله قضاءً، لم يَخْفَ توجيهُ قوله، ومن جعله أداء، تمسك بإجزائه [بنية] (2) الأداء. ثم لا يمتنع أن يفارق حكمُ المضطر [حكمَ] (3) المختار. وخرّج الأئمةُ على هذا الخلاف أن شهر رمضان في تلك السنة لو كان ثلاثين يوماً، وكان ما صامه تسعةً وعشرين، فهل يكفيه ما جاء به، أم نكلفه بعد التبين (4) قضاء يوم؟ فعلى ما ذكرناه من الخلاف في الأداء والقضاء: فإن [جعلنا صومَه أداء، فكان ذلك الشهر شهرَه، فلا نظر إلى غيره، وإن] (5) جعلناه قضاء، فقد صام تسعةً وعشرين، وبقي عليه يومٌ، فليقضه. 2345 - ولو صادف الشهرُ الذي صامه شهراً متقدِّماً على شهر رمضان، فإن انجلى الإشكالُ وشهر رمضانَ بين يديه، لزمه صومُه، بلا خلاف. وإن زال الإشكالُ بعد مضي شهر رمضان، ففي إجزاء صوم الشهر المتقدم قولان

_ (1) ر. المختصر: 2/ 20. (2) في الأصل، (ك): بقية. (3) مزيدة من (ط). (4) (ك): الثلاثين. (5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

للشافعي: أحدهما - لا يجزىء، فإن العبادة البدنية إذا تقدمت على وقتها، لم يعتد بها. والثاني - أنها تجزئ للضرورة. وكان القفال يبني هذين القولن على أنه لو وافق صومُه شهراً بعد شهر رمضان، فصومه أداءٌ، أم قضاء؟ ووجه البناء أنا إن قدرناه قضاءً، فالقضاء لا يتقدم، وعبادة البدن لا تتقدم على وقتها، وإن قدرنا الصومَ في الشهر المتأخر أداء، بناء على ظنه فتخيُّلُ (1) ذلك في التقدم والتأخر على وتيرة واحدة. فإن قيل: هل يناظر ما ذكرتموه من صور الخلاف والوفاق القولَ في خطأ الحجيج، فإنهم لو أخطئوا، فوقفوا يوم العاشر أجزأهم الوقوفُ، وإن اتفق غلطٌ في أهلّةٍ وترتب عليه الوقوف في الثامن، ففي إجزائه وجهان، وهذا يناظر تقدمَ شهر الأسير على شهر رمضان؟ قلنا: هذا تشبيهٌ من حيث الصورة؛ فإن الذي أوجبَ الفرقَ بين الثامن والعاشر عمومُ تصوّر الغلط في العاشر، وندور ذلك في الثامن، وأما غلط الأسير، فإنه على وتيرة واحدة في التقدم والتأخر، فلا ينبغي أن يُعتقد اتحاد مأخذ المسألتين. 2346 - ولو انجلى الإشكال، وقد بقي بعضُ شهر رمضان، فيجب صوم البقية، وفي إجزاء ما مضى طريقان: منهم من خرّجه على القولن، وهو (2) الوجه، ومنهم من قطع بأنه يجب استدراكه إذا اتفق إدراك شيء من الشهر. وكان شيخي أبو محمد يقول: الاجتهاد في وقت الصلاة، في حق المحبوس، على الترتيب الذي ذكرناه في الصوم، في صورة الخلاف والوفاق. فأما المجتهد القادر على أن يَصْبر حتى يستيقن، إذا تقدمت [صلاته، لم يعتد] (3) بها قولاً واحداً. 2347 - ثم ذكر الشافعي: أن من فاته صوم أيامٍ من رمضان، لا يجب عليه رعاية الموالاة في القضاء، وقصد به الردّ على مالك (4)؛ فإنه أوجب المتابعةَ في القضاء

_ (1) (ط): تتخيل. (2) (ك): وهذا. (3) في الأصل: صلاة، لم يعيّد. (بهذا الضبط). (4) الذي رأيناه عند المالكية أن التتابع لا يجب، بل يستحب (ر. حاشية ابن حمدون: 2/ 520، الإشراف: 1/ 446 مسألة 680).

[ظاناً] (1) أن الأداء متتابع، وهذا غلط؛ فإن ما تخيله من التتابع في الأداء تواصل الأوقات، وليس تتابعاً راجعاً إلى صفة العبادة، بدليل أن من أفطر اليوم الأخير من رمضان، لم يلزمه قضاء ما تقدم عليه، بخلاف الصيام المتتابع في الكفارة شرعاً، أو الصوم الذي نذر الناذر التتابعَ [فيه] (2). فصل قال: " وأحب للصائم أن ينزه صيامه ... إلى آخره " (3). 2348 - ظاهر التكليف في الصوم متعلق بالإمساك والنية، ولكن المقصود غضُّ الهوى حتى تقوى النفس على التقوى، ولو كُلِّف الخلق هذا المقصودَ تصريحاً، لما استقل به الأكثرون. وهذا من لطائف الشريعة، وكلّفوا ما يفضي إلى طرفٍ من التقوى في الغالب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصوم جُنّة، وحصن حصين، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يفسق، وإن شاتمه رجل، فليقل: إني صائم " (4) ومعنى الحديث أن [يحدّث] (5) نفسه بصومه، حتى يزجره ذلك عن المشاتمة؛ إذ لا معنى لذكر الصوم لمن شاتمه.

_ (1) بياض بالأصل. (2) مزيدة من (ط). (3) ر. المختصر: 2/ 21. (4) حديث: " الصوم جنة " جزء من حديث أبي هريرة المشهور والمتفق عليه " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ... " وله في الصحيحين طرق وألفاظ، ليس منها (حصن حصين)، وبهذا اللفظ رواه أحمد في مسنده: 2/ 402، قال الهيثمي في المجمع: إسناده حسن: 3/ 180، وكذا حسنه المنذري في الترغيب والترهيب: 2/ 83، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3881. (البخاري: الصوم، باب فضل الصوم، ح 1894، مسلم: الصيام، باب فضل الصيام، ح 1151 (163)). (5) في الأصل، (ك): يجرّب.

فصل قال: " ولا أكره في الصوم السواكَ ... إلى آخره " (1). 2349 - استعمال السواك في النصف الأول من النهار إلى زوال الشمس حسنٌ، على شرط التحفّظ من تجرع حِلابه، وازدراد شَظِيِّه، فإذا زالت الشمس، لم نر استعمالَ السواك استبقاءً للخُلُوف (2)، وفيه الحديث المشهور (3). ولا فرق بين صوم التطوع والفرض. ...

_ (1) ر. المختصر: 2/ 24. (2) خلوف: وزان قعود. (3) إشارة إلى حديث: " لخلوف فم الصائم ". وهو جزء من حديث أبي هريرة السابق: البخاري: الصوم، باب فضل الصوم، ح 1894، مسلم: الصيام، باب فضل الصيام، ح 1151 (163).

باب صيام التطوع

باب صيام التطوع 2350 - لا يلزم صوم التطوع بالشروع عندنا، وكذلك الصلاة، وللشارع فيهما قطعُهما، ثم لا يلزم القضاء. وكان شيخي يقول: الإفطار بالعذر مسوّغ، ومن جملة المعاذير في ذلك أن يعز على من أضافه امتناعُه عن الطعام، فإن لم يكن عذر، فهل يكره قطع الصوم، والصلاة؟ فعلى وجهين كان يذكرهما، ولا بُعد في ذكرهما مع الخلاف في تحريم القطع. ***

باب النهي عن الوصال

باب النهي عن الوصال 2351 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل في العشر الأخير، فواصل عمرُ وغيرُه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " وددت لو مُدّ لي الشهر مدّاً، ليدع المتعمقون تعمُّقَهم، يقوى أحدكم على ما أقوى عليه؟ إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني " (1). وغرض الباب أن الوصال كان قُربة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرّم على أمته، والوصال يزول بقطرةٍ يتعاطاها كلَّ ليلة، ولا يكفي اعتقادُه أن من جَنَّ عليه الليلُ، فقد أفطر (2). ...

_ (1) حديث النهي عن الوصال، متفق عليه من حديث أنس (البخاري: التمني، باب ما يجوز من اللَّوْ، ح 7241، مسلم: الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، ح 1104). (2) المعنى أن حقيقة الوصال تتحقق بعدم الأكل في الليل، فلو لم يأكل في الليل، سواء نوى الوصال أم لم ينوه، فهو مواصل. وإن كان دخول الليل، وانقضاء النهار، يعتبر منهياً للصوم. (ر. المجموع للنووي: 6/ 357 وما بعدها، ففيها بحث لطيف، وتفصيل بديع).

باب صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء

باب صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء 2352 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوم يوم عرفة كفارةُ السنة والسنة التي تليها، وصوم يوم عاشوراء كفارةُ السنة " (1). فقوله السنة التي تليها يحتمل معنيين: أحدهما - السنة التي قبلها، فيكون إخباراً أنه كفارةُ سنتين ماضيتين، ولا يمتنع حملُها على السنة المستقبلة، وكل ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب، فهو عندي محمولٌ على الصغائر، دون الموبقات. وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم التاسوعاء، والعاشوراء، فيحتمل أنه لم يؤثر إفرادَ يومٍ بالصوم، ويحتمل أنه احتاط لمصادفة العاشر. ثم لا يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم صائماً فيه في حجة الوداع، وتبين ذلك لأصحابه، بتناوله لبناً في قدحٍ وقتَ العصر، ومناولته سَوْدة أم الفضل بنت الحارث (2)، ولعل السبب فيه أن لا يعجز عن الدعاء عشية عرفة، فلا يَعدِلُه فيما نظن دعاءٌ وذكرٌ في غيره. ...

_ (1) حديث صوم يوم عرفة، رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والطبراني وابن حبان والبيهقي كلهم من حديث أبي قتادة الأنصاري (مسلم: الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء، ح 1162، أبو داود: الصوم، باب ما جاء في صوم الدهر تطوعاً، ح 2425، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء، ح 752، ابن ماجة: الصيام، باب صيام يوم عرفة، ح 1730، باب صيام عاشوراء، ح 1338، الطبراني في الكبير: 19/ 4، 5 ح 6، 8، ابن حبان: ح 3632، البيهقي: 4/ 283، 286). (2) حديث شرب النبي صلى الله عليه وسلم لبناً يوم عرفة متفق عليه من حديث أم الفضل بنت الحارث، ومن حديث ميمونة (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 14 ح 686، 687).

باب الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها

باب الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها 2353 - أما العيدان، فلا يقبلان الصومَ، ويلغوا نذر صومهما. 2354 - فأما أيام التشريق، فالمنصوص عليه في الجديد أنها لا تقبل صوماً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: " إنها أيام أكل وشرب وبِعَال " (1). وقال في القديم: للمتمتع أن [يوقع] (2) فيها صيامَ الأيام الثلاثة الثابتة في كفارة التمتع. ثم اختلف أصحابنا في التفريع على القديم، فقال بعضهم: إنها لا تقبل غير صوم التمتع، لضرورةٍ تخصه، وقال آخرون: إنها كيوم الشك، على ما نصف حكمَه. 2355 - أما يوم الشك، فقد سبق تصويره، [واعتماد] (3) صومه من غير سبب منهيٌ (4) عنه، وفي صحته وجهان، كالوجهين في إيقاع الصلوات التي لا أسباب لها في الأوقات المكروهة، ونَذْر صومه يخرج على ذلك، فإن لم نصحح فيه صوماً بلا سبب، لغا نذْر صومه، وإن صححنا صومه مع الكراهية، صح النذر.

_ (1) حديث أيام التشريق أيام أكل وشرب، روي من طرق صحيحة بدون لفظ (بعال)، (مسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وأما بلفظ: بعال، فقد رواه الدارقطني والطبراني وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي من طرق مختلفة وكلها ضعيفة كما قال الحافظ في التلخيص (ر. مسلم: الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق، ح 1141، الدارقطني: 2/ 212، ابن حبان: 5/ 245، المعجم الكبير للطبراني: 11/ 232 ح 11587، أبو يعلى: ح 5913، 6024، ابن أبي شيبة: (3/ 104)، السنن الكبرى: 4/ 298، تلخيص الحبير: 2/ 375 ح 894، خلاصة البدر المنير: ح 1108). (2) في الأصل، (ك): يرفع. (3) في الأصل، (ك): واعتماده. (4) منهي: خبر لقوله: واعتمادُ، وليست نعتاً لـ" سبب ".

وذكر القاضي حسين مسلكاً يفضي إلى تنزيل يوم العيد، منزلة يومِ الشك. وما نراه قاله عن عَقْدٍ، وإنما ذكره في تقدير كلامٍ تقديراً، لا تحقيقاً. وأصل المذهب لا يُزال بمثل هذا. ولو أوقع في يوم الشك قضاءً، أو صوماً منذوراً، أو صادف وِرداً له، فلا بأس، ولا كراهية. ولو أراد أن يصوم شعبان كله، فصام يومَ الشك على قصدِ استكمال شعبان، فلا بأس أيضاًً، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله " (1) والله أعلم. ...

_ (1) حديث عائشة، متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 20 ح 712).

باب الجود والإفضال في شهر رمضان

باب الجود والإفضال في شهر رمضان 2356 - قال ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الخلق، فإذا دخل شهر رمضان كان أجود بالخير من الريح المرسلة " (1) معناه في العموم، أو في التسرع (2). وبالجملة شهر رمضان شهر البركات، والبدار إلى الخيرات، والحسناتُ فيه مضاعفة، فليبتدرها الموفقون. والله وليّ التوفيق. ...

_ (1) حديث ابن عباس متفق عليه (البخاري: بدء الوحي، ح 6، مسلم: الفضائل، باب جوده صلى الله عليه وسلم، ح 2308). (2) في (ك): الشرع.

باب الاعتكاف وليلة القدر

باب (1) الاعتكاف وليلة القدر 2357 - صدّر الشافعي كتابَ الاعتكاف بالقول في ليلة القدر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلتمسها في العشر الأواخر، ويعتكف فيها ليلاً، ونهاراً. واختلف العلماءُ: هل كانت ليلة القدر في الأمم؟ والمختار عندنا أنها مختصة بهذه الأمة؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس لأْمَتَه (2)، وقاتل في سبيل الله ألف شهر، لا ينزِعها (3)، فاستعظمت الصحابة، [ذلك] (4) وتمنَّوْا أن يكون لهم مثلُ هذا العمر، وهذه القوة؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] إلى قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، فدل هذا على تخصيص هذه الأمة [بها] (5). 2358 - ثم اختلف الناس في وقتها: فذهب بعضُهم إلى أنها في السنة، وعندنا أنها في الشهر، ومذهب أبي حنيفة (6) أنها في الشهر، لا يختص بها عشر، وذهب الشافعي إلى أنها في العشر الأخير، وميله إلى أنها ليلةُ الحادي والعشرين، وفيه الحديث الصحيح، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أريت هذه الليلةَ، فخرجت لأخبركم، فتلاحا فلانٌ وفلان، فأُنسيتها، ولعله خيرٌ لكم، ورأيتني أسجد في صبيحتها إلى ماءٍ وطين " قال راوي الحديث، أبو سعيد الخدري:

_ (1) في (ط): كتاب. (2) لأْمَته، بفتح فسكون: أداة الحرب كلُّها: من رمحٍ، وبيضة، ومِغْفَرة، وسيف، ودرع. (المعجم). (3) ينزِع: من باب ضرب. (4) مزيدة من (ط). (5) زيادة من المحقق؛ رعاية للسياق والسباق. (6) ر. فتح القدير: 3/ 389.

" أبصرت عيناي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته وأنفه أثرُ الماء والطين، في صبيحة إحدى عشرين " (1). وفي الحديث: إن المسجد كان على عريش، وأمطرت السماء فوكف (2). وقال الشافعي -رحمه الله- في بعض المواضع: هي ليلةُ الحادي والعشرين، أو ليلةُ الثالث والعشرين. وذهب طوائفُ من الناس إلى أنها ليلةُ السابع والعشرين، وإليها صَغْوُ (3) الناس، وهو مذهب ابن عباس. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " اطلبوها في العشر الأواخر، واطلبوها في كل وتر " (4) وروي أنه قال: " اطلبوها لتسع بقين، أو لخمسٍ بقين، أو لثلاثٍ بقين، أو الليلةَ الأخيرة " (5). وذهب بعض العلماء إلى أنها رُفعت، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبعد المذاهب. 2359 - فإن قيل: فعلى ماذا التعويل؟ وما المعتبر في هذا؟ قلنا: للشافعي مذهبان: أحدهما - في انحصار ليلة القدر في العشر الأخير، والآخر: تعيينه الحاديَ والعشرين، والثالثَ والعشرين. وبين مذهبيه فرقٌ، تبينه مسألة، وهي الكاشفة لغائلة الفصل. [قال الشافعي] (6): لو قال لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق حتى ينفضي

_ (1) حديث أبي سعيد في ليلة القدر متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 25 ح 725). (2) وكف البيت بالمطر، من باب وعد: سال قليلاً قليلاً. (المصباح). (3) صغو: من باب عدا: مَيْلُ. (المختار). (4) حديث: " اطلبوها في العشر " جزء من حديث أبي سعيد الخدري السابق، وهو متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 20/ 25 ح 725). (5) حديث: " اطلبوها لتسع بقين " رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. (أحمد: 5/ 36، 39، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في ليلة القدر، ح 794، ابن حبان: 3686، الحاكم: 1/ 438). هذا وقد جاء في الحديث زيادة (، أو لسبع " بين التسع والخمس، وقد سقطت من سياقة الإمام للحديث. (6) ساقط من الأصل، (ك).

العشر، ولو انقضت، طُلّقت، ولا نحكم بوقوع الطلاق بانقضاء الحادي والعشرين، ولا بانقضاء الثالثة (1) والعشرين؛ فمذهبه ثابتٌ في أنها في العَشر، وهو على تردد في التعيين من العشر، والحديث الذي يتكرر في متن كل مروي قوله: " التمسوها في العشر الأخير " وفي الحديث تأكيدُ الأمر بالألتماس في الأوتار، من غير إغفال الأشفاع. فإن قيل: الانحصار في العشر مقطوعٌ به؟ قلنا: لا، ولكنه [مذهبٌ] (2) ثابت، والطلاق يناط وقوعه بالمذاهب المظنونة (3). وذكر صاحب التقريب في كتابه تردداً، في أنه يجوز أن تكون في النصف الأخير من رمضان. وهذا متروك عليه، ولا نعرف له متعلَّقاً. وفي العلماء من قال: إنها تنتقل. هذا نجاز القول في ذلك. 2360 - ثم حق من يتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المعتكَف قبل غروب الشمس يومَ العشرين، حتى تغرب عليه الشمس، وهو في معتكفه، ثم يستمر إلى استهلال هلال شوال، ولو أحيا ليلةَ العيد، تعرّض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا ليلتي العيد، لم يمت قلبُه يوم تموت القلوب " (4).

_ (1) كذا. على معنى الليلة، وفي (ك): " الثالث ". (2) مزيدة من (ط) وحدها. (3) ر. المجموع للنووي: 6/ 453، وراجع موضوع ليلة القدر كاملاً من 446 - 474، ففيه كلام نفيس، وعلم غزير. (4) حديث: " من أحيا ليلتي العيد ... " رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعاًً وسنده ضعيف كما في الزوائد، ونقل الحافظ أن الدارقطني ذكره في العلل من حديث ثور عن مكحول عن أبي أمامة. وقال: والصحيح أنه موقوف على مكحول. وقد رواه الشافعي في الأم: (1/ 231) موقوفاً على أبي الدرداء - (ابن ماجة: الصيام، باب فيمن قام في ليلتي العيد، ح 1782، مجمع الزوائد: 2/ 198، التلخيص: 2/ 160 ح 676، السلسلة الضعيفة للألباني: ح 521).

والاعتكاف كان في الشرائع المتقدمة، قال الله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. وعن عائشة أنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف، فيدني إليّ رأسَه، فأرَجِّله " (1). فصل قال: " والاعتكاف سنة حسنة، ويجوز بغير صوم ... إلى آخره " (2). 2361 - المنصوص عليه للشافعي في الجديد أن الاعتكاف يصح بغير صوم، ويصح في الليلة الفردة، والعيد وأيام التشريق. وقال أبو حنيفة (3): " لا اعتكافَ إلا بصوم "، ثم ناقض، وقال: لو اعتكف يوماً محتوشاً بليلتين، صح اعتكافه في اليوم والليلتين، وإن كانت الليلةُ لا تحتمل الصوم. وحكى الأئمة قولاً للشافعي في القديم، في اشتراط الصوم في الاعتكاف. ثم قال الأئمة: إذا فرعنا على القول القديم، لم نصحح الاعتكاف في الليل، لا تبعاً، ولا مفرداً. 2362 - فإن قلنا: الصومُ شرطُ الاعتكاف، لم نشترط الإتيانَ بصومٍ لأجل الاعتكاف، بل نصحح الاعتكافَ في رمضان، وإن كان صومُه مستحَقاً شرعاً، مقصوداً. وإن قلنا: الصوم ليس بشرط في الاعتكاف، فلو نذر أن يعتكف صائماً، فهل يلزمه الجمع بين الصوم والاعتكاف، [أم يجوز له أن يعتكف بلا صوم، ويصومَ

_ (1) حديث عائشة رضي الله عنها متفق عليه (البخاري: الاعتكاف، باب الحائض ترجل رأس المعتكف، ح 2028، مسلم: الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، ح 297). (2) ر. المختصر: 2/ 31. (3) ر. الأصل: 2/ 230، 239، 254، مختصر الطحاوي: 57، المبسوط: 3/ 115، البدائع: 2/ 109، 110، 111، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 47 مسألة 534، و2/ 50 مسألة 539 رؤوس المسائل: 237 مسألة 133.

بلا اعتكاف] (1)، فعلى وجهين، وربما كان يقول: على قولين: أحدهما - لا يجب الجمع؛ فإنهما عبادتان، كلُّ واحدة مقصودةٌ في نفسها، فلا يجب الجمع بينهما بالنذر، كما لو قال: لله عليّ أن أعتكف مصلياً؛ فإنه لا يلزمه الجمع بينهما. والثاني - يلزمه الجمع، لاستواء العبادتين في المقصود؛ إذ الغرض من كل واحد منهما الإمساك، والانكفاف، وإذا تقاربتا، لم يبعد التزام جمعهما، كما لو نذر أن يُقرن بين الحج والعمرة. وكان شيخي يقول: لو نذر أن يصوم معتكفاً، لم يلزمه الجمع بينهما، وجهاً واحداً. وهذا لا أرى له وجهاً، فلا فرق بين أن ينذر الاعتكاف صائماً، وبين أن ينذر الصوم معتكفاً، فالوجهان جاريان. قال القفال: إذا قال: لله عليّ صلاةٌ، أقرأ فيها السورة الفلانية، فهل يجب عليه الوفاء بذلك جمعاً، حتى لو قرأ تلك السورة في غير الصلاة المنذورة، وأقام الصلاة دونها، يجوز؟ قال: هذا يخرّج على الخلاف في أنه هل يجب الجمع بين الاعتكاف والصوم بالنذر. فصل قال: " ومن أراد أن يعتكف العشرَ الأواخر ... إلى آخره " (2). 2363 - الأَوْلى فرض هذا الفصل في النذر. فإذا قال الرجل: لله عليّ أن أعتكف العشر الأواخر من الشهر، فإن ابتدأ الاعتكافَ مع (3) انقضاء العشرين من الشهر، ثم خرج الشهر ناقصاً، فقد خرج عن موجَب نذره؛ فإنه وإن نذر العشرَ في لفظه، فالمراد به (4) افتتاحُ الاعتكاف في الوقت الذي ذكرناه، إلى انقضاء الشهر، ثم الشهر قد يكمل، وقد ينقص، فلا حكمَ لذكر العشرِ مع تعيين الآخر من الشهر.

_ (1) ساقط من الأصل، (ك). (2) ر. المختصر: 2/ 32، 33. (3) (ط): من. (4) (ط): فيه.

ولو قال: لله عليّ أن أعتكف عشرةَ أيامٍ، ثم افتتح الاعتكاف، في الوقت الذي ذكرناه من الشهر، ثم نقص الشهر، لزمه اعتكافُ يومٍ آخر؛ فإنه اعتبر بالعشر، وجرَّد القصد إليه، فلا بد منه، ووضوح ذلك يغني عن الإطناب فيه. فصل 2364 - لا بد من ذكر الاعتكاف المتطوّع به، والمنذور، وتمييزِ أحد القسمين عن الثاني، على الجملة. ثم المسائل الموضوعة في الباب تفصِّل ما نجمله [فيهما] (1). فالاعتكاف يقع تطوعاً، ومنذوراً، فأما التطوع، فعماده النيّة، وقد اختلف -أولاً- أئمتنا في أن حضور المسجد من غير مُكث: هل يكون اعتكافاً معتداً به؟ فمنهم من قال: لا بد من لُبث، وهو الاعتكاف. ومنهم من قال: الحضور يقع قُربةً، معدودة من قبيل الاعتكاف، وإن لم يقع لُبث. فهذا (2) بمثابة حضور عرفة، فإنه يُغني ويَكفي في تحصيل الركن، وإن كان قد أُوجب باسم الوقوف، وهو مشعر بالمكث إشعار العكوف (3). التفريع: 2365 - إن حكمنا بأن الحضور كافٍ، فحضور المسجد اعتكافٌ مع النية، حتى لو نوى من يدخل من بابٍ ويخرج من بابٍ الاعتكافَ، كان ما جاء به قُربةً، من قبيل الاعتكاف. وإن قلنا: لا بد من لُبث، لم يكفِ فيه ما يكفي في الطمأنينة في الركوع؛ فإنا قد أوضحنا أنه يكفي في إقامة الفرض منها، انفصالُ آخرِ حركةِ الهُويّ عن أولِ حركة الرفع عن الركوع، وكأن الغرض تحصيلُ صورة الركوع، مع فصله عما قبله وبعده. وأما هذه القُربة، فشرط تصويرها عند هذا القائل المُكث، فليكن محسوساً.

_ (1) في الأصل، (ك): فيها. (2) (ط): وهذا. (3) (ط): الوقوف.

ولو كان المعتكف متردّداً (1) في أرجاء المسجد، فهو معتكف، وقد يكون زمان تردد من يصح اعتكافه أقلَّ من زمان من يدخل من بابٍ، ويخرج من باب، والبابان متحاذيان. 2366 - ثم إذا ثبت أن الاعتكافَ المتطوعَ به يعتمدُ النيةَ، فالنيةُ لا يخلو إما أن تثبت مرسلة، من غير ربط بأمدٍ معلوم، وإما أن تتعلق بمدة معلومة. فإن نوى من دخل المسجدَ الاعتكافَ، بقي معتكفاًً ما بقي في المسجد، طال الزمان، أو قصر. وكان شيخي يتردد في مثل هذه الصورة، في (2) الصلاة ويقول: إذا نوى المتطوع الصلاةَ مطلقةً، ولم يربط قصدَه بأعدادٍ معلومة من الركعات، فالوجه تصحيحُ ركعةٍ؛ إن اقتصر عليها، أو ركعتين، أو أربع (3)، فأما المزيد -ولم يرد فيه ثبتٌ على الاسترسال- ففيه نظر. ووجدت لغيره القطعَ بأنه لو نوى الصلاةَ وأراد إقامةَ مائةِ ركعة في تسليمةٍ، فلا بأس. وهذا هو القياس. ولا ينبغي للمحصل إذا هاب شيئاً أن يتخذ هيبته معوَّل نظره. فإذا كان الاعتكاف كذلك، فمهما اتفق خروجٌ، انقطعَ، ولا بد في العَوْد من تجديد النية، ثم يكون اعتكافاً مبتدأً، والذي مضى اعتكافٌ تام [إن] (4) كان لُبثٌ، وإن لم يكن، فعلى ما قدمناه من الخلاف. و (5) لا فرق بين أن يخرج لقضاء الحاجة، أو لغيرها فيما ذكرناه. فلو ربط النيةَ بأمدٍ، ارتبطت به. قال شيخي: إذا خرج، وعاد، فإن قرب الزمان، لم يحتج إلى تجديد النية في المدة المعينة. وإن بعد الزمان، ففي البناء على

_ (1) (ط): يتردد. (2) (ط): وفي. (3) في الأصل، (ط): أربعة. وهو جائزٌ إذا تقدّم المعدود. (4) ساقطة من الأصل، (ك). (5) الواو مزيدة من (ط).

النية المتقدمة، والاكتفاءِ [بها] (1) قولان مأخوذان من تفريق الطهارة، وما ذكرناه فيه إذا لم يكن الاعتكافُ منذوراً. 2367 - قال الإمام: لو نذر اعتكافَ أيام، ولم يشترط التتابعَ، فدخل المعتكَف، ونوى إقامة الوفاء بالنذر، فإذا خرج، وعاد، وقرب الزمان، لم يحتج إلى تجديد النية. وإن بعد، فعلى القولين؛ فإن التتابعَ إذا لم يكن مستحَقاً، قامت النية في إقامة الوفاء بالنذر، مقام (2) النية في التطوع بأصل الاعتكاف، ولا يختلف النوعان بالاستحقاق، [والاستحباب] (3)، وإنما المتبع النيةُ، وصفة التتابع غيرُ مرعية. ولم يفصل شيخي (4)، لمّا قال: " إذا قرب الزمان، فلا حاجة إلى تجديد النية "، بين أن يكون الخروج لقضاء [الحاجة] (5)، أو غيرها، وإنما اعتبر قربَ الزمان. وفي (6) كلام أئمتنا في الطرق: إن الخروج إن (7) كان لقضاء الحاجة، فلا حاجة إلى تجديد النية عند العَوْد، وإن لم يكن لقضاء الحاجة، ففي التجديد عند العود خلافٌ، وإن قرب الزمان؛ لأن الخروج مناقضٌ للاعتكاف، وليس كالتفريق في الزمان اليسير، في الطهارة. وهذا محتملٌ. 2368 - وفي بعض التصانيف أن مَنْ كان يعتاد دخولَ المسجد، لإقامة الجماعة، أو غيرها، وكان لا يظهر ما يخالف عادته في الدخول والخروج، فلو نوى كلما دخل الاعتكافَ، لم يكن اعتكافاً عند بعض الأصحاب، لأنه غيرُ مخالفٍ لعادته، في دخلاته وخرجاته. وهذا معدود من سقطات الكتاب (8)؛ فإن المكث، والحضور،

_ (1) مزيدة من (ط). (2) في الأصل، (ك): ومقام. (3) في الأصل، (ك): والاستحثاث. وفي (ط): فالاستحباب. والمثبت لفظ (ط) مع تغيير الواو بالفاء. مراعاة للسياق. (4) هذا يؤكد أنه يعني شيخه بقوله: (الإمام). (5) في الأصل، (ك): حاجة. (6) (ط): ومن. (7) (ط): إذا. (8) المراد كتاب (أبي القاسم الفوراني)، فإمام الحرمين كثير التتبع للفوراني، والحط عليه،=

هو الذي تردّد الأئمة فيه، فأما إذا حصل المكثُ، وانضمّت النيةُ إليه، فليس يتجه إلا القطعُ بتصحيح الاعتكاف. وحكى الشيخ أبو بكر في آخر الكتاب (1): إن من أصحابنا من لم يصحح الاعتكافَ إلا يوماً، أو ما يدنو من يوم، وزعم هذا القائل أن النصف من اليوم، فما دونه، مما يغلب جريان المكث في مثله لعامة الناس، لحاجاتٍ تعنّ لهم في المساجد، ولا يثبت الاعتكاف إلا بمكثٍ يظهر في (2) مثله أن صاحبه معتكف في المسجد، [وهذا] (3) أبعد. وما حكيناه من هذا التصنيف، وما قدمنا في ذلك التصنيف، وما حكاه الشيخ واحد. وإنما التردد في الصيغة. هذا قولينا في التطوع بالاعتكاف. 2369 - فأما الواجب، فهو المنذور، ولا يجب الاعتكاف شرعاً، وهذا يخرم ضبطاً لبعض الأصحاب، فيما يلزم بالنذر؛ فإن طائفةً منهم، صاروا إلى أنه لا يُلتزم بالنذر إلا ما يجب بأصل الشرع، والاعتكاف يَرِد على ذلك، ومحاولة الجواب عنه تكلّفٌ. وسنذكر حقيقة ذلك وسرّه، في كتاب النذور. ثم الاعتكاف المنذور ينقسم إلى: مقيد بالتتابع، وإلى مضافٍ إلى الزمان المعين، من غير تتابع، وإلى مضافٍ إلى زمان معين، مع التقييد بالتتابع. فأما المنذور المطلق الذي لم يتقيد بزمانٍ، ولا تتابع، فقد ذكرنا فيه غرضَنَا في

_ =وللفوراني كتابان مشهوران، هما: (الإبانة)، و (العمد). ولعل المقصود هنا (الإبانة)، فهو الأكثر شهرة. (1) واضحٌ أنه يعني (كتاب الاعتكاف)، وإلا، فليس من المعقول أن يكون هذا الكلام عن الاعتكاف في ختام كتابه الذي يحوي الفقهَ كلَّه. (2) في (ط): (من). وهي مرادفة لـ (في). (3) في الأصل: وهو.

فرض الاشتغال بالوفاء به، عقداً ونيةً، وأوضحنا أن التتابعَ إذا لم يكن شرطاً، فالقول يؤول إلى النية في إنشاء الوفاء. ثم الخروج من المعتكَف والعَوْد إليه يستدعي الكلامَ في الاحتياج إلى تجديد النية. وقد ذكرنا تفصيلَ ذلك؛ فإذاً هذا خارجٌ عن غرضنا. والقول وراء ذلك في الأقسام الثلاثة، التي ترجمناها، فنقول: أمّا النذر المقيّد بالتتابع، من غير إضافةٍ إلى [الزمان، فالتتابع مرعيٌّ] (1) فيه وفاءً بالنذر، ولا يخفى أن من حكم التتابع إذا انقطع، بما يتضمّن قطعَه [كما سنصفه] (2)، فأثرُ ذلك بطلان الاعتكاف، فيما مضى. 2370 - ونحن نذكر معاقد المذهب فيما يؤثر في التتابع وفاقاً، وفي مواقع الخلاف، وفيما لا يؤثر، ولا نحوي جملةَ الغرض، بل نبيّن ما يظهر، ويجري مجرى تأسيس القواعد، ونحيل غيره عفى مسائل الكتاب؛ فإنها منصوصة. فالخروج لقضاء الحاجة لا يقطع التتابعَ، وإن لم يجر له تعرّض؛ فإن هذا في حكم المذكور المستثنى بقرينة الحال، ثم إن قرب زمان الخروج والعَوْد، فلا أثر لما جرى. وإن كان منزله بعيداً وتطاول الفصل لذلك، فوجهان. وكذلك لو كثرت الخرجات لعارضٍ اقتضى الخروج عن عادة الاعتدال، فهو على الوجهين: فمن أئمتنا من راعى جنس (3) الخروج لقضاء الحاجة، ولم يجعله مؤثراً، من غير تعريج على التفاصيل، ومنهم من خصص عدم التأثير [بقرب] (4) الزمان، وجريان الأمر على عادة الاعتدال. وما ذكرناه من القرب والبعد، لا توقيف فيه، والرجوع (5) إلى العادة، فكل زمان

_ (1) في الأصل، (ك): زمانٍ مرعي. (2) بياض بالأصل. (3) ساقطة من (ط). (4) في الأصل، (ك): بفوت. (5) (ك): فالرجوعُ.

لا يُخرج المرءَ عن هيئة ملازمة المسجد، فهو قريب، وما يخرجه عن هيئة الملازمة، فهو البعيد الذي ذكرناه. ولو كان له داران قريبة وبعيدة، ولم تكن البعيدة -بحيث لو لم يملك غيرها- لا يُقطع الاعتكافُ بالخروج إليها في وجهٍ [عند] (1) فرض الانفراد، فإذا تُصوّرت المسألة بهذه الصورة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يتعين الخروج إلى المنزل القريب؛ إذ لا حاجة إلى غيره. والثاني - لا بأس بالخروج إلى المنزل البعيد، إذا كان على الحد الذي وصفناه في الانفراد. وظهر اختلاف أصحابنا في الخروج لأجل الوضوء، من غيرِ بولٍ وتغوّط، فذهب الأكثرون إلى أنه يؤثر؛ فإن الوضوء في المسجد ممكن، ولا شك أن هذا في الوضوء الواجب. وكذلك اختلف أئمتنا في الخروج لأجل الأكل، والأظهر أنه يؤثر. ومتعلَّق من يقول: إنه لا يؤثر أن الأكل في المسجد قد يقدح في المروءة. ونهايةُ الضرورة ليست مرعية. ولا خلاف أنا [لا] (2) نشترط غايةَ إرهاق الطبيعة في الحاجة. 2371 - ومما يتعلق بما نبغيه في ذلك: أن المرأة إذا اعتكفت، وحاضت، [و] (3) خرجت عن معتكفها، نظر: فإن كانت نذرت الاعتكاف في زمان متطاول يغلب طريان الحيض عليه، فلا ينقطع التتابع بطريان الحيض؛ فإن ذلك مما لا يتأتى التحرزُ منه. وكذلك القول في طريان الحيض على الصيام المتتابع في الزمان الممتد. وإن نذرت الاعتكافَ المتتابعَ، في زمانٍ لا يبعد خلوه عن الحيض، ولكنها قربت افتتاحَ الوفاء من نوبتها، [أو] (4) اتفق تقدم الحيضة على [خلاف] (5) عادتها، ففي

_ (1) في الأصل: عن. (2) مزيدة من (ط)، (ك). (3) مزيدة من (ط). (4) في الأصل، (ك): و. (5) مزيدة من (ط).

انقطاع التتابع في الصورتين وجهان: أحدهما - ينقطع لخروج الحيض عن القبيل الذي يغلب طريانه. والثاني - لا ينقطع؛ نظراً إلى جنس الحيض وتركاً للاشتغال بتفصيله، ونظائر ذلك كثيرة، وقد ذكرنا في هذا الفصل ما يقرب منه، وهو الخروج لقضاء الحاجة على بعد الزمان بسبب بعد المنزل، أو خروج الطبيعة عن عادة الاعتدال. وسيأتي نظير هذا في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين، إذا فرض طريان الحيض عليها، على قولينا باشتراط التتابع. فإن قيل: إن جرى الخلاف في تقدم الحيضة، فما وجهه إذا قصدت تقريب زمان افتتاح الوفاء من عادتها؟ قلنا: تأخّر الحيضةِ ممكن كما يمكن تقدمها، نعم: أصح الوجهين في هذه الصورة الانقطاعُ. 2372 - ولو خرج المعتكف لعذر المرض المنتهي إلى مبلغٍ يقتضي الخروجَ عن المعتكَف، ففي انقطاع التتابع قولان، وكذلك إذا أفطر الملابس للصوم المتتابع. فمن قال: لا ينقطع التتابعُ في الموضعين، فمتعلقه ثبوت الضرورة في الفِطر، والخروج من المعتكَف، ومن قال بالقول الثاني، فمتعلقه أن المرض ليس مما يعرض (1) ويطرأ لا محالة، بخلاف الحيض، وهذا تقرر في موضعه. وإن كان المرض بحيث يؤدي إلى تلويث المسجد لو فرض المكث [فيه] (2) كاسترخاء الأَسْر (3)، والاستحاضة، فلأئمتنا طريقان: منهم من ألحقه بالحيض، ليقطع بأنه لا يقطع التتابعَ، ومنهم من أقره على القولين، وهو القياس. فهذه جملٌ نبهنا عليها. وقد ترد مسائل في الكتاب تلتفت على هذه القواعد، وفاقاً وخلافاً، لم نذكرها الآن، حتى ننتهي إليها. 2373 - فإذا تبين ما يقطع التتابع وما لا يقطعه، فإنا نذكر وراء ذلك التفصيلَ في أن الأزمنةَ التي تمضي في غير المعتكَف هل يعتد بها من الاعتكاف؟

_ (1) (ط): يفرض. (2) مزيدة من (ط). (3) الأَسر بفتح وسكون شدة الخلق، والأسر بضمتين، أو بضم فسكون: احتباس البول. فالمراد هنا باسترخاء الأَسْر، ضعف القدرة على التحكم في البول (معجم ومصباح).

فنقول: أما الخروج لقضاء الحاجة، فقد ذكرنا: أنه لا يؤثر في قطع التتابع، ونقول الآن: إنه معتدٌّ به حتى إذا اعتكف الرجل أياماً، ولو جمعت أوقات خرجاته، لبلغت يوماًً أو بعض يوم، فلا نقول: يجب تداركها. اتفق الأصحاب عليه، حتى قال طوائف من المحققين: إن الخارج لقضاء الحاجة معتكف، وإن لم يكن في المسجد، واستدل هؤلاء بالاعتداد بهذا الزمان، وكان من الممكن أن لا يعتد بها، وإن كان يُحكم بأن التتابع لا ينقطع. واحتج هؤلاء أيضاًً بأن الخارج لقضاء حاجته [لو] (1) جامع، فسد اعتكافه. وكان من الممكن أن يقال: لا يفسد، ويُعدّ الجماع الواقعُ منه بمثابة الجماع الواقع [منه] (2) ليلاً في الصوم المتتابع. وقال قائلون: ليس الخارج معتكفاً، ولكن زمان خروجه مستثنىً، وكأن الناذر قال: لله عليّ اعتكاف عشرة أيام، إلا أوقاتَ خروجي لقضاء الحاجة، وأما الجماع، فقد حمله هؤلاء -في كونه مفسداً- على اشتغال الخارج بما لا يتعلق بحاجته، وقد نقول: لو عاد مريضاً، ينقطع تتابعُه. وإن كان خروجه لقضاء الحاجة على ما نفصله، حتى لو فرض الوقاع مع الاشتغال بقضاء الحاجة -على بعدٍ [في] (3) التصوير- لم يفسد الاعتكاف. وهذا بعيدٌ، والصحيح أنه يفسد الاعتكاف- وإن (4) فرعنا على أنه غير معتكف؛ فإنه (5) عظيمُ الوقع في الشريعة، وهو [وإن] (6) قرب زمانه أظهر أثراً من عيادة مريض. وقد ذكر أئمتنا أن الخارج لقضاء حاجته إن عاد مريضاً في طريقه، فلم يحتج إلى

_ (1) الأصل، (ك): أو. (2) مزيدة من (ط). (3) مزيدة من (ط). (4) (ط): فإن. (5) الضمير يعود على الجماع، كما صرح الرافعي في فتح العزيز: 6/ 533 حيث نقل نفس العبارة. والفاء متعلقة بـ (يفسد) تعليلاً. (6) مزيدة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): وهو أنه قرب زمانه.

الازورار (1)، فلا بأس بذلك، ولو ازورّ، وعاد، انقطع التتابع، وإن قرب الزمان على وجهٍ كان يحتمل مثلُه في الأناة في المشي؛ فإن هذا يقدح في القصد المجرّد إلى قضاء الحاجة. وذكر الأصحاب أن الخارج لقضاء الحاجة لو أكل لقماً، فلا بأس إذا لم يجرِ أكلٌ مقصودٌ، ولم يظهر طول زمان معتبرٍ، والجماع في مثل هذا الوقت مؤثر بلا خلاف، ومِنْ تَكلُّفِ تصويرهِ، [فرضُ جريانه مع الاشتغال] (2) بقضاء الحاجة. هذا كلام الأئمة في الخروج لقضاء الحاجة. فأما الخروج لعذر الحيض، أو عذر المرض، على أحد القولين، فغير معتد به، ولا بد من استدراكه، بخلاف زمان الخروج لقضاء الحاجة. وإن استوى جميع ذلك في أنها لا تقطع التتابع. وهذا ظاهرٌ في الحيض، والمرض، وإنما الغموض في الاعتداد بزمان الخروج لقضاء الحاجة. ولو خرج والاعتكاف متتابع، لزيارةٍ، أو عيادةٍ، أو غرضٍ آخرَ صحيحٍ، من غير حاجة، فلا شك في انقطاع التتابع. 2374 - ولو استثنى الخروج لأغراضٍ، فقال: لا أخرج عن معتكفي إلا لكذا، وكذا، فالأصح الذي قطع به معظم الأئمة صحةُ (3) الاستثناء، والمصيرُ إلى أن التتابع لا ينقطع بالخروج بالأغراض المستثناة. وحكى صاحب التقريب والإمامُ قولاً للشافعي في القديم: أن الاستثناء باطلٌ، ويجب الوفاء بالتتابع، وهذا مهجور لا تفريع عليه. فإذا خرج لما استثناه، وحكمنا بأنه لا ينقطع تتابعُ اعتكافه، فيعود ويبني، ولا يُعتد بزمان خروجه، كزمان المرض والحيض، بخلاف زمان الخروج لقضاء

_ (1) الازورار: الميل، والمراد هنا الميل عن الطريق إلى طريق آخر بسبب عيادة المريض. (2) في الأصل: فرضه مع جريانه مع الاشتغال وفي (ط): فرضه في جريانه، وفي (ك): فرضه جريانه. (3) ساقطة من (ط).

الحاجة؛ فإنه إنما استثنى ما ذكره؛ حتى لا يؤثر في قطع التتابع، ولم يذكره حتى [لا] (1) يحط من زمان اعتكافه. 2375 - وإذ نجز هذا، نعود بعده إلى تفصيل القول في تجديد النية، فنقول: أما إذا خرج لقضاء الحاجة، وعاد على ما ينبغي، فلا يحتاج إلى تجديد، وإن عاد بعد زمانِ المرض، أو زمان الغرض المستثنى، فقد ذكرنا أن التتابع لا ينقطع، وهل يحتاج إلى تجديد النية؟ ذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - أنه لا يجب التجديد؛ فإن التتابع منتظمٌ والمتخلّلُ غيرُ معتد به. وفيه وجهٌ آخر: أنه لا بد من تجديد النية. وذكره شيخي. وهذا الخلاف مبنيٌّ على نظير له في الطهارة، فإذا فرق المتوضئ وضؤَه، وقلنا: التفريق لا يبطل الوضوء، [فإذا] (2) عاد إلى البناء على بقية الطهارة، ففي اشتراط تجديد النية وجهان مشهوران. وكل ما ذكرناه [من] (3) كلام في قسمٍ واحد من الأقسام الثلاثة، وهو إذا نذر اعتكافاً متتابعاً، ولم يعين زماناً. 2376 - فأما إذا [نذر] (4) اعتكافاً وأضافه إلى زمانٍ حكمه التواصل، ولكنه لم يتعرض للتتابع، مثل أن يقول: لله عليّ أن أعتكف العشرَ الأواخر، من هذا الشهر، فاعتكافه -إذا وفَّى به- يقع متتابعاً، ولكن ذلك التتابع لتواصل الأوقات، لا لكونه مقصوداً في نفسه، ويظهر أثر ذلك [بفَرْضِ] (5) الكلام [في القضاء] (6) فلو (7) لم يف بإيقاع الاعتكاف في ذلك الوقت المعين، فلا شك أنا نُلزمه القضاءَ، ثم لا نوجب

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) الأصل، (ك): وإذا. (3) مزيدة من (ط). (4) في الأصل، (ك): ذكر. (5) في الأصل: بغرض، (ك): بعرض. (6) ساقط من الأصل، (ك). (7) في الأصل، (ك): ولو.

التتابعَ، كما لا نوجب التتابعَ في قضاء صيامٍ عن شهر رمضان. ولو افتتح الوفاءَ، ثم خرج عن معتكفه لقضاء الحاجة، لم يؤثر خروجُه، ولم يلزمه استدراك زمان الخروج للحاجة، وإذا عاد، لم يلزمه تجديد النية، ولو خرج لا لحاجة -من غير استثناء-، فزمان خروجه لا يعتد به، ولا يبطل ما تقدم من الاعتكاف؛ فإن التتابع ليس مرعياً في هذا النوع، قصداً إليه، والاعتكاف في كل لحظة عبادةٌ على حيالها، فصار تخلل ما ذكرناه بمثابة تخلل الإفطار في أيام رمضان. وكذلك لو فرض طريانُ مفسدٍ، وهو الجماع المفسد، [فلا] (1) يفسد ما مضى. ثم كما لا يفسد ما مضى، لا يخرج باقي الزمان عن التهيؤ [لقبول] (2) الاعتكاف الواجب. وإذا كان كذلك، فإذا فرض عودُه في الصورة التي انتهينا إليها، فالمذهب أنه لا بد من تجديد النية؛ فإن ما مضى عبادةٌ منفصلة، عما يستقبله الآن، وقد تخلل المفسدُ، أو الزمن الذي لا يعتد به. ولو رُددنا إلى القياس، لما اكتفينا بنية واحدةٍ، في أوقات، كما لا يكتفى بنية واحدة في أول شهر رمضان، ولكن تخصيص كل لحظة بنية عسرٌ، فلأجل ذلك انبسطت نيةٌ واحدة على الأوقات المتواصلة، فإذا تخلل ما يقطع التواصل، وجب الرجوعُ إلى الأصل المنقاس الذي مهدناه. وذكر الشيخ أبو علي في هذه الصورة وجهاً آخر، عن بعض الأصحاب: أن النية الأولى شاملةٌ كافيةٌ، وقد نوى اعتكافَ العشر، فلئن طرأ ما لا يعتد به، فحكم النية باقٍ في البقية. 2377 - ومما يتصل بهذا القسم أنه (3) لو عين الناذر أوقاتاً لاعتكافٍ (4) متواصلة، واستثنى أغراضاً، فإذا خرج لها، على حسب استثنائه، لم يجب عليه تداركها في هذا القسم؛ من جهة أن (5) معنى استثنائه لها يرجع إلى حط أوقاتها عن الأوقات

_ (1) في الأصل، (ك): ولا. (2) في الأصل، (ك): والقبول. (3) ساقطة من (ك). (4) عبارة (ط): أوقات الاعتكاف. (5) (ك): أنه.

المعيّنة، فكأنه قال: لله تعالى عليَّ أن أعتكف هذه الأوقات، إلا أوقاتَ خروجي، وليس كما إذا نذر اعتكاف أيامٍ شائعةٍ متتابعة من غير تعيين زمان، ثم افتتح الوفاء، وقد كان استثنى الخروجَ لأغراضٍ، فإذا خرج لها، لم يعتد بزمان خروجه، وإن لم ينقطع التتابع؛ لأن استثناءه في القسم الأول محمول على أن لا ينقطع التتابع، وهو محمول في القسم الذي نحن فيه على الحط عن الزمان. وهذا واضح لا شك فيه. ولو حاضت المرأة، [و] (1) كانت عينت زماناً في النذر، من غير تعرضٍ للتتابع، أو مرضَ الناذرُ كذلك، فخرج، فزمان الحيض والخروج، لا يعتد به، ويجب تلافيه، وليس كالأوقات التي تمضي في الأغراض المستثناة، والسبب فيه أن استثناءه مُصرِّح باقتضاء حطّ الأوقات، فأما زمان الحيض والمرض، فليس يتعلق به لفظٌ يتضمن الحطَّ، وقد يستوعب الزمانُ [جملةَ] (2) الوقتِ المعيّن، فصار زمان العوارض (3) في حكم ترك الملتزَم، وإن كان الترك بسبب العوارض مسوَّغاَّ. ومن نذر صوم يوم، ثم تركه من غير عذرٍ، قضاه، ولو تركه لعذر، قضاه. نعم، الخروجُ لقضاء الحاجة مستثنىً عن هذا القانون، في كل مسلكٍ، ولا يجب تداركُه، ولهذا ذهب ذاهبون إلى أن الخارج في ذلك الوقت معتكفٌ. وقد نجز غرضُنا في هذا القسم. 2378 - فأما القسم الثالث - وهو إذا جمع بين تعيين الزمان، وبين التعرض للتتابع، فقال: لله عليّ أن أعتكف العشرَ الأخير، من هذا الشهر، متتابعاً، فهل يثبت التتابع مقصوداً؟ حتى يقال: لو طرأ مفسد يبطل ما مضى؟ فعلى وجهين: أحدهما (4) أنه يثبت (5) حكم التتابع؛ فإنه تعرّض له، وجرّد القصد إليه، فلا منافاة بينه، وبين تعيين الزمان.

_ (1) زيادة من (ط). (2) مزيدة من (ط). (3) إشارة إلى الحيض والمرض. (4) (ط): أصحهما. (5) (ك): لا يُثبت.

والوجه الثاني - أن التتابع يُلغَى، والغلبة لما عينه من الوقت، وذكر التتابع محمول على تواصل (1) الزمان. ثم ما قدمناه من الأحكام، المتعلقة بالتتابع، وتعيين الوقت لا تخفى إعادته هاهنا. فهذا منتهى غرضنا في جمل عقد (2) المذهب، في قواعد الاعتكاف. 2379 - وقد قال صاحب التقريب: إذا وقع التفريع على الأصح في تصحيح الاستثناء عن التتابع، فلو قال الناذر: لله عليّ أن أتصدق بعشرة دراهم، إلا أن أحتاج قبل التَّصدُّق (3)، فإذا احتاج، فهل يسقط واجب النذر إعمالاً للاستثناء؟ [قال:] (4) المسألة محتملة. وكذلك لو فُرض في نذر الصوم والصلاة وغيرهما من القرب الملتزمة بالنذر. وطرد هذا فيه، إذا قال: لله عليّ شيء من ذلك، إلا أن يبدوَ لي. زعم أن المسألة محتملة؛ إذا بدا له. ولم يُشر في مجاري كلامه إلى إفساد النذر، لمكان الشرط. نعم ذكر شيخي أنه لو استثنى في هذه القربات ما يتعلق به غرض، كالافتقار في نذر الصدقة، وكما (5) يناظر هذا في كل قُربة، فالاحتمال لائح. فأما إذا قال: إلا أن يبدو لي، فالأوجه إبطال هذا الاستثناء؛ فإنه غير متعلق بغرض. وقد يتجه عندنا إفساد النذر، في هذه الصورة؛ فإنه إذا علق بِخيَرة نفسه، فهو مضادٌّ لمعنى الإلتزام، وتعويل الوفاء على التصميم إذاً (6)، والمصمم على التطوع يُمضيه. 2380 - وألحق العراقيون شيئاً بهذا الفصل يدانيه من وجهٍ، [و] (7) الغرض منه

_ (1) (ط): تتابع. (2) (ط): في عقد جمل المذهب. (3) (ط): الصدقة. (4) في الأصل، (ك): فإن. (5) (ط): كما. (بدون الواو). (6) (ط): أداءً. (7) زيادة من (ط).

غيرُه، فقالوا: إذا كان نَذَر صوماً، ثم شرع فيه، وفاء بالنذر، وشرط أن يتحلل عنه، إن عنّ عارض عيّنه، مما يعد [عَرَضاً] (1) مؤثراً، وإن لم يكن في عينه مبيحاً للخروج، كالمرض التام المؤثر في إثبات رخصة الإفطار، قالوا ينعقد الصوم، ويثبت التحلل [عندنا، على] (2) شرط القضاء؛ لأجل الاستثناء. ولو شرط التحلل عن الحج لعارض المرض، وهو -كيف قدر- لا يبيح التحلّلَ عندنا لعينه، فهل يثبت التحلل بالشرط؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما في المناسك، -إن شاء الله تعالى- وسبب الفرق أن الحج مباينٌ لسائر العبادات، في مزيد [التأكيد] (3). هذا ترتيبهم. وكان شيخي يقلب هذا الأمرَ، ويجعل التحلّلَ في الحج وفاءً بالشرط- أولى بالثبوت؛ لخبرٍ فيه ما سنرويه في موضعه؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهلِّي، واشترطي أن محلي حيث حبستني " (4) ويقول: لو فرض شرطٌ مثلُه في الصوم المنذور، فلا ينقدح إلا بطلان الشرط، [أو] (5) بطلان النية بالشرط، حتى لا ينعقد الصوم كذلك. 2381 - ومن تمام القول في الاستثناء في الاعتكاف [أنا] (6) إذا صححناه، لم يزد على مقتضاه، حتى لو استثنى عيادة المرضى، لم يخرج لأمرٍ هو أهم منها. وقال الأصحاب: لو ذكر عيادةَ زيدٍ، لم يخرج لعيادة عمرو. ولو قال: أخرج لكل شُغل يعنّ لي، فهو صحيح، فليخرج إن أراد، لكل ما يُعد شغلاً، ديناً ودنيا، على شرط

_ (1) في الأصل، ط: غرضاً. (2) عبارة الأصل، (ك): ويثبت التحلل عن شرط القضاء. (3) الأصل، (ك): الناذر. (4) حديث: " أهلي واشترطي ... " متفق عليه من حديث عائشة في قصة ضُبَاعة بنت الزبير (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 37 ح 754). (5) الأصل، (ك): و. (6) الأصل، (ك): أما.

أن يكون مستباحاً في الشرع. وليس من الأشغال الخروجُ للنظر إلى رُفقةٍ، [أو] (1) مجتمعٍ، فإن هذا يعد في العرف هَزلاً، غير محصل. وقد يمكن أن يضبط الشغل بمقصود (2) المسافر في مقصد سفره، على ما تفصّل في موضعه. ولو قال: أخرج مهما أردتُ، فهذا ضد التتابع، فكأنه التزم التتابعَ، ثم نفاه، وفيه وجهان: أحدهما - أن التتابع يَبْطل التزامُه. والثاني - أنه يلزمه، ويبطل الاستثناء. وقد يلتفت هذا على شرائط فاسدة، تُقرَن بالوقوف والحُبُس، فإنا (3) في مسلكٍ لنا نُبطل الشرطَ وننفذ الوقف، وفي مسلكٍ آخر نُبطل الوقفَ، لاقترانه بالشرط المفسد. 2382 - هذا تمام البيان في ذلك. فصل قال: " واعتكافه في المسجد الجامع أحب إليّ ... إلى آخره " (4). 2383 - هذا الفصل يستدعي تقديمَ القول في تعيين المساجد في الاعتكاف. فنقول: أولاً - إذا عين مسجداً في نذرِ صلاةٍ، فقال: لله عليّ أن أصلي في هذا المسجد، فإن كان غيرَ المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد القدس، لم يتعين المسجد للصلاة، وله أن يقيمها في غير ذلك المسجد، ولا حرج عليه في إقامتها في غير المساجد. ولو عين مسجد القدس، ومسجد المدينة، ففي وجوب الوفاء قولان، فإن عين المسجدَ الحرامَ للصلاة في سياق نذرها، ففي المسألة طريقان: قال قائلون: يجب

_ (1) في الأصل، (ك): ومجتمع. (2) في الأصل، (ك): لمقصود. (3) (ط): فأما. (4) ر. المختصر: 2/ 33.

الوفاء، قولاً واحداً. وخرّج آخرون المسألة على قولين في المسجدين: مسجد المدينة، ومسجد إيليا (1). وتفصيل ذلك والتفريع عليه يُستقصى في كتاب النذور -إن شاء الله تعالى-. فأما إذا عين مسجداً غير المساجد الثلاثة في سياق نذر الاعتكاف، ففي تعيين المسجد وجهان: أحدهما - أنه لا يتعين، كما لا يتعين للصلاة. والثاني - أنه يتعين، وهو ظاهر النص، والسبب فيه أن الاعتكاف في الحقيقة انكفافٌ عن الانتشار في سائر الأماكن والتقلب فيها، كما أن الصوم انكفاف عن [أشياء زمناً] (2) مخصوصاً، فنسبة الاعتكاف إلى المكان، كنسبة الصوم إلى الزمان. ولو عين الناذر يوماً بعينه [لنذر] (3) صومه، تعين اليوم، على المذهب الأصح، فليتعيّن المسجد بالتعيين أيضاًً، ثم إذا تعين ما سوى المساجد الثلاثة (4)، فتعيّنها أولى. وإن لم يتعين ما سواها، ففي تعيينها القولان المذكوران في الصلاة، وينبغي أن يكون صَغْو الفقيه إلى [كون] (5) التعيين أليق بالاعتكاف منه بالصلاة. وهذا يقتضي ترتيباً في محل الخلاف: فإذا ثبت ذلك، قلنا بعده: لو عين مسجداً لنذره، فليلتزمه، وإن أقام الاعتكاف في غيره، لم يُعتدّ به. وإن قلنا [إنه] (6) لا يتعين، فلو [خاض] (7) في الاعتكاف في مسجدٍ كان عينه، ثم خرج لقضاء حاجةٍ، وعاد إلى مسجدٍ آخرَ، على مثل مسافة ذلك المسجد، أو أقرب [منه] (8) ثم اعتاد ذلك مثلاً في كل خرجة، فقد اختلف أئمتنا: فقال بعضهم: يجوز، وهو القياس؛ فإنه آتٍ بالاعتكاف، ولا تعيُّنَ، والخرجات لقضاء الحاجات مقتصدةٌ على الضبط

_ (1) إيليا: اسم مدينة بيت المقدس؛ قيل: معناه: بيت الله. (معجم البلدان). (2) في الأصل، (ك): انتشارٍ ما. (3) في الأصل، (ط): كنذر. (4) في الأصل، (ك): الثلاث. وهو جائز حيث تقدّم المعدود. (5) مزيدة من (ط). (6) مزيدة من (ط). (7) في الأصل، (ك): فاض. (8) مزيدة من (ط).

المقدّم. وجَبُن (1) بعض الأصحاب، فمنع هذا، صائراً إلى أن [الخوض في] (2) الاعتكاف في مسجدٍ يوجب إتمامه فيه، وإنما الكلام فيما قبل الشروع. وهذا ساقطٌ، لا أصل له، فينبغي ألا يعتد به. 2384 - عاد بنا الكلامُ إلى ما ذكره الشافعي، إذ قال: " الاعتكاف في المسجد الجامع أحب إليّ "، وإنما قال ذلك، لكثرة الجماعة في المسجد الجامع، وقد يزيد أمد اعتكافه المتتابع على أسبوع، فإذا كان في الجامع، لم يحتج إلى الخروج عن معتكَفه. وقد بنى الشافعي قولَه هذا على تعيّن المسجد؛ فإنه عوّل في تعويل الاستحباب، على أنه لا يحتاج إلى الخروج من معتكفه للجمعة، وإذا قلنا: لا يتعين المسجدُ، فلا يمتنع فرضُ خروجٍ لقضاء [الحاجة] (3) مع العود إلى الجامع، كما مهدنا في المقدمة صورَ الوفاق والخلاف. ثم يتصل بهذا الفصل أنه [إن] (4) عيّن غير الجامع، وزاد أمد اعتكافه على الأسبوع، فيلزمه الخروج إلى الجمعة، فإذا عيّنَّا المسجدَ بالنذر، ثم أوجبنا الخروج، فهل ينقطع (5) التتابع؟ فيه اختلاف [قولٍ] (6) وله نظائر، سأذكرها مجموعةً في فصلٍ، بعد ذلك. والذي [ننجزه] (7) هاهنا: أن نذره لا ينتهض عذراً في جواز ترك الجمعة؛ فإنه هو الذي أدخل على نفسه هذا التضييق، والعسر (8)، فليتأمل الناظر ذلك. وإن لم يعين المسجدَ، فلو خرج لحاجةٍ، ثم عاد على قُربٍ، من الزمان

_ (1) وصف عجيب، ينبئ عن حدّةٍ في طبع إمامنا الجليل، وعن إيمانه بالقواعد والمعاقد التي يضعها، للالتزام بها، والتفريع عليها. (2) زيادة من (ط). (3) في الأصل، (ك): حاجة. (4) مزيدة من (ط). (5) (ط): يتقاطع. (6) في الأصل، (ك): قوله. (7) في الأصل، (ك): ننحوه. (8) (ط): والعَنْس. (وفيها معنى الاحتباس). (المعجم والمصباح).

والمكان إلى الجامع، فالمذهب أن تتابعه لا ينقطع، ولو خرج إلى الجامع من غير توسط الخروج لقضاء الحاجة، فهذا خروجٌ إلى واجب، ففيه الخلاف المقدّم الذي رمزنا إليه، ووعدنا تقريره مع نظائره. فصل قال: " ولا بأس أن يسأل عن المريض ... إلى آخره " (1) 2385 - وقد ذكرنا أن الحائض في الاعتكاف المتتابع، إذا لم تستثن شيئاً، لم تخرج إلا لقضاء الحاجة، وألحقنا بها في التفصيل ما مضى. فلو خرج لعيادة مريض قصداً، بطل تتابعه، وبطل ببطلانه اعتكافُه، ولو رأى مريضاً على طريقه، في ممره إلى قضاء حاجته، فعاده، ولم يُطل، فلا بأس؛ فإن هذا لا يعد قصداً إلى العيادة، ولو مال عن الطريق، فعاد مريضاًً يبطل التتابع؛ فإنه تجديد قصدٍ، ولو سأل عن المريض غيرَه، ممن يصادفه، على [طريقه] (2) فلا بأس، وإذا لم تؤثر عيادته مريضاً على ممرّه، فلا شك أن السؤال عنه على الممر لا يؤثر، ولو دخل منزلَه، فجلس جلسة حتى يُهيَّأ له موضعُ الحاجة، احتُمل ذلك، وعُدّ اشتغالاً بقضاء الحاجة، فلو أنه في هذه الحالة تعاطى لقماً، فأكلها، فلا بأس، ولو قضى حاجته، ثم خرج وأكل لقماً، ولم يأت بأكلٍ مقصود في نفسه، فهذا القدر لا يؤثر أيضاًً -وإن وقع بعد الفراغ- على الأصح من المذهب، وفيه شيء على بعد. وقد ذكرت في الانتقال إلى المنزل للوضوء من غير قضاء حاجةِ البلوى خلافاً، ولا خلاف أن من قضى حاجته واستنجى، لم نكلفه نقلَ الوضوء إلى المسجد، فإن هذا يقع تابعاً، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن المريض، إلا مارّاً في اعتكافه، لا يعرج على شيء " (3).

_ (1) ر. المختصر: 2/ 33. (2) في الأصل، (ك): طريق. (3) حديث عائشة رواه أبو داود، وقد ضعَّف الحافظ إسناده، ثم قال: " والصحيح عن عائشة من=

وقد أجمع أصحابنا على أن الوقفة القريبة لا تؤثر إذا لم تصر (1) العيادة مقصودة، ولو ازورّ مسرعاً، وعاد مريضاً، وعاد في زمن يحتمل مثله، بين الرَّيْت والعجل، فالذي جاء به يقطع التتابع لمكان القَصْد، والعيادة (2) على الطريق يعتبر [فيها] (3) طول الزمان وقصره. ثم الذي إليه الرجوع أن يزيد الأمدُ زيادةً تزيد [على وصف الاقتصاد، بحيث تزيد على الاتئاد] (4)، بحيث يُحسّ به (5) المنتظر المراقب. وما ذكرناه في الأكل جريانٌ على الأصح في أنه لو خرج للأكل، لم يجز. فصل قال: " ولا بأس أن يشتري، ويبيعَ ... إلى آخره " (6). 2386 - إذا اشتغل في معتكفه بالبيع والشراء، لم يبطل اعتكافُه، وكذلك (7) إذا كان يَخيط، أو يحترف بحرفة أخرى، ولا فرق بين أن يقع ذلك، وهو صنعةُ الرجل يتبلغ بها، وبين ألا تكون صنعتَه. وعن مالك (8): أنه إذا كان يقيم صنعةً يكتسب بها في المسجد، لم يصح

_ =فعلها وكذلك أخرجه مسلم وغيره، ا. هـ (ر. أبو داود: الصوم، باب المعتكف يعود المريض، ح 2472، مسلم: الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، ح 297، التلخيص: 2/ 419 ح 952). (1) (ط): تغير. (2) (ط): فالعيادة. (3) مزيدة من (ط). (4) زيادة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): تزيد على الارتياد على وصف الاقتصاد. (5) (ط): بحيث تجزئه المنتظر. (6) ر. المختصر: 2/ 34. (7) (ط): فكذلك. (8) ر. تهذيب المدونة: 1/ 389، حاشية العدوي: 1/ 413.

اعتكافه، وهذا باطلٌ [عندنا] (1)؛ فإن انحصاره في المسجد هو الاعتكاف، إذا اقترنت به النية. وفي بعض التصانيف (2) إضافة مذهب مالك إلى الشافعي على البت (3)، وهذا غلطٌ صريح، ولو جاز أن نعول على ما ذكره مالك، لامتنع الاعتكافُ رأساً، فإن صاحبه اتخذ المسجد بيتَه، ومسكنه، فلا حاصل لهذا، لا نقلاً، ولا تعليلاً. 2387 - ثم قال الشافعي: ولا يُفسده سباب، ولا جدال، والأمر على ما قال. لا يَفسدُ الاعتكافُ بهذا، كما لا يفسد الصوم بمثله. قال الصيدلاني: ولكن يذهبُ أجرُه بذلك، وتفوته الفضيلة، وليس الكلامُ في الأجر والفضيلة من شأن الفقهاء، فلا حاصل لما ذكره، والثواب غَيْب لا مطَّلع عليه. وإن ورد خبر في أن [الغِيبة] (4) تُحبط الأجرَ، فهو تهديد مؤوَّل، وقد يرد مثله في الترغيب. ثم ذكر الشافعي في أثناء الكلام: أن صاحب الاعتكاف المتتابع لا يخرج لشهود الجِنازة، فإن أدخلت الجنازة رحبةَ المسجد، وهي من المسجد، فلا كلام، وإن خرج لقضاء حاجته، فصادف جنازةً على الطريق، فصلى عليها، فلا بأس؛ فإن الزمان قريب. فليتخذ الفقيه هذا معتبرَه، وليثق بما ذكرناه في الوقوف للعيادة، ولا يزْوَرُّ (5) للصلاة على الجنازة.

_ (1) في الأصل، (ك): عندي. (2) يتأكد هنا أن المراد ببعض التصانيف كتب أبي القاسم الفوراني، حيث يرفض إمامنا إضافته مذهب مالك إلى الشافعي وحكايته على أنه مذهب الشافعي مروي عنه، وقد أكد السبكي أن حملة إمام الحرمين على الفوراني، إنما هي من جهة تضعيفه في النقل (ر. الطبقات: 5/ 110). (3) (ك): اللبث. (4) الأصل، (ك): الفتنة. (5) ط: يرون، ويزورّ: أي يميل عن طريقه.

فصل قال: " ولا بأس إذا كان مؤذِّئاً أن يصعد المئذنة، فإن كانت خارجةً ... إلى آخره " (1). 2388 - إذا شرع المؤذن في اعتكافٍ، متتابعٍ، ثم كان يصعد المئذنة، ويؤذن، فإن كانت المئذنة من المسجد، فلا إشكال في دوام الاعتكاف؛ فإن المئذنة بمثابةِ بيتٍ في المسجد. وإن كانت المئذنة خارجةً عن سمت المسجد، متصلةً به، وكان بابُها لافظاً في المسجد نفسِه، فقد قطع الأئمة بأن التتابع لا ينقطع بالخروج إليها، والرقيّ فيها. 2389 - وإذا كانت لا تُعد من المسجد، ولو نذر (2) الاعتكافَ فيها، لم يصح؛ فإنّ حريم المسجد، لا يثبت له حكم المسجد في جواز الاعتكاف فيه، وتحريمِ المكث على الجُنب، والمرورِ على الحائض، ولكن النص قاطع بما ذكرناه. ولم أعثر بعد على خلافٍ [للأصحاب] (3) فيه، مع الاحتمال الظاهر في القياس؛ فإن الخارج إلى هذه المئذنة خارجٌ إلى بقعةٍ غيرِ صالحةٍ للاعتكاف. ولو كان بابُ المئذنة إلى الشارع، أو إلى الحريم، وكان المؤذّن يخرج إلى موضع الباب، ويرقى، ففي انقطاع تتابعه وجهان مشهوران: أحدهما - الانقطاع وقياسه بيّن، والثاني -[أنه لا ينقطع لمعنيين: أحدهما - كون المئذنة على الحريم، والحريمُ من حقوق المسجد، والثاني] (4) - أن خرجاته للأذان مستثنىً في ظاهر حاله، كخرجات الرجل لقضاء حاجته. وهذا في المؤذن الراتب، فأما غيره إذا خرج، فإن قلنا: ينقطع تتابع المؤذنِ

_ (1) ر. المختصر: 2/ 34. (2) (ط): قدّر. (3) في الأصل، (ك): الأصحاب. (4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).

الراتب، فلأن ينقطع تتابع هذا أولى، وإلا، فوجهان، على المعنيين، فمن اعتمد استثناء المذهب (1) [لخرجاته] (2) حكم ببطلان تتابع من ليس راتباً، ومن عوّل على الحريم، لم (3) يُبطل اعتكافَ غير الراتب أيضاًً. فهذا غاية النقل، مع التنبيه على الاحتمال، والإشكال. 2390 - والقول الحاصل: أن الباب إذا كان لافظاً في المسجد، وانضم إليه الرقيّ للأذان من الراتب، فلا خلاف من طريق النقل، وفي الاحتمال ما ذكرناه. فإن كان في الحريم، والباب خارجٌ، فالخروج للأذان من الراتب على وجهين، ومن غير الراتب للأذان على خلافٍ مرتبٍ، والخروج من الراتب وغيرِه لغير الأذان -والباب خارج- يقطع التتابعَ. والرقيّ في المئذنة اللافظ بابها في المسجد، لغير الأذان [لا] (4) نقل فيه عندنا، والظاهر الانقطاع؛ فإن المئذنة، وإن كانت لافظةَ الباب في المسجد، فإنها ليست معدودةً من المسجد؛ إذ لا يجوز الاعتكاف فيها. فهذا تمام المراد في ذلك. 2391 - وفي النفس شيء، يتعلق تمام البيان فيه، بذكر معنى الحريم، وسنجمع (5) قولاً بالغاً في كتاب الصلح -إن شاء الله تعالى- وفيه نبيّن حريمَ المسجد، والمِلْك. ولا شك أن المؤذن لو دخل حجرةً مُهيَّأة للسكنى بابها لافظ في المسجد، يبطل اعتكافه، وإنما قيل ما قيل في المئذنة، لأنها مبنيةٌ لإقامة شعار المسجد.

_ (1) (ط): العادة. (2) في الأصل، (ك): بخرجاته. (3) (ط): لا. (4) الأصل، (ك): فلا. (5) (ط): نجمع.

2392 - ثم قال الشافعي: " وأكره الأذان بالصلاة للولاة " (1). فمن أئمتنا من قال: ليس هذا من مسائل الاعتكاف، بل هو كلام معترض فيها، والمراد أنا نكره للمؤذن أن يأتيَ بابَ الوالي وغيره، فيؤذنَ على بابه، أو (2) يأتي ببعض كلمات الأذان، كالحيعلتين؛ فإن الأذان الراتبَ دعوةٌ عامة، فليكتفِ بها (3) آحاد (4) الناس. ولو حضر المنبِّه أبوابَ الأعيان ونادى بالصلاة، ولم يذكر شيئاً من كلم (5) الأذان، فقد اختلف أئمتنا في ذلك (6): فمنهم من قال: إنه لا يكره، وهو اختيار القفال، ويشهد له: أن بلالاً كان يأتي بابَ حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قرب قيامُ الصلاة، وينادي: " الصلاةَ الصلاةَ " (7). والشاهد في كراهية الأذان، ما روي: " أن المؤذن أتى بابَ عمر، بعد ما أذن للعامة، فأذن له (8)، فأنكر عليه، وقال: أما يكفيني أذان العامة " (9). فهذا ما يتعلق بالكراهية في ذلك، نفياً وإثباتاً.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 34. (2) (ط): ويأتي. (3) (ط): بهذا. (4) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها: كآحاد الناس. (5) (ط): كلام. (6) (ط): اختُلِفَ فيه. (7) خبر نداء بلال ... لم نجده بهذا السياق، وإنما جاء في كنز العمال من حديث ابن عمر: " جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه الصلاة، صلاة الصبح، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله! قالها مرتين أو ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أغفى، فجاء بلال فقال: الصلاة خير من النوم ... " (ر. الكنز: 8/ 357 ح 23253 وعزاه لأبي الشيخ، وللضياء المقدسي في المختارة). (8) (ط): به. (9) خبر الأذان بباب عمر لم نجده بهذا اللفظ، وإنما روى الضياء المقدسي في المختارة أن عمر قدم مكة، فأتاه أبو محذورة، فقال: " الصلاة يا أمير المؤمنين، حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال له عمر: حي على الصلاة حي على الفلاح! أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك، تأتنا ثانياً؟! (ر. كنز العمال: 8/ 341 ح 23168).

وحمل بعضُ الأصحاب هذا على مسائل الاعتكاف، وزعم أن المراد أن المؤذن لا يخرج من معتكفه ليقف على الأبواب، وينادي، ولو فعل ذلك، انقطع تتابع اعتكافه، وهذا يخالف خروجَه للأذان على حريم المسجد، كما سبق (1) التفصيل [فيه] (2). فصل قال: " وإن كانت عليه شهادةٌ ... إلى آخره " (3). 2393 - نذكر في هذا الفصل خرجاتٍ، ضروريةٍ، طارئةٍ، على الاعتكاف المتتابع. وأصل جميعها أن المرض إذا ثقل، وعسر احتمالُه في المسجد، فإذا خرج المعتكف لأجله، ففي انقطاع التتابع القولان المقدَّمان. ويقع في مرتبته ما إذا [أخرج] (4) الإنسان عن معتكفه قَهْراً (5)، والجامع بينهما أن كل واحد منهما عارضٌ ضروري، لا يحكم عليه بغلبة الوقوع، قبل [اتفاقه] (6)، فالمعتكف (7) غير منتسب فيه إلى تفريطٍ سابق. ومما يتعين التنبه له [أن] (8) الصائم لو أُوجر الطعامَ، لم يفطر وفاقاً، ولو أكره حتى [طعم] (9)، ففي الفطر قولان. والخروج من المعتكَف، لا فرق فيه بين أن يُكرَه حتى يخرج بنفسه، وبين أن يُحمل، بل نفسُ مفارقةِ المسجد، إذا تحقق، نيط به من الحكم ما يقتضيه الحال. والذي أراه أن المعتكِف، لو خرج من معتكَفه ناسياً، فيظهر الحكمُ بانقطاع

_ (1) (ط): تبين. (2) ساقط من الأصل، (ك). (3) ر. المختصر: 2/ 34. (4) في الأصل، (ك): خرج. (5) (ط): فهذا. (6) في الأصل، (ك): إيقاعه. (7) (ط) والمعتكف. (8) زيادة من (ط). (9) في الأصل، (ك): يطعم.

تتابعه، بناء على هذا الأصل، الذي مهدناه، والغاية فيه أن يُلحق النسيانُ بالمعاذير، حتى يتردد القولُ، وليس كالأكل على حكم النسيان في الصوم. 2394 - ولو تحمل الرجل شهادة، ثم اعتكف اعتكافاً متتابعاً، وطُلب منه أداء الشهادة؛ فإن لم يتعين عليه أداؤها، فليس له أن يخرج، وإن خرج، انقطع تتابعه. وإن تعين عليه الخروجُ -وتفصيله (1) في كتاب الشهادة- ففي انقطاع تتابعه قولان، مرتبان على القولين فيه إذا خرج لمرض أو أخرجه مخرج. وهذه الصورة الأخيرة أولى بانقطاع التتابع؛ من جهة أن التحملَ المتقدم على الاعتكاف تسبُّبٌ منه إلى الخروج من المعتكف، ولئن لم تلحقه التهمة (2) في تحمله، فقد كان متمكناً من الاستثناء، فإذا أغفله، وضح من هذه الجهة تقصيرُه. وقد تردد بعضُ المحققين في أن استئناءَ إخراج السلطان إياه من المسجد، هل ينفع على قولينا: إنه يقطع التتابع؟ فقال بعضهم: ينفع. وقال آخرون: لا أثر للاستثناء (3 فيما يتعلق بالغير، وإنما يؤثر الاستثناء 3) المرء، وهذا لطيفٌ. وهو تفريع على إعمال الاستثناء. 2395 - ولو التزم الرجل حداً، ثم شرع في اعتكافٍ متتابعٍ، فأخرجه السلطان، لإقامة الحد عليه، فقد ذكر الشيخ أبو علي قولين، في انقطاع التتابع، ولا بد من ترتيبها على تقدم تحمل الشهادة، وهذه الصورة الأخيرة أولى بانقطاع التتابع؛ من جهة الانتساب إلى المعصية، الموجبة للحد، والحكمُ ببقاء التتابع، من فن التخفيف، وهو غير لائقٍ بالمتسبب على حكم المعصية. 2396 - ولو اعتكفت المرأةُ اعتكافاً منذوراً، متتابعاً، فمات عنها زوجُها، في أثناء الاعتكاف، أو طلقها، فالغرض من هذا ينبني على تصوير الإذن فيه وعدمه من الزوج.

_ (1) أي تفصيل التعين. (2) (ط): لائمة. (3) ما بين القوسين ساقط من (ط).

فإن نذرت بإذنه، ودخلت المعتكَف، بإذنه، لم يملك الزوج إخراجها، وإن وُجد أحدهما بإذنه، دون الثاني، ففيه خلافٌ، وموضع استقصائه كتاب النذور والأيمان. وإن كان الزوج يملك إخراجها من المعتكَف، لو دام النكاح، فمات عنها، أو طلقها، فيلزمها الخروج عن المعتكَف، والعَود إلى مسكن النكاح، للاعتداد، فإذا خرجت، ففي انقطاع التتابع الخلافُ المقدَّم. وهذا يلتحق بالمرتبة الأخيرة، إن عصت بدخول المعتكَف، وإن لم تعصِ، ولكنا كنا جوزنا للزوج الرجوعَ عن الإذن، على أحد الوجهين فيه إذا جرى أحد السببين بإذنه، والآخر بغير إذنه، فهذا يلتحق بمرتبةِ تحمّل الشهادة. ولو كان الزوج لا يملك إخراجها لو دام النكاح، فإذا طلقها، أو مات عنها، فهل لها أن تُتم اعتكافها للإذن السابق؟ فعلى وجهين، سنذكر أصلهما في كتاب العِدد. فإن قلنا: لا تخرج، فلو خرجت، بطل اعتكافها. وإن قلنا: يلزمها الخروجُ بطريان العدة، ففي انقطاع التتابع قولان، كما قدّمنا ذكرهما، قبيل هذا في أمر العدة. فهذا بيان ابتناء هذه الخرجات الواجبة، على الخروج لأجل المرض مع ترتيب المراتب. فصل 2397 - نجمع في هذا الفصل مفسداتِ الاعتكاف، في قَرَنٍ (1): فمنها الجماع، فكل جماعٍ يُفسد الصومَ مفسدٌ (2) للاعتكاف، منافٍ له. 2398 - فأما المباشرةُ دون الجماع، فقد اضطربت النصوص فيها، فقال في كتاب الصيام: لا يباشر المعتكف، فإن فعل، فسد اعتكافه، وقال في موضع آخر:

_ (1) القَرَن بفتحتين: الحبل يجمع به البعيران، والمعنى نجمع مفسدات الاعتكاف هنا في سياق واحد متتابعةً. (2) في الأصل، (ك): فهو مفسد.

لا يفسد الاعتكاف إلا بالوطء الذي يوجب الحد. واضطربت الأئمة في ترتيب المذهب. ونحن نفرض مباشرةً وهي التقاء البشرتين، من غير إنزالٍ، ثم نفرضها مع الإنزال. فإن لم يتفق الإنزال، فمن أصحابنا من خرّج قولين في أنها هل تُفسد الاعتكاف؟ أحدهما - لا تفسده، كما لا تفسد الصومَ. والثاني - تفسده، لظاهر قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. والغالب على الظن أن المراد المباشرةُ، دون الإنزال، والجماع، فإنهما لا يقعان (1)، ولا يخفى على العامة اجتنابُهما، فتخصيص المباشرة بالنهي عنها في الاعتكاف، يشعر بالمباشرةِ العريّه عن الإنزال، فقد عُدّت خصّيصة (2) بمحظورات الاعتكاف، ثم هي محظورة في الحج، وإن لم تكن مفسدةً له. فأما المباشرة إذا اتصل بها الإنزال، فالذي يليق بالتحقيق القطعُ بأنها تُفسدُ الاعتكاف، كما تُفسد الصوم، وهي بإفساد الاعتكاف أولى، فإنا قد نُحوَجُ (3) إلى تكلّفٍ في تعليل إفساد الصوم بالإنزال، فإنه ليس جِماعاً، ولا دخول داخلٍ إلى الجوف، وتعليل إفساد الإنزال للاعتكاف لائحٌ، من جهة أن المنزل مُجنب، ويحرم على الجنب المكثُ في المسجد، والاعتكاف مكثٌ في المسجد، ويستحيل أن يكون المكثُ محرماً منهيّاً عنه [نهياً] (4) مقصوداً، ثم يقع قُربة، مأموراً بها، وليس ذلك من قبيل الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن النهي لا يتجرد إلى الصلاة قصداً، كما قررناه في فن الأصول (5). وذكر بعض أصحابنا قولين في المباشرة مع الإنزال، وزعموا أن الإفساد يختص

_ (1) كان المعنى لا يقع فيهما -أعني الإنزال والجماع- المعتكف، ويتحاشاهما، لظهور حكمهما، كما هو واضح من السياق. (2) الخصّيص: الأخص من الخاص (معجم). (3) (ط): نخرج. (4) مزيدة من (ط). (5) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة 208 - 212.

بالجماع، وهذا مشهورٌ في الحكاية، [و] (1) لا اتجاه له أصلاً عندنا، لما نبهنا عليه من خروج الجنب، عن أن يكون أهلاً للكَوْن في المسجد. ثم [من] (2) خصص الإفساد بالجماع، فيظهر عندنا أنه يَعتبر فيه الجماعَ المفسدَ للصوم، من غير تعريجٍ على إيجاب الكفارة. وفي نص الشافعي ما يدل على اعتبار الجماع التام؛ فإنه قال، فيما نص عليه، في بعض المواضع: " ولا يَفسُد اعتكافه إلا بوطءٍ يوجب الحدَّ "، ومقتضى هذا أن إتيان البهيمة إذا لم يوجب [الحد] (3)، لم يتعلق به إفساد الاعتكاف (4)، والظاهر اعتبارُ (5) فساد الاعتكاف، بفساد الصوم، وقد قدمنا أن الصوم يَفسُد بكل جماع، يوجب الغُسل. وإذا قلنا: المباشرةُ تفسد الاعتكاف من غير إنزال، فالضبط فيه: أن كل ما يوجب من هذا النوع الفديةَ على المحرم، يُفسد الاعتكاف. وضبط [البابين] (6) جميعاً: ما ينقض الوضوء [نفياً] (7) وإثباتاً، وفاقاً وخلافاً.

_ (1) مزيدة رعاية للسياق، واستئناساً بما حكاه النووي في المجموع عن إمام الحرمين (المجموع: 6/ 525). (2) مزيدة من (ط). (3) مزيدة من (ط). (4) قال الإمام النووي تعليقاً على هذا الكلام: " وهذا الذي قاله الإمام عجب، فإن المذهب المشهور أن الاعتكاف يفسد بكل وطء ... ومن أظرف العجائب قول إمام الحرمين هذا، مع علو مرتبته وتفذذه في العلوم مطلقاً رحمه الله تعالى ". ا. هـ (المجموع: 6/ 525). ومع شهادة النووي لإمامنا بعلوّ المرتبة، والتفذذ في العلوم مطلقاً، فنحن نرى في كلامه شيئاً من التحامل، فإمام الحرمين لم يأت بهذا من عند نفسه، بل رآه مدلولاً ومأخوذاً من نص الشافعي، ثم لم يقف عند هذا (العجب) الذي حكاه النووي، بل عقب قائلاً: " والظاهر اعتبار فساد الاعتكاف بفساد الصوم، وقد قدمنا أن الصوم يفسد بكل جماع يوجب الغسل " وهذا النص واضحٌ بين يديك في أعلى الصفحة. وهو لا يختلف عن كلام النووي الذي علق به على قول الشافعي، فإمام الحرمين جعله (الظاهر) والنووي جعله (المذهب المشهور). وكأني بالفرق قريب. والله أعلم. (5) اعتبار: أي قياس، كما هو مفهوم. (6) في الأصل، (ك): الناس. (7) في الأصل، (ك): جميعاً.

2399 - ولم يختلف العلماء في أن الحيض ينافي الاعتكافَ؛ من جهة أن الحائض ليست من أهل المسجد أصلاً. 2400 - فأما الجنابة، فينبغي أن يتأنَّى الناظرُ فيها: أما القياس، فيقتضي لا محالةَ الحكمَ بمنافاتها الاعتكاف، ولكن قد نقل بعضُ الأئمة أن المباشرة إذا اتصلت بالإنزال، لم يفسد الاعتكاف، ومن ضرورة الإنزال الإجناب، فالوجه عندنا في تخريج ما قيل، على طريق أن نقول: للجنب حضور المسجد [مجتازاً] (1)، بخلاف الحائض، وقد ذكرنا أن من أصحابنا من جعل حضور المسجد اعتكافاً، من غير مُكث، فإن جرينا عليه، وفرضنا إنزالاً، واشتغالاً على أثره بالاغتسال من عينٍ في المسجد، فالجنابة لا تحرّم هذا الكَوْن، واللحظة الواحدة قُربةٌ، فلا يخرج الكَوْن فيها عن وضع الاعتكاف، فأما فرض المُكث في المسجد، مع الجنابة، فلم أرَ محققاً يستجيز الحكمَ بكونه اعتكافاً صحيحاً. على أنا فيما ذكرناه على تكلُّفٍ فإن عبور الجنب في حكم المسوَّغَات (2)، ولا يجوز أن يقع في رتبة القُربات. والذي يجب القطع به أن من اعتمد الإنزال وإن تأتى منه الاغتسالُ في المسجد، فيحرم منه، ما جاء به. [وللاحتمال فيه مجال] (3). ولا وصول إلى ما تكلفناه على [صفوه] (4)؛ فإن الاشتغال بالاغتسال ليس من الخروج (5)، ويرد عليه أن دخول [المسجد] (6) جائزٌ للجنب، على قصد الإطراق.

_ (1) في الأصل: مختاراً. (2) المسوّغات: أي المسموحات المترخص بها. (3) هذه عبارة (ط) أما الأصل، (ك): " والاحتمال فيه مُحالٌ ". وهو عكس المعنى تماماً، ولكن عبارة (ط) هي المعهودة في لسان إمام الحرمين، وقد سبق مثل هذا آنفاً. (4) في الأصل، وك: صغره. والمثبت من (ط) ولعل المعنى: على صفو المسألة ووضوحها لا وصول إلى القطع فيها. والله أعلم. (5) أي يعكر على القول بوقوع الاعتكاف من الجنب أن هذا (الكَوْنَ) منه في المسجد، لا يجوز إلا في حالة مروره مجتازاً للمسجد، والاشتغال بالغسل من الجنابة ليس خروجاً. (6) بياض بالأصل.

فليقف الناظر عند معاصات (1) الكلام. 2401 - واستتمام هذا بما نصفه [قائلين] (2): إذا أجنب الرجل في المسجد، وكان بالقرب منه (3) ماءٌ يتيسر منه الانغماس فيه، على قربٍ من الزمان، ولو حاول الانفصالَ من المسجد، وقطْعَ عرصته الفيحاء (4)، لزاد زمان القطع على زمان الغُسل، فالذي ذهب إليه المحققون أنه يتعين عليه إيثارُ الخروج، ولا نظر إلى الزمان، طال (5) أو قصر. وأبعد بعض الأصحاب، فقال: يجوز الاغتسال على الصورة التي ذكرناها. وهذا ساقط، من وجهين: أحدهما - أن الاغتسال على حالٍ حطٌّ للجنابة، واتخاذ المسجد محلاً لمثل هذا غضٌّ من أُبَّهَتِه، وأيضاًً، فإباحة العبور ليست معقولةَ المعنى، وإنما كان يتطرق المعنى إلى ذلك لو خُصّ جواز العبور بالاضطرار، فإذ [ذاك] (6) كنا نقدر الحركاتِ على قصد الانفصال في حكم الخروج (7) من الأرض المغصوبة، وليس الأمر كذلك؛ فإن للجنب دخول المسجد على قصد الاطّراق، وإن وجد مسلكاً غيرَه، فالتعويل على ظاهر لفظ الكتاب العزيز (8). فكل ما لا يعد من قبيل العبور، بل يعد تعريجاً على أمرٍ، فهو نقيض العبور، والاشتغال بالاغتسال من ذلك. ولم أر أحداً من الأصحاب يوجب إيثار الاغتسال نظراً إلى قرب الزمان. و [حظُّ] (9) الاعتكاف من هذا الفصل، أنه قد ينقدح للناظر توجيه الاشتغال

_ (1) عاص الكلامُ يعوص: خفي معناه، وصعب فهمه، فهو عويص، ومعاص اسم مكان من عاص. (المعجم). (2) مزيدة من (ط). (3) (ط): منها. (4) عرصته الفيحاء: أي ساحته الواسعة. وفاحت الدار: اتسعت، فهي فيحاء. (المعجم). (5) في الأصل، (ك): وإن طال .. (بزيادة وإن). (6) الأصل، (ك): ذلك. (7) ساقطة من (ط). (8) يشير إلى قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]. (9) في الأصل: حفظ.

بالاغتسال، في حق الجنب المعتكف؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج، وهذا ساقط؛ فإن الخروجَ إذا أمر به، فهو في معنى الخروج لقضاء الحاجة. والذي يتنخلّ (1) عندنا من تنزيل هذا القول الذي شُهر، أن يقال: الإنزال إذا جرى من غير قصد، فالخروج من المسجد محمول على الخروج لقضاء الحاجة، ثم نفس الخروج مع [مباينته للمسجد] (2) غيرُ مؤثر، فليكن الخروج لأجل الإنزال بهذه المثابة. وقد طال الكلام بعض الطول وسببه ما في هذا القول من الإشكال. 2402 - ومما نلحقه بمفسدات الاعتكاف شيئان، اختلف النص فيهما، ونحن ننقل النصَّين في موضعهما، ونذكر ترتيب المذهب في كل واحدٍ. نص الشافعي على أن الردَّة لا تفسد الاعتكافَ، ونص على أن السكر يفسد الاعتكاف. فأما الردة، فلأصحابنا فيها ثلاث طرق، قال بعضهم: هي مفسدةٌ للاعتكاف؛ فإنها محبطةٌ للأعمال المقترنة بها، فلا يتصور اعتداد بعبادةٍ تساوقها الردة. وهذا القائل يقول: نصُّ الشافعي محمول على اعتكافٍ غيرِ متتابع طرأت الردةُ في خلله، وقوله: " لا تُفسدُ الاعتكاف " معناه لا تُفسد ما مضى، ردّاً على أبي حنيفة (3)، حيث قال: الردة تحبط سوابق الأعمال، وإن اتفقت الموافاة (4) على الإسلام. وفي هذا التأويل بعضُ البعد؛ فإن الشافعي قال في طارئ الردة: إنها لا تُفسد، ويبني إذا عاد إلى الإسلام، وهذا مشعرٌ بفرض الأمر في اعتكافٍ متتابع، [بفرض] (5) انقطاعه وانتظامه، فهذه طريقة.

_ (1) (ك): ينتجل. (2) زيادة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): مع أنه غير مؤثر. (3) ر. المبسوط: 3/ 125، البدائع: 2/ 116. (4) أي موافاة الأعمال لحالة الإسلام. (5) في الأصل، (ك): لغرض.

ومن [أصحابنا مَنْ] (1) قال: الردةُ لا تفسد الاعتكافَ أصلاً؛ جرياً على النّص، وسنشير إلى ما قيل في توجيهه. ومن أصحابنا من قال: إذا قصر الزمان، وعاد على قربٍ، انتظم الاعتكافُ المتتابع، وإن طال الزمان، انقطع التتابع. وسنبين حقيقة هذا الوجه أيضاًً. فهذا نقل مقالات الأصحاب، لم نوجه منها إلا القولَ الأول [الظاهر] (2). فأما السكر، فظاهر النص فيه، أنه يناقض ويُفسد، ولأصحابنا ثلاثُ طرق: منهم من قطع بأنه لا يفسد، كالنوم، واستمرار الغفلة. ومنهم من قطع بالإفساد، قَلّ زمان السكر أو كثر. ومنهم من قال: إن قلّ الزمانُ، فلا مبالاة به، وإن كثر، انقطع التتابع. 2403 - فإذاً في الردة والسكر في كل واحد منهما ثلاثُ طرق، غير أن القياسَ يخالف النصَّ في الموضعين، فالقياس [من الطرق الثلاث في الردة، الفسادُ، والمنافاة، والقياس] (3) من الطرق الثلاث في السكر، أن لا منافاة، ولا فساد. وتكلف بعض أصحابنا، فذكر ما هو طريقة رابعة، والتزم الجريان على النصين، وقال: الردة لا تنافي؛ [فإن] (4) المرتد من أهل المسجد (5)، وخاصية الاعتكاف اختصاص بالمسجد. وأما السكران (6 فليس من أهل المسجد 6)، فإنه لا يبقى فيه. وهذا تكلّف، لا أصل له. ثم من قال: الردة لا تُفسد الاعتكاف، فليت شعري ماذا يقول فيه إذا أنشأ

_ (1) ساقط من الأصل، (ك). (2) ساقط من الأصل، (ك). (3) مزيدة من (ط). (4) مزيدة من (ط). (5) من أهل المسجد على معنى أن المسجد من المنافع العامة، وسيأتي بيان هذا الحكم في كتاب السير، حيث ذكر هناك وجهاً أن الذمي له أن يدخل المسجد ولا يمنع من الكَوْن فيه باعتباره ملكاً عامّاً. (6) ما بين القوسين ساقط من (ك).

الاعتكاف مرتدّاً؟ فإن قال: يصح اعتكافه، فهو أمر عظيم، وإن سلّم الفسادَ عند اقتران (1) الردة، فالفرق بين المقارن والطارئ عسِر، ولم يختلف أصحابنا في أن من ارتد في أثناء الوضوء، وغسل عضواً من أعضائه، في زمن ردته، لم يعتد بما أتى به في زمن الردة، والمكث الذي يقارن الردةَ الطارئة، كان يعتد به لولا الردة، فكيف الاعتداد به مع كَوْن (2) الردة. فإن روجعنا [في الصحيح] (3) من ذلك، فالوجه الحكمُ بكون الردة مفسدةً، واحتمال بُعدٍ في التأويل للنص. وأما السُّكْر، فإذا طال، فليس يبعد احتمالٌ في فساد الاعتكاف. على أن القياس أن لا يفسد مع تقدم النية. فإذاً يحمل النص على الإخراج من المسجد لإقامة الحدّ، وتكون فائدة التصوير أنه إذا كان منتسباً إلى التزام الحد، كان إخراجه على القهر، بمثابة خروجه من معتكفَه اختياراً. وأما من قال بالفصل بين الزمان اليسير والكثير في الردة، فليس له وجه، به مبالاة. ولكن إن لم يكن من المصير إلى ظاهر النص بُدّ، فقد ينتظم الاستنباط من قول الأصحاب في هذا [فصل] (4) وهو أن من خرج عن معتكفه مختاراً من غير عذر، انقطع تتابعه، وإن قرب الزمان. وإن بقي في معتكفه وطرأ مفسد، كالردة -إذا اعتقدناها مفسدة- فإذا قرب الزمان، فالأصحاب مترددون في انقطاع التتابع، كما نبهنا عليه، ولا وجه أصلاً للاعتداد بالزمان الذي كان مرتداً فيه. فهذا منتهى الحِيَل (5) بعد النقل، في تنزيل كل قول، على الممكن فيه. وقد نجز تمام المراد في جميع مفسدات الاعتكاف.

_ (1) (ط): اعتقاد. (2) أي وجودها. (3) في الأصل، (ك): فالصحيح. (4) في الأصل، (ك): قصد. هذا والمراد بقوله (فصلٌ) أي كلامٌ يسوقه ملخصاً جامعاً مرتَّباً. (5) الحِيَل: جمع حيلة، وهي الحذق وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف في الأمور. (المعجم).

فصل قال: "وإن جعل على نفسه اعتكاف شهر ولم يقل متتابعاً، أحببته متتابعاً ... إلى آخره " (1). 2404 - من نذر اعتكاف شهر أو اعتكاف أيامٍ، ولم يتعرض للتتابع، ذِكراً، وعقداً، ولم يلفظ به، ولم يَنْوه، فلا يلزمه رعايةُ التتابع. وكذلك القول في نذر صوم شهر، وصوم أيامٍ. وقال: أبو حنيفة (2) في الصوم ما قلناه، وذهب إلى أن التتابع يجب في الشهر والأيام في الاعتكاف. وحكى صاحب التقريب عن ابن سريج، أنه صار إلى مذهب أبي حنيفة في الاعتكاف، وهذا بعيد، ولست أدري ماذا يقول ابن سريج في الصوم؟ أيفصل بينه وبين الاعتكاف، كمذهب أبي حنيفة، أو يطرد مذهبه في البابين؟ ولا تفريع على هذا، ولا عودَ. 2405 - ولو قيد نذره بالتتابع، لزم. ولو نوى التتابع بقلبه، فمضمون الطرق أنه يلزم؛ فإن مطلق اللفظ يحتمله، وهذا كتنزيل النيات مع الكنايات منزلة الصريح. فإذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماًً، والتفريع على ما هو المذهب، من أن التتابع لا يلزم، من غير لفظٍ، أو عقدٍ، فإذا قال: أعتكف يوماً، وأراد أن يعتكف نصفي يومين، أو [أثلاث] (3) ثلاثة أيام، ففي إجزاء ذلك وجهان (4) مشهوران: أحدهما - يجزىء؛ فإن التتابع لم يقع له تعرض، فكانت الساعات بالإضافة إلى اليوم، كالأيام

_ (1) ر. المختصر: 2/ 37. (2) ر. مختصر الطحاوي: 58، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 54 مسألة 543، المبسوط: 3/ 119، البدائع: 2/ 111. (3) مزيدة من (ط). (4) (ط): قولان.

المتفرقة بالإضافة إلى الشهر. والوجه الثاني - لا يجزئه؛ فإن الأيام المتفرقةَ، تسمى عشرةَ أيام، وتسمى عند تقدير الضم، والتلفيق، شهراً. والساعات المتفرقة، لا تسمى يوماً، فاسم اليوم إذاً ينطلق على ساعات متواصلةٍ من طلوع فجر إلى غروب شمس ذلك اليوم. التفريع على الوجهين: 2406 - إن قلنا: يجزئه تفريق الساعات، فينبغي ألاّ يلزمه إلا ساعات أقصر الأيام؛ فإنه لو اعتكف في أقصر الأيام، كفاه. وإن قلنا: لا يجزيه تفريقُ ساعاتِ اليوم، فلو بدا الاعتكافَ من وقت الزوال، فلما غربت الشمس، خرج ثم عاد مع الفجر، فاعتكف إلى مثل ذلك الزمان الذي أنشأ الاعتكافَ فيه في نفسه، فلا يجزئه، على منع التفريق. وإن لم يخرج من معتكفه ليلاً، حتى انتهى [إلى] (1) زمان ابتداء أمسه، فالذي ذهب إليه معظمُ الأصحاب جواز ذلك، وإن فرعنا على منع التفريق؛ لأن الأوقات لها حكم التواصل، لمّا لم يخرج من معتكفه. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي وجهاً آخر، اختاره لنفسه، وهو أن ذلك لا يجزيه، فإنه لم يأت بيومٍ متواصلِ الساعات من الطلوع إلى الغروب، واعتكاف تلك الليلةِ، لا مبالاة به، وهو غير محسوب، سواء مكث في المسجد، أو خرج منه فتخلله يجب أن يكون مُفرِّقاً قاطعاً، لما نبغيه، من تواصل ساعات اليوم الواحد. وهذا الذي ذكره منقاسٌ متّجه. وعُرض عليه نص الشافعي في تجويز ذلك، مع مصيره إلى أن تفريق الساعات غيرُ مجزىء، فقال: نصه محمول على ما إذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماًً من وقتي هذا، فإذا قال ذلك، فلا وجه إلا المصير، إلى وقتٍ مثله من الغد.

_ (1) مزيدة من (ط).

2407 - ومن تمام البيان شيء يدور (1) في النفس، وهو أن الأصحاب قالوا تفريعاً على جواز التفريق: يكفيه ساعات أقصر (2) النهار وتفرقها. ثم يتجه في النظر أن يعتبر جزءُ كلِّ يوم منسوباً إليه، حتى إن فرّق الساعات على أيامٍ هي أقصر الأيام في السنين، فالأمر كذلك (3). وإن كان يعتكف في أيامٍ متباينة في الطول والقصر، فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم بالجزئية إليه؛ إن كان ثلثاً: فقد خرج عن ثلث ما عليه، وهكذا، إلى النجاز، والذي يحقق ذلك، أنه لو نذَر اعتكاف يومٍ، ثم اعتكف تسعَ ساعاتٍ، [ونصفاً] (4) من أطول الأيام، فلا يكون خارجاً عما عليه قطعاً؛ فدل على أن النظر إلى اليوم الذي يوقع الاعتكافَ فيه. فيتجه وينقدح جوابٌ عن هذا، بأن يقال: إذا كان يواصلُ، فليأت بيومٍ كاملٍ. ومن نذر اعتكافَ يوم، فاعتكف أطول الأيام، فكل ما جاء به فرضٌ. ولو اعتكف في أقصر النهار، فالذي جاء به كافٍ. 2408 - ومما يتعلق بهذا الفصل القولُ في أن الليالي إذا لم يَتعرض لها الناذرُ، وذكر في نذره الأيام، فهل تندرج تحت مطلق تسمية الأيام؟ قال أصحابنا: إذا نذر اعتكافَ يومٍ، لم يلزمه ضمُّ الليلةِ إليه، وفاقاً، إلا أن ينويها، ثم اتفقوا على أنه إذا نواها، يلزم الاعتكافُ فيها، وإن لم يجر لها ذكرٌ، والنية المجردة لا تلزم. والوجه فيه أن اليومَ قد يطلق، والمراد به اليوم بليلته. هذا سائغٌ على الجملة، وإن لم يكن ظاهراً، [فعملت] (5) النيةُ لذلك (6).

_ (1) (ط): يدوّن. (2) (ط): أكثر. (3) (ط): ذلك. (4) مزيدة من: ط. (5) في الأصل، (ك): فعلمت. (6) والمعنى أن نية اعتكاف الأيام تشمل لياليها إذا قصدها، وإن لم (يجرّد) لها نية خاصة، فاليوم إذا أطلق قد يُراد به اليوم والليلة، ولذا (عملت) نية اعتكاف اليوم وشملت الليل، وكفت في ذلك.

ولو نذر اعتكافَ شهرٍ، فلا خلاف أنه يلزمه الليالي مع الأيام؛ فإن اسم الشهر يشمل الجميع. وإن قال: اعتكاف ثلاثة أيام؛ فصاعداً، ففي استحقاق الاعتكاف بالليالي على عدة الأيام وجهان مشهوران في الطرق: أحدهما - أنه يجب الاعتكاف بالليالي على عِدة الأيام. والثاني - لا يجب ما لم ينوها. وقطع أصحابنا المراوزة بأن اليومين في التفصيل، كاليوم الواحد. فإذا أُطلقا، لم يجب الاعتكاف إلا في اليومين. وجعل العراقيون، في بعض طرقهم اليومين كالأيام الثلاثة فصاعداً. والقول في هذا مبهم عندنا [بعدُ] (1). 2409 - أما (2) اليومُ، فلا شك أنه لا يستدعي الليلةَ بوجهٍ إلاّ على بُعدٍ، كما تقدم. وما قيل في الشهر، لا شك فيه. وأما الكلامُ في اليومين، فإن لم يثبت فيهما استحقاقُ التتابع، فلا وجه إلا القطعُ بأنه لو اعتكف في يومين متفرقين، ولم يعتكف ليلةً، فقد خرج عما عليه. فأما إذا نذر اعتكاف يومين، ونوى التتابعَ، أو ذكره، فقد قال العراقيون: ينبغي أن يبتدئ الاعتكافَ مع الفجر في يومٍ، أو قُبَيله، استظهاراً، ثم يعتكف إذا غربت الشمس (3)، ويدومُ في معتكفه إلى غروب الشمس من اليوم الثاني. قالوا: لو خرج من معتكفه ليلاً، كان [ذلك] (4) قطعاً للتتابع. وكان شيخي يقطع بأن الخروج من المعتكف ليلاً، مع العود مقترناً بالفجر من اليوم الثاني، لا يقطع التتابع؛ فإن الاعتكاف إذا لم يكن مستحقاً ليلاً، فلا معنى لإلزام

_ (1) في الأصل، (ط): بعيد. (2) ساقطة من (ط). (3) كذا في النسخ الثلاث، وليس المعنى أنه يقطع الاعتكاف ثم يستأنفه إذا غربت الشمس، بل المعنى أنه يبدأ اعتكافه قبيل الفجر ثم يتابع إلى غروب الشمس، ثم يدوم إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فيتحقق بذلك الوفاء باليومين. (4) مزيدة من (ط).

الناذر لزوم المعتكَف في الليل. والليلُ إذا لم يلزم اعتكافه، فتخلله كتخلل الليالي، بين الصوم المتتابع، وما ذكره منقاسٌ حسن. 2410 - ومما ينكشف به الإبهام: أن الأصحاب ذكروا وجهين، في الأيام إذا ذكرت: أن (1) الليالي هل يُستَحق الاعتكافُ فيها؟ وهذا إنما أخذه، مَن أخذه، من ظن الناس أن الأيام إذا أطلقت في التواريخ، على صيغة الجمع، أريد بها الأيام بلياليها، وهذا غير منتظم؛ فإن الإنسان إذا قال: أقمتُ عند فلانٍ أياماًً، وكان يفارقه بالليالي، فما قاله صدقٌ، منتظمٌ، لا تلبيس فيه. نعم إنما يتوقع طلبُ توَلُّج الليل إذا جرى في الكلام إشعارٌ بالتتابع، بحيث يُفهم تواصلُ أزمانِ الإقامة. وإذا كان كذلك، فتتخلَّلُ ليالٍ (2). ولكن إذا افتتح الإقامة مع أول نهارٍ، وخرج مع غروب الشمس يومَ الثالث، فهو مقيمٌ [ثلاثة] (3) أيام متواصلة، ويكفي في الوفاء بالتواصل ليلتان، فلا وجه لاشتراط الليالي على عدد الأيام، وكذلك يكفي في العشر (4) تسعُ ليالٍ، على نحو ما صورناه؛ فينقص عدد الليالي، التي بها تواصل الأيام، عن عدد الأيام المذكورة بواحدة. هذا لا بد منه، إن كان الرجوع إلى التواريخ. ئم إذا قال: أعتكف ثلاثةَ أيامٍ، فقد حمل بعض الأصحاب ذلك على التواصل، واعتقد الظهور فيه، وموجَبُ التواصل تولّجُ الليالي، وعلى هذا يظهر تخريجُ ابنِ سريج في أن إطلاق نذرِ اعتكاف الأيام يقتضي التتابعَ. والأظهر أنه لا يلزم التواصل، لتردد الكلام فيه، وإذا تردد، ولم يكن نصَّاً صريحاً، ولا منوياً، فالإلزام مع التردد، محال. وإن صور مصور ما يقتضي التواصل، فهو مضطرٌّ إلى تصوير قرينةِ حالٍ في أمرٍ

_ (1) (ط): وأن. (2) فاعل (فتتخلل). (3) في الأصل، (ك): تلزمه. (وهو تصحيف واضح). (4) المعدود مذكر (الأيام) ولكن جاز في لفظ (العشر) التذكير على اعتبار تقدم المعدود، كما هو معروف.

يذكره، ثم تخيُّلُ التواصل -إذا نُزّل الكلامُ عليه- ممكنٌ في اليومين، إمكانه في الثلاثة، فصاعداً. ويعود في الأيام -إذا لم نوجب الاعتكافَ في لياليها- أنه لو نذر التتابعَ فيها، فهل يجوز الخروج عن المعتكف في الليالي؟ فيه من خلاف المراوزة والعراقيين، ما ذكرناه في اليومين. فصل 2411 - المرأة إذا اعتكفت في مسجد بيتها، وهو معتزَلٌ في البيت، مهيأٌ للصلاة، وليس مسجداً على الحقيقة، فالمنصوص عليه في الجديد أن ذلك ليس باعتكاف؛ فإن الاعتكاف مخصوص بالمساجد، وليس ذلك الموضع مسجداً، فلا تتعلق به أحكام المساجد. ونصَّ الشافعي في القديم على أنها لو اعتكفت في ذلك الموضع، أجزأها؛ فإن التحرز (1) أحرى بها، فأفضل بقاعها قَعْر بيتها. ثم في القديم خصص ما قاله بمسجد البيت، فإن لم يكن لهذا القول مستند، من خبرٍ أو أثر، فلا متعلَّق له في المعنى. ثم ذكر أئمتنا في الرجل إذا اعتكف في مسجد بيته قولين، مرتّبين [على المرأة] (2) واعتكافه أولى بالفساد، بل، لا وجهَ لصحته أصلاً. فصل قال: " إذا قال: لله عليّ أن أعتكف اليومَ الذي يقدَم فيه فلان ... إلى آخره " (3). 2412 - أما إذا قال لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدَم فيه فلان، فقدِم نصفَ النهار، فقد فات الصوم في هذا اليوم، وفي وجوب قضاء يومٍ قولان، سنذكرهما في

_ (1) (ط) التخدر. (2) زيادة من (ط). (3) ر. المختصر: 2/ 37.

النذور -إن شاء الله تعالى- وهما مأخوذان من أصلٍ، وهو أنا هل نتبين بقدومه في اليوم أن الصوم كان مستحقاً من أوله؟ أم ننظر إلى ما يستعقبه القدوم، ولا نلتفت إلى سابقٍ في تقدير الوجوب؟ فإن بنينا الأمرَ على التبيُّن، فيلزمه قضاء يوم، وإن نظرنا إلى ما يستعقبه القدوم، فصومُ يومٍ بعد القدوم [محال] (1)، فكان كما لو قدِم ليلاً. وليس من غرضنا تفصيل هذا. 2413 - ولكن. لو قال: لله عليّ أن أعتكف يوم يقدَم (2) فلان، فقدِم نصفَ النهار، فيجب على الناذر اعتكافُ بقية النهار وفاقاً، وهل يجب عليه اعتكافُ نصفِ يومٍ لينضم إلى ما جاء به، فيكمل يوماًً؟ هذا خارج على القولين في وجوب القضاء في الصوم، فإن أوجبنا القضاء ثَمَّ، أوجبنا هاهنا تكملةَ البقيةِ من يوم آخر، وإن لم نوجب القضاء ثَمَّ، اكتفينا بالاعتكاف في بقية النهار، الذي قدم فيه. ثم إن المزني قال: وأحب أن يستأنف اعتكافَ يومٍ، حتى يكون اعتكافه متصلاً. وقد قال أئمتنا: هذا غلط؛ فإن الاعتدادَ بما جاء به لا بد منه، وإذا اعتُدَّ به، فلا معنى لأمره باعتكافِ يومٍ كاملٍ، بسبب ما قدّمه من لفظه، لا على الاستحباب، ولا على الإيجاب. وذكر شيخي في دروسٍ: أن من أصحابنا من لم يوجب الاعتكافَ، في بقية النهار أيضاًً؛ تخريجاً على أن النهار لا يتبعض، بتقدير تفريق الساعات، وهو قد ذكرَ اليوم، واعتكافُ يومٍ بعد قدومه غيرُ ممكن، إلاّ على نعت التقطيع. والفكر لا نهاية له. ولكن الفقيه يقتصر منه على مسلك الحق، ويطّرح ما عداه. 2414 - ثم قال الشافعي: " ولا بأس أن يلبس المعتكف والمعتكفة " (3) ولا خفاء بما ذكره، وغرضه أن الاعتكاف لا يحرم ما يحرمه الإحرام، وعلى هذا لا بأس أن ينكح، ويُنكح.

_ (1) زيادة من (ط). (2) بفتح الدال: من باب تعب. (3) ر. المختصر: 2/ 38.

2415 - قال: " ولا بأس أن توضع المائدة في المسجد، ولا بأس بغسل الأيدي في الطسوس " (1) توقيةً للمسجد من البلل؛ فعساه يمنع مصلياً. 2416 - قال: " والمرأة والعبد، والمسافر يعتكفون " والأمر على ما قال، فالاعتكاف يصح من كل من تصح منه النية، وفي بعض التصانيف ذكر وجهين في أن المكاتَب هل يعتكف؛ وهذا خُرق، وخروج عن الحد، ولا خلاف أنه (2) لو سكن في بيته، ولم يكتسب اليومَ واليومين، فلا معترض عليه، قبل مَحِل النجم (3). فرع: 2417 - تعيين الزمان للاعتكاف، كتعيين الزمان للصوم، والأصح أن الزمان يتعين للصوم في نذره، حتى لا يجوز التقديمُ عليه، ولا التأخير. وفي المسألة وجه بعيدٌ -نذكره في النذور- أن الزمان لا يتعين للصوم، كما لا يتعين لنذر الصلاة والصدقة، وذلك الوجه يجري في الاعتكاف، ولا تفريع عليه. وما ذكرناه من نذر الأيام مفرّعٌ على الأصح؛ فإنه لو نذر اعتكافَ يومٍ، لم يجزه إقامةُ ساعات الليل، مقامَ ساعات النهار. وكذلك لو عيّن الليلَ، لم يجزئه ساعاتُ النهار. فرع: 2418 - إذا كان نذرَ اعتكافَ أيامٍ، ومات، ولم يف بنذره، مع القدرة، فقد ذكر شيخي قولين: أحدهما - أنا نقابل كلَّ يوم بمدٍّ من طعام، نخرجه من تركته، كدأبنا في الصوم. والقول الثاني - أنه يَعتكف عنه وليُّه. وذكر أن القولين منصوصان للشافعي. وهذا عندي مشكلٌ من طريق الاحتمال، فإنَّا (4) تبعنا الأثرَ في مقابلة صوم يوم بمُدٍّ، وليس ينقدح قياس الاعتكاف في ذلك على الصوم، ثم اعتكاف لحظةٍ عبادةٌ

_ (1) في المختصر: الطشت: 2/ 39. (2) أي المكاتب. (3) أي موعد القسط. (4) (ط): فإذا.

تامة، ثم ليت شعري ماذا يقول في اليوم مع الليلة؟ وقد (1) ذكر رحمه الله صريحاً أن اليوم بليلةٍ يقابِلان مُدّاً، وإذا كان يقول ذلك، فما القول في اليوم الفرد؟ وهو على الجملة مختبطٌ. وأقصى ما علينا التنبيهُ على الاحتمال، مع الوفاء بما بلغنا من طريق النقل. والله أعلم بالصواب. ...

_ (1) (ط): قد (بدون واو).

كتاب الحج

كِتَابُ الحَجِّ باب بيان فرض الحج قال الشافعي: "فرض الله تعالى الحجَّ على كل حرٍّ بالغٍ، استطاع إليه سبيلاً ... إلى آخره" (1). 2419 - قيل: " أول من حج البيت آدم عليه السلام ". وقيل: " ما من نبي إلا وقد حج هذا البيت ". وعن محمدِ بنِ إسحاق، أنه قال: " ما من نبي هلك قومُه، إلا انتقل بعدهم إلى مكة، يعبد الله سبحانه وتعالى، عند البيت، إلى أن أتاه أجله " (2). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مرّ موسى بالروحاء في سبعين نبياً، عليهم العباء، يؤمُّون البيت العتيق، يلبون، وصفائح الروحاء تجاوبهم " (3).

_ (1) ر. المختصر: 2/ 39. (2) لم نجد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق مع طول البحث على قدر طاقتنا، وإنما رواه الأزرقي في تاريخ مكة من طريق عطاء بن السائب عن محمد بن سابط، وذكره القرطبي في تفسيره عن محمد بن سابط أيضاً، أما السيوطي في الدر المنثور، فقد عزاه إلى الجَنَدي (في تاريخ مكة) من طريق عطاء عن محمد بن سابط، وعزاه أيضاً إلى الأزرقي، والجندي من طريق عطاء عن عبد الرحمن بن سابط. هذا ولم نصل في كتب الرجال وطبقات الحفاظ إلى من اسمه محمد بن سابط، وإنما المعروف والمذكور هو عبد الرحمن بن سابط، فلعل محمد بن إسحاق الواردة عند الإمام تصحيف عن محمد بن سابط، ومحمد بن سابط تصحيف عن عبد الرحمن بن سابط، والله أعلم. (3) حديث: مرّ موسى عليه السلام بالروحاء .. ، رواه الطبراني والعقيلي عن أبي موسى مرفوعاً بسند ضعيف، ولابن ماجة وأحمد عن ابن عباس بألفاظ أخرى، وفي إسنادهما مقال. انتهى ملخصاً من كلام الحافظ. وقال أحمد شاكر: ونقله ابن كثير في تاريخه: (1/ 138) وقال: إسناده حسن (ر. مسند أحمد: 3/ 340 ح 2067 (شاكر)، ابن ماجة: المناسك، باب=

2420 - ثم الحج لا يجب في الشرع إلاّ مرة واحدة؛ لحديث الأقرع بن حابس، قال: " يا رسول الله أحجتنا لعامنا أم للأبد "؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " للأبد، ولو قلتُ لعامنا هذا، لوجب، ولو وجب، لم تطيقوا " (1). 2421 - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحج قبل الهجرة [كل سنة، واختلف أصحابنا هل كان الحج واجباً قبل الهجرة؟ منهم من قال: كان نزل وجوبه قبل الهجرة] (2). ومنهم من قال: بل بعد الهجرة، ويتصل بذلك حديث ضِمام (3) بن ثعلبة، وكان ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافداً لقومه، فلما دخل المسجد قال: أيكم ابن عبد المطلب، فقالوا ذلك الأبيض المترفّق -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على مرفقيه- فأتاه حتى وقف عليه، وقال: أنت ابن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدتَه. فقال: إني سائلك، ومغلظٌ عليك، فلا تَجِدْ عليّ، ثم قال: أنشدك الله: آلله أرسلك رسولاً؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله آلله أمرك أن تأمرنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم. قال أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نؤدي الزكاة، من أموالنا؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نحج البيت إن استطعنا إليه سبيلاً؟

_ =دخول الحرم، ح 2939، الضعفاء الكبير للعقيلي: 1/ 36، التلخيص: 2/ 463 ح 1009). هذا، والروحاء (بفتح الأول، وبالحاء المهملة ممدودة) قرية على بُعد ليلتين من المدينة المنوّرة، قاله البكري (ر. معجم ما استعجم: 2/ 681). (1) حديث الأقرع بن حابس رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والدارقطني والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه (أحمد: 1/ 290، 255، 352، 370، أبو داود: المناسك، باب فرض الحج، ح 1721، النسائي: مناسك الحج، باب وجوب الحج، ح 2620، 2621، ابن ماجة: المناسك، باب فرض الحج، ح 2886، الدارمي: ح 1788، الدارقطني: 2/ 279، الحاكم: 1/ 441) ولمسلم من حديث أبي هريرة -دون ذكر الأقرع بن حابس- الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، ح 1337. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك). (3) ضمام: بكسر ضاد، وخفة ميم.

قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نصوم شهر رمضان؟ قال: اللهم نعم " (1). ثم أسلم، وحسن إسلامه، وروي أن هذا كان سنة خمسٍ من الهجرة (2). فصل 2422 - الصفات المرعية في صحة الحج، ووقوعه عن فرض الإسلام، واستقرار فرضيته في الذمة: الإسلامُ، والعقل، والحرية، والبلوغ، والاستطاعة. فأما شرط تصوّر الحج، فالإسلام المحض؛ فإن الصبي غيرَ المميز، يحج عنه وليه، كما سيأتي. وإن أردنا تصوير الحج من الشخص بأن يتعاطى الإحرامَ، فنضمُّ إلى الإسلام العقلَ، وهو الذي يسميه الفقهاء التمييزَ، في حق الصبي، ثم في استبداده (3)، واشتراط صَدَر (4) إحرامه عن إذن وليّه كلام سيأتي، إن شاء الله، عز وجل. وأما الحرية والبلوغ، فمضمومان إلى ما قدمناه، في وقوع الحج، عن فرض الإسلام؛ فإن حج الصبي، والعبد، وإن صح، فلا يقع عن حجة الإسلام.

_ (1) قصة ضمام بن ثعلبة رواها البخاري من حديث أنس: العلم، باب القراءة والعرض على المحدّث، ح 63، ومن حديث أنس أيضاً رواها النسائي: الصيام، باب وجوب الصيام، ح 2093، 2094، وابن ماجة: الصلاة، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس، ح 1402، والدارمي: ح 650، وأحمد: 3/ 168، والبيهقي: 4/ 325، ورواها أحمد: (2/ 250، 264)، والدارمي: ح 652 من حديث ابن عباس. (2) في هامش (ك) ما نصه: يعني فرض الحج، لا قصة إسلام ضمام. وهذا القول صححه الفاضي حسين، وبعده الرافعي. وقيل: بل ذلك كان في سنة ست، وصححه الرافعي والنواوي في السير. وقيل: بل سنة ثمانٍ. قاله الماوردي. وقيل: سنة تسع، وصححه عياض. (3) استبداده: أي انفراده بإرادة الإحرام، من غير إذن وليه. (4) (ك) صدور. وأظنه من تصرّف الناسخ. فإمام الحرمين دائماً يستخدم هذا الوزن لمصدر الفعل (صَدَر) كما يستخدم (حَدَث) مكان حدوث.

وأما الاستطاعة، فهي مضمومةٌ إلى الشرائط المتقدمة، في الحكم باستقرار فرائض (1) الإسلام في الذمة. 2423 - ومقصود الفصل تفصيل القول في الاستطاعة، وهي تنقسم إلى الاستطاعة في تولّي الحج، وتعاطيه بالنفس، وإلى الاستنابة. فأما الاستطاعة (2) في تعاطي الحج، فهي معتبرةٌ أولاً، بدليل الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الاستطاعة: " زادٌ وراحلة " (3). ولا خلاف في اشتراط الاستطاعة. ثم المتبع عندنا تفسيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس على الأيّد (4)، القادرِ على المشي أن يحج ماشياً، إذا بعدت المسافة، ولا نعتمد في ذلك مسلكاً معنوياً؛ فإن الضرر الذي يلحق القويَّ في المشي من خمسين فرسخاً، قد يقلّ، ويقصر عن الضرر الذي ينال الراكب الضعيف، بسبب الركوب، في المسافة الطويلة؛ فلْيقع (5) التعويل على تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعةَ بالزاد والراحلة، في محاولة الرد على مالك في قوله: يجب المشيُ على القادر عليه (6). وهذا مقامٌ لابد من التنبه له، في وضع (7) الشرع؛ فإنا لا نستريب في

_ (1) (ط): فرض. (2) (ط): استطاعة تعاطي. (3) حديث تفسير الاستطاعة رواه الشافعي، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من حديث أنس وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وفي طرقه ضعفٌ أشار إليه الحافظ في التلخيص، وابن الصلاح في مشكل الوسيط. (ر. الأم: 2/ 116، الترمذي: الحج، باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة، ح 813، ابن ماجه: المناسك، باب ما يوجب الحج، ح 2896، الدارقطني: 2/ 216 - 218، الحاكم: 1/ 442، البيهقي: 4/ 330، مشكل الوسيط (بهامش الوسيط): 2/ 582، التلخيص: 2/ 442 ح 955). (4) الأيّد: القوي الشديد. (5) (ط) ولْنقل. (6) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 457 مسألة 706. (7) (ك): موضع.

[أن] (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر الزاد والراحلة، أراد بما ذكره ألا يُجَشّم الناسَ المشيَ، لما فيه من المشقة. وهذا لا سبيل إلى إنكاره، ولكن لا استقلال (2) بتقريره في [مسالك] (3) الأقيسة، وإن تخيلناه على الجملة. ونظائر ذلك كثيرة. ولسنا لها الآن. ويغلب في هذا الفن البناءُ على قاعدة الحسم (4)؛ فإن المشي على الجملة ظاهرُ الضرار، ولا التفات إلى ما يندر ويشذ، بخلاف ضرر الركوب. قال الأئمة: الزاد نفقةُ السفر في الذهاب، والإياب، فأهبة الذاهب، وأهبة المنقلِب زادُه، ولفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق في ذكر الزاد، فإن كان للرجل أهل، شرطنا في الاستطاعة نفقةَ الذهاب، والإياب. وأهلُ الرجل: زوجةُ الرجل وأولادُه. قال الصيدلاني: الأقارب من الأهل، المحارمُ منهم وغيرُ المحارم. وليس في الطرق ما يخالف قولَه والمرعي فيه، أنه يعظُم على الإنسان [مفارقة ذويه وقراباته، كما يعظم عليه] (5) مفارقةُ زوجته، فاشتراط نفقة الإياب لذلك. وإن لم يكن له أهل، على ما فسرناه، ففي اشتراط نفقة الإياب وجهان: أحدهما - أنها لا تشترط؛ فإن البلاد متساويةٌ، في حق من لا أهل له. والثاني - أنّا نشترط نفقة الإياب؛ لما في النفوس من الحنين إلى الأوطان. ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب، للمعارف والأصدقاء، كانوا، أو لم يكونوا؛ فإن الاستبدال عن الصديق ممكن، بخلاف الأهل؛ فإن الاستبدال فيه قد يعسر، ولا يفرض في القرابات إلاّ على بُعد.

_ (1) في الأصل، (ك): قول. (2) (ك): استقرار. (3) الأصل، (ك): مسائل. (4) (ط): الجسم. (5) ساقط من (ك).

2424 - ثم لم يختلف الأئمة في أن قضاء الديون مقدَّمٌ على ما ذكرناه، من النفقة. والقول [في الفصل] (1) بين المؤجل والمعجل، سيأتي إن شاء الله تعالى. وحسن الترتيب يقتضي استقصاء كل ما يتعلق بالفصل، ولكنَّا ملتزمون الجريَ على ترتيب السواد (2)، فنكتفي بعقد التراجم، في بعض الأشياء [المؤخرة] (3)، ونستقصي ما يتعلق بالترتيب استقصاؤه. 2425 - ومما يتعلق بالمقصود، وهو [مؤخر] (4) القول في صفة الطرق، في الأمن والخوف، والرخص والغلاء، والبر والبحر وكل ذلك يأتي مفصلاً في باب بعد ذلك. 2426 - ولو كان لا يستمسك على الراحلة، ويستمسك في المحمل، فيشترط أن يجد مؤنة المحمل، ولو لم يجد شِقَّ مَحمِلٍ (5)، بأن عَدِم من يشاركه، فلا استطاعة، وإن وجد مشاركاً، ثبتت الاستطاعة، ولو اتسعت ذاتُ يده لمحملٍ تام، ولكن يكتفى بشق محمل، فالزيادة من باب المؤنة المجحفة. وسنذكر شرح القول فيها، في الرخص والغلاء. ولو كان استمساكه على الراحلة ممكناً، ولكنه كان يلقى ضرراً بيّناً، فإذا كان لا يجد إلا مؤنة راحلة، فكيف الوجه، فيما صورناه؟ كان شيخي يقول: إن كان بين تقدير ركوب الراحلة والمحمل من الضرر، ما بين أصل الركوب والمشي، فلا نجعله مستطيعاً، ما لم يجد مؤنةَ محمل. وذكر غيرُه -فيما بلغنا- ظهورَ خوف المرض، من تقدير ركوب الراحلة، والأمران قريبان، لا يؤديان إلى خلافٍ، فيما أظن.

_ (1) زيادة من (ط). (2) " السواد ": يريد به مختصر المزني، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل. وكما ترى ألزم الإمام نفسَه بالجري على ترتيبه، فاكتفى (بتراجم) المسائل، أي عناوينها، وترك استقصاءها، إلى حين مكانها في (السواد). (3) في الأصل، (ك): الموجزة. (4) في الأصل، (ك): موجز. (5) المحمل: وزان مجلس، ما يوضع على البعير، ويكون ذا شِقَّين يركب فيه اثنان كل واحد في شِق، فهما عديلان (القاموس).

2427 - ثم ذكر العراقيون: أن مسكن الرجل غيرُ محسوب عليه، في استطاعته، والزاد مقدر بعد المسكن، وكذلك القول في العبد، يملكه الرجل، وهو محتاج إلى خدمته، كما سنذكره في الكفارات، ونزّلوا المسكنَ، والمملوكَ، الذي تمس الحاجةُ إلى خدمته، في الباب، منزلتهما في الكفارات المرتّبة، وسنذكر [فيها] (1) إن شاء الله تعالى أن الخادمَ والمسكنَ غيرُ محسوبين، ولا ذكر لهذا في طرق المراوزة، ولكنه قياسهم. ثم إذا فرض للرجل مسكنٌ، وقد تركناه عليه، فالوجه القطعُ في هذه الصورة، باشتراط نفقةِ الإياب، وتخصيص الوجهين بما إذا لم يكن له مسكنٌ مملوك. وإنما يجوز (2) تقدير الحنين إلى البلد الذي هو وطنه، وفيما ذكرناه احتمال على بعد؛ فإن بيع الدار، وتقدير ابتياع مثلها، في بلدة أخرى ممكنٌ، والقول في ذلك يتعلق بالحنين إلى الوطن، هذا محتمل. والأظهر ما قدمناه. 2428 - ومما ذكره العراقيون في هذا الفن أن الرجل إذا كان يتصرف في رأس المال، وكان جهةُ اكتسابه التجارةَ، فقد قالوا: نكلفه صرفَ رأس المال، إلى ديونه المحيطة به، ولا نخلّفه عليه، وحكَوْا عن ابن سُريج أنه قال: يُخَلّف عليه رأس ماله، الذي بالتجارة فيه يَتَبلّغ، ويَتَوصل إلى تحصيل قوته، في مستقبل الزمان، إذا كان لا يُحسن الاكتسابَ، إلاّ من هذه الجهة، كما نخلّف له دَسْت ثوبٍ يليق بمنصبه. ثم غلطوه وزيفوا مذهبَه، والأمر على ما ذكروه (3). وبَنَوْا عليه أن رأس المال مصروفٌ في أهبة الحج، على المذهب [الظاهر، وليس كالمسكن، والخادم، وحكَوْا فيه خلافَ ابن سريج. ولا شك، أن من يُخلِّف رأسَ المال عن ديون الآدميين، يخلِّفه عن أهبة الحج] (4)، ولا خلاف أن المسكنَ والعبدَ مصروفان إلى الديون، وإن لم يصرفا إلى أهبة الحج.

_ (1) في الأصل، (ك): فيهما. (2) ط: تجرد. (3) هذا في الديون عندما تحيط به، ويطلبه الدائنون، ويُضرب الحجر عليه. (4) ما بين المعقفين ساقط من: الأصل، (ك).

وفيما حكَوْه عن ابن سريج في الحج، من تخليف رأس المال احتمالٌ ظاهر؛ فإن تكليف الرجل الانسلاخَ، عن ذات يده، والألتحاقَ بالمساكين، فيه عُسر. على أن الظاهر أنه مصروف إلى الحج. ثم القول في اعتبار رأس المال في الكفارات المرتبة، كالقول في الحج، بل الأمر في الكفارات أظهر؛ من جهة أن المبدل فيها إذا لم يتفق، فالبدل القائم مقامه لا يعطل الكفارة. 2429 - وقال العراقيون: إن فضل شيء، ولكن كان الرجل يخاف العنت [لو] (1) لم يتزوج، وكان على حالةٍ قد نبيح فيها للحر التزوج بالأمة، عند فقد طَوْل (2) الحرة، فلا يلزمه أن يحج، بل نُسوِّغ له صرفَ ما يملكه إلى مؤونة التزويج؛ وذلك، لأنا إذا سوَّغنا إيثار تزوج الأمة، مع ما فيه من التسبب إلى إرقاق الولد، أشعر ذلك بأن محاذرة العنت (3) مهم، والكاشف له أنه في حكم ضرورة ناجزةٍ، والحج وإن تحقق وجوبه، فهو على التراخي، وحكم ما يتنجز التقديمُ على ما يتراخى، فإذاً لا استطاعةَ، ولا وجوب. وهذا الذي ذكروه قاطعين به قياسُ طرقنا، وإن لم نجده منصوصاً فيها. 2430 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا لم نوجب المشيَ في المسافة الطويلة، وقد اعتبر الأئمة في الطُّول مسافة القصر، وقَضَوْا بأن ما ينحط عنها من المسافة يجب المشي فيها على القادر القوي، وإن كان على الماشي في المسافة القصيرة ضررٌ

_ (1) في الأصل، (ك): أو. (2) إشارة إلى الآية الكريمة: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] والطول: الغنى واليسار، ومؤنة النكاح، والأصل أن يعدى بـ (إلى) فيقال: وجدَ طَوْلاً إلى الحرّة، ولكن الفقهاء أضافوه تخفيفاً. (المصباح). (3) العنت في اللغة: المشقة الشديدة، قال المبرد: العنت هاهنا: الهلاك: أي يخاف أن تحمله الشهوة على مواقعة الزنا، فيكون الحد في الدنيا، والإثم العظيم في الآخرة. وقيل: معناه: أن يعشق الأمَةَ، وليس في الآية ذكر العشق، ولكن ذا العشق يلقى عنتاً. وقال الفراء: هو الفجور هاهنا. (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 311/فقرة: 682).

ظاهر، فالقول فيه كالقول في الراحلة والمَحْمِل، على ما تفصل. ولو كان لا يتأتى المشي، ولكن قد نفرض الزحف في زمانٍ ممتد، فلا نوجب الزحفَ أصلاً. وهذا خارج على تحقق الضرر. فهذا منتهى مقصودنا في أحد قسمي الاستطاعة، وهو استطاعة تعاطي الحج، وتولّيه. 2431 - وأما القسم الثاني من الاستطاعة، فهو تحصيل الحج بطريق الاستنابة، فنقول- على الجملة: أولاً- العاجز عن التعاطي -كما سنصف العجز- إذا قدر على الاستنابة، لزمه تحصيل الحج بها، كما يلزم القادرَ على التعاطي تولِّي الحج، خلافاً لأبي حنيفة (1). ثم شرطُ الاستنابة: صحةً (2)، ثم وجوباً - أن يعجِز الرجل بزمانته (3)، وعضَبه (4)، عن تعاطي الحج بنفسه. فلو استناب قادرٌ على التعاطي، لم تصح الاستنابة، ولتكن الزمانة بحيث لا يرجى بظاهر الظن زوالُها. ولم يجوّز مالكٌ (5) الاستنابةَ في حالة الحياة؛ فإن أخبار الاستنابة، صادفها بعد الموت، [واعتبر] (6) الشافعيُّ تحقُّقَ العجز في الحياة، بالعجز المترتب (7) على

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 51، المبسوط: 4/ 153، البدائع: 3/ 121، 124، حاشية ابن عابدين: 2/ 238، رؤوس المسائل: 243 مسألة 137. (2) أي شروط صحة الاستنا بة، وشروط وجوبها. (3) الزمانة: كل داءٍ ملازمٍ، يُزمن الإنسان، ويدوم به، وزمن من باب تعب. (الزاهر، والمعجم، والمصباح). (4) عضبه عضباً: من باب ضرب: قطعه، ومنه السيف العضب أي القاطع، والمعضوب زمن، لا حراك به، كأن الزمانة عضبته أي قطعته ومنعته عن الحركة. (مصباح) وفي الزاهر: المعضوب: من عضبته أعضبه: إذا قطعته. والعضب شبيهٌ بالخَبْل (بمعجمة مفتوحة، وباء ساكنة) والخبل: قطع الأيدي والأرجل. (فقرة 339). (5) ر. تهذيب المدونة: 1/ 584، حاشية الدسوقي: 2/ 17، شرح الحطاب: 3/ 2. (6) في الأصل، (ك): اختار. و" اعتبر " هنا بمعنى "قاس". (7) (ط): المرتب.

الموت، وهذا إلى فقهٍ (1)؛ فإن الحيّ هو المخاطب، والنيابة بعد موته في العبادة أبعدُ من النيابة في حياته، والخطابُ مستمر عليه. ثم المعتبر في الاستنابةِ أحدُ شيئين: إما المالُ يبذله لمن يستأجره، وإما فرضُ بذل الطاعة من الغير، من غير مالٍ. ونحن نذكر في كل قسمٍ ما يليق به: 2432 - فأما الاستئجار، فإذا ملك أجرةَ أجيرٍ يحج عنه، وفضل ذلك عن ديونه، وعما نخلّفه له، لزم بذلُه، ولا نظر إلى إياب الأجير، وإنما المعتمد أجرتُه. وهذا لا خفاء به. ولو وجد أجرة أجيرٍ ماشٍ، ولم يجد أجرة أجيرٍ راكب، ففي وجوب استئجار الماشي وجهان: أحدهما - أنه يجب؛ فإن الفرق بين المشي والركوب إنما يتجه في حق الرجل نفسه؛ من جهة أنه لا يكلّف المشي، فأما الأجير إذا تَكَلَّفَه، والتزم تحصيلَ الحج، فاعتبار ضراره في حق مستأجِره بعيد. وهذا ظاهر المذهب. والوجه الثاني - أنه لا يجب استئجاره، من جهة أن الماشي على غررٍ ظاهرٍ، وبذل المال في أجرته تغريرٌ بالمال، من غير ثقةٍ ظاهرة بتحصيل المقصود. 2433 - ويتصل بهذا الموضوع سرٌّ في المذهب، يتضح به حقيقةُ الفصل، فإن قيل: لو كانت الأجرة مملوكةً، ولكن لو بذلها، كان فقيراً بعد بذلها، لا يجد ما ينفقه، فكيف الوجه في ذلك؟ قلنا: إن جرينا على ما حكاه العراقيون عن ابن سُريج، في تخليف رأس (2) المال في قسم استطاعة مباشرة الحج، فلا شك أنا نرعى أن تكون الأجرةُ المبذولة زائدةً على ما يخلِّفه من بلاغ. وإن قلنا: لا يُشترط ذلك في حق المباشرة، فلا شك أن نفقة المباشرة ذاهباً وآيباً، وما يتركه على أهله بلاغٌ له في الحال، فإن فرض انقطاعٌ، فهو بعد حصول الحج، فكأنا نقول: لا مبالاة بمسكنته بعد حصول الحج، وهذا الذي نقدره من المسكنة

_ (1) كذا في النسخ الثلاث، والمعنى: وهذا يُشير إلى الفقه، أو وهذا هو الفقه. (2) ساقطة من (ط).

لا تحقيق له، فإن أبواب الرزق ليست منحسمة، والأموال تغدو وتروح، [وقد] (1) تحقق في قسم المباشرة أن (2) البلاع ناجزٌ، والمسكنةُ بعد حصول الحج ليست واقعةً لا محالة. وإذا فرضنا القولَ في بذل الأجرة، فيتنجز ببذلها الفقرُ الناجز، وحصولُ الحج مرقوبٌ، فالحاجة متنجزةٌ، وحصول الحج غيبٌ، فكيف الوجه فيه، والحال كذلك؟ أما نفقة اليوم لابد (3) منها، له ولأهله، فإنا نقدم هذا على ديون الغرماء، يوم صرف المال إليهم، وأما الزائد على نفقة اليوم، فظاهر الاحتمال. وفيما نقله الصيدلاني، ما يدل على أنا لا نشترط أن يبقى له بلاغٌ، بعد بذل الأجرة. وفي لفظه تردُّدٌ؛ فإنه قال: إنه (4) لا يشترط أن يكون له نفقته، ونفقةُ أهله إلى إياب الأجير، فيحتمل أنه يريد التعرض للنفقة في زمان تقدير انقلاب الأجير، ويحتمل أنه ليس يرعى النفقة أصلاً ما عدا نفقةَ اليوم، [و] (5) المعتبر في الفطرة ما يفضل عن نفقة اليوم، [و] (6) هذا هو المرعي في الكفارات المرتّبة، إن لم يشترط فيها تخليف رأس المال، كما قدمناه، وليست الفطرة والكفارة مشابهةً لما نحن فيه؛ فإن الفطرة تتأدى [و] (7) الكفارة كذلك، والمالُ فيما انتهينا إليه مبذولٌ، والحج مرتقب (8)، ولكن وجوب البذل على الجملة، هو الذي يجر الإشكال [و] (9) هو كوجوب إخراج الفطرة.

_ (1) في الأصل، (ك): فقد. (2) في الأصل، (ك): وأن. (3) بدون الفاء في جواب (أما): على مذهب الكوفيين. (4) ساقطة من (ط). (5) مزيدة من (ط). (6) مزيدة من (ط). (7) في الأصل، (ك): في. (8) (ط): مترتب. (9) مزيدة من (ط).

فانتظم من مجموع ما ذكرناه -بعد النزول عن [رأي] (1) ابن سريج- أنّ ما يحصِّل الغرضَ لا يعتبر فيه إلا نفقةُ اليوم، وما [لا] (2) يحصل الغرض ناجزاً، ولكنه في أصل الشرع واجبٌ، فهو على التردد الظاهر (3). ثم إن ملنا إلى تخليف نفقةٍ، فهي إلى حصول الحج، ولا شك أنا لا نزيد على هذا المنتهى. وهذا في إحدى جهتي الاستنابة. 2434 - فأما بذل الطاعة، فالولدُ إذا بذل الطاعةَ لأبيه المعضوب، لزمه استنابته؛ إذا كان ذا زادٍ وراحلة. وإن بذل الطاعة لأبيه على أن يمشي حاجاً عنه، ولم يملك الراحلة، ففي وجوب الاستنابة، والحالة هذه- وجهان: قدمنا نظيره في الأجير الماشي. وكان شيخي يرتب الخلاف في الابن على ما تقدم في الأجير، ويجعل هذه الصورةَ أولى بأن لا تجب الاستنابةُ فيها؛ فإنه قد يعظم على الأب مشيُ ولدِه، ولا يعز عليه مشيُ الأجير. ولو (4) أوجبنا الاستنابة، والابن ماشٍ، فهو فيه إذا كان يملك الزاد (5)، فإن عوّل على كسبٍ في الطريق متيسر، فالخلاف قائم، مع ترتب، فإن المكاسب قد تنحسم في الأسفار. وإن لم يكن ذا مالٍ ولا كسوباً، وعوّل على السؤال، فالخلاف قائم، مع الترتب. وإن كان يحتاج إلى أن يركب مفازةً، لا ينفع في مثلها السؤال، ولا الكسب، فلا

_ (1) في الأصل، (ك): رأس مال ابن سريج. ثم نقول: المراد برأي ابن سُريج أنه قال: يترك عليه رأس مال تجارته، الذي به قوام عيشه. (2) مزيدة من (ط). (3) يوجز الإمام هنا العبارة عن المسألة والخلاف فيها، فيقول: إن ما يحقق الغرض ناجزاً كالفطرة والكفارة، فيعتبر فيه نففة اليوم، أما ما لا يحصل الغرض ناجزاً، كالحج؛ فإنه يبذل الأجرة الآن، ولكن الحج يتحقق بعد زمانِ، فهذا موضع التردّد فيما نُخلِّف بعد بذل الأجرة. (4) في الأصل، (ك): وأجب. (5) أي وجوب الاستنابة ماشياً، تكون عند ملكه للزاد.

خلاف أنه لا يجب عليه الاستنابة، والحالة هذه؛ فإنه يحرم التغرير بالنفس على الابن، وإذا حرم عليه هذا، استحال وجوب استنابته، والحالة هذه. 2435 - ولو بذل الابن للأب [المعضوب] (1) مالاً يستأجر به، ففي وجوب قبول المال، وصرفه إلى تحصيل الحج وجهان مشهوران: أحدهما - يجب القبول، كما يجب قبول الطاعة من الابن نفسه، إذا كان يباشر الحجَّ عن أبيه. والثاني - لا يجب؛ فإن المنَة تثقل وتتجنب (2)، في الأموال، وطاعة [البدن] (3) في حكم الخدمة، ولا يثقل على الأب استخدام الابن. وكان شيخي يتردد في بذل الابن [ثمن الماء] (4) لأبيه، ويذكر من الخلاف في وجوب القبول، ما قدمناه، ولا فرق كما قال بينهما. ولو بذل الأجنبي للمعضوب مالاً يستأجر به، فلا خلاف أنه لا يلزمه قبولُه، ولو بذل له الطاعةَ في الحج عنه بنفسه، ففي وجوب استنابته وجهان مشهوران، لا يخفى توجيههما، كما لا يخفى الفصل في الترتيب بين الأجنبي والولد. وكان شيخي يقول: الأب إذا بذل الطاعة لولده، فهو كالأجنبي يبذل الطاعة للمعضوب؛ فإن خدمة الأب تثقل على الابن، فأما إذا بذل [المالَ] (5) لولده، ففيه ترددٌ. يجوز أن يكون (6 كبذل الأجنبي المال، ويجوز أن يكون كبذل 6) الابن المالَ لأبيه، ولعل الأظهر هذا. فهذا معاقد المذهب في الاستطاعة بالنفس، والاستنابة. وقد شذ عنها نوعان: أحدهما أخرناه لترتيب المختصر (7)، والثاني نضبطه برسم فروع.

_ (1) مزيدة من (ط). (2) في (ط) وتخفّ. (3) في الأصل، (ك): البذل. (4) في الأصل، (ك): ثم المال. (5) زيادة من (ط). (6) ما بين القوسين ساقط من (ط). (7) المراد مختصر المزني، فقد وعد إمامنا بأنه " سيجري على ترتيب المختصر جهده ".

فرع: 2436 - قد ذكرنا أن الاستنابة لا تصح إلاّ من معضوبٍ موصوف بزمانة، لا يُرجى زوالُها، في غالب الظن، فلو استأجر والحالة هذه، ثم استمر العضبُ حتى مات، وقع الحج موقعه. ولو حج الأجير في قيامِ العضب، ثم اتفق زوالُ العضب -على ندورٍ-[و] (1) الاستمكانُ من المباشرة، ففي المسألة قولان: أصحهما - أنا نتبين أن الحج غيرُ منصرفٍ إلى المستأجر. والثاني - أن الحج منصرفٌ إليه، على (2) غالب الظن، في لزوم العَضْب. وشبه الأئمةُ القولين فيما ذكرناه، بالقولين فيما لو رأى الرجل سواداً مقبلاً، حسبه عدواً، لا طاقة له به؛ فصلى صلاة الخوف، ثم تبين أن الذي حسبه، لم يكن، ففي صحة الصلاة قولان. فإن قيل: كيف وجهُ التشبيه، والعضب هاهنا متحَقَّقٌ، غيرُ مظنون؟ قلنا: العضب المعتبر، هو الدائم إلى الموت، وصحةُ الحج بطريق الاستنابة، لا تعتمد تنجّز العضب في الحال، وإنما يعتمد جواز الاستنابة غلبةَ الظن، بدوام العضب. فلو لم تكن الزمانة بحيث لا يُرجى زوالها، فقد ذكرنا أن جواز الاستنابة لا يعتمد، [مثل] (3) هذه الزمانة. فلو استأجر أجيراً، وهو على رجاءٍ ظاهرٍ من زوال الزمانة، فاستمرت الزمانةُ إلى الموت، فقد ذكر الأئمة في ذلك قولين أيضاًً، وخرجوا الاختلاف في الصورتين على أنا نعتبر الحال [أو] (4) نعتبر ما يُفضي إليه الأمر في المآل. 2437 - وتمام الكلام في الفرع: أنا إذا حكمنا بأن الحج ينصرف إلى المستأجِر، فلا شك أن الأجرة مستحَقّةٌ للأجير، وإن حكمنا بأن الحجة غيرَ منصرفةٍ إلى المستأجِر، فقد ذكر شيخي عن شيخه القفال، أن من أئمتنا من يقول: لا يقع الحج

_ (1) مزيدة من (ط). (2) " على " هنا بمعنى لام التعليل، وهو منصوصٌ عليه عند أهل اللغة. والمعنى: ينصرف الحج إليه بسبب غلبة الظن في لزوم العضب، وعدم زواله. (3) في الأصل، (ك): قبل. (4) في الأصل، (ك): ونعتبر.

عن فرض المستأجِر، ولكنها تقع عنه تطوعاً. وهذا بعيدٌ؛ فإن تطوع الحج لا يسبق فرضَه، غيرَ أن هذا القائل يجعل العَضْب الناجزَ، بمثابة الرق، والعبدُ إذا حجَّ، ئم عَتَق، فما سبق من الحج -في الرق- تطوّعٌ، [متقدمٌ] (1) على فرض الإسلام. وهذا بعيدٌ، لا أصل له، فإن حكمنا بأن الحج يقع عن المستأجر تطوعاً، فالأجير يستحق الأجرةَ، وإن قلنا: لا ينصرف الحج إلى المستأجر أصلاً، فهل يستحق الأجير الأجرة، فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه لا يستحقها؛ فإنه كان مستأجَراً على تحصيل الحج لمستأجِره، ثم تبين أنه لم يحصل له. والوجه الثاني - أنه يستحق الأجرةَ، لأنه عمل في الظاهر ما التمس منه، ولم يقصر فيه. والأصح استرداد الأجرة؛ من جهة أن الحجَّ وقع عن الأجير، ويبعد أن يقع الحج له، ويستحق الأجرة على غيره، على مقابلة الحج الواقع عنه، وهو في التقدير بمثابة ما لو قال: استأجرتك للحج عن نفسك، ولا فصل إلا العلم والجهل، وجهاتُ الاستحقاق لا تختلف بالجهل، والعلم. فإن قلنا: لا يستحق الأجرة، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يستحقها، فقد اختلف أصحابنا على ذلك، فقال بعضهنم: يستحق الأجرة المسماة. وقال آخرون: يستحق أجرة المثل. وينبني، على هذين الوجهين القولُ في أنا هل نتبين فساد الإجارة؟ فإن أثبتنا المسمّى، فالاستئجار صحيح، وإن أثبتنا أجرةَ المثل، فقد قضينا بتبيّنِ فساد الاستئجار. وقال شيخي: إذا حكمنا بأن الحَجةَ تقع تطوعاً عن المستأجر، فلا يمتنع (2) تخريج الخلاف في أجرة المثل، والمسمى؛ فإن الواقع ليس هو الذي وقع الاستئجار عليه،

_ (1) في الأصل، (ك): يتقدّم. (2) (ط): يتسع.

غيرَ أن ثبوت المسمَّى في التفريع على هذا الوجه أولى. 2438 - وألحق الأئمة بما نحن فيه صورةً من صور الإجارة، فقالوا: إذا صح الاستئجار، وانعقد الحج عن المستأجر، ثم إن الأجير، كما (1) أحرم، بدا له أن يصرفَ الحجَّ إلى نفسه، فظن أن ذلك ممكن، فإذا أنهى الحجَّ، فهل يستحق الأجرة؛ فيه اختلاف مشهورٌ: من أصحابنا من قال: إنه لا (2) يستحق الأجرة؛ نظراً إلى قصده في صرف الحج إلى نفسه. وإذا ضممنا هذا إلى ما قدمناه، انتظم من المجموع أن من أئمتنا من اعتبر في استحقاق الأجرة حصولَ الحج للمستأجر، وهؤلاء يقولون: إذا [تبينا] (3) أن الحج غيرُ منصرف إليه، في صورة زوال العَضْب، فلا أجرة، وإذا صرف الأجير الحج إلى نفسه بعد الإحرام، استحق الأجرة (4). ومنهم من اعتبر قصد الأجير، وإقدامه على صورةِ ما التُمس منه، وهؤلاء يقولون: إذا صرف الأجير الحج إلى نفسه، لم يستحق الأجرةَ، وإن لم ينصرف إليه. وإذا زال العَضْب، وقلنا: لا ينصرف الحجُّ إلى المستأجر، فللأجير أجرتُه؛ اعتباراً بقصده. ومسائل، الإجارة وغوامضُها كثيرة. وإنما نذكر الآن ما يليق بغرضنا؛ فإن باب الإجارة بمسائله بين أيدينا. فرع: 2439 - الابن إذا بذل الطاعةَ لوالده، فقد ذكرنا أنه يجب عليه استنابته، ولا استئجار؛ إذ لا أجرةَ، فلو رجع الابن عن طاعته، فهل له ذلك؟ أم يلزمه الوفاء بما بذل من الطاعة، [وإتمام ما وعده] (5) ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يلزمه الوفاء، وهو الأصح؛ إذ لا عَقْد، ولا استئجار. والثاني - يلزم الوفاءُ،

_ (1) أي: عندما أحرم. (2) سقطت من (ط). (3) في الأصل، (ك) " أثبتنا ". واعتمدنا مكانها (ط). (4) لأن صرف الحج إلى نفسه بعد إحرامه عن المستأجر غير ممكن. (5) في الأصل، (ك): وإتمامها.

وبذل الطاعة فيه بمثابة الضمان، والضمان يُلزم الضامنَ الوفاء بقوله. والأصح الأولُ. فرع: 2440 - المباشر للحج إذا لم يجد مالاً عتيداً يتخذه زاداً، ولكنه كان كسوباً، وقد ادّخر لأهله ما يكفيهم، فهل يلزمه أن يخرج حاجّاً، معوِّلاً على كسبه؟ قال العراقيون: إن كان السفر طويلاً، لم يلزم التعويلُ على الكسب، وشرطُ وجوب الحج اعتبارُ الزاد؛ فإن الكسب قد يتخلف. وينضم إليه أن مقاساةَ أحوال السفر، إذا انضمت إلى تعب الكسب، عظمت المشقة. وإن قصرت المسافة، فقد ذكرنا أن الواجب المشيُ على المقتدر عليه، على التفصيل المقدّم. وهل نوجب الخروج، مع قصر المسافة، تعويلاً على الكسب؟ قالوا: إن كان كسبه في يومٍ يكفيه لأيامٍ، فعليه الخروج، وإن كان كسبه في يومٍ لا يفضُل عن اليوم، فلا يلزمه الحج؛ فإنه في أيام الحج ينقطع عن كسبه، فيتضرر به. هذا ما ذكروه. ولا ذكر له في طريقتنا. وفيه احتمال على حالٍ؛ فإن القدرة على الكسب في يوم الفطرة، لم تُجعل كحصول الصاع في الملك، ولا يبعد أن يقال: الكسب وإن أمكن، فهو كالمشي، وقد ألزمناه في السفر القصير، وإن كنا لا نلزمه في السفر الطويل. فصل 2441 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيّما صبيّ حج، ولو عشرَ حِجَج، فإذا بلغ، فعليه حَجة الإسلام، وأيما عبد حج، ولو عشر حجج، فإذا عَتَق، فعليه حَجة الأسلام، وأيما أعرابي حج، ولو عشر حجج، فإذا هاجر فعليه حَجَّة الإسلام " (1)، (2). قيل: هذا حين كانت الولايةُ منقطعةً، بين المهاجر وغير

_ (1) حديث: أيما صبي حج ... رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: ح 15081، وابن خزيمة في صحيحه: 4/ 249 ح 3050. والإسماعيلي في مسند الأعمش، والحاكم: 1/ 481، والبيهقي: 4/ 325، مع اختلافِ اللفظ (ر. التلخيص: 2/ 421 ح 954). (2) في هامش (ك) ما يمكن أن نقرأ منه ما يلي: هذا الحديث بهذا اللفظ لم أجده، وإنما روى الإمام الشافعي، والبخاري موقوفاً على ابن عباس: " أيما مملوك حج به أهله، فمات قبل أن=

المهاجر، بالتوارث وغيره من الأحكام، فكانت حَجة الأعرابي، الذي لم يهاجر، إذ ذاك نَفْلاً. وقيل: أراد بالأعرابي الكافر، فأبان أن من وجد منه الحج، على صورته في الكفر، فلا اعتداد به، وعبر عن الكافر بالأعرابي الذي لم يهاجر، لأنهم إذ ذاك، كانوا إذا أسلموا، هاجروا. ومقصود الفصل: أن الصبا، والرّقَّ [لا] (1) ينافيان صحةَ الحج، ولكنهما ينافيان وجوبَه، وإجزاءه عن الواجب، لو وقع. والفقير الذي لم نُثبته مستطيعاً، لو تكلف المشقة، وحج، وقع حجه عن فرض (2) الإسلام. فالفقر كالصبا والرق في منافاة وجوب الحج، وليس بمثابتهما في منافاة إجزاء الحج. وليس الحج فيما وصفناه كالجمعة؛ فالعبد والمريض المعذور مستويان، في أنه لا يجب على واحدٍ منهما حضور الجامع، وإذا حضراه، وصلَّيَا أجزأت الصلاةُ عنهما، عن فرض الوقت، ويفترقان في أن المريضَ إذا حضر تَقَيَّد، ولزمه إقامة الجمعة؛ فإنّ عذره كان يَحُط عنه تكلّفَ الحضور، وقد حضر، فكأنه ليس معذوراً الآن. وللعبد أن ينصرف بعد الحضور؛ فإن رقه قائم. وهذا ظاهر.

_ =يعتق، فقد قضى حجه، وإن عتق قبل أن يموت، فليحج، وأيما غلام حج به أهله، فمات قبل أن يدرك، فقد قضت عنه حجته، وإن بلغ، فليحج "، لكن قد رواه محمد بن المنهال الضرير عن يزيد بن زُرَيْع عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباسٍ مرفوعاً وزاد فيه، وأيما أعرابي حج، فمات قبل أن يهاجر، أجزأت عنه، فإن هاجر، فعليه الحج. قلت: وهذه الرواية غريبة جداً. وقد رواه بعدها أيضاً (كلمة غير مقروءة) من حديث محمد بن كعب القُرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. والله أعلم ا. هـ بنصه إلا كلمة أو كلمتان. وهذا الذي ذكره في الهامش انظره في الأم: 2/ 95، والسنن الكبرى: 5/ 179. (1) زيادة من (ط). (2) (ط): فقر. (وهو سبق قلم).

2442 - ثم ذكر الشافعي أن حَجة الإسلام إذا وقعت على شرطها، فهي للعمر، وقد تقدم هذا. وغرضه بالإعادة الردُّ على أبي حنيفةَ في مسألةٍ، فمذهبنا أن من حج، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، لم يلزمه إعادةُ الحج. وقال أبو حنيفة (1) يلزمه إعادته، مصيراً إلى أن الردة تُحبط ما سبق، والمسألة مشهورة. فصل قال الشافعي: " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: لبيك عن فلانٍ ... إلى آخره " (2). 2443 - مذهبنا أن حَجةَ الإسلام في حق من يُتصور منه وقوعُها، مقدمةٌ على سائر أنواع الحَج. والحج يقع ركناً، وقضاء واجباً، عن حج لم يكن ركناً لو تم، ومنذوراً، وتطوعاً، والحجة الأولى مصروفةٌ إلى جهة الركن، وفرضِ الإسلام، [و] (3) لا يجب تعيينُ النيةِ في ذلك، فلو تلبس بالحج مطلقاً، من يصح منه حجةُ الإسلام، فمُطلَقُ حجه مصروفٌ (4) إلى ما عليه من فرض الإسلام. وكذلك لو نوى الحجة المنذورةَ، أو حج القضاء، انصرف ما جاء به إلى حجةِ فرض الإسلام. والقضاء إنما يفرض في حق من كان عبداً، وشرع في الحج، وأفسده، ثم عَتَق، فعليه حجةُ قضاءٍ، لما أفسده، وهذا القضاء لا يكون حجةَ الإسلام؛ فإن القضاء يحكي الأداءَ، فكل أداءٍ لو تم، لم يتأدّ به فرضُ الإسلام، فقضاؤه بمثابته. ولو فرغ عن حجة الإسلام وعليه حجةٌ منذورة، فلتقع البداية بها، فلو نوى التطوع، [لغا قصدُ التطوع و] (5) انصرف الحج إلى جهة النذر.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 261، رؤوس المسائل: 240 مسألة: 138، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 238 مسألة: 707. (2) ر. المختصر: 2/ 42. (3) زيادة من (ط). (4) (ط) فتطلق حجةً مصروفةً. (5) زيادة من (ط).

ولو كان عليه قضاءٌ، كما صورناه وحجةٌ منذورة، فقد كان شيخي يقول: يجب تقديمُ القضاء؛ فإنه واجب شرعاً على المنذور، واستمر على هذا في دروسه، ولم يتعرض لهذا الترتيب غيرُه. وفي المسألة احتمالٌ ظاهر؛ فإن هذا القضاءَ فرعُ حجٍّ، لم يكن واجباً، كما أن الإقدام (1) على النذر، لم يكن واجباً. وبالجملة تعليلُ سقوط أثر التعيين في النية، عسرٌ (2) مشكلٌ في قاعدة المذهب، ولكن الممكن فيه أن قصد التطوع لا يُفسد العقد، ووجوب تقديم حج الإسلام ثابت. 2444 - فينتظم من ذلك صحةُ الحج، على الترتيب المستحق. وكان يمكن أن نقضي بفساد النية، وإنما عِظم وقع الإشكال، لانضمام مشكلٍ إلى مشكلٍ: أحدهما - ما ذكرناه من التعيين. والثاني - استحقاقُ الترتيب، وهذا عوض من الأول (3)، سيما على أصلنا، في أن الحج على التراخي. ثم في (4) مذهبنا أن المستأجَر على الحج، ينبغي أن يكون بريء الذمة، من حجة الإسلام، فلو كان عليه فرضُ الإسلام، ينصرف حجُّه إلى فرض إسلامه، وإن قصد مستأجِرَه، خلافاً لأبي حنيفة (5). ومعتمد المذهب في ذلك الحديث الذي رواه الشافعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمع رجلاً يقول: " لبيك عن شُبرمة فقال له: أحججت عن نفسك، فقال: لا. فقال: هذه عنك، ثم حُج عن شبرمة " (6) وهذا متعلَّق بالغٌ في

_ (1) (ط): الإحرام. (2) (ط): غير. (3) (ط): الأصل. (4) (ط): ثم مذهبنا (بدون في). (5) ر. المبسوط: 4/ 151، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 94 مسألة: 570، رؤوس المسائل: 248 مسألة: 142، الاختيار: 1/ 171، حاشية ابن عابدين 2/ 241. (6) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة ... " رواه الشافعي موقوفاً على ابن عباس، قال ابن الصلاح: " بإسناد جيد ". ورواه مرفوعاً أبو داود وابن ماجه والدارقطني والبيهقي (ر. الأم: 2/ 105، أبو داود: المناسك، باب الرجل=

المسألة، وإذا ثبت مضمون الحديث، في الأجير الصرورة (1)، أمكن بناءُ استحقاق الترتيب في حق الشخص على ذلك. فنقول: كما يتعين على [الأجير] (2) تقديمُ فرض نفسه على ما استؤجر له، فكذلك يتعين عليه في نفسه، أن يقدّم فرض إسلامه، على ما يتطوّع به؛ فيتسق [على] (3) ذلك استحقاقُ الترتيب، بناء على مسألة الأجير. 2445 - والأجير إذا صح استئجاره، وعيّن له المستأجر سنةً، فإذا انتهى إلى الميقات، ونوى التطوعَ عن نفسه، فقد قال شيخي: ينصرف ما جاء به إلى جهة الإجارة، فإن الحجةَ في هذه السنة مستحقةٌ عليه، والمستحق مقدمٌ في وضع الحج، على المتطوّع به. وأجمع أصحابنا على خلافه في هذا، فإن استحقاق الحج عليه ليس من حكم وجوبٍ يؤول إلى الحج، وإنما يتقدم واجبُ الحج على تطوّعه إذا رجع الوجوب إلى الحج، فإذا تطوّع الأجيرُ، فقد أساء، والوجه الحكمُ بوقوعِ الحج تطوعاً عنه، ثم الأجرةُ مردودةٌ، والإجارة منفسخة، كما سيأتي شرح أحكام الإجارة. ولو استأجر الرجل صرورةً، لم يحج عن نفسه، وعين له السنة القابلة، فالإجارةُ فاسدةٌ، لما ذكرناه. وإن ألزم الحجَّ ذمّتَه، ولم يعين الإتيان به سنةً، فالإجارة صحيحةٌ، ثم وجه الوفاء بها أن يحج عن نفسه أولاً، في سنته، ثم يحج عن مستأجِره. ...

_ =يحج عن غيره، ح 1811، ابن ماجه: المناسك، باب الحج عن الميت، ح 2903، الدارقطني: 2/ 267، البيهقي: 4/ 336، مشكل الوسيط لابن الصلاح، بهامش الوسيط: 2/ 589). (1) الصرورة: الرجل الذي لم يحج. (2) ساقطة من الأصل، (ك). (3) في الأصل، (ك): فعلى.

باب إمكان الحج وأنه من رأس المال

باب إمكان الحج وأنه من رأس المال قال الشافعي: " وإن استطاع الرجل، فأمكنه مسيرَ الناس ... إلى آخره " (1). 2446 - إذا ثبتت الاستطاعة على الشرائط المقدمة، ودامت حتى انقضت سنة، والمعنيّ بها انقضاءُ وقتٍ يسع المسير إلى الحرم، وإقامة الحج، فإذا دامت الاستطاعة (2) في المدة التي وصفناها، استقر الحج في الذمة، ومعنى استقراره أنه إذا مات، لزم الإحجاجُ عنه من رأس المال، كما سنذكره. ولو ثبتت الاستطاعة في جهة المباشرة، أو جهة الاستنابة، ثم زالت قبل مضي الزمن الذي يسع الحجَّ، فلا أثر لما كان، ولا يستقر الحج في الذمة، وإذا مات، لم يكن الإحجاج عنه دَيْناً. ولو تمكن من مباشرة الحج خُروجَ (3) الناس، فلم يخرج، فلما حجوا، مات ذلك المتخلِّف، قبل انقضاء زمان الرجوع، فالحج مستقر في الذمة؛ فإنه لو خرج، وحج، لكان يموت على هذا التقدير، ويغنيه موتُه عن تكلّف الرجوع؛ فقد جرى إذاً في عمره زمان إمكان الحج، على التصوير والتقدير (4) الذي ذكرناه. ولو بقي حياً في هذه الصورة، ولكن تلف ماله قبل زمان رجوعهم، حيث يشترط في الاستطاعة نفقةُ الذهاب والإياب، فإذا مات على فقره هذا، فلا يكون الحج مستقراً، مخرَجاً إخراجَ الديون؛ والسبب فيه أنا تبينا (5) عجزَه

_ (1) ر. المختصر: 2/ 42. (2) (ط): الأسباب. (3) (ط) وخرج. (4) في الأصل، (ك): التقرير. (5) (ط) أنا إذاً تبينا.

[بالأَخَرة] (1) عن أهبة الإياب، حيث نشترط نفقة الإياب، كما نشترط نفقةَ الذهاب، ذكره الصيدلاني وهو حسن. وفيه أدنى احتمال، من جهة أنه كان مالكاً في ابتداء السنة، لنفقة الذهاب والإياب، ولو خرج، لأدَّى الحجَّ، فطريان جائحةٍ على نفقة إيابه -والصورة هذه- ليست بمثابة ما لو لم يملك في الابتداء نفقةَ [الإياب] (2). والظاهر ما ذكره الشيخ أبو بكر (3). 2447 - ومما نُلحقه بهذا الفصل أن قول الشافعي اختلَف في جواز الاستئجار، على [حج] (4) التطوع. وسيأتي ذكر القولين، وتفريعهما، في باب الاستئجار. فلو مات -ولكن كان حج حجة الإسلام- فأراد وارثه أن يستأجر عنه من يحج عنه تطوعاً، ففيه القولان. ولو استمر عمرَه على انتفاء الاستطاعة، ولم يستقر الحجُّ في ذمته، فأراد الوارث أن يُحِج أجيراً عنه، ففي جواز ذلك طريقان: أحدهما - القطع بالجواز؛ فإنه لو قُدّر صحتُه، لكان حجةَ الإسلام. والثاني - يخرج جواز الإحجاج عنه على القولين المذكورين في حج التطوع. ولا فرق (5) بين حج التطوع والحج [الذي] (6) يفرض (7) غير مستقر في الذمة، فإن كلَّ واحد منهما لو قدرت الوصية به، فهو من الثلث؛ فإنهما مستويان في [انتفاء] (8) الدَّيْنية (9) عنهما. ولو شرع الرجل في حج التطوع، وأفسده، ثم قضاه، فلقضائه من الحكم ما لأدائه.

_ (1) في الأصل، (ك): فالأجرة. والأَخَرَة بفتحتين: أي أخيراً. (2) في الأصل، (ك): ابتداء. (3) أبو بكر هنا= الصيدلاني. (4) مزيدة من (ط). (5) في (ط): يفرق. (6) مزيدة من (ط). (7) في الأصل: يعرض. و (ك): بغرضٍ. (8) في الأصل، (ك): استواء. (9) في (ط) الذنبية. والدّينية: أي عدم استقرارهما في الذمة ديناً.

ولو تكلف غيرُ المستطيع وحضر المشاهدَ، وشرع في الحج، فأفسده، فقضاؤه يقع عن فرض الإسلام؛ فإن الأداء لو تم، لكان فرضَ الإسلام. فليتأمل الناظرُ المنازلَ، في التطوع، وما لم يستقر في الذمة، مما لو وقع، لكان فرضاً. فصل قال: "ولو كان يُجَن ويُفيق ... إلى آخره" (1). 2448 - الجنون ينافي توجّه الخطاب بالحج، فإن الاستنابةَ وإن كانت ممكنةً في الحج، فهو عبَادةٌ بدنية، والغرض منه التعبد بأدائه، أو توجيه الخطاب عنه (2) بالاستنابة فيه، فإذا لم يكن المجنون ممن يؤدي بنفسه، ولم يتأت توجّه الخطاب عنه بالاستنابة، فيسقط فرض الحج عنه- بخلاف الزكاة؛ فإن الغرض الأظهر منها الإرفاق. فلو كان الرجل يجن ويُفيق، فأفاق وامتدت إفاقته مدةً تسعُ الحجَّ، فقد استقر الحج في ذمته، وقد مضى استقرار الحج. ولو لم تبلغ مدةُ إفاقته مدةً تسع الحجَّ، فليس لوليه أن يحج به من ماله، فلو فعل، فالنفقة الزائدة لأجل السفر مضمونةٌ على الوليّ، ولو خرج الوليّ به، وكان يُجن أياماً، ويُفيق أياماًً، فاتفق أنه أفاق في أيام الحج، وتم منه الحج على الصحة، فما بذله الوليّ من ماله محسوبٌ، غيرُ مضمون؛ فإنه تأدى بسبب بذله فرضُ الإسلام. وإنما يجب الضمان، إذا لم يكن الحج الحاصلُ واقعاً عن فرض الإسلام. 2449 - ومما يتعلق بما نحن فيه، أن المبذر محجورٌ عليه، في ماله، كالمجنون، والصبي، ولكن ليس لولي الصبي والمجنون بذلُ مالهما، في تحصيل الحج لهما، ووليّ المبذّر يبذل مالَه ليحج، ويخرج معه بنفسه، ويُنفق عليه

_ (1) ر. الأم: 2/ 94. ولم أصل إليها في المختصر. (2) ساقطة من (ط).

بالمعروف، والاقتصاد، أو يُخرج معه من يراقبه وينفق عليه، فإن [نفس] (1) التبذير لا ينافي وجوبَ الحج، ووقوعَه موقع الاعتداد إذا صح. فصل قال: " فإن كان عامَ جدب، أو عطش ... إلى آخره " (2). 2450 - إذا كان الطعام، والعلف، والماء، موجوداً، في الطريق، وكانت البُلْغةُ (3) وافيةً، فالاستطاعة حاصلةٌ، ولا فرق بين أن تكون الأسعار راخيةً، أو غاليةً، إذا كان في المال وفاءٌ. وقد ذكرنا أن الماء إذا كان يعرض على البيع بثمن غالٍ بالإضافة إلى القُرى ومحال الريف، ولكن كان الثمن في ذلك المكان والزمان، لائقاً بالماء، فيجب ابتياعه للطهارة، وإنما يسقط وجوبُ [ابتياعه] (4)، إذا كان لا يُباع إلا بغبن، [بأن كان] (5) الماء في ذلك المكان يساوي مقداراً، وكان صاحبه يطلب في ثمنه أكثر منه، فلا يجب ابتياعه. ونظير هذا من الحج ما يُستأدى من الحجيج في المراصد (6) [بباطل] (7)، فإذا كان لا يتأتى دفعُه، ولا يَجد المرءُ مسلكاً، لا راصد عليه، فلا يجب عليه الحج، وإن قلّ قدرُ ذلك المطلوب، كما ذكرناه في الغبن، في ثمن الماء. وحاصل المقصود أن المؤن، وإن ثقلت بغلاء الكراء، والأسعار، لم يسقط

_ (1) في الأصل، (ك) نقص، (ط): نقض. بالضاد. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق. (2) ر. المختصر: 2/ 43. (3) البُلغة: ما يكفي لسد الحاجة، ولا يفضل عنها. (4) في الأصل، (ك.): إيقاعه. (5) في الأصل، (ك): فإن الماء. (6) الرَّصَد هو الذي يقعد على الطريق، ينتظر الناس، ليأخذ شيئاً من أموالهم ظلماً وعدواناً. والمراصد جمع مرصد، مكان الرصَد. (مصباح). (7) في الأصل، (ك): باطل.

وجوب الحج، إذا كان في المال وفاء بها. وإذا كان يُطلب مالٌ بغير حق، فيسقط وجوب الحج. 2451 - ولو كان يحتاج المسافر إلى من يُبَذْرِقُه (1)، وإذا استأجره، أمن الغوائل، في غالب الظن، فهل يجب الحج، والحالة هذه؟ اختلف أئمتنا في المسألة، فقال قائلون: يجب، وهو المختار، فإن بذل الأجرة بذلُ مالٍ بحق والمبذرِقُ أهبةٌ، من الأهب، كالدابة، وغيرها. وقال قائلون: لا يجب ذلك، فإن الاحتياج إليه سببُه خوفُ الطرق، وخروجها عن الاعتدال. وقد ثبت في وضع الشرع، سقوط الحج عند خوف الطارقين، في غالب الأمر، ولو أوجبنا استئجار مبذرِق، لزم أن نوجب استئجار عسكرٍ، عند وفاء المال، وعِظَم الغائلة. وهذا بعيدٌ عما فهمه الأولون، من اشتراط أمن الطريق. ثم ليس الأمن الذي نذكره قطعاً (2)، " فالمسافر ومتاعه على قَلَت (3) إلا ما وقى الله "، وإنما الحكم على غالب الظن، والنفس لا تثق بالخلاص عن الحوادث. فالذي يجب التفطن له، أنا لا نشترط في السفر [الأمن] (4) الذي يغلب في الحضر، فإن ذلك إنما يحصل لو صار السفر في حكم الحضر، بأن تصير الطرق آهلة، [و] (5) لا سبيل إلى شرط ذلك، فالأمن في كل مكانٍ، على حسب ما يليق به.

_ (1) يبذرقه: يحرسه. قيل: معرّبة، وقيل: مولّدة. وقيل بالذال، وقيل بالمهملة، وقيل: بهما جميعاً. (المعجم والمصباح). (2) أي لا قطع، ولا يقين في أمن المسافر. (3) قَلَت: هلاك. (النهاية في غريب الحديث). ومما يذكر أن إمام الحرمين لم يروه هنا حديثاً، كما صنع في البرهان. وهو ليس بحديث كما قاله الجوهري في الصحاح، وكما قاله أيضاً النووي في تهذيب الأسماء واللغات، حيث قال: إنه من كلام بعض السلف، قيل: إنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر ابن السكيت والجوهري وابن منظور أنه لأعرابي (ا. هـ بتصرف) وانظر كشف الخفا ح 781، وانظر ما قاله الحافظ في التلخيص: 3/ 211 ح 1458. (4) زيادة من (ط). (5) الأصل، (ك): فلا.

فصل قال: " ولا يبين لي أن أوجب عليه ركوبَ البحر ... إلى آخره " (1). 2452 - اختلف نص الشافعي في وجوب ركوب البحر لأجل الحج، فقال هاهنا: ولا يبين لي أن أوجبه، وقال في موضع آخر: لا أوجبه إلا أن يكون أكثر عيشِه في البحر، [و] (2) عندي أنه نصَّ في بعض المواضع على وجوب ركوب البحر، إذا كان يعتاد ركوبَه. فقال بعض أصحابنا: في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يجب ركوبه؛ فإنه مهلكة والخارج منه يُعدّ ناجياً، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. والقول الثاني: إنه يجب؛ فإنه مطروق العقلاء، ويُبعدُ الآفةَ عن سفينة صحيحة شِحْنتُها (3) على قَدْر (4)، وإجراؤها في وقت متَخيَّر، فلا يبقى إلا مهَابةُ النفوس، فلا تعويل عليها. ثم القولان فيما يعتاد ركوبه، ولا يُنسب صاحبُه إلى اقتحام العَطَب. فإن كان البحر بحيث لا يركبه إلا هجّام، مغرِّر بنفسه، فلا يجب ركوبُه، بل قد نقول: لا يحل ركوبُه. وكذلك إن اغتلم (5) بحرٌ، يُعتاد ركوبه في بعض الأوقات، فالكلام في ذلك الوقت، كالكلام في البحر المغرِق. ومن أصحابنا من [نزل] (6) المسألةَ على جرأة الراكب، واستشعاره. وفي نص

_ (1) ر. المختصر: 2/ 43. (2) مزيدة من (ط). (3) الشِّحنة: ما تُملأ به السفينة. وشحن يشحن من باب تعب. (معجم). (4) قَدْر بفتح وسكون: المقدار المساوي من غير زيادة، ولا نقصان. (معجم). (5) اغتلم البحر: هاج واضطربت أمواجه. (معجم). (6) الأصل، (ك): ترك.

الشافعي إشعارٌ به، وسبب التنزيل على [هذا] (1) أن الاستشعار إذا عظم، ظهر أثره، وعظم ضرره، وقد يخلع قلب المستشعر. وإذا وقع التنزيل على ذلك، فمنهم من قال: [المستشعر لا يلزمه الركوب، وفي غير المستشعر قولان، ومنهم من قال:] (2) غير المستشعر يركب، وفي المستشعر قولان. ومنهم من نزل النصين على الحالين، على قطعٍ، من غير ترديد قول، وقال: المستشعر لا يلزمه الركوب، وغيره يركب. وكل ذلك والبحر مركوب لا يعد مُغْرِقاً (3). وقال بعض أصحابنا: لا يجب ركوبُ البحر قط، وما ذكره الشافعي غيرُ مصرح به، ولا يمتنع حمله على ما إذا [ركب] (4) البحر وفاقاً، وقرب من الشط الذي يتاخم (5) مكة، فيجب عليه التمادي، ولا محيص، وإلى المقصود أقرب. 2453 - وإذا لم نوجب ركوبَ [البحر] (6) وقد توسطه المرء، واستوى في ظنه ما بين يديه، وما خلفه، فهل يجب التمادي في صوب مكة؟ فعلى وجهين، كالوجهين في المحصر إذا أحاط به العدوّ من الجوانب. وإن قلّ ما في صوب مكة، وكثر البحر في غيره من الجوانب، وجب التمادي. وإن كثر ما في صوب مكة، جاز الرجوع، وإنما الوجهان [في] (7) ظن الاستواء، وهو كالوجهين في المحصر يحيط به العدوّ من جوانبه. على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أنه لا يجب ركوبُ البحر، وصورة الوجهين في الاستواء مخصوصةٌ بما إذا كان يجد في المنصَرَف طريقاً غير البحر، أما إذا كان يضطر في الانصراف إلى ركوب البحر، فالانصراف من شط (8) البحر أقربُ من قطع البحر إلى

_ (1) مزيدة من (ط). (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك). (3) ط (مغرقة). (4) ساقط من الأصل. (5) تاخَم الموضع الموضعَ: جاوره، ولاصقه. (المعجم). (6) ساقط من الأصل، (ك). (7) ساقطة من الأصل، (ك). (8) واضح أن المراد جانب البحر القريب من الشط، لا اليابس نفسه.

مكة، مع الاضطرار إلى قطع كله في الانصراف. ثم قال الأئمة: النسوة أولى بأن لا يجب عليهن ركوبُ البحر، لأنهن عوراتٌ، والبحر هتّاك للأستار؛ فإن جعلنا المسألة على قولين في الرجال، ففي النسوة قولان مرتبان، والفرق ما ذكرناه. وإن لم نوجب ركوبَ البحر، ولم يكن البحر معروفاً بالإهلاك، فلا يُنكر الأمر بركوبه استحباباً، ولا نرى الأمر ينتهي إلى دفع ذلك. ولو كان مُخْطِراً (1)، فإن غلب [على] (2) الظن الهلاكُ، حرم الركوب، وفاقاً، وتأسياً بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. وإن استوى الأمران، ولم يقض العقل بتغليب الهلاك، أو السلامة، فقد كان شيخي يقطع بتحريم الركوب أيضاًً. وفيه نظر. وللأصحاب مرامز إلى نفي التحريم في مثل ذلك. أما الكراهيةُ فكائنةٌ، لا شك فيها. واضطرب الأئمة في ركوب البحر المُخطِر، والمقصودُ الجهاد، فمنهم من استمر على التحريم؛ فإن الخطر المحتمل في الجهاد ما يَلقى الغزاة من جهة القتال. وقال قائلون: لا يحرم الركوب في جهة الغزو؛ فإن التواصل (3) إلى المقصود يناسبه، فإذا كان المقصود على الغرر، لم يبعد احتماله في التسبب. فصل 2454 - والمرأة كالرجل في التزام الحج عند ثبوت الاستطاعة، وما ذكرناه في الرجل من الزاد، والراحلة، وغيرهما، فجملته معتبرةٌ في المرأة، وفيها مزيدٌ؛ فإنها عورةٌ. فإن ساعدها زوج [أو ذو رحم، فذاك، وكذلك المحرم، وإن لم يكن ذا رحم، كالأخ من الرضاع.

_ (1) مُخْطِراً: من أخطره المرض: جعله بين السلامة والهلاك. ويقال بادية مُخطرة. (معجم). (2) ساقطة من الأصل، (ك). (3) (ط): التوصل.

وإن لم تجد محرماً، ولم يساعدها زوج] (1)، واتفق جمعٌ من النسوة الثقات، يصطحبن، فذلك يبعدهن من تقدير الطمع فيهن، فمن أصحابنا من أوجب عليهن الخروجَ في رفقةٍ مأمونة. ومنهم من لم يوجب ذلك، حتى يكون مع واحدةٍ فيهن محرم. وهذا اختيار القفال، فإنهن قد ينوبهن أمرٌ، فيستعنّ بالتي لها محرم، ويستظهرن به. ولم يشترط أحد من أصحابنا أن يكون مع كل واحدة منهن محرم. وما اختاره القفال حسن بالغ، يعضده حكم الخلوة؛ فإنه كما يحرم على الرجل أن يخلو بامرأة واحدةٍ، فكذلك يحرم عليه أن يخلو بنسوة، ولو خلا رجل بنسوة، كان محرمَ واحدةٍ منهن، فلا بأس. وكذلك إذا خلت امرأة برجالٍ، واحدهم محرمٌ لها، جاز. ولو خلا عشرون رجلاً بعشرين امرأةٍ، وإحداهن محرم لأحدهم، أو زوجةٌ، كفى ذلك. وقد نص الشافعي على أنه لا يجوز للرجل أن يؤم بنساء منفردات، فيصلي بهن، إلا أن تكون إحداهن محرماً له. 2455 - ثم من لطيف القول في هذا الفصل: أنها إذا عدِمت محرماً، أو زوجاً، وباقي الصفات في الاستطاعة ثابتةٌ، فالقول في المنع من الخروج ما ذكرناه، ويبتني عليه أَنْ لا استطاعةَ قطعاً، ولو تمادى الأمر كذلك إلى الموت، فلا نقضي باستقرار الحج في ذمتها. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة (2): يستقر الحج، وإن كان يمتنع الخروجُ. وهذا متناقضٌ لا أصل له.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك). (2) يختلف الأحناف هل المحرم أو الزوج شرط وجوب أم شرط أداء؟ ومقتضى كونه شرط وجوب أن الحج لا يستقر في ذمتها، ومقتضى كونه شرط أداء أن الحج يستقر في ذمتها. والقائل من الأحناف أنه شرط أداء هو القاضي أبو خازم، أما الإمام أبو حنيفة فيقول: إنه شرط وجوب. ولا يفوتنا التنبيه إلى دقة عبارة إمامنا حيث نسب القول باستقرار الحج في ذمة المرأة إلى بعض أصحاب أبي حنيفة وليس إلى أبي حنيفة، ولا إلى كل أصحابه (ر. البدائع: 2/ 123، 124، البحر الرائق: 2/ 339، 340، وحاشية ابن عابدين: 2/ 339، تبيين الحقائق: 2/ 4، 6، فتح القدير: 2/ 329، 332).

وإذا تمكنت من استئجار محرم، فالقول في هذا، كالقول في استئجار المُبَذْرِق، والأظهر هاهنا وجوبُ الاستئجار؛ فإن زيادة المؤنة في حقها بمثابة زيادة المؤنة، في حق من يحتاج إلى المحمل، ولا يكتفي بالراحلة. ومن لم يوجب، قال: استئجارُ المحرم ليس من المؤن الغالبة، التي تقع، والنادر لا يلتزَم. والأصح الإلتزام. فصل قال الشافعي: " فإن مات قضي عنه ... إلى آخره " (1). 2456 - من استطاع في حياته، واستقر الحج في ذمته ومات، كان الحج ديناً مأخوذاً من رأس التركة مقدماً، على الوصايا، وحقوق الورثة. هذا هو المنصوص عليه، في معظم الكتب، وهو ظاهرُ المذهب، وذكر هذا القولَ في الحج الكبير (2)، ثم قال (3): قد قيل ذلك، وقيل: إن لم يوصِ به، فلا يُحَج عنه، وإن أوصى به، حُجّ من الثلث من ميقاته. فحصل قولان: أصحهما - الأول، والثاني مذهب أبي حنيفة (4)، وهو جارٍ في جملة الحقوق التي تثبت لله تعالى. وفي القول الموافق لمذهب أبي حنيفةَ إشكالُ ظاهر، وهو أن معتمد ذلك القول أن العباداتِ مفتقرةٌ إلى النية، ولا يتطرق إليها استقلالُ الغير بالأداء، من غير توكيلٍ ممن عليه؛ [فإن] (5) من أدى عن غيره مقدار زكاته من غير إذنه، لم يعتد بما أخرجه،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 42. (2) الحج الكبير: المراد به كتاب الحج من الأم، وسماه الكبير في مقابلة (كتاب الحج) من مختصر المزني. (3) القائل هو الشافعي رضي الله عنه. (ر. الأم: 2/ 107 باب من أين نفقة من مات ولم يحج؟). (4) ر. مختصر الطحاوي: 59، البدائع: 2/ 221، 222، رؤوس المسائل: 247 مسألة 141، حاشية ابن عابدين: 2/ 242، 243 مختصر اختلاف العلماء: 2/ 91 مسألة: 569. (5) ساقطة من الأصل، (ك).

وليس كما لو أدى عنه دَيْنَه، وإذا مات، ولم يوصِ بما وجب لله تعالى قُربةً، فلا يقع المخرَج متعلَّقاً بإذنه، وتختل النيةُ بذلك، وهذا على بعده كلامٌ على [حال] (1). ولكن القياس يقتضي أن يقال: إذا مات، ولم يوصِ، فهو مرتهَنٌ بما وجب عليه، ولكن تعذّر طريقُ التأدية، فبقي الوبال على المتوفَّى، والله حسيبه، فإذا أوصى، فقد زال هذا المعنى، واقتضى القياسُ إذا تيسر طريقُ الأداء أن يكون دَيْناً من رأس المال. هذا هو القياس، ولكن لم يذكره أحد من الأَصحاب، تصريحاً، ولا رمزاً، وإنما نقلوا ذلك القول على وفق مذهب أبي حنيفة، في الحَسْب من الثلث عند الوصية. ولا عود الآن إلى هذا القول. والتفريع على الأصح الأظهر. 2457 - فإذا مات، واستقر الحج عليه، فالقدر المستحق، المحكوم بكونه دَيْناً حَجَّةٌ من الميقات، المنسوب إلى صوب جهته، وذلك يمكن تحصيله بمبلغٍ قريب، ولا يجب إحجاج أجير قاصدٍ عنه من بلده (2)، وذلك لو طُلِب قام بمالٍ له قدرٌ، وعلةُ المذهب أن الغرض تحصيلُ الحج، ومبتدأ الحج من الإهلال، وهو من الميقات، والرجل لو حج بنفسه في حياته، لاحتاج إلى [مؤنةٍ] (3) لسفره من بلده، ولكن لا تتأتى المباشرةُ إلا كذلك، والمقصود ما ينشئه من ميقاته، ويتأتى تحصيل الحج بطريق الاستئجار من الميقات، ثم اعتبر ميقاتُ صوبه، والغرضُ يختلف بذلك، فإن المواقيت متباينةٌ، كما سيأتي وصفها في بابٍ. [ولا خلاف] (4) أنا لا نعتبر الميقات بعينه، وإنما نعتبر مسافةَ ميقات صوبه، وهذا من باب المواقيت.

_ (1) مزيدة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): كلامٌ عليٌّ. (2) أي أن الأجرة التي يحكم بكونها ديناً، تكون عن المسافة من الميقات إلى المشاعر، ولا تعتبر من البلد، وإن كان الأجير قاصداً أي متوسطاً في الأجرة غير مغالٍ فيها. (3) في الأصل، (ك): قوته. (4) في الأصل: فلا اختلاف.

ثم سبيلُ تحصيل حجة ميقاتية (1) أن يلتمس من المارّين إلى مكة، أن يستأجروا ثَمَّ أجيراً من الميقات، فإن لم يجد من يتطوّع بذلك، فاستئجار بعض الواصلين على الاستئجار تَقرُب أجرتُه (2). 2458 - ولو أوصى بأن يستأجر عنه من الميقات أجيراً من ثلثه، والتفريع على الأصح، ففائدة إضافة الحجة التي هي دينٌ إلى الثلث مزاحمةُ الوصايا بها، فإن كانت تحصل مع (3) المضاربة، فذاك وإلا فرضنا المضاربةَ، ونظرنا إلى حصة الحج، ثم أكملنا الحَجة الميقاتية من رأس المال، [ونُحْوَج] (4) في مثل ذلك إلى الحساب الدوري (5)، وكل صوره يشترك فيها حسابُ رأس المال والثلث، ومن ضرورة الأخذ من رأس المال تقليلُ الثلث بعده، فالغرض الحسابي يصفو بالدور، ولعلنا نوفَّق [لجمع] (6) ضوابط حسابية [سيّالة] (7)، وجيزة القدر -إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا (8). ولو أوصى بأن يُحج عنه من ميقاته، حجةُ الإسلام، ولم يتعرض للثلث، والتفريع على القول الأظهر، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا معنى لذكره الأمر بالإحجاج عنه إلا التذكيرُ والاستحثاث على إبراء ذمته. والثاني - أن ذلك يحمل

_ (1) (ط): ميقاته. (2) المعنى أن دَفْعَ أجرة لبعض من يصل إلى الميقات كي يستأجر له أجيراً يبدأ حجه من الميقات أمر سهل قريب، أي مثل هذه الأجرة تكون زهيدة ميسورة. (3) ط: من. (4) في النسخ الثلاث: " نخرج " والمثبت تقدير منا؛ رعايةً للسياق. (5) الدوري: نسبة إلى الدور، وهو توقف كلٍّ من شيئين على الآخر. وهنا يتوقف معرفة ما تتم به، الحجة على معرفة ثلث الباقي، لتعرف حصة الواجب منه، ويتوقف معرفة ثلث الباقي على معرفة ما تتم به الحجة، ولاستخراجه طرق، منها الجبر والمقابلة. (راجع شرحاً وتمثيلاً لذلك: حاشية قليوبي وعميرة: 3/ 174). (6) في الأصل، (ك) بجميع. (7) في الأصل، (ك): مسئلة. (8) وفى الإمام بما وعد، ووفِّق كما ترجَّى، فقد أفاض وأفاد في شرح النماذج الحسابية في كتاب الوصايا مما استغرق مئات الصفحات، وهي بين أيدينا.

على مزاحمة الوصايا، ليُفيد لفظُه وذكره (1)، وهذا بعيد. والوجهان يجريان في الأمر بقضاء ديون الآدميين، وكل ما [يخرج] (2) من رأس التركة من غير ذكر (3). ولست أدري أيخصون هذا الخلافَ بذكر الوصية في لفظها، أم يطردونه في الأمر المطلق؟ ولو خصصوه بذكر الوصية، لكان أقرب، مع اشتهار لفظ الوصية بالتبرعات المنحصرة في الثلث. وإن قال: يحج عنّي من بلدي، ولم يقل من الثلث، والتفريع على أن مجرد الوصية من غير إضافةٍ إلى الثلث في الحجة الميقاتية لا يتضمن مزاحمةَ الوصايا، فإذا قال: أحجوا عني من (4) بلدي، فقدرُ الحج من الميقات مأخوذٌ من رأس المال، كما لو لم تكن وصية، ثم تقعُ (5) المزاحمة بما بين البلد والميقات للوصايا، فإن وفت الحصةُ، فذاك، وإن لم تف، فما يحصل يضم إلى ما أخذناه من رأس المال، ويُحج عنه، من حيث بلغ. وقد ذكرنا قولين في الوصية بحَجّة التطوع، ونحن نفرّع على تصحيحها. فلا شك أنها محسوبةٌ من الثلث. 2459 - ولو نذر حجةً في مرض موته، أو نذر صدقة، أو أقدم على ما يوجب كفارة، فهذه الحقوق محسوبةٌ من الثلث [وفاقاً] (6)؛ فإن أسبابها جرت في المرض، ولو جرى النذرُ في الصحة، أو جرت أسبابُ الكفارات في الصحة (7)، ففي محل هذه الحقوق وجهان: أحدهما - أنها من الثلث. والثاني - أنها من رأس المال.

_ (1) أي حتى لا يكون كلامه لغواً. (2) في الأصل، (ك): يجري. (3) (ط): عذر. (4) مكانها بياض في (ط). (5) ساقطة من (ط). (6) مزيدة من (ط). (7) هنا اضطراب وخرمٌ في (ك) فعبارتها هكذا: " في صحتهم، ولا يطلبون بها، ما بقوا، فإذا ماتوا سقطت حقوق الورثة، وليست كتبرعات البتات ".

[فمن قال، إنها من رأس المال] (1)، فوجه ذلك أنها استقرت حقوقاً في حال كمال التصرف، ومن قال: إنها من الثلث، فوجه قوله أنها لو احتسبت من رأس المال، لاتخذ الناس ذلك ذريعةً في إسقاط حقوق الورثة (2 بأن يأتوا بأسباب الكفارات في صحتهم، ولا يطالبون بها ما بقوا، فإذا ماتوا، سقطت حقوق الورثة 2) وليست كتبرعات البتات في الصحة؛ فإنه لا تهمةَ فيها، مع امتداد الحياة والصحة، وإذا بُتَّت (3) في مرضه، أو صحته، وقلنا بالاحتساب من الثلث، فلا حاجة إلى الوصية بها، تفريعاً على القول الأظهر، في أن الوصيةَ لا حاجة إليها، في أمثال هذه الحقوق؛ فإن جريان النذور بمثابةِ الوصية، وهذا لائحٌ. 2460 - ومما ذكره الأئمة في آخر هذا [الباب] (4) أن الأصحاب اختلفوا في أن الوصية بحج التطوع، والوصيةَ بالعتق هل يقدمان على ما سواهما من الوصايا؟ فيهما قولان مشهوران. ثم قال صاحب التقريب: إذا قدمنا الحجَّ والعتق على سائر الوصايا، ففي الوصية بالحج، مع العتق المحسوب من الثلث قولان: أحدهما - (5 العتق مقدم على الحج، والثاني 5) الحج مقدّم على العتق. هكذا حكاه. ويتجه الحكم بأستوائهما، لتقابلهما باختصاص كل واحد منهما بمزية في الفقه. والأصح أنا لا نقدم الوصيةَ بالعتق، والحج، على سائر الوصايا، ولا حاصل للتقديم، مع الانحصار في الثلث، إلا أن يوصى بتقديم (6 بعضها على بعض 6). فعلى هذا إذا أوصى بحجة التطوع، وحكمنا بمزاحمتها الوصايا، فإن كانت حصة

_ (1) ساقط من الأصل. وهو ضمن الخرم المشار إليه من (ك). (2) ما بين القوسين ساقط من (ط). (3) ط، (ك): ثبت. (4) الأصل، (ك): الكتاب. (5) ساقط ما بين القوسين من (ط). (6) ما بين القوسين ساقط من (ط).

حجة التطوع وافيةً بحجةٍ من الميقات، فذاك وإن لم (1) يصب الحج ما يكفي لحجٍّ من الميقات، فتبطل وصية الحج؛ فإنه لا يتبعض، بخلاف الوصية بالعتق، فإن تحصيل بعضه ممكن، على ما سنذكره في الوصايا والعتق. إن شاء الله تعالى. ...

_ (1) ساقطة من (ط).

باب تأخير الحج

باب تأخير الحج قال الشافعي: " أنزلت فريضةُ الحج بعد الهجرة ... إلى آخره " (1). 2461 - مذهب الشافعي أن وجوب الحج ليس على الفور، وليس على المستطيع البدارُ إليه وعمره فسحته، ومدته؛ فإن الحج عبادةُ العمر، فكان موقعه من العمر، كموقع صلاة الظهر، من زوال الشمس إلى مصير كل شيء مثله. ولو استشعر من نفسه العَضْب، فمن أصحابنا من أوجب عليه البدارَ لهذا الاستشعار، ومنهم من لم يوجبه. 2462 - ثم إذا استطاع، فأخر، فمات، فالمذهب أنه يموت عاصياً؛ فإنا لو لم نعصِّه، لأخرجنا الحجَّ عن حقيقة الوجوب. وأبعد بعض الفقهاء فقال: لا يموت عاصياً، لأنه أخر، والتأخير مسوَّغ له، وإنما يعصي، من فعل ما ليس له فعله. وهذا قولٌ عريٌّ عن الإحاطة بأصول الشريعة؛ فإن التأخير إنما يسوغ على خطرٍ (2) يلابسه، في عاقبة أمره، وقد ذكرتُ في فن الأصول (3) في ذلك سرّاً، فقلت: وجه وجوب الحج أن مؤخره متعرض للغرر، وهو مما يؤلم القلب، ولولا هذا، لما تحقق الوجوب. وظهر اختلاف أئمتنا في أن من أخر الصلاة [المؤقتة] (4) إلى وسط الوقت، فاخترمته المنية، فهل نقضي بأنه يلقى الله عاصياً؟ فقال قائلون: إنه يعصي كما يعصي المستطيع إذا مات، ولم يحج، وقال آخرون: لا يعصي؛ فإن التأخير،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 44. (2) (ك): على غير خطر. (3) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/ 168 - 178 فقرة 143 - 161. (4) مزيدة من (ط).

كان مربوطاً بوقتٍ مضبوطٍ، ومنتهى العمر لا ضبط له. وهذا وإن ارتضاه طوائفُ من أئمة الفقه، فهو غيرُ صحيحٍ على قاعدة الأصول، ويلزم القائلَ به أن يُخرج الصلاةَ عن حقيقةِ الوجوب في أول الوقت، فالوقت للصلاة، كالعمر للحج، فإذاً ثبت أن من أخر الحج حتى مات، يلقى الله عاصياً. وما حكيناه من نفي التعصية غلطٌ غير معتد به، وقد ذكره شيخي، وبعضُ المصنفين. [وقد] (1) قال قائلون: إنه يعصي معصيةً منسوبة إلى آخر سنةٍ من سني الإمكان. وقال قائلون: يعصي معصيةً منبسطةً على جميع وقت الإمكان، والوجهان عندنا [لا حاصل] (2) لهما، فلا تقبض (3) المعصية، ولا تنبسط، والوجه القطع بأنه مات عاصياً، ولقي الله تعالى، على صفة العصيان. ولا معنى لأضافة العصيان إلى زمانٍ، وهذا هو الذي اختاره الصيدلاني في كتابه. 2463 - ومما يجب التنبيه له أن التأخير إلى زمان العَضْب يحقق المعصيةَ في الحياة، وإن كان تحصيل الحج بطريق الاستنابة ممكناً؛ إذ لو قلنا: لا يعصي بالتأخير إلى العَضْب، لوجب أن نقول: لا يعصي بالتأخير إلى الموت، لإمكان تحصيل الحج بعده. ومن أراد أن يتكلف توجيهاً (4) لنفي المعصية، فليكن صغوُه إلى ما نبهنا عليه (6 من إمكان تحصيل الحج بالموت (5)، ولا ينبغي أن يغتر الفقيه بهذا؛ فإن الاستنابة في حكم بدلٍ والمباشرة 6) في حكم الأصل، ولا يجوز ترك الأصل مع القدرة عليه. 2464 - ومما يتعلق بذلك، أن من أخر الحجَّ إلى العَضْب، وعصَّيناه، فعليه وقد باء بالمعصية، أن يبادر إلى الاستنابة، ولا يؤخرها، وإن كان لا يخرج عما باء به من المعصية.

_ (1) في الأصل، (ط): فقد. (2) في الأصل، (ك): تفاصيل. (3) (ط): تقتصر. (4) في الأصل، (ك): توجيههما. (5) أي إمكان أن يُحجَّ عنه من تركته بعد موته. (6) ما بين القوسين ساقط من (ط).

وفي بعض التصانيف ما يدل على أنه لا يتضيق وقت الاستنابة، حتى يقال: إذا أخرها، انضمت معصيته إلى المعصية التي باء بها بتأخير المباشرة إلى العضب، [فقد] (1) حصلنا إذاً في ذلك على وجهين. ولا ينبغي أن يقدرَ خلافٌ فيه، إذا لم تجر قدرةٌ على المباشرة، وكان المرء في وقت استجماعه شرائط التكليف معضوباً. والوجه في حق من هذا وصفه أن يقال: الاستنابة في حقه كالمباشرة في حق القادر عليها. وفي بعض التصانيف أن من طرأت عليه الزمانة، وأخّر الاستنابة، فهل للقاضي أن يجبره عليها، فعلى وجهين. ثم قال صاحب التقريب (2): الأصح أن يجبره. وهذا خُرق (3)؛ فإنا وإن حكمنا بتضييق وقت الاستنابة، فليس هذا مما يتعلق بتصرّف (4) الولاة، ويجوز أن يقال: الامتناع عما يتضيق في ذلك، بمثابة الامتناع عن أداء الصلاة، من غير عذر، ثم عن قضائها. وإذا جرى ذلك، فالسلطان يجبر على القضاء، فإن امتنع ضرب رقبتَه، ويجوز أن يفصل بين الصلاة والحج، فيقال: يتعلق بترك الصلاة حدٌّ، والحدود إلى الأئمة، بخلاف الحج. والله أعلم. ...

_ (1) في الأصل، (ك): وقد. (2) في (ط): التصنيف. (3) خرق: أي جهلٌ وحمق. (المعجم). (4) (ط): بتطرّق.

باب وقت الحج والعمرة

باب وقت الحج والعمرة قال الشافعي: " قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ... إلى آخره " (1). 2465 - الإحرام بالحج يتأقت عندنا بشهرين: شوال، وذي القعدة، وتسعٍ من ذي الحجة. واختلف الأئمة في أن من أنشأ الإحرام بالحج ليلةَ العيد، فهل يصح ذلك؟ فمنهم من قال: يصح؛ فإنه وقت الوقوف، وهذا هو الأصح؛ فوقت الإحرام إذاً: شهران، وتسعة أيام [وليلة] (2). [ومن أصحابنا] (3) من لم يصحح الإحرام ليلةَ [العيد] (4) ابتداء، وإن جعل المحرمَ قبل غروب الشمس مدركاً للحج، إذا أدرك الوقوف ليلاً، فعلى هذا: الوقتُ شهران، وتسعةُ أيامٍ، بلياليها، من ذي الحجة. 2466 - ولو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، لم ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يصير محرماً، واختلف النص، فيما هو فيه: فقال الشافعي في موضعٍ: " انعقد إحرامه عمرةً "، وبه أجاب هاهنا. وقال في موضعٍ: " يتحلل بعمل عمرة ". فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن إحرامه يقع عمرة صحيحة، حتى لو كانت عليه عمرةُ الإسلام، سقطت عنه، إذا طاف وسعى. والثاني

_ (1) ر. المختصر: 2/ 46. (2) في الأصل، (ك): ولياليها من ذي الحجة. (3) ساقط من الأصل، (ك). (4) ساقطة من الأصل، (ك).

- أنه ليس بعمرة، وليس إحراماً بحج، فلا يتصف ما هو [فيه] (1) بواحد من النسكين، ولكن يلزمه إتيان مكة، لما التزمه، وتسبب (2) الإحرام به، لتأكده ولزوم حكمه. وأقرب شيء يُشبَّه حالُه به، حالُ من أحرم بالحج، ثم فاته الوقوف. [على أنه قد يقال: من فاته الوقوف] (3)، فهو في إحرامٍ بحجٍّ فائت، ولا يسوغ إطلاق هذا فيما نحن فيه. وبنى بعض أصحابنا القولين على ما إذا تحرم الرجلُ بصلاة الظهر، قبل الزوال، فلا شك أن صلاته لا تنعقد ظهراً، وفي انعقادها نفلاً قولان. وهذا القائل يزعم أن الإحرام المطلق، إذا نُزّل على أقل المراتب، فهو عمرة، فتنزيل الصلاة على النفل، كتنزيل الإحرام المرسل، على العمرة. فلو نوى الرجل الصلاةَ، ولم يتعرض لتطوعٍ، ولا فرضٍ، انعقدت صلاته نفلاً. ولو أحرم مطلقاً، في وقت إمكان الحج، فإحرامه مبهم، وله تفسيره بالحج، وتنزيله على العمرة، فإن الإحرام بالنسك، يقبل الاستبهام، وهذا غيرُ ممكن في الصلاة. هذا منتهى الطريقة. 2467 - ومن أصحابنا من قطع بأن الإحرام بالحج، قبل أشهر الحج لا ينعقد عمرة، ونصُّ الشافعي حيث [قال] (4): " إنه محمول على العمرة "، يحمل على إطلاق الإحرام، وهذه هي الطريقة السديدة؛ فإن ذكر الخلاف في صلاة الظهر قبل الوقت، متلقًى من اعتقاد كون صلاة الظهر صلاة موصوفة، فإذا سقطت صفتها، بقيت الصلاة المطلقة. وهذا المعنى يبعد تخيله، فيما نحن فيه؛ فإن الإحرام بالحج ليس كذلك، إذ ليس عمرةً موصوفة، بصفة زائدةٍ. [و] (5) لمن سلك طريقة القولين أن يقول: إذا جاز تنزيل الإحرام المطلق على العمرة، فالذي جاء به المحرم بالحج

_ (1) ساقط من الأصل، (ك). (2) (ط) وتشبث. (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك). (4) ساقط من الأصل، (ك). (5) زيادة من (ط).

إحرامٌ، وصرفٌ إلى جهةٍ، فإذا بطلت الجهة المعيّنة، بقي الإحرام. وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يقول: المحرم بالحج قبل أشهر الحج بالخيار: إن شاء صرفه إلى العمرة، جرياً على ما ذكرناه في الإحرام المعقود على الإبهام، فإنْ صرفه إلى العمرة، كانت عمرةً صحيحة، وإن لم يصرفه إليها، تحلل بعمل عُمرة. وهذا فيه بعض البعد؛ فإن الإبهام إنما يحسن عند تحقق التردد بين النسكين، ومثار هذا الإشكال من إحرامٍ ليس حجاً، ولا عمرة. وبالجملة: لا بأس بهذا الوجه الذي حكيناه. وهذا منتهى قولنا في وقت الحج. 2468 - فأما العمرة، فلا وقت للإحرام بها، وجميع أوقات السنة صالحٌ للإحرام بها. وهي من وجهٍ كالتطوعات التي ينشط المرء لها. ولكن في اليوم والليلة ساعات يكره إقامة التطوعات فيها، وليس في السنة وقتٌ يكره الإحرام بالعمرة فيه عندنا. فكلُّ (1) [متخلٍّ] (2) عن النسك، يبتدئ الإحرام بالعمرة، إلا الحاج العاكف بمنى، فالمعرّج على الرمي، والمبيت، فإنه يتحلل عن الحج التحللين. والأصحاب مجمعون على أنه لو أحرم بالعمرة في وقته هذا لم ينعقد إحرامه بها، فإن ما يأتي به بعد التحللين من مناسك الحج، فامتنع من الاشتغال بها الإحرامُ (3) بالعمرة، وكان من حق تلك المناسك ألا تقع إلا في زمن التحلل، وأيام التطيب، والبعال، والتحلِّي (4) مستحق في إقامتها، كما يمتنع الصوم فيها، على الأصح. ...

_ (1) (ط): فهل. (2) في الأصل، (ك): متحلل. والمعنى واحد: أي خالٍ عن الإحرام بالنسك. (3) فاعل " امتنع "، والمعنى أن المقيم بمنى، وإن كان خالياً من علائق الإحرام بالتحللين، إلا أنه مقيم على نُسك، مشتغلٌ بإتمامه، وهو الرمي والمبيت، وهما من تمام الحج؛ فلا تنعقد عمرته ما لم يكمل حجه (قاله أبو محمد في كتابه (الفروق) ونقله عنه النووي في المجموع: 7/ 148). (4) (ط): والتخلي.

باب وجوب العمرة

باب وجوب العمرة 2469 - المنصوص عليه في الجديد أنه يجب على المرء عمرةٌ واحدةٌ في عمره، كما يجب عليه حَجَّةٌ في عمره. وعلق الشافعي القولَ في وجوب العمرة في القديم؛ فقال في أحد القولين: إنها سنة مستحبة. وهذا قول أبي حنيفة (1). وتوجيه القولين في الأخبار، وقد ذكرناها في مسائل الخلاف (2). ومن لطيف القول في الباب: أنا إذا أوجبنا العمرةَ [لم تقم حجة مقامها، وإن اشتملت على أعمال العمرة] (3) وزادت. ونقيم الغسل مقام الوضوء. وهذا من أصدق الأدلة -إذا أردتها- على تغاير الحج والعمرة. ...

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 59، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 98 مسألة: 572، رؤوس المسائل: 251 مسألة: 144، بدائع الصنائع: 1/ 226، حاشية ابن عابدين: 2/ 151. (2) لم يذكره في الدرّة المضية - فهو يشير إلى كتاب من كتبه الأخرى في الخلاف. (3) ساقط من الأصل، (ك).

باب ما يجزئ من العمرة إذا جمعت إلى غيرها

باب ما يجزئ من العمرة إذا جُمعت إلى غيرها قال الشافعي: " ويجزئه أن يَقرُنَ (1) العمرةَ مع الحج ... إلى آخره " (2). 2470 - الحج والعمرةُ يؤدَّيان على ثلاث جهات: الإفراد، والتمتع، والقِران. فأما الأفراد، فصورته الجارية على الاعتياد في حق الغريب، أن ينتهيَ في أشهر الحج إلى ميقات جهته، فيحرمَ بالحج، ويجريَ فيه إلى انتهائه، ثم يعودَ إلى مكة بعد التحلل، ويخرج إلى أدنى الحل، ويحرم بالعمرة. هذه صورة الإفراد. وسنلحق بالإفراد صوراً، في فصل التمتع [ينخرم] (3) فيها شرائط التمتع، على ما سيأتي مشروحاً -إن شاء الله تعالى- ولا يتأتى شرح هذه الأقسام بدفعة، فإنما يحصل شفاء الصدر من أغراضها عند نجازها، فليعتن الناظرُ بفهم ما ينتهي إليه، واثقاً بأن ما يدور في خلده بين يديه (4). 2471 - فأما التمتع، فله شرائط. [الشرط الأول] (5) منها أن تقع العمرة في أشهر الحج، فلو انتهى الغريب إلى ميقات بلده في رمضان، وأحرم بالعمرة، وتحلل منها، قبل هلال شوال، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، مع أهلها؛ فإنه ليس متمتعاً، وفاقاً.

_ (1) قرن من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب. (مصباح). (2) ر. المختصر: 2/ 49، 50. (3) في الأصل، (ك): يتحرم. (4) أي أمامه، وهذا من منهج إمام الحرمين: أن يبين في أول الباب خطته وطريقته. (5) زيادة من عمل المحقق.

ومما يتعين الاعتناء بفهمه في صور أحكام التمتع: أن المعتبر فيه أمران: أحدهما - وقوع العمرة في أشهر الحج، وكان ذلك في مرتبة المستنكرات؛ إذ كان الناس يَرَوْن أن أشهر الحج لا تُشغل إلا بالحج، ولا يُزحم الحج بالعمرة، في وقت إمكان الحج، فورد التمتعُ في حكم الرخصة، وجُوِّز للناس إيقاعُ العمرة في أشهر الحج، وكأن السبب في الرخصة أن الغريب كان يرد مكة، قبل عرفةَ بأيام، وكان يعسُر عليه استدامةُ الإحرام بالحج، ولا (1) يجد سبيلاً إلى مجاوزة الميقات، الذي ينتهي إليه في جهته، فجوز له أن يحرم بالعمرة، ويتحلل عنها، على شرط الشرع، ويبقى بمكة متحللاً، ثم يُحرم بالحج، من جوف مكة. هذا أحد الأمرين. والثاني - أن الغريب لو أحرم بالحج، من ميقاته الذي انتهى إليه، لكان يحرم بالعمرة، بعد نجاز الحج من ميقات العمرة، وهو أَدْنى الحل. وإذا أحرم بالعمرة متمتعاًً، فقد ربح أحدَ الميقاتين في أحد النسكين. فينبغي أن يكون هذان الأمران على ذُكرٍ من الناظر في هذه المسائل. فإذا أوقع العمرة بتمامها في شهر رمضان، لم يكن متمتعاًً. ولو أحرم بها في شهر رمضان، وأوقع جميع أفعالها في شوال، فهل يكون متمتعاًً؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يكون متمتعاًً، لأنه لم يزحَم الحجَّ بإحرامه، والأصل الإحرام، والأعمالُ وفاءٌ به، فكان كما لو أوقع العمرة في شهر رمضان. والثاني - أنه يكون متمتعاًً؛ لأن المقصود من العمرة أفعالُها، والإحرام رابطةٌ لها، وقد وقعت الأفعال في أشهر الحج. وحكى الأئمةُ وجهاً ثالثاً، عن ابن سريج: أنه قال: إن عاد، فمرّ على الميقات محرماً، بعد هلال شوال، أو كان مقيماً به، حتى دخل شوال، فهو متمتعٌ؛ نظراً إلى حصوله بالميقات محرماً، في أشهر الحج. وإن كان جاوز الميقات محرماً، في رمضان، واستمر، ولم يعد، لم يكن متمتعاً.

_ (1) (ط): ولم.

وهذا الخلاف والأفعالُ واقعةٌ في أشهر الحج. فأما إذا أوقع شيئاً منها في رمضان، فإن قلنا: وقوع الإحرام في رمضان يخرجه عن كونه متمتعاًً، فهذه الصورة أولى بذلك، وإن قلنا: وقوع الإحرام في شهر رمضان (1) لا يخرجه عن التمتع، ففي [هذه] (2) الصورة وجهان: أحدهما - أنه ليس متمتعاًً؛ لأنه جمع بين الإحرام، وهو القصد، وبين إيقاع المقصود، فأوقعهما في رمضان. وهذا القائل يقول: لو أوقع بعضاً من أشواط الطواف في رمضان، لم يكن متمتعاًً. والوجه الثاني - أنه متمتع؛ لأنه صادف الأشهر، وهو محرم بالعمرة؛ فحصلت المزاحمة، التي أشرنا إليها. وهذا القائل يقول: لو أوقع في الأشهر [وهو محرم] (3) الحلقَ على قولينا: إنه نسك، كفى ذلك، في كونه متمتعاًً. فهذا بيان هذا الشرط. 2472 - وفي إتمام القول فيه شيءٌ، لا يطلع على حقيقة [الفصل] (4) من لم يعرفه، فنقول: إذا أوقع العمرة بتمامها في رمضان، وقلنا: إنه ليس متمتعاًً، فلا شك أنا نجعله مفرداً، ولا يلزمه دم التمتع؛ إذ لا تمتع، وهل يلزمه دم الإساءة؟ اضطرب الأئمة فيه، فكان شيخي يقطع بوجوب دم الإساءة من جهة أن الغريب ربح ميقاتاً، على ما سبق التنبيه عليه، ودم الإساءة يجب بسبب الإخلال بالميقات. وذهب المحققون إلى أنه لا يلزم دمُ الإساءة؛ فإن المسيء من ينتهي إلى ميقاتٍ، وهو على قصد النسك، فيجاوزه، وهو غير محرم، وهذا لم يتحقق ممن جاوز الميقات، محرماً بالعمرة، وأما الحج، فقد أتى به من ميقاتٍ انتهى إليه، وهو مكة، فإيجاب دم الإساءة بعيد. والذي يحقق ذلك أن المسيء منهيٌّ عن صورة فعله، ثم إذا فعله، ففعله مقابل

_ (1) (ط) في أشهر الحج. (وهو وهمٌ مخالف للسياق). (2) مزيدة من (ط). (3) زيادة من (ط). (4) في الأصل، (ك): القصد.

بكفارة، ومن تحرم بالعمرة في رمضان، ليس مرتكباً نهياً، ولا مخالفاً أمراً، فتقديره مسيئاً، لا وجه له. والمتمتع إذا تجمعت له الشرائط، ليس مسيئاً، ولكنه مُزاحِمٌ للحج، ورابحٌ ميقاتاً، فكان السببان مقتضيين للدم، مع الترخيص في الإقدام على موجِب الدم. ومن هذا ينشأ اختلاف العلماء في أن دم التمتع دمُ جبران، أو دمُ نسك، فرآه الشافعي دمَ جبران، ومعتمده في تصوير النقصان المحوِج إلى الجبران المزاحمةُ ورِبح ميقات. وقال أبو حنيفة (1): إنه دم نسك، وإنما حمله على ذلك، أنه لم ير في أعمال التمتع نقصاناً، يقتضي جُبراناً. فليفهم الناظر وقع الكلام. هذا قولينا في شرط واحد من شرائط التمتع. [الشرط الثاني] (2) 2473 - والثاني أن يقع الحج والعمرة في سنةٍ واحدة، فلو اعتمر الغريب من ميقاته، ولم يحج في تلك السنة أصلاً، وأقام بمكة، وحج في السنة القابلة؛ فإنه ليس متمتعاًً، ولكل سنة حكمُها، وما أجريناه في أثناء الكلام من مزاحمة الحج بالعمرة، فهو مشروط باتفاق الجج في تلك السنة. وهذا كما أن المسيء من يمرّ على الميقات ناوياً نسكاً، مع ترك حق الميقات، فإذا جمعت السَّنةُ العمرةَ والحجَّ، وتقدمت العمرة، كان ذلك خلاف النظم المألوف، في النسكين. ثم الغريب إذا دخل مكة معتمراً، وحج في السنة القابلة، فهو مفردٌ [غير] (3) مسيء بلا خلاف. ولو أقام بمكة، سنين، وكان يحج كل سنةٍ، من مكة، فلا إساءة، ولا دم؛ فإنه ينشئ الحج، كل سنة، من ميقاتٍ، هو عاكف عليه. وهذا لا خفاء به.

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 174، البحر الرائق: 2/ 387، حاشية ابن عابدين: 2/ 193. (2) زيادة من عمل المحقق. (3) مزيدة من (ط).

ولكن لا ينبغي، أن [يُتَبَرَّمَ] (1) بذكر الجليات في المناسك، فإنها قُربٌ غيرُ مألوفة، لمعظم الناس، وتركُ الجليّ فيها يَجرّ عَماية. وحكى العراقيون عن ابن خَيْران (2) أنه كان يشترط أن تقع العمرةُ والحج في شهر واحد، وهذا مزيَّف لا أصل له، من جهة التوقيف، ولا من جهة المعنى. [الشرط الثالث] (3) 2474 - والثالث من الشرائط: أن لا يكون المتمتع من حاضري المسجد الحرام، ولما ذكر الله تعالى التمتع وحكمَه، قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ثم اضطرب العلماء في معنى الحاضر، فقال مالك (4): هو ساكنُ مكة، أو الحرم، وإن لم يكن عمران مكة متصلاً به. وقال أبو حنيفة (5): الحاضر، من هو على ميقاتٍ من المواقيت، فجعل المقيمَ بذي الحُلَيفةَ من حاضري المسجد الحرام، وبينه وبينه تسعون فرسخاً ونيِّف. واعتبر الشافعي في ذلك مسافةَ القصر، فقال: من كان على مسافة القصر [من مكةَ، فليس من الحاضرين، ويتأتى منه التمتع، ويلزمه دمُه، ومن كان منزله من مكة على مسافةٍ، تقصر عن مسافة القصر] (6)، فهو من الحاضرين؛ فلا يلزمه دمُ التمتع، إذا أحرم بالعمرة، من مسكنه، ثم أحرم بالحج، من جوف مكة. ثم لا خلاف أنا كما لا (7) نلزمه دمَ التمتع، لا نُلزِمه دماً آخر. فإن قيل: قد وُجدت منه المزاحمة، وتقديم العمرة. قلنا: كأنا نعتبر في إلزام دم

_ (1) في الأصل، (ك): يلتزم. (2) سبقت ترجمة ابن خيران في كتاب الطهارة، فقرة 99. (3) زيادة من المحقق. (4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 465 مسألة 725. (5) ر. مختصر الطحاوي: 60، بدائع الصنائع: 2/ 169. (6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك). (7) سقطت من (ط).

التمتع أن يشغلَ ميقاتاً، بالغاً مسافة القصر، بإحرامِ العمرة، فإذا كان منزله على مسافةٍ قريبةٍ -وحدّ القرب ما ذكرناه- فهو كالمكّي، والمكي إذا قدّم العمرةَ على الحج، ثم أحرم بالحج، من جوف مكة، فالذي جاء به على صورةِ التمتع، ولا يلزمه شيء (1 أصلاً، فكذلك من قربت مسافته، إذا أحرم بالعمرة من وطنه، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، فلا يلزمه شيء 1). 2475 - وقد يرد على من يعتمد مسلك المعنى سؤال، فيقال (2): من كان مسكنه دون ميقاتٍ، وكان من حاضري المسجد الحرام، كما وصفناه، فلو قصد مكةَ ناوياً نسكاً، وجاوز مسكنَه وقريته، غيرَ محرم، فهو مسيء ملتزم دمَ الإساءة، وفاقاً. ولو لم تكن المسافة محتفلاً بها، لقيل: هو من أهل مكة، فلا يلزمه شيء إذا أحرم من مكة. والسبيل في الجواب، أن يقال: مسلك المعنى لا يكاد [يتجرد] (3) في هذه القاعدة، والتعويل على التنزيل، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجدنا إليهما سبيلاً، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] فرأى الشافعي من قربت المسافة بين وطنه وبين مكة، معدوداً من المتصلين بالحرم، وأدرجه في اسم الحاضرين. وبالجملة لا يشهد لوجوب دم التمتع معنىً مستقلٌّ صحيحٌ على [السَّبْر] (4)، وقد أحيا كل ميقات بنسك، ولكن ثبت دم التمتع نصَّاً، فاتبعناه، وتكلفنا على بعدٍ معناه، فإذا عدمنا ما تخيلناه من الشرائط، فلا غموض في نفي وجوب الدم. وأما من يدخل مكة مُحلاً، وهو على قصد النسك [فهذا] (5) تركٌ منه لحق وطنه، وحق الحرم.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ك). (2) في الأصل، (ك): فيقال له (بزيادة " له ") ولا معنى لها، فهو سائل: أي يقال على لسانه، ولا يقال له. (3) في الأصل، (ك): يتجرى. (4) في الأصل، (ك): السنن. (5) ساقطة من الأصل، (ك).

فهذا منتهى القول في ذلك. وإذا بلغ [طلبُ] (1) الفقيه في فصلٍ منتهاه، لم يكن من مخايل رشده طلب شيء سواه. فرع: 2476 - الغريب الآفاقي (2) إذا انتهى إلى ميقات فجاوزه، وكان لا يبغي إذ ذاك الإحرام، ودخول الحرم، فلما تعدّاه، وقرب من مكةَ، بدا له أن يحرم بالعمرة، ثم يحرمَ بعدها بالحج، من جوف مكة، على صورة التمتع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يلزمه دم التمتع؛ [لأنه غريب أتى بصورة التمتع] (3) والثاني - لا يلزمه؛ فإنه لم يلتزم الإحرام، وهو على مسافة بعيدة، وإذ خطر له أن يحرم، كان على مسافة أهل تلك البقعة، إذا كان بها ناس يعدون من حاضري المسجد. والذي يجب إمالة (4) الفتوى إليه إيجاب الدم، فإنه يسمى متمتعاًً، ولا يسمى من حاضري المسجد الحرام. وأسعد المذاهب في هذه المراتب، ما يعتضد بقول الشارع. فرع: 2477 - إذا كان لرجل مسكنان، أحدهما على مسافة القصر، والثاني دونها، فإن كان أكثر سكناه في القريب، فهو من الحاضرين، وإن كان أكثر سكناه في المسكن البعيد، فهو غريبٌ متمتع. وإن كان يسكنهما على استواء، وكان أهله بأحدهما، فهو منسوب إليه، وإن استويا في كل وجه، فقد قال صاحب التقريب، وغيره: ينظر إلى الموضع الذي يُحرم منه، ويثبت له حكم ذلك الموضع، قريباً كان، أو بعيداً. ولعلنا نعود إلى هذه الصورة في باب المواقيت، ونستقصي فيه تمامَ البيان.

_ (1) مزيدة من (ط). (2) الآفاقي: نسبة إلى الجمع على غير قياس. قال النووي في تهذيبه: " وأما قول الغزالي، وغيره في كتاب الحج: الحاج الآفاقي، فمنكر؛ فإن الجمع إذا لم يسم به لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى واحده " ا. هـ. ومن الطريف أن مجمع اللغة العربية في عصرنا هذا (منذ نحو ثلاثين سنة) أجاز النسبة إلور الجمع، فيقال: صحفي، ومراكبي. (3) ساقطة من الأصل، (ك). (4) (ط): إحالة.

[الشرط الرابع] (1) 2478 - الشرط الرابع في التمتع أن يحرم الغريب بالحج من جوف مكة، فلو رجع إلى ميقاته، وأحرم بالحج منه، فليس متمتعاًً، ولا يلزمه شيء، وكذلك لو رجع إلى مسافة ميقاته؛ فإن أعيان المواقيت ليست مقصودة، وإنما المقصود منها مسافاتها (2)، التي تُقطع على صفة الإحرام. ثم كما لا يلزم دم التمتع، لا يلزم دم الإساءة، لا شك فيه. ومجرد تقديم العمرة في أشهر الحج على الحج، لا يوجب دماً. ولو أحرم الغريب بالحج، من جوف مكةَ، بعد الفراغ من العمرة، ثم رجع إلى ميقات بلده محرماً، ومرّ عليه عابراً إلى الحرم، ففي سقوط دم الإساءة قولان معروفان، سيأتي توجيههما، وتفريعهما، إن شاء الله تعالى. ولو كان ميقات الغريب القادمِ بعمرةٍ الجُحفةَ، وهي على خمسين فرسخاً من مكة، فلما تحلل عن العمرة، عادَ إلى ذات عرق، أو إلى مرحلتين في جهةٍ، لا ميقات فيها، وأحرم بالحج من تلك المسافة، فقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن دمَ التمتع لا يسقط عنه بهذا؛ فإنه لم يعد إلى ميقاته، ولا إلى مسافة ميقاته، وكان يُحرم بالحج من الجُحفة، لو أفرد، فليعد إلى مسافتها. والوجه الثاني - وهو اختيار القفال، فيما حكاه الصيدلاني: أنه يسقط عنه دم التمتع؛ من جهة أنه أحرم من موضعٍ، لا يكون ساكنوه من حاضري المسجد الحرام. وهذا [يتجه] (3) بأن يجدد الإنسان عهدَه بخروج دم التمتع عن قاعدة القياس؛ فإن إلزام الدم، وقد أحيا الغريبُ كل ميقات بنسكٍ، فيه بُعدٌ، من جهة المعنى. فإذا أحرم بالحج من مسافة القصر، فلا نظر إلى الميقات الطويل الذي أحرم منه معتمراً،

_ (1) زيادة من المحقق. (2) (ط): مسافة. (3) في الأصل، (ك): متجه.

وإنما النظر إلى خروجه (1) عن صفة المتمتعين. فرع (2): 2479 - الغريب إذا دخل مكة معتمراً على صورة المتمتع [ثم] (3) نوى [في تلك السنة] (4) أن يستوطن مكة، وأحرم من جوف مكة، فلا يسقط دم التمتع عنه وفاقاً، وإن (5) صار في هذه السنة من سكان مكة؛ لأنه لما جاوز ميقات بلده غيرَ محرم بالحج، فقد التزم أحد الأمرين في هذه السنة، إما أن يعود، فيحرم بالحج، وإما أن يلتزم دمَ التمتع، فإذا نوى الاستيطان، لم يسقط ما جرى في هذه السنة التزامُه. ولو استمر، ولم يتفق خروجُه من مكة، لفقدان الرفاق، فأحرم بالحج من جوف مكة، مع أهلها، فلا يلزمه في السنة الثانية شيء؛ فإنه [لم] (6) يمرّ فيها على ميقاتٍ غير مكة. فهذا وجه [الكشف] (7) في ذلك. وقد انتهى ما يعوّل عليه من شرائط التمتع. [الشرط الخامس] (8) [غيرُ مُسلَّم] 2480 - وذكر الخِضري شرطاً خامساً، عن بعض الأصحاب، فقال: ينبغي أن يقع النسكان عن شخصٍ واحد، حتى [لو] (9) كان أجيراً، استأجره شخص على العمرة،

_ (1) (ط): الخروج. (2) في الأصل، (ك): فصلٌ (مكان فرع) ورجحنا (فرع) لأن موضوع الفصل لم يتم بعد. (3) مزيدة من (ط). (4) زيادة عن (ط). (5) (ط): وإذا. (6) زيادة من (ط). (7) في الأصل، (ك): الكسب. (8) زيادة من المحقق. (9) مزيدة من (ط).

فاعتمر عن مستأجِرِه من ميقات جهته، ثم أحرم بالحج من جوف مكة عن نفسه، فلا يكون متمتعاًً. وهذا خيال فاسد، مشعرٌ بخلوّ صاحبه عن مدار الباب، وحقيقتِه، فحق مسائل الباب أن تُتلقى مما قدمنا ذكره، من مزاحمة الحج بالعمرة، في الميقات الذي إليه الانتهاء، مع ربح أحد الميقاتين، كما قررناه. ولا أثر [بعد] (1) هذا لوقوع النسكين عن شخصٍ، أو شخصين. ثم إذا جرينا على الأصح، فهو متمتع. 2481 - وإن لم نجعله متمتعاً، فهل نجعله مسيئاً، حتى نُلزمه دم الإساءة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه مسيءٌ، ملتزمٌ؛ فإنه مُخلّ بالترتيب، مُخْلٍ ميقاتَه البعيد، عن نسك الحج، مع إمكانه. والثاني - إنه ليس بمسيء؛ فإنه لم يُخْلِ ميقاتاً عن نسك، وقد ذكرنا قريباً من هذا: الخلافَ فيه إذا أوقع العمرة في رمضانَ، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، فليس هو متمتعاًً. وهل يلزمه دم الإساءة؟ فعلى خلافٍ قدمناه. والأصح في الصورة المتقدمة أن لا يلزم الدم؛ فإنه قد أحيا الميقات بعمرة، حين لم يكن الحج والإحرام به ممكناً، فلم ينتسب إلى تقصير. وفي المسألة الأخيرة قد أتى بالعمرة في وقت إمكان الحج، ثم أخل بشرائط التمتع، [فإذا لم يجب دم التمتع] (2) فيبعد أن لا يجب شيء آخر. فإن لم نجعله مسيئاً، فلا كلام، ولا ينقدح من ترك الشرط إلاّ فواتُ فضيلة التمتع، إن جعلناه أفضل -في قول- من الإفراد. وإن جعلناه مسيئاً، فلا يلزمه إلاّ دمٌ. ويبقى فرقان: أحدهما - أنا لا نلزم المتمتع الرجوعَ إلى الميقات، ونلزم المسيء ذلك؛ فإن لم يفعل جَبَر ما تركه بدم. والآخر- أنه تاركٌ فضيلةَ التمتع، على ما ذكرناه. وتمام البيان في ذلك: أنه إذا عاد إلى الميقات -على قولينا: إنه مسيء- ففي

_ (1) في الأصل، (ك): مع. (2) زيادة من (ك).

سقوط [دم] (1) الإساءة عنه قولان؛ [فإن المسيء إذا تعلق بالحرم، ثم عاد، وأحرم، ففي سقوط الدم عنه قولان] (2)، والمتمتع يسقط عنه دم التمتع، قولاً واحداً، إذا عاد إلى الميقات، كما تقدم ذكره. وإنما ألزمنا هذا الخبطَ، من تفريعنا على وجهٍ ضعيفٍ، لا أصل له، وهو ما حكاه الخِضْري. [الشرط السادس] (3) [غير مُسلَّم] 2482 - وذكر بعض الأصحاب شرطاً سادساً فقال من شرائط التمتع والاعتداد به على الصحة النيةُ. وهذا مع اشتهاره مردود عند كافة المحققين، ولا يصير إليه إلاّ عريٌّ عن تحصيل مقصود الباب؛ فإن مبنى الباب على ما قدمناه من المزاحمة، وربح أحد السَّفْرتين، وعلى اتباع قول الشارع، ولا أثر لنية التمتع، فيما ذكرناه. وسيزداد هذا الوجه ضعفاً، إذا فرعناه، وإنما التفت من اشترط النية إلى الجمع بين الصلاتين؛ فإن النية شرطٌ في جمع التقديم، على ظاهر المذهب. وليس يشبه ما نحن فيه الجمعُ؛ فإن من يقدم صلاة العصر على وقتها، فإنه مغيّر لوضعه المألوف في الشرع، وتقديم العبادات البدنية على أوقاتها بعيدٌ عن قياس موضوع الشرع، وليس يتحقق مثل ذلك في النُّسُكَين. 2483 - فإن لم نشترط النية، فلا كلام وإن شرطناها، فقد ذكر العراقيون، وغيرُهم ثلاثةَ أوجه في وقت النية: أحدها - أن وقتها عند الشروع في العمرة، كوقت نية الجمع من صلاة الظهر، في حق من يجمع بينها وبين صلاة العصر. والثاني - أن ذلك وقتها، ثم يمتد إلى التحلل، من العمرة. ولهذا نظيرٌ في نية

_ (1) مزيدة من (ط). (2) ساقط من الأصل (وحدها). (3) زيادة من المحقق.

الجمع. الثالث - أن ما قدمناه [وقتها] (1) ويمتد إلى [ما] (2) قبل الشروع في الحج. وهذا يناظر مذهبَ المزني في وقت نية الجمع بين الصلاتين، فإنه قال: ينوي الجامع ما بين الفراغ من الأولى، والشروع في الثانية. و (3 تفريع هذا الخلاف في وقت النية، يُبيّن نهايةَ ضعف الأصل. نعم، لو 3) قال قائل: لو لم يكن المنتهي إلى الميقات على قصد الحج، أو كان خطر له أن يقتصر في هذه السنة على العمرة، ثم اتفق منه الحج، فلا دم عليه، قياساً على من تجاوز ميقاتَه، وهو لا يقصد النسك. وإن كان على قصد الحج، فأتى بالعمرة، فقد قدّم أدنى النسكين، وأتى به من أطول الميقاتين، فيلتزم دماً لقصده، فكان هذا قريباً من مأخذ المناسك. ثم هذا يقتضي القطعَ باعتبار وقت الخوض في العمرة، وليس هو نية قُربة، وإنما هو قصدٌ مخصوص، يناط به حكمٌ، وذِكْر الأصحاب الأوجُهَ في وقت النية، يدل على إضرابهم عما نبهنا عليه. ثم إن فرعنا على مسلك الأصحاب في النية، فلو ترك النيةَ، فقد قيل: إنه مسيء بتركه شرطَ التمتع، وقد ذكرنا أمثال هذا. 2484 - وإن قال بما ذكرناه قائل: في أن القصد هو المرعي، فالوجه أن نقول: إن قصد التمتعَ، التزم دمَ التمتع، وإن لم يقصد، فلا شيء عليه، فإن قيل: هذا يؤدي إلى إثبات ذريعة في إسقاط دم التمتع، قلنا: [هذا خُرق من قائله] (4)؛ فإن القصود لا تلبيس فيها، وإنما [يبدي] (5) المرء خلاف ما يضمره، فأما قصوده، فلا قدرة على تغييرها.

_ (1) في النسخ الثلاث: وقت. والمثبت تقديرٌ منا. رعاية للسياق. (2) مزيدة من (ط). (3) ما بين القوسين ساقط من (ك). (4) ساقط من الأصل. (5) في الأصل: يدري.

فرع: 2485 - الغريب إذا تمتع بالعمرة إلى الحج، على الشرائط التي ذكرناها، فإنه يُحرم بالحج من جوف مكة. ثم اختلف الأئمة في المكان الذي يستحب له الإحرام منه، فذهب بعضهم إلى أن [الأولى أن] (1) يبتدئ الإحرام من الموضع الذي هو نازله، ثم يدخل المسجدَ محرماً. ومنهم من قال: الأولى أن يغتسل ويتأهب، ويدخل المسجد، ويحرم، عند البيت. وقد نُعيد هذا في باب المواقيت. فلو جاوز مكةَ والحرمَ، ثم أحرم بالحج، فهو متمتع مسيء، فيلزمه دمُ التمتع، لاستجماعه شرائطَه، ويلزمه دم الإساءة لمجاوزته ميقاتَ حجه، قطع بذلك العراقيون. وتعليلُه تعدُّد السبب الموجب للدم. ولا وجه إلا ما ذكروه. وهو بمثابة ما لو جاوز ميقات بلده غير محرم، ثم يحرم بالعمرة، ويتمادى على صفة التمتع، فيلزمه دم التمتع، ودم الإساءة جميعاً. فإن قيل: دمُ التمتع دمُ جبران، والنقصان آيل إلى الميقات، فهلا وقع الاكتفاءُ به؟ قلنا: ما قدمنا ذكره من النقصان، ليس من قبيل الإساءة، ووجوه النقصان في النسك شتَّى، والذي يُحقِّق ما ذكرناه أن دم التمتع، وما يتعلق به من بدل، قد يخالف دمَ الإساءة، فوضح تباينهما. وقد نجز غرضنا في تصوير التمتع، والإفراد. 2486 - فأما الجهة الثالثة في أداء النسكين، فالقِران. ولتصويره وجهان: أحدهما - أن يحرم الرجل بهما جميعاً. ْوالثاني - أن يدخل أحد النسكين في الآخر.

_ (1) ساقط من الأصل.

فإن أحرم بالعمرة أولاً، ثم أحرم بالحج، نُظر: فإن كان الإحرام بالحج قبل أن يأتي بشيء من أعمال العمرة، صار قارناً، ولا حاجة إلى نية القِران وفاقاً، وهذا يؤكد فسادَ قول من يقول: لابد من النية في التمتع. وإن اشتغل بشيء من أعمال العمرة [مثل] (1) أن يخوض في الطواف، فقد انسد (2) إمكان القِران، فلو أحرم والحالة هذه بالحج، لم ينعقد إحرامه، ولغا عقده. فأما إذا أحرم بالحج أولاً، ثم أحرم بالعمرة، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني - يصح. من قال بالصحة، احتج بإدخال الحج على العمرة، ومن منع (3)، استدل بأن العمرة مستغرَقة في الحج، من جهة الأعمال، فلا يتجدد على الحاج عمل، بتقدير إدخال العمرة، وليس كإدخال الحج على العمرة. وهذا (4) يرد عليه الإحرام بالنسكين معاً. فإن جرينا على الأصح، وهو جواز إدخال العمرة على الحج، فإلى متى يجوزِ ذلك؟ فعلى أوجهٍ: أحدها -[أنه] (5) يجوز ما لم ينقرض زمان الوقوف؛ فإن إدراكَ الحج، وفواتَه، منوطان بالوقوف، وهو حالٌّ محلّ المعظم. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة " (6).

_ (1) في الأصل: " قبل "، والمثبت من (ط)، (ك). (2) (ط): أفسد. (3) ساقطة من: (ط). (4) (ط): فهذا. (5) مزيدة من (ط). (6) حديث الحج عرفة رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر (أبو داود: المناسك، باب من لم يدرك عرفة، ح 1949، الترمذي: الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجَمْع فقد أدرك الحج، ح 889، النسائي: مناسك الحج، باب فيمن لم يُدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة، ح 3044، ابن ماجة: المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، ح 3015، التلخيص 2/ 487 ح 1048).

ومن أصحابنا من يقول: إذا مضى من الحج ركنٌ، امتنع الإحرام بعده بالعمرة، فإذا دخل الحاج مكة، قبل يوم عرفة، وطاف طواف القدوم، وسعى، فالسعي يقع ركناً، فلو أحرم بالعمرة، لم ينعقد، [وان لم يأت بركن أصلاً] (1)، ينعقد إحرامه بالعمرة، ويصير قارناً؛ فعلى هذا لو طاف [طواف] (2) القدوم، وأحرم بالعمرة، قبل الاشتغال بالسعي، صح، وصار قارناً؛ فإن طواف القدوم ليس من الأركان. ومن أصحابنا من قال: يصح الإحرام بالعمرة، ما لم يأت الحاج، بعملٍ من أعمال الحج، سوى الإحرام، فإن طاف طواف القدوم، ثم أحرم بالعمرة على هذا الوجه، لم ينعقد إحرامه بها. وهذا القائل لا يَعُدّ التلبيةَ من الأعمال المؤثرة. ومن أصحابنا من قال: ينعقد الإحرام بالعمرة، ما لم يشتغل بشيء من أسباب التحلل، على ما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى. 2487 - فإن قيل: [قطعتم] (3) القول بأن الإحرام بالحج لا ينعقد، مع الخوض في شيء من أعمال العمرة، وردَّدتُم المذهبَ في إدخال العمرة على الحج. قلنا: السبب فيه: أن جميع أعمال المعتمر أسبابُ التحلل، ولهذا يتحلل من فاته الحج، بأعمال المعتمر. وكذلك من أحرم بالحج في غير أشهر الحج، وقلنا: إنه ليس معتمراً، فإنه يلقى البيتَ بعملِ معتمرٍ. 2488 - وتمام البيان فيما نحن فيه: [أنا] (4) على الوجه الأخير إذا اعتبرنا التحلّلَ، نقول: إذا اشتغل الحاج صبيحة يوم النحر برمي جمرةِ العقبة، فإذا رمى حصاةً، امتنع الإحرام بالعمرة، وإن كان التحلل الأول لا يحصل برمي حصاةٍ واحدة، ولكن الاشتغال بالتحلل في حكم استفتاح قطع العبادة، فكفى في منع الإحرام افتتاحُ القطع، وإن لم يتم بعدُ، ولهذا قلنا: لا يدخل الحجة على العمرة، إذا اشتغل المعتمر بالطواف، وإن لم يفرغ منه.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) مزيدة من (ط)، (ك). (3) في الأصل: معظم. (4) في الأصل: أما.

فهذا بيان تصوير القِران. 2489 - وعلى القارن دمٌ، صفتهُ وصفة بدله، كصفة دم التمتع، كما سنذكره. ثم إنما يلتزم القارن الدمَ إذا كان غريباً. فأما إذا قرن المكي، فلا يلزمه شيء، كما لا يلزمه بصورة التمتع شيء، وهذا متفق عليه. والسبب فيه أن المكي إذا أتى بصورة التمتع، فإنه يحرم بالعمرة من أدنى الحل، ويحرم بالحج من جوف مكة، فقد أتى بالنسكين من ميقاتهما، فقيل: لا دَم عليه. وإذا قرن، فالذي لم يأت به في ظاهر الحال العمرةُ من الحل، وهذا لا مبالاة به؛ فإنه سيخرج من الحرم، وينتهي إلى الحل، فيصير جامعاً بين الحل والحرم. ومن ظن سبب وجوب الدم على القارن الغريب أنه يقتصر (1) على طواف واحد وسعْيٍ واحد، فقد أبعد، فإنا لو قلنا ذلك، لكنا قائلين بأن سقوط الأركان مقابل بجبران، وهذا محالٌ. فإن قيل: الغريب أيضاًً يجمع بين الحل والحرم، فأسقطوا عنه الدمَ. قلنا: ميقاته الأصلي الحلُّ، ولا أثر للحرم في حقه في حكم الميقات، فقد تعدد نسكه، واتحد ميقاته. ولو دخل الغريب (2) القارنُ مكةَ، قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى ميقاته لأجل الحج، فهل يكون عوده، وهو قارن بمثابة عود الغريب المتمتع؟ قلنا: نذكر صورة في المتمتع، ثم نعود إلى ذلك. فإذا تحلل الغريب المتمتع من عمرته، وأحرم بالحج من جوف مكة، ثم عاد محرماً إلى ميقاته، ففي سقوط دم التمتع عنه وجهان، مبنيان على الوجهين فيه إذا جاوز من يريد النسك ميقاتَه، وأحرم مجاوزاً، وعاد إلى الميقات محرماً، ففي سقوط دم الإساءة خلافٌ سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.

_ (1) (ط): مقتصر. (2) ساقطة من (ك).

2490 - رجعنا (1) إلى القارن في [الصورة] (2) التي ذكرناها، وهي إذا عاد القارن إلى ميقاته، فإن قلنا: المتمتع إذا عاد بعد الإحرام من مكة، لا يسقط الدم عنه، فالقارن العائد (3) بذلك أولى، وإن قلنا: يسقط الدم عن المتمتع في الصورة التي ذكرناها، ففي سقوط الدم عن القارن، إذا عاد وجهان، ذكرهما الصيدلاني وغيرُه: أحدهما - أنه يسقط دم القران، وهو قياسٌ بيّن. والثاني - لا يسقط؛ فإن القارن في حكم متمسك بنسك [واحد] (4)، فلا وقع لعوده، واسم القِران باقٍ لا يزول، والتمتع يزول بالعَوْد إلى الميقات، وهذا كان يحسن وقعُه لو أوجبنا الكفارة على المكّي إذا قرن، وفرقنا بين صورة التمتع منه، وبين صورة القِران، وليس الأمر كذلك؛ فإن انتفاء الكفارة عن المكي في القِران متفق عليه. وقد قال الشافعي في أثناء كلامه، في هذه المسائل: " والقارن أخف حالاً من المتمتع " واختلف الأئمة في تفسير لفظه: فقيل: أراد به الردَّ على مالك (5)؛ فإنه أوجب على القارن بدنة، وعلى المتمتع شاة، فقال ردّاً عليه: الغريب القارن أتى بنسكيه (6) من ميقات بلده، والمتمتع يأتي بالحج من ميقات غيره، فالقارن أخف حالاً فيما يتعلق بأمر الميقات، فلا ينبغي أن تزيد كفارته على كفارة المتمتع. وقيل: أراد الشافعي الردّ على داود (7)؛ فإنه قال: لا شيء على القارن، وإنما الكفارة على المتمتع. فقال رداً عليه: القارن أخف حالاً، فإنه لا يتعدد ميقات نسكيه، والمتمتع يتعدد ميقاته، ويتفصَّل (8)، فيجوز أن يؤاخذ القارن الذي أتى

_ (1) (ط): رجعٌ. (2) في الأصل: العودة. (3) (ط): العامد. (4) ساقطة من الأصل. (5) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 470 مسألة 737. (6) عبارة (ط): " الغريب القارن إذاً أتى بنسكيه ... ". (7) ر. المحلى: 7/ 167. (8) (ط): ينفصل.

بميقاتٍ واحد، بما لا يؤاخذ به من أتى بميقاتين. فهذا تمام ما أردناه، في تصوير الجهات الثلاث، في أداء النسكين. 2491 - وإذا انتجز التصوير، فالقول في بيان الأفضل من هذه الجهات، ثم في تفصيل الكفارة، وقد أورد الشافعي لذلك باباً، فنجري على ترتيب السواد (1). فصل قال: " ولو أفرد الحجَّ، فأراد العمرةَ بعد الحج ... إلى آخره " (2). 2492 - المفرد إذا فرغ من الحج، فإنه يأتي بالعمرة بعد الفراغ من الحج، وسبيله أن يخرج إلى الحل، وُيحرم بالعمرة منه، ويعود، ويأتي بأعمال عمرته. ثم يكفي أن يخرج إلى أي طرفٍ شاء، فإذا لابس الحلَّ، أحرم، وعاد. وأقربُ المسافات إلى الحل، ما في جهة مسجد عائشة رضي الله عنها، وذلك الموضع هو الذي يسمى التنعيم، ولو كان الحرمُ ينتهي في قطرٍ أقرب من انتهائه في الجهة التي ْذكرناها، لاكتفينا بتلك الجهة. والمرعي على الجملة الانفصالُ من الحرم. ولو أحرم الرجل بالعمرة في الحرم، وطاف، وسعى، وحلق، فهل يعتد بطوافه، وسعيه؟ في المسألة قولان: أحدهما - يُعتدّ بهما؛ لأن الإحرام قد انعقد، وأتى بصورة الأعمال على شرطها، وأقصى ما نقدر بعد ذلك، أنه أخل بميقات

_ (1) مرة ثانية يستخدم لفظ (السواد)، فهل يعني به -كما قدرنا- عامة الأصحاب، رجال المذهب؟ أم يعني به مختصر المزني؛ إذ قال في المقدمة: وسأجري على أبواب المختصر جهدي، فما العلاقة بين لفظ السواد ولفظ المختصر؟ قلتُ (عبد العظيم): كنت كتبت هذا أولاً منذ أعوام، ثم تحقق لدينا أنه يعني بلفظ (السواد) المختصر، فلفظ (السواد) يستعمل بمعنى المتن، والأصل، وهذا المعنى غير موجود بالمعاجم، أفادنا بهذا العِلْم شيخُنا الجليل الشيخ محمود محمد شاكر، برّد الله مضجعه، وقدس روحه، ونور ضريحه. (2) ر. المختصر: 2/ 50.

العمرة، والإخلال بالميقات لا يمنع الاعتداد بالأعمال. والقول الثاني - أنه لا يكتفى بتلك الأعمال، ووجّه الصيدلاني هذا القولَ، بأن قال: الجمعُ بين الحل والحرم ركنٌ في الحج، فليكن ركناً في العمرة، غيرَ أن الكون في الحل للوقوف مؤقت يفوت، والخروج إلى الحل في العمرة ليس بمؤقت، فلا يفوت، فإذا أراد المحرم بالعمرة من جوف مكة، أن (1 يعتد بأفعاله، فليخرج 1) إلى الحل، وليعد، ثم ليطف، وليسع، فإن طواف الزيارة هو الركن في الحج، وهو مرتب على الوقوف بعرفة، فينبغي أن يترتب طواف العمرة، على الجمع بين الحرم والحل. التفريع: 2493 - إذا قلنا: نعتد بالطواف والسعي، فنجعله بترك الخروج إلى الحل مسيئاً، ملتزماً دمَ الإساءة؛ من جهة تركه الميقاتَ المشروع للعمرة. وإن قلنا: لا يعتد بما جاء به؛ فإحرامه منعقدٌ، لا خلاف فيه. ولكن إن أراد الاعتداد بأعماله، فليخرج إلى الحل، ثم يعود، ويأتي بالطواف، والسعي، فإذا فعل ذلك، فهل نقول: حكمه حكم من جاوز الميقات مسيئاً، وأحرم، ثم عاد إلى الميقات، حتى يخرج سقوطُ الدم على الخلاف؟ اختلف الأئمة في ذلك، فقال بعضهم: لا دم عليه في مسألتنا وجهاً واحداً، وهو من طريق التمثيل بمثابة من يُحرم قبل الميقات، ثم يمر عليه؛ فإن المسيء هو الذي ينتهي إلى ميقاتٍ، ناوياً نسكاً، ثم يجاوزه، ولم يتحقق هذا فيمن أحرم من جوف مكة، ثم خرج إلى الحل. ومن أصحابنا من خرّج ذلك على الخلاف المذكور في عَوْد المسيء. والمسألة محتملة جداً.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ك).

فصل قال: " وأحب إليّ أن يعتمر من الجعْرَانة ... إلى آخره " (1). 2494 - لما ذكر الشافعي أن أدنى الحل ميقاتُ العمرة، كما تقدم، ذكر في هذا الفصل أفضلَ البقاع من أطراف الحل، وقال: أفضلها الجِعْرَانة (2)، وبعدها التنعيم [وبعدها الحُدَيبية، والسبب فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتمر من الجِعْرَانة، لما عاد] (3) لقضاء العمرة التي صُدّ عنها، عن مكة، عام الحديبية، فدل اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك البقعة، على تفضيلها، ولما التمست عائشةُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعمرَها، أمر أخاها عبد الرحمن، حتى أعمرها من التنعيم، فقدّم الشافعيُّ ما دل عليه فعلُه، صائراً إلى أنه لا يختار لنفسه إلا الأفضل، ثم أتبع ذلك ما أمر به في قصة عائشةَ، ثم جعل ما همّ به، ولم يتفق [منه] (4) إتمامه آخراً، وهو الحديبية. 2495 - فإن قيل: كيف قدم هاهنا فعلَه على همّه؟ وفي تحويل الرداء في الاستسقاء قدّم ما همّ به على ما فعل؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراد أن يقلب رداءه، فيجعل أسفله أعلاه، فلما ثَقُل عليه قلبه من اليمين إلى الشمال، ولم يجعل الأسفل أعلى، والأفضلُ أن يفعل الإمام وغيرُه ما همّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: لأن ما همّ به مشتمَلٌ في باب التحويل على ما هو فعله؛ فإن الغرض التفاؤل

_ (1) ر. المختصر: 2/ 51. (2) الجِعْرَانة، بسكون العين والتخفيف. على الأصح، قاله الفيومي في المصباح. وقال البكري في معجمه: هي عند العراقيين بكسر الجيم والعين وتشديد الراء (الجعِرَّانة)، والحجازيون يخففون، فيقولون (الجعْرَانة) وقال الأصمعي: هي الجعَرانة، بالتخفيف. (ر. معجم ما استعجم: 1/ 384). (3) ساقط من الأصل. (4) مزيدة من (ط)، (ك).

بتحويل الرداء [لتحويل الحال] (1)، وكان حصل بالقلب من اليمين إلى الشمال ذلك، فعسر إتمام ما همّ به من التحويل، فكان صلى الله عليه وسلم مبتدئاً أمراً تعذر عليه إتمامه، والعمرة عن الحديبية لا تشتمل على العمرة عن الجِعْرانة. والأمر في ذلك قريب. وإلا كان لقائلٍ أن يقول: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرةَ الحديبية عن اختيارٍ، وإنما صُدّ اضطراراً، فتقديمُ ما أمر به على ما كان خاض فيه، ولم (2) يتم له، عن اضطرارٍ فيه (3) بعضُ النظر. ولكن توجيه ما ذكره الشافعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعمار عائشةَ من التنعيم، وكان متمكناً من إعمارها من الحديبية، فاقتضى ذلك تقديمَ ما أمر به. 2496 - وقد ذكر الفقهاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعمرة الجِعْرانة عامَ القضاء، ولم أر لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث (4)، وفيه إشكالٌ؛ من جهة أن ذا

_ (1) في الأصل: .. الرداء التحويل وكان .... (2) (ط) لم (بدون واو). (3) في محل خبر (فتقديمُ). (4) هذا التعليق من إمام الحرمين على ما قاله الفقهاء، وردّه لقولهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعمرة الجعرانة عام الفضاء. وتغليطه الفقهاء في ذلك، ورده عليهم بالمنقول والمعقول حيث قال: لم أر لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث. كما علل ردَّه لكلام الفقهاء بأن هذا غير معقول، فكيف يجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الحليفة مع نية النسك، ثم يصل إلى طريق الطائف مجاوزاً مكة، ليحرم من الجعرانة؟ هذا التعليق يوحي لنا بعدة أمور: أولاً- إن إمام الحرمين ليس كما أكثروا القول عنه بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث وقليل العلم بالحديث؛ فها هو يردّ كلام الفقهاء وينص صراحة على أنه راجع كتب الحديث فلم يجد ذكراً لهذا الكلام. ومعلوم أن الحكم بعدم الوجود لا يقال إلا عن تثبت واستقراء وسعة اطلاع، فمن هو (قليل المراجعة لكتب الحديث) يستحيل أن يرد كلام الأئمة مستنداً إلى عدم الوجود فيها، فذاك يحتاج كما ألمعنا آنفاً إلى إحاطة شاملة واستقراء كامل. ثانياً- إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ردّ كلام الفقهاء هذا في تلخيصه الحبير بنفس ألفاظ=

الحُلَيفة، كان على ممر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قصدُه مكةَ للعمرة، فيبعد منه صلى الله عليه وسلم مجاوزةُ الميقات، مع نية النسك، والأظهر أنه كان أحرم من ذي الحليفة، لتلك العمرة، وعمرة الجِعْرانة، كانت عمرةً أخرى، برز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرم، واختار من الحل تلك البقعة. والله أعلم بالصواب. ...

_ =إمام الحرمين تقريباً، ولسنا نزعم بهذه الملاحظة أنه تبع في هذا الرد كلام إمام الحرمين واعتمد عليه، حاشا لله أن نقول ذلك، فابن حجر إمام الحديث لابدّ أنه راجع كتب الحديث قبل أن يقول ذلك. وإن كنا نؤكد أن ابن حجر قرأ النهاية لإمام الحرمين. (ر. تلخيص الحبير: 2/ 439). ثالثاً - لاحظنا كثيراً أن الحافظ ابن حجر كان إذا نقل عبارة عن الرافعي فيها شيء من الأوهام الحديثية يتخطى الرافعي (غالباً) وينحي باللائمة على إمام الحرمين قائلاً: إن الرافعي تبع الغزالي، والغزالي تبع فيه إمام الحرمين. ألا يحق لنا أن نتساءل: لماذا لم يقل الحافظ: وقد ردَّ هذا القول (عمرة الجعرانة عام القضاء) إمامُ الحرمين في النهاية. ويَتعجب من الرافعي الذي لم يتبع إمام الحرمين في الرد والتصحيح، جرياً على منهجه الذي يُحمّل فيه إمام الحرمين الأوهام الحديثية في كلام الرافعي. فهل كان الحافظ على غير ذكرٍ من كلام الإمام في النهاية؟ للاحتمال مجال، والله أعلم. رابعاً - من موقف الحافظ، من هذه المسألة وغيرها ترجح عندنا أن الحافظ عنده نوع تحامل على إمام الحرمين، لمَّا نعرف له تفسيراً بعد، وإن كان يلوح لنا أنه تبع فيه ابن الصلاح رحمه الله ورضي عنه. ونسأل الله أن يلهمنا الصواب.

باب الاختيار في إفراد الحج

باب الاختيار في إفراد الحج قال: " وأحب إليّ أن يُفرد ... إلى آخره " (1). 2497 - قد ذكرنا إجزاء الجهات الثلاث في النسكين، وقد قيل: الإفراد مأخوذ من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، والقِران من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، والتمتع مصرَّحٌ به في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. ثم قال الأئمة: القِران مؤخَّرٌ عن الإفراد والتمتع. وفي الإفراد والتمتع قولان: أظهرهما - أن الإفراد مقدّمٌ على التمتع. نصَّ عليه في مختصر الحج (2). والقول الثاني - أن التمتع أفضل. نص عليه في اختلاف الأحاديث (3). 2498 - توجيه القولين: من قال التمتع أفضل، احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال، لطوائف من أصحابه، عامَ الوداع: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهديَ، ولجعلتها عمرة " (4)؛ فدل أن تقديم العمرة أفضل. وشهد له تمنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه

_ (1) ر. المختصر: 2/ 53. (2) ر. الأم: 2/ 173. (3) هذا النص في آخر باب كتاب اختلاف الحديث (باب المختلفات التي عليها دلالة- بهامش الأم: 7/ 404). (4) حديث: " لو استقبلت من أمري " متفق عليه من حديث جابر (ر. البخاري: الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف، ح 1785، مسلم: الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح 1216).

وسلم ذلك لما نزل عليه القضاء (1) وهو بين الصفا والمروة، أن كل من معه هدي، فليحج (2)، ومن لا هدي معه، فليطف، وليسع، ثم [ليحل] (3). وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلحةَ رضي الله عنه الهديُ، ولم يكن مع غيرهما، فلما خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً، حيث أمرهم بالعمرة ليتمتعوا، وأقام على حجه، قال (4) ما قال، وكانوا يعتقدون من قبلُ أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وأكبر الكبائر، فشق عليهم ذلك، وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيّاً، معناه على قرب عهدنا بالجماع، ويمكن أن يكون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تمهيداً لعذرهم، وتسكيناً لقلوبهم (5). 2499 - ثم عندنا من ساق الهديَ، ومن لم يسق سواءٌ في الجهات الثلاث، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -على هذا- محمولٌ على أني " سقتُ الهديَ لأتطوَّع "، وهو الهدي في إطلاق الشرع، فلو تمتع، لصار ما ساقه كفارة، ويخرج عن كونه هدياً، متطوَّعاً به، فلم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبطل قصده في تحقيق التطوع.

_ (1) يشير إلى ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أحرم مطلقاً: أي لم يعين حجاً، ولا عمرة، ينتظر القضاء من السماء، فنزل عليه جبريل، والخلاف فيما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف مشهور: قيل: أهل بالحج، ولما دخل مكة بعد الطواف والسعي، فسخه إلى العمرة، وقيل: بل أهل بحج، وعمرة، وقيل أهلّ مطلقاً ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو فيما بين الصفا والمروة. وحديث الإحرام مطلقاً، رواه الشافعي مرسلاً عن طاووس، وكذا البيهقي، ورُوي أيضاً عن جابر، وعن ابن عمر، وعائشة، رواها الشافعي، وحديث جابر، وعائشة عند مسلم (ر. مختصر المزني: 2/ 54، ومسلم: الحج، باب 17 (بيان وجوه الإحرام ... ) ح 129، باب 19 (حجة النبي صلى الله عليه وسلم) ح 147، وراجع الدرّة المضية مسألة: 191، وراجع المجموع للنووي: 7/ 166 خاصة. والفصل كله). (2) في (ط): فليجمع. (3) في الأصل، ك: ليحج، وفي (ط): ليحجج. والمثبت من لفظ الحديث. (4) جواب لما. (5) (ط): لقولهم.

وأبو حنيفة (1) يجعل (2) سوق الهدي إحراماً بالحج، ويتمسك (3) بالحديث. 2500 - ومن قال الإفراد أفضل، تعلق بما صح عند الشافعي، من إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، في روايةٍ عن جابر، وحمل ما قدمناه من إظهار التمني، على تمهيد معاذير الصحابة، رضي الله عنهم. والمعنى: إني لو لم أسق، لآثرت موافقتَكم على الإفراد؛ فإن الموافقة أجلب للقلوب، وهي أولى من تحصيل فضيلةٍ، ولهذا يؤثر للمتطوع بالصوم، أن يفطر لمن يبغي منه أن يفطر. فهذا بيان القولين. وقد أجمع أصحابنا قاطبة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مفرداً عام الوداع، وقال ابن سُريج: إنه كان متمتعاًً. وهذا مما انفرد به ابن سُريج، فإن من نصر تفضيل التمتع، سلّم وقوعَ الإفراد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلّق بتمنيه، كما روينا. فهذا ما أردناه في تفضيل الجهات، بعضها على بعض. وفي بعض التصانيف أن الإفراد مقدَّمٌ على التمتعِ والقران، قولاً واحداً، وإنما اختلف القولُ في أن التمتعَ أفضلُ من القِران، أم القِرانُ أفضلُ من التمتع؟ فعلى قولين. وهذا -إن لم يكن سقطةً من ناسخٍ- غيرُ سديد. وإنما المسلك المشهور في التفضيل ما قدمناه. 2501 - ومما يجب التفطنُ له أن الشافعي اعتمد فيما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، روايةَ جابر بن عبد الله، قال: إنه أحسن الرواة سياقة للحديث، وفي روايته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبهم الإحرام أولاً، ينتظر الوحي، فنزل عليه جبريل: أن اجعله حَجة.

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 161، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 79 مسألة: 561، حاشية ابن عابدين: 2/ 160، البحر الرائق: 3/ 347. (2) (ط): بجعل. (3) (ط): يتمسك.

فقال بعض أئمة العراق: الأفضل أن يُبهم الرجلُ إحرامه تأسِّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا وَحيَ بعده، ولكن كل إنسان يتفكر بعد إحرامه، ويعلم ما هو الأرفق به والأوفق له، فإن لم يمنع مانعٌ من الإفراد، ابتدره ورآه أفضلَ من غيره. وهذا عندي هفوةٌ ظاهرةٌ؛ فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمولٌ على انتظاره الوحي قطعاً، فلا مساغ للاقتداء به في هذه الجهة. ***

باب صوم التمتع بالعمرة إلى الحج

باب صوم التمتع بالعمرة إلى الحج 2502 - على المتمتع دمُ شاةٍ، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ثم الدمُ يبدله الصوم، وهذه الكفارة مرتَّبة بدليل نص القران، والإجماع. ونحن نبدأ بما يتعلق بالدم حتى إذا نجز، خضنا في بيان الصوم. فنقول: إذا تحلل المتمتع من العمرة، وأحرم بالحج، فقد وجب عليه دمُ شاةٍ، إن وجدها؛ فإن وجوبَ الدم منوطٌ في الكتاب بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وإنما يتحقق هذا إذا شرع في الحج، ثم إذا وجب الدمُ، فلا وقتَ له على الخصوص، بعد الوجوب، فله أن يُريق الدمَ قبل العيد، قياساً على سائر دماء الجبرانات. وخالف أبو حنيفة (1) في ذلك، وقضى بأنه يتأقّت بأيام النحر، وبنى ذلك على مذهبه، في أن دمَ التمتع دمُ نسك، فيتأقت بما يتأقت به القرابين والهدايا. فإن تحلَّلَ من العمرة، فاراد إراقة الدم، وتفرقةَ اللحم، قبل الشروع في الحج، ففي إجزاء ذلك قولان ذكرهما الأئمة: أحد القولين - أنه يجزىء؛ فإن الكفارة متعلقةٌ بالعمرة والحج، وكل كفارة ماليةٍ نيطت بسببين، فيجوز تقديمُها على السبب الثاني، إذا تقدم الأول، قياساً على كفارة اليمين، فإنها إذا كانت مالية، جاز تقديمها على الحِنث. والقول الثاني - لا يجزىء، بخلاف كفارة اليمين؛ فإن تلك الكفارة منسوبةٌ في لسان الشرع إلى اليمين، والدم الذي نتكلم فيه ليس متعلقاً بالعمرة، وإنما تعلّقه

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 223 مسألة: 694، رؤوس المسائل: 256 مسألة: 147، البحر: 2/ 386، حاشية ابن عابدين: 1/ 250.

بالتمتع من العمرة إلى الحج، [و] (1) هذه خصلة واحدةٌ، لا انقسام فيها، ولا حصول لها، إلا بالشروع في الحج. التفريع على القولين: 2503 - إن قلنا: لا يجوز تقديم الإراقة على الشروع في الحج، (2 فلا كلام. وإن قلنا: يجوز التقديم على الشروع في الحج 2)، فلو لابس العمرةَ، وأراد الإراقةَ قبل التحلل منها، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ فإن العمرة على القول الذي نفرع عليه أحدُ السببين، فينبغي أن يتم، ثم يقع التقديمُ على السبب الثاني، بعد تمام الأول. والدليل عليه: أن من وكل وكيلاً حتى يعتق عن كفارة يمينه عبداً، ورسم له أن يعتقه إذا اشتغل هو بلفظ [اليمين] (3) فإذا ابتدأ الموكِّل الحلف، فأعتق الوكيل العبدَ، قبل أن يتم لفظ الحلف، فالعتق لا يقع الموقعَ، وِفاقاً، فكذلك يجب أن تكون ملابسة العمرة، بهذه المثابة. والوجه الثاني - أن إراقة الدم مجزئةٌ، في خلال العمرة، والفرق أن انعقاد العمرة حكمٌ واقعٌ، وأمرٌ شرعيٌّ ثابتٌ، والإتيان ببعض لفظ اليمين ليس [بشيء] (4)، فإذا خاض في العمرة، فقد تحقق السببُ، ولا نظر إلى الأعداد (5)، فإن الإنسان قد يحنث بأفعالٍ جمّة، ويجوز تقديم الكفارة على جميعها، بعد ثبوت اليمين. هذا قولينا في دم التمتع. وقد مهدنا في المذهب أنه دمُ جبران، فينبني عليه أنه يحرم على المتمتع الأكل منه كما يحرم، الأكل من سائر دماء الجبرانات.

_ (1) مزيدة من (ط)، (ك). (2) ساقط ما بين القوسين من (ك). (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: كشيء. (5) أي أعداد الأسباب، كما يفهم مما بعده.

2504 - وقد حان الآن أن نتكلم في بدل الدم، وهو الصوم؛ فنقول: الصوم في بدل التمتع مقدّم في نص القرآن، قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]. والكلام في الصوم يتعلق في التقسيم الأول، بذكر الأيام الثلاثة، ثم نتكلم بعدها في الأيام السبعة، ثم ننظر فيما يقتضيه نظمُ الكلام: فأمّا الأيام الثلاثة، فإن حقها أن تقع في الحج، كما قال الله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]. ثم قال الإمام وغيره: لا يجوز تقديمُ هذه الأيام على الشروع في الحج؛ [فإنها عبادة بدنية، وهي لا تجب قبل الشروع في الحج] (1) والعبادات البدنية لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها. ونحن لما جوزنا تقديمَ كفارة اليمين، إذا كانت بالمال على الحنْث، لم نجوّز تقديم الصيام على الحنْث، والمعنى في ذلك ظاهر. والعجب أن أبا حنيفة (2) جوز للمتمتع أن يصوم الأيامَ الثلاثة، قبل الشروع في الحج، والدمُ لا يقدمه على الحج، فإنه هدي، والهدي يتقيد بيوم النحر، وأيامِ التشريق. والحج يتقدم لا محالةَ عقدُه على يوم العيد، ثم إذا شرع في الحج، دخلَ وقتُ صيام الثلاثة، ولو طالت مدة إحرامه [المتقدمة] (3) على يوم عرفة، فليصم الثلاثةَ متى شاء، وليقدّمها على العيد، والأوْلى أن يقدمها على عرفة؛ فإن صومه، وإن كان صحيحاً من الحاج، فالأوْلى فيه الفطر، كما مضى ذكره، في كتاب الصيام. ثم قال الأئمة: إذا اتسع الوقت قبل العيد، فهو بالخيار: إن شاء صام الأيامَ الثلاثة متتابعة، وإن شاء، صامها متفرقةً، فالتتابع غيرُ مشروطٍ فيها.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) ر. البدائع: 2/ 173، البحر الرائق: 2/ 391، حاشية ابن عابدين: 2/ 196. (3) ساقطة من الأصل.

2505 - ولو لم يتفق صومُ الثلاثة قبل العيد، فالذي نص عليه في الجديد أن أيام التشريق لا تقبلُ الصيام أصلاً، كيوم العيد، ونص في القديم على أن المتمتع إذا لم يصم قبل النحر، فله أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة، في أيام التشريق. ثم إذا جوزنا له ذلك، تفريعاً على القديم، فلو أراد غيرُ المتمتع أن يصوم أيامَ التشريق، فهل يصح صومُه، فعلى وجهين - أحدهما - يصح، فإنها إذا قَبِلت صوماً على الاختيار، قبلت كلّ صومٍ. والثاني - أن قبولها يختص بصوم المتمتع رخصةً له، وفُسحة، ثم إذا لم يتفق صومُ الثلاثة في الحج، ولا في أيام التشريق، على القديم. وبقي على الحاج طوافُ الزيارة، فإنه من جهة الآخر لا يتأقت، فهو في بقية الحج لا محالة، وكيف لا؟ وقد بقي عليه ركنٌ من الحج. ثم قال الصيدلاني: لو أراد أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة بعد أيام التشريق، وقبل طواف الزيارة، فالذي يأتي به لا يكون أداء، بل يكون قضاء، إن قلنا: الصيامُ في الثلاثة مقضيٌّ، وهو ظاهر المذهب (1)، كما سيأتي الآن شرحُه. فإن قيل: من عليه الطوافُ في الحج بعدُ، فهلا قلنا: صوم الثلاثة مؤدّى، ما دام عليه طوافُ الزيارة؟ قلنا: الحج المذكور في قوله تعالى {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، [هو الحج التام] (2) والأيام الثلاثة واقعةٌ في صلبه. هذا ما ذكره الصيدلاني، وعلى هذا القياس إذا قلنا: للمتمتع أن يصوم أيام التشريق على القديم، فالصوم مؤدَّى، وإن وقع بعد التحللين؛ فإن المفهومَ من القرآن تقييد صوم الثلاثة، بأيام الحج (3)، وهي مضبوطةٌ، وأيام التشريق ملحقةٌ بأيام الحج، على بُعد (4). فأما النظر إلى البقاء في الإحرام. لامتداد زمان طواف الزيارة، فليس مرادَ الكتاب؛ فإن تأخير الطواف عن أيام التشريق يبعد وقوعه، فليفهم الناظر حقيقةَ ذلك؛

_ (1) ساقطة من (ط). (2) ساقط من الأصل. (3) أيام الحج سبق تحديدها، وأنها تنتهي بنهاية التاسع من ذي الحجة على قولٍ، ويدخل فيها ليلة العاشر على قولٍ. وأما أيام التشريق فليست منها، وإنما هي ملحقة بها -على بُعدٍ- كما قال. (4) (ك): على بعدٍ ما.

فإني لم أقله رأياً واستنباطاً، وإنما نقلته من فحوى كلام الأئمة. والذي يوضح ذلك أن الشافعي لما نص في القديم على تخصيص المتمتع بصيام أيام التشريق، عد ذلك رُخصةً في حقه، ولو كان الصيام مقضياً، لما كان لذلك معنَى؛ فإن أيام القضاء لا نهاية لها. هذا تمام ما أردناه في أداء صيام الأيام الثلاثة، المقيدة في نص القرآن بالحج. 2506 - فأما صومُ الأيام السبعة، فإنه مقيد في القرآن بالرجوع، قال عز من قائل: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]. وقد اختلف العلماء في معنى الرجوع، ونحن نذكر ما جرى من تلك المذاهب: قولاً لصاحب المذهب، أو وجهاً لبعض أئمة المذهب. قال الشافعي في قولٍ: " الرجوع هو الفراغ من الحج ". وقال في قولٍ: " الرجوع هو الرجوع إلى الوطن "، وفي بعض التصانيف قول ثالث: " إنه الرجوع إلى مكة "، وهذا لا أصل له في مذهب الشافعي. وهو قولُ بعض السلف. فإن قلنا: الرجوعُ معناه الفراغ من الحج، فلا شك أنه لو أوقع صيامَ السبعة مع الثلاثة في صلب الحج، في اتساع المدة، لم يُعتد بالسبعة؛ فإنها مقدَّمةٌ على وقتها، ولا يجوز تقديمُ العبادة البدنية على وقتها. وكان يقول شيخي: إذا قلنا: أيامُ التشريق تقبلُ كلّ صوم، فلو أوقع فيها ثلاثةَ أيامٍ من السبعة، والتفريع على أن الرجوع هو الفراغ، فلا يجزئه صومُه؛ فإن العاكفَ بمنى، وإن لم يكن في حج، فهو في أشغال الحج. ولذلك لا يصح منه الإحرام بالعمرة، مادام عاكفاً على مناسك مِنى. وإذا قلنا: الرجوع معناه الوصول إلى الوطن، فلو فرغ من الحج، واستقبل صوبَ الوطن، فأراد أن يصومَ الأيامَ السبعة، في طريقه، فقد ذكر الصيدلاني وجهين في ذلك: أحدهما - أنه لا يجزئه؛ فإن صيام السبعة مقيَّدٌ بالرجوع مؤَقَّتٌ به. والثاني - يجوز؛ فإن إمهاله الوصولَ إلى الوطن رخصةٌ، والتأقيتُ الحقيقي بالفراغ من الحج. وهذا الوجه عندي هو بعينه تفسير الرجوع بالفراغ، ولكن يرجع الخلاف إلى

تفسير القرآن، ولا خلاف في حقيقة المطلب والمذهب من جهة الفقه. فإذا ثبت ما أردناه في أداء (1) صيام الأيام الثلاثة، وفي [أداء] (2) صيام الأيام السبعة. فنتكلم بعد هذا في فوات صيام الأيام الثلاثة، بانقضاء الحج، خالياً عنه، ثم نرتب عليه ما ينبغي. 2507 - فنقول: إذا لم يصم المتمتع الأيامَ الثلاثةَ، حتى انقضى الحج، فقد قال أبو حنيفة (3)، فات صيامُ الثلاثة، ولا تقضى. وظاهر مذهب الشافعي أنه [تُقْضَى] (4) قياساً على كل صوم مؤقت [بوقتٍ] (5) يفوت. ونسب صاحبُ التقريب -في تصرفاتٍ حكاها عن ابن سُرَيج- قولاً إلى الشافعي، مثلَ مذهب أبي حنيفة، في أنه لا يقضي الصوم في الأيام الثلاثة، ووجهه على بعده أنه في حكم رخصةٍ عُلِّقت بالسفر، وحقه في السفر، فإذا فاتت، لم تُقض. وهذا في نهاية البعد، وهو غيرُ معدودٍ من المذهب. ومما يتعلق بما نحن فيه أن الحاج المتمتع لو مات في الحج، بعد التمكن من الصيام، ونحن نقول: الصيامُ بعد الفراغ من الحج مقضي، فإذا تَقدَّر الموتُ في الحج، فللشافعي قولان حكاهما طوائف من الأئمة: أحد القولين - أن الصوم يسقط، لا إلى بدل. والثاني - أنه لا يسقط. التوجيهُ: من قال لا يسقط، احتج بأن الصوم قد وجب، بالشروع في الحج، فلا يصقط من غير تقدير بدلٍ.

_ (1) ساقطة مَن (ط). (2) في الأصل: فوات الأيام. (3) ر. مختصر الطحاوي: 66، بدائع الصنائع: 2/ 173، حاشية ابن عابدين: 2/ 193، الاختيار: 2/ 158، البحر الرائق: 2/ 388. (4) في الأصل، (ك): مقضي. (5) ساقطة من الأصل.

ومن قال: إنه يسقط، احتج بأن قال: هو كفارةٌ في مقابلة تمتع، وإنما ينتفع المتمتع إذا تم له النسكان على رفاهيةٍ، وربْحِ سفرٍ، فإذا مات، لم يتحقق ذلك. وهذا بعيدٌ، والأصح الأول. ثم هذان القولان يجريان في الدم، إذا كان واجداً له، ولكنه مات قبل انقضاء الحج، ففي قولٍ: نُخرجُ الشاة من تركته. وفي قولٍ: نتبين أنها لم (1) تجب؛ إذ لم يتم الانتفاع بالتمتع. وإذا قلنا: يسقط الصوم، فمعناه أنه تبين عدمُ وجوبه. 2508 - فأما (2) صوم الأيام السبعة، فلا يتصور فواتُه في الحياة؛ فإنه إذا دخل وقتُ أدائه، فالعمر وقتُ الأداء، ولكن قد [نفرض] (3) فواته بالموت، ونقدر فواته أيضاًً تفريعاً على قولٍ بعيدٍ في الحياة، ونحن إن شاء الله تعالى، نأتي بتمام التفريع في حالة الحياة، ثم نذكر التفصيل في الموت. فإن فات صيام الأيام الثلاثة في الحج، فظاهر المذهب أنه يقضي، وقال أبو حنيفة: لا يقضي، وقد عُزي هذا إلى الشافعي قولاً. فإن قلنا: إنه لا يقضي، فالوجه ما قال أبو حنيفة، وهو أنه [يرجع] (4) إلى الدم فإن وجده (5 أخرجه، وإن لم يجده، بقي في ذمته، إلى أن يجد، ثم إذا تحقق الرجوع إلى الدم، يسقط صيام الأيام السبعة 5)؛ [فإنه يستحيل تقدير الدَّم، وهو الأصل مع شيء من البدل، ويتفرع على ذلك أن إمكان] (6) صيامِ الأيام السبعة موقوفٌ، على جريان صيام الأيام الثلاثة في الحج. ومما يجب التنبه له: أنا لا نوجب على المتمتع أن يصوم في الحج؛ فإنه مسافر،

_ (1) (ط): لا. (2) (ك): وأما. (3) في الأصل: يعرض. (4) ساقط من الأصل. (5) ما بين القوسين ساقط من (ط). (6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

ونحن نُسقط أداء صوم رمضانَ، وهو ركن الإسلام بالسفر، فما الظن بصوم الكفارة. وحاصل القول فيه، يرجع إلى أن [الأصل] (1) الدمُ، على هذا القول. فإن لم يجده، ورام إسقاطه بالكلية عن ذمته، فليصم ثلاثةً في الحج، وإن لم يصم، فلا يقضي، ولكن يستقر الدَّمُ في ذمته على العسر واليسر. هذا حقيقةُ هذا القول، وهو غير معدودٍ من متن المذهب. فأما إذا قلنا: صوم الأيام الثلاثة مقضي، فإذا تصرّم الحجُّ ورجع، مثلاً إلى وطنه؛ فعليه قضاءُ الأيام الثلاثة، وأداء الصيام في الأيام السبعة. 2509 - وقد اختلف الأئمة في أنه هل يجب التفريق بين الثلاثة، والسبعة؟ فمنهم من قال: لا يجب التفريق، وإذا كان يقعُ تفريقٌ في تصوير أداء الصيام في الحج، فذاك لحق الوقت، وكل ما يقع لحق الوقت، فلا يجب رعايته في القضاء، والدليل عليه أن الصيام في أيام رمضان متتابعة، من جهة الوقت، ولكن ليس التتابع معيّناً فيها، فلا جرم لا يجب التتابع في القضاء (2). وإذا كان هذا قولَنا في التتابع، وقد ثبت التعبد برعاية نوع التتابع، وفيه نَصَبٌ بيّن، فالتفريق الواقع في الوقت أولى بأن لا يُعتَقد مستحَقّاً في القضاء. هذا وجهٌ منقاس. فعلى هذا لو صام عشرة أيامٍ وِلاءً أو مفرقة كما شاء، فلا بأس. ومِن أصحابنا من قال: التفريق يجب مراعاتُه، في القضاء، بين الثلاثة والسبعة. وهذا وإن كان مشهوراً في الحكاية، فلا وجه [له] (3). والتفريع عليه يستدعي تجديدَ العهد بوقت الأداء، في النوعين من الصيام، وهذا يختلف بقولينا: تقبل أيام التشريق الصيام، وبالتفصيل في معنى الرجوع، وقد مضى ذلك موضحاً.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) أي: أيام قضاء رمضان. (3) ساقطة من الأصل.

فنعود، ونقول: من ذهب إلى إيجاب التفريق، اختلفوا: فمنهم من قال: [يكفي] (1) أصل التفريق، ولا نلتزم مضاهاة التفريق الذي يقع بين الصومين، في الأداء؛ فعلى هذا يصومُ ثلاثة متتابعة أو متفرقة، ثم يفطر بعد نجاز الثلاثة يوماً، ويصوم السبعةَ. وإن زاد على يوم، فذاك إليه. والغرض أن ينفصل اليوم الأخير عن اليوم الأول من السبعة بفطرٍ. هذا وجهٌ. ومن أصحابنا من لم يكتفِ بإيقاع [أصل] (2) التفريق، واشترط أن يكون التفريق مضاهياً لما كان يقع في أداء الصومين. وهذا الوجه أمثل، وإن كان الأصل الذي عليه التفريعُ ضعيفاً، بالغاً في الضعف، وذلك أنا إذا التزمنا التفريقَ في القضاء، لأجل التفريق في الأداء، فينبغي أن نجعل التداركَ في هذا محاكياً للأداء، فعلى هذا يختلف المذهب في المقدار المرعي. فإن قلنا: أيام التشريق لا تقبل الصيامَ، ومعنى الرجوع الفراغُ من الحج، فقد كان يتعين تخلل أربعة أيامٍ بين آخر الثلاثة، وأولِ السبعة. هذا هو الأقل الذي لا بد منه؛ فإنه يضم إلى يوم العيد الأيام الثلاثة بعده، فالجميع أربعة أيام. وإن فرعنا على أن أيام التشريق لا تقبل الصيام، والرجوعُ معناه الوصول إلى الوطن، فليقع التفريق في القضاء بأربعة أيامٍ، كما ذكرناها، ومدةِ الرجوع إلى الوطن، على الاقتصاد في السفر. وإن قلنا: أيام التشريق كانت تقبل الصيام، والرجوعُ هو الوصول إلى الوطن، فليقع التفريق بمدة الرجوع فحسب، فإننا ننزل التفريق المستحَق على أقل الإمكان، فإن زاد، لم يضرّ. وإن قلنا: أيام التشريق تقبل الصيامَ، والرجوعُ هو الفراغُ، فكان لا يقع التفريق بين النوعين في تصوير الأداء، فعلى هذا ذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - أنه لا يجب التفريق، نظراً إلى الأداء. والثاني - يجب التفريق، فإن الثلاثة كانت تنفصل

_ (1) في الأصل: يلغى. (2) زيادة من المحقق، مراعاة للسياق.

عن السبعة، بحالتين متغايرتين، إذ أحدُ النوعين في الحج، والثاني بعد الفراغ منه، فينبغي أن نُقيم مقامَ ذلك [تفريقاً] (1) بين النوعين بفطرٍ في يومٍ. وهذا في نهاية الضعف. 2510 - ومن بديع الأمر ضراوة الأئمة بتعديد هذه الوجوه الضعيفة، وأصلها استحقاقُ التفريق، ولا مساغ له من جهة المعنى، وليس مع القائل به فرقٌ بين التتابع في قضاء رمضان، وبين التفريق فيما نحن فيه. ولكن حق هذا المجموع أن يحوي الوجوه المشهورة، والبعيدة، مع التنبيه على حقيقة كل مسلك. فرع: 2511 - إذا قلنا: التفريق مستحق، فلو صام عشرةَ أيامٍ وِلاء، فالمذهب أنه يجب صومُ يومٍ آخر، إذا اكتفينا بأصل التفريق، ولا يقع الاعتداد باليوم الرابع. ومن أصحابنا من قال: لا يعتد بشيء من الأيام السبعة، بعد الثلاثة، ذكره بعضُ المصنفين، وأورده صاحبُ التقريب، ولولا إيراده لما حكيته، وكأن هذا القائل يعتقد أن التفريق إذا لم يقع بفطرٍ، لم يعتد بشيء من السبعة. وهذا باطل قطعاً؛ فإنه إن نوى يومَ الرابع التطوعَ، أو قضاءً كان عليه، كفى ذلك في التفريق وِفاقاً، فما لنا نشتغل بما لا خفاء ببطلانه. وقد نجز تفصيل القول في حال الحياة. 2512 - ونحن الآن نبتدئ القول فيه إذا لم يصم في الحياة حتى مات. فنقول: إذا انتهى إلى وطنه، ومات، فلا يلزمه شيء، والحالة هذه، وإن حكمنا بأن الرجوع هو الفراغ من الحج، والسبب فيه أن السفر من الأعذار التي يجوز ترك صوم رمضان لأجله، فلو دام السفر إلى الموت، وقد اتفق تركُ صومِ رمضانَ فيه، فلا شيء على الذي مات، ودوام السفر بمثابةِ دوام المرض، وقد مضى تقرير ذلك في موضعه، من كتاب الصوم.

_ (1) في الأصل: تفريعاً.

فصيام الأيام الثلاثة [في الحج] (1) وإن كان ثابتاً على الغرباء، فلا يَزيد تأكّدُه على تأكّد صوم رمضان، أداءً، واستدراكاً. وإن أقام صاحب الواقعة أياماً، تسع صيام العشرة، على التفصيل المقدّم، والتفريعُ على ظاهر المذهب، في إيجاب قضاء الأيام الثلاثة، فإذا لم يتفق استدراكُها، وصومُ السبعة، حتى مات، فالشافعي نص على أنه لا يجب شيء: لا الفدية، ولا نيابة الوليّ. حكاه صاحب التقريب، وهو مذكورٌ في بعض التصانيف. والمذهب المشهور أنه يجب شيء إذا جرى الموت، كما وصفناه. ووجه المذهب بيّن، وهو قياسُ كلِّ صومٍ واجبٍ، اتفق تأخيره، من غير عذرٍ مستمر. ووجه النص الغريب أن الفدية إنما تثبت في صوم رمضان، كما أن الكفارة إنما وجبت بسبب إفساد الصوم فيه، والفدية هي الكفارة الصغرى، فلا يعدّى بها موضعها، اعتباراً بالكفارة العظمى. وأما سقوط نيابة الوليّ، فتعليله هيّن. التفريع: 2513 - إذا لم نوجب شيئاً، فلا كلام، ولا عود إلى هذا القول. وإن أوجبنا، ففي الواجب أقوالٌ جمعتها من الطرق- أحدها - أن وليّه يصوم عنه، وهذا قولٌ حكيته وأجريته، في صوم رمضان، وهو ضعيفٌ. والقول الثاني - أنا نقابل الصوم في كل يومٍ بمدٍّ من الطعام، كدأبنا في صيام رمضانَ، على القول الجديد. والقول الثالث - حكاه صاحب التقريب وغيرُه: أنا نرجع إلى الدم، فنوجب دمَ شاةٍ، من تركته، فإنه أولى، وأقرب في هذا الصوم، من الأمداد، فيجب في مقابلة الأيام العشرة دمُ شاةٍ. وذكر العراقيون قولاً هو راجع إلى هذا، فقالوا: للشافعي قولٌ: " إنه يجب في يومٍ ثلث شاة، وفي يومين ثلثا شاة، وفي ثلاثةٍ فصاعداً إلى تمام العشرة شاة "،

_ (1) ساقط من الأصل، (ك).

والأيام تنزل منزلةَ الشعرات التي يأخذها المحرم من نفسه، وكذلك أعداد من الأظفار، وأعدادٌ من الجمرات. وستأتي هذه الأصول موضَّحة في مواضعها -إن شاء الله تعالى-. ثم لما ذكروا هذا القولَ، ذكروا معه أن كل يوم مقابَلٌ بمد في قولٍ، أو بدرهمٍ في قولٍ، إلى الثلاثة، ثم فيها إلى تمام العشرة دمٌ. وهذه الأقوال تجري في الشعرة (1 والشعرتين ونظائرِها، وهي منشأة من اعتقاد الرجوع إلى الدم إذا 1) فرض ترك ثلاثة أيام، فصاعداً، والتردد فيما دون الثلاثة. فهذا بيان ما قيل، فيما يلزم المتمتعَ، إذا مات بعد الوصول إلى الوطن، وجريان أيامٍ بعد الوصول، يمكن تقدير الصوم فيها، من غير عذر، وقد انتهى بذكرها أقصى الغرض في أحكام التمتع. ثم ذكر المزني في آخر الباب طرفاً من القول في طواف الوداع، فلم أرَ ذكره؛ فإن ذكر طواف [الوداع] (2)، قبل بيان أركان الحج بعيدٌ عن الترتيب المطلوب. ...

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ك). (2) ساقطة من الأصل.

باب مواقيت الحج

باب مواقيت الحج 2514 - المواقيت أمكنةٌ، وظف الشارع على كل من يأتي واحداً منها، يؤمُّ بيتَ الله، ناوياً نسكاً، أن يُحرم منه، ولا يتجاوزه، ثم على ممرّ (1) كل قومٍ يأتون من صوبهم ميقاتٌ. ونحن نذكر المواقيتَ التي أثبتها الشارع نصاً، أولاً: فميقات أهل المدينة بنص الشارع، ذو الحليفة، وهو من المدينة على مسيرة فرسخين قريبين. وميقات أهلِ الشام، وطائفةٍ من [الغرب] (2) الجُحفة، وهي من مكة على خمسين فرسخاً، ومن يأتي مكةَ من جهة المدينة، فإنه يطرقها (3) محرماً. وميقات أهل اليمن يلملم، وهو على مرحلتين من مكة. وميقات نجدِ اليمن، ونجدِ الحجاز قَرْن، وهو أيضاًً على مرحلتين. ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توظيفُ ميقاتٍ لأهل الشرق حَسَب صحة سائر المواقيت، وروى محمدُ بن علي بن عبد الله، عن جدِّه عبد الله بن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم، وقت لأهل المشرق العقيق " (4)، وهذا مرسل؛ فإن محمداً لم يلق جدَّه.

_ (1) ساقطة من (ط). (2) في الأصل، (ك): العرب. (بالمهملة). (3) الضمير يعود على الجحفة. (4) حديث: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد، والبيهقي من طريق يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والأمر فيه كما قال إمام الحرمين، فهو مرسل؛ لأن محمداً لم يلق جده. وأكّد ذلك الحافظ في التلخيص، وردّ النووي تحسين الترمذي قائلاً: " يزيد ضعيف باتفاق المحدثين " فالحديث كما قال الإمام غير صالح للاحتجاج به. وهذا أحد الشواهد على علم الإمام بالحديث. (ر. أبو داود: المناسك، باب في المواقيت، ح 1740، الترمذي: =

والصحيح أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وضع لأهل المشرق ذاتَ عرق قياساً على قَرْن، ويَلملم (1). وقد روي عن عطاء، عن أبيه، أنه قال: " لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق ميقاتاً، إذ لم يكن يومئذ مشرق " (2) والمراد به أنه لم يكن في صوب المشرق مؤمنون. فالذي عليه التعويل أن ميقات أهل المشرق -باجتهاد عمر- ذاتُ عرق، وهي على مرحلتين [من مكة] (3)، فإذا نفذ حكمه من غير نكير، التحق بسائر المواقيت. والعقيق وادٍ ينتهي المشرق إليه، قبل الانتهاء إلى ذات عرق، وبينهما شوطٌ قريب. والشافعي قد يرى في بعض نصوصه، أن يُحرم المشرقي من العقيق، احتياطاً؛ للخبر المرسل، الذي رويناه، ولا يرى ذلك حتماً. فهذا بيان المواقيت. 2515 - ثم قال الشافعي: " المواقيت لأهلها، ولكل من مرّ بها " (4). والمراد أن الاعتبار في المواقيت باتفاقٍ المرورُ بها، ولا نظر إلى وطن الرجل، وانتسابه إلى بعض الأقطار، فلو ازورّ مشرقي إلى صوب المدينة، آمّاً مكةَ، فإذا انتهى إلى ذي

_ =الحج، باب ما جاء في مواقيت الإحرام لأهل الآفاق، ح 832، أحمد: (1/ 344)، البيهقي: 5/ 21، التلخيص: 2/ 437 ح 972). (1) أثر توقيت عمر رضي الله عنه ذات عرق، لأهل المشرق رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: " لما فُتح هذان المصران أتَوْا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً، وهو جَوْرٌ عن طريقنا وإنا إذا أردنا قَرْناً شقّ علينا، قال: فانظروا حَذْوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق ". والمصران: البصوة والكوفة. (البخاري: الحج، باب ذات عرق لأهل العراق، ح 1531) وقد رواه الشافعي في الأم: 2/ 138، والبيهقي في الكبرى: 5/ 27). (2) حديث عطاء رواه الشافعي في الأم: 2/ 138، والبيهقي في الكبرى: 5/ 28، وانظر التلخيص: 2/ 436 ح 969. (3) ساقط من الأصل، (ك). (4) ر. المختصر: 2/ 60.

الحليفة، تعيّن عليه أن يُحرم، إذا كان يقصد مكةَ على نسك. ولو مال المدني وفاقاً إلى جهة المشرق، فميقاته في صوبه، وهو يؤم مكة، ذاتُ عرق. والغرض أن ميقات المدني يقصر بطروقه صوبَ المشرق، وميقاتُ المشرقي يطول باطّراقه صوب المدينة. وإذا كان المكي قد خرج، وتغرّب، ثم عاد من مسافةٍ بعيدةٍ، فلا يجوز له أن يجاوز الميقات؛ ظاناً أن ميقاته مكةُ. وحاصل الكلام أن المواقيت، لا اختصاص لها، وإنما ميقات كل امرئ ما يمر به، ويصادفه، قصدُ الإحرام، وهو عليه. 2516 - ثم من أمرناه بالإحرام، لو جاوز الميقات، غيرَ محرمٍ، وهو ناوٍ للنسك، عازمٌ عليه، فهذا إساءةٌ منه، ويلزمه بسببها دمٌ، كما سيأتي وصفه. فلو جاوز، ثم عاد إلى الميقات، فلا يخلو إما أن يُحرم بعد المجاوزة، ويعودَ محرماً، أو لا يحرم، ولكن يعود وينشئ الإحرامَ من الميقات (1 فإن لم يحرم، وعاد، وأنشأ الإحرام من الميقات 1)، نُظر: فإن لم يبلغ المسافة من الميقات، إلى الموضع الذي انتهى إليه مجاوزاً، ثم انقلب منه، مسافةَ القصر، فإذا عاد، وأنشأ الإحرام من الميقات، فيسقط دمُ الإساءة عنه، في هذه الصورة، وفاقاً. وإن بلغت المسافةُ مسافةَ القصر، وقد جاوز غيرَ محرمٍ [ثم عاد غير محرم] (2) وأنشأ الإحرام من الميقات، ففي سقوط دم الإساءة وجهان- أحدُهما- أنه لا يسقط، فإنه تمادى على الإساءة في مسافةٍ لها حكم البعد، فانقطع أثره من الميقات، وتأكدت الإساءة تأكداً لا يقبل التدارك. وهذا فيه نظر (3) إذا لم يتعلّق بمكة، فإن دخلها مسيئاً، غيرَ محرمٍ، ثم عاود الميقات، لم يسقط عنه دمُ الإساءة، قولاً واحداً، فإن المحذور، في جميع

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ط). (2) ساقط من الأصل. (3) ساقطة من (ط).

ما ذكرناه، أن يدخل مكةَ، غيرَ محرمٍ، مع انطواء عقده، على قصد النسك، وقد حصل ذلك. وهذا [كله] (1) كلام فيه إذا جاوزَ الميقات ناوياً نسكاً، ولم يحرم، ثم عاد وأحرم من الميقات. 2517 - فأما إذا جاوز، وأحرم، ثم عاد إلى الميقات محرماً، فإن قصرت المسافة، ففي سقوط دم الإساءة وجهان، أو قولان. فإن بعدت المسافة، وأحرم ثم عاد، فقولان مرتبان. وهذه الصورة أولى بأن لا يسقط دمُ اِلإساءة فيها. والمؤثر فيما نجريه قربُ المسافة، والنظرُ إلى موضع الإحرام (2)، فإن اجتمع البعد، والإحرام من غير الميقات، تأكد دمُ الإساءة، وضعف القولُ بسقوطه، عند العود. وإن قربت المسافة، ولم يجر الإحرام إلاّ بعد العود، فالذي رأيته للأئمة القطعُ بسقوط دم الإساءة. وإن بعدت [المسافة] (3) ولا إحرامَ (4) إلاّ بعد العود، أو قربت، وجرى الإحرام قبل العود، فالمسألتان قريبتان في الترتيب. والمتعلق [بمكة لا] (5) ينفعه العود إلى الميقات، سواء أحرم، ثم عاد، أو لم يحرم. 2518 - والمتمتع إذا عاد إلى ميقاته للإحرام بالحج فلا شيء عليه، وإن كان ذلك يجري بعد دخول مكة؛ لأنه ليس مسيئاً؛ إذ قد أحيا الميقاتَ الذي انتهى إليه بإحرامِ العمرة، فبايَن بذلك رتبة المسيء وإنما كنا نلزمه دمَ التمتع لربح أحد السفرين، فإذا عاد، فقد سقط هذا المعنى.

_ (1) مزيدة من (ط). (2) ساقطة من (ط). (3) في الأصل: الإساءة. (4) (ط): والإحرام. (5) ساقط من الأصل.

2519 - ومما يتعلق بذلك، أن من انتهى إلى ميقاتٍ، فجاوزه، وكان لا ينوي نسكاً، ثم بدا له أن يقصد النسك، فلا نكلفه العودَ إلى الميقات، الذي مر عليه؛ فإن حكم الميقات إنما يثبت في حق من ينوي النسك، فإذا جاوزه، ثم بدا له أن ينسك، فميقاته الموضعُ الذي انتهى إليه. فإن أحرم منه، لم يلزمه شيء، وقد وفَّى ما عليه، وإن جاوز، فقد أساء الآن. وتفصيله كتفصيل من يجاوز الميقات الموظّف، ناوياً نسكاً. ثم إذا جاوز موضع قصده، وعاد، فالاعتبار بالعود إلى مكانِ نيّته، فهو ميقاتُه، فيعود التفصيل المقدّم في العود إلى الميقات، بعد مجاوزته، على نية النسك. 2520 - ولو كان مسكن الرجل بين ميقاتٍ، وبين مكة، وكان على مرحلةٍ، أو أقلَّ، فميقاته مسكنه، فلا جاوزَنَّه، وهو ينوي نسكاً، فإن جاوز، فالعود، على ما تفصل قبلُ. وإذا كان يأتي مكة من المدينة، فسيمرّ على ميقاتين، وليس له أن يجاوز ذا الحليفة، ليحرم من الجحفة، وهذا متفق عليه، لا أعرف فيه خلافاً. 2521 - ولو كان يأتي مكة على صوبٍ من التعاسيف (1)، ولم يركب مسلكاً، إلى ميقاتٍ من المواقيت المعيّنة، فقد قال الأئمة: إذا كان مارّاً إلى مكة، ناوياً نسكاً، في برٍّ أو بحرٍ، فمهما (2) حاذى ميقاتاً من المواقيت، لزمه أن يُحرم، ولو جاوز محاذاةَ الميقات، كان كما لو جاوز ميقاتاً انتهى إليه، على ما سبق التفصيل فيه. 2522 - ثم صور الفقهاء صوراً في محاذاة المواقيت ما (3) قد يبعد الوفاء بتصويرها في المواقيت الموظفة، ولا مزيد عليها.

_ (1) التعاسيف: يقال: يركب التعاسيف: أي يسير على غير هدى، واعتسف، وعسف: سار على غير هدى (معجم). (2) " مهما ": بمعنى إذا. (3) في (ط): قد يبعد (بدون ما)، (ك): فلا يبعد.

ولكنا نأتي بمسالكهم، ولا [نعرّج على المشاحة] (1) في التصوير. فنقول: أولاً - لو حاذى المتعسف ميقاتاً بعيداً، وبين يديه ميقاتٌ آخر، وسيحاذيه في ممره، فليس له أن يؤخر الإحرامَ، عن محاذاة الميقات الأول؛ منتظراً محاذاةَ الميقات الثاني. كما ليس للذي يأتي من صوب المدينةِ، أن يجاوز ذا الحليفة، ليحرم من الجحفة. وإن توسط في ممره، ووجهته إلى مكة ميقاتين، ووقع أحدهما منه على اليمين، والثاني على اليسار، فإن أمكن ذلك، فليحرم من مكانه؛ فإنه لو حاذى من أحد قُطريه (2) ميقاتاً، لأحرم، وقد حاذى الآن ميقاتين. ولو جاوز مكانه، فهو مسيء. وإذا أطلقنا المحاذاة في هذه المسائل، فلا شك أنا نعني بها المسامتة (3)، من اليمين، أو الشمال؛ فإن المحاذاة بالظهر، صفةُ المجاوزين، والمحاذاة بالوجه صفة من لم ينته بعدُ إلى الميقات، وهو مارّ إليه. 2523 - ثم قال الأئمة: إذا توسط ميقاتين، وكان أحدُهما أقربَ إلى مكة، من الثاني لو فرض اطّراقهما، فإن كان المتوسِّط أقربَ إلى أحد الميقاتين منه إلى الثاني، فهو يُحرم من مكانه، ولكنه منسوبٌ إلى الميقات القريب منه. وإن استوت المسافةُ بينه، وبين كل واحدٍ من الميقاتين، قالوا: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه منسوب إلى أبعدهما (4). والثاني - أنه يجوز أن يُنسب إلى أقربهما من مكة. وهذا فيه فضلُ نظر، فإنا كيف قدّرنا الأمر، فهو مأمور بالإحرام من مكانه الذي حاذى فيه الميقاتين؛ وذلك المكانُ ميقاتُه على الحقيقة، فأي معنى لنسبته إلى أحد الميقاتين، وميقاته الحقيقي مكانُه، ينشئ الإحرام منه. ولو فُرضت مجاوزتُه، لكان

_ (1) في الأصل: نفرح عن الإباحة، (ك): المساحة. (2) قطريه: مثنى قطر، وقُطر الرجل: جانبه. (3) المسامتة: الموازاة، من اليمين أو الشمال. (4) (ط): أحدهما.

العودُ إليه، فهو المعتبر إذاً في تصوير قضاء حق الميقات، وتصويرِ الإساءة بالمجاوزة. فالوجه بعد التنبيه على ما ذكرناه، أن نفرض متعسفاً، يمر ناوياً نُسكاً، بين ميقاتين، ولا يشعر بما يجري، (1 ثم ينتهي إلى موضع يُفضي إليه طريقُ الميقات القريب، وطريق الميقات البعيد، ثم يشعر بما جرى 1) و [يعسر] (2) عليه الرجوع على أدراجه إلى مكان المحاذاة، ويتيسر عليه الرجوع إلى كل واحدٍ من الميقاتين، فعليه العود إلى ميقاتٍ، إذا كنا نُخْرجه بالعود عن كونه مسيئاً؛ فان دمَ الجبران نتيجةُ [ترك] (3) مأمورٍ به، أو ارتكاب محظور منهي عنه، فإذا كلفناه العودَ، فيظهر الآن أثرُ النسبة، فإن نسبناه إلى الميقات البعيد، ألزمناه العودَ إليه، وإن نسبناه إلى القريب، كفاه أن يعود [إليه] (4)، ومسلكه (5) في التعاسيف لا يمكن العود إليه. فإن فرض إمكان العود (6)، من حيث جاء، إلى مكان المحاذاة، فالذي أراه أن يكون المعتبر تلك المسافة، في نفسها، قَرُبَت، أو بعدت؛ فإن كل من جاوز ميقاتاً في عينه، كفاه في العود الرجوعُ إلى مسافته، ولا يلزمه العود إليه في نفسه. وقد تمهد ذلك فيما سبق. وشرط تصوير الإفادة في النسبة إلى الميقات، أن يفرض مجاوزة (7) مكان المحاذاة، والإفضاء إلى مجتمع الطريقين، في الميقاتين، مع عسر الانقلاب، إلى صوب التعسف، ومع الجهل بمسافة تلك الجهة، وقد وجب الرجوع إلى أحد الميقاتين. فهذا أقصى الإمكان.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ك). (2) في الأصل: يعتبر. (3) ساقطة من الأصل، (ك). (4) ساقطة من الأصل. (5) عبارة (ط): هذا. ومسلكه .... (6) عبارة (ك): إمكان عود حيث ... (7) (ط): بمجاوزة.

2524 - ولو أتى الغريبُ مكةَ من جهةٍ، لا ميقات فيها، وكان لا يحاذي أيضاًً ميقاتاً في ممره، فالوجه أن يُحرمَ إذا لم يبق بينه وبين مكة، إلا مرحلتان، نزولاً على قضاء عمر في تأقيت ذات عرق، لأهل المشرق، والتفاتاً إلى حد المذهب، في حاضري المسجد الحرام، فإن من يكون مسكنه على [ما] (1) دون مسافة القصر، فهو كأهل مكة فيما قدمناه. فهذا منتهى ما أردناه في ذلك. 2525 - ثم نقول: المكي يُحرم من مكة. واختلف القول في الأفضل: قال الشافعي في قولٍ: " ينبغي أن يحرم من داره، ويأتي المسجد محرماً ". وقال في قول: " الأفضل أن يتزيى، ويحرم من المسجد الحرام، من موضعٍ قريب من البيت ". والغريب إذا كان يحرم من مكة، متمتعاً، أو اتفق لُبثه بها سنة، فأراد الإحرام، فسبيله سبيل المكيِّ، فيما ذكرناه. ومن كان ميقاتُ حجه مكةَ، فلا ينبغي أن يجاوز خِطتَها (2) غيرَ مُحرم، فلو جاوز الخِطة، ولم يجاوز الحرمَ، وأحرم، فهل نجعله مسيئاً؟ فعلى قولين: أحدهما - إنه مسيء، كالذي يجاوز خِطة قريةٍ، هي ميقاتٌ. والثاني - إنه ليس بمسيء، [فإن] (3) الحرمَ أغلبُ، واعتباره فيما يتعلق بالمناسك أوْلى من اعتبار خِطة العمارة. 2526 - وقد ذكرنا فيما مضى أن العود إلى الميقات في حق الغريب لا ينفع بعد التعلق بمكة، فالاعتبار في ذلك بدخول الحرم، أو بملابسته الخِطة، خِطة مكة؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه الآن.

_ (1) زيادة من (ط). (2) الخطة بكسر الخاء: المكان المختط لعمارةٍ، والجمع خِطط. والمراد بالخِطة هنا مساحة مكة وحدودها، والخُطة بالضم: الحالة، والخصلة (مصباح). (3) في الأصل: فإذ.

والدليل [على] (1) اعتبار الحرم، دون خطةِ مكة، في هذا النوع، أن المكي إذا أراد العمرة، لم نكلفه مجاوزةَ خِطة مكة. بل ينبغي أن يتعلق بالحل، كما تقدم القول فيه. ثم من كان ميقاته قرية، فمجاوزته لها مأخوذةٌ من ثبوت حكم السفر لمن يفارق البقعة، وقد أوضحنا ذلك بما فيه أشفى بيان في كتاب الصلاة. 2527 - وقد اختلف قول الشافعي في أن تقديم الإحرام على الميقات هل يستحب؟ فقال في أحد القولين: " إنه يستحب " لأخبار صحيحة فيه، منها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الأعمال حجةُ الرجل من دويرة أهله، يؤم هذا البيت العتيق " (2). والقول الثاني - " لا يستحب " تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فإنهم أحرموا عند الميقات. وفي تقديم الإحرام تعرض لأغرارٍ، لا استقلال بها، ثم هذا القائل يزعم أن الأوْلى تأخير الإحرام إلى الميقات، وأطلق بعض الأصحاب الكراهيةَ في التقديم. ولست أرى ذلك. ومن أصحابنا من قطع بأستحباب التقديم، (3 وحمل نصَّ الشافعي، حيث نهى 3) على النهي عن شيء يعتاده الشيعة، وهو التزيّي بزيّ المحرمين من غير إحرام قبل الميقات.

_ (1) في الأصل: غلبة. (2) حديث إحرام الرجل من دويرة أهله، روي مرفوعاًً وموقوفاً، أما المرفوع فقد رواه البيهقي من حديث أبي هريرة، وقال: فيه نظر، وأما الموقوف فعلى علي، رواه البيهقي: (5/ 30) والحاكم: (2/ 276)، وصححه ووافقه الذهبي، قال الحافظ: وإسناده قوي، قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: " هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مروي بإسناد ضعيف، وإنما هو عن عمر وعلي من قوله، رواه الشافعي وغيره عنهما " ا. هـ (ر. التلخيص: 2/ 435 ح 967، مشكل الوسيط بهامش الوسيط: 2/ 611). (3) ما بين القوسين ساقط من (ط).

فصل قال: " وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يُهل، حتى تنبعث به راحلته ... إلى آخره " (1). 2528 - اختلف القول في أن المرء متى يُؤثَر له أن يحرم، فقال في القديم: إذا صلى ركعتي الإحرام، كما سيأتي، وتحلل (2)، أحرم في مصلاه قاعداً. وهذا مذهب أبي حنيفة (3). وقال في الجديد: يحرم إذا توجهت به راحلتهُ إلى مكةَ. وإن كان ماشياً، فيخرج عن موضعه، ويتوجه إلى مكة، ويُحرم. ودليل القول الجديد الحديثُ الذي رواه في صدر الفصل، وقد روى ابنُ عباسٍ أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من مصلاه (4)، وروي عن ابن عمر أنه لم يكن ليهل حتى تنبعث به راحلته (5) [وروي أنه لما استوت راحلته] (6) على البيداء أهلَّ، والقول في ذلك قريب.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 61. (2) تحلل: أي من ركعتي الإحرام. (3) ر. مختصر الطحاوي: 62، بدائع الصنائع: 2/ 145، حاشية ابن عابدين: 2/ 158، البخر الرائق: 2/ 346، الاختيار: 2/ 143. (4) حديث ابن عباس رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد، والحاكم، والبيهقي (ر. أبو داود: المناسك، باب في وقت الإحرام، ح 1770، الترمذي: الحج، باب ما جاء متى أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، ح 819، النسائي: مناسك الحج، باب العمل في الإهلال، ح 2754، أحمد: 4/ 105، 106 ح 2358 (شاكر) وقال: حديث صحيح، الحاكم: 1/ 451، البيهقي: 5/ 37). (5) حديث ابن عمر متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 30 ح 738). (6) حديث: " أنه لما استوت راحلته على البيداء أهل " رواه البخاري عن أنس: الحج، باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح، ح 1546، وباب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة، ح 1551، ورواه مسلم من حديث جابر الطويل في الحج، ح 1218، ورواه أبو داود عن سعد: المناسك، باب في وقت الإحرام، ح 1775، ورواه الحاكم عن سعد أيضاًً وعن ابن عباس: 1/ 451، 452).

وذهب بعض الأئمة إلى أخبار (1) الإحرام عند الفراغ من الصلاة، وحمل اختلاف الرواية على إعادة التلبية، وهي مأمور بها في [التغايير] (2)، كما سنشرحها، فلعله أحرم صلى الله عليه وسلم لما سلّم، ثم لبّى لما انبعثت به الراحلة، أي ثارت، ثم لبىّ لما استوت ناقته على البيداء. ومن رأى ما قدمناه اختلافاً، فمعنى انبعاث الراحلة أن يستوي في صوب مكة، وهذا معنى استواء الراحلة على البيداء، فأما ثورانها وهي تردَّدُ (3) بعدُ على [الرحل] (4)، فلا، والعبرة بتوجهها إلى جهة المقصد، ثم الإحرام مع التوجه. ...

_ (1) (ط)، (ك): اختيار. (2) في الأصل، ك: التعايين، وفي (ط): " التغاير ". والمثبت تصرف منا رعاية للمأنوس المألوف من ألفاظ الإمام. هذا. والتغايير: أي التغايير في الطريق، إذا أصعد، أو انحدر، أو مال شرقاً أو غرباً ... هذا معنى التغايير، التي يسن رفع الصوت بالتلبية عندها. (3) " تُرَدَّدُ " ضبطت في (ك) بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول، وظني أنها تَرَدَّدُ: أي تتردّد (بحذف تاء المضارعة) والمعنى: أن اختيار لحظة " ثوران " الناقة، أي حركتها عندما تضطرب برَحْلها وراكبها عند انبعاثها قائمة، والقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم عندها -عندما ثارت به راحلته- غيرُ مقبول. (4) في الأصل: " الرجل " بالجيم المعجمة، والمثبت من (ط)، (ك)، و (على) هنا بمعنى (مع). والمعنى واضح، أشرنا إليه في التعليق السابق.

باب الإحرام والتلبية

باب الإحرام والتلبية 2529 - إذا دخل وقتُ الهمّ بالإحرام، فالمسنون أن يغتسل. وذكر الأئمة أنا نستحب الغُسل للنفساء، والحائض، وإن كانتا لا تطهران. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عُميس، وكانت نُفست بولادة محمد بن أبي بكر، " فأمرها عليه السلام بالغسل لدخول مكة " (1)، فطرد الأئمة ذلك، في غُسل الإحرام. ثم إذا اغتسل من يريد الإحرام، فاستعمال الطيب محثوث عليه قالت عائشة: " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ هاتين لإحرامه، قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت " (2) وفي بعض الأخبار (3) أنها قالت: " طيبتُه بأطيب الطيب، وهو المسك "، وعنها، أنها قالت: " رأيت وبيص (4) المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم " (5). 2530 - ثم التطيب يقع قبل الإحرام، فإن كان في البدن، وليس للطيب عينٌ تشاهد بعد الاستعمال، فلا منع، وإن طيب بدنَه بطيب يبقى عينُه على البدن محسوساً، فلا بأس عندنا به، خلافاً لأبي حنيفة (6). وشاهد مذهبنا حديثُ عائشةَ في المسك، مع

_ (1) حديث غسل أسماء بنت عميس رواه مسلم من حديث عائشة، ومن حديث جابر الطويل في الحج (ر. مسلم: الحج، باب إحرام النفساء، ح 1209، التلخيص: 2/ 450 ح 994). (2) حديث عائشة رواه الشيخان بأكثر من لفظ (ر. البخاري: الحج، باب الطيب عند الإحرام، ح 1539، مُسلم: الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، ح 1189). (3) " وفي بعض الأخبار ": المراد روايات الحديث السابق (حديث عائشة). (4) الوبيص: مثل البريق، وزْناً، ومعنى. (5) حديث " رأيت وبيص المسك ... " رواه مسلم: الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، ح1190. (6) الذي وصلنا إليه عند الأحناف أنهم لا يرون به بأساً كالشافعية، وهذا عند أبي حنيفة وأبي=

ذكرها رؤيةَ وبيص المسك بعد الإحرام. 2531 - ولو استعمل طيباً مجسماً، ثم أحرم وعرِق، وتنحى الطيب عن محله، فهل يؤاخذ بذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يؤاخذ به، فإن الجزء الذي انتقل الطيب إليه بعد الإحرام جزءٌ صادفه طيبٌ، بعد تحريم الطيب بسبب الإحرام. ثم هذا القائل يقول: يلزم أن يبتدره المحرم، ويزيلَه ويكون ما جرى بمثابة طيب يصيب بدنَ المحرم، من غير قصد منه، فالذي عليه فيه أن يبتدر إزالته، فإذا فعل ذلك، لم يلزمه شيء. والوجه الثاني - أنه غير مؤاخذ بما يجري؛ فإن التطيب جرى سائغاً، فلا حكم للانتقال بعده، والطيب كالمستهلَك في حق الإحرام إذا تقدم استعماله عليه، ويشهد لذلك استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسكَ، في مفارقه صلى الله عليه وسلم. والظاهر في الحجاز تنقل الطيب، وسيلان العرق به. 2532 - ولو طيب المحرم قبل الإحرام إزاره، أو رداءه، وتوشّح أو اتزر، ثم أحرم، فحاصل ما قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها - أن ذلك يسوغ، كما يسوغ تطييب البدن. والثاني - لا يجوز؛ فإن الطيب يبقى على الثوب، ويمّحق على البدن. والثالث - أنه إن لم يكن عينٌ، فلا بأس به، وإن كان الطيب عيناً، لم يجز، وكان ذلك بمثابة ما لو شدّ مسكاً على طرف إزاره، وكان يستديمه، فهذا ممتنعٌ، وفاقاً. والأصح أنه لا يمتنع تطييب الثوب، ولا خلافَ أنه لو كان يقصد تطييب بدنه، فتعطر ثوبه تبعاً، فلا حرج. ولو عطر ثوبه، وجوزنا ذلك على الأصح، ثم نزعه ومحاه، ثم عاد إليه ولبسه، وهو بعدُ عَطِرٌ، ففي المسألة وجهان- أحدهما - المنع؛ فإن اللبس الجديد بعد (1) الإحرام في حكم إنشاء تطيب. والثاني - لا بأس، فإنه استعمل الطيب قبل الإحرام، فصار كالمستهلك، فلا مبالاة به، كيف فرض الأمر. ومحل الوجهين فيه إذا طيب

_ =يوسف، وكره محمد ذلك، قال الطحاوي في مختصره: " وفول محمدٍ عندنا أجود، وبه نأخذ " (ر. مختصر الطحاوي: 62، البدائع: 2/ 44). (1) (ط): بهذا الإحرام.

الثوب، فلبسه وأحرم وهو عليه، فأما إذا طيب رداء، وأحرم، وقصد [به تطييب الرداء] (1) للإحرام، فإذا توشح به بعد الإحرام، لم يجز، ولزمه الفداء؛ لأنه استعمل الطيب جديداً بعد الإحرام. والوجهان في تجديد لبس الثوب، يقربان من سيلان الطيب، بعد الإحرام. ووجه التقريب [واضحٌ] (2). 2533 - وتمام البيان في هذا الفصل أن التطيّب عند الإحرام في مرتبة المندوبات، لا في مرتبة المباحات، ويشهد له الخبر، والأثر. ولعل السبب فيه أنه يلقى شَعَثاً (3) وتَفَلاً (4)، وقد ينتهي إلى التأذي، فكان التطيب تقليلاً من آثار الشعَث، وهو قريب من استحباب السواك قبل أوان الخُلوف، وقد صح في الشرع الندب إلى استعمال الطيب يوم الجمعة. ومما يؤكد ذلك الأمرُ بالغسل، والغرض منه التنزه، ولهذا أُمرت الحائض به، وإن كانت لا تتطهر. 2534 - ثم إذا كان يغتسل فلا نرى للنية في غسله هذا أئراً، وشاهده أمرُ الحائض بالغسل. وفيه أدنى نظر؛ فإن النية مرعيّة في غسل الجمعة، والغرض منه قطع الروائح الكريهة. وبالجملة من قصد إقامة شعار الدين كان مأجوراً على قصده. ثم يتّزر ويرتدي ويحسِر رأسه، ويصلي ركعتين. ثم مضى القول في أوان إحرامه. فصل قال: " ويكفيه أن ينوي حجاً، أو عمرة ... إلى آخره " (5). 2535 - مذهبنا الصحيحُ أن انعقاد الإحرام يعتمد النيةَ، فإذا نوى المرء الشروع في الحج، أو العمرة، أو فيهما قِراناً، أو نوى الإحرام المطلق، صار محرماً، بمجرد النيةِ، من غير تلبية.

_ (1) عبارة الأصل: وقصد بتطييب الرداء الإحرام. (2) في الأصل: أوضح. (3) شعث من باب تعب: والشعث تفرق الشعر، وتلبده، وتغيره، والوسخ أيضاً (مصباح). (4) من تفلت المرأة تفلاً: من باب تعب: إذا أنتن ريحها. (مصباح). (5) ر. المختصر: 2/ 61.

وقال أبو حنيفة (1): لا يثبت الإحرام بمجرد النية، من غير قرينة، والقرينةُ الظاهرةُ التلبية. ثم أقام أبو حنيفة سَوْقَ الهَدْي، وإشعاره، وتقليده، مقام التلبية. وذكر بعض أصحابنا قولاً قديماً للشافعي: " أن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية "، وهذا اختيار أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي بن خيران، والشاهد لذلك اتفاقُ الناس، مُذ كانوا على الاعتناء بشعار التلبية، حالة العقد. وكان شيخي يتردد في التفريع على القديم، في إقامة الإشعار، والتقليد، مقام التلبية. وسبب التردد أن ابن عباس كان يجعل نفسَ الإشعار والتقليدِ إحراماً. والظاهر تعيين التلبية. والمذهب الاكتفاء بالنية المجردة. ومن شَرَط التلبيةَ، لم يشترط التنصيص على ما جرى في النية من التعرض للحج أو العمرة، وهذا متفق عليه؛ فتكفي التلبيةُ المطلقة شعاراً، ثم التعويل فيما ينعقد مفصَّلاً، أو مجملاً على النية. وذكر الصيدلاني قولين في أنا هل نكره [ذكر] (2) ما انعقد في التلبية: أحدهما - أنا نكره ذلك، نص عليه، وقال في موضع آخر: لا بأس بذكر ما أحرم به. 2536 - ومما يتم به غرض الفصل: أنه لو لبى بلسانه، ولم ينو بقلبه، فقد نقل المزني أنه يلغو ما صدر منه، ونقل الربيع أن إحرامه ينعقد مجملاً، ثم إنه يصرفه إلى أحد النسكين، أو إليهما. وقد كثر خبط الأصحاب، ونحن نذكر المقصود. فنقول: من ذكر التلبيةَ حاكياً، أو معلم، وقصد غرضاً سوى الإحرام، لم يصر محرماًً، خلافا لداود. وكذلك إذا جرى اللسان بالتلبية، فلا حكم له. فأما إذا جرد قَصْده إلى النطق بالتلبية، ولم يخطر بباله قصدُ الشروع [في الإحرام] (3)، فهذا موضع التردد. وللأصحاب طريقان: منهم من قال: في المسألة

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 161، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 79 مسألة 561، البحر الرائق: 2/ 347، 391، حاشية ابن عابدين: 2/ 160. (2) ساقطة من الأصل. (3) عبارة الأصل: قصد الشروع للإحرام.

قولان: أحدهما - وهو الذي نقله المزني: أنه لا يصير محرماًً، وهو ظاهر مستغنٍ عن التوجيه. والثاني - أنه يصير محرماً، وهو ما نقله الربيع. ولست أعرف له وجهاً. وإن تكلف متكلف، وقال: من ضرورة تجريد القصد إلى التلبية، مع انتفاء سائر المقاصد سوى الإحرام، أن يجري في الضمير قصد الإحرام. وهذا (1) ليس بشيء، فإن الأمر إن كان كذلك، فهو إحرامٌ بنيةٍ، ولا خلاف إذا ثبتت النية، في انعقاد الإحرام. فصل قال الشافعي: " وإن لبى بحج يريد عمرة ... إلى آخره " (2). 2537 - قد ذكرنا أن التعويل في عقد الإحرام على النية، فإن نوى الرجل بقلبه الشروعَ في الحج، ولبى بعمرةٍ لفظاً، فلا حكم للفظ، والتعويل على عقده. ولو نوى إحراماً مطلقا، وعيّن في التلبية، فلا حكم لتعيين اللسان. ثم إذا نوى إحراماً مطلقاً، صار محرماً، وله الخيار، فإن صرفه بعقده إلى حج أو عمرةٍ، انصرف إلى ما قصد. ولا شك أن هذا فيه إذا أبهم الإحرام في وقتٍ يصلح للحج، والعمرة. ولو صرف إحرامه المبهم إلى الحج والعمرة قِراناً، صار قارناً، وإمكان صرف الإحرام المبهم إلى كل واحدٍ من النسكين أو إليهما جميعاً، دليل ظاهر على مشابهة العمرة الحج. ولو أحرم إحراماً مبهما في غير أشهر الحج، ثم فسره بالحج، لما دخل شوال، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذلك غيرُ جائز، ولا يثبت الحج؛ فإن الإحرام جرى

_ (1) كذا في النسخ الثلاث " وهذا " بدون الفاء، والمعروف المشهور وجوب الفاء هنا في جواب الشرط. ولكن رأينا ابن هشام في المغني يحكي عن الأخفش أن حذف فاء الجواب في هذه الصورة واردٌ، وليس خاصا بضرورة الشعر، وحمل عليه قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]. (2) ر. المختصر: 2/ 62.

في وقتٍ، لا يتأتى فيه الحج، [لو] (1) عينه بدل الإبهام، والتعيين آخراً بمثابة التعيين أولاً. وذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه ينصرف إحرامه المبهم إلى الحج. وهذا ضعيفٌ في القياس. ووجهُه على ضعفه أن العبد إذا أحرم بالحج في رقه، ثم عَتَق قبل الوقوف، ووقف حراً، فقد قال الشافعي: يقع الحجُّ عن فرض الإسلام. وهذا ضمُّ إشكالٍ إلى إشكالٍ، وسنذكر أن ما أوردناه في طريان العتق مشكلٌ في طريق القياس، فإن جرينا على الأصح، وهو أن تفسير الإحرام الجاري في غير أشهر الحج بالحج في أشهر الحج غير جائز، فلو أحرم المرء بعمرة في غير أشهر الحج، ولم يشتغل بأعمالها حتى دخل أشهرُ الحج، ثم أراد أن يُدخل حجّه على تلك العمرة، فقد ذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - أنها تدخل، ويصير قارناً؛ فإنه ابتدأ الإحرام بالحج في وقته، وقد مضى أن الحج يدخل في العمرة. والوجه الثاني - أنه لا ينعقد إحرامه بالحج، فإنه لو انعقد، لصار قارناً. ومن مذهب الشافعي أن القارن في حكم ملابسٍ إحراماً واحداً، ولهذا لا يجب عليه فديتان عنده إذا أقدم على محظور [الإحرامين] (2)، وإذا كان كذلك، فلو قضينا بانعقاد الحج، والإحرامُ سابقٌ على أشهرِ الحج، لكان هذا في حكم الإحرام بالحج قبل أشهره. والأقيس الوجه الأول. 2538 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنه لو أبهم الإحرام، قبل أشهر الحج، ثم فسره بالعمرة، صح، وكان معتمراً، وإن فسره بالحج قبل وقته، كان كما لو أحرم بالحج. وقد مضى تفصيل المذهب فيه. وإذا قلنا: المحرم بالحج معتمر، والتفسير بالحج غيرُ ممكن، فإحرامه المبهم قبل أشهر الحج إحرامٌ بالعمرة، ولا حقيقة للإبهام في الإحرام، وهذا بيّن، لا شك فيه.

_ (1) في الأصل: أو. (2) في الأصل: الإحرام.

2539 - ولو قال في نفسه: أحرمت كإحرام فلانٍ، فهذا أولاً سائغٌ، وقد روي أن علياً قال عند منصرفه من اليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى مكة، عام الوداع، فقال عليّ رضي الله عنه: " لبيك بإهلالٍ كلإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) ثم إذا أحرم بإحرام [كإحرام] (2) زيد، لزمه ما هو فيه، فإن كان معتمراً، فإحرامه عمرة، وإن كان حجاً، فإحرامه حج، وإن كان قارناً، فإحرامه قرانٌ. وإحالة الإحرام على إحرام الغير، مع الجهل بحقيقة الحال أبعد عن القياس، من جواز صرف الإحرام المبهم إلى ما يريده المحرم؛ فإن الإبهام والتعيين وقعا جميعاً، متعلِّقين بقصده، وإذا أحال على إحرام الغير، فلم يجر منه قصدٌ في التعيين، أولاً وآخراً، ولكن ذلك محتمل، متفق عليه، معتضِد بما رويناه. وأصل الإبهام منقولٌ على الصحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإحالة الإحرام منقولٌ عن عليٍّ، ثم ذكر علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى منه، فلم ينكر عليه. فإذا أحرم كإحرام فلان، ثم تبين أن فلاناً ما كان محرماًً، فيصير من أبهم إحرامَه محرماًً إحراماً مبهماً، فليفسره بما بدا له؛ فإن الإحرام لا خلاص منه. 2540 - ولو أحرم بما أحرم به فلان، وهو عالم بأنه غيرُ محرم، فهذا أولاً لا يمكن دعوى العلم فيه، فإنّ معوّل الإحرام على النية، ولا يطلع عليها غيرُ الله سبحانه وتعالى. ولو قال: أحرمت بإحرامٍ كإحرامٍ فلان، وكان من ذكره ميتاً، وهو عالم بموته، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يصير محرماً؛ فإن الذي أتى به ليس جزماً

_ (1) حديث إهلال علي رضي الله عنه متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ر. البخاري: المغازي، باب بعث علي وخالد إلى اليمن، ح 4353، 4354، مسلم: الحج، باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، ح 1250) وللبخاري أيضاً من حديث جابر (الحج، باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1557). (2) ساقطة من الأصل.

للإحرام، وليس هو أيضاً على تردُّدٍ؛ فإن فلاناً غير محرم. والثاني - أنه يصير محرماً على الإبهام؛ فإن [الإحرام] (1) إذا جرى، لم يُدفع. 2541 - ولو أحرم كإحرام فلانٍ، وكان ذلك المعيَّن محرماً على الإبهام، فيثبت للذي أحال عليه إحرامٌ مبهم، ثم لو فسر ذلك المعيَّن إحرامَه المبهمَ، بأحد النسكين، أو بهما، فلا يلتزم من أحال عليه ذلك، ولكنه بالخيار في تفسير إحرامه، ومنتهى ما يلتزمه بإحالته أن يكون كالمحال عليه، في حالته، ولقد كان المحال عليه في إحرام مُبهمٍ، لمّا قال هذا: لبيك بإحرام كإحرام فلانَ، فما يحدث بعد ذلك، من تعيين (2) وتفسير، فلا يلتزمُه المحيل؛ باتفاق الأصحاب. ولو كان ذلك المعيَّن قد أحرم بالعمرة أولاً، ثم أدخل عليها حجة، وصار قارناً، ذكر الشيخُ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يصير قارناً؛ [فإنه] (3) لما أنشأ ربط إحرامه بإحرام ذلك الشخص، كان إذ ذاك قارناً، ولم يجر القِران بعد إحرامِ هذا المبهم. والوجه الثاني - أن إحرامه عمرة؛ نظراً إلى ما كان عليه أولاً، قبل إدخال الحجة، فإن إحالته واقعةٌ على إحرامه الأول. وهذا الذي ذكره يستدعي نوعَ كشفٍ، فإن خطر (4) للذي أبهم الإحرامَ، التزامَ ما فيه ذلك المعيّن الآن، فلا خلاف أنه يلزمه القِران، إن صار قارناً، كما صورناه. وإن خصص بعقده حالةَ الإحرام، فلا خلاف أنه لا يلتزم إلا العمرة. ولو جرى ذلك مبهماً، من غير تعرّضٍ للأول، والدوام، ففيه الخلافُ الذي ذكرناه. ولو أحرم بما أحرم به فلان، وقد أشكل ما أحرم به فلان، وعسر الوصول إلى دركه، فهذا عند المحققين بمثابة ما لو أحرم، ثم نسي ما أحرم به. وهذا فصل قد انتهينا إليه الآن، ونحن نخوض فيه مستعينين بالله، وهو خير معين.

_ (1) في الأصل: الإبهام. (2) (ط): تغيير. (3) ساقطة من الأصل. (4) (ط): خص الذي.

فصل قال الشافعي: " فإن لبىّ بأحدهما، فنسيه، فهو قارن ... إلى آخره " (1). 2542 - إذا أحرم في وقت إمكان الحج، ثم نسي ما أحرم به، قال الشافعي: " فهو قارنٌ ". واتفق الأئمة على أنه ليس بقارنٍ في الحال حكماً، ولكنه مأمور بأن يُصيِّر نفسه قارناً، كما سنصفه. فأول ما نذكره: أنه إذا أشكل عليه ما أحرم به، فالمذهب المشهور أنه يلزمه أن يسعى في تحصيل القطع، [كما نصفه] (2)، ولا يكفيه بناء الأمر على غالب الظن. وللشافعي قولٌ في القديم، حكاه العراقيون، وغيرُهم: " إنه يجتهد، ويتحرى، فإن غلب على ظنه أمرٌ بنى عليه، ولا يلزمه طلب القطع ". ثم سبيل التفصيل أن نقول: إن نسي ما أحرم به، لم يخلُ إما أن يطرأ ذلك قبل الإتيان بشيء من أعمال النسك، وإما أن يطرأ الإشكال بعد جريان عمل من الأعمال. فأما إذا لم يأت بعمل، ولكنه أحرم، ثم نسي ما أحرم به، فالمنصوص عليه، -وهو ظاهر المذهب- أنه يجب السعي في درك اليقين، ووجهه أنه لابَس الإحرامَ قطعاً، فليخرج منه قطعاً. ونظائر [وجوب] (3) استصحاب اليقين كثيرة في الشريعة. والذي حكاه الأئمة عن القديم، جوازُ بناء الأمر على التحرّي، فليجتهد من أشكل عليه الحال، ويعمل بموجَب ظنه. ووجهُهُ تنزيلُ الظن منزلة العلم، فكيف ومتعلَّق المستصحب ظن أيضاًً، وقد جرى منا في المسائل المتقدمة تنبيهٌ على حقيقة القول في ذلك. 2543 - فإن قلنا: يجب التوصل إلى درك اليقين، فوجهه أن يحرم صاحب الواقعة بحجٍّ، وعمرة، وعبّر الشافعي عن هذا الغرض، بأن قال: " إذا نسي ما أحرم به،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 62. (2) ساقط من الأصل. (3) ساقطة من الأصل.

فهو قارن "، ولم يُرد أنه قارنٌ [حقا] (1)، ولكن أراد أن الوجه أن يُصيِّر نفسه قارناً، ثم إن كان إحرامه أولاً قِراناً، فلا يضر إعادة العقد، وإن كان إحرامه أولاً بعمرة، فيصير الآن قارناً، مُدخلاً للحج على العمرة، وإن كان محرماً بالحج أولاً، فيصير الآن مدخلاً عمرةً على الحج، وقد مضى اختلاف القول في أن العمرة هل تدخل على الحج، ثم يجري في عمل الحج، فإذا انتهى، فقد تحلّل عن الإحرام، قطعاً، وبرئت ذمته، عن حجة الإسلام؛ فإن حجه يصح على كل قولٍ، في كل تقدير. وأما العمرة، فإن حكمنا بأنها تدخل على الحج فتبرأ ذمته عن عمرة الإسلام أيضاً - إذا أوجبناها- وإن حكمنا بأنها لا تدخل على الحج، فلا تبرَأ ذمتُه عن العمرة، لجواز أنه كان أحرم أولا بحجة مفردة، فلما نسي ولبى بالقِران، فالعمرة لا تلج على الحج. 2544 - وأما دم القِران، فإن حكمنا بدخول العمرة على الحج، فهو قارن في كل تقدير، فيلزمه دمُ القران. وإن فرّعنا على أن العمرة لا تدخل على الحج، فلا يمتنع كونه غير قارن، والأصل براءة ذمته عن كفارة القِران، فلا يلزمه الدم إذاً، بناءً على أصل البراءة؛ فإن مبنى هذا القول على استصحاب الأصل في [كل] (2) حكم. والحاصل إذن أنه إذا أحرم بالقِران بعد النسيان، فالتحلل يحصل، والذمة تبرأ عن الحجة، وفي براءتها عن العمرة الخلاف المقدم، المبني على أن العمرة هل تدخل على الحج، وأمر الدم متلقى من هذا، فإن حكمنا ببراءة الذمة من العمرة، فذلك مفرع على دخول العمرة على الحج؛ فالقران إذاً مقطوع به؛ فيلزمه دم القِران، وإن لم تبرأ ذمتُه من العمرة، لم نقطع بحصول القِران، فلا نوجب الدمَ على تردُّدٍ؛ فإن مبنى المسألة على بناء الأمر على الأصل في جميع أطراف الحكم. 2545 - ومما يتم به الغرض: أنه لو أحرم بالحج، ولم يأت بصورة القِران بعد النسيان، بل اقتصر على إحرام الحج بعد النسيان، فإذا أنهى عملَ الحج، فقد تحلل

_ (1) ساقط من الأصل. (2) ساقطة من الأصل.

عما هو عليه قطعاً، وقد برئت ذمته عن الحج؛ فلم يذكر الشافعي القِران على معنى أنه لابد منه، ولكنه ذكره ليستفيد الآتي به التحللَ القطعي، وتبرأ ذمتُه عن النسكين. ولو نسي ما أحرم به، ثم لم يجدد إحراماً بالحج أيضاًً، ولكنه أتى بأعمال الحج؛ فإنه يخرج أيضاً عن إحرامه، ويتحلل، غيرَ أنه لا تبرأ ذمتُه، في ظاهر الحكم عن واحدٍ من النسكين. هذا كله تفريع على الجديد. 2546 - فأما إذا قلنا: إنه يجتهد، فإن أداه اجتهاده إلى أنه حاجٌّ، تمادى فيه، وبنى على ظنه فيه، ولم يُكلَّف إنشاءَ إحرامه، وإن ظن أنه قارِن، فهو كذلك، وإن ظن أنه معتمر، وأراد الاقتصارَ على العمرة، طاف، وسعى، وحلق، وخرج عما عليه. ثم الصحيح في التفريع على هذا القول: أنه يحكم. بموجَب الظن، فيما له وعليه، حتى إن ظن القِران، وجرى على موجَب ظنه فيه، خرج عن النسكين، وتحلل، ولزمه الدمُ. وذكر الشيخ أبو علي: أن من أصحابنا من قال في التفريع على اتباع الاجتهاد: إن فائدة الحكم به القضاءُ بالتحلل، والخلاصُ من الإحرام، فأما أن يحكم ببراءة الذمة عن النسكين إذا ظن القِران، فلا. وكذلك لا يلزمُ الدمُ بالظن. وهذا بعيدٌ؛ فإن الظن إن اتبع في وجهٍ، وجب اتباعُه في كل حكم. 2547 - ومما فرعه العراقيون على هذا القول: أنه لو [كان] (1) قال: لبيك بإحرام كإحرام فلان، ثم أشكل ما أحرم به فلان؛ قالوا: في المسألة وجهان:. أحدهما - أنه يأخذ بما يظنه، كما لو كان إشكاله في إحرام نفسه. والثاني - أنه لا يأخذ بالظن في حق من شبَّه (2) إحرامَ نفسه بإحرامه؛ فإن الاجتهاد لا مساغ له في حق الغير، ولا مطّلع

_ (1) ساقطة من الأصل، (ك). (2) عبارة الأصل: .. مَنْ إحرام نفسه كإحرامه.

على نيته، فلا يتحقق غلبة الظن فيما يتعلق بالغير، وقد يثبت الظن فيما يتعلق بنفس الإنسان. ولو جوزنا له أن يبني الأمر على الظن، فلم يترجح في فكره أمرٌ، ولم يحصل له ظن، فالوجه على ذلك أن يتمسك بمُدرك القطع، كما فرعناه على ظاهر المذهب، فيلتقي القولان في هذه الحالة. ومما حكاه الشيخ في التفريع على طلب اليقين أنا إذا قلنا: إنه يَقرُن، وحكمنا بأن العمرة لا تدخل على الحج، فقد ذكرنا أنه لا تبرأ ذمتُه عن العمرة. فهذا هو المذهب المقرر. وقال أبو إسحاق المروزي: يعتد بالعمرة، وتبرأ الذمة منها، [وإن] (1) وقع التفريع على أن العمرة لا تدخل على الحج، وذهب إلى أن السبب الإشكالُ وطريانُ النسيان، وقد يُجرى (2) في حال الإشكال، ما لا يُجرى في غيرها؛ فإن من صلى الظهر خمس ركعات ناسياً، صحت صلاته، ولو زاد ركعةً خامسةً على عمد، بطلت صلاته. وهذا كلام باطلٌ غيرُ مُعتد به، ولا ينبغي أن يعتقد تشوّش الأصول بأمثال هذه الوجوه. وكل (3) ما ذكرناه فيه إذا نسي ما أحرم به، وطرد (4) الشك، قبل أن يعمل شيئاً من أعمال النسك.

_ (1) في الأصل: فإن. (2) " يُجرى " بضم ياء المضارعة في الموضعين؛ فإن المراد أن حال الإشكال يجري فيها الفقيه أحكاماً لا يجريها في غيرها. والأمر قريب على أية حال. ثم إن في نسخة الأصل: " وقد يخرّج في حال الإشكال ما لا يُجرى في غيرها " وآثرنا (ط)، (ك) للمشاكلة بين الموضعين. (3) هذا أحد القسمين اللذين قسمَ موضوعَ النسيان إليهما في أول الموضوع. (4) (ك): وطرأ. هذا، ومعنى " طرد الشك " أي اطَّرد واستمرّ، واستحضره قبل أن يعمل شيئاً من أعمال النسك.

2548 - فأما إذا أحرم، فطاف، ثم تردّد، فلم يدر أنه محرم بماذا؟ فهذا موضع تفريع ابن الحداد، فنذكر جوابه، ثم نصل به تمام الشرح. قال ابن الحداد: لو قصد القِرانَ إنشاءً، كما صورناه في القسم الأول، لم ينتفع به؛ فإنه يجوز أنه كان معتمراً، والمعتمر إذا طاف، ثم أراد إدخال الحج على عمرته، لم يمكنه، فإن أراد أن يحسب له حج، فالوجه أن يسعى، ويحلق، ثم يبتدئ إحراماً بالحج؛ والسبب فيه أنه إن كان معتمراً، فما ذكرناه يحلله عن العمرة، ثم يقع حجه على الصحة، بعد تحلله. وإن كان إحرامه في علم الله حجاً، فلا يضرّ ما جرى، وغايته أن ينتسب (1) إلى الحلق في غير زمانه. وكذلك لو قُدِّر قارناً، [فالحج] (2) يعتد به، والدم واجب بسبب إيقاع الحلق في غير أوانه. وما ذكره ابن الحداد حسنٌ، لا وجه غيره (3)، ولكن ظاهر كلامه مشعرٌ، بأنه [مأمور بأن] (4) يحلق. وهذا نَقَمَه (5) كافة الأصحاب عليه، فإنه قد يكون حاجاً، فأمره بالحلق من غير بصيرة [ليس] (6) جارياً على اتباع موجَب القطع. وقال الأئمة: لا يؤمر صاحب الواقعة بالحلق، بل ينهى عنه، لجواز أن يصادِف الحلق إحراماً مستمراً، ولكن إن حلق بعد الطواف، والسعي، ثم راجع المفتي، أجاب بالأمر بالإحرام بالحج، وإلزامِه الدمَ، كما سنصفه -إن شاء الله تعالى-، وضربوا لذلك الدجاجةَ والدُّرّة مثلاً، فقالوا: إذا بلعت دجاجةُ زيدٍ درة ثمينةً لعمرو، فلا نسلط صاحب الدرة على ذبح دجاجة الغير من غير إذنه، ولكن لو ابتدر ذلك، صل إلى درته، والتزم لصاحب الدجاجة ما ينقصه الذبح.

_ (1) (ك). يتسبب. (2) في الأصل: بالحج. (3) (ط): له. (4) ساقط من الأصل. (5) نَقَم: من باب ضرب. (6) ساقط من الأصل.

وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب أن من نسي ما أحرم به، وقد طاف، فنأمره بأن يسعى، ويحلقَ، فإنه مضطر إلى هذا، وإذا كان من به أذىً من رأسه يؤذن له في الحلق للأذى، فما تورط فيه صاحب النسيان أولى بأن نسلطه على الحلق. وهذا وإن كان يوجه على بُعْدٍ، فالمذهب ما قدمناه. ثم المعنيّ بالأمر بالحلق الندبُ، والإباحة، ورفعُ الحرج: ووجه الندب أنه يُتوصل إلى إبراء ذمة نفسه، عن الحج، وإذا لم يفعل ما ذكرناه، تأخر حجُّه، ووقع في غَررِ العاقبةِ. 2549 - فإن قيل: إذا نهيتم عن الحلق، وجريتم على ظاهر المذهب، وهو ما اختاره ابن الحداد، في بيان طريق الخروج عن العهدة، مع استفادة براءة الذمة عن الحج، فإذا جاء صاحب الواقعة التي فرض فيها ابن الحداد كلامَه، واستفتى فبماذا تُفتون؟ قلنا: أما الحلق، فننهى عنه، ونأمره بأن يعمل عمل حاجٍّ، ليتحلل عما هو فيه، ثم لا نحكم له ببراءة ذمته عن واحد من النسكين، وإن حصل أحدهما، هذا مسلك الفتوى. وطريقُ الخلاص، مع تحصيل الغرض من الحج ما ذكره ابن الحداد فهذا ما أردناه. 2550 - والآن حان أن نتكلم فيما يلزمه من الدم: إذا فعل ما ذكره ابنُ الحدَّاد، فنقول: إن كان صاحب الواقعة غريباً، بحيث يلتزم بصورة التمتع الدمَ، فإذا جرى [على] (1) مراسم ابن الحداد، فيلزمه دمٌ، لا محالة؛ فإنه إن كان متمتعاً، فعليه دم، وإن كان محرماً بالحج أوّلاً، فالحلق في غير أوانه يلزمه الدم، فالدمُ لازم في كل تقدير، ثم لا يضره أن يجهلَ، ولا يعرفَ السببَ المقتضي لوجوب الدم؛ فإن قياس مذهبنا في الكفارات، أنه لا يجب فيها تعيين النية، على ما سنذكره في الظهار. وإن لم يجد دماً، وصام عشرة أيامٍ، خرج عما عليه؛ فإن الصيام في التمتع على

_ (1) ساقط من الأصل.

الشرط [المقدم] (1) قد أتى به، ويكفي في كفارة الحلق، صيام ثلاثة أيامٍ، وفي صيامِ العشرة خروجٌ عما عليه. فإن أطعم، لم يخرج عما عليه؛ لجواز أن يكون الواجبُ كفارةَ التمتع، وليس في كفارة التمتع إطعام. قال الشيخ: إذا وجبت الكفارة بيقين، فينبغي أن يكون الخروج منها بيقين. وقد يعترض في ذلك أن قائلاً لو قال: إذا صام ثلاثةَ أيام، فصيام السبعة بعدها مشكوك في وجوبه، فينبغي ألا تشغل الذمة إلاّ على يقين، وكذلك إذا أطعم. وهذا فيه احتمال ظاهر، وله التفات على تقابل الأصلين، وعلى مسألةٍ تقدمت في الطهارة، وهي أن من شك في الخارج، فلم يدر أمنيٌّ هو أو وَدي، ففي أصحابنا من اكتفى بوضوء (2) منكس، وإن كان ذلك منساغاً عند بعض الأصحاب، لفرط التشوف إلى الأخذ بالأقل، مع العلم بأن الوضوء المنكس ليس موجَب الحدث، ولا موجَبَ الجنابة. فلأن يخرج بصيام الثلاثة عما عليه أولى؛ فإن لإجزائه وجهاً، وهو أن يقدَّر مُفرداً، حالقاً في غير أوانه، بل ما ذكرناه شبيهٌ بالاقتصار على الوضوء؛ من جهة أن الحدث مانع، ثم اكتفى بالوضوء، ونحن لا نقطع بأنه رافعٌ للحدث الواقع. فهذا ما أردناه نقلاً، واحتمالاً. والمنقول عن الشيخ ما تقدم، من أنا لا نكتفي بصيام ثلاثة أيامٍ، وقياسُ الاحتمال بيّن. وكل ذلك فيه إذا كان صاحب الواقعة غريباً، يلتزم بصورة التمتع الدمَ. 2551 - فأما المكي إذا وقعت له هذه الواقعة، فأمرناه بما ذكرناه، فلا نُلزمه دماً، لجواز أن يكون محرمًا بالعمرة، وقد تحلل على الصحة، فلم يكن الحلق موجباً للكفارة، ولا صورة التمتع، فلا سبيل إلى شغل الذمة من غير تحقق.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) المراد أنه هنا في حالة الشك بأحد الأمرين، فإن رجح كونه ودْياً، توضاً. ولا بد في الوضوء من الترتيب عندنا، لكن بعض الأصحاب اكتفى في هذا الوضوء (لأنه وجب على الشك) بغير الترتيب.

ومبنى الكلام في أطراف المسألة على اشتراط اليقين في التحلل، واشتراطِه في شغل الذمة، واشتراطِه في براءة الذمة عما سبق القطع بوجوبه، ولذلك جرى التردد في صيام الأيام الثلاثة؛ فإن اشتغال الذمة بالكفارة معلوم قطعاً، وحصول البراءة بصيام الثلاثة مشكوك فيه. فهذا تمام ما أردناه في ذلك. والقول الضعيف في اتباع الظن والاجتهاد قائمٌ في صورة مسألةِ ابن الحداد، لم نُعده، واقتصرنا على التفريع على القول الصحيح. فرع: 2552 - إذا وُجد من الغريب صورةُ التمتع، ثم لما انقضى عملُ النسكين، تذكر أنه كان محدثاً في طواف العمرة، وتعيّن له ذلك، فنقول: بان أن طوافَ العمرة لم يصح؛ ولم يصح السعي، لأن صحتَه تستدعي تقديمَ طوافٍ صحيح، فقد أحرم بالحج قبل مضي شيء معتد به، من أعمال العمرة، فيكون [قارنا] (1) ويُعتدّ بنسكيه، ويلزمه (2 دم، صفته صفة دم التمتع، ويلزمه 2) أيضاً دَمُ الحلق الواقعِ في غير أوانه؛ فإن المسألةَ مصورةٌ فيه إذا حلق، وابتدأ الإحرام بالحج. وبمثله لو تذكر أنه كان محدثاً في طواف الحج، فالخطب يسير، فنقول له؛ توضأْ، وأعد الطوافَ، والسعيَ، وهذا أقصى ما عليك. 2552/م- وإن تذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يتعين له ذكر واحدٍ منهما، وهذه صورة مسألة ابن الحداد، فنقول: يحصل له النسكان جميعاً، لو توضأ، وطاف، وسعى مرة أخرى، فإنه بين أن يكون متمتعاً، قد طاف في حجه محدثاً، فإن كان كذلك، فقد أعاد الطواف، وبين أن يكون قارِناً، لم يعتد بطوافه في عمرته؛ لأنه كان محدثاً، وقد دخلت الحجة على العمرة، فالواجب إذاً أن يتوضأ، ويطوف، ويسعى، وقد حصل له النسكان، ولا يلزمه في هذه الصورة إلا دمٌ واحد؛ فإنه بين أن يكون قارناً، أو متمتعاً. ولا يلزمه دم الحِلاق؛ لجواز أن يكون حدثه في طواف حجه.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ما بين القوسين ساقط من (ط).

2553 - وقد ذكر الشيخ فرعاً متصلا بما ذكرناه، وذلك أنه قال: المفرد في الحج إذا مضت منه الأفعال، وجامع، ولكنه لم يدر أن جماعه جرى قبل التحلل الأول، فتضمن فسادَ حجه، أو جرى بعد التحلل الأول، فلم يفسد حجُّه، على المذهب، كما سيأتي. قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أن الحج يُحكم بفساده؛ فإن الأصل أنه لم يتحلل عنه حتى جرى المفسد. والثاني - لا يثبت الفساد؛ فإن الأصل براءةُ الذمة عن وجوب القضاء، والحكمُ بالصحة وانتفاءُ المفسد. فرع: 2554 - إذا أتى الغريبُ بصورة التمتع، وجامع بعد الفراغ من أعمال العمرة، وقبل الإحرام بالحج، [ثم أحرم بالحج] (1) وأنهى أعماله نهايته، ثم تذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يتعين له الطوافُ الذي كان محدثاً فيه. فنقول أولاً في مقدمة المسألة: من شرع في العمرة، وأفسدها بجماع [على] (2) عمد، ثم أحرم بالحج قبل التحلل عن العمرة الفاسدة، فللأصحاب ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ: أحدها - أن الإحرام بالحج لا ينعقد أصلاً، لا على الصحة، ولا على الفساد؛ لأنه لو اشتغل في العمرة الصحيحة بأعمالها، ثم أحرم بالحج، لم ينعقد لاشتغاله بأسباب التحلل، [والفساد أقوى في هذا] (3) المعنى، [من] (4) افتتاح أسباب التحلل، فليمتنع انعقاد الحج. والوجه الثاني - أنه ينعقد الإحرام بالحج؛ فإن الإحرام بالعمرة تامٌّ، على نعت الفساد، لم يتحلل من شيء منه. ثم إذا حكمنا بانعقاد الإحرام بالحج، فقد ذكر وجهين: أحدهما - أنه ينعقد على الصحة، ويبقى صحيحاً، ويجري صاحب الواقعة في عمرةٍ فاسدة، وحج صحيح.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) مزيدة من (ط)، (ك). (3) عبارة الأصل: والفساد إذا نوى من هذا المعنى، وعبارة (ك): لا ينعقد أصلاً، لا على الصحة، ولا على الفساد في هذا المعنى ... (4) في الأصل: في.

وهذا بعيد جداً؛ فإن قياس مذهب الشافعي أن الإحرام واحد في حق القارن، ومضمونه نسكان، كالبيع الواحد، يشتمل على مبيعين؛ وإذا (1) أجرينا البيع في ذلك مثلاً، فقد ينقدح تخريجُ هذا الوجه على تفريق الصفقة، في البيع المشتمل على الفساد والصحة، وهو بعيد؛ فإن إيراد الحج على العمرة الفاسدة، اعتمادٌ لملابسة الفساد، في نفس الإحرام بالحج. فهذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أن الفساد يلحق الحجَّ وينعقد الإحرام به، [ثم] (2) في تقدير فساده وجهان: أحدهما - أنه ينعقد على الصحة، ثم يفسد. والثاني - أنه ينعقد فاسداً. وقد ذكرنا نظير الوجهين فيه، إذا أصبح المرء مجامعاً، فطلع الفجر، واستدام الوقاع. والأظهر عندنا من هذه الوجوه (3) كلِّها الحكمُ بانعقاد الحج على الفساد، من غير تقدير فسادٍ طارئ على صحةٍ في الحج مُقدَّرَة. وليست هذه المسألة كمسألة الصوم (4)؛ فإن من تخيل ثَمّ فساداً بعد انعقادٍ، فسببه أنه لو اشتغل بالنزع، لصح صومُه، ومثل ذلك غيرُ متخيّل فيما نحن فيه؛ فإنه أحرم بالحج مُقْدِماً على إدخاله على عمرة فاسدة. هذا كله فيه إذا أفسد العمرة، ثم أحرم بالحج. 2555 - ومما ظهر فيه الخلاف أنا إذا حكمنا بانعقاد حجه على (5) الفساد، فالرجل قارِنٌ يلتزم بدنةً لإفساد العمرة، وظاهرُ المذهب أنه يلتزم بدنةً أخرى لإفساده حجَّه بإدخاله إياه في عمرة فاسدة. ومن أصحابنا من قال: لا يلتزم إلا بدنةً واحدة [كما لو قرن على الصحة، ثم

_ (1) (ط): وإذ. (2) ساقطة من الأصل وحدها. (3) لم يذكر من الوجوه الثلاثة التي كان وعد بها إلا اثنين، إذ دخل الثالث في تفريع الثاني، الذي فرعه إلى عدة وجوه، بعضها عن بعض. (4) هنا خلل آخر في ترتيب صفحات (ك) حيث قفزت من آخر 231 عائدةً إلى أول 103، والله المعين. (5) ساقطة من (ك).

جامع، وأفسد نسكه؛ فإنه لا يلزمه إلاّ بدنة واحدة] (1) وإن أفسد النسكين، نظراً إلى اتحاد الجماع. والقائل الأول يقول: قد ترتب [الفساد] (2) في الصورة التي نحن فيها، فحصل الإفساد بدفعتين. ومن أصحابنا من أوجب بدنةً، لإفساد العمرة، وشاةً لما جرى آخراً، ونزل هذا منزلة ما لو جامع الرجل، فأفسد نسكه، ثم جامع مرة ثانية، على الفساد، فإنا في وجهٍ نُلزمه بالسبب الثاني دمَ شاةٍ، وبالإفساد بدنة، وستأتي هذه التفاصيل في موضعها. 2556 - فإذا وضح ما أردناه في هذه المقدمة، عدنا بعدها إلى تفصيل المذهب في صورة مسألة ابن الحداد: فإذا (3) أتى بصورة العمرة، وتحلّل، وجامع، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، وقضى أفعال [الحج] (4)، ثم قال: تذكرت أني كنت محدثاً في أحد الطوافين: طوافِ العمرة، أو طوافِ الحج، وليس (5) يتعين لي الطوافُ الذي كنت محدثاً فيه. فنقول: اختلف قول [الشافعي] (6) في أن الجماع إذا صدر من الناسي في النسك، فكيف حكمه؟ أحد القولين - أنه لا أثر له، وحكمه محطوط بالكلية. والثاني - أنه يناط به ما يناط بجماع العامد، إلا المأثم، وسيأتي ذكر ذلك. فإذا ظن أنه تحلل من العمرة، وجامع، فلو كان محدثاً في طواف عمرته، فجماعه صادفَ عمرته، وقد اختلف أصحابنا في حكمه، لو كان كذلك: فمنهم من نزّله منزلة الناسي لنسكه، إذا جامع؛ حتى نخرج المسألة على القولين اللذين ذكرناهما

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) في الأصل: الإفساد. (3) (ك): فإنه. (4) ساقطة من الأصل. (5) (ط): ليس (بدون واو). (6) في الأصل: أئمتنا.

الآن. وهذا هو الذي اختاره الشيخ. ومنهم من لم يجعله كالناسي، وقد ذكرنا قريباً من ذلك فيه إذا أصبح مخالطاً أهله، ظاناً أنه في بقية من الليل، ثم تبين أنه كان مواقعاً، وكان الصبح في وقت وقاعه طالعا، فمن أصحابنا من قطع بفساد الصوم. وهذا مذهب الأكثرين. ومنهم من لم يحكم بالفساد، كما لو صدر ذلك من الناسي، وكان هذا غريباً عندنا، في كتاب الصوم. وقد صرح الشيخ به في المسألة التي انتهينا [إليها] (1) من الحج. والعبارة القويمة عما نحن فيه، أن الغالط هل ينزل منزلة الناسي؟ فعلى وجهين، وبيانه ما قدمناه، فإن من جامع على ظن أنه في بقيةٍ من الليل، فهو ذاكرٌ لصومه، ولكنه غالطٌ في فعله. وكذلك إذا ظن أن عمرته قد تمت، فجامع، فهو ذاكرٌ غيرُ ناسٍ، ولكنه غالطٌ، وسنُجري في مسائل إفساد الحج خلافاً في أن القارن إذا أفسد ما هو فيه، وألزمناه موجَب الإفساد، فهل يلزمه مع موجب الإفساد دمُ القران؟ فعلى وجهين: وهما يجريان في أثناء هذه المسألة، إذا (2) اقتضى الحال الحكمَ بفساد القران، وسنستقصي حقيقة الوجهين، عند ذكرنا بيانَ ما يفسد الحج، وما يستوجبه المفسد. 2557 - وإذا وضح ما ذكرناه، عاد بعده بنا الكلام إلى ذكر صورة مسألة ابن الحد اد: فإذا جرى الجماع بعد صورة الفراغ من أعمال العمرة، ثم أحرم بالحج، واستمر، وذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يَبِن له عينُ الطواف، الذي كان محدثاً فيه، فالوجهُ -بعد تمهيد ما تقدم- أن نقول: أما ما يتعلق ببراءة الذمة عن النسكين، فالأخذ فيه بالأسوأ، فنقدر كأنه كان محدثاً في طواف العمرة، لتفسدَ، ويفسدَ الحجُّ على ظاهر المذهب؛ فتبقى ذمتُه مشغولةٌ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (ط): إذ.

بالنسكين، إذا كانا عليه من قبل. وأما ما يتعلق بلزوم الدم، فلا يلزم منه مشكوكاً فيه، فإن الأصل براءة الذمة، فإذاً لا نوجب بسبب الإفساد شيئاً. ونوجب دمَ التمتع، فلا أقل منه، ونوجب لتحقيق التحلل، أن يتوضأ في آخر حجه، ويطوفَ ويسعى، فإن التحلل لابد من طلب اليقين فيه. فهذا نجاز القول في هذه الفصول. وقد ذكر الشيخ في الشرح مسائلَ، تتعلق بإفساد الحج والعمرة، وسنذكرها -إن شاء الله تعالى- في موضعها. فصل قال الشافعي: " ويرفع صوتَه بالتلبية ... إلى آخره " (1). 2558 - فنقول: أفضل صيغ التلبية ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه أبو هريرةَ، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك، والملك، لا شريك لك " (2)، ويستقيم إن وأن بالكسر والفتح، فمن فتح، فعلى تقدير الاتصال بما تقدم، ومن كسر فعلى تقدير الابتداء. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على أثر التلبية: " إن العيش عيشُ الآخرة " (3) قال الشافعي: " قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أسَرِّ حالة،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 62. (2) حديث التلبية الذي يشير إليه لم نجده لأبي هريرة، وإنما هو متفق عليه من حديث ابن عمر (البخاري: الحج، باب التلبية، ح 1549، مسلم: الحج، باب التلبية، ح 1184). أما حديث أبي هريرة في التلبية فلفظه (لبيك إله الحق لبيك) رواه الشافعي في الأم: 2/ 155، وأحمد: 2/ 341، 476، والنسائي: المناسك، باب كيف التلبية، ح 2753، وابن ماجه: المناسك، باب الإحرام، ح 2920، والدارقطني: 2/ 255 وقال في التعليق المغني: الحديث رواته كلهم ثقات، ابن حبان: ح 3800، الحاكم: 1/ 449، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي: 5/ 45. (3) حديث "إن العيش عيش الآخرة" روي مرفوعاً، ومرسلاً، أما المرفوع فرواه ابن خزيمة،=

وفي أشد حالة " (1)، أما أسر حالةٍ، فلما وقف بعرفةَ، عامَ الوداع، ورأى جمعَ المسلمين، فسرّه ذلك المنظر، استبشر، ثم استرجع، وقال: " لبيك إن العيش عيشُ الآخرة ". وقال أنس (2): أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذي الحليفة، وهو على ناقةٍ عليها قطيفة، لا تساوي درهمين، ورأى أصحابَه حوله ينتظرون، أمره ونهيه، فتضاءل حتى توارى برحله، تواضعاً لربه، ثم قال. على أثر تلبيته: لبيك، " إن العيش عيشُ الآخرة ". وأما ما ذكره كذلك في أشد حالة، فهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابهَ رضي الله عنهم، كانوا يحفرون الخندق، وقد نُهِكت (3) أبدانهم، واصفرت ألوانهم، من وباء يثرب وعلى [أَوْساطهم] (4) الأحجارُ تقيم أصلابَهم من شدة الجوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتجزاً: "اللَّهُمَّ إنَّ العيش عَيشُ الآخره ... فارحم الأنصارَ والمهاجِرَه فأجابوه: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقِينا أبدا " (5)

_ =والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط، وحسنه الهيثمي في المجمع، والبيهقي، كلهم من حديث عكرمة عن ابن عباس. وأما المرسل فرواه الشافعي عن مجاهد، قال النووي في المجموع: (7/ 256)، " بإسناد صحيح ". وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط (2/ 37 ب - هامش الوسيط 2/ 637) " هذا مرسل يصلح لأن يعتمد في باب فضائل مثل هذا الذكر ". ورواه البيهقي في السنن والمعرفة: (ر. الأم: 2/ 156، الحاكم: 4/ 465، مجمع الزوائد: 3/ 223، البيهقي في الكبرى: 5/ 45، 7/ 48، والمعرفة: 4/ 5، التلخيص: 2/ 459). (1) يبدو أن هذا الكلام مشهور عن الإمام الشافعي، لكنا لم نصل إليه، وقد أورده البيهقي في الكبرى: (7/ 48) ولم ينسبه. (2) حديث أنس رواه الإمام أحمد في المسند بلفظ مقارب: (3/ 216 ح 13281). (3) نهك: من باب تعب، ونفع، ونُهك وزان عُني، بضم فكسر، دنف، وضني، فهو منهوك. (قاموس، مصباح، ومعجم، ومختار). (4) في الأصل: أصلابهم. (5) حديث حفر الخندق متفق عليه من حديث أنس، وسهل بن سعد (ر. البخاري: الجهاد،=

فالغرض أن الأوْلى الاقتصارُ على الكلم المقدّمة، في الملبية، وتكريرُها أولى من الاشتغال بذكرٍ أخر، وصيغةٍ أخرى في التلبية، سوى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أن سعدَ بنَ أبي وقاص سمع رجلاً يقول: " لبيك يا ذا المعارج "، فقال: " يا بن أخي. إنه ذو المعارج، ولكن ما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1). 2559 - [ثم ذكر الأصحاب] (2) أنه إذا لبى، فحسنٌ أن يستغفر في نفسه، ويستعيذ به من النار، ولا يرفع صوتَه بذلك، رفعه بالتلبية. وذكر العراقيون استحسانَ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بصوتٍ خفيضِ، بحيث يتميز عن التلبية. 2560 - والتلبيةُ محبوبةٌ في دوام الإحرام، وتمامه، إلى بدء أسباب التحلل، كما سنذكرُهَا، ويتأكد استحباب التلبية، في التغايير التي تطرأ، عند الاستواء على كل نشز وصعودٍ، وعند كل هبوط، وعند اصطدامِ الرفاق. ثم ليقتصر كلٌّ في رفع الصوت على ما يطيقه ويستديمه ولا ينبهر (3) به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل عليّ جبريلُ فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي، بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " (4) قالوا، فرفعنا أصواتنا، فما بلغنا

_ =باب التحريض على القتال، ح 2834، والرقاق، باب الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة، ح 6414، مسلم: الجهاد، باب غزوة الأحزاب، ح 1804، 1805). (1) أثر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رواه الشافعي، والبيهقي في سننه الكبرى (ترتيب مسند الشافعي: 1/ 305 ح 793، السنن الكبرى: 5/ 45). (2) ساقط من الأصل. (3) ينبهر به: أي يجهده، ويقطعه عن الاستمرار، من بهره: إذا أجهده حتى يتتابع نَفَسُه. (معجم). (4) حديث أمر جبريل بالتلبية رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث خلاد بن السائب عن أبيه (مسند الشافعي: ح 571، أبو داود: المناسك، باب كيف التلبية، ح 1814، الترمذي: الحج، باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، ح 829، النسائي: مناسك الحج، باب رفع الصوت بالإهلال، ح 2753،=

الروحاء (1)، حتى بحت حلوقنا (2). فقال صلى الله عليه وسلم: [أَرْبِعوا] (3) على أنفسكم؛ فإنكم لا تنادون أصمَّ ولا غائباً " (4). 2561 - واختلف قول الشافعي في أنا هل نستحب رفع الصوت بالتلبية في المساجد؟ فقال في أحد القولين: يستحب ذلك، تعميماً للأماكن والأزمنة، وأيضاًً؛ فإنها أفضل البقاع، فهي أولى بشعار الإسلام. وقال في قول: لا يؤثر ذلك؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " جَنّبوا مساجدَكم رفعَ أصواتكم " (5). وهو الذي يليق بتعظيم المساجد. فإن قلنا: لا يؤثر رفع الصوت في المساجد، فهل نرى الرفعَ في المساجد التي

_ =ابن ماجة: المناسك، باب رفع الصوت بالتلبية، ح 2922، ابن حبان: 3791، الحاكم: 1/ 450، البيهقي: 5/ 42، التلخيص: 2/ 456 ح 1003). (1) الروحاء: موضع بين مكة والمدينة، على ثلاثين، أو أربعين ميلاً، من المدينة (القاموس المحيط). (2) هذا معنى حديث رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بلغنا الروحاء حتى سمعت عامة الناس قد بُحت أصواتهم من التلبية" وقد ضعفه البيهقي، ثم ذكر طريقاً آخر للحديث عن أنس رضي الله عنه، وضعفه أيضاًً، ومن طريق أنس رواه الطبراني في الأوسط: (2/ 224) (ر. السنن الكبرى: 2/ 184). هذا ولم يأت هذا الحديث في سياق يربطه بحديث خلاد بن السائب السابق على نحو ما صنع الإمام. (3) في النسخ الثلاث " ارفقوا " والمثبت لفظ الحديث. (4) حديث " أربعوا على أنفسكم .. " متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري في غزوة خيبر (ر. البخاري: الجهاد، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ح 2992، مسلم: الذكر، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، ح 2704). وقد ربط الإمام بين هذا الحديث وما قبله وجعل سببه ما أصاب حلوقهم من التلبية، ولكنا لم نصل إليه بهذا السياق. وإنما المعروف أنه جاء في قصة غزوة خيبر. وقد تكون القصة قد تكررت ولكننا لم نصل إليها. (5) حديث: " جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم ". رواه ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع (المساجد والجماعات، باب ما يكره في المساجد، ح 750). قال في الزوائد: إسناده ضعيف (ر. التلخيص: 4/ 346 ح 2582، خلاصة البدر المنير 2/ 429 ح 2856، إرواء الغليل: 7/ 361).

يتعلق بها المناسك، وهي المسجد الحرام، و (1) مسجد الخيف؟ فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - لا يؤثر ذلك، كسائر المساجد. والثاني - أنا نستحب رفع الصوت فيهما؛ لاختصاصهما بجريان شعار المناسك (2) فيهما. 2562 - واختلف قول الشافعي في أنا هل نستحب التلبيةَ في طواف القدوم، والسعي الواقع على أثره؟ فقال في أحد القولين: يستحب ذلك؛ فإن أحرى الأذكار بالتكرار، على اختلاف الأحوال التلبيةُ، وقال في القول الثاني: لا تستحب التلبيةُ فيهما؛ فإنه قد وردت أذكارٌ في الطواف، والسعي، تستوعب معظم الأوقات فيهما، فالاشتغال بتلك الأذكار أوْلى. واختلاف القول في ذلك يقرب [من] (3) اختلاف القول في أنا هل نستحب للمصلي أن يجيب المؤذنَ في صلاته. 2563 - ثم المرأة كالرجل في التلبية، غيرَ أنا ننهى المرأة عن رفع الصوت، فتلبي في نفسها، ورعايةُ الستر في حقها أولى الأشياء، ولهذا نهيناها عن الأذان. فصل 2564 - ذكر الشافعي آخر الباب، ما يجب على الرجل كشفُه في الإحرام، وما يجب على المرأة. فأما الرجل، فيجب عليه كشف الرأس، ولا يجب عليه كشف الوجه، وعبر الفقهاء عن ذلك بأن قالوا: إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها، ويجب على المرأة كشف وجهها، على ما نفصل القول فيه. فأما الرجل، فلو ستر رأسه بما يُعد ستراً، كان مرتكباً محظوراً، فإن لم يكن

_ (1) في الأصل: أو. (2) (ط): الإسلام. (3) ساقطة من الأصل.

معذوراً، عصى، وافتدى. وإن كان معذوراً، لم يعصِ، [وافتدى] (1)، ولو توسد عمامةً مكورةً، ولم تحتو على رأسه، فلا بأس، ولا فدية، ولو ستر ذلك القُطر (2)، بوضع العمامة عليه، افتدى. فالتعويل على العادة، فالمتوسد حاسر الرأس، عرفاً، بخلاف الواضع عمامته على رأسه، ولو استظلّ المحرم [بمَحْمِلٍ] (3) [مُظَلَّل] (4) أو بظُلَّة يعتادها الكبراء، فلا بأس، ولا فدية. وكذلك [لو استظل] (5) ببناءٍ. ومنع مالك (6) الاستظلالَ بظِلال المخيمات، والظُّلل، ولم يمنع الاستظلال بالبناء. ولو وضع المحرم على رأسه حِملاً، أو زَبيلاً (7)، ففي المسألة قولان: أصحهما - أنه لا فدية، لأنه يعد في العادة حاسراً. وللشافعي قولٌ آخر: " إن الفدية تلزم ". أخذه الأصحاب من نقل الشافعي، عن مذهب عطاء: إن الفدية تلزم بذلك، ثم لم يَردّ الشافعي عليه، ودأبه أن يردّ على كل مذهب، لا يرتضيه؛ فحصل في المسألة قولان. 2565 - وحقيقة هذا الفصل ترجع إلى أمرٍ لابد من العلم به، وهو أن المرعي في كشف الرأس في الإحرام عند الشافعي الخروجُ عن عادة الستر، والتغطيةِ، وليس الغرضُ تكليف المحرم مشقةً من التحسّر، وكشفِ الرأس. هذا مذهبُ الشافعي، ولذلك لم يمنعه من الاستظلال بمظلة المحمل. وتخيل مالكٌ وطوائفُ من العلماء، أن الغرض من كونه حاسر الرأس أن يفارق الدّعة،

_ (1) ساقط من الأصل. (2) " القُطر ": الناحية والجانب. (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: بظلّ. (5) ساقط من الأصل. (6) ر. حاشية الدسوقي: 2/ 56، 57، حاشية العدوي: 1/ 489، شرح الحطاب: 3/ 143، 144. (7) الزبيل: مثال كريم: وعاء من خوص النخيل، والزنبيل مثال قنديل لغة فيه. (مصباح).

والاسترواحَ، ولذلك منعه من الاستظلال، على تفصيلٍ له. فإذاً حاصل مذهبنا منزَّلٌ على [أن] (1) كل ما يعد ستراً للرأسَ أو لبعضه، فهو محظور للإحرام. ثم لا يرعى في الستر، الموجِب للفدية العادةُ المعتادة في الستر، فلا نقول: تجب الفدية بسترٍ يُعتاد مثله، بل نقول: تجب الفديةُ بما يُعد ستراً للرأس. والسبب فيه أن سترَ الرأس لا ينضبط، بشيء من طبقات الخلق: فمن ساترٍ بعمامة، ومن ساترٍ بقلنسوة، ومن ساترٍ بخرقة، والمطلوب من الإحرام الخروج عن قبيل السترِ، بالكلية. 2566 - ثم وجوب الفدية التامة لا يختص باستيعاب الرأس بالستر، كما لا تختص فديةُ الحلق باستيعابه، بل يجب السترُ في بعض الرأس. قال الأئمة: لو شد على رأسه خيطاً، لم يلزمه الفدية، ولو شدّ عِصابة ذاتَ عرضٍ، افتدى، وليس معنا في ذلك توقيفٌ، نتّبعه. وإذا قلنا: المتبع فيه ما يعد في العرف ستراً للرأس، أو لبعضٍ منه، فهو سديد؛ فإن الأصلَ، والتفصيلَ فيما ورد مطلقاً من غير توقيفٍ متلقيان مما يفهمه أهل العرف؛ ولذلك يقع الاقتصار على الإطلاق، إحالةً على ما تبتدره أفهام الفاهمين، في عادات التخاطب. 2567 - ونحن نتكلف في أمثال ذلك تقريباً، على حسب الإمكان، ينتفع به المبتدي، ويستغني به المنتهي عن إطالة الفكر في التنصيص على الوقائع، إذا اضطر إليها في الفتاوى، وهذا مما ينبغي أن تصرفَ العنايةُ إلى مثله، ولا يحل للمراجَع أن يحيلَ الجوابَ في مثل ذلك على المستفتي، ويردَّه إلى حكم العادة. ولو قال قائل: ما يلوح ساتراً لبعض الرأس، على البعد، للناظر السليم، فهو ساترٌ، كان قريباً، ولا يحصل به منتهى الغرض، في التقريب. ولعل الأقرب أن نقول: كل مقدارٍ يُنتحَى بالستر في وجهٍ، فستره (2) يوجب الفدية، وإن لم يكن ذلك الستر في نوعه ووقته معتاداً.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) هنا بدأ خللٌ جديد في نسخة (ك). حيث انقطع السياق في آخر ص106 ثم انتقل إلى ص 144.

2568 - هذا قولينا في المقدار، فأما الكلامُ فيما يقع الستر به، فالضبط فيه: أن كل ما ينافي دوامَ اسم [الكشف] (1)، فهو سترٌ، وإن لم يكن معتاداً، فلو ألصق الإنسان خرقة، على جانبٍ من رأسه، فهذا في نفسه لا [يُعتاد] (2)، ولكنه ينافي اسمَ التكشف، وكل ما يبقى معه اسم التكشف، على التحقيق، فلا بأس به، كالتوسّدِ (3)، ومن جملته الانغماس في الماء؛ فإن المنغمسَ في الماء يسمى حاسر الرأس. وذهب مالك (4) إلى أن المنغمس في حكم الساتر رأسَه، وهذا زلل، وذهول عما يجب أن يُرعى. وإذا وضع المحرم زبيلاً على رأسه، فالأمر متردّد في اسم الكشف، فردّد الشافعي قولَه لذلك. واسم الكشف دائمٌ على التحقيق في حق من شد خيطاً على رأسه، وهذا يؤخذ مما قدمناه، من أن ما يأخذه الخيطُ، يبعد أن يُقصدَ بسترٍ. ومما يليق بذلك أن المحرم، لو طلى رأسه بطينٍ، فهذا فيه تردّدٌ عندنا. وقد قال الأصحاب: طَلْيُ (5) العورة ستر لها، في إقامة الستر الواجب، ويمكن أن يقال: المرعي في ستر العورة إقامةُ حائل بين الناظر، وبين بشرة الوجه، وهذا يحصل بالطَّلْي، ولو لبس من يحاول السترَ ثوباً، يبدو لونُ البشرة من ورائه، لم يكن ذلك ستراً، ومثله في الرأس سترٌ. لكن طلْي الرأس سترٌ له فيما نظن، والمسألة محتملة، ولا بُعد في إلحاقها (6 بوضع الزبيل، والأوجه عندي أنه سَتْرٌ، موجبُ الفدية؛ فإن الزبيل في حكم عارضٍ يزول، والرأس حامله 6) وهو يلقَى الرأسَ من جهة كونه

_ (1) في الأصل: التكشف. (2) في الأصل: يعتبر. (3) ساقطة من (ط)، (ك). (4) لما نصل إلى هذه المسألة عند المالكية، وإنما رأينا ذكر كراهية الانغماس في الماء خوف قتل قملٍ ونحوه (ر. حاشية الدسوقي: 2/ 59 - 60، شرح الحطاب: 3/ 147 - 155، جواهر الإكليل: 1/ 188). (5) طَلْي: من باب رمى. (6) ما بين القوسين ساقط من (ط).

محمولاً، [لا] (1) من جهة كونه ساتراً، وما يطلى على الرأس خِصِّيصٌ به في الستر، ثم لست أرى الطَّلْي في معنى الماء الذي يعلو رأس المنغمس في الماء. وينتظم فيه عبارة أراها واقعة: فرأس المنغمس يسمى حاسراً تحت الماء بخلاف [رأس] (2) من على رأسه طلاء؛ فإنه لا يسمى حاسراً تحت الطلاء. فهذا ما يحضرنا في ضبط ذلك. فصل قال: " وأحب أن تختضبَ للإحرام ... إلى آخره " (3). 2569 - المرأة يؤثر لها الاختضابُ بالحناء في حالاتها، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على مضمون قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك} [الممتحنة: 12]، فقال لها: " يد رجلٍ، أو يد امرأة؟ فقالت: يد امرأة. فقال صلى الله عليه وسلم: " أين الحناء " (4). والاستحباب يتأكد في الإحرام؛ فإنا قد نأمرها بنوعٍ من الكشف في اليدين، فإذا كانت اختضبت، ضاهى لونُ الحناء ساتراً، وإن لم يكنه. ثم لا ينبغي أن تختضب اختضابَ تطريف وتزيين، بل تغمر يديها بالخضاب. 2570 - وردد الشافعي قوله في الرجل إذا خضب لحيته، في أن الفدية هل تلزمه؟ وللأصحاب في سبب التردّد طرقٌ: منهم من أخذه من كون الحناء طيباً، وجعل الأمر متردَّداً فيه، فعلى هذا إذا استعمل المحرم الحناءَ على أي وجه فرض، دخل تحت التردد الذي ذكرناه. وهذا بعيد؛ فإن الحناء لا يعدّ من قبيل الطيب.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) ر. المختصر: 2/ 65. (4) حديث: أين الحناء. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها (أحمد: 6/ 262، أبو داود: الترجل، باب في الخضاب للنساء، ح 4166، النسائي: الزينة، باب الخضاب للنساء، ح 5089).

(1 ومن أصحابنا من أخذ ذلك من تخيّل الترجُّل، وسنذكر أن ترجيل الرأس بالدهن ينزل منزلة الطيب 1) في إيجاب الفدية، فتردد الشافعي في أن (2) استعمال الحناء في اللحية هل (3) يكون بمثابة ترجيلها، فعلى هذا يختص التردد ببعض الشعور، كما سنصف مواقع الترجيل، ولا حكم للحناء على البشرة. ومن أئمتنا من أخذ ذلك من مأخذٍ آخر، وهو أن من يختضب يتّخذ لموضع الخضاب غلافاً يحيط به، فهل يعد ذلك من استعمال المخيط؛ إذ (4) المخيط فيه تردد فى كما يأتي بيانه في ذكر الملابس. ثم المرأة إذا اختضبت بعد الإحرام، فلا يجري في يديها جهةُ الترجيل، ويطرد تخيل الطيب، وتشبيه ما تَلُفُّ على يديها، إذا هي اختضبت بالقفازين. والوجه عندي إبطالُ كلِّ ما ذكر في ذلك، إلاّ خيالَ الترجيل، ولم يذكر الصيدلاني غيره وهو أيضاً بعيد. والله أعلم بالصواب ...

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ط). (2) ساقطة من (ط). (3) (ط): فلا. (4) (ط): أو.

باب ما يجتنب المحرم من الطيب والثياب

باب ما يجتنب المحرم من الطيب والثياب 2571 - الرجل المحرم ممنوعٌ عن لُبس الثوب المخيط، الذي [يحيط بسبب الخياطة، إحاطةً مقصودة] (1). وكذلك إذا كان الثوب [مُحيطاً] (2) مسروداً، كالدرِع، ونحوِه، فلُبسه من المحظورات، في حق الرجل، فلا ينبغي أن يلبسَ (3) قميصاً، ولا قَباءً، ولا مفرَّجاً، ولا سراويلَ ولا خُفاً، وقد مضى في ستر الرأس كلامٌ بالغ، وسنعيده في هذا الفصل، في غرض آخر. ثم القول في [الملابس] (4) يتعلق بأمرين: أحدهما - الكلام فيما يُلبس. والثاني - الكلام في كيفية اللُّبس، والمتبع فيما يُلبس اجتناب ما يحيط بالخياطة، أو لسبب آخر، والتوشحُ والالتفاقُ (5) غيرُ ضائر، فالمتّزر ملتف بإزاره، والمرتدي متوشح بردائه، والقميص في نوعه مخيط، وكذلك السراويل والقَبَاءُ، والمُفرَّجات. ولو ارتدى المحرم بقميص أو سراويلَ، فلا بأس عليه؛ فإن الكشف فيما عدا عضو الإحرام -وهو الرأس من الرجل، والوجه من المرأة- غيرُ واجبٍ في المتجرد، وإنما المطلوب من المحرم أن يخرج من عادته في جهة التستر، لا في أصله، وإذا توشح بقميصه، لم يكن على العادة في استعمال القميص، وكذلك إذا ارتدى به، أو اتزر، ولو التحف في اضطجاعه بجُبَّةٍ، فلا بأس، ولو لبس القَباءَ، ولم يُدخل يديه، في كمه، فالذي جاء به محظورٌ، وموجِبٌ للفدية، وإن لم يشدّ القَبَاء، ولم يُدخل يديه في الكمين؛ فإنه قد يُلَبس كذلك.

_ (1) عبارة الأصل: يخيط لسبب الحياطة، إخاطة مقصودة. (2) في الأصل: مخيطاً. (3) من باب تعب. (4) في الأصل: الملابيس. (5) في (ط): " والالتفات "، وفي (ك): الالتفاف. والالتفاق: ضم إحدى شقتي الثوب إلى الأخرى.

ولو ألقى على نفسه قباءً، أو فَرَجِيًّا، وهو مضطجعٌ، ففي ذلك فضل نظر: فإن أخذ من بدنه ما إذا قام عُدَّ لابساً، فهو محظور، موجِبٌ للفدية. وإن كان ما أخذه من بدنه على قدر ما يأخذ اللحاف، ولو قام، أو قعد، لم يستمسك عليه، إلا بمزيد أمرٍ، فليس ما جرى لُبساً محظوراً. ولو ارتدى المحرم برداء، وعقد أحد طرفيه بالآخر، فلا بأس؛ فإن هذا مخالفٌ للتستر المعتاد، والعقد الذي جرى استيثاقٌ في التوشح، وهو بمثابة عقد الإزار، وكذلك لو عقد طرف ردائه بإزاره، فلا منع لما ذكرناه. قال العراقيون: لو اتخذ إزاراً ذا حُجْزَة وجرّ فيها تِكة، والإزار لم يزايله اسمُه، فلا بأس، وليس هذا لُبسَ مخيطٍ، أو محيط، وإنما هو مزيد استيثاق من الشد. 2572 - فإذا تمهد القولُ في الملبوس، وما يرعى في كيفية اللُّبس، المحظور، والمباح، فإنا نعقد بعد ذلك قولاً جامعاً فنقول (1): على المحرم أن يتوقى أصلَ الستر في عضوِ الإحرام، وعضو الإحرام في الرجل الرأس، وفي المرأة الوجهُ؛ فيجب على المرأة المحرمة أن ترعى في كشف وجهها، ما يرعاه الرجل في كشف رأسه. وقد نص الأئمة على أن المرأة لو أسدلت (2) على وجهها (3) ثوباً، متجافياً، عن وجهها، بأن تُخرج من رأسها شيئاً، وتسدُل (4) منه ثوباً، فلا بأس بذلك. ولم تزل النسوة يعتدن هذا في المواسم. ولهن أن يستترن بالظُّلَل من غير نكير. وهذا ردٌّ ظاهرٌ على مالك (5) رحمه الله، ومعتبرٌ (6) في القاعدة المرعيّة في كشف عضو الإحرام. فإذا ثبت أن المطلوب الكشف في عضو الإحرام، فإن (7) جرى سترٌ بماءٍ، أو

_ (1) في الأصل، (ك): ونقول، (ط): نقول. والمثبت تقديرٌ منا. (2) قال في المصباح: سدَلتُه، ولا يقال: أسدلته. ولكن المعجم مثل له ولم يمنعه (مصباح، ومعجم). (3) ساقط من (ط)، (ك). (4) سدل: من باب قتل. (5) سبقت الإشارة إلى هذه المسألة، وموضعها عند المالكية. (6) في (ط): معتبر (بدون واو). (7) (ط): بأن.

غيره، فالرجوع إلى دوام اسم الكشف. وأصلُ الستر غيرُ مرعي فيما عدا عُضو الإحرام، وإنما حجر الشرع في هيئة مخصوصة، في اللُّبس، وقد يتعلق بملبوسٍ مخصوص، وقد وصفنا الملبوس، واللِّبسة المعتبرة في الحظر والإباحة. 2573 - والنسوة لا حجر عليهن فيما يتعلق بالهيئة، والكيفية، في الستر، ولا عليهن لو لبسن القميص، والسراويلات، والخِفاف؛ فإن ذلك أستر لهن، ولا يُحمل استعمالُهن ذلك في غير الإحرام على الزينة، وإيثارِ هيئةٍ مخصوصة في الزي، وإنما يحمل على رعاية الستر. وما ذكرناه في الرجال محمول على اختيار الزي، والهيئة. ثم إحرامهن في وجوههن، لا في رؤوسهن، ولعل الشرع خصص ذلك بوجوههن؛ لأنها ليست عورةً منهن في الصلاة. واختلف قول الشافعي في أن المرأة هل تلبس القفازين؟ ولعل الأظهرَ جواز اللُّبس؛ إذْ لا خلافَ أن اليدَ منهن لا تنزل منزلة الوجه. وللمرأة أن تستر يديها بكميها، ولست أدري لترديد القول في لُبس القفازين وجهاً، إلا ورود الخبر مطلقاً (1) في [نهي] (2) المحرم عن لبس القفازين. ولو ألحق الملحِق اليدَ منها بالوجه؛ من جهة أن كفيها ليستا بعورةٍ في الصلاة، كالوجه، فلا جريان لهذا، مع جواز ستر الكفين بأطراف الأكمام. وحد الوجه منها مضبوط بما يجب غسله في الوضوء. وحدّ الرأس بيّن. فرع: 2574 - إذا اتخذ لردائه شرَجاً وعُرىً، وكان يربط الشرَج بالعُرى، ويحتوي الرداءَ بها على البدن، فقد ذكر العراقيون أن هذا محظور بمثابةِ الإحاطة التي تُحصلها الخياطة. وكان شيخي يتردد في هذا. ولا شك أنه لو فرض على طرفٍ من الرداء، ولم

_ (1) في (ط): المطلق. (2) ساقطة من الأصل.

ينتظم انتظاماً قريباً من الخياطة، فلا بأس به، والرجوع في ذلك إلى العَقْد والخياطة، فما حل محل العقد، فلا بأس به، وما ضاهى الخياطة، ففيه التردد، والظاهر المنع. فرع: 2575 - لو شق إزاره من ورائه، وجعل له ذيلين، وعقد طرفي كل ذيل بأحد الساقين ملفوفاً به. قال العراقيون: لا يجوز ذلك؛ فإنه في صورة سراويل. وهذا فيه نظر إذا لم يكن خياطة، وشرَجٌ، وعُرى تضاهي الخياطة، واللف والعقد ما أراه مانعاً، وسبب الاحتمال فيما صوروه من الإزار مضاهاة السراويل، فهو كمضاهاة الشرَج للخياطة، واللفُّ على أي وجهٍ فرض على البدن غيرُ محظور إذا لم يكن خياطة [أو] (1) إحاطة بسبب يضاهي الخياطة. فصل من ذلك 2576 - قد ذكرنا أن المحرم ممنوع عن لُبس الخف، والسراويل، فلو لم يجد إزاراً، وأمكنه فتقُ السراويل وردُّه (2) إلى هيئة إزار، فليفعل. فإن كان لا يتأتى منه ذلك، بأن كان لا [تتسق] (3) مفتوقة إزاراً سابغاً، أو لم يجد وقتاً يتسع لذلك كله، فله لبس السراويل، واعتمد الأئمة فيه الحديث الصحيح؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجد إزاراً، فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين، فليقطع الخفين أسفلَ من الكعبين " (4). ثم تشوّف الأصحاب إلى طرفٍ من المعنى، في السراويلِ، فقالوا: لُبسه عند فقد الإزار تديّنٌ، لا ترخُّصٌ، وليس محمولاً على الزينة، والهيئة.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) كذا، بضمير المذكر على معنى المفرد. (3) في الأصل، و (ك): ينشق مفتوقه. (4) حديث: " من لم يجد إزاراً " متفق عليه من حديث ابن عباس (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ح 1843، مسلم: الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، ح 1178).

والأولى الاقتصار على اتباع الخبر؛ فإن هذا المعنى إنما كان يصح سليماً عن الاعتراض، لو حلَّ ما تحت سرة الرجل، محل بدن المرأة، على عموم الأحوال، حتى يجوز للرجل في عورته لُبس المخيط من غير حَجْرٍ، كما يجوز للمرأة [ذلك] (1) في بدنها. وكذلك ما تحت الركبة ليس بعورة، ونحن لا نكلف المحرم أن يرد ساق السراويل، إلى حد الركبة، كما يقطع الخفّ أسفل من الكعبين؛ فالمتبع الخبر إذاً، ومعنى التعبد، والتديّن فيه نظر. وفي عقد السراويل فوقَ السرة، إذا زاد على الاستيثاق في حق من [لم] (2) يجد، إزاراً نظرٌ، و [تدبّر] (3). ويظهر عندي تكليف رد عقده إلى حدّ السرة. 2577 - وأما لبس الخف، فالمحرم ممنوعٌ منه، إذا وجد نعلين، فإن لم يجدهما، فليقطع خُفيه أسفل من الكعبين. هكذا ورد الحديث. أما النعل، فملبوسُ المحرمِ، وإن كان يحتوي شراكه على ظهر القدم، فلا منعَ فيما يسمى نعلاً، وإن عُرّض الشِّسع، والشراك. وقد تمس الحاجة إلى تعريضه في السير المتمادي. وأما الشُّمُشْك (4) وهو على صورة خف مقطوعٍ أسفل الكعبين، فالذي ذهب إليه معظم [الأصحاب] (5) أنه لا يلبسه من يجد النعلين، وفي بعض التصانيف تجويز لُبسه، وتنزيله منزلة النعل، ووجْه هذا على بعده: أن ما يحتوي من الشُّمُشْك على ظهر القدم، ويحيط بالجوانب، فقد يظن أنه للاستمساك في القدم، لا لستر بعضٍ، إذ ليس البعض (6) أولى برعاية الستر من البعض؛ فاحتمل أن (7) يكون المحتوِي منه

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: وتديّن. (4) الشُّمُشْك. بشين مضمومة فميم مضمومة أو مكسورة، فشين ساكنة. كذا ضبطها مجمع البحرين (في فقه الإمامية) للطريحي: 5/ 277. (5) في الأصل: الأئمة. (6) في الأصل: بعض. (7) في الأصل: ألا يكون.

على ظهر القدم مشبّهاً بالشراك من النعل. وأما الخف، فلا شك أنه يتخذ للستر، وهو محُيطٌ. والظاهر من المذهب نقلاً اختصاصُ [جواز] (1) لُبس الشّمُشْك بفقدان النعل. وفيه معنىً [يجب التنبه له، وهو أنه إن ظهر في السراويل معنى] (2) التعبد، والتحق الرجل حالة فقدان الإزار في محل السراويل، بالمرأة في بدنها، فهذا غيرُ متحقق في الشُّمُشْك، ثم لا فدية في لُبسه عند فقد النعل، ولم نحمل هذا على لُبسٍ تدعو إليه الحاجة. ومن لبس قميصاً لضرورة، افتدى. فليتنبه الفقيه لما أشرنا إليه من تنزيل هذه المسائل. فرع: 2578 - المحرم ممنوع عن لبس القفازين، فإنه ملبوسٌ مقصود مُحيط بالعضو، وإنما تردد القول في المرأة. ولو اتخذ الرجل لساعده أو لعضوٍ آخر شيئاً مَخيطاً، فقد تردد جواب شيخي فيه، وهو لعمري محتمل؛ فإن الكشف ليس واجباً في غير عضو الإحرام، وإنما (3) القاعدة المعتبرة اجتناب زيٍّ مخصوصٍ، وذاك يختص بالملابس المعتادة، والقفاز ملبوس معتاد، في بعض الأحوال، فأما اتخاذ شيء على هيئة خريطةٍ (4) وسترِ عُضوٍ به، فليس ستراً، على زيٍّ مخصوص، وليس ملبوساً مقصوداً. والتردد في هذا يستند إلى ما أشرنا إليه من قول بعض الأصحاب في اختضاب اللحية. والذي أرى القطعَ به أن ذلك التردد في خريطةٍ تُغلّف اللحيةُ بها، وأما اللف، فلا منع منه. هذا نجاز القول في الملابس وفيما يراعى فيه اجتنابُ الستر كعضو الإحرام، وفيما يراعى فيه اجتناب سترٍ مخصوص.

_ (1) زيادة من (ط). (2) ساقط من الأصل. (3) (ط)، (ك): وأما. (4) الخريطة: شبه كيسٍ من أديم وخرق. (مصباح).

فصل يحوي ترتيب المذهب في تكرر المحظورات، على التواصل، والتقطع 2579 - فنقول: محظورات الحج تنقسم إلى استمتاعٍ، واستهلاكٍ، فأما الاستمتاع، فهو استعمالُ الطيب ولُبس المخيط، وتغطيةُ عضو الإحرام، ونحن نقضي وطرَنا، من القول في تكرر هذه الأشياء، ثم نذكر الاستهلاك، في هذا الغرض، ثم نمزج الاستهلاك بالاستمتاع. فأما الاستمتاع، فإنه مختلف النوع أوّلاً، فالطيب مخالف اللبس، والستر، واللُّبس وستر عضو الإحرام نوعٌ واحدُ، وإن اختلف وقعهُما، كما مضى، لأن اللُّبس شملهما، فلتقع البدايةُ بما يتعلق بالستر المحظور، فنقول: 2580 - إذا لبس الرجل قميصاً وسراويلَ وعمامةً في مكانٍ واحد، في أزمنةٍ متواصلةٍ، فلا يلزمه إلا فديةٌ واحدة؛ فإن ذلك يُعد في حكم الخُطة (1) الواحدة، والزي الواحد يأخذه المرء، وقد يطول الزمان في محاولة مضاعفة القميص (2)، واستعمالِ الخف، وتكويرِ العمامة، فلا نظر إليه مع التواصل، وهذا معتبر بالرضعة الواحدة؛ فإن لها حكم الاتحاد، وإن طالت. وإن تعدد اللُّبس، وتعدد المكان. أو اتحد المكان، وتقطع الزمان، وطرأت فترات، ينقطع بأمثالها التواصلُ المألوف في اتخاذ الزي الواحد من اللابس (3)، فلا يخلو: إما أن يتولّج في خللها تكفيرٌ، وإما ألا يتفقَ ذلك. فإن لم يتّفق، ففي تعدد الفدية قولان: أحدهما - التعدد، وهو الأحرى على القياس، فإن كل لُبس ممّا

_ (1) في (ط)، (ك): " الحطة " بالحاء المهملة. هذا والخطة بضم الخاء المعجمة هي الحالة والأمر، فالمعنى: أن ذلك يعد حالة واحدة وأمراً واحداً، أي خطأ واحداً. (2) (ط): القمص. (3) (ط): الملابس.

فرضناه لو قدر على حياله، لأوجب الفديةَ. وسبب القضاء بالاتحاد عند اتحاد المكان، وتواصل الزمان قضاءُ العرف بعدّ ذلك أمراً واحداً، فإذا زال هذا بالتقطع الزماني، أو التعدد المكاني، فالوجه ردُّ الأمر إلى قياس التعدد. ومن أوجب كفارة واحدة قال: إنها تجب لله تعالى، ويفرّق في موجِبها بين الناسي والعامد، فيتجه الحكم بتطرّق المساهلة إليها، فلتنزل أعدادها من غير تخلل تكفيرٍ، منزلة تعدد الزنيات والسرقات، هذا والإحرامُ المعترض عليه واحد. وبهذا ينفصل ما نحن فيه عن وقاعين في يومين من رمضان، فإن كل صوم عبادةٌ متميزة عن الصوم في اليوم الآخر، فرأينا القطع بتعدد الكفارة خلافاً لأبي حنيفة (1). 2581 - ولو جرى تكفيرٌ، مع التقطع في الزمان، أو المكان، حيث نقطع القضاءَ بالتعدد في اللبس، إذا رددنا الأمر إلى العادة، فإذا انضم إلى ذلك تخلل التكفير، فلبس قميصاً، وكفر، ثم طال الزمان، أو تبدّل المكان، ولبس عمامةً، فإن لم يربط نية الكفارة، بما سيفعله في الاستقبال، فلا خلاف أن الكفارة تجب باللبس الثاني؛ فإن المعتبر الأقصى في القضاء بالتداخل الحدودُ، ومن زنى، فحدّ، ثم زنى مرة أخرى [حدّ] (2)، فإذا تجدد الحدُّ، وهو عقوبةٌ محضة لله تعالى، فالتجدد في الكفارات (3) -وهي قرباتٌ، ووضعها التعبد على أنها إرفاق- أولى. فأما إذا لبس وكفّر، ونوى بما أخرجه من الكفارة أن يوقعه عما مضى، وعما سيكون من لُبسه في المستقبل، فهذا يبتني على أن تقديمَ الكفارة على المحظور في الإحرام هل يجوز؟ على قياس تقديم كفارة اليمين على الحِنْث فيها؟ وهذا فيه اختلافٌ سنذكره في كفارة اليمين. فإن منعنا تقديم الكفارة فيما نحن فيه، فلا أثر لربط النية بما سيكون، ويتجدد

_ (1) ر. الأصل: 2/ 177، المبسوط: 3/ 74، البدائع: 2/ 101، البحر: 2/ 198، مختضر اختلاف العلماء: 2/ 30 مسألة 513، رؤوس المسائل: 232 مسألة 128. (2) في النسخ الثلاث: فحد. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للمعنى. (3) في الأصل: الكفارة أولى وهي ....

وجوب الكفارة، بتجدد اللبس، بعد إخراج الكفارة. وإن قلنا: يجوز إخراجُ الكفارة عما سيكون، فإذا [نوى] (1) ربطها بالكائن (2)، وما سيكون، ففي تجدد الكفارة قولان، لمكان التعدد، كما سبق. ولو اتحد المكان في اللبس والزمان، ولكنه خلَّل (3) في أثناء اللبس المتواصل تكفيراً، فهل يجب بما يقع بعد إخراج الكفارة كفارةٌ؟ فيه اختلافٌ للأصحاب، من جهة أن تخلل الموجب يؤثر في التعدد اعتباراً بالحد. وكل ما ذكرناه فيه، إذا اتحد النوع، في الاستمتاع. 2582 - فأما إذا اختلف النوع، فلبس وتطيب، وفُرض في (4) ذلك اتحادُ المكان، وتواصل الزمان، ففي تعدد الكفارة وجهان: أحدهما - التعدد؛ والسبب فيه تباين الفعلين، بجهة الاختلاف. وصَغْوُ الأئمة إلى أن التعدد بهذه الجهة أولى باقتضاء تعدد الكفارة من التعدد بجهة اختلاف المكان، وانقطاع الزمان. وهذا لعمري كذلك، وهو بيِّن للمتدبر. فقد أشرنا في هذا القسم الأول إلى محل الوفاق في النفي والإثبات، وأوضحنا أنه إذا اتحد النوع، والمكان، وتواصل الزمان، ولم يتخلل التكفير، فالكفارة متحدةٌ وفاقاً. وإذا تخلل التكفيرُ من غير فرض ربط النية بالاستقبال، وانضم إلى تخلله ما يوجب التعدد، من جهة الزمان، [أو] (5) المكان، أو النوع، فهذا مقطوعٌ به في نفي التداخل، ولا قطع إلا في هاتين الصورتين. ووجدنا لاختلاف المكان أثراً في التعديد، على اختلافٍ، وكذلك تقطُّعُ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (ط): المكان. (3) (ط): تخلل. (4) ساقطة من (ط)، (ك). (5) في الأصل: لهذا المكان.

الزمان. واختلافُ المكان، إذا قيس بتقطع الزمان، [اعتدل] (1)، واختلافُ النوع أوقعُ منهما، فلا يترتب في نظم المذهب تقطّع الزمان، مع اتحاد المكان، على اختلاف المكان مع تقارب الزمان، وكل صورةٍ جرى فيها معنى واحد [مما] (2) يوجب تعدد الفعل، فهو في تأسيس المذهب على قولين. فإن فرضت مسألة مشتملةٌ على معنيين، مما يوجب التعدد، ولم تنته إلى صورة القطع، فهي على قولين، مرتبين، على التي هي ذاتُ معنى واحد، وهكذا الترتيب في ازدياد المعاني إلى الإفضاء إلى [طرف] (3) القطع. 2583 - وألحق بعض أصحابنا وقوع الاستمتاع بعذرٍ بما يقتضي الاتحادَ على الاختلاف، حتى نرتب (4) المعذور في صورة (5) الخلاف على غير المعذور، ونجعل (6) المعذور أولى باتحاد الكفارة، من غير المعذور. وهذا لا أراه كذلك؛ فإن العذر يؤثر في جواز الإقدام، لا في نفي الكفارة، وإن لم يكن من القول بذلك بدّ، فلا شك أن الذين قالوا به أرادوا عذراً واحداً، يشمل أعداداً من اللُّبس، أو الطيب، فنجعل الشامل منها بمنزلة ما يوقعها على نعت الاتحاد. وهذا -مع ما ذكرناه- خيالٌ. وقد نجز القول في تكرر الاستمتاع، مع اتحاد النوع، واختلافه. 2584 - فأما القول في الاستهلاك، فهو ينقسم في غرض الفصل، إلى ما لا يتعلق (7 ببدن المحرم، وإلى ما يتعلق 7) ببدنه. فأما ما لا يتعلق ببدنه كقتل الصيود، والجناية عليها، ولايتوقع تداخلٌ فيها، فإن

_ (1) في الأصل: اعتدال. هذا، و" اعتدل " جواب (إذا) قيس بتقطع الزمان. (2) ساقط من الأصل. (3) في الأصل: طرق. (4) في (ط): يترتب. (5) في (ط): صور. (6) في (ط): جعل. (7) ساقط من (ط) ما بين القوسين.

الكفارات في الصيود، تحل محل قيم المتلفات، فعلى أي وجه فرضت، فالنظر إلى أقدار المتلفات. فأما ما يتعلق ببدن المحرم، فكالحلق والقَلْم، فنقول: من حلق ثلاث شعرات، فقد كملت عليه الفدية، وإن استوعب الرأس بالحلق، لم يلتزم إلاّ فديةً واحدة، إذا اتحد المكان، وتواصل الزمان. وهذا متفق عليه. ْولو حلق غير شعر رأسه مع حلق شعر رأسه، على صورة التواصل، فالذي ذهب إليه الأئمة اتحادُ الكفارة. وذهب أبو القاسم الأنماطي إلى أنه تجب كفارتان: إحداهما في مقابلة الرأس، والأخرى في مقابلة ما عداه من شعر البدن، وهذا متروكٌ عليه، ولا وجه له. ولو حلق شعر رأسه في أمكنة [أو] (1) أزمنة، ففي التداخل قولان مرتبان على القولين في تعدد اللبس باختلاف (2) المكان، والكفارة أولى بالتعدد، في الحلق؛ لأنه استهلاك والقياس في قبيل الاستهلاك تعدُّد الكفارة. ثم يجري في الحلق فرض اجتماع المعاني، واتحادها، والصور كلها على الخلاف إلا الصور التي استثنيناها فيما تقدم. وإذا تعارضت مسائل الإتلاف، ومسائلُ الاستمتاع، ترتبت كل صورةٍ في الإتلاف على نظيرتها في الاستمتاع، كما نبهنا عليه. وإذا اشتملت مسألة في الاستمتاع على معينين، واشتملت مسألة الإتلاف على واحدٍ، فقد يعتقد الفقيه اعتدالهما، والقول في ذلك قريب، بعد ظهور الغرض. وقد انتهى الكلام في الاستهلاك، والاستمتاع، إذا فرض كل واحد منهما وحده. 2585 - ومن صور القطع في قسم الاستهلاك، أن النوع إذا اختلف، تعددت الكفارة، وفاقاً، وذلك بأن يحلق، ويقْلِم، وبهذا يستبين أن اختلاف النوع في الاستمتاع مؤثرٌ، كما تقدم.

_ (1) في الأصل: و. (2) في الأصل: في اختلاف.

ومما يتصل بالاستهلاك أن من حلق ثلاث شعرات في أمكنةٍ [أو] (1) أزمنة على صفةِ التفرق، فإن كنا نرى أن في كل شعراتٍ ثُلُثَ دم، فلا [تُفيد] (2) هذه المسألة؛ فإن مفرّقها ومجموعها سواء في ذلك، تفريعاً على هذا الوجه. وإن قلنا: يجب في الشعرة مدٌّ، وفي الشعرتين مدان، وفي الثلاث دم، فلو فرضنا أخذ ثلاث شعرات، على صفة التفرق، فهذا خارجٌ على الأصل الممهد. فإن قلنا: من حلق رأسه ثلاث دفعات، تعددت الفدية، حملاً للأفعال على التجدد، والاستقلال؛ فإن -على قياس ذلك- كلَّ شعرة منقطعةٌ عن غيرها، ولا يضم بعضها، [إلى البعض] (3) فيجب في كل شعرة مُدّ. ومن قضى باتحاد الكفارة في حلق الرأس بدفعات، مَصيراً إلى أنها كالحلق الواحد، قال على قياس ذلك، أخذُ الشعرات مجموعٌ، ولو أخذ ثلاث شعرات، وجب فيها دم. فهذا تمام القول في الاستمتاع، والاستهلاك. 2586 - وإذا اجتمع استمتاع واستهلاك، قطعنا بتعدد الكفارة، لاختلاف الجنس والنوع. واختلف أصحابنا في صورة واحدةٍ، وهي إذا اجتمع استمتاعٌ واستهلاكٌ بسبب واحد، مثل أن يصيب رأسَ المحرم شَجّةٌ، وتمس الحاجة إلى حلق الرأس من جوانبها، ووضع ضمادٍ عليها، فيه طيبٌ، فهذا إذا تم، حلقٌ وسترٌ واستعمالُ طيبٍ، ولكن السبب المقتضي لها واحد. فالذي ذهب إليه الأكثرون تعدد الكفارة، للاختلاف. وذهب بعض الأصحاب إلى الاتحاد في هذه الصورة.

_ (1) في الأصل: و. (2) في الأصل: " نُقيِّد " بهذا الضبط. والمثبت من (ط)، (ك). ولعل المعنى: لا تفيد هذه المسألة في التمثيل والترتيب عليها؛ " لأن مفرّقها ومجموعها سواء ". (3) ساقط من الأصل.

وهذا يوضح ما نبهنا عليه، في تحقيق معنى العذر، في فصل الاستمتاع. وأما الوطء، فقد اختلف القول في أنه استمتاعٌ، أو استهلاك، على ما سيأتي: فإن جعلناه استمتاعاً، فهو ملحقٌ في الترتيب، بالاستمتاعات. ولو جعلناه استهلاكاً، فهو ملحق بقسم الاستهلاكات المتعلقة [بالبدن] (1). والذي يجب التفطن له، أن مَن حلق رأسه بثلاث دفعات، على تقطع، فالفقيه يتخيل ذلك مقصوداً واحداً مقطعاً، ولولا هذا، لما كان لذكر الخلاف في اتحاد الكفارة وجهٌ. والوطء بعد الوطء بخلاف هذا، فكل وطء في حكم مقصودٍ تام، وهذا يوجب التعديد، ولكنه بالاستمتاع أشبه، فإذا قيس عدد الوطء بالحلق المتقطع، اعتدلت المرتبتان. ولست أستريب في أن الحلق بعد الحلق، مع تحلل (2) النيات، يعدد الكفارة. وقد نجز الغرض في هذه الفصول. فصل قال: " وما شُمَّ من نبات الأرض ... إلى آخره " (3). 2587 - استعمال الطيب من محظورات الإحرام بالإجماع، والحاجّ أشعثُ أغبرُ تَفِلٌ (4)، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) في الأصل: بالبذل. (2) كذا في الأصل بالحاء المهملة، لا احتمال فيها؛ فقد رَسَمَتْ (حاءً) صغيرة تحتها علامةً على الإهمال، وفي (ك) بدون نقط، ولكن احتمال كونها معجمة وارد، ليس هناك ما يمنع منه، وفي (ط) يوجد ظلٌّ باهتٌ لنقطة فوق الحاء. وأياً كانت معجمة أو مهملة فتوجيهها ممكن، لا يحتاج إلى بيان. (3) ر. المختصر: 2/ 68. (4) تفل: من باب تعب، فهو تِفل (بفتح وكسر): إذا تغير ريحه، بسبب ترك التطيب والادّهان (مصباح)

والكلام في الفصل يتعلق بثلاثة أشياء: أحدها - فيما يكون طيباًً. والثاني - في كيفية استعمال الطيب. والثالث - في العامد، والناسي، والجاهل. 2588 - فأما القول فيما يكون طيباً، فالمعتبر فيه ما يكون المقصود الأظهرُ منه التطيب، فما كان كذلك، فهو طيبٌ، ولا نظر إلى الرائحة المستطابة. وما يكون المقصود الأظهر منه الأكل تفكّهاً أو تداوياً، فليس طيباً في غرضنا، فالتفاح، والسفرجل والأُتْرُجّ، والنارَنج، ليست طيباًً، وكذلك القَرَنْفُل والدارصيني، ويستعملان دواء. وهذا هو المقصود الظاهر منهما، والوردُ طيبٌ. واختلف نصُّ الشافعي في الضَّيْمران (1)، وهو الريحان الفارسي. والظاهر أنه طِيبٌ؛ فإنه المقصود منه، ونصُّ الشافعي في الوجه الآخر لست أرى له وجهاً، إلا بناءَ الشافعي الأمرَ على الظن في قُطرٍ لم يُعهد فيه هذا النوعُ، وفي نصه ما يدل عليه؛ فإنه قال: المقصود من الضَّيْمَران تزيينُ المجالسِ، والدَّسَاتجُ (2) قد تُحَفُّ بالخُضَر تزييناً، والوردُ -في وسطها- الطِّيبُ. وهذا ظنٌّ منه، فيما لم يَعْهدْه، والمَيْلُ (3) في مثله لا [يخرم] (4) قاعدة المذهب؛ لأن الشافعي لو استبان من الضيمران، ما عرفناه، لما ردّدَ قولَه. وهذا عندي بمثابة نصٍّ له يخالف نصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان بلغه الخبرُ، فلا شك أنه لو بلغه، لقبله، وقد قال في مواضعَ: " إذا صح عندكم خبرٌ يخالف مذهبي، فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي ". وتردد نصُّه في البَنَفْسَج. وذكر العراقيون فيه وفي دهن البَنَفْسَج ثلاثَ طرق: إحداها - طردُ القولين فيهما،

_ (1) في (ط): الضّميران. وعند النووي: الضمران. (المجموع: 7/ 276). (2) جمع دَسْتَجة بمعنى الحُزْمَة (معجم الألفاظ الفارسية) والمراد هنا حُزمة الورد، أي باقة الورد، فهي كما وصفها (تُحفّ بالخضر والورد في وسطها). (3) في الأصل: والمثل. والمثبث من (ط)، (ك) ولعل الصواب غير هذا وذاك، وهو (والظن). (4) في الأصل، (ك): يحزم. والمثبت من (ط).

والأخرى - القطعُ بأنهما طيب، وهؤلاء حملوا نص الشافعيِّ على البَنَفْسَج المُرَبَّى (1) الذي سقطت رائحته، على ما سنفصل القول في الطيب الذي تسقط رائحته، ويبقى لونُه. والطريقة الثالثة - الفرقُ بين البَنَفْسَج ودهنه، والبَنَفْسَج طيبٌ، ودهنه ليس بطيب؛ فإن البَنَفْسَج يستعمل طيباً، ودهنُه لا يستعمل طيباًً، والوجه عندنا القطع بأن البَنَفْسَجَ، ودُهنَه طيباًن؛ فإن التفت [الفقيه] (2) إلى ظهور غرض التداوي بالبَنَفْسَجِ، ودُهنِه، دخل عليه الورد. وكان شيخي يحكي تردُّداً في دهن البَنَفْسَجِ، والقطعَ بأن دهنَ الورد طيبٌ. ولست أرى لهذا وجهاً؛ فلا فرق بين الدهنين؛ فإن الغالبَ أنهما لا يستعملان لغرض التطيب، ولكن الظاهر وجوب الفدية؛ لاتصال عين الطيب بهما، كما سأمهّد ذلك في الفصل الثاني عند ذكر أكل المحرم الخبيصَ المُزَعْفَر. 2589 - وذكر العراقيون أن الدهن الذي فيه الكلام [هو] (3) الذي يُغلى فيه جِرْمُ البَنَفْسَجِ، والوردِ. فأما إذا ذُرّ البَنَفْسَجُ على السمسم، ثم اعتُصر السمسم، فذلك الدهن ليس طيباً وفاقاً. هكذا قالوه. وكان الشيخ أبو محمد يقول: هو (4) الدهن الذي فيه الكلام، وهو أشرف من الدهن الذي يُغلى فيه البَنَفْسَج. وهذا يتجه من العلم بأن السمسم يتشرب من مائية البنفسج، وهي الطِّيبَة، فيرجع الأمر إلى امتزاج ما طاب من البنفسج، بالسمسم، وليس اكتسابُ السمسم للطيب، من جهة المجاورةِ المحضة. والزعفرانُ طيبٌ، وإن تُخيّل تجردُ القصد إليه في التداوي، والصبغ.

_ (1) المربَّى أي المربب بالسكر، كما في المجموع للنووي: 7/ 274. (2) مزيدة من (ط). (3) في الأصل: والذي. (4) هو: ضمير يعود على دهن البنفسج الذي اعتصر مع السمسم. وكأن الشيخ أبا محمد يخالف ما قالوه من أنه ليس طيباً وفاقاً.

وكذلك القول في الورس، وهو من أشهر الطيب، في بلاد اليمن. 2590 - وقد لاح لي في أثناء المسائل، أن القصدَ في الطيب إذا ظهر، كفى، وإن عارضه قصد آخرُ صحيح، ولذلك ينتظم إلحاق الزعفران بالطيب. وفي النفس من الأُترج والنارَنج شيء؛ فإنَّ قصدَ الأكل، والتداوي ليس بأغلبَ من قصد التطيب، ولكن ما وجدتُه في الطرق إلحاقُهما بالفواكه، وقد يتجه معنى تزيين المجالس بهما. والعلم عند الله. واتفق الأئمة (1) على أن الشِّيحَ، والقَيْصُومَ، والأزهارَ الطيبة، في البراري، التي لا تُستنبت، ليس طيباً، وإن كان يُعتاد شمُّها، ولا يظهر فيها مقصودٌ آخر. والقول في ذلك ينقسم، فيغلب في أكثرها معنى التداوي، حتى يلتحقَ بالقَرَنْفُل، والسنبلِ (2) وإن لم يظهر (3)، فيضعف تصوير الطيب به، ولو كان ذلك مقصوداً فيه، لاتخذ قصداً اتخاذَ الورد وغيرِه مما يستنبت. ونصَّ الشافعيُّ على [أن] (4) دُهن الْبانِ، والْبانَ نفسَه ليسا بطيبين، والأمر على ما قال، فإن قيل: ذُهن البان من أركان الغوالي (5). قلنا: إنما يراد منه سيلان الغالية، ثم تُخيِّر دُهن لا ريح له أصلاً، وهو أبعد الأدهان عن التغير (6). فهذا قولينا فيما يكون طيباً.

_ (1) حكى هذا الاتفاق أيضاً النووي في المجموع: 7/ 278. (2) السنبل: معطوف على القرنفل، كما يفهم من عبارة النووي في المجموع: 7/ 277. ولم يفسّر النووي معنى السنبل، واكتفى بأن عدّده ضمن ما يطلب للتداوي غالباً، وفي المعجم الوسيط: السنبل: الناردين، وهو نباتٌ يستخرج من جذور بعض أنواعه عطرٌ مشهور. (وانظر القاموس). (3) المعنى: وإن لم يظهر معنى التداوي، أو (وإن لم يظهر الإلحاق). (4) سقطت من الأصل. (5) الغوالي: جمع غالية، نوع من أجود الطيب، الذي يصنع من أكثر من صنف. (6) المعنى: أن دهن البان هو المادّة التي تمزج فيها أنواع الطيب التي تُصنع منها (الغالية) واختير لذلك لأمرين: أنه لا ريح له أصلاً؛ فلا يؤثر على الأنواع الأخرى، ثم لأنه أبعد الأدهان عن الفساد والتزنُّخ.

2591 - وقد ذكر بعض المصنفين أن من أصحابنا من يعتبر عادات أهل كل ناحية، فيما يُتَّخذُ طيباً، وهذا فاسدٌ يشوش القاعدة. ولا خلاف أن ما يُطعم في قطر ملتحق بالمطعومات في الربا. 2592 - وأما الكلام في جهةِ استعمال الطيب (1)، فإنا نسوق فيه ترتيباً جامعاً، فنقول: إذا عَبِقَ (2) عينُ الطيب ببدن المحرم، أو ثوبه، فهذا استعمال طيبٍ، سواء كان معتاداً أو لم يكن معتاداً، فلو وطيء المحرم طيباً رطباً، بعقبه، على عمدٍ، استوجب الفدية، وعليه يُخَرّج إيجاب الفدية على المحرم، إذا أكل خبيصاً مزعفراً؛ فإن عينَ الطيب يعبق، بيده. وتعليل ذلك أن عين الطيب إذا اتصلت، وعبقت على أية جهةٍ فُرضت، فيجب على المحرم إزالتُها، كما يجب إزالة النجاسة، على من يحاول الصلاة، وكل اتصال يجب إزالته فاعتماده يوجب الفدية. فأما إذا انتهت رائحة الطيب إلى المحرم، فيتعين في ذلك اعتبار غلبة الاعتياد، فإذا [تبخّر] (3) المحرم واحتوى بثيابه على المجمرة، فهذا تطيب معتادٌ، موجب للفدية، ولو جلس عند الكعبة وهي تُجَمّر؛ فناله من الريح الطيب، ما ينال معتمد التبخير، فلا فدية؛ فإنه لا يسمى متطيباً، وكذلك لو جلس عند عطار، فعَبِقت به الروائح. وألحق الأئمة بما ذكرناه أن يُجَمَّرَ بيت فيه قوم، فهم من وجه مقصودون بالعطر، ولكن إذا لم يحتوِ واحد على المجمرة، فلا يُعد متطيباً، ويعد هذا تطييبَ البيت؛ حتى يستروح إليه ساكنوه. ْوالسر الجامع في ذلك: أن المحرم فيما نظن لم يُمنع من الطيب اضطراراً له إلى احتمال التَّفَل والأذى، ولذلك لم يمنع من الاغتسال وإزالة الوسخ، وإنما المقصود من منعه من الطيب - قطعُ اعتياد التطيب، المُلهي عما يعنيه، ولا يبعد حمل المنع

_ (1) هذا هو المقصود الثاني من الفصل. (2) عبق: من باب تعب: علق، وفاحت رائحته. (معجم). (3) في الأصل، و (ك) تنجز، والمثبت من (ط).

[من] (1) الاصطياد على ذلك، فإذا لم نجد اعتمادَ التطيب على اعتيادٍ في ذلك، لم يلزمه الفدية. 2593 - ولو مس المحرم طيباً يابساً، نُظر: فإن لم تعبَق الرائحة ببدنه (2)، وثوبه، لم تلزمه الفدية، فإن لم تتصل العين به، ولا الرائحةُ، [فلا] (3) يعد (4) ما جاء به اعتماد تطيب. ولو عبقت الرائحة به بسبب مسه الطيبَ اليابس، ففي وجوب الفدية قولان: أحدهما - لا تجب؛ لأن ذلك ليس استعمال طيب على [الاعتياد] (5). والثاني - تجب؛ فإن تعلق الريح، مع المسيس، كتعلق العين؛ فإن الطيب يُعنَى لريحه. 2594 - فانتظم مما ذكرناه ثلاثةُ أقسام: أحدها - تعلق العين، وهو على كل حال يقتضي الفدية، ولا نظر إلى العادة. والثاني - اتصالُ الريح، من غير اتصالٍ بعين الطيب، فهذا يشترط فيه غلبةُ الاعتياد، كما تفصّل. والثالث - الاتصال بعين الطيب، والعابقُ ريحه لا عينُه، فإن انضم إليه اعتيادٌ غالبٌ، فلا شك أنه من موجبات الفدية؛ فإنه فوق التسبب إلى الريح المحضة. وإن لم يثبت اعتيادٌ، وعبقت الرائحة، فعلى قولين. وإن لم تكن رائحةٌ، فلا بأس. ولو احتفَّ بالمحرم أجرَام الطيب، وكان قصدَ جمعَها استرواحاً إلى روائحها، ولا (6) مسيس، فلا فدية، وليس كالتبخر؛ فإنه يكاد أن يكون اتصالاً بعين الطيب، فإن بخار البخور عينُه. فليفهم الفاهم هذه المراتب. فرع: 2595 - قال الأصحاب: إذا شدَّ المحرم مسكاً، على طرف ثوبه، فهذا

_ (1) في الأصل: على. والمثبت من (ط)، (ك). (2) (ط): بيديه. (3) في النسخ الثلاث: ولا. (4) (ك): يعتد. (5) في الأصل: الاعتماد. (6) في الأصل: فلا مسيس، ولا فدية.

مسُّ طيب بالثوب، يعبَق منه الريح، وهو معتاد، فتجب الفدية، لاجتماع هذه الأسباب. ولو شد عوداً، فهذا غيرُ معتاد، فإن كان يعبَق ريحه بالثوب، فهذا على القولين؛ إذ لا [اعتياد] (1)، والريح عابقةٌ. ولو حمل المحرم [قارورة مسك مصمّمَ (2) الرأس، فلا فدية. ولو حمل] (3) فأرةَ (4) مسك، لم تشق، ففيه تردُّد للأصحاب: منهم من قال: هو كحمل القارورة، فإن جِرْم الفأرة ليس بطيب، وإنما الطيب المسك. وقال قائلون: حملُه استعمال طيب. وفي المسألة احتمال، والأغلب أن لا فدية، إذا لم يكن في الفأرة شق، وقطع الصيدلاني بوجوب الفدية. فرع: 2596 - إذا كان على الثوب عينُ طيبٍ، قد زالت رائحته، فإن كانت بحيث لو رشت بالماء، عادت الرائحة، فهي طيبٌ، ولا نظر إلى ركود الريح في الحال. وإن كانت الريح لا تعود، فقد ذكر الأئمة وجهين، في أن بقاء لون الطيب مع سقوط الرائحة والطعم هل يُبقي حكمَ الطيب؟ وهذا تلقَّوْه من تردّدِ (5) النص في شيء يدل على اعتبار اللون. والذي أراه القطعُ [بأنه] (6) غير معتبر، فإن صح للشافعي في ذلك نصّ، فلعله استدل ببقاء اللون، على كمون الرائحة، وتوقّع ثورانها، إذا رش بالماء. والطعم المجرد لم يعتبره أحد. وقال العراقيون: " إذا بقي الطعم، واللون، نقطع بكونه طيباً، وإن سقطت الرائحةُ ". وليس الأمر كذلك عندنا. والطعم مع اللون، كاللون المجرد.

_ (1) في الأصل: اعتبار. (2) الصمام: السداد. (3) ساقط من الأصل ومن (ك). (4) فأرة المسك: كيسها الذي يتكون فيه المسك، وهو غدة في بعض أنواع الغزلان. (5) في (ط): ترديد. (6) في الأصل: فإنه.

2597 - وتمام البيان في ذلك: أن المقدار القليل من الطيب، لو غمره مقدارٌ كثير، مما ليس طيباً، فاستعمل المحرم منه، ما يستيقن أنه يشتمل على جِرم الطيب، فللأصحاب في هذا تردُّدٌ: فاعتبر بعضهم استيقان اتصال الطيب، وهو محقَّقٌ، والرائحةُ غير زائلةٍ، ولكنها مغمورة، والمغمورُ كالكائن الظاهر؛ ولهذا قال الأصحاب: إذا تغيرت رائحة الماء الكثير بالنجاسة، وحكم بنجاسته لذلك، فلو طُرح في الماء كافور، فغمر رائحة النجاسة، فالماءُ محكوم بنجاسته. وقال بعضهم: لا يثبت حكم التطيب؛ إذ لا رائحة. والمسألة فيه إذا كانت [الرائحة] (1) لا تثور بعلاجٍ، لقوّة الغَمر، ثم إن هؤلاء قالوا: لو انغمرت الرائحة وبقي الطعم [أو] (2) اللون، فالأمر محتملٌ. الظاهرُ (3) أن استعماله تطيب، ولهذا قال الشافعي: إن كان الخبيص بحيث يصبغ اللسانَ، تعلّق وجوبُ الفدية بتعاطيه، وإن زالت رائحة الزعفران. وقال بعض الأصحاب: الرائحة هي المعنية، وحقٌّ على الناظر، أن يميز بين ما يجري بسبب الانغمار، وبين أن يمّحق ريح الطيب مع بقاء جِرمه. ولم أر أحداً من الأصحاب يفصّل بين القليل من الطيب والكثير، فَصْلَهم في النجاسات، ولعمري لا فَصْلَ؛ فإن المعتمدَ في النجاسات تعذُّر الاحتراز، وتيسره، ولا جريان له في الطيب. وليت شعري ماذا نقول فيما لا يدركه الطرف من الطيب؟ والعلم عند الله تعالى فيه. 2598 - فأما المقصود الثالث - وهو الكلام في العمد، والنسيان: فإذا تطيب المحرم ناسياً إحرامَه، لم يلتزم الفديةَ عندنا، قياساً على أكل الصائم ناسياً، وكلام المصلّي كذلك، خلافاً لأبي حنيفة (4).

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: " و ". (3) كذا. وهو استعمالٌ صحيح (بدون واو). (4) ر. بدائع الصنائع: 2/ 192، حاشية ابن عابدين: 2/ 200، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 198 مسألة: 661.

وهذا يطرد في كل ما هو استمتاعٌ من المحظورات. فأما قتل الصيد، والحلق، والقَلْم، فظاهر المذهب أن صَدَرَ (1) هذه الأشياء من الناسي في إيجاب الفدية كصدَرِها من العامد؛ نظراً إلى الإتلافات. ونصَّ الشافعيُّ في المغمى عليه إذا حلق شعره [أنه] (2) لا تتعلق الفدية بما جرى في حالة الإغماء، وإن كان الحلق ملتحقاً بالإتلافات، فأثبت أصحابنا قولاً في المسألة، في الاستهلاكات. وحكى شيخي أبو محمد قولين في الصيد أيضاًً. وخرج من الترتيب أن الاستمتاع المحض يفصّل بين الناسي والعامد، وفي الاستهلاكات قولان: أظهرهما - أن لا فرقَ، وكنت أودّ لو فصل فاصل بين قتل الصيد، وبين الحلق، والقَلْم، فإنا وإن عددنا الحلق، والقَلْم، من الإتلافات، ففرض الاستمتاع فيهما غالب. وأمَّا موجَبُ الصيد قيمةُ (3) متلَف، والذي يؤلف بينهما، أن تلك القيمة شرعية، وإلا فالصيد المباح لا قيمةَ له. فهذا قولينا في الناسي. 2599 - فأما الجاهل، فأهم ما فيه تصويره، فمن جهل كونَ استعمال الطيب محرماً في الشرع، فهو كالناسي في حكمه، وهذا قولينا في الصوم، والصلاة. ومن علم تحريم الاستعمال، وجهل وجوبَ الفدية، أعلمناه أن الفديةَ تجب عليه، ومن علم تحريمَ الطيب، وجهل كون الشيء طيباً، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من لم يوجب الفدية، ومنهم من أوجبها. ولو علم أن الممسوس طيبٌ، ولكنه حسبه يابساً، لا تعبَق منه رائحة، فإذا هو رطب، فالأصح وجوب الفدية. فرع: 2600 - إذا اتصلت عينُ الطيب، ببدن المحرم، على وجهٍ لا يلزمه بذلك الاتصال فدية، فيتعين عليه السعي في إزالتها، وقد لا يتأتى له السعي دون ممارسة

_ (1) سبق التنبيه أكثر من مرة إلى أنها بمعنى (صُدور). وهو استعمال مألوف في كتب الأقدمين، من الفقهاء وغيرهم، فأنت تراه عند الإمام عبد القاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، كما تراه عند السرخسي، في (المبسوط)، وعند ابن هُبَيْرة في (الإفصاح). وغيرهم كثير. (2) في الأصل: أن لا. (3) كذا في جواب أما بدون الفاء، وهي لغة الكوفيين، وعليها جرى إمام الحرمين كثيراً.

الطيب، فليفعل ذلك؛ فإنه في حكم المزيل التارك، وليقتصر على قدر الحاجة، في الممارسة. ولو كان محدثاً، ومعه من الماء، ما يكفيه لوضوئه، وعليه طيبٌ، يتعين عليه إزالته، ولو استعمل الماء فيه، لم يبق ما يتوضأ به، فإن أمكنه رفْعُ الطيب من غير غَسْل، فليفعل، وليتوضأ. فإن لم يتمكن من إزالة الطيب، إلا بجهة الغَسل، فغسلُ الطيب مقدم على الوضوء، كما نقدم غسل [النجاسة] (1) عليه؛ لأن الوضوء ذو بدل، وإزالة الطيب لا بدل لها، وكذلك إزالة النجاسة، لا بدل لها. وإن كان يتأتى منه الوضوء، وجَمْعُ الغُسالة في موضعٍ، فإنه يستعملها في إزالة الطيب، فقد ذكر العراقيون أن هذا هو الوجه. وللفقيه فضلُ نظر في تأخير إزالة الطيب؛ فإن ابتدار إزالته حتمٌ، ولكن قد نظن أن هذا التأخيرَ محتملٌ لتحصيل رفع الحدث. فرع: 2601 - إذا طيب الرجل فِراشه، وجلس عليه، فلقيه بدنُه، أو ثوبه، فهذا من استعمال الطيب، وهو معتاد للمترفهين في الغِطاء، والوِطاء. وإن فرش فوقَ الفراش المطيّب ثوباً صفيقاً، يحول بينه وبين الريح، جاز، ولا يكون مستعملاً للطيب. ولو كان الثوب رقيقاً لا يحجز رائحة الطيب، قال العراقيون: لا فدية، ويكرَه له ذلك. وما ذكروه ظاهر، وفي وجوب الفدية احتمال بعيد. فصل 2602 - المحرم ممنوعٌ من ترجيل شعر الرأس واللحية بالدُّهن؛ فإن الترجيل يضادّ الشّعَث، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعث والتَّفَل في نعت المحرم، في قَرَن؛ إذ قال: " الحاج أشعثُ أغبر تفِل " (2) والتَفَل ضد العطر. فإن قيل: ذكر الأغبرَ، ولا حرج على المحرم في إزالة الغبار، والأوضار. قلنا:

_ (1) في الأصل: الجنابة. (2) حديث: " الحاج أشعث أغبر " رواه الترمذي، وابن ماجة، والبيهقي عن ابن عمر (الترمذي: تفسير القرآن، باب (4) ح 2998، ابن ماجة: المناسك، باب ما يوجب الحج، ح 2896، البيهقي: 4/ 33، 5/ 58).

الغبر، والشعث، من نعت الشعر، والماء لا يزيل -فيما قيل- شعث الشعر وغبرَه، بل قد يزيده في ذلك. واستعمال الدُّهن في غير شعر اللحية والرأس لا بأس به، إلا أن يكون مطيّباً، فيدخل استعماله في استعمال الطيب إذاً. وذكر العراقيون: أنه لا يمتنع غسل شعر الرأس واللحية، بالسِّدْر والخِطميّ (1)، وكل غاسول يستعمل في الشعر، وما ذكروه قياساً. والترجيل المحرَّم الموجب للفدية يختص بالدهن، ولعلّ تزيين الشعر، وتنميتَه بالدهن، في الاعتقاد، واستعمالُ ما عداه من الغاسولات - طردٌ (2) للأوساخ، فكان كاستعمال ما يطرد الصّنان، والأنتان، والترجيلُ كاستعمال الطيب. ولو دهن رأسه وهو أقرع لا يتوقع له نبات شعر، فلا بأس. فأما إذا كان (3) محلوق الرأس، فاستعمل الدّهن، ففي المسألة وجهان: أظهرهما في القياس- أنه لا يلزمه الفدية؛ فإنه لم يستعمل الدهن في شعر. والثاني - يلزمه الفدية؛ فإنه تنمية للشعور، ومنابتها. فصل قال: " وإن حلق شعره، فعليه فديةٌ ... الفصل إلى آخره " (4). 2603 - حَلْقُ الشعر قبل أوان التحلل من محظورات النسك، والفديةُ الكاملة. تتعلق بالأخذ من ثلاث شعرات؛ فإن لفظ الشارع ورد بحلق الشعر، وهو جمع، والواحد منه شعرة. ثم لو زاد عليها، فاستوعب شعرَ الرأس، أو شعرَ (5) البدن، فقد مضى التفصيل فيه.

_ (1) الخطمي: بكسر الخاء والياء مشدّدة، ويجوز فتح الخاء (مصباح). (2) طردٌ: خبر استعمال. (3) هنا خلل آخر في ترتيب صفحات نسخة (ك)، إذ تقفز عائدة من هنا (آخر ص 155) إلى أول ص (107). (4) ر. المختصر: 2/ 70. (5) (ط): وشعر.

وفي بعض التصانيف: في الأخذ من ثلاثة مواضعَ مختلفةٍ، على البدن= وجهان، مع اتحاد المكان، وتواصل الزمان. وهذا بعيد. والوجه القطع بأن الشعرات المأخوذة من عضو واحد [و] (1) من أعضاءَ على وتيرة واحدة، إذا لم يتعدد المكان، ولم يتقطع الزمان. وإذا أخذ شعرةً واحدةً، ففي الواجب ثلاثةُ أقوال مشهورة: أقيسها - أن الواجب فيها ثُلثُ الدم، وفي الشعرتين الثلثان، وفي الثلاث، فصاعداً دمٌ كاملٌ. والقول الثاني - أنه يتعلق بالشعرة مدٌّ. وبالشعرتين مدان، وهذا معتضدٌ بآثار السلف، وهو مرجوعٌ إليه، في مواضعَ من الشريعة؛ فإن اليوم الواحد من صوم رمضان مقابَلٌ بمُد، كما تقدم. والقول الثالث - أنه يجب في الشعرة درهمٌ، وفي الشعرتين درهمان. وحكاه الشافعي عن عطاء مستأنساً بمذهبه. ولست أرى له وجهاً، إلا تحسينَ الاعتقاد في عطاء، وأنه لا يقول مثلَ ذلك إلاّ [عن] (2) ثَبَت، وهو أجل علماء التابعين. وذكر صاحب التقريب في كتابه قولاً غريباً: إنه يجب في الشعرة دمٌ كامل، وهذا وإن كان ينقدح توجيهه، فلست أعدّه من المذهب. والقول في الأظفار كالقول في الشعور. وما ذكرناه من الأقوال قد يجري في الحصاة من الجمرات، والليلةِ تُترك من المبيت، ولكن يقع في تلك الفنون ضروبٌ من الكلام، ستأتي في مواضعها. والحلق بمثابة القص. والتقصيرُ، والنتفُ، بمثابتهما. وكذلك الإحراق. فرع: 2604 - إذا نبتت شعرةٌ أو شعراتٌ من داخل الجَفن، وظهر التأذي بها، أو انكسر ظُفرٌ، وكان يتضرر المحرم به، فالذي ذكره الأئمة، أنه لا ضمان على المحرم بأخذها؛ فإنها مؤذيةٌ في عينها، فكانت كالصيد يصول على المحرم.

_ (1) سافطة من الأصل وحدها. (2) ساقطة من الأصل.

وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص طريقين: أحدهما - ما [ذكرناه] (1)، والأخرى: تخريج الضمان على وجهين مبنيين على أن الجراد إذا عمّ المسالك، ولم (2) يجد المحرمون خلاصاً من وطئها بالأقدام، فهل يضمنون ما يَتلف منها؟ في المسألة قولان. [و] (3) هذا على قربه في المأخذ، بعيدٌ في الحكاية. فإن قيل: إذا تأذى المحرم بشعر رأسه، وكثرة الهوام، فالتأذي متعلّق بالشعر، ويجب الضمان، وقد روي أن كعبَ بنَ عُجرة، كان يطبخ شيئاً، والهوائمُّ تنتثر من رأسه، فمرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال، أتؤذيك هوامُّ رأسك؟ فقال: نعم، فقال: " فاحلق وانسُك بدم، أو صم ثلاثةَ أيام، أو تصدق بفَرَقٍ من الطعام، على ستة مساكين " (4). قلنا: التأذي بالوسخ، لا بالشعر، بخلاف ما نحن فيه. فليفهم الناظر ثلاثَ مراتب، فيما نحاول إحداها - أن يصول الصيد، فيقتله المحرم، دفعاً، فلا ضمان؛ فإن السبب المسلِّط على القتل صدَر من الصيد. المرتبة الثانية - في ركوب الجراد قوارعَ الطريق، فلا محيص من إهلاكها، وليس ركوبُها الطريق كصيال الصيد؛ فاختلف القول في ذلك. وفي التحاق الشعرة النابتة من داخل الجفن، والظُّفرة المنكسرة ما قدمناه. والمرتبة الثالثة - في التأذي بالوسخ، والهوام، والشعرُ من أسبابها، فالفدية تجب بأخذ الشعر، بدليل الخبر، والإجماع. ولا يخفى انفصال هذه المرتبة عما تقدم.

_ (1) في الأصل: ذكره. (2) (ط): لم (بدون واو). (3) ساقطة من الأصل. (4) حديث كعب بن عجرة متفق عليه (ر. البخاري: المحصر، باب قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ح 1814، مسلم: الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ح 1201).

فصلٌ من ذلك 2605 - كفارةُ الحلق، والقَلْم مخيّرةٌ مقدّرةٌ، فيجب على من التزم الفديةَ الكاملةَ دمُ شاةٍ، أو صومُ ثلاثةِ أيام، أو التصدق بفَرَق من طعام، على ستةِ من المساكين، والفرَقُ ثلاثة آصع، فيصرف إلى كل مسكين نصف صاع، وهذا عديم [النظير] (1) في تعديل الكفارات، ومقابلة الصيام بالإطعام؛ فإن اليوم الواحد مقابَلٌ بمد، والمتبع في التقديرات التوقيفُ. ولما ثبتت هذه الخصال على التخيير، كانت كلُّ خَصْلة مستقلةٍ بنفسها، لا تقدّر مقابلتها بالأخرى، كخلال كفارة اليمين. ثم صوم الثلاثة الأيام في كفارة اليمين لا يناسب الإطعام؛ من حيث إنها ليست مختصة بمناسبة الطعام. ثم الكفارة على التخيير عندنا، سواء كان الحالق معذوراً، في حلقه، أو عاصياً. وأبو حنيفة (2) يرتب الكفارة على العاصي بالحلق، فيقدم الدمَ، ويرتب عليه الإطعام، ويؤخر الصيام. والغرض من هذا أن الصوم لا يناسب الطعام في مذهبٍ من المذاهب. فصل 2606 - المحرم إذا حلق شعر الحلال، فلا بأس عليه، وأَخْذُه من شعر الحلال، بمثابة أخذه من شعر البهائم. وأبو حنيفة (3) قدّر شعر الحلال كالصيد، وحكم بأنه يَحْرمُ على المحرم تعاطي

_ (1) في الأصل: النظر. وقد فسر انعدام النظير بأن اليوم الواحد يقابلُ بمُدٍّ، وهنا مقابل بصاع، والصاع أربعة أمداد عند أهل الحجاز، ومدّان وثلثاً مُد عند أهل العراق. (المصباح). (2) ر. المبسوط: 4/ 73، البدائع: 2/ 187، 192، حاشية ابن عابدين: 2/ 210، مختصر الطحاوي: 69. (3) ر. الأصل: 2/ 361، المبسوط: 4/ 72، مختصر الطحاوي: 70، البدائع: 2/ 193، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 200 مسألة 164.

جنسَ الشعر، ثم لم يطرد هذا المذهبَ الفاسدَ، فلم يوجب فديةً كاملة، واكتفى بإيجاب صدقةٍ. 2607 - فأما الحلال إذا حلق شعر الحرام، فإن كان بأمرٍ منه، فالضمان وجوباً، وقراراً على المحرم، المحلوقِ، ولا شك أن الحلال يعصي بالإقدام على حلقه، ولا يقصُر فعله عن الإعانة على معصية. ولو حلق الحلال رأسَ المحرم، والمحرم مكرَهٌ، أو نائمٌ، أو مجنون، فالفدية تجب. وقد اضطربت مسالك الأئمة، ونحن نذكر ترتيباً يجمعها، فنقول: في المسألة قولان: أحدهما - أنها تجب على الحلال، ولا يلقى الوجوبُ المحرِمَ. والقول الثاني - أن الوجوب يلقى المحرمَ، وعلى الحلال التحمّلُ عنه. ولم تختلف الأئمة في إيجاب الفدية، وإن لم يكن الحالق محرماً. وأقربُ مسلكٍ في هذا تشبيهُ شعر المحرم في حق الحلال بصيدِ الحرم، وشجره. ثم إن قلنا: الوجوب لا يلقى المحرم، وإنما ابتداؤه، وقراره، على المُحل، فقد وجدتُ الطرق متفقةً على هذا القول في أن المحرمَ يطالِب المحلَّ بإخراج الفدية، وهذا مشكلٌ في المعنى، والتعويلُ على النقل. وإن قلنا: الوجوب على الحلال، فيصوم أو يطعم، أو ينسك بالدم، والخِيَرةُ إليه. وإن قلنا: يتحمل، فلا يتصور أن يصوم، فإن الصوم لا يدخله التحمل. ثم في ذلك وقفةٌ عندي؛ فإنه لا يمكننا أن نلزم المحرمَ أن يصوم، والكفارة على التخيير، ويبعد أن يعيّن الدمُ، والطعام، في حق الحلال. والوجه أن نقول: إن صام المحرم برئ الحلال عن العهدة، وإن أطعم، رجع به على الحلال. وما ذكرناه من الملاقاة، والتحمل في ذلك، ليس على قياس ما ذكرناه في كفارة الوقاع في رمضان؛ فإن ذلك تقديرٌ محض، ولا تراجع، والأمر هاهنا بخلاف ذلك؛ فإن الحالق الحلال ليس خائضاً في إحرام.

2608 - ولو حلق الحلال شعر الحرام، وهو ساكتٌ، لا ينهى، ولا يأمر، مع القدرة، ففي المسألة وجهان - أحدهما - أن التفصيل فيه كالتفصيل في الآذن في الحلاق. والوجه الثاني - أن هذه الصورة ملحقةٌ بصورة المكرَه، والنائم. فرع: 2609 - لو قطع المحرم من نفسه عضواً عليه شعر، فلا يلتزم الفدية وفاقاً؛ لأنه لم يتعرض للشعر مقصوداً، وكذلك لو قشط جلدة الرأس، وإن قربت من الشعر، فالجواب كما ذكرناه. فرع: 2610 - إذا امتشط المحرم، فسقطت منه شعرات، فإن علم أنه ناتِفُها، فدَى، وإن علم أنها كانت انتتفت، وانسلّت، فلا ضمان، وإن أشكل عليه الأمر، فقد ذكر شيخي قولين في المسألة: أحدهما - وهو القياس، أنه لا ضمان؛ فإنه لم يستيقن موجَب الفدية. والثاني - يلزمه الفدية، ويضاف الانتتاف إلى الفعل الذي صدر منه، وهو الامتشاط؛ فإن من ضرب بطن امرأة فَأَجْهَضَتْ جنيناً، وجب الضمان، على الجاني، وإن كنا نجوز كون الاجهاض من سبب آخر. فرع: 2611 - كان شيخي يقول: الأولى للمحرم ألا يفلي رأسه، ولا ينحِّي هوامَّها استدامةً للشعث. وهذا لم يذكره غيرُه، ولكنه اعتضد بنصّ الشافعي، وذلك أنه قال: " لو نحاها، تصدّق بشيء "، ثم قال: " ولا أدري من أين قلتُ ما قلتُ ". وهذا محسوب على الشافعي في مضاهاة استحسان أبي حنيفة. وحكى شيخي وجهين في أن التصدق هل يجب؟ ولا يُظن بالشافعي إيجاب الصدقة، وإنما الذي ذكره استحبابٌ، على بعدٍ، مع اعترافه بأنه لا أصل له. ولست أرى ذلك متهيئاً أيضاًً، فليس في النص منعٌ [من] (1) ذلك. فرع: 2612 - قال شيخي: اختلف نصّ الشافعي في أنه [هل] (2) يكره للمحرم الاغتسال؟ فالذي نص عليه في الجديد أنه لا يكره، لما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعائشة: " اغتسلي، وامتشطي، وافعلي ما يفعل الحاج، غيرَ أن

_ (1) في الأصل: مع. (2) ساقطة من الأصل.

لا تطوفي بالبيت " (1) وروي أن ابن عباس والمِشوَرَ بنَ مَخْرَمة، اختلفا في جواز الاغتسال للمحرم، فبعثا إلى أبي أيوبٍ الأنصاري، رضي الله عنهم فوجده الرسول وهو يغتسل محرماً، فأدّى الرسالة، فطأطأ أبو أيوب الثوب الذي هو يتستر به، ثم قال الذي يصب الماء: صبّه، فصبه، فقال: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يغتسل، وهو محرم " (2) ودخل ابنُ عباسٍ حمامَ الجحفة، وقال: " ما يعبأ الله بأوساخكم شيئاً " (3). وقال (4): نص في القديم أن ذلك يُكره إلا عند حاجةٍ ماسة. 2613 - ثم قال الشافعي: " ولا بأس بالكحل، ما لم يكن فيه طيبٌ " (5). والأمر على ما ذكر، فلا مانع منه. 2614 - وذكرَ امتناعَ النكاح، والإنكاح على المحرم، وسيأتي ذلك في كتاب النكاح. 2615 - ثم قال: " ويلبس المحرم المِنْطقةَ والهِمْيانَ " (6)، والأمر على ما قال، فليست المنطقةُ ملبوساً مخيطاً، ولا ملتحقاً بالملابس المخيطة. ...

_ (1) حديث: " اغتسلي ... " متفق عليه من حديث عائشة، وله ألفاظ. ومن حديث جابر. (ر. البخاري: الحيض، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ح 305 وله أطراف كثيرة، مسلم: الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح 1211). (2) أثر اختلاف ابن عباس، والمِسْوَر بن مخرمة متفق عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 36 ص 752). (3) أثر ابن عباس، رواه الشافعي في الأم: (2/ 205) والمختصر: 2/ 73، والبيهقي: (5/ 63)، وانظر التلخيص: 2/ 538. (4) القائل شيخه الذي يحكي الفرع كله عنه. (5) ر. المختصر: 2/ 71 (6) ر. مختصر المزني: 2/ 73، والمِنطقة والهِمْيان، المنطقة: سيرٌ يشد على الوسط، كالحزام، ونحوه. والهميان: كيس تجعل فيه النفقة، ويشد على الوسط، فارسي معرّب (مصباح).

باب دخول مكة

باب دخول مكة قال الشافعي: " وأحب للمحرم أن يغتسل من ذي طِوى ... إلى آخره " (1) 2616 - صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اغتسل لدخول مكة، [وثبت أنه اغتسل] (2) بذي طِوى، وأمر الناس بالغسل. وعنده أمر أسماء بالاغتسال، وكانت حائضاً. ثم دخل مكة من ثَنِيَّة كَداء (3) بفتح الكاف، وهي ثَنِيّةٌ في أعلى مكة، وخرج من ثنية كُديّ (4)، بضم الكاف، وهي ثنيةٌ في أسفل مكة، وكان ذلك عامَ الوداع. ثم دخل صلى الله عليه وسلم المسجد، من باب بني شيبة، وهو في جهة باب الكعبة، في زاوية المسجد، فقال الأصحاب: أما الدخول من باب بني شيبة، فمستحب، لكل قادم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل منه، وتابعه أصحابه، ولم يكن ذلك البابُ على صوب المدينة، ونحوها، فعُلم من عدول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه = قصدُه تخيّرَ ذلك الباب. ولعل السبب فيه أنه من جهة باب الكعبة والركن الأسود. ثم قال الأئمة: الدخول من ثنية كَدَاء لا نرى فيه نُسكاً، وذكر الصيدلاني أنها على طريق المدينة، فيحمل الدخول منها على ترتيب الممر، وقد قال شيخي: يستحب الدخول من هذه الثنية، فإن كانت على ممر العادة، فذاك، والأحسنُ الميل إليها

_ (1) ر. المختصر: 2/ 73. (2) ساقط من الأصل. (3) كداء: بالمدّ، وفتح الكاف، الثنية العليا، بأعلى مكة، وتسمّى المَعْلَى (بفتح الميم) (مصباح). (4) كُديّ: بالتصغير.

تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال (1): هذه الثَّنِيَّة ليست على طريق المدينة، بل هي على طريق المَعْلى، وهو في أعلى مكة، والمرور فيه يُفضي إلى باب (2) بني شيبة، ورأس الرَّدْم (3)، وطريق المدينة يفضي إلى باب إبراهيم، وهما متقابلان (4) قريبان من التسامت في المقابلة. والحقُّ ما ذكره الشيخ. ولكن الوجه عندي ألا نرى الدخول من هذه الثنية نسكاً؛ فإن الممر، والمسلك، قبل الانتهاء إلى المسجد، لا يتضح تعلُّقُ النسك به، ويمكن أن يحمل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، على غرضٍ، أو على سبب يتعلق بالعبادة، لم يعتن الرواة بنقله، والشاهد فيه توفر الدواعي على اختيار الدخول من باب بني شيبة من الحجيج كافة، ولا يتعرض لهذه (5) الثنية أحد. فما قال شيخي في وضع الثنية صحيح، وقول الصيدلاني خطأ فيه، وما ذكره الإمام (6) من تعلّق النّسك بالدخول من هذه الثنية لا أرى له وجهاً. 2617 - ثم إذا دخل الرجل مكة من أعلاها، فأول ما يقع بصرُه على الكعبة من موضعٍ يقال له رأس الردم، فيؤثر أن يقف عنده، ويقول: " اللهم زد هذا البيت تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً (7 ومهابة، وزد من شرفه، أو عظّمه، ممن حجه أو اعتمره، تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً 7) وبِرّاً " (8) هكذا الرواية.

_ (1) (ط): فقال. (2) (ط): ديار. (3) الردم المراد هنا هو موضع بمكة يقال له (ردم بني جُمح) (معجم البلدان: 3/ 40، ومعجم ما اسثعجم للبكري: 2/ 649) ورأس الردم طرفه، فليس هناك موضع اسمه رأس الردم في الكتابين. (4) (ط): متعارضان. (5) خلل آخر في ترتيب نسخة (ك) حيث قفزت من هنا (ص 110) إلى أول (ص 126). (6) يقصد والده، وهو الذي عبر عنه (شيخي) آنفاً. (7) ساقطة من (ك) ما بين القوسين. (8) خبر الدعاء عند رؤية البيت، رواه الشافعي عن ابن جريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معضل، وذكر له البيهقي شاهداً مرسلاً، وقد أعلّه الحافظ، ورواه الطبراني في الكبير، وسعيد بن منصور، ولم يخل حديثهما من علة أيضاً (ر. الأم: 2/ 169، البيهقي: =

والمزني ذكر مكان البر المهابة (1)، والمهابة، في الحديث في ذكر البيت، لا في ذكر زائريه، فما ذكره المزني مأخوذٌ عليه. قال سعيد بنُ المسيب: " سمعت من عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه كلمةً، يقولها لما رأى البيت، لم يسمعها غيري، وذلك أنه قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فَحَيِّنا ربَّنا بالسلام " (2). ثم يدعوا بما عنّ له من مآرب الدّين والدنيا، في رضا الله تعالى، وأهمها سؤالُ المغفرة. ثم يدخل من باب بني شيبة، ويؤم البيت، والركن الأسود منه، ويبتدىء الطواف. ونحن نرى أن نعقد فصلاً جامعاً، في الطوافِ، وشرائطِه، وسننِه، وما يتعلق به من آدابه. فصل 2618 - الطواف بالبيت ركن، من الحج، والعمرة، والوجه أن نصفه على الجملة، ثم نفصّل القول في شرائطه، وما يقع منه موقع الركن، ثم نذكر طرفاً كافياً في آدابه. فيدخل المحرم من باب بني شيبة كما ذكرنا، ويدنو من الحجر الأسود، وهذا الركن والباب، في صوب المشرق، فليعلمه من لم يره، فيتقدم إلى الَركن الأسود، ويستلمه، كما سنصفه -إن شاء الله تعالى- ويجعل البيت على يساره، فيمر بعد محاذاة الركن الأسود بالباب، ثم ينتهي إلى الحِجْر، وهو محوط على صورة نصف دائرة، فلا يتخطاه، ولا يدخله، ويحوط مستديراً عليه دائراً، حتى ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، الذي منه بدأ، وهذا يسمى شوطاً واحداً. ثم يُتبع الشوطَ الشوطَ، حتى يستكمل سبعة أشواط [للطواف] (3).

_ =5/ 73، الطبراني: 3/ 181 ح 3053، التلخيص: 2/ 461). (1) ر. المختصر: 2/ 74. (2) أثر سعيد بن المسيب. رواه البيهقي: (5/ 73) وقد رواه الشافعي عن سعيد من قوله (الأم: 2/ 169). وانظر التلخيص: 2/ 462. (3) ساقط من الأصل.

2619 - ثم للطواف شرائط، ونحن نصفها شرطاًً، شرطاً، فمنها: طهارةُ الحدث، فلا يصح الطواف، ولا يعتد به إذا كان الطائف محدثاً، خلافاً لأبي حنيفة (1)، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام " (2). ثم كما نشترط الطهارةَ عن الحدث، نشترط طهارةَ البدن، والثياب. والمدارُ الذي يدور عليه في المطاف، فالطواف في الطهارتين يحل محل الصلاة، باتفاق الأصحاب. والستر مشروط فيه حسب ما يشترط في الصلاة. واستقبال القبلة عند التمكن شرطُ الصلاة، والقرب من البيت في الطواف على الهيئة التي سنوضحها يحل محل الاستقبال في الصلاة. هذا قولينا في الشرائط 2620 - وذكر الأئمة أحكاماً سمَّوها أركان الطواف، ولا معاب على من يسميها شرائطَ، ولكنها من حيث تعلقت بكيفياتٍ في [الطواف] (3)، وقع التعبير عنها بأركان الطواف. ونحن نعدُّها فنقول: مما يرعى في الطواف، والاعتداد به الترتيبُ، وهذا ينطوى على معنيين: أحدهما - أن البيت يجب أن يكون على يسار الطائف، فلو أوقعه على يمينه في طوافه يسمى

_ (1) الذي عند الأحناف أنه يصح؛ لكن عليه دم (ر. المبسوط: 4/ 37، البدائع: 2/ 129، مفتقى الأبحر: 1/ 294، اللباب: 1/ 207). (2) حديث: الطواف بالبيت صلاة، روي عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً. قال ابن الصلاح: " والموقوف أصح "، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي، وبمعناه الترمذي والنسائي (ر. مستدرك الحاكم: 1/ 459، الترمذي: الحج، باب ما جاء في الكلام في الطواف، ح 960، النسائي: مناسك الحج، باب إباحة الكلام في الطواف، ح 2922، 2923، مشكل الوسيط لابن الصلاح (بهامش الوسيط): 2/ 642). (3) في الأصل: الصلاة.

الطواف منكساً، ولا يُعتد به أصلاً. هذا أحد معنيي الترتيب. والمعنى الآخر - أن البداية تكون بالحجر الأسود، حتى لو وقعت البداية بمكانٍ آخر من البيت، لم يعتد بشيء مما جرى، حتى ينتهي الطائف إلى محاذاة الحجر الأسود، فذاك أول طوافه. وهو كالمتوضئ يقدِّم غسل رجليه، فلا يعتد به، فإذا غسل وجهه، قيل: هذا أول وضوئه. ومما يتعلق بهذا الفن أن يكون الطائف خارج البيت، ويكون تَدْوارُه وراء منقطع البيت من الأقطار (1). 2621 - ولا نجد الآن بداً من كلامٍ وجيز في هيئة البيت، وما جرى من هدمه، وإعادته، حتى يتضح الحِجْرُ وأمرُه، وشاذروان الكعبة بين الركن اليماني، وركن الحَجَر، فإذا نحن وصفنا ذلك، بنينا عليه غرضَنا في أمر الطواف. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " لولا حِدْثانُ (2) قومك بالشرك، لهدمت البيت، ولبنيتُه على قواعدِ إبراهيم، وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، يدخل الناس فيه، وباباً غربياً، يخرج الناس منه. فقالت: وما دعاهم إلى إخراج بعض البيت إلى الحِجْر، فقال: قصّرت بهم النفقة. قالت: فلِمَ رفعوا الكعبةَ عن الأرض؟ قال: ليأذنوا لمن شاؤوا، ويمنعوا من شاءوا " (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: قصّرت بهم النفقة، ليس أن مالَ قريش، لم يتسع لبناء البيت، أو بخلوا به، ولكن [كان] (4) للكعبة أموالٌ طيبة من النذور، والهدايا، فقالوا: لا ننفق على البيت من أموالنا، التي جرى فيها الربا، وإنما نُنْفق مالَ البيت، فقصّر ذلك المال.

_ (1) الأقطار: الجوانب. (2) حِدْثان: بكسرٍ، فسكون، ابتداء الأمر، وأوله، ويقال: حِدْثان الثباب (معجم) والمعنى قربُ عهدهم بالشرك. (3) حديث: بناء البيت متفق عليه من حديث عائشة، وله عندهما ألفاظ كثيرة متنوعة (ر. البخاري: الحج، باب فضل مكة وبنيانها ح 1583، مسلم: الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، ح 1333، التلخيص: 2/ 465 ح 1014). (4) ساقطة من الأصل.

وكان جرى هدمُ البيت، قبل المبعث بعشر سنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابنُ ثلاثين سنة، فلما بنَوْه، تنازع بنو عبد منافٍ، وبنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو عبد شمس، وقال كل واحد: " نحن نضع الحجر في موضعه " فكاد شرٌّ يهيج، فتواضعوا على أن يرضَوْا بحكم أولِ من يدخل، من باب بني شيبة، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا في الجاهلية يسمونه محمداً الأمين. قالوا: محمدٌ الأمين!! أتاكم من لا يميل؛ فحكموه، فحكم بأن يَبْسط رداءه، ويوضَعُ الحجَرُ عليه، ثم يأخذ سيد كل رهط بطرف منه، حتى يحملوه إلى موضعه، فبسط رداءه، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحَجَرَ بيده، فلما وصلوا إلى البيت، أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه موضعه بيده. وكان بناؤهم البيت على الصورة التي هي عليها اليوم، وقبل ذلك كان لاصقاً بالأرض، ذا بابين شرقي وغربي. فلما خرج ابن الزبير إلى مكة، هدمَ البيت، وبناه كما كان قديماً، فلما ظهر عليه الحجاج، وقتله، هدم البيت بالمنجنيق، وبناه هذه البِنْيَة التي هو اليوم عليها (1).

_ (1) هذه العبارة عن هدم البيت وبنائه -زاده الله تعظيماً وتشريفاً- غيرُ دقيقة، وفيها من الخلل التاريخي ما فيها: أولاً - ما حاجةُ الحجاج إلى هدم البيت بالمنجنيق، بعد أن " ظهرَ على ابن الزبير وقَتَلَه "، وصار مسيطراً على مكة؟؟ ما حاجته إلى المنجنيق؟ ألا تكفي المعاول والفؤوس. ثانياً - إن ابن الزبير لم يهدم البيت ليبنيه على نحو ما همَّ به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بناه ابنُ الزبير بعدما انهدم. ثالثاً - هناك خلاف في سبب انهدام البيت، فقال بعض الرواة من أشياع ابن الزبير وأعداء بني أمية -وهم طوائف كثر- إن انهدام البيت كان بسبب ضرب الحجاج إياه بالمنجنيق عند حصار ابن الزبير وقتاله إياه، ولي بعد قتل ابن الزبير والقضاء على عصيانه، كما وهم إمام الحرمين، أو سبق قلمه. رابعاً - لم يهدم الحجاج البيت كاملاً، وإنما هدم جانب الحِجْر، لردّ الزيادة والتغيير الذي أحدثه ابن الزبير. والقول الذي نرتضيه، وعليه المحققون أن البيت انهدم بسبب حريقٍ كان نتيجة لشرارة طارت من أبي قَيْس -أحد رجال ابن الزبير- فلما تداعى البيت، ووهت جُدرانه، هدمه ابنُ الزبير، وأعاد بناءه على نحو ما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قلتُ: رواية الحريق =

ثم لما ضافَ بهم النفقة أخرجوا من جانب الحِجْر ستةَ أذرع من عَرْصة البيت، وضيقوا عَرْض [الجدار] (1) بين الركن اليماني والحَجَر الأسود، وأخرجوا من أساس الجدار على هيئةِ دُكّانٍ (2) لا عرضَ له، وهو الذي يسمى الشَّاذرْوان وهو بيّنٌ للناظر، ولكنه لا أثر له عند الحَجَر، فلعله امّحق، أو رأوا رفعه لتهوين الاستلام، وتيسيره، وسمى المزني الشاذَرْوان [تأزيز] (3) البيث، ومعناه التأسيس، ومنهم من قرأ تأزير البيت، تشبيهاً بالإزار. 2622 - فإذا ثبت ما ذكرناه، عُدنا إلى غرضنا من ذلك في حكم الطواف: فليس للطائف أن يدخل الحِجر، ويتخطى الستةَ الأذرع المتصلة بالبيت، فإنه لو فعل ذلك، لكان والجاً في البيت، والطواف تردُّدٌ بعد تخليف البيت، وكذلك لو صعد إلى جدار الحِجْر -وحوله جدارٌ إلى حيال الصدر- ولو خلّف مقدار الستة الأذرع، واستظهر، ثم

_ =هذه هي الصحيحة، فلم يذكر السهيلي غيرها، واعتمدها الزركشي في " إعلام الساجد "، ونفى غيرها أشد النفي ابنُ تيمية في " منهاج السنة "). أما هدْمُ الحجاج، فقد كان بعد القضاء على ابن الزبير، حيث أراد أن يعيد البناء إلى ما كان عليه موروثاً من عصر الرسول والراشدين. المهم لم يكن هناك منجنيق، وقصدٌ للبيت بالإهانة والأذى، فهذا لم يكن من مسلم ولن يكون. (1) ساقطة من الأصل. (2) الدكان: الدكة يجلس عليها، والحانوتُ، والأول هو المراد هنا. ومعنى " لا عرض له " أنه وإن كان كالدكان لا يعدو في عرضه بضعة أصابع، فلا جلوس، ولا دكان، ولكن: (هيئة) فقط. ثم هو لفظ معرّب (المصباح). (3) لم أصل إلى أزّز بمعنى أسس، فيما رأيت من معاجم اللغة ولكن ذكره الرافعي في شرحه الكبير، فقال: وقد يقال؛ التأزيز بمعجمتين، وهو التأسيس. ونقله عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات، وهذا لا يغني شيئاً؛ فإن اللائح أن الرافعي أخذها عن إمام الحرمين، ونحن نبحث عن مصدرها اللغوي الذي أخذها منه إمام الحرمين، والمذكور في مختصر المزني الذي بأيدينا: 2/ 78: (تأزير) بالراء، وفي المصباح: أزّر الجدار تأزيراً، جعل له من أسفله كالإزار (ر. المصباح، والمعجم، والقاموس، والزاهر، والأساس). وفي الأصل، (ك): " تأزير " بالمهملة. هذا. وإنما أثبتنا (تأزيز) لما اتضح لنا أنه مراد الإمام، بدليل قوله: " ومنهم من قرأ: تأزير ".

اقتحم الجدار وراء ذلك، وتخطى الحِجْر، على هذا السمت، اعتدّ بطوافه (1)، وإن كان ما جاءبه مكروهاً. ولو انتهى الطائف إلى موضع الشَّاذَرْوان، وأقر قدميه عليه، وألصق بدنَه بالجدار في هذه الجهة، فهو في البيت، ولا اعتداد بما يأتي به. ولو كان يمر وراء الشَّاذَرْوان، وهو يمس الجدار بيده، في ممرّه، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب الأكئرون إلى أنه لا يُعتد بهذا من الطواف؛ فإن الشرط أن يكون جميعُ بدنه منفصلاً عن البيت، وليس الأمر كذلك، فيما صورناه. وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً آخر بعيداً، أنه يُعتد بمَمرّه، نظراً إلى جملته، ولا مبالاة بطرفٍ من عضوٍ يلج، أو يخرج، والتعويل في هذا الفن على التسمية المطلقة، وهو يسمى طائفاً بالبيت خارجاً منه. والأصح الأول. 2623 - ومما يدنو من ذلك، ويقرب منه، أنا ذكرنا أن ابتداء الطواف مستفتح من (2) حيال الحجر الأسود، فإن حاذاه ببدنه في أول (3) الطواف، صح، وإن حاذاه ببعض بدنه، فالأصح أن افتتاح الطوافِ باطلٌ، فإذا لم يصح الافتتاح، لم يصح الشوطُ كلُّه، جرياً على ما مهدناه، من اشتراط الترتيب وبيانه. ومن أصحابنا من قال: يكفي محاذاة الحَجَر ببعض البدن، وخرّج هذا على خلافٍ في أن المصلي إذا وقف على ركنٍ من أركان البيت، وهو محاذي ببعض بدنه الركنَ، وبعضٌ منه خارجٌ عن مسامتة الكعبة، ففي صحة الصلاة إذا أقيمت كذلك وجهان.

_ (1) لأن الحِجْر المحوط الآن أكثر من ستة أذرع، ونص الحديث أنهم تركوا ستة أذرع، فلو علا الجدار وقفز طائفاً في آخر الحِجر بعيداً عن الكعبة بستة أذرع، فهو طائف خارج البيت آتياً بالشرط المطلوب، ولكنه تكلّفٌ مكروه. (2) في (ط): في. (3) في (ط): أصل.

والذي يتم به البيان: أن البدَن الذي أطلقناه إنما [هو] (1) شِقّ الطائف من جهة يساره ولا نعني غيرَه، والمعنيّ بالمحاذاة أن يقع كلُّ هذا الشق، في محاذاة الحَجَر، حتى لو خلّف من الحجر -مثلاً- شيئاً، وهو إلى الباب ما هو، وحاذى بعضَ الحَجَر ببعضٍ من شقه، والبعضُ الآخر [في] (2) محاذاة الكعبةِ والجزءِ المنحدر من الحَجَر إلى الباب، فهذا صورة الخلاف. 2624 - وكان شيخي يتردد في أمرٍ نَصِفُه، فيقول: إذا حاذى من يبتدئ الطوافَ بشقه الحَجَر، ولكنه خلف شيئاً منه، في جهة الركن اليماني، فترك بعضاً منه مثلاً أمامه، وحاذى بشقه وسطه، فكان يقول: يحتمل أن نُصحح افتتاحَ طوافه؛ فإنه حاذى بتمام شقه الحجرَ، ويُحتمل أن نقول: ينبغي أن يحاذي في أولِ الطواف تمامَ الحَجَر [بتمام] (3) الشِّق، وذلك بأن يبتدئ من أول الحَجر فيما يلي الركنَ اليمانيَّ، ويمر عليه على المسامتة. والأمر كما قال محتمل. 2625 - ثم إذا تخطّى الحَجَر، أو خَطَا على الشاذَرْوان، وقلنا: لا يعتد بممره، فإذا استوى (4) بعد ذلك، فكل ما يأتي به غيرُ محسوب، حتى ينتهي إلى مثل ذلك المكان، الذي تعدى منه، وحاد عما رسمناه له. فعلى هذا إذا انتهى من ركن الحجَر، إلى الركن [العراقي] (5) فمال إلى الحِجْر، ودخله من فتحةٍ تلي الركنَ، وخرقه إلى الفتحة الأخرى التي تلي الركن الشامي، فحركاته [على هذا الصنع] (6)، غيرُ محسوبة، وإذا [تقدّمَها] (7)، فتدواره إلى الركن

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) مزيدة من (ط)، (ك). (3) ساقطة من: ك. (4) (ط): اشتدّ. (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: على الضلع. والمثبت من: (ك)، أما (ط) فقد سقط منها ما بين لفظتي الركنين العراقي واليماني، وهو نحو سطرين. (7) في الأصل، وفي (ك): تقدمتها. والمثبت تقدير منا، والمعنى: فإذا استمرّ متقدماً من =

اليماني، ثم إلى الركن الأسود، ثم إلى مكانه من الركن العراقي، كل ذلك غير محسوب؛ [وفاءً] (1) بالترتيب المكاني. فهذا تمام ما أردناه فيما يُعدّ من الأركان. 2626 - وكان شيخنا يقول: لو استقبل القبلة بصدره، وكان يستدير على الجهة المرسومة، عرضاً، فالقفال كان يتردد فيه: ربما كان يقول: (2 لا يحسب 2) له طواف؛ فإن المطلوب منه أن يولّي الكعبةَ شقّه الأيسر. وربما كان يقول: إذا دار على الصَّوْب مقابلةً، أو مدابرةً، أو على شق، حُسب طوافه، [وكره] (3). والأصح عندنا الأوّل (4)؛ فإن المصلي لما أمر بأن يولي القبلةَ وجهه، وصدرَه، فلو أولاها شقه، لم يعتد بصلاته، ولا وجه لغير هذا عندي. 2627 - ومما يتعلق بهذه الفنون - القول في الموالاة: ووضع الأشواط في الشرع على التوالي، فلو فرقها الطائفُ، ففي بطلان الطواف قولان، مبنيان على القول في الطهارة. وربما كان شيخي يجعل الطواف أولى بالموالاة، وليس يتبين فرقٌ به مبالاة. والتفريق اليسير غير ضائر. وفي التفريق بالعذر طريقان: من أصحابنا من قطع بأنه لا يضر، ومنهم من جعل المسألة على قولين، وقد ذكرتُ حقيقةَ القول في هذا في كتاب الطهارة. والذي يُرجَع إليه في التفريق اليسير والكثير، ما يغلب على الظن في الإضراب عن الطواف، وترك الإضراب عنه، فكل زمان يشعر تخلله بظنٍّ في ترك الطائف طوافَه، أو إنهائه نهايته، فهو المعتبر في التفريق، ولا مبالاة بما دونه. 2628 - والطائف في أثناء الطواف إذا سبقه الحدث، فأمره مرتَّبٌ عند الأئمة على سَبْق الحدث في الصلاة، فإن قلنا: سَبْق الحدث فيها لا يبطلها، فالطَّواف بذلك

_ =هذه الحركات بانياً عليها، فكل ما يأتي بعدها غيرُ محسوب، حتى يعود إلى موضع انحرافه. (1) في الأصل: وفاقا. (2) ما بين القوسين سقط من (ك). (3) غير واضحة بالأصل. (4) أي عدم الاعتداد بالطواف على هذه الهيئة.

أولى. وإن قلنا: سبق الحدث يُبطل الصلاة، ففي الطواف قولان. والفارق أن الصلاة في حكم الخَصلة الواحدة، لا يتخللها الكلامُ والأفعالُ الكثيرة، بخلاف الطواف. وإذا قلنا: ببطلان الطواف، تطهّر الطائف، وابتدأ الطواف من أوله. وإن قلنا: سَبْق الحدث لا ينقضه؛ فإنه يخرج، ويتطهر، ويعود، ويبني كدأبه في الصلاة. وهذا النوع من التفريق -ونحن نفرع على القول الذي انتهينا إليه- غيرُ معتبر، وإن [قلنا] (1) في تفريق المعذور قولان، فإنا نسلك في سبق الحدث مسلك البناء على الصلاة، وتفصيل القول في سبق الحدث في الصلاة متلقى من الخبر. ولو تعمد الطائف الحدث، فإن قلنا: سبقُه ينقضُ الطوافَ، فعمده أولى. وإن قلنا: سبقه لا يبطل الطوافَ، ففي عمده وجهان: أحدهما - أنه يُبطل الطواف، كما يُبطل الصلاة؛ فإنهما مستويان في الافتقار إلى الطهارة. والثاني - أنا لا نقطع القولَ ببطلان ما سبق، بناءً على أن التفريقَ لا يبطل الطوافَ، والطوافُ يتخلله ما ليس منه، فلا يعتد بالمقدار الذي كان محدثاً فيه، ويجعله كأن لم يكن، فيعود البناء إلى التفريق. ثم إن طال الزمان، فهو تفريقٌ، وإن قصر الزمان، فوجهان: أحدهما - أن الزمان القصير مع الحدث، كالزمان الطويل من غير حدث، فهذا يضاهي تخلُّلَ الرّدة في أثناء الطهارة، مع قصر الزمان؛ فإن من أصحابنا من ألحق ذلك بالتفريق الطويل، ومنهم من قطع رباط الطهارة بها، ومنهم من ألحقها بالتفريق اليسير. فهذا منتهى القول، فيما يجري من الطواف مجرى الأركان. 2629 - ثم المطاف بيّن، ولو بعُد الطائف من [المطاف] (2) المعتاد، اعتد بطوافه، ما دام في المسجد، حتى لو كان مداره في أخريات الأروقة، أو على مكانها من السطوح، فالطواف صحيحٌ.

_ (1) في الأصل: كان. (2) في الأصل: الطواف.

فأما إذا خرج من المسجد، فلا. ولو وُسّعت خِطةُ المسجد، اتسع المطاف، والأمر كذلك في المسجد الحرام، بالإضافة إلى ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن العباسيةَ وسّعوا خِطته، وقيل: كثر الحجيج عامَ حجَّ الرشيدُ، حتى امتلأت الأروقة، بالطائفين ورقُوا إلى السطوح، وانتهَوْا إلى الجدران. وقد نجز القول فيما لابد من مراعاته في الطواف. 2635 - فأما ما يتعلق بالسنن والهيئات، فإذا افتتح الطائفُ الطوافَ من الحَجَر، كما رسمناه، فيما لابد منه، فيستحب له الاستلام، وهو من السَّلام، أو السِّلام (1)، وهو الحجر، فإن زُحِم، ولم يتمكن من تقبيله (2) مسَّه بيده، ثم قَبّل يده، فإن لم يمكنه، أشار بيده. ولا يستلم الركنَ اليماني، ولكن يمسه، تيمناً، وتبركاً، وقيل: إنه على قواعد إبراهيم. لم يغيره ما لحق البيتَ، من الهدم والبناء، ثم ذكر الأصحاب وجهين في كيفية ذلك: أحدهما - أن يُقبل المحرمُ يده، ويمَس الركن كالذي ينقل خدمة (3) إليه والثاني - أن يمس الركنَ، ثم يقبل يده، كالذي ينقل تيمناً إلى نفسه، وينقدح هذان الوجهان في الحجر، في حق المزحوم عن الاستلام، ولست أرى هذا اختلافاً، وإنما هو في حكم [تخير] (4).

_ (1) الاستلام: قال الأزهري: يجوز أن يكون " افتعالاً " من السلام، وهو التحية، فأن المستلم اقترأ منه السلام ... ونقل عن القتيبي أنه كان يذهب به إلى (السِّلام): وهي الحجارة، واحدثها (سَلمة) بفتح فكسر. أو سِلْمة، بكسرٍ فسكون، وعلى هذا يكون استلمت الحجر أي لمسته، كما يقال: اكتحلت إذا أخذت من الكحل. (راجع/الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة 346، والمجموع للنووي: 8/ 31). (2) يفهم من عبارة الإمام أن الاستلام هو التقبيل للحجر (وقد تابعه على ذلك الغزالي)، وليس كذلك، فالاستلام: هو المس باليد. (ر. مجموع النووي: 8/ 31). (3) كذا في النسخ الثلاث " خدمة " وهي أيضاًً عند الرافعي في شرح العزيز، حاكياً لها عن إمام الحرمين (فتح العزيز: 7/ 320) ولعلها مصحفة عن (قُبلة) ففي عبارة النووي: " يقبل يده، ويستلمه، كأنه ينقل القُبلة إليه " وهو ينقل هذا عن (الفوراني) الذي كان معاصراً لإمام الحرمين (ر. المجموع: 8/ 35) (4) ساقطة من الأصل.

ولما انتهى عمر إلى الحجر، قال: أما إني أعلم أنك حَجَرٌ، لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك، ما قبلتك "، فقام أبيّ ابن كعب، فقال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة، وله لسان ذَلِقُ، يشهد لمن قبّله " (1). 2631 - وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت راكباً، وكان يشير إلى الحجر بمِحجنٍ في يده (2)، وهذا الحديث يدلّ على أن الطوافَ من الراكب مجزيء، ولا نقصان فيه؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يؤثر لنفسه الأفضلَ، سيّما عامَ الوداع. وفي القلب من إدخال البهيمةِ المسجدَ، ولا يؤمن تلويثُها [شيء] (3)، فإن أمكن الاستيثاق من هذه الجهة، فذاك، وإن لم يمكن، فإدخال البهائم المسجد مكروه. 2632 - ثم إذا دنا من الحَجَر، قال: في ابتداء الطواف: " بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك، عليه السلام " (4) وقد روي ذلك مرفوعاً. وكان شيخي يذكر دعواتٍ في تَرْدَاد الطواف،

_ (1) حديث عمر عن الحجر الأسود متفق عليه بدون مراجعة أحد لعمر (البخاري: الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، ح 1597، مسلم: الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، ح 1270). أما المراجعة لعمر فلم نجدها عن أبي بن كعب وإنما عن علي رضي الله عنه، أخرجه الحاكم في المستدرك وسكت عنه، وضعفه الذهبي (المستدرك: 1/ 457) وأورده المتقي الهندي في كنز العمال: (ح 12521) وعزاه للهندي في فضائل مكة، وأبي الحسن القطان في الطوالات، والحاكم، وعبد الرزاق. (2) حديث طوافه صلى الله عليه وسلم راكباً. رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي الطفيل (ر. مسلم: الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره، ح 1275، أبو داود: المناسك، باب استلام الأركان، ح 1879، التلخيص: 2/ 471 ح 1026). (3) في الأصل: " بشيء " والمثبت من (ط)، (ك). (4) حديث الدعاء عند بدء الطواف، قال عنه الحافظ: " لم أجده هكذا ". والموجود ما رواه الشافعي في الأم عن ابن جريج عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، كيف نقول إذا استلمنا الحجر؟ قال: قولوا: " باسم الله، والله أكبر إيماناً بالله وتصديقاً بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ". ورواه البيهقي والطبراني في الأوسط من ح 5482، التلخيص: 2/ 472).

ويخص كلّ موضعٍ بدعوة، ولم أرَ لها ذكراً، فلم أوردها، وعندي أن الأذكار [فوضى] (1) بعد ابتداء الطواف. 2633 - ومن الهيئات الرمَل، فنؤثر للطائف الرملان في ثلاثة أشواط، من أول الطواف، ونؤثر له السكينة، والمشي على الهِيْنَة (2) في أربعة أشواط، وهي الأشواط الأخيرة، وقال بعض أئمتنا: الرمل فوق سجية المشي، ودون العدْو. وقال الشيخ أبو بكر: هو شِرعةٌ (3) في المشي، دون الخبب. وهذا عندي زلل؛ فإن الرمل في فعل الناس كافة ضربٌ من الخبب، يسير (4) إلى قفزان. والرملانُ هذا معناه في اللسان، وكل ما تضطرب الحركات فيه، فمصدره الفَعَلان في غالب الأمر، كالقَفَزان، والنَزَوَان، والضَّرَبان، وعَسَلان الرُّمح (5). والمشيُ السريع ليس من الرملان في شيء. ثم يتَّسع (6) القول الآن في الرملان، فأول ما نذكره التفصيل في الطواف الذي يشرع الرمل فيه: [لا شك أنه لا يشرع في كل طواف، واختلف القول في الطواف الذي يُشرع الرمل فيه] (7) فأحد القولين أنه يختص بطواف القدوم؛ فإنه أول العهد بالبيت، فيليق به نشطةٌ واهتزازٌ، والقول الثاني - أنه مشروع في الطواف الذي يستعقب سعياً؛ من جهة أنه يشير إلى تواصل الحركات، وإلى السعي بين الجبلين، ثم القادم قد يسعى على أثر طواف القدوم، وقد يؤخر السعي حتي يأتي به على أثر طواف الزيارة بعد الوقوف، فإن كان يسعى بعد طواف القدوم، فإنه يرمل في الطواف قولاً واحداً،

_ (1) في الأصل فرض. والأذكار فوضى: أي شائعة، غير مرتبة، ولا يختص شوط منها بذكرٍ دون شوط. (معجم). (2) الهينة: بكسر فسكون، ففتح. (معجم، ومصباح). (3) شِرعة: طريقة. وفي (ط)، (ك): سُرعة. (4) (ط)، (ك): يشير. (5) عَسَل الرمحُ: اهتز، واضطرب لِلِينه، وعَسَل الفرسُ: عدا، واهتز في عدوه (معجم) (6) (ط): نُشيع. (7) ما بين المعقفين ساقطٌ من الأصل، (ك)، ومثبت من (ط) وحدها، ما عدا لفظ (لا) في قوله: لا يشرع، فهي من المحقق.

لاجتماع المعنيين. وإن كان يؤخر السعي إلى بعد طواف الإفاضة، فيجري القولان: فمن راعى القدوم، شرع الرمل في الطواف الأوّل، ومن راعى استعقاب السعي شرعه في طواف الزيارة. ثم قال أئمة العراق: لا يجتمع الرمل في الطوافين على كل طريق، والأمر على ما قالوه؛ فإن أحداً لم يعلق الرمل بالمعنيين جميعاً. ويخرج على ما ذكرناه الرمل في طواف العمرة. قال الأئمة: ليس طواف المعتمر طوافَ قدوم؛ فإنه يقع ركناً، وهذا يوُهي ما أشرنا إليه من ابتداء العهد بالبيت، وكان يمكن أن يقال: فيه معنى القدوم. فإن قلنا: الطواف الذي يستعقب السعي يشرع الرمل فيه، شرع الرمل في طواف المعتمر. [هذا] (1) تفصيل القول في الطواف الذي يشرع الرمل فيه. 2634 - ومما يتعلق بذلك الكلامُ في مكان الرمل: فالأصح أن الطائف في أشواط الرمل، يرمُل في جميع تدواره على [أركان] (2) البيت. وذكر الأصحاب قولاً آخر: إنه يترك الرمل بين الركن اليماني والحجر الأسود، واستدل هؤلاء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل في إثبات الرمل، وذلك أنه كان واعدَ أهل مكة عامَ الصدِّ، أن يعود لقضاء عمرته في قابل، فعاد، وكان شرط على الكفار أن ينجلوا عن بطحاء مكة، ويلوذوا (3) بقُلل الجبال، فوفَوْا ورقُوا إلى قُعَيْقِعان، وهو جبل في جهة الحِجْر والميزاب، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَكَتْهم حمى يثرب، فرأى الكفار ذلك منهم؛ فهمّوا بالغدر، فنزل جبريل، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أضمروه، فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضطبعوا، ورمل، ورملوا، فقال الكفار: إن هؤلاء كالغزلان، وكان ذلك سببا في رد كيدهم (4).

_ (1) في الأصل: هل. (2) في الأصل: أرجاء. (3) (ط) ويعوذوا. (4) أصل حديث الرمل متفق عليه بنحو هذه السيافة، مع اختلاف في بعض الألفاظ، من حديث =

فهذا أصل الرمل، ثم في بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابَه رضي الله عنهم، كانوا إذا انتهوا إلى ما بين الركنين اليماني والحَجَر [اتّأدوا] (1)؛ فإن الكعبة كانت تحول بينهم وبين الكفار. فقال هذا القائل: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة في الرمل، وُيتْرَكُ الرمل حيث كان يتركه، وهو أقوى (2)، لو تجرد نقلُه، وقد نُقل: أنه كان يرمل من الحَجَر إلى الحَجَر، ولا يبعد أنهم كانوا يسكنون قليلاً، من غير مفارقة سجية الرمل. وروي أن عمر قال: " فيم الرمل، والتكشف، وقد أطّأ (3) الله الإسلام، ونفى الشرك وأهله، ألا إني لا أحب أن أدع شيئاً، كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4) فإن قيل: لم دام الرمَل مع ظهور سببه أولاً، وزواله آخراً؟ قلنا: ما لا يُعقل معناه على التثبت لا يحكّم المعنى (5) فيه. وقد قيل: إن سبب السعي ما كان من هاجَر أمّ إسماعيل، وابنه (6)، كما سنصفه، ثم أُثبت ركناً في الدين.

_ =ابن عباس. (ر. البخاري: الحج، باب كيف كان بدء الرمل، ح 1602، وطرفه في 4256، وعند مسلم: الحج، باب استحباب الرمل، ح 1264، وهو عند أبي داود: المناسك، باب في الرمل، ح 1889، وأحمد: 1/ 290 - 295، ومتفق عليه من حديث ابن عمر أيضاً، وعند مسلم من حديث جابر، وانظر التلخيص: 2/ 474 ح 1029 إلى 1033). (1) في الأصل: تاذوا، وهي محرّفة عن (تباذوا) بالباء الموحدة، والزاي المعجمة وهي في رواية من روايات الحديث، يقال: تبازى في مشيته إذا حرّك عجيزته (ر. تلخيص الحبير: 2/ 476 ح 1033، والمعجم). هذا والمثبت من (ط)، (ك). (2) (ط)، (ك): وهذا قوي. (3) أطأ: ثبت، من وطأ، والهمزة أوله بدل الواو. (النهاية في غريب الحديب، وهامش ابن ماجة، وسنن البيهقي). (4) حديث عمر، رواه ابن ماجة: المناسك، باب الرمل، ح 2952، والحاكم: 1/ 454، والبيهقي: 5/ 79، وانظر التلخيص: 2/ 475 ح 1030). (5) (ك) لا يحمل المفتي. (6) كذا في النسخ الثلاث، ولعل الصواب: " وابنها ". وربما كانت وأبيه لما سيأتي في قصة الذبح وتشريع الرجم، فمعنى الجملة: إن ما كان من أم إسماعيل بحثاً عن الماء، وما كان من أبيه زجراً للشيطان أثبت ركناً في الدين. والله أعلم.

وقيل: استعصى الذبح على إبراهيم فذلَّلهُ الله بالأحجار على الجمرات، فصار ذلك شعاراً متبعاً، ومبنى الشرع على التيمّن والتأسي بشعار الصالحين، من غير تتبع المعاني. 2635 - ومِما يتعلق بالرمل: أنا نؤثر الجمعَ بين الدنوّ من الكعبة وبين الرمل، ولا ننظر إلى كثرة الخُطى فيمن يبعد من الكعبة، وهذا متفق عليه. فإن عسر الرمل في زحمة الناس، في القرب، ولو بَعُدَ إلى الحاشية، لا ستمكن من الرمل، فالرمل في البعد أولى، فإن القرب لا يبلغ مبلغ شعار مستقل. نعم لو كان يقع في صف النساء، فتركُ الرمل أجدر به؛ فإن الأمر يعظُم في هذا، وينسب الرجل إلى ترك شعارٍ في الدّين كلِّي، ولا يقع منه الشعار الجزئي موقعاً. 2636 - ولو ترك الرمل في الأشواط الأُوَل، فأراد أن يتدارك في الأشواط الباقية، لم يكن له ذلك؛ فإن سجّية المشي في الأشواط الأربعة مسنونة، كالرمل في الأشواط الثلاثة، فلو تدارك الرمل، لكان تاركاً سنةً ناجزة، في تدارك شعارٍ فائت، وليس هذا كإعادة سورة الجمعة في الركعة الثانية على ما سبق ذكرها في الصلاة؛ فإن الجمع بين الجمعة، وسورة المنافقين ممكن، والجمع بين الرمل وسجية المشي غير ممكن. قال الشافعي: لو زُحم من لم يتمكن من الرمل أصلاً، فحسنٌ لو [أتى] (1) بمحاولة الرمل متشبهاً بالرامل، وهذا أصل ستأتي أمثلتُه في أمرنا مَنْ لا شعر على رأسه بالحلق متشبهاً بالحالق، إلى غير ذلك. 2637 - ومن الشعار المرعي الاضطباع: وهو أن يجعل وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، ويعري كتفه الأيمن منه، ويجمع طرفيه على عاتقه الأيسر، كدأب ذوي الشطارة (2). هكذا

_ (1) في الأصل: ايتى (بهذا الرسم. ولعلها يأتي، وفي (ط): أشار. وهذا معنى كلام الشافعي وليس لفظه، وإلا، لصححناه منه. (ر. المختصر: 2/ 77، والأم: 2/ 149). (2) الشطارة الاسم من شطر (المعجم). وظني أن المراد بذوي الشطارة هم الفتيان الذين كانوا يخرجون على قبائلهم في الجاهلية، ويرفضون قيود المجتمع، ويتمردون عليه، ويرتبون جماعاتٍ وفرقاً للإغارة والهجوم على من يتهمونهم بالظلم والطغيان.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم [لا اضطباع] (1) في طوافٍ، لا رمل فيه، ولا يكلف المضطبع أن يغير زيّ الاضطباع إذا ترك الرمل في الأشواط الأربعة. وإلى متى يستديمه؟ ذكر الشافعي لفظةً، واختلف الأصحاب في قراءتها. قال: " ويديم الاضطباع حتى يكمل سعيه " (2) [منهم من قرأ كذلك وزاد في الخط ياء بعد العين، و] (3) منهم من رأى أنه سبعة، فإذا قلنا: حتى يكمل سبعة، معناه حتى يكمل الأشواط السبعة، وإذا قلنا: حتى يكمل سعيَه معناه استدامة الاضطباع حتى يكمل سعيه بعد الطواف. فهذا فيما أظن حاوٍ لشعار الطواف، وما يتعلق بالركن منه، وما يتعلق بالسنة والهيئة. 2638 - وذكر الشيخُ أبو بكر من جملة ما كنا نحفظه من الأذكار بعد الذكر الذي قدمناه في ابتداء الطواف، أنه كلما حاذى الحجر الأسود كبّر، وقال في رمله: " اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً " وقيد هذا الذكر بالرمل عن قصد، وقرنه باستحباب ذكر في حالة السعي، فإنا نؤثر للساعي أن يقول: " اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار " والأمر في ذلك قريب. ثم كل ما ألحقناه [بالهيئآت] (4)، فلو تركه الطائف عامداً، اعتدّ بطوافه، ولم يلزمه فدية، وسنجمع بعد هذا قولاً ضابطاً فيما يوجب الفدية قطعاً، وفيما يختلف فيه.

_ (1) في الأصل: الاضطباع. (2) وهذا هو ما في المختصر المطبوع بين أيدينا: 2/ 76. (3) سقط ما بين المعفقين من الأصل. (4) ساقطة من الأصل.

فصل قال: " إذا فرغ صلى ركعتين، خلف المقام ... إلى آخره " (1). 2639 - الطائف إذا فرغ من أشواط طوافه أمرناه، بأن يصلي ركعتين، فإذا كان الطواف مفروضاً، فللشافعي قولان في وجوب ركعتي الطواف: أحدهما - أنهما لا تجبان، لحديث الأعرابي؛ إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الخَمْس: " هل عليّ غيرها "؟ قال: لا ". والقول الثاني - أنهما تجبان وجوبَ الأشواط، وقد يستدل الشافعي على وجوب الشيء بإطباق الناس على العمل، وما يكون مُتطوَّعاً (2) به فالعادة تقتضي تردُّدَ الناس في الإتيان به، ثم إن كان الطواف فرضاً، فالقول مختلف كما ذكرناه، وإن لم يكن فرضاًً، فالأصح أنه لا يستحق على أثره ركعتا الطواف. ونقل الأصحاب عن ابن الحداد: أنه أوجب ركعتي الطواف على أثر نجاز الأشواط، وهذا بعيدٌ، ردّه أئمة المذهب. ثم ما أُراه يصيرُ إلى إيجابهما على التحقيق، ولكنه رأى ركعتي الطواف جزءاً من الطواف، ولم ير الحكم بالاعتداد بالطواف المقطوع به دونهما، وقد قال في توجيه ما رآه: لا يبعد أن يشترط في النفل ما يشترط، في الفرض، كالطهارة، وغيرها، وكالركوع، والسجود، من قبيل الأركان. 2640 - وقد تحقق من معاني كلام الأصحاب الاختلافُ في أن ركعتي الطواف معدودتان من الطواف، أو لهما حكم الانفصال عنه. ومن آثار الاختلاف في ذلك أنا إذا حكمنا بوجوب ركعتي الطواف الواجب، فلو أراد المتيمم أن يجمع بتيممه بين الطواف وبين الركعتين؟ في جواز ذلك وجهان مبنيان

_ (1) ر. المختصر: 2/ 79. (2) (ط) مقطوعاً.

على ما ذكرناه: فمن عد الركعتين من الطواف أحلهما محل شوط، وجوّز الجمع. ومن فصلهما عن الطواف، لم يجوّز الجمعَ بين الطواف، وبينهما بتيمم واحد. فمأخذ كلام ابن الحداد هذا، ولا ينقدح غيرُه. ثم لا يمتنع انفصال ركعتي الطواف عنه بزمانٍ متطاول، وهذا يوضّح انفرادهما عن الطواف، ولا يتعين لإقامتهما المسجدُ والحَرَمُ، وصرح الأئمة بأنهما لو أقيمتا بعد الرجوع إلى الوطن، وتخلل مدة، وقعتا الموقع، ولا ينتهيان إلى القضاء، والفوات. وسنذكر أن ما يجب في الحج ولا يكون ركناً؛ فإنه مجبور بالدم، ولم يتعرض الأئمة لجبران ركعتي الطواف، وإن اختلف القول في وجوبهما، والسبب فيه أنهما لا تفوتان، والجبران إنما يثبت عند تقدير الفوات، ثم إن قُدِّر فواتهما بالموت، فلا يمتنع وجوب جبرانهما بالدم، قياساً على سائر المجبورات. 2641 - ومما يتعين التنبه له أنا وإن حكمنا بوجوب الركعتين، وفرعنا على أنهما معدودتان من الطواف، فلا ينتهي الأمر إلى تنزيلهما منزلة شوط من أشواطه؛ (1 فإن تقدير ذلك يتضمن القضاء بكونهما من الركن، في الطواف الواقع ركناً، ولم يصر إلى هذا صائر، وبهذا يضعف عدهما من الطواف 1). 2642 - ومما يذكر [بدعاً] (2) غريباً في أحكام الصلاة تطرق النيابة إلى ركعتي الطواف، من جهة المستأجَر على النسك، وليس في الشرع صلاةٌ تجري النيابةُ فيها غيرُ هذه. ثم إن حكمنا بوجوب الركعتين، لم تقم صلاة أخرى مقامهما، وإن قضينا بأنهما لا تجبان، فقد قال الصيدلاني: لو صلى الفارغ من الطواف فريضةَ الوقت، أو قضى فائتةً، وقع الاكتفاءُ بما جاء به، اعتباراً بتحية المسجد. وهذا مما انفرد به. والأصحاب على مخالفته، فإن الطواف يقتضي صلاة مخصوصة، والمسجد حقُّه ألا يجلس الداخل فيه حتى يصلي.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ك). (2) في الأصل: يدعى.

فصل في أحكام الطواف 2643 - الطواف في الحج ينقسم ثلاثةَ أقسام: أحدها - الطواف الواقع ركناً، وهو يقع بعد الوقوف، وهو المسمى طواف الإفاضة، والزيارة، ولا سبيل إلى تقدير إيقاعه قبل الوقوف، وسنفصل أول وقته، عند ذكر أسباب التحلل. ثم إذا حكمنا بكونه ركناً، فلا يسد مسدَّه شيء، ولا يتطرق إليه جبران. 2644 - والقسم الثاني طوافٌ يقع بعد التحللين، وبعد الفراغ من [مناسك] (1) منى: رمياً، ومبيتاً، وهو طواف الوداع. وفي وجوبه قو لان: أحدهما - أنه يجب، وعلى تاركه الدم، وإليه ميْل النصوص في الجديد. والقول الثاني - أنه لا يجب، ولا جبران على تاركه، ولكنه سُنّةٌ مؤكدة. [ثم] (2) حق هذا الطواف أن لا يعرج الراجع إلى مكة بعده على أمرٍ، فإن عرّج على شغل، فسد ما جاء به عن الجهة المطلوبة، وتعيّن الإتيان بطواف الوداع مرةً، أخرى. والمرأة إذا هي حاضت بعدما أفاضت، وطافت طوافَ الإفاضة، فلتنفر بلا وداع؛ وقد روي أن صفيةَ حاضت في وقت المنصَرَف، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسملم، فقال " عَقْرَى (3) حلْقَى حابِستنا هي؟ فقيل: إنها قد أفاضت قبل أن حاضت، فقال: فلتنفر بلا وداع " (4).

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: لكن. (3) عقرى، حلقى: بالألف المقصورة: وفي معني اللفظين كلام كثير، خلاصته أنه دعاءٌ عليها، ولكن لا تراد حقيقتُه، على عادة العرب في قولهم: تربت يداك، وقولهم: قاتله الله. ما أشجعه، وما أشعره، ونحوه (ر. صحيح مسلم: 1/ 878). (4) حديث صفية: بمعناه عن عائشة في الصحيحين، وله عندهما طرقٌ وألفاظٌ. (ر. البخاري: الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد أن أفاضت، ح 1757، ومسلم: الحج، باب وجوب طواف الوداع، ح 1211، وانظر تلخيص الحبير: 2/ 507 ح 1076).

[ثم إذا نفرت بلا وداع] (1)، وتمادى الحيضُ حتى انتهت إلى مسافة القصر، استمرت ذاهبةً، ولا جبران. وإذا خرج الرجل بلا وداع، وجرينا على قولِ الجبران، وانتهى إلى مسافة القصر، استقر الجبران. ولو آثر العوْدَ، لتداركِ الوَداع، لم يسقط الجبران؛ فإنّ دخول مكة من مثل هذه المسافة في حكم زَوْرة مستفتحةٍ، تقتضي إحراماً جديداً على أحد القولين. ولو حاضت المرأة، وخرجت، ثم انقطع حيضها، وهي بعدُ في خِطة مكة، رجعت، وطافت. وإن جاوزت الخِطة، وما انتهت إلى مسافة القصر، فالذي نص عليه الشافعي: أنه لا رجوع عليها، ونصَّ أن الرجلَ إذا فارق مكة، ولم ينته إلى مسافة القصر، وأراد الرجوعَ، يسوغُ له ذلك، ويقع الاستدراك بالطواف، ويسقط الجبران. واختلف أصحابنا في النصين: فمنهم من جعلها على قولين: أحد القولين - أن انقطاع الحيض دون مسافةِ القصر يوجب الرجوعَ، فإن لم ترجع، التزمت الدمَ على قول. والرجوعُ في حق الرجل، والمرأةِ التي لم تكن حائضاً يثبُت لاستدراك صورة الطواف. هذا قولٌ. والمعتبر فيه مسافةُ القصر. 2645 - وذكر الشيخُ أبو علي، وغيرُه قولاً آخر: إنه لو عاد من مسافة القصر، أمكنه أن يتدارك الوَدَاع، فهذا القائل لا يوجب العود، ولكنه يجوّزه، ويحكم بحصول التدارك. ثم إذا وقع التفريع على هذا القول الغريب؛ فإنه يدخل مكة محرماًً بنسك، فإذا تحلل وودَّع، وخرج يكفيه الودَاع الذي جاء به عن النسك الذي أحدثه الآن، عن التدارك الذي رجع لأجله. وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر: أنه يطوف طوافين: أحدهما - يستدرك به

_ (1) ساقط من الأصل.

ما فاته، والثاني - يأتي به لأجل [النسك] (1) الذي جدده، وهذا ضعيف، ينبغي أن يكون الطواف الأول عن جهة التدارك، والثاني عن جهة هذا النسك. ثم يخرج ولا يحدث أمراً. 2646 - والقول الثاني - أن أمر الوَدَاع يَنْقطع بمفارقة خِطة مكة، ثم يختلف الحكم في الحائض تطهر، والرجل يفارق: فحكم طهرها بعد مفارقة الخِطة أن لا يلزمها العود، ولا الجبران. وحكم الانقطاع في حق غيرها استقرارُ الجبران، وزوالُ إمكان التدارك. ووجه هذا القول أن الوداع متعلق بمكة، فإذا تحققت مفارقتها، فلا معنى لاعتبار مسافةٍ بعد مفارقتها. 2647 - ومن أئمتنا من أقر النصين قرارهما، وفرّق، وقال: المرعيُّ في حق المرأة، مفارقةُ الخِطة، فإذا طهرت عن الحيض، بعد المفارقة، لم يلزمها عودٌ، ولا جبران. والرجل إذا فارق الخِطة، ولم ينته إلى مسافة القصر، أمكنه العود، وذلك لأن الحائض ليست من أهل الوداع شرعاً، فإذا طهرت بعد مفارقة الخِطة، فلا التفات إلى ما مضى من أمرها. والرجل كان من أهل الوداع شرعاً، فلا يبعد بقاءُ المستدرك، إذا لم ينته إلى موضع يقتضي دخولَ الحرم (2) منه. وكأن المرعيّ في الجانبين التخفيفُ. أما المرأة إذا طهرت بعد المفارقة، فلا وَداع عليها، والرجل لا ينحسم عليه المستدرك. ثم إذا اعتبرنا مفارقةَ الخِطة. فيعود الوجهان المذكوران في باب المواقيت، في أن مفارقة العمران هي المرعية، أم مفارقة الحرم، وقد تقدم ذكرُ الوجهين، وهما جاريان هاهنا. ولا خلاف أن المكي إذا خرج مسافراً لم تتوقف استباحةُ الرخص على مجاوزة الحرم [بل المرعيُّ مفارقةُ الخِطة؛ فإن استباحة الرخص لا أثر لها في الحرم] (3)

_ (1) ساقط من الأصل. (2) المعنى إذا لم يصل في خروجه إلى الحلّ ومجاوزة الحرم. (3) ساقط من الأصل.

والحل، وكانت مكة فيها بمثابة سائر البلاد. فهذا منتهى القولِ في طواف الوداع. 2648 - ولا شك أن الوداع على الغرباء؛ فإن من يؤوب إلى مكةَ قاطناً، لا يعتبر الوداع في حقه. ولو عنّ للمكي أن يسافرَ مع الغرباء، فلا وَداع أيضاً؛ فإن حكم السفر يثبت في حقه إذا خرج. ولا تعويل على ما يعتاده المكيون في ذلك؛ فإنهم يحرصون على الوداع أكثر من حرص الغرباء. وفي بعض الطرق رمزٌ إلى أنهم يودّعون إذا نفروا، وخرجوا مع الغرباء. ولا خلاف أنه إذا عنّ لهم هذا بعد العود إلى مكة، فلا وداع. والغريب إذا كان بعد قضاء المناسك مزمعاً على أن يعرّج أياماً بمكة، ثم يخرج، فإذا خرج، ودّع على حسب ما ذكرناه، وإن قصد الإقامة، انقطع أثر الوداع، فإذا أراد السفر، ونقض عزيمةَ الإقامة، فلا وداع. وبالجملة الوداع من مناسك الحج، وإن وقع بعدها. وليس على الخارج من مكةَ وداعٌ بخروجه منها، وليس الخروج في اقتضاء الوداع، كدخول الغرباء مكة في اقتضاء الإحرام. وقد نجز القول في هذا القسم. 2649 - القسم الثالث: طواف القدوم: وهو من الحج في حق من يرد مكة قبلَ عرفة، فيطوف طواف القدوم؛ كما (1) قدم. والذي ذهب إليه الأئمة أنه سُنّةٌ، لا يجب جبرانُه بالدم، بخلاف طواف الوَدَاع. وأشار صاحب التقريب إلى احتمالٍ فيه، فرأى أن يلحقه بطواف الوداع. وهذا بعيدٌ.

_ (1) " كما ": بمعنى عندما.

ثم قال الأئمة: ينبغي ألا يعرج القادمُ على أمرٍ حتى يطوفَ طواف القدوم، (1 فلو أخر طواف القدوم 1)، ففي قول الأئمة تردُّدٌ، وقد قطعوا بأن التعريج بعد طواف الوداع يفسده. وذكر أبو يعقوب الأبيوَرْدي (2) وجهاً في أنه يصح طواف الوداع من غير طهارة، ثم قال: يُجبر بدم. وإنما قال هذا، من حيث إنه أُلزم: وقيل: لو جاز جبر [طواف الوداع بالدم، لجاز جبر] الطهارة فيه بالدم، فارتكبه (3)؛ وقال تُجبر. وهذا غلط، لأنه إذا وجب الدم، فهذا جبرُ الطواف؛ لا جبرُ الطهارة. فهذا آخر قواعد المذهب في الطواف. وقد شذ عن أصول المذهب مسائلُ قريبة ونحن نرسمها فروعاً. فرع: 2650 - الصبيّ إذا انعقد عليه الإحرام، فطاف به طائف، فإن لم يكن ذلك الطائف في نسك، أو كان ناسكاً، ولكن طاف عن نفسه أوّلاً، ثم احتمل الصبيَّ، وطاف به، فالطواف يقع عن الصبي في الصورتين، بلا شك. ولو لم يكن طاف عن نفسه، فإن نوى بالطواف نفسَه، وقع عنه، ولم يحصل الطوافُ للصبي وفاقاً، وإن حصلت فيه صورة التردد. والسبب فيه أن هذه الحركات الصادرة من الحامل، لا يجوز تقدير صرفها إلى مصرفين؛ فإذا وقعت عن شخصٍ، لم تقع عن غيره؛ وأئمة المذهب مجمعون على هذا؛ فلا نظر مع وفاقهم في وجه الرأي والاحتمال.

_ (1) ساقط من (ك) ما بين القوسين. (2) أبو يعقوب: يوسف بن محمد الأبيوَرْدي. أحد الأئمة، من أقران القفال، ومن مشايخ الشيخ أبي محمد الجويني. منسوب إلى (أبيوَرْد). له كتاب المسائل في الفقه، تفزع إليها الفقهاء. توفي في حدود الأربعمائة، أو بعدها بقليل. (طبقات السبكي: 5/ 362). (3) ارتكبه: هذا مصطلح من مصطلحات المناظرة والجدل، ولم أصل إلى من عرّفه في المؤلفات الخاصة بهذه المصطلحات، ولكن رأيته أكثر من مرة في كلام إمامنا، كما هو واضح من السياق. هذا وقد سبق محاولةُ بيانه في بعض التعليقات السابقة. ومعناه هنا واضح من السياق، وهو أن يُلزَم المناظر أمراً، فلا يعرف الخروج منه، فيسلم بما أُلزمه، وهو خطأ بيّن.

ومن ركب دابة، وطاف عليها، فحركات الدابة مضافةٌ إلى الراكب، ولو ركب دابَّةً رجلان، أو أكثر، حصل الطوافُ لجميعهم بتردُّدِ الدابَّة سبعاً. وكذلك إذا احتمل غيرُ الناسك صبيين، أو أكثر، فهو بمثابة المركب في التفصيل. ولو حمل الصبيَّ، ونواه بالطواف، وما كان طاف، فهذا يستدعي مقدمةً، وهي: أن الطائف لا يلزمه تجديدُ النية للطواف، لأنه ركنٌ من أركان الحج، والنية التي هي عقد الحج مشتملةٌ على الأركان، ولكن لو أتى الطائف بنيةٍ تتضمن الصرف عن جهة النسك، وأتى بصورة الطواف، ففي وقوع الطواف موقعَ الإجزاء وجهان: أحدهما - لا يقع الموقع، ولعله الأصح. وربما كان يقطع به شيخي، ووجهه أنا إن لم نشترط [النية] (1)، فوجهه الاكتفاء بالنية العاقدة الشاملة، فأما صرف الطوافِ عن جهة العبادة قصداً، [فمراغمة] (2) لحكم النية المتقدمة، وقد ذكرنا لذلك نظيراً في باب النية في الطهارة، عند ذكرنا عزوبَ النية، والقصد إلى التبرد، أو التنظف ببقية الطهارة. فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن نوى الحامل -وعليه الطواف- بالطواف الصبيَّ المحمولَ، فالطريقة المرضية تخريجُ ذلك على ما ذكرناه الآن. فإن قلنا: صرف الطواف بالنية يوجب انصرافَه، فلا يقع الطواف عن الطائف، ويقع عن المحمول، وإن قلنا: صرف الطواف بالنية لا يوجب انصرافَه، فيقعُ عن الطائف، فإذا وقع عنه، لم يقع عن الصبي. وكان شيخي يقول: إذا نوى الصبيَّ، فلا يقع عن الصبيّ. وهل (3) يقع عن الطائف؟ فعلى قولين. وهذا فيه خبطٌ. والذي ذكره العراقيون، وغيرُهم ما تقدم.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) في (ط)، (ك) العبارة هكذا: "فلا يقع عن الصبي، وعلى الطائف طوافه، وهل يقع عن الطائف؟ ".

ولو نوى الطائف بالطواف نفسَه والصبّي المحمولَ، وقع الطواف عن الطائف، ولم يقع عن الصبي. فصل قال الشافعي: " ثم يعود إلى الركن، فيستلم ... إلى آخره " (1). 2651 - مضمون الفصل القولُ في السعي بين الصفا والمروة، وهو ركنٌ في الحج والعمرة عندنا، لا يجبر بالدم، خلافاً لأبي حنيفة (2). ثم قال الشافعي: إذا فرغ الطائف من الطواف، واستتم الأشواط السبعة، فإنا نستحب له أن يعود إلى الحَجَر، ويستلمَه، ليكون آخر عهده [الاستلام] (3)، وأول طوافه مفتتحاً بالاستلام ". ثم قال: إن تمكن الطائف من الاستلام في كل شوط، فحسن، وإلا فليعتن به في كل وتر (4)، ثم يصلي ركعتي الطواف، ويؤم بابَ الصفا، وهو في محاذاة الضلع الذي بين الركن اليماني وركن الحَجَر، ويخرج من ذلك الباب، فينتهي إلى الصفا، ويلقى درجاً في حضيضة، ويرقى فيها بقدر قامة. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرقي ليس مقصوداً في الحج، ولكن لا يأمن المنتهي، لو لم يرقَ أن يكون ما انتهى إليه من الدرج المستحدثة، وإلا فالانتهاء إلى أصل الجبل كافٍ وفاقاً.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 79. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء 2/ 145 مسألة: 607، بدائع الصنائع: 2/ 133، حاشية ابن عابدين: 2/ 148. (3) ساقطة من الأصل، وفي (ط) و (ك): " بالاستلام "، والمثبت تصرف من المحقق. هذا. ولم نصل إلى هذا النص للشافعي، في " المختصر "، وفي " الأم " كلامٌ بمعناه. قال: " وأحب الاستلام حين أبتدئ بالطواف بكل حال، وأحب أن يستلم الرجل إذا لم يُؤذِ، ولم يؤذَ بالزحام، ويدع إذا أوذي أوآذى بالزحام، ولا أحب الزحام إلا في بدء الطواف، وإن زاحم، ففي الآخرة " الأم: (2/ 146). (4) في الأم بلفظ: " أحب الاستلام في كل وتر أكثر مما أستحب في كل شفع، فإذا لم يكن زحام أحببت الاستلام في كل طواف " (ر. الأم: 2/ 146).

2652 - ونحن نرسم الآن القول في شرط السعي، وفيما يقع منه موقع الركن، ثم نذكر ما يتعلق بهيئاته، كدأبنا في الطواف: فأما الشرطُ، فلابد من تقدم طوافٍ معتدٍّ به، ولا يجوز الإتيان بالسعي من غير سبق طواف. ثم لا يمتنع أن يكون الطواف المتقدمُ نفلاً، والسعي لا يقع إلا ركناً، ولا يتأقت بطواف الإفاضة، بل إذا طاف القادمُ طوافَ القدوم، وسعى، وقع السعي ركناً، ولا يعيده إذا طاف طواف الزيارة، بل لا يؤثر أن يعيدَه، وكان شيخي يقول: تكره إعادته، والأمر على ما ذكر، وليس كالطواف؛ فإن غيرَ الناسك يأتي بما شاء من الطواف؛ فإنه قُربة في نفسه، والسعي تابعٌ، فيقتصر منه على الركن. ثم إذا تقدم الطوافُ المحسوب، لم نشترط في السعي ما شرطناه في الطواف: من الطهارة والستر، ولا نشترط الموالاة، بين السعي والطواف، بل نقول: إذا تقدم الطوافُ معتداً به، وتخلل بين انقضائه وبين ابتداء السعي فصل طويل، فلا بأس. قال الشيخ أبو علي: قلت للقفال: ما ترى فيه؟ فقال: لو أتى بالسعي بعد سنةٍ أجزأ، فلا أعرف فيه حداً. ثم قال الشيخ: ولو طاف طوافَ القدوم، ولم يسْعَ على أثره، ووقف بعرفةَ ثم أراد أن يسعى؛ وصْلاً للسعي بما تقدَّم من طواف القدوم، لم يجُز، وما تخلل من الوقوف فاصلٌ حاجزٌ، وإن كنا لا نشترط الموالاة، فليطف عند الإفاضة، وليسْع. هكذا قال. فإن قيل: لو أوقع السعيَ على أثر طواف الوداع، فما قولكم فيه؟ قلنا: هذا مغالطة؛ فإن طواف الوداع، لا يقع إلا بعد الفراغ عن المناسك كلها، فلا اعتداد بطواف الوداع، وعلى الناسك سعيُه. فإذا طاف المُفيض، ولم يسع، وعادَ إلى منى ليرمي، ويبيت على ما سيأتي مناسك منى - فيعتد بتلك المناسك، وإن كان عليه السعي، وقد يؤخر الطوافَ الركنَ إلى انقضاء أيام منى، فلا بأس. ويخرج منه أنا لا نبعد وقوع تلك المناسك، ممن هو في بقيةٍ من إحرامه. هكذا ذكره شيخي. وفي قلبي منه شيء والعلم عند الله.

2653 - فأما القول فيما هو أصل السعي، والنازل منه منزلةَ الركن، فالأصل التردد بين الصفا والمروة. ثم أجمع الأصحاب على أنه إذا صدر من الصفا إلى المروة حُسب ذلك مرة في السبع، ثم ينتهي من المروة إلى الصفا، فيحسب ثانيةً، وهكذا إلى تمام السبعة، فيكون الابتداء من الصفا، والختم بالمروة. وذهب ابن جرير إلى أن الساعي إذا عاد إلى الصفا بعد الانفصال منه، عُد ذلك مرةً واحدة، ثم يفعل كذلك سبعاً، فيتردد بين الميلين أربع عشرة مرة، وذهب إلى هذا أبو بكر الصيرفي (1) من أصحابنا، وعرض تصنيفاً له، فيه ما ذكرناه على أبي إسحاق المروزي، فخطَّ (2) عليه، فرد التصنيفَ إلى أبي بكر، فأعاده (3)، واستقرّ على مذهبه هذا، ولا يعتد به أصلاً. ومكان السعي معروفٌ [لا] (4) يتعدى. ومما يجب اعتباره الترتيبُ، فلو بدأ بالمروة، وصار إلى الصفا، فلا يحسب، وابتدأ سعيه في انفصاله عن الصفا. فهذا ما يتعلق بالشروط، وما يجري مجرى الركن. 2654 - فأما الهيئات، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقِيَ الصفا بقدر قامة، حتى بدت له الكعبة، ولا يمتنع أنه قصد ذلك الرقي، ثم قال: " الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " (5). فهذا ما صح عنه. وحسنٌ لو دعا الإنسان بما بدا له، ثم ينزل ماشياً على هِينَتِه، حتى يبقى بينه وبين ميلٍ يراه معلّقاً على ركن المسجد، مقدارَ ستة أذرع، فيبتدئ السعيَ. وكان ذلك الميل

_ (1) أبو بكر الصيرفي: محمد بن عبد الله. الإمام الجليل أحد أصحاب الوجوه، تفقه على ابن سريج، ومن كتبه شرح الرسالة، توفي 330 هـ (طبقات السبكي: 3/ 186). (2) خط عليه أي ألغاه، وبلُغتنا " شَطَبه ". (3) أي هذا الكلام الذي خَط عليه المروزي، و (شطبه). (4) ساقطة من الأصل. (5) حديث دعاء السعي، ورد في حديث جابر الطويل عند مسلم (الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1218).

موضوعاً على المكان الذي منه ابتداء السعي، فكان السيل يهدمه، ويحطمه، فرفعوه إلى أعلى ركن المسجد، ولم يجدوا على السَّنَن أقرب من ذلك الركن، فوقع متأخراً عن مبتدأ السعي سِتةَ أذرع. ثم يأخذ في السعي ويتمادى عليه، حتى يتوسط ميلين أخضرين أحدهما متصلٌ بفناء المسجد، عن يسار الساعي، والثاني متصل بخانٍ، تعرفه العامة بدار العباس، فإذا توسطهما، عاد إلى سجية المشي. ثم الصحيح من رسول الله صلى الله عليه وسلم شدّةُ السعي " قالت حبيبةُ بنت أبي تجراه (1): " تطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع نسوةٍ من قريش، لأنظر كيف يسعى، [فرأيته يسعى] (2)، وساقه تدور بإزاره، من شدة السعي، ويقول: أيها الناس: إن الله كتب عليهم السعي، فاسعَوْا " (3). وذكر بعض أئمتنا لفظ الخبب، وليس ذلك مما يعتد به. ولكن لا ينبغي أن يبلغ السعي مبلغاً ينبهر به، فإذا كان كذلك، فمن ضرورته طرف من الاقتصاد. والرقي في المروةِ محبوبٌ كالرقي في الصفا. وكانت الكعبة تبدو في عصر رسول الله عليه وسلم من تلك الجهة أيضاً، ثم أحدث الناس الأبنية، فحالت بين الكعبة وبين الراقين في المروة بالمقدار المشروع، وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سعيه: " اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة. وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " (4).

_ (1) حبيبة بنت أبي تجراه العبدرية، ثم الشيبية، قيل بفتح الأول، وقيل بالتصغير، وتجراه بفتح التاء المثناة من فوق، وفي مسند أحمد (تجزئة) بدل تجراه. وقيل في اسمها حبيّبة. بالتصغير مع التشديد، روى حديثها هذا. الشافعي، وأحمد، والطحاوي (ر. الإصابة، والاستيعاب، وتجريد أسماء الصحابة). (2) ساقط من الأصل. (3) حديث: أيها الناس: إن الله كتب عليكم السعي. رواه أحمد في مسنده: 6/ 421، 422، ورواه ابن حجر في ترجمة حبيبة في الإصابة، وكذلك ابن عبد البر في الاستيعاب. (4) دعاء اللهم اغفر وارحم ... رواه الطبراني في الدعاء، وفي الأوسط بعضه من حديث ابن مسعود، ورواه البيهقي: 5/ 95، وانظر التلخيص: 2/ 479.

فصل قال: "وإن كان معتمراً، وكان معه هديٌ، نحر، وحلق ... إلى آخره" (1). 2655 - لم يرع المزني ترتيب مسائل الحج، كما ينبغي، بل أتى بها إتياناً يُشعر بقصد التشويش. ولكنا التزمنا الجريان على ترتيب (المختصر)، والآن ذكر فصلاً طويلاً في الحلق الذي لا يقع محظوراً: وهو من المعتمر يقع بعد السعي، ومن الحاج يوم النحر، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. 2656 - وقد اختلف قول الشافعي في أن الحلق في أوانه الذي وصفناه نسكٌ، أو محظورُ نسكٍ أبيح؟ فقال في أحد القولين: " هو محظور أبيح، اعتباراً بالقَلْم واللُّبس، وما عداهما " والقول الثاني: " إنه نسك " ويشهد له ظاهر الكتاب، واستحبابُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإطباق الناس على التشوّف إليه، حتى لا يخلو منقطَعُ نسك عنه. فإن قلنا: إنه نسك، فلا يحصل التحلل إلاّ به في العمرة، وهو من أسباب التحلل في الحج. وموضع الحلق الرأس، ولا يتعلق النسك بغيره، كالفدية عند فرض التعرض للشعر قبل التحلل، فإنها تتعلق بكل شعر (2)، وإذا لم يكن على الرأس شعر استحببنا إمرار الموسى عليه؛ تشبيهاً بالحلق، ولا يجب ذلك. ونقل الصيدلاني عن الشافعي -مع استحباب ما ذكرنا- استحبابَ- الأخذ من الشارب، أو اللحية. ولست أرى لهذا وجهاً، إلا أن يكون أسنده إلى أثرٍ. ثم لا نقول على قولينا الحِلاق نسك: يتعين أن يصبر حتى ينبت شعرُه ثم يحلقه، بل إذا لم يكن في أوان الحلق شعرٌ، سقط الحلق، والإمرار تشبهٌ مندوب إليه.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 80. (2) بكل شعرٍ: أي بكل شعر من شعور الجسد.

2657 - ثم الحلق للرجال أفضل، والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بالتحلل، عامَ الحديبية، وتَوانَوا في التحلل والحِلاق، وأمرهم ثانية وثالثة، فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة، فقال: أما تَرَيْن قومك، أمرتهم بالتحلل، فلم يفعلوا!! فقالت: اخرج، ولا تُحدث أمراً، حتى تدعوَ بحالقك، فيحلقَ شعرك، وبجازرك فينحرَ هديك، فخرج، وفعل، فابتدر الناس إلى الحِلاق، والنحر، حتى كادوا يقتتلون، فمنهم من حلق، ومنهم من قصر " (1). وقيل ما أشارت امرأة بالصواب، إلا أم سلمة في هذا الأمر. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله المحلقين ". قيل: يا رسول الله، والمقصرين. قال: " رحم الله المحلقين ". قيل: يا رسول الله، والمقصرين، قال: رحم الله المحلّقين، قيل: يا رسول الله، والمقصرين. قال: والمقصرين " (2). 2658 - ثم قال الأئمة: إذا ثبت أن الحلق أفضل، فلو نذر الحلقَ في أوانه، لزمه الوفاء بالنذر، ولم يُغن التقصير، فحكموا بأنه يلتزمه بعينه بالنذر، وقد نص الشافعي عليه أيضاً. ولو لبّد المحرم رأسه، وعقصه، فهذا لا يفعله إلا العازم على الحلق، فهل ينزل هذا منزلةَ نذر الحلق؟ فعلى قولين. ونظير ذلك في المناسك التقليدُ والإشعار؛ فإن القول اختلف في أنه هل ينزل ذلك منزلة قول القائل: جعلت هذا ضحية؟ ومما يداني ذلك أن من رأى بهيمةً مذبوحة مشعَرة، قد غُمِس مَنْسِمها (3) في دمها، وضُرب به

_ (1) حديث مشورة أم سلمة يوم الحديبية رواه البخاري من حديث المِسْوَر بن مَخْرَمةَ، ومروان بن الحكم الطويل في قصة الحديبية (الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح 2731، 2732). (2) حديث رحم الله المحلقين: متفق عليه من حديث ابن عمر: البخاري: الحج، باب الحلق، ح 1727، ومسلم: الحج، باب تفضيل الحلق، ح 1302، ومن حديث أبي هريرة، نفس الموضع عند البخاري ومسلم، ورواه مسلم من حديث أم حصين، في الموضع نفسه، وأحمد عن أبي سعيد، المسند: 3/ 20، 89، وانظر التلخيص: 2/ 499 ح 1062. (3) المَنسم: بفتح الميم وكسر السين. طرف خف البعير.

صفحتها، فهل له أن يأكل منها، اكتفاء بما رأى من العلامات؟ فيه قولان. وسيأتي كل أصلٍ في موضعه مستقصى إن شاء الله تعالى. فإن نذر الحلقَ، وألزمناه الوفاء، فقد ذكرنا أن التقصير لا يكفيه، ومعنى التقصير الأخذ من الشعر، مع إبقاء شيء ممّا أخذ، فلو استأصل الشعر بالمقص، فهذا (1) لا يسمى حلقاً، وفيه احتمال؛ من جهة الاستئصال وكذلك لو نتف أو [أحرق] (2). ولو لم يجر نذرٌ، سقط الفرض -على قول النسك- بالنتف. ولو نذر الحلقَ، ثم أمرّ الموسى، ولم يستأصل، فالظاهر أنه لا يسقط الفرض؛ فإن هذا من التقصير. ويكفي ما يسمى حلقاً، ولا يشترط الإمعان في الاستئصال، ويقرب الرجوع إلى اعتبار رؤية الشعر. 2659 - والنسوة لا حلق عليهن، بل يقتصرن على التقصير، ولا يلزمهن الحلق بالنذر؛ فإن الحلق ليس قُربة في حقهن. 2660 - ثم الأقل المجزئ نسكاً، هو الذي تكمل [الفدية] (3) فيه إذا جرى محظوراً، وهو ثلاث شعرات. وقد ذكرنا شيئاً بعيداً في الشعرة الواحدة، وأن الفدية هل تكمل بها؟ وهو عائدٌ فيما يقع نسكاً، ولكنه مزيف، غيرُ معدود من المذهب. وكان شيخي يقول: لو نذر استيعابَ الرأس بالحلق، ففي وجوب الوفاء به تردد للقفال، وهو مظنة الإشكال. ولا اطلاع على حقيقته قبل كتاب النذور. وحلقُ شعراتٍ في دفعات مقيسٌ بحلقها على الحظر، فإن أكملنا الفدية مع التفرق، [حكمنا] (4) بكمال النسك [بها في أوان النسك] (5). وإن لم نكمل الفدية، لم يسقط حق النسك.

_ (1) سقطت من (ك). (2) في الأصل: حلق. (3) في الأصل: القربة. (4) في الأصل: حكماً. (5) ساقط من الأصل.

ولو أخذ المحرم شيئاً من شعرةٍ، ثم عاد إليها بعد زمانٍ وأخذ شيئاً آخر منها، ثم كذلك ثالثة، وكل ذلك في شعرة واحدة، فإن كان الزمان متواصلاً، لم نكمل الفدية، ولم يسقط النسك، وإن تقطّع الزمان، ففي المسألتين خلاف، ووجه الاحتمال بيّن. 2661 - ثم إذا حكمنا بكون الحلق نسكاً، فهو ركنٌ، وليس كالرمي والمبيت، فاعلم ذلك؛ فإنه متفق عليه، وآيته أنه مع الحكم بوجوبه لا يقوم الفداء مقامه، حتى لو فرض اعتلال في الرأس يعسر معه التعرض للشعر، ولكنه كائنٌ، فلابد من التريّث إلى إمكان الحلق، ولا تقوم الفديةُ مقامه. نعم، إذا لم يكن شعرٌ، فلا حلقَ؛ لأن الحلق للنسك (1) هو حلق شعرٍ (2 اشتمل الإحرام عليه، فإذا لم يكن على الرأس شعر 2) في وقت الحلق، لم يتحقق ما ذكرناه. 2662 - ثم وقت الحلق في العمرة يدخل بالفراغ من السعي، ووقت الحلق في الحج يأتي مستقصىً، بعد هذا إن شاء الله تعالى. فصل قال الشافعي: " ويخطب الإمام يوم السابع ... إلى آخره " (3). 2663 - ينبغي للمقدَّم الذي يحج بالناس، أن يخطب أربع خطب، ولا ينبغي للإمام إذا لم يحضر بنفسه أن يُخلي جمعَ الحجيج عن مقدَّمٍ يحِلّ محل الأمير عليهم، والسبب فيه أن الحج يجمع صنوفاً من الخلق، ويُتوقع من ازدحامهم أمور لابد في دفعها من التعلّق برأيٍ مطاع؛ ولهذا يستحب أن يحضر الجامعَ [سلطانٌ] (4). وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج، في السنة التاسعة من

_ (1) (ط): النسك. (2) ساقط من (ط). (3) ر. المختصر: 2/ 81. (4) ساقطة من الأصل.

الهجرة (1)، وبعث علياً وراءه، حتى يقرأ على الكفار سورة براءة. ثم الخطبة الأولى تكون في يوم السابع، يحمد الله تعالى فيها، ويصلي على نبيه، ويعلّم الناس ما بين أيديهم من المناسك، ويستحثهم على النُّقْلة يوم التروية، كما سنصفها. والخطبة الأخرى تقع يوم عرفة [بعرفة] (2). والثالثة تقع يوم النحر، والرابعة يوم النَّفر الأول. والخطب كلها أفرادٌ واقعةٌ بعد الفراغ من صلاة الظهر، إلا خطبة يوم عرفة، فإن الإمام يخطب خطبتين، قبل فعل الصلاة، بعد الزوال، وتكون الخطبة الثانيةُ قصيرةً، لا تزيد على مقدار الأذان، والإقامة. فيبتدئ الخطبةَ الثانية ويبتدىء المؤذن الأذان، ويُتبعه الإقامة، ويقرب نجاز الخطبة من فراغ المؤذن من الإقامة. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت خطبته في مسجد إبراهيم، على ما سنذكر مكانه من عرفة، ومقصود كل خطبةٍ تعليمُ الناس ما هم فيه، وما بين أيديهم من المناسك. 2664 - ثم ذكر (3) بعد ذلك الوقوفَ بعرفة، وهو الركن الأعظم، وبه يتعلق الإدراك، والفوات. فأول ما نذكره مكانُ الوقوف، وزمانُه، فأما المكان، فمعروف، والذي نحتاج إلى ذكره أن على منقطع عرفة مما يلي منى، وصوب مكة وادٍ، يقال له: وادي عُرَنَة (4)، وليس ذلك الوادي من عرفة. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجيج بالترقي منه. ومسجد إبراهيم بعضُه في الوادي وأخرياتُه في عرفة، فمن وقف في صدر

_ (1) حديث بعث أبي بكر أميراً على الحج، متفق عليه، من حديث أبي هريرة (البخاري: الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان، ح 1622، ومسلم: الحج، باب لا يحج البيت مشرك، ح 1347). (2) ساقطة من الأصل. (3) ذكر: أي المزني في المختصر. (4) عُرَنة: وزان رطبة.

المسجد، فليس واقفاً بعرفة، ويتميز مكانُ [المسجد] (1) من عرفة بصخرات كبار، فرشت في ذلك الموضع. ويُطيف بعرجَات عرفة جبالٌ، ووجوهها المقبلةُ من عرفة، وفي وسطها جبل يسمى جبلَ الرحمة، ولا نسك في الرقيّ فيه، وإن كان يعتاده الناس، وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفٌ، وعنده يقف الخطيب. فهذا ما يتعلق بالمكان. 2665 - فأما الزمان، فيدخل أول (2) وقت الوقوف بزوال الشمس يومَ عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر؛ فلو لم ينته إلى عرفةَ إلاّ بعد غروب الشمس، ولكنه أدرك الوقوف ليلاً، فقد أدرك الحج. وفي بعض التصانيف قولان في الإدراك، وهذا غير سديد. والوجه القطع بالإدراك. وكان شيخي يذكر الخلاف فيه، إذا أنشأ الإحرام ليلة النحر، ويصحح الإدراكَ، ويزيف غيره. ولم تختلف الأئمة [في] (3) أن من أدرك الوقوف نهاراً، وأفاض، ففارق عرفة قبل غروب الشمس، فهو مدرك للحج، وإن لم يجمع بين الليل والنهار، في وقوفه. وقال مالك (4): " من وقف ليلة النحر، فقد أدرك الحج، وإن وقف نهاراً، ولم تغرب عليه الشمس وهو بعرفة، لم يكن مدركاً للحج "؛ وصار إلى أن الوقت الأطول ليلة النحر، فالاعتبار به. ثم إذا جعلناه مدركاً للحج، وقد أفاض قبل الغروب، ففي لزوم الدم قولان: أحدهما - أنه يلزمه، إلا أن يعود إلى عرفة قبل غروب الشمس، ويصبر حتى تغرب، فلا دم حينئذ. والقول الثاني - لا يلزم الدم أصلاً، عاد، أو لم يعد. وإذا اختلف القولان في وجوب الدم، تبيّن من اختلافهما الاختلافُ في وجوب الكون بعرفة.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقط من (ك). (3) ساقطة من الأصل. (4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 482 مسألة 772.

2666 - والحج يشتمل على ثلاثة أصناف: الأركان - وبها الاعتداد، وإذا فرض الإخلال بها، لم يقم جابر مقامها. والثاني - الأبعاض وهي تنقسم إلى متفق عليه، وإلى مختلفٍ فيه، على ما سنجمعها بعد ذلك. فكلُّ ما نُوجِبُ الدمَ فيها قطعاً، فهو واجب، وإن لم يكن ركناً، وما تردد القول في وجوب الدم فيه، فالقول مختلف في وجوبه أيضاً. فإن قلنا: يجب الدم إذا أفاض قبل الغروب، فلو عاد بعد الغروب، فهل يسقط الدم بهذا العود؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط؛ لأنه جمع بين الليل والنهار. والثاني - لا يسقط؛ فإن المطلوب أن يتصل آخر النهار بأول الليل، وهو كائن بعرفة (1). فهذا تفصيل المذهب في (2 زمان الوقوف 2). 2667 - ثم نذكر بعد ذلك فصولاً، منها: إن الحصول بعرفة كاف، وإن لم يتفق لبثٌ، حتى لو عبر بطرفٍ من عرفة، كفاه ذلك، ولا يشترط أن يكون حضوره إياها على علمٍ منه بها، ولو لم يعرف حصوله بعرفة، وقد كان حضر (3) بها، كفاه ذلك. ومما يجب التنبه له أنا إذا ذكرنا خلافاً في الذي يصرف طوافه عن جهة النسك، إلى جهةٍ أخرى، وليس في الطرق تعرُّضٌ لتصوير مثل ذلك في عرفة، فظاهر الطرق يشير إلى القطع بأنه لو صرف حصولَه بعرفة، إلى جهةٍ أخرى، حصل له الوقوف، مثل: أن يتبع غريماً له، أو دابة نادّة (4). ولعل السبب فيه، أن الوقوف في نفسه، لا يُتَخَيّل قُربة، والطواف قُربة على حياله، والذي يدل على ما ذكرناه أن الأئمة قالوا: لو حضر بطرفٍ من أطراف (5) عرفة [نائماً] (6)، كفاه ذلك.

_ (1) لم يصرح بالثالث من الأصناف التي يشتمل عليها الحج، وهو السنن التي لا يجب فيها دم. (2) ما بين القوسين سقط من (ك). (3) (ط): خطر بها. (4) ندّ البعير: نفر وشرد. (المعجم). (5) (ك) أطرافه. (6) في الأصل، و (ك): فأنما.

ولا يبعد أن يقال: لو اتفق مثلُ هذا من راكب في أشواط [الطواف] (1)، والنوم على هيئة لا تنقض الطهر، فهذا يقرب من الخلاف في صرف الطواف إلى غير جهة النسك؛ فإنه لم يوجد منه فعلٌ أصلاً، وهذا محتمل في الطواف، ويجوز أن يقال: يقطع بوقوع الطواف من النائم، الذي صورناه موقعه؛ من حيث (2) لم يصرف الطوافَ عن النسك، وإن لم يكن ذاكراً له. وهذا يلتفت على أصلٍ، ذكرتُه في كتاب الطهارة، وهو أن من نوى الطهارة، ولم يصدر منه فعل في الغُسل، لا من جهة الإقدام عليه، ولا من جهة المُكث في الماء، فهل نقضي بصحة الوضوء، والحالة هذه؟ ففي المسألة وجهان، ذكرتهما عن شيخنا أبي علي. ولا يمتنع طرد الخلاف في [الوقوف] (3) إذا [صرف قصداً] (4) عن جهة النسك. فهذا بيان القول فيما يسقط الفرض به من الوقوف، وفيما يحصل به التمام، وفي محل الدم، على الاختلاف. 2668 - ومما نذكره في فصول عرفة: الجمعُ بين صلاة الظهر والعصر، وهو مندوب إليه في هذا اليوم؛ حتى يتفرغ الحجيج إلى الدعاء، ويتسع لهم وقت الإفاضة، ثم القول في الجمع مذكور في كتاب الصلاة، ولكن نعيد ما يختص بالنسك: فالغريب يجمع مقدِّماً، على ما يعتاده الحجيج، ولو أخر، فلا عليه؛ فإنه مسافر، يجمع مقدماً، ومؤخراً، ولا شك أن الأوْلى التقديم. وقد ذكرنا في الصلاة أن إقامة الصلوات في المواقيت أولى من الجمع، إلا في حق الحاج؛ فإن إيثار الفراغ شيةَ عرفة أهم، وأولى من كل شيء، ولهذا اتفق العلماء على أنا لا نؤثر للحاج صومَ يوم عرفة؛ حتى يتمكن من الدعاء عشية عرفة. وصح أن

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) سقطت من (ك). (3) في الأصل: الوقت. (4) ساقط من الأصل.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1 لم يكن صائما يومئذ. 2669 - ومن فصول عرفة أنا نؤثر إكثار التهليل عشية عرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 1) " إن أفضل ما دعوتُ ودعا الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله " (2) ومما نؤثر للحجيج في عرفات التلبيةُ، ورفعُ الصوت بها، على الحدّ الذي ذكرناه. 2670 - وقد ذكرنا خلافاً في أن المسافر سفراً قصيراً، هل يجمع؛ واختلف أصحابنا على طريقين في المكي، فقطع بعضهم بأنه يجمع، وإن قَصُر سفره، لمكان النسك. وهؤلاء يرون الجمع من آثار النسك. ومن أصحابنا من خرّج جمع المكي على القولين في جمع المسافر سفراً قصيراً. والعَرَفيّ (3) إذا أنشأ الإحرام من عرفة، فهل يجمع؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجمع وإن جمع المكي، فإنه جمعٌ في الإقامة من غير مطر. والثاني - يجمع، لمكان النسك. وقد نجز المقصود في الوقوف. فرع: 2671 - إذا وقع غلطٌ في الهلال، فوقف الناس يوم العاشر، ثم تبيّنوا الغلطَ، وقع وقوفهم الموقع وفاقاً، والسبب فيه أنهم لو كلّفوا القضاء، لم يأمنوا وقوعَ مثله في القضاء، ثم إن أقاموا، لاقَوْا عسراً، وإن انقلبوا وآبوا، تضاعفت المشقات. وليس في الشرع تكليفُ مثل هذا. واختلف الأئمة في أنهم لو وقفوا في اليوم الثامن، وهذا يتصور بفرض شهادات زور، على الهلال.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ك). (2) دعاء عرفة بهذا السياق، رواه العقيلي في الضعفاء الكبير من حديث نافع عن ابن عمر: 3/ 462 ترجمة فرج بن فضالة، وله روايات أخرى بألفاظ متقاربة، منها مالك في الموطأ: 1/ 422، 423، والبيهقي: 4/ 284، 5/ 117، وانظر تلخيص الحبير: 2/ 484 ح 1044. (3) أي الذي من أهل عرفة.

فمن أصحابنا من قال: يقع الوقوف الموقع، كالغلط إلى العاشر، ومنهم من قال: إنه لا يقع الموقعَ؛ فإن هذا النوع من الغلط بديعٌ نادر الوقوع، ووضع الشرع يقتضي الفرق بينهما. ولا شك أن هذا الذي ذكرناه فيه إذا لم يتنبهوا (1)، حتى انقضى التاسع. 2672 - ثم الحجيج إذا رأَوْا الشمس مُتَضَيِّفَةً للغروب، انقلبوا عن الموقف، فيوافون الانفصال - من طرف عرفةَ بعد غروب الشمس، ويوافون مزدلفة، ويؤخرون المغرب إلى العشاء، ويجمعون بينهما بمزدلفة، وتمدّ المطايا أعناقها، حتى إذا وَافَوْا مزدلفةَ باتوا بها، فإذا انتصف الليل، أخذوا في التأهب للرحيل، ثم إذا استقلّت بهم المطايا، وانتهَوْا إلى المشعر الحرام، وهو آخر مزدلفة، وقفوا، ودَعَوْا، ووقوفهم هذا سنةٌ، غيرُ مجبورة بالدم لو تركت. ويلقاهم بعد مجاوزة المشعر [الحرام] (2) وادي مُحسِّر (3)، وكانت العرب تقف به، وقد أُمرنا بمخالفتهم، فلا وقوف. وقد نؤثر تحريك الدابة قليلاً، وكان عمر إذا انتهى إلى وادي محسِّر يحرّك دابته، ويقول: تعدو إليك قَلِقاً وَضينُها ... معترضاً في بطنها جنينُها مخالفاً دينَ النصارى دينُها (4)

_ (1) (ك): يتبينوا. (2) ساقطة من الأصل. (3) وهو بين مزدلفة ومنى كما هو واضح من السياق، وسمي بذلك لأن فيل أبرهة كلّ فيه وأعياه (فحسّر) أصحابه بفعله، وأوقعهم في الحسرات (المصباح). (4) الأبيات في اللسان وعند البيهقي بتغيير في الشطر الأول هكذا: إليك تعدو قلقاً وضينها. تعدو أي المطايا. قلقاً وضينها: كناية عن السرعة والخفة، لأن الوضين هنا بمعنى الحزام، الذي يشد به الرحل، وقلق الحزام دليل ضمور بطن المطايا وخفتها، واستعدادها للسير. وأراد دينه لأن الناقة لا دين لها. وفي اللسان أن الذي أنشدها هو ابن عمر، لا عمر. رضي الله عنهما، أخرجه الهروي والزمخشري. وأما الطبراني، فقد أخرجها عن سالم عن أبيه أن النبي صلى اله عليه وسلم،=

وإذا وقعت الرحلة من مزدلفة في السُّحْرةِ العليا، فإنهم يوافون أطراف منى، وقد أسفروا وينتهون إلى الجمرات، فيتعدَّوْن الجمرة الأولى التي ينتهون إليها، والجمرةَ الثانية، وهما على قارعة الطريق، ثم يمرون حتى ينتهوا إلى جمرة العقبة، وتلك الجمرة في حضيض الجبل، مترقية عن الجادّة على يمين السائر إلى مكة، ثم إذا انتهَوْا إلى هذا المنتهى، وابتدَوْا (1) رمي هذه الجمرة، تركوا التلبية وأبدلوها بالتكبير. وكان شيخي يذكر عن شيخه القفال أنهم إذا رحلوا (2) من مزدلفةَ، مزجوا التلبيةَ بالتكبير، في ممرهم، فإذا انتهَوْا إلى الجمرة، وافتتحوا الرمي، محّضوا التكبير، ولم أرَ ذكرَ المزج إلى الرمي لغيره. 2673 - ثم نبتدئ من هذا الموضع القولَ في التحلل. فنقول: للحج تحللان، وهما متعلقان بأسباب ثلاثة، على قولٍ، وبسببين على الآخر. فإن حكمنا بأن الحلقَ في أوانه نسك، فأسباب التحلل ثلاثة: الحلق، وطواف الزيارة، ورمي جمرة العقبة. وإن قلنا: الحلق محظورُ نسكٍ يباح إباحة القَلْم، فلا يباح به تحلل، وسبب التحللين طواف الإفاضة، ورمي جمرة العقبة. ثم إن قلنا: للتحلل سببان، فالإتيان بأحدهما يوجب أحد التحللين. وإن قلنا: الحلقُ نسك، فأسباب التحلل ثلاثة، والإتيان بالاثنين منها يثبت أحد التحللين، ولا تعيين، وكأنا نبغي التنصيف، ولكن الثلاثة ليس لها نصفٌ صحيح، فاقتضى ذلك تنزيلَ الأمر على اثنين، وهذا كقولينا: بتمليك العبد طلقتين، على محاولة تشطير الثلاث. ثم عند ذلك قال الشافعي: " لا ترتيب في هذه الأسباب "، فليقدم منها ما شاء،

_ =هو الذي ثمثل بها، والبيهقي هو الذي أخرجها عن عمر (ر. اللسان، تلخيص الحبير: 2/ 494، والبيهقي: 5/ 126). (1) بتسهيل الهمزة. (2) (ط): دخلوا مزدلفة.

وليؤخر ما شاء، وما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عن شيء قدِّم من ذلك أو أُخر، إلا قال: " افعل ولا حرج " (1). 2674 - ومما تمس الحاجة إلى ذكره في رمي جمرة العقبة: أن وقته يدخل بدخول وقت الطواف، [ووقت الحلق] (2) على قول النسك. ثم مذهبنا أنه كما (3) انتصفت ليلة المبيت بمزدلفة، دخل وقت هذه الأشياء الثلاثة، حتى لو بادر مكة، وأخل بالمبيت، وانتهى إلى مكة قبل طلوع الفجر، وطاف، اعتُدّ بطوافه، ولو انتهى إلى الجمرة، فرمى، وقَع الموقع، وكذلك لو حلق على قول النسك. غير أن الأولى أن لا يرمي إلاّ بعد طلوع الشمس، والدليل على جواز الإيقاع بالليل، ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدّم ضعفة أهله من المزدلفة بليل، وقال: " رُوَيْدَك بالقوارير يا أنجشة "، وذكر لهم أن يوافوه راجعين إلى منى " (4). وكان صلى الله عليه وسلم وافى الرمي قبل الطلوع، فلا يتأتى موافاته في وقت وصوله إلا بإيقاع الطواف ليلاً، فإن من منى إلى مكة فرسخين. ثم وقت رمي العقبة يمتد إلى غروب الشمس يوم النحر، وهل يمتد إلى طلوع الفجر في الليلة المستَقبلة يوم القَرّ (5)؛ فعلى وجهين: ذكرهما الإمام وصاحب التقريب: أظهرهما أنه لا يمتد، ومن قال: يمتد، اعتبره بالوقوف بعرفة، لمّا تعلّق بالنهار، وبالليلة المستقبِلة.

_ (1) حديث " افعل ولا حرج " متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 65 ح 822). (2) ساقط من الأصل. (3) كما: بمعنى عندما. (4) حديث تقديم الضعفة من المزدلفة، أصله متفق عليه، من حديث ابن عباس (البخاري: الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل، ح 1678، ومسلم: الحج، استحباب تقديم دفع الضعفة، ح 1293). (5) يوم القرّ: الأول من أيام التشريق، لأن الناس يقرّون فيه بمنى.

فإن فات الرمي على ما سنصف فواته بعد هذا، ولم يثبت قضاؤه، أو ثبت [وانقضى] (1) بانقضاء أيام التشريق، وجب الدم على ما سيأتي. ثم اختلف أصحابنا في أن التحلل هل يتوقف على الإتيان ببدل الرمي؟ منهم من قال: لا. ومنهم من قال: يتوقف على البدل، توقفه على المبدل. ومنهم من فصّل بين أن يكون البدل دماً، وبين أن يكون صوماً: قال: إن كان دماً توقف التحلل عليه، وإن كان صوماً، لم يتوقف عليه، لطول الزمان. 2675 - وأما طواف الإفاضة، فإنه ركن وإن كان من أسباب التحلل، وإن كان أخَّر السعي، فالطواف والسعيُ يعدان شيئاً واحداً من أسباب التحلل. [فهذا بيان التحللين بأسبابهما] (2). وقال صاحب التقريب: إذا لم نجعل الحِلاقَ نسكاً، فمن أصحابنا من قال: [كما] (3) طلع الفجر يومَ النحر، حصل أحدُ التحللين، من غير إقدام على شيء، واعتبر طلوع الفجر، نظراً إلى الدخول في اليوم. 2676 - فإِذا وضح ما ذكرناه، فنذكر بعده الأحكامَ المتعلقةَ بالتحللين، وأحدِهما. فأما إذا حصل أحد التحللين، فلا خلاف في استباحة لُبسِ المخيط، وسترِ الرأس، وقَلْمِ الظفر، والحلقِ إن لم نجعله نسكاً. ولا خلاف أن الوطء لا يستباح، بتحلل واحدٍ. فأما التلذذُ دون الجماع، مع الإنزال ودونه، والاصطيادُ، وعقدُ النكاح، ففي هذه الخصال الثلاث قولان: أحدهما - أنها تستفاد بتحلل واحد كما قدمناه، والثاني لا تستفاد كالجماع. أما المباشرة فشبيهةٌ به، والعقد توصلٌ إليه، والصيد عظيم

_ (1) في الأصل: وانتفى. (2) عبارة الأصل مضطربة هكذا: ولو كان التحللين، وأسبابهما. (3) في الأصل: كلما. و" كما " هنا بمعنى: (عندما).

الوقع؛ من حيث إنه إتلافٌ [محرّم] (1)، فشابه الوقاع، لعظم وقعه. واختلف أصحابنا على طريقين في استعمال الطيب، فمنهم من قطع بإلحاقه باللُّبس، والقَلْم فأباحه، ومنهم من خرّجه على قولين، كالمباشرة، وغيرها. والأولى وإن قلنا: لا ترتيب، أن يرمي الجمرةَ، ثم يحلق، ثم يطوف، فأما الرمي، فالرأي تقديمه حذاراً من الخلاف، ثم الحلق يقدّم، ليأتي البيت لابساً [متزيناً] (2). فصل 2677 - أعمال الحج تقع على وجهين، ولكل واحد ترتيب، نذكره حتى يفهم المبتدئ ترتيب الأعمال. فإذا أحرم الغريب بالحج، من ميقاته، ووجد متَّسعاً في الزمان، فإنه يدخل مكةَ قادماً، ويطوف طواف القدوم، كما سبق وصفه، ثم هو بالخيار: إن شاء سعى على أثر طواف القدوم، ووقع السعي ركناً، وإن شاء أخر السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة. ثم أهل مكةَ يرحلون يوم التروية، ويسمونه يومَ النُّقْلَة ويمتدّون إلى مِنى، ويبيتون به ليلةَ عرفة، وهذا مبيت منزل، لا مبيتُ نسك أصلاً، ولا يتعلق به غرض نسكي. ثم يصبحون، ويتوجهون إلى عرفة، فيوافونها قبيل الزوال، على أناتِهم، فإذا قَضَوْا حقّ المكان، أفاضوا -كما وصفناه- إلى مزدلفة، وباتوا بها، وهذا المبيت نسك، على ما سنصفه، ثم يصبحون إلى منى، ويرمون، ويحلقون، كما سبق وصفه، ثم يُفيضون إلى مكة، ويطوفون. وهذا الطواف -هو الركن- يسمى طواف الإفاضة، وطوافَ الزيارة، وطواف الصَّدَر، وقد قيل: طوافُ الصَّدَر طوافُ الوداع. ثم إن كان سعى قبلُ، فلا يسعى. وإن لم يكن سعى، فيسعى الآن.

_ (1) في الأصل: محترم. وفي (ك): إحرام محترم. (2) ساقطة من الأصل.

ثم ينقلب إلى منى للمبيت والرمي في أيام التشريق، حتى إذا وَفَّى ما عليه، فإن شاء نفر في النفر الأول، وإن شاء نفر في النفر الثاني، ثم يرجع إلى مكة ويطوف طوافَ الوداع، كما سبق وصفه. فهذا ترتيب أعمال الحج، في حق من يدخل مكة، قبل يوم عرفة. فأما إذا انتهى الحاج في ضيق الوقت إلى عرفة، فيقفُ، ويجري الترتيبُ الذي رسمناه، وليس في حقه طوافُ قدوم، وباقي الترتيب كما مضى. فصلٌ جامعٌ في أحكام الرمي 2678 - الرمي من الأبعاض وفاقاً، وهو مجبور بالدم قولاً واحداً، وهو صنفان: أحدهما - رميُ جمرة العقبة، وقد سبق القول في وقته، وكونِه من أسباب التحلل، وهو رمي سبع حصيات إلى الجمرة الأخيرة، المسمّاة جمرةَ العقبة، تلي مكة، وتقع على يمين من يؤمها من جهة منى. والثاني - الرمي في أيام التشريق، وهي ثلاثة أيامٍ بعد النحر، يسمى الأولُ منها يومُ القَرّ؛ لأن الحجيج يقرّون فيه بمنى، ويسمى الثاني النفرَ الأول، فإن الحجيج لهم أن ينفروا بعد الرمي، متعجلين. واليوم الثالث يسمى النفرَ الثاني. ويشرع في كل يوم يقيم فيه الحجيج [الرميُ] (1) إلى الجمرات الثلاث، ويجب البداية بالجمرة الأولى، وهي تلي مسجد الخَيْف، من جهة عرفة، وليست حائدة عن الجادّة، فيرمي إليها الناسك سبعَ حصيات، وبعدها جمرة أخرى في صوب مكة، على سَنَن الجادّة، كما وصفناها (2)، والرمي سبع، كما ذكرناه، وبعدها جمرةُ العقبة، وقد سبق وصفُها، وهي حائدة عن الطريق، مترقيةٌ في الحضيض قليلاً، ولهذا تسمى جمرةَ العقبة.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) هنا خلل آخر في ترتيب نسخة (ك). إذ انتقلت من آخر ص 143 إلى 232.

ففي كل يوم من أيام منى، على الكائن بها الرميُ بأحدٍ وعشرين حصاة، ومجموعها إذا لم يتعجل الناسك في النفر الأول ثلاث وستون حصاة، وإذا ضمت حصياتُ العقبة، يومَ العيد إليها، كانت سبعين حصاة. والحجيج يعتادون أخذ ما يحتاجون إليه من الحصى، من جبال مزدلفة؛ فإنهم يصادفون فيها أحجاراً رِخوة، لم يرد في التزوّد منها ثَبَتٌ وتوقيفٌ في الشرع. 2679 - ثم الكلام في مقاصدَ منها: القول فيما يُرمى: ما جنسه؟ فيجب أن يكون من الأحجار لا يجزئ غيرُها؛ فإنها غيرُ معقولة المعنى، فيلزم الاتباع فيها، وأما ما لا يسمى حجراً، فلا يجزئ الرميُ به، كما يستخرج من المعادن: من الزرنيخ، والإثمد، والجواهر المنطبعة، كالتبرين، وما في معناهما. وتردد جواب الأئمة كلصاحب التقريب وغيرِه في الجواهر التي تتخذ فصوصاً، مثل: الفيروزج، والعقيق، والياقوت بأصنافه: ما يشف منها، وما لا يشف. والظاهر أنه لا يجزئ الرميُ بها. والأحجار التي يستخرج منها جواهر كان يقسمها شيخي، ويقول: منها ما يسمى حجراً مطلقاً، وليس [يبين] (1) المستخرج منه على ظهورٍ، [فما] (2) كان كذلك، فهو حجر، والرمي به مجزىء، وهو كالأحجار البيض الصغار، في رَضْراض (3) الأودية، فإنها حجر الميناء (4)، لكن لا يبين ذلك عليها على ظهور، ولا يعرفها إلا خواصُّ الصَنْعَوِيّين، وحجر النُّورة قبل أن يطبخ أحجارٌ على الحقيقة، وهي كل حجر تشوبه خطوط بيضٌ، فإذا طبخت خرجت عن أن تكون أحجاراً، فلا يجزئ الرمي بها، وهي نُوْرة. ويجزئ الرمي بحجر النُّورة. وهذا كالخزف بالإضافة إلى التراب في حق المتيمم، فالتيمم بالتراب جائز، ولا يجزئ إقامته بالخزف، يعني سحاقته.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل، (ك): ما. (3) الرضراض: الحصى الصغار في مجاري الماء (المعجم). (4) الميناء: مادة الزجاج، وطلاءٌ تغشى به المعادن وغيرها (المعجم).

وأما أحجار الحديد، فقد كان شيخي يتردد فيها، ولا يبعد أن تُلحق بالإثمد. والمعتبر في هذا أمر قريب عندي، وهو أن الإثمد جوهرٌ متّحدٌ، وليس كامناً في حجره، وإنما الذي يشار إليه إثمدٌ كله، وليس كذلك [حجر] (1) الحديد، فإنه حجرٌ فيه حديد كامنٌ، وليس الإثمد كحجر النُّورة، فإن الأحجار كلَّها -إلا ما شاء الله منها- حجرُ (2) النورة. والإثمد جوهر كله من غير أن يحرق ويشوى، وهو كالمغنيسيا (3)، والمرقشيثا (4)، والطَّلْق (5). فهذا هو القول فيما يُرمَى. 2680 - ويتصل بذلك القول في الحجر الذي رُمي به مرة، فأريد استعمالُه في رميٍ آخر، فإنْ تعدَّدَ الشخصُ، أو الجمرة، أو الوقت، لم يمتنع وفاقاً. فإذا رمى شخصٌ حصاةً إلى جمرتين، فرماها إلى جمرةٍ، ثم أخذها ورماها إلى الأخرى، أو رماها شخص إلى جمرةٍ، فأخذها شخص آخر من تلك الجمرة، ورماها إلى تلك الجمرة بعينها، في ذلك اليوم، أجزأ ذلك. وكذلك إذا تعدد الزمان، واتحد الشخص والجمرة، بأن رمى إلى جمرةٍ حصاةً في يوم، ثم رماها في اليوم الثاني إلى تلك الجمرة ذلك الشخص، كل ذلك يجزىء. وإن اتحد اليوم، والجمرةُ، والرامي، ففي المسألة وجهان: أظهرهما المنع؛ لاتحاد الأسباب، والعدد مطلوبٌ معنيّ. وقال قائلون من الأصحاب: يجزىء ذلك، كصور الوفاق؛ فإن الرمي قد تعدد، فلا اعتبار بَعْده باتحادٍ وتعددٍ. هذا أحد المقاصد في الفصل.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) مزيدة من (ط)، (ك). (3) المغنيسيا: حجر يستخدم في الصناعات بما يحويه من المعادن، وهو ألوان وأصناف كثيرة (الجامع لابن البيطار). (4) المرقشيثا: صنف من الحجارة، يستخرج منه النحاس (الجامع لابن البيطار). (5) الطّلق: حجر برّاق شفاف ذو أطباق، يُطحن فيكون مسحوقاً يذر على الجسد، فيكسبه برداً ونعومة (معرّب)، (المعجم).

2681 - ومنها القول في أوقات الرمي كل يوم. ويتعلق به الكلام في الفوات والقضاء وما يتصل به، فنقول: أول وقت الرمي في كل يوم من أيام منى يدخل بزوال الشمس، ويدوم إلى غروبها، وهل يمتد في الليلة المستقبلة؟ فعلى وجهين ذكرناها في رمي جمرة العقبة: أصحهما أنه لا يمتد إلى ساعات الليلة المتقبلة، بل ينقضي وقت [إقامة] (1) الرمي -أداءً على الاختيار- بغيبوبة الشمس، فإذاً أواخر أوقات الرمي في أيام التشريق تضاهي آخر وقت الرمي لجمرة العقبة، ولكنها تفارقها في الوقت الأول؛ فأول وقت رمي العقبة يدخل بانتصاف ليلة النحر، وأول وقت الرمي في كل يوم من أيام التشريق يدخل بزوال الشمس. ولا خلاف أن وقت الرمي في النفر الثاني ينقضي بغروب الشمس؛ إذ لا نسك بعد ذلك. 2682 - ثم إنا بعد ذلك نتكلم في الفوات، والقضاء، فإذا انقضى يومَ القَرِّ وقتُ الرمي على ما فصلناه، فهل يُتدارك في اليوم الثاني، والثالث؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يتدارك، كما لا يتدارك [إذا انقضت] (2) أيام التشريق؛ إذ الغالب فيها التعبد، فكما لا يُعدل عن الجنس المرمي، فكذلك يجب ألا يعدلَ عن الوقت. والقول الثاني - إنه يُتدارك، اعتباراً بمعظم العبادات المؤقتة. ثم إن قلنا: لا يتدارك الفائت، فالرجوع إلى الدم، وسنفرده مقصوداً. وإن قلنا: إنه يُتدارك، فالواقع من الرمي في اليوم الثاني قضاءٌ على الحقيقة، أم أداء تأخَّرَ عن وقت الاختيار؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو أداء، وجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد للرمي، ولكن تخيَّر الشرعُ لكل قدرٍ منها وقتاً، فهو كالأوقات المختارة في الصلوات. وبنى الأئمة على هذا الاختلاف جوازَ تقديم رمي يومٍ إلى يومٍ، وقالوا: إن قلنا: رمي اليوم الأول مقضيٌّ في الثاني، فلا يجوز التقديم، وإن قلنا: إنه مؤدّى وإن أُخّر، فلا يمتنع التقديم أيضاً.

_ (1) في الأصل: إفاضة. (2) ساقط من الأصل.

2683 - ومما تردد فيه الأئمة أن قالوا: إذا حكمنا بأن رمي اليوم الأول مقضيٌّ في الثاني، فهل يجوز إيقاعه في النصف الأول من النهار، وقبل الزوال؟ فعلى وجهين: أحدهما - الجواز؛ فإن المقضيَّ لا وقت له على التعيين. والثاني - المنع؛ فإن القضاء قد يتأقت بعضَ التأقت، وما قبل الزوال لم يشرع فيه رمي، لا قضاءً، ولا أداء، فكانت تلك الساعات بمثابة ساعات الليل في تصوير الصوم. والوجهان يجريان في تدارك الرمي ليلاً إذا جرينا على الأصح في أن الوقت لا ينبسط على الليلة. 2684 - هذا إذا قلنا: التدارك قضاء، فإن جعلناه أداءً، ففيما قبل الزوال والليل (1) من التفصيل ما ذكرناه، فيجري الخلاف على بُعدٍ، والوجه القطع بالمنع؛ فإن تعيين الأوقات بحكم الأداء أليق. 2685 - ومما يتعلق بذلك أنا إذا أوجبنا التدارك، فهو حتم، ولا يجوز الانتقال إلى الدم، مع إمكان التدارك. وإن منعناه، تعيّن الدمُ حينئذ. 2686 - ثم إذا جوزنا التدارك، فالكلام في رعاية الترتيب، فنقول: أما رعاية ترتيب المكان في الأداء والتدارك، فحتم، لا خلاف فيه، فلو بدأ الرمي في أيام منى بجمرة العقبة، ثم ارتفع إلى الثانية، ثم إلى الجمرة الأولى، قلنا: (2 رميك إلى الجمرة الأولى 2) هو المحسوب، وما أتيت به قبله غيرُ معتد به. وترتيب المكان أمر مطّرد في المناسك المتعلّقة بالأمكنة، كالطواف والسعي. وأما رعاية ترتيب الزمان، ففيها قولان: أحدهما - أنها لا تجب. والثاني - تجب. فمن [أوجب] (3)، قاس الزمان على المكان. ومن لم يوجب، اعتبر بالصلوات الفائتة، مع المؤداة في أوقاتها؛ إذ لا ترتيب يُستَحقُّ عندنا، بين الأداء والقضاء. وهذا أظهر (4).

_ (1) ساقطة من (ط). (2) ما بين القوسين ساقط من (ط). (3) ساقطة من الأصل. (4) ساقطة من (ط).

2687 - وما أطلقناه من القولين يظهر أثرهما في وجهين: أحدهما - أنا إذا أوجبنا ترتيب الزمان، قلنا: ينبغي أن تبرأ الذمة عن رمي أمس، ثم يقع الاشتغال بوظيفة اليوم، فلو رمى أربعَ عشرةَ حصاة، إلى الجمرة الأولى، ثم كذلك إلى كل جمرة، فهو على الخلاف الذي ذكرناه. [فإن] (1) لم نوجب الترتيب الزماني، حكمنا بإجزاء ذلك، وإن أوجبناه، لم يحتسب من وظيفة اليوم حصاةٌ، ما بقيت حصاةٌ من رمي أمسه. هذا أثرٌ بيّن في تخريج القولين. 2688 - والأثر الآخر يستند إلى القول في أن النيةَ هل تؤثر فيما نحن فيه، وفيه اختلاف قد بينَّاه (2) في الطواف والسعي، فلو رمى الناسك إلى الجمرةِ، وهو يبغي رمي شخصٍ، أو دابة، فقد صرف رميَه عن جهة النسك، فهل يُعتد بما يأتي به؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه، فإن قلنا: يعتد به، ولا أثر للنية، فنقول بحسبه: لو رمى إلى الجمرات الثلاث على قصد يومه، وقع ذلك عن تدارك أمسه، ولا حكم لقصده. وإن قلنا: تؤثِّر النية فيما ذكرناه، فإذا نوى بالرمي إلى الجمرات وظيفةَ يومه، فيخرج على وجوب رعاية الترتيب في الزمان، فإن لم نوجبها أجزأ عن يومه، وإن أوجبناها، لم يُعتد بما جاء به، لا عن يومه، ولا عن أمسه؛ لفساد نيته، مع الحكم بتأثير النية. وذكر صاحب التقريب وغيرُه أن القول في استحقاق الترتيب يدنو من قولنا: إن التدارك أداء أم قضاء، فإن جعلناه قضاء، فيبعد استحقاق الترتيب، كما ذكرناه في الصلوات المقضية والمؤداة، وكل ما ذكرناه في جمرات أيام التشريق. فأما رمي جمرة العقبة ففي إجزَاء التدارك فيه عند الفوات طريقان: أحدهما - التخريج على القولين كما مضى. والأخرى - القطع بأنه لا يُتدارك؛ فإنه يخالف رميَ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (ط)، (ك): قدّمناه.

أيام التشريق في أوّلية الوقت، وفي تفرده في يومه عن الجمرتين الأخريين، وفي تعلق التحلل به. 2689 - ومن المقاصد الكلامُ في الرمي نفسِه، ومعناه، فإذا وقف الواقف وراء الجمرة، ورمى إليها، وأوقع الحصاة فيها برميه، فهو الرمي المطلوب، ولو وضع الحجر بيده على الجمرة، فالمذهب أنه لا يجزئه، ولا يُعتد به؛ فإنه ليس برمي. وذكر صاحب التقريب فيه وجهاً بعيداً في التحصيل، وهو مزيف. وإن أصاب الحجر الذي رماه محمِلاً، فارتد منه بقوة الصدمة، وأصاب الجمرة، أجزأ ذلك؛ فإن الارتداد كان من آثار الرمي. ولو أصاب الحجر إنساناً، فقرّ عليه، أو أصاب ثوبَه، فاستقر، فنفضه ذلك الإنسان، وأصاب الحجرُ الجمرةَ بنفضه، فلا يعتد بهذا الرمي؛ فإن رميه انتهى أثره باستقرار الحجر، وكان النفض أمراً جديداً بعده. ولو انتهى الحجر إلى محمل، ولم يبق فيه أثر من قوة الرمي، غير أنه تدحرج، وانسل إلى الجمرة، ففي إجزاء هذا الرمي وجهان، ذكرهما صاحب التقريب، والصورة مترددة بين صورة الصدمة، وصورة النفضة، فجرى الاختلاف فيها. ولو وقف الرامي في الجمرة، ورمى إلى الجمرة، فلا بأس، وقد حصل الرمي، ومصادفة الحصاة. ولو احتوى على حجرين فصاعداً، ورماهما دفعة واحدة، فإن وقعا معاً، لم يعتد إلا بحصاة واحدة؛ فإن الرمي متحد، ولو تفاوتت مساقطهما، فالمذهب أنها رميةٌ واحدة؛ نظراً إلى اتحاد الفعل، ومن أصحابنا من اعتبر ترتب الأحجار في الوقوع. وهذا ليس بشيء. وإن أتبع الحجرَ الحجرَ فإن ترتبا في الوقوع، حَسَب ترتبهما في الرمي، فهما رميان محسوبان. وإن وقعا معاً فوجهان: أحدهما - أن الاعتبار بالاجتماع في الوقوع. والثاني - وهو الأصح أن الاعتبار بتعدد الرمي، ولا نظر إلى تفاوت الوقوع واجتماعه. وكذلك القول فيه إذا أصاب الحجرُ الثاني، والأول بعد في الهواء، فمن

نظر إلى الرمي، احتسب رميين، ومن نظر إلى الوقوع، فهو متعدد أيضاًً، ولكن السابق بالرمي مسبوق بالوقوع، ففيه الخلاف. والأصح النظر إلى الرمي، وما عداه خَبْط. 2690 - ومن المقاصد أن الناسك لو عجز عن الرمي بنفسه، فله أن ينيب غيرَه مناب نفسه؛ فإن الاستنابة إذا جرت في أصل الحج، فجريانها في أبعاض المناسك غيرُ ممتنع. ثم قد ذكرنا أن الاستنابةَ إنما تجوز للمعضوب عضباً لا يُرجى زواله. وهذا المعنى معتبر هاهنا، غير أنا نعتبر رجاء الزوال في مدة الرمي، ولا ينفع زواله بعدها. قال العراقيون: العاجز عن الرمي إذا استناب غيرَه، وصحَّحْنا الاستنابة، فأغمي على المستنيب، قالوا: الاستنابة دائمة، وإن كان حكم الإغماء الطارئ على الآذن انقطاعُ إذنه إذا كان الإذن جائزاً في وضعه، كالوكالة، ولكن الغرض في الاستنابة هاهنا، إقامةُ المستناب مقام العاجز. وهذا الذي ذكروه محتملٌ جداً. ولا يمتنع خلافه. وقد قالوا: لو استناب المعضوب في حياته في الحج ومات، لم تنقطع الاستنابة. وهذا ذكره (1 شيخي والأصحاب 1) في الإذن المجرد، وهو بعيدٌ، لعمري، ولو (2) فرض في الإجارة، فالإجارة تبقى، ولا تنقطع؛ فإن الاستئجار بعد الموت -عن الميت- ممكن، فلا منافاة، وقد استحقت منفعة الأجير. والذي ذكروه في إذنٍ جائز، وهو محتمل في (3) الإغماء، بعيدٌ في الموت. ومن أئمتنا من لم يحكم بانعزال الوكيل بإغماء الموكل؛ من جهة أن الإغماء كالنوم، في أنه لا يثبت ولايةً على المغمى عليه. 2691 - ومن المقاصد: الكلامُ في الفدية الواجبة عند ترك الرمي، وفوات المستدرك.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ط)، (ك). (2) (ط)، (ك): لو (بدون واو). (3) ساقطة من الأصل.

فأول ما نراه أن نذكر القول فيما يجب بترك الرمي ليوم واحد، من أيام منى: لا خلاف أنه إلاّ دمٌ واحد، وإن ترك الرميَ إلى الجمرات الثلاث، ولا مزيد على دمٍ. ثم الطرق مختلفة في ترك بعض الرمي في اليوم الواحد: والطريقة المشهورة، أن الدم يكمل بترك ثلاث حصيات، قياساً على ثلاث شعرات (1 ثمّ لا يزداد 1) وإن ترك جميع رمي اليوم، كما إذا استوعب الرأس بالحلق. وفي الحصاة الواحدة على هذه الطريقة أقوال: أحدها - فيها درهم. والثاني فيها مدّ [من الطعام] (2) والثالث - فيها ثلث دم. هذا كالأقوال المشهورة في الشعرة الواحدة والشعرتين. ومن أصحابنا من قال: الدم إنما يكمل في وظيفة جمرة، وهي سبع حصيات، ثم لا يزيد إلى [تمام] (3) وظيفة اليوم. وفي الحصاة [الواحدة] (4) أقوال: أحدها - فيها مدّ. والثاني - فيها درهم. والثالث - فيها سُبُعُ دم. وذكر صاحب التقريب طريقة ثالثة، وهي أن الجمرات في اليوم كالشعرات الثلاث، ففي وظيفة اليوم دمٌ، وفي [ترك] (5) وظيفةِ جمرةٍ واحدةٍ الأقوالُ الثلاثة: أحدها - مدّ. والثاني - درهم. والثالث - ثلث دم. فعلى هذا لو ترك حصاة من سبعة، من جمرة، قال: يحتمل أن يقال: يجب فيها في قولٍ مدٌّ كامل، أو درهم، ولا نقصان منه. ويحتمل أن يقال: سبع مدّ، أو سبع درهم. فأما إذا أوجبنا جزءاً من الدم، ففي حصاةٍ جزءٌ من أحدٍ وعشرين جزءاً من دم؛ فإن تبعيض ذلك على ما يقتضيه الحساب، وإنما التردد في تبعيض المد، والدرهم. فهذا بيان الطرق.

_ (1) ساقط، ما بين القوسين من (ط)، (ك). (2) ساقط من الأصل. (3) مزيدة من (ط). (4) ساقط من الأصل، (ك). (5) زيادة من (ط)، (ك).

ولا خلاف أن الدم يكمل في جمرة العقبة؛ فإنها وظيفة يوم. 2692 - ومما يتعلق بتفصيل القول في الفدية أن من ترك الرمي كلّه، و [انحسم التدارك، وكان التزم] (1) رمي النفر الثاني، إذ لم يتعجل في النفر الأول، ففيما يجب عليه أقوال: أحدها - أنه يكفي في الكلِّ دمٌ واحد؛ فإن الرمي جنسٌ واحد. والثاني - يلزم أربعةُ دماء، في مقابلة وظيفة أربعة أيام. والثالث - يلزم دمان: دمٌ في مقابلة جمرة العقبة، ودم في مقابلة الأيام الثلاثة. ثم مَنْ (2) لم يوجب في الأربعة الأيام إلا دماً واحداً، يُكمل الدمَ في وظيفة اليوم. وهل يكمله بثلاث حصيات، أم لا إكمال إلا بسبع؟ فيه الخلاف المقدم، في فرض الكلام في وظيفة يومٍ. ويجري في مجاري الكلام وجهٌ غريب: إن الدم يُكمَّل بحصاة واحدة. وقد ذكرنا لهذا نظيراً في الشعرة الواحدة، وسنجريه في الليلة الواحدة من المبيت. وما ذكرناه في الحصاة الواحدة فيه إذا تركها من الجمرة الأخيرة. فأما إذا تركها من الجمرة الأولى، فلا يعتد بالجمرة الثانية، والثالثة، لما قدمناه، من اشتراط الترتيب في المكان، فيكون تاركاً (3) حصاةً من الجمرة الأولى وتاركاً للجمرتين الأخيرتين. وقد مضى التفصيل في ترك جمرة، وجمرتين. 2693 - ومن بقية القول في ذلك: أنا إذا جوّزنا تدارك الرمي، بعد [انقضاء] (4) الوقت الموظَّف له، فإذا تداركه كما رسمناه، فالمذهب أنه لا يجب مع القضاء فدية. وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً من تخريجات ابن سريج: أنه يجب مع الدم القضاء، كما يجب على من يؤخر قضاء ما فاته من صوم رمضان، إلى الشهر الآتي في السنة القابلة، القضاءُ والفدية.

_ (1) عبارة الأصل صحفت هكذا: " وانحتم التدارك، فكان اليوم ". (2) (ط): إن لم. (3) عبارة (ط): " فيكون تارك حصاةٍ من الجمرة الأولى تاركاً للجمرتين ... ". (4) في الأصل: انفصال.

وهذا غريب. وقيل: إنه مذهب أبي حنيفة (1). ومما أجراه صاحب التقريب رمزاً في أثناء كلامه أن قال: إذا جعلنا المستدرَك من الرمي مُقاماً في وقته أداء، ولم نجعله قضاء، وقلنا بحسب ذلك: يجوز التقديم، ويجزىء، فيلزم من ذلك جواز التأخير أيضاًً، حتى لا ينتسب المؤخِّر من غير علة إلى مأثم. وهذا بعيدٌ؛ فإن جواز ذلك مما خص به أهلُ سقاية العباس، ورعاة الإبل، كما سنعقد فيهم فصلاً، فلئن كان يلزم ما قال قياساً، فالوجه أن يستدل بهذا على فساد المصير إلى أن الرمي المقامَ بعد انقضاء وقته مؤدى. فصل في النفر وحكمه 2694 - للناسك إذا رمى في اليوم الثاني [من أيام التشريق] (2) أن ينفر متعجلاً، وإذا فعل ذلك، سقط عنه المبيت في الليلة التي بين يديه، وسقط عنه الرمي في النفر الثاني. ولو نفر في يوم النفر الأول، ولم يرمِ، فلا يخلو: إما أن يعود، أو لا يعود، فإن لم يعد، استقرت الفديةُ عليه في الرمي الذي تركه في النفر الأول. وإن عاد، لم يخل: إما أن يعود بعد غروب الشمس، وإما أن يعود قبلها. فإن عاد بعد غروب الشمس، فقد فات الرمي، فلا استدارك، وانقطع أثره من منى، ولا حكم لمبيته. وإن رمى في النفر الثاني، لم يكن رميه معتداً به، فإنه بنفره تقلّع عن منى ومناسكه، واستقرت الفدية عليه، وكان ذلك بمثابة انقضاء أيام التشريق. ولو عاد قبل غروب الشمس، فأجمع طريقةٍ في ذلك، ما ذكره صاحب التقريب:

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 138، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 156، 158 مسألة: 616، 618. (2) ساقط من الأصل، (ك).

إذ قال: حاصل الاختلاف فيه أربعة أقوال: أحدها - أنه إذا نفر، فقد انقطع الرمي، ولا ينفعه العود. والقول الثاني - يجب عليه أن يعود ويرمي حسبما عليه، ما لم تغرب الشمس، فإذا غربت، تعيّن الدمُ. والقول الثالث - أنه بالخيار: إن أراد الرجوع والرميَ، فله ذلك، وإذا فعل، سقط عنه الفرض، وإذا أراد ألا يرجع، ويريق الدمَ، جاز له ذلك، ويسقط عنه الفرض بأحدهما. وهذه الأقوال الثلاثة تجري في النفر الأول، والثاني. وذكر قولاً رابعاً عن ابن سريج: وذلك أنه فصل في تخريجٍ له بين أن يتفق خروجه في النفر الأول، أو في النفر الثاني، فإن خرج في النفر الأول، ثم عاد قبل غروب الشمس ورمى، لم يقع رميه موقعَه. ولو خرج في النفر الثاني، ولم يرم، ثم عاد، ورمى قبل غروب الشمس، وقع الرميُ موقعَه. والفرق أن الخروج في النفر الثاني لا حكم له؛ فإنه منتهى الوقت. نفرَ أو لم ينفر، فكان خروجه وعدمُ خروجه بمثابةٍ. وللخروج في النفر الأول حكمٌ؛ فإنه لو لم يخرج فيه، بقي إلى النفر الثاني، فيؤثّر خروجُه في قطع علائق منى، وإذا انقطعت العلائق، لم تَعُد. ولا خلاف أن من خرج يوم القَرّ، ثم عاد قبل الغروب، رمى؛ إذ لا حكم للنفر في يوم القرّ. وإن عاد بعد الغروب، فهذا رجلٌ فاته الرمي، وفيه الكلام المقدّم في التدارك. 2695 - وبالجملة لا أثر للخروج في يوم القرّ. وأما يوم النحر، فالأمر فيه أظهر؛ فإن الناسك يفارق منى مُفيضاً، وقد ذكرنا أنه لا ترتيب في أسباب التحلل في ذلك اليوم، ولو أراد تقديمَ طواف الإفاضة على رمي جمرة العقبة، فلا بأس عليه. ويخرج من ذلك أن الخروج لا أثر له في يوم النحر، ويوم القَرّ، وإنما النظرُ إلى مضيّ الوقتِ وفواتِه. وإنما يؤثر الخروج في التفريق كما قدمنا التفصيلَ فيه. ثم إذا قلنا: من خرج في النفر الأول، من غير رمي، وعاد قبل غروب الشمس، يرمي. فإذا رمى، وغربت الشمسُ تقيّد، ولزمه المبيت، والرمي من الغد.

وإن قلنا: لا يرمي إذا عاد قبل غروب الشمس، فلا يلزمه المبيت، ولو بات، لم يكن لمبيته حكمٌ. والسبب فيه أن في هذا الوجه حكمنا بانقطاع علائق منى بخروجه، ثم لم نحكم بعودها لما عاد. ولو خرج الناسك في النفر الأول قبل زوال الشمس، ثم عاد، وزالت عليه الشمس، وهو بمنى، فالوجه القطع بأن خروجه لا حكم له؛ فإنه لم يخرج في وقت الرمي وإمكانه. ولو خرج في الوقت الذي ذكرناه، ثم لم يعد حتى غابت الشمس، فقد انقطعت العلائق -وإن كان خروجه قبل دخول وقت الرمي- لأن استدامة الخروج إلى غيبوبة الشمس، حلّت محل إنشاء الخروج بعد زوال الشمس. ولو خرج قبل الزوال وعاد، قبل الغروب، فظاهر المذهب أنه يرمي ويُعتد برميه، بخلاف ما لو خرج بعد الزوال. ومن أصحابنا من نزل هذه الصورة منزلةَ صورةِ الأقوال؛ فإنه لو خرج قبل الزوال، ولم يعد حتى غابت الشمس، كان كما لوخرج بعد الزوال، ولم يعد حتى غابت الشمس. فإذا تشابها في ذلك، فليتشابها في العود قبيل الغروب. 2696 - ومن تمام البيان في حكم النفر أن الناسك إذا لم ينفر في النفر الأول حتى غربت الشمس، تقيّد، ولا نفرَ، فليبت وليلتزم الرميَ في النفر الثاني (1 ولا يتوقف تقيده لأجل الرمي 1) على طلوع فجر ذلك اليوم. وهذا متفق عليه. فصل في المبيت 2697 - قد ذكرنا أن مبيت المنتقلين من مكة إلى منى ليلة عرفة مبيتَ منزل، وليس مبيت نسك، والمبيتُ بمزدلفة ليلةَ النحر نسكٌ، لا شك فيه، وكذلك المبيتُ ليلة [القَرِّ، وليلة النفر الأول. والمبيت ليلة] (2) النفر الثاني، موقوف على ما ذكرناه.

_ (1) ساقط من (ط). (2) ساقط من الأصل.

فإن رمى الناسك، ونفر قبل غروب الشمس، سقط عنه ما بين يديه، من المبيت والرمي في اليوم الأخير، وإن لم يفارق خِطةَ منى، حتى غابت الشمس، ثبت المبيت عليه؛ فاذاً المبيت النسك في ثلاث ليالٍ في حق من نفر في النفر الأول، وهو في أربع ليال في حق من مكث حتى غربت عليه الشمس. 2698 - ثم كل ليلة أثبتنا المبيت فيها، فما الحد المعتبر في القدر الذي يجب المبيت فيه؟ ذكر شيخي، وصاحب التقريب قولين، مرسلين: أحدهما - أنا نشترط أن يكون معظمُ الليلة بموضع البيتوتة، لا يفارق منى. والقول الثاني - أنا نشترط أن يطلع عليه الفجر، وهو في موضع البيتوتة، حتى لو غاب معظمَ الليل، ثم حضر قُبيل طلوع الفجر، فطلع الفجر عليه، فقد أدى حقَّ المبيت. والأظهر القول الأول، عند الأصحاب. وهذا كلام ملتبس، والذي يجب القطع به أن طرد هذين القولين على هذا النسق في ليلةِ مزدلفة محالٌ. والذي يجب أن يقال فيها: إن قول المعظم باطل، في تلك الليلة، مع ما مهدناه في جواز الخروج بعد منتصف الليل، والمُفيض لا ينتهي إلى مزدلفة إلاّ بعد غيبوبة الشفق، وقد يصل بعد هزيع من الليل، ولا يخرج في هذه الليلة أيضاًً اعتبارُ طلوع الفجر، فلا يتجه في تلك الليلة إلا اعتبارُ الكَوْن بمزدلفة في الوقت الذي ينتصف الليل فيه. هذا هو الذي يجب مراعاته، ويتعين ردُّ القولين المحكِيَّين إلى المبيت ليلةَ القرّ، وليلةَ النفر الأول، وليلةَ النفر الثاني، إن تقيّد الناسك، ولم يتعجل، فيتجه اعتبارُ المعظم؛ فإنه مبيتٌ لا تغليس (1) فيه، فيحسن الأمر بالمبيت في المعظم، ولا مؤاخذةَ، لو اتفقت خَرْجةٌ من منى في بعضٍ من الليل، بعد أن كان المعظم على ما وصفناه. ومن اعتبر طلوع الفجر، فإنه يجعل المبيت تعريجاً على شعار اليوم الذي بين [يدي] (2) الناسك. فهذا وجه اعتبار طلوع الفجر في محل المبيت.

_ (1) غلس القوم تغليساً ساروا بغلسٍ، والغلس ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. (معجم) والمراد: مبيت منى لا تغليس فيه مثل مبيت المزدلفة. (2) مزيدة من (ط)، (ك).

2699 - وإذا ثبت ما ذكرناه، فالكلام بعده في أن المبيت الواقع نسكاً لو تركه الناسك هل يلزمه أن يفديه أم لا؟ وفيه قولان للشافعي: أحدهما [أنه يلزم، كما يلزم الدم بترك الرمي، والمبيتُ شعار ظاهر معتبر في] (1) الشرع كالرمي، فإذا وجبت الفديةُ في ترك الرمي، فلتجب في ترك المبيت. والقول الثاني - لا يجب الدمُ؛ فإن المبيت رَيْثٌ، ولُبْث لانتظار شعار الرمي، فليس مقصوداً في نفسه. وهذا المعنى يجري أيضاً في المبيت بمزدلفة؛ فإن أوقاتَ المناسك المنتظرة يدخل بانتصاف الليل، فُشرع مبيتٌ إلى ذلك الوقت. وإذا اختلف القول في أن المبيت هل يجبر بالدم، فيترتب عليه لا محالةَ اختلاف القول في أنه هل يجب في نفسه، وهل يجب على الناسك تحصيله، حتى يُقضَى بأن يعصي بتركه؟ 2700 - فإذا أردنا أن نجمع محل الوفاق والخلاف في ذلك، قلنا: الفدية تجب بترك الرمي قولاً واحداً، لا خلاف في أصلها، وإنما التردد في التفصيل، وكذلك من ترك حق الميقات، فجاوزه غيرَ محرم، التزم الدم، ولا خلاف في الأصل وهو الدم المسمى دمَ الإساءة، فهذان ثابتان وفاقاً. واختلف [القول] (2) في ثلاثة مناسك (3): [أحدها - الجمع بين الليل والنهار في الوقوف، والآخر - المبيتُ المحكومُ بكونه نسكاً، والثالث - طوافُ الوداع، فهذه المناسك الثلاثة، فيها قولان، في وجوب الجبران، والمذهب أن طواف القدوم لا يجب جبرانه، وفيه شيء بعيدٌ حكيناه، وذلك في حق من يتسع وقته، فأما من ينتهي إلى المُعَرَّف (4)، فلا قدوم عليه.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) مزيدة من (ط)، (ك). (3) بدأ من هنا خرمٌ في نسخة الأصل، نحو ورقة، أو يزيد قليلاً، وسننبه عليه عند انتهائه. (4) عرّف القوم إذا وقفوا بعرفات. والمعنى هنا: أن من يصل مع وقت التّعريف، أي يصل في زمان التعريف ومكانه، فلا قدوم عليه.

2701 - ومما يتعلق بذلك: أن الغريب إذا انتهى إلى عرفةَ ليلةَ النحر، وبقي في شغل الوقوف، حتى فاته المبيت بمزدلفة، فلا خلاف أنه لا يلزمه في مقابلة فوات المبيت شيء، واشتغالُه بالوقوف حطَّ عنه عهدةَ المبيت. وإنما يثبت الخطاب بالمبيت على من يتفرغ إليه. ولما ذكر صاحب التقريب ذلك، على ما وصفناه، قال بانياً عليه: لو وقف بعرفةَ نهاراً مع الواقفين، ولما غابت الشمس أفاض، وانحدر إلى مكةَ ممتداً (1)، واشتغل بطواف الإفاضة بعد نصف الليل، ففاته المبيت لأجل ذلك، فلا يلزمه شيء إذا كان مشتغلاً بالطواف المفروض، وهو بمنزلة اشتغاله بالوقوف ليلاً. وذكر الإمام هذا على هذا (2) الوجه، وحكاه عن القفال. وهذا محتمل عندنا؛ من جهة أن من لم ينته إلى عرفةَ إلا ليلاً، فهو مضطر إلى التخلف عن المبيت، والذي يمتد إلى مكة ليطوف ليلاً، لا ضرورة به، فليبت، وليصبح مع الناس. 2702 - ثم إذا قلنا: المبيت النسك مضمون بالدم، فلو ترك المبيت في جميع الليالي التي أمرناه بالمبيت فيها، ففي الواجب عليه قولان في ظاهر المذهب: أحدهما - أنه يلزمه في مقابلة الجميع دمٌ واحد. والثاني - يلزمه دمان: أحدهما في مقابلة ليلة مزدلفة، والثاني في مقابلة ليالي منى؛ فإن ليلةَ مزدلفة مباينةٌ لغيرها من ليالي المبيت، لما نبهنا عليه، فلتفرد بحكمها. وإنما يحسن طرد القولين في حق من يتقيد ليلةَ النفر الثاني؛ بأن تغرب عليه الشمس، وهو بمنى، حتى تتم ليالي منى ثلاثاً، ثم يخرج في الليلة الأخيرة بعد التقيّد. فأما إذا نفر في النفر الأول، فقد عاد المبيت إلى ليلتين، فإذا تركهما، وترك المبيتَ ليلة مزدلفة، فإن قلنا في ترك الجميع دم، فلا كلام. وإن قلنا: يفرد المبيت ليلةَ مزدلفة بدمٍ كامل، ففي ليلتي منى وجهان: أحدهما - أنه يكمل (3) فيها

_ (1) في (ك): مبتدأً، وفي الأصل خرمٌ هنا. والمثبت من (ط). (2) عبارة (ك): هذا في الوجه. (3) في (ط)، (ك): " لم يكمل ". وهو مخالف للسياق، وهذا التصرّف تقديرٌ منا، ونسخة الأصل مخرومة هنا. كما نبهنا قريباً.

دم، وإن لم يتقيد، فإن المبيت بمنى جنس كالمبيت بمزدلفة، وقد ترك أصل المبيت بمنى، فلا يقصر جنس المبيت بمنى عن المبيت ليلة واحدة بمزدلفة. وهذا ظاهرٌ منقاسٌ. وقال بعض أصحابنا: يجب في ليلة مزدلفة دمٌ. ويجب في (1) حق من لم يتقيد، وتعجل في الليلتين مدَّان، أو درهمان، أو ثلثا دم، وهذا اكتفاءٌ بالظاهر، والفقه الوجه الأول (2). وذكر صاحب التقريب قولاً يضاهي قولاً غريباً فيما تقدّم، ولكنه ارتضاه هاهنا، وإن زيفه فيما سبق: وذلك أنه قال: للشافعي قول أنه يجب في كل ليلة دم؛ لأن كلَّ ليلة تُنسب (3) إلى يومها، وإذا كان الدم يكمل في وظيفة كلِّ يوم، فليكمل في مبيت ليلةٍ، وهذا يتجه هاهنا اتجاهاً بيناً. فصل في أهل سقاية العباس ورعاة الإبل 2703 - رعاة الإبل، وأهل سقاية العباس، يبيتون بمزدلفة مع الناس، ويرمون جمرةَ العقبة، ثم ينزلون، ويتركون المبيت ليلةَ القرّ، وليلة النفر الأول، ويتركون رميَ يوم القَرّ، ثم (4) يعودون في النفر الأول، ويقضون رميَ يومِ القرّ وذلك يسوغ لهم بلا خلاف، وإن اختلف القول في حق غيرهم، في قضاء الرمي. وما تركوه من المبيت ليلة القَرّ، وليلة النفر الأول محطوط عنهم، بلا فدية. وهذه الرخصة ثابتةٌ لهذين الصنفين: الرعاة، وأهل سقاية العباس، أما رعاة الإبل، فيُخرِجون الإبل إلى المراعي، ويفارقون خِطة منى؛ إذ الحاجة تَمسهم إلى

_ (1) (ط): من. (2) ساقطة من (ك). (3) (ك): ليست تنسب. (وهو خلل ظاهر). (4) ساقطة من (ك).

ذلك، وإذا بعدوا، لم يمكنهم أن يرجعوا ليلاً، فلا يَرُدُّون الإبل إلا يوم النفر الأول؛ فإن عامةَ الخلق يتعجلون، حتى يقل من يلبث (1)، وأما أهل سقاية العباس (2)، فإنهم كانوا يقومون بتهيئة السقاية، وإعداد الماء، وما يتيسر من الشراب للمُفيضين، فكان ذلك شغلاً شاغلاً قديماً، يُجَوِّز (3) لهم ما جَوَّز لرعاة الإبل. والمتبع في هذه الرخصة الخبرُ والوفاق، فلو فرض فارض عُذراً مرهقاً، كقيام الإنسان بتعهد منزولٍ [به] (4) قد حضرته الوفاة، أو غيرَ ذلك من الأعذار، فهل يجوز أن ينزَّلوا في الرخصة التي ذكرناها منزلةَ رعاة الإبل؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - تثبت الرخصة لكل معذور (5) يبلغ عُذرُه مبلغَ عذر الرعاة. والثاني - وهو الذي قطع به الأئمة [أن] (6) الرخصة تخص، ولا يُعدّى بها موضعها، كما لا يثبت في حق المريض رخصةُ المسافر. وأما أهل السقاية، فمذهب الشافعي أنه لو قام بذلك الأمر غيرُ بني العباس، فلهم الرخصةُ. هذا ظاهر المذهب. وذكر العراقيون في ذلك وجهاً آخر: وهو أن الرخصة تختص بأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم ورَوَوْا في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرخص لأهل السقاية من أهل بيته، فدل ذلك على اختصاصهم (7). وهذا بعيد.

_ (1) (ك) يبيت. (2) آخر الخرم الموجود في نسخة الأصل. ثم هي في نسخة (ك): " يبيت ". (3) (ط) فجوّز. (4) ساقطة من الأصل. (5) (ك) من. (6) ساقطة من الأصل. (7) يشير " إلى ما ورد أن العباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يبيت بمكة ليالي منى لأجل سقايته، فأذن له " وهو متفق عليه من حديث ابن عمر (البخاري: الحج، باب هل يبيت أصحاب السقاية وغيرهم بمكة، ح 1743 - 1745، ومسلم: الحج، باب وجوب المبيت بمنى، ح 1315 (وليس فيه لأهل بيته)).

قال: " ويُفعل بالصبي في كل أمره، ما يَفعل الكبير ... إلى آخره " (1). 2704 - الصبي إذا كان يعقل، عَقْلَ مثلِه، فيصحُّ إحرامه بالحج، وهل يفتقر انعقادُه إلى إذن الولي؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يفتقر إلى إذنه؛ لأن العقدَ يشتمل على أمور خطرة، وعُهَدٍ مالية، فلا يصح استقلال الصبي به. والثاني - يصح دون الإذن، كما يصح منه عَقْدُ الصلاة. وإن كان طفلاً لا يميز، فيُحرِم عنه الوليّ. واختلف الأئمة في أن من يتصرف في مال الطفل، بكونه قيِّماً هل يُحرم عن الطفل؟ والأصح أنه لا (2) يُحرم عنه، وإنما يحرم عنه الأب، أو الجد أبُ الأب. وأما الأم، فهل تحرم عنه؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خرَّج إحرامها عن ولدها على وجهين مبنيين على أنها هل تلي مالَ ولدها؟ ومنهم من قطع بأن إحرامها عن ولدها صحيح؛ للحديث المشهور فيه، وهو ما روي أن امرأة رفعت صبيّاً من مَحَفَّتِها، وقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهذا حج؟ قال: " نعم. ولك أجر " (3). والظاهر [يدل] (4) على أنها كانت تحرم عنه. وإذا كان الصبي مميزاً، وقلنا: إنه يُحرم بنفسه، فلا يُحرم عنه وليه. وإذا قلنا: لا يُحرم دونَ إذن وليه، فهل ينعقد [إحرام الوليّ عنه؟ فعلى وجهين: أحدهما -

_ (1) ر. المختصر: 2/ 92، 93. (2) ساقطة من (ط). (3) حديث: " ألهذا حج؟ ". رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن عباس، ورواه الترمذي من حديث جابر (ر. مسلم: الحج، باب صحة حجة الصبي وأجر من حج به، ح 1336، أبو داود: الحج، باب في الصبي يحج، ح 1736، النسائي: مناسك الحج، باب الحج للصغير، ح 2648، 2649، الترمذي: الحج، باب ما جاء في حج الصبي، ح 924). (4) ساقطة من الأصل.

لا ينعقد، فإن الإحرام إذا كان] (1) ينعقد بعبارته، فلا ينعقد بعبارة غيره. والثاني - ينعقد الإحرام بعبارة الوليّ من غير مراجعة. وهو ظاهر المذهب، فإن الولاية مطردةٌ عليه بدليل أنه لا يستقل، وهو لصباه مولًّى عليه، فيدوم استقلال الوليّ بالتصرف فيما تفيده الولاية. ثم إذا انعقد الإحرام في حق الصبي، فكل ما يتأتى منه [يُحمل عليه، وكل ما لا يتأتى منه] (2) ينوب الوليّ فيه عنه، كالرمي وغيره، ويُطاف به محمولاً، ويُسعى به كذلك. 2705 - ولو بلغ الصبي في أثناء الحج، نُظر: فإن كان ذلك بعد فوات الوقوف، استمر الحج مسنوناً، ولم يقع عن حجة الإسلام. وإن بلغ قبل الوقوف، ووقف وهو بالغ، فالحج يقع عن فرض الإسلام، باتفاق الأصحاب. وإذا لم يتفق منه رجوعٌ إلى الميقات بعد البلوغ، فهل يجب دم الإساءة؟ فيه قولان مشهوران: أحدهما - يجب، لأن الإحرام الذي جرى من الميقات كان ناقصاًً، وحجُّ الإسلام يستدعي إحراما كاملاً من الميقات. والقول الثاني - لا يجب دمُ الإساءة؛ فإنه لم يسىء، وفَعَل ما في وسعه. وكان القفال يقول: القولان مبنيان على أن الكمال إذا طرأ على ما صورناه، ووقع الحج عن فرض الإسلام، فنقول: إن الإحرام انعقد نفلاً أوَّلاً، ثم من وقت الكمال انقلب فرضاًً. قال: يجوز أن يقال: الأمر كذلك، وعليه يبتنى وجوبُ دم الإساءة. ويجوز أن يقال: وقع الإحرام على الوَقْف، فلما طرأ الكمال، تبين لنا أن الإحرام في أصله انعقد فرضاًً، ولو طرأ الكمال بعد الوقوف، لبان أن الإحرام وقع نفلاً، وبقي نفلاً. ثم إن لم نوجب دمَ الإساءة، فلا كلام. وإن أوجبناه، فلو عاد الصبي بعد بلوغه إلى الميقات، ومرّ عليه، فالمذهب أنه لا يلزمه دمُ الإساءة؛ فإنه فعل ما في وسعه أولاً، ثم استفرغ جهده بالعود آخراً. وذكر القفال هذا، وارتضاه. وحكى وجهاً

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) ساقط من الأصل.

آخر: أن الدم لا يسقط، وهذا (1) بعيد، لا اتجاه له. 2706 - ومما يتعلق بذلك أن الصبيّ لو أحرم، وقَدِم وطاف طواف القدوم، وسعى، ثم بلغ، ووقف بعرفة بالغاً، فالحج يقع عن فرض الإسلام، وإن تقدم ركنٌ، ولكن [هل] (2) يعتد بذلك السعي؟ أم يجب إعادة السعي بعد طواف الزيارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تجب إعادته، والنظر إلى الوقوف. وتقدّمُ السعي في الصبا كتقدُّم الإحرام فيه. والوجه الثاني - أنه يجب إعادة السعي؛ فإن ذلك ممكن، وإعادة الإحرام لا معنى له، فأقمنا دوام الإحرام بعد البلوغ، مقام ابتداء الإحرام على صفة الكمال، والسعيُ إذا [نقص] (3)، فلا معنى للاستدامة فيه، فالاكتفاء به، وقد جرى في حالة النقص بعيدٌ مع إمكان إعادته. فرع: 2707 - ذكرنا أن الصبيَّ إذا كان لا يقدر على الرمي بنفسه، فالوليُّ يرمي عنه، وكذلك إذا مرض الكاملُ، وعجز عن الرمي، فينيب غيرَه مَناب نفسه، فلو رمى نائبُ المريض عنه، فَبَرَأ (4) المريض ووقتُ الرمي باق، فهل يلزمه إعادة الرمي؟ فعلى وجهين مبنيين على أن المعضوب إذا استناب نائباً فحج عنه، ثم زال العَضْب على ندور، فهل نقول: تبيَّنَّا (5) أن الحج لم يقع الموقع، إذا زال العضب (6)؟ فعلى قولين. والعُمْر في الحج كزمان الرمي في الرمي. 2708 - ومما يتم به القولُ في الصبيّ: ذِكْرُ إقدامه على المحظورات، بعد انعقاد الإحرام. فلتقع البداية بوطئه: اختلف القول في أنه إذا وطيء، هل يتعلق بوطئه إفسادُ

_ (1) (ط) وحكى. (2) ساقطة من الأصل. (3) في النسخ الثلاث: انقضى. والمثبت تقدير منا. رعاية للسياق. (4) برأ: من باب نفع، (وتعب أيضاًً). (5) (ط): يتبين، (ك) تبين. (6) ساقطة من الأصل.

الحج؟ وبنى الأئمةُ القولين أولاً على أن الصبي هل له عمدٌ على الحقيقة؟ وفيه قولان: ذكرناهما في أحكام الجنايات، ثم إذا حكمنا بأن له عمداً، فيفسد حجّه، وإن حكمنا بأن لا عمد له، ففي فساد الحج قولان، مبنيان على أن البالغ المكلفَ إذا وطيء ناسياً هل يفسدُ حجُّه؟ فعلى قولين، سنذكرهما إن شاء الله تعالى. والقولان مبنيان على أن الوطء استمتاعٌ [أو] (1) استهلاك. والأصح عند المحققين القطعُ بأن جماعه يفسد الحج؛ فإنّ عمد الصبي فيما يتعلق بالعبادات، كعمد البالغ، ولهذا يفسد صومه إذا تعمد الأكل، وتفسد صلاته إذا تعمد الكلام. ثم إن قلنا: يفسد حجه، ففي وجوب القضاء وجهان: أحدهما لا يجب؛ لأنه ليس ممن يُتعبد على الوجوب، بالعبادة البدنية. فإن قلنا: لا يجب القضاء، فليس إلا المضيُّ في الفاسد والتحلل، ولا تبعة. وإن قلنا: يجب القضاء، فهل يصح منه القضاء في صباه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح؛ فإن في تصحيحه الحكمَ بوقوع واجبٍ من الصبي ابتداءً. وهذا يُفضي إلى تنزيله منزلةَ المكلف في الواجبات التي يتعلق الخطاب بها بالمتعبد فيها. فإن قضى في صباه، فلا كلام. وإن أخر القضاء قصداً [أو] (2) قلنا: لابد من تأخيره، فما يأتي به بعد البلوغ من القضاء هل يقع موقع فرضِ الإسلام؟ نُظر: إن كان ذلك الحج الذي أفسده بحيث لو تم، لوقع عن حج الإسلام، فقضاؤه يُسقط فرضَ الإسلام؛ وذلك بأن يبلغ قبل الوقوف. وإن [كان] (3) الحج بحيث لو تم (4)، لم يقع عن فرض الإسلام (5 فقضاؤه لا يقع عن فرض الإسلام، ثم الحجة الأولى بعد الكمال تقع عن فرض الإسلام 5) ويبقى

_ (1) في الأصل: و. (2) في الأصل، (ك): و. (3) من الأصل: وإن حكمنا بأن الحج. (4) عبارة (ك): بحيث لم يتم، لم يقع. (5) ما بين القوسين ساقط كله من (ط)، والجملة الأولى منه ساقطة من الأصل.

القضاء في الذمة، ثم يقيمه في عمره. وإن حكمنا بأن [حج] (1) الصبي يفسد، ولا يلزم القضاء، ففي وجوب الكفارة وجهان: أصحهما - الوجوب. وإن قلنا: يجب القضاء، فتجب الكفارة، ثم حيث أوجبنا الكفارة، فهي في مال الصبي، [أو في مال الوليّ؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنها في مال الصبي] (2) ككفارة القتل إذا لزمت الصبيَّ بالقتل الصادر منه. والوجه الثاني - أنها في مال الولي؛ فإنه هو الذي ورّطه في الإحرام، وجرّ إليه سببَ لزوم الكفارة، وليس ككفارة القتل؛ فإنه لا سبب فيها من الولي. 2709 - وإذا تطيب الصبي أو لبس المخيط، ففي لزوم الكفارة قولان عند الأصحاب مأخوذان من حكم عَمْد الصبي، وقد ذكرنا أن الأخذ من هذا غيرُ صحيح. نعم، قد يتأتى التوجيه من غير هذا، فوجه وجوب الكفارة ثبوت سببها، والصبي من أهل التزام الكفارة. ووجه نفي الكفارة أن صحة الإحرام من الصبي محمول على صحة الصلاة والصوم [منه] (3). فأما تنزيله منزلة المكلف في العُهَد والغرامات بسبب إحرامٍ، هو منشئه أو أنشأه الولي عنه، فهو بعيدٌ. ثم حيث تثبت الكفارة فهي في ماله، أو في مال الوليّ؟ فعلى الوجهين المقدمين. ولو طيب الوليُّ الصبيَّ، فقد قال الأصحاب: يُنظر فيه، فإن كان يقصد مداواةَ الوليّ، واستصلاحَه، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قطع بأن الفديةَ على الوليّ، ومنهم من جعل ذلك كتطيّب الصبي بنفسه، وفيه التفصيل المقدم. وقد ذكر الشافعي لفظةً اختلف الفقهاء في تأديتها، فقال: " وتجب الفدية على المداوَي " فقرأ بعضهم بكسر الواو؛ حملاً على الولي، وقرأ بعضهم بفتح الواو؛ حملاً على الصبي؛ وعلل بأن فائدة المداواة رجعت إليه، فكان كما لو تداوى بنفسه،

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقط من الأصل. (3) ساقطة من الأصل.

ثم النص على هذا يدل على أن الفدية حيث تجب بتطيّب الصبي، تختص بماله، ولا تجب على وليّه. ولو طيّب الوليُّ الصبيَّ من غير منفعةٍ للصبي، تحصل بذلك، فقد ذكر الأئمة أن الفدية تجب (1 على الوليّ 1)، وهذا فيه ضرب من الإشكال. ولو قيل لنا: [ما] (2) قولكم في المُحِل يطيّب المحرمَ المكلّفَ؟ لَلَزِم أن نوجب الفدية. وهذا غامضٌ من طريق المعنى، ولكن مأخذه حلق المُحل شعرَ المحرم، والمحرم نائم، أو مكرَه، وقد يُتخيّل في ذلك أن شعر المحرم محترمٌ، وإتلافه محرّمٌ على المُحل والمحرم، كشجر الحرم، وتقدير هذا في استدامة فعل المحرم بعيد. ولكن الذي رأيناه في المذهب (3) ما نقلناه، وسيعيد الشافعي بعض أحكام الصبيان، في باب معقودٍ، يشتمل على إحرام الصبي، وعلى إحرام المماليك، فرأينا أن نؤخر بعضَ الأحكام، ونذكر في ذلك البابِ حكمَ العبد يُحرم، وحكمَ الكافر يُحرم ثم يسلم. فصل قال: " وإذا أصاب المحرمُ امرأتَه المحرمةَ ... إلى آخره " (4). 2710 - الوطء من المحرم المكلفِ إذا صادف إحراماً تاماً، فهو مفسدٌ للإحرام، ولا فرق إذا فُرض في الحج، بين أن يكون الوطء قبل الوقوف، وبين أن يكون بعده إذا لم يثبت تحلّل (5)، خلافاً لأبي (6) حنيفة.

_ (1) ساقط من (ك). (2) في الأصل: مع. (3) عبارة الأصل: في هذا المذهب. (4) ر. المختصر: 2/ 93. (5) في الأصل: " تحلُّلاً " بالنصب. (6) ر. مختصر الطحاوي: 67، بدائع الصنائع: 2/ 217، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 203 مسألة: 667، حاشية ابن عابدين: 2/ 211، 212.

ثم حكم الحج إذا فسد وجوبُ المضي فيه إلى تمامه، ثم وجوب القضاء إذا كان الحج تطوعاً، وفيه يظهرُ أثر وجوب القضاء، وتجب الكفارة العظمى، كما سنصفها. والمرأة إذا مكَّنت، فسد إحرامُها، كما يفسد إحرامه، ثم القول في الكفارة عليها، كالقول في كفارة الوقاع في رمضان، وقد تفصّل القولان توجيهاً وتفريعاً. فإن أوجبنا الكفارة على الزوج، ولم نوجبها عليها، فهل على الزوج أن يحصّل الحج [لها بمؤنةٍ] (1) من ماله؟ قال الشافعي فيمن يفسد حجه: " قضى وكفّر، وحج من قابل بامرأته ". واختلف الأئمة في ذلك: فقال بعضهم: هذا واجب عليه وجوبَ الكفارة، وثمنِ ماء الغسل. وقال آخرون: لا تجب المؤنة عليه. وعليها أن تتكلف ذلك من مالها، فإنها كانت مختارة في تمكينها، والكفارة خارجة عن القياس، مستندة إلى حديث الأعرابي، فلا ينبغي أن تُتَّخذَ أصلاً في كل ما لا نصّ فيه. ثم قال الشافعي في القديم: " إذا بلغا في القضاء الموضع الذي أفسدا فيه الحجَّ، فُرِّق بينهما " وظاهر هذا يدل على استحقاق ذلك. والذي ذهب إليه الأكثرون أنه استحباب، وهو الذي قطع به الصيدلاني. ومن أصحابنا من رأى ذلك حَتماً، وظن أن الشافعي قال ما قال [عن أثرٍ عنده] (2) اتبعه. ومما يتعلق بموجب (3) الإفساد أنه إذا كان قد أحرم من مسافة بعيدةٍ، وراء الميقات الكائن في صوبه، ثم أفسد الحج، فيلزمه أن يقضي من المسافة التي كان أحرم من مثلها ابتداءَ [الأداء] (4)، وخالف أبو حنيفة (5) في ذلك.

_ (1) بياض بالأصل. (2) ساقط من الأصل. (3) (ط) بوجوب الإفساد. (4) في الأصل، (ط): أداء. (5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 68 مسألة 555، والمسألة ذكرها إمام الحرمين في الدرة المضية: مسألة 296.

ثم إذا أفسد الحج، فالإحرام دائم على الفساد، وليس كالصوم يفسد، مع أمرنا بوجوب الإمساك عن المفطرات؛ فإن الصوم يرتفع بالكلّية، والأمر [بالإمساك] (1) تشديد وتغليظ. 2711 - ثم من جامع وأفسد، ثم جامع مرة أخرى، فهل يلزمه بالجماع الثاني شيء أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجب؛ لأنه وقاع عديم التأثير في الإفساد؛ إذ لا أثر له فيه، فلا يتعلق به كفارة. والأصح وجوب الفدية؛ لأنه في إحرامٍ وإن كان فاسداً. ثم إن قلنا: تجب الكفارة ففي الواجب وجهان: أحدهما - أنها بدنة. والثاني - أنها دم شاة. وهذا الخلاف أقربُ؛ من جهة أن الوقاع الثاني مباشرةٌ لم تفسد الحج، فأشبهت المباشرة دون الوقاع. 2712 - ولو وقع الوطء بين التحللين، فالأصح أن الحج لا يفسد؛ لأنه لم يصادف إحراماً تاماً. ومن أصحابنا من قال: يفسد الحج لمصادفة الوطء للإحرام. فإن قلنا: لا يفسد الحج، فواجب الوطء بين التحللين ماذا؟ فيه وجهان: أحدهما - أن واجبه البدنة. والثاني - أن واجبه دم شاة. وهذا يقرب من الخلاف في واجب الوطء الثاني. فإن قلنا: إنه يفسد الحج، فواجبه بدنة؛ فإن الإفساد ووجوب القضاء أشد وأغلظ مما بين الشاة والبدنة، ويخرج وجهٌ آخر: أنا إذا قلنا: الوطء لا يفسد الحج إنه (2) لا يتعلق به شيء أصلاً. وهذا بعيد؛ فإن الوطء يجب ألا يقصر عن مباشرة لا وقاع فيها. وسنذكر الآن أن المباشرة من موجبات الفدية، ويتجه أن نَنْفصل (3) عن هذا،

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) كذا في النسخ الثلاث: إنه (بدون فاء)، وقد سبق في بعض تعليقاتنا، أن هذا سائغٌ، وخرّجوا عليه قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. (3) " ننفصل عن هذا " أي: نخرج عنه، ونردّه، ونُجيب عليه، فالانفصال هنا من مصطلحات المناظرة، ومعنى العبارة: أن وجه الانفصال والخروج عن هذا الاعتراض القائل: إن الوطء لا يصح أن يقلّ في إيجاب الفدية عن مباشرةٍ لا وقاع فيها، فالجواب أو الانفصال بأن يقال: المباشرة إنما توجب الفدية إذا صادفت إحراماً تاماًً.

فيقال: المباشرة إنما توجب الفدية إذا صادفت إحراماً تاماًً. وكان شيخي أبو محمد يقطع القول بأن الحج إذا فسد بالجماع، فلو فرض من المحرم الذي فسد حجه تطيّبٌ، أو لُبسٌ أو ستر، فتجب الفدية في هذه المحظورات. وبهذا يتبين أنه في إحرام، وليس كالجماع، بعد الجماع؛ لأنه في حكم التابع للجماع الماضي، فجعل كحركات المجامع. وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً في أن المحظورات بعد الوقاع لا توجب الفديةَ، إذا قلنا: إن الجماع الثاني لا يوجب شيئاً. وهذا بعيد جداً. 2713 - ونحن نذكر بعد هذا تفصيل كفارة الجماع التام المفسد، فنقول: الواجب بدنة، فإن لم يجد، فبقرة، فإن لم يجد فسبعٌ من الغنم؛ فإن لم يكن قوّمت البدنة دراهمَ، والدراهم طعاماً بسعر مكة، فإن لم يكن، صام عن كل مدّ يوماً، ونصفُ المد كالمد في مقابلته بصومِ يوم؛ فإن الصوم لا يتبعض. ثم اختلف الأئمة في [أن هذه] (1) الكفارة مرتبة، أو مخيرة: فمنهم من جعل في المسألة قولين: أحدهما - أنها مرتبة. والثاني أنها مخيّرة، في جميع ما ذكرناه. قالوا: والقولان مبنيان على أن الوطء استمتاع أو استهلاك. فإن جعلناه استهلاكاً، فهذا (2) على التخيير، كفدية الحلق، والقَلْم، وقتل الصيد. وإن جعلناه استمتاعاً، فهو على الترتيب كفدية الطّيب، واللّباس؛ فإنها مرتبة كما سنصفها. فإن قلنا: هي مخيرة، فلا كلام. وإن قلنا: هي مرتبة، فالبدنة، والبقرة، والسبع من الغنم، على الترتيب، أو على التخيير، فعلى وجهين: أحدهما - أنها مرتبة، كالدم، والصوم، والإطعام. ومنهم من قال: هذه الأشياء مخيّرة (3) وإنما الترتيب في الدم، والصوم، والإطعام؛ وذلك لأن هذه الأشياءَ على مرتبة واحدة، في الضحايا والهدايا، فلا معنى لترتيب بعضها على بعض.

_ (1) مزيدة من (ط). (2) (ط)، (ك) فهو. (3) (ط): مرتبة.

2714 - وتمام البيان في المسألة أن من جامع مراراً، وكفَّر عن الجماع الأول، ففي الجماع الثاني من التفصيل ما ذكرناه. فأما إذا لم يتخلل التكفيرُ، فهذا يندرج تحت الفصل الجامع الذي ذكرناه، في تكرر موجبات الكفارة، وتداخل الكفارات عند التواصل، وعند الانقطاع، وقد مضى ذلك، مع أمثاله في فصلٍ جامع. ولو جامع مراراً في مكان واحد، وهو يقضي من كل جماع وطره، فقد سبق منا رمزٌ إلى ذلك، في الفصل المشتمل على تداخل الكفارات، وقد ذكر صاحب التقريب في ذلك جوابين: أحدهما - أن المواقعات، وإن تواصلت أزمنتها، فهي بمثابة ما لو تفرقت. وهذا متّجه في المعنى ظاهرٌ. والوجه الثاني - أنها تلحق بأعدادٍ من اللُّبس مع اتحاد المكان والزمان، حتى يقطع باتحاد الموجب. ولا خلاف أنه لو كان ينزع ويعود، والأفعال متواصلة، وقضاء الوطر حصل آخراً، فالكل وقاع واحد. فرع (1): 2715 - متصل بما نحن فيه. المباشرة بين المحرِم والمرأة إذا تحقق فيها التقاء البشرتين، فلا نقضي بفساد الحج بها، أنزل أو لم ينزل، خلافا لمالك (2)؛ فإنه قال: إذا اتصل الإنزال بها أفسدت الحج. ثم الفدية تجب بالمباشرة، وهي دمُ شاة، ولا فرقَ بين أن يتصل الإنزال بها أو لا يتصل. نصَّ عليه الأصحاب في طرقهم، وضبطوا المباشرة الموجبةَ للفدية، بما يوجب نقض الطهارة، ثم مسائل الملامسة في الطهارة تنقسم إلى وفاق وخلاف، والأمر في الحج ينطبق على قياسها، وفاقاَّ وخلافاً، وأما الصوم، فالمباشرة المحضة لا تؤثر فيه. فهذه مراتب المباشرة وحكمها. وانتقاضُ الطهارة، ووجوب الفدية في الحج

_ (1) في الأصل فصلٌ. ولكن الكلام متصل، فرجحنا (فرع) اتباعاً كما في (ط)، (ك). (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 487 مسألة 788، تهذيب المدونة: 1/ 595.

يتجاريان بلا افتراق، والمرعي في الصوم الإنزال، وكأن الغرض من الصوم الانكفافُ عن قضاء الوطر، بالأكل أو الاستمتاع، وهذا لا يحصل بالمباشرة المجردة. والقياس يقتضي أن يكون الاعتكاف ملحقاً بالصوم في المباشرة، التي لا إنزال معها، ولكن فيها تردد، ذكرناه في الاعتكاف، وذكرنا سببه. 2716 - وأما الاستمناء، فإنه يفسد الصوم، وهل تتعلق به الفدية؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - يتعلق به ما يتعلق بالمباشرة. والثاني - لا شيء فيه؛ فإن الحج ليس في معنى الصوم، في مسالك محظوراته. فرع: 2717 - الحاج المتطوّع إذا أفسد حجه بالجماع، فقد ذكرنا أن القضاء يلزمه. ثم ذكر العراقيون [في] (1) أن القضاء على الفور أم على التراخي وجهين: أحدهما - أنه على التراخي، اعتباراً بصفة الوجوب في فرض الإسلام. والثاني - أنه على الفور، لانتساب المفسد إلى التفريط في الإفساد. وكان القفال يقول: كل كفارة وجبت من غير عدوان ممن لزمته الكفارة، فهي على التراخي، وكل كفارة وجبت بعدوان من الملتزم، ففي ثبوتها على الفور والتراخي تردد. وهذا يناظر ما ذكره العراقيون في قضاء الحج على المفسد؛ فإن وضع الشرع في واجب الحج [على] (2) التراخي، كما أن الكفارات في وضعها على التراخي. ومن اعتدى بترك صلاةٍ، لزمه قضاؤها على الفور، بلا خلاف على المذهب. والسبب فيه أن المصمم على ترك القضاء مقتولٌ عندنا، ولا يتحقق هذا إلا مع توجّه الخطاب بمبادرة القضاء، وأبعد بعض الأصحاب، فقال: إنما يقتل تارك الصلاة إذا لم [يعزم على القضاء] (3) ومثل هذا لا يُعدّ من المذهب.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) عبارة الأصل، (ك): إذا لم يعد القضاء.

ومن اعتدى بترك صوم شهر رمضان، ففي جواز التأخير في القضاء مع الاعتداء في الابتداء وجهان؛ إذ لا يتوجه على التارك المصرّ على الترك في الصيام قتل. فرع: 2718 - الجماع إذا طرأ على العمرة، أفسدها ويتعلق به من الكفارة ما يتعلق بالجماع المفسد للحج، ولو طاف المعتمر، ولم يَسْع، وجامع، فسدت العمرة، ووجبت الكفارة العظمى. وإن كان الطواف في العمرة من أسباب التحلل، فاتفق الأئمة على أن التحلل من العمرة لا تدريج فيه، ولا تعدد (1)، وليس كالتحلل عن الحج؛ فإنه ينقسم، ويختلف الحكم فيما يقع قبل التحللين، وفيما يقع بينهما. وقال الأئمة: لو طاف المعتمر، وسعى، ولم يحلق، وقلنا: الحِلاق نسك، فلو جامع قبل الحِلاق، فسدت العمرة، ولزمت الكفارة العظمى، على ما قدمناه. فرع: 2719 - القارن إذا جامع وأفسد إحرامه، لزمه قضاء النسكين، ولزمته الكفارة العظمى. وهل يلزمه دمُ القِران؟ فعلى وجهين: أحدهما - يلزمه، ضماً إلى كفارة الجماع. والثاني - لا يلزمه؛ فإنه لم يتمتع بقِرانه؛ إذ فسد عليه، وذاق وبال الإفساد، فليقع الاكتفاء بموجبه. ومما يتعلق بذلك أن القارن لو لم يجر منه صورة الطواف، و [السعي] (2) قبل الوقوف، فوقف، ورمى جمرةَ العقبة، وحلق. فلو جامع، فالأصح أن الحج لا يفسد، كما تقدم. ثم إذا لم يفسد الحج، لم تفسد العمرة، وإن لم يجر بعدُ من أعمالها شيء، فلا خلاف بين الأصحاب أن العمرة تتبع الحج في الفساد في حق القارن. ولو فات الوقوف، وفات حج القارن بقرانه، ففي فوات العمرة وجهان: أحدهما - أنها تفوت بفوات الحج؛ فإن العمرة في جهة القِران لا تفرد بعمل، ولا حكمٍ، وأيضاًً فإنها تَبِعَتْ الحجَّ في الفساد في حق القارن، فلتتبعه في الفوات.

_ (1) (ك): لا يندرج فيه، ولا تعبد. (2) مزيدة من (ط)، (ك).

والوجه الثاني - أن العمرة لا تفوت؛ فإن من فاته الحج يلقى البيتَ بعملِ معتمر، فإذا كان يعمل عمل معتمر وإحرام العمرة لا يفوت؛ فلا معنى للقضاء بفوات العمرة. فصل قال الشافعي: "وهكذا كل واجب عليه، فقس به ما لم يأت فيه نص ... إلى آخره" (1). 2720 - مضمون الفصل القول في معاقد المذهب في الدماء وأبدالها. وكان شيخي أبو محمد يقسم الدماء على أقصى وجه في التطويل، طالباً بكلامه الاحتواء على الجمل والتفاصيل، وكان يجري مقصودُ الضبط خفيّاً في أدراج الكلام إلاّ على المنتهين. والذي أراه أن أذكر الضوابط لفظاً ومعنى، وأحيلَ التفصيل الخارج عن مقصود الضبط إلى ما جرى وسيجري مفصلاً، وأُنبّهَ على ما يعدَم (2) الطالب مثلَه في المجموعات (3). 2721 - فأقول: ذكر المراوزة مسلكاً وأنا طارده على وجهه، حتى إذا تم، ذكرت طريقةً أخرى للعراقيين من (4) أول الضبط إلى آخره. ثم أحكم بين الطريقين بما أتخيله. وأقول في افتتاح طريق المراوزة: الدماء المنصوصة في كتاب الله تعالى أربعة: أحدها - جزاء الصيد، وهو مُعَدَّل في كتاب الله مخيّر (5)، قال عز من قائل: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، فكفارة الصيد مخيرة في نص

_ (1) ر. المختصر: 2/ 94. (2) عدم: من باب تعب. (3) المجموعات: المؤلفات. وهذا معهودٌ في لفظ إمام الحرمين، يسمي المؤلّف (مجموعاً). (4) (ط): في. (5) ساقطة من (ط).

القرآن معدّلة، ومعنى كونها مخيرة، تخير الملتزم بين الدم، والصوم، والإطعام، ومعنى [التعديل] (1) أن نقدر المثل الواجب مقوماً بالدراهم، ثم نصرف الدراهم إلى الطعام المخرَج في الكفارة، ونقدرها أمداداً، ثم نقابل كلَّ مُدٍ بصوم يوم. فهذا معنى التعديل، واللّقب مأخوذٌ من قوله تعالى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، والاعتبار بالأسعار المقدرة بمكةَ، حرسها الله تعالى، وتفاصيل جزاء الصيد فيه بابٌ، والغرض وصف كل كفارة بالتخيير، والترتيب، والتعديل، والتقدير. فهذا أحد الدماء المنصوصة. والثاني - دم الحلق، قال الله تعالى {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وقد وصفنا هذه الكفارة، وبيّنا أنها مخيّرة، مقدّرة، أما التخيير، فمنصوص في الكتاب، والتقدير متلقى من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عُجرة. والثالث - دم المتعة، وقد سبق شرحها، فهي مُرَتَّبةٌ مقدرة. والرابع - دم الإحصار (2 وهو دم شاةٍ، وفي بدله، ثم في صفة بدله كلامٌ يأتي في باب الإحصار، إن شاء الله تعالى. فأما دم الإحصار 2)، فلسنا نبغي أن نلحق يه فرعاً، وإنما الإلحاق بالدماء الثلاثة فنقول: 2722 - جملة الدماء على طريق المراوزة غيرِ المنصوص عليها معدّلةٌ طرداً، وإنما الكلام في الترتيب والتخيير، فكل دمٍ وجب لترك نسك كترك الرمي، والمبيت، والجَمْع في الوقوف بين الليل والنهار، وترك طواف الوداع، وترك حق الميقات، وهو الذي يسمى دمَ الاساءة، فلا يختلف القول أنه مرتبٌ: الشاةُ، ثم الطعامُ، ثم الصوم. وأما ما يكون استمتاعاً، كاستعمال الطيب، واللباس، وما في معناهما، أما التعديل، فلا شك فيه في موجَب هذه الطريقة، وأما الترتيب فقولان: أحدهما - أنها

_ (1) في الأصل: التقدير. (2) ما بين القوسين سقط من (ط).

مرتبةٌ: الدماء، ثم الطعام، ثم الصوم، على التعديل. والثاني - نص عليه في الإملاء، والمناسك الأوسط - أنها على التخيير، واحتج عليه بقوله تعالى، في فدية الأذى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، الآية، ووجه الدليل أن الآية ليست ناصَّة على الحلق، وإنما هي مشتملة على دفع الأذى، وقد يقع برأس المحرم شَجَّةٌ، فيحتاج في دفع أذاها إلى الستر، والحلق، واستعمال دواء فيه طيب، فليثبت التخيير، غيرَ أنه على التعديل، كما سنصفه في آخر الفصل. فهذه الدماء على هذا القول ملحقة بجزاء الصيد في الضبط اللفظي. و (1) على القول الأول هي في الترتيب ملحقة بدم التمتع، وفي الكيفية هي ملحقة بجزاء الصيد، ولا حاجة إلى تكلفٍ في إلحاق القَلْم بالحلق، فإنه في معناه، ودم الوقاع ملتحق في التعديل قولاً واحداً، وفي اختلاف القول في الترتيب بدماء الاستمتاعات. فهذا منتهى الضبط المقصود على طريقة المراوزة. 2723 - (2 فأما العراقيون، فإنهم ذكروا في الدماء ترتيباً يخالف طريق المراوزة 2) من أوجه. ونحن نسرد ما ذكروه على وجهه، فنقول: الدماء المنصوص عليها أربعة: دم التمتع والقِران، ودم الإحصار، وفدية الأذى، وجزاء الصيد، فكل دم وجب عن ترك نسك كدم الإساءة، ودم الرمي، والمبيت، والوداع، ودمِ الفوات. فكلها كدم التمتع في كل وجه؛ فإن التمتع فيه تركُ الإحرام من الميقات. وكل دمٍ وجب بسبب ترفُّه: كالطيب، واللبس، والمباشرة دون الفرج، فجميع ذلك كدم الحلق، من كل وجه؛ لأن الترفه يجمعها، إلى دم الحلق، فيجب دم مخيّر، مقدّر، شاةٌ، أو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام مقدرٌ معروف في فدية الأذى. ثم قالوا: دم الإحصار أصلٌ منصوص، لا فرعَ له، يُلحق به.

_ (1) (ط) على القول (بدون واو). (2) ما بين القوسين ساقط من (ك).

ودم الجماع فرعٌ غيرُ منصوصٍ، ولا أصل له في نص الكتاب، وطردوا دمَ الجماع على ما ذكرناه مفصَّلاً في فصل الجماع. وقد وجدت هذا بعينه مذهب مالك (1) حرفاً حرفاً وليس يكاد يخفى تباين الطريقين. والآن حان أن نذكر مسلكي الفريقين. 2724 - أما العراقيون، فإنهم راعَوْا شبَها في الترفّه، والنسك، ثم حكموا بهذا المقدار من الشبه بالتقديرات التي لا تتلقّى إلاّ من توقيف، والشبه البعيد لا يقتضيه. وأما المراوزة، فإنهم رأَوْا التعديل منقاساً، إذا عُدم التوقيف، وقد وجدوا للتعديل ثَبَتاً في النص وطردوا التعديل بمسلكٍ معنوي في كل ما ليس منصوصاً [عليه] (2) على التفصيل، وترددوا في الترتيب، فهان عليهم تحكيم الشبه فيه، وغلب عندهم [الشبه] (3) فيما يتعلق بالنسك في الترتيب، وترددوا فيما يتعلق بالاستمتاع. 2725 - ولا يكاد يخفى على من جرى في (4) مساقنا، وأخذ الفقه على مذاقنا، أن ما ذكره المراوزة أفقه وأغوص، ثم هذا على حسنه يعتضد بنصّ الشافعي، فإنه ذكر دمَ الجماع معدَّلاً، كما مضى، ثم قال: " وهكذا كل واجبٍ عليه فقس به "، فكان هذا تصريحاً منه بتعميم التعديل، في كل ما ليس منصوصاً عليه على التفصيل. وقد وفّينا بذكر الطريقين، والحكم بينهما بعد نجازهما. فصل 2726 - الدماء الواجبة على المحرم من غير نذر كلها [دماء الجبرانات عندنا] (5) ومن جملتها دم التمتع والقِران.

_ (1) ر. القوانين الففهية 136 وما بعدها. (2) ساقطة من الأصل. (3) ساقطة من الأصل. (4) (ط) على. (5) ساقط من الأصل.

ثم قاعدة المذهب أن جميعَها يتقيد بالجرم، أما لحومها فمفرقة على من يصادف مكة من المستحقين: قاطنين كانوا أو غرباء، وإنما المطلوب أن تقع التفرقة بالحرم. وأما إراقة الدماء، فالمذهب أنه يتعين إراقتها بالحرم، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع النحر من منى، وقال: "هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر" (1). وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرمَ بذكر مكة، ولا شك أن خِطتها غيرُ معتبرة، وإنما المرعي الحرم (2) نفسه، ومنى ليس من خِطة مكة، ولكنه من الحرم، والحرم متمادٍ إلى قرب عرفة. ومن أصحابنا من قال: لو وقع الذبحُ والنحر في طرف الحل، ونقل اللحم غضاً طرياً إلى الحرم، جاز، وأجزأ؛ مَصيراً إلى أن المقصود تفريقُ اللحم الغض بالحرم. وهذا ضعيفٌ؛ فإن الإراقة نسكٌ، ولهذا لا يجزئ اللحم إذا اشتراه [ملتزمُ] (3) الدم وأراد تفريقه. 2727 - هذا أصل المذهب، لا يستثنى منه إلا دمُ الإحصار؛ فإن محِلّه محل الحصر، وسيأتي في باب الإحصار مع طرفٍ من أحكام (4) الدماء التي وجبت قبل الإحصار. وإذا خالف [ملتزم] (5) الدم فيما رأيناه واجباً، لم يعتد بما جاء به. والمحل الأفضل في حق الحاج، منى وكذلك القول في هداياه: إن ساقها. ومحل الإراقة في حق المعتمر المروةُ؛ فإنها محل التحلل عن العمرة. كما أن منى محل التحلل عن الحج.

_ (1) حديث: كل فجاج مكة منحر، رواه مسلم بمعناه عن جابر، وأتم منه: كتاب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، ح 1218، ورواه أبو داود بنحو هذا اللفظ: المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1907، وانظر تلخيص الحبير: 2/ 554 ح 1118. (2) (ط): بالحرم. (3) في الأصل: فيلزم الدم. (4) (ط): الأحكام. (5) في الأصل: فيلزم.

وذكر شيخي وجهاً غريباً في أن من حلق قبل الانتهاء إلى الحرم، فله أن يفرّق اللحم حيث حلق، واستدل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كعب بن عُجرة، وكان حلقه في محلٍّ بعيدٍ عن مكة، ودل ظاهر كلامه صلى الله عليه وسلم على التسليط على إراقة الدماء، وتفرقة اللحم. وهذا بعيدٌ؛ فإن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على إعلامه كعباً ما يجب عليه بسبب الحلق، فأما التعرض [لتنجيز] (1) الإراقة وتعجيل تفرقة اللحم، فلم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2728 - وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً على نسق آخر، فقال: كل ما أقدم عليه المحرم من موجبات الدم، وكان مسوَّغاً له بعذرٍ، أو غيره، فله أن يريق الدم حيث شاء، وكذلك يفرّق اللحنمَ. وكل سبب يحرُم الإقدام عليه، فإذا فرض صَدَره (2) من المحرم، فإراقة الدم الواجب، وتفرقةُ اللحم يتقيدان بالحرم. وهذا نقله وزيفه. وليس من الرأي تشويش أصل المذهب بمثل هذا، والوجه القطع بأن كل دم وجب على المحرم بسبب يسوغ: كالتمتع، والقِران، والحلق مع الأذى، واللُّبس مع الحاجة. أو بسبب غير مسوغ كالمحظورات، مع انتفاء الأعذار، فتفرقة (3) اللحم في جميعها مقيدةٌ بالحرم. والمذهب تقيّد الإراقة به أيضاً، وفيه الوجه البعيد. ثم لا فرق بين ما يقع في نفس الإحرام، وبين ما يقع بعد التحللين، أو بينهما؛ فإن الرمي وإن وقع بعدَ (4) التحللين، فهو من توابع الإحرام، فالْتحق به، وكذلك كل ما في معناه. وأما القول في الزمان، فلا يتقيد شيء (5) من دماء الجبرانات بالزمان، وجميع

_ (1) في الأصل، (ك): لتخيير (2) صَدَرُه: صدوره. وقد تكرر هذا مراراً. (3) (ط): فانتفاء. (4) (ط): بين. (5) (ط): بشيء.

الأوقات صالحةٌ لها، وإنما يتقيد بأيام النحر: الهدايا، والضحايا: المتطوّعُ منها، والمنذور. فصل يجمع ما يُفسد الحجَّ والعمرة، وما يَقْطع إحرامهما 2729 - فأما القول فيما يفسد، فلا خلاف أن الوطء مفسد للنسكين، وقد تفصل القول فيه، وفي موجَبه. ومما يلتحق بذلك الردة إذا طرأت، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الردة كما (1) طرأت، قطعت الإحرام قَطْع الإفساد. ثم اختلف الأئمة أن المرتد هل يخاطب بالمضي في فاسد الحج أم لا؟ ويظهر تصوير ذلك فيه إذا ارتد، فوقع الحكم بالفساد عند الارتداد، ثم عاد إلى الإسلام، فمن أصحابنا من قال: [إنه] (2) يمضي في الفاسد مضيّ من أفسد الحج بالجماع. ومنهم من قال: لا مضيّ على من فسدت حجته بالردة؛ فإن طريق إفسادها القطع، والاستئصال، وإحباط الأعمال، وهذا يقتضي أن لا [يقع] (3) الخطاب بعد الردة بفعل. وذكر بعض (4) أصحابنا وجهاً آخر [أن الردة] (5) لا تفسد الحج أصلاً، طالت مدتها، أو قصرت. ولكن لا يعتد بما يأتي به في زمن الردة. وقد ذكرنا خلافاً للأصحاب في طريان الردة في أثناء الغُسل والوضوء. وهذا وإن حكاه طوائف من الأئمة، مزيّف غير صحيح.

_ (1) "كما" بمعنى (عندما). (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: يقطع. (4) ساقطة من (ط). (5) عبارة الأصل: أنها.

فصل قال: " ومن فاته ذلك، فقد فاته الحج ... إلى آخره " (1). 2730 - [مضمون الفصل القول في فوات الحج] (2)، فنستقصي ما فيه، وإذا انتهينا إلى بابه، أحلناه. فنقول: أولاً - العمرةُ المفردة لا يتصّور فواتُها، وإنما يفرض انقطاع إحرامها قبل تأدية أركانها بالإحصار، كما سيأتي، وهل تفوت العمرة في حق القارن، إذا فات الحج؟ فعلى الخلاف المقدم. 2731 - وأما الحج، فإنه يفوت بفوات الوقوف، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة، فمن وقف بعرفة، من ليل أو نهار، فقد تم حجه " (3) والمعنيُّ بالتمام الأمن من الفوات. ثم المتطوّع بالحج إذا أحصر، وتحلل، لم يلزمه القضاء، وسيأتي [ذلك] (4) في باب الإحصار. وإذا فاته الوقوف، لزمه القضاء، كما يلزمه القضاء إذا أفسد الإحرام. ولعل السبب فيه انتسابه إلى التقصير، أو إلى ما يدنو منه. وإذا فرض الفوات مترتباً على سبب الإحصار، ففي وجوب القضاء قولان. وتصويره أن يؤم مكة محرماًً، من طريق قريبة، فيصدّه العدّو من ممره في الطريق القاصد، فينحرف إلى مسلكٍ فيه بعضُ الطول، وقد قرب الزمان، فإذا فعل ذلك،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 96. (2) ساقط من الأصل. (3) حديث " الحج عرفة ... " بمعناه أحمد: 4/ 309، 310، وأبو داود: كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، ح 1949، والترمذي: الحج، باب فيمن أدرك الإمام بجمع، ح 889، والنسائي: مناسك، باب من أتى عرفة، ح 3044، وابن ماجة: المناسك، باب من أتى عرفة، ح 3015، وابن حبان: ح 3881، والحاكم: 2/ 278، والدارقطني: 2/ 240، والبيهقي: 5/ 116، 173. وانظر التلخيص: 2/ 487 ح 1048. (4) ساقطة من الأصل.

ففاته الحج المتطوع به، فهذا فواتٌ سببه الإحصار والصدّ، فهل يجب القضاء؟ فعلى قولين: أحدهما - يجب لأجل الفوات. والثاني - لا يجب لترتب الفوات على الصدّ، وكذلك لو صُدّ وحبس، ثم انجلى الحصر، فاندفع، ففاته الحج لضيق الوقت، والأمر على ما ذكرناه من الخلاف. 2732 - ثم إذا ثبت وجوبُ القضاء على من فاته الحج، فيجب مع القضاء دمٌ وفاقاً. ولا خلاف أن صفته صفةُ دم التمتع، اتفقت الطرق عليه. وإنما لم ندرجه في تقاسيم الدماء، لنفرد ذكره، والسبب (1) فيما ذكرناه ظهور الشبه، وبلوغُه مبلغ الوضوح؛ فإن المتمتع يتحلل من نسك، ويتحرم بآخر، ومن فاته الحج يفعل ذلك، ولكن القضاء يقع لا محالة في السنة الثانية. 2733 - ثم نذكر قبل تفصيل الدم وبدلِه أصلاً آخر في الفوات، فنقول: من فاته الوقوف، فلا بد وأن يلقى البيت، ثم اختلف نص الشافعي، فقال في موضعٍ: " يطوف ويسعى " وقال في موضع: " يطوف ". واختلف أئمتنا، فمنهم من قال في المسألة قولان: أحدهما - أنه يأتي بعمل معتمرٍ، فيطوف، ويسعى، ويحلق، إن جعلنا الحِلاق نسكاً. والقول الثاني - أنه يقتصر على الطواف؛ فإن الغرض لُقيان البيت، وإلا فما يأتي به غيرُ محسوبٍ عن حج، ولا عمرة. ومن الدليل على ذلك أنه لا يأتي بالمناسك التابعةِ كالرمي، والمبيت، فليقع السعي في معناها. ومن أئمتنا من قطع بأنه يطوف ويسعى، وحمل نص الشافعي عند ذكره الطواف، على اقتصاره على بعض ما عليه موجِزاً، وذلك معتاد في الكلام. ثم من جعل المسألة على قولين، أوجب مع الطواف الحلقَ، إذا جعلنا الحلق نسكاً. هكذا ذكره الصيدلاني وغيرُه، وذلك لأنه مختص باقتضاء التحلل إذا قدرناه نسكاً، وسيظهر أثره في باب الصدّ إن شاء الله تعالى.

_ (1) (ط): والتسبب.

2734 - فإذا ثبت ما ذكرناه، عادَ بنا الكلام بعده إلى تفصيل دم الفوات: هو دم شاة إن وجده المرء، فإن لم يجده، صام ثلاثة أيامٍ، وسبعةً، على ترتيب صيام العشرة في حق المتمتع. ثم اضطربت طرق الأئمة (1) فيما يقع صيام الثلاثة فيه، فذكر المراوزة مسلكين: وقد جمعهما العراقيون، وذكروا قولين، ونحن نقتصر على ما ذكروه؛ فإنه يجمع الطرقَ، قالوا: في المسألة قولان في وقت إخراج الدم: أحدهما - أنه يخرجه في الحج الفائت، كما لو أفسد حجَّه، فإنه يخرج دمَ الفساد في ذلك العام. والثاني: أنه يخرج الدم في الحجة المقضية؛ فإن الحجة المقضية تناظر الحجة من نسكي المتمتع، ودم التمتع إنما يجب بالخوض في الإحرام بالحج، فليكن الأمر كذلك في الفوات والقضاء. وحقيقة القولين ترجع إلى أن الدم متى يجب؟ قالوا: إن قلنا يخرجه في سنة الفوات، فقد بان أن الوجوب ثابت، وأن الفوات أوجب شيئين: الدمَ، والقضاء. فله تعجيل أحد الواجبين، وتأخير الثاني إلى وقت الإمكان. وإن قلنا: يخرج الدم في حجة القضاء، فالوجوب في أي سنة؟ قالوا في المسألة وجهان: أحدهما - أن الوجوب عند التحريم بالقضاء، قياساً على التمتع. والثاني - أن الوجوب بالفوات، ولكنه لا يخرج الدمَ، لنقصان الحج الفائت. وهذا الذي ذكروه في الدم فيه بعض الخبط؛ فإنا إن قلنا: وجوب الدم بالخوض في القضاء، فالقول في تقديم إراقة الدم على الخوض في القضاء يخرج على الخلاف المذكور في أن المتمتع لو أخرج الدم بعد الفراغ من العمرة، قبل الشروع في الحج، فهل يعتد بما أخرجه؟ والقياس الاعتداد به، اعتباراً بتقديم الكفارة المالية على الحِنث. وإذا أخرج الدم وهو ملابس للعمرة، لم يتخلل منها، ففي الإجزاء خلاف قدمته. فإذا كان الأمر كذلك حيث نقول: لم يجب الدم بعدُ، فكيف ينقدح المصير إلى أن

_ (1) (ط)، (ك): الأصحاب.

الفوات يوجب الدم، ثم يتوقف جواز إخراجه في وجهٍ على القضاء المنتظر؟ وإنما يستقيم هذا التردد في الصوم، ونحن ذاكروه الآن. 2735 - فإن قلنا: وجوب الكفارة موقوف على الخوض في القضاء، فصيام الأيام الثلاثة يقع في القضاء لا محالة، فإن الكفارة البدنية لا تقدّم على وقت وجوبها، من غير ثَبَتٍ وترخيصٍ من الشارع، فيصوم في القضاء ثلاثة أيامٍ وسبعةً إذا رجع، على ما مضى تفسير الرجوع. وإن قلنا: الكفارة تجب بالفوات، فهل يصوم الأيام الثلاثة، وهو ملابس للحجة الفائتة؟ فعلى وجهين: أحدهما أنه يصوم؛ لأن الفوات هو الموجب، وقد تحقق. والوجه الثاني - لا يصوم؛ فإنه في إحرامٍ ناقص. وإنما اضطرب الأصحاب في ذلك بسببين: أحدهما - أن الفوات رأوْه موجباً للكفارة، ثم انضم (1) إليه أن من فاتته الحجة في نسك ناقصٍ، وصيامُ الأيام الثلاثة يقع في حج كامل، والجمع بين القضاء والكفارة، وأصل الحج متطوَّع به مشكلٌ في القياس. والأَوْجَه، وهو الذي قطع به الصيدلاني إثبات الصوم في القضاء. فهذا بيان ما قيل. 2736 - ثم ذكر صاحب التقريب وراء ذلك قولاً بعيداً مخرّجاً فقال: ذهب بعض الأصحاب إلى أن من فاته الحج، يلزمه دمان: أحدهما - في مقابلة الفوات، والثاني - لأنه في قضائه يضاهي المتمتع؛ لأنه تحلل عن الأول، ثم شرع في الثاني، وقد تخلل بين التحلل والشروعِ في القضاء التمكنُ من الاستمتاع، وتحلله لم يكن عن حج، [وإن كان شروعه في حج] (2). 2737 - وقد تردد الأئمة في أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج، فهل يكون إحرامه عمرة؟ ولم يترددوا في أن ما يأتي به من فاتته الحجة ليس بعمرة. وإن قلنا: إنه يطوف ويسعى.

_ (1) هذا هو السبب الثاني من سببي الاضطراب في كلام الأصحاب. (2) ساقط من الأصل.

وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً أن أعمال من فاته الحج عمرةٌ على الحقيقة، ولا شك أن هذا يخرج على قولنا: إنه يطوف ويسعى، وغالب ظني أنه قرع مسامعي وجهٌ ضعيف، حكاه [شيخي] (1) في انصراف فعل من فاته الحج إلى عمرة، ولست واثقاً بهذا، فالتعويل على ما قدمته. فصل قال: " ولا يدخل مكة إلا بإحرام ... إلى آخره " (2) 2738 - اختلف قول الشافعي في أن الغريب إذا دخل مكة لشغلٍ له، فهل يلزمه أن يدخلها محرماًً؟ قال في أحد القولين: يلزمه ذلك، لإطباق الخلق عليه، والاتفاق العملي [يُعبِّر] (3) عن السُّنن في حكم العادة. والقول الثاني - إنه لا يجب؛ فإن سبيله سبيل تحية البقعة، والتحية لا أصل لوجوبها. ثم كل من يدخل مكة من الحل، سواءٌ كان مُنشئاً سفره من ميقاتٍ، أو من مكان دون الميقات، ففيه القولان: إذا لم يكن متردداً إلى مكة في شغلٍ يتعلق بمصالح أهلها، كتردد الحطّابين وأصحاب الروايا (4) ومن في معانيهم. فأما المترددون على ما وصفناهم، ففيهم طريقان: من أئمتنا من قطع بأنه لا يلزمهم الإحرام؛ فإن ذلك يشق عليهم، وقد تتداعى ضرورةٌ إلى أهل مكة لانقطاع منافع المترددين عنهم، وإلى هذا ذهب المعظم. وصار آخرون إلى طرد القولين في الحطّابين. وهذا وإن كان يتجه في المعنى،

_ (1) في الأصل: الشيخ. وفي هامشها: " أعني شيخي ". (2) ر. المختصر: 2/ 97. (3) في الأصل: " يعتد " وفي (ط)، (ك) بعيد، ولا شك في تصحيفها، ومصادمتها للمعنى المفهوم من السياق. ولم نصل إلى هذا اللفظ في (الأم) وانما الموجود كلام بمعناه: 2/ 120، 121. والمثبت بين المعقفين تصرف منّا رعايةً للسياق. (4) الروايا: جمع راوية: الدواب التي يستقى عليها الماءَ.

حملاً على طرد القياس، فظاهر المذهب القطعُ. ثم إذا أوجبنا الإحرام على من يدخل مكة، فإن دخلها بنسك مفروضٍ عليه، سقط عنه حق الحرم، كما تسقط تحية المسجد عمن يدخله ويقيم فريضةً فيه. 2739 - ولو دخل مكة محلاً على قولنا بوجوب الإحرام، ففي وجوب القضاء، على هذا القول قولان: أحدهما - لا يجب القضاء؛ فإن القضاء غير ممكن؛ إذ لو خرج ليقضي، فعوده يقتضي إحراماً جديداً، فلا يمكنه تأدية القضاء كذلك. والقول الثاني - يجب القضاء؛ فإنه ترك إحراماً محتوماً، فيلزمه التدارك. فإن قلنا: لا يلزمه القضاء، اقتصرنا على التأثيم والتعصية، وإن قلنا: يلزم القضاء، فالذي ذهب إليه المحققون أن سبيل القضاء أن يخرج ويعود بإحرام، فإن قيل: عوده يقتضي إحراماً، [قلنا: قد ذكرنا أن دخول مكة لا يقتضي إحراماً] (1) مقصوداً، ولا يمتنع أن يقع الإحرام عن جهة، ويتأدى به حقُّ الدخول، فليقع إحرامه في العود قضاء، ثم يتأدى به حق هذه الدخلة. وذهب بعضُ الأصحاب إلى أنا إذا أوجبنا القضاء، فالوجه في الوفاء به أن يتصف بصفة المترددين؛ حتى يصير من الذين لا يلزمهم الإحرام لدخول مكة، فيقع القضاء من داخلٍ لا يلزمه لدخوله الإحرام. وهؤلاء ألزموه ذلك، وهو في نهاية البعد. وقد نسب هذا إلى صاحب التلخيص، وهو في الحقيقة ذهاب عن حقيقة الفصل. نعم من الأسرار أنا إذا أوجبنا القضاء، فلو خرج، وعاد بعمرة منذورة، لم يقع هذا موقع القضاء، فليقع القضاء مقصوداً، وإن كان ابتداء الدخول لا يقتضي إحراماً مقصوداً. هكذا ذكره شيخي. وهو حسن؛ فإن الدخول من غير إحرام ألزمه إحراماً، كما يُلزم النذر الناذرَ. 2740 - وذكر صاحب التلخيص أن العبيد لا يلزمهم الإحرام لدخول مكة؛ فإنهم مستغرقون بحقوق السادة، ثم لا فرق بين أن يأذن لهم مولاهم في دخولهم مكة، وبين

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

أن يدخلوها من غير إذن. فإن الإذن في الدخول لا يتضمن إذناً في الإحرام. اتفق الأصحاب عليه. وإن أذن السيد للعبد في أن يدخل مكة محرماً، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من ألزمه الإحرام على القول الذي يُلزم الحرّ. ومنهم من لم يلزمه، وهو الأقيس، من جهة أن الإذن لا يطلقه عن أسر الرق، والدليل عليه أن العبد لا يلزمه حضور الجمعة، سواء أذن له السيد في حضورها أو لم يأذن. وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً في الحطّابين أنه يجب عليهم أن يدخلوا مكة في السنة مرة واحدة محرمين. وهذا لا أصل له. وإذا (1) حكى هو مثلَ هذا بالغ في تزييفه. ...

_ (1) كذا في النسخ الثلاث (إذا). وهي بمعنى (إذْ)، وهو استعمالٌ صحيح. قاله ابن مالك في شواهد التوضيح.

باب الصبي يبلغ والمملوك يعتق

باب الصبي يبلغ والمملوك يعتق 2741 - ذكرنا معظم أحكام إحرام الصبيان، وكنا أخرنا إلى هذا الباب مسائلَ، حتى لا نخليه عن غرضٍ. فإذا خرج الوليّ بالصبي محرماًً، فالنفقة الزائدة بسبب سفرة الحج على من تجب؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنها تجب في مال الوليّ؛ فإنه ورّط الصبيَّ فيها، مع الاستغناء عنها. والوجه الثاني - أنها تجب من مال الطفل؛ فإن هذا لا ينحطّ عن بعض المصالح القريبة، التي لا تبلغ مبلغ ما لا بد منه، ولو أنْفق الوليّ في تعليم الطفل شيئاً غير محتوم، ساغ له ذلك، فليكن الحج بهذه المثابة. ومما نذكره في هذا الباب أن الصبي إذا بلغ قبل فوات الوقوف، ووقف بعد البلوغ، فقد ذكرنا أن حجه يقع عن فرض الإسلام، ولو أفاض وهو صبي، وبلغ بمزدلفة، وانقلب إلى عرفةَ، ووقف بها بعد البلوغ، فالجواب كما قدمناه. فالحجة تقع عن فرض الإسلام. ولو بلغ بمزدلفة، وتمادى، ولم يرجع إلى الموقف، فالمذهب أن حجه لم يقع عن حجة الإسلام. وحكى العراقيون عن ابن سريج وجهاً: أنه قال: إذا بلغ في وقت الوقوف، (1 وإن لم يعد للوقوف بعد البلوغ، واقتصر على ما سبق منه من الوقوف 1) في صباه، فالحج يقع عن فرض الإسلام. خرّجه على ما ذكرناه من أن الصبيّ إذا سعى في صباه قبل الوقوف، ثم بلغ ووقف، فهل يلزمه إعادة السعي، أم يكتفى بما صدر منه في الصبا؟ وفيه الخلاف المقدم.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ك).

ولا خلاف أنه لو بلغ يوم النحر، فلا يقع الحج عن فرض الإسلام؛ لأنه لم يدرك نفسَ الوقوف، ولا وقتَه في البلوغ. فهذه مسائلُ كنا أخرناها إلى هذا الباب. 2742 - فأما العبد البالغ، فإحرامه ينعقد بعبارته، ولا ينعقد إحرام المولى عنه، والقول في العبد البالغ العاقل. ولو أحرم العبد بإذن السيد، انعقد إحرامه ولزم، ولا يملك السيد تحليله، إذا كان الإحرام صادراً عن إذنه. وإن أحرم بغير إذنه، انعقد إحرامه وللسيد تحليله. 2743 - وفي الزوجة إذا أحرمت بالإذن وغيرِ الإذن وفي كيفية تحليل العبد تفصيلٌ. والذي أراه تأخير هذه الفصول إلى آخر باب الحصر، فإنها متعلقةٌ بأحكام الصدّ، ولو رُمنا بيانها، لاحتجنا إلى ذكر طرفٍ صالح من أحكام الحصر. والله أعلم ***

باب من أهل بحجتين أو بعمرتين

باب من أهل بحجتين أو بعمرتين 2744 - من أهلّ بحجتين، انعقد إحرامه بإحداهما، ولغا الثاني. وقال أبو حنيفة (1): ينعقد الإحرام بهما، ثم إذا اشتغل بأعمال النسك ارتفض ما سوى الحجة الواحدة، ثم يتعلق بالذمة بعد الارتفاض تعلق المنذورات، فيجب إبراء الذمة عنها. ومما ذكره بعض الحذاق أنا إذا قلنا: الإحرام بالحج في غير أشهر الحج عمرة، فلا يمتنع أن نجعل المحرم بحجتين محرماً بحجة وعمرة، حتى يصير قارناً، وهذا بعيدٌ، وإن كان يتجه بعض الاتجاه. وإدخال الحجة على الحجة، والعمرة على العمرة لاغٍ، لا يتضمن إلزاماً ولا عقداً كالجمع في ابتداء الإهلال. ...

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 165 مسألة: 628، بدائع الصنائع: 2/ 170، ملتقى الأبحر: 1/ 304.

باب الإجارة على الحج

باب الإجارة على الحج 2745 - الاستئجار على الحج جائز عندنا، ولأصحاب أبي حنيفة (1) خبط في ذلك، لا حاجة بنا إلى ذكره. ثم الاستئجار إنما يصح عن العاجز عن مباشرة الحج بنفسه، وقد مضى تفصيلُ القول في العجز عن المباشرة في أول الكتاب، عند ذكرنا تفصيل الاستطاعة، فليقع الاعتناء بتفصيل الإجارة، مع الاكتفاء بما تقدم في بيان محلها. ثم الاستئجار يفرض على وجهين: أحدهما - أن يتعلق بعين الأجير. والثاني: أن يتعلق بذمته إلزاماً، والغرض تحصيله، والملتزِم إن شاء حصله بنفسه، وإن شاء حصله بغيره. فأما الاستئجار المتعلق بعين الأجير، فصورته أن يقول المستأجر: استأجرتك لتحج عني السنةَ، فهذه إجارة صحيحة، إذا كان خروج الأجير ممكناً. ثم يشتغل الأجير بالتأهب للخروج، فإن أمكنت رفقة، فتوانى عن الخروج معها منتظراً أخرى، أُلزم الخروج، وإن كانت الرفقة في التأهب، لم يكلف الأجير أن يسبقها منفرداً، والرجوعُ في مثل ذلك إلى العادة. والمُلتَمَسُ من الأجير أن يخرج مبتدراً (2)، مع الاقتصاد بالجريان على موجَب الاعتياد في التشمير، وترك التقصير. ومما يمتزج بما نحن فيه، وبقواعد الإجارة بعد ذلك: أن طيّ المسافة إلى الميقات ليس مقصوداً في نفسه، وإنما المقصود الحجُّ، ولكن لا وصول إلى تيك المشاعر إلا بقطع الطريق، فهو من عمل الأجير، والتعبُ عليه فيه كالنَّصَب في إقامة

_ (1) ر. المبسوط: 4/ 158، حاشية ابن عابدين: 2/ 240، اللباب: 2/ 100. (2) عبارة (ط)، (ك): خروج مبتدر.

الحج، ولكن غرض المستأجر الحجُّ الواقعُ بعد قطع المسافة، فليكن الفقيه على فهمٍ وبصيرة فيما ألقي إليه، وسيكثر انتساب مسائل الإجارة إلى ما نبهنا عليه. فإذا استأجر أجيراً في بقية السنة لحَجَّة السَّنَة، والزمان يضيق عن إمكان طيّ المسافة، فالإجارة فاسدة، ولو كان الزمان على قدر الإمكان، فالإجارة صحيحة. وإن كان الزمان بحيث لو قيس بالمسافة، واعتبر الإمكان المقتصد لزاد (1) الزمان، فالاستئجار على حجة السنة جائزٌ، والحالة هذه. اتفق الأصحاب عليه، وهذا يعدّ من التوسع في الإمكان على مهَلٍ بلا عسر، وهذا بيّن في العادة. 2746 - ولو استاجر معيّناً لحجة السنة، والخروج في الحال متعذِّرٌ، فقد ألحق العراقيون هذا بالاستئجار المقترن بالعسر، وذلك فاسد، كاستئجار الدار المغصوبة، ولا نظر إلى ارتقاب زوال العسر توقعاً لا ضبط له. وقال شيخي: الاستئجار على الخروج في هجمة الشتاء، وازدحام الأنداء (2)، جائز إذا كان الوصول ظاهرَ الإمكان، عند زوال هذه الموانع؛ فإن توقع زوالها مضبوطٌ، وقد رأيت الإشارة إلى منع ذلك في الإجارة الواردة على العين، وفيها تدبُّر الكلام. والسبب فيه أن الاشتغال بالعمل عسر في الحال، وليس كانتظار رفقة ستنشأ على قرب. فهذا ما أردناه في الإجارة الواردة على العين، مع التقييد بحَجَّة السنة. 2747 - فإن استأجر معيّناً على أن يحج السنةَ القابلة، والحجةُ ممكنة في السنة القريبة، سنةِ الإجارة، فالإجارة فاسدة عند الأئمة، نازلةً منزلة استئجار الدار الشهرَ القابل. وهذا قياسٌ بيّن في إجارة الأعيان عندنا، [فحقها] (3) أن تستعقب الاستحقاقَ من غير استئخار. ولو كان الاستئجار من مسافةٍ شاسعة، لا يتوقع قطعُها في سنةٍ، فمن ضرورة

_ (1) ساقطة من (ط). (2) الأنداء: جمع ندى، وهو من أسماء المطر، وهو المراد هنا. (المعجم). (3) في الأصل: فحقاً.

تقدير الإجارة من مثل هذه المسافة أن يمر بالأجير زمانُ حجٍّ، وهو في الطريق، فلا منع والإجارة سائغةٌ، وذلك الحج القريب، إذا لم يكن ممكن الحصول، فلا حكم له، والنظر إلى تواصل السير، وهو من عمل الأجير، وإن لم يكن مقصود المستأجِر. ولو استأجر رجلاً بعينه ليحج عنه، وأطلق الإجارة الواردة على العين، وكان الزمان الباقي من السنة بحيث يسع الحجَّ على يسر، فالإجارة المطلقة صحيحة، وهي محمولةٌ على الإجارة المقيّدة بحجة هذه السنة، فإن اتفق إيقاع الحج، فذاك، وإن أخرها الأجير، ولم يخرج، انفسخت الإجارة، كما لو تقيدت بحجة (1) هذه السنة، فالمطْلَقةُ مُنَزَّلةٌ على حكم المقيدة، وإذا حكمنا بالانفساخ، لم يخْف أن الأجير لو أتى بالحجة في السنة الثانية، لم تقع عن المستأجر. فهذا تفصيل القول في تصوير الإجارة الواردة على العين. 2748 - فأما الإجارة الواردةُ على الذمة، فتصويرها هيّن، وذلك أن يقول المستأجر لمن يخاطبه: ألزمتُ ذمتك حجةً تُحَصِّلها بكذا، فهذا جائز، وهو مطّردٌ في جملة الأعمال المنتحاة المقصودة بالإجارة. ثم هذا القسم ينقسم إلى مقيد بالتأخير، وإلى مقيّدٍ بالتعجيل، وإلى مطلق. فأما المقيد بالتعجيل، فهو سائغ؛ فإنه لا يمتنع ثبوتُ الشيء على حكم الدَّين حالاًّ، والدَّين ينقسم إلى الحالّ، والمؤجل. ثم إذا كان الأمر كذلك، فإن اتفق الوفاء بتحصيل الحج في الأمد المضروب، فهو المراد. وإن لم يحصِّل الملتزم ما التزمه في ذلك الوقت المعين، فقد ذكر الأئمة طريقين: أما العراقيون، فقد قطعوا القول بأن الإجارة لا تنفسخ، ولكن المعضوب المستأجِر يتخير في فسخ الإجارة؛ من حيث تعذر حصول مقصوده في الوقت المضروب،

_ (1) (ط): حجة.

ولا تنفسخ الإجارة بنفسها، فإن الدَّين إذا تعذر في الوقت (1) المضروب، لم يُقْضَ بانقطاعه. وقال شيخي وغيرهُ من أئمة المراوزة: في المسألة قولان مأخوذان من القولين في السّلَم إذا حل وجنس المسلَم فيه مُنقطعٌ 2) في أوان المَحِلّ، ففي ذلك قولان: أحدهما - أن السلم ينفسخ، والثاني - لا ينفسخ، وللمسلم الخيار: إن شاء فسخَ وإن شاء أَنْظَر إلى وجود الجنس المطلوب في مستقبل الزمان. فقد حصلنا على طريقين. والمسألة محتملة التشبيه (3) بصورة القولين في السلم، ولا يبعدُ اعتقاد قطعها عن السلم كما ذكره العراقيون؛ فإن الحج كان ممكناً في تلك السنة، ولم يعم العسرُ أصلَه، حتى يُلحَقَ بانقطاع جنس المسلم فيه. هذا كله في الإجارة الواردة على الذمة، إذا قيدت بالتعجيل (4). فأما إذا قيّدت بالتأخير، فقال المستأجر ألزمت ذمتك تحصيل الحجة في السنة الآتية الثانية، فهذا جائز وفاقاً. والإجارة المطلقة الواردة على الذمة بمثابة المقيدة بالتعجيل، وقد سبق القول فيها. 2749 - وذكر (5 الصيدلاني في صورة إجارة الذمة أن المستأجرَ إذا قال: ألزمت ذمتك أن تُحَصِّل لي حَجَّة بنفسك فالإجارة صحيحة، ومتضمّنها أن 5) يكون هو الحاج، ولا ينيبَ غيرَه مَناب نفسه، وهي من قسم إجارة الذمة، ثم مقتضاها أنها لو قيّدت بالحجة المنتظرة في السنة الثانية، صحت الإجارةُ كذلك؛ فإن الدَّيْن يقبل هذا. وهذا زلل عظيم؛ فإن ربط الشيء بمعيّن، حتى لا يقوم غيره مَقامه، مع اعتقاد

_ (1) (ط): المحل. (2) (ط)، (ك): ينقطع. (3) (ط)، (ك): للتشبيه. (4) ساقطة من (ك). (5) ما بين القوسين بياض في (ك).

التحاق ذلك بالديون، متناقضٌ، والإجارة الواردة على الذمة قسمٌ من أقسام السّلم، والسّلَم في ثمرة شجرة معينةٍ باطلٌ، لما بين التعيين والدَّيْنيّة من التناقض، و [هذا] (1) الذي ذكرناه منصوص الطرق في هذه المسائل (2). ولكن ما ذكره الشيخ أبو بكر هو الذي حكيناه، وصار في تعليله إلى أن الناس لهم مقاصدُ في أعيان من يحج، فثبت الأمر على التعيين لذلك. فنقول: عافاك الله، فلنثبت هذا المقصودَ إجارةً واردة على العين؛ إذ لا امتناع في ورود الإجارة على العين. وكل من استؤجر عينُه، فحق عليه الوفاءُ بما التزمه، ففي كل إجارةٍ معنى الإلتزام. فرع: 2750 - قال العراقيون: إذا وردت الإجارة على الذمة، وتقيدت بالتعجيل، ثم لم يف الملتزم في ذلك الوقت، فالمستأجِر بالخيار في فسخ الإجارة، كما تقدم. هذا إذا كان المحجوج عنه حياً معضوباً. فأما إذا كان ميتاً، فقد قال العراقيون: لا خيار في فسخ الإجارة، وفرقوا بأن الحيّ إذا استأجر، ثم تعذر (3) الوفاء بالمطلوب، استفاد المستأجِر بالفسخ استرداد الأجرة، والتبسط فيها، وهذا لا يتحقق في حق الميت، فإن أجرة الأجير مستحقَّةٌ لتحصيل الحج، فلا انتفاع باستردادها. وهذا الذي ذكروه فيه نظر، ولا يمتنع أن يثبت الخيار للورثة؛ نظراً للميت، ثم يستفيدون باسترداد الأجرة صرفَها إلى جهة هي أحرى بتحصيل المقصود. فهذا منتهى القول في تصوير الإجارة. فإذا تصوّرت يقع الكلام بعد ذلك في فصول.

_ (1) في الأصل: وهو. (2) (ط): المسألة. (3) (ط): تعدد.

الفصل الأول في الإعلام وتوقي الجهالة 2751 - أما الحج، فلا حاجة إلى الإعلام [فيه] (1)، فإن أعماله معلومة، فإن جهلها أحد المتعاقدين، أثر ذلك في إفساد الإجارة؛ إذ كون الشيء معلوماً، لغير العاقدين غيرُ كافٍ في تصحيح العقد، ولكن الغالب أن أعمال الحج لا تخفى، فجرت المسألة للشافعي بناء على الغالب. واختلف نص الشافعي في أنه هل يشترط في صحة الإجارة إعلام الميقات الذي يُحرم الأجير منه؟ واختلف الأصحاب: فقال بعضهم: في وجوب إعلام الميقات قولان: أحدهما - يجب الإعلام؛ فإن المواقيت مختلفة [في] (2) المسافات، والأغراضُ تختلف بذلك، وكلُّ ما يختلفُ ويختلف الغرض باختلافه، فالتعرض له واجبٌ في العقد الذي يجب الإعلام فيه. والقول الثاني - أنه لا يجب إعلام المواقيت؛ فإنه لا وقع لاختلافها في الشرع، والإحرام من الميقات القريب، كالإحرام من أبعد المواقيت. ومن أصحابنا من نزّل النصين على اختلاف حالين، وقال: إن لم يكن على الصَّوْب الذي يؤمّه الأجيرُ إلا ميقات واحد، فلا حاجة إلى التعرض له. وإن كان الطريق في ممره يتشعب ويزْوَرُّ، ثم تُفضي شُعْبة (3 إلى ميقاتٍ بعيدٍ وتفضي الأخرى 3) إلى ميقات قريب، فلا بد والحالةُ هذه من التعرض للإعلام. وموجَب هذه الطريقة في تنزيل النصين على الحالين، يقتضي أن يقال: إذا اتحد الميقات في جهةِ ممر الأجير، فليس له أن يميل عنه، إلى جهة أخرى، ميقاتها أقرب من ميقات الممر المعتاد.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل، (ك): والمسافات. (3) ما بين القوسين ساقط من (ك).

وذكر العراقيون تنزيلاً آخر للنصين، فقالوا: إن كان الاستئجار من حيٍّ، فلا بدّ من التعرض لتعيين الميقات؛ فإن أغراض الأحياء تتفاوت وتختلف، وإن كان الاستئجار عن (1) ميت، فلا حاجة إلى تعيين الميقات؛ فإن الغرض تحصيل الحج للميت. وهذا غير سديد، ولا يستدّ إلا تخريج المسألة على قولين؛ من جهة أنه اشترك فيها تفاوتُ تعب الأجير بطول المواقيت وقصرها، مع قضاء الشرع باتحاد الحكم في جميعها، فتضمن تعارضُ هذين المعنيين اختلافَ القول. فهذا ما أردناه في فصل الإعلام. الفصل الثاني في ارتكاب الأجير شيئاً من المحظورات في الحج، من غير إفساد 2752 - فنذكر منها ما يتعلق بالإساءة في الميقات، ثم يَقيس الناظر ما عداه عليه. فإذا انتهى الأجير إلى الميقات، فجاوزه مسيئاً، ثم أحرم، ولم يعد إلى الميقات، فيلزمه دم الإساءة، وينصرف الحج إلى المستأجِر، وهل نحط عن أجرة الأجير شيئاً، لتركه بعضَ العمل المستحَق عليه بالإجارة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نحط قسماً من الأجرة، وهو المنصوص عليه هاهنا، وتعليله تركُه بعضَ العمل، والجبرانُ الذي يخرجه ليس عملاً مقابَلاً بالأجرة، وإنما المقابَل بالأجرة صورة (2) الأعمال، والفديةُ، لزمت الأجيرَ حقاً لله تعالى، لتركه حرمةَ الميقات، فلا تعلّق لما يجب لله بما يتعلق بحق الآدمي. والقول الثاني - أنا لا نحط شيئاً من أَجْرِه على تفصيلٍ، سنذكره. ووجه ذلك أن المجاوزة إن كانت، نقصاناً، فالفدية جبران في الشرع، فإذا ثبت الجبران، فكأَنْ لا نقصان.

_ (1) (ط): من. (2) (ط): متصور.

التفريع على القولين: 2753 - إن قلنا: لا نحط لمكان الجبران الحاصل في مقابلة النقصان، فهل ننظر إلى قدر قيمة الدم، حتى نقيسَه بقدر الأجر في مقابلة العمل المتروك؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا نعتبر ذلك، وهو الأقيس على هذا القول؛ لأن التعويل على حصول الجبران، فإذا قضى الشرع به من غير نظر إلى قدر القيمة، فلا ينبغي أن يكون بالقيمة اعتبار: زادت، أو تماثلت، أو نقصت. ومن أصحابنا من اعتبر المقابلة، بين قيمة الدم وبين أجرة العمل المتروك. ووجهُ هذا على غرض قائله لائح؛ فلا نتكلفه. فعلى هذا إن تماثلت قيمةُ الدم، أو زادت، فلا حط، وإن نقصت قيمة الدم عن أجر المتروك، جَبَرْنا مقدار القيمة، وحططنا الزائدَ من الأجر. هذا إذا فرعنا على النظر إلى الجبران. 2754 - وإن قلنا: أجر العمل المتروك محطوط، ولا التفات إلى ما جرى من جبران، فما المعتبر في كيفية التوزيع؟ واختلف أصحابنا في المسألة. ولا يتأتى الوقوف على حقيقة الاختلاف إلا بتقديم أصلٍ مقصودٍ في نفسه، ومنه يبين الغرضُ، فنقول: إذا استأجر رجلٌ أجيراً ليحج عنه والخَرْجَة من نَيْسابور مثلاً، فإذا انطلق الأجير، وانتهى إلى الميقات المطلوب منه حجُّه عن مستأجِره، فلو أحرم بالعمرة عن نفسه، ودخل مكةَ، وطاف، وسعى، وحلق، ثم حج عن مستأجِره من جوف مكة، فالحجة تنصرف إلى المستأجِر، وفيما يستحقه الأجير قولان: أحدهما - توزع الأجرة المسماة على حجة تُفرض من الميقات، وعلى أخرى تُفرض من جوف مكة، فإذا قيل لنا: حجةٌ من الميقات تساوي عشرة، ومن جوف مكة تساوي تسعة، فقد تبينا أن بين التقديرين العُشرْ، وكان المطلوب من الأجير أن يحج من الميقات، فإذا حج من مكة، فقد ترك عُشر العمل، فنحطُّ عشرَ الأجرة المسماةِ على هذه النسبة، ووجه هذا القول أن المطلوب من الأجير الحجُّ، وابتداؤه من الإحرام، فليقع التوزيعُ من هذا المبتدأ.

والقول الثاني - أنا نُدخل المسافةَ التي قطعها من البلدة التي خرج منها في الاعتبار، ونقول: حجةٌ منشأ سفرها من نيسابور، وإحرامها من ذاتِ عِرْق كم أجرُها؟ فيقال: عشرون. ثم نعود فنقول: حجة منشؤها من مكة، من غير فرض قطع مسافة إليها، كم أجرها؟ فقد يقال: ديناران، فبين التقديرين التسعة الأعشار. فنقول: إذا صرف الأجير المسافة إلى عمرته، ولو أراد من غير فرض إجارة أن يعتمر عن نفسه، لكان سبيله أن يخرج على هذا الوجه، وإذا أدخلنا المسافة في الاعتبار، ثم صرفناها إلى جهة العمرة، فلا يبقى إلا مقدارُ العُشر على التقدير الذي ذكرناه، فله إذاً من المسمى عُشْرُه. وهذا الاختلاف ينشأ من أصلين: أحدهما - إدخال المسافة قبل الإحرام في الاعتبار، والآخر تقدير صرف السَّفْرة إلى العمرة. هذا موجب أحد القولين. وموجَب القول الآخر إخراج السَّفرة من الاعتبار، وردُّ النظر إلى الميقات ومكة. 2755 - ومما يتفرع على هذا الأصل أنه لو اعتمر من الميقات، كما ذكرنا، ثم (1) لما قضى عمرته عاد، وأحرم بالحج عن مستأجره من الميقات، وهذه صورة يسقط فيها دم التمتع. ووجه تخريجها على القولين (2) المقدّمين أنا [إن] (3) اعتبرنا ما بين الميقات إلى انتهاء الحج، فيستحق تمام الأجرة لوفائه بتمام الحجة، وإن أدخلنا السَّفرة في الاعتبار، قلنا: حجة تجرد القصد إليها من نيسابور، وإحرامُها من ذات عِرق كم أجرتها؟ فيقال: عشرون. ثم نقول: حجة أنشئت من ذات عِرق، من غير قطع مسافةٍ إليها، كم أجرتها؟ فقد يقال: خمسة؛ فللأجير ربعُ الأجرة المسماة، ونُسقط ثلاثةَ أرباعها.

_ (1) ساقطة من (ط). (2) (ط): الوجهين. (3) مزيدة من (ط).

2756 - فإذا تمهد ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى صورة الإساءة من الأجير. فإذا انتهى إلى الميقات، وجاوزه، ثم أحرم من مكة مثلاً، فكيف التوزيع؟ وما المعتبر فيه، لبيان المحطوط من الأجرة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، والاختلاف فيها متلقى مما قدمناه، ولكن لا ينطبق الخلاف على الخلاف؛ من جهة أنا تخيلنا في المسألة المقدّمة صرفَ السَّفرة إلى العمرة، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا؛ فإنه بإساءته، لم تخرج سفرته عن كونها ذريعة إلى حجته، ولكن أخل ببعض العمل المطلوب، فرجع منشأ الوجهين إلى إدخال السفرة في الاعتبار وإخراجها، فإذا في المسألة وجهان: أحدهما - أن نقول (1): حجةٌ من الميقات إحرامُها، كم أجرتها؟ فيقال: (2 خمسة، فنقول: حجة من مكة إحرامُها، كم أجرتها؟ فيقال 2): ديناران، فبينهما التفاوت بثلاثة أخماس (3 فيسقط من الأجرة المسماة ثلاثة أخماسها (3). هذا أحد الوجهين، ومبناه على إخراج السفرة من الاعتبار. والوجه الثاني - أن نقول: حجة قُصدت من نيسابور، والإحرام بها من ذات عرق (4)، كم أجرتها؟ فيقال: عشرون. فنقول: حَجة قصدت من نيسابور، واتفق الإحرام بها من مكة، كم أجرتها، فيقال: تسعةَ عشرَ، والمسافة مندرجة في التقديرين، فبين الإحرام من الميقات، والإحرام من مكة دينارٌ من عشرين، وهو نصف العشر، فيسقط من الأجرة المسماة نصفُ عشرها. ومما لا يخفى دركه على الفقيه، ولكن يحسن التنبيه عليه: أنا في الأصل المقدّم إذا أدخلنا السّفرة في الاعتبار، عظم مبلغ المحطوط؛ من جهة أن السفرة المعتبرةَ صرفَها الأجير إلى عمرة نفسه. وإذا [أدخلناها] (5) في هذه المسألة التي نحن فيها قلّ المحطوط؛ فإن السفرة محسوبةٌ له.

_ (1) عبارة الأصل: أنّ من يقول. (2) ما بين القوسين ساقط من (ط). (3) ما بين القوسين ساقط من (ط). (4) (ط) من مكة. (5) في النسخ الثلاث: أدخلنا. والمثبت منّا؛ زيادة في الإيضاح.

2757 - ومما يتم الفصل به أن المستأجِر لو شرط على الأجير أن يُحرم من الكوفة، فإن وفى بها، فلا كلام، وإن جاوزها، فهل يلتزم دمَ الإساءة؟ (1 اختلف أئمتنا فيه، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجب دم الإساءة 1)؛ إذ الدمُ منوطٌ بميقات محترَمٍ شرعاً، وهو الميقات الموضوع المشروع، وليست الكوفة من المواقيت المشروعة. وقال بعض أئمتنا: يجب على الأجير دمُ الإساءة، إذا جاوز الميقاتَ الذي عيّنه المستأجِر. وإلى هذا الوجه ميلُ طوائفَ، منهم الصيدلاني، ووجهه أن الميقات صار مستحَقاً، ومستندُ كل استحقاقٍ في العبادة يؤول إلى حكم الله تعالى، وقد قال أئمتنا: لو قال الناذرُ: لله علي أن أحج ماشياً، فحج راكباً، لزم دمٌ، وإن لم يكن (2) المشي مشروعاً قصداً إليه. التفريع على الوجهين: 2758 - إن حكمنا أنه بمجاوزة الكوفة لا يلتزم دماً، فننقص من أجرته وجهاً واحداً؛ إذ لا جُبران، وقد تحقق نقصان العمل المطلوب. وإن قلنا: يلتزم الأجير دماً بالمجاوزة، فيعود الكلام إلى ما قدمناه من الاختلاف في الحط، والالتفات إلى الجبران، وقد مضى هذا. 2759 - وتمام الفصل أن ما يلتزم به الأجير دماً ينقسم إلى ارتكاب محظور، أو ترك مأمور، فأما ما كان من ارتكاب المحظور، فلا ينتقص بسببه من أجره شيء، من جهة أنه لم ينقص من العمل، وإنما جنى جنايةً موجَبها الكفارة. فأما إن ترك مأموراً به، مثل أن يجاوز الميقات، أو يترك الرمي، أو ما أشبه ذلك، فالتزم الدمَ، فهل يحط عن أجره شيء؟ فيه الخلاف المقدم. وقد نجز ضبط المقصود من هذا الفصل.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ك). (2) (ط): يلزم.

الفصل الثالث في موت الأجير في الحج وقبله 2760 - الكلام في هذا الفصل يستدعي تقديمَ القول في أصل مقصود، وهو أن الإنسان إذا كان يحج عن نفسه، فمات أثناء الحج، فهل يُتَصَوَّر البناء على حجه؟ حتى يفرضَ استنابةُ نائب يقوم مقامه في بقية الأعمال؟ في المسألة قولان: أحد القولين - أن ذلك لا يسوغ؛ فإن العبادة واحدةٌ، فتعلّقها بشخصين محالٌ، وسيتضح عُسر ذلك في التفريع. والقول الثاني: إنه جائز؛ فإنه إذا أمكن إنابة شخص في كل العبادة، مَناب شخص، لم يبعد ذلك في البعض. التفريع على القولين: 2761 - إن قلنا: لا سبيل إلى البناء، فكما (1) مات الخائض في الحج، انقطع العمل، وحَبِط ما قدمه، ويجب تحصيل حجة تامة، من تركته إذا كان قد استقرت الحجة في ذمته. وإن قلنا: إن البناء مُسوَّغ، فنذكر صورتين: إحداهما - أن يموت قبل الوقوف. [والثانية - أن يموت بعده. فإن مات قبل الوقوف] (2) فسبيل الإنابة عنه أن يستأجر من يُحرم ابتداءً، ويقفُ ويتمادى إلى آخر الحج، على ترتيبه، ثم قد يقع هذا الإحرام من قُرب المعرَّف (3)، ولا بأس؛ فإن من ينصرف هذا إليه قد كان أحرم من الميقات قبل الممات، وذلك معتد به.

_ (1) " كما " بمعنى عندما. (2) ساقط من الأصل (3) اسم مكان من (عرَّف) إذا أقام بعرفة، وأدى نسكها.

2762 - فأما إذا مات بعد الوقوف بعرفة، فليتأمل الناظر عند ذلك ما يُلْقَى إليه؛ فإنه مظنة إشكال، وقد اضطربت الطرق لأجله: قال العراقيون: المستناب لا بد وأن يُحرم؛ فإن بقية الأعمال لا تتأتى إلاّ من محرم، والإحرامُ بالحج -وقد انقضى أشهر الحج بطلوع فجر يوم النحر- محالٌ، على مذهب الشافعي. قالوا: فالوجه أن يحرم المستناب بعمرة، ويطوفَ، ويسعى، وكان بقي على الذي مات الطوافُ والسعي ركنين، فيقع طوافُ المستناب المعتمِر وسعيُه سادّاً مسد الطوافِ والسعي، اللذين كانا بقيا على الميت مع حجه، والمستناب ينويه بالعمرة. وهذا فيه إشكال ظاهر؛ من جهة أن العمرة يبعد أن تسد مسد الحج. وذكر المراوزة مسلكاً آخر، فقالوا: المستناب يُحرم بالحج إحراماً ناقصاً، وزعموا أن تجويز الاستنابة لا يطَّرد إلاّ على تجويز ذلك، ثم هؤلاء قالوا: الإحرام بالحج إنما يمتنع في غير أشهر الحج إذا كان إحراماً تامّاً، فأما الإحرام الناقص، فلا امتناع فيه. وهذا كما أن الإحرام الناقص يبقى دائماً مع [انقضاء] (1) أشهر الحج، فتقدير الابتداء على النقصان كتقدير الدوام. ْثم من سلك مسلك العراقيين، ذهب إلى أن المستناب المعتمرَ، لا يبيت ولا يرمي، ولا يأتي بشيء من مناسك منى؛ فإنها أتباعُ انتهاء الحج. والعمرة لا تقتضي شيئاً من ذلك. ومن قال من المراوزة: إن المستناب يُحرم إحراماً ناقصاًً ببقية الحج، فالمستناب يأتي بمناسك منى؛ فإنه في الحج. وذكر هؤلاء أنه لو مات الحاج بعد أن تحلل أحدَ التحللين، فالمستناب يأتي بإحرامٍ حُكْمه أن لا يَمنَع اللُّبسَ والقَلْمَ على التفصيل المذكور. وهذا جارٍ على قياسهم. 2763 - ولو مات الحاج بعد التحللين، فلست أرى على قياسِ المراوزة وجهاً لجواز الاستنابة في المناسك الواقعة وراء التحللين؛ فإن ذلك لا يتأتى إلاّ ممن سبق

_ (1) ساقط من الأصل، (ك).

منه إحرام، ثم هذه المناسك تتبع الإحرام السابق. فأما الإتيان بها من غير تقدّم إحرامٍ، فبعيد. هذا ما أراه. فالوجه الرجوع فيها إلى أبدالها، وهذا أولى فيها من اقتحام مُحالٍ، وليس كالطواف والسعي؛ فإنه لا بدل لهما، فاضطررنا إلى تصوير الإنابة. فهذا منتهى قولنا في البناء على الحج. 2764 - والآن نعود بعد نجازه إلى تفصيل القول في موت الأجير في أثناء الحج، فنقول: إن كانت الإجارة متعلقةً بعين الأجير، ومات الأجير في أثناء الحج، فالغرض مأخوذ من جواز البناء وامتناعه. فإن قلنا: البناء ممكن، فيُتَصَوّر من المستأجِر أن يستأجر أجيراً ليأتي ببقية أعمال الحج، فإذا كان ذلك ممكناً، فعمل الأجير الأول غيرُ محبَط، فلا شك أنه يستحق قسطاً من الأجرة. وإن قلنا: البناء غير ممكن، فهل يستحق ورثة الأجير قسطاً من الأجرة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم لا يستحقون، لأنه لم يَحْصُل للمستأجِر أمرٌ معتدٌّ به، وما جاء به الأجير قد حَبِط، وسقط أثره. والقول الثاني - إنه يستحق قسطاً من الأجرة، لإتيانه ببعض العمل المقصود، وقد فعل الأجير ما في وسعه. التفريع: 2765 - إن قلنا: لا يستحق شيئاً، فلا كلام، وإن قلنا: يستحق، ففي كيفية التوزيع وجهان: أحدهما - أن التوزيع يقع من الإحرام إلى حيث انتهى، ولا نُدخل السَّفرة في الاعتبار. والوجه الثاني - أنا نُدخلها في الاعتبار؛ فيكثر على هذا التقديرِ المستحقُّ. هذا والإجارة على العين. 2766 - فأما إذا كانت الإجارة واردةً على ذمة الأجير، فإذا مات في أثناء الحج، فلا تنقطع عُهدة الإجارة عن تركته. فإن قلنا بالبناء، فورثة الأجير يستنيبون من يتمّم الحج، وإذا تم، استحقوا الأجرة المسماة على المستأجِر.

وإن قلنا: لا بناء، فقد حبط عمل الأجير، وعليهم أن يحصّلوا حجةً عن المستأجِر من تركته؛ فإن الحج دينٌ في ذمته، والديون مقدَّمةٌ على الميراث، وحقوق الورثة. وكل ما ذكرناه فيه إذا مات الأجير بعد الشروع في الحج. وقد ذكر صاحب التقريب أنا لو فرضنا الموت قبل الوقوف، فإذا استأجرنا أجيراً ليحرم، ويقف، فهذا ليس بناءً على إحرام الأجير، ولكنه إحرام على التمام، مبتدأ. وإن وقع الموت بعد الوقوف؛ فإذ ذاك يتصور البناء. وهذا وجه مزيف، وهو بالعكس أولى؛ فإن الإحرام قبل الوقوف إحرامٌ في أشهر الحج، وهو صحيح، والإحرام بعد فوات الوقوف واقعٌ في الخبط الذي ذكرناه، بين العراقيين والمراوزة. 2767 - فأما إذا مات الأجير قبل التلبس بالحج، فهل يستحق الأجير شيئاً، على مقابلة نَصَبه في قطع المسافة؟ [إن قلنا في التفاصيل السابقة: لا تُدرج المسافة] (1) في الاعتبار، إذا وقع [الموتُ] (2) بعد الشروع في الحج، فلأن لا تعتبر المسافة قبل الشروع في الحج أولى، ولا يستحق الأجير شيئاً إذا مات قبل الإحرام. وإن قلنا: المسافة مندرجة في الاعتبار في [حق] (3) الشارع في الحج، فهل تعتبر في حق من مات قبل الشروع في الحج؟ المذهب أنه لا تعتبر، ولا شيء للأجير. وذكر بعضُ أصحابنا قولاً بعيداً: أنه يستحق الأجرة بقدره (4) حتى لا يحبَطَ عملُه. ثم لا يخفى سبيلُ التوزيع إذا كنا نعتبر المسافة. وحاصل القول في هذا راجعٌ إلى أن قطعَ المسافة ذريعةٌ (5 إلى الحج، فإن اتصل بالحج، فقد وقعت المسافة ذريعة 5) فاختلف الأصحاب في أن الذريعة هل تعتبر كما

_ (1) ساقط من الأصل. (2) ساقط من الأصل. (3) ساقطة من الأصل. (4) (ط): بقدر. (ك): مقدّرة. (5) ما بين القوسين ساقط من (ط).

تقدم. فأما إذا فُرض الموتُ قبل ملابسة الإحرام، فقد ضعف تقدير المسافة ذريعةً؛ من حيث لم تُفضِ إلى المقصود. وبالجملة في الاستئجار على الحج نوعُ مضاهاة للجعالة؛ من جهة كون العاقبة مَغيبَةً (1)، والمسافةُ ليست مقصودة، ولا بد منها، وكأنها إذا قطعت، ثم وقع الموت يضاهي قطعُها أعمالَ المقارِض، إذا لم تتصل بربح. وهذا نجاز الفصل. الفصل الرابع في أحكام الإجارة 2768 - ومقصوده الكلام في موافقة الأجير المستأجِر في الجهة المعينة لأداء النسك، وفي مخالفته له، فنقول: إذا استأجر من يقرُن عنه، فقَرَن، فقد وفّى وأدّى ما استؤجر له على الوفاق، فيستحق تمام الأجرة بلا خلاف. واختلف الأصحاب في أن دم القران على من؟ فذهب الأكثرون إلى أنه على المستأجر؛ فإن القِران انصرف إليه بإذنه، فكأنه القارن بنفسه. ومن أصحابنا من قال: الدم على الأجير؛ فإنه تتمة القِران، وقد التزم، أن يقرُن، فَلْيَفِ بتمامه، ثم سواء قلنا: الدم على المستأجر، أو قلنا: هو على الأجِير، فأجرته ثابتة؛ من جهة امتثاله الأمر. 2769 - ولو استأجره [ليُفرِد] (2)، فقرن، وقع الحج والعمرة عن المستأجر اتفاقاً. فإن قيل: لِمَ كان كذلك؟ وما روعي في أصله الإذن والأمرُ، روعي في تفصيله

_ (1) أي غَيب: من غاب الشيء، يغيب، غَيباً، وغيبة، وغِياباً (بالكسر)، وغُيوباً، ومغيباً، فهو غائب. (المصباح). (2) في الأصل: ليقرُن.

ذلك أيضاً، والذي جاء به الأجير ليس ما أمر به المستأجر؟ قلنا: إذا كان المرء يحج، ويعتمر عن نفسه، فهو منهيّ عن ارتكاب المحظورات، مأمور بإقامة الأبعاض وتأديتِها، من جهة الشارع، فلو خالف (1) النهي والأمر، ولم يأت بمفسد، وقع النسكان موقعهما؛ وبرئت الذمة منهما، ثم الشرع متبع فيما يوجَب ويستحب من جبران، فجرى مخالفةُ الأجير المستأجِر [هذا] (2) المجرى، مع تحصيل أصل النسكين. وهذا يتم بلطيفةٍ فائقة (3) في الفقه: وهي أن المستأجِر ليس يحصّل الحج لنفسه، وإنما يحصلُه ليقع لله تعالى، فجرت مخالفةُ الأجير مجرى مخالفة الشرع. فإذا تمهد هذا، قلنا: بين الإفراد والقِران تفاوت بيّن: في الفعل، والميقات، فإذا استأجره ليُفرد، فقرن، فقد ترك مزيداً مستدعى منه، فهل يحط من أجرته؟ القول في ذلك كالقول فيه إذا أساء الأجير وجاوز [الميقات] (4)، وقد تفصّل المذهب في هذا النوع على أحسن مساق. 2770 - ولو أمره بالقِران، فتمتع، ففي القِران نقصان في الأفعال وإتيان بالحج من الميقات الأقصى، وفي التمتع كمالٌ في الأفعال، ونقصان في الميقات، فمن أصحابنا من قال: المأمور بالقِران إذا تمتع، فهو كما لو قرن [لتقارب] (5) الجهتين، فكأنه لم يخالف. ومنهم من جعله مخالفاً، وهو ظاهر القياس. فإن لم نجعله مخالفاً، فلا كلام، وفي وجوب الدم الخلاف المقدم: ففي وجهٍ هو على (6 المستأجر، وفي وجهٍ هو على 6) الأجير، كما لو استأجره للقِران، فقرن. فإن جعلناه مخالفاً، فالدم على الأجير وجهاً واحداً، ثم الزيادة التي أتى بها في تمتعه

_ (1) أي الأجير خالف أمر المستأجِر ونهيه. (2) ساقطة من الأصل. (3) (ط): رائقة. (4) ساقطة من الأصل. (5) في الأصل: لتفاوت. (6) ما بين القوسين ساقط من (ط).

لا تحسب له في تكميل أجْره؛ فإنه لم يكن مأموراً فيه؛ فنجعل المتمتع كالمسيء، [وقد مضى الخلاف في أنّا هل نحط من أصل أجر المسيء] (1). فإن قيل: إنما يفرض الحط على القول به إذا كان بين الفعل المطلوب وبين (2) الذي يأتي به الأجير تفاوت، كما قدمناه في المسيء، ولا تفاوت بين فعلي القارن والمتمتع، وقد يكون فعل المتمتع أكمل أجراً، قلنا: نحط ما في جهة التمتع من مزيد في العمل، ثم نعتبر وراء ذلك الحط تقديراً للتفاوت المقدر، فيتفاوت الأمران. فإن قيل: لو لم يظهر تفاوت مع ما ذكرتموه؟ قلنا: فلا حطَّ إذا كان كذلك. الفصل الخامس في إفساد الأجير الحجَّ بالجماع، مع ذِكْر ما يتصل بالإفساد في معناه 2771 - فنقول: إذا شرع المستأجر في الحج الذي استؤجر عليه، ثم أفسده بالجماع، انقلب الحج الفاسد إلى الأجير، ولم يكن بعد الفساد مضافاً إلى المستأجر أصلاً؛ فإن الحجة المطلوبة لا تحصل بالحجة الفاسدة، وليس كما إذا ارتكب الأجير محظوراتٍ غيرِ مفسدة؛ فإن الاعتداد يقع بمثل هذا الحج شرعاً، فوقع الاعتداد به في طلب المستأجِر، والحج لله تعالى، وإن اختلفت الإضافات. والحجةُ الفاسدة لا تبرئ ذمةً، ولا تقع موقع الاعتداد. ثم إذا انقلب الحج بالفساد إلى الأجير، فيلزمه قضاؤها. 2772 - والقول بعد ذلك يستدعي الفصلَ بين أن تكون الإجارة واردةً على عين الأجير، وبين أن تكون واردةً على ذمته، وكان قد لابس الحج بنفسه، لتبرأ ذمته. فإن كانت الإجارة واردةً على عين الأجير، فإذا فسدت الحَجّة، وانقلبت إلى الأجير، انفسخت الإجارة ولا يتصور في إجارة العين إقامةُ مدةٍ مقام مدة، حتى يقال: إن فسدت الحجة في هذه السنة، فالأجير يأتي بحجة في السنة القابلة.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) كذا. بتكرير (بين) مع الاسم الظاهر، وهو خلاف المشهور، ولكنه واردٌ سائغ.

فلا (1) وجه [إلا انبتات] (2) الإجارة (3) وارتداد الأجرة. فأما إذا كانت الإجارة واردةً على الذمة، ثم فسدت الحجة (4 على الأجير 4) فلا شك أن القضاء يلزمُه، فإذا أتى بالحج في قابلٍ، فهل نقول: هذا القضاء يقع عن المستأجِر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يقع عنه؛ فإن القضاء عمّن الحجُّ الفاسد عنه، وقد تحقق انصراف الحج الفاسد إلى الأجير، فليكن القضاء عنه (5). ثم في ذمته حَجةٌ عن المستأجر. ومن أصحابنا من قال: القضاء ينصرف إلى المستأجِر، وكأن الحجة الفاسدة لم تسبق، ولا سبيل إلى إنكار انعقاد أصل الحج الأول عن المستأجِر، فليرتبط القضاء به، حتى نقدِّرَكأن الفساد لم يتخلل. والأقيس الوجه الأول. 2773 - ومما يجب التنبه له إذا انتهى الكلام إلي هذا المنتهى أن من كان في ذمته حجة واجبة لله تعالى، فلا يتصوّر منه التطوع بالحج، على مذهب الشافعي، ولو فرض قصد التطوع، لانصرف الحج [المنعقد] (6) إلى الجهة المستحَقة. وكان شيخي يقول: الأجير الذي في ذمته حجة مرسلة، لو نوى التطوع بحج، فالذي جاء به ينصرف إلى ما عليه من الحج لمستأجِره (7). وهذا مما انفرد به، ولم يساعده عليه أحد، وذلك لأنا نقدم واجب الحج على نَفْله، لأمير يرجع إلى نفس الحج، مع بناء الأمر على تقديم الأوْلى [فالأوْلى] (8) في

_ (1) في (ط): ولا وجه. (2) في الأصل: ذهبت عوادي الزمن بنصف الحروف. و (ط): " للانبتات "، و (ك) " إلا إثبات ". والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق. (3) في (ط): والإجارة (بزيادة واو). (4) ما بين القوسين ساقط من (ط). (5) عنه: أي عن الأجير، وهذا هو الأصح. قاله النووي (ر. المجموع: 7/ 134). (6) في الأصل: المتعبّد. (7) (ط): بمستأجره. (8) ساقطة من الأصَل. وفي (ك): " والأولى "، والمثبت من (ط).

مراتب الحج. والاستحقاقُ على الأجير ليس من خاصية الحج. ولو ألزم ذمته [ما لا] (1) يلزم مثله، لكان حكم الوجوب فيه، كحكم الوجوب في الحج (2). والذي يوضح ذلك أن الحجة قد تكون تطوّعاً من المستأجِر -إذا جوزنا الاستئجار في حج التطوع- فلاح أن ذلك اللزوم ليس من قضايا الحج. هذا قولنا في إقدام الأجير على المفسد. 2774 - ومما نذكره متصلاً بذلك: أن الأجير لو صُدّ، وأُحصر؛ فتحلل، فالقول الوجيز فيه أن طريان الإحصار عليه، والإجارةُ واردةٌ على عينه، بمثابة طريان الموت، وقد سبق القول فيه (3) مفصلاً، في البناء وإمكانه، إن تُصوّر البناء، وانجلى الحصر. ويعود حكم استحقاق شيء من الأجرة، والقول الجامع ما ذكرناه من تنزيل الإحصار، والتحللِ الطارئ بسببه، منزلة طريان الموت. 2775 - ولو لابس الأجير الحجَّ، ففاته الوقوفُ، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن الفوات ينزل منزلة الإفساد، والسبب فيه أنه يوجب القضاء، كما يوجبه الإفساد، ويخرج الحج بالفوات عن حقيقته، وإن كان لا يتصف بالفساد.

_ (1) في الأصل: " ما يلزم " وفي (ط): " مالاً يلزم " والمثبت من (ك)، بقراءة (ما لا) كلمتين، أي (ما) الموصولة، (لا) النافية، وسوّغ لنا ذلك أنها لم تُنوِّن (مالاً). (2) هذه العبارة يُكمل بها الإمامُ الردّ على شيخه، ويستدلّ بها على خطأ ما يراه، ومعنى العبارة: أن المستأجر لو ألزم ذمَّةَ الأجير ما ليس يلزمه بغير إلزامه إياه، كأن يُلزمَ ذمتَه استصناع ثوبٍ مثلاً، فليسَ هناك ما يمنع من أن يصرفه إلى نفسه، وتبقى ذمته مشغولة بثوبٍ آخر يصنعه للمستأجر، أي لا أوّلية هنا للوفاء بالملتَزَم، فكذلك لو ألزم ذمته حجةً، فله أن يحج عن نفسه تطوعاً، ثم يحج عن المستأجر، ولا يدخل هنا تقديم الفرض على التطوع؛ فإن ذلك يرجع لمعنى يخص الحج، وإلزام الشرع به المكلف ليس كإلزام المستأجر للأجير. ثم أكد الإمام هذا المعنى بفرض المسألة في الاستئجار لحج التطوع، فالأجير المستأجر لحجة تطوع إذا أفسدها، فانصرفت له، فإذا قضاها، فهي للمستأجر تطوع، وللأجير تطوع، فبأي وجه نقول: المستأجر بها أولى؟؟ (3) ساقطة من (ك).

فالترتيب إذاً كالترتيب، ولا يستحق الأجير شيئاً من الأجرة على مقابلة عمله قبل الفوات. وذكر العراقيون وجهاً بعيداً في إجراء الخلاف في إثبات قسطٍ من الأجرة على مقابلة ما جرى من العمل، قبل الفوات. وهذا بعحِد لا أصل له. وانحصر القول وراء ذلك في محظورٍ لا يوجب القضاء، وقد مضى منقسماً إلى ترك المأمور، وارتكاب المنهي، وإلى محظور يفسد كالوقاع. وقد أجرينا الكلام في الموت وحكمِه، ثم ألحقنا آخراً الإحصارَ بالموتِ، والفواتَ بالإفساد. الفصل السادس يجمع مسائل متفرقة شذت عن ربط الأصول 2776 - منها أن من استأجر أجيراً ليحج عنه، فقرن الأجير، ونوى بالعمرة نفسَه، وبالحج مستأجِره. أما العمرة، فإنها تنصرف إلى الأجير؛ فإنه نوى نفسَه بها، وما استؤجر عليها. وأما الحج، فالأصح أنه ينصرف إلى المستأجِر. وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنه ينصرف إلى الأجير؛ فإن الإحرام في حق القارن متّحد، لا يقبل الانقسام، فيستحيل أن يتعلق بعضُ حكمه بالأجير، وبعضه بالمستأجر، ويستحيل انصرافُ العمرة إلى المستأجر. والأصح الوجه الأول؛ فإنه إذا (1) لم يمتنع اشتمال الإحرام على نسكين، لم يمتنع تعدد مَصْرِفهما. ولو استاجره زيد ليحج عنه، واستأجره عمرو ليعتمر عنه، فقرن ونوى بالحج زيداً، وبالعمرة عمراً، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن النسكين مصروفان إلى المستأجرَيْن. والثاني - أن ذلك ممتنع، لاتحاد الإحرام، ثم إذا امتنع انصراف النسكين إلى المستأجرين، فلا وجه إلا انصرافُهما إلى الأجير.

_ (1) (ك) إنما.

2777 - ومما يتعلق بذلك أنه لو استأجره زيدٌ على أن يحج عنه، فقرن ونوى بالحج والعمرة جميعاً زيداً، فقد زاده نسكاً، لم يستأجره عليه. واختلف نص الشافعي في ذلك، فمن أصحابنا من قال في المسألة قولان: أحدهما - أن العمرة تنصرف إلى المستأجِر، ويتنزل ما زاده الأجير منزلةَ ما لو قال الرجل لوكِيله بع عبدي (1) هذا بألف درهم، فباعه بألفين، فالبيع صحيح، والثمن بكماله يدخل في ملك الموكِّل بالبيع. والقول الثاني - أن العمرة لا تقع للمستأجر؛ فإنه لم يتعرض لها، وليست من جنس الحج أيضاًً على الإطلاق. ومن قال [بالأول] (2) ينفصل عن هذا، ويقول: أعمال القارن لا تزيد على أعمال من يُفرد حجَّه، وكأن العمرة صفةٌ وفضيلة للحج. والقولان يقربان من القولين فيه إذا سلم الرجل ديناراً إلى وكيله، وأمره أن يشتريَ به شاة وصفها، فاشترى الوكيل شاتين بالدينار، كل واحدة على نعت الموكِّل. وفي ذلك اختلاف قولٍ سيأتي إن شاء الله تعالى، في كتاب الوكالة. ومن أصحابنا من قال: النصان في العمرة منزلان على حالين: حيث قال: " لا تنصرف العمرة إلى المستأجِر "، أراد بذلك إذا لم يجر منه ما يتضمن رغبةً في العمرة. وحيث قال: " تنصرف العمرة إليه "، أراد إذا كان رغب فيها، فامتنع الأجير ووقع [التقارّ] (3) على الحج [لإباء الأجير] (4)، لا لانصراف المستأجِر عن إرادة العمرة. فإذا بدا للأجير والحالةُ هذه أن يحصّل العمرة له، فإنها تنصرف إلى المستأجِر. ثم حيث نقول: تنصرف العمرة [إلى المستأجر] (5)، فلا كلام، وحيث نقول: إنها تنصرف إلى الأجير، فيعود الخلاف في أن نسكي القِران هل يجوز أن يتعدد مصرفاهما؟ وقد مضى هذا.

_ (1) (ط): عني. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل، (ك): النعتان. (4) في الأصل، (ك): إلا بالأجير. (5) ساقط من الأصل.

2778 - ومن المسائل أنا إذا جوزنا الاستئجار على التطوّع، فلو استأجر رجلٌ طائفةً من الأجراء حتى يحصّلوا له حِجَجاً في سنةٍ واحدة، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: تصح الحجج، وتنصرف إلى المستأجِر. ومنهم من قال: لا ينصرف إلى المستأجر أكثرُ من حجة واحدة، فإن سبقت واحدةٌ بالعقد، فهي المنصرفةُ إليه، وإن وقع العقد بجميعها معاً، فليس بعضها أولى من بعض، فلا ينصرف شيء منها إليه. وقد يختبط [فكر] (1) الفقيه في الإجارات، وليس ذلك من غرضنا؛ فإن الإذن كافٍ في هذا الباب. ومن منع انصراف حجتين إليه، فصاعداً، اعتل بأن ذلك لا يتصوّر منه، على حكم المباشرة، وهي الأصل، والنيابة في حكم البدل؛ إذ لا مصير إليها [إلا] (2) مع العجز عن الأصل. والأصح انصراف الحج إليه، وإنما يظهر الخلاف فيه إذا استأجر في سنة (3 واحدة أجيرين بحجتين، وما كان حج حجّ الإسلام، فلو صرفنا 3) الحجتين إليه فإحداهما تطوّع، وحكم التطوع أن يستأخر عن الفرض. ويجوز أن يقال: حكمه أن لا يتقدم على الفرض، ولا يضر أن يجامعه، إذا تُصوِّر الأمر على ما ذكرناه. 2779 - ومن المسائل مسألة نقلها المزني عن الشافعي في المنثور (4)، فقال: إذا قال المعضوب: من حج عنّي، فله مائة دينار، فإذا حج عنه إنسان، وقع الحج عن القائل، واستحق من حج عليه المائة. ولما نقل المزني هذا، خالفه، وبالغ في تزييفه، وقال: كيف تصح هذه المعاملة، مع إمكان الإجارة، ومعلوم أن الجعالة إنما تثبت للضرورة، في مثل رد الأُبّاق من العبيد، والشرّاد من الدواب؛ فإن الضبط

_ (1) في الأصل: قلب. (2) ساقطة من الأصل. (3) ما بين القوسين بياض في (ك). (4) المنثور: كتاب للمزني.

غير ممكن في هذه المواضع، فأثبت الشرع الجعالة (1 مع الجهالة 1) على حسب مسيس الحاجة. وما ذكره المزني ظاهرٌ متجه. وخرّج أصحابنا من نص الشافعي تجويزَ الجعالة في كل موضعٍ تصح الإجارةُ فيه، حتى لو قال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، فمن خاطه استحق الدرهم. وسأذكر هذا مستقصىً في كتاب الإجارة. ثم وإن مال معظم الأصحاب إلى ما ذكره المزني من فساد هذه المعاملة، قَضَوْا بأن [أثر] (2) فسادها في سقوط المسمى، فأما إذا حج إنسان عنه، وقد ثبت منه هذا القول، فالحج ينصرف إليه، وللحاج أجرُ مثله، وطردوا هذا فيه، إذا قال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، فإذا خاطه إنسان، استحق أجرَ المثل، وهذا يَقْوَى بشيء، وهو أن الإذن المجرد كافٍ في انصراف الحج إلى الآذن، من غير ذكر عِوضٍ على الصحة. والذي ذكره إذنٌ. وقال شيخي أبو محمد: لو قال وكلت كلَّ من أراد أن يبيع داري هذه، فالتوكيل على هذا الوجه باطل عند القفال، على ما سنذكر أصل ذلك في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى. فلا يمتنع أن يحكم (3) بفساد الإذن إذا قال: من حج عني؛ فإن الإذن على هذا الوجه ليس موجهاً على شخص، ولا يتصور توجّه الإذن على جمع، والمراد واحد منهم (4). 2780 - ولو استأجر رجلٌ رجلاً ليحج عنه بأجرةٍ فاسدة، أو فسدت الإجارة بشرطٍ فيها يتضمن إفساد العوض، فالذي رأيته للأصحاب القطعُ بأن المستأجَر إذا حج عن مستأجِره على حكم هذه الإجارة، انصرف الحج إلى المستأجِر. وهذا حسنٌ متجه، لصحة الإذن، وهو بمثابة التوكيل بالبيع، مع شرط عوض للوكيل، فالإذن صحيح، والعوض فاسد، وهذا يظهر جريانه فيما يكتفى فيه بالإذن المجرد، والحج كذلك.

_ (1) ساقط من (ط). (2) مزيدة من (ط). (3) ساقط من (ط). (4) ساقطة من (ط).

الفصل السابع في جريان العقد على خلاف اعتقاد العامل 2781 - وذلك إذا استأجر رجلاً ليحج عنه، فأحرم عن مستأجِره، ثم صرف الإحرام إلى نفسه، على ظن أنه ينصرف إليه، ثم تمادى في الأفعال مستديماً هذا الظن، فالحج ينصرف إلى المستأجِر. وهل يستحق الأجير الأجرة؟ فعلى قولين: أصحهما - أنه يستحق لحصول الحج له، وصحة العقد في الابتداء، فلا يبقى إلا اعتقادٌ فاسد، والاعتقاد الفاسد لا يغير حكمَ العوض. وبنى أئمتنا هذا على ما إذا دفع ثوباً إلى صبّاغ ليصبغه، فجحد الثوبَ، وصمم عزمه على الاستبداد بالثوب، ثم إنه صبغه لنفسه، ثم بداً له أن يردّه، فهل يستحق الأجرة على المالك؟ فعلى قولين. وكذلك إذا استأجر رجلاً ليعمل في المعدِن (1)، وجعل أجره ما يستفيد من النَّيْل، وكان عمله لا يُصلح المعدن، وإنما الغرض منه النَّيل فحسب، وليقع الفرض في معدنٍ (2) مملوك، فالنيل لمالك المعدِن. وفي استحقاق العامل الأجرة وجهان: أحدهما - أنه يستحقها، لوقوع العمل لمالكِ المعدن. والثاني - لا يستحقها، لأنه يقصد بالعمل نفسَه، وسيأتي ذلك في موضعه مستقصًى إن شاء الله تعالى. الفصل الثامن 2782 - مضمونه يتعلق بطرف من الكلام في الوصايا، وهو من أهم ما يجب الاعتناء به، وقد رأيت إيراد المقاصدِ منه في مسائلَ مرسلةٍ، فنقول: 2783 - إذا استقر على الرجل حجةُ [الإسلام] (3)، والجريانُ على القول الأصح في

_ (1) المعدن: مكان استخراج المعادن بمعنى (المنجم). (2) (ط) في نيلٍ. (3) ساقطة من الأصل.

أن الحج دَيْنٌ من رأس المال، أوصى به، أو لم يُوصِ. فإذا قال: أحجّوا عني فلاناً بمائة -والحج حجُّ الإسلام- فالقول في ذلك ينقسم: فإن كان المائة أجرَ مثله، ولم نجد من يحج عنه بأقلّ من ذلك، واعتقدنا هذا المبلغ أقلَّ أجرة المثل، فتنفذ وصيته؛ فإنا لا ننكر أن يكون له غرضٌ فيمن عيّنه، في تقواه أو ورعِه، ووقوع دعائه موقع الاستجابة في تلك المشاعر المعظمة. هذا غرض بيّن، فَلْتُنَفَّذ الوصية له. ولو وجد الورثة من يحج عنه بخمسين، وكانت أجرة مثل ذلك الذي يحج [خمسين] (1)، من غير احتياج إلى فرض مسامحة، فالدَّين المقدم على الوصايا الخمسون، لا غير؛ فإن مقدار الدين من الحج أقل ما يجزىء. ولهذا ينزلّ الحج المحكوم [بكونه] (2) ديناً على الميقات، كما قدمنا ذكرَه في أول كتاب الحج. ولكن إذا كان الثلث يفي بالخمسين الزائدة بعد حَطّ المقدار الذي لا بد منه، فقد اختلف أصحابنا في أن مَن أجرته مائة، إذا كان أجنبياً وطلب أن يحج بالمائة، وقال (3): قدّروا الخمسين وصيةً لي. فهل يجاب إلى ذلك والثلث وافٍ؟ فمنهم من قال: يجاب إليه؛ تحقيقاً لغرض الميت، فربما كان تَوسّمَ فيه مقصوداً. وقد ذكرنا أن مبالغ الأُجَرِ إذا تساوت، يجب تعيين من عيّنه إذا قبل، فقد التحق هذا بما يجب تنفيذه على الجملة، فلينفذ في الصورة التي ذكرناها. ومن أصحابنا من قال: لا يجاب إلى ذلك؛ إذ لا غرض له فيه، فإن [الخمسين] (4) قدرُ أجرته، فلا نكلف الورثةَ بذلَ مزيد مال. وليس الآخذ متبرَّعاً عليه، وهو بمثابة ما لو قال: بيعوا داري من فلان، فهذا لا يعد من الوصايا. نعم إذا لم يحتج الورثة إلى بذل مال، فيجوز التعويل على غرض الميت، فأما مقابلة غرضه بمالٍ، وليس المعيّن متبرَّعاً عليه، فلا.

_ (1) في الأصل: بخمسين. (2) في الأصل: بلزومه. (3) (ط): وقد. (4) في جميع النسخ الثلاث: (المائة) والمثبت تقديرٌ منا. يوجبه السياق.

2784 - وعلى هذا خرّج الأئمة أن المعيّن لو كان وارثاً، فكيف السبيل فيه؟ فإن قلنا: لا يجاب الأجنبي إلى ذلك، فلا يجاب الوارث إليه. وإن قلنا: يجاب الأجنبي إليه، فلا شك أن الخمسين بالإضافة إلى التركة كالوصية؛ فإن الاكتفاء واقعٌ بالخمسين، ولكن هل نجعله وصية في حكم التعيين، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه وإن كان وصيةً بالإضافة إلى [التركة، فليس وصيةً بالإضافة] (1) إلى هذا المعيّن؛ من جهة أنه لا يستفيد بأخذ المائة مزيداً؛ فإن ما يبذله (2 من منفعة 2) نفسه لا ينقص (3) عما يأخذه، فعلى هذا ينفذ هذا في حق الورثة. والوجه الثاني - أنه وصية في حكم التعيين؛ فإن الأمر في ذلك لا يتبعض، فإذا كان الشيء وصية، بالإضافة إلى التركة، فليكن وصية في كل حكم. وذكر العراقيون ما إذا ضُمَّ إلى ما ذكرناه، كان وجهاً ثالثاً، فقالوا: إذا قال: أحجوا عني فلاناً، ولم يذكر المقدار، وكان أجر [مثل] (4) من عيّنه مائة، ونحن نجد من يحج بخمسين، فالخمسون الزائدة في حق المعيّن تبرع. فكأنهم يبغون الفرق بين هذا وبين التنصيص على المائة؛ من جهة أنه لما أطلق إحجاج من عيّنه، يجوز أن يُحْمَل ذلك على اكتفائه بالخمسين التي توجد الحجة بها، فينتظم من هذا الفرقُ بين الإطلاق والتقييد بالمائة. ولا فقه فيما ذكروه. وهذا (5) إذا ذكر المائةَ وعيّن شخصاً، أو أطلق تعيينه، ونحن نجد مَنْ أجرتُه خمسون. 2785 - فأما إذا كان لا يوجد من أجرتُه أقل من المائة، ولكن وجدنا مسامحاً أجرتُه مائة، وهو يقنع بالخمسين، فهذه الصورة فيها تردّدٌ، من وجه آخر، ففي أصحابنا من يقول: الدَّينيّة في المائة الكاملة، وتحصيلُ غرضِ الميت حتمٌ فيمن

_ (1) ساقط من الأصل. (2) ساقط من (ك). (3) (ط): ينتقص. (4) ساقط من الأصل. (5) في (ط) و (ك): هذا (بدون واو).

عيّنه؛ وذلك أنه قد كان لا يرضى في حياته بأنْ يُتبرّع عليه (1 وهذا المعنى لا يبعد استدامته بعد وفاته. هذا وجهٌ. وإذا كانت المائة 1) كلُّها ديناً بالإضافة إلى التركة، فلا تكون وصية بالإضافة إلى المعيّن. والوجه الثاني - وهو الأصح (2 أن الدينيّة لا تتحقق إلا في الخمسين 2)؛ فإن الورثة يزعمون أن الغرض تحصيلُ الحج (3) وإبراءُ ذمة الميت [عنه] (4)، [ولئن] (5) كان يستشعر من ثقل المنة شيئاً في حياته، فلا معنى لذلك بعد الموت. فإذا انحصرت الدينية في الخمسين، عاد تفريع القول في المائة إلى ما قدمناه في القسم الأول، وهو إذا وجدنا مَن أجرتُه خمسون. ولو وجدنا (6) متبرعاً بالحج من غير مال، فالخلاف يعود في المائة كلها. 2786 - وكان الشيخ أبو محمد يُجري في أثناء الكلام مسألة، وهي أن من أوصى إلى إنسان وصيةً (7) ونصَّبه ناظراً في حق أطفالٍ، وذكر له مقداراً في مقابلة عمله، لا يزيد على أجر مثله، فلو وجد الوالي متبرّعاً بالنظر، لم يجز له إقامتُه وصرفُ الوصي بالجُعل. وهذا لا أراه كذلك. نعم، إذا نصّبَ الأب وصيّاً من غير جُعل، وكان عَدلاً ذا كفاية، فلا استبدال به؛ فإن الشرع أقام الوصيَّ مقام الأب الموصي في نظره، فكما لا يتسلط الوالي على مزاحمة [الأب] (8) في نظره، فكذلك لا يستبدل [بمنصوبه] (9). هذا إذا لم يكن قدّر له شيئاً، فإن قدّر له مالاً، ووفى الثلثُ به، فلا شك أنه

_ (1) ما بين القوسين امّحى من (ك). (2) ما بين القوسين غسل من (ك). (3) عبارة الأصل: أن الغرض في تحصيل الحج. (4) ساقط من الأصل. (5) في الأصل: ولكن. (6) (ط): ولوجدنا. (7) ساقطة من (ط)، (ك). (8) ساقطة من الأصل. (9) في الأصل: المنصوص به.

لا يردّ؛ فإنه لو تبرع بمقدار الثلث (1) عليه من غير عمل منه، لكان منفذاً. فأما إذا كان المسمى له زائداً على الثلث، ووجد الإمام متبرِّعاً، فالظاهر عندي القطعُ، بصرف ذلك [الغُرم] (2) عن الأطفال. فإن رضي الوصي بالعمل دونه، فلا استبدال. وإن أبى أن يعمل، أقام الوالي ناظراً. وحقائق هذه الأطراف يوضّحها كتاب الوصايا. 2787 - ومن مسائل الفصل: أنه لو أوصى بحج التطوّع، ففي صحة الوصية قولان، ذكرناهما في أول الكتاب، فإن صححنا الوصية، فلو عيّن في الوصية بحج التطوع شخصاً، وقال: أحجّوا عني فلاناً، ووَفَّى الثلثُ، فيجب رعايةُ تعيينه، ورأيت الطرق متفقةً على أن المال المذكور إذا كان لا يزيد على أجر المثل، لا يكون وصيةً في حق المعيّن، حتى لو كان وارثاً، لزم التنفيذ. وليس يبعد تخريج احتمال الوصية في حق المعيّن، إذا كان بَذْلُ المال في نفسه وصيةً، كما قدمناه في حجة الإسلام، إذا رُبط بمعيّن أجرته مائة، ونحن نجد مَنْ أجرته خمسون. ولو عيّن في الوصية بحج التطوّع شخصاً، كما صورناه، فأبى ذلك المعيّن أن يحج، فهل يُصرف المال إلى آخر؟ أم نقضي ببطلان الوصية، ورجوع المال إلى التركة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا لا نبطلها؛ فإن الغرض أصلُ الحج، والتعيين في حكم التفصيل له، فينبغي ألا يَبطُلَ [الأصل] (3) بتعذرٍ في التفصيل. ومن أصحابنا من أبطل الوصية، وقاس على ما لو قال: أعتقوا عني العبد الفلاني، ثم عسر الوصول إليه، فالوصية تبطل، ولا يصرف المال المبذول إلى عبدٍ آخر نشتريه ونعتقه. والقائل الأول ينفصل (4)، فيقول: للعبد غرضٌ ظاهر في العتق، فكان في حكم الموصى له به، ولا غرض للذي يحج من غير مزيد على [أجرة] (5) المثل.

_ (1) (ط)، (ك) بمقداره. (2) في الأصل: للعزم. (3) ساقطة من الأصل. (4) ينفصل: أي يخرج عن هذا الاعتراض. (5) ساقطة من الأصل.

2788 - ومن مسائل الفصل أنه لو قال: أحجوا عني بألفٍ، وقيّد بالحجة الواحدة، فلم نجد من أجرة مثله ألف، بل كان أقصى أجرٍ ينحط، عن هذا المبلغ. في المسألة وجهان ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أن الزيادة مردودةٌ؛ فإنها وصيّة لا لمعين، ولا لجهةٍ، فترد. والثاني - أن الألف تصرف إذا وفى الثلث، إلى شخص يتخيره الوارث، وتُجْعَل الزيادةُ وصيةً له. 2789 - ومن مسائل الفصل: أنه إذا قال: أحجوا عنّي فلاناً بألف، وكان الألف زائداً على أجر مثله، فلا شك أن الزائد وصيةٌ له. فلو قال (1): أحجوا عن المتوفَّى غيري بأجرِ مثله، واصرفوا إليَّ الزيادةَ الفاضلةَ، لم نجبه إلى ذلك؛ فإنه إنما أوصى له بها على شرط أن يحج عنه، فلا استحقاق دون الوفاء بالشروط. 2790 - ومن المسائل مسألة حكاها الصيدلاني في وقائع المفتين بمَرو، وهي أن الرجل إذا قال: اشتروا عشرة آصُع من البرّ بمائة درهم، وتصدقوا بها، وكنا نجد ذلك القدرَ من الطعام بخمسين. قال: اختلف الأئمة: فمنهم من قال: نشتري الآصع بما نجد، ونرد الزيادة إلى الورثة، ومنهم من قال: نشتري بالمائة عشرة آصع، وتكون الزيادة وصية لبائع الحنطة. ومنهم من قال: نشتري بتلك الزيادة حنطة بسعر الوقت، ونتصدق به، والمسألة محتملة. ...

_ (1) القائل: هو (فلان) الذي أوصى المتوفى بأن يَحُج عنه بألف. فهو يقول للورثة: أحجوا عنه غيري، بأجر المثل (أربعمائة مثلاً) واصرفوا الزيادة إلي.

باب قتل الصيد عمدا كان أو خطأ

باب قتل الصيد عمداً كان أو خطأً 2791 - الاصطياد من صيد البر حرام، على المحرم، والأصل فيه قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. والعامد يَختصّ بالمأثم، والضمان يعم العامدَ والخاطئ عندنا، وعند معظم العلماء، وخصص داود الضمانَ بالعامد، تعلّقاً بظاهر القرآن، وفيه على مذهب الشافعي -ومذهبُهُ القولُ بالمفهوم- إشكالٌ، ولكن الوجه أن الرب تعالى لما أراد الجمعَ بين الضمانِ، والمأثَمِ، والتعرضِ للعقوبة، خصص سياق الآية بالعامد، أما الضمان، فلائح واستشعار العقاب في قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]. ثم الصيد ينقسم إلى البحري والبري، فأما البحري، فلا حرج على المحرم فيه، وكان شيخي يقول: هذا قولنا في سمكة يصادفها في ماءٍ في الحرم. وأما الصيد البرّي فينقسم إلى الطائر، وغيره، أما الطائر، ففيه بابٌ يأتي، وأما غيرُه، فينبغي أن يكون مأكولاً، وهو المحرّم بسبب الإحرام [والحرم] (1)، والحيوان المتولد من بين المأكول وغيره محرم تغليباً للحرمة، وفيه الجزاء تغليباً للفدية، فالأمر في الحكمين على التغليظ. ثم نجمع معاقد المذهب في فصول (2): منها في جهات الضمان، ومنها في صفة الضمان وتفصيلِ الواجب، ومنها في الجنايات.

_ (1) في الأصل، (ك): المجرى. (2) لم يَعْنِ الإمام فصولاً ذاتَ عناوين خاصة، وإنما عنى موضوعاتٍ أو مناحٍ للكلام ولذلك تراه لم يضع كلمة (فصل) بين كل موضوع وآخر.

2792 - فأما جهات الضمان، فثلاث: المباشرة بالجناية، والسبب، واليد العادية. فأما المباشرة فبيّنةٌ. والسببُ هو كلّ ما يكون المتسبب به متعدياً، كحفر البئر في محل العدوان، ويمكن ضبط هذا بما يُضمَن الآدمي به، فلو حفر المحرم بئراً في ملكه أو في موات، فتردّى فيها صيدٌ، فلا ضمان؛ إذ لا عدوان، ولو حفر في ملكه في الحرم بئراً، فتردى فيها صيدٌ، ففي الضمان وجهان: أشهرهما - الوجوب، لأن السبب في إيجاب الضمان في الصيد الحرميّ حرمةُ الحرم، وهذا المعنى يعم الملكَ وغيرَه. والثاني - لا يجب اعتباراً بالصيد في حق المحرم. ولو نصب المحرم شبكةً في ملكه، أو في مواتٍ، فقد ردد الصيدلاني جوابه فيها، والذي أظهر نقلَه أنه إذا تعقّد (1) صيد بالشبكة، وجب الضمان، وإن كانت منصوبة في الملك؛ لأن نصب الشبكة مقصودٌ للاصطياد، فكأن ناصبَه مجرِّداً قصدَه إلى الاصطياد، فكان كما لو اصطاد بيده صيداً في ملكه. قال: ويحتمل أن تكون الشبكة في معنى البئر (2)؛ فإن البئر لو احتفرت في محل العدوان، كانت سبب الضمان كالشبكة، وإذا كان من غير عدوان، فلا ضمان. وهذا قياسٌ متجه. 2793 - وأما اليد (3)، فهي سبب الضمان، فإذا أثبت المحرم يدَه على الصيد ابتداءً في الإحرام، فهلك الصيد تحت يده، ضمنه، كما يضمن الغاصب ما تثبت عليه يده، وتمام القول في اليد الدائمة، التي طرأ الإحرام عليها يأتي في فصلٍ معقود بعد هذا. (4 فهذه قواعد أسباب الضمان. 2794 - فأما الدّلالة على الصيد، فليست 4) مضمِّنةً عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (5)

_ (1) (ط): تعقل. (2) هذا هو الجواب الثاني الذي ردّده الصيدلاني. (3) هذا هو السبب الثالث من أسباب الضمان. (4) ما بين القوسين مغسول من (ك). (5) ر. المبسوط: 4/ 79، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 215 مسألة: 684، الاختيار:=

وضبطُ المذهب من جهة المعنى أن الصيد لله تعالى، وهو مالك الأعيان، وقد حجر على المحرم فيه، فيضمنُه المحرم بما يضمن به ملكَ الغير؛ إذ (1) لم يكن مستحقه، ومن دل على ملك غيره، لم يضمن بالدلالة شيئاً، وإنما يضمن ملك الغير بالأسباب التي ذكرناها. 2795 - فأما جُمَل القول (2) في المضمون الواجب، فنص القرآن شاهدٌ على إيجاب المثل قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95]، والمراد [به] (3) إيجاب النَّعَم المشابهة في الخلق والصوَر، للمتلفات من الصيود. ثم كل ما وجدنا فيه نصَّ [خبرٍ أو قضاء] (4) للصحابة، اتبعناه، وما لم نجد فيه نصاً وقضاء، طلبنا مماثلة الخلقة بالاجتهاد، كما سنصفه. أما مواقع النصوص والأقضية، ففي حمار الوحش بقرةٌ (5)، وفي الضبع كبش. رواه جابر (6) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأرنب عَناقٌ، وفي أم حُبَيْن حُلاّن (7) وهو جدي صغير. وكان شيخي يقول: أم حبين من صغار الضب، [حتى

_ =1/ 165، اللباب: 1/ 211، حاشية ابن عابدين: 2/ 213. (1) (ط)، (ك): إذا لم يكن مستحفظاً فيه. (2) عبارة (ط): " فأما حمل القرَآن في المضمون الواجب ". عبارة (ك): " فأما حَمْل القول في الضمان الواجب ". (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: جزاء وقضاء. (5) جزاء حمار الوحش رواه من حديث ابن عباس الشافعي في الأم: 2/ 192، والدارقطني: 2/ 247، والبيهقي: 5/ 182. (6) حديث جابر في جزاء الضبع رواه أصحاب السنن وابن حبان وأحمد والحاكم وغيرهم (أبو داود: الأطعمة، باب في أكل الضبع، ح 3801، الترمذي: الحج، باب ما جاء في الضبع يصيبها المحرم، ح 851، والأطعمة، باب ما جاء في أكل الضبع، ح 1791، النسائي: مناسك الحج، باب ما لا يقتله المحرم، ح 2836، والصيد، باب الضبع، ح 4323، ابن ماجة: المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم، ح 3085، الصيد، باب الضبع، ح 3236، وانظر التلخيص: 2/ 529 ح 1101). (7) أم حبين ضربٌ من حشرات الأرض تشبه الضب، والحلاّن والحلام: وزان تفاح: الجدي=

يفرضَ مأكولاً. أما الظبي ففيه عنز] (1). وفي طرق العراق في الظبي كبشٌ، وفي الغزال عنز. وهذا وهم؛ فالذي صح القضاء فيه في الظبي العنز، وهو شديد الشبه به؛ فإنه أجرد الشعر، متقلص الذنب، والغزال ولد الظبي، فيجب فيه ما يجب في الصغار من كل جنس على ما سنصفه. فهذا قولنا في محالّ الأقضية. 2796 - فأما ما لا نص فيه، فالوجه طلب المثلية الخِلقية، بالنظر والاجتهاد، كما قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]. ثم شرط الأئمة صَدَر الإلحاق الشبهي عن رجلين، كما أشعر به النص، وهذا محتوم، ليس على الاستحباب، وليكن الناظران عدلين خيّرين، من أصحاب الكياسة، فيما يتعلق بهذا الغرض. ولو حكم عدلٌ بالشبه، وحكم به القاتل المحرِم، فحكمه غيرُ مقبول، لخروجه عن نعت العدالة. هذا إذا قتل عمداً. فإن كان خطأ لم يعصِ بما جرى منه، ففي المسألة وجهان: أقيسهما أنه لا يقبل حكمه؛ لأنه محكوم عليه، فليكن الحاكم غيره. والوجه الثاني - وهو ظاهر المذهب أنه يقبل حكمه، والدليل عليه ما روي: " أن عمر رضي الله عنه، شاور بعضَ الصحابة في صيد كان قتله، فقال المستشار: أرى فيه شاة، فقال عمر: وأنا أرى ذلك " (2). ثم في الصغار من كل جنس صغار الجنس من النَّعم التي تثبت كبارها في الكبار، والمعيب يقابل المعيب، وتقبل العوراء في العوراء، وهكذا كل عيب، ولا نسلك

_ =الصغير. يشق بطن أمه ويخرج. وحديث جزاء أم حبين رواه الشافعي عن عثمان بن عفان (الأم: 2/ 194) والبيهقي: 5/ 185. (1) سقط من الأصل، ما بين المعقفين. (2) أثر عمر ورد في قصة صحابي يقال له: أربد، والأثر رواه الشافعي في الأم: (4/ 194) بسند صحيح (قاله الحافظ) ورواه عبد الرزاق: (4/ 402)، والبيهقي في الكبرى: 5/ 182، والصغرى: 2/ 163 ح 1572، وانظر التلخيص: 2/ 542.

طريق جبران العيب بعيب آخر، وإن قرب الأمر، فلا تقبل عوراء في جَرِب. وهكذا القول في العيوب المختلفة. 2797 - ومما يتعين (1) الاعتناء به في هذا الفصل: الكلام في الإناث والذكور، والحامل [والحائل] (2): فإذا أتلف المحرم ذكراً من جنسٍ [من] (3) الصيد، فإن قابله بذكبر من النّعم، فذاك، وإن قابله بأنثى، اختلف النص في إجزاء ذلك. والذي نراه ونقطع به أن الأنثى إن كانت قيمتُها دون قيمة الذكر من النَّعم، فلا تُجزىء. وإن آل الأمر إلى ذبح النَّعم كما سنصفه، وكانت الأنثى خبيثة اللحم؛ لأنها (4 وَلَدَت، فلا تجزئ 4)، لاجتماع المخالفة في الخلقة، والنقصان، في القيمة، والرداءة في اللحم. وإن كانت الأنثى طيبة اللحم لو ذبحت، تامّة القيمة إذا قوّمت للتعديل -كما سنذكره- فهل تجزئ عن الذكر؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قال: قولان: أحدهما - أنها لا تجزئ للاختلاف في الخلقة، والثاني - أنها تجزىء، وهو الأصح؛ فإن هذا القدر محتمل في التفاوت. ومن أصحابنا من قال: اختلاف النص محمول على ما أشرنا إليه، فحيث مَنَع أراد إذا كانت الأنثى ناقصة، أو معيبةَ اللحم، وحيث جوّز أراد إذا كانت مساويةً للذكر من النَّعم في القيمة، وطيب اللحم، أو كانت أفضل منه. وأما القول في الزكاة، فمتعلق بطرف صالحٍ من التعبد، وقد مضى تفصيل القول في أخذ الذكور والإناث في الزكاة. ولو أتلف المحرم ظبية، فإن أخرج الأنثى أجزأت، لمشابهة الخِلقة، وإن أخرج (5 الذكر، فإن كان الذكر 5) دون الأنثى، فلا إجزاء، وإن كان مثلَها، أو أفضلَ

_ (1) في الأصل: يتعلق. (2) ساقطة من الأصل. (3) ساقطة من الأصل. (4) ما بين القوسين بياض في (ك). (5) ساقط من (ك).

منها، فعلى ما ذكرنا من اختلاف الطرق (1). وذكر الشيخ أبو بكر وغيرُه أن مقابلة الأنثى بالأنثى واجبةٌ، والتردد في مقابلة الذكر بالأنثى. وهذا ذهاب عن التحصيل، وهو يبتني على اعتقاد كون الأنثى أفضلَ، والأمر مختلف في ذلك، والمتبع ما ذكرناه من الفضيلة، ورعاية الخلقة، ويستوي فيه مقابلة الذكر بالأنثى، ومقابلة الأنثى بالذكر. فهذا قولنا في الذكور والإناث. 2798 - فأما إذا قتل المحرم ظبية حاملاً، فهذا مما اختبط فيه الأصحاب، وردوا الأمر إلى اضطرابٍ لا أصل له. وأنا أذكر ما هو الحق المبتوت: فإذا كانت الظبية المتلَفةُ حاملاً، فلو قابلناها بحائل (2) من النعم، كان ذلك مخالفةً في الخلقة، فالحامل من النعم أفضل في القيمة من الحائل منها، ولكن لا سبيل إلى ذبح الحامل من النَّعم؛ فإن مرتبتها في القيمة تزول بالذبح. ولو أخرج حائلاً نفيسة تبلغ قيمتُها قيمةَ حامل مقتصدة، فالتفاوت في الخلقة لائح، وهذا فوق الذكورة والأنوثة، فلا وجه إلا تقديرُ حامل من النَّعم؛ ثم الرجوع إلى قيمتها، وتعديلُ الطعام بها. فهذا هو الوجه، وهو الذي اختاره أئمة العراق. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لو أخرج حائلاً نفيسةً، كما صورناها، وذبحها، أجزأت؛ تخريجاً على إخراج الأنثى عن الذكر. وهذا بعيدٌ؛ فإن الحَمْل إذا تحقق زيادةٌ في الخلقة معتبرة. فهذا بيانُ القول في الحامل والحائل، والذكر والأنثى. ولو جنى على ظبيةٍ حامل، فألقت جنينَها، فإن بقيت الأم، وألقت الجنين حيّاً، ثم مات، ففي الجنين صغيرٌ من النَّعم، على قدرٌ يقرب منه. وإن ألقته ميتاً، فلا يُضمن الجنين في نفسه، ولكن يجب ما تنقصه الجناية من الأم. وإن ماتت الأم،

_ (1) (ط)، (ك): الطريق. (2) (ط): بحالٍ.

ومات الجنين بعد انفصاله، ضمن كلَّ واحدٍ على حياله. 2799 - فأما القول في الجناية على الصيد من غير إهلاك، فقد قال الشافعي، فيما نقله المزني: إن جَرح ظبياً، فنقص من قيمته العشر، فعليه العشر من ثمن شاة. قال المزني: الوجه أن نقول عليه عشرُ شاة، جرياً على رعاية المثلية. واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من صوّب المزني، وقال: هو المذهب لا غير، وحمل نص الشافعي على الإرشاد إلى الانتقال من الشاة، إلى تعديل الطعام بالقيمة؛ فإن الكفارة على التخيير، وإخراج قسط من الحيوان عسير، وإلا، فهو الأصل. ومن أصحابنا من جرى على ظاهر النص، ولم يوجب قسطاً من الحيوان بسبب الجناية على الصيد، وجعل ما يدخل (1 على الصيد من نقصٍ، بمثابة ما يدخل على المثليات من النقص، بسبب الجناية 1) عليها، فإذا جنى رجل على حِنطة إنسان جنايةً تنقُص من قيمتها، فلا يلزمه إلا القيمة، وإن كانت الحنطة في نفسها مضمونةً بالمثل إذا أتلفت، فكذلك القول في الصيد إذا أتلف، فهو مقابَلٌ بالمثل، وإن أثرت الجناية في صفته، لم يجب جزء من المثل. وهذه الطريقة ضعيفة؛ فإن مقتضاها إيجاب قسط من قيمة الظبية؛ فإن من جنى على حنطة إنسان وعيَّبها، فالمضمون أرش نقص الحنطة المجني عليها. فرع: 2800 - إذا جنى على صيدٍ، فَأَزْمَنَه، وأذهب امتناعَه، بحيث لا يرجى عودُه، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أنه يجب بإزالة امتناعه تمامُ الجزاء، كما يجب بقطع يدي العبد تمامُ قيمته. وذهب بعض أصحابنا إلى وجه غريب، وهو أن الواجب قسطٌ من المثل، أو قيمة المثل. وهذا مزيّف متروكٌ. فلو أتلف الصيدَ المزمَنَ محرم آخر، فيلزمه جزاؤه على ما هو عليه من العيب. وقد قدمنا أن المعيب يضمن بمثله.

_ (1) ما بين القوسين، ذهب به البلل من (ك).

ولو كان للصيد امتناعان، كالنعامة تمتنع بشدة العدْو، ولها امتناع من الجناح بالطيران، فإذا أبطل المحرم أحد امتناعيه، والتفريع على ظاهر المذهب، وهو أن إزالة الامتناع توجب تمام الجزاء، ففي هذه الصورة، وهي إزالة أحد الامتناعين وجهان: ذكرهما العراقيون. ولو أزال المحرم امتناع صيدٍ على وجهٍ لا يعود، ثم قتله، فالتفصيل فيه كالتفصيل فيما إذا قطع رجلٌ يدي رجل ورجليه، ثم احتز رقبته قبل اندمال الجرح، المنصوصُ [اتحاد] (1) الدية. وخرّج ابن سريج انفراد أروش الأطراف (2) عن دية النفس، وذلك الترتيب يعود هاهنا. ثم من لم يكمل الأرش في أحد الامتناعين في النعامة، فالغالب على الظن أنه يعتبر ما نقص. وفي الحقيقة الامتناعُ في النعامة واحد ولكنه يتعلق بالرجل والجناح، ولا ضبط. فالوجه في زوال بعض الامتناع إيجاب ما ينقص. فرع: 2801 - إذا أمسك المحرم صيداً، فقتله مُحِلٌّ في يده، فالضمان كلّه على المحرم؛ فإنَّ فِعْل الحلال في الصيد غيرُ مضمونٍ، فيجعل ما جرى (3) كالتلف بآفة سماوية. ولو أمسك المحرم الصيد، فقتله محرم آخر في يده، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب تمامُ الضمان على القاتل؛ فإنا إذا كنا (4) نقدم المباشرة على السبب، فلأن نقدم الإتلاف على اليد أولى. ومن أصحابنا من قال: الضمان بينهما، وهذا بعيد، لا وجه له. نعم الوجه أن يقال: قرار الضمان على المتلِف والطَّلِبَةُ تتوجه على الممسك. وقد ذكرنا قريباً من ذلك في تفاصيل الحلق.

_ (1) في الأصل: " إيجاب ". والمثبت من (ط)، (ك). (2) (ط): الأفراد. (3) (ط): يجرى. (4) (ط): إذ تركنا.

فصل 2802 - إذا كنا نعتبر المِثْل بالاجتهاد، نظراً إلى الشبه الخِلْقي، فلا تعلق لهذا بمكانٍ، وإن آل الأمر إلى اعتبار القيمة، فكيف السبيل؟ والمرعي أيّةُ قيمة؟ أولاً نذكر صفة الجزاء، ومحلَّه، ثم نرجع إلى ما أشرنا إليه. فإن كان الجزاء منصوصاً عليه في خبر أو قضاء، فهو متبع، وإلا نقيسه. 2803 - ثم الكفارة على التخيير. ذهب إليه معظم الأصحاب، وأشعر به نص القرآن. ثم للجزاء ثلاثة أركان: أحدها - الحيوان. والثاني - الإطعام. والثالث - الصوم المعدّل بالإطعام. أما الحيوان، فالمعتبر فيه اتباع التوقيف، أو النظرُ فيما لا توقيف فيه إلى الشبه الخِلقي. وأما الإطعام، فهو معتبر بقيمة المثل، لا بقيمةِ الصيد، فيقوّم المثلُ المنصوصُ، أو المجتهَدُ بالدراهم، ولا نرى التصدّق بها، بل نصرفُها إلى الطعام المعتبر في صدقة الفطر، والكفارات، فإن أراد التصدق بها، فذاك. وإن أراد الصومَ، قابل كلَّ مدّ بصوم يوم، فإن وقع كسرٌ في مدّ، قابله بصومِ يومٍ. فإن [التعطيل] (1) غيرُ ممكن، والصومُ لا يتبعّض. ثم المحرم بالخيار بين هذه الخِلال. وحكى بعض الأصحاب عن أبي ثور أنه نقل عن الشافعي قولاً في الترتيب، وهذا غلط باتفاق الأئمة، مردود على ناقله، مخالفٌ لنص القرآن، ولا يخلِّص منه التعلق بآية المحاربين؛ فإن الظواهر لا تُزال بسبب إزالة ظاهرٍ آخر. نعم، إن انقدح تأويلٌ، واستند إلى دليل، فلا يمنع الاستشهادَ لإبانة إمكان التأويل في اللسان. 2804 - وإن كان الصيد غيرَ مقابَل بالمثل كبعض الطيور، فالوجُه اعتبارُ القيمة، وردُّها إلى الإطعام، ثم تقدير الصيام معدَّلاً بالطعام.

_ (1) في الأصل: التفصيل.

وإذا كان المتلف مقوَّماً، فالكفارة فيه ذاتُ ركنين: الطعام، والصيام، والرجوع إلى قيمة المتلف، فإنا عجزنا عن تقدير مثلٍ، حتى نفرض اعتبار قيمته. 2805 - فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن كان المحرم الجاني يُخرج الجزاء حيواناً، فمحله الحرم، كما تقدم. ولا شك أنا لا نشترط فيه صفاتِ الضحايا؛ فإنا (1) إذا كنا نوجب في الصغار صغاراً، وفي المعيبة ما يضاهيها، فلا نلتزم والحالة هذه صفاتِ الضحايا، والشاة لا تجزئ في الضحايا عن شخصين، ولا يتبعض في القرابين غيرُ البُدنِ والبقرِ. وإذا أوجبنا في انجناية على الصيد جزءاً من الحيوان، فسيُخرج الملتزمُ عشرَ شاة، وسبب ذلك كلِّه اتباعُنا المثليةَ، والأشباه الخِلقية. ثم لا يكفي التصدق بالحيوانات المخرجة جزاءً، بل لابد من الذبح. وهذا إذا ضم إلى سقوط اعتبار صفات الضحايا، كان بدْعاً. والأمر كذلك، فالعَنَاق والحُلاّن مذبوحان ذبحَ الكبار، على صفات الهدايا. وإن أراد المحرم العدولَ إلى الطعام، فالاعتبار بقيمة مكة في المثل؛ فإن المثل لو أخرج، لكان مستحقاً لهم، فالاعتبار عند العدول بقيمة تلك البقعة. وإن كان الصيد متقوماً في نفسه، لا جزاء له من الحيوانات، فقد قال العراقيون: الاعتبار في قيمته بمكان الإتلاف، نظراً إلى كل متلَف مقوَّم، ثم القيَمة تصرف إلى الطعام، وبعدَه تعديلُ الصيام. وقالوا: ذهب بعض أصحابنا إلى أنا نعتبر قيمة المتلف بسعر مكة، وزعموا أن الصحيح الأول. وقد قطع المراوزة بأن الاعتبار بقيمة مكة في الصيد المقوّم، ثم كلام العراقيين متردد في التفريع، على ما رواه ظاهر المذهب، فيحتمل عندهم بعد ما عرف مقدار القيمة، نظراً إلى مكان الإتلاف، أن نعتبر سعر الطعام في ذلك المكان أيضاًً، ويحتمل أن يقال: إذا ضبطت القيمة بمكان الإتلاف، فالمعتبر في صرفها إلى الطعام سعرُ مكة. وهذا هو الظاهر من كلامهم فيما أظن.

_ (1) ساقطة من (ط).

فصل 2806 - المحرم إذا قتل صيداً، فقد اختلف قول الشافعي في أن الصيد الذي ذبحه في مذبحه، أو أثبته بسهم في شروده مَيتةٌ أمْ لا؟ فله قولان: أحدهما - أنه ميتة، وهو مذهب أبي حنيفة (1). وفائدة ذلك تحريمه على الناس كافة في حال الاختيار، وإلحاقه بالميتات. والقول الثاني - أنه ليس بميتة، ولغير الذابح استحلاله. التوجيه: من قال: إنه ميتة، قال: لأنه ممنوع من هذا الذبح لمعنىً فيه، فأشبه المجوسي، والمرتدَّ. ومن قال: ليست ذبيحتُه ميتةً، قال: إنه من أهل الذبح على الجملة، يعني البهائم، ولكن حالَ مالكُ الأعيان بينه وبين الذبح، حَجْراً عليه، كما حجر الشرع على الإنسان ذبح شاةَ الغير. فإن قلنا: الصيد الذي ذبحه ميتة، فلا كلام، فليجتنبْها المحرم والمُحِل. وإن قلنا: ذبيحته ليست بمَيْتة، فهي حلال للحرام (2 والحلالِ، إلا أنها محرّمة على المُحرِم الذابح وفاقاً. 2807 - ثم يتبين الغرض بتفريعٍ فنقول: إن كان 2) الصيد مباحاً غيرَ مملوك، فإن قَضَيْنا بكونه ميتةً، فلا كلام، وإن خصصنا التحريم بالذابح، فلو تحلل عن إحرامه، فالمذهب الذي قطع به المراوزة أن التحريم لا يزول بزوال الإحرام. وحكى العراقيون سوى ذلك وجهاً آخر: أن التحريم يزول بزوال الإحرام، ثم إنهم زيّفوه. فهذا إذا كان الصيد مباحاً. 2808 - فأما إذا كان الصيد مملوكاً، فإن قضينا بأنه يصير ميتة، فالمحرم يضمن قيمته لمالكه، ويلتزم تمام الجزاء، كما يلتزمه في الصيد المباح. وقد ذكرنا أنه لا فرق بين المملوك وبين المباح في الصيد، ولا فرق بين الآنس منه والمتوحش.

_ (1) ر. المبسوط: 4/ 85، اللباب: 1/ 216، الاختيار: 1/ 168. (2) ما بين القوسين أصابه البلل من (ك).

وإن قلنا: ذبيحة المحرم ليست ميتة، فعلى المحرم في الصيد المملوك الجزاء لله تعالى، وما ينقصه الذبح للآدمي. 2809 - ثم كما يحرُم على المحرم أن يأكل من الصيد الذي ذبحه، فكذلك يحرم عليه الأكل من كل صيد دلَّ عليه، أو أعان الصائد بوجه على اصطياده. وكذلك لو صاد صائد حلالٌ الصيدَ للمحرم، من غير أمره وإذنه. والمتبع في ذلك الأخبار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطائفةٍ من المحرمين: " لحمُ الصيد حلالٌ لكم، ما لم تصطادوه، أو يصاد لكم " (1). واصطاد أبو قتادة، وهو حلال، فقدم الصيدَ إلى محرمين، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: " ما ترى، فقال: هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا: لا فقال: طعامٌ أطعمكم الله " (2). وأهدي إلى عثمانَ لحمُ صيدٍ، وهو محرم، فقال لأصحابه: " كلوا؛ فإنه ما صيد لكم " (3)، ولم يأكل (4). ولا نظن بعثمان رضي الله عنه أن يأمر بالاصطياد، ثم يمتنع عن أكله، فدلت القصة على أن الصائد، كان اصطاد من غير مراجعته.

_ (1) حديث: لحم الصيد حلال لكم. رواه الشافعي، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث جابر (ر. ترتيب المسند: 1/ 322، أبو داود: المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، ح 1851، الترمذي: الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، ح 846، النسائي: المناسك، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، ح 2827، التلخيص: 2/ 525 ح 1097). (2) خبر صيد أبي قتادة. متفق عليه، وله عندهما ألفاظ كثيرة، واللفظ الذي ذكره الإمام (هل أشرتم ... ) عند مسلم دون البخاري (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكله، ح 1821، مسلم: الحج، باب تحريم الصيد للمحرم، ح 1196). (3) خبر عثمان رضي الله عنه. رواه عبد الرزاق، والبيهقي (ر. مصنف عبد الرزاق: 4/ 433، ح 8345، 8346، 8347، البيهقي في الكبرى: 5/ 191، والصغرى: 2/ 165 ح 1583). (4) لأنه صيد من أجله، كما جاء في تفصيل الخبر.

2810 - فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن قتل المحرم صيداً، والتزم جزاءه بالقتل، فلو أكل منه، كان الأكل حراماً، ولا يلزمه بسبب الأكل جزاءٌ آخر، بل يُكتفى بجزاء القتل. ولو كان دلّ على صيد أو صِيد له، وحرمنا الأكل عليه، فلو أكله، ففي وجوب الجزاء قولان: أصحهما - أن لا جزاء؛ فإن الجزاء في نص الكتاب يتعلق بالجناية على الصيد. والقول الثاني - يجب الجزاء؛ فإنا لم نوجب على من قتل صيداً، والتزم جزاءه بسبب أكله جزاءً جديداً؛ لأن ضمان القتل كافٍ، ولم يوجد في الأكل من الصيد المدلول عليه جزاءٌ يلتزمه المحرم، بسببٍ غير الأكل، فجاز أن يتعلق الضمان بالآكل، كما يتعلق بقتل (1) الصيد المُزْمَن الذي لا حراك به. وإذا قتل المُحل [أو] (2) المحرمُ صيداً حرمياً، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من خرّج القولين في أنه إذا ذبح، فهو ميتة أم لا؟ ومنهم من قطع القول بأنه ميتة؛ لأن المانع في الصيد لا في الذابح (3)، فكأنه ملتحق بما لا يحل أكله، مادام متحصِّناً بالحرم. فصل جامعٌ في ملك المحرم في الصيد، دواماً، وابتداء، وما يتعلق به 2811 - فنقول: أولاً - إذا اصطاد المحرم صيداً، فقد جنى على إحرامه، ولم يملكه وإن كان الاصطياد من أسباب الاكتساب. واختلف قول الشافعي في أنه (4 لو أحرم، وفي يده صيدٌ مملوك، فهل 4) يلزمه رفْعُ اليد عنه أم لا؟ فقال في أحد القولين: لا يلزمه إرساله، بل يديم اليدَ عليه، وهذا كما أنه لا ينكِح ابتداء، ولكن النكاح الذي [كان] (5) قبل الإحرام، فهو

_ (1) (ط): بأكل. (2) في الأصل: و. (3) (ط): الذبح. (4) ما بين القوسين ذهب به بللٌ من نسخة (ك). (5) ساقط من (ك).

مستدام، لا يؤثر الإحرام في قطعه، وإنما المحرّم على المحرم الاصطيادُ، وقد شهد لذلك أن الأوّلين كانوا يُحرمون، وفي أقفاصهم في منازلهم الطيورُ، فلا يتعرضون لتقديم إرسالها، أو الأمر بذلك بعد الإحرام. فإن قلنا: اليد مستدامة فالملك دائمٌ، ولو تلف ذلك الصيد تحت يده، لم يضمنه، ولكن ليس له قتله؛ فإنه كما ثبت على قطعٍ المنعُ من الاصطياد، ثبت أيضاً قطعاً المنع من قتل الصيد في الإحرام، فلو قتله، فداه، ولزمه جزاؤه. وإن قلنا: يجب إرساله، فهل يزول ملكه؟ فعلى قولين: أحدهما - يزول. والثاني - لا يزول. ثم اختلف الأصحاب في [ابتداء] (1) التاريخ، فمنهم من قال: يزول بنفس الإحرام، ويلتحق الصيد في يده بالمباحات. ومنهم من قال: الإحرام يوجب عليه الإرسالَ، ثم إذا أرسل، زال ملكه. ومن قال: الإحرام لا يتضمن زوال الملك، فالملك مستدام مادامت يده ثابتة (2) على العدوان، فإذا ارتسم ما أمرناه به، وأرسله، فهل يزول الملك الآن؟ بنى شيخي هذا على وجهين لأصحابنا في أن من فتح باب قفص لطائرٍ، وحل الرباط عنه -وهو حلال- وحرره، فهل يزول الملك عنه؟ فيه اختلاف سيأتي [في موضعه] (3) إن شاء الله تعالى. فإذا أوجبنا الإرسالَ جرى في زوال الملك ما [ذكرناه] (4)، وقطع غيره من الأئمة بأن الملك لا يزول إلا أن يقصد التحرير، (5 فيخرج على الوجهين على أن الأصح أن التحرير 5) لا يتضمن إزالة الملك.

_ (1) في الأصل: في بناء التاريخ. والمثبت تقدير منا، و (ط): اختلف أصحابنا في التاريخ، وفي (ك): اختلف في التاريخ. (2) (ط) سقط منها: " على العدوان ". (3) ساقط من الأصل. (4) في الأصل: قطعناه. (5) ما بين القوسين سقط من (ك).

2812 - ومما يتعلق بالفصل أن المحرم لو اشترى صيداً، فهل يملكه؟ وهل يصح شراؤه؟ فعلى قولين منصوصين قَرِيبَي المأخذ، من شراء الكافر عبداً مسلماً. ولا شك أن القولين يتفرّعان على أن الإحرام لا يقطع دوام الملك، فإنا إذا كنا نحكم بأن الإحرام يقطع الدوام، فلا شك [أنه] (1) يمنع الجَلْب على سبيل الابتداء. وسنذكر في كتاب البيع أنا وإن لم نصحح شراء الكافر العبدَ المسلمَ، نحكم بأنه لا يُمنع ثبوتُ الملك له من جهة الإرث في العبد المسلم. وكان شيخي يقطع بمثل هذا في الصيد، ويقول: يرث المحرم (2) الصيدَ قولاً واحداًً. وفي شرائه إياه قولان. وهكذا ذكره الصيدلاني. وقال العراقيون: إذا قلنا: الإحرام يقطع دوامَ الملك، ففي الإرث وجهان: أحدهما - أنه لا يفيد الملك؛ فإن الإرث مشبه بأستمرار الملك على الدوام، فإذا كان الإحرام ينافي الدوام، فكذلك ينافي الملك [المستجد] (3) والمشبه بالدوام. والوجه الثاني - أن الملك يحصل بالإرث، ويزول؛ فإنا نضطر إلى الجريان على قياس التوريث، فليجر (4) ذلك الحكم، ثم نحكم بعده بالزوال. ولم يختلف أحد من العلماء في أن المحرم لا يملك بالاصطياد أصلاً؛ فإنه المحرّم المقصود بنهي الشارع، فلا يفيد الملكَ. 2813 - ومما يتفرع على هذا الأصل أنا إذا أوجبنا على المحرم إرسال صيده، ورفعَ اليد عنه، فلو أدامها، ودام الصيدُ، حتى تحلّل المحرم، فالأمر بالإرسال (5 قائم بعد التحلل عن الإحرام. ولكن لو قتله وهو محرم، ضمنه، ولو قتله بعد التحلل، فالمذهب أنه يضمنه؛ فإن الضمان والأمرَ بالإرسال 5) مقترنان، والمتحلل

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (ك): المسلم. (3) في الأصل: المتجدد. (4) في (ط): فليخرج، (ك): فلنجرّد. (5) ما بين القوسين سقط من (ك).

في الصيد كالمتمسك بالإحرام. وحكى العراقيون وجهاً بعيداً أن الضمان لا يجب، وهذا مزيّف مع القطع بوجوب الإرسال. فهذا ما أردنا أن نبينه في ملك المحرم الصيدَ دواماً وابتداء. فرع: 2814 - إذا قلنا: للمحرم أن يشتري الصيدَ، ولو اشتراه ملكه، فله أن يبيعه أيضاًً (1 وإن منعناه من الشراء، ولم نصححه منه، نمنعه من 1) البيع أيضاً. وليس هذا (2) كتصرف الكافر في العبد المسلم، فإنا وإن منعناه من شرائه، لا نمنعه من بيعه من مسلم؛ والسبب فيه أن بيعه من المسلم يُزيل مادّة الاعتراض. وإذا امتنع عن بيع عبده الذي أسلم في يده، فإنّا نبيعه عليه من مسلم، فإذا فعل مانفعله، نفذ. والمقصود في الصيد الإرسال ورفعُ اليد عنه، والمحرم ببيعه يورّطه في التقييد والضبط، فكان البيعُ في معنى الشراء. ولا شك أن كل ذلك يتفرع على أن الإحرام لا ينافي الملك في الصيد. 2815 - ثم قال الأئمة: إذا باع المحرم صيداً أمرناه بإطلاقه، فإرساله مستحَق على المشتري، فإن استبعد الفقيه ذلك، فهو بمثابة تصحيحنا من المشتري شراءه، مع أمرنا إياه بالإرسال. ثم إذا أرسله المشتري بعدما قبضه، اتصل هذا بالتفريع في أن من اشترى عبداً مرتداً، وقبضه، ثم قُتل فىِ يده بردّته، فهو في [ضمانِ من؟] (3) وفيه اختلاف. ولعل الأوجهَ القطعُ هاهنا بأن إرساله من ضمان البائع وجهاً واحداًً؛ فإنا قد نقول في المرتد إذا قتل: إنه قتل لردةٍ حالّة، والخطَرَات تتجدد، حالاً على حال. والسبب الذي نيط به وجوب الإرسال دائم، لا تجدد فيه. ثم قال الأصحاب: لو تلف الصيد في يد المشتري، أو في يد من اشترى منه، وهكذا، كيف تناسخت الأيدي، فالضمان يجب على المحرم؛ فإنه المتسبب إلى إثبات هذه الأيدي. والسبب فيما يُضمن في اقتضاء الضمان كالمباشرة.

_ (1) ما بين القوسين ذهب به بلل من (ك). وعبارة الأصل فيها سقط: هكذا: " فله أن يبيعه، وليس هذا كتصرف الكافر .... ". (2) ساقطة من (ط). (3) ساقط من الأصل.

فرع: 2816 - إذا قلنا: يجب على المحرم رفعُ اليد عن الصيد الذي كان في يده قبل الإحرام، فليسْع في ذلك، وأجمع الأئمة أنه لا يجب تقديم السعي على الإحرام، حتى نقول: [ليحزِرْ] (1) الوقتَ الذي يوافي الأمرُ بالإرسال فيه أهلَه، ولْيقدِّر الإحرامَ بعده، بل يبتدئ ذلك بعد الإحرام، فلو لم يقصر ولم يؤخر، ولكن اتفق موت ذلك [الصيد] (2) الذي هو تحت حكم يده، قبل اتصال الأمر بإرساله، فالمذهب وجوب الضمان. ومن أصحابنا من لم يضمّنه إذا لم يقصر. فرع: 2817 - المحرم إذا نفّر صيداً، فتطلّق (3)، فهذا سبب منه قد يجر عليه ضماناً، فلو تطلق الصيد بتنفيره، ثم تعثر، وتكسر، وهلك، وجب الضمان. وقال الأئمة: المحرَّم المنَفَّر في عهدة تنفيره إلى أن يسكن الصيد، ويعود إلى ما كان عليه. فلو هلك الصيد في نفاره لا بسبب النفار، ولكن بآفة سماوية، ففي الضمان وجهان: أحدهما - لا يجب؛ لأنه لم يهلك بسببٍ من المحرم، ولم يهلك أيضاًً تحت يده. ومن أصحابنا من جعل دوام آثار النِّفار كاليد المضمّنة، وهذا بعيد عن القياس، وإن كان مشهوراً في الحكاية. فرع: 2818 - إذا أرسل المحرم كلباً ضارياً بالاصطياد، فاصطاد، ضمن المحرم. وكذلك لو أرسل جارحةً من جوارح الطير، ولا يتوقف وجوب الضمان على الإغراء، بل يكفي رفعُ الرباط. ولو أغرى سبعاً بإنسان في متسع من الأرض، فسنذكر أنه إذا قتل السبعُ ذلك الإنسانَ، فلا ضمان على المغري. والفارق أن السباع لا [تضرَى] (4) بالناس ضراوتها بالصيود، حتى قال أصحابنا: لو فرضت الضراوة بالإنسان في بعض السباع، وجب الضمان.

_ (1) حزر الشيء: قدّره بالتخمين. من بابي ضرب، وقتل. وفي (ط): ليحرزه (ك) ليحرر، وفي الأصل: ليحرّز. (2) ساقطة من الأصل. (3) تطلّق: انطلق. (4) في الأصل: تغرى.

ولو أرسل جارحةً، ولا صيد بالحضرة، ثم بدا صيدٌ، فقد ذكر الأئمة وجوبَ الضمان. وترددوا فيه إذا انحل الرباط عنها، حيث ينتسب المحرم إلى التقصير في ضبطها. والمتبع في هذا الأصلِ أنا لا نقف وجوبَ الضمان على بلوغ الأمر مبلغاً يكون المحرم صائداً فيه؛ فإن الاصطياد لا يتم [إلا بالإغراء والإيساد .... ] (1)، وذلك ليس شرطاًً في الضمان، فرفع الرباط كاف، وفي التقصير ما ذكرناه من التردد. ولو أفلتت الجارحة من غير تقصير، فالأظهر أن لا ضمان إذا أخذت صيداً. فرع: 2819 - إذا كان بين رجلين صيد مشترك، فأحرم أحدهما دون الثاني، وقلنا: يجب على المحرم أن يرسل الصيد الذي كان تحت يده قبل الإحرام، فالإرسال غيرُ ممكن والصيد مشترك. فأقصى ما يتكلفه أن يرفع يد نفسه عنه، ولم يوجب الأصحاب عليه السعيَ في تحصيل الملك في نصيب الشريك، حتى إذا حصل أطلقه، ولكن ترددوا في أنه لو تلف هل يجب الضمان في حصته؛ من جهة أنه لم يتأت منه الوفاء بالإطلاق على ما ينبغي. فصل 2820 - لا يجوز التعرض لصيد الحرم: حرم مكة، وإذا أتلفه المتلف، ضمنه، وإن كان حلالاً. ثم الصيد الحرمي يُضمن بما يَضمن به المحرم، كما تقدم، وللصوم مدخل في جزاء صيد الحرم عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2). ومذهبنا أن سبيل صيد

_ (1) العبارة في نسخة الأصل هكذا: " الاصطياد يتم بالإغراء (وابساداً) " و (ك): " الاصطياد لا يتم إلا بالإغراء و (الاتساد) ". و (ط): " الاصطياد لا يتم إلا بالإغراء (أو يسار) ". وكلها فيها خلل، على تفاوتٍ في قدر هذا الخلل. والمثبت تصويبٌ منا للتصحيف الذي اعترى النسخ الثلاث، فقد تصحفت كلمة (الإيساد). وهي مصدر (آسَد) تقول: آسَدَ الصائدُ كلبَه بالصيد: إذا أغراه به وهيجه (المعجم). (2) الذي رأيناه في كتب الأحناف أنهم يفرقون بين المحرم والحلال في جزاء الصيد، فيجعلون للصوم مدخلاً عند جزاء المحرم دون الحلال. (ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 216 مسألة=

الحرم (1) كسبيل الصيد في حق المحرم، في كل تفصيل. ثم يثبت الحظر و [عهدته] (2) بسببين: أحدهما - بكون الصائد في الحرم، والآخر - بكون الصيد في الحرم. فلو رمى حلالٌ من الحِل صيداً في الحرم، ضمنه، وهذا ظاهر من جهة الصيد بالحرم، ولو وقف في الحرم ورمى صيداً في الحل، وجب الضمان، ولم يختلف الأئمة فيه، فالاصطياد في الحرم، كالاصطياد من الحرم. ولو رمى سهماً، وكان في الحل، والصيد في الحل، فخرق السهم في مروقه وممره هواءَ طرفٍ من الحرم، ثم أصاب صيداً في الحل، ففي وجوب الضمان وجهان؛ لمكان اتصال السهم بالحرم. ولو أرسل الحلال كلباً إلى صيدٍ في الحل، فلم يزل الصيد يروغ هارباً، حتى دخل الحرم، واتّبعه الكلب، فقد قال الأئمة: لا ضمان والحالة هذه، لأن موقفه وموقف الصيد كانا في الحل، ثم ما حدث من تحوّل الصيد إلى الحرم أمرٌ، لم يكن حالة وقوع [الفعل] (3)، والكلب حيوان ذو اختيار؛ فإذا دخل الحرم أضيف ذلك إليه. ولو علم أن الصيد إذا هرب، فلا ممر له إلاّ الحرم، فأرسل الكلبَ والحالةُ هذه، فدخل الصيد الحرمَ، وجرى الأمر كما ذكرناه، وجب الضمان. ولو كان الأمر كذلك، ولم يعلمه الصائد، فالأمر كذلك فيما يتعلق بالضمان، ولكنه لا يأثم. وأسباب الضمان في المتلفات لا تختلف بالعمد والخطأ. وقد ذكرنا أنا إن فرقنا بين الناسي والعامد في الطيب واللباس، فلا فرق في الإتلافات، وذكرنا فيه قولاً آخر، وقد وجدتُ قولاً محكيّاً عن حَرْملة، عن الشافعي: أنا نعذر متلف الصيد بما نعذر به المتطيّب. وهذا فيما أظنه في حق المحرم.

_ =685، الأصل: 2/ 367، مختصر الطحاوي: 70، 71، المبسوط: 4/ 84، 97، البدائع: 2/ 207، البحر: 3/ 31، 40، حاشية ابن عابدين: 2/ 220، اللباب: 1/ 212، 217). (1) عبارة الأصل: أن سبيل الصيد كسبيل الصيد. (2) في الأصل: وعدته. (3) سقطت من الأصل.

فأما الصيد الحرميّ، فيجب القطع فيه بوجوب الضمان، فإنه ليس يضمن لعبادة، حتى يُقضَى بأن النسيان (1 يؤثر فيها، فليُضمن الصيد الحرمي ضمان أموال الناس، في الغصوب والعواري 1). 2821 - ونص الشافعي على مسألتين، فقال: لو اصطاد الحلال حمامة في الحل، وكان لها فرخٌ في الحرم، فضاع الفرخ بهذا السبب، وجب الضمان، وهو في حكم الرمي من الحل إلى الحرم. وقال: لو أخذ حمامةً في الحرم، ولها فرخ في الحل، ضمن الحمامة وفرخَها: أما الحمامة، فمأخوذة في الحرم، وأما ضمان الفرخ، فسببه يضاهي الرمي من الحرم إلى الحل. ولو نفّر صيداً حرمياً، فقد تعرض للعهدة، فلو استمر النفار، حتى خرج من الحرم، وتكسر في الحل، وجب الضمان، بلا خلاف. ثم قال الأئمة: يدومُ التعرض للعُهدة، حتى يسكن نِفاره، كما قدمناه في حق المحرم. قال الصيدلانيّ: حتى يعود إلى الحرم. وهذا أراه زلّة؛ فليس عليه أن يسعى في ردّه إلى الحرم، ولا يتعرض بسبب خروجه للضمان. ولو قتل المحرم صيداً حرمياً، لم يتضعّف الضمان، وإن تعدد سببه. ولو أدخل الحرمَ صيداً مملوكاً، لم يتحرم الصيد بالحرم، وكان حكمه في حق مالكه حكمَ بهيمةٍ من النّعم، خلافاً لأبي حنيفة (2). والإحرام في هذه الخصلة آكد من الحرم، (4 فإن طريانَ الإحرام على الصيد المملوك يقْصُِر (3) يدَ المالك عنه، والكلام في وجوب الإرسال، وزوال الملك 4) في الحرم (5) لا يؤثر عندنا كما ذكرنا. فهذا قولنا في صيد الحرم.

_ (1) ما بين القوسين مما ذهب به البلل في (ك). (2) ر. المبسوط: 4/ 98، البدائع: 2/ 206، حاشية ابن عابدين: 2/ 220. (3) من باب قتل، وضرب. (4) ما بين القوسين ساقط من (ك). (5) " في الحرم " سقط من (ط).

2822 - فأما أشجارها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح: " لا يُعْضَدُ شجرُها، ولا ينفّر صيدُها، ولا يختلى خلاها، ولا تحِل لقطتُها، إلا لمنشد " (1)، فلم يختلف علماؤنا في أن الأشجار الحَرَمية، كما سنصفها يحرمُ عضدُها والتعرضُ لها، بما ينقُصُها. ثم ظاهر المذهب أن الأشجار الحرمية إذا عُضِدَت ضُمنت. 2823 - والكلام في فصولٍ: أحدها - في صفات الأشجار المضمونة. فالذي رأيت طرق الأصحاب عليه أن المضمون هي الأشجار البريّة، التي تنبت [بأنفسها] (2) من غير قصد آدمي، فأما الأشجار المثمرة التي ينبتها الناس، فلا ضمان فيها، والبرّيات مشبهة بالصيود، والأشجار المستنبتة مشبهة بالنَّعم. ثم المثمرة منها كالنخيل والكروم وغيرها، وغير المثمرة: كالصنوبر، والعَرْعَرْ، والفِرْصاد (3) والخِلاف. والأشجار البرّية كالعوسج، والطَرفاء، والأراك، والعَضاة. ونحوها. ثم ما ذهب إليه الأصحاب أن الأشجار البرية إذا استنبتت، فهي مضمونة بجنسها، والأشجار التي تستنبت لو نبتت بأنفسها وفاقاً، لم تضمن لجنسها. وقال صاحب التلخيص: الاعتبار بالقصد، لا بالجنس، فما استنبت، لم يُضمن، وما نبت بنفسه، ضُمن، من غير نظر إلى الجنس. قال أئمتنا: لا خلاف أن من أدخل نواةً الحرم، أو قضيباً حِلِّياً وغرسه في الحرم، فَعَلِق وبَسَق، لم يصر شجرةً حرمية، (4 وسبيلها سبيلُ الصيد المملوك يدخل الحرم. ولو أخرج قضيباً حرمياً من الحرم، وغرسه في الحل، فهو شجرةٌ حرمية 4) نظراً إلى أصلها. وهذا فيه تردد عندي ظاهر.

_ (1) حديث: " لا يعضد شجرها " متفق عليه (ر. البخاري: الجنائز، باب الإذخر والحشيش في القبر، ح 1349، وأطرافه كثيرة، مسلم: الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها، ح 1355،1353). (2) ساقطة من الأصل. (3) الفِرصاد في لسان الفقهاء: الشجر الذي يحمل التوت. (المصباح). (4) ما بين القوسين ساقط من (ك).

وابن القاص (1) إذا كان يعتبر (2) القصدَ، فلا يثبت الحرمة لهذه الشجرة في الحرم؛ من جهة تعلق القصد بها، فما الظن إذا غرست في الحل؟ (3 فهذا قولنا في أجناس الأشجار 3). 2824 - ثم قال الشافعي: في الدوحة الكبيرة الحرمية بقرةٌ، وفي التي تقصر عنها شاةٌ. قال: قلته تقليداً لابن الزبير. وللشافعي قول في القديم مشهور: إن الأشجار الحرمية لا تُضمن أصلاً، وإنما يُضمن ذو روح، وليس في الأشجار إلا تحريمُ العضدِ، والتنقيصِ، كما ذكرناه. ثم إذا فرعنا على ظاهر المذهب، فالجريان على مذهب ابن الزبير، ففي الشجرة الكبيرة التي هي من أكبر أشجار الحرم بقرة، ولم يقع التعرض للبدَنة، ولكنا لا نشك أن البدنة في معنى البقرة. وأما إيجاب الشاة، فليس في الشجرة الصغيرة، التي فيها الشاة ضبط يُهتدى إليه. ولعل أقربَ قولٍ فيه أن تكون قريبةً من جنس الكبار، والشاةُ من البقرة سُبعها، فليَعتبر المعتبر هذا التقريب، بين الدوحة، وبين شجرة الشاة. وإن كانت صغيرةً جداً، فالقيمةُ مصروفةٌ إلى الطعام. ثم الصيامُ معدَّل بالطعام، كما ذكرناه في الصيد. وكما لا تعضد أشجار الحرم لا يختلى خلاها. وحشيشها مضمون بالقيمة، إذا اختليت، كما ذكرناه في الأشجار الصغار. 2825 - وأما البهائم، فإنها ترسل حتى ترعى من رعْي الحرم وكلئه. وقال بعضُ علمائنا: سبب المنع من الاحتشاش والاختلاء توفير المراعي للبهائم والصيود الراتعة، واختلف أصحابنا في أن من اختلى واحتش ليعلف بهائمه، فهل يحرم ذلك؟ فمنهم من قال: لا تحريم، ولا ضمان، وإنما يحرم الاختلاء للبيع، وغيره من الأغراض، سوى العلف.

_ (1) هو صاحب التلخيص، الذي يناقَش قولُه الآن. (2) (ط): لا يعتبر. (3) ساقط من (ك) ومن الأصل.

ومن أئمتنا من حرم الاختلاء مطلقاً؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يختلى خلاها " والوجهان ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص. ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى الإذخر من حشيش الحرم، وجوّز قطعَه، والحديث فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يختلى خلاها " قال العباس: إلا الإذخر، فإنها لقبورنا، وبيوتنا، وقُيُوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر (1). فلو مست الحاجة إلى شيء من كلأ الحرم في دواء. فهل يجوز قطعه؛ تشبيهاً بالإذخر؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص. 2826 - ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن قطع أشجار [حرم] (2) المدينة، والاصطياد فيه، وقال: " حرمت ما بين لابتيها " (3) فيحرم التعرض لصيد المدينة، وشجرها، ثم إذا وقع التعرض، فمن أصحابنا من قال: لا ضمان أصلاً، وإنما الفاعل عاصٍ. ومنهم من قال: يجب الضمان. ثم قد ورد أن من تعرض للصيد سُلبت ثيابه، ثم ما حكم سَلَبه؟ اختلف أصحابنا على ثلاثة أوجه: منهم من قال: هو للسالب، لما روي أن سعداً رضي الله عنه سلب ثيابَ إنسان، اصطاد في حرم المدينة، فبعث إليه الوالي في ردّه، فقال: " ما كنت لأرد شيئاً نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4).

_ (1) حديث: "إلا الإذخر" متفق عليه وسبق تخريجه. (2) ساقطة من الأصل. (3) حديث: " حرمت ما بين لابتيها " متفق عليه من حديث أبي هريرة، ومسلم من حديث سعد، وجابر، ورافع بن خديج (ر. البخاري: فضائل المدينة، باب حرم المدينة، ح 1869، مسلم: الحج، باب فضل المدينة، ح 1361، 1362، 1363، 1372). (4) حديث سلب سعد ثياب من اصطاد في المدينة. رواه مسلم، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي (ر. مسلم: الحج، باب فضل المدينة، ح 1364، أبو داود: المناسك، باب في تحريم المدينة، ح 2037، مستدرك الحاكم: 1/ 486، البيهقي: 5/ 199، التلخيص: 2/ 532 ح 1104).

ومن أصحابنا من قال: هو موضوع في بيت المال، وسبيله سبيل السهم المُرْصَدِ للمصالح. وذكر العراقيون وجهاً آخر: أنه يفرق السلب على محاويج المدينة، قاطنين كانوا أو عابرين، على قياس جزاء صيدِ الحرم. وذكر بعض أصحابنا أن الواجب في صيد المدينةِ، وشجرِها، كالواجب في حرم مكة. 2827 - ومما يتعلق بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيد وَجّ الطائف، وعضَدِ شجرِها، والتعرض لكلئها. قال صاحب التلخيص: من فعل شيئاً من ذلك أدبه الحاكم، ولم يلزمه شيء، قلته تخريجاً (1). قال الشيخ (2): التحريم في وَج متردد، فلعله كراهية، فإن ثبت التحريم، فالضمان محتمل، ثم سبيله إن ثبت الضمان، كسبيل المدينة. (3 والذي اشتهر من قول الأصحاب نفيُ الضمان؛ فإن إثباتَه من غير ثَبَتٍ بعيدٌ، وهذا هو الذي قطع به الأئمة في الطرق 3) وإنما ترددوا في التحريم، والكراهية. 2828 - ثم قال ابن القاص: والنَّقيع (4) حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقصد تحريمَ صيده، ولكن قصد منعَ كلئه من غير الجهات التي عيّنها. وقيل: كان حماه للصدقات. ثم قال: ومن تعرض لحشيش النقيع فهل يضمنه؟ فيه وجهان:

_ (1) ر. التلخيص لابن القاص: 276. (2) الشيخ: هو أبو علي السنجي شارح التلخيص، وليس ابن القاص كما قد يتوهّم. (3) ما بين القوسين سقط من (ك). (4) في (ك): البقيع، وكذا في التلخيص لابن القاصّ، وهو وهمٌ، فقد ظن ناسخ (ك)، ومن ادعى تحقيق التلخيص، ظنّا أن المراد هو البقيع المشهور، مقبرة أهل المدينة منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور معروف، ومعروف أيضاً أنه ليس به عشب ولا كلأ، فكيف يُحمى؟ ولكن المقصود هنا هو (النقيع) وهو موضع كثير العشب والكلأ على مسافة عشرين فرسخاً من المدينة، حماه الرسول صلى الله عليه وسلم لإبل الصدقة، ومن بعده عمر بن الخطاب. وهو بالنون المشددة المفتوحة (هذا الصواب في ضبطه). انظر معجم البلدان لياقوت: مادة (ن ق ي ع).

أظهرهما الضمان. ثم يضمن (1 بالقيمة، ولا سَلَبَ، كما تقدم في المدينة، ومنهم من قال: لا ضمان أصلاً. وأشجار النقيع هل تحرم كما 1) يحرم الحشيش، فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - أنه لا يحرم كما لا يحرم الصيد؛ فإن النقيع إنما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان كلئه وحشيشه. فرع: 2829 - إذا أبحنا السَّلَبَ في حرم المدينة، فالمعني بالسَّلَب الثيابُ، ولا ينحو بهذا نحو سلب القتيل في الجهاد. ولو كان مع المسلوب شيء، من جنس الحلي فهل هو من جملة ما يسلب؟ اختلف أصحابنا فيه. ثم إذا كان يسلب فما عندي أنه يُفْصل بين صيد وصيد، وشجر وشجر، وكأن السلب في حكم المعاقبة للمتعاطي. وغالب ظني أن الذي يهمّ بالصيد لا يسلب حتى يصطاد، ولست أدري أيسلب إذا أرسل الصيدَ، أم ذلك إذا أُتلف؟ كل ذلك محتمل، ولا ثبَت معنا في توقيفٍ، ولا قياس. ...

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ك).

باب جزاء الطائر

باب جزاء الطائر (1) 2830 - أوجب طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في الحمامة في حق المحرم، والحمامةِ الحرميّة شاةً، روي ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ عباس، وابنِ عمرَ، وغيرِهم (2). ثم الطيور تنقسم -بعد الحمام- إلى قسمين: قسم هو أصغر من الحمام، كالعصفور وغيرِه، فالواجب قيمتُه مصروفةً إلى الطعام. والقسم الثاني - ما [هو] (3) مثلُ الحمام في الجثة، أو أكبرُ منه، ففيه قولان: أحدهما - أن الواجب شاةٌ كالحمامة. والثاني - أن الواجب القيمة، كما ذكرناه في العصافير، وغيرِها؛ فإنّ إيجاب الشاة لا يُحمل إلاّ على الاتباع الذي لا مجال للقياس فيه، ثم الحمام صغار وكبار، فكل ما عبّ وهَدَرَ، فهو حمام، منها: اليمام، والفواخت، والقُمريّ، والدُّبْسي والقطا، وغيرُها. والجرادُ تعتبر قيمته، وهو ملحق بصغار ما يطير، وروي أن عمر سأل كعبَ بنَ عُجْرة عن جرادةٍ قتلها: ما جعلتَ في نفسك قال: درهم. فقال عمر: " بخٍ درهمٌ خيرٌ من مائة جرادة " (4)، وروي عن عمرَ أنه قال: " في جرادة تمرةٌ " (5). وقال ابن

_ (1) ك: الصيد. (2) انظر تلك الروايات في الأم: 2/ 195، والكبرى للبيهقي: 5/ 205، 206، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 543، 544. (3) ساقطة من الأصل. (4) أثر عمر رضي الله عنه عندما سأل كعبَ بن عجرة، رواه الشافعي في الأم وفيه (درهمان) بدلاً من (درهم). (ر. الأم: 2/ 196، 197، التلخيص: 2/ 545). (5) أثر عمر: " في جرادة تمرة ". رواه مالك وعبد الرزاق والبيهقي (ر. الموطأ: 1/ 416 ح 236، مصنف عبد الرزاق: 4/ 410 ح 8246، البيهقي: 5/ 182).

عباس: " تصدق بقبضةِ طعامٍ، إذا أخذتَ قبضةً من جرادات " (1). وقد روي خبر يدل على إسقاط الضمان في الجراد، قال أبو هريرة: " كلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبلنا سرب من الجراد، فكنا نضربه بالسوط، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو من صيد البحر " (2) وهذا دليل على أنه لا يُضمن. ولكن لم يصر إلى ظاهر هذا الحديث أحد من أصحابنا. ولو طمّ الجرادُ المسالكَ، واضطررنا إلى وطئها، فما يتلَف منها هل يُضمن أم لا؟ فعلى وجهين وقد قدمنا ذكرَ هذا، ويمكن حملُ حديث أبي هريرةَ على الوجهين. والأشبه أنه صلى الله عليه وسلم كان يُجري في خلقة الجراد حديثاً، فأنبأهم أن أصل الجراد من صيد البحر، وقيل إنها من (3 خرء السمك. ولو صال 3) صيد على محرم، فدفعه، وأتى دفعُه عليه، فلا ضمان عليه أصلاً. فرع: 2831 - (5 المحرم إذا قصده لص على حمار وحش، ولم يتأت له دفعُ اللص إلا بقتل مركوبه، فهل يضمنه؟ ذكر القفال قولين: أحدهما - أن الغرامة تتوجه على اللص، ولا يطالَب بها المحرم. والثاني - أن الطَّلِبَة (4) تتوجه على المحرم 5) ثم إذا غرم يرجع بما غرم؛ فإن الحلال يبعد أن يغرَم صيداً ابتداء. وكذلك ذكر قولين في أن من ركب دابةً مغصوبة، وقصد إنساناً فقُتلت الدابةُ في ضرورة الدفع، فأحد القولين أن الغرامة تتوجه على راكب الدابة، ولا طَلِبَة على

_ (1) أثر ابن عباس: " تصدق بقبضةٍ من طعام ". رواه الشافعي بسند صحيح (ر. الأم: 2/ 196، 197، التلخيص: 2/ 545). (2) حديث أبي هريرة: " استقبلنا سرب من الجراد " رواه أبو داود: المناسك، باب الجراد للمحرم، ح 1854، والترمذي: الحج، باب ما جاء في صيد البحر للمحرم، ح 850، وابن ماجه: الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، ح 3222، والبيهقي: 5/ 207 (وضعفه)، وأحمد: (2/ 306، 364، 407) قال في الإرواء: ضعيف (4/ 220 ح 1031). (3) ما بين القوسين امحى من (ك). (4) الطَّلبة: وزان كلمة. (5) ما بين القوسين ذهب من أطراف (ك).

الدافع. والثاني - أن الطَّلِبَة تتوجه على الدافع أيضاً، ثم إذا غَرِم يرجع بما غَرِم، وبين ما ذكره في المحرم، وبين ما ذكره في الغاصب فرقٌ ظاهر في الحكم؛ فإن الحلال على أحد القولين لا يغرَم الصيدَ، ولكن يرجع المحرم عليه إذا غرم. وفي مسألة الغصب تتوجه الطَّلِبةُ على الغاصب قولاً واحداًً. وإنما الكلام في قرار الضمان كما سبق. فرع: 2832 - إذا نحّى المحرم من هوامّ رأسه شيئاً، فلا يلزمه شيء في ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: يلزمه؛ ولا محمل له إلا إزالة الشعث. ثم لا مقدار لما يخرجه. وكان شيخي يقول: أقل ما يسمى طعاماً، ولا يجب في إزالته من الثوب شيء، لما ذكرناه من معنى الشعث. فصل 2833 - إذا كسر المحرمُ بيضةً مأكولة، فلا يلتزم قيمتَها، فإن كانت مَذِرة، فاسدة، فلا قيمة لها، ولا ضمان. ولو كسر بيضةً للنعامة مذِرة، فلا شيء، ولو قدرت قيمة، فهي لنقشر، وليس ذلك مضموناً، كما لا يضمن الرّيش المنفصل من الطائر. وإن كان قد ظهر فرخٌ ذو روح، ضمنه بطريقه كما يُضمن الفرخ. ولو نفّر المحرم طائراً عن بيضه الذي كان يحضُنه، ففسد البيض، ضمن البيضَ بما ذكرناه. ***

باب ما للمحرم قتله

باب ما للمحرم قتله 2834 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس من الفواسق يُقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب، والحدأة، والعقرب، والكلب العقور " (1). ووردت الفأرة بدلاً من العقرب. أما القول فيما يُضمن، وفيما لا يُضمن، فقد مضى، وأوضحنا أن ما كان حراماً في جنسه، لم يضمن بالإحرام، ولا بالحرم، ومقصود هذا الباب بيان ما يجوز قتلُه، وما لا يجوز قتله. فأما المؤذيات، فهي مقتولة أين صودفت، ومنها السباع، وقال أبو حنيفة (2) لا يحل قتل الأسد والذئب والنَمِر ما [لم] (3) يَصُل، وعنده يجب الجزاء بقتله على المحرم. وأما ما لا يؤذي من الطيور المحرّمة، فمن أصحابنا من حرّم قتلها، فإن ذا الروح لا يقتل إلا لغرضٍ ظاهر أو (4) دفع أذى. ومن أصحابنا من لم يزد على الكراهية في قتلها. والحشرات المؤذية مقتولة، وما لا يؤذي منها، فلا تجريم، وأقصى ما يذكر فيها الكراهية. وكان شيخي يقول: لا كراهية في دفعها للتعذر، وإن أدى إلى هلاكها. والأمر في ذلك قريب.

_ (1) حديث: " خمس من الفواسق " متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح 1829، مسلم: الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، ح 1198، التلخيص: 2/ 523 ح 1093). (2) ر. المبسوط: 4/ 90، البدائع: 2/ 197، حاشية ابن عابدين: 2/ 219، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 121 مسألة: 595. (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: و.

2835 - وقد نجز في القول (1 الصيد. وأغفلنا 1) صورتين اختلفنا فيهما وأبو حنيفة: أحدهما - إذا اشترك جماعة في قتل صيد، فلا تلزم إلا (2 فدية واحدة مفضوضة عليهم 2) خلافاً لأبي حنيفة (3). والغالب عندنا في جزاء الصيد مَشَابِه (4) الغرامات (5 والدليل عليه أنه يجب في 5) بعض الصيد بعضُ الجزاء؛ اعتباراً بالقيمة والأبدال، (6 بخلاف الكفارات، ولو قتل جماعة رجلاً، وجب على كل واحد منهم كفارة. فإن الكفارة (6) لا تتبعض، ولا تتعلق بالأبعاض. 2835/م- المسألة الأخرى- عندنا لا يجب على القارن إذا قتل صيداً إلا دم واحد، خلافاً لأبي حنيفة (7). والخلاف جار بيننا في جميع المحظورات. ...

_ (1) ما بين القوسين سقط بسبب البلل من (ك). (2) ما بين القوسين مغسول من (ك). (3) ر. مختصر الطحاوي: 71، المبسوط: 4/ 81، رؤوس المسائل. مسألة 158، فتح القدير: 2/ 472. البدائع: 2/ 208، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 220 مسألة 689. (4) في (ط): مثابة. والمشابه: بفتح الميم جمع شَبه على غير قياس. (المعجم). (5) ما بين القوسين ذهب من أطراف (ك). (6) بياض في (ك). ما بين القوسين. (7) ر. مختصر الطحاوي: 71، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 220 مسألة: 689.

باب الإحصار

باب الإحصار 2836 - المحرم إذا صدّه العدوّ على ما سنصف الصدَّ، تحلل، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 196]. ومضمون الباب تحويه فصول: أولها - في السبب الذي يثبت التحللَ. فإذا اعترض للحجيج الأعداء، وصدوهم عن الكعبة، من جميع الجهات، فهذا هو الصدّ المتفق عليه، ثم إذا كان المانعون مسلمين، واقتدر الحجيج على [مكاوحتهم] (1)، فلا يلزمهم ذلك. وإذا كانوا لا يتخلصون إلا بقتالٍ، فهم مصدودون. وإن كانوا لا يتخلصون إلا ببذل مالٍ، فهم محصورون مصدودون. قال الشافعي: لو احتاج الحجيج إلى بذل درهم، وهو صاحب آلاف، وكان لا ينجلي الحصر إلا ببذل شيء، فلا يجب بذلُه، ويجوز التحلل. ولو كان الذين لقوا الحجيج مشركين، فقد قال بعض المصنفين: إذا كان المسلمون على الحد الذي لا يجوز الفرار معه، ولم يزد الكفار على الضعف، يجب مصادمة الكفار، ولا يجوز التحلل. وهذا كلام مختلط، وقد نص الأئمة في الطرق، على جواز التحلل، سواء كان

_ (1) في الأصل، (ك): مكافحتهم. والمكاوحة هي الأقرب، والمعهود في استعمال إمام الحرمين. ومعناها: المقاتلة والغلبة. فهي أبلغ من المقاتلة والمكافحة.

الأعداء مسلمين أو مشركين؛ فإن الحجيج لا يكونون على أُهَب القتال، في أغلب الأحوال، فلا يجب القتال لذلك، وقد لا يسوغ؛ إذا منعنا الاستقتال، كما سيأتي في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. فإن كان الحجيج متأهبين للقتال، وقد صدمهم الكفار، فلا فرار إذاً، إذا تجمعت الشرائط المعتبرة في تحريم الفرار. وإذا تعين الاشتغال بالقتال، فلا معنى للانصراف، ولا سبيل إلى التحلل إذا امتنع الانصراف. هذا التفصيل لا بد منه. ولو أحاط الأعداء بالحجيج من الجوانب، فهل يجوز التحلل والحالة هذه، فعلى قولين: أحدهما - لا يجوز، فإنهم لا يستفيدون بالتحلل أمراً، وإذا لم يكن من لُقيان العدوّ بدّ، فمصابرة الإحرام محتومة. والقول الثاني - يجوز التحلل؛ فإنهم ممنوعون عن صوب الكعبة، والحصر متعلق بالمنع منها، فإن فرضت محنة في جهة أخرى، فلا التفات إليها. 2837 - وأما المرض فليس من أسباب التحلل عند الشافعي. ولو أحرم المرء، وشرط أنه إذا مرض مرضاً ثقيلاً تحلل، ففي جواز التحلل عند المرض قولان: المنصوص عليه في الجديد أنه لا يجوز التحلل؛ فإن ما لا يفيد التحلل بنفسه، فيبعد أن يُفيد الشرط فيه (1 تحللاً، مع اختصاص الحج عن العبادات بمزيد التأكد 1)، والبعد عن التحلل. ونص في القديم على أنه (2 يجوز التحلل إذا جرى الشرط كذلك، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضُباعة [الهاشمية] (2)، لما ذكرت ما بها من سقم، ورامت التخلف عام حجة الوداع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهلي واشترطي أن مَحِلّي حيث حبستني " ويتجه حمل الحديث على أمرها بالإهلال،

_ (1) ما بين القوسين، مما ذهب من أطراف (ك). (2) في الأصول: الأسلمية. وهو وهم نبّه عليه النووي في " تهذيبه ": 2/ 376، وحديث ضباعة متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (اللؤلؤ والمرجان: ح 754).

وإعلامها أن مَحِلَّها حيث تتوفى، فكأنه قال لها: أهلي فإن حبسك أجلُك، فكل نفس تذوق الموت 1). ثم إذا جوزنا التحللَ عند المرض بسبب الشرط، فلو جرى هذا الشرطُ في سببٍ آخر، مثل أن يقول: إن ضللت الطريق، أو بلغني أمر مهم، واقتضى الحال تداركَه بالانصراف، تحللت، فالذي كان يقطع به شيخي أن الشرط لاغٍ، ولا يجوز التحلل، والقول القديم مختص بالمرض؛ فإن المتبع فيه الخبر، والأقيسة لا تجول في هذه المضايق. وقطع العراقيون أقوالهم: [إن الشرط في كل مُهِمٍّ يحل مَحَلَّ المرض الثقيل، يخرّج على القولين] (2) المذكورين في المرض. ولو قال الذي يُحرم: إذا مرضت، انحل إحرامي، فلم يشترط إنشاء التحلل، بل شرط الانحلال، والتفريع على القول القديم، فقد اختلف أئمتنا في ذلك، فمنهم من ألغى [هذا] (3) الشرط؛ فإنه ليس على مضاهاة التحلل الثابت عند الإحصار. والإحرامُ بالحج لا يقبل التأقيت. فإذا كان الحج لا يفسد، فليفسد الشرط، وليسقط أثره. ومن أصحابنا من قال: يثبت هذا الشرط كما شرط، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " واشترطي أن مَحِلِّي حيث حبستني " هذا مشعر في ظاهره بالانحلال، من غير إنشاء. 2838 - ومما يتعلق بذكر الأسباب أن الحصر إذا كان عامَّاً، فهو الذي يُثبت التحلل، وليس المعنيُّ بالعموم أن يعم الأقطار، وجميعَ الآتين من جميع الجهات، ولكن إذا تحقق الحصر في طائفةٍ ذوي عددٍ، فهذا حصرٌ (4) مثبت للتحلل وفاقاً. والحصر الخاص هو أن يتعرض ظالمٌ لواحد، أو لشرذمةٍ من جميع الحجيج،

_ (1) ما بين القوسين ذهب من أطراف (ك) للسبب نفسه. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (3) مزيدة من (ط)، (ك). (4) سقطت من (ك).

فيمنعهم، فإذا تُصوّر الحصر الخاص، فالذي ذكره الأئمة من المراوزة أن القول مختلِف في ثبوت حكم التحلل. وذكر العراقيون طريقة هي أمثل (1) من ذلك، فقالوا: كل حصر يُثبت التحللَ، خاصّاً كان أو عاماً. ولكن إن كان عاماً، سقط القضاء، وإن كان التحلل بسبب خاص، ففي سقوط القضاء قولان. فإن قيل: كيف يطّرد للمراوزة ذكر القولين في جواز التحلل، مع إجماع الأصحاب على أن العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه، فمنعه المولى، فله التحلل. وهذا حصرٌ خاص؟ قلنا: الانفصال من هذا ممكن، وهو أن العبد اقترن بإحرامه ما يسلّط المولى على حَلّه، وهذا المعنى لا يتحقق في منعٍ يطرأ من ظالمٍ على المحرم؛ فإن ذلك مسبوق بتأكد الإحرام، وليس [العام] (2) عام الصد، والآية نزلت في الصد على الحجيج. والأوجه طريقة العراقيين. 2839 - ومما يتعلق بهذا أن من جوز التحلل عند المرض إذا تقدم الشرط، ذكر وجهين في أن الدم هل يلزم عند التحلل؟ أحد الوجهين - يلزم كما يلزم المصدود بالعدوّ. والثاني - لا يلزم؛ فإنَّ تحلل المريض وفاءٌ بالشرط، فلا نوجب الدمَ، وتحلل المصدود بالعدوّ ليس مرتباً على حكم شرط، بل هو طارئ بعد لزوم الإحرام مطلقاً. فإن قيل: لو شرط المحرم أن يتحلل (3 عن صد العدو، فما القول 3) فيه؟ فهل يؤثر الشرط؟ قلنا: اختلف الأصحاب، فمنهم من قال: يُؤثِّر؛ حتى يُخرَّجَ لزوم الدم

_ (1) (ك): مثل. (2) في الأصل: للعلم. والمثبت من (ط)، (ك) وكأن في العبارة شيئاً؛ فالمعنى المقصود بالسياق: إن المحرم لم يكن يتوقع أنه سيلقى الصدّ. (3) ذهب ما بين القوسين من أطراف (ك). وفي الورقات الأربع الباقية من نسخة (ك) كثر فيها أثر البلل حتى وصل بالتدريج إلى ربع الصفحة تقريباً. ولذا لن نشير إلى ذلك، وسنحاول طبعاً الاستعانة بكل سطرٍ أو جملة يمكن قراءتها.

على أحد (1) الوجهين. ومنهم من قال: لا يؤثر؛ وهو الأصح، لأن ما ذكره بالشرط ثابت، فلا أثر للشرط. وإذا سقط أثره، لغا. فإذا لاح أسباب التحلل. فالفصل الثاني بعده وهو استفتاح [كلام] (2) وإتمام ما مضى. 2840 - فنتكلم في سقوط القضاء عن المحصر، ونذكر صورَ الوفاق والخلاف. فإذا أحرم الرجل، ولم يأت بنسك سوى الإحرام، فصُدّ على ما تُصوّر الصدّ، فإن تحلل، فلا قضاء. وإنما يظهر هذا إذا كان الحج تطوعاً، فإنه إن كان فرضاً، عاد إلى ما كان عليه قبل الشروع، ووضوح ذلك مغنٍ عن كشفه. ولو صُدّ عن طريقٍ، وأمكنه سلوك طريقٍ آخر على الشرط المرعي في الاستطاعة، وكان لا ييئس من إدراك الحج، فليس له التحلل، والحالة هذه؛ فإنه غير مصدود عن الكعبة، وإنما صدّ عن طريق، فإذا مال إلى الطريق الآخر، ولم يأل جهداً، ففاته الحج، والحجّ تطوّع، فقد تقدم أن من فاته الحج، يلزمه أن يلقَى البيتَ؛ فإن ذلك ممكن. ثم في وجوب القضاء قولان: أحدهما - يجب القضاء لمكان الفوات. والثاني - لا قضاء؛ فإنَّ سبب الفوات ما جرى من الصد عن الطريق القاصد. ولا شك أن هذه المسألةَ مفروضةٌ فيه إذا كان السبيلُ الذي مال إليه أطولَ وأشطَّ، أو أعسرَ وأشقَّ. وإذا كان الطريقان متساويين في كل معنى، فهذا فوات محض، ويجب القضاء فيه لا محالة. ولو وقف الحاج بعرفة، فصدّ عن البيت، فله التحلل، ولا نقول له: صابر؛ فإن ما بعد الوقوف لا يفوت.

_ (1) سقطت من (ط). (2) في الأصل: كلامه.

فإذا تحلل، ذكر صاحب التقريب قولين في وجوب القضاء، وإن لم يتحقق فواتٌ. وقطع العراقيون بأن القضاء لا يجب. والذي راعاه صاحب التقريب في طرد القولين، وتمييز صور القطع، أن قال: إذا لم يجر قبل الحصر إلا الإحرام المحض، ثم تحلل المحصر، فلا قضاء، وإن جرى مع الإحرام نسك، ثم فرض الصدّ والتحلل، ففي القضاء قولان. وقال العراقيون: المصدود عن البيت إذا تحلل بعذر الإحصار، لم يقضِ قولاً واحداًً. ومن قدر على لُقيان البيت، وصُدَّ عن عرفة، ولم يُتمّ -لأجل الصد- حجَّه، ففي القضاء قولان. والواقف بعرفة إذا صُدّ عن البيت ممنوع عن لقاء البيت، فإذا تحلل، لم يلزمه [القضاء] (1) لكونه مصدوداً. 2841 - ولا يحصل عندي شفاء الصدر بهذا. والوجه أن نقول: الفوات في وضعه يوجب القضاء، والإحصار لا يوجب. فإذا تجرد الفوات، ولم يكن الإحصار سبباً فيه، وجب القضاء. وإذا كان التحلل بمحض الإحصار ولم يتقدّمه سبب يوجب القضاء، فلا قضاء. وبيان ذلك أنه لو أفسد الحج، فأمرناه بالمضي في الفاسد، فلقيه العدو، وصدّه، فله التحلل، وعليه القضاء بالفساد المتقدم. والمسائل كلها في حج التطوع، حتى يظهر القول في القضاء. [و] (2) في هذه المسألة يتصور وجوب القضاء، وإقامةُ القضاء في سنةٍ واحدة، فإن من أفسد الحج قبل الوقوف، فصد، فتحلل، وانجلى الحصر، فلو أحرم وقضى أمكن ذلك. ولولا تخلل الحصر، وما ترتب عليه، لما تُصور هذا. ولو جرى فوات سببه الحصر، فقد اشترك الفوات والحصر، فيختلف القول. 2842 - ومما يتم به الغرض أن المحصرَ لو لم يتحلل، وصابر، ودام الحصر، حتى فات الحج، فلأصحابنا طريقان في هذه المسألة:

_ (1) في الأصل: دم. (2) مزيدة من (ط)، (ك).

منهم من قطع بأن الحج إذا فات بمصابرته، يلزمه القضاء قولاً واحداًً؛ فإنه كان يمكنه ألا يصابر، ولو تحلل، لما تصوّر الفوات، فكأنه قصد التسبب إلى الفوات، وليس كما لو سلك طريقاً بعيداً؛ فإن الصد عن جميع الطرق لم يتحقق في تلك الصورة، والصد في هذه الصورة عمّ الطرقَ، فكانت مصابرتُه سبباً في جلب الفوات. ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان، فإنه يمكن حمل مصابرته على رجاء انجلاء الحصر، فعُذِر لذلك، والحصر قائم، وصاحب الفوات إنما يلتزم القضاء لانتسابه إلى طرف من التقصير، الذي ينسب إلى مثله كل مخطىء. فهذا بيان ما أردناه. 2843 - ومما يتصل بذلك أن من وقف بعرفة، ثم صُدّ بعده، فتحلل، ثم انجلى الحصر، ففي البناء وإمكانه ما قدمناه. فإن لم نره، فهذا من المسائل المقدّمة، فالعراقيون يقطعون بنفي القضاء. وصاحب التقريب يجعل المسألة على قولين لتأكد الإحرام بالنسك الأعظم. وما ذكره العراقيون أمثل؛ فإن هذا تحلل بالحصر المحض. وإن رأينا البناء، [فلْيَبْن، فلو لم يبن] (1)، ولم يعد مع إمكانه، ففي القضاء وجهان: أحدهما - لا قضاء؛ فإن الحج كان تطوعاً، وقد تحلل. والثاني - يلزمه القضاء؛ فإنه في التمكن من البناء (2 إذا قصر 2) منتسبٌ إلى ترك الممكن (3). وقد يتجه أن نقول: هل يجب البناء أم لا؟ أخذاً مما ذكرناه. 2844 - ومما نصوره أن المحرم بالحج إذا فاته الحجة، ثم اعترض له من يصده، فله التحلل بعذر الصدّ، ويستفيد بذلك قطعَ الإحرام في الحال، حتى لا يحتاج إلى لقاء البيت، وقطعِ المسافةِ إليه. ثم القضاء لازم في هذه الحالة؛ من جهة أن الفوات

_ (1) عبارة الأصل: " فلئن لم يبن ". (2) ما بين القوسين ساقط من (ط). (3) (ط): التمكن.

الموجب للقضاء تقدم على الحصر، ولم يقع بسبب الحصر؛ فكان تقدّم الفوات بمثابة تقدم الفساد. وقد ذكرنا أن من أفسد حجه بالجماع، وألزمناه المضي، فإذا أحصر تحلل، ثم القضاء واجب، كما مضى. 2845 - ثم حكى صاحب التقريب عن ابن سريج أنه قال: إذا فاتت الحجةُ، ثم تحقق الإحصار والتحلل بسببه؛ فيلزمه دمان: أحدهما - دم الفوات، والثاني - دم الإحصار. وهذا الذي ذكره منقاس؛ فإن سببي الدَّمَيْن قد تحققا، أما الفوات، فلا شك فيه، والتحلل بالإحصار وقع، وأفاد الخلاص من ربط الإحرام، وهما مختلفان، وأثرهما يجري على مقتضى التناقض؛ فإن من فاته الحج لا يتخلص من الإحرام ويقضي. ومن أُحصر يتخلص ولا يقضي. وذكر صاحب التقريب خبطاً في كتابه مشعراً بأنه لم يقف على كلام ابن سريج، فلا معنى لذكره، وقد يحمل [ما] (1) في الكلام من الخبط على خلل النسخة. 2846 - واختلف أئمتنا في أن دم القِران هل يندرج تحت دم الإفساد؟ وسبب ذلك أن القارن لم يستفد من تخفيف القِران أمراً إذا أُفسد عليه، فكان ذلك محمولاً على هذا. على أن الأصح وجوبُ الدمين أيضاً، ولست أرى لمخالفة ابن سريج وجهاً فيما صورته. فأمّا الفصل الثالث فمضمونه الكلامُ في صفة دم الإحصار، والقولُ في بدله، وإبداءُ حقيقته ووضعه. وهذا الفصل يتعلق منتهاه ببيان ما تقدم، كما [سَننبّه] (2) عليه. 2847 - فأما دم الإحصار، فدم شاةٍ، قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} [البقرة: 196]. هذه الصيغة منزلة على دم شاة؛ فإنها أقل مراتب الهدايا. ثم

_ (1) مزيدة من (ط)، (ك). (2) في الأصل، وفي (ك): " سنبينه ". والمثبت من (ط).

اختلف قول الشافعي في أن دمَ الإحصار هل له بدل أم لا؟ فقال في أحد القولين: له بدل اعتباراً بجميع دماء الجبرانات. وقال في [القول] (1) الثاني: لا بدل له، فإن الدماء التي جرى لها ذكر في كتاب الله تعالى -وهي ذات أبدال- اشتمل الكتاب على ذكر أبدالها جملة، وتفصيلاً، وهي جزاء الصيد، وفدية الأذى، ودم التمتع. ولما ذكر الله تعالى دم الإحصار، لم يذكر له بدلاً، وسنبين في تفصيل الكلام مخالفةَ دمِ الإحصار لما عداه من الدماء. التفريع على القولين: 2848 - إن قلنا: لا بدل لدم الإحصار، فلا كلام. وإن قلنا: له بدل، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها - أن بدله كبدل دم الإساءة، فإنه في مقابلة ترك النسك، ودم الإحصار في مقابلة التحلل عن النسك قبل أوانه. والقول الثاني - أن بدله كبدل دم الحِلاق، من حيث إن الحالق يكفّ الأذى، والمحصر بالتحلل يؤثر الخلاصَ مما هو فيه، إن علم أن الإحرام ليس [يفيده] (2) المقصودَ مع (3) جريان الصد. والقول الثالث - أن بدله كبدل دم التمتع. فهذا بيان القول في كيفية الدم وبدلِه. 2849 - ثم نذكر وراء ذلك تحقيقاً مطلوباً، وفيه بيان أصلٍ مستقل، وهو منعطِفٌ على تمام البيان فيما تقدم، فنقول: المحصر يتحلل، فإن كان يريق الدمَ، فمتى يريقه؟ وبماذا يحصل التحلل؟ للشافعي أولاً قولان: أحد القولين - أنه لا يتحلل قبل الإراقة. والقول الثاني - إنه يتحلل قبل الإراقة إن أراد ذلك.

_ (1) في الأصل: القديم الثاني. (2) في الأصل: يقيّده. (وهو تصحيف واضح). (3) في الأصل: وهو مع (بزيادة: وهو).

والذي يجب التنبه له أن دم الإحصار إذا أجريناه على قياس الدماء، فهو دم جبران، وسببه التحلل عن الإحرام قبل أوانه، فإذا (1) كان كذلك، تعذر ربط (2) التحلل بإراقة الدم؛ فإن الإراقة موجَبُ التحلل، فليتصور تحلّلٌ موجِب لها اعتباراً بكل موجِب وموجَب في الكفارات، ثم لو وفَّيْنا هذا الأصلَ حقَّه، لجعلنا تقديمَ الإراقة على التحلل، بمثابة تقديم فدية الأذى على الحلق. وفي جواز ذلك وجهان، ذكرناهما فيما سبق. فهذا على تشبيه دم الإحصار بدماء الجبرانات. ولكن التحلل عن الإحرام من غير سببٍ مشكلٌ، وأسباب [التحلل] (3) كلُّها ممتنعة في حق المحصر، فأُثبت الدمُ في إفادة التحلل حالاًّ محلَّ أسباب التحلل، في حق المستمر على نظم النسك من غير صدّ. ولا ينبغي أن يُعتقد أن دم الإحصار بدلٌ عما صُدَّ المحصرُ عنه؛ فإنه مصدود عن الأركان في الحج، والأركان لا بدل لها. ولو كان الدم بدلاً، لوجب أن يقال: الشارع في حج الإسلام إذا صدّ، فتحلل، يسقط عنه فرض الإسلام؛ لأنا نحل الدم محل ما تعذر. وليس الأمر كذلك. فالوجه على هذا القول أن نقول: الدم سبب تحلّل في حق المحصر المضطر، يفيد ما (4) تفيده أسباب التحلل، فإذا وقع التنبه لما ذكرناه، ولأجله غمض القول في بدل الدم، فيجب وراء ذلك تنزيل القولين على ما ذكرناه. فمن ألحق دم الإحصار بدماء الجبرانات، قال بتقدم التحلل عليه، وإنما يجب لسبب التحلل، فعلى هذا التحلُّلُ السابقُ على إراقة الدم لا يحصل بفعلٍ من الأفعال. 2850 - وقد يبتدر فهمُ بعض الناس إلى أن التحلل يقع بالحلق، وليس الأمر كذلك؛ فإن القول وإن اختلف في أن الحلق هل هو نسك أم لا في أوان التحلل في

_ (1) (ط) وإذا. (2) (ك) بطء. (3) ساقطة من الأصل. (4) (ك): ما لا تفيده.

النسك الجاري على النظام، لم يختلف القول في أنه ليس نسكاً في حق المحصر. وإذا كان كذلك، فلا تحلل إلا بالقصد الجازم، شبّب (1) بما ذكرناه أئمتنا، وصرح به العراقيون، فإذا تحلل بالنية أراق الدم. ولكن مع هذا لم يختلفوا في أن تقديم الإراقة جائز، وخالفوا قياس دماء الجبرانات، حتى لم يذكروا خلافاً في إيجاب تأخير الإراقة على قياس دماء الجبرانات. وبالجملة إذا أعضل شيء [و] (2) خرج عن قياس الباب، لم يتمحض للمضطربين فيه قول. (3 هذا بيان هذا القول 3). 2851 - ومن لم يحصّل التحلّلَ دون (4) الإراقة، في حق المتمكن منها، جعل إراقة الدم سببَ التحلل في هذا المقام؛ من حيث بَعُدَ عنده التحلل بمجرد القصد من غير فعل، فالدم يفيد من التحلل ما يفيده أسباب التحلل في التخلص من الإحرام في حق المستمر على نظم النسك. ثم [السَّبْر] (5) التام في هذا القول: أن نفسَ الإراقة لا تكون تحللاً بلا خلاف؛ فإن المحصرَ لو أراق الدمَ، ولم يقصد التحلّلَ، لم يتحلل، فالقصد بمجرده لا يحلّل، والإراقة بمجردها لا تحلّل، فهي إذن مخالفةٌ للتحلل الذي يقع على نظم النسك، في حق من ليس مصدوداً، من جهة أن تيك الأسباب إذا جرت، كان التحلل في حكم انتهاء العبادة نهايتَها، وبلوغها تمامَها. وهذا المعنى لا يتحقق في دم الإحصار؛ فإن التحلل هاهنا قاطعٌ لدوام الإحرام، على خلاف نظام [التمام] (6)، فلا بد من الجمع بين الإراقة والقصد.

_ (1) شبب: أي نوّهوا به، وبحسنه، وجودته. وهذا اللفظ معهود في لغة إمام الحرمين. (2) مزيدة من (ط)، (ك). (3) ما بين القوسين سقط من (ط)، وأما (ك)، فقد ذهب منها نحو نصف صفحة في هذا الموضع. (4) أي قبل الإراقة. (5) (ط)، (ك): السرّ. (6) في الأصل: النظام، و (ك) دوام التمام.

هذا حقيقة القولين. 2852 - ثم نقول وراء ذلك: إن لم يجد المحصر دماً، فكيف التحلل؟ وما الوجه؟ هذا يتفرع على أن دمَ الإحصار هل له بدل أم لا؟ فإن قلنا: لا بدل له، فرّعنا الأمر على أن التحلل في حق واجد الدم، يقع بماذا؟ فإن قلنا: يقع التحلل بالقصد المجرد، والإراقة بعد التحلل تقع، فليتحلل إذا لم يجد بالقصد، ثم لينتظر وجدان الدم. وإن قلنا: لا يحصل التحلل دون الإراقة في حق واجد الدم، فهل يحصل التحلل بالقصد المجرد في حق الفاقد؟ فعلى قولين: أحدُ القولين - لا يحصل التحلل دون إراقة الدم، فليصابر المحرم إحرامَه إلى أن يجد دماً. والقول الثاني - أنه يتحلل بالقصد المجرد عند فقد الدم. وإن فرعنا على أنه لابد من الإراقة عند التمكن منها؛ لأن مبنى تحلل الإحصار على التخفيف، وتكليفُه مصابرةَ الإحرام إلى وجدان الدم تكليف عسر، يناقض وضع الشرع في التحلل المرتب على الإحصار. هذا إذا قلنا: لا بدل لدم الإحصار. فأما إذا جعلنا له بدلاً، [فما كان مالاً منه على بعض] (1) الأقوال، فترتيب المذهب فيه في الوجود والعدم، كترتيبه في الدم، غيرَ أن المرعي في الدم الإراقة، والمرعيُّ في الصدقات التسليم إلى المستحق. فإن قدرنا بدل الدم صوماً، فإن قلنا: لا يتوقف [التحلل على الإراقة مع إمكانها، فلأن لا يتوقف] (2) على الصوم مع امتداد الزمان فيه أولى. وإن قلنا: يتوقف التحلل على الإراقة عند الإمكان، فهل يتوقف على الصوم؟ فعلى قولين. والفاصل في نظم

_ (1) بياضٌ بالأصل. (2) ساقط من الأصل.

الترتيب أن الإراقة لا يطول زمانها في حق المتمكن منها، والصوم يطول زمانه، ويعسر استصحاب الإحرام معه. فهذا تمام القول في الحصر وحكمه وما يتعلق به من فدية، وتنزيلُ الفدية منزلتها، وبيان سقوط القضاء عند تمحض الإحصار، وتفصيل القول في امتزاج الفوات بالإحصار. والآن نذكر بعد ذلك تفصيلَ القول في حصر السيد عبدَه المحرم، وحصرِ الزوج زوجتَه. وقد عقد الشافعي باباً فيه. ***

باب حصر العبد يحرم بغير إذن سيده

باب حصر العبد يحرم بغير إذن سيده 2853 - العبد إذا أحرم بغير إذن سيده، انعقد إحرامه، وأطلق أصحابنا أن للسيد أن يحلله، وسنذكر شرح ذلك. ولو أحرم العبد بإذن مولاه، ثم بدا للسيد أن يمنعه عن المضي في إحرامه، لم يكن له ذلك عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1). 2854 - والزوجة المستطيعة إذا أرادت أن تحج [حجة] (2) [الإسلام] (3) من غير إذن زوجها، فهل للزوج منعُها؟ فعلى قولين: أحدهما - له منعها؛ فإن حقه عليها ناجز على الفور، والحج على التراخي، فلا يجوز تقديم ما مبناه على التأخير على حقٍّ مبناه على الفور. والقول الثاني - ليس للزوج منعُها؛ فإنا إذا سلطناه على ذلك، أفضى إلى خلو عمرها عن الحج؛ فإنها مهما تهم به، منعها الزوج، ولا يجوز إخراج الحج عن العمر (4)، وذكر الأئمة وجهين في أن الزوج لو أراد أن يمنع زوجته، عَن إقامة فريضة [الصلاة] (5) في أول الوقت، فهل له ذلك؟ والحج أولى بأن لا يُمنع منه؛ فإن الصلاة مؤقتة، والقلب يرتبط بوقتها على ثقةٍ في العادة وصدق رجاء، وما يناط بالعمر، فهو على إبهام. وقد ذكرنا هذا في كتاب الصلاة، ولهذا الفرقِ مال الفقهاء إلى أن من أخر الصلاة إلى وسط الوقت ومات، لم يلق الله عاصياً، على ظاهر المذهب عندهم. ومن مات بعد استمرار الاستطاعة، ولم يحج، لقي الله عاصياً.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 72، بدائع الصنائع: 2/ 176. (2) زيادة من (ط). (3) زيادة منّا على ضوء السياق. والعبارة بكاملها تقع ضمن الأسطر التي ذهبت من (ك). (4) في (ط): العمرة. (5) ساقطة من الأصل وحدها.

وفي هذا كلامُ يتعلق بالأصول، وليس من غرضنا ذكره الآن. فإن قلنا: لا يملك الزوج منعَ المرأة من حج الإسلام وحملِها على تأخيره، فإذا أحرمت، لم يحللها. وإن قلنا: يملك منعَها، فإذا أحرمت ملكَ تحليلَها. هذا في فرض الإسلام. 2855 - فأما حج التطوع، فليس للمرأة أن تخرج لأجله، وتترك حقوق الزوج الواجبة، بسبب التطوع، والزوجُ يمنعها لا محالة، فإن أحرمت، فهل يملك الزوج تحليلَها؟ قال الأئمة: في المسألة: قولان: [أحدهما - لا يملك،] (1) ووجهه أن الإحرام وإن كان تطوّعاً، فإذا تحقق الشروع فيه، لزم وتأكد، والتحق بالقول بترتيب الواجبات. [والرأي] (2) عندنا في هذا أن نقول: هي ممنوعة من الخروج، لتُحرم بحجة التطوع من ميقاتها، وإذا نجّزت الإحرام، فقولان، وفي منعها من الخروج لحج الإسلام قولان، فإن نجزت الإحرام بحجة الإسلام، ففي جواز التحليل قولان، مرتبان على المنع، فإن الإقدام على الإحرام على التراخي، فاتجه تقديم حق الزوج عليه لتنجّزه وتعجّله، وإذا لابست الإحرام، بطل معنى إمكان التأخير، وتعارض حق الله سبحانه وتعالى الناجز، وحق الزوج. فهذا لابد من التنبه له. ولكن تسليطَنا السيدَ على تحليل عبده المحرم بغير إذنه يقدح فيما أشرنا إليه بعضَ القدح.

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (حيث سقطت من النسخ الثلاث. ويترجح عندي أنه ليس هناك سقط، انما هو إيجازٌ بالحذف، وله نماذج مماثلة فيما مرّ علينا، وفيما يستقبلنا، ان لم يبلغ هذا المبلغ. وكما ترى لم يذكر القول المقابل؛ لأنه مفهوم، والفريع عليه منقطع، وكأنه قال: وإن قلنا: له تحليلها، فلا كلام). (2) في الأصل: والذي، والمثبت من (ط)، (ك).

2856 - ونحن نذكر تفصيل المذهب في العبد. ثم ننعطف على ذكر الزوجة. فأما العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه، فللسيد أن يمنعه من المضي في إحرامه وفاقاً، وأطلق أئمتنا تحليلَ السيد إياه، وهو مَجَازٌ بلا خلاف فيه؛ فإن التحلل لا يحصل إلاّ من جهة العبد، ولو أراد السيد تحصيله، دون العبد لم يجد إليه سبيلاً عندنا. وقال أبو حنيفة (1): يقع التحليل بفعل من السيد: فإن أحرمت أمةٌ، وطئها السيد قاصداً تحليلها، فينحلّ الإحرام. وإن أحرم عبدٌ، طيَّبَه، أو حلق شعره، أو ألبسه مَخيطاً على قصد التحلل. وهذا سهوٌ عظيم. واتفق الأئمة على أن التحلل يقع من جهة العبد، وليس للسيد إلا منعُه من المضي، واستخدامُه في الجهات التي كان يستخدمه فيها. ثم إن أراد العبد التحلّلَ، وهو ممنوع من المضي بمولاه، تفرّع الأمر على تحلل الحرّ، فإن قلنا: إنه يتحلل من غير إراقةٍ، فالعبد بذلك أولى. وإن قلنا: لا يتحلل الحر إلا بإراقة الدم، وإن لم يجد الدم صابرَ إحرامَه إلى أن يجد، ففا حكم العبد؟. اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأن العبد يتحلل من غير دم، وليقع هذا التفريع على أن دم الإحصار لا بدل له، والعبد لا يملك، وإن ملك، فبهذا التصوير يظهر غرضُنا في تحقيق العسر. وعنده (2) اختلف الطرق، فالذي قطع به الصيدلاني أنه يتحلل، ولا يصابر الإحرامَ؛ فإن وجدان الدم في حقه يتوقف على العتق، وليس هذا أمراً ينتظر (3)، ويربط الترتيب فيه، فيؤدي إلى عسرٍ لا يحتمل مثله في الشرع. ومن أصحابنا من قال: يخرّج الأمر فيه على القولين المذكورين في الحر المعسر: فإن قلنا: إنه يصابر إحرامَه، صابر العبد إحرامَه، غيرَ أن المعسرَ ينتظر الغنى، والعبد ينتظر العتقَ. والأصح الطريقةُ الأولى.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 72، بدائع الصنائع: 2/ 176. (2) أي عند تحقق العسر. (3) في النسخ الثلاث: " أمر " بالرفع، ولما أعرف له وجهاً.

ومن تمام القول في هذا أنا إذا قلنا: إن العبد يملك بالتمليك، فلو ملكه مولاه شاةً، وأذن له في صرفها إلى دم الإحصار، فليفعل، وليتحلل، على الترتيب المقدّم. 2857 - [و] (1) إذا اتصل الكلام بهذا، فلابد من ذكر جميع ما يتعلق به. قال الشافعي رضي الله عنه: إذا تمتع العبد بإذن مولاه، وقلنا: إنه لا يملك بالتمليك، فلو مات العبد، وأخرج السيد عنه دماً، قال: وقع الدمُ موقعَه (2). وهذا مشكلٌ، فإن الدم كان (3) لا يقع الموقع في حياته، إذ التفريع على أنه لا يملك إذا مُلِّك، والموت يزيد في التصرفات عُسراً. ولكن لم أر أحداً من الأصحاب يخالف النصَّ. وإذا لم نجد خلافاً ننقله، فأقصى ما نعوّل عليه احتمالٌ نذكره. ومن أنكر احتمال خلاف النص، فقد جحد؛ فإن النافذ من الإنسان بعد وفاته على تقدير النفوذ عنه في حياته يقع (4)، حتى كأن بقايا تصرفاته من آثار حياته. ولكن الممكن في توجيه النص أن الميت يبعُد تمليكه حراً كان أو عبداً، ثم نَفَذَ التصرفُ عن الحر بلا خلاف، فيقع إخراج السيد عن عبده هذا الموقع، وهو من عبده على أخص الأسباب. وهذا مشكل. 2858 - وكل ما ذكرناه على أن دم الإحصار لا بدل له، فإن أثبتنا للدم بدلاً، فالقول في توقف (5) تحلل العبد على البدل إذا كان صوماً، كالقول في الحر من غير فرق. فهذا بيان ما أردناه.

_ (1) الواو زيادة من (ط). (2) ر. الأم: 2/ 96. (3) (ط): الذي. (4) يقع: جملة فعلية خبر (فإن النافذ). (5) في الأصل، (ك): توقيف.

ثم الكلام في الزوج والزوجة كالكلام في المولى والعبد، غير أن الزوجةَ الحرةَ يحصوّر منها التوصّل إلى الدم فيترتب (1) أمرها على موجَب أمر المحصر الحرّ. 2859 - وختامُ الكلام في ذلك كله، أنا إذا قلنا: الزوجة ممنوعة من المضي، وقد أحرمت، ثم لم نُعلِّق تحليلَها باختيار الزوج، وإنما ملكناه منعها من الخروج، فكيف السبيل في استمتاع الزوج بها؟ وكذلك القول في الأمة، قطج الصيدلاني جوابَه بأنه يستمتع بها، فإن كان مأثمٌ، فعليها. وهذا فيه نظر، من جهة أن المُحرمة محرّمةٌ لحق الله تعالى. [كالمعتدة] (2) ... [ .. فيحتمل أن يحرم على الزوج والسيد الاستمتاعُ، والقول في ذلك يطول، وسنذكر في ربع النكاح إن شاء الله تعالى] (3) تقسيمَ القول في الصفات المحرِّمة، وكونَها في المُقْدم أو في المحلّ. وقد نجز بذلك (4) [الكلام في حصر العبد والزوجة] (5) ...

_ (1) هذا آخر الموجود من نسخة (ط)، وهذا ما جاء في خاتمتها، ما نصه: " قد انتهى نسخ ما وجد من الجزء السادس من نهاية المطلب بقلم الفقير إلى الله تعالى عبده محمود حمدي على ذمة الحسيب النسيب الحبر البحر الفهامة والعالم العلامة حضرة السيد أحمد بيك الحسيني، وكان الفراغ منه موافقاً يوم الخميس المبارك الموافق ثامن عشر شهر شعبان المكرم سنة 1330 ثلاثين وثلاثمائة وألف من هجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين ". (2) ساقطة من الأصل، وقدرناه على ضوء المفهوم من مختصر النهاية لابن أبي عصرون. حيث ذهبت من (ك) فيما ذهب. (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، والمثبت من (ك) وقد امّحى قبله قدر كلمة هي التي أثبتناها من المختصر. ثم بدأ من هنا سقط في ذيل ص287، ثم من رأس ص 288 من نسخة (ك). (4) من هنا بدأ خرم في نسخة الأصل. وترتب على هذا اضطراب فيما بقي من كتاب الحج، وسنحاول ستدراك ما يمكن على ضوء ما بقي من نسخة الأصل، ومن أطراف الصفحات من نسخة (ك). ومن مخطوطة مختصر ابن أبي عصرون. (5) تقديرٌ منا على ضوء السياق والسباق.

[باب] [ما جاء في الأيام المعلومات والمعدودات]

[باب] [ما جاء في الأيام المعلومات والمعدودات] (1) " ........ " ...

_ (1) عنوان هذا الباب مأخوذ من مختصر النهاية لابن أبي عصرون، ومختصر العز بن عبد السلام وواضح أنه ليس تحته كثير كلام، فهو لا يستغرق أكثر من أربعة أسطر من مسطرة نسخة (ك) وهذا واضح تماماً من المساحة التي أصابها البلل. وقد اختصره ابن أبي عصرون على هذا النحو: " ذكر الله تعالى الأيامَ المعلومات في آية، والأيامَ المعدودات في آية أخرى. فالمعلومات عندنا العشرُ من ذي الحجة، والمعدودات أيام التشريق " ا. هـ بنصه.

[باب] [نذر الهدي]

[باب] [نذر الهدي] (1) " ........ " (2) 2860 - [هذا الباب له اختصاص] (3) بأحكام الضحايا، ولو خضنا فيها على شرط هذا الكتاب، لاحتجنا إلى ذكر معظم أحكام [كتابها] (4). وشرطنا في هذا المجموع اجتناب المكررات جهدنا. فالذي نراه ألا نذكر في هذا الباب إلا ما نرى له تعلّقاً بالمناسك. فأما الهدي مطلقاً، وتبرراً، وملتزَماً، ومعيناً، فلا تعلّق له به. والقول في التطوّع من الضحايا، وما يحل الأكل منه، وما لا يحل، وما يختلف [فيه] (5)، فالتفصيل في تعين الحيوان، وثبوت أحكام التعين. كل ذلك أصول من كتاب الضحايا، فنقتصر على ما نرى له اختصاصاً بالمناسك، وتعلُّقاً به، فنقول: 2861 - من نذر لله هدياً، فالملتزَم بهذا اللفظ فيه قولان: أحدهما - أنه منزل على أقل دم مجزىء، وهو دم شاة على الصفات المرعية فيها. والثاني - أن الملتزَمَ التصدّقُ بأقل ما يسمى مالاً؛ فإن الهدي من الهدية، وهي عطية، وذلك يبتني على أن مطلق النذر يحمل على أقل موجَبٍ في اللسان، أو على مأخذ الشريعة.

_ (1) عنوان هذا الباب مأخوذ أيضاً من مختصري النهاية. حيث وقع ضمن الخرم من نسخة الأصل، وضمن أطراف الصفحات التي أصابها البلل من نسخة (ك). (2) الذي ذهب من أول هذا الباب رؤوس وأطراف الكلمات من السطر الأول، وسنبذل جهدنا في قراءة هذه الكلمات، وتقدير ما لا يمكن قراءته. (3) تقديرٌ ما على ضوء السياق. وبدأ بعد المعقفين الموجود من نسخة (ك). (4) تقديرٌ منا. (5) تقديرٌ منا.

وكان شيخي يقول: يجب تبليغُ الملتزَم مكةَ؛ فإن الهدي مشعر به. ثم قال أئمتنا على قول التبليغ: إن قال: جعلت هذا المال هدياً، فمؤنة تبليغه من عينه، وإن قال: لله عليّ أن أهدي هذا، فيلزمه مؤنةُ التبليغ، ولْيوصِّل ذلك المالَ بجملته إلى مكة، وهذا رمز أيضاًً، وسأعود إليه إن شاء الله تعالى، في كتاب النذور على أبلغ وجهٍ في البيان. 2862 - ثم قال: إن كان الهدي بدنةً أو بقرة، قلّدها نعلين، وأشعرها، فالتقليد والإشعار في البُدن والبقر مشروعان، ولا يتأتى في الشاة إن استاقها إلا التقليد، ثم [نُؤثر له التصدقَ بجِلالها] (1) وما قُلّدت إذا بلغ المحِل. وسيعود هذا. 2863 - ثم قال: يجوز أن يشترك السبعة في البدنة، وهذا من [خصائص أحكام الضحايا] (2)، وذكر القفال فيه كلاماً حسناً يتعلق بما نحن فيه، فقال: السُّبُع من البدنة في القرابين والهدايا يحل محلّ [الشاة إلا في حكم واحد] (3) وهو أنا إذا أوجبنا في الضبع شاةً، لم يقم سُبُع بدنة مقامها؛ فإن المرعي في جزاء الصيد المِثْليّة [الخِلْقية، ولهذا يُجزئ في] (4) ذلك الباب ما يخالف قياس الضحايا؛ فإنا نخرج الصغار، والمعيبة، والعشر من بدنة [والجزء من الشاة] (5). [وهذه الهدايا ما كان] (6) منها تطوّعاً، أُكل منه. 2864 - والتفصيل فيما يحل الأكل منه وما لا يحل (7) [من الهدايا، والنذور، والضحايا يأتي مفصلاً مستقصىً في كتاب الضحايا، إن شاء الله تعالى.

_ (1) تقديرٌ منا بمساعدة مختصر ابن أبي عصرون، وبعض أطراف الحروف التي بقيت من (ك). هذا. والجلال بالكسر جمعُ (جُلّ) بالضم، وهو للدابة كالثياب للإنسان (المصباح). (2) من مختصر ابن أبي عصرون. بنصه. (3) من المختصر بنصه. (4) من المختصر. (5) بنص المختصر. (6) تقدير ما. (7) هذا ما بقي من (ك) بعد ذهاب البلل بربع الصفحة، مع زيادة عدة كلمات منَّا على ضوء السياق. وبهذا بدأ سقطٌ آخر في (ك).

وغرض هذا الفصل الكلام فيما يتعلق بالناسك. فإذا ساق هدياً فمحله الحرم، وظاهر المذهب أنه يجوز الأكل منه في مَحِلّه. فإن عطب في الطريق أراق دمه، وكان هذا مَحِلَّه، وأباحه للمساكين، وقال الشافعي: لا يحلّ لمن ساقه الأكلُ منه، ولا للمختصين به من الرفقة؛ لأنهم متهمون في إعطابه، ويباح للفقراء من الرفقة غير المختصين به، ولكن ظاهر نص الشافعي أنه لا يجوز له، ولا لأحد من الرفقة، أغنياء كانوا أو فقراء؛ لمحل التهمة] (1) (2) [هذا غرض الفصل، أما أحكام الضحايا وما يؤكل منها، وتقييد] أو إطلاق القدر. ثم تعيين هذا عن تلك الجهة. فالمذهب في ذلك مضطرب، ولكن جميعه ينتظم في الضحية، وقدر الغرض المنع من الأكل قبل المحل، كما ذكرناه. وليعلم الناظر أن ذلك مفروض في الذي قيل فيه: جعلته هدياً، فإنه لو فرض نذرٌ لوجوب سابق، فيضطرب القول في ذلك. 2865 - ثم دم الجبرانات لا وقت في ذبحها، وإنما التأقيت في الضحايا والهدايا المتطوّع بها، أو المنذورة. وجملة (3) دماء الجبرانات محلها الحرم كما تفصَّل، إلا في حق المصدود، فإن محِل الدماء محِلّه. وكذلك محِل دم الإحصار، خلافاً لأبي حنيفة. فهذا ما رأيناه متعلقاً بالنسك، وليُطلب تمام البيان، وشفاء الصدور، من كتاب الضحايا. 2866 - ثم إذا عطبت بهيمة مهداة في الصورة التي ذكرناها، فينبغي أن تذبح أو تنحر، ثم يُلْطَخُ بدمها جنبُها، وذلك علامة يستدل بها المارّ على أنه هدي مأكول.

_ (1) هذه الأسطر مزاج بين كلمات وأطراف كلمات من مختصر النهاية مع تلخيصٍ للمسألة من المجموع للنووي: 8/ 370. (2) هذا أول الموجود من نسخة الأصل، بعد الخرم الذي أشرنا إليه آنفاً. وهو صفحة واحدة وجه واحد من الورقة. (3) عادت هنا نسخة (ك) بعد أن ضاع منها ما ضاع بسبب البلل، وأشرنا إليه في التعليق الذي يسبق هذا برقمٍ واحد.

وهل يجوز الاكتفاء بهذه العلامة في الإقدام على الأكل؟ فيه قولان: أحدهما - يجوز، وعليه يدل سِيَرُ السلف. والثاني - لابدّ من لفظٍ؛ فإن لحم الهدي لا يحل لكل من يجده، وإنما هو لمن يسلمه المهدي إليه. فإن أراد التعميم، فليقل: ليأكله من مرّ به، ويمكن إشاعة هذا في منزلٍ، أو غيره، في المدة التي لا يفسد اللحم فيها. فهذا منتهى المراد. والله المستعان، وعليه التُّكلان (1)، (2). ...

_ (1) هذا آخر نسخة الأصل، وخاتمتها، لم تزد على ذلك. (2) جاء في خاتمة نسخة (ك) ما نصه: " فهذا منتهى المراد والله أعلم والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين. يتلوه إن شاء الله تعالى في المجلد الثالث بمعونة الله وحسن توفيقه .. كتاب البيع. الأصل في البيع الكتاب والسنة والإجماع. . . . تم نسخه بحمد الله في مساء يوم الخميس سابع شهر رجب المبارك شهر الله. . . . . . رجب الفرد سنة ثمان. . . وستمائة . . العبد الفقير الراجي رحمة الله الكريم أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي. . . بالجامع الأعلى بحماه المحروسة عمره الله تعالى بالإسلام.

إمام الحرمين لسان مذهب الشافعي بل لسان الشريعة على الحقيقة التاج السبكي في الأشباه والنظائر

كتاب البيع

كتاب البيع (1) 2867 - الأصل في البيع الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) [البقرة: 275] وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) [النساء: 29] وستأتي الأخبار في الأبواب على قدر الحاجة. وأصلُ البيع متفق عليه، ذكر المُزَني لفظةً عن الشافعي في البيع جامعةً، والذي نص عليه في الأم أجمعُ لتراجم أبواب البيع، فنقتصر على اللفظة الأتم. قال رضي الله عنه: "وجماع ما يجوز به البيع عاجلاً وآجلاً أن يتبايعا عن تراضٍ منهما، ولا يعقداه بأمر منهي عنه، ولا على أمر منهي عنه، فإذا تفرقا عن تراضٍ منهما، فقد لزم البيع، وليس لأحدهما ردُّه إلا بخيار، أو عيب يجده، أو شرط يشرطه، أو خيار الرؤية، إن جاز بيعُ خيار الرؤية" (2). فدلّ بذكر العاجل والآجل على بيع العين، والسلم، والمؤجل؛ وذكَر التراضي، فأشعر بأن الإكراه يمنع انعقاد العقد، وعنَى بقوله: "بأمر منهي عنه" الأثمان المحرَّمةَ بوجوه التحريم، وأراد بقوله: "وعلى أمر منهي عنه" الشرائطَ الفاسدةَ، على ما ستأتي مفصلة، إن شاء الله تعالى. ونبه على خيار المجلس، وعلى ما يُنهيه، بقوله: "فإذا تفرقا عن تراضٍ" ثم استثنى عن حكمه بلزوم العقد بعد التفرق جهاتِ الخيار. فأراد بقوله: "إلا بخيارٍ" خيارَ الشرط، وذكر خيارَ العيب، ثم قال: "أو شرط

_ (1) يبدأ العمل من أول كتاب البيع باتخاذ الجزء الخامس من (ت 1) أصلاً، و (هـ 2) نصاً مساعداً. (2) انظر الأم: 3/ 3. وعبارة إمام الحرمين هنا فيها نوعٌ من التصرف، فليست بنص الألفاظ الواردة في النسخة المطبوعة المتداولة من الأم: وليس في مفتتح كتاب (البيوع) من المختصر أيضاً.

يشرطه" يعني خيارَ الخُلف (1) على ما سيأتي، ثم ردد قولَه في خيار الرؤية، وبيعِ الغائب. وهذا مقصود الباب، فقال: "إن جاز بيعُ خيار الرؤية"، فنقل الأئمة قولين عن الشافعي: في أن من اشترى عيناً لم يرها، فهل يصح العقد أم لا؟. أحدهما: أنه لا يصح، وهو اختيار المُزني؛ فإن العين في العُرف تُعْلَم بطريق المعاينة، فإذا لم يرها المشتري، عُدّت مجهولة عُرفاً، واستقصاء الطريقة في الخلاف (2). والقول الثاني: أن البيع صحيح؛ فإن المبيع متميَّز [والشرع] (3) قاضٍ باعتماد قول البائع، وعليه ابتنى قبول قوله في الملك وغيره، مما يشترط في صحة العقد. التفريع على القولين: 2868 - إن حكمنا بفساد البيع، فأول ما نذكره تفصيلُ القول في الرؤية؛ فالمذهب أن من رأى شيئاً، ثم غاب عنه، فاشتراه على قرب العهد بالرؤية، والغالب على الظن أن المبيع لا يتغير في تلك المدة، فالبيع صحيح، والرؤية المتقدمة كالمقارِنة. وحكى العراقيون والشيخُ أبو علي عن أبي القاسم الأنماطي أنه يشترط مقارنةَ الرؤية للعقد، ونزَّلها في البيع منزلة اشتراط اقتران حضور الشاهدين بعقد النكاح، ثم الشيخ حكى عن الإصطخري أنه قال: "كنت أناظر بعضَ من يذبّ عن الأنماطي، وكنت أُلزمه المسائلَ، وهو يرتكبها (4) حتى قلت: لو عاين الرجلُ ضيعةً وارتضاها، ثم

_ (1) خيار الخلف: هو حق الفسخ لتخلف وصفِ مرغوبٍ اشترطه العاقد في المعقود عليه. كمن اشترى حصاناً على أنه من خيل السباق كامل التدريب، فوجده غيرَ ذلك، وهذا طبعاً غير خيار العيب بل فوات أمرٍ زائد. (الدكتور عبد الستار أبو غدة - الخيار وأثره في العقود: 2/ 719). (2) يقصد في علم الخلاف، ولإمام الحرمين في هذا العلم أكثر من مؤلّف: منها: الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، وقد وفقنا الله لتحقيقه، وغنية المسترشدين، والأساليب. (3) مزيدة من (هـ 2). (4) يرتكبها: لم أجد هذا اللفظ مصطلحاً من مصطلحات الجدل والمناظرة فيما راجعت من مؤلفات في هذا المجال، وكذلك لم أجده منصوصاً في المعاجم اللغوية، ولا في كشاف =

ولاَّها ظهرَهُ، فاشتراها، فهل يصح ذلك؟ فتوقف". قال أبو سعيد (1): لو ارتكب، لكان خارقاً للإجماع، والوجه في مذهب الأنماطي أن ما لا سبيل إلى تحصيله على يسر، فلا شك انه لا يشترط، وهو كرؤية كل جزء من قرية أو دار يشتريها، فأما إذا صرف عنه بصره في حالة إنشاء العقد مقبلاً على من يبايعه، فقد نقل الإصطخري الإجماعَ فيه، وما أرى الأنماطي يسمح بهذا، ويحتمل أن يكتفي بكون المبيع بمرأى منه حالة العقد، وإن كان لا يلحظه. وبالجملة مذهبه فاسد. والأصحاب لما اكتفَوْا بتقدّم الرؤية، شرطوا أن يكون الزمان المتخلل بحيث لا يتغير فيه المبيع غالباً، وهذا يختلف باختلاف صفات المبيع، فما يتسارع إليه التغير، يُعتبر فيه ما يليق به، والعقار وما يَبعُد تغيُّره يراعى فيه ما يغلب تغيُّره فيه. ثم قال الأئمة: إذا تقادمت الرؤية، وتخلل زمان يغلب التغير فيه، فتلك الرؤية لا حكم لها، وإذا اشترى تعويلاً عليها، لم يصح، على منع شراء الغائب. وذكر الشيخ في شرح التلخيص ما ذكرناه ووجهاً آخر: أن الرؤية المتقدمة كافية في تصحيح العقد، ثم إن اتفق تغيّر، ثبت الخيار، كما سنذكره، واختار هذا الوجهَ وصححه، ولم أرهُ لغيره. فرع: 2869 - إذا حكمنا بصحة البيع تعويلاً على الرؤية المتقدمة القريبة، فإذا المبيع قد تغير على ندور، فقد قال الأئمة: للمشتري الخيارُ، ثم لم يفصّلوا قولاً في التغير، الذي يُثبت الخيار، ونحن نذكر من نص الشافعي، وقول العراقيين ما بلغنا فيه. قال الشافعي: "لو اشترى نخيلاً كان رآها غيرَ مؤبّرة، فإذا هي قد أُبّرت، قال:

_ = اصطلاحات الفنون ولا كليات أبي البقاء، ولا تعريفات الجرجاني، ولا في الألفاظ التي ضبطها ابن خلكان في الوفيات، وابن شاكر في الفوات. ويلوح من السياق في المواضع التي تكرر فيها في كلام إمام الحرمين أن معناه أن الخصم في المناظرة يلزم خصمه: إن قلت بكذا يلزمك أن تقول بكذا، لما هو ظاهر الخطأ، فإذا لم يعرف الخصم دَفعْ هذا الإلزام، والتزم ما ألزمه، سمي مرتكباً. (1) أبو سعيد: هو الإصطخري.

له الخيار". وهذا يُشعر بتعلق الخيار بفوات غرضٍ، وهو الثمار. وقال العراقيون: إذا كان التغيّر إلى نقصٍ، ثبت الخيار، فهذا ما وجدتُه. والذي أراه أن التغيّر اليسير الذي لا يُكترثُ به لا يثبت خياراً، وكذلك التغير إلى الزيادة، ولا شك أنا لا نشترط أن يكون الحادث عيباً؛ فإنّ خيار العيب لا يختص بهذه الصورة. فالظاهر عندي أن يقال: كل تغير لو فرض خُلْفاً في صفةٍ مشروطة، تعلق بها الخيار، فإذا اتفق بين الرؤية والعقد، أَثْبَت الخيارَ. وكأن الرؤية المتقدمة بمثابة شرطٍ في الصفات الكائنة حالة الرؤية. ويمكن أن يقال: كل تغيّر تخرج به الرؤيةُ عن كونها مفيدةً معرفةً وإحاطةً، فهو مثبت للخيار. وبيان ذلك أن الرؤية المعتادة تتعلق بصفاتٍ من المبيع، كما سنذكرها، ويغيب عنها صفاتٌ، فكل ما تشتمله الرؤية المعتبرة، ولو لم تتعلق الرؤية به، لكان المبيع غائباً، فإذا تغير، ثبت الخيارُ. 2870 - ومما نفرّعه على هذا القول: أن البائع إذا ذكر صفاتِ العين الغائبة، واستقصاها بذكر صفات السلم، والتفريع على منع بيع الغائب، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما- لا يصح؛ فإن طريق إعلام العين الغائبة المعاينَةُ، والدليل عليه أنا نكتفي بالرؤية، وإن لم نُحط بجملة صفات المبيع، ولو كان المرعيُّ الإعلامَ، لما صح العقد بالرؤية المعتادة. والوجه الثاني- أن البيعَ يصح؛ فإن الرؤية تُطلع على خاصيةٍ، قد لا يناله استقصاء الوصف، فنزل منزلةَ الإعلام التام بالوصف عند عدم الرؤية، والغرض الإعلام بالجهتين. فإن صححنا العقدَ ووفت الصفات، فلا كلام، وإن اختلفت، فكل صفة يشترط ذكرها فإذا ذكرها كاذباً، كان كما لو لم يذكرها، فلا يصح العقد. 2871 - ومما نفرعه النموذج وبناء البيع عليه، فإذا أخرج الرجل نموذجاً من حنطة، وقال: بعتُك من هذا النوع مائةَ صاع، فهو باطل على كل قول؛ فإنه لم يُعَيّن

حنطةً، ولم يرع شرائط السلم، وإن قال بعتُك المائة الصاع، التي في هذا البيت، وهذا النموذج منها، فإن لم يدخل النموذج في البيع، فقد قيل: هذا بيع غائب، فلا يصح على هذا القول. ويحتمل عندي أن تكون رؤية النموذج بمثابة وصف المبيع الغائب على ما مضى. فإن قيل: مثل هذا لا يُكتفى به في وصف المُسْلَم فيه. قلنا: لأن السلم ينافيه التعيين جملة، كما سيأتي في السَّلم إن شاء الله تعالى، وأصل التعيين معتمدُ بيع الأعيان. فأما إذا أدخل النموذج مع الآصع في البيع، فقد قطع القفالُ بالصحة، وألحق ذلك ببيع الصُّبْرة التي يدل ظاهرها على باطنها، وخالفه طوائفُ من الأئمة. والقياس ما قاله، ولا شك أن النموذج مفروض في المتماثلات. فأما إذا صححنا بيع الغائب، فما ذكره العراقيون، والصيدلاني، وشيخي، أنه لا بُد من ذكر الجنس، فلو قال: بعتك ما في كُمي، ولم يعرفه المشتري، فالبيع باطل. وهذا ظاهر مذهب أبي حنيفة (1). ومن أصحابنا من صحح العقد، تفريعاً على هذا القول، وهو قياسٌ ظاهر، فإذا كنا لا نشترط استقصاءَ الصفات، فلا تزول الجهالة بذكر الجنس، والمرعي في هذا القول أن يكون المبيع متعيناً. ثم قال العراقيون: يشترط ذكرُ النوع، حتى يقول بعْتُك العبدَ التركي، ولم يشترط أصحاب القفال ذلك، ثم قالوا: إذا ثبت اشتراط الجنس والنوع، فهل تُشترط صفاتُ السلم؟ أم يكتفى بالمعظم؟ فعلى وجهين، ولعلهم أرادوا بالمعظم ما تحيط به الرؤية المعتادة. وهذا الذي ذكروه يجانب طريق المراوزة؛ فإنَّهم ذكروا التعرضَ للصفات على قولنا: لا يصح بيع الغائب؛ فقالوا: استقصاءُ الصفات هل تنزل منزلة الرؤية، حتى

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 48، المبسوط: 13/ 68، رؤوس المسائل: 273 مسألة 161، إيثار الإنصاف: 294، فتح القدير: 6/ 335.

يصحَّ العقدُ بسببه، كما سبق في التفريع على القول الأول؟ وذكروا استقصاء الصفات على تجويز بيع الغائب في معرضٍ آخر. فقالوا: إذا وصف المبيع على الاستقصاء ثم وفت الصفات، فهل يثبت خيار الرؤية أم لا؟ فعلى وجهين. وتوجيههما واضح. فأما (1 اشتراط استيفاء الصفات في تصحيح العقد على قول تجويز بيع الغائب فمما انفرد به العراقيون. ثم قياس طريقهم عندي، أن من 1) اشترط استقصاءَ الصفات -على قول تجويز بيع الغائب- فإذا وفت، ثبت خيارُ الرؤية وجهاً واحداً، فإن هذا القائل لا يصحح بيعَ الغائب إلا عند استقصاء الصفات، وخيار الرؤية لا سبيل إلى نفيه أصلاً، ولو خُص الخيار بالخُلف، لكان خيار الخلف. ومما نفرعه على تجويز بيع الغائب خيار الرؤية. فصل 2872 - خيارُ المجلس يثبت في البياعات، كما سيأتي، فالوجه أن نذكر حكمَ خيار المجلس في بيع الغائب أولاً، ثم نبني عليه خيارَ الرؤية، فنقول: اختلف الأئمةُ في خيار المجلس في بيع الغائب، فمنهم من قال: يثبت خيار المجلس للمتعاقدين، كما يثبت في كل بيع، ووجهه ظاهر. ومنهم من قال: لا يثبت لهما خيار المجلس متصلاً بالعقد؛ فإنَّ خيار الرؤية خيارٌ شرعي لا يختص ثبوته بغرض، فهو في معنى خيار المجلس، فيبعد اجتماع خيارين من جنسٍ واحدٍ، وهذا الوجه بعيدٌ؛ فإنّ نفي خيار المجلس في حق البائع لا وجه له؛ إذ ليس في حقه خيار الرؤية، وكل ما نذكره فيما رآه البائع دون المشتري. ومنهم من قال: يثبت خيارُ المجلس للبائع عقيب العقد على الاتصال، ولا يثبت للمشتري خيارُ المجلس، لمكان ثبوت خيار الرؤية له، وهذا أمثل من الثاني. والصحيح هو الأول. فهذا هو القول في خيار المجلس. وفيه بقية سنذكرها.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2).

2873 - فأما خيار الرؤية، فلا شك في ثبوته عند الرؤية، وهل يثبت قبل الرؤية للمشتري؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإنه منوط في الخبر -إن صح- بالرؤية، كما سنرويه في آخر الباب. والوجه الثاني - أنه يثبت الخيارُ قبل الرؤية؛ فإنا نُثبت له حقَّ الفسخ عند الرؤية، مغبوناً كان أو مغبوطاً، فلا معنى لاشتراط الرؤية. ثم إن لم يثبت خيار الرؤية قبلها، لم ينفذ فسخُ المشتري، ولا إجازته. وإن أثبتنا الخيارَ قبل الرؤية، فينفذ الفسخُ ولا تنفذ الإجازة؛ لأن الفسخ مقصود الخيار، فنفذ لقوّته، ووقفت الإجازةُ على الرؤية. هذا ما وجدته في الطرق. فأما إذا رأى، فالخيار يثبت. وأحسنُ ترتيب فيه: أنا إن أثبتنا للمشتري خيارَ المجلس عقيب العقد، فهذا الخيارُ يثبت على الفور، ولا يمتد امتداد المجلس، وإن قلنا: لا يثبت له خيار المجلس ابتداءً، فإذا ثبت له الخيار عند الرؤية، فهل يمتد امتدادَ المجلس، فعلى وجهين: أحدهما - أنه على الفور، كخيار العيب، ووجهه أنه معلّق شرعاً بالرؤية، وليس ممدوداً، فليقرن بها كخيار العيب المنوط بالاطلاع على العيب، وهذا هو الصحيح. والوجه الثاني - أنه يمتد في حقه امتداد المجلس؛ فإنه لم يثبت له خيار المجلس، وهذا شبيهٌ بخيار المجلس، فكأنه اعتاضه عنه. فإن قلنا: خياره على الفور، فلا يثبت للبائع الخيار، وإن نفينا خيار المجلس عنه ابتداء؛ فإنا إذا حكمنا بأن خيار الرؤية على الفور، فلابد من اختصاصه بمن لم يرَ. وإن حكمنا بأنه يمتد امتداد المجلس، وأثبتنا للبائع خيار المجلس ابتداء، فلا خيار له عند الرؤية، بعد انقضاء المجلس. وإن لم نُثبت للبائع خيارَ المجلس ابتداء، وحكمنا بامتداد خيار الرؤية في حق المشتري، فهل يثبت للبائع الخيار مع المشتري؟ على وجهين: أحدهما - لا يثبت، ويختص بمن لم يَرَ المبيع، والثاني - يثبت، وحقيقةُ الوجهين ترجع إلى أن هذا خيار المجلس أم لا، فكأن أحد القائلَيْن يزعم أن خيار المجلس يتراخى في بيع الغائب إلى وقت الرؤية، فعلى هذا يثبت الخيارُ للبائع مع المشتري، والثاني - يقول: ليس هو

خيارُ مجلس، وإن امتد امتداد مجلس المشتري، [فعلى هذا لا يثبت للبائع] (1). فهذا ما أردناه. فصل يجمع مسائل تلتحق ببيع الغائب 2874 - منها: إذا اشترى صُبْرةً من حنطة، أو غيرها من المتماثلات، وكان لا يختلف ظاهرها وباطنها، فهو صحيح قولاً واحداً؛ فإن الظاهر دالٌّ على الباطن، وهذا يُعدّ رؤية عُرفاً، ولو كان باطن الصُّبْرة يخالف ظاهرَها، فحِفْظِي عن الإمام (2) أن ذاك بيعُ غائب، وفيه احتمالٌ ظاهر عندي، ولو ظهرت تحت الصُّبرة دِكَّة، وكان المشتري يَحسَب الصُّبرة حنطة إلى استواء الأرض، فقد كان شيخي يقول: هذا بيع الغائب، وقال غيره: هو بيع معاين؛ فإن الحنطة لم تختلف، ولكن يثبت الخيار للمشتري، وستأتي نظائر ذلك، في بيع المصراة، ولا وجه لما قاله شيخي. ولو قال: بعتك صاعاً من داخل الصُّبْرة، فهو بيع غائب. وأقرب صورة شبهاً بهذا مسألة النموذج، إذا لم يدخل في البيع، ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبْرة، فليس بيعَ غائب، ولكن في بيع صاع من صُبْرة تفصيلٌ لا يتعلق بالغَيْبة والحضور. ولو اشترى ثوباً منشوراً، ورأى أحد وجهيه، وكان لا يستدل به على الوجه الثاني، فهو بيع غائب، فإن كان لا يختلف وجهاه كالكرباس (3)، وما في معناه، ففيه وجهان، ذكرهما شيخي والصيدلاني. والوجهُ القطعُ بأنّه بيعُ غائب. وذكر المُزني مسألة تردد فيها الأصحابُ، وهي أن من باع منديلاً نصفه في صندوق

_ (1) مزيدة من: (هـ 2). (2) الإمام يقصد والده. (3) الكرباس: الثوب الخشن، وهو فارسي معرّب، بكسر الكاف، والجمع (كرابيس) وينسب إليه بيَّاعه، فيقال: (كرابيسي) وهو نسبة لبعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه. (المصباح).

ونصفه بارز منه، فقد اختلف الأئمة في المسألة، فمنهم من قطع بأن المسألة على قَوْلي بيع الغائب، والشافعي أجاب بالفساد، جرياً على أحد القولين، وأشار بعضُ الأصحاب إلى أن البيعَ يفسُد في هذه الصورة قولاً واحداً؛ لأن ما لم يره في محل خيار الرؤية لو صح البيع فيه، وما رآه لا خيار فيه، وهذا قد يُفضي إلى قطع البارز عن المستور. وهذا ليس بشيء؛ فإنا لو قدرنا خيار الرؤية، لاقتضى ردّ الجميع، كما لو اشترى عمامة رآها، ثم وجد بجزءٍ منها عيباً؛ فإنه يرد جميعَها، ولا يختص الرد بمحل العيب. وأشار بعض الأصحاب إلى تخريج المسألة على تفريق الصفقة، إذا اشتملت على مختلفين، وهذا فاسدٌ، لما قدمناه؛ فإن الكل في حكم ما لم يُرَ، كما استشهدنا به في العيب؛ إذ المبيع واحد، فلا وجه إلا طريقة القولين. ولو اشترى ثوباً مطوياً، فقد ألحقه الأئمة ببيع الغائب، وقطعوا القول به. فصل 2875 - المعتمد في الأصل اتباع العُرف في الإعلام، ونحن في منع بيع الغائب إذ [عَنَيْنا] (1) بأن المبيع لم يعلم، [عنينا لم يعلم] (2) بما يعلم مثلُه في العرف، ومعلوم أن من الثياب ما يَنْقُصه النشر والردّ إلى طاقةٍ واحدة، ولا يُنشر كذلك إلا إذا أريد قطعه، وقد جرى العرف بأن مثل هذا الثوب يُرى منه طاقات، ولا ينشر عند البيع. فما نقله الأئمة تخريج المسألة على قولي بيع الغائب، ويحتمل عندي أن يُصحَّح البيع قطعاً، لما في النشر من التنقيص، ويُلحق ذلك ببيع الجوز، والمقصود منه لُبُّه، ولكن لما كان في كسره إبطالُ مقصود الادّخار، وانضمَّ إلى ذلك عموم العرف، صح العقد.

_ (1) في النسختين عينا. والمثبت تقدير منا. (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

فإن قيل: عمّ العُرف ببيع الثياب التّوزيَّة (1) في المُسوح (2)، قلنا: لا يتجه فيه إلا التخريج على بيع الغائب، وعموم عرف أهل الزمان يُحمَل على مقصود المالية، والإضراب عن رعاية حدود الشرع على قول من يمنع بيع الغائب. والذي يحقق ذلك أن من أراد ابتياع ثوب بعينه ممّا في المسح، فإنه يراه عرفاً، ثم يشتريه. فإن قيل: من اشترى جارية متنقبة، فهو بيع غائب، فإن أراد الخروج عن القولين، فكيف السبيل؟ قلنا: ينظر إلى وجهها، ويديها، ورجليها، وإلى ما يظهر من أطراف ساقها وساعدها، في الفِضْلَةِ (3) والمهنة، ويجوز أن نقول: ينبغي أن يرى ما ليس عورة من الجارية باتفاق، وهو المعروض منها في العرف. وظهر اختلاف الأصحاب في أن رؤية الشعر هل هي من تمام عرضها، حتى إذا لم يُرَ، كان العقد بيعَ غائب. ولم يتعرض الأصحاب لكشف الرأس، وهو محتمل عندنا، ويمكن أن يستفاد من ذكر الاختلاف في كشف الشعر الاختلافُ فيه. فرع: 2876 - قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: بيع اللحم في الجلد قبل السلخ باطلٌ، قولاً واحداً، سواءٌ بيع دون الجلد، أو مع الجلد. وعندي أن تخريج بيعه مع الجلد على قولي بيع الغائب محتمل. وقال الشيخ: إذا سلخ الجلد، ثم رُدّ اللحم إليه فبيع، فهو على قولي بيع الغائب. وبيع الرؤوس والأكارع، وعليها جلودها مشويةَ ونِيّة جائزٌ، قولاً واحداً. وذلك

_ (1) الثياب التّوزيَّة: نسبة إلى مدينة (تُوْز) وزان فُعْل، مدينة من بلاد فارس، وعوامّ العجم تقول: تَوْز بفتح التاء (المصباح). (2) "المسوح" جمع مِسْح، وهو ثوب غليظ من الشعر (المعجم) و (المصباح) فهل المعنى أن الثياب التوزية كانت تعرض للبيع ملفوفةً في "المسوح" أم أن "المسوح" علمٌ على نوع من الأغلفة كانت تُدرج فيها الثياب التوزية. كما هو المفهوم من السياق؟ (3) المراد بالفِضلة (بكسر الفاء) الثوب الواحد الذي يُبقيه المتفضل على جسده عند النوم والمهنة.

غالب في العرف، والجلودُ مأكولة عليها؛ فهي كاللحم. وأما السموط فقد قال الشيخ: يجوز بيعهُ مشوياً، ونِيّاً مهيأً للشي. وأنا أقول: أما المشوي فكما قال، وفي النِّىّ احتمالٌ. فرع: 2877 - من باع شيئاً والبائع لم يره، ففي صحة العقد قولان. والمراوزة يرتبون القولين في ذلك على القولين فيه إذا رأى البائع ولم ير المشتري، ويجعلون عدم رؤية البائع أولى باقتضاء الفساد. والعراقيون يرون عدم رؤية المشتري أولى باقتضاء الفساد، وما ذكروه أفقه؛ فإن المشتري متملكٌ، والضبط بالتملك أَلْيق، والبائع مزيل. والذي يحقق ذلك أن المشتري إذا اطلع على عيب فيما حسبه سليماً، فله الخيار، والبائع لو باع ما يحسبه معيباً، ثم استبان أنه سليم، فلا خيار له. التفريع: 2878 - إذا صححنا بيعَ ما لم يره البائع، ففي ثبوت الخيار له وجهان: أحدهما - يثبت كالمشتري، والثاني - لا يثبت وهو الأصح؛ لأنه مزيل، والخيار عنه بعيد. فرع: 2879 - كان شيخي يقول: هبة الغائب كشراء الغائب، ويحتمل أن تُرتَّب الهبةُ على الشراء؛ إذ الهبة بالصحة أولى؛ فإنها ليست عقدَ مغابنة، والرهنُ قريبٌ من الهبة. ***

باب خيار المتبايعين ما لم يتفرقا

بابُ خيار المتبايعين ما لم يتفرقا 2880 - خيار المجلس ثابتٌ عند الشافعي، والمعتمد الخبر الصحيح، ومعنى خيار المجلس أن يتخير المتعاقدان، في الفسخ والإجازة، بعد العقد ما لم يتفرقا. ونحن نتكلم في معنى لفظةٍ في الحديث المعتمد، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار، ما لم يتفرقا إلا بيعَ الخيار" (1). وقد اختلف أصحابنا في قوله: "إلا بيع الخيار"، منهم من قال: معناه يلزم البيعُ بالتفرق عن مجلس العقد إلا بيعاً يشرط فيه خيار ثلاثة أيام؛ فإنه يبقى جوازه ببقاء مدة الخيار، وإن انقطع خيارُ المجلس بالتفرق. ومن أصحابنا من قال: معناه أنه يثبت خيار المجلس في كل بيع إلا بيعاً يشترط فيه المتعاقدان نفيَ خيار المجلس. وهذا التأويل يستدعي تقديمَ بيان المذهب في ذلك، فنقول: اختلف الأئمة في البيع الذي يشترط فيه نفيُ خيار المجلس على ثلاثة أوجه: فمنهم من قال: الشرط فاسد لمخالفته مقتضى الشرع، ثم إذا فسد الشرط، فسد البيع. وهذا ليس بالمرضي.

_ (1) الحديث متفق عليه، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وله عنه ثلاث طرق: الأول - عن نافع بلفظ: "البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار" وهكذا هو عند البخاري: 2/ 18، 19، كتاب البيوع، باب 44 البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، ح 2111، ومسلم: 5/ 9، كتاب البيوع: باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، ح 1531، وكذا مالك: 2/ 671/79، أبو داود: البيوع، باب في خيار المتبايعين، ح 3454، والنسائي: 2/ 213، البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما، ح 4470، والطحاوي: 2/ 202، والبيهقي: 5/ 268، وأحمد: 2/ 73. (إرواء الغليل: 5/ 153 - 154) وراجع إن شئت باقي طرق الحديث وألفاظه في الموضع نفسه.

ومنهم من قال: الشرط صحيح، وينتفي الخيار، ويلزم العقد. وهذا القائل يحمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا، وقد روى الشافعي هذا التأويلَ عن مسلم بن خالد الزنجي (1)، فإن قيل: كيف يحمل قوله: "إلا بيع الخيار" على نفي الخيار، قلنا: المتعاقدان لو تخايرا في المجلس، وأَلزما العقدَ، لزم. فإذا شرطا قطعَ خيار المجلس، فكأنهما تعجلا التخايرَ والإلزامَ حالة العقد. ومن أصحابنا من قال: الشرط فاسد، والعقد صحيح، ويثبت خيار المجلس. وهذه الأوجه الثلاثة تقرب من الاختلاف في شرط نفي خيار الردّ بالعيب، على ما سيأتي. ولذلك لم نُغرق في التوجيه. وإذا صححنا بيع الغائب، فشرط فيه نفي خيار الرؤية، ففيه الأوجه الثلاثة في خيار المجلس. وخيار الرؤية أبعد عن قبول النفي؛ فإن بيع الغائب مع نفي الخيار غرر ظاهر، ولا يتحقق ذلك في خيار المجلس. فهذا تمهيدُ معتمدِ الباب. ثم نذكر بعد ذلك فصلين: أحدهما - ما يثبت فيه خيار المجلس من العقود، والثاني - في ذكر ما يقطع الخيارَ، أو يُنهيه. [الفصل الأول فيما يثبت فيه خيار المجلس] (2) 2881 - فأما ما يثبت فيه خيارُ المجلس، فقد قال الأئمة: إنه يثبت في كل بيع؛ فإن المعتمد فيه الخبر، وهو عام في كل بيع، فيندرجُ تحت ما ذكرناه: بيعُ العُروض، والصَّرف، والسَّلم، والمرابحة، والتَّوْلية والإشراك، كما سيأتي بيانها.

_ (1) مسلم بن خالد بن فروة المخزومي أبو خالد الزنجي المكي الفقيه، روى عنه ابن وهب والشافعي وآخرون. توفي في خلافة هارون الرشيد سنة ثمانين ومائة بمكة. (ابن حجر، تهذيب التهذيب: 10/ 128). (2) عنوان النص من عمل المحقق، أخذاً من تقسيم المؤلف نفسه.

وذكر شيخي وجهين في الولي الذي يتولى طرفي العقد، إذا باع مالَ الطِّفل من نفسه، أو باع ماله من طفله، فهل يثبت له خيار المجلس، فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإن المعوّل الخبر، وهو في المتبايعين، والولي قد تولى الطرفين. والثاني - يثبت، وهو ظاهر المذهب؛ فإنه بيعٌ محقق، وغرض الشارع إثباتُ خيار المجلس في البيع، وخصص المتبايعين إجراء للكلام على الغالب المعتاد. فإن قلنا: له الخيار، فيمتد امتدادَ مجلس العقد، ثم الوجه عندي إثباتُ الخيار من وجهين: أحدهما - للولي على الخصوص، والثاني - للطفل، والولي نائب عنه، فإن فسخ نفذ كيف فرض الأمر، وإن أجاز في حق نفسه ونظر في إجازته لطفله، لزم العقدُ، وإن أجاز في حق نفسه، بقي له النظر لطفله في الفسخ والإجازة. فرع: 2882 - إذا اشترى الرجل من يَعتِق عليه، فالمذهب المشهور أنه لا يثبت فيه خيارُ المجلس؛ فإنه ليس عقد مغابنة، والحديث وإن لم يتقيد بالمغابنة، فهو مشعرٌ بعقد يفرض في مثله استدراك غبينة (1). وقال أبو بكر الأُودَني: يثبتُ خيارُ المجلس، وتمسك بظاهر الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم "لن يَجزيَ ولدٌ والدَه إلا بأن يجدَه مملوكاً فيشتريه فيُعتقَه" (2)، قال: هذا ظاهر في إثبات إنشاء إعتاق بعد العقد، وعنده أن المشتري لو فسخ في المجلس، انفسخ، ولو أعتقه، أو ألزم العقد، كان كما لو اشترى عبداً لا يعتِق عليه. وستأتي تصرفات المتعاقدين في مكان الخيار وزمانه. فإذا قلنا: لا خيار للمشتري، فلا خيار للبائع أيضا، وإن كان العقد من جانبه عقد مغابنةٍ. ولكن النظر إلى كون العقد عقد عَتاقة. هذا قولنا في البيوع.

_ (1) الغبينة: الخديعة: يقال: لحقته غبينة في تجارته. (معجم). (2) الحديث: "لن يجزي ولدٌ والده إلا بان يجده مملوكاً ... " رواه مسلم عن أبي هريرة، كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد، ح 1510.

2883 - فأما ما سواها، فالعقود الجائزة من الجانبين لا معنى لتخيّر (1) خيار المجلس فيها: فإن الجواز مطرد غيرُ مختص بمجلس. وأما العقد الجائز من أحد الجانبين كالرهن والكتابة، فلا وجه لتوهم خيار المجلس في المرتهن والمكاتب؛ فإنهما متخيران أبداً، ولا يثبت الخيار للراهن والسيد، قطع به الأئمة، وعللوا بأنهما مغبونان تحقيقاً، والخيار للاستدراك. وهذا تكلف. والمعتمد الخبر وهو في البيع. والرهن والكتابة ليسا في معنى البيع، والقياس منحسمٌ. وصلح المعاوضة بيعٌ في الحقيقة، ففيه الخيار. ولا خيار في الهبة التي لا ثواب فيها، إذا اتصلت بالقبض. وإن كان فيها ثواب، فقد ذكر العراقيون وجهين في ثبوت خيار المجلس والشرط: أحدهما - يثبتان؛ [لأنها في معنى البيع، والثاني لا يثبتان] (2)؛ لأنها لا تسمى بيعاً؛ والمتبع التوقيف. وهذا الخلاف من طريق المعنى يقرب من تردّد الأصحاب في أن الهبة بالثواب هل تفتقر إلى القبض في إفادة الملك؟ وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وأما الحوالة، ففي حقيقتها خلاف، فإن حكمنا بأنها ليست معاوضة، فلا خيار فيها، وإن حكمنا بأنها معاوضة، فقد قال العراقيون: لا يثبت فيها خيار الشرط، وفي خيار المجلس وجهان. وكان شيخي يثبت الخلاف في الخيارين، وهو الوجه إن لم يكن من الخيار بُدّ. والظاهر أنهما لا يثبتان؛ فإن الحوالة لا تسمى بيعاً، وليست في معناه، وهي بعيدةٌ عن قبول الفسخ. وأما القسمة فمنقسمةٌ إلى قسمة إجبار، وقسمة اختيار. فإن كانت قسمةَ إجبارٍ، فلا خيار فيها، والمحكَم القرعةُ. وإن كانت قسمةَ اختيار، خرج أمرُ الخيار على حقيقة القسمة؛ فإن قلنا: ليست القسمة بيعاً، فلا خيار فيها، وإن قلنا: إنها بيع،

_ (1) كذا في النسختين، فهل هي مصحفة عن (تخيل)؟ يرشح ذلك قوله في صورة الكتابة والرهن: "فلا وجه لتوهّم". (2) زيادة من: (هـ 2).

فقد ذكر صاحب التقريب وجهين على هذا القول في ثبوت الخيارين: أحدهما - الثبوت، والثاني - وهو مختارُه، أنهما لا يثبتان؛ فإن القسمة لا تسمى بيعاً، وليست عقداً منشأً، وإنما لها حكم البيع في بعض القضايا. وقد نجز الفصل الأول. الفصل الثاني فيما يقطع خيار المجلس أو ينهيه 2884 - فنقول: ما يقطع خيارَ المجلس ينقسم إلى قولٍ، وإلى ما ليس بقول. فأما القول، فينقسم إلى المتعرض للخيار، وإلى تصرفٍ يتضمن فسخاً أو إجازة، فأما التصرف، فسنذكره عند نجاز القول في أصل خيار المجلس والشرط. وأما القول المتعرض لنفس الخيار؛ فنقول: إذا قال المتعاقدان في المجلس: ألزمنا العقد، أو أجزناه، أو قطعنا الخيار، انقطع الخيارُ، ولزم العقدُ، وإن كانا في المجلس؛ فإن الخيار حقُّهما، فإذا أسقطاه، سقط، وكان كإسقاط حق الرّد بالعيب، عند الاطلاع، وليس ذلك كشرط نفي الخيار في العقد؛ فإنه منعٌ لثبوت موجَب العقد، فكان كشرط التبرِّي من العُيوب، من غير اطلاع عليها. ولو قال أحد المتعاقدين: أجزتُ العقد، ولم يساعده الثاني، لم يبطل خيار صاحبه. وهل يبطل خياره في نفسه؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يبطل، كما لو ثبت لهما خيار الشرط، فأسقط أحدهما خيارَ نفسه. والثاني - لا يبطل خيارُه؛ فإن وضع خيار المجلس أن يثبت للمتعاقدين جميعاً، وإن انقطع، [انقطع] (1) عنهما، ولا وجه لإبطال خيار من لم يُبطل حق نفسه، فيبقى خيارُ المجيز أيضاً. فإن قيل: هلا بطل خيارُ المجيز، وخيار من لم يجز، حتى تنزل إجازةُ المجيز منزلةَ ما لو فارق صاحبه؟ قلنا: المفارقة [تُنهي] (2) خيارَ المجلس بنص الخبر، وليس

_ (1) مزيدة من: (هـ 2). (2) مزيدة من: (هـ 2).

فيه تفويتٌ لحق واحدٍ منهما؛ فإنه إذا هم أحدهما بالمفارقة، تمكن الثاني (1) من مساوقته، واستمكن من مبادرة الفسخ. قال شيخي: لو قالا: أبطلنا الخيار، أو قالا: أفسدناه، ففيه وجهان: أحدهما - لا يبطل الخيار؛ فإن الإبطال يُشعر بمناقضة الصحة، ومنافاة الشرع، وليس كالإجازة؛ فإنها تصرفٌ في الخيار، وهذا ضعيف جداً، ولكن رمز إليه شيخي، وذكره الصيدلاني. 2885 - فأما ما لا يكون قولاً، وهو رافعٌ للخيار، فالأصل في ذلك الافتراق، فإذا تفرق المتعاقدان، زال خيارُ المجلس، وإذا لزم أحدهما المجلس، ففارقه الثاني، انقطع الخيارُ؛ فإن هذا إذا جرى عُد افتراقاً، والشارع اعتبر الافتراق، وليس من شرطه، أن يأخذ أحدُهما جهةً، ويأخذ الآخر جهة أخرى، ولو تساوقَ المتبايعان، وزايلا مكان العقد، ولم يتفرقا، فالبيع جائز، والخيار قائم، وإن تماشيا أياماً منازل (2)، فالمعتمد في قطع الخيار افتراقُهما. ثم الرجوع في الافتراق إلى العرف، فليس في ذلك توقيفٌ شرعي، ولا ضبط معنوي؛ فإن جمعهما بيتٌ مقتصدٌ، فالمفارقة بخروج أحدهما من البيت، وإن كانا في عَرْصةٍ ضاحية (3)، فإذا فارق أحدهما، ومشى خطوات، وبَعُد بُعداً، يُعدّ ذلك مفارقةً، انقطع خيارُ المجلس. ولو تبايعا قريبين من باب بيت، فتعدى أحدهما البابَ، وخرج، فالظاهر عندي أن ذلك مفارقة، وإن خطا خطوتين مثلاً. وإذا تبايعا في صدر بيتٍ مقتصد، فالمفارقةُ بالخروج من الباب. هذا حكم الجريان على العرف. ويخرج من ذلك أن البعد يختلف باختلاف المجالس، فإن جمعهما بيتٌ، فالتعويل على الخروج منه، وإن لم يجمعهما بيت، فيراعى فيه بُعدٌ يُعدّ فراقاً، ويمكن

_ (1) عبارة (هـ 2): تمكن الآخر من المساوقة. (2) منازل: جمع منزل. والمراد هنا مراحل الطريق التي ينزل المسافرون بعدها للراحة. (3) عَرْصة الدار ساحتها. وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناءٌ، والجمع عراصٌ وعرصات (معجم ومصباح). والمراد هنا أنهما تبايعا في بقعة خارج البلد.

أن يقال: وجه التقريب فيه -إذا لم يكن بيتٌ جامع- إن جلوس رجلين في مجلس واحد ليس يخفى، وذلك ينقسم إلى التقارب في الجلوس والتباعد، وقد يتدانى رجلان حتى يتماسَّا، وقد يبعد أحدهما عن الثاني بعضَ البعد، ولكن يُعدان في مجلس واحد. فهذا ما ينبغي أن يراعى. فنقول: إذا فارق أحدهما الثاني، وانتهى إلى موضع، لو استقر فيه، لم يُعدّ المكان مجلساً جامعاً، فهذا فراق، وإن كان أقرب من ذلك، فليس فراقاً. ويمكن أن يقال: المجلس الواحد ما يتسير فيه التفاهم، مع الاقتصاد في الصوت، ويراعى في ذلك اعتدال الأحوال. فهذا أقصى الإمكان. ويخرج عليه أن البيت إذا تفاحش اتساعه، وقد تبايعا في صدره، فيتحقق الفراق بأن يفارق أحدهما الثاني إلى بعض البيت؛ فإن مثل هذا البيت لا يبين أن يكون مجلساً واحداً لشخصين. فإن قيل: العرف يختلف في اتحاد المجلس، وقرب الجلوس وبُعده، باختلاف الأقدار والمناصب، فالمتوسط لا يقرب من الملك قُربَه ممن هو في مثل حاله، قلنا: المجلس لا يختلف عندنا بذلك، والذي خيّله السائلُ مغالطةٌ؛ فإن منصب الملك يمنع أن يجتمع [معه] (1) متوسط في مجلس واحد، فهذا من باب امتناع اتحاد المجلس، وليس من تفاوت المجلس. 2886 - فإن قيل: لو وقف المتعاقدان متباعدين، وزادت المسافة بينهما على مقدار المجلس، وتناديا بالإيجاب والقبول، فهل ينعقد العقد؟ وإن انعقد فما حكم خيار المجلس؟ قلنا: الوجه القطع بصحة البيع، إذا اتصل الإيجاب بالقبول من جهة الزمان، هذا ما أثق به، نقلاً ومعنى. فأما خيار المجلس ففيه احتمال ظاهر، يحتمل أن يقال: لا خيار؛ فإنهما أنشآ العقد على صورة التفرق، وهو قاطعٌ للخيار إذا طرأ على المجلس الجامع، فإذا قارَن العقدَ، منع ثبوتَه. ويجوز أن يقال: يثبت لكل واحد منهما الخيار. ثم إذا قدرنا

_ (1) في الأصل: فيه.

ثبوتَه، اعترض احتمال آخر في أن أحدهما إذا فارق مكانَه، وبطل خيارُه، هل يبطل خيار صاحبه أم يبقى خيار صاحبه إلى أن يفارق هو أيضاً مكانه؟ فيكون خيار كل واحد منهما منقطعاً عن خيار الثاني. هذا فيه تردد. فإن قيل: إذا تعاقدا والمجلس جامع، ثم صابرا حتى بُني بينهما جدار حائل، فهل يصيران في حكم المتفرقين؟ قلنا: إن بنى أحدُهما الجدارَ، فالظاهر أن هذا بمثابة مفارقته، وإن بنى غيرُهما، اتصل القول بأن أحد المتبايعين لو حُمل وأُخرج من المجلس، هل ينقطع الخيار؟ وفيه فصل يأتي إن شاء الله تعالى. ومن لطيف القول في هذا الفصل، أن المتبايعين لو كانا بقربِ الباب، فخرج أحدهما، فهو مفارق، وإن قربت المسافة. ولو كانا في مكانٍ ضاحٍ، فلا بُد من اعتبار بُعدٍ، كما سبق بيانه، فلو كانا في مكان بارز كما ذكرنا، ففارق أحدهما بعد العقد وبَعُد على الحدّ المذكور، فانتصب (1 واتبعه الآخَر، لم ينفعه ذلك بعد وقوع الفراق. ولو كانا في بيتٍ قريبين من بابه، ففرّ أحدُهما وفارق العتبة 1)، فاتبعه الثاني على الفور، فالظاهر عندي في هذه الصورة أن البيع على جوازه؛ فإن مثل هذا لا يُعد تفرقاً في العرف. فهذا مقدار غرضنا في البعد المُنهي للمجلس. فصل 2887 - إذا مات أحد المتعاقدين في مجلس العقد، فالمنصوص للشافعي أنه لا ينقطع الخيار بموته، بل يقوم وارثه مقامه. وقال في المكاتَب: إذا باع شيئاً أو اشتراه، ثم مات في مجلس العقد، وجب العقد، فأشعر قولُه "وجب" بانقطاع الخيار. واختلف الأئمة: فمنهم من قال: في انقطاع خيار المجلس بالموت قولان، سواء فُرض العاقد مكاتَباً أو حُرّاً.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2).

توجيه القولين: من قال بالانقطاع تمسك بأن خيار المجلس يقطعه التفرق؛ من حيث إن المفارق بفراقه يخرج عن مجلس التخاطب، ومفارقة الدنيا بالموت أبلغ في هذا المعنى، والميت في حكم التصرفات كالمعدوم، فكأنه عُدم عن مجلس العقد. والقول الثاني - أنه لا ينقطع الخيار؛ فإنه حقٌ ثابت قاطِعُه في الحديث التفرّق، وهذا ليس تفرقاً إطلاقاً، فالوجه إبقاء الخيار حقا لوارثه. ومن أصحابنا من قطع ببقاء الخيار، وقال: أراد الشافعي بقوله: وجب البيع، أي استمرت صحته، ولم يبطل، وقد يَظن ظانٌّ أن البيع ينقطع بموت المكاتب رقيقاً. ومن أئمتنا من حاول الفرق، وتقرير النصين، وقال: إن كان العاقد مكاتباً، انقطع الخيار بموته، بخلاف ما لو مات من يورَث؛ لأن الوارث ينوب مناب المورث، وكأنه هو، فإذا خلفه كان بمثابة الميت، والسيد ليس في حكم النائب عن مكاتبه، فإذا انقلب إلى الرق، بَعُد أن يقال: ينوب السيد عن مكاتبه، ويخلُفه. وهذا ليس بشيء؛ فإن المكاتب إذا رَقَّ، قام السيد مقامه في الحقوق، التي ثبتت له، والخيار من الحقوق التابعة للملك والعقد، فإذا انقلب العقد بحقوقه إلى السيد، فالخيار من حقوقه. والطريقة المشهورة طرد القولين. التفريع: 2888 - إن حكمنا بانقطاع الخيار بموت أحدهما، فقد لزم العقد من الجانبين، وإن قلنا: لا ينقطع خيار المجلس بموت أحد المتعاقدين، فإن كان الوارث في مجلس العقد حل محل الميت، وكأنه لم يمت، فيتعلق بالوارث من المفارقة والبقاء في المجلس ما كان يتعلق بالعاقد لو بقي، وإن كان الوارث غائباً، فبلغه الخبر، ثبت الخيار. ثم ذلك الخيار يثبت على الفور، أو يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر، فعلى وجهين ذكرهما الإمام، وصاحب التقريب: أحدهما - أنه على الفور؛ فإن المجلس قد انقضى، ولكنّا رأينا ألاّ نعطلَ حقا ثبت للمورث، فأثبتنا أصله للوارث، وعسر اعتبار المجلس؛ فاقتضى ذلك الفور.

والوجه الثاني - أنه يمتد؛ فإن الخيار الذي ثبت للمورث كان ممتداً، فليثبت للوارث على الامتداد، والوجهان كالوجهين فيه إذا مات أحد المتعاقدين في زمان الخيار، فخيار الشرط موروث، فإن كان الوارث غائباً، فلم يبلغه الخبر حتى انقضى الزمان المضروب للخيار، فكيف يثبت الخيار لذلك الوارث؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه يثبت على الفور؛ فإن الزمان المذكور قد انقضى، والثاني - أنا نثبت للوارث الخيارَ في مثل المدة التي كانت بقيت، لما مات من له الخيار. ونتمم تفريع ذلك في خيار الشرط ثم نعود إلى خيار المجلس، فنقول: إذا مات من تولى العقد، فقد انقضى من زمان الخيار يومٌ، وقد بقي يومان، فبلغ الوارثَ الخبرُ، وقد بقي من مدة الخيار يوم، فلا خلاف أن خيار الوارث يدوم في هذا اليوم؛ فإنه من بقية الزمان المذكور، وهل ينقطع خياره بانقضاء اليوم الأخير؟ أم يثبت له مع ذلك اليوم الخيارُ في يوم آخر؟ حتى يكمل له -بعد بلوغ الخبر- من الخيار ما كان باقياً لمَّا مات المورِّث؟ على وجهين. ومأخذهما ما قدمناه. 2889 - عاد بنا الكلام إلى خيار المجلس، فنقول: انقطاع المجلس بالموت كانقضاء زمان الخيار قبل انتهاء الخبر إلى الوارث، وتقدير مجلسٍ بمثابة ضرب مدةٍ للوارث، وقد انقضت المدة المذكورة قبل الخبر، والفور كالفور. 2890 - ومما نذكره في ذلك أنه إذا مات أحد المتعاقدين ووارثه غائب، فبلغه الخبر، والعاقد الباقي سبقه (1) إلى ذلك المجلس، فلا خلاف أنه يثبت له مع ذلك الوارث الخيارُ؛ فإن موت من مات إذا لم يقطع الخيارَ عن وارثه، فلا يتضمن قطع الخيار عن العاقد الباقي. ولكن اختلف أئمتنا في أنه هل يدوم خيارُ الباقي من المتعاقدين إلى أن يبلغ الخبرُ الوارثَ؟ أم يقضى بان الخيار يزول في حقه، حتى يثبت للوارث، ثم يعود إذ ذاك خيارُه؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يدوم خيارُه؛ إذ سبب استئخار خيارِ الوارث عدم بلوغ الخبر إليه، ولو كان الوارث عالماً، لتخيَّرَ، والباقي من المتعاقدين عالم بحقيقة الحال.

_ (1) في (هـ 2): "سبق".

والوجه الثاني - أنه لا يثبت له الخيار، قبل بلوغ الخبر إلى الوارث؛ فإنه لو تخير، لكان منفرداً في التصرف في خيار المجلس، في وقتٍ لا ينفذ فيه تصرف صاحبه. 2891 - وتحقيق ذلك يستدعي مزيداً؛ فنقول: من مات أبوه في غيبةٍ وهو لم يشعر بموته، فتصرف في ماله، على ظن أنه يتصرف ظالماً في مال أبيه، ثم بان أنه كان مات أبوه، وأنه تصرف في ملك نفسه، ففي نفوذ تصرفه اختلاف قولٍ، سيأتي إن شاء الله تعالى. فإن لم ننفذ تصرفَه في الصورة التي ذكرناها، فالوارث لو فُرض منه فسخٌ، أو إجازة قبل أن يبلغه الخبر، لم ينفذ. وإن نفّذنا التصرفَ في الصورة المتقدمة، فالوجه أن يقال: إجازته لا تنفذ، وفسخه ينفذ، بناء على القاعدة التي نبهنا عليها في وقف العقود، أما ردُّ الإجازة، فالسبب فيه أن الإجازة رضا، وإنما يتحقق الرضا مع القطع وتصميم العقد، فأما ما كان على تردد، فلا يتأتى منه قطع الإجازة، وقد قدّمنا في تفريع خيار الرؤية أن إجازة المشتري لا تنفذ قبل رؤية المبيع، وفي تنفيذ فسخه كلام، وفيما ذكرتُه من الإجازة في المسألتين احتمال ظاهر. فإن قيل: إذا قلنا: لا يثبت للعاقد الباقي الخيارُ قبل بلوغ الخبر إلى الوارث، تعليلاً بأنه لا ينفرد بالتصرف عاقدٌ في خيار المجلس، فلو بلغ الخبرُ الوارثَ، والعاقدُ لم يكن مع الوارث في ذلك المجلس، ولم يكن على علم من بلوغ الخبر إلى الوارث، فلا يثبت لهذا العاقد الخيارُ، إذا لم ينفذ التصرف على وقفٍ كما مضى. وإذا كان كذلك، فالوارث لو تخير، لكان منفرداً في تخيره. ومنشأ ما نُفرعُ عليه منعُ التفرد بالخيار، فلو جَرَينا على حَقِّ هذا القياس، لقلنا: لا يثبت للوارث الخيار إلا إذا كان العاقد عالماً مع علمه. قلنا: هذا مُشكل، ولكن قطع الأئمة أنه يثبت له الخيار كما (1) بلغه الخبر، سواء اقترن ببلوغ الخبر علمُ العاقد الباقي، أو لم يقترن، وعللوا بأن شرط اقتران علمه يعطل خيار الوارث، ويُعسِّر الأمرَ. هذا منتهى الإمكان.

_ (1) "كما" بمعنى عندما.

ثم إذا ثبت الخيار للوارث؛ فإن فسخ، نفذ، وإن أجاز، فحق العاقد الباقي في الفسخ هل يبقى؟ الوجه أن يقال: إن أثبتنا الخيار للوارث على الفور، وقلنا: لا يمتد امتداد المجلس، فإذا بطل الخيار بالتأخير، أو بالإجازة، انقطع خيارُ العاقد الباقي. وإن قلنا: امتد خياره امتداد مجلس بلوغ الخبر، فإن أجاز وهو في مجلسه بعْدُ لم يفارقه، فبلغ الخبرُ العاقدَ الحى والمجلس مستمر بَعْدُ، يثبت له حق الفسخ. وإن فارق الوارثُ مجلسَ بلوغ الخبر، فقد انقطع خياره، فينقطع الآن خيار العاقد الباقي، ونجعل مفارقة الوارث لذلك المجلس، بمثابة مفارقة أحد المتعاقدين. فإن قيل: إذا مات أحدُ المتعاقدين، وحكمنا بأن الخيار يثبت لوارثه، وكان غائباً، فقد بطل أثر هذا المجلس، فلو فارقه العاقد الباقي هل يتعلق بمفارقته حكمٌ؟ قلنا: لا يتعلق بمفارقته حكمٌ، والسبب فيه أن القاطع لخيار المجلس مفارقةُ أحد المتعاقدين الثاني، وإذا مات أحد المتعاقدين، فلا أثر لمفارقته، ولا يتعلق به في أمر المجلس حكمٌ، ووجوده وعدمه بمثابة. فصل 2892 - مذهب الشافعي أن خيارَ الشرط موروث، فإذا شُرط للمتعاقدين، فمات أحدهما في مدة الخيار، قام وارثه مقامه، كما قدمنا التفصيل في انقضاء المدة قبل بلوغ الخبر، وانقضاء بعضها. قال صاحب التقريب: إذا حكمنا بأن خيار المجلس لا يورث، فقد خرَّج عليه بعضُ أئمتنا قولاً أن خيار الشرط لا يورث، [فإنه] (1) كما اختص المجلس بالعاقد، ولم يوجد منه فراق محسوس، فكذلك الشرط [يختص] (2) بالعاقد. وهذا بعيدٌ جداً، لم أره لغيره.

_ (1) في الأصل: "وإنما". (2) في الأصل: "مختص".

فصل 2893 - إذا ثبت خيارُ المجلس بين المتعاقدَيْن، فأُخرج أحدُهما من المجلس محمولاً مكرهاً، فلا يخلو: إما أن يُسدَّ فُوه في حال النقل، حتى لا يتمكن من الفسخ، أو ينقل من غير ذلك، فإن حُمل مُكرهاً مسدودَ الفم، وأُخرج من المجلس، ففي انقطاع خيار المجلس وجهان في الطرق، يقربان من القول في الانقطاع بموت أحد المتعاقدين، والأقرب في الإخراج بقاء الخيار؛ فإنَّ من له حق الخيار باقٍ، وإبطال حقه اللازم قهراً مع بقائه بعيدٌ، فهذا فيه إذا أخرج مسدود الفم. فأما إذا حُمل مفتوح الفم، وكان متمكناً من الفسخ، ففيه طريقان: من أصحابنا من قطع بانقطاع الخيار، وهو اختيار الصيدلاني، فإنه كان متمكناً من التصرف، فلا يتحقق الإكراه. وذكر بعضُ أصحابنا وجهين في هذه الصورة، وأشار إليهما العراقيون، ووجه ذلك أنه كان مكرهاً في الإخراج، وهو سبب المفارقة، فقد جرى السبب القاطع للمجلس على كُره، فلا ننظر إلى تمكنه من الفسخ، وهذا يضاهي تركَ المجروح مداواةَ الجرح، مع القدرة عليها، حتى تَزهقَ روحُه (1)، وقد يكون المخرَج مبهوتاً في تلك الحالة، أو تكون عليه بقية من التروِّي، ففي إرهاقه وهو في تروّيه إكراه في مقصود الخيار. فإن قلنا: يبطل خيار المكرَه المُخرج، فيبطل خيار الباقي في المجلس؛ فإنا نجعل هذا الإخراج في قطع المجلس بمثابة الخروج على سبيل الاختيار، ولو خرج مختاراً، لانقطع خيارهما جميعاً. فأما إذا قلنا: لا يبطل خيار المخرَج كُرهاً، نُظر في الباقي، فإن ضُبطَ (2) حتى لا يساوق هذا المخرَج، فلا يبطل خيارُه؛ [إذْ] (3) تحقق الإكراه في حقه، كما

_ (1) فترْكُ مداواة الجرح لا يمنع من تحميل الجاني الجناية على النفس، بعد أن كانت جُرحاً وجناية على الطرف. (2) ضبط: المراد ألزم المجلس مرغماً حتى لا يرافق المكره على الخروج. (3) في الأصل: إذا. وما أثبتناه من: (هـ 2).

تحقق في حق [المخرج] (1)، وإن كان مطلقاً، وكان يمكنه أن يساوقه حتى لا يتحقق الافتراق، فتقاعد ولم يساوقه، فذلك منه بمثابة إجازة العقد مع دوام المجلس. وقد ذكرنا أن أحد المتعاقدين إذا أبطل خيار نفسه وحكمنا ببقاء خيار صاحبه، فهل يبطل خيار من أبطل خيار نفسه؟ فعلى وجهين: والمذهب البطلان. ثم تمام التفريع في ذلك أنا إذا أثبتنا لهما الخيار، وقد جرى التفرق، فمهما (2) تمكن المخرجُ من التصرف وهو في المجلس، فالقولُ فيه كالقول في الوارث إذا بلغه الخبر، وأثبتنا له الخيارَ، وقد سبق القول في الفور والامتداد إذا زايله الإكراه وهو مارٌّ، غيرُ قار في موضع، فإن كنا نرى الخيار على الفور لو كان في مجلس، فالخيار على الفور، عند تحقق التمكن، وزوال الإكراه، وإن قلنا: يمتد الخيار امتداد المجلس، فإذا كان ماراً غيرَ لابثٍ، فالذي أراه أنه إذا فارق في مروره مكان التمكن، انقطع خياره؛ إذ لا ينضبط لمروره منتهى، فكان مكان التمكن مجلساً، وقد فارقه. 2894 - فإن قيل: إذا خرج عن مجلس العقد مكرهاً، وحكمنا بأنه لا يبطل خياره وبسبب هذه المفارقة، فإذا زايله الإكراه وتمكن من الانقلاب على المجلس والاجتماع بمُعَاقِده، فهل عليه ذلك إن أراد بقاء الخيار؟ قلنا: الوجه عندنا أنه إن طال الزمان، فقد انقطع ذلك المجلس حسّاً، فلا معنى للعود. وإن قرب، ولم يطل الفصل، ففي المسألة احتمال في تكليفه العودَ إلى الاجتماع بمُعاقده، من حيث إنه في استدامة الكَوْن على صورة المفارقة في حكم المؤْثر للفراق. والعلم عند الله تعالى. فرع: 2895 - إذا جُنَّ من له الخيار في مكان الخيار وزمانِ الخيار، لم ينقطع خيارُه وفاقاً، وقام من يقوم عليه في أموره مقامه في أمر الخيار، وليس الجنون في معنى الموت؛ فإن الموت فراقٌ كما قدمناه. فلو فارق المجنون مجلسَ العقد، فهذا فيه احتمال يلاحِظ إخراج أحد المتعاقدين عن مجلس العقد كُرهاً. ويجوز أن يقال: لا ينقطع بمفارقة المجنون؛ فإن التصرف

_ (1) في الأصل: المكره. وما أثبتناه من: (هـ 2). (2) "فمهما": بمعنى: فإذا.

في الخيار، انقلب إلى الولي القوَّام عليه، ويعارض ما ذكرنا أنه لو كان كذلك، لكان الجنون كالموت، وكان المجنون كالمعدوم، حتى تخرج المسألة على قولين في بطلان الخيار، وليس الأمر كذلك، ولا شك أن من نسي العقدَ، وفارق المجلس، ثم تذكره، فينقطع خيارُه، ولو أكره على المفارقة حتى تعدى بنفسه المجلسَ، فيظهر تنزيل هذا منزلة ما لو حُمل وأُخرج. ولا وجه لتقريب ما نحن فيه من أحكام الحِنث في اليمين، وقد ذكرنا قولين في أن الناسي هل يحنَث في يمينه؟ فالذي نحن فيه لا يُتلقى من ذلك الأصل؛ فإن المعتبر في نفي الحِنْث، في حق الناسي على قولٍ = أن الحالف جعل اليمين وازعةً إياه مما حلف عليه، وهذا يُشعر بتخصيصه عقد اليمين بحالة الذكر؛ فإنّ اليمين المنسية لا تَزَعُ. والأصل الذي نحن فيه ليس من ذلك، والناسي إذا فارق مجلس العقد في حكم مضيّعٍ حقَّ نفسه بالنسيان. وأما إذا كان مكرهاً، فقد نقول: لا يبطل حقه اللازم بما هو مكره فيه، وذلك واضح لمن أَلِفَ مسالك الفقه. فصل 2896 - خيار الشرط ثابت في نص السنَّة، وهو متفق عليه، ومذهب الشافعي أنه لا يُزاد على ثلاثة أيام، والمتبع في ذلك التوقيفُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث حَبّانَ بنِ مُنقذ، أنه قال فيما رواه نافع، عن ابن عمرَ، قال: "كان حَبانُ بنُ مُنقذ رجلاً ضعيفاً، وكان قد سُفع في رأسه مأموماً (1)، فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار فيما اشترى ثلاثاً، وقال له: بع وقل لا خِلابة" (2) وكان

_ (1) سفع في رأسه مأموماً: أي أصيب إصابة بالغة بأم رأسه، أي أصابت دماغه. (2) حديث حبان بن منقذ: متفق عليه من حديث ابن عمر: البخاري: كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع، ح2117، 2407، 2414، 6964، ومسلم: البيوع، باب من يخدع في البيع، ح 1533، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 49 ح 1187، وليس عند الشيخين، ولا أصحاب السنن تسمية حبان بن منقذ، وأنه المخاطب بالحديث. ولكنه عند الشافعي، =

ثقل لسانُه لمكان الشجَّة، وكان يقول: لا خذابة، لا خذابة. والخيارُ مخالفٌ لوضع البيع، في منع نقل الملك، أو في منع لزومه، فثبوتُ الخيارِ حائدٌ عن الموضوع، فيتعين التوقيف فيه، فليس في إثباته غيرُ الاتباع، وقد ورد الخبرُ في إثبات الثلاث (1)، فلا مزيد عليها، فإذا تشارط المتبايعان الخيارَ ثلاثة أيام، ثبت. وإن شرطاه أقل من ذلك، ثبت المشروطُ بلا مزيدٍ، ولا سبيل إلى الزيادة على الثلاث، ولا يختلف ذلك باختلاف صفات المعقود عليه. 2897 - ثم أول ما نذكره تفصيلُ القول فيما يثبت فيه خيار الشرط من العقود، فنقول: خيار المجلس يعم كلَّ بيع، كما تقدم. وخيار الشرط لا يثبت من البيوع في الصرف والسلم. والسبب فيه أن الصرف لا يقبل الأجل، والخيارُ أحق بأن يكون غرراً من الأجل، وهو في التحقيق تأجيلُ نقل الملك، أو تأجيلُ لزومه، والسلم وإن قيل: التأجيل في جهة المسلَم فيه، فلا يتصور ذلك في رأس المال؛ إذْ إقباضُه في المجلس شرط العقد، فكان في ذلك كالصرف من الجانبين، والخيارُ لو قُدر ثبوته، لتضمن جوازَ العقد في عِوَضيْه؛ إذ لا يتصوّر بيعٌ جائزٌ في أحد العوضين. فرع: 2898 - إذا ثبت أن خيار المجلس يثبت في الصرف والسلم، فأثر ثبوته أن مَن فسخ العقد من المتعاقدين، انفسخ، وإن كان ذلك بعد جريان التقابض حِساً، ولو

_ = وأحمد، وابن خزيمة وابن الجارود، والحاكم، والدارقطني. ذكر هذا ابن حجر في الإصابة في ترجمة حبان. وقيل: إن صاحب القصة هو منقذ والد حَبانَ، وليس حَبان، وذكر ذلك البخاري في تاريخه، وابن ماجه، وحكاه النووي في المجموع، والتهذيب، وذكر الحافظ في التلخيص أن النووي قال: إنه الصحيح. (1) في هامش الأصل: ما نصه: "في هداية الحنفية أن ابن عمر أجاز الخيار إلى شهرين". والذي أشار إليه هامش نسخة الأصل، تجده في الهداية: 3/ 27 منسوباً إلى أبي يوسف ومحمد، ونص عبارتها: "ولا يجوز الخيار أكثر من ثلاثة أيام عند أبي حنيفة وهو قول زُفر والشافعي، وقالا: (أي أبو يوسف ومحمد) يجوز إذا سمّى مدة معلومة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجاز الخيار إلى شهرين" ا. هـ. بنصه.

أجازا العقدَ، نُظر: فإن أجازا بعد التقابضِ، لزم العقدُ، وامتنع فسخه، وإن أجازا العقدَ قبل جريان القبض، ففي المسألة وجهان، ذكرهما شيخي، وصاحب التقريب: أحدهما - أن الإجازة لاغية؛ فإن القبضَ يتعلق بالمجلس، وهو بعدُ باقٍ، فحكم المجلس في الخيار باقي. والوجه الثاني - أن خيار المجلس ينقطع. ثم الذي أثق به في التفريع، أنا إذا قطعنا باللزوم، تعيّن على المتعاقدين التقابضُ، فإن تفرقا قبل التقابض، انفسخ العقدُ بعد اللزوم، ولم نُعَصِّهما إذا كان تفرقهما عن تراضٍ، وإن فارق أحدُهما الثانيَ منفرداً قبل القبض، انفسخ العقد، ولكنه عصى بانفراده بما تضمن فسخَ العقد، وإسقاطَ المستحق عليه من العوض. فرع: 2899 - الإجارة هل يثبت فيها خيارُ المجلس والشرط؟ الطريقة المرضية فيها، أن خيار الشرط لا يثبت فيها؛ لأنه يتضمن تعطيل المنافع، ونحن منعنا إثبات خيار الشرط في الصرف؛ من حيث إن الصرفَ يقتضي تعجيلَ الإقباض، والخيار يؤخر التصرّفَ، وهو نقيض موضوع الصرف. فإذا فسد شرطُ الخيار في الصَّرف بتأخير مقصوده، فالخيار الذي يعطل المنافع بذلك أولى، وهل يثبت فيها خيارُ المجلس؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإن المعتمد فيه الخبر، وهو مختص بالمتبايعين، والإجارة لا تسمى بيعاً. والوجه الثاني - أن خيار المجلس يثبت؛ فإنا فهمنا من إثبات خيار المجلس غرضَ تدارك الغبن إن كان، والإجارة في هذا المعنى كالبيع، وقد قال الشافعي: الإجارات صنفٌ من البيوع، فهو في التحقيق بيعُ المنافع. ثم المجلس في غالب الأمر لا يمتد، فإن مضى شيء من الزمان، وتعطل فيه مقدار نزر من المنفعة، فهو مما لا يبالَى به، وإن طال المجلس على ندور، فالنادر لا يغير وضعَ الشيء. وذكر الإمام وبعض أصحاب القفال الخلافَ في خيار الشرط أيضاً. وحاصل الطريقة ثلاثةُ أوجه في الخيارين: أحدها - يثبتان، [والثاني - لا يثبتان] (1)، والثالث -

_ (1) زيادة من (هـ 2).

يثبت خيارُ المجلس، ولا يثبت خيار الشرط. والمرتضى الطريقةُ الأولى، فإن قلنا: لا يثبت الخياران جميعاً، وهو الأصح، فلا كلام. وإن قلنا: يثبت الخياران، أو أحدُهُما، فالوجه عندي القطعُ بأن ابتداء المدة المضروبة في الإجارة تُحتسب من وقت العقد؛ فإن المصيرَ إلى أن المدة يحتسب ابتداؤها من انقضاء الخيار، يتضمن استئخار مدة الإجارة عن العقد، وهذا ينافي مذهب الشافعي؛ فإنه لا يرى إجارةَ الدار للسنةِ القابلة. والمصيرُ إلى أن ابتداء المدة من وقت تصرُّمِ الخيار تصريحٌ باستئخار موجَب العقد [عن العقد] (1) وإجارة الدار للسنة القابلة عند الشافعي بمثابة تعليق العقد على مجيء الزمان المرتقب، وهذا لا مساغ له. فإن قيل: إذا احتسبنا المدة من ابتداء العقد، فتتعطل المنافع على المستأجر، أو على المكري؟ قلنا: لا بد من التزام ذلك إذا قلنا بإثبات الخيار. ومن فساد التفريع نتبين فساد الأصل. ثم نقول: لو قُلنا: ابتداءُ المدّة من انقضاء الخيار، فالمنافعُ في مدة الخيار تتعطل على المكري، فلا بد من تعطيل كيف فرض الأمرُ. فلو قالَ قائل: ينبغي أن تُجوّزوا للمُكري الانتفاعَ إذا صرنا إلى [أن] (2) ابتداء المُدَّة يُحسَبُ من انقضاء الخيار. قلنا: هذا الآن ينتهي إلى القُرب من خرق الإجماع. ومن أكرى داراً سنة مطلقاً، ثم أكراها من غير المكتري ثلاثة أيام، فلا مُجيز لذلك، فيما أظنُّ. وقال شيخي: من أئمتنا من يحتسب ابتداء مدة الإجارة من وقت انقضاء الخيار، وهذا يمكن توجيهُه على بُعده. ولهذا القائل أن يقول: إنما يمتنع استئخار حُكم الإجارةِ عن العقد، إذا لزم العقد. وهذا كما أنه يلزم ملك المشتري إذا لزم العقد، ويتأخر ملكُه، أو لزومُ ملكه إذا اشتمل العقد على الخيار. فإن صح هذا

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) مزيدة من: (هـ 2).

الوجه، فالقياس يقتضي جوازَ إجارة الدار للمكري في مدة الخيار، وأراه بعيداً. التفريع: 2900 - إن احتسبنا المدةَ من العقد، فالمنافع الفائتة في زمان الخيار يُنظرُ فيها، فإن هي فاتت في يد المكري، فهي من ضمانه، وإن كانت الدارُ في يد المكتري، ففوات المنافع في يده بمثابة تلف جزءٍ من المبيع في زمان الخيار في يد المشتري. وسنعقد في ذلكَ فصلاً. وإن فرَّعنا على أن العقد يحتسب ابتداءُ مدته من انقضاءِ الخيار، فلا خفاءَ بما نحاولهُ. وإنما الذي يغمض فيه أن المكرِي لو أراد أن يُكري الدار في مدَّة الخيار، فهل له ذلك؟ وكل ما ذكرناه في إجارةٍ تورد على عين، فأما الإجارة الواردة على المدة، فقد قال الشيخ أبو علي: من يجعلها كالسَّلَم، ففيها خيار المجلس، ولا يثبت فيها خيار الشرط، ومن أئمتنا من يجعلُها كالسلم (1)، فيثبتُ عنده فيها الخياران، بخلاف الإجارة الواردةِ على الحين، وذلك لأن المعتمد في نفي الخيار في الإجارة الواردة على العين ما قدمناه من تعطّل المنافع، وهذا المعنى لا يتحقق في الإجارة الواردة على الذمَّة، وفيه احتمالٌ عندي؛ لأن هذا لا يسمى بيعاً، والمعتمدُ في الخيارين الخبر، وهو في البيع. فرع: 2901 - في المسابقة قولان: أحدهما - أنها جائزة، فلا معنى لتقدير الخيار على ذلك، والثاني - أنها لازمة، قال الأئمة: إذا حكمنا بلزومها، فهي في الخيارين بمثابَةِ الإجارة، والمسابقة عندي أبعد من الخيار، لأنها لا تعدُّ من عقود المغابنات، فازدادت بُعداً من البيع الذي هو مورد الخبر.

_ (1) كذا في الأصل، وفي: (هـ 2). ولعلّ الصواب: البيع؛ فهو الذي يثبت فيه الخياران جميعاً باتفاق، وليس السَّلَم كذلك.

فصل يحوي حقائق في جمع الخيارين وفي ثبوت أحدهما دون الثاني 2902 - فنقول: خيار المجلس يثبت في كل بيعٍ، وخيار الشرط لا يثبت في الصَّرف والسَلَم، ويثبت في غيرهما من البيوع. والوجه نفي الخيارين في الإجارة، ولا يتَّجه إثبات خيار الشرط في الإجارة؛ فيخرج من ذلك أن خيار الشرط أولى بالانتفاء في الإجارة؛ لأنه يتضمن التعطيلَ لا محالة، وخيار المجلس في الغالب لا يدوم. وإذا قُلنا: القسمةُ بيع، وكانت قسمةَ اختيار، فقد ذكرتُ التردد فيها. والوجه أن يقال: هذا التردد في خيار المجلس؛ فإن خيار الشرط معتمدُه اللفظ، ويبعُد ثبوتُه لفظاً في القسمة، وهي لا تعتمد لفظاً. ومن هذا الجنس أخذُ الشفيع الشقص المشفوعَ، فإذا أخذهُ ملكه بعوضٍ يبذله، وهو في حكم بيعٍ، ففي ثبوت الخيار للشفيع وجهان؛ فإنهُ ابتياع حكماً، ثم هذا إنما يجري في خيار المجلس، فأما خيار الشرط، فلا يثبت؛ فإن الخيار الذي يُثبته اللفظ يليق بعقدٍ يعتمد الإيجابَ والقبول. ثم في خيار المجلس للشفيع غموضٌ أيضاً، من حيث إنه يستحيل ثبوتُهُ للمشتري؛ إذ هو مقهور، وثبوت الخيار حكماً في أحد الجانبين بعيدٌ. ثم إذا أثبتنا الخيار للشفيع، فليس المعني به ثبوتَ الخِيرة في الأخذ والترك، مادام في المجلس، تفريعاً على قول الفور. وقد غلط بذلك بعضُ الأصحاب. والصحيحُ عندنا أنه يأخذ على الفور، ثم له الخيار في نقض الملك وردّه. وأما الحوالة فقد ذكرنا ترتيبَ المذهب في الخيار فيها، فإن قُلنا بثبوت الخيار، فقد قال العراقيون: لا يثبت خيارُ الشرط، وليس يتجه عندي فرق بين الخيارين في الحوالة؛ فإن المعتمد في الحوالة اللفظُ، فلا يبعد شرط الخيار معهُ. فرع: 2903 - ذكر الأئمة أن الصداقَ لا يثبت فيه الخياران جميعاً، وقد ذكر

صاحب التقريب وغيرُه وجهاً آخر في إثبات الخيار في الصداق وحده، وإن كان لا يثبت في النكاح، كما يجري الرد في الصداق والنكاحُ بحاله. وهذا منقاسٌ، وقد ذكر الصيدلاني في كتاب الصداق قولين منصوصين في ثبوت الخيار في الصداق، ثم من أثبت الخيار في الصداق، لم يفصل بين خيار المجلس، وخيار الشرط. وخيارُ الشرط أليق بالصداق عندي من خيار المجلس، من حيث إنه يعتمد اللفظ، ويقبل التخصيص، فيجوز أن يشترط مختصّاً بالصداق. وخيار المجلس يبعُد ثبوتُه في الصداق؛ فإن وضعَه يتضمن التعَلُّقَ بالجانبين، فإذا امتنع ثبوتُه من جانبٍ، بَعُد ثبوته من الجانب الثاني. فصل 2904 - إذا شرطنا في البيع خيارَ ثلاثة أيام، وثبتَ فيه خيار المجلس شرعاً، فقد رَتَّبَ الشيخُ في شرح الفروع ترتيباً وافقَ في معظمه ترتيبَ صاحب التقريب، فمما اشتهر فيه خلاف الأصحاب أن البيع إذا شُرط فيه خيار ثلاثة أيام مطلقاً، وثبت فيه خيار المجلس لا محالة، فخيار الشرط من أي وقت يحتسب؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يحتسبُ من وقت العقد، ولا يبعُد ثبوتُ الخيارين في وقتٍ واحدٍ، ومطلقُ الشرط يتضمنُ اتصال المشروط بالعقد. والوجه الثاني - أنه يثبت ابتداءُ مدة الخيار المشروط من وقت التفرق، وهذا القائل يعلل ما قاله بوجهين: أحدهما - أن الشرط المطلق يتضمن إثبات الخيار في زمان لولا الشرط، لم يثبت جواز العقد، فإذا كان خيار المجلس ثابتاً شرعاً، وجَرَى شرط الخيار، أشعر ذلك بتخصيص الخيار المشروط بما بعد المجلس. والوجه الثاني - أن إثبات خيارين متماثلين، في وقتٍ واحدٍ لاغٍ، لا معنى له، وكل شرط لم يتضمن فائدة لغا، فسقط أثر الخيار. ثم قال الشيخ وصاحب التقريب: هذا فيه إذا كان شَرْطُ الخيار مطلقاًً، فأما إذا صرحنا بإثبات خيار الشرط من وقت العقد، فإن قلنا: مطلق الشرط يقتضي ذلك، فهذا تصريح بمقتضى الإطلاق، فيصح. وإن قلنا: إن (1 الخيار المطلق يحتسب من

وقت التفرق، فإذا شرطا احتسابه من وقت العقد، ففي صحة الشرط وجهان، يتلقى توجيههما 1) من المعنيين اللَّذيْن ذكرناهُما في توجيهِ احتساب الخيار المطلق من وقت التفرق. فإن قلنا: سبب ذلك أن الشرط يتضمن إثبات الخيار، [حتى] (2) لا يثبت لولا الشرط؛ فاستئخار الخيار إذن من حكم إطلاق اللفظ، فإذا وقع التصريح بالاحتساب من وقت العقد، نجري على حكم التصريح، وإن اعتبرنا في التوجيه استبعادَ ثبوت خيارين، فهذا مسلكه المعنى إذن. فلا يجوز التصريح باشتراط جمع الخيارين، والشرطُ فاسد مفسدٌ للعقد، كما سيأتي تفصيل الشرائط في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى. وإن قلنا: الخيار المشروط يحتسب ابتداءُ مدته من وقت العقد عند الإطلاق، وهو الصحيح الذي اختاره ابن الحدّاد، فلو شرط احتساب ابتداء خيار الشرط من وقت التفرق، فقد قطع الشيخ بفساد الشرط، على هذا الوجه الذي عليه نفرعّ. ووجَّهه بأن الشرط تضمن إثباتَ ابتداء الخيارِ في وقتٍ مجهول، إذ لا يُدرَى متى يكون التفرق. وذكر صاحب التقريب في هذه الصورة وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أن الشرط يصح. وهذا وإن أمكن توجيهه، فالأصح ما ذكره الشيخ. فرع: 2905 - إذا حكمنا باجتماع الخيارين، فلو قالا: أبطلنا الخيارين، بطل الخيار. وإن قلنا: يستأخر ابتداءُ خيار الشرط عن المجلس، فإذا قالا: أبطلنا الخيارَ أو قطعناه، فينقطع خيارُ المجلس، وهل ينقطع خيارُ الشرط؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يبطل؛ فإنه لم يصادفه الإبطال. والثاني - يبطل الخياران؛ فإن مقصودَهما إلزامُ العقد، هذا هو المفهوم من مطلق الإبطال. فلو قالا: أَلزمنا العقدَ، وجب القطعُ بانقطاع الخيارين. فرع: 2906 - قد أوضحنا أن خيار الشرط يتأقَّت بثلاثة أيام، وشرط خيار زائد

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2). (2) في الأصل: حين.

فاسدٌ مفسد. وأما خيار المجلس، فلا يتقدَّر بمقدارٍ، ومنتهاه إن لم يُقطع التفرقُ (1). وحكى الشيخ أبو علي وجهاً أن خيار المجلس لا يزيد على ثلاثة أيام، وإذا تمادى المجلس في سفينة، أو غيرها، وانتهى إلى ثلاثة أيام، انقطع الخيارُ. وهذا بعيدٌ مزيّفٌ. فرع: 2907 - إذا ذكرا في البيع أجلاً، والعقد استعقبَ خيارَ المجلس، فقد ذكرنا أنه لو شرط فيه خيار الشرط، فهوَ من أيّ وقتٍ يحتسب؟ قال الشيخ: إن قلنا: خيارُ الشرط يحتسب ابتداؤه من وقت العقد، فيحسب ابتداءُ الأجل من وقت العقد أيضاً، وإن قلنا: الخيار المشروط يحسب ابتداؤه من وقت التفرق، ففي الأجل وجهان، والفرق بين الأجل والخيار أن الأجل ليس من جنس الخيار، فكان اجتماعهما أقربَ؛ لما بينهما من الاختلاف. فإن قيل: لا وجه لقول من يحتسب الأجلَ من وقت التفرق إذن، قلنا: الخيار يمنع المطالبةَ بالثمن، كالأجل، فكان قريباً منه. والخيار في التحقيق تأجيل لإلزام الملك، أو نقله، والأجلُ تأخيرُ المطالبة، ومن أخّر الأجل عن خيار المجلس، فقياسه يقتضي أن نقول: إذا شَرط في البيع خيار ثلاثة أيام، وأجَّل الثمنَ فيهِ، فينبغي أن يفتتح هذا القائلُ ابتداءَ الأجل من انقضاء خيار الشرط؛ لأنه عنده في معناه، ولا سبيل إلى الجمع بين المثلَين كما قررناه. فرع: 2908 - إذا شرط المتبايعان الخيار لثالث، وفوضا إليه الفسخَ والإجازةَ، صح ذلك باتفاق الأصحاب، ونفذ منه الفسخُ والإجازةُ. فإذا شرطا الخيارَ لثالث، ولم يتعرضا لثبوت الخيارِ لأنفسهما، فهل يثبت لهما الخيار، وقد أطلقا شرط الخيار لثالث، ولم ينفياه عن أنفُسِهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يثبت لهما الخيار؛ فإن الثالث في حكم النائب عنهما، وليس عاقداً؛ فاستحال أن يثبت له الخيار، ولا يثبت لهما. والثاني - أنه لا يثبت لهما؛ فإن هذا الخيار في أصله يتبع الشرط، فثبت لمن شُرِط له، ولا يثبت لغيره.

_ (1) "التفرُّقُ" خبر المبتدأ: "ومنتهاه".

فإن حكمنا بأن الخيار يثبت لهما، فلو صرَّحا بنفي الخيارِ عن أنفسِهما، وخَصَّصا الخيارَ بالثالث، فَفي صحة هذا الشرط وجهان: أحدهما - يصح اتباعاً للشرط. والثاني - لا يصح. وحقيقةُ الوجهين ترجع إلى أن من حكم بثبوت الخيار للعاقدين فهو بماذا؟ فكان من أصحابنا من يقول: سبب ثبوت الخيار لهما أن شرطَهما الخيارَ لثالث يقتضي من حيث اللفظ أن يثبت لهُما. فمن قال ذلك بنى عليه أنهما لو صرَّحا بالنفي عن أنفسهما، انتفى عنهما. ومن أصحابنا من قالَ: سبب ثبوت الخيار للمتعاقدَيْن استحالةُ ثبوته لمن ليس عاقداً، إلا على طريق النيابة، فعلى هذا الجمع بين إثبات الخيار للغَيرِ ونفيه عن المتعاقدين فاسدٌ. ولا خلاف أنهما لو شَرَطا الخيارَ لأحدِ المتعاقِدَين ثبتَ له مختصّاً به، وانتفى عن الثاني. قال صاحب التلخيص: لو كان المبيع عبداً، فشرط المتعاقدانِ الخيارَ له، ففوَّضا إليه الفسخَ والإجازة، جاز. وكان تفويضُ الخيار إليه بمثابة تفويضه إلى أجنبي، وقد ساعده الأصحاب على ما قالَ. فرع: 2909 - إذا وكل رجل وكيلاً في بيع، وأذنَ له في اشتراطِ الخيار، فاشترَط على حسب أمره، ثبت الخيار له، واختلفَ أئمتنا في أن الخيارَ الثابتَ لمن؟ فمنهم من قالَ: هو للموكِّل، كما أن الملك في العوض له، والخيار من حقوق الملك والعقد. والوجه الثاني - أن الخيار للوكيل؛ فإنه المتعاطي للعقد، والوجه الثالث - أن الخيار ثابتٌ لهما جميعاً، فيثبت للوكيل لتوليه العقد، ويثبت للموكِّل لأن مقصود العقد إليه يئول. وإذا شرط المتعاقدان الخيارَ لثالث، فلا يجري فيه إلا وجهان، كما تقدمَ ذكرُهما، ولا يخرج فيه أن الخيار لهما، ولا خيار للثالث. وقد ذكرنا وجهاً أن الخيار للموكّل ولا خيار للوكيل، ثم إذا أثبتنا الخيار للموكل وحده، أو للوكيل والموكل جميعاً، فإنما ذاك في خيار الشرط، فأمّا خيارُ المجلس، فإنه يتعلق بالوكيل، وينتهي بمفارقته المجلس. ويجب القطع بأنه لا ينفذ فسخُ الموكِّل وإجازتُه؛ فإنه لا تعلق له بالمجلس. وخيار المجلس إنما يثبت لمن يتعلق به المجلس، وينقطع بفراقِه. وهذا

كما أن حق القبول يتعلق بالوكيل المخاطب، فمجلس العقد يختص بالعاقد كالعقد. فهذا ما أراه. وقد نجزت قواعدُ القول في الخيارين. فصل 2910 - قد تقدَّم القول في ثبوت الخيارين، ونحن الآن نذكر أحكام الزوائد التي تَحدثُ في زمانِ الخيار، ثم نذكر التصرُّفَ الذي يَصدُر من المتعاقدَين، أو من أحدهما. والوجه تقديمُ القول في المِلكِ، فإذا ثبت الخيار للمتعاقدَيْن جميعاً، فقد اختلفت نصوص الشافعي في أن الملكَ في زمان الخيار لمن؟ والنصوص مشهورٌ، فلم أنقلها، وحاصلها أقوال: أحدها - "أن الملك في المبيع للمشتري"، وهو الصحيح. والثاني - "أن المِلكَ فيه للبائع". والثالث - "أن الملك موقوف". فإن تم العقد تبيّنا أن الملك زال إلى المشتري، بنفس العقد، وإن فُسخ العقدُ في زمان الخيار، تبيَّنا أن الملك لم يَزُل عن البائع، ثم طرد الأئمةُ الأقوالَ الثلاثةَ فيه، إذا كان الخيارُ لهما، أو كان الخيار لأحدهما. وقال بعضُ المحققين: إن كان الخيار لهما، ففيه الأقوال. والأصحُّ أن الملك موقوف، وإن كان الخيار للمشتري فالأصحُّ أن المِلك له، وإن كان الخيار للبائع، فالأصح أن المبيع باق على ملكه، وكان الإمام يقول: يتّجه أن نجعل ذلك قولاً رابعاً مفصلاً، ضماً إلى الأقوال المرسلة. توجيه الأقوال: إن قلنا: إن الملك للمشتري، فلأن البيعَ موضوعٌ لنقل المِلكِ، فلو استأخر عنه موضوعه، لكان في معنى تعليق العقدِ؛ إذ لا وجه لعقد لا يتحققُ فيه موضوعُه. نعم مقصود الخيار ثبوت استدراكٍ، وإلا فلا فرق بين تأخير المقصود بالعقدِ، وبين تأخير انعقادِه.

وإن قلنا: الملك للبائع، فوجهه أن البيع [المطلق] (1) الذي لا يفرض فيه خيارٌ موضوعُه نزولُ المشتري في المبيع منزلة البائع، في استفادة التصرفات، ومعلومٌ أن الخيار يوجب استئخار التصرُّف، فأشعر ذلك باستئخار الملك. وإن قلنا بالوقف، فوجهه النظر في الجانبين، واعتمادُ العاقبة في الأمر، وهذا القول يلاحظ [قول] (2) وقفِ العقود بعضَ الملاحظة. ثم إذا حكمنا بأن الملك في المبيع للمشتري، فلا شك أن الملك في الثمن للبائع، وإذا حكمنا بأن المبيعَ باقٍ على ملك البائع، فالثمن باقٍ على ملك المشتري، وإذا حكمنا على الوقف، فالأمر في العوضين موقوف. فإذا وضح غرضُنا في الملك، فنذكرُ بعد ذلك فصولاً: أحدها - في الزوائد، والثاني - في التصرفات المتعلقة [بالأقوال، والثالث في التصرفات المتعلّقة] (3) بالأفعالِ، ونختم الغرضَ بما يقطع الخيار وما لا يقطع. [الفصل الأول في الزوائد التي تحدث في المبيع في زمن الخيار] (4) 2911 - فأما الزوائد: أما المتَّصلةُ، فلا أثر لها، وهي لمن يستقر الملك في الأصل له، ولا موقع للزوائد إلا في الصداقِ، عند فرض الطلاق قبل المسيسِ، كما سنذكره إن شاء اللهُ تعالى. وأما الزوائد المنفصلة، فمنها الكسبُ، فإذا اكتسب العبد المبيعُ في زمان الخيار شيئاً، فنفرع حكمه فيه إذا أُجيز العقد وتَم، ثُم نفرع حكمَه إذا فُسخ العقد. فإن أجيز العقد، نُفرِّع الأمر على الأقوال في الملك، فإن فرّعنا على أن الملك للمشتري، فالزوائد له؛ فإنها استفيدت والملكُ له، ثم استقرَّ الملك آخراً. وإن

_ (1) مزيدة من: (هـ 2). (2) مزيدة من: (هـ 2). (3) زيادة من: (هـ 2). (4) العنوان من عمل المحقق.

قُلنا: المِلكُ للبائع، ففي الكسب وجهان: أحدهما - أنه للبائع؛ فإنه جرى والملك في الأصل [له، على هذا القول، وهو الظاهر، والثاني - أن الملك للمشتري؛ فإن الملك في الأصل] (1) تقرر عليه، وكان العقد معقوداً لذلك، والبائع لم يقصد باستبقاء الملك تأثُّلَه (2)، وهذا الوجه يلاحظ قولَ الوقف. وإن فرعنا على قول الوقف، فالملك في الكسب للمشتري؛ فإن العقد إذا أُجيز نتبين أن الملك للمشتري. فهذا تفريع الكسب، وقد أُجيز العقدُ. 2912 - فأما إذا فسخ العقد في زمان الخيار، بعد حصول الكسب، فنخرّج ذلك على أقوال الملك، فإن حكمنا بأن الملك للبائع، وقد استقر الملك عليه آخراً، فالكسبُ لهُ، وإن حكمنا بأن الملك موقوفٌ، فالكسب للبائع أيضاً؛ فإن العقدَ إذا فسخ فمُوجَب الوقف أنا نتبين أن مِلكَ البائع لم يزل، وإن حكمنا بأن الملك للمشتري، ففي الكسب وجهان: أحدهما - أنه له؛ إذْ حصل في زمانٍ كان الأصلُ مملوكاً له فيه. والثاني - أنه للبائع؛ فإن الملك في الأصل استقرَّ له، وآل إليه. وحاصل الخلاف والوفاق في الإجازة والفسخ، أنا نقول: من اجتمع له ملكُ الأصل، واستقراره عليه، فالملكُ في الكسب له وجهاً واحداً. ومن لم يكن له ملكٌ في الأصل، ولم يصر المِلكُ إليه في المآل، فليس الكسب له وجهاً واحداً. وإن كان الملك لأحدهما أولاً، ثم لم يستقرَّ له، بل صار إلى صاحبهِ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ملك الكسب لمن صار الملكُ في المآلِ إليه، والثاني - أن الملكَ في الكسب لمن كان الملكُ حالة حصول الكسب له في الأصل. ولو حدثت ثمرةٌ، أو وُلد مملوكٌ في زمان الخيار، فالقول فيه كالقول في الكسبِ، حرفاً حرفاً. فهذا بيان الزوائد في زمان الخيار.

_ (1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (هـ 2). (2) تأثله: المراد تثميره، ونماؤه.

[الفصل الثاني في التصرفات التي تقطع الخيار] (1) 2913 - فأما التصرف، فنبدأ بالأقوال، وهي تنقسم إلى ما يقبل التعليق، وهو العتق، وإلى ما لا يقبله، كالبيع، فنبدأ بالعتق، فنقول: إن أعتق المشتري العبدَ في زمان الخيار، فلا يخلو إما إن كان المشتري منفرداً بالخيار، أو كان الخيار لهما جميعاً، أو كان الخيار للبائع وحدهُ. فإن كان الخيار للمشتري وحده، فينفذ عتقُه، سواء قلنا: الملك له، أو قلنا: الملك للبائع، أو وقفناه؛ فإنّ عتقه إجازةٌ منه، وله الانفراد بها، إذا كان منفرداً بالخيارِ، فنَفَذَ إذاً عتقُه وتضمَّن الإجازة، وإن فرَّعنا على أنه لا ملك لهُ. وإن كان الخيارُ لهما جميعاً، نفرعّ العتق على الملك، فإن قُلنا: الملكُ للمشتري، ففي نُفوذ عتقهِ وجهان: أحدهما - ينفذ لمصادفته الملكَ. والثاني - لا ينفذ لثبوت حق البائع من الخيار فيهِ، وهذا يدنو من اختلاف القول في نفوذ عتق الراهنِ في المرهُون. فإن قلنا: ينفذ عتقه، فهل يبطل حق البائع من الخيار؟ فعلى وجهين: أحدهما - يبطل؛ فإن متعلّق الخيارِ العين، وإذا نفذنا العتق وتعذَّرَ ردُّه، فلا معنىً للخيارِ. والوجه الثاني - أن الخيار يبقى متعلّقه العقد، والعقدُ لا ينقطع بفوات المِلكِ في المعقود عليه. التفريع: 2914 - إن حكمنا بأن الخيار قد انقطع، فلا كلام، وقد لزم العقد، واستقرَّ الثمن، وإن حكمنا بأن خيار البائع باق، فهل له ردّ العتق، فعلى وجهين: أحدُهما- ليس لهُ ذلك؛ فإن رد العتق بعيدٌ بَعدَ الحكم بنفوذهِ. والوجهُ الثاني - له ردّهُ؛ فإن العتق يضاهي الملك، فإذا كان جائزاً، كان العتق مشابهاً لهُ في الجواز. التفريع على هذين الوجهين: 2915 - إن قلنا: له ردُّ الملك، فلا كلام. وإن قُلنا: ليس له رَدُّه، فإن أجاز

_ (1) العنوان من عمل المحقق بناء على تقسيم الإمام.

العقدَ، جازَ، وإن فسخ، وجب على المشتري قيمةُ العبد، وقد يستفيد بذلك مزيداً، إذا كانت القيمة أكثرَ من الثمن. هذا كلُّه تفريعٌ على قولنا: إنهُ ينفذ عتق المشتري، فأمَّا إذا قُلنا: لا يَنفذ عتقُ المشتري، فلا يخلو إما أن يفسخ البائعُ أو يجيز، فإن فسخ، ارتد العبدُ إليه مملوكاً، وإن أجاز العقدَ، ولزم الملك للمشتري، فهل ينفذ الآن عتق المشتري، فعلى وجهين: أحدهما - لا ينفذ؛ لأنه نجَّز العتقَ، فرددناه، فتنفيذُه بعد ردّه محال، وهو بمثابة ما لو أعتقَ عبداً لغيره، ثم اشتراه. والوجه الثاني - أنه ينفذ عتقُه [إذا] (1) لزم ملكه؛ فإنه استقرَّ ملكه آخراً، فالاعتبار بما استقرَّ الأمر عليه، وهذا ميلٌ إلى قول الوقف. فإن قلنا: بأن العتقَ لا ينفذ، فلا كلام، وإن قلنا: إن العتق ينفذ، فمتى ينفذ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينفذ إذا لزم الملك، والثاني - أنا نتبين أنه نفذ حين أنشأه، وإن كنا لا نُفرّع على قول الوقف. وهذا بعيد جداً، وهو تصريحٌ بمقتضى الوقف. وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أن الملك للمشتري، فإن حكمنا بأن الملك للبائع، فلا ينفذ عتق المشتري أصلاً؛ إذ لا ملك له، وليس منفرداً بالخيار، وإن أجيز العقد، ففي نفوذ العتق الخلافُ المتقدّم. وهذا أولى بألاّ ينفذ. ثم التفريع ينساق كما مضى. 2916 - وإن فرَّعنا على أن الملك موقوف، فالقول الحاوي في التفريع عليه، أنه إن أُجيز العقد، فالتفريع في هذه الحالة على هذا القول، كالتفريع على أن الملك للمشتري وقد أجيز العقد. وإن فسخ، فالتفريع في هذه الصورة كالتفريع على أن الملك للبائع وقد فسخ العقد. وكل ما ذكرناه فيهِ إذا كان الخيار لهُما جميعاً، أو كان الخيار للمشتري وحده.

_ (1) في الأصل: فإذا.

2917 - فأما إذا كان الخيار للبائع وحدهُ، فالوجهُ التفريع على أقوال الملك، كما ذكرناه فيه إذا كان الخيار لهما جميعاً، ولا يتفاوت شيء من التفريع. 2918 - فأما إذا أعتق البائعُ العبدَ في زمان الخيار نُظر، فإن كان الخيار لهما، أو للبائع وحده، فينفذ عتقُه على الأقوالِ، لأن عتقَهُ يتضمن فسخاً، ويجوزُ للبائع الانفرادُ بالفسخ، وإن كان الخيار لهما، فلا يصح من المشتري إلزام العقد في حق البائع إذا كان الخيار لهما، نَعم إذا كان الخيار للمشتري وحدهُ، انفرد بالإجازة، ونفذ إذ ذاك عتقُه على الأقوال كلها، كما تقدَّم ذكرُه. فرع: 2919 - إذا رَددنا عتق المشتري، والخيارُ لهما، فهل يكون عتقُه المردودُ إجازةً منه، حتى لو أراد أن يفسخ العقدَ بعد ذلك لا يمكنه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يكون إجازة؛ فإن المردود [لا] (1) حكم له، والإجازةُ لو حصلت، لكانت ضمناً للعتق، فإذا لم ينفذ العتقُ، كيف ينفذ ضمنُه. والثاني - أنه يصير مجيزاً؛ فإنه ظهرَ بقصده الرّضا (2) بالملكِ؛ فكان ذلك إجازةً، وتحصيل ذلك أنّ قصدَ الإجازةِ منه صحيح، وإن رُدَّ العتق. ويتجه أن يقال: إن أعتق ظاناً أن عتقه نافذٌ، فرددناه، ففيهِ الاختلافُ الذي قدمناه، فأما إذا كان يعتقد أن عتقه مرددٌ، فيبعد أن يكون ذلك إجازة منه، مع حكمنا بردّ العتق، وذلك يظهر فيه إذا صرَّح بأنه يعتقد أن العتق لا ينفذ، وإن أطلق الإعتاق، لم يصدَّق في قوله: لا أعتقد النفوذ. وإذا حكمنا بأن عتق المشتري نافذٌ، ثم أثبتنا للبائع ردّ عتقه فَردَّهُ، فالوجهُ القطعُ بأن العتق وإن رُد كذلك، فالمشتري يكون مجيزاً إذا تصرَّف، ونفذ منه، والردُّ إنما كان لحق البائع، فهو بمثابة تنفيذنا فسخَ البائع، بعدَ نفوذ إجازة المشتري في حق المشتري.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) "الرضا" فاعل للفعل "ظهر".

فرع: 2920 - إذا أعتق البائع المبيعَ، ولم يكن له خيار، ولكنا رأينا في التفاصيل المقدَّمة أن ننفذ عتقه تفريعاً على قولنا: إن المِلكَ للبائع، ثم رأينا ألا نردّ العتق بعدَ نفوذهِ، فالوجه أن [نقول: إن كان] (1) في يد البائع، فإعتاقُه إياه بمثابة إتلافه المبيعَ حِسَّاً، وسيأتي ذلك في باب الخراج بالضمان. فصل 2921 - إذا وهب الأب من ابنه عبدأ [فأقبضه] (2)، فله الرجوع فيما وهبَ. ولو أعتق الأبُ العبدَ، فهل ينفذُ العتقُ متضمناً رجوعاً، كما ينفذ عتقُ البائع ويتضمن الفسخَ؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدُهما - ينفذُ العتق؛ فإنه ينفرد بالرجوع، كما ينفرد البائع بالفسخ، فليكن العتقُ بمثابة التصريح بالرجوع. والثاني - أنهُ لا ينفذ، بخلاف عتق البائع؛ فإن مِلك المتََّهب تام. ينفذ فيه جميعُ تصرفاته، فلا وجه لإقدام غيره على التصرّف، فليرجع أولاً. ثم ليتصرَّف في مِلكِ نفسهِ. ومن اشترى عبداً، ولزم ملكُه فيه، وأفلسَ قبل أداء الثمن، فللبائع الرجوع في عين المبيع، فلو أعتقه ابتداءً، ففي نفوذ عتقهِ وجهان، كما ذكرناه في الرجوع في الهبة. هذا بيان العتق من التصرفات. 2922 - فأما البيعُ، ففيه طريقان [فنطرد] (3) كل واحدةٍ على حدَتِها. أما الإمام، فكان يقول: إن المشتري إذا انفرد بالخيار، فباع، نفذ بيعُه، سواء قلنا: الملك له، أو قلنا: الملك للبائع. فإذا فرّعنا على أن الملكَ له، فقد صادف بيعُه ملكَه. وإن قلنا: للبائع، فبيعُ المشتري وهو منفردٌ بالخيارِ يتضمن الإجازة. ثم نُقدِّر انتقالَ الملك للمشتري قُبيل

_ (1) زيادة من: (هـ 2). (2) مزيدة من: (هـ 2). (3) في الأصل: ننظر.

البيع، ليكون بيعُه مصادفاً ملْكَه. وهو كحكمنا بارتداد الملك في المبيع إلى البائع إذا تلفَ في يده، وكان يقول رحمه الله: بيع البائع المبيعَ في زمان الخيارِ، إذا كان الخيار له أو لهما ينفذ على الأقوال، متضمناً فسخاً، كما ذكرناه في العتق. فأما إذا باع المشتري وكان الخيار لهما، أو للبائع، فلا ينفُذ بيعُه، وإن قلنا: الملكُ له؛ فإنه ليس له الانفراد بالإجازة، بخلاف ما تقدَّم، فبيعه بين أن يصادفَ ملكَ الغيرِ، وبين أن يصادف حقَّ الغير، وإذا ذكرنا خلافاً في العتق؛ فهو لمزيَّتِه في القُوَّة والنفوذ، وهذَا بمثابة قَطْعِنا بردّ بيع الراهن، مع التردد في نفوذ عتقه. ثم كان يقول: إذا رددنا بيعَ المشتري، فهل نجعله إجازةً منه، فعلى وجهين، كما تقدم في العتق المردود. وقالَ بعض أصحابنا: إذا باع المشتري وكان منفرداً بالخيارِ؛ فإن قلنا: المِلكُ للبائع، فلا ينفذ بيع المشتري، وإن كان منفرداً بالخيار، وإن قلنا: الملكُ له، ففي نفوذ بيعه وجهان؛ لضعف الملك بالجواز. وما ذكره الإمام أفقهُ. وكان رحمه الله يُشير إلى الوجهين، في بيع الواهب العبدَ الموهوبَ فيُنزله منزلة إعتاقه إياه، وينزل البيعَ منزلة العتق من جِهة صدوره ممن يستبد بالرجوع، كما نزل بيع المشتري المنفرد بالخيار منزلة إعتاقه. وقال بعض أصحابنا: إذا انفرد المشتري بالخيار، فباع، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - ينفذُ بيعه، ويلزم العقد. والثاني - لا ينفذ، ولا يلزم، والثالث - لا ينعقدُ العقد، ولكنه يتضمن الإجازَةَ. وهذه الأوجُه نشأت في هذه الطريقة، من خلافٍ في أصلين، أحدُهما - أن بيعه هل ينفذ، والثاني - أن التصرف الفاسد هل يتضمن الإجازة. وكان الإمام يقطع بنفوذ البيع إذا انفرد المشتري بالخيار. ونذكر ثلاثة أوجهٍ في الصورة الأخرى، وهي أن الخيارَ إذا كان لهمَا جميعاً، وقد ذكرنا أن المشتري لو انفرد بالبيع من أجنبيّ، لم ينفذ بيعُه، ولو باع ما اشتراه من البائع، قال: فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها - أنهُ ينفذ البيع الثاني، ويلزم البيعُ الأول؛ فإن الخيار لا يَعدوهما، فكان

إقدامهما على العقد متضمناً إلزام العقد الأول. والوجه الثاني - أنه لا ينعقد؛ فإن المشتري لا يجوز لهُ الانفراد بالبيع، فإذا ابتدأ الإيجابُ، بطل، ثم القبول مترتب عليه. والوجه الثالث - أن العقد الثاني لا يصح؛ لما ذكرناه، ولكن يلزم الأول؛ تخريجاً على أن التصرف وإن رُدّ يتضمن إجازة. هذا بيان الطرق في البيع. 2923 - وما ذكرهُ الإمام يقتضي تردداً في بيع الراهن المرهون من المرتهن، من غير تقديم فك الرهن؛ فإن البيع لا يَنفُذ من الراهن على الانفراد، فكان التبايع منهما على صورة التبايع من المتعاقدين في زمان الخيار. فإن قيل: نص الأصحابُ على أنَّا إذا منعنا بيع الدار المكراة على قولٍ، فيجوز بيعها من المكتري. قُلنا: قد ينقدح فرقٌ؛ فإن بيع المرهون لحق المرتهن، فإذا لم يصرح أولاً بإبطالٍ، لم يبعد تخيل خلاف فيه، وبيع الدار المكراة في قولٍ لم يبطل لحق المكتري، فإن من يصحح بيعَ الدار المكراة لا ينقضُ الإجارة، فالمبطل في البيع ثبوت يد المستأجر على المبيع، فإذا باع من المستأجر، فالمبيع في يد المشتري، فاقتضى ذلك القطعَ بصحة العقد، كما ذكرته في بيع الراهن من المرتهن، تصرفاً في القياس. وإلا فالذي أقطع به نقلاً صحّةُ البيع فليُعتقد ذلك. وإن كان يبطل به نظم الأوجه الثلاثة في بيع المشتري من البائع. فصل مشتمل على الوطء في زمان الخيار 2924 - أجمع المراوزةُ على أن الوطء من البائع فسخ، إذا كان له خيار، وكذلك جعلوا الوطء إجازةً من المشتري. وقال العراقيون: وطء البائع الجاريةَ فسخ منه، وفي وطء المشتري وجهان: أحدهما - أنه إجازة منه، كما أنهُ فسخٌ من البائع؛ إذْ هو مشعرٌ من كل واحد منهما

باختيار الملك. والثاني - أنهُ لا يكون وطؤُه إجازةً، وإن كان فسخاً من البائع. وهذا بعيدٌ. والذي ينقدح في توجيهه على البُعد أن ما يصدر من المشتري قد يُحمل على الامتحان والاختبار (1)، [لا على الرضا والاختيار] (2)، وما يكون من البائع لا محمل له إلا اختيار رَدّها إلى الملك. وقد اشتهر اختلافُ الأئمة في أن من أجمل عتقاً بين أَمَتين، فقال إحداكما حُرَّة، ثم وطىء إحداهُما، فهل يكون وطؤُه تعييناً للموطوءة في الرق، حتى تتعين الأخرى للعتق؟ والخلاف يجري كذلك في تعين المنكوحة بالوطء عند إجمال الطلاق. وقد مرَّ بي في الخلاف من قول من لا يُعدُّ من أئمة المذهب ذكرُ خلافٍ في أن الوطء هل يكون فسخاً من البائع؟ وهذا [في] (3) القياس غيرُ بعيدٍ، تخريجاً على الخلاف في تعيين المنكوحة والمملوكة في الوطء، ولكن لم أر ذلك لأئمة المذهب. وهذا هو النقل والاحتمال. ونحن نذكر الآن ما يتعلَّق بالوطء من الأحكام، ونبدأ بوطء المشتري. 2925 - فنقول: إذا وطىء المشتري والخيار لهما، فلا شَكَّ في تحريم وطئه؛ فإنا إن حكمنا بأن الملكَ ليس له، فقد صادف وطؤه ملكَ الغير، وإن حكمنا بأن الملك للمشتري، فهو ضعيفٌ، وفيه حق الخيار للبائع، ثم لا يخلو وطؤه: إما أن يعرَى عن العلوق، أو يتصلَ به العلوق. فإن لم تعلق، فلا حدَّ للشُّبهَةِ. وفي انقطاع خيار المشتري ما قدمناه. وأما المهرُ، فلا يخلو البائع إما أن يفسخ أو يُجيز، فإن أجاز واستقر الملكُ

_ (1) أخذ الغزالي هذا التوجيه عن شيخه، فقال في الوسيط: " وقيل: إنه (أي الوطء) يحمل على الامتحان، كالخدمة " وقد علق ابن الصلاح على ذلك قائلاً: "هذا كلامٌ غث ينفر منه المؤمن" (ر. مشكل الوسيط. مطبوع بهامش الوسيط: 3/ 116). (2) زيادة من: (هـ 2). (3) في الأصل فيه، والمثبت من: هـ 2.

للمشتري، فالمهر يُنحى به نحو الأكساب، فيقال: إن قلنا: الملكُ للمشتري، وقد استقر الملك له، فلا مهرَ عليهِ، لأنه اجتمع له الملك أولاً، والقرار آخراً. وإن حكمنا بأن الملك للبائع، ففي المهر وجهان: أحدُهما - يجب على المشتري للبائع؛ نظراً إلى الملك حالة الوطء. والثاني - أن المهرَ لا يلزم؛ نظراً إلى مآل العقد. وأما إذا فسخ البائع، فإن حكمنا بأن الملكَ للبائع في زمان الخيار، فعلى المشتري المهر للبائع؛ إذ كان المِلكُ له حالةَ الوطء، واستقرَّ عليه آخراً. وإن حكمنا بأن الملكَ للمشتري، فوجهان: أحدهما - لا يجب، نظراً إلى الحال، والثاني - يجب، نظراً إلى العاقبة. وإن فرَّعنا على قول الوقف، نظرنا، فإن أُجيز البيع، فهو كما قلنا: الملك للمشتري، وقد لزم البيع. وإن فُسخ، فهو كالتفريع على قولنا: الملكُ للبائع، وقد فسخ العقد. هذا حكم وطء المشتري من غير علوق. 2926 - فأما البائع إن وطىء والخيار لهما، فنذكر أولاً حكم الوطء في التحريم والحل. وقد اختلف الأئمة في الترتيب، فقالَ بعضهم: إن قلنا: الملك للمشتري، فلا يحل للبائع الإقدامُ على الوطء، وإن قلنا: وطؤه يتضمن فسخَ العقد. وإن قلنا: الملك للبائع، ففي إباحة إقدامهِ على الوطء وجهان: أصحهما - الإباحةُ. والثاني - لا يباح؛ فإن الملك ضعيف، وحِلّ الوطء يستدعي ملكاً تاماً. ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إن حكمنا بأن الملك للبائع، فيحل له الإقدام على الوطء. وإن قلنا: الملك للمشتري، ففي إباحة الوطء للبائع وجهان: أحدهما - لا يباح لمصادفته ملك الغير. والثاني - يباح؛ فإن الوطء يتضمن الفسخَ، وكل ما يتضمن فسخاً يُقدّر نقلُ الملك فيه قُبَيْله، فيكون الوطء مصادفاً ملكَه. وهذا الطريق لصاحب التقريب. وكان الإمام يقطع جوابَه في دروسه، بحل الوطء للبائع، إذا كان له خيار، وكان

يقول: لو جَعلنا الوطء رجعةً، لأبحناه للزوج. ثم نقول: إذا أبحنا الوطء للبائع، فلا يلزمُه المهر؛ فإنا إنما نُبيح له الوطء على قولنا: المِلكُ له، أو على تقدير نقل المِلك إليه قُبيل الوطء، وذلك يمنع ثبوتَ المهر. وإن حرّمنا الوطء، فلا شكَّ أنا مع التحريم نحكم بانفساخ العقدِ، فالوجه مع ذلك القطعُ بنفي المهر؛ فإنا وإن حرَّمنا الإقدام [على الوطء] (1)، فنقول: الفسخ يتضمن تقدير نقل الملك قُبيل الوطء. فإن قيل: إذا أبحنا الوطء، فالإباحة تستدعي تقدير نقل الملك قُبيل الوطء، كما ذكرتموه لا محالةَ، فأما إذا لم يُبَح، فما المانع من الحكم بأن الفسخ لا يقتضي تقديمَ الملك على الوطء؟ قلنا: هذا التقدير محتمل، وللقول فيه مجال، ولكن لا يجب المهر مع هذا التقدير أيضاً؛ فإن مساقه يتضمن مقارنةَ الملك للوطء، وإذا قارن الملكُ الوطء، استحال إيجاب المهرِ، ولا سبيل إلى المصير إلى أن الوطءَ (2) يستعقب الفسخ. فهذا تفصيل القول في وطء البائع والمشتري إذا كان الخيار لهُما جميعاً. 2927 - أما إذا كان الخيار للمشتري وحده، فظاهر المذهب أن الوطء منه إجازةٌ. وذكر العراقيون الخلافَ هاهنا، كما ذكروه والخيار لهُما. فإذا وطىء وجعلناه مجيزاً، لم يلزمه المهر؟ فإنه عند انفراده بالخيار ينفرد بالإجازة، كما ينفرد البائع بالفسخ، ثم التفصيل في إباحة الوطء للمشتري كالتفصيل في البائع. والقول في المهرِ على ما ذكرناه في الأكساب، في مثل هذه الصورة. فهذا كُلّه فيهِ إذا عَري الوطء عن الإعلاق. 2928 - فأما إذا اتصل الوطء بالإحبال، فنذكر حكمَ المشتري، ثم نشُير إلى حكم البائع.

_ (1) مزيدة لاستقامة المعنى. (2) عبارة الأصل: "إلى أن إيجاب الوطء".

فإذا وطىء المشتري الجاريةَ، وعلقت منه بولد، فأما نفي الحد والقول في المهر، فعلى ما مضى، لا يختلف منه شيء، فلا (1) يسقط المهر، وإن ثبت الاستيلاد؛ إذا (2) يجب وإن لم يكن علوقٌ. وأما القول في الولد، فهو ينعقد حُراً؛ فإنّ من وطىء جاريةَ غيره بالشبهة، كان ولدهُ منها حراً، ولا تنحط رتبة وطء المشتري عن ذلك. ونحن نذكر بعد هذا الاستيلادَ، ثم قيمةَ الولد: فأما ثبوت الاستيلادِ، فالقول الوجيزُ أن الاستيلاد كالعتق، وقد مضى القول في العتق، ولكن من أصحابنا من رتّب صور الخلاف في الاستيلاد على أمثالها في العتق، وجعل الاستيلادَ أولى بالنفوذ؛ من جهة أنه يعتمد فعلاً، والفعلُ لا يناله فسخ. ومن أصحابنا من قلبَ الترتيب، وجعل العتق أولى بالنفوذ؛ فإن حرمة الاستيلاد توقُّعُ حُرّيةٍ، وتنجُّزُها أقوى من تَوقُّعِها، ولا يبعد الحكم باستوائهما، لتعارض الكلام. فإذا صح مأخذُ الاستيلاد، فنتكلم في قيمة الولد، ونقول: إن فرَّعنا على أن الملك للمشتري، وأجيزَ العقد؛ فلا تلزمه قيمة الولد؛ فإن الملك كان له في الابتداءِ، واستقرَّ عليه في الانتهاء. وإن حكمنا بأن الاستيلاد نافذ، ولا سبيل إلى رَدّهِ، ولا وجهَ مع نفوذه لفسخ العقد، فهذا كما قدَّمناه؛ فإن الإجازة قد لزمت، والتفريع على أن المِلكَ للمشتري. وإن قلنا: لا يثبت الاستيلاد، أو يثبت ولكنه يرد، فرُدَّ وفسخ العقد، ففي لزوم قيمة الولد وجهان؛ فإن العُلوق جرى والملك للمشتري، ولكن لم يستقرَّ الملكُ عليهِ، وقد ذكرنا في الأكساب الخلافَ في مثل هذه الصُورة. هذا تفريعٌ على أن المِلكَ للمشتري.

_ (1) في النسختين: ولا. والمثبت تقديرٌ منا. (2) في النسختين: إذا. وهي بمعنى (إذْ)، وهو واردٌ، وضع كل منهما مكان الأخرى.

2929 - فأما إذا قلنا: الملكُ للبائع، فلا يخلو إما أن يفسخ أو يجيز، فإن فسخ، فلا شك أن الاستيلاد لا ينفذ في هذه الصورة، وتجب قيمة الولد؛ إذ الملك للبائع أولاً وآخراً، والكسب في هذه الصورة للبائع وجهاً واحداً، وإن أجاز البائع العقدَ في هذه الصورة، ففي نفوذ الاستيلاد وجهان: فإن حكمنا بأن الاستيلاد لا يثبت، ففي لزوم قيمة الولد وجهان مبنيّان على نظيرهما في الكسب، في مثل هذه الصورة. وإن قُلنا: يثبت الاستيلاد، فهذا يبنى على أمرٍ، وهو أن الاستيلاد إذا ثبت بالإجازة، فيثبت عند الإجازة، أو يستند إلى العلوق؟ وفيه خلافٌ ذكرته، في الإعتاق. فإن قلنا: إن الاستيلاد ثبت عند الإجازة، فقد تقدَّم العلوق، والمِلك للبائع إذ ذاك، ففي قيمة الولد وجهان، كما ذكرناه. وإن قلنا: الاستيلاد يتقدم الإجازة إسناداً وتبيُّناً (1)، فنبني الغرضَ الآن على أن الأب إذا استولد جارية الابن، فمتى ينتقل الملك إلى الأب؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه ينتقل الملك قبيل العلوق، فعلى هذا نقول في مسألتنا هذه: لا تجب قيمةُ الولد؛ فإن العلوق صادف ملكَ المشتري، على التقدير الذي ذكرناه. وإن قلنا: ينتقل الملك بعدَ العلوق؛ فقد صادف العلوقُ ملكَ البائع، ولكن استقر ملك المشتري، ففي قيمة الولد وجهان، كما تقدم ذكره. فهذا منتهى الغرض. فأما إذا وطىء البائع واستولد، فإن كان له خيار فوطؤه فسخ، والاستيلادُ يثبتُ كيف فرض الأمر، ولا يلزمُه قيمةُ الولد؛ فإن الفسخ يُقارن الوطءَ، أو يتقدم عليه، والعُلوق بعدَ الوطء. وإن كان الخيار للمشتري وحده، فوطىء البائع وأولد، فهو كالمشتري إذا استولد، ولم يكن منفرداً بالخيار فيفرَّع على أقوال الملك، ثم نفرض فيه الفسخَ، والإجازةَ. كما تقدّم ذكره.

_ (1) ساقطة من (هـ 2).

فصل فيما يكون اختياراً في الفسخ والإجازة 2930 - فنقول: كل تصرفٍ يتضمنُ زوالَ المِلكِ كالإعتقاقِ، فلا شك أنهُ يتضمنُ فسخاً من البائع، وإجازةً من المشتري إذا صحّ، وفي الفاسد خلافٌ مضَى، والبيع في معنى الإعتقاق، والاستخدام ليس اختياراً أصلاً، قطع به الأئمة. وذكر بعض أصحاب القَفاّل وجهين في أن ركوب الدابة هل يكون اختياراً؟ وهذا بعيدٌ. وهو من هفوات المصنف. وقد مرَّ بي رمزٌ إليه من أئمة الخلاف (1). وهذا يقتضي تردُّداً في الاستخدام لا محالة. وفي تعليق شيخي عن شيخه القفال وجهان، في أن الإجارةَ هل تكون اختياراً؟ وهذا فيه احتمالٌ؛ من حيث إنها عقدٌ يقتضي تمليكاً، والتزويج في معنى الإجارة، وأما الوطء، فقد سبق الكلام فيهِ، وأنه هل يكون اختياراً؟ قال الشافعي: إذا سلَّم البائع المبيعَ في زمان الخيارِ إلى المشتري، فلا يكون ذلك إجازةً من البائع. واتفقَ الأصحاب على هذا، وإن كان التسليم دلالة ظاهرة في التنفيذ. وقالَ مالك (2): التسليمُ إجازة من المسلِّم، وليس التسلّمُ اختياراً من القابض، وقال الصيدلاني: إذا أذن البائع للمشتري في بيع المبيع، لم يكن مجرَّدُ إذنه إجازةً وقطعاً للخيار، ولو رجع عن إذنه، فهو على خيارهِ. 2931 - وقد عقدَ الشافعي باباً فيما يكون رجوعاً عن الوصية (3)، وليس من الممكن استيعابُ مضمون الباب هاهُنا، ولكنا نذكرُ ما يليق بغرضِنا: فمما يكون رجوعاً عن

_ (1) يشير إلى ما قاله آنفاً في الفقرة الأولى من الفصل السابق "فصل مشتمل على الوطء في زمان الخيار" والمصنف هنا هو الذي قال عنه هناك: "لا يعد من أئمهَ المذهب" وهو أبو القاسم الفوراني، والغالب أنه يرمز إليه بقوله: "بعض المصنفين". (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 523 مسألة: 846. (3) انظر الأم: 4/ 45.

الوصيّة العَرْضُ على البيع، والهِبَة قبل القبض (1)، ولو وطىء الموصي الجاريةَ الموصَى بها، فإن عزل عنهَا، فلا يكون رجوعاً عن الوصيّةِ، وإن لم يعزل وأنزل، كان رجوعاً. والذي يدور الباب عليه أن كلَّ ابتداء لو تم، لكان مُزيلاً، فهو في ابتدائه يكون رجوعاً عن الوصيّة. ولو أوصى بحنطة، ثم طحنها، كان ذلك رُجوعاً؛ لأنه عرَّضَها للتلف، فجُعِل كتحقيق التلف. والوطء لم يكن في عينه رجوعاً، وإنما الرجوع في الإنزال؛ من حيث أشعر بقصد الاستيلاد، وليس من الممكن أن يجري الاختيار في زمان الخيار مجرى ما يكون رجوعاً عن الوصيَّة. والدليل عليه في النفي والإثبات أن الوطء اختيارٌ في ظاهر المذهب معَ العَزل، وليسَ رجوعاً عن الوصيةِ، والسبب فيهِ أن الوصية لا تتضمَّن تحريماً على الموصي، والجارية الموصَى بها مباحة على الموصي، فإذا كان يطؤها، فليس [في ذلك] (2) ما يتضمن منعَها عن الوصيةِ بعد الموتِ، فكان الاستمرار على الوطء غيرَ مشعر بالرجوع. والبيع يتضمّنُ في وضعِه إزالةَ الملك، وكل بائع موطَنٌ نفسَه على الانكفاف عن التي باعَها، فإذا وطئَها أشعرَ ذلك بردّه إياها على ما كانت عليه قبل البيع. فإن قيل: أليس الظاهِرُ أن البائع إذا وطىء وله الخيار فوطؤُه مباحٌ؟ قلنا: فيه كلام. ثم تقدير الإباحةِ فيه يخرج على قَصْدهِ الردَّ، وأمَّا الوصيَّة، فإنها تنشأ على استمرار الموصي على الانتفاع مادام حياً، فهذا فرقُ ما بين البابين. والعرض على البيع رجوعٌ عن الوصيَّة، وفحوى كلام الأئمة القطعُ بأنه ليس اختياراً، والسبب الفارق أن الوصيةَ ضعيفةٌ؛ من حيث إنه لم يُوجد في حياة الموصي إلا أحَدُ شِقي العقد، والبيع وإن كان جائزاً، فقد تم انعقادُه بشقَّيه. وتحصيل القول

_ (1) نص عبارة الشافعي: " ولو أوصى لرجلٍ بعبدٍ، ثم أوصى أن يباع ذلك العبد، كان هذا دليلاً على إبطال وصيته به، وذلك أن البيع والوصية لا يجتمعان في عبدٍ، ولو أوصى لرجل بعبدِ، ثم باعه، أو كاتبه، أو دبَّره، أو وهبه، كان هذا كلُّه إبطالاً للوصية ". (الأم: 4/ 45َ). (2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

فيهِ أن الشرع سوَّغ أن يتخلل بين الإيصاء والقبول الزمانُ الطويلُ وموتُ الموصي. ثم إن جرى من الموصي ما يُشعر بمناقضة الوصية، كان ذلكَ بمثابَةِ تخللِ زمانٍ طويل بين الإيجاب والقبول في البيع، فبهذا السبب كان الرجوع في الوصيَّة أوسع باباً من الاختيار في البيع. 2932 - ونحن نذكر الآن أربعَ مراتبَ، نجمع فيها قواعدَ المذهب: الأولى - فيما يثبت على الفور كالرّد بالعيب، فكل ما ينافي الفورَ وُيشعر بالتأخير، فهوَ مُسقطٌ، وسنذكر ما يليق به في موضعه. والثانية - الرجوعُ عن الوصيَّة، وهذا يعتمدُ ما يُشعر بمناقضةِ مقصود التنفيذ والاستمرارِ على الوصيَّة. والثالثة - الاختيارُ في زمان الخيار، والأصل فيه ألا يحصل إلا بتصريحٍ أو تصرفٍ مزيلٍ للملكِ، والوطء قياسُه ألا يكون اختياراً، ولكنّ المذهب فيه ما قدَّمناه، وتقريب تعليلهِ على أقصَى الإمكان أن الوطء لا يصدُر إلا ممن يؤثرُ استبقاء أو ردّاً، ويبعد حَملُهُ على الاختيار، وكذلكَ يَبعُد حمله على الهم بالاختيار، وليس كالأمر بالبيع؛ فإنه يدل على الهم بالاختيار، ولا يَدُل على جَزمِ الرأي فيه، والهمُّ يقطعُ الوصيةَ لضعفها، والوطء ليس همّاً، بل لا يُقدم عليه إلا مُوطِّنٌ نفسَهُ على أمر. نعم قد يكون الوطء فجرة (1) من الواطىء، ولكن من له الخيار لا يُحمل أمرُه على هذه الجهة، كما أن الإعتاق قد يوجهه المرءُ على ملكِ غيره هازلاً، ولا يُحمل الإعتاق في زمان الخيار إلا على الاختيار.

_ (1) كذا مع ملاحظة أنها في (هـ 2) بدون أي نقط، وفي الأصل بنقطة على الفاء. وأقرب ما تعطيه هذه الصورة في المعاجم (فجرة) كما رجحناه، وهي بمعنى المرة من الفجور من فجر الرجل إذا زنا، والمعاجم لم تذكر إلا (ركب فلانٌ فجرةَ) [بدون تنوين] إذا كذب كذبة عظيمة. هذا. وقد راجعت مع الأساس واللسان والمحيط والوسيط والمصباح والمختار، الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، وغريب الحديث لأبي عبيد، وغريب الحديث للخطابي، وتهذيب الأسماء واللغات، والألفاظ التي فسرها ابن خلكان في الوفيات، ومعجم الأمثال العربية، فلم أظفر من كل ذلك بما يشفي الغلة، فعسى أن يكون ما قدرتُ صواباً. والعلم عند الله. والمراد أن الوطء قد يكون (نزوة)، وليس معناه إرادة الاستبقاء، أو إرادة الإجازة.

ولو وهبَ أحدُهما المبيعَ ولم يسلمه، فالقياس عندي أنه لا يكون مختاراً؛ فإنه إنما يتم بالقبضِ، والهبةُ مُشعرةٌ بالهمِّ بخلاف الوطء، وفيه احتمال. والاستخدامُ ليس اختياراً على القاعدة. وفي الإجارة والتزويج الاحتمالُ الظاهر. ولو باعَ المبيعَ في زمان الخيار وشرط في البيع الخيارَ، فإن قلنا: لا يزول مِلكُ البائع، فيقرب تنزيل هذا منزلة الهبةِ قبل القبض، وإن قُلنا: يزول الملك، ففيه احتمالٌ أيضاً، لإمكان الاستدراكِ فيه، فكأنه هَم أن يبتَّ الخيارَ. ولو وهبَ البائعُ من وَلدهِ وسَلّمَه، فالوجه القطع بأنه اختيار؛ فإنّ ملك المتهب تامّ. والرجوعُ في حكم ابتداء حق أثبته الشارع. والمرتبةُ الرابعة - حق الرجوع بعدَ تمام زوال الملكِ كرجوع الواهب، والرجوع في عين المبيع عند إفلاس المشتري بالثمن، والأصل فيه أن الرجوع يستدعي تصريحاً، فإنه جَلْبُ ملك ابتداءً، وقد ذكرت خلافاً في إعتاق من له الرجوع، وأنه هل ينفذ متضمناً رجوعاً، والوجه القطعُ بأن الواهبَ لو وطىء الجاريةَ الموهوبة، لا يكون وطؤه رجوعاً، ولا شك أن إقدامَهُ على الوطء محرَّم؛ فإن تلك الجاريةَ مباحةٌ للمتَّهب، ويستحيل أن تحلَّ جاريةٌ لرجلينِ في حالةٍ واحدة. هذا بيان قواعد المذاهب فيما أردناه. فصل 2933 - من ثبت له الخيار بالشرط، لم يقف نفوذُ تصرفه على حضور صاحبه. وإن أجاز، نفذت الإجازةُ في غيبة صاحبهِ نفوذَها في حضرته، وكذلكَ إذا فسخَ. ولو أعتقَ المشتري، أو باع في حضرة البائع، فسكتَ البائع، ولم يُبدِ نكيراً، لم يكن سكوته إجازةً منه للعقد، والقول فيما فعله المشتري نفوذاً ورداً، كما تقدَّم استقصاؤه. وإن وطىء المشتري الجاريةَ المشتراة بحضرة البائع، فسكت، فهل يكون السكوت منه إجازةً؟ فعلى وجهين ذكرهما بعض أصحاب القَفّال، وصاحب

التقريب: أحدهما -[أنه لا يكون إجازة] (1) بمثابة سكوتهِ على البيع والعتق. والثاني - أنه إجازة؛ فإن المتبعَ في أمر الوطء ما ذكرناه من إشعارِه بتصميم العزم، والسكوتُ على الوطء في هذا المعنى كالوطء. فصل في التلف 2934 - لم يبقَ من أصول أحكام الخيار، إلا تفصيلُ القول في تلف المعقود عليه في زمان الخيارِ. فنقول: إذا تلفَ المبيع في زمان الخيار، فلا يخلو إما أن يتلف في يد البائع، أو في يدِ المشتري، فإذا تلف في يد البائع، فلا شكَّ في انفساخ العقد. وإن كان سُلّم إلى المشتري، فتلفَ في يده، فنذكر طريقتين للأئمة: إحداهما - لصاحب التقريب وأصحاب القفال، وهي المرضيّة. قالوا: نخرّج المذهبَ على أقوال الملك، فنقول: إن قلنا: الملكُ للبائع، فينفسخ العقدُ، وإن جرى التلف في يدِ المشتري؛ لأنَّا إذا كنا نحكُم بانفساخ العقد بتلف المبيع في يد البائع بعد لزوم البيع، لبقاء عُلقة من العقدِ؛ فلأن نحكم بذلك، وقد تلف المبيع ملكاً للبائع أولى. وإن حكمنا بأن الملكَ للمشتري وقد تلف في يَدهِ، فهل نقضي بانفساخِ العقد؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا ينفسخ، وهو الذي قطع به أصحابُ القفال؛ لأنه قد تلف في ملك المشتري ويدهِ. والثاني - أنه ينفسخ لبقاء عُلقة البائع فيه، وملكُ المشتري قبل القبض بعد لزوم العقد أثبتُ من ملكهِ في زمان الخيار. التفريع: 2935 - إن فرعنا على أن المِلك للبائع، وقضينا بانفساخ العقدِ، فالمشتري يستردّ الثمن، ويغرَم للبائع قيمة المبيع كالمستام (2)، فإنا إذا ضمَّناهُ لتوقع العقد، فهذا الذي نحن فيه بالضمان أولى، وإن فرَعنا على أن الملك للمشتري،

_ (1) سقط من الأصل، ما بين المعقفين. (2) المستام، الذي يطلب شراء السلعة، فإذا تلفت في يده، ضمن قيمتها للبائع.

وحكمنا بانفساخ العقد، فالجواب كما مضى. وإن حكمنا بأن العقد لا ينفسخ، فهل يبقى الخيار أم ينقطع؟ التفصيل فيه: أنه إن كان اشترى عبداً بثوب معين، ثم تلف العبد في يد مشتريهِ، وبقي الثَّوبُ في يد البائع، فالبائع على حقه من الخيار؛ إذ لو اطلع على عيب بالثوب، وقد تلف مقابله، لردَّ الثوبَ، فكذلك هاهنا. وأما المشتري لو أرادَ الفسخَ، أو كان اشترى عبداً بثمن في الذمّة، فأراد البائعُ الفسخَ؛ ففي المسألة وجهان: أحدهُما - أن الخيار قد انقطع؛ لأنه كان متعلقاً بالمبيع، وقد فات، فأشبه ما لو اطلع المشتري على عيب بالعبد بعدما مات، فإن أراد ردَّ قيمته واسترداد الثمن، فليس له ذلك، والوجه الثاني - أن الخيار قائم؛ فإن متعلَّقه العقد والعقدُ باقٍ، فأشبه ذلك التحالفَ بعد تلف المعقود عليه. ومذهبُنا أن المتبايعين إذا اختَلَفا في صفة العقد بعد تلف المبيع في يد المشتري، تحالفَا وتفاسخا. فإن حكمنا بانقطاعِ الخيار، فقد لزم العقد، واستقر الثمن، وإن حكمنا بأن الخيار باق؛ فإن أجيز العقد، فالجواب كما مضى في انقطاع الخيار، وإن فسخ العقدُ، استرد المشتري الثمن. وغرِم قيمةَ المبيع للبائع. قالَ الصيدلاني: إذا قبض المشتري المبيعَ في زمان الخيارِ، ثم أودعه عند البائع، فتلف في يده، فهو كما لو تلف في يدِ المشتري. فإن حكمنا بأن الملك للمشتري، وقلنا: لا ينفسخ العقد، فعلى المشتري الثمن، وإن قلنا: بأن الملك للبائعِ وقُلنا: ينفسخ العقد [لو تلف] (1) في يد المشتري، فنقول: الآن ينفسخ أيضاً، والثمن مَردودٌ على المشتري، ثم قَالَ: وعلى المشتري القيمةُ للبائع؛ فإن يد البائع يدُ أمانةٍ، وهي بمثابة يد المشتري. ولو تلف في يد المشتري، لالتزم القيمةَ، فكذلك إذا تلف في يد البائع؛ فإن يده بمثابة يد المشتري. قلنا: هذا الذي ذكرهُ في إيجاب ضمان القيمة على المشتري، والتفريع على أن الملك للبائع محتمل؛ فإن العين المملوكة إذا عادت إلى يد صاحبها وتلفت، فيظهر أن يقال: لا ضمان على المشتري، فما ذكرهُ الصيدلاني أوجه.

_ (1) زيادة من: (هـ 2).

ولو فَرعّ مفرعٌ على أن الملكَ للمشتري، وارتضى أن البيع ينفسخ إذا تلف المبيع في زمان الخيار في يد المشتري، فحينئذٍ إذا تسلم المشتري، ثم أودعه عند البائع وتلف، فالقيمة تجب على المشتري؛ فإنه تلف ملكه مضموناً في يدٍ أمينة. 2936 - هذا بيان طريقة [واحدةٍ] (1) على وجهها. وذكر العراقيون وبعضُ أصحاب القفال: أن المبيع إذا تلفَ في يد المشتري في زمان الخيار، لم ينفسخ العقدُ أصلاً، وإن فرَّعنا على أن الملكَ للبائع. ثم فرَّعوا تفريعاً بديعاً، فقالوا: إذا لم ينفسخ العقد، ولم يفسخ أيضاًً، حتى انقضى زمانُ الخيار، فعلى البائع رَدُّ الثمن، وعلى المشتري غرامةُ القيمة، وعللوا بأن المبيع تلف ملكاً للبائع، والمشتري لا يملكهُ في زمان الخيار، ولو بقَّينا الثمنَ على ملكِ البائع، لكان محالاً فإنه إنما يملكُ الثمن إذا ملكَ المشتري المثمن، ولما انقضى الخيار، كان المثمن تالفاً، لا يتصور تقرُّرُ الملك فيه، فلما عسر جريانُ ملك المشتري في المبيع، اقتضى ذلك ألا يملكَ البائعُ الثمن. وهذا الذي ذكروه تخليطٌ ظاهر. لكنّي أتصرّف [فيه] (2) ثم أنبّه على منشأ التخليط وطريق قطعه، فأقول: وجبَ أن نفرع هذا أولاً على أن الخيار هَل ينقطع بتلف المبيع في زمان الخيار؟ فإن قلنا: إنه ينقطع، وقلنا: لا ينفسخ البيع على طريقهم لجريان القبض، وإن قلنا: الملك للبائع، فيتّجه على ذلك أن نقول: يستقرّ العقد، وينقلب المبيع إلى ملك المشتري قبيل التلف تبيّناً (3)؛ فإنّ سبب استمرار ملك البائع الخيارُ، فإذا كان التلف يقطع الخيار، فيجوز أن يؤثر في قلب المبيع إلى المشتري، كما نقول إذا تلف المبيع بعد لزوم العقد في يد البائع، فينقلب إلى ملك البائع قُبيل التلف، فعلى هذا لا ضمان على المشتري، ويستقرّ ملكُ البائع في الثمن.

_ (1) مزيدة من: (هـ 2). (2) زيادة من: (هـ 2). (3) سبق أن شرحنا معنى التبيّن.

وإن قلنا: لا ينقطع الخيارُ، وقَدْ رأَوْا أن البيع لا ينفسخ، فمن هذا ثار الخبط، كما ذكرناه. وكان من حقّهم أن يحكموا بانفساخ العقد، ويعللوا بما ذكروه من أنه لا يتصوَّر إجراء الملك في الثمن، من غير جريانه في مقابِله، وقد عسر جريَانُه في مقابله. وهذا التعليل حسن. ولكن تعليل الانفساخ أظهر، فيجب القطع بالانفساخ على قولنا: الملك في المبيع للبائع في زمان الخيار. ثم إذا حكمنا بانفساخ العقد على قولنا: الملك للبائع، وذَكرنا جوابين على القول الآخر، فمما أجريناه في التفريع إلزام المشتري القيمةَ. فإن قيل: أيةُ قيمةٍ تعتبر؟ قلنا: إن فرَّعنا على أن الملك للبائع، فالقول في القيمة على هذا القول، كالقول في قيمة المستعار، والمأخوذ على سبيل السَّوْم، وإن قلنا: المِلكُ للمشتري ورأينا أن العقد ينفسخ، فمن ضرورة ذلك الحكم بانقلاب المبيع إلى ملك البائع، ثم التلف يجري في ملكه، فهاهُنا نقطع باعتبار قيمته وقت التلف؛ فإن المبيع كان قبلَه مملوكاً للمشتري، فاستحالَ اعتبار القيمة عليه من وقت الملكِ فيه له. فهذا ما أردناه. فرع: 2937 - البائع إذا استولد الجارية ولا خيار له، فإن قلنا: الملكُ له، وقضينا بأن الاستيلادَ يثبت؛ فإن كانت الجارية في يد البائع، انفسخ العقدُ. وسنذكر قولين في أن البائع إذا أتلفَ المبيعَ قبلَ القبض بعدَ لزوم المِلكِ للمشتري، فهل يكون هذا كتلف المبيع بآفةٍ سماويَّةٍ، وذاك فيه إذا استقرَّ المِلك للمشتري. أمّا هاهنا، فقد أتلف ملكَ نفسهِ قبل زوال يده، فالوجه القطع بانفساخ العقد، وإن كان سَلّمها إلى المشتري واستولدها في يده، وقلنا: المِلكُ للبائع، فالوجه في الطريقة المرضيَّة الحكم بانفساخ العقد أيضاًً؛ فانا إذا فرّعنا على أن الملك للبائع، فلا أثر لما جَرى من التسليم في منع انفساخ العقد على قياس الطريقة المرضيَّة. فرع: 2938 - إذا اشترى رجل عبداً بجارية، وكان الخيار للمشتري وحده، فلو أعتق المشتري الجاريةَ، لكان ذلك فسخاً منه للعقد، ولو أعتق العبد، كان إمضاءً وتنفيذاً للعقد، فلو أنه أعتقهما جميعاً؛ فلا ينفذ عتقه فيهما جميعاً؛ فإن تنفيذ العتق

فيهما يتضمن فسخاً وإجازة، وهما نقيضان، فلا سبيل إلى جمعهما، ولكن اختلف أئمَّتُنا: فمنهم من قالَ: ينفذُ العتقُ في الجارية، لأن ذاك يتضمنُ فسخاً، والفسخ أقوى، ومنهم من قالَ: ينفذ عتقُه في العبدِ وهو اختيار ابن الحداد والقياس، وذلك لأن عتقَهُ في العبد تنفيذٌ للعقد. وإذا فرَّعنا على الأصح وهو أن الملك في المبيع للمشتري، فلا يحتاج في تنفيذ عتقه إلى تقدير واسطةٍ بل نقول: أعتق ملكَه، فنفذ. وهذا فرَّعه ابن الحداد على أن الملكَ في المبيع للمشتري، فيجتمع ملكُه في المبيع وسُلطان الفسخ في الثمن، ومنه نشأ الخلاف. قال الشيخ أبو علي: يتَجهُ عندي أن أقول: لا ينفذ عتقُه في واحد منهما؛ فليس عتقه في أحدهما أولى من الثاني، وهو ينفرد بكل واحدٍ منهما، ولا سبيل إلى تنفيذهما، فالوجه ردّهما بالتدافع، كإفسادِنا النكاحَ الوارد على الأختين. والذي أراه أنّا إذا حكمنا بأن الملكَ في المبيع للبائع، فينفذ عتقُ المشتري قطعاً في الجارية؛ لأن الثمن على هذا القول ملكُ المشتري، فقد اجتمع في الجارية ملكُه ونفوذ الفسخ، وما ذكره الشيخ أبو علي ينقدح هاهُنا؛ فإن معتمدَهُ تصوّر الانفراد في كل واحدٍ من العتقين. فرع: 2939 - إذا شرط المتعاقدان خيار يومين، جاز، فلو زادا في اليومين الخيارَ يوم الثالث، فهذا يخرج على خلافٍ سنذكرهُ في أن الإبراء أو الزيادة في الثمن والمثمَّن هل يلحقان العقد في زمان الخيار؟ وهذا يأتي مشروحاً إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: يتصوَّر إلحاق الزيادة في الثمن والمثمن، فزيادة الخيار تثبت، كما لو شُرطت في العقد، وإن قلنا لا تلحق الزوائد، فالشرط في زيادة الخيار ساقط، والعقد بحاله. قال الشيخ أبو علي: الزوائد عند أبي زيد تلحق في مجلس العَقدِ، ولا تلحق في زمان الخيار. وهذا مما انفرد به، ولا يظهر فرقٌ بين الخيارين. فرع: 2940 - إذا اشترى عبدين على أنه بالخيارِ في أحدهما، فالعقد باطلٌ؛ فإن متعلّق الخيار مجهول، فإن قال: على أنِّي بالخيار في هذا العبد، فالصفقةُ قد

جمعت بيع خيار في عبدٍ، وبيعاً لا خيار فيهِ في عبد، فيخرج على قولي تفريق الصفقة. فرع: شذَّ من تفريع بيع الغائب، فرأيت تداركَه في آخر هذا الباب 2941 - قد ذكرنا أنه إذا رأى شيئاً، ثم اشتراه، وكان المبيع لا يتغيَّر غالباً في مثل تلك المدة، ولكن اتفق تغيُّره، فللمشتري الخيار. وقد استقصينا ذلك، فلو قالَ المشتري: هذا المبيع متغيرٌ عما رأيته؛ فلي الخيار. وقال البائع: هو على ما كان عليه. قالَ الصيدلاني: قال صاحب التقربب: القول قول البائع؛ فإنه يبغي بقولهِ المحتمل تقرير العقد، فصار كما لو اختلف البائع والمشتري في عيبٍ، فادَّعى البائع أنه حَدَث في يد المشتري، فالقولُ قول البائع. قال الصيدلاني: القياس أن القولَ قول المشتري في مسألة الرؤية؛ فإن البائع يدَّعي على المشتري أنه اطلع على المبيع على هذه الصفة، وهو ينكر اطلاع نفسه، فكان هذا بمثابة ما لو قال البائع للمشتري: هذا العيب قديم، ولكنك قد اطلعتَ عليه، وقال المشتري: ما اطلعتُ عليه، فالقول قول المشتري. * * *

باب الربا

باب الربا وما لا يجُوزُ بَعضُه ببَعض مُتَفاضِلاً ولاَ مُؤجَّلاً والصَرف 2942 - قال الشافعي (1): " أخبرنا عبد الوهَّاب ... الحديث ". قد نصّ الله تعالى على تحريم الربا وتوعّد عليه، ولكن ذَكَرَ الربا مجملاً في القرآن، والتفسيرُ مُحالٌ على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعتمدُ في الباب الخبرُ، وقد روى الشافعي بإسنادهِ عن مسلم بن يسار، ورجل آخر عن عبادةَ بنِ الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تبيعوا الورِقَ بالورِق، ولا الذهبَ بالذهبِ، ولا البُرَّ بالبُرّ، ولا الشعيرَ بالشعير، ولا التمرَ بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، يداً بيدٍ، ولكن بيعوا الورِقَ بالذهب، والذهبَ بالورق، والبر بالشعير، والشعيرَ بالبُرّ، والملح بالتمر، والتمر بالملح كيف شئتم يداً بيد" (2). فنقول: نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم الرِّبا في ستة أشياء وهي الدراهم، والدنانير، والبر، والشعير، والتمر، والملح، واضطربت مذاهب العلماء في تعدّي مورد النصّ، ولا يليق التعرُّضُ للاختلاف بهذا الكتاب المقصور على بيان مذهب الشافعي وأصحابه، فالوجه الاقتصار على هذا المذهب. 2943 - والباب يشتمل على ضروب من الربا. وأصل جميعها ربا التفاضل، فنبدأ بهذا، ونستقصي القولَ فيه، ثم نذكر ما عَدَاهُ، ونصنّفُ الأشياء الستة صنفين،

_ (1) انظر الأم: 3/ 12. (2) حديث عبادة رواه الشافعي في الأم: 3/ 12، قال: أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن مسلم بن يسار، ورجل آخر، عن عُبادة بن الصامت. ورواه مسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف، وبيع الذهب بالذهب نقداً، ح 1587، وفي الباب عن عمر وعن علي، وعن أبي هريرة وغيرهم (ر. التلخيص: 3/ 15 ح 1135).

فنذكر الأربعة منها فنّاً: وهي البُرّ، والشعيرُ، والتَمرُ، والملح، ثم نتكلم بعدها في الدراهم، والدنانير. فأما الأشياءُ الأربعة، فتحريم ربا الفضل فيها عند الشافعي معلَّلٌ في قوله الجديد بالطعمِ، ثم لهذه العلةِ محل وهو اتحاد الجنس، فإذا صادف الطعم جنساً متحداً، اقتضى تحريمَ التفاضل. وليس الجنسُ صفةً في العلةِ، وإن كان الحكم يتوقف عليه، وهذا بمثابة قولنا: الزنا موجبٌ للرّجم إذا صدر من محصنٍ، وليس الإحصانُ صفة في العلة، ولكنه محلّها. وقد استقصينا القول في ذلك في مجموعاتِنا (1) في الخلاف. وأثر ما ذكرناه يبين في ربا النساء، وباب الصرف. وقد ثبت الآن تحريمُ التفاضل في كل مطعوم متّحدٍ جنسُه سواء كان مقدراً بكيل، أو وزنٍ، أو لم يكن مقدراً، كالسفرجل، والرمان، والقثاء، والبطيخ. واعتبر في القديم الطعم كما ذكرناه، وضمّ إليه التقدير وقال: علة الربا من الأشياء الأربعة الطعمُ، وإمكانُ التقدير. واعتبار التقدير في القديم وصفٌ في العلّة، وهي مركّبة من الطعم والتقدير، ومحل العلّة المركَّبة اتحادُ الجنس كما تقدم، وهذا أصل الباب في هذه الأشياء. وإذا اختلف الجنسُ لم يحرم التفاضل، كما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: " وإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ". 2944 - ثم أول ما نبدأ به شرح الطعم الذي اعتبرناه في العلّة: فكل ما يكون الغرض الغالب منه الطعْم، وإنما يُعد غالباً له، فهو مالُ ربا على الجديد، مقدَّراً كان أو غير مقدَّرٍ. والمقدر مما يُطْعم مال ربا في القديم؛ فالأغذيةُ والفواكه داخلةٌ

_ (1) مجموعاتنا أي مؤلفاتنا، يشير إمام الحرمين، إلى كتبه في الخلاف، وقد عرفنا منها: الدرّة المضية فيما وفع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية (وقد وفقنا الله لتحقيقه وإخراجه). 2 - غنية المسترشدين ويسمى اختصاراً (الغنية). 3 - الأساليب. 4 - العُمَد وهذه لم نعثر على أثر لها في المكتبات للآن. ولإمام الحرمين أيضاً (الكافية في الجدل)، وقد حققته وأخرجته الدكتورة فوقية حسين، جزاها الله خيراً.

تحت الطُّعْم، والأدويةُ مطعومةٌ، وإن كانت تستعمل على نُدورٍ، ولكنها مُعَدَّةٌ لتُطعم إذا مست الحاجةُ إليها. هذا هو الأصل، ونذكر مسائلَ فيها تردد. قال العراقيون: الطين الأرمني مطعوم دواءً، فهو مال ربا، والطين الذي يأكله السفهاء لا ربا فيه؛ فإنه لا يعدّ مأكولاً، وأكله سفهٌ. وكان شيخي يتردد فيه، ويميل إلى أنهُ مال ربا، وما ذكروه في الطين الأرمني صحيحٌ، لا خلاف فيه. وذكر العراقيون فيما صُرف عن الطُّعم اعتياداً وأصله مطعوم، كدهن البنفسج، والورد، وغيرهما، أن المنصوص أن هذه الأدهان مال ربا، فإنها شَيْرج اكتسب روائح من الأزهار، وانكف الناس عن أكلها ضِنّة بها. قالوا: وذكر بعض الأئمة قولاً مخرَّجاً أنها ليست مالَ رباً؛ لأنها لا تُعدّ مطعومةً عرفاً. قال صاحب التقريب: " دهن البنفسج مال ربا، وفي دهن الورد وجهان ". ولستُ أفهم الفرق بينهما، ثم إذا جعلناها مال ربا فكلُّها جنسٌ واحد؛ فإنها شَيْرج اختلفت روائحها، لمجاورة أشياءَ مختلفة. هكذا ذكره العراقيون، وهو الوجه. وذكر الإمام وجهين في الكتان ودهنه، وقطع العراقيون بأن دهنَ الكتان المعد للاستصباح ليس مالَ ربا، والظاهرُ ما قالوه؛ فإن الكتان ودهنه إن فُرض أكلُهما على ندور، فلا نظر إلى ما يندر، وإنما الاعتبار بما هما معدّان له غالباً، وهذا كالكبريت والقطران، قد يندر من بعضٍ أكلُهما، ولكنهما ليسا مُعدَّيْن لذلكَ. قال العراقيون: ودَكُ السَّمكِ المعَدُّ للاستصباح وتدهين السفن ليس مال ربا، وعللوا ذلك بما قدمناه. وهذا يظهر فيه جعلُه مالَ ربا؛ فإنه جزءٌ من السمك، وهو مطعوم فيه، والزعفران مأكولٌ، والمقصود الأظهر منه الأكل تلذذاً وتداوياً. ولو فرض علينا شيء يجري فيه الطعم وغيرُه على التقارب في التساوي؛ فالوجه القطع بأنه مال ربا؛ فإنه ظهر كونه مطعوماً، فكفى ذلك، ولا يضر ظهورُ غرضٍ آخرَ فيه، وفيما نقله العراقيون في دهن البنفسج وودك السمك المعدّ للاستصباحِ تناقضٌ؛ فإنهم لم ينظروا إلى العادة في انصراف دهن البنفسج عن الطُعم، واختاروا كونه مالَ ربا، وحكَّموا النص فيه، وقولهم في ودكِ السمكِ يخالف ذلك. وهذا غامض عليهم.

والوجه عندنا تخريجُ هذا الفن على الخلاف؛ فإنه متردّد بين الأصل المأكول، وبين الانصراف عن جهة الأكل لغرض في العادة. فرع: 2945 - اختلف الأئمة في بلع السمكة الحيّة؛ فإن منعنا ذلك، فليس السمك مال ربا في الحياة. وإن جوزنا بلْعَها، فقد تردد شيخي في إجراء الربا فيها، وهذا بعيدٌ عندي. والوجه القطع بأنه لا ربا فيها؛ فإنها لا تُعدّ لهذا الشأن. وكان تخصيص ما ذكره بالصغار التي تُبتلع. وتردّد صاحب التقريب في السمكة، وبنى أمرها على ما ذكرناه، وقطع بالفصل بين الكبار والصغار. وأما الماء، فمطعوم لا شك فيه، والمذهبُ أنه مملوك يباع، فهو مال رباً. ومن أصحابنا من قال: الماء لا يُملك؛ فيمتنع عنده بيع الماء بالدراهم، وسأذكر أحكام المياه مجموعةً في إحياء المواتِ، وتمام الضبط في هذا أن المعتبر في الاعتداد بالطُّعم حالةُ الاعتدال والرفاهية، فأما ما يطعم في سِني الأَزمِ والمجاعة، فلا معوّل عليه. فصل في اعتبار طريق التقدير 2946 - ما جرى في تقديره طريقٌ في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو المعتبرُ فيما يحرم فيه التفاضل، فالحنطة والتمر والشعير كانت تكال، فلا يجوز بيع بعضها ببعض مع اتحاد الجنس وزناً بوزنٍ، وإن كان الوزن أحصرَ من الكيل، ولكن المتبعَ الشرعُ، وإن صح الوزن في شيء في عَصر الشارع صلى الله عليه وسلم، تعيّن الوزنُ فيهِ؛ حيث تحرم المفاضلة. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة " (1) فما معنى الحديث؟ قلنا: لعل اتخاذ المكاييل كان يعمُّ في

_ (1) الحديث عن ابن عمر، أخرجه أبو داود في البيوع، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " المكيال مكيال المدينة "، ح 3340، والنسائي في الزكاة، باب كم الصاع: 5/ 54 ح 2521، وفي البيوع، باب الرجحان في الوزن: 7/ 284، ح 4598، وصححه ابن حبان: =

المدينة، واتخاذ الموازين يعمُّ بمكة، فخرج الكلام على العادة، وإلا، فلا خلاف أن اعتبار مكاييل أهل المدينة، وموازين أهل مكة لا يرعى، ويجوز أن يقال: ما تعلق بالوزن من النُّصب وأقدار الدياتِ وغيرها، فالاعتبار فيها بوزن مكة، وما تعلق بالكيل في زكاةِ الفطر، والكفارات، فالمعتبرُ ما كان يغلب في المدينة. وليسَ في الحديث تَعرُّضٌ لأمر الربا. فرع: 2947 - إذا اتخذ مكيالٌ لم يُعهد مثله في عصرِ الشارع، وكان يجري التماثل به، فالوجه القطع بجواز رعاية التماثل به؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعبَّدْنا في الحديث إلا بالكيل المطلق فيما يكال، ولم يعيّن مكيالاً، وأجمع أئمتنا: على أن الدراهم إذا بيعت بالدراهم، وعُدِّلَتا بالتساوي في كفّتَي ميزان، فالبيع صحيح. وإن كنا لا ندري ما تحويه كلُّ كِفة. وهذا الذي ذكرته في مكيالٍ يجري العرف باستعماله، ولكن لم يعهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو بيع ملءُ قصعة بملئها، وما جرى العرف بالكيل بأمثالها، فقد حكى شيخي تردّداً عن القفال، والظاهر عندنا الجواز. والوزن بالطيّان (1) وزنٌ، وإن لم يكن له لسانُ وزنٍ، والاستواء يبين فيه بتساوي قَرْعتي الكِفتين، والوزن بالقَرَسْطون وزنٌ، وقد يتأتى الوزن بالماء بأن توضع دراهم في ظَرْف، فتُلقى على الماء ويُنظر إلى مقدار غوصه، ثم يفعل مثل ذلك بمقابلهِ، وليس ذلك وزناً شرعيّاً ولا عرفيّاً. والظاهرُ أنه لا يجوز التعويل عليه في تماثل الربويات. وما استَربْنا فيه، فلم ندرِ أنه كان مكيلاً في عَصر الشارع أو موزوناً، فلا يخلو إما أن يكون له أصل يعرف تقدير الشارع فيه، أو لا يكون، فإن لم يكن له أصل يُعلم

_ = 1105 عن ابن عباس. وأخرجه أيضاًً الطبراني في الكبير: 3/ 2، 20/ 1، والبيهقي: 6/ 31، وأبو نعيم في الحلية: 4/ 20، والطحاوي في المشكل: 2/ 99، وقال الألباني: صحيح (إرواء الغليل: 5/ 193 ح 1343)، وانظر أيضاًً (شرح السنة للبغوي - تعليق شعيب الأرناؤوط: 8/ 69)، و (نيل الأوطار: 5/ 307). (1) الطيان، والقرسطون: نوعان من الموازين كما يتضح من السياق. ولما أصل إلى وصف لهما.

تقديرُه شرعاً، وكان يتأتى فيه الكيل والوزن جميعاً، ففيه أوجه: أحدها - أن يكالَ؛ فإن الكيل كان غالباً في معظم المطعومات، فنعتبر موضع الإشكال بالغالب. والثاني - أنه يتعين الوزن؛ فإنه أحصرُ من الكيل، فإذا لم يثبت الكيل بالتوقيف، فطلبُ الأحصَرِ أولى. والثالث - أنا ننظر إلى العادة الغالبةِ في موضع المعاملة؛ فإنه إذا عسر اعتبار عرف الشارع، وقد وجدنا العرف أصلاً متبعاً، فالأقربُ اعتبار عرف الوقت. وذكر شيخي وجهاً رابعاً - وهو أنا نتخيَّر بين الكيل والوزن؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني. وهذا بعيد جداً لم أره لغيره. وإذا جرى التقديران، فلا بد من تفاضل يجري لأحدهما. ولو منع مانعٌ أصلَ البيع لاستبهام طريق التماثل، لكان أقربَ مما ذكره، ولكن لا قائل به من الأصحاب. فأما إذا كان للشيء أصل يعرف طريق تقديره في عصر الشارع، ولكنه في نفسه لا يُدرَى بماذا كان يُقَدَّر في العصر الأول، ففيه الأوجه المتقدمة، وزاد شيخي وصاحب التقريب والصيدلاني وجهاً آخر أنهُ يتعيّنُ أن يقدَّر بما يقدر به أصله. فصل 2948 - في بيان الحال التي تباع في مثلِها أموال الربا، بعضُها ببعض، ويتصل به التفريع على القول القديم؛ فنقول: قد منع الشافعيُّ في معظم العلماء بيعَ الرطب بالتمر، واعتمد فيه الحديث المشهور، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: " أينقصُ الرطبُ إذا جف؛ فقيل نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: فلا إذن " (1). ثم استنبط الشافعي من مورد الحديث أن

_ (1) حديث أينقص الرطب إذا يبس؟ رواه مالك في الموطأ: 2/ 624، والشافعي في الأم: 3/ 15، وأحمد في مسنده: 1/ 175 - 179، وأبو داود: البيوع، باب في التمر بالتمر، ح 3359، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، ح 1225، والنسائي: بيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، ح 4545، 4546، وابن ماجة: التجارات، باب بيع الرطب، ح 2264، والدارقطني: 3/ 49، 50، والبيهقي: 5/ 294، 295 وقد صححه الألباني (ر. تلخيص الحبير: 3/ 20 ح 1143).

المماثلة حقها أن يعتبر فيها حالُ كمال الشيء، فالتمر حالةُ كماله جفافه، فإذا بيع الرطب بالتمر مع التساوي في الحال، ثم فرض جفاف الرطب، نقص مقداره عند جفافه عن التمر الذي قابله، وكأنا تخيّلنا على الجملة أنَّ تعبّدَ الشارع في منع التفاضل يعتمد بشرف الطعام، فنعتبر التماثل في أشرف الأحوال، ثم بنى الشافعي على ما مهّدَهُ في ذلك منعَ بيع الرطب بالرطب؛ فإنهما إذا جفّا، لم يُدْرَ هل يتماثلان. 2949 - فنقول: بعد تمهيد القاعدة: كل رطب يعتاد تجفيفه لا يجوز بيع بعضه ببعض، وكذلك القول في العنب. فأما الرطب الذي لا يجفف ولو فُرض تجفيفُه، لاستحشف وفسد، فهل يجوز بيع بعضِه ببعضٍ؟ فيه وجهان: أحدهُما - الجواز، وهو القياس؛ لأن هذا النوع كماله في إرطابه، وليست له حالة منتظرة أكمل من هذه. وقد أجرى بعض أصحابنا لفظ الادّخار في أدراج الكلام، وهو غير معتمد؛ فإن اللبن يباع بعضه ببعضٍ، كما سنذكره، ولا يتأتى فيه الادخار، ولكن لما كان ذلك أكملَ أحوالهِ، روعي كمالُه، ولم يثبت أيضاً توقيف في النهي عن بيع الرطب بالرطب خصوصاً، وإنما النهي في بيع الرطب بالتمر. والوجه الثاني أن البيع باطل، نظراً إلى جنسِ الرطب، و [امتناعاً] (1) من تتبع التفاصيل في أنواع الجنس؛ فإن القول في ذلك يطول. ولم يختلف أئمتنا في منع بيع الرطب الذي لا يجفف بالتمر، وكان القياس يقتضي تجويزَه عند من يجوّز بيعَ الرطب بالرطب، إذا كان لا يجفف. وما ذكرته مدلول كلام الأئمة، ولم أجد لهم نصاً في منع بيع التمر بالرطب الذي لا يجفف. 2950 - وأمَّا المشمش والخوخ، فقد يجري العرف في تشميسهما، ولكن لا يعم [عمومَ] (2) تجفيف الرطب والعنب، فذكر الأئمةُ ثلاثة أوجهٍ فيها: أحدُها - أنه لا يجوز بيع الرطب منها بالرطبِ من جنسهِ؛ إذ له حالة جفاف منتظرة، فأشبه الرطبَ

_ (1) في الأصل: وامتناعنا. (2) مزيدة من: (هـ 2).

والعنبَ. وهذا القائل يجوّز بيعَ الجاف منه بالجافّ، قياساً على الرطب. والوجه الثاني - أنهُ يجوز بيع الرطب بالرطب، فإن أكمل أحوال المشمش، وما في معناه الرطوبةُ، والتجفيف فيه في حكم النادر، الذي يستعمل في الفاضل عن الأكل من رطب الجنس، وكُثْر الغرض في الرطوبة بخلاف الرطب؛ فإن الأصل فيه التجفيف. والوجه الثالث - أنه لا يجوز بيع بعضه بالبعض، لا رَطباً ولا يابساً؛ فإنه لم يتقرر له حالة كمال؛ والبيعُ يعتمد حالة الكمال؛ فإمكان الجفاف وجريانه أخرج حالة الرطوبة عن قضية الكمال، وعدمُ عموم ذلك أخرج حالة اليبوسة عن حكم الكمال. ولم يصر أحد من أئمة المذهب إلى تجويز البيع في حالة الرطوبة ومنعه في حالة الجفاف. نعم، الرطب الذي لو جفف فسد، ولم يبق فيه انتفاعٌ يُحتفل به، يجتمع فيه أربعةُ أوجُهٍ: ثلاثة منها كما ذكرناها، والرابع - التجويز في حالة الرطوبة، والمنع في حالة اليبوسة؛ فإن الرطوبة في هذا النوع هي الكمال، والجفاف غير معتاد أصلاً. 2951 - وممّا يتصل بهذا الأصل -وفيه التفريعُ على القول القديم- تفصيلُ القول في بيع القثاء بمثله، وكذلك ما في معناه مما لم يجر فيه العرف بتجفيفٍ أصلاً، فنقول: أولاً - هذا غير مُقدّرٍ عُرْفاً بكيل ولا وزن، وإنما يباع عدداً، فإن فرَّعنا على القول القديم، ورأينا ضمَّ التقدير إلى الطعم، فليس هذا الجنسُ مالَ ربا؛ فيجوزُ بيعُ بعضه ببعضٍ كيف قُدّر وفُرض، وإذا أخرجناه على هذا القول من كونه مال ربا، فلو جُفف على نُدور، وكان مأكولاً، وجرى فيه الوزن في جفافه، فقد ذكر الإمامُ عن شيخه القفال، أنه لا يجري الربا فيه على القديم، وإن تقدر؛ فإن أكمل أحواله الرطوبة، وقد خرج في حال الرطوبة عن كونه مال ربا، فلا ننظر إلى حالة جفافه، ونتبع هذه الحالةَ تلك الحالة في سقوط الربا. والظاهر بخلاف هذا؛ فإنه مطعوم مقدَر في الجفاف. ويجوز على القديم بيعُ الجوز بالجوز، والبيض بالبيض، وكذلك كل معدود في

العرف. ويمتنع بيعُ لب الجوز واللوز بعضُه متفاضلاً على القديم؛ فإنه مقدَّر مطعوم في حالة شَرَفهِ، وليس مصيرُه إلى إجراء التقدير فيه نادراً، بخلاف ما قدمته في القثاء والسفرجل، وما في معناه. ولا رباً على القديم في الرمَّان. ويجري في حب الرمّان إذا جف [ما] (1) ذكرته في اللُّبوب. فرع: 2952 - الشعير في سنبله لا يقدَّر، فإذا فرّعنا على القول القديم، فالوجه عندي منعُ بيع بعضه ببعض؛ فإنه من جنس ما يقدّرُ، ولا ننظر إلى حالته هذه، وليس كالجوز مادام صحيحاً، وكيف نستجيز التشبيب بالخلاف مع قيام النص في الشعير. وقد تقرر في (الأساليب) (2) ردُّنا على أبي حنيفة (3) في إخراجه الحفنة، وهي بعض المنصوص عليه في الخبر. وهذا تفريعُنا على القديم. 2953 - فأما الجديد، فنقول عليه: كلُّ مطعوم مالُ ربا، وإن كان لا يُقدّر، وإذا كان كذلك امتنع بيعُ بعضه ببعض عدداً، والمانع تعذر التقدير، وهل يجوز بيع بعضه ببعض وزناً؟ فعلى وجهين: أحدهُما - وهو ظاهر المذهب أنه لا يجوز؛ فإن الوزن فيه غير معتاد، لا في عصر الشارع صلى الله عليه وسلم، ولا بعده، ولا سبيل إلى تجويز البيع عدداً؛ فالوجه المنع. والثاني - أنه يصح؛ فإنَّا إن نظرنا إلى الكمال، فرطوبتُه أكمل أحواله، والتقدير قد حصل بالوزن. وأما عدم جريان العرف بالوزن؛ ففيه سرٌّ يجب رعايته. فنقول: ما جرى فيه عرف الشارع بالكيل، فقد تُعُبِّدْنا فيه بالتساوي في الكيل، فلا معدل عنه إلى الوزن، وما تقدر وجهلنا فيه عرفَ الشارع؛ ففيه اضطرابٌ تقدم ذكره، فأما ما نحن فيه، فقد جرى العرف فيه بالعدد، وذلك تساهل في الطريق، والشرع لا يقنع به، وفي الوزن الضبط التام، وليس فيه تركُ تقديرٍ تعلَّق به تعبّدٌ.

_ (1) في النسختين: كما ذكرته. والمثبت تقدير منا. (2) أحد كتب الإمام في علم الخلاف. (3) ر. تبيين الحقائق: 4/ 85، 87، البدائع: 5/ 139، الهداية مع فتح القدير: 6/ 293. وأبو حنيفة إنما جوّز الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين؛ لعدم الكيل والوزن؛ لأن علة التحريم عنده الكيل أو الوزن مع الجنس.

وهذا وإن كان فقيهاً، فالأصح الأول. فلو جفف ما نحن فيه، وكان إذ ذاك يوزن، وقد منَعْنا بيعَ رطبه بالرطب وزناً، ففي جواز البيع في حالة الجفافِ خلافٌ مشهور: من أصحابنا من مَنع. وتوجيهُه أنه امتنع فيه عند هذا القائل جوازُ البيع في أكمل أحواله، فكان ما جرى من الجفاف على ندورٍ، تابعاً في المنع لحالة الكمال. وهذا يلاحظ ما ذكرناه من التفريع على القول القديم في مثل ذلك. ومن أصحابنا من قال: يجوز بيع البعض بالبعض في الجفافِ؛ لجريان العُرف بالوزن، وإذا جوزنا بيعَ الرطب بالرطب وزناً، وضممنا إليه القولَ في حال الجفاف، [كان ذلك] (1) بمثابة الرطب الذي لا يجفف اعتياداً، فيجري في حالة الرطوبة واليبوسة الأوجه الأربعة، التي تقدمت مشروحة. قال العراقيون: جفاف البطيخ حيث يعتاد ذلك من البلاد في حكم جفاف المشمش، والأمر على ما ذكروه. فرع: 2954 - قال صاحب التقريب: بيع الزيتون بالزيتون جائز؛ فإنه حالة كماله وليس له حالة جفاف، ولكن يعتصر الزيت منه، وليس ذلك من باب انتظار كمالٍ في الزيتون؛ فإنه تفريق أجزائه، وتغييره عن حاله، كما يستخرج السمن من اللبن. والأمر على ما ذكره. ومما يتصل بتمهيد هذا الأصل، القول في الدقيق، وكل ما يُتَّخذ منه. فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يجوز بيع الدقيق بالدّقيق مع اتحاد الجنس؛ والسبب فيه أن كمال البُرّ في كونه بُرّاً، والدقيق زائل عن الكمال، وهو إلى الفساد لو لم يُستعمل، وإذا كان كذلك، فلو بيع الدقيق بالدقيق كيلاً أو وزناً، ثم لاحظنا حالة كونهما بُرّين، لم نَدْرِ هل كانا متماثلين بُراً أم لا. فكان نظرنا إلى الكمال الزائل، بمثابة نظرِنا إلى الكمال المنتظر عند بيع الرطب بالرطب، وكذلك نمنع بيع الحنطة بالدقيق، كما نمنع بيع الرطب بالتمر، وكل ما يتخذ من البُرّ من كعك، أو خبز، أو سويق، فهو [في] (2)

_ (1) في الأصل: كذلك. وفي: (هـ 2): وكذلك. وهذا التصرف منا رعاية للسياق. (2) مزيدة من: (هـ 2).

معنى الدقيق؛ فيمتنع بيع بعضهِ بالبعض، ويمتنع بيعُه بالبُرِّ. وقد يعترض فيما (1) ذكرناه علةٌ أخرى مع ما ذكرناه؛ فإن الخبز في معنى المختلِط؛ إذ فيه ماء وملح. وسنذكر بعد ذلك إن شاء اللهُ تعالى منعَ بيع المختلط بمثلهِ. فهذا قاعدةُ المذهب، وسنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الفصل نصوصاً غريبة في ذلك. فإن قيل: الحنطة المسوسة إذا قربت من العفونة، فما القول فيها؟ قلنا: ظاهر قول الأئمة جواز بيع بعضها بالبعض، وإن أمكن أن يقال فيها: إنها زايلت كمالَها، وهي أقرب إلى العفن من الدقيق. وإنما راعَوْا في هذا النظرَ إلى طرد القول في الجنس، ولا وجهَ غيرُه؛ فإنا لو ذكرنا غيرَ ذلك، لعَسُرَ النظرُ في تفصيل الحنطة، التي تمادى زمانُ احتكارِها. وهذا مما يعسرُ تتبعه. ولعل هذا قبل أن تتآكل، فأما إذا تآكلت، وخلت أجوافُها، ففيها نظرٌ عندنا؛ فإن الأئمةَ أطلقوا بيع المسوسة بالمسوّسة، والمسوسة هي التي بدأ التآكل فيها، والقياس القطعُ بالمنع؛ إذ الحنطة المقليّة لا يباع بعضها ببعض، لما فيها من التجافي الحاصل بالقلي، فكذلك لا يجوز بيع الحنطة المبلولة بالحنطة المبلولة والجافَّة، لما ذكرناه في المقليّة، ولو بُلت الحنطة ونُحّي منها قشرتُها بالدّق والتهريس، وهي الكَشْك (2) - قال الأئمةُ: هي كالدقيق؛ فإنها تفسد على القرب، ويتفاوت ما يزايلها من القشر، ولو بُلَّتْ ثم جُفّفت ولم تُهرَّسْ، فإنها تتشَنج في جفافِها على تفاوت يُفضي إلى جهلٍ بالمماثلةِ قبل البلّ، فإن كان كذلك، فالوجه المنع. وفي الجاوَرْس (3) إذا نُحّيت منه القشرةُ احتمالٌ عندي، ولا شك في [جواز] (4) بيع الرّز بالرّز المنقَّى عن قشرته. فتأَملوا هذه المراتبَ.

_ (1) في (هـ 2): في بعض ما ذكرناه. (2) الكشك: وزان فَلْس: ما يعمل من الحنطة (مصباح). (3) الجاوَرس: بفتح الواو، حب يشبه الذرة، وهو أصغر منها. (مصباح). (4) مزيدة من (هـ 2).

2955 - ومما يتعلّقُ بهذا الفصلِ القَولُ في بيع هذه المطعومات بعضها ببعضٍ مع نزع النَّوى، والسبب فيه أنه يكتنز في المكيال، ويتجافى على تفاوت ظاهرٍ، على قدر الضغط، وإذا امتنع هذا، فلا شك في امتناع بيع [التمر] (1) المنزوع نواه بالتمر مع النوى. وكان شيخي يذكر خلافاً في مُقدَّد المشمش والخوخ، فيقول: من أصحابنا من أجراهما مجرى التمر، فمنع البيع مع نزع النوى، ومنهم من جوَّز البيعَ مع النزعِ؛ فإن ذلك معتاد في جنسها، ونواها لا يُصلحها، بخلاف نوى التمر؛ فإنه عصامُها من التسويس. وهذا القائل يجوّز البيعَ مع النوى ومن غير نوى، ولم أر لأحدٍ اشتراط نزع النوى، إلا لشيخي، فإنه ذكر عن بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في اشتراط نزع النوى، كما يشترطُ نزع العظم عن اللحم في ظاهر المذهب. فقد تحصلنا على ثلاث مراتبَ، أما التمر، فنزع نواه يمنع بيعَه، واللحم في ظاهر المذهب يتعيّنُ نزع عظمه، إذا حاولنا بيع بعضه بالبعض، وبينهما المشمش، وما في معناه، فيجوز بيعُ بعضِه ببعضٍ مع النوى، وفي تجويز البيع مع النزع الخلافُ المذكور. وذكر العراقيون وجهين في جواز بيع التمر بالتمر مع نزع النوى، وهذا بعيد جدّاً، ثم جاؤوا بما هو أبعد منه، وذكرُوا خلافاً في بيع تمرٍ منزوع النوى بتمرٍ غير منزوع النوى، وهذا ساقط لا يُحتفلُ بمثله. وقد تم الغرضُ من الفصلِ. 2956 - ونذكر الآن النصوص الغريبة في الدقيق والكعك. نقل المزني في المنثور أن الشافعيَّ كان يمنع بيع الدقيق بالحنطة، ويجوّز بيع الدقيق بالدقيق، ونقلَ حرملةُ ذلك أيضاًً، وهذا النصُّ ليس يشعر بأن الدقيق يخالف جنسَ الحنطة، ولكن مقتضاه أن منع بيع الدقيق بالحنطة سببُه التفاوت الظاهر في الكيل، والدقيق مع الدقيق لا يتفاوتُ.

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

ونقلَ الحسينُ الكرابيسي عن الشافعي أنه كان يقول: الحنطةُ ودقيقُها جنسان؛ فيجوز بيع أحدهما بالثاني متفاضلاً، لاختلاف الصفة، والاسم، والمنفعة. والدقيق مع الدقيق جنس واحدٌ. وحكى ابن مِقلاص (1) أن الشافعي جعل السويقَ مخالفاً لجنسِ (2) الحنطة؛ لأنه يخالفها في المعنى. والدقيقُ مجانس للحنطة؛ فإنه حنطة مفرقة الأجزاء، والحنطة دقيق مكتنز. وعلى هذا الخبز يخالف الحنطة، ويجب أن يخالف الدقيقَ السويقُ أيضاًً. وقال العراقيون: بيع الخبز غيرِ اليابس بمثله، أو باليابس لا يجوز؛ لأن الرطوبة التي فيه ماءٌ، وفي بيع اليابس بمثله خلاف. وذكروا الخلاف في بيع الدقيق بالدقيق. فهذا مجموع النصوص. ولكن اتفق أئمة المذهب على أنها لا تُعدّ من متن المذهب، وإنما هي ترددات جرت في القديم، وهي مرجوعٌ عنها، والمذهب ما مهدناه قبل هذا. فصل في بيان القاعدة المترجمة بمُدّ عجوة ودرهم 2957 - وهذا ركن عظيم في مذهب الشافعي في أصل ربا الفضل، فنقول: مذهبُنا أن من باع مُدَّ عجوةٍ ودرهماً، بمُدَّي عجوة. فالبيع باطل، وقد اعتمد الشافعي في هذا الأصل حديثَ القلادة، وهو ما رُوي عن فَضالة بن عُبيدٍ قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادةٍ فيها ذهب وخرزٌ تباع، وهي من المغانم، فأمر رسول الله

_ (1) ابن مقلاص: عبد العزيز بن عمران بن أيوب. أبو علي الخُزاعي، الإمام. أخذ عن الشافعي، روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما ت 234 هـ (طبقات السبكي: 2/ 143). (2) كان السبكي تقي الدين يقول عن رواية ابن مقلاص هذه: "إن الدقيق في تلك البلاد إنما يستعمل من الشعير، وحينئذِ لا إشكال في مخالفة السويق للحنطة" حكى هذا السبكي الابن تاج الدين في طبقاته: 2/ 143، 144.

صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة، فنزع، وقال: الذهب بالذهب وزناً بوزنٍ" (1)؛ فاعتمد الشافعي معنىً ظاهِراً قد تقصّيناه في الأساليب. ولكن لا بد من ذكرِ ما يجري مجرى التحديد، ونشير إلى أصل التعليل. فنقول: إذا باع مُدَّ عجوة قيمته درهمان [ودرهماً بمدّي عجوة قيمةُ كلِّ مدٍّ درهمان] (2) فالبيعُ باطلٌ عند الشافعيّ. والذي اعتمدهُ الأصحاب فيه من طريق المعنى التوزيعُ. فقالوا: الدرهم من هذا الجانب ثلث ما في هذا الجانب، فقابل ثلث ما في الجانب الآخر، وثُلث المُدّين ثلثا مُدٍّ، فيبقى مد وثلث، يقابل مُدّاً. وهذا تفاضل بيّن، ثم أثبتوا التوزيعَ بالقياس على جريانه في الشفعة إذا اشتملت الصفقةُ على شقصٍ وسيف، كما قررته في (الأساليب). والتعويل على التوزيع في التحريم غيرُ سديدٍ عندي؛ فإن العقد لا يقتضي وضعُه توزيعاً مُفصلاً، بل مقتضاه مقابلةُ الجملة بالجملة، أو مقابلة جزأين شائعين مما في أحد الشقين بجزأين مما في الشق الثاني. والمصير إلى أن الدرهم ثلث ما في هذا الجانب تفصيل، والعقدُ جرى مبهماً، وقد تفصّل التوزيع في الشقصِ والسيف لضرورة الشفعة، كما أنا قد نقسم مِلكاً مشتركاً قسمة إجبارٍ، وإن كانت القسمةُ تُخالفُ شُيوعَ مِلك الشريكين في جميع أجزاء المِلك، فالوجه في التوزيع أن يقال: ثلثُ الدرهم وثلث المُدّ يقابل ثلُثَ المدّين، وهذا لا يفضي إلى ما يزيده، ولا ضرورةَ في تكلف توزيعٍ يؤدي إلى التفاضل. فالمعتمد عندي في التعليل، أنا قد تُعبّدنا بالمماثلة تحقيقاً، وإذا باع مُدّاً ودرهماً بمُدّينِ، لم تتحقق رعاية التماثل، وهو شرط صحة العقد؛ ففسد العقدُ لعدم تحقق المماثلة، لا لتحقق المفاضلة. ثم لا نحكم بتوزيع التفصيل بوجهٍ، ولا سبيل إلى

_ (1) حديث فضالة رواه مسلم: البيوع، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب، ح 1591، وأبو داود: البيوع، باب في حلية السيف، ح 3351، 3352، والبيهقي: 5/ 292، 293. وانظر (التلخيص: 3/ 19 ح 1142). (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

تحكم أبي حنيفة (1) في مقابلة مدٍّ بمدٍّ، ودرهم (2) بمد. هذا قاعدة الفصلِ. ومن مال إلى التوزيع من أصحابنا، فتقريبه أنا أُمرنا بطلب المماثلة، كما أُمرنا بتمييز الشقص المشفوع في الصفقة المشتملة على الشقص والسيف، ولا طريق يهتدى إليه إلا التوزيع. وله نظائر في الشريعة، وهذا لا يقوى على السَّبرِ. فقد حصل مسلكان: أحدهما - التوزيع، والآخر - عدم التماثل والاستبهامُ، ونحن الآن نُخرِّج مسائلَ الفصل على المسلكين. 2958 - فلو باع مُدَّ عجوة قيمتُه درهم ودرهماً؛ بمُدَّي عجوة قيمةُ كل واحد منهما درهم، فالبيع باطل باتفاق الأصحاب. فأمَّا من اعتمدَ التوزيع إذا قيل له: الدرهم نصف ما في هذا الجانب، فيقابل مداً، ويبقى مدٌّ في مقابلة مدٍّ، فلا تفاضل، فيقول مجيباً: إنما أدَّى التوزيع إلى التماثل من جهة أن قيمة المدّ الذي مع الدرهم فُرضت مثلَ الدرهم، وإنما صِيرَ إلى ذلكَ من جهة التقويم، والتقويم متلقى من الاجتهاد، وشرط التماثل أن يجري محسوساً .. هذا ما ذكره الموزّعون. وأنا أقول: سبب التحريم في هذه الصورة ما قدَّمته من أن الصفقة اشتملت على مال الربا، ولم يتحقق جريان المماثلة، وقد تُعبّدنا بالمماثلةِ. وهذه الطريقة تجري في هذه الصورة جريانَها في الأُولى. ولو باع مدَّ عجوةٍ ودرهماً بمُد عجوةٍ ودرهمٍ، فالبيع باطل، وسبيل تخريج الفساد على أصل التوزيع أن نقول: الدرهم في هذا الجانب [ثلثُ ما في هذا الجانب] (3) مثلاً، فنقابل ثلُثَ درهم وثلُثَ مدٍّ، ويعود التفريع إلى بيع ثلث درهم وثلث مد بدرهم، ولو وضع البيع كذلك أول مرّة، لكان هذا بمثابة بيع درهم ومد بمدين؛ فإنه

_ (1) ر. إيثار الإنصاف: 288، 289، فتح القدير: 7/ 144. (2) في هامش الأصل تعليق بخط مغاير، يقول: من يحفظ يصل إلى تحكم أبي حنيفة. (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

قد اتحد الجنس في أحد الشقَّين، واختلف ما في الشق الثاني، وما اعتمدتُه من الاستبهام يجري في هذه الصورة، كما تقرر من غير حاجةٍ إلى فَضْلِ بيان. فهذه صُورُ الوفاقِ في التحريم مع التردّد في التعليل. 2959 - ونحن نذكر الآن صُوَراً اختلف فيها الأصحابُ، فننقلها، ونذكرُ الخلاف فيها، ثم نذكر ضبطَها بالتعليل. فممَّا اشتهر الخلافُ فيه أنه إذا باع خمسةَ دراهم مكسرة، وخمسةً صحاحاً بخمسة مكسرةٍ، وخمسةٍ صحاحٍ، أو باع مدَّ عجوةٍ وصَيْحانيَّ (1)، بمدّ عجوة وصيحاني. وذكر صاحب التقريب الخلاف فيه إذا باع خمسةً مكسرة وخمسةً صحاحاً بعشرة صحاح، وتعرض في توجيه الصحة لأمرٍ، وهو أن مُخرج الصحاح مسامحٌ بالصفة في الخمسة المقابلة بالمكسرة، والتفاوت في الصفة لا يضر. ولو باع خمسة مكسرة وخمسة صحاحاً بعشرة مكسرة، قد ذكر هو الخلافَ في هذه الصورة أيضاًً. وقال في توجيه الصحة: من أخرج الخمسة الصحاح مسامحٌ بالصفَةِ في مقابلة الخمسة المكسرة. وكان شيخي يختار الفسادَ في هذه الصور كلها، جرياً على أصل التوزيع، فإنا نقول: الخمسةُ المكسَّرة ثلثُ ما في هذا الجانب مثلاً، فتقابل [ثلث] (2) ما في الجانب الثاني، فيؤدي [إلى] (3) التفاضل المحقق، والتوزيع في أصلهِ باطل عندي. وهو في هذه الصورة نهاية في الفساد؛ فإن الصفقة إذا انطوت على عشرة من جانب، نصفها مكسّر، وعلى عشرة على هذا الوجه من الجانب الثاني، فتكلف التوزيع في هذا غلوّ، واشتغالٌ بجلب التفاضل على تكلف، وقد صارت المماثلةُ محسوسةً بين الجملتين. وهذا ما تُعبدنا به، ثم [هذا] على (4) وضوحه في المعنى يعتضد بما

_ (1) الصَّيْحاني: تمرٌ معروف بالمدينة (مصباح). (2) مزيدة من (هـ 2). (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: "وهي وضوحه"، وفي (هـ): "وهي على وضوحه" وهذا التصرّف في العبارة من المحقق.

يقرب ادّعاءُ الوفاق فيه، فما زال الناس يبيعون المكسرة بالصحاح. والمكسرةُ لو قسمت، لكان فيها قِطع كبار وصغار، والقيمةُ تتفاوت في ذلك تفاوتاً ظاهراً. ثم لم يشترط أحدٌ تساوي صفة القطاع، فقد خرجت هذه المسائل على ما ذكرته أولاً، فمن رَاعى التوزيعَ، أفسدَ البيع، ومن تعلق بما ذكرناه، حكم بالصحة، لتحقق تماثل الجملتين. 2960 - والذي يحيك في الصدر نصُّ (1) الشافعي؛ فإنه قال: "لو راطل مائةَ دينار عُتُق، ومائة مروانيَّة بمائتي دينار وسط، فالبيع باطل" وقد اتحد الجنس في شقّي العقد، وقياسي يقتضي القطعَ بصحة العقد، ولم أر أحداً من الأئمة يشير إلى خلافٍ في صورة النص. واللفظ الذي ذكرته لصاحب التقريب (2) في توجيه الصحةِ إذا باع خمسةً مكسرةً وخمسة صحاحاً بعشرة صحاح، حيث قال: "صاحب العشرة الصحاح مسامحٌ بالصّفة". فيه احتراز من صُورة النص؛ فإن الشافعيَّ فرض مسألتَه في العُتُق وهي نفيسة، والمَرْوانيَّة وهي دونها، ثمَّ فرضَ من الجانب الثاني مائتي دينارٍ وسطاً حتى لا تتحقق معنَى المسامَحةِ، وإذا لم يتحقق ذلك، اقتضى العقدُ من الشقين طلب المغابنة، وهذا يقتضي التوزيعَ، وهو يُفضي إلى التفاضل لا محالةَ، لو ثبت التوزيع. فهذا حكم المذهب تَلقِّياً من النصِ، وتصرُّف الأئمة. وما ذكرتُه في هذه الصورة من التصحيح رأيٌ رأيتُه وهو خارج عن مذهب الشافعي وأصحابهِ. ومما لا يخفى دركه أنه لو باع عشرةً مكسّرة بعشرة صحاحٍ، فالبيع صحيح؛ إذ لم يتحقق اختلاف جنس، ولا اختلافُ نوعٍ في واحد من الشقين.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 154. وفي نقل إمام الحرمين نوعُ تصرّف، فنص الشافعي هو: "لو راطل مائة دينار عُتُق مروانيه، ومائة دينار من ضرب مكروه، بمائتي دينارٍ من ضرب وسط، خير من المكروه، ودون المروانية - لم يجز" ا. هـ بنصه. (2) صاحب التقريب: القفال بن الإمام أبي بكر القفال الكبير. وقد سبقت ترجمتهما.

فصل فيما أثّرتِ النار فيه 2961 - هذا في وضعه كالقولِ في بيع الشيء في غير حال كماله، ولكنا أفردناه لغائلةٍ فيه. فنقول: بيع الدّبس (1) بالدّبس ممتنع باتفاق الأصحاب؛ والسببُ فيه أن النار قد أثرت فيه تأثيراً بيّناً، وأثر النار يتفاوتُ في التعقيد تفاوتاً ظاهراً؛ فإن ألسنة النار في اضطرابها تختلف حتى يُرى حِسّاً اختلاف الأثر فيما يحويه المرجل الواحدُ، وإذا كان كذلكَ، فالدِّبس قد كان عصيراً، والعصير على كمالٍ، إذ يجوز بيع العصير بالعصير، وإذا نظرنا إلى مقدار من الدّبس يقابله مثله، فلا نَدْري كم في أحدهما من أجزاء العصير قد تعقَد، وكم في الثاني منه؛ فكان هذا خارجاً [على] (2) منعنا بيعَ الدقيق بالدقيق، نظراً إلى توقع تفاوتٍ في كمالٍ سبقَ للحب، فهذا ما عليه التعويل. ولو قيلَ: قد يخالف مكيالٌ من الدبس مكيالاً في الوزن لتفاوتٍ في التعقد، لكان كذلك، ولكن لا معولَ عليه؛ فإن المعقَّد يباع وزناً، فالتعويل على ما قدمته [من] (3) ملاحظة كمال العصير. فهذا بيانُ قاعدة الفصل. 2962 - ولو مِيزَ (4) شيءٌ من شيءٍ من غير تعقيدٍ، لم يضرّ، كالشمع يُميَّز بالشمس عن العسل، ثم يباع العسل بمثله، فيجوز، ولا امتناع فيه. ولو مِيزَ الشمع بالنار، ووقع الاختصار على قدر الحاجةِ في التمييز، ففيه اختلاف: من أئمتنا من قال: هو بمثابة التمييز بالشمس، ومنهم من منع؛ لأن النار أعظم وقعاً من الشمس، وهي تؤثر آثاراً متفاوتة في مقدار زمان التمييز.

_ (1) الدِّبس: عصارة الرطب. (2) في الأصل: عن. (3) في الأصل: بين. (4) ميز: وزان بيع، من مازَه: فصله عن غيره. (معجم).

وظهر اختلاف الأئمة في بيع السكر بالسّكر، والفانيذ بالفانيذ (1)، فمنعه بعضهم واعتمد أن تأثير النار ظاهر، وهو فوق التأثير في الدِّبس. وقالَ بَعضُهم: يصح؛ فإن تأثير النار قريب، والانعقاد من طباع السكر، لا من أثر النار، وأجزاءُ السكر لا تتفاوت. فإن قيل: إذا صُفِّي العسلُ بشمس الحجازِ، فقد يكون أثر الشمس في تلك البلاد بالغاً مبلغ النار؛ فإنا نرى شرائح اللحم تُعرض على رمضاء الحجاز، فتنش نشَيشَها على الجمر. قلنا: هذا فيه احتمال، والأظهر جواز البيع؛ فإن أثر الشمس فيما أظن لا يتفاوت، وإنما يتفاوت أثر النار؛ لاضطرابها، وقربها وبُعدها من المرجل. والتعويل على تفاوت الأثر، بدليل أنه لو أُغلي ماءٌ بالنار، أو خَلٌّ ثقيف (2)، لم يمتنع بيع بعضه بالبعض؛ فإن النار لا تؤثر في هذه الأجناس بتعقيدٍ، حتى يفرضَ فيه التفاوت، فتزيل بعضَ الأجزاء، وتُبقي الباقي على استواءٍ، وهذا الذي ذكرته جارٍ في كل ما ينعقدُ. فصل معقود في الألبان والأدهان والخلول 2963 - والغرض بيان اختلافها وتجانسها، فنقول: أدقّةُ الحبوب المختلفة الأجناس مختلفة، بلا خلاف، واختلف قولُ الشافعي في لحوم الحيواناتِ المختلفة، فقالَ في قولٍ: هي مختلفة؛ فإنها أجزاءُ أصولٍ مختلفةٍ، وقال في قول: هي جنسٌ واحد؛ لأنها اشتركت في الاسم، عند ابتداءِ دخولها في الربا، ولا ننظر إلى اختلاف أصولها؛ فإنها لم تكن مالَ ربا، والغرض من اختلاف الجنس واتحاده أمرُ الربا، وسيأتي القولان في بابه إن شاء اللهُ تعالى.

_ (1) الفانيذ: نوع من الحلوى، يعمل من (القَنْد) والنشا. والقند: ما يعمل منه السكر، فالسكر من القند كالسمن من الزبد. (المصباح). (2) خل ثقيف: شديد الحموضة، من ثقف الخل اشتدت حموضته، وصار حرّيفاً لاذعاً فهو ثقيف. (المعجم).

فأمَّا الأَدْهان والخلول إذا اختلفَتْ أجناس أصولها، ففيها طريقان: الطريقة المرضيّة - أنها مختلفة الأجناس؛ فإن أصولها مختلفة، وهي أموال الربا (1)، وليست كالحيوانات إذا اختلفت أصولها؛ فإن لحومها أجزاء أصولٍ لا ربا فيها. ومن أئمتنا من يخرجها على القولين المذكورين في اللحمان، من حيث إنها تشترك في الاسم الخاص، ولا تتميز إلا بالإضافة كاللحوم، ولا يتم غرض هذا القائل إلا بفرق بينها وبين الأدِقّة. فنقول: الدقيق عين أجزاء الحبّ ولكنَّها مجموعة ففرقت، والدّهن المعتصرُ وإن كان (2) في أصله، ولكنّهُ في ظن الناس كالشيء المحصَّل جديداً. والوجه هو الطريقة الأولى. وأمَّا الألبان، فالظاهر أنها كاللحوم، فنطرد فيها القولين؛ فإنها عصارة اللحوم جرت مَجراها. ومن أصحابنا من قطع بالاختلاف، وطلب فرقاً بينها وبين اللحوم، فقال: اللحوم في أصولها ليست أموال الربا، والألبان يجري فيها الربا قبل انفصالها من أصولها، ويمتنع بيعُ شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن، وهذا الفرق رَديء؛ فإن الألبان في الضروع ألبان إطلاقاً واسماًً، فقد اشتركت في الاسم الخاص من أول حصولها، وهذا معتمد القضاءِ باتحاد جنس اللحوم، فلا فقه في إجراء الربا فيها في الضروع، بعد القطع باختلاف أصولها. فرع: 2964 - اختلف الأئمة في السكر والفانيذ: فمنهم من قال: هما جنس واحد، وهذا بعيد. ومنهم من قال: هما جنسان؛ فإن قصبهما مختلف، وليس الفانيذ عَكَرَ السكر، فاختلف اسمُهما وصفاتهما، وهذا متلقَّى الاختلافِ. وأما السكر الأحمرُ الذي يسمى القوالبَ فهو عَكَرُ السكر الأبيض، وهو من قصبه، وفيه مع ذلك تردد، من حيث إنه يُخالفُ صفةَ السكر الأبيض مخالفةً ظاهرةً، وقد يشتمل أصلٌ واحد على مختَلِفات؛ فإن اللبن جنس واحد، ثم المخيض منه يخالف السمن، كما

_ (1) كذا في النسختين، ولعلها: أموال ربا. (2) كان هنا تامة. وإلا كان في الكلام سقط.

سنذكره. ولعل الأظهر أنه من جنس السكر. وذكر شيخي وجهين في عصير العنب وخلِّه: أحدهما - أنه جنسٌ. ولكن حالت صفة العصير، فكان ذلك كاللبن الحليب مع القارص. والثاني - أنهما جنسان، وهو الظاهر عندي؛ لإفراط التفاوت في الاسم، والصفة، والمقصود. والشيء لا يكون مأكولاً، فلا يجري فيه الربا، ثم تحول صفته، فيصير مأكولاً؛ ويدخل في حكم الربا. فإذا كان تحوُّل الصفات يؤثر هذا الأثر، جاز أن يؤثِّر في اختلاف الأجناسِ. وكُسب السمسم مخالفٌ جنسَ دهنه وفاقاً، كما يُخالف المخيضُ السمنَ. ولو اعتُصر من اللحم ماؤُه، وبقي من اللحم ما لا ينعصر بفعلنا، فالكلُّ جنسٌ واحد، وليس كالدُّهن والكُسب؛ فإنا نعلم أن في السمسم دهناً وثُقْلاً في الخلقة، واللحم كلُّه في الخلقة شيءٌ واحدٌ، والبلحُ مع الرطب والتمر، والحُصرم مع العنب، في معنى العصير مع الخل عندي. وحكى العراقيون عن ابن أبي هريرة أنه منع بيع الشَّيْرج بالشَّيْرج متماثلاً، وعلل بأن دُهن السمسم لا يتأتى استخراجُه إلا بالملح والماء، فهو على تقديره مختلِفٌ. وسنذكر منع بيع المختلِط بمثله، ثم خصَّص هذا المنعَ بدهن السمسم دون غيره من الأدهان. حكَوْا هذا عنه، وزيّفوه، وقالوا: الماءُ لا يُخالطُ الدُّهن، والملحُ يبقى مع الكُسبِ، ولو كان في الشَّيْرج، لأُدركَ طعمه، ثم تخصيص هذا بالشَّيرج لا معنى له. فصل في المختلِطات 2965 - نقول: كل مختلِطٍ بغيره من أموال الربا بِيع بمثله، فالبيع باطل، كالسكَّر المختلط ببعض اللُّبوبِ إذا بيع بمثله، وبطلان البيع يُخرَّجُ على القاعدة الممهدة في بيع مُدِّ عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم. وبيع اللبن باللبن جائز وفاقاً؛ فإن قيل: اللبن مشتمل على السمن والمخيض،

وهما جنسان مختلفان، قلنا: اللبن يُعدُّ جنساً واحداً، وليس يَبين فيه اجتماع أخلاطٍ، ولو سلكنا هذا المسلكَ، لمنَعنا بيع السمسم بمثله، لاشتماله على الثُّقل والدُّهن، ولقُلنا: لا يجوز بيع التمر بالتمر؛ لاشتماله على المطعوم والنَّوى. واتفق الأصحاب على منع بيع الشَّهد (1) بالشهد، وعللوا بأنه شمع وعسل. وأوقع عبارة في الفرق بين الشهدِ واللبن أن الشمع غيرُ مخامر للعسل في أصله؛ فإن النحلَ ينسِج البيوت من الشمع المحض، ثم يُلقي في خَللَهِ العسلَ المحضَ، فالعسل متميّز في الأصل، ثم من يشتارُ (2) العسلَ يخلطه بالشمع بعضَ الخلط بالتعاطي والضَّغط، وليس اللبن كذلكَ. فإن قيل: قد ذكرتم أن اللبن في حكم جنسٍ واحد، لا اختلاطَ فيهِ، فجوّزوا بيعَ اللبن بالسمن بناء على أن اللبن جنسٌ واحد. قلنا: هذا فيه بعض الغموض من طريق التعليل، ولكنه متفق عليه. وفي معناه بيعُ السمسم بالشَيْرج، مع تجويز بيع السمسم بالسمسم، وأقصى الممكن فيه أن اللبن إذا قوبل بالسمن، فلا يمكن أن يُجعل مخالفاًً للسمن؛ فإنّ اللبن إذا مُخض يُجمع منه السمن، فإذا لم يكن مخالفاًً للسمن، فإنما يُجانسُه بما فيه من السمن، لا بصورته وطعمه؛ فإن صورته تُخالف صورة السمن، وإذا اعتبرنا السمنَ لما ذكرناه، انتظم منه أنه بيعُ سمنٍ بسمنٍ ومخيض، وأما بيع اللبن باللبن، فيعتمد تجانس اللبن في صفته الناجزة، ولا ضرورة تُحوِج إلى تقدير تفريق الأجزاء، فافهموا ذلك. فإن قيل: ذكرتم أن منع بيع الشهد بالشهد معلّلٌ بأنه بيعُ شمع وعسل، ثم حققتم ذلك بتميّز العسل في الخلقة عن الشمع، والنوى في الفطرة متميز عن المطعوم في التمر؟ قلنا: الأمر كذلك، ولكن صلاح التمر في ادّخاره في بقاء النوى فيه، فاحتمل ذلك هذه الضرورةَ، وصلاح العسل في تصفيته. ويمكن أن يقال: الشمعُ في العسل بمثابة العظم في اللحم.

_ (1) الشهد: بفتح الشين وضمها. (لغتان) (المصباح). (2) يشتار العسل أي يجنيه، من قولهم: شُرتُ العسلَ أشوره شَوْراً من باب (قال) إذا جنيتُه وأخرجته من خليته. (المعجم).

فإن قيل: إذا قلنا: الألبان جنسٌ واحد، فلا يجوز بيعُ لبن البقر بلبن الإبل متفاضلاً، فلو بيع سمن البقر بلبن الإبل، فكيف حكمه؟ وليس في لبن الإبل سمنٌ يتميّز بالمخض والعلاجِ؟ قُلنا: الظاهر أنا لا نجعل لبن الإبل مشتملاً على سمن تقديراً، حتى يقال: هو بمثابة سمن البقر بلبن البقر، ثم إذا كان كذلكَ، فوَراءه احتمالٌ في أن سمن البقر هل يخالف جنسَ لبن الإبل، والتفريع على تجانس الألبان؟ فالظاهر أنه خلافه؛ فيجوز بيعه به متفاضلاً؛ والسبب فيه أنا حكمنا بتجانس الألبان، لاجتماعها في الاسم الخاص، وقد زال هذا المعنى، ولم نُقدّر في لبن الإبل سمناً. والعلم عند الله. فهذا تمهيد القاعدة في المختلطات. 2966 - ونحن نبني عليها الآن مسائل في بيع الخلول بعضِها ببعضٍ. فنقول (1): بيع خل العنب بخل العنب، ولا ماء في واحدٍ منهما جائزٌ، مع رعايةِ التماثل. وبيع خل العنبِ بخل الزبيب ممتنعٌ؛ لمكان الماء في خل الزبيب. وعصيرُ الزبيب وخلُّه يجانس عصيرَ العنب وخلَّه. وبيع خل الزبيب بخل الزبيب ممتنعٌ، لتجانُس الخلَّين، واشتمالِ كل واحد منهما على الماء، فهو من فروع مُد عجوة. وكذلك يمتنع بيع خل التمر بخل التمر، فأما بيع خل التمر بخل العنب فيخرج على اختلاف القول في تجانس الخلول. فإن جرينا على الصحيح، وقلنا: هما جنسان، فالبيع صحيح، فإن الخلَّين جنسان، وليس في خل العنبِ ماءٌ، حتى يفرض تقابل الماءين. وإن قلنا: هما جنس واحد، فيمتنع البيع؛ لأنه بيع خل وماء بخل صرف يجانسه، فكان كبيع خل الزبيب بخل العنب. وأما بيع خل التمر بخل الزبيب، فيخرج على قول التجانس. فإن قلنا: هما جنس واحد، فالبيع ممتنع بما يمتنع به بيع خل التمر بخل التمر، وإن قلنا: هما جنسان، انبنى الأمر على أن الماء هل يجري فيه الربا؟ فإن قلنا: لا ربا فيه، صح العقد. وإن قلنا: فيه الربا، منع الأصحاب البيعَ؛

_ (1) في النسختين: ونقول. (والفاء) تصرّف من المحقق.

لجهالة مقدار الماء أولاً، ثم للجمع بينه وبين غيره في الشقين وفي الماء وكونه غيرَ مقصودٍ إشكالٌ (1) سنشرحه في باب الألبان. فهذا تفصيل بيع الخلول. فصل في بيع الألبان وما يُتخذ منها 2967 - لا خلاف في جواز بيع اللبن باللبن، وهذا حالُ كمالٍ فيه، وليس اللبن في ذلك كالرطب؛ فإن الرطب كمالُه عُرفاً في جَفافه المنتظر، واللبن يستعمل أكثره لبناً كذلك، وما يُستعمل من الرطب يُعدُّ تفكهاً بعُجَالةٍ من جنس. والمقصودُ الأظهرُ منه اقتناؤه قوتاً، وذلك بأن يجفف ويُدَّخر في المخازن، ويقتات على طوال السنة. ولا يجوز بيع اللبن بشيء يُتخذ منه، لما قررتُه في فصل المختلطات، فينبغي أن يُعلم أن اللبن مشتمل على مخيض وسمن، ثم يُتَّخذ من المخيض إذا مِيز الأَقِطُ والمصل (2)، والجُبن يتخذ من اللبن كما هو، ثم إذا مِيز السمن، وبقي المخيض، فلا خلاف أن المخيض والسمنَ جنسان مختلفان، لتباين الصفات، واختلاف الاسم والغرض، ومن مقصود الفصل ما تقدّمَ من [أن] (3) اللبن إذا قُوبل باللبن، كان بمثابة جنسٍ واحد يقابله مثله، كالسمسم يباع بمثله، ولا ينظر إلى اشتمال اللبن على السمن وغيرِه. وإذا قُوبل اللبن بالسمن، أو بالمخيض، لم يصح العقد، وكان كبيع السمسم بدُهنه. 2968 - وجُملة ما سنذكره من مسائل الفصلِ يخرج على هذه القواعدِ، فاللبن يباع بمثله، والرائب الذي خَثُرَ بنفسهِ من غير نارٍ يباع باللبن الحليب، ويُباع بمثله.

_ (1) في الأصل: إشكال سنشرحها في باب الألبان، وفي (هـ): إشكال ينتشر كما في فصل الألبان. (2) المصل: وزان فلْس، عصارة الأَقِط، وهو ماؤه الذي يعصر منه حين يُطبخ، قاله ابن السكيت. (المصباح). (3) مزيدة من (هـ 2).

فإن قيلَ: إذا خَثُر الشيءُ، كان أثقلَ، والذي يحويه المكيال من الشيء الخاثر يزيد على الرقيق من جنسه بالوزن زيادةً ظاهرةَ، فما الوجه في ذلك؟ قلنا: منع بيع الدبس بالدبس غير مبني على التفاوت في الوزن مع التساوي في المكيال؛ فإنا لو اعتبرنا ذلك لجوَّزنا بيع الدبس بالدبس وزناً، إذا كان يوزن. ولكنا اعتمدنا في ذلك خروجَ الدبس عن حال الكمال، ولا ندري كم في كل دبس من أجزاء العصير. وأما الرائب الخاثر، فقد قطع الأصحاب بجواز بيعه باللبن، وجواز بيع بعضه بالبعض، ويتَّجهُ في بيع بعضه بالبعض أن يقال: الانعقادُ جرى في اللبن على تساوٍ، ولا يربو في الإناء إذا انعقد رائباً، ولا ينقص؛ فإنه طبيعة في نفس اللبن عقَّادة. وليس من جهة ذهاب جزءٍ وبقاء جزءٍ. فأما بيع الخاثر باللبن، فإن كان يوزن، فيظهر تجويزه، وإن كان يكال، فبيعُ اللبن الحليب بالرائب الخاثر كيلاً فيه احتمال ظاهر في المنع، ووجهُ التجويز تشبيهُ الخاثر بالحنطة الصلبةِ العَلِكةِ، تباع بالرخوة. وتحقيقهُ فيه أن الرائب لبن خاثر، فكأنه لا يُعدُّ بعيداً عن اللبن الحليب، فيشبهان الحنطة الصُّلبة والرخوة. وبيعُ المخيض بالمخيض جائز، إذا لم يكن فيهما ماء، ولا في أحدهما. وبيعُ السمن بالسمن جائز، والمخيض والسمن مختلفان؛ فيجوز بيع أحدهما بالثاني متفاضلاً. واتفق الأئمة على جواز بيع المخيض بالزُّبد، ولا نظرَ إلى ما في الزُّبد من رغوة، وهي إذا مِيزَتْ كانت مخيضاً، ولكن لا مبالاة بذلك القدر؛ فإن المقصود من الزبد السمن. 2969 - وقال الأئمة: لو باع حنطةً بشعير، وفي الحنطة حباتُ شعيرِ، صحَّ البيع؛ فإنّ الشعيرَ في الحِنطةِ غيرُ مقصودٍ لمن يبتغي تَملّكَ الحنطة، ولو باع حنطةً بحنطة وفي أحد المكيالين حبّاتُ شعير، فالبيعُ مردودٌ عند الأصحاب؛ من جهة أن المماثلة تزول بين الحنطتين بسبب ذلك القدر من الشعير، والمماثلة معتبرة في بيع

الحنطة بالحنطة، والذي ذكرناه في بيع الحنطة بالشعير والمماثلةُ غيرُ معتبرةٍ في مقصود العوضين، [فلنقع] (1) على ذلك. ولهذا لم نمنع بيعَ المخيض بالزُّبد؛ فإن المخيض وما هو مقصود من الزبد مختلفان، لا تعتبر المماثلة بينهما، والرغوة إن ماثلت المخيض، فهي ليست مقصودةً. والذي يشير إليه كلامُ الأصحاب أن المقدار اليسيرَ من الشعير، وإن كان يفرض متموّلاً، فالأمر كما وصفناه، إذا لم يكن بحيث يُقصد في نفسه. والأصحابُ لما جوزوا بيعَ المخيض بالزبد، لم يفرقوا بين القليل والكثير، وإذا كثُر الزَّبدُ، فالرغوة قد تبلغ مبلغاً يُطلبُ مثله في جنس المخيض، ولكن المرعيَّ في الباب [أن] (2) ما يُميَّزُ من الزَّبدِ في الغالب يُبدّدُ، ولا يُعتنَى بجَمْعه. وإن كثر الزَّبد، فهذا هو المعنيُّ بقول الأصحاب: الرغوةُ غيرُ مقصودة. والشعيرُ إذا قل بالإضافة إلى الحنطة، فلا يقصد تمييزها (3) ليستعملَ شعيراً، فيتعيَّن التَنبه لهذا. وإذا بَاع الحنطةَ بالحنطة وفي أحد المكيالين من الشعير ما لو مُيّز، لم يَبِن على المكيال، فلا مبالاةَ بهذا أيضاًً. فإذا اتفق جنسُ المطلوب في العوضين، وكان في أحدهما جنس آخر، لو مُيّز لم يَبِن على المكيال، فلاَ مبالاة به. وإن كان يَبِينُ على المكيال، لم يضح البيع؛ لعدم المماثلة في الجنسِ المقصود. وإن اختلف الجنس في العوضين، وكان (4) في أحدهما ما يُجانس العوض المقابلَ، ولكن لم يكن بحيث يُقصد على حياله، فالبيع صحيح، ولا نظر إلى التموّل تقديراً، ولا إلى التأثير في الكيل. أما التأثير في الكيل، فلا أثر له مع اختلاف جنس العوضين. وأما التموّل، فلم يُعتبر من جهة أنه مفردٌ غيرُ مقصودٍ، وشبّه هذا بأخذ المُحرِم الشعرَ من نفسه، فهو موجب للفدية، ولو قطع من نفسه عضواً عليها شعر، لم يلتزم الفِدية، من حيث لم يجرّد القصدَ إلى إزالة الشعر.

_ (1) في الأصل: " فليقع " والمثبت من (هـ 2). والمعنى: فلننتبه لذلك. (2) مزيدة من (هـ 2). (3) تأنيث الضمير على ملاحظة لفظ " حبات الشعير ". (4) في الأصل: وإن كان.

ولو باع حنطة بحنطةٍ، وفي أحد المكيالين تراب لو مِيزَ ظهر نقصُه في المكيال، فالبيع باطل، وكذلك إذا اشتمل المكيالان على التراب، على الحد الذي ذكرناه. فأما إذا كان التراب في أحد المكيالين، فالمفاضلة مستَيْقنةٌ، وإن كان الترابُ فى المكيالين جميعاً، فالمماثلة مجهولة، وكِلا الأمرين يؤثر في صحَّة البيع. ولو كان التراب منبسطاً على صُبْرةٍ انبساطاً واحداً على تناسب، فبيع صاعٌ منها بصاعٍ، فالمماثلة متحققة، ولكن هذا غيرُ موثوق به؛ فإن الترابَ لا ينبسط على تناسب واحد؛ فإنه ينسلّ من خلل الحبات يطلب التسفل، ولذلك يكثر التراب في أسفل الصُبْرة. فخرج مما ذكرناه أنه إذا كان يؤثّر الترابُ في المكيال، فلا يجوز بيع حنطةٍ فيها تراب بحنطة فيها تراب، إذا كان بحيث لو مِيز التراب، ظهر نقصانهُ على المكيال، وإن كان لا يظهر، فهو محتمل. 2970 - ومن تمام البيان في ذلك، أن النقصان قد لا يبين في المقدار اليسير، ويبين في الكثير، فالمتبع النقصان، فإن كان ما اشتمل عليه العقدُ بحيث لو مِيز التراب منه، لم يبن النقصان - صح العقد. [وإن اشتمل العقدُ] (1) على مقدارٍ لو جُمع ترابه [لملأ] (2) صاعاً، أو آصعاً، فالبيع باطل. فإن استبعد من لم يُحط بأصل الباب تجويزَ البيع في القليل، ومنعَه في الكثير، لم نبُالِ [به] (3)، ولزِمْنا الأصلَ المعتمدَ في النفي والإثبات. ولو باع رجلٌ دنانيرَ هَروِيَّة بمثلها، فالبيع مردود؛ فإن كل شق من الصفقة اشتمل على ورِقٍ وذهب، وبيع الذهب الإبريز بالهروي عينُ الربا، وهو من فروع مد عجوة. وبيع الذهب الهروي بالورِق باطل، وليس كبيع المخيض بالزبد؛ فإنّ الرغوة في الزبد لا تقصد، والنُّقْرة في الهرويّةِ مقصودة.

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) في الأصل: يملأ. (3) في الأصل: فيه.

2971 - ومن فروع الفصل بيع الزُّبد بالزّبد، وفيه وجهان ذكرهما الصيدلاني: أحدُهما - الصحة كبيع اللبن باللبن؛ فإنّ الرغوةَ التي في الزبد مختلطة بالسمن اختلاطاً خِلقياً، وهو أثبث من اختلاط رُكني اللبن، فإن ذلك الاختلاط يميّزه المخض، والرغوة لا تتميّزُ عن الزبد إلا بالنار. والوجه الثاني - أنه لا يصح بيع الزبد بالزبد، كما لا يصح بيع الشهد (1) بالشهد؛ فإنّ صفاتِ السمن لائحة من الزبد، كما يلوح العسل في الشهد، واللبن في مدرك الحس كالجنس الواحد المنبسط، والأَقِط من المخيض (2)، وكذلك المَصْل. وأجمع الأصحابُ على منع بيع الأقِط بالأقِط، وذلك أنه إن كان مختلطاً بملح كثيرٍ يظهر له مقدار، فيلتحق بيع بعضهِ بالبعض ببيع المختلط. وإن لم يكن فيه ملح، فهوَ معروض على النار، وللنار فيه تأثير عظيم، فيلتحق القول فيه بالكلام في المنعقد، إذا بيع بعضه ببعض. ولم يفصلوا بين أن يكون عقدُه بالنار، أو بالشمس الحامية، وإذا امتنع بيع الأَقِط بالأقِط، فيمتنع بَيعُه بالمصلِ؛ فإنهما من المخيض، ولا يتفاوتان في الصفات تفاوتاً يختلف الجنس به، ويمتنع بيع المخيض بالأقِط والمَصْل. كما يمتنع بيع العصير بالدبس. وبيعُ الجبن بالجبن باطل بالاتفاق؛ فإنه مختلط معقود، ولا شك في تفاوت العقد في الجبن، وهذا ظاهر فيه. وبيع الجبن بالأقِط ممتنع، كما يمتنع بيع اللبن بالأقِط. قال العراقيون: الأقِط، والمخيض، والمَصْل، والجبن، جنسٌ واحد. أما المخيض والأقط والمصل، فكما ذكروه. وأما الجبن ففيه ما يُجانِسُ المخيضَ، وهو كقول القائل: اللبن والأقِط جنسن واحد، [والوجه] (3) أن يقال في اللبن جنس الأقطِ. وذكر شيخي أبو محمد في بيع اللِّبأ باللِّبأ (4) وجهين، وهو في الحقيقة لبن

_ (1) الشَُّهد بالفتح والضم العسل في شمعه. فإذا فصل من الشمع صار عسلاً. (2) المخيض: فعيل بمعنى مفعول: مخضت اللبن، فهو مخيض، إذا استخرج الزبد منه. فالمخيض: اللبن بعد استخراج الزبد منه. (3) زيادة من (هـ). (4) اللبأ مهموز وزان عنب: أول ما تدرّه الحلوب بعد الولادة، قيل أكثره ثلاث حلبات، وأْقله حلبة.

معروض على النار في أول الحلْبِ من الدَّرّةِ الأولى، وسبب الاختلاف أن أثر النار قريبٌ في اللِّبَأ وهو مشبه بالسكر في المعقوداتِ، والجبن تناهى عقدُه، فاتفق الأصحاب على منع [بيع بعضه ببعض] (1). 2972 - ومما نتعرضُ له الإنْفَحة (2) والوجه القطع بطهارتها، لإجماع المسلمين على طهارة الجبن، وهو في الغالب لا يخلو عن الإنْفَحة، والذي إليه إشارةُ الأصحاب أن الإنْفَحَة جنسٌ على حيالها، مخالف للبن، وكل ما يتخذ منه، ولستُ أدري أنها من المطعومات وحدها، كالملح حتى تعتبر المماثلةُ في بيع بعضها بالبعض، أم ليست من المطعومات؟ فصل " ولا خيرَ في شاةٍ في ضَرعها لبن ... إلى آخره " (3). 2973 - بيعُ اللبن الحليب بشاةٍ لبون في ضرعها لبن يقدر على حَلْبه باطلٌ عندنا. فإذا كنا نُبطل بيع اللحم بالحيوان، كما سيأتي ذلك في بابٍ، فلا يخفى إبطال بيعِ اللبن بشاة في ضرعِها لبن. وإن كانت الشاة لبوناً، ولم يكن في ضرعها لبنٌ وقتَ البيع، فالبيع صحيح. وإن كان في الضَّرع مقدارٌ نزرٌ لا يُقصَدُ حلب مثله لقلّته، فالبيع صحيح؛ فإنّ مثله ليس مقصوداً، والحيوان مخالف لجنس اللبن، فيلتحق ببيع المخيضِ بالزبد، مع النظر إلى الرغوة. ولو باع شاةً في ضرعها لبنٌ بشاة في ضرعها لبن، وكان اللبنُ الذي يُقصد مثله

_ (1) في الأصل: " بيعه ببعض ". (2) الإنْفَحة: بكسر الهمزة وسكون النون، وفتح الفاء، والحاء مشدّدة، أكثر من تخفيفها، وفي لغة تبدل الهمزة ميماً: منْفحَّة. (3) ر. المختصر: 2/ 149. وتمام نصّ الشافعي: " ولا خير في شاةٍ فيها لبن يقدر على حلبه - بلبنٍ؛ من قِبل أن في الشاة لبناً لا أدري كم حصته من اللبن الذي اشتريت به نقداً، وإن كانت نسيئة، فهو أفسد للبيع " (المختصر، بهامش الأم: 2/ 149).

موجوداً في كل ضرعٍ، فالبيع باطل، وهو بمثابة بيع شاةٍ ولبن [بشاةٍ] (1) ولبن. وحكى العراقيون عن أبي الطيّب بن سَلَمة من أصحابنا أنه قال: يجوز بيع الشاة اللبون بالشاة اللبون، وإن كان في ضروعهما لبن، ووافق أنه لا يجوز بيع اللبن بشاةٍ في ضرعها لبن، وشبَّه ما جوَّزه وما منعه ببيع السمسم بالسمسم، وهو نظير بيع الشاة اللبون بالشاة اللبون، وبيع دُهن السمسم بالسمسم، وهو نظير بيع [اللبن بالشاة اللبون] (2) التي في ضرعها لبنٌ. فصل قال: " وكل ما لم يجز التفاضلُ فيهِ ... إلى آخره " (3). اختلف قول الشافعي في أن القسمة بيعٌ أو إفراز حق. وفي حقيقة القسمة وأحكامها مسائلُ ستأتي في آخر الدعاوى والبيّنات. فلا نلتزم الخوضَ فيها، ونختصر على مقدار غرضنا. فنقول: ما جاز بيعُ بعضِه ببعضٍ، فالقسمةُ جائزةٌ فيه إذا كان يقبل القسمة، وما امتنع بيعُ بعضِه ببعض من أموال الربا، كالرطب والدقيق ونحوهما، فإن قلنا: القسمةُ ليست بيعاً، فلا يمتنع إجراؤها في هذه الأجناس؛ وإن قلنا: القسمةُ بيعٌ، فهي ممتنعة فيما يمتنع بيع بعضه ببعض، فلا يجوز على هذا القول قسمةُ الرطب والعنب، إذا كان لهما عاقبة التجفيف، وقد ذكرنا في مسائلِ الزكاة تردُّداً في قسمة الثمار إذا قطعناها قبل أوان الجِداد، وسبب التردد أن الأبدال لا مدخل لها في الزكاة، فلو لم تجز القسمة، ولم نميز حقَّ المساكين، لاضطررنا إلى الانتقال إلى الأبدال، فاختلف الأصحابُ على طُرقٍ استقصيناها في موضعها. وكمال البيانِ موقوفٌ على الإحاطة بباب القسّام.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) عبارة الأصل مضطربة هكذا: " بيع الشاة اللبون بالشاة اللبون ... إلخ ". (3) ر. مختصر المزني: 2/ 150. وتمام العبارة: " وكل ما لم يجز التفاضل فيه، فالقَسْم فيه كالبيع ".

وقد نجز الغرضُ من هذا القول في ربا الفضل، وشَذّ عما ذكرناه فروع قريبةٌ نرسمُها، وبنجازها ينتجز هذا الركن. فرع: 2974 - ذكرنا أن بيع ما لا يكال ولا يوزن من المطعومات، بعضُه ببعض - باطلٌ على القَولِ الجديدِ، كالخيارِ والبطيخ ونحوهما، فلو بيع القثاء بالقثاء وزناً، فالأصح المنعُ. ومن أصحابنا من جوَّز، كما نبهنا عليه فيما تقدم. وهو بعيد. واتفقت الطرق على منع بيع البيض بالبيض والجوز بالجوز وزناً بوزن؛ من جهة أن المقصود منها في أجوافها، وقشُورُها تتفاوت تفاوتاً ظاهراً، وهذا لا يتحقق في القثاءِ وما في معناه، وذكر صاحب التقريب في البيض والجوز إذا بيع البعض منها بالبعض وزناً وجهين، وهذا بعيد. فرع: 2975 - إذا قُلنا: الماءُ يجري فيه الربا، وهو المذهب، فلو باع رجلٌ داراً فيها بئر ماء بمثلها، وقلنا: الماءُ يجري فيه الربا - قالوا: في هذه الصورة وجهان: أحدُهما - الجواز، وهو الظاهر؛ فإن الماء الكائنَ في البئر ليس مقصوداً، ولا يرتبط به قصد. والثاني المنعُ، وهو القياسُ، ولا ينقدح للوجه الأول وجهٌ في القياس، لكن عليه العمل، ومعتمدُه سقوط القصد إلى الماء الحاصل، وقد ذكرنا في فصلِ الخلولِ أن من باع خلَّ التمر بخل الزبيب، والتفريعُ على اختلاف أجناس الخلول، فالقَولُ في منع البيع يؤول إلى الماء الذي في الخلَّين، وهو مال ربا. فلو قال قائل: الماء ليس مقصوداً في الخلّ، كما أنه ليس مقصوداً في مسألة الدار، قلنا: قَدْرُ الماء مستعملٌ على صفة الخَلِّ حتى كأنه انقلبَ خلاً، فلم يخرج مقدار الماءِ عن كونه مقصوداً، وإن كان لا يقصد ماءً، وهذا لا يتحقق في البئر ومائِها. وقد نجز منتهى المراد في ذلكَ. وقد كُنَّا ذكرنا في أول الباب أن حديث عُبادةَ في أصل الربا مشتمل على ربا الفضل، والتعرضِ للتقابض، والنَّساءِ. نعني ما يتعلق من حُكمهِ بالربا. وبَيّنا أن أصلَ الباب ربا الفضل، والتقابضُ وتحريمُ النَّساء متفرعان عليه. ونحن الآن نعقد المذهب فيهما.

فصل 2976 - قد ذكرنا أن علّة الرّبا في الأشياء الأربعة الطُّعم، ومحل العلة اتحادُ الجنس، وعلةُ الربا في النَّقديْنِ جوهرُ النقدية، والمحل اتحاد الجنس. ويرجع حاصل القول في النقدين والأشياء الأربعة إلى أن العلَّةَ في تحريم ربا الفضل في الأشياء الستة ما هو مقصودٌ من كل صنف. ثم رأينا جمعَ الأشياء الأربعةِ في مقصود الطُّعم، كما قرَّرناه في (الأساليب) وكتاب (الغُنية) (1). والنقدان مجتمعان في معنىً واحدٍ، وهو جوهر النقدية. فإن قيل: لم ذكرتم جوهرَ النقدية؟ قلنا: لأن التبرَ ليس نقداً في عينه، وكذلك الحلي والأواني. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للدراهم والدنانير، بل ذكر الذهب والورِق، والمقصود منهما مقتصر عليهما، فاقتضى ذلك ذكرَ جوهر النقدية، وهذا يعم المطبوعَ من الورِق والذهب، وغير المطبوع. فإذا ثبتت علةُ الربا في الأشياء الستة، فباب التقابُض والنَّساء يدخلان تحت ضبط واحدٍ. فنقول: 2977 - كلّ علّتين جمعتهما علة واحدة في تحريم ربا الفَضل، فإذا بيعت إحداهما بأخرى نقداً بنقدٍ، اشترط التقابض في المجلس، فلو تفرق المتعاقدان قبل التقابض، بطل العقد. ولا فرق بين أن يختلف الجنس أو يتحد. وإنما يختصّ باتحادِ الجنسِ ربا الفضل. واشتراط التقابض يعتَمد الاجتماعَ في علةِ التحريم، ولا التفات إلى [المحل] (2)، وهو اتحاد الجنس. وخصَّص أبو حنيفة (3) اشتراط التقابض بالنقدين، ولا عذر له فيها. وقد طرد رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمَ ربا الفضل في الأشياء الستةِ عند اتحاد الجنس،

_ (1) الغنية: أحد كتب إمام الحرمين في علم الخلاف. وكذلك: (الأساليب). (2) في الأصل: التحريم. (3) ر. مختصر الطحاوي: 75، طريقة الخلاف: 302 مسألة: 125، إيثار الإنصاف: 288، الاختيار: 2/ 31.

ثم قال فيها بجملتها " إذا اختلف الجنسان، فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " وتحريم النَّساء، يُنحَى به نحو التقابض، فكل عينين جمعتهما علةٌ واحدة في ربا الفضل، فلا يجوز إسلام أحدهما في الآخر، اتحد الجنس أو اختلفَ، فلا يصح إسلام البُرّ في الشعير، ولا إسلامُ الدراهم في الدنانير. وأما الاجتماعُ في الجنسية فلا وقعَ له عندنا؛ فيجوز إسلام الثوب في جنسه، وإسلام الخشبة في جنسها. ومنع أبو حنيفة (1) إسلام الشيء في جنسه، وظن أن اتحاد الجنس أحدُ وصفَي العلّة، وهذا عريٌ عن التحصيل، كما قرَّرناه في مصنفات الخِلافِ. فإذا انعقدَ الأصلان وابتنيا على تحريم ربا الفضل، فنذكرُ بعدهما أن الدراهم والدنانير تتعيّنُ بالتعيين، فإذا عيَّن الرجل دراهمَ في بيعٍ ولزم، لم يملك إبدالها، ولو تلفت قبل القَبض والتسلم، انفسخ العقدُ، ولو أراد مالكها أن يستبدِل عنها، لم يكن له ذلك، كما لو فُرض التعيين في ثوب أو غيره، وخلاف أبي حنيفة (2) في ذلك مشهور. فإذا تمهّدَ هذا، خُضْنا بعدهُ في فصولٍ من الصرف وتحقيق التقابُض. فصل 2978 - إذا بيعت الدراهم بالدراهم أو بالدنانير، وجرى التعيينُ من الجانبين، فيرتبط العقد بما عُين فيه، ولا بد من التقابض في المجلس. ثم القول في مجلس التقابض، كالقول في مجلسِ الخيارِ، فلَسْنا نعني مكان العقد، وإنما نعني اجتماع المتعاقدَيْن وافتراقَهما، كما تفَصَّل في خيار المجلس بلا فرق، فإذا تفرقا قبلَ القبضِ، انفسخ العقد. وإن تقابضا، والكلامُ مفروضٌ في التعيين، ثم وجد أحدُهما بما قبضه عيباً، فإن كان رديء الجنس، أو مشوَّشَ النقش، فإذا أراد الردَّ، فله ذلك، وحكم الردّ انفساخُ

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 15 مسألة: 1084، إيثار الإنصاف: 286. (2) ر. طريقة الخلاف: 354 مسألة: 149، إيثار الإنصاف: 327، الغرة المنيفة: 81.

العقدِ، ولا استبدالَ؛ فإن مورد [العقد] (1) معيّن، ولا فرقَ بين أن يجري الردُّ في المجلسِ، أو بعد التفرق. وإن جرى التعيينُ كما ذكرناه والتقابضُ، ثم بان أن الذي قبضه أحدُهما نحاسٌ، فهذا يُثبت الردَّ، وقد بان أن العقدَ لم يكن عقدَ صرفٍ. ثم لا يخفى حكمُ الرد والفسخ. والمسألةُ تلتفت على أصلٍ سيأتي، وهو أن من سمَّى جنساً وعيَّنه، ثم تبين أن الذي عيَّنَ ليس من الجنس الذي سمّى، ففي انعقاد العقد خلافٌ سيأتي. وذلك نحو أن يقول: بعتُك هذه النعجةَ، والإشارةُ إلى جحش، فإذا قال: بعتُك هذه الدراهم، فإذا هي فلوس، فالأمر يخرج على الخلاف الذي أشرنا إليه. وإن قال: بعتُك هذا، وكان حسِب المشتري أنه دراهمُ، فأخلف ظنه، فيلتحق هذا بفصول التلبيس، وسنذكرها في باب التصْرِية إن شاء الله. فهذا إذا جرى العقد على التعيين، وليس هو غرضَ الفصل، وإنما ذكرناه لاستيعاب الأقسام. 2979 - ولو وَرد العقدُ على الدراهمِ والدنانيرِ وصفاً بوصف، فهذا جائزٌ أولاً، اتفق عليه أئمتنا، ثم لا بد من التعيين بالقبض في المجلس، ولا يكون هذا من السلم؛ فإن وضعَ السلم على اشتراط تسليم رأس المال في المجلس فحسب، والصرفُ يجوز عقده على الوصفِ، ثم لا بد من التقابض. فإذا وضح ذلك، فلو تواصفا، ثم تقابضا، ثم بان أن ما قبضه أحدُهما ليس على الوصف الذي ذكره، فإذا جرى هذا في كل المقبوض في مجلس العقد، فالخطبُ يسير، فليردّ ما قبضه، وليستبدل عنه ما وصفه، ولا شك أن العقد لا ينفسخ بالرّدّ، وطلب البدلِ؛ فإن العقدَ ما ارتبط بالعين التي قبضها، وإنما ارتبط بموصوف، ثم بانَ أنَّ المقبوضَ ليس ذلك الموصوفَ، فكأن القابضَ لم يقبض، والمجلس بعدُ جامعٌ. ولو تفرقا، ثم اطلع أحدهما على رداءة فيما قبضه لا يقتضيها الوصف، والقول فيه

_ (1) في الأصل: العين.

إذا كان المقبوض -مع ما بان فيه- من جنس الدراهم والدنانير، فإن رضي به القابض، فلا كلام. كما سيأتي شرحُه فيه إذا قبَض المسلمُ المسلَمَ فيهِ، فوجده دون الوصف. ولو أراد الردَّ، فله ذلك، ولكن إذا ردّ، فهل ينفسخ العقدُ بردّهِ؟ فعلى قولين: أحدهما - ينفسخ؛ فإنهما تفرّقا، ثم لما ردّ ما قبض، فكأنه لم يقبض في المجلسِ شيئاً، فيتبين انفساخُ العقد؛ من جهة التفرق قبل القبض المستحق. والقول الثاني - لا ينفسخ العقد؛ فإنهما تقابضا ما لو قنِعا به، أمكن إجراءُ العقدِ عليهِ، فإذا رَام استبدالاً، فلا يرتفع القبض من أصله. وعبَّر الأئمة عن حقيقة القولين، فقالوا: إذا فُرض ردٌّ على قصد الاستبدال، فنتبين أن القبضَ الذي هو ركن العقد لم يَجْرِ، أم لا [يستدّ] (1) النقض إلى ما تقدَّم من القبض (2)؟ فعلى قولين. وهذا بمثابة الاختلاف في نظيرٍ لهذا من السَّلم، فلو أسْلَم

_ (1) في الأصل: "يستند"، وكذا في المجموع تكملة تقي الدين السبكي، والمثبت من (هـ 2). وإستد: أي استقام، والمراد هنا مضى وامتد. (2) هذه العبارة أجهدتنا، وأرهقتنا كثيراً حتى وصلنا إلى ما أثبتناه أخيراً في الصلب، ومعناها على الجملة، كما هو مفهومٌ من السياق: أنه إذا ردّ أحد المتعاقدين -في عقد الصرف- ما قبضه لرداءته؛ قاصداً استبداله، طالباً ما يتحقق فيه الصفة التي تم التعاقد عليها، فهل يقال: نحكم تبيناً أن ما حصل لم يكن قبضاً، وعليه فقد العقد ركنَ القبض؟ أم يقال: لا ينقض القبض الذي حصل، ولا يَرفعُ الردُّ بقصد الاستبدال حكمَ ما حصل من القبض؟ هذا معنى العبارة، كما هو واضح من السياق. ولكن الاضطراب والتصحيف أجهدنا كثيراً، وطوّح بنا بعيداً. وبيان ذلك: أن عبارة الأصل كانت هكذا: " أم لا يستند النقض إلى ما تقدَّم من القبض " ونسخة (هـ 2): " أم لا يستدّ النقض إلى تقدم من القبض " [مع خلوها من الإعجام تماما، واحتمال أن تقرأ (البعض) بدل (النقض) وسقط منها كلمة (ما) الموصولة] فرحنا نبحث في كتب المذهب، وبعد لأْي وقعنا على النص كاملاً، نقله تقي الدين السبكي في تكملة المجموع: (10/ 121) وجاء بالعبارة هكذا: " أم لا يستند البعض إلى ما تقدم من القبض ". وللأسف وقعنا أسرى للثقة التي نوليها لطبعة المجموع القديمة، فاعتمدنا عبارتها، ورحنا نوجهها، فطوحت بنا بعيداً، وأركبتنا تعاسيف، إلى أن انعتقنا من هذه الثقة، ونظرنا إليها بعين النقد، فرأينا الخلل فيها، وأنها صحفت (استدّ) إلى (استند)، و (النقض) إلى (البعض)، وعندها استقامت العبارة، وإنما أسهبنا في وصف ذلك لكي يدرك من ينظر في =

الرجل في جارية، ثم قبض جارية، فوجدها دون الوصف؛ فإن قنِع (1) بها، فذاك. وإن ردَّهَا، فلا شك أنه يطلب جارية على الوصف المستحق، ولكن المسلَمَ إليه، هل يجب عليه استبراء الجارية التي رُدّت عليه، فعلى قولين مأخوذين من الأصل الذي مهّدناه الآن: فإن جعلنا ردّ الموصوفِ بمثابة ما لو لم يقبض، فيتبين أن ملك المسلم إليه ما زال عن الجارية بالتسليم إلى المسلِم، فلا حاجة إلى الاستبراء، وإن لم نُسند الأمر، فنقول: زال الملك فيها. ثم عاد وانتقض، فيجب الاستبراء. 2980 - عدنا إلى تفريع ما ذكرناه في الصرف. فإن قلنا بالاستناد (2)، فلو جرى الرد بعد التفرُقِ، بان انفساخُ العقدِ، ولم يملك الرادُّ بدلاً، وإن لم نقل بالإسنادِ، فالرّادّ يطلب من المردود عليه بدلَه على الوصف المذكور في العقد. هذا إذا كان ما قبضه أولاً وأراد رَدّهُ من جنس ما سمّاه. فأما إذا كان الموصوف دراهمَ والمقبوض زُيوفاً، فإذا وقع التفرق، بطل العقدُ، فإنه تفرّق قبل قبض الموصوف في الصرف. ولو قال القابض: أقنعُ بما قبضتُه، لم يكن له ذلك، والجهةُ مختلفةٌ، فهو كما لو أسلم في جارية فسُلم إليه غلام، فليس له أن يقنع به. وسيأتي شرح ذلك في كتاب السلَم. وما ذكرناه في جميع المقبوض في رداءة الجنس، ومخالفة الجنس نُعيدُه في بعض المقبوض. فنقول: إذا تفرّقا، وقد تقابضا في ظاهر الحال، ثم بان أن بعضَ ما قبضه

_ = عملنا هذا كيف كانت المعاناة، فيغض الطرفَ عما قد يجده من هناة هنا أو هناك، ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير، تنفعنا في مضجعنا وفي أخرانا إن شاء الله رب العالمين. (1) قنع: من باب سلم سلامة: رضيَ، وقنَع: من باب خضع خضوعاً: سأل. ومنها: " القانع والمعترّ " (المصباح والمختار). (2) الاستناد عند الأصوليين هو أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر، ويرجع القهقرى حتى يحكمَ بثبوته في الزمان المتقدم، كالمغصوب؛ فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان، مستنداً إلى وقت الغصب. هذا. وقد مضى بيان أتم لمعنى الاستناد، وغيره، في تعليقات باب النفاس.

أحدُهما زيفٌ، فلا شك في انفساخ العقد في ذلك القَدرِ، ويتفرع في الباقي قولا تفريقِ الصفقةِ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإن تفرقا، ثم كان بعضُ ما قبضه على خلاف الوصف مع اتحاد الجنس، فيخرجُ القولان في ذلك القدرِ الذي هو دون الوصف. فإن قلنا: لو ردّهُ، لانفسخ العقد تَبيُّناً (1)، فهل ينفسخ في الباقي على قولي تفريق الصفقة؟ [أم لا] (2)؟ وإن قلنا: لا ينفسخ العقدُ تَبَيُّناً، فليستبدل ذلكَ القدرَ. ولا يتطرقُ إلى هذا تفريقُ الصفقةِ؛ فإن التفريق ينشأ من انقسام حكم العقد ابتداءً، صحةً وفساداً، أو انتهاء فسخاً وإنفاذاً. وقد يلتحق بما ذكرناه اشتمال الصفقةِ على جنسين من العقود، كالإجارة والبيع. وما ذكرناه من الاستبدال في البعض -حيث انتهى التفريع إليه- ليس من أصول [تفريق] (3) الصفقة في شيء. فصل 2981 - ذكر الشافعي في آخر الباب الصورةَ التي فرضناها في مد عجوةٍ ودرهمٍ، وهي بيع الدنانير المروانيَّة والعُتُق بالدنانير الوسط، وقد قدّمنا تفصيلَ المذهب في هذا الأصل، ثم ذكر بعد ذلك إباحةَ الذريعة التي لا تُناقض أصول الشريعة. فإذا كان عند الرجل مائةُ درهمٍ صحاح، فأراد أن يحصل له مكانها مائةٌ وعشرون درهماً مكسرةً، فالوجه أن يشتري بالمائة سلعة أو دنانيرَ، ويسعى في إلزام العقدِ بطريقه، ثم يشتري بالسلعة أو بالدنانيرِ المائةَ والعشرين المكسَّرة، ويصح ذلك. وقصدَ الشافعي بما ذكرهُ الردَّ على مالكٍ (4)، فإنه يمنع أمثال هذا، واحتج الشافعي

_ (1) التبين: قريب في معناه من الاستناد الذي شرحناه آنفاً، فهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي، بوجود علة الحكم، والشرط كليهما، في الماضي (راجع شرحاً أتم وتمثيلاً للتبيين في حواشي باب النفاس). (2) زيادة منا، رعاية للسياق، حيث سقطت من الأصل، وامّحت من (هـ 2). (3) مزيدة من (هـ 2). (4) ر. القوانين الفقهية: 251، الكافي في فقه أهل المدينة: 304، تهذيب المسالك للفندلاوي: 4/ 252.

عليه بما روي أن عامل خيبرَ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر جَنيبٍ (1) فقال: " أكُلُّ تمر خيبرَ هكذا؟ قال: لا. ولكن نبيع صاعين من الجَمْعِ بصاع من هذا -والجمع هو الدَّقَلُ وهو تَمر رديء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم أَوْه عينُ الربا! لا تفعلوا، ولكن بيعوا الجَمع بالدراهم، واشتروا بالدراهم الجنيبَ " (2). ويقال: افتتح أبو حنيفة كتاب الحيل بهذا الخبر. ولنا في الذرائع التي تتعلق بأمثال هذا والعاداتُ مطردة أو مختلفة كلامٌ سنذكره، إن شاء الله تعالى، في أثناء كتاب البيع. * * *

_ (1) الجنيب وزان زبيب: من أجود التمر. والجَمعُ، والدّقل الرديء منه. (المصباح). (2) حديث: بيعوا الجمعَ بالدراهم. متفق عليه، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة (البخاري: البيوع، باب إذا أراد بيع تمرٍ بتمرٍ خير منه، ح 2201، 2202، ومسلم: المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل، ح 1593، وانظر التلخيص: 3/ 19 ح 1140).

باب بيع اللحم باللحم

بَابُ بيع اللَّحمِ باللَّحْم 2982 - اختلف قول الشافعيّ بأن اللُّحمان جنسٌ واحدٌ أو أجناس، وذكر المزني أن الشافعي ذكر القولين، ثم زيّفَ قولَه أنها جنسٌ واحد. توجيه القولين: من قال: إنهما أصنافٌ رجع إلى العادة؛ فإن الناس لا يعدُّون لحمَ الطائر من جنس لحم البقر، ولا يشكّون في اختلاف أجناس الحيوانات التي هي أصول اللحم، فلتكن اللحوم مختلفةً اختلافَها. ومن قال: إنها جنس واحد، احتج بأنها مشتركةٌ في اسمٍ لا تخصَّص بعده إلا بالإضافة، فكانت جنساً واحداً. وفيما ذكرناه احترازٌ عن اجتماع المختلفات في اسم الثمار؛ فإن كلّ جنس يَختصُّ وراء اسم الثمار باسم خاصّ من غير إضافة، فيقال: خوخ، وتفّاح، ومشمش. واللحوم لا تتميّزُ إلا بالإضافة إلى الأصول، فيقال: لحم البقر، ولحم الغنم. التفريع على القولين: 2983 - إن حكمنا بأنهما جنسٌ واحد، فلحوم البرِّيات كلها جنس، ولحوم البحريّاتِ بَعضُها مع بعضٍ جنسٌ، وفي لحوم البرّيَّاتِ مع لحوم البحريَّاتِ على هذا القول وجهان: أحدُهما - أنها جنسٌ واحدٌ؛ طرداً لحكم الاتحاد. والثاني - البريُّ والبحريُّ جنسان، وإن حكمنا باتحاد الجنس في اللُّحمان؛ فإن المعتمدَ في الحُكم بالاتحاد الاجتماعُ تحت الاسم، وهذا لا يتحقق في لحوم البحريّ مع البرّيّ، بدليل أن من حلف لا يأكل اللحم، لم يحنث بلحم الحيتان. وإن قلنا: اللحوم أجناس، فالبقر جنس ذو أنواع، كالجواميس مع غيرِها، وأنواع الإبل جنس، والضأن مع المعز جنس، والطيور أجناس: فالحمام على اختلاف أنواعها جنس منها: اليمام والقُمْرِي، والدُّبسي، والفَواخت، والقطا، وهي كل ما عَبّ وهَدَر، والبطُّ جنس، والدجاج جنس، والعصافير على اختلاف جثثها وألوانها جنسٌ.

والبحريّ مَع البريّ جنسان، والسموك جنس، والحيوانات المائيّة كبقر الماء، وغنم الماء، بالإضافة إلى ما يُسمَّى حيتاناً، على اختلافٍ بين الأصحاب: فمنهم من قال: جَميعُ البحريَّات بعضِها مع بعضٍ جنسٌ واحدٌ، ذو أنواع. ومنهم من قال: الحيتان مع ما لا يُسَمى حوتاً جنسان. ثم هذا القائل يحكم باختلاف ما عدا الحيتان، نظراً إلى البرّيّات، فغنمُ الماء وبقرُه جنسان. وهذا التردُّد خارج على اختلافِ الأصحاب في أن جميع البحريات لها حكم الحوت، وإن اختلفت صُورُها حتى تحل ميتتُها، أم لا يثبت لها حكم الحوت؟ على ما سيأتي في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. والوحشيات -على قول الاختلافِ- تخالف الأهليَّاتِ. ثم لا يخفى اختلاف أجناس الأهلياتِ، كذلك تختلف أجناس البرّياتِ كالبقر الوحشي؛ فإنها جنس، والظباء جنس. وكان شيخي يتردَّد في الظباء والإبل، وقرارُ جوابه على أنها جنس، كالضأن مع المعز، ولا يتجه غَيرُه. هذا قَولُنا في النظرِ إلى لحوم الحيوانات بعضها مع بعض. 2984 - فأمَّا القول فيما يشتمل عليه حيوان واحدٌ مما لا يعدّ من اللحم عند الإطلاق، ويخصص بأسماءَ من غير إضافةٍ، كالكرِش، والكبد، والمِعى، والطِّحال، والرئة. فتحصيل القول في هذا يستدعي تقديم رمزٍ إلى أصلٍ في الأَيْمان. فإذا قالَ الرجل: والله لا آكل اللحمَ، فالذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب، أنه لا يحنث بأكل الكبد، والكرِش، والطَّحال، والمِعَى والرِّئة؛ فإنّ هذه الأشياء لا تسمى لحماً. وحكى الشيخ أبو علي عن أبي زيد المروزي قولين: أحدُهما - ما ذكرناه، والثاني أنه يحنث؛ فإنّ هذه الأشياء في معنى اللحم. وهذا بعيدٌ، لم أره لغيره، ولم يختلف الأصحابُ في أن من حلف لا يأكل اللحمَ، لم يحنث بأكل الشحم. ولست أعني سَمْنَ (1) اللحم؛ فإنه معدود من اللحم، اتفق عليه من يوثق به. وأما القلب، فقد

_ (1) في (هـ 2)، وفي المجموع ناقلاً عن النهاية: 10/ 219: "سمين".

قطع الصيدلاني وغيرُه من المراوزة أنه لحم، وذكر العراقيون أنه كالكبدِ. والذي قالوه محتمل، والكُلية عندي في معنى القلب، والأَلْيةُ (1) لم يعدُّها المحققون من اللحم، ولا من الشحم، وجعلوه مخالفاًً لهُما، وهذا فيه احتمالٌ عندي، فيشبه أن يقال: هو كاللحم السمين يجتمع للضائن (2) على موضع مخصوص. 2985 - فإذا ثبت ما ذكرناه من حكم الأَيْمان -واستقصاؤه محال على موضعه- عُدنا إلى غرضنا. فالطريقةُ المشهورة أنا إذا حكمنا بأن اللحوم أجناس، فهذه الأشياء من الحيوان الواحد أجناسٌ؛ فإنها مختلفة الأسماء والصفات. وإن حكمنا بأن اللحوم جنسٌ واحد، فقد ذَكرنا خلافاً على هذا القول في لحوم البرِّيّات مع البحريّاتِ، ومأخذ قول من يَقول: إنهما جنسان من حكم اليمين؛ فإن من حلف لا يأكل اللحمَ، لم يحنث بأكل الحيتان، فما ذكرناه من الكَرِش وما في معناه يخرج على موجَب اليمين الذي ذكرناه. فكل ما يحنَثُ الحالف بأكله والمحلوف عليه اللحمُ، فهو من جنس اللحم على قولنا باتحاد جنس اللحمان، وكل ما لا يحنَث الحالفُ على اللحم بأكله، فهو خارجٌ على الوجهين، اعتباراً بلحوم الحيتان مع لحوم البرِّيَّات. فهذه الطريقة المرضيَّة. وحكى شيخي عن القفال عكْسَ هذا، فقال: إن حكمنا بأن اللُّحمانَ جنسٌ واحدٌ، فالمُسمَّياتُ التي ذكرناها ملحقةٌ باللحم مجانسة له، وليس الحكم بمجانستها للحم بأبعدَ من حكمنا بمجانسة لحم العصفور لحمَ الجزور. وإن حكمنا بأن اللحمان أجناسٌ، ففي هذه المسمّيات من حيوانٍ واحدٍ وجهان: أحدُهما - أنها ملتحقة باللحوم، لاتحاد الحيوان، فكأن لحم كل حيوان يختلفُ

_ (1) أَلْيةُ الشاة، قال ابن السكيت، وجماعة: لا تكسر الهمزة، ولا يقال: ليّة، والجمع ألَيات، كسجدة وسَجَدات، والتثنية: أَلْيان بحذف الهاء على غير قياس، وبإثباتها في لغةٍ على القياس. (مصباح). (2) الضائن: ذكر الغنم، والأنثى: ضائنة. (مصباح).

أجزاؤُه، والكل لحمٌ. وهذه الطريقةُ رديئةٌ، لم أرها إلا لشيخنا؛ فلا أعدُّها من المذهب. والعظمُ لا شك أنه ليس بلحمٍ، الصلبُ منه والمُشاشي (1)، والغضرُوفي (2)، وكذلك المِخَخَة (3). وقطع أئمتُنا بأن الأكارع لحمٌ في اليمين، وهو من الشاة مجانسةٌ لسائر لحمها، ولا اعتراض على الاتفاق. ولعل ذلك من جهة أنه يؤكل أكْلَ اللحم، وإلا فالظاهر عندي أن العصبةَ المفردةَ ليست لحماً. والرؤوس من اللحوم لا شك فيه، وإنما أشرت إلى إشكالٍ في المعنى، من جهة أن الأكارعَ أعصابٌ تحويها الجلود، ولكنها إذا تهرَّت، أُكِلت أكلَ اللحم. فهذا كلّه ترتيبُ القول في اتحاد الجنس واختلافِه. 2986 - فلا يخفى بعد هذا أن كل لحمين حكمنا باختلافِ جنسهما، فلا حرجَ في بيع أحدهما بالآخر، مع حقيقةِ التفاضل، ولا تعبّدَ إلا في التقابضِ وامتناع النَّساء. وإن حكمنا باتحاد الجنس، أو فرضنا في بيع لحم الغنم يباع البعض منه بالبعضِ، فقد قطع معظمُ الأصحاب بأنهُ لا يجوز بيع اللحم الرَّطْب باللحم الرطب. بل يجب أن يُجفَّفا حتى لا تبقى في اللحم رطوبة، فيباع القديد، ولو كان على القديدِ ملحٌ يظهر له أثرٌ في الوزنِ، لم يجُز بيع البعضِ بالبعض. وحكى بعضُ الأئمة وجهاً أن بيع اللحم الرَّطْب باللَّحمِ الرَّطب جائزٌ، وخرّجوا هذا على بيع الخوخ الرطب بالخوخ الرطب. وقد ذكرنا، فيه وفي أمثاله خلافاً، ووجه شبه اللحم بما ذكرناه، أن تقديدَ الخوخ قد يلتحق بما لا يعم، واستعماله رطباً أعم. كذلك القول في اللحم. وهذا غريبٌ، وظاهر المذهب ما قدمناه. وبقيةُ الكلام في الباب التعرضُ للعظم.

_ (1) المُشَاشَة: رأس العظم اللين الذي يمكن مضغه (معجم). (2) الغضروف: العظم اللين الرَّخْص، في أي موضع كان (معجم). (3) أمخ العظمُ: صار فيه مخ، والمُخاخة ما خرج من العظم في فم من يمصّه وجمعه مخاخ، ومِخخة. (معجم وقاموس).

2987 - لم يختلف أصحابنا أن بيعَ اللحم المنزوعِ العظمِ بلحمٍ يُشابهه في نزع العظم جائز، وليس كنزع النوى من التمر، وقد قدّمت هذا في الجواز مع النزع، وهل يجوز البيع مع العظم؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من لم يُجوّز، وإليه ميل الأكثرين؛ فإن العَظم يُفسد اللحمَ ولا يُصلحُه، وليس كذلك النوى في التمر. ومن أصحابنا من لم يوجب نزعَ العظم الخِلقي (1)، وهذا مشهور، ولكنهُ مزيف. ثم إذا جوَّزنا البيعَ مع العظم، فلا يُشترطُ اتحادُ صنفِ اللحمين حتى تتقاربَ العظام، بل يجوزُ بيع الفخذ بالجنبِ، وإن كانت أقدارُ العظام تتفاوتُ، وهذا كتفاوت النوى في التمر. وعندي: يجب أن يُرعى في هذا نظر؛ فإن العضوَ الذي فيه اللحم لو نحي منه مقدار صالح من اللحم، فالعظم الباقي في العضوِ لا يُحتمل في شراء ذلك العضوِ، فيجبُ أن يقالَ: إذا كان كذلك يمتنعُ بيعُ ذلك العضوِ بعُضو لم يُقطع من لحمه شيء. وإن قلّ المقدار المقطوع بحيث لا يبالَى به، فلا بأس إذن على الوجه الذي نفرع عليه. * * *

_ (1) كذا في الأصل، وفي (هـ 2): " الخلفي " بالفاء.

باب بيع اللحم بالحيوان

بَابُ بَيعِ اللحْمِ بالحَيوانِ روى الشافعي بإسناده عن ابن المسيّبِ أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع اللحم بالحيوان " (1) ومراسيل ابن المسيب مقبولٌ (2) عندَ الشافعي، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: " أن جزوراً نُحرَتْ على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعنَاقٍ، فقال: أعطوني جزءاً بهذا العَناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا المبيع " (3). [فالمتبع] (4) في الباب الحديث، والقياسُ يقتضي تجويزَ لحم الشاة بالشاة، (5 من جهة أن الحيوان ليس مالَ رباً، فالمتّبعُ الحديثُ إذاً. ثم اتفق الأصحابُ على منع بيع لحم الشاة بالشاةِ 5). وخرّجوا بيعَ لحم الشاة بالبقر والبعير، على القولين في تجانس اللُّحمان واختلافهما، وقالوا: إن قضينا بتجانسِها، فالبيع يمتنع، كبيع لحم الشاة بالشاة، وإن حكمنا بأن اللُّحمان مختلفةُ الأجناس، ففي البيع قولان: أقيسُهما الصحّةُ؛ لأن بيع لحم الشاة بلحم البقر جائزٌ متفاضلاً، وإذا منعنا بيعَ لحم الشاة بالشاة، فهو على تقدير الشاة لحماً، فإذا كان لا يمتنع البيع مع مصير الحيوان المقابل للحم لحماً، فكيف يمتنع بيع اللحم بذلك الحيوان. والقول الثاني - أن البيع ممتنع، لظاهر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان.

_ (1) حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان رواه مالك في الموطأ: 2/ 655، والشافعي، وأبو داود في المراسيل (ر. التلخيص: 3/ 2 ح 1144، ومختصر المزني: 2/ 157). (2) كذا في النسختين بتذكير " مقبول ". (3) حديث ابن عباس رواه الشافعي في الأم، وفي المختصر: 2/ 157. (4) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (5) ما بين القوسين سقط من (هـ 2).

وطرد بعض الأصحاب القولينِ في بيع لحم الشاة بالعبد من جهة أنه بيع اللحم بالحيوان. 2988 - والذي يجب التنبه له في مضمون هذا الباب، وأمثالِه أن من الأصول ما يستند إلى الخبر، أو إلى ظاهر القرآن، ولكن القياس يتطرق إليه من أصول الشريعة، فلا يمتنع التصرف في ظاهر القرآن والسنة، بالأقيسة الجليّة إذا كان التأويل منساغاً، لا ينبو نظر المصنف (1) عنه، والشرط في ذلك أن يكون صَدَرُ (2) القياس من غير الأصل الذي فيه ورُود الظاهر، فإن لم يتَّجه قياس من غير مورد الظاهر، لم يجز إزالةُ الظاهر بمعنىً يُستنبط منه، يَضمنُ تخصيصَه، وقصْرَه على بعض المسمَّياتِ، وقد ذكرت هذا على الاستقصاء في كتاب (الأساليب)، وألحقت فيما مهَّدتُه في ذلك الردَّ على القائلين بالأبدال في الزكوات. هذا فيما يتطرق إليه المعنى. فأما ما لا يتطرق إليه معنى مستمرٌ صابرٌ على السَّبْر، فالأصل فيه التعلّقُ بالظاهر، وتنزيلُه منزلةَ النصِّ. ولكن قد يلوح مع هذا مقصودُ الشارع بجهةٍ من الجهات فيتعيّن النظرُ إليه، وهذا له أمثلة: منها أن الله تعالى ذكر الملامسة في قوله (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) [النساء: 43] وحملها الشافعي على الجسّ باليد، ثم تردّد نصُّه في لمس المحارم؛ من جهة أن التعليلَ لا جريان له في الأحداث الناقضةِ، وما لا يجري القياس في إثباته، فلا يكاد يجري في نفيه، فمال الشافعي في ذلك إلى اتباع اسم النساء، وأصح قوليه أن الطهارة لا تنتقض بمسهنَّ؛ لأن ذكْر الملامسة المضافة إلى النساء، مع سياق الأحداث، يُشعر بلمس اللواتي يُقصدن باللَّمسِ، فإن لم يتَّجه معنى صحيح، دلَّت القرينةُ على التخصيص. ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس للقاتل من الميراث شيء " (3)

_ (1) كذا في النسختين، ولعلها: المنصف. (2) " صَدَرُ ": أي صدور. (3) حديث ليس للقاتل ميراث: أخرجه النسائي: كتاب الفرائض، باب توريث القاتل، ح 6368، ورواه ابن ماجه، ومالك في الموطأ، والشافعي، وعبد الرزاق، والبيهقي، كلهم =

فالحرمان لا يستدُّ فيه تَعليلٌ كما ذكرنا في الخلاف، وإذا انسد مسلكُ التعليل، اقتضت الحال التعلّق بلفظ الشارعِ، فردَّد الشافعي نصَّه في أن القتل قصاصاً، أو حدّاً، إذا صدرَ من الوارث، فهل يتضمن حرمانَه؟ فوجهُ تعليق الحرمان بكل قتلٍ التعلّقُ بالظاهر، مع حسمِ التعليل، ووجه إثبات الإرث التطلعُ على مقصود الشارع، وليس يخفى أن مقصودَهُ مضادّةُ غرض المستعجل، وهذا لا يتحقق في القتل الحق. 2989 - والذي نحن فيه من بيع اللحم بالحيوان خارج على هذا القانون، فمن عمم تعلّقَ بقول الشارع، ومن فصَّل تشوَّف إلى دَركِ مقصودهِ، وهو أن في الحيوان لحماً، فبيعُ الشاة به كبيع الشاة بلحمه. وعن هذا قال مالكٌ (1): إن قصد من الحيوان اللحمَ، لم يجز بيع اللحم به، وهذا يقربُ من مذهبهِ في اشتراط قصد الشهوة في ملامسة الرجال. ومن تمسك بظاهر اللفظ، فقد يترتبُ كلامُه، فيقرب بعضُ المراتب ويَبعُد بعضها، وهذا كما ذكرناه في قتلِ المورِّث. فالقتل قصاصاً أقربُ قليلاً، وأما القتل حدّاً سيّما إذا ثبت بإقرارِ من عليه الحدُّ، فاعتقاد جريان الخبر فيه بعيدٌ. ومن هذا القبيل منع بيع اللحم بالعبد، ولو ادّعى العلم في أن هذا ليس مرادَ الشارع، لم يكن بعيداً. * * *

_ = عن عمرَ، وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عباس (ر. التلخيص: 3/ 185 ح 1406، 1407، 1408). (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 539 مسألة 873، عيون المجالس: 3/ 1445 مسألة 1011.

باب ثمر الحائط يباع أصله

بَابُ ثَمَرِ الحَائِطِ يُبَاعُ أَصلُهُ 2990 - صَدَّرَ الشافعي البابَ بما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من باع نخلاً بعد أن يُؤبر فثَمرتُه للبائع إلا أن يشترط المبتاعُ " (1) وقد ذكرَ الشافعي في هذا الباب تفصيلَ القول في بيع الأشجار وعليها الثمار، وفصّل القول في أنها متى تستتبع الثمارَ ومتى لا تستتبعُها، ثم ذكر في بابٍ آخر بعد هذا تفصيلَ القول في إفراد الثمار في البيع، وبيان تبقيتها وقطعها، وتفصيلَ الأقوال في ذلك. 2991 - والأشجار المثمرةُ أقسام، فمنها ما تبدُو ثمارها في أول الأمر كالتين، ومنها ما تطلع ثمارها وهي في سواتر، ثم تزول السواتر أو تُزال، وتبرز الثمار، ومنها ما يتردّدُ الناظر في اعتقاد ظهورها. فأما الأشجار التي تكون ثمارُها بارزةً من أول الفِطرةِ، فإذا بيعت الأشجار وأُطلق تسميتُها من غير تعرضٍ لذكر الثمار، فالثمار تبقى للبائع، ولا تدخل تحت مطلق تسميةِ الأشجار؛ فإنها ليست جزءاً، وقد استقلت بظهورها. وأما ما يطلعُ مستتراً بساتر كطلع النخل؛ فإنه يكون مستتراً بالكِمام، وأكِمّةُ الطلع غُلفٌ كثيفة تبدو مستطيلةً كآذان الحُمر والطلع في أوسَاطِها فإذا شُقَقت ظهر الطلعُ على العناقيد أبيضَ، وهو أشبه شيء بالرُّز، فإذا أُطلق بيعُ النخلة والطلع مستتر بالكِمام، فمذهب الشافعي أن الثمار تتبعُ مطلقَ تسميةَ الأشجار، ويملكها المشتري. هذا تأصيل المذهب في الباب، وسيأتي التفصيل الآن. فأما ما يتردّدُ الاعتقاد في ظهوره، فمن جملته الأشجارُ التي تُبدِي أزهارَها، وهي تنقسم، فمنها ما يحتوي مركَّبُ الأزهارِ وأصلُها على الثمارِ، على هيئةِ خَوخاتٍ

_ (1) حديث " من باع نخلاً ... " متفق عليه من حديث ابن عمر. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 376 ح 991، وانظر أيضاًً التلخيص: 3/ 65 ح 1212).

صغار، كالمشمش، والخوخ، وما في معناهما. فإذا بيعت هذه الأشجار وعليها أزهارُها، فالثمار في مطلق البيع للمشتري؛ فإنها مستترةٌ استتار الطلع، وفيها مزيدُ معنى، وهو أنهُ لا يعد ثمراً حتى يشتدَّ ويصلبَ، وذلك بعد انتثار الأزهار، وانكشافِها عن الخوخات. ومن الأزهار ما لا يحتوي على الثمار، ولكنها تطلع والثمرةُ تحتها، كالكمثرى والتفاح، فما كان كذلك، فقد اختلف الأصحابُ فيه: فالذي مال إليه العراقيون أن الثمار لها حكمُ الظهور؛ فلا تتبع الأشجارَ المطلقةَ في البيع. ومن أصحابنا من قال: هي للمشتري؛ لأنها غيرُ منعقدة بعدُ، وإنما انعقادُها بعد انتثار الأزهار، وهذا هو الذي ذكره الصيدلاني. ومما يتعلق بهذا القسم الكلام في الجَوْز، وقد قال العراقيون: القشرةُ العليا ساترةٌ للجوزِ سَتْرَ الكِمام للطلع، فإذا جَرى بيعُ الشجرة مطلقاًً، فالجوز تابعٌ. وقطع صاحب التقريب بخلاف هذا، واحتجَّ بأن هذه القشور لا تزول في الغالب إلا عند [الأكل] (1)، وحقّق بما ينبّه على المقصود؛ فقال: القشرة العليا تُعَدُّ من الثمرة، والكِمام تُعدُّ من الشجرة، وإذا برزَتْ منها العناقيد وأقطفت (2)، قُطفت، وتُركت الأَكِمَّة على الأشجار، تركَ السعف والكرانيف، وقشورُ الجَوْز ليست كذلك. والقُطن ملحقٌ بالنخيل، والمُراد ما يكون شجراً باقياً على مَمرّ السنين، فالقطن يؤخذ ويُتركُ القشرُ على الشجر، كما صوَّرناه في الكِمام. وأما الورد؛ فإنه يتستر بجزء من الشجرِ، يتشقق ذلك الجزءُ وتَبرُز الوردة، فهو كالنخل، وقد تبرز الوردةُ في غبَنِها (3) متضامَّة الأوراقِ، ثم تَتَفتّق، فماذا برزت بجُملتِها، فهي ظاهرةٌ لها حكمُ البروز إذ ذاكَ، فلا تتبع. فهذا بيانُ الظهورُ والكمونِ في الثمار (4).

_ (1) في الأصل: القطف. (2) أقطفت الثمار حان قطافها. (3) غَبَنِها: أي مخبئها: اغتبن الشيء خبأه في الغَبَن. (معجم). (4) لا يسع المنصف إلا أن يسجل إعجابه بإحاطة أئمتنا بواقع المسألة التي يتكلمون فيها، فهذا =

2992 - ونرد التفصيل بعد ذلك إلى النخيل، وهي فحولٌ وإناث، والفحول لا تعنى ثمارُها للأكل، ولكنها تُعنَى لتؤخذَ، وتشقق أكِمّةُ الإناث ويُذرُّ فيها طلعُ الفحول، فتربو وتنمو. وقد تشَّققُ الأكِمَّة بأنفُسها. ثم التأبيرُ قد يختلف باختلافِ أنواع النخيل، فيتقدّمُ التأبيرُ في البعضِ، ويتأخر في البعض، ثم هي تتفاوتُ في أوان القطاف، ولم يجر عُرفُ القائمين بتعهد النخيلِ بتأبير جميعها، بل يكتفون بتأبير البعضِ، وقد تنبث رياح الفُحول إلى الجميع فتتأبر. ثم إن اتحد النوعُ تلاحق التأبيرُ على قُربٍ من الزمانِ، وإن اختلفت الأنواع، فقد تختلف أوقات تأبيرها. فإذا تُصوِّر ما ذكرناه، قلنا: إذا باع الرجل نخيلَ بستانٍ والنوعُ متّحدٌ، وقد أبَّر بعضَها، فالذي لم يؤبَّر ملحقٌ في الحكم بالمؤبَّر، حتى لا يتبعَ الأشجارَ في إطلاق التسمية، فالكامن منها على الصورة التي ذكرناهَا يتبع الظاهرَ، والسببُ فيه أن رعايةَ الظُّهور في الجميع عسرٌ مفْضٍ إلى تتبع كل عنقود. والقولُ في ذلك يختلفُ إذا كَثُرت النخيل، فعسُرَ التزامُ التفصيل، وإتباعُ الكامنِ الظاهرَ أوجَهُ؛ من جهة أن الكامن إلى الظُهور في أوقات متلاحقة، والأصل استقلال الثمار بأنفسها، وانقطاعُها عن تبعية الأشجار، وظهرَ بذلك وجوب الميل إلى إتباع الكامنِ الظاهرَ. 2993 - ثم صور الوفاق فيما ذكرناه والخلاف، تنشأ من معنيين: أحدُهما - اشتمالُ البيع واختصاصُه. والثاني - اختلافُ الأنواع، وتباينُ أوقات التأبير، [لأجلها] (1). فإن اشتمل البَيعُ على نخيلٍ، وقد جَرى التأبير في بعضِها والنوعُ متحد، فقد اجتمع الاشتمالُ واتحادُ النوع، فيتبع الكامِنُ الظاهرَ وجهاً واحداً.

_ = الوصف لأنواع الأشجار والثمار والزهور لا يكون إلا عن رؤية حقيقية ومتابعة لطبيعة هذه البساتين. وبعض نابتة العصر يهمزون أئمتنا ويلمزونهم، ويتشدقون بما يسمّونه فقه الواقع، وهم لا يدرون ما يقولون. (1) في الأصل: كلها.

فإن أَفْرَدَ مالكُ النخيل نوعاً منها بالبيع المطلق، والبستانُ يشتمل على نوع آخر، وقد جرَى التأبيرُ فيما لم يبع، ولم يجرِ في شيء مما باع، فالمبيع مقتَطَعٌ عما لم يبع. فإذا لم تكن ثمارُ النخيل المبيعةِ مؤبرة، وما كان جرَى التأبير في شيء منها؛ فإنها تتبع أصولَها في مطلق البيع، ولا نظرَ إلى ما جرى من التأبير في النوع الذي لم يُبع، وقد اجتمع في المبيع معنيان: أحدُهما - اختصاص البيع، والثاني - تميُّزُ النوعِ المبيع عن الذي لم يُبع بوجه، يقتضي التفاوتَ في أوقات التأبير، فاقتضى مجموعُ المعنيين تخصيصَ مورد البيع بحُكمه. وإن اتَّحد نوعُ النخيل في البستانِ، وكان جرى التأبيرُ في بعضِها، فأَفرَدَ بالبيع نخيلاً منها، لم يؤبر شيء منها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نُتبعُ الأثمارَ الأشجارَ المطلقة في البيع، ولا ننظر إلى ما أُبّر؛ فإن المؤبَّر غيرُ مدرج في البيع؛ فلا يلحق البيع (1) منه حكم. والثاني - أن الثمار كالمؤبّرة، فإنها ستتأبر على القرب، ودخول وقت التأبير عند هذا القائل كالتأبُّر نفسه. وإن باع نوعين تختلف أوقات التأبّر فيهما، وقد جرى التأبيرُ في أحد النوعين، فهل يثبت للنوع الذي لم يؤبّر حكمُ التأبير، حتى لا تتبعُ الثمارُ الأشجارَ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبتُ لها حكمُ التأبير؛ إتباعا لما أُبّر؛ فإن البيع مشتمل على النوعين، والجنس واحد، فلا نظر إلى اختلاف النوعين، وقد يفرض تفاوت الأوقات في النوع الواحد بصفاتٍ يختلف النخيل بها مع اتحاد النوع. فهذا بيان صُور الوفاق والخلاف في ذلك. وسنذكر نظائرَ لهذا في تصوير بدُوّ الزَّهو والصلاح، في الباب المعقود لبيع الثمار وحدَها. فرع: 2994 - الفحول تُطلِع إطلاع الإناث، وتتأبّر على صورة تأبّر الإناث، فإذا لم يكن إلا الفحول، فبيعُها قبل التأبير كبيع الإناث، فتتبع الثمارُ الأشجارَ، هذا هو المذهب الظاهر.

_ (1) كذا في النسختين، ولعلها: (المبيع).

ومن أصحابنا من قال: ثمار الفحول لا تتبع الأشجارَ إذا أُطلق بيعها، وإن لم تؤبر، فالنظر إلى وجود ثمار الفحول ظاهرة كانت، أو كامنةً؛ فإن المقصود منها طلعُها لتجفَّف وتُذر في شقوق أَكِمّة الإناث، وإذا كان كذلك، فمنتَهى ثمارِها وجودُها، بخلاف ثمارِ الإناث؛ فإنها تُعنى للإرْطاب وظهُورُها في حكم المبدأ للمقاصدِ منها. ومما يتفرع على ذلك أن البستان إذا اشتمل على الفحول والإناث، وكان ظهر طلع الفحول، فهل يستتبع الإناثَ في حكم التأبير؟ فعلى وجهين: وهما كالوجهين في استتباعِ النوعِ النوعَ وقد مضى. فرع: 2995 - إذا أُبّرت نخيل، فاطلعت بعد تأبيرها نخيل، فما صار إليه ابنُ أبي هُريرة أن التي أَطْلَعت بعد التأبير لا تتبع المؤبرّةَ [وإنما تتبعُ المؤبرةَ فيما] (1) كان طلعها موجوداً عند تأبير ما قد أُبرّ. وقال غيرُه من أصحابنا: إن التي ظهر طلعُها بعد التأبير تتبع التي أُبّرت من قبل على تفصيلِ النّوع والأنواع كما تقدم. فرع: 2996 - الثمرةُ التي لم تؤبَّر إذا أراد مالكُها أن يُفردَها بالبيع فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب جوازُ ذلك، وهذا مما تعلق به أصحاب أبي حنيفة (2) إذْ منعوا إتْباعَ الثمارِ النخيلَ، وقالوا: لما جاز إفراد الثمار بالبيع، دَلّ ذلك على استقلالها بنفسها، وحكى العراقيون عن أبي إسحاقَ المروزي أنه منع إفرادَ الثمارِ قبل التأبير في البيع، وقد ذكر صاحب التقريب في ذلك قولَين: وبناهُما على بيع الحنطةِ في سُنبُلها، وهذا منقدح حسن. وسنذكر تفصيلَ القولِ في الزروع، واكتتام الطلع بالكِمام لا ينقص عن اكتتام الحب بالسُّنبل. فرع: 2997 - كل شجرةٍ لا تُعنى أوراقُها، فإذا بيعت، دخلت أوراقُها تحت البيع، وإن كانت ظاهرةً؛ لأنها لا تعد مستقلةً بنفسها، فليُعتقد كونُها تابعةً، وإن كانت لا تبقَى وتنتثر، لا خلاف في ذلكَ.

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) ر. مختصر الطحاوي: 78، اللباب: 2/ 495، الاختيار: 2/ 6.

ولو كانت الأوراق مقصودةً، كأوراق شجر التُوتِ، فإنها تُقطع لدُودِ القَزّ، فقد قال العراقيون: قال أبو إسحاقَ: الأورَاقُ الباديةُ كالثمار الظاهرةِ، فإذا أطلق بيعُ الأشجار، بقيت الأورَاقُ للبائع، اعتباراً بالثمار الظاهرة. وقال غيرُه من الأصحاب: إنها تتبع الأشجارَ بمطلق التسميةِ، طرداً لما قدّمناه من الأصلِ في أوراق الأشجار، من غير نظر إلى تفاصِيلها. ولم يختلف علماؤنا في أن شجرة الخِلاَفِ (1) إذا بيعت، دخلت أغصانُها التي تُقطع عادةً، وتُخلَفُ تحت مطلق البيع، فإن تيك الأغصان من جِرْم الشجرة. فكأنا نتخيَّل مراتبَ مرتَبةً: منها في جرم الشجرة، وهو داخل تحت مطلق البيع؛ فإن اسم الشجرة صريح فيما هو من جرمه، وإن كان يُقطع فيُخلَف. والمرتبةُ الأخرى الأوراق، وهي تكاد تكون كالجرم في الاعتبار، وإن لم تكن من جِرم الشجرة في الخِلقة؛ من حيث إنها تظهر وتنتثر، ظُهورَ الثمار والأزهار، فهي ملحقة بما هو من جرم الشجرة، إلا إذا كانت بحيث تُقصدُ وتنتَحى، كما تُقصد الثمار، فإن كانت كذلك، ففيها خلاف أبي إسحاق. والجماهيرُ على إلحاقها بجنس الأوراق. والمرتبةُ الأخرى في الثمار، وليست هي من [جِرم] (2) الأشجار، ولا تُعدُّ تابعةً كالأغصان، فالقول فيها ينقسم إلى الظهور والكُمون، كما سَبقَ تفصيلُه. وكان شيخي أبو محمدٍ يقول: إذا أبَّر الطلعَ وحكمنا ببقائه للبائع، فجِرم الكِمام للمشتري؛ فإنه يُترك على النخلة. فرع: 2998 - ذكرنا أن الكُرسفَ (3) الحجازيّ كالنخلة، فإن أصول الكُرسفِ في الحجاز أشجارٌ تبقى على مكرِّ السنين، ويعتقب القطنُ عليها اعتقابَ الثمار، والقُطن في بلادنا زرعٌ، فلا يجوز بيعُه مع استبقاء الكرسُف؛ فإن أصله ليس باقياً، وسنقرر هذا في الزروعِ، وإنما نبَّهتُ عليهِ الآن حتى لا يلتبس ناجزاً.

_ (1) الخلاف: شجر الصفصاف. (2) مزيدة من (هـ 2). (3) الكرسف: القطن. والمراد هنا نوع خاص من القطن وصفه الإمام.

فصل قال: "ومعقولٌ إذا كانت الثمرةُ للبائع أن على المشتري تركَها ... إلى آخره" (1) 2999 - إذا باع الرجل شجرة وعليها ثمارٌ ظاهرةٌ، والبيع مطلق، فالثمرةُ للبائع، ولا يُجبَر على قطعها قبل أوانها، وحكم البيع اختصاصُ المشتري بملك الشجرة، وبقاء استحقاق التَّبْقية للبائع إلى أوان القطافِ، فبقي للبائع ما كان له من حق التبقية. وورُود استحقاق المشتري على هذا الوجه على رقبة الشجرة. وكذلك لو باع الرجلُ ثماراً مُزهيةً على أشجاره، على ما سنصف ذلك في بابه، فالمشتري يُبقي الثمارَ إلى أوان القطع، إذا جرى البيع في حالة الزَّهو. 3000 - فإذا تبيّنَ هذا عدنا إلى غرَضِنا من المسألة. فإذا بقيت الثمرةُ للبائع، وجَرى ملك المشتري على رقبةِ الشجرة، فللبائع أن يسقي الشجرةَ التي باعها، إذا كان السقيُ لا يضرّ بالشجرة، وينفع الثمرةَ. وليس للبائع أن يكلِّف المشتري السقيَ، لتنمو ثمارُه؛ فإن المشتريَ لم يلتزم تنميةَ الثمار، وإنما عليهِ تركُها إلى أوانِ جِدادها. نعم من الوفاء بتركها أن يمكِّن البائعَ من تنميتِها؛ إذْ لو منعه منه، لفَسدت الثمارُ، وأدَّى هذا إلى اضطراره إلى القَطعِ قبل أوانه، أو إلى فساد الثمارِ، فإذن على المشتري أن يمكنه من السقي. وإذا باع الثمارَ المزهيةَ فمؤنةُ السقي إلى الجِداد على بائع الثمار، كما سَيأتي ذلك في بابها، والقدْرُ الناجزُ الآن أن السقيَ من تمام التسليم، وكأنه التزمَ تسليمَ الثمار تامَّة، ومن هذا نشأ اختلاف القول في الجوائح ووضعِها، كما سيأتي ذلك في بابها إن شاء اللهُ تعالى.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 162.

3001 - فإذا باع الأشجارَ واستبقَى الثمارَ، ولو سقَى الأشجارَ، لتضرَّرت، وتعرَّضت لعلّةٍ تنالُ الأشجارَ من السَّقي، ولو تَركَ السقْيَ، لانتقصت الثمارُ، أو فسَدَت، فالطُرُقُ مضطربةٌ في هذا المقامِ. ونحن نجمع حاصل أقوال الأصحاب. فمن أئمتنا من يرعَى جانبَ المشتري، مَصيراً إلى أن بائع الشجرة التزمَ تسليم الشجرة على كمالها للمشتري، وكل ما يؤدي [إلى] (1) تنقيصِ الشجرة، فهوَ نقيضُ الوفاء بموجب العقد. ومن أصحابنا من قال: للبائع أن يسقي إذا كان ينتفع ولا يبالي بتضرر المشتري. وهذا حكاه العراقيون عن ابن أبي هريرة، ووجهه أنه استحق تبقيةَ الثمار، لا على الفساد. فكأنه استحق تنميتَها، والبيعُ لم يَرِد إلا على هذا الموجَب. وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً عن أبي إسحاقَ المروزي، وذلكَ أنه قالَ: إذا تعارض حقاهما، نُظر، فإن رضي أحدُهما بترك حقِّه، فذاك. وإن تدافَعا وتمانعا، فسخ القاضي العقدَ بينهما. وحقيقةُ الأوجُه تؤول إلى أن من أصحابنا من يرعى جانبَ المشتري، ومنهم من يرعى جانبَ البائع، ومنهم من لا يقدّم أحدَ الحقَّين على الآخر. ثم من ضرورة استواء الحقين إذا كانا متناقضَين، ولم يكن أحدهما أولى من الثاني، أن يُفسَخ العقدُ بينهما. 3002 - ولو كانت الثمار لا تحتاج إلى السقي، بل كانت تتضررُ به، وكانت الأشجار لا تتضرَّرُ بالسقي، فالخلاف يعود على النحو المتقدِّم. فمن أصحابنا من رَاعى جانب المشتري، ومنهم من راعى جانب البائع، ومنهم من لم يُقَدِّم أحدَهُما على الآخر. ثم موجَب ذلك الفسخ، كما ذكرناه. ومن الصُوَر الملتحقةُ بما ذكرناهُ أن البائع لو أمكنهُ أن يسقي، ولو سقى، لانتفعتِ الشجرةُ والثمرةُ، ولو امتنع من السقي امتصَّتِ الثمارُ رطوبةَ الأشجار، وأضرَّت بها، فإذا كان السقْيُ ممكناً، فالبائع مُجبرٌ من جهة المشتري على أحد الأمرين: إما أن

_ (1) مزيدة من (هـ 2).

يسقي، وإما أن يقطعَ الثمارَ إذا كان يضُرُّ بقاؤُها. فلو لم يجد البائع الذي بقيت الثمارُ له ماء، ولو أبقى الثمرةَ، لانتفعت الثمرةُ وتضررت الشجرةُ، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يُجبر على القطع؛ فإنه إنما يملكُ التَّبْقِيَةَ على شرط دفع ضررِها عن الشجرة، فالتبقيةُ إذن مشروطةٌ بما ذكرناه، فإذا تخلف الشرطُ، لم يثبت المشروط. والوجه الثاني - أن الثمرة تبقى؛ لأنها تنتفع بالتبقيةِ، وإنما على البائع أن لا يترك مجهوداً يقتدر عليه، فإذا انقطع الماءُ، فلا تقصيرَ من البائع، وحقّ التبقيةِ قائمٌ له. والوجهان يشيران إلى ما قدمناه الآن من أن المراعَى جانبُ المشتري أو جانبُ البائع. ولم يقع التعرضُ لاستواء الحقين، ولا بُدَّ من هذا الوجه، ثم موجَبُ استواءِ الحقين الفسخُ، كما ذكرناه. [وما ذكرناه] (1) من التردد في قدر حاجةِ الثمرة، فأما ما يزيد على الحاجة، ويضر بالشجرة، فهو ممنوعٌ. وتمام البيان في هذا أن أهل البصيرة، لو قالوا: الثمرةُ لا تفسد بترك السقيِ، بل تسْلَمُ الثمرةُ من غير سقي [غير] (2) أنها لو سُقيت، لظهرت زيادة عظيمة، والشجر يتضررُ بها، فهذا فيه احتمالٌ عندي، يجوزُ أن يقالَ: يُمنع البائعُ من هذا السَّقْي؛ فإن الزياداتِ في نهايتِها لا تنضبط، فالمرعيُّ الاقتصاد. ويجوز أن يقال: له أن يسقيَ لمكان هذه الزيادة، على مذهب من يرعى جانبَ البائع؛ فإنّ هذه الزيادة تحصلُ بالسقي، ولو ترك السقيَ، لفاتت، ومن يراعي الاقتصادَ في الاحتمال الأول، لم يكتفِ بأن لا تفسدَ الثمرةُ، بل انتقاصُها عن القصد، والمسلك الوسط آفةٌ في القدر المنتقص. فهذا بيان المذهب في ذلك.

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) ساقطة من الأصل.

فصل قال: " وإن كانت الشجرةُ مما تكونُ فيه الثمرةُ ظاهرةً ... إلى آخره " (1). 3003 - نذكر في هذا الفصل صورتين: إحداهما - لم يذكرها المزني، وبها البدايةُ، فنقول: إذا اشترى رجلٌ ثماراً على الأشجار، ثم لم يقطعها حتى أخرجت الأشجارُ ثماراً زائدة، لم تكن حالةَ البيع، فلا شَك أنها للبائع، وسبيلُ التقسيم أن نقول: ذلك التلاحق والتجدد لا يخلو إما أن يكون في ثمرة تتلاحق غالباً، وإما أن يكون في ثمرة يَنْدُر فيها التلاحق. فإن اتفقَ في ثمرةٍ لا تتلاحق غالباً، ولكن اتفق فيها التلاحق، فإن أمكن التمييز، فلا إشكالَ، وإن عسُرَ التمييزُ، واختلط الزائدُ المتجدّدُ بالمبيع الذي كان موجوداً، فلا يخلو إما أن يتفق ذلك قبل التخليةِ بين المشتري وبين الثمار، وإما أن يتفق بعد التخليةِ بينه وبينها. فإن جرى الاختلاطُ قبل التخلية، وعَسُر التمييزُ فنقول: في أصل المسألة قولان: أحدهما - أن البيع ينفسخ، والثاني - لا ينفسخ. التوجيهُ: من قال بالانفساخ، تعلق بتعذرِ اجتلافِ (2) المبيع، واليأسِ من التمكن منه على موجَب العقدِ، فأشبه ذلك تلفَ المبيع، وسنذكر في باب الخراج أن من باع دُرَّةً، فسقطت من يده في لُجّة البحرِ، وأَيِسَ من إصابتها؛ فإن ذلك ينزلُ منزلة التلف المحقق. والقول الثاني - أن البيع لا ينفسخ؛ فإن عين المبيع قائمةٌ والتصرف فيها ممكنٌ على الجملة، وليس يتعذر رفعُ المانع، كما سنبيّن في التفريع. فإذا قلنا: البيع ينفسخ، فلو قال البائع: أنا أسمحُ بحقي وأبذله للمشتري؛ قيل

_ (1) ر. المختصر: 2/ 163. (2) " اجتلاف " بالجيم: من جلفه جلفاً إذا قشره وكشطه، وقلعه واستأصله. (معجم)، والمراد هنا تعذّر فصل المبيع وقطعه وحده.

له: لا أثر لهذا، والتفريع على قول الانفساخ، وهو حكم نافذٌ لا يستدركُ بعد نفوذِه بتقدير بذل، وهذا لا خفاء به. وإن قلنا: البيع لا ينفسخ، فلا شك في ثبوت حق الخيار؛ فإن تعذر التَّسليم بإباق العبد المبيع وغيرِه يثبتُ الخيارَ للمشتري. فلو قال البائع: أسمح بحقي، فلا تفسخ، فقد قال الأصحاب: على المشتري أن يقبل ذلك، ويمتنع عليه الفسخ، وشبّهوا هذا بمسألة النعل (1) وسنذكرُها في باب الخراج. وتلك المسألةُ ليست خالية عن الخلافِ، وهذه التي نحن فيها أولى بالخلافِ من تلك؛ فإنَّ إلزامَ المشتري تطوُّقَ مِنّةِ البائع فيهِ بُعدٌ، وفي هبة المجهول غوائلُ، وستأتي مسألةٌ في كتاب الصيود يَحارُ فيها نظرُ الفقيهِ، وهي إذا اختلَطت حمامةٌ بحمام برج، فكيف الخلاصُ منها إذا عسُر التمييز؟ فالمسألة الآن مختلَفٌ فيها. فإن أجبرنا المشتري سقط خيارُه، وإن لم نجبره، فهو على تخيره. وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً في المسألةِ، وهو: أن العقدَ لا ينفسخ، ولا خيارَ ونجعلُ الاختلاطَ قبلَ القبض، بمثابة الاختلاط بعده. وإذا فُرِض اختلاطُ مِلكَين مع الجهالة في المقدار، فالأمر موقوفٌ إلى البيان إن أمكن، أو المفاصَلة بمُصالحةٍ، أو مخاصمةٍ، تفصل بطريقها. وهذا قولٌ بعيد؛ فإنّ تعذُّرَ التسليم في القدر المبيع ثابت، ولو لم يطرأ إلا تغيُّر المبيع أوّلاً، وخرُوجه عن التعيّن آخراً، لكان ذلك كافياً في إثبات الخيار. 3004 - وكل ما ذكرنا إذا جرى التلاحق والاختلاط قبل التخلية، فأما إذا خلّى البائعُ بين الثمارِ وبين المشتري، فجرى الاختلاطُ، فهذا يُبنَى على أن الثمار لو تلفت بعد التخلية بجوائحَ، فهي من ضمان البائع، أو من ضمانِ المشتري؟ وفيه اختلافُ قولي سيأتي في بيع الثمار، فإن قلنا: هي من ضمان البائع، فالاختلاط بعد التخلية لا يُوجب انفساخاً، ولا يثبت خياراً، ويكون ما جرى بمثابة ما لو اشترى رجل حنطةً

_ (1) مسألة النعل هي أن يُنْعل الحصان الذي اشتراه مثلاً، ثم يطلع على عيب قديمٍ فيه، فإذا أراد ردّه، فكيف التصرف في النعل؟ إذا كان خلعه سيُعقِب عيباً يمنع الرد. وستأتي في فصل قريب معقود في موضوع من اشترى أرضاً، ووجد فيها حجارة مودَعة بها.

وقبضها، ثم انثالت عليها حنطةٌ للبائع، فلا وجه إلا المخاصمةُ، أو التوقفُ، أو المصالحةُ. ولا اختصاص لهذا الفصل بما نحن فيهِ، ولا ينبغي أن يَظن الناظِرُ -إذا انتهى إلى هذا الموضع- أنا نقتصر في بيان هذا المشكل على هذا، وإذا انتهينا إلى مسائلِ الصلحِ، أتيتُ في هذا بأشفى بيان وأكملِه. 3005 - وهذا كُلّه كلام فيهِ إذا كانت الثمارُ مما تتلاحقُ على ندور، فأما إذا كانت تتلاحق لا محالة في المُدة التي يُبقي المشتري الثمرةَ فيها، كالتين وغيره، فالكلام يقع في هذا الفصل في صحة العقد. فإذا اشترى ثماراً مزهيةً على شرط التبقية، فقد قال العلماءُ: إذا كانت تتلاحقُ، فالبيع باطلٌ؛ فإنه عقدَهُ على وجهٍ يتعذرُ فيهِ تَسليمُ المبيع، وكان بمثابة ما لو اشترى عبداً آبقاً. وذكر العراقيون قولاً بعيداً أن البيع موقوف، فإن سمح البائعُ [ببذل حقّه] (1) تبيناً انعقادَ العقدِ، وإن لم يسمح تبينَّا أن البيع غيرُ منعقد في أصله. وهذا قول مزيّفٌ لا أصلَ له، وهو بمثابة المصيرِ إلى وقف بيعِ العبدِ الآبقِ على تقديرِ فرضِ الاقتدارِ عليه وفاقاً (2). فإن طردوا هذا، فإنه على فسادهِ مطردٌ، وما أراهم يقولون ذلك. فإن أراد من يشتري الثمار المتلاحقةَ أن يصحَّ العقد، فليشترط القطع، وإذا فعل ذلك، صحَّ العقدُ؛ فإنّ القطعَ ممكن قبل الاختلاط، وفاءً بالشرط، ثم إذا صح العقدُ، وتأخر القطعُ، واختلطت الثمارُ، فالقول في هذه الصورة كالقول فيه إذا كان الاختلاطُ مما يندُر، ولكنه اتفق على ندور، فالقول قبل التخلية وبعدها كما مضى حرفاً حرفاً. وكل ذلك كلام في صورة واحدة لم يذكرها المزني. 3006 - فأما الصورة الثانية، وهي التي ذكرها المزني، فهي أن يبيع. الرجلُ

_ (1) سقط من الأصل. (2) كذا في النسختين، وواضح أن في الكلام سقطاً، تقديره: " وهو باطلٌ " وفاقاً.

الأشجارَ، وعليها ثمارٌ بقيت له، فلم يقطُفْها حتى أخرجت الأشجارُ ثماراً للمشتري، واختلطت بالثمار التي كانت للبائع، وقد اختلفَ أصحابُنا على طريقين: منهم من قال: لا ينفسخ العقد في هذه الصورة، ولا يثبت الخيارُ للفسخ؛ فإن [المبيع] (1) لم يختلط، وإنما الاختلاط في زائدٍ غيرِ معقودٍ عليه. ولو اشترى رجل أشجاراً، وتجدَّدت ثمارٌ في يد البائع، وعابت، والمبيع في يد البائع، فلا خيار للمشتري بعيب الثمار، وهذا هو القياس الذي لا يسوغ غيرُه. وهذا القائل يغلّط المزني في النقل، وينسبُه إلى الإخلال بالتصوير، ويقول: صورة مسألة الشافعي [هي] (2) التي انتجزت الآن، فنقل المزني التصويرَ إلى بيع الأشجار، وهو في بيع الثمار. ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الصورة الأخيرة في الانفساخِ وخيارِ الفسخ، كما مضى. ويزعم أن الثمار وإن لم تكن مبيعةً، فهي من حق الشجرة المبيعة؛ فإن المشتري إنما ملك الثمارَ بملكهِ الأشجارَ، ومِلْكُ الأشجارِ ثبت بالعقد. وهذا القائل يفصل بين صورة الاختلاط، وبين تعيُّب الثمارِ المتجددةِ في يد البائع. فنقول: الاختلاطُ سببُه بقاءُ ثمرةِ البائع على الأشجارِ، وعلى البائع في الجملة تخلية المبيع للمشترِي، فقد حصَل الاختلاط بسبب ما استبقاه البائع لنفسهِ، ولَعلّنا نذكر ما يُداني هذا في باب الخراج، عند ذكرنا مسيسَ الحاجَةِ إلى قلع باب الدار المبيعة، لنقل ما فيها من أمتعة البائع، وأن الخيار هل يثبت بهذا السبب؟ ويقرب منه نقلُ الأحجار المودَعةِ في الأرض. فهذا منتهى القول في الصورتين. 3007 - وتكلم الأصحاب وراءهما في شيء لا اختصاص له بالمسألة، ولكنا نذكره على ترتيب ذكر الأصحاب. فنقول: من اشترى حنطةً، واستوفاها، ثم اختلطت بها حنطةٌ أخرى للبائع بعد

_ (1) في الأصل: امتنع. (2) مزيدة من (هـ 2).

القبض، فالقولُ في القدْر المختلِط قولُ المشتري إذا نازعه البائع، والسبب فيه أن اليدَ للمشتري، فإذا زعمَ أن المختلِط صاع والباقي لي، فالقولُ قولُه مع يمينهِ. ولكن سبيله في الخصومة ألا يتعرضَ للبيع؛ فإنه إذا ادّعى بيعاً في الصاعين، فسينكره البائع، ثم يرجع الكلام إلى اختلافِ المتبايعين في قدْر المبيع. وإن اتفق الاختلاطُ قبل التسليم، وقلنا: لا ينفسخ البيع، ولم يفسخ أيضاًً، فالقول قول البائع، في القدر الذي باعه؛ فإن اليدَ له، فيبقى البيعُ فيما يذكره، ويده مستمرة عليه. وإن جرى هذا الاختلاف في الثمرة؛ فإن لم يخلِّ بين المشتري وبينها، فصاحب اليد هو البائع، فلا رجوع إليه، ولو خَلَّى بين المشتري وبين الثمار ولم يقطُف بعدُ، فقد اختلف أصحابنا في أن اليد لمن في هذه الحالة؟ وهذا الاختلاف مبنيّ على القولين في وضع الجوائح. وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً ثالثاً في اليد، فقال: الثمارُ في أيديهما؛ فإنه يتعلق بهما: السقيُ على البائع، والتصرف نافذ من المشتري في الثمار بعد التخلية، فاقتضى ذلك ثبوتُ أيديهما على التساوي، وإذا ثبت حكم اليد، فقد ذكرنا حكمَ ما قبل القبض وبعده، وحكمُ يد البائع، ويدِ المشتري. ولو اعترفا -والاختلاط بعد القبض مثلاً- بالالتباس، ورضيا بألاَّ يُفسخَ العقدُ، رجع الكلام إلى الوقف، والاصطلاح. وسنوضحه في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى. 3008 - ومما يتعلق بهذه الجملة أن من باع جِزَّةً من القُرْط (1)، فينبغي أن يشترط في البيع القطعَ؛ فإنه يتزايد، فلو فعل ذلك، ثم لم يتفق القطعُ، حتى زاد القُرْط زيادةً بيّنة، فالذي حدث من جهة الأرض طولاً زيادة لا يستحقها المشتري (2)، فالتفصيل

_ (1) الجِزّة: صوف شاةٍ في سنة، والمراد هنا المرّة من حَصْد القُرْط. والقُرط نبات عشبيٌّ حَولي كلئي، وهو يماثل البرسيم (معجم). (2) ر. الأم: 3/ 59. باب بيع القصب والقُرط.

فيها كالتفصيل في الثمار إذا اختلطت، في الفسخ والانفساخ. وذكرَ العراقيون عن بعض الأصحاب المصيرَ إلى أن البيعَ لا ينفسخ في هذه الصورة، ثم زيّفوا ذلك، واحتجوا بأن تلك الزيادة لا يجبُ على البائع تسليمُها، وإذا لم يجب تسليمُها وتعذر تمييزُها، فلا وجه إلا إلحاقُها بالثمار. ولست أرى لما حَكَوْه وجهاً. ولكنا في هذا الكتاب الحاوي لا نجد بُدّاً من ذكر ما ذكره الأئمةُ في التصانيف المشهورة، فالوجه أن نذكر الوجوه الفاسدة، وننبه على فسادِها، وإن أمكن توجيهٌ على بعدٍ أتينا به، ولعل الممكن فيه أن الزيادةَ بدت في القُرْط من جهة الجزّ فهي معلومة، والاختلاطُ لا يتحققُ تحقُّقَه في الثمار. وهذا غير سديد. وقد نجزَ الفصل بما فيه. فصل قال: " وكل أرضٍ بيعت فللمشتري جميع ما فيها ... إلى آخره " (1). 3009 - ظاهر نص الشافعي هاهنا أن من باع أرضاً، وذكر في البيع اسمَ الأرض، أو الساحة، أو العَرْصة أو البقعة، فيندرج تحت مطلق هذه الألفاظِ البناء والغراس. ونصَّ الشافعي في كتاب الرهون على أن رهنَ الأرضِ باسمِها، لا يتناول ما فيها من بناءٍ وغرسٍ، ومن أصحابنا من أجرى القولين في البيع والرهنِ. أحدهما - أن البناءَ والغراس يندرجُ؛ لأنها إذا اتصلت بالأرضِ عُدّت من أجزائها، فاستَتْبَعتها استتباعَ الدور حقوقَها، وإن لم يجر لها ذكر. والقول الثاني - أن الأبنيةَ والغراسَ لا تدخل في البيع والرهن. هذا هو الأصح؛ فإن البيعَ معقودٌ باسم الأرضِ، وليس البناء، ولا الغِراسُ، مما يتناوله اسمُ الأرض. ومن أصحابنا من أوّل ما ذكره الشافعي هاهنا، وقال: أراد إذا زاد البائع على اسم

_ (1) ر. المختصر: 2/ 165.

الأرضِ في صيغةِ العقد، فقال: بعتُكَ الأرضَ بحقوقها؛ فإن المعقودَ عليه هو الذي يُسمَّى في العقد. كما قرَّرناه. وهذا يتضمن نسبةَ المزني إلى الإخلالِ في النقل، والاختصار على بعض لفظ صاحب المذهب. وذهب بعضُ الخائضين في المذهب إلى تقرير النصَّيْن في البيع والرهن، والمصير إلى أن البيع يستتبع البناءَ والغِراس، بخلافِ الرهن، واعتمد هؤلاء في طلب الفرقِ قوةَ البيعِ وتضمنه إزالةَ الملك، بخلافِ الرهن، وهذا بالغٌ في الضعف؛ فإن المتبع الاسمُ في المزيل وغيرِ المزيل، والقويّ والضعيف. والصحيحُ الجاري على القاعدة اتباع الاسم، ونسبةُ المزني إلى الإخلالِ بالنقل. ويلي ذلك طريقةُ القولين، ومحاولةُ الفرق ظاهر السقوط. وإن جرينا على اتباع الاسم، فلو قال العاقدُ: بعتك الأرضَ بحقوقها، فمن أئمتنا من ذهب إلى أن البناء والغِراسَ لا يدخلان بهذا اللفظ أيضاًً؛ فإن الحقوق مجملةٌ والمعنيُّ بها في تفاوض أهل العُرف: مجرى الماء، ومَطْرحُ التُراب، والممرُّ، وما أشبهها. ومن أئمتنا من صار إلى أن لفظَ الحقوق يحتوي على الغِراس والبناء. وهذا أشهر. والأول أقيسُ. ولما ذكرناه التفاتٌ إلى أصل نذكره في باب الخراج، وهو أن أجزاء البناءِ بالإضافة إلى الدارِ تنزل منزلةَ الصفاتِ، أو كلُّ جزء من البناء يُقدَّر مبيعاً، حتى يسقطَ قسطٌ من الثمن بتلفه. 3010 - ومن مقاصدِ الفصلِ أن الرجل إذا قال: بعتُك هذه الدارَ، فالأصل أن كل ما يعدُّ جُزءاً من الدار، فاسم الدار يتناوله، والبيع يَرِدُ عليهِ، ثم هذا يفصّل بالثبوت ونقيضه، فكل ما ليس مثبتاً في الدار، فهو من الأقمشة (1) وليست مندرجة تحت اسم الدّار، واستثنى صاحب التلخيص مفتاح الدار؛ فإنهُ منقولٌ، والبيع يتناوله.

_ (1) الأقمشة: الأمتعة: جمع قُماش. وقماشُ البيت متاعه. (معجم).

وقد اختلف أصحابنا في ذلك: فساعده بعضُهم، واعتلَّ بأن تسليم الدار مستحق، وإنما يتم التسليمُ بتسليم المفتاح، والأغلاقُ (1) من الدار، فتستتبع المفتاحَ، فإن المفتاح إنما يُعنَى للأَغْلاق. ومن أصحابنا من قالَ: لا يدخل المفتاحُ تحت البيع؛ فإنهُ منقول غيرُ معدودٍ من أجزاء الدار، ولئن عُدَّ من مصالح الدار، كان بمثابة المكانسِ، والمساحِي، والمجارِفِ، وغيرها. هذا قولُنا في المنقول، وسيلتحق بهذا الفصلِ طرفٌ من مسألةٍ سنُنبّه عليها في القسم الثاني. 3011 - فأما الثوابت في الدارِ فتنقسم إلى ما يثبَّتُ تَتِمَّةً لبناءِ الدار، وإلى ما يَثبَّت والغرضُ من إثباته ألا يتحركَ في الاستعمال، كالأجَاجين (2) والأَرْحِيَةِ، فأما ما أُثبتَ ليُعَدّ من الدار، ويستكملَ به بناؤُها، فلا شك في دخولها، وما أُثبت كي لا يتزعزَعَ، فمنه الطاحونة. وحاصل ما قاله الأصحاب ثلاثةُ أوجُهٍ: أقيسُهما - أن الحجرين الأعلى والأسفل (3) لا يدخلان في البيع؛ فإنهما لا يعذان من أجزاء الدّار، وإن جرى إثباث في الأسفل، فليس هو ليلحقَ بأبنية الدار، وإنما هو لغَرضٍ في الاستعمال. والوجه الثاني - أنهما يدخلان، أما الثابت، فيدخل لثبوته، ثم يستتبعُ الحجرَ الأعلى، كما تستتبعُ الأَغلاقُ المفتاحَ. والوجهُ الثالث - أن الأسفل يدخل لثبوتهِ، كما يدخل [أيُّ] (4) حجرٍ آخرَ يُثبَّت في عرْصةِ الدار، وصورةُ الثبوت لا تختلف، والقصودُ لا معوَّل عليها، والأعلى لا يدخل؛ لأنه من المنقولات، والاستتباعُ باطل هاهنا؛ فإنه لا يتحقق ما لم يتقرر

_ (1) الأغلاق: جمع غَلَق، ما تغلق به الدار، وتفتح الأغلاق بالإغليق، وهو المفتاح (معجم). (2) الأجاجين: جمع إجّانة: آنية تغسل فيها الثياب. (3) إشارة إلى حجري الطاحونة، فأحدهما يكون مثبتاً، والآخر يدور فوقه، والحبوب بينهما تطحن. (4) زيادة اقتضاها السياق. حيث قدرنا سقوطها من النسختين.

في الحجر الأسفل مقصودُ الأَرْحية، وهذا يُخرجه عن جُزئية الدار، وعما ذكرناه من صورة ثبوت الحجر، وليس كذلك الأغلاق؛ فإنها تعني إغلاقاً، وتُعد مع هذا المقصود من أجزاء الدار، ثم الغَلَق دون المفتاح لا خير فيه، فكان الاستتباعُ متَجِهاً فيه. وأما الإجانة المثبتةُ، فقد قال الأصحاب: القول فيها كالقول في الحجر الأسفل المثبت من الطاحونة؛ فإنََّ إثباتَ الإجَّانة ليس لإلحاقها بأبنية الدار، وإنما هو لغرضٍ في الاستعمال كما تقدم. ولو اتخذ الرجل من داره مدبغةً وأثبت فيها أجاجين يمعَسُ (1) فيها الأُهب، نُظر: فإن قال: بعتُك الدارَ، ففي دخول الأجاجين خلاف مرتَّب على الصورة الأولى، والأجاجين أولى بالدخول إذا ظهر قصدُ البائع والمشتري. وإن قال: بعتُ منك هذه المدبغةَ وفيها أجاجين مثبَّتَةٌ، فلا شك في دخولها؛ فإن اللفظ مُصرّحٌ بها، فهو كما قال: بعتُك هذه الطاحونةَ، فالحجرُ الأسفل يدخل لا محالةَ، وفي الحجر الأعلى خلاف، والأظهرُ دخولُه، وهو أوْلى من المفتاح بالدخول؛ فإن الطاحونة تتعرض باسمِها للطحن، والطحنُ لا يقعُ إلا بالحجر (2). فهذا هو الذي لا يتجه غيرُه. والرفوف في الدار منقسمة، فمنها ما أُثبتت مع الدار جُزءاً منها، وتتمةً لمرافقِها، فما كان كذلكَ، فهو داخلٌ تحت اسم الدار، وما يُبنى لوضع شيء عليه، كالخيوط التي تمدد لوضع الثيابِ عليها، فالمنقولُ منها لا يدخل كسائرِ الأمتعةِ. وما أُثبت بالمسامير حتى لا يتزعزعَ، فهو كالإجانة. والحجر الأسفل من الرحا، والسُلَّم المنقول من أمتعة الدار، وما أُثبت للبناء، فهو من الدار، كالمراقي المبنِيَّة من الطوب والجِصّ، وأما السلاليم المثبتة بالمسامير، فهي كالأجاجين، ومراقي الخشب إذا أثبتت إثبات تخليد، فهي على الأصح كمراقي الآجُر والجصق، بخلاف السلاليم. فإن قيل: إذا فرَّعْتُم على أن اسم الأرض يتناول البناء، والغِراس، فما قولَكُم في

_ (1) يمعس: يدلك: معسَ الشيء يمعَسُه معساً: دلكه دلكاً. يقال: معسَ الأديم ليّنه في الدباغ. (معجم). (2) كذا في النسختيِن. ولعلها: "بالحجرين".

الأجاجين المثبتةِ، والحجرِ الأسفل من الرحا والسلاليمِ المسمّرةِ؟ قلنا: الاختلافُ يجري وإن وقع التفريع على القول الضعيف؛ لأن مأخذَ الخلاف من إلحاق هذه الأشياء بالمنقولات، ورد إثباتها إلى غرضٍ آخرَ يخالف البناء. 3012 - ولو قال: بعتك هذه الدارَ، وفيها أشجار، فحاصل ما قاله الأئمةُ أوجه: أحدُها - أن الأشجار لا تدخل، والتفريعُ على الأصح، وهو اتّباع الاسمِ، وذلك أن الأشجار ليست من أركان الدار. والوجه الثاني - أنها تدخل، واسم الدار يشملها، والدورُ منقسمةٌ، فمنها ما يَعْرَى عن الأشجار، ومنها ما يشتمل عليها. ومن أصحابنا من قال: إن بلغت الأشجار مبلغاً يُجوّزُ تسميةَ الدار بستاناً؛ فإنها لا تدخل في اسمِ الدارِ، وإن لم تبلغ الأشجار مبلغاً يُكسبُ الدارَ اسمَ البستان، فهي داخلةٌ. وهذا أعدل الوجوه. ولو قالَ: بعتُك هذا البستانَ، فلا شك في دخول أشجارها تحت الاسم، وتردد جوابُ الأئمة في دخول البناء، فمال بعضُهم إلى أنه لا يدخل، وقالَ الأكثرون: إنه داخل. والبناءُ عندي بالإضافة إلى البستان كالشجر بالإضافةِ إلى الدار. ولو قالَ: بعتُكَ هذه القرية، فلا شك في دخول دورِها، وأبنيتها، ومزارعها، تحت البيع. وذكر العراقيون في دخول أشجارِها تحت البيع قولين إذا لم يقع لها تعرض، وهذا الذي ذكروه أبعدُ من التردّدِ في أشجارِ الدارِ؛ من جهة أن الأشجارَ مألوفةٌ في القُرى، ولا تستجدّ القريةُ بالأشجار اسماً، والدار تستجدّ اسمَ البستان بكثرة الأشجار. ولو قالَ: بعتُكَ هذا البَاغَ (1) أو البستان، فقد كان شيخي يتردد بعض التردُّدِ في العُروش التي عليها الكروم، من جهةِ أنها ليست مخلَّدة، والوجه عندنا القطع بدخولها تنزيلاً على المعهودِ من اسم الكرْم، أو البستان، في مُطلق العُرفِ.

_ (1) الباغ: البستان.

وممَّا ذكرهُ العراقيون أن قالوا: من باع داراً وفيها بئر، فلا شك أن ما يحدثُ من الماءِ، فهو للمشتري، وأما الماءُ الذي كان موجوداً حالةَ البيع وهو جَمَّةُ (1) البئر، فلا شَكّ أنه من المنقولات، وليس من أجزاءِ الدار. فإن قُلنا: لا يُملك الماء، وإنما يُختصُّ به، من جهة احتواءِ ظرفه عليه، وامتناعِ التصرفِ في ظرفه دون إذنه، فإذا جرى البيع، فيصير المشتري أولى بالماء؛ فإنه لا حقَّ في عينه، وقد امتنع على الناس تخطي مِلكِهِ إلى الماءِ، وإن قلنا: الماءُ يملك، فقد قطع العراقيون بأن القَدْرَ الموجودَ في البئر حالةَ العقد ملكُ البائع، ولست أرى قياساً، ولا توقيفاً يخالف ما ذكروه. ولكن العادة عامة في المسامحة به. فإن نبا قلبُ ناظرٍ عن هذا فلذلك. ولو كان في الأرض معدن [عِدّ] (2) كالنِّفظ وغيره، فإذا باع الأرضَ، وفيها المعدِن، فما يتجدَّد بعد البيع للمشتري، وما كان تجمّع، فهو للبائع، ولا تردُّدَ فيه، بخلافِ الماءِ؛ فإن في الناس من قال: إنه لا يُملك. ونقل الصيدلاني أن الشافعي قال: إذا قالَ: بعتُك الدارَ وفيها حمَّامٌ، لم يدخل الحمامُ في البيع، [ونقل عن الربيع] (3) أنه قالَ: أراد الشافعيُ حمامات (4) الحجاز؛ فإنها بيوت من خشب، تُنقل وتحوّل، فأما إذا كان في الدار حمامٌ مبني، فهو من مرافق الدار، فيدخلُ تحت اسم الدار، ولا تعويل على اختصاص بعض الدور بالحمام، فإن هذا يجري في كثيرٍ من الأبنية، إذ قد توجد بعضُ الأبنيةِ في بعض الدور دون البعض.

_ (1) جمة البئر: ما تراجع من مائها بعد الأخذ منه، والمراد هنا الماء الذي كان في البئر عند البيع. (2) أولاً - كلمة عدّ مزيدة من (هـ 2). وثانياً - العِدُّ بكسر العين: الماء الجاري، الذي له مادهّ لا تنقطع، والكثرة في الشيء. والمعدِن هنا مكان استخراج المعادن، (كالمنجم). (3) زيادة من (هـ 2). (4) في (هـ 2) أقحمت كلمة (مكة) قبل كلمة (الحجاز).

فصل 3013 - من باع أرضاً مزروعةً، فللأئمة طريقانِ في صحة البيع في الأرض، بعدَ الاتفاق على أن الزرعَ لا يدخل تحت تسميةِ الأرضِ، فإنّ سبيلَه سبيلُ المنقولاتِ، وليس معدوداً من أجزاء الأرض، فإذا كان الزرع يبقى للبائع، ففي بيع رقبة الأرض طريقان: أحدهما -وهو الأصح- أن البيع صحيحٌ. ومن أصحابنا من خرّج بيعَ الأرض المزروعة على بقاءِ الزرعِ للبائع، على قولي بيع الدارِ المكراة، والجامعُ عند هذا القائلِ أن منافعَ الرقبة مستغرَقةٌ بالزرع حسَبَ استِغراقِها باستحقاقِ المستأجِر. والقائل الأول يفرق بين الأرض المزروعة، والمكراة. ونقول: إثبات اليد للمشتري على رقبة الدار المكراة غيرُ ممكن مع استمرار يدِ المستأجِر واستحقاقِه، وتسليمُ الأرض المزروعةِ إلى مشتريها ممكنٌ. ثم من اشترى أرضاً وعَلِمَها مزروعة، فلا خيار له، لإقدامه على العقدِ على بصيرة بحقيقةِ الحال. وليس له مع الفرض في العلمِ أجرةُ مثلِ الأرض، وكان منفعتَها مستثناة. وهذا بمثابة ما لو علم المشتري أن الدار مشحونةٌ بأمتعةِ البائع، ولا يتأتى تفريغُها إلا في زمنٍ لمثله أجرةٌ، فلا أُجرةَ للمشتري. ولو كان المشتري جاهلاً بكون الأرضِ مزروعةً، فإذا اشترى، ثم اطّلع، فله [الخيارُ، فإن فسخ، فلا كلام،] (1) وإن أجاز، فهل تثبت له أجرةُ مثلِ الأرض لمدة بقاء الزرع، فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدُهما - ليس له ذلك، لقدرته على الفسخ، فإن أجاز، فلا مرجع له، وهو كما لو اطّلع على عيبٍ قديم بالمبيع، وتمكَّن من الردِّ، فإن أجاز العقدَ لم يرجع بشيء من الأرش. والوجه الثاني - أنه يثبت [له] (2) أجر المثل؛ فإن هذا ضررٌ يلحقه فيما ليس معقوداً

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) ساقطة من الأصل.

عليه، وهو المنافعُ. ويرِدُ على هذا الضررِ أن المنافع تنزل منزلةَ نقصِ الرقبة في إثباتِ الخيار، فليَجْر حكمُ الرضا مجرى حكم الرضا في العيب. وسيأتي لهذا الخلافِ في الأجرة نظائرُ في الفصل الذي يلي هذا الفصل إن شاء الله تعالى. 3014 - ولو اشترى داراً وصادفها مشحونةً بأمتعة البائع، وكان لا يتأتى تفريغُها إلا في مُدَّةٍ، وما كان حسِبَ أن الأمرَ كذلك، فهل يثبت له الخيار، كما يثبت لو اطلع على الأرض، فصادفها مزروعة؟ المذهب ثبوتُ الخيارِ. ومن أصحابنا من لم يُثبتة، وصار إلى أن الغالب في العادة اشتمالُ الدارِ على أمتعةٍ، ثم إنها تفرَّغ، ثم لا ضبط لمقدار الأمتعة. والأصح الأول. والرجوع فيما يُثبت الخيارَ إلى ما يحتاج في نقله إلى مدةٍ يتعذّر فيها الانتفاع بالدار، وكان للمدة أجرة. ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن من اشترى داراً مشحونةً بالأمتعة، كما صوَّرنا فقد أطلق الأصحابُ القولَ بصحة البيع، وذكروا في الأرضِ المزروعةِ طريقين في صحة البيع، ولا شك أن القياسَ يقتضي التسويةَ بينهما؛ إذ لا فرق. ولكن المنقول ما ذكرناه، من تخصيص الخلاف بالأرض المزروعة. وإذا صححنا البيعَ في المزروعة، والدار المشحونة، فلو سلّم البائعُ الأرضَ وفيها الزرعُ، وسلَّم الدارَ وفيها الأمتعةُ، فقد ذكر أصحابنا وجهين في أن اليدَ هل تثبت للمشتري؟ أحدهما - أنها تثبت، وهو ظاهرُ المذهب؛ فإن الرقبة مسلَّمةٌ إليه، وإنما الاشتغال في المنافع. ومنهم من قال: لا تثبت اليدُ في الموضعين، ما دامت المنافعُ مستغرَقة بالأمتعةِ والزروع. ومن أصحابنا من ذكر وجهاً ثالثاً - فقال: اليدُ تثبت في الأرض المزروعة، دون الدار المشحونة. ولا يكاد يتضح الفرق. وما ذكرته من تنزيل الدار المشحونة منزلةَ الأرض المزروعة في القياس، يتأكد بما نقلته من الخلاف، في أن اليد هل تثبت للمشتري عليها أم لا؛ فإنه إذا كان يمتنع ثبوتُ اليد حُكماً، فالبقعةُ المبيعة مشبهةٌ بالدار المكراة، من جهة امتناع ثبوت اليد.

3014/م- ولو باع الأرضَ، وهي مبذورةٌ، ما نبتت بعدُ، فالبذر للبائع، ولا يدخل تحت مطلقِ البيع. ثم الكلام في صحة البيع وجميعُ ما ذكرناه في الأرض المزروعة، يعود حرفاً حرفاً؛ إذْ لا فَرْقَ. ولو باع الأرضَ المزروعةَ مع الزرع، فلا شك في صحة البيع، وانعقادِه عليهما. ولو باع الأرضَ المبذورةَ مع البَذْر الكامن فيها، فالأصح الحكم بفساد بيع البَذْر؛ لأنه مجهول مستتر، وهذا متَّضح على منع بيع الغائب. ولا يبعدُ الحكمُ بصحة البيع في البذر، على تجويز بيع الغائب، وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً آخر، وهو أن البيع صحيح -وإن منعنا بيع الغائب- إذا بيع مع الأرض، فيجري تصحيح البيع [في البذر] (1) على قياسِ التبعيّه. وقد يتبعُ الشيءُ في حكم، وإن كان لا يجوز أن يتأصَّل فيه. وإن قلنا: البيعُ في البَذْر صحيحٌ، فلا كلامَ، وإن قلنا: البيعُ فيه فاسِدٌ، ففي الأرض قولا تفريقِ الصفقة، على ما ستأتي مسائله. إن شاء الله عز وجل. 3015 - ثم ذكر بعض الأصحابِ جُملاً من الكلام في الزروع، وما يصح بيعُه، وما لا يصح، ولم أَرَ ذِكْرَها؛ فإني أستقصيها -إن شاء الله تعالى- في باب بيع الثمار قبل بدوِّ الصلاح وبعد بدوّه. والذي يليق بمنتهى كلامِنا منها: أن الزروع التي لا تُخلِفُ بعد الجَزّ حكمه بقاؤه للبائع في مطلق بيع الأرض. كما تقدم. ولو باع أرضاً، وفيها أصولٌ لبقولٍ مُخْلِفةٌ بعد الجَزّ، فقد قطع شيخي بأن تلك الأصول تدخل تحت مطلق تسمية الأرض؛ فإنها من الثوابت، وهي مخالفة للأبنية والأشجار؛ من جهة بدوِّها وظهورها، ومفارقتها الأرضَ في صفتها، وأصول البقول ثابتة كامنة، وكأنها من أجزاء الأرض. وذكر العراقيون والصيدلاني في دخولها تحت مطلق تسمية الأرض قولين: كالقولين في البناء والغِراس، كما مضى مفصلاً، وهذا هو القياس؛ إذ لا يلوح فرقٌ بينها وبين الغراس والأبنية.

_ (1) مزيدة من (هـ 2).

ولو باع أرضاً، وفيها أصلُ البقل، وكان قد ظهر شيء حالةَ البيع، فلا خلاف أن الظاهرَ باقٍ على استحقاقِ البائع، وله تلك الجزّة البادية. وفي الأصول من التفصيل ما ذكرته الآن. فصل قال الشافعي: " وإن كان فيها حجارةٌ مستودعة ... إلى آخِره " (1) 3016 - إذا باع رجلٌ أرضاً، وفي باطنها أحجارٌ، نُظر: فإن كانت مخلوقةً فيها، فلا شكَّ في دُخولها تحت البيع؛ فإنها من أجزاء الأرض المبيعة، وإن كانت تلك الأحجار مستعملةً في أساس بنيان، فسبيلها كسبيل الجُدرانِ وغيرِها من الأبنية، وقد تقدم القول في أن الأبنيةَ هل تدخل تحت مطلق اسم الأرض في البيع أم لا؟ وإن لم تكن مخلوقةً فيها، ولا مبنية، ولكنها كانت مستودعةً للبائع؛ فلا خلافَ أنها لا تدخل تحت بيعِ الأرض، وهي بمثابةِ ما لو أودع كنزاً في الأرض، ثم باع الأرضَ، فالكنزُ للبائع لا محالةَ، ثم التفصيلُ وراء ذلك. 3017 - فنقول: الأرض لا تخلو إما أن تكون مغروسة، وإما أن تكون بيضاءَ، لا غراسَ فيها، فإن كانت بيضاء، لم يخل الأمر من أقسامٍ، وحقُّها [أن] (2) تُفرض فيه إذا لم يكن المشتري عالماً بكونِ (3) الأحجار، فإذا كان كذلك، فمن الأقسام ألا تضرَّ تَبقيةُ الأحجارِ تحت الأرض، ولا يضُرّ بالأرض نقلُها أيضاًً، فلا خيار للمشتري؛ إذ لا ضرار كيف قُدّر الأمرُ. ولكن ذكر بعضُ المصنِّفين (4): أن البائع بالخيار، إن شاء نقل الأحجار، وإن شاء تركها؛ فإنه لا يلتحق بالمشتري ضررٌ، على أي وجهٍ صُوّرت الحال. وهذا غلطٌ لا يجوز عَدُّه من المذهب.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 165. (2) مزيدة من (هـ 2). (3) كون: كان هنا تامة. (4) نُذكّر بأن الإمام إذا قال: " بعض المصنفين " فإنما يعني به أبا القاسم الفوراني.

والذي قطع به الأئمةُ: أن للمشتري أن يجبر البائعَ على تفريغ أرضه، ونَقْلِ الأحجارِ منها، ولا تعويل على انتفاء الضِّرار، كما صوَّرناه، بل الأصل تمكن المالك من الإجبار على تفريغ مِلكهِ، والذي يوضح ذلك أن انتفاع البائع في التبقية ظاهرٌ، وربَّما يحتاج لو نقل الأحجارَ إلى موضعٍ يكتريه لينضدَ الحجارةَ فيه، فانتفاعُه بملك الغير، من غير إذنٍ واستحقاقٍ محالٌ، وقد يَعِنُّ للمشتري أن يضع مكان الأحجار أحجاراً لنفسه، فلا شك في وجوب القطع بأن المشتري لو أراد، أجْبرَ البائعَ على النقل. نعم، إذا استوى الأمران في عدم الضرار، فلا خيارَ للمشتري في فسخ البيع بسببه. 3018 - ولو كانت الأحجار تضرُّ بالأرض، ولكنَّ نقْلَها ودفعَ ضررِها على القُرب واليُسر ممكن، في زمانٍ لا تثبت لمثله أجرةٌ، فلينقل البائعُ إذا كان كذلك - ولا خيارَ للمشتري. وهو بمثابة ما لو باع الرجلُ داراً، ثم لحق سقفَها أَدْنى خَلل، بحيث يمكن تداركُه قريباً، فإذا أدركه البائعُ من غير استعمالِ عينٍ جديدة فيها من ملكه، فلا خيارَ للمشتري. ولو باع عبداً، فغصبه غاصبٌ، واستمكن البائعُ من استرداده على القُرب، فلا خيارَ للمشتري. وكذلك لو نال العبدَ مرضٌ، وكان يزول بالمعالجة الناجزةِ على التحقيق، فلا خيارَ للمشتري إذا سعى البائعُ في طرد ما جرى. وقد ذكر العراقيون وصاحبُ التقريب هذه المسألةَ، ولا خفاءَ بها، وما ذكرناه فيهِ إذا لم يكن في النقل ضررٌ، أو كان، ولكن هو عرضة الإزالة على قُرب، وكان لا يحتاج إلى تعطيل الأرض المشتراة، في مُدّةٍ لمثلها أجرةٌ. فأما إذا لم يكن ضرر راجعٌ إلى رقبةِ الأرض، ولكن كان النقلُ لا يتأتى إلا بتعطيلِ منفعةِ الأرضِ، في مدّةٍ لمثلها أجرةٌ. فأولُ ما نذكره في ذلك أن المشتري يثبتُ له الخيار في فسخ البيع، إذا لم يكن مطّلعاً على شيءٍ حالةَ العقد. فلو قال البائع: لا تَفسخ؛ فإني أَغْرَم لك الأجرةَ، فقد ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يبطل الخيار، ويجب على البائع النقلُ، وبذلُ أُجرةِ المثل؛ فإن إبقاءَ العقد، وجَبْر حق المشتري، ببذل الأجرة أَوْلى. والثاني - أنه على خيارهِ، كما لو

اطلع على عيب قديمٍ؛ فيثبت [له] (1) حق الرد. فلو قال البائع: أنا أغرَم لك أرشَ العيب، فلا ترُدّه، فلا يبطل حق المشتري من الردّ وفاقاً، فليكن كذلك فيما نحن فيه. وإن انفصل القائل الأول عن هذا، فقال: الخللُ في المنافع ليس متمكِّناً من نفس المبيع بخلاف العيب الكائن به، فهذا لا ينفع مع ثبوت حق الاختيار في الموضعين. التفريع على الأصح: 3019 - وهو أن الخيار لا يسقط بما ذكرناه من بذل الأجرة. فإن فسخ المشتري، فلا كلام، وإن أجاز العقدَ، ونقل البائعُ الأحجارَ، فهل يلتزم أجرةَ المثل للمدَّةِ التي تُنقل فيها؟ فعلى ثلاثة أوجهٍ: أحدُها - أنه لا يلزمه؛ فإن المشتري كان قادراً على دفع هذه الظُّلامة عن نَفسه بالفسخ، فإذا لم يفعل، فهو الذي قَنِعَ بما يجري من حقوق هذا العقد. والوجه الثاني - أن البائع يلتزم أجرةَ المثل؛ فإن موجَب البيع المطلق تمكينُ المشتري من منافع المبيع عَقِيب العقد؛ فإذا لم يتأتَّ ذلك، لزمه في مقابلة ما امتنع من المنافع عِوضه. والوجه الثالث - أنه إن نقلَ وعطّل المنافعَ قبل القبض، لم يلتزم شيئاً، وإن سلّم الأرضَ إلى المشتري، ثم فعل ما ذكرناه بعد التسليم، التزمَ الأجرة. وهذا التفصيل يلتفت على خلافٍ يأتي في باب الخراج، في أن البائع لو جنى على المبيع، وعيّبه قبل القبض، فالعيبُ الصادرُ من جهته كآفهٍ سماويَّةٍ؛ حتى يقالَ: للمشتري [الخيارُ] (2) فحسبُ، أم هو كعيبٍ يلحقُ المبيعَ بسبب جنايةِ أجنبي؟ فيه قولان: سيأتي شرحُهما. ولا شكّ أن البائعَ لو جنى على المبيع بعد القبضِ، فهو كالأجنبي في التزام أرش النقص، فتفويتُ المنافعِ عند بعض الأصحابِ ينزل منزلةَ تعييب المبيع.

_ (1) مزيدة من (هـ 2). (2) ساقطة من الأصل.

وكل ما ذكرناه فيه إذا كان لا يلحقُ الأرضَ من النقل عيبٌ، وذَكرنا أمرَ تعطيل المنافع على التقسيم المفصَّل. 3020 - فأما إذا كان ينال الأرضَ عيبٌ، والغالِبُ أن ذلك يُتصوَّر في الأرض المغروسةِ؛ فإنها إذا كانت بيضاءَ، فغايةُ ما يُرتقبُ منها أن يحدث فيها حفائر، وطمُّها وردُّ التراب إليها ممكنٌ، فإذا كان كذلك، كَلَّف المشتري البائعَ النقلَ، ثم البائعُ يطمُّ الحُفَرَ، ويرد الترابَ إليها، ولا خلاف أن ذلك واجبٌ على البائع، ثم يعود النظر في تعطل المنافعِ، وتطاول المدة وقِصرها، وقد مضى ما يتعلق بأمر المنافع والأجرة. 3021 - والذي نستقصيه الآن حديثُ طمّ الحُفَر: أجمع الأئمة على إيجاب ذلك على البائع؛ فإنه ممكن، وسنذكر في كتاب الغصوب -إن شاء الله عز وجل- أن من غصب أرضاً وحفر فيها حفائرَ، فيلزَمُه طمُّها وتَسويتُها. فإن قيلَ: من اعتدى فهدم جدارَ إنسانٍ، فالواجب عليه أرشُ النقص، ولم يلزمه إعادةُ ذلك البناء كما كان وإن أمكن هذا، فما الفرقُ بين احتفار الحفائر وبين هدْمِ البنيان؟ قُلنا: طمُّ الحفيرَةِ لا تفاوُتَ فيه، فقَرُب إلزامُه والتزامُه، وهدْم الجدارِ يتضمن إبطالَ صفةِ البناءِ، وليست تلك الصفةُ من حكم ذَوات الأمثال؛ فإن هيئات الأبنية تتفاوتُ، وما كان كذلك، فهو مشبه بذوات القِيَم، فتجب مقابلةُ التفويت فيه بالقيمة، وهو أَرْشُ النقصِ. وطمُّ الحفرِ يضاهي مقابلةَ المثليِّ بالمثلي، فالصفات المضمونة تنقسم انقسام المتلفات، فما يضاهي المثليات، يجب في تفويته الإتيانُ بمثل ما فوّت، كما ذكرناه من ردم الحفائر وطمِّها. ونقول: لو رفع إنسانٌ لبنة من رأس جدارٍ، وأمكنَ ردُّه. فنقول من غير تَخيُّل اختلاف في الكيفية والهيئة، فهذا (1) بمثابةِ طمّ البئر وردم الحفر. ثم إذا ثبت وجوبُ الطمّ، وقُرْبُ زمان الإمكان، فلا خيارَ؛ فإن الاحتفارَ إن أورث نقصاً، فهو مما يمكن تَداركُه قريباً، وقد ضربنا لذلك الأمثلةَ، في صَدْر الفصل.

_ (1) جملة: فهذا بمثابة طم البئر، مقول القول. وكان حقها أن تكون (هذا) بغير الفاء.

3022 - فأما إذا كانت الأرض مغروسة، ففيها تزدحم الأقسام: فإن لم يكن في تَبْقيةِ الأحجارِ ضررٌ وفي (1) نقلها، فالأمر كما مضى حرفاً حرفاً. وإن كان القلع والنقلُ يضرّ بالغراس، ولو تُركت الأحجارُ، لم يَضُرّ تركُها بالغِراس، بأن كانت معمقةً، لا تنتهي إليها عروقُ الأشجار، ولو اقتُلِعت، تضررت الأشجار، فإن آثر البائعُ النقلَ، فلا شك أن له ذلك، فإنه ناقلٌ عينَ ملكه، وليس لقائلٍ أن يقول: يمتنع عليه النقلُ وفاء بموجَب البيع، وقياماً بتسليم الأرضِ والأشجارِ له. ولكن إذا نقلَ وعيَّبَ، فللمشتري الخيارُ في فسخ البيع. والمسألة في أطرافِها مفروضةٌ في جهل المشتري بحقيقةِ الحالِ. فلو قال البائع: لا أنقل الأحجارَ، وأتركُها في الأرضِ؛ حتى لا يَعِيبَ (2) الغِراسُ بالقلعِ، ولا ضِرارَ بالترك، فقد أجمع الأئمةُ في طُرقهم على أن خيارَ المشتري يبطل، والحجارةُ يتركها البائع. وكأن للشَّرع صَغْواً وميلاً إلى إبقاءِ العقد، إذا أمكنَ مع دفْع الضرارِ عن المشتري. [وهذا مشبهٌ بمسألةٍ] (3) [سَنُوردها] (4) في باب الخَراج، وهي أن الرجل إذا اشترى دابةً، وأنْعَلَها، ثم اطَّلع منها على عيب قديمٍ، ولو اقتلع النَّعْلَ، لحدثَ بذلك السبب عيبٌ حادثٌ يمنعُ من الردّ بالعيب القديم، فلو قال: تركتُ النعل، فلا أرجعُ فيه، وقصْدُه استبقاءَ حقه من الرَّدّ. قال الأئمة: له ذلك، والبائع المردود عليه مُجبرٌ على القبول، وهذه المسألةُ مقصودُها استبقاءُ حق الردّ. وقولُنا في استبقاء العقد، حتى لا يُفرضَ طريانُ سبب يُسلِّط على نقضه وفسخه، والمعاني هي المتبعة. 3023 - ثم قالَ الأئمةُ في مسألة النَّعْل وتَرْكِ الأحجارِ: ما يتركه التارك في المسألتين يملكه المتروك عليه، أم لا؟ فعَلَى وجهين: أحدهما - أنهُ لا يملِكه؛ فإن

_ (1) كذا. ولعل الأوْلى: "في تبقية الأحجار ضررٌ ولا في نقلها". (2) يعيب: يصيرُ ذا عيب. فالفعلُ لازم: عاب الشيءُ: صار ذا عيب، وعاب الشيءَ جعله ذا عيب. (معجم). (3) عبارة الأصل: "وهذا مسألة سنردّدها ... " والمثبت من (هـ 2). (4) في النسختين: سنردّدها. والمثبت تقدير منا على ضوء المعهود في لغة الإمام.

الغرضَ ألاّ يحدثَ عيبٌ، وهذا لا يستدعي إثباتَ ملك. والوجه الثاني - أن المتروكَ عليه يملك ما أُجبر على قبوله. وهذا هو الذي يسدّ مسدَّ حقِّه الساقط بسبب الترك، فالحقوق لا تقابل إلا بأعواضٍ مملوكةٍ. فإن قُلنا: يثبت الملكُ في المتروك، فأثرهُ ظاهر، ويتصرّفُ المتروك عليه في المتروكِ، تصرف المُلاك، ولا يرجع التارك إليه قط. وإن حكمنا بأن المتروك عليهِ لا يَملك المتروكَ، فلا خلافَ أن البائع (1) يلزمه الوفاءُ بالترك، حتى لو قال بعد الترك: أقلع، وأقنع بأن يُرَدّ عليَّ المبيع، فلا يبالَى به. نعم لو جرت حالةٌ يزول فيها المعنى المقتضي للتركِ، فتلك الأعيان مردودة إذ ذاك على المالكِ التاركِ، كما أن [النَّعلَ] (2) لو استحق يزالُ، وإن سقَط، رجع فيهِ الراد، وكذا القول في الأحجار. ولو انقلع الغِراس أو قلعه المشتري قصداً، وزال ما كنا نُحاذره من الضرار، فيعود حق التاركِ. 3024 - وتمام البيان في ذلك أن هبة الأحجار إن كانت ممكنةً على الصحة، فوهب البائع الأحجار، وقبلَ الهبةَ المشتري، واستجمعت الهبةُ شرطَ الصحة، فالوجهُ القطع بحصولِ الملك، والمنعُ [من الرجوع] (3) في الهبة التي لا رجوعَ في مثلِها، فأما إذا كانت الأحجار لا تصح هبتُها على قولٍ، وقد جرت الهبة كما وصفناها، فمِن أصحابنا من صححها للضرورة، وتحصيلِ استبقاء العقد، ومنهم من لم يُصحّحها. ولو لم تجرِ هبةٌ على شرطها في الإيجاب والقبُول، ولكن قال: تركتُ الأحجارَ، فمن أصحابنا من قال: لا حكم لهذا القول، وإليه صَغْوُ الصيدلاني في كتابه. ومن أصحابنا من قال: هذا القول كافٍ، ويجب على البائعِ المتلفظِ به الوفاءُ بموجَبه، وقد ذكر ذلك طوائفُ من أئمتنا.

_ (1) الكلام هنا في مسألة الأرض، وليس في مسألة النعل. فإن التارك في مسألة الأرض هو البائع، وفي مسألة النعل هو المشتري. (2) في الأصل: الفعل. (3) مزيدة من (هـ 2).

3025 - فتنخَّل من مجموع ما ذكرناه أنه لو قال: تركت الأحجارَ، فمن أئمتنا من لم يُقم لذلك وزناً، ولم يُثبت له حكماً، ومنهم من صححه، ثم من صحَّحه اختلفوا في أن الملك هل يحصل قهرياً أم لا؟ وإن جرت هبةٌ لا يصح مثلُها مفردةً، ففي صحتها الآن وجهان مرتبان على لفظِ التركِ، وهي أَوْلى بالصحَّةِ، فإنها على حالٍ عقدٌ تُصحّحُهُ الضرورةُ، ثم في إفادته المِلكَ -إن صحَّحناه- وجهانِ مرتبان على ما ذكرناه في التركِ، والملك أوْلى بالحصول في هذه الصُّورَة، وكأنَّ الضرورة رفعت شرطاً معتبراً في حالة الاختيار. وإن جرت الهبةُ على شرط الصحة، فالمذهب أنها تُفيد الملك. وذهب بعضُ أصحابنا إلى ذكر الخلافِ في إفادة الملك أيضاًً، من جهة صَدَر الهبة عن حاملٍ عليها وليست كالهبة الصادرةِ عن اختيارٍ مجرد. فهذا مجموع القول فيه، إذا كان النقلُ والقلع مضرّاً، وقد ترك البائعُ الأحجارَ على المشتري. 3026 - فأما إذا أبى إلا القلعَ، فله ذلك، وللمشتري الخيارُ، فإن فسخ، فذاكَ، وإن أجاز، وأحدث القلعُ النقصَ، فهل يغرَم البائعُ أرشَ النقصِ؟ قال صاحب التقريب: فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها في الأجرة للمدة التي يتعطل فيها المنافع بسبب الاشتغال بالنقل: أحدُها - أنه لا يغرَمُ؛ فإن المشتري بترك الخيارِ راضٍ بما يجري من النقص، والوجه الثاني - أن البائع يغرَم أرشَ النقصِ وفاءً بتسليم المبيع، والوجه الثالث - أنه يفصل بين ما قبل القبض وما بعده، كما ذكرناه في الأجرة. وابتناءُ هذا على جناية البائع على المبيع بيّن كما تقدَّم. وهذه فصول نرسلها، وسنذكر بعدَ نجازها ضابطاً لمجال النظر في هذه المسألة، منبهاً على المقصود إن شاء الله تعالى. 3027 - ولو كان القلع لا يضر، والترك يضر، يُجبر البائعُ على النقل، ولا خيارَ للمشتري، إلا أن يقتضيَ النقلُ تعطيلَ المنافعِ؛ فإذ ذاك يثبت الخيارُ، وينعكس الأمر على التفاصيل المقدمة في الأجرة عند اختيارِ الإجازةِ.

3028 - ولو كان القلْع والترك جميعاً مضرَّين، فلا شك في ثبوت الخيار، لتحقق الضِّرار من كل وجه، ولكن إن فسخ المشتري، فذاك، وإن أجاز وكُلِّف البائعُ النقلَ، لزمه النقل، وهل يلزمه أرشُ النقص؟ فعلى الأوجُه الثلاثة التي ذكرناها. فرع: 3029 - إذا اشترى أرضاً بيضاءَ، وغرسَها، ثم اطّلع على أحجارٍ مدفونة فيها، منعت عروقَ الأشجار من الانتشار، فهذا ضررٌ لحق الأشجارَ التي ابتدأ المشتري غرسَها، فهل يثبتُ له الخيار؟ فعلى وجهين: أحدُهما - يثبت؛ فإن الضِّرار الذي بدا من آثار ما قدَّمه البائع من إيداع الأحجار، فرجع الضررُ إلى معنى قديم. ومن أصحابنا من قال: لا خيار؛ فإنه لولا ابتداءُ الغرسِ، لما ظهر ما ظهر من الضررِ، وليس من شرط المبيع أن يصلح لكل جهةٍ من الانتفاع، والبائع لم يلتزم بموجَب العقد إلا السلامةَ الناجزةَ في المبيع، فأما تكليفه تحصيلَ كل غَرضٍ ممكن في جنس المبيع، فبعيد. 3030 - وقد نجزت مسائلُ الفصل، وهي مشتملة على أمورٍ بيّنَةٍ، وفي خَلَلها إشكالٌ في مواضعَ، ومهما كان الفصل على هذا النّعْتِ، فتمامُ الغرض في البيان يحصلُ بإرسالِ المسائلِ مقررةً، والتنبيهُ بعد نجازِها على مواقع الإشكال، حتى تكون ماثلة في النظر، يصادفُها الناظر مميزاً مفصلاً. فأقول: مهما فُرض ضِرارٌ لا يندفع، فلا شك في ثبوت الخيار، بشرط ألا يكون المشتري مطلعاً على حقيقة الحال حالة العقد. فإن كان مطَّلعاً، فلا خيار، وليس على البائع جُبرانُ نقصٍ في هذا القسم. وإن كان جاهلاً، فالخيار ثابت، ولا يخفى حكم الفسخ. فإن أجاز، وأراد أن يُلزم البائعَ أرشَ النقص، فهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يتمكن البائعُ من دفع الضرر بترك الحجرِ. والآخر - ألا يتمكنَ، وذلك بأن يُفرض لُحُوقُ الضررِ، تُرِكَ الحجرُ أو نُقل، فإن لم يكن للضَّرر مَدفعٌ، ففي وجوب أرش النقص الأوجه. وسبب الخلافِ تقابلُ الظنونِ؛ من جهة أن المشتري يجد خلاصاً بالفسخ، فإذا لم يفسخ، احتمل أن يكون ذلك كاطَّلاعه على حقيقة الحال حالةَ العقد، واحتُمل أن

يقال: النقصُ ظهر بعد العقدِ بفعل ينشئه البائع إما قبل القبض وإما بعدهُ؛ إذ النقصُ، وإن استَنَد إلى سبب متقدَّمٍ، فهو حادث. وهذا يلتفتُ على قتل العبد المرتد في يد المشتري، على ما سيأتي في باب الخراج. ومخْرَجُ الفصل بين ما قبل القبضِ وبعد القبضِ بيّن كما مضى. فأما إذا كان يجد البائعُ سبيلاً في دفع الضرر بترك الحجر، فلا يلزمه أن يترك، ولكن لو نقلَ وظهرَ الضررُ، فمن أصحابنا من قال: في تغريم البائعِ ما تقدم من الخلاف، ومنهم من يقطعُ بتغريمه في هذا القسم بوجهٍ يُجبَر المشتري عليه، وهو تركُ الحجرِ (1). ثم ينتظم على هذا تعطُّلُ المنافعِ، من غير نقصٍ في رقبة المبيع. وقد ذكرُوا الخلافَ في الأجرة، فالوجه ترتيبها. والفَرق لائح؛ فإن المنافعَ ليست معقوداًْ عليها، ولو قيل: القدرُ الذي يُفرِّغ البائعُ فيه المبيعَ غيرُ داخلٍ في استحقاق المشتري، لم يكن بعيداً، والمبيع كله مستَحق للمشتري بأجزائهِ، وصفاته. فهذا مجالُ الإشكال في مسائل الفصل، ميزَّناه، وزدنا في تقريره حتى لا يبقى متشتتاً في المسائل، وقد نجز الفصل- ولله الحمد- بالغاً في البيان. ...

_ (1) أي يقطعُ بأن يغرَم البائع الأحجارَ، فيتركها للمشتري، ويجبر المشتري على ذلك، فالأحجار على أية حالِ إضافةٌ وزيادةٌ في المبيع، والضرر في قلعها، وليس في تبقيتها.

باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار ورد الجائحة من كثب

باب الوَقْتِ الَّذِي يَحلُ فيهِ بَيعُ الثّمارِ ورَدّ الجائِحَةِ مِنْ كثَب قال الشافعي: أخبرنا مالك عن حُميدٍ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الثِمار حتى تُزهي، قيل: يا رسول الله وما تُزهي؟ قال: حتى تحمرَّ أو تصفرَّ ... إلى آخره" (1). 3031 - هذا الباب معقود لبيان بيعِ الثمارِ، والزروعِ، وهو مصدَّر بذكر ما يشترط في صحَّةِ بيعه القطعُ، وما لا يشترط فيه ذلك. ونحن نبدأ بذكر الثمار، ثم ننعطف على الزروع. فمن باع ثمرة على الشجرة، لم تخل الثمرة إما أن تكون مُزْهية بدا الصلاحُ فيها، وإما ألا تكون كذلك، فإن لم تكن مزهية، فلا يجوز بيعُها بشرط التَّبْقية، ولو بيعت مطلقة، فالبيع في الإطلاقِ محمولٌ عند الشافعي على شرط التبقية، وعَقْد المذهب أن العادةَ جاريةٌ بتبقية الثمار، والعقود المطلقةُ منزلةٌ على حكم العادة المقترنة بها، ومقتضى العادة المطردة إذا اقترنَ بالعقد نزل منزلة الشرطِ المصرّحِ به، وعلى هذا بنينا تنزيلَ الدراهمِ المرسلةِ في العقدِ على النقد الغالبِ في العادة؛ حتى نقول: لو اضطربت العاداتُ في العقودِ، فإطلاق الدراهمِ فاسد، والعقد باطل، وعلى هذا الأصل لم نحوج المتكارِيين (2) إلى ذكر المنازِل (3) وتفصيل كيفيَّة الإجراء (4).

_ (1) ر. المختصر: 2/ 167، والحديث متفق عليه، رواه البخاري: بيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ح 2198، ومسلم: مساقاة، باب وضع الجوائح، ح 1555، ومتفق عليه أيضاًً من حديث جابر، وانظر التلخيص: 3/ 66 ح 1216. (2) المتكاريين: المكاري بضم الميم: اسم فاعل من كاريتُه من باب قاتل، وهو في الأصل مفاعلة من الجانبين، بين كل طرفين تمّ بينهما كراء، وشاع اسماً لمن يؤجِر المطايا للركوب والرحيل عليها. (معجم ومصباح). (3) المنازل: جمع منزلة: المرحلة من الطريق، ينزل بعدها المسافرون للراحة. (4) الإجراء: من الجري: أي كيفية الإسراع بالمطايا.

وكلّ ما يتَّضح فيهِ اطرادُ العادة، فهو المحكَّم، ومضمرُه كالمذكور صريحاً، وكل ما تتعارض الظنونُ بعضَ التعارضِ في حكم العادة فيه، فهو مثارُ الخلافِ وسبَبُه. وألحق القفالُ بما ذكرناه أمراً آخر، فقال: إذا عم في الناس اعتقادُ إباحةِ منافعِ الرهن للمرتهن، فاطراد العادة فيه بمثابة شرطِ عقدٍ في عقد، ويلزم منه الحكمُ بفساد الرهن، وقد يجري ذلك في أغراضٍ في القروض، لو ذكرت لفسَدَت القروض بها. والقفال يجعل اطرادَ العرفِ بمثابةِ الشرطِ، ولم يُساعده كثيرٌ من أصحابنا، وقالوا: الرهنُ يصحُّ إذا لم يُشرط فيه شيء، وكذلك ما في معناه. وسنذكر الضبطَ في محل الخلاف والوِفاق -إن شاء اللهُ تعالى- وكان شيخي يقولُ: لو كان في بقعَةٍ من البقاعِ المعدودة من الصرودِ (1) كرومٌ، فكانت الثمار لا تنتهي إلى الحلاوة، وعم فيها العُرف بقطع الحِصْرِم، فإطلاق البيع محمول على العُرف في القطع، وهو نازلٌ منزلةَ البيع بشرط القطع، فالتعويل في أصل المذهب على العادة. وأنا أقول: لا شك أن حمل المطلقِ من البيع في الثمار التي لم يَبدُ الصلاحُ فيها على المقيّد بشرط التبقيةِ مأخوذٌ من العُرفِ. والوجه في هذا عندنا أن يقال: كل ما يتعلق بتوابعِ العقودِ من التسليمِ، والقطعِ، والتبقيةِ، وكيفيةِ إجراء البهيمة المكراةِ، والمقدارِ الذي تَطوي في كل يوم، فهذه التوابع منزَّلةٌ على العرفِ، كما ذكرناه. ومن جملته حملُ الدراهم المطلقة على النقد الغالب، وهذا في اعتياد يعم، ولا يختصّ بتواطُؤِ أقوام. 3032 - فأما العادة التي تُتلقَّى من تواطؤ أقوامٍ على الخصوص، كشرط الإباحَةِ في الرهن، وشرائطَ معروفةٍ فاسدة في القُروضِ، فهذا محمول على اصطلاحِ أقوام،

_ (1) الصرود: الصَّرْدُ شدة البرد، والجمع صرود (المعجم). وواضحٌ من السياق أن المعنى: إذا كانت كروم العنب في بقعةٍ معدودة من المناطق (الصرود) أي الباردة، فالعنب لا يتم نضجه بسبب البرد، فجرى العرف بقطعه وهو (حِصْرِم) أي حامض.

وقد يختصُّ ببعض البلاد ببعض الأعصارِ، ففي مثله التردد. فأما القفال، فإنه يرى الاصطلاحَ المطَّردَ بين أقوامٍ بمثابةِ العادةِ العاقَة، وامتنع غيرُه من هذا. وعندي أن هذا يُنزَّلُ على منزلةٍ (1) ستأتي مشروحةً في كتاب الصداق، وهي أن أقواماً لو تواطئوا على أن يُعبّروا بالألفين على الألفِ، فإذا وقع العقد بلفظِ الألفين، فالتعويل على التواطُؤ، أم على صيغة اللفظ؟ فيه تردّدٌ. وسيأتي في المسألة المترجمة السرّ والعلانيةِ، ووجهُ التشبيه أن العادةَ مُبينة كالعِبارة، والعادةُ التي لا يُعرف مستَندُها من اصطلاح كاللغات، والعادةُ التي تستند إلى اصطلاح معلومٍ كلغة المتواطئين على مُراطناتِهم. وإعمالُ عادةِ التواطؤ - أقربُ مما ذكرناه في مسألة السرّ والعلانيةِ، والسببُ فيه أن إعمالَ التواطُؤِ في تلك المسألة [ألغى] (2) صريحَ اللغة الثابتة، فقد لا يُحتمل ذلك. 3033 - ومما يَطرأ في هذا الأصل الذي نحن فيه أن الشيء إذا فُرض نُدورُه في بقعةٍ، ثم صُوّر اطرادُه، والحكم مستندَهُ العادةُ، فقد تردّد في هذا حملةُ المذهب، ومنه ينشأ اختلافهم في كثير دم البراغيث في بعضِ الأصقاع، في حكم العفو عن النجاسةِ. ويخرجُ على هذا القانون المسألة التي ذكرناها في الحِصرِم، في بعض الصرود؛ فإنّ فرض ذاك في نهايةِ الندور، وإن تُصوِّر واطَّردت عادةُ أهل البقعَةِ بقطف الحِصرِم، فهو على التردد الذي ذكرناه. فهذا قولُنا في تأسيس الباب في الثمار التي تباع قبلَ بُدوّ الصلاحِ0 3034 - وإن بَدا الصلاحُ، فيجوز بيعُ الثمار على شرط التبقية إلى أوانِ الجِداد، وإن بِيعت مطلقةً، صح البيعُ، وحُملَ على موجَب التبقيةِ، بناء على ما مهَّدناه من اتباع العادة العامة في توابع العقد. فإن قيلَ: نَهْيُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى تُزهي يشعر بمفهومهِ أن البيع قبل بدوّ الصلاح منهيٌّ عنه محرمٌ من غير فصلٍ بين أن يقدّرَ شرطُ القطع

_ (1) في (هـ): "مسألة". (2) مزيدة من (هـ 2).

أو يطلق. قلنا: ظاهرُ اللفظِ هذا، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلّم في أمرٍ مستندُه العادة، نزَّل لفظُه على موجَبها، والعادةُ الجارية أن الإنسان لا يشتري الثمارَ قبل الزَّهو ليقطفها، وإنما يشتريها لتبقيتها إلى الجداد. هذه العادة. وإن فُرض غيرُ ذلك، كان خُرْقاً وسفهاً، فكأنه نهى عن البيع المعتادِ قبل بُدوّ الصلاح. 3035 - ثم ذكر الأئمةُ من طريق المعنى مسلكين في ضبط المذهب: أحدُهما - أن الثمار قبل بُدوّ الصلاح تكون متعرضة للآفات والصواعق، ومن اشتراها كان معرَّضاً مقصودُه للهلاك، وفي ألفاظ الشارع ما يدل على هذا المعنى، إذ رُوي: "أنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة" (1). والمسلك الثاني - أن الثمار قبل بدوّ الصلاحِ ستكبر أجرامها كبراً ظاهراً، وإنما هي من أجزاء الشجرة، فلم يجرِ شرطُ التبقية لذلك، وإذا بدا الصلاح فيها، فلا تكاد تزداد ازدياداً به مبالاة. والأوجه في ضبط المذهب المعنى الذي قدمناه، وهو متلقى من الخبر كما ذكرناه. والمعنى الثاني معتضدٌ بأمير مذهبي، وذلك أن من اشترى أشجاراً عليها ثمارٌ غيرُ مُزهيةٍ، فالعقد صحيح، وإن لم يجر شرط القطع، لما كانت الأشجار مضمومةً في المِلكِ إلى الثمار، فإذا امتصت الثمارُ شيئاً من رطوبات الأشجار، فلا بأس؛ فإنهما جميعاً في ملكِ مالكٍ واحد، ولو كانت الأشجار ملكاً لزيد، وكانت الثمار مِلكاً لعمرٍو، وهي غيرُ مزهيةٍ بعدُ، فلو باعها عمروٌ من زيدٍ مالكِ الأشجار مُطلقاً، أو على شرْط التبقية، ففي صحةِ البيع وجهان: أحدهما - أن البيع يصح، كما لو جمع بين الثمار والشجر في العقد، ومعناه ما ذكرناه من اتحاد المالكِ في الأصل والفرع. ومن منع قال: سبب تصحيح العقد الوارد على الثمر والشجر أن الأصلَ الشجرُ، والثمارُ معها تابعةٌ لها، فلا يضرّ تعرض [المبيع للتَّوى] (2)، فكأنَّ أحدَ القائلَيْن يلتفت

_ (1) حديث: " ... حتى تنجو من العاهة"، هذا اللفظ عند مسلم في البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، ح 1534 عن جابر مرفوعاً، "تذهب عنه الآفة" وعن ابن عمر لما سئل ما صلاحه، قال: تذهب عاهته. (2) في النسختين: "البيع للنوى". والتوى: الهلاك: تَوِي المال يتوَى: ذهب؛ فلم يُرْج، =

على التعرض للعاهة ويحتمل ذلك في العقدِ الذي يكون الثمر يتعاقبه. والقائل الثاني يعتبر الاجتناب من امتصاص الثمار رطوبةَ أشجار الغير. وأما أبو حنيفة (1)، فإن مذهبَه مجانبٌ لمذهَبنا، وهو أخذ فيه مسلكاً آخر، فحقُّ العقد عنده إذا أفردت الثمار بالبيع، أن تُفرَّغ الأشَجار منها. مزهيةً كانت الثمار، أو غيرَ مزهيةٍ. ورأى تبقيةَ الثمارِ إدامةً لِشغل ملك الغَيرِ. وأجاب بعضُ الأصحاب عن هذا الطريق بأن قالوا: ليس للأشجار منفعةٌ تفوتُ بتبقية الثمارِ عليها، وإن كان يقدَّر ازديادُ الثمار من أجزاء الأشجار، فذلك قليلٌ بعد بدوّ الصلاح. وهذا المعنى غيرُ سديدٍ، وهو مشعر بتكليف التفريغ إذا كانت المنافع المُعتبرةُ تتعطل، وليس الأمر كذلك عندنا؛ فإن من ابتاع شجرةً مطلقاًً لم يكلف قلْعَها، وفي إدامتِها شُغلُ منافعَ معتبرةٍ. ولكن كانت العادةُ التبقيةَ، وليس في التبقية تعريضٌ للتلف، فاحتمل ذلك، وجرى بقاءُ الشجرة حقاً مستحقاً تابعاً لملك الشجرة. وليس هذا من قبيل الإعارة، ولا يسوغ لبائع الشجرة أن يقلعها على شرط أن يغرَمَ (2) ما يَنقُصُه القلعُ، والسبب فيه أن التبقيةَ مستحقةٌ بعقدِ الشراء، وحقوقُ الشراءِ، لا تَبطُل على أربابها، وكذلك إذا اشترى بناءً مطلقاًً، استحق تبقيتَه إلى غيرِ آخِرٍ، لما قرَّرناه. 3036 - ومن هذا الأصل اختلف قول الشافعي في أن من اشترى شجرةً مطلقاًً، وملك بالشراء أغصَانها وعُروقَها، فهل يَملكُ مَغْرِسَها من الأرضِ؟ والأصَحُّ أنه لا يملكه؛ فإن اسمَ الشجرةِ لا يتناول شيئاً من الأرض. وفي المسألةِ قول آخر: أنه يملكُه؛ فإنه يستحق تبقيةَ الشجر لا إلى نهايةٍ، فلْيُقضَ بملكه لمغرسها، وإلا، فلا نظير لهذا النوع من الاستحقاق.

_ = والإنسانُ: هلك. (معجم). (1) ر. مختصر اختلاف العلماء للطحاوي: 3/ 117 مسألة رقم 1197، 1198، البدائع: 5/ 173. (2) في (هـ 2): ألا يغرَم.

وهذا الاختلاف ليس يجري على منهاج الاختلاف المقدم ذكرُه، في استتباع الأرض أشجارَها؛ فإن ذاك منشؤه استتباعُ الأرض فرعَها، وأما ملك مغرس الشجرة، فليس من جهة استتباعِ الشجرة الأرضَ؛ فإن الفرعَ لا يستتبع الأصلَ، ولكنهُ من جهة ثبوت استحقاقٍ لا محمل لهُ إلا الملك. ثم إن قُلنا: إنه يملِكُ المَغْرِسَ، فلو انقلعت تلك الشجرةُ، أو قلعَها، فمِلكهُ قائم على المغرس يتصرفُ فيه تصرفَ الملاك، وإن قُلنا: لا يملك مشتري الشجرةَ مَغرِسَها، فإذا انقلَعت، أو قَلَعها، لم يملِك أن يغرسَ فيه شجرةً أخرى؛ فإن حق التبقيةِ كان تابعاً للشجرة التي ملكها، وقد زالت تلك الشجرةُ، فتبع زوالَها زوالُ الحق في المغرس. فصل في تفسير بُدوّ الصلاح 3037 - معتمدُ الباب في الحقيقة الخبرُ، ومقتضاه اعتبارُ بدوّ الصلاح، وبيان ذلك في الثمار، ثم في غيرها. أما الثمارُ، فتنقسمُ إلى ما يتلوّن عند الإدراك بلونٍ يخالف السابقَ قبل الإدراك، كالتمر والأعنابِ: السودِ والحمرِ، فبدوّ الصلاح في هذا القبيل بأن يبدو تلوّنُها، وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تُزهيَ، قيل له: يا رسول الله، وما تُزهي؟ فقال صلى الله عليه وسلم حتى تحمرّ أو تصفرّ"، ولا شك أن ذلك إذا ظهر فيها، طابَ أكلُها، وزالَ ما كان فيها، من عفوصيةٍ (1) أو قَرْصِ حموضة، أو مرارة، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث "حتى تطيبَ"، ثم لا يُشترط بلوغُها الغايةَ المطلوبةَ في الطيب؛ فإن هذا إدراك. وبين بدوّ الصلاح، وبين الإدراك وأوانِ القطافِ قريبٌ من شهرين. هذا قولُنا في الثمار.

_ (1) عفوصة: من العَفْص، وهو مادة قابضة يدبغ بها غالباً (معجم، مصباح).

3038 - وأما بدوّ الصلاح في البطيخ، فأن يطيب الأكلُ، ويظهرَ فيه التلوُّنُ أيضاًً. وأما الثمار التي لا تتلوّن بالإدراكِ كالأعناب البيض، فالاعتبار فيها بالتَموّه، وجريانِ الحلاوة، وزوالِ قَرصِ العُفوصة، وطيبِ الأكل. وهذه الأشياءُ [تجري] (1) في التحقيق على قضيةٍ واحدة، على ما سأصِفُه الآن. وأما بدوُّ الصلاح في القثاء، فليس بأن يتلوّن، ولا يمكنُ أن يقال فيه: هو أن يطيب أكله، أو يمكن ذلك فيه؛ فإن القثاءَ يطيب وهو في نهاية الصغر. قال الأصحاب: الوجه أن ينتهي إلى منتهى يُعتادُ أكله فيه. فإن قيل: خالفتم بين القثاءِ والثمار؛ إذ قلتم في القثاء: يعتبر اعتيادُ الأكل، والاعتياد لا يعتبر في الثمرة المُزهية، فما الذي أوجب الفرقَ؟ قلنا: لا فرق؛ فإن الزهو إذا ابتدأ، ابتدأ الناسُ في الأكل، وقد يغلب تأخيرُ المُعْظم إلى تمامِ الإدراك، كذلك القول في القثاء؛ فإن الصِّغار منه يُبْتَدرُ، ولكنّ عُمومَ الأكل يتأخَّر، والذي يتناهى صِغرُه لا يؤكل قصداً، إلا أن يتفق على شذوذٍ، فرجع الحاصل إلى طيب الأكل، وابتداءِ الاعتياد فيه، وعلامةُ ذلك في المتلوّنات التلوّنُ إلى جهة الإدراك، وعلامتُه فيما لا يتلونُ التموُّهُ، وجريانُ الحلاوةِ، والرَّونق. 3039 - فإذا تمهَّد معنى بدُوّ الصلاحِ فيما ذكرناه، فإذا باع الرجل ثمار بستان، وقد بدا الصلاحُ في بعضِها، فالذي لم يَبْدُ صلاحُه تابعٌ لما بدا فيه الصلاح، وترتيبُ المذهب في هذا الإتباع، كترتيب المذهب في إتباع ما لم يؤبَّرْ ما أُبِّر، في محلِّ الوفاقِ والخلافِ حرفاً حرفاً. ولو باع ثمارَ بستان، وهي أجناسٌ مختلفةٌ، وكان بُدوّ الصلاح في بعضِها، فالجنس الذي لم يبْدُ الصلاحُ فيه، لا يتبع الجنسَ الذي أزهى بلا خلافٍ، وإنما التردد في اختلاف النوع مع اتحاد الجنس، كما مضى تفصيلُ ذلك في التأبير وحُكمِه. قال العراقيون: لو باع الرجل ثمارَ بستانَيْن صفقةً واحدةً، وكان بدا الصلاحُ في أَحدِهما دون الثاني، فثمار البستان التي لم تُزه لا تتبعُ ثمارَ البستانِ التي بدا الصلاحُ

_ (1) ساقطة من الأصل.

فيها، وقطعوا القولَ بهذا. ولست أرى الأمرَ كذلكَ، سيما إذا لم يتباعدا تباعداً، يؤثر في اختلاف التغايير، ولا حاجز إلا جدار. ولو كان للرجل بُستانان كما صَوَّرنا، وقد بدا الصلاح في ثمارِ أحدهما دون الثاني، فلو أَفردَ بالبيع الثمَار التي لم يَبْدُ الصلاحُ فيها، فالذي رأيت الطرُقَ متفقة عليه أنا لا نعتبِرُ حكمَ الثمار التي بيعت بثمار بستانٍ آخر، وهذا يشيرُ إلى ما ذكرهُ العراقيون من اعتبار اتحاد البستان وتعدُّده. ولم يختلف علماؤنا أن بُدوّ الصلاح لو كان في مِلكِ غير البائع، ولم يَبْدُ الصلاحُ في بستان البائع. فلا يقال: الوقتُ وقتُ بدُوّ الصلاح، فتجعل الثمار المبيعة كأنها مزهية. هذا لا قائل به. وقد ذكرنا خلافاً فيه إذا اختلف الملكُ، واتَّحد البستان، وثبت التأبير أو الصلاحُ في بعضِ ثمار البستان، فهل يتبع المبيعُ غيرَ المبيع، والبستان واحدٌ؟ فيهِ الخلاف المعروف، ولا فرق بين أن يكون ما أبقاه البائع له، أو يكون لغيره؛ إذا كان البستان الواحد جامعاً لهُما. ولَعلَّ رعايةَ اتحادِ البستان من (1) جهة أنه كالشيء الواحد في التطواف عليه، والتردُّدِ فيه. ومعظم هذه الأحكام تبتنَى على عاداتٍ. فهذا منتهى المراد في ذلك. وكل ما ذكرناه في الثمار، أو ما يجري مَجرَاها. 3040 - فأمَّا القولُ في الزروع، فهي تنقسم إلى التي تُخلِفُ، وإلى التي لا تُخلِف. فأما ما يُخلِفُ منها إذا جُزَّت كبعضِ [البقولِ، ومنها القُرط، وما في معناه، فهذا الجنس يكون متزايداً أبداً، ولا] (2) وقوفَ له، فإذا بيع منه جِزَّةٌ، فلا بد من شرطِ القطع، ولا يُنظر في هذا القسم إلى ما يقع في زمان العاهات، أو في زمان النجاةِ منها، وكذلك لا يُنظرُ إلى طيبِ الأكلِ، وذلك أنّا إذا كنا (3) نحاذر إمكان الآفة، ونشترطُ القطعَ لذلك، فالاختلاطُ الذي يجرّ إلى البيع اللبسَ العظيمَ لأن يُجتَنبَ أوْلى.

_ (1) الجار والمجرور في محل رفع خبر لعل. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (3) في الأصل: أنا كنا، وفي: (هـ 2): إذا كنا. والجمع بينهما تصرفٌ اقتضاه السياق.

وهذا الأصلُ في شرط القطعِ مساو للثمار قبل بدوّ الصلاح، وليس مأخوذاً من مأخذها. 3041 - فأما الزروع التي لا تُخلِف إذا جُزت، فينبغي أن يُستثنى منها ما يتسنبل ويَستتر المقصودُ منه للغُلُفِ (1) والقصيل (2)، فإنا سنعقد في هذا فصلاً (3) على أثر هذا الفصلِ، ونتكلَّم فيما عدا ذلك. قالَ الأئمة: الزرع الأخضرُ لا يجوز ابتياعه إلا بشرط القَطعِ، وكان شيخي يقولُ: لا مُعوّلَ على الخضرة، والتعويل فيما لا يُخلِف على النجاة من الآفة على القياس الممهَّدِ في الثمار، والذي أراه أن هذا ليسَ باختلافٍ؛ فإن الأخضرَ في الغالب يتعرض للآفة، فنُزل كلامُ الأصحاب عليه. وفي (4) هذا الفصلِ سرٌّ، وهو أنَّا لو فرضنا زرعاً ناجياً من الآفة، لا يُخلِفُ إذا جُزَّ، وقد يزداد إذا لم يجز، فالذي رأيتُ الطُرقَ عليه أن هذه الزيادة غير ضائرةٍ، وهي عند فرضِ التبقيةِ على حُكم الشرط، أو على وفاق المشتري. والزيادة التي ذكرناها بمثابةِ نموِّ الثمار، إلى وقت اتفاق القطع، وليست كزيادة الزرع المُخْلِف. وهذا على بيانهِ قد يزلّ فيه من لا يردُّ نظرهُ إليه. 3042 - وتمام البيانِ في هذا أن من اشترى بطاطيخَ على أصولها دون أصولها، فإن لم يكن بدا الصلاحُ، فلاَ بُدّ من شرطِ القطع، وإن بدا الصلاَحُ في الكبارِ منها، فللصغار حكمُ الكِبار، جرياً على إتباعِ المقدَّمِ، ولكن ما يحدث من الأصول، فهو لمالك الأصول. فإن فرض اختلاطٌ، رجع ذلك إلى مسألة الاختلاط، كما تقدم ذكرها.

_ (1) للغلف: أي بسبب الغلف، والغلف جمع غلاف: مثال: كتاب وكتب. (المعجم). (2) القصيل المراد به هنا ما يرادف الغُلُف، وليس القصيل المعروف الذي يتخذ للعلف، ويؤكد هذا قول إمام الحرمين الآتي بعد صفحات: "واختلف في بيع الحنطة في سنبلها، وهي مستترةٌ بغُلُفِها من قصيل السنبل". (3) في (هـ 2): أصلاً. (4) في (هـ 2): في هذا. (بدون واو).

ولو اشترى أصولَ البطيخ، صحَّ. وكل ما يُخرجه بعد الشراء، فهو ملكُ المشتري. ثم من لطيف ما يجب التنبُّهُ له: أن من اشترى ما لا يُخلِف لو قُطع، ملكَ ظاهرَه وعِرْقَه المستترَ بالأرض، فلو قال قائل: لو اشترى البطيخَ وأصلَه قبل بُدوّ الصلاح، فهل تشترطون القطعَ، أو تلحقونها بما لو اشترى الثمار والأشجارَ معاً، حتى لا تشترطوا القطع؟ قلنا: إذا لم يكن بدا الصلاحُ في البطيخ، فهو وأَصلُهُ عرضةُ الآفة، وليس كالثمار تباع مع أشجارها؛ فإن الأشجار ليست عُرضةَ الآفة، فتجري الثمار تبعاً لها. فهذا منتهى البيان في هذه الفصول. فرع: 3043 - ذكر الشيخُ في شرح التلخيص أن من اشترى ثماراً بدا الصلاحُ فيها على شرط القطع [صح العقدُ، ولزم الوفاء بالشرط، ولا شك أن هذا يطّرد في ابتياع الشجر على شرط القطع] (1) من المغرِسِ، وابتياع البناء كذلك، وهذا واضح، ولكنّي أحببتُ نقلَه منصوصاً. فرع: 3044 - إذا باع شجرةً عليها ثمرة مؤبرة، فالثمار للبائع، وله تبقيتُها إلى أوان الجِداد. فلو أصابَ الثمارَ آفة، وصارت بحيث لا تنمو، فهل للبائع أن يُبقيها ولا فائدةَ له في تبقيتها؟ أم للمشتري إجبارُه على قطعِها (2)؛ ذكر [شيخي] (3) لصاحب التقريب قولين في ذلك: أحدهما - أن له التبقية استبقاءً منه لحق الإبقاء إلى أقصى الأمد، ولا نظر إلى فائدته، والقول الثاني - أنه يُجبَرُ على القطع؛ فإن شغل ملك الغير بلا فائدةٍ لا معنى له.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في (هـ): تبقيتها. (3) زيادة من (هـ 2).

فصل 3045 - ذكرنا أن من باع نخلةً، وعليها ثمرتُها غيرَ مؤبَّرةٍ، فهي تابعةٌ للنخلة إذا أُطلق اسمُها في البيع، فإن استثناها البائعُ، بقيت له، ولا خلاف في جواز استثنائِها. وإن تردَّد المذهبُ في جواز إفرادِها بالبيع، كما سنذكره على إثر هذا الفصل، ولا يجوز استثناءُ الحَمْل إذا بيعت الجاريةُ الحامل بالولدِ الرقيق. هذا أصل المذهب، وسيأتي تفصيلهُ، في باب الخراج إن شاء الله عز وجل. 3046 - ثم هل يُشترط في صحة استثناء الثمار شرْطُ القطعِ؟ فعلى قولين: أحدُهما - أنه لا حاجةَ إلى شرط القطع؛ فإن الاستثناءَ ليس تملُّكاً في الثمار، وإنما هو استبقاءُ الملكِ فيها. وآيةُ ذلك أنا نقطع بصحة الاستثناء. وظاهرُ المذهبِ أن إفراد الثمار بالبيع قبل التأبير ممتنع، ولا شرطَ على المستبقي. والقول الثاني - أنه لا بد من شرطِ القطع؛ لأن هذا [الاستثناء] (1) في حكم جلب المِلكِ؛ إذ لا بد فيه من لفظٍ واختيارٍ، وعبَّر الأئمةُ عن حقيقة القولين بعبارةٍ، وبنَوْا عليها أحكاماً في أمثلةِ هذه المسألة، فقالوا: لما باع الشجرةَ أشرف مِلكُه في الثمرة على الزوال، غيرَ أنه تلافاها، فهل نجعل المِلْكَ المشرفَ على الزوال إذا استُدْرِكَ كالملك الزائل العائد؟ فعلى قولين. 3047 - ومن نظائر ذلكَ: أن الرجل إذا دبَّر عبداً فجنى في حياته جنايةً، تستغرق قيمتَه، وماتَ السيدُ، ولم يخلّف غيرَه، ففداه الورثةُ. [و] (2) معلومٌ أنهم لو سلّموهُ، لبِيع، وبطل العتقُ فيه. فإذا فَدَوْه، وحكَمْنا بنفُوذ العتق [فيه] (3)، فالولاءُ فيه لمن؟ فعلى قولين: فإن جعلنا المشرفَ على الزوال كالزائل العائدِ، فالولاء للورثة.

_ (1) في الأصل: الاستبقاء. (2) زيادة من المحقق. (3) مزيدة من (هـ 2).

وإن لم نجعل الأمرَ كذلكَ، فالولاءُ للمولى المتوفى. وهذه المسألة تبتني على أن تنفيذ الوصية إجازةٌ، وليس ابتداءَ عطيةٍ، فإنَّا لو جعلنا التنفيذَ ابتداءَ تبرعٍ من الورثة، لم يختلف قولُنا في أنهم المعتقون، ثم كنا نقول: لا بد من إنشاء العتق فيه، وإن جعلنا التنفيذ إجازةً، فالقول في الولاء مضطربٌ عندي؛ فإنهم لم يحتاجوا إلى إنشاءِ العتق، فأيُّ معنىً لصرفِ الولاء إليهم، والعتق نفذَ على حكم التدبير الماضي، ولكن الأئمة نقلوا قولاً آخر: أن الولاء للورثة لقوة سببهم، ونزّلوا ذلك منزلةَ الإعتاقِ بلا مزيد. فالقول في الولاءِ عويصٌ، وهو بين أيدينا (1). 3048 - ومما يجب التنبُّه له في مسألة الاستثناء، أنا إذا شرطنا التقييدَ (2) بالقطع، فأطلقَه، فظاهرُ كلام الأئمة، أن الاستثناء باطلٌ، والثمرة للمشتري، وهذا مشكلٌ جداً؛ فإن صرْفَ الثمرة إليه، مع التصريح باستثنائه محالٌ عندي، فالوجه عدُّ الاستثناء المطلق شرطاً فاسداً مفسداً للعقد في الأشجار، ويكون كاستثناءِ الحمل. ومما يتعيّنُ الإحاطةُ به، أن الخلاف في اشتراط التقييد بالقطع يترتب لا محالة على أن قطعَ الثمارِ هل يُستحق إذا بقيت للبائع؟ فالتقييد في الاستثناءِ يلتف بوجوب القطع، وجوازِ الإبقاء، فإن لم نشرط التقييدَ، رأينا الإبقاء، وإن شرطنا، أوجبنا الوفاء. ولا خلاف أن الثمار إذا بقيت للبائع؛ لأنها كانت مؤبّرة، وما كان بدا الصلاح فيها، فلا يستحق عليه قطعُها وإن كان يُشترط في صحة البيع شرطُ قطعها، إذا أفردت بالبيع. فصل قال: "وكل ثمرةٍ وزرع دونها حائل ... إلى آخره" (3). 3049 - مضمون الفصل الكلامُ في بيع الحبوب المستترة والبارزة، فأما الحبوب البارزة كالشعير، فيجوز بيعُها في سنبلها تعويلاً على العِيانِ، وأما بيعُ المطعومات

_ (1) أي سيأتي في كتاب العتق. (2) في (هـ 2): التنفيذ. (3) ر. المختصر: 2/ 170.

المستترة بقشورها، فالقول منقسمٌ فيها (1): فمنها ما يكون بقاؤها في استتارها، وصلاحُها في قُشورِها، كالرُّمان، والبيض، والجَوْز في القشرة الثانية الخشنة، فالبيعُ جائز؛ فإن صلاح لُبِّ الجَوْز وبقاءَه في قشرته، وكذلك في حشو البيض، وفي حب الرمان، ولا (2) التفات على المجفف من حبِّ الرمان؛ فإن المقصودَ الأظهرَ منه في طراوته ورطوبته، وبيعُ الجوز في قشرته العليا إذا جفَّت عليه ممنوع عندَ الأصحاب، وكذلك بيعُ الباقلاء إذا جف في قشرته العُليَا، ممتنع، واختلف القول في بيع الحِنطةِ في سنبلها وهي مستترة بغُلفِها من قصيل السنبلِ، وكذلك الرّز في قشرتها العُليَا. ومجموع ما قيل فيهما ثلاثة أقوال: أحدُها - الصحةُ؛ فإن لاستتار الحبوب بغُلفِها أثرٌ في طول البقاءِ، بخلاف القشرة العليا من الجوز، والباقلاء. والقول الثاني - لا يصح؛ لأن ذلك ليس غالباً في الاعتياد، فلا مُعتبرَ به. والقول الثالث - أن البيعَ صحيحٌ في الرّز، باطلٌ في الحنطة؛ فإن مُعظمَ ادّخارِ الرز في قشرته في العادة. واختلف أصحابنا في بيع الباقلاء الرَّطْب في قشرته العُليا، وهي المسمى (الفول) والظاهر التجويز، وقد صح أن الشافعي أمرَ بعضَ أعوانه ليشتريَ له الفولَ الرطْب. وبيع الجوز الرطب في قشرته العُليا قرَّبه بعضُ الأصحاب من الفول؛ فإن تِيكَ القشرة تصُون رطوبةَ اللب، صيانةَ قشرةِ الباقلاء. والجوزُ عن الجواز أبعد؛ فإن الغرض منه في جفافه. 3050 - وحقيقة القول في هذه المسائل تَبِين بنكتة، وهي أنا إذا (3) جوزنا بيعَ الغائب، فكل ما ذكرناه يجوز بلا استثناء؛ فإنا نجوّز على بيع الغائب أن يقول: بعتُكَ الدِّرهمَ الذي في كفّي، أو الثوبَ الذي في كُمِّي؛ وهذا في الجهالة فوق الصور التي ذكرناها. فإن كان المحذور فيها الاستتار، فهذا من ضرورة بيع الغائب، وإن كان

_ (1) في (هـ 2): ينقسم: فمنها. (2) في (هـ 2): فلا. (3) سقطت من (هـ 2).

المحذور فيها الجهالة، فهي متحققة في (1) بيع الثوب الذي في الكُمِّ، وليس يدرى أنه كرباس غليظ، أو ثوب رومِيٌّ. ومن الأسرار في ذلك أن العِيان محيط ببيع الباقلاء اليابس في القشرة العُليا، ولكن المقصودَ مستورٌ على خلاف العادة. وقد أطلق أئمة المذهب أن بَيعْ نَيْلِ المعدِنِ في أدراج ترابه ممنوع، وزعم المحققون أن هذا مفرع على منع بيعِ الغائبِ، وإلا فقد تحققت جهالة واستتار، مع إحاطة العِيان بالكل. وهذا غير بِدْعٍ في بيع الغائب، ولكن جرى رسمُ المفرعين بأن يُفرّعوا على قولٍ صحيح عندهم مسائلَ، ويبينوا أقوالَهم فيها، ولا يتعرضون للقول الثاني. 3051 - فحاصل المذهب أن المسائلَ التي ذكرناهَا مصحَّحةٌ على جواز بيعِ الغائبِ، والقولُ فيها على قولِ منع بيع الغائبِ منقسمٌ ثلاثةَ أقسام: أحدُها - أن يكون استتارُ المقصودِ بحيث يظهر مسيسُ الحاجَةِ إليه، وتغلب العادةُ فيهِ، كالبيض، والجوز، واللَّوْز إذا بيعت في قشرَتها التي هي صوانُها. والقسم الثاني - ما يضطرب النظر فيه في اشتداد الحاجةِ إلى احتمال الاستتار، وهو كالحنطةِ في سنبلِها، والرّز في قشرِهِ، والفولِ الرطب، والجوزِ الرّطبِ في قشرتها العُليا، وراء قشرتها الخشنة، فالرأي يضطرب في تحقيق إظهارِ الحاجة في هذه المسائل، فاختلف المذهبُ لذلك. والقسم الثالث - استتار وجهالةٌ من غير حاجةٍ، ولا استمرار عادة، كالباقلاء اليابس في القشرةِ العُليا، فلا حاجة إلى هذا الاستتار، ولا عادةَ فيهِ، فاقتضى مجموعُ هذا القطعَ بمنع البيع، وردِّ الأمرِ إلى منع بيع الغائب. فلتُفهم هذه المسائل على هذا الوجه. 3052 - وذكر الأئمة أن بيع لحم الشاة الذكيَّةِ في جلدِها قبل السلخ ممتنعٌ، وهذا الامتناع يجري على القولين جميعاً؛ من جهة أن الاستتار لا يزول إلا بقطع جزءٍ

_ (1) في (هـ 2): وبيع.

وتفصيله؛ فإن السلخ قطعُ الجلد (1) الملتئم على اللحم عنه. وسيأتي لهذا نظائر عند ذكرنا بيعَ جزءٍ من نصْلِ أو خشبةٍ، وكان لا يتأتَّى تَسليمُ المسمَّى مبيعاً إلا بقطعٍ وتفصيل. ولعلَّنَا نُعيد هذه المسألة ثَمَّ -إن شاء الله تعالى- وكان شيخي يقطع بمنع بيعِ الجَزَرِ، والسلقِ، والفجلِ، في الأرض. وهذا مفرعٌّ على منع بيع الغائب، وإذا جوزناه، صححنا البيعَ في هذه الأشياء، حسب تصحيحنا بيعَ الأشياء المدفونة في الأرض، إذا كان لا يَعسُر إخراجُها. فصل قال: "ولا يجوز أن يَستثني من التمر مدّاً ... إلى آخرِه" (2). 3053 - إذا باع ثمرةَ بستان إلا مدَّاً، فالبيع باطل، نصَّ عليه الشافعي -رحمه الله- في كتبه الجديدة، والقديمة، والسببُ فيه أن الثمار المشارَ إليها، ليست معلومةً بكيلٍ، ولا وزن، وإنما التَّعويل في إعلامها على العِيان، فإذا استثنى منها مقداراً، اختل به ضبطُ العِيان، فلا يُشار إلى شيء من الثمارِ إلا وللمُدِّ المستثنى منه نصيبٌ. ولو استثنى من الثمار جُزءاً، كالنصف والرّبع، صح؛ فإنّ هذا لا يُخلّ بضبط العِيان؛ إذ لا يشار إلى شيءٍ من الثمار إلا وينتظم فيه القول بأن المبيعَ منه نصفُه مثلاً. وعبَّر الشافعي عن هذا، وقال: "استثناء المقدار المعلوم عن المجهول يُكسبُه جهالةً لا تحتمل". 3054 - ولو أشار إلى صُبرةٍ في البيع (3)، وقال: بعتُك هذه الصُّبرة إلا مُدّاً، فإن كانت مجهولةَ الأمدادِ، فالجواب فيها كالجواب في الثمارِ، ولو كانت الصُّبرةُ معلومةَ الأمداد، فالبيع صحيح، والاستثناءُ ثابتٌ، ولا حاجة إلى ذكر أمدادِ الصُّبرةِ لفظاً،

_ (1) في (هـ 2): " قطع اللحم الملتئم على اللحم عنه ". (2) ر. المختصر: 2/ 171. (3) ولو أشار إلى صُبرة في البيع: كذا في النسختين (البيع) وواضح أنها بمعنى المكان الذي يعرض فيه المبيع، أو الذي تحفظ البضاعة فيه.

بل يكفي أن يكونَ المتعاقِدان عالمين بمبلغ الأمداد. ولو قالَ: بعتُكَ صاعاً من هذه الصّبرة، فإن كانت معلومةَ الصيعان، صح البيعُ. واختلف الأئمةُ في تنزيله، فقال طوائفُ منهم: هذا بمثابة بيعِ جزءٍ من جملةٍ، حتى لو كانت الصُّبرة مائةَ صاع، فالبيع عُشر العُشر، وأثر هذا أنه لو تلفَ من الصُّبرة شيءٌ يقسط على المبيع والباقي. وهذا اختيار القفال. وقال قائلون: ليس بيعُ صاعٍ محمولاً على مذهب التجزئة، ولو تلف شيء لم يتقسَّط التالف على المبيع وغيرِه، بل يبقى المبيعُ مَا بقِي صاعٌ؛ فإن البائع ما أخرَج بيعَ الصاعِ إخراجَ بيعِ الجزء من الأجزاء، والمقاصد هي المرعيّة. هذا إذا كانت الصُّبرة معلومةَ الصِّيعان. فأما إذا كانت مجهولةَ الصيعانِ، فقال: بعتك صاعاً منها، فهذا خارج على التردد في تنزيل بيع الصاع في صُورةِ العلم بمبلغ الصيعان، فإن نزلنا الصاعَ على الجزء، وبنينا عليه تقسيط التالف على المبيع والباقي، فالبيع على هذا المسلك مع الجهل بالصّيعان باطل؛ فإنه [بيعُ] (1) جزءٍ مجهولٍ، واستدَلّ القفال عليه بما لا دفع له، فقال: لو قُسمت الصُّبرةُ أمداداً، ومُيّزت، ثم قالَ مالكها بعتُكَ مُداً منها، فالبيعُ باطل، ولا فرق بين أن يتميز كذلكَ [وبين أن] (2) تجتمعَ. وهذا (3) هو القياس. ومن نزَّل بيعَ الصاع في صُورةِ العِلم على الإبهام، لا على الجُزئية، صحح البيعَ في المُدّ من الصُّبرة المجهولة الأمداد، قائلاً: إن المبيع معلومٌ، ولا ننظر إلى الجزئية، ثم لا يقضي هذا القائلُ بتلف المبيع، ما بقي من الصُّبرة مقدارُ المبيع. والقفالُ يقول: هذا خارجٌ عن الإشاعةِ، والتعيينِ، والوصْفِ، وإحاطةِ العيان. ثم قال: لا فرق عندي بين بيع شيء مجهولِ القدر مضبوطٍ بالعِيانِ يستثنى منه مقدارٌ

_ (1) مزيدة من (هـ 2). (2) في الأصل: "كذلك أو تجتمع". ورجحنا (هـ 2) لما عهدناه في أسلوب إمام الحرمين من تكراره لـ (بين) مع الاسم الظاهر، على خلاف المشهور. (3) في (هـ 2): فهذا.

وبين بيعِ مقدَّرٍ مُضافٍ إلى مجهول القدر مضبوط (1) بالعِيان. 3055 - ولو قالَ: بعتُك عشرةَ أذرع من هذه الأرض، وهي مجهولةُ الدُّرعان، فقد أطبقَ الأصحابُ على بطلان البيع، واعتَلُّوا بأن جوانبَ الأرضِ تتفاوت، وصيعانُ الصُّبرة لا تتفاوتُ. وإن كانت الأرضُ معلومةَ الدُّرعانِ، فالقفال يحمل البيع على الجزئية، ويصححه، ومن لا يرعى مذهبَ الجُزئية في الصاعِ، حكَمَ ببطلان البيعِ هاهُنا؛ فإن الذرعان متفاوتةٌ. وسنذكر مسألةَ الأرض ونظائرَ لها في بابٍ وثَمَّ تتبينُ حقيقتُها. 3056 - قالَ الشافعي: لو قال بعت منك ثمرةَ هذا الحائط بثلاثة آلاف درهم إلا ما يخص ألف درهم، فإن أرادَ إلا ما يخص ألف درهم من الثمن، فقد باع الثُّلثين بألفين، وصح العقدُ. وإن أراد بالألفِ المذكورِ في صيغة الاستثناء جُزءاً من قيمة الثمارِ لو قُوِّمت، فالبيع باطل؛ فإن الاستثناء على هذهِ الصفَةِ يَجُرُّ جَهالةً. وهذا بيّن لا خفاء بهِ. فصل قال: "ولا يرجع من اشترى الثمرةَ وسُلمت إليه بجائحةٍ ... إلى آخره" (2). 3057 - إذا اشترى الرجل الثمارَ بعدَ بُدوّ الصلاحِ بشرطِ التبقيةِ أو مُطلقاً، وقد تقرَّر أن مقتضى الإطلاق التبقيةُ، وسلم البائعُ الثمارَ على الأشجار إلى المشتري. فنذكر قبل الخوض فيما قيل في وضع الجوائح أصلين لا خِلافَ على المذهب فيهما: أحدهما - أن المشتري يتسَلّط على التصرفِ في الثمار بسبب القبضِ من كل الوجوه. والأصل الثاني - أن البائعَ يلزمُهُ سقْيُ الأشجار إذا كان نموُّ الثمار به، وهذا يُشعِر ببقاء عُلقة على البائع من حق العقد؛ فإن إيجابَ السقي للتنمية من حكم إتمام التسليم، وكأنَّ المستحقَّ على البائع أن يَسْعَى في تسليم الثمار على صفةِ الكمالِ.

_ (1) في (هـ 2): معلوم. (2) ر. المختصر: 2/ 172، 173.

فإذا وضح هذا فلو اجتاح الثمارَ جَائحةٌ سماوية من صاعقة، أو حرٍّ أو بَردٍ، وما ضاهاها من العَاهاتِ، فما يتلف من الثمارِ بسبب الجوائح أهي من ضمان البائع أم من ضمان المشتري؟ المنصوص عليه في الجديد أنه من ضمان المشتري وهذا هو القياس؛ فإنّ ما جَرى من التسليم إليه سَلّطَه على التَصرُّفات المفتقرة إلى كمالِ القبضِ، فدل على حصول القبضِ كاملاً، وهذا يتضمَّن احتسابَ التالف على المشتري. والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في القديم- أن ما يتلف بالجوائح، فهو من ضمان البائع، فإن تلفت الثمارُ بجملتها، انفسخ البيعُ، وارتد الثمن إلى المشتري، ولو تلف بعضُها، انفسخ البيعُ فيه، وخرج القولُ في الباقي على قَوْلَيْ تفريقِ الصفقةِ. وهذا القائل احتج بما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع السنين" "وأمر بوضع الجوائح" (1) وقد عرض هذا الحديث على الشافعي فقال: هذا الحديث رواه سفيان بن عُيينةَ عن [حُمَيْد] (2) بن قيس عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد اللهِ مراراً، ولم يذكر وضعَ الجوائح، ثم روى وضعَ الجوائح، وقال: "كان قبله كلامٌ [فنسيتُه] (3) ثم رأيت أَروي ما أذكر"، قال الشافعي: فلعلَّ الكلامَ الذي كان (4) قبله شيء يدل على أن وضع الجوائح مستحبٌّ، لا واجب. ثم قال الشافعي: لولا أن سفيان وهَّن الحديثَ الذي رواه لقُلتُ به، وأراد بتوهينه إياه سكوتَه عن رواية وضع الجوائح أوّلاً، ثم تردُّدُه في كلامٍ كان قبل وضعِ الجوائحِ.

_ (1) النهي عن بيع السنين، والأمر بوضع الجوائح، ورد كل منهما في حديث خاص، الأول عند مسلم عن جابر بن عبد الله: البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، ح 1536، ورواه أيضاًً: أبو داود والترمذي والنسائي، وابن حبان. وحديث وضع الجوائح عن جابر أيضاًً، ورواه مسلم: كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح، ح 1554. وراجع التلخيص: (3/ 40 ح 1176، ص 71 ح 1222). (2) في النسختين (حمد). والصواب حميد (مصغراً) كذا في مسلم. (3) في الأصل: فنسيه. (4) ساقطة من (هـ 2).

ورُبما يتمسَّك ناصر القول القديم (1) بما قدَّمناه في صدرِ الفصلِ من وجوب السقي على البائع، وانفصل عن تسلط المشتري على التصرف، بأن قال: لا يمتنع أن ينفذَ التصرفُ، وإن كان لو قُدِّر التلفُ، فالتلفُ (2) من ضمان المُمَلِّك (3) كالدار المستأجرة إذا قبضَها المُستأجر، فإنه يتصرّفُ فيهَا، ولو انهدمت الدار، انفسخت الإجارة في بقيّةِ المدّة. وناصرُ القولِ الجديد يقول: البيع يستدْعي قبضاً كاملاً، والإجارةُ تصح من مالك الرقبة في حَال عَدمِ المنافع؛ فلا يَسوغُ اعتبار أحد العقدينِ بالثاني. التفريع على القولين: 3058 - إن قلنا: التالفُ بالجوائح من ضمان المشتري، فلا كلام. وإن قلنا: إنه من ضمان البائع، فهذا يطّرد إلى أوان القطافِ. فإن أخَّر المشتري القِطافَ تأخيراً يُعدّ به متوانياً مقصّراً، فما يقعُ في هذا الزَّمن، لا يكون من ضمان البائع قولاً واحداً؛ فإن المشتري منتسب (4) إلى التقصير في تأخيرِ القِطاف. فشابه هذا ما لو اشترى الثمارَ بشرط القطعِ، ثم لم يقطع؛ فاجتاحته الجوائح، فالتلفُ من ضمانِ المشتري إذا وقعَ بعد التسليم إليه. ولو حان وقتُ القِطاف ولكن ليس يُعدُّ (5) مؤخِّرُه في اليوم واليومين متوانياً [وقد] (6) يُعدُّ مُتَشوِّفاً إلى مزيدٍ في نَشْفِ (7) رُطوبة فِجَّةٍ (8) لا يستقلّ بنَشْفِها الجرين، فلو جَرت الجائحةُ في هذا الزمان، فظاهِر المذهبِ أن التالفَ من ضمانِ المشتري، ولا يخرج القولان، وإنما محل جريانِهما فيما قبل أوانِ

_ (1) ساقطة من (هـ 2). (2) في (هـ 2): فإن التالف. (3) " المُمَلِّك ": أي الذي مَلك حق التصرف للمشتري والمستأجر. (4) في (هـ 2): متسبب. (5) ساقطة من (هـ 2). (6) في الأصل: ولا يعدّ. (7) نشف كسمع، ونصر، منه متعدِّ ولازم: نشِفَ الثوبُ العرقَ، ونشف العرقُ (قاموس). (8) الفج بكسر الفاء غير الناضج (معجم)، ووصفت الرطوبة بالفجاجة، لأنها سببها.

القطافِ. وفي بعض الطرق رمزٌ إلى إلحاق هذا الزمن إذا لم ينتسب المشتري إلى التقصير بالزمان المقدَّم على القطافِ. وعلى نحو هذا تردَّدوا في أمَدِ السقي الواجب على البائع، فأوجبوه على الوجه الذي ينفع قبل أوانِ القطاف، ورتبوا الكلامَ بعدهُ على ما ذكرناه. 3059 - ومما يتفرع على قول وضع الجوائح: أن الآفة لو لحقت الثمار من جهة سارق، فلأصحابنا وجهان على قولنا بوضع الجوائح: أحدهما - يوضع المسروق وضعَ الجائحة السماوية. وهذا ضعيف وإن كان مشهوراً في الحكاية؛ فإن السرقةَ نتيجةُ ترك التحفظ، [واليدُ] (1) للمشتري (2)، ولا نعرف خلافاً أنه لا يجب على البائع نَصْبُ ناطور على الثمار إلى جدادِها، ولستُ آمنُ أن يمنعَ ذلك (3) من يصير إلى الوجه البعيد من أن الفائت بالسرقة موضوع عن المشتري وهو من ضمان البائع. ومما يتفرع على القولين أن الثمارَ لو عابت بالجوائح ولم تتلف، فثبوتُ الخيار للمشتري يبتني على الحكم بانفساخِ العقدِ لو تلفت الثمار، فلو حكمنا بالانفساخِ عند التلف أثبتنا الخيارَ للمشتري بالعيب، وإن لم نحكم بالانفساخ عند التلف، لم يثبت الخيار عند العيب. 3060 - ومن أهم ما نفرّعُه وفيه تمام البيان أن نقول: كل ما ذكرناه في آفاتٍ سماويّة لم يكن سببُها تركَ السَّقي من البائع. فأما إذا ترك البائعُ السقيَ، فتلفت الثمارُ لتركه السقيَ، فللأصحاب في ذلك خبط، ونحن نفصله بعون اللهِ وتوفيقه، فنقول: أولاً - إذا تلفت الثمار بسبب تركِ السَّقي، ولم يَشعر المشتري (4 بحقيقةِ الحالِ 4)، فلأصحابنا طريقان: منهم من قالَ: نقطعُ القولَ بانفساخ العقد، ورَدِّ الثمن؛ من جهة أن الآفةَ استندت إلى ترْك السقي

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (2) ساقطة من (هـ 2). (3) " ذلك " إشارة إلى عدم وجوب نصب ناطور على البائع. (4) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2).

المستحق بالعقدِ، فصارَ كما لو جَرى التلفُ مقدّماً على التسليم، وما يستند إلى سبب سابق في العقدِ يتنزل منزلةَ ما لو سبق هو بنفسه. والدليل عليه أن البائع لو أبرأ المشتري عن شيءٍ من الثمن، لم يسقط ذلك عن الشفيع، ولو حُطّ مقدارٌ من الثمن أَرْشا لعيبٍ قديمٍ كان، فهو محطوط عن الشفيع لمكان استنادِه إلى العيب المقترن بالعقدِ. ومن أصحابنا من أجرى المسألةَ على قولين وإن كان التلف بسبب ترك السقي، ذكرهُ صاحب التقريب، وأورده الصيدلاني على وجهٍ سأُنبّه عليه بعد الفراغ عن الترتيب الذي أريده. وهذا الاختلافُ قريبُ المأخذِ من أصلٍ سيأتي في باب الخراج: وهو أن من اشترى عبداً مُرْتدّاً وقبضه، ثم قُتل بالردة في يده، فهذا التلفُ بعد القبضِ، ونفوذِ تصرّفِ المشتري، ولكنه مترتب على سبب سابق. فإن قلنا: العقد ينفسخ، فلا كلام. وإن قلنا: العقد لا ينفسخ، فسببُ التلفِ تَرْكُ السقي وهو اعتداءٌ من البائع. وإذا ترتب التلفُ على سببِ عدوانٍ، تعلق به الضمانُ، فالوجه أن نقول: إن لم يطلع المشتري على حقيقة الحالِ، حتى تلفت الثمار، فيضمنُ البائعُ لا محالةَ. 3061 - وإن بدا عَيْبٌ بالثمارِ لترك السقي، فكيف الوجه فيهِ؟ قال الصيدلاني: للمشتري أن يرد بالعيب، وزاد فقالَ: لو انقطعَ الماءُ، فله الرد بمجرد انقطاعِ الماءِ، ثم استتم الكلامَ فقال: إن فسخ، فلا كلامَ. وإن لم يفسخ حتى تلفت الثمارُ، ففي وضع الجوائح قولان. وهذا كلام مختلِطٌ، فانَّ ثبوت الخيار فرعُ وضع الجوائح، كما قدمتُه في التفريع على القولين. وكلام الصيدلاني يدل على أن الخيار يثبت على القولين. وهذا على إشكالهِ متفقٌ عليه من الأصحاب. فإذا عابت الثمارُ بسبب تركِ البائع السقيَ، فللمشتري الخيارُ، وإن حصل العيب بعد التسليم، ووقع التفريعُ على أن الجوائح لا توضع، وأن التالف بالآفة السماوية من ضمان المشتري، وتعليلُ ثبوتِ الخيارِ مع ثبوتِ اليدِ للمشتري تفريعاً على القولِ الجديد أن الشرع ألزمَ البائعَ تنميةَ الثمار بحكم العقدِ، فيصير العيبُ الحادثُ بهذا

السبب كالعيب المتقدم على القبضِ، وهو في ظاهرِ الأمر مشبه بخيار الخُلف؛ فإن الصفةَ المشروطةَ لا تستحق بمطلق العقد، وإذا شُرطت وأُخلِفت، ثبت الخيارُ. فإذا فُرض العيب في الثمارِ بسبب ترك السقي، فكأنا نقول: أجزاءُ الثمار كانت تزيد لو سُقيت، فإذا لم تُسقَ، فتركُ السقي تضمّن ألا تؤخذَ تيك الزوائدُ التي كان التزمَ التسببَ إلى وُجودِها، وهي تُضاهي على هذا الترتيبِ منافعَ الدار المُستأجرةِ، فإنها ستوجد شيئاً فشيئاً، والدار مسلّمة بنفسها. 3062 - ثم يَبِينُ حاصلُ المذهب بذكر صُورتين: إحداهُما - أن من اشترى عبداً مرتداً على علمٍ بردتهِ وقبضه، فلا ردَّ له لمكان علمهِ. فلو قُتلَ في يدهِ، ففي الانفساخ وجهان. والصورةُ الثانيةُ - أن يشتريَ عبداً مرتداً ولا يدري رِدَّتَه، فإذا اطلع على رِدته، ردّهُ بالعَيب (1)، ولو قُتل لردّتِه قبلَ علمهِ، ففي الانفساخ وجهان أيضاًً، ولكن بالترتيب على صورة العلم، فالخيارُ يختصُّ ثبوتُه بالجهلِ بالردة، والانفساخ على الاختلاف في حالتَي العلم والجهل. 3063 - فإذا ثبتَ ذلك، قلنا بعدهُ: التلفُ بآفةٍ سماوية فيه القولان، والأصح أنه من ضمان المشتري، ويمكن أن يقرب من مسألة الردّة، من جهة أنه تعرض [للآفة] (2) تعرّض المريض، ولو اشترى عبداً مريضاً، فتلف بذلك المرض، فقد خرّجَ بعضُ الأصحاب هذا على الخلاف في قتل العبدِ المرتدّ في يد المشتري. ولو كان هلاكُ الثمارِ وتلفُها بسبب ترك السقي، فلا يبعد الخِلاف في الانفساخِ، لمكان يد المشتري، أما الخيار فسبَبهُ استحقاقُ حق السقي على البائع، مع عدم الوفاء به. ولو اشترى عبداً مرتداً، ولم يكن عالماً بردتهِ، فلما علم لم يَردّه بالعيبِ، فيبطل خيارُه، فلو قتل بالردّةِ، فالأمر على خلافٍ في الانفساخ، كما لو علم بالردة حالةَ الشراء.

_ (1) ساقطة من (هـ 2). (2) في الأصل: الآفة.

كذلك إذا عابَت الثمارُ بتركِ السقي، نظر: فإن لم يشعر المشتري حتى تداعَى الأمرُ إلى التلف، فلا خيارَ بعد التلفِ، والانفساخُ على الخلاف. ولكن إن حكمنا بالانفساخ، ارتدَّ الثمن إلى المشتري، وإن قُلنا: لا ينفسخ وقد انقطع الخيار من غير تقصير من المشتري في ترك الفسخ، فعلى البائع قيمةُ الثمار إن لم تكن من ذوات الأمثال، وإن جعلناها من ذوات الأمثال، فعليه المِثل، ويصيرُ تركُ السقي منه بمثابة جنايةٍ ذاتِ سَريان، فإذا تمت السرايةُ وتحقق التلفُ، وجب ضمان التالف على الجاني. هذا إذا لم نحكم بالانفساخ، ولم ينتسب المشتري إلى ترك الخيارِ. فأمَّا إذا علم المشتري بالعيب وترتُّبه على ترك السقي، فله الخيار، فلو رضي، بطل خيارُه، فلو تَداعَى العَيبُ إلى التلفَ، فإن قُلنا: ينفسخ العقد. فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ، فهل يغرَم البائع بدل التالفِ لعدوانهِ، فعلى جوابَين أشار إليهما الأئمة: أحدهما - أنه لا يغرَمُ شيئاً، وكان من حق المشتري أن يفسخَ؛ إذْ أثبت الشرعُ له خياراً. والثاني -[أن عِوضَ الثمار يجب على البائع لعدوانه، وموجَبُ العدوان] (1) لا يسقط بترك المتخيِّر خيارَه. وهذا يقرب مما قَدَّمناه في أثناء فصل الحجارة المستودَعة، فإنا قلنا فيها: إذا علم المشتري أن ضرراً سيلحَقُه بسبب القلع، فله الخيار، فلو لم يختر والحالةُ هذه، ونقل البائع، فهل يغرم المشتري ما ينقصه القلعُ؟ فيه أوجهٌ ذكرتُها ثَمَّ. فهذا ترتيبُ القولِ في الجوائح والآفات التي تلحقُ الثمارَ، ما غادرنا غامضةً إلا غُصنا عليها. فإن قيل: إذا أوجبتم على البائع قيمة ما تلف، فقد حططتم عنه شيئاً؛ فإنه التزم شرعاً تنميةَ الثمارِ وتبليغَها المنتهى، ولولا ما جرى، لانتهت الثمار إلى غايتها، فهلا غرّمتم البائعَ عوضَ الرُّطب الكاملِ مثلاً، أو قيمته، ولم اجتزأتم بتغريمه عوض البلحِ (2) أو المذنبِ (3)؟ قلنا: إذا كنا نُلزمُه بطريق الإتلاف، فلا نلزمُه إلا عِوضَ

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) البلح: ثمر النخل، مادام أخضر، قريباً إلى الاستدارة، حتى يغلظ النوى. (مصباح). (3) المذنَّب: ثمر النخيل إذا ظهر فيه شيء من الإرطاب من قبل ذنبه. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي).

ما تلف، ولا ننظر إلى ما كان يكون لولا التلف، فإنَّ كل ما (1) يُتلَف بلحاً على إنسان بهذه المثابة. وهذا تمام البيان في ذلك. * * *

_ (1) كذا في جميع النسخ (ما). والمعنى أن كل مُتْلَفٍ يراعى في تضمينه حالة الإتلاف، لا القيمة التي سيكون عليها مستقبلاً. وقد تكون (ما) مستخدمة هنا للعاقل بمعنى (من)، وذلك سائغ.

باب المزابنة والمحاقلة

بَابُ المُزابَنةِ وَالمحاقَلَةِ 3064 - المحاقلةُ معناها بيعُ الحَب في السنبل بالحنطة على تخمينٍ في المساواة، وهذهِ المعاملةُ باطلةٌ وِفاقاً، ونَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم محمولٌ عليها. وفي البَابِ النهي عن المزابنة، ومعناها عند الأئمة بيعُ الرطب على رؤوس الشجرِ بالتمر الموضوعِ على الأرض، وهذا على صورة المحاقلة في الزرع. وبيعُ العَرايا من قبيل المزابَنةِ التي أجملنا ذِكرَها. وهو صحيحٌ، كما سيأتي في الباب الذي يلي هذا. وفيه يبينُ تميّز ما يصح عمَّا يفسُد. والمحاقلةُ مأخوذةٌ من الحقل، والحقلُ ساحةٌ تزرع، وسُمّيت المعاملة محاقلةً، لتعلقها بزرعٍ في حقل. والمزابنة معناها المدافعةُ والزَّبْنُ الدفع، سُميت المعاملة بذلك لأنها إذا ابتنت على تخمينٍ في التقدير أورثت في عقباها تنازعاً، وتدافعاً بين المتعاقدَيْن. ولو باع الرجل الزرعَ قبل بَدْوِ (1) الحبّ فيه بالحنطة، فلا بأس؛ فإن الزرع حشيشٌ بعدُ غيرُ معدودٍ من المطعومات، وهذا [لا خفاء به] (2). * * *

_ (1) بَدْو: ظهور. وهو مصدر: بدا يبدو. بُدُوّاً، وبَدْواً. (2) في الأصل: وهذا (غير لاحق به).

باب بيع العرايا

بَابُ بَيع العَرَايا قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن داود بن الحُصين عن أبي سفيانَ مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرخَصَ في بيع العَرايا فيما دون خمسةِ أوسق، أو في خمسة أوسق" الشك من داود ... إلى آخر الباب" (1). 3065 - إذا باع رجل الرطب على رؤوس الشجر بالتمر الموضوع على الأرض، وخرصَ الرطبَ قدراً، ثم قدّره تمراً، ثم باعه بخرصِه من التمر الموضوع على الأرضِ، وجرى البيعُ فيما دون خمسةِ أوسق، فالبيع صحيح عند الشافعي، ومعتمدُ البابِ الخبرُ الذي رَواه أبو هُريرة (2). وروى بيعَ العَرايَا على أكمل وجهٍ في البيان زيدُ بنُ ثابتٍ (3) كما ذكَرتُه في الخلاف. ثم لا يجوز إيراد هذه المعاملةِ على أكثر من خمسة أوسق من التمرِ، ويجوز إيرادُها على دون خمسة أوسق، وفي تصحيحها في الخمسةِ الأوسُق تردّدٌ للشافعيّ وتميُّلُ قولٍ، ولفظه في المختصر: " وأَحَبُّ إليَّ أن تكون العريَّة أقلَّ من خمسة أوسق، ولا أفسخه في الخمسة، وأفسخهُ في أكثر ". فقطع بالصحة فيما دون الخمسَة وقطعَ بالفسادِ فيما زاد على الخمسة، ومال إلى الصحة في الخمسة، [وذكر أصحابنا قولين للشافعي مرسلين في الخمسة.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 175، 176. (2) حديث أبي هريرة: رواه الشافعي، في مختصر المزني: 2/ 175، ورواه البخاري: البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخيل، ح 2190، وانظر الحديث رقم 2382، ورواه مسلم: البيوع، باب بيع الرطب بالتمر، ح 1541، وانظر التلخيص: (3/ 69 - 70 ح 1220). (3) حديث زيد بن ثابت رواه الشافعي في المختصر: 2/ 176، 177، ورواه البيهقي في المعرفة: ح 2446، وانظر التلخيص: (3/ 70 ح 1221).

واختار المزني الفساد في الخمسة] (1)، وما ذكرهُ ظاهر متَّجه، فإن التعويل على الحَزْر. والخرصُ في طلبِ المماثلةِ في الربويات خارجٌ عن القياس، والذي نحكم بصِحَّته مستثنى عنه ملحق بالرخص، وقد ورد في بعض الألفاظ تصريح بهذا: رُوي أنه " نهى عن المزابنة وأرخص في العرايا " (2) الحديث. 3066 - وإذا كان كَذلك فالأصل أن يطّرد التَّحريمُ الثابت على موجَب القياس، والنهي المطلق عن المزابنة، ولا يثبت التصحيح في هذا النوع إلا على ثَبَتٍ، والروايةُ مترددة في الخمسة، وقد رَوينا في صدرِ الباب أن داودَ بنَ الحصين هو الذي تشكك، وإنما ذكرت هذا لأقطع وهمَ من يَعزِي هذا اللفظَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فيما دونَ خمسةِ أوسق، أو في خمسةِ أوسق" فإن هذا لو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان تخييراً، فإذا كان التردُّد من الراوي، فالخمسةُ مشكوك فيها، ومعنا الأصلُ الثابتُ في التحريم، فينبغي أن نطردَه. ومن قالَ بالتصحيح في الخمسةِ، وهو ظاهر النَّصِّ، فتوجيهه عسرٌ جداً، ولستُ أرَى طريقاً في التوجيه إلا أن تُحمَل المزابنَةُ على معامليما صادرة عن التخمين من غير ثَبَتٍ في الخَرْص، ولعلَّ المعاملةَ سُمّيت مزابنة لذلك، لاشتمالِها على المدافعة في غالب الأمر، ولا بُدّ وأن نتخيَّل الخرصَ متأصِّلاً في دَرْك المقادير، حتى ينقدِح لهذا القول وجهٌ. ومنتهى الإمكانِ فيه أن الخرصَ معتبر في الزكاة، سيّما إذا جعلناه تضميناً، والماهرُ فيه يقلّ خطؤه، والأخرقُ بالكيل يتفاوتُ ما يكيله، والكيل بالإضافةِ إلى الوزن، كالخرص بالإضافة إلى الكيل. وفي كل حالة تقدير معتاد لائق بها، فليقم

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وانظر اختيار المزني في المختصر: 2/ 178. (2) لفظ " أرخص في العرايا " ورد في حديث سهل ابن أبي حثمة، وقد رواه الشافعي في مسنده، ورواه أحمد: 4/ 2، وأخرجه البخاري: البيوع، ح 2191، ومسلم: البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر، ح 1540، وورد في حديث أبي هريرة السابق أيضاًً، ر. التلخيص: (3/ 69 ح 1219).

الخرصُ في الرطب الذي لا يمكن كيلُه مقامَ الكيل فيما لم يمكن كيلُه، والكيل على حالٍ أيسر من الوزن، والوزن أحصرُ من الكيل، فإذا احتمل الكيل ليُسرِه مع إمكان إجراء الوزن، فليُحتَمل الوزنُ، حيث لا يتأتى الكيل. والشافعيُّ منعَ بيعَ التمرِ بالرطب لما تخيّلهُ من التفاوت عند تجفيف الرطب، ومتمسكه قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب إذا يبس " وهذه إشارةٌ من الشارع إلى المآل، فإذاً ما وراء الخمسة مردود بذكر الخمسة؛ فإن التقدير ينقصُ في اقتضاء المفهوم. فهذا أقصى الإمكان في توجيه النص، وهو على نهايَةِ الإشكال. 3067 - ثم نفرّع على ما مهدناه مسائلَ، منها: أنه إذا اشترَى رجل في صفقاتٍ أَوساقاً كثيرة، وكل صفقةٍ لا يزيد مضمونُها على ما دون الخمسةِ، فالكل صحيحٌ، وحكم كل صفقة مأخوذٌ من مضمونها، لا تعلق لها بغَيرها. ولو اشترى رجلان من رجل تسعةَ أوسق، فالبيع صحيح بلا خلاف؛ فإن إطلاق البيع يقتضي أن يملكَ كل واحدٍ من المشتريَيْن أربعةَ أوسقٍ ونصف، فلم يدخل في ملكِ كلّ واحد منهما إلا ما ينقصُ عن الخمسةِ. ولو باع رجلان تسعة أوسق من رجل واحدٍ، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من أبطل البيعَ، وهو الذي اختاره صاحبُ التلخيص ووجهه أنه لو صح العقد، لدخل في مِلكهِ تسعةُ أوسقٍ بطريق الخَرْص دفعةً واحدة، وهذا يخالف مقصودَ الخبر، وإذا تحققت المخالفةُ، فلا فرق بين أن يتعدّدَ البائع أو يتَّحد. ومن أصحابنا من صحح العقدَ، لأن الصفقةَ تتعدّدُ بتعدد البائع في العَهْد والردّ، فيجعل كأن المشتري اشترى أربعةَ أوسُقٍ ونصف في صفقة، واشترَى مثلَها في صفقةٍ أُخرى. فترتيب المذهب إذاً أنه لو باع رجلان من رجلين، فاعتبار الخرصِ تسعةُ أوسق، فالبيع صحيح. ولو اشترى رجل من رجلين تسعة أوسق، فالبيع على الخلافِ. ولو اشترى رجلان من رجلٍ تسعةَ أوسق، فالبيع صحيح بلا خلاف.

3068 - ومما يجب التنبهُ له بعدما أعدنا الأقسامَ أنَّ الرجل الواحدَ إذا اشترى من رجلين شيئاً، واطلع على عيب، فالصفقةُ محمولةٌ على التعدد في حكم الردّ، وللمشتري أن يرد ما اشتراه من أحد البائعين، ويُمسِك الباقي. ولو اشترى رجلان من رجل، واطلعا على عيبٍ، فهل ينفرد أحدُهما بالرد؟ فعلى قولين، سنذكرهُما في باب الخراج، فحكم الرد على مناقضة ما نحنُ فيه، والسبب في ذلك أن المرعي في كل أصل ما يليقُ به، وإذا اتحد البائع فقد تخيّل بعض العلماءِ أن المبيع خرج عن ملكه دفعة واحدة، فلو رجع إليه بعضُه، لكان خارجاً بعيبٍ عائداً بعيبين، وإذا تعدد البائع فردَّ المشتري تمامَ ملكِ أحدهما عليه، فردُّه لم يتضمن تبعيضاً عليه لم يكن قبل البيع، والمقصود المعتبر في بيع العرايا ألاَّ يملك الرجلُ دفعةً واحدةً خمسةَ أوسق، أو أكثرَ من خمسةٍ. وهذا الأصل يوجبُ ما ذكرناه من الترتيب في محلّ القطع والخلاف. وقد انتظم من مجموع ما ذكرناه أنا في طريقةٍ نبغي ألاَّ نزيدَ على محل النصّ، وفي طريقة أخرى نثبت الخرصَ أصلاً، ولا يبعد تنزيلُه منزلةَ الكيل، ويفسد ما يفسد بالنصّ الدال على الفساد. 3069 - ونحن الآن نُخرّج على ما ذكرناه مسائلَ في الباب منها: أنه لو بيع الرطبُ الموضوعُ على الأرض المقطوفُ بخرصٍ من التمر، فإن بنينا الباب على الاتباع، فهذا ممتنع، فإن الخبر وردَ في الرطب على رؤوس الشجر. وإن جعلنا الخرص أصلاً سوّغنا هذا. و [لو] (1) باع الرطبَ بالرطبِ على تقدير المُساواةِ بخرصهما تمرين، فقد ذكر العراقيون ثلاثة أوجه: أحدُها - المنعُ، وهو على طريقةِ الاتباع. والثاني - الجَواز، وهو على طريقة تسويغ الرأي، والقياس. والثالث - الفصل [بين] (2) أن يكون الرطبان، أو أحدهما على الأرض، وبين أن يكونا جميعاً على الشجر، فإن كانا

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل.

جميعاً على الشجر، جاز؛ فإنه قد يكون لهما غرضٌ في استبدالِ الرطبين، بأن كان يهوى كلُّ واحدٍ منهما النوعَ الذي لصاحبه. وهذا لا يتحقق في الرطب الموضوع على الأرض؛ فإن الغرض الذي أشار إليه الخبرُ أن يبذل الإنسانُ فاضلَ قوتهِ من التمرِ، ويستبدل عنه رُطباً على الشجر يأكلُه، على مرّ الزمن، شيئاً فشيئاً مع أهله رطباً، وهذا لا يتحقق في الرطب الموضوع؛ فإنه بين أن يفسدَ، وبين أن يجفَّ. 3070 - ومن مسائل الباب أن الخبر الذي رواه زيدُ بنُ ثابت مختصٌّ بالفقراء، فإنه قال: " جاء طائفةٌ من فقراءِ المهاجرين والأنصار، وقالوا: إن الرطب يأتينا، وليس بأيدينا نقد، ومَعنا فضولُ قوتٍ من التمر ". الحديث. وظاهر المذهب أنَّ صحةَ بيع العَرِيّة لا يختص بالفقراء؛ فإن إرخاصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرية مطلق في الألفاظ، وما ذكرهُ زيدٌ حكايةُ حالٍ أداها على وجهِها. وذكر بعضُ أصحابنا قولاً بعيداً أن صحةَ بيعِ العرايا تختص بأصحاب الحاجةِ، وهذا مذهبُ المزني. وبيع الجاف بالرطب في سائر الثمار بناه الأصحابُ على القولين في أن الخرصَ هل يجري في ثمارِ سائر الأشجار؟ وفيه اختلافٌ قدّمتُه في كتاب الزكاة. فإن قلنا إنه لا يجري، فالبيع ممتنع لتحقق الجهالة، وإن قلنا: يجري الخرصُ فيهَا، فبيعها باعتبار الخرص يخرج على الخِلافِ المقدم، في الاتباع وطريق الرأي، فمن سلكَ الاتباع منعَ البيعَ، ومن جوَّز الرأيَ سوَّغ هذا. وحق الفقيه أن لا يغفل في تفاصيلِ المسائلِ عما مهدناه في كتاب الزكاة من تفصيل القول في بيع الثمار، وفيها حقُّ المساكين، ولا حق فيها. والتنبيه كافٍ. * * *

باب بيع الطعام قبل أن يستوفى

باب بيع الطعام قبل أن يُستوفى قال الشافعي: "أخبرنا مالاً عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع الطعامَ لا يبعْه حتى يستوفيَه". قال ابنُ عباس: أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الطعام أن يباعَ حتى يكتال، قال ابن عباسٍ برأيه: ولا أحسِب كلَّ شيءً إلا مثلَه ... إلى آخره" (1). 3071 - الأصل في الباب الحديث الذي رواه الشافعي (2) ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى عتاب بنِ أَسِيد "انهَهُم عن بيعِ ما لم يقبِضُوا وربحِ ما لم يضمنوا" (3) ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيعِ ما لم يُقبَض، وربح ما لم يُضمن " (4). ومأخذ الباب يستند إلى أصولٍ منها: بيانُ حكم الضمانِ، فالمبيع قبل التسليم إلى المشتري من ضمان البائع، والمعنيُّ به أنه لو تلف، انقلب إلى ملكهِ قبل التلف، ولذلك ينفسخ العقد، كما سنقرره في باب الخراج، ومن أثر الضمان أنه لو عاب المبيعُ، ثبت الخيارُ للمشتري، ونزل العيب الطارىء في يد البائع منزلةَ العيب المقترن بالعقد، حتى كأن العيبَ حَدَثَ في ملكهِ، ثم طرأ البيعُ.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 180، 181. (2) الحديث الذي رواه الشافعي، متفق عليه من حديث ابن عمر، بهذا اللفظ، وغيره، البخاري: البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، ح 2124، وأيضاًً، ح 2126، 2133، 2136، ورواه مسلم: البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، ح 1526. (3) حديث كتاب عتاب بن أَسِيد، رواه ابن ماجه: التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، ح 2189، والبيهقي في السنن: 5/ 313. (4) رواه ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، ح 2188) وراجع في هذا الحديث وما قبله التلخيص: (3/ 59، 60، أحاديث 1203، 1204، 1205، 1206).

فهذا أحد الأصول. وينشأ منه الحكم بضعف ملك المشتري. وقد جمع الشافعي بين الضمان وضعفِ ملك المشتري. وممَّا يتردد الكلام عليهِ كونُ المبيع محبوساً بالثمن على قولٍ، ثم إذا سَلّمَ المبيعَ إلى المشتري، قيل: انتقل الضمان إليه، والمعنيُّ به استمرارُ ملكه، حتى لو فرض تلَفٌ أو عيبٌ، كان محسوباً على المشتري. فإذا ثبتت هذه التراجم، فنجري بعدها على ترتيب السواد (1)؛ فنذكر تصرفات المشتري في المبيع، ونذكرُ بعدها تفصيلَ القول في كل مقبوض، ثم نندفع في مسائل الباب. 3072 - فأما القول في التصرفاتِ، فبيع المشتري في المبيع قبلَ القبض مردودٌ، والأخبار شاهِدة، وذكر الفقهاءُ في ضبط المذهب أن الضمانَين لا يتواليان، وعَنَوْا به أنا لو قَدّرنَا نفوذَ بيع المشتري في المبيع قبلَ القبض، لكان مضموناً على البائع الأول للمشتري، ثم يكون مضموناً على المشتري الأول للمشتري الثاني، ولا حاجة إلى هذا مع الخبرِ، وما أشرنا إليه من ضعف المِلك، بسبب ثبوت الضمان على البائع. وامتناعُ البيع في المبيع قبل القبضِ ليس معلَّلاً بحق البائع؛ فإن البائع وإن رضي ببيع المشتري، لم ينفذ بيعُه، والغالب على هذا الأصل التعبُّدُ. ثم لا فرقَ بين أن يقدَّر البيعُ قبل توفيةِ الثمن على البائع، وبين أن يقدَّر بعدَها؛ فإنَّ امتناع البيع ليس مبنياً على حق البائع.

_ (1) مرةً ثانية تقابلنا لفظة "ترتيب السواد"، ولا ندري المقصود بها. وإن كنا نظن ظناً أن المراد سوادُ المؤلفات والمصنفات. مجرد ظن لا قرينة تعين عليه. بل ترجح عندنا إلى ما يشبه اليقين أن (السواد) هو مختصر المزني. أما لماذا يسميه السواد، فلم نصل إلى تفسيرٍ له. قلت: هذا التعليق كتبته قبلاً على مرتين -كما يظهر من قراءته- بينهما فترة زمنية ربما تصل إلى سنوات، فقد استغرق العمل في هذا الكتاب أكثر من عشرين عاماً. والذي نزيده اليوم هو ما أخذناه عن شيخنا أبي فهر "أن لفظ (السواد) يستعمل بمعنى الأصل والمتن، وعليه شواهد، وإن لم يكن منصوصاً فيما بين أيدينا من معاجم".

هذا تفصيل البيع. 3073 - ولو أعتق المشتري العبدَ المشترَى قبل القبض، فالذي قطعَ به الأئمةُ أن العتقَ ينفذُ بعد توفيةِ الثمن على البائع؛ فإن العتقَ ليس تصرفاً يقتضي ضماناً، وقد صَادفَ ملكاً لازماً، من غير اعتراضٍ على حق الغير. وفي بعض التصانيف رمزٌ إلى وجهٍ بعيدٍ، في أن العتقَ لا ينفذ. وهذا لا وجهَ له. فأما إذا أعتق المشتري العبدَ قبل تَوْفية الثمن، فإن قلنا: ليس للبائع حق حبس المبيع، (1 فالعتقُ ينفذ نفوذَه بعدَ توفيةِ الثمن. وإن أثبتنا للبائع حقَّ حبس المبيع 1)، ففي نفوذ عتق المشتري ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنه ينفذ لمصادفته ملكَ المعتِق. والثاني - لا ينفذ لتضمنه إبطال حق البائع من الحبس. والثالث - أنه يفصل بين أن يكون المشتري موسراً بالثمن، وبين أن يكون معسراً. وهذا الوجه ذكره صاحب التقريب، وذكر مثلَه في إعتاق الراهن. والخلافُ في ذلك كالخلافِ في عتقِ الراهن. وكان شيخي يجعل عتقَ المشتري أَوْلى بالنفوذ من عتق الراهن؛ من جهة أن حقَّ الحبسِ يثبتُ تابعاً غيرَ مقصودٍ، والرهن يُثْبت للمرتهن حقَّ الاختصاص قصداً، ولذلك عُقد الرهن، ثم أُكد بالتسليم. 3074 - ومن تصرفاتِ المشتري الإجارةُ، فلو أجر الدارَ المشتراةَ قبلَ القبض، وقبل تسليم الثمن. والتفريعُ بعدَ هذا نُجريه على ثبوتِ حقّ الحبس للبائع، فإذا أجر، ففي صحَّة إجارته وجهان: أصحهما - الصحَّةُ؛ فإنَّ ضمانَ عقدِ الإجارةِ لا يَرِدُ على محلّ ضمان عقد البيع؛ إذ المقصودُ من الإجارة المنافِعُ، وليست هي المبيعَ، فلا وجهَ لمنع الإجارة عن جهة الضمان، ولا وجه لمنعِها من جهة حقِّ الحبس الثابت للبائع؛ فإن ذلك لا يزيد على حقِّ المرتهن، وإجارةُ المرهون جائزةٌ على تفصيلٍ سيأتي في الرُّهون إن شاء اللهُ عز وجل. ومن أصحابنا من منع صحةَ الإجارة؛ من جهة استدعائها ملكاً تامّاً، والمِلكُ في المبيع قبل القبض ضعيفٌ، ثم هذا القائل لا يفصِلُ في منعِ الإجارةِ بين ما قبل تسليم

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).

الثمن، وبين ما بعده؛ فإن معتمده ما ذكرناه من ضعف الملك. وهذا يطَّرد إلى قبض المشتري. وتزويجُ المشتري الجاريةَ المبيعةَ قبل القبض يَنْزِلُ منزلةَ إجارته إياها في الخِلافِ المقدم. ولا شك أن التزويجَ مُنقصٌ للقيمة. وإذا كان كذلك أمكن أن نفصِل بين أن يزوّج قبل تسليم الثمن، وبين أن يزوّج بعدَ تسليمه إذا أثبتنا حقَّ الحبس. والإجارةُ ربما لا تؤدِّي إلى تنقيص القيمة، وفيها الخلافُ المقدَّمُ، وإن أدت إلى تنقيص القيمة. وقد ينتظم فيها وجهٌ أن نفرِّق بين ما قبل التوفيةِ وبعدَها. ولا خِلافَ أن من استأجر داراً ثم أخرَها قبلَ القبضِ، لم تنفذ إجارتُها والسببُ فيهِ ظاهرٌ، وهو أن الإجارةَ موردُها المنفعةُ، فازدحام إجارتين على منفعةٍ قبل القبض باطل، كما يبطل ازدحامُ ضمانَي بيعين على مبيعٍ واحد. 3075 - ولو رهن المشتري المبيعَ قبل القبض، أو وهبهُ؛ فإن كان ذلك بعد تسليم الثمن، فهو كالعتق في هذا الأوان، ثم إن رَهَنَ، أو وَهَب، وأراد التسليمَ، لم يَمنع منه البائعُ، وقد توفر الثمن عليهِ، والمشتري بالخيار إن شاء، [ألزمَ] (1) الرهنَ والهبةَ بالإقباض، وإن شاء، لم يفعل. وإن فُرِضا -نعني الهبةَ والرهنَ- قبلَ تسليم الثمن، فقد ذكرَ الأئمةُ وَجهين في نفوذهما، كالوجهين في العتق في هذا الوقت. ثم أجمعُوا على أن للبائع أن يمتنع عن التسليم إذا أثبتنا له حقَّ الحبس. وفائدةُ صِحةِ الرهن والهبة أن حق البائعِ إذا زال وقبَضه المشتري، فإن حكمنا بفساد الرهن والهبة أولاً، فهو ساقطٌ ملغىً، وإذا حكمنا بالصحةِ، فلا يُحتاجُ إلى تجديد عقدٍ، وهو على خِيرَتِه في الإقباض. وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً، فقالَ: أما الهبةُ فعلى ما ذكرهُ الأصحاب، ويجوز أن يقال: لا يصح الرهن، وإن صحتِ الهبةُ، لأن الرهنَ قرينُ البيع؛ إذ لا يُعنى به إلا البيعُ في حق المرتهن، وكل ما امتنعَ بيعُه، امتنع رهنُه، وقياس هذا يوجب إبطالَ الرهن، بعد توفية الثمن. كما يمتنع البيعُ في هذا الوقت.

_ (1) في الأصل: أبرم.

3076 - ثم ذكر الشافعيُّ بعد الكلام في المبيع تفصيلَ الأيدي التي لا يمتنع بها نفوذُ البيعِ وغيرِه من التصرفات. والوجه أن نذكر أولاً ما اختلفَ علماؤنا في إلحاقه باليد في البيع. فنقول: منها تصرفُ المرأة في الصداق قبل القبض، وهذا يُخَرّج على قولين مشهورين في أن الصداق مضمونٌ (1) بالعقد أو باليدِ، وسيأتي شرحُ ذلكَ في كتاب الصداق - إن شاء الله تعالى. ومن ذلك الإقالةُ. وقد اختلف القولُ في أنَّها بيعٌ، أو فسخٌ، فإن [جعلناها] (2) فسخاً، فلو تقايَلَ المتبايعان، وكانا تقابضَا العوضين في البيع، فلكلٍ منهما أن يتصرَّف في العِوَض الذي ارتدَّ إليهِ مِلكُه قبل أن يستردّهُ؛ فإن العقدَ إذا انفسخ، فليست يدُ واحدٍ منهما بمثابة يد البائع في المبيع؛ من جهة أن التلف يردُّ المبيعَ إلى مِلك البائع، ولو فرض التلف في أحدِ العوضين، أو فيهما، والتفريع على أن الإقالة فسخٌ، فيتلفُ كلُّ عِوضٍ على مِلك من كان مِلْكَه قبل التلف. ثم الكلام في ضمان القيمة لمن كان مالكاً للعَيْن يأتي مستقصىً في موضعه، إن شاء الله عز وجل. وقَدرُ الغرض منه ما ذكرناه من أن الملك لا يزول بفرض طريان التلف. وإن حكمنا بأن الإقالة بيعٌ، فالعوضُ المعيَّنُ في يدِ كلِّ واحدٍ منهما بمثابة المبيع قبل القبض، وكأنَّهما تبايَعا على التبادل في العِوضين تبايُعاً جديداً، والأجرةُ المعيّنة في الإجارة بمثابة المبيعِ، والبَدلُ المعيّنُ في الخُلع والصُّلح عن الدم، بمثابة الصداق. فهذا بيان الأيدي على ما يُعد عِوضاً، أو يقرُبُ من معاوضة. 3077 - ومن رَدّ بالعيب ما اشتراه، ففُسِخَ العقدُ، ولم يرفع بعدُ يده، فالبائع يتصرَّف فيه قبلَ الاسترداد، كما ذكرناه في الإقالة على قول الفسخ.

_ (1) ساقطة من (هـ 2). (2) في الأصل: جعلنا، وفي (هـ 2): جعلناه. والمثبت تصرفٌ من المحقق.

فأما سائرُ الأيدي. فإذا ثبتت يدٌ على ملكِ الغير، ولم تكن يدَ معاوضة، وملك المالك تامٌّ، وهو قادِرٌ على رَدّ المِلكِ إلى يَدِ نفسهِ، فبيعُه نافذ سواءٌ كانت تلك اليد يدَ أمانةٍ، أو يدَ ضمان، فيدُ الأمانة كيدِ المودَع والمقارِض قبل أن يربح، وغيرِهما. ويدُ الضمان كيد الغاصب، والمستعيرِ، والمستام. ولو وهبَ شيئاً وسلّمه، وكان يثبت له حق الرجوع، فرَجع في الهبَةِ وبقيت العينُ في يَد المتَّهِبِ، فتصرّف الراجع نافذٌ، لما قدمناه. وإذا قبلَ الموصَى له الوصيّةَ النافذةَ، والعين الموصَى بها في يدِ الورثة، فتصرُّفُ الموصَى لهُ نافذٌ قبل قبض العين، إذا استمكنَ من أخذها. وإن تصرَّف قبلَ قبول الوصية، خرج هذا على تفصيلِ القولِ في أن المِلك في الموصَى به متى يحصل؟ وهذا سيأتي مقرراً في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى. فهذا منتهى البيان في ذلك. فصل قال: " ومن ابتاع جُزافاً ... إلى آخره " (1). 3078 - هذا الفصل مضمونُه بيانُ القبضِ ومعناه، واختلافِه في المقبوضات على حسب اختلافها، فنقول: المقبوضاتُ ثلاثةُ أقسام: ثابتٌ لا يُنقَل. ومنقولٌ مقدّر، وَرَدَ البيعُ عليه باعتبار التقدير فيه. ومنقول غيرُ مقدّرٍ، أو قابل للتقدير، أُورد البيعُ عليه جزافاً. فأما الثابت، فهو العَقارُ، والقبض فيهِ التخليةُ، والقولُ التام في التخليةِ ومعناها، أنها تمكينُ القابض مع تمكنه من إثبات اليد عند ارتفاع يدِ الممكن. وهذا يستدعي حضورَ المقبوض والقابض، معَ التمكن الذي ذكَرناهُ. ولو كانت العينُ غائبة، ففي تحقيق التمكينِ منها كلامٌ سأذكره في كتاب الرهون، إن شاء الله تعالى.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 181.

هذا في الثابت الذي لا ينقل. 3079 - فأما المنقول الذي ليس مقدَراً، أو كان مقدَّرا ولكن اشتُريَ جزافاً، فالمذهب أن القبضَ فيه (1) لا يتتمُّ إلا بالنقلِ والتحويلِ، على ما أصفه الآن. وذهبَ مالك (2) إلى أن التخليةَ فيه كافٍ، ونقل حرملةُ قولاً للشافعي مثلَ ذلك. التوجيه: من اعتبرَ النقلَ، استمسكَ بالعادةِ، والعادةُ مطرَدَةٌ بنقل ما يمكن نقله في [القبوضِ] (3). ومن لم يشترط النقلَ، احتجَّ بان الغرضَ من القبضِ ظهورُ تمكُّن القابضِ بتمكين المُقْبضِ، وهذا المعنى يحصُل بالتخليةِ والتمكينِ التام. فإن قلنا بذلك، فالمتبعُ ما ذكَرناه من التمكين والتمكُّن. وإن شرطنا النقلَ، لم نشترط التحويلَ إلى مسافةٍ بعيدةٍ، ولكن اكتفينا بما يُسمَّى نقلاً. 3080 - وهذا يبين بذكرِ صورتين: إحداهما - أن نَفرض البيعَ وحُضُورَ المبيع في بقعةٍ لا اختصاصَ لها بالبائع، مثل أن يتفق ما ذكرناه في شارع أو مسجدٍ، أو موضعٍ مباحٍ، أو في موضعٍ مخصوص بالمشتري، فإذا [جَرَى] (4) ذلكَ في أمثالِ هذه الأماكِن، ثم نقله المشتري بإذن البائعِ من الحيزِ الذي فيه البائعُ إلى حيز آخرَ يراه (5)، فهذا نقلٌ كافٍ. ولو أن البائع في هذهِ الصوَر نقلَ المبيعَ من جانبه إلى جانبِ المشتري، ومكنه من قبضِه، والاحتواءِ عليهِ، فقد حصل القَبضُ الناقلُ للضمان، والمسلّطُ على التَّصرُّفِ، وإن لم يُوجد من المشتري فعل ولا استدعاءٌ، [بل] (6) يَحصُلُ القبضُ، وإن كرههُ المشتري.

_ (1) ساقطة من (هـ 2). (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 548 مسألة 891. (3) في الأصل: المقبوض. (4) في الأصل: فرض. (5) في (هـ 2): يخاف. (6) ساقطة من الأصل.

والسببُ فيه أن القبضَ مستحَق على البائع، فإذا أتى به، وقعَ على جهةِ الاستحقاق وإن أباه المستحِق. وفي بعض التصانيف وجهٌ آخر: أن هذا لا يكون إقباضاً ما لم يقبله المشتري، كما لو وضع مالكُ العينِ عين مالهِ (1) بَيْن يَديْ إنسان، وقالَ: أودَعتُها عندكَ، فهذا لا يكون إيداعاً ما لم يقبل المودَع. وهذا الوجه عندي يخرّج على قولٍ: وهو أن من عليه دينٌ حالٌّ إذا جاء به، فهل يُجبَر مستحِقه على قبولهِ؟ المذهبُ أنه يُجبَر، وفيه قول بعيدٌ أنه لا يُجبرُ. والقولان (2) مشهوران (3) في الدَّينِ المؤجَّل. فإن قُلنا: لا إجبار، فلا يكون ما جاء بهِ إقباضاً، وإن قلنا: إنه يجبرُ، فالظاهر أنه إقباضٌ وفيه احتمالٌ. ولا يَبعُد أن يقال: إذا لم نجعل هذا إقباضاً، فينوب السلطانُ عنهُ ويقبضُ. ولو كان بين البائع والمشتري مسافةَ التخاطبِ مثلاً، فلو رفعَ المبيعَ من جانبهِ، ووضعَه على نصفِ المسافةِ الكائنةِ بينه وبين المشتري وهو يَبغي بذلك الإقباضَ، ففي حصولِ القبضِ بذلك وجهان، ذكرهما شيخي. ولو كان وَضَعَه دون النصف، والمسافةُ الباقية وراء المبيع إلى المشتري أكثر من النّصفِ، فلا يكون ما جاء به نقلاً ناقلاً للضَمانِ وإقباضاً. ولو كان الباقي من المسافة أقلَّ مما بين البائع والمبيع، فالذي مضى إقباضٌ؛ فإنا لا نشترط أن نضع المبيع في حجر المشتري، أو بالقُرب منه. وللناظر فيما ذكرناه فضلُ نظرٍ، ومزيدُ تدبر فيه، إذا كانت المسافةُ بين المتبايعين أكثرَ من مسافةِ التقارب والتخاطب، وذلك بأن تكون عشرين ذراعاً مثلاً، فلست أرى النقلَ إلى بقعةٍ بينها وبين المشتري تسعةُ أذرعٍ إقباضاً، ويقرب أن يقال: ينبغي أن يقع المبيعُ من المشتري على مسافة تنالُ المبيعَ يدُ المبتاع، من غير احتياجٍ إلى قيام وانتقال.

_ (1) في (هـ 2): ملكه. (2) في (هـ 2): القولان (بدون واو). (3) ساقطة من (هـ 2).

ولا شك أن البائعَ لو نقل المبيع من حَيّزهِ إلى صوبٍ عن يمينه، أو عن يَسارهِ، وهو يبغي الإقباضَ والمشتري في مقابلتِه، فليس ما جاء بهِ قبضاً؛ فإن صورةَ النقل لا تكفي حتى يكون نقلاً إلى المشتري، أو نقلاً من المشتري؛ فإن المشتري لو أخذ المبيعَ بإذن البائع، ونقلَه إلى [أيّة] (1) جهةٍ فُرضت، فهذا قبضٌ. ولا يخفى على الفقيه أن الإقباضَ من البائع بجهةِ النقل يُشترط فيه أن يُشعرَ المشتري به، ويتمكَن منه، حتى لو وضعه بين يديه، وهو راقدٌ، فتلف المبيعُ قبل أن ينتبه، فهو من ضمان البائع. والسببُ فيه أن سرَ الإقباض التمكينُ، ثم صُورُ التمكينِ تختلف باختلاف المبيع، ومن ضرورة التمكينِ إشعارُ المشتري بما يجري، وعلمُه بحقيقة الحال، وتمكّنُه كما ذكرناه في التخلية. وكل ما ذكرناه فيه إذا جَرى البيعُ ونقلُ المبيع في بُقعةٍ لا اختصاص لها بالبائع. 3081 - فأما إذا جرَى البيعُ في مسكن البائع (2)، وكان ملكَه أو مُستَأجَره أو مستعاره، فإذا أذن للمشتري في القبضِ والنقلِ، فأخذ المشتري المبيع ونقله إلى جانب نفسهِ، فليس ما جاء به قبضاً؛ من جهةِ أن الشرط في ثبوت يدِ المشتري القابض زوالُ يدِ المُقبض، وإذا كانت الدار للبائع، فهي تحت يدهِ، وما في الدارِ حكمهُ حكمُ الدارِ، ولو فرضَ نزاعٌ بين دخيل في الدارِ وبينَ مالكِ الدار في مبيعٍ قريبٍ من الدخيل ومجلسهِ، فصاحبُ اليد فيها صاحبُ الدار، إذا لم تكن العينُ متعلِّقة على نعتٍ من الاختصاص بالدخيل، بأن يقعَ النزاعُ في ثوبٍ، والدخيل لابسه، أو في متاع وهو محتوٍ عليه. وفي هذا كلامٌ طويلٌ ليس هذا موضعَه؛ فإنا سنفصل، إن شاء الله تعالى تفصيلَ الأيدي التي تثبتُ بها رتبةُ المدَّعى عليه في كتاب الدعاوى - إن شاء الله تعالى. فلو أذن البائعُ للمشتري في نقل المبيع إلى بقعةٍ من الدار و [أجّر] (3) تلك البُقعة

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) هذه هي الصورة الثانية من الصورتين الموعودتين. (3) في الأصل: وليجر.

[منه] (1) أو أعارهُ إياها، فجرَى النقلُ إلى بقعة من الدار استأجرَها المشتري أو استعارها، فهذا نقل كافٍ، وقبضٌ ناقل للضمان؛ من جهةِ اختصاصِ المشتري بتلكَ البقعةِ. وإذا قالَ البائعُ: دونكَ المبيعَ، فاقبضه وانقُلْه إلى تلك الزاويةِ، فهذا إذنٌ في النقل، وإعارةٌ للزاوية. وإن قال: ارفع هذا (2) العينَ المبيعة، وانقلها إلى تلك البقعة، ولم يتعرض للقبضِ والإقباض، والدار مختصةٌ بالبائع، فالذي جرى ليس بقبضٍ. وإذا فهمَ الفقيهُ المقاصِدَ، لم يخفَ عليهِ قضايا الألفاظ وموجبات الصيغ. 3082 - وتمام البيان في هذا يستدعي كلاماً في تصوير [قبض] (3) العدوان من الغاصب. فنقول: وإن فرَّعنا على الأصح في اشتراطِ النقل في المنقول في قبض المبيع، فلسنا نشَرطُ ذلك في قبضِ العدوان، بل المعتبرُ فيه الاستيلاءُ المحقَّقُ، حتى لو ألقى رجلٌ راكبَ فرسٍ من الفرسِ، وركبَ مكانَه مستولياً، وتلفت البهيمةُ تحتهُ، فالضمان يجب عليه، على المذهب الظاهر. وكذلكَ لَو نحّاه من بساط كان عليه، وجلسَ عليه (4)، فهذا عدوانٌ مضمِّن. 3083 - والقولُ الوجيزُ الضابطُ لما نقصده: أن التمكين المحقَّقَ في المنقول ليس قبضاً في البيع على الصحيح، حتى ينضمَّ إليهِ نقلٌ، وفيه قولٌ بعيد أن التمكينَ كافٍ، والاستيلاءُ المجرَّدُ قبضُ عدوان في المنقول، من غيرِ نقل. وفيهِ وجهٌ ضعيفٌ أن ضمان العدوان يقف على النقلِ. فلو جرَى من المشتري [استبدادٌ] (5) بأخذِ المبيع، نُظر: فإن جرَى منه ما هو قبضٌ

_ (1) في الأصل: فيه. (2) كذا في النسختين باسم الإشارة المذكر. ولها وجة في الصحة. (3) ساقطة من الأصل. (4) في (هـ 2): مكانه. (5) في الأصل: استيلاءٌ.

لو صدر من البائع، أو من [غيرِ] (1) إذنهِ، فإن كان المشتري يستحق ذلكَ بأن كان وفَّر الثمن، وامتنع البائعُ من التسليم المستحَق، فالذي فعله المشتري قبضٌ ناقلٌ للضمان مُسلِّط على التصرّف. وإن لم يكن المشتري مستحِقاً لما فعل، وفرعنا على [أنَّ] (2) البدايةَ بالتسليم لا (3) تجب على البائع، فالذي فعله المشتري إتيانٌ بصورةِ القبضِ، وهو فيه مبطلٌ. والقولُ الوجيزُ في ذلك أنا نجعلُه بمثابةِ ما لو اشترى طعاماً مُكايلةً، ثم قبضه جزافاً، فلا يتسلّطُ على التصرفِ في الرأي الظاهِر، وينتقلُ ضمانُ العُهدةِ إليهِ، حتى لو تلف تحت يده، كان من ضَمانهِ. وإذا قُلنا: لا بد من النقلِ في قبض المبيع، وجعلنا الاستيلاءَ قبضَ عدوانٍ، فلو وُجد الاستيلاءُ من المشتري من غير نقلٍ، فهو كالقبض جُزافاً فيما اشترى مُكَايلةً. وذكر شيخي وجهاً آخر: أن الاستيلاءَ كما صورنا لا يقتضي نقلَ الضمانِ، كما لا يقتضي التسليطَ على التَّصرُّفِ. وهذا بعيدٌ. والوجه ما تقدَّمَ. ولو جرت التخليةُ من البائع، والقبولُ من المشتري من غير نقلٍ، ولا فرضِ استيلاءٍ -والتفريعُ على أن النقلَ لا بدّ منه- فلا يتصرف المشتري، وهل ينتقل الضمانُ إليه؟ فيه وجهان ذكرهُما العراقيون. فليميز الناظرُ بَيْن تخليةٍ من البائع، ولا قبولَ من المشتري، وبين تخليةٍ منه وقبولٍ من المشتري، في الحكم المطلوب، والتفريعُ على اشتراط النقل. فإن لم يكن من المشتري قبولٌ، فلا ينتقلُ الضمانُ إليه. وإن كان منه قبولٌ، ففي الانتقالِ وجهان؛ فإن التخليةَ مع القبولِ تُثبت صورةَ الاستيلاء معَ تخلّف النقل المعتبر، فافهمُوا ترشدوا. هذا قولنا في النقل والتخلية.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. ويتأكد صحةُ هذه الزيادة بما قاله الإمام في أول الفقرة ويتأكد من الفصل الذي يتلو هذا مباشرة. (2) ساقطة من الأصل. (3) ساقطة من (هـ 2).

3084 - والقسم الثالث فيه: إذا كان المبيع مقدَّراً، وقد أُورِدَ البيع باعتبار تقديره، بأن يقول: بعتُكَ هذه الصُّبرة، كل صاع بدرهمٍ، فلا بد من إجراء الكيل، ولا يتم القبضُ دونَهُ، والتخليةُ غير كافيةٍ، بل (1) لا بد من إجراء الكيلِ أو الوزنِ على حَسَب ما وقعَ تنزيلُ العقدِ. والأصل فيه ما رواه الشافعي في السواد (2) عن الحسَن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فبه الصاعان " (3) ومراسيل الحسن (4) مستحسنةٌ عند الشافعي فلو اشترى بُرّاً كيلاً، فلا يتم القبضُ فيه حتى يُكالَ بعد العقد على

_ (1) (هـ): ولا بد. (2) مرة ثالثة نلتقي بكلمة (السواد)، وقد وضح معناها هنا، فالسواد اسم كتابِ يحيل عليه روى فيه الشافعي، ويحيل عليه إمامُ الحرمين، ويلتزم ترتيبه، ويجري في كتابه هذا (النهاية) على ترتيب هذا (السواد). كما قال ذلك في الموضعين السابقين. فما هذا الكتاب الملقب بالسواد؟ هل هو مختصر المزني؟ أكاد أجزم بذلك لسببين: أ- أن إمام الحرمين صرح بذلك، في خطبة كتابه؛ إذ قال: "سأجري على ترتيب المختصر جهدي"، وقد تحقق ذلك، وتم فعلاً. (فالنهاية) تسير على ترتيب مختصر المزني حرفاً حرفاً، حتى وإن انتقد إمام الحرمين هذا الترتيبَ، وأعلن أن فيه تشويشاً في بعض المواضع، لكنه يعقب بإعلانه التزام هذا الترتيب، وعدم الخروج عليه. ب- السبب الثاني أن ما رواه الشافعي هنا في السواد نجده في المختصر: 2/ 183. ولكن يبقى السؤال: لم سمي مختصر المزني بـ (السواد)؟ أقول الآن -عند المراجعة الأخيرة- إن (السواد) يطلق لغة على الصُّلب، والمتن، والأصل، وإن لم نجد هذا منصوصاً في معجمٍ من المعاجم للآن، وقد سبق أننا أفدنا هذا من شيخنا أبي فهر، برّد الله مضجعه. (3) ومرسل الحسن هذا، رواه البيهقي: 5/ 316. ورواه مرفوعاً عن جابر، ابن ماجه: التجارات، باب النهي عن بيع الطعام، ح 2228، والدارقطني: 3/ 8، والبيهقي: 5/ 316. وانظر التلخيص: 3/ 63 ح 1211. (4) الحسن المراد به الحسن البصري. وكذا دائماً حيث أطلق، فهو الحسن البصري.

المشتري، ولَو وُزنَ عليه، لم يكفِ، ولو اشتراهُ وزناً، فتمام القبض فيه بالوزن، فلو كيل بدلاً من الوزن، لم يكفِ. ولا يخفى على الفقيهِ أن ما نرعاه من اتباع الشرعِ في الكيل والوزن، حتى لا يجُوزَ إقامةُ تقديرٍ مقام التقدير الثابت شرعاً، إنما هو في بيع مالِ الربا بجنسهِ حيثُ تجبُ رعايةُ المماثلة، [فإذا] (1) لم يكن كذلك، فلا حرجَ. وكيفَ يُشكِلُ هذا مع جواز ابتياع الحِنطة بالدراهم جُزافاً. فلو اشترى رجلٌ حنطةً كيلاً، وبقاها في المكاييل، ثم باعها مكايلةً، فهل يجوزُ أن يكتفي بصبِّ تلك المكاييل بين يدي المشتري؟ فعلَى وجهين: أحدهُما - لا يكفي ذلك، [بل] (2) تُصبُّ الحنطةُ، ثم يُبتدأ كيلُها للمشتري. وهذا القائل يحتج بما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصَّاعان " قيل: معناه حتى يجرى فيه (3) صاعُ البائع، وصاعُ المشتري وهذا [يُتصوّرُ] (4) فيهِ إذا اشترى رجلٌ طعاماً مكايلةً، [و] (5) باعه مكايلةً، ولعلَّ أمثالَ هذهِ المعاملات كانت تجري في مواسمِ الحجيج وغيرِها، فكان الرجل يبتاع مكايلة [بمقدارٍ، ويبيع مكايلةً] (6) بأقل أو أكثر، فنزل حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يجرون من ذلكَ. هذا وجهُ هذا الوجه. والوجه الثاني - أنه يكفي أن تصُب المكاييل للمشتري الثاني، ووجهه أن كونَ الحنطة في المكاييل على الدوام، ينزل منزلةَ أخذٍ جديد بالمكاييل؛ فإن الغرض من الأخذ بالكيل احتواءُ الكيل على المَكِيل، فإنه المقدِّرُ، والحنطةُ مقدّرةٌ به، والدليل عليه أنه إذا اشترى حنطةً مكايلةً، ثمِ ملأ المكيالَ، ونقلَ ذلك، كفى وتم القبض، ولا حاجةَ إلى تفريغ المكيالِ حتى يُقضى بتمام القبض.

_ (1) في الأصل: وإذا. (2) في الأصل: بأن. (3) ساقطة من (هـ 2). (4) في الأصل: مصوّر. (5) في الأصل: أو. (6) ساقط من الأصل.

3085 - والغرضُ من هذا الفصل شيء واحد، وباقي القول في القبض جزافاً وكيلاً سنجمعه في فصلٍ على إثر هذا إن شاء الله تعالى. وذلك المقصودُ: أنا إذا جرينا على اشتراط النقل وهو المذهبُ، فقد أطلق الأصحابُ القولَ بأن الكيل مع تفريغِ المكيال كافٍ؛ فإنّ من ضرورتهِ النقلُ من جهةِ الأخذِ إلى جهةِ التفريغ، وهذا يُوهم لبساً. ومُعظمُ العماياتِ في مسائل الفقهِ من تركِ الأولين تفصيلَ أمور كانت بيّنةًً عندهم، ونحن نحرِصُ جهدَنا في التفصيل، ولا نبالي بتبرم الناظر. فالكيلُ لَعَمْري نقلٌ، لكن يجب معهُ اعتبار الأمور التي مهّدناها (1)، حتى لو كالَ البائع الحِنطة التي باعها مكايلةً، وأخذ يصُبّها عن يمينه وعن يسارهِ، لا في جهة المشتري، فالذي جاء بهِ كيلٌ، وليس بنقل، والنقلُ باقٍ في الحكم بصحة القبض. فإذن الكيلُ أو الوزن معتبرٌ في عَقدِ المكايلة والموازنة، وقد يقعُ الكيل على صُورَةِ النقل فيسُدّ مسدَّينِ، وقد يقعُ لا على صُورَةِ النقل، فيبقى الكلام في النقل على ما تقدَّم. فصل في بيع الحنطة مكايلةً مع جريان القبض جزافاً 3086 - فنقول: إذا اشترى طعاماً كيلاً، ثم قبضهُ جزافاً، فقد قال الأصحاب: لو تلفَ ما (2) قبضه كذلكَ، فإنه يتلف من ضمانه وفاقاً، ولا ينفسخ البيعُ أصلاً. ولو أرادَ بيعَ ذلك الطعامِ الذي قبضه جزافاً نُظر: فإن أراد بيعَ الكيل، فلا يصح منه البيعُ في الجميع؛ إذْ حق البائع متعلِّقٌ به، وقد يزيد إذا كيل. والمسألة مصوّرة فيه إذا باع عشرةَ آصع، وأشار إلى صبرة، ويجوز أن تكون الصُّبرة عشرة، ويجوز أن تزيدَ، فلو أنهُ قبض جزافاً، ثم باع القدر الذي يستيقن أنه

_ (1) (هـ 2): قدمناها. (2) عبارة (هـ 2): " قال الأصحاب: ذلك الطعام الذي قبضه كذلك ".

حقهُ، أو أقَلُّ من حقه، فهل يصح البيعُ في [هذه الصورة] (1)؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدُهما - وهو اختيار أبي إسحاقَ أن البيعَ يصحّ؛ [لأن القبضَ ناقلٌ] (2) للضمان، فإذا انتقل الضمانُ، تَم الملك وزايله [الضعفُ] (3) المترتب على تعرض البيع للانفساخ عند تقدير التلف. وإذا صادفَ البيعُ مِلكاً تاماً مِن مالكٍ مطلقٍ، نَفَذَ. والوجهُ الثاني -وهو اختيار ابنِ أبي هريرةَ- أنه لا يصح البيعُ في شيءٍ مما قبضهُ؛ فإن القبضَ فاسدٌ، وهذا ما قطع به شيخي، وطوائفُ من الأصحاب. وتوجيهُ الوجهِ يترتب على إثبات فسادِ القَبضِ، والدليل عليه الخبرُ الذي رَويناه من الأمر بإجراء الصَّاعَين، ومناهي الرسول صلى الله عليه وسلم محمولةٌ في هذه المَواضِع على الفسادِ، واقتضاءِ التحريم. ثم قد أطلق الأولون الحكمَ بفسادِ القبض على الجُملة، مع المصير إلى تصحيح البيعِ في القدرِ المستيقَن. فلو قيل: فما معنى الفَسادِ على هذا الوجهِ مع صحَّةِ البيع في القدر المستحق؟ قلنا: لو قبض الطعامَ كيلاً، ثم ادّعى بعد ذلكَ نقصاناً متفاحشاً، لا يتوقعُ مثلُه في الكيل، لا يُقبل قولُه، ولو قبضهُ جزافاً، كما صورناه، ثم ادَّعى نقصاناً متفاحشاً عن حقه، فالقول قَولُهُ مع يمينه؛ فإن البائع يدعي عليهِ قبضَه، وهو يُنكِرُه، فالقول قولُه. وهذا ليس مَحْملاً واضحاً في فسادِ القبض المعترف بهِ. وقد قيل: لو باع الجملةَ على جهالةٍ، فالبيع في الكُلِّ باطل قولاً واحداً، ولا يخرّج [على] (4) تفريق الصفقة، فهذا أثرُ الحكمِ بفسادِ القبض بالجملةِ. وهذا كلام مختلط؛ فإنا إذا نقلنا الضمانَ، وجوزنا التصرُّف في القدرِ المستيقَن، فقد صححنا القبضَ فيه، والوجه في فرض بيعِ الكُلِّ التخريج على قول تفريقِ الصفقة، ولا حاجةَ إلى الاعترافِ بفسادِ القبض في الكل، مع التصحيح في التفصيل، وإنما

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) في الأصل: لا القبض ناقل. (3) في الأصل: الضعيف. (4) في الأصل: عن.

يستحق إطلاقُ الفساد ممن يمنع التصرفَ من القدر المستيقن، وهذا لا شك فيه. 3087 - ويتصل الآن باستتمام الكلام فصولٌ نأتي بها أَرْسالاً: منها: أنا قدَّمنا فيما سبق أن الاستيلاءَ من غير إذن البائع ينقُل الضمانَ، حتى لو فرض التلفُ، كان من ضمان المشتري القابضِ قهراً، ولا ينفسخُ البيع. ولكن إذا أثبتنا للبائع حقَّ الحبس، فالمبيع مسترَدٌّ من المشتري؛ فإن ذلك ممكن؛ فلو باع المشتري، لم ينفذ بيعُه وجهاً واحداً رعايةً لحق البائع، وإن تحقق انتقالُ الضمان. وهذا كامتناع بيع الراهِن في المرهون. ومسألةُ القبضِ جُزافاً مفروضةٌ فيه إذا جرى ذلك القبضُ عن رضاً من البائع، أو فرّعنا على أن لا حَقَّ للبائع في الحبس. ولو رضي بالقبض جزافاً، ثم بدا له بعد جريان صورة القبضِ، فهذا يخرّج على تسلّط المشتري على البيع في القدر المستيقَن، فإن سلطناه عليه، فقد أَلْزمنا القبْضَ، فلا سبيل إلى تسليط البائع على نقضه؛ إذ القبضُ صدر عن إذنهِ، وتوفر عليه مقصودَاه: من نقلِ الضمان، والتسليطِ على التصرف. وإن قلنا: لا يتسلّطُ القابضُ على التصرّف في قدر حقّهِ، فهل يملك البائعُ نقضَ يده، والعودَ إلى حقّ الحبس؟ هذا محتمل عندنا. والعِلم عند الله. 3088 - وممّا يتعلّقُ الآن بتفصيل بيع الطعام مكايلةً أن الرجل إذا اشترى طعاماً كيلاً سلَماً، واستقرَّ له ما اشتراهُ في ذمّةِ المسلَمِ إليه، واستقرَّ ذلك عن جهةِ [إقراضٍ] (1)، أو بدلِ متلفٍ، ثم استحق عليه مستحِقٌ بجهةٍ من الجهاتِ مكاييلَ من الحنطةِ، فقال للمستحِق عليه استَوْفِ حقّكَ من فلان، وذكر الذي يُستحَقُّ عليه الطعام، فإذا اكتالَ المستحِق [المتأخِّر] (2) لنفسهِ، لم يصح مثلُ ذلك القبض؛ فإن القبض يتعلّق بالقابض والمقْبض. ولا يجوز تقديرُ صُدورِهما من شخصٍ واحدٍ. فإن قدَّرهُ مقدّرٌ

_ (1) في الأصل: إقباض. لصحة اختيارنا، راجع المجموع: 9/ 280. (2) في الأصل: المستأجر.

وكيلاً بالقبض (1) من جهة الآمِر قابضاً من جهة نفسهِ، فهذا هو الذي لا نُصحّحهُ. ولو قالَ [لمستحِق] (2) الطعام: اكتل حقَّك من حنطتي هذه، فإذا اكتاله بنفسه بأمرِ البائع، فَفِي حُصول القبضِ على الصحَّةِ وجهان: أحدُهما - أنه يصح لجريان صورة القبض بإذن صاحب الحنطةِ وبائعها. والثاني - لا يصح لاتحادِ القابضِ والمُقبض، والإذنُ بمجرَّده ليس إقباضاً. وهذا القائلُ يعضد كلامَه بالحديث الذي رويناه في صدرِ الفصل. فإن قيل: قد قطعتم جوابَكم قبيلَ هذا بما يُناقِضُ هذا إذْ قلتمُ: لو كان للآذن الآمِر حنطة على إنسان، فقال لمن يستحق عليه: اقبض حقَّكَ منه، فإذا قبض زعَمتم أنه لا يصح. قُلنا: الفرقُ ظاهر؛ فإن [مِلْكَ] (3) الآذنِ فيما قدّمناه لا يثبت في عينٍ حتى يقبض له أولاً، فإذا قبض القابض لنفسهِ، ولم يجرِ القبض للآذن، كان باطلاً وجهاً واحداً؛ فإنه لا يستحق على من قبض منه شيئاً، ولم يثبت للآذِن المتوسّطِ استحقاق في عينٍ حتى يترتب عليه قبض هذا القابض. والمسألة التي ذَكَرنا الوجهين فيها مفروضة فيه إذا كان للآذن حنطةٌ حاضرةٌ عتيدةٌ، فأمر المستحِق بالاكتيال منها. فإذا ظَهر محلُّ الخلاف والوفاقِ بنينا عليه غرضَنا، وقلنا: لو قال اقبض حقي من فلانٍ، صح، ووقع القبضُ والملكُ في المقبوض للآذِن، حتى لو تلف المقبوض في يَدِ الوكيل، كان محسوباً على الآذن، ويدُ الوكيل أمانة. وبمثلهِ لو قال: اقبض لي من فلانٍ حقّي، ثم اقبض منه حَقّكَ، فأمّا قبضُه له فصحيح. وقبْضُه لنفسه بعد قبضه له [يخرّجُ] (4) على الوجهين المقدمين. ولو قال للذي يستحق عليه طعاماً: خُذ هذه الدراهمَ، واشترِ بها لنفسِك طعاماً، لم يصحّ هذا أبداً.

_ (1) في هامش (هـ 2): خ " بالإقباض ". (2) في الأصل: المستحق. (3) في الأصل: مالك. (4) في الأصل: تخريج.

ولو قال: اشترِ لي [طعاماً] (1) في الذمةِ، واقبض لنفسك، فالشراء صحيح، والقبضُ فاسدٌ. ولو قالَ: اشترِ لي واقبض لي، ثم اقبض منه حقّكَ، فالشراء والقبض للآمرِ صحيحان، وقبضُه لنفسه على الوجهين. 3089 - ومما يجب التنبُّه له أنه إذا قال: اقبض حقَّك من فلانٍ، فقبضه، لم يصح، والمقبوضُ ملك المقبوضِ منه، فليردّهُ عليه. وإذا ثبت هذا، فلا خفاء في أن تصرفه لا يَنفذ، ويدُه ضامِنةٌ؛ فإنها لا تنحط في هذا المقام عن يدِ المستامِ. وسأفصّل هذا في آخر الفصل إن شاء الله عز وجل. ولو قال: اقبض حقَّك من صُبرتي هذه، فإذا اكتال بنفسه، وقلنا: يصح قبضُه، فلا كلام، ويتسَلّطُ على التصرُّفِ. وإن قُلنا: لا يصحّ قبضُه، فليس هذا كما لو اشترى طعاماً مكايلةً وقبضهُ جزافاً؛ فإنا ذكرنا ثَمَّ أن البيعَ في القدر المستيقن ينفذ عند أبي إسحاق، وهَاهُنا لا يَنفُذ البيع أصلاً، بل لا يملكُ القابضُ ما أخذ. والسبب فيه أن مسألة الجزاف مفروضةٌ في ثبوت الملك في الحنطةِ المعيَّنة بالعقدِ، ثم في قبضها التفصيلُ. فلقد قبض ما ملك بالعقدِ، فجرى الأمرُ على ما مضى. والمسألةُ الأخرى مصوّرةٌ فيهِ إذا استحق حنطةً في ذمة إنسانٍ، فأمره من عليه الحنطةُ أن يقبضها على وجهٍ، فإذا لم يصحّ ذلك الوجه، لم يملك المقبوضَ، ولم يتعيَّن حقُّه فيه؛ إذ لم يسبق له قبلُ استحقاق عينٍ (2). وهذا واضحٌ لا إشكالَ فيهِ. وقد نجز القول في أصول القبضِ. ونحن نرسم فروعاً شذَّت عن التفاصيل في القواعد. فرع: 3090 - إذا باع طعاماً بطعامٍ مكايلةً، فإذا جرى التكايلُ في المجلسِ وترتب التقابُض عليهِ، فإذا تفرّقا، استمرت صحةُ العقد، ولو جَرَى التقابض مُجازفةً من الجانبين، وتفرقا عليه، ففي فساد العقد وجهانِ: أحدُهما - أنه يفسد، لأن القبضَ لم يتم. والثاني - لا يحكم بالفسادِ، لجريانِ صورةِ التقابض.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) لعلها: عين هذه الحنطة.

وهذا يَبتني عندنا على الخلافِ المذكور في أن القابضَ على المجازفة هل يتسلط على بيع ما استيقنه؟ وتحقيق [القول] (1) فيهِ أن من يصحح التصرفَ في القدر المستيقنِ، يصحح القبضَ من جهةِ أن أثر القبضِ نقلُ الضمانِ والتصرّفِ، فإذا اجتمعَا، لم يبقَ لذكرِ الفسادِ معنىً. فعلى هذا إذا تفرقا، لم يبطل العقدُ. وإن لم يسلَّط القابضُ على التصرف، فالقبض على هذا لم [يُفِدْ] (2) أحدَ مقصوديه، وهو التصرفُ، وأفادَ نقلَ الضمانِ. فإذا فرض التفرقُ على هذا الوجهِ، ففي بطلان العقدِ وجهان: أحدهما - أنه يفسُد لنقصان القبض. والثاني - يصح لجريانهِ واقتضائه لنقل الضمان. وذكر بعضُ الأصحاب أن رجُلين لو تبايعا طعامين في الذمَّةِ، ثم تقابضا من غير رؤية في المقبوضِ، قال (3): هذا يُخَرَّجُ على هذا الخلافِ المذكور في التقابض مُجازفة. وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإن القبضَ [من غير رؤية يخرّج عندنا على بيع الغائب، فإن القبضَ] (4) [عن] (5) ثابتٍ في الذمّةِ مُملِّكٌ كالبيع، فحلّ محلّهُ. فإن قلنا: لا يحصل التمليك، فتفرقا، فسدَ العقدُ، وليس كالقبض على مُجازفةٍ في عينين، فإن القبض وارد على مِلك، وإن حكمنا بأن القبضَ مع [عدم] (6) الرؤية مُملِّكٌ، ففي التفرق احتمال؛ من جهة أنه تفرق على جوازِ العقد، فإنا (7) إذا خرَّجْنا قبضَ ما لم يره القابضُ على بيع الغائب، فلا بدّ من تقديرِ خيارٍ فيهِ، والتفرقُ على حكم الخيارِ ضعيف، ولهذا لا يثبت خيارُ الشرطِ في عقدِ [الصَّرفِ] (8)، ولنا في

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: ينفذ. (3) أي بعضُ الأصحاب هو القائل. (4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (5) في الأصل: عين، وفي (هـ 2) غير. والمثبت تقدير منا، لعله الصواب. (6) سقطت من الأصل. (7) عبارة (هـ 2): فإذا أخرجنا. (8) في الأصل: التصرف.

خيارِ الرؤيةِ في قبض ما لم يرهُ القابض تردُّدٌ (1)، فلينعمُ الناظرُ نظرَه فيه، فإن خيارَ الرؤيةِ متعلَّقُهُ الخبر، وهو إن صح واردٌ في الشراء، ففي (2) الخيار من طريق المعنى غموض [أيضاًً؛ من جهة أن المقبوض إذا كان على الصفةِ المستحقةِ، فلا فائدة] (3) من رد ما قبضه، فإنه لو رَدّه، لاستمكن المردودُ عليه من رد ذلك بعينه عليه، وليس هذا فسخاً. بخلاف الخيار في العقد. ويجوز أن يقال: هذا فسخٌ في القبض، فإذا أنشأ من عليه الحق إقباضاً، فليفعل. فرع: 3091 - قد ذكرنا أن الأصحَّ اعتبارُ النقلِ في المنقول، حتى لا يصحَّ القبضُ دونَه. فلو باع رجل داراً، وفيها أمتعةٌ باعها مع الدار، فقد اختلف أصحابُنا في اشتراط النقلِ فيها لتحقيق القبض، فذهب بعضهم إلى [أن] (4) النقلَ لا بدّ منه؛ طرداً لقياس اعتبار النقل، وذهب آخرون إلى أن النقل لا يعتبر، ووجّهُوا هذا بأن المنقولات تتبع الدارَ. وهذا التوجيه غيرُ سديدٍ. والوجه تخريجُ الخلافِ على أصل سيأتي في الرهون. وهو أن من باع الوديعةَ من المودَع، فهل يحتاج إلى إقباضٍ جديد، أم يكفي دوامُ اليد؟ ووجهُ خروجِ ما ذكرناه على ذلك الأصل أن اليدَ تثبتُ على الدار، فيصيرُ المنقول فيها تحت يد المشتري، فانتظم التردد على هذه القاعدة. فإن بقي في النفس اقتضاءُ تفصيل، فهو مستقصى في الأصل الذي أشرنا إليه. فرع: 3092 - إذا بَعث من يستحقُ مكيالاً من طعامٍ مكيالَه إلى المستحقّ عليه حتى يملأه، فإذا ملأه، لم يصر نفس هذا إقباضاً عندَنا، خلافاً لأبي حنيفةَ (5)، وهذا يخرّج على ما مهدناه من أن صورةَ التقدير لا يكون إقباضاً، حتى ينضمَّ إليه ما يتم الإقباضُ به.

_ (1) ساقطة من (هـ 2). (2) في (هـ 2): وفي. (3) ساقط من الأصل. (4) مزيدة من (هـ 2). (5) ر. بدائع الصنائع: 5/ 244.

فرع: 3093 - إذا كان لرجل على رجل دينٌ موزونٌ، استحقَّهُ عليهِ وزناً، فلا يستحق القبض فيه إلا وزناً، سواءٌ كان ذلك في بيع أو قرضٍ، أو غيرِهما. فلو ألقى من عليه الحقُ إلى مستحِق الحق كيساً فيه دراهمُ مجهولة، وقال: خذها بحقِّك، فأخذها من غير وزنٍ، فالقبض فاسدٌ غيرُ مملِّكٍ، كما سبق. ولكن لو تلفت تلك الدراهمُ في يدِ القابضِ، كانت مضمونةً عليه؛ فإنه قبضها على قصد التملُّكِ، فإذا لم يصح مقصودُه، ثبت الضمان، ولا ينحط هذا من ضمان المحكوم به في حق المستام. ولو ألقى إليه الكيس، وقال: خذ منه حقَّك، فإنه لم يسلِّم إليه ما في الكيس مملِّكا، ولكن سلَّمها إليه، والملكُ دائمٌ للمسلِّم، فوكَّله بأن يقبضَ حقه منه، فإذا قبض حقهُ منه وزناً، ففي صحَّة القبضِ الوجهان المقدَّمان في نظائرِ ذلك، ولو تلفت تلك الدرَاهِمُ في يده، قبلَ أن يقبضَ منها حقَّه، فلا يكون التالف مضموناً عليه؛ فإن يده يدُ الوكيل المؤتمن قبل أن يقبض، ولا ضمان على الوكيل فيما تلف تحت يدهِ. وليس كيَدِ المستام؛ فإنه قبض ما قبض لمنفعةِ نفسِه من غير استحقاقٍ، واليد إذا كانت بهذه الصفةِ، فهي يَدُ ضمان والتوكيل ثابت ويدُه مستمرةٌ على حكم الأمانة، إلى أن ينشأ قبضُ حقِّ نفسهِ. وهذا يناظر ما لو أودع عند رجل عبداً، وذكر أن المودَعَ له أن يستخدمَ العبد إن أراد ذلك، فاليد يدُ وديعةٍ في الحالِ، فإذا ابتدأ في الاستخدام على حكم العارية، فيصير العبدُ إذْ ذاكَ مضموناَّ؛ فإنه مستعار الآن. 3094 - وذكر شيخي تردُّداً عن القفال في مسألةٍ أجراها في أثناء الكلام، وهي أنه لو دفع رجلٌ إلى إنسانٍ دراهمَ، وقال له: اشترِ لنفسِكَ بهذا شيئاً، فقال: يجوز أن يحمل مُطلقُ هذا التسليم (1) على الإقراض، ثم لا يخفى حكمُه، ويجوز أن يحمل على الهبةِ والنحلة، والدليل عليه أن الشافعي قال: " إذا قال من لزمته كفارة لمالكِ عبدٍ: أعتقه عنّي، ولم يذكر عِوضاً، فإذا أعتقه عنه مطلقاًً، صحّ، وحُمل العتقُ على جهةِ التبرع " فليكن الأمر كذلك هاهنا.

_ (1) ساقطة من (هـ 2).

فصل في الاستبدال 3095 - الأعيانُ الثابتةُ أعواضاً في الحقيقة في المعاوضات (1) لا يجوزُ الاستبدال عنها قبل القبض، بناءً على الأصل الممهّدِ في منع بيعِ المبيع قبل القبض، والاستبدالُ بيعٌ. وفي جوازِ الاستبدالِ في الصداق، وما ضممناه إليه من بَدل الخُلع والمصالحةِ عن الدم، الخلافُ المقدَّم، بناءً على أن الأعيانَ هل تثبت أعواضاً على الحقيقة، أم هي مضمونةٌ بالأيدي؟ [وعلى] (2) هذا يُبْتَنى حكمُ التلفِ، على ما سيأتي في كتاب الصداق. وغرضُ الفصل تفصيلُ القولِ في الاستبدالِ عن الديون. فنقول: الأموالُ الثابتةُ في الذمَّة تنقسم ثلاثةَ أقسام: أحدها - ما يثبت معوَّضاً في محل المبيع المثمَّن، والثاني - ما يثبت ثمناً. والثالث - ما يثبت بسبب من الأسباب، وليس مُتَّصفاً بكونه ثمناً ولا مثمناً، كالقرْضِ في ذمة المقترض وقيمةِ المتلَفِ، والمالِ المضمون في ذمّة الضَّامِن. 3096 - فأما ما يثبت معوَّضاً مثمناً في محل المبيع، فهو المسْلَم فيه، فلا يجوز الاعتياض عنه، كما لا يجوز الاعتياض عن العَيْن المبيعة، وذلك أن المسلمَ فيه مبيع مقصودٌ كالعَين المبيعة (3)، والملك في العين أقوى من الملك في الديْن، فإذا امتنع الاستبدال عن الملك في العَيْن، فلأن يمتنِع عن الدين الذي وقع مبيعاً أولى. ولو كان على المسلِمِ قرضٌ، فإخال المُقرِضَ بحقهِ على المسلَمِ إليهِ، فالحوالة فاسدةٌ؛ فإنها في التحقيق بيع سلمٍ بدينٍ، وذلك باطلٌ. ولو كان للمسلَم إليهِ دينٌ على إنسانٍ عن جهةِ قرضٍ، وكان من جنسِ ما عليه في

_ (1) عبارة الأصل: " في الاستبدال للأعيان الثابتة أعواضاً في الحقيقة المعاوضات ... الخ ". (2) زيادة من: (هـ 2). (3) (هـ 2): المعينة.

عقدِ السلم، فلو أحال المسلِمَ على من عليه القرض، ففي الحوالة وجهان: أحدُهما - أنها فاسدة؛ فإنها تضمنت مقابلةَ سليم بقرضِ، فلتفسد كما تَفسُد إحالةُ القرضِ على السلم. ومن أصحابنا من قالَ: حوالةُ السلَم على القرض صحيحةٌ؛ فإن الواجبَ على المسلَم إليه أن يوفر على المسلِم حقّهُ، فإذا فعل، فقد خرج عما عليه، فالأصح منع الحوالة؛ فإنا لو صححناها، لكُنَّا نقلنا استحقاقَ المسلَم من السلم إلى القرض، ومن ذمَّة المسلم إليه إلى ذمّةِ المستقرض، وهذا على حقيقة المعاوضة. وإن لم نجعل الحوالةَ معاوضةً، فيجب أن تصح الحوالة على السلم أيضاًً. وذكر الشيخ أبو بكر الصيدلاني وجهاً في صحة إحالةِ القرضِ على السلَم والسلَم على [القرض] (1)، تخريجاً على أن الحوالةَ استيفاءٌ وليس بمعاوضةٍ. وإذا جمعنا الإحالَةَ على السلم، وإحالةَ السلم على غيرهِ، انتظم على ما ذكره ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها - المنع. والثاني - الجوازُ. والثالث - الفصل بين إحالة القَرْض على السلم؛ فإنها ممنوعة وبين إحالةِ السلم على القرض؛ فإنها جائزة. فهذا قولُنا فيما ثبت من الديون على مرتبة الأعيان المبيعة. 3097 - فأما ما ثبت قرْضاً، أو قيمةً عن مُتلَفٍ (2)، أوْ لازماً عن جهةِ ضمانٍ، فالاستبدال عن جميعها جائزٌ. وإذا استبدل مستحِقُّ الدين في هذه الجهاتِ وأمثالِها عن الدين عيناً، صح الاستبدال لو جرى تسليمُ العين في المجلس. وإن تفرقا قبل تسليم العين، نُظر: فإن كان الاستبدالُ في شقيّه وارداً على ما يشترط التقابض فيه [ثم] (3) جرى التفرُّقُ، فيبطل الاستبدالُ، وإن لم يكن العقدُ عقدَ ربا، بأن كانت الديون دراهمَ وأعواضُها ثياب، وما في معانيها؛ فإذا جرى التفرُّقُ قبل القبض فيها، ففي بطلان الاستبدال وجهان: أحدهما - أنه لا يبطل؛ لأن اشتراط الإقباض لا يستند

_ (1) في الأصل: السلم. (2) هذا هو القسم الثالث من أقسام الأموال الثابتة في الذمة التي ذكرها في أول الفصل، وقد قدّمه وذكره ثانياً، وسيأتي الثاني وقد سماه (الثالث) في الصفحة التالية. (3) في الأصل: لو.

إلى أصلِ في غير عقود الربا والسَلَم، فليكن الاستبدال من دينٍ في عين بمثابَة بيعِ عينِ بدين، ولا (1) يُشترط الإقباضُ فيه. والوجه الثاني - الاستبدالُ يَفسُد، ويندرجُ تحت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن بيع الدين بالدين " (2). وهذا ظاهر نص الشافعي، وليس الاستبدال في معنى بيع العين بالدين؛ فإن العقد ينزل على مقصود المتعاقدين، وغرضُ الاستبدال استيفاءُ الدين من مالية العَين، فإذا لم يجز القبضُ، كان في حكم دينٍ في مقابلة دين. وهذا تكلّفٌ والصحيح الأول. 3098 - وإذا ثبت جواز الاستبدالِ عن الديون في هذه الجهاتِ، فهل يصح بيعُ الدينِ من إنسان آخر بعينٍ تؤخذ منه؟ فعلى قولين: أحدهما - يجوز؛ فإن الدينَ مملوكٌ، فإذا جاز استبدالُ مستحقِّه عليه، ونفذَ تصرُّفُه فيهِ، فينبغي أن يجوز بيعُه من الغير (3 أيضاًً، اعتباراً بالأعيان التي تَنفُذ التصرفات فيها. والقول الثاني - لا يصح بيعُ الدين من الغيرِ 3)، فإن الدينَ ليس ملكاً محصَّلاً، ولهذا يمتنع رهنُه، وإنما جوزنا الاستبدالَ توصُّلاً إلى الاستيفاءِ، وإبراءِ الذمة، ولا خلاف أنا وإن جوزنا بيع الدين من [الغير] (4)، فلا يجوز بيعُ الدين من الغير بالدين؛ فإن هذا لَوْ جُوّزَ انطبق عليه نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالىء بالكالىء. وكان شيخي يقول: اشتراطُ القبضِ في الاستبدال متلقىً من القولين من بيع الدين من الغَير، فإن جوّزنا ذلك، فالاستبدالُ بيعٌ محقق، ولا يُشترط في بيع العين القبضُ، إذا لم يكن العقدُ مشتملاً على عِوضَي الربا. وإذا لم نجوّز بيعَ الدين من الغَيرِ، فلا نجعل الاستبدال في حقيقة البيع بل نجعله استيفاءً، والاستيفاءُ لا يَتعدَّى المجلسَ.

_ (1) في (هـ 2): ثم لا يشترط الإقباض فيه. (2) حديث النهي عن بيع الدين بالدين رواه الحاكم: 2/ 57، والدارقطني: 3/ 71، والبيهقي: 5/ 290، 291، وانظر التلخيص: (3/ 62 ح 1209). (3) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2). (4) في الأصل: "العين".

3099 - فأما القسمُ الثالث وهو الدَّيْن الثابتُ ثمناً، فنقول: في جَوازِ الاستبدال عن الثمن قولان للشافعي: أحدهما - أنه باطِل؛ فإنه دَين ثبت عوضاً في معاوضةٍ، فلا يجوز الاستبدال عنه، كالمسلَم فيه. والقول الثاني - يجوز الاستبدال عنه؛ فإن الثمن لا يُقصد لعينهِ، وإنما تُقصدُ الماليّةُ منه، والاستبدال يُديمُ الماليةَ وحكمَها، وليس كذلكَ المسلَم فيه؛ فإنه مقصودٌ في جنسهِ، كالأعيان المعيّنَة. وهذا ضعيف في القياسِ، ولكن رُوي عن ابن عُمر أنه قال: كنا نبيعُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدراهم، فنأخذ بدلَها دنانيرَ، ونبيع بالدنانير، فنأخذ بَدَلها دراهم، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما لَبسٌ " (1) وروي " وليس بينكما شيء " وهذا الحديث يقرب من مراتب النصوص، وقد حملناه في الخلاف على التبادلِ في المجلس، وهذا يخرج على مصيرنا إلى أن إلحاق الزوائد بالثمن والمثمّن جائزٌ في مجلس العقدِ، وزمانِ الخيار، ويشهدُ لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما لَبس ". 3100 - وتمام البيان موقوف على أن نذكر حقيقةَ الثمن والمثمَّن، وحاصلُ المذهب في ذلك ثلاثةُ أوجه: أحدُهما - أن الثمن هو الدراهم والدنانير المضروبتان. والوجه الثاني - أن الثمن ما اتصل به باء الثمنيّة في صيغة العقد، فإذا قال القائل: بعتك هذا العبدَ بهذا الثوبِ، فقال مالك الثوب: قبلتُ، كان الثوبُ ثمناً والعبدُ مثمناً. ولو فُرضت الصيغةُ على خلاف ذلك، فالمتبعُ عند هذا القائِل في تمييزِ الثمنِ عن

_ (1) حديث ابن عمر، روي بهذا اللفظ، وغيره (ر. أحمد: 2/ 83، 154، أبو داود: البيوع، باب في اقتضاء الذهب من الورق، ح 3354، 3355، والترمذي: بيوع، الصرف، ح 1242، والنسائي: بيوع، بيع الفضة بالذهب، ح 4582، والبيهقي: 5/ 284، 315، تلخيص الحبير: 3/ 60 - 61 ح 1208).

المثمن الباءُ التي سميناها باءَ الثمنية، فعلى هذا إذا قال بعتك هذه الدراهم بهذا العبد فالدراهم مثمن والعبدُ ثمن. والوجهُ الثالث - أن العقد إذا اشتمل على نقد وعَرْضٍ، فالثمن هو النقدُ سواءٌ ذكر بالباء، أو لم يذكر به، وإن لم يشتمل العقدُ على نقدٍ وإنما قوبل عَرْضٌ بعرض، فالثمن منهما ما يتصل به باءُ الثمنيةِ. وإن قُلنا: الثمنُ هو النقدُ، فهل يصحُّ أن يُذكر مثمناً أوْ لا؟ ظهر اختلاف أصحابنا في أن السلم في الدراهم هل يصح؟ والأصح الصحةُ. والوجهُ الآخر وإن كان مشهوراً، فلا مخرجَ لتوجيهه إلا الامتناعُ من تقدير الدراهم على رتبةِ المبيع المثمَّن. فإذا ثبت هذا فإن قلنا: لا يصح السلمُ في الدراهم. فلو قال: بعتك هذه الدراهمَ بهذا العبد، فمن أئمتنا من منع هذا. كما منعنا السلم في الدراهم. والجامعُ ما ذكرناه من تقدير النقد مبيعاً ومنهم مَنْ أجاز هذا. وكان شيخي يقول: لو قال بعتك ألفَ درهم بهذا العبد من غير تعيين الدراهم، فهو بعينه على الخلاف المذكور في السلم في الدراهم، وإنما التردد في الدراهم المعينة إذا ذكرت مبيعةً. 3101 - فإذا ثبتت هذه المقدمةُ، وصلناها بأخرى، وقلنا: إذا قال: بعتك هذا العبدَ بثوبٍ، وأطنب في وصفه، فالثوبُ هل يثبت له حكمُ المسلمِ فيه؟ أم هو على حكم الأثمان؟ خرج الأصحابُ هذا على الخلاف المذكور في أن العروض هل تصيرُ أثماناً بباء الثمنية، ولم يختلفوا في صحة العقد. فإن قلنا: الثوبُ ثمن، فلا يجب تسليمُ العبد في المجلس، وإن قلنا: الثوبُ في حكم المسلم فيه، فهل يجب تسليم العبد في المجلس؟ فعلى وجهين سنذكرهما في كتاب السلم: أحدهما - أنه يجب؛ [فإنّ] (1) الصفقةَ اشتملت على موصوفٍ من العروض، وهذا هو السلم. والثاني - لا يثبت حكم السلم؛ فإنها لم تثبت على صيغة السلم، ولصيغ العقودِ آثار بيّنة، فإذا انضم هذا إلى ما ذكرنا لحقيقة الثمنية، عُدْنا بعدَ ذلك إلى إتمام القول في الاستبدال.

_ (1) في الأصل: في.

3102 - فنقول: لا مطمع في تصحيح الاستبدال عن الأعيان. فأما الديون فما حَكَمنا بكونه مثمناً، فلا يجوز الاستبدال عنه، وإن لم نوجب تسليمَ مقابله في [المجلس] (1)، فإنَّ مَنْع الاستبدالِ مُتلقّىً من كون الشيء مبيعاً، لا من وجوب تسليم مقابلِه. وكل ما حكمنا بكونه ثمناً، فحاصل المذهبِ في الاستبدال عنه ثلاثةُ أقوال: أحدها - الجوازُ. والثاني - المنعُ. والثالث - الفصلُ بين النقد وغيره؛ فإن النقودَ لا تُعنَى لأعيانها، بخلاف العُروض. وإذا كانت العروضُ معيّنة، فلا حاصلَ للفرق بين أن تكون أثماناً أو مثمنات. وذكر صاحبُ التقريب على قولنا بالمنع عن الاستبدال عن الدراهم الواقعة ثمناً، إنما نمنع استبدالَ عَرْضٍ عن الدراهم، فأما استبدالُ نوعٍ من الدراهم عن نوعٍ، أو استبدالُ الدنانيرِ عن الدراهم، فهل يمتنع؟ فعلى وجهين: فإن القولَ يظهر في التحول من نقدٍ إلى نقد، في أن المستبدِلَ لم يحد عن المقصود، فإن النقود إذا استوت في الجريان، فليست هي مقصودةً لأعيانها، وإن سميت، ويعتضدُ هذا بحديث عبدِ الله بن عمر. ولا مطمع في تقدير معنى. وكل ما أجريناه مسالكُ ضعيفة لا تصبرُ على السبر مع مصيرنا إلى أن إفلاس المشتري بالثمن يُثبت حقَّ الفسخ في المبيع. وقد ينقدح فيه أن يقال: المالية تعذّرَت بالإفلاس. وهذا منتهى الكلام في الاستبدال، وما يجوز منه وما يمتنع. فصل في تلف المبيع قبل القبض وتعيُّبه 3103 - الكلامُ في التلف والنقصان: فأما التلف، فلا يخلو إما أن يكون بآفة سماوية، وإما أن يكون بإتلاف متلفٍ. فإن كان التلفُ بآفةٍ، فالبيع ينفسخ، والمبيع

_ (1) في الأصل: الجنس.

يرتدُّ إلى ملك البائع تبيُناً (1) قبل تقدُّر تلفه. وهذا من ضرورة الحكم بالانفساخ، فإنه لو هلك ملكاً للمشتري، لاستحال أن يُستردَّ الثمنُ، ويُقضَى بانفساخ العقد، حتى قالَ الأئمةُ: لو مات العبدُ المبيعُ قبل القبض، فمؤنةُ تجهيزه ودفنهِ على البائع. ثم إذا كان يتقدم انتقالُ الملك على التلف، فقد ذكر بعضُ المصنفين وجهين في التقدير: أحدهما - أنه ينتقل الملك إلى البائع قبيل التلف. والثاني - أنه يستند إلى أول العقد. وحقيقة هذا يرجع إلى أنا نتبين بالأَخَرة أن لا عقدَ أصلاً، فيكون العقدُ قبل القبض موقوفاً على ما تبين، فإن لم يسلَم المبيع، تبيَّنا أن لا عقدَ فيما مضى. وهذا في نهايةِ البُعد. وبنى هذا القائلُ الزوائدَ المتجدّدة بعد العقد على ما ذكره. وقال: إن قدرنا النقلَ قبيلَ الموت (2)، فالزوائدُ المنفصلةُ تسلم للمشتري؛ لأنها تجدّدت على ملكه، وإن حكمنا بتبين [انتفاء] (3) العقدِ، فالزوائد تكون للبائع على طرد التبين أيضاًً، ولعلنا نعيد فصل الزوائد في باب الخراج. هذا كله تفصيل القول فيه إذا تلف المبيع لا بجنايةِ جانٍ. 3104 - فأما إذا أتلفه متلفٌ، لم يخلُ إما أن يتلفَه أجنبي، أو يتلفَه المشتري، أو يتلفَه البائع. فإن أتلفه أجنبي، فالذي قطع به المراوزةُ أن البيعَ لا ينفسخ. وذكر العراقيون قولين في انفساخ العقد: أحدهما - أنه ينفسخ، كما لو تلف بالآفة السماوية؛ فإن المعقود عليه العينُ المبيعةُ وقد فاتت. والقول الثاني - أن البيع لا ينفسخ، ولكن المشتري بالخيار. كما سنفصله في التفريع. ووجه هذا القولِ أن إتلاف الأجنبي أعقب ضماناً على المتلف، والقيمةُ إذا ثبتت خلفت المقوَّمَ في الأعواض المالية.

_ (1) سبق أن شرحنا مصطلح التبيّن، وهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي بوجود علة الحكم والشرط كليهما في الماضي. (2) كذا. ولعلها: قبل (التلف). (3) زيادة من (هـ 2).

التفريعُ: 3105 - إن حكمنا بأن البيع ينفسخ فالمشتري يسترد الثمنَ، والبائعُ يطالب الأجنبي بقيمة المتلف. وإن قلنا: لا ينفسخ البيع، فالمشتري بالخيار. وسببُ خياره أنه عدِم العينَ التي كانت مورداً للبيع؛ فإن فسخ العقدَ، عاد التفريع إلى ما ذكرناه في قول الانفساخ. وإن أجاز العقدَ [استقرّ] (1) الثمنُ عليه، واتبع [الأجنبي] (2) بقيمةِ المتلَف، فإذا غرِم الأجنبي القيمةَ، والتفريع على أنه يثبت للبائع حقُّ الحبس (3)، فهل يستحق حبسَ القيمةِ حتى يتوفر الثمن عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحق ذلك، كما لو أتلف أجنبيٌ العينَ المرهونةَ، وغرِم القيمةَ؛ فإنها تكون محبوسةً بالدين. والوجه الثاني - أن البائع لا يملك الحبسَ؛ فإن حق حَبْسه لم يكن مقصود عقدٍ حتى ينتقلَ من العين إلى القيمة، بل ثبت على طريق التبعية، فينبغي أن يسقط بتلفِ العين. والدليل عليه أن الراهن لو أتلف العينَ المرهونةَ في يد المرتهن، فإنه يغرِم قيمتَها لتكون رهناً، والمشتري لو أتلف المبيعَ، لم يلزمه بَذْلُ القيمةِ للبائع لتكون محبوسةً. التفريع: 3106 - إن قلنا: لا يملك البائع حبسَ القيمةِ المأخوذةِ من الأجنبي، سِيقت القيمةُ إلى المشتري، ولم يملك البائعُ إلا مطالبتَه بالثمن. وإن قلنا: يملك البائعُ حبسَ القيمةِ، فلو تلفت تلك القيمةُ المحصلة في يده بآفة سماوية، فالمذهب أن البيعَ لا ينفسخ؛ فإن سببَ انفساخِ البيع تلفُ المبيع. وليست القيمة مبيعةً؛ إذ قد تكون ألفين والثمنُ ألفاً. ومن أصحابنا من حكم بالانفساخ. وهذا خبطٌ. وسببه أن الأصح أن البائعَ لا يملك حبسَ القيمة، والتفريعُ على الضعيف أضعفُ من أصله. 3107 - فأما إذا تلف المبيع بإتلاف البائع، قال العراقيون: في المسألة طريقان. وقالت المراوزة: في المسألة قولان: أحدهما - أن إتلافَ البائع المبيعَ بمثابة تلفه بآفة

_ (1) في الأصل: استتر. (2) ساقطة من الأصل. (3) في (هـ 2): الفسخ.

سماوية. وهذا أحدُ الطريقين للعراقيين. والقول الثاني - أن إتلاف البائعِ كإتلاف الأجنبي، وإتلافُ الأجنبي لا يوجب (1) انفساخَ العقدِ في طريق المراوزة. وهو على قولين في طريقة العراقيين. التوجيه: من لم يجعله كالأجنبي، احتج بأن ضمانه يجب أن يكون ضمان العقود؛ [إذْ] (2) لم يجرِ القبضُ بعدُ، [و] (3) ضمانُ العقودِ يتضمن ردّ الثمن. والقول الثاني - أنه كالأجنبي، فإنه جنى على ملكٍ مستقرٍّ للمشتري. التفريع: 3108 - إن حكمنا بالانفساخ، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ على اختلافِ الترتيبين، فالمشتري بالخيار بين أن يفسخ، ويرجعَ إلى الثمن، وبين أن يجيز العقدَ، ويُلزمَ البائع قيمةَ المبيع. ثم التفريع وراء ذلك كما مضى. وكان شيخي يقطع بأنه لا يثبت للبائع حقُّ الحبس في القيمة التي يغرمها؛ فإنه المتسبب إلى إبطال حقه من الحبس في عين المبيع، وليس كالأجنبي. وفي المسألة احتمال على بُعدٍ. وطرد الأصحابُ وجهين في المرتهن إذا أَتلفَ العينَ المرهونةَ، وغرِم القيمةَ في أن القيمة هل تكون مرهونةً؟ وسيأتي ذلك في الرهون - إن شاء الله تعالى. 3109 - فأما إذا أتلف المشتري المبيعَ، فإتلافُه قبضٌ للمبيع، اتفق الأصحاب عليه؛ فيستقر العقدُ والثمنُ، ولا يلزمُ المشتري بذلَ القيمة ليحبسَها البائعُ وجهاً واحداً. وتعليل ذلك أن إتلافَه صادفَ ملكَه، فاستبعد العلماءُ أن يقضُوا بردّ المتلَفِ إلى ملك الغيرِ، بعد صَدَرِ الإتلاف من المالك. وإذا أعتق المشتري العبدَ المبيعَ قبل القبض، ونفذنا عتقَه على التفصيل المقدّم، كان إعتاقُه قبضاً، وإتلافاً للمبيع، من طريق الحكم. هذا كلُّه كلامٌ في تلفِ المبيعِ بالجهات.

_ (1) (هـ 2): يوجب (بدون " لا "). (2) ساقطة من الأصل. (3) الواو ساقطة من الأصل.

3110 - فأما نقصانُ المبيع، فإنه ينقسم إلى نقصان جزئي، وإلى نقصانٍ لا يتطرق إليه التجزُّؤ. فأما النقصانُ الجزئي، فهو بمثابةِ ما لو اشترى عبدين، فتلف أحدُهما، أو كُرَّيْن (1) من الطعام، فتلِفَ أحدُهما، فالبيع ينفسخ في التالف، وفي انفساخِه في الباقي قولا تفريق الصفقة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم المذهب الذي عليه التفريع أنا إذا خيرنا المشتري على قولنا لا ينفسخ العقد في الباقي، فإن أجاز العقدَ في الباقي، أجازه بقِسْطه من الثمن، هذا هو الصحيح. وفيه قول آخر، سنذكره في تفريع تفريق الصفقة. والنقصان الذي يرجع إلى الجزئية [يَحُدُّهُ] (2) في ضبط المذهبِ أن يكون التالفُ بحيث يمكن إفرادُه بالبيع، ولا يكون جزءاً من الباقي. ولو باع رجلٌ داراً، فاحترق سقفُها، فقد اختلف أئمتُنا في ذلك: فذهب بعضُهم إلى أن ذلك بمثابة تلفِ أحدِ العبدين، من قِبَل أنّ إفرادَ السقف بالبيع قد يمكن تقديرُه، وإن عسر فرضُه لتعذُّرِ فصلِه، فلا تعويلَ على ذلك، مع إمكانِ إفرادِ السقف بتقديرِ القيمة له، وليس ذلك كأطراف العبد؛ فإنها لا تستقلّ فيما ذكرناه. ومن أصحابنا من جعل احتراق السقفِ وتلفِ غيره من بنيان الدار بمثابة تلفِ أطرافِ العبد، حتى ينزل منزلةَ العيبِ، على ما سنفصله. هذا بيانُ ما يتعلق [بنقصانِ الجزءِ. 3111 - فأما القولُ في العيب الذي يتعلّق بصفةِ المبيع، ولا يتعلق، (3) بما ينقسم في حكم التقويمِ، أو في حكم الإفراد بالعقد، فالوجه أن نُعيد فيه التقاسيمَ الثلاثة. فإن عابَ المبيعُ بآفةٍ سماوية، مثلِ أن سقطت يدُ العبد بآفةٍ قبل القبضِ، فللمشتري

_ (1) كُرَّين، مثنى كُر، والجمع أكرار، مثل قفل وأقفال. والكرّ مكيالٌ يسع ستين قفيزاً. (مصباح). (2) في الأصل: نجده. (3) سقط ما بين المعقفين من الأصل.

الخيارُ لا غيرُ؛ فإن ردّ ارتدَّ الثمنُ، وإن أجاز لزمهُ تمامُ الثمن. والقول في أحكام الرد في باب الخراج. 3112 - وإن قطعَ أجنبيٌّ يدَ العبدِ المبيعِ، فهذا نفرعه على حكم إتلافهِ، فإن جعلنا إتلافَه بمثابةِ التلفِ بآفةٍ سماويةٍ، فمساقُ ذلك يقتضي لا محالةَ ثبوتَ الخيارِ للمشتري، كما لو عابَ المبيعُ بآفةٍ سماويةٍ. ثم إن فسخ استرد الثمنَ، والبائعُ يطالب الأجنبي بأرش اليد، وإن أجاز استقر الثمنُ عليه للبائع، وله مطالبة الأجنبي بأرش اليد. وإن فرعنا على أن إتلافَه لا يكون كالتّلفِ بالآفةِ السماويةِ، فالخيارُ يثبت للمشتري أيضاًً؛ لأن المبيعَ في عُهدةِ البائع إلى أن يسلّم، والدليل عليه أنا في صورة إتلافِ الأجنبيِّ نُثبت الخيارَ للمشتري أيَضاً، لجريان التلفِ في عُهدةِ البائعِ. فإن أجاز المشتري العقدَ غرِم الأجنبيُّ أرشَ اليدِ. وإن فسخ استردَّ الثمنَ، وغَرَّمه البائعُ (1). فيستوي التفريع على القولين في كل حكمٍ بسببين: أحدهما - أن الذي جرى ليس [تلفَ أجنبي] (2) يتطرق الاختلافُ إليه في الانفساخ، والعهدةُ مطردةٌ على البائع في كلِّ قولٍ، واجتماع هذين المعنيين يوجب تسويةً بين القولين. 3113 - وإذا عابَ المبيعُ بفعل من جهة البائعِ، فإن جعلناه بمثابةِ الأجنبيّ، فقد مضى التفريعُ فيه، فيثبتُ له مطالبةُ البائعِ بأرش الجنايةِ، فسخَ أو أجازَ (3). وإن جعلنا [فعله] (4) كالآفة السماويةِ، فنقول على ذلك: إن فسخ، استردّ الثمن

_ (1) أي يغرّم البائعُ الأجنبيَّ (ر. الروضة: 3/ 505، وفتح العزيز بهامش المجموع: 8/ 410، وقليوبي وعميرة: 2/ 212). (2) في الأصل: "تلفاً حَتى". (3) هذه العبارة وردت بحروفها عند العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية: "وإن أُلحق البائعُ في الإتلاف بالأجنبي، فله (أي المشتري) مطالبة البائع بالأرش، فسخ أو أجاز" ثم عقب قائلاً: كذا ذكره الإمام (إمام الحرمين) وفيه نظر" ا. هـ بنصه (ج 3 ورقة 204 ظهر. مخطوطة مصورة). (4) في الأصل: نقله.

ليس له غيره، وإن أجاز، لم يطالِب البائعَ بأرشِ الجناية؛ لأنا نزلنا فعلَه منزلةَ آفةٍ سماوية. فإن قيل: هلاّ سلكتُم هذا المسلكَ فيه إذا كان الجاني أجنبيّاً؟ قلنا: لا تعلّق للعقد به، وإنما يلتزم ما يلتزم بالجناية المحضة، فيستحيل أن نُحبط جنايتَه في جهةٍ من الجهات، [نعم] (1) يجوز أن يختلف مستحِق الأرش، فأما أن يَبْرَأَ الجاني، فهذا محال. وإذا كان الجاني هو البائع، وجعلنا فعلَه كآفةٍ سماوية، فعهدةُ العقدِ متعلقةٌ به، فكفى إثباتُ حقّ الرد للمشتري، وهذا بمثابةِ إتلافهِ على قولنا: إنه كالتلف السماوي، فإنا لا نُلزمه القيمةَ. والمرأةُ إذا ارتدت، فقد أفسدت على زوجها حقَّ المستمتعِ، ولا تنزل منزلةَ المرضعةِ تُفسدُ النكاح بالإرضاع. وإن عاب المبيع بجنايةِ المشتري بأن قطع [يدَ العبدِ] (2) المبيع، فلا شك أنه لا خيارَ له، وإن جرى القطعُ في استمرارِ يدِ البائع، ولكنا نجعله قابضاً لمقدارٍ من المبيع؛ فإن إحباطَ الجنايات لا سبيلَ إليها، والعيبُ في هذا المقام بمثابةِ جزء من المبيع. ثم قال العلماء: إن ألزمنا الأجنبي أرشَ القطعِ، فجراحُ العبدِ من قيمته، كجراح الحرِّ من ديتِه على النَّصِّ. وفي المسألة قولٌ آخر خرّجَه ابنُ سُريج: إنه يتعلق بالجنايةِ نقصانُ القيمة، وسيأتي ذلك في كتاب الخراج. وإن جعلنا البائعَ كالأجنبي في الجناية، فقطع يدي العبدِ، ثم رجليه، واندملت الجراحات، فقد نُلزمه بسبب اليدين القيمة الكاملة وبسبب الرجلين قيمة عبدٍ أقطعَ اليدين، ثم نسلِّم العبدَ إلى المشتري إذا كان أجاز، ولا نلزمه إلا الثمن المسمَّى. 3114 - وأما إذا كان الجاني هو المشتري، فقد قطع الأئمة بأن المرعيَّ في حقه النقصانُ لا المقدَّر، والسببُ فيه أنا لو اعتبرنا المقدّرَ، لجعلناه قابضاً للعبد حُكماً إذا

_ (1) في الأصل: ثم. (2) ساقط من الأصل.

قطع يديْه، مع بقاء العبد في يدِ البائع، وهذا محالٌ لا سبيل إليه؛ فكانت هذه الصورة مستثناةً من بين الصور في القطع، باعتبار النقصان؛ والسببُ فيه أن قطعَه ليس بجناية، وإنما هي قبض، والأرش يتقدّر في الجنايات. ومن غصب عبداً فسقطت يداه بآفةٍ، لم يلزمه إلا النقصانُ، مع تحقق العدوان، لأنه لم يجنِ، فلا إشكالَ إذن في أن الأرشَ المقدرَ لا سبيل إلى اعتباره في حق المشتري، وليس ذلك معللاً بالضرورة، وإنما تنكر (1) في الضرورة بتلك الصورة مستشهد بها للتقريب من فهم المسترشد. والتعليلُ ما ذكرناه، من أن ما صدر منه ليس جناية. فهذا تفريعُ التلفِ والنقصانِ على أبلغ وجهٍ وأوجزِه. فرع: 3115 - إذا غصبَ المشتري المبيعَ من يد البائعِ، قبل توفيرِ الثمنِ عليه، فإن لم نُثبت للبائع حقَّ الحبس، فلا كلامَ. وإن أثبتنا له حقَّ الحبس، فلو أتلف البائعُ المبيعَ في يدِ المشتري وكان اغتصبه، فنقول: أوّلاً للبائع استردادُ المبيع منه لحقه في الحبس؛ فإن أتلفه البائعُ، فقد (2) ذكر صاحبُ التقريب قولين: أحدهما - أن البيعَ قد استقر بقبضه وإن ظَلَم (3) فيه، فعلى البائع القيمةُ، ولا خيارَ للمشتري في فسخ البيعِ. والقولُ الثاني - أن الخيارَ يثبت للمشتري؛ فإن إتلافَه على صورة إتلاف المشتري، والمشتري إذا أتلف كان قابضاً، فإذا أَتلفَ البائع، كان ذلك في معنى استراد العين من المشتري، ثم ردّد كلامَه على وجهٍ معناه ما نبديه: فيحتَملُ أن يقال: ينفسخ العقدُ بإتلافه، وكأنه ردّ المبيع إلى يدهِ، ثم أتلفه، ليخرج على الخلاف في إتلاف البائع

_ (1) في هامش (هـ 2) نسخة أخرى: " تيك الضرورة في تلك الصورة ". والعبارة على الحالين غير مستقيمة، ولعل تصحيفاً وقع فيها وصوابها: "وإنما (يذكُرُ) في الضرورة تلك الصورة مستشهدٌ ... " ومستشهد فاعل (يذكر) أو سقطت الألف علامة التنوين في مستشهد، وتكون هكذا: تتكرر في الضرورة ... مستشهداً بها. والله أعلم. (2) في النسختين: قد (بدون الفاء). (3) أي كان ظالماً في قبضه، حيث اعتدى على حق البائع في حبس المبيع.

المبيع. والظاهر أن البيعَ لا ينفسخُ، ولكن للمشتري الخيار في الفسخ والإجازة، ثم لا يخفى تخريجُ الحكمين وتفريعُهما. ولو تَلف المبيع في يد آخذه، وهو المشتري، كان من ضمانه ولا [يستفيدُ] (1) التصرفَ فيه، لبقاء حق الحبس للبائع فيه. فهذا تفصيلُ القول في ذلك. * * *

_ (1) في الأصل: يستند.

باب بيع المصراة

باب بَيعْ المصرَّاة (1) قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ للبيع، فمن ابتاعَها بعد ذلك، فهو بخيِّر النظرين بعدَ أن يحلبها ثلاثاً: إن رضيها، أمسكها، وإن سخِطَها ردَّها وصاعاً من تمر" (2). 3116 - التصريّةُ: الجمعُ، وهو مصدر صَرِيَ يَصْرَى، ويقال للماء المجتمعِ في مستنقعه ماءٌ صَرَىً (3) وصَري، ومعنى التصريةُ في مقصود الباب جمعُ اللبن، وسدُّ الأخلاف (4)، وتركُ الحِلاب، حتى تتكاملَ الدَّرَّة وتتضاعفَ نُوبٌ (5) منها، فينظر الناظر فيحسَبُ ما يشاهد درَّةَ نوبةٍ، فيعتقدُ غزارة اللبن، وقد تُسمَّى المصراةُ مَحَفَّلةً، والتحفيل الجمع أيضاًً. والخبر يرد باللفظين. فنقول: من صَرى ناقةً أو بقرةً أو شاةً، وأوهمَ بالتصريةِ غزارةَ اللبن، ثم استبان المشتري أن لبنَ المشتراة بَكِيٌّ (6) أو مقتصد، فله الخيار، وإن لم يَجْرِ شرطُ غزارةٍ

_ (1) من هنا صار التحقيق معتمداً على ثلاث نسخ، فقد أضيفت نسخة (ص) (راجع وصف النسخة والتعريف بها في المقدمة). (2) ر. المختصر: 2/ 184، والحديث متفق عليه، من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 970). (3) صَرِي صرى: من باب تعب، وصَرَى يصري: من باب رمى، متعدّ، وماء صَرىً، وصفٌ بالمصدر. وصريتُه بالتثقيل مبالغة (المصباح) ولا تُصرُّوا: بضم التاء، وفتح الصاد، على وزن لا تزكوا. قال الحافظ: "هذا هو الصحيح، وبعضهم يرويه بفتح التاء وبضم الصاد". (التلخيص: 3/ 54 ح 1195). (4) الأخلاف: جمع خِلف بكسر الخاء، وهو من ذوات الخف كالثدي للإنسان، وقيل: الخِلْف طرف الضرع. (مصباح). (5) نُوَب: جمع نوبة، وهي المرة من الحلْب. (6) بكي: قليل من بكأت البئر: قل ماؤها، والحيوان الحلوب: قلّ لبنه.

لفظاً، والمعتمدُ في الباب الخبرُ الذي رواه الشافعي. ثم الكلامُ يتعلق بفصلين: أحدهما في الخيار. والثاني فيما يردّه إذا ردَّ البهيمةَ في مقابلة اللبن. [الفصل الأول] (1) 3117 - فأما القول في الخيار: فإذا جرت التصريةُ كما وصفناها، وتعلّق بها ظنُّ المشتري ثم أَخْلَفَ، ثبت الخيار. وقاعدةُ مذهب الشافعي تدل على أن ثبوت الخيار جارٍ على القياس. وبيان ذلك أن أئمة المذهب قضَوْا بأن كل تلبيسٍ حالٍّ محلَّ التصرية من البهيمة إذا فُرض إخلافٌ فيه، ثبت الخيارُ، فلو جعَّد الرجلُ شعرَ [المملوك تجعيداً] (2) لا يتميز عن تجعيد الخِلقة، ثم زال ذلك، ثبت الخيار للمشتري، فنزلوا التجعيد منزلةَ اشتراطِ الجعودة، وقد طردتُ في هذا مسلكاً في (الأساليب) وإذا جرى الخُلفُ بشيء لا ظهورَ له، فلا مبالاة به، كما إذا كان على ثوب العبد نقطةٌ من مداد، [فهذا لا يتنزل منزلةَ شرط كونه كاتباً، ولو كان وقْعُ المدادِ] (3) بحيث يعد من مثله أن صاحب الثوب ممن يتعاطى الكتابةَ، فإذا أخلفَ (4) الظنُّ، ففي ثبوت الخيار وجهان. وإذا بني أمرٌ على ظهورِ شيء في العادة، فما تناهى ظهوره يتأصل في الباب، وما لا يظهر يخرجُ عنه، وما يتردد بين الطرفين يختلف الأصحاب فيه. وهذه المراسمُ تكررت في هذا المجموع. ومن صور الخلاف أن مالك الشاة إذا سعى في علفها على خلافِ العادة حتى ربا بطنُها، وكان يبغي بذلك أن يغلبَ على ظن الناظرِ أنها حامل، فإذا جرى ذلك، ففي ثبوتِ الخيارِ وجهان. وسببُ الاختلاف أن رَبْو البطن من العلفِ لا يكاد يلتبس بمخيلة

_ (1) هذا العنوان من عمل المحقق أخذاً من كلام المصنف. (2) زيادة من (هـ 2)، (ص). (3) ساقط من الأصل. (4) أخلف: لم يتحقق، يقال: أخلف الغيثُ أطمع في النزول، ولم ينزل. وفي (هـ 2) و (ص): أخلف ذلك الظن.

الحمل وعلامته، فكان الاختلاف للتردد فيما ذكرناه. وألحق الأئمةُ بصورة القطع حبسَ الماء في القناة وإرسالَها حالة البيع، أو حالةَ الإجارة، وقد يفرضُ ذلك في إجارة الطواحين (1). وكل هذا مثبتٌ للخيار ملتحقٌ بصورة القطع. 3118 - ومما يتصل بهذا أن من باع جارية ذاتَ لبنٍ، وكان صرّاها، فإذا بان خلافُ المظنون (2)، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - يثبت الخيار [كما يثبت في البهيمة المصراة. والثاني - لا يثبت الخيار] (3)؛ فإن اللبن لا يقصدُ من الجارية إلا على ندور في الحضانة. وهذا الخلاف ليس من النمط الذي ذكرناه قبيل هذا؛ فإن التلبيس بالتصرية في الجارية كالتلبيس بالتصرية في البهيمة، وإنما نشأ الاختلاف من أصلٍ آخر، وهو أن الأصل في خيار الخُلْف أن يترتب على الشرط، والفعلُ الموهم المدلّس أُلحق بالشرط، وهو دونه، ويقوى أثرُه فيما يظهر توجُّه القصدِ إليه، [فأما ما لا يتوجه القصدُ إليه] (4) فلا يظهر التلبيسُ فيه. ويمكن أن يقال: هذا مع هذا التقريب يلتحق بما قدمناه من مواقع الخلاف؛ فإن الشيء إذا كان لا يقصد، فما يجري من تلبيسٍ فيه وفاقاً لا يوهم. ويمكن أن يقرَّب مما تقدم من وجهٍ آخر، وهو أن الضروعَ والأخلافَ يُعتاد معاينتها، ويدركُ الفرقُ فيها، وليس كذلك الثديُ في بنات آدم؛ فإن المشاهدةَ لا تتعلق به غالباً. وغرضُنا تخريجُ الوِفاق والخلافِ على أصولٍ ضابطةٍ. 3119 - وذكر العراقيون التصرية في الأتان. والمسلك المرضي ما نزيده فنقول: ظاهر المذهب أن لبن الأتان نجس، فإذا فرضنا التصريةَ، فاللبن لا يقابَل بشيء، ولكن لا يبعد ثبوت الخيار؛ إذ قد يُقصد غزارةُ لبنها لمكان الجحش، فيلتحق هذا

_ (1) المراد الطواحين التي يستخرج بها الماء من باطن الأرض. (2) في (هـ 2) المطلوب، (ص): المضمون. (3) زيادة من (هـ 2) و (ص). (4) سقط من الأصل.

الخيارُ بصور التردد. ومن أصحابنا من حكم بطهارة لبنها وحرّمه، فالقول كما مضى؛ فإن اللبن المحرمَ لا يتقوّم. ومن أصحابنا من حكم بحل لبنها تفريعاً على الطهارة، حكاه العراقيون عن الإصطخري. وهذا عندي لا يلتحق بالمذهب، وهو من هفوات بعض الأئمة، فنقول: إن لم يُبح اللبن، فالنظر في الخيار. وإن فرعنا على الوجه الضعيف وأبحناه، فالقول في تصرية الأتان كالقول في تصرية الجارية. وسنذكر أن لبن الجارية هل يقابل بشيء في الفصل الثاني من الباب. فرع: 3120 - إذا تحفَّل اللبنُ بنفسه من غير قصدٍ من مُحفل، ثم جرى الظن والإخلافُ كما ذكرناه، ففي ثبوت الخيار وجهان. كان يذكرهما شيخي في الخلاف، وذكرهما غيره. وعندي أن الخلافَ في ذلك يشير إلى تردد الأصحاب في مأخذ الخيار في الباب، وينقدح للخيار مأخذان: أحدهما -[تَنْزيلُ] (1) فعلِ الملبِّس منزلةَ قوله؛ فإنه بشرطه يُطمع المشتري في مقصودٍ، وقولُه بين الخُلْف والصدق. كذلك الفعل يُنَزَّلُ هذه المنزلةَ. ومن أصحابنا من يبني الخيار في الباب على قاعدةِ خيارِ العيب، ويزعم أن من اشترى عبداً مطلقاًً، ولم يقع التعرضُ لشرط السلامة، فسبب الخيار إشعارُ ظاهرِ الحال بالسلامة، فإن بان ما يخالف الظاهر، ترتب عليه خيارُ الرد. وهذا يتحقق في المحفَّلة، فإن ظاهرَ الأمر يُشعر بغَزَر (2) اللبن. فإن أخذنا الخيار من تشبيه فعل الملبِّس بقوله، فلا خيار في التي تحفَّلت بنفسها، من غيرِ قصد. وإن أخذنا الخيار من تنزيل العقد على الظاهر، فهذا يقتضي ثبوتَ الخيار في التي تحفلت من غير تحفيل (3).

_ (1) فِي الأصل: ينزل. (2) غزَر: غزارة. وهذا معهود في أسلوب إمام الحرمين، فيستعمل صَدَر مكان صدور، وحَدَث مكان حدوث. (3) في (هـ 2): محفل.

فرع: 3121 - إذا اشترى مصراة فكما (1) حلبها اتفق درور لبنٍ على الحد المطلوب التي دلّت التصريةُ عليه، ثم استمر الأمر كذلك وفاقاً، فهل يثبت الخيار للمشتري؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون، وهما خارجان على قياسنا أيضاًً. والخلاف في ذلك مُشبهٌ بأصلٍ سيأتي في الخراج، ويلتفت على أصلٍ في النكاح. فأما ما يأتي في الخراج، فهو أن من اشترى عبداً، وكان به عيبٌ قديم، لم يتنبه له المشتري إلا بعد زواله، ففي ثبوت الخيار وجهان، ووجه الشبه بيّن. وأما أصلُ النكاح: فإذا أُعتقت الأمةُ تحت زوجها الرقيق، فلم تشعر حتى عَتَق الزوجُ، فهل يثبت لها الخيار الآن؟ فعلى اختلاف نصوصٍ وأقوال. وذكر العراقيون أن من ابتاع شاةً وعلم أنها مصراةٌ، ثم تحقق الأمرُ كما علم، وقل اللبنُ، فهل يثبت الخيار؟ فعلى وجهين. ولست أرى لقولِ من قال بثبوت الخيار هاهنا وجهاً، إلا أن يقول قائل: لعل المشتري يستبهم عليه من التحفيل قدرُ اللبن الأصلي، فإذا رجع إلى أصله، فقد يكون دون القدر المظنون (2). وهذا مزيف لا أصل له. وقد انتهى القول في الخيار. 3122 - وإذا تبين أصلُ الخيار، فالكلام بعد ذلك في أنه على الفور أم لا؟ وكيف السبيلُ فيه؟ فنقول: إذا لم يتبين للمشتري اختلاف ظنه إلا بعد يومٍ، أو يومين مثلاً، فلا يبطل خيارُه؛ فإن الكلام في الفور والتراخي يقع بعد الاطلاع على موجِب الخيارِ. فلو حصل الاطلاع في اليوم الأول مثلاً، فالخيار يثبت على الفور أم يمتد إلى انقضاء ثلاثة أيام من وقت العقد؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه على الفور، قياساً على خيار الخُلف والعيب، كما سيأتي حكمهما إن شاء الله عز وجل. والوجه الثاني - أنه يمتد ثلاثةَ أيامٍ؛ فإنه صح في روايات حديث المصراة أنه عليه

_ (1) "فكما" بمعنى (عندما). (2) (هـ 2)، (ص): المطلوب.

السلام قال: " فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً " فهذا خيارٌ شرعي مؤقت بما يتأقت به خيارُ الشرط، فاتُّبِع. ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن ذكر الثلاثة في الحديث، وقال: الغالب أن التلبيس لا يبين إلا بعد تكميل الحَلْب (1)، فجرى ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزيلاً على العادة في الباب. قال شيخي: من أثبت الخيارَ ثلاثةَ أيامٍ، يُلحقه بخيار الشرط في حكمه، ويعيد فيه الاختلافَ في أن هذا الخيارَ يحتسبُ من وقت العقد، أو من وقت انقضاء خيارِ المجلس، كما تقدم ذكره في خيار الشرط بالإضافة إلى خيار المجلس. ولو حصل الاطلاع على خُلْف (2) الظن آخرَ جزء من الأيام الثلاثة، فلا خلاف أنا لا نتعدى هذا، فلا يظنن ظان أنَّا نمدُّ الخيارَ من وقت الاطلاع ثلاثة أيام. فإذا ظهر ذلك، فالمطلعُ في آخر الأيام خيارُه على الفور. ومأخذُ الفور على أحد الوجهين القياسُ على النظائر في خيار الخلف، والردَّ بالعيب. وهو على الوجه الثاني من مصادفته آخر الوقت، لا من كونه في وضعه على البدار والفور. وقد نجز القول في الخيار تأصيلاً وتفصيلاً. [الفصل الثاني] (3) 3123 - وأما الفصل الثاني، فمضمونه الكلام فيما يرده المشتري في مقابلة اللبن، إذا ردَّ البهيمة المصرَّاة. وهذا الفصل معتمده الخبر في أصل المذهب، وليس كأصل الخيار؛ فإنه قد يستدّ فيه طرفٌ من القياس، كما نبهنا عليه، فالمعتمد إذاً في المردود

_ (1) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها: " بعد تكميل الثلاث "، أو "بعد تكميل الحلب ثلاثاً" والله أعلم. (2) في (هـ 2)، (ص): خلاف. (3) العنوان من وضع المحقق أخذاً من تقسيم الإمام.

قول النبي عليه السلام: " وإن سخطها ردّها، ورد معها صاعاً من تمر ". واختلف طرق الأصحاب: فذهب بعضهم إلى اتباع الخبر ومحاذرةِ الميل عنه، فأوجبوا في مقابلة اللبن المحلوبِ صاعاً من تمر، قلَّ اللبنُ أو كثر. فإن قل قدرُ اللبن مرةً وأبرّت عليها قيمةُ الصاع، عارضَ ذلك الاكتفاءُ بصاعٍ من تمر وإن كثر اللبن. فهذا مسلك. ومن أصحابنا من قال: يقلّ التمرُ بقلة اللبن، ويكثر بكثرته، فقد يوجب ردَّ آصعٍ، وقد يكتفى بردّ مُدٍّ، فما دونه، على ما يقتضيه تعديل القيم. 3124 - ثم كما اختلف الأصحاب في المقدار: فصار صائرون إلى اتباع الصاع، من غير زيادة ولا نقصان، وذهب آخرون إلى اعتبار قيمة المبذول بقيمة اللبن. كذلك اختلفوا في الجنس، فذهب ذاهبون إلى أن الأصلَ التمرُ، فلا مَعْدِلَ عنه. وقال قائلون: يقوم مقام التمر الأقواتُ؛ اعتباراً بصدقةِ الفطر، ثم لا يعدِّي الأئمةُ في هذه الطريقة القوتَ إلى الأقطِ، كما يعدي بعضهم إليه في صدقة الفطر؛ فإن السبب الحامل على المصير إلى إجزاء الأقِط خبر فيه، وذلك الخبر لا يعدَّى به مورده. وقد روى شيخي في بعض صيغ حديث المصراة التعرضَ للحنطة. وهذا هو الذي مهد لأصحاب القوت مذهبَهم، وإلا فالأصل الاتباع. ثم من عدَّى إلى الأقوات، وانحصر فيها، فليس منسلاً بالكلية عن الاتباع. وأما تنزيل المبذول على قيمة اللبن، فهو مسلكٌ في الجُبران. والضمانُ منقاسٌ. وذكر شيخي مسلكاً غريباً زائداً على ما ذكرهُ الأصحاب في طرقهم، فقالَ: من أصحابنا من قالَ نَجري في اللبن على قياس المضمونات، فإن بقي عينُه، ولم يتغيَّر، ردّه، وليسَ عليه رَدّ (1) غيرهِ. وإن تغير، ردَّ مثلَه؛ فإنّ اللبن من ذواتِ الأمثالِ؛ فإن أعوز المثلُ، فالرجوعُ إلى القيمة. وقد أومأ إليه صاحب التقريب، ولم يصرح به. وهذا عندي غلط صريحٌ، وتركٌ لمذهب الشافعي، بل هو حيدٌ عن مأخذ مذهبه، ويبطل عليه مذهب الشافعي في مسألة المصراة، ولا يبقى إلا الخيار، فإن اعتمدنا فيه الخبر، لم يبعد من الخصم حمله على شرط الغزارة، مع تأكيد الشرط بالتحفيل.

_ (1) ساقطة من (هـ 2)، (ص).

فهذا إذن هفوةٌ غير معدودةٍ من المذهب ولا عودَ إليها (1). التفريع على الوجهين المقدَّمين: 3125 - من قال بالاتباع [والانحصارِ] (2) على الصاع فلو (3) بلغت قيمةُ الصاع قيمة الشاة، أو زادت، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما: أنا نوجب الصاع وإن بلغت قِيماً، ولا ننزل عن الاتباع. والوجه الثاني (4): أنا لا نرى ذلك؛ فإن النبي عليه السلام وإن نصَّ على الصاع من التمر، فقد أفهمنا أنهُ مبذولٌ في مقابلةِ شيءٍ فائت من المبيع يقعُ منه (5) موقعَ التابع من المتبوع؛ فينبغي أن لا يتعدَّى على (6) هذا المعنى حدَّ التوابع. [والغلوّ] (7) في كلِّ شيءٍ مذموم، وقد يغلو المتبعُ للفظ الشارع، فيقع في مسلكِ أصحاب الظاهر. التفريع على الوجهين: 3126 - إن حكمنا بأن الصاعَ واجبٌ، فلا كلام، وإن لم [نر] (8) إيجابَ الصاع في الصورة التي ذكرناها، اعتبرنا القيمة الوسط للتمر [بالحجاز] (9)، واعتبرنا بحسَب ذلك قيمةَ مثلِ ذلك الحيوانِ اللبون بالحجاز، وإذا نحن فعلنا هذا، جَرى الأمرُ في المبذول على الحدّ المطلوب. ثم قال العراقيون: إن زادت قيمةُ الصاع على نصف قيمة الشاة، فالوَجهان

_ (1) راجع حكاية السبكي لهذا الكلام بنصه، وتعليقه عليه، فإنه بالغٌ مفيد (المجموع: 12/ 51, 52, 53). (2) في الأصل: الحصار، والمثبت من (هـ 2) و (ص). (3) في (ص): فقد تغلب. (4) ساقطة من (ص). (5) في (ص): يقع (فيه) موقع (البائع) من (المبيع). (6) ساقطة من (ص). (7) ساقطة من الأصل. (8) ساقطة من الأصل. (9) ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص).

جاريان، وإن كانت قيمةُ الصاع مثلَ نصفِ قيمة الشاة، فيجب بذلُ الصاع، هكذا رواه (1). وقطع صاحب التقريب جوابه باعتبار قيمة الوَسط من صورة الوجهين. ومما يدور في الخلد أن اللبن إن كان شُرب أو ضاع، فالأمر على ما ذكرناه. وإن كان متغيراً، لم يُردَّ وقد حدث به عيبُ التغيير، ولكن وإن كان اللبنُ موجوداً حالة العقد ثم حُلبَ وتغيَّر، فلا نجعل الشاةَ مع اللبن بمثابةِ عبدين يشتريهما الرجل، ويقبضهما ويحدُث بأحدهما عيبٌ في يَدهِ، ويطَّلِع على عيبٍ قديم بالثاني، فهذا من فروع تفريق الصفقةِ آخراً، وفيه اختلافٌ سيأتي. وليس الأمر في اللبن معَ الشاةِ كذلك، وفيه نص النبي صلى الله عليه وسلم على إقامةِ الصاع مقامَ اللبن. وإن فرض فارض بقاءَ اللبن الحليب من غير تغير، حتى يثبت الخيار، فهذا تكلُّفُ أمرٍ لا يتصوَّر؛ فإنَ خُلفَ الظن يَبينُ بالحلب في النوبةِ الأخرى، ويتغيَّر اللبن لا محالةَ في جميع الأَهْوية. ولَو صُوِّرَ ذلَك على بُعد، فردُّ عين اللبن عندي مع الاتباع ليس بعيداً عن الاحتمال، والخبر يكون محمولاً على غالب الحال. وهذا يشابهُ قولَ من يُثبت الخيار على الفور، ويحمل ذكرَ المدةِ في الحديث على غالب الأمر، فإن الخُلف لا يبين إلا في مُدَّةٍ. فرع: 3127 - لو بان التلبيس، ورضي المشتري بالبهيمة، ثم وجدَ بها عيباً قديماً، فأراد الردَّ، فله الردُّ بالعيبِ القديم. ثم قالَ الأصحاب: يرُدّ مكان اللبن صاعاً من تمر، كما لو رَدّ بسبب التصرية، قطع الإمام (2) وصاحبُ التقريب والصيدلاني أجوبتَهم بذلك، ونصّ الشافعي عليه في المختصر (3).

_ (1) الذي رواه هو أبو محمد، والد إمام الحرمين، وشيخه، وقد ترجح لدينا ذلك، اعتماداً على ما ألِفناه من أسلوب الإمام، ثم قطعنا به بعد ما قرأنا حكاية هذا القول، وجميع الأقوال في المسألة لتقي الدين السبكي في المجموع: 12/ 58، 59. (2) الإمام: والده. (3) ر. المختصر: 2/ 185.

وهذا فيه إشكال من طريق القياس؛ فإن المعنى لا يُرشد إلى إثبات الصاع بدلاً عن اللبن، وإنما المتبع فيهِ الخبر، والخبر وردَ في التصرية، والقياسُ في هذا يقتضي أن ننزلَ البهيمةَ مع وجود اللبن في ضرعها، منزلةَ ما لو اشترى الرجل شجرةً مع ثمرتها، ثم تلفت الثمر فأرادَ رَدَّ الشجرةِ بعَيب قديم صادفَهُ بها، فيدخل هذا في تفريق الصفقة، هذا حكمُ القياس. ولكن الشافعي وجميعَ الأصحاب، حكموا بما ذكرناه. والسببُ فيهِ أن الردَّ بالعيب القديم في معنى الرد بالخُلف قطعاً. واللبن في الواقعتين على قضيةٍ واحدةٍ، فرأى الشافعيُ إلحاقَ الواقعةِ بالواقعةِ، كما رأى إلحاقَ الأمة بالعبد في قوله عليه السلام "من أعتق شِرْكاً له من عبدٍ قُوِّم عليه". وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: إن من أصحابنا من ردّ هذه المسألةَ إلى موجَب القياس، وخرَّجها على تفريقِ الصفقةِ. وقد ذكرنا طريق القياس. فرع: 3128 - إذا أثبتنا الخيارَ في الجارية المصرَّاة، فإذا رُدّت، فهل يجب ردُّ شيءٍ في مقابلةِ لبنها؟ اختلف أصحابنا في المسألة. فمنهم من أوجب ردَّ الصاع، وقال: إذا نزّلنا الجارية منزلة البهيمة المحفّلةِ في أصلِ الخيارِ، وجب أن ننزِّلَها منزلتها في التفصيل. والوجه الثاني -ذكره الصيدلاني وغيره- أنه لا يجب في مقابلة اللبنِ شيءٌ؛ فإنّ لبنَ الآدميات لا يباع في الغالب. وهذا فيهِ فضل نظر، والوجه أن نقولَ: إن لم يكن لذلك القدرِ قيمةٌ، ونحن نرى تنزيلَ المبذول على قيمة اللبن، فلا يجب شيء، وإن اتبعنا الصاعَ، ولم ننزله على القلَّة والكثرة على قيمة اللبن، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب الصاعُ، لتحقيق الاتباع، والثاني - لا يجبُ؛ لأن الصاع [أُثبت] (1) بدلاً شرعياً، فليثبت له مبدل، وليكن المبدل متمولاً. هذا إذا لم يكن اللبن متقوَّماً. فإن كان اللبن متقوَّماً، يجب البدل لا محالةَ، فإنَّ

_ (1) في الأصل، (هـ 2): أثبته.

نفيَ البدل في هذا المقام لا يقتضيه خبرٌ ولا يوجبه قياس. [نعم، الواجب] (1) فيه وجهان سبقَ ذكرهُما: أحدهما - الصاعُ، والثاني - قدرُ قيمة اللبن من التمرِ، أو القوت. فهذا كشف الغطاء في ذلك. فرع: 3129 - حكى العراقيون أنَّ محمدَ بنَ الحسن قال للشافعي: لو اشترى الرجل شاةً وحلبها، ولم تكن مصراةً، فوجد بها عيباً قديماً، فهل له الردُّ بالعيب؟ فقال الشافعي: يرُدُّها. قال: فهل يردُّ في مقابلة ما حلبَ شيئاً؟ فقال: لا يلزمُه شيء؛ فإن اللبن ليس يتحقق وجودُه في غير صُورةِ التصرية، فلا يقابَلُ بشيء، ويحمل على التجدّد بعد العقد. فهذا ما ذكروه. وفيه نظر: وذلك أنا إن كنا نرددُ القولَ في أن الحمل هل يعلَم، فاللبن معلوم في الضَرع، وكيف لا، وقد تتكامل الدرَّةُ ويأخذ الضرعُ في التقطير. ولكن الوجه في ذلك أن نجعل اللبن كالحَمْلِ، وسيأتي قولان في أن الحمل هل يقابَل بقسطٍ من [الثمن] (2) واللَّبن في معنى الحمل. فإن قلنا: لا يقابل بقسطٍ، فالجواب ما حكَوْه، وإن قلنا: إنهُ يقابلُ بقسط من الثمن، فالوجه أن يرد بسبب اللبن شيئاً. * * *

_ (1) في النسخ الثلاث: " نعم. ما الواجب؟ فيه وجهان ". وهذا تصرّف من المحقق. (2) في الأصل: التمر.

باب الخراج بالضمان والرد بالعيب

باب الخراج بالضمان والرَّدّ بالعيبِ قال الشافعي: " أخبرني من لا أتهم عن ابنِ أبي ذئبٍ عن مَخْلدِ بنِ خُفافٍ أنه ابتاع غلاماً، فاستغلّهُ ثم أصابَ به عيباً، فقضى له عمرُ بن عبد العزيز بردِّه، وغلّتِه، فأخبر عُروةُ عُمرَ عن عائشةَ أن النبي عليه السلام، قضى في مثل هذا أن الخراجَ بالضمان. فردّ عمرُ قضاءَه، وقضى لمَخْلدَ بنِ خُفاف بردّ الخراجِ ... إلى آخر الكلام " (1). 3130 - مقصودُ الفصلِ [الكلامُ] (2) في حكمِ الزوائدِ الحاصلةِ من المبيع عند فرض اطلاع المشتري على عيبٍ قديمٍ يُثبت مثلُه [الردَّ] (3)، فنقولُ: من اشترى شجرة فأثمرت، أو شاةً فولدت، أو مملوكاً فاكتسبَ، فهذه الزوائد إذا تجدَّدَت على ملكِ المشتري تسمى الزوائدُ المنفصلةُ، وإذا صوّر معها اطلاع المشتري على عيب قديم، والمبيعُ لم يلحقه عيبٌ حادث في يد المشتري، فله الردُّ بالعيب، ولا تمنعه الزوائدُ من الردّ، خلافاً لأبي حنيفة (4)، ثم يستبد المشتري بالزوائد، فلا يردُّها، ولا فرقَ بين ما حدث بعد القبض، وبين ما حدث في يد البائع بعدَ لزوم المِلكِ للمشتري. والزوائدُ الحادثةُ في زمان الخيارِ قد استقصينا حُكمَها في أبواب الخيار، فحاصل المذهب أن الزياداتِ المنفصلةَ متروكة على المشتري، وله حق الرد، فلا هو يَمنعُ الردَّ ولا يرتدُّ إلى البائع.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 186، 187. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: بالرّد. (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 157 مسألة رقم 1233، ومختصر الطحاوي: 80، 81. البدائع: 5/ 257، 285، إيثار الإنصاف: 299. ثم الأمر عند الحنفية فيه تفصيل، وليس على إطلاقه، كما ذكر إمام الحرمين.

وإذا كان هذا قولَنا في الزيادات المنفصلةِ، فالزيادات المتصلةُ كالمنفصلة في أنها لا تمنع الردَّ، ولكن تتبع المردودَ لا محالةَ، ولا سبيل إلى تخليفها على المشتري، وليس للزياداتِ المُتَّصلة أثرٌ ووقْعٌ إلا في الصداقِ وما يدنو منه، وسأذكر فيها قولاً جامعاً، إن شاء الله عز وجل. وإذا اشترى رجلٌ عبداً، أو جاريةً واستخدمهما، ثم اطلع على عيبٍ بهما، فله الردُّ. وانتفاعُه السابقُ قبلَ اطلاعه، لا أثر له، وهو بمثابة [استبدادِهِ] (1) بالغلات المستفادة. ومعتمد الباب ما رواه الشافعي بإسناده عن عروةَ عن عائشةَ عن النبي عليه السلام " أنه قضى بأن الخراج بالضمان " (2) ومعنى هذا اللفظ أن ما يخرج من المبيع من فائدةٍ، فهو للمشتري على مقابلة كون المبيع في ضمانهِ، مدة [الاستغلالِ] (3) والزوائدِ، فكأن الشارعَ جعل الزوائد في معارضة خطرِ الضمان، عند تقدير التلف. هذا معنى الحديث. ومفهومُه يشير إلى أن الزوائد للبائع إذا تجدَّدت في يد البائع؛ فإن البائعَ في عُهدة الضمان، وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفه (4)، ومذهبُ الشافعي ما قدمناه. هذا في الزوائدِ الطارئةِ على ملكِ المشتري، فأما إذا ابتاعَ جاريةً حاملاً، فالقولُ فيه، وفيما لو اشترى شجرة لم تؤبَّر، سيأتي في فصلِ مفردٍ، إن شاء اللهُ تعالى. وإن اشترى شجرةً، فكثرت أغصانها، فهي ملحقةٌ بالزيادات المتصلة، وليست كالثمار، ولو اشترى شجرةَ فِرْصَادِ (5)، فأورقت في يد المشتري، ثم اطلع على

_ (1) في النسخ الثلاث: استبداله. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق وبمساعدة مختصر العز بن عبد السلام. (2) حديث الخراج بالضمان، رواه مع الشافعي، الطيالسي: 6/ 206 ح 1464، والحاكم: 2/ 15، والترمذي: البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ... ح 1285. (3) في الأصل: الاشتغال. (4) ر. بدائع الصنائع: 5/ 238، فتح القدير: 6/ 296. (5) الفِرصاد: شجرة التوت، وضرب المثل بها لأن أوراقها تعنى لذاتها، فهي ثمرتها في الحقيقة، لأنها تتخذ غذاء لدود القز.

عيب، فقد اختلفَ أصحابُنا فيه: فمنهم من قال: الأوراق كالثمارِ التي تتجدد وتبرز في مِلك المشتري، ومنهم من قال: هي كالأغصان، وقد ذكرتُ قريباًً من هذا في باب استتباعِ الأشجارِ الثمارَ قبل التأبير، وأوراقُ سائر الأشجار ملحقةٌ بالأغصان. ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول في وطء الجاريةِ المشتراة قبل الاطلاع على عيبها، فإن كانت ثيباً، فوطؤها عند الشافعي بمثابة استخدامها. ولذلك وصل هذا الفصل بما قدّمه من الاستغلال والانتفاع. وإن كانت الجارية بكراً، فافتضّها، ثم اطلع على عيب بها، فالافتضاض عيبٌ حادث في يد المشتري. وسيأتي التفصيل في العيب الحادث في يد المشتري مع الاطلاع على عيبٍ قديم إن شاء الله تعالى. 3131 - والذي يقتضيه الترتيبُ أن نقول: إذا اشترى شيئاً ثمَّ اطلع على عيب به، لم يخل: إما أن لحقه تغييرٌ، أو لم يلحقه، [فإن لم يلحقه] (1)، ردّ ما أخذ كما أخذ، واستردَّ الثمن. وإن لحقَهُ تغيير، لم يخل: إما أن يكون زيادةً، أو نقصاناً. فإن كانت زيادة تنقسم إلى المتصل والمنفصل، كما مضى. وإن كان نقصاناً، فهو العيبُ الحادث. وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. فصل قال: " ولو أصابَ المشتريان صفقةً واحدةً ... إلى آخره " (2). 3132 - إذا اشترى رجلان عبداً من رجل، ثم تبيَّن عيبٌ بالعبد، فإن اتفقا على ردّه، كان لهما ذلك، وإن أراد أحدُهما أن ينفرد بالردّ دون صاحبه، فالمنصوص عليه للشافعي في كتبه الجديدة، ومعظم كتبه القديمة أن لكل واحد منهما أن ينفرد،

_ (1) ساقط من الأصل. (2) ر. المختصر: 2/ 188.

وإن لم يُساعدْه صاحبه. وقال أبو حنيفه (1): ليس لواحد منهما أن ينفرد بالرد، ونقل أبو ثور قولاً للشافعي موافقاً لمذهب أبي حنيفة. والتوجيه مستقصى في الخلاف، ولكنا نذكر القدرَ الذي يتعلق بضبط المذهب من التوجيه. 3133 - فمن منع انفرادَ أحدهما بالرد؛ اعتمد معنيين: أحدهما - أنه قال: العبد خرج عن ملك البائع دفعة واحدة والتبعيض عيبٌ؛ فإن نصفَ العبد لا يُشترى بما يخصُّه من الثمن لو بيع كلّه، فيؤدي هذا إلى أن يخرج المبيعُ عن ملكه بعيب، ويعودَ بعيبين إليه، وهذا ممتنع. والمعنى الثاني - أن الصفقة متّحدة [نظراً] (2) إلى اتحاد البائع، فلا سبيل إلى تفريقها في الردّ. ومن قال بالقول الصحيح، فمعتمَدُه أن كل واحدٍ إذا انفرد بالرد، فقد ردّ ما ملك كما ملك، وقد قرّرنا ذلك في (الأساليب). ثم هذا القائل: لا يسلِّم أن الصفقةَ متحدةٌ، بل يزعمُ أنها متعددة؛ من جهة تعدُّد المشتري. ونقول: حقيقة القولين يؤول إلى التعدد والاتحاد، فإن حكمنا بأنهُ يجوز لكل واحد من المشتريين الانفرادُ بالرد، فهذا قضاءٌ منا بتعدّد الصفقة؛ نظراً إلى جانب المشتري (3). وإن منعنا ذلكَ، كان حكماً باتحاد الصفقة؛ اعتباراً بجانب البائع. التفريع على القولين: 3134 - إن جوزنا لكل واحد أن ينفرد بالردّ، فلو خاطب البائع رجلين بالبيع، فقال: بعتُ منكما هذا العبدَ بألف، فقبل أحدُهما، ولم يقبل الثاني -والتفريعُ على

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 57 مسألة 1136، إيثار الإنصاف: 309، فتح القدير: 6/ 312 - 314. (2) ساقطة من الأصل. (3) في (هـ 2)، (ص): الشراء.

قول التعدد- ففي صحة البيع إذا انفرد أحدهما بالقبول وجهان: أظهرهما في القياس - التصحيحُ؛ وفاءً بتعدد الصفقة، وإجراءً لحكمِ الآخر على الأول رداً وقبولاً. وأظهرهُما في النقل - أن ذلك مُمتنِعٌ؛ فإنا وإن حكمنا بتعدد الصفقةِ، فصيغة قولِ البائع تقتضي جوابَهما، حتى كأنها مشروطةٌ بأن يجيباه جميعاً، وهذا بمثابةِ اقتضاءِ الإيجاب الجوابَ على الفور، وليس هو من حكم العقد، وإنما هو من مقتضى اللفظ في مُطَرد العرفِ. وللشافعي نصٌّ في كتاب الخُلع يشهدُ لتصحيح القبول من أحدهما؛ فإنه قال: إذا خالعَ زوجتَيه، فقبلت إحداهما، صح القبول منها، ولزمها قسطٌ من البدل المسمَّى. وإذا كان يصح هذا في الخُلع، فالبيع بالصحة أولى؛ من قِبَل أن الخلعَ معاوضةٌ مشوبة بالتعليق، والتعليق بصفتين يتضمن وقوف الطلاق على وجودهما جميعاً. والمعاوضةُ لا تقتضي هذا الفنَّ؛ فإن الأحكامَ والمقاصدَ عليها أغلبُ، وقضايا الألفاظ على التعليقات أغلبُ. وإن فرّعنا على اتحاد الصفقة، فيمتنع انفرادُ أحدهما بالرد فيما يَنقُصُه التبعيضُ، [فأما ما لا ينقصه التبعيضُ] (1) كذوات الأمثال، فإذا اشترى رجلان صاعاً من الحِنطةِ واقتسماهُ، وظهرَ عيب بالحنطةِ، فهل لأحدهما الانفراد برَد نصيبه؟ اختلف أصحابُنا فيه: فمن مانعٍ ومن مجوّزٍ. والخلاف مأخوذ من المعنيين المذكورين في توجيه القول، فإن كان التعويل على اتحاد الصفقة، فلا فرقَ بين أن يكون الشيء بحيث ينقُصه التبعيضُ، أو لم يكن كذلك، وإن وقع التعويل على أن التبعيض عيبٌ حادث، فهذا المعنى لا يتحقق في البُرِّ وغيرهِ، وكأنّ أصحاب هذا القول غيرُ متفقين في اتحاد الصفقة. 3135 - ومن التفريع على هذا القول أنّا إذا منعنا أحدَهُما من الانفراد بالرد، فلو أرادَ مطالبتَهُ بالأرش، فهل له ذلك، أم لا؟ إن أَيِسْنَا من إمكان الردّ في نصيب صاحبه، بأن أعتقهُ، وكان معسراً، فلم يَسْرِ

_ (1) ساقط من الأصل.

العتق، فقد تحقق اليأس من إمكان الرد، فله الرجوعُ بالأرش؛ فإن ردّ البعض ممتنعٌ، وردُّ الجميع مأيوس عنه. وسيأتي تمهيدُ ذلكَ في الرجوع بالأرش. وإن لم يُعتِق، ولم يأت بما يزيل المِلك بالكلية، فلا يخلو: إما أن يرضى بالعيب ويُسقِط حقَّ نفسه من الرَّد وإما ألاَّ يرضى، ولا يسقطَ، ولكن امتنع الردُّ منه لغيبةٍ، أو ما في معناها. فإن أسْقط حق الرد [فهل للذي] (1) لم يُسقط حقهُ الرجوعُ بالأرش؟ أم لا؟ ذكر أصحابُنا وجهين، نسردهما، ثم نذكر حقيقتَهما: أحدُهما - أنه يملك المطالبةَ بالأرش؛ فإن الاجتماعَ على الرد منهما غيرُ ممكنٍ بعدما أَسقط [أحدهما] (2) حقّه. والوجه الثاني - أنه لا يرجع بالأرش، لأن الرَّدَّ ممكن، بأن يملّكَ ذلك النصفَ باتّهابٍ، أو ابتياعٍ، أو غيرِهما، وإذا ملكه، فيضمُّ ما ملكه إلى ما اشتراه، ويردُّ الجميعَ، ويرجعُ بنصف الثمن، ويكون النصفُ المضمومُ إلى نصفه الذي اشتراه مؤنةً عليه يدرأ بها عيبَ (3) التبعيض، ويلزم البائعَ قبولُه كما يلزمُ قبولُ النعل. وإذا كان ذلك ممكناً، فتوقعه يمنع المطالبةَ بالأرش. ونحن نقول: أما الإجبار على قبول النعل، فهو صحيح، وكان تفصيلُه محالاً على هذا الباب، وسيأتي إن شاء اللهُ تعالى. وأما إلزامُ البائِع قبولَ نصفٍ لم يبعه من هذا الشخص، فليس يشابهُ النَعل؛ من جهةِ أن النعل تَبَعٌ. وقد اختلف أصحابُنا في هذا النوع، وهو كاختلافهم في أن من باع ثمرة على رؤوس الأشجار فتَجَدّدت للبائع ثمارٌ، واختلطت بالمبيع، فلو وَهَب تلك الثمارَ من المشتري، فهل يُجبر المشتري على القبُول؟ فيه وجهان: والأقيسُ عندي أن لا يُجبر على القبول؛ فإن تطويق الإنسان مِنَّة في أمر مقصودٍ ليندفعَ به حقٌّ له ثابت بعيدٌ من الجواز.

_ (1) في الأصل: قبل الذي. (2) في الأصل: حقهما. (وهذا تصحيف طريف). (3) ساقطة من (هـ 2).

3136 - فإذا ثبت ذلك عُدنا إلى غَرضِنا، فإن كنا لا نلزم البائعَ قبُولَ ذلك النصف، فلو قالَ البائع: فأنا أقبلُه، قُلنا: لا حكم لتمليكك إيّاهُ عند هذا القائل، قبلت أو أبيت، فيثبت إذاً الرجوعُ بالأرش. وإن قلنا: لو رجع النصف وضمّه إلى ما اشتراه، أُجبر البائعُ على قبولهِ، فهل يمتنع حَقُّه من الأرش لذلك؟ فعلى وجهين: أصحّهُما - أنه لا يمتنع؛ فإنَّ توقعَ العود بعيدٌ، وتكليفه التمليكَ أبعدُ منه، وليس ذلك العائد مما يملكه بالابتياع من بائعه؛ فإبطال حقُّ ناجزٍ له لتوقع ما ذكرناه لا وجه له. وإذا غابَ صاحبُه ولم يبطل حقّه، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في أنه هل يرجع بالأرش للحيلولة الناجزة؟ ونظائرُ ذلك كثيرة. ثم يتفرعُ عليه إذا أمكن الردُّ بالمُساعدة ردّ الأرش، والرجوع (1 إلى الرد على خلافٍ للأصحاب في أمثاله معروف، ثم حيث أثبتنا له الرجوعَ 1) إلى الأرش، ففي كيفيتهِ كلام سنصفهُ في الأصول التي نمهّدها. فإن قيل: إذا جوّزتم لأحدهما الانفرادَ بالرد على القول المشهور، فهل تُلزمونهُ أن يضم أرشَ نقصِ التبعيض إلى ما يرده؟ قلنا: [لا] (2)، فإنا لو سَلّمنَا كونَ التبعيض عيباً حادثاً، لكُنَّا مسلِّمين قاعدةَ المسألة. ومعتمد القول المشهور النظرُ إلى ما تَملّكَه من البائع، وكل واحدٍ لم يتملك منه إلا البعضَ، وقَدْ ردَّ ما ملكه. فإن قيل: الإضرار بالبائع على كل حالٍ من غير جُبرانٍ لا وجه له. قُلنا: هو الذي أضرَّ بنفسه؛ إذ ملّك الشخصين بعضين. 3137 - ومن تمام البيان أنا إذا حكمنا بتعدد الصفقة على القول الصحيح، فإذا وفَّر (3) أحد المشتريَيْن حصتَه، من الثمن، وجب على البائع أن يُسلّم إليه قسطه من المبيع، كما يسلمُ الشائعَ.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2). (2) ما بين القوسين ساقط من الأصل. (3) في (هـ 2): وجد، (ص): وفا.

وإذا حكمنا باتحاد الصفقةِ، فلا يجب على البائع تسليمُ شيء من المبيع إلى أحدهما وإن وفر الثمن، حتى يوفر الثاني حصته أيضاًً، وهذا القائل يجعل المشتريَيْن كالمشتري الواحد. وإن اشترى رجل عبداً، ووفر معظمَ الثمن، لم يملك مطالبةَ البائع بتسليم شيء من المثمن إليه، إذا أثبتنا للبائع حقَّ حبس المبيع، وكذلك إذا اتحد العاقدُ من كل جانبٍ، وكان المبيع قابلاً للقسمة، فلو وفَّر المشتري بعضَ الثمن [وطالبَ بتسليم بعض المثمن] (1)، فالمذهب الظاهر أن للبائع ألا يجيبَهُ، ويديمَ حبس المبيع بكماله ما بقي من الثمن شيء، قياساً على الرهن؛ فإنه لا [ينفك] (2) ما بقي من الدَّيْن شيء. وأبعد بعضُ أصحابنا، فأوجب إجابة المشتري إلى تسليم بعض المبيع، على قدر ما سلّمَه من الثمن، وصار إلى أن حكمَ الثمن التوزّع على المثمن، هذا موجَب المعاوضة، فليثبت الحبس على موجَب التوزّع، وليسَ بين الدَّينِ والرهنِ مقابلة العوضَين. وهذا وإن كان منقاساً من وجهٍ. فالمذهبُ الأولُ. ثم ذكر الأصحابُ هذا فيما يقبل القسمةَ، وامتنعُوا منه في العَبدِ وغَيرهِ مما لا ينقسم، والسبب فيه أنا لو أوجبنا تسليم بعضٍ من هذه الأشياء، اضطرَّ البائع إلى تسليم الجميع على مناوبةٍ ومهايأة؛ إذْ تسليمُ المشاع لا يتأتّى إلا كذلك. وحق الحبس ضعيفٌ لا يحتمل هذا المعنى؛ ولهذا قطع الأصحاب بأن المرتهن لو رد الرهنَ إلى يد الراهن، ولم يرفع الرهنَ، فالرهن باقٍ على لزومه. ولو أعاد البائع المبيعَ من المشتري، فهل يبطل حقّه من الحبس؟ فيه اختلاف بين الأصحاب معروف، والفارق أن حق الرهن وثيقةٌ مقصودة بعقدٍ، وحق الحبس ظاهرٌ بدون ترتيب في تسلّمٍ وتسليم. 3138 - وممَّا يتصل بذلك أنهُ إذا اشترى رجلٌ من رجلٍ عبداً، ثم مات المشتري وخلَّف ابنين، واطلعا على عيب قديم بالعبد، فليس لأحدهما الانفرادُ برَدّ حصتهِ؛

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في الأصل: ينقل.

فإن الملك تفرَّق عليهما إرثاً، والعقد في أصله وقع على الاتحاد، والاعتبارُ بما وقعَ العقد عليهِ، لا بما أفضى حكمُ التوريث إليه. ولو اشترى رجل من رجلين عبداً، فلا خلاف أن الصفقةَ متعدّدةٌ في حكم الرَّدّ، فإذا اطّلَع المشتري على عيب قديمِ، تخيَّر: فإن أحبَّ ردَّ عليهما، وإن أراد أن يرد نصيب أحدهما عليه، ويمسكَ نصيبَ الآخر، فله ذلك. ولا خلاف أنهما إذا أنشآ البيعَ في العبد المشترك بينهُما، فقبِل المخاطبُ الواحدُ البيعَ في حصةِ أحدهما، صح ذلك. ولو وكّل رجلان رجلاً حتى يشتري لهما عبداً من رجل، أو وكّل رجلانِ رجلاً حتى يبيع عبداً مشتركاً بينهُما من رجل، وقد صَحَّ تفصيل القول في أن الصفقة تتعدَّد في حكم الرَّدّ بتعدد البائع، وفي تَعدُّدِها بتعدد المشتري القولان والتفصيل، فإذا تعدَّد الموكِّل من أحد الجانبين واتّحَدَ الوكيل، فحاصل ما قالهُ الأصحابُ ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها - أن الاعتبارَ بالمُوكِّل من الجانبين؛ فإنه الأصلُ، وإليه المصيرُ. أمّا الموكِّل بالشراء، فهو المالكُ دون الوكيل، فإذا وكَّل رجلان رجلاً بالشراء، اقتضى العقد تثبيت الملك للموكّلَيْن مبعّضاً، كما لو توَلّيا الشراء بأنفُسِهما، والتعويل على ما يقع عليه مقتضى العقد. وإن وكل رجلان رجلاً بالبيع، فالمبيع يخرج عن أملاكِ البائعَيْن، وما قدرناه من اتحاد الوكيل لا أثرَ له في مقتضى العقد؛ فإن عبارة الوكيل مستعارةٌ، وكان وكيل الرجلين ناطق بلسانين. والوجه الثاني - أن الاعتبار بالوكيل، لأنهُ المتعاطي للعقد، وانقسامُ الملك على الموكِّلَيْن إزالة وجلباً، بمثابةِ انقسامِ المبيع على الوارثين وكان المشتري واحداً. والوجه الثالث - أنا نفصِّل بين جانب المشتري وجانب البائع، فنقول: الاعتبارُ في جانب البائع بالموكِّل، وفي جانب المشتري بالوكيل، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي، والفاصلُ عنده بين الجانبين أن الوكيل في جانب البائع لا استقلال له أصلاً، ولو مال العقد عن مُوجَب إذن الموكِّل بالبيع، لفسد العقد، ثم لم نجد نفاذاً.

وليس كذلك الوكيل بالشراء؛ فإنه قد يقرب (1) ممن يتأصَّل، وإذا لم يجد الشراءُ نفاذاً على الموكِّل به، فقد (2) ينفذ على الوكيل إذا كان العقدُ وارِداً على الذمَّة. وهذا الفصل عندنا إنما يستقيم في التوكيل بالشراء في الذمّة، فأما إذا وكل رجلٌ رجلاً حتى يشتري له عبداً بثوب معيّنٍ عيَّنه، فالوكيل في هذا المقام بمثابةِ وكيل البائع لا شك فيه. ثم ما ذكرناه من اختلاف الأصحاب في اعتبار الوكيل والموكِّل يجري في صُورتين: إحداهما - أن يتّحد الوكيل ويتعدَّد (3) الموكّل. والأخرى أن يتعدَّد الوكيل العاقد، ويتّحدَ الموكِّل، فالخلاف جارٍ في الموضعين كما بَيّنا. فصل قال: " ولو اشتراها جَعْدةً، فوجدها سبْطةً ... إلى آخره " (4). 3139 - معظمُ المقصود من هذا الباب الكلامُ في الرد بالعيب، وما يتَّصل به ويشابهه، وتفصيلُ القول فيما يتعذّر به الرد، وحقيقةُ الأرش، والرجُوعُ به، وبيانُ مواقع الوفاق والخلاف في هذه الأحكام. ونحن قد التزمنا الجريانَ على ترتيب المختصر في الأبواب والمسائل، فإن اقتضى في بعض المواضع تقديمَ مؤخر وتأخيرَ مقدَّم، حتى [يلقَى] (5) الناظرُ المقاصدَ مجموعةً، سهل احتمال هذا. فالذي نرى أن نذكره تفصيلُ القول فيما يكون عيباً، ثم التفصيل فيما يتعلق حقُّ الردّ فيه بالشرط، وتقدير الخُلف فيه، ثم نصف بعدها الحكمَ بتيسُّر الرد، ثم نذكر وراءه الأسبابَ التي يتعذر الرد بها.

_ (1) في (ص): يفرق. (2) في (ص) على الموكّل به، نفذ ... (3) ساقطة من (ص). (4) ر. المختصر: 2/ 189. (5) في (هـ 2): يلفي، (ص): يلتقي.

[القول في العيب] (1) 3140 - فأما القول في العَيب، فالجامع له: أن كل ما ينقُص من العَيْن تنقيصاً يخالف المعتادَ في جنسه، فهو عيبٌ وإن كان لا يؤثر في نقصانِ القيمةِ، بل قد يؤثر في زيادتها، وهذا كالخَصْي. فمن اشترى عبداً، ثم بان أنه خَصِيّ، ردّه بالعيب. وكل ما يؤثر في تنقيص القيمة عن المعتاد في الجنس، فهو عيب، وإن لم يكن نقصانَ جزءٍ، بل قد يكون زيادةً، مثل أن يشتري مملوكاً، ثم يطلع منه على إصبعٍ زائدة، ونقصانُ القيمة قد يرجع إلى نقصان الصفات (2 كما أن زيادة القيمة قد ترجع إلى زيادة الصفات 2) فالعبد الكاتب يشترى بأكثرَ مما يشترى به الأمّي، والعبد العفيف يُشترَى بأكثر مما يُشترَى به الزاني، وكذلك القول في الأمين والسارق والخَوَّان. ولا يمكننا أن نقول: كل صفةٍ تُفقد، فهي ملحقة بالعيوب، حتى يثبت الخيارُ بفَقدِها من العقود وتفاوت القيم معَ الصفاتِ نِسَبٌ (3)، فكيف الضبط في ذلك؟ 3141 - [الوجه] (4) أن نقول: النقائص المذمومة معلومةٌ، فإذا كان الشيء نقيصةً مذمومة، والعادةُ غالبةٌ في اطراد ضدّها، فتلك النقيصة إذا نقصت العينَ أو القيمةَ، فهي عيب. وكل صفة لو وُجدت، لكانت فضيلةً، ولكن لا يعُمّ وجودُها. وعدمُها لا ينتهي القول فيه إلى الذم، فانعدام هذا الضَّرب لا يلتحقُ بالعيوب. فالوجه أن نتخذ ما ذكرناه معتبراً، وتتميَّز عن مقتضاه الخيانةُ، والزنا، والسرقةُ، عن عدم الكتابة، والاحتراف، وغيرهما. ومما يجب الإحاطة به أن مبنَى العيوب على أنها تُثبت حقَّ الرَّد للمطلع عليها في العقد المطلق، وقد يَشِذُّ عن هذا الأصل واحدٌ، وهو أن الافتراع في حكم التعييب،

_ (1) هذا العنوان من عمل المحقق. (2) ما بين القوسين ساقط من (ص). (3) هذا الضبط من (هـ 2). (4) ساقطة من الأصل.

بدليل أنا نجعل افتراعَ المشتري مع اطّلاعه على عيبٍ قديمٍ في التفصيل بمثابة عيب حادثٍ ينضم إلى الاطلاع على العيب القديم. ثم لو اشترى رجل جارية فكانت ثيباً مفترَعةً، لم نجعل الثيابةَ عيباً مثبتاً للرد في مطلق العقد، والسبب فيه أن البكارة ليست صفةً غالبةً في العادة، والجواري منقسمات إلى الثيبات والأبكار، والثُيَّب أكثر، فلا يرتبط الظن بالبكارة، نظراً إلى غالب الحال، حَسَب ارتباط الظن بالسلامة من العيوب، فإزالة البكارة تنقيصٌ، وليست البكارة مستحقَةً بمطلق العقدِ. ثم ما ذكرنا من أن نقصان العين على المعتاد في الجنس عيبٌ جارٍ، ولكنهُ مشروط بأن يفوت بفوات ذلك [النقص] (1) غرضٌ ماليٌ، أو غيرُ مالي. فلو اشترى الرجل عبداً، ثم تبين له أنهُ قد قُطعت فلقة من لحمةِ ساقه، ولم يكن لذلك أثرٌ في غرض ولا ماليّةٍ، فهذا ليس بعيب. وقد ذكرت لصاحب التقريب تفصيلاً في الشاة إذا وجد مشتريها على أذنها قطعاً. قال: إن كان لا يمنعُ من الإجزاء في الضحايا، فليس بعيب. وإن كان مانعاً، فهو عيب. والخصاءُ الذي ذكرناه في المملوك إن لم يؤثر في المالية، فهو مؤثر في أغراضٍ ظاهرةٍ. ثم ألحق أئمتنا بما مهدناه صوراً، فيها خلافٌ مع بعض العلماء، فالعبد الزنّاءُ معيبٌ، مردود كالجارية إذا كانت مساحقةً، خلافاً لأبي حنيفة (2)، فإنه لم يجعل اعتياد الزنا من العبد عيباً. والبَخَر (3) والبول في الفراش عيبان في الجنسين، وأبو حنيفة (4) جعلهما عيباً في الإماء. وإن تحققت العُنَّة في المملوك، ففيها نظر عندنا. والظاهر أنها عيبٌ.

_ (1) في الأصل: العين، (هـ 2)، (ص): المعين. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق، وعبارة العز بن عبد السلام، في مختصره. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 156 مسألة 1230، بدائع الصنائع: 5/ 274، فتح القدير: 6/ 7, الاختيار: 2/ 19. (3) البَخر: من بخِر الفم بخراً: باب تعب أنتنت ريحه، فالذكر أبخر، والأنثى بخراء (مصباح). (4) ر. الاختيار: 2/ 19.

3142 - ثم المناقبُ التي لا تُعد نقائضُها عيوباً ونقائصَ، ولا ترتبط الظنون بها تصيرُ مستحقةً بالشرط، فإذا اشترى الرجل عبداً على شرط أنه كاتب، ثم أخلف الشرطُ، ثبت الخيار. والتحقَ عدمُ المشروط بالعيوب. ثم إن كان ما يشرطه مما يؤثِّر في الماليّةِ، فالخُلف فيه يُثبت الخيارَ، فإذا كان العبدُ الكاتب يساوي ألفاً، والأمّي يساوي تسعمائةٍ وقد تعلّق الشرط بصفةِ الكمال، فالخلف مثبت للخيار. وعدَّ الأئمة من ذلك ما لو شرط جُعودةَ الشعرِ، فخرج الشعر سَبِطاً (1). فأما إذا كان الأمرُ المشروط لو عُدم لم يؤثر في نقصانٍ، ولو وُجد لم يتضمَّن زيادةً في الماليَّة، نُظر فيه: فإن كان لا يتعلّق بغرض مقصود، فالخُلفُ فيه لا يُثبت الخيارَ، وهذا بمثابة ما لو اشترى عبداً على شرط أنه أحمقُ، أو مشوّه، فخرج حسناً عاقلاً، فلا خيار. والشرط لاغ، على ما سنفصّل مراتب الشروط في بابها. فأما إذا شرط ما يتعلق بغرضٍ، ولا يؤثر في الزيادة الماليَّة، مثل أن يشتري جاريةً على شرط أنها ثيّب، فإذا خرجت بكراً، ففي ثبوتِ الخيار وجهان: أحدُهما - أنه يثبت، لتخلف الغرض. والثاني - لا يثبت؛ لأن المعتبر في البيع الماليّة، وما يتعلق بها. ومن هذا الجنس ما لو اشترى جارية، وشرط أنها سَبطةُ الشعر، فإذا كان شعرها جعداً وأخلفَ شرطُ الشارط في السُبوطة، فلا شك أنَ الجعدَ أشرفُ، وقد يكون السبط أشهى إلى بعض الناس، ولا ينسب من يبدي ذلك من نفسهِ إلى مفارقة الجَمهور، [والانسلالِ] (2) عما عليه العامّةُ، فإذا فُرض الخُلف في هذا المشروط، ففي الخيار الوجهان المذكوران في البكارة والثيابة.

_ (1) سبط، بكسر الباء، ويجوز فتحها، على الوصف بالمصدر. سبط الشعر من باب تعب إذا كان مسترسلاً (المصباح). (2) في الأصل: الإفلال. ولم أصل إلى معنى لها يناسب السياق. وكذلك الإقلال بالقاف في (ص).

وقال الصيدلاني: كلُّ ما لو كان مشروطاً [و] (1) اتصل الخُلف به، اقتضى خياراً وجهاً واحداً، فالتدليس الظاهر فيه كالشرط، كما ذكرناه في باب التصرية، فإذا جعَّد البائعُ شعرَ المملوك، ثم بان سَبطاً، ثبتَ الخيار. وكل ما لو فُرض مشروطاً وَصُوّر (2) الخُلف فيه، فكان في الخيار وجهان، فإذا فُرض التدليس فيه، ثم ترتَّب عليه خلف الظن، قال: لا خيار وجهاً واحداً، لضعف المظنون أولاً، وقصُور الفعل في الباب عن القول. وهذا تحكم منه لا يُساعَد عليه، فالتدليس في ظاهر الفعل كالقول في مجال الوفاق والخلاف، على الاطراد والاستواء، فإذا سبَّطَ الرجل شعرَ الجارية، ثم بان أن شعرها جَعْدٌ، ففي الخيار الوجهان عندنا. وقد نجز الغرض في بيان العيب، وما يجري الخُلف فيهِ، وتمييز [أحد] (3) البابين عن الثاني. [القول في الرّد] (4) 3143 - فأما القول في الرد، فحق الرّد ثابت على الفور والبدارِ، فإن رضي بالعيب القادرُ على الرد، أو لم يرض وقصَّر في الردّ، وسكت مع التمكن من النطق بالردّ، فيبطل حقُّه، وإذا بطل حقُّه، لم يرجع إلى أرش؛ فإن الأرشَ إنما يثبت في حق من لا يتمكّن من الرد، ولا يرضى الشرعُ باستمرار الظُّلامةِ عليه، فأما إذا أبطل حقَّ نفسهِ قصداً، أو تقصيراً، فلا مرجع له إلى الأرش. ولو أراد المطالبةَ بالأرش مع التمكن من الرد، لم يَملِك إلزامَ البائع وِفاقاً. ولو تراضيا على الرجوع إلى الأرش؛ ففي المسالةِ وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يحل له ذلك؛ فإنه اعتياضٌ عن حق، والحقوق المطلقة لا تقابلُ بأموال.

_ (1) في الأصل: أو. (2) في (ص) ووقع. (3) ساقطهَ من الأصل. (4) العنوان من عمل المحقق.

والوجه الثاني - أنه يحل أخذُ الأرش؛ فإن للأرش مدخلاً في الباب، بدليل الرجوع إليه عند تعذّرُ الرد. ثم الحق لا يعدو الرادَّ والمردود عليه، فإذا تراضيا على بذل مالٍ، بعُدَ امتناعُه. التفريع على الوجهين: 3144 - إن قلنا: يحل أخذ الأرشِ، فلا كلام. وإن قلنا: لا يحلّ؛ فلو أخذه على ظن الجواز والحلِّ، ثم تبين الأمرُ، واستردّ منه ما أخذ، فهل يعود إلى استحقاق الرد، فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدُهما - أنه لا يعود إلى الرد؛ فإنه أسقطه فسقط. والثاني - يعود إليه؛ فإنه لم يُسقط حقهُ [مطلقاًً] (1) بل ربطه باستحقاق العِوض، وعلَّقَه (2) به، فإذا لم يسلم له العوض، لم يتحقق سببُ إسقاط الحق. وذكروا هذين الوجهين في الشفيع، إذا اعتاض عن الشفعة ظاناً أن ذلك حلال، ثم استرد منه العوض، فهل يكون على حقّه من الشفعة؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. فإن قيل: أليس الخلعُ بالعوض الفاسد يوجب البينونة، والصلح عن الدم على العوض الفاسد يوجب سقوط القصاص؟ قُلنا: السببُ فيه أنه إن لم يثبت ما سماه، ثبتَ عوضٌ شرعي، وليس ذلك مناظراً لما نحن فيه. ونظير ما نحن فيه ما لو خالع الرجل امرأتَه المبذّرةَ، على مالٍ، فالمال لا يثبت، ولا يقعُ الطلاق رجعيّاً. 3145 - وقد حان الآن أن نذكر الموانع من الردّ بالعيب. فنقول: قد يمتنع إمكانُ الرد بسبب عدم العين أو عدم الملكِ فيه، وقد يمتنع بسببٍ مع استمرار الملك على الجُملة في العين. فأمّا إذا فُقد المبيعُ وهلكَ، أو زالت الماليَّة فيه، بأن أعتق المشتري العبدَ، فإذا فَرضنا هلاكاً، أو زوال ملكٍ، ثم اطلع المشتري على العيب القديم، فالردُّ غيرُ ممكن، ولا خلافَ أنه لو أراد أن يقيم قيمةَ الفائت مقامه ليردّها ويستردَّ الثمن، لم يجد إلى ذلك سبيلاً.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (ص): وعكفه منه.

ولكن لم يرض الشرعُ بإحباط حقِّه إذا تحقق تعذُّر الردِّ، فرجُوعه في هذا المقام إلى الأرش. ومعناه ما نصِفُه. فليعلم الطالب أنا لا نلزم البائعَ نقصان قيمة المبيع في نفسه، حتى نقول نُقدِّر المبيعَ سليماً، فإذا [كانت] (1) قيمتُه ألفاً، ونقدّرهُ معيباً، فإذا قيمتُه تسعمائةٍ، ونوجب المائةَ الناقصةَ. بل نقولُ: نعتبر النقصانَ على النَسقِ الذي بَينَّاه، ونضبط نسْبتَه، ونعرف جزئيَّته، ثم نقول: يرد البائع مثلَ ذلك الجزء من الثمن إلى المشتري، فإن [كان] (2) الناقص عُشر القيمة، فالمسترد عُشرُ الثمنِ. ثم قد يكونُ الثمن مثلَ القيمة، أو أقلَّ منها، أو أكثر. ومما يجب التنبيهُ له أن العيبَ إذا كان من جهة نقصان العين كالخصاء، ثم فات الردُّ بفوات العين، أو الملكِ، فلا رجوعَ إلى الأرشِ أصلاً؛ إذْ لا نقصانَ في القيمة، حتى يُعتبرَ بنسبته استردادُ جزءٍ من الثمن. والأعراض لا تتقوم. هذا قولُنا في زوال العين والملك. ويلتحق بهذا القسمِ مصيرُ الجاريةِ المشتراةِ مستولدةً؛ فإن حُرمةَ الاستيلاد في الغرض الذي نحن فيه كالحريّةِ الناجزةِ. 3146 - والقول بعد هذا في تقاسيم الموانع، مع بقاء المبيع مملوكاً. فنقول: من الموانع زوالُ ملك المشتري عن رقبة (3) المبيع بجهةٍ من الجهاتِ، فلا شك أن الردَّ غيرُ ممكنٍ، والمِلكُ زائلٌ، ولكن لو عاد المبيعُ إلى ملكِ المشتري بعدَ الزوالِ، فالتفصيل في ذلك أنه إن زال بجهةٍ لا تتعلق بجنسها عهدة الرد كالهبة، ثم عاد إليه بمثل تلك الجهة، أو بجهةٍ أخرى لا ردَّ فيها، فإذا جرى الزوال والعودُ والمشتري غيرُ مطلعٍ على العيب في الأحوال التي جرت، ثم اطلع على عيبٍ قديم بعد عود الملك إليه، كما صوَّرنا؛ فهل يثبت له الردُّ الآن على البائع؟ فعلى وجهين

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) مزيدة من المحقق رعايةً للسياق. (3) في (ص): بقية.

مشهورين: أحدهُما - له الردُّ؛ لأنا لو نفذنا ذلك منه، كان راداً ما ملك كما ملك. والوجه الثاني - لا يرد، لأن الردَّ نقضُ الملكِ المستفادِ من جهة العقد، وهذا ملكٌ جديد وليس الملكَ المستفادَ بالعقد. وسيأتي لهذا نظيرٌ في المفلس إذا قبض المبيعَ، وزال ملكه، ثم عاد إليه، ثم أفلسَ واطَّرد الحجرُ عليه، فهل يثبت للبائع حقُّ فسخِ البيع؟ فيه من الخلاف ما ذكرناه. وكذلك إذا زال ملك المرأةِ عن الصداق، ثم عاد إليها، وطلقها زوجُها قبل المسيس، وسنكرّر (1) هذا الخلافَ في كل أصلٍ على حسبِ ما يليق به. 3147 - ولو باع رجل عبداً بجاريةٍ وتقابض المتعاقدان العوضين، ثم إنَّ قابضَ العبد وهبه وسلَّمه وعاد إليه بالهبة مثلاً، ووجد قابضُ الجارية عيباً، فلا شك أنه يثبت لصاحب الجاريةِ ردُّها؛ فإن الملكَ فيها لم يتبدل. ولو تلف العبدُ أو عَتَقَ، لثبت لصاحب الجاريةِ ردُّهَا غيرَ أنه في ردّها يرجع إلى قيمة العِوضِ المقابلِ للجارية. فإذا زال الملكُ عن العبد، وعَادَ كما صوَّرناه، فردَّ صاحب الجاريةِ الجاريةَ؛ فإنه يرجع إلى العبد العائدِ، أم إلى قيمته؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خرّج استرداد ذلك العبدِ الزائلِ العائدِ على الوجهين السابقين. وهذا القائل يسوّي بين الاسترداد، وبين فرض الردّ في عينِ ما زال وعَادَ. ومن أصحابنا من قطع بأن العبدَ يسترد عند ردَّ الجارية، وإن اختلف المذهب في أن العبد في نفسه هل يرد إن اطلع على عيبه. والفارق عند هذا القائل أن المستردّ ليس مقصوداً، فلا يشترط فيه ما يشترطُ في المردود المقصود. فهذا كله فيه إذا كان الخروجُ والعودُ لا بجهةٍ تُثبتُ الردَّ. 3148 - ولا نتعدى هذا الفصلَ حتى نذكر ما يليق به من حكم الأرش. فإن قلنا: إن زال الملك بالجهة التي ذكرناها، لم نتوقع بعدهُ إمكان ردٍّ، وإن

_ (1) في (ص): وسنذكر.

فُرض العودُ، فقد تحقق اليأسُ من الردّ، فإذا اطَّلعَ على العيبِ والملكُ زائلٌ أم عائد، فيرجع لا محالةَ إلى أرش العيب، كما لو فاتت العينُ، أو زال الملكُ بالعتق. وإن قلنا: الردُّ ممكن عند تقدير العَوْد، فهذا الإمكان دائمٌ ما بقي الموهوب مملوكاً، بحيث يتصور فيه نقلُ الملك، فهل يثبتُ الرجوع إلى الأرش في الحال؟ القياس أنه يثبت، وهو مذهب طوائفَ من المحققين؛ فإن التعذر ناجز، والاستدراك بطريق الردّ عند تقدير العود ممكنٌ على بُعدٍ، والحق الناجز لا يتعطل بتوهمِ مستدركٍ قد يكون، وقد لا يكون. ومن أصحابنا من قال: لا يثبت الرجوعُ إلى الأرش، مادامَ إمكانُ الرد متوقعاً. وهذا الخلاف مبني على أن شُهود الزورِ إذا شهدوا على إنسانٍ بمالٍ، وجرى القضاءُ بشهادتهم، ثم رجعوا، فالقضاء بالاستحقاق لا يُنقَضُ. وهل يغرَم الشهودُ بدل الفائت للمشهود عليه؟ فعلى قولين. ولا خلاف أنهم لو شهدوا على إعتاقٍ، أو طلاق ورَجَعوا عن الشهادة بعد نفاذ القضاء؛ فإنهم يغرَمون. والفاصل بين محلّ الوفاق والقولين أن العتق لا مستدرَك له أصلاً، والحيلولةُ الواقعةُ في الشهادة على المال ممكنةُ الزوال بأن يعترفَ المشهودُ له للمشهود عليه. فنميز صورة القطع عن صورة القولين. كذلك القول في الرجوع إلى الأرش. 3149 - فأمّا إذا كان زوال الملك بجهةٍ تُثبتُ الردَّ، مثل أن يشتري عبداً، ويبيعَه من غير علم بعيبه، فقد تحقق زوال الملكِ بالبيعَ، والبيع جهة يثبت الردُّ فيها، فإن اطلع المشتري من المشترِي على العيب وردَّه، فللمشتري الأول الرّدُّ على البائع الأول بلا خلافٍ. فإن قيل: أليس قَد زال الملك وعاد؟ قلنا: الردُّ ينقضُ الجهةَ المتجدّدة، ويردُّ الملك الذي كان ثابتاً قبل تجدد الجهة، وسبب الاختلاف في الرد بعد زوال الملك وعودِه أنا نعتقد العائد ملكاً جديداً، وليس كذلك إذا نُقِضت الجهة الحادثةُ، وارتد الملك الذي كان قبلَها. هذا إذا ردَّ على المشتري الأول ما باعَهُ. فأمّا إذا اطلع المشتري الثاني على العيب، ورضي به، فقد بَطل حقه من الرَّدّ. وهل يملك المشتري الأولُ حق الرجوعِ بالأرش على البائع؟ فعلَى قولَين ذكرهُما

صاحب التقريب وغيرُه: أحدُهما - وهو الأظهر الأشهرُ أنه لا يرجع؛ لأنه كما راج عليه العيبُ في البيع الأوَّل، فكذلك روَّجه على المشتري منه، وانتهى الأمر إلى رضاه به. والقولُ الثاني - أنه يرجع بالأرش وهذا أميلُ إلى القياس؛ لأن سبب الرجوع بالأرش ما اقتضاه العقد من السلامة، وإسقاط المشتري حقَّه عن هذا المعنى لا يُسقطُ حق المشتري الأول، ورضاه بمثابة تبرعٍ منه عليهِ، وهذا لا يُلزمهُ أن يتبرع على البائع الأول، كما تبرعَ عليه. ولو لم يرض المشتري بالعيب، ولم يطلع بعدُ عليه، فهل يملك المشتري الأولُ الرجوعَ بالأرش على البائع الأول في الحال؟ هذا يُخرَّجُ على ما قدَّمناه في الهبة إذا كان الزوال بها والعَوْد بمثلها. فإن قلنا ثَمَّ مع إمكان الرد بالعَودِ: يملك المطالبةَ بالأرش في الحال، فكذلك القولُ هاهُنا؛ لتحقق التعذّر في الرد ناجزاً. وإن قلنا: لا يملك طلبَ الأرشِ؛ لتوقُّع الردّ، فهاهُنا لا يملِكُه أيضاًً. ورأى بعضُ الأصحاب عدمَ المطالبةِ بالأرش هاهنا أولى؛ من جهةِ أنَّا نأمُلُ رضا المشتري الثاني بالعيب. وهذا عند هؤلاء مَقْطَعةٌ لحق الرجوع بالأرش، ومن لا يرى ذلك قطعاً لحق الرجوع بالأرش، فقد يَعِنُّ له من جهةٍ أخرى فرق، وهي أنَّ رَدّ المشتري الثاني بالعيب على المشتري الأول ممكنٌ ظاهرُ الإمكان، وهو مطّرد على نَظْم المعاملة، وعوْد الموهوب إلى الواهب توقُّعٌ، لا انتظام له، وإذا كان الرد أمكنَ، كان الرجوعُ بالأرش أبعدَ. ولو باع المشتري الأول من المشتري الثاني، وأعتق المشتري الثاني، ثم اطلع على عيب، ورجع بالأرش على المشتري الأول، فلا شكَّ أنهُ يرجع بالأرشِ على البائع الأًول؛ فإنّ توقّع الرد منقطعٌ. وما تخيّله بعض الأصحاب أن المشتري الأولَ روَّج على المشتري الثاني لا يتحصل في هذه الصورة، وقد رجع عليه بالأرش. 3150 - ولو باع العبد المشترَى من إنسانٍ، ثم إنه اشترى ذلكَ العبدَ من المشتري منه، ثم اطلع على عيبٍ قديم، كان به في يد البائع الأول، فلا شَكَّ أنه لو أراد الرد على الذي باع منه آخراً، وهو المشتري الثاني أمكنه ذلك، ثم إذا رد عليه، فله أن يردَّ

عليه حكمَ البيع الأول، ثم إذا اتفق ذلك، فللمشتري الردُّ على البائع الأول، فإن الجهاتِ التي تخللت، ارتفعت بالفسوخ، وكأن لم تكن. ولو اشترى المشتري الأول من المشتري الثاني، ثم اطلع على العيب كما صَوّرنَاه، فأراد الردَّ على البائع الأول، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يملك ذلك، والثاني - يملكه. والوجهان مرتبان على ما لو عَادَ إليهِ بجهةٍ لا تُثبت الردّ. والصورة التي نحن فيها أولى بأن لا يجوز الرَّدُّ فيها على البائع الأول. والفرق أن الرد على أقرب الجهات ممكن، فالاشتغالُ بالأقربِ أولى، وليس كذلك إذا كان العَوْد بهبةٍ؛ فإن الردَّ على من منه تَلقِّي (1) الملكِ آخراً غيرُ ممكن. فإن قيل: إذا باع المشتري الأولُ ما اشتراه من إنسانٍ، ثم وهب ذلك المشتري منه، فما قولكم في هذه الصورة؟ قُلنا: اجتمع في هذه الصورة ظنُّ الترويج بالبيع الأول، وتبدّل المِلك بجهةٍ لا تقتضي الردَّ، فالقول في تمليك المشتري الأول الردَّ مُتَلَقَّى مما قدَّمناه من الأصول المفردَة. والفقيهُ لا يختلط عليه مأخذُ الكلام عند اجتماع المقتضيات، واختلافها واتفاقها. وما غادرْنا مأخذاً في تأصيلٍ وتفصيلٍ، وترتيبٍ وتقديمٍ، من طريق الأوْلى في ملكِ الرد، والرجوع بالأرش في محل اليأس والإمكان، إلا نبهنا علَيهِ، فلاَ معنى للتطويل بتكثير الصُّور. وقد نجز الكلامُ في هذا المانع وهو انتقالُ الملكِ. 3151 - ومن الموانعِ حدوث العيب في يد المشتري، فإذا اشترى رجل شيئاً وقبضه، فعاب في يده، لم يخلُ: إما أن يترتب ذلك على سببٍ كان في يد البائع، أَوْ لا يترتب على متقدّم. فإن ترتَّب على متقدِّم، مثل أن تُقطعَ يدُه بسرقةٍ سبقت، أو يتمادى به مرضٌ تقدَّم أصلُه، فهذه الأجناسُ نجمعُها في فصلٍ. ونقصُر الآن غرضنا على العَيب المتجدّد، الذي لا استنادَ له إلى سابقٍ. فإذا حدث واطلع على عيبٍ قديمٍ، فهذا الفصلُ فيه أدنى اختلاط في كلام

_ (1) (ص): بلغ.

المشايخ، ولكن الوجه أن نستاق ما بلغنا على أقوم ترتيب، ثم نذكر حاصلَ المذهب عندنا. والوجهُ في الترتيب أن نقول: إذا جاء المشتري إلى البائع لاستدراكِ الظُّلامةِ، فلو رضي البائع بقبول المبيع، مع العيب الحادثِ، فلا كلام. ولو أراد المشتري أن يُلزمَه قبولَ المبيع رداً عليه، من غير أن يغرَمَ له شيئاً في مقابلةِ العيب الحادث، فلا سبيل إلى إلزامه ذلك؛ فإن هذا إلحاق ظُلامة في استدراك ظُلامَةٍ. ولو قال المشتري للبائع: اغرَم لي أرشَ العيب القديم، وقال البائع: رضيتُ بالمبيع معيباً، فرُدَّه من غير أن تَغْرَمَ شيئاً، فليس للمشتري حق الأرش. ولو قال البائع: لستُ أغرَمُ لك الأرشَ، ولا أقبلُ المبيع مع العيب الحادث، ولكن ضُمَّ إلى المبيع أرشَ العيب الحادث، ورُدّ المبيعَ معهُ واسترِدَّ الثمنَ. وقال المشتري: بل أطلبُ أرشَ العَيبِ القديمِ، ولا أرغب في الردِّ مع أرش العيب. ففي المسألة وَجهان: أحدهما - أن المتبع قولُ البائع، فإن جرى عليه المشتري، فذاك، وإن أبى، بطل حقُّه، وليس له طلبُ الأرشِ. هذا منتهى ما ذكرهُ الصيدلاني وغَيرُه. وذكر بعض أصحابنا خلافاً على صيغةٍ أخرى، وقالُوا: لو جاء المشتري إلى البائع، وقالَ: دُونَك المبيعَ وأرشَ العيب الحادث، فاقبلهُما ورُدَّ عليَّ الثمن. فقال البائع: لا أقبلُ ما جئتَ به، ولكن أغرَم لك أرشَ العيب القديم، فهل يُجبر البائعُ على موجَبِ قول المشتري، فعلى وجهين: أحدُهما - أنه يجبر في هذه الصورة، ومعناه أنه ينفذ الردّ عليه وإن لم يقبل، كما ينفذ عليه أصلُ الرد إذا لم يكن عيبٌ حادث، ويستردُّ منه الثمن. والوجه الثاني - أنه لا يجبر على ما قاله المشتري، وله أن يغرَم أرشَ العيب القديم. هذا منتهى ما ذكره الأئمة. ولن يحصل شفاء الغليل إلا بما نذكُرُه.

3152 - فنقول: تحققنا من كلام الأئمة أن أخذ الأرشِ بالتراضي جائزٌ، وليس كأخذ الأرش إذا تجرد العيبُ القديم، وتمكن من الرّدِّ؛ فإن في جوازِ أخذِه عند التراضي خلاف، وظاهر النصِّ أنه لا يجوز أخذه، وكذلك لا خلاف أن إحباط حقِّ المشتري لا يجوزُ، ولا بد من تمهيد حقِّه إما بجهة الردّ، وضم الأرش، وإما بجهة تقرير العقد، وغرامةِ الأرشِ للعيب. فإذاً المستدرَك وجهان لا غير. وحاصل ما ذكرهُ الأصحاب من الخلاف في الطرفين، وما تلقَّيتُه من فحوى كلام الأئمة: أنهما إن تراضيا على أرشِ العيب القديم، أو على الردّ وضمّ أرش العيب الحادث، نفذ ما تراضيا عليه. وإن دعا أحدُهما إلى أحد المسلكين وأباه الثاني، ودَعَا إلى المسلك الآخر، ففي المسألة أوجهٌ: أحدها - أن المتبع في تعيينِ أحدِ المسلكين رأيُ المشتري؛ فإنه ذو الحق. والثاني - أن المتبع رأي البائع؛ فإنه الغارم من وَجهٍ والمُدخل في ملِكِه، إن شاء لم [يردّ عليه العقد في المسلك الآخر، فليتخير، وليقنع المشتري بأن] (1) يحصِّل غرضَه من أحد المسلكين. والوجه الثالث - وهو مأخوذٌ مما لهج به الفقهاءُ في المسائل، وأثناء الكلام، وهو أن من دعا إلى الردِّ، وضمِّ الأرش، لا يجاب إليه؛ لأن هذا إدخالُ شيءٍ جديدٍ في حكم العقد، لم يكن قبلُ. وهذا هو المعنيُّ بقول العُلماء: العيب الحادث يمنعُ من الردَّ بالعيب القديم. فأما الرجوع بالأرش، فخارج على مضمون العقد؛ فإن الملك لا يستقرُّ في الثمن على الكمال إلا في مقابلة المبيع السليم، فتقريرُ العقد وإلزامُ الاستدراك بطريقِ غرامةِ الأرش، أقربُ إلى مقتضى العقد. وهذا القائل يقول: إذا فُرض التراضي على الرد وضمِّ أرشِ العيب الحادث، فسبيله كسبيل الإقالة.

_ (1) ساقط من الأصل. هذا، ولعل الصواب: " يردّ عليه العبد ".

وليت شعري ماذا يقول في مبيع يتعيّبُ في يد المشتري، ثم يتقايَل البائعُ والمشتري على تقدير ضم الأرش إلى المبيع، واسترداد تمام الثمن. هذا فيه احتمالٌ؛ [من جهة] (1)، أنا إن جعلنا الإقالة بيعاً، فشرطه أن يقع بما وقع عليه العقد الأول. وإن جعلناه فسخاً، فالفسخ تلوُ (2) العقد، ولا يجوز أن يختلف مورد العقد والفسخ، ولكن من حيث إن هذا فسخٌ نيط بالتراضي، فلا يبعد احتمال ذلك فيه. وإن أردنا أصلاً أقربَ منه، وبالحقيقة هو المأخذ، قلنا: إذا اشترى رجل عبدين، وتلف أحدُهما في يده واطلَعَ على عيب قديمٍ بالثاني، فهل له أن يرد العبدَ القائم، وقيمةَ العبدِ التالف ويستردَّ الثمن؟ على قولين سنذكرهُما في تفريق الصفقة. فإن أثبتنا هذا الحقَّ، فضَمُّ أرشِ العيب الحادث بذلك أوْلى؛ فإن الفائت لا يتأَصَّلُ مبيعاً. وإن منعنا ما ذكرنا في العبدين، فالمسألةُ محتملةٌ في العيب الحادث، ووجه الاحتمالِ أن المغروم في مقابلةِ العيب الحادث مالٌ متأصل، إن لم يكن الفائت بحيث يُفردُ. والتراضي في معرض الإقالة على العبد القائم، وقيمةِ التالف ما أراه جائزاً، وإنما تردَّدنا في العيب الحادث في صورة الإقالة لما فيه من معنى التبعية. وقد نجز ما عندنا في هذا نقلاً، وترتيباً، واستنباطاً من قول الأئمة. 3153 - ثم من بقيةِ هذا الفصل أنهما إذا اتفقَا على أرشِ العيب القديم، وقبضَه المشتري، فلو زال العيبُ الحادث، فهل يثبت للمشتري حقُّ ردِّ المبيع مع الأرش الذي أخذه؟ فعلى وجهين: أحدُهما - له ذلك؛ فإن الأرش المأخوذَ، كان لمكان الحيلولة بين الردّ الذي هو الأصل، وبين المشتري. والوجه الثاني - لا رجوعَ إلى الرد، وأخذُ الأرشِ مُسقِطٌ له. ولهذا نظائرُ في الشرع في الجراحات والغرامات، ستأتي في موضعه. ولو لم يقبض المشتري الأرشَ، ولكن قضى قاضٍ بثبوته، ثم زال العيبُ

_ (1) زيادة من (هـ 2)، (ص). (2) تِلْو وزان حِمْل: تابع. (معجم).

الحادثُ، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا قبض الأرشَ. وهذه الصورةُ أوْلى بعَوْدِ حق الرد. ولو قال المشتري: رضيت به، ورضي البائع ببذلهِ، ولم يجر قضاءٌ ولا قبضٌ، ففي المسألة وجهان مرتبان على صورة القضاء. والرد أولى في الصورة الأخيرة منه في الصورة التي قُبيْلها (1). ولو لم يجر من ذلك شيء، ولم يتفق اطلاعٌ على العيب القديمِ، حتى زال العيبُ الحادث، فالمذهب المقطوعُ به أن حق الرد ثابتٌ. وفيه شيء بعيدٌ [غيرُ] (2) معتدٍّ به. 3154 - ومما يتعلق بهذا الفصل مسألة النعل، وقد ردَّدْنا الاستشهادَ بها، فإذا اشترى رجلٌ دابةً وأنعلَها، ثم اطلع على عيب قديم بها، فإذا كانت الدابّةُ لا يلحقُها عيبٌ حادثٌ بسبب قلع النعل، فالمشتري يقلع النعلَ؛ فإنه عينُ ملكهِ، ويرد الدابةَ بالعيب القديم، ولو أراد ترك النعل على البائع حتى لا يلحقه تعبُ القلعِ، لم يكن له ذلك. وإن كان بحيث لو قلعَ النعلَ انخرمت ثُقَبُ (3) المسامير، وعاب الحافر عيباً حادثاً، ولو تركَ النعلَ لم تعُد الدابة معيبة، ولا يلحقها عيب إذا استحق النعلَ، فلا نكلفُ المشتري قلعَ النعلِ، وله تركه على البائع؛ حتى يتأتى له الردُّ بالعيب القديم. اتفق عليه الأئمةُ. ثم اختلفوا في أن هذا تمليكٌ أو إعراضٌ لقطع ما يَحْذرُ (4) من ظهور العيب الحادث. وقد ذكرتُ هذا النوعَ في فصل اختلاطِ الثِّمارِ، ووجهتُ الاختلاف فيه، وفائدةُ الخلاف أنا إن جَعلنا التركَ تمليكاً، فلو سقطَ النعل، فهو للبائع. وإن قلنا: تركُهُ إعراضٌ، فهو لازم لا يملك المشتري العودَ إليه، مادام متصلاً. ولكن لو سقطَ وفاقاً

_ (1) في (هـ 2): "قبلها". (2) ساقطة من الأصل. (3) ثُقَب: جمع ثقبة، وزان غرفة، وغرف. والثقبة هي الثقب. (مصباح). (4) في (ص): يحدث.

فهو للمشتري. وهو بمثابة قولنا: الكفنُ ملك الوارث، ولكن الشرعَ ألزمَ إدامتَهُ على الميت، فإن بلي عليه فذاك، وإن جرت حادثةٌ تميَّزَ الكفنُ بسببها عن جثةِ الميت، فهو ملكُ الورثةِ. 3155 - ومن تمام ذلكَ أنا [إن] (1) جوَّزنا للمشتري تركَ النَعل على البائع، فلَسنَا (2) نُلزمه ذلكَ، فإن اختار قلْعَ النعل قبل الرد بالعيب القديم، فله ذلكَ، ولكن يمتنع عليه الردُّ، ولا يلتحق بالعيب الحادث السماوي من غير اختيارٍ من المشتري، بل انتساب المشتري إلى التعييب قطعٌ منه لحقه من الخيار، إلا أن يطلع على العيب بعد القلع فيعود ما قدَّمناه من التفاصيل في العَيب الحادث والقديم. ويخرج من هذا أنهُ إن أرادَ الردّ بالعيب، كلفناه أن يلتزم ترك النعل، فإن لم يفعل، فلا رَدَّ، ولا أرش. هكذا ذكرهُ الأئمة. وفيه احتمالٌ من جهة أن النعل عينُ ملكه، وقد أنعل قبلَ الاطلاع، فإلزامُه تركَ ملكهِ فيه بُعد من طريق المعنى. وإذا باع الثمار على الأشجار، وجرَى فيه الاختلاطُ، فقد قدَّمنا في ترك البائع ثمارَهُ الزائدةَ المختلطة كلاماً على الاستقصاء في موضع ذلك، في باب الثمار. والذي نَزِيده أن من أصحابنا من جعل ما يتركه البائعُ على المشتري من الثمار، بمثابة ما يتركه المشتري على البائع من النعل. ومن أصحابنا من قال: ليست الثمار كالنعل، فلا يلزمُ المشتري قبولُ منَّةِ التارك، وليس كالنعل؛ فإن الأمر يقرب فيهِ. ثم هو من حيث الصيغة متصل بالدَّابَّة مثبتٌ عليها بالمسامير. وإن تكلَّمنا في بيع العبد وعليه ثياب (3)، فإن ما عليه من الثياب هل يدخل تحت البيع؟ فنذكر تردُّدَ الأصحاب في دخول النعل تحت بيع الدابة. فهذا ما أردناه.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (ص): فإنا. (3) في (هـ 2)، (ص): سلبه.

فصل 3156 - قد ذكرنا في تقاسيمِ العيب الحادثِ ما يطرأ مستنداً إلى سبب في يد البائع. وها نحن نبيّن التفصيلَ فيه. فنقول: ما ذهب إليه معظم الأئمة أن بيعَ العبد المرتدِّ وشراءَه صحيح، وإن كان مستحق الدم؛ لأن الماليَّةَ فيه كاملة. وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع وجهاً غريباً أنهُ يمتنع بيعُه، وهذا [وإن] (1) كان ينقدح توجيهُه، فهو بعيدٌ في الحكاية غيرُ معتدٍّ به. والعبدُ إذا قَتَلَ في قطع الطريق، وظفرنا به، وقَضَيْنا بتحتُّم قتلهِ، تفريعاً على ردَّ توبته، والتفريع على ما عليه الجُمهور من تصحيح بيع المرتد، ففي تصحيح بيعه، وقد تحتم قتلُه وامتنع سقوطُ القتلِ خلافٌ، فالذي ذهب إليه الجُمهور صحّةُ البيع، وإن كان دمه مستحَق الإراقة. وذهب بعض الأصحاب إلى منع بيعهِ وإن جوَّزنا بيع المرتدّ. وذهب إلى ذلك أبو عبد الله الختن (2) من مشايخنا. والفرق بين ما نحن فيه وبين المرتد أن المرتدَّ غيرُ محتومِ القتلِ، ومن الممكن أن يُسلمَ فيسقطَ القتلُ عنه، وقتلُ القاطع محتومٌ [لا دَرْءَ له] (3)، فكان كالمقتولِ (4). وإذا صححنا بيعَ المرتد، فلو قبضهُ المشتري، ثم قتل في يده بإصراره، على الردّةِ، فحاصل المذهب ما جمعهُ الشيخ أبو علي في شرح الفروعِ وهو ثلاثة (5) أوجهٍ:

أحدها - أن التلفَ من ضمان المشتري، سواءٌ علمه مرتداً، فاشتراه وقبضه، أو كان جاهلاً بذلك. ووجه هذا أن صُورة التلفِ جرت في يَدِ المشتري وتحت استيلائهِ، فكان محسوباً من ضمانه، كما لو تلف بآفةٍ سماوية. والوجه الثاني - أنه إن قبضه غيرَ عالمٍ بردّتهِ، ثم استمرَّ به الجهل حتى قُتلَ مرتدّاً، يُحكم بانفساخ العقد ونزُّل ذلك منزلةَ ما لو قتلَ في يد البائع. والوجه الثالث - أنه يفصل بين العلم والجهل، فإن قبضهُ على علم بحالهِ، استقرَّ الضمان عليه، وقتلُه في يدهِ بمثابةِ موته حتفَ أنفهِ. وإن كان على جهل حتى قُتل العبدُ، فهو من ضمان البائع؛ من جهة أن المشتري معذورٌ بسبب جهله المستمرّ. 3157 - توجيه الأوجه: من قال: التلفُ من ضمان المشتري، فوجهه التمسُّكُ بالصورة، فإنَّ التلفَ جرى تحت يدِ المشتري، فيستحيلُ إلحاقهُ بضمان البائع. والدليل عليه أنه يتسلّط على التصرف، ويَبعد أن يُفيدَه القبضُ التصرفَ، ولا ينقلَ إليه الضمان. وفي المصيرِ إلى تجويز البيع مع الحكم بان التلفَ من ضمان البائع حكمٌ بتوالي (1) الضمانين. ومن قال: التلف من ضمان البائع، اعتمد استنادُه إلى سببٍ كان في يد البائع. والأسبابُ وإن تقدمت، [فالمسبب] (2) في حكم المقترن بها، ولذلك ألزمنا [الميّتَ] (3) بسبب احتفاره البئرَ في حياته غُرْمَ المتردِّي، وإن خرج بالموت عن كونهِ جانياً. ونظائر ذلك كثيرةٌ. وعن هذا صار من صار إلى فساد البيع، وكان يقرُبُ في (4) ذلك الوجه الوقفُ، حتى يقالَ: إن قُتلَ المرتدّ، تبيّنَّا أن بيعَهُ لم يصح، وإن عاد إلى الإسلام، تبيَّنا الصحَّة، ولم أر ذلك لأحدٍ.

_ (1) في (ص): بزوال. (2) في الأصل: السبب. (3) غير مقروءة في الأصل. وفي (هـ 2): المستبب، (ص): المسبب، والمثبت تقديرٌ منا، على ضوء السياق. (4) في (هـ 2): من.

ومن فصل بين العلمِ والجهلِ رأى السببَ مؤكداً في حالة الجهل، وقدَّره منقطعاً مع علم المشتري؛ حتى كأن رضاه بما رآه قاطعٌ لما سبقَ من السبب. فإن حكمنا بالانفساخ من غير تفصيل، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ العقد، فإن كان عالماً، لم يرجع بشيء، وإن كان جاهلاً، رجعَ بأرش العيب، فيقوَّمُ العبد مرتداً ومسلماً وتُضبط النسبة والجزئية، ويثبت الرجوع بذلك الجزء من الثمن، فمهما (1) كان الكلام في الرجوع بالأرش، اختلفَ الحكم بالعلمِ والجهل بلا خلاف، وإنما الخلافُ في الانفساخ؛ فإن من أصحابنا من حكم بالانفساخ مع العلم بحقيقة الحال. وكان شيخي يحكي طريقين في شراء العبدِ المريض وقبضِه، وتمادي المرضِ إلى الموت في يد المشتري، فمن أصحابنا من ألحقَهُ بالردة والقتل بها. ومنهم من قطع بأن الموتَ بالمرض من ضمان المشتري قولاً واحداً؛ فإن المرض يتزايد ويتجدَّد في يد المشتري، حتى يُفضي إلى الهلاك، والردةُ خصلةٌ واحدةٌ، وقد سبقت في يد البائع. ثم إذا قلنا: التلف من ضمان المشتري، فيرجع الكلام إلى الرجوع بالأرشِ، وذلك يختلف بالعلمِ والجهل كما تقدّمَ. ويتفرع على ما ذكرناه أن من اشترى عبداً سارقاً، فقُطعت يدُه في يد المشتري، فهذا مستندٌ إلى سبب سابق، فإن اتبعنا وقوعَ السبب، جعلناه كما لو حصل القطعُ في يد البائع، فيُرعَى الأرشُ في عبدٍ أقطعَ وسليمٍ (2). وإن اتبعنا وقوعَ المسبَّب، فقد يثبت عند الجهلِ الرجوعُ بالأرشِ، ولكنَّ سبيلَه ما نصفه، فنقول: عبدٌ متهيىءٌ

_ (1) "مهما" بمعنى (إذا). (2) المراد أن الأرش هنا يعتبر أرْشَ القطع، أي النقص الذي حدث بسبب القطع، على حين في حالة اعتبار وقوع المسبب يكون الأرش عن النقص الواقع بسبب تهيؤ العبد للقطع، وليس بحصول القطع. وهو فرق دقيق في المعنى، يشهد بدقة الإدراك. ولكن لنا أن نتساءل عن الفرق بين أرش القطع، وأرش التهيؤ للقطع، وهل هناك فرق واقعاً وفعلاً؟؟ إن الأقطع عرفت حقيقةُ حاله، ووضح أمره، أما المستحق القطع المتهيىء له، فسيقطع اليوم أو غداً، ولا يُدْرى كيف سيكون أثر القطع عليه. فلعلّ هذا هو الفرق.

للقطع كم قيمته؟ وعبدٌ سليمٌ غيرُ متهيىءٍ للقطع كم قيمته؟ فنعتبر النسبةَ كذلكَ، ولا نعتبر وقوعَ القطعِ على هذا الوجهِ، لجريانه في يد المشتري. فرع: 3158 - لو اشترى جارية مزوَّجة بكراً، فافتضها الزوجُ في يد المشتري، فهذا ملحق بعيب حادثٍ في يَد المشتري مترتبٍ على سبب في الاستحقاق سابقٍ في يد البائع. ولا يخفى التفريع بعد هذا التنبيه. فصل 3159 - قد رأينا أن نأتي في هذا الباب بفُصولِ العيب متوالية، ولا نلتزم ترتيب السواد (1). وهذا الفصل يجمع كلاماً في أعيان عيوب قد نحتاج فيها إلى فضلِ نظرٍ، وكلاماً على الفوْر ومعناه. أما الأصلُ فيما يكون عيباً، فقد تمهّد على أحسن وجهٍ فيما سبقَ. وغرضنا الآن ذكرُ مسائلَ: فالبول في الفراش عدّهُ الأصحاب من العيوب، ولا شك أنهم عنَوْا به إذا كان يتفق في غير أوانه المعتاد، فأما إذا كان المشتَرَى صغيراً لا يندُر بولُ مثله في الفِراش، فليس ذلك منه عيباً. وعَد الأصحاب الصُّنانَ من العيوب. وفيه تفصيلٌ لا بدّ منه: فإن كان الذي يلحق العبدَ مما يعم مثله في حق الشبان إذا تحرّكوا وعرِقوا، فهذا لا يعد عيباً، ولو كان يطرأ ذلك من غير سبب، وكان لا يندفع إلا بعلاجٍ يخالفُ المعتادَ، فهذا تميّزَ عما عليه الناس، وقد يعد عيباً. والبَخَر الأصلي ناشىء من أخلاطٍ متكرِّجةٍ (2) في خَمْل (3) المعدة وهو العيب.

_ (1) السواد: يريد به مختصر المزني. (2) كَرَج الشيء بفتحتين إذا فسد (معجم). (3) خَمْل: وزان فَلْس: الهُدْب. وخمل المعدة: ألياف كأهداب القطيفة تغطي سطحها الباطن (معجم).

وما يكون من قَلَح الأسنانِ، ويزيله الاعتناءُ بتنظيفِ الفَم فلا يُعدُّ عيباً. والجاريةُ إذا احتبس حَيضُها، رُوجع في أمرها أهل الصناعة (1)، فإن قالُوا الاحتباسُ في هذا السن نادرٌ، فهو فيما يقال عيبٌ، وفي البنية علةٌ حابسةٌ للفضلةِ التي تَمَس الحاجة إلى استرسالها، وإن لم يُبْعد أهلُ الخبرةِ احتباسَ الحيض في هذا السن، فلا يكون عيباً حينئذٍ. ولو اشترى الرجل عبداً، فخرج كافراً، فالذي ذهب إليه عامة الأصحاب أن الكفر عيبٌ. وذكر العراقيون وجهاً أنهُ ليس بعيب، واسم العبد لا يتعرض للإيمان ولا للكفر. والقول في هذا يُفصّل عندي: فإن كان الغالبُ العبدُ المسلمُ في موضع العبدِ، وكان الكفرُ منقصاً للقيمة، فهو عيب. وإن لم يكن الإيمان غالباً في العبيد، بل كانوا منقسمين، وكان الكفر منقصاً للقيمة، فهذا فيه تردُّدٌ. وظاهرُ القياس أنه ليس عيباً، وظاهر النقلِ أنه عيبٌ؛ فإن الكفر بالإضافة إلى الإيمان مع اضطراب العادة كالجهل بالكتابة، بالإضافةِ إلى العلم بها. وإن لم يكن الكفر بنقصٍ، والعاداتُ مضطربةٌ، فالوجهُ القطع بأن الكفرَ لا يكون عيباً. فإن قيل: إذا خرج العبدُ زنَّاءً، فهو معيبٌ عندنا، والكفر شرٌّ من الزنا، [فإن] (2) قيل: ضررُ الزنا يتعدى، ويُفضي إلى حَبطِ (3) الأمانة في الحُرَم، وليس الكفر كذلك، فينقدح أن يقال: العبد الكافر قد ثبت كفره في الصبيان، والسفهاء غيرِ ذوي الرأي، وهذا يوجب كونَ الكفرِ عيباً على الجُملة. قلنا: الأمرُ كذلك، ولكن في تقرير الضَّرر من الكفرِ بُعدٌ، وهو ظاهرٌ في الزنا. ومما يتعلق بهذا أن الرجل إذا اشترى عبداً على أنه كافرٌ، فخرج مسلماً، نُظر: فإن كنا متاخمين لبلادِ الكفر، وكانوا يكثرون الوُلوجَ فينا، وقد يكون الكافرُ أكثرَ

_ (1) المراد هنا أهل صناعة الطب، أي الأطباء. (2) في الأصل، (هـ 2): (وإن). (3) في (ص): خبط. وحَبطَ من باب تعب: فسد وذهب، أي فساد الأمانة وضياعها (المعجم).

قيمةً، فإذا أَخْلفَ الشرطُ والحالة هكذا، ثبت الخيار. وأبعد بعضُ أصحابِنا وقال: لا خيار. وهو مذهبُ أبي حنيفة (1). وارتاعَ هؤلاء من تشغيبٍ في نسبتِنا إلى إيثارِ الكُفر، وهذا غيرُ سديدٍ؛ فإن الماليّةَ هي المرعيّة، وهي مأخوذةٌ من الرغبات في كثرتها وقلّتها، فالكافر يشتريه المسلمُ والكافرُ، والمسلمُ لا يمكَّنُ الكافرُ من شرائه. هذا إذا كان الكافرُ أكثرَ قيمةً. وإن لم يكن الأمر كذلك فخُلْفُ الشرط فيه بمثابة خُلْفِ الشرط في الثيابَةِ والبكارة والجُعودة والسُبوطة، فإذا بان مسلماً والمشروط كونُه كافِراً، فهو كما لو شَرط أن يكون سَبِطَ الشعرِ، [فخرج جَعْدَ الشعرِ] (2). ولو اشترى داراً، ثم بان له أن الجندِيين ينزلونها، فهذا عَيبٌ. ولو اشترى ضيعةً، فبان في خراجها ثِقَل، فهو عيب. وإن كنا لا نرى أصلَ الخراج، فإن المتبعَ فيه رأيُ الولاة. والرجوعُ فيما يكونُ عيباً وما لا يكون عيباً إلى أهل الخبرة. والقيمُ تتفاوت بالرغبات. هذا ما أردناه في هذا المقصود. 3160 - المقصودُ الثاني من الفصل: بيان الفور. وكنتُ على أن أؤخّر تفصيلَهُ إلى كتاب الشُّفعةِ، ولكن بَدا لي أن أُنجز ما تَمسُّ الحَاجةُّ إليه. فنقول أولاً: نفوذ الفسخ لا يتوقفُ عندَنا على القضاء، ولا على الرِّضا، فلو انفردَ من له الرَّدّ، وقال رَدَدتُ المبيعَ، أو فسخت العقدَ، انفسخ عندنا. فإذا لاح هذا قلنا بعده: إن تمكن من الفسخ بين يدي قاضٍ، فلا عُذرَ في التأخير، ولو أخر بطل حقه، ولو هَمَّ بالرفع إلى القاضي، (1 ولم يكن المردود عليه حاضراً، ولم يتمكن من الإشهاد، فليسَ من الوفاءِ بالفور أن يقول في نفسه، فسخت

(1) ر. رؤوس المسائل: 286 مسألة 173، فتح القدير: 6/ 8. (2) ساقط من الأصل.

العقد، بل لو لم يقله، وابتدر إلى القاضي 1)، فهوَ مشتغلٌ بالأمر على أحزم الوجوه، لا يعدُّ في العرفِ مقصراً، ولا يلزمه أن ينطق بالفسخ؛ فإنه لو نطقَ به لم يُصدَّق فيه، فلا معنى له. وإن كان المردود عليه حاضراً، فابتدر مجلسَ القضاء وترك الرد عليه، ظاهرُ المذهب أنه يَبطل حقُّه؛ إذ الناس يعدّونه مقصّراً. ولو لم يجد المردودَ عليه، وأمكنه أن يتلفظ بالرد، ويُشهدَ، فأبى إلا الارتفاعَ إلى مجلس القضاءِ، ففي المسألةِ وجهان، سنذكر نظيرَهما في الشفعَة. والانتفاعُ بعد العثور على العيب والاطلاعِ، يُبطل حقَّ الردّ، فإذا علم [عَيْبَ] (2) غلامٍ، فاستخدمه ولو في لحظةٍ، بطل حقه، حتى لو استخدمه في مدَّةِ ارتفاعه إلى مجلس القضاء، قضينا ببطلان حقّه. وهاهنا نبيّن أثرَ الاستخدام، ولا ينبغي أن نفرضَ الاستخدامَ في زمانٍ لو سكتَ فيه، بطل حقُّه. والقول في ركوب الدابةِ كالقول في الاستخدام، إلا أن يكون الركوب ضرورياً في الردّ، بأن كان يعسر قَوْد الدابَّة وسوقها، فإذ ذاك يُحمل الركوبُ على الردّ. قال صاحب التلخيص: لو ركب الدابّةَ [منتفعاً] (3)، ثم اطلع على عيب بها، فإن استدام الركوبَ، بطلَ حقُّه؛ فإن استدامتَه كابتدائه، وإن نزل كما (4) اطَّلعَ واشتغل بالبدار، فحقُّه ثابت، وإن وضع على الدابةِ سَرْجاً أو إكافاً، وعلّق عليها لجاماً أو عِذاراً، ثم اطّلع على عيبٍ، فإن وضعَ الإكافَ والسرجَ من فورهِ، لم يبطل حقُّهُ، وإن استدام الإكافَ والسرجَ زماناً، كان كما لو استدام الركوبَ، ولا يضر استدامةُ العِذارِ واللجامِ؛ فإنه لا ثقل منهما، ولا يُعدُّ معلِّقهما [منتفعاً] (5) بالدابة.

_ (1) ساقط من (هـ 2) ما بين القوسين. (2) في الأصل: بيع. (3) في الأصل، (ص): مشفعاً. والمثبت من (هـ 2). (4) كما: بمعنى (عندما)، كعهدنا بها في أسلوب إمام الحرمين. (5) في الأصل: مشفعاً.

والأصل الرجوعُ إلى العادة في الباب، فإن ظهرت، فالوفاق في النفي والإثبات، وإن اضطربت بعضَ الاضطراب ثار خلافُ الأصحاب. فصل قالَ: " ولو اختلفا في العَيبِ ومثلهُ يحدث ... إلى آخره " (1). 3161 - إذا ظهرَ عيبٌ بالمبيع في يد المشتري، فاختلف البائع والمشتري في قدمهِ وحُدوثه، فادّعَى المشتري قِدَمَه [وتلقِّيه] (2) منه، ووجودَه في يد البائع. وقال البائع: إنه حدث في يدك، فإن كانت المشاهدةُ تُكذب أحدَهما كذَّبناه، ولا يكاد يخفى تَصويرُ ذلك. فإن كانت الجراحةُ طريَّة، والتسليمُ من سنين، فالمشتري مكذَّب في دعوى القدم، وإن كانت الجراحة مندملة، والتسليم من أيام معدودَة، فالبائع مكذَّب في دعوى الحُدوث. وإن احتُمل الأمران، فالقول قول البائع في نفي العَيب (3)، في يده؛ فإنّ الأصل الغالبَ السلامةُ، والأصل بقاءُ العقد على اللزوم، والمشتري في دعوى العيب يدعي ثابتاً يخالف الاعتياد، ويبغي رفعَ لزوم العقد، فالوجهُ الرجوعُ إلى قول البائع، ولكن لا بُدَّ من يمينه؛ لتطرُّقِ الاحتمال إلى الحال، ثم لا يُقنَع من البائع إلا بيمين جازمة ينفي بها العيب، ويقول: بالله لقد بعتُه وسلمتُه، وما به عيبٌ. 3162 - وقال ابنُ أبي ليلى (4): إنه يحلف على نفي العلم؛ (5 فإنّ جزمَ اليمين في نفي العيوب مجازفةٌ، وسنذكرُ في أقسام اليمين أن ما يتضمَّنُ منها نفيَ فعلِ الغير، فهو على نفي العلمِ 5)، والعيوب قد تكون بهذه المثابة.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 190. (2) في الأصل، (ص): ويكفيه. (3) في (ص): الحدوث. (4) ابن أبي ليلى: محمد بن عبد الرحمن ت 148 هـ. (5) ما بين القوسين ساقط من (ص).

وهذا الذي ذكره، وإن كان فيه وجهٌ من التخييل، فهو بعيدٌ عن فقه الفصلِ؛ فإن غرض المشتري ليس يتعلّق بعلم البائع وجهلهِ؛ فإنَ حقهُ من الرد يتعلق بالعيب إن كان، وينتفي بانتفائهِ، فلا بد من التعرض لنفي موجِب الخيار؛ فإنه لو حلف على نفي العلم، اتجه للمشتري ادّعاءُ الخيار مع الاعتراف بانتفاء علمه. فإن قيل: فكيف تتجه اليمين؟ وما الوجه فيه؟ قُلنا: إن كان [خَبَرَ] (1) البائعُ العبدَ، فقد يطلع على خفاء أمره، ويجوز اعتمادُ مثلِ هذا في اليمين، بل يجوز إقامةُ الشهادةِ على الإعسار، وأن لا وارثَ غيرُ الحاضرين، وعلى عدالةِ الشهودِ، وانتفاءِ ما يقدحُ فيهم بمثل هذا. وإن لم يكن خَبَرَ البائعُ العبدَ، واستوى في نظره كونُ العيبِ وعدمُه، فلا يخفى وجه الاحتياط، وطريق التورُّع. وإن سُئلنا عن جوازِ الحلفِ، فنصُّ الشافعي مصرّحٌ بجواز الحَلفِ ونَصُّه في مسألة العبد المشرقي، والسيد المغربي معروف؛ فإنه قال: لو اشترى مغربيٌّ رُبِّيَ بالمغرب، وهو ابنُ ثلاثين سنة عبداً مشرقياً، ابنَ خمسين سنةً، ثم باعه من يومهِ، ثم فرض (2) نزاعٌ في قدم عيبٍ وحَدَثِه (3). قال الشافعي: يحلف المغربي بالله لقد بعتُه، وما به عَيب. فإن قيلَ كيف ينساغُ هذا؟ قلنا: لا وجه له إلا البناءُ على ظاهرِ السلامة، وعلى هذا بُني أصلُ الخيارِ، وإلا فحكمُ قولِ القائل بعتُكَ هذا العبدَ يُنزل (4) العبد على صفَاتِه سليماً كان أو معيباً، ولكن أقام الشرع لظنّ السلامة حكماً، فإذا تعلق أصل الخيار بظنِّ السلامة [ابتنى] (5) جوازُ الحلف على ظن السلامة. ثم قال الشافعي: يحلفُ البائع: بالئه لقد بعته (6) وما به عيب، (1 فاعترض المزني

_ (1) في الأصل: خيّر. (2) في (ص): عرض. (3) في (هـ 2)، (ص): حدوثه. والمثبت هو ما عليه لغة إمام الحرمين. (4) في (هـ 2)، (ص): تنزيل العبدِ. (5) في الأصل: ما ابتنى. (6) في (هـ 2)، (ص): بعته وأقبضته. (وهو مخالف للسياق).

وقال: لا تنقطع الخصومةُ بهذه اليمين، فقد يحدث العيب بعد البيع وقبل القبض، ولو كان كذلك، لثبت الخيارُ للمشتري، فليحلف بالله لقد بعته وأقبضتُه وما به عيب 1). قلنا: لا شك أن البائع لا يخرج عن عهدة الرد باليمين التي ذكرها الشافعي، ولكن لعلّه صوَّر دعوى المشتري في اقتران العيب بالبيع، وإذا قصَر المشتري دعواه على ذلك، فاليمين تكون على حسب الدعوى، في حكم المضادَّة. 3163 - وقرّر الأئمةُ في هذا الفصل أصلاً في صيغ الدعوى والإنكار واليمين، وذلك أنهم قالوا: لا يشترط أن يكون الإنكارُ على مضادّة الدعوى لفظاً ومعنى، بل يكفي مضادّةُ المعنى. هكذا قال الأصحاب. وهذا اللفظ فيه اختلالٌ. والوجه أن يقال: يكفي أن يكون الإنكار مضاداً لمقصود المدَّعي. وبيانُ ذلك أن من ادعى ألفاً على رجلٍ من جهة قرضٍ، فيكفي في الإنكار أن يقول المدعَى عليه: لا يلزمني تسليم ما تدّعيه إليك. فهذا يضادُّ مقصودَه. وفيه غرضٌ ظاهرٌ عظيمُ الوقعِ للمنكرين، فقد يكون الإقراضُ جارياً، ولكن برئت ذمَّةُ المقترض بسبب، ولو اعترفَ بالأصلِ وادّعى طريَانَ ذلك السببِ، فيقف موقف المدَّعين، والقول قولُ صاحبِهِ فربما يجترىء ويحلف. وإذا قال: لا يلزمُني: تردّدَ هذا بين نفي الاقتراض، وبين ثبوت البراءة بعد جَريان الاقتراض، فاكتفى الشرعُ بلفظٍ يتضمنُ دفعَ مقصودِ المدعي، ويشمل الغرضَ الذي نبَّهنا عليه، ومضادَّةُ الدعوى في معناها أو مقصُودِها، وسرُّ هذا يأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجلّ. ثم اليمين تقعُ على حسب الإنكارِ. ولو وقع الإنكارُ على مضادَّة صيغَةِ الدعوى لفظاً ومعنى، فقال (2 المدعي: أقرضتُك. وقال 2) المدعَى عليه: ما أقرضتني، فلما انتهى الأمرُ إلى اليمين، أراد ردَّ اليمين إلى المقصودِ، وأن يحلف بالله:

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2). (2) ما بين القوسين ساقط من (ص).

" لا يلزمُني تسليمُ ما تدعيهِ إليك ". [فَهَلْ] (1) يُقبل ذلك منه، أم يكلفُ أن يأتي باليمين على حسب الإنكار الذي صدر منه؟ فعلَى وجهين مشهورين. ولو اكتفى في الإنكار بمضادّةِ مقصودِ الدعوى، ثم أتى باليمين على صيغةِ مضادَّة الدعوى لفظاً ومعنى، قُبلت منه اليمين؛ فإنها اشتملت على مقصود الإنكار، وزادت تصريحاً وقطعاً للإيهام. ولو قال المدعي: أقرضتُكَ ألفاً، وعليك ردُّه، فاعترف المدعَى عليهِ بالاقتراض، ثم قالَ: أحلف: " لا يلزمني تسليم شيءٍ إليك "، لم يُقبل ذلك منه؛ فإنه اعترفَ بالأصل، ووقف موقفَ المُدّعين فيما يُسقط القرضَ، ولا تُقبل اليمين من المدَّعِي. ولو قال: أرجعُ الآن إلى إبهام الإنكار، لم يقبل منه؛ فإن ذلك [يُقبلُ] (2) من وجه تردده، وإذا اعترف بالأصل، زال التردُّدُ، وانحصر مجملُ الإنكار في ادعاء مسقط القرض. وهذا مقام المدعين. 3164 - وإذا تمهَّد هذا، عدنا إلى كلام المزني فنقول: لعل الشافعي فرضَ فيه إذا ادّعى المشتري اقترانَ العيب بالبيع، ولم يدعِ غَيرَه، فإذا أنكر البائعُ دعواه، كفاه ذلك؛ فإن الإنكارَ قد يقصُرُ عن معنى الدعوى، فيكتفي به، كما قدّمنَاه. فكيف يُشترَط أن يزيدَ على معنى الدعوى؟ ولو قبض عوضاً كان موصوفاً في الذمةِ، ثم تنازع القابضُ والمقبضُ في عيبٍ بالمقبوض يُحتَملُ تقدُّمُه، ويحتمل حدوثُه، فقد اختلف أصحابُنا فيه، َ على ما حكاه صاحبُ التقريب. فمنهم من قال: القول قول المُقبِض النافي لتقدُّمِ العيب، كما لو كان التنازع في عيبِ عينٍ متعيَّنةٍ في العقد. ومنهم من قال: القولُ قولُ القَابضِ؛ فإن الأصلَ اشتغالُ ذمّةِ المقبضِ بما عليه، وهو يَدّعي براءةَ نفسهِ.

_ (1) في الأصل: فلا. (2) في الأصل: مقبل.

وهذا الاختلافُ يقربُ من تقابل الأصلين، ويعتضد الوجهُ الأخير، بأنَّ ردّ المقبوض ليس يتضمن فسخَ العقد، حتى نقولَ: الأصلُ استدامةُ لزومهِ، وليس في تصديق القابض إلا الاستبدالُ. ومما يتعلق بهذا الفصلِ أن المتبايعين إذا تنازعا في قدم العيب وحدوثه، وجعلنا القولَ قولَ البائعِ مع يمينه، فمقتضى اليمينِ حدوثُ العيب، ولكن البائع مصدَّقٌ في نفي قِدمهِ، لا في حقيقةِ حدوثهِ. ويظهرُ أثرُ هذا في مسألةٍ، وهي أن المتبايعين بعد جريان ما وصفناه، لو تنازعا في مقدار الثمن مثلاً، وتحالفا وتفاسخا، فإذا ارتدَّ المبيع إلى البائع، قال: غرّموه أرشَ العيب؛ فإني أَثبتُّ حدوثَه، لم نُجبه إلى ذلك؛ فإنا صدقناه (1) محافظةً على استدامةِ لزومِ العقد، ودفعاً لما يطرأ عليه بالقطع. فالآن إذا انتهى الأمر إلى تغريم المشتري شيئاً بيمين غيرِه، والأصلُ براءةُ ذمته، فلا سبيل إلى التزامِ هذا. 3165 - ومن نظائر ذلك أن الوكيل بالبيع واستيفاءِ الثمن إذا قالَ: قد استوفيتُ الثمنَ، وسلمتُه إلى الموكِّل، قُبِل قولُه مع يمينهِ؛ لأنه مؤتمن من جهةِ موكِّله. فلو استُحِق المبيعُ في يَدِ المشتري، واقتضى الحالُ الرجوعَ بالثمن، فلا نرجع على الموكِّل؛ فإنه أنكر قبضَ الثمن، وكُنَّا صدقنا الوكيلَ حتى لا نغرِّمَه [شيئاً وهو مؤتمن، فأما أن نغرمه] (2) حتى تُشغلَ ذمة الأصلُ براءتها، فلا سبيل إلى ذلك. وإذا تولَّجت مسألة من كتابٍ في كتابٍ، فهي غريبة، ولا وفاءَ باستقصائها إلا في كتابها. ونقل الأئمة عن الشافعيِ مسألةً في الاختلاف تدنو من الأصل الذي ذكرناه، وهي أن من اشترى عبداً وبه وَضحٌ (3)، ثم حدث بياضٌ آخر، ثم زال أحدُهما، فقال البائع: الزائل البياضُ القديم، فلا ردَّ لك، وقال المشتري: الزائل البياضُ الحادث

_ (1) في (ص): صدقناه أولاً. وفي الأصل: ولا محافظة. (2) ساقط من الأصل. (3) الوضح: بياض البرص. (معجم).

الذي كان يمتنع بسببه الردُّ بالبياض القديم، والآن قد زال الحادث المانع، فقولاهما متعارضان لا يترجحُ أحدُهما على الثاني - ولكنَّ القولَ قولُ من يدعي استمرارَ لزوم العقد؛ فإنه الأصل، وليس كما إذا تحالف المتبايعانِ في مقدار الثمن والمثمن؛ فإنهما يتحالفان؛ لأنهما تناكرا جهةَ لزومِ العقد، وليس أحدُهما أولى من الثاني. ثم قال الشافعي: فيحلف البائعُ ويغرَم للمشتري أرشَ أقلِّ البياضيْن إذا وقع التناكرُ في الأقلّ من القديم والحادث، وكانا مختلفين في المقدار. والأمر على ما قال؛ فإنا بنينا الأمر على استصحاب اللزوم، وعلى براءةٍ في الأرش المبذول. فصل 3166 - قد مضت مسائلُ الرد على مساقٍ شافٍ، ونَحنُ نذكرُ في هذا الفصل حقيقةَ الرد، وانشعابَ المذاهب فيهِ، وهو يشتمل على مسائلَ في الزوائد أَخَّرتُها لمّا رأيتُها مستندة إلى حقيقةِ القول في الردّ. فأقول: الردّ بعد قبض المبيع قطعٌ للعقد من وقتِه، ولا يستند ارتفاعُ العقد إلى ما تقدَّم. هذا مذهبُ الشافعي، وعليه بَنَينا المذهَب في إبقاء الزوائد المنفصلةِ المتجددةِ بعد العقد على المشتري إذا [هو] (1) ردَّ الأصلَ، فلا الزوائدُ تمنعُ من الفسخ بالعيب القديم، ولا هي ترتدُّ إلى البائع عند ارتدادِ الأصلِ إليه. وهذا إذا جرى الفسخُ بعد قبض المبيع. ثم لا فصل فيما مهدناه في الزوائدِ بين ما حدث من الزوائد بعد قبض المبيع، وبين ما حدثَ قبل القبض وبعد العقدِ؛ فإنّ الملكَ إذا استقرَّ في الأصلِ بالقبضِ، استقرَّ الملكُ في الزوائدِ ثم يختص الأصل بالارتداد. والذي يعترض في هذا الفصل ما كان موجوداً حالةَ العقد، وكان حكمه أن يتبعَ الأصل [هل] (2) يجبُ التَّعرُّضُ له أو لا؟

_ (1) مزيدة من (هـ 2)، (ص). (2) في الأصل: يتبع هذا الأصل يجب، (هـ 2): يتبع الأصل. هذا يجب. والمثبت عبارة (ص).

فإذا اشترى رجل جاريةً، وكانت حاملاً، فقد اختلف القولُ في أن الحمل هل يُقابلُه قسط من الثمن؟ [فعلى قولين:] (1) أحدهما - أنهُ يقابله قسط؛ فإنه مقصود في جنسهِ، وقد كفانا الشرعُ أمراً كُنّا لا نَستقلُّ به، وهو إدخالُه في البيع مع أنهُ لا يُقدَر على تسليمه. والقول الثاني - لا يقابله قسطٌ؛ [إذ لا يمكن إفراده بالبيع] (2) وإنما ينتظم التقسيط عند تجويز الإفراد. التفريع على القولين: 3167 - إن قلنا: يقابله قسطٌ، فهو مبيع (3) وحكمُه [فيما] (4) نحن فيه، أن يردَّ إذا رُدّت الأم، و [من] (5) حكمه أن يُحبَسَ مع الأم، في مقابلةِ الثمن، إذا انفصل، ويبقَى العقدُ عليه إذا بقي، وإن تلفت الأم على أحد قولي التفريق. وهو بعد الانفصال بمثابةِ مملوكٍ مضموم إلى مملوكٍ. وإن قلنا: الحمل لا يقابله قسطٌ من الثمنِ، فهو في حكم البيع كالمعدوم، فإذا ولدته أُمُّه، نجعله كزيادَةٍ متجدِّدةٍ بعد البيع. وقد مضى القول في الزياداتِ، وسيأتي باقي بيانها، إن شاء الله تعالى. وإذا باع شجرةً عليها طلعٌ غيرُ مؤبَّرٍ، فمن أئمتنا من خرَّج مقابلةَ الطلع بقسط من الثمن على القولين المقدمَيْن في الحمل. والجامعُ أنهما جميعاً دخلا تحت العقد بمطلق تسميةِ الأرض. وقد شبَّه الشافعي الطلعَ في كِمامه بالحَمْل في أحشاء البطن. ومن أئمتنا من قطع بأن الطلعَ يقابله قسطٌ من الثمن. وهذا التردد يبتني عندنا على الاختلاف في [الثمر] (6) قبل التأبير، هل يجوز إفرادُه بالبيع؟ وقد مضى فيهِ قولٌ بالغ.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، ومن العجيب أن تتفق النسخ الثلاث في هذا السقط. (2) ساقط من الأصل، ومكانه: " فهو مبيع ". (3) في (هـ 2) ممتنع. (4) في الأصل: " ما ". والمثبت من (هـ 2)، (ص). (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل، (ص): " الثمن " والمثبت من (هـ 2).

فهذا مما اعترض في نظمِ كلامنا في الزوائد. 3168 - ومما يعترض أيضاًً، وبه تمام هذا الغرض: أن من اشترى جاريةً، فعَلِقت بمولودٍ، وأرادَ ردّها، ولم يعبْها الحملُ الطارىء في يدِ المشترِي، أو كان طرأ في يد البائع، فإذا أراد الردَّ، فهل يتبعُ الحملُ الأصلَ حتى يرتد إلى البائع؛ كما يتبعُ الحملُ الأصلَ في الدخول تحت استحقاق المشتري؟ على قولين. وكذلك القولان في الطلع الذي لم يُؤبّر، إذا كان كذلكَ يومَ الرَّد، وقد تجدد بعد العقدِ، ففي ارتداده إلى البائع القولان. وهما يجريان في صُوَرٍ؛ منها: إذا أفلس المشتري بالثمن، والجاريةُ المبيعةُ حامل في يده بحَمْلٍ متجدّدٍ، فإذا رجع البائعُ فيها، فهل يرجعُ في حَملها؟ فعلى قولين. وكذلك إذا علقت الدابّةُ المرهونةُ بحَمْلٍ بعد الرهن، ثم احتجنا إلى بيعها في الديْن وهي حامل، فهل نقضي بتعلّق حق المرتهن بالحمل؟ فعلى قولين. وإذا وهب الرجل من ابنه جاريةً، وافتضها وعلقت بمولودٍ رقيقٍ، فرجع الأبُ في الهبة، فهل ينقلب الحمل إليه ملكاً؟ فعلى قولين. ولا فرق في هذه المواقف بين الطلع الذي لم يُؤبر وبين الحملِ. 3169 - وضابط الباب: أن الحمل والطلع المستتر يتبعان الأصلَ في الأعواضِ الثابتة في العقودِ الاختياريّة، سواء [ثبتَ] (1) الأصلان مبيعاً أو ثمناً، أو صداقاً أو أجرةً، أو بدلاً في خُلعٍ أو صلح. وإذا [أُثبتا] (2) في عقد الهبةِ، فالمنصوصُ في الجديد أنهما لا يستتبعان الحملَ والطلعَ، ونَصَّ في القديم على أن الهبةَ كالبيع في اقتضاء الاستتباع. وإذا كانت الأصول ترتد بطرقٍ قهريّةٍ، كالردِّ والرجوعِ في الهبةِ، ورجوعِ البائع إلى المبيع عند إفلاس المشتري، والبيع المحتوم في حق المرتهن، فهل تستتبعُ الأصولُ الطلعَ والحملَ؟ فعلى قولين. والفرق بين الابتداءِ المعلّقِ بالاختيارِ،

_ (1) في الأصل، (ص): أثبت. (2) في النسخ الثلاث (أثبتنا). وما قيدناه تصرف منا رعاية للسياق.

وبين ما يجري قهراً أنّ عُقودَ الاختيارِ تستدير بُعْد (1) المبيع عن العُسر، ولو نفذنا (2) البيعَ على الجاريةِ والشجر، دون الحمل والثَمرةِ، [لجرَّ] (3) ذلك عُسراً في الأصلين، فاقتضى الشرع إتْبَاعَ الحمل والطلع الأصلَيْن. وما يجري من الارتداد قهراً ليس في حكم العقود، فجرى الأمرُ في التبعيّةِ على التردُّدِ، ولما كانت الهبةُ دون البيع في التعبداتِ فرّق الشافعي في الجديد بينهما في مقتضى الإقباض. فهذا تفصيل القول في الزوائد والردّ بعد قبض المبيع. 3170 - فأما إذا رَدّ المشتري المبيعَ قبل القبض، بعيبٍ كان مقترناً بالعقد، أو تجدد في يد البائع، فالزوائد التي تجددت بعد العقد لمن تكون؟ في المسألة وجهان مبنيان على حقيقةِ القول في اقتضاء الفسخ قبل القبض (4 وفيه وجهان: أحدُهما - أن الفسخ قبل القبض 4) كالفسخ بعده، في أنه يتضمن قطعَ العقد في الحال، ولا يتضمن الاستناد إلى ما تقدّمَ. والثاني - أن الفسخ يتضمَّن ارتفاعَ العقدِ من أصله تبيُّناً، حتى كأن لم يكن العقد. فإن قلنا: الفسخُ قطعٌ لا يتضمن استناداً، فالزوائد المتجددة بعد العقد متروكةٌ على المشتري، كما تُترك عليه إذا جرى الفسخُ بعد القبضِ. وإن قلنا: الفسخُ قبل القبض يتضمن الاستنادَ، فترتدُّ الزوائدُ إلى البائع. وهذا الاختلاف هو الذي قدّمناه فيه إذا تلف المبيعُ قبل القبض، وانفسخ العَقد، فقد ذكرنا الخلافَ في الزوائد المتجدّدةِ بعد العقدِ، إذا كان الانفساخ بتلفِ المبيع قبل القبض.

_ (1) (ص): بيع. (2) (ص): نزلنا. (3) في الأصل: تجرّد، ومطموسة من (هـ 2). (4) ما بين القوسين سقط من (ص).

3171 - ومما ذكرهُ بعضُ الأصحاب أن الزوائدَ المتجددةَ بعد العقد هل يحبسها البائعُ حَبْسَ المبيع؟ فعلى وجهين: وهذا فيه فضلُ نظر. أما الحملُ الذي كان موجوداً حالة العقد فحبْسُه محمولٌ على اختلافِ القَولِ في أن الحملَ هل يقابله قسط من الثمن، كما مضى؟ وأما الحبس في الزوائد المتجدّدةِ بعد العقد، فليس على حُكمِ حبسِ المبيع بالثمن، ولكن إنما ينقدح الاختلافُ فيه من قِبَل تعرضِ العقدِ للانفساخ، ثم إذا فرض، فالمذهب متردّد في أن الزوائدَ لمن؟ فالذي ذكره بعضُ الأصحابِ في منع الزوائدِ من المشتري محمولٌ على هذا الأصل، لا على تقدير الحبس في مقابلةِ الثمن. وهذا القياس يتضمن طردَ الخلاف في الأكساب، وإن لم تكن من عيْن المبيع؛ لما نبهنا عليه. فليفهم الناظر ذلك. فهذا بيان المذهبِ في حقيقة الرد بعدَ القبض وقبله، وكيفية ابتناء أمرِ الزوائد على أصل المذهب في حقيقة الرد. وأما أبو حنيفة (1) فإنه جعل الفسخَ قبل القبض رفعاً للعَقدِ من أصله، ورَدَّ الزوائدَ مع الأصل، وأراد طردَ ذلك بعدَ القبض، وقال: [الرّدُّ] (2) بعدَ القبض رفع للعقدِ من أصله، ثم ترَدّد في الزوائد، فلم يسمح بردّ الزوائد، ولم يرَ إسقاطَ اعتبارها، فقال: الزوائدُ تمنع الردَّ بعد القبض. فهذا منتهى القولِ في ذلك.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 80، بدائع الصنائع: 5/ 257، 285، تبيين الحقائق: 4/ 70، إيثار الإنصاف: 299. (2) في الأصل: أراد.

فصل 3172 - إذا اشترى رجلٌ عبدَيْن وقبضهما، فتلف أحدهما بعد القبض، ووجد المشتري بالثاني عيباً، وأراد ردَّه بالعيب إفراداً من غير أن يضم إليه قيمةَ التالف، وجوزنا ذلك في تفريق الصفقة، كما سيأتي إن شاء اللهُ عز وجل. فالوجه أن يُقوَّم التالفُ والقائمُ المردودُ، وننسب إحدى القيمتين إلى الثانية، ثم نقول: إذا رَدَّ (1) العبدَ القائمَ استردّ من الثمن مثلَ نسبة قيمةِ القائم من التالف، فإن كان قيمةُ التالف ألفين وقيمةُ القائم ألفاً، استرد ثلثَ الثمن. وعلى هذا البابُ وقياسُه. ومقصدنا أن القيمةَ في التالف بأيّ (2) يوم تعتبرُ؟ ذكر صاحب التقريب قولين عن الشافعي: أحدهما - أنا ننظر إلى قيمة يومِ البيع؛ فإن التوزيع بيان تقسيط الثمن على المثمن، وهذا يحصل يومَ العقد؛ فإن كل جملةٍ توزعت على جملةٍ، قابلت أجزاؤها أجزاءها. والقول الثاني - أنا نعتبر حالةَ قبضِ المشتري؛ فإن المبيع إنما يدخل في ضمانهِ ساعةَ قبضه، حتى كأنه مبتدأُ العقدِ. وهذا يلتفت عندنا على ما قدَّمناه من أن الفسخ قبلَ القبض يُعدِم العقدَ تبيُّناً أم كيف السبيل فيه؟ ولكن هذا تقديرٌ بعد القبض، فيوجه هذا القول بأن المبيع يدخل في ضمانه بقبضه، فإنما يحسب عليه الأمر من يوم قبضه؛ فإن الردَّ والاسترداد من أحكامه. وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرَّجاً، وهو أنا نعتبر أقلَّ القيمتين في التالف من يوم البيع والقبض، فإن كانت قيمةُ التالف يوم البيع أقل، فبها العَبْرُ (3)؛ فإن التوزيع وقع يومئذٍ. وإن كانت قيمتُه يوم القبض أقلَّ، فالاعتبار به؛ فإنه يومئذٍ دخل في

_ (1) في الأصل: إذا أراد. (2) في الأصل: تأتي. (3) العَبْر: التقدير، من عَبَر المتاعَ والشيء نظر كم وزنه. (المعجم). وفي (هـ 2)، (ص): العبرة.

ضمانهِ، فإن كانت من زيادة قبل ذلك، فلا اعتبار بها. ثم طرد الأئمةُ ما ذكرناه من التردّدِ في الوقت المعتبَر في القيمة في الرجوع بأرشِ العيب القديم عند مسيس الحاجَةِ إليه، فإن كان العيبُ القديم يومَ البيع مُنْقصاً ثلث القيمةِ، وكان يوم القبض مُنقصاً ربعَها، ففي المسألة أقوال: أحدها - الاعتبار بيوم العقد. والثاني - الاعتبارُ بيوم القبض. والثالث - أنا نراعي ما هو الأضرُّ بالبائع في الحالتين؛ فإن الأصلَ عدمُ استقرار الثمن، والعبارة عن هذا: أنَّا نَعتبرُ أكثر النقصانين من يوم العقدِ والقبض. فهذا بيان المراد في القيمة المعتبَرةِ في أرش العيب. وسنعود إليها ببيانٍ شافٍ، في تفريق الصفقة، إن شاء اللهُ عز وجل. فصل قال المزني: سمعت الشافعيَّ يقولُ: " كل ما اشتريتَ مما يكون مأكولُه في جوفه ... إلى آخره " (1). 3173 - إذا اشترى الرجل جَوْزاً، فكسره، فوجده فاسدَ الجوف، أو اشترى بطيخاً، أو رماناً، فتبيّنَ ما ذكرناه، فسبيل التفصيل فيه أنه إن زاد في الكسرِ والقَطعِ على المقدار الذي يُطَّلَعُ به على فسادِ الجوفِ، فهذا الذي [أحدثه] (2) في حكم عيبٍ حادثٍ في يد المشتري. وقد سبق القولُ في أن العيبَ الحادثَ مع الاطلاع على العيب القديم، هل يمنع الردَّ بالعيب القديم. فأما إذا اقتصر على القدر الذي يَطلعُ به على فساد الجَوفِ -وذلك يختلف باختلافِ وجهِ الفساد- فإن كان الفساد في الطعم، بأن كان البطيخ حامضَ الجَوف، أو مُرَّه فتقوير البطيخ للاطلاع على الطعم زيادةٌ على قدر الحاجة، إذ يكفي في ذلكَ غرزُ مِسلَّةٍ وذوقُ ما يعلق بها. وإن كان الفساد من تدوّد البطيخ، فقد لا يطلع عليه إلا بالتقوير.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 192. (2) في الأصل: ذكره.

3174 - فإذا حصل التنبيهُ لهذا، عُدنا إلى مقصود المسألة، قائلين: إذا وقع الاقتصارُ على قدر الحاجة، ثم أراد المشتري الردَّ بالعيب القديم، فكيف السبيل فيه؟ المسألة لها صورتان وراء ما ذكرناه: إحداهُما - أن يكون للمبيع مع الفساد الذي بان قيمةٌ. والأخرى - ألا يكون للمبيع مع ذلك الفساد قيمةٌ. فإذا كان للمبيع قيمة بأن قيل: هذا صحيحاً [بكذا، وهو] (1) مع الفساد بكذا، فهل يملكُ المشتري الردَّ؟ فعلى قولين: أحدهُما - لا يملكه؛ لمكان العيب الذي حدث في يده فيهِ؛ اعتباراً بالعيوب الحادثةِ في يد المشتري، لا من جهة الاطلاع على وجه الفسادِ. والقول الثاني - يملك المشتري الردَّ؛ فإن التغيير الذي صدرَ منه كان طريقاً إلى الاطلاع على العيب، فلا يصير مانعاً من الردّ بالعيب. التفريع على القولين: 3175 - إن حكمنا بأن العيبَ الحادث بالكسر كالعيوب الحادثة لا بالجهات التي يطلع بها على العيب، فالقول في العيب الحادث والقديم كما تفصَّل فيما مضى. وإن قلنا: العيبُ الحاصل بجهة الاطلاع لا يمنع حق الرد، فهل يغرَم المشتري أرشَ العيب الحادث بسبب كسره وتغييره ليضمه إلى المبيع، ويستردّ الثمنَ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يغرَمُ الأرشَ، فعَلى هذا لا فرق بين ما انتهينا إليهِ، وبين عيبٍ حادثٍ لا عن جهة الاطلاع، إذا فرعنا على أن المشتري يملكُ ضمَّ الأرش إلى المبيع واسترداد الثمن، وإن قلنا: لا يملك ذلك في العيب الحادث إلا في جهة الاطلاع، فعَلى هذا الوجه يتميز العيب في جهة الاطلاع عن غيره في التفريع على هذَا القول. ومن أصحابنا من قال: يرد المشتري المكسورَ من غير أرشٍ في مقابلةِ الكسر، ويسترد الثمنَ بكماله، وكأن المشتري معذور فيما يُوصِّله إلى الاطلاع من غير تعرُّضٍ للضمان.

_ (1) زيادة من المحقق لا يستقيمُ الكلامُ دونها.

3176 - ومما يجب التنبُّه له ولا تتحقق الإحاطة بالمسألة دونه أن المسألة التي نحن فيها لا تتميّز أصلاً عن تفصيل القول في العيوب الحادثةِ إلا على قولنا: إن المشتري يرد المغيَّر المكسورَ من غير أَرْش، فإن لم نسلك هذا المسلكَ، فلا فرقَ؛ فإنا إذا ذكرنا في الكسر خلافاً في المنع من الرد وضَمِّ أرش الحادث من العيب، فقد ذكرنا مثلَه في كل عيبٍ حادثٍ، فلا تنفصل هذه المسألةُ عن غيرها إلا إذا جوَّزنا الردَّ من غير غُرم أرشٍ في مقابلة عيبِ الكسر. ولو قال قائلٌ: مسألةُ الكسر أولى بأن يحتكم المشتري فيها بالرد، مَعَ غرامةِ الأَرْش، كان هذا فرقاً في ترتيب مسألةٍ على مسألةٍ. ثم ما أجريناه من أرش عيب الكسر لا خفاء به. فنقول: كم قيمةُ الجوز صحيحاً فاسد الجوف؟ فيقال مثلاً: مائة. ثم نقول: كم قيمتُه مكسوراً بيِّن الفساد، فيقال: خمسون، فالأرش إذاً خمسون؛ فإن الأرشَ المعتبر للعيب الحادثِ مَحْضُ نقصانِ القيمة، لا حاجةَ فيه إلى تقديرِ نسبةٍ ومقابلةٍ. وكل ما ذكرناه؛ في الصورة الأولى، وهي إذا كان للجوز مع فساد جوفه قيمةٌ. 3177 - فأما الصورة الثانية، وهي إذا قيل: لا قيمةَ للجوز مع فسادِ جوفه في حالة صحَّتهِ، ويظهر تصوير هذا في البيض وقشرهِ، فقد قال طائفةٌ من أئمتنا: إذا تبيّن ذلك، وأراد المشتري الرجوعَ بالأرش، فيرجع بجميع الثمن على البائع وسبيل رجوعهِ بالجميع استدراك الظُلامَة، لا استبانةُ أن البيع لم ينعقد من أصله لكون المبيع غيرَ متقوَّم. وهذا القائل يقول: إذا استرد المشتري الثمنَ استدراكاً للظلامة، فذلك المكسر يبقى على حكم اختصاصه بالمشتري، حتى إن مست الحاجةُ إلى تنقيةِ الطريق، فعلى المشتري تكلّفُ ذلك. وهذا فاسدٌ؛ فإن الذي لا يتقوَّمُ لا يجوز أن يكون مورداً للبيع. ولا يدرأ هذا الإشكالَ أن يقولَ قائل: يقدّر في الصحيح من الجنس ضربٌ من الانتفاع وإن قَلَّ: مثل أن يُنقَش ويُتخذ منه اللُّعبَ، أو ينثر كدأبِ الناسِ في الجوز، وقد يعبث به الصبيان؛ فإن هذا تشبيبٌ بتقدير قيمة وإن قلت. وإذا كان كذلك، التحق هذا بالصورة الأولى.

وإن قال هذا القائل: نُقدّر لصحيحه قيمةً على تقدير (1) ألا يتبين فساد، وهو على ما هو عليه من صحته، فهذا [تكلُّفٌ] (2) أيضاً، وقد تبين الأمرُ. وإن قال هذا القائل: يمكن ترويجُ الصحيح بضم آحاده إلى ما ليس فاسداً في جنسه، فهذا في تقديره (3) له وُجَيْه (4). وبالجملة لا وجهَ إلا القطع بتبيّن فساد العقد؛ فإن من يصير إلى الصحَّة لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يُقدِّرَ قيمةً قليلةً، والمسألة مفروضةٌ حيث يتبين أن لا قيمة مع الصحة. وإما أن يقدِّر رواجاً في آحادِ ما فيه الكلام، مع ما لا فساد بهِ، وهذا ليس بشيء؛ فإن الذي يسمح بقبول فاسدٍ لا قيمة له، يسمح بقبول الناقص دونه. وقد تجري قيمةٌ تقدر على تلبيسٍ، وهذا الأخير فيه، فالوجه القطع بتبيُّن فسادِ العقدِ والقشورُ مختصّةٌ بالبائع. فإن قيل: قد قال الشافعي: "إلا أن لا يكون لفاسدِه (5) قيمة، فيرجع بجميع الثمن". فما محمل هذا؟ قلنا: معناه أنه يرجع بجميع الثمن لتبين فساد العقد. وهذا تمام المراد. 3178 - ويلتحق بالمسألة أن من قال بجواز الرد في الصورة الأولى، استشهد برَدّ (6) المصرَّاة؛ فإن تلك الواقعةَ اشتملت على لحوقِ تغييرٍ (7) بالمبيع، ثم لم يمتنع الرَّدُّ؛ إذ اللبنُ قد حُلب، ثم حال واستحال. والاستشهاد بتلك المسألة -والمذهبُ فيها مستندٌ

_ (1) (هـ 2)، (ص): تأويل. (2) في الأصل: تكليف. (3) عبارة الأصل: فهذا فاسدٌ في تقديره ... (4) تصغير (وجه). (5) العبارة في المختصر: إلا أن لا يكون له فاسداً قيمة. (6) (ص): بفساد. (7) (ص): يعتبر.

فلما تعارضت هذه الوجوه، اختلف لأجلها أصحابُنا؛ لمّا علموا أن لا سبيل إلى إبطال حق المشتري من الأرش والرد جميعاً. فذهب ابنُ سُريج إلى أن هذا عقد تعذَّر إمضاؤُه، فالوجه فسخُه، كما يُفسخ العقدُ إذا اختلف المتبايعان وتحالفا، ثم من حُكمِ الفَسخِ (1) ردُّ الثمنِ، ولا سبيل إلى استردادِ الحلي لما ذكرناه من وجوه الإشكال، فنقدِّر كأن الحلي تلف، والوجه إذا قدَّرنا ذلك الرجوعُ إلى قيمةٍ معتبرة بالذهب إن كان الحُليُّ من فضةٍ، فنعتبر قيمةَ الحلي وبه العيب القديم، ومساقُ هذا يقتضي تبقيةَ الحُلي على المشتري ملكاً، هذا مذهب ابن سُريج. وذكر العراقيون وجها آخر، وهو أن الحُليَّ يُرَدُّ على البائع، ونورد الفسخَ عليه، ثم المشتري يغرَم للبائع أرشَ العيبِ الحادث، على تقدير أنه عيَّبَ ملكَ غيرهِ في يده الثابتةِ على سبيل السَّوْم. وهذا يُناظر قولاً للشافعي منصوصاً عليه في النكاح، وهو أن الرجل إذا دخل بامرأته، ثم فسخ النكاح، أو انفسخ [لمعنى] (2) بعد المسيس، فالمنصوص عليه أن الزوج [يستردّ] (3) جملةَ المسمَّى، ويرتد إليها البُضْعُ، ثم يغرَم الزوج لها مهرَ المثل، فجرى رجوعُ المهرِ، وارتفاعُ النكاحِ على قياس الفسوخ. ثم الزوج غرم مهر المثل، حتى لا يخلو الوطء عن المهر. وقالَ صاحب التقريب: يُحتملُ وجة ثالث، وهو أن البائعَ يغرَم للمشتري أرشَ العيب القديم، ثم لفظه في الكتاب: "وأرجو أن يصح هذا". وقد مال إلى اختيار ذلك بعضُ المحققين، وقال: قد وقعَ التقابُل على شرط الشرع ابتداءً، وجرى الملك على جميع الثمن، فإذا فُرِض ضمانُ أرشِ العيب، فهذا تمليكٌ جديد، وإن كان له استناد إلى سابق من طريقِ الاستحقاق، والمرعي في تعبدات الربويّات حالةُ العقد، فغرامةُ الأرش في هذا المضيق، يقدَرُ كأرشٍ مبتدأ مترتبٍ على جناية على ملكِ الغير.

_ (1) في (ص): حكم بالفسخ. (2) في الأصل: بمعنىً. (3) ساقطة من الأصل.

فلما تعارضت هذه الوجوه، اختلف لأجلها أصحابُنا؛ لمّا علموا أن لا سبيل إلى إبطال حق المشتري من الأرش والرد جميعاً. فذهب ابنُ سُريج إلى أن هذا عقد تعذَّر إمضاؤُه، فالوجه فسخُه، كما يُفسخ العقدُ إذا اختلف المتبايعان وتحالفا، ثم من حُكمِ الفَسخِ (1) ردُّ الثمنِ، ولا سبيل إلى استردادِ الحلي لما ذكرناه من وجوه الإشكال، فنقدِّر كأن الحلي تلف، والوجه إذا قدَّرنا ذلك الرجوعُ إلى قيمةٍ معتبرة بالذهب إن كان الحُليُّ من فضةٍ، فنعتبر قيمةَ الحلي وبه العيب القديم، ومساقُ هذا يقتضي تبقيةَ الحُلي على المشتري ملكاً، هذا مذهب ابن سُريج. وذكر العراقيون وجها آخر، وهو أن الحُليَّ يُرَدُّ على البائع، ونورد الفسخَ عليه، ثم المشتري يغرَم للبائع أرشَ العيبِ الحادث، على تقدير أنه عيَّبَ ملكَ غيرهِ في يده الثابتةِ على سبيل السَّوْم. وهذا يُناظر قولاً للشافعي منصوصاً عليه في النكاح، وهو أن الرجل إذا دخل بامرأته، ثم فسخ النكاح، أو انفسخ [لمعنىً] (2) بعد المسيس، فالمنصوص عليه أن الزوج [يستردّ] (3) جملةَ المسمَّى، ويرتد إليها البُضْعُ، ثم يغرَم الزوج لها مهرَ المثل، فجرى رجوعُ المهرِ، وارتفاعُ النكاحِ على قياس الفسوخ. ثم الزوج غرم مهر المثل، حتى لا يخلو الوطء عن المهر. وقالَ صاحب التقريب: يُحتملُ وجة ثالث، وهو أن البائعَ يغرَم للمشتري أرشَ العيب القديم، ثم لفظه في الكتاب: "وأرجو أن يصح هذا". وقد مال إلى اختيار ذلك بعضُ المحققين، وقال: قد وقعَ التقابُل على شرط الشرع ابتداءً، وجرى الملك على جميع الثمن، فإذا فُرِض ضمانُ أرشِ العيب، فهذا تمليكٌ جديد، وإن كان له استناد إلى سابق من طريقِ الاستحقاق، والمرعي في تعبدات الربويّات حالةُ العقد، فغرامةُ الأرش في هذا المضيق، يقدَّرُ كأرشٍ مبتدأ مترتبٍ على جناية على ملكِ الغير.

_ (1) في (ص): حكم بالفسخ. (2) في الأصل: بمعنىً. (3) ساقطة من الأصل.

فهذا بيان مذاهب الأصحاب. 3180 - ولا يكاد يخفى على ذي بصيرةٍ أن كل مسلك من المسالك التي ذكرناها لا يخلو عن حيدٍ عن قانونٍ في القياس جارٍ في حالة الاختيارِ، ولابد من احتمالِ مسلكٍ من المسالك. والكلامُ في تعيين ما يظنه الفقيهُ منها. ولم يَصِر أحدٌ إلى التخيير بين جميع هذه المسالك؛ من حيث اشتملَ كلُّ واحد على مَيْل عن أصلٍ. والضرورةُ تحوج إلى واحدٍ منها؛ وذلك أن كلَّ متمسك بمسلك قد بنى كلامَه على أمرٍ غلب على ظنه أن مسلكه أولى وأقربُ إلى طرق الرأي وأبعدُ عن اقتحام ما لا يجوز. فإذا كان سبيلُ اختلافِهم ما ذكرناه ووصَفناه، فلا خِيَرةَ. 3181 - وأقربُها عندنا الرجوعُ إلى أرش العيب القديم، والمصيرُ إلى [أن] (1) حقَّ العقدِ قد توفَّر في التعبد بالمقابلة، وهذا الأرشُ استرجاعٌ مُنشَأٌ اقتضَته الضرورةُ. وهذا عندنا كالتوزيع إذا اضطررنا إلى الحكم به؛ فإن العقدَ لا يتضمّنُه ولا يقتضيه. فإذا بَاع الرجل شِقْصاً مشفوعاً وسَيفاً بألفٍ، ثم طلبَ الشفيعُ الشُفعَةَ في الشقص، اقتضى الشَرْعُ التوزيعَ على السيفِ والشِّقص اقتضاء له استنادٌ إلى العقد، ولكنَّ العقدَ لا يقتضيه. كذلك جملةُ الثمن ملكها البائع، وإن [كان] (2) المبيع معيباً. 3182 - ولو كان الثمن جارية، (3 استباح بائعُ الثوب بالجارية وطأها، وإن كان قد ينتقض المِلك في بَعض الجاريةِ 3) لمكان الأرش. وينشأ من هذا الذي أشرنا إليه، ومما فهمته من فحوى كلام الأئمة تردُّدٌ في أمرٍ، وهو أن الحاجة إذا مسَّت إلى تغريم قابض الثمنِ الأرشَ، فلوْ أراد أن يأتي من مالٍ آخر بمقدار الأرشِ، فأبى المشتري إلا استردادَ جزء من الثمن المعيّن، فكيف السبيل فيه؟

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) مزيدة من (هـ 2)، (ص). (3) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).

الظاهر أنه يتعين ردُّ جزءٍ من الثمن المعيَّنِ، وفي مرامزِ الأصحابِ ما يخالف هذا. ويدلّ على أنه لو جبر النقصانَ من مالٍ آخر، جاز. 3183 - ومما يجب التنبُّه له أنا إذا قلنا -في العيب الحادث حيث لا ربا في الصفقةِ ولا تعدّدَ-: إن المشتري يضم أرشَ العيب الحادثِ إلى المبيع، ويرُدُّهما، فهذا في أصلِ وضعهِ إشكال؛ فإن التمليك بالفسخِ رداً واسترداداً حقُّه ألا يتعدَّى المعقودَ عليه، والردُّ كاسمه، فتقدير إدخالِ مالٍ جديدٍ في التمليك بطريق الرّدِّ بعيدٌ. وقد ذكرتُ طرفاً من هذا في فصلِ العيوب الحادثة. ولا وجه يطابق القاعدةَ إلا أن نقول: الرَّدُّ (1) يَرِدُ على المعيبِ بالعيبيْنِ فحسب، من غير أنه يقتضي تضمينَ المشتري أرشَ العيب، بتأويلِ تقدير الضمان في حقِّه، وتشبيهِ يده بالأيدي الضامنة. ولكن قد لا يثق المردودُ عليه بذمّة الراد، فيضمُّ الأرشَ إلى المبيع المردود، فيكون المضمومُ مستحقاً بالسبيل الذي أشرتُ إليه، وليسَ أرشُ العيب الحادث مردوداً، ولو قال الراد: أَرُدُّ، ثم أبذل، لم يكن له ذلك؛ لعدم الثقةِ. وإذا ردَّ مع الأرش، جرى الملكُ في عين المضمومِ بتأويل أنه ضمن، وأقبض، لا على معنى أنه ملكَ بالرد شيئاً، لم يَرِد عليهِ العقد. فإذا تبين (2) هذا، فقد عيّنَ بعضُ أصحابنا في صفقة الربا هذا المسلَك ولم يرَ غيره، وقد أوضحنا الأصحَّ عندنا. وأبعدُ (3) الوجوه تقديرُ تبقيةِ الحُلي على المشتري وإلزامهُ قيمتَه ذهباً. ويليه ردُّ الآنيةِ (4) مع الأرش، وهو أمثل من الأول، لما حققناه من اختلافِ جهةِ الأرشِ وردّ المبيع، وإذا كان كذلك، فلا ربا. وأمثلُ الوجوه الرجوع إلى الأرش للعيب القديم.

_ (1) في (ص): الرادّ. (2) في (ص): ثبت. (3) في الأصل: وأبعد بعض الوجوه، (ص): وأوضح بعد. (4) كذا في النسخ الثلاث، ولم يسبق لـ (الآنية) ذكرٌ في تصوير المسألة، فهل عبر عن الحلي بالآنية؟

فرع: 3184 - قال صاحب التقريب: إذا اشترى رجل ثوباً، فصبغهُ صبغاً منعقداً، ولم ينقُصه الصبغُ، بل زادَ في قيمته، ثم اطَّلع على عيبٍ قديم، فإن رضي المشتري بردّ الثوب مع الصبغ من غير مطالبةٍ بشيء، في مقابلة الصبغ، فله ذلك، ويستردُّ الثمنَ، ويملك المردودُ عليه الثوبَ [فإنه صفةٌ للثوب] (1)، لا تُزايلهُ وليس كالنعل (2). ولم يَصِر أحدٌ من الأصحاب إلى أن [المشتري] (3) يرد الثوبَ، ويبقى شريكاً بسبب الصبغ، كما سيجيء أمثالُ ذلك في الغُصوب وغيرها. لم أرَ (4) هذا لأحدٍ، مع تطرق الاحتمال. ولو قال المشتري: أردُّ الثوبَ، وأُلزمُك قيمةَ الصبغِ، فهل يُجبر البائع على إسعافه؟ فعلى وجهين كالوجهين فيه إذا قال المشتري: أضم أرشَ العيب الحادث، وأردُّ المبيعَ، وأسترد الثمن، ففي إجبار البائع على هذا وجهان تقدّمَ ذكرهُما. ولو قال المشتري: أطلب أرشَ العيب القديم، وقال: بل رُدّ الثوب وأغرَم لك قيمةَ الصبغ، فعلى وجهين، فقد جرى الصبغُ الزائد مجرى أرشِ العيب الحادث في طرفي المطالبة. وهذه المسألةُ ذكرها صاحب التقريب، وأشار إليها العراقيون. والاحتمال فيها من الجهة التي ذكرتُها، وهو تجويز الرد مع ملك المشتري في عين الصبغ؛ فإنا قد نجعل الغاصبَ إذا صبغ الثوب شريكاً. فصل قال الشافعي: " لو باع عبدهُ وقَد جنى ... إلى آخره " (5). 3185 - إذا استُحق دمُ العبد أو طرفُه بجهةٍ لا يتطرقُ إليها مالٌ، كالردّةِ والقتلِ في

_ (1) ساقط من الأصل. وفي (ص): "فإن صفة الثوب". (2) إشارة إلى من نعلَ الدابة، ثم اطلع فيها على عيبِ قديم. وقد سبقتٍ آنفاً. (3) في الأصل: البائع. وهو سبقُ قلم من الناسخ. (4) في (ص): لم أره لأحد. (5) ر. المختصر: 2/ 193.

المحاربة، والقطعِ في السرقة، فقد تمهد القول في هذه الفنون. ومقصودُ هذا الفصلِ محصورٌ فيه إذا جَنى العبدُ على آدميٍّ مضمونٍ خطأً أو عمداً. والبدايةُ بالخطأ ومَوجَبُه المال، ثم الأرشُ يتعلق برقبةِ العبد، كما سنبين في كتاب الديات. فإذا تعلق أرشُ الجناية الواقعةِ خطأً برقبة العبدِ، أوْ أوجبت الجنايةُ قَوَداً، فعفا مستحِقُّهُ على مالٍ، فمتعلَّقُه الرقبةُ، فلو باع سيد العبدِ العبدَ الجاني قبل أن يفديَه، ففي صحة البيع قولان: أحدهما - أنه لا يصح، كبيع العبدِ المرهون، والمالُ متعلِّق بالرقبةِ في الموضعين. وإذا جنى المرهونُ، تقدَّم المجني عليه بحق الأرشِ على المرتهنِ، فإذا منَعَ حقُّ المرتهن البيعَ، وجب أن يمنعَ حقُّ المجني عليه أيضاًً. ومن قال بصحة بيع العبد الجاني، احتج بأن تعلّق الأرش لم يصدر عن اختيارِ السيّد، وإليه الفِدَاء، فلْينفُذ بيعهُ، وليكن اختياراً للفدَاء. والرهنُ وثيقة أنشأهَا المالك، وقصد بها الحجر على نفسهِ إلى أداء الدينِ؛ فكان مطالباً بموجَب اختياره. التفريع على القولين: 3186 - إن قلنا: البيعُ فاسدُ، فلا يصير السيدُ ملتزماً للفداءِ به، ولا يطالَب، بل هو على خِيرتهِ، فإن أحب. فدى، وإن أحب سلَّم العبدَ (1) للبيع. وإن قلنا: البيعُ صحيحٌ، فقد اختلف أصحابُنا في التفريع على هذا القول: فمنهم من قال: البائعُ يلتزم الفداءَ، ويتوجَّه علَيه الطلبُ من جهة المجني عليه، وعليه الخروجُ عنه باطِناً وظاهراً، فعلى هذا عبّر الأصحابُ عن البيعِ باللزوم. ومن أصحابنا من قالَ: لا يصيرُ السيدُ بالبيع ملتزماً للفداء، ولا يتوجَّه عليه الطَّلِبَةُ، بخلاف ما لو أعتقَ العبدَ ونفذنا إعتاقه؛ فإن (2) الطلبة بالفداء تحق عليه. وهؤلاء يقولون: البيعُ الذي عَقَدَه على الجواز، فإن فدى، فقد وفَّى بحق العقد، فيلزمُ إذْ ذاك. وإن لم يَفْدِ، [انفسخ] (3) البيعُ، وبِيعَ العبدُ.

_ (1) أي ليباع في جنايته. (2) في (ص): فلا نطلبه بالفداء بحقٍ عليه. (3) الأصل، (هـ 2): يفسخ.

وفيما ذكرناه أولاً من لزوم العقدِ فضلُ نظر؛ فإن البائع لو أعسر بالأرش، أو امتنع منه، ولم يقدر عليه، فُسخ بيعُه، والذي يقتضيه قياسُ قول الأصحاب أنه لو تعذر الوصولُ إلى الأرشِ بغيبةِ السيد البائع، أو باستقراره في المحبس (1) وتوطينه النفسَ على طول (2) الحبس، فالبيع ينفسخ (3). فإذا يرجع حاصل الخلافِ إلى أنَّا في الوجه الأول لا نجوّزُ للبائع أن يفسخَ البيعَ بنفسه، ولو رضي المجني عليه بمطالبته والاستمرارِ عليها، كان له ذلك. وفي الوجه الثاني لا تتوجه الطَّلِبةُ على اللزوم. ولو أراد البائع بنفسه فسخَ العقد ليعرضَ العبدَ الجاني على البيع، كان له ذلك. فهذا معنى تردد الأصحاب، ولا صائر يصير منهم إلى أن البيع ينفدُ نُفوذاً لا يَستدركهُ المجني عليه إذا تعذر عليه استيفاءُ أرشه. ولا خلاف أن السيد لو قال: أفدي هذَا العبدَ، فلا يلزمه الفداء بهذا القول؛ فإنه وعدٌ مُجرَّدٌ. ولو قال: ضمنتُ الأرشَ، فهذا مبني على أن العبدَ هل له ذمةٌ في الجنايات؟ وفيه اختلاف سنذكرهُ في الديات: فإن قلنا: له ذمَّة، فالضمان لازم ملزِم، وإن قلنا: لا ذمَّة له، ففي لزوم الضمان وجهان، سنذكرهما في كتاب الضمان، أو في كتاب الديات. ولو أعتق المولى العبدَ الجاني، فالقول في عتقه مرتَّبٌ على القول في بيعهِ، فإن نفذنا بيعَهُ (4)، فالعتق أولى بالنفوذ. ثم كان شيخي يقولُ: ينفذ العتق، وإن قلنا لا يلزم البيع، إذا كنا نحكم بصحّتهِ؛ لأن العتقَ هكذا سبيل نفوذه. وإن قلنا: لا ينفذ البيعُ كما لا ينفذ في المرهون، فالقولُ في عتقه كالقول في عتق الراهِن في العبد المرهون. وسيأتي شرح المذهب فيه إن شاء اللهُ تعالى.

_ (1) في (هـ 2): المجلس، (ص): الحبس. (2) في (هـ 2): تطويل. (3) الأصل، (ص): يفسخ. (4) في (ص): عتقه، فالبيع أولى.

ثم إذا أعتق، أو باع، وجعلنا البيعَ لازماً، فالوجه القَطع بأنه يغرَم أقلَّ الأمرين من الأرش والقيمة، بخلاف ما إذا أراد الفداء على الابتداء. وإذا قُلنا: البيعُ غيرُ لازم، فالأمرُ موقوفٌ على الفداء [وفي الفداء] (1) قولان سيأتي شرحُهما إن شاء اللهُ عز وجل. 3187 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الجنايةُ خطأً، فإن كانت عمداً موجبة للقصاص، فإن لأصحابنا طرقاً. منهم من قال: إذا قلنا: موجَبُ العمدِ القَودُ، فيجوز البيعُ قولاً واحداً. وإذا قلنا: موجَبُه أحدُهما، ففي صحَّة العقد طريقان: أحدُهما- القطعُ بالصحَّة؛ نظراً إلى ثبوتِ القصاص. والشاهد فيه أن القتل على هذا القول لا يثبت إلا بعدلين، كما لا يثبت على قَولنا: موجَبُه القود إلا بعدلين. ومن أصحابنا من خرَّج جواز البيع على قولين، لثبوت المال على هذا القول، فكان كالجناية التي مُوجَبُها المالُ. وقد ذكرنا في الجاني خطأ قولين. وشبَّب بعضُ أصحابنا بتخريج القولين على قولنا: موجَبُ العمد القَود؛ وذلك أن الماليّةَ ثابتةٌ ضمناً، ولهذا قُلنا: مستحِق القصاص يرجع إلى المال دونَ رضا من عليه القصاص، ويثبتُ المالُ بفوات مَحلِّ القصاص. وبَعْدُ 3188 - الترتيب الجامع للطُّرق أن يقال: في الجاني خطأ قولان، وفي الجاني عمداً على قولنا: الموجَب أحدُهما، لا بعينهِ قولان مرتبان، فالأولى الجواز؛ لأن المال غيرُ متجرِّد، ولا متعيَّن. وإن قُلنا: موجَب العمد القودُ المحضُ، ففي البيع قولان مرتبان على الصورة المتقدِّمة. والغرضُ مما ذكرناه تبيين المراتب، وإلا فلا ينتظم بناءُ القولين في التفريع على قولٍ، على قولين في التفريع على القول الآخر.

_ (1) ساقط من الأصل.

فصل قال الشافعي: " ومن اشترى عبداً، وله مالٌ ... إلى آخره " (1). 3189 - العبد القِنُّ لا ينفرد بتثبيت ملك لنفسه دونَ مولاه، ولو احتشَّ أو احتطبَ، أو اصْطادَ، ثبتَ الملك فيما تثبتُ يده عليه لمولاه، و [إن] (2) لم يَجر شيء من الأسباب إلا بإذن السيّد. ولو اتَّهبَ العبدُ شيئاً، أو أُوصيَ له، فقبل، فإن كان بإذن السيد، صح، ووقع الملكُ في الموهوب، والموصَى به للسيد. وإن قبلَ العبدُ الهبةَ والوصيةَ بغير إذن السيد، ففي صحَّة القبول وجهان: أحدهما - أنه يصح؛ فإن ما جاء العبدُ به ليس عقدَ عُهدة، فكان قبولُه كالاحتشاش، والاحتطاب. والوجه الثاني - أن القبولَ مردودٌ؛ فإنهُ عقدٌ يُحكم تارة بصحته، وأخرى بفسادِه، فلم يبعد اشتراطُ إذنِ من يقع الملكُ له. وسنذكر كلاماً للأصحاب في شراء العبد شيئاً في ذمته. وإذا خالع العبدُ زوجتَه على مالٍ، ثبت المَالُ للسيّدِ؛ فإن الخُلعَ لا مردَّ له، فالتحق بالاحتطاب وإن كان عقداً. ولو أراد إنسانٌ أن يُملّكَ عبدَ غيره شيئاً ويقيمَه مالكاً فيه، لم يجد إليه سبيلاً. 3190 - والسيد لو ملّكَ بنفسه عبدَه القِنَّ شيئاً، ففي ثبوت الملكِ له، ومملّكُه مولاه قولان: أحدهما -وهو المنصوص عليه في الجديد- أنه لا يملِكُ بالتمليكِ، والملْك التام فيه يُخرجُه عن رتبة المالكين. والقول الثاني - أنه يملكُ كما يملك حق النكاحِ بالنكاح، وقد يَستَشهد هذا القائلُ

_ (1) ر. المختصر: 2/ 194. (2) ساقطة من الأصل.

بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من باع عبداً، وله مالٌ فماله للبائع" (1). فإضافة المال إلى العبد شاهدة لثبوت المِلكِ. وللتأويل توجّه ظاهر على اللفظ. التفريع على القولين: إن قلنا: لا يُتصوّرُ أن يملك القِنُّ، فلا كلام، والتمليك لاغٍ من السيد. وإن قلنا: تمليك العبد القِنِّ صحيحٌ، فمِلْكُه جائزٌ معرض لاسترجاع المولى متى شاء، ولا يملكُ العبدُ شيئاً من التصرفات بحق الملكِ الذي ثبت له، حتى يأذَنَ السيد فيه. وهذا وفاقٌ. وهل يتسرَّى العبدُ الجاريةَ (2) التي ملّكه السيدُ إيّاها؟ نُظر: فإن أَذِن له في التسريّ، فالذي ذهب إليه الجمهورُ من الأصحاب أن له أن يتسرى بالإذن. وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه لا يتسرّى مع الإذن؛ فإن الوطءَ يستدعي ملكاً كاملاً، وملكُ العبد غيرُ كاملٍ. وإن لم يأذن السيد للعبد في التسري، فمُطلَقُ التمليك لا يُسلّطه على التسرّي عند معظم الأصحاب. وذكر بعضهم وجهاً آخر أن مطلَقَ التمليك يفيد جواز التسرِّي وإن لم يجرِ فيه إذنٌ. وهذا ضعيفٌ مع اتفاق الأصحاب على أن مطلَقَ التمليكِ لا يُسلّط العبد على التصرفات؛ والتسري تصرفٌ من التصرفاتِ، ولعل صاحبَ المذهبِ يطرد مذهبَه في أكل الطعام المملّكِ وشُرب الشراب. وإنما يسلِّمُ افتقارَ العقود إلى الإذن. فإن طرد إذنَه في التصرفات جُمَع قياساً على المتّهبِ الذي يَثبت للواهب حق الرجوع فيما وهبَهُ منه، فهو بعيدٌ لم أره لأحدٍ. وأكْثَرَ الأصحابُ في تفريع أحكام المِلكِ، ولا معنى لها، والشرط التعرض لما يختصُّ بملك العبد القِنّ.

_ (1) حديث من باع عبداً وله مال. متفق عليه من حديث ابن عمر، البخاري: كتاب الشرب والمساقاة، باب الرجل يكون له ممرّ أو شرب، ح 2379، ومسلم: البيوع، باب من باع نخلاً عليها تمر، ح 1543، الرقم الخاص (80)، وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 72 ح 1224). (2) الجارية مفعول يتسرّى، فالفعل يتعدى بغير الباء: تسرّى الشيءَ: اختاره (معجم).

نعم كلُّ ما يقتضيه زوالُ الملكِ، فهو متعلَّقٌ بتمليك السيّدِ عبدَه من انقطاع الحول (1) وما في معناه. ويتعلق وجوب الاستبراء (2) به إذا رجع، وما يتعلق بصورة الملكِ، فهو يحصل بملكِ العبدِ، كانفساخ النكاح إذا ملّكه سيّدُهُ زوجتَه. وما يستدعي كمالاً في الملكِ والمالك، فلا يحصل في مِلكِ العبدِ كوجوب الزكاة، وكتقدير العتق إذا ملّكه سيّدُه أباه أو ابنَه، وكيف يعتِق عليه قريبه وهو رقيق! وإذا ملّكه مولاه مالاً، ففي تكفيره به كلامٌ سأذكرُه في كفّارة الظهار، إن شاء الله تعالى. فرع: 3191 - إذا ملك الرجل عبدَينِ: سالماً وغانماً، فملّكَ كلَّ واحدٍ منهما الآخرَ، فقد اتفق الأصحاب على أن الملكَ لهما علَيهما لا يجتمع، ويستحيل أن يكون السيد مملوكاً لمملوكه، فإذا كنا نحكم بانفساخ النكاح بملكِ زوجته، فكيف نستجيز تقديرَ شخص مالكاً لمن هو مالِكُه. نعم [المستأخر] (3) ممّا وصفناه ناقضٌ للملكِ المتقدّم، ومثبتٌ حقَّ التمليكِ الجديدِ على قولنا بتمليك العبد. وإن وكَّل السيدُ وكيلين حتى يهبَا سالماً من غانم وغانماً من سالمٍ، ثم جرَى ذلكَ من الوكيلين معاً، لم يَنفذ واحدٌ منهما؛ إذ لا سبيل إلى الجمع، وليس أحدهما أولى بالرد من الثاني. فصل 3192 - إذا فرّعنا على القديم وقُلنا: يملك العبدُ ما ملّكه سيدُه، فإذا ملّكه، ثم أعتقه، أو باعه، ولم يتعرّض لما ملَّكه إئاه، فيكون العتقُ والبيعُ استرجاعاً منه فيما ملّكه، ويتخلَّف ذلك الذي جَرَى التمليك فيه على البائعِ والمعتقِ، ولا استتباع أصلاً، وليس كالمكاتب يُعتَق؛ فإنه يستتبع أَكْسابَه وأولادَه، كما سيأتي شرح ذلك في مَوضِعه، إن شاء اللهُ تعالى. والمكاتب على الجُملة أثبت الشرع له استقلالاً، حتى

_ (1) أي حول الزكاة. (2) أي استبراء الرحم، إذا زال ملكه برجوع السيد عن إذنه. (3) في الأصل: المستأجر.

انتهى الأمرُ إلى تصحيح مُعامَلته سيدَه. والعبدُ المملَّك لا يعامل سيّدَه المملِّك، حتى لو ابتاع سيدُه منه شيئاً مما كان ملّكه، فالذي جرى ليس بابتياعٍ، ولكنّهُ رجوعٌ فيما استردَّهُ. وهل يكون ما جرى تمليكاً فيما بذله عوضاً (1)، فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يكون تمليكاً؛ فإنه ذكر جهةً فاسدةً. والثاني - أنه تمليك على صيغةٍ (2). وهذا غيرُ سديدٍ. ولو باعَ العبدَ مُطلقاً، فقد ذكرنا أنه لا يدخل شيء مما كان ملّكَه عبدَه في ملك المشتري، ولا يبقى شيءٌ في ملك العبد. 3193 - واختلف أصحابُنا في الثياب التي تكون على العبدِ والأمةِ حالةَ العقد، فالذي ذهب إليه القيّاسون أنه لا يدخل سلكُ (3) منها في العقدِ، وهي بجملتها ملك البائع، إلا أن تُشترطَ في العَقد. ومن أصحابنا من أدخلَ الثيابَ في العقد للعُرف الغالب، حتى كأن اللفظَ [مشعرٌ] (4) به. وهذا الخلاف يقرب من تردّدٍ ذكرناه في دخولِ جمَّةِ ماءِ البئر في البيع المشتمل على تسمية الدار. ثم الذين حكموا بدخول الثياب في العقد اضطربوا: فذهب ذاهبون إلى أن الداخل ما سترَ العورةَ، وذهب آخرون إلى أنه يدخل جميع [ما العبدُ والأمةُ لابسُه] (5) حالةَ العقد. هذا إذا لم يسمّ في العقدِ إلا العبدُ، فأما إذا سُمّي مع العبد

_ (1) أي لو اشترى السيد من عبده ما ملّكه إياه، فهل يكون الثمن الذي بذله عوضاً تمليكاً جديداً لهذا العوض؟. (2) في (هـ 2): صفة. (3) سلكٌ: خيطٌ، وهو هنا كناية عن منتهى القلّة، ومبالغة في نفي دخول أي شيء من الثياب في البيع. (4) في الأصل: مشعراً. (حيث اشتبه عليه "كأن" بـ "كان"). (5) في الأصل: مال العبد والأمة لأنه.

[الأموالُ] (1) التي كان ملَّكه إياها، فإن قلنا: العبدُ لا يملك بالتمليكِ، فسبيل ما سمَّاه معَهُ سبيلُ مالٍ مقصودٍ بالبيع ليس فيه تخيّل التبعيَّة، ويُرعى فيه شرائطُ العقد وتعبّداته في اجتناب ما يحرم في الربويّات، واشتراطِ القبض فيما يشترطُ فيه التقابض إلى غير ذلك. وإن قلنا: العبدُ يملك بالتمليك، فإذا ذكر البائعُ في بيعهِ ما كان ملّكه، فيتعلق البيع به. ثم للشافعي في القديم قولان: أحدهما - أنا لا نشترط فيما كان ملكاً للعبد ما نشترطهُ في الأموال المقصودة بالبيع، فلا نراعي الإعلامَ، ولا نلتفت إلى قواعد الربا. والقول الثاني - أنه لا بدّ من رعايةِ شرائطِ العقدِ فيها. 3194 - التوجيه على القديم: من قالَ لا بُدَّ من الإعلام جرَى على القياس، ومن لم يشترط، أثبتَ الأموال في مقتضى العقد تبعاً، وقد يدخل في العقد الشيءُ تبعاً على وجهٍ، لا يصح ثبوته فيه متبوعاً كمجرَى الماء، والحقوقِ، والثمرةِ قبل بدوّ الصلاح؛ فإنها تدخل في العقدِ، وإن كنا لا نرى إفرادَها بالبيع. وحقيقةُ التوجيهِ يبين بالتفريع: فإذا تعلق حكمُ العقد بمالِ العبد، فأول تأثيره أن العقدَ لو كان مُطلقاً، لَزال ملكُ العبد عما كان له، وتخلَّف على السيد المملِّك، وإذا ضم إلى العبدِ، انقطعَ عنه حق (2) البائع. ثم اختلفَ أصحابُنا في أن ذلكَ المال يكون ملكاً للمشتري أم هو مبقًّى على ملك العبدِ، والتردد لابن سُريج فيما حكاهُ صاحبُ التقريب. وعندي أن أصلَ القولين [في] (3) اشتراطِ الإعلام والتزامِ أحكام الرِّبا يرجع إلى الخلاف الذي ذكرناه الآن. فإن حكمنا بأن المِلكَ يحصل للمشتري، فالذي جَرى ضمُّ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (ص): حكم. (3) ساقطة من الأصل.

مالٍ إلى العبد، فلاَ بُدّ من رعايَةِ شرائط العقد. وإن قلنا: إنه يبقَى ملكاً للعبد، فلا حاجة إلى الإعلام. ثم إذا بَقَيْناه ملكاً للعبدِ، فهذا فيه إذا قال: بعتُك هذا العبدَ بماله، فأما إذا قالَ: بعتُك هذا العبدَ ومالَه، فهذا يتضمّنُ قطعَ مِلكِ العبدِ وتثبيتَ ملك المشتري، ثم قد قدمتُ أن هذا يتضمّنُ التزامَ شرائط العقد. 3195 - ومما يتفرعُ على هذا أنَّ العبدَ لو كان مأذوناً من جهَةِ السيّدِ الأوّل في التصرف والتسرِّي، فهل يحتاجُ إلى إذنٍ جديدٍ من المشتري، أم يستمر على ما كان عليه؟ فعلى وجهين: أظهرهُما - أنّه يستمرُّ على ما كان عليه إلا أن ينهاه المشتري، فإن نهاه، انتهى. ولا خلافَ أن المشتري لو أرادَ أخْذَ تلك الأموال منه، جاز له ذلكَ، وهو على الجملة حالٌّ محلَّ البائع، ونازلٌ منزلتَه. ولو أراد البائعُ أن يسترجعَ ما كان للعبدِ، لم يكن له ذلكَ؛ فإنهُ قطعَ سلطانَ نفسهِ، ونقل ما كان له من حتي إلى المشتري. والوجهُ الثاني - أنه لا بد من أخذ إذنٍ جديدٍ من المشتري؛ فإنه ذو الحق وله الرجوع والاسترجاع، ولم يسبق منه إذنٌ. وهذا وإن كان يميل إلى وجهٍ، فالأشهرُ والأصح الأول. ومما يتعلق بتفريع ذلك أن المشتري إذا اطلع على عيب بالعبدِ ذي المال، والتفريعُ على [أن] (1) ملكَه مستمرٌّ في الشراء، فإذا أراد ردَّهُ، ردَّه مع مالهِ، ولا خِيرَةَ له في تخليفِ مالهِ وقطعِه عنه، فليردّهُ كما اشتراه. ولو اقتضى الحالُ رجوعاً إلى الأرشِ بعيب قديم، فنقول: كم قيمة عبدٍ سليمٍ ذي مالٍ، وكم قيمةُ عبدٍ معيب ذي مالٍ، ولا بد فيما ذكرناه من التعرّض لقدرِ المال؛ فإن القيَم تختلف بذلك اختلافاً بَيَّناً.

_ (1) ساقطة من الأصل.

فصل قال: " وحرامٌ التدليسُ ... إلى آخره " (1). 3196 - التدليس محرَّمٌ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كشنا فليس منا " (2) ومن التدليس في مقصودِنا أن يبيعَ شيئاً يعلمُ به عيباً، ولا يُطلع المشتري على عيبه، وإذا كان هذا من التدليس، فإذا جرَّد قصده وفعَل فعلاً يقتضي التلبيسَ، فهو ارتكاب محرّم، ثم البيع يصح مع ذلكَ. والشاهدُ فيه تصحيحُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعَ المصراة، مع ما فيه من التلبيس. والضابطُ فيما يحرم من ذلك أن من علم سبباً يثبت الخيار، فأخفاه، أو سَعَى في تدليسٍ فيه، فقد فعل مُحرَّماً. وإن لم يكن السببُ مثبتاً للخيار، فترْكُ التعرضِ له لا يكون من التدليس المحرم. ومما لا يجب عليه التعرُّض له ذكرُ القيمة؛ فليس البائعُ متعبداً في الشرع بأن يبيع الشيءَ بثمن مثله. وهذا يبتني أيضاًً على ما ذكرناه من أمرِ الخيار؛ فإن الغبنَ بمجرَّدِه إذا اطّلعَ المشتري عليه لا يتضمّنُ خياراً. فصل قال: " وأكرهُ بيعَ العصير ممن يعصر الخمرَ ... إلى آخره " (3). 3197 - بيعُ ما يتخذ منه الخمرُ ممن يعلم أنه سيتخذ منه الخمرَ صحيح، ولكن البائعٍ متعرضٌ لارتكاب محرّم، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 196. (2) حديث " من غشنا ... " رواه مسلم: الإيمان، باب من غشنا، فليس منا، ح 101، 102، ورواه أبو داود: البيوع، باب في النهي عن الفحش، ح 3452. وانظر: التلخيص: (3/ 51 ح 1192). (3) ر. المختصر: 2/ 197.

وبالجملة الإعانةُ على المعصيَة محرَّمة. وإن لم يظهر العلمُ، وظن البائعُ ذلكَ ظنّاً، كرهنا ما جاء به. وبيعُ السلاحِ من قطّاعِ الطريق من المسلمين، وأهل العرامَة صحيحٌ، والقول في التحريم والكراهة كما ذكرناه. وأطلق الأئمةُ أقوالَهم بأن بيع السلاح من أهلِ الحربِ لا ينعقد؛ لأنهم لا يَقتنونها إلا لمقاتلة المسلمين. هذا هو الظاهر. ومن أصحابنا من جرى على القياس وصحّحه، على ما سأذكرهُ في كتاب السِّيَر، إن شاء الله عز وجل. وبيع السلاح من أهل الذمةِ صحيح، وبيع الحديد من أهل الحرب صحيح؛ لأنه لا يتعيَّن للأسلحة، وقد تتخذ منها المساحِي وآلات المهنة. فرع: 3198 - إذا أتلف رجلٌ على رجلٍ ديكاً مِهراشاً، أو كبشاً نطاحاً، فقد تقدّرُ القيمةُ أكثرَ لمكانِ الهراش والنطح، ولكن لا مُعتبرَ بتلكَ الزيادَة؛ فإن السّعيَ في إيقاع الهراش والنطح معصية، والتهيؤ لها، لا قيمةَ له شَرعاً. * * *

باب بيع البراءة

بابُ بَيع البَرَاءةِ قال الشافعي: "وإذا باع الرجل شيئاً من الحيوانِ بالبراءة، فالذي ذهبَ إليهِ قضاءُ عُثمانَ أنه بريءٌ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من عيبٍ علمهُ ... إلى آخره" (1). 3199 - نذكر في الباب تفصيلَ القول في بيع الحيوان بشرط البراءة، ثم نذكر شرطَ البَراءةِ في غير الحيوانِ. فأما شرط البراءةِ في الحيوان، فظاهرُ نصِّ الشافعي في صدر البابِ اتباعُ قضاءِ عثمانَ رضي الله عنه، وقد قضى بان البائع مبرَّأٌ من كل عيبٍ، لم يعلمه، ولا يبرأ من عيبٍ علمه، ولم يُطلِع المشتري عليه. وقالَ في آخر الباب (2): "القياسُ لولا ما وصفناه -يعني قضاءَ عثمانَ- أنه لا يبرأ عن العيب الذي لم يره المشتري، أو يبرأ عن الجميع". 3200 - وقد اختلف أصحابُنا على طريقين: فمنهم من قال: ما ذكرهُ الشافعيُ في أول الباب وآخرِه ترديد للأقوال، ففي المسألة ثلاثةُ أقوال: أحدها - أن البراءة باطلةٌ والمشتري على خياره، مهما اطلع [ولا فرقَ] (3) بين ما علمه البائعُ وكتمهُ، وبين ما لم يعلمه. والقول الثاني - أن البراءةَ صحيحةٌ عن جميع العيوب، من غير تفصيل.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 198. (2) نص عبارة الشافعي في المختصر، هكذا: "وإنّ أصح في القياس لولا ما وصفنا من افتراق الحيوان، وغيره أن لا يبرأ من عيوب تخفى له لم يرها، ولو سماها لاختلافها، أو يبرأ من كل عيب. والأول أصح" المختصر: 2/ 198، 199. (3) في الأصل: والفرق.

والقول الثالث - الفصلُ بين ما علمه، وبين ما لم يعلمه. فما علمه لم يصحّ البراءةُ فيه؛ لأنه بكتمانِه، وتركِ ذِكره منتسِبٌ إلى التدليس، والتدليسُ محرَّمٌ، فلا يستحق صاحبُه حطَّ الخيارِ عنه. والتوجيه مستقصى في الخلاف. ونحن نذكرُ منه ما يتعلّقُ بترتيبِ المذهب. فأما من قال: إنّ البراءة لا تصح، فمعتمده شيئان: أحدُهما - أن خيارَ الردّ بالعيب يثبت شرعاً في مقتضى العقد، فشرطُ نفيهِ تغييرٌ لموجَب الشرع، والثاني - أن العيوبَ الممكنةَ مجهولة، فلئن كانت البراءة من المرافق، فلتكن معلومةً كخيار الشرط، والأجَل، والرهن، والكفيل. ومن قالَ بصحة البراءة على العموم، فوجهه أن الشرط يتضمن إسقاطَ حقٍّ، وفي إسقاطه استفادةُ لزومِ العقد. ومن فصَّل، استدَلَّ بمذهب عثمانَ، أولاً، وأشار إلى ما ذكرناه من الانتساب إلى التدليس في صورة العلم. ثم من يسلك طريقةَ الأقوال يستدل بأن الشافعي أشار إلى الأثر والقياس، ومذهبُه في القديم اتباعُ الأثرِ، وتركُ القياس له. وهذا يخالف رأيَه في الجديد. فإن قال قائل: لم يبد [نكيراً] (1) على عثمانَ، فمذهبه في الجديدِ أنه لا يُنْسَب إلى ساكت قول. ومن أصحابنا من قالَ: مذهب الشافعي هو التفصيل الموافق لمذهبِ عثمانَ، وقد صَرَّح بذلك في صدر الباب. وما ذكرهُ في آخر الباب إشارةٌ إلى وجهِ القياس، وليس مذهباً له.

_ (1) في النسخ الثلاث (نكير) بالرفع. ولم أصل إلى العبارة محكية عن الإمام في مظانها من شرح المهذب، ولا في فتح العزيز، ولا في روضة الطالبين، مع طول بحثي. ولأن النسخ الثلاث اتفقت على (نكير) بالرفع، حاولت أن أجد لها توجيهاً فلم يظهر لي شيء. ولكن الأقربَ، والأوفق للسياق، أن "نكيراً" مفعول به، والمعنى أن الشافعي لم يبدِ اعتراضاً على قضاء عثمان، وهذا معناه إقرار هذا الفضاء، واتخاذه مذهباً. فكيف ينسب إلى الشافعي قولٌ آخر!! وأجيب بأن الساكت لا ينسب إليه قول، فلا يلزم من سكوته أن ينسب إليه قولاً يوافق قضاء عثمان، والله أعلم بالصواب.

والأشهرُ طريقة الأقوال. والأليقُ بكلام الشافعي القطعُ [بما] (1) ذكرناه. 3201 - ثم إنا نُلحقُ بما تقدم شيئين: أحدُهما - أنا علَّلنا القَولَ بفساد الشرط بشيئين: أحدُهما - أن البراءة تغييرُ وضعِ الشرع. والثاني (2) - أنها تقتضي جهالةً. 3202 - ثم الأصحاب فرضوا صورةً على هذا القول، وذكروا فيها اختلافاً مخرّجاً على المعنيين: وهي أنه لو شرط البراءةَ عن عيوبٍ معدودةٍ، وأعلم بالوصف أصنافَها، فإن علَّلنا شرطَ البراءةِ بتغييرِ مقتضى العقدِ، فالشرط فاسدٌ مع الإعلام، وإن علَّلنا فسادَ الشرط بالجهالة، فلا جهالةَ في الصورة التي ذكَرناها، فليصح الشرطُ. وليس المعني بالإعلام أن يطّلع المشتري على العيوب، أو يرى من نفسه العلمَ بها، وإنما المراد البراءةُ من صفاتٍ لا يقطع الشارط بكونها، وإنما تقدَّرُ البراءة لو كانت، ولو حصل الاطلاع على العيب، فلا حاجة إلى شرطِ البراءة، فإن الخيار لا يثبت مع الاطلاع، وإن لم تجر البراءةُ. ومن الاطلاع أن يقول البائع: هذه العيوب به فأبرئني منها، فاعتراف البائع بها بمثابة معاينةِ المشتري العيوبَ؛ فإن العقد مستند إلى قولِ العاقد، وعليه التعويلُ في الملكِ، وإن كان المشتَرى لحماً، فالاعتماد على قول البائع في كونهِ لحمَ ذكيّة. فهذا أحد الأمرين. والثاني - أن الأئمة في قول التفصيل قالوا: لا تصح البراءةُ عمَّا عَلِمه البائع وكتمه، وتصح البراءةُ عما لم يعلمه، وألحق أربابُ التحقيق بهذه العيوبَ الظاهرةَ والباطنةَ، فقالوا: البراءةُ في العيوب الظاهرة باطلة وإن لم يكن البائع مطلعاً عليها، وجَعلوا التمكنَ من الاطلاع مع ترك البحث بمثابة الاطلاع على الخفيّات مع الكتمانِ، وقال هؤلاء في الترتيب: البراءةُ عن العيوب الباطنة منقسمةٌ، فما علمه البائع، لم تصح البراءة عنه، وما جهِله، فتصح البراءةُ عنه. ومن أصحابنا من قال: لا ننظر إلى الظاهر والباطن، وإنما ننظر إلى العلمِ مع

_ (1) في الأصل: كما. (2) في (هـ 2)، (ص): والآخر.

الكتمان، وإلى الجهل؛ فإن المبطلَ للشرط انتسابُه إلى التدليس، وهذا المعنى لا يتحقق في العيوب الظاهرة التي لم يعلمها البائع. وقد نجز الكلامُ في الحيوان. 3203 - فأمّا ما عداه، فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين: منهم من قال: شرط البراءة فيما عدا الحيوان باطلٌ كيف فُرض، وإنما تصح البراءةُ في الحيوان للضرورة لأنه يغتدي بالصحة والسقَمِ، وهو عرضةُ التغايير. ولو قيل لا يخلو حيوان عن آفةٍ باطنةٍ، لم يكن هذا الكلام مجازفةً، فلو لم يصح بيعُ الحيوان بشرط البراءة، لما استقرَّ على حيوانٍ بيعٌ. وهذا لا يتحقق في غير الحيوان. هذا مسلك. ومن أصحابنا من قال: يجري في غير الحيوان الأقوالُ الثلاثة، وقال قائلون: لا يجري في غير الحيوان الفرق (1) بين الظاهرِ والباطن؛ فإن ما سِوى الحيوانات عيوبُها ظاهرةٌ إن كانت، فجملةُ عيوبِها بمثابة العُيوب الظاهرة من الحيوان. (2 وقد ذكرنا التفصيلَ في العيوب الظاهرة من الحيوان 2). فهذا هو التفصيل في شرط البراءة. 3204 - فإذا جمع جامعٌ الحيوانَ إلى غيرهِ انتظم له أقوال: أحدها - الصحةُ في الجميع. والثاني - الفسادُ كذلك، والثالث - الفرق بين الحيوان وبين غيره. والرابع - الفرق بين ما علمه البائع وكتمه، وبين ما لم يعلمه. وقد ذكرنا التعرضَ للظاهر والباطن، فقد يجري من خلاف الأصحاب فيه قولٌ خامس. فإن حكمنا بصحَّة الشرط، فلا كلام، وإن حكمنا بفساده، فهل يصح العقدُ؟ فعلى قولين: أظهرهما - أنهُ يصح، ويلغو الشرط؛ لأنَّ [الشرط] (3) في وضعه ليس مخالفاًً لمقصود العقد ومقتضاه؛ من جهة أن الغرض من العقد النفوذ، والشرط في

_ (1) في الأصل، (ص): والفرق. (2) ما بين القوسين سقط من (ص). (3) ساقطة من الأصل.

نفي الفسخ يتضمن تأكيدَ لزومه، والظاهر السلامةُ أيضاًً. والقول الثاني - أن العقد يفسد لفساد الشرط المتعرض لمقصوده، ولو صح ما تمسك به القائل الأول، لوجب القضاء بصحة الشرطِ؛ من جهة موافقةِ مقصود العقد، فإذا فسد الشرطُ، وجب الحكم بفسادِ العقد. ثم جمع المرتِّبون صحَّةَ الشرط وفسادَه، وصحةَ العقد وفسادَه، وقالوا: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدُها - أن الشرط والعقد يفسدان. والثاني - أنهما يصحان. والثالث - أنه يصح العقد، ويفسد الشرط. وهذا كاختلاف الأقوال في شرط نفي خيار المجلس والرؤية إذا جوّزنا بيعَ الغائب، وفيهما الأقوال الثلاثة، كما وصفناهَا، وخيار الرد بالعيب خيارٌ شرعي يتضمنه مطلقُ العقد كخيار المجلس وخيار الرؤية. 3205 - وممّا يتفرع في الباب أنا إذا صحَّحنا شرطَ البراءةِ؛ فلو قال: أنا بَريء من (1 العيوب الكائنة، والعيوب التي ستحدث في يدي، فهل يصح شرط البراءةِ عما سيحدث، إذا ضَمَّ الشرطَ إلى ذِكر العيوب الكائنة 1)؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن ذلك لا يصح؛ فإن البراءة عن العيوب الكائنة في حكم إسقاط حق ثابت، وأما البراءة عما سيحدث، فتغيير لموجَب ضمان العقد وربط الشرط بما سيكون. وهذا يبعد احتماله. والثاني - يصح تبعاً للعيوب الكائنة. ولو خصّص الشرطَ بالبراءة عمّا سيحدث، ولم يتعرض للعيوب الكائنة، فالمذهب أن الشرط يبطل بخلاف ما ذكرناه في المسألة الأولى؛ فإن ما سيحدث ذُكر تابعاً للعيب الكائن القديم، فإن ثبتت البراءة، فسبيلها التبعيّةُ. وهذا لا يتحقق إذا أُفرد ما سيَحدث بالذكر والقصد. وإذا ضممنا ما قدَّمناه تابعاً إلى ما أخّرناه مقصوداً، انتظمت أوجهٌ في العيوب التي ستحدث، على قولنا بصحةِ البراءةِ عن العيوب القديمة: أحدها - الصحةُ. والثاني -

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).

الفساد. والثالث- الفرق بين أن يذكر تابعاً أو مقصوداً. فرع: 3206 - إذا منعنا شرطَ البراءةِ، وقلنا: لابد من الاطلاع؛ فإن كان العيبُ مما لا يعايَن، فيكفي فيه اعترافُ البائع به، كاعتيادِ السرقة، والإباق، وغيرهما. وإن كان مما يُعايَن كالبَرص وغيره، فإن اطلع المشتري عليهِ، كفى. وإن ذكرهُ البائع [لم يكفِ] (1)؛ فإن المقصود يختلف بمقدار البرص وموضعه، فإن ذكر مقدارَه، ومحلّه، وصفتَهُ، كفى حينئذٍ. * * *

_ (1) ساقط من الأصل.

باب الاستبراء في البيوع

باب الاستبراء في البيوع 3207 - الاستبراءُ بأصولهِ وفصُولهِ يأتي بعد كتاب العدّةِ إن شاء الله عز وجل، فلا خَوْضَ فيه، بل نقتصرُ على غرض الشافعي من مضمون الباب، وهو مسألتان: إحداهما - أن المشتري لو وفَّر الثمنَ على البائع، فامتنع البائع من تَسليمِها (1) حتى يستبرىء، زاعماً أنه يحتاط بذلك لصون مائهِ، فليس له ذلك عندَنا. وقالَ مالكٌ (2): له منعُها من المشتري، ثم يعدَّلُ على يدِ امرأةٍ مؤتمنةٍ. فهذا غَرضُه من هذهِ المسألة. ثم الذي يتصل بهذا الباب في هذا الغرض اختلافُ الأصحاب في أن الجارية لو حاضت في يد البائع، فهل يعتدّ بذلكَ استبراءً أم نقول: ينبغي أن يجري الاستبراءُ بعدَ انتقال الضمان إلى المشتري؟ فمنهم من قال: يعتدّ بما جرى في يد البائع؛ فإنها وإن كانت من ضمان البائع، فهي في ملكِ المشتري. ومنهم من قال: لا يعتدُّ بما جرى استبراءً؛ فإن الملك ضعيفٌ قبل القبض متعرّض للارتداد إلى البائع. فهذا [أحدُ] (3) مقصودَي الباب. 3208 - [والمقصود الثاني] (4) - أن من اشترى متاعاً من رجل غريبٍ، فليس لهُ

_ (1) أي تسليم الجارية المشتراة، وعاد الضمير إليها، ولم يسبق لها ذكرٌ في الكلام؛ لأن المسألة في الاستبراء، ولا يكون ذلك إلا في بيع الجارية. (2) ر. عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1477، القوانين الفقهية: 239. (3) في الأصل: آخر. (4) ساقط من الأصل.

عندنا أن يطالبَه بمن يَعرفُه، (1 ويتحملُ عنه ضمانَ الدَّرَك. وقالَ مالكٌ (2): له مطالبتُه بذلك. وعندنا لا يلزم ذلك إلا أن يشترط 1) الضمان في العقد، فيكون كاشتراط الرهن، كما سيأتي إن شاء الله عز وجل. * * *

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ص). (2) لما نصل بعد إلى قول الإمام مالك فيما رجعنا إليه من مصادر السادة المالكية.

باب المرابحة

بابُ المُرابحةِ 3209 - صورة المرابحةِ أن يقول لمن يُخاطبُه: اشتريتُ هذا بكذا، وقد بعتكَهُ إياه بربح الواحد على كل عشرة، أو على العَشرة نصفُ درهم، على ما يقعُ الاتفاق عليه. وحقيقةُ العقد بناؤه على العقد الأول، مع شرط مزيدِ الربح، أو حطيطةٍ مع التعويل على أمانةِ البائع، فإذا قال: بعتُك هذا بما اشتريتُ -وهو كذا- مرابحةً على كل عشرةٍ واحداً، أو اثنين، أو أقلَّ، أو أكثرَ على حسب التوافق، فالعقد يصح على هذا الوجه، ويثبتُ المزيد الذي أُثبتَ على صيغةِ الربح. فإن ذكرا مبلغ الثمن والربح عليه، فالبيع صحيح. وإن كان المشترِي جاهلاً بالمقدار، فقال البائع: بعتُك هذا العبدَ بما اشتريتُ، فالبيع فاسدٌ على الصحيح. وحكى بعض الأئمة عن صاحب التقريب أنه قال: لو جرى هذا العقدُ، فلم يفترقا عن المجلس، حتى أعلم البائعُ المشتريَ مقدارَ الثمن، فالمذهب أن البيع فاسدٌ. وفيه وجهٌ أن العقد ينقلب صحيحاً. وهذا ليس بشيءٍ؛ فإنَّ المجلسَ فرعُ انعقادِ البيع، فإذا لم ينعقد البيعُ، فلا مجلس له. وأبو حنيفة (1) نفى خيار المجلس، وأثبتَ للمجلس أثراً في صحة العقد، بعد جريان الإيجاب والقبول على الفساد. ومن أصحابنا من قال: يصح البيعُ في الأصل وإن كان المشتري جاهلاً برأس المال؛ فإن الإحاطةَ به ممكنة، والعقد الثاني مبنيٌّ على العقد الأول، وهو كالشفيع يطلب الشُّفعةَ قبل الإحاطة بمبلغِ الثمنِ. وليس هذا كما لو قال: بعتُك عبدي بما باع

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 406 مسألة 1125، إيثار الإنصاف: 311، الاختيار: 2/ 5.

به فلانٌ عبدَه، وكانا جاهلين، أو أحدَهما بما وقع عليه بيعُ فلان، فالبيع باطلٌ؛ فإنه (1) لا تعلق لذلك الثمن بعقدِهما. وهذا ضعيفٌ، والأصح الحكم بالفسادِ. ثم إذا حكمنا بصحة هذا العقدِ، فقد اختلف أصحابُنا في أنه هل يشترط إعلامُه في مجلس العقد؟ فمنهم من قال: لا يُشترط هذا؛ لأن العقدَ إذا انعقد على الصحةِ تعويلاً على إمكان الإعلام، فهذا الإمكان يَطَّرد، وإنما تمسُّ الحاجةُ إلى الإعلام عند المطالبة بالثمنِ. ومن أصحابنا من قال: وإن حكمنا بصحة العقد، فلا بدّ من الإعلام في المجلسِ، حتى لا يتفرقا إلا على ثَبَتٍ، وهذا يناظر اشتراطَ التَّقابُضِ في عقود الربا. ثم قال الأصحابُ: عقدُ المشتري مرابحة وإن ابتنى على عقدِ البائع، فلا حرج على البائع أن يزيد شيئاً من الثمن، ويقدّرَه من الأصلِ، ثم يذكرُ على صيغة المرابحة ما يقع التوافق عليه، وذلك بأن يقول: قد اشتريت هذا بعشرة وقد بعتكَه بعشرين، ورِبح ده يازده (2)، فيصح العقد على هذا الوجه، وإن ضمَّ إلى رأس المال شيئاً، ثم قدّر الربحَ بعدهما. وهذا عندي تكلُّفٌ، فإن ذلك المضمومَ مع المذكور ربحاً ربحٌ في المعنى، ولا نرى في الباب لما يثبت بصيغة الربح مزيّةً وخاصّية على ما يقدَّر أصلاً [مضموماً] (3) إلى رأس المال. 3210 - ثم المرابحة تُفرض على وجهين: أحدهما - أن يقع البيعُ بما اشتراه البائع مع ربحٍ يذكرانه. والآخر - أن يقع البيعُ بما قام على البائع مع مزيدِ ربحٍ.

_ (1) في (هـ 2)، (ص): لأنه. (2) في (ص): درهم زايد. وده يازدة كلمة، بل مصطلح فارسي مكون من مقطعين: دِه = عشرة، يازده = أحد عشر، ومعناها كما هو مفهوم من سياق كلام إمام الحرمين (الآتي قريباًً آخر هذا الفصل) أنها عشر الأحد عشر (10/ 11) وانظر لمزيدٍ من التوضيح والتمثيل (فتح العزيز: 9/ 5، 6، والوجيز: 147). (3) ساقطة من الأصل.

فإن قال: بعتُك بما اشتريت [به] (1) وهو كذا بربح كذا. فالأصل هو الثمن، ولا تحسب أجرة الدلالِ والكيالِ، وغيرِهما من مؤن العقد؛ فإن التعويل على موجَب لفظهِ. فإذا قال: بعتك بما اشتريت أبه، (2)، فالذي به الشراءُ هو الثمن. فأما إذا أراد العقدَ بلفظةٍ (3) تشتمل، فسبيله أن يَضُم مؤنةَ الدلالِ والكيالِ، والحمالِ، وأجرةَ البيت الذي جرى التربص فيهِ -إن كان البيت بكراءٍ- فيضُمُّ هذه المبالغَ (4) إلى الثمن، ويَقُول: بعتُك بما قامَ علَيَّ، وهو كذا، مُرابحة على كذا. فإذا وقع العقد على هذه الصيغة، فالمؤن التي تُعدُّ من توابع التجارة تدخُل تحت قول البائع "بما قام علَيَّ". 3211 - ثم قال الأصحاب: إذا اشترى دابَّه، وعلفها مدَّة، ثم باعها بما قامت عليه، فمؤنةُ العلفِ، لا تدخل تحت اللفظ. وهذا [محلُّ] (5) النظرِ؛ فإن العلفَ لاستبقاءِ الملكِ بعد ثبوته، والبيتُ الذي يحفظ فيه المتاع، في معنى العلف؛ فإنه ليس من توابع التجارةِ، بخلاف مؤنةِ الدلال وغيرهما، فمؤنةُ السكنى والنفقةُ متساويتان في تعلقهما بحاجة الاستبقاءِ والاستدامةِ إلى اتفاق البيع. ولكن (6) أجمع الأصحابُ على أن النفقةَ غيرُ معتبرة، وكراء البيتِ المكترى محسوبٌ من جملة المؤن الداخلة تحت قول البائع "بما قام عليَّ". وفي الفرق نوع عُسْر على الناظر. وقد قال بعض الحُذَّاق: لو اشترى دابة وزَادَ على علفِها المعتاد زيادة [يُبغى] (7)

_ (1) زيادة لإيضاح الكلام. وفي (هـ 2)، (ص): اشتريته. (2) زيادة لإيضاح الكلام. وفي (هـ 2)، (ص): اشتريته. (3) في الأصل: وبلفظه. وفي الكلام إيجازٌ بالحذف، فالمعنى: إذا أراد العقد بلفظ يشتمل على جميع ما تكلفه في سبيل الشراء. (4) في (هـ 2)، (ص): المنافع. (5) في الأصل: مجمل. (6) في (هـ 2)، (ص): لكن (بدون واو). (7) في الأصل، (ص): تبقى.

بمثلها السِّمَنُ، والازديادُ، فهذه الزيادة داخلة تحت لفظة القيام؛ فيرجع حاصلُ الجواب إلى [أن] (1) الداخل تحت الصيغةِ التي فيها الكلام ما يُعدُّ من مُؤن التجارة أو يُبغَى به الاستنماء لطلب الربح. 3212 - والآن سبيلُ الكلام على الكراء أن نقول: هذا الباب مسائلُه غيرُ موضوعةٍ على أمرٍ فقهيّ، وإنما مقصودُه في اتِّباعِ اللفظ: فإذا قال: بعتُ بما اشتريتُ، اقتضى ذلك التعرُّضُ (2 للثمن؛ إذ به الشراءُ. وإذا قالَ: بعتُك بما قام عليَّ، فصيغة اللفظ شاملةٌ 2) للمؤن. وإذا كان كذلك، فالوجه اتباع اللفظ. ثم العرفُ في المعاملات غالبٌ جداً، محكَّمٌ على العقودِ. والعباراتُ منزَّلةٌ عليه نزولَ عباراتِ الحالفين على عُرف المتفاوضين. ويمكن أن يقال: حفظُ المتاع في البيت تربُّصٌ، وهو ركن في التجاير وانتظار الأسعار. هذا حكم العُرف. وأما العلف، فهو قوامُ البقاءِ، وليس هو للاتجار، وهذا مع التكلّفِ مشكلٌ، والقياسُ إدخال الكراء والعلف، لا [إخراجهما] (3)، لكن المذهب نقل. ولا خلاف أنه لو ضم النفقةَ إلى مبلغ الثمنِ والمؤنِ، فقال: بعتُكَ بما قام عليّ، وبما أنفقتُهُ، وهو كذا، صحّ. ولو كالَ بنفسه، كما جرى في باب المكايلة، وحمل بنفسه، وأراد أن يَعُدَّ أجرة نفسه من المؤن، وقد جَرى العقدُ بصيغَةِ القيام، لم يكن له ذلك وفاقاً. وكذلكَ لو كان البيتُ الذي يحفظ المتاع فيه ملكَه، فأراد حَسْبَ أجرته من المؤن، لم يكن له ذلكَ. نعم لو صرّح بذكر هذه المقالةِ، وقالَ: بعتُك بما اشتريتُ وبأجرتي كذا، وأجرة البيت، والمبلغ كذا، صحَّ. فالكلام يدور إذاً على اللَّفظِ، ومُستندُ اللفظ العرفُ. ولا يفهم من لفظِ القيام تقديرُ أُجرةِ البائع، وتقديرُ أجرةِ بيته المملوكِ.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقط ما بين القوسين من (ص). (3) في الأصل: أو إدخالهما.

فقد لاح الغرض، ولم يبق استكمالٌ فقهي. والذي ذكرناه من الفرقِ بين العلف وكراء البيت إشكالٌ يؤول إلى مقتضى لفظٍ. ومؤنةُ السائس فيها تردُّدٌ عندي، والأظهر إلحاقُها بالعلف، ولها شبهٌ بكراء البيت؛ فإن السياسةَ تؤثر في الحفظ أثرَ البيت [ولها] (1) اتصالٌ بالعلف؛ من جهة أن السائسَ، هو الذي يرتِّب العلف والسقي في مظانهما. فرع: 3213 - إذا اشترى شيئاً بعشرةٍ، وباعه بخمسةَ عشرَ، ثم اشتراه بعشرةٍ، ثم أراد أن يبيعه مرابحةً، فإن عقدَ العقدَ بقولهِ: بعت بما اشتريتُ، فالاعتبارُ بثمنِ العقدِ الأخير، بلا خلافٍ على المذهب؛ فإنَّ قوله " بما اشتريتُ " لا يُحمل على العقود السابقة، وإنما يُحمل على العقدِ الذي يلي المرابحةَ. ولو أرادَ العقدَ بقوله: بما قامَت عليَّ، فهل يُحسب [ما] (2) استفاد قبل هذا العقدِ من ربحٍ؟ حتى يُقالَ: لما [اشترى] (3) أول مرة بعَشرةٍ، ثم باع بخمسةَ عشرَ؛ فقد استفاد خمسةً، فإذا اشترى بعشرةٍ، فالسلعةُ قامت عليه بخمسة؟ اختلف أصحابنا في المسألةِ، فذهب ابن سُريجٍ إلى أنه إذا أراد العقدَ بصيغةِ القيام، فلا ينبغي أن يذكر إلا خمسةً. وهذا مذهبُ أبي حنيفة (4)، ووَجهُه أن أهل العُرفِ يقولون في مثل هذه الصورة: هذه السلعةُ قائمةٌ على فلانٍ بالخمسة. والأصح أنه يعتبر بثمن العقد الأخير، وهو العشرة، ولا التفات إلى ما تقدَّمَ من عقدٍ، واستفادةِ ربح، وإنما تبتني (5) المرابحةُ على العقد الذي يليها، فإن عُقدت بصيغة القيام، فالمرادُ قيامُ السلعةِ بما بُذلَ في العقد الأخير. فأما الالتفاتُ على العقود السابقةِ، فمقتضاه تنزيلُ المرابحة على عقودٍ قبلَها. وهذا لا سبيل إليه. ولو اشترى سلعةً بعشرةٍ، وباعها بخمسةٍ، ثم اشتراهَا بعشَرةٍ، فليس له أن يحسبَ

_ (1) في الأصل: ولهذا. (2) في الأصل: بما. (3) في الأصل: اشتريت. (4) ر. المبسوط: 13/ 82، بدائع الصنائع: 5/ 224. (5) في (ص): ينشىء.

الخُسرانَ ويَضم مبلغَه إلى ثمن العقد الأخير، ويقُول: بعتُك السلعةَ مرابحة بخمسة عشرَ التي قامت السلعة (1) علىَّ بها. هذا متَّفق عليه في الخُسران، فليكن الربحُ في معناه، وليقتصر على ما يجري في العقد الأخير من ثمنٍ ومؤنٍ، كما فصَّلناها. فرع: 3214 - يجوزُ بناءُ العقد الثاني (2) على الأوّل محاطَّةً، كما يجوز بناؤه عليه مرابحةً. وذلك بأن يقول: بعتُكَ السلعةَ بما اشتريتُها به، وهو مائة محاطَةً [بوضيعة] (3) درهمٍ من كل عشرة، [ينعقدُ البيع] (4)، ويُحَطّ على حسب ما اقتضاه اللفظُ. ثم المحاطّة تعقد بالعبارتين المعهودتين في الباب: إحداهما أن يقول: بما اشتريتُ، والأخرى أن يقول: بما قامت علي. ثم إن قال: بعتُكَ بما اشتَرَيْتُ، وهو مائةٌ بحطّ " دِهْ يَازْدِه "، فقد اختلف أصحابنا في المقدار المحطوط، فمنهم من قالَ: يُحط من كل عشرةٍ واحدٌ، كما يزاد في المرابحة بهذه اللفظة على كل عشرةٍ واحدٌ، لتكون المحاطَّةُ على مناقضةِ المرابحة، وهذا مذهب أبي حنيفة (5) ومحمدٍ. ومنهم من قالَ: نَجعل [كلَّ] (6) عشرة أحدَ عشَرَ جزءاً، ثم نحطُّ من هذه الأجزاء جزءاً، وهذا هو الصحيح؛ فإنا إذا حطَطْنا عن كل عشرة واحداً، فليس في هذا اعتبارُ نسبةٍ (الده يازده). وذكر شيخي أبو محمد: أنا نحط من كل أحدَ عشرَ درهماً، درهماً. وهذا بيان الوجه الثاني.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (ص)، الأول على الثاني. (3) في الأصل: وضيعة (بدون باء). (4) ساقط من الأصل. (5) ر. المبسوط: 13/ 91. (6) ساقطة من الأصل.

والعبارة الأولى، والتي ذكرَها الشيخُ تؤدِّيان معنى واحداً. والغرض أن يكون كلُّ جزءٍ من المال مجزأً، بأحد عشر جزءاً، ثم يُحط منه جزءٌ من أحدَ عشر. وهذا مذهبُ أبي يوسف وابنِ أبي ليلى. وغَلِط العراقيون في تصوير المسألةِ، فوضعُوها في صُورةِ الوفاق، وحكَوْا الخلافَ فيها؛ فقالوا: إذا قالَ بعتُ منك هذا العبدَ بوضيعةِ درهم في كلِّ عشرة، فالمَوضُوعُ كم؟ فعلى وجهين. وهذا غلط؛ فإنّ الصيغَةَ مصرّحة بأنا نحط من كل عشرةٍ واحداً. وإنما التردُّد في لفظ (ده يازده) ولست أرى في العربيّةِ صيغةً تنطبق على هذه اللفظة العجمية. فصل قال: " وإذا باع مرابحة على العشرة واحداً ... إلى آخره " (1). 3215 - إذا قال بعتُك بما اشتريتُ وهو مائة، أو بما قامت عليّ السّلعةُ به، وهو مائة مرابحةً على العشرة واحداً، فحَكَمنا بالانعقاد على الظاهر، ثم بان أنَّ رأس المالِ كانِ تسعين، فنذكر التفصيل فيه إذا خان، واعتمدَ الكذبَ، ثم نذكرُ التفصيل إذا غلط. فأما إذا خان، فالذي قطع به الأئمةُ أن البيع منعقدٌ، والكلام وراء ذلك في الحط والخيارِ. وذكر صاحب التقريب قولاً غريباً: أن البيع لا ينعقد، وهذا يبتني على أن الحطَّ مستحَقٌ لو قُدرت الصحّةُ. فيؤدِّي مجموعُ الكلام إلى ورود العقد على جهالةٍ. وهذا بعيد، ما أراه معتداً به، فلا عودَ إليه. فإذا ثبتَ انعقادُ العقد، فهل يُحطُّ عن المشتري ما زداه البائعُ وحصتُه من الربح؟ فعلى قولين: أحدُهما - أنه لا يُحط؛ فإنه جزم العقدَ بالمائة، وكذبَ في قولهِ اشتريتُ بها، وثمن هذا العقدِ ما عَقَد به.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 200.

والقول الثاني - أنه يُحط؛ لأنه لم يقتصر على العقدِ بالمائةِ، بل ربطَه بثمنِ العقد الأول، أو بما قام الثوب به في العقد الأول. فإذا بان الخُلْف، لم يستقر العقد على المائة المذكورة. فأحد القولين يعتمد المائةَ المذكورةَ. والقول الثاني يعتمد ذكرَ ما جرى في العقد الأول. وذكر العراقيون في طريقهم أنا إذا فرَّعنا على الحَطّ، فمعناه أنه ينحط عن العقد، لا (1) أنه ينشأ حطُّه. 3216 - وإذا قلنا: نحط، معناه نحكم بالانحطاط، فيرجع حاصل القولين إلى أنا في قولٍ نحكم بأن المائة تثبت والعقد ينعقد (2) عليها. وفي قولٍ نقول: لم ينعقد العقد إلا على تسعين، وليس هذا الحط بمثابة استرجاع أصل (3) أرش العيب القديم؛ فإنَّ الأرشَ المسترجَع، وإن كان جزءاً من الثمن، فاسترجاعه نقصٌ في جُزءٍ من الثمن. والدليل عليه أن البيعَ إذا ورد على معيب، فموجَبُ العيب الردّ، ولا نجوِّز الرجوعَ إلى الأرش مع القدرة على الرد، فكأنَّ الأرشَ بدلٌ عن الرد، إذا تعذر. ولا ينتظم عندنا إلا هذا؛ فإنّ حملَ الحط على إنشاءِ إسقاطٍ على حكمِ التخيّر، لا معنى له، وما استحق حطُّه محطوطٌ؛ إذ معتمدُ قولِ الحط حَمْلُ العقدِ الثاني على ثمنِ العقدِ الأول. فإن رأى طالبٌ لبعض الأصحاب لفظةً تُشعر بإنشاء الحطِّ، فمعناها الحكمُ بالانحطاط. وهو كقول الفقيهِ في البيع الباطل: "إذا اشتمل البيعُ على الشرط الفاسد، أبطلناه". فإن قيل: فالعقدُ إذاً منعقدٌ على ثمنٍ مجهول؛ فإن المشتري غيرُ عَالم حالةَ العقد بما انعقد عليه العقدُ في حكم الله تعالى. قلنا: هذا كلام واقعٌ في موقعه. وعلى هذا منشأُ القول الذي حكاه صاحب التقريب في بطلان العقد.

_ (1) ساقطة من (ص). (2) في (هـ 2)، (ص): انعقد. (3) ساقطة من: (هـ 2)، (ص).

وسبيل الجواب أن العقدَ عقد على ظن العلم بالثمن، فاكتفَى الانعقاد بذلك، فإذا أُخلف، فطريقُ الاستدراك بالخيار، لا الحكمُ بالفساد. وهذا يناظر قولَنا: لا يزوجُ السيد أمتَه من مجبوب على علمٍ، ولو فعل، لم يصحّ. ولو زوّجها على ظن (1) السلامة، انعقد العقدُ. وتخيَّرت الأمةُ. 3217 - هذا منتهى النظرِ في ذلك التفريعِ على قولَي الحط، إن قلنا: لا يُحطّ عن المشتري شيء، فله الخيارُ؛ من جهة أنه خاض في العقد على شرط أنه ينزل على عوض العقد المتقدّم، فإذا لم يتفق ذلك، تخيَّر. وإن قُلنا: يُحط الزيادةُ عنه، ففي ثبوت الخيار للمشتري مع انحطاطِ الزيادة قولان: أحدُهما - لا خيار له؛ فإن مقصوده قد حصل. والقول الثاني - له الخيار، وهو موجَّهٌ في ترتيب المذهب بمعنيين: أحدهما - أنه إذا خانه مرةً، لم نثق به، ولم نأمن أنه خانه في مقدارٍ آخر. وإن الثمن كان ثمنين، أو أقلَّ، فهذا وجه. والوجه الثاني [أنه] (2) قد يُفرَضُ للمشتري غرضٌ في الابتياع بالمائة في تنفيذِ وصيَّة، أو وفاءٍ بنذر، أو تحلّةِ قسَمٍ. هذا إذا حكمنا بالانحطاط شرعاً. وإن قلنا: لا انحطاطَ والعقدُ ثابتٌ بالمائة، فقد ذكرنا أن المشتري يتخيّر؛ لمكان التلبيس. فلو قال البائع: لا تفسخ؛ فإني أحط عنك الزيادةَ، فإذا حطها هل يتخيّر المشتري؟ فعلَى وجهين. وهذه الصورةُ في مقتضى الخيار أيضاًً تُضاهي التفريعَ على قولنا: إن الزيادة تنحط، غير أن الصورة الأخيرةَ أولى بالخيار؛ من جهة أن الخيارَ ثبت لصفةِ العقدِ؛ فإنه انعقد على التلبيس. فإذا أراد البائعُ الحطَّ، فهذا إبراءٌ، والعقد في وضعهِ انعقد على موجَب التلبيس. وإذا حكمنا بالانحطاطِ، فالعقد، لم ينعقد على موجَب التلبيس، ولكن بان كذب البائع. وقد ذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرَّجاً في خيار المشتري، وذلك أنه قال: من

_ (1) في (ص): شرط. (2) ساقطة من الأصل.

أصحابنا من قال: إن ظهرت الخيانةُ بإقرار البائع، فلا خيارَ للمشتري، وإن ظهرت الخيانةُ ببيّنةٍ، فله الخيار؛ فإن الإقرارَ يبيّن تندُّمَه على ما تقدَّم منه، ويثبت ثقة بقوله، بخلاف البيّنة. وهذا لا حاصل له. والفقهُ المطلوب في هذا أنَ توقع خيانةٍ أخرى يجري في الإقرار وقيام البيّنة. ولكن [إن] (1) تحقق المشتري مبلغَ الثمن، وأمِنَ من تقدير خيانةٍ، وذلكَ بأن يتذكَّر بنفسه ما وقع ذلك العقدُ الأول عليه، وكان شهدهُ وشاهَدهُ، ثم نسيَهُ. فإن كان كذلكَ، فالخيارُ مع الحطِّ لا متعلَّق له إلا الأغراضُ البعيدة التي أشرنا إليها، في الأَيْمان والوصايا، ولا اختصاص لها بغرض العقد، ويتعذر إثبات الخيار لها، وإن لم يتيقن المشتري زوالَ إمكان خيانةٍ أخرى، فيتعلَّق الخيار بالمعنيين المذكورين. 3218 - وتمامُ الكلام في ذلكَ أنا إن حططنا من المشتري، ولم نخيّره أو خيَّرناه، فما اختار الفسخَ، بل أجازَ العقدَ، فهل يثبت للبائع الخيارُ؛ من جهة أنه طمِعَ في المبلغ الذي سقاه ثمناً ثم أخلف ظنُّه؟ في المسألة وجهان: أحدُهما - أنهُ لا خيار له؛ لأنهُ لم يفُتْه حق مستحق بالعقد، ويبعد أن يصير تلبيسُه أو غلطُه سبباً لثبوت الخيار له. والوجه الثاني - أنه يثبت الخيار له؛ لأن ذلك أمّلَه بأن يسقم له ما سمَّاه، ثم خاب ظنُّه. وهذا يقرب من الخيار الذي ذكرناه في بَيع الصُّبرة بالصُّبرةِ مُكايلة، حيث قال الشافعي: وللمنتقَص صُبرتُه الخيارُ؛ فإنه على ظنّه باستحقاق الصُبرة، ثم اقتضت المكايلةُ خروج بعضها عن الاستحقاق. وهذا نجاز الكلام في الخيانة. 3219 - فأمّا إذا باع الشيءَ مرابحةً، ثم بان أن ثمنَ العقدِ الأولِ كان أقلَّ، ولكن لم يعتمد البائعُ ذلك خائناً، بل أخطأ، فترتيبُ الكلامِ في قواعدِ الخلافِ والوفاقِ في الحطِّ والخيارِ كما تقدَّم في الخيانةِ، غيرَ أن الخَطأ قد يترتبُ على الخيانةِ، كما سنصفُ ذلك.

_ (1) ساقطة من الأصل.

ففي الحَط أولاً قولان كالقولين في الخيانَةِ، ولا فرق. فإن حَططنا، ففي ثبوتِ الخيارِ للمشتري قولان مرتبان على القولين في نظير ذلك في الخيانة. وهذه الصورة -يعني صورةَ الغلط- أولى بألا يثبتَ الخيار فيها. وكيفيّةُ الترتيب أنا إن لم نثبت الخيارَ في الخيانةِ بعد الحط، فلأن لا يثبتَ في صورةِ الغلطِ أولى. وإن قُلنا: يثبتُ الخيارُ بالخيانةِ، ففي صورةِ الغَلط قولان مبنيان على المعنيين؛ فإن ربطنا الخيارَ في الخيانة بزوال الأمن وتوقُّعِ مثلِ ما وقعَ، فلا خيار في الغلط. وإن ربطنا الخيار ثَمَّ بالأغراض التي ذكرناها، فهذا يتحقق في الغَلط أيضاً. ولا نص للشافعي في صورة الخيانة، فإنه فرضَ كلامَه في الخطأ، ونصَّ على القولين [في الحط] (1). ثم ذكر النقَلةُ عنه قولين في ثبوت الخيار للمُشتري، فروى حرملَةُ أن الخيار لا يثبت. ورَوى المزني ثبوت الخيار، فذكر الأصحاب وجهين في الخيانة لمَّا لم يجدوا في تلك الصورةِ نصوص صاحب المذهب، واعتقدوا أن صورةَ الخيانة أولى بالخيار. فإن قيل: كما يتوقع خيانةٌ بعد الخيانة الأولى، فكذلك يُتوقَّع غلطٌ بعد ظهور الغلط الأوّل، فما وجه البناء على المعنيين؟ قلنا: لا سواء، فالخيانةُ إذا ظهرت حطَّت الثقةَ، وسلبت الأمنَ، والغلط لا يُثبت مزيداً في توقع الغلط مرةً أخرى، بل توقُّعُه ثانياً على حسب توقعه أول مرَّة، وتوقُّع الخطأ أوّلَ مرةِ لا يُثبت الخيارَ. وكلُّ ما ذكرناه فيه إذا فُرض كون الثمنِ المذكورِ في عقد المرابحة أقل مما كان في العقد الذي عليه البناءُ. 3220 - فأما إذا قال البائع: قد غلطتُ إذ ذكرتُ المائةَ؛ فإني كنتُ اشتريتُ السلعةَ بمائةٍ وخمسين، فإن صدَّقه المشتري في ذلك، وثبت الغَلطُ بتوافُقِهما، فالذي ذكرهُ الجمهور من (2) الأصحاب أنا نتبيّنُ فسخَ العقد من أصله. قالوا: وهذا يخالف بيانَ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (ص): من فقهاء الأصحاب.

الغلط بالزيادة في الصورة المقدّمَة؛ فإن المذهب في تلك الصورة صحّةُ العقد، ولم يصر إلى فساده أحدٌ إلا صاحبُ التقريب؛ فإنه حكى قولاً غريبا كما مضى. وكان شيخي يُنزل الغلطَ بالزيادةِ منزلةَ الغلط بالنقصان ويقول: [كما] (1) أنَّ المائةَ ليست عبارةً عن تسعين، فليست عبارةً عن مائةٍ وخمسين، فإن كان التعويل على المسمَّى، فليصح في الموضعين. وإن كان التعويلُ على ما وقع عليه العقدُ الأول، فلا فرقَ بين الزيادة والنقصان. وهذا قياسٌ متَّجهٌ. ولكن الذي ذكرهُ الأصحاب واتفق النقل فيهِ ما قدّمته. والذي يمكن أن يقال في الفرق: أن الحطَّ من الثمن قد يُستَحق في بعض العقود إذا حُط الأرش، ولا يُتصوّرُ استحقاق زيادةٍ ملتحقةٍ بالعقدِ لم يجر لها ذكرٌ. نعم قد تفسد الأعواض في العقود التي لا تفسد بفساد أعواضها، فنحيدُ عن المسمّى رأساً، ونُثبتُ مهرَ المثل، وقيمةَ المثل. ثم [قد] (2) يتفق ذلك زائداً أو ناقصاً. وهذا فيه إذا اتفقا على الغلط بالنقصان. 3221 - فأما إذا لم يعترف المشتري بما ادّعاه البائع، فقال البائع: قد كنت اشتريتُ بمائةٍ وخمسين، وغلطت بذكر المائة، فلا يُرجع إلى قول (3) البائع. ولو أراد إقامَةَ البيّنةِ، لم تُسمَع بينتُه؛ فإن سماعَ البينةِ يترتبُ على صحة الدعوى. وقد ذكرنا أن دعواه مناقضةٌ لدعواه، فلا سبيل إلى تصحيحها. وإذا لم تصح، فسماع البينةِ يترتَّبُ على سماع الدعوى. فلو قال للمشتري: أنت تعلمُ أني غلطتُ، ونقصتُ الثمن، فاحلف أنك لا تعلم، فهل يحلف [المشتري] (4) إذا استدعى ذلك البائعُ؟ ذكر صاحب التقريب وغيره وجهين مبنيّين على أصلٍ مشهورٍ في الدعاوى، وهو أن يمين الردِّ بمنزلةِ إقرار المدعى عليه، أو تنزل منزلةَ البيّنة المقامة. وفيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي سيأتي ذكرُهما في كتاب الدعاوى.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) في (هـ 2)، (ص): قوله. (4) مزيدة من (هـ 2)، (ص).

قال: فإن قلنا يمين الرد ينزل منزلةَ البينة، فلا يحلف المشتري في الصورة التي ذكرناها؛ فإن غرضَهُ لا يتضح في تحليفه إلا بتقدير نكوله مع رد اليمين على البائع المستحلِف، وإلا فلا فائدةَ في تحليفه، فعلى هذا لا يحلف؛ لأنا جعلنا يمين الرد كالبيّنة، وقد ذكرنا أن بينته لا تسمع، فلا تحليفَ إذن. وإن قلنا: يمينُ الرد بمنزلةِ إقرار المدعى عليه، فاليمين معروضةٌ على المدعى عليه؛ فإن يمين الرد في عقباه كإقرار المدعَى عليه، ولو أقرّ المدعَى عليه، لثبت موجَبُ الغلط. وذكر بعض (1) أصحابنا وجهاً ثالثاً فقال: إن باع بالمائة، ثم ادعى المائة والخمسين، وذكر الغلطَ مطلقاًً من غير ذكر سبب يقتضي الغلطَ، فدعواه مردودةٌ والمدعَى عليهِ لا يحلف. وإن ذكر سبباً لا يمتنع وقوعُ مثلهِ، مثل أن يقول: طالعتُ جريدتي، فغلطتُ من ثمنِ متاعٍ إلى ثمنِ آخر، وأخبرني من أثق به، فعوّلتُ على قوله، ثم تبينت خطأه، فما يقوله من هذه الأجناس ممكنٌ. وإن ذكر شيئاً منها، كان له تحليفَ المشتري، بخلاف ما إذا أطلقَ؛ فإن مطلقَ الدعوى مضادٌّ لصيغة البيع. وإذا تَواردا على التضادّ، لم يُقبل أحدهما. وإذا ذكر عُذراً قَرُبَ قبولُ القولِ. ثم لا خلاف أنا لا نقبل قول المدعي، بل فائدة ما ذكرناه تمكينُه من تحليف المشتري، وهذا الفصلُ اختيارُ أبي إسحاقَ المروزي. وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من قطع القول بجواز تحليفه المشتري إذا ذكر السبب، وردَّ الوجهين إلى الإطلاق. وهذا الآنَ فيه مزيدُ نظرٍ؛ فإنا إذا قطعنا القولَ بالتحليف، لزم أن تُسمع بيّنةُ المدعِي، فإنّ القطعَ بالتحليف يُثبت يمينَ الردَّ، ولا تثبتُ يمينُ الرد -مقطوعاً بها من غير خلاف- إلا حيث تُسمع البينةُ. وحيث ذكرنا خلافاً بنيناه على أن يمينَ الرَّدِّ كالبيِّنةِ أم هي كالإقرار. وفيه الخلافُ المقدَّم. وهذا بيّنٌ لمن تأَمَّله.

_ (1) ساقطة من (ص).

فصل فيما يجبُ الإخبارُ به في بيع المرابحة وما لا يجب 3222 - فنقول: إذا اشترى شيئاً وقبضه، ثم عاب في يدهِ عيباً يُثبتُ مثلُه الردَّ [فإذا] (1) أراد أن يبيع مرابحةً بالثمن، أو بما قام عليهِ، فيتعيَّن عليه ذكرُ ما تجدد في يدهِ من العيب، حتى لا يكون ملبّساً على مُعاملِه؛ فإن من خاصيّه هذه المعاملة تنزيلُ العقد الثاني على الأول، حالةَ ورود العقد، والمشتري يعتقد أنه حالّ محلَّ البائعِ في جميع الحقوق إلا في مزيد الربح، فوجب لذلك أن يذكر ما يجري من العيب، ولا فرق بين أن يطرأ العيبُ بآفةٍ سماويَّةٍ أو بجناية [جانٍ، أو بجنايةٍ] (2) من هذا البائع. فأما ما لا يوجب تغيير المبيع في صفته: لا في عينه، ولا في ماليّته، فلا حاجة إلى ذكره. فلو اكتسب العبد أو أثمرت الشجرة المشتراةُ، فاز البائعُ بالزيادات المنفصلة، وكان له إجراءُ العقد بالثمن، أو بما قام عليه، من غير تعرضٍ لذكر الزوائد. ولو جنى العبد في يدهِ وفداه، ثم أراد بيعه مرابحةَ بما اشتراه أو بما قام عليه، فليس له أن يذكر مما فداه به -مطلقاًً [مع] (3) رأس المال- ذِكْرَه مؤنَ التجارة؛ فإنا ذكرنا فيما سبق أن ما لا يكون من مؤن التجارة، ولا يقتضي استنماءً واسترباحاً، فلا يجوز ضمه إلى رأس المال مطلقاًً، من غير تنصيصٍ عليه، وإذَا كنا لا نرى ضم مؤنة العلف إلى رأس المال على ظهورها، فالفداءُ الواقعُ نادراً أوْلى، وهو يناظر مؤن المعالجة إذا فُرِض مرضٌ، ولا شك أنها لا تُضم. وما ذكرناه معناه إطلاق الضم من غير تنصيص على الجهة، فأمّا إذا قال: بعتك هذا العبد بما قام عليَّ وهو كذا، وبما فديتُه به لما جنى مُرابحةً على كذا وكذا، فهذا لا منعَ فيهِ، وهو مطَّردٌ فيما يريد البائعُ ضمَّه إلى رأس المال مع التصريح.

_ (1) في الأصل: إذا (بدون فاء). (2) ساقط من الأصل. (3) في الأصل: "من".

3223 - فأما إذا جُني على العبد وغرِمَ الجاني أرش جنايته، فسبيلُ ضبط المذهب أن أثر الجناية عيبٌ طارىء، فلا بدَّ من ذكره، فلو أراد ألا يذكر العيبَ ولا يَحطَّ الأرشَ الذي أخذهُ عن (1) الجاني، بل يذكرَ جميعَ الثمن، أو جميعَ ما قام عليه به، لم يكن له ذلك، وكان مدلّساً. ولو جرت جناية وزال أثرُها بالكلية، ولكنا كنا نرى في وجهٍ تغريمَ الجاني شيئاً على مقابلة جنايته، فالظاهرُ في هذه الحالة أنه لا يجب عليه ذكرُ ما جرى، والمأخوذ من الجاني في حكم زيادةٍ مستفادةٍ من المبيع، والسبب فيه أن المبيعَ غيرُ مُنتقَصٍ. ومن أصحابنا من أوجب ذكر ذلك، وهو بعيدٌ، لا أصل له. وإذا جرينا على الأصح وقلنا: جراحُ العبدِ من قيمته، كجراح الحر من ديته، ثم جرت جناية مُوجَبها من طريق التقدير نصفُ القيمة، وما نقصت من الجنايةِ إلا ثُلثها. فإذا باع العبدَ بما قام عليهِ، وحَط مقدارَ النقصان من القيمة، ولم يحط ما غرِمه الجاني له وراء النقصان، ففي المسألةِ وجهان، والأصح أن ذلك جائز؛ فإن الزائد على النقصان غرِمه الجاني لحقّ الدية، والمعتبر في المرابحة القضايا الماليّةُ. ومن أصحابنا من اعتبر جملة الأرش الذي غرِمه الجاني وإن زاد على مقدار النقصان؛ طرداً للباب؛ ومصيراً إلى أن تقدير الشرع أولى بالاعتبار من تقويم المقوّمين في السوق؛ فنجعل كان الناقصَ النصفُ الذي حكم الشرعُ به. وقد يرى الناظرُ في كتب العراق وجهين مطلقين في أنه هل يجب على البائع ذكرُ الجناية أصلاً. وهذا غيرُ معقولٍ إلا في أرشٍ لا يقابِل تنقيصاً من القيمة، كما ذكرته [الآن] (2) في الصورتين: إحداهما - في أرش يقابل جنايةً لم يبقَ أثرُها، والأخرى - أن يكون الأرش وراء النقص مأخوذاً من تقدير الشرع (3).

_ (1) "عن" مرادفة لـ (مِن). (2) في الأصل: إلا. (3) ساقطة من (هـ 2).

3224 - ثم تمام البيان في ذلك أنه لا يختلف الأمر بأن يبيع بما اشترى، أو بما قام في العيوب الطارئة؛ فإنا وإن كنا نتبع المسمى [ثمناً] (1)، فنشترطُ بقاءَ المثمَّن على ما كان عليه حالةَ العقد. ثم حيث قلنا: يجب ذكرُ العيب الطارىء، فلو لم يذكره وأطلق العقدَ، فمقدار الأرش إذ لم يتعزض له، بمثابة ما لو زاد في الثمن، بأن كان اشترى بتسعين فذكر المائة. هذا حكمُ تركِ ذكرِ العيب. فيعود الكلام في الحط والخيار كما مضى حرفاً حرفاً. ولو علم المشتري بطريانِ العيب، ثم اشترى بالثمن الأول. المذهبُ (2) أن العلمَ كافٍ، والبيعُ ينعقد بالثمن الأول المذكور. ومن أصحابنا من قالَ: لا أثر للعلِم، والزيادةُ محطوطةٌ -وهي مقدار الأرش- في قولٍ، وليست محطوطةً في قول. نعم لا خيار للمشتري؛ لمكان علمه. ولو قالَ: بعتُك بمائةٍ، وهي ما اشتريتُ به، فقبل المشتري على ما علم بكذبه، فالمذهب إجراءُ القولين في الحط، مع نفي الخيارِ. ولو قلنا: لا يُحط، فقال المشتري: خضتُ في العقد على تقدير أن يُحطَّ عني، فإن لم تحُطوا، فخيّروني، ففي الخيار خلافٌ، والمذهبُ أنه لا يثبت. فلو اشترى عبداً وخصاه، فازدادت قيمتُه، فهذا مما يجب ذكرُه، فإنه من العيوب، وقد ذكرنا أن كل ما يُثبت الردَّ يجب ذِكرُه، فلو لم يذكُرْه، فلا حَطَّ؛ فإن الخِصاء لا يَنقُصُ شيئاً من المالية، ولكن لا أثر لما جرى إلاّ تَعْصيةُ البائع لانتسابه إلى التلبيس في معاملةٍ مبناها على الأمانة. ولا شك أن المشتري لهُ الخيار، لاطلاعهِ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) هذا جواب (لو) بدون (الفاء)، وهو سائغٌ، وقد أشرنا إلى وجهه في تعليق سابق. ويجوز هنا أن يكون الكلام مستأنفاً، والجواب مفهوم تقديره مثلاً: "فما الحكم"؟

على عيبٍ بما اشتراه، فليس هذا من خاصيّة المرابحةِ. ولو اشترى عبداً بثمنٍ غالٍ وغُبنَ في ثمنه، فقد ذكر طوائف من محققينا أنه يجب ذكرُ ذلك، فيكون المشتري على بصيرةٍ من أمره. وقد قطع شيخي وصاحبُ التقريب أن ذلك لا يجب؛ فإنه باع ما اشترى كما اشترى، ومن باع شيئاً وغَبَن مشتريَه لم يكن مدلِّساً، ولو كتم عيباً يعلمه به، كان غاشّاً مدلِّساً. ثم الذين قالوا لا بد من ذكر الغبن، بَنَوْا عليه أنه لو اشترى من ولده الطفلِ، فيجب عليه ذكرُ ذلك، وإن كان اشترى بثمنِ المثلِ من غير مزيدٍ؛ لأن شراءه من ولده يوهم نظرَه له وتركَ النظرِ لنفسه. وهذا خَبْط عظيم، وهو بناءٌ على وجوب ذكرِ الغبن، وقد ذكرنا أن الأصح أنه لا يجب ذكرُه، حتى قال المفرّعون على ذكر الغبن: لو اشتراه من ابنه البالغ، أو أبيه، فهل يجب ذكر ذلك؟ فيه تردُّدٌ مبنيٌّ على أن الوكيلَ بالبيع مطلقاًً هل يبيع من أبيه أو ابنه بثمن المثل؟ وفيه تردُّدٌ. والمذهب القطعُ بجواز بيع الوكيل من ابنه وأبيه بثمن المثل. ووجهُ المنعِ بعيدٌ. وهو مذهبُ أبي حنيفة (1). ثم نحن إن أبعدنا فمنعنا، حَمَلْنَا ذلكَ على تطرق التهمة، ومحاذرةِ الغبن الخفيّ. والعجبُ أن أبا حنيفة (2) جوّز البيعَ بالغبن الفاحش ومنع البيعَ من الابن (3). وبالجُملةِ هذه التفريعاتُ في المرابحة مائلةٌ عن سَنَنِ التحقيق عندنا. والوجهُ: القطع بحسم هذه المادّةِ وإسقاطُ وجوبِ ذكرِ الغَبْن. 3225 - وممَّا أجراهُ المفرعون على ذكر الغَبْنِ أن من اشترى شيئاً بثمنٍ [آجلٍ] (4)،

_ (1) ر. المبسوط: 4/ 124، تبيين الحقائق: 4/ 270. (2) ر. المبسوط: 4/ 124، إيثار الإنصاف: 316، تبيين الحقائق: 4/ 271. (3) في (هـ 2): الأب. (4) في الأصل، (هـ 2): حالّ. والمثبت تقديرٌ منا رعايةَ للسياق، فالحال هو النقد بعينه، وانظر فتح العزيز (بهامش المجموع: 9/ 11) حيث ذكر هذه الصورة، وصرح بأنه اشترى (بدَيْن). وانظر الروضة: 3/ 531، وأما نسخة (ص)، فقد قلبت الصورة هكذا: اشترى =

ثم أراد بيعَه مرابحةً بنقدٍ. قيل: إن كان هذا البائع ملياً وفياً، فلا تفاوت، ولا (1) يجب ذكرُ كونِ الثمن ديناً، وإن كان هذا البائع مسوِّفاً مطوِّلاً (2)، أو مُعسراً فبالحريّ أن لا (3) يقنع [منه] (4) بثمن المثل، فهو مغبون أو يمكن ذلك فيه، فلا بد من ذكر حقيقة الحالِ. وكل ذلك خبطٌ. نعم، إذا اشترى بثمن مؤجل ثم أراد بيعَه بمثله حالاً، فهذا تلبيسٌ؛ فإن الماليّةَ تختلف بهذا. فإن اشترى بثمن حال، فباع بمثله مؤجَّلاً، فلا بأس به؛ فإنه لم ينقُص المشتري شيئاً، بل زاده، ولا خُلفَ أيضاًً في صيغة لفظه. ولو اشترى عبداً بعَرْض، فليذكر قيمته حالة العقد، حتى لو ارتفعت قيمةُ ذلك الجنس بعد البيع، فلا ينبغي أن يعوّل على تلك القيمة؛ فإن المعتبر ماليّةُ العبد حالةَ العقد. ولو اشترى عبدين، وباع أحدَهما مرابحة بحصّته من الثمن على التقسيط العدل، فهو صحيح عندنا؟ خلافاً لأبي حنيفة (5). 3226 - فإذا انضبط ما يجبُ ذكره وما لا يجب، فالعبارةُ الجامعةُ على الطريقة المرضية عندنا أنه يجب ذكر ما طرأ مما ينقص القيمةَ أو العينَ. وقال آخرون: يجب ذلك، ويجب معه التعرض للغبن إن كان، وذكرُ ما يوهم الغبنَ.

_ = بثمن حالٍ، ثم أراد بيعه مرابحة بعقد نسيئة، قيل: إن كان هذا البائع ملياً وفياً ... إلخ. وهذا فيما أقدر تصرفٌ من الناسخ، لا يتفق مع السياق، وفحوى الصورة. (1) في (ص): وإنما يجب. (2) في (هـ 2): مطَّالاً. (3) في (ص): أن يقنع. (4) ساقطة من الأصل. (5) ر. المبسوط: 13/ 81.

فصل معقود في التولية [والإشراك] (1) وبقية من حكم المرابحة. 3227 - فإذا اشترى الرجل شيئاً وقبضهُ، ثم قال لإنسانٍ: ولَّيتُك بيعَه، فقال المخاطَبُ: قبلتُ، انعقد البيعُ بلفظةِ التوليةِ، وابتنى حكمُ العقدِ المنعقدِ بها على العقد الأول. هذا قاعدةُ المذهب. فإذا (2) حُطّ عن المشتري البائعِ المولِّي شيءٌ (3) من الثمن، فهو محطوط عن المشترِي (4) منه. ولو حُط عنه جميعُ الثمن، فهو محطوط عن المشتري منه. وحقيقةُ التولية إحلال المولَّى محل المولّي؛ حتى كان المولِّي مرفوعٌ من البين (5). هذا ما أطلقهُ الأئمةُ في طُرقهم. وقالوا: لو اشترى شيئاً واستفاد منه زوائدَ منفصلةً، ثم ولّى عقدَ البيع بالتوليةِ، فتلك الزوائد تسلم للبائع المولِّي لا حق فيها للمشتري المولَّى. ولو كان المشترَى شقصاً، وفيه الشفعة، فأسقَط الشفيع حقَّه، ثم جرت التوليةُ، فالذي ذكره الأصحاب أن التوليةَ تقتضي تجديدَ الحق للشفيع (6). فحاصل المذهب أن التوليةَ تبتني على العقد السابق في حَط البعضِ والجميع، ولا ابتناء لَها في الزوائد المتخللة، وليست على حكم الاستمرار في حكم الشُفعةِ، حتى يقال: لا تقتضي شفعةً جديدة.

_ (1) في الأصل: الاشتراك. (2) بيان وتصوير لابتناءِ عقدِ التوليةِ على العقد الأول. (3) في (هـ 2): شيئاً. (4) أي المولَّى (بفتح اللام). (5) البين: هذه اللفظة استخدمها الإمام أكثر من مرّة في النهاية. ووردت مرة في البرهان. وهي مفهومة في ضوء السياق. وإن لم نصل إلى حقيقة اشتقاقها ومعناها. (6) عبر عن هذا العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية قائلاً: " ... ويبنَى حكمُ العقد الثاني على الأول، في الحط دون الشفعةِ والزوائد".

وقال القاضي: الوجه التردد في جميع ذلك، فكأنا نقول: في وجه (1) خلفَ المولَّى المولِّي، حتى كأن الملك مستمرٌ على الأخير، فعلى هذا يلحقه الحطُّ. والزوائدُ التي جرت قبل التولية مصروفة إليه، ولا تتجدد الشفعةُ بها، فإنها على هذا الوجه بمثابة استمرار الملك. والوجه الثاني - أن المولَّى لا يَخلفُ المولِّي في شيء مما ذكرناه، فالزوائد للبائع، وإذا حُطّ عن البائع شيءٌ لم يُحَط عن المشتري منه بلفظ التولية، والشفعةُ تتجدد بوقوع [التولية] (2)، وهي في حكم بيع جديدٍ، إلا أن لفظ التولية يتضمن نزولَ العقد على ثمنِ العقد الأول، لا فائدة إلا هذا. والذي ذكره -رحمهُ الله- من التردد في الحط منقاس حسن؛ فإنه لم يثبت عندنا توقيفٌ في إحلال الثاني محل الأول في الحط، وإنما يُتلقَّى ذلك من اللفظ، وليس في اللفظ ما يُشعرُ [بهذا] (3) تصريحاً. ومِلك الشفيع مبني على مِلك المشتري، ثم الحط من المشتري لا يوجب الحطَّ من الشفيع عندنا. وهذا ابتناء شرعي، فإذا كنا لا نحط عن الشفيع ما حُط عن المشتري، فالمولَّي والمولَّى بهذا أولى. وأما ما ذكرهُ من التردد في الزوائد فبعيدٌ لا يليق بمنصبه. وكذلك يجب القطعُ بأن الشفعة تتجدد للضرورة إلى تقديرٍ يخالف الحقيقة (4). وبالجملة ليس الحط في معنى الزوائد، ولا في معنى تجدد الشفعة؛ فإنه يجوز أن يقال: معنى التولية أن المولِّي يقول للمولَّى: لا أطالبك إلا بما أُطلب به. هذا على ما فيه من الإشكال معقول، فأما تمليكه الزوائد السابقة، فبعيد، وكذلك دفعُ حق الشفيع وقد تجدد التمليك بالمعاوضة غيرُ متخيّل.

_ (1) في (هـ 2)، (ص): فكأنا في وجهٍ نقول ... (2) ساقطة من الأصل. (3) مزيدة من (هـ 2)، (ص). (4) عبارة العز بن عبد السلام في مختصره: "ولا وجه لتردده (القاضي) في الزوائد .. ولا في الشفعة، لما في ذلك من التقدير المخالف للتحقيق".

ومما يجب التنبه له أنا إذا جرينا على ظاهر المذهب، وحططنا عن المولَّى ما يُحط عن المولَي، فينقدح على [هذا] (1) ألا يطالِب البائعُ المولَي المشتري المولَّى، حتى يطالبَ البائعُ الأولُ البائعَ الثاني. فلينظر الناظر في ذلك، وليت شعري هل يثبت للبائع الأول مُطالبة المولَّى المشتري الأخير بناءً على الاستمرار؟ ولا ينبغي أن يُظن أن مطالبة البائع الأول تنقطع عن البائع الثاني المولَّى، فهذا منتهى القول فيما أردناه. 3228 - ومما فرعه الشيخ أبو علي على التولية أن قالَ: ليس للمشتري أن يبيع ما اشتراه قبل القبض من أجنبي، وقد اختلفَ أصحابنا في جواز بيع المبيع من البائع قبل القبض منه، فمنهم من منع، وهو القياس وظاهر المذهب. ومنهم من أجاز؛ فإن مقتضاه انقلابُ المبيع إلى من هو في يدهِ وضمانه، فإذا ثبت هذا، فلو ولى المشتري [البيع قبل قبض المبيع أجنبياً، ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخُ] (2) أحدهما - المنع وهو القياس. والثاني - الصحّة، ولا وجه له إلا حملُ الأمر على تقدير الاستمرار والبناء، وعلى هذا بنى القاضي عدمَ تجدد الشفعة، وأمرَ الزوائد. ولو ولّى المشتري البائعَ البيعَ، فوجهان مرتبان على البيع منه من غير لفظ التولية، أو على التولية مع الأجنبيّ. 3229 - وهذا منتهى الكلام في التولية. وفي معناهَا الإشراك، غيرَ أن (3 الإشراك يتضمن 3) البناءَ على العقدِ الأول في بعض المبيع، فإن جرى التصريحُ بمقدارٍ فيه نزل البيع عليه، مثل أن يقول: أشركتك في ثلث ما اشتريت، أو نصفِه. وإن أطلق الإشراك، ففي المسألة وجهان: أحدُهما - أنه محمول على النصف. والثاني - أنه مجهول لا ينعقد البيعُ به، ثم لا بد من ذكر البيع، ولا يكفي أن يقول: " أشركتك " حتى يقول: أشركتك في عقدِ هذا.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل ومن (هـ 2). (3) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).

ثم القدر الذي ينعقد البيع عليهِ بلفظ (1) الإشراك حكمه حكم التولية في كل تفصيل قدَّمناه. فأمّا المرابحةُ إذا جرت، ثم حُط عن البائع المرابح شيء من الثمن بعد لزوم العقد، فالذي ذهب إليه الأصحابُ أنه لا يَحُط ما حُطّ عنه عن المشتري، بخلاف التولية [والإشراك، والسبب فيه أن التولية] (2) مقتضاها حلولُ المولَّى محل المولِّي، وهذا يُشعر بمشابهته إياه في موجَب الحط، وليس في البيع بالثمن أو بما قام إشعارٌ بهذا فيما يجري في المستقبل [من حط] (3). وذكر شيخي وجهاً آخر أن الحط يلحق المشتري مرابحة. وهذا بعيدٌ، ولست أذكره في مسموعاتي عنه، ولكني رأيتُه في تعليقة بخطه. فإن قيل: إذا جرى الحطُّ قبل المرابحة، ثم جرت المعاملة، فما رأيكم؟ قلنا: التفريع على المذهب. والذي رأيته للشيخ لست أعتدُّ به. فليُنظر بعد ذلك إلى اللفظ، فإن قال: بعتُكَ بما اشتريتُ، فلا نظر إلى الحطِّ، والمرابحةُ تنزل على البيع الأول وثمنه، وإن قال بعد جريان الحطِّ: بعتك بما قام عليَّ، فالظاهر أن المحطوط لا يجوز ذكره. وممّا يتعلق بهذا الفصل أنا إذا لم نحط عن المشتري مرابحةً ما حُط عن معامله بعد لزوم العقد، فهل نحط عنه ما كان حُط عنه في مجلس الخيارِ، أو في زمان الخيار؟ فعلى وجهين مشهورين، وهما يجريان في حق الشفيع مع المشتري. وسيأتي ذلك في تفصيل إلحاق الزوائد بالعقود. * * *

_ (1) في (ص): عند. (2) ساقط من الأصل. (3) ساقط من الأصل.

باب الرجل يبيع الشيء بأجل ثم يشتريه بأقل من الثمن

باب الرَّجُل يَبيعُ الشَّيءَ بأجَلٍ ثم يَشْتَريهِ بأقلَّ مِنَ الثَّمَنِ 3230 - إذا اشترى شيئاً وقبضه، ثم باعه من البائع بمثل ذلك الثمن، أو أقلَّ، أو أكثر، صح العقدُ عندنا، سواء جرى العقد الثاني بعد نقد الثمن الأوّل أو قبله. وبالجُملة لا تعلُّق لأحد العقدين بالثاني خلافاً لأبي حنيفة (1)، وتفصيلُه مذكورٌ في الخِلافِ. والمسألة مبناها بعد أثر عائشة على الذريعة. ونحن لا نرى عقداً ذريعةً إلى عقدٍ إذا تميَّز أحد العقدينِ عن الثاني. وقد يضطرب فيهِ إذا عم العُرف بشيءٍ، فهل نجعل عمومَ العرف في حكم الشرط؟ مثل أن يعمَّ العرف بإباحة منافع الرهن، فهل نجعل الرهنَ المطلقَ مع اقتران العُرف به بمثابة ما لو شرط في الرهن إباحةَ المنافع للمرتهن؟ هذا فيهِ تردُّد للأصحابِ. وقد ذكرتُه مفصلاً في باب الربا. * * *

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 113 مسألة 1195، طريقة الخلاف: 312 مسألة 130، المبسوط: 13/ 125.

باب تفريق الصفقة

بَابْ تَفْريق الصَّفقَة 3231 - جمعَ المزني أقاويلَ الشافعيّ في تفريق الصفقة في الكبير (1)، ثم طال عليه ذكرُها في المختصر، فقالَ لمن كان يُملي عليه: بيِّض موضعاً نكتب فيه شرحَ أَوْلى [قَوْليه] (2) في تفريق الصفقةِ، ثم لم يتفرغ إليه، فماتَ -رحمه اللهُ- وفي بعض النسخ ترك ورقة أو ورقتين على البياض. وهذا الباب عظيم الوقعِ ومسائلُه كثيرةُ التولّج في الأصول. ونحن بعون الله تعالى نأتي بمسائلِ الباب على أبلغ وجه، وأقرب مسلك في الضبط، لا نغادر حكماً يتعلّقُ بالتفريق إلا نوفيه حقّه والله المستعان. فنقول: القول في التفريق يتعلق بما يقعُ في الابتداء، وبما يقعُ في الانتهاء. فأما تقسيم القول فيما يقع في الابتداء، فالصفقةُ لا تخلو: إما أن تشتمل على شيئين فصاعداً، يجوز تقديرُ صحةِ العقد في كل واحد. وإما أن تشتمل على شيئين فصاعداً يجوز [تقديرُ] (3) صحةِ العقدِ في البعض منها دون البعضِ. 3232 - فأما إذا اشتملت الصفقةُ على عدَد يجوز تقديرُ الصحةِ في آحادها عند إفرادها، فالذي يتعلق بغرض الباب منها اشتمالُ العقد على مختلفين يتباين أثرُ العقد فيهما فسخاً وإجازةً وقرباً من الغرر وبعداً منه، كالصفقة تشتمل منافع وعيناً يقابلان عوضاً أو عوضين فصاعداً، ففي صحَّة الصفقة قولان: أحدُهما - وهو الأصح أنها

_ (1) "الكبير" جمع فيه المزني أقوال الشافعي بصورة مطوّلة، ويذكر بهذا الاسم في مقابلة المختصر المشهور. (2) في الأصل: أوليه. (3) ساقطة من الأصل.

تصح؛ لأنها ما اشتملت على ما يمتنع إفرادُه بالعقدِ والصفقة متَحدة في نفسها، ولا حاجة إلى تقدير توزيع حتى يُفضي إلى جهالة، فأشبه ذلك ما لو اشترى عبداً وثوباً، وقد قدَّمنا في الربويات أن التوزيع ليس من مقتضى العقد، وإنما ينشأ للضرورة عند مسيس الحاجة. والقول الثاني - أن الصفقةَ باطلة؛ لأن حكمَ الإجارة والبيعِ يختلف فيما يتعلّقُ بالفسخ ونقيضه (1). أما المنافع، فلا تحويها اليدُ، وتثبتُ التصرفات فيها مع تعرض العقد للانفساخ عند تقدير التلف؛ فإن من استأجر داراً وقبضَها، تصرف فيها بسبب القبض، ولو تلفت الدار في يدي المستأجر، انفسخت الإجارةُ. والغرض مما ذكرناه أن العقد إذا اختلف وقعُه وأثره بسبب اختلاف المعقودِ عليه، فالنفوس تتشَّوف لا محالة إلى تقدير التوزيع، وإيراد العقد على قصدهِ، وليس كذلك أجناس المبيعات؛ فإن آثار العقد لا تختلف فيها، فلا تتشوَّف إلى تقدير بقاء العقد في بعضِها وانفساخِه عن بعضها. فرجع ما ذكرناهُ [إلى] تنزيل (2) العقدِ على مقتضى التوزيع، وهذا يجُرّ جهالةً؛ فإن التوزيع اجتهادٌ بعد ورود العقدِ، فهذا سبيلُ التوجيه. 3233 - ثم نذكر ما يتعلق بهذا القسم وما يخرج منه: فالجمع بين بيعِ عينٍ وسلمٍ من صُور القولين؛ فإنه يتطرق إلى السّلَم ما لا يتطرق إلى بيع العين في حكم الفسخ ونقيضه. ولو جمع بين بيع عين وتزويجِ امرأة أو أمةٍ وقابلهما بعوضٍ ينقسم عليهما، ففي صحة البيع والصداق قولان، كما قدّمناهما، والنكاح صحيح لا شك فيه، فإن المحذور فيهِ جهالةُ العوض، وهذا غير مؤثر في النكاح، فإن أفسدنا الصفقة، لم يخف حكمُ فسادِ البيع وحكم فساد الصداق. وفي هذه الصورة الرجوعُ إلى مهر المثل، كما سيأتي شرحه في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في (ص): ويقتضيه. (2) في الأصل، (ص) من تنزيل.

ومن صور القولين السلمُ في أجناسٍ إلى أجل واحد بعوض واحد، والسلم في جنس واحد إلى آجال. ووجهُ إلحاق هاتين الصورتين بصُوَر القولين أن الأجناس تختلف وجوداً وعدماً، ويختلف الحكم بحسب ذلك في بقاء العقد وانفساخه، فجرى القولان فيهما. ومن أصحابنا من لم يُلحق هاتين الصورتين بصور القولين، وقطع القول فيهما بالصحة؛ لاتحاد العقد في حكمه وخفاءِ أثر الاختلاف، والأظهر (1) الطريقةُ الأولى. ولو قال بعتك صاعاً من حنطةٍ ودرهماً بصاعٍ من شعيرٍ ودينارٍ، فهذا يلتحق بصور القولين لاشتمال الصفقة على التفاوت في شرط التقابض. فإن قيل: كيف يختلف مضمون العقد فيما ذكرتم من التقابض والطعام بالطعام يُشترط فيهِ التقابض، وكذلك النقد بالنقد، ومضمون الصفقة من الجانبين طعامٌ ونقد؟ قلنا: وجه الاختلافِ أنّ الدرهم يقعُ في مقابلة شيءٍ من الطعام في الجانب الثاني، وكذلك الدينار يقع شيء منه في مقابلة شيءٍ من الطعام في الجانب الثاني، والتقابض ليس مشروطاً في بيع الطعام بالنقد؛ فمن هذا الوجه اختلف مضمونُ الصفقة في التقابض. ولو باع ثوباً وديناراً بثوبٍ ودراهم، فالتحاقُ ذلك بصُور القولين بيّن. وإنما خُصَّ مسألةُ الطعام والنقد بالذكرِ للدقيقة التي نبهنا عليها. فإن قيل: إذا اشتملت الصفقة على شقصٍ وسيفٍ، فحكم الصفقة مختلف؛ فإن الشفعة تتعلق بالشقص دون السيف، وهذا تباين بيّن في مورد العقدِ. قلنا: الصفقة صحيحة قولاً واحداً؛ فإن مقصود العقد في الشقص والسيف لا يختلف فيما يتعلق بالفسخ والتنفيذ، وصورة القولين تُتلقَّى من اختلافٍ يتعلق بالفسخ والإجازة، بسبب أنه، إذا قُدّر سبْقُ الفسخ إلى شيء، اعتاضَ ما يبقى في مقابلة الباقي، ورجع هذا الإشكال إلى وضع العقد. والشفيعُ إذا أخذ الشقص، فهو مقرر للعقد، وإن كان ينشأ بينه وبين المشتري توزيعٌ، فهذا لا ينعطف إلى العقد فسخاٌ في البعض وإبقاء في

_ (1) في (هـ 2)، (ص): والأشهر.

البعض. نعم من اشترى شقصاً مشفوعاً وسيفاً، ثم إن المشتري باعهُما، فهل يلتحق بصورة القولين؛ من جهة أن الشفيع يملك فسخ بيعهِ في الشقص ولا يملك ذلك في السيف؟ فقد اختلفت الصفقة فسخاً وإبقاءً، على الحد الذي ذكرناه، فاختلف القول. هذا منتهى الكلام في نوع من تفريق الصفقة ابتداء. 3234 - والقسم الثاني في الابتداء أن تشتمل الصفقةُ على عدد يجوز إفرادُ بعضها بالعقد، ولا يقبل بعضُها العقدَ على الوجه الذي أورده العاقد. وهذا القسم ينقسم قسمين: أحدهما - أن يشتمل العقدُ على ما يقبل العقدَ وعلى ما لا يقبله، ولكنه يقبل التقوُّم تحقيقاً. والقسم الثاني - ألا يكون ما يَفسد العقدُ فيه قابلاً للتقويم. فأما إذا كان قابلاً للتقويم تحقيقاً، فهو كما لو باع الرجل عبداً مملوكاً له، وعبداً مغصوباً عنده، أو باع عبداً وأم ولد، أو عبداً ومكاتباً. أما المغصوب، فلا شك في تقويمهِ، والمستولدةُ متقوَّمةٌ باليد والإتلاف، والمكَاتَبُ متَقوَّمٌ بالإتلاف. فإذا جرت الصفقةُ شاملةً لفظاً لما يصح ولما لا يصح، وجرى الحكم بالفساد فيما لا يصح؛ فهل تصح الصفقةُ فيما يصح إفرادُه بالعقدِ؟ فعلى قولين هما (1) من أمهات الباب: أحدُهما - أن البيع صحيحٌ؛ من جهة أن الصفقة اشتملت على ما يصح ويفسد، فمقتضى الإنصاف حذفُ الفساد وتقريرُ العقدِ في جهة الصحة. وهذا من طريق التمثيل يُضاهي قولَ القائل: قدم زيدٌ وعمرو، وكان قدم أحدُهما دون الثاني، فلا نقضي على القول بالخُلفِ فيهما ولا بالصِّدقِ، ولكنهُ خلفٌ في محل الخلف صدقٌ في محله. والقول الثاني - أن البيع باطل لعلتين: إحداهما - أن ما يقابِل العبدَ المملوك من الثمن مجهول عند المتعاقدين حال العقد؛ فإنه إنما يعرفُ قسطُه من الثمن بتوزيعه على القيمتين، وهذا يستدعي ضبطَ القيمتين، ولا يُتوصل إليه إلا بالاجتهاد.

_ (1) عبارة (ص): فعلى قولين: أحدهما أن البيع من أمهات الباب من جهة ...

ولو قال: بعتُك عبدي هذا بما يقابله من الألف، لو وزع عليهِ، وعلى عبد فلان، فالبيع باطل إجماعاً. ومآل الأمر في بيع العبدِ المملوك والمغصوب هذا. فليكن ما تبيّن آخراً بمثابة ما لو وَرَدَ (1) العقدُ كذلك أوّلاً. فهذا أحد المعنيين. والمعنى الثاني - أن العقد متَّحد في نفسه، فإذا تطرق الفساد إليه، وجب أن لا ينقسم إذا لم يبن على الغلبة والسريان، وكان مما يفسده الشرط، احترازاً من العتق والطلاق وما في معناهما؛ فإن العتق لا يرتدّ بالشرط الفاسد، بل ينفذ ويلغو الشرط، بخلاف البيع. 3235 - فهذا أصلٌ. ونحن نفرع عليه مسائلَ [في الباب] (2) فنقولَ: لو باع صاعين من حنطة متماثلين في الصفات، وكان أحدُهما مملوكاً، والثاني مغصوباً، أو باع عبداً نصفُه له ونصفه لغيره، ولم يأذن الشريك في البيع، ففي صحة البيع في المقدار المملوك للبائع قولان مرتبان على القولين في الصورة الأولى. فإن حكمنا بالصحَّة ثَمَّ، فلأن نحكم هاهُنا أوْلى. وإن حكمنا بالفسادِ ثَمّ، فهاهُنا قولان مبنيَّان على المعنيين الذين وجهنا بهما قولَ الفسادِ في الصورة الأولى. فإن قلنا: علةُ الفسادِ في تلك الصورة جهالةُ الثمن، فالبيع يصح فيما أخرناه؛ فإنه لا حاجةَ إلى تقدير التقويم وردِّ الأمر إلى الاجتهاد، بل إذا وزَّعنا، فالواجب نصفُ الثمن مثلاً على ما تقتضيه الجزئيَّة. وإن عللنا الفسادَ في تلك الصورة باتحاد الصفقةِ، وتطرق الفساد إليها، فنحكم بالفساد في العبدِ المشترك، أو الحِنطةِ المشتركةِ لتحقق الاتحاد، وتَطرُّق الفساد. ومما يلتحق بهذه المرتبة الجمعُ بين مملوكٍ ومغصوبٍ في هبةٍ أو (3) رهنٍ. ووجهُ الالتحاقِ أنه لا عِوضَ في الهبةِ والرهن حتى يتخيلَ الفساد بجهةِ جهالة العوض.

_ (1) في (هـ 2)، (ص): أورد. (2) زيادة من (هـ 2)، (ص). (3) في (هـ 2)، (ص): ورهن.

وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإن الدَّيْن وإن لم يكن عوضاً (1) عن الرهن، فرهن الشيء بالدَّينِ المجهول لا يصحّ على الأصح، كما سيأتي في كتاب الرهون. نعَم ما ذكرناه جارٍ في الهبَةِ، بل الهبَةُ تَقبلُ وجوهاً لا يقبلها البيع، كما سيأتي، إن شاء الله. 3236 - فينبغي أن نتخيل مراتب: أَوْلاها بالفسادِ الجمعُ بين عبدين في البيع، وحيث تمس الحاجةُ في التوزيع إلى التقويم لتبيين العوض. ويلي ذلك [في] (2) الترتيب الظاهر الجمعُ بين عبدين أحدهما مغصوب في الرهن، والفرق ما نبهنا عليهِ من خروج الديْنِ عن كونه عوضاً. ويلي الرهنَ بيعُ العبد المشترك، وبيع الحنطَةِ المشتركة المتساوية الأجزاء في الصفات. ويلي هذه الصورةَ الهبةُ؛ من حيث إنها قد تقبلُ ما لا يقبله أصلُ البيع. ومما يدنو من هذه المرتبة نكاحُ المسلمةِ والمجوسيّة في عقدة (3) واحدة، فإذا وقع القطع بفساد نكاح المجوسية، ففي نكاح المسلمةِ قولان: أصَحُّهما - الصِّحةُ. والقول الثاني - أن النكاح يفسد في المسلمة. ورتّب الأئمة هذا على القولين في بيع العبد المملوك والمغصوب، وسلكوا السبيل المقدَّم في البناء على المعنيين بعد الترتيب. فإن قلنا: علةُ الفساد في بيع العبدين جهالةُ العوض، فهذا لا يضر في النكاحِ، فيجب القضاءُ بالصحة. وإن قلنا: علةُ الفساد الاتحادُ وتطرّقُ الفسادِ، فهذا قد يُعتَقَد في النكاح أيضاًً. والذي أراه أن النكاح أولى بالصحة من جميع ما وقع في هذه المرتبة، والسببُ فيه أن الصورةَ التي ذكرناها في الهبَةِ والرهنِ والبيعِ في المشترك يفسدُ العقدُ فيها بالشرائطِ المفسدةِ، والنكاح لا يُفسده الشرطُ الفاسد إذا لم يتضمن الاعتراضَ على مقصوده، فانضمام المجوسية إلى المسلمة ينبغي ألا يزيد تأثيره على شرط نكاح المجوسيَّةِ في نكاحِ المسلمة. ولو جرى ذلك، لم يفسد النكاح.

_ (1) ساقطة من (هـ 2)، (ص). (2) في الأصل: مع. (3) في (ص): عقد واحد.

فهذا هو المنتهى في غرضِ الصحة والفسادِ، في هذه المراتب، ولا نَعدُوها إلى القسم الآخر، حتى نذكر حكم العِوض فيها. 3237 - فإذا باع الرجل عبداً مملوكاً، وعبداً مغصوباً، أو مملوكاً ومستولدة، فإن حكمنا بفساد العقد، فلا كلام. وإن حكمنا بالصحَّة فيما يقبل العقد، فالعقد يثبت فيه بجملة (1) الثمن المسمى، أم يُقَسَّط منه؟ فعلى قولين: أصحهما - أن العقد يثبت فيه بقسطٍ من الثمن، كما يقتضيه التوزيع؛ فإن صيغة العقد تقتضي مقابلةَ العبدين بالألف، فردُّ الألف إلى أحدهما مخالفةٌ لمعنى اللفظ. ويستحيل ثبوت الثمن على خلاف مقتضى اللفظ. والقولُ الثاني - أن الثمن يثبت بكماله في مقابلة ما صح العقد فيه؛ لأن المضموم إليه ليس قابلاً للمقابلة، فليحذف من العقد، كأنه لم يذكر. وهذا ضعيفٌ لا ثباتَ له عند القيَّاسين، ولكنه مشهور وسيظهر أثره في التفريع. فإن قلنا: العقد يصح في المملوك بتمام الثمن، فلا شك أن المشتري بالخيارِ، فإنه بذل الألف على مقابلة عبدين ثم لم يسلّم له إلاَّ أحدهما، واستمر عليه بذلُ الألف. وإن قلنا: لا يلزم في مقابلة العبد المملوك إلا قسطٌ من الثمن، فالخيار يثبت أيضاًً للمشتري، فإنه وإن كان لا يخسر في الماليَّة، فقد خاض في العقد على أن يسلَّم له العبدان فأخلف ظنُّه، فاقتضى ذلك ثبوتَ الخيارِ له. فإن أجاز المشتري العقدَ على مقتضاه، نُظر: فإن قلنا: إنه يجيزه بتمام الثمن، فلا خيار للبائع؟ فإنه رضي بألفٍ في مقابلة العبدين، فإذا سلَّم الألَف في مقابلة أحدهما، فلا معنى للخيار. وإن قُلنا: يُجيز المشتري العقدَ في المملوك بقِسطه من الثمن، فهل يثبت للبائع الخيار؟ فعلى وجهين: أصحهما أنه لا خيار له؛ فإنه سُلّم له ثمنُ ما ملك عليه. ومن أصحابنا من قال: له الخيار؛ من جهة أنه علّق استحقاقه بالألف الكامل؛ فلم يسلّم له.

_ (1) في (هـ 2): بجهله.

وهذا رديء لا أصل له، وله التفات على بيع التجزي (1) إذا باع الرجل صُبرَةً بصُبرةٍ مكايلةً، حيث قال الشافعي: وللمشقَّصِ صُبرته الخيارُ. وكل ما ذكرناهُ فيه إذا كان التوزيع يقتضي جهالةَ العوض، فأما إذا كان التوزيع لا يقتضي جهالة العوض، كالصُور المقدَّمةِ في العبد المشترك وغيره، فالمشتري بكم يجيزُ العقدَ؟ في المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: نقطع القولَ بأنه يجيز بالقسط. وإنما القولان فيه إذا كان التوزيعُ يجرُّ جهالة. ومن أصحابنا من قال: نطرد القولين في هذه الصُّورة أيضاًً. والفرق بين المرتبتين أن التوزيع إذا كان يَجرُّ جهالة، فقد يمكن أن يقال: سببُ الإجازة بالجميع أنا لو قسّطنا، لاقتضى التوزيعُ جهالةً، والجهالةُ مفسدةٌ للعقد، وهذا لا يتحقق حيث لا يقتضي التوزيع جهالة. وإذا ضممنا صُورة الجهالة إلى هذه الصُورة، انتظم في غرضِنا ثلاثةُ أقوال: أحدُها - أن الإجازةَ بالبعض في جميع هذه المسائل. وهذا لا يسوغ في القياس غيرُه. والثاني - أن الإجازة بكل الثمن في جميع المسائل. والثالث - أنا نفصّل بين صُورةٍ يجرّ التوزيعُ فيها جهالةً، فيثبت جميعُ الثمن، وبين صورة لا يقتضي التوزيعُ فيها جهالة، فيثبت فيها بعضُ الثمن على ما يقتضيه التوزيع. 3238 - ومن تمام القول في ذلك أن من نكح مسلمةً ومجوسيّةً، فصححنا نكاح المسلمة، فالذي قطعَ به المحققون أنا لا نثبت جميعَ الصداق المسمّى في مقابلة نكاح المسلمة، ولا يُخرّج هذا القول. والسبب فيه أنا لو قلنا بهذا كنا مجحفين بالزوج على وجهٍ، لا نجد له دفعاً، من قِبلَ أنه لا يثبت للزوج حقُّ الخيار، وليس كذلك البيعُ؛ فإنا إن قُلنا: الإجازة تقعُ بجميع الثمن، فللمشتري دفعُ ذلك بأن يفسخ [العقدَ] (2).

_ (1) في (هـ 2)، و (ص): " التحري " بالمهملة. (2) ساقطة من الأصل.

وعلى هذا القياس نقول: إذا اكترى داراً سنةً، ومضت ستةُ أشهرِ من المدة وهو ينتفع فيها، ثم انهدمت الدار، وانفسخت الإجارة في بقيَّة المدَّة، وفرَّعنا على الأصح وهو أنهُ لا نجد سبيلاً إلى فسخِ الإجارة في المدّة المنقضية، عَلى ما سيأتي في القسم الآخر، إن شاء الله تعالى، وهو التفرق في أثناء العقد، فلا جرم لا نقول: جملةُ الأجرة تلزم في مقابلة ما انقضى من المدَّة؛ لأنا لو قلنا ذلك، كنا كلفناه تمامَ العِوض في مقابلة بعضِ المعوَّض، على وجهٍ لا نجد لدفعه سبيلاً. وذكر الشيخ أبو علي في نكاح المسلمة والمجوسيّه [أو] (1) الحرة والأمَةِ في حق الناكح الحر القولين في أصل النكاحِ. ثم قال: إذا صح النكاح في محل الصحَّة، ففي المهر ثلاثةُ أقوال: أحدُها - أنه يبطل المهرُ المسمى، والرجوع إلى مهر المثل. والثاني - أنه يجب للحرة قسطٌ من المهرِ المسمَّى، فيقسّط على مهر مثلها، ومهر مثل الأمة، أو على مهر مثل المسلمة ومهر مثل المجوسيّة. والقول الثالث - أنه يجب للتي صح النكاحُ عليها تمامُ المسمى. وهذا لم أره إلا للشيخ أبي علي، وهو ضعيف جداً. أما الرجوع إلى مهر المثل، فله خروج، والتوزيع وإيجاب القسط ظاهر، وأما إثبات تمام المسمى، فبعيد. ثم قال الشيخ: إذا قلنا جميعُ المهر المسمى يثبتُ في مقابلة الحُرة التي صح النكاح عليها، فلا شك أنا لا نقول: للزوج فَسْخُ النكاح، ولكن نقول: لهُ الخيار في ردَّ المسمى والرجوعِ إلى مَهْر المثل. وهذا الذي ذكرهُ لا يخلِّصُ مما ذكرناه؛ فإن مهر المثل قد يكون مثلَ المسمى، أو أكثرَ منه. وقد نجز غرضُنا في قسم واحدِ من القسمين المتأخرين، حيث قلنا: المنضمُّ إلى ما يصح العقدُ فيه ينقسم (2) إلى ما يتقوَّم وإلى ما لا يُتقوَّمُ. وقد انتهَى القول فيما يُتقوّمُ. 3239 - فأمّا إذا كان المضمومُ إلى ما يصح العقد فيه -لو أُفرد- غيرَ متقوَّم، فهذا

_ (1) في الأصل: والحرة. (2) في الأصل: وينقسم (بزيادة واو).

ينقسم إلى ما يقبل [تقديرَ] (1) القيمةِ حكماً، من غير تقدير تغيير صفةٍ في الخلقة، وإلى ما لا يقبل التقدير إلا بفرض تغييبر في الخلقة. فأمَّا ما لا (2) يقبل التقويم تقديراً حكماً، فهو كالحر يضم إلى العبد، فالحرُّ لا يُتقوَّمُ شرعاً. ولكن تقديره رقيقاً، وتقويمه على حسب هذا ليسَ مستحيلاً. وقد يُقدَّر في الحكوماتِ الحُرّ رقيقاً، ويُبنَى عليه مبلغُ الحكومة. فإذا باع الرجل حراً وعبداً، ففي صحة البيع في العبد طريقان: من أصحابنا من قال: قولان، كما لو جمع بين مملوكٍ له، ومغصوب. ومنهم من قطع بالبطلان، من جهة أن قَرِين العبدِ خارجٌ عن جنس المبيعاتِ، فكان هذا مقتضياً مزيد فَسادٍ، ولو قلنا: في صحة البيع قولان مرتبان على ما إذا باع عبداً مملوكاً، وآخر مغصوباً، لأفاد ذلك ما ذكرنا من نقل الطريقين. وهكذا كل ترتيبٍ. فهذا فيما يقبل تقدير القيمَةِ. فأما ما لا يقبل تقدير القيمةِ إلا بتغيير الخلقة، فهو كالخمر والخنزير والميتَة، فإذا جُمع في عقدٍ بين الخمر والخل، وبين شاة وخنزير، وبين لحم المذكّى ولحم الميتة، فكيف الترتيب فيه؟ قال الأئمةُ: هذه الصورةُ أولى بالبطلان من مسألَةِ الحرّ والعبد؛ فإن تقدير القيمة غيرُ ممكنٍ في هذه المسائل. وإن فرضنا تغير صفاتها خلقةً لم يكن ما نُقَدِّر قيمتَه هو المذكور في العقد، فظهر الحكم بالفساد، والكلام بآخره. 3240 - وهذه المسائل أصولها ملتفَّةٌ بفروعِها، حتى يجري في أثناء الكلام أخذُ الأصلِ من فرعهِ. فنقول: أولاً من أصحابنا من يقدِّر الخمرَ خلاً، ولحم الميتة لحم مذكاة، والخنزيرَ نعجةً، أو ما يقرب على ما يقتضيه الحال. وهذا ذكره طوائف من أصحابنا من أصحاب القفال. وهو بعيد، وإن كان ينقدح

_ (1) في الأصل: تقديم. (2) ساقطة من (هـ 2)، (ص).

القياسُ على تقدير الرق في [الحر] (1)، ثم يتطرق من طريق الاحتمال لو فُتح هذا الباب أمران: أحدهما - أن يُقدَّر الخمر عصيراً، فنكون اعتبرناه بحالة إذا كان عصيراً وكان الخمرية لم تطرأ، وهذا أمثل من تقديرها خلاً، وقد ذكرهُ بعض الأصحاب. ومما يجري في ذلك تقدير قيمة الخمر خمراً عند من يرى للخمر قيمةً، وكذلك القولُ في الخنزير، وقد نصير إلى هذا الاعتبار في بعض مسائل الوصايا، على ما سيأتي إن شاء اللهُ عز وجل. وسنُجري مثل ذلك في فروع نكاح المشركات. وكل ذلك خبطٌ، فإن قدَّرنا هذه التغاييرَ، فلا كلام. وإن لم نقدّرْها، فلا خروج للحكم بصحَة البيع فيما يصح إفرادُه به إلا على رأي من يُثبت العقدَ فيما يصح العقدُ فيه بتمام الثمن؛ فإن التوزيع قد يتعذّر (2). وهذا أوان تمام البيان فيما نحن فيه. 3241 - وذهب المحققون إلى أن صحةَ البيع وفسادَه يُتلقى من أن العقدَ حيث يمكن التوزيع يجازُ في مورد صحيح (3) بتمام الثمن أو بقسطٍ منه. فإن رأينا الإجازة بالتمام، لم نبعد أن نصحح العقدَ في مسألة الخمر والخنزير والميتة، فإنا إذا كُنا لا نوزع، لم (4) يختلف الأمر بأن يكون التوزيعُ ممكناً أو غيرَ ممكن. وإن رأينا إجازة العقد في مورده بقسطٍ من الثمنِ، فإذا تعذّرَ التقسيطُ، فلا وجه لتصحيح العقد. وتمام القول في هذا بذكر مسألةٍ، وهي أن البائع إذا ضَمّ إلى المبيع القابلِ للعقد مجهولاً لا يُحاط به، فلا مطمع في تقدير التوزيع أصلاً، ولا خُروج للصحَّة في المعلوم إلا على إجازة العقد بتمام الثمن. فليفهم الناظر المراتبَ.

_ (1) في الأصل، (هـ 2): الحرية. والمثبت من (ص). (2) في (هـ 2)، (ص): يقدّر. (3) في (هـ 2)، (ص): في مورده الصحيح. (4) ساقطة من (ص).

وهذه المراتب أولاها - فيما يتقوّم. وثانيتها - فيما يمكن تقدير القيمة فيهِ حكماً من غيرِ تغييرٍ. وثالثتُها - فيما لا يتأتى ذلك إلا بتقدير تغيير الخلقة. ورابعتُها - فيما لا يتأتى فيه التقويم أصلاً. وهذا آخر القول في تفريق العقد من ابتدائهِ. 3242 - فأمّا إذا جرى التفريق (1) في الأثناء، فالقول ينحصر فيما يتعلق بالانفساخ من غير اختيارٍ، وفيما يتعلق بالفسخ المختار بسبب يقتضيه. فأما القول في الانفساخ، فنقول: إذا اشترى رجل عبدين، وتلف أحدُهما قبل قبض المشتري، فالعقد ينفسخ فيهِ، وهل ينفسخ في العبد القائم الباقي؟ لم يخلُ من أحوال: إما أن يكون العبد القائمُ بعدُ في يد البائع، وإما أن يقبضه المشتري، وهو باقٍ في يده. وإما أن يقبضه المشتري ويتلفَ في يده، ثم يتلف العبد الآخر في يد البائع. فإن كان العبد الباقي في يد البائع بعدُ، فإذا انفسخ العقدُ في الذي تلف في يده، فهل ينفسخ في الثاني؟ فعلى قولين: أحدُهما - أنه لا ينفسخ لبقائه، وسببُ انفساخِ العقد في التالفِ تلفُه وهو في ضمان البائع. وهذا المعنَى مفقود في القائم. والقول الثاني - أن العقدَ ينفسخ فيه، حتى لا تتبعَّضَ الصفقةُ، وهي مُتَّحدة. قال المحققون: مأخذ التفريق في [البقاء] (2) والانفساخ آخراً، هو مأخذ التفريق في الابتداء صحَّةً وفساداً. ولكن الوجه ترتيبُ الآخِر على الأول. فإن قلنا: إذا جَمَعت الصفقةُ ما يجوز بيعُه وما لا يجوز بيعُه، فالعقدُ صحيحٌ فيما يجوز، فلأن نحكم ببقاء العقدِ فيما بقي أولى. وإن قُلنا: يفسُد العقد ابتداء فيما يصح إفراده بالعقد؛ نظراً إلى تطرُّق الفسادِ وتغليباً له، فهل نحكم بالانفساخ في العبدِ القائمِ، فعلى قولين. والفرق أن الصفقةَ إذا انقسمَتْ في ابتداءِ عقدها، اختَلَّ لفظُها. وإذا صحت

_ (1) في (هـ 2)، (ص): التفرّق. (2) في الأصل: الباقي.

الصفقةُ، فالوجه اتباعُ البقاء والهلاك، والحكمُ باستمرار العقد على ما بقي، وانفساخِهِ فيما تلف. فإن قلنا: العقدُ ينفسخ في العبدِ الباقي، فلا كلام، والثمن مردود على المشتري، وإن قلنا: لا ينفسخ العقدُ في العبدِ الباقي، فللمشتري الخيارُ في فسخِ العقد، فإن فسخ، عاد الكلامُ إلى ما ذكرناه في قول الانفساخ. وإن أجاز العقدَ فيجيزه في الباقي بتمام الثمن أو بقسطهِ؟ فعلى قولين: أحدُهما - وهو الصحيح الذي لا ينساغ غيرُه أنه يجيز العقدَ فيه بقسطه. والثاني - أنه يجيز العقدَ في العبد الباقي بتمام الثمن. وهذا لا اتّجاه له ولو [لا] (1) اشتهارُه في النقل، لما ذكرناه. 3243 - ثم قال الأئمة: القولان فيما ذكرناه في الآخِر مرتبان على القولين المذكورين في هذا الحكم في أول تفريق الصفقة. فإن قُلنا: المشتري يجيز الصفقةَ فيما يصح العقدُ فيه ابتداء بقسطه من الثمن، فهذا في الانتهاء أَوْلى. وإن قُلنا: المشتري يجيز العقد فيما يصح فيه ابتداء بتمام الثمن، ففي الدوامِ قولانِ. والفرق أنا إن قلنا: يقف الثمن ابتداء فيما يقبل المقابلة بالثمن، فهذا فن من الكلام. فأما المصيرُ إلى أن الثمن الواقعَ في مقابلة العبدين ينصرفُ إلى مقابلة الباقي منهما، فهذا لا وجه له. وكل ما ذكرناه فيه إذا تلف أحداً [العبدين] (2) والثاني قائم في يد البائع. فأما إذا قبض المشتري أحدَ العبدين، وتلف الثاني في يد البائع [و] (3) انفسخ العقدُ في التالف، فهل ينفسخ في العبدِ المقبوضِ القائمِ في يد المشتري؟ فعلى قولين مرتبين على ما إذا كان العبدُ الباقي قائماً في يد البائع، وهذه الصورة الأخيرةُ أوْلى بألا ينفسخ

_ (1) في الأصل: ولو ثبت اشتهاره. (2) غير مقروءة بالأصل. (3) في الأصل: انفسخ (بدون واو).

العقدُ فيها في العبد الباقي. والسبب فيه أن العقدَ تأكَّد في العبد المقبوض (1 بانتقال الضمانِ فيه إلى المشتري. فأما إذا قبض المشتري أحدَهما، وتلف في يدهِ، ثم تلف العبدُ الآخرُ في يد البائع، وانفسخ العقد عليه، فهل ينفسخُ فيما قبَضَ المشتري وتلف في يده؟ فعلى قولين مبنيين على القولينِ فيه إذا كان العبد المقبوض 1) قائماً بعدُ في يد المشتري. والفرق أن الفواتَ إذا لم يقتض انفساخاً، فإنه يبعد فيه تقديرُ الانفساخ بعده، فقد تأكَّد العقدُ بالقبض، والتلفُ في المقبوض. فاقتضى ذلكَ فيها ترتيباً. وقالَ الأصحاب تخريجاً على هذه الصورة الأخيرة إذا اكترَى رجل داراً، وقبضها وانتفع بها ستة أشهر، ثم انهدمت الدار، فلا شك في انفساخ الإجارة في بقية المُدَّة، وهل تنفسخ في المدة الماضية؟ هذا يُخرّجُ على ما ذَكرناه في العبد المقبوض التالف في يدِ المشتري. فإن قلنا: ينفسخ العقدُ فيه، فتنفسخ الإجارةُ في المدة الماضية، وإن تلفت المنافع فيها في يد المستأجر. وإن منعنا الانفساخَ في المقبوض التالف فيمتنع الانفساخُ في المدةِ الماضية في الإجارة. هذا تمامُ القول في التبعيض الواقع انتهاءً بطريق الانفساخ. 3244 - فأما القول في التبعيضِ المتعلق بالفسخ الاختياري فإذا اشترى رجل عبدين وقبضهما، ثم وجد بأحدهما عيباً، فهل له أن يُفرد العبدَ المعيب بالرد ويستردَّ (2) قسطه من الثمن؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - له ذلك. والثاني - لا سبيل له إلى التفريق. وهذا يقرب مما تقدم الآن. فإن قُلنا: له ردُّ المعيب: فإذا ردَّ، استردَّ قسطاً من الثمن على ما يقتضيهِ التوزيع، لا خلاف فيه؛ إذ لو قُلنا: يسترد جميع الثمن والعبد الآخر باقٍ في يده، لكان ذلك محالاً، خارجاً عن الضبط، مفضياً إلى إثبات شيءٍ من المبيع في يد المشتري من غير أن يكون له مقابل.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (هـ 2). (2) (ص): ويشترط بقسطه.

وإن قلنا: لا يرد العبدَ المعيبَ، فله ردُّهما جميعاً، لم يختلف العُلماءُ فيه؛ وذلكَ لاتحاد الصفقة. 3245 - ومن تمام التفريع: أنا إذا جوزنا له ردَّ المعيب وحدَه، فلو قال: أردّهما: المعيبَ والسليمَ، فالمذهبُ أن له ذلك. ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يرد إلا المعيبَ منهُما على هذا القول. وفرَّع الشيخ أبو علي، فقال: إذا قلنا: لا سبيل إلى التبعيض، فلَو قالَ المشتري: رددتُ المعيبَ، هل يكون هذا رداً لهُما؟ ذكر وجهين: أحدُهما - أنه ردٌّ لهما جميعاً. وهذا في نهايةِ الضعفِ. والثاني - وهو الذي لا يصح غيره أنه لا يكون ما جاء به رداً فيهما، ولكنه يلغو، فكأنه لم يردّ. ومما فرَّعه حيث انتهى الكلامُ: أنا إذا منعنا التفريقَ، فلو رضي البائع بردِّ العبد وحده، وردّ قسطٍ من الثمن، فهل يصح ذلك مع رضاه؟ فعلى وجهين. وفيهما احتمالٌ على حال؛ فإن الرد على الجملةِ متعلقٌ بالاختيار (1 وليس كالانفساخ وكالحكم بفسادِ العقد ابتداءً؛ فإنه غير متعلق بالاختيار 1)، فينفذ الحكم [المنعقد] (2) ولا يؤثر الرضى بعده. ولو اشترى الرجل عبدين وقبضهما، وعَثَر منهما جميعاً على عيب، فأراد ردَّ أحدهما دون الثاني، ففي المسألة قولان. ومنْعُ التفريق هاهنا أولى؛ بسبب ثبوت العيب الموجب للخيار في كل واحدٍ منهما. وكل ما ذكرناه فيهِ إذا قبض العبدين، فأراد ردَّ أحدهما مع قيام الثاني. 3246 - فلو قبضهما، وتلف أحدُهما في يده، ووجد بالثاني عيباً، فهل له رده مفرداً؟ فعلى قولين مُرتَّبَيْن على القولين فيه إذا كان العبدان باقيين. وهذه الصورةُ الأخيرةُ أوْلى بجواز ردَّ أحد العبدين؛ فإن العبدين إذا كانا باقيين، أمكن ردُّهما وفسخُ

_ (1) ما بين الفوسين سقط من (هـ 2). (2) في الأصل، (ص): المعتقد.

العقد من [غير] (1) تفريق، وإذا تلفَ أحدهما فيعسُر الرد في التالف ويعذَر المشتري بأفراد العبدِ الباقي بالرد. فإن قلنا بردِّه، فلا كلام. وإن قلنا: لا يردُّه، فلو قال: أُخرج قيمةَ العبد التالفِ، وأضمُّها إلى العبد القائم وأردُّهما وأسترد جملةَ الثمن، فهل له ذلك؟ فعلى قولين: أحدُهما - له ذلك؛ فإن فيه استدراكُه للظُّلامةِ التي لحقته، وإقامةُ القيمةِ مقام الفائت في حق المردود عليه، مع ترك تفريق الصفقة. والقول الثاني - ليس له ذلك؛ فإن القيمة ليست موردَ العقد، وسبيل الفسخ أن يَرِدَ على ما وردَ عليهِ العقد. ولا خلاف أن من اشترى عبداً، وقبضه وتلف في يدهِ، ثم اطلع على عيب بهِ، فأراد بذلَ قيمتِه وإيرادَ الفسخ عليها، لم يكن له ذلك، فليكن الأمر كذلك في أحد العبدين. وقد تقدم في تفصيلِ المذهب في العيب الحادث في يد المشتري مع الاطلاع على العيب القديم أنه لو أراد ضمَّ أرش العيب الحادث إلى المبيع وردَّهما، فهل يجبر البائع على قبول ذلك وردِّ الثمن. وقد قال [الأئمة] (2) ردُّ قيمةِ أحدِ العبدين مع العبد القائم أبعدُ عن الجَوازِ؛ من جهة أن العبدَ التالفَ مبيعٌ مقصودٌ، وينفسخ العقد بتلفهِ في يد البائع، فردُّ قيمةِ (3) مقصود أبعدُ من ردَّ أرش نقصانٍ لا يتأصل. ولا خلاف أن العبدَ إذا عابَ في يد البائع، لم يُقضَ بانفساخ العقد في شيء، وليس للمشتري إلا الخيارُ في الفسخ والإجازة، كما تقدَّم. فإن قُلنا: للمشتري ردُّ العبدِ والقيمةِ، فلا كلام. وإن قلنا: ليس له ذلك، فيرجع بأرش العيب القديمِ. ومن تمام تفريع هذا أنه لو طلب أرشَ العيب القديم، فقال البائع: اغرم لي قيمةَ العبد التالف وارددها مع العبد القائم، فهل يجبر المشتري على هذا الحكم إن أراد استدراك الظُّلامة؟ فعلى قولين.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) مزيدة من (هـ 2)، (ص). (3) في (هـ 2): قيمته مقصوداً.

وقد أجرينا مثل هذا في أرش العيب الحادث، وذكرنا الخلاف في مُطالبة البائع المشتري، ومطالبةِ المشتري البائعَ. وهذا آخر القول في أصول تفريق الصفقة، أتينا به على أكمل وجه وأشمله. ونحن نرسم وراءها فروعاً. فرع: 3247 - إذا قال: بعتُك هذين الصاعين بدرهمٍ، فقال المخاطب: اشتريت أحدهما بنصف درهم، فالبيع مردود؛ فإن الصفقة متحدة؛ فلا سبيل إلى تبعيضِها في الجوابِ. وهذا متَّفَقٌ عليهِ، وإن حكمنا بأن الفسادَ في بعض مضمون العقد لا يتَداعَى إلى فساد باقيه وإن (1) كان يصح إفرادُه بالعقدِ. ولو زوج الرجل أمتيه من عبدٍ، فقال العبد: قبلت نكاح إحداهما، فقد قطع الشيخ أبو علي بصحة النكاح، وفرق بين النكاح والبيع، وهذا محتمل. ولو قيل: يجب تخريج ذلك على ما قدمناه في أحكام التفريق من أن الرجل إذا نكح مسلمةً ومجوسيةً في عقد واحدٍ، فهل يخرج فسادُ نكاح المسلمة على تفريق الصفقة أم يقطع بصحة النكاح فيها؟ لكان حسناً. فإن أفسدنا النكاحَ في المسلمةِ بسبب التفريق، وجب القطع بأن تفريقَ القبولِ يمنع صحةَ النكاح. وإن صححنا النكاح في المسلمة، وفرقنا بين النكاح (2) وبين البيع في الترتيبات المقدمة، لم يبعد على ذلك الحكمُ بصحة النكاح في الصورة التي ذكرناها. فرع: 3248 - إذا اشترى عشرين درهماً بدينارٍ، وأقبض الدينارَ، وقبض من الدراهم تِسعةَ عشرَ، وتفرقا قبل قبض الدرهم، انفسخ العقد في الدرهم، وما يقابله من الدينار. وهل ينفسخ في الباقي؟ فعَلى قولين، كما تمهَّد في أصول التفريق. فإن قلنا: لا ينفسخ في الباقي، فهل يثبت الخيارُ للمشتري الذي (3) لم يقبض تمام حقه؟ فعلى أوجهٍ: أحدُها - له الخيار؛ طرداً لقاعدة الخيار عند تبغض مقصودِ [العقد] (4).

_ (1) في (هـ 2): إن (بدون واو). (2) في الأصل: بين النكاح في البيع والترتيبات. (3) في (ص): إذا لم يقبض. (4) ساقطة من الأصل.

والثاني - لا خيار له؛ فإنه هو الذي سعى في هذا التبعيضِ. والمسألةُ مفروضة فيه إذا تفرقا عن اختيارٍ. والوجه الثالث - أنهما إن علما أن العقد ينفسخ في الباقي، وتفرقا على قصدٍ، فلا خيار فيما [جرى] (1) التقابض فيه. وإن لم يعلما ذلكَ، ثبت الخيار للمشتري. فرع: 3249 - إذا نكح امرأتين وأصدقهما عبداً، وقُلنا يصح الصداقُ مُوزَّعاً على مهريهما، على ما سيأتي تمهيدُ هذا الأصل في الصداق. فلو بان فساد نكاحِ إحداهما، وارتد ما ثبت في العبد صداقاً [لها، وثبت قسط] (2) من العبد صداقاً للتي صحّ نكاحُها، قال الشيخُ (3): للزوج الخيارُ في حق هذه التي صح نكاحُها في رَدّ المسمى صداقاً لها، والرجوعُ إلى مهر المثل. والسبب فيه أن العقدَ تبعّض عليه لمَّا بان فسادُ نكاح إحداهما. والتبعيض عيبٌ، فليتخير لذلك. هكذا. قال: وقد عرضتُ (4) هذا على الشيخ يعني القفالَ، فرآه صواباً ورضيه. وهذا مشكِل عندي، فإن التبعيض لم يأت من قِبل هذه التي صح نكاحها، فاسترجاع ما صح صداقاً لها بعيدٌ، ولا يبعد أن ينتسب الزوج في هذا إلى قلّة التحفظ، وتركِ البحث عن حال التي فسدَ نكاحها. فرع: 3250 - ذكرنا اختلافَ القول فيه إذا اشترى الرجل عبدين فأرادَ رَدّ أحدِهما بالعيب، فلو اشترى عبداً فوجد به عيباً، فأرادَ رَدَّ نصفه، فالذي قطع به الأصحاب امتناعُ ذلك؛ من جهة أن التبعيضَ عيبٌ، فلو أثبتنا له ردَّ نصفِه، لكان قابضاً بعيبٍ رادّاً بعيبين. وقال الشيخُ رأيت لبعض أصحابنا أن المسألة تخرج على قولين فيها. وقد رأيتُ هذا لصاحب التقريب. وهو خطأ عندي غيرُ معتد به.

_ (1) في الأصل: يجري. (2) في الأصل: " ... لها وثبت قسطاً". (3) الشيخ: يعني والده. (4) قال: وقد عرضتُ ... إلخ القائل والده.

والذي ذكره الأئمّةُ أنه لو اشترى عبداً، وباع نصفه، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ به، فأراد ردَّ النصفِ الثاني مع ضمه أرشَ عيب التبعيض، فهو يندرج تحت التفاصيل المقدَّمةِ في العيب القديم والعيب الحادث. فرع: 3251 - إذا باع عبداً وحُرّاً (1) من إنسانٍ، وكان المشتري جاهلاً بحقيقة الحال، فالمسألةُ على قولي تفريق الصفقة، ولا يتغيّر الأمر بعلم البائع. ولو كانا عالمين بحقيقة الحَالِ، فقد كان شيخي الإمام يقول: الوجه: القطع بالبطلان، وتنزل المسألة (2) منزلة ما لو قال الرجل لمن يخاطبه: بعتُك عبدي هذا بما يخُصّه من ألفٍ لو وزع عليه وعلى قيمة فلان. وهذا عندي غيرُ سديدٍ. والوجه طردُ القولين في الأصلِ. نعم، يجوز أن يتخيل في صورة العِلم اتجاه قولنا في [وقوع] (3) كل الثمن في مقابلة العبدِ، على أنه خيالٌ أيضاًً؛ فإن تيك المسائل بتفريعاتها مدار على مقتضى الألفاظ. نعم، إن كنا نقول: العقد يُجاز في العبدِ بقسطٍ من الثمن، فلا وجه لاثبات الخيارِ للمشتري؛ فإن العلم بحقيقة الحال ينافي ثبوتَ الخيار. فرع: 3252 - إذا قبض المشتري العبدين، وتلف أحدُهما، وجعلنا له أن يردَّ العبد القائم وقيمةَ التالف، فلو اختلف البائع والمشتري في مقدار قيمة العبد التالف، فالقولُ قولُ المشتري باتفاق الأصحاب؛ فإنه الغارم، وإذا تنازع الغارم والمغروم له، فالرجوعُ إلى [قول] (4) الغارم؛ لأن الأصل براءةُ ذمَّتهِ. وكذلك لو باع رجل ثوباً بعبد وجرى التقابضُ، ثم تلف العبدُ في يد قابضهِ، ووجد قابضُ الثوب عيباً بما قبضَه، فإنه يردُّه، وإن كان عِوضه تالفاً؛ فإن الاعتبارَ بوجود المردود، ولو تلف أحدُ العوضين في يد قابضه ومقابلُه باقٍ، فأراد من تلف في

_ (1) في (ص): أو جزءاً. (2) في (هـ 2)، (ص): وتنزيل العقد. (3) في الأصل، (ص): وقوف. (4) ساقطة من الأصل.

يده ما قبضه أن يغرَم قيمتَه ويردها بناء على وجود المقابل، لم يكن له ذلك، فالتعويل في ثبوت الرد ونفيه على وجود المردود وعدمه. فإذا كان موجوداً فيردّه. وإن كان مقابله تالفاً، فإنه يسترد قيمتَه. ولو اختلفا في مقدار القيمة، فالقول قولُ غارمِ القيمة؛ بناء على الأصل الذي قدمناه. ولو مات أحد العبدين في يدِ المشتري، وقلنا: له أن يردَّ العبدَ القائم من [غيرِ] (1) قيمة التالف ويستردَّ قسطاً من الثمن، وكان لا يتأتى الرجوعُ إلى قسطِ الثمنِ إلا بتوزيعهِ على قيمةِ القائم، وقيمةِ التالف، فاختلفا في قيمة التالف، فالقول قول من؟ فعلى قولين: أحدُهما - أن القول قولُ البائع؛ فإنه يسترد منه شيء من الثمن قد تقدَّم استحقاقه فيه، فعلى المشتري أن يبيّن استحقاقَ الاسترداد. والقول الثاني - أن القول قولُ المشتري؛ فإن البائع يدَّعي استقرارَ ملكه على مقدار، فلا يقبل قولُه مع بدوّ العيب القديمِ. وهذا فيه احتمالٌ على حال. ولعل الأصح الرجوعُ إلى قول البائع ويمينه. فإن قيل: أطلقتم القيمةَ ولم تذكرُوا تفصيلَها، وأنها تُعتبر بأي وقتٍ؛ قُلنا: هذا سَيُذكَر في باب التحالف. ولعلنا نذكر فيه ما يتعلق بأطراف هذا الفَصل إن شاء الله عز وجل. * * *

_ (1) ساقطة من الأصل، (ص).

باب اختلاف المتبايعين

بَابُ اخْتلاَفِ المُتَبايِعَيْنِ قواعد الباب يجمعُها فصول، ونحن نذكرُها على ترتيبها، ثم نتعرض لما يشذُّ منها الفصل الأول في الاختلاف ومعناه 3253 - فليعتقد المنتهي إلى الباب أن المتبايعين إذا اختلفا في صفةِ العقدِ على ما سنصف اختلافَهما، فإنهما يتحالفانِ، ثم يفسخ العقد بينهما أو ينفسخ. والذي يقتضيه الترتيبُ وصفُ اختلافِهما، ثم وصفُ أيمانهما، ثم بيان الحكم إذا تحالفَا. 3254 - فأمَّا الاختلاف؛ فإن اتفقا على المبيع، واختلفا في مقدار الثمن، فقالَ البائع: بعتُه بألف. وقال المشتري بل بخمسمائةٍ، أو اختلفا في جنس الثمن، فذكر أحدُهما الدراهم، وذكر الآخر الدنانير، فالاختلاف على هذه الوجوه يتضمن التحالف. وكذلك لو اتفقا على المبيع، كما ذكرناه، واختلفا في عين الثمن، فقال البائع: بعتك داري هذه بهذا الثوب، وقال المشتري: بل بعتنيها بهذا العبد، فهذا يتضمن التحالف. ولو قال البائع: بعتك داري هذه بعبدك هذا. و (1) قال صاحبه: بعتَني بستانَك هذا بثوبي [هذا] (2)، فما اجتمعَا على ثمنٍ ولا مُثمّنٍ، فليسَ [هذا] (3) من مقصود

_ (1) في (هـ 2): أو. (2) زيادة من (هـ 2)، (ص). (3) مزيدة من (هـ 2)، (ص).

الباب؛ فإن غرض الباب يستدعي اتحادَ العقد واختلافَهما في الصفة، حتى إذا فرض التحالف ابتنى عليهِ التفاسخ في العقد الواحد بينهما، وإذا ذَكر أحدُهما ثمناً ومثمناً مُعيَّنين، وذكر الآخر ثمناً ومثمناً آخرين، فقولاهما راجعان إلى عقدين، فالوجه فيهِ أن يدعي كل واحدٍ العقدَ الذي يذكرُه وصاحبُه إذا استمرَّ على نفيه، فالبينةُ على المدعي، واليمين على من أنكر. وكذلك لو ادّعَى مالك الدار أنه باعها بألفٍ من زيد، فقال زيد: بل وهبتنيها، فليس هذا من الباب؛ فإنهما تَدَاعَيا عقدين، فكل واحد منهما منكر لما يدعي صاحبُه. ولو اختلفا في عين المبيع واتفقا في عَين الثمن، وكان الثمن مُعَيّناً، فهذا موضع التخالف المقصود في الباب؛ فإنهما اتفقَا على أحد العوضين وارتبط العقد به، ورجع الاختلاف بعده إلى تفصيل العقد. وبمثله لو اختلفا في عين المبيع، وذكرا ثمناً في الذمة لم يختلفا فيه مقداراً وجنساً. مثل أن يقول أحدُهما: بعتُك عبدي هذا بألفٍ، ويقول المشتري: بل بعتني جاريتكَ هذه بألف. فكيف السبيل والاختلاف كذلك؟ ذكر العراقيون أن هذا من باب التَّداعِي في عقدين، فإن المبيع مختلَفٌ فيه، والثمن ليس بمتعيَّن حتى يعتقد مرتَبطاً للعقد. فالطريق على مذهبهم فصلُ الخصومةِ عن الخصومةِ، فبينهما عقدان يتداعيانهما كما تقدَّم نظائر هذا. وفي طُرق المراوزة ما يدل أن التحالف يجري في هذا؛ فإنَّ الألْفَ متفقٌ عليه. والكلام في جهة ثبوته والعِوضُ الثابت ديناً مملوك، كالعوض المسمى عيناً. وللعراقيين أن يقولوا: الألف الذي يدَّعيه أحدُهما غيرُ الألف الذي يعترف به الثاني، ويتصور التزام ألفين من جهتين، [فالتعيين] (1) لا يتحقق في الألف، وليس كالعين يتعين ملكاً. وهذا الذي ذكَرُوه مع ما ذكرهُ المراوزة بلتفت على أصلٍ سيأتي في الدعاوى، وهو

_ (1) في الأصل: " لتعيّن ".

أن رجلاً لو اعترفَ بألف لإنسان عن جهةِ ضمان، وأنكر المقَرُّ لهُ الضمانَ، وادَّعى عليه ألفاً عن جهةٍ أخرى أنكرها (1) المقِر، ففي وجوب الألف على المقر خلافٌ مشهورٌ. ولو اعترف رجل بالملكِ في عَينٍ لإنسانِ عن جهةِ، فأنكر المقَرّ له تلكَ الجهة، وادَّعى الملكَ بجهةٍ أخرى، فلا خلاف في وجوب تسليم العين إلى المقرّ له. فهذا مضطرب للفريقين. والمسألةُ محتملةٌ، ويظهر فائدةُ ما ذكرناه في الفسخ. فإن اعتقدنا الألف في حكم العين المتَّحدة، فإذا جرى التحالف، فسخنا العقدَ، وقد نقول ينفذ الفسخُ باطناً، كما سيأتي شرحه، إن شاء اللهُ. فيثبت ما بينهما. وإن لم نر هذا تَحالُفاً في مقصود الباب، فتُفصلُ الخصومتان بطريق فَصلِهما، ولا فسخ ولا انفساخَ، والمبطل منهما في علم الله مطالبٌ بما عليهِ، طرداً لقياس الخصومات. 3255 - وممَّا يتعلق بصفة الاختلافِ أن الزوائد التي تثبت بالشرط (2) إذا فرض النزاع فيها، فالحكمُ التحالف عندنا، مثل أن يدعي البائع شرطَ الرَّهن أو الكفيل، أو شرط البراءة إذا رأينا صحتَه، أو يدعي المشتري شرطَ الأجل في الثمن، أو شرطَ الكتابة وغيرِها في العبد المشترى، فإذا جرى الدعوى والإنكار، فحكم الحال التحالف عندنا، ثم الفسخُ أو الانفساخ بمثابةِ الاختلاف في الثمن والمثمن. وأبو حنيفة (3) لا يثبت التحالف إلا عند فرضِ الاختلاف في الثمن أو المثمن. فإذا صار إلى أن الأصل عدمُ الشرائط المدّعاة، فليكن القولُ قولَ نافيها مع يمينهِ. قلنا: لا ننكر أن هذا قياس جَليٌّ في وضعه، ولكن هذه الشرائط بمثابة مزيد الثمن إذا ادّعاه البائع على المشتري؛ فإن الأصل عدمُ التزامه وبَراءةُ ذمّةِ المشتري عنه، ثم جرى التحالفُ فيه مع قيام السلعة وفاقاً. فإن كان التعويل على الخبر، فذكر الاختلاف في الخبر مطلقٌ لا تعرض فيه للثمن والمثمن. وإن كنا نتكلف تقريب القول من جهةِ

_ (1) في (هـ 2)، (ص): وأنكر. (2) في (هـ 2)، (ص): بالشروط. (3) ر. مختصر الطحاوي: 82، تبيين الحقائق: 4/ 306.

المعنى، فنقول: العقد متفق عليه، والمتعاقدان مختلفان في صفته، فكل واحدٍ منهما يدّعي صفةً وينكر صفةً، وهذا متحقق [والتداعي في الشرائط يحققه] (1) والتداعي في زيادةِ الثمن والمثمن. 3256 - ومما خالف أبو حنيفة رحمه الله فيه الأجلُ، مع العلم بأن التداعي فيه تداعٍ في المالية؛ فإن الألف المؤجل دون الألف الحالّ. ولو اختلف المتعاقدان، فادعى أحدُهما جريانَ شرطٍ مفسدٍ للعقد، وأنكر الثاني، فاختلف أصحابنا: فمنهم من قالَ: القول قول من ينفي الشرطَ؛ لأن الأصل عدمه، ومنهم من قال: القول قول من يثبته؛ فإن [في] (2) إثباته نفيَ العقدِ. وبالجملة ليست هذه الصورة من صور التحالف لما ذكرنا الآن من أن التحالف يترتب على الاختلاف في صفةِ العقدِ، مع الاعتراف بأصلهِ، والنزاع في الصورة (3) التي نحن فيها راجع إلى أصل العقد؛ فإن أحدهما يدَّعيه، والثاني ينفيه. وهذا الاختلاف قريبُ المأخذ من مسألة في الأقارير: وهي أن الرجل إذا أقرَّ بألفٍ من ثمن خمرٍ، فهل نلزمهُ الألف تعلُّقاً بصَدَرِ (4) الإقرار، أم نقول: الكلام بآخرِه، وليس في منتهاه ما يوجب ثبوتَ الألف. 3257 - وذكر القاضي مسألةً، ونحن ننقل جوابَه فيها أولاً، ونذكر وجهَ الرأي: وهو أن البائع لو قال: بعتُك هذا العبدَ بهذَا الثوبِ، وثوبٍ آخر تلف في يدك. وقال المشتري بل اشتريتُه بهذا الثوب لا غير. قال القاضي: هذا يبتني على تفريق الصفقة في الانتهاء، وما يقابل القائمَ من الثمن. فإن قلنا: ينفسخ العقد في القائم أيضاً، فليس يدّعي البائع عقداً في الحال. وإن قلنا: جميع العِوَض يقف في مقابلةِ القائم، فلا معنى للتحالف أيضاً؛ لأن البائع يلزمُه تسليم العبد على هذا القول، فلا يستفيد

_ (1) مزيدة من (هـ 2)، (ص). والضمير في قوله: "يحققه" يعود على العقد. (2) ساقطة من الأصل. (3) في (هـ 2)، (ص): الصفة. (4) " صَدَر ": أي صدور، كما أشرنا قبلاً، أكثر من مرة.

بما ذكره شيئاً. وإن قلنا: القائم الباقي يقابله قسطٌ من الثمن، فهذا يُفضي إلى الخلاف في القدر المستحق من العبد، فيترتب عليه التحالف حينئذٍ؛ [فإنه] (1) تنازع في مقدار الثمن أوّلاً، مقتضاه دوام النزاع في مقدار البدل آخراً. وهذا الذي ذكرهُ حسنٌ سديد في أطرافه. ولكن يتطرق الكلام إلى شيء منه: وهو أنا إذا قلنا: البدل في مقابلة الباقي القائم، فهذه الحالةُ لو جرت، تضمّنت خيار البائع، والمشتري ينكره، فقد أدَّى التنازعُ إلى تناكُرٍ في الخيار، وهو مستند إلى نزاع في المعقود عليه. وإذا ظهرت فائدة وقد استند النزاع إلى صفة العقد في الأصل، اتَّجه التحالفُ؛ فإنهما لو تنازعا في شرط الخيار، [تحالفا مع كون الخيار] (2) زائداً مائلاً عن مقصود العقد، فما الظن بخيار يقتضيه النزاع في أصل المقصودِ. هذا منتهى نظرِنا الآن. والرأي بعد ذلك مشتركٌ بين الفقهاء. وقد نجز بما ذكرناه القولُ في صفة الاختلاف الذي يبتني عليه التحالف. ونحن نقول بعد ذلك: 3258 - الاختلاف في العقود المشتملة على الأعواض يتضمن التحالف، فلا اختصاصَ لما ذكرنا بالبيع، فإذا تنازعَ المتكاريان تحالفا، وكذلك المتصالحان والمتكاتبان، وكذلك إذا اختلف الزوج والزوجة في الصداق، تحالفا، ثم يتأثر بتحالفهما الصداق، كما سيأتي في كتابه - إن شاء اللهُ. وكذلك التحالف جارٍ في [المساقاة] (3)، ومعاملة القراض. والجامع له أن التحالف يجري في كل عقد يشتمل على عوض. ثم العقود تنقسم: فمنها ما يؤثِّر الفسخ في رفعها، ومنها ما لا يرتفع مقصودُها، ويرجع التأثر إلى العوض، [كالصداق] (4)، والخلع، والمصالحة عن الدم، وعقد

_ (1) في الأصل: فإنا. (2) زيادة من (هـ)، (ص). (3) في الأصل: المسافة. (4) في الأصل: فالصداق.

العتاقة. وليست الكتابة كذلك؛ فإن العتق لا يتأكد فيها إلا بعد وقوع العتق. فإن قيل: أي معنىً للتحالف (1) في القِراض، وهو عقد جائز في (2) الجانبين يتمكن كل واحدٍ من المتعاقدَيْن من فسخه؟ قلنا: هذا غفلةٌ عن مقصود الباب؛ فإن التحالف لم يوضع في الباب للفسخ، ولكن الأَيْمان تُعرض على رجاء أن ينكفّ عنها الكاذب، ويستقل العقد بيمين الصادق. والتفاسخ أمرٌ ضروري رآه الشرع بعد جريان التحالف. ولا شك في جريان التحالف في الكتابة، وإن كانت جائزة من جهةِ المكاتَب. 3259 - ونقل بعض من يوثق به عن القاضِي أن التحالف في البيع لا يجري في زمان الخيارِ ومكانه؛ لأن كل واحدٍ منهما في الفسخ بالخيار، فلا حاجة بهما إلى التحالف في ثبوت الفسخ. وهذا غير سديدٍ؛ [لما] (3) ذكرته من أن التحالف ليس موضوعاً للتفاسخ. وقد صرح القاضي بثبوت التحالف في القراض مع جوازه، ونصَّ الشافعي في الكتابة على التحالف، مع جواز العقد في جانب المكاتَب. والذي يتأتى به توجيه كلام القاضي أن توجيه الطلب مع الجواز بعيدٌ، فلو طولب باليمين، وما فيه اليمينُ في أصله ليس [بلازمٍ] (4)، لكان بعيداً. ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: يطالب المشتري بالثمن في زمان الخيارِ، ويُحبس فيه، ويقال له: إن أردت الخلاص، فافسخ، وهذا لا قائل به. ويلزم على مساق كلام القاضي أن يقال: من ادعى على إنسانٍ بيعاً بشرط الخيارِ له، فلا يتوجه اليمينُ على المدعَى عليه توجُّهاً محققاً. ولا يلزم على هذا مطالبةُ السيّد مكاتَبَه بالنجم؛ فإنه يستفيد به فسخَ عقدِ الكتابة إذا امتنع المكاتَب، فعاقبةُ مطالبته رفعُ حقٌ واجبٍ.

_ (1) في (هـ 2)، (ص): في التحالف. (2) في (هـ 2)، (ص): من. (3) في الأصل: بما. (4) ساقطة من الأصل.

والوجه عندي في زمان الخيار أن القاضي لا يلزمهما أن يتحالفا، لو ادَّعَيا ورأيا أن يتحالفا، عَرَض الأيمانَ عليهما، ونظرنا إلى ما يكون من أمرهما. وهذا مشكل أيضاًً؛ فلا عهد لنا بيمين يتخيَّر المرءُ فيها. فهذا منتهى الأمر. وقصاراهُ موافقةُ القاضي. ولستُ أخلي هذا الكتابَ عن طريق المباحثة -مع التمكن من الاقتصار على نتيجة- حتى يتدرَّب الناظر في مسالك البحث. ثم الذي يقتضيه مساق هذا الأمر أن تحالف [المتعاملَيْن] (1) في القِراض قبل الخوض في شيءٍ من العمل لا معنى له. ويعن فيه شيء آخر، هو أن نجعل نفس التناكر تفاسخاً. وستأتي نظائر ذلك؛ فإن الشافعي نص على أن دعوى الرجعة من الزوج في مدَّة الرجعة رجعة، وهذا كلام يطول. وسيأتي في موضعه، إن شاء الله. نعم إذا عمل المقارض، فيعود النزاع إلى مقصود [الأخير في دفعه من أجرِ] (2) مثل أو ربح. فهذا غايةُ القول في ذلك. ثم نختتم الفصلَ ونقولُ: جريانُ التحالف في البيع لا يتوقف على قيام المبيع، بل يجري بعد تلفه، فإن معتمدَهُ العقد، والعقد لا يزول بتلف المبيع في يد المشتري، والخلاف مشهور مع أبي حنيفة (3) رحمه الله. وكما لا يتوقف التحالف على بقاء المبيع، لا يتوقف على بقاء المتعاقدَيْن، فلو ماتا، أو مات أحدُهما، خلف الوارثُ المورُوثَ، وجرى التحالفُ. والتعويل على ما ذكرناه من بقاء العقد؛ فإنه باقي في حقوق الورثة.

_ (1) في الأصل: للعاملين. (2) في الأصل، و (هـ 2): لا خير في دفعه من أجر ... (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 126، مسألة رقم 1203.

الفصل الآخر في كيفية التحالف 3260 - والذي نرى تقديمَه أن تحالفَ المتعاقدَيْن لا يهتدي إليه القياسُ الجلي على الاستقلال في بعض الصور، وقد يجري بعضَ الجريان في بعضِها. فإن كان المبيع متفقاً عليه، ومقدار الثمن متنازعاً فيه، فقد يظهر أن ملك المبيع لا نزاع فيه، وكذلك المُتَّفقُ من قدر الثمن، والزائد على ذلك يدّعيه البائع وينفيه المشتري، والأصل براءةُ ذمّته عنه. هذا وجه. ومعتمد (1) الباب إما الخبر على ما قررناه في الخلافِ، وإما مصلحة ناجزة حاقَّة خصيصَةٌ بالباب، هي أولى بالاعتبارِ من الأمر الكلِّي، وهي أن المتعاقدَيْن يعم اختلافُهما، وكل واحدٍ منهما جالبٌ باذلٌ، فلو خصَصنا بالتصديق أحدهما، جرَّ ذلك عُسراً عظيماً، فرعاية مصلحة العقد أولى من النظر إلى عموم القول في براءة الذمَّة. فإن فرضت بيّنة، فهي متبعة، وإن تعارضت بيّنتان، لم يخفَ حكمُ التَّهاتر (2) والاستعمال. وإن لم تكن بيّنةٌ، فلا وجه إلا التسوية بين المتعاقدَيْن فيما يعم وقوعه. فهذا أصل الباب. 3261 - ثم الكلام يتعلق بأمرين: أحدهما - فيمن يُبدأ به من المتعاقدين، والآخرُ في عدد اليمين وصيغتِها. فأما الكلام في البداية، فظاهر نصوص الشافعي أن البدايةَ بالبائع، ومن ينزل منزلتَه في العقود، ونص في البيع نفسِه أن البداية بالبائع. وقالَ في السلم: البدايةُ بالمسلم إليه. وهو في مقام البائع. ونص في الكتابة أن البداية بالسيِّد، وهو في التقدير في رتبة البائع. ونصُّه في النكاح يخالف هذه النصوص؛ فإنه قال (3): البدايةُ بالزوج. وهو في

_ (1) في (ص): وجه معتمد .... (2) التهاتُر: تساقط البينات وبطلانها. يقال: تهاترت البينات إذا تساقطت وبطلت (مصباح). (3) في الأصل: في البداية.

التقدير في منزلة المشتري إذا أُضيف إلى المقصود بالعقد، وهو استحقاق حِل البُضعِ، فنظر الأصحاب في النصوص، فرأوها مخالفة لما نص عليه في النكاح، واختلفوا على طرقٍ، فذهب بعضهم إلى إجراء القولين، وضربَ النصوصَ بعضَها ببعض. فينتظم في كل مسألةٍ ذكرناها قولان: أحدُهما - أن البداية بالبائع؛ فإن قولَه يدور على مقصود العقد، وهو المبيع، والشرع يَعتَني بإثباتِ العقدِ إذا ثبت أصلُه، فهذا يقتضي تقديمَ من يتلقَّى مقصودَ العقد من جهتِه. والقول الثاني - أن البداية بالمشتري وبمن يحل محلَّه؛ فإن القياس الكلي يقتضي تصديقَ المشتري؛ من جهة أن البائعَ معترفٌ له بالملك في المبيع، لكنَّه يدعي عليهِ مزيداً، وهو يُنكره، فالقياس أن القولَ قولُ المشتري؛ فإن الأصل بَراءةُ ذمّتِه عن المزيد الذي ادُّعي عليه، فلئن لم نكتف بقوله، فلا أقل من البداية به. ثم ما طرَدْناه في البائع يجري في كل من يحل محلَّهُ وهو المسلَمُ إليه في السلم، والمكري في الإجارة، والسيد في الكتابة، والزوجة في النكاحِ. وما أطلقنَاهُ في المشتري يجري في كل من يحل محله في العقود التي ذكرناها. 3262 - ومن أصحابنا من أجرى النصوص على حقائقها في محالّها؛ فقال: البدايةُ بالبائع والمسلَمِ إليه والمكري والسيّد في الكتابة، والبداية بالزوج، وإن كان في مقام المشتري إذا أضيف إلى مقصود النكاح. والسبب في ذلك كُلِّه تقديمُ من يقوى جنبتُه في المسائل. والزوجُ في مقام الاختلاف أقوى؛ من جهة أن مقصودَ العقد يبقى عليه، وإن بلغ التحالف منتهاه؛ فإن النكاح لا ينفسخ، ولا يُفسخ، وهو مقصودُه، فكان جانبه أقوى لذلك. وجانب البائع ومن يحل محله (1 في المسائل أقوى؛ من جهة أن مقصود العقد ينقلب إليه في نهاية التحالف 1) [فكان جانبه أقوى، والمستحق على الزوجة لا ينقلب إليها في نهاية التحالف] (2).

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ص). كما أن فيها تكراراً لعدة أسطر بسبب رجع بصر الناسخ. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

والوجه عندي في تقرير هذه الطريقَةِ أن النكاح في وضع الشرع في حكم المستثنى عن مضطرب الاختلاف، حتى كأنّ الصداقَ ليس في حكم الأعواض المقابلة، وإنما هو مُتعة معجلة للمرأة من جانب الزوج. وهذا المعنَى هو الذي أوجب للزوج [الحكمَ] (1) ببقاء النكاح في نهاية التحالف، فكأنَّ الاختلافَ منحصرٌ (2) في الصداق، فالزوج إذاً هو الذي يُتلقى ملكُ عين الصداق منه، كما أن البائعَ يتلقى ملك المبيع منه، فهذا هو الذي اقتضى البدايةَ بالزوج في الصداق. 3263 - وذكر صاحبُ التقريب طريقين سوى ما ذكرناهما: إحداهما - أن القاضي يبدأ بمن شاء، فلا احتكام عليهِ، والأمر في ذلك مفوّض إليه. وهذا القائل يحمل نصوصَ الشافعيّ على حكم الوفاق في إجراء الكلام، فإنه إذا لم يكن من البداية بأحدِهما بُدُّ، فقد يتفق للخائضِ في الكلام أن يستفتحَ تقديرَ البداية بأحدهما، ثم لا ضَبط للوِفاقِ، فتارةً يَتّّفقُ ذكرُ جانبٍ، وتارة يتفق ذكر جانبٍ آخر. والطريقة الثانيةُ - وهي تداني هذه في مأخذها، أن القاضي يُقرع بينهما إذا تنازعا البداية، كما يُقرع بين متساوقين إلى مجلسهِ، وكل يبغي أن يقدّم خصومَته. والطريقتان صادرتان على قياس؛ فإن المتبايعين إذا كانا يتحالفان، ولا يقدم أحدهما بالتصديق مع اليمين، فلا فرقَ. وما يتكلّفه الفقهاء من تقوية جانبٍ على جانبٍ إذا كان لا يفيد التصديقَ، فلا معنى له. وإذا كان كذلك، فلا ينقدح إلا مسلكان: أحدهما - ردُّ الأَمْر إلى خِيَرةِ القاضي، والآخر - الإقراع. فإن قيل: قطعتم بالإقراع بين المتساوقين إلى مجلس القاضي، ولم تردُّوا الأمرَ إلى اختيار القاضي، فما الفرق؟ قلنا: ذاك مفروض في خصومتين، وللمتقدّم غرضٌ ظاهر في تنجُّزِ مقصوده وانقلابه، والخصومةُ واحدةٌ في مسألتنا لا تنفصل بأحدِ الجانبين، فَذَكَرْنا الخِيَرَة في الاختلاف لهذا.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: فكان الاختلافُ منحصراً.

ونقل بعضُ من يوثقُ به طريقةً أخرى معزيّةً إلى طريقة القاضي، وهي أن القاضي يقدّم منهما من يؤدي اجتهادُهُ إلى تقديمه. وهذا كلام في ظاهرهِ ركيك، من جهة أن القُضاة في الوقائع كلِّها يقضون باجتهادِهم وإنما الكلام كلّه في ذكر وجوه الاجتهادِ. فإذا تعدّينا تقديمَ جانب، فذكر اجتهاد القاضي لا معنى له. والظن أن المراد بهذا تخيّر القاضي، ولكن المعلِّق عنه لم يرَ التّخيُّرَ (1) في الوقائع، فحمل هذا على الاعتقاد في ردَّ الأمر إلى الاجتهادِ. فهذا استقصاءُ أقوال الأصحاب في البداية. 3264 - ووراء ذلك نظر وبحثٌ عندنا. فنقول: إذا تبايع رجلان عبداً بجاريةٍ، واشتمل العقدُ على عوضين من الجانبين، فلا ينبغي أن يظن ظانٌّ أن جانباً يقدَّم على جانبٍ، وقد تبادل المتبايعان عوضين، وآلَ النزاعُ إلى زيادةٍ يدَّعِيها كلُّ واحدٍ على صاحبه، والمدعَى عليه ينفيها، ويدعي زيادةً. وإنما الكلام في البداية. وموقعُ النصوص فيه إذا كان الثمنُ في الذمّة، وكان المبيع عيناً أو جنساً مقصوداً، كالمسلَم فيه؛ فإنّ منشأَ الكلامِ في البدايةِ ما (2) قدَّمناه في توجيهِ القولين على طريقةِ من يُجري النصوصَ على قولين. وإذا فرض الكلام في مبيع مقابَلٍ بثمنٍ في الذمَّة، فميل النص إلى البدايةِ بالبائع. والتسويةُ بين الجانبين - وإن كان منقاساً، فهو إضرابٌ عن النص بالكليّة، والتخريج على خلاف النص يبعد إلحاقُه بالمذهب، فما الظنُّ (3) بالإعراض عن النص بالكلية. والذي أراه في ذلك أن التحكم بالتقديم بعيدٌ. وإذا كنا نقرعُ عند التَّساويَ، فالاستمساكُ بمتعلَّقٍ أولى من تحكيم القُرعة. ثم نص الشافعي يشير إلى تثبيت مقصود العقد، كما قدمناه وهذا النص، ينطبق على ما سنَذكرُه في الفصل الثاني، وهو الاكتفاءُ بيمين واحدة تشتمل على النفي

_ (1) في (هـ 2)، (ص): التخيير. (2) في الأصل: وما قدّمناه. (3) في الأصل: فما للظن.

والإثبات. هذا نصُّ الشافعي على ما سنذكرُه. ثم من نفى وأثبت ونَكل صاحبُه، قضينا للحالف. [فإن] (1) سبق إثباتُه في يمينهِ، تبيَّن نكولُ خصمِه عن يمين النفي. وهذا يخالف قياسَ الخصومات، ولكنْ وَضعُ الشرعِ على الميل إلى إثبات العقدِ. ثم رأى الشافعي صدَرَ العقدِ من البائع، فبنى عليه البدايةَ. هذا منتَهى النظر في ذلك. والذي نجز، فهو أهون الفصلين الموعودين. ونحن الآن نتكلم في صفة اليمين واتحادها وتعَدُّدِها، وهو غمرة (2) الباب، وفيه [اختباطُ] (3) الأصحاب على ما سننبّه عليه، ونوضح الحقَّ، إن شاء الله عز وجل. [فصل في صفة اليمين] (4) 3265 - فنقول: كل واحدٍ من المتعاقدين مُثبتاً نافٍ، وهو متصوّر بصُورة مدّعٍ ومدعىً عليه، فالبائع يقول: بعتُ العبد بألفٍ، وما بعتُه بخمس مائةٍ. والمشتري يقول: اشتريتُه بخمس مائة وما اشتريتُه بألفٍ. وكل واحد في جهة الإثبات مدّعٍ، وفي جهة النفي مدَّعىً عليه. وإذا كان كذلك، فلتقع البدايةُ بالقولِ في عدد اليمين واتحادِها. ظاهر نص الشافعي رحمه الله: الاقتصارُ على يمينٍ واحدةٍ تشتمل على النفي

_ (1) في الأصل: وإن. (2) في (هـ 2) عمرة بدون نقط كدأبها، و (ص) عمدة. والغُمرةُ الشدة، والغمرةُ الزحمة وزناً ومعنى، (وكلا المعنيين يناسب هنا) وأما العَمرةُ، بالعين المهملة، فهي واسطة العقد، وهو معنى يناسب هنا أيضاًً (معجم، مصباح). (3) في الأصل: احتياط، و (هـ 2) بدون علامات إهمال وإعجام دائماً. والمثبت من (ص)، وهو المعهود في أسلوب المصنف. رضي الله عنه. (4) العنوان من عمل المحقق.

والإثبات، كما سنصفها في التفريع. وخرج الأئمة قولاً آخر أن اليمينَ تتعدَّدُ، وزعمُوا أنّهم أخذوا هذا من اختلاف الرجلين في دارٍ تحت أيديهما، كل واحدٍ يدعي أن جميعها له، فالمنصوصُ أنه يتعرَّض كل واحدٍ ليمينين في محالهما؛ إذ يد كل واحدٍ منهما ثابتة على نصف الدارِ، وهو فيه مدعىً عليه، فالقول قولهُ فيه مع يمينه، على نفي دعوى المدَّعي، ولو فُرض نكول من أحدِهما عن اليمين على ما هو مدعىً عليه فيه، رُدّت اليمينُ على صاحبه، فيأتي بيمين الردِّ على صيغة الإثبات، فيدور في الخصومة إمكان يمينين؛ فقال المخرجون: اختلاف المتبايعين بمثابة اختلاف المختلفين في الدار الكائنةِ تحت اليدَينِ؛ من جهة اشتمال الخصومتين في الموضعين على التعرض لمقام المدعي والمدعَى عليهِ. وهذا مُخرجٌ والنص ما قدَّمناه من الاكتفاء بيمين. ومسألة الدار لا خلاف فيها، وليس هذا مما ينقل فيه الجوابُ من كل جانب إلى الجانب الآخر، حتى نفرضَ جَريان القولين في الجانبين نقلاً وتخريجاً. لكنْ مسألةُ الدار متفق عليها. وخرَّج المخرجون منها قولاً في اختلاف المتعاقدَيْن. 3266 - توجيه القولين: من قال بالقول المخرَّج اعتمد قياس الخصومات، ولا يكاد يخفى أن منصبَ المدعي يخالف منصبَ المدَّعَى عليه مخالفةً بينةً، والجمعُ بين مقامين مختلفين بعيدٌ ناءٍ عن القياس. والذي نحققه أن الجمع بين الإثبات والنفي يتضمن تحليفَ المدعي ابتداءً في جهةِ دعواه من غير تقدّم نكولٍ من الخصم عن اليمين فيما هو مدعىً عليه. وهذا بعيدٌ جداً. وبيانه أن البائع إذا قال: ما بعتُ العبدَ بألفٍ، ولقد بعتُه بألفين، فقوله: بعتُ بألفَينِ إثباتُ ما يَدَّعيه، ونحن اعترفنا بخروج البداية بالمدعي في أيمان القسامة عن قياس الخصومات، مع ظهور اللوث والتأكّد بالعدد، ومسيس الحاجة إلى رفع غوائل المغتالين في خلواتٍ وأحيانٍ يَبعُد الإشهاد فيها. ولا ضرورة إلى الاقتصار على يمين واحدة هاهنا. هذا وجهُ هذا القول. وأمَّا وجه القول المنصوص عليه أن البيع بين المتعاقدين في النفي والإثبات في حكم الخَصْلةِ الواحدة.

هذا وضعُ الباب، وهو مضمون الأخبار، وهو اللائق بمصلحة هذا العقد، كما سبق تقريره في صدرِ الفصول؛ فإنَّ الاختلافَ بيْن المتبايعين عامُّ الوقوع، ولا حاجةَ لتخصيص جَانب عن جانبٍ، ولو فصلنا النفيَ عن الإثبات، وأقمنا خصومتين تنفصل إحداهما عن الأخرى، لما انتظمت حكمةُ الشريعة في التسوية بين المتعاقدين، ولما أفضى الأمرُ إلى الفسخ والانفساخ. ولكنّا نقول: القول قولُ المشتري في نفي المزيد الذي يُدعى عليهِ في الثمن، والقول قول البائع في أنه لا يجب عليهِ تسليمُ المبيع لو كنا نؤاخذه بمطلق إقراره للمشتري بالمِلك في المبيع، ونراه مدَّعياً في الجهة التي نذكرُها؛ فإذاً وضعُ الباب على الاستواء، حتى كأنهما يتنازعان نفياً واحداً، وإثباتاً واحداً، ولكن لما اشتملت الخصومةُ على النفي والإثبات، اشتملَت اليمين الواحدةُ عليهما كما سنصفها، ولا يطلع الناظر على حقيقة التوجيه إلا بالتفريع عليهما. التفريع على القولين: 3267 - إن رأينا الاقتصارَ على يمين واحدةٍ، فاتفقت البدايةُ بالبائع مثلاً؛ فإنا نقول له: احلف بالله ما بعتُ العبد بألفٍ ولقد بعتُه بألفين. فإن حلف، عرضنا اليمينَ على المشتري، وقلنا له: احلف بالله ما اشتريت بالفين، ولقد اشتريت بألفٍ. فإن حلف كذلك، فقد تحالفَا. ويقع الكلام وراء ذلك في الفسخ والانفساخ، كما سنصف القولَ فيه، إن شاء الله عز وجل - بعد نجاز صفة التحالف. ولو حلف البائع وكنا بدأنا به، ونكل المشتري، قضَينا للبائع. وهذا خروج بيِّنٌ عن القياس الكُلِّي، وإن كان لائقاً بمصلحةِ الباب؛ فإنا قضينا له بالإثبات سابقاً على النكول من خصمه. ولو عرضنا اليمين على البائع أولاً، فنكل، نعرضُ اليمينَ على المشتري، فإن حلف، قضينا له بالعقد على موجب قوله. وهذا منقاسٌ فإن القضاء جرى بعد تقدّم النكول.

ولو حلف البائع على النفي والإثبات، فحلف المشتري على النفي، ولم يتعرض للإثبات، فالذي ذكرهُ الأئمة أنه يُقضى عليه، ويمضي العقدُ على موجب قول البائع. وهذا في نهاية الإشكال؛ فإنا كنا نُبعد القضاء بالإثبات قبل النكول، وهذا قضاء بالإثبات مع تقدير اليمين على النفي. وسبيلُ الجواب عنه أن صيغة اليمين على هذا القول التعرض للنفي والإثبات، واليمين تُعرض كذلك، فإذا لم يأت المشتري باليمين المعروضة عليه لا نحلّفُه على النفي، وإنما يتحقق النكول عن يمينِ تُعرض، فيأباها المعروض عليه. 3268 - ومما يتعلق ببيان التفريع على هذا القول أن الأئمةَ قالوا: حق من نحلّفه من المتعاقدَيْن أن يذكر صيغة الإقسام باللهِ ويبتدىء بعد ذكر المقسم به بالنفي، ثم يُعْقِب النفيَ بالإثبات؛ فيقول: باللهِ ما بعتُه بألفٍ، ولقد بعتُه بألفين. والغرضُ من ذلك تأصيل اليمين على النفي وإتباع الإثبات إياه؟ من جهة أن القائل قائلان، فيقع الإثبات تابعاً، والتبعية تقتضي تأخير ذكر التابع، وتقديمَ المتبوع. والذي رأيتُ طُرقَ الأصحاب متفقةً عليهِ أن هذا الترتيب مستحقٌّ، وليس ترتيباً مستحبّاً. ولو فُرض قلب ذلك، لم يُعتدّ باليمين. وحكى العراقيون عن الإصطخري أنه قال: ينبغي أن يُقدَّمَ الإثباتُ، ورأى ذلك فيما نُقلَ عنه حتماً. واعتمدَ أن الإثبات هو المقصود وفيهِ يقعُ التناقض المحقق. وهذا متروك عليه؛ فإنه خالفَ الفقهَ الذي ذكرناه من استتباع النفي الإثباتَ. ثم غلا فرأى استحقاقَ تقديم الأثبات. ولو قال: لا يُستحقُّ ترتيبٌ في المقصودين (1) إذا كنا نقضي بالنكول عند ترك أحدِهما، لكان هذا منسلكاً في الاحتمال بعضَ الانسلاك. هذا كُلّه تفريع على الحكم باتحاد اليمين. 3269 - فأما إذا فرَّعنا على القول الآخر، وهو أنا لا نجمع بين النفي والإثبات في يمينٍ واحدةٍ، فالتفريع على هذا القول مزِلّةٌ، وفيه الخبطُ الذي وعدناه، ونحن نأتي على ما يفصّل الأمر، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في (ص): المقصود بل.

فنقول أولاً: إذا بدأنا بتحليف أحدهما، فلا نجمع في حقّهِ بين يمينين في العرض الأول، ولكنا نعرض على المبدوء به يمينَ النفي، ثم ننظر إلى ما يُفضي إليه الحال، فنقول للبائع: احلف بالله ما بعت بالألف، فإن حلف، عدنا إلى المشتري. والسبب فيهِ أن المحذورَ في هذا القول التحليفُ على الإثبات، قبل تبيّن النكول من الخصم عن يمين النفي. فإذا حلفَ من بدأنا به [أولاً] (1) على النفي، عرضنا اليمينَ على صاحبهِ. وكانت اليمينُ المعروضةُ على النفي أيضاً. ثم ننظر فإن حلف المشتري على النفي أيضاً، فهذا [مبتدأ اختباط] (2) الطرق. ونحن نبدأ بما كان يذكرُه شيخنا في دروسهِ، ونستتمّها، ثم نذكر ما ذكره بعضُ الأصحاب، ثم نحكم بما يحضرنا في التصحيح والتزييف. قالَ شيخي: إذا حلف الأولُ على النفي، وحلف الثاني على النفي أيضاً، فقد تحالفا؛ فإنَّ يمينيهما تناقضا في المقصود، وليس أحدُهما أولى بالتصديق، فنكتفي بما جرى، ونقضي بالانفساخ، أو يَنْشَأُ الفسخ. وإن حلف الأول يمين النفي، فعرضنا اليمينَ على الثاني، فنكل، ردَدنا اليمين إلى الأول الحالف، فإن حلف على الإثبات، قضَيْنا له بمُوجَب يمينهِ، وقطعنا الخصومةَ على هذا المقتضى. وقد حلفَ هذا البادىء أولاً وآخراً يمينين، أولاهما على النفي، والثانيةُ على الإثبات. وإن عرضنا اليمين على الأول، فنكل، نعرض اليمين على الثاني، ونكتفي بيمينٍ واحدةٍ تجمع النفي والإثباتَ، ونقضي له بموجَب يمينه. فخرج مما ذكرناه أنهما لو حلفا على النفي، كان ذلك كافياً، ولا نعرِض بعده يمين الإثبات. وإن حلف الأول ونكل الثاني، رددنا اليمين على الحالِف أولاً، فيحلف على الإثبات المجرد؛ فإنه قد حلف على النفي من قبل، ولا يجتمع يمينانِ في حق أحدهما

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: مسمى احتياط، (ص): منتهى اختباط. والمثبت من (هـ 2).

إلا في هذه الصورة في طريقة شيخي؛ فإنهما لو حلفا على النفي ترادَّا، ولو نكل الثاني، حلف الأول، فيجتمع اليمينان. ولو نكل الأول، حلف الثاني يميناً واحدة على النفي والإثبات. فهذا حاصِلُ الطريقةِ التي تلقيناها من شيخنا، ولم أجد لنكولهما عن اليمينين ذكراً. وإني سأذكره بعد نجاز الطرق، إن شاء الله تعالى. 3270 - وذهبت طائفةٌ من أصحابنا إلى سلوك مسلكٍ آخر في التفريع على قول اليمينين، فنأتي به على وجههِ. قالُوا: يحلف أحدُهما على النفي، ونعرض اليمينَ على الثاني، فإن حلف على النفي، لم يتم التحالف بهذا؛ فإنهما لم يتعرضا للإثبات بعدُ، وإنما يتمّ التحالفُ إذا تناقضا في يمينيهما في النفي والإثبات جميعاً، فيحلف بعدَ يميني النفي على الإثبات. ونبدأ بمن بدأنا به أول مرة، فإن حلف على الإثبات، حلّفنا صاحبه، فإن حلف هو أيضاً على الإثبات، فقد تم التحالُف، وحان الحكم بانفساخه أو إنشاء الفسخ، وإن نكل الثاني عن يمين الإثبات، قضينا لمن بدأنا به بموجب يمين الإثبات، وقررنا العقد بينهما على ذلك الموجَب. ومن تمام هذه الطريقة أن الأولَ إذا حلف على النفي، فلما عرضنا اليمينَ على الثاني نكل، فيحلف الأول على الإثبات، ونكتفي، ونقضي له بموجَب اليمينين. ولو نكل الأول عن يمين النفي، عرضنا اليمين على الثاني، واكتفينا منه بيميني واحدةٍ، تجمع النفيَ والإثباتَ، ونزَّلنا العقدَ على موجَبها. [وإنما] (1) اكتفينا بيمين واحدة، لأن المستحلَف في ترتيب الخصومات في مقام يمين الرد، فوقع الاكتفاءُ بيمين واحدة. ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في هذا الفصل الاطلاع على كل ما [انتهينا] (2) إليه؛ فإن تمام البيان في آخِره.

_ (1) في الأصل: وإن. (2) في الأصل، (هـ 2): انتهى.

وهذه الطريقةُ تُباين طريقةَ شيخنا مباينةً ظاهرةً في قاعدة التفريع؛ فإن شيخنا كان يحكم بالتحالف إذا حلَفَا يميني النفي، وهؤلاء لم يحكموا بالتحالف بجريان يميني النفي، بل عرضوا يمينَ الإثبات على الجانبين، فلا تحالف عندهم، إلا بيمينين من كل جانبٍ: إحداهما - على النفي، والأخرى على الإثبات. ولكنهما لا يُجمَعانِ في دفعةٍ بشخصٍ، بل يعرَضانِ في دفعتين، فإذا تَمّ يمينا النفي، أعيد يميناً الإثبات. هذا وإن كان فيه بعضُ البعدِ فلا يَبعُد احتماله على حالٍ. 3271 - وأما إشكال هذا الفصل في (1) شيء: وهو أن هؤلاء يقولون: إذا حلفا يميني النفي، وحلف الأول يمينَ الإثبات، ونكل الثاني عن يمين الإثبات، فقُضي للحالف على الإثبات بمُوجَب إثباته. وهذا مشكل، فإنَّ الذي حلف على الإثبات يمينه معارِضة يمينَ الأول على النفي على المضادّة المحققة، فالقضاءُ بيمين الإثبات مع جَريان يمينٍ على نفي هذا الإثبات مشكل. ووضعُ الخصومة على أنا إنما نحكم باليمين المثبتة للمدعي إذا نكل خصمُه عن يمين النفي. ومثلُ هذا التفريع لا يجري في طريقة شيخنا؛ فإنه يجعل التحالفَ على النفي تاماً في اقتضاء الفسخ، أو الانفساخ، فلا يتفرع بعد التحالف على النفي عرضُ يمينِ الإثبات. فإن قيل: قد ذكرتم الطريقتين، فما الذي يصح على السَّبرِ منهما؟ قُلنا: الأصح طريقةُ شيخنا؛ فإنه لما فزَعَ على اليمينين، ردَّ الأمرَ إلى قياس الخصومات، واكتفى في إثبات التحالف بالتناقضِ والتحالفِ في النفي، فاستدَّ التفريع جارياً على القياس. ولا يتطرق إلى طريقته إلا شيءٌ واحدٌ، وهو أنهُ قال: إذا نكل البادىء، حلف الثاني يميناً واحدة. وهذا حسنٌ منقاس؛ فإن الثاني واقفٌ في مقام من يحلف يمين الرد. ولكني كنتُ أحب أن يقول: يقتصر هذا الثاني على الإثبات، ولا يتعرضُ للنفي

_ (1) جواب (أما) بدون الفاء.

جَرياً على قياس الخصومات؛ فإن من ادّعى شيئاً على إنسان، فأنكره، ثم انتهت الخصومةُ إلى ردَّ اليمين إلى المدّعي. فإنه لا يزيد على إثبات دعواه. ولكن كان شيخُنا يقول: نجمع في يمين واحدة بين النفي والإثبات. وأما أصحاب الطريقة الأخرى، فإنهم بنَوْا ما رتَّبوه على أن النفي والإثباتَ لا بدّ منهما، ولا يتتم الأمر دونهما، وزعموا أنا وإن قلنا بتردد اليمين، فلسنا نعدد الخصومةَ، ولكن نقول: التَنازعُ في قضيّةٍ واحدة مشتملةٍ على النفي والإثبات، فاليمين متعددةٌ، والخصومة [متّحدةٌ] (1)، وقالوا على حسب ذلك: إذا حلفا على النفي، ثم عرضنا يمين الإثبات على البادىء، فحلف، فعرضناها على الثاني، فنكل، فنكوله عن يمين الإثبات آخراً رجوعٌ منه عن اليمين على النفي أولاً؛ فإن الخصومة متَّحدة، فيقع القضاءُ للحالف على الإثبات، بعد بطلان يمين الثاني في النفي والإثبات. ومساقُ كلامهم أن تعدد اليمين كاتحاد اليمين على القول الأول، فلو نكل أحدُهما عن الإثبات، وحلف على النفي، كان نكولُه عن معنى الإثبات نكولاً عن معنى النفي. كذلك القولُ في النفي والإثبات المدرجين في اليمينين. وهذا الذي ذكرناه لهؤلاء تكلّفٌ؛ فإن اليمينين مشعرتان بمقصودين. فهؤلاء المفرعون على قول اليمينين طَمِعُوا أن يستصحبوا سرَّ قولِ اتّحادِ [اليمين] (2)، فإن ذلك القولَ في اتحاد اليمين مأخوذ من اتحاد الخصومة. فإذا فرضنا غرضينِ ويمينين ونكولاً عن النفي، ويميناً ممحَّضَةً للإثبات، فلا يستدُّ عليه إلا طريقةُ شيخنا. وقد نجز القولان وتفريعهما، واختلافُ الطرق في مأخذ الكلام. 3272 - فإن قيل: ذكرتم التفصيل فيه إذا تحالفا، وبينتم حلف أحدهما ونكولَ الثاني، فبيّنوا الحكم فيه إذا ارتفعا إلى مجلس القاضِي وتداعَيا على التناقض، وآل الأمرُ إلى اليمين، فنكلا جميعاً. كيف السبيل فيه؟ قلنا: لم يتعرض أئمة المذهب في

_ (1) في الأصل: متجددة. (2) في الأصل: اليمينين.

مصنَّفاتهم للتنصيص على هذا. والقول في ذلك بَيْن احتمالين: يجوز أن يقال: نكولهما عن اليمينين بمثابة تحالفهما؛ فإنا نجعل نكولَ كل واحد منهما عن اليمين التي ترتد إليه بمثابة حَلِف صاحبه، وينتظم منه تنزيلُ الأمر منزلة ما لو حلفا. وهذا يعتضد بمعنى فقهي يختص بما نحن فيه، وهو أن سبب إنشاء الفسخ أو الانفساخ تعذُّرُ إمضاءِ العقد في استواء المتداعيين على التناقض. وظُهورُ ذلك في مجلس الحكم، وهذا يتحقق بنكولهما كما يتحقق بتحالفهما. وكان [لا] (1) يبعد أن يقال: إذا تحالفَا، وقفت الخصومةُ، وحُمِلا على الوقف إلى أن يتقارَّا، فإذْ (2) لم نقل هذا، دَلَّ على أنّا [لا] (3) نتركُ الخصومةَ ناشبة، ولا ندعهما على التخاصم. وقد ذكر شيخي في طريقه صورةً تعضد ما ذكرناه، وهي أنه قال: لو حلف أحدُهما على النفي تفريعاً على قول تعدد اليمين، وعرضنا اليمين على الثاني، فنكل، فرددنا اليمينَ على البادىء ليحلف على الإثبات يمينَ الردّ، فنكل. قال: نجعل هذا بمثابةِ التحالف، فإن نكولَ البادىء عن اليمين بمثابة حَلِف صاحبه. وهذا أصل ممهَّد في الدعاوي عندنا، وهو أن نكول المردود عليه عن يمين الردّ بمثابة حَلِف الناكل أولاً. فإذا كان ما ذكرنا في طريق شيخنا كالتحالف، فلا يبعد أن نجعل نكولهما كتحالفهما، ولا نعدَم أمثلةَ هذا على بُعدٍ. فالنكاح على قولٍ يرفعه الحكمان إذا أعضل فصلُ الخصومة. وإذا تداعى رجلان مولوداً يحتمل أن يكون من أحدهما أريناه القائف، ولو تناكراه، أريناه القائف كما لو تداعياه. هذا وجه. ويجوز أن يُقال: لا فسخ، ولا انفساخ إذا لم تجرِ يمينٌ فإن التعويل في الباب على ألفاظ الرسول عليه السلام، وجُملة ما نقله الرواة مقيَّدٌ بالتحالف، فإذا لم تجر يمين أصلاً، فكأنَّهما تركا الخصومةَ (4 ولم يُنهياها نهايتَها والفسخ منوط بنهايةِ الخصومة 4). وقد رأيتُ ذلك في بعض تصانيف المتقدمين. والعلم عند الله.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (هـ 2)، (ص): إذا. (3) ساقطة من الأصل. (4) ما بين القوسين ساقط من (ص).

فصل كتاب البيع باب اختلاف المتبايعين 3273 - إذا جرى التحالف على الوصف الذي ذكرناه، فالقول بعده فيما يصير العقد إليه. فظاهر نص الشافعي أن العقد لا ينفسخ، ولكن يُنشأ فسخه، ووجه ذلك بيّن؛ فإنه لا يتحقق بالتحالف إلا تعَدُّرُ إمضاءِ العقد، لو أصرّا على اختلافهما. ولا بأس من أن يصدّق أحدُهما الثاني، فلا معنى للحكم بالانفساخ. ولكنا نقول لكل واحد منهما: إما أن توافق صاحبك وتصدُقَ إن كنتَ الكاذب. وإما أن تفسخ العقد. وذكر بعض أصحابنا قولاً اَخر مخرّجاً: أن العقدَ ينفسخ. وهذا القول منسوبٌ إلى أبي بكرٍ الفارسي، وفقهُه عندي أن العقد إذا انتهى إلى التنازع في المعقود عليه، فنجعل كأن العقدَ فُرض إنشاؤه مع الاختلاف في المعقود عليه، ولو كان الأمر كذلك لما انعقد العقد. فإن أفضى الأمر إلى هذا وتأكد بالأيمان، قدَّرنا كأن صيغةَ العقد كانت على الاختلافِ، وصيغةُ هذا المذهب المنسوب إلى الفارسي تُشعر بأنّا نتبيّن أن لا عقد استناداً. وهذا ضعيفٌ. ولا خِلافَ أن الزوائد التي حدثت بعد العقدِ وقبل التحالف مقررةٌ على المشتري، وكذلك لا خلاف أن المشتري لو كان تصرف تصرفاً مزيلاً للملك، ثم فرض الاختلاف من بعدُ، فلا نتبيَّن فساد العقد وارتفاعَه. وذكر الشيخ أبو علي في تفريع مذهب الفارسيّ أنا نتبين فسادَ التصرّفات التي جَرت قبل التحالف. وهذا وفاءٌ بحق التبيُّن والإسناد، ومَصيرٌ إلى أن نجعل كأَنَّ العقد لم يَجْرِ، وهذا يتضمن ارتدادَ الزوائد إلى البائع لا محالةَ. هكذا ذكر الشيخ أبو علي. ولو قيل: التحالف يوجب الانفساخَ، لأمكن تقريرُ وجهٍ فيه، من غير ردَّ الأمر إلى تقدير وقوع العقد كذلك؛ فإنَّ استحقاق إنشاء الفسخ إن نيط بالتحالُفِ، فغيرُ بدع أن تناط به عين الانفساخ.

وهذا على بعده أمثل مما ذكرناه. التفريع: 3274 - إن حكمنا بأن الفسخَ يُنشأ، فقد اختلف أصحابنا فيمن يتولاه: فمنهم من قال: يتولاه الحاكم أو من يفوِّض الحاكمُ إليه. ومنهم من قال: يتولاه المتعاقدان. وهذا الوجه الأخيرُ أفقهُ؛ فإن التحالف تحقق جريانه، وهو المعتبر في إثبات حق الفسخ، ولا يبقى بعد جَريانه مضطرَبٌ لنظر الحاكم، فتعليق الفسخ [بإنشائه] (1) بعيدٌ في المعنى، وإن كان مشهوراً في الحكاية. ثم حكى أئمتُنا أن البائع إذا كان يفسخ البيعَ بسبب إفلاس المشتري بالثمن ووجود (2) عين المبيع، فهو الذي يفسخ. قطعوا بهذا. وهذا حسن. وإفلاس المشتري إن كان مجتهداً فيه، فالحجر مطَّرِد عليه والتعذر متحقق. وإن لم نتحقق في علم الله الفَلَس. وقال بعض الأصحاب: القاضي هو الذي يفسخ النكاح عند تحقق العُنَّة وجهاً واحداً، والزوجة تتعاطى الفسخ بالإعسارِ بالنفقة. ولستُ أرى بين العُنَّةِ والإعسار فرقاً؛ فإن الأمرين جميعاً متعلقان بالاجتهادِ، فليخرَّج الأمرُ فيهما على التردد الذي ذكرناه في التحالُفِ، والقياس في الجميع أن الفسخ لا يتوقف على إنشاءِ القاضي. نعم، لا بد من حكمه بثبوت العُنّة والإعسار. ولا حاجةَ إلى حكمه بعد التحالف. وأما فسخ البائع بسبب الفلسِ، ففيهِ مزيدُ (3) نظَرٍ، سنذكرهُ في كتاب الحجر، إن شاء الله عز وجل. 3275 - ثم إذا ثبت ما ذكرناه في الفسخ والانفساخ، فالقول بعده في الظاهرِ والباطنِ. فإن حكمنا بالانفساخ، نفذ ذلك ظاهراً وباطناً عُقيبَ التحالف، ولا حاجةَ في هذا القولِ إلى عرض الأمر على المتعاقدَيْن بعد التحالُف. وإن قُلنا بفسخ العقد، وهو المذهب، فالفسخ ينفذ ظاهراً وباطناً أم ينفذ ظاهراً

_ (1) في الأصل: ما تشابه. (2) في الأصل: ووجوده. (3) ساقطة من (هـ 2).

والكاذب مؤاخذٌ بعُهدة العقد بينه وبين الله تعالى؟ قال الأئمة: إن كان المشتري كاذباً، وكان الثمن ألفين، وهو منكرٌ لألفٍ واحدٍ، فإن جرى الفسخُ، انفسخ العقد ظاهراً وباطناً، ونزل التعذُر المترتب [على التحالف، منزلةَ التعذّرِ المترتب] (1) على الفَلَس؛ فإنّ البائع يقدر على بعض من الثمن، لو رضي بالمضاربة والمخاصَمة، فجعل تخلّفَ بعضِ الثمن عنه مُسلِّطاً على الفسخ والرجوع إلى المبيع ظاهراً وباطناً. وإن كان البائع كاذباً والتفريع على إنشاء الفسخ، فهل ينفسخ العقد باطناً؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه ينفسخ باطِناً؛ لأن صورة التحالف تقتضي رفعَ العقد إذا أصرَّ المتعاقِدان المتحالفان. والوجه الثاني - أن الفسخ لا يقع باطناً؛ فإن البائع هو الكاذب، والتعذُّر راجع إلى جهة المشتري، وليس لهذا النوع من التعذّر نظيرٌ يثبت حقَّ الفسخ، كما ذكرنا نظير الفلسِ في جانب المشتري. وحق الناظر أن يحوي (2) هذه الفصول ويَعيها. وتمامُ البيان في نجازها. وذكر شيخي أبو محمد رحمه الله طريقةً أخرى فقال: إذا كان البائع كاذباً، فلا ينفسخ البيعُ باطناً وجهاً واحداً. وإن كان البائع صادقاً والمشتري كاذباً، ففي الانفساخ باطناً وجهَانِ. والطريقةُ المشهورةُ ما قدَّمناها، والبيان بين أيدينا بعدُ. 3276 - فنقولُ: في هذا الفصلِ مباحثةٌ جليَّةٌ أغفلها الأصحاب. ونحن نأتي عليها بعون الله تعالى فنقول: أولاً - ذهب ذاهبون إلى أن القاضي هو الذي يتولى الفسخَ، كما تقدّمَ، وسببُه أنه مادام يرجو تصديقَ أحدهما الآخر، فإنه لا يفسخ، فدرْكُ ذلك الوقت إلى نظرهِ، فكان (3) هو المتعاطي للفسخ.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في (ص): يجري. (3) في (هـ 2)، (ص): وكان.

فلو قالَ المتعاقدان: لا نريد أن نفسخ، ونحن على خصامِنا نتنازع، فالقاضي يفسخ. وإن قالا: أعرضنا عن الخصومة، ولم يصدّق أحدُهما صاحبَه. ولكن زعم المشتري أنه تَركَ المبيع في يدِ البائع، وقالَ البائع لستُ أطالبُ المشتري بالمزيد الذي ادّعيته، فاتركنا ولا تفسخ العقدَ بيننا. فللأصحاب في هذا لفظٌ ننقله، ثم ننظر. قالوا: "إذا جَرى التحالفُ، فإن رغب أحدُهما في الأخذ بقول صاحبهِ، فذاك، وإلاَّ فسخ بينهما للتعذر". وظاهر هذا يدل على أن أحدهما إن صدَّق الآخر، اندفع الفسخ. وإن لم يجرِ من أحدهما تصديقُ الآخر، فالقاضي يفسخ. ولكن في كلام الأصحاب ذكرُ التعذر، فإنهم قالوا: "فسخ للتعذر" والمسألةُ على الجملة محتملةٌ إذا أعرضا وقطعَا الطَّلِبة، فيجوز أن يقال: يقطع القاضي مادَّة الخصومة بالفسخ؛ فإنّه لا يأمن أن يعودا في مستقبل الزمان. وإنما تنقطع مادةُ الخصام بالتصادق على قولٍ أو بالفسخ. ويجوز أن يقال: إذا أعرضا، فلا تعذُّرَ، وإنما التعذُّر إذا كانا على التآخذ والمطالبة، وقالا للقاضي: وفِّ حَقَّ كُلِّ واحدٍ منَّا على ما يليق بالحال، أو التَمسا الفسخَ، فيبعدُ (1) أن نحكم بوجوب الفسخ. فهذا تردد واقع. ثم نقول: إن كان الفاسخ هو القاضي، فالذي ذكرهُ الأصحابُ في الظاهرِ والباطنِ مفهوم. وإن قلنا: الفسخ إلى المتعاقدَيْنِ، فإن توافقَا على الفسخ، فلا شك في انفساخ العقد باطناً، ولا يجوز أن نقدِّر في هذا خلافاً؛ فإنهما إذا تفاسخا، فقد جَرى الفسخُ من صَادقٍ محق، فيجب القضاءُ بتنفيذ فسخه، سواء كان ذلك المحق البائع أو المشتري. فإن كان المحق هو البائع، فهو مشبهُ بمسألة الفلس. وإن كان المحق هو

_ (1) في الأصل: ويبعد.

المشتري، فالمبيع لم يسلم له بالثمن الواقع في علمِ الله تعالى. وإذا تعذَّر استيفاءُ المبيع على الجهة المستحقَّة في العقد، فثبوت الخيار للمشتري أَوْجَه؛ فإنّ من لم يُثبت الخيارَ للبائع بعذر الفلس، أثبت الخيار للمشتري بتعذّراتٍ تطرأ على المبيع. 3277 - وتمام البيان في هذا أنا إذا قلنا: يثبت حق الفسخ لهما لا نشترط أن يتوافقا؛ فإنهما قد لا يتوافقان. وتبقى الخصومة ناشبة بينهما. ولكن من ابتدرَ إلى الفسخ منهما يحكم به [أولاً] (1) في ظاهرِ الأمرِ. ولكن إن كان الفاسخ مُحقّاً فالوَجه تنفيذ الفسخ باطناً. وإن كان مبطلاً، فالوجه: القطع بأنه لا ينفذ الفسخ باطِناً. والوجهانِ يختصان بفسخ القاضي؛ فإنّ فسخه يرجع إلى مصلحة، فإن تخيلنا نفاذه باطناً، فمن هذه الجهة. وهذا لا يتحقق فيهِ إذا كان (2) أنشأ المبطِل الفسخ. وتمام البيان أنا إذا قلنا: لا ينفذ الفسخ باطناً على وجه فيهِ إذا تولَّى القاضي الفسخَ، فهل يثبت للمحق من المتعاقدين أن يفسخ ويوافقَ القاضي؟ هذا فيه احتمال؛ من جهة أنا إذا فوَّضنا إلى القاضي، فلا يمتنع أن لا يثبت للمتعاقدَيْن فيه سلطنة. ولكن الظاهر أنه ينفذ فسخ المحق باطناً، وإن كان لا يستقلّ به في الظاهر. هكذا ذكره شيخي. والدليل البات فيه أنا إذا لم نثبت هذا المسلكَ، لما كان في الحكم بالفسخ ظاهراً فائدة. ولكن يُعنَى من الفسخ زجرُ القاضي إياهما عن التآخذ. هذا منتهى [البيان] (3) ولم نخالف الأئمَّةَ، ولكنهُم لم يبحثوا، ونحن بنينا البحث على ما تلقيناه منهم.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من (هـ 2)، (ص). (3) في الأصل: الباب.

فصل 3278 - إذا اختلف المتبايعان والسلعةُ قائمة، لم يلحقها عيب، تحالفَا وتَرادَّا، على ما سَبق تفصيل الفسخ والانفساخ. وإن لحق السلعةَ عيب نقصَ من القيمة وفُسِخ [العقدُ] (1)، استردَّ البائعُ السلعةَ، وغرِم المشتري أرشَ العيب. والأصل المعتبرُ في هذا وأمثالِه أن السلعةَ لو كانت تالفة، فالفسخ يجري بسبب التحالُف بعد تلفها عندنا؛ فإن معتمدَ الفَسخ التنازُعُ في العقد، والتنازُع واقع والعقد دائم، فيترادّانِ، ويستردُّ البائعُ قيمةَ المبيع ويردُّ الثمنَ. فإذا [كان] (2) يغرم القيمةَ عند تقدير التلف، يغرم أرش العيب عند ثبوت العيب، وكل يدٍ تضمن القيمةَ عند الفوات، تضمن أرشَ النقصان عند النقصان. وهذا مطَّرد، ولا يجوز أن يُعتقدَ خلافُه. وهو منعكس؛ فإن المبيع إذا عابَ في يد البائع، لم يلتزم البائعُ للمشتري أرشَ العَيبِ؛ لأن المبيع لو تلف في يَده، لم يلتزم قيمتَه، بل الحكم بالانفساخ. ولا يُمكننا أن نُثبتَ في العَيب الانفساخَ؛ فإن الفائت بسبب العيب جزءٌ ليس مقصوداً مفرداً على حيالهِ، فكان أقربُ الأمور تخييرَ المشتري في الفسخ. 3279 - وذكر الشيخ أبو علي بعد تمهيد ما ذكرناه في الطرد والعكس مسألة، ظاهرها يخالف ما مفَدناه. وهي أن من عَجَّل شاةً عن الزكاة قبل وجوبها، ثم تلف مال المعجِّل قبل حلول الحول؛ فإنه يسترد على تفصيلٍ، سبق ذكره، فيسترد الشاةَ من المسكين، إن كانت قائمة، وإن كانت تالفة، رجع عليه بقيمتها، وإن كانت باقيةً ولكنها عابت في يد المسكين، قال الشافعي: يُخرج الإمامُ من المال العام أرشَ النقص، ويضمُّه إلى الشاة، ولا يكلف المسكين غُرمَ العيب. وهذا بظاهِرِه يخالف ما مهَّدناه من إتباع الأرش القيمةَ. وذهب بعض أصحابنا إلى القول بظاهر النّص. وهذا خيالٌ لا أصل له. والوجْهُ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: فإذا لم يغرم ...

حملُ نصِّ الشافعي على الاستحباب عند اتساع المالِ. ثم هذا يجري في القيمة لو تلفت الشاة. فلو كانت الجارية المبيعةُ خليةً عن الزوج حالة العقدِ، فزَوّجها المشتري، ثم فرض التحالف والفسخُ، فالتزويج عيبٌ. قال الشيخ أبو علي: لو اشترى عبداً، ثم أذن له فزَوَّجه (1)، فتزويجُه عيبٌ؛ فإنه يشغل كسبَه وتنقص الرغبةُ فيه، وهذا بيّن. ثم إن جرى التفاسُخُ والسلعةُ تالفةٌ، فالرجوع إلى القيمة. 3280 - ثم اضطربَ الأصحاب في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة السلعة، فذكر العراقيون قولين: أحدهما - أنا نعتبر قيمة التالف؛ فإن القيمة تخلُفُ العينَ ومورد الفسخ العينُ لو بقيت، فإذا فاتت، فنعتبر القيمةَ من وقت فواتِها. والقول الثاني - أنا نعتبر أقصى قيمةٍ من يوم القبض إلى يوم التلف؛ فإن البائع يبغي العينَ، وكان تقدير الفسخ ممكناً في كل وقتٍ من القبض إلى التلف، فتعتبر أرفع قيمةٍ. وذكر شيخي قولاً ثالثاً، وهو أنا نعتبر قيمةَ يوم القبض؛ فإنها أولُ دخول المبيع في ضمان المشتري، فلا ننظر إلى زيادةٍ بعد ذلك أو نقصان؛ فإن الزيادة إن كانت، فهي على ملك المشتري. والنقصان إن كان، فهو من ضمانه. وذكر بعض الأثْباتِ (2) قولاً رابعاً: وهو أنا نعتبرُ أقل قيمةٍ من يومِ العقدِ إلى يوم القبض. فإن كانت قيمته يوم العقد أقل، فالزيادةُ على ملك المشتري، وإن كانت يوم القبض [أقلَّ] (3)، فهي المعتبرة، فإنها قيمةُ يوم الضمان. وأما ما يكون بعد ذلك من زيادة ونقصان فهما غير مُعتبَرين كما قدَّمناه. وهذا أضعف الطرق؛ فإن إدخالَ يوم العقد في الاعتبار بعيدٌ في هذا المقام.

_ (1) في (هـ 2): فزوّج. وسقطت من (ص). (2) في (ص): الأصحاب. (3) سقطت من الأصل.

وقد قدمنا في باب الخراج بالضمان اختلافاً في قيمته، وذلك الاختلافُ يباين ما نحن فيه. ولا نجد بداً من إعادة تصوير ما مضى، ليتبين الفرقُ بين المقامَيْن للناظر. ذكرنا أن من اشترى عبدين، وتلف أحدُهما في يدهِ ووجد بالثاني عيباً، وفرَّعنا على أنه يُفرِد العبدَ الموجود بالردّ، ويستردّ قسطاً من الثمن، وسبيلُ التقسيط توزيعُ الثمن على قيمة التالف والباقي، ثم قيمةُ التالف في غرض التوزيع بأيّ يوم تعتبر؟ فيه أقوال: أحدها - أنا ننظر إلى قيمةِ يوم البيع؛ فإنا نحتاج إلى التوزيع ومعناه بيان ما وقع من المقابلةِ (1 والتقسيط ابتداء 1). والقول الثاني - أنا نعتبر حالة قبض المشتري؛ فإن المبيع عندها يدخل في ضمانهِ. والقول الثالث - أنا نعتبر الأقلَّ من يوم البيع إلى القبض. وقد وجَّهنا هذه الأقوالَ. وليست القيمةُ فيها على نسق القيمة التي يغرمها المشتري عند التحالف؛ فإن تلك القيمةَ لم نثبتها ليغرم، وإنما قدرناها ليطلع (2) بها على حقيقةِ التوزيع. وهذا يستدعي لا محالة نظراً إلى يوم العقد. وقد يَظُن ظان أن الاعتبار بأول حالِ الضمانِ، فعنده قرار (3) الضمان. فأما اعتبار التلفِ، فلا يقتضيه هذا الأصل. والقيمة في مسألَتِنا مغرومة، فاعتبار العقد فيها بعيدٌ، واعتبار التلف قريب. فليفصِل الناظر بين البابين. وإذا قلنا: لا يرد العبدَ القائمَ إلا مع قيمةِ التالف، فيضم القيمةَ إلى العبدِ القائم (4)، ويسترد جملةَ الثمن، فقيمة العبد التالف مغرومة مبذولة، والتفصيل فيها كالتفصيل في السلعة التالفة، إذا كان المشتري يغرَم قيمتها بعد التحالف. فهذا تمام ما أردناه في ذلك.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ص). (2) في (هـ 2)، (ص): حتى يطلع. (3) في الأصل: قرر. (4) في (هـ 2)، (ص): الباقي.

3281 - ولو اختلفَ المشتري الغارم في مسألة التحالف والبائعُ المغروم له في مقدار القيمة، فالقولُ قولُ الغارم. وهذا أصلٌ تمهّد، نبهنا عليه فيما تقدَّم. ولو اشترى عبداً وقبضه وأَبِق من يده، ثم اختلفا وتحالفا، فالفسخ جارٍ؛ فإنه إذا كان لا يمتنع الفسخ بتلف المعقود عليه، فلا يمتنع بإباقه والعجزِ عن تسليمه. ثم إذا نفذ الفسخ، غرِم المشتري قيمةَ العبدِ؛ فإن كل من يغرِم عيناً لو تلفت بقيمتها، يغرِم قيمتَها عند وقوع الحيلولة فيها. ثم العبد في إباقه ملك من؟ المذهب الأصح أنه ملك البائع، والفسخ نقضَ الملكَ فيه إلى البائع، والقيمةُ التي أوجبناها سببها الحيلولةُ. فعلى هذا إذا عادَ العبد تعين رَدُّه، ثم القيمةُ مسترَدَّةٌ وينْزل (1) إباق العبدِ فيما نحن فيه منزلةَ إباق العبد المغصوب؛ فإن الملك فيه للمغصوب منه، ولكن القيمةَ تلزم الغاصبَ؛ لمكان الحيلولة. وإذا عاد العبدُ ردّه الغاصبُ واستردّ القيمةَ. هذا وجه. ومن أصحابنا من قال: الملك في العبد الآبق لا يرتد إلى البائع، والفسخ لا يَرِد على الآبق وإنما يرِد على القيمة كما يَرِد عليها إذا كان المبيع تالفاً؛ وذلك لأن الفسخ يستدعي مورداً ناجزاً، والذي تنجز فيه لا يغيّر، ولا يحال. والأصح الوجه الأول. ونحن نقول في الوجه الثاني إن الفسخ إذا ألزم المشتري القيمةَ، أبقى عليه ملك العبدِ الآبق. ولو أعتق المشتري العبد المشترَى، أو كان اشترى جارية واستولدها، فالعتق والاستيلاد بمثابة التلف، وقد تقدم تلف المبيع. ولو كان اشترى عبداً، فرهنه وأقبضه أو كاتبه كتابةً صحيحة، ثم جرى التحالُف فالفسخ، فالمشتري مطالبٌ بالقيمة لا محالة، كما لو أبق العبد. 3282 - ثم اختلفَ الأصحاب في أن الملك هل ينقلب في رقبةِ المرهون والمكاتب إلى البائعِ؟ فمنهم من قال: ينقلب إليه، ولكن على المشتري القيمةُ لمكانِ

_ (1) في (هـ 2)، (ص): يتنزل.

الحيلولة. والتفريع عليه كما تقدَّم في العبدِ الآبق. ومنهم من قال: يَرِدُ الفسخُ على القيمة، ولا معدل عنها، ولا ينقلب الملك في الرقبة إلى البائع. وكان شيخي يردد جوابه في الآبق على نحو ما سبق، ويقطع بأن الفسخ يَرِد على القيمةِ في المكاتب والمرهون؛ فإن المرهون خارجٌ عن قبول التصرف بجهة الردِّ، والمكاتَب كذلك. ونحن إنما نمنع بيعَ الآبق للعجز عن تسليمه لا لنقصٍ في ملكِ الرقبة. وكان يعضد ذلك، ويقول: إذا باع رجل عبداً وسلمه، ثم أفلسَ المشتري بالثمن والعبدُ آبقٌ، فللبائع الفسخُ، ويرجع إليهِ الملكُ في رقبةِ الآبق. ولو كان رهنه المشتري، أو كاتَبه، فليس للبائع ردُّ الملكِ في المكاتب والمرهون إلى نفسه. وهذا عندنا حسن بالغ؛ فإن الرهن إذا كان لا ينفك، فيتعين أن يبقى مملوكاً للراهنِ، وكذلك القولُ في الكتابة. وإذا بقي مملوكاً له حالةَ نفوذ الفسخ، فيستحيل أن يتغير هذا بعد الفسخ. 3283 - ولو اشترى عبداً وأجّره، ثم جرى التحالف. فإن قلنا: الإجارةُ لا تمنعُ صحَّة البيع، وَرَدَ الفسخُ على رقبة العبدِ. وإن قلنا: الإجارةُ تمنع صحةَ البيع، فهذا فيه احتمال عندي يجوز أن يقال: يُنْحى بالعبد المستأجَر نحو الآبق؛ فإن البيعَ يمتنع فيه، لا لحقِّ المستأجر في رقبته -[وموردُ] (1) البيعِ الرقبةُ- وإنما امتنعَ البيعُ ليد المستأجر، ومَنع الشرع من إزالتها، وليس كذلك المرهون؛ فإن للمرتهن حقّاً في مَاليَّه الرقبة، وكذلك (2) َ القول في المُكاتَب. هذا وجهٌ من الاحتمال، وهو الأظهرُ. ويجوز أن يقال: العبد المستأجَر كالمرهون والمُكاتب. هذا بيان هذا الفن. وعَبَّر الشيخ أبو علي عن هذا الغرض بعبارةٍ أُخرى، فقال: لو اختار البائع الفسخَ

_ (1) في الأصل: وهو رد. (2) في الأصل: وليس كذلك.

والرجوعَ إلى القيمةِ، فله ذلك، ولو قال: أصبرُ حتى يفك الرهن، فله ذلك. وهذا عندنا يخرّج على ما ذكرناه، فإن عجَّل الفسخ وأَرادَ القيمة، أُجيب إليها، ثم القول في أن المرهون عند انفكاكِ الرهن هل يعود إليه؟ على ما مضى. وإن لم يُرِد القيمةَ، وقال: أؤخر حقّي إلى انفكاكِ الرهن، فهذا نخرّجه على الخلافِ المقدَّم. فإن قلنا: الملك في المرهون ينقلب إليه، فله أن يؤخر طلبَ القيمة. وهذا يبنيه أصل، وهو أن كلَّ ما يجب بدلُه لمكان الحيلولة وكان زَوالُها ممكناً، فإن طلبه ذو الحق، لزم إسعافُه، وإن لم يطلبه، فأراد الضامن أن يجبره على قبوله، لم يكن له ذلك. وليس كما لو أراد من عليه دين مستقر أن يجبر مُستحِقّه على قبولهِ، فإن الأصح أنه يُجبرُ على القبول. فنقول في مسألتنا: إن قلنا: أصلُ حق البائع القيمةُ، ولا مَعْدِل عنها، فيظهر إجباره على قبولها، على قولٍ؛ قياساً على الديون كلها. وإن قلنا: القيمة تثبت للحيلولة، فلا يُجبر البائع على قبولها. 3284 - فرع لابن الحدَّاد بناه على صورة التحَالف، ولا اختصاص له بمقصود الباب. ونحن نذكر غرضه على الإيجاز [والاختصار] (1) ونتعدَّاه. فإذا تحالف المتعاقدان، وفرَّعنا على أن العقدَ يُفسخ ولا ينفسخ، فلو قال البائع قبل إنشاء الفسخ: هذا العبد حرٌّ إن صدق المشتري. وقال المشتري: هذا العبد حرٌّ إن صدق البائع. فإذا جرَى هذا [منهما] (2) بعد التحالف، ثم أنشأ القاضي الفسخ، نفذ الفسخُ، وحكمنا بأن العبد حر على البائع في الظاهر. وسبب ذلك أن المشتري قال قولاً لو كان كاذباً فيه، لعتق العبد، والبائع ادّعى كذبه وحلف عليه، فيجتمع من تكذيب البائع إياه، ومن قول المشتري: هو حُرّ إن صدق البائع كونُ الحرّيةِ حاصلةً على موجَب قول البائع، وهو مؤاخذ بإقراره. فهذا إذن عتقٌ محكومٌ به، ونفوذه في الباطن موقوف على موجَب علم الله.

_ (1) زيادة من (ص). (2) في الأصل: مبهماً.

فإن كان المشتري كاذباً، فالعتق واقعٌ لا محالةَ، وإن كان صادقاً، لم يقع باطناً، ولكن حُكم به ظاهِراً، من قِبَل أن العبد ارتد إلى البائع، فكان مؤاخذاً بموجَب أقوالهِ السابقة فيه. وهذا بمثابة لو قال رجل: أعتقَ فلان عبده، فلو اشتراه هذا القائل، نفَّذنا العقدَ، وحكمنا بنفوذ العتق عليه ظاهراً؛ فإنه لم يقبل قولُه في حق البائع؛ فهو مؤاخذ بحكم قول نفسه، وهذا واضح لا يُحتاج فيه إلى تكلّف بيان. ثم ولاءُ هذا العبدِ مشكل، ليس يدَّعيه البائع لنفسه من قِبَل أنه يقول: عَتَقَ هذا العبدُ على المشتري، فالولاءُ له، والمشتري يأباه؛ فكان الولاءُ موقوفاً. ولهذا نظائر ستأتي في كتاب الولاءِ، إن شاء الله. ولو لم يفسخ العقد، وقال المشتري بعد جريان التفاوض الذي ذكرناه بينه وبين البائع: قد صدق البائع. فنقول: العقد يقرَّر بينهما، والعتق ينفذ على المشتري تحقيقاً إن صدق في تصديق البائع، والولاء له في ظاهِر الحكم. ولو قالَ البائع قبل إنشاءِ الفسخ: صدق المشتري فيما ادَّعاه، فالعقد يقرَّر على موجب قول المشتري ولا ينفذ العتق على المشتري، وقول البائع لا يوجب العتقَ في العبد المبيع، فإنه ملكُ المشتري. نعم لو عادَ هذا العبد يوماً إلى البائع، فنحكم إذ ذاك بأنه يعتِق عليه، كما تمهَّد. ولو قال المشتري بعد ما جرى منهما من تعليق العَتاقة: قد صدق البائع، فينفذ العتقُ على موجَب قوله، وتلزمُه القيمةُ للبائع عند التفاسخ؛ فإنه أعتق العبدَ بتعليقه السابق، وتصديقه اللاحق. وبالجملة لا إشكال في أطراف المسألة كيف رُدّدت. فرع: 3285 - إذا اشترى الرجل جارية وقبضها، واختلف المتبايعان، وترافَعا إلى مجلس الحكم، فهل يحل للمشتري وطؤُها بعد التنازع قبل التحالف؟ فعلى وجهين: أحدهما - يحل؛ فإن ملكه قائم بعدُ فيها. والوجه الثاني - لا يحل له وطؤُها؛ فإن جهةَ الملكِ مختلفٌ فيها وإن كان أصل

الملكِ متفقاً عليه؛ فالمشتري يزعم أنه استفاد ملكها بسبب عقدٍ ثمنُه مائة، والبائع يزعم أنه استفاد الملك بعقد ثمنه مائتان. والقولان معتبران. وقد قال الشافعي: إذا اشترى الرجل زوجتَه على شرط الخيارِ، لم يملِك وطأها في زمان الخيارِ؛ فإنه لا يدري أيطأ زوجتَه أو مملوكتَه، والأصح تحليل الوطء. ولو جَرى التحالفُ، فأراد الوطءَ قبل إنشاءِ الفسخ، فوجهانِ مرتَّبان على الأول. وهذه الصورةُ أولى بالتحريم. أما نصُّ الشافعي فيه إذا اشترى زوجتَه بشرط الخيار، فمشكلٌ جداً؛ فإنها مستحلة في كل حساب، فلا معنى للتحريم بسبب إشكال الجهةِ، إذا كان الحل يعم الجهتين. ولو ملك الرجل جارية، وقطع بالملك فيها، وأشكل عليه، فلم يدرِ أنه اتهبها أو ورثها أو اشتراها، فالوطء حلالٌ بلا خلاف. وسأذكر تأويل النص في كتاب الرهن إن شاء الله عز وجل. والذي أراه في هذا الموضع أن أوجّه الوجهين بمسلكٍ آخر، فأقول: من أباح الوطءَ فوجهُ قوله بين، ومن حرَّمه فلا ينبغي أن يعتلّ بالاختلافِ في الجهة، ولكن ينبغي أن يقول: صارت الجارية مشرفةً على استحقاق الرد على البائع، فينبغي أن يمتنع على المشتري وطؤُها. وهذا بعدَ التحالف أظهر؛ من قِبلَ أنّه لم يبق إلا إنشاءُ الفسخ. فهذا سبيل الكلام عندنا. وسيأتي شرحُ النصّ، إن شاء الله عز وجل. فصل 3286 - إذا اختلف رجلان في عقدين مضافين إلى عينٍ واحدة، وذلك مثل أن يقول من في يده الجاريةُ: قد وهبتَها منّي وأقبضتنيها. وقال الآخرُ: بل بعتكها بكذا، فاختلافهما يتعلّق بعقدين: صاحب اليد يدّعي الهبةَ على صاحبه، وهو يُنكرها، فالقول قولُه مع يمينه في نفيها. وهو يدعي على صاحب اليد الشراءَ، وعهدتُه وثمنُه،

وهو منكرٌ، فالقول قوله في نفيه. فإذا حلف كل واحد منهما على نفي العقدِ الذي ادُّعي عليه، انتفى العقدان، ولا حاجةَ إلى فسخٍ وقولٍ بانفساخ. هذا حكمُ الظاهر، والثابتُ باطناً ما هو صِدقٌ في علم الله من قوليهما. ووراء ذلك نظر سيأتي في كتاب الأقارير، وهو أن صاحبَ اليدِ اعترفَ بأن الجارية كانت لصاحبه، وادَّعى انتقالَ الملك فيها إليه بطريق الهبةِ، فانتفت الهبَةُ في ظاهر الحكم بيمين منكرِها، وبقي إقرارُ منكرِ الهبة بالملكِ عن جهةِ البيع. وهذا أصل من أصول الأقارير سيأتي إن شاء اللهُ. والضبط فيه أن من أقرّ باستحقاقٍ، وعزاه إلى جهةٍ، فأنكر المقَرُّ له الجهةَ فهل يثبت له الملك في المقر به؟ وسيأتي هذا مفصلاً إن شاء اللهُ. فصل قال: " ولو لم يختلفا وقال كل واحدٍ منهما: لا أدفع حتى أقبض ... إلى آخره " (1). 3287 - إذا باع الرجلُ سلعة معينة [بثمن] (2) في ذمّة المشتري، ثم تنازع البائعُ والمشتري في البداية بالتسليم. فقال البائع: لا أسلّم المبيعَ حتى يتوفّر عليّ الثمنُ، وقال المشتري: لا أسلِّمُ الثمنَ حتى تسلّم إليَّ المبيعَ، فمن الذي يجاب منهما إلى ما يطلبه؟ هذا غرضُ الفصلِ. والشافعي عبَّر عنه، فقال: " ولو لم يختلفا، وقال كل واحدٍ منهما ". ومعلوم أن تنازع البائع والمشترِي في البدايةِ بالتسليم اختلافٌ. فقولُ الشافعي: " ولو لم يختلفا " معناه: لم يختلفا الاختلافَ الذي تقدَّم في مقدار الثمن وجنسهِ، بل اتفقا على صفةِ العقد، وافتتحا نزاعاً في البدايةِ، وقد حكى الشافعي أقوالاً مختلفة عن العُلماء في الكبير، فحكى عن بعضهم أنهم يجبران معاً، وحكى عن

_ (1) ر. المختصر: 2/ 203. (2) ساقطة من الأصل.

بعضهم أنهم لا يجبران، ولكن من تبرع منهما بتسليم ما عليه أُجبر حينئذٍ صاحبُه على تسليم ما عنده. وحكى عن بعض العلماء أنه يُجبَر البائع. والمزني لم ينقل هذه الأقاويل، ولم يصفها، واختلف أصحابُنا: فمنهم من جعل هذه المذاهب أقوالاً للشافعي. ومنهم من خرَّج معها قولاً رابعاً، وهو أنه يُجبَر المشتري على التَّسليم ابتداء. وهذا مخرَّج من نصّ الشافعي في الصداق؛ فإنه أجبر الزوجَ على البدايةِ بتسليم الصداق، وهو في مقام المشتري. ومن الأئمة من قال: مذهب الشافعي أن البائعَ يجبر على البداية بالتسليم. والشاهد له ما نقله المزني، حيث قال: الذي أحَبَّ الشافعي من أقاويلَ وصفَها، أن نأمر البائعَ [بدفع السلعةِ إليه] (1)، ونجبر المشتري على دفع الثمن من ساعته. ومن أصحابنا من قال: ميلُ الشافعي إلى أنهما يُجبران معاً؛ لأن المزني نقل في آخر الفصلِ عن الشافعي أنه قال: " لا ندع الناس يتمانعون الحقوق ونحن نقدر على أخذها منهم ". 3288 - والطريقة المشهورة إجراءُ أربعة أقوال، وعدُّ جميعها من المذهب، ونحن نوجهها. فمن قال: إنهما يجبران، احتج بأن كلَّ واحدٍ منهما طلب من صاحبه مقصوداً بعوضٍ يبذله له، والإنصاف التسويةُ بينهما، من غير تخصيص أحدٍ بمزيةٍ، ومقتضى ذلك إجبارهما. وهو كما لو كان له دينٌ على إنسانٍ، ولذلك الإنسان عنده عينٌ غصبها. ومن قال: لا يجبران، احتج بأنهما أنشآ العقدَ على التراضي بينهما، فيجب أن يدوم هذا الحكم؛ فإن أحدهما لم يلتزم شيئاً إلا بعوض، ومراعاةُ التسوية حق، كما ذكرناه، فالوجه أن يقال: من تبرع بالبداية، فقد وفَّى ما عليه، فيصير ماله بعد هذا حقاً متجدداًَ.

_ (1) في الأصل: " يدفع إليه السلعة ".

ومن قال: يجبر البائعُ على البداية بالتسليم، احتجَّ بأن تصرّفَ البائع نافذٌ في الثمن، وتصرفَ المشترِي غيرُ نافذٍ في المبيع قبل القبض، فينبغي أن يملكَ المشتري إجبار البائع على تمكينه من التصرف، وإنما يحصل هذا بتسليم المبيع. ومن قال بإجبار المشتري على البدايةِ، احتج بأن حقَّ المشتري متعيّن، وحق البائع مطلقٌ في الذمَّة، حتى كأنّهُ وعدٌ يجب الوفاء به، فله أن يجبر المشتري على تعيين حقَه. وقد يستدلُّ هذا القائلُ بأن الثمن في البيع على مضاهاة رأس المالِ في السلم. ثم يجبُ تقديم رأس المال. وفيما قدمناه مقنع. والأقوالُ الأربعةُ إنما تطّرد إذا كان المبيع عيناً، والثمن دَيناً. فأما إذا باع عبداً بجاريةٍ، فالعوضان في شقي العقد عينان، ولا يجري في هذه الصورةِ إلا قولان: أحدهما - أنهما يُجبران. والثاني - أنهما لا يجبران. وإذا كان التنازعُ في الصداق وتسليمهِ، وتسليمِ المرأةِ نفسَها، فلا يخرج إلا ثلاثة أقوالٍ: أحدها - أن الزوجَ يجبر على البداية. وهذا إذا رأينا إجبار المشتري على البداية. والقول الثاني - أنهما يجبران معاً. والثالث - أنهما لا يجبران، بل من بدأ بتسليم ما عليهِ أجبر صاحبه على تسليم مقابله من ساعته. ولا يخرّج هاهنا قولٌ في إجبار المرأةِ على البداية؛ فإنها لو سلّمت نفسَها، لفاتَ الأمرُ في جانبها، وتلف منافعُ بُضعها على وجهٍ لا يتوقع لها مستدرك. فهذا تأسيس الطرق (1) وتوجيه الأقوال. والآن نفرعّ عليها، ونستعين الله. 3289 - أما قولنا إنهما يجبران [معاً] (2)، فمعناه أنهما محمولان على أن يأتيا

_ (1) في (هـ 2): الأقوال. (2) ساقطة من الأصل.

بعوضي العقد ناجزاً. فإن فعلا في مجلسٍ واحدٍ، انفصلَ الأمر، ويسلم المبيعُ إلى المشتري، والثمن إلى البائع. وقد يتأتى تحصيل الغرض بأن يأخذ الحاكم المبيعَ من البائع والثمنَ من المشتري، ويمسكه بنفسه، أو يضعُه على يد عدلٍ، حتى إذا اجتمعَ العِوضانِ في يدي العدل، أو في يد الحاكم، سلّم إلى كُلّ واحدٍ من المتعاقدَيْن حقَّه. وإنما يجري ما ذكرناه إذا طلب كلُّ واحدٍ من صاحبه حقَّه، فأمَّا إذا أعرضا، فلا يتعرض لهما. ولو طلب أحدهما حقه. والثاني معرضٌ، قلنا للمعرض منهما: أتؤدي ما عليك وتأخذ مالَكَ؟ فإذا قال: أجل، أجرينا الأمرَ في الجانبين على ما وصفناه. وإن قال المعرض: أؤدي ما عليَّ، ولا أطلب في الحالِ مالي، فإن رضي صاحبُة بذلك، أجرينا الأمر على هذا النحو. وإن قال صاحبه: أجبروه على قبض حقه كما تأخذون حقي منه، فهذا يخرّج على أن من عليه الحقّ إذا وفَّاه، هل يُجبر صاحبُه على القبول. وهذا يجري في الثمن، فأمَّا المبيع المعيَّنُ، فيجبر المشتري على قبوله إذا بذله البائع، وذلك أنه في ضمانِ البائع، والعقد بهذا السبب عرضة للانفساخ، فالوجه أن يخلص البائع عن غَرر الضمان. ولو قال البائع للمشتري: دونك المبيعَ، فاقبضه، ولست أطالبُك بالثمن في الحال، فقال المشتري: لا أقبض المبيعَ حتى أتمكّن من توفية الثمن، فهو مجبر على قبض المبيع، لما ذكرناه من وجوب تخليص البائع عن عهدة العقد، إذا طلب الخلاصَ. 3290 - وإذا قلنا: إنهما لا يُجبران، فمعنى ذلك أن الطلب لا يوجه على واحدٍ منهما ابتداءً، ولكن من بدأ فوفَّى حقَّت الطَّلِبةُ على صَاحبه بتسليم ما عليه. فأمَّا إذا قلنا: يجبر البائع على التسليم، أو لم نَرَ إجبارَه، ولكنَه تبرع بالبداية، قال الشافعي مفرّعاً على هذا: إذا سلَّم البائعُ المبيعَ، فإن كان الثمن حاضراً في المجلسِ، أُجبر المشتري على التسليم من ساعته. وإن غاب، أَشهدَ على وقف ماله

وعلى وقف السلعة، فإذا سلَّم ما عليه، انطلق عنه الوقف. وهذا موقفٌ يتعين على الناظر التثبت في فهم الكلام. أوَّلاً معناه الظاهر ضربُ الحَجْر على المشتري، هذا هو المراد بالوقف، فقد قال: أحجر عليه في سائر أمواله، وفي المبيع الذي سلّم إليه؛ حتى لا يتصرف في شيءٍ، ثم يدوم الحجر إلى أداء الثمن، فإذا أدّاه انطلق. وهذا حجرٌ بدع لا عهدَ بمثله في القواعد. وقد اضطرب الأصحاب؛ فذهب بعضهم إلى أن هذا الحجرَ على قياس الحجر على المفلس. ثم أصلُ المذهب فيه أن دَيْن المرء إذا زاد على ماله، وطلبَ مستحقُّ الدين الحجرَ على المديون، أجيب إلى ذلك. وإن كان الدينُ أقلَّ من المال قليلاً، أو مثلَه، فاستدعى من يستحق الدينَ الحجرَ، ففي المسالةِ أوجهٌ ستأتي مفصلةً، إن شاء الله تعالى في كتاب الحجر. فما ذكره الشافعيُّ من وقف مالِ المشتري وضَرْب الحجر عليهِ خارج على هذا القياس عند هذا القائل، حتى إن كان في مال المشتري وفاءٌ بالثمن أو أضعافُ الوفاء، فلا حجرَ، ولا وقف. هذا حكاه شيخي عن بعض الأصحابِ. وكان يبالغُ في تضعيف هذه الطَرِيقة ويزيفُها، وينسُب صاحبَها إلى الذهول عن فهم كلام الشافعي بالكليّة. ونحن نصف وجهَ التزييف، ثم نفتتح معنى كلام الشافعيّ، ونبني عليه تمامَ مقصوده إن شاء اللهُ عز وجل. 3291 - أولاً - ما ذكره هذا القائل يخالفُ صريحَ النص على ما يُنقل لفظُ (1) صاحبِ المذهب. قال رضي الله عنه: " ويجبر المشتري على دفع الثمن من ساعته، فإن غاب مالُه أَشهدَ على وقفِ مالهِ، وأَشهدَ على وقف السلعة. فإذا دفع أطلق عنه الوقفُ، وإن لم يكن له مالٌ، فهذا مفلس، والبائع أحق بسلعته ولا ندع الناس يتمانعون الحقوق ".

_ (1) ساقطة من (ص).

هذه ألفاظ الشافعي. وقد ذكر الوقفَ أولاً مربوطاً بغيبةِ المال، ثم ذكر المفلسَ بعد نجازِ الغَرض من الوقف الذي أشهد عليه؛ فمن نزَّل ذلك الوقفَ على وقف مال المفلس، فقد خلطَ (1) ما فصله الشافعي، وأبطل التعليلَ بغَيْبة المال. فهذا بيّن. وأما من طريق المعنى، فإذا رأينا إجبارَ البائع على تسليم المبيع، ولم يكن مالُ المشتري في المجلسِ، فلو سلمنا المبيعَ إليه، وتركناه ينطلق، لم نأمن غوائله، وكنا معرضين حقَّ البائع للضَّياع، ولا سبيلَ إلى حبسه، فالوجه أن يُحجر [عليه، حتى نمنع] (2) عليه التصرّفات في الأموال؛ إذْ لو كان مطلقَ التصرُّفِ، لخيفَ أن يهبَ أمواله، وما قبضه الآن من طفلٍ له، ويتسبَّب إلى إبطال حق البائع؛ (3 فالوجه الأقصدُ الذي يجمع تسليمَ المبيع من غير تعرض حق البائع 3) للضياع ما ذكره. فهذا نوع من الحجر مختصٌّ بهذا المقام. ولا يمكن تخصيص الحجر بالبعض دون البعض من أمواله. هذا مسلك المعنى، ويترتب عليه أمران لا بد من فهمهما: أحدهما - أنا لا نعتبر قياس الحجر على المفلس في النظر إلى الأقدار كما ذكرناه. والآخر - أن الحجر على المفلس يسلّط البائعَ على فسخ البيع، والرجوعِ إلى عين المتاع. وهذا النوع من الحجر لا يقتضي ذلك، فإنا لم نضرب هذا الحجر بسبب ضيق المال، وإنما هو لمقصودٍ آخر. ولو ظن ظانّ أن هذا الحجر يسلط على الفسخ، لكان مُزْوَرّاً (4) عن فهم مقصود المسألة بالكلِّيَّة؛ فإن الغرض تقريرُ المبيع، وإيصالُ كل ذي حق إلى حقه. وإلا فأي معنىً للإجبار على التسليم، وضربِ الحجر، حتى يثبت حق الفسخ والاسترداد. فإذا تمهَّد ما ذكرناه، حان الآن أن نفصّل المذهبَ بعون اللهِ وتوفيقه.

_ (1) في (ص): غلط. (2) زيادة من (ص). (3) ما بين القوسين سقط من (ص). (4) مُزورّاً: بواو مفتوحة، وراءِ مثقلة: مائلاً.

3292 - فنقول: إذا سلّم البائعُ المبيعَ أولاً، قلنا للمشتري: عجّل الثمنَ، فإن كان حاضراً أدّاه. ولو قال المشتري مالي غائب، وسأحضره عما قريب، قال الشافعي وقفتُ ماله، كما مضى. ثم ذكر العراقيون طريقةً نحن نطردُها، فقالوا: إن كان مال المشتري على مسافة القصر، وقد وقفنا ماله، فللبائع فسخُ العقد، والرجُوعُ إلى عين المبيع. وإن كان دون مسافة القصر ولكن كان غائباً عن البلد، فهل يثبت حق الفسخ؟ فعلى وجهين. وإن كان المال في البلدِ، ولكن كان غائباً عن المجلس، فلا يثبتُ حقُّ الفسخِ في هذه الصورة. هذا كلامهم. وقال ابن سُرَيج: إن كان مالُه في البلد، ولكن كان غائباً عن مجلس التسليم، فيمهل المشتري إلى تحصيل الثمن، ويُحجر عليه، ولا يردّ المبيع إلى البائع، فأما إذا كان ماله غائباً عن البلدِ، فليرد المبيعَ إلى البائع إلى أن يتوفَّر عليه الثمن. ولا يثبت حقُّ فسخِ البيع عند ابن سريج أصلاً، بهذا الوقف الذي نص عليه الشافعي، وإنما يثبت الفسخُ إذا انتهى الأمرُ إلى الإعسار، أو إلى امتناع الوصول إلى الثمن بغيبةٍ شاسعة يُعَدّ مثلها امتناعاً. وبين طريق ابن سُريج والعراقيين بَونٌ بينٌ. وحاصل كلام ابن سريج يؤول إلى أنا إذا عرفنا غيبة المالِ، لم نوجب على البائع البدايةَ بالتسليم؛ إذ لا فائدة في التسليم والاسترداد. ومن ربط من أصحابنا هذا الحجرَ بحد الفَلَس، أثبت للبائع الفسخَ. فهذا بيان الطرق. ثم الذين راعَوْا حدَّ الفَلَس، قالوا: إن كان يتأَتَّى تأديةُ الثمنِ من غير بيع المبيع، فَلا حجر، ولا وَقف. وإن كان يتأتى تأدية الثمن ببيع المبيع، أو بِبَيع بعضه ضماً إلى سائر مال المشتري، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحجر عليه؛ إذْ أداء الثمن ممكن. والثاني - يُحجر عليهِ؛ فإن بيعَ المبيع تفويتُ حق الحبس على البائع. وهذا خبط؛ فإنه بناءٌ على حمل الوقف على حد الفَلَسِ، وليس الأمر كذلك.

وقد نجز الفصلُ بما فيهِ. فرع: 3293 - إذا سلّم البائع المبيعَ، فامتنع المشتري عن تسلمه وقبضه، فقد ذكرنا في الفصل السابق ما يليق بأصل المذهب. وقد ذكر صاحب التقريب في جواب ذلك وجوهاً، لم أر ذكرَها في قانون المذهب (1)، فرسمتُ فرعاً حتى أستوفي ما ذكره. قال: إذا امتنع المشتري عن القبض، فالوجه إجباره، فإن لم يقبضه، قبضه القاضي عنه، أو أناب نائباً ليقبض عنه، وذكرَ وجهاً غريباً أن القاضي يبرئه من ضمان المبيع فتصير يدُه يدَ أمانةٍ؛ حتى لو تلفَ في يده، لم ينفسخ البيعُ بتلفه، وكان من ضمان المشتري. وهذا بعيدٌ جداً، وهو في التحقيق تغييرُ وضع الشرع في قطع الضمان، لا بالطريق الشرعي. هذا إذا وجدنا قاضياً. فأما إذا لم نجد قاضياً، وامتنع المشتري عن القبض، فالوجه القطع بأن المبيع يبقى في ضمان البائع، ويأثم المشتري بإدامةِ الضمان عليه، بسبب الامتناع عن القبض. قال صاحب التقريب: قال بعض أصحابنا: إن البائعَ يقبض بنفسه عن نفسه للضّرورة الداعية إليه. وهذا كما أنا نقول: إذا ظفر بغير جنس حقِّه، أو بجنسه، وقد تعذَّر عليه استيفاء حقِّه من المستحَق عليه طوعاً، يأخذ ويكون قبضاً منه بحق نفسه، فهو القابض والمقبض، فكذلك البائع يقبض للمشتري، فيكون قابضاً مقبضاً. وهذا بعيد جداً. وإذا كان على إنسان دين، فجاء به، فامتنع مستحِقُّه من قبضه، ففي المسألة قولان مشهوران. فإن قلنا: لا يجبر مستحِق الحق على قبضه، فالقاضي لا يبرئه عن أصل الدَّيْن، وليس الإبراء عن أصل الديْن بمثابة الإبراء عن ضمان العين؛ فإن إسقاطَ أصل الحق لا وجه له. ولو صحَّ ما ذكره صاحب التقريب من تقديره قابضاً

_ (1) (ص): الملك.

مُقبضاً، لكان لا يمتنع أن يجعل بنفسه -حيث لا قاضيَ- قابضاً مقبضاً حتى يصيرَ ما جاء به في يده مقبوضاً لمستحقه، ويده فيه يدُ أمانةٍ. ولا أصل لما ذكره. فصل قال: " ولو كان الثمن عرْضاً أو ذَهباَّ بَعينهِ ... إلى آخِره " (1). 3294 - المبيع إذا أتلفَه الأجنبي، فالمذهَبُ أن البيعَ لا ينفسخ وعليهِ التفريع. التفريع في هذا الفصل: 3295 - فإذا فرَّعنا على أن المشتري هو الذي يبدأ بالتسليم، فللبائع حق حبس المبيع، فإذا أتلفه الأجنبي، فقد أفسدَ ملكَ المشتري، وحقُّ البائع في الحبس، فيثبت لكل واحد منهما مطالبته بالقيمة: أما المالك فلملكهِ. والبائعُ لحقه. وهذا يتفرع على أن البائع يحبس قيمةَ المبيع بالثمن، قياساً على قيمة المرهون إذا تلف. ومن أصحابنا من يقول: ينقطع حقُّ حبس البائع بفوات عين المبيع. وقد قدّمنا هذا فيما سبق. وإذا أتلف الأجنبيَّ العينَ المرهونةَ والتزمَ قيمتَها، توجَّهت عليه الطَّلِبةُ من الراهن لحق الملك، وتوجهت عليه الطَّلِبَةُ من المرتهن لحق الوثيقة؛ فإنّ القيمةَ إذا حصلت، كانت رهناً. هذا متفق عليه في الرهن. وإنما الخلاف في المبيع وحق الحبس. وإذا أتلف البائعُ المبيعَ وقلنا: ينفسخ العقدُ، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ، فهل يطالبه المشتري بالقيمة قبل توفير الثمن؟ هذا يخرَّجُ على أن البداية بالتسليم (2) على من؟ فإن قلنا ": البدايةُ على البائع، طالبه المشتري بالقيمة قبل توفير الثمن، ثم

_ (1) ر. المختصر: 2/ 203. (2) ساقطة من (ص).

ينقُد الثمنَ من ساعته، كما مضى. وإن قلنا: البداية على المشتري، فلا يطالبه بالقيمة، ما لم ينقد الثمن. ولو سلَّم المشتري الثمنَ، والمبيعُ عبدٌ فأبِق العبدُ من يد البائع، ولم يتمكن من تسليمه، فالإباق يُثبت للمشتري حقَّ الخيارِ في فسخ البيع لا محالة. ولو لم يرد الفسخَ، وأبق العبدُ وما كان وفّر الثمن، فلا يلزمه توفيرُ الثمن. وإن فرعنا على أن البدايةَ تجب على المشتري، فإذا وفّر الثمنَ، ثم أبق العبدُ، فهل يستردُّ الثمنَ بناءً على أنه كان لا يجب عليه التوفير بعد الإباق، فطريان الإباق هل يثبت حق الاسترداد؟ نقل القاضِي عن القفَّال أنه لا يملك استرداد الثمن. فإن أراد استرداده، فليفسخ العقدَ. وهذا محتمل. والأظهرُ ما ذكره القفال؛ فإن الاسترداد بالفسخ إذا أمكن، فهو أولى. وهذا كما أنا لا نُثبت للمشتري الرجوعَ بأرش العيب القديم مع القدرة على الرَّدِّ وفسخ العقد. فصل قال: " ولا أحب مبايعةَ مَن أكثرُ ماله حرام ... إلى آخره " (1). 3296 - لا يخفى حكمُ اليقين في الحل والحرمة، وإنما الكلام فيه إذا أشكل الأمرُ، وكان من يعامله المرءُ ممن يظن أنه لا يتحفظ، وقد يغلب ذلك بناء على معاملاته، مع قلّة التحفظ فيها. أمّا الورع، فلا يخفى على من يُوفّق له، قال النبي عليه السلام: " الحلال بيَّن والحرام بين، وبينهُما أمور متشابهات فمن توقَّاهن، فقد استبرأ لدينه وعرضه "، وفي روايةٍ: " فمن يدع ما تشابه عليه برىء له دينه، ألا إن لكل ملكٍ حمى، وحمى الله محارمُه فمن رتَع حول الحمى يوشك أن يقعَ فيهِ " (2)، وقال عليه السلام:

_ (1) ر. المختصر: 2/ 203. (2) حديث: " الحلال بين ". متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. مع اختلاف يسير في اللفظ =

"دع ما يريبُك إلى ما لا يُريبك" (1) هذا طريق الورع. فأما الجواز والحكم بالصحة، فمذهبنا أنه وإن غلب على الظن أن ما تحويه يدُ من يعامله حرام، فالشرع يقضي بتقريره على ملكه، ولذلك نجعل القولَ قولَه إذا ادُّعي عليه مع يمينه. فإن قيل: هلا خرّجتم ذلك على قولي غلبة الظن في النجاسة والطهارة؟ قلنا: لأنا صادفنا أصلاً مرجوعاً إليه في الأملاك، وهو اليد، فاعتمدناه، ولم نجد في النجاسة والطهارة أصلاً يعارِض غلبةَ الظنّ في النجاسة إلا استصحابَ الطهارة. * * *

_ = (ر. البخاري: الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ح 52، وفي البيوع، باب الحلال بيّن والحرام بيّن، ح 2051، مسلم: المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ح 1599، وانظر شرح السنة للبغوي: 8/ 12 ح 2031). (1) حديث: " دع ما يريبك ". إسناده صحيح، أخرجه النسائي: 8/ 327، 328 في الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، ح 5714، والترمذي: صفة القيامة، ح 2518، وأحمد: 1/ 200، وصححه ابن حبان: 512، والحاكم: 2/ 13، ووافقه الذهبي (ر. شرح السنة: 8/ 16، 17 ح 2032).

باب الشرط الذي يفسد البيع

بَابُ الشَّرْطِ الَّذي يُفْسِدُ البَيعَ 3297 - قال أئمة المذهب: الشرائط المذكورة في صُلب العقد قسمان: قسم يقتضيه إطلاق العقد، وقسم لا يقتضيه الإطلاق. فأما ما يقتضيه مطلقُ العقد، فكالملك ووجوب التسليم والتسلُّم، وجواز التصرُّف، فهذه الأشياءُ وما في معانيها مقتضياتُ العقد، فإذا وقع التعرُّضُ لها على وَفْقِ موضوع العقد، لم يضرّ. والقسمُ الثاني - ما لا يقتضيه مطلقُ العقد، وهو ينقسم قسمين: أحدهما - لا يتعلق بمصلحة العقد. والثاني - يتعلق بها. فأما ما لا يتعلق بمصلحة العقد، ولم يرد بتسويغه الشرع، فهو ينقسم، فمنه ما يتعلّق بغرض العقدِ، (1 ومنه ما لا يتعلق به، فأما ما لا تَعلُّق له بغرض العقد 1)، فهو مثلُ أن يقول: بعتُك هذا العبدَ بألفٍ، على ألا يلبسَ بعده إلا الحرير، أو ما ضاهى ذلك من الاقتراحاتِ التي لا تعلق لها بمقصود العقد، فهذا فاسد ملغى غيرُ مفسدٍ للعقد، وهو في حكم اللغو. وأما ما يتعلّق بغرض العقد، فهو مثل أن يقول: بعتك العبد على ألا تبيعه، أو بعتُك الجارية على ألا تطأَها، أو ما أشبه ذلك. فهذه الشرائطُ فاسدةٌ، وإذا ذُكرت في صلبِ العقد أفسدَت العقد. هذا ما ذكرهُ الأئمّةُ، ودلّت عليه النصوص. وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً أن الشرائط الفاسدةَ تلغو ويصحُّ العقدُ، وردّد هذا القولَ في مواضعَ من كتابه. وحكاه الشيخ أبو علي أيضاً، وزَعم بعض أصحابنا أن أبا ثور حكى هذا القولَ عن الشافعي في جميع هذه الشرائط الفاسدة التي نحن فيها. فهذا حكيناه، ولا عَوْدَ إليه.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ص).

3298 - فأما ما يتعلق بمصالح العقد، كالأجل والخيارِ، وشرط الكفيل والرهن، فهذه شرائط تصحُّ إذا وافقت الشرعَ، ولا يتأتى ضبطُها من طريق المعنى؛ فإن مصالح العقود في مقاصد الخلق كثيرة، وإنما يصح منها ما ورَد التوقيف به. ثم هذه المقاصد إن شُرطت على مقتضى الشرع، صحت وثبتت، وإن شرطت مخالفةً لمقتضى الشرع، مثل أن يثبت الخيار زائداً على الثلاث، أو يُشْرَط على الجهالة، والأجلُ إذا أثبت مجهولاً، أو شرط في عقدٍ لا يقبله. فسبيل التقسيم فيه أن نقول: ما يذكر على الفسادِ ينقسم: فمنه ما لا يقبل الإفرادَ ولا يثبت قط إلا مشروطاً، ومنه ما يفرد بعقدٍ من غير شرطٍ. فأما ما لا يفرد كالخيار والأجل، فإذا شُرط على الفَساد، فَسدَ وأفسد العقدَ. وما يفردُ بعقدٍ كالرهنِ والكفيل، فإذا شرط على الفساد فسدَ الشَرط. وهل يفسد العقدُ؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما، إن شاء الله، مع التوجيه والتفريع في كتاب الرهون. فهذا في حكم التراجم الكليّة لمسائل الباب. فصل 3299 - وإذا اشترى مملوكاً، وشرط عليه البائع أن يعتقه؛ فالمنصوص عليه للشافعي أن العقد لا يفسُد، والشرط يصح، وإن لم يكن موافقاً لمضمون العقد ومقصودِه. وليس من مصالح العقد أيضاً. وخرَّج بعضُ أصحابنا قولاً أن البيعَ يفسد بشرط العتق، اعتباراً بسائر الشروط الفاسدة. وهذا مذهب أبي حنيفة (1). وهو القياس. والمعوّل في نصرة القول المنصوص عليه حديث بريرة، كما سنرويه في أثناء الفصل إن شاء الله. وذكر بعضُ أصحابنا قولاً آخر: أن البيعَ يصح والشرط يلغو.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 130 مسألة: 1209.

وحكى العراقيون هذا القولَ عن أبي ثور عن الشافعي. ونقل صاحب التقريب هذا عامّاً في جميع الشرائط الفاسدة، وحكاه هؤلاء في هذا على الخصوص. فإن ألغينا الشرطَ، فلا كلام. وإن صححناه، فيجب الوفاء به. ثم العتق المشروط حق الله تعالى أو حقُّ البائع؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه حق الله، وهو كالعتق الملتَزَم بالنذرِ، فعلى هذا يتعين على المشتري أن يعتق، ولو عفا البائع عنه، وأسقط حقَّ العتق، لم يؤثر عفوهُ وإسقاطُه. ولو أعتق المشتري العبد المشترَى عن كفارته، نفذ العتقُ، ولم ينصرف إلى كفارته؛ فإن من أصلنا أن العتق المستحقَّ في جهة لا ينصرف إلى جهة الكفارة، وعليه بنينا امتناعَ انصراف عتق المكاتب إلى كفّارَة العتق، إلى غيرِ ذلك من المسائل. ومما نفرعه على هذا القول أن العتق إذا أثبتناه لله، فهل يملك البائع المطالبةَ به أم لا؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يملك ذلك؛ فإن العتق وإن كان لله تعالى، فقد ثبت بشرط البائع، وقد يكون له غرضٌ في تحصيل العتق، وإن كان منسوباً إلى [حق] (1) الله تعالى. وإن قلنا: العتق حق البائع، فإن وفَّى المشتري به، فلا كلام. وإن امتنع، فهل يجبر المشتري عليه؟ ذكر صاحب التقريب فيه قولين: أحدهما - أنه يُجبر عليه، ويؤمر به قهراً [قياساً] (2) على سائر الحقوق المستحقَّة. و [القول] الثاني (3) - أنه لا يجبر عليه، ولكن إذا لم يَفِ المشتري، فللبائع خيار فسخ البيع، وهو كما لو شرط في البيع رهناً أو كفيلاً، فلم يف المشتري بما اشترطه، فلا يجبر عليه، ولكن للبائع حق فسخ البيع إذا لم يسلّم له المشروط. ولم يطرد صاحبُ التقريب القولين في شرط الرهن والكفيل، وكان لا يبعد في

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) مزيدة من (هـ 2)، (ص). (3) سقط من (هـ 2)، (ص) كلمة (القول) وفي الأصل (الوجه). وصوابُها: "والقول". إذ هي تفريع على كلام صاحب التقريب.

القياس طردُ القولين. ولعل العتق اختص بالوجوب والإجبار عليه لتميزه عما سواه بمزيَّة القوة والنفاذ، ولذلك يسري إلى ملك الغير. التفريع: 3300 - إن حكمنا بأن المشتري يجبر على الإعتاق، فيتَّجه تخريج ذلك على قولين كالقولين في المُولي إذا لم [يفىء] (1) بعد انقضاء المدة. وثَم قولان: أحدهما - أنه يُحبس حتى يُطلِّق. والثاني - أن السلطانَ يطلَِّقُ عليه. ويجوز أن يُقال: لا يتجه في الإجبار على العتق إلا الحبسُ، وإنما خُصَّ النكاح بتمليك السُّلطان الطلاقَ لما على المرأةِ من دوام الضِّرار. وقد يصابرُ الزوجُ طولَ الحبس نَكَداً (2). ولو عفا البائع عن حق العِتاق، فظاهرُ المذهب أنه يسقط، وكذلك إذا كان شرط في العقد رهناً أو كفيلاً، ثم أسقط عنه ما استحقه من ذلك بالشرط، يسقُط حقّه. حتى لو أراد الرجوع إلى الطلب، لم يمكنه. وفي كلام شيخي رمزٌ إلى خلاف هذا؛ فإن هذه الحقوقَ لا تستقل بأنفسها، فلا وجه لتخصيصها بالإسقاط. وهذا كما أن الأجلَ حق المشتري وفُسْحَتُه (3)، لا حقَّ للبائع فيه، ولو أسقط المشتري حق الأجل، لم يسقط. فإذا جرينا على ظاهِر المذهب، وحكمنا بأن حقَّ البائع يَسقطُ بالإسقاطِ، والعتقُ حقُّه، فلو أعتق المشتري العبدَ عن كفارته، بعد إسقاطِ البائع حقَّه، فهل يقع العتق عن كفارته؟ فعلى وجهين مشهورين: أصحهما - أنه يقع عن كفارة المعتق؛ فإنه لم يبق للبائع حقٌ، والمشتري معتق على الاختيار. والوجه الثاني - لا يقع عن كفارته؛ من جهة أن العقدَ على شرط العتاقة لا يخلو عن محاباةٍ في الثمن؛ فإن العتقَ في مقابلة تلك الحطيطة، والمشتري في حكم معتقٍ عبدَه بمالٍ عن كفارته.

_ (1) في النسخ اللاث: لم يفِ. (2) نكداً: أي معاسرةً، ومعاندة. (المعجم). (3) في (ص): وفسخه.

وهذا في نهاية الغثاثة، ولولا اشتهار [هذا] (1) الوجه في الطرق، لما حكيته. 3301 - ومما يجب الاعتناءُ به أنا إذا جعلنا العتق لله تعالى، فإذا حققه المشتري، فلا شك أن الولاءَ له؛ فإن العتق صدرَ في ملكه، والأصل أن ولاءَ العتاقة لمن يقع العتق في ملكه. وإن قلنا: العتق للبائع، فالولاء للمشتري، قطع به صاحب التقريب، وشيخي، والأئمةُ، والسبب فيه أن الولاءَ لو (2) كان للبائع، لاقتضى ذلك تقديرَ انقلاب الملك إليه، ونفوذَ العتق على ملكه؛ هذا لابد منه، ولو كان كذلك، لتجردَ الثمنُ عن مقابِلٍ في عقد المقابلة؛ وهذا محالٌ. فلو شرط البائع العتقَ، وشرط لنفسه الولاء، ففي فساد العقد قولان: أحدهما - أنه يفسد (3)؛ لأن مقتضاهُ ردَّ الملك في الرقبة إلى بائعها، مع دوام استحقاقه في الثمن. والقولُ الثاني - أن البيع لا يفسد؛ لقصة بريرة لما جاءت إلى عائشةَ تستعين بها على أداء شيء من النجوم، فقالت: لو باعوكِ، لصببت لهم ثمنَك صبّاً، فأخبرت ساداتِها، قالوا: لا نفعل ذلك إلا بشرط أن يكون ولاؤك لنا، فأخبرت عائشةَ ما قالوه، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " اشتري واشترطي لهم الولاء، ثم قام خطيباً، وقال: ما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ... الحديث " (4)، ووجه الدليل أن النبي عليه السلام إذ أمرها بأن تشتري وتشترط، فقد كان الشراء على هذه الصفةِ مأذوناً فيه من جهة الشارع، والمأذون فيه صحيح. فإن قيل: ما معنى قوله في خطبته؟ وما وجه إنكارِه؟ قلنا: الممكن فيه أنه نهى

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (2) عبارة ص: "أن الولاء كان للبائع، فافتضى ذلك .. ". (3) في الأصل: لا يفسد. (4) حديث بريرة متفق عليه: البخاري: كتاب البيوع، باب البيع والشراء مع النساء، ح 2155، وباب إذا اشترط شروطاً في البيع لا تحل، ح 2168، ومسلم: كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 1504.

عن الإقدام على أمثال هذه الشرائط، واستحث على اتباع الكتاب والسنة. ولِمَا جرى حُكْمٌ بصحته؟ فإنه عليه السلام مبرأٌ عن التناقض، والأمرِ سرّاً في معرض التقرير، مع النهي عنه جهراً. فإن قلنا: البيع فاسدٌ، فلا كلام. وإن حكمنا بصحة البيع، ففي الولاء المشروط نظر: ذهب بعضُ الأصحابِ إلى أن الوجهَ فيه إلغاءُ الشرط وتصحيحُ العقد. وهذا فاسد مع أمر النبي عليه السلام بالاشتراط، إذ قال: " اشتري واشترطي لهم الولاء " ومتعلق القول بصحة العقد قصةُ بريرة، فلا ينبغي أن يُعتبَرَ (1) أصلُها ويعطّلَ تفصيلُ القول فيها؛ فإذاً الوجهُ تصحيحُ الشرطِ إذا صححنا العقدَ؛ تعلّقاً بقصَّة بريرة. ويلزمُ من هذا أن يكون الولاءُ للبائع على حسب الشرط. فإن قيل: يلزم منه انقلابُ الملك إليه. قلنا: لا وجه في هذا المنتهى [إلا] (2) إثباتُ الولاء للبائع من غير تقدير نقلِ الملك، وقد ثبت الولاءُ بأسبابٍ، من غير تقدم ملك فيمن عليه الولاء، على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. فمن أمثلة ذلك أن السيد إذا باع عبده من نفسه بمالٍ، فإذا اشترى نفسَه عَتَق، وسبيل العتق أنه ملك نفسَه، فاستحال أن يكون مملوكاً لنفسه ومالكاً. ثم إذا حصل العتق، فالولاء للسيّد. وفي مأخذ الولاءِ على الجملة تعقيداتٌ لا يستقل هذا الفصل ببيانها. فإن قلنا: إن الولاء للمشتري، فلا كلامَ. وإن قلنا: إنه للبائع، فلا نقدّرُ انقلابَ الملك إليه قطعاً؛ فإنّ الحكم بتقرير البيع على حقيقة المعاوضة يناقض الحكمَ بانقلاب الملكِ إلى البائع. وسببُ انفساخ البيع بتلفِ المبيع قبلَ القبض أن الملك ينقلبُ إلى البائع قبيل التلف، فامتنع مع هذا إمكان بقاء العقد. فرع: 3302 - إذا صححنا العقدَ عند شرط العتق على الأصح، فلو تلف هذا العبدُ الذي اشتراه في يدِ المشتري بهذا الشرط قبل الوفاء، فقد تعذر المشروط الذي صار مستحقاً.

_ (1) عبارة (ص): أن تغيير أصلها أو يعطل تفصيل القول. (2) في الأصل: إلى.

وفي المسألةِ أوجه ذكرها العراقيون: أحدها - أنه لا يجبُ على المشتري شيء بسبب فوات العتق؛ فإنه تعذَر الوفاء بالمشروط وليس ذلك المتعذِّر مما يتقوّمُ في نفسه، ولو قدَّرنا للمشروط الفائت بدلاً، لكان بدلُه جميعَ القيمةِ، ولو ألزمنا المشتري جميعَ القيمة، وألزمناه الثمن المسمى؛ لكان ذلك خارجاً بالكلية عن ضبطِ القياسِ؛ ولتضمن الجمعَ بين البدل وبين المبدل في حق البائع. والوجه الثاني - أنا نلزم المشتري تفاوتاً بين القيمتين منسوباً إلى الثمن المسمى. وبيان ذلك أن نقولَ: هذا العبد لو بيع مطلقاً من غير شرط، فما ثمن المثل؟ فيقال: مائة وخمسون ديناراً، فنقول: وكم قيمة مثله مع هذا الشرط؟ فيقال: مائة. فنعلم أن التفاوتَ بين الثمنين في الإطلاق والشرط بنسبة الثلث، فنعود بعد ضبط هذه النسبة، ونقول: الثمن المسمى تسعون، وقد بان أن ما فات بالنسبةِ إلى الجملة [ثلث الجملة] (1) فكأنه أخذ ثمنَ ثلثي العبد، فإذا كان ثمنُ ثُلثي العبدِ تسعين، فثمن الجملة مائةٌ وخمسة وثلاثون، فيغرم المشتري للبائع على مثل هذه النسبةِ خمسةً وأربعين. وذكرَ الشيخ أبو علي هذا الوجهَ، وألزمَ المشتري قيمةَ الثُّلث، من غير نظرٍ إلى مبلغ الثمن؛ فإنَّا قدَّرنا القيمةَ في الإطلاق مائة وخمسين، فقيمةُ الثلث خمسون إذاً، فلا حاجة إلى النظر إلى مقدار الثمن المسمى؛ بل نُلزم المشتري قيمةَ ما فات في يده، والفائت الثلثُ تقديراً، وهو خمسون. وحقيقةُ الجوابين يرجع إلى وجهين آخرين في بيان النسبة: أحدهما - أنا نلزم المشتري القيمةَ المحققةَ في مقابلة الثلث، ولا ننظر إلى المسمى، ولا نبالي بأن تكون هذه القيمةُ مثلَ المسمى، أو أكثر منه. وفي الوجه الثاني نقول: لما باع العبدَ بتسعين، وكان قيمتُه مع الشرط مائة، فقد نزّل العقد على المسامحة والمحاباة بالثمن، فلا نُلزم المشتري إلا على نسبة المحاباة. هذا بيان الجوابين في ذلك. وذكر أصحابنا وجهاً ثالثاً في أصل المسألة - وهو أنا نحكم بانفساخ العقد، لتعذّر

_ (1) ساقط من الأصل.

الإمضاء؛ إذْ لا وجه لإيجاب شيء من غير انتساب المشتري إلى إتلاف شيء، أو ضمان شيء بحكم اليد؛ فإنّ يده ما ثبتت إلا على ملكه؛ ولكن جرى العقدُ في وضعه مائلاً عن القياسِ فقدّر فيه وفاء بالشرط عند الوجود، ثم تعذر الوفاءُ بالموتِ، فلا حاجة (1) لإيجاب شيء على المشتري لم يلتزِمه، ولا وجه لتخليصه مجاناً؛ لأن البائع لم يرض بالقدرِ الذي سمَّاه من الثمن إلا لما شرطه من الحق، فعلى المشتري قيمةُ العبدِ، وَيسْترد الثمنَ المسمى. هذا موجب الانفساخ. ويُفتَرض وراء بيان الوجوه نظر في شيء، وهو أنا ذكرنا وجهين في أن العتقَ حقُّ الله تعالى أو حق البائع. فإذا فات الوفاءُ، فالأوجه الثلاثة [في الظاهر] (2) تتفرعُ على أن العتقَ حقُّ البائع، أم تتفرع على الوجهين؟ هذا فيه تدبر للناظر، ويجوز أن يقال: إنما يغرَمُ البائع إذا قدرنا الحقَّ له، ويظهر في القياس أن يطرد هذا على الوجهين؛ فإن البائع يقول: كأني لم أبع ثلث العبد، فإذا فات مشروطي فيه، فاغرَم لي في مقابلته ما يقتضيه التقسيط. وسبب الإشكال في هذه التفريعات خروج الأصلِ عن قاعدة القياس. فصل 3303 - إذا فسدَ البيع بفساد الشرط في أحد العوضين، فالبيع الفاسد لا يفيد الملكَ عندنا، سواء اتصل به القبضُ، أو لم يتصل، خلافاً لأبي حنيفة (3)؛ فإنه قال: إذا اتصل البيع الفاسد بالقبض، تضمن الملكَ للمشتري القابض على وجه الفساد. ثم ما قبضه المشتري مضمونٌ عليه، ولو تلف في يده، لزمته قيمتُه للبائع؛ فإنّا إذا

_ (1) في (هـ 2): فلا وجه. (2) ساقط من الأصل. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 129 مسألة: 1208، رؤوس المسائل: 288 مسألة 176، المبسوط: 3/ 22.

كنا نُضمِّن المستامَ لقبضه على حكم المعاوضةِ المنتظرة، فالقبض على ظن المعاوضَة الواقعة أولى باقتضاءِ الضمان. ثم إذا ضمناه القيمةَ، فالاعتبارُ بأيّةِ قيمة؟ ذكر الأئمة في طرقهم ثلاثة أقوالٍ، قولان منها ذكرهما العراقيون، فنذكرهما على ما ذكروا: أحدهما - أن الضمانَ على القابض كالضمان على الغاصب، فيغرَم أقصى القيم، من يوم القبض إلى يوم الفواتِ، كما سنقرر ذلكَ في أحكام الغصوب. والقول الثاني - أنا نعتبر قيمةَ يومِ التلف؛ فإن الأصل فيما يجب رَدّه ردُّ (1) العين، والتحول إلى القيمةِ سببه فواتُ ردَّ العين. وهذا إنما يتحقق بالتلف. وذكر المراوزَةُ القولين، فوافقوا في ضمان الغصب، وقالوا في القول الثاني الاعتبارُ بقيمته يوم القبض. هكذا ذكره الشيخ والصيدلاني وغيرُهما. فانتظم من الطرق ثلاثةُ أقوال: أحدها - قيمةُ الغصب. والثاني - قيمةُ يوم التلف. والثالث - قيمةُ يوم القبض. والقولان أو الأقوال نجريها في كل ضامنٍ غيرِ معتدٍ، ولا متصرفٍ في غصب، فإذا ضَمَّنا المستامَ قيمةَ ما تلف في يدهِ، فالقول في القيمةِ المعتبرةِ كما ذكرناه. وهذا يطرد في اليد المضَمَّنة التي ليست غصباً. 3304 - وفي المستعار فضلُ نظرٍ؛ فإن من استعارَ ثوباً وقبضه، فلو تلف في يَده، لزمه ضمانُه، فلو اعتبرنا أقصى القيم، لضمّناه الأجزاءَ التي أتلفها بالإبلاء، مع العلم بأنه أتلفها بإذن مالك الثوب. وكذلك لو اعتبرنا قيمةَ يوم القبض، ففيه هذا التعذّر، فما الوجه فيه؟ هذا يُبتنى على أن المستعيرَ هل يضمن الأجزاءَ التي أبلاها؟ فإن قضينا بأنه يضمنها، وهو أضعف الطرق، فيقع في عماية أخرى؛ فإن ما يفوت لا تعتبر قيمته بعد فواته. وفيه تتسلسل فروعٌ لابن الحداد في مسائل الغصوب، فلا معنى للخوض فيها الآن. والوجه التفريعُ على الأصح، وهو أن الفائت بالبلى غيرُ مضمونٍ. فالوجه أن نقول: إذا انسحق الثوبُ بعضَ الانسحاق، ثم تلف في يده، ففي قولٍ

_ (1) في (هـ 2): بدل العين.

نقول: تجب قيمة ثوبٍ منسحقٍ بأقصى ما يقدَّر من يومِ القبضِ إلى يوم التلفِ. وفي قولٍ تجب قيمتُه يومَ التلفِ. وهذا منطبق على الغرض. وفي قول نقول: تجب قيمة ثوبٍ منسحق يوم القبض. فهذا منتهى الغرض في القيمة المعتبرة. 3305 - ثم ذكر الشافعي جملاً تتعلَّق بقضايا الضمان في تصرفات صاحب اليدِ المضمنة، وتلك الأحكام تأتي مفرقةً في محالّها، ولكنا نتَّبِع ترتيب " المختصر " فنذكر منها ما يليق بشرح [السواد] (1). فإذا قبض المشتري الجاريةَ المشتراةَ على الفسادِ ووطئها، فإن كان عالماً بالتحريم وفساد العقد، ففي الحدَّ نظر؛ من جهة خلافِ أبي حنيفة في مِلك المشترى، فيجوز أن يقال: لا حدَّ؛ لهذه الشبهة. ويجوز أن يقال: يلزم الحدَّ، لأن أبا حنيفة لا يبيح الوطء، فخلافه في الملك كخلاف العلماء في وجوب الحدّ وانتفائه، وليس هذا كما لو وطىء في نكاح المتعة، والنكاح بلا شهود وولي؛ فإن المخالف في هذه المسائل يبيح الوطء. وتحقيق منازل الشبهات في كتاب الحدود. وإن كان المشتري جاهلاً، فلا حد، ويلزمُ المهرُ إن كانت الأمةُ جاهلة. وإن كانت عالمةً، فينعكس هذا على الأصل، وهو أنَّ علم المشترى هل يُلحقُه بالزناة، أم لا؟ فإن لم يلحقه بالزناة، فلا أثر لعلمِها، وإن ألحقه علمه بالزناة، فإذا كانت عالمة، فهي بمثابة جاريةٍ مغصوبةٍ تطاوعُ الغاصبَ من غير استكراه ولو كان كذلك ففي ثبوت المهرِ وجهان، سيأتيان في كتاب الغصب، إن شاء الله تعالى. فهذا قولنا في المهرِ والحدّ. فليقع الفرضُ في اطراد الجهل. ثم حكم المهر على ما ذكرناه.

_ (1) في الأصل: السؤال. ورجحنا (السواد) على ما فيها من إبهام وجهالة، وغموض، لأنها تكررت مرات قبل ذلك، وفي (هـ 2)، (ص): السواد. (ليُعلم أن العمل في هذا الكتاب استغرق أكثر من عشرين عاماً، وكان هذا التعليق قبل أن ينكشف لنا الأمر بيقين جازم أن المراد بالسواد هو مختصر المزني، والله المستعان).

وإن علقت الجارية بمولودٍ، فالولد حرّ لا ولاءَ له (1)؛ فإنه لم يمَسه رِق، ولم ينله عتقٌ، وعليه قيمةُ المولود يوم يسقط حيّاً. وسبب ذلك أن الرق اندفع عن المولود بظنه. ولو انفصل الولد ميتاً، فلا ضمان بلا خلاف. وهذا جارٍ في الضمان الذي يتعلق بمحالّ الغرور. ولو غصب الرجل جاريةً، فعلقت بمولود من سفاحٍ، وانفصل المولودُ ميتاً [فالمذهب] (2) أنّه لا ضمان. وفيه شيء بعيد، سنذكره في موضعه، إن شاء الله. وكذلك ولد الصيد في حق المحرم. والقياس المتبع في الضمانِ في كل جنين ينفصل ميتاً هذا. إلاّ أن ينفصل بجنايةِ جان، فعلى الجاني الضمانُ. ثم ثبوت الضمان في حقّه يثبت الضمانَ في حق صاحب اليد، وفي حق المغرور. ولا وفاء ببيان هذه الأُصول؛ فإنها قواعدُ تأتي في محالّها إن شاء الله تعالى. ثم مما يتصل بهذا الفصل أنّ المغرورَ إذا غرِم قيمةَ الولد يرجع على من غَرّه، وفي الرجوع بالمهرِ على الغارِ قولان. والمشتري على حكم الفساد يُنظر فيه: فإن كان البائع عالماً بالفسادِ، فهو في صورة الغارّ، فلا معنى لإثبات قيمةِ الولد له؛ فإنه لو غرمه لرجع على من غرَّه. والمغروم له في هذا التقدير هو الغارُّ بعينه. وإن كان البائع لا يدري فسادَ العقد، ففي المسألة احتمالٌ ظاهر؛ من جهة أنه لم يعتمد تغريراً، حتى ينتهض ذلك سبباً لانقلاب الضمان عليه. وقد رمز المحققون إلى هذا التردد. واستقصاؤه في باب الغرور، إن شاء الله تعالى. 3306 - ومن أهم ما يجب الاعتناءُ به في هذه الفصول أن من ثبتت له يد مضمَّنة من غير فرض تصرّف في مغصوبٍ، فلو حدثت في يده زوائدُ منفصلةٌ وتلفت، فقد خرَّج

_ (1) في (هـ 2)، (ص): عليه. (2) ساقطة من الأصل.

الأئمةُ ضمانها على القاعدةِ التي صدَّرنا الفصل بها، وهي أن العين تضمن ضمان الغصوب أم لا؟ فإن قضينا بأنها تضمن ضمان الغصوب، [فالزوائد مضمونة. وإن حكمنا بأنها لا تضمن ضمان الغصوب] (1)، فالضمان لا يتعداها إلى الزوائد. وظاهر نص الشافعي يُشعرُ بإثبات ضمان الغصوب في الأيدي المضمَّنة. وذلك أنه قال: " لو غصب جارية، وتلفت في يده، ضمن أكثر ما كانت قيمته من يوم الغصب إلى يوم التلف ". ثم قال: " وكذلك البيع الفاسدُ ". فكان هذا العطف ظاهراً فيما ذكرناه. فإن قيل: إذا لم توجبوا ضمانَ الأولاد، فلم أوجبتم قيمة الولد إذا انفصل حياً على الحرية؟ قلنا: سببه أن المغرور في تقدير الشرع منتسبٌ إلى تفويت الرق، وهذا يلتحق بباب ضمان القيم على المتلِفين، ولكنا لا نضمنه إذا انفصل ميتاً؛ لأنه لم يخرج وله تقدير قيمة، وليس مفوتَ روحه، بخلاف الجاني الذي تصير جنايتُه سبباً لتفويت الروح أو منعها في الانسلاك. ومما أجراه الأصحاب في أدراج هذه الأحكام المرسلة أن الجاريةَ لو علقت بالمولود، وماتت في الطَّلْق، وجب ضمانُ قيمتها وإن ماتت بعد الرَّدِّ؛ لأنه المتسبّب إلى الحمل المفضِي إلى الطلق. ولو وطىء حُرّةً زانياً، واستكرهها وعلقت بمولود، ثم ماتت في الطلق، ففي ضمان الدِّية قولان: أحدهما - أنه يجب قياساً على نظيره في الجارية. والثاني - لا يجب؛ فإن اليدَ لا تثبت على الحرة. وإنما اعتضد الضمان في الأمة باتصالِ اليد المضمنة بها في ابتداءِ السبب. ثم إذا علقت الجاريةُ بمولودٍ حرٍّ، لم تصر أمَّ ولد في الحال؛ فإن الوطء لم يصادف ملكَ الواطىء. ولو ملك الواطىء الجاريةَ يوماً، فهل تصير عند الملكِ مستولدةً له؟ فعلى [قولين سيأتي] (2) توجيههما في أمهات الأولاد، إن شاء الله تعالى.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) زيادة من (هـ 2)، (ص).

فصل قال: " ولو اشترى زرعاً، واشترط على البائع حصادَه ... إلى آخره " (1). 3307 - إذا اشترى زرعاً بدينارٍ، على أن يحصده البائع. هذه صورةُ المسألة. وعلى الناظر أن يعتني في مضمون هذا الفصل بصيغ ألفاظ العاقدين. والذي نرى في ذلك أن نجدّد العهدَ بأصولٍ سبقت، ونرمز إلى بعض ما يأتي مما تَمَسُّ الحاجةُ إليه، ثم نخوضُ في تفصيل مسائل الفصل: فممَّا مضى أن من جمع في صفقةٍ واحدةٍ بين إجارة وبيعٍ، فهل يُقضى بصحة العقد؟ وذلك إذا قال: بعتُك عبدي هذا وأجرتك داري بدينارٍ. هذا من قواعد تفريق الصفقة، وقد مضى. ومما سيأتي أن شرط عقدٍ في عقدٍ يُفسد العقدَ المشروطَ فيه، وذلك مثل أن يقول: بعتُك داري هذه بألفٍ على أن تبيعني عبدك. فبيعُ الدارِ يَفسُد بشرط بيع العبد فيه. وعليه حمل " نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة " على ما سيأتي إن شاء الله. وممَّا يتعين ذكره في مقدمة هذه المسائل أن الرجل إذا قال لعبده: كاتبتُك وبعتُك عبدِي هذا بكذا، فإذا قبل العبد، فقد وقع أحد سْقَّي العقد من العبد المخاطب، قبل انعقادِ الكتابةِ، والظاهرُ الحكمُ ببطلان البيع، لما أشرنا إليه. فإذا تمهدت الأصول، خُضنا بعدها في المسائل. 3308 - فإذا قال: اشتريت منك هذا الزرعَ، واستأجرتُك على حصاده بدينارٍ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين: فمنهم من قال: في فساد الإجارة والبيع قولان مأخوذان من الجمع بين الإجارة والبيع في صفقةٍ. ومنهم من قال: الإجارةُ فاسدةٌ قولاً واحداً؛ لأن أحدَ شِقَّيها وقع قبل ملك الزرع، وإنما يصح الاستئجار على العملِ في مملوكٍ، فإن من استأجر إنساناً على حصاد زرعٍ لم يملكه، ثم استفاد ذلك الزرعَ، فذلك الاستئجار مردود. ثم إذا فسدت

_ (1) ر. المختصر: 2/ 203.

الإجارةُ في مسألتنا، ففي فساد البيع قولان ملحقانِ بالقولين في صفقةٍ تشتمل على شيئين، وتفسدُ في أحدهما، هل يُقضى بفسادها في الثاني؟ كالجمع بين عبدٍ مملوكٍ وعبدٍ مغصوبٍ؟ هذا تفصيل القول فيه إذا قال: اشتريت هذا الزرعَ، واستأجرتك على حصَادهِ. فأما إذا قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ على أن تحصده، فقد اختلف أصحابنا أولاً في قوله على أن تحصدَه، فمنهم من قال: هذا شرط عقدٍ في عقد؛ فتفسدُ الصفقةُ من أصلها، ولا يكون من فروع تفريق الصفقة. ومنهم من قال: قوله على أن تحصده وإن (1) كان على صيغة الشرط، فالملتمَس والمقصودُ من اللفظ تحصيلُ الزرع ومنفعةُ الحاصدِ بدينارٍ، فيكون كما لو قال: اشتريت الزرعَ واستأجرتُك بدينارٍ. وقد فصلنا هذا على ما ينبغي. والألفاظ تُعنَى لمعانيها. 3309 - ولو قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ، واستأجرتُكَ على حصاده بدرهم، فقد فصل الإجارةَ عن البيع، وذكر لكل واحد من المقصودين عوضاً. أما الإجارةُ ففي فسادِها وصحتها ما تقدَّم. وأما بيع الزرع، فصحيح قولاً واحداً، ولا يلتحق هذا بتفريق الصفقة؛ فإن التفريق إنما يجري إذا اتحد العوضُ، وجَمَعت الصفقةُ مقصودَين مختلفين. وسبب الاختلاف ما تقدم من مسيس الحاجةِ إلى توزيعِ العوض عند اختلاف المقصودَين فسخاً وإبقاءً. ولو قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ على أن تحصده بدرهمٍ، فبيع الزرع باطل، قولاً واحداً؛ فإنه لما أفرد الإجارةَ بعوضٍ، جعلها عقداً على حيالها، وشرطها في عقد البيع؛ فكان هذا تصريحاً بشرط عقدٍ في عقد. 3310 - وجميعُ مقاصدِ الفصل تأتي في تفصيل هذه المسألةِ الواحدةِ. ولكنا نذكر أخرى للتوطئة والتمهيد.

_ (1) في الأصل: فإن.

فإذا قال: اشتريت منك هذا الصَّرْم (1)، واستأجرتُك لخصفه على هذا الخف، فهذا يناظر ما لو قال: اشتريت منك هذا الزرع واستأجرتُك لحصاده. وإن قال: اشتريت منك هذا الصَّرْم بدرهمٍ على أن تخصفه على هذا الخف، فهو كما لو قال: اشتريت منك هذا الزرعَ على أن تحصده. والجملة في نظائر هذه المسائل أنه يجري فيها إجارةٌ يقع شقُّها قبل الملك، ويجري فيها إقامةُ لفظ الشرط مقام الاستئجار، ويجري فيها قواعدُ تفريق الصفقة، ويجري أيضاً شرطُ عقدٍ في عقدٍ، على وفاق وعلى خلاف. فلا يُشكِل بعد هذا الترتيب هذا الفنُّ على الفطن. فصل قال: " ولو قال: بعني هذه الصُّبرة كل إردبّ بدرهم ... إلى آخره " (2). 3311 - الإردب مكيال من مكاييل مِصرَ، واللفظ من لغة أهله، وقيل: إنه يسع أربعة وعشرين صاعاً، والقفيز عندهم على النصف من الإردب. فإذا أشار الرجل إلى صبرةٍ معلومةِ الصّيعانِ أو مجهولةِ الصيعان، وقال: بعتك هذه الصُّبرةَ، كل صاع بدرهم. فالبيع صحيح، سواء كانت الصّبرةُ معلومةَ الصيعان، أو مجهولةَ الصيعان. فإن قيل: كيف قطعتم بصحة العقد، ولو سئل المتعاقِدان على مبلغ الثمن، لم يُعربا عنه، ولم يعرفاه، وهلاَّ نزلتم هذا منزلة ما لو قال الرجل: بعتك داري هذه بما باع فلان عبده؟ قلنا: الصُّبرةُ مرتبطة بالعِيان، وهو أعلى جهات الإعلام، والثمن مرتبط بها، فالثمن إذن معلوم من نفس مقتضى العقد؛ من جهة إعلام المبيع. وليس ذلك كربط الإعلام بشيءٍ لا تعلّق له بالعقد. والكلام الظاهر فيه أن من اشترى ملء بيت من الحنطة على نسبة معلومةٍ من الثمن، فهو في العرف ليس مغروراً، والرجوع في

_ (1) الصَّرْمُ: الجلد. والخصف في النعال، كالترقيع في الثياب. (المعجم). (2) ر. المختصر: 2/ 203.

طريق الإعلام إلى العرف. وإذا قال: بعتُك بما باع به فلانٌ، فهو على غررٍ منه، وبين حالتين في القلّة والكثرة تسوءه إحداهما وتسرّه أخرى. 3312 - ثم صور الشافعي صيغاً في العقد والاستثناءات، ونحن نتبع مسائله. فمما ذكره أنه لو قال: بعني هذه الصُّبرةَ كل صاع بدرهم، على أن تزيدَني صاعاً، فأجابه صاحبُ الصُّبرة على حسب لفظه. فقوله على أن تزيدني لفظٌ فيه تردد، فإن زعم الشارطُ أنه أراد بقوله على أن تزيدني أن يهب منه صاعاً من غير هذه الصبرة، فهذا شرطُ هبةٍ في البيع، وهو مفسد للعقد لا محالة. وإن قال عَنَيْت بقولي: " على أن تزيدني صاعاً " أن يعتبر صيعانَ الصبرة بالدراهم، وُيعري عن هذا الحساب صاعاً واحداً، ولم يقصد أن يكون ذلك الصاع موهوباً، ولكن رام إدراج جميع الصُّبرة في العقد، على الحساب الذي قدره (1). فالذي ذكره الأصحاب في ذلك أن صيعان الصُّبرة إن كانت معلومة، فالبيع صحيح، والتقديرُ فيه أن الصبرةَ إذا كانت عشرة آصُع مثلاً، وعلم المتعاقدان ذلك، فيرجع حاصل ما ذكره المشتري إلى بيع الصبرة كل صاع وتُسعٍ بدرهم. ولو صرح بهذا، صح. فإذا عناه بلفظه، وهو محتمل، صح. وذكر صاحب التقريب وجهاً، ومال إليه: أن البيع لا يصح في هذه الصبرة؛ فإن ما ذكره من المعنى وهو بيع الصاعِ والتسع بالدرهم وإن كان صحيحاً، فالعبارةُ لا تنبىء عنه إلا على بُعدٍ في المحمل، يضاهي محامل اللُّغز، وينضم إليه أنه ذكرَ مقصودَه بصيغة الشرط. وقد قدمنا في الفصل السابق ما يبطل بصيغ الشروط، وعليه خرَّجنا فسادَ الصفقةِ في وجه إذا قال: اشتريت هذا الزرعَ منك على أن تحصده. وإن كانت الصُّبرةُ مجهولةَ الصيعان عندهما، أو عند أحدهما، فالبيع باطل؛ فإن الصاع المستثنى يغيِّر مقابلةَ الصاع بالدرهم. ويرجع الأمر إلى مقابلة صاعٍ وشيء بدرهم، وليسا يَدرِيَان (2) أن الزوائد على كل صاعٍ ليقابله درهم كم تقع؛ فالمقصودُ إذاً

_ (1) عبارة (ص): الحساب الذي ذكره فالأصحاب في ذلك .... (2) في (هـ 2): يدري أين.

مجهول. ولو أراد أن يعبر عن سعر الحنطة في الصفقة، لم يجد إليهِ سبيلاً، وكأنهما (1) قالا: كلُّ صاع وشيء بدرهم. وهذا باطل. فهذا بيان مسألةٍ. 3313 - والمسألة الثانية: أن يقول: اشتريتُ هذه الصبرةَ كل صاعٍ بدرهمٍ، على أن أنقص صاعاً، فهذه اللفظةُ مترددةٌ، كما تقدَّم. فإن عَنَى بذلك أن يهبَ منه صاعاً من الصبرة، ويبيعَ الباقي بحساب الدرهم، فهذا شرطُ هبةٍ في بيعٍ. وإن أراد تغيير الحساب، وقال: يكون الحساب بيننا والصبرة مبيعةٌ على هذا النحو، فهو كما لو قال: على أن تزيدني. وقد مضى التفصيل فيه والفرق بين أن تكون الصيعان معلومة أو مجهولة. وقد نجز غرضُ الأصحاب. 3314 - ولا يصفو الفصل عن الكدر إلا بالتنبيه لأمرٍ: قال الأئمة رضي الله عنهم: كل لفظ نيط به حكم، وهو مما ينفرد اللاَّفظ به، ولا يحتاج إلى جواب مخاطب، فهو قابل للصَّريح والكناية: كالطلاق والعتاق، والإبراء، والإقرار، وما في معانيها. فهذه الأشياء يتطرّق إليها الصريح والكناية، ثم الكنايات مفتقرةٌ إلى نية اللاَّفظ، والرجوعُ فيها إليه، كما سيأتي تفصيله في كتاب الطلاق. وأما ما لا يستقل فيه لفظُ شخصٍ واحدٍ، ويستدعي جواباً: كالعقودِ المفتقرةِ إلى الإيجاب والقبول، فلا شكّ في انعقادِها بالصريح (2). وأما تقديرُ عقدِها بالكنايات، فالعقود تنقسم إلى ما تفتقر إلى الإشهاد وإلى ما لا تفتقر إليه. فأما المفتقر إلى الإشهاد: كالنكاح وكبيع الوكيل إذا شرط الموكِّلُ عليه الإشهاد على البيع، فلا ينعقد بالكناية؛ فإن الشهود لا يطلعون على القُصود، ومجردُ الألفاظ إذا كانت كنايات لا تكون عقوداً.

_ (1) في (هـ 2) كلاهما قالا. (2) في (هـ 2): بالصرايح.

فأما ما لا يفتقر إلى الإشهادِ، فينقسم إلى ما يتطرق إليه التعليق بالإغرار، وإلى ما لا يقبل ذلك: فأمَّا ما يكون مضمونه قابلاً للإغرار، فيصح العقد فيه بالكنايات مع النياتِ، كالخلع وعقود العتاقة، والصلح عن الدم. وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا قال لامرأته: أنت بائنٌ بألفٍ، فقالت: قبلتُ ونويا، وقع الطلاق مبيناً، وصح الخلع. وأما العقود التي لا يقبل مقصودُها التعليقَ ولا يشتَرط فيها الإشهاد، ففي انعقادِها بالكنايات وجهان مشهوران: أحدهما - الانعقاد كالخلع وما في معناه، وكالألفاظ الفردةِ التي لا تفتقر إلى جواب. والوجه الثاني - أنها لا تصح، فإن المخاطَبَ لا يدري بم خُوطب، ولا يتأتى التخاطب بالكناياتِ، كما لا يتأتى تحمّل الشهادة، حيث تُشرط الشهادة في الكنايات. فهذا عقدُ هذه الجملة. 3315 - والذي أراه فيها أن قرائن الأحوال لا معتبر بها عندنا في التحاق الكنايات بالصرائح. حتى إذا قال الرجل في حال مسألة الطلاق وظهور مخايل إرادة الطلاق: أنتِ بائن. وقال: لم أُردِ الطلاق، صُدِّق مع يمينه. خلافاً لأبي حنيفة (1). ومجرد القرائن لا تصلح للعقود، ولذلك لا نجعل المعاطاةَ بيعاً، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل. وإذا فرض في العقد المفتقر إلى الإيجاب والقبول كناياتٌ، وانضمَّت إليها قرائن الأحوال، وترتب عليها التفاهم، فيجب القطع بصحة العقد؛ تعويلاً على التفاهم. ومَوضع خلاف الأصحابِ في انعدام قرائن الأحوال، والظاهر أن لا عقدَ إذا لم يحصل التفاهم. فإن قيل: هلاّ انعقد النكاح بالكناية مع قرينة الحال إذا حضر الشهود؟ قلنا: ما يتعلق بالجحود لا ينفع فيها قرينة الحال عندنا، والغرض من حضور الشهود إثباتُ

_ (1) ر. فتح القدير: 3/ 400، البحر الرائق: 3/ 322.

مجحودِ. ثم مسألة النكاح لم تبن على هذه النكتة فحسب، وإنما مدارها على تعبُّدات رعاها الشافعيُّ (1) كما قرَّرناه في (الأساليب). فإن قيل: أطلق الشافعي ألفاظاً مجملةَ، وحكم بانعقاد العقد بها. وهذا يخالف ما رتّبتموه. قلنا: لم يقصد الشافعي الكلامَ على المجمل والمفصَّل، والصريح والكناية، وإنما تعرض لتفصيل المعاني التي تصح العقود عليها وتفسد. كما تفصّل الغرض فيه. ويُمكن فرض الأمر في قرينة كما ذكرتها حتى يردَّ غرض الفصل إلى المعنى. فأما إذا ذكر اللفظ من غير قرينةٍ، وهو كناية، فلا بد من تخريج المسألة على القاعدة التي مهَّدناها في الصرائح والكنايات. فليتخذ الناظر ما ذكرناه معتبره في نظائر هذه المسألة من الألفاظ المترددة من جهاتِ الاحتمالات. فصل قال: " ولو اشترط في بيع السمن أن يزنه بظروفه ... إلى آخره " (2). 3316 - الفصل يشتمل على مسائلَ مرسلة نذكرها، إن شاء الله: منها أنه إذا أشار إلى سمن في وعاء وقد عُهِد الوعاء من قبل، وعُرف غلظه ودِقته، أو كان شيئاً لا يتوقع فيه تفاوت به مبالاة، كالزِّق وما في معناه. فإذا قال والحالةُ هذه: بعتك هذا السمنَ بكذا، وكان وجهه بادياً وأجزاؤه متساوية، فالبيع صحيح لا شكَّ فيه. ولو كان السمن في ظرف مختلفِ الأجزاء دقةً وغلظاً، وكان بحيث لا يستدل بما يبدو من طرفه على ما يغيب عن البصر من باطنه، وجوَّز المشتري أن يتفاوت الأمرُ تفاوتاً بيِّناً، فقد ذهب بعضُ المحققين إلى أن البيع يبطل في هذه الصورة.

_ (1) كذا في النسخ الثلاث. ولعل الصواب: رعاها الشارع. (2) ر. المختصر: 2/ 203.

والسبب فيه أن التعويل على العِيان في هذا البيع، والعِيان ليس مفيداً إحاطة، فكان كَلاَ عِيان، والجهالة مفسدةٌ للعقد. وقال شيخي أبو محمد: البيع في مثل هذا مخرَّج على قولي بيعِ الغائب، ولا وجه (1) للقطع بالفساد. وهذا الذي ذكره صحيح لا شك فيه. ومن أفسد البيع من أصحابنا فرَّع قولَه على منع بيع الغائب. ولا يُظن بمن يرجع إلى تحقيقٍ يخرّج بيعَ الغائب فيه إذا قال البائع: بعتك الثوبَ الذي في كُمّي على قولين، مع القطع ببيع السمن في الظَّرف الذي يُظن اختلاف أجزائه. والذي يبيّن الغرضَ في هذا الفصل أن العِيان إذا أفاد الإحاطةَ بالجوانب، ولم يُبن خلافَ ذلك، فهو إعلام، وإن كان العيان لا يفيد الإحاطةَ في الحال، كما ذكرناه في الظرف المشكل. فالوجهُ إلحاق ذلك ببيع الغائب. وإن بني العقدُ على عيانٍ يثير غلبةَ الظن بالإحاطة، ثم يتبين أمر يخالف هذا: كالرجل يشتري صُبرةً، ويظنها على استواءٍ من الأرض، ثم يبينُ في خَلِلها دِكّة (2)، أو كما اشترى فاكهةً متساويةَ الأجزاء في قرطالة (3)، يحسبها ملءَ القِرطالة، فيبين في أسفلها حشوٌ، الصحيح الحكمُ بالصحة في هذه المسائل، مع إثبات الخيار للمشتري؛ فإن العيان أشعر بظنٍّ في الإعلام، فاعتمده العقدُ، ثم لما بان خلافُ المظنون، اقتضى ذلك الخيارَ. وكان شيخي أبو محمد يُلحق هذا القسمَ ببيع الغائب أيضاً. ويقول: إن ظننا إفادَةَ العيانِ علماً، فقد تبيَّنا بالأَخَرة خلافَ ذلك، فليقع التعويل على المعلوم آخراً، لا على المظنون أولاً.

_ (1) في (ص): والأوجه القطع بالفساد. (2) ساقطة من (هـ 2). (3) القِرطالة: عِدْل حمارٍ، والقِرْطل سلة من العنب. قيل معزبة عن اليونانية، وقيل عن الفارسية (معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة) وعِدْل الحمار هو ما يوضع على ظهره لتوضع فيه البضائع والأمتعة، والعِدْل المثل والمساوي، وسمي ما يوضع على ظهر الحمار بذلك لأن له ظرفين متعادلين؛ حتى يستقر الحمل على ظهره، ولا يميل.

ولو اشترى سمناً في بُستوقةٍ (1) وهو يرى الغِلَظَ والدقة من رأس البستوقة، والغالب على الظن أنها لا تتفاوت، فالذي يقعُ الحكمُ به ظاهراً الصحَّةُ، فإن بان تفاوتٌ في غلظ الداخل على خلاف الاعتياد، التحقت المسألةُ بالصُّبرة التي يبين تحتها دكة. وقد تفصل المذهب فيه. 3317 - فإن قيل: إذا كان العيان لا يفيد إعلامَ المقدار، ولا تغليبَ الظن، فقد ألحقتم القولَ فيه ببيع الغائب، فبم تنكرون على من يقول: إذا كان المبيع متساوي الأجزاء، ولم يختلف ظاهره وباطنه، وإنما بان تفاوتٌ في المقدار، فالبيع صحيح، فإن صحَّةَ البيع تعتمد العلمَ بصفةِ المبيع، لا بمقدارِه؛ فإن المقدارَ إنما يراعى في عقود الربا؟ قلنا: القدر معني من المبيع، كما أن الصفة معنيّهٌ منه، ولعلّ القدرَ أوْلى بالرعايةِ؛ فإن المقدار من المبيع مبيعٌ، والصفةُ لا تستحق إلا تبعاً، وإنما صح بيع الصُّبرة على الاستواءِ من الأرض؛ من حيث إن العِيان يحصرها ويحيط بها. فإن قيل: العيان لا يقدّر الصبرة إلا خرْصاً وحزْراً، وقد لا يعرف الحَزْر إلاَّ الخواصُّ من الناس، ثم صح البيع، دلَّ أن القدرَ ليس معنِياً، ولما كان القدر معنيّاً معتبراً في الربويات، لم يجز التعويلُ فيها على العيان. واعتقد مالكٌ (2) الاعتناءَ بمعرفة المقدار، فمنع بيع الصُّبرة جزافاً بالدراهم، ومنع بيع السلعة بكف من الدراهم جزافاً. قلنا: أما الربويات، فالتعويل فيها على التعبد، وما تعبدنا فيه بالكيل لا نقنع فيه بالوزن، وإن كان أَحْصرَ. وأما ما ذكره السائل من الحزر، واختصاص بعض الناسِ به، فصحيح. ولكن العقد يبتنى على إحاطة العيان، لا على إحاطة المقدار؛ فالذي عاين الصُّبرة واشتراها، اعتقدَ أن الصبرةَ إلى استواء الأرض حنطةٌ، وربط العقدَ به، فهذا هو المعتبرُ لا الحزر.

_ (1) البُستوقة: القلة من الفخار. تعريب (بستو) (معجم الألفاظ الفارسية). (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 573 مسألة 951.

وعلى الجملة لِما بحث السائل عنه وَقْعٌ. وقد ذهبَ بعض أصحابنا فيما حكاهُ الشيخ أبو علي في مذهبه الكبير (1) أن جهالةَ المقدارِ لا تُلحق البيعَ ببيع الغائب، ولكنه من تفرّداته. وإنما يُفتَى بما يأتي به في شرحه، فلذلك أخرتها. فهذه مسألة. 3318 - ومن مسائل الفصل أنه لو باع السمنَ مع الظرف: كل منّ بكذا، وشَرَطَ طرحَ وزن الظرف، صح البيع. وإن قال بعتُك هذا السمنَ كلَّ مَن بكذا على أن أزنه بظرفه، ولا أحط وزنَ الظرف، فهذا باطل؛ لأنه وجه العقد على السمن، ثم شرط أن يتسلم ما ليس بسمن بدلاً عن السمن. وهذا قولٌ متناقض؛ فلا ينعقد البيع. وإن قال: بعتُك السمن مع الظرف، كل من بكذا، فمقتضى لفظه لا تناقض فيه، ومقصوده وزن الظرف مع السمن، وبيعه بحسابه، فإن كان الظرف متقوّماً بحيث يصح إفراده بالبيع، فالبيع صحيح وإن اختلفَ جنس السمن والظرف. وقد تختلف القيمة، وهو كبيع الفواكه المختلطة على وزن واحدٍ في الجميع. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز البيع كذلك؛ لأنه لا يعرف قدر السمن والظرف، والمقاصد تختلف في ذلك. وقد قدمنا في الفواكه المختلطة كلاماً فيما مضى، فلو كانا عالمين بمقدار الظرف وجرى العقد كما ذكرناه، صح بلا خلافٍ. فرع: 3319 - إذا قال بعتك من هذا السمن كلَّ منّ بدرهم، أو بعتك من هذه الصُّبرة كلَّ صاع بدرهم، فلفظه ليس يتضمن استيعاب الجميع؛ فإن من مقتضاه التبعيضُ، فلا يصح العقد بهذا اللفظ في جميع السمن والصبرة. وهل يصح العقد في منّ أو صاع؟ ذكر صاحب التقريب فيه وجهين، وشبَّهها بمسألة في الإجارة: وهي إذا قال:

_ (1) المذهب الكبير هو شرح الشيخ أبي علي مختصر المزني. ولم يعرف هذا الشرح بهذا الاسم، وربما لم يطلقه عليه إلا إمام الحرمين. يبدو هذا من عبارة السبكي في الطبقات، حيث يقول في ترجمة الشيخ أبي علي: "وصنف شرحَ المختصر، وهو الذي يسميه إمام الحرمين بالمذهب الكبير" (ر. الطبقات: 4/ 344).

آجرتك (1) هذا الحانوتَ، كل شهر بعشرةٍ، فليس للإجارة أمد [بحدود] (2) وإنما هي معقودةٌ على الأبدِ، والمعتمد تبيين حصَّةِ كل شهر، فالإجارةُ فاسدة فيما وراء الشهر الأول، وهل تصح في الشهر الأول بالقِسط [المذكور] (3)؟ فعلى وجهين. قال صاحب التقريب: الصاع من الصبرة بمثابة الشهر في الصورة التي ذكرناها. وما ذكره قريبٌ. ولكن الأصح فساد الإجارة في الشهر الأول. والوجه المذكور فيه ساقط غير معتدِّ به. فرع: 3320 - إذا قال بعتك السمن مع ظرفهِ هذا، كل من بدرهمٍ، وكان الظرف غير متقوم؛ بحيث لو قدر إفراده بالبيع لم يصح. فقد قطع بعض أصحابنا بفساد البيع في السمن؛ من حيث اشتمل على اشتراط بذل مالٍ في مقابلةِ ما ليس بمال. والوجه عندنا تخريج هذا على تفريق الصفقة: فالزق مع السمن جُمعا في العقد، وقوبلا بالثمن، فكان ذلك كصفقة تجمع حُرّاً وعبداً، أو شاة وخنزيراً. فصل قال: " ولو اشترط الخيار في البيع أكثرَ من ثلاث ... إلى آخره " (4). 3321 - قد سبق القول في خيار المجلس وخيار الشرط على أبلغ وجهٍ في الاستقصاءِ، والغرض من ذكر هذا الفصل بيانُ ميل النص إلى وجهٍ ضعيف في القياس، ثم نذكر بعد التنبيه ما رأيناه للأصحاب. فإن كان زائداً على ما قدمناه في صدر الكتاب، فليضمَّه الناظرُ إلى ما تقدَّم، وإن [لم يكن] (5) زائداً، لم تضر الإعادة.

_ (1) أَجَرْتُك الدارَ، من باب قتل، وفيها لغة ثانية من باب ضرب، والثالثة: آجرتُك (بالمد) وهي من أفعل لا من فاعَل. فآجرتُ: أفعلت فأنا مؤجر، ولا يقال: مؤاجر. (مصباح). (2) في الأصل: ممدود. (3) في الأصل: الأول. (4) ر. المختصر: 2/ 204. (5) في الأصل: وإن كان.

ظهر اختلاف الأصحاب في أن البيع إذا اشتمل على شرط خيار ثلاثة أيامٍ، فابتداء زمان الخيار يحسب من وقت العقد، أو من وقت التفرق؟ فيه وجهان ذكرناهما: أقيسهما - أنه من وقتِ العقد؛ فإن وقت التفرق مجهول، والمجلس قد يقصر وقد يطول، وإثبات المجهول لا يليق بعقد البيع. هذا هو القياس. والوجه الثاني - أن ابتداء المدة محسوبٌ من وقت التفرق، وعليه يدلّ نص الشافعي، وقد ذكرنا توجيهَ هذا الوجه في موضعهِ. والغرضُ من إعادته ما ذكرنا من ميل النصّ إليه. وإذا كان كذلك، فيتعين الاعتناءُ بالجواب عما ذكره صاحبُ الوجهِ الآخر من الجهالةِ، فنقول: لا جهالةَ في الخيارِ المشروط، وإنما الجهالةُ في أمدِ المجلس، وذلك محتمل بلا خلافٍ. والذي ذكره ناصرُ ذلك الوجهِ لا يفضي إلى جهالةٍ في الخيار المشروط، فإن جُهِلَ مبتدؤه، فهو بمثابة الجهل بمبتدأ لزوم الملك. وهذا بالِغٌ في دفع فصل الجهالةِ. والذي يتوجَّه به النصُّ أن شرط الخيار يشعر بتخير مشروطٍ، لولا الشرطُ، لثبت نقيضُه. ولو أثبتنا خيار الشرط من ابتداء العقد، لما كان في الشرط معنى، والخيارُ ثابتٌ لحق المجلس، والأجلُ المطلق في العقد خارج على الخلاف أيضاً. ولكن الإمام (1) كان يرتّبه على خيار الشرط، ويقول: إن حكمنا بأن ابتداءَ الخيارِ محسوبٌ من وقتِ العقد، فالأجل (2) بذلك أولى. وإن قلنا: ابتداءُ خيار الشرط من وقت التفرق، ففي الأجل وجهان. والفرق أن الخيارَ يجانس الخيارَ، فيبعد اجتماعهما. والأجل يخالف الخيارَ في مقصوده ووضعه، فلم يبعد أن يثبت في وقت ثبوت الخيار. فإن قيل: هذا الفرق واضح جداً، فما وجه قول من يقول: الأجلُ يحسب ابتداؤه من وقت التفرق؟ قلنا: وجهه أن المقصود من الأجل تأخير الطلِبة بالثمن، وهذا المقصود يحصل بالخيار؛ فإن البائع لا يملك الطَّلِبةَ بالثمن في زمان الخيار، فالأجل

_ (1) الإمام يعني به والده أبا محمد. (2) في الأصل: والأجل.

وإن لم يكن خياراً، فمقصودُه يضاهِي مقصودَ الخيارِ، ولذلك يمتنع شرط الأجل في البيع الذي يمتنع فيه شرط الخيار. 3322 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنا إذا رأينا حَسْبَ ابتداء الأجل من وقت التفرق، فلو اشتمل العقدُ على شرطِ الخيار ثلاثةَ أيام وأجل الثمن فيه، فابتداء الأجل على الوجه الذي انتهينا إليه يحسب من أي وقت؟ على وجهين: أحدهما - أنه يحسب من انقضاء الخيارِ المشروط حتى لا يجتمع الأجل والخيار، كما أنا لا (1) نجمع بين الأجل وخيارِ المجلسِ. والثاني - أنه يحسب من وقت التفرق عن المجلس، وكأنَّ الثمنَ يلحقه نوعان من الأجل: أحدهما - يتضمن الخيار. والثاني - يتضمن الفُسحةَ والمهلة. والوجه عندنا القطعُ بأن ابتداء الأجل من انقضاءِ الخيار المشروط على الوجهِ الذي عليه نفرع؛ فإن الأجل أحق بمجانسة خيارِ الشرط منه بمجانسة خيار المجلس، والمجانسة تؤثر في منع الجمع. فإن قلنا: الخيار المشروط المطلق محسوبٌ من وقت التفرق، فلو صرح العاقدان بحَسْب ابتدائه من وقت العقد، ففي صحة العقد والشرط وجهان: أحدهما - أنهما إذا صرحا بذلك، وقع الأمر كما شرطاه، وإنما الكلام في الإطلاق. ومن أصحابنا من قال: يفسد العقد والشرط. وحقيقةُ هذا الخلاف ترجع إلى أن منع الجمع بين الخيارين من مقتضى اللفظ المطلق، أم هو حكم يجب اتباعه؟ وهذا مختلف فيه: فمن راعى من أصحابنا في صورةِ الإطلاق مقتضى اللفظ، وزعم أن شرط الخيار مشعر بثبوت تخيرٍ لولاه، لكان اللزوم [بدلَه] (2)، فإذا وقع التصريح بجمع الخيارين، لم يمتنع عنده. ومن اتبع الحكمَ ورأى اجتماعَ الخيارين بعيداً، واعتقد أن خيار الشرط لغوٌ مع

_ (1) في (هـ 2)، (ص): لم. (2) في الأصل: يدله. والمعنى: أنه لولا شرط الخيار لكان لزوم العقد بدلاً عنه.

خيار المجلس، فالتصريحُ بالشرط يفسُد من طريق الحكم، ولا يبعد أن يؤثر في فسادِ العقد. وهذا فيه نظر عندنا. وإن اتبعنا الحكمَ فَقُصارَاهُ أن يلغوَ خيار، وليس الخيارُ مقصوداً في البيع؛ حتى يؤثِّر كونُه لغواً في إفساد البيع، والشرط المفسد هو الذي يغير مقصوداً من العقد. فالأظهر إذاً أَنَّ المتعاقدَيْن إذا صرَّحا باحتساب ابتداء الخيارِ من وقتِ العقدِ، جاز ذلك. وقد يتجه لمن يميل إلى الإفساد شيء وهو أن يقول: إذا كان يلغو خيار الشرط في زمان المجلس، فكأَنْ لا خيارَ من جهة الشرط في المجلس، وإنما يثبتُ منه ما يقع بعد التفرق ولا يدرَى كم قدرُه، فهو خيار مجهول المقدار. وإذا فرعنا على أن خيار الشرط عند الإطلاق محسوب من ابتداء العقد، فلو صرّح المتعاقدان بشرط احتساب أول مدة الخيار من وقت التفرق، فالذي قطع به الأصحاب أن هذا مفسد للعقد على الوجه الذي نفرع عليه. ووجه ذلك ظاهر؛ فإن المعتمد عند هذا القائل ما في ذلك من الجهالةِ، وإذا وقع التصريح بها، فالوجه الحكم بالفساد. وذكر صاحب التقريب وجهين على هذا الوجه، كالوجهين اللذين فرعناهما على الوجه الأول. وهذا لا أصل له؛ فإن الوجهين المذكورين المفرَّعين على الوجه الأول مأخوذان من التردد في أن ذلك [الوجه] (1) مبنيٌّ على حكم متَّبع، أم هو متلقًّى من صيغة اللفظِ المطلق، ولا ينقدح في الوجه الثاني هذا؛ فإن المعتمد في الوجهِ الثاني اجتنابُ الجهالة. والتصريحُ بهذا يناقض المقصودَ. 3323 - ومما فرعه الأصحاب في ذلك أن البيع إذا اشتمل على خيار الشرط، فإذا قلنا: ابتداؤه محتسب من وقت العقد، فلو قال المتعاقدان في المجلس: أبطلنا الخيارَ، فهذا يتضمن قطعَ الخيارين؛ فإن الإبطال صادفهما جميعاً. وإذا قلنا: ابتداءُ خيار الشرط محسوب من وقت التفرق، فإذا قالا في المجلس: أبطلنا الخيار،

_ (1) ساقطة من الأصل.

وأطلقا ذلك، فينقطع خيار المجلس، وفي بطلان خيار الشرط وجهان: أحدهما - أنه لا يبطل؛ فإن إبطالهما لم يصادفه، فوجب أن يقصر على خيار المجلس. والثاني - أنه يبطل خيارُ الشرط؛ فإن إطلاقَ إبطالِ الخيار يتضمَّن قصد إلزام العقد؛ وهذا يقتضي قطعاً قطعَ [التأخير] (1) ودفعَ ما سيقع. * * *

_ (1) في الأصل، (ص): قطع الناجِز، والمثبت عبارة (هـ 2).

باب النهي عن بيع الغرور وثمن عسب الفحل

بابُ (1) النهي عَن بيع الغُرورِ وثَمنِ عَسْبِ الفَحْلِ 3324 - ذكر الشافعي (2) نَهْي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن عَسْبِ الفَحلِ، وذلك أن يستأجر فحلاً للضّرابِ بمال يبذله، فهو باطل، لأن المالَ إن بذل على مقابلة الماء، كان باطلاً؛ إذ لا قيمة له، وإن كان مبذولاً على مقابلة الضراب، فهو مجهول، وليس هو مما يقع على وجهٍ واحدٍ، وقد لا يقع، فكان في حكم ما يخرج عن مقدور تحصيله. واستعارةُ الفحل للضراب مسوَّغةٌ، فإن الضراب والتسبب إليه ليس محرَّماً، والاستعارة لا تقتضي [اجتنابَ] (3) الجهالة. فصل 3325 - ذكر الشافعي نهي رسول الله عن بيع الغَرر، ثم عدَّ وجوهاً من الغَرر المفسدِ للبيع، ونحن نجري على ترتيبه فيها. ومعنى الغَررِ ما ينطوي عن الإنسان عاقبتُه. ومنه أغرّ الثوب، فيقال: ردَّ الثوب إلى غَرِّه أي إلى طيّه الأول. ثم لا يحرم كل غرر؛ إذ ما من عقدٍ إلا ويتطرَّق إليه نوع من الغرر وإن خفي. وقد نص الشافعيُّ على الوجوه المؤثِّرة، فمما ذكره بيع الجمل الشارد، والعبد الآبق وهو باطل؛ فإن البيع يقتضي تسليمَ المعقود عليه، فينبغي أن يكون

_ (1) من هنا بدأت المقابلة على نسخة أخرى هي نسخة (ت 2) الجزء التاسع. فصارت النسخ المعتمدة أربعاً. (2) ر. المختصر: 2/ 204. (3) في الأصل: اختيار.

التسليم ممكناً، فإذا عُدَّ متعذّراً في العرف، قُضي ببطلان العقدِ، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وصفات العاقدين؛ فإذا أبقَ العبدُ وخفي مكانُه، فبيعه باطل، لما ذكرناه، ولا يشترط في الحكم بالبطلان اليأسُ من التسليم، بل يكتفَى بظهور التعذُر. 3326 - وإذا باع عبداً مغصوباً، فهذا يختلف، فإن كان البائع يقدر على استرداده من الغاصب وتسليمه، صحّ البيعُ. وإن كان لا يقدر عليه لضعفه، واستظهار الغاصب بفضلِ قوته، فالبيع مردود. ولو كان المشتري قادراً على أخذه من الغاصب، وكان البائع عاجزاً عنه، ففي صحَّة البيع خلاف بين الأصحاب: منهم من أفسده نظراً إلى عجز البائع؛ فإنه هو الذي يجب عليه التسليم، فإذا عجز عمَّا يجب عليه بحكم العقد، [لم يصح، ومنهم من قال: يصح العقدُ] (1)، نظراً إلى قدرة المشتري على الوصول إلى حقه. وهذا هو الأصح. ولكن إن علم المشتري حقيقةَ الحال، فلا خيارَ له، وإن جهل وظن أن المبيع في يد البائع، فله الخيار؛ فإن العقد لا يُلزمه تكلّفَ تحصيل المبيع. ثم إذا شرع في العقد على علمٍ، وتوجَّه على البائع التسليمُ، فإذا عجز عنه، ولم يتمكن من تحصيله بنفسه، فيثبتُ الخيارُ أيضاً للمشتري، وإن شرع في العقد على علم. هذا هو الأصحّ. فإن قيل: هذا يناقض ما ذكرتموه الآن من الفرق بين العلم والجهل؛ فإنكم أثبتم الخيار مع العلم أخيراً. قلنا: الفرق قائم؛ فإنه إذا كان جاهلاً، فعَلِم، تخيَّر، وإن لم يدخل وقتُ وجوبِ تسليم المبيع على التفصيل المقدم في أقوال البداية، وإذا شرع في العقد على علم، فلا خيارَ له ما لم يدخل وقتُ وجوب التسليم. ويجوز تزويج الآبقة، وينفذ عتقُها؛ فإن التزويج والعتق لا يفتقران إلى تسليمٍ، حتى يُرعَى فيهما إمكان التسليم.

_ (1) ساقط من الأصل.

3327 - ومما ذكره الشافعي من أنواع الغرر بيعُ الطائر في الهواء. والتفصيل فيه أنه إذا لم يكن مملوكاً للبائع، فلا شكّ في فساد العقد، وإن كان مملوكاً للبائع، لكنه أفلت، وكان الوصول إليه متعذراً، فبيعُه فاسدٌ؛ لما قدمناه من فساد بيع ما لا يقدر على تسليمه. وأما الحماماتُ التي تكون مملوكةً والتي تطير نهاراً وتأوِي إلى أوكارها ليلاً، فالمذهب صحة بيعها نهاراً؛ بناءً على عوْدِها الغالب، وهو كتصحيحنا بيعَ العبدِ الغائب الذي نرجو إيابه. وأبعد بعض أصحابنا، فمنع بيعها قبل أن تأوي؛ فإن عودها على حكم عادة والآفات كثيرةُ الطروق، ولا ثقة بما لا عقل له. والصحيح التصحيح. ومما يذكر في ذلك، وبه تمام البيان أن الشيء الذي يتوصل إلى تسليمه، ولكن بعد تعذّرٍ وعُسرٍ ظاهرٍ، كالطَّائر في دار فيحاءَ متسعةِ الرقعة إذا لم يكن لها منفذ، فالوصول إليها مع تحمل العسر متصوّر، فإذا بيع ما وصفناه، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما - لا يصح، لتحقق التعذّر حالة العقد. والثاني - أن البيع يصح لتحقق الإمكان، وإن كان مع عسرٍ بيّن، وهذا بمثابة تصحيح بيع العبد الآبق (1) الغائب الذي هو على مسافةٍ بعيدةٍ من المشتري. فرجع حاصل القول إلى أن التعذر إذا تحقق حالةَ العقد، ولم يكن التمكن موثوقاً به، فالبيع فاسد قطعاً، وإن كان التسليم ممكناً مع أدنى عُسر محتمل في العادة، فالبيع صحيح. وإن تحقق التعذر، ولكن كان التمكن موثوقاً به مع معاناة عُسر، ففي المسألة وجهان. ومما ذكره الأصحاب بيعُ البرجِ وفيه الحمامات المملوكة. أما القول في الحمامات، فعلى ما فصّلناه، وبيع البرج صحيح، والتسليم فيه التخليةُ، وهل يتم التسليم في الحمامات إذا أَوَتْ إلى البرج بالتخليةِ تبعاً للبرج، والتفريع على أن

_ (1) ساقطة من (هـ 2)، (ص)، (ت 2).

لا يكفي في تسليم المنقولاتِ التخليةُ؟ في المسألة وجهانِ. وقد تقدَّم نظيرُهما في بيع الدار مع أقمشةٍ فيها. وبيع النحل في الكُوَارَة (1) جائز. وإن كانت خارجةً من الكُوَارَة، ولكنها تَؤوبُ في العادة، فالقول فيها كالقول في الحمامات الهادية. 3328 - ومما [يُذكر] (2) في ذلك بيعُ السمك في الماء. والتفصيل فيه كالتفصيل في الطير في الهواء. فإن لم يكن مملوكاً، فلا خفاءَ بفساد بيعه، ولو كان مملوكاً، فسبيل التفصيل ما مضى من كونه مقدوراً، أو غير مقدور. وقد يتصل بذلك أن السمكة إن كانت مرئيةً تحت الماء الصافي، فتفصيل القول ما تقدَّم. وإن كانت غير مرئيَّةٍ، فينضم إلى ما ذكرناه القولُ في بيع ما لم يره المشتري. وذكر أصحابنا طرقاً (3) من الكلام في أن السمكة كيف تملك، وما وجه ثبوت اليد عليها؟ والقول في ذلك يتعلق بكتاب الصيد، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. فرع: 3329 - من اصطاد سمكةَّ فَخرج من بطنها دُرَّةٌ، فإن كانت مثقوبةً، فهي لُقطةٌ؛ لقَطْعِنا بأنه لا يثقب الدرّةَ إلا مالكٌ. وإن كانت غير مثقوبة، فهي للصياد؛ لأنها بمثابة أجزاء السمكة في أنها مصادَفةٌ موجودة (4) وليس عليها علامةُ ملك مالكٍ. وإن قدِّر فيها ملكٌ، لم يبعُد تقدير الملك في السمكة أيضاً، بأن تفرض مُفلِتةً بعد القبض عليها. ولو باع واحد تلك السمكة، وفي بطنها الدرَّة، لم يملك المشتري تلك الدرة؛ لأن حكم البيع أن يَرِدَ على أجزاءِ ما قُصدَ بالبيع، وليست الدرة من أجزائها، ولا فضلة [منفوضة] (5) منها بخلاف البيضة في جوف الدجاجة، واللبن في ضرع الشاة.

_ (1) الكُوَارَة: بالضم والتخفيف بيتُ النحل وخليتها. هذا هو المعنى المراد هنا (المصباح). (2) في الأصل: نذكره. (3) كذا في (ص)، (هـ 2)، وفي الأصل. وفي (ت 2): طريقاً. ولعلّ الأليق: طرفاً. (4) في (هـ 2): مملوكة. (5) في الأصل: منقوصة، ومثلها (ص)، والمثبت من (هـ 2)، (ت 2).

فصل قال: "ومما يدخل في هذا المعنى أن يبيع الرجل عبداً لرجل ... إلى آخره" (1). 3330 - ألحق الشافعيُّ بيع الرجل مالَ غيرهِ بالغرر الذي يجب اجتنابه، وغرض الفصل الكلامُ في وقف العقود. وهو ثلاثة أصنافٍ عندي: أحدها - أن يبيع الرجل مال غيره بغير إذنٍ منه ولا ولايةٍ. والمنصوص عليه للشافعي في الجديد أن البيع باطل. ونص في القديم على أنه منعقدٌ ونفوذه موقوف على إجازة المالك، وهو مذهبُ أبي حنيفة (2). ثم من مذهبه أن العقدَ إنما يقف إذا كان له مجيزٌ حالة الإنشاء، فلو باع الرجل مالَ طفل، فبلغ الطفل وأجازه، لم ينفذ العقدُ. نعم، يقف بيع مال الطفل على إجازة الوصي والولي والوالي العام، على حسب مراتبهم، والوقوف على إجازة من يملك الإنشاء منهم. ولو باع الرجل مال غيره، ثم ملكه بعد ذلك العقد، لم ينفذ عند أبي حنيفة (3)؛ فإنه لم يكن حالة العقدِ مالكاً للإجازة. قال شيخي: إذا فرعنا على القديم، لم نخالف أبا حنيفة في هذه التفاصيل. ومما نذكره تفريعاً على القديم أن أبا حنيفة (4) قال: من اشترى شيئاً وقصد به شخصاً، لم يقف الشراء على إجازته، بل ينفذ على الذي تعاطى الشراء، وزعم أن الشراء إذا أمكن تنفيذه على الذي قال: اشتريت، فلا حاجة إلى وقفه على إجازة غيرِه.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 204. (2) ر. مختصر الطحاوي: 83، فتح القدير: 6/ 188، الاختيار: 2/ 17. (3) ر. فتح القدير: 6/ 193. (4) ر. مختصر الطحاوي: 83.

وذكر بعض المحققين من أصحابنا أنا إذا وقفنا بيعَ مال الغير على إجازته، فيقف الشراء أيضاً على إجازَةِ من قصده المشتري؛ فإن التوكيل يجري في شقي العقد. ومن قُصد بالشراء ممن يصح منه التوكيل في تلك الحالة، فلا فرقَ بين الشراء والبيع. هذا فيه إذا اشترى في الذمّة شيئاً، فأما إذا اشترى شيئاً بمال غيره، فهو بيعُ مال الغير بغير إذنهِ، فلا نشكُّ أنه يُخرَّج على القولين. وإن فرَّعنا على الجديد وأبطلنا بيعَ مال الغير، فمن اشترى شيئاً في الذمّةِ، وقصد به غيرَه، فلا شك في نفوذ العقد على الذي باشر الشراء. وإن قال: اشتَريتُ هذا العبدَ لفلانٍ، والتفريع على الجديد، فلا شك أن الشراء لا يقف على إجازة ذلك المسمَّى. ولكن في نفوذه على هذا المشتري، وقد سمَّى غيرَه وجهان: أحدهما - أنه ينفذ عليه، وتلغو تسميتُه الغيرَ. والوجه الثاني - أنه يفسد العقد، ولا ينفذ على الذي تعاطى، ولا يقف على إجازة الذي سمى. هذا الذي ذكرناه صنف واحد من الأصناف الثلاثة في الوقف. والعراقيون لم يعرفوا القول القديم في هذا القسم، وقطعوا بالبطلان. 3331 - فأما الصنف الثاني - فهو كبيع الرجل مالاً يحسبه لأبيه، ثم يَبين أن أباه قد مات وانتقل المال إليه ميراثاً، ففي صحة البيع ولزومِه قولان مشهوران نقلهما العراقيون، كما نقلهما المراوزةُ. أما وجه قول التصحيح فلائح. وأما وجه قول الإفساد، فهو أن هذا العقدَ وإن كان منجَّزاً في صيغته فمحلّه التعليق، والتقدير فيه: إن مات أبي، فقد بعتك هذا العبدَ. وللشافعي في الجديد مرامزُ إلى القولين في هذا النوع. 3332 - والصنف الثالث - من الوقف يداني الصنف الأول في وضعه، ولكن يمتاز عنه بما نصفه. فإذا غصب الرجل أموالاً وباعها، وتصرَّف في أثمانها، وأوردَ العقودَ على العقود، وعَسُرَ المستدرَكُ، ولو نفذ المالكُ تلك العقود، لسلمت له تلك الأثمان بأرباحها. ولو كلّف نفسه تتبعَ تلك العقودِ، لشق عليه التدارك، ففي جواز تنفيذها

قولان، نص عليهما في كتاب الغصوب، على ما سيأتي ذكرهما، إن شاء الله. وإنما تمتاز هذه الحالة على القسم الأول بعسر التدارك، وطلبِ مصلحة المالك. فهذا جوامع القول في الوقف. 3333 - ثم وقف العقود يطّرد في كل عقد يقبل الاستنابة، كالبياعاتِ، والإجارات، والهبات، والعتق، والطلاق، والنكاح، وغيرها. والضابط ما ذكرناه من قبول الاستنابةِ. ثم إذا صحَّحنا العقدَ في القديم، نجَّزْنا صحّتَه، بَيْدَ أن الملك لا يحصل إلا عند الإجازة. ولو وهب وأقبضَ، لم يحصل الملك، فإذا أجاز المالك، استعقبت الإجازةُ حصولَ الملك، ولم يتقدم الملك عليها تبيناً واستناداً. هذا ما أراه وليس يخرج في هذا القول الغريب في أن الهبة إذا تأكّدت بالقبض، فيتبين أن الملك استند إلى حالة العقد. كما سيأتي في الهبات. فصل قال: " ولو اشترى مائةَ ذراع من دَارٍ لم يجز ... إلى آخره " (1). 3334 - مضمون الفصل مسائلُ، منها: أن يقول: بعتُك ذراعاً من هذه العَرْصة، فإن كانت معلومةً الدُّرعان، صح البيع، وكان الذراع بالإضافة إلى الدُّرعان بمثابة جزءٍ شائعٍ كالعُشرِ ونحوه، إلا أن يَعني بالذراع معيناً، لا على تأويل الإشاعَةِ، فلا يصح العقد حينئذٍ. ولو اختلف البائع والمشتري، فقال المشتري: أردت جزءاً شائعاً فيها. وقال البائع: بل أردتَ ذراعاً معيناً، لا على مذهب الإشاعَة، بل نحوتَ بذكر الدار (2) نحو قول القائل: بعتُ شاةً من القطيع. فهذا فيه احتمال عندنا: يجوز أن يقال: الظاهرُ حملُه على الإشاعة، ولا يقبل

_ (1) ر. المختصر: 2/ 204. (2) في (هـ 2)، (ص)، (ت 2): الذراع.

من البائع العدول عنه. ويجوز أن يقال: يقبلُ قولُه؛ فإن اللفظ الصريح في الإشاعة الجزءُ المنسوبُ إلى الكل، كالنصف والربع، وما في معناهما. ولو كانت العرصة مجهولة الدُّرعان، فقال: بعتك منها ذرَاعاً، فالبيع مردود. وليس كما لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، وكانت الصبرة مجهولة الصيعان؛ فإن البيع صحيح على ظاهر المذهب. والفرق أن الصُّبرةَ متساوية الأجزاء، بخلاف ذرعان الأرض؛ فإنها متفاوتة الأجزاء. 3335 - ولو وقف على طرفِ الأرض وقال: بعتك عشرةَ أذرع من موقف قدمي في جميع العرض (1) إلى حيث ينتهي في الطول. فهذا إعلامٌ. وقد اختلف أصحابنا في صحة البيع تعويلاً عليه: فذهب الأكثرون إلى الصحة، ووجهه بيّن. وقال قائلون: لا يصح البيع؛ فإنه لا يدرى منتهى القدر المبيع حتى يُذرعَ. وهذا ساقطٌ لا أصل له. ولو وقف في وسط الأرض وقال: بعتك عشرةَ أذرع من موقفي في جميع العرض إلى حيث ينتهي في الطول، ولم يشر إلى الجهة التي يقع المبيع فيها، وكان موقفه محفوفاً بالأرضِ من قدامه، وورائه، فلا شك في فساد العقد. ولو رسمَ في وسط الأرض مقداراً منها يحيط به خطوط هي أضلاع له. أَوْ رَسَم مقداراً على شكل التدوير، يحتوي عليه محيط الدائرة، وباعه، فإن كان قطرٌ منه ْيُتاخم الشارَع أو يتصل بملك المشتري، فالبيع صحيح. وإن كان لا يتصل ذلك المقدار المعين بشارعٍ، ولا بملك المشتري نُظر: فإن قال: بعتك هذا المقدارَ بحقوقه، صح، وثبت للمشتري حقُّ الممرِّ. (2 وإن أطلق البيعَ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن مطلقَ البيع يقتضي حقَّ الممرّ في 2) الذي لم يبعه. والثاني - لا يقتضي الإطلاقُ ذلك. فإن حكمنا بأن الإطلاقَ يقتضي حقَّ الممر، فالبيع صحيح. وإن قلنا: لا يقتضيه، ففي البيع وجهان: أصحهما - البطلان؛ لأنه لا ينتفع ببقعةٍ لا ممرَّ لها.

_ (1) في (هـ 2): العرصة. (2) سقط ما بين القوسين من (ت 2).

وكذلك اختلف أصحابنا فيه إذا باع الرجل بيتاً من داره، ولم يتعرض لإدخال حق الممر في العقد، ففي صحة البيع التفصيلُ الذي ذكرناه، بناءً على أن الإطلاق هل يقتضي حقَّ الممر. ومما يتم به البيان أنه إذا عيّن مقداراً مشكَّلاً من وسط الأرض. وِقلنا: يثبت للمشتري حقُّ المرور، وكان الممرّ يُفرض من الجوانب؛ فالوجه إثباته من جميع الجوانب؛ إذ ليس جانب أولى من جانب. وحقيقة هذا يرجع إلى أنا نُثبت للمشتري في تلك القطعة ما كان ثابتاً للبائع قبل البيع، من حق الممر. ولو قال بعتك هذه القطعةَ بحقوقها، فحق الممر من الجوانب يدخل في استحقاق المشتري، فكذلك المطلق عند هذا القائل محمول على ما يقتضيه إطلاق شرط الحقوق. وإن كان الشكل المقدّر متاخماً للشارع، فالذي يقتضيه كلام الأصحاب أنه لا يثبت للمشتري حق طروق الملك بل ممرُّه إلى صوب الشارع؛ والسبب فيه تنزيل العقد على موجب العرف، وليس من موجبه أن يتردد المشتري فيما أبقاه البائع لنفسه إذا كان طرف من المبيع متصلاً بالشارع. ولو كان يتصل طرف من المبيع بملكِ المشتري، فالظاهِر أنه لا يملك طروقَ ملك البائع، بل ينزل العقدُ على اكتفاء المشتري بأن يوسع بالمبيع رَبْعَه والممر من ملكه القديم إلى ما اشتراه الآن. فلو قال البائع في هذه الصورة الأخيرة بعتك هذا المقدارَ بحقوقه، فالوجه أن يستحق المشتري طروقَ ملك البائع. وإذا كان مُطلقاً، فالظاهِر ما ذكرته. وفيه احتمال. والعلم عند الله تعالى. ولو قال بعتك هذه القطعةَ، وكانت محفوفةً بما أبقاه لنفسه، وشرط في البيع ألا يكون له إلا ممرٌ واحد، فإن عيّنه، جاز. وإن أبهمه، فالوجه الحكم ببطلان العقد؛ فإن الجهالة في الحقوق مؤثرةٌ في العرف تأثيرَ الجهالة في المعقود عليه، فإنا لو لم نفعل هذا، وصححنا العقد، لكان بعده نزاعٌ في صوب الممر، وكنا لا ندري من المتبع. والعلم عند الله تعالى. هذا تفصيل القول في أطرافِ هذا الفصل.

فصل 3336 - إذا أشارَ الرجل إلى قطعةٍ من الأرض وقال: بعتك هذه القطعةَ على أن تكسيرها مائةُ ذراع، فخرجت القطعةُ مائةً وخمسين، أو نقصت فخرجت خمسين، فإذا أخلف المقدار المشروط بالزيادة أو بالنقصان، ففي صحة البيع في الصورتين قولان: أحدهما - أنه يصح تعويلاً على الإشارة، وخُلف الشرط في المقدار يقرب عند هذا القائل من خُلف الشرط في الصفة. ولو قال: بعتك هذا العبدَ على أنه تركي، فإذا هو من جنسٍ آخر، فالبيع صحيح. والقول الثاني - أن البيع باطل، نظراً إلى لفظ العقد. ومقتضاه أن المبيع مائة، فإذا كان زائداً، لم يكن المقدارُ الزائد معنياً بالبيع، فكأن الصفقة اشتملت -من جهة أن الإشارة احتوت على جميع الأرض واللفظُ اختص بالبعض- على مبيع وغير مبيع. 3337 - وهذه المسألة تلتفت إلى أصولٍ وتتردّد بين قواعدَ، ونحن ننبه عليها. فمنها أن من أشار إلى شاة وقال: بعتك هذه البقرة، فاللفظ يتضمن جنساً مخالفاً للمشار إليه، والإشارة مغنيةٌ عن ذكر الجنس؛ فإنه لو قال: بعتك هذا كفى ذلك. وقد ظهر خلاف الأصحاب في صحة البيع: فمن اعتمد على الإشارة، صحح. ومن اعتمد العبارة أفسد. ومن الأصول التي تستند هذه المسألة (1 إليه تفريق الصفقة، ولا يتحقق التحاقُ هذه المسألةِ 1) بقاعدة التفريق إلا بعد تمييزها عن الخُلف في الصفات المشروطة. فإذا قال: بعتك هذا العبدَ على أنه كاتب، فالكتابة لا تجوز أن تعتقد مورداً للبيع. والمقدار يجوز أن يفردَ بالبيع ويقدَّرَ مورداً له، كالعبدين أحدهما مملوك للبائع والثاني مغصوب. والصورة التي نحن فيها ممتازةٌ عن قاعدة التفريق؛ من جهة اشتمال الإشارة على استغراق القطعة المعيّنة بالبيع، وليس في صيغة البيع جمع بين موجود ومعدوم؛ فنشأ الخلافُ في صحة البيع من جهة التردد بين هذه الجهات.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

وإذا كنا نقول: الخُلف في الصفات في النكاح يوجب تخريج صحته على قولين؛ من جهة أن المقصود من النكاح على الجملة الصفاتُ، كما سيأتي، فالخُلف في المقدار في المبيع أَوْلى بالخلاف، والبيع أقبل للفساد بالشرط، والنكاح أبعد منه. فالذي يقتضيه الترتيبُ بعد تمهيد ما ذكرناه ترتيبُ مسألتنا في الصحة والفساد على التفريق في الصفقة. وهذه المسألة أولى بالصحة. وإن رتَّبناها على خُلف الصفاتِ في النكاح، فمسألتنا أولى بالفسادِ. والذي به الفتوى صحةُّ البيع. وذكر العراقيون هذه المسألةَ في الزيادة والنقصان، وحكموا بأن الساحة إذا نقصت عن المقدار المذكور، صح البيع قولاً واحداً. وإن زادت، ففي صحة البيع قولان. ولا يكاد يظهر فرق بين النقصان والزيادة. وطرد صَاحبُ التقريب وشيخي القولين في الصورتين. وإذا ثبت أصلُ الكلام في الصّحة والفساد، فنحن نفرع صورة الزيادة، ثم نفرع صورة النقصان. 3338 - فأما تفريع الزيادة: فإذا قال: بعتك هذه الأرضَ على أنها مائةُ ذراع، فخرجت عن المساحة مائةً وخمسين ذراعاً. فإن قلنا: بفسادِ العقد، فلا كلامَ. وإن قلنا: يصح العقدُ، لم يختلف الأصحاب في تخيّر البائع، ثم لا يخلو إما أن يفسخ، وإما أن يُجيز. فإن أجازَ العقدَ، فليس له مع الاختيارِ للإجازة مطالبةُ المشتري بشيء زائدٍ؛ فإنَّ قول التصحيح مأخوذ من اعتماد الإشارة والإشارة محيطةٌ بالأرض ولا سبيلَ إلى إلزام المشتري شيئاً لم يسمّ ثمناً. ولو أراد الفسخ، فله ذلك. فلو قال المشتري: لا تفسخ العقدَ، حتى أزيدك ثمنَ الخمسين على نسبة الثمن المسمى. والمسألة مفروضة فيه إذا كانت الأرض لا تختلف قيمتها في تلك البقعة. فلا سبيل إلى هذا. فإن ما يريدُ (1) إثباته ثمناً في حُكم ملحقٍ بالعقد، والزيادة لا تلحق العقد عندنا في الثمن والمثمن.

_ (1) في (ت 2): فإن لم يرد إثباته.

ولو قال المشتري: لا تفسخ العقد، فإني أقنع من هذه الأرض بمقدار مائة ذراع، فقد ذكر صاحب التقريب قولين في المسألة: أحدهما - أن الخيار يبطل، وينزل العقدُ على ذلك، ويجاب المشتري إلى ما يقول. وهذا هو الذي قطع به شيخي. والقول الثاني - أن البائع يبقى على تخيّره. ووجه القول الأول زوالُ الغَبينَةِ (1) عن البائع. ووجه القول الثاني أنه يقول: ثبوت حق المشتري على الشيوع يلحقَ ضرراً فيما يبقى لي. هذا ما ذكره صاحب التقريب. والذي أراه أن تنزيلَ المبيع على مائةٍ شائعةٍ في المائة والخمسين لا وجه له، وهو مخالفٌ لموضوع العقد وصيغةِ اللفظ؛ فإن التعويل في التصحيح على الإشارة وموجبها (2) الاحتواء. فإذا رددنا العقدَ إلى شائعٍ، فهذا في التحقيق تغيير لموجب العقد. ولو ساغ هذا النوع، لساغ أن يزيد المشتري في الثمن على حسب ما ذكرناه قبلُ؛ فلا وجه إذاً لهذا التغيير، وإن فرض الرضا به. والوجه إفساد العقد، أو تصحيحه وإثبات الخيار للبائع؛ فإن فسخ، فذاك. وإن أجاز سلَّم جميع الأرض. فإن قيل: هلا حققتم تنزيل العقد على بعض الأرض للمصلحة، [والصفةُ] (3) بمثابة قسمةِ الأملاك المشتركة، مع العلم بأنه إذا أُفرزت حصة كل شريك، فليس ما يسلم [لآحاد] (4) الشركاءِ على قياس الملك الذي كان قبلُ؟ قلنا: لهذا قُدِّرت القسمةُ بيعاً على الأصح. وبالجملة ليس ما نحن فيه من ذاك بسبيل. نعم إن كان يناظر شيئاً، فهو قريبُ الشبه مما مهدناه من غرامات الأروش القديمة والحادثة. ولكن كان يجب أن يجوزَ بذل مزيدٍ من الثمن على مقابلةِ الزيادة، ولم أرَ أحداً من الأصحاب يسوّغ ذلك. فهذا وجهُ التنبيه على مجاري الكلام في المسألة نقلاً واحتمالاً.

_ (1) في (هـ 2): الغلبة. (2) في (ت 2): وموجباً للاحتواء، فإذا ردده. (3) في الأصل: والنصفة. والمثبت من (ص)، (ت 2) والكلمة غير مقروءة في (هـ 2). (4) في الأصل: يسلّم الآحاد والشركاء، (ت 2): إلى آحاد الشركاء.

وهذا كله إذا زادت الأرض. 3339 - فأما إذا نقصت الأرضُ عن المقدار المذكور، فإن حكمنا بفساد العقد، فلا كلامَ، وإن حكَمنا بصحته، فلا خيارَ للبائع، وللمشتري الخيارُ في فسخ البيع. وتعليله بيّن. فلو قال البائع: لا تفسخ البيع، وأنا أحط عنك من الثمن مقدار النقصان، فلا يسقط خيار المشتري بهذا. والدليل عليه أن الصفقة إذا جمعت عبداً مملوكاً وآخر مغصوباً، وحكمنا بالصحة، وأثبتنا الخيار للمشتري، فخياره ثابت، سواء قلنا: إنه يجيز العقد في المملوك منهما بقسط من الثمن. أو قلنا: إنه يجيز العقد في المملوك بتمام الثمن. ثم المشتري لا يخلو: إما أن يجيز العقد وإما أن يفسخه. فإن فسخه، فلا كلام. وإن أجازه فبكم يجيزه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يجيزه بتمام الثمن. والثاني - أنه يجيزه بقسط من الثمن. والقولان في هذا مرتبان على نظيرهما في تفريق الصفقة. والأوْلى في التفريق الإجازةُ في المملوك بالبعض. وهذه الصورة أوْلى بالإجازة بجميع الثمن؛ من جهةِ احتواء الإشارة، واستناد صحة العقد إليها، كما تقدم. وحق الفرع أن يُلاحَظ أصلُه. وأيضاً يكاد المقدار على قولي التصحيح مع تغليب الإشارة يضاهي صفة المبيع. فهذا مجموع القول في ذلك تأصيلاً وتفريعاً. فصل 3340 - إذا باع الرجل ذراعاً من كرباس، فهو كما لو باع ذراعاً من أرضٍ إن أرادَ الإشاعة، والتفصيل في عدد الذُّرعان إذا كانت مجهولة أو معلومة كما مضى في الأرض حرفاً حرفاً. وإن أراد ذراعاً لا على مذهب الإشاعة، فهو على الفساد، كما ذكرناه في الأرض.

وغرض هذا الفصل أنه لو اشترى ذراعاً معيّناً من أحد طرفي الثوب على أن يقطعه ويَفْصله، فالأصل المرجوع إليه في ذلك أن القطعَ إن كان يُحدث نقصاً فيما يبقى للبائع يُحتَفل بمثله، فالذي ذكره الأصحاب بطلان البيع في هذه الصورة، ولم يُشبِّب أحد بالخلاف وإن رضي البائع بالتزام النقص. ثم ذكروا لذلك صوراً: منها - أن يشتري نصفاً من فصل (1) على التعيين وشَرْطِ الفصلِ (2). ومنها أن يشتريَ ذراعاً من ثوب نفيسٍ يَنقُصه التفصيل والقطع. وإن كان القطع لا يَنْقُص نقصاً يعتبر مثله أو يؤثر، كالكرباس الصفيق، ففي صحة البيع وجهانِ: أحدهما - الصحة. والثاني - لا يصح؛ لأنه لا يخلو من تأثيرٍ، وتغييرٍ فيما ليس مبيعاً. وقيل: هذا اختيارُ صَاحب التلخيص. وإذا باع جزءاً معيناً من خشبة على حكم التفصيل، فيختلف ذلك باختلافِ الصور. فإن كانت الخشبة تُعنى لطولها ولو قُطعت، ظهر نقصان القيمة، فهذا يلتحق بصور القطع بفساد البيع. وإن كانت لا تعنى لطولها ولا يظهر بسبب القطع نقصان قيمتها، فهذا يلتحق بصور الوجهين. وفي القلب من القطع بفساد البيع في صورة التأثير البيّن شي. ولكن الممكن فيه، أنا لو صححنا العقد، وألزمنا البائع القطعَ، كان بعيداً؛ لأن هذا إلزامُ تنقيصٍ فيما ليس مبيعاً. وإن لم نُلزمه، فالحكم بصحة العقد -وليس على البائع الوفاءُ بالتسليم- محالٌ. فهذا تعليل الفساد على حسب الإمكان. والصور التي لم أذكرها تخرّج على ما ذكرناها، وتنقسم انقسامها.

_ (1) كذا في الأصل، (ص)، (ت 2) وبها أثر تصويب في (هـ 2) جعلها غير مقروءة. وفي مختصر العز بن عبد السلام (الفضل). والمعنى واضح من السياق على أية حال. ولعلها كانت لفظة من ألفاظ تجار الثياب أو غيرها وفي مختصر العز بن عبد السلام: " نصل " بالنون. (2) أي يشتري نصفاً معيَّناً من ثوبٍ، ويشترط فَصْلَه.

فصل قال: " ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، لأنه مجهول ... إلى آخره " (1) 3341 - اتفق أئمتنا على منع بيع اللبن في الضرع، والعلّةُ السليمة أنّ اللبن يتزايد على ممر اللحظات، سيّما إذا أُخذ في احتلابه فلا يتأتى تسليم المبيع الكائن حالة العقد. وتعرّض الشافعي لتعليل منع البيع بكونه مجهولاً، وهذا يهون تقريره؛ فإن الضروع مختلفةٌ: فمنها ضرع سمين مكتنزٌ ضيقُ المنافذ، يقل ما يحويه من اللبن. ومنه ضرع متسع المنافذ، غير مكتنز، يكثر ما يحويه من اللبن، فَضِمْن (2) الضرع مجهول. والمس من ظاهره لا يفيد علماً بمقدار اللبن وهذا تقريره هيِّن (3). ولكن يرد عليه أن يُخرَّج على بيع الغائب؛ فإنا على قول تجويزه نجوّز بيعَ الشيء في ظرفٍ مع الجهل بصفته وقدره، فالأولى أن تستعمل الجهالة في مقدار المبيع على معنى أنه لا يتأتى التسليم غير ممتزج، فاستعمال الجهالة على هذا منساغ؛ ولا يلزم تخريجُ المسألة على بيع الغائب. وإن حلب قدراً من اللبن، فأبداه (4) نموذجاً، وقال للطالب: بعتك من هذا اللبن الذي في الضرع، فقد ذكر الأئمةُ وجهين في أن هذا هل يكون سبيلاً يتوصّل به إلى تصحيح البيع. وهذا يحتاج إلى فضل نظرٍ: فإن باع مقداراً لا يتأتى حلبه إلا [ويتزايد] (5) اللبن مع

_ (1) ر. المختصر: 2/ 204. (2) ضمْن الضرع، بكسر فسكون، باطنه وما يحويه. (معجم). (3) " تقريره هين ": أي تصوير الجهالة باللبن في الضرع، ولكن يردِ عليه الاستشكال بجواز بيعٍ الغائب في قولٍ. ولكن إذا فسّرنا الجهالة على أنه لا يمكن تسليمه غيرَ ممتزج بما يتجدّد حالاً بعد حال، فعندها لا محلّ للاعتراض فلا يخرّج قول الجواز في بيع الغائب على هذا المعنى. (4) في (ت 2): فلو بدأه نموذجاً. (5) ساقط من الأصل.

حلبه، فلا ينفع إبداء النموذج؛ فإن المانع قائم. وذكْرُ الوجهين مطلقاً يشير إلى أن المحذور -حيث لا نموذج- عدمُ الرؤية أو عدمُ الإحاطة بالصفة. ومن سلك هذا المسلك يلزمه التخريج على بيع الغائب. وكان شيخي يتأنق في التصوير، ويفرضُ بيعَ مقدارٍ إذا ابتدر حلبه واللبن على كمال دِرّته لم يظهر اختلاطُ شيء له قدرٌ به مبالاة. وإن فرض شيء على بُعدٍ، فمثله محتمل، كما إذا باع [جِزةً] (1) من قُرْط. فإذا قلّ مقدارُ المبيع وتُصوّر بالصورة التي ذكرناها، وفرض إبداءُ النموذج، فينقدح ذكر خلافٍ هاهنا؛ فإن هذا المقدارَ يُمثل ببيع جِزَّةٍ من قُرطٍ يبتدر جزها. وإذا كثر المقدار، كان مشبَّهاً ببيع ما يتزايد على شرط التبقية؛ فإن الحلب وإن ابتُدر إذا كثر القدرُ، ظهر التزايد؛ فإنّ سبيل تزايد اللبن من منافذه كسبيل بيع الماء من عيون البئر. والجَمةُ (2) إذا كملت لا تزيد، وإذا أخذ في نزحها، فارت (3) العيون. ومن حقيقة هذا الفصل أن الخلاف إذا رد إلى تعليل المقدار، فلا حاجة إلى ذكر النموذج في التخريج على الخلاف. وحاصل القول: أنه إذا ظهر الزائد والاختلاطُ، امتنع البيع قولاً واحداً. وامتاز (4) اللبن في الضرع في هذه الصورة عن قاعدة بيع الغائب بما ذكرناه من الاختلاط. وإن قل المقدار وكان الاختلاط فيه غيرَ معتد به، فمن أصحابنا من يرى إلحاقَ هذا ببيع الغائب، وقد تقدم التفصيل فيه، والنموذج من أطرافِ تفريعه. ومنهم من حسم الباب ورأى إلحاق القليل بالكثير؛ فإنه لا ضبط للقدر الذي يقال فيه: إنه مبيع (5) خالصٌ غيرُ مختلطٍ؛ فالوجه حسم الباب بالمنع. هذا تحقيق المذهبِ.

_ (1) في الأصل: جزءاً. (2) في (ت 2): والجهة، (هـ): والجملة. (3) في (ت 2): زادت. (4) في (ت 2): وصار. (5) في (هـ 2): مبلغ.

3342 - وذكر بعض أصحابنا لمَّا جرى ذكرُ النموذج فصلاً فيه، لا اختصاص له باللبن. وهو أن من أبدى نموذجاً من لبنٍ، أو حنطة، أو غيرِهما وأراه الطالبَ، وقال: التزمت لك على هذه الصفة كذا رَطلاً (1)، فقبله الطالبُ ونقدَ الثمنَ، فهل يكون هذا سلَماً صحيحاً؟ وهل يجري إبداء النموذج مجرى استقصاءِ الوصف؟ كان شيخي يقطع بأن هذا لا يصح، ويخرّجه على أن التعويلَ فيه على التعيين، والنموذج يُعرَّض [للضياع] (2)، فقد يجرّ التعيينُ عليه خبالاً. وهذا ممتنع في السلم. وقال طوائفُ من المحققين: لفظُ الأنموذج لا يكفي من غير تدبّر، وإن كان يُكتفَى باللحظ في بيع العِيان؛ فإن الملحوظ إذا كان هو المسلَم، لم يعد مجهولاً. وإن كان الملحوظُ عِبرةً لموصوفٍ في الذمةِ، ثم لم يتأمَّل، عُدَّ الثابتُ في الذمة مجهولاً. وإن تأمّل العاقدُ النموذجَ وضبط أوصافَه على وجهٍ لو فات، لاستقل بتلك الأوصاف. قالوا: إن كان كذلك، انعقد، وكان ما جاء به وصفاً كافياً. وهذا حسن. وامتنع شيخي منه، وقال: السلم يعتمد الأوصاف المذكورة، والإحاطةُ بالأوصاف لم يجر ذكرها. فصل 3343 - منع الأصحاب بيعَ الصوف على ظهر الغنم؛ لأن مطلقَ البيع يتناول الصوفَ إلى الأصل المتصل بظاهِر الجلد. وتسليمُه على هذا الوجه ممتنع؛ فإن فيه إن قصده القاصد تعذيبَ الحيوان، على أنه مع الإيلام غيرُ ممكنٍ، ولا عادةَ في بيعِ الصوفِ على الغنم، حتى ينزل ذلك على المعتادِ في مثله. فإن قيل: في الجزّ عادةٌ فلُينزَّل عليها البيعُ. قلنا: ليس في الجزِّ عادةٌ مضبوطة، بل الأمر يتفاوت. ومن يجز غنم نفسه لا يبالي بتفاوته. فإذا رُدّ الأمرُ إلى البيع، أثار ذلك تنافياً.

_ (1) بفتح الراء وكسرها. (معجم). (2) في النسخ الأربع: " الضياع "، والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق.

ولو أشار إلى كتلة من الصوف، وأعلم على موضعها، وباع ذلك المقدار، لم يمتنع بيعُها، وليس كالقصيل (1) والفث؛ فإن استيعابه ممكن بالقطع. فصل قال: " ولا يجوز بيعُ المسك في فأرة ... إلى آخره " (2). 3344 - الفأرة تنفصل عن الظبية خِلقةً، وحشوها المسك. وهذا مخصوصٌ بذلك الجنس، وهي على موضع السرة منها. والرب تعالى يربّي في كل سنة فأرةً وينميها، وتُلفَى ملتحمةً ثم تستشعر أطرافها قشفاً، ويُبْساً، واحتكاكاً فتحتك الظبيةُ بالصرار (3)، والمواضع الخشنة، فتسقط الفارةُ وحشوها المسك. وقد يقطرُ في احتكاكِهَا المسك أيضاً كالدم العبيط، فَيتبَع ويُلْقَط. هذه صورة الفأرة. ولا يكون فيها فتق إلا أن يلحقها خَرق، وقد تُفْتَق الفأرةُ، ويخرج مسكها، ويعاد مع أمثاله ويخاطُ موضع الفتق. فإن كانت الفأرة على الفطرة الأصلية، فهي في الصورة، كالجوزة وحشوُها اللّب المقصود. وإن فُتقت وأعيد المسك إليها بعد الإخراج منها، فالفأرةُ على صورة الظرف. هذا بيان الصورة. وأما الحكمُ، فنذكر المذهبَ في الفأرة التي لم تفتق، ثم نذكر التفصيل في المفتوق.

_ (1) القصيل: فعيل بمعنى مفعول. من قصلته قصلاً من باب ضرب: قطعتُه فهو قصيل. والقصيل في ألفاظ الفقهاء: الشعير يجر أخضر لعلف الدواب. والفث: نبت بري، له حب كالحمص يتخذ منه الخبز والسويق. عند شدة الحاجة من قحطٍ ونحوه (مصباح). (2) ر. المختصر: 2/ 204. (3) في هامش (هـ 2) " الصرار غير معجمة الأماكن المرتفعة، لا يعلوها الماء " ا. هـ بنصه. ولم يُورِد هذا المعنى (في مادة: ص. ر. ر.) القاموس المحيط، ولا أساس البلاغة، ولا المصباح، ولا المعجم، ولا غريب ألفاظ الشافعي. ولا المختار، مع أنه موجودٌ في (اللسان). وقد أحسن المرتضى الزبيدي عندما استدركه على صاحب القاموس.

3345 - فأمّا التي لم تفتق، فقد ذهب صاحب التقريب إلى أنها كالجوزة، فإذا بيعت مع قشرتها، نفذ البيع قولاً واحداً، نَفاذَ بيع الجوزة؛ فإن الفأرةَ صوانُ المسك، والحاجة إلى صوان المسك ماسة ظاهرة؛ فإن الهواء يخطَفُ ما يلقُط (1) منها ويغيّر رائحتَها. وليس الصوان المخلوقُ كالمفتوق والمخيط. فإن كان في حشو الفأرة جهالة، فهي محتملة عند الحاجة؛ إذ يُفرض مثل ذلك في لب الجوز والرانج (2) وغيرهما. وقال طوائفُ من أئمتنا: الفأرة غيرُ المفتوقة ليست كالجوزة؛ فإن حشوَ الفأرة يختلف اختلافاً بيناً على نفاسته وعِظم خطره. وإذا أخرج المسكُ من فأرة، أمكن صونُه بالرد، أو بالظروف المصممة. وليس كاللبوب؛ فإنه لا يَسُدّ ظرفٌ في صونها مسدَّ قشورها. وإذا تبيَّن مفارقتُها للجوز وما في معناها. فقد قال بعض أصحابنا على هذه الطريقة: البيع [فاسد] (3) لاستتارِ (4) المبيع بما ليس من صلاحه. والوجه عندنا تخريج البيع على بيع الغائب؛ فإن بيع المسك في فأرة مع فأرة لا يزيد على بيع الثوب في الكتم. فإن كان ما ذكره الأصحاب جواباً عن منع بيع الغائب، فصحيح. وإن كان قطعاً بفسادِ البيع والتزاماً للفرق بين هذا وبين بيع الغائب، فهذا لا سبيل إليه. وهذا كله في الفأرة التي لم تفتق. 3346 - وتمام بيان القول فيها يستدعي شرحَ شيءٍ آخر. وهو أن الأكثرين من الأئمة ذهبوا إلى أن الفأرة طاهرة. وقال قائلون: إنها نجسة؛ فإنها بانت من حيٍّ، وما يبين من الحي، فهو ميت. وهذا وإن كان ظاهِراً، فلا حقيقة له لإطباق الخلق أولاً على خلاف ذلك. ثم ما ذكرناه من تصدير الفصل

_ (1) في (ت 2): بلطف. (2) الرانج: الجوز الهندي (مصباح). (3) ساقطة من الأصل. (4) في (ص)، (ت 2): لاستناد. وفي الأصل: واستتار.

بالتصوير يبيِّن أن ما ينمو ويسقط يضاهي البيضةَ التي تنفصل من الدجاجة، فهي طاهرةُ العين، وإن كان نموها في الحيوان. وقد يقول من يحكم بنجاسة الفأرة: البيضةُ لا تتصل بالدجاجة قط اتصال التحام، إنما يخلقها الباري مودعة في البطن، والفأرة تكون ملتحمةً، ثم تسقط. هذا سبب الخلاف. فكأَنَّ ما يقطع من الحيوان أو يسقط على ندور يحكم بنجاسته. وما يُخلَق مودَعاً، وينفصلُ إذا تكامل خلقُه لا نحكم بنجاسته كالبيض. وما يخلق ملتحماً، وهو إلى السقوط، فليس عضواً أصلياً، فيتردَّدُ وجهُ الرأي فيه. فإن حكمنا بطهارة الفأرة، فبيعها صحيح، كما يصح بيعُ البيضة. واختلافُ الأصحاب في نجاسةِ ظاهر البيضة أخذاً من ملاقاتها الرطوبةَ النجسة في داخل المنفذ لا يؤثر في منع البيع؛ فإن المانع من البيع نجاسةُ الأعيان، لا النجاسات المجاورة لها. فإن حكمنا بطهارة الفأرة، فالأمر في البيع كما مضى. وإن حكمنا بنجاستها، فالمسك في حشوها طاهرٌ وِفاقاً، وكان أحب الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة: " طيبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحُرْمِه (1) حين أحرم، فرأيتُ وبيص (2) المسك في مفارقه بعد ثلاث ". فإذا باع الفأرة والمسك الذي فيها، فينتظم إلى ما ذكرناه من خبطِ الأصحاب في الجهالة، أن الصفقة جمعت نجساً لا يجوز بيعه وطاهراً، فيتولّج في المسألة تفاريعُ تفريق الصفقة. 3347 - فأما إذا فتقت الفأرة ورُدّ المسكُ إليها، فلا كلام في بيع المسك فيها دونها ومعها، كالإعلام في بيع السمن في البُسْتوقة. وقد مضى ذلك مستقصىً.

_ (1) حديث " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ". متفق عليه (وقد تقدم). لحُرْمه: بضم الحاء وكسرها وسكون الراء أي لإحرامه. شرح النووي لصحيح مسلم: 8/ 99. (2) وبيص: أي بريق ولمعان. وراجع اللؤلؤ: ح 739، 740، 741. ومسلم: ح 1189.

وبيع اللبوب دون قشورها باطل وإن أجزنا بيع الغائب؛ فإنه لا يتوصل إلى تسليمها إلا بكسر القشور، وهو من باب تغيير عيْن المبيع لأجل تسليم المبيع. وقد ذكرنا تمهيد هذا الأصل في اقتضاء الفساد، وقد يخطر من طريق الاحتمال مع القطع في النقل أن صحة القشور ليست مطلوبة واللب للغير. ولكن الأمر على ما ذكرناه. 3348 - وفي بيع بيض ما لا يؤكل لحمُه وجهان مخرجان على الطهارة والنجاسة. والخلاف في طهارة بيض ما لا يؤكل لحمه يخرّج على الخلاف في منيّ الحيوان الطاهر العين، المحرَّمِ اللحم. وفي بيع بِزْر دود القز وجهان؛ فإنه من الدود كالبيض من الطائر. و [في] (1) بيع القز وفي أدراجه الدودُ الميتةُ تفصيل. فإنْ بيع جزافاً، جاز؛ تعويلاً على الإشارة. وإن بيع وزناً، لم يجز؛ فإنّ الدّودَ لا يقصد بالوزن، والقزُّ المقصودُ بالوزن يكون مجهولاً بسبب الدود. فصل في تملك الكافر المسلم 3349 - وكفر الكافر لا ينافي ثبوتَ الملك له على العبد المسلم؛ فإنه لو ملك عبداً كافراً، فأسلم، لم ينقطع ملكه بإسلامه، بل هو مقَرٌّ على ملكه إلى أن يتفق بيعُه عليه. والكافر إذا كان في ملكه عبد مسلم على التقدير الذي ذكرناه، فإذا مات، ورثه وارثه الكافر، فلا يمتنع إذاً كونُ المسلمِ مملوكاً للكافر. وإذا صادفنا ذلك، أمرناه بإزالةِ ملكه بهبةٍ أو ببيع أو عتقٍ، فإن أجاب، وإلا بعناه عليه بثمن المثل، فإن لم نجد راغباً يشتريه بثمنه في الحال، صبرنا إلى الوجود، وحُلنا بينه وبين السيد، ولا نبيعه بالغبن. ثم لا نعطّل منفعته في زمان التربص، بل نستكسبه. ونفقته واجبة على سيده الكافر. ولو كاتبه كتابةً يصح مثلها، فهل يخرج عن عهدة المطالبة؟ فعلى وجهين:

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

أحدهما - أنه لا يخرج عن العهدة، لاستمرار ملكه على رقبة المكاتب، والمحذور دوامُ ملكه مع إمكان الإزالة، لا تسلطهُ بالاستخدام؛ إذْ لو كان المحذور ذلك، لأجبنا السيد الكافرَ إلى إبقاء ملكه عليه، مع إيقاع الحيلولة بينه وبينه. والوجه الثاني - أنه يخرج بالكتابة عن عهدة المطالبة؛ لأن الكتابة تُثبت للعبد رتبة الاستقلال والانقطاعَ عن تحكم السيد. وهذا هو الغرض. فإن اكتفينا بالكتابة، حكمنا بصحتها. وإن لم نكتف بالكتابة، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من أفسدها، وباع العبد، ومنهم من صححها وسلط الشرعَ على فسخها. وكل ذلك إذا منعنا بيعَ المكاتَب. فإن جوزنا بيعَه كما سيأتي بيانُ ذلك، نفذنا الكتابة، وبعناه مكاتَباً. وتفصيل ذلك في الكتابة. ولا خلاف أن الكافر لا يتخلص بالرهن والتزويج عن المطالبة. هذا كلام في الملك الدائم للكافر على المسلم مع مطالبتهِ بإزالته. 3350 - فأما إذا أراد الكافر أن يتملك عبداً مسلماً اختياراً بعقد يفيد الملك، مثل أن يشتري أو يتهب عبداً مسلماً، ففي صحة العقد وترتب ثبوت الملك عليه قولان مشهوران موجهان في الخلاف. وإذا منعنا العقد وأفسدناه، فقد اختلف أصحابنا في مسائلَ نُرسلها، ثم ننظمها في ترتيب. فإذا اشترى الكافرُ أباه المسلم أو ابنَه، والتفريع على فسادِ الابتياع، ففي ابتياع من يَعتِق عليه وجهان: أحدُهما - المنعُ، لاختيارِ (1) الشراء. والعتق واقع بعد حصول الملك لو صححنا الشراء؛ فالوجه المنع ليطرد امتناع اختيار التملّك. والثاني - يجوز توصّلاً إلى العتق. ومن صحح ذلك، زعم أن هذا العقدَ عقدُ عتاقة، وليس عقداً ينبغي به التملك والإنشاء، فالملك إذن يثبت ذريعة إلى العتق، لا مقصوداً. والدليل عليه أنه يصح من المسلم ابتياع والده، وإن كان لا يحل له

_ (1) في (ص)، (ت 2): لاختلاف.

إذلالُه. والردتى أعلى درجات الإذلال. فإذاً جاز على الجملة أن يشتري الولدُ والدَه باعتبار أن الرق غيرُ مقصودٍ فيه. ومما ذُكر من هذا الجنس أن الكافر إذا قال لمسلم: أعتق عبدك هذا عني، فأعتقه عنه بعوضِ أو بغير عوض، ففي نفوذ العتق عن الكافر المستدعي خلافٌ، على مَنْعنا الكافرَ من شراء العبد المسلم، ووجه التجويز ما ذكرناه من أن العتق عنه وإن كان يفتقر إلى تقدير الملكِ له قبيل نفوذ العتق، فليس ذلك ملكَ قرار، ويتضح أن يقال: الممنوع اختيار الملك. والملك في هذا العقد، وفي الذي تقدم غير مختار، وإنما المقصود المختارُ العتقُ، فلم يكن الملكُ الحاصل في حكم الملكِ الدائم. وقد ذكرنا أنه غير ممتنع مع الكفر. ومما ذكره الأصحاب أن الكافر لو قال: العبد الذي في يد فلانٍ المسلمِ قد أعتقه، فلو أن الكافر اشترى هذا العبدَ، فلو قدّرنا الصحةَ، لكان يعتِق عليه بحكم الإقرار السابق. فذكر الأصحاب وجهين في تصحيح ابتياعه، كما تقدم. فهذا بيان المسائل، التي أطلقها الأصحاب. والوجه أن نرتبها. 3351 - فنقول: أما شراؤه أباه المسلم، فعلى وجهين، وفي استدعائه إعتاقَ عبدٍ مسلم عنه وجهان، مرتبان على شراء الأب، وهذا أولى بالنفوذ من شراء الأب؛ فإن الملك لا يجري فيه إلا ضمناً مقدراً، وشراء الأب بيعٌ على حقيقة البياعاتِ، يُبطله التعليق بالإغرار، ويفسد بفساد العوض، حتى إذا فسد، فلا عتقَ. وهذا يشعر بأن الملك مقصودٌ فيه والعتقُ بعده، واستدعاء العتق يقبل التعليق. ولو ذكر عِوضٌ فاسد، نفذ العتق، ورجع إلى بدلٍ آخر، على قياسِ فساد البدلِ في الخلع، فاقتضى ذلك ترتيباً. وأما مسألة الإقرار وبناء الشراء، فالأوجه فيها المنع؛ فإنه بيعٌ. والعتق إن حكم به فهو ظاهر، وليس كعتق الأب؛ فإنه واقعٌ تحقيقاً. فهذا بيان هذه المسائل. 3352 - ومما نفرعه على منع اختيار التملّك أن الكافر إذا باع عبداً مسلماً كان أسلم في يده أو ورثه، بثَوْبٍ، فلا شك في صحته. ولو وجد بالثوب الذي أخذه بدلاً عن

العبد المسلم عيباً قديماً، فهل له ردُّه واسترداد العبد المسلم؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك؛ فإن الرد يَرِد على العقد، وارتداد العبد يترتب على انفساخ العقد، وله في رد الثوب غرضٌ سوى اختيار تملّك العبد، فلا يتجرد القصد إلى تملكه. ومن الدليل على ذلك أن الفسوخ وإن تضمنت ترادّاً في العوضين، فإنها لا تنزل منزلة إنشاء العقود، بدليل أنه لا يترتب على الفسوخ حقُّ الشفعة، ولا يلحق الفسخ فسخٌ؛ إذ المقصود من الفسخ ردُّ الأمرِ إلى ما كان قبل العقد. ومن أصحابنا من منع ذلك؛ فإنه يقتضي تملك العبد المسلم على سبيل الاختيار، وذلك ممتنعٌ. هذا إذا أراد الكافر ردَّ عوض العبد المسلم. فأما إذا وجد مشتري العبدِ المسلمِ به عيباً قديماً، فأراد ردّه، واسترداد الثمن، فقد قطع بعض المحققين بنفوذ الرد في هذا الطرف؛ من جهة أنه لا اختيارَ للكافر فيه، والعبد يرتد عليه من غير قصده. وكان شيخي يطرد الخلافَ في الطرفين؛ فإنا كما نمنع الكافر من اختيار تملك عبد مسلم نمنع المسلم من اختيار تمليك كافرِ عبداً مسلماً؛ فليمتنع الرد على المسلم. ثم إذا امتنع الرد، فليكن رجوعه إلى أرش العيب القديم. وما ذكرناه من الاختلاف في الرد في هذا الحكم يبتني على اختلافٍ في نظير ذلك: وهو أن من اشترى بعضاً ممن يعتق عليه، سرى عتقه إلى الباقي إذا كان موسراً. فلو فرض رد عوض واسترداد بعض من يعتق عليه في مقابلته، وهذا يفرض في المواريث بأن يرث الرجل عوض نصف أبيه، ويجد به عيباً، فإذا رده وارتد إليه نصف أبيه وعتق عليهِ، هل يسري العتق؟ فيه خلاف. وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى. 3353 - ومما نفرعه على قول منع الشراء أن الكافر لو وكَّل مسلماً حتى يشتري له عبداً مسلماً، أو توكل عن مسلم حتى يشتري له عبداً مسلماً. فكيف السبيل؟ أما إذا وكَّل مسلماً حتى يشتري عبداً مسلماً، فلا يقع الملك للموكِّل قطعاً عندنا؛

فإن هذا مسلك لائح في قصد تملك العبد المسلم، وهو ممنوع منه، على القول الذي نفرع عليه. فالشراء ينفذ على الوكيل، ولا يتعداه إلى الموكِّل. فأما إذا كان الكافرُ وكيلاً لمسلم في شراء عبد مسلم له، فإن سمى موكله، وصححنا البيع بصيغة السفارة، صح ذلك؛ فإن عُهدة العقد لا تتعلق بالسفير. فأما إذا أضاف العقدَ إلى نفسه، ونوى به موكِّلَه، ففي المسألة وجهان مبنيان على (1 أن عهدة العقد تتعلق بالوكيل أم لا؟ على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الوكالة. 3354 - وإذا اشترى الكافر عبداً مرتداً، ففي صحة الشراء على قولنا بمنع شراء المسلم وجهان، مبنيان على 1) أن المرتد لو قتل ذمياً هل يُقتل به؟ وفيه خلاف سيأتي. وأصل التردّدِ في ذلك مرتب على أن من الأصحاب من يرعى الكفر، ومنهم من يرعى تبقيةَ الإسلام في المرتد. وعليه يخرّج الخلاف في ولد المرتد من مرتدة، أو كافرة أصلية. فإن أثبتنا عُلقَةَ الإسلام في المرتد، حكمنا بإسلام ولده. وسيأتي ذلك في أحكام المرتدين، إن شاء الله تعالى. وإذا أسلمت أم ولد الكافر، فظاهر المذهب وهو المنصوص عليه أنه لا يجبر على إعتاقها، بل يحال بينه وبينها، وتستكسبُ، ويؤمر بالإنفاق عليها. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجبر على إعتاقها. وهذا بعيد، ووجهه على بعده أنها مستحقة للعتاقة، فإذا طرأ الإسلام، أُمر بتحقيقه. 3355 - وإذا اشترى الكافر عبداً كافراً، فأسلم في يد البائع، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ينفسخ البيع؛ لأن بطريان الإسلام يعسر القبض. وهذا بعيد؛ فإن الانفساخ يترتب على سبب لا يرجى زوالُه، كالتلف والضلال الذي لا يُرتقب بعده وجدان، وأُلحق به اختلاطُ المبيع بغير المبيع في قول، وزوال التعذر ممكن بفرض الإسلام من المشتري. والوجه الثاني - أن البيع لا ينفسخ، ولكن اختلف أصحابنا على هذا الوجه.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (هـ 2).

فقال بعضهم: يقبضه المشتري، ثم يباع عليه، أو يبيعه بنفسه. وقال آخرون: لا يقبضه كما لا يشتريه؛ فإن القبض أمر اختياري يؤثر في تأكيد الملك؛ فينبغي أن يمتنع. فالوجه أن يأمر القاضي من يقبضُ المبيعَ عنه، ثم يبيعه عليه. ولا يخفى على هذا الوجه أن يتخير في فسخ البيع؛ فإن ما جرى من التعذر طارئاً لا ينقص عن إباق العبد قبل القبض. فهذا ما ذكره الأصحاب. والمسألة تستدعي مزيد تفصيل عندنا: فإن كان البائع مسلماً، فالأمر كما ذكرناه. وإن كان كافراً، فلو حكمنا بانفساخ العقد، لقلبناه من كافر إلى كافر، فلا ينقدح وجهُ الانفساخ إلا على بعد. وهو أن الانفساخ يقع قهرياً، وقد ثبت للكافر ملكٌ قهري، على المسلم. وهذا كلامٌ مطلق؛ فإنا حيث نثبت الملك القهري على المسلم، فسببه ضروريٌّ؛ فإن العبد إذا أسلم في يد الكافر، فلا سبيل إلى تخيره، والقضاءِ بانبتات مِلكه. وكذلك إذا فرض إرث؛ فقَطْعُ التوريث مستحيل. فأمّا فيما نحن فيه، فالمطلوب من الانفساخ رعايةُ حرمة الإسلام. وهذا المعنى لا يزول بالانفساخ. 3356 - ومما يفرع على قول المنعِ أن الكافر لو ألزم ذمة المسلم بطريق الاستئجار عملاً، جاز ذلك؛ فإن الاستحقاق لا يتعلق بعين المسلم، وله أن يحصله بغيره. وهل يستأجر الكافر عينَ المسلم على منع الشراء؟ وجهان: أحدهما - لا يجوز ذلك، كما لا يشتري مسلماً. والثاني - يجوز؛ لأن الإجارة لا تفيد ملكاً في الرقبة، ولا يتحقق بها الذِّلة. ولو كان فيها ذلةٌ، لما جاز استئجارُ الحر (1) المسلم. ثم للإجارة منتهى محدود بخلاف الشراء. فإن قلنا: تصح الإجارة، فهل يؤاجر عليه كما يباع عليه عبده المسلم؟ فعلى وجهين: وتوجيههما يقربان من توجيه الإجارة في الأصل. وللمسلم أن يعير عبده المسلم من كافرٍ، وله أن يودعه عنده. وذكر الأئمة وجهين

_ (1) ساقطة من الأصل. وفي (ت 2): استئجار الحر العبد. وفي (ص): استئجار العبد.

في منع ارتهانِ الكافر عبداً مسلماً. وهما قريبان من الخلافِ في الاستئجار الوارد على العين. 3357 - وأجرى الأئمة قولين في شراء الكافر المصحفَ والدفاترَ التي فيها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فرأَوا ترتيبَ القولين على القولين في شراء العبد المسلم، وزعموا أن شراء المصحف والكتاب المحترم أولى بالفساد من شراء العبد المسلم؛ من قِبَل أن العبدَ لو أهانه مولاه، تمكن [من الاستعانة، ثم تمكُّنُه من هذا يزع مولاه] (1) من الإقدام على الاستهانةِ، والمصحف لو جوّزنا شرَاءه وقبضَه، فقد يستهين به المشتري، ولا يُطلع عليه. فرع: 3358 - إذا اشترى المسلم عبداً، فخرج كافراً، نُظر: فإن اشتراه في بلاد الإسلام، فله ردّه؛ فإن الكفر في العبيد نادرٌ في هذه الديار. وإن اشترى عبداً في دار الحرب، فخرج كافراً، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يرده؛ فإن الرد بالعيب يبنى على ظن البراءة منه فإذا أخلفَ الظنُّ، ثبت الخيارُ. ولا يغلب على الظن إسلامُ العبد في دار الحرب. وكان شيخي يقول: يثبت الخيار؛ لأن الكفر عيب، فمهما اتفق الاطلاع عليه ثبت الخيار. فصل 3359 - لو اشترى قطيعاً من الغنم مشار إليه كل رأسِ بدرهم، جاز وإن لم يكن عددُ الرؤوس معلوماً عنده حال العقد إذا أحاطت الإشارة بالقطيع. ومنع أبو حنيفة (2) ذلك. ولو قال: بعتُك عشرة أرؤس من هذا القطيع، لا يجوز؛ فإنها مختلفة، وإيراد

_ (1) ساقط من الأصل. (2) ر. تبيين الحقائق: 4/ 6، الاختيار: 2/ 6.

العقد على هذَا الوجه مجهول، وليس كما لو اشترى آصعاً من صُبرة، ففيها التفاصيل المقدمة ولا خفاء بالفرق. فصل 3360 - إذا وكَّل المسلم ذمياً بشراء خمر له، لم يصح، ولم تصر إذا اشتراها الذمي للمسلم بمثابة الخمرة المحترمة المتخذة لأجل الخل. وجوّز أبو حنيفة (1) ذلك. وإن منعنا شراء الغائب، فوكَّل إنسان وكيلاً حتى يشهد شيئاً ويشتريه بعد المعاينة، صح الشراء للموكل؛ فإنه استعانَ بمعاينة الموكَّل، وأحلَّها محلَّ معاينة نفسه، وأجرى التوكيل فيها، فصح ذلك كما يصح التوكيل بأصل الشراء. وليس ذلك كالتوكيل بشراء الخمر؛ فإن الخمر ليست مالاً في اعتقاد الموكّل. والله أعلم. * * *

_ (1) ر. تبيين الحقائق: 4/ 56، 254، حاشية ابن عابدين: 5/ 511.

باب بيع حبل الحبلة والملامسة والمنابذة

بَابُ بيع حَبل الحَبَلَةِ والملامسة والمنابذة 3361 - صدر الشافعي رحمة الله عليهِ البابَ (1) بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن بيع حَبَل الحبَلة " (2). وللحديث تأويلان: أحدهما - أن يبيع الناقة بثمن مؤجل إلى نتاج نتاجها، ولا شك في فسادِ العقد، وسببه جهالة الأجلِ. والتأويل الثاني أن يبيع نتاجَ النتاج قبل أن يخلق. وهذا ممنوع، وهو المعتاد في العرب (3)، وظاهر اللفظ أيضاً. ومال الشافعي إلى التأويل الأول. واختار أبو عبيد (4) التأويل الثاني. وقيل: فسر الراوي الخبر بمَا ذكره الشافعي وتفسير الراوي عنده مقدم (5). وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين (6). فالملاقيح جمع الملقاح، وهو ما في أرحام الأمهاتِ، والمضامين ما في أصلاب الفحول.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 204. (2) وحديث النهي عن بيع حبل الحبلة: متفق عليه من حديث ابن عمر (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 968). وحبَل الحَبلة بفتح الباء فيهما. (3) في (ت 2): العرف. (4) في الأصل، (هـ 2): أبو عبيدة. وغير واضحة في (ص). والمثبت من (ت 2). وهو الموجود فعلاً في كتاب (غريب الحديث لأبي عبيد): 1/ 208. وأبو عبيدة صحيح أيضاً، فقد فسره كذلك. وأبو عبيد: هو القاسم بن سلاّم الهروي ت 224 هـ. (ر. مقدمة الجزء الأول من كتابه (غريب الحديث). وأما أبو عبيدة، فهو معمر بن المثنى اللغوي ت 209 هـ. وقد روى عنه هذا التفسير الحافظ في التلخيص: 3/ 25 ح 1146. (5) تفسير ابن عمر مدرج في الحديث، وهو الذي مال إليه الشافعي. (6) حديث النهي عن بيع الملاقيح والمضامين عند مالك في الموطأ: 2/ 653، 654 وفي زوائد البزار: 1/ 507 ح 877 (ر. التلخيص: 3/ 25 ح 1147).

3362 - ومما ذكره الشافعي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة " (1) فأما الملامسة، فلها تأويلان: أحدهما - أن يجعلا نفس اللمسِ بيعاً، فيقول صاحب الثوب لطالبه إذا لمست ثوبي، فهو مبيعٌ منك بكذا. هذا أحد التأويلين، ولا شك في فساد البيع عليه. وقيل: الملامسة معناها أن يتبايعا سلعة في ظلمة الليل، وجعلا لمسها قاطعاً لخيار الرؤية، فيقيما اللمس مقامَ الرؤية. وهذا باطل؛ فإنا إن منعنا بيع مالم يره المشتري، فلا كلام. وإن صححنا بيع الغائب، فتعليق خيار الرؤية باللمسِ باطل. ويتطرق إلى هذا احتمال؛ من جهة أن من اشترى شيئاً على شرط قطع خيار الرؤية، ففي صحة العقد خلاف ذكرناه. فلا يمتنع تركُ هذا القول في الصورة التي ذكرناها. 3362/م- والمنابذة أن تنبذ الشيءَ إلى غيرك وينبذ الغيرُ إليك. ثم ينقدح لها التأويلان المذكوران في الملامسة. قال الأئمة: المنابذة في العوض والمعوّض مع القرينة الدالة على إرادة البيع هي المعاطاة بعينها. فظاهر المذهب والنص أن المعاطاة لا تكون بيعاً، وإن اقترنت قرائن أحوال بها. ولا بد من لفظٍ في العقد. وسأصف تفصيلاً في ألفاظ البيع في باب تجارة الوصي. وقال أبو حنيفة (2): المعاطاة بيع من غير لفظ في المستحقراتِ، وذكر ابنُ سريج قولين في أن المعاطاة مع القرائن في إرادة البيع هل تكون بيعاً، وخرجهما على القولين في أن من ساق هدياً، فعطب في الطريق، فغمس نعله في دمه، وضرب به صفحة سنامه، فمن رأى تلك العلامةَ، هل يحل له الأكل منه؟ فعلى قولين. ولعلنا نعقد في قرائن الأحوال وآثارِها ومواقع الخلاف والوفاق فصلاً جامعاً، في آخر كتاب البيع إن شاء الله تعالى.

_ (1) حديث النهي عن الملامسة والمنابذة. متفق عليه من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد. (اللؤلؤ والمرجان: ح 965 - 967). (2) ر. تبيين الحقائق: 4/ 4، الاختيار: 2/ 4.

ومما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " بيع الحصاة " (1). وله تأويلان: أحدهما - أن يجعل رمي الحصاة بيعاً. وهذا فاسد. والآخر - أن يقول: بعتك ما يقع عليه حصاتك من هذه الأمتعة. وهذا فاسد. والثالث - أن يبيع من أرضٍ قدرَ ما يبلغه حصاة يرميها المشتري؛ فيكون المبيع من موقفه إلى منتهى الحصاة، وهذا فاسد أيضاً. فصل قال: " ولا يجوز شراء الأعمى ... إلى آخره " (2). 3363 - ما ذهب إليه جماهير الأصحابِ أن شراء الأعمى وبيعَه فاسدان. وخرَّج بعضُ أصحابنا بيعه وشراءه على بيع ما لم يره البائع، وشراء ما لم يره المشتري. ثم من صحَّحه من الأعمى، فسبيل لزوم العقد عنده أن يوكّل من يرى له العينَ المشتراةَ، ثم إذا امتنع منه البيع والشراء، يجوز له أن يوكل في كل واحدٍ منهما بصيراً. فإن كان بصيراً ورأى شيئاً، ثم كُفَّ بصره، فاشتراه، جاز ذلك إذا لم يتقادم الزمن، أو تقادم وكان الشيء ممّا يبعد تغيُّره، كالحديد والنحاس، وغيرهما. وإذا اشترى شيئاً لم يره، ثم كُفَّ بصره قبل أن يراه. فمن أصحابنا من قال: ينفسخ البيع من قِبَل أنا أَيِسْنا من قرار العقد عند الرؤية. وذكر الشيخ أبو علي ما هو أصلُ الفصل وبه يتبيّن مشكلُه، فقال: البصير إذا اشترى شيئاً لم يره، وصححنا العقد، فلو وكل وكيلاً وفوض الأمر إليه في الفسخ والإجازة عند الرؤية، قال: في صحة الوَكالة وجهان: أحدهما - يصح، كتفويض الأمر في خيار العيب والخُلف. والثاني - لا يصح؛ فإن الخيار ليس مربوطاً بغرضٍ،

_ (1) حديث النهي عن بيع الحصاة: رواه مسلم: البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، ح 1513. (2) ر. المختصر: 2/ 204.

وإنما هو إلى إرادة من له الخيار، ولا تعقلُ النيابةُ إذا انتفى الغرضُ. قال: وهذا كما إذا أسلم كافر على عشر نسوة، وأسلمن، فإنه يختار أربعاً منهن. ولو وكل في هذا الاختيار، لم يجز. ثم قال: إن صححنا التوكيلَ في خيار الرؤية فيبتنى عليه قياسُ شراء الأعمى على شراء الغائب من البصير. وإن لم نصحح التوكيلَ في خيار الرؤية من البصير، قطعنا (1) بفساد شراء الأعمى؛ فإنه لو صح، لم يُفضِ إلى قرار. وهذا الذي ذكره حسن. وفي التوكيل باختيار أربع نسوة أيضاً احتمال. ولكن حكى الوفاق. وللأعمى أن يؤاجر نفسه، ويشتري نفسه من سيده للخلاص، كما له أن يقبل الكتابة إذا كاتبه مولاه. 3364 - وأمّا عَقْدُ السلم، فقد استثناه الشافعي من شراء العين (2)، وصححه من الأعمى التزاماً وإلزاماً. قال المزني: ظني بلطف الشافعي أنه [إنما] (3) يصحِّح السلم ممن كان بصيراً، وعاين ما لا تدرك حقيقته إلا بالعِيان كالألوانِ، وما في معانيها. فإذا طرأ العمى صَدَرَ وصفه عن علم. فأما الأكمه، فلا علم معه بحقائق الأوصاف وإن كان يذكرها. واختلف أصحابنا في التفصيل الذي ذكره المزني، فمنهم من وافقه ونزَّل نصَّ الشافعي عليه. ومنهم من لم يفصل بين الأكمه ومن كان بصيراً عاقلاً ثم عمي، وصحح السلم مع العمى التزاماً وإلزاماً؛ فإن الأوصاف إذا كانت تجري من الأكمه على حد الإعلام، والإعلام هو المقصود، فعدم إحاطته بنفسه وقد جرى مسلكٌ في الإعلام غير ضائر.

_ (1) في (هـ 2): وقطعنا. (2) في (ت 2)، (ص): العبد. (3) مزيدة من (هـ 2)، (ص).

وهو بمثابة توكيل الأعمى بصيراً وإقامتِه مقام نفسه. 3365 - ومما يتعلق بحكم الأعمى أنه إذا أسلم وصححنا منه السَّلَم، وحان وقتُ القبض، فهل يصح منه القبض؟ قال معظم أئمتنا: قبضُه بمثابة شرائه عيناً؛ من جهة أنه يتعلق بمعيَّن، وهو لا يحيط به. وقد ذكرنا في شراء الأعمى تفصيلَ الأصحَاب. ومن أصحابنا من رأى قبضَه بالصحة أولى. وفي المسألة احتمال. * * *

باب بيعتين في بيعة

بَابُ بَيعتين في بَيْعَة 3366 - روى أبو هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيعتين في بيعة " (1). وذكر الشافعي تأويلين: أحدُهما - أن يقول: بعتك هذا العبد بألف نقداً، أو بألفين إلى سنة، فأيهما شئت أنت، أو أنا، وجب البيع به. فهذا باطل بالنص والإجماع. ومعناه ظاهر. والتأويل الثاني - أن يقول: بعتك عبدي هذا على أن تبيعني فرسَك، فالبيع باطل. يعني البيعَ الذي شرط فيه البيع. وهذا خارج على قياس الشرائط الفاسدة. وأما البيع الثاني إن اتفق جريانه خلياً عن شرط، فهو صحيح. 3367 - وجمع الشافعي في الباب مناهي عن الشارع، فترك كلَّ خبر على معناه. فمنها: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النَجَش " (2) وهو ضرب من الخديعة. قال الشافعي: ليس من أخلاق أهل الدين، ومعناه أن يتقدم الرجل إلى سلعةٍ تباع فيمن يزيد، وربما عُرف بالحذاقة في التجاير، فيزيد في ثمنها وهو لا يريدها، ولكنه يبغي أن يغترّ الناس ويحرصوا على شرائها؛ فيعطوا أكثر ممَّا كانوا يعطون لولا تغريره. وهذا حرام منه. وهو اللَّبس المحظور. ولكن إن جرى العقد على مبلغٍ من الثمن، صح، فإن التلبيس لا يمنع صحة العقد. والتفصيل في الخيار. فإن جرى ذلك من غير مواطأةٍ مع صاحب السلعة، يصح العقد، كما ذكرناه. ولا خيار، والحرج على الناجش. وإن جرى النَّجَش في مواطأة صاحب السلعة، فالعقد صحيح وفي الخيار وجهان:

_ (1) حديث: "نهى عن بيعتين" رواه الشافعي، وأحمد: 2/ 71، والترمذي: ح 1231، والنسائي: ح 4632، والموطأ: 2/ 663. وانظر التلخيص: (3/ 27 ح 1150). (2) حديث النهي عن النجش. متفق عليه من حديث أبي هريرة: (اللؤلؤ والمرجان: ح 970).

أحدهما - يثبت الخيار للتلبيس؛ اعتباراً بالتصرية، وما في معناها. والوجه الثاني - لا خيار؛ فإن هذا الخداع غيرُ راجع إلى صفة المبيع. ولكنه متعلق بالعين. وليس في قَبيله خيارٌ. والنجش المنهي عنه معناه في اللغة الرفعُ، والناجش الرافع للسعر. 3368 - ثم ذكر الشافعي نَهْيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: " لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه ولا يسومن على سوم أخيه " (1). وصورة البيع على البيع أن يجري العقد ويكون المتعاقدان في مجلس العقد مغتبطين غيرَ نادمين، فيتقدم واحد إلى المشتري ويعرض عليه سلعة خيراً من السلعة التي اشتراها بمثل ثمن سلعته، أو سلعة مثل سلعته بأقلَّ من ثمنها، ويرغّبه في فسخ البيع الأول بهذا السبب. هذا هو البيع على البيع، وهو محرم باتفاق الأصحاب، غيرَ أن البيع يصح؛ فإن التحريم لا يرجع إلى معنى في البيع، وإنما يرجع إلى معنى كلِّي في محاذرة الإضرار بالغير. وكل نهي جرى هذا المجرى، كان في معنى النهي عن البيع في وقت النداء حين يُخشى فواتُ الجمعة. وأما السوم على السوم، فصورته أن يساوم سلعةَ غيره، ويتفقا على قدر الثمن ويهُما بالعقد، ويرجع أحدهما لإحضار الثمن، فإذا جاء إنسان وساومه السلعةَ بأكثرَ من ذلك الثمن، أو عرض على المشتري سلعة بأقلَّ من ذلك الثمن، وتسبب إلى دفع ما كاد يتفق، فهذا منهي عنه محرّم، وهو المعنى بالسوم. ولو كانت السلعة معروضة فيمن يزيد، فإذا طلبها طالب بثمن، فللغير أن يطلبَها بأكثر؛ [إذ] (2) لم يتحقق توافقٌ على مقدارٍ. والسلعة إنما تعرض على من يزيد للتزايد. فكان الذي يجري ليس سوماً. ثم قال أصحابنا لو خطب الرجل امرأة، فرُدَّ، فللغير أن يخطِبها، وإن أجيب،

_ (1) حديث " لا يبع بعضكم على بيع أخيه، متفق عليه من حديث ابن عمر وأبي هريرة. (اللؤلؤ والمرجان: ح 969، 970). (2) في الأصل، (هـ 2): إذا.

فيحرم على الغير الخِطبة. ولو خطب إلى الأبِ ابنته، فسكت، ولم يجب، ولم يرد، فهل يحرم الخِطبة؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى - في النكاحِ. ولو اتفق السكوت في السوم، فللغير أن يستام قولاً واحداً، عند المراوزة؛ فإن السكوت في باب النكاح قريبٌ من التصريح بالرضا في مقام الخطبة؛ فإن المخطوب يستحي في أول مجلس ولا يصرح. وذَكر العراقيون في السوم طريقةً أخرى فقالوا: إن سكت من خُطب إليه أو من طلب منه متاع، ولم يقترن بالسكوت ما يدل على الرضا، فلا يحرم بهذا السكوت الخِطبةُ، ولا السوم، والسكوت يقدر على وجوه، وإنما يدل على الرضا بعضُها، ولو اقترن بالسكوت ما يدل على الرضا، ففي الخِطبة والسوم جميعاً قولان. فلم يفرقوا بين السوم والخِطبة في الطريقة التي رتبوها. وما ذكروه منقاسٌ. ولكن لا يمكن أن [نُنكر] (1) الفرقَ بين السوم والخِطبة. فالوجه أن يقال: الدال على الرضا مع السكوت في الخطبة، ربما يخالف الدالَّ على الرضا في السوم، في مجاري العاداتِ، فيقع الفرق في أصناف القرائن. وإطلاق القول بأن السكوت دليل الرضا في الخطبة ليس كذلك. فهذا تمام الغرض في هذا الفصل. ثم قال الشافعي: صاحب البيع على البيع والسوم على السوم يَحْرَجُ إذا كان عالماً بالخبر، والناجش يعصِي وإن لم يبلغه الخبر المخصوص في النجش. وسبب ذلك أن تحريم البيع على البيع والسوم على السوم لا يدركه عامةُ الناس، وأما النجش، فخداعٌ، وقد استفاضَ في الناس وشاع تحريمُ الخداع. والقول فيه قريب. * * *

_ (1) في النسخ الأربع: (يذكر). ولعل ما قدرناه يكون هو الصواب المناسب للمعنى والسياق، يساعدنا على ذلك الاستدراكُ الذي ذكره تعقيباً على قول العراقيين إنه لا فرق بين السوّم والخطبة.

باب لا يبيع حاضر لباد

باب لا يبيع حَاضِرٌ لبَادٍ 3369 - ذكر الشافعي رحمة الله عليه في صدر الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبيع حاضر لبادٍ " (1). والحديث وارد في القرويّ أو البدوي يدخل البلد بسلَعٍ وأمتعة، وهو يبغي بيعَها بسعر اليوم خائفاً أن تعظم المؤنةُ عليه لو أقام. فإذا تقدم إليه حضريٌّ والتمس منه أن يترك أمتعته عنده حتى يبيعها على مر الزمن، وقد يتضيق بهذا السبب الأمرُ على أهل البلد. فهذا منهي عنه. وإن كان البدوي عازماً على الإقامة والتربص بالأمتعة وبيعها على مر الأوقاتِ، فإذا أعانه حضريٌّ على عزمه، والتمس منه أن يفوّض الأمرَ إليه، لم يلحقه بذاك حَرجٌ، وكان ما جاء به من باب التعاون. وكذلك إذا طلب البدوي ذلك ابتداء من الحضري، فأسعفه، فلا بأس ولا حرج. وكل ما ذكرناه إذا كان يظهر بسبب التربص ضيقٌ على المسلمين. فإن لم يكن كذلك والأسعار رخيصة، وأمثال تلك السلعةِ موجودة، وكان لا يظهر بالتربص بها أثر محسوس، فهل يَحرَج من يحمل البدويَّ على التربص؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحرَج بمطلق النهي. والثاني - لا يحرَج؛ لأنَّ معنى الضرار مقصود من النهي، فإذا لم يكن، فلا بأس. ثم إذا باع حاضر لبادٍ، فلا شك في انعقاد العقد؛ فإن النهي ليس يتمكن من مقصود البيع.

_ (1) حديث: " لا يبيع حاضر لبادِ ". متفق عليه من حديث ابن عباس. (اللؤلؤ والمرجان: ح 973).

3370 - ثم ذكر الشافعي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تتلقوا الركبان للبيع، فمن تلقاها، فصاحب السلعة بالخيار بعدَ أن يقدَم (1) السوق " (2). وصورة ذلك: أن يعلم إنسان بقدوم رُفقة تحمل سلعاً وأمتعة، فيستقبلَهم على قصد أن يشتريَ منهم، ويتقدم إليهم، ويَكْذِبَهم في سعر البلدِ، ويشتري منهم شيئاً من سلعهم أو جميعها بغبنٍ. هذا مورد الخبر. ولا شك أن صنع هذا المتلقي حرام إذا كان عالماً بالحديث. والعقد ينعقد. وللبائع الخيار لنص الحديثِ. هذا إذا كذب في السعر واسترخص، فأما إذا صدقَ في السعر، واشترى منهم بأقلَّ من ثمن المثل، أو بمثل الثمن، ففي الخيار وجهان: أحدهما - يثبت لظاهر الحديث؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أطلق إثباتَ الخيار، ولم يفصّل بين أن يكذبَ أو يصدق. ومما يتعلق بذلك أنه لو لقي الركبَ وفاقاً، وما قصد تلقِّيَهم على نحو ما وصفناه، ولكن اتفق الالتقاء بهم، فإن صدق في ذكرِ السعر، واشترى، نفذ، ولا خيار. وإن كذب في السعر، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - لا خيار؛ فإن الحديث وارد في تلقي الركبان وهذا ليس متلقِّياً والثاني - يثبت الخيار؛ لأن معنى الحديث النهي عن المخادعة، وهذا جار في هذه الصورة؛ فهي في معنى مورِد الحديث. فصل في بيع الجارية والبهيمة على شرط الحمل وفي بيعها مع استثناء الحمل 3371 - فإذا باع جارية على أنها حُبلى، أو شاةً على أنها لَبون، أو جُبة وشرط حشوَها؛ ففي المسائل طرق: من أصحابنا من قطع بفساد البيع في هذه المسائل؛ فإن البيع تضمن شرطَ مجهولٍ لا إحاطةَ به. ومنهم من قال: في جميعها قولان في صحة البيع. ومنهم من قال:

_ (1) قدِم يقدَم: من باب تعب. (المعجم). (2) "لا تَلَقَوُا الركبان" جزء من حديث ابن عباس المتفق عليه السابق. أما الزيادة فعند مسلم من حديث أبي هريرة (ح 1519).

يصح البيع في مسألة الجبة وفي الباقيتين قولان. وقطع بعضُ أصحابنا بصحة البيع في اشتراط كون الشاة لبوناً. وقال: هذا صفةٌ في الشاة، وليست تقتضى ثبوتَ لبني في الضرع، فأما إذا اشترط اللبن في ضرعها حالةَ البيع، فيكون ذلك كاشتراط كونها حاملاً. فهذه طرق الأصحاب. قال الشيخ أبو علي: لو قال: بعتك هذه الجاريةَ، وما في بطنها. أو بعتك هذه الشاةَ، وما في ضرعها. أو هذه الجُبةَ وما فيها من الحشو، فيبطل البيع في هذه الصور قولاً واحداً؛ فإنه تعرض لمجهولات وأثبتَها مبيعةً مقصودةً. وليس كما لو قال: بعتُها على أنها حامل؛ فإنه ما جعل الحمل مبيعاً مقصوداً، بل ذكره وصفاً. والوصف قد يكون وقد لا يكون، فكان كما لو اشترى عبداً على أنه خبازٌ. وهذا الذي ذكره حسن. وما ذكره الأصحاب -مع ما ذكر الشيخ أبو علي- يلتفتُ على أن المذكور على صيغة الشرط هل يكون كما يذكر على صيغة الضم إلى المبيع. وقد ذكرنا أمثلة هذا فيه إذا قال: اشتريتُ منك الزرعَ على أن تحصده. فإن جعلنا المفهومَ من الشرط كالمضموم لفظاً، فيقرب الحكمُ بالبطلان. والظاهر ما قاله الشيخ إلا أنه ضمَّ حشوَ الجبة إلى الحمل، وفيه بعضُ النظر: فلا يبعد أن يُجعل كبيع الغائب. ثم يتطرق إلى ما قاله نوعٌ آخر من الاحتمال: وهو أن البيع إن بطَل في الحمل واللبن، فالوجه تخريج البيع في الجارية والشاة على قولين في تفريق الصفقة. وقد تعرض الشيخُ (1) لهذا. ثم قال: الوجه: القطع بالبطلان؛ فإن المضموم مجهولٌ لا يتأتى توزيع الثمن عليه وعلى المبيع. والقياس ما ذكره. لكنَّا أجرينا قولَيْ تفريق الصفقة في صورةٍ لا يتأتى التوزيع فيها، كما في بيع شاةٍ وخنزير. وذلك يُخرّج على القولين في أن العقد إن أجيز بكم يجاز؟ فإن قلنا: يجاز العقدُ في الذي يصح فيه بتمام الثمن، فلا حاجة إلى التوزيع، ولا يضر تعذر التوزيع؛ إذْ لا حاجة إليه.

_ (1) الشيخ المراد هنا: والده أبو محمد.

3372 - ومما يتعلق بتمام القول في هذا أن من اشترى جاريةً حاملاً، وأطلق العقدَ، فالبيع صحيح، والحمل مستحَق للمشتري، والخلاف في أنه هل يقابله قسط من الثمن. وسيجري تحقيق ذلك في كتاب الرهن، إن شاء الله تعالى. ولو باع جاريةً إلا حملَها، ففي صحة الاستثناء والبيع وجهان: أحدهما - يصح، كما يصح استثناء الثمار قبل بدو الصلاح؛ فعلى هذا يبقى الحمل للبائع. والوجه الثاني - يبطل الاستثناء؛ فإن الحمل بمثابة جزءٍ من الجارية في حكم البيع. هذا في التصريح بالاستثناء. فأما إذا باع جارية وهي حامل بولد حُر، فالأصح صحةُ العقد، وإن وقع الحمل مستثنىً عن البيع شرعاً. وأبعد بعضُ أصحابنا؛ فذكر وجهاً في منع بيعها إلى أن تلد. وكذلك إذا كان الحمل بالوصية لزيد. وكانت الجارية لعمرو. فإذا باع مالك الجارية، فهو كما لو فُرض البيع وهي حامل بولد حُر. * * *

باب النهي عن بيع وسلف جر منفعة

باب النهي عن بيعٍ وسلفٍ جرّ منفعة 3373 - صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع وسلف " (1)، وصورته أن يشترط في البيع أن يُقرضه مالاً. وهذا يلتحق بشرط عقدٍ في عقد. ثم لو قال البائع: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن أقرضك ألفاً، وقبل المشتري، فالبيع باطل. وكذلك لو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن تقرضني ألفاً، فالبيع فاسد. أما إذا اشترط على المشتري أن يقرضه، فهذا ضمُّ منفعةٍ إلى الثمن، واشتراط ارتفاق، ولا يثبت ما شَرَطَ، فيصير الثمن مجهولاً به. وكأن التقديرَ بعتك هذا العبدَ بألفٍ وارتفاقٍ بشيءٍ آخر غيره. وإذا قال البائع: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن أقرضك، فكأنه لم يقنع بأن يقابلَ العبدَ بالألف، فقابلَ العبدَ ورفقاً بألف، فلم يصح. وما ذكره معتضدٌ بنص الرسول صلى الله عليه وسلم. فصل 3374 - تعرض الشافعي لإفساد القرضِ الذي يجر منفعة. والوجه عندنا أن نذكر أصلَ القرض ووصفَه، وقواعد الأحكام فيه، ثم نذكر فساده إذا شرط فيه جرَّ منفعةٍ.

_ (1) حديث النهي عن بيع وسلف: رواه أبو داود البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، ح 3504، والترمذي: البيوع، ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، ح 1234، والنسائي: البيوع، بيع ما ليس عندك، ح 4611، وباب شرطان في بيع، ح4630، والحاكم: 2/ 17. وانظر التلخيص: (3/ 28 ح 1151).

فالقرض في نفسه متفق عليه. وليس عقداً تاماً على قياس المعاوضات؛ فإنه لو كان مردوداً إلى قياسها، لما صح اقتراضُ مالٍ من أموال الربا لشَرْطِ التقابض في بيع بعضه بالبعض. ومعلوم أن من أقرض إنساناً دراهمَ فإنما يبذلُها ليأخذ منه مثلَها، وهذا على القطع مقابلةُ عوض بعوض. وقياسُ هذا يقتضي التقابضَ في مجلس العقد؛ فإن كل عوضين جمعتهما علةٌ واحدة في تحريم ربا الفضل إذا اشتمل العقد عليهما، وجب التقابُض فيهما. فليس القرضُ إذاً على قياس العقود، وليس خالياً عن [تقابل] (1) العوضين مقصوداً. وامتنع الشافعي من إثبات الأجل في القرض؛ من قِبَل أن الأجل إنما يثبت في حقائق العقود المشتملةِ على حقيقة المعاوضة. فإذا لم يكن القرض كذلك، لم يكن في إثبات الأجل معنى، ووافق أبو حنيفةَ على هذا. وكان القرض معروفٌ أثبته الشارع رخصةً مستثنى من قياس المعاوضات، وما فيها من التعبدات؛ فإن القرض لو روعي فيه التقابض، لم يكن فيه معنى. وغرض الشارع بإثبات القرض استثناؤه عن تصنيفات المبيع، وإيصال المقترض إلى القرض من غير أن يُنجز له عوضاً. وهذا لا خفاء به. 3375 - وينشأ من هذا الأصل خلافٌ عظيمُ الوقع مع مالك (2)، فإنه قال: ليس للمُقرض أن يسترد ما أقرضه على الفور، حتى يقضي المقترضُ وطراً، أو يمضي زمانٌ يسع ذلك. وزعم أنا لو ملكنا المقرضَ استرجاع القرض في الحال، لم يكن للقرض فائدةٌ. وبنى هذا على إثبات الأجل، ولزوم الوفاء به إذا ذُكر، وحمل [هذا] (3) على موافقة مقصودِ القرض. وهذا الذي ذكره فيه تخييل إذا نظر الناظر إلى مقصود القرض. ولكن لا وجه لما

_ (1) في الأصل، (ت 2): تقابض. (2) ر. جواهر الإكليل: 2/ 76، منح الجليل لعليش: 3/ 51. (3) ساقطة من الأصل.

قاله؛ من جهة أن منعه المقرضَ من مطالبة المقترض تحكّم منه عليه، لا عن أصل ثابت في الشرع. ثم ذِكْرُه قضاءَ الوطر عماية لا يهتدى إليها، وأمرٌ خارج عن الضبط. والوجه إذا عقلنا غرضَ الشرع مائلاً عن قياس كلِّي (1) أن نقتصر عليه، ولا نُتبعُه هدمَ الأصول. ومقصود الشارع استثناءُ القرض عن التعبّد الثابت في التقابض المشروط. وهذا معترف به، فأما الحجر على المقرض، فلا. والأمر محمول فيه على أنه إن شاء وفَى بامتناعه، فإن لم يفِ، فهو المالك. وقد طرد مالكٌ أصلَه في إلزام العواري إلى قضاء الأوطار. وهذا عندي خَرق لما عليه علماءُ الأمة؛ فإنهم ما زالوا يعرفون من وضع الشرع في العواري تخيّر المعير، وأن له الرجوع متى شاء. وقد ثبت في وضع الشرع عقودٌ مقرونةٌ بشرط الرجوع. والواهب المملِّك بالإقباضِ عندنا وبنفسِ الهبةِ عند مالك رحمه الله يرجع فيما وهب. ولم يُنكِر أصلَ الرجوع في الهبة منكر. فالذي يقتضيه الفقه أن يُعتقَدَ استثناءُ الشارع القرضَ كما ذكرناه، مع أن الأمر فيه مبني على أن المقرض يفي بالامتناع، ولا يخلف الموعدَ. وهذا ما اطّرد العرفُ فيه. فإن أراد الاسترجاع، فلا مانع منه. وأما الأجل، فقول مالكٍ في إثباته أَثْبتُ. وسبيل الكلام عليه ما قدّمناه، من أن الأجل من توابع العقود المحققة، ولو أثبتنا الأجل فيه، لألحقناه بالعقود، ولو التحق بها، لامتنع الأجل في مقابلة الدراهم بالدنانير؛ ففي إثباته في الربويات نفيُه. 3376 - ثم إذا تمهد قولُنا في أصل القرض وتنزيله، فنتكلمُ وراء ذلك في شيئين: أحدهما - أنه يقتضي الملك للمقترض وكيف التفصيل فيه. والثاني - فيما يصح إقراضه وفيما لا يصح، ثم نذكر بعدهما القرضَ الذي يجرّ منفعةً. فأما القول في وقت الملكِ، فقد ذكر أئمتنا قولين من معاني كلام الشافعي في ذلك: أحدهما - أن الملك يحصل بالإقباض. وهذا هو القياس؛ فإن المقترض يتصرف فيما اقترضه وقبضه تصرفاتٍ مفتقرة إلى الملك، كالبيع وغيره. وأيضاً؛ فإن

_ (1) في (ص)، (ت 2): جلي.

كل عقد مملِّكٍ على الصحة، إذا لم يقترن به مانِع من نقل الملك، فالملك لا يتأخر فيه عن القبض. والقول الثاني - أن الملك لا يحصل ما لم يتصرف المقترض، كما سنصف تصرّفَه؛ فإن الاقتراضَ ما وقع للتمليك المحض، حتى لا (1) يقتني المقترضُ ما يقترضه. ولو كان المقصود منه ذلك، لرُدَّ إلى قياس العقود، فحكمُ القرض في وضعه يقتضي وقوفَ الملك إلى اتفاق التصرف. التفريع على القولين: 3377 - إن حكمنا بأن الملك يحصل في القرض بنفس القبض مع جريان لفظٍ مشعر باقتراض، فقد قال صاحبُ التقريب وأئمة العراق: لو أراد المُقرِضُ أن يسترد عينَ ما أقرضه، كان له ذلك. وهو ما قطع به القاضي. وسببه أنه إذا كان يملك تغريمه مثلَ حقه عند فواته، فينبغي أن يملك استردادَ عين ملكه. ولو أبى المقترض، كان حاملاً للقرض على مقصود الاقتناء. وقد أوضحنا خلاف ذلك. وذكر الشيخ أبو علي في الشرح أن المقرض ليس له أن يسترد عينَ القرض إلا أن يرضى به المقترض، فلو أراد أن يأتي بمثل ما قبضه، فله ذلك. وهذا الذي ذكره قياس حسن. ولكن جمهور الأصحاب ذهبوا إلى مَا قدمناه. ولو أراد المقترض ردَّ عين القرض، فلا شك أنَ المقرض محمول على قبوله، وليس له أن يقول: إنما أقرضتك هذه الدراهم بعوضها، فلا أقبل عينها؛ وذلك أن القرض منتزعٌ عن حقائق المعاوضات. ولو باع رجل درهماً في الذمة بدرهم، ثم أقبض أحدُهما صاحبه درهماً، فردّه على صاحبه، وكان مثلاً له، جاز ذلك. فإذا لم يمتنع هذا في المعاوضات المحققة، فلا شك أن المقرض محمول على قبول عينِ حقه. هذا إذا فرعنا على أن الملك يحصل بالقبض في القرض.

_ (1) في (هـ 2)، (ص): حتى يقتني.

3378 - فأما إذا فرعنا على القول الآخر. وقلنا: لا يحصل الملك في القرض إلا بتصرفٍ من المقترض. فالكلام أولاً في نفس التصرف: لا خلاف على هذا القول أنه لو استخدم العبدَ المقترَض أو أعاره، فلا يحصل الملك بهذا القبيل من التصرفات. ولو باعه بيعَ بتات، أو وهبه وأقبضه، فيحكم بنفوذ تصرفه، ويستبين أن الملك انتقل إليه قُبَيْل التصرف الصادر منه، فإنا بالتصرف نعلم جريانَ المقترض في مقصود القرض. وإذا تبيَّنا ذلك، أسندنا تصرفاته إلى ملكٍ مقدَّرٍ قُبيلَها. ولو آجر العبدَ المقترَضَ أو رهنه، فكيف القول في التصرف الذي لا يزيل الملك عن الرقبة، ويستدعي نفوذُه ملكَ المتصرف؟ في كلام أصحابنا خبطٌ في هذا. أمّا شيخي فكان يقول: كل تصرف لو صدر من المتّهب، انقطع به حق رجوع الواهبِ منه، ولولاه لرجع، فذلك التصرف يثبت ملكَ المقترض على حكم التبيّن. وكذلك كل تصرفٍ لو صدر من المشتري، ثم أفلس، لامتنع به حق رجوع البائع إلى عين ماله، فإذا صدر من المقترض، تضمّن حصولَ الملك له، فلا فرق بين هذا المعتبَرِ وبين ما ذكرناه في المتهب. هذا مسلك شيخي. ومن أئمتنا من قال: التصرف المعتبَر فيما نحن فيه هو الذي يزيل الملكَ عن رقبة المقترض؛ فإن الغرض من الإقراض إخراجُ المقترَض. وهذا القائل لا يجعل الرهن مما يكتفى به وإن تعلّق برقبة المقترَض. وقال بعض أئمتنا: كل تصرف يتعلق بالمنفعةِ، فإنه لا يثبت حقَّ الملك في المقترَض، كالإجارة. وكل تصرف يتعلق بالرقبة على لزومٍ، فإنه يتضمن ملك المقترض، فالرهن عند هذا القائل يتضمن تحصيل الملك. وقال بعض أئمتنا: كل تصرف يستدعي ملكاً، فهو من المقترض يتضمن تمليك القرض على مذهب التبيّن.

وصاغ بعض أصحابنا عن هذا عبارةً أخرى، وقال: ما يستباح بالإباحة لا أثر له، وما لا يستفاد إلا بملكٍ، فهو الذي يُثبت الملك. فهذا تمام طرق الأصحابِ في تفصيل التصرفات المعتبرة في تحصيل الملك في القرض. ومن قال: لا يحصل الملك إلا بما يزيل الملك، فلا يمنع المقتَرِضَ من استخدام العبدِ المُقْتَرَضِ ويَحْمِلُ الإقراضَ على إباحة ذلك، وعلى تمهيد تحصيل الملك إن أراد المقترض تحصيلَ الملك. فأما الإجارة، فلا نصححها، فإنها تستدعي ملكاً، والملك عند هذا القائل لا يحصل بها. ولسنا نحوم بعدُ على استقراض الجارية، فإنا سنذكر أمرها في الفصل الثاني، وهو ما يُستقرَض وما لا يستقرَض. فرع: 3379 - [إذا استقرض] (1) عيناً وباعها على شرط الخيار. فإن قلنا: البيع لا ينقل الملك، والتفريع على أنه لابد من تصرفٍ ناقل للملك، فلا يحصل الملك للمستقرض. وإن فرعنا على أن المعتبر تصرفٌ يستدعي الملك، فالبيع يُملّك المستقرضَ؛ فإنه يستدعي ملكاً، وإن كان لا ينقل الملك ما لم يَلْزم. وإن قلنا: البيع ينقل الملك، والتفريع على أنه لابد من ناقل للملك، فهذا نقل على الجواز، لا على اللّزوم. وفيه تردد للأصحاب. وهو محتمل جداً. وكان شيخي يقول: لا خلاف أن الملك إذا حصل في زمان الخيار لمن اشترى زوجته، فالنكاح ينفسخ. هذا منتهى التفريع على التصرفاتِ المعتبرة في قولنا: لا يملك المستقرض ما لم يتصرف. وقد نجز الغرض فيما يملّك المستقرَض.

_ (1) سقط من نسخة الأصل وحدها.

3380 - فأما القول فيما يصح إقراضه: قال صاحب التلخيص: " ما يصح السلم فيه، يصح إقراضُه إلا الولائد ": أراد الجواري. فنقول أولاً: مقتضى كلامه: أن ما يمتنع السلم فيه لأن الوصفَ لا يحيط به لا يصحّ إقراضُه. وهذا ما ذهب إليه الجماهير المعتبرون من الأصحاب. ووجهه أن القرض مقتضاه إلزامُ ذمة المقترض عوضاً موصوفاً، فينبغي أن يكون الشيء قابلاً للصفة، وكأنَّ العينَ المقرضَة بصفاتها سبيلٌ في وصفِ ما يُلزمه ذمةَ المقترض. وهي نازلةٌ منزلةَ ذكر الأوصاف في السلم. فيخرج إذاً مما ذكرناه أن اللؤلؤةَ لا يجوز إقراضُها، وكذلك النشابة والقوس، وكل ما يمتنع السلم فيه. وذكر الشيخ أبو علي هذا الوجهَ، ووجهاً آخر: وهو أن الإقراضَ يجوز في هذه الأشياء. والقول في هذا ينبني على ما سأذكره في آخر الفصل، وأنبه على رد هذه المسألة إن شاء الله تعالى. 3381 - ومما يتعلق بهذا الفصل الكلامُ في إقراض الجواري. وقد نص الشافعي على قولين فيه: أحدهما - تجويز ذلك قياساً على العبيد والعُرُوض، والنقود. والقول الثاني - لا يجوز إقراضهن. وقد اتفق أصحابنا على أحد هذين القولين في أن الملك متى يحصل في القرض. ثم ذهب الأكثرون إلى أنا إن قلنا: يحصل الملك بالقبض، فيصح إقراضُ الجارية، ويملكها المقترض بالقبض، كما يملكها بالاتهاب والقبض. وإن قلنا: [لا يحصل الملكُ في القرض بالقبض، فلا يصح إقراضُ الجواري] (1)؛ فإن في تصحيحه تسليمَهن إلى المقترض، فتثبت يدُه عليها من غير ملكٍ. وقد يُفضي ذلك إلى الإلمام، فالوجه حسم هذه الجملة بالكلية.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

وذكر الشيخ أبو علي مسلكاً آخر في بناء إقراض الجواري على الملك، وهو عكس ما ذكره الأصحاب. فقال: إن قلنا: يحصل الملك في القرض بالقبض، فلا يصح إقراض الجارية؛ فإن المقترض لو ملكها، لاستحلها، ثم مَلكَ ردها في عينها، فيكون ذلك على صورة إعارة الجواري للوطء. وإذا قلنا: لا يملك القرضَ بالقبض، فيصح إقراضُ الجارية؛ فإن مستقرضَها إذا لم يملكها، لا يستحلها، ولا يقع ما صورناه من وطء الجارية وردّها في عينها. هذا مسلكه. والذي ذكره الأصحاب قريبٌ. ولا بأس بما ذكره الشيخ أيضاً. والقياسُ جواز الإقراض على القولين. ولكن صح عن السلفِ النهيُ عن إقراض الوَلائدِ. وكأن المسألة اتباعية. وأجمع أئمتنا أن الجارية إن كانت من محارم المستقرِض بنسب أو رضاع، أو صهرٍ، فيجوزُ إقراضها منه. لم أرَ في هذا خلافاً. وهذا يُنبِّهُ (1) على أن المحذورَ الوطءُ واستحلاله، على التفصيل الذي ذكرناه. 3382 - فإذا ثبت التفصيل فيما يجوزُ إقراضه، فالمقترَض لا يخلو إما أن يكون من ذوات الأمثالِ، وإما أن يكون من ذوات القيم؛ فإن كان من ذوات الأمثال، فلا شك أن المردود مثلُ المستقرَض. وإن كانَ المُقرَضُ من ذوات القيم، فقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه: فذكروا وجهين أشبههما (2) بظاهر الحديث أنه يرد مثل ما قبض. وإن لم يكن من ذواتِ الأمثالِ. وصح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقرض بكراً من أعرابي فتقاضى عليه وأغلظ عليه في القول ". قال أبو هريرة فهممنا به فقال عليه السلام " دعوه فإن لصاحبِ الحق يداً ولساناً. ثم أمر أبا رافع أن يقضيه، فلم يجد إلا بازلاً (3)، فقال:

_ (1) في (هـ 2)، (ت 2): تنبيه. (2) في (هـ 2): أظهرهما. (3) البازل من الإبل من دخل في التاسعة، وهو تمام قوة الإبل. وهذا تصرف في الرواية: فليس هذا اللفظ في الحديث.

" أعطوهُ إياه، خيركم أحسنكم قضاءً " (1) ويعتضد هذا الوجه أيضاً بأن القرض ليس فيه تعرض لذكر العوض، ولو كان الواجب ردَّ قيمة العين لوجب إعلامها، فوضح أن القرض ينزل على العين، وعلى ما يجانسه. والوجه الثاني -وهو الأقيس- أن العين إذا كانت من ذوات القيم، فالواجب على المستقرض قيمتُها؛ فإنه لا مثل لها، ولو ضمنت بالمثلِ في القرض، لضمنت في الإتلافِ بالمثلِ. وهذا القائل يقول: القرضُ إذاً في التصرف والاستهلاك مضمَّن بالبدل الذي يثبت عند الإتلاف. هذا تقديره. وما قدّمناه من الوجهين في إقراض ما لا يصح السلم فيه مبنيان على هذا الذي ذكرناه الآن. فإن قلنا: العين المُقرَضةُ مضمونة بالقيمة، إذا لم تكن من ذواتِ الأمثال، فإقراض الدُّرةِ جائز بناءً على قيمتها. وإن أوجبنا ردَّ المثل، لم يجز فيما لا يضبطه الوصف. 3383 - وأمَّا إقراض الخبز وكل ما لا يجوز بيعُ بعضِه ببعضٍ ينبني (2) على أن ما ليس من ذوات الأمثالِ يَضمن المقترض مثلَه أو قيمتَه. فإن ألزمناه القيمةَ، والخبز [ليس من ذواتِ الأمثال، فيجوز إقراضه، فإنه ليس فيه مقابلة الخبز بالخبز. وإن قلنا: يضمن المقترض المثل، فهذا يؤدي إلى مقابلة الخبز بالخبز] (3). وقد اختلف

_ (1) حديث خيركم أحسنكم قضاءً. رواه البخاري: الاستقراض، باب هل يعطى أكبر من سنه، ح 2391، وباب استقراض الإبل، ح 2390، وفي الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون، ح 2306. ورواه مسلم: المساقاة، باب خيركم أحسنكم قضاءً، ح 1600، وهو من حديث أبي هريرة، وأبي رافع. هذا، وليس في الحديث لفظ (بازل) وإنما "خياراً رباعياً" والرباعي بفتح الراء، ما له ست سنين. فالحديث مروي بمعناه. وراجع تلخيص الحبير: (3/ 79 ح 1234). وسترى أن الحافظ تحامل على الإمام والغزالي. (2) جواب (أما). (بدون الفاء على مذهب الكوفيين. وتتكرر كثيراً في لغة إمام الحرمين). (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل. ومكانه عبارة مضطربة مكررة متداخلة. لا معنى لها.

أصحابنا فيه، فمنهم من منع الإقراض لأدائه إلى مقابلة الخبز بالخبز. ومنهم من جوز للحاجةِ الماسة، كما يجوز مقابلة الدراهم بالدراهم من غير تقابضٍ. وإلى هذا مال القاضي. وقد نجز الكلامُ في أصول القرض. 3384 - وحان أن نُفَصِّل القرضَ الذي يجر منفعة، فنقول: صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن قرضٍ جرَّ منفعة " (1) واتفق المسلمون على منع ذلك على الجملة، وإن كان مِنْ تردُّدٍ، ففي التفصيل. والمعنى المعتبر أن القرض معروفٌ أثبته الشارع لمسيس الحاجة. واستثناه عن تعبداتِ البياعاتِ، وإنما يتحقق معروفاً إذا لم يقصد المقرض جرَّ منفعة. فإذا أقرض رجُل رجلاً دراهمَ مكسّرة وشرط أن يردها صحيحةً، فالقرض فاسد. ومن هذه الجملة السفاتج (2)، فإذا جرت مشروطة، فأقرض رجل رجلاً مالاً ببلدةٍ، وشرط أن يرده ببلدة أخرى، فهذا الشرط يفسد القرض؛ فإن المقرض يبغي به درْءَ خطر السفر عن ماله. وهو منفعة ظاهرة. فإن قيل: أتجوزون القرض على شرط الرهن والكفيل؟ قلنا: هو جائز، لا خلاف فيه، وليس هو من القرض الذي يجر منفعة؛ فإن الرهن لا منفعة فيه إلا التوثيق. وكذلك الكفيل، وليس في استيثاقِ المقرض بالرهن جلبُ منفعة زائدة؛ فإنه كان بملكه أوثقَ منه بالرهن الآن. ولو قال: أقرضتك هذه الدراهمَ الصحاح على أن تردها مكسّرة، فهذا حط من مقدار الحق، وليس جلبَ منفعة، ثم تفصيله أنه إن لم يكن هذا القرض (3) في معرِض

_ (1) حديث: " نهى عن قرضٍ جرَّ منفعة ". لم يصح مرفوعاً، لكنه صح عن ابن عباس موقوفاً، وهو مروي بهذا اللفظ عن علي كما روي موقوفاً على ابن مسعود، وأبي، وعبد الله بن سلام. (ر. معرفة السنن والآثار: 4/ 391، والكبرى للبيهقي: 5/ 349، 350، وتلخيص الحبير: (3/ 79، 80 ح 1235، والإرواء: ح 1397). (2) السفاتج: جمع سفتجة، قيل بضم السين، وقيل بفتحها، وأما التاء فمفتوحة، فارسي معرب (المصباح). (3) كذا في النسخ الأربع. ولعلها: " اللفظ " (مكان القرض).

الشرط، بل ذكره متساهلاً واعداً، فالقرضُ صحيح. وهو بالخيار في الوفاء بالوعد. وإن ذكر ذلك على صيغة الشرط، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من حمله على المحمل الأول، وصحح القرضَ. وهو الأصح؛ فإن الشرط في الحقيقة مكرمة، وإنما تشعر صيغةُ الشرط بحقيقة وضعه إذا كان يستجلب الشارط حظاً وغرضاً. ومن أصحابنا من أفسد القرض بصيغة الشرط. وقد تمهد هذا فيما سبق. قال الشيخ أبو علي: من أقرض رجلاً مائة درهم على أن يقرضه مائةً أخرى، ولم يتعرض المقترض لذلك، فالصحيح أن القرض لا يفسد بهذا؛ فإن ما ذكره المقرض ليس إلزاماً وإنما هو وعد. وهو بالخيار في الوفاء به. وفيه الوجه الضعيف تمسكاً بصيغة الشرط. ولا عود إليه بعد هذا. وقال الشيخ: لو وهب رجل من رجلٍ شيئاً على أن يهب منه شيئاً آخر، لا تفسد الهبة، كما ذكرناه في القرض، وهذا في الهبة أظهر. كما سنصفه في آخر المسائل. ولو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن أهب منك هذا الثوب، فالبيع باطل، والسبب فيه أن المبيع يقابِل عوضاً، فإذا ضمَّ إليه ما لا يلزم، خرج المبيع عن كونه مقابلاً على التجريد بعوضه؛ وهذا يتضمن جهالةَ العوض من غير فرق بين أن يكون الشرط للشارط أو عليه. والهبة لا عوض فيها، فلا حكم لما يأتي به الشارط، إذا كان يلتزم مزيداً ولا يُلزم. وأما القرض، فهو ملحق بالهبة. وإن كان مقابلاً بالعوض؛ فإن حقائق الأعواض لا تراعى فيها، ولو روعيت، لكان يسمى. ولو أقرض وشرط الأجل، فالوجه أن يقال: إن لم يكن للمقرِض غرض في الأجل، فالأجل لا يثبت، والقرض لا يفسد. كما ذكرناه. وإن قُدِّر للمقرض غرضٌ في ذكر الأجل بأن يفرض زمانُ نَهْبٍ والمقترضُ مليءٌ وفيٌّ، فالأحْزم إيقاع المال في ذمته؛ حتى لا يتعرض للضياع. فإن كان كذلك، فمن أصحابنا من جعل شرطَ الأجل جرَّ منفعة، وهو اختيار القاضي، ووجهه لائح. ومنهم من حسم الباب، وجعل الأجل حقَّ المقترض؛ فإنه تأخير المطالبة وإسقاط الطلب بالشيء كإسقاط المطلوب، فلا نظر إلى فرض التعرض للآفةِ.

3385 - ثم ما ذكرناه من أن القرض إذا اشتمل على شرط يجرّ منفعة، فهو فاسد، فهو فيه إذا كان المالُ المقترضُ من أموال الربا. فأما إذا لم يكن من أموال الربا، فالشرط الذي يجر المنفعة هل يفسده؟ فعلى وجهين ذكرهما صَاحب التقريب والعراقيون: أحدهما - أن القرضَ يفسد؛ لأنه إذا اشتمل على جرِّ المنفعة، كان المال خارجاً عن وضعه ومقصوده. والوجه الثاني - أنه لا يفسد؛ فإن المحذور في مال الربا أن يُردَّ إلى قياسِ المعاوضة، ثم إذا رُدّ إليها، فسد من قِبَل ترك التقابض في المجلس. وإذا كان المال خارجاً عن الربا، لم يضرّ ردُّ القرض إلى قياس البيع. وهذا فيه نظر من قِبَل أنه إذا رُدّ إلى قياس البيع، وجب فيه التزام شرائط البيع، من تسمية العوض ورعاية شقي العقد إيجاباً وقبولاً، ثم يكون هذا خارجاً عن الباب بالكلية، ويرجع بيعاً محضاً. ومن جوز هذا من أصحابنا لم يشترط ردّه بيعاً محضاً. فليفهمه الناظر. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر عمرو بنَ العاص حتى استسلف بعيراً ببعيرين إلى إبل الصدقة " (1) ثم مهما (2) حكمنا بفساد القرض لم يملك المستقرض ما أخذه على قولنا بحصول الملك بالقبض، ولم يملك التصرف فيه على القول الآخر. فرع: 3386 - إذا أقرض رجل رجلاً دراهمَ ببلدة، ثم رآه في بلدة أخرى، وأراد مطالبته بالقرض، نُظر في المال: فإن كان مثل النقود التي لا عسر في نقلها، ولا تتفاوت قيمتُها بتفاوت البقاع، فظاهرُ المذهب أن لمستحق الحق مطالبتَه. وإن

_ (1) حديث: " أمر عمرو بن العاص حتى استسلف بعيراً ". ذكره الحافظ في التلخيص على أنه كان مع عبد الله بن عمرو، لا مع عمرو. والحديث رواه أبو داود: كتاب البيوع، باب في الرخصة، ح 3357. وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود. وانظر كلام الحافظ: التلخيص: 3/ 18 ح 1139، وما قاله الخطابي في المعالم. وقد أخرجه الدارقطني: 3/ 69، والبيهقي: 5/ 287. (2) "مهما": بمعنى (إذا).

كان الشيء مما يعسر نقله، وتختلف قيمةُ جنسه باختلاف البلادِ، فلا يطالبه في غير بلد الإقراضِ. وإن غصب عيناً، ثم ظفر المغصوب منه بالغاصبِ في غير محل العدوان والضّمانِ، ولم تكن العين معه، فأراد أن يغرمه مثلَ العين المغصوبة وهي من ذوات الأمثال، ففي المسألةِ وجهان: أحدهما - أنه لا يطالبه بها. ونقلها عسر وقيمتها متفاوتة، كما لا يطالَب المستقرِض. والوجه الثاني - أنه يطالَب؛ تغليظاً عليه، بخلاف المقترض. وسيكون لنا إلى هذا عَوْدٌ بأشفى بيانٍ، إن شاء الله تعالى - في كتاب الغصب. ثم إن قلنا: لا يطالبه بمثل المغصوب، فيطالبه بقيمته اعتباراً ببلد الغصب، وهذا للحيلولة (1). ثم إذا لقيه في بلد الغصب والعين المغصوبةُ قائمة، ردَّ القيمة واستردَّها. وإن كانت تالفةً، فهل يرد القيمة، ويسترد مثلَ المغصوب، وهو من ذوات الأمثال؟ فيه خلافٌ سيأتي إن شاء الله. وإن ظفر المقرض بالمستقرض، فقد ذكرنا أنه لا يلزمه مثل المال إذا كان يثقل نقلُه، ولكن يلزمه القيمة اعتباراً ببلد القرض؛ فإنا لو لم نقل بهذا، لاتخذ المقترضون التغرّبَ ذريعةً في إسقاط الطَّلِبة في الأموال التي وصفناها. فرع: 3387 - عماد الإقراض اللفظ والإقباض: ثم اللفظ أن يقول: أقرضتك أو لفظٌ هذا معناه. ومن الألفاظ أن يقول له: خذ هذا واصرفه في حوائجك بمثله مهما وجدت (2). وأمّا قبول المستقرض نطقاً، ففيه خلاف: فمن أصحابنا من لم يشترطه، وهو ظاهر المذهب؛ لأن الإقراض حاصله يرجع إلى الإذن في الإتلاف على شرط الضمان، وهذا لا يستدعي قبولاً. ومن أصحابنا من قال: لا بد من القبول؛ فإن هذا التصرف لا يقصر عن الهبة،

_ (1) كذا بدون ذكر متعلّق؛ لأنه مفهوم من السياق. (2) أي إلى أن تجدَ.

وهي مفتقرة إلى القبول، مع عروّها عن العوض؛ فالقرض المضمَّن بالعوض بذلك أولى. وهذا الخلاف يقرب من القولين في أن القرض هل يتضمن تمليكاً إذا اتصل به القبض. ولا يكاد يخفى وجه الأخذ منه. فصل قال: " لو كان له على رجل حق حَالٌّ من بيع أو غيره، فأخّره به مدةً معلومة ... إلى آخره " (1). 3388 - لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة رحمه الله في أنه إذا أقرض شيئاً، ثم أراد أن يلحق به أجلاً، لم يلتحق؛ فإنه لو ذكر الأجل عند الإقراض لم يثبت. فأما إلحاق الأجل بالثمن بعد لزوم البيع، ففاسدٌ لاغٍ، والزوائد التي تلحق بالثمن أو المثمن بعد لزوم العقد، لا تلتحق. وهي ملغاة إذا ذكرت. خلافاً لأبي حنيفة (2). والحط من الثمن نافذ، ولكنه تبرع غيرُ ملتحق بالعقد عندنا. وأثر ذلك أن البائع لو أبرأ المشتري عن شيء من الثمن بعد لزوم العقد، لم يحط المحطوطُ عن المشتري عن الشفيع؛ فإنه يأخذ المبيع بما وقع العقدُ عليه، وهذا الإبراء غيرُ منعطفٍ على حكم العقد. وهو بمثابة ما لو قبض الثمن ثم وهبَ بعضَه من المشتري. وهذا إذا كان الإلحاق بعدَ لزوم البيع. 3389 - فأما إذا فرض إلحاق بالثمن أو بالمثمن في حال جواز العقد بدوام المجلس، أو بسبب خيار الشرط، ففي التحاق الزيادة وجهان مشهوران: أحدهما - أنها تلتحق وتصير كالمذكورة في العقد. والثاني - أنها لا تلتحق.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 206. (2) ر. إيثار الإنصاف: 302، طريقة الخلاف: 317 مسألة 132.

وقد بنى الأصحابُ هذا الخلاف على أن البيع في زمان الخيار هل ينقل الملك؟ قالوا: فإن قلنا: إنه ينقله، فلا إلحاق. وإن حكمنا بأن البيع لا ينقل الملك، فذكر الزيادة على التوافق بمثابة ذكرها بين الإيجاب والقبول. والصحيح عندنا أن الزيادة لا تلحق وإن حكمنا بأن البيع لا ينقل الملك؛ لأن البيع الأول إذا لم يُرفع ولم يشتمل لفظ العقد على هذه الزيادة، فلا معنى لتقدير إلحاق الزيادة من غير فسخ محقَّق وإعادة، فيمتنع لحوق الزيادة لفساد الصيغة. ثم من رأى إلحاق الزيادة، قال: لو حُط بعض الثمن عن المشتري، فهو محطوط عن الشفيع. وقال: لو حُط جميع الثمن، فسد العقد، وكأنه خلا في أصله عن ذكر الثمن. ولو توافقا على إلحاق شرط فاسد، فسد العقد به. ولو ألحق أحدهما شرطاً فاسداً، فسد العقد أيضاً، وإن لم يوافقه صاحبه. ولو انفرد أحدهما بذكر زيادة صحيحةٍ، وامتنع من قبولها الثاني، لم تلحق الزيادة. ولكن إن تمادى الشارط، ولم يفسخ البيعَ، استمر العقد صحيحاً، ولغت الزيادة. وليس كما لو ذكر أحدهما بين الإيجاب والقبول شرطاً ولم يساعده الثاني، فإن العقد لا ينعقد؛ إذ صيغةُ العقد تستدعي توافقاً بين الموجب والقابل. وإذا اختلف القولان، خَرَجا عن مرتبة الجواب والخطاب. ومن عليه الحق المؤجل إذا أسقط الأجل، لم يسقط الأجل في حق مستحِق الدين، حتى لو أتى به قبل حلول الأجل المذكور، لم يجبر مستحِق الدين على القبول، على القول الصحيح. وهل يسقط الأجل في حق من عليه الدين المؤجل؟ حتى لو أراد مستحِق الدين مطالبتَه قبل حلول الأجل هل يكون له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط الأجل في حق من عليه الدين؛ لأنه أسقط حقَّه. والثاني - لا يسقط الأجل؛ لأنه صفة، والصفة لا استقلال لها. وهذا بمثابة ما لو استحق الرجل دراهمَ صحيحةً، فقال: أسقطت حقي في صفة

الصحة، وأنا راضٍ بالمكسّرة، فلا يسقط حقه إجماعاً. فكذلك الأجل. ومن قال بالأول، انفصل عن الصحة والجودة، وقال: هي صفةُ حق لمستحِق، والأجل حقّ لمن عليه الدين. وليس الموصوف بالأجل حقُّه، فهو إذاً في حقه حقٌّ محض متأصل ليس صفةً. * * *

باب تجارة الوصي بمال اليتيم

بابُ تِجارَة الوَصِيِّ بمَالِ اليتيم قال: " وأحب أن يتجر الوصي بمال من يلي ... إلى آخره " (1). 3390 - أصول القول في الأوصياء يأتي في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى - ونحن نذكر في هذا الباب ما يليق به وأطرافاً مما نعود إليهِ في كتاب الوصايا تمس الحاجة إليها في نظم مقصود الباب. فنقول: وصيُّ الأب ومنصوبه يتصرف في مال الأطفال كما كان يتصرف الأب في حياته. والقول في الجد أب الأب ووصيه كالقول في الأب. فأما وصي الأم، فلا يتصرف في مال أطفالها وأولادها المجانين في ظاهر المذهب؛ لأنها بنفسها لا تتصرف في أموالهم في حياتها، فكيف يتصرف نائبها بعد وفاتها؟ وذهب الإصطخري إلى أن الأم تملك التصرفَ في ولدها وماله، والنكاح مستثنى عن تصرفات النسوة. ثم قال الأصطخري: وصي الأم يلي أطفالها بعد وفاتها، كما أنها بنفسها تتصرف في حياتها. ثم إن نصب السلطان قيِّماً في أمر الأطفال، فلفظ النصب مع لقب القوام لا يسلِّط المنصوبَ على التصرف في مال الطفل؛ فإنا نجوز أن يكون نصبُه إياه للحفظ فحسب. فإن صرح بتفويض التصرف مَلَكَه على موجَب الشرع. فأما الأب إذا قال: نصبتك وصياً على أطفالي أوْ في أموال أطفالي، فلا شك أن الوصي يحفظ عليهم أموالهم. وهل يملك التصرفَ تعويلاً على لفظ الإيصاء من غير تصريح بالإذن في التصرف؟ فعلى وجهين: أظهرهما - يملك ذلك، بخلاف نصب

_ (1) ر. المختصر: 2/ 205.

القاضي القيمَ. ومن أصحابنا من قال: لا يملك التصرفَ من غير تصريح، كنصب القيم من جهة السلطان. فإن قيل: فما الفرق؟ قلنا: القُوَّام ينقسمون إلى حفظةٍ ومتصرّفين، وليس يغلب عرفٌ في التصرف، والأوصياء عمَّ العرفُ في تصرفهم، وانضم إليه قرينةُ مسيس الحاجة عند انقطاع نظر الموصي بالموت. وظهر اختلاف الأصحاب في اجتماع وصي الأب وجدّ الطفل من قِبل الأب، فمن أصحابنا من قدّم الجدَّ ورآه أولى، ومنهم من قدم وصي الأب، وذلك يأتي على الاستقصاء، إن شاء الله عز وجل. ومقصود البابِ تفصيل القول في تصرف الموصى، فنقول: 3391 - لا شك أن المأخوذ على الوصي مراعاةُ النظر والغبطةِ والمبالغةِ في الاحتياط، حتى لا يبيع سلعةً له بعشرة، وثم من يطلبها بعشرة وحبة. وللوصي أن يبيع بالنسيئة إذا زاد القدر بسبب الأجل، وارتهن به رهناً وافياً. فإن أراد البيع نسيئةً من غير أخذ رهن، وكان من عليه تقدير الدين مليّاً وفياً، فالأصح الصحةُ. ومن أصحابنا من منع دون الرهنِ، والكفيلُ لا يسد مسدَّ الاستيثاق بالرهن، فإن متضمن الضمان ضمّ ذمةٍ إلى ذمة، والذمم وإن تَضامَّت لا تسد مسدَّ الاستيثاق بالرهن. وسنذكر أصلَ هذا الخلاف في سياق الفصل. والوكيل المطلق والعامل لا يتبايعانِ بالنسيئة؛ فإنهما يتصرفان بالنيابة المحضةِ، والوصي وإن كان نائباً، فتصرفه تصرفُ الولاة؛ فإنه خلفَ الأبَ عند فواته، ثم الأب يبيع نسيئة، على شرط المصلحة. 3392 - ومما يليق بتصرف الوصي الكلامُ في مسافرته بالمال في البر والبحر. أما إن كان في الطريق خوفٌ، فلا سبيل إلى المسافرة بمال الأطفال. وإن غلب الأمن في الطريق، بحيث تغلب السلامةُ، ويندر نقيضها، فهل يملك الوصي المسافرة بمال الأطفال؟

أما السفر في البر، فقد ذكر الأصحابُ فيه وجهين وقالوا: أظهرهما - أنه يملك المسافرة، فإنه جهة في الاكتسابِ، وهو موكول إلى نظر الوصي. والوجه الثاني - أنه لا يملكه، كما لا يملك المودعَ المسافرةَ بالوديعة. والأول يقول: لم يُجعل إلى المودعَ النظرُ لمالك الوديعةِ، وجُعل إلى الوصي النظر في استنماء مال الطفل. وهذا يُعذ من جهات الاستنماء. وما ذكرناه من الخلاف في البيع نسيئة من غير رهن قريبُ المأخذ من المسافرة مع غلبة الأمن. هذا قولنا في البر. فأما المسافرة بمال اليتيم في البحر فإن كان معطبةَ، فلا سبيل إليه، وإن لم يكن كذلك، وكان يركبه التجار في تجايرهم، وقد يقال: الأمن غالبٌ فيه، فقد قطع معظم الأصحاب بالمنع عن المسافرة فيه بمال اليتيم. بخلاف البر؛ فإن غرر أسلمِ البحار لا ينقص عن خطر البر مع الخوف. وذهب بعض الأئمة إلى أن هذا يخرّجُ على وجوب ركوب البحر للحج. فإن لم نوجبه، فلا يجوز المسافرةُ بمال الأطفال فيه. وإن أوجبنا ركوبَ البحر للحج، فقد نزلناه منزلة البر. وقد صح: "أن عائشة أبضعت بأموال بني (1) محمد بن أبي بكر في البحر" (2). ومن منع ذلك، تعب في تأويله، وأقربُ مسلك في ذلك أنها أمرت بذلك والممر على السَّاحل الذي لا يتوقع فيه غررٌ من جهة البحر، فإذا كان كذلك، فهو كالبر لا شك فيه. وقيل: لعلها فعلت ذلك بشرط الضمان، وهذا بعيد؛ فإن ما يضمن، فهو ممنوع. والأولى أن يقال: رأت ذلك رأياً، والمسألة مظنونة. 3393 - ومما يتعلق بغرض الباب أن أئمة العراقِ والقاضي ذهبوا إلى فرقٍ بين

_ (1) ساقطة من (ص)، (ت 2). (2) أثر عائشة رواه الشافعي. ر. مختصر المزني: 2/ 206.

تصرف الأب وبين تصرف الوصيِّ، ونحن نسوقه على وجهه: قالوا: لا ينفذُ القاضي شيئاً من تصرفات الوصي إذا ارتفع إلى مجلسه من غير بينةِ تقوم على أنها موافقةٌ للغبطةِ، وينفّذ تصرفات الأب مطلقاً، وعلى من يدعي خلافَ الغبطةِ البيّنةُ. ولو بلغ الصبي وادعى على الوصي مخالفةَ الغبطةِ، فالقول قوله، وعلى الوصي البيّنةُ. ولو ادعى على أبيه مخالفةَ الغبطة، فالقول قول الأب. والسبب فيه أنَّ تصرف الأب محمولٌ على فرط شفقته وانتفاءِ التهمة عنه، واستحثاث الأبوة إياه على طلب الغبطةِ. والوصي عدلٌ في ظاهر الأمر، وليس على شفقة تستحث على طلبِ الغبطة. ولا يكفي في تصرف الأوصياء أن يعرَى عن الغبن. ولو أنفق الأب شيئاً في مصلحة الصبي، فبلغ الصبي وأنكره، أو زعم: أنك تعديت قدرَ الحاجة، فالقول قولُ الأب. ولو ادعى مثلَ ذلك على الوصي، فهل يقبل قول الوصي؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يقبل، كما لا يقبل منه دعوى الغبطة في البياعاتِ. والثاني - يقبل؛ فإن تكليفه الإشهادَ على كل ما ينفق عليه عسر، والإشهادُ على البياعات من الممكنات. فصل قال: " وإذا كنا نأمر الوصيَّ أن يشتري بمال اليتيم عقاراً ... إلى آخره " (1). 3394 - المتصرِّفُ في مال الطفل بالوصاية والولاية إذا رأى من النظر أن يشتري له عقاراً يردّ عليه غلّةً يُقصد مثلُها ببذل ثمن العقار، فليفعل ذلك، والعقار المغلُّ خير من إعدادِ المالِ للتجارة؛ فإن التجاير على غرر من جهةِ الأسعار أوَّلاَ، وإن فرض مسافرة بها يعترضها فنون من الغرر، والعقارُ على إغلاله باقٍ في الأصل، ولو أراد أن يشتري عقاراً نفيساً من جهة القيمة، لا يُغل غَلّة بمبلغها احتفالٌ، بالإضافةِ إلى ما بذل في ثمن العقار، مثل أن يشتريَ داراً عظيمة لا حاجة بالصبي إليها، ولا يوجد من يكتريها،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 205.

فهذا ليس من النظر. وما خالف النظر، فهو مردودٌ. وإذا كنا نرى أن يشتري العقار للطفل على الترتيب الذي ذكرناه، فينبغي ألا يبتدر بيعَ العقار إلا على تثبتِ وتبتن ونظرٍ ظاهر. 3395 - وحاصل القول أنه يبيعه لغبطةِ ظاهرة تقدَّم على شرفِ العقارِ وفضيلةِ ثبوته على سائر المال. وذلك بأن يكون للصبي شقصٌ من عقار، وكان يطلبُه الشريكُ بأكثرَ من ثمنه، وظهرت الزيادة على التقريب الذي ذكرناه، وكان الشريك يحتاج إليه لتخليص العقار لنفسه، أو لتسوية رَبْعه، فهذه غبطة. ومن تمام تصويرها ألا يعجز الناظر للطفل من شراء عقار آخر للطفلِ أكثرَ قيمة وريعاً مما يبيعه، فهاهنا تظهر الغبطة. ولو كان لا يقدر على تحصيلِ عقارٍ بالثمن الذي يأخذه، فذاك في غالب الحال لعلمِ الناسِ بشرف العقار ومزيته على الثمن الذي حصله؛ فإن الناس تتبع الغبطة، فإن كان لا يقدر على تحصيل العقار، فالغالب أن لا خير في بيع العقار. فهذا تمهيد معنى الغبطة، وقد لاح أن لا يكتفى فيه بثمن المثل، ولا بزيادةٍ قريبةٍ يستهين بها أربابُ العقول بالإضافة إلى شرف العقار، وينضم إليه الاستمكانُ من تحصيل عقارٍ للطفلِ. فإذا وقع التنبيه على الأصل، هان اتباعُ الصور. فهذا بيع العقار لأجل الغبطة. 3396 - وأما بيعه لأجل الحاجة، فإن مست حاجة الطفلِ إلى النفقةِ ولم يتأت تحصيلها إلا من جهة العقارِ، فيبيعُ منه بقدر الحاجة؛ إن عجز عن تحصيل النفقةِ بجهة أخرى. ثم القولُ في تصديق الولي في ادعاء الغبطةِ، أو الحاجة، وفي إجراء الوصي على خلافه، وإحواجه إلى إثبات الغبطة بالبيّنة - كما (1) ذكرناه.

_ (1) في موضع (خبر) للمبتدأ: ثم (القول).

فصل يحوي أحْكامَ ألفاظ الطفلِ في المعاملاتِ وغيرهَا 3397 - أما حكمه في العباداتِ، فقد مضى. وأما إسلامه، فسيأتي ذلك في كتاب اللقيط. وشهاداته مردودة، وفي روايته ولا عرامة (1) به خلافٌ، وفي وصيته -والتدبيرُ من الوصية- قولان. وإذا انضم إلى قوله قرينة تتضمن تصديقَه، مثل أن يفتح البابَ ويخبر عن إذن صاحبها بالدخول، أو يخبر -في بعثه الهدايا والتحف- عن حقيقتها. فإن انتفت العرامةُ، وجرى ما ذكرناه مرسلاً، ولا قرينة، فتصديقه فيما يخبر عنه محمولٌ على الخلاف في قبول روايته. وإن انضم قرينة مصدقة، نُظر: فإن بلغ الأمرُ إلى العلم، سقط أثر قوله، وإن لم تنته القرينة إلى العلم، فلأصحابنا طريقان: منهم من خرَّجه على الخلاف في روايته، ومنهم من قطع بالتعويل عليه، واستمسك بعاداتِ الأولين، في اعتماد مثل ذلك. ولا تصلح عبارته لشيء من العقود خلاَ الوصيةَ والعبادة. فلا تستقل [ولا تصح] (2) عبارته بإذن من يليه. ولا فرق بين أن يكون من يليه عنده يراقبه، وبين أن تقدّر غيبته عنه، وهذا يؤخذ من سقوط عبارته في هذه القواعد عندنا. والخلاف مشهور مع أبي حنيفة (3). واختلف أصحابنا في بيع الاختبار، وذلك أنا قد نرى للولي أن يخبُرَ الصبي إذا ناهزَ

_ (1) " العرامة ": من عَرَم فلان يعرُم (من بابي قتل وضرب) اشتدّ، وخَبُث وكان شريراً (المعجم والمصباح). (2) ساقط من الأصل. (3) ر. رؤوس المسائل: 293 مسألة: 181، المبسوط: 25/ 21، طريقة الخلاف: 462 مسألة 185.

الحلم؛ حتى يستبينَ رشدَه في الوجوه. فإن رأى أن يفوض إليه عقداً حتى يتعاطاه، وهو يراقبه ليستبين تهدِّيه وكَيْسه، فهل ينفذ ذلك؛ المذهب أنه لا ينفذ. واشتهر عن بعض الأصحاب تنفيذ هذا العقد وهذا لا وجه له. ولا أصل في قاعدة المذهب لهذا. 3398 - والصبي ليس من أهل القبض فيما لا يكون من أهل العقد فيه؛ فإن القبض فيه من الخطر ما يزيد على العقد. وإذا كان القبض مملِّكاً في عقدٍ كالقبض في الهبة، فيدُ الصبي لا تصلح له، كما لا تصلح عبارتُه للفظ الذي يملِّك لو صدر من أهله. وقال الأئمة: لو قال مالك الوديعة للمودَع: سلِّم الوديعةَ إلى هذا الصبي، فسلمها إليه، برىء؛ فإنه امتثل أمرَه، فيما هو خالصُ حقه. ولو قال للمودعَ: ألقِ هذه الوديعةَ في النارِ، فألقاها، بَرِىء. ولو قال مستحق الدين لمن عليه الدين: سلّم حقي عليك إلى هذا الصبي، فإذا فعل، لم يبرأ، حتى لو ضاع من يد الصبي، فحق مستحِق الدين باقٍ في ذمة المديون؛ فإن يد الصبي لا تصلح للقبض، ولم يتعين بعدُ حق ذي الحق حتى يكون قولُه هذا بمثابةِ الرضا بإتلاف حقه. ولو قال لمن عليه الدين ألْقِ حقي في هذه النار، فإذا ألقى مقداره فيها، لم يبرأ؛ فإن ما يلقيه حقُّ (1) الملقي بعدُ إلى أن يتعيَّن بقبضٍ صحيح، هو المملِّكُ في العين. وهذا ظاهر. ثم إذا ضاع ما سلمه إلى الصبي فبقاءُ الحق على ما وصفناه، ولا ضمان على الصبي. وقد قال الأئمة إذا أودع الرجل شيئاً من ملكه عند صبي، فضاع في يده بسبب ترك الحفظ، فلا ضمان والمضيعُ ربُّ الوديعة؛ إذْ وضعها عند من ليس أهلاً لها. ولو أتلف الصبي الوديعة ففي وجوب الضمان عليه وجهان سيأتي ذكرهما في كتاب الودائع: أحدهما - لا يجب الضمان؛ فإن المودِع هو المسلِّط على الإتلاف.

_ (1) أي مازال على ملك الملقي.

ولا خلاف أنه لو باع منه شيئاً وسلمه إليه، فأتلفه، لم يضمن؛ فإن التسليم في البيع تسليط على وجوه التصرّف، بخلاف التسليم في الوديعة. وقال المحققون: لو دفع الصبي ديناراً إلى صراف لينقده، فإذا أخذه منه، لم يجز أن يرده عليه، وهو مال الغير حصل في يده، فليردّه على مالكه، فإن رده على الصبي دخل في ضمانه، يعني في ضمان الصراف، حتى لو ضاع في يد الصبي، ضمنه الصرّاف. ولو ظفر الصبي بدرهم، فاشترى به شيئاً فأكله، فما أكله لا ضمان عليه فيه، وما قُبض منه فقابضه مضمون عليه. أما الضمان فبيّن. وإهدار ما أكله معلل بتسليط المالك إياه على الإتلاف (1). * * *

_ (1) إلى هنا انتهت نسخة الأصل (ت 1 رقم 319) وجاء في خاتمتها ما نصه: نجز الجزء الخامس من نهاية المطلب في دراية المذهب بعون الله وحسن توفيقه، ويتلوه في السادس إن شاء الله تعالى باب مداينة العبد. على يد الفقير إلى رحمة الله تعالى عزّ بن فضائل بن عثمان القرشي الحموي شاكراً لله على نعمه ومصلياً على سيدنا محمد النبي وآله، ومسلّماً تسليماً. . . . والعشرون من شهر جمادى الآخرة سنة سبع وستمائة. . . . . . . . ودعا له بالمغفرة وللمسلمين والمؤمنين أجمعين. . . . حسبنا ونعم الوكيل.

باب مداينة العبد

باب مداينة العبد (1) 3399 - نذكر في الباب قاعدتين: إحداهما - في العبد المأذون (2 في التجارة والثانية - في العبد الذي ليس مأذوناً له في التجارة 2). فأما المأذون، فالأولى تصدير حكمه بحقيقة أمره، فمذهبنا أن السيد إذا أذن لعبده في التجارة، فعقوده فيها واقعة للمولى، والعبدُ مستنابٌ فيها. فإن سَلّم إليه مالاً، وأمره بالتجارة، فالمعنى الذي ذكرناه ظاهر في هذه الصورة؛ فإنه لو سلم هذا المال إلى حرٍّ مطلق، وأمره بأن يتصرف فيه عنه، كان التصرف للآمر؛ من حيث أن ما يباع فهو مالُه، وإذا خرج عن ملكه، انقلب العوضُ إلى مخرج المعوَّض، فإذا كان هذا قولَنا والمأمور حر مطلق، فالعبد بذلك أولى. وإن لم يسلّم إلى العبد شيئاً، وأمره بأن يشتري ويؤدي الثمنَ من كسبه، فكسبه ملك المولى، ولا يكتسب شيئاً إلا ويصير عينُ المكتسب عينَ مال السيد. ثم يقع تصرفه فيه بمثابة تصرفه في سائر أعيان مال المولى. وقال أبو حنيفة (3): المأذون له في التجارة يتصرف لنفسه، وهذا نظر زائلٌ عن منهاج الحق. وإنما حمله على هذا ظنٌّ له في أحكام العُهدة، ونحن نختتم بذكرها آخر مسائل المأذون.

_ (1) ومن هنا عادت النسخ ثلاثاً. ((هـ 2) برقم 2222/ 285)، ((ص) برقم (1500)، ((ت 2) برقم 323) وسنتخذ (هـ 2) أصلاً بدءاً من هذا الباب. وهو يقع في منتصفها الوحة رقم 124/ش). والله المستعان. (2) ما بين القوسين سقط من (ص). (3) ر. المبسوط: 25/ 9، 13، تبيين الحقائق: 5/ 205، 207، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 212.

3400 - ونعود الآن فنقول: إذا ركب المأذونَ ديونٌ، فما ركبه من ديون التجارة على حسب الإذن، فهو متعلق بذمته وكسبه، أما معنى التعلّق بالذمة، فيظهر في أنه يطالب بالملتزَم إذا عَتَق، وأما التعلق بالكسب، فمعناه تعيّن الكسب لأداء ما التزمه. والحقوق المالية ثلاثة أقسام: منها ما يلزم بغير رضا مستحق الحق كأروش الجنايات. ومتعلقها في الحال الرقبةُ، وفي تعلّقها بالذمة خلاف، جرى منا التنبيه عليه، واستقصاؤه في آخر كتاب الديات. وأثر الخلاف في التعلق بالذمة أنا إن حكمنا بالتعلّق فلو عَتَقَ، اتّبع بالأرش بالغاً ما بلغ، وإن لم نحكم بالتعلّق، انحصر حقُّ المجني عليه في رقبته وماليَّته، فلا يتبع إذا عَتَق بشيء. هذا بيان هذه الجملة على الإرسال. والقسم [الثاني] (1) - ما يجب برضا ذي الحق، وبإذن المولى، فيتعلق بالذمةِ لا محالة، ويتعلق بالكسب، ولا يتعلق بالرقبة. وما يثبت (2) برضا ذي الحق من غير إذن المولى، فهو الذي يتعلق بالذمة على الإطلاق دون الكسب. وعنده يقول الفقيه: لا يطالَب به مادام رقيقاً رعايةً لحق السيد، فيتبع إذا عَتَقَ. وإن كوتب، فأوْجبت له الكتابةُ الاستقلال، فظاهر المذهب أنه لا يطالَب بديون الذمة، التي تثبت في حالة الرق؛ فإنه بعدُ مملوك، ولا يبعد أن ينقلب قِناً، ولهذا رُدت تبرعاتُه. وسيأتي هذا في الكتابة، إن شاء الله تعالى. فهذا تقسيم أوّلي. 3401 - والذي نبدأ به الآن تفصيلُ القول فيما يتعلق بالكسب [وهذا ينقسم قسمين: أحدُهما - ما يتعلق بالكسب مع التقييد بالتجارة. والثاني - ما يتعلَّق بالكسب مطلقاً.

_ (1) في الأصل: الثالث. (2) هذا هو القسم الثالث.

فأما ما يتعلق بالكسب] (1) والإذنُ متقيد بالتجارة، فنقول فيه: ما يلتزمه من ديون المعاملة وهو مأذون في التجارة، يتعلق بما اكتسبه من رأس المال، وهو الأرباح، ويتعلق برأس المال نفسِه، لا خلاف فيه وإن لم يكن من كسبه؛ فإن الإذن في التجارة يعيّنُه متعلَّقاً لحقوق التجارة. وإذا كان الإذن المطلق في الضمان والشراء والنكاح يتضمن تأديةَ الملتزَم من الكسب، وإن لم يجر له ذكر، فتعيُّن رأس المال لتأدية ديون المعاملات أوْلى. وإذا فرض للعبد كسب، لا من جهة التجارة: مثل أن يحتشَّ أو يحتطب، ففي تعلق ديون معاملاته المأذونة بما يكتسبه، لا من جهة التجارة وجهان: أحدهما - أنها تتعلق بها؛ فإنها لزمت بإذن المولى، فضاهت مهرَ النكاح ومؤنها الدارّة (2). والوجه الثاني - أن ديون المعاملة والإذن تتقيد بالتجارة لا تتعلق بهذه الاكساب؛ فإن تخصيصه جهةَ التجارة يتضمن حصرَ التأدية في أموال التجارة. وليس كما لو كان الإذن مطلقاً. والأظهر تعلُّقُ الديون بجميع أكسابه؛ فإن الإذن في التجارة رضا من المولى في الالتزام، والرضا به مشعرٌ بالإذن في التأدية. وأقرب المجال الكسبُ. وإذا أحاطت الديون بالعبد المأذون واطرد الحجر عليه باستدعاء الغرماء، وقُسم المال الحاصل على الديون، فما يفضل بعد قسمة تلك الأموال كيف السبيل فيه؟ فعلى وجهين، وهما الوجهان المقدمان. أصحهما - أن فضلات الديون يؤديها من الأكساب التي ستكون حالاً على حال. ولايزال الأمر كذلك إلى ألا يبقى من الديون شيء. والوجه الثاني - أن الفاضل من أقدار تلك الأموال (3) ينقلب إلى الذمة المحضة.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) أي أن الإذن في النكاح يتضمن الالتزام بالمهر، والالتزام بمؤن النكاح المتجددة. وعاد الضمير مؤنثاً على مذكبر وهو النكاح، وذلك سائغ بتأويل، وعليه شواهد، وله أدلة (ر. شواهد التوضيح: 143) وتأويله هنا على معنى النفقة، ويرشح هذا التأويل لفظ (الدارّة) فهو يأتي دائماً صفةً لنفقة الزوجة. (3) أي من الديون بعد تلك الأموال.

وهذا وإن كان يستدعي مزيد تفصيل، فهو الخلاف الأول، غير أنا فرضنا ذلك الخلافَ في مال التجارة، وأكسابٍ تحصل لا من جهتها، فجرى الوجهان. وهذه الصورة في معناها؛ فإنه إذا سلَّم طائفةً من المال إلى عبده وأذن له في التجارة وكان أحد القابلين (1) يعتقد الحصر في تلك الأموال، حتى إذا قسمت فلو فرض بعد ذلك كسب باحتطاب، فهو على الوجهين. وإن فرض تسليم مال آخر إليه للتجارة، فهو على الوجهين أيضاً؛ فإنه غير تلك الأموال، كما أن الحاصل بالاحتطاب غيرها. التفريع على الوجهين: 3402 - إن رددنا فاضل الديون إلى الذمة المحضة، فلا كلام. وإن رددناه إلى الكسب، فلو باع سيد العبد العبدَ، فالتعلق بالكسب لا ينقطع، وقد صارت الأكساب على هذا الوجه مستحقة التعلق إلى تمام البراءة. وإذا نكح العبد بإذن مولاه وتعلق المهر والنفقة بكسبه، فإذا باعه سيدُه، لم ينقطع التعلق. ثم لا شك أن المشتري (2) إذا اطلع على ذلك بعد الشراء، ثبت له الخيار في فسخ البيع، وإن رددنا فاضل الديون إلى الذمة، فلا خيار للمشتري؛ إذ لا ضرر عليه في تعلق دينٍ بذمته، إذا كان رقه وكسبه متخلصين له. وخالف أبو حنيفة (3) في هذا. ولو عَتَقَ العبد قبل أن يتفق أداء فاضل الديون، فلا شك أنه يطالَب به؛ فإنه لا يتصور أن يتعلق دين بالكسب إلاَّ وهو متعلق بالذمة. ثم إذا أدى ما عليه بعد العتق، فهل يرجع به على مولاه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يرجع به؛ فإنه من آثار تصرف السيد في محلِّ ملكه، ولا تبعة على المتصرف في محل الملك، وما أدى الدينَ منه بعد الحرية بين أن يكون في حكم المستَحَق

_ (1) القابلين بمعنى الدائنين. أخذاً من (القَبَالة) بفتح القاف .. اسم المكتوب لما يلتزمه الإنسان من دين وغيره. وتقول قبلت به أقبله من بابي ضرب وقتل: إذا كفلتَ (مصباح). (2) المشتري: أي مشتري العبد الذي تعلقت حقوق بأكسابه. (3) ر. المبسوط: 25/ 75، تبيين الحقائق: 5/ 209، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 212.

بالتصرف (1) السابق في حالة الرق، وبين أن يقال: ما يرجع إلى الذمة المحضة، فالعبد مختص بالالتزام فيه، فلا نجد مرجعاً لما اختصَّ بالتزامه. والوجه الثاني - أنه يرجع؛ فإن تصرف السيد جرَّ على العبد هذا الغرم بعد العِتاق وانقطاع علائق استحقاق المولى، فكأنه ورَّطه في هذا الغرم، وهو لا يستحقه بحق ملك الرق. وعبَّر الأئمة عن هذا النوع وقالوا: اختلف الأصحاب في أن المولى هل يتصرف في عبده تصرفاً يبقَى ضررُه بعد العتق، ويعدُّ ذلك من بقايا الاستحقاق بعد العتاق كالولاء؟ فمنهم من قال: لا يستحق السيد هذا، وإن وقع، فهو بشرط الضمان، وهذا القائل ينظر إلى حالة العَتاقة وانقطاع السلطان. والثاني - يملك ذلك ويستحقه ولا مرجع. وهذا القائل ينظر إلى حالة الرق. ومن هذا الأصل إذا أجر السيد عبده، ثم أعتقه في أثناءِ المدة، فإذا حصل الوفاء بالإجارة فهل يرجع بمثل أجرة نفسه في المدة الواقعة بعد العتق على سيده؛ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما في الإجارة. وفي ملك العبد فسخها إذا عَتَق تفصيل يأتي في كتاب الإجارة، إن شاء الله تعالى. وإذا ضمن العبد عن مولاه دَيْناً كان عليه بإذنه، ثم أدَّاه بعد العتق، فهل يرجع به على المولى؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين. 3403 - هذا قولنا في متعلق ديون العبد المأذون في التجارة، ويخرج مما قدمناه أولاً، وفصلناه آخراً أن ديون التجارة لا تتعلق برقبة العبد؛ فإنها ليست محل التجارة وليس ما يلتزمه على قياس أروش الجنايات؛ ولهذا قال أئمتنا: لا يؤاجر العبد المأذون نفسه؛ فإن رقبته ليست محل تصرفه. وهل يؤاجر الأموال التي يتجر فيها؟ على وجهين: أحدهما - أنه يؤاجرها؛ فإن السيد أذن له في استنمائها وتحصيل الفوائد منها بالجهات التي تعد استنماء. والوجه الثاني - أنه لا يملك ذلك؛ فإن الإجارة لا تعد من أنواع التجارة، وفيها

_ (1) في (ص): فالتصرف.

حجر في بعض المذاهب مانع من التجارة الحقيقية؛ فإن المكرَى لا يباع في قولٍ. وفي المأذون وتصرفاته، وتصرفات المولى فيما في يده أحكام سيأتي ذكرها في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى، ولو جمعنا أحكام المأذون، لطال الباب، ولسنا نلتزم مثل هذا؛ فإنه يُحوج إلى الخروج عن التزام ترتيب السواد. 3404 - فإن قيل: بيّنوا أحكام العُهدة بين السيد والعبد، وبين تعامل العبد وبين السيد. قلنا: ظن أبو حنيفة (1) وأصحابُه أن عُهدة العقود التي يعقدها المأذون تنحصر عليه، ولا تتعداه إلى مولاه، وبنَوْا على ذلك مصيرهم إلى أن العبد متصرف لنفسه، ونحن نذكر ما ظنوه في معرض الأسئلة (2) والإلزامات، ثم نبيّن المذهبَ في معرض الأجوبة عن تلك الأسئلة. قالوا: لو اشترى المأذون شيئاً لا يطالَب المولى بثمنه، بل العبد هو المطالب، وإذا اشترى الوكيل شيئاً لموكله، فللبائع مطالبة الموكِّل بالثمن. وقالوا: إذا غرم المأذون بعد العتق دينَ معاملة، لم يرجع على السيد، ولو غرِم الوكيل ثمن العقد (3)، رجع على الموكل. وقالوا: إذا باع المأذون سلعة، وأخذ ثمنها واستُحِقَت السلعة، فالرجوع بالثمن على العبد دون المولى. فهذه أسئلتُهم. واعتقدوا أنها مسلمةٌ لهم. 3405 - ونحن نقدِّم على الخوض في الجواب عنها أصلاً، فنقول: إذا دفع المولى ألفَ درهم إلى عبده ليتجر فيه، فاشترى به شيئاً، ثم تلف الألف في يده، نُظر: فإن

_ (1) ر. المبسوط: 25/ 10، الهداية مع تكملة فتح القدير 8/ 212، 213، الاختيار: 2/ 102. (2) الأسئلة والإلزامات: من مصطلحات الجدل والمناظرة (ر. الكافية في الجدل لإمام الحرمين: 76). والمعنى مفهوم هنا -على الجملة- من السياق، فلا داعي للإطالة والإثقال بالنقل من الكتب المتاحة. (3) في (ص)، (ت 2): العبد.

عيّن الألفَ وتلف، انفسخ به (1) العقد، وارتد به المبيع إلى ملك البائع. وإن كان قد اشترى في الذمة سلعةً بألف، وكان على صرفِ الألف إلى الثمن، فتلف في يده، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العقد باقٍ، وعلى المولى إخراج ألفٍ آخر؛ فإن العقدَ وقع له، ولم يتعين الألف بالتعيّن، فعلى السيد الوفاء بعهدة العقد. هذا هو الصحيح. والوجه الآخر أن السيد لا يلزمه إخراج ألف آخر. ثم اختلف الأصحاب: فمنهم من قال: ينفسخ العقد بتلف الألف، كما لو كان معيَّناً في العقد؛ من جهة أن السيد حصر إذنه في التصرف في ذلك الألف، فإذا فات، فقد انقطع محل الإذن، ولم يلتزم السيد على الإطلاق الوفاءَ بعقده، والانفساخُ على هذا الوجه اختيار القاضي. ومن أصحابنا من قال: للسيد أن يؤدي الألف من سائر ماله؛ فإن العقد صحّ له، فإن فعل، جرى العقدُ ونفذ، وإن أبى، فالبائع يفسخ العقدَ حنيئذٍ. وكان شيخي يختار هذا الوجه، وهو أمثل من الوجه الأول. والوجهان في الأصل قبل التفريع ينبنيان على ما إذا دفع الرجل ألفاً إلى واحد قِراضاً، فاشترى به شيئاً من غير تعيين، ثم تلفط الألفُ قبل تسليمه، فهل يجب على المالك ألفٌ آخر؟ أم ينقلب العقد إلى المقارِض العامل؟ وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: في مسألة القراض: على ربّ المال توفيةُ الثمن، فعلى السيد ذلك أيضاً. وإن قلنا: العقد ينقلب إلى العامل، وينفذ عليه، فلا يجب على السيد تأديةُ ألف آخر، ثم يعود الكلام إلى الخلاف الذي قدمته في الانفساخ. ثم إذا قلنا: على السيد أن يأتي بألف آخر، فقد ذكر أئمتنا وجهين في أن العامل هل يتصرّف فيه بحكم الإذن السابق؟ أم لا بدّ من إذن جديد فيه؟ وبنوا هذين الوجهين على ما إذا أوجبنا على مالك رأس المال في القراض أن يأتي بألف آخر، فرأسُ المال ألفٌ أم ألفان؟ فيه وجهان، سيأتي شرحهما، إن شاء الله تعالى.

_ (1) به: أي بالتلف.

وإن غمض على الناظر أن يصير الألف الثاني من رأس المال، ولم يكن مذكوراً حالة العقد، قيل له: هو تابع للألف الأول، والعقد عليه، وإذا تبعه، كان ملحقاً به كما يلتحق حطُّ أرش العيب بالعقد حتى يُحَط من الشفيع، وإن كان يأخذ الشقصَ بالثمن المسمَّى في العقد. ولسنا نلتزم الآن شرح هذه المسألة في أحكام القراض، ولكن لا بد من كشف ما ذكرناه في أحكام المأذون، وكيف تصوير الوجهين، والسيد هو الذي يخرج الألفَ، وإنما يطالبه بائع السلعة، لا العبدُ. فما معنى ترديد الكلام في تصرف العبد فيه؟ وليس للعبد أن يمد يده إلى الألف من مال السيد؟ فالوجه في ذلك أن نقول: إذا أدى الألفَ، ثم فُرض ارتفاع العقد بسببٍ، فالعبد هل يستقل بالتصرف في الألف الراجع؟ فيه الخلاف المقدم. وهو مأخوذ من التحاق الألف برأس المال في القِراض. وينبني على تحقيق هذا أنا إذا قلنا: لا بد من إذنٍ جديد، فالعبد يصير محجوراً عليه بتلف الألف؛ فيرتدُّ العقد إلى تصرف السيد، حتى إن فُرض فيه فسخ، فهو الفاسخ، وهو المخاطب بأحكام العقد. وإن ألحقناه برأس المال، فتصرُّفُ العبد قائم في العقد على حسب الغبطة. ثم إن قلنا: تصرّف العبد باقٍ في العقد، فالمطالبةُ والتعلّق بالذمة على الاستمرار الذي كان. وإن قلنا: يرتدّ العقد إلى السيد، ففي بقاء التعلق بذمة العبد وكسبه تردد، فليتأمله الناظر. 3406 - فهذا أصل قدمناه في الكلام على أحكام العُهدة، وعاد -بعده- بنا الكلامُ إلى الجواب عن أسئلتهم. فإذا باع المأذون سلعةً، وقبض الثمنَ، واستُحِقَّت السلعةُ، وقد كان تلف الثمن في يد العبد، فالمذهب الصحيح أن المشتري يرجع إلى المولى بالعهدة؛ فإنّ يدَ العبد يدُه، فكأنه البائع والقابضُ للثمن. ولسنا نبرىء العبد عن الضمان؛ فإنه خائضٌ في العقد بإذن المولى. هذا هو الأصح.

ومن أصحابنا من قال: لا طَلِبةَ على العبد، وعبارته (1) مستعار في الوسط، ويده يدُ سيده. وهذا مزيف، لا أصل له؛ فإن يدَه يدُ ضمان في عقد مضمَّن، وقد جرى ما جرى بإذن المولى. هذا إذا قلنا: السيد يطالب بما تلف في يد العبد. ومن أصحابنا من قال: لا مطالبة على السيد. وهذا لا أصل له. ولولا أنَّ في التقريب رَمْزاً إلى هذا، وإلا كنتُ لا أذكره. ولا شك أنه إذا سلّم العبدُ الثمنَ إلى السيد، ثم ثبت الاستحقاق، فالعهدة متعلقة به. هذا جوابنا عن الاستحقاق. والحاصل المعتمد فيه أن السيد يطالَب والعبدُ في العهدةِ أيضاً. ثم العهدةُ في حق العبد تتعلق بذمته وكسبه. وأما قولهم: لو عَتَقَ المأذونُ وغرِم دينَ المعاملة، لم يرجع، فقد تكلمنا على هذا الفصل فيما تقدم. فإن قلنا: يرجع، فهو على قياس الوكيل. وإن قلنا: لا يرجع، فليس هو لوقوع العقد له وانحصارِه عليه؛ إذ لو وقع العقد له، لكان المبيع في يده، كما أن الثمن عليه. فإذا كان المبيع في يد السيد، دَلَّ أن تغريم العبد بعد العتق -من غير إثبات مرجع له- من أصل آخر، وهو أن السيد تصرّف في حالة الرِّق تصرفاً، لم ينقطع ضراره بالعتق. وقد مهدنا هذا الأصل. وأما قولهم إذا اشترى المأذونُ شيئاً للتجارة، لم يطالَب السيد بالثمن في الحال. وهذا فرضوه فيه إذا كان في العبد وفاءٌ، فقد ظهر الخلاف في هذه الصورة: فمن أصحابنا من قال وهم القيّاسون: يطالب السيد بالثمن، كما يطالب الموكَل بثمن العقد الذي عقده الوكيل؛ لأن العقد وقع له، ومِلْكُ الثمن عليه، كما مِلْكُ المثمن على البائع. ومن أصحابنا من قال: لا يطالَب السيد إذا كانت مطالبة العبد ممكنة، وكان ما في

_ (1) في (ص): وتجارته.

يده وافياً، وليس هذا لوقوع العقد للعبد، وإنما هو لتنزيل السيد عهدَ عقدِ عبدِه على ما سلمه إليه، فكان كل من يعامله يُنزِل أمره على هذا، ولهذا الفقه (1) تعلّق دينُ المعاملة بما في يده، ولولا ذلك، لما صار رأسُ المال مرتهناً بدين المعاملة. ثم الدليل على أن سبب انقطاع المطالبة عن السيد هذا - أن العقد لو وقع للعبد، لما تعين له مالُ السيد. وقد ذكر أصحابنا في المقارِض والمقارَض هذا الخلاف بعينه. وإن كان عقد المقارِض لا يقع لنفسه، ولكن معاملة القِراض منزلةٌ على مال معيّن، فنشأ منه الخلاف الذي ذكرناه. ولو سلم رجل إلى وكيل ألفاً وقال: اشترِ لي عبداً وأد هذا الألفَ في ثمنه، فإذا اشترى الوكيلُ، فلأصحابنا طريقان في مطالبة الموكل: منهم من خرجه على الخلاف المذكور في رب المال والعامل، ومنهم من قال: لا حكم لهذا التعيين مع الوكيل. والقياسُ طردُ الخلاف في الوكيل. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان ما في يد العبد المأذون وافياً فهل يطالَب السيد؟ فهو على ما تقدم. 3407 - فأمَّا إذا قصر ما في يده عن الدَّيْنِ الذي ركبه، فيفرض هذا في تلف بعض ما في يده، وإذا تلف جميع ما في يده، فقد مضى الكلام في أنه هل يجب على السيد توفيةُ الثمن، من سائر ماله؟ فهذا ذاك بعينه. وإذا ضممنا صورة الوفاء إلى الصورة التي لا وفاء فيها، انتظم في الصورتين ثلاثةُ أوجه. أحدها - أن السيد لا يطالَب فيهما. والثاني - أنه يطالب فيهما. والثالث - أنه لا يطالَب وفي المال وفاءٌ. ويطالب إذا لم يف ما في يد العبد بالمقدار المعقود (2). ثم لا خلاف أن العبد مطالب. واختلف الأصحاب في أن الوكيل بالشراء هل يطالَب بالثمن إذا أضاف الشراء إلى نفسه، ولم يعقد العقد على صيغة السفارة؟ وفي عُهدةِ العقد في حق الوكيل والموكّل كلامُ سيأتي مشروحاً في الوكالة إن شاء الله تعالى.

_ (1) في (ص): العقد. (2) في (ت 2): المذكور.

والقدر الذي نذكره الآن الفرق بين المأذون؛ فإنه مطالبٌ في حال الرق وبعد العتق وبين الوكيل وفيه عسر. والممكن فيه أن السيد يستخدم عبده في أمره بالشراء، ويُلزمه أن يمتثل أمره. وليس على الحر أمرٌ من جهة موكَله، فإذا التمس (1) منه التوكيلَ عنه والنيابة، تمحّض معنى النيابة، وعقد العبد يعتمد أكسابَه وهي مملوكة للمولى، ثم لا يتأتى تعلّق الطَّلِبة بأكسابه من غير فرض التعلق بالذمة. ولا يتحقق هذا في الوكيل. فهذا هو الفرق بين الموقفين. 3408 - ثم ذكر الأصحاب المسائل الخلافية بيننا وبين أبي حنيفة في أحكام المأذون، ونحن نذكر ما نطلب (2) بها بيان مذهبنا وتمييزَ أصلنا عن أصل أبي حنيفة: فمما أجريناه أن ديون المعاملة لا تتعلق برقبة العبد المأذون، وتتعلق بالمال الذي في يده. وقال أبو حنيفة (3): تتعلَّق بذلك المال وبالرقبة. ومن المسائل أن المأذون لا يؤاجر نفسه عندنا، وذكرنا الخلاف في إجارته ما يقبل الإجارة من الأموال التي تحت يده. ومنها أن السيد إذا أذن لعبده في نوع من التجارة، لم يصر مأذوناً في غيره. خلافاً لأبي حنيفة (4). وهذا مبني لنا على أن العبد يتصرف لمولاه. ولو رأى السيد العبد يتصرف، فسكت، لم يكن سكوته إذناً في التصرف الذي عاينه، ولم يكن إذناً في التجارة.

_ (1) إمام الحرمين هنا يستعمل فعل " التمس " في معناه المصطلحي الدقيق. فالطلب (الفعل الدالّ على الطلب) من الأعلى (السيد) للأدنى (العبد) أمر. ومن المساوي التماس. (2) (ت2): فنطلب. (3) ر. حاشية ابن عابدين: 6/ 163، مجمع الأنهر: 2/ 449، الاختيار: 2/ 102. طريقة الخلاف للاسمندي: 463 مسألة 186. (4) ر. رؤوس المسائل: 294 مسألة 182، المبسوط: 25/ 6، 9، مختصر الطحاوي: 419، تبيين الحقائق: 5/ 205، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 215.

وأبو حنيفة (1) جعل السكوت إذناً في التجارة، ولم ينفذ به التصرف الذي اتفق السكوت عنده. ومن المسائل أن المأذون إذا أبق، لم ينعزل بالإباق، ولم ينقطع الإذن. وقال أبو حنيفة (2): ينقطع، وتصرفه على حكم الإذن نافذ في الإباق إلاَّ أن يكون الإذن يقيد بالتصرف في البلدة التي بها السيد، فلا ينفذ في غيرها. ومنها أن المأذون لا يأذن لعبده في التجارة، كما أن المقارِض لا يقارِض، وللمقارض أن يُوكِّل. والأصح أن المأذون يملك ذلك في آحاد التصرفات، وإنما يمتنع إقامته غيرَه مقام نفسه. وأجاز أبو حنيفة (3) أن يأذن المأذون لعبده؛ بناءً على أنه يتصرف لنفسه. ومنها أنه ليس له اتخاذ الدعوة وجمع المجهزين. خلافاً لأبي حنيفة (4). ومنها أنه لو ركبته الديون لم يَزُل ملك السيد عن المال في يده. وقال أبو حنيفة (5): يزول ملكه عنه ولا يدخل في ملك الغرماء. ومنها أن المأذون إذا احتطب أو اصطاد، لم ينضم ما حصله من هذه الجهات إلى رأس المال حتى يتصرف فيه تصرّفه في رأس المال. نعم، في تعلق ديون معاملاته بالمكتسب من هذه الجهات وجهان تقدم ذكرهما.

_ (1) رؤوس المسائل: 94 مسألة 183، مختصر الطحاوي: 419، المبسوط: 25/ 11، تبيين الحقائق: 5/ 204، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 214. (2) ر. مختصر الطحاوي: 426، تبيين الحقائق: 5/ 211، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 227، الاختيار: 2/ 103. (3) ر. مختصر الطحاوي: 425، الاختيار: 2/ 102. (4) ر. مختصر الطحاوي: 427، المبسوط: 26/ 28، تبيين الحقائق: 5/ 208، الاختيار: (5) ر. تبيين الحقائق: 5/ 213، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 222، الاختيار: 2/ 103.

وقال أبو حنيفة (1): ينضم ما يحصّله إلى رأس المال في نفوذ التصرف. ومنها أن المأذون لا يعامل سيده وإن ركبته الديون. وقال أبو حنيفة (2): له معاملته إذا ركبته الديون. ومنها أنه لا يشتري أبَ سيدِه وابنَه بمطلق الإذن في التجارة؛ فإنّ ذلك لو صح، لألحق ضرراً بالسيد وخسره مالاً، وهو نقيض التجارة. وقال أبو حنيفة (3): يصح ذلك منه. ومنها أن العبد إذا ادّعى أن سيده أذن له في التجارة، فليس لأحد معاملتُه ما لم يعلم إذنَ السيد من جهته، أو من بينة تقوم. وقال أبو حنيفة (4): تصح معاملته. واختلف أصحابنا فيه إذا شاع الإذن في الناس، ولعل الأصحَّ الصحة؛ فإن إثبات الإذن على كلّ معامل بتسجيل القاضي شديد. ولو عامله إنسان ولم يدْرِ كَوْنَه عبداً، نفذت المعاملة، فليس علم من يعامِل بحقيقة الحال شرطاً. ثم على من علمه عبداً رقيقاً أن يمتنع من الإقدام على معاملته من غير ثبت. ولو علم من يعامله كوْنه عبداً، فعامله، ثم تبين أنه كان مأذوناً، فهذا يقرب خروجه على قسم من وقف العقود. وهو إذا باع الرجل مالَ أَبيه على اعتقاد حياته، ثم استبان وقوعُ البيع بعد وفاته. وكان شيخي أبو محمد يقول: لو باع الرجل مالَ أبيه وظنَّه مال نفسه غالطاً، ثم

_ (1) ر. طريقة الخلاف للأسمندي: 463 مسألة 186. (2) ر. الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 231، الاختيار: 2/ 104. (3) لم نصل إلى المسألة منصوصة في كتب الأحناف، لكنهم يقولون: إذا أذن المولى لعبده في التجارة إذناً عاماً جاز تصرفه في سائر التجارات، فيبيع ويشتري ما بدا له؛ لأن التجارة اسم جنس محلى بالألف واللام فكان عاماً يتناول جميع أنواع الأعيان. (ر. الهداية مع تكملة فتح القدير (نتائج الأفكار)، والكفاية، وشرح العناية: 8/ 215). (4) ر. مختصر الطحاوي: 420، تبيين الحقائق: 5/ 218، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 238.

تبين أنه كان مالَ أبيه وكان ميتاً حالة العقد. قال: هذا العقد يصح قولاً واحداً؛ فإنه لم يبنه على خلاف الشريعة. وهذا الذي ذكره على حسنه محتمل (1). ومنها أن العبد المأذون إذا زعم أن سيده حجر عليه، وقال السيد: لم أحجر عليه، لا تجوز معاملته في ظاهر المذهب؛ لأنه يزعم أن التصرّفَ معه غير صحيح، ومبنى التصرّف في ظاهر الأمر على قول العاقد. ومن أصحابنا من صحح التصرف بناء على قول السيد. وهذا مذهب أبي حنيفة (2). ومنها أن السيد لو أذن للعبد المأذون أن يأذن للعبدِ الذي في يده للتجارة، صحّ ذلك. ثم لو حجر السيد على المأذون الأول، صح، واستمر الثاني مأذوناً. ولو أراد أن يحجر على العبد الثاني، صح. وقال أبو حنيفة (3): لا يصح الحجر على العبد الثاني ما لم يرده إلى يده. ومنها أن إقرار المأذون نافذ بدين المعاملة، وهذا متفق عليه. ولو أقر بشيءٍ منه لأبيه أو (4) ابنه، صح. وقال أبو حنيفة (5): لا يصح. ومنها أنه لو كان في يده عين مالٍ، فأقرَّ بأنه مغصوب أو وديعة، لا يصح إقراره؛ فإن إقراره يصح فيما يتعلق به الإذن في التجارة. وقال أبو حنيفة (6): يصح. ومنها أنه لو علم رجل أنه مأذون، وعامله، ثم امتنع من التسليم إلى أن يقع الإشهادُ على الإذن، فله ذلك؛ فإنه لو سلم كان على غرر. وقد ينكر السيد أصل

_ (1) فى (ت 2): مجمل. (2) ر. المبسوط: 25/ 73، تبيين الحقائق: 5/ 210. (3) ر. مختصر الطحاوي: 426، المبسوط: 25/ 36، 39. (4) في (ص)، (ت2): وابنه. (5) ر. المبسوط: 25/ 80، 118، تبيين الحقائق: 5/ 207. (6) ر. مختصر الطحاوي: 424، تبيين الحقائق: 5/ 207، الاختيار: 2/ 101.

الإذن. وهذا كما لو ادّعى رجل أن فلاناً وكَّلني بقبض حقه منك، فصدقه بذلك مَنْ عليه الحق، فله ألا يسلمَ إليه ما لم يُشْهِد على أنّه وكله. وهذا الأصل فيه تردد واحتمال سيأتي في كتاب الوكالة. وقد اشتمل ما ذكرناه على معظم أحكام المأذون، لم يشِذ منه إلاَّ تصرّف السيد في المال الذي في يد المأذون قبل أن تركبه الديون، وبعد أن تركبه، وهذا ذكره الشافعي في مسائل النكاح، عند ذكره نكاحَ العبد، ومتعلّق المهر والنفقة. 3409 - وقد نجز ما أردناه من تعلق ديون المأذون. وكنا ذكرنا قسمين: أحدهما - المأذون له في التجارة، وقد نجز. والثاني - في المأذون له في تصرف يُلزِم الذمةَ عوضاً مطلقاً، من غير أن يتضمن الإذنُ حصراً للتصرف في مالٍ، وهذا بمثابة ما لو أذن السيد لعبده أن ينكح، فهذا إذْنٌ بالتزام المهر والنفقة، وكذلك لو أذن له في أن يشتري مطلقاً، أو أذن له في أن يضمن ديناً. فهذه جهات في التزامٍ جَرَت عن إذن السيد، ولا تعلق لأدائها بأموالٍ خاصة، بخلاف ديون المعاملة في حق المأذون له في التجارة، فما يكون كذلك، فهو يتعلق بجميع جهات كسب العبد التي منها الاحتطاب والاحتشاش والاحتراف -إن كان محترفاً صَنَاعَ اليد- ثم جميع جهات الكسب بالإذن المطلق تصير مستغرقة بالديون التي تلزم من هذه الجهات؛ حتى لا يجوز للسيد أن يستغلَّها (1) قبل أداء الديون المتعلقة بها إلاَّ على شرط ضمان. ولو استخدم عبده يوماً أو أياماً، ففيما يلزمه تفصيل مذكور في كتاب النكاح. ولو التزم ديوناً مطلقةً كما وصفناها بالإذن المطلق، ثم كان مأذوناً له في التجارة في أموالٍ في يده، فالديون المطلقة تتعلق بما يستفيده بالتجارة، اتفق أصحابنا عليه. وفي تعلق ديون التجارة بسائر جهات الكسب سوى التجارة خلافٌ قدمناه، واختلف

_ (1) يستغلها: السين والتاء هنا بمعنى اعتقاد صفة الشيء مثل: استحسنت هذا. والمعنى: أنه لا يجوز للسيد أن يعتقد أكسابَ العبد هذه غلَّةَ له.

أصحابنا في تعلق الديون المطلقة بعين رأس المال، ولم يختلفوا في تعلق دين التجارة بها. فهذا نهاية التفصيل في متعلقات ديون العبد إذا ثبتت عن إذنٍ مطلق أو مقيد بالتجارة. 3410 - وقد انتهينا إلى تفصيل ما يصدر من العبد المحجور من غير إذن السيد، فالوجه أن ننص على مواقع الإشكال، ولا نُطنب بالتقاسيم. فكل تصرف يتعلق بالرقبة، فلا يملك العبد الانفراد به: من جملتها النكاح، وهو الذي يكاد يغمض تعليله، فلا ينكح العبد دون إذن مولاه، ولو صححنا نكاحه دونه، لزمنا أن نبيح له قضاءَ وطره، وذلك يوهي مِنهُ القُوى، ولا ضبط له، ولا منتهى، ويستحيل تصحيح النكاح ووقف التحليل على مراجعة السيد، فكان النكاحُ متعلقاً بالرقبة من الوجه الذي ذكرناه. 3411 - وأما التصرفات المتعلقة بالذمة، ففيها الكلام، وهي المعنيّة، فإذا اشترى العبدُ المحجور عليه شيئاً بغير إذن سيده، ففي صحة شرائه وجهان ذكرهما العراقيون، والشيخ أبو علي: أحدهما - لا يصح، وهذا الذي قطع به [الإمام] (1) وصاحب التقريب. والثاني - يصح شراؤه؛ فإنه يعتمد ذمته، والسيد لا يملك ذمةَ عبده. وذهب هؤلاء إلى بناء الوجهين على قولين في أن المحجور عليه بالفلَس إذا اشترى شيئاً في زمان اطراد الحجر عليه، ففي صحة شرائه قولان سيأتي ذكرهما. وزعم من ذكرناهم أن العبد محجور عليه لحق غيره كالمفلس، ولا حجر على الذمة، وهذا لا أصل له. والفرق أن المفلس من أهل التملّك والعبد ليس من أهله، وعماد الشراء إمكان الملك للمشتري. ثم من صحح الشراء، قال: إنما تترتب صحة الشراء على قولنا القديم في أن

_ (1) في الأصل: الأئمة. والإمام هنا والده.

العبد يُتصوّر أن يملك، وهذا مشكل على هذا القول أيضاً؛ فإن العبد إن صُوّر له ملك، لم يُصوّر إلا من جهة تمليك السيد إياه، فأما التمليك من جهة غيره، فلا مساغ له، ولا يمكننا أن نقول: المبيع يدخل في ملك السيد قهراً كما يحصله العبد من جهة الاحتطاب والاحتشاش وغيرهما؛ فإن تلك الجهات أفعال تقع لا مردَّ لها، والعقود يتطرق إليها الفساد، والصحة. ثم الذي ذكره العراقيون في قول الصحة أن الملك في المبيع يقع للعبد، ثم السيد فيه بالخيار: إن شاء أقره عليه، وإن شاء انتزعه من يده؛ فإنه يستحيل أن يثبت للعبد ملكٌ مستقر لا يُزيله سيده. ثم قال المفرعون على ذلك: إن لم يأخذ السيد المبيع من عبده، فالبائع بالخيار إن أراد فَسَخَ العقد واستردَّ المبيع، كما يفسخ البائع البيعَ عند إفلاس المشتري بالثمن، والتعذر أظهر في العبد؛ فإنه مع دوام الملك لا مضطرَب له في جهات الكسب؛ بخلاف المعسر. ولا خلاف أن الثمن الذي يلتزمه يتعلق بذمته، لا يؤدي شيئاً منها (1) من كسبه، وإنما يطالب به إذا عَتَق. هذا إذا لم ينتزع السيد المبيع من يد البائع، فلو نزعه من يده، وتملكه عليه، فأراد البائع أن يسترد من السيد، قالوا: ليس له ذلك؛ فإن سلطان الاسترداد يثبت مادام المبيع في يد العبد وملكه، فإذا زال نزل منزلة ما لو زال ملك المشتري الحرّ عما اشتراه، ثم أفلس بالثمن، فلا رجوع للبائع على من تملك على المفلس المبيع. وهذا خبط عظيم، وقول مضطرِب، وكان لا يمتنع أن يقال: يَبيع البائعُ العينَ في يد السيد؛ فإنه مملوك بالثمن، فلا وجه لاستبداده به وإبطال حق البائع، وإحالته على الطَّلِبةِ بعد العتق. ولكن الذي ذكره المفرعون ما نصصت عليه. والتفريع على الفاسد فاسد.

_ (1) كذا. على تأويل "الأثمان" جمع "الثمن".

3412 - ولو استقرض العبد المحجور عليه شيئاً بغير إذن مولاه، فهو كما لو اشتراه في التفصيل الذي ذكرناه. ولو ضمن شيئاً بغير إذن سيده، فهذا تصرف منه في الذمة، ولا شك أنه لا يؤدي ما ضمنه من كسبه. ولكن إذا عَتَق هل يطالب بما ضمنه؟ الصحيح أنه يطالب، وليس الالتزام من جهة الضمان كالالتزام من جهة الشراء والاستقراض؛ فإن الشراء والاقتراض يشتملان على تقدير الملك للمقترض وللمشتري، وتصوير ذلك عسرٌ في العبد القن، فظهر الحكم بالفساد، وإذا فسدت الجهة، انقطع اللزوم. والضمان التزام مطلق. ومن أصحابنا من لم يصحح ضمان العبد، ولم يوجه الطَّلِبَة عليه بالمضمون [بعد العتق، وقال: التصرف في الذمة إنما يتصوّر ممن يُفرض منه إمكان الوفاء بالمضمون] (1) وحقيقة ضمان العبد يرجع إلى تعليق الضمان بما بعد العتق، وتعليق الضمان فاسد. ولا خلاف أن العبد يخالع زوجته، فيصح ويثبت العوض، وذلك أنه مالكٌ للطلاق بالعوض وغيرِ العوض. غير أنه في حق المعوَّض كالمحتش والمحتطب. ولو احتش العبدُ أو اصطاد بغير إذن مولاه، دخل ما حصله تحت ملك المولى قهراً؛ فيقع الأمر كذلك في العوض المحصَّل. وهذا لا وجه غيرُه إذا قلنا: لا يملك العبد بالتمليك. وإن قلنا: يتصور له ملك، فلا يبعد أن نقول: يحصُل الملك في العوض له، تخريجاً على ما ذكرناه من شرائه شيئاً بغير إذن مولاه، ثم السيد يتسلط على انتزاع ذلك المال من يده وملكه. وقد نجز غرضنا في تصرف العبد المحجور. وأما أحكام الجنايات وأرشها، وما يتعلق بها من فداء السيد (2)، فموضعه كتاب الجنايات.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) (ت 2): العبد، وهي أيضاً صحيحة.

فصل مشتمل على إقرار العبد وإقرار السيد على العبد 3413 - فأما السيد إذا أقر على عبده، نظر فى إقراره: فإن أقر بما يوجب عقوبةً على العبد، لم يقبل إقراره لتمكن التهمة منه، غير أنه إن أقر عليه بما يوجب القصاص، والعبدُ منكر، فرددنا إقراره في العقوبة، فعفا المقَرّ له على مالٍ، ثبت المال؛ فإنّ إقرار السيد وإن رُدَّ فيما يتعلق بالعقوبة لما ذكرناه، فهو مقبول فيما يتعلق بالمال، ومتضمّن الإقرار بالقصاص ثبوتُ المال عند عفو المستحِق على مال، ولكن الأرش الذي يثبت بجناية العبد وفاقاً يتعلق -على المسلك الأصح- بذمته ورقبته، حتى إذا لم تف قيمةُ الرقبة بمبلغه، طولب الجاني إذا عَتَق بالفاضل من قدر القيمة. وإذا أقر السيد على عبده بالجناية الموجبةِ للقصاص لو ثبتت، وأنكر العبدُ، ثم آل الأمر إلى مالٍ، فلا تعلق لهذا المال بالذمة، وإذا عَتَقَ العبدُ، لم يطالب بشيء منه؛ فإن السيد لا يملك إلزام ذمةِ العبد مالاً. ولم يختلف الأصحاب في أنه لو أجبره على ضمان شيء، لم يصح ذلك مع الإجبار، ولو قبل الضمان عليه. وكذلك لو أجبر السيد عبده على أن يشتري له متاعاً، فلا يصح الشراء، وإن كان محلُّ الديون التي تلتزم بالإذن الكسبَ، والكسب ملك السيد، ولكن لا استقلال للأكساب في هذا الباب ما لم يتحقق تعلق الدين بأصل الذمة، فلا احتكام للسادة على ذمم العبيد. ولو أقرَّ السيد بمالٍ تباع الرقبة فيه، فيقبل إقراره في [التعلّق] (1) بالرقبة، ولا يقبل في تقدير [التعلّق] بالذمة. هذا في إقرار السيد. 3414 - فأما إذا أقر العبد بشيء، فإن كان إقراره بمالٍ، فإقراره في رقِّه ورقبته مردود، وما يتعلق بالذمة منه فإقراره فيه مقبولٌ يُتبع به بعد العتق، صدّقه السيد أو كذّبه.

_ (1) في الأصل: التعليق.

فأما إذا أقر بما يوجب العقوبة، فالذي ذهب إليه الشافعي وأبو حنيفة ومعظمُ العلماء أن إقراره مقبول، وإن كان تنفيذ المقرّ به يوجب إبطال حق المولى من ماليَّته، فإذا اعترف بما يوجب القصاصَ في النفس، أو القطع في الطرف للآدمي أو لله تعالى، نفذ إقراره، ويحكم به. وخالف في ذلك المزني، ولم يرَ قبولَ إقرارهِ؛ لاعتراضه على ملك مولاه. وهذا مذهب محمد وزفر وأحمد (1) وداود. ومعتمد مذهبنا أن الإقرار حجةٌ من الحجج كالبيّنة، فالمقبول منه ما لا تهمةَ فيه، وإقرار العبد كذلك؛ فإن العاقل لا يعرّض نفسه للهلاك حتى يخسِّر غيرَه شيئاً نزراً من المال، والشاهد لذلك أن السيد على أنه المالك إذا أقر بما يوجب العقوبةَ، فإقراره مردود لما ذكرناه من التهمة، وإن كان لو أباح دمه صار هدراً. فالإقرار إذن في الرد والقبول يعتمد ثبوتَ التهمة وانتفاءها. ولو قدر مقدر تهمةً على بُعدٍ في إقرار العبد، فالتهمة البعيدة غيرُ معمول بها. 3415 - فإذا ثبت هذا، فلو أقر العبد بما يوجب القصاص، ونفذنا إقراره، فإن اقتص المقَرُّ له، فذاك، وإن عفا عن القصاص الثابت على مال، فالأحسن تنزيل ذلك على القولين في أن موجَبَ العمد ماذا؟ فإذا حكمنا بأن موجبه القَوَد المحضُ، فالمال يثبت إذا عفا المقَرُّ له على مالٍ؛ فإن هذا المال، لم يثبت بالإقرار نفسه، وإنما ثبت بالعفو عن العقوبة الثابتة بالإقرار. هذا إذا قلنا: موجَبُ العمد القَودُ. فأما إذا قلنا: موجبه القود أو المال، أحدهما لا بعينه، فإن اقتصَّ المقَرّ له، نفذ الأمر. وإن أراد الرجوعَ إلى مالِ، فهذا يستدعي مقدمةَ: وهي أن العبد إذا أقر بسرقةِ مالٍ، وزعم أنه أتلف ما سرق، فإقراره مقبولٌ في وجوب القطع لله تعالى، لما ذكرناه. وهل يقبل إقراره في تعلق قيمةِ ما اعترف بسرقته برقبته؛ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - لا يتعلق؛ فإن ذلك إقرار بإبطال مالية السيد من الرقبة من غير واسطة.

_ (1) ر. الكافي لابن قدامة: 4/ 570، الفروع: 6/ 611، كشاف القناع: 6/ 458.

والقول الثاني - أن إقراره مقبول؛ فإن التهمة منتفية، ونفس العقوبة تبطل المالية، ولكن قُبل الإقرارُ بها لانتفاء التهمة. وهذا المعنى متحقق فيما ذكرناه. ولا استقلال للسرقة دون مال مسروق، ويستحيل ألا يثبت القول في المسروق ويثبت في السرقة المطلقة. هذا إذا أقر بإتلاف المسروق، وتضمن إقراره تعلّقَ مبلغٍ برقبته. فأما إذا أضاف سرقته إلى عينٍ قائمة، نظر: فإن كانت العين التي اعترف بسرقتها في يد مولاه، فإقراره مردود فيها. اتفق الأصحاب عليه؛ والسبب فيه أن ما نصادفه في يد السيد مُقرٌّ على حكم ملكه، فيبعد الحكم على ملكه بإقرار العبد، ولو (1) قدّرنا قبول هذا الإقرار أَوْشَك أن يستغرق العبد جميع ذخائر سيده، وهذا الآن تظهرُ التهمةُ فيه؛ فإن العبد الحنِق على سيده، قد يستهين بقطع يده، في مقابلة تخسير السيد أموالاً لا تنضبط، وليس هذا كما لو ادّعى تلف المسروق؛ فإن غاية ما يتعلّق بالسيد قدرُ قيمةِ الرقبة؛ فإن أروش الإتلافات لا تعدو الرقبة إلى سائر أموال السيد. ولو أقر العبد بسرقة مال في يد أجنبي، فإقراره مردودٌ في حق ذلك الأجنبي، إذا أضاف إقراره إلى عينٍ قائمة في يده، فإذا رُدّ في حق الأجنبي، فليرد في حق السيد. وقيل: إنّ أبا حنيفة (2) نَفَّذَ إقراره في الأعيان القائمة في يد السيد. وهذا خبالٌ عظيم. ولو أقر العبد بسرقة عين وكانت العين في يد العبد، اختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من خرّج قبولَ إقراره فيها على القولين، ومنهم من قطع القولَ بردِّ إقراره في العين الكائنة في يده. وهذا هو الظاهر؛ من جهة أن يده يدُ السيد، ولا استقلال له. ثم ما يتصوّر احتواء يده عليه في محل الإقرار لا ينضبط، كما تقدم وليس كالإقرار بالإتلاف؛ فإن غائلته تنحصر في مقدار قيمة الرقبة، كما تقدم. وبنى بعضُ الفقهاء القولين في قبول إقراره بالمال عند ذكر الإتلاف على قولين في الحر لو أقر بسرقة مال، وقُبل إقراره.

_ (1) في (ص)، (ت 2): وقدرنا. (2) ر. الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 228.

فلو رجع عن الإقرار، قُبل رجوعُه، فيما يتعلق بالعقوبة، ولم تقطع يده. وفي قبول رجوعه عن ضمان المال قولان. وزعم هؤلاء أن وجه البناء أنا إذا قلنا: لا رجوع في المال، فكأنّا لم نبعّض حكمَ الرجوع. فنقول: على هذا لا نبعّض حكمَ إقرار العبد. فإذا قبلناه في وجوب القطع، قبلناه في تعلّق قيمة ما أقر بسرقته، ثم بإتلافه برقبته. وإن قلنا: لا يقبل رجوعُ المقِرّ الحرِّ فيما يتعلق بالضمان، فقد بعّضنا حكمَ الرجوع آخراً، فلا يمتنع أن نبعّض حكمَ إقرار العبد أوّلاً، ونقولُ إقراره في العقوبة (1) [مقبول] (2)، وفيما يتعلق بحق المولى مردود. وعندي أن هذا البناءَ فاسد، وقد عول الباني فيه على اتباع العبارة. أما القول الذي يُقبل فيه الرجوع عن المال وغَرَمه في حق الحر المقِرُّ، فلست أدري له وجهاً أولاً. ثم لا مشابهة في المعنى بين المسألتين؛ فإن الذي حملنا على قبول إقرار العبد في المسروق انتفاءُ التهمة، لا ينقدح في توجيه القبول غيره. (3 وهذا المعنى أنَّى يتحقق في الرجوع عن الإقرار؟ 3). 3416 - هذا تفصيل المذهب في إقرار العبد بالسرقة أتينا به مقدمةً لإقراره بما يوجب القصاصَ على قولنا: إن موجَبَ العمد القودُ أو المالُ أحدُهما لا بعينه. ثم يعفو المقَر له، وقد عاد بنا الكلام إلى بيان هذا: وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في ثبوت المال في هذه الصورة تفريعاً على هذا القول قولان مرتبان على القولين في قبول إقرار العبد في إتلاف المسروق، فإن حكمنا بقبول إقراره ثَمَّ، فلأن نحكم بقبوله في المال في مسألتنا أولى. وإن حكمنا بأن المال لا يثبت متعلِّقاً بالرقبة في الإقرار بالسرقة، ففي ثبوت المال حيث انتهينا إليه قولان. والفارق أن المقَرَّ به في مسألتنا شيءٌ واحد، وهو القتل، ثم

_ (1) (ص)، (ت 2): العقود. (2) ساقطة من الأصل. (3) ما بين القوسين مضروب عليه في (ص).

ينقسم القول في بدله. والمقَرُّ به في السرقة على حكم المتميز؛ فإنه اعترف بحق مالي وكبيرةٍ موجبةٍ للعقوبة. هذا مسلك. ورأى بعضُ الأصحاب أن يرتب على العكس، ويجعلَ المال في مسألة السرقة أوْلى بالثبوت؛ من جهة أن المواطأة ممكنة في صورة القصاص مع المقَرّ له. ثم إذا فرض العفوُ، فلا عقوبةَ والسرقة إذا ثبتت موجبةً للقطع، تعين استيفاء القطع لله تعالى. فكأنَّ صورةَ السرقة أبعدُ عن التهمة، وإذا كنا نُدير [قبولَ] (1) الإقرار على انتفاء التهمة، فليقع الترجيح في منازِل (2) الترتيب بما هو معتمد الباب. هذا تمام البيان في ذلك. 3417 - وكان شيخي أبو محمد لا يُعرِي قولَنا موجَبُه القود المحضُ عن تصرّف، ويقول: إن قلنا: العفو المطلق على هذا القول لا يوجب المال، فلا يتجه إلا القطعُ بثبوت المال، وإن قلنا: العفو المطلق يثبت المال، فكأناْ لا نمحّض القودَ على هذا القول موجَباً، ونجعل للمال مدخلاً. وإذا كان كذلك، تطرق الاحتمال. والعلم عند الله تعالى. هذا منتهى الكلام في إقرار العبد بالعقوبة. 3418 - فأما إقراره بالمال، ففيما لو ثبت لتعلق بالرقبة، فمردود، لا شك فيه لاعتراضه على ملك المولى، واشتماله على التهمة. ولو أقر بما لو ثبت، لأوجب مالاً في ذمته، نفذ الإقرار، ولا أثر له في الحال ما اطّرد الرق ولكن إذا عَتَق اتُّبِع، وليس إقراره في هذا كإقرار المبذّر؛ فإنه لو أقر في اطراد الحجر عليه، ورددنا إقراره، فلو انطلق الحجر عنه، لم يؤاخذ بإقراره السابق. والسبب فيه أن العبد محجور عليه لحق مولاه، فإذا أقرّ بممكنٍ، فإن لم ينفذه في الحال، طالبناه به إذا زال حقُّ الموْلى. والمبذّرُ رُدَّ إقراره رعاية لحقه،

_ (1) في الأصل: قول. (2) (ص)، (ت 2): مسائل الترتيب.

وحقّه مرعيٌّ بعد انطلاق الحجر عنه. نعم، لو جدّد إقراراً بعد انطلاق الحجر، كان مؤاخذاً به. وإنما يظهر أثر الفرقِ إذا أنكر العبدُ بعد إعتاقه ما أقرّ به، وأنكر المبذر بعد الرشد ما كان أقرّ به، فإذ ذاك يفرَّق بينهما، فيؤاخذُ العتيق، ولا يؤاخذ الرشيد بعد السفه. وإن قيل: بينوا ما يلزم ذمةَ العبد. قلنا: كل ما يعترف به من ديون المعاملات ويدّعي فيه إذْنَ المولى، فهو متعلِّق بذمته. فإن رددنا إقرار العبد في كسبه، فهو مقبول في التعلّق بالذمّة، وقد يقرّ بشيءٍ لا تعلّق له بالكسب أصلاً، وذلك إذا قال: اشتريت شيئاً بغير إذْن السيد، والتفريع على أنه لا يصح شراؤه، فالثمن لا يلزمه مع الحكم بفساد العقد. ولكنه لو قال: أتلفتُ ما اشتريته، فالقيمةُ المعترف بها لا تتعلق برقبته لو ثبت ما قال؛ فإن مالك المال سلّطه على إتلافه، وإنما يتعلق برقبة العبد ما يُتلفه من غير إذن المولى. وهذا من البيّنات التي لا تشكل على الفقيه. * * *

باب بيع الكلاب وغيرها

بَابُ بيع الكِلاب وغيرها 3419 - صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحُلوَان الكاهن " (1). أما مهر البغي، فأجرة الزانية، وحلوان الكاهن ما يأخذه الكاهن على تغريرهِ بالكَهانةِ؛ فمذهبنا أن الكلب ليسَ بمالٍ، ولا يجوز بيعه وليس على متلفه قيمة لصاحبه، ولا يُنكر اختصاص صاحبه به، كما سنفصله الآن. والوصية بالكلاب جَائزة ومعناهَا تنزيل الموصَى لهُ في الاختصاصِ بالكلب منزلةَ الموصي، وعلى هذه القاعدة يخلُف الورثة [في الكلاب] (2) موروثَهم. وإذا لم يخلف إلا الكلابَ، ففي اعتبار خروج الوصيةِ والنظر إلى الثلث كلامٌ يأتي في كتابِ الوصايا إن شاء الله عز وجل. وأما هبةُ الكلابِ، فقد ذَكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهين فيها أحدهما - أنها تصح صحةَ الوصية. والثاني - لا تصح؛ فإن الهبة مقتضاها التمليك والكلبُ ليس ملكاً؛ وتصح الوصيةُ بالحمل وما سيكون، ولا تصح الهبة على هذا الوجه، واختار الأئمة فسادَ الهبة، وقضى القاضي بصحتها. وهذا زلل. وإذا أبطلنا الهبة ألغيناها، والواهب على اختصاصه بالكلب. 3420 - واختلف الأصحابُ في إجارة الكلبِ، فصححها بعضهم؛ تعويلاً على منافعها، ومنعها بعضهم؛ تحقيقاً للبعد من التعامل عليها، ولا يتجه عندنا بناء الوجهين على الخلاف في أن المعقود عليه المنفعةُ أم الأعيانُ، حتى نقول: إذا جعلنا المعقود عليه العينَ، منعنا الإجارة. وإن جعلنا المعقود عليه المنفعةَ، أجزناها؛ فإن

_ (1) حديث النهي عن ثمن الكلب ... متفق عليه، من حديث أبي مسعود الأنصاري بهذا اللفظ عينه. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 383 ح 1010). (2) ساقطة من الأصل: وفي (ص): "يحلف الورثة أن الكلاب لمورثهم".

هذا يبطل بإجارة (1) الحر. والمعنى فيه أن الممتنع تقدير الملك في عين الكلب. ومن يعتقد أن المعقود عليه في الإجارة العينُ لا يرى أن الملك ينتقل فيها. ومن غصب كلباً يجوز اقتناؤه، استُرِد منه، ثم إن كان انتفع به، [فهل يلزمه أجرةُ المثل] (2)؟ ذَكر الأصحاب وجهين في ذلك، وهذا ينطبق على الخلاف في إجارة الكلبِ. والذي أراه تصحيحُ الإجارة. وإن لم نصححها، فالأوجه عندي إثبات أجرة المثل؛ فإنها منافع مقصودة تطلب بأموالٍ. فإن امتنعت الإجارة لتغليظٍ سببه المنع من التعامل على الكلاب، فلا وجه لتعطيلِ منفعته. 3421 - ولو اصطاد الغاصب بالكلب المغصوب، ففي ذلك الصيد وجهان: أحدهما - أنه للغاصبِ الصائد، وهو الأَصح، كما لو غصب شبكة واصطاد بها. والثاني - أنه لصاحب الكلب؛ فإنَّ الكلبَ له اختيارٌ، وهو كالعبدِ المغصوبِ يحتش أو يحتطب في يد الغاصبِ. وهذا ضعيف؛ فإنَّ التعويل في تحليلِ الصَّيد على اختيارِ المرسل، وإذا ظهر اختيارُ الكلب، حرم الصيد الذي يقتله. ثم فرع الأئمة على الوجه الضعيف وقصدوا التنبيه على أصول. فقالوا: إذا قلنا: الصّيد للمغصوب منه، فالغاصب يرد الصيد عليه، ويغرم له أجرةَ مثل الكلب على وجهٍ؛ فإن المنفعةَ وإن صرفها إلى تحصيل فائدة وهي للمغصوب منه، فالغاصب في المنفعة متصرفٌ بعُدوان. وضربوا لذلك مثالين: أحدهما - أن من غصب بذْراً وأرضاً، فزرع الأرض المغصوبة بالبذر المغصوب من صاحب الأرض، فالزرع للمالك؛ لأنه تولّد من عين ماله، وعلى الغاصب مثل ذلك البذر؛ فإن ما تعفن في الأرض كان في حكم الفاسد، وما نبت خلق جديد. ويجب عليه أيضاً أجر مثل الأرض؛ وإن صَرَف منفعتها إلى فائدة مالكها. والثاني - أن من غصب بيضة فأحضنها دجاجةً وخرج الفرخُ، فالفرخ للمالك. وعلى الغاصب قيمة البيضةِ؛ فإنها تفسد

_ (1) في (ت 2)، (ص): إجارة. (2) ساقط من الأصل.

وتصير مذرة، والفرخ نشوء جديد. وسنستقصي ذلك في كتاب الغصب، إن شاء الله تعالى. فصل 3422 - قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من اقتنى كلباً إلا كلبَ مَاشِية أو ضَارياً، نقص من أجره كل يوم قيراطان " (1) وفي بعض الألفاظ " أو كلب زرع " فنهى الرسول عليه السلام عن الاقتناء، وأجمع الأصحاب على أنه نهي تحريم (2)، واستثنى من النهي الكلبَ الضّاريَ وهو الصيود، وكلب الماشية وهي التي تحرس النَّعم، وكلبَ الزرع وهي التي تحرس المزارع في أيام الحصدِ والدياسة والتنقية؛ فمن اقتنى كلباً إعجابا بصورته، فهو مرتكبُ محرّمٍ، وإذا اقتناه وهو منتفع به بالجهات الثلاثة التي استثناها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بأس. ولو اقتنى كلب الحراسة للدروب والدور، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن إلا ما تقدم ذكره، فيجب الاقتصارُ عليه، وطَرْدُ الحظر فيما سواه. والثاني - يجوز؛ فإن الحراسة في معنى الحراسة، وهذا قريب ممّا يقال فيه: إنه في معنى الأصل. ومن اقتنى جَرْوَ كلبٍ صَيُودٍ حتى إذا استقل صاد، ففي تحريم اقتنائه جرواً وجهان ذكرهما العراقيون أحدهما - يجوز؛ فإنه كلب صيدٍ، وإذا أبحنا اقتناء كلب الصيد، لم نشترط في الإباحةِ إدامةَ الاصطياد به. ومن أصحابنا من قال: لا يحل اقتناء الجرو؛ فإنه ليس ضارياً في الحال، والاقتناء في فحوى الحديث مسوغ لحاجةٍ حاقَّةٍ، تقرب من الضرورة، فأما الاقتناء لتوقع منفعة، فبعيد.

_ (1) حديث: "من اقتنى كلباً ... " متفق عليه من حديث ابن عمر بهذا اللفظ نفسه. (اللؤلؤ والمرجان: 384 ح 1012). (2) في (ت 2)، (ص): محرّم.

ومن اقتنى كلب صيدٍ، وكان لا يعتاد الاصطياد، ففي تحريم الاقتناء وجهان أيضاً ذكروهما. والتوجيه بين. فإن قيل: الاختلاف في هذه الصورة مستند إلى احتمال، إلا ما ذكرتموه في الاقتناء لحراسة الدروب، والحراسة كالحراسة، فما وجه المنع؛ قلنا: وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الكلاب، ولو جاز الاقتناء لحراسة الدروب، لعمّ جوازُ الاقتناء؛ فإن كل كلب نباح في موضعه، وهو معنى حراسة الدروب، وكلبُ الصيد والماشية والزرع يحرس في مضايع، ولا يستقل بهذا إلا كلبٌ له اختصاصٌ عن الكلاب. ويمكن أن يقال: لو اقتنيت في الدروب وكثرت أجراؤها، وأنست، خالطت وانبثت نجاساتُها، وليس كذلك كلاب الصحارى. 3423 - فإن قيل: فما قولكم في قتل الكلاب؟ قلنا: أما ما ينتفع به منها، ولا ضرار من جهتها، فلا يجوز قتلها. وأما العقور؛ فإنه يقتل دفعاً لضراوته، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الكلب العقور، وعدّه من الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم. وكل كلبٍ عقورٌ إذا اضطر إليه دفعاً عن نفسه. والذي عنيناه الذي يضرى بالشر طبعاً. وأما الكَلِب (1)، فلا يتمهل في قتله؛ فإن شره عظيم. والكلب الذي لا منفعة له، ولا ضرار منه لا يجوز قتله. وقد ذكرنا طرفاً من ذلك مقنعاً في باب الصيود من المناسِك عند ذكرنا الفواسق، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب مرة، ثم صح أنه نهى عن قتلها، واستقر عليه على التفصيل الذي ذكرناه. وأمر بقتل الكلب الأسود البهيم. وهذا كان في الابتداء، وهو الآن منسوخ.

_ (1) بدون ضبط في النسخ الثلاث. ولكن يفهم من السياق أنه الكَلِبُ: أي الذي أصابه داءُ الكَلَب.

فصل يَجْمع تفصيْل القَوْلِ فيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنَ الحَيَوانَاتِ 3424 - أما الآدمي، فلا يخفى تقسيمه إلى الحر والرقيق. وما عداه ينقسم إلى ما لا ينتفع به حياً وميتاً، وإلى ما ينتفع به حياً، وإلى ما لا ينتفع به حياً وينتفع ببعض أجزائه إذا مات أو قتل. وينبغي أن يستثنى منها الحيوان النجس العين، وهو الكلب والخنزير والمتولد منهما ومن أحدهما. فكل ما كان نجساً لا يجوز بيعه. والتقسيم وراء ذلك. فما ينتفع به حيّاً كالفهد والهرّ، فيجوز بيعه وفاقاً، ومنها الطيور الضارية. وأما ما لا ينتفع به حياً وميتاً، فلا يجوز بيعه. وأخذ المال في بيع شيء منها من أكل المال بالباطل. ومن هذه الجملة حشرات الأرض. ودودُ القز منتفع به، وكذلك نحل العسل، وتردد القاضي في العَلَق، فألحقها في جوابٍ بالديدان، ومال في جواب إلى جواز بيعها، لما فيها من منفعة مص الدم عند مسيس الحاجة إليه في بعض الأطراف. وتردد الأئمة في مثل حمار زمِنٍ لا حراك به ولا منفعة له، فحرم بعضهم البيع لسقوط المنفعة، وأجاز آخرون البيعَ نظراً إلى الجنس. وقيل أيضاً: يجوز بيعه لمكان جلده بعد الموت، وهذا المعنى فيه بعض الضعف؛ فإن المنفعة النّاجزة أولى بالاعتبار من توقع أمرٍ سيكون ولو بني [البيع] (1) على التوقع، لصح بيع جلد الميتة قبل الدباغ. فأما الأسد والذئب والنمر، فلا انتفاع بها وهي حية، ولا نظر إلى اقتناء الملوك إياها لإقامة السياسة والهيبة، فليس ذاك منفعةً معتبرة، ولا تتأتى المقابلة بها، بخلاف الفِيَلة؛ فإنَّ ذلك ممكن، وهي مراكب، فالتحقت بما يُنتفع به. أما الأُسد والنمور والذئاب، فالمذهب أنه لا يجوز بيعُها. وذكر القاضي وجهاً آخر أنه يجوز بيعها، بناء

_ (1) ساقطة من الأصل.

على إمكان الانتفاع بجلودها، فهي طاهرة في [الحال] (1)، والانتفاع متوقع ببعض الأجزاء. ولا يجوز بيع الرَّخَمة، والحدأة، والغراب؛ فإنه لا منفعة فيها، فإن كان في أجنحة بعضها منفعة، التحقت بالأُسد والذئاب. والأصح منع البيع. 3425 - ثم ألحق الأئمة مسائلَ بما ذكرناه في الحيوان: منها بيع المعازف وآلات الملاهي، فإن كانت بحيث لو كسرت الكسْر المأمور به، لم يكن رُضاضها متمولاً، فلا يصح بيعها. وإن كانت بحيث لو كسرت الكسرَ الواجبَ، لكان رُضاضها متمولاً، ففي إيراد البيع عليها قبل الرض وجهان: أحدهما - يبطل البيع؛ نظراً إلى صفاتها في تركبها، ويعتضد هذا بإطباق الناس على استنكار بيع البرابط والطنابير. والثاني - يصح بيعها؛ لأن جِرم الرضاض كائن فيها. وهذا وإن كان قياساً، فالعمل على الأول. فأمّا إذا باع صوراً وأشباحاً كالأصنام وغيرها، وكانت متخذة من جواهر ذوات قيم، كالصُّفر (2) والنحاس وغيرها، فهي مكسّرة على أربابها، والأصح جواز بيعها قبل التكسير؛ فإن جواهرها مقصودة بخلاف رُضاض المعازف. وذكر القاضي وجهاً آخر في منع بيعها. فصل 3426 - الأعيان النجسة يمتنع بيعها، وإن كانت منتفعاً بها كالسِّرقين (3) والأخثاء (4)، وأجاز أبو حنيفة (5) بيعها ومنع بيع العَذِرَة. وطرد الشافعي إفساد البيع في كل عين نجسة. والثوبُ المضمخ بالنجاسة يجوز بيعه، والبيع يرد على جوهرِه الطاهر.

_ (1) في الأصل: الحياة. (2) الصفر: النحاس الأصفر. (معجم). (3) السرقين: الرجين، أعجمي معرّب، معناه الزبل (معجم). (4) الأخثاء جمع الخِثْيُ، والخثى. وهو ما يرمي به البقر أو الفيل من بطنه. (معجم ومصباح). (5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 90 مسألة: 1169.

والدهن إذا أصابته نجاسة، ففي جواز بيعه قولان مبنيان على إمكان غسله، وفي إمكان غسل الدهن قولان، سبق ذكرهما في كتاب الصلاة. فإن قلنا غسله ممكن، فبيعه جائز. وإن قلنا غسله غيرُ ممكن، ففي بيعه قولان مبنيان على جواز الاستصباح بالدهن النجس. والقولان في الاستصباح يجريان في ودَك الميتة، وإن كان لا يجوز بيعه. وإنما استعملنا الخلاف في الاستصباح في دهن طاهر الجوهر (1) لَحِقَتْه نجاسة، فإن ما كان نجس العين، فبيعه ممتنعٌ، وإن كان منتفعاً به. والبيع فيما هو طاهر الجوهر قد يتلقى من الانتفاع. هذا تنزيل هذه المسائل على قواعدها. 3427 - ثم أطلق الأئمة الخلاف في جواز الاستصباح. وهو مفصل عندي: فلو كان السراج الذي فيه الدهن النجس بعيداً، بحيث لا يَلقى دخانُه المستضيءَ بهِ؛ فلست أرى لتحريم هذا وجهاً؛ فإن الانتفاع بالنجاسات لا ينسدّ، وكيف يمتنع منه مع تجويز تزبيلِ الأرض وتَدْميلها (2) بالعَذِرة، ولعل الخلاف في جواز الاستصباح ناشىء من لحوق الدخان الثائر من ذلك الدهن، وفيه تفصيل نذكره. [أمّا رماد الأعيان النجسة، فالمذهب أنه نجس، وفيه شيء قدمته في كتاب الصّلاة. و] (3) أمّا دخان الأعيان النجسة إذا احترقت -على قولنا بنجاسة الرماد- فما كان يقطع به شيخي أن الدخان رماد، وهو يتجمع بعد الانبثاث. وذكر القاضي وجهاً أنه طاهر وإن حكمنا بنجاسة الرماد؛ فإنه يُعد بخارَ النار. وهذا ركيك. ومما يعتنى به أن الدهن النجس في عينه في دخانه ما ذكرناه. وأمّا الدهن الذي وقعت فيه نجاسة، فدخانه أجزاء الدهن. وما وقع فيه ونجسه، قد لا (4) يكون مختلطاً، ويظهر في هذا الدخان الحكمُ بالطهارة؛ فإن الذي خالط الدهن يتخلف قطعاً، والذي ثار محضُ

_ (1) في (ت 2): العين. (2) دمل الأرضَ أصلحها بالدمال. والدمال: السماد. (معجم). (3) ساقط من الأصل. (4) في (ت 2)، (ص): فلا يكون فيه مختلطاً.

أجزاء الدهن، والتردد في الاستصباح يجوز أن يكون مأخوذاً من نجاسة الدخان؛ فإنه يثبت في البيوت ويلحق الثياب، وقد لا يحسّ بأوائل لحوقه حتى يحترزَ منه. ولا يمتنع على بعدٍ أن يطرد الخلاف في الاستصباح وإن بعد السراج، فإن هذا ممارسةُ نجاسة مع الاستغناء عنها، وليس كذلك التزبيل؛ فإنه لا يسد مسده شيء، فكان ذلك في حكم الضرورة، ويقرب من هذا جواز اقتناء الكلب الضّاري؛ فإن الحاجة ماسّة ولا يسد مسد الكلب في ظهور منفعته (1) وخفة مؤنته شيء. فصل 3428 - أكثر أئمتنا ذِكْرَ المالية وأجرَوْا في أثناء الكلام ما يتموّل وما لا يتمول، ورأَوْا ذلك قاعدةً متبعة في تصحيح البيع ونفيه. ونحن نفصل القول في هذا على إيجاز وبيانٍ، إن شاء الله تعالى. فممّا يسميه الفقيه غيرَ متمول ما لا يقبل البيع في جنسهِ، وهو ينقسم إلى نجسٍ وإلى محترم: أما الأعيان النجسة قد (2) سبق القول فيها، وأمّا المحترم الذي لا يتمول كالحرّ وما يحرز بالشرع كبقعة الكعبة، أو حرز كالبقاع التي اتخذت مساجد. ثم ما لا يتمول لجنسه، وهو الأعيان النجسة لا قيمة لها، ولا تضمن بالإتلافِ، وما لا يتمول لحرمته، فلها أبدال عند الإتلاف. ومقصودنا من هذا الفصل شيء آخر. فإذا قلنا: هذا لا يتمول لقدره، فليقع الاعتناء به، وإن كان جنسه مالاً. والضّابط فيه أن كل ما ليس للانتفاع به على حياله وقع محسوس، فهو الذي يقال: إنه لا يتمول، كالحبة والحبتين فصاعداً. وليعتبر وقعه منسوباً إلى كل جهة؛ فإن حبات معدودة قد لا يكون لها وقع في الإنسان، وهي تقيم عصفورة، أو تسد منها مسداً. فكل ما فيه نفع محسوس، فهو مال، وكل ما ليس فيه نفع محسوس، فهو غير

_ (1) في (ت 1)، (ص): صفته. (2) جواب (أما) بدون الفاء.

متمولٍ. وكل منتفع به طاهرٌ غير محترم إذا تحقق الاحتواء عليهِ، فهو مال. وإن كان الناس لا يتمولونه لكثرته ورخاءِ السّعر. فليكن التعويل في الفرق بين ما يتمول وما لا يتموّل على المنفعة في الأجناس الطاهرة غير المحترمة. فلو أجدَّ (1) الرجل صخرة، وكان فيها منفعة ظاهرة، فيجوز أن يبيعها بآلاف ممن يشتريها: وهم في شعاب جبال مفعمة بالصخور. وعليه يخرج تجويز بيع [هذِه] (2) في أمثال هذه البلاد. فأما الحبة من الحنطة فلا، ولا يختلف هذا بسِنِي الأَزْم والمَجاعة ورخاء الأسعار. ولكن ما يقال فيه: إنّه لا يتمول لقلته فيه حق لصاحبهِ، فلا يجوز أخذ حبة من مال إنسان بناء على أنها لا تتمول. ومن أخذها لزمه ردُّها. قال شيخي: كان القفال يقول: إن تلفت لم يبعد أن أوجب مثلَها. وإنْ منعتُ بيعها. نعم لو كان كذلك القليل من جنس متقوم، فلا قيمة. فهذا حَاصل القول في ضبط ما يتمول. وما لا يتمول. فصل مشْتمل عَلى بَيعْ المَاءِ وحُكمِهِ نظمه الشيخ أبو علي في الشرح ونحن نأتي به على وجهه فلا مزيد عليه. 3429 - فنقول: من ينزح ماء من موضع مباع، فالمذهب المشهور أنه يملك ما أحرزه، كما يملك الحطب إذا احتطب، والصيدَ إذا اصطاد. وفي المسألة وجه بعيد أنه لا يملك قط. ولكن محرزه أولى به، وهذا بعيد لا تفريع عليه. وإنما التفريع على أن الماء يملكه محرزه.

_ (1) أجدّ الشيء: قطعه. (معجم). (2) في الأصل، (ص) هرّة.

فمن أحرز ماء في إداوة وسقايةٍ، فقد ملكه، ويجوز بيعه على شط الدجلة، بما يقع من التراضي عليه. فأما إذا حفر بئراً أو قناةً، فاجتمع فيها ماء، فهل يملك ذلك الماء؟ هذا يستدعي أولاً تفصيلَ المذهب في أن الآبار كيف تملك، وهذا مما يأتي استقصاؤه في إحياء الموات، والقدر الذي تمس الحاجة إليه الآن أن من حفر بئراً في مواتٍ وقصد باحتفارها تملّكَها، فإذا ظهر مقصودُه، مَلَكَها، ومقصودهُ ظهور الماء، فكما (1) ظهر، مَلَك، ولا يتوقف الملك على أن يطويَ (2) البئر ويعمرَها. هذا ظاهرُ المذهب. وقيل: ظهور الماء يجعل حافرَ البئر كالمتحجر، وهذا يأتي في الإحياء. ولو كان يحتفر نهراً إلى نهر عظيم كالفرات، وقصده أخذ شيءٍ من ماء الفرات في نهرهِ، فإذا قصد باحتفار النهر تملكها، وانتهت فوهة النهر إلى النهر الكبير، وجرى فيه الماء، فهذا في ملك النهر نظير إنباط الماء في البئر. هذا إذا قصد التملك. فأما إذا قصد احتفار البئر ليستقي ماءها لا أن يتملكها. فيكون أولى بماء البئر، فإذا تعداها وجاوزها، فالبئر بمائها مباح. فإذا بان ذلك، فلو لم [يملك] (3) البئر، ولم يقصد تملكها، فالماء المجتمع فيها لا يكون مملوكاً باتفاق الأصحاب. هكذا قال الشيخ. فأمّا إذا ملك البئر، أو كان في ملكهِ الخالص بئرٌ كَدَارِه، فالماء المجتمع في تلك البئر هل يكون ملكاً على الحقيقة لمالك البئر؛ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - وهو اختيار أبي إسحاق أنه لا يملكه، وينزل الماء الحاصِل في ملكه منزلةَ ما لو عشش طائر في ملكه؛ فإنه لا يملكه. وقال ابن أبي هريرة: الماء ملك لصاحب البئر على

_ (1) فكما: أي عندما. (2) طوى البئر: بناها بالحجارة ونحوها، أو عَرَشَها. (معجم). (3) ساقطة من الأصل.

الحقيقة، وهو نازل منزلة الثمرة التي تخرج من أشجاره من غير قصده. 3430 - فإذا ثبت ذلك، فالكلام وراء ذلك في فصلين: أحدهما - إفراد الماء بالبيع. والثاني - بيعه مع قرارِه. فأما إفراد الماء بالبيع، فالماء الذي جمعه في إداوة أو حوض، أو أحرزه، فيجوز بيعه؛ فإنه غير متزايد. فأمّا الماء المجتمع في البئر المملوكة، أو الماء الجاري في النهر المملوك، فإن قلنا: إنه غير مملوك، فإذا أفرده بالبيع، لم يصح؛ لأنه باع ما لم يملكه، فأشبه ما لو باع فرخَ طائر على عش في ملكه. ولم يأخذه بعدُ. وإن قلنا: إنه مملوك، قال رضي الله عنه (1): لا يصح إفراده بالبيع إذا قال: بعتك ماء هذا البئر؛ لأنه ممّا يتزايد تزايداً كثيراً، وليس كذلك بيع الجِزة من قُرطٍ، فإنه إذا ابتدرَ الجزَّ، لم يتزايد تزايداً محتفلاً به، والماء الجاري أولى بالفساد، فلا يصح إذا بيع الماء على الوجهين لعلّتين (2). ولو قال: بعتك مائة مَن من ماء هذه البئر، فإن قلنا: إنه مملوك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يصح. والثاني - لا يصح. وهما مبنيان على ما إذا أراه نموذجاً من لبن الضرع، فينبغي أن يكون المقدار المذكور من ماء البئر، ومن لبن الضرع بحيث يعتقد قلةُ التزايد فيه، كما قدمناه في لبن الضرع. قال الشيخ: لو باع مقداراً من ماء نهرٍ جارٍ، فهو ممنوع؛ فإنه غير واقفٍ ولا يستمكن من تنزيل العقد على معاين فيه تَسلُّم. وكل ما ذكرناه فيه إذا باع الماء وحده. 3431 - فأما إذا باع ماء البئر مع البئر، فنذكر التفصيل في البئر أولاً، ثم نذكره في النهر.

_ (1) القائل هو الشيخ أبو علي في الشرح. (2) في (ص)، (ت 2): بعلتين. والعلتان واضحتان على الوجهين.

فإذا باع البئرَ، فلا يخلو إما أن يشترط معه الماءَ الذي فيه أو لا يشترط: فإن شرط معه الماء الذي فيه، فإن قلنا: إنه غير مملوك، فلا يصح البيع فيه. وهل يصح في البئر؟ فهو على قولي تفريق الصفقة. وهو كما لو باع ظبية مملوكة، وأخرى في الصحراء لم يصطدها. فأما إذا قلنا: الماء في البئر مملوك، فإذا باع البئر مع مائه الذي فيهِ، صح؛ فإنه مشاهد. [وليس] (1) كما لو أفرد ماء البئر بالبيع؛ فإن الأصل في تلك الصورة مُبْقَى للبائع. وما نَبَع بعد تقدير البيع، فهو لمالكِ الأصل، فيؤدي إلى اختلاط المبيع، وأما هاهنا مَلَك (2) المشتري [المنابع] (3)، فلا أثر للازدياد، ولا يضر أن يختلط ملكُ المشتري بملكه. هذا إذا شرط مع البئر ماءها. فأفا إذا باع البئر ولم يتعرض للماء الذي فيه، فإن قلنا: إن الماء ليس بمملوك، فقد ملك المشتري البئر، وصار أحق بالماء، كما كان البائع أحقَّ به. وإن قلنا: إنه مملوك، فالبئر صارت مملوكة للمشتري، والأصح أنه لا يتبعها الماء؛ فإنه [نماءٌ] (4) ظاهر، فأشبه الثمار الظاهرة المؤبرة لا تدخل في مطلق بيع الشجرة. ومن أصحابنا من أتبع الماءَ البئرَ وجعله كالثمار التي لم تؤبَّر، ونزل الأمر في هذا على العرف. وهذا قدمته في أثناء مسائل البيع فيما أظنه. فهذا في البئر. 3432 - فأمّا في النهر، فإن باعه من غير تعرض للماء الذي فيه، فالبيع في النهر صحيح، والقول في إتباع الماء الموجود في النهر على ما تفضل. فأما إذا باع النهرَ مع الماء الجاري، فإن قلنا: إنه غير مملوك، فقد جمع بين مملوك وغيرِ مملوك

_ (1) في الأصل: "وهو" كما لو أفرد ... (2) جواب أما بدون (الفاء). (3) في النسخ الثلاث: "المنافع" وعجب اتفاقها جميعاً على هذا التصحيف. (4) ساقطة من الأصل.

مجهولٍ، لا سبيل إلى ضبطه. والأصح في مثل ذلك بطلان البيع في الجميع، ما قدمناه في تفريق الصفقة. وإن قلنا: الماء مملوك وقد ذكره مع النهر، فهو مجهول لا يفرد بالبيع ضُمَّ إلى معلوم، فيخرج على التفريق. ولو اجتمع في ملك الرجل شيء سوى الماء كالموميا (1) والملح، وكان يتزايد تزايد الماء، فقد قال الشيخ: حكمه مع قراره حكم الماء في كل تفصيل، إلا أنا ذكرنا في صدر الفصل وجهاً بعيداً أن الماء لا يملك أصلاً، وذلك لا يجري هاهنا. ولماء الأودية والقنوات وموارد البيع منها تفاصيل كثيرة في إحياء الموات، إن شاء الله تعالى. فصل في الإقالة 3433 - لا خلاف في جوازها، وارتداد عوضي العقد بها، وأنها تختص بالثمن الأول، ولا حاجة إلى ذكر الثمن والمثمن على التفصيل، بل الإطلاق ينصرف إليه، ولا تختص الإقالة بالمتعاقدين، بل لو ماتا، جرت الإقالة بين الورثة. 3434 - ثم هي فسخ، أو ابتداء عقد؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها عقد، وهو المنصوص عليه في القديم، لتضمنها تمليكَ مال بمالٍ على التراضي، وصيغةِ الإيجاب والقبول. والمنصوص عليه في الجديد أنها فسخٌ، لاختصاصها بالثمن الأول، ولأن الغرض منها رفع ما كان، ورد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد. ولفظ الإقالة مشعر بهذا. ومنه إقالة العثرات.

_ (1) الموم: بالضم الشمع معرّب. والموميا لفظة يونانية، وهو دواء يستعمل شرباً ودهاناً، وضماداً. (المصباح).

ولم أر أحداً من الأصحاب يخرجُ الإقالةَ قبل قبض المبيع على أن الإقالة فسخ أو بيع. حتى إن قلنا: إنها فسخ، نفذت. وإن قلنا: إنها بيع خرجت على الخلاف في أن بيع المبيع من البائع قبل القبض هل يجوز. وكذلك لم يردد أحد من أصحابنا القولَ في الإقالة في السلم، بل أطلقوا جوازها. وإن كان يمتنع بيع المسلم فيه قبل القبض. وكان شيخي يقول: الإقالة بعد القبض على القولين، والإقالة قبل القبض تنفذ. فإن جوزنا بيع المبيع من البائع قبل القبض، [خرجت المسألة على قولين في أن الاقالة فسخ أو بيع، وإن قلنا: لا يصح بيع المبيع من البائع قبل القبض] (1)، فالإقالة نافذة، وهي فسخ قولاً واحداً. وذكر شيخي في كتاب الخلع في أثناء كلامه فصلاً به تظهر حقيقةُ الإقالة، وهو أنه قال: اختلف أصحابنا في أن البيع هل يقبل الفسخ بالتراضي؟ فمنهم من قال بقطع القول بقبوله الفسخ بالتراضي. والقولان في لفظ الإقالة. ومنهم من قال: كل ما فرض على التراخي سواء كان بلفظ الفسخ، أو بلفظ الإقالة، فهو خارج على القولين، ولا نظر إلى الألفاظ، فالفسخ لفظٌ ألفه الفقهاء، ومعناه ردَّ شيء واسترداد مقابله. فإن تعلّق متعلّق بلفظ الفسخ، فالإقالة من طريق اللسان صريحة في رفع ما تقدَّم، ورد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد. فرجع حاصل القول إلى أن من أصحابنا من جعل الخلاف في تصور الفسخ بالتراضي من غير سبب يوجبه. ثم هؤلاء يقولون: يتصور الفسخ بالتراضي قبل القبض؛ لأن العقد لم يُفض إلى نقل الضمان، فإذاً هو متصور قبل القبض. وفي تصويره بعد القبض الخلاف. ومن أصحابنا من قطع بتصوّر الفسخ، ورد الخلاف إلى الإقالة ومعناها، ثم هؤلاء قالوا: هي محمولة قبل القبض على الفسخ، والخلافُ في عملها بعد القبض.

_ (1) ساقط من الأصل.

3435 - ثم يتفرع على القولين في أن الإقالة فسخ أو عقدٌ أمور: منها - تجدد حق الشفعة للشفيع إذا كان قد عفا عنها في البيع: إن جعلناها فسخاً، لم يتجدد حق الشفعة بالإقالة. ضمان جعلناها عقداً، تجدد له حق الشفعة. وإذا تلف المبيع في يد المشتري بعد الإقالة، فإن قلنا: هي عقد، انفسخت كما ينفسخ البيع بتلف المبيع قبل القبض، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الإقالة. وإن قلنا: هي فسخ، لم ترتفع الإقالة، وضمن المشتري قيمة التالفِ في يده. ومما يتفرع على ذلك أنهما إذا تقايلا، فإن قلنا: الإقالة بيع؛ فلا يتصرف البائع في ملك العين مادامت في يد المشتري. وإن قلنا: هي فسخ، نفذت تصرفاته كالمفسوخ بالعيب. 3436 - وإذا تلف المبيع، ثم تقايلا، فإن جعلنا الإقالة عقداً، لم يصح؛ فإن البيع لا يرِدُ على تالفٍ. وإن جعلناه فسخاً، فوجهان: أحدهما - أنه ينفذ كالفسخ بالتحالفِ. والثاني - لا ينفذ؛ فإن الفسخ بالتحالف ليس مقصوداً في نفسه، وإذا أنشأ المتحالفان دعوتيهما، فليس غرضهما الفسخ. لكن كل واحدٍ يبغي أن ينكُل صاحبه ويحلف هو فإذا تحالفا، كان الفسخ ضروريّاً، والفسخُ بالإقالة معمودٌ مقصود، فلا ينفذ في التالف، كالفسخ بالعيب بتقدير ردَّ قيمة المعيب التالف واسترداد عوضه. فإذا اشترى عبدين، فتلف أحدهما، فأراد الإقالة في الآخر، إن جوزنا الإقالة، والمبيع تالفٌ بجملته. فهذا أولى بالجواز، فإن منعنا الإقالة عند تلف المبيع، وهو واحد، فهاهنا وجهان؛ إذ القائم يلاقيه الإقالة، ثم يستتبع التالفَ. 3437 - ولو اشترى عبدين فتقايلا في أحدهما مع بقاء العبدين. فإن قلنا: الإقالة بيع، لم تصح الإقالة؛ فإنها لو صحت، لقابل العبدَ قسط من الثمن يبيّنه التقسيط. وهذا مجهول. فلا يصح تقدير العقد، مع جهالة العوض. وإن قلنا: الإقالة فسخ، جاز ذلك. ولو كان مكان العبدين قفيزان من الحنطة، فخُصت الإقالة بأحدهما، جاز على القولين. أما قول الفسخ، فلا يخفى. وأمّا قول العقد، فلا جهالة. والثمن يتقسط بالأجزاء.

ولو اشترى عبداً وتقايلا على نصفه، فالإقالة صحيحة على القولين؛ إذ لا جهالة. والفسخ لا شك في نفوذه على قول الفسخ. فإن قيل: هلا خرّجتم على تفريق الصفقة؛ قلنا: سبب منع التفريق على قولٍ في هذا المقام تنزيلُ العقد على جملةٍ مع تخلفه عن بعضها، فتارة يقول: ارتفع العقد، وتارة يقول: يتخير من تبعض الأمر عليه. وأما الإقالة فَصَدَرُها عن التراضي. والحق لا يعد وهماً. وإنما يمتنع رد أحد العبدين على أحد القولين قهراً. فلو فرض التراضي به، كان إقالة مسوغة. ومن جوز فسخاًً بعد لزوم العقد بلا سبب التراضي، [لم] (1) يغادر متعلقاً في التبعيض. وذكر بعض المصنفين أنهما إذا تقايلا على أحد العبدين، وجعلنا الإقالة فسخاً، نفذت. وهل ينفسخ العقد في العبد الآخر؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وهذا خبال. والأصل اتباع الرضا في الفسخ والإبقاء. ولو سلكنا هذا المسلك، لخرَّجنا قولاً في منع الإقالة في أحد العبدين. فإذا اجتمع الأصحابُ على خلافه، بطل هذا المسلك، وانتسب صاحبه إلى عدم الإحاطة بحقيقة الإقالة. 3438 - ومما يتفرع على ذلك أنا إذا جعلنا الإقالة عقداً، فلو قالا: تفاسخنا، اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو عقد؛ تعويلاً على اشتراط التراضي، ومنهم من قال: هو فسخ. وهذا يستند إلى ما ذكرته من حقيقة الإقالة في صدر الفصل. وقد نجز الغرض من الإقالة وتفريعها، وانتهت مسائل الأصول من كتاب البيع. ونحن نذكر فروعاً انسلت عن ضبطنا، فليلحقها الناظر بأصولها، وليرتبها على قواعدها. فرع: 3439 - إذا اشترى الرجل جارية ثم تبين أنها أخته من رضاع أو نسب، فلا خيار للمشتري. وإذا اشترى جارية فإذا هي معتدة من وطء شبهةٍ، فله الخيار. أمّا نفي الخيار إذا بانت أخته، فسببه أن الأخوّة لم تقدح في المالية. وهي مقصود البيع، ولا التفات إلى ما يتخلف من الأعراض بعد وفور المالية.

_ (1) ساقطة من الأصل.

ولو اشترى رجل جارية وسعى في تحريمها على البائع بسبب طارىء في يده، ثم اطلع على عيب قديم بها، ردّها، ولم يكن للبائع أن يقول: بعتُها وهي محلٌّ لحلي، ورددتَها وهي محرّمة، فلا أقبلها؛ فإن التحريم والتحليل لا تعويل عليهما في عقد البيع. وأمّا ما ذكرناه في المعتدة، فالسبب فيه أنها محرمة على الناس كافة، وهذا يرِّغب الطالبين عنها، وما كان كذلك أثر في المالية. وهو بمثابة ما لو اشترى داراً، ثم تبين أنها مستأجرة، والتفريع على صحة البيع يثبت الخيار. وعلى هذا القياس لو اشترى جارية وقبضها، فوطئها واطىء بالشبهةِ، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ، كانت العدة بمثابة عيبٍ حادث طرأ في يد المشتري. وقد سبق التفصيل فيه. ثم ذكرنا في مسائلِ العيوب أن العيب الحادث إذا زال وقد كان تعذر الردُّ بسببه، فهل يملك المشتري الردَّ؟ فيه خلاف وتفصيل. والعدة وإن كانت في حكم عيب، فهي مرجوة الزوال. فلو قال المشتري: أصبر حتى تنقضي العدة ثم أرد. فقال البائع: ضُمّ الأرشَ أو اقبل العيب القديم، وإلا فتأخيرك يبطل حقك من الرد، فكيف الحكم فيه؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يملك التأخير؛ فإن [العُذر] (1) لائح، ورجاء زوال العيب ظاهِر، وإنما يبطل حق الرد بالتأخير إذا لم يكن عذرٌ. ومن أصحابنا من قال: إذا أخر يبطل حقه؛ فإنه يجد سبيلاً إلى التخلّص من الظلامة دون الرد، فليرض به. فرع: 3440 - إذا اشترى عبداً معيباً وقبضه، ثم جاء بعبد وقال: هذا العبد المبيع، وهو معيب، وهو الذي قبضتُه. وقال البائع: ليس هذا الذي قبضتَه مني واشتريتَه، وإنما هو عبد آخر، ولا بينة. قال الأصحاب: القول قول البائع مع يمينه؛ فإنه يستبقي العقدَ، والأصل بقاؤه. ولهذا صدقناه إذا ادعى حدوثَ العيب، وأنكر قدمه. فأما إذا أسلم في عبدٍ أو غيره من الموصوفات، وقبض ثم جاء وقال: هذا الذي قبضتُه ليس على الوصف الذي طلبتُه وذكرته في السَّلم، فقال المسلم إليه:

_ (1) في (ت 2)، (ص): العقد.

ليس هذا ذاك الذي قبضتَه مني، فالقول قول من؛ فعلى وجهين: أحدهما - القولُ قولُ المسلَم إليه؛ فإنه قد سبق قبض وفاقاً، والمسلِم يدَّعي بعد ذلك مرجعاً. والوجه الثاني أن القول قول المسلِم؛ فإنهما اتفقا على اشتغال ذمة المسْلم إليه، والمسلَم إليه يدعي براءة ذمته، والأصل اشتغالها. وليس كذلك العبد المعيّن؛ فإنهما اتفقا على أن المشتري قبض ما اشتراه، ثم اختلفا في أن العقد هل يفسخ بعد ذلك أم لا. والأصل بقاء العقد. وما ذكرناه من الوجهين في المسلم إليه يجريان في الثمن الواقع في الذمة. وذكر ابن سريج في كل عوضٍ ثابت في الذمة ثمناً كان أو مثمناً ما ذكرناه من الوجهين في الحُكم الذي أردناه، وزاد وجهاً ثالثاً ذكره في الثمن. وهو أنه قال: لو قال البائع: الدراهم التي سلمتها أيّها المشتري مبهرجةٌ زيوفٌ، وليست وَرِقاً، فالقول قوله؛ فانه ينكر أصلَ القبض. وإن قال: هي معيبةٌ، فالقول قول المشتري حينئذٍ؛ فإن أصل القبض ثابت؛ بدليل أنه لو رضي القابض به [لعد] (1) ثمناً، وجرى عوضاً. فرع: 3441 - إذا أوصى إلى رجل أن يبيع عبداً معيباً من تركته، ويشتري بثمنه جاريةً، ويعتقها عنه، فباع الوصي العبد بألف، واشترى بالألف جارية، وأعتقها عن الموصي، ثم وجد مشتري العبد به عيباً ورده، فللوصي أن يبيع ذلك العبد المردود ويؤدي من ثمنه الألفَ الذي كان ثمناً، فإن وفَّى ثمنُ العبد لمَّا باعه بعد الرد، فلا كلام. وإن كان ثمنه تسع مائة، لمكان العيب الذي بدا، فذلك النقصان لا بد من جبره لرد جملة الثمن على المشتري. فذلك النقصان على من؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو على الوصي؛ فإنَّ الموصي إنما أمره أن يشتري بثمنه جارية، وقد بان أخيراً أن ثمنه تسع مائة؛ فكان من حقه ألا يشتري الجارية إلا بهذا المبلغ؛ فهو بترك البحث مفرّط. ثم هو ضامن بسبب تفريطه. ومن أصحابنا من قال: لا ضمان على الوصي في تلك الزيادة، ولكنها في ذمة الميت الموصي تؤدَّى من تركته؛ وذلك أن [الوصيّ] (2) بالحاكم والعدل [في

_ (1) في الأصل، (ت 2): يعدّ. و (ص): " لفذ": والمثبت تقديرٌ منا. (2) في الأصل، (ت 2): الموصي.

الرهن] (1) أشبه. وقد قال الشافعي: إذا باع الحاكم شيئاً، فلزمت فيه عُهدة، فلا تتعلق الغرامة بالحاكم، وكذلك من عُدّل الرهن على يده. ولو باع الوصيُّ العبدَ المردودَ عليه، فزاد ثمنُه على الألف، فقد بان لنا فيه أنه فرط في بيعه لما باعه بالألف وكانت قيمته ألفان. والمسألة فيه إذا لم تكن الزيادة عن ارتفاع سِعرٍ، ولا عن قبول زبون، فقد جرى بيعه بغبن وكان باطلاً، ولا حاجة إلى الرد. وشراءُ الجاريةِ إن كان واقعاً في الذمة، فينصرف إليه، والعتق واقعٌ عنه، وعليه الآن بتمام ثمن العبد جارية، فيعتقها عن الموصي. وإن كان قد اشترى الجارية بعين ما قبضه في ثمن العبدِ، فلا يصح العقد؛ فإن المشار إليه كان مستحقاً ولم ينفذ العتق. ومما يليق ببقية المسألة أنا قطعنا القول بأن الوصي إذا رُدَّ العبدُ عليه، فله بيعه، لم يحك الشيخُ فيه خلافاً. 3442 - فإن قيل: لو باع الوكيل عبداً فرُدَّ عليه بالعيبِ، فهل له أن يبيعه مرة أخرى؟ قلنا: اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب بعضهم إلى أنه يبيعه؛ فإن الموكل قد أذن له في بيعٍ يلزم وينفذ، فإذا نُقض عليه، فله البيع ثانياً (2 والمذهب الصحيح الذي اختاره القفال أنه لا يصح منه البيع ثانياً 2)؛ لأن المبيع رجع إلى ملك الموكَل رجوعاً جديداً، فلا يستفيد الوكيل التصرف في هذا الملك الجديد. ولو أذن للوكيل في بيع عبده بشرط الخيار للمشتري، فباعه وشرط الخيارَ، ففسخ المشتري البيع، فهل يجوز للوكيل أن يبيعه ثانياً؛ فعلى وجهين مشهورين قرَّبهما القفال من القولين في أن البيع بشرط الخيار هل يوجب نقلَ الملك. فإن قلنا: انتقل الملك إلى المشتري، فالأشبه أن لا يبيع الوكيل مرة أخرى. وإن قلنا: الملك للموكل، فيجوز أن يبيعه الوكيل ثانياً؛ فإن هذا ذلك الملك بعينه، فلا يبعد أن يدوم الإذن إلى أن يتفق نقل الملك. والمسألة محتملة على القولينِ.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) سقط ما بين القوسين من: (ص)، (ت 2).

فرع: 3443 - إذا اشترى الرجل عبداً، ثم بان له أنه ابنه، صح العقد، ونفذ العتقُ، ولا مردّ له. وإذا عسر ردُّ العتق، فلو اطلع على عيب قديم به رجع بالأرش. ولو قال ولا عيب به للبائع: أغرمك شيئاً إذْ خسَّرتني، لم يغرمه؛ فإن العبد لا نقصان به. فرع: 3444 - إذا باع سمسماً على أن يكون الدهن مبيعاً والكسب للبائع، أو باع قطناً على أن الحليج هو المبيع والحب للبائع، فالبيع باطل؛ فإن المبيع ليس متعيناً على التحقيق ولا جزءاً شائعاً. فرع: 3445 - إذا قال: بعتك هذا على أن لا ثمن لي عليك، فقال: اشتريتُ وقبضه، فالذي قطع به الأئمة فسادُ البيع. ثم قالوا: لو تلف المقبوض في يد المشتري، ففي وجوب الضمان وجهان: أحدهما - الوجوب؛ لأنه مقبوض على حكم بيع فاسد. والثاني - لا يجب الضمان؛ لأن البائع رضي بحطِّه، وبنى الأمر عليه، فصار القبض قبض وديعة. وذكر القاضي قولين في أن ما جرى هل يكون هبة صحيحة مملكة: أحدهما - أنه هبة؛ نظراً إلى القصد، ولا اعتبار بالخطأ في اللفظ. والثاني - أن هذا ليس بهبة؛ فإن البيع ينافي في وضعه معنى الهبة، و [العقود] (1) لا تنعقد بالمقاصد، وإنما تنعقد بالألفاظ. ولو قال: بعتك هذا، ولم يتعرض لنفي الثمن وإثباتِه، فقال المخاطب: قبلتُه، فلا يكون هذا تمليكاً وفاقاً. والأصح أن القبض المترتب عليهِ قبض ضمان؛ فإنه ليس مشتملاً على نفي الضمان. ومن أصحابنا من خرّج الضمان في هذه الصورة على الخلاف المقدم، وسنذكر أمثلة لهذا في كتابِ الخلع، إن شاء الله عز وجل. * * *

_ (1) في الأصل، (ت 2): والعقد.

نهاية المطلب في دراية المذهب لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني رحمه الله تعالى (419 - 478هـ) حققه وصنع فهارسه أ. د/ عبد العظيم محمود الدّيب الجزء السادس السلم - الرهن - التفليس الحجر - الصلح - الحوالة دار المنهاج

بسم الله الرحمن الرحيم الطبعة الأولى 1428 هـ-2007م جميع الحقوق محفوظة للناشر

تنبيهان أولاً: هذا الكتاب بينك وبينه ألف عام تقريباً، فإذا رأيت من ظواهر اللغة والأساليب غير مالوفك ومعهودك، فلا تحاول أن تحمل لغته على لغتك، ولا تسارع بحمل ذلك على الخطأ وسهو المحقق وتقصيره، فهذه هي لغة عصرهم، وهذا أسلوبهم، وهو صحيح سليم، وإن لم يعد مألوفاً لدينا ومستعملاً عندنا ولا جارياً على ألسنتنا. ثانياً: إبراءً للذمة، وخروجاً عن العهدة ننبه: أن برنامج الصف استحال عليه كتابة الهمزة المتطرفة المكسور ما قبلها على الياء، مثل: قارئ، تجزئ، فتنبه لذلك.

والموقف الأعظم على العلماء استعمال ما يجمعونه في آحاد الوقائع إذا بلوا بها، وكان شيخي يشبه هذا بجمع الجامع العلوم المخصوصة بفن الطب، وهو هيِّنٌ على صاحب القريحة والجد، وإذا أراد استعمال ما جمعه في معالجة الأشخاص عظم الأمر عليه فيها. الإمام في نهاية المطلب

كتاب السلم

كتاب السلم بَابُ السَّلفِ والنهي عن بيع ما ليسَ عندك 3446 - الأصل في السلم الكتابُ والسنة والإجماع. فأما الكتاب فآية المداينات: قال ابن عباس في تفسير الآية: أشهد بالله أن السلف (1) المضمون إلى أجلٍ مسمى أحلّه الله وأذن فيه، وتلا هذه الآية (2). وروى ابنُ عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة، فوجدهم يسلفون في التمر السنة، وربما قال السنتين، والثلاث. فقال عليه السلام: " من أسلف، فليسلف في كليلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " (3). والإجماع منعقد على صحة السلم. والسلم والسلف اسمان للعقد الذي قُصد في هذا الكتاب بيان أحكامه. وذكر الأصحاب عبارتين مشعرتين بمقصود السلم: إحداهما- أنه عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطَى عاجلاً. والثانية- أنه عقد يفتقر إلى بذل ما يُستَحَق تسليمه عاجلاً في مقابلة ما لا يستحق تسليمه عاجلاً. وقال أبو حنيفة (4): بدل عاجل في آجل. واللقب الخاص للعقد السلمُ. والسلف يستعمل فيه وفي القرض. ثم قال الأئمة في توطئة الكتاب: السلم يستند إلى سبعة شرائط: شرطان في رأس المال. وخمسة في المسلم فيه: أحدها- أن يكون ديناً في الذمة. والثاني - أن يكون موصوفاً بالصفات التي تختلف بها الأثمان والأعواض. والثالث- أن يكون معلوم

_ (1) ساقطة من (ص)، (ت 2). (2) المراد آية الدين [البقرة: 282] وانظر الدر المنثور: 1/ 370. (3) متفق عليه من حديث ابن عباس. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 392 ح 1034). (4) ر. المبسوط: 12/ 124.

القدر إن كان مما يقدّر. والرابع- أن يكون عامَّ الوجود عند المحل. والخامس- تعيين مكان التسليم على أحد القولين. وكل ما ذكرناه تراجم ستأتي مفصلة في مواضعها، إن شاء الله تعالى. 3447 - ثم مما يجب الاعتناء به أن لفظ السلم له أثر في العقد، ومتضمنه أن يكون المطلوب ديناً؛ فإن العين لا تسمى سلماً. وأما استحقاق تسليم رأس المال في المجلس، فلا يتلقى من اللفظ، وإنما هو يعتدّ بمثابة التعبد برعاية التقابض في بدلي العقد في الصرف وما يلتحق به. فلو قال الرجل: اشتريت منك طعاماً صفته كذا وكذا بهذا العبد، فقال: بعته منك بهذا. فهل يثبت حكم السَّلم؟ فعلى وجهين ذكرهما صَاحبُ التقريب وغيره: أحدهما - أنه يثبت حكم السلم من كل وجه، ويشترط فيه إقباض رأس المال في المجلس، ويمتنع الاعتياض عن المسلم فيه. والوجه الثاني - لا يثبت حكم السلم، ولا يجب تسليم الثمن المعيّن في المجلس. وعلى هذا الوجه في الاعتياض عن المسلم فيه تردّدٌ: فمن أصحابنا من خرّجه على قولين في جواز الاعتياض عن الثمن، وقد تقدم ذكرهما. ومنهم من قطع بمنع الاعتياض، وإن لم يُثبت للعقد حكم السلم؛ فإن الموصوف في الذمة مقصودُ الجنس، فكان كالمبيع المعيّن في كونه مقصودَ العين. والغالب على الأثمان قصدُ المالية لا قصدُ الجنسِ. ومما يتعلق بالكلام على اللفظ أن الرجل إذا قال: أسلمت هذا الحمار أو هذا العبد في ثوبك هذا، وذكر لفظ السلم، ولم يف بحكمه وشرطه، فلا شك أن ما جاء به ليس بسلم. وهل ينعقد بيع العين بهذا اللفظ؟ فعلى قولين ذكرهما القاضي: أحدهما - لا ينعقد اعتباراً باللفظِ، والثاني - ينعقد نظراً إلى المعنى، وليس البيع إلا تمليك مال بمال يتواجب بين المتعاقدين. وهذا أصلٌ طرده القاضي. والمسألة التي ذكرناها في آخر البيع من حمل البيع المقيد بنفي الثمن على الهبة أبعد عما ذكرناه الآن. وحاصل الأصل راجع إلى أن الاعتبار بما يفهمه المتعاقدان من اللفظ، أو بمعنى اللفظ في وضعه.

فصل قال: " وقد أذن الله تعالى في الرهن والسلم ... إلى آخره " (1). 3448 - هذا وإن كان من كتاب الرهن، فلا بد من ذكره؛ إذ ذكره الشافعي- رحمة الله عليه- فالرهن بالمسلم فيه جائز، وإذا ثبت بتفسير ابن عباس أن الدين المذكور في آية المداينات هو السلم، وقد قرنه الله تعالى بالرُّهُن المقبوضة، فينبغي أن يتوثق مستحق السَّلم بالرهن [أو] (2) الحَميل. أمّا الرهن، فغرضه الأظهر الوثيقةُ، فإذا حل السلم وامتنع المسلم إليه، واستمكن المرتهن من إثبات حقه في مجلس القاضي، تولى القاضي بيع الرهن في حقّه. وإن لم يتمكن من إثبات حقه، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بتسليط المرتهن على بيع الرهن عند العجز عن التوصّل إلى ذلك بالحكم والقضاء. ومنهم من خرّج ذلك على ما إذا ظفر الإنسان بمال من عليه الحق. وفيه تفصيل سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. وإن كان بالمسْلم فيه (3) حَميلٌ (4)، طالبه المسلِمُ [بحقه] (5) بالمحل، فإذا أدّاه وكان ضمن بالإذن، رجع على المضمون عنه. على تفصيلٍ يشتمل على خلافٍ ووفاقٍ في المسائل. وإذا ثبت له الرجوع، نُظر (6) في المضمون. فإن كان مثلياً، رجع بمثل ما ضمن، وإن كان من ذوات القيم، فيرجع بالقيمة أو بالمثل، فعلى وجهين كالوجهين في القرض؛ فإن الضامن في حكم المقرض للمضمون عنه ما يرجع به عليه، وهذا بيّن. قال القاضي: ولو قال أحد من في السفينة لصاحبه: ألق متاعك في البحر، فإذا

_ (1) ر. المختصر:2/ 206. (2) في الأصل: والحميل. (3) في (ص)، (ت 2): إليه. (4) الحميل: الكفيل. (5) ساقطة من الأصل. (6) في (ص)، (ت 2): رجع.

ألقاه وكان مثلياً، ضمن المستدعي مثلَه. على تفصيل يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وإن كان من ذوات القيم، فيضمن له القيمة أو المثل، فعلى الخلاف المذكور في القرض. وهذا فيه احتمال؛ من جهة أنه ليس بإقراضٍ على الحقيقة. وإنما هو استدعاء إتلافٍ لمصلحة. وهو قريب من تعاطي المضطر أكل طعام الغير، فالغالب على الظن أن القاضي يسلم القطعَ في ذلك بالرجوع إلى القيمة إذا كان المتلفُ من ذوات القيم. فصل قال: " وإذا جاز السَّلف في التمر السنين ... إلى آخره " (1). 3449 - يجوز السلم في المنقطع حالة العقد عندنا إذا كان يغلب على الظن عمومُ وجوده عند المحل. وشرط أبو حنيفة (2) أن يكون الجنس المسلمُ فيه موجوداً حالة العقد، وشرط ألا يكون مما ينقطع بين العقد والمحل. واحتج الشافعي عليه بما رواه ابن عباس: " أن أهل المدينة كانوا يسلفون في التمر السنة والسنتين ". ولا يكاد يخفى أن من أسلف في التمر سنتين، فالتمر ينقطع في الأثناء. ومعنى المذهب مذكور في (الأساليب). وإذا أسلم في شيءٍ ببلد، وكان لا يوجد مثله في ذلك البلد، ويوجد فيما عداه من البلاد والقرى، فإن كان البلد الذي يعم وجود المسلم فيه قريباً من بلد العقد، صحَّ. وإن كان بعيداً، لم يصح. 3450 - ثم قال الأئمة: لا يعتبر فيما أطلقناه من القرب والبعد مسافةُ القصر والقصورُ عنها.

_ (1) ر. المختصر:2/ 206. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ مسألة: 1075، طريقة الخلاف: 346 مسالة: 145، البدائع: 5/ 211.

وهذا مما يجب الاعتناء فيه بتقريب مأخذ يخرجه عن عماية الإجمال؛ فإن القول في مثله ينتشر. ولا ضبطَ في قول القائل: إن كان بحيث يشق النقل لم يصح السلم، وإن كان بحيث لا يشق النقل يصح. وقد يقرب في هذا أن يقول: إن جرت العادة بنقل ذلك الجنس إلى ذلك البلد، يجوز (1)؛ فالمسلم فيه مقدور على تسليمه. وإن كان ذلك لا يعتاد، فهو ملتحق بما لا يقدر عليه. ولا اعتبار بما ينقله آحاد الناس للتحف. وإنما الاعتبار بما ينقل لأغراض المعاملة. وهذا لا بأس به، وإن (2) قيل: المتبع هو الذي يلقى متحمِّلُ النقل مشقةً ظاهرة خارجة عن اعتياد النقل. وقد أجرى الشافعي في هذا لفظاً، فليتأمله الناظر، فقال: " هو كما لو أسلم في رطب البصرة، وبلد المسلم من بلاد خُراسان ". وهذا سرف في تصوير التعذّر، وهو يحصل بدون هذا. وبالجملة السلم عقد إرفاق من الجانبين، والمحكَّم فيما ينتشر من أحكامِ المعاملة العرفُ، فكل مشقة لا يبعد في غرض المعاملة أن تحتمل لاستعمال رأس المال، فتلك المشقة لا تقدح في صحة السَّلم، وكل مشقة لا تحتمل في أغراض التعامل، فلا يبتنى جواز العقد عليها. وليس للفقيه أن يصور غرضنا وراء المعاملة، مثل أن يتفق تضييق وإرهاق في مصادرة وحاجةٍ حاقة في الرضا بمقاساة الكُلف للتجارة من الضرورة الناجزة. فلا اعتبار بأمثال هذه الأحوال. ويمكن أن يقال: سبيل الضبط أو القرب منه أنّ النقل إذا كان يُلحق المنقولَ بما لا يعم إمكان الوصول إليه، فهو من المتعذر الذي لا يجوز السلم فيه. وهذه العبارات تُشير إلى تقريب واحد.

_ (1) عبارة (ص): بنقل ذلك الجنس في السلم يجوز، والمسلم فيه مقدور على تسليمه. وعبارة (ت 2): ينقل ذلك الجنس إلى ذلك البلد، فالمسلم فيه مقدور على تسليمه. (2) جواب الشرط مفهوم من الكلام قبله.

فصل قال: " فإن نفد الرطب أو العنب حتى لا يبقى منه شيء ... إلى آخره " (1). 3451 - مقصود الفصل ذكر حكم انقطاع جنس المسلم فيه، والوجه أن نبدأ بالحكم، ونُجري فيه ما يليق، ثم نذكر دقيقةً في معنى الانقطاع. فإذا انقطع جنس المسلم فيه حالة المحل لآفةٍ أو جائحةٍ، فللشافعي قولان: أحدهما - أن العقد ينفسخ. والثاني - أنه لا ينفسخ. ولكن للمسلم حق الخيار في الفسخ، وله الانتظار إن أراد إلى زمان الإمكان. 3452 - توجيه القولين: من قال بانفساخ العقد احتج بأن عقد السَّلم تناول ثمرةَ السنة المعينة، فإذا انقطعت، فقد فات المعقود عليه، وكان هذا بمثابة ما لو اشترى قفيزاً من صُبرة، ثم تلفت الصبرة، فالعقد ينفسخ. ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن المسلم فيه دين، والدين متعلق بالذمة، ولا اختصاص له بوقتٍ وزمان، وأما الآجال (2) لإثبات أوقات المطالبات. ولعل القياسَ هذا القول. ثم انقطاع الجنس في وقت المحل يضاهي إباق العبد المبيع عن يد البائع، فالبيع لا ينفسخ بإباقه، ولكن يثبت الخيار للمشتري، كذلك يثبت الخيار في مسألتنا للمسلم، فإن فسخ العقد، فذاك، وإن رأى إنظار المسلم إليه إلى قابل، فله ذلك. ثم قال الأصحاب: إذا أنظرة، ثم بدا له أن يفسخ، فله ذلك. وقد وجدت الطرق متفقة في هذا. وشبه الأصحاب هذا برضا المرأة بالمُقام تحت زوجها المُولي بعد انقضاء مدة

_ (1) ر. المختصر: 2/ 206. وعبارة المختصر الذي بأيدينا: " وإن فُقد الرطب أو العنب ... ". (2) سقوط الفاء من جواب أما وارد في غير ضرورة الشعر، وهو مذهب الكوفيين. وله شواهد من الحديث الشريف، (ر. شواهد التوضيح والتصحيح لابن مالك: 195، 196).

الإيلاء، فإذا هي رضيت بعد توجه المطالبة بالمُقام، ثم ندمت، وأرادت رفع زوجها إلى مجلس الحاكم، فلها ذلك. وهذا تشبيه مسألة بمسألةٍ. والمعنى المعتمد أن الإنظار -في التحقيق- تأجيلٌ والأجل لا يلحق بعد لزوم العقد، وإذا لم يلحق الأجل، لغا الإنظار. وكان شيخي يقول: حقه في الطلب يتجدد حالاً على حالٍ، ورضاه ينحصر على وقته. وهذا في قبيل إسقاط الحقوق يضاهى الإعارة في قبيل التسليط على الانتفاع. وكان يقطع بهذا المسلك في الخيار الذي ثبت للمشتري عند إباق العبد. فإن قيل: أليس الإباق من قبيل العيوب التي يثبت الرد بها، ومن رضي بالعيب، لم ينفعه الندم، ولم يملك الرجوع؟ قلنا: اعتياد الإباق عيب، واتفاق الإباق لا يُلحق بالعيوب. ثم غرضنا لا يختص بهذا. ولو غصب غاصبٌ ذلك العبد وعيّبه، فغرضنا يحصل فيه. ومما يتعلق بهذا الفن أن المشتري في العبد الآبق: لو قال أبطلت حقي من الفسخ، فالمذهب أن حقه لا يبطل وإن صرح به. وكذلك القول في السَّلم إذا صرح بإبطال حقه من الفسخ. والتفريع على أن السلم لا ينفسخ. وقد أبعد بعض أصحابنا؛ فقال عن عجز وخَوَر: " يبطل حق الفسخ؛ فإن مستحق الحق أبطله ". وإن كان يخرج هذا على أصلٍ، فأقرب الأمور إليه الإبراء عما سيكون وقد ثبت سبب وجوبه. 3453 - فانتظم من مجموع ما ذكرناه أن هذا النوع من الفسخ لا يُبطله التأخير، ولا يُبطله بذلُ اللسان بالإنظار من غير تصريح بإبطال خيار الفسخ. وإن فرض التصريح، فهو على التردد الذي ذكرناه، فإن حكمنا بالانفساخ، أو فسخ المسلِم (1) على القول الصحيح ونفذ فسخه، نظرنا إلى رأس المال: فإن كان معيناً في ابتداء العقد وعينُه باقٍ، فيسترده الفاسخ. وإن كان تالفاً، يرجع إلى بدله، فإن كان مثلياً، فالمثل. وإن كان متقوماً، فالقيمة.

_ (1) في (ت 2): السلم.

وليس هذا بمثابة إفلاس المشتري بالثمن والمبيع تالف؛ فإن البائع لا يملك فسخ البيع والرجوعَ بقيمة المبيع. كما سيأتي مفصلاً مشروحاً في كتاب التفليسِ إن شاء الله تعالى. والسَّبب فيه أن غرض البائع الانفراد بالمبيع (1)، والخروج عن جهة (2) المضاربة ولو فسخ البيع تقديراً ورجع (3) بالقيمة، لضارب بها (4). وسيعود هذا في مواضعه. فليكتف الناظر بالمرامز إذا أحلناه. 3454 - ولو كان رأس المال موصوفاً في الذمة أولاً، ثم عُجل في المجلسِ، فإذا تسلمه المسلم إليه، وكان عينه باقياً في يده، فهل يُسترد؟ أم للمسلم إليهِ أن يأتي ببدله؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتعين استرداد ذلك المقبوض؛ فإنه لما عُين بالإقباض آخراً، كان كالمعين أولاً. والثاني - لا يتعين؛ لأن العقد لم يتناول تلك الأعيان. وأصل هذا الخلاف أن المسلم لو ردّ المسلمَ فيه بعيب، وقال: ليس على الوصف الذي أستحقه، فهل يجعل ذلك نقضاً (5) للملك من الأصل تبيناً، أو هو نقضٌ في الحال؟ فيه اختلافٌ قدمناهُ، وعليه بنينا وجوبَ الاستبراء على المسلَم إليه إذا كان المردود جارية. فإن قلنا: ما يجري من ذلك في الموصوفات يتضمن رفع الملك من أصله، فعلى المسلم إليه وقد فسخ السلم ردُّ عين ما قبضه. وإن قلنا: يتضمن نقض الملك في الحال، فللمسلم إليه الإبدال. وهذا بيّنٌ للمتأمل.

_ (1) في (ص)، (ت 2): البيع. (2) في (ص)، (ت 2): رحمة. (3) في (ص): فرجع. (4) أىِ " لضارب بها " مع الغرماء، بمعنى أنه يضارب بسهم يساوي القيمة، منسوبةً إلى مجموع ديون الغرماء، ثم إلى ما يساوي هذا السهم من أموال المفلس عند بيعها وفاءً لديون غرمائه. (5) في النسخ الثلاث: نقصاً. (بالصاد المهملة).

3455 - وإذا انتهى الكلام إلى هذا، فنذكر ما فيه من مزيد، فنقول: أجمع أئمتنا على أن المتعاقدين لو تبايعا الدراهم بالدنانير وصفاً، ثم عجلا في المجلس، وتفرقا عن تقابض، صح ذلك وإن اعتمد العقد في ابتدائه الذمة من الجانبين، وهل يصح العقد على هذا الوجه بعبارة السلم؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي في الشرح. وهذا مأخوذ من خلاف للأصحاب سنذكره في أن السلم هل يصح في الدراهم والدنانير إذا كان رأس المال ثوباً، أو غيره؟ ولو اشتمل العقد على عوضين من أموال الربا يشترط التقابض فيهما، كالمطعومات يباع بعضها بالبعض، فلا بد من التقابض في المجلس. فلو وصفا في الشقين، ثم عجلا، وجرى التقابض كما ذكرنا في الدراهم والدنانير، ففي صحة ذلك وجهان مشهوران: أحدهما - الصحة كالنقود، والثاني - لا يصح؛ فإن الوصف يطول في العروض، وتعيين الدراهم يقرب من وصفه، ولهذا يكتفى في النقود الغالبة بالإطلاق من غير وصف، والقياس أن لا فرق؛ فإن الوصف وإن كان يطول، فإذا ذكر، فهو كالوصف الذي يقرب ولا يطول. ويتصل بهذا أنه لو استحق على رجل ديناً مستقراً، ثم اعتاض عنه دراهم معينة، صحَّ. ولو اعتاض دراهم موصوفةً، ثم عجلها في المجلس، صح. فإن لم يعجلها في المجلس نُظر: فإن كان الدين نقداً، لم يجز. وإن كان الدين عَرْضاً، ففي المسألة خلاف قدمناه في كتاب البيع. وغرضنا الآن أنا حيث نشترط التعجيل في المجلس يجوز الاعتماد [في أصل العقد] (1) على الوصف في الدراهم، وهل يجوز الاعتماد على الوصف في العروض على أن تعجل في المجلس؟ فعلى وجهين. وهذا بعينه هو الذي قدمناه. 3456 - ومما يتعلق بأطراف الكلام أن المسلم إذا فسخ السَّلم، فإن كان رأس المال قائماً، فيجوز الاستبدال عنه قبل القبض؛ لأنه وإن كان مضموناً، فليس هو ضمان مقابلة على التحقيق، وقد انفسخ العقد، والاستبدال عن الأعيان المضمونة بالقيم

_ (1) زيادة من (ت 2).

جائز، كما مهدناه في البيع. ومنع أبو حنيفة (1) الاستبدال عمَّا في يد الغير على حكم العقد المفسوخ، وليس معه متعلق من طريق المعنى. وكل ما ذكرناه فيه إذا تعذر الوصول إلى جميع المسلم فيه. فأمَّا إذا فرض التعذر في بعضه، فالقول في الانفساخ وثبوت حق الفسخ في المقدار المتعذر على ما تقدم، ثم يزداد في هذه الصورة تفريع تفريق الصفقة، وقد مضى في موضعه مفصلاً. فليعرف الفقيه الفصلَ بين أن يقبض الميسور ثم يطرأ التعذر وبين أن يطرأ التعذّر قبل قبض الميسور، وليتذكر الفرقَ إذا قبض الميسور بين أن يتلف وبين أن يكون باقياً. ولا مزيد على ما مهدناه في قواعد التفريق. وقد نجز الغرض في هذا. 3457 - وبقي علينا ما وعدناه من فضل النظر في بيان معيى الانقطاع، فممّا نستعين به في هذا ما قدمنا في الفصل السابق من تفصيل القول في أن من أسلم في جنس وهو ببلدة لا يوجد ذلك الجنس بها، فهل يكون هذا من السلم في المنقطع حالة الحلول؟ وهذا قد تمهد على قرب العهد. ونعود الآن فنقول: إن تحقق انقطاع الجنس بالكلية بأن يسلم في جنس لا يوجد إلا في بلده، ثم اتفق انقطاع ذلك الجنس في تلك السنة، هذا هو الانقطاع المحقق، الذي يجري فيه القولان في الفسخ والانفساخ. فأمّا إذا انقطع الجنس في تلك البلدة، وكان النقل إليه ممكناً على حدٍّ لو فرض السَّلم في البلد، لعُد المسلم فيه بتقدير النقل من الممكنات، فهذا ليس بأنقطاع. وإن كان النقل عسراً، بحيث يمتنع السلم، نُظر: فإن كان لا يتصوّر أصلاً، مثل أن يكون المسلم فيه جنساً لو نقل من مسافة شاسعة، لفسد، فهذا انقطاع أيضاً. وإن كان النقل ممكناً على عسر، فالأصح القطع بأن السلم لا ينفسخ،

_ (1) بدائع الصنائع: 5/ 233 وما بعدها.

[فإن] (1) قول الانفساخ إنما يجري إذا جعل ثمن السنة مع إضافة المستحق إليها بمثابة صُبرة بيع صاع منها. فأما إذا كان الإحضار ممكناً على عسر، فهو كإباق العبد إذا طرأ، فيثبت خيار الفسخ، وإن كان يمتنع إيراد العقد عليه. ومن أصحابنا من يجعل التعذر الذي يمتنع بسببه السلم ابتداء إذا طرأ بمثابة الانقطاع الحقيقي، حتى [يُخرّج] (2) قولَ الانفساخ. وهذا القائل يزعم أن التعذر في عقد الغرر كالتلف الحقيقي، وبه يتوجه قول الانفساخ في أصله، مع أن المسلم فيه دينٌ. 3458 - ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل أنه إذا أسلم في جنس يعم وجوده غالباً عند المحل، فاتفق انقطاع الجنس قبل المحل على وجه يعلم أن الانقطاع يدوم في السنة. قال القاضي: في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا ينفسخ العقد في الحال على قول الانفساخ، ولا يثبت الخيار على قول الخيار، حتى يحل الأجل. فإذا حل، فإذ ذاك يجيء القولان. والقول الثاني - أنه يتنجز قبل المحل ما ثبت عند الحلول. قال: وهذا يقرب من خلاف في الأيمان، وإن كان مأخذ الأيمان يبعد عن مأخذ الأحكام. وذلك الأصل هو أن من حلف ليأكلن هذا الطعام غداً، فتلف الطعام قبل دخول الغد، فهل يحنث في الحال؟ أم يتأخر الحنث إلى مجيء الغد؟ فيه خلاف سيأتي ذكره، ووجه الشبه بيّن. فصل قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً عن بيع ما ليس عنده، وأجاز السلف ... إلى آخره " (3). 3459 - غرض الشافعي رحمه الله- الكلام على حديث حكيم بن حزام، وعلى الأخبار الدالة على السلم، ولم يقصد نقلَ إجازة السَّلف، مع قول رسول الله صلى الله

_ (1) في الأصل، (ص): وإن. (2) في الأصل: يجري. (3) ر. المختصر: 2/ 206.

عليه وسلم في متن حديث واحد، ثم لا يخفى وجه الكلام، فالذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً عنه في بيع الأعيان من غير تقدير وصفٍ والتزامٍ في الذمة، وفي حديث حكيم ما ينبه على هذا؛ فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليأتيني فيساومني السلعة وليست عندي، فأبيعها منه، ثم أدخل السوق، فأشتريها وأسلمها إليه. فقال عليه السلام: " يا حكيم لا تبع ما ليس عندك " (1). فصل قال: " وإذا أجازه صلى الله عليه وسلم بصفةٍ مضموناً إلى أجل، كان حالاً أجوزَ، ومن الغرر أَبْعَدَ ... إلى آخره " (2). 3460 - السلم يفرض على ثلاثة أقسام: مؤجل- وهو جائز بالاتفاق. وحالٌّ مقيد بالحلول- وهو جائز عند الشافعي إذا كان المسلمُ فيه عامَّ الوجود حالة العقد، خلافاً لأبي حنيفة (3)، ومعتمد المذهب أن الحلول لا يجرّ إلى العقد غرراً وعسراً، وإن أثر في قطع مَرفِق (4)، فمسوّغٌ تسويغ الرخص، معلقاً بغرر، فإذا وقع التراضي على حذفه لم يضر. وأما التأجيل في الكتابة فمستَحق، واعتمد بعض الأصحاب فيه تحققَ عجز المكاتب عن الوفاء بحق الحلول، وهذا لست أرضاه؛ لما سأذكره في الكتابة إن

_ (1) حديث: " لا تبع ما ليس عندك " رواه أحمد: 3/ 202، 434، وأبو داود: بيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، ح 3503، والترمذي: بيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عنده، ح 1232، والنسائي: بيوع، باب بيع ما ليس عند البائع، ح 4613، وابن ماجه: التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، ح 2187، وابن حبان: 7/ 228 ح 4962. وانظر التلخيص: 3/ 9 ح 1127. (2) ر. المختصر:2/ 206، 207. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 6 مسألة 1069، والأصل: 5/ 2، ومختصر الطحاوي: 86، ورؤوس المسائل: 298 مسالة: 187. (4) مرفق: بفتح الميم وكسرها. والمرفق ما يرتفق به وينتفع ويستعان. (معجم)، والمراد هنا مَرْفِق التأجيل.

شاء الله تعالى. والمعتمد أن الكتابة حائدة عن قوانين المعاملات، وحيْدُها محتملٌ لمكان رِفق، فإذا زال الرِّفق، فارق العقدُ موردَه الشرعي، والسلم موضوع على مصالح المتعاملين، وليس نائياً نأيَ الكتابة. فأما القسم الثالث من السلم- فهو ما يفرض مطلقاً من غير تعرض لأجل أو حلولٍ، وقد اشتهر خلاف الأصحاب فيه، فذهب بعضهم إلى أن العقد لا يصح؛ فإن المطلق في العقود محمول على العادة، وللعادة وقعٌ عظيم في المعاملات، وقد عم العرف بتأجيل المسلم فيه، فالمطلق يحمل على الأجل، فإذا لم يبيّن، كان مجهولاً. والأقيس الحكم بصحة السَّلم؛ فإن الإطلاق مشعر بالحلول في وضعه، فإنّه يتضمن الالتزام، وكل ملتزِم مطالَب، وعليه بنينا حملَ الأجرة على الحلول في الإجارة المطلقة. فصل قال المزني: " والذي اختاره الشافعي أن لا يسلف جزافاً من ثياب ولا غيرها ... إلى آخره " (1). 3461 - مقصود الفصل الكلامُ فيما يصح أن يكون رأس مالٍ، فنقول: إذا كان رأس المال مشاراً إليه، ولكن كان جزافاً، ففي صحة السلم قولان: أحدهما - وهو الأقيس الصحة، وهو اختيار المزني، ووجهه أن المعيّن المشار إليه معلوم في عقود [المعاوضات] (2)، والإشارة مغنيةٌ عن القدر والوصف، إذا لم يكن علينا تعبد في رعاية المماثلة، ولم يكن على العاقد نظر في جهة الغبطة لطفل أو غيره ممن يليه، وهذا قياسٌ ظاهر. والقول الثاني - أنه لا بد من معرفة القدر والوصف، كما في المسلم فيه، والسلم

_ (1) ر. المختصر:2/ 207. (2) في الأصل: المعاملات.

عقد غرر، وقد يفرض فيه فسخ أو انفساخ، ثم تمس الحاجةُ إلى رجوع رأس المال، وينتظم منه نزاع يعسر فصله، والذي يليق بالحال أن العقد إذا كان مبناه على احتمالِ غررٍ لمكان غرض، فينبغي أن يُتوقَّى من الغرر الذي لا يقتضيه ذلك المرفق. ورأس المال إذا لم يقدّر بهذه المثابة. قال المحققون: اختلاف القول في هذا يقرب من اختلاف القول في الجمع في صفقة واحدة بين سلمٍ وبيع، ووجه الشبه أنا نقدر تطرق الفسخ إلى أحدِ العقدين دون الثاني، ثم يفضي القول فيه إلى نزاع عند محاولة التوزيع في الفسخ والإبقاء، فينبغي أن يبعد السلم من هذا، ولا يكتفَى بحصول العلم والإحاطة في الحال. ثم نحن في طرد القولين لا نفصل بين المكيل والموزون، وبين ما ليس كذلك. فلو جعل رأس المال ثوباً غيرَ معلوم الذُّرعان. اطرد القولان. وأبو حنيفة (1) يفصل بين المقدور وغيره، فيُبطل السلمَ إذا ترك تقدير ما يقبل التقدير، ولا يبالي بتطرق الجهالة إلى الثياب وغيرها إذا جعلت رأس مال. وهذا تحكّم؛ فإن التقدير فيما يقبل التقدير إنما يطلب لما فيه من الإعلام المنافي للجهالة، والجهالة هي المحذورة في عاقبة السَّلم، فإذا تحققت في الثيابِ، كانت كما لو تحققت بترك المقدار فيما يقبل [التقدير] (2). ومما يتصل بهذا أَنَّ رأس المال إذا أحيط بصفاته بطريق العِيان، ولكن كان مجهول القيمة عند المتعاقدَيْن أو عند أحدهما، فالذي ذهب إليه الأكثرون القطعُ بصحة السلم. وقال آخرون: الجهل بالقيمة يتضمن تخريج المسألة على قولين؛ فإن التوزيع يقع باعتبارها. والتراجع يكون بحسبها. 3462 - ولو كان العوض جزافاً في الإجارة، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجراه مجرى رأس المال في السلم، حتى يخرّج على القولين. وليس عوضُ الإجارة عند

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 8 مسألة 1073. (2) في الأصل، (ص): المقدار.

هذا القائل كعوض البيع؛ فإن الإجارة لا ثبات لها إلى انقضاء مدتها؛ فإن الدار إذا سلمت، لم ينقطع غررُ الإجارة؛ إذ هي عرضةُ الانفساخ إذا تلفت الدار في أثناء المدة، ولو عابت في يد المستأجر، تعرضت الإجارة لخيار الفسخ، فشابهت الإجارةُ السلمَ فيما ذكرناه؛ لكنها تفارقه في أن التسليم في عوضها ليس شرطاً. ومن أصحابنا من قطع بأن الأجرة في الإجارة على قياس العوض في البيع. والإجارة لا تعد من عقود الغرر، وتقدير التعذر في مقصودها ليس كتقدير التعذر في السلم. 3463 - ولو كان السلم حالاًّ، فمن أئمتنا من قطع بأن رأس المال لو كان جزافاً فيه، جاز، وإنما القولان في السلم المؤجل؛ فإنه المعرض للخطر، والسلم الحال تعامل على ناجز. وهذا اختيار القاضي. ومن أئمتنا من قال: لا فرق بين السلم الحال والمؤجل في تخريج المسألة على قولين إذا كان رأسُ المال جزافاً. 3464 - ولو كان رأس المال دُرّة لا يصح السلم فيها، فضبطها بالوصف غير ممكنٍ. وإذا انضم إلى ذلك كونها مجهولة القيمة. فهذا من صور القولين إذا كان السلم مؤجلاً، وإن كانت قيمتها معلومة، فيعتبر ضبط وصفها. فإن حَرَصا على ذكر الوصف، فالأصح صحة السلم. فإن قيل: لم يمتنع السلم فيها مع إمكان وصفها؟ قلنا: لعزة وجودها، وقد ذكرنا أن الشرط في المسلم فيه عموم الوجود، ولا معنى لاشتراط هذا في رأس المال. وقال بعض أصحابنا: كل ما لا يصح السلم فيه لا يصح جعله رأس مالٍ على أحد القولين. ومثل هذا وإن ذكر في الكتب محمول عندي على ما إذا لم يطلع على وصفه أو قيمته، غير أن معظم الناس لا يعتنون بنهايات البيان، وإذا فصل مفصل، كان ظاهر تفصيله مخالفاً لإطلاق الأولين، ولا مخالفة.

فصل 3465 - قال: " والذي أحتج به في تجويز السلم في الحيوان ... إلى آخره" (1). السلم في الحيوان جائز عند الشافعي، ولا يشك الفقيه أنه لا يجوز السلم في كل حيوان، فإنه ما من جنسٍ يطلق القول بجواز السلم فيه إلا وفيه ما يمتنع السلم فيه على ما سنصفه الآن. والمرعي فيما يجوز السلم فيه أن يكون قابلاً للوصف المعتبر. عامَّ الوجود على الوصف المعتبر، والقول في الوصف المعتبر لم يعتنَ بضبطه على ما ينبغي، والذي أراه أن نذكر مسائل السَّلم على ترتيب السواد (2)، ونورد في كل مسألة ما يليق بها. ثم نختم المسائل. ونعطفُ عليها ما يضبط القول في الوصف المعتبر. ففي الحيوانات ما [تضبطه] (3) الأوصافُ المقصودة، مع بقاء عموم الوجود. ثم استدل الشافعي على جواز السلم في الحيوان بأخبار وردت في استقراض الحيوان، وعلم الشافعي أن المخالف في السلم في الحيوان يخالف في استقراضه. ومبنى مسائل السلم على ذكر ما يجوز السَّلم فيه وما لا يجوز على الجملة، حتى إذا انتجز الكلام في الجمل، انعطف الشافعي على ما أجمله، وذكر مجامع الوصف في كل فن. وكنت أوثر أن أجمع مسائلها في تقاسيم ضابطة، ولكن الجريان على ترتيب السواد أولى.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 257. (2) السواد: المراد به مختصر المزني، فلفظ السواد يعني هنا: الأصل، أو المتن. ويتردّد في كلام الأئمة الماضين وكتبهم بهذا المعنى كثيراً. (3) في الأصل: تضبط.

فصل 3466 - أجمع الأئمة على أن الاعتياض عن المسلم فيه لا يجوز؛ فإنه وإن كان موصوفاً، فهو كالبيع في كونه مقصوداً، وإذا امتنع التصرف في المبيع قبل القبض مع فرض توفير الثمن، فالمسلم فيه وهو في الذمة لم يتحصل بعدُ، بذلك (1) أولى. وذكرنا في الاعتياض عن الأثمان قولين في كتاب البيوع. وغرض هذا الفصل أن النقد إن التحق به باءُ الثمنية، فهو ثمن، وفي الاعتياضِ عنه القولان. وإن اتصل باءُ الثمنية بثوبٍ أو غيرِه، فقد ذكرنا في مسائل البيع خلافاً في أنه هل يكون ثمناً. فلو قال: اشتريت منك عشرة دنانير -ووصفها- بهذا الثوب، وقد اتصل باء الثمن بالثوب، وأقيم النقد على هذه الصيغة مقام المثمن. فإن قلنا: الدراهم ثمنٌ كيف أثبتت في العقد، فيجوز الاعتياض عنه على أحد القولين في هذه الصورة. وإن قلنا: الثمن ما اتصل به باء التثمين، فالثوب ثمن. ولا يجوز الاعتياض عن الدراهم قولاً واحداً. وإذا منعنا الاعتياض على هذا الترتيب، فهل يجب تسليم الثوب في المجلس؟ فعلى وجهين، قدمنا أصلَهما. فإن اتبعنا المعنى، فالعقد سلمٌ، وإن اتبعنا اللفظ، فلم يجر لفظ السلم. فلا يجب التسليم في المجلس. وممّا يتعلق بهذا الفصل أن الفلوس إذا جرت في بعض البلاد وراجت رواج النقود، فقد ذهب شرذمةٌ من الأصحاب إلى أنها تلتحق بالنقود في الأحكام. ومنهم من قال: ليس لها حكم النقود، وإنما هي كالأعواض الرائجة، وإن كسدت، فهي كالأعواض الكاسدة. فإذا تبين هذا بنينا عليه أنه لو قال: اشتريت منك مائة فلس بهذا الثوب، فإن قلنا: الفلوس من العُروض، فليس في الصفقة ما هو ثمن في جوهره. وإن قلنا: الفلوس لها حكم النقود، فإذا قال: اشتريت منك مائة فلسٍ بهذا الثوب، فهو كما لو

_ (1) في (ص) و (ت 2): ذلك.

قال: اشتريت منك مائة درهم بهذا الثوب. وقد سبق الكلام فيه. وإذا كسدت الفلوس فنادى منادي السلطان بالنهي عن التعامل عليها، فتنقلب إذ ذاك عروضاً بلا خلاف. ثم جعل أبو حنيفة (1) كساد الفلوس بمثابة تعذر تسليم المعقود عليه. واضطربوا وراء هذا، قال منهم قائلون: هو كتلف المعقود عليه. وقال آخرون: هو كإباق العبد. واضطربوا على وجوه في الفَلَس لسنا لها. ومأخذها ما ذكرناه. والمذهب أن الفلوس في جوهرها من العروض. فصل قال: " ولو لم يذكر أجلاً، فذكراه قبل أن يتفرقا، جاز ... إلى آخره " (2). 3467 - إذا عُقد السلم مطلقاً، وحكمنا بصحته حملاً على الحلول، وهو الأصح. فلو (3) أثبتا أجلاً في مجلس العقد، فظاهر النص أن الأجل يلحق، وهذا مشهور عند الأصحاب معدود من أصل المذهب. وفي المسألة وجه آخر، أن الزوائد لا تلحق (4 في جواز العقد، كما لا تلحق 4) بعد لزومها. وهذا منقاس. وإن كان المشهور غيره. وقد استقصينا القول في هذا في كتاب البيع. 3468 - ولو ذكر المتعاقدان في السلم، أو في بيع الأعيان أجلاً مجهولاً في العوض الثابت في الذمة، ثم حذفا (5) تلك الجهالة في مجلس العقد، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن الحذف لا ينفع، وفساد العقد مستمر. فإن أعاداه على الصحة، كان عقداً مبتدءاً.

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 5/ 237. (2) ر. المختصر: 2/ 207. (3) في (ص)، (ت 2): ولو. (4) ما بين القوسين ساقط من (ص)، (ت 2). (5) الحذف هنا بمعنى القطع، فمعنى " حذفا تلك الجهالة ": أي قطعا الجهالة بالتعيين.

وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً حكاه، معظم الأصحاب عنه. وهو أنهما لو حذفا الأجل المجهول في مجلس العقد، فهل ينحذف حتى يحكم بصحة العقد؟ واحتج عليه بأن [قال] (1) المتعاقدان في مجلس العقد بمثابتهما بين التواجب (2)، فكأن العقد لا قرار له ما لم يتفرقا. وهذا الوجه مزيف لا يستقيم على قاعدة مذهب الشافعي؛ فإن المجلس إنما يتعلق به الحكم إذا صح العقد، وإذا ذكر في صيغته مفسدٌ، فلا عقد، وإذا لم يكن عقدٌ، فلا مجلس. ثم تكلم أصحابنا على هذا الوجه الضعيف من وجهين: أحدهما - يتعلق بضبط القول في مجرى هذا الوجه وبيان الأحكام التي يجرى فيها هذا الوجه، والأحكام التي لا يجري فيها. لا خلاف أن الثمن والمثمن لو أثبت أحدهما على الفساد، فلا ينفع إصلاحهما في مجلس العقد. وهذا الوجه جارٍ في الأصل كما ذكرناه. واختلف أصحابنا في جريانه في الخيار الفاسد إذا شرط، والرهنِ والحَميل، وزوائدِ العقد: فمن أصحابنا من طرد هذا في جميع الزوائد التي تثبت على الفساد. والأصح تخصيص ما ذكرناه بالأجل؛ وسببه أن المتعاقدين في مجلس العقد على حكم الأجل في الثمن؛ من قِبَل أن البائع لا يملك مطالبة المشتري بالثمن في المجلس، وعاقبة المجلس مجهولة، فكان الأجل مجهولاً؛ فلم يبعد أن يصلح الأجل في مجلس الخيار، والكفيل والحميل ليسا في هذا المعنى، كالأجل. وأمّا شرط الخيار الزائد إذا حذف في المجلس، فهو أقرب إلى الأجل من الكفيل

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. ومن عجب سقوطها من النسخ الثلاث. ويشهد لصحة تقديرنا اتفاق النسخ الثلاث على لفظ (المتعاقدان) بالألف بعد (أن) مما يشهد أنها بسكون النون، وليست (أن) المشددة. إلا إذا قلنا: إن الإمام جرى هنا على لغة من يلزم المثنى الألف في كل حال، وعلى هذا تكون زيادتنا لـ (قال) خطأ. (2) يعني أنهما ما داما في مجلس العقد، فكأنهما ما زالا في مجال التخاوض والتفاوض، وإيجاب كل طرف على الآخر، ما يريده من العقد.

والحميل؛ فإنه تأخيرٌ في لزوم العقد وليس كالأجل؛ فإنه يتصور رفعه على البت (1). والخيار يتصف به العقد. والأجل فُسحةٌ في عوض العقد. والحاصل مما رتب في ذلك أن ما صار إليه الجمهور أن الفساد لا يصلح إلا باستئناف العقد. وقال صاحب التقريب: فساد الأجل يصلح. وقال غيره: نعم فساد الأجل يصلح، وكذلك فساد الرهن، والحَميل، والخيار. وقال آخرون: لا يصلح إلاّ فسادُ الأجل والخيار. فهذا ما تكلم الأصحاب فيه. 3469 - ومما ذكروه تفريعاً على هذا الوجه البعيد أن العقد لو شرط فيه الخيار على الصحة، وأثبت فيه أجلٌ مجهول، وتفرق المتعاقدان، وزمان الخيار باقٍ. فهل يكون الإصلاح في زمان الخيار بعد التفرق بمثابة الإصلاح في المجلس؟ فعلى جوابين: قال قائلون: زمان الخيار بمثابة زمان المجلس في أن جهالة الأجل يصلح. وهذا بعيد؛ فإن مجلس العقد في حكم الحريم للعقد، فلا يقاس به الخيار المستمر بعد التفرق. وكل ذلك خبط، وخروج عن حد المذهب، وجريان على مجاري مذهب أبي حنيفة. والذي صح عندي من قول صاحب التقريب: أنا إذا جعلنا (2) إطلاق السَّلم لا يجوز لتردده بين الحلول والتأجيل. فلو فرض إطلاقه، ثم تبين حلوله أو تأجيله في المجلس، فقد قال صاحب التقريب: لا يبعد أن يحتمل ذلك؛ فإن العقد لم يشتمل على جهالة محققة.

_ (1) في (ص)، (ت): اللبث. (2) في (ص)، (ت 2): قلنا.

وهذا في هذا الطَّرف بعيد أيضاًً، فإنا إذا حملنا إطلاق اللفظ على التردد، لزم القضاء بالفساد، وإذا تحقق الفساد، فلا عقد ولا مجلس. فصل قال: " ولا يجوز في السلف حتى يدفع الثمن قبل أن يفارقه ... إلى آخره" (1). 3470 - ذكرنا أن من الشرائط في السلم تسليمَ رأس المال في المجلس. وهذا متفق عليه. ولو فرض التفرق قبل قبضه، فسد العقد، ولو جرى القبض في البعض دون الباقي وحصل التفرق، فسد العقد في القدر الذي لم يجر القبض فيه، ويسقط بنسبته من المسلم فيه، وهل يبطل في الباقي؟ كان شيخي يقول: إذا اشتملت الصفقة أولاً على حلالٍ وحرامٍ؛ ففي انعقاد الصفقة في الحلال قولان. وإذا انعقد العقد على عبدين مثلاً، ثم تلف أحدهما قبل القبض، وانفسخ العقد فيه، فهل ينفسخ في العبد الباقي؟ فعلى قولين مرتبين على التفرّق (2) في الابتداء والانتهاء. [والانتهاء] (3) أولى بقبول التفرّق (4)؛ لأنه صح أولاً، ثم اختص الطارىء بالبعض. فإذا وضح طرق الكلام، فالتفرق في قبض رأس المال بين الدرجتين، وهو أقرب إلى التفرق في الابتداء من مسألة العبدين؛ فإن قبض رأس المال ركن السلم، فالانفساخ فيه جرى بأن يشبه بالفساد. فليتخيل الناظر ثلاث مراتب: إحداها- العقد. والثانية- ركن العقد. والثالثة- طريان الانفساخ على البعض بعد تمام العقد بشرائطه. ولو سلم رأسَ المال في المجلس، وتفرقا، ثم وجد المسلَمُ إليه برأس المال عيباً، فله رده. وإذا رده، كان ذلك فسخاً في العقد بعد الصحة وتوفر الأركان. ولو

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207. (2) في (ص)، (ت 2): التفريق. (3) مزيدة لاستقامة النص. (4) في (ت 2): التفريق.

تعذر ردُّ رأس المال بتلف حكمي أو حسِّي، فيثبت للمسلم إليه الرجوعُ بالأرش، حتى إذا كان العيب الذي حصل الاطلاع عليه مقدارَ عشر القيمة يسقط (1) في مقابلته عشرُ المسلم فيه، وهذا هو الأرش. 3471 - ويجب وراء هذا التنبّهُ لدقيقتين: إحداهما- أن هذه الصورة لا تلتحق بتفريق الصفقة، حتى يقال: " ارتفع العقد في عشرٍ، فهل يرتفع في التسعة الأعشار؟ فعلى قولين "، بل لا يرتفع في التسعة الأعشار قولاً واحداً. والسبب فيه أن القبض قد جرى في رأس المال. وهذا المستدرك لم يتضمن تبعيض القبض في رأس المال، والدليل عليه أنه لو كان باقياً، أمكن الرّضا به. ولكن أثبت الشرع طريقاً في استدراك الظُّلامة، وجِهةُ (2) الاستدراك عند البقاء (3) الرد، وعند الفوات الأرشُ. والعقد لم يختل ركنه؛ فالعشر إذن محطوط. ولا يقال: انفسخ العقد فيه، بل حطه مستحق. فهذا بيان ما ذكرناه. ومما وجب التنبّه له أنه إذا سقط العشر مثلاً، فلا خيار لمن يحط العشر عن استحقاقه. ونحن نثُبت الخيار لخيالات تنحط عن هذا. ولكن الوجه أن هذا حقٌّ مستحَقّ شرعاً، فلا خِيَرَة مع حكم الشرع. والدقيقة الثانية- أن الرد إذا تعذّر، ففي كلام الأصحاب تردد في أن الأرش يثبت من غير إثبات. أم لا بُدّ من إثباته؟ ظاهر كلام القاضي (4) أن الأرش يثبت من غير حاجة إلى إثباته، وإنما التردد والخِيَرة في حالة البقاء. فإن شاء ردّ. وإن شاء رضي به معيباً. وسبب التردد أنا لو لم نقل به، لكان (5) بدوُّ العيب متضمناً انفساخ العقد. وهذا بعيد عن وضع العقد ومصلحته. فأما إذا فات الردّ، فالوجه ثبوت حق صاحب الحق مع بقاء العقد.

_ (1) في (ص)، (ت 2): يقسط. (2) في (ص)، (ت 2): ووجهه. (3) في (ص)، (ت 2): انتفاء. (4) في (ص): الشافعي. (5) في (ص)، (ت 2): فكان بدوّ العود.

ومن أصحابنا من قال: لا يثبت الأرش بنفس الاطلاع على العيب مع تعذر الرد؛ فإنَّ الرضا بالعيب كان ثابتاً في البقاء، فليثبت إمكانه وحكمه بعدَ الفوات. فعلى هذا يثبت الأرش بالطلب الجازم. وهذا قريب من التردد في أنّ ملك الشفيع متى يثبت في الشقص المشفوع، غير أنه يتجه في الشفعة جهاتٌ من القضاء، وتأدية الثمن والطلب، وهاهنا لا وجه إلا الربط بالطلب. فصل قال: " ويكون ما يسلف فيه موصوفاًً ... إلى آخره " (1). 3472 - قد ذكرنا أن أحد شرائط السَّلم كونُ المسلم فيه موصوفاً؛ فإن الإعلام لا بد منه. فإذا لم يكن عِيانٌ ومشاهدة، فلا بد من الوصفِ. ثم بعض الأوصاف المقصودة لا تكفي، ولا بد من استقصاء كل وصف مقصود. ثم يكفي -عند القبض والتسليم- في كل وصف ما ينطلق عليه الاسم، ولا يطلب الأقصى؛ فالنهايات لا ضبط لها حتى لو أسلم في كاتب، فيكتفى بما ينطلق عليه اسم الكتابة، لا يشترطُ التبحر فيها. وكذلك القول في الصفات المشروطة في بيع الأعيان. فإذا شرط كون العبد المشترى كاتباً، اكتفي في الوفاء بالشرط بالاسم. كما ذكرناه. ثم من الأوصاف ما يهتدي إليها الخواص والعوام، كأوصاف الحنطة والشعير، وما في معناهما، والثياب المتخذة من القطن، وما كان من هذا القبيل فأوصافها قليلة. ومنها ما لا يهتدي إلى معرفة أوصافها إلا أهل الصنعة كأنواع القطن والإبريسم والمماليك. 3473 - وقد ذكر شيخي وصاحب التقريب في ذلك ترتيباً، ونحن نطرده على وجهه. قالا: إذا وقع السَّلم في موصوف أوصافه المقصودة معروفةٌ في الناس،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207.

فالسلم صحيح لا يأتيه خلل من قبيل الوصف. والأَوْلى إذا تعاقدا أن يُشهدا على الأوصاف؛ حتى لا يتنازعا، والإشهاد مستحب غير مستحَق، ولا يستحق الإشهاد إلا في النكاح. وإن كان الجنس المطلوب مما يختص بمعرفة صفته المتعاقدان فيما زعما، فالسلم باطل؛ فإن المطلوب مجهول عند الناس. ولو تشاجر المتعاقدان لم يُدْرَ كيف تداعيهما، وعاد مقالهما تراطناً بينهما. وعقد السلم عقد غرر، فينبغي أن يُتوقَّى أمثالُ ذلك، ولو لم تُجتنب، لانضم إلى أصل الغرر في العقد وترتب منهما عَماية. ولو كانت تلك الصفة بحيث يعرفها عدد الاستفاضة، فيصح العقد، ولا يشترط حضور أحد، بل يشترط ما ذكرناه، ليعرف عند النزاع تناكرهما (1) وتقارّهما (2). وإن عرف الصفة عدلان، فهل يعتمد العقد معرفتهما حتى يصح؟ أم لا بد من عدد الاستفاضة؟ فعلى وجهين. وزعم الإمام أن هذا القياس يطرد في تعيين المكيال على ما سنعقد فيه فصلاً. والذي نعجله منه أنهما لو ذكرا مكيالاً شائعاً، صح التقدير به إذا كان يعرفه أهل الاستفاضة. فإن ذكرا مكيالاً زعما أنهما يعرفانه، وكان لا يعرفه غيرهما، فالسلم باطل. وإن كان يعرف ذلك المكيالَ عدلان، فوجهان إذا لم يَشع العلمُ في عدد الاستفاضة. وليس ما استشهدنا به في تعيين (3) المكيال إشارة إليه؛ فإن ذلك فن يأتي. وإنما هذا في ذكر مكيال معلوم أو مجهول، كما فصلنا. وهذا الترتيب حسن. [ولكن فيما وقع القطع بفساد السلم فيه احتمال. والأظهر الفساد.

_ (1) ناكره: أي خادعه وداهاه. (معجم). (2) في (ص)، (ت 2): أو تفارقهما. (3) في (ت 2): تغيير.

ليس هذا الذي خضنا فيه الفصلَ الموعودَ في] (1) ضبط الوصف (2) المعتبر. وذلك يأتي في فصل، إن شاء الله. فصل قال: " قال الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] ... إلى آخره" (3). 3474 - الغرض من الفصل أن السلم إذا اشتمل على الأجل، فلا بد من إعلامه، فإذا أجل إلى شهر، صح، وحمل على الشهر العربي. والشهور العربية بالأهلة، ومعلوم أن الشهر ينقص ويكمل، وما يتوقع من كمالٍ ونقصانٍ محتمل بلا خلاف. ويبعد تطبيق أول الأجل على أول الشهر، والغالب أن تردد الشهر يقع في الشهر الثاني والثالث. فإذا وقع التأجيل ثلاثة أشهر، فلينكسر الأول غالباً، وكل شهر انكسر في الآجال اكملناه ثلاثين يوماً، ولم ننظر إلى ذلك الشهر انتقص أم تكمّل، فإذاً الشهر الثاني والثالث بالهلال، والشهر الأول المنكسر على الكمال، فنستكمله من أيام الشهر الرابع. حتى لو وقع الأجل وقد بقي من الشهر لحظة، انكسر الشهر بها، ولزم من انكساره إكماله. وبيان ذلك بالمثال أن ابتداء الأجل لو وقع وقد بقيت لحظة من شهر صفر، فنقص الربيعان، ونقص جُمادى، فأمّا الربيعان فشهران محسوبان بالأهلة، وأمّا جُمادى فإذا نقص، كملناه بيوم من جُمادى الآخر. وكنت أود في هذه الصورة أن نكتفي بالأشهر الثلاثة؛ فإنها جرت عربية كَوامِل وإن نقصت عدة الأيام. وإنما يكمل إذا كان بقي من الشهر أيام بحيث لا يتمكن من احتساب شهر كاملٍ عربي، فيأخذ من أيام الشهر الثالث ما يكمل أيام شهر صفر ثلاثين.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) في (ص)، (ت 2): وصف الفصل. (3) ر. المختصر: 2/ 207.

فأمّا إذا استمرت لنا أشهر عربية، فليقع الاكتفاء بهذا. وعلى هذا أمر العدة المنوطةِ بالأشهر. وإذا كان الأجل إلى انقضاء شهرٍ، أو انسلاخه، أو انقضاء السنة، جاز. ان احتاج المتعاقدان إلى وقفة في درك ما بقي من السنة. قال الأئمة: هذا في الألفاظ يناظر ربط إعلام المبيع بالعِيان في مثل قول القائل: بعتك من موقف قدمي إلى الشجرة. ثم كما (1) انقضى الشهر أو السنة حكم بحلول الأجل. 3475 - وذكر صاحب التقريب فصولاً في العبارات عن الأجل. ونحن نذكرها، ونتخذها أصولاً. فمنها أنه لو أجل شيئاً إلى نَفْر الحجيج، فإن قيده بالنفر الأول في سنة مخصوصة، صح. وإن ذكر النفر مطلقاً، أو أضافه إلى السنة المعلومة، ففي المسألة وجهان. هكذا ذكر صَاحب التقريب: أحدهما - يفسد الأجل لتردد محله بين النفرين. والثاني - يصح، ويحمل على النفر الأول؛ فإنه تحقق الاسم به. وهو كما لو قال: إلى يوم عاشوراء، فالأجل صحيح، وآخره محمول على أول جزء من اليوم، فإن الاسم يتحقق به، فحمل على الأول، ولم نلتفت إلى تمادي اليوم إلى غروب الشمس. وألحق العراقيون بذلك ما لو أجّله بشهر ربيع أو جمادى من سنة معلومةٍ ولم يذكر الأول والآخر، وهذا قياسُ ما ذكره صاحب التقريب في النفر. ثم يلتحق بهذا عندنا أصل نمهده أولاً، ثم نفرعه، وهو أن آخر الشهر اسمٌ ينطلق على ما يبقى بعد نصف الشهر إلى الانقضاء، وليس المراد بالآخر الجزء الأخير، فيقال: العشر الأواخر. وأواخر الشهر. والقول في الأول كالقول في الآخر، فهو اسم ينطلق على النصف، ولا يتخصص به الجزء الأول. ثم أطلق أصحابنا وقالوا: إذا قال: إلى آخر الشهر أو إلى أول الشهر الفلاني،

_ (1) "كما": بمعنى (عندما).

كان ذلك مجهولاً، حتى ينص على ما يعينه في الأول والآخر. وهذا مشكل عندي. وإذا كان الأصحاب يردّدون القول في الربيع المطلق والنَّفرِ، وحمله بعضهم على ما ينطلق عليه الاسم أول مرة، فهذا يتوجه في الأول والآخر من الشهر، حتى يقال: يحمل الأول على الجزء الأول، ويحمل الآخر على الجزء الأول من النصف الثاني. وقد ينقدح للفَطن حمل الأخير على الجزء الأخير، وحمل الأول على الجزء الأوّل. وإذا لم يكن لصاحب المذهب نص، ورجع الكلام إلى معاني الألفاظ، اتسع المقال، وارتفع الحرج. ولست أرى مثل هذا مخالفةً في المذهب؛ فإن المحذور خلاف نص المذهب؛ كيف وقد نصوا على أن ذكر اليوم -من غير عبارة تقتضي الظرفَ- محمول على أوله وإن كان اسم اليوم يشمل (1) الجميع، فليكن الأول شاملاً لنصف، والآخر شاملاً لنصف شمول اسم اليوم لساعات. فإذا قال: أجلتك إلى يوم الجمعة، حل الأجل بطلوع فجر يوم الجمعة. وإذا قال: أجلتك إلى شهر كذا، فكما (2) استهل تبين حلول الأجل معه. ولو قال: تؤديه في يوم كذا، أو شهر كذا، لم يجز؛ لأنه جعل جميع أجزاء اليوم ظرفاً ومحلاً، فكأنه قال: محل الأجل وقتٌ من أوقات يوم كذا. وجوز أبو حنيفة هذا. وذكر صاحب التقريب ذلك وجهاً لبعض أصحابنا، لم أره لغيره. وإذا جعل محل الأجل فعلاً يتقدم أو يتأخر، فهو مجهول. مثل أن يقول: إلى الحصاد أو إلى الدياس. وكذلك إذا قال: إلى العطاء، يعني خروج الأُعطية. ولو قال: إلى وقت العطاء وكان له وقت معلوم، جاز، ولو قال: إلى وقت الحصاد، لم يجز؛ لأنه ليس له وقت معلوم. ولو قال إلى النيروز والمهرجان، فالمذهب الجواز؛ لأنه معلوم مفهوم عند

_ (1) في (ت 2): يحتمل. (2) فكما: فعندما.

الناس، ومنع بعض الأصحاب ذلك، وهو مشهور، ولست أرى له وجهاً إلا الحمل على مسير الشمس؛ فإن النيروز والمهرجان يطلقان على الوقتين اللذين تنتهي الشمس فيهما إلى أوائل برجي الحمل والميزان. وقد يتفق ذلك ليلاً، ثم ينخنس مسير الشمس كل سنة بمقدار ربع يوم وليلة وشيء، ومن اجتماع هذا التفاوت الكبايس في حساب الفلك. ولو قال: إلى فِصْح النصارى وفطير اليهود، وكان لا يعرف ذلك، والرجوع فيه إلى النصارى واليهود، فهذا مجهول، ولا سبيل إلى اعتماد قول الكفار. هكذا قال الشافعي. ولو أسلم منهم طائفةٌ، وأخلوا بالفصح والشعانين، وكانوا يعرفون، فمفهوم نص الشافعي في التعليل بالمنع عن الرجوع إليهم يدل على أن ذلك جائز في الذين أسلموا، وهم لا يحتاجون إلى المراجعة. ومن أصحابنا من لم يجوز ذلك. ولا محمل له إلا اجتناب التأقيت بمواقيت الكفار. ويمكن أن يقرب من اختصاص المتعاقدين بمعرفةِ الأجل حتى ينزّل هذا على ما ذكرناه في الوصف النادر، والمكيال النادر. فصل قال: " وإن كان ما أسلف فيه مما يكال، أو يوزن سمياً مكيالاً معروفاً عند العامة ... إلى آخره " (1). 3476 - القول في هذا الفصل يتعلق بأمرين: أحدهما - ذكر المكيال مطلقاًً. والثاني - تعيين المكيال بالإشارة. فأمّا ذكر المكيال مطلقاً، فقد تقدم بما ذكرنا العامُّ والمستفيضُ، وما لا يعرفه غير المتعاقدين، وما يعرفه عدلان سواهما. وهذا كالوصف. والغرض الآخر من الفصل التعيين.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207.

والقول في هذا ينقسم إلى ما يشار إليه (1 في بيع العين، وإلى ما يشار إليه 1) في السلم. فأما تفصيل القول فيما يشار إليه في السلم، فإن وقعت الإشارة إلى قصعةٍ ما جرى العرف في الكيل بها وبأمثالها، فقد اتفق الأئمة على بطلان السلم. والسبب فيه أن مِلأه (2) مجهول، والمسلم لا يدري أن ما أسلم فيه ما سعره؟ أرخيص هو أم غال؟ وينضم إلى ذلك أن القصعة عرضة التلف؛ فهذا غرر أُدخل على السلم من غير مَرْفق. ولو تلفت القصعة، لم يدر المتعاقدان إلى ماذا رجوعهما. وإن أشار إلى مكيال ملؤه معلوم، وشرط أن يقع الكيل به دون غيره، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن العقد يفسد، لإلزام ما لا يلزم، مع تعرض ذلك المعين للتلف، كما قدمناه. والوجه الثاني - أن السلم يصح، والمعقود عليه ملء ذلك الصاع، وتعيين ذلك فاسد، لا يتعلق بغرض العقد، وقد ذكرنا أن الشرائط التي لا تتعلق بغرض العقد ملغاة، لا حكم لها. هذا قولنا في تعيين المكيال بالإشارة في السلم. 3477 - فأما التعيين في بيع العين، فإذا قال: بعتك ملءَ هذه القصعة من هذه الصُّبرة، فالأصح الصحة. وفيه وجه أنه لا يصح؛ لجهالة المعقود عليه، والعِيان غيرُ محيط بالمبيع، وإنما إحاطته بطرفه. والأصح الوجه الأول، فإن التعويل الأظهر على ما ذكرناه من الغرر في السلم، ولا غرر هاهنا. ولو عين مِكْيَالاً معتاداً في بيع العين، وشرط الكيلَ به، فبيعُ العين والسلم بمثابةٍ في هذه؛ فإن ملء الكيل معلوم في العقدين، والمكيال لا يتعين بالشرط فيهما. وإنما الكلام في الحكم بشرط لا يلزم ولا يتعلق بغرض العقد. والسلم الحال بين بيع العين والسلمِ المؤجل. فمن أصحابنا من ألحقه بالقصعة والمكيال المعلوم بالبيع، ومنهم من ألحقه بالسلم المؤجل.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ص)، (ت 2). (2) كذا بتذكير الضمير على تأويلٍ بمعنى المكيال.

فصل قال: " ويكون المسلم فيه مأموناً في مَحِلِّه ... إلى آخره " (1). 3478 - أراد بذلك أنَّ المسلم فيه ينبغي أن يكون بحيث يغلب وجوده في العادة عند المحل المشروط. فلو كان معدوماً عند المحل، فالسلم باطل قولاً واحداً، وهو كما لو جعل محلَّ الرطب الشتاءَ أو الربيع، وكذلك لو كان نادر الوجود بحيث يتعذر تحصيله، وقد لا يصادَف، فلا يصح السلم. وهذا هو المعني بقول الفقهاء: لا يصح السلم فيما يعسر وجوده، ومثّل الأئمة هذا بالسلم في قدرٍ [صالح] (2) من تمرٍ في أول ما يدرك الجنس، وهو إن وجد، فقليلٌ يُتهادى باكورُه (3)، وظهور التعسّر في التحصيل كالعدم، وهو بمثابة ما لو باع عبداً آبقاً وكان ردُّه عسراً، فالبيع باطل، وإن لم يكن مأيوساً. وهذا فيه فضل نظر. فإن كان المسلمُ فيه مما يغلب على القلب فقده، ولا يبعد -على ندورٍ- وجودُه، فالسلم باطل. وإن كان مما يغلب على القلب وجوده، ولكن كان لا يتوصل إلى تحصيله إلا بمشقة عظيمة، ينكف بمثلها الطالبون عن الطلب غالباً، فمن أئمتنا من قال: السلم باطل في هذه الصورة؛ لأنه عقد غررٍ، فلا يحتمل معاناة المشاق العظيمة. ومنهم من قال: إنه يصح. ولعله القياس. والمسلم إليه إذا التزم أمراً وكان التحصيل فيه ممكناً غالباًً، فعليه الوفاء بما التزمه على يسر أو عسر. والشرط عند هذا القائل إمكان التحصيل في الوقت المشروط من غير استئخار فيه.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207. (2) في الأصل: صاع. والمراد "بقدرٍ صالح" هنا، أي مقدارٍ كبير غير معهودٍ أو متوقَّعٍ في بواكير الثمار. (3) الباكور: أول ما يدرك من الثمر.

فصل 3479 - ذكر الشافعي من هذا الموضع إلى آخر الباب تفاصيلَ ما يجب ذكره من الأوصاف في الأجناس التي يصح السلم فيها، وعقدَ بعد نجاز غرضه باباً فيما يصح السلم فيه. ونحن نذكر الأجناسَ التي ذكرها على ترتيب السواد، ونورد في كل جنس ما ذكره الأصحاب. ثم نُعقب المسائلَ بما وعدناه من الضبط في الصفات، إن شاء الله تعالى. قال: " فإن كان تمراً قال: صَيْحاني أو بَرْني " (1) فالمراد أنه إذا أسلم في تمر، فلا بد من ذكر نوعه ولونه، ولا بد من ذكر كونه حديثاً أو عتيقاً. وقد ردد أصحابنا ذكرَ الحديث والعتيق في الأطعمة. وليس يطرد القول فيها على منهاجٍ واحد، فكل جنس يختلف الغرض والثمن فيه بأن يكون جديداً أو عتيقاً، كالتمر الذي نحن في بيانه، فلا بد من التعرض له. وكل جنس لا أثر للحدوث والعتق فيه، فلا حاجة إلى التعرض لذكره. فلو أسلم في الرطب، ذكر فيه ما ذكرناه في التمر، ولا يتعرض للحدوث والعتق. وإن أسلم في حنطة، ذكر الأوصاف المقصودة فيها، وتعرض لنوعها، فذكر أنها شامية أو ميشانية (2). وإن كان يختلف الغرض باختلاف البقاع، نسبها إلى الناحية المقصودة، ويصفها بالحدارة (3) والدقة. وذكر بعض أصحابنا أن التعرض للحدوث والعتق واجب فيها، كما ذكرناه في التمر. وقال آخرون: لا يجب ذكرهما؛ فإن الغرض لا يختلف في الحنطة. فإن وقع التعرض لذلك، كان احتياطاً؛ فإن العتق المحذور فيها يُدنيها من التسويس، ومطلق العقد يقتضي سلامةَ المسلم فيه، فلا حاجة إلى ذكر ذلك.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207. (2) نسب إلى (ميشة) من قرى جرجان (ر. معجم البلدان). والنسبة هنا على غير قياس. (3) الحدارة: الغلظ (معجم).

ثم قال الشافعي: ويذكر حالاً أو مؤجلاً. وهذا تعلَّق به مَنْ شَرَطَ التعرض للحلول والتأجيل. ومن لم يشترط ذلك وحمل المطلق على الحال -وهو الصحيح- حمل ما ذكره الشافعي على الاحتياط. ثم قال في الحنطة: يصف حصادَ عامٍ مسمّى. وهذا إن كان مقصوداً، فالأمر فيه يتوقف على أن ذلك هل يدرك، وإن أُدرك، فهل يشيع إدراكه؟ وقد مضى فيه قول بالغ. فصل قال: " ويكون الموضع معروفاً ... إلى آخره " (1). 3480 - من أصحابنا من قال: أراد الموضعَ الذي يرتفعُ (2) منه الطعام المسلم فيه، فيذكر أنه تمر ناحية كذا، وفُرض فيه إذا كان الغرض يختلف بهذا، أو كانت الناحية التي سماها لا يخلُف (3) رَيْعه غالباًً. فإن كان موضعاً ضيقاً كقرية صغيرة، أو مَحِلة، أو بستان، فقد أطلق أصحابنا أن هذا النوع من التعيين يُبطل السلم. وفي هذا نظر ومباحثة. فإن أشار إلى نخلة أو نخلات، أو بستان يحوي نخلات، فالسلم باطل. واختلف أصحابنا في تعليله: فمنهم من قال: سبب البطلان التعيينُ، وهو منافٍ للدَّيْنيّه المرسلة. وحق المسلم فيه أن يكون ديناً مرسلاً ينبسط الملتزِمُ (4) في تحصيله على يسر، فإذا عُينت نخلة أو نخلات، ضاق مجال التحصيل. وكان المعيَّنُ عرضة للآفات، فيجتمع فيها ظهورُ توقّع الآفة، وضيق مجال التحصيل. وهذا القائل يقول: المعتبر ما دللنا عليه بمنظوم الكلام ومفهومه، حتى لو عيّن

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207. (2) يرتفع: ينتقل. (معجم). (3) في (ت 2): يختلف. ويخلف معناها يتخلف، وينقطع. (4) في (ص)، (ت 2): ينبسط المسلم الملتزم.

ثمار ناحية متسعة يبعد أن يعمها آفة، ولايضيق مجال التحصيل فيها، فالسلم صحيح. وسلك بعض أصحابنا مسلكاً آخر فقيهاً (1) فقال: كل تعيين يضيِّق المجال، يفسد السلم، وإن لم يضيِّق المجالَ، فالشرط أن يفيد التعيينُ نَوعيَّةً في المذكور، وهو بمثابة تمر البصرة، أو تمر ناحية أخرى، لو قيس به تمر ناحية أخرى. وإن جمعهما الصنف اشتمالاً لا يجمعهما النَّوعية، وهذا كالمعقلي البصري، يمتاز عن المعقلي البغدادي لا محالة. وهذا عام في فواكه النواحي. ولعله من الأهوية والتربة، في مطرد العرف. فما كان كذلك، صح. ومالم يكن كذلك، فالتعيين فيه مفسد؛ فإنه تعيين لا غرض فيه. فخرج أن من أصحابنا من اعتبر في الجواز اتساعَ (2) المحل ومنهم من اعتبر ذلك، واعتبر معه غرضَ النوعية. ثم من لم يعتبر غرضَ النوعية، ففي قوله احتمال عندي، يجوز أن يتعين رَيْع القطر الذي عينه، ويجوز أن يقال: الغرض تحصيله أو تحصيل مثله، ويلغو ذكر التعيين، كما يلغو تعيين الصاع في وجه إذا كان له أمثال. ومن اعتبر النوعية، فإذا عينها وبنى العقدَ عليها، فلو فُرض تمر بغداد مساوياً لتمر البصرة من كل وجه، فهذا القائل يكتفي به لا محالة، ويقول: لم يكن الغرض بتعيين الناحية التعيين على الحقيقة، ولكن الغرض العبارة عن النوع. [والأوصاف] (3) قد لا تصاغ لها عباراتٌ فردة، وإنما تستبان بالإضافات. هذا تفصيل القول في التعيين المصلح، والتعيين المفسد. 3481 - ومن أصحابنا من حمل قول الشافعي: " ويكون الموضع معروفاً " على مكان التسليم. والنصوص مترددة في هذا، والأصحاب مختلفون فيه.

_ (1) في (ص)، (ت 2): فقهياً. (2) في (ص): اتباع، (ت 2): اتباع المحل. (3) ساقطة من الأصل.

والترتيب أن عقد السلم إن جرى في مكان لا يصلح للتسليم بأن كان في مفازة، فلا بد من تعيين مكان التسليم. وإن وقع العقد في مكان يصلح لتسليم المعقود عليه فيه، فهذا موضع التردد. من أصحابنا من قال: إن كان لحَمْل المسلم فيه مؤنة، وجب تعيين مكان التسليم ذِكراً، فإن لم يذكر، فسد العقد، وإن لم يكن لحمل المسلم فيه مؤنة، ففي المسألة قولان: أحدهما - يجب التعيين؛ فإن الأغراض تختلف باختلاف أماكن التسليم، وليست المؤنة كل الغرض. والثاني - لا يجب، ويحمل مطلق العقد على استحقاق التسليم في مكان العقد. ولم يصر أحد إلى صحة العقد، وإرسال مكان التسليم، بل إما الفساد وإما تعيين مكان العقد. وهذه الطريقة في الترتيب هي الصحيحة. ومن أصحابنا من عكس، وقال: إن لم يكن للحمل مؤنة، لم يعتبر المكان، وتعيّن مكان العقد. وإن كانت، فقولان: أحدهما - الفساد. والثاني - الصحة. ووجهه أن العرف يَحمل التسليمَ على مكان العقد. وهذا لا يسلمه القائل الأول. ومن أصحابنا من طرد القولين فيما فيه مؤنة، وفيما لا مؤنة فيه. وطرد المحققون أصلاً على هذا في جميع الديون، فقالوا: إذا عجل من عليه الدين المؤجل ما عليه، فامتنع مستحق الدين، فإن كان له غرض من توقي نهب أو غارة، أو فساد يتسرع إلن ما يقتضيه، فله الامتناع. وإن لم يكن له غرض في الامتناع، نُظر: فإن كان للمعجِّل غرضٌ في التعجيل من فك الرهن أو غيره من الأغراض الصحيحة، فظاهر المذهب أن مستحق الدين مجبر على قبضه؛ إذ لا غرض له في الامتناع، وللمعجل غرض [في التعجيل. وإن لم يكن للمعجل] (1) غرض ظاهر ولا للممتنع غرض بيِّن، ففي المسألة قولان.

_ (1) ساقط من الأصل.

ومن أصحابنا من قال بطردِ القولين في الدين المؤجل، وإن كان للمعجل غرض. ثم كيفما فرض الأمر، فمقصودنا من الفصل أنا إن أجبرنا على القبول، أو فرضنا في الدين الحال، وجرينا على الأصح من أنه يجبر المستحِق على القبول، فإنما يجري الإجبار إذا كان المسلم يُسلِّم ما عليه في المكان المتعين شرعاً أو ذكراً، فمن أراد التسليم في غيره، لم يجز، ولم يجبر صاحبه. 3482 - ثم قال الشافعي: " ولا يستغنى في العسل ... إلى آخره " (1). إذا أسلم في العسل ذكر في أوصافه أنه جبلي، أو بلدي. والجبلي خير، وأنه خريفي أو ربيعي، والخريفي خير، ويصف اللون، ويختلف الغرض فيه. ولا يشترط أن يذكر كونَه مصفَّى من الشمع؛ لأن الإطلاق يقتضي ذلك، واسم العسل لا ينطلق على الشمع. ثم إن أتى به مصفى بالشمس أو بالنار اللَّينة القريبة من الشمس حتى لا تعقد أجزاء العسل، ولا تزيد على تمييز الشمع، فيقبل ذلك. وإن كانت النار أثّرت في التعقيد، لم يقبل. ولا حاجة إلى ذكر هذه التفاصيل في العقد، فإن العسل المطلق هو النقي عن الشمع، من غير أن يلحقه عيب. والتعقيد في العسل عيبٌ؛ ولا حاجة في السلم إلى التعرض للبراءة من العيوب، لا مجملاً، ولا مفصلاً؛ فإن استحقاق السلامة مقتضى إطلاق العقد. ولو جاء بعسل ذائب، فإن كان بحرارة الهواء، قُبل، وسيتماسك إذا اعتدل الهواء. وإن كان انمياعه بعيب، لم يقبل. والسلم في الشّهد (2) جائز، وإن كان مركباً. وهذا النوع من التركيب له أثر في بيع العين. ولذلك لم نجوّز بيعَ الشهد بالشهد، وجوزنا بيع اللبن باللبن. والسبب فيه أن تعويل السلم على الوصف، لا على صورة التركيب والاتحاد، والوصف يحيط

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207. (2) الشهد (بفتح وضم): العسل في شمعه.

بالشّهد، وليس كالمعجونات ذوات الأخلاط المقصودة؛ فإنا سنذكر بعد هذا أن السلم فيها باطل، ونوضح الفرق إذ ذاك. 3483 - ثم قال: " ولو اشترط أطيب الطعام أو أردأه لم يجز ... إلى آخره " (1). أما لو ذكر الأجود، فإنه لا يجوز؛ فإنه لا جيد إلا ويُرتَقب فوقه أجود منه، فيؤدي ذكر الأجود إلى نزاع لا ينقطع. وأما ذكر الجيد، فليس كذلك؛ لأنة ينزل على أدنى درجات الجودة، وتنقطع الخصومة. وأما السلم في الرديء شرطاً وذكراً ينظر فيه، فإن كان رداءة النوع، كالسلم في النوع الرديء من التمر، مثل مصران الفارة، والجُعْرور، فالسلم صحيح. وإن لم يتعرض للنوع الرديء، ولكن ذَكَرَ لفظَ الرديء مع ذكر النوع، فالسلم باطل؛ فإن الرديء إذا لم يرد به النوع، جر نزاعاً لا ينقطع؛ فإن المسلَم يأتي برديء، فيقول المسلِم: هذا غاية في الرداءة، ولست أرضى به، ودون هذا رديء لا يبلغ هذا المبلغ في الرداءة. ولو أسلم في نوعٍ وعيّنه، وذكر الأردأ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن العقد يبطل لذكر الرديء. والثاني - لا يبطل، فإن جاء المسْلَم إليه برديء، فقال المسلِم: أريد أردأ من هذا، لم يلتفت إليه، وعُد متعنتاً في طلب الأردأ. وإن طلب أمثل مما جيء به، لم يكن له ذلك، وقد ذكر الأردأ. وقد ردد الشافعي شرط الجيد في كل صنف. وائفق الأئمة على أن ذكر الجيد ليس بشرط؛ فإن مطلق الجيد معناه السليم من العيب، وهذا يقتضيه العقد من غير ذكرٍ، فإن ذكر، فلا بأس، وكان احتياطاً. 3484 - ثم قال: " وإن كان ما سلف فيه رَقيقاً ... إلى آخره " (2). ذكر في أوصاف العبيد ألفاظاً، نذكرها، ونذكر اختلاف الأصحاب في معناها، ولا اطلاع على المرعي من صفات العبيد والحيوانات إلا في الفصل الضابط.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207. (2) ر. المختصر: 2/ 207.

قال الشافعي رحمة الله عليه- قال: "عبداً نوبياً خُماسياً أو سُداسياً، ووصف سنَّه " (1). فمن أصحابنا من قال: أراد بالخماسي والسداسي ذكر المولد، أي بذكر أنه خمس أو ست، وقوله: " ووصف سنَّه " أراد الأسنان المعروفة، أي يذكر أنه أفلج الأسنان أو أدراها، وغير ذلك من صفات الأسنان. قال الأصحاب: وهذا احتياط لشى بواجب. ومنهم من قال: أراد بالخُماسي والسُّداسي القامةَ، أي يذكر أن طوله خمسةُ أشبار أو ستةُ أشبار. وهذا القائل يقول: قوله ووصف سنَّه أراد به المولد. وقال الأئمة: لا بد من ذكر السن والنوع، فيذكر أنه تركي أو هندي، واللون: فيذكر أنه أسود، أو أبيض. ولا بد من ذكر الأنوثة والذكورة - ثم معرفة السن من المولودات فينا متيسرة. فأما الجليبة فقلَّما يُعرف سنُّها إلا أن تُفرضَ بالغاً، فيرجع إلى قولها. 3485 - ثم قال: " ولا يشترط معها ولدها ... إلى آخره " (2). أراد به إذا وصف جارية وصفاً يضبطها، وشرط أن يكون معها ولدها الرقيق، فهذا باطل؛ لأنه يتصل بما يعزّ وجودُه. والقول في ذلك يتفاوت، فالزنجية التي لا تكثر صفاتها لا يعزّ ولدُها معها. وإن كانت الجارية تُطلبُ (3) حَظِيةً وسُرِّية (4)، فصفاتها تذكر؛ فتكثر، فإذا ضم إليها شرطُ ولدها، التحقت بما يعزّ. وقد ذكرنا التفصيل فيما يعز وجوده، وما يمتنع السلم فيه لأجل العزّة. فإن أسلم في جاريتين، وتناهى في وصفهما، فجيء بهما وإحداهما أمٌّ والأخرى بنت، فلا بأس إذا كانتا على الصفات المطلوبة.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207. (2) ر. المختصر: 2/ 207. (3) ساقطة من (ص)، (ت 2). (4) في (ص): أو.

وإن أسلم في جارية وشرط كونَها حبلى، فإن جرَّ ذلك عِزَّةً، لم يصح السلم. وإن كان لا يعز [ذلك] (1) بأن لا تكون الجارية مطلوبة للتسري، وإنما تُطلب للحضانة، فهذا الآن وإن كان يعم، يخرّج على القولين في أن من اشترى جارية معينة على أنها حبلى هل يصح ذلك؟ والقولان يقربأن في الجارية المعينة، فما استنبطه الأئمة من القولين من معاني كلام الشافعي في أن الحمل هل يقابله قسط من الثمن؟ [فإن قلنا: لا يقابله، فهو صفة، ولا يعد في ذكر الصفات الممكنة. وإن قلنا الحمل يقابله قسط من الثمن] (2) فإذا ذكر، فقد جُرِّدَ مقصوداً، وهو مجهول، فالسلم يخرج على هذا. 3486 - ثم قال: " وإن كان في بعيرٍ، قال: من نَعَم بني فلان، ثَنِيّ غير مُودَن نقي من العيوب، سبط الخلق، أحمر مُجْفَر الجنبين " (3). والثنيُّ الذي استكمل خمس سنين، والمُودَن الناقص القصير، ومُجْفَرُ الجنبين عظيمهما. قال الأصحاب: أمّا ذكر الثنيِّ، فلا بد منه، فيذكر أنه ابنة لبون أو بنت مخاض. أو ما يريده. والتعرض للذكورة والأنوثة محتوم. قال: "ويذكر أنه من نَعَم بني فلان". والغرض يختلف بهذا. والشرط أن تتسع نَعَمُ بني فلان، بحيث لا ينتهي الأمر إلى عزّة الوجود. فأما قوله: "نقياً من العيوب"، فاحتياطٌ؛ فإن مطلق العقد من اقتضاء السلامة يغني عن هذا. ثم ذكر السلم في الخيل. فلا بد من ذكر النوع، عربي أو تركي، وذِكرُ الألوانِ،

_ (1) في الأصل: السلم. (2) ساقط من الأصل. (3) ر. المختصر: 2/ 207.

والأسنان لا بد منه. وقال الأصحاب: الشياتُ (1) ذِكرُها احتياطٌ كالأغر، واللطيم (2)، والمحجّل ونحوها. فلا يجب التعرض لذلك. 3487 - ثم قال: " يصف الثيابَ ويذكر جنسها، وأنها من كتان أو قطن أو إبريسم، والصفاقة والرقة، واللين والخشونة، والطول والعرض، ونسجَ البلد: اسكندراني أو يماني أو هَرَوي أو مَرْوي " (3). قال الأصحاب: هذا إذ كان يختلف الغرض باختلاف نسج البلاد، فأما إذا كان نَسْجُ ذلك الثوب في البلاد على قريب من الاستواء، فلا معنى للذكر. وذَكَر السلمَ في النحاس، فيذكر النوعَ واللونَ. والقَدْرُ لا بد منه. والحديد يذكر أنه ذكر (4) أو أنثى (5). فأما الأواني المتخذة من هذه الجواهر، ففيها كلام يأتي في الباب المشتمل على ذكر ما لا يجوز السلم فيه. 3488 - وذَكَر السلمَ في اللحم. وهو جائز، فيذكر الجنسَ والنوعَ: لحمَ بقر أو غنم ضأن أو ماعز، من رضيع أو فطيم. ويذكر المحل الذي منه يعطى، ويبيّن أنه لحم فخذ، أو كتف، أو جنب. ويذكر الذكورةَ والأنوثة. وإذا شرط الذكورة، ذكر أنه خصي أو غيرُه، ويذكر أنه لحم راعيةٍ أو معلوفة. ثم الاكتفاء في العلف بالمرة والمرات، حتى ينتهي إلى مبلغ يؤثر في اللحم، ولا يشترط أن يبيّن كونه منزوعاً عن

_ (1) الشيات جمع شية، وهي العلامة، أو سواد في بياض، وبياض في سواد، وكل ما خالف اللون في جميع الجسد. (معجم) والمراد هنا العلامات تكون في الخيل. (2) اللطيم من الخيل: الذي يأخذ البياض خدّيه. (مصباح). (3) ر. المختصر: 2/ 207، مع اختلاف في اللفظ. (4) لما أصل إلى معنى لذكورة الحديد وأنوثته، ولم يذكره الأزهري في غريب ألفاظ الشافعي، مع أنه ذكر ألفاظاً أوضح من ذلك، ولعله كان معروفاً عندهم، فلم يحتج إلى بيانه، ويلوح لي أن الأمر يتعلق بالصلابة وقابلية الطرق، فالحديد منه: الزهر، والمطاوع، والصلب (المعجم). (5) ر. المختصر: الموضع السابق نفسه.

العظم، بل يصح السلم مطلقاً ويجبر المسلِم على قبول العظم المعتاد، في العضو المذكور، وينزل العظم في اللحم منزلةَ النواة من التمر. ثم قال: " وأكره اشتراط الأعجف والمشوي والمطبوخ " (1). وهذا كراهية تحريم؛ لأن الأعجف معيب، وشرط العيب مفسدٌ، وهو شرط الرديء الذي سبق الكلام فيه. فإن أراد بالأعجف الذي لم يسمّن، فلا بأس. وأما المشوي والمطبوخ، فقد قال الأصحاب: لا يصح السلم فيهما، لخروج أثر النار عن الضبط. هذا مقتضى النص وهو الذي أطلقه الأصحاب في الطرق. قال الصيدلاني: إن كان الشي والطبخ بحيث يمكن ضبطه، فلا بأس، وهو كالسلم في الخبز، ولا خلاف في جواز السلم في الخبز. و [الطِّلَى] (2) والدِّبس، والسكر، والفانيذ. وذكر بعض أصحابنا وجهاًً بعيداً في منع السلم في الدِّبْس والخبز، أخذاً من منع بيع الدبس بالدبس. والأصح الجوازُ. والفقيه من يُنزل كلَّ باب على معتاده، والمماثلة مرعية في بيع الأعيان الربوية المتجانسة، وذلك يختلف باختلافِ تأثير النار، كما قررناه في باب الربا، والمرعي في السلم قربُ الضبط. وهذا مع الواصف البالغ في الدبس والخبز قريبٌ. 3489 - وذَكَر السلم في لحم الصيد (3)، وسبيلُ الوصف فيه بيّن. وينبغي أن يكون بحيث لا يعزّ وجودُه. وذكر السلمَ في السمن، فنقول سمن ماعز، أو ضأن، أو بقر. وإن كان يختلف بالبلاد ذكرها. وذكر السلم في اللبن، وبين أوصافه على ما ينبغي. وذكر من جملتها

_ (1) ر. المختصر: 2/ 207، 208. (2) ما طبخ من عصير العنب. (معجم). وهي ساقطة من الأصل. (3) ر. المختصر: 2/ 208.

الأوارك (1)، وهي التي ترعى الأراك، والمعلوفة، والراعية. فإن كان الغرض يختلف بجميع ذلك، فهي مشروطة. وإن كان الأمر لا يختلف، فلا يشترط ذكر ما لا يختلف الغرض به. ولا يشترط أن يقول لبنَ حليب؛ فإن الإطلاق يقتضي انتفاء الحموضة؛ إذ الحموضة في اللبن عيبٌ؛ ولا يجوز السلم في المعيب. قال: " ولا يسلم في المخيض؛ لأن فيه ماء " (2). فإن كان كذلك، فهو ملتحق بالمختلطات، وسنعقد فيها فصلاً الآن. وإن لم يكن فيه ماء، فالسلم في المخيض جائز. فإن قيل: إنه حامض. قلنا: أدنى حموضة في المخيضِ مقصودة. والحموضة في اللبن عيب. فصل قال: " وكذلك كل مختلط ... إلى آخره " (3) 3490 - منع الشافعي السلم في المختلطات، وقد رتبها العراقيون ترتيباً حسناً. فقالوا: هي على أربعة أوجه: فمنها مختلط من جهة الخلقة، وهو في نفسه يعد موصوفاًً مضبوطاً، فالسلم فيه جائز كاللبن، والشّهد. ومنها مختلط خليطهُ من مصلحته، وذلك الخليط في نفسه غير مقصود، وهو كالجبن تخالطه الإنفحَّة (4)، ولكنها غير مقصودة في نفسها، وكأنها كالمستهلكة، والجبنُ على حكم الجنس الفرد، وكذلك الخبز فيه الملح والماء، ولكنهما غيرُ مقصودين. والضرب الثالث- مختلط ذو أركان، وكل ركن منه مقصود، ولا ينضبط أقدارُ

_ (1) أوركت الإبل رعت الأراك، فهي أوارك. (2) ر. المختصر: 2/ 208. (3) ر. المختصر: 2/ 208. (4) بتثقيل الحاء، وتخفيفها. وفيها لغة بالميم المكسورة، بدل الهمزة المكسورة. (المعجم).

الأخلاط، فلا يصلح السلم فيه، كالغالية من العطر، والمعاجين والجُوَارِشْنات (1)، وكالهرائس من المطبوخات، ومعظمِ المرق ذواتِ الأخلاط المقصودة. والضرب الرابع- مختلط في الصورة ولكن يتأتى ضبط ذلك لكل قسم منه، وهو مثل الثياب التي نسجت من الغزل والإبريسم، والخزوز (2) بهذه الصفة. فإن لم يتأت الضبط، فالسلم باطل، كالسلم في المعاجين. وإن أمكن الضبط، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن السلم يصح لإمكان الضبط. والثاني - لا يصح؛ فإن أحد القسمين لا يتميز في الحسّ عن الثاني في الثياب العتّابية (3) ونحوها. وهذا عندي قياسٌ. ونقل بعض المعتمدين أن الشافعي نص على جواز السلم في الخزوز، فإن صح هذا، فالخزوز أنواع، فلعله جوّز السلم فيما يتحد جنسه، ومنه ما لا يكون كذلك. ولو جوزنا السلم في الثياب المختلطة من غير أن يتميز في الحس قسم عن قسم، لوجب تجويز السلم في المعاجين تعويلاً على قول العاجن، وإذا لم يجز ذلك، فسبب المنع ما يتوقع من تنازع بين المسلِم والمسلَم إليه. ومثل هذا غير محتمل في السلم. وعدّ المزني لما ذكر المختلطات من الأدوية، وفنون الطيب من جملة ما لا يجوز السلم فيه الأدهانَ المرببة (4) المطيّبةَ، كدهن البنفسج والورد، وما أشبههما. وأجمع الأصحاب على أن ما قاله غلط غيرُ راجع إلى مأخذ الأحكام، ولكنه أمرٌ تخيّله في التصوير، فظن أن هذه الأدهان خالطها أشياء ليست منها، وهذا خطأ؛ فإن أصول

_ (1) الجوارشنات، يظهر من السياق أنها نوع من المخلوطات. وفي اللسان عن النهاية لابن الأثير: " أهدى رجل من أهل العراق إلى ابن عمر جُوارِشن، قال: هو نوع من الأدوية المركبة، يقوي المعدة، ويهضم الطعام "، قال: " وليستَ بعربية ". (اللسان: مادة: ج. ر. ش. ن). (2) الخزوز جمع خز، وهو ما ينسج من الثياب من صوفٍ وإبريسم. (3) لعلها نسبة إلى محلة ببغداد بهذا الاسم (ر. الأنساب للسمعاني). وهو نوع معروف من الثياب، كان سَداه من الغزل ولحمته من الحرير، وقد سبق الكلام عنه عند ذكر ما يحل وما يحرم من الثياب، وكان ذلك في صلاة الخوف. فراجعه، إن شئت. (4) ر. المختصر: 2/ 208.

هذه الأدهان الشيرج، ثم إن السمسم يمزج بالورد والبنفسج وغيرهما، حتى يتروّحَ بها عن مجاورة، ثم يعتصر السمسم؛ فإذاً هو شيرج محض، واكتساب الروائح بالمجاورات لا تمنع صحة السلم. وعد العراقيون خل التمر والزبيب من المختلطات التي يجوز السلم فيها، وزعموا أن المقدار المعتبر من الزبيب يدرك بقوة الخل وضعفه، والمقصود من الخل حموضته ونفاذُه وحدّتُه، وهذا يقصد منه كما يقصد من الخل من العنب. وزعموا أن مُدركَ العِيان يبيّن ما يعتبر من الإبريسم والغزل في العتَّابي؛ فإن لهذا الجنس رونق (1) إذا كان الإبريسم فيه على الحد المقصود، لا يخفى دركُه على أهل البصائر كما ذكروه. وما أشار إليه العراقيون وإن كان كلاماً (2)، فلا نقنع بمثله في التوقي من الغرر في أبواب السلم. هذا ما أردناه في المختلطات. 3491 - ثم ذكر السلم في اللِّبأ (3) والرائب. وهو شائع؛ فإنّ المسلمَ فيه مضبوط، وقد يُعرض اللِّبأ على النار عَرضةً خفيفة، ولا اعتبار بها، ولذلك صححنا السلم في الفانيذ والسكر، وإن تردد الأصحاب في جواز بيع السكر بالسكر، وذكرنا الميز بين البابين في المقصودين. وذكر بعض المعتمدين تردداً في السلم في الدبس قدمنا ذكره. ثم ذكر أن من أصحابنا من نزل السكر والفانيذ في باب السلم منزلتهما في بيع الأعيان. وقد اختلف أصحابنا في بيع السكر بالسكر، والفانيذ بالفانيذ. فهذا القائل

_ (1) كذا في النسخ الثلاث. والصواب النصب اسماً لإن. (2) كذا. ولعل هنا إيجازاً بالحذف، تقديره: كلاماً مشهوراً. (3) اللِّبَأ وزان عنب أول اللبن عند الولادة. (المصباح).

يقول: إن جوزنا بيع السكر بالسكر، يجوز السلم فيه، وإن منعنا بيع السكر بالسكر، يمنع السلم فيه أيضاًً. وهذا غير صحيح. ويترتب عند هذا القائل في الدبس والسكر ثلاثة أوجه: أحدها- المنع فيهما. والثاني - الجواز. والثالث- الفصل بين الدبس والسكر. وردد صاحب التقريب جوابه في السلم في المَاوَرْد (1)؛ من حيث إنه اعتقد اختلافَ تأثير النار فيما يتصعد ويقطر. وهذا في نهاية الضعف لم أره لغيره. ثم ذكر الشافعي السلم في الصوف، وأشار إلى الصفات التي ترعى فيها، وشبهها بما قدمناه، فممّا ذكر أنها طوال أو قصار ليّنة أو خشنة، وذكر اللون. وقال: يكون نقياً مغسولاً (2). أما النقاء، فيغني عنه شرط السلامة، وأما المغسول، فإن أراد الغَسل ليُنَقَّى من الغبش والقاذورات، فلا حاجة إلى هذا، فإن اشتراط الصوف المجرد يُغني عن قولٍ غيرِه، فإذن الغسل احتياط. ثم ذكر الكرسفَ، والسلمُ فيه صحيح، والأوصاف المرعية فيه معلومة، من اللين والخشونة، وقد يختلف بالإضافة إلى البقاع. والضابط ما تقدم. والسلم في الجوزق (3) المتشقق (4) جائز على شرط التقدير بالوزن. ولا يجوز السلم فيما ليس بمتشقق؛ فإن المقصود منه مستتر بما ليس بمقصود، ولا يبقى فيه. وإن ظن ظان أن بيعه من أطراف بيع الغائب، فلا مجال لهذا في السلم، فإن الجهالات لا تحتمل في السلم. وذكر السلم من الإبريسم، وذكر مما يعتبر فيه الدقة والغلظ، والنوع، والناحية التي يجلب منها، إلى غير ذلك مما يتغير به الثمن والغرض.

_ (1) " الماورد ": أي ماء الورد، وهو مشهور معروف، ولكن قد لا يعرفه بعض أبناء العصر. (2) ر. المختصر: 2/ 208. (3) في الأصل: " غير المتشقق ". "والجَوْزَق" هو القطن. (قاموس)، وهي في (ص) " جورق " بالراء المهملة. (4) في (ص)، (ت 2): المتشق.

3492 - ثم قال: " ولا بأس أن يسلم في الشيء كيلاً، وإن كان أصله الوزن " (1). وهو كما قال. [و] (2) قد ذكرنا في باب الربا أن ما كان موزوناً لا يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً، وما كان مكيلاً في عصر الشارع لا يجوز بيع بعضه ببعض وزناً؛ فإن باب تحريم التفاضل في الربا مبناه على التعبد، وباب السلم مبناه على الإعلام واتباع العرف فيما يعد مضبوطاً. وإذا كان يجري الكيل والوزن في شيء، فإعلامه بكل واحدٍ منهما ممكن. فهذا ما أطلقه الأصحاب. وفيه فضل نظر عندي في الأشياء الخطيرة، فإن فتات المسك يحصره الكيل، ولست أرى الكيل فيه إعلاماً، وكذلك العنبر، وكل خطيرٍ. فلعل الوجه أن يقال: ما كان مكيلاً لا يجوز السلم فيه بالوزن، فإنه حاصر، وما يوزن عرفاً هل يصح السلم فيه كيلاً؟ هذا ينقسم، فمنه ما يُعدّ الكيلُ في مثله إعلاماً، وإن كان الوزن معتاداً، فليصح هذا، وما لا يُعتاد الكيل في مثلهِ ضابطاً، فلا يجوز السلم فيه كيلاً، وإن كانت صورة الكيل تجري فيه. وإن كان التعويل على قاعدةٍ واحدة، فمسائل التردد ناشئةٌ من تلك القاعدة، ورأيُ النظار عندي مشترك. وإن استدرك البعض على البعض، لم يرجع الخلاف إلى الفقه، وإنما يرجع إلى أمور حسّية، أو إلى أمور عُرفية. ولو أسلم في شيء يكال ويوزن، وشرط الكيلَ والوزنَ جميعاً، فهذا ينتهي إلى التعذّر الذي يفسد السلمُ بمثله، وهو مثل أن يقول: أسلمت في مائةِ صاعٍ على أن يكون وزنها إذا رد إلى الوزن خَمسمائةِ منّ. فهذا حكمٌ (3) لا يتأتى الوفاء به، مع

_ (1) ر. المختصر: 2/ 208. (2) زيادة من المحقق. (3) ساقطة من (ص)، (ت 2).

العلم بأن الحنطة يتفاوت وزنها بسب اكتنازها، ورخاوتها وصلابتها. 3493 - ولا يجوز السلم في شيءٍ عدداً، وإن كان مضبوطاً، فليقع السلم باعتبار الوزن، وهذا كالسلم في البطيخ والسفرجل، فاكتفاء الناس فيها بالعدد تسامح، والتعويل على العِيان؛ فإنها تتفاوت في القيم. نعم قد يتفق فيها ما لا يتفاوت قيمها، وإن كانت مختلفة الأقدار لتسامع أطبق الناس عليه. وهذا كالبيض والجوز، فلا يجوز التعويل في السلم على العدد، وذلك أن التسامح الذي حكيناه إنما يقع في مقدارٍ يسير كأعدادٍ قليلة من الجوز والبيض، وإذا كثر فالجوزات الكبار والبيضات الكبار، لو جمعت في موضع، وقيست بالصغار تفاوت الأمر، وصدقت الرغبة من الكبار، وظهر تفاوت في الثمن بيّن؛ فلا يجوز التعويل على العدد في شيء من المعدودات. ويجوز السلم في البطيخ والسفرجل وزناً؛ فإن الوزن يحصر وإن لم يحصر العدد. وذكر شيخي أن السلم يجوز في البيض وزناً، وكذلك في الجوز واللوز، وما في معناهما. وما ذكره في البيض سديد؛ فإن قشورها لا تختلف اختلافاً به مبالاة. وإن زاد وزنُ قشور الكبار منها، فتلك الزيادة على نسبةٍ غيرِ متفاوتة بالإضافة إلى ما يقصد من المحّ (1) والماح. فأما قشور الجوز، فأراها تختلف، فمنها رقاق، ومنها غلاظ، ومنها ما ينفرك باليد للطافة القشور، ومنها ما يحتاج إلى معاناة في كسرها، فلست أرى السلمَ مسوَّغاً في الجوز وما في معناه. وإن ذَكر وزنها. فإن أمكن ضبطُ نوعٍ منها بالوصف يُقرِّب قشورها، ثم اعتمد الوزن، ولم يُفض الأمرُ إلى عزة الوجود، فالجواب الجواز إن اقتضى الحال ذلك. وقد ذكرت أن اختلاف طرق الأصحاب في هذا الكتاب لا يرجع إلى التردد في أساليب الفقه، وإنما رجوعه إلى مماراةٍ في الوقائع. وذكر الأصحاب جوازَ السلم في اللَّبِن. والتعويل على الوزن، وقد يجمع إليه

_ (1) المح: ما فىِ جوف البيضة من صفرة، أو من صفرة وبياض، والماح: ما فيها من صفرة، فالعطف هنا عطف خاص على عام. (معجم).

العدد، وهو المعتاد، ولا عسر في الجمع، فيسلم المسلم في مائة لبنة، ويقول: اللبنة الواحدة عشرة أمناء (1). هذا لا بد منه وتحصيله لا عسر فيه. ثم إَن وقع تسامحٌ في التسليم، فلا بأس. والسلم في الآجُر (2) مما اختلف الأصحاب فيهِ اختلافَهم في الدبس، والظاهر الجواز؛ فإن الوصف ممكن، وتحصيل الموصوف لا تعذر فيه. ثم ذكر الشافعي السلم في لحم الطيور. والوصفُ يحيط به فليذكر النوع والعضو الذي يسلم منه، إن كان يسلم في المقطّع، وإن كان يسلم في الطير المذبوح غيرَ مقطع، فالوزن، والسِّمن، والصنف، وكل ما يختلف الغرض فيه. والطير لا سِنَّ له، فيوصف بالصغر والكبر، ويذكر أنه لحم فروج، أو ناهض. وكذلك الحيتان. 3494 - وأما الخشب فإن كانت تراد للحطب، فأوصافها قريبة فيذكر النوع، وأنها دقاق أو غلاظ جزلة. والوزن لا بد منه. وقال الأصحاب: لا حاجة للتعرض لليبوسة؛ فإن الرطوبة والنداوة عيبٌ، والإطلاق يقتضي اليابس. هكذا ذكره المحققون. وإن كان السلم في الجذوع والعُمد، فالطول والعرض، والصنف، واللون، ويصح السلم إذا استوت الأجزاء، فإن اشترط فيها تخريط (3)، وكان يختلف الأعالي والأسافل، فهذا مما يؤثر في منع السلم عند الشافعي؛ فإنه لا يدري أن الخشبة من أين تأخذ في الدقة، ولا ينضبط هذا مع تعلق القصد به. وإذا أسلم في جذعٍ، ذكر الطولَ والعرضَ، والاستدارةَ واللونَ. وفي ذكر الوزن تردد؛ فإن الوزن لا يقصد في العمد والاسطوانة.

_ (1) أمناء جمع منا مثل سبب وأسباب. ويقال: منّ (بتشديد النون) وجمعه أمناء. والمنا أو المن رطلان بغداديان (معجم ومصباح). (2) ر. المختصر: 2/ 208، وفيه تفصيل مفيد، وبهامشه تعليق جيد لمصححه، مصحح الطبعة البولاقية رحمه الله، وجزاه عنا وعن العلم وأهله خير الجزاء. (3) المراد بالتخريط تشكيل الخشب على هيئة شكل مخروطي، أي مُدَبَّبٍ مرقّق من الطرف.

وكان شيخي يميل إلى اشتراط الوزن؛ صائراً إلى أن كلَّ خشبة تفرض، فلا يمتنع أن تصير حطباً، ويكون الوزن إذ ذاك مقصوداً. وهذا فيه نظر. 3495 - والسلم في أحجار الرحى جائز، إذا ذكر الطولَ منها والعرضَ والسمكَ. واتفق (1) على اعتبار الوزن فيها؛ فإن ثقلها مقصود، وهي برَزَانتها تطحن، ويختلف هذا برخاوة الأحجار وصلابتها. ثم إذا ذكر الوزن، فهو ممكن. حتى انتهى الأصحاب إلى تصوير وزن الأرحية الكبار بالسفن وغوصها في الماء. ثم العادة جارية بذكر أمثال هذه الأعلام، ثم يقع التسامح حالة القبض. ثم ذكر جواز السلم في أنواع العطر وأمتعة الصيادلة، كالمسك، والكافور، والعنبر، والأدوية، ولكل جنس أوصاف مقصودة لا يخفى دركها عند أهل البصيرة. وقد يقصد في بعضها أن تكون قطعاً كباراً كالعنبر، فليكن التعرض لهذا. 3496 - ثم قال: " لا يُسلم فيما خالطه لحوم الحيات " (2). والسبب فيه مع الاختلاط أن لحوم الحيات نجسة، وقد ذكرنا منع بيع النجس. والتداوي بالترياق جائز على حدّ تجويز أكل الميتة. وفيه كلام طويل سيأتي في الأطعمة، وعنده نذكر التداوي بالخمر. والحدّ المعتبر في التداوي من الحاجة والضرورة. أما السموم القاتلة الطاهرة، فهل يجوز بيعها، قال الأصحاب: إن قتلت بكثرتها لغلبة الطبيعة والقليل منه يستعمل في الأدوية الحارة، فلا يمتنع بيعه. ومن هذه الجملة السقمونيا، والحنظل والخَرْبَق (3)، وما في معانيها، ومنها الأفيون. فأما السموم التي لا يستعمل جوهرها في دواء، وهي منافية للقوة الحيوانية بأنفسها

_ (1) تعقب النووي إمام الحرمين في القول بالاتفاق على الوزن في الأَرْحية. وقال: " ليس الأمر كما ادعى ". (ر. الروضة: 4/ 27). (2) ر. المختصر: 2/ 208. (3) الخَرْبَق وزان جعفر: نبات ورقه كلسان الحَمَل أبيض وأسود، يستخدم علاجاً، فهو ينفع الصرع والجنون، والمفاصل، وغير ذلك. (القاموس).

من غير كيفية تُعْقَل. وهذا هو السم عند أهله، فقد قال قائلون: لا يجوز بيعها؛ فإنه لا خير فيها؛ إنما هي ضرر كله. وكنا نقول للشيخ: إذا كانت طاهرةً، فلو أعدت لتستعمل في مكائدَ مع الكفار، فهذا وجهٌ في صلاح السياسة والإيالة، فرأيته يتردد في مواضع، وأراد أن ينزلها منزلة الأسلحة. ومن قتل إنساناً بسم قتلناه به. فليتأمل الناظر في ذلك. 3497 - ثم قال: " ولو أقاله بعضَ السلم " (1). قد ذكرنا تفصيل القول في الإقالة، وأنها فسخ أم لا. ثم قطعنا بأنها في السلم فسخ، ثم رتبنا كلاماً هو مقصود هذا الفصل. وقلنا: إذا انفسخ العقد في بعض المعقود عليه، ففي تعدي الفسخ إلى غيره ما فيه، كما مضى في تفريق الصفقة. وإن أراد [أحدُ المتعاقدين أن يفرد بالرد بعضَ المعقود عليه، ففيه تفاصيل مذكورة في صورة. وإذا أراد] (2) المتعاقدان الفسخ في البعض عن تراضٍ، وهو الإقالة، فقد صحَّحَ أئمتنا هذا على التراضي، ولم يخرّجوا على تفريق الصفقة. وقد ذكرت ما يليق بذلك فيما تقدم. 3498 - ولا يجزىء في السلم التشريك ولا التَّوْلية، فإنهما بيعان، وبيعُ السلم قبل القبض لا يجوز. ومن جوَّز بيعَ المبيع من البائع قبل القبض، لم يجوز بيعَ المسلَم فيه من المسلَم إليه قبل القبض. وهذا رأيته متفقاً عليه. والفرق عسر. والوجه الاستدلال بموضع الوفاق على تزييف الوجه الضعيف في المبيع. فهذا منتهى ما نقله المزني في الباب، وعلينا الآن الوفاء بما وعدناه من ضبط القول فيما يُرعى من الصفات.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 208. (2) ساقط من الأصل.

فصل 3499 - قد كرر الأئمة في طرقهم أنه يجب ذكر الصفات التي تؤثر في القيمة والأغراض، وهذا مضبوط لا لبس فيه، ولا يتطرق إليه إلا شيئان: أحدهما - أن من الأشياء ما يهون وصفه، وليس إذا وصف عزّ، فيمتنع السلم فيه للعزة، ومنه ما ينتهي إلى صفة لا تُشيع معرفتَه، وفيه ترتيب تقدم ذكره، إذْ ذكرنا ما يعرفه أهلُ الاستفاضة، وما يعرفه عدلان، وما يختص بمعرفته المتعاقدان على زعمهما. ومما يتعلق بالباب أن الأوصاف التي يمكن الاقتصار فيها على قدر الاسم معتبرة، ثم لا تعتبر غاياتها. وهذا جار في جميع الصفات. وهذا إذا كان الخروج عن الضبط في جهة النهاية. فأما إذا كان الخروج عن الضبط في جهة البداية، فقبيله يمنع السلم، وعليه بنى الأصحاب منعَ السلم في المعيب والرديء؛ فإن المسلِم سيقول: سلم إلي ما هو في المرتبة الأولى في العيب المذكور، والمسلَمُ إليه يزعم أن هذا كذلك، فلا ضبط، ولا يمكننا أن نُنزلهما على شيء. ومن ضم إلى ما ذكره الأصحاب من الصفات المؤثرة في الغرض والقيمة هذه الأحوال الثلاثة، استقل بالكلام في الأوصاف. وكل هذا والمسلم فيه ليس بحيوان. 3500 - فأما إذا كان المسلمُ فيه حيواناً، فنحن نذكر افتراق مسالك الأصحاب في الحيوانات، ونستخرج من بينها ضبطاً. قال العراقيون: إذا أسلم في جارية، لم يشترط أن يقول في أوصافها دعجاء كحلاء، وكذلك قالوا: لا يشترط ذكر قدِّ الجارية والعبد. وكان الشيخ أبو محمد رحمه الله - يشترط التعرض لجميع ذلك ويقول: لكل صفة عبارة فما غادر الوصافون مقصوداً إلا صاغوا عنه [عبارات] (1) فلتذكر. ثم لنقتصر من كل صفة على أدنى

_ (1) في الأصل: عبارتان.

الدرجات. ومن حمل من أصحابنا الخُماسي والسداسي على القِدَيَيْن (1) الطول والقصر، اعتضد بالنص. فكان شيخنا يقول: الكَحَل والدَّعج لا ينقصان عن الجعودة في الشعر والسبوطة. وقد اعتبرهما الأصحاب. وانتهى تساهلُ العراقيين في الصفات في الحيوانات إلى ما نذكره الآن. قالوا: إذا أسلم في بعير، فإنه يذكر سنه ويذكر أنه من نَعَم بني فلان إذا كانوا جمعاً كثيراً تكثر النَّعم فيهم. ثم قالوا: إن كان نعمهم لا تختلف، كفى ذلك، وإن كان نعمهم تختلف، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نكتفي بأقل الاسم على السن المذكور من نعم بني فلان، كما نكتفي بأدنى درجات الجودة. والقول الثاني - أنه لا بد من الوصف إذا اختلفت صفات نَعَم بني فلان. وهذا الذي ذكروه انحلال عظيم وخروج بالكلية عن قياس الباب، ورضا بالعماية والجهالة، واعترافٌ بأن السلم في الحيوان مبناه على احتمال المجاهيل. وشيخنا كان يتشوف إلى تنزيل السلم في الحيوان منزلة السلم في المكيلات والموزونات، وطلب نهايات الأوصاف. ومن أحاط باللفظ الذي نقلناه عنه تبين ذلك منه، إذ قال -رحمه الله-: الصفات المقصودة معلومة، وعن كل صفة عبارة، والقاعدة الاكتفاء بالأقل. 3501 - فإذا بان المسلكان قلنا بعدهما: لا شك أنا لو رُدِدنا إلى القياس المحض، وأردنا أن ندرك من صحة السلم في المكيلات، والمثليات، والمتقوّمات، القليلةِ الأوصاف جوازَ السلم في الحيوان، سيّما في العبيد، الوصائف منهم، والمرموقين من الغلمان، والخيل العربيات، ما كنا نستدرك هذا. والشافعي لم يعتمد معنى في السلم في الحيوان، وإنما اعتمد أخباراً وردت في إقراض الحيوان، وعلم أن السلم في معنى القرض. فليعتقد المنصف أن السلم في الحيوان لا يتصوّر أن يلتزم فيه كلّ ما يؤثر في

_ (1) الفِدَيَيْن: مثنى: القِدى: وهو القَدْر. يقال: هو مني قِدَى رمح. (معجم).

الثمن، أو يتعلق بغرض. وإن أمكن التقريب فيما يؤثر في القيمة، فَطَمَعُ ضبطِ الأعراض طمعٌ في غير مطمع. فالوجه أن نقول: معظم الأوصاف التي تضيق العبارة عنها نقائضها عيوب في الحيوانات، فإطلاق العقد يغني عنها. وهذا جنسٌ عظيم في الصفات. 3502 - ومما نذكره أن الأغراض في الحيوان لا ضبط لها، والناس على اختلاف فيها، ولو ذكر كل ما يقصد في جميع الحيوان، انتهى الأمر إلى عزّة الوجود لا محالة. وإذا وضح هذا في الخَلْق، ثم ضمت الأخلاق إليها، صار المسلمُ فيه عنقاءَ مُغرب (1). فإذا تنبه المتنبه لما ذكرناه، قلنا بعده: كل فنٍّ يعتبر في غير الحيوان، فهو في الحيوان أولى بالاعتبار. الصنف: وهو يضاهي الأجناس والأنواع. واللون: وقد تمهد اعتباره. والسن: وهو يناظر الحداثة والعتق فيما تقدم ذكره. ولم يعتبر العراقيون القدّ. وهذا خطأ صريح (2)؛ فإنا وجدنا لذلك نظراً في العُمُد والجذوع، ولكن الشَّبْرَ (3) بالأشبار لست أراه؛ فإن مما يتعين محاذرته الوقوعَ في العزّة، غيرَ أن أهل المعرفة يعرفون الطويلَ، والرَّبعَ (4)، والقصيرَ، والتنزيل على أدنى الدرجات قانونُ الكتاب (5). فهذه الأمور لا بد منها، والسلامة فيها غناء عظيم. وبقي وراء هذا شيئان: أحدهما - أن ضبط كل عضو بما يليق به، وبما يقصد

_ (1) العنقاء طائر معروف الاسم مجهول الجسم والوصف، أي خرافي متوهم لا وجود له، و"مُغرب" من أغرب إذا مشى متجهاً إلى جهة الغرب. وهذا اللفظ إشارة إلى المثل المأثور " حلّقت به عنقاءُ مُغرب " يضرب لما بلغ الياس من الحصول عليه غايته (مجمع الأمثال: 1/ 357). (2) تعقب الإمام النووي إمامنا في هذا النقل، وقال: " إن الموجود في كتب العراقيين القطع بوجوب ذكر القدّ (ر. الروضة: 4/ 18) وكذا تعقبه الرافعي قائلاً: إن كتبهم مشحونة بأنه يجب ذكر القدّ " (ر. الشرح الكبير: 9/ 289). (3) الشَّبر: القياس بالشِّبر. من شبر الثوب شبراً إذا قاسه بشبره (معجم). (4) الرَّبع: الوسيط القامة. (معجم). (5) يقصد قانون كتابه هذا ومنهجه.

منه، لا سبيل إليه. وإن كانت القيم تختلف بهذا اختلافاً بيناً. والكلام في صفاتٍ تداول أهل البصائر اللهج بها كالدَّعج والكَحَل، وكون الوجه مُكَلْثماً، أو أسيلاً. وهذا موضع النظر. فلم أر للعراقيين التعرضَ لهذا. واعتبرها شيخنا. فلو وصف في السلم عضواً أو أعضاء، ولم ينته إلى العزة، فلا بأس. ولكن لا يشترط الخوض فيه؛ إذ لو شرط الخوض فيه، لاشترط استيعابه، وفي الاستيعاب العزة، وفي ذكر البعض قبل الانتهاء إلى العزة تحكم. فإن قيل: ليصف إلى أن ينتهي إلى إمكان العزة. قلنا: من أي طرف يبتدىء؟ فإن قال قائل: فما قولكم في التعرض لكونها خميصةً، مثقلةَ الأرداف، ريانة السيقان، شَثنِةَ الأصابع. قلنا: هذا كالكَحَل والدعج. وقد مضى قول الأصحاب فيه. 3503 - فقد تَنَخَّل من مجموع ما ذكرناه أنه يذكر في الحيوان ما يذكر في سائر الأجناس التي يُسلَم فيها، أو يذكر فيها ما يداني المذكورَ فيها، كما ذكرناه في الطول والقصر، فإنه يداني القدر في المقدَّرات، أو الطولَ في المذروعات. ووصف كل عضو مع إمكانه لا يشترط. وكل صفة نقيضها عيب، فلا حاجة إلى ذكرها، وهي كثيرة، والأمور الجُمليّة التي تذكر في الترغيبات، وتوجيه الطلبات نحو الحيوانات كالكَحَل، والدعج، ودِقة الخصر، وثقل الأرداف، وتكلثُم الوجه، وما في معانيها في محل الخلاف، لم يشترطها العراقيون، وشرطها المراوزة. وموضع زلل العراقيين قولهم: لا يشترط القدّ وذكره، وهذا خطأ؛ فإن أهل العراق (1) مطبقون على ذكره، والقيمةُ تختلف به، ولا يفضي الأمر إلى العزة، وهو على مضاهاة الأقدار في المقدَّرَات. ولا شكّ أن الحِرفَ، وإن كانت مقصودة، فلا يشترط التعرض لها.

_ (1) المراد بأهل العراق هنا سكّانه وقاطنوه، وليس فقهاء المدرسة العراقية من الشافعية. وإلا كان الكلام متناقضاً. وقد أشرنا آنفا إلى تعقب النووي لإمام الحرمين. وتخطئته في هذا النقل عن العراقيين.

وكنا نذكر للشيخ أبي محمد الملاحة، وكان ينقل عن شيخه القفال تردداً في اشتراطها: تارة كان يقول: ليست الملاحة معنىً، بل كل يشتهي فنّاً ويستملح صفة، وقد يستقبح غيرُه تلك الصفة. وهذا في تناصف (1) الخلق، وفي عُرْض (2) الاعتدال، من غير خروج إلى حد العيب. وكان شيخنا يميل إلى اعتبار الملاحة، ويقول: هي صفة معلومة، لا ينكرها أهل المعرفة، ثم التنزيل على ما ينطلق عليه الاسم. فهذا منتهى الإمكان في ذلك، ومبناه على اعتقاد خروج الحيوان عن قياس الباب وقد يتفق السلم في حيوان ينضبط بصفات معدودة من غير عُسرٍ، ولا عزة، فيجب التشوّفُ إلى الضبط فيه. * * *

_ (1) تناصف الخلق: استواؤه. يقال: تناصف وجهها حسناً: استوت محاسن أعضائه. (المعجم). (2) عُرْض الاعتدال: حدّ الاعتدال. أخذاً من عُرْض البحر أي وسطه (معجم).

باب ما لا يجوز فيه السلم

بَابُ مَا لاَ يَجُوزُ فِيْهِ السَّلمُ 3504 - ذكر الشافعي -رحمة الله عليه- في الباب الأول ما يجوز السلم فيه، وأراد الإيناس بذكر الأوصاف، فذكر أجناساً، وأشار في كل جنسٍ إلى ما يليق به، ومقصوده في هذا الباب أن يُبيّن ما لا يجوز السلم فيه، ويشير إلى وجوه امتناع الوصف، حتى يجتمع للناظر من الباب الأول وهذا الباب ما يفيد الامتناعَ، وما يفيد التجويز. وقد صدر الباب بالنَّبل فقال: " لا يجوز السلم في النَّبل " (1). والأمر على ما قال. وسبب المنع التركّب من أركانٍ: الخشبُ والعَقَب (2)، والريش، والنصل في مكان الرَّعْظ (3). وكل جنس من هذه الأجناس مقصود القدر في السهم، وهو مجهول، وفيه التخريط (4)، والأخذ في الدقة عن غِلظ، وهو يتضمن جهالة، والغرض يختلف به اختلافاً بيّناً. هذا معلومٌ، لا يلزم عليه إلا أن يعارَض بالحيوان. وقد ذكرنا أنه خارج عن قياس الباب، وقد انتهض بعض الأصحاب للانتصار فقال: " أفراد أركان الحيوان ليست مقصودة، وإنما المقصود البنية ". ولا شفاء في هذا ما لم يحط المرء بما ذكرناه. ويجوز السلم في خشب النَّبل، وفي بيع السهم وعليه الريش، نظرٌ؛ لمعنىً في بيع العين؛ فان الريش المستعمل على النشاب نجس، على القول الظاهر. وقد يقع

_ (1) ر. المختصر: 2/ 209. (2) العَقَب: بفتحتين: العصب الذي تعمل منه الأوتار. (المعجم). (3) الرَّعْظ: يقال: رعظَ السهمَ رعظاً: جعل له رُعظاً. والرُّعظُ مدخلُ سِنْخ النصل، وفوقه لفائف العَقَب. (قاموس). (4) " التخريط ": التشكيل على هيئة مخروطية، مدببة الرأس، مأخوذ من الشكل المخروطي (معجم).

الكلام في تفريق الصفقة على تنجيس الريش، فالوجه بيع النشابة دون الريش، فيكون كبيع ثوب متضمخ بالنجاسة. فصل قال: " ولا في اللؤلؤ، ولا في الزبرجد ... إلى آخره " (1). 3505 - قال أصحابنا: يمتنع في النفائس من هذه الجواهر، وعلل بعضُهم بأن الضبط غيرُ ممكن، وليس الأمر كذلك؛ فإن الضبط غيرُ مقصودٍ على أقصى الوجوه، فيقال: ياقوتة وزنها كذا، وشكلها كذا، لحمية أو جمرية، أو وردية، أو رمانية. ويقال: لؤلؤة مدحرجة، صافية اللون، براقة البياض. وزبرجد أخضر ريحاني، أو [سِلْقي] (2). فسبب المنع أن الأوصاف إن لم تذكر، كان السلم فيه مجهولاً، وإن ذكرت جَرَّت عزة. والسلم في اللآلىء الصغار التي تباع وزنا ولا يُجرّدُ النظرُ إلى آحاد حباتها، جائزٌ. وكان شيخي يقول: يجوز السلم في الدرّ التي يُتحلَّى بها، إذا لم تثقل، وكان في الحبة سدس مثلاً؛ فإن هذا لا يعز وجوده. ومنع بعض الأصحاب ذلك، فإن اتفاق السدس من غير مزيد ولا نقصان، مع استجماع الصفات المرعية نادر. والمسألة محتملة. فإذاً مدار الفصل (3) على الجهالة والإفضاء إلى العزة. وأن يكون المرء محيطاً بمسائلِ السلم؛ حتى يضع السلم في الحيوان [نبذة في فكره] (4) لا يقيس بها شيئاً،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 209. (2) نسبة إلى السِّلق، بَقْلة له ورق طويل، غض طري. (معجم) والمراد خضرة الزبرجد تشبه خضرة الريحان، أو خضرة السِّلق. هذا. وفي الأصل. "شفقي". (3) في (ص)، (ت 2): القصد. (4) في الأصل جملة غير مقروءة بهذا الرسم ... في الحيوان "في يده في مكره لا يقيس ... " هكذا بدون نقط وفي (ص) "بيده في فكره" بهذا الرسم الواضح. =

ولا نقيسها على شيء، ويجري في تفريعها جريان من لم يدرك أصله بقياسه. وإنما زعه على قدر الضرورة. فصل قال الشافعي: " وأرى الناس تركوا وزن الرؤوس ... إلى آخره " (1). 3506 - السلمُ في الرؤوس والأكارع قبل التنقية غير جائز، لما عليها من الصوف والشعر، والمقصود مستتر بها. وفي السلم فيها بعد التنقية قولان: أحدهما - الجواز، كالسلم في لحم الفخذ وغيره من الأعضاء. والثاني - لا يجوز؛ لأنه يختلف اختلافا متبايناً في المشافر، والمناخر، وعظم اللحيين، وعظم الأسنان، واللسان، فقد يعظم منها ما لا يؤكل إلا على تكره، ويصغر منها ما يقصد، وهذا يختص بالرأس، والتجويز في الأكارع أقرب. ثم من صحح السلم شرط الوزن. 3507 - وذكر بعد هذا منعَ السلم في الجلود. يعني الجلودَ الطاهرة؛ فإنها لا تنضبط بتشكيل، وفيها انعطافات متباينة، والغرض من الأَدَم لا ينحصر على الوزن، فالسلم إذاً فيها كالسلم في ثوب من غير ذرعٍ. ولو قطعت وشكلت أشكالاً تقبل المساحة، كالنعال السبتية (2)، ففي السلم فيها وجهان: أحدهما - وهو الأصح الجواز. والثاني - المنع؛ لأن ثخانتها ودقتها خارجان عن الحصر، وأطراف الأدَم متفاوتة في ذلك، ولا يتأتى درك الجميع بسَبْر طرفٍ. والأصح الصحة. والاعتمادُ على الوزن لا محالة. ولا التفات إلى الحيوان.

_ = و (ت 2) "بيده في فكرة" بهذا النقط، والمثبت محاولة من المحقق لإقامة العبارة. (1) ر. المختصر: 2/ 209. (2) السبت كل جلد مدبوغ، ومنه النعال السبتية: أي الجلدية التي لا شعر عليها. (معجم ومصباح).

ولا يصح السلم في الخفاف والصنادل؛ لأنها مجهولة كالنشاشيب. وإذا امتنع السلم في النشاب، فالقوس المركب، وهو قوس العجم أولى بالمنع. والنَّبعة (1) التي يتخذ منها قوس العرب بأخذٍ في التخريط من الطرفين، فتتطرق إليه الجهالة. والأواني المنطبعة إن كانت على شكل واحد، لا تفاوت فيها تضايقاً واتساعاً، جاز السلم فيها، والاعتماد على الوزن. وإن كانت تختلف أشكالُها تضايقاً واتساعاً، فالسلم يمتنع. هذا مجموع ما ذكره رضي الله (2) عنه. * * *

_ (1) النبعة واحدة النبع: شجر ينبت في قُلّة الجبل، تتخذ منه القسي. (معجم). (2) يعني الإمام الشافعيَّ.

باب التسعير

بَابُ التَّسْعِير وهل ينادي منادي الإمام في البلد، ويأمر بسعرٍ مقدرٍ في جنس حتى لا يتعدَّوْه؟ 3508 - فنقول: ليس للإمام هذا في رخاء الأسعار وسكون الأسواق؛ فإنه حجرٌ على الملاك، وهو ممتنع. فأما إذا غلت الأسعار، واضطر الناسُ، فهل يجوز للإمام أن يسعّر؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - المنع طرداً للقياس الكلي. والثاني - الجواز، نظراً إلى مصلحة العامة. وقد روي: " أن عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- مر بحاطب بن أبي بلتعة، وبين يديه غَرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعره، فَسَعَّر مُدَّين بدرهم فرآه عمرُ غالياً، وقال: " حُدّثتُ بعِيرٍ مقبلة من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتبرون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإمَا أن تدخل زبيبك البيتَ، فتبيعه كيف شئت " (1). وأراد برفع السعر الزيادة في وزن الزبيب. ومن منع التسعير احتج بما روي عن أنس أنه قال: غلت الأسعار بالمدينة، وقلنا: يا رسول الله لو سعرت لنا! فقال عليه السلام: " إن الله هوَ المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس لأحد منكم مظلمة في دم ولا مال " (2) وأما حديث عمر فقد روي أنه كان يحاسب نفسه كل ليلة بما جرى له في

_ (1) حديث حاطب بهذا السياق، وبهذه الألفاظ رواه الشافعي: المختصر: 2/ 209. وروى مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه مر بحاطب، وهو يبيع زبيباً له بالسوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا. الموطأ: كتاب البيوع، باب الحكرة والتربص، ح 57 ص 651. (2) حديث أنس، رواه أحمد: 3/ 156، 286، أبو داود: الإجارة، باب التسعير، ح 3451، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في التسعير، ح 1314، وابن ماجة: الإجارات، باب من كره أن يسعر، ح 2200، والدارمي: ح 2545، وأبو يعلى: ح 2774، 2861، 3830. =

نهاره، فروي أنه فعل ذلك، فوجد فيما جرى له في يومه تسعيره على حاطب، فندم وأتاه في جوف الليل، وقال له: " إن الذي قلتُ ليس بعزيمة ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت، فبع، وكليف شئت، فبع ". فصل 3509 - روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون " (1) وقال عليه السلام: " من احتكر طعاماً أربعين يوماً يقصد به الغلاء على الناس برئت منه ذمة الله " (2). والجالب هو الذي يجلب الطعام إلى البلد وقتَ الضيق والغلاء ليوسع على المسلمين، وهو على مضادة المحتكر؛ فإن المحتكر هو الذي يحبس الطعام حتى تزداد الأسعار غلاءً وارتفاعاً. ثم قال الأصحاب: المحتكر الذي يلحقه اللعن والوعيد صاحب مال يشتري الطعامَ ويحبسه، ولا [يتركه] (3) حتى يشتريه المساكين والضعفاء. فأما من يشتري الطعام في وقت الرخص وكساد الأسواق، ويحبسه ليبيعه إذا غلا، فلا بأس؛ فإن أصل احتكاره وتربّصه كان في رخاء الأسعار، حيث لا ضرار، وربما يكون ما ادخره قائماً مقام الذُّخر للناس، ولولا ادخاره، لكان يضيع، ويتفرق.

_ = والحديث صححه ابن الملقن في البدر المنير: 6/ 508، وانظر التلخيص: (3/ 30 ح 1160). (1) حديث: "الجالب مرزوق" رواه ابن ماجة: التجارات، باب الحكرة والجلب، ح 2153، والحاكم: 2/ 11، والدارمي: ح 2544، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، والعقيلي في الضعفاء من حديث عمر، قال الحافظ: بسند ضعيف. (ر. التلخيص: 3/ 29 ح 1158). (2) حديث: " من احتكر طعاماً ... " أحمد: 2/ 23، الحاكم: 2/ 11، 12، وابن أبي شيبة: 6/ 104، والبزار (كشف الأستار: ح 1311)، وانظر: التلخيص: (3/ 30 ح 1159). (3) في الأصل و (ص): ينزل.

وكذلك من اتفقت له غَلة من ضيعته، فحبسها على أي قصد أراد، لم يتعرض للوعيد. والقول في هذا الآن يتعلق بقطب عظيم، وهو أن الناس إذا كانوا يتهاوَوْن على الرَّديء، وقد أسرع فيهم المَوَتَانُ (1) العظيم الذريع، وانتهى كل واحدٍ إلى استحلال الميتة وطعام الغير، فالقول في هذا وفي كل ما يدّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين. وسأذكر فيه في باب المضطر أصلاً يرقى عن مجال الفقهاء، وننبه على قاعدة عظيمة، إن شاء الله عز وجل. * * *

_ (1) (ص)، (ت 2): الوبان. والمَوَتان: الموت والهلاك. (المعجم، والمصباح، وتهذيب الأسماء واللغات).

باب امتناع ذي الحق

بَابُ امْتِنَاعِ ذِي الحق 3510 - إذا أتى المسلَمُ إليه بما عليه على الصفات المطلوبة، فلا كلام. وإن أتى بجنسٍ آخر، فهو الاعتياض عن المسلم فيه، وهو باطل. وإن كان أجودَ مما وُصف، جاز قبولُه. وإن قال: لا أقبله ولا أتقلّد المنة، فالأصح أنه يجبر على قبوله. ومن أصحابنا من قال: لا يجبر؛ لمكان المنّة، وهي ثقيلة على ذوي المروءات. ولو أتى بأردأ مما وصف، لم يلزم المسلِمَ القبولُ. وإن قبل محابياً، جاز. وإن أتى بنوعٍ آخر والجنسُ متحد، مثل أن يقع السلم في الزبيب الأبيض فيأتي بالزبيب الأسود أو الطائفي، ففي المسألة وجهان عند التراضي: أحدهما - يصح قبوله، ولا يكون اعتياضاً. والثاني - لا يجوز قبوله؛ فإن اختلاف النوع كاختلاف الجنس. ولو أسلم في الحنطة النفيسة، فأتى بالخسيسة، فمن أئمتنا من جعل ذلك كاختلاف النوع، حتى يخرج على الخلاف. ومنهم من جعل النوع واحداً، وجعل هذا اختلافَ صفة، مع اتحاد النوع. وإذا جاء بعبد هندي والمسلَمُ فيه تركي، فطريقان: منهم من جعله كاختلاف الجنس، ومنهم من جعله كاختلاف النوع، على ما مضى. ولو أسلم في الحنطة، لم يُقبل التراب والتبن فيه، وقد ضبطت هذا في كتاب الربا وبيّنت القدرَ المحتمل منه. وإذا أسلم في التمر، فأتى بالرطب من ذلك النوع، فطريقان: منهم من جعل الرطب مع التمر نوعين، ومنهم من جعلهما نوعاً واحداً. وإذا أسلم في لحم الطير، لم يُقبل الرأس والرجل، يعني ما لا لحم عليه من الرجل.

ولو أسلم في لحم السمك، لم يقبل الرأس والذنب؛ لأن مطلق اسم اللحم لا ينصرف إليه ولا يقتضيه، وليس كالعظم في أثناء اللحم؛ فإنه كالنوى في التمر، وقد جرى العرف بتنحية الرأس والذنب في السمك. وفي هذا نظر عندي فأقول: إن أسلم في لحم السمك، فالأمر على ما قال الأصحاب، وإن أسلم في السمك، فلا يكلف تنحية الرأس والذنب، والعلم عند الله. وأجنحة الطائر تُمَعَّط فيقع [التسليم] (1) بعد ذلك. ويجوز أن يقال: يزال ذنب السمك وجناحه؛ فإن الحيتان صحيحة الأوساط، وكأنها طيور الماء. ثم ذكر الشافعي أنه إذا أسلم في مكيل وقبض وزناً، أو في موزونٍ وقبض كيلاً، فليس هذا قبضاً صحيحاً، وهو بمثابة القبض جزافاً، وقد قدمته في قبوض البيع على أكمل وجه. فصل قال: " ولو جاءه بحقه قبل مَحِلِّه ... إلى آخره " (2). 3511 - من عليه الحق إذا جاء به، فلا يخلو إما أن يكون الحق حالا أو مؤجلاً، فإن كان مؤجلاً، وأتى به قبل الحلول، نظر: فإن كان لصاحب الحق غرضٌ في التأخير. كأن كان حيواناً لا غنى به عن علف، أو كان في وقت نهب، وليس للمعطي غرض ظاهر إلاّ براءة الذمة، وخيفة هجوم الموت، فلا يجبر صاحب الحق على قبول حقه حيث انتهى التصوير إليه، قولاً واحداً؛ فإن غرضه في الامتناع عن القبول لائح. ولو لم يكن لمستحق الحق غرض ظاهرٌ في الامتناع من القبول، وكان للمعجِّل غرض في التعجيل، كالمكاتب يستفيد بالتعجيل العتقَ، وكذلك من رهن بالدين المؤجل عليه رهناً، فهو يطلب بتعجيل الدين فك الرهن. ومن الأغراض الظاهرة أن يكون

_ (1) في الأصل: السلم. (2) ر. المختصر: 2/ 210.

بالدين ضامن، وكان من عليه الدين يحاول تفريغ ذمته. فإذا لم يكن لذي الحق غرض في الامتناع، وظهر غرضُ المعجل أُجبر صاحبُ الحق على القبول. وإن لم يكن لواحدٍ منهما غرض: لا لذي الحق في الامتناع، ولا للمعجل، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن ذا الحق لا يجبر، وله أن يبني الأمر على الوفاء بالأجل، ويجعل المعجِّلَ كالمتبرع المعطي مزيداً، وإذا كان كذلك، فله الامتناع من تقلّد هذه المنة. والقول الثاني - أنه يجبر؛ فإن الأجل حق من عليه الدين، فإن أسقطه، لم يكن لمستحق الحق أن يمتنع. وإذا كان أصل الحق يسقط بإبراء مستحقه من غير شرط القبول على الأصح، فينبغي أن يسقط حق الأجل من غير حاجة إلى قبول من يستحق أصل الدين. ولو كان لصاحب الحق غرض في الامتناع، وكان للمعجل غرض ظاهر في التعجيل، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنا نرعى جانب مستحق الحق، ونقطع بأنه لا يجبر لعذره اللائح، ومن أصحابنا من جعل تقابل العذرين كسقوطهما، وخرَّج المسألة على القولين كما ذكرناه. ولو لم يكن للمستحق غرض في الامتناع، وظهر غرضُ المؤدي، فقد قطع الأصحاب بالإجبار في هذه الصورة. ولو كان الدين سلماً، فعمّ وجودُ المسلمِ فيهِ قبل الحلول، وكان يخاف المسلَمُ إليه من انقطاع الجنس قبل الحلول؛ فهل يعد ذلك عذراً في جانب المعجِّل؛ حتى يبنى عليه ما تقدم من التفصيل في أعذار المعجِّل؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه عذرٌ؛ فإنه قد يترتب على التأخير انفساخ العقد، أو حق فسخه. والثاني - أنه ليس بعذر؛ فإن العقد إن انفسخ، رد رأس المال، وسقط عنه الدين، في مقابلة ما يرد. هذا كله في الدين المؤجل إذا عجَّله مَن عليه. 3512 - فأما إذا كان الدين حالا، فجاء به من عليه، وامتنع المستحق من القبول،

ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال بإجبار ذي الحق. فيقال له: إما أن تقبل، وإما أن تبرىء ذمته من الدين. ومن أصحابنا من ذكر في ذلك قولين أيضاً؛ فإن مستحق الدين يقول: الحق لي، وإليّ طلبه، فليس لمن عليه الحق أن يحتكم عليَّ في طلب الحق. ومما يجب التَنبُّهُ له أنا في الدين المؤجل فصلنا بين المعذور وبين ما لا عذر له، وإذا حل الدين، فنقول: أما جانب مستحق الحق، فلا يختلف بأن يكون معذوراً، ووجه بيّن. وأما المعطي، فإن كان معذوراً، أُجبر صاحبه على القبولِ قولاً واحداً. ولم يجر القولان؛ من قِبَل أن العذر يوجب قبول ما يَنْقُدُه من الدين المؤجل، فما الظن بالدين الحالّ؟ ثم إذا وجد العذر في الجانبين، والدّين حال، فصاحب الحق مجبر على القبول قولاً واحداً؛ فإنا قد أوضحنا أن عذر مستحق الدين لا اعتبار به إذا كان الدين حالاً. ثم حيث يجبر على القبول، فإن لم يقبل، قبض القاضي عنه، أو أناب من يقبض. وإذا جرى ذلك، فقد برئت ذمة المديون، وكان المال أمانةً لمستحق الحق في يد الحاكم، أو في يد من أنابه. 3513 - وممّا يتصل بهذا أن من عليه الحق إذا ظفر بمستحق الحق في غير المكان المتعيّن شرعاً أو شرطاً، وأراد إجبار مستحق الحق على القبول، فالتفاوت في المكان كالتفاوت في الزمان: فإن كان على الناقل مؤونة، لم يجبر مستحق الحق على قبوله، وهو يناظر في الزمان ما إذا ظهر غرض بيّن في الامتناع قبل الحلول. وإن لم يكن في نقل المستحق مؤونة، فهل يجبر مستحِق الحق على قبوله في غير المكان المستحق؛ فعلى القولين المقدمين فيه، إذا جاء بالحق قبل حلول الأجل؛ فالتفاوت المكاني في الحكم الذي أردناه كالتفاوت الزماني. فرع: 3514 - تردد الأئمة في السلم في الثوب الذي يصبغ بعد نسجه، فيما ذكره العراقيون: فأجازه بعضهم، وهو ما قطع به الإمام. ولا خلاف في جواز السلم في الثوب الذي ينسج بعد الصبغ.

ولا فرق؛ فإن عين الصبغ قائم في الثوبين. ومن أئمتنا من منع السلم في الثوب المصبوغ بعد النسج، واحتج عليه بأن الصبغ عينٌ ضمت إلى الثوب، وهو مجهول المقدار. والغرض يتفاوت. وهذا إنما كان يتجه لو امتنع السلم في الذي صبغ غزلُه، ثم نسج. والأصح التجويز؛ فإن الصبغ صار صفة في الثوبِ لا يُطلب تمييزه وفصله. فرع: 3515 - حكى صاحب التقريب عن ابن سريج أنه قال في السّمك المملح: إن كان يظهر للملح وزن، فلا يصح السلم لجهالة مقدار المسلَم فيه. وإن كان لا يظهر للملح وزن، لم يخل إما أن يكون له قيمة أو لا يكون، فإن لم تكن له قيمة، فلا أثر له؛ إذ لا قيمة ولا وزن، والسلم صحيح. وإن كان له قيمة، فهو كالثوب المصبوغ بعد النسج. فإن قيل: أرأيتم لو كان للصبغ وزن في الثوب؟ قلنا: لا أثر لوزنه في الثوب؛ فإن الثوب لا يوزن. فرع: 3516 - إذا. قبض المسلِمُ المسلَم فيه، وتلف في يده، واطلع على عيب، فرده، فالاستبدال (1) منه غير ممكن بعد التلف. ولكن له الرجوع بالأرش، وهو قسط من رأس المال. وإذا حصل الرجوع، لم يكن هذا استرداداً، ولكنه في حكم فسخ العقد في ذلك المقدار المسترد. وذهب المزني إلى أن الرجوع بالأرش لا يثبت بعد تلف المقبوضِ. * * *

_ (1) في النسخ الثلاث: والاستبدال.

كتاب الرهن

كتاب الرهن 3517 - الرهن توثيق الدين بعين مالٍ يسلمها الراهن إلى صاحب الدين، وحقيقةُ الرهن الإثبات، ومنه قيل: الحالة الراهنة، أي القائمة الثابتة. والأصل في الرهن الكتاب، والسنة، والإجماع. فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، قوله تعالى {فَرِهَانٌ} مصدر أقيم جزاءً للشرط بحرف التعقيب، وهو الفاء، فقام مقامَ الأمرِ؛ فإن الشرط والجزاء لا يعتقبان إلا على الأفعال، فجرى ذلك مجرى الأمر، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، وقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] وقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، وقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] أي فحرروا، وافدوا، واضربوا، وصوموا. و" رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه من أبي [الشحم] (1) اليهودي، بشعير استقرضه منه، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون " (2). والرهن محثوث عليه، وليس حتماً، فإنه قال تعالى في سياق الآية {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].

_ (1) في الأصل: أبي شحمة. وهو تصحيفٌ، نصَّ عليه وبيّن أنه وقع من إمام الحرمين الحافظُ ابن حجر عند تخريج الحديث في التلخيص 3/ 81. وهو على الصواب في (ت 2): " أبي الشحم " وفي (ص) " أبي شحمة " كالأصل، فهذا يعني أن التصحيف كان في بعض نسخ النهاية دون بعض. وانظر تعليقاً آخر عن الموضوع ذاته قبل باب الرهن والحميل بنحو سبع صفحات (ص 218). (2) حديث: " توفي رسول الله صلى اله عليه وسلم، ودرعه مرهونة " متفق عليه من حديث عائشة: (اللؤلؤ والمرجان: 392 ح 1033).

وأصل الرهن مجمع عليه، وهو يشتمل على ركنين: مرهون، ومرهون به. أما المرهون، فلا يكون إلا عيناً، لأن الغرض من الرهن التوثيق، ولا يتوثق الدين بالدين، وهو مشبه بالهبة، من حيث إنه تبرع يفتقر إلى القبول. ثم الهبة تختص بالعين. ولو قال: وهبت منك ألف درهم ثم نقدها عن ذمته، وأقبض لم يصح، بخلاف ما لو باع ألفاً بألف، ثم نقدا وتقابضا قبل التفرق. هذا في المرهون. وأما المرهون به، فلا يكون إلا ديناً؛ فإن الغرض استيفاء الدين من العين، عند فرض العسر. ولو كان المرهون به عيناً، فاستيفاؤها من المرهون محال، وهي متعينّة. وفي ضمان الأعيان المضمونة كلام وتردد سنفرعه على قولي كفالة الأبدان من كتاب الضمان. وإذا جوزنا ضمان الأعيان المضمونة، فهو بتقدير ضمان قيمتها إذا تلفت، ولا يجوز الرهن بالعين على هذا التقدير في المذهب الظاهر؛ لأن الضامن لا ضرر عليه إذا امتد بقاء العين، فالذمة متسعة لالتزام الحقوق. ولو جاز الرهن على هذا التقدير، لجر ضرراً دائماً لا نهاية له؛ فإن العين التي يقدر الرهن بها ربما لا تتلف أبداً، فيبقى الرهن دائماً، ويطرد الحجر بدوامه. فصل قال الشافعي: " والدين حق، فيجوز الرهن به ... إلى آخره " (1). 3518 - قال الأصحاب: أراد حق لازم. فنقول: قد تقدم أن المرهون به يشترط أن يكون ديناً. وغرضنا انحصار الرهن في قبيل الديون. وهذا الفصل يحوي تقاسيم الديون، فهي منقسمة ثلاثة أقسام: دينٌ لازم مستقر في الذمة، كالسلم، والقرض، والأروش، والأثمان، والمهور، والأجور، فيجوز الرهن بهذه الديون. والقسم الثاني - دين لا يتصف باللزوم، ولا يُفضي إليه، وهو كنجوم الكتابة، فلا

_ (1) ر. المختصر: 2/ 210.

يجوز الرهن بها؛ فإنها لم تتأكد باللزوم، ولا يتصور أن تنتهي إليه في نفسه. فالتوثيق به لا معنى له. فان قيل: إذا أدى المكاتب النجم، فقد انتهى إلى التأكد. قلنا: نعم هو كذلك، ولا حاجة بعده إلى التوثيق. والقسم الثالث - دين لا يتصف باللزوم في نفسه، ولكنه يفضي إلى اللزوم. وهذا ينقسم قسمين: منه ما أصله اللزوم، والجواز دخيل فيه مرفق. ومنه ما أصله الجواز، ولكنه يفضي إلى اللزوم. أما القسم الأول، فهو كالثمن في زمان الخيار، [فالرهن به جائز. وهذا يتطرق إليه خلافٌ، لا محالة، متلقى من اختلاف القول في أن البيع في زمان الخيار] (1) هل يتضمن نقل الملك في المبيع إلى المشتري، وفي الثمن إلى البائع؟ فإن حكمنا بأنه يقتضي النقلَ، فعليه قطع الأصحاب بصحة الرهن. وإن قلنا: إنه لا يقتضي النقلَ أصلاً، فالظاهر منعُ [الرهن] (2)؛ إذ لا دين، فيقع الرهن لو وقع قبل ثبوت الدين. هذا قسم من قسمين انقسم إليهما القسم الثالث. والقسم الثاني - الجُعْل في الجعالة (3)، فمبناه في وضع العقد على الجواز، ولكنه ينتهي إلى اللزوم عند تمام العمل، ففي جواز الرهن به وجهان: أحدهما - أنه جائز كالثمن في زمان الخيار. والثاني - لا يجوز؛ فإنه قبل اللزوم بعيد عن التوثيق؛ إذ لا يتصور من المتعاقدين في الجعالة أن يلزما الجُعل باختيارهما قبل العمل. ويتصور من المتبايعين إلزام الثمن باختيارهما. ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن هذا، وقال: لو كان ثبوت الرهن مأخوذاً من اختيار اللزوم، لكان الرهن بالثمن في زمان الخيار متضمناً إلزامَ العقد. وليس كذلك. 3519 - وكل ما جاز الرهن به صح ضمانه، وكل ما صح ضمانه جاز الرهن به، إلا العهدة فإن ضمانها جائز على ظاهر المذهب -وهو ضمان الدَّرَك- ولا يجوز الرهن

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) في النسخ الثلاث: الدين. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. (3) بكسر الجيم، وبعضهم يحكي تثليثها. (المصباح).

بعهدة المبيع. والفارق بينهما أن ضمان العهدة إنما جاز مصلحة في العقد، إذ قد لا يثق المشتري بغريب يبايعه، فينكف عن معاملته. ويلتحق بهذا السبب ضرار بالجانبين، فسوغ الشرع التوثيقَ بالضمان. ثم لا ضرر في ذلك الضمان؛ فإن الضامن لا طَلِبة عليه قبل بدوّ الاستحقاق. وإن جوزنا الرهن بالعهدة، لكان ذلك التزام حجرٍ (1) في المرهون لا نهاية له، وهو تنجيز ضرار لا نهاية له على مقابلة توقع ضرار. وحكى شيخي عن شيخه القفال وجهاًً في جواز الرهن بالعهدة. والسبب فيه أن الثقة قد لا تحصل إلا به، والرهن منصوص عليهِ في آية المداينات في طلب الوثائق دون الضمان، وما قدر من الضرار غيرُ سديد؛ فإنه إنما يعظم وقع الضرار لما يلزم من غير اختيار، وكلامنا هذا في جواز الرهن إذا وقع الرضاً به، لا في وجوبه. قال: " وكذلك كل حق لزم في حين الرهن وما تقدم الرهن ... إلى آخره " (2). 3520 - أشار الشافعي إلى أن الآية في دين مخصوص، ثم بين أن ما سواه من الديون اللازمة في معناه. فنقول: إذا وجب الدين وأنشىء الرهنُ بعده، فهذا رهنٌ لا كلام فيه. ولو قدم الرهن بشقيه على وجوب الدين، لم يصح عند الشافعي. فلو قال: رهنتك هذه العين بألف تقرضنيه، فقال المخاطب: ارتهنتُ، ولا إقراض بعدُ (3)؛ فهذا مردود، وإن جرى القرضُ بعد ذلك؛ فإن الرهن توثيق الدين، ولا يعقل التوثيق قبل الدين، إلا على مذهب التعليق، وتعليق الرهن باطل. والقول في الضمان قبل الوجوب كالقول في الرهن. ثم في المذهب تفصيل طويل

_ (1) (ص)، (ت 2): جحد. (2) ر. المختصر: 2/ 210. (3) " الواو " واو الحال، والمعنى: أن الإيجاب والقبول بعقد الرهن قد تم والحال أنه لم يتم القرض الذي به الرهن.

في ضمان ما لم يجب. سيأتي في أولِ كتاب الضمان، ونذكر ترتيبين في القديم والجديد. ثم الرهن يجاري الضمان في محل الوفاق والخلاف، إلا في أمثال ضمان العهدة؛ فإن الرهن ينفصل في ظاهر المذهب عن الضمان، ويجري وجه مطرد للقفال في تنزيل الرهن منزلة الضمان. هذا قولنا في طرفي الثبوت والنفي: ذكرنا تقدم الدين، وإنشاء الرهن بعده، ثم ذكرنا تقدم الرهن بشقيه وابتداء الوجوب بعده. 3521 - ونحن نذكر الآن حكم الاقتران بين الرهن والدين، ونُجري فيه حكم التعاقب أيضاًً. ونرسم في غرضنا مسائل أرسالاً. فلو تقدم شِقَّا الرهن على البيع، وذلك أن يتراهنا بالثمن، ثم لا يتفرقا حتى يتبايعا، فالمذهب المثبوت أن ذلك غيرُ جائز. وأبعد بعض الأصحاب، فجوّز ذلك إذا جمع المجلسُ الرهنَ والبيعَ، وجعل اتحادَ المجلس كالاقتران بالإيجاب والقبول، كما سنصفه الآن. وهذا ليس بشيء؛ فإن المجلس إن ثبت له حكم، فهو بعد البيع، وعقد الرهن لا [مجلس] (1) له، ولا أثر لخيار المجلس فيه، كما قدمناه. ثم لو قدر له مجلس، فالبيع بعده ليس من لواحقه. ونحن إن رأينا إلحاق شيء بالعقد في مجلسه، فهو في توابع العقد الذي المجلس مضاف إليه. ولولا ذكرُ الأصحاب هذا، لأضربنا عنه. هذا بيان اجتماع الاقتران بتقدير تقدم الرهن، وتعقب البيع. فأما إن امتزج إيجاب الرهن واستيجابه بالتواجب في البيع، فالوجه أن نفصله. فمن صور ذلك أن يتقدم ذكر الرهن، بأن يقول البائع: ارتهنت ثوبك هذا بألف، وبعتك هذه الدار به، فقال المشتري: رهنتُ واشتريت، أو قال: اشتريت ورهنت. فإذا قدم المبتدىء ذكر الرهن، وعقبه في استكمال الكلام بذكر ما يليق به من شقي البيع، فظاهر المذهب أن هذا غير جائز.

_ (1) في الأصل: مجيز.

ويلتحق بهذه الصورة أن يقول البائع: بعت وارتهنت، ويقول المشتري رهنت واشتريت، فسواء وجد تقدم شقي الرهن على شقي البيع على صورة الاقتران، أو وجد من أحد الجانبين تقديم شق من الرهن، فالوجه منع صحة الرهن. ويقرب أن يرتب هذا على تقدم الشقين من الرهن. ووقوع البيع بعدهما. ولكن لا ينبغي أن يُعتقد ذلك الوجه الضعيف من أصل المذهب، حتى يُبتنى عليه أو يُرتَب عليه. فلنبتدىء قائلين: الأصح أن الرهن يفسد في الصورة التي ذكرناها؛ لأنه قُدِّم شق منه أو شقاه على شقي البيع المثبت للثمن، وإذا كان الرهن يستدعي ثبوت الدين، فأحد شقيه يستدعي ذلك أيضاًً. ووضع الرهن استئخار أوله عن ثبوت الدين. 3522 - ومن المسائل في الباب أن يتقدم مصراع البيع على مصراع الرهن، وذلك مثل أن يقول للبائع: بعت منك هذه الدار، وارتهنت هذا الثوب بالثمن. فقال المشتري: اشتريت ورهنت، فقدم كل واحد شقَّ البيع على شق الرهن، ووقع شقا الرهن ممتزجين بشقي البيع، على ما وصفناه، وميزنا هذا النوع في التصوير عما تقدم عليه بذكر كل واحد من المتخاطبين شق البيع أولاً، فإنه لو ذكر أحدهما شق الرهن، ثم شق البيع، اتصل بالفن المتقدم على هذا. ومن صور هذا القسم أن المشتري لو قال: بعني هذه الدار ورهنت هذا الثوب، فقال البائع: بعت وارتهنت، وجعلنا الاستدعاء قبولاً كما سيأتي في موضعه. هذا بيان الصور. ونصُّ الشافعي ظاهر في تصحيح البيع في هذه الصور، واتفق على القول بالصحة فيها الأصحاب. وذكر القاضي في طريقه تخريجاً من عند نفسه، لم ينقله؛ فقال: هذا مشكل؛ فإن أحد شقي الرهن يقع لا محالة قبل ثبوت الثمن بانعقاد البيع، ووضع الرهن يقتضي استئخار إنشاء الرهن عن ثبوت الدين، فقال يظهر أن يخرَّج هذا قولاً. ويقول: لا يصح الرهن ما لم يتقدم الدين بشقيه، ثم يُنشأ أولُ الرهن بعدهما.

وهذا يظهر تخريجه من مسألة للشافعي في الكتابة؛ فإنه قال: إذا قال السيد لعبده: كاتبتك على ألف درهم، وبعت هذا العبد منك بألف، فقال العبد: قبلت الكتابة والبيع. قال الشافعي: لا يصح البيعُ؛ فإنه يستدعي ثبوت الكتابة أولاً، وقد جرى أحد شقي البيع قبل انعقاد الكتابة، ولا يصير العبد من أهل المعاملة مع مولاه ما لم تتم الكتابة، فيخرج منع الرهن على هذا خروجاً ظاهراً. ثم قال: لو أردنا فصلاً بين الأصلين فقهياً، لم نجده إلا أن نتعلق بمصلحة العقد، فنقول: الرهن من مصلحة البيع، فإن نفذ مقترناً بالبيع، كان هذا لائقاً بالمصلحة؛ من جهة أن البائع ربما كان يطلب وقوع الاستيثاق بالرهن مع وقوع البيع، والوجه مزج العقد بالعقد كما ذكرناه. والبيع ليس من مصلحة الكتابة، فجرى فساد البيع على القياس الذي مهدناه. وكان شيخنا أبو محمد لا يفرق بين أن يقول البائع: ارتهنت وبعت، أو يقول بعت وارتهنت. والأحسن أن نفصل بينهما كما ذكرناه. فإن قيل: لمَ؟ وشق الرهن وقع قبل انعقاد البيع من الوجهين؟ فإذا كان كذلك فأي أثر لتقديم شق البيع أو شق الرهن؟ قلنا: قول القائل: بعت بألف، وارتهنت به، منتظم إلى أن يحكم بالصحة أو الفساد، وقوله: ارتهنت بألف وبعت، ليس له نظم صحيح؛ فإن الرهن يستدعي استئخاراً عن ذكر مرهونه، فيظهر الفرق في نظم العقد، وإن لم يظهر في الوجوب والثبوت. فرع: 3523 - لو قال: بعتك هذه الدار بألف درهم، بشرط أن ترهنني ثوبك بالألف. فقال: اشتريت ورهنت. والتفريع على النص في الحكم بصحة الرهن. قال الأصحاب: يتم الرهن بما جرى، لأنه وجد من البائع استدعاء الرهن، فكان ذلك بمثابة الارتهان والتلفظ به. قال القاضي: الذي عندي أنه لا بد من لفظ الارتهانِ، أو القبول من البائع بعد قول المشتري: رهنت؛ لأن الذي وجد منه شرط الإيجاب، وليس باستيجاب. وهذا يبتني على أن الاستيجاب في البيع والرهن هل يكون بمثابة القبول؛ فإذا قال الرجل:

بعني عبدك هذا بألف، فقال البائع: بعته منك بالألف، فما تقدم من الاستيجاب واستدعاء الإيجاب هل يكفي؟ وهل يحل محل التصريح بالاشتراء والقبول؟ فيه قولان وترتيبُ نصوص سنذكرها في موضعها. فإن قلنا: الاستيجاب لا يكفي، فلا كلام. وإن قلنا: الاستيجاب يكفي في البيع، فإنه كاف في الرهن أيضاً. فعلى هذا إذا قال البائع: بعتك هذه الدار بألف درهم بشرط أن ترهنني ثوبك، فقال: اشتريت ورهنت. فقوله بشرط أن ترهنني هل ينزل منزلة قوله بعت منك بألف وارهنِّي ثوبَك؛ فيه تردُّدٌ. والأصح في القياس ما ذكره القاضي. وإن كان الأشهر غيره. فصل قال: " ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضاً ... إلى آخره " (1). 3524 - لا يلزم الرهن دون القبض، خلافاً لمالك (2) -رحمه الله- وهذا الخلاف مطرد معه في الهبة والعارية المؤقتة. والتأجيل في القرض واعتبار الرهن بالهبة قريب؛ من قِبل أن كل واحد منهما تبرع، والمتبرع قد يتعرض للندم، والمعاوضات تبعد عن إمكان الندم. ثم جعل الشارع لما ذكرناه من توقع الندم منتهى ومَردّاً، وهو القبض، ولسنا نتمسك بهذا المعنى تمسك من يقصد الاستقلال به، بل مقصودُنا تشبيه الرهن بالهبة، وهو ظاهر. ثم المعتمد في الهبة حديمث لأبي بكر -رضي الله عنه- في ذلك، سنذكره في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى. ثم قال الشافعي: " حتى يكون مقبوضاً من جائز الأمر حين رهَنَ، وحين أقبض ... إلى آخره " (3).

_ (1) ر. المختصر: 2/ 210. (2) ر. الإشراف: 2/ 576 مسألة: 955، حاشية الدسوقي: 3/ 231. (3) ر. المختصر: 2/ 210.

3525 - أما اشتراط الاستقلال والاتصاف بشرائطه عند العقد وعند القبض، فبيّن لا إشكال فيه، وإنما الكلام فيه إذا تخللت أحوال بين العقد وبين القبض، ثم فرض زوالها، فهل يُقضى بارتفاع العقد وانفساخه؟ أم كيف الكلام؟ الذي يقتضيه الترتيب أن نذكر موت الراهن، أو موت المرتهن بين العقد والقبض، نص الشافعي على أن الرهن يسلم إلى ورثة المرتهن، وهذا تصريح منه بأن الرهن لا يبطل بموت المرتهن قبل القبض. وحكى بعض أصحابنا نصّاً أن الراهن لو مات قبل الإقباض، بطل الرهن. ثم اختلف الأئمة: فمنهم من جعل في موت الراهن والمرتهن قبل القبض قولين: أحدهما - أن الرهن يبطل بموت كل واحد منهما؛ فإنه على حقيقة الجواز قبل القبض، والعقود الجائزة تنفسخ بموت أحد المتعاقدين في أثناء الجواز، والذي يحقق ذلك أن القبض فيما يشترط القبض فيه يقع موقع أحد جوابي البيع وغيره؛ فإنه ركن في تحصيل مقصود العقد. والقول الثاني - لا يبطل العقد بموت كل واحد منهما؛ فإن مصير العقد إلى اللزوم على الحد المعلوم، فكان الموت قبل القبض كموت أحد المتعاقدين في زمان الخيار. ومن أصحابنا من قال: يبطل الرهن بموت الراهن قبل القبض، ولا يبطل بموت المرتهن. والفارق أن الراهن ربما يموت وعليه ديون مستغرقة، فإذا لم يلزم الرهن بالقبض، فالوجه انقطاع الرهن، وتقديم الحقوق اللازمة. وإن لم يكن ديون، فلا نظر إلى هذا، بل النظر إلى إمكانه. قال الشيخ أبو محمد: السديد في ذلك أن نقول: إن مات الراهن وخلَّف ديوناً مستغرقة، فلأصحاب الديون المنعُ من تخصيص المرتهن بشيء. لا يجوز خلاف ذلك. فأما إذا لم تكن ديون مستغرقة، أو كانت، ورضي الغرماء بالتخصيص وإنفاذ الرهن؛ فإذ ذاك يختلف الأصحاب. 3526 - والمذهب الظاهر أن الرهن لا يبطل بموت المرتهن، ولا بموت الراهن، لما ذكرناه من أن العقد مصيره إلى اللزوم، والعقود الجائزة التي تنفسخ بالموت

فمستندها أمر وقول لا لزوم له، فإذا مات القائل، انقطع أثر قوله، كالجِعالة (1)، والوكالة. ولهذا قال المحققون: لا يشترط القبول في الجِعالة والوكالة، فإذا آل سبب الانفساخ إلى انقطاع قول القائل، تضمن الموتُ لا محالة الانفساخَ. والرهنُ عقدٌ تام يشير إلى مقصود يتوقف لزومه على القبض، فكان هذا يقتضي أن يبقى العقد على صفته بعد العاقدين. وبعد موت أحدهما. التفريع: 3527 - إن حكمنا أن الموت لا يُبطل الرهن، فلو فرض طريان الجنون، فهو أولى بأن لا يبطله. ثم إن جُن المرتهن، نصب القاضي قيماً يقبض الرهنَ إن ساعده عليه الراهن. وإن جُن الراهن، نظر القيم في صلاح الأمر، فإن رأى الأصلحَ له أن يقبض أقبض، وإن رأى الأصلح في الفسخ، فسخ. وإن قلنا: طريان الموت يتضمن انفساخ الرهن، ففي طريان الجنون وجهان، وسنذكر تفصيل الجنون والإغماء، وما في معناهما، إن شاء الله عز وجل. وإن طرأ السفه بين العقد والقبض، فاقتضى طريانه عود الحجر أو إعادته، فإذا طرأ (2) الحجرُ، ففي انفساخ الرهن خلافٌ مرتب على الجنون، وهذا أولى بأن لا ينفسخ الرهن فيه؛ لأنه بالسفه لم يخرج عن أن يكون من أهل العبارة لو أُذن له فيها، واستقصاء ذلك في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى. فرع: 3528 - إذا باع الراهن الرهن قبل القبض، أو وهب، أو أصدق، أو أعتق، فكل ذلك يصح منه، ويكون رجوعاً في الرهن. فأما إذا أجَّر المرهون قبل القبض، أو زوج الجارية: أما التزويج قبل القبض، فإنه لا يكون رجوعاً في الرهن؛ فإن التزويج لا يرِد على مورد الرد (3)، ولا يمتنع رهنُ المزوَّجة ابتداء. وأما الإجارة، فإن قلنا: لا يمتنع رهن المُكرَى وبيعُه، فهو كالتزويج. وإن

_ (1) بكسر الجيم، وحُكي فيها التثليث. (المصباح). (2) في (ص)، (ت 2): طرد. (3) كذا في النسخ الثلاث. ولعلها: "على مورد الرهن".

قلنا: يمتنع رهنُ المكرَى، الأصح أن الإجارة تكون رجوعاً. ومن أصحابنا من لم يجعلها رجوعاًً على هذا القول. وهو بعيد. ولو دبر العبدَ قبل القبض، فالمنصوص أن ذلك رجوع عن الرهن، وخرَّج الرّبيعُ قولاً آخر أنه لا يكون رجوعاًً، وهذا منقاس؛ إذ بيع المدبَّر جائز عندنا، وهذا كاختلاف القول في أن المدبر هل يجوز رهنه. ولو دبر عبداً، ثم رهنه، ففيه كلام يأتي بعد هذا على قرب. وكل ذلك ينشأ من نصّ الشافعي: في أن من أصدق امرأته عبداً، فدبرته، فطلقها الزوج قبل المسيس، فهل يرجع في نصف المدبر؟ فيه كلام سيأتي، إن شاء الله عز وجل. وسأجمع -بتوفيق الله- مراتب الكلام في الرجوع في كل فن يقبل الرجوع، في باب الرجوع عن الوصايا. وقد قدمت طرفاً منه في أول البيع. فصل قال: " وما جاز بيعه جاز رهنه ... إلى آخره " (1). 3529 - قال الأصحاب: الأشياء في البيع والرهنِ على أربعة أقسام: أحدها - ما لا يجوز بيعه، ولا يجوز رهنه ككل ما لا يُملَك، وكالموقوف، وأم الولد، والآبق، وما لا يتمول. والقسم الثاني - ما لا يجوز رهنه، وفي بيعه تفصيل، ومنه الدين، فإنه لا يجوز رهنه وفي جواز بيعه خلاف، وقد يلتحق بهذا القسم المدبر والمعلق عتقُه بصفةٍ، فإن بيعهما نافذ، وفي رهنهما كلام سيأتي. والقسم الثالث - ما يجوز رهنه على وجه، وفي بيعه خلاف، ومنه العقد على الأم دون الولد، وعلى الولد دون الأم. هذا جائز في الرهن، وفي البيع كلام. والقسم الرابع - ما يجوز بيعه ورهنه، وهو معظم الأعيان المملوكة على الإطلاق. وسنلحق بكل قسم ما يليق به في مسائل الكتاب، والذي ذكرناه الآن تراجم.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 210.

وغرض الشافعي بما قال تجويز رهن المشاع، وهو مذهبنا، والخلاف فيه مع أبي حنيفة (1) مشهور. ثم إذا جرى الرهنُ في المشاع، فالقبض فيه يتأتى بتسليم كله، ثم يرتد إلى المالك النصفُ الذي لم يرهن على مهايأة ومناوبةِ، ولا يمتنع صحة الرهن. وإن كان القبض يتبعض بحكم الشيوع. ونحن قد نبعض القبض لتوفير المنافِع على الراهن، على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " ويجوز ارتهان الحاكم، وولي المحجور عليه، ورهنهما عليه في النظر له ... إلى آخره " (2). 3530 - صوّر الأئمة من ولي الطفل الارتهانَ للطفل، وصوروا منه أيضاًً رهن مال الطفل، واتفقوا على الجملةِ أن الرهن والارتهان منه متقيد بشرط الغبطة، ورعاية المصلحة. اتفق العراقيون على أن الأب ليس له أن يبيع شيئاًً نسيئةً من مال الطفل، ولو باع بأضعاف الثمن من مليء وفي إلى أجلٍ قريب، ولم يرتهن شيئاً ولكن وثق بيسار المشتري وانتظام حاله، وزعموا أن هذا تغريرٌ بمال الطفل، ورفعٌ للملك واليد عنه لا في مقابلة عوض ناجز. وهذا الذي ذكروه لم أر في طرقنا ما يخالفه على التصريح، ولكن في معاني طرقنا ما يجوِّز ذلك، وليس بيع ماله نسيئة من غير رهن بأكثر من الإبضاع بمال الطفل، وقد ذكرنا في تجارة الوصي في مال اليتيم أن ذلك جائز، ومعظم الأرباح ونماء التجاير يقع في النسايا (3).

_ (1) ر. رؤوس المسائل: 301، مسألة 189، ومختصر الطحاوي: 92، والمبسوط: 21/ 69، وطريقة الخلاف: 434، مسألة: 176. (2) ر. المختصر: 2/ 210. (3) (ت 2): النسيئات.

أما البيع نسيئة مع الارتهان، فجائز لا منع فيه على الجملة، على شرط رعاية الغبطة. 3531 - وها نحن نفصلها بالمسائل. فنذكر الارتهان للطفل، ثم نذكر رهن مال الطفل، فأما الارتهان للطفل، فقد يفرض في بعضِ المواضع نظراً محضاً، فالوجه القطع بنفوذه، وذلك إذا أتلف رجل مالاً من أموال الطفل، والتزم قيمتَه، فإذا رهن بما لزمه للطفل مالاً، فلا شكّ في صحة الرهن؛ فإنه يقع محض فائدة (1) مجرّدة للصَّبي؛ فإنه يتوثق دينُه إلى اتفاق القضاء وليس عليه من الارتهان غرر ولا ضرر. ومن صور الارتهان للطفل أن الولي إذا رأى أن يبيع شيئاًً. من ماله نسيئة على أن يرتهن، والبيع على شرط الغبطة، فالرهن صحيح. والعراقيون لما قطعوا بمنع البيع نسيئة، قيدوا القطع في المنع بما إذا لم يكن بالثمن رهن. فأمّا إذا كان به رهن واقترنت المصلحة بالمعاملة، فلا مانِع من الجواز. وإذا كان الولي يخاف النهب والغارة فرأى إيقاع مال الطفل في ذمة مليء وفيّ على أن يرتهن له، كان ذلك جائزاً. ولو باع مالَه نسيئة بمثل ما يُشترى به نقداً وارتهن، فالبيع باطل، والارتهان فاسد؛ فإن ثبوت الرهن موقوف على ثبوت مرهون به، فإذا لم يثبت، لم يصح الرهن. ثم إذا قبض الرهن على الفساد، فهو أمانة. هذا من الأصول المتفق عليها؛ فإن ما لا يقتضي ضماناً إذا صح، ففاسده لا يقتضي الضمان، على ما سيأتي ضبط أمثال ذلك. وكذلك لو أقرض مال الطفل، لا في نهب ولا عند إرهاق حاجة، فالإقراض فاسد. ثم إذا أفسدنا المعاملة على مال الطفل، فالعين مُتَّبعةٌ أينما صودفت، وإن تلفت في يد المشتري أو المستقرض، توجّه الضمانُ عليه، والضمان على كل حال متوجه على الولي لتفريطه، ورفعه اليدَ عن مال الطفل لا على جهة الغبطة. فهذا تفصيل الصور التي يجرى فيها الارتهان للطفل.

_ (1) في النسخ الثلاث: محض وفائدة.

3532 - فأما رهن مال الطفل، فهو إيقاع طائفة من ماله في حَجْر الرهن، ولا يجوز هذا إلا بغبطةٍ ظاهرة عريّة عن الغرر، أو حاجة ماسَّة على ما سنصف المسائل الآن. فأمّا الحاجة: فإذا مست حاجة الطفل إلى ما يصرف إلى نفقته، وكان ماله عقاراً، فضن الولي بالعقارِ، ولم ير بيعه واستمكن من استقراض شيء يُتزجَّى (1) به، ولم يُبْعِد أن يتأدى ذلك الدين من رَيْع الضيعة، ولكن لا يتمكن من هذا إلا برهن ذلك العقار، فهذا جائز، وظهور المصلحة فيه بيّن. هذا بيان الحاجة. فأما الغبطة: فإذا رأى الولي شيئاً يباع بألفٍ نسيئة. وكان يساوي ألفين، ولكن كان لا يستمر الأمر إلا برهن شيء يساوي ألفاً من مال الطفل، فالولي يفعل ذلك؛ فإنه يتنجز فائدةَ الطفل، وليس عليه غرر؛ فإن الرهن لو تلف وأدى الولي ألفاً، لم يخسر الطفل شيئاً؛ فإن المشترَى يساوي ألفين. وبمثله لو كان لا يقنع في هذه المعاملة إلا برهنٍ يساوي ألفين، فلا غبطة؛ من جهة أن الحيلولة تقع ناجزة بين التصرف للطفلِ، وبين الرهن في الحال، ويجب بذل ألف في ثمن السلعةِ، فإذا بذل الألف وفُرض التلف في الرهن، فالثمن وقيمة المرهون ثلاثة آلاف، والحاصل للطفل من المعاملة ألفان. فإن قيل: العين المرهونة كانت تتلف أيضاً لو بقيت في يد الطفلِ غير مرهون. قلنا: نعم ولكن انتجز منعُ التصرف فيه، ولو كان التصرف سائغاً لكان ربما يسبق التصرف، فآل المنعُ إلى تنجيز الحجر وضم الثمن. قال شيخي أبو محمد لو كان المرهون بحيث لا يتلف في مطّرد العادة كقراح من الأرض، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أن الزيادة حاصلة في قيمة المبيع، وتحصيل الزيادة تنجيزُ ملك له على مقابلة حجر في الحال، والتسبب إلى رفعه بأداء الثمن

_ (1) يتزجى به: يُكتفى به. (معجم).

قريب. وهذا الذي ذكره محتمل حسن؛ فإن الذي حقق الغرر تقدير تلفِ المرهون أمانة، كما سبق التصوير فيه. والذي ذكره شيخنا وإن كان منقاساً، فهو على خلاف ظاهر المذهب. هذا تفصيل القول في الارتهان للطفل، وفي الرهن من ماله. 3533 - وذكر العراقيون وجهاًً بعيداً أخرته حتى لا ينتظم في ترتيب المذهب: وذلك أنهم قالوا: ذهب بعض أصحابنا إلى أن بيع مال الطفل نسيئةَ قط لا يجوز، وإن فرض التوثق بالرهن، والتشوف إلى الغبطة الظاهرة، وإنما يجوز التأجيل في بعض الثمن إذا نقد من الثمن قيمةَ السلعة، يعني القيمة التي تشترى بها نقداً، وذلك إذا كانت السلعة تساوي مائة نقداً، ومائة وعشرين نسيئة فباع الولي بمائة وعشرين، مائة منها نقداً وعشرون نسيئة وبالعشرين رهن. قال هذا القائل: لا تجوز النسيئة إلا كذلك في بعضٍ من الثمن. وهذا بعيد لا أصل له، ولا ينتظر هذا عاقل. ثم اشتراط الرهن في الفاضل من القيمة المنقودة خارج عن قياس المعاملات؛ فإن تيك الزيادة لو لم تحصل، لم يضع بتعذرها شيء من مال الطفل، فلا أصل لهذا الوجه. والتعويل على ما رتبناه في الارتهان والرهن. 3534 - ثم قال المعتبرون من أئمة المذهب: تصرف المكاتب في الرهن والبيع بنسيئة كتصرف الولي للطفل؛ فإن تصرف المكاتب -إذا لم يشتمل على تركِ النظر- مُطلق لهُ وأقصى النظر المرعي ما نأمر به الأولياء في حق الطفل. وذكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهاً آخر أن المكاتب لا يبيع نسيئة، على الاستقلال، وهو على كل حال في حقه معدود من التبرعات، سواء ارتهن أو لم يرتهن. والولي في مال الطفل أبسطُ يداً من المكاتب وعليه حجرُ الرق، فإذاً بيعه نسيئة على هذا الوجه ملحق بتبرعاته. فإن استقل، لم ينفذ، وإن استأذن السيد، فعلى قولين قياساً على سائر تبرعاته. ولو رهن المكاتب حيث ينفذ رهن الولي [في مال الطفل، ففي رهنه من الكلام

ما في بيعه نسيئة. فالذي ذهب إليه أهل التحقيق أنه ينفذ رهنه حيث ينفذ رهن الولي] (1). وفي المسألة وجه آخر حكَوْه: أن رهنه تبرع، ولا يخفى حكم تبرعه. ثم إن قلنا: لا ينفذ الرهن من المكاتب، ففي نفوذه من العبد المأذون وجهان؛ من جهة أن الرهن في نفسه حجر، وليس من عقود التجارة. وهذا يقرب من الاختلاف الذي ذكرناه في أن العبد هل يملك إجارة الرقاب التي يتصرف فيها؟ ووجه التشبيه أن الإجارة والرهن ليس من عين التجارة، وهو مأذون له في التجارة. فصل قال: " ولو كان لابنه الطفل عليه حق ... إلى آخره " (2). 3535 - ما قدمناه من رهن مال الصبي على شرط الغبطة، ومن الارتهان له، يستوي فيه الأب، والقيم الأجنبي، والوصي، فلا خلاف في وجوه التصرّفات ووجوه النظر. وإنما خالف الولي الوصيَّ فيما قدمناه في كتاب البيع من حمل ظاهر تصرف الولي على المصلحة، وعلى من يدعي خلافَها الحجةُ، والوصي يطالب بإقامة الحجة على رعاية المصلحة. وهذا الفصل يختص مضمونه بالأب والجد، فإذا كان لابنه الطفل عليه دين، فارتهن مال نفسه لطفله بالدين الذي للطفل عليه، جاز هذا. ولو ارتهن مال الطفل من نفسه حيث يجوز له أن يرهنه من غيره، فيصح، ولا يأتي هذا في الوصي والقيّم والحاكم؛ فإن هؤلاء لا يتولَّوْن طرفي العقد. ثم إذا باع الأب من نفسه مال طفله، أو باع من طفله مال نفسه، أو رهن منه أو ارتهن له، فهل عليهِ أن يأتي بشقي العقد الإيجاب والقبول؛ أم يكفيه الإتيان بأحد

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) ر. المختصر: 2/ 210.

الشقين؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا بد من أن يقول: رهنت وارتهنت، وبعت واشتريت، أو بعت ورهنت، وقبلت؛ لأن العقد استقلاله بركنيه وبهما كان عقداً. والثاني - يكتفى بأحد الشقين، والتعيين إلى اختيار الولي؛ فإن التواجب تخاطب، وهذا لا ينتظم من الشخص الواحد، فيكفي الإثبات بشق لرسم العقد، والتنصيص عليه. وإذا اكتُفي بعاقد واحد لم يبعد الاكتفاء بلفظ واحد. وإذا باع الأب من طفله أو ابتاع من ماله، ففي ثبوت خيار المجلس خلاف: من أصحابنا من قال: لا يثبت؛ فإن المجلس منتهاه التفرق وهو بين شخصين. ومنهم من أثبت خيار المجلس. ثم اختلف هؤلاء، فقال بعضهم: ينقطع الخيار بمفارقة مجلس العقد. وقال آخرون: لا ينقطع الخيار إلا أن يختارَ إلزام العقد، ويقطعَ الخيارَ لفظاً؛ فإنه في مقام البائع والمشتري، فمفارقته المجلس كاصطحاب المتعاقدين ومفارقتهما المجلس. وإذا رهن من طفله أو ارتهن من مال طفله، فهل يحتاج إلى إجراء قبض؟ الكلام فيه كالكلام فيما إذا رهن الوديعة عند المودعَ، وسيأتي ذلك في فصلٍ، فإذا استقصيناه، أعدنا القول في الأب. فصل قال: "وإذا قبض الرهنَ، لم يكن لصاحبه إخراجُه من الرهن ... إلى آخره" (1). 3536 - إذا رهن شيئاً وألزم الرهنَ بالإقباض، تأكدت الوثيقة، ولا فكاك إلا بسقوط الدين إما بالأداء وإما بالإبراء، أو بفسخ المرتهن الرهنَ؛ فإن الرهن جائز في حقه. أما الراهن، فلا يجد سبيلاً إلى الفِكاك ما بقي الدين، فلو أدى معظمَ الدين، لم ينفك من الرهن شيء، ما بقي من الدين حبة، أو أقل، ولا يتوزع الدينُ على قيمة

_ (1) ر. المختصر: 2/ 210.

المرهون؛ حتى يقال: إذا أدى بعضاً، فك من الرهن بقسطه. وإذا أثبتنا حق الحبس للبائع، فلو أدى المشتري بعض الثمن، فالذي اختاره الأئمة أنه لا يستحق تسليمَ شيء من المبيع إليه ما لم يوفِّ الثمنَ بكماله، والمحبوس في هذا الحكم بالثمن كالمرهون المحبوس بالدين. ولو كان لرجل على رجلين دين عن جهة واحدةٍ، أو جهتين، فرهنا بما عليهما عبداً مشتركاً عند مستحِق الدين، وأقبضاه إياه، فإذا أدى أحدُهما ما عليه من الدين، انفك الرهنُ في حصته؛ إذ لا تعلّق لرهنه نصيبَه برهن صاحبه. ولو وكلا وكيلاً حتى رهن عبدهما المشترك من مستحِق الدين، فإن علم المرتهن صورةَ الحال، فالأمر على ما تقدم. ولا يختلف الأمر باتحاد الوكيل. وقد ذكرنا تردد الأصحاب في اتحاد الوكيل وتعدده في البيع والشراء، وأن الاعتبار في تعدد الصفقة بالوكيل المباشر للعقد أم بالموكل، هذا ذكرناه على الاستقصاء في كتابِ البيع في الفصل المشتمل على شراء رجلين عبداً من رجل، أما الرهن، فلا أثر فيه للوكيل، والنظر إلى الموكل؛ إذ ليس الرهن عقد ضمان حتى ينظر فيه إلى من تولاه، بخلاف البيع. ولو جرى الرهن والاقتراض من شخص واحد، ولم يشعر المقرِض المرتهن بكون المستقرض الراهن وكيلاً، ثم تبين أنه وكيل شخصين في الاقتراض والرهن، فالمذهب الأصح في هذه الصورة أن أحد الموكِّلين إذا أدى الدين، انفك الرهن في حصته. ومن أصحابنا من قال: إذا جرى الرهن على ظن أن المتعاطي هو صاحب الأمر، لم يحصل الانفكاك في شيء ما بقي من الدين شيء. وهذا غريب. ولكن حكاه صاحب التقريب قولاً وكرره، في مواضع. ومثل هذا القول يشوّش قاعدة [المذهب، فحق الناظِر أن يكتفي بمعرفته، ولا يعتده من أصل] (1) المذهب.

_ (1) ساقط من الأصل. وكلمة (المذهب) الأولى ساقطة من (ص)، (ت 2).

فرع: 3537 - إذا رهن رجل عبداً من رجل بألف درهم، ومات الراهن، وخلف ابنين؛ فأدى أحدُهما حصته، وهو خَمسمائة، فهل ينفك الرهن في نصف العبد؟ ذكر صاحب التقريب قولين (1): أحدهما - ينفك، كما لو كان الراهن في الابتداء اثنين. وهذا ضعيف لا أصل له. والقول الثاني - أنه لا ينفك من الرهن شيء ما بقي من الدين شيء، وهذا ما قطع به الإمام والمحققون؛ فإن الرهن في الابتداء اقتضى وثيقةً على وجهٍ، فلتدم تلك الوثيقة. وإنما ينقدح القولان في فك تعلّق التركة، فإذا مات رجل وعليه دين متعلق بتركته، فإذا أدّى أحد الوارثين لحصته، فانفكاك تعلق الدين بحصته لا يبعد أن يخرج على قولين مبنيين على أن أحدهما لو أقر بالدين، وأنكر الثاني، فهل يلزم المقر تأدية الدين من حصته من التركة؟ فيه قولان مشهوران، كما سنذكرهما في كتاب الأقارير. فأما وثيقة أثبتها شخص واحد على قضية، فيبعد أن تزول تلك القضية بموته، وتعدد ورثته، ولهذا التفاتٌ على موت السّيد المكاتِب وتخليفه ورثة، وأداء المكاتَب حصةَ بعضهم. والقول في هذا طويل. فصل قال: " ولو أكرى الرهنَ من صاحبه أو أعاره أياماً، لم ينفسخ الرهن ... إلى آخره " (2). 3538 - اختلف الأصحاب في صورة المسألة: فمنهم من قال: صورة المسألة أن يكتري الراهن المرهونَ من المرتهن، لأن الإكراء إنما يصح منه؛ إذ هو المالك والمستحِق للتصرف في المنفعة، فعلى هذا يسمَّى المرتهن صاحبَ الرهن بماله من حق الحبس. وقصد الردَّ على أبي حنيفة (3) حيث قال: الرهن والكراء لا يجتمعان.

_ (1) في (ص): وجهين. وساقطة من (ت 2). (2) ر. المختصر: 2/ 210. (3) ر. مختصر الطحاوي: 93، المبسوط: 21/ 107، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 297 مسألة: 2014.

وإذا أجزنا، فآخرهما ينقضُ (1) أولهما. ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أن يكري المرتهن المرهون من الراهن، ويُقبضه على اعتقاد الإجارة، فلا شكّ أن الإجارة فاسدة؛ فإنها ليست صادرة عن استحقاق، ولكن الغرض أَن المرهون وإن رجع إلى يد الراهن، فلا يُقضى بانفساخ الرهن، وإن كان العود إلى يده برضا مستحِق اليد، وهو المرتهن. ومن أصحابنا من صور إجارةً تصح من المرتهن لينتظم كلامُ الشافعي، فقال: لو أكرى رجل عبداً من رجل، ثم إنه رهنه منه، فالعقدان ثابتان، والمرتهن يتصرف في المنافع؛ فإنه مستحقها بالإجارة السابقة. فإذا أجر ذلك العبدَ من الراهن ففي صحة الإجارة وجهان، سيأتي ذكرهما في كتاب الإجارة. وسبب الخلاف كون المستأجر مالكاً للرقبة، فهذه صورة الإجَارة الصحيحة على وجه. وغرضُ الفصل أن الرهن لا يبطل برجوع العين إلى يد الراهن. فصل قال: " ولو رهنه وديعةً له في يده ... إلى آخره " (2). 3539 - إذا أودع رجل عيناً عند رجل، ثم إن مالك العين رهنها من المودَع، فالذي نص عليه هاهنا أنه لا بد في القبض من إذنٍ، ونفسُ عقد الرهن مع ثبوت اليد للمرتهن، لا يكون متضمناً إذن في القبض. ونص على أنه لو وهبَ شيئاً وهو في يد المتهب، صار مقبوضاً من غير إذنٍ جديد. ونصه هذا يخالف نصَّه في الرهن، فاختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من جعل في المسألة قولين بالنقل والتخريج أحدهما - لا يشترط الإذن في القبض، لا في الرهن، ولا في الهبة؛ فنفس العقد إذا صادف اليدَ من المرتهن والمتهب، كان

_ (1) في (ص)، (ت 2): يفسخ. (2) ر. المختصر: 2/ 210.

متضمنا إذناً في القبض. والقول الثاني - وهو القياس أنه لا بد من الإذن في القبض في المسألتين؛ فإنه لم يَجْر له تعرض، واليدُ السابقة كانت يدَ وديعة أو يداً عن جهة أخرى. ومن أصحابنا من أقر النَّصين في الرهن والهبة قرارَهما، وشرط الإذن في القبض في الرهن، ولم يشترط ذلك في الهبة. وفرق بينهما بالقوة والضعف، فالهبة مملِّكة والرهن مقصوده إثباتُ اختصاص. فإن قلنا: لا بد من الإذن، فالعقد قبل الإذن على الجواز، وهو رهن غير مقيدٍ بالقبض، وإذا جرى الإذن، لم يحصل القبض بمجرد الإذن أيضاً، حتى يمضي من الزمان ما يتأتى فيه القبض، وهو زمان يسع الرجوع إلى موضع الوديعة. وعلة هذا أنا نريد أن نجعل دوام اليد كابتداء القبض بالإذن، ولا أقل من أن يجري زمنٌ يُتصوّر فيه ابتداء القبض لو أُريد ذلك. وإن جعلنا نفسَ العقد إذناً في القبض، فلا بد وأن يمضي من وقت العقد زمان يسع إمكان الإقباض بتقدير الرجوع إلى المكان الذي به العين. وقد اتفقت الطرق على اعتبار الزمان. قال الشافعي: " لو كان في المسجد والوديعةُ في البيت، لم يكن قبضاً حتى يصير إلى منزله الذي هو فيه " (1). فإذا ثبت اعتبارُ مضي الزمان، فهل يشترط حقيقةُ الرجوع من القابض، ومعاينة العين، فعلى وجهين: أحدهما - لا يشترط ذلك، بل يكتفى بمضي زمان إمكان الرجوع؛ فإن الأمر مبني على استدامة، لا على ابتداء فعل. والذي يليق ثَمَّ بالاستدامة الاكتفاء بزمان الرجوع. والوجه الثاني - أنه لا بد من الرجوع حتى يصير الدوام مع الثقة بوجود العين بمثابة افتتاح إقباض. ونصُّ الشافعي دليل عليه؛ فإنه قال: " لو كان في المسجد والوديعةُ في البيت، لم يكن قبضاً حتى يصير إلى منزله ".

_ (1) ر. المختصر: 2/ 210. وعبارته: " ... حتى يصير إلى منزله وهي فيه ... إلى آخره".

وذكر بعض أصحابنا وجهاًً ثالثاً، فقال: إن كانت العين مأمونةَ التلف، فلا حاجة إلى الرجوع والمعاينة، وإن كان لا يأمن تلفه، فلا بد من الرجوع والمعاينة. ثم ما ذكرناه من الأمر يُكتفى فيه بغلبةِ الظن، ولا يشترط اليقين في ذلك. قال العراقيون: هذا هو المذهب. عنَوْا مضيَّ الزمان وحَكَوْا عن حرملة من أصحابنا: أنا إذا لم نشترط إذناً، فلا نشترط مضيَّ مدة أيضاًً، ولكن يتم القبض بنفس العقد ولفظه حكماً. فظاهر ما نقلوه عن حرملة سقوطُ اعتبار الزمان على قولنا: أنا لا نشترط إذناً في القبض. ومقتضى نقلهم أنه يوافق الأصحابَ على قول اشتراط الإذن، ويعتبر مضي الزمان من وقت الإذن. وقياس مذهبه إسقاط اعتبار الزمان بعد الإذن، كما يسقط اعتباره بعد العقد إذا لم يشترط الإذن. 3540 - ومن تمام التفريع على المذهب المشهور أنا إذا اشترطنا الرجوعَ إلى مكان العين، فهل يشترط أن ننقلها من مكان إلى مكان، كما يقع مثله قبضاً وإقباضاً بين اثنين؛ فعلى وجهين: أحدهما - لا بد منه، لتثبت صورة القبض. وكأن هذا القائل ليس يقنع بدوام اليد. وهذا ضعيف؛ فإنه إن كان يشترط إجراء قبضٍ، فكيف يكون الشخص الواحد قابضاً مقبضاً؛ وقد ذكرنا ما فيه من مسائل القبض في كتاب البيع. ثم استكمل التفريع الشيخ أبو علي (1) فقال: إذا ثبت أنه لا بد في القبض من انقضاء زمان بعد الإذن، ولا بد من الإذن، فابتداءُ المدة من وقت الإذن، فلو كان الكلام في مبيع، فهو قبل انقضاء المدة في ضمان البائع لو تلف، ولو تلف بعد المدة، فهو من ضمان المشتري. وإذا شرطنا الإذن في القبض في الرهن والهبة؛ فيصح الرجوع عن الإذن قبل انقضاء المدة. ولو انقضت المدة، ولم نشترط الرجوع إلى عينه، لم يؤثر رجوعه عن الإذن. وكل ذلك بيّن. ولكني أحببت نقلَه منصوصاً لإمام.

_ (1) في (ت 2): الشيخ أبو إسحاق.

وتمام بيان الفصل في شيء: وهو أنا إذا جعلنا نفسَ العقد منهما إذناً في القبض، فهل يملك العاقد الرجوعَ قبل مضي الزمانِ؟ فعلى وجهين أشار إليهما صاحب التقريب، وصرح بهما شيخي: أحدهما - أن الرجوع ممكن؛ إذ لا قبض بعدُ. والثاني - لا؛ فإن القبض صار ضمناً للعقد. ولعل حرملة قال ما قال عن هذا، حيث أسقط اعتبار الزمان على قول اشتراط الإذن. هذا كشف الغطاء في الفصل. 3541 - ولم نتعرض فيما أجريناه للبيع والقبض فيه، وهذا أوانُ ذكرِه. وقد قطع الأئمة [في] (1) الطرق أنه لا حاجة إلى إذنٍ في القبض في البيع، بل إذا باع مالك الوديعةِ الوديعةَ من الموح، ومضى زمان يحتمل الرجوعَ، فقد استقر العقد، وانتقل الضمان. وفرّقوا بَيْن البيع، والهبة، والرهن، بأن قالوا: البيع مقتضاه وجوب الإقباض على الجملة، فإذا أورده المالك على يد المشتري فقد أوجب له القبضَ. والقبضُ لا يستحق قط على الراهن والواهب، بل وَضْعُ العقدين على وقوف القبض على اختياره. وهذا يتأكد بحصول الملك للمشتري، فإذا انضم ملكُه إلى دوام يده [و] (2) ورد عليه العقد، تم الأمرُ. وعلى هذا ظهر خلاف بين الأصحاب في أن الزمان هل يعتبر بعد جريان العقد؟ فمنهم من قال: لا حاجة إلى الزمان مع تأكد الحال في اجتماع الملك واليد. ومنهم من قال: لا بد من اعتبار الزمان، كما ذكرناه في الرهن والهبة. هذا هو المسلك المشهور للأصحاب. وذكر الشيخ أبو علي في الشرح وجهاًً أن القبض لا يحصل، ولا يبطل حق البائع في حبس المبيع إذا أثبتنا له حقَّ الحبس، ما لم يأذن في القبض، أو يتوفر عليه الثمن

_ (1) في الأصل: على. (2) ساقطة من الأصل.

من جهة المشتري. وهذا غريب. وإن كان قياسه على قبض الهبة والرهن واضحاً. ثم لو وفر الثمن على هذا الوجه الضعيف أو أذن البائع في القبض، ففي اعتبار الزمان ما ذكرناه من الخلاف. والذي ينقدح لنا في هذا: أنا إن لم نُحصل القبضَ حتى يتوفر الثمن، فينبغي أن تكون العين في يد المشتري بمثابة المبيع يقبضه قبل توفير الثمن، حتى لو فرض التلف، لجرى الأمر فيه كما أوضحناه في كتاب البيع. وهذا يلتفت على قبض الطعام المشترى مكايلة جزافاً. هذا منتهى البيان في أطراف الفصل. 3542 - وقد كنا وعدنا أن نذكر حكم قبض الأبِ إذا رهن من طفله، أو ارتهن من مال طفله. [فنقول: إن ارتهن من مال طفله، فاليد في مال طفله له؛ فهو كالموح، ولكن الترتيب في المودَع يتعلق بإذن المالك، والمرعيّ هاهنا قصد الأب. ثم الكلام بعد قصده في الزمان كما مضى. هذا إذا ارتهن من مال طفله] (1). فأما إذا رهن من الطفل فيرعى أن يقصد إقباضَه، وإقباضُه أن يقبض له. ثم القول في المدة وما يتصل بها كما مضى. ونجز الفصل على أبلغ وجه في البيان. فصل قال: " ولا يكون القبض إلا ما حضره المرتهن أو وكيله ... إلى آخره " (2). 3543 - قبض المرهون مما يتطرق النيابة إليه. فإن قبض المرتهن بنفسه عند إقباض الراهن إياه، أو عند إذنه له في القبض فذاك. وإن وكل وكيلاً حتى يقبضه له، صح.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) ر. المختصر: 2/ 210.

وليكن ذلك الوكيل ممن يصح قبضُه، ولا تكون يده يدَ الراهن. هذا عقدُ الفصل. فلو وكل عبدَ الراهن، أو مدبَّره، أو أمَّ ولده، حتى يقبض، لم يحصل القبضُ بأيديهم؛ فإنها بمثابة يد المالك الراهن. ولو وكل مكاتَب الراهن، صح قبضُه، فإن يدَه مستقلة، وهو بمحل أن يعامل سيدَه. ولو وكل عبدَ الراهن المأذونَ في التجارة، فقد ذكر الشيخ أبو علي ثلاثةَ أوجه: أحدها - أن قبضه لا يصح. وهو الأصح؛ فإنه قِنٌّ لمالكه. والوجه الثاني - أنه يصح لانفراده بالتصرف والتزام العهد. والوجه الثالث - وهو اختيار الشيخ أنه إن لم يكن مديوناً، لم يصح قبضه للمرتهن. وإن كان مديوناً، صح ذلك؛ فإنه إذا أحاطت به الديون تُثبت له أحكاماً لا تثبت قبلها. قال الشيخ: لو اشترى المأذون شقصاً وسيده شريك في الدار، فإن لم يكن عليه دين، فلا شفعة للسيد؛ فإن الشراء وقع له، فلا فائدة في الشفعة، وإن كان عليه دين، فهل تثبت الشفعة للسيد؛ فعلى وجهين. وهذا بعيد عندي؛ من جهة أن الملك يقع له، ومن يمنعه من أداء الديون، وتخليص الشقص المشترَى لنفسه؟ ولعلِّي أعود إلى هذا في كتاب الشفعة. ولو وكل المرتهن صبياً بقبضه، فقبضُ الصبي باطل، ولا يلزم الرهن به. وقد ذكرنا طرفاً صالحاً منه في كتاب البيع. فرع: 3544 - ذكر العراقيون نصّين عن الشافعي فيه إذا قال الراهن للمرتهن: قد أذنت لك في قبض الرهن، فلم يقبضه. وقال المرتهن: قد قبضتُه. قالوا: قال الشافعي في موضعٍ " القول قول المرتهن "، وقال في موضع: " القول قول الراهن ". ثم قالوا: ليست المسألة على قولين، ولكنها على حالين، فحيث قال: " القول قول المرتهن "، أراد إذا كان الرهن في يده. وحيث قال: " القول قول الراهن "، أراد إذا كانت يدُه ثابتة على العين المرهونة. فرع: 3545 - إذا رهن المودِع الوديعة عند المودع، وقلنا: لا بد من الرجوع إلى مكان الوديعة، فلو وكل وكيلاً حتى يرجع، ويشاهد، وينوب عنه، فهل يصح

التوكيل في ذلك؟ أم لا بد من رجوع المرتهن بنفسه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح التوكيل فيه، وهو الأصح، كالتوكيل في أصل القبض. والثاني - لا يصح؛ فإنه ليس قبضاً على الحقيقة، وإنما هو أمر حكمي، واليد للمودَع، فليكن الرجوع منه. 3546 - فرع متصل بقبض الصّبيان، وما يتلف في أيديهم، نقله بعض الأثبات من أجوبة القاضي عن مسائلِ الوقائع: سئل عن تلاعب الصبيان بالجوز فقال: إنه قمار، ولا حرج على الصبيان لعدم التكليف، وما يتلف في يد الصبي من جوز صبي فضمانه ثابت في مال الصبي الذي تلف في يده. فإن كان يلاعبهم بالغ، فما يتلف في يده من جوز الصبيان مضمون عليه، وما يتلف في أيدي الصبيان من جوزه، فلا ضمان؛ فإنه المفرِّط بتسليطهم على جوزه وإثبات أيديهم عليها. وإذا حصل في يد صبي جوزات صبي، وعلم بها القيم، أو الأب، ومن يلي بنفسه أو بتوليةٍ، فإذا لم ينتزعها، وجب الضمان على القيّم، أو الولي للتفريط. وإن علمت به أُمُّه، ولم تنتزعها، فالأصح أنه لا ضمان عليها؛ تخريجاً على أن الأم ليست وليّة، فسبيلها ولا نظر لها كسبيل الأجانب. ولا إشكال في شيء ممّا ذكرناه، وإنما المستفاد منه التسبب إلى تخريج مسألة مبنية على أصول هي أقطاب المذهب. فصل قال: " والأقرار بقبض الرهن جائز ... إلى آخره " (1). 3547 - إذا أقر المالك بالرهن والإقباض، حكم عليه بموجب إقراره. ولو قامت البينة على إقراره بالرهن والإقباض، فقال: قد أشهدت على إقراري [وما أقبضتُ] (2) نُظر: فإن ذكر سبباً لا يستنكر وقوع مثله، مثل أن يقول: ظننت أني

_ (1) ر. المختصر: 2/ 210. (2) في الأصل: " وما قبضت " والمثبت من (ت 2)، (ص).

[أقبضتُ] (1)، فأقررت على موجب ظني، ثم تبينت خلاف ذلك، أو قال: اعتمدت كتاب وكيلٍ لي، ثم تبينت أنه مزور، أو قال: ظننت أن الإقباض بالقول صحيح، فبنيت إقراري عليه، أو قدمت الإشهاد على الصك والعرف جابى بمثله. فهذه جهات غير منكرة. فإذا ادَّعى شيئاً منها، واقتصر على دعواه هذه، لم يلتفت إليه، وقد جرى القضاء بالإقرار. وإن قال: حلّفوا المرتهن أنه قبض، فله تحليفه. ثم لا يخفى طريق فصل الخصومة عند عرض اليمين وفرض الحلف أو النكول. وإنما جوزنا تحليفه؛ لأن ما قاله ممكن، والمدعي يكتفي في ثبوت دعواه بإمكانها. وكيفما فُرض الأمر، فغايته أن يُسعَف بتحليف خصمه. ولو أنه أقر بالإقباض، ثم قال: كذبتُ فيما قلت. ولم يذكر جهة يستند إليها صَدَرُ إقراره ودعواه التي يدعيها بعده، فالذي قطع به المراوزة أنه لا يقبل منه على هذه الصيغة، ولا يملك تحليفَ خصمه وهذه صيغة لفظه. وذكر العراقيون هذه المسألة: وهي إذا كذّب نفسه صريحاً في إقراره السابق، وقالوا: ما صار إليه معظم الأصحاب أن له أن يحلِّف خصمه، ويحمل تكذيبه نفسَه على جهة من الجهات التي ذكرناها، لا على الكذبِ الصريح؛ فإن هذا ممكن. وقد ذكرنا أن الدعوى لا تعتمد إلا الإمكان. وهذا متحقق في التكذيب. قالوا: قال أبو إسحاق المروزي: ليس له في هذه الصورة أن يُحلِّف، وهذا الذي قطع به المراوزة. وكان شيخي أبو محمد يحكي عن شيخه القفال أن ما ذكره من ملك الدعوى والتحليف فيه إذا ثبت الإقرار في مجلس القاضي بالبينة. فأما إذا ادعى الخصمُ الرهنَ والإقباضَ، فاعترف في مجلس القضاء، ثم أراد أن يذكر لإقراره محملاً ويحلّف خَصمه عند ذلك القاضي، لم يكن له ذلك. وهذا تخييل عندي، فإنا إذا كنا نعتمد الإمكان، فينبغي أن يُكتفى به. نعم إن اتحد المجلس، فقد يتجه أن نجعل هذا بمثابة تكذيبه نفسَه، وإن قام من ذلك

_ (1) في الأصل: " قبضت " والمثبت من (ت 2)، (ص).

المجلس وعاد وأبدى عذراً، فيتجه تنزيل هذا منزلة ما لو أبدى عذراً في مخالفة الشهود. وإن أقام الفقيه لما يجري في مجلس القضاء مزية، واعتضد فيه بأمر يتعلق بخرم أبهة القضاء والغض من مجالس القضاة، وذلك أن الرجل إذا أقر بين يدي القاضي، ثم قال على الفور: كذبت أو أخطأت، فحلّف خصمي، فهذا مما لا يعتمد مثله. ولو فرض، لم نشك أن القضاة الأولين كانوا لا يسعفون بالتحليف، بل [ربما] (1) كانوا يرون ذلك لو وقع من مظانّ التأديب والتعزير. وكل هذا والمذكور إقرار. فأما إذا شهد عدلان على فعل الإقباض، فقال المشهود عليه للقاضي: حلّف خصمي، لم يجب إلى ذلك؛ فإنه كذبَ الشهودَ، وليس كذلك إذا شهدوا على الإقرار، فإنه في طلب التحليف ليس يكذِّب الشهود وإنما يجمع بين تقدير ذلك الإقرار وبين وجهٍ ممكن. وهذا معترِض في هذا الباب، واستقصاء أصله وتفصيله في كتاب الدعاوى. فصل قال: " والقبض في العبد والثوب ... إلى آخره " (2). 3548 - أراد الشافعي أن يتكلم في طرف من كيفية القبض. وقد مضى استقصاء هذا في البيع، وبيّنا ثَمَّ ما يكون قبضاً في المنقول، وما يكون قبضاً في العقار. والذي يقع الاكتفاء به هاهنا أن ما يكون قبضا ناقلاً للضمان في البيع، فهو قبض في الرهن؛ فإن صور القبوض لا تختلف باختلاف المقاصد. قال القاضي: ذكرنا قولاً في كتاب البيع في أن التخلية في المنقولاتِ هل تكون قبضاً أم لا بدّ من النقل؟ وهذا لا يخرّج في الرهن والهبة؛ من جهة أن خروجه اتجه في البيع بكون القبض مستحقاً فيه، فإذا ارتفع حجر البائع -وهو مستحِق الحبس-

_ (1) ساقطة من الأصل. وأثبتناها من (ت 2)، (ص). (2) ر. المختصر: 2/ 210.

بالتخلية، وانضم إليه ملك المشتري واستحقاقُه القبضَ، لم يبعد أن تكون التخليةُ كافيةً. وهذا المعنى لا يتحقق في الرهن والهبة؛ فإن القبض غيرُ مستَحق فيها. وهذا الذي ذكره حسن. ولكن صرح الأصحاب بذكر قولِ التخلية في الهبة والرهن؛ مصيراً إلى أن القبوض صورٌ، فلا تختلف باختلاف المحال. فصل قال: " ولو كان في يد المرتهن بغصبٍ ... إلى آخره " (1). 3549 - مالك العين إذا صادفها مغصوبة، فرهنها عند الغاصب، فالرهن صحيح، والذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن القول في حصول القبض بنفس الرهن كالقول فيه إذا رهن المودِع عند المودعَ بلا اختلاف. وذهب بعض أصحابنا إلى أن القول الذي يخرّج في المودعَ: في أن نفس الرهن يتضمن الإقباض لا يخرّج هاهنا؛ فإن يد المودع صدرت عن حكم المالك، فإذا صادفها الرهن، كان دوامُ اليد بمثابة ابتدائها في قولٍ. وهذا لا يتحقق في يد الغاصب. وهذا تخييل. والأصح ما عليه الجمهور. ثم إذا حكمنا بتمام الرهن على التفاصيل المقدمة، أو صرح الراهن بالإذن في الإمساك عن جهة الرهن، فمذهب الشافعي أن ضمان الغصب لا يزول بهذا، فتكون العين مرهونةً في يد الغاصب مضمونة عليه بحكم الغصب، وبناء المذهب على أن الضمان يثبت بيد الغاصب، فلا يزول ما لم تزل يد الغاصب إلى المالك، أو يزول ملك المالك إلى الغاصب. وقنع بعض أصحابنا بأن أطلقوا إمكان اجتماع الرهن والغصب إذا فرض طريان العدوان. وهذا غير سديد؛ فإنّ طريان العدوان سببه إحداث المرتهن ما لم يكن له أن يحدثه، وليس يشبه هذا إذنَ المالك للغاصب في الإمساك. ومن لا يستشعر

_ (1) ر. المختصر: 2/ 210.

غموضَ هذه المسألة فليس من [الفقه] (1) في شيء؛ فإن ضمان الغصب سببه عدوانُ الغاصب. وقد انقطع العدوان بالإذن في جهة غير مضمِّنة. ولو أودع العينَ المغصوبة عند الغاصب، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في انقطاع ضمان الغصب، فمنهم من قال: لا ينقطع ما لم تتبدَّلُ اليد. ومنهم من قال: يزول ضمان الغصب؛ فإن الائتمان مقصود في الإيداع، وليس الائتمان مقصوداً في الرهن، بل مقصوده التوثيق. ثم الأمانة من موجَبه ومقتضاه. 3550 - ولو أجر المالك العين المغصوبة من الغاصب، والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، فهل يُقضَى بأن المغصوب ينقلب أمانة في يد الغاصب بالإجارة؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين في الإيداع. والإجارة أولى بأن لا تُسقط ضمان الغصب؛ لأن الائتمان ليس مقصوداً فيها. ولو وكل المالكُ الغاصبَ بالبيع فإن استحفظه في الحال مودَعاً، ثم أذن له في البيع إذا وجد طالباً، فالاستحفاظ إيداع، وقد مضى الكلام فيه. وإن لم يجر استحفاظٌ، فالوكالة المطلقة في البيع نازلةٌ منزلة الإجارة؛ لأن الائتمان غيرُ مقصود فيها، بخلاف الإيداع؛ وكانت الوكالة من هذه الوجوه كالإجارة. ويجوز أن يقال: الوكالة المطلقة أولى بأن لا تُبطل ضمان الغصب؛ من قِبل أن الإجارة في ضمنها تسليط القبض والإمساك، والتوكيل في البيع ليس كذلك، فيتجه ترتيب الوكالة المطلقة على الإجارة. فإن قيل: اعتمدتم في ترتيب المذهب أن الأمانة ليس مقصوداً في الإجارة، وإن كانت الأمانة من حكمها، فهلاّ نزلتم الرهنَ منزلة الإجارة؛ فإن الرهن في وضعه لا يقتضي ضماناً كالإجارة؟ قلنا: نود لو كان كذلك، ولكن لم نطلع في هذا على خلافي للأصحاب معتبرٍ، والاعتبار بما يُجريه أئمةُ النظر في مسائل الخلاف، إذا كان لا يستند إلى أصل في المذهب من طريق النقل.

_ (1) في الأصل: المسألة.

والذي ينتظم في محاولة الفرق بين الرهن والإجارة أن بناء بقاء الضمان على أنه حكم ثابت باليد؛ فلا يزول مع دوام اليدِ والملكِ. والإيداعُ خرج على الخلاف، والظاهر أنه يقطع الضمان؛ لأن يد المودع مقصورةٌ على غرض المالك وحظه، فنزِّل الإيداع منزلة الرد. ويد المستأجر (مستأجرة) (1) من يد المودع؛ من حيث إن الحظ فيها ليس للمالك على التمخض، ولكن الحظ مشترك، فحظّ المستأجِر استيفاءُ المنفعة، وحظ المالك تقرير عوض المنفعة، فاقتضى ذلك فرقاً ظاهراً بين يد المستأجر ويد المودع. فأما يد الرهن، فلا حظ فيها للمالك أصلاً، وإنما الحظ كله للمرتهن. وإذا كان كذلك لم تنزل يدُ المرتهن منزلة الرد على المالك. فإن قيل: إذا كان الحظ للمرتهن، فهلا جعلتم يده يد ضمان كيد المستعير؟ قلنا: إنما كان ذلك لأن المقصود من الرهن الوثيقةُ، والتعرضُ لغرر الضمان لا يطابق الوثيقة. فإن قالوا: نفيُ (2) الضمان إذاً (3) مقتضى الرهن، فاجعلوا الأمر كذلك، فأسقطوا ضمان الغصب أو لا تصححوا (4) يدَ الراهن. قلنا: ذلك لأنا لا نرى الأيدي الطارئة على الغصب منقسمة، ويدُ المرتهن لو لم يسبقها عدوان لا تقتضي ضماناً، ولكنها لا تقوى على إزالة ضمان. وهذا في نهاية الإشكال. وهو من فنون الاحتيال التي نكرهها من أصحاب أبي حنيفة في مدافعات الكليات الجلية. والأصل الذي يبتدره الفقيه المنصف أن يزول الضمان عند انقطاع (5) العدوان.

_ (1) (ص)، (ت 2): مستأجرة. وفي الأصل هكذا (مسأحره) بدون نقط. ولعلها مستأخرة (بالخاء)، فالكلام في ترتيب المسألة. (2) في (ت 2): بقي. (3) في (ص): إذاً من مقضي. (4) في (ت 2)، (ص): فصححوا. (5) بعد أن قرر الإمام نص الشافعي، وأقام المذهب عليه، وأرسى قاعدته، عاد فأكد ما يراه قائلاً: إن الضمان يزول عند انقطاع العدوان.

فهذا منتهى الإمكان. ومعتمد المذهب النقل. 3551 - ومما يتعلق بأطراف المسألة أن المالك إذا قال للغاصب: أبرأتك عن ضمان الغصب، ففيه وجهان: أحدهما - أنه لا يبرأ. والثاني - أنه يبرأ؛ وتصير يدهُ يدَ أمانة، والوجهان مأخوذان من الأصل المشهور في أن ما لم يجب ووُجد سببُ وجوبه هل يصح الإبراء منه؟ وفيه قولان. وبيان ذلك أن القيمة إنما تجب على الغاضب، إذا فاتت العين، وامتنع ردها، والغصب سببٌ ناجز لاقتضاء هذا الضمان، عند تعذر الرد. 3551/م- ثم ذكر الشيخ أبو علي للرهن المغصوب ترتيباً، هو تتمة الكلام، فقال: إذا رهن المالك المغصوبَ من الغاصب، وأذن في القبض، وتم القبض كما فصلناه فيما تقدم، فقد انبرم الرهن، حتى لو أراد الراهن الفسخ، لم يجد إليه سبيلاً. ولو أراد المرتهن أن يزول عنه ضمان الغصب، فليرد العين إلى الراهن، فيخرج عن ضمان الغصب، ولا ينقطع حقه من الوثيقة. ثم إنه كما رده على المالك يملك استردادَه. ويخرج من ذلك أن له أن يجبر الراهن على قبض الرهن؛ ليزول عنه الضمان، وليس للراهن أن يمتنع من ذلك. ثم ما قبضه يلزمه أن يردّه على المرتهن؛ لأن الرد لازم. وجرى في أثناء كلام الشيخ ما يدل على أن للراهن أن يسترد العين المغصوبة، ثم يردها، حتى إذا امتنع المرتهن من ذلك أجبر على الرد، ثم يرد عليه. هذا ما أجراه. والقياس عندي أن الراهن لا يملك هذا؛ فإنه أثبت للمرتهن يداً لازمة، ونحن إنما جوزنا للمرتهن أن يجبر الراهن على استرداد العين، ليحصّل غرضَه في الخروج عن الضمان، وهذا لا يتحقق في جانب الراهن؛ فإنه لا غرض له في تبرئة ذمة المرتهن عن عهدة الضمان. وقد صرح القاضي بهذا في " الأسرار " (1)، والمسألة ظاهرة.

_ (1) اسم كتاب للقاضي. مخطوط طالعناه، وانتقينا منه.

فرع: 3552 - العارية مضمونة في يد المستعير، فلو رهن العينَ العاريَّةَ من المستعير، وأذن له في قبضه عن الرهن، فهل يزول ضمان العارية؛ فعلى وجهين: ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا يزول، كما لا يزول ضمان الغصب. والثاني - يزول؛ فإن ضمان العارية أخف من ضمان الغصب، وهذا الْتفاتٌ منه على الخلاف المشهور في أن العارية هل تضمن ضمان الغصوب؟ وأنا أقول: المرتهن مراعٍ حظَّ نفسه وعلةُ الضمان في حق المستعير أنه قابض لحظ نفسه من غير استحقاق. فلما ثبت الاستحقاق في حق المرتهن، وانطبق هذا على الإذن، ظهر فيه زوال الضمان، وليس كذلك ضمان الغصب. ولست أذكر هذا عن اعتقاد؛ فإن مضادة الرهن للعدوان أوقع مما تكلفناه في الرهن والعارية. فصل قال: " ولو رهنه دارين، فقبض إحداهما ... إلى آخره " (1). 3553 - إذا رهن عبدين أو دارين بدَين، وأقبض إحداهما دون الأخرى، فالتي جرى القبض فيها مرهونة بجميع الدين عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2). ومعوّل المذهب أن الدين لا يتعلق بالمرهون تعلق التقسيط، بل كل جزء من الرهن مرهون بكل الدين، ولا خلاف أنه لو تلف أحدهما في يد الراهن، وأقبض الثاني، كان مرهوناً بالجميع. وإذا باع الرجل عبدين بمبلغ من الثمن، ثم انفسخ البيع في أحدهما، لم يكن الباقي في مقابلة جميع الثمن؛ لأن انفساخ العقد في المعوض يوجب انفساخه في العوض الذي يقابله، ومساق هذا يتضمن سقوطَ مقدارٍ من الثمن، فكيف يُتخيل والحالة هذه أن يكون الباقي محبوساً بجميع الثمن، وقد تحقق سقوط قسط من

_ (1) ر. المختصر: 2/ 210. (2) ر. المبسوط: 21/ 69، 70، البدائع: 6/ 138.

الثمن. وليس الدين عوضاً للرهن حتى يفرض بانفساخ الرهن في بعض المرهون سقوط بعض الدين. وقد ذهب الأئمة المعتبرون إلى أن من باع مقداراً من المكيل بثمن معلوم، وتوفر عليه معظم الثمن، والتفريع على أن حق الحبس ثابت للبائع، فلا يلزم تسليم شيء ما بقي من الثمن شيء. فلما كان الثمن باقياً، جرى حبس المبيع على قياس حبس الرهن، وآل افتراق البابين إلى سقوط بعض العوض في البيع عند فوات بعض المبيع. وهذا لا يتصور في الدين بالإضافة إلى الرهن. وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن توفير بعض الثمن يوجب على البائع تسليمَ مقدارِه من المثمن، إذا كان المبيع قابلاً للقسمة. وهذا رديء غيرُ معتد به، والأصل ما قدمناه. وهذا الوجه ليس بأبعد في القياس عن قول مشهور في الحكاية في تفريع تفريق الصفقة: وهو أن كل الثمن يبقى وإن انفسخ العقد في معظم الثمن، ورب وجه منقاس لا أعده من المذهب؛ إذ لم يشتهر نقله، وأعد قولاً أضعف منه لاشتهار النقل فيه. 3554 - ثم ذكر الشافعي أن من ارتهن داراً وقبضها، وانهدمت في يده، فالرهن باقٍ على الساحة، والنقض المنهدم رهن؛ فإنَّ تغيّر صفة المرهون لا يخرجه عن كونه رهناً. وهذا مستبين. فصل قال: " ولو رهنه جارية ... إلى آخره " (1). 3555 - هذا الفصل يقتضي تأخير ما قدمه الشافعي، وتقديم ما أخره، فنبدأ باستقصاء القول في عتاق الراهن العبدَ المرهون، واستيلادِه الجاريةَ المرهونة، حتى إذا استوفينا أطراف الكلام، انعطفنا حينئذ على صدر الفصل. فإذا رهن الرجل عبداً وسلمه، وانبرم الرهن فيه، ثم أعتقه من غير إذن المرتهن،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 211.

ففي نفوذ عتقه أقوال: أحدها - أنه ينفذ لوروده على الملكِ الثابت للمعتِق، وكون المعتِق من أهل العتق، ومبنى العتق على النفوذ. والقول الثاني - أنه لا ينفذ العتق؛ فإن الرهن يتضمن حجراً لازماً على الراهن، فلو سلطناه على الإعتاق، لكان مناقضاً للحجر المحكوم بلزومه. والقول الثالث - أنا نَفْصِل بين كون الراهن موسراً، وبين أن يكون معسراً، فإن كان موسراً، نفذ عتقه، وغرِم قيمةَ العبد المرتهن ليكون رهناً. وإن كان معسراً لا ينفذ عتقه أصلاً. وهذا القائل يشبه جريانَ العتق وسريانَه إلى حق المرتهن بمثابة سريان عتق أحد الشريكين إلى نصيب صاحبه من العبد المشترك. وقد تحقق أنا نفصل في عتق الشريك بين الموسر والعسر. ثم قال العراقيون: إذا فرعنا على قول التفصيل، فلو كان الراهن موسراً وأعتق، فكيف الترتيب في نفوذ عتقه؟ قالوا: اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يخرّج في وقت نفوذ عتقه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يتعجل نفوذ العتق، وبعده يتوجه الغرم، كما نفصله. والثاني - نفوذ العتق يقع مع غرامة القيمة للمرتهن. والثالث - أن الأمر موقوف. وهذا القائل يُجري هذه الأقوال من الأقوال المشهورة في وقت نفوذ عتق الشريك سرياناً إلى نصيب الشريك. هذه طريقة. قالوا: ومن أصحابنا من قطع بأن العتق ينفذ عاجلاً قولاً واحداً، وليس على قياس سريان العتق إلى ملك الشريك. والسبب فيه أن عتق الراهن صادف ملكَه، والعتق الذي نُسرِّيه في العبد المشترك ينفذ في ملك الغير، فيجوز أن يتوقف انتقالُ الملك فيه إلى المعتِق على تقرير ملك الشريك على العوض، وإنما يستقر الملك على عوض التلف إذا بُذل، وثبتت يدُ المتلَف عليه على ذلك العوض. وهذا القائل يقول: لو كان عتق الراهن على قياس سريان العتق، لقطعنا بالفرق

بين الموسر والمعسر. ولا قطعَ، بل الأصح أن لا فرق. التفريع: 3556 - إن حكمنا بأن العتق ينفذ، فعلى الراهن أن يغرَم القيمةَ للمرتهن، والاعتبار بقيمة ساعة الإعتاق؛ فإنها ساعةُ الإتلاف. ثم إذا بذل القيمة وسلّمها، لم يشترط عقد رهن فيها، بل نفس التسليم إلى المرتهن على قصد الغُرم يجعل المسلَّم رهناً، ولا شك أنه لا يتم ذلك ما لم يقصد الراهن المعتِق التسليمَ عن جهة الغُرم. وهذا جار في كل مالٍ يلزم الذمةَ، ثم يسلّمه ملتزمُه. حتى لو سلَّم، ثم قال: قصدت الإيداعَ عندك، فالقول قوله، ويقع المقبوض وديعة. 3557 - وإن قلنا: لا ينفذ العتق، فيبقى الرهن، فإن مست الحاجة إلى بيعه في الدين، بعناه. ثم إذا بيع، فلو عاد إلى الراهن المعتِق يوماً بعد زوال ملكه، فلا ينفد عتقه الآن، وإن زالت الموانع. وإن انفك الرهن، ولم يزل ملك الراهن عنه بأن يفك المرتهن الرهن، أو بأن ينفك بأداءٍ أو إبراء، فهل ينفذ العتق الآن؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه لا ينفذ؛ فإنه وجه على العبد منجزاً، فرأينا ردَّه، واللفظ إذا رُدّ وأُبطل حكمه، لم يبق له بعد بطلان أثره حكم. وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة من وجه آخر، وعنده نفصل الأمر، ونبين الحقيقة المطلوبة. 3558 - ولو علق الراهن عتقَ العبد المرهون، نُظر: فإن علق عتقه على انفكاك الرهن [فانفك الرهن، نفذ العتقُ المعلّق؛ لأن التعليق لا يزاحم حقَّ المرتهن. وإذا نفذنا العتق بعد انفكاك الرهن،] (1) لم يكن نفوذ العتق وارداً على حق المرتهن. وليس تعليق العتق على ما وصفناه بمثابة تقديم تعليق العتق على حصول الملك. ولو علق عتق العبد المرهون بصفة قد توجد قبل انفكاك الرهن، فنقول: إن وجدت في استمرار الرهن، فالعتق مردود تفريعاً على رد تنجيز العتق؛ فإن التعليق

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

والصفة اجتمعا في دوام لزوم الرهن، وكانا كتنجيز العتق، ولو وُجدت تلك الصفة بعد انفكاك الرهن، ففي المسألة خلافٌ، والأصح النفوذ إذا كان لا يفضي الحكم بالنفوذ إلى إبطالِ حق المرتهن. ومن أصحابنا من قال: لا يصح التعليق أصلاً، كما لا يصح التنجيز. وهذا يقرب من خلاف الأصحاب فيه إذا قال العبد لزوجته: إن دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثاً. ثم عَتَقَ العبدُ، فدخلت الدار، ففي وقوع الطلقة الثالثة خلاف. وبين القاعدتين فرق؛ فإن العبد لو قال لزوجته: إن عَتَقتُ، فأنت طالق ثلاثاً، جرى الخلاف في هذه الصورة. ولو قال الراهن: إذا انفك الرهن، فهذا العبد حر، نفذ العتق بعد انفكاكه. والفارق أن الطلقة ليست مملوكة للعبد، ومحل العتق مملوك للراهن. وسبب امتناع العتق حق المرتهن؛ إذ لو أَذِن، نفذ العتق. فهذا ما أردناه. 3559 - ولو علق عتق عبده بصفة، ثم رهنه، فوجدت الصفة بعد لزوم الرهن، ففيه اختلاف مشهور. وللمسألة نظائر، يجمعها أن الاعتبار بحالة التعليق، أو بحالة وجود الصفة. وعليه يخرّج خلاف الأصحاب في أن الصحيح إذا علق عتق عبد بصفة، ثم مرض مرض الموت، ووجدت الصفة، فالعتق من رأس المال، أو هو محسوب من الثلث؟ فيه خلاف مشهور. وسيأتي أصل ذلك وفرعه في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى. 3560 - ومما يتفرع على العتق أن الرجل إذا رهن نصفاً من عبد مملوك له، واستبقى منه نصفاً، فالرهن صحيح. فلو أعتق النصفَ الذي لم يرهنه، نفذ العتق فيه. وفي سريان العتق إلى النصف المرهون على القول الذي نفرع عليه وجهان: أصحهما - النفوذ؛ فإن العتق إذا كان يسري من الملك إلى [ملك الغير] (1)، فلأن يسري إلى محل حق (2) الغير أولى.

_ (1) في الأصل و (ت 2): إلى الملك. والمثبت من (ص). (2) (ص): ... إلى ملكه أولى، (ت 2): إلى محل الغير أولى.

والوجه الثاني - أنه لا يسري؛ لأن العبد بجملته مملوك للراهن، فلا يحمل عتقُه على مذهب السريان، بل إن نفذ التنجز، فذاك. وإلا فلا نفوذ. وهذا يعتضد بأن الراهن هو الذي حجر على نفسه، فليس له التسبب إلى مناقضة الحجر. ولا يلزم عليه ما لو باع النصف من عبده؛ فإن ذاك ليس حجراً، إنما هو خروج منه في المبيع عن رتبة الملاّك. ولو نفذنا سريان عتقه على الأصح، فإنْ وجّه العتقَ على المرهون قصداً، وقال: أعتقت ما رهنت من هذا العبد، فالوجه القطع برد عتقه، إذا كان التفريع على الرد. ثم قال المحققون: إذا رأينا تنفيذ سريان العتق في صورة الوجهين، فنقطع بالفصل بين الموسر والمعسر؛ فإن سبب نفوذ هذا قياسُ السراية، وقياس السراية في مذهب الشافعي يقتضي الفصْلَ بين الموسر والمعسر، كما سيأتي في كتاب العتق. وأما إعتاق المشتري العبدَ في يد البائع على قولنا بثبوت حق الحبس، فقد مضى مفصلاً. ولا شك أن عتق المشتري أولى بالنفوذ من عتق الراهن؛ فإن حق الحبس في المبيع لم يثبت بعقدٍ مقصود في إثبات الحجر، والرهنُ عقد متضمنه حجر مقصودٌ على المالك. هذا كله بيان القول في إعتاق الراهن. 3561 - ونحن نبتدىء بعد ذلك التفصيل في استيلاده. فنقول: إذا أقبض الجارية المرهونة -إن صححنا رهن الجواري، كما سيأتي، وهو الأصح- فإذا استولدها الراهن بعد انبرام الرهن: أما الولدُ فلا شك في انعقاده حراً؛ فإنه لا حق للمرتهن في ولد المرهونة رقيقاً فُرِض أو حراً، ولا يغرَم قيمة الولد؛ لما ذكرناه من انقطاع حق المرتهن عن الولد، والمهر لا ريب في أنه لا يلزم؛ فإنه عوض منافع البضع، ولا حق للمرتهن في المنافع. والكلام وراء ذلك في ثبوت الاستيلاد. 3562 - وقد خرّج الأئمة نفوذ الاستيلادِ على الأقوال المتقدمة في نفوذ العتق، ثم رأَوْا أن يرتبوا الاستيلادَ، ويجعلوه أولى بالنفوذ؛ من قِبَل أنه فِعْل، والأفعال بعيدة

عن الرد، والأقوال عرضة الإفساد والتصحيح، والفسخ بعد النفوذ؛ ولذلك ينفذ الاستيلاد ممن هو محجور عليه في تصرفاته، كالسفيه والمجنون، واستيلاد المريض جاريتَه نافذٌ، والعتق يحسب من رأس المال، وهو بمثابة الاستهلاك الحسي. فإن حكمنا بأن الاستيلاد ينفذ، فينفسخ الرهن، وعلى الراهن قيمةُ الجارية معتبرةً بوقت العلوق، ففيه حصل الاستيلاد، والخروج عن الرق المطلق. وقد مضى القول في القيمة. 3563 - وإن قلنا: لا ينفذ الاستيلاد، فالجارية مرهونة كما كانت، فإن حل الحق وهي حامل، فالذي أطلقه الأئمة قطعُ القول بأنه يمتنع بيعها؛ لمكان اشتمال رحمها على الولد الحر، وزعموا أن مطلق البيع لا يقصر عن الولد، وتناوله للجنين الحرّ محالٌ. وقد قدمت في هذا خلافاً في كتاب البيع، ونزّلته منزلة ما لو باع الرجل جاريةً حاملاً بولدٍ مملوك، واستثنى حملَها، ولا فرق بين أن يقع الاستثناء شرطاً، وبين أن يقع استثناؤه شرعاً. ولكن المذهب المنع كما ذكره الأصحاب، وإن كان تجويز البيع منقاساً. ولو ولدت المرهونة وماتت في الطلق، فالذي صار إليه جماهير الأصحاب أن الراهن يلتزم قيمةَ الجارية للمرتهن، فيضعُها مرهونة، كما لو قتل الجارية المرهونة. والسبب فيه أن الطلق مترتب على العلوق، وهو مترتب على وطء الراهن، والضمان يناط بالأسباب تارة، وبالمباشرات أخرى. وفي بعض التصانيف أن ضمان القيمة لا يجب؛ من جهة أن إحالة التلف على العلوق فيه بعد، وقد تفرض أسباب جِبِلِّية، هي التي جرّت الطلق الشديد. ولا خير في هذا الوجه، فلا تعتبروا به، والتفريع على وجوب الضمان، كما ذكرناه. 3564 - فلو وطىء جاريةَ إنسان بشبهة، فولدت، فماتت في الطلق، التزم قيمتها، تفريعاً على الأصح.

ولو وطىء حرة بشبهة، وأعلقها، فماتت من الطلق، ففي وجوب الدية وجهان: أحدهما - أنها تلزم اعتباراً بالأمة؛ فإن التسبب حاصل، كما تقدم. والثاني - لا تلزم الدية؛ فإن الأمةَ يتُصوّر الاستيلاء عليها، فيصير الوطء في حكم الاستيلاء (1) فيها أوّلاً، ثم العلوق أثرٌ باقٍ من الاستيلاء (2) السابق، كالسراية تستند إلى الجراحة، وكالصيد يُنفِّره المحرم، فيبقى نِفارُه إلى العشار، والموت، والحرة لا يتصور الاستيلاء عليها، أولاً، وليس الوطء في نفسه سبباً قويّاً. وهذا وإن كان مشهوراً، وقد قطع به طوائف من أصحاب المذهب (3)، فالقياس الأول؛ فإن طريق الضمان التسبب إلى الإتلاف. وهذا لا يختلف بالحرية والرق، بمثابة احتفارِ البئر في محل العدوان، وغيرِه من أسباب الضمان. ولو زنا بامرأة فعلِقت منه، وطُلِقَت، وماتت، فالذي ذكره الأصحاب أن الضمان لا يجب (4)، وإن فرض ذلك في الأمة. وكذلك إن قدرت [مضبوطة] (5) غيرَ ممكِّنة، والسبب فيه أن الطلقَ مترتب على العلوق، والولد المنتسب إلى الواطىء يُسبب الطلقَ، وولد الزنا لا انتساب له، وليس العلوق من هذا الشخص المعيّن معلوماً؛ حتى يحمل هذا على جناية متحققة. ولولا حكم الشرع بانتساب الأولاد إلى الآباء، لما وثقنا بكون ولد من رجل. وإذا علقت امرأة الرجل منه، وماتت في الطلق، فلا ضمان من قِبَل أن العلوق

_ (1) في (ص)، (ت 2): الاستيلاد. (2) في (ت 2): الاستيلاد. (3) اقتصر النووي في الروضة على هذا الوجه، وجعله الأصح. ولم يشر إلى الآخر. (الروضة: 4/ 78، 79). (4) نقل الرافعي عن الشيخ أبي حامد " أن في المسألة قولين، هذا أصحهما ". ر. فتح العزيز بهامش المجموع: 10/ 104. (5) في الأصل: (مصوطه) هكذا بدون نقط. وهي لا معنى لها على أي صورةٍ قدرت. وفي (ت 2): (مضموطه). ولا معنى لها أيضاً. والمثبت من (ص). من تضبطه إذا أخذه على حبسٍ وقهر. (المعجم. والقاموس) فالمعنى أنها مكرهة غير مُمَكِّنة. كما هي عبارة النووي في الروضة: 4/ 79.

مترتب على سبب مستَحق للزوج، والمترتب على المستحقات غيرُ مضمون عندنا. ولذلك أهدرنا سراية القصاص. 3565 - ثم إذا ألزمنا الرجلَ قيمةَ الجارية التي ماتت في الطلق، فأيةُ قيمةٍ تراعى في ذلك؛ للعراقيين ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يجبُ أقصى القيم من يوم الإحبال إلى الموت، كما يجب على الغاصب أقصى القيمة، من يوم القبض إلى التلف، وكأن الجارية في يد الواطىء منذ علقت إلى أن ماتت. والثاني - أنه يجب قيمةُ يوم الإحبال؛ فإنه [سبب] (1) الإتلافِ، والأمة وإن بقيت مملوكة، فهي مع سبب الردى هالكة. ولهذا نظائر ستأتي في كتاب الجراح إن شاء الله تعالى. والثالث - وهو اختيار ابن أبي هريرة أنه يجب قيمة يوم الوضع؛ فإن التلف تحقق يومئذ، وما تقدم غير موثوقٍ به، ولا مُحاطٍ به. وهذا كاعتبار النهايات في أروش الجنايات على الأحرار. 3566 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الراهن إذا وطىء الجارية وأعلقها، فولدت، ونَقَصها الولادةُ، وجب على الراهن أرشُ النقص، ووضعه رهناً، وهكذا سبيل أروش جناياته على المرهون، على ما ستأتي فصول الجنايات. ولو وطىء الجارية المرهونة وكانت بكراً، وافتضها، فعليه أرش البكارة. وليس هذا بمثابة المهر في الثيب؛ فإن الافتضاض جنايةٌ على جزء من الجملة، والجملة بأجزائها مرهونة. فإن قيل: لمَّا فرعتم على نفوذ الاستيلاد، قطعتم القولَ بأن الاعتبار بقيمة يوم العلوق، وردّدتم المذهب حيث انتهيتم في التفريع إليه؟ قلنا: إذا ثبت الاستيلاد، انفك الرهن، ولم يتوقف انفكاكه على الولادة، فتعين اعتبارُ ذلك اليوم، وما يفرض من نقصان أو زيادةٍ بعد الانفكاك، فلا تعلق له بحق المرتهن.

_ (1) ساقطة من النسخ الثلاث، واقتضاها إيضاح السياق، كما في عبارة النووي. (الروضة: 4/ 79).

وإذا قلنا: لا ينفذ الاستيلاد، وأوجبنا القيمة بسبب الهلاك، وقد تقدم السبب المقتضي له، فتردُّدُ الأصحابِ بين السبب والتلف كما تقدم. ومما يتفرع على قولنا: لا يثبت الاستيلاد لحق المرتهن، أنها تباع في الرهن إذا مست الحاجة إلى بيعها، ثم إذا بيعت، فلو عادت يوماً إلى المستولد، فهل تصير أم ولدٍ له؛ فعلى قولين مشهورين، ولا اختصاص لهما بهذه الصورة، بل كل جارية علقت بولد حر، من مستولد محترم، وامتنع نفوذ الاستيلاد، فإذا ثبت للمستولد الملكُ المطلقُ فيها، ففي نفوذ الاستيلاد القولان. ومن صور القولين أن يطأ جارية الغير بالشبهة ويُعْلِقَها، ثم يشتريها. وقد ذكرنا في التفريع على ردّ عتق الراهن أن العبد المرهون الذي أعتقه الراهنُ إذا بيع في الدَّين، وعاد ملكاً إلى الراهن، فلا ينفذ العتق المردود، والفارق ظاهر؛ فإن اللفظ (1) إنما ينفذ حيث ينفذ بصيغته، وكان [صيغة] (2) إعتاق الراهن التنجيزَ، فإذا رُدّ، ارتد، وقد زال الملك الذي كان إعتاقه تصرفاً فيه. والاستيلاد فعل، والأفعال قد تتوقف، وكأنا نقدّر إعلاق الجارية بولدٍ حُر تسبُّباً إلى حصول الحرية يوماً من الدهر، ومبنى الاستيلاد على هذا؛ فإنه لا يُنجِّز العتاقة. 3567 - ولو انفك الرهن عن الجارية، وكنا رددنا استيلادَ الراهن، فلأصحابنا طريقان: فمنهم من قطع بنفوذ الاستيلاد في هذه الصورة لاستمرار الملك، وانقطاع المزاحم، ومنهم من خرَّجه على قولين، ورتبهما على القولين في صورة وطء الشبهة، وفيه إذا زال الملك عن المرهونة، ثم عاد. ولا يكاد يخفى وجه الترتيب، وطريق الفرق. والأوجه عندي القطعُ بنفوذ الاستيلاد إذا انفك الرهن. والاستيلاد عندي على هذا القول مشبَّه بتعليق العتق على ما بعد الانفكاك. وقد قدمنا القطعَ بنفوذ التعليق على هذا الوجه.

_ (1) في (ص)، (ت 2): اللفظ الظاهر. (2) في الأصل: صفة.

3568 - [وإذا] (1) أعتق الراهنُ العبدَ المرهون، ورددنا عتقه، ثم انفك الرهن، فقد أشرنا إلى خلافٍ في ذلك. والسبب فيه استمرار الملك، وزوالُ الحجر. وهذا يقرب من اختلاف القول في أن المحجور عليه بالفلس إذا أعتق عبداً من جملة مالِه، فرددنا عتقه، ثم انفك الحجر عنه، ولم يتَّفق بيعُ ذلك العبدِ في ديونه، ففي نفوذ العتق عند إطلاق الحجر قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب التفليس، إن شاء الله تعالى، ووجه التشبيه بيّن. ولا خلاف أن العتق لا ينفذ في اطراد الحجر عليه؛ فإن فائدة الحجر منعُه من التصرف في ماله. وتفاصيل ذلك يأتي في موضعه. والراهن مطلقٌ، وقد أبقى ملكَ نفسه في الرقبة، فظن ظانون أنه مطلق صادف عتقُه ملكَه، وسرى إلى حق غيره. ثم سنذكر في بيع المفلس مالَه -إذا انفك الحجر عنه، ولم يتفق صرفُ مبيعه في دينه- قولين. 3569 - وأطلق الأصحاب القول بأن بيع الراهن في المرهون مردود، ولم يقفوه على انفكاك الحجر، ولا فرق عندي بين البابين، ولا محمل لتصحيح بيع المفلس مالَه على قولٍ إلا الحملُ على الوقف، ومحمل القولين لا يمتنع جريانه في الرهن. وبالجملة لا فرق بين البابين إلا أن أحد الحجرين جرى من غير اختيار المحجور عليه في جميع ماله، والحجر الذي نحن فيه وهو الرهن جرى في مالٍ خاص باختيار مالكه، فالوجه التسويةُ بين البابين، وتنزيلُ البيع والعتقِ على ترتيب واحد، فالعتق أولى بالنفوذ، والبيع أبعدُ منه. وهذا فنّ من الوقف زائد على الأصناف التي ذكرناها في كتاب البيع، وتقريرُه في كتاب الحجر. والفارق بين البيع والعتق أن تنفيذ التصرف بطريق الوقف ملتفت إلى مذهب التعليق، فكأن المفلس قال: إذا انفك الحجر، فهذا العبد حر، وهذا يتطرق إلى العتق، ويبعد عن البيع، والمحجور المبذّر عتقه مردودٌ في الحال، وإذا انفك الحجر عنه، وظهر الرشد، لم ينفذ من العتق ما رددناه.

_ (1) في الأصل: فإذا.

ولو قال في سفهه: إذا ظهر رشدي، فعبدي هذا حر، لم ينفذ عتقه إذا آنس رشدَه. وأما استيلاده، فنافذ في الحالِ؛ فإنه يجري على مذهب الاستهلاك، وهذا واضح. وقد نجز غرضنا من تفصيل القول في إعتاق الراهن واستيلاده وما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك. 3570 - ثم قال الشافعي في أثناء الكلام تفريعاً على ثبوت الاستيلاد: " وتعتِق بموت السيد في قول من يعتقها " (1). وهذا ترديدُ قولٍ منه في بيع أمهات الأولاد. وهذا القول مشهور في القديم، وترديده القولَ فيما نقله المزني غريب. والاستيلاد على قوله القديم لا أثر له، وهو من ضروب الاستخدام، فكأن السيد إذا أودعها ماءه، ثم انفصل، فبقيت على رقها كالظرف يحتوي على شيء ثم يفرغ منه. وعلى هذا لا تعتق مستولدة، ولا يمتنع بيعُها. وهذا قولٌ لا عمل به، ولا فتوى. وقد كان فيه اختلاف في الصدر الأول، ثم أطبق العلماء بعدهم على المنع، فالتحق هذا بإجماع بعد خلاف. وهذا مستقصى في فن الأصول. فإذا مهدنا هذا الأصل الكبير، فقد حان أن نرجع إلى صدر الفصل، فنقول: إذا رهن الرجل جارية، فظهر بها حمل، وقال الراهن: هذا الولد مني، وقد كانت علقت به ولم أشعر، فرهنتها: فإن صدقه المرتهن، فلا كلام، فيثبت النسب والولد حرٌّ، لا ولاء عليه، والجارية أم ولد، والرهن باطل، وليس على الراهن قيمةٌ توضع رهناً؛ من قِبل أنه لم يجن (2) على رهنٍ لازم، بل تبيّنا أن لا رهن. نعم لو كان هذا الرهن مشروطاً في بيعٍ، وقد تبين امتناعهم (3) بالسبب الذي ظهر، فيثبت الخيار للبائع؛ من قِبل تعذر الوفاء بالشرط المذكور في العقد. وسيأتي

_ (1) ر. المختصر: 2/ 211. (2) في (ص)، (ت 2): يجر. (3) كذا في النسخ الثلاث. ولعلها: (امتناعه) أي الرهن.

هذا في موضعه من الكتاب، إن شاء الله عز وجل. هذا إذا صدقه المرتهن. فإن كذبه المرتهن، وقال: ليس الولدُ منك، فإن كانت للراهن بينة أقامها، أو أقامتها الجارية، والشهادة على جريان الوطء من الراهن قبل العقد، أو بعد الرهن قبل الإقباض. والحكم ما قلناه في المسألة الأولى. فإن قيل: يحتمل أن يثبت الوطء، ولا يثبت العلوق. قلنا: نعم، هو كذلك. ولكن العلوق عيبٌ، ولا شيء يدار الإقرارُ والإنكار عليه إلا الوطء، ولهذا قلنا: إن السيد إذا اعترف بوطء مملوكته وأتت بولدٍ لزمانٍ يمكن أن يكون من الوطء، فالنسب لاحق على تفصيل يأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى، وهذا يعتضد باستلحاقه النسبَ، فصار مجموع هذا مثبتاً للاستيلاد. وإن كذبه المرتهن، ولا بينة، فنقول: أما نسبُ المولود، فثبت لاستلحاق الراهن، وتثبت حريةُ الولد. وأما الاستيلاد، فهل يحكم به حتى يبتني عليه تبين بطلان الرهن؛ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - لا يحكم به؛ لأنه أثبت للمرتهن حقاً، ثم ادعى ما يتضمن بطلانَه، فلا يقبل. والوجه الثاني - أنه مقبول؛ من جهة انتفاء التهمة؛ إذ إقراره لو ثبت، فمتضمنه زوال الرق، وقد يقبل الإقرار في محل حق الغير، لانتفاء التهمة، وعليه بنينا قبول إقرار العبد بما يوجب سفك دمه، أو بما يوجب عقوبةً عليه. والوجه الثالث - أنا نفصّل بين أن تأتي بالولد لستة أشهرٍ، فما دونها من وقت الإقباض، وبين أن تأتي بالولد لأكثر من ستة أشهر؛ فإن الأمر إذا كان كذلك، اتسع مسلك الإمكان، ولم يبعد أن يُفرض العلوقُ بعد تمام الرهن. وتحقيق الفرق أنا إذا أثبتنا العلوق حالة القبض، فإقرار الراهن يرد على غير محل الرهن، ولو كان موجوداً حالة القبض، فيقع ثبوت الاستيلاد تابعاً. وهذا يلتفت إلى أصل سيأتي بعد هذا. وهو أن من رهن عبداً أو باعه، ثم زعم بعد ظهور اللزوم، أنه كان أعتقه، أو كان باعه. وهذا سيأتي في مسائل الرهن، إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: إن قبلتم إقراره، فلا سؤال. وإن لم تقبلوه، فهلا خرَّجتم هذا على الأقوال في أنه لو أنشأ الاستيلاد هل يثبت؛ حتى تقولوا: إن نفذنا منه الاستيلاد ابتداء، ينفذ إقراره، وإن لم ينفذ منه الاستيلاد ابتداء، فلا يقبل إقراره، تخريجاً على تنزيل الإقرار بالشيء منزلة إنشائه؛ فإن الوكيل بالبيع لو أقر بالبيع، نفذ إقراره كما ينفذ إنشاؤه البيع. ولو أظهر الموكِّل عزله، ثم ادعى الوكيلُ البيعَ، لم ينفذ قوله. وهذا يطرد لنا وينعكس. قلنا: هذا جارٍ في التصرفاتِ التي يسلِّط الشرعُ على الإقدام عليها، فيجعل الإخبارَ عن الشيء بمثابة إنشائه، إذا كان إنشاؤه مملوكاً للمقر. والراهن على كل مذهب ممنوعٌ من الإقدام على استيلاد الجارية المرهونة. وهذا مما اختلف أصحابنا فيه، وتخريجه على أصلٍ سيأتي في كتابِ الحجر. وهو أن المبذر لو أقر بالطلاق، نَفَذَ، اعتباراً بأنشائه، ولو أقر أنه أتلف مالاً، ففي قبول إقراره خلاف؛ فإن الإتلاف ليس ما يملكه شرعاً، ولكن يتصور وقوعه منه، وهل يقبل إخباره فيه؟ فعلى وجهين. كذلك قلنا: لو وقع استيلاد الراهن، لنفذ، فإذا اعترف به، ففي نفوذه الخلاف الذي أشرنا إليه. فصل 3571 - كل تصرف يمتنع نفوذُه لحق المرتهن، فإذا أذن فيه، نفذ؛ فإن المانع حقُّه. وإذا أذن للرّاهن في بيع المرهون، أو في هبته، فباع أو وهب، نفذ. وإذا فرعنا على أن العتق لا ينفذ من الراهن، فإذا أذن فيه المرتهن، نفذ. وسنذكر أن الراهن لا يجوز له أن يطأ الجارية المرهونة إذا كانت بصدد أن تحبل، وفي التي لا تحبل كلام سيأتي، إن شاء الله تعالى. وإذا أذن في الوطء، فوطىء الراهن بالإذن وترتب عليه العلوق، ثبت الاستيلاد، وإن وقع التفريع على أن الاستيلاد لا ينفذ لو انفرد الراهن.

ثم الإذن المجرّد لا يرفع عقد الرهن، حتى يتصل بوقوع التصرف. وللمرتهن أن يرجع قبل التصرف عن إذنه. وإذا أذن في الهبة والإقباض، فوهب الراهن، ورجع المرتهن عن الإذن، لم يملك الراهن الإقباضَ، ولو أذن في البيع من غير تعجيل حق ولا شرط جَعْل الثمن رهنا، فباع الراهن على شرط الخيار، فقال المرتهن رجعت عن الإذن؟ الذي ذهب إليه المحققون أن رجوعه لا ينفعه، وللراهن إلزام العقد، وقطع الخيار، كالهبة مع القبض، وذلك لأن القبض ركنُ العقد فيه (1). وهو ينزل منزلة القبول من الإيجاب، وكأن الهبة عدلاً والوفاء بها الإقباض، والبيع مبناه على اللزوم والخيار دخيل فيه، فهو مفوّض إلى من له الخيار. ولو أذن في الوطء فوطىء، ولم يتفق العلوق، فحق الرهن باق؛ فإن الوطء لا ينافي الرهن، وإنما ينافيه العلوق، وثبوت الاستيلاد. فلو لم يأذن إلا في وطأة، فلم تَعْلق، فلا يعود الراهن إلى الوطء. ولو كان أذن في جنس الوطء، ثم رجع عن إذنه، تعين على الراهن أن يمتنع. 3572 - ثم فرض الشافعي والأصحابُ صوراً في اختلاف الراهن والمرتهن في الحكم الذي نحن فيه. ونحن نرسم مسائل تستوعب الغرض. فمنها أن يختلفا في أصل الإذن، فيقول الراهن: أذنت في الوطء، وأنكر المرتهن، فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن. ثم إذا كان أولدها وجرى الخلاف كما وصفناه، وحلف المرتهن، عاد التفريع إلى وقوع الاستيلاد. والأولى تفريع صور الخلاف على أن الاستيلاد لا يثبت على استبدادٍ. فإن نكل الراهن عن يمين الرد، فأرادت الجارية أن تحلف لمكان حقها من عُلقة الحرية، فهل لها ذلك؟ على وجهين ذكرهما العراقيون: قالوا: والأصح أنها لا تحلف؛ فإنها ليست بمتأصلة في الحق، وإنما يثبت أمرها تبعاً، والأيمان لا تعرض على الأتباع، ولذلك لا يحلف الوكيل، وسنذكر نظائر ذلك في كتاب

_ (1) في (ص)، (ت 2): ففيه. (والضمير هنا يعود على البيع).

القسامة، ثم في كتاب الدعاوى، إن شاء الله - هذه مسألة في الاختلاف. المسألة الثانية - أن يقع الوفاق على أصل الإذن، ويعودَ الخلاف إلى جريان الوطء، فقال الراهن: قد وطئتُ، وأنكر المرتهن ذلك. فيقول: ما وطئتَ، وليس الولد الذي جاءت به الجارية منك. هذا أصل التصوير. ثم ذكر الأئمة صورتين: إحداهما - أن يبتدىء الراهن فيقول: أذنتَ لي في الوطء، فوطئتُ، وأعلقتُ. ثم يقول المرتهن: أذنت لك، وما وطئت، فالقول قول الراهن؛ فإن الإذن متفق عليه، والوطء المختلف فيه من فعل الراهن، فليكن الرجوع إليه في فعله. هذا هو الأصح. ومن أصحابنا من قال: الأصل عدمُ الوطء، وبقاء الرهن. وهذا يناظر ما لو قال الرجل لامرأته: إن زنيتِ، فأنت طالق، فإذا زعمت أنها زنت، فالقول قول الزوج في إنكار زناها؛ فإن الأصل عدم وقوع الطلاق، وعدم الزنا. هذا أصل المذهب. وليس كما لو قال: إن حضت، فإنت طالق، فقالت: حضتُ، فالقول قولها؛ إذ لا يُطلع على حيضها إلا من جهتها، ويُطَّلع على سائر أفعالها من غير جهتها. ولا فرق بين ما يخفى في العادة وبين ما يظهر، كدخول الدّار ونحوه. ومن أصحابنا من صدق المرأة فيما يخفى وتطرد العادة بكتمانه، كالزنا ونحوه. وهذا مزيف لا أصل له. فإن قيل: لم كان ظاهر المذهب تصديقَ الراهن في الصورة التي ذكرتموها؟ وما الفرق؟ قلنا: إذا كان الوطء مأذوناً، فادّعاه من أُذن له، كان هذا ادعاءَ أمر يملك إنشاءه، وكل مأذون في شيء يدعي مع دوام الإذن إيقاعَ ما أُذن فيه، فقوله مقبولٌ، كالوكيل بالبيع إذا ادّعى البيعَ قبل أن يُعزل؛ فتصديق الراهن يؤخذ من هذا الأصل، وهو غير متحقق في تعليق الطلاق بالصفات؛ إذ ليس في التعليق تسليطٌ على أمرٍ وتولية في شيء، والطلاق يعلق تارةً بما يدخل تحت اختيار الزوجة، وتارة يعلّق بأمور ضرورية، لا اختيار فيها كغروب الشمس وطلوعها. هذا فيه إذا قال الراهنُ أولاً: أذنت لي، فوطئت. وقال المرتهن بعده: ما وطئتَ.

فأما إذا قال المرتهن أولاً: أذنتُ لك في الوطء، فما وطئتَ، فقال الراهن بعده: أذنت لي فوطئتُ. ذكر الأئمة في هذه الصورة وجهين ورتبوهما على الخلاف في الصورة الأولى، وجعلوا هذه الصورة الأخيرة أولى أن يصدَّق المرتهن فيها، وعلّلوا بأن قول المرتهن إذا تقدَّم يتضمن عزل الراهن عن الإذن في الوطء، فيقع قول الراهن بعد انعزاله، وليس كالصورة الأولى إذا تقدم قول الراهن. وهذا ليس بشيء. وليس ما قاله المرتهن قطعاً للإذن، ولا عزلاً، وإنما هو خبر عن الإذن، واعتراف به، ثم ادعاءُ عدم الوطء؛ فلا عزل إذاً. وحصل من الصورتين أوجه: أحدُها - أن القول قول المرتهن في الصورتين؛ فإن الأصل عدم الوطء. والثاني - أن القولَ قولُ الراهن في الصورتين كما استشهدنا به من ادعاء الوكيل البيع الذي وكل به. والوجه الثالث - أنه يفصل بين أن يتقدم قول الراهن وبين أن يتقدم قول المرتهن، فالمصدَّق من يقدَّم قوله. وهذا ما اختاره القاضي، وهو ضعيف؛ فإنه بناه على العزل، وزعم أن قول المرتهن يتضمن عزلَ الراهن، وهذا غيرُ مفهوم. ثم قال لو قال الوكيل بالبيع لموكله: أذنتَ لي في البيع، فبعتُ، وأنكر الموكِّل بيعَه، واعترف بالإذن، فالقول قول الوكيل. ولو قال الموكل أولاً: أذنت لك في البيع، فلم تبع. وقال الوكيل: قد بعتُ. ذكرَ وجهين في هذه الصورة أخذاً مما تخيله من أن قول الآذن في ذلك رجوع عن الإذن. وهذا كلام عريٌّ عن التحصيل. 3573 - ومن مسائل الاختلاف: أن يتفقا على الإذن، وجريان الوطء، ويقول المرتهن: هذا الولد الذي أتت الجارية به ليس منك، ولم تُعلقها أنت بوطئك، وإنما زنت، وأتت بولدٍ من غيرك، فالقول في هذه الصورة قول الراهن بلا خلاف؛ فإن أصل الإذن متفق عليه، وكذلك جريان الوطء، ولا يبقى بعد هذا في نفوذ الاستيلاد شيء إلا استلحاق المولود، والاستلحاق إلى الواطىء، وهو من الأمور المفوّضةِ إليه، فلا معنى لتقدير مزاحمته. ثم وجدت الطرق متفقة على أن الراهن لا يحلَّف في الصورة الأخيرة، ويكفي استلحاقُه. وإذا جعلنا القولَ قولَ الراهن في ادعاء الوطء، فهل يحلّف؟

ذكر الأصحاب وجهين. والأظهر عندي أن يحلّف. ووجهُ قول من لا يحلّفه أن حاصل كلامه يرجع إلى استلحاق المولود، وقد تقدم أنه لا استحلاف فيه. ولو ادعى الوطء، ولم يتعرض لاستلحاق النسب، لم يثبت الاستيلاد. والوجهان في تحليف الراهن على الوطء ذكرهما صاحب التقريب على النسق الذي ذكرناه. وإن رأينا تصديق المرتهن في نفي الوطء، فلا يُثبت يمينُه؛ فإن كل من أراد نفيَ فعل غيره، لم يزد في يمينه على نفي العلم به، وهذا لو صح الرجوع إلى قول المرتهن أصل لا مراء فيه. وبه يضعف أصلُ هذا الوجه؛ فإن المرتهن في الغالب لا يطلع على الوطء؛ ومهما حلف على نفي العلم بالوطء، برَّت يمينُه، فيؤدي هذا المسلكُ إلى أن لا يثبت حقُّ وطء الراهن قط إلا أن يطأ على رؤوس الأشهاد. وهذا ينفصل عن تعليق الطلاق؛ فإن وقوع الطلاق ليس من حقها، وكذلك فعلُها الذي هو صفة في الطلاق، فإن كان لا يظهر وقوع الطلاق، فليس فيه تعطيل حق، والراهن يطأ بحق الملك؛ فإن الوطء لا يستباح بالإذن، ولكن الإذن يرفع المانع من اليمين. وإذا كان هذا من حق الراهن، فينبغي له أن يمهّد له سبيلٌ إلى إثباته على يسر. 3574 - ثم إن المزني ذكر المسألة الأخيرةَ، وحكى عقيبها عن الشافعي أنه قال: إن كان موسراً، فعليه القيمةُ، وإن كان معسراً، فلا شيء عليه. ذكر هذا في صورة الاعتراف بالإذن والوطء، ثم أخذ يعترض ويقول: وجب أن لا نلزم القيمة، لأن الوطء جرى بالإذن، فوجب بطلان حقه. قلنا: الأمر على ما ذكرتَ، ولكن أخطأتَ ووهمت في النقل، والشافعي ذكر هذا في المسألة الأولى من مسائل الاختلاف: وهي إذا أنكر المرتهن أصلَ الإذن وحلف. وقد تتبّع الأثباتُ نصوصَ الشافعي في الكتب، فلم يجدوا ما ذكره المزني من الفرق بين الموسر والمعسر، إلا على أثر إنكار المرتهن أصلَ الإذن. فرع: 3575 - ذكر العراقيون في أثناء الكلام عند ذكرهم إذْنَ المرتهن مسألة في الإذن أحببت نقلها، وهي أنهم قالوا: لو قال السيد: اضرب عبدي، فضربه، وأتى

الضرب عليه. قالوا: لا ضمان على الضارب. وقالوا: الزوج مأذون من جهة الشرع في ضرب زوجته، ولو ضربها وأتى الضرب عليها، ضمنها، وفرقوا بأن الإذن في ضرب الزوجة مقيد بتوقي القتل وإبقائها والإبقاء عليها. والإذنُ في الضرب مطلق في المسألة التي ذكرناها لا تقييد فيه. وكأنهم رأوا الأمر بالضرب أمراً بجنسه بالغاً ما بلغ. وهذا محتمل عندي؛ فإن الضرب يخالف القتل، فالأمر به أراه مُشعراً بالاقتصار عليه، ومن قتل إنساناً لا يقال: ضربه. ولو قال: أدِّب عبدي، فلا يجوز أن يُشكَّ في أنه لو قتله، ضمنه؛ فإن التأديب مصرِّحُ بإبقاء المؤدَّب. فصل قال: " ولو وطئها المرتهن ... إلى آخره " (1). قد ذكرنا فيما تقدم وطءَ الراهن بالإذن وغيرِ الإذن. وهذا الفصل مضمونه ذكرُ وطء المرتهن الجاريةَ المرهونة. ولذلك صورتان: إحداهما - أن يقع الوطء من غير إذن الراهن. والأخرى - أن يقع الوطء بإذنه. فأما إذا وطىء بغير إذن الراهن، فلا يخلو إما أن يكون عالماً بالتحريم، وإما أن يدعي الجهلَ به، فإن كان عالماً بالتحريم، فهو زان يلزمه الحد. فإن استكره الموطوءة، التزم مهرَها للراهن. وإن طاوعته، فهي زانية. واختلف الأصحاب في وجوب المهر: منهم من قال: لا مهر، وإليه ميلُ المحققين. ومنهم من أوجب المهر. 3576 - التوجيه: من قال: يجبُ المهر، احتج بأنَ مُطاوعتها إباحة منها، وإباحتها مهدرة في حق المولى، فأشبه ما لو أباحت قطع طرفها لجانٍ؛ فإن الضّمان لا يسقط بإباحتها. ومن قال: يسقط، احتج بأن قال: هي بغيّ أوّلاً، وقد " نهى رسول الله صلى الله

_ (1) ر. المختصر: 2/ 211.

عليه وسلم عن مهر البغي " ومنافع البضع تقوّمت بالشرع إذا استهلكت وهي محترمة، ولا حرمة مع البغاء. وفيه لطيفةٌ من جهة المعنى، وذلك أنها إذا طاوعت، فهي مشاركة في العمل، وليس الزاني منفرداً بإتلاف المنفعة، ولا تمييز ولا تشطير. والشرع لا يتقاضى إثباتَ البدل لحقٍّ حرمه، فلا شيء. هذا إذا كان عالماً بالتحريم. فأما إذا كان جاهلاً فيما زعم، بأن كان حديث العهد بالإسلام، وظن أن الارتهان يبيح المرهونة، فإذا ادعى الجهلَ ولم يبعُد ما قال، فلا حد. وإذا انتفى الحد، فالكلام بعده في المهر، والنسب، والحكم برق الولد وحريته. الظاهر أن النسب يثبت؛ لمكان الشبهة الدارئة للعقوبة. وإذا اندفع الحد لشبهة، كان الوطء على حظ من الحرمة (1)؛ فيثبت النسب. ومن أصحابنا من قال: لا يثبت. ثم الطريقة الصحيحة تخريج رق المولود على الخلاف في النسب، فإن حكمنا بالنسب، فالولد حر، وإن نفينا النسب، فالولد رقيق. وقال بعض أصحابنا: النسبُ يثبت وفاقاً. وفي ثبوت الحرية وجهان. وهذا القائل يزعم أن النسب أسرع إلى الثبوت. وعكس بعض من ينتسب إلى التحقيق هذا، فقطع بإثبات الحرية، وردّد القول في النسب، وصار إلى أن الولد النسيب هو المنعقد من ماء محترم، والحرمة غير متكاملة. وهذا كله خبط. والوجه إجراء النسب والحرية مجرى واحداً. والمذهب ثبوتهما. وكان شيخي يعلل الوجه الآخر بضعف الشبهة، ويقول: الحدّ يندرىء بأدنى شبهة. والنسب يستدعي شبهة لها وقعٌ.

_ (1) " الحرمة ": من " الاحترام "، وليس من "التحريم".

وقرّر القاضي في هذا كلاماً، وقال: من لا يعلم حكم الإسلام تحريم هذا الوقاع فكأن لا شبهةَ ولا بصيرة. ثم قال: إذا زنى مجنون بعاقلة، فالقول في النسب يجب أن يخرّج على هذين الوجهين، فإن المجنون ليس ممن يدري، وليس ممن يتصف بنقيض الدراية، والشبهةُ إنما تثبت في حق من يعذر بظنٍّ وهو (بصدد) (1) الدراية، وعليه يخرّج عندي الخلاف في عمد المجنون في القتل؛ فإن إلحاقه برتبة المخطىء لا وجه له وإقدامُه معلوم حساً. وهذا لائح في المجنون. فأما إلحاق عاقل جهل التحريم -ومن الممكن أن يعرفه- بالمجنون، فبعيد. فأما المهر، ففيه تردد للأصحاب؛ من جهة ضعف الشبهة، وأنها لم تورِث حرمة، والأصح ثبوت المهر. هذا كله إذا وطىء المرتهن من غير إذن الراهن. 3577 - فأما إذا وطىء بإذن الراهن، فإذا كان عالماً بالتحريم، لزمه الحد في ظاهر المذهب. وقيل: لا حدَّ عليه لشبهة الخلاف؛ فإن عطاء بن أبي رباح، كان يجوّز إعارة الجواري، وكان يبعث بجواريه إلى ضيفانه، فلينتهض مذهبُه شبهة في درء الحدّ. وهذا ليس بشيء؛ فإن الحد لا يدرأ بالمذاهب، وإنما يدرأ بما يتمسك به أهل المذاهب من الأدلة، ولا نرى لفظاً في هذا متمسكاً، ولا أصل لهذا الوجه. فإن قلنا: لا حد، فالكلام في النسب وحرية الولد على ما قدمناه في حق من وطىء من غير إذن وادّعى الجهل بالتحريم. وإن أوجبنا الحد، فلا نسب، والولد رقيق. وإن ادعى الجهل بالتحريم عند إذن الراهن، فالدعوى في هذه الصورة أظهر. واتفق الأصحابُ على أنه يتعلق بها دفع الحد، وثبوت النسب، وحريةُ الولد. ولا تصير الجارية أم ولد، وإذا ملكها يوماً من الدهر، ففيها القولان المشهوران. وأما المهر، فقد اختلف قولُ الشافعي في وجوبه، فقال في قول: لا يجب؛ لأن الإذن من

_ (1) كذا في النسخ الثلاث، والمعنى أن الشبهة تكون عن ظن خاطىء ممن هو بصدد الدراية، أي من أهلها، والله أعلم.

الحرّ المستوجب للمهر قد حصل، وإذا سلطه ذو الحق على إتلاف حقّهِ، فلا ضمان. وقال في قول آخر: يجب المهر؛ فإن الإباحة لا وقع لها في الأبضاع، وليس الوطء زنا. قال القاضي: هذا الاختلافُ قريب من اختلاف قول الشافعي في أن المفوضة هل تستحق المهر، وسيأتي ذلك مفصلاً في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى. هذا قولنا في المهر. فأما قيمة الولد وقد ثبتت حريته، ففيها طريقانِ: فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنها تجب، ولا تسقط بسبب الإذن في الوطء؛ فإن العلوق لا صنع فيه للواطىء، فلا يكون الإذن في الوطء متعلِّقاً به. هذا أحد الطريقين. وقد ذكر صاحب التقريب طريقة أخرى في تخريج قيمة الولد على قولي المهر؛ فإن العلوق مترتب على الوطء المأذون فيه. والدليل عليه أنّ إذنَ المرتهن للراهن في الوطء يوجب تنفيذ الاستيلاد، وسقوطَ الغرامة، وإن كان الاستيلاد ترتب على العلوق. وليس هو من صنع الواطىء. ولكن التسبب إلى الشيء بمثابة مباشرته. فصل قال: " ولو كان الرهن إلى أجلٍ، فأذن للراهن في بيع الرهن ... إلى آخره " (1). 3578 - إذا أذن المرتهن للراهن في العتق، فأعتق بإذنه، بطل حقُّه من الرهن، سواء كان الحق حالاًّ أو مؤجلاً؛ فإن الإعتاق إتلافٌ للمالية، لا إلى عوض؛ فإذا أذن المرتهن به، سقط حقه بالكلية من الوثيقة. فأمَّا إذا أذن بالبيع، فلا يخلو: إما أن يكون حالاًَ، أو مؤجلاً. فإن كان مؤجلاً، ففيه مسائل: أحدها - أن يُطلق المرتهن الإذن في البيع، ولا يقيده بشرط، فإذا باع الراهن بالإذن، انفك الرهن، ولا يلزم البائعَ جعلُ الثمن

_ (1) ر. المختصر: 2/ 211.

رهناً مكان ما باع، خلافاً لأبي حنيفة (1). هذه مسألة. 3579 - والمسألة الثانية - أن يأذن في البيع على شرط أن يعجل الدين من ثمنه، فهذا الشرط باطل؛ فإنه يتضمن إثبات حق غيرِ ثابت، وهو التعجيل. وإذا تبين فساد هذا الشرط، فالإذن يفسد بفساد الشرط ولا ينفذ بيع الراهن، وينزل ما جرى منزلة ما لو باع مستبداً من غير إذن، وهذا يعد من مشكلات المذهب. وذهب المزني إلى أن البيع نافذ بالإذن. واحتج عليهِ بأن قال: الإذن في البيع لا فساد فيه، وإنما الفساد في الشرط المقرون به، فليفسد الشرط، وليصح البيع بالإذن، واستشهد عليه بالتوكيل بالبيع مع شرط فاسد، مثل أن يقول: بع عبدي هذا ولك عشرُ ثمنه، فالأجرة فاسدة؛ من جهة أن مبلغ الثمن مجهول، والجزء من المجهول مجهول. ولكن البيع من الوكيل نافذ، والرجوع إلى أجر المثل، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه؛ حتى يصح البيع، ويفسدَ الشرط. وهذا الذي ذكره المزني في ظاهره معنى كلي. وقد قال العراقيون: حكي عن أبي إسحاق المروزي أنه ذكر قولاً مخرجاً موافقاً لمذهب المزني، فحكم بنفوذ البيع، وبفساد الشرط. هذا حكَوْه، ثم زيفوه. وقالوا: التعويل فيما يُنقل عن أبي إسحاق على ما يوجد في شرحه (2). وهذا غير موجود في شرحه، فالوجه القطع بما نص عليه الشافعي. وما ذكره المزني نقول فيه: الإذن في البيعِ في مسألتنا مُعَارض باشتراط شيء لا يستحَق، فكأن المرتهن أَذِنَ، وقابَل (3) الإذن بشرط يجر به منفعة إلى نفسه، ولم يُثبت الشرع ذلك الشرط، ففسد، وإذا فسد مقابلُ الشيء، فسد ذلك الشيء. وهذا يمثَّل بفساد أحد العوضين في المعاملات؛ فإن من حكمه فسادُ مقابلِهِ. وليس كذلك التوكيل بالبيع؛ فإنَ أصل الإذن لا مقابِل له، وإنما المقابلة في عمل الوكيل وما شُرط

_ (1) مختصر اختلاف العلماء: 4/ 303 مسألة: 2017، البدائع: 6/ 149، 153. (2) المراد شرحه لمختصر المزني. (3) (ت 2): فكان المرتهن إذا قابل للإذن.

له، والإذن في البيع خارج عنهما، فاستقل الإذن بالصحة، وتقابل العمل والشرط، فقيل لَحِقَهما الفسادُ. أما أثر الفساد في العمل، فهو أنه لا يستحق، وأثر الفساد في العوض لائح، فيخرج منه نفوذ البيع بحكم الإذن المطلق، والرجوع إلى أجر المثل على قياس المعاوضات الفاسدة. ونفس الإذن في مسألتنا مقابَل بفسادٍ، وذلك الفساد عوض الإذن. هذا منتهى الإمكان في هذا. 3580 - والمسألة الثالثة - أن يأذن في البيع، ويشترطَ وضعَ ثمنه رهناً مكانه. وفي المسألة قولان: أحدهما - أن الشرط يفسد، ثم يفسد بفساده الإذن في البيع، كما قدمناه في المسألة الثانية. والقول الثاني - أن الشرط صحيح، والإذن في البيع صحيح، فإذا بيع المرهون، لزم جعلُ ثمنه رهناً. وهذا في حكم نقل الرهن من العين إلى عوضه، فإذا كان يجري هذا وفاقاً؛ فإن المرهون إذا هلك تعلق حق الوثيقة بقيمته، وما يقع لا يمتنع شرطه. وهذا يترتب على أصل سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. وهو أن من رهن ما يتسارع الفساد إليه، فهل يصح الرهن فيه والدين مؤجل؟ فعلى قولين، أحدهما - لا يصح؛ فإن مقتضى الرهن الحبسُ إلى حلول الدين، والحبس يفسد الرهن. والقول الثاني - يصح الرهن، ويباع ويوضع ثمنه رهناً، وسيأتي ذلك. فإن أفسدنا فيما يفسد من يومه، فذاك لمصيرنا إلى امتناع النقل، فلا يجوز إذاً شرط النقل. وإن صححنا رهنَ ما يفسد، ونزلنا على نقل (1) الوثيقة من العين إلى ثمنها، فلا يمتنع شرطه. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الدين مؤجلاً (2 وجرى الإذن 2) من المرتهن في البيع قبل حلول الأجل مطلقاً أو مقيداً. 3580/م- وأما إذا كان الحق حالاًّ، فأذن المرتهن في البيع، نُظر: فإن كان الإذن

_ (1) في (ص)، (ت 2): رهن. (2) ما بين القوسين ساقط من (ص)، (ت 2).

مطلقاًً، نفذ البيع، ولزم قضاء الحق من ثمنه؛ لأن هذا مستحق بحكم الرهن، فمطلق الإذن محمول عليه. فإنْ شَرَطَ قضاءَ الحق منه، فقد زاد تأكيداً، وصرح بما يقتضيه الإطلاق. ولو أذن في البيع على شرط أن يوضع ثمنه رهناً، ففي المسألة قولان والحقُّ حالٌّ، كالقولين إذا كان مؤجلاً، فلا يختلف الترتيب في هذا الشرط في الحالّ والمؤجل، فإنَّ نقل الرهن غيرُ مستحق في الحالتين. هذا بيان المسألة. 3581 - ثم ذكر الشافعي بعد هذا اختلافاً بين الراهن والمرتهن في كيفية الإذن، والقول مفروض في الدين المؤجل، فإذا باع الراهن الرهنَ بالإذن، ثم اختلف الراهن والمرتهن: فقال الراهن: أذنتَ في البيع المطلق، وقال المرتهن أذنتُ في البيع وشرطتُ أن يوضع ثمنُه رهناً، فظاهر المذهب أن القول قول المرتهن مع يمينه؛ فإن البائع يدعي الإذن على وجه ينقطع فيه تعلق المرتهن، والمرتهن يأبى ذلك، والأصل استمرار تعلقه بحق الوثيقة. وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر في ذلك، ووجهوه بأن أصل الإذن متفق عليه، و [المرتهن] (1) يدعي ضم شيء إلى الإذن، والأصل عدمه. وهذا ليس بشيء، والمذهب الأول. وهذا ذكره شيخي وأنا أحسبه هفوة، فلا يعتد به. ثم أطنب المزني في التعلّق بمسألة الوكيل الذي شرط له الجعل الفاسد، وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع مذهباً وحجاجاً. فرع: 3582 - إذا أذن المرتهن في البيع مطلقاًً والدين مؤجل، ثم رجع عن الإذن قبل جريان البيع، صح رجوعه، ونفس الإذن في البيع لا يبطل حقَّ المرتهن، بل الأمر موقوفٌ على جريان البيع على حكم الإذن. فلو اختلف الراهن والمرتهن، وقد جرى الإذنُ في البيع والرجوعُ، فقال الراهن: بعتُ قبل رجوعك. وقال المرتهن: بل رجعتُ قبل بيعك، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن القول قول المرتهن؛ فإنه تقابل

_ (1) في الأصل: المدعي.

هاهنا أصلان: أحدهما - أن الأصل عدم بيعه في الوقت الذي يدعيه، والأصل عدم رجوع المرتهن أيضاًً في ذلك الوقت، فيتقابلان ويبقى أصل الرهن على ما تقرر ابتداء. ومن أصحابنا من قال: ينفذ البيع؛ فإن الأصل استمرار المرتهن على حكم الإذن الذي سبق منه. وهذه المسألة تلتفت على اختلاف الزوجين في الرجعة وانقضاء العدة، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " ولو رهنه أرضاً من أرض الخراج، فالرهن مفسوخ؛ لأنها غير مملوكة ... إلى آخره " (1). 3583 - أراد بأرض الخراج سوادَ العراق وكان غنمه المسلمون، واستولَوْا عليه عَنْوة، واقتسموا واشتغلوا بالحراثة وتعلقوا بأذناب البقر، وتقاعدوا عن الجهاد، فاستطاب أمير المؤمنين عمرُ -رضي الله عنه- قلوبَهم عنها، فاستردَّ [ها] (2) منهم بعوض وغير عوض، ثم حبّسها على المسلمين، وردَّها على سكان العراق ووظّف عليهم أجرة. هذا مذهب الشافعي، وسيأتي شرحه في موضعه، إن شاء الله عز وجل في كتاب السِّير والجزية، والغرض من ذكره الآن تفصيل القول في رهن تلك الأراضي. وزعم ابنُ سريج أن عمر باع تلك الأراضي من أهل العراق، وما حبسها وجعل الثمن موظفاً عليهم. وهذا يخالف نصَّ الشافعي، فإن ابن سريج يزعم أن سواد العراق على التأويل الذي ذكره مملوك، فينفذ بيعه ورهنه. ونص الشافعي يصرح بأن تلك الأراضي محبَّسةٌ ممتنعٌ بيعها ورهنها. قال العراقيون: سواد العراق من عَبَّادان إلى الموصل طولاً، ومن القادسية إلى حُلوان عرضاً، فلو فعل الإمام فينا مثلَ هذا، جاز. والقول فيه يطول، وليس هو من

_ (1) ر. المختصر: 2/ 212. (2) ساقطة من النسخ الثلاث.

غرض الكتاب، وإنما المقصود الكلامُ في أن رهن سواد العراق غيرُ جائز على النص؛ فإنه محبس. وهو جائز على تخريج ابن سريج. وأما بيع ما فيهِ من أبنية، فكل بناء كان من برّية العراق، فهو أيضاً غير مملوك، وما لم يكن من برّيته، فمملوك، والغراس لا شك أنه مستحدث، فإذا كان مملوكاً، فالرهن فيه جائز، وكذلك البيع. ولو جمع بين رهن أرضٍ من السواد وغراس فيه مملوك، فهذا من باب تفريق الصفقة. ثم مما وقع التعرض له في هذا الفصل أن بيع الأرض هل يستتبع الغراس؟ وهذا قد استقصيناه في كتاب البيع على أبلغ وجه، فلا معنى لإعادته، وشرط هذا الكتاب أن نضم فيه أطرافَ الكلام في المثنيات والمكررات. 3584 - ثم قال الشافعي: " لو أدى عنه الخراج، فهو متطوِّع ... إلى آخره " (1). فالمراد أن من رهن بناء مملوكاً أو غراساً، فالخراج على الراهن، فلو أدى المرتهن الخراج نُظر: فإن أداه من غير إذن من عليه الخراج، فهو متطوع لا يجد إلى ما أداه مرجعاً. ولو أداه بإذن من عليه بشرط الرجوع، رجع، ولو أدّاه بإذنٍ، وما كان الإذن متقيداً بشرط الرجوع، ففي المسألة وجهان مشهوران. ولا اختصاص لهذا بما نحن فيه. وكل من أدى ديناً على إنسان، فتفصيله في الرجوع على ما ذكرناه. ونصُّ الشافعي يميل إلى الرجوع إذا كان الإذن مطلقاًً. قال الشافعي: لو فادى أسيراً دون إذنه، لم يرجع عليه، وإن فاداه بإذنه، رجع عليه، ولم يعتبر شرطَ الرجوع. ونصَّ أيضاًً على أن من اكترى داراً وقبضها وأكراها، فأدى المكتري الثاني الكراءَ عن الأول إلى المُكري بإذنه، رجع. وإن لم يكن بإذنه، لم يرجع، ولم يعتبر شرط الرجوع. والمسائل كلها على الخلاف بين الأصحابِ.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 212

فصل قال: " ولو اشترى عبداً بالخيار ثلاثاً، فرهنه قبلها، فالرهن جائز، وهو قطع لخياره ... إلى آخره " (1). 3585 - إذا شرط الخيار لنفسه دون البائع، فالمذهب أن الملك للمشتري، وخرّج فيه قولان آخران، تقدم ذكرهما في أول البيع. والشافعي فرعّ على أن الملك للمشتري، وقال: " لو رهنه في زمان الخيار، صح الرهن، وانقطع الخيار، ولزم البيع ". وهذا مما ذكرناه في كتاب البيع على أبلغ وجه في البيان، وأحسن مساق في التفصيل، والرهن في زمان الخيار بمثابة البيع. وحاصل المذهب ثلاثةُ أوجه: أحدها - أن الرهن فاسد والعقد على جوازه. والثاني - أن الرهن فاسد، والخيار ينقطع. والثالث -وهو ظاهر النص- أن الرهن يصح، وينقطع الخيار به. وذكر العراقيون، وصاحب التقريب في الوصية اختلافاً يناظر هذا، فإذا أوصى رجل بعبد لرجلٍ، ومات الموصي، فرهن الموصى له العبدَ الموصَى به بعد موت الموصي، وقبل القبول، ففي المسألة أوجه: أحدها - يصح الرهن، ويكون قبولاً للوصية. والثاني - لا يصح الرهن، ولا القبول. والثالث - يفسد الرهن، ولكن يقع قبولاً للوصية. فصل 3586 - ويجوز رهن العبد المرتد، وهذا معنى مستقصى في البيع، ثم ذكرنا المذهبَ في بيع العبد المرتد، وبيع العبد المحارب المستوجب للقتل؛ بسبب القتل والمحاربة، وأوضحنا أن من اشترى عبداً مرتداً، وقبضه، وقتل في يده بالردة، فهو من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟ ولا وجه لإعادة ما سبق.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 212.

والقدرُ المتعلق بكتاب الرهن أن من ارتهن عبداً مرتداً، وصححنا الرهن، فقبضه، ثم قتل في يده بالردة، نظر: فإن لم يكن الرهنُ مشروطاً في بيعٍ، فلا أثر لما جرى، وقد ارتفع الرهن بفوات المرهون. وإن كان الرهن مشروطاً في بيع، فإذا قتل العبد في يد المرتهن، ففيه الخلاف المقدم ذكرُه في البيع: ففي وجهٍ يُجعل كما لو قتل في يد الراهن، ولو قتل في يده، لما كان وافياً بالرهن المشروط، ثم حُكمه أن يتخير البائع في فسخ البيع؛ فإن من شرط رهناً، فلم يتفق الوفاء به، ثبت له الخيار. وسيأتي بيان هذا الأصل. وإن قلنا: المرتد في يد المرتهن محسوبٌ عليه، فقد توفر عليه المشروط، فلا يثبت له حق فسخ البيع. 3587 - ويتصل بهذا الفصل أن الرهن إذا كان مشروطاً، ثم اتفق ضياعه في يد المرتهن، ثم اطلع المرتهن على عيب بعد فوات الرهن، فهذا من غوامض الأحْكام في الرهن. وهو بين أيدينا. ولكن نُنْجز منه شيئاً. فنقول: إن اطلع على عيب وأمكن الرد ورَدَّ، ففائدة ذلك أن يتخيّر في فسخ البيع. وإن عسر الرد بالتلف، وقد فرض الاطلاع من بعدُ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه قد فات الأمر؛ فإن الرد غير ممكن، والأرش لا وجه له؛ فإن الأرش استردادُ جزءٍ من الثمن. والوجه الثاني - أنه يثبت للمرتهن حق فسخ البيع؛ لأن النقصان الذي اطلع عليه في حكم جزء لم يصل المرتهن إليه، ولم يتحقق الوفاء بالشرط فيه، فهو كما لو شرط رهن أشياءَ، فاتفق الوفاء برهن بعضها دون بعضٍ، فالخيار ثابت. ونص الشافعي يميل إلى هذا. فإذا ارتهن مرتداً، فقتل في يده، وفرعنا أنه محسوب عليه، فلو اطلع على الردة من بعدُ، فهذا ما ذكرناه من الاطلاع على العيب بعد فوات الرد.

فصل قال: " ولو أسلفه ألفاً برهنٍ ... إلى آخره " (1). 3588 - إذا رهن من عليه ألف عبداً بالألف، ثم أراد أن يرهن بذلك الألف عبداً آخر أو ما بدا له، فليفعل، ولا منع من هذا؛ والسببُ فيه أن الرهن هو المشغول بالدين، والدين غيرُ مشغولٍ بالرّهن؛ فإنه ليس عوضه، ولا موثقاً به، فالزيادة في الرهن لا منع منها. فأما إذا أراد أن يزيد في الدين، ويرهن ذلك المرهون بدين آخر، ضما إلى الدين الأول، فإن فسخا الرهن الأول وأعاداه بالدينين، فلا شك في جوازه. ولو قررا الرهن الأول، وأرادا ضم دين آخر إليه، ففي جواز ذلك قولان: أحدهما - يجوز، وهو القديم، واختيار المزني. والثاني - لا يجوز. وهو الجديد. ومذهب أبي حنيفة (2). 3589 - توجيه القولين: من منع ذلك، احتج بأن قال: إذا أُقر الرهنُ الأولُ، وزيد في الدين بذلك الرهن، فهذا رهنُ مرهونٍ، ورهنُ المرهون لا يجوز، كما لو فرض رهنه من آخر. ومن قال: إنه جائز، فلا وجه لقوله إلا اعتبارُ (3) الدين بالرهن. وقد قدمنا أن الزيادة في الرهن جائزة؛ فإذا لم يمتنع هذا في أحد الجانبين وحكمُ العقود التساوي، لم يمتنع في الجانب الآخر. ولمَّا منعنا الزيادةَ في الثمن بعد لزوم العقد، منعناها في المثمن. ومن بدائع الأمور اختيار المزني جوازَ هذا الإلحاق، مع ميله إلى القياس في اختياراته، وأبدعُ من هذا منعُ أبي حنيفة لهذا الإلحاق، مع مصيره إلى أن الزيادة

_ (1) ر. المختصر: 2/ 212. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 294 مسألة: 2010. (3) أي قياس الدين على الرهن، فكما جاز الزيادة في الرهن تجوز في الدين.

تلحق الثمن والمثمن، بعد لزوم العقد. 3590 - ومما يتعلق بالمسألة أن العبد المرهون لو جنى جنايةً، وتعلق الأرش برقبته، وسنذكر أنه يباع في الأرش، ولا يبالَى بحق المرتهن إذا لم يَفْدِه الراهن، فلو قال المرتهن: أنا أفديه، ويكون ما أفديه به ديناً على السيد، ويصير (1) العبد مرهوناً بما أُقرضُ الراهنَ في فدائه، ففي جواز ذلك قولان مرتبان على القولين في الأصل. وهذه الصورة أولى بالجواز، من قِبل أن هذا الفداء من مصلحة الرهن، وهو سبب استبقائه، فكان ما قدرناه فيه أقربَ إلى الجواز. وقرب الأئمة هذا من أصلٍ رمزنا إليه في كتاب البيع، وهو أن المشرف من الحقوق على الزوال إذا استدركت يُجعل استدراكها بمثابة زوالها وإعادتها أم يحمل الاستدراك على موجب الاستدامة فيها؛ فعلى قولين، مأخوذين من معاني كلام الشافعي. وعليه بنينا استثناء الثمار عن مطلق بيع الأشجار قبل بدوِّ الصلاح، حيث قلنا: إنها إن كانت كالزائلة العائدة، فلا بد من شرط القطع في استثنائها، وإن بنينا الأمر فيها على الاستدامة، وهو الصحيح، فلا معنى لشرط القطع. فإذا جنى العبد المرهون، فقد أشرف الرهن على الزوال، بتقدير أنه يباع في أرش الجناية، فإذا فدى المرتهن بالإذن على الشرط الذي ذكرناه، فهل يجعل هذا كما لو انفك الرّهن ثم أعيد؟ ولو كان كذلك، لصحّ فيه الخلاف الذي ذكرناه. فصل قال: " ولو أشهد المرتهن أن هذا الرهن في يده بألفين ... إلى آخره " (2). 3591 - صورة المسألة إذا أقر الراهن أن العبد الذي في يد المرتهن مرهون عنده بألفين، ثم ادّعى بعد ذلك أنه رهنه أولاً بألفٍ، ثم ألحق به ألفاً آخر على ما ذكرناه في صورة القولين. فإن قلنا: الزيادة في الدين جائزة، فلا معنى لدعواه. وإن قلنا:

_ (1) في الأصل: ولا يصير. (2) ر. المختصر: 2/ 212.

لا يجوز ذلك، فلو صدّقه المرتهن، فذاك، وإن كذّبه، فالقول قول المرتهن. وللراهن أن يحلّفه؛ فإن ما يدعيه محتمل. وقد مهدنا فيما سبق أن جواز التحليف يعتمد الإمكان، وإنما جعلنا القول قول المرتهن؛ لظهور الإقرار في ثبوت الرهن بألفين، وظهور الإقرار، واحتمال ما قال الراهن يبيح الرجوعَ إلى قول المرتهن مع يمينه. ولو ادعى الراهن ما وصفناه، فقال المرتهن: فسخنا الرهن الأول بالألف، وأعدناه بالألفين، وأنكر الراهن الفسخ وادعى الإلحاق من غير فسخ وإعادة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القول قولُ المرتهن؛ فإنه معتضد بالإقرار المطلقِ الصادر من الراهن؛ إذ قال أولاً: العبد مرهون بالألفين. والثاني - أن القول قول الراهن؛ فإن المرتهن ادعى فسخاً وإعادة، والأصل عدم ما ادعاه. وكل من ادعى عقداً جديداً، فهو في مقام المدعين. 3592 - ومما يتصل بهذا الفصل أنا إذا منعنا إلحاق الزيادة بالدين مع اتحاد الرهن، فلو قال الراهن لشاهدين: كان هذا العبد رهناً بألفٍ، فجعلته رهناً بألفين، فشهد الشاهدان على لفظه، ونقلاه إلى مجلس القاضي، وكان القاضي يعتقد أن الزيادة لا تلحق، فمعلوم أن اللفظة التي نقلها الشاهدان محتملةٌ لفسخٍ وتجديدٍ، ومحتملة للإلحاق، ففي المسألة وجهان ذكرهما صاحبُ التقريب: أحدهما - لا يحكم الحاكم بكونه رهناً بالألف الثاني، حتى يتبين له تفصيل الحال. والثاني - أنه يلزمه الحكم بكونه رهناً؛ فإنه يجب على الحاكم حمل ما ينقله الشهود على الصحة. والدليل عليه أنهم لو شهدوا على بيع مطلق، حمل على الصّحة في ظاهر المذهب. مع اختلاف العلماء في الصحيح والفاسد من البيوع. وهذا الذي ذكرناه فيه إذا لم يطلع الشاهدان على سر الحال، ولكن سمعا من الراهن لفظه المطلق: " إنِّي جعلت هذا رهناً بألفين ". فأمَّا إذا علم الشاهدان أنهما ما جددا عقداً بعد فسخٍ، وإنما ألحقا، وكان الشاهدان يعتقدان أن ذلك لا يجوز، والزيادة لا تلحق، فلو أرادا أن يشهدا مطلقاًً

وينقلا لفظ الراهن " إني جعلت هذا رهناً بألفين " فهل لهما أن يشهدا مطلقاًً؟ قال صاحبُ التقريب: هذا ينبني على أن القاضي هل يقبل ذلك؟ فإن قلنا: لا يقبله، فلا نظر إلى إطلاقهما. ثم إذا استفصل القاضي، فصَّلا ما عندهما. وإن قلنا: القاضي يقضي بالمطلق من شهادتهما من غير بحث، فعلى هذا هل يجوز لهما إطلاق الشهادة مع العلم بسر الحال؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحبُ التقريب. قال: والأصح أنه لا يجوز الإطلاق. والأمر على ما قال. وليس للوجه الثاني وجه. فصل قال: " ولو رهن عبداً قد صارت في عنقه جناية ... إلى آخره " (1). 3593 - قد تقدم في كتاب البيع اختلافُ القول في بيع العبد الجاني إذا تعلق برقبته أرشُ جنايته، فلو رهن المالك العبدَ الجاني وفي عنقه الأرش، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجرى القولين في صحّة الرهن والقبض، كما تقدم في البيع. ومنهم من قطع بأن الرهن مردود قولاً واحداً بخلاف البيع، واعتلَّ بأن المرهون لو جنى جناية مالية، وتعلق أرشها برقبته، وامتنع السيد من فدائه، عُرض على البيع، وبيع في أرش الجناية. وإذا كان طريان الأرش يتضمن قطعَ حق المرتهن وتقدّمَ حق الأرش على حقه، فينبغي أن يُمْنَع إيراد الرهن على العبد الذي في رقبته أرش. وإذا امتنع رهنُ المرهون، فالوجه امتناع رهن الجاني؛ فإن تعلق الأرش بالرقبة يوثق بها، والمتعلَّق الأظهر في الحال [لأرش] (2) الرقبة، والدين الذي به رهنٌ يتعلق أصله بالذمة، والتوثق في حكم تأكيد الأصل، فإذا امتنع رهن المرهون، وجب أن يمتنع رهن الجاني الذي في رقبته مالٌ. ولو جنى العبد جناية توجب القصاص، ففي بيعه تصرفٌ للأصحاب، وخرّجوه

_ (1) ر. المختصر: 2/ 212. (2) في الأصل: للأرش.

على أن موجب العمد ماذا؟ وقد مضى هذا مفصلاً في البيع. فإذا جوزنا البيع جواباً على أن موجب العمد القودُ المحض. (1 وجوّزنا الرهن في هذه الصورة على هذا القول 1)، والجريان على أن تعلقَ الأرض يمنع الرهن، فلو فرض بعد انبرام الرهن بالقبض عفوُ المجني عليه، على مالٍ، أو من غير مالٍ، ورأينا العفو المطلق مقتضياً للمال، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ثبوتُ المال طارئاً في الصورة التي انتهينا إليها بمثابة جنايةٍ تطرأ على الرّهن من العبد المرهون، ولو كان كذلك، لم نحكم ببطلان الرهن، ولكن يثبت حق بيعه في الجناية، فإن اتفق ذلك، انقطع الرهن. وإن لم يتفق بسببٍ، فالرهن باقٍ. كذلك إذا عفا المجني عليه عفواً يوجب المال. ومن أصحابنا من قال -وهو اختيار شيخي- نتبين أنّ الرهن في أصله غيرُ منعقد. ولا شك أن التفريع على منع رهن الجاني جناية مالية. ووجهُ الوجه الذي ذكرناه أن الرهن جرى مقترناً بسبب هو الذي أفضى إلى ثبوت المال في المآل، فتبين آخراً أن السبب المقترن كان مانعاً. ومن الأصول تنزيل الأسباب إذاً أفضت إلى مسبباتها منزلة تحقق المسببات. وليس كالجناية الطارئة التي لا استناد لها إلى سبب متقدّم. التفريع: 3594 - إن جرينا على الوجه الأول، وهو تنزيل ثبوت المالِ طارئاً منزلة طريان الجنايةِ، فلا كلام. وإن أسندنا (2) تبيّن فساد الرهن، فلو كان العبد احتفر بئراً في محل عدوان، فرُهن وأُقبض، وتردّى في البئر متردٍّ، فأرشه يتعلق برقبة العبد المرهون المتسبب بالحفر. ثم كيف السَّبيل فيه على هذا الوجه الذي ذكرناه في العفو عن جناية الرهن عمداً؟ وجهان في هذه الصورة: أحدها - أنا نتبين أن الرهن كان فاسداً، كما تبينا الفساد في العفو الطارىء. والوجه الثاني - أن هذا ليس بالعفو؛ فإن الجناية واقعة في تلك الصورة والعبد منعوت بكونه جانياً. وليس كذلك حفر البئر؛ فإنه ليس جناية واقعة. والفرق لائح.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من: (ص)، (ت 2). (2) كذا. ولعلها من الإسناد (مصطلح أصولي سبق بيانه) والمعنى هنا: وإن قلنا يتبين فساد الرهن ... إلخ.

فهذا منتهى قولنا في ذلك. 3595 - ثم إن صححنا رهنه العبد الجاني جناية مالية، فنجعل السيد مختاراً للفداء، كما إذا باعه، وفرعنا على نفوذ بيعه، حتى قال الأئمة: هل يلزمه الفداء أم ننقض عليه بيعَه إذا امتنع؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما. وعلى حالٍ (1) لا يبطل حق المجني عليه. 3596 - ولو باع العبدَ الجاني، وكان معسراً ليس له وفاء بالفداء، فالمذهب الأصح الحكم بفساد البيع، وتخصيص القولين بما إذا كان السيد متمكناً من الفداء. ومن أصحابنا من نفذ البيع من المعسر لحق ملكه، وأثبت للمجني عليه الخيارَ. وما ذكرناه في البيع من ذلك كله جارٍ في الرهن. فإذا رهن وأقبض، كان كما لو باع، ومهما (2) اختلف الأصحاب في فساد البيع، فالرهن أحق بالفساد لما ذكرناه في أصل الفصلِ من اختلاف طريق الأصحاب في تصحيح رهن العبد الجاني. وإذا جرى التفريع على الفساد، فلا فرق بين أن يكون أرشُ الجاني مستغرقاً لقيمته، وبين أن يكون أقلَّ منها، فإن المانع إذا منع التعلق، فهذا المعنى متحقق في القليل والكثير، وهو بمثابة الحكم بفساد بيع المرهون دون إذن المرتهن. ولا فرق بين أن يكون الدين في مقداره مثلَ القيمة، وبين أن يكون أقل منها. فصل قال: " ولو ارتهنه [فقبضه] (3) ثم أقر الراهن أنه جنى ... إلى آخره " (4). 3597 - إذا رهن مالك العبد العبدَ، وأقبض، ثم أقر بأنه كان جانياً، والأرش في رقبته، لمّا رهنه، وأنكر المرتهن ذلك، ورام استمرار الرهن له، نُظر: فإن لم يذكر

_ (1) المراد: على أي حال. (2) "مهما" بمعنى: (إذا). (3) زيادة من نص المختصر. (4) ر. المختصر: 2/ 212.

الراهن المجنيَّ عليه، بل أرسل الإقرار بالجناية، وتعلّقِ الأرش، فقوله مردود؛ فإنه رام إبطال حقٍّ التزمه بقوله، ولم يسنده إلى مستحِق، فلم يبطل الحق الذي ظهر التزامُه بقول مبهم بلا ثبت، وسيتضح هذا في أثناء الكلام، إن شاء الله. وإن أسند الراهن إقراره إلى مجنيٍّ عليه في نفسه، أو ماله، فإن كذبه المقَرُّ له، بطل إقراره، واستمر حق [المرتهن] (1). وإن صدقه المقَرّ له، فهذا موضع اختلاف النصوص واضطراب الأقوال. 3598 - وحاصل ما نقل في المذهب في تأسيس الفصل ثلاثة أقوال: أحدها - أن إقرارَ الراهن مردود لمنافاته موجَبَ رهنه وإقباضِه. وأصل الشرع أن يؤاخذ الرجل بسابق قوله وفعله، فيما يتعلق بثبوت الحقوق وبطلانها. ولو نفذنا إقراره، لأبطلنا مقتضى تصرفه وإقباضه، وهذا القول أَقْيس الأقوال. والقول الثاني - أن إقراره مقبول؛ من جهة أن ملكه مستمر في المرهون، والتهمة منتفية؛ من قبل أَنَّ العاقل لا يتسبب إلى التزام مَغرم في ملكه، لإبطال حق وثيقة لغيره. وبيان ذلك أن المعترَف به أصلُ الغرم، وحق المرتهن توثُّق وتعلُّق، فيبعد أن يلتزم أصلَ الغرم لقطع تعلُّقٍ. وهذا يناظر قبولَ إقرار العبد فيما يوجب عليه عقوبة. والقول الثالث - أن المقر إن كان موسراً، نفذ إقراره، ويلزم أن يغرم للمرتهن قيمةَ المرهون، ليوضع رهناً؛ فإنه بقوله تسبب إلى بطلان حق المرتهن. وإن كان معسراً، لم يقبل إقراره؛ فإن في قبوله إبطالُ حق المرتهن، لا إلى بدلٍ. واختلاف الأقوال في قبول الإقرار وردِّه قريب المأخذ من اختلاف الأقوال في تنفيذ عتق الراهن وردِّه. وقد ذكرنا فيه ثلاثة أقوالٍ: أحدها - الفرق بين الموسر والمعسر. والعتقُ على رأي من نفذه يعتمد الملكَ. والإقرارُ عند من ينفِّذه يعتمد الملكَ أيضاً، وانتفاءَ التهمة. ولهذا التفات على اختلاف القول في أن العبد إذا أقر بسرقة مالٍ، نفذ الإقرار في

_ (1) في الأصل: المقرّ له.

وجوب القطع. وهل ينفذ في ثبوت المال؛ فيه تردد أشرنا إليه. وسيأتي تقريره في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى. وعبر الأئمة عن هذه الأصول بأن قالوا: الإقرار ممن هو صحيح العبارة إذا انتفت التهمة عنه بالكلية، وتعلق بما للمقِر فيه حق، فهو مقبول، وإن تضمن بطلانَ حق الغير، كما ذكرناه في ثبوت العقوبة بإقرار العبد. وإذا اقترن بالإقرار شيء يتعلق الإقرار المقبول به، فهل يقبل الإقرار في قرينة العقوبة؛ فيه اختلاف قولٍ. وأصل الإقرار مقبول من السيد لا خلاف فيه، ولو انفك الرهن، كان مؤاخذاً به؛ فإن الأصل لا تهمة فيه، وهو مصادِف محلَّ حقه، وبطلان حق المرتهن قرينة مقترنة بإقرارٍ مقبول الأصل، وفي نفوذ الإقرار في القرينة التردد الذي ذكرناه. 3599 - ولو أقرّ الراهن بأنه كان أعتق العبد قبل أن يرهنه، ففي إقراره الأقوال الثلاثة. وكذلك لو أقر بأنه كان مغصوباً عنده، وأنه رهنه متعدياً وكان غاصباً. ولو باع عبداً وألزم العقد، ثم جرى بعد لزوم العقد إقرارٌ من البائع، لو قدر نفوذه، لبطل البيع، ولا تهمة على المقِر في ظاهر الأمر، فقد قطع الأصحاب برد هذا الإقرار في حق المشتري، وتقرِير البيع؛ والسبب فيه أن إقراره جرى وليس للمقِر ملك في ظاهر الحال، وإقرار الإنسان في ملك غيره مردود، وليس كإقرار الراهن؛ فإنه صادف محلَّ ملكه. وقد ذكر بعض الأصحاب طردَ الأقوال في إقرار البائع فيما يتضمن بطلانَ البيع، ورمز إليه شيخي في بعض أجوبته، ثم رجع. وهذا فيما أراه هفوة لا يعتد بها. وقد يعترض للناظر أن الراهن إذا أقر بكونه غاصباً، فليس إقراره في محل ملكه على زعمه. وفيه الأقوال. وقد يقول هذا القائل: إقرار البائع له تعلق ببيعه الذي تعاطاه، وعهدته متعلقة به، وليس كقرارٍ مرسلٍ من أجنبي في ملك الغير. ولا اغترار بهذا، ولا وجه إلا القطعُ برد إقرار البائع بعد لزوم العقد، وتخصيص الاختلاف بالرهن.

نعم. في معناه الإجارة: فلو أجر عبده، ثم اعترف بأنه كان جانياً، والتفريع على منع إجارة الجاني قبل الفداء، فالأقوال تخرج خروجها في المرهون؛ لأن الإقرار صدر عن مالك الرقبة، فانتظم الترتيب كما ذكرناه. 3600 - ومما يتعلق بتمهيد أصل الأقوال في إقرار الراهن أنه لو أقر بتعلق أرش يقصر مقدارُه عن قيمة العبد ومبلغِ الدين، فالتهمة في ذلك المقدار تنتفي، والأقوال الثلاثة تخرج. ولو قبلنا. الإقرارَ، لأبطلنا الرهن في الزائد، والتهمةُ متمكنة فيه. ولأصحابنا في ذلك الزائد طريقان: منهم من قطع برد الإقرار فيه لتمكن التهمة. ومنهم من أجرى الأقوالَ الثلاثة في الجميع طرداً للباب. وهذا ضعيف. وسيخرجُ عليه في أثناء الكلام تفريع، وعنده يبينُ حاصل القول في أصل الفصل الزائد. وقد انتهى الغرض في تأصيل الأقوال. وحان التفريع عليها. 3601 - فإن قلنا: لا نقبل إقرار الراهن، فلا بد من فرض دعوى من المقَر له، وبذلك ينتظم الكلام، والتفريع، فإذا أصر المقَرّ له على الدعوى، ورَدَدْنا على القول الذي نفرع عليه إقرارَ الراهن، راجعنا المرتهنَ، فإن صدق الراهن، فيباع العبد في أرش الجناية أو يفدى؛ فإنا رددنا إقرارَ الراهن استبقاءً لحق المرتهن، فلا يبقى مع تصديقه إلا تنفيذ حكم الجناية. ثم إذا بيع العبد في الأرش، وكان المرتهن شرط في البيع رهناً، فيثبت له في هذه الصورة فسخُ البيع إذا لم يتحقق الوفاء بمشروطه. هذا إذا وافق المرتهن. فأمّا إذا أنكر وقد رددنا قول الراهن، فلا بد من تحليف المرتهن إذا طلب المدعي ذلك، ثم لا يخلو إما أن يحلف أو ينكُل (1)، فإن حلف، استقر حقه في الرهن، وبقي الكلام بعد ذلك في أن المقَر له هل يغرَم له الراهن المقِر، بسبب أنه بالرهن والإقباض حال بين المجني عليه وبين حقه من رقبة الجاني. ثم باعترافه أقر بصنيعه. في المسألة قولان سيأتي أصلهما في المغصوب.

_ (1) نكل: من باب قعد.

والذي ننجزه الآن بناؤهما على ما لو قال صاحب اليد في الدار غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، فالدار مسلَّمةٌ إلى المقَرّ له أولاً. والإقرار الثاني في حكم الرجوع عن الإقرار الأول، فتسلّم الدار إلى الأول. وهل يغرم المقِر للثاني قيمةَ الدار بسبب إيقاعه الحيلولةَ بينه وبين الدار بالإقرار الأول؟ في المسألة قولان. 3602 - ثم نعود إلى ما ذكرناه في مسألتنا، فإن قلنا: لا يغرَم الراهن للمقَر له شيئاًً، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يغرَم، ففي القدر الذي يغرَم له طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما - أنه يغرَم أقلَّ الأمرين من الأرش والقيمة. والثاني - أنه يغرَم الأرش بالغاً ما بلغ، وإن زاد على القيمة. وهذا بعينه اختلاف القول في أن السيد إذا أراد أن يفدي عبده الجاني، فبكم يفتديه؟ وسيأتي تفصيل ذلك في آخر الديات إن شاء الله تعالى. هذه طريقة. ومن أصحابنا من قطع القولَ بأن الراهن لا يغرَم للمقر له إلا أقل الأمرين، كما لا يغرم سيدُ المستولدة في فدائها إلا الأقلَّ، والجامع أَنَّ فداء المستولدة ضروري، لا تعلق له بالاختيار، فكان بمثابة مَا لو جنى العبدُ وتعلق الأرش برقبته، فقتله مولاه، وكان الأرش زائداً على القيمة؛ فلا يغرَم المولى إلا القيمةَ؛ فإن إتلافه لا ينبغي أن يزيد غرمه على غرم إتلاف الأجنبي. وإذا وضح هذا، فالغرم على الراهن بعد تقدم الرهن، مع الحكم برد إقراره غرمٌ ضروري، فاتجه القطع باعتبار الأقل. هذا كله إذا حلَّفنا المرتهن، فحلف. ثم لا يخفى أنه يحلف على عدم العلم بجناية العبد. وكل يمين يتعلق بنفي فعلِ الغير، فهي على نفي العلم. 3603 - فأما إذا نكل المرتهن، فاليمين على من ترد؛ على قولين: أحدهما - أنها تُردّ على المجني عليه المقَر له؛ فإن الحق له، ولولا حقه، لقرّ الرهنُ، وانقطع الخصام، فليقع الرد عليه. والقول الثاني - أن اليمين ترد على الراهن المقِر؛ فإنه

المالك، وكأنه ينفي حقَّ المرتهن من الرهن، فارتبطت الخصومة به من هذا الوجه. التفريع على القولين: 3604 - فإن رددنا اليمين على المجني عليه، نظر: فإن حلف، ثبت دعواه وانتُزع العبد من يد المرتهن، وبيع في حقه، وليس للمرتهن أن يفسخ البيع الذي شُرط الرهنُ فيه؛ لأن الراهن يقول: أنت أبطلت حقك بنكولك. فإن قال المرتهن: وأنت أقررت أيها الراهن بانتفاء الرهن. فالراهن يقول: لكنك لم تقبل إقراري، ولم يقبله الشرع، ولم يبطلُ الرهن إلا (1) بسبب نكولك، ولم يكن لقولي أثر. وهذا واضح. وإن نكل المجني عليه المقَرّ له، لم يكن له أن يغرِّم الراهنَ شيئاًً، ويبقى العبد رهناً. والسبب فيما ذكرناه أنه بنكوله أبطل حقَّ نفسه. ووضوح ذلك يغني عن بسطه. هذا إن رأينا ردَّ اليمين بعد نكول المرتهن على المجني عليه. فأما إذا قلنا: اليمين ترد على الراهن المقِرّ، فعلى هذا إن حلف، سُلّم العبد للبيع. في حق المجني عليه، وليس للمرتهن في هذه الصورة فسخ أيضاًً؛ فإنه بنكوله أبطل حق نفسه، فكانت الإحالة على نكوله. هذا إذا حلف الراهن. وإن نكل الراهن عن يمين الرد، فهل للمجني عليه أن يحلف بعد نكول الراهن؟ قولان: أحدهما - له ذلك؛ لأن مصير الحق إليه، ويستحيل أن يَبطل حقُّه بنكول الراهن، كما لا يبطل حقه بسبب رجوعه عن الإقرار. والقول الثاني - لا ترد اليمين على المجني عليه؛ فإن اليمين في الخصومات ليس لها إلا مرد واحد، ومنتهاها مردُّها. فإذا ثبتت يمين الرد في جانب، لم تتحول عنها. فإن قلنا: لا يرد اليمين إلى المجني عليهِ، نجعل نكولَ الراهن بمثابة حلف المرتهن، ونقرر الرهنَ. ثم يعود

_ (1) في الأصل، (ت 2): "ولم يبطل الرهن [بزعمك] إلا بسبب نكولك". وأما (ص): فقد ضرب على كلمهَ [بزعمك] وهذا ما رجحناه.

القولان في أن الراهن المقِرَّ هل يغرَم للمقَر له؛ من جهة أنه حقق الحيلولةَ؟ وقد مضى هذا. وإن قلنا: يرد اليمين على المجني عليه، فإن حلف، ثبت حقه وبيع العبد في الأرش، وليس للمرتهن خيار الفسخ؛ فإنه أبطل حقه بنكوله عن اليمين. وقد تمهد هذا. وإن نكل المجني عليه عن اليمين، لم يكن له تغريم الراهن قولاً واحداً؛ فإنه كان مقتدراً على رفع الحيلولة، فلم يرفعها وأكدها، فإذا كانت الحيلولة محالاً عليه، لم يثبت له تغريم الراهن المقر. وكل ما ذكرناه تفريع على أن إقرار الراهن غير مقبول، والقول قول المرتهن. ثم انشعب الكلام من تحليف المرتهن إلى صور. 3605 - فأما إذا فرعنا على أن إقرار الراهن مقبول، فهل يقبل قوله من غير يمين، أم يحلَّف؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحلّف؛ من جهة أنه مقر على ملكه وسبب نفوذ إقراره مصادفته ملكَه مع انتفاء التهمة، وهذا المعنى يوجب أن لا يحلّف. ومن أصحابنا من قال: لا بد من تحليفه لتعلق حق المرتهن بمحل إقراره، فالإقرار مقبول على قاعدته، واليمين معروضة لمكان حق المرتهن. فإن قلنا: يقبل قوله دون اليمين، سلّم إلى البيع في حق المجني عليه. وإن قلنا: إنه يحلّف، لم يخل: إما أن يحلِف، أو ينكُل، فإن حلف، ثبت الإقرار، وبيع العبد في الجناية، وتخير المرتهن إن كان الرهن مشروطاً في بيع. وإن نكل عن اليمين، فالمرتهن يحلف؛ من قِبل أن الخصومة بينهما تدور، وإنما حلفناه لحق المرتهن، فإذا نكل، فالرد على صاحب الحق. ثم إن نكل المرتهن، كان نكوله بمثابة حلف الراهن، جرياً على القياس الممهد في حكم يمين الرد، ولا خيار له؛ فإنه بنكوله أبطل حق نفسه في هذا المكان؛ فلم يملك الفسخ. هذا إذا نكل عن يمين الرد.

فأما إذا حلف المرتهن لما نكل الراهن -والتفريع على قبول قول الراهن مع يمينه- فإذا انتهى الأمر إلى ما ذكرناه، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن العبد يَقِرُّ في يد المرتهن مرهوناً، وهذا فائدة حلفه. وظاهر القياس هذا. ولا يتجه غيرُه. والقول الثاني - أن العبد يُنتزع من يده، ويباع في الجناية، ولا أثر لنكول الراهن وحلف المرتهن إلا أنه يُغرِّمه قيمةَ العبد المرهون ليوضع رهناً، وينسب في الامتناع عن اليمين إلى تفويت حق المرتهن، ولا فائدة على هذا القول لتصوير اليمين والرد، إلا بتثبيت قيمة العبد ووضعها رهناً مكان العبد. 3606 - ومما يجب التنبيه له في هذا المنتهى أنا نتخيل الأقارير ثلاث مراتب: المرتبة العليا - إقرار من مُطلق فيما يعرف حقاً له، فهو مقبول؛ فإنه صادر من مُقِر (1) مُطلق فيما يقتضي الظاهر كونَه حقه، وليس يتضمن إقرارُه إبطالاً لحق غيره. هذه مرتبة وعليها خروج الأقارير الصحيحة. والمرتبة الأخرى - إقرارٌ في محلٍّ هو في ظاهر الظن حق الغير، ولا ولاية للمقر. فهذا الإقرار مردود؛ لأنه على الغير، لا في حقه، فإن اشتمل الإقرار على ما ينفي التهمة، فالإقرار قد يقبل في محل انتفاء التهمة، وهذا يظهر فيه إذا كان حق الغير يتلف بعقوبةٍ على المقِر، كالعبد يُقر بما يوجب عليه قصاصاً أو حداً. ولو كان لما وصفناه قرينة، ففي نفوذ الإقرار فيها القولان المقدمان، وهو كإقرار العبد بسرقة مالٍ. فهذا بيان هذه المرتبة، مع ما يستثنى منها. ومن مراتب الإقرار أن يصادف ملكاً فيه حقٌ لازم ظاهراً، والمقر مطلق في نفسه، ففي قبول أصل الإقرار خلاف. فإذا قبلناه، عدنا فترددنا في أنه يقبل من غير يمين أم مع اليمين؟ وسبب هذا التردد قيامُ حق المرتهن. 3607 - ثم إن فرضنا حَلِفاً من المقر، نفذ الأمر، ولم يبق للمرتهن إلا الخيارُ في البيع. وإن فرضنا نكولَه عن اليمين، رددنا اليمين وترددنا؛ من جهة أن التفريع على

_ (1) في (ص): متعين، (ت 2): معتر (بهذا الرسم).

قول قبول الإقرار. ويبعد في مسالك الأقارير أن يرد لمكان نكولٍ عن يمين، مع رد يمين، وبعُدَ علينا أن نعطِّل أثر اليمين بالكلية، فقلنا في قولٍ يستخرج العبد من يد المرتهن؛ فقول الراهن إذن ليس إقراراً، بل كأنه قولٌ مقبول ممن يظهر صدقُه، كقول المودعَ في الرد، وقول كل مدّعىً عليه، ومساق هذا يوجب تثبيت الرهن في يده إذا حَلف على خلاف قول الراهن. وإن قلنا: العبد يستخرج من يد المرتهن، وإن [حلف] (1)، فقولُ الراهن إقرارٌ في حقه. ولكنه لو حلف، لأبان بحلفه أن أصل الرهن لم يكن، فإذا لم يحلف وحلف المرتهن غرّمنا الراهن في حق المرتهن، كالمعتِق لما انجر إليه من التهمة لما نكل، فألزمناه القيمة لهذا التخيّل (2). وهذا ضعيف، ولكن نقله الأئمة المحققون. فإن قلنا: يبقى الرهن في يد المرتهن، فلا كلام، وإن قلنا: يغرم الراهن له القيمة، فهل يثبت له الخيار؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يثبت؛ لأنه لم يسلم له الرهن في العبد الذي عينه. والوجه الثاني - أنه لاخيار له، كما لو سلّم العبد المشروط ثم أتلفه؛ فإنه يلتزم قيمته ولا خيار للمرتهن. من قال بالأول انفصل عن الإتلاف بأَنْ قال: لما أقبضه، فقد وفاه حقَّه، وصار وافياً بشرطه، فانقطع الخيار لذلك. وقول الجاني فيما نحن فيه له انعكاس على أول الرهن؛ من قِبل أنه يُشعر بأن الرهن لم ينعقد. فليتأمل الناظر تردد الفقهاء عند تركّب الموجَبات والمقتَضيات. ثم إن قلنا: تقر العين المرهونة في يد المرتهن، فهل يغرم الراهن للمجني عليه؛ فعلى قولين مقدمين؛ من جهة أنه بنكوله حقَّقَ الحيلولةَ بين ذي الحق وبين محل حقه. ولهذا نظائر ستأتي مشروحة في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى. وكل ما ذكرناه تفريع على أن رهن العبد الجاني الذي في رقبته أرشٌ باطل.

_ (1) في الأصل: "خلف". (وهذا عجيب من نسخة الأصل التي لا نقط فيها أصلاً، إلا أقل القليل، من الكلمات المشتبهات. فكيف نقطت هذه؟). (2) في (ص): التخير، (ت 2): التخيير.

3608 - فأما إذا صححنا رهن الجاني، والتفريع على أن إقرار الراهن مردودٌ فيما يتضمن بطلانَ حق المرتهن. فلو قال: قد رهنت وأقبضت، ثم أقررت إقراراً لا ينافي رهني وإقباضي، فاقبلوا قولي. قلنا: اضطرب الأئمة في ذلك؛ والقول فيه محتمل جداً. وقد تردد الأئمةُ: فقال بعضهم: إقراره بتقدم الجناية مقبول على هذا القول؛ فإنه لا منافاة بين تصحيح الرهن والقبض وبين الجناية، وهو مُطلق أقر بأمرٍ ممكن في ماله. وليس كما إذا فرعنا على أن رهن الجاني مردود؛ فإنه إذا رهن، وأقبض، ثم أقر، فإقراره يتضمن مناقضة ما قدمه من عقده وإقباضه. فلم يقبل منه في قولٍ. كما سبق. وذهب بعض الأصحاب إلى أنا إذا رأينا رد إقراره على قولنا بفساد رهن الجاني - فيُرد إقرارُه على القول بصحة رهن الجاني؛ فإن قبول إقراره يتضمن نقضَ يد المرتهن. والرهن إذا انبرم بالقبض، فمقتضاه لزوم حق المرتهن، فالراهن المُقبض ملتزم إلزام حق المرتهن. فإذا أتى بما يناقض قولَه ومضمونَ فعله، رُدَّ على قولَ الرد، كما يرد إقرارُه على قول فساد رهن الجاني؛ من جهة أنه بلفظه في العقد وإقباضه التزم صحته له. فإذا أقر بما ينافي الصحّةَ، رُدّ إقرارُه في القول الذي عليه التفريع. فرع: 3609 - إذا رأينا قبول إقرار الراهن على قول فساد رهن الجاني، وانتهى الأمرُ إلى بيع العبد المرهون في أرش الجناية، فإذا بعناه، فلو فضل من ثمنه شيء، فقد اختلف أصحابنا في ذلك الفاضل، فمنهم من قال: هو خارج عن هذا الرهن، لا عُلْقة فيه للمرتهن. ومنهم من قال: ذلك الفاضل مرهون؛ فإن إقرار الراهن إنما يقبل في مقدار الأرش. وهذا يلتفت على ما أجريناه في أثناء الكلام، من أن الراهن لو أقر بأرش يقصر عن القيمة، ورأينا قبول إقراره، فهل نحكم بانفكاك الرَّهن في الجميع أم نقضي بانفكاكه في مقدار الأرش؟ فيه التردد الذي سبق. فالقول في الفاضل ملتفتٌ عليه. ولكن على الناظر فضلُ تدبر. فإن حكمنا بأن الزائد على مقدار الأرش لا ينفك

الرهن فيه، فلا وجه لبيعه حتى ينتهي الكلام إلى كونه رهناً أم لا. وإن قلنا: الرهن مردود في الجميع، فالمصير إلى أن الفاضل رهن بعيد. فما الوجه في تنزيل هذا الخلافِ في الفاضل؟ قال شيخي أبو محمد: نحن وإن قلنا: الجاني لا يصح رهنه، فإذا أقر وقبلنا إقراره، وفضل من الثمن شيء، فلسنا نقولُ: إنه بان لنا أن الرهن بطل بإقراره. ولكن كأَنَّا قدَّمنا حقَّ المقَر له بالأرش على حق المرتهن. ولم نجعل الإقرارَ مبطلاً. فإذا فضل شيء من حق المقَر له، فيبقى حق المرتهن فيه. وهذا بعيد عندي عن النظم، والوجه القطع بأنّا نتبين بالإقرار فسادَ الرهن. فإن كان الأرش أقلَّ، نردُّ نظرنا إلى أن بيع ما يزيد على الأرش مرود أو غير مردود. ولا مصير إلى تصحيح البيع ورد الخلاف إلى أن الفاضل رهن أم لا. فصل قال: "ولو جنى بعد الرهن، ثم برىء من الجناية بعفوٍ، أو صلحٍ ... إلى آخره" (1). 3610 - العبد المرهون إذا جنى في يد المرتهن جنايةً مالية، تعلق الأرش برقبته، ولم يتضمن ذلك بطلانَ الرهن؛ فإنه لو فرض عفو عن الأرش أو فداءٌ من المولى، فالرهن يبقى مستمراً. ولكن إن لم يجر مما أشرنا إليه شيءٌ، فيباع في الأرش إن كان مستغرِقاً لقيمته. وإذا بيع، تبين ارتفاع الرهن قبيل البيع، ولو كان الرهنُ مشروطاً في بيعٍ، ثم أفضى الأمر إلى الجناية والبيعِ فيها، فلا خيار للمرتهن في فسخ البيع؛ فإن الراهن قد وفّى بما شُرط عليه، ولا نُلزمه أن يعصم المرهون عن الجناية، كما لا نُلزمه عصمتَه من طوارق الحَدَثان. فإن قيل: لم قدمتم حقَّ المجني عليه على حق المرتهن، وهلاّ قلتم: لا يتعلق الأرش برقبة المرتهن لكونها مشغولةً بوثيقة الرهن؟ قلنا: تكلف أصحابنا في هذا كلاماً، فنذكره أولاً. قالوا: حق المرتهن له

_ (1) ر. المختصر: 2/ 213.

محلاّن العين والذمة، فإن فاتت العين، استقل الحق بالذمة. وحق المجني عليه ناجزاً ينحصر في العين، فقُدم، كما قدم إزالةُ النجاسة على رفع الحدث إن كان الماء لا يفي إلا بأحدهما، فإن لطهر الحدث بدلاً. وقيل: حق المجني عليه يثبت بأصل الشرع، فكان أقوى من حق المرتهن الثابت بالعقد. وهذا تكلُّفٌ عندي. وقد تتعارض الأقوال، ولا يعدَم الفقيه كلاماً في ترجيح وثيقة الرهن. ولو لم يثبت في ذلك إلا القطعُ بمنع بيع المرهون، مع التردد في بيع الجاني، لكان ذلك متنفساً. والوجه ألا نلتزم هذا الفنَّ أصلاً؛ فنقول: حقُّ المرتهن في رقبة المرهون لا يزيد على حق المالك. ثم الأرش يتعلق بمحل الملك، فليتعلق بمحل الرهن. فإن روجعنا في تعليل أصل التعليق، لم نخض فيه الآن. فصل قال: " ولو دبّره، ثم رهنه، كان الرهن مفسوخاً ... إلى آخره " (1). 3611 - مقصود الفصل الكلام في رهن المدبر. ونحن نقدم عليه القولَ في رهن المعلّق عتقُه بالصفة، فنقول: رهن العبد المعلق عتقه بالدين الحالّ جائز، ثم إن بيع قبل وجود الصفة، فذاك، وإن وجدت الصفة قبل البيع، فهذا يبتني على أن العبرة في التعليقات بحالة التعليق، أو حالة وجود الصفة. وقد ذكرنا طرفاً في ذلك كافياً في غرض هذا الكتاب. وسيأتي تفصيل هذا الأصل في الوصايا والعتق، إن شاء الله تعالى. ولو رهن المعلّقَ عتقُه بدينٍ مؤجل، ففيه مسائل: أحدها - إن تيقن أن حلولَ الأجل يسبق وجودَ الصفة، فيجوز الرهن كما يجوز بالحالّ. والمسألة الثانية - أن يتيقن أن الصفة توجد قبل حلول الأجل، ففي جواز الرهن والحالة هذه وجهان: أظهرهما - المنع. والثاني - أنه يجوز. والوجهان يقربان من

_ (1) ر. المختصر: 2/ 213.

قولين سيأتي ذكرهما في رهن الطعام الذي يسرعُ الفساد إليه، بدين مؤجَّل، يسبق فسادَ الرهن حلولُ أجله. وسيأتي ذلك في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى. ووجه الشبه لائح، فتقدير نفوذ العتق قبل الأجل كتقدير فساد المرهون. وهذا يحتاج إلى تأمل. 3612 - وإنما يَسْتدُّ ما ذكرناه من البناء تفريعاً على أن العتق ينفذ عند وجود الصفة، فيقع النّظر في أن مقصود الوثيقة يزول بنفوذ العتق قبل الحلول. فأمّا إذا قلنا: العتق المعلَّق قبل الرهن لا ينفد في حالة الرهن، فليس يتأتى والتفريع على هذا الوجه أخْذُ هذا من رهن ما يتسارع الفساد إليه؛ فإنا إذا قدرنا ثبوتَ الرهن، ورتبنا عليه منعَ نفوذ العتق قبل الأجل، فقد خرج بنا الكلام عما تقدّم. فالوجه أن نقول: إن كنا ننفذ العتق، نأخذهُ من تسرع الفساد. وإن كنا نرى أن العتق لا ينفذ لو قدر الرهن، فالقول في صحة الرهن يخرّج على أصل آخر، وهو أن الراهن صار مدافعاً لعتقٍ صار كالمستحق (1) بالتعليق. فهل يصح الرهن؟ وهذا الآن يخرّج على الخلاف الذي سنذكره في رهن المدبَّر مع القطع بجواز بيعه، وثَمَّ يتبيّن حقيقة ما نقول إن شاء الله تعالى. ومن مسائل التعليق أنه إذا رهن عبداً معلقَ العتق بصفةٍ يجوز وجودها قبل المَحِل، ويجوز استئخارها عن المَحِل، ففي جواز الرهن وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا استيقنا تقدّم الصفة على الأجل. وهذه الصورة أولى بالجواز. ووجه الفرق بيّن. فهذا تمام ما أردنا ذكرَه في رهن المعلّق عتقُه. 3613 - فأما رهن المدبر، فنذكر فيه اختلاف طرق الأصحاب، ثم نرجع إلى النص: فمن أصحابنا من بنى رهن المدبر على القولين في أن التدبير وصية أو عتقٌ بصفة؟ قال: إن جعلناه عتقاً بصفةٍ، فهذه الصفة يجوز أن توجد قبل المحل، ويجوز

_ (1) في (ص)، (ت 2): المستحق.

أن توجد بعده. فجواز الرهن يخرّج على قولي رهن العبد المعلق عتقه بصفةٍ يجوز أن توجد قبل المحل، ويجوز أن تستأخر. ومن أصحابنا من قال: يجوز رهن المدبر قولاً وَاحداً. وهذا هو القياس؛ لأن التدبير إن كان وصية، فالرهن جائز، وإن كان عتقاً بصفة، فهو محسوب من الثلث. وحق المرتهن من رأس المال، فهو مقدَّم على ما يحسب من الثلث، غاية ما يُقدّر (1) أن يموت من عليه الدين، ولا يخلِّف إلا هذا العبدَ، ولو كان كذلك وكان الدين مستغرِقاً لقيمته، لصرفناه إلى الدين وأبطلنا العتق. وليس كذلك رهنُ المعلَّق عتقه بصفة توجد في حياة المعلِّق؛ فإن ذلك العتق لو نفذ في حياة المعلِّق، لكان مقدماً على الديون، فلا تأكّدَ للعتق في التعليق، وصار في حكم الاستحقاق، والرهن تصرفٌ ضعيف منحط عن البيع، اقتضى ذلك تجويزَ البيع، ومنع الرهن. والعتق الذي يقدر حصوله في المدبر ضعيف؛ من قبل انحصاره في الثلث، فيقدم الدين عليه. وقال بعض أصحابنا: رهن المدبر باطل قولاً واحداً. وهذا هو الذي قطع به الشافعي؛ إذ قال: " رهنه مفسوخ " والمراد بالمفسوخ الباطل. وهذا يعتاده الشافعي كثيراً. وهذا القائل يزعم أن التدبير ليس وصية محضة، فلا يلزم تصحيحَ الرهن على قول الوصية. وهذه الطريقة وإن كانت توافق النص، فليس ينقدح لي في توجيهها شيء. وكأن الشافعي يعتقد أن التدبير على حال عقدُ عتاقةٍ شرعي، ولا يطابق هذا مذهبَه في جواز البيع، وجواز الرجوع عن التدبير على الأصح، والمدبر على الحقيقة عندنا عبدٌ قن، فإذا مات السيد، جعلنا عتقه محسوباً من محل الوصايا. وللشافعي في كتاب الصّداق كلام في أن المرأة إذا دبرت العبد المصْدقَ، ثم طلقها زوجهاً، فهل يرجع إلى نصف المدبر. فلعلنا نجد ثَمَّ بسطةً في الكلام. وقد انتهى غرضنا الآن والله أعلم.

_ (1) في (ص)، (ت 2): يتوقع.

فصل قال: " ولو رهنه عصيراً حلواً، كان جائزاً، فإن حال إلى أن يصير خلاً أو مزّاً ... إلى آخر الفصل " (1). تقرأ " مُزّاً " (2) وهو بين شدة الخمر وحموضة الخل، وليس بمسكر على حالٍ. وتقرأ " مُرِّياً " (3). وهذا بعيد؛ فإن الخمر لا يصير مُرِّياً. 3614 - فنخوض في غرض الفصل، ونقول: رهن العصير جائز بالدين الحال. فلو رهن العصير وأقبضه، فاستحال العصير خمراً في يد المرتهن، فلا نحكم بأن الخمرَ توصف بكونها رهناً أصلاً، واختلف الأصحاب في العبارة عنها. قال قائلون: بطل الرهن لمّا استحال العصير خمراً؛ فإن الخمر ليست مالاً، وما لا يكون مالاً لا يكون رهناً. ثم إذا استحالت الخمر خلاً، فالخل مرهون، وهذا القائل يقول: عاد الرهن من غير إعادة، كما زال من غير إزالة، وليس كما لو فسخا الرهن؛ فإنه لا يعود ما لم يعيداه؛ من جهة أن الرهن زال عن قصد ورضا، فلا يعود إلا بمثل ما زال به. ومن أصحابنا من قال: إذا استحال العصير خمراً، فالرهن موقوف لا يحكم ببطلانه، فإن عاد خلاً، بان أنه لم يبطل. وهذه الطريقة عريّةٌ عن التحصيل؛ من جهة أن لا توقف في أن الخمر ليست مالاً، والتبيّن إنما يحسن لو كنا نتبين أن الشدة لم تطرأ. والطريقة الأولى قاصرة أيضاًً عن شفاء الغليل والكشف التام. والوجه عندنا أن يقال: من اتخذ عصيراً، وقصد تركه إلى أن يصير خلاً، فإذا صار العصير خمراً، فالخمرة ليست مملوكة، ولكن لمالك العصير فيها حقُّ ملكٍ،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 213. (2) المزّ: الحلو الحامض، فيكون طعمه بينهما، أو خليطاً منهما (معجم). (3) في (ص): مرّاً. والأصل بغير نقط لا في هذه، ولا تلك. والمرِّي: إدامٌ كالكامخ يؤتدم به، كأنه نسبة إلى المرّ، ويسميه الناس (الكامَخ)، وهو لفظ معرب اسم لما يؤتدم به، أو للمخلَّلات المشهية (المصباح، والمعجم).

وإن لم يكن حقيقةَ ملكٍ، فهو على حق الملك فيها، فإذا انقلبت خلاً، كان على حقيقة الملك الآن؛ من جهة أنه استفاد هذا المالَ عن اختصاصه بالخمر. كذلك المرتهن له حق اختصاص بالخمر، وليس ذلك الحق رهناً، فإذا انقلبت الخمر خلاً، عاد حقه في الرهن لترتبه على ما ذكرنا نظيره في الملك. 3615 - ولو رهن شاة وسلمها، فماتت، فلا شك أن الرهن لا يبقى في الميتة، وإنما النظر في جلدها إذا دُبغت، فهل نحكم بأن الرهن يعود في ذلك الجلد من غير استئناف عقدٍ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يعود الرهن كالخمر إذا عادت خلاً؛ فإنها تعود رهناً، كما تقدم. والوجه الثاني - لا يعود الجلد إذا دبغ رهناً؛ فإنه ليس ينقلب بنفسه مدبوغاً، بل لا بد من إتيان فعل فيه. وإنما يستقيم العَوْدُ من غير اختيارٍ رهناً إذا كان الانقلاب على هذه الصفة. ومن غصب خمراً أو جلداً غير مدبوغ، ثم استحالت الخمر خلاً، ودبغ الغاصبُ الجلدَ، فهل يجب عليه ردُّ الخل والجلدِ المدبوغ؟ هذا من القواعد العظيمة في الغصب، وهو شعبة من أصلٍ يحوي تقاسيم. والوجه تأخير جملته إلى كتاب الغصب. والعودُ إلى ما يتعلق بهذا الكتاب. 3616 - فلو باع عصيراً وسلمه عصيراً، فقد تم العقد، وتحمل ما يفضي إليه من انتقال العهدة. فلو استحال في يد المشتري خمراً، فليس يتعلق بذلك من تبدل قضايا العقد شيء في غرضنا، وليس كالمرهون يستحيل خمراً؛ فإن مقصود الرهن منتظرٌ، وهو بيعُ الرهن في الدين عند مسيس الحاجة إليه، فوقع الاعتناءُ باستحالة العصير في يد المرتهن. وشبه الأئمة بيع العصير واستحالتَه خمراً في يد البائع باستحالة العصير خمراً في يد المرتهن؛ فإن البيع لزم بانتفاء الخيار عنه، ولا يتوقف لزومُه على الإقباض. ولكن انتقال الضمان ونفوذ التصرف منتظر بعدُ، فقال الأئمة إذا استحال العصير خمراً في يد البائع، ثم استحالت الخمر خلاً، فالعقد قائم، والقول في انقطاعه وعَوْدِه، أو في

وقوف الأمر فيه على نحو ما قررناه في المرهون بعد القبض، وقال القاضي: النص ما ذكرناه في الرهن والبيع وهو الأصل. وكان لا يمتنع في القياس أن نقول: العصير المبيع إذا استحال خمراً، والخمر ليست بمالٍ، فالعقد قد عدم موردَه ومحلَّه، فإذا انقلبت الخمر خلاً، فالقياس أن نجعل هذا على قياس عَوْد الحِنْث فيه إذا علق الرجل طلاقاً أو عتاقاً، ثم بت النكاح، وأزال الملك عن الرقبة، فلو فرض عودٌ بعقدٍ، ففي حكم التعليق السابق في الملك والنكاح اللاحقين قولان مشهوران. ووجه التشبيه أن العقد في استحالة العصير خمراً على حالةٍ، لو فرض ابتداءُ العقد، لم يثبت لانعدام المحل، لا لعجزٍ أو غيره من الموانع. والأمر على هذا الوجه في عود الحِنْث، فإن النكاح انبتَّ، وكذلك الملك، ولم يبق محلٌّ يفرض فيه نفوذ طلاق أو عتاق. ثم كان في العوْد ما ذكرناه. فإن كانت الخمرة تستحيل بنفسها، واعتقد المعتقد ذلك فرقاً، فهذا لا يعارض الفقه الذي ذكره القاضي من تحقق انعدام المحل، ولكنه لم يذكر هذا إلا منبهاً على طريق المعنى. والمذهب ذاك الذي نقلناه (1). وكل هذا في استحالة العصير بعد القبض. 3617 - فأما إذا استحال العصير خمراً قبل القبض، فإن جرى الإقباض على الشدة، فالقبض فاسد. ولو استحالت خلاًّ، فلا عود للرهن؛ فإن الركن الأعظم جرى على الفساد. وهو كما لو رهن الخمرة المحترمة، ثم استحالت، فالعقدُ على الفساد، ولا ينقلب إلى الصحة بسبب انقلاب الخمر. ولو استحال العصير خمراً قبل القبض، وانقلب خلاً قبل القبض، فهل يفسد الرهن فساداً لا يعود بالانقلاب إلى الحموضة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يفسد لانعدام المحل في حال جواز الرهن وضعفه؛ إذ هو غير منتهٍ إلى اللزوم بعدُ. والثاني - يعود العقد، كما ذكرناه بعد القبض.

_ (1) في (ص)، (ت 2): ذكرناه.

وهذان الوجهان يقربان من الأصل الذي مهدناه في موت الراهن قبل القبض وجنونه. 3618 - وألحق الشيخ أبو علي بهذا الأصلِ ما لو رهن الرجل عبداً، فجنى قبل القبض، وتعلق الأرش برقبته. وقلنا: رهن الجاني فاسد. وقد ثبت أن طريان الجناية بعد القبض لا يفسد الرهن، ولكن يُثبت حقَّ رفعه بالبيع في الجناية. فإذا فُرض ذلك بعد تأكد الرهن بالقبض، ففي ارتفاع الرهن وانفساخه وجهان. وهذا الذي ذكره الشيخ أبعد من انقلاب العصير خمراً؛ فإن العبد وإن جنى، فهو قائم والملك فيه دائم. وقد يلزم على هذا المساق تخريج وجهين فيه إذا أبق (1) العبد المرهون قبل القبض، وانتهى إلى حالة يمتنع ابتداء الرهن فيه. ويجوز أن يُتخيّلَ فرق من جهة أن الجناية بعد القبض تؤثر في الرهن، والإباقُ لا يؤثر بعد القبض. وإذا كان أخذ هذه المسائل من طريان الجنون والموت، فليس الإباق بعيداً إذا فُرض طريانه قبل القبض عن التردد، وتقدير الخلاف. وإذا بانَ ما ذكرناه في استحالة العصير خمراً قبل القبض، فإن قلنا: ينفسخ الرهن، ولا يعود، فإذا جرى الإقباضُ على الشدة، فالقبض فاسد، والرهن منفسخ، ولا توقع في العَوْد على الوجه الذي عليه نفرعّ، فاستحالة الخمر خلاً بعد ذلك لا أثر له. فإن أعادا عقداً بعد الحموضة، لم يخف حكمه. وإن قلنا: لا ينفسخ الرهن انفساخاً لا يعود، فإذا جرى القبض على الشدة، فالقبض فاسد، فإذا استحالت الخمر خلاً، فعقد الرهن باقٍ، والذي جرى ليس بقبضٍ، فلا بد من قبضٍ بعد الحموضة. وإذا ورد العقد على يدٍ، ففي تضمن العقد الإقباض كلامٌ مضى. فأما إذا أردنا إثبات قبضٍ مجدد على يدٍ مستدامةٍ، فلا بُدَّ من إقباض من طريق الصورة. فلو قال: اقبضه لنفسك، ففيه خلافٌ، قدّمته في كتاب البيع. وهذا ذاك بعينه. ولو قال أمسكه لنفسك، لم يكن إقباضاً. وإذا جوزنا له أن يقبض لنفسه بنفسه، فلا بد من صورة نجريها يقع مثلها قبضاً

_ (1) أبق: من باب ضرب في الأكثر، وتأتي من بابي تعب وقتل. (المصباح والمعجم).

ابتداء، هكذا ذكره الأئمة وصرّحوا (1). وذكر صاحب التقريب أن الإذن في الإمساك، واليدُ دائمة يخرّج على أن العقد هل يتضمن إقباضاً؟ ثم رجّح، فقال: هذا أولى؛ فإنه يعرض لنفس القبض. فإذا كنا نجعل ضمن العقد إقباضاً، فلأن نجعل الإذن في الإمساك قبضاً أولى. وهذا قياس لست أنكره. ولكن صرح الأئمة بخلافه. هذا تمام البيان في هذا الفصل. ثم وصل الشافعي بهذا الفصل تخليل الخمر والمعالجةَ في استعجال الحموضة. وذكر الأصحاب هذا الفصل هاهنا فنتأسَّى بهم. فصل 3619 - الخمر تنقسم إلى خمرة غير محترمة، وإلى خمرة محترمة، فأما التي لا تحترم، فهي التي اتخذها المالك لتكون خمراً، فهذه الخمرة غيرُ محترمة؛ وتتعين الإراقة على أهلها، وإذا التمسوا أن يكتفى بإيقاع الحيلولة بينهم وبينها حتى تتخلل بأنفسها لم نُجبهم إلى هذا، وعجلنا إراقتها، وهذا مشعر باستحقاق الإراقةِ فيها؛ فإنا إن عولنا على محاذرة مخامرتهم لها، وعدم الأمن بهم فيها، فالحيلولة تحسم هذه المادة وتقطعها ولا اكتفاء بها، فوضح أنها مستحقة الإراقة. فلو لم يتفق إراقتها حتى استحالت خلاًّ من غير علاج، ولا تسبب، فالخل مالٌ، ولا خلافَ أنه لا يراق على صاحبه. فنقول: الخمر وإن كانت مستحقة الإراقة، فقد انعدمت الشدّة، وكأن تيك العين قد زالت، والخل رزق جديد. هذا متفق عليه. 3620 - ولو خلل مخلل هذه الخمرة التي وصفناها بكونها مستحقة الإراقة، نُظر: فإن طرح فيها عيناً من ملح، أو خلٍ، أو غير ذلك، فانقلبت خلاً، فهو نجس محرّم. وعلل بعض أصحابنا ذلك بأن العين الواقعةَ في الخمر تنجست بملاقاتها، فإذا

_ (1) كذا في النسخ الثلاث بدون ذكر متعلّق التصريح. وهو إيجاز بالحذف يجري أحياناً في أسلوب الإمام.

انقلبت الخمر خلاً، نجسته تيك العين المتنجسة بملاقاة الخمر. وهذا قول غيرُ صادر عن فكرٍ قويم؛ فإنه لا معنى لتنجيس العين إلا اتصال أجزاء الخمر بها، وجوهر تلك العين على الطهارة، فإذا انقلبت الخمر خلاً، فمن ضرورة ذلك أن تنقلب تلك الأجزاء التي لاقت العينَ الواردةَ على الخمر؛ فلا حاصل إذن لذلك، والتعويل في تحريم الخل على تحريم التخليل كما ذكرناه في (الأساليب). هذا قولنا في التخليل بطرح شيء في الخمر، والحكم متفق عليه، والتعويل على تحريم التخليل. 3620/ م- ولو لم يطرح في الخمرة المستحقة الإراقة شيئاًً، ولكن نقلت إلى ظل أو شمس، وكان ذلك سبباً في المعالجة، ومعاجلة تحصيل الحموضة، فإذا زالت الشدة، ففي المسألة وجهان بناهما بعض الأصحاب على التردد الذي ذكرناه في التعليل في المسألة الأولى. قالوا: إن عللنا بالنجاسة، فهذا المعنى مفقود هاهنا؛ لأنه لم يطرأ على الخمرة ما ينجسُ بها، وإن عوّلنا على التحريم، فالتخليل عبارة عن التسبّب إلى إكساب الخمر الحموضة. وهذا المعنى يحصل بالتشميس، والنقل. ولا حاجة إلى هذا البناء؛ فإن فصل (1) النجاسة باطل قطعاً. وإن اعتمده أبو يعقوب (2) وطائفة من أئمة الخلاف. ولكن توجيه الوجهين في التشميس والنقل يهون من غير بناءٍ، فأحد القائلين يتمسك بقصد التخليل وقد حرمه النبي عليه السلام في الخمرة المستحقة الإراقة، ولما قال أبو طلحة في خمور الأيتام: أخللها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ". ولم يتعرض للتفصيل في التخليل (3)، فهذا وجه.

_ (1) المراد بفصل النجاسة: التعليل بنجاسة ما يطرح فيها عند ملاقاته عينَها، وليس الفصل الحسّي؛ فالمعنى أنه يجري في هذه الصورة وجهان من غير بناء على التعليل بالنجاسة. (2) أبو يعقوب: هو أبو يعقوب الأبيوردي. (3) حديث أبي طلحة: رواه أحمد: 3/ 119، 180، 260، وأبو داود: كتاب الأشربة، باب ما جاء في الخمر تخلل، ح3675، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في بيع الخمر والنهي عن ذلك، ح 1293، وأصله في مسلم: الأشربة، باب تحريم تخليل الخمر، ح 1983، وانظر التلخيص: (3/ 82 ح 1240).

والوجه الثاني أن [الخل] (1) يحلّ اعتباراً بالإمساك (2). ثم لو فرض إمساك الخمر المستحقة الإراقة على قصد التخليل، فتخللت، ففي المسألة وجهان أيضاًً بالترتيب على الوجهين في النقل والتشميس، وهذه الصورة أولى بالحلّ (3)؛ من جهة أنه لم يوجد فيها فعل، والقصد المجرد يبعد أن يحرم. ولو اتفق لُبث من غير قصد إليه، فاستحالت الخمر في تلك المدة، فالخل حلال بلا خلاف؛ لما قدمناه في صدر الفصل. فهذا بيان الخمرة التي ليست محترمة. 3621 - فأمّا الخمرة المحترمة وهي خمرة الخل. وتصوير ذلك أن اتخاذ الخل جائز بلا خلاف، والعصير لا ينقلب من الحلاوة إلى الحموضة من غير توسط الشدة، فإذا انقلبت خمراً، فلا سبيل إلى إتلافها؛ إذ لو أُتلفت، لما تصوّر اتخاذُ الخل. وهذى بعضُ الناس فقال: نُضرب عنها، فإن عثرنا عليها خمراً، أرقناها، ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلات. ثم كان يستد (4) هذا في حق من يأمر بالمعروف، فمن يتخذ الخل في نفسه يعلم انقلاب العصير خمراً، ويفطن لدركِ رائحتها، وهو مقَرٌّ عليها، فلا اعتداد بأمثال هذا. وذكر الشيخ أبو علي في الفصل كلاماً أؤخره عن ترتيب المذهب، ثم آتي عليه. والقدر الذي فيه اكتفاء أن هذه الخمرةَ غيرُ مراقة على صاحبها، وإذا استحالت خلاً بالإمساك، فالخل طاهر محترم. وكذلك تكون الخلول. ولو استعجل صاحب الخمر وخلل، نُظِر: فإن كان التخليلُ بإلقاء شيء من ملح أو غيره، فظاهر المذهب منعُ هذا، وإذا فعل، فالخل على موجَب المنع محرّم،

_ (1) في الأصل: الخمر. (2) في هامش (ت 2) حاشية: " وأوضح هذا التعليل في البسيط بأنه لم يتقبل فعله بعين الخمر، وبهذا لا يعد معالجة ". (3) في (ص): بالخل، (ت 2): بالتخليل. (4) في (ص): يشتد. ومعنى يستد: يستقيم. وهذا اللفظ من مأثور الإمام ومفرداته التي يكثر من استعمالها.

ويشهد له حديث أبي طلحة، فإنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خمور الأيتام، وما كانت اتخذت إلا واتخاذها جائز، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تخليلها. ومن أصحابنا من قال: يحل التخليل في الخمر المحترمة؛ فإنها ليست مستحقة الإراقة، وهذا القائل يجيب عن حديث أبي طلحة، ويقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم براقتها، والخمرة المحترمة لا تراق بالإجماع، فلعلَّ تلك الخمرةَ كانت اتخذت بعد التحريم، فإن العصير ينقلب في يوم في حر الحجاز خمراً، ولعل هذا كان والأمر على التشديد، كما يدّعيهِ أصحاب أبي حنيفة. وللنظر في هذا مجال على الجملة. ولا مبالاة إن جوزنا التخليل بما ذكره أبو يعقوب من فصل النجاسة. هذا إذا كان التخليل بإلقاء شيء في الخمرة المحترمة. فأما إذا كان التخليل بالنقل من شمس إلى ظل، أو من ظل إلى شمس، فالمذهب جواز ذلك، وإلحاقُه بالإمساك. وذهب طائفة من أئمة المذهب إلى تحريم ذلك، وإلحاقِه بالتخليل المحرم. وهذا رديء مخالف لما درج عليه الأولون فعلاً، ولم يُبْدَ عليهم نكير. وكان شيخي أبو محمد يقول: إن طرح في العصير ملحٌ، وكان سبباً لتعجيل التخليل، ففيه تردد بين الأصحاب، وهو في معنى النقل. وهذا عندي بعيد؛ فإن المعالجة لم تصادف خمراً. وسمعته مرة يقول: تلك الأعيان لا حاجة إليها فتنْجُس بالخمر، ثم لا يزول حكم النجاسة عنها، بخلاف نجاسة الظروف. وهذا تردد على طريقة أبي يعقوب، وهي في أصلها باطلة، والتفريع عليها باطل؛ فإنا لو التزمنا تمحيص العصير، لنقَّيناه من العناقيد، والثجير (1)، والتزمنا تصفيته جهدنا عن الأقذاء، وهذا أمر طويل لا يستريب محصل في حَيْده عن سمت الشريعة.

_ (1) الثجير: ثُفْلُ كل شيء يعصر، كالعنب وغيره (معجم).

نعم لو وقع شيء في الخمرة من غير قصد، فقد رأيت فيه تردداً لبعض الأصحاب إذا منعنا التخليل. 3622 - وقد نجز التفصيل في التخليل، وحان أن نذكر ما وعدناه من كلامٍ [للأصحاب] (1) خارجٍ عن ضبط المذهب، وذلك في صورتين: إحداهما - أن العناقيد إذا استحالت أجوافها إلى الشدة، والحبات متصلة بالعساليج (2)، فقد ذكر القاضي وطائفة من الأئمة وجهين في جواز بيعها، وطردوا هذا الخلافَ في بيع البيضة التي حال مُحُّها وماحُها دماً وهو إلى الانقلاب إلى تخليق الفرخ. ومن ذكر هذين الوجهين لم يخصهما بحال من يقصد اتخاذَ الخل، حتى يحمل على الحرمة. نصّ عليه القاضي، ولم يفرض المسألةَ إلا فيمن يتخذ الخمر، ثم روجع في نجاسة أجوافها، فتوقف، وهذا عظيم؛ فإن متضمنها الخمر الشديدة. ولا يليق بقاعدتنا أن ننفي حكمَ النجاسة عما في بواطنها، ثم نقول: لو اعتصرت، صارت نجسةً، والانفصال لا يتضمن تثبيت النجاسة. وهذا يوافق مذهب أبي حنيفة (3)، إذ قال: الدماء في العروق في خلل اللحم ليست نجسة؛ فإذا سفح وزايل، اكتسب النجاسة، وزعم أنه تمسك في هذا بظاهر قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وهذا مخصوص بالدم، فلا وجه لهذا إذنْ، ولا خروج للخلاف في البيع إلا على أمرٍ وهو أن البيضة ظاهرها طاهر، والنجاسة مستترة بالقيض (4) استتار خِلقة، والبيضة في نفسها صائرة إلى رتبة الفرخ، فكان ابتياع البيضة وحشوها الدم كابتياع العصفورة وحشوها النجاسة، فاعتمد البيعُ مقصودَ البيضة، وطهارة الظاهر. والعنقودُ طاهرٌ وحشوه نجاسة مستترةٌ، وهي إلى الحموضة. فإن قيل: قد فرضتموها في حال من يقصد الخمرَ؟ قلنا: نعم ولكن العادة جاريةٌ بأن من يبغي الخمر يعتصر، ولا يصب في الدنان إلا العصير، فإن الثجير وعفوصتَه

_ (1) في النسخ الثلاث: " من كلام الأصحاب خارج ". ولعل لها وجهاً في اللغة لا أعرفه. (2) جمع عِسلاج وعُسلوج. وهو ما لان واخضرّ من قضبان الشجر والكرم. (معجم). (3) ر. أحكام القران للجصاص: 2/ 303، البحر الرائق: 1/ 241. (4) القيض: القشرة العليا للبيضة.

تفسد شدة الخمر، فإذا وجدنا العناقيد، لم نعول على قصد المتخذ إذا كان ما وجدناه مائلاً عن عادة من يقتني الخمور. وهذا القائل يقول: لا نجوز إتلافَ العناقيد على أربابها؛ إذ يستحيل الجمعُ بين جواز بيعها وبين جواز إفسادها. وليس كالمرتد يباع؛ فإنّ قتله غير مستحق، ولكنه مدعوّ قهراً إلى الإسلام، بالتعنيف. والقتلُ المستحق قد يمنع صحة البيع في العبد الذي استوجب القتلَ في المحاربة. وقد ذكر الأصحاب منعَ البيع في المرتد، كما قدمته. فهذا تلخيص القول في ذلك. فإن قيل: أليس اختلف الأصحاب في جواز الصلاة مع البيضة المذرة، فهلا فهمتم من هذا الاختلاف الترددَ في نجاسة حشو البيضة؟ قلنا: جواز الصلاة مأخوذ من الاستتار الخِلقي المشبه باستتار النجاسة بالحيوان. وقد طرد بعض الأصحاب الخلافَ في جواز الصلاة مع حمل قارورة مصممة حشوها نجاسة. هذا بيان إحدى الصورتين. 3623 - الصورة الأخرى في الخمرة المحترمة، كما سبق وصفها - قطع الأصحاب بأنها ليست مالاً، ولا تضمن إذا أُتلفت، وليس على متلفها إلا التوبيخ والتأديب، على ما يراه صاحب الأمر. وذكر الشيخ أبو علي تردداً في بيعها، وتردداً في طهارتها وهي خمرة مشتدّة محرّمة، وهذا خرم المذهب، ومصادمة القاعدة. وما ذكرناه من استحالة العصير خمراً، وارتفاع الرهن، وعوده إذا صارت الخمر خلاً، والفصل بين ما قبل القبض وبعده، يخالف جواز بيع الخمر، فلا وجه لهذا. وإنما التردد في مسألة العنقود. وفيها من الإشكال ما تقدّم. والوجه القطع بمنع بيعها أيضاً، لنجاسة أجوافها، وليست هي حيوان، فإن الحيوان لاختصاصه بالحياة ممتاز عن النجاسات المجاورة له، والبيضة والعنقود وإن انتظمت ظواهرها وبواطنها خِلقة، فإذا بيعت بجملتها، فلا تمييز لبعضها عن البعض بالحياة والجمادية، فالبيع فيها ممتنع؛ وأيضاً فإن المقصود منها أجوافها وحشوها نجس، والمقصود من الحيوان نفسه. فهذا تمام ما يحضرنا في بيان ذلك.

فصل ولو قال: " رهنتكه عصيراً، فصار في يدك خمراً ... إلى آخره " (1). 3624 - إذا اختلف الراهن. والمرتهن في عيبٍ ثابت، فقال الراهن: حدث العيب في يدك ولا خيار لك. وقال المرتهن: حدث العيب في يدك أيها الراهن، وقد اطلعتُ عليه الآن، فأرده وأفسخ البيع الذي شرطتُ هذا الرهنَ فيه، فالقول قول الراهن؛ قياساً على اختلاف البائع والمشتري في قدم العيب وحدَثِه؛ فإذا كنا نجعل القول قول البائع استدامةً للعقد، فلنجعل هاهنا القولَ قولَ الراهن استدامة للرهن والبيعِ الذي الرهنُ شرطٌ فيه. وهذا واضح. ولو كان رهن عصيراً، فرأيناه خمراً في يد المرتهن، وقد اختلف الراهن والمرتهن، فقال الراهن: أقبضتك العصير، فانقلب خمراً في يدك. وأنا قد وفيت بالشرط، ووفيتك المشروط. وقال المرتهن: أقبضتني الخمر وكانت الاستحالة إلى الشدة في يدك، فالقول قول من؟ هذا يبتني على ما مهدناه من أن الإقباض على الشدة فاسد. وقد اختلف الأصحاب في أن العصير إذا استحال خمراً في يد الراهن؛ هل ينفسخ الرهن؟ وقد مضى ذلك الآن. فالراهن يدّعي استقرار الرهن، والمرتهن يأبى ذلك. ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول الراهن؛ لأنه ادّعى إقباضه عصيراً، والأصل بقاؤه على صفة الحلاوة. والقول الثاني - أن القول قول المرتهن؛ فإن الراهن يدّعي عليه أنه قبض قبضاً صحيحاً، وهو منكر للقبض، والأصل عدمه، ولا حكم للقبض الذي اعترف به، فإنه فاسد ليس قبضاً شرعياً، فكأن لا قبض. وقيل: القولان يقربان من اختلاف الأصحاب في حد المدعي والمدعَى عليه، كما سيأتي في الدعاوى. ومن أصحابنا من قال: المدعي مَنْ يدعي أمراً خفياً، والمدّعى عليه من يذكر أمراً

_ (1) ر. المختصر: 2/ 213.

جلياً. ومنهم من قال: المدعي من لو سكت تُرِك والسكوت، والمدعى عليه من لا يترك وسكوته. ووجه التخريج أن المرتهن لو سكت تُرك، فهو المدعي إذاً، والقول قول الراهن؛ فإنه لو سكت لم يترك. وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفياً، فالمدعي هو الراهن إذاً على هذا؛ فإنه يدعي القبض المبرم، والأصل عدمه. والمرتهن يدعي عدم القبض وهو الأصل. ولو قال المرتهن: كنتُ شرطتُ الرهنَ، وقد رهنتني خمراً إذْ رهنتني. وقال الراهن: بل رهنتك عصيراً. وهذه المسألة مفروضة فيه إذا شرطا رهناً معيناً، وفرض الوفاء به، ثم قال المرتهن: العين التي شرطنا رهنها كانت خمراً. وقال الراهن: بل كانت عصيراً، فهذا يبتني على أن شرط الرهن الفاسد هل يُفسد البيعَ؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما. فإن قلنا: إنه لا يوجب فساد البيع، فالتنازع في الوفاء بالشرط، وعدم الوفاء به يخرّج على القولين، والاختلافِ في حالة القبض. وهذا بيّن. وإن قلنا: شرط الرهن الفاسد يفسد البيع، فالذي قالاه نزاع في فساد البيع وصحته، وقد ذكرنا اختلاف أصحابنا فيه إذا اختلف المتعاقدان في شرط مفسد، فادّعاه أحدهما ونفاه الثاني. وقد استقصينا القول فيه في باب اختلاف المتبايعين. فرع: 3625 - سئل عنه القاضي فقيل: إن (1) اشترى لبناً في قمقمة، فصبه البائع في قمقمةٍ للمشتري، فَعَلتْه فأرةٌ، فاختلفا، فقال المشتري: بعتني اللبن طاهراً (2) فوقعت فيه فأرة. وقال البائع، لا بل كانت الفأرة في قمقمك. فكان من جوابه أن قال: هذا يخرّج على القولين في إقباض الخمر والعصير؛ فإن المشتري يقول: أقبضتنيه نجساً، والبائع يقول: بل أقبضتك طاهراً، وحصلت النجاسة في يدك من قمقمك. ولو قال البائع: كانت هذه الفأرة في قمقمك. وقال المشتري: بل كان اللبن

_ (1) في (ت 2)، (ص): "فقال: من". (2) طاهراً: أي على شرط الطهارة.

حالة العقد نجساً لكون الفأرة فيه. فهذا نزاع في أن العقد عقد على الفساد أم لا؟ وهو مناظر اختلاف المتبايعين في فساد العقد، كما ذكرناه. هذا جوابه. وتفصيله: فإن قيل: إذا قال المشتري في الصورة الأولى: تنجس اللبن في يدك، فهو ادّعاء انفساخ البيع. قلنا: نعم هو كذلك، والعصير إذا استحال خمراً، فهل نحكم بانفساخ الرهن. فإن قيل: إذا كانت النجاسة في ظرف المشتري، فاللبن ينجس بملاقاة النجاسة، فليس ما ادعاه البائع إقباضاً على الصحة. قلنا: ليس كذلك؛ فإن اللبن إذا حصل في فضاء الظرف، ثبت له حكم القبض جزءاً جزءاً، قبل أن يلقى النجاسة. هذا بيان قوله. فلينظر الناظر في ذلك. فصل قال: " ولا بأس أن يرهن الجارية ولها ولد صغير؛ لأن هذا ليس بتفرقة ... إلى آخره " (1). 3626 - التفرقة في البيع بين الأم وولدها الصغير حرام؛ قال النبي عليه السلام: " لا تُولَّه والدة بولدها " (2). ثم إن بيعت الجارية دون الولد، أو بيع الولد دون الجارية، وارتكب المتعاقدان محظور التفرقة، ففي صحة البيع قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب السير، إن شاء الله تعالى، وفيه نذكر حد الصغر المؤثر، والتفريقَ

_ (1) ر. المختصر: 2/ 214. (2) حديث: لا توله: أخرجه البيهقي في السنن: 8/ 5 من حديث أبي بكر بسند ضعيف، وأبو عبيد في غريب الحديث: 3/ 65. والتوليه أن تفارق الأم ولدها. من ولَّهَ الوالدةَ فرّق بينها وبين ولدها. وقد صح في معنى هذا الحديث أحاديث أخرى (ر. التلخيص: 3/ 36، 37 ح 1170 - 1173).

المؤثر بين الوالد والولد، ثم بين جميع المحارم. وقدرُ غرضنا الآن أن صحة البيع الواقع على حكم التفرقة فيها قولان: أحدهما - وهو الجديد أن البيع باطل. والثاني - وهو القديم أن البيع صحيح. قال الشافعي: لو رهن الأمَّ دون ولدها أو على العكس، فالرهن صحيح؛ لأن ذلك ليس بتفرقة بينهما. واختلف أصحابنا في معنى هذا اللفظ، فمنهم من قال: معناه أن الرهن لا يوجب التفرقة؛ فإن منافع الأم للراهن، فيجمع بين الأم وولدها، ويكلفها احتضانه وإرضاعه. ومنهم من قال: معنى قوله: إن ذلك ليس بتفرقة أن البيع منتظرٌ، [فإذا مست الحاجة إليهِ، لم يفرق بين الأم والولد، فإذا ثبت صحة الرهن] (1) فإذا مست الحاجة إلى البيع بأن حَلّ الدينُ، فهل يجوز إفراد الأم بالبيع - والتفريع على أن التفريق مفسد للعقد؟ على هذا القول وجهان: أحدهما - أن البيع يبطل إذا تضمن التفريقَ؛ طرداً للقياس. والثاني - لا يبطل؛ لأن هذا بيع قهري، ولا يمتنع التفريق قهراً لأمر شرعي، وهذا كما لو كان للجارية ولد صغير حُر، فبَيع الأم جائز، والحرية فرقت بين الأم والولد. كذلك اختصاص الرهن بالجارية يوجب تخصيصه بالبيع. التفريع: 3627 - إن قلنا: تباع الجارية والولد عند مَحِل الدين، وهو الذي نص عليه الشافعي، فلا حظ للمرتهن في الولد، وقد جرى البيع في الأم والولد، فإذا أردنا توزيع الثمن على الجارية والولد، فما وجه التوزيع؟ هذه المسألة تقتضي تقديم أخرى عليها، وهي بين أيدينا، ولكنا لا نجد بُدّاً من ذكرها الان في غرضٍ لنا. فنقول: من رهن أرضا بيضاء، وكان فيها نوى، فقبض المرتهن الرهنَ، ثم أنبتت النوى أشجاراً، فلا سبيل إلى قلعها، ولكن إذا حل الحق وبعنا الأرض والغراس، فكيف يقبض الثمنَ المأخوذَ على الأرض والغراس؟ اختلف أئمتنا في ذلك، فقال بعضهم: تقُوّم الأرض بيضاء فإذا قيمتها مائة، ثم نقوّمها مع الغراس،

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

فإذا قيمتها مع الغراس مائة وعشرون، فقد زاد تقدير الضم على تقدير الانفراد في الأرض البيضاء بعشرين درهماً، والعشرون من المائة والعشرين سدسها، فنحفظ هذه النسبة، فإذا هي نسبة الأسداس، فإذا بعنا الأرضَ والغراس وزّعنا الثمنَ على النسبة التي معنا، فصرفنا خمسةَ أسداسه إلى المرتهن، وصرفنا سُدسه إلى الغرماء الباقين. هذا وجه. والوجه الثاني - أنا نقوّم الأرضَ بيضاء، فإذا قيمتها مائة، ونقوم الغراس في الأرض مفردة، فإذا قيمتها خمسون، فنضبط النسبة بأثلاث، فنوزع الثمن عليها، فنصرف ثلثي الثمن إلى المرتهن، وثلثه إلى الغرماء. فهذا بيان الاختلاف في مسألة الأرض والغراس. 3628 - عدنا الآن إلى الجارية وولدها وقد بيعا. وقد يحسن فرض هذه المسألة إذا كانت الأم مفردة وليست ذات ولد، أو بيعت دون ولدها، وكان ثمنها أكثرَ لانفرادها، وإذا بيعت مشتغلة بحضانة الولد، فقيمتها أقل، وعند ذلك يظهر التردد والاختلاف، وقد اختلف أصحابنا في كيفية التوزيع، فقال بعضهم: التوزيع على الأم والولد كالتوزيع على الأرض والغراس، وفيه وجهان نعيدهما: أحدهما - أنا نقوم الأم وحدها فإذا قيمتها مائة. ونقوّمها مع الولد، فإذا قيمتها عند الضم مائة وعشرون. فقد زاد سدس، فليقع التوزيع على الأسداس. هذا وجه. والوجه الثاني - أنا نقوم الأم وحدها، فإذا قيمتها مائة، ونقوم الولد وحده مضموماً إلى الأم، فإذا قيمته وحده مع الأم خمسون، فيظهر لنا نسبة الأثلاث. فليقع التوزيع كذلك. وهذا بعينه ما ذكرناه في الأرض والغراس في الوجهين. هذه طريقة. وهي اختيار الشيخ أبي علي، والقاضي. وذكر صاحب التقريب هذه الطريقة، وذكر معها طريقة أخرى واختارها، فقال: ينبغي أن تقوم الأم مع الولد وهي حاضنة، ويقوم الولد مع الأم، ولا يفرد واحد منهما بالتقويم على تقدير الانفراد، بخلاف مسألة الغراس، والفرق أن الجارية رهنت وهي ذات ولد، فاستحق المرتهن بيعها على نعت الضم، وليس الأرض كذلك؛ فإنها رهنت إذْ رهنت ولا غرس، ثم حدث الغراس من بعدُ، كما سنصوره على

الاستقصاء، إن شاء الله تعالى. ونحن قدرنا الأرض بيضاء في الوجهين جميعاً، ورددنا الاختلاف إلى كيفية اعتبار قيمة الغراس، وهاهنا لا تعتبر قيمة الجارية وحدها لما نبهنا عليه. فليتأمله النّاظر؛ فإنه حسن. قال صاحب التقريب: نظير مسألة الغراس من الجارية ما لو رهنت، ولم تك ذاتَ ولد، ثم علقت بمولود رقيق، وولدت فيطابق هذا على صورة الغراس؛ من حيث انعقد الرهن وتم والأم على نعت التفردِ، كالأرض البيضاء، فلا جرم [يجري] (1) في التوزيع عند بيعها الخلافُ الذي ذكرناه في الأرض والغراس. 3629 - ومن تمام البيان في هذا الفصل: أن ما ذكرناه من المطابقة في التوزيع إنما يحسن وقعه وأثره إذا حُجر على الراهن، أو مات والديون محيطةٌ مستغرقة، واختلفت الأغراض في التوزيع، فالكلام على ما ذكرناه. فأما إذا لم يفلس الراهن، ولم يضق مالُه، وبعنا الجارية والولد، فعلى الراهن توفيرُ الدين كَمَلاً (2)، ولا يكاد يظهر فائدة المسألة. هكذا قال الشيخ أبو علي. وهذا فيه فضل نظرٍ يُبيّنُه كلامٌ: وهو أن المرهون إذا بيع في دين المرتهن، فلو أراد الراهن أن يصرف طائفة من مالِه إلى دين المرتهن سوى الثمن المحصّل من بيع الرهن فهل يسوغ ذلك أوْ لا؟ والوجه القطع بجوازه، كما لو أدى الدين، وفك به الرهن، فتَعَلُّقُ حقِّه بثمن البيع، كَتَعَلُّق حقِّه بالمرهون قبل أن بيع. ولو أراد أن يتصرف في ثمن الرهن قبل أن يؤدي حق المرتهن. لم يكن له ذلك. وإذا أراد أن يتصرف فيما يقابل الولد المضمومَ، فله ذلك، وثَمَّ القدر الذي يقابل به الولد فيه الاختلاف المقدم. ولاح بهذا أن أثر الخلاف قائم في حق المطلَق قيامَه في حق المحجور. والغرض أن نبيّن أن متعلَّق الرهن [والوثيقة] (3) من الثمن المحصل من الجارية والولد كم؟ فإذا

_ (1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق. (2) كملاً: كاملاً. (3) في الأصل كلمة بهذا الرسم (السعه) وبدون نقط. ولم أدر لها معنى إن كان. والمثبت من (ت 2)، (ص).

بانت الكمية، ظهر أمرُها عند الحجر في الفضّ (1) على الغرماء، وعلى المرتهن. ويظهر أثرها حيث لا حجر في تصرف الراهن فيما يزيد على مقدار الرهن. فصل قال: " ولو ارتهن نخلاً مثمراً، قال ثمر خارج من الرهن ... إلى آخره " (2). 3630 - إذا رهن نخيلاً عليها الثمار، واقتصر على تسمية النخيل، ولم يسم الثمار نافياً ولا مُثبتاً، نُظر: فإن كانت الثمار مؤبّرة، فلا شك أنّها لا تدخل في مطلق تسمية النخل؛ فإنها لا تدخل في تسميتها في عقد البيع على قُوّته، فلأن لا تدخل في حكم الرهن تحت الأشجار أولى، وإن كانت النخيل مُطْلِعَةً، ولكن لم تكن مؤبرة، فقد ذكرنا في كتاب البيع أنها تدخل تحت تسمية النخيل في البيع المطلق، وهل تدخل في حكم الرهن تحت تسمية النخيل؟ ظاهر المذهب أنها لا تدخل. والرهنُ في ذلك يخالف البيعَ، والفارق أن البيع يزيل الملك في الأصل، فلا يبعد أن يقوى على الاستتباع. والرهن لا يقطع ملك المالك عن الأصل؛ ولا يرفع سلطانه، وكأنه موعد في دوام الملك أوجب الشرع الوفاء به، فاختص وجوب الوفاء بمورده المسمى، ولذلك لا يتعدى الرهنُ إلى الزوائد التي ستحدث في مستقبل الزمان، والملك في البيع يُثبت للمشتري حق الملك فيما يتجدد. وخرّج طوائف من الأئمة قولاً آخر في الرهن، وهو أن الثمار تتبع تسمية النخيل إذا لم تكن بارزة (3)، قياساً على البيع، وذلك لأنا لم نتبِع الثمارَ النخيلَ في البيع لقوة البيع، ولكنا رأينا الثمار الكامنة جزءاً متصلاً كامناً، واعتقدنا اللفظ شاملاً. وهذا يستوي فيه القوي والضعيف. وهذا القول منقاسٌ، وهو مأخوذ من أصلٍ مع القول الأول، وهو أن من باع

_ (1) الفض: التوزيع والتقسيم. (2) ر. المختصر: 2/ 214. (3) في (ص): مؤبرة.

حاملاً، ثبت الحمل مستحقاً للمشتري، والتردد في أنه هل يقابله قسط من الثمن أم لا. ولو رهن جارية حاملاً، ففي تعلق حق الوثيقة بالحمل الموجود حالة الرهن قولان. والرأي ترتيب الثمار غيرِ المؤبرة على الحمل، فإن قضينا بأن الرهن لا يتعلق بالحمل، فلأن لا يتعلق بالثمار أولى، وإن قلنا: يتعلق الرهن بالحمل، ففي تعلقه بالثمار قولان. والفرق أن الحمل لا يقبل التصرف على الانفراد، [فكان حريّا بالتبعية والثمار تقبل التصرف على الانفراد] (1). 3631 - ومسائل الحمل ستأتي إن شاء الله تعالى. ولكنا نعجل منها شيئاًً، فنقول: إن قلنا: رهن الجارية الحامل لا يتناول الحملَ، فلو قال: رهنتها مع حملها، ففي هذا تردد للأصحاب، والظاهر أن رهن الجارية لا يتعلق بالحمل؛ فإنه إذا لم يمتنع، فتقدير الانفراد فيه بالذكرِ لا وجه له؛ إذ لو ساغ ذلك، لجاز إفراده بالرهن دون الأم. وهذا الرمز الآن كافٍ. وسنعود إليه عند ذكرنا مسائل الحمل، إن شاء الله تعالى. فصل قال الشافعي بعد تقرير المذهب في أن الرهن أمانة: " وإذا رهنه ما يفسدُ من يومه ... إلى آخره " (2). 3632 - أما القول في أن الرهن أمانة، فسيأتي في باب معقود، إن شاء الله تعالى. ونحن نذكر الآن تفصيلَ المذهب في رهن ما يتسارع إليه الفساد، فنقول: إذا رهن الفواكه الرطبة وغيرَها مما يتسارع إليه الفساد، نظر: فإن رهنها بدين حالٍّ، صح، ثم إن أدى الدين من موضع آخر، فذاك. وإن اتفق بيعُها في الدين، وصرف ثمنها إليه،

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) ر. المختصر: 2/ 214.

فهو المراد. وإن لم يتفق الصرف إلى الدين، وأشرف المرهون على الهلاك، فلا خلاف أنه يباع، ويوضع الثمن رهناً مكانه؛ إذ لا طريق إلى استيفاء الحق إلا هذا الطريق، والرهن يتضمن توثيقاً، فإذا أشرف محلّ الوثيقة على الهلاك، ولو هلكت، لضاعت الوثيقة، فالوجه في تبقية الوثيقة البيعُ ووضع الثمن رهناً مكان المبيع. 3633 - وإن رهن ما يتسارع إليه الفساد بدين مؤجل، نظر: فإن عرفنا أن حلول الأجل يتقدم على فساد المرهون، صح الرهن، وكان كما لو رهن بدين حالّ، وانتظم الترتيب على ما ذكرناه. وإن عرفنا أن الفساد يسبق حلولَ الأجل، فتنقسم المسألة أقساماً: منها أن يرهن ويشترط البيع عند الإشراف على الفساد، فإن كان كذلك، صح الرهنُ، ولزم الوفاء بالشرط إذا مست الحاجة إليه، فإذا أشرف على الفساد، بيع ووضع الثمن رهناً. ومن الأقسام أن يرهن ويُقرن (1) [الرهن] (2) بشرط أن لا يباع عند ظهور الفساد، فإن كان كذلك، فالرهن فاسد؛ فإنّ شرط تبقيته يتضمن فساده، وهو مناقض للتوثق، فجرى الشرط مخالفاً لوضع الرهن. ومن أقسام المسألة أن يطلق الرهن من غير تعرض لشرط البيع أو نقيضه، فإذا كان كذلك، ففي المسألة قولان منصوصان: أحدهما - أن الرهن صحيح، ومطلقه محمول على البيع عند الحاجة ووضع الثمن رهناً. والقول الثاني - أن الرهن فاسد، ومطلقه محمول على تبقية الرهن، وإن كان يفسد، فهو كما لو قيَّد بأن لا يباع. فإن قيل: أليس لو رهن ما يتسارع إليه الفساد بدين حال، كان صحيحاً قولاً واحداً. وإذا مست الحاجة إلى بيعه ووضع ثمنه رهناً، بيع، ولم يختلف في ذلك، والرهن مطلق في الموضعين، فما الفاصل؟ قلنا: إذا كان الدين مؤجّلاً، فحكم الرهن التبقية في حال سقوط المطالبة بالدين.

_ (1) في (ص) كلمة غير مقروءة، رسمها هكذا (بعرفى) وفي (ت 2): (يقرب). (2) زيادة من المحقق، رعاية لوضوح العبارة.

هذا حكم الإطلاق في الرهن بالدين المؤجل. فكان تردد القول لذلك. وإذا كان الدين حالاً فالطلِبة حاقّة، لا تأخير فيها يُشعر بتبقية الرهن إلى ثبوت الطلبة. ولو كان المرهون بالإضافة إلى الأجل بحيث لا يقطع بفساده قبل الحلول، وكان لا يقطع ببقائه أيضاًً، وتردد الاحتمال، ففي جواز الرهن المطلق من غير تقييد بالبيع عند الإشفاء على الهلاك قولان، مرتبان على القولين فيه إذا كان يهلك المرهون قبل الأجل لا محالة. وهذه الصورة أولى بالصحة من الأولى. ووجه الفرق بيّن. وقد كنا بنينا رهن المعلّق عتقُه بصفة توجد قبل حلول الأجلِ على رهن ما يتسارع إليه الفساد قبل حلول الأجل، وخرّجنا صحة الرهن على قولين. قال صاحب التقريب: إذا فرعنا على قول صحة الرهن، فقربت الصفة، وكاد العتق أن يقع، بعناه بَيْعَنا الطعامَ المشرفَ على الفساد. وإذا كان الأصل كالأصل، فالتفصيل كالتفصيل. وإذا رهن ما لا يتسارع إليه الفساد، فطرأ بعد لزوم الرهن سبمب يقرّبه من الهلاك قبل حلول الأجل، فطريان ذلك لا يوجب انفساخ الرهن وفاقاً. وإن منعنا رهنَ ما هذه صفته ابتداء على أحد القولين، وتسرُّعُ (1) الفساد طارئاً ومقارناً -على منع الرهن ابتداء- يضاهي إباق العبد، فإذا اقترن، منَعَ، وإذا طرأ، لم يتضمن انفساخ العقد. فرع: 3634 - إذا صح الرهن، ولزم في عين ثابتة لا يخشى فسادها، فقال الراهن: نقلتُ حقك في الوثيقة من هذه الرقبة إلى هذا العبد، فقال المرتهن: رضيت. ذكر أصحابنا في ذلك وجهين: أحدهما - أن هذا يلغو، والوثيقة لا تنتقل، ورضا المرتهن لا يتضمن فسخَ الرهن. والوجه الثاني - أنها تنتقل وتقرُّ في العبد الثاني، وما جرى بينهما يتضمن فسخاً للرهن الأول، وإعادةً له في المحل الثاني.

_ (1) كذا فىِ النسخ الثلاث: "وتسرع" بالواو، وعليه يكون جواب الشرط "وإن منعنا" قوله: " فإذا اقترن ... ".

وأخذ العلماء هذا الخلافَ من رهن ما يفسد قبل الأجل. ووجه الأخذ منه أَنَّ الرهن فيما يفسد تضمن نقل الوثيقة إلى عوضِ المرهون بتقدير البيع. فقالوا: إذا كنا نجوز ذلك، فما يمنع من نقل الحق اختياراً من محل إلى محل وهذا غير سديد؛ فإن بيع ما يفسد مستحق شرعاً وإقامة الأثمان والقيم مقام الأصول قاعدة ممهدة في الشرع، فأما نقل حق مستقر من محل إلى محل، فليس له أصل من غير حاجة، ولا ضرورة، وليس النقل والرضا مشعراً بالفسخ والإعادة على التحقيق، وليس كما لو قال لمالكِ عبدٍ: أعتق عبدَك عني؛ فإن هذا من ضرورته تقديم نقل الملك، فكان ضمناً لاستدعاء العتق. وأما نقل الوثيقة، فمبنيٌّ على اعتقاد إبقاء الرهن الأولى، مع نقل موجبه، وعلى هذا يخرّج (1) انتقال الوثيقة من المثمن إلى الثمن، فالوجه إفساد الرهن من عين إلى عين. فرع: 3635 - إذا رهن ما لا يفسد، ثم طرأ عليه ما يقرّبه من الفساد قبل القبض، وقلنا: لا يصح رهن ما هذا وصفه، ففي انفساخ الرهن وجهان مبنيانِ على الوجهين في نظائر هذا، كطريان الجنون والموت، وطريان جناية المرهون. والتفريع على منع رهنه. ولو قُتل العبد المرهون قبل القبض، ففي تعلق حق الوثيقة بقيمته الواجبة على المتلف الوجهان المذكوران؛ فإن القيمة تقع ديناً، والديون لا ترهن، ولكن إن جرى ذلك بعد تأكُّد الرهن بالقبض احتُمل على ارتقاب أن تستوفى القيمة وتعيّن. ثم من يقول من أئمتنا إذا استحال العصير خمراً، زال الرهن ثم يعود إذا تجددت الحموضة، ما أراه يطلق القول بأن الرهن يزول بانقلاب المالية في عين الرهن ديناً؛ فإن حقيقة المالية باقية. والقول في هذا محال. هذا إذا كان بعد القبض. فأما إذا جرى الإتلاف قبل القبض، ففي انفساخ الرهن ما ذكرناه. ولو صادف الرهن عيناً ثابتة، فعرض لها بعد القبض عارض يدنيها من الفساد، فقد

_ (1) في (ص)، (ت 2): يجري.

تمهد أن الرهن لا ينفسخ، وقطع الأئمة بأنه يستحق بيعه ووضع ثمنه رهناً. وكان شيخنا يقول: إذا كان إتلاف المرهون يتضمن نقلَ حق المرتهن إلى القيمة، فيتبين أن حقه المستحَق غيرُ منحصر في العين، فعلى هذا يكون [الإشفاء] (1) على الهلاك بمثابة إتلاف المرهون من ضامن. فصل قال: " ولو رهنه أرضاً بلا نخل، فأخرجت نخلاً ... إلى آخره " (2). 3636 - إذا كان الراهن دفن أعداداً من النوى، ورهن الأرض البيضاء قبل أن تنبت النوى فنبتت، فليس للمرتهن القلعُ؛ فإن الرهن ورد على الأرض وفيها النوى. ولكن إن كان عالماً بذلك، فليس له فسخ البيع الذي الرهنُ شرطٌ فيه. وإن كان جاهلاً، ثم تبين، فله فسخ البيع الذي الرهن شرط فيه، من قِبل أَنَّه حسب أن الساحة البيضاء [تَسْلَم] (3) لحق وثيقته، فإذا بأن أنها مشغولة، فذلك نقصٌ، فيترتب عليهِ ثبوت الفسخ في البيع. وسيأتي أصل ذلك بعد هذا، إن شاء الله تعالى. 3637 - ولو غشَّى السيلُ الأرضَ المرهونة، وكان في جميعها نوى؛ فنبتت، فلو قال المرتهن: أقلعُه؛ فإنه لم يكن، وإنما حدث بعد لزوم الرهن، لم يكن له القلع قبل حلول الدين؛ إذ لا ضرر عليه في الحال، ولا حاجة إلى بيع الساحة. وإذا حل الحق، نُظر: فإن كان في قيمة العرصة لو بيعت مع النخيل وفاءٌ بالدين (4)، بيعت العرصة، ولم يقلع النخيل، وإن لم يكن فيها وفاء، ولو قلعت دون النخيل، وفت بالدين، ولم يؤدّ الراهن الدينَ من جهة أخرى، فيقلع الغراس لحق المرتهن، وإن

_ (1) في الأصل: الانتفاع. (2) ر. المختصر: 2/ 214. (3) في الأصل، (ت 2): " سلم " والمثبت من (ص). (4) في النسخ الثلاث اضطراب في هذه العبارة، بتقديم وتأخير بعض الكلمات. صوابها ما أثبتناه.

كان القلع مضرّاً بالراهن؛ من قبل نقصان الغراس بالقلع، فالسبب فيه أن الراهن التزم الوفاء بحق الوثيقة في الأرض البيضاء، فلزمه أن يفي بما التزمه. هذا إذا لم يكن على الراهن دين يوجب اطراد الحجر عليه، فأما إذا ركبته الديون، واطرد عليه الحجر، والمسألة حيث انتهت، فلا سبيل إلى قلع الأشجار رعايةً لحق الغرماء. فإن قيل: حق المرتهن سابق وفي تبقية الغراس تنقيصُ حقه السابق. قلنا: نعم ولكن [حق] (1) الغرماء صادفَ الأشجار، وتعلق بها، وليس للمرتهن إلا وثيقة، فلا ينبغي أن يُحبط حقوق الغرماء والمالك بالكلية. والذي يقتضيه الإنصاف بيعُ الأرض مع الغراس، ثم في كيفية التوزيع على الأرض والغراس خلافٌ بين الأصحاب، ذكرناه في مسألة بيع الجارية وولدها. 3638 - قال الأئمة: إذا رهن الرجل أرضاً بيضاء، وأقبضها، ثم أراد أن يغرسها ابتداء، فهل يمنع من ذلك والدين مؤجل؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يمنع، كما لا يقلع ما نبت من حميل السيل. والثاني - يمنع؛ فإن هذا إثبات تنقيصٍ في الحال على سبيل الاختيار. ثم إن لم نمنعه، فالكلام في القلع عند حلول الدين كما تفصَّل. وإن كنّا نمنعه من الغراس، فلو غرس، ونبت فهل يقلع عليه قبل حلول الأجل؟ فيه اختلاف، توجيهه قريب من توجيه الوجهين في أصل المنع. فإن قلنا: إنه مقلوع، فلا شك أنه يقلع عند المحِل إذا لم يكن على الراهن حجر. وهل يقلع إذا كانت عليه ديون واطرد الحجر؟ فعلى وجهين. ولا يخفى الفرق بين هذا وبين ما لو نبتت النخلات من نوى في حميل السيل؛ فإن ذلك جرى ولا منع يقترن به، بخلاف ما فرعناه في ابتداء الغرس قصداً من الراهن.

_ (1) ساقطة من الأصل.

فصل قال: " ولو رهنه أرضاً، ثم اختلفا، فقال: أحدثت فيها نخلاً ... إلى آخره " (1). 3639 - إذا صادفنا أرضاً مرهونة، وفيها نخيل، فقالى المرتهن للراهن: رهنتني الأرضَ والنخيل القائمةَ فيها يوم رهنتني. وقال الراهن: بل رهنتك الأرض بيضاء، وأحدثتَ هذه النخيل بعد الرهن، ولم تكن موجودة حالة الرهن. فإن كانت المشاهدة تكذب المرتهن؛ بأن تقدّم تاريخ الرهن وامتد سنين، والنخيل بعد فَسِيلٌ لا يخفى أنها نبات سنة، فالمرتهن مكذَّب، ولا حاجة إلى اليمين. وإن كانت المشاهدة تكذِّب الراهن بأن كان النخيل باسقة، وتاريخ الرهن قريب، فالمشاهدة كذبت الراهنَ في دعواه عدمَ النخيل عند الرهن. ولكن لا تنفصل معه الخصومة بهذا؛ إذْ لم يثبت إلا وجود النخيل حالة الرهن، ولا يمتنع أن تكون موجودة، ولا تكون مرهونة، فتتوجه الدعوى عليه بالرهن، فإن أصر على قوله الأوَّل، لم يقبل منه، والمشاهدة تكذبه، ويجعل منكراً، وتعرض عليه اليمين، فإن تمادى في محاله (2) الأولى، جُعل ناكلاً، وفصلت الخصومة بطريقها. وإن اعترف بالوجود آخراً، وأراد أن ينكر الرهن، قُبل منه الإنكار، وكَذْبتُه الأولى لا تسدّ عليه إنكارَ الدعوى، ثم تُدَارُ الخصومة على نظمها. وإن كانت النخيل بحيث يحتمل أنها كانت يوم الرهن، ويحتمل أنها حدثت بعده بأيام، فالقول قول الراهن في نفي الرهن. ولو اقتصر على نفي وجود النخيل وكان انتفاؤها ممكناً، فالأظهر أنه يُكتفَى منه بإنكار الوجود؛ فإنّ في إنكار الوجود إنكارَ الرهن المدّعىَ. والمسألة مفروضة فيه إذا

_ (1) ر. المختصر: 2/ 214. وفي المختصر: " ولو رهنه أرضاً ونخلاً ... ". (2) أي إصراره على المحال الذي ادعاه وكذبته المشاهدة.

قال المرتهن: كانت موجودة، فرهنتَها مع الأرض. ولهذا نظائر فيها ترددٌ للأصحاب. ستأتي في كتاب الدعاوى. ولو قال المرتهن: رهنتني هذه الأشجار، ولم يتعرض لوقت رهنها، ولم يذكر اقترانَها ولا تأخرها، فلا ينفع، والدعوى على هذه الصيغة تعرض الراهن لتقدم وجود النخيل وتأخرها؛ فإنه لا يمتنع رهنها، وإن تأخرت. والمرتهن إنما يدعي الرهن المطلق، وهذا بيِّن إذا لم يكن الرهن مشروطاً في بيع. فأما إذا كان الرهن مشروطاًً في بيع وصيغة الدعوى كما تقدمت، قال المرتهن: رهنتها مع الأرض يوم رهنتني الأرض. وقال الراهن: لم تكن النخيل موجودة يوم رهن الأرض، وكانت المشاهدة لا تكذبه، وقد ربطا قوليهما ببيعٍ، فقال المرتهن: شرطتَ رهن الأرض والنخيل. فإذا قال الراهن: لم تكن النخيل، فقد ذهب المحققون إلى أن هذا الاختلاف ليس مما يوجب التحالف في البيع؛ فإن حاصله راجع إلى التنازع في وجود النخيل وعدمها. والتحالف إنما يترتب على تنازع في صفة عقدٍ، يتصور التصادق عليها. وهذا حسن دقيق. والظاهر عندي أنهما يتحالفان؛ فإنَّ المرتهن ادعى شرط رهن ممكن، وأنكر الراهن الشرط، وعلله بعلة، فالتنازع في صفة العقد قائم، فليجر التحالف. وإن اتفقا على وجود النخيل، وقال المرتهن: شرطنا في البيع رهنَ الأرض والنخيل، وقال الراهن: لم نشترط إلا رهنَ الأرض، ولم يتعرضا لنفي وجود النخيل، بل توافقا عليه، فهذا اختلافٌ في صفة العقد لا محالة، فيتحالفان ويتفاسخان العقد. ولو قال المرتهن: لِمَ نتحالف، وأنا معترف بأنك وفَّيت بالرهن المشروط في النخيل، فاختلافنا في الرهن؟ قيل له: هذا أمر تبنيه أنت (1) فرعاً على أصل، والراهن منكرٌ لأصل الشرط، فلا بُدّ من التحالف.

_ (1) ساقطة من (ت 2).

فصل قال: " ولو شرط للمرتهن إذا حل الحق، أن يبيعه، لم يجز أن يبيع بنفسه، إلا بأن يحضره ربّ الرهن ... إلى آخره " (1). 3640 - إذا حلّ الحق، فقال الراهن للمرتهن: بع لي واستوفِ ثمنَه لي، ثم استوفه لنفسك. فإذا باع، نفذ البيع بالإذن، ثم إذا استوفى الثمنَ، وقع الثمن للراهن، ويكون أمانة بعدُ في يد المرتهن، فإن أراد استيفاءَه لنفسه، فلا بد من وزنٍ جديد إن كان موزوناً [أو كيل جديد إن كان مكيلاً] (2) فإن وزنه ثانياً، فهل يصح الاستيفاء على هذا الترتيب؛ فعلى وجهين، تقدم ذكرهما في كتاب البيع، فإن صححنا الاستيفاء، دخل في ضمانه، وبرئت ذمة الراهن من الدين. وإن لم نصحح (3) الاستيفاء، فما قبضه على الفساد مضمون عليه، وإن لم يكن مقبوضاً على الصحة عن جهة حقه، فالدين باق في ذمة الراهن. ومن تمام التفريع في ذلك أنا إذا صححنا الاستيفاء، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا بد من إنشاء فعلٍ فيه، وليس كما لو رهن الوديعة عند المودَع، فإنا في قولٍ ظاهر نكتفي بدوام يده، كما تفصّل ذلك، وهاهنا لا بد من فعلٍ في الاستيفاء. وتعليله واضح؛ فإن الاستيفاء إنما يصح بناء على إذن الراهن، ولفظُه في الإذن "ثم استوف منه حقك" وهذا تصريح بإحداث أمر. 3641 - ولو قال: "بعه لي واستوف الثمن لي، ثم أمسكه لنفسك"، فالظاهر أنه لا بد من فعلٍ في القبض، كما تقدم. ومن أصحابنا من أقام الإمساك على قول صحة القبض مقام الاستيفاء إذا كان الاستيفاء مأذوناً فيه.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 214. ولفظ المختصر: "أن يبيع لنفسه" وسيأتي -بعد قليل- في تأويل كلام الشافعي ما يرجح كونها (باللام)، وانظر (ص 179). (2) زيادة من (ص)، وانظر في هذه المسألة الروضة: 4/ 88، 89. (3) في الأصل: وإن لم يصح.

وإذا قلنا: الاستيفاء لا يصح، ثم جعلنا قبضه على الفساد مُدخلاً للثمن في ضمانه، فلو لم يوجد منه فعل، والمأذون فيه الاستيفاء، ولكن نوى أن يمسكه لنفسه، فهذا لا يدخله في ضمانه؛ فإن اليد يد أمانة، والأمانات لا تزول بمجرد النيات. ولو نوى المودَع تغييب الوديعة، ولم يُحدث أمراً، لم يضمن بمجرد النية. ولو قال الراهن: بعه لي واستوفِ ثمنه لنفسك، صح البيع، ولم يصح الاستيفاء؛ فإن الغير يستحيل أن يستوفي حقه قبل ثبوت القبض الصحيح لمن يقع الاستيفاء من جهته، وقد مهدنا هذا في البيع. وإن قال الراهن للمرتهن: " بعه لنفسك "، فباع، فظاهر النص وما ذكره العراقيون، واختاره القاضي أن البيع يفسد؛ لأنه لا يتصور أن يبيع الإنسان مال الغير لنفسه. وذكر صاحبُ التقريب قولاً آخر ارتضاه لنفسه: أن البيع صحيح بناء على قوله: بعه، والفساد في قوله: لنفسك، فليستقل البيع بالإذن فيه. وهذا وإن كان منقاساً، فالمذهب ما قدمته. 3642 - ولو قال الراهن للمرتهن: "بعه". ولم يقل: بعه لي، ولا لنفسك. هذا موضع الاختلاف الظاهر بين الأصحاب -ولا عود إلى ما ذكره صاحب التقريب- فمن أصحابنا من قال: يجوز له أن يبيع كالأجنبي يقول له مالك العبد: بعه. ومن أصحابنا من قال: لا ينفذ بيع المرتهن. وهؤلاء عللوا امتناع البيع بعلتين: إحداهما - أن البيع مستحَقّ للمرتهن بعد حلول الحق، والمسألة مفروضة في هذا، والدليل على أن البيع مستحق للمرتهن أنه لو أذن المرتهن للراهن في البيع مُطلقاً، والحق حالّ، فالبيع يقع للمرتهن، حتى لو أراد الراهن صرفَ الثمن إلى جهة أخرى، لم يجد إليه سبيلاً. فإذا كان البيع مستحقاً للمرتهن، فالإذن المطلق إذا اقترن باستحقاق البيع في حق المرتهن، نازلٌ منزلة الإذن المقيد بالبيع في حق المرتهن، فإذا قال: "بعه"، فكأنه قال: بعه لنفسك. هذا إحدى العلتين.

والعلة الأخرى أن المرتهن متهم في ترك النظر؛ فإنه يبغي الوصولَ إلى حق نفسه، فقد يستعجل ذلك، فلا يبالي بترك النظر للرّاهنِ، وليس كالوكيل المطلق؛ فإنه لا حقّ له في البيع، فيبيع لغرض الموكِّل طالباً مصلحته. ولو قال من عليه الدين لمستحق الدين: "بع هذا الثوب"، ولم يكن مرهوناً، "وخذ حقك من ثمنه". أمّا البيع، فصحيح؛ فإن بيع ذلك الثوب [ليس] (1) مستحقاً له، فهو فيه كسائر الغرماء. وبيعه لا يقع إلا بحكم الوكالة. ثم فَرَّع الأصحاب على العلتين المذكورتين في توجيه أحد الوجهين، فقالوا: إن كان الدين مؤجّلاً، فقال الراهن للمرتهن: " بعه "، فهذا يخرّج على المعنيين؛ فإن منعنا البيع عند حلول الحق لكون البيع مستحقاً على التحقيق الذي مضى، فهذا المعنى مفقود قبل حلول الأجل؛ فإن البيع غيرُ مستَحق للمرتهن، والدليل عليه أن المرتهن لو قال للراهن قبل حلول الأجل: " بعه "، نفذ البيع، وبطل حق المرتهن، كما مضى تفصيله. هذا إن عللنا بالاستحقاق. وإن عللنا بكون المرتهن متَّهماً؛ من جهة استعجال الحق، فهذا المعنى قبل الحلول مفقود أيضاًً؛ فإنه إنما يبيعه بإذنٍ مُطلقٍ، (2 والبيع بماذنٍ مطلق 2) قبل حلول الأجل يفك الرهنَ. وإن قال قبل حلول الأجل: "بعه واستوفِ حقك"، على التفاصيل المقدّمة، فتتحقق التهمة، ويخرج وجهان؛ فإن عللنا بالاستحقاق، فلا استحقاق. وإن عللناه بالتهمة، فهي قائمة. وإن قدَّر الراهن ثمناً للمرتهن، فقال: " بعه بكذا "، فإذا باع بذلك المقدار، فقد زالت التهمة. فإن عللنا فساد البيع بالتهمة، صح. وإن عللنا بالاستحقاق، لم يصح.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ما بين القوسين ساقط من (ص)، (ت 2).

فإن قيل: ما وجه التعلّق بالتهمة، وثمن المثل معلوم، فينبغي أن نقول على اعتبار التهمة: إن باع بثمن المثل، صح. وإن باع بأقل منه، لم ينفذ؟ قلنا: وراء ثمن المثل تهمة؛ فإن الشيء قد يطلب بأكثر من ثمن مثله، فيبيعه المتهم بثمن المثل. وسر هذا يأتي في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى. هذا بيان الوجهين وتفريعهما. ثم لفظ الشافعي دليل على أن البيع بالإذن المُطلق باطل من المرتهن عند حلول الأجل؛ فإنه قال في صدر الفصل: "لو شرط المرتهن إن حل الحقُّ أن يبيعه، لم يجز أن يبيع بنفسه (1) "، فظاهر النص منعُ البيع عند إطلاق الإذن. ومن قال بالوجه الثاني، وهو القياس، أوّل النص، وقال: قوله: " لم يجز أن يبيعه لنفسه " معناه لم يجز أن يبيعه من نفسه؛ فإنَّ تولِّي طرفي العقد لا يسوغ من الوكيل. 3643 - ومما يتفرع على ما ذكرناه أن الراهن لو أذن للمرتهن في البيع مطلقاً عند حلول الحق، فباعه، والراهن حاضر، فمن راعى التهمة، نفذ العقدَ، ومن راعى الاستحقاق، لم يفصل بين البيع في الحضرة وبين البيع في المغيب؛ لجريان الاستحقاق في الموضعين. ولفظ الشافعي في صدر الفصل يدل على صحة البيع بحضرة الراهن؛ فإنه قال: " لم يجز أن يبيع بنفسه إلا بأن يحضره ربُّ الرهن ". ومن منع البيع مع حضوره، وسلك مسلك الاستحقاق، أوّل النص، وقال: فيه إضمار كلامٍ، والتقدير: لم يجز أن يبيعه المرتهن إلا أن يحضره الراهن فيبيعه (2).

_ (1) اعتمد الإمام هنا وفي أول الفصل رواية (الباء): " بنفسه "، وبها جاءت النسخ الثلاث. ثم عند حكاية الوجه القائل بتأويل نص الشافعي -في الأسطر التالية- اعتمد رواية (اللام): " لنفسه " فهي التي ينساغ التأويل عليها. وقد أشرنا في تعليقنا أول الفصل أن المختصر المطبوع بأيدينا اعتمد رواية (اللام): (لنفسه). (2) أي فيبيعه الراهن.

وهذا على التحقيق استثناء من غير الجنس كما يعرفه ذو الحظ من الأصول. وبنى بعض أصحابنا الوجهين في الصحة والفساد حيث تتطرق التهمة على وجهين، سيأتي ذكرهما في الوكالة، إن شاء الله تعالى. وذلك إذا وكل الرجل وكيلاً ببيع ماله، فباعه الوكيل من أبيه أو ابنه، ففي صحة بيعه وجهان، وسببهما تمكن التهمة من الوكيل في بيعه من أبيه أو ابنه. هذا كله في إذن الراهن في البيع، وترديد القول في إطلاقه وتقييده. 3644 - ومن بقية الكلام في الفصل أَنَّ الراهن عند حلول الحق لو أراد أن يستقلّ ببيع المرهون، وصرف ثمنه إلى المرتهن، لم يكن له ذلك أبداً، فإن طابقه المرتهن، فذاك، وإلا لا خلاص له إلا بأن يرفع الأمر إلى القاضي، ثم القاضي يقول للمرتهن: ائذن في بيعه، وخذ حقك، كما مضى، أو أبرئه عن حقك. ولو سلطنا الراهن على الاستقلال بالبيع، لبطل أثر التوثق، وحبسُ المرتهن، ومنعُه من التصرف. ولو أراد المرتهن أن يبيع الرهن بنفسه، فإن أمكنه مراجعةَ الراهن، واستيفاءَ الحق منه، فليس له أن يستقل بالبيع. وإن غاب الراهن، أو جحد، ولا بينة، وتعذر استيفاء الحق منه، فقد قطع الأصحابُ بتنزيل المرهون، والحالة هذه منزلَة شيء يظفر به مستحِق الدين من مال من عليه الدين. وفيه تفصيلٌ واختلافُ قول سيأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: فلا أثر للرهن إذاً، إذا كان لا يسلطه على البيع قولاً واحداً. قلنا: أثره يبين في زحمة الديون وضيق المال؛ فإن ذلك إذا وقع قُدِّم المرتهن بالرهن، وإن لم يكن الرهن، وكان قد ظفر بشيء من ماله، وهو تحت يده، استرددناه منه، ورددناه في جملة الأمتعة، وتركناهم يتضاربون على أقدار الديون. وقد نجز الفصل بما فيه.

فصل قال: " ولو كان الشرط للعَدْلِ، جاز بيعُه ما لم يفسخا، أو أحدهما وكالته ... إلى آخره " (1). 3645 - إذا حل الحق، فقال الراهن أحضر الرهنَ، وأنا أؤدي دينك من مالي، لم يلزم المرتهن أن يُحضره. ولو رفع الأمر إلى مجلس القاضي، والتمس منه أن يُلزم المرتهن إحضارَ الرّهن، حتى يقعَ قضاءُ الدين واستردادُ الرهن بمرأىً من القاضي، لم يُلزم القاضي المرتهن ذلك، وقال: حقه في الوثيقة قائم حتى يؤدَّى دينُه، ثم إن أدّاه فليس على المرتهن إحضارُ الرهن؛ فإن الرهن أمانة وليس على المؤتمن ردُّ الأمانة. نعم، لا يُمنع صاحبُ الأمانة من أَخذها. ولو أراد الراهنُ بيعَ المرهون وأداءَ الدين من غير ثمنه، لم يكن له ذلك. كما تقدّم. ولو قال للقاضي: أريد أن أؤدي حقَّه من ثمن الرهن، فليس للمرتهن أن يُلزم الراهن تحصيلَ الدين من جهةٍ أخرى، ولا فرق بين أن يكون قادراً على أداء الدين من جهةٍ أخرى وبين أن يكون عاجزاً، كما قدمناه من منع البيع فيه، إذا كان يزعم أنه يؤدي الدين من غير ثمن الرهن. 3646 - ومما يليق بتمام البيان في ذلك: أن البيع لو كان لا يتأتى إلا بإحضار الرهن، فلا يكلّف المرتهنُ إحضارَه؛ إذ قد يكون عليه في ذلك كُلْفة أو مؤنة، وعلى الراهن إذا أراد قضاء الدين من ثمن الرهن أن يتكلف إحضارَه، ويبذل مُؤنة إن مست الحاجةُ إلى بذلها، ثم قد لا يثق المرتهن بيده، فلا يسلمه إليه، ولا تنفصل الخصومة إلا بالقاضي، فإنه يبعث من يعتمده، حتى يكون هو المُحضِر. وإن مست الحاجةُ إلى مؤنةٍ، بذلها الراهن. 3647 - ثم نظم الشافعي فصولاً في تعديل الرهن على يد عدلٍ، ومزج بها جملاً من أحكام الوكالات، وقضايا الأمانات. ولو أُخرت إلى مواضعها، لتعطلت فصولُ

_ (1) ر. المختصر: 2/ 214.

الكتاب؛ فلا وجه إلا ذكرها بما يتعلق بها على الاستقصاء. فإذا وقع التراضي على تعديل الرهن على يد عدلٍ، جاز ذلك، وكانت يدُ العدل نائبةً عن يد المرتهن، ولا شركة في اليد للراهن؛ فإن حق القبض للمرتهن. ولكن لو أراد المرتهن أن يستردَّ الرهن من العدلِ؛ صائراً إلى أن الحق في القبض لي، لم يكن له ذلك؛ من جهة أن الراهن قد لا يثق بالمرتهن؛ وإنما يقع التعديل لهذه الحالة؛ فالراهن وإن لم يكن له حق في القبض، فله حق رعاية ملكه، وقد رأى التعديل وجهاًً في الرعاية. ثم إن أذن الراهنُ للعدل في بيع الرهن عند محِل الحق، وصرفِه إلى المرتهن، لم ينفذ بيعُه دون إذن المرتهن؛ فإن بيع الراهن لا ينفذ إلا على التفصيل المقدّم. فكيف ينفذ بيع وكيله؟ ولو وكل الراهنُ العدلَ بالبيع ورضي بالبيع المرتهنُ، فينفذ بيعُه إذا داما على الرضا. ولو عزله الراهن، ارتفعت الوكالة بالبيع، فإن أراد الراهن أن يبيع العدلُ، جدد توكيلاً. وإن لم يعزله الراهن، ولكن قال المرتهن: "لا تبعه"، بعد أن رضي، لم يبع؛ فإن إذنه معتبر في البيع، وإذا اعتبر إذنه ابتداءً، اعتبر استمراره عليه. وإذا رجع، بطل إذنه. ثم هل يقال: تبطل الوكالة أم لا؟ قال المحققون: الوكالة قائمة؛ فإن العدل في البيع وكيلُ الراهن، وليس وكيلُ الراهن وكيلَ المرتهن. نعم. إذا رجع المرتهن عن الإذن، انخرم شرطٌ في نفوذ تصرف الوكيل، فإذا أعاد الإذنَ، فالوكالة الآن على شرطها، والتصرف نافذ. وذهب بعض الضعفة إلى أن رجوع المرتهن عن الإذن، يوجب رفع الوكالة، فعلى هذا إذا عاد فأذن، فلا بد من توكيلٍ جديدٍ من الراهنِ. وهذا ضعيف غيرُ معتد به.

3648 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الراهن والمرتهن لو أذنا للعدل في بيع الرهن عند محلِ الحق، واستمرّا على الإذن، فهل يستبد العدل بالبيع، دون مراجعة الراهن والمرتهن؟ أم كيف السبيل فيه؟ ذكر العراقيون وجهين في تعيُّن مراجعة الراهن: أصحهما - أن المراجعة لا تجب. ووجهه بيّن. والثاني - أنها واجبةٌ؛ فقد يبدو له أن يستبقي الرهنَ، ويؤدي الدين من سائر ماله. وهذا يعتضد بأمرٍ يتعلق بالتصرف، وهو أن الاستنابات قِبَل الحاجات تجري في العادات، ثم إذا حقت الحاجة، فالعادة مطردةٌ بالمراجعة، فحُمل المطلقُ على هذا. وهذا ضعيف، والأصل الاستمرار على الإذن. فإن أراد الراهن رفعه، عزله. ولا خلاف أن المرتهن لا يراجع؛ فإن غرضه توفيةُ الحق، وليس له في الرهن حق ملكٍ، أما الراهن، فقد يستبقي الملكَ، ويؤدي من موضعٍ آخر. وهذا ليس خالياً عن الاحتمال، إن صح ذلك الوجه البعيد. فصل قال: " ولو باع بما يتغابن الناسُ بمثله، فلم يفارقه حتى جاء من يزيده، قَبِلَ الزيادة ... إلى آخره " (1). 3649 - هذا من فصول الوكالة، فنفرضه في العَدْل (2 وهو مُطّردٌ في كل وكيل. فإذا وكّل الراهنُ العدل 2) ببيع الرهن، ورضي المرتهن، والتوكيل مطلق، فالعدل مأخوذ في إطلاق التوكيل برعاية ثلاث خِلال: أحدها - ألا يبيع بغبن. وسيأتي تفصيل الغبن. والخصلةُ الأخرى - ألا يبيع إلا بنقد. والثالثة - ألا يبيع نسيئة. فإن باع بثمن المثل، وكان مع المشتري في مجلس العقد، فأشرف عليهما من يزيد في الثمن. فنقول: أولاً إذا كانت السلعة تطلب بأكثر من ثمن مثلها، فليس للوكيل أن

_ (1) ر. المختصر: 2/ 214. (2) ما بين القوسين ساقط من (ص)، (ت 2).

يبيعها ب ثمن المثل؛ وهذه غبينة (1) بين أرباب المعاملات. 3650 - فإذا تمهد هذا، قلنا: إذا جاء من يزيده، فظاهر النص يشير إلى أنه يبيع تلك السلعة ممن يزيد في الثمن. فإذا قَبِلَ (2) الزائدَ، ترتَّب عليه تحصيلُ الزيادة، وانفساخُ البيع الأول. وهذا قد استقصيناه في أول كتاب البيع. ولا بد من تجديد العهد به. فنقول: من باع سلعة، ثم باعها في زمان الخيار، أو مكان الخيار، ففي هذا البيع أوجه: أحدها - أنه ينفذ. ثم من ضرورة نفوذه انفساخ العقد الأول. والثاني - أنه لا ينفذ، ولا ينفسخ به العقد الأول. والثالث - لا ينفذ، وينفسخ به العقد الأول. وقد ذكرنا الأوجه وفرعناها. فإن وقع التفريع على نفوذ البيع الثاني، وانفساخ الأول، فالوجه أن يبيع؛ فإنه إن قبل من زاد، حصل الغرض، وإن أبى، فالبيع الأول قائم كما كان. 3651 - وحق هذه المسألة أن تُرتَّب على الوجه الذي نصفه. فيقال: إن قلنا: البيع في زمان الخيار فاسد، ولا بد من جلب الزيادة الظاهرة من هذا الذي زاد، فالذي يقتضيه مساق الكلام أن فسخ العقد الأول مستحق. وإذا كان كذلك، فلا خِيَرة في إبقاء ذلك، ولا سبيل إلى أن نقول: يلزم الوكيلَ الفسخُ، فيتيعن من مجموع ما ذكرناه أن ذلك العقد ينفسخ، وهذا معنى استحقاق الفسخ، ثم سبب الفسخ تحصيل الزيادة. فلو حكمنا بالفسخ لمّا ظهرت الزيادة، وأردنا البيع ممن زاد، فإن وافق، وابتاع بما كان يذكر، فذاك. وإن امتنع، ولم يُتم ما وعد، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: انقطع العقد [الأول] (3)، فليبتدىء الوكيلُ بيعاً إن فوض إليه. وهذا أوجه. وقياسه بيّن.

_ (1) في الأصل: نقطة على النون فقط، (ت 2) بهذا الرسم بدون أي نقط، و (ص): بهذا الرسم مع نقطة على الغين، ونقطتين أسفل ما بعدها. وترك الباقي بدون نقط. (2) في (ص)، (ت 2): قيل: الزائد يترتب ... إلخ. (3) ساقطة من الأصل.

ومن أصحابنا من قال: إذا أبى هذا الذي زاد، تبين أن الفسخ الذي حكمنا به غيرُ نافذ، فكأنه كان فسخاً موقوفاً على هذا الوجه، وكان سببه الطمع في تحصيل الزيادة، فإذا أيسنا من تحصيلها من هذه الجهة، فالعقد قائم كما كان. وضُرب لذلك مثل (1)، وهو أن الابن إذا بذل الطاعة لأبيه في الحج، فلم يرشحه الأب لذلك، ثم رجع الابن قبل حج الحجيج في تلك السنة، فنتبين أن ما حسبناه استطاعةً، لم يكن استطاعة، ولا يستقر الحج في ذمته. هذا إذا حكمنا بأن الفسخ مستحَق، وبيّنا وجه الاستحقاق فيه، ثم أنهينا التفريع منتهاه في هذا الطريق. قال الشيخ أبو محمد: إذا كان فوض البيعَ عوداً على بدء إلى هذا الوكيل، فلما بدت الزيادة، أراد أن يحصِّلها بأن يبيع من الزائد، وفرعنا على صحة البيع، ونفوذ الفسخ به، فعلى هذه الطريقة لا نحكم بأنفساخ العقد، إذا كان الوكيل سلك المسلك المستصوب. فإن امتنع منه حينئذٍ، حكمنا بالانفساخ، وعاد التفريع إلى ما ذكرناه. 3652 - فامَّا إذا قلنا: لا يصح هذا الطريق، ولا بد من تقدير ارتفاع العقد الأوَّل، فلا سبيل إلى الحكم بوجوب إنشاء الفسخ كما مضى، فرجع الكلام إلى أن البيع في مكان الخيار إن صححناه، وضمّنَّاه الفسخَ، فهو وجهٌ إن أنشأه الوكيل. وإن امتنع منه، أو قلنا: لا يصح البيع، تعين الحكم بالانفساخ، ثم هو نافذٌ، أو موقوف على ما ذكرناه. وممّا لا بد من ذكره أن الوكيل بالبيع لو باع، ثم فسخ العقد، فهل له أن يبيع مرة أخرى؟ فيه تفصيل يأتي في كتاب الوكالة. والقدر الذي نذكره هاهنا أن الأصحاب اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: ليس له أن يبيع إلا بتوكيل جديد؛ فإنه لم يوكل إلا ببيع واحد. ومنهم من قال: له البيع من

_ (1) كذا في النسخ الثلاث. فبنينا الفعل (ضرب) للمجهول.

غير توكيل جديد؛ فإنه وُكِّل ببيع يتم ويؤدي إلى الغرض، فإذا لم يتم، وفُسخ، فهو مأمور ببيعٍ يتم على موجَب التوكيل الأول. وسنكشف هذا في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " وإذا بيع فثمنه من الراهن حتى يقبضه المرتهن ... إلى آخره " (1). قوله: " من الراهن "، أي من ضمان الراهن. 3653 - مقصود هذا الفصل ذكر طرفٍ من العُهدة على الوكيل، وبيانُ قرار الضّمان، وذكرُ سببه، فنقول: للعهدة ثلاثةُ أركان في قاعدة المذهب: أحدها - في توجيه الطلب. فنقول: من اشترى بالنيابة شيئاًً لموكِّله، فهل للبائع توجيه المطالبة بالثمن على الوكيل؟ نُظر: فإن عقد العقد بلفظ السفارة، ولم يضف الشراء إلى نفسه فقال: " اشتريت لفلان "، ولم يقل: " اشتريت " مطلقاًً، فلا مطالبة على السفير. والنكاح لما كان لا يعقد إلا بالسفارة، لم تتوجه الطلِبة على السفير القابل للزوج. فإن أضاف الوكيل الشراءَ إلى نفسه، فقال: اشتريتُ، فإن لم يعلم البائع كونَه وكيلاً، فلا شك أنه يطالبه. وإن علم أنه وكيل واعترف به، فله مطالبة الموكِّل، لم يختلف فيه أصحابنا. وإنما اختلفوا في مطالبة سيد العبد المأذون؛ لِما ذكرناه في مسائله. وهل يطالب الوكيل؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا مطالبةَ؛ فإنه سفير في الحقيقة، ولم يصرح بالسفارة، فأشبه ما لو صرح بها. والوجه الثاني - أنه يطالبه بالثمن، وإن علم كونَه وكيلاً؛ فإن قوله: اشتريتُ التزام، فإذا كنا نُلزم من يقول: ضمنتُ الدينَ، فلا بُعْدَ لو ألزمنا من يقول: اشتريت أو قبلتُ. هذا ركنٌ من أركان العُهدة. ثم إذا غرم الوكيل، فلا شك أنه يرجع على الموكِّل، ولا تفصيل في ذلك.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 214.

بخلاف ما لو قال من عليه الدين لرجل: " اضمن عني الدينَ ". فإذا ضمنه، وغرِمه، ففي رجوعه على المضمون عنه خلافٌ إذا لم يقيد المضمونُ عنه الإذنَ في الضمان بشرط الرجوع، وهاهنا لا حاجة إلى ذلك، بل نفس عهدة العقد تقتضي الرجوع بعد الغرم إن اتفق ذلك. 3654 - الركن الثاني من العهدة - تصوير خروج المبيع مستحقاً بعد قبض الثمن. فإذا باع الوكيل وسلَّم المبيعَ وتسلم الثمن، ثم خرج المبيعُ مستحقاً، فإن كان عينُ الثمن باقياً، استردَّها المشتري، وردَّ المبيع على مستحقه. ولو تلف ذلك الثمنُ، لم يخل إما أن يتلف في يد الوكيل، وإمّا أن يتلف في يد الموكِّل. فإن تلف في يد الوكيل من غير تفريطه، فللمشتري الرجوع عليه، ووجهه بيّن، فإنَّ دراهمه تلفت في يده، ولم يكن مؤتمناً من جهته، ثم يثبت له الرجوع إلى الموكِّل، فإنه هو الذي ورَّطه فيما انتهى إليه الأمر، لمّا أمره بالبيع وأقامه وكيل نفسه، فيضمن هذا حق الرجوع عليه، وهذا متفق عليه في عُلقة العهدة، ولا محمل له إلا تعريضه إياه لما جرى، فهو من التغرير الذي يجرّ ضماناً لا محالة. وهو بمثابة ما لو أودع الغاصب العينَ المغصوبة عند إنسانٍ، والحال مشكل على المودَع، فالطّلِبة تتوجّه عليه، لثبوت اليد في الظّاهر. ثم إنه يرجع على الغاصب المودع؛ [من جهة أنه غره لمَّا أَوْدع عنده، وإن كان التلف حصل في يد المودَع، فالقرار على الغاصب المودِع] (1). هذا الذي اتفق الأصحاب عليه في الوكيل، الذي نصبه الموكل في البيع والقبض، ثم ثبت الاستحقاق، وقد تلف الثمنُ المقبوض في يد الوكيل، من غير تفريطه. وقد ذكرنا أن للمشتري مطالبةَ الوكيل بقبضه ماله، ثم له الرجوع على موكِّله لتغريره

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

إياه، وينتظم منه أن قرار الضمان على الموكِّل؛ فإن أراد المشتري بذلك أن يطالب الموكِّل بالثمن، وما ثبتت يده عليهِ، فلست أرى له ذلك؛ من جهة أن يده ما وصلت إلى عين مالِ المشتري، وإن كان قرار الضمان عليه؛ من جهة الوكيل إذا غرِم، فلم يوجد منه في حق المشتري إلا أنه أمر وكيله بالمعاملة، ومن أمر غيره بغصب مالٍ، لم يصر بأمره غاصباً، فأقصى ما يتخيل في ذلك أنه غرّ وكيلَه، فغرّ وكيلُه المشتري، وهذا لا يوجب انتظام سبب المطالبة بين المشتري وبين الموكِّل، وهذا ما أراه. وكذلك يجب أن يقال: إذا عُقد النكاح على حكم الغُرور، وألزمنا المغرور قيمةَ الولد لسيد الأمة، ثم أثبتنا للمغرور الرجوع على الغار، فقد جعلنا الغارَّ محلاً لقرار الضمان. وليس يتجه أن يقال: لسيد الأمة تغريمُ الغارّ ابتداءً، وإن كان الضمان يتوصّل إليه بطريق رجوع المغرور عليه. وليس هذا كالغاصب إذا أودع؛ فإن للمغصوب منه مطالبة من شاء منهما؛ والسبب فيه أن يد كل واحد منهما اتصل بملك المغصوب منه، فكان مطالَباً لذلك، هذا ما أقدره. ولستُ أنفي احتمالاً يراه ناظر في تثبيت مطالبة الموكِّل في مسألتنا، والغار في بابِ الغرور، من جهة أن استناد حرية الولد إلى التغرير، لا إلى الإيلاد والإعلاق. وكذلك القول في الوكيل والموكِّل. فهذا بيان ما أردناه، والميل إلى الأول. وقد صرح العراقيون بأن المبيع إذا خرج مستحقاً، وقد تلف الثمن في يد الوكيل، من غير تقصيرٍ منه، فلا يرجع المشتري على الوكيل أصلاً، وإنما يرجع على الموكِّل. وهذا تصريح منهم بأن المشتري يطالِب المغرِّر. وألفاظ المراوزة تدل على أنه لا تتوجه المطالبة على الموكّل، وإنما يطالب الوكيل، ثم إذا غرِم الوكيل، رجع على الموكّل. ونفيُهم مطالبةَ الوكيل بعيدٌ عن قياس المراوزة. والذي تحصل من ذلك أن الضمان متعلق بالموكِّل استقراراً. والذي يظهر القطع به أن الوكيل مطالَبٌ. وفيه وجه ضعيف حكيتُه عن العراقيين، وفي توجيه

المطالبة على الموكِّل ابتداء (1 ترددٌ. والذي ظهر من كلام المراوزة أنه لا يطالب ابتداءً 1) والذي صرح به العراقيون: أنه يطالبه المشتري ابتداءً. 3655 - وكل هذا إذا تلف الثمن في يد الوكيل، ولم ينته إلى يد الموكل. فأمّا إذا انتهى إلى يد الموكِّل، فتلف في يده، فلا شك أن المشتري يوجّه المطالبةَ على الموكِّل؛ فإن يده ثبتت على ماله، وإنما التردد المتقدم فيه إذا تلف الثمن في يد الوكيل، فإذا ثبت أن الموكِّل مطالَب من جهة المشتري ابتداءً، فهل له مطالبة الوكيل؟ نُظر فيه: فإن لم يمرّ الثمنُ بيد الوكيل، فلست أرى لمطالبة الوكيل وجهاًً إذا لم تثبت له يدٌ، والعقد لم يصح، حتى يتضمن عهدةً متعلقة بمن تولى العقد؛ إذ المبيع خرج مستحقاً. وإن مرَّ الثمن بيده، وانتهى إلى يد الموكِّل، ففي مطالبة الوكيل في هذه الصورة جوابان ظاهران في طريقة المراوزة؛ (2 من جهة أن الوكيل متوسط، وقد بلغ المال منتهاه، وتلف في يد الموكِّل، والوكيل مؤتمنٌ 2)، من جهة موكِّله، والمشتري وإن لم يوكِّله، فإنه يسلم الثمنَ إليه، ليسلّمه إلى موكِّله، فكأنه من هذا الوجه مؤتمن -من جهة المشتري- مأذون (3) له في إيصال الثمن إلى موكله. وقيل تتعلق الطَّلِبة به؛ لأن أخذ المال كان على حكم العُهدة. وكل ما ذكرناه فيه إذا باع العدل بتوكيل الراهن، وأذن المرتهن، ثم جرى ما وصفناه. 3656 - فأمّا إذا تولى الحاكم بنفسه بيعَ الرهن عند اتصال الخصومة بمجلسه، وقبض الثمن ليوصله إلى جهته، فتلف في يده، ثم خرج المبيع مستحقاً، فقد أجمع أصحابنا على أن الحاكم لا يتعلق به طَلِبةٌ، ولا ضمان، ولا يقال: يطالَب به، ثم يرجع؛ فإن الحكام لو تعلقت بهم العهدة في العقود التي يُنشِئونها لظاهر الاستصلاح،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2)، (ص). (2) وهذا أيضاً ساقط من (ت 2)، (ص). (3) عبارة (ت 2): "من جهة كون المشتري مأذون له ... " وفي (ص): "من جهة أن المشتري مأذون له ... ".

لعظم الأمرُ وكثرت المشقة، فاتفق الأصحاب على إخراج الولاة في أمثال هذه العقود عن العهد، والطّلِبةِ، والتغريمِ، ابتداء وقراراً. وإذا كان كذلك، فلا بد من إثبات الرجوع؛ فإن حق المشتري لا يضيع، والرجوع ابتداءً على الراهن لا خلاف فيه. فإن قيل: ليس الراهن موكّلاً في عقدٍ يُتخيّل مرجوعاً عليه، وإنما الحاكم فعل ما فعل؛ فكان يجب أن يقال: لم يصدر من الراهن عقدٌ ولا توكيل في عقد، والحاكم لا يضمن، فلا يجد المشتري مرجعاً. قلنا: هذا لا قائل به. وسبب تضمين الراهن أنه رهن ملكَ غيره، وكل من رهن شيئاًً، فقد عرَّضه للبيع على استحقاقٍ. وهذا أبلغ من وكالة تقبل العزل على الاختيار. فالحاكم بنى بيعه على حكم رهنِه، فقد صار بالرهن إذاً مغرِّراً، كما تقدم. وهذا يعضد توجيهَ المطالبة على الموكِّل ابتداء في المسألة الأولى؛ [فإنا لما رفعنا الحاكم من البَيْن (1)، ووجهنا المطالبة على الراهن، فهو (2) في هذه المسألة بمنزلة الموكِّل في المسألة الأولى] (3) ونص الشافعي فيمن مات وخلف تركة مستغرقة بالدين، فباع الحاكم تركته، وتلف الثمن في يده قبل أن يصرفه إلى الديون المحيطة بالتركة، ثم خرج المبيع مستحقاً، قال الشافعي: لا عهدة على الحاكم ولا طَلِبةَ، والعهدة على الميت، وتركتِه. فإن قيل: إن كان الراهن في المسألة التي ذكرتموها الآن مغرراً، برهنه، من حيث كان مقتضى الرهن التعريضَ للبيع. فما سبب تعليق الضمان بذمة الميت في المسألة الأخيرةِ؟ قلنا: احتواؤه على المغصوب حتى يتعلق به الدين إذا مات تسبُّبٌ منه إلى تسليط الحاكم على البيع، والسبب المضمِّن قد يقرُب، وقد يبعد.

_ (1) البين: من الألفاظ التي استعملها الإمام في (البرهان)، وكررها في (النهاية) وهي مفهومة من السياق. وإن لم أصل لمعنى لها في (مادتها) المعجمية. (2) في النسختين: وهو. (وهي ضمن الفقرة الساقطة من الأصل). (3) سقط ما بين المعقفين من الأصل.

3657 - فهذا إذا تولى الحاكم البيعَ، وأمّا إذا نصب أميناً، فباع الأمين الرهنَ، أو عيناً من التركة بإذن الحاكم، وتلف الثمن في يد الأمين، ثم تبين الاستحقاق؛ فلأصحابنا وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تتعلق الطَّلِبة بالأمين؛ من جهة أنه منصوب من مجلس الحاكم، فكان كالحاكم. وهذا ظاهر نص الشافعي. ومن أصحابنا من علق الطَّلِبةَ بالعَدْلِ، وإن كان منصوباً من جهة الحاكم. وهذا بعيد عن النص والقياس -وإن كان مشهوراً- فليس ينقدح الفرقُ بين الحاكم وبين منصوبه؛ فإن الحكام لا يتعاطون جملة العقود بأنفسهم، وما يفوضونه إلى الأمناء أكثر مما يتعاطَوْنه. ولو تعرض الأمناء من جهتهم لغرر العُهدة، لامتنعوا عن مباشرة الأمور، ويضيق بهذا السبب الأمرُ على القضاة. فإذا حططنا الطَّلِبةَ عن الحاكم؛ صيانةً لمنصبه، وجب طردُ ذلك في أمينه. وقد قال أئمتنا: إذا ادّعى رجل محكوم عليه أن القاضي ظلمني، وتحيَّف عليَّ في حكمه، فلا تقبل دعواه على الحاكم نفسِه، فإنا لو فتحنا هذا البابَ، لانطلقت ألسنُ الخصوم على الولاة. وفي هذا ترتيبٌ وتفصيل، سنذكره في أدب القضاة، إن شاء الله تعالى. 3658 - فحصل من مجموع ما ذكرناه مراتب: إحداها - الوكيل الذي ينصبه الحاكم. وقد مضى القول في مطالبته ورجوعه، ومطالبة موكِّله. والمرتبة الثانية - في تصرف الحكام بأنفسهم. والثالثة - في تصرف الأمناء المنصوبين من جهة الحكام. وقد نجز هذا الركن من أركان العهدة. وليعلم الناظر أن ذلك ليس من عهدة العقد؛ إذ لا عقدَ مع الاستحقاق، ولكن القول في هذا دائر على التغرير والتسبب إليه، مع ثبوت الأيدي للمتوسّطين. 3659 - والركن الثالث - من العهدة يتعلق بالرد بالعيب. وليس هذا موضعه. وسنأتي به مبسوطاً في كتاب الوكالة، إن شاء الله عزّ وجل.

ثم قال الشافعي: إذا بيع الرهن، وخرج مستحقاً، لم تتعلق عهدة الثمن بالمرتهن أصلاً؛ إذ لم تثبت يده عليه، فإن الرهن، وإن بيع في حقه، فلم يأت من جهته تغرير، ولم تثبت يده على مال المشتري، وعينُ الرهن قد قبضها مستحقها. وقال أبو حنيفة: يتعلق العهد بالمرتهن. وقد رمز الشافعي إلى الرد عليه فقال: " وليس الذي بيع له الرهن من العهدة بسبيل " (1). فصل قال: " ولو باع العدلُ (2)، وقبض الثمن، فقال: ضاع مني، فهو مصدق ... إلى آخره " (3). 6360 - العدْل إذا وكله الراهنُ بالبيع، ورضي المرتهن، فباع وقبض الثمن، ثم قال: ضاع الثمن في يدي من. غير تقصير، فهو أمين مصدَّق، وإن اتّهم حُلِّف. وهذا لا شك فيه. فلو ادعى العدل أنه دفع الثمن إلى المرتهن، فإن صدقه المرتهن، فذاك، وإن كذبه نُظر: فإن كذبه الراهن أيضاًً، توجه الضّمان على العدل. أمّا المرتهن، فلا شك أنه لا يقبل قول العدل عليه والقول قوله إني لم أقبض حقي، وقول العدل غير مقبول على الراهن في هذا المقام؛ من جهة أنه وإن كان أميناً في حقه، فقد ادعى تسليم المال إلى من لم يأتمنه، وقصر إذا لم يُشهد مع إمكان الجحود. ولو قال الراهن: صدقتَ فيما ادعيتَ، وأنا أعلم أنك سلمت إلى المرتهن ما قبضت، فهل يضمن العدل والحالة هذه؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يضمن لتصديق الراهن إياه. والثاني - يضمن لتقصيره في ترك الإشهاد. ولهذا نظائر ستأتي، إن شاء الله تعالى.

_ (1) نص عبارة الشافعي في المختصر: 2/ 214. (2) في النسخ الثلاث: (العبد). والتصويب من المختصر. (3) الموضع السابق.

ولو صدقه الراهن في التسليم، واعترف بأنه كان أشهد، ولكن مات شهوده؛ فلا ضمان. ولو ادعى العدل أني كنتُ أشهدتُ ولكن مات شهودي، أو غابوا، وأنكر الراهن إشهاده، واعترف بتسليمه إلى المرتهن، فإن قلنا: اعترافه بتسليم الثمن إلى المرتهن كافٍ لتبرئة العدل، فلا إشكال. وإن قلنا: يضمن العدل وإن صدقه الراهنُ لتقصيره، فهل يضمن إذا ادعى الإشهاد وأنكره الراهن؟ فعلى وجهين: ذكرهما صاحب التقريب. ومُدرَك توجيههما لائح. ولا خلاف أن الراهن لو شرط على العدل أن يُشهد على تسليمه، واعترف العدل بأنه لم يشهد، واعترف الراهن بأنه سلم إلى المرتهن، فالضمان يجبُ في هذه الصورة وجهاً واحداً؛ من جهة أنه خالف شرطَ موكله. وإن لم يكن شرط، فالمسألة على التردد في أن الاحتياط هل يُلزم العدلَ الإشهادَ. هذا مأخذ الكلام. فصل قال: " ولو قال أحدهما: بع بدنانير ... إلى آخره " (1). 3661 - إذا حل الحق، فقال الراهن للعدل: بع الرهن بالدنانير، وقال الآخر: بعْ بالدراهم، فلا يبيع بواحد منهما، فإن بيع العدل ينفذ إذا صدر عن توكيل الراهن، أو رضا المرتهن، فإذا تخالفا، لم يمتثل قول واحد منهما، بل يرفع القضية إلى مجلس الحكم، ثم الحاكم يبيع، أو يأذن لمن يبيع بنقد البلد، إن رأى المصلحة فيه. وهذا بيّن لا خفاء به.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 214.

فصل قال: " وإن تغيرت حال العدل ... إلى آخره " (1) 3662 - إذا توافق الراهن والمرتهن على تعديل الرهن على يد عدلٍ، فإن أرادا رفعَ الرهن من يده وردَّه إلى آخر، جاز ذلك، فالحق (2) لا يعدوهما. وإن أراد الراهن أن يتحكم بإزالة يد العدل، ويرد الرهن إلى يدِ آخر، لم يكن له ذلك؛ فإن حق القبض للمرتهن، فلا يجوز التصرف في اليد دون إذن المرتهن. ولو أراد المرتهن أن يرفع الرهن من يد ذلك العدلِ دون إذن الراهن، لم يكن له ذلك، لا شك (3) فيه. والعدل في نفسه لا يرد الرهن على الراهن دون المرتهن، ولا يرد على المرتهن دون الراهن، فإن فعل، صار ضامناً، فإن دفعه إلى المرتهن دون إذن الراهن، ففات في يده، ضمن القيمة للراهن. وإن دفعه إلى الراهن دون المرتهن، (4 ضمن للمرتهن 4) إذا فات الرهنُ في يد الراهن. ثم ينظر: فإن كان الحق حالاًّ، فيضمن للمرتهن أقلَّ الأمرين من دَيْنه أو قيمةِ الرهن. وإن كان مؤجلاً، فعليه كمالُ القيمة، ليكون رهناً عند المرتهن. وهذا يلتفت على أصل، وهو أن من يستحق ديناً مؤجلاً قد لا يجبره من عليه الدين على قبول حقه قبل محِلِّه، وقد مضى تفصيل ذلك في مواضع. 3663 - فالغرض إذا ينكشف بذكر صورتين: إحداهما - أن يساعد الراهنُ العدلَ، فيخرَّج الأمر على ترتيب تعجيل الدين المؤجل، وتوفير المعجّل (5). ومساعدة الراهن

_ (1) السابق نفسه. (2) في النسخ الثلاث: والحق. (3) في (ص)، (ت): بلا شك. (4) ما بين القوسين سقط من (ص)، (ت 2). (5) في (ص)، (ت 2): المؤجل.

بأن يأذن للعدل في أداء الدين، أو يؤدي الدينَ بنفسه. ويكفينا الآن التصوير في إذنه للعدل بأن يؤدي الدين. فينتظم الفرق بين الحالّ والمؤجل. فإن كان الدين حالاً، لم يلزمه إلا أقلُّ الأمرين، كما ذكرناه، تفريعاً على أن من أدى دينه المعجل، لم يكن له أن يمتنع عن قبوله. وإن فرض في الدين المؤجل، ففي الإجبار على القبول التفصيل المذكور. فإن قلنا: لا يجبر من له دين مؤجل على قبوله، تعيّن على العدل أن يضع قيمةَ الرهن رهناً إلى حلول الدين. وإن قلنا: يجبر على قبول الدين، فالكلامُ في الدين المؤجل كالكلام في الدين الحالّ. وهذا كله إذا أذن الراهن له في أداء الدين. فأما إذا لم يصادِف الراهنَ حتى يستأذن منه، أو لم يأذن له الراهنُ في أداء الدين، فلا يجب على المرتهن أن يقبل الدين منه، مؤجلاً كان أو حالاً. بل يقول: لستَ مأذوناً من جهة من عليه الدين، ولا أقبل تبرعك بأداء الدين. وإذا كان كذلك نُظر: فإن كان الراهن حاضراً، قاله له العدل: رددتُ عليك الرهن، وأنت المالك، فخلِّصني [بالإذن] (1) في أداء الدين، أو بأداء الدين. وإنما [تحسن] (2) هذه المسألة إذا كان الدين أقلَّ من قيمة الرهن، وقَبْل أن تتفق مفاوضة الراهن بما ذكرناه يغرَم (3) للمرتهن قيمة الرهن، وإن كانت ألفاً، والدين دينار (4). ثم إذا تمكن من الراهن، ففاوضه، فقال الراهن: لست آذن لك في أداء الدين، ولست أؤديه، وكان المرتهن لا يطالب أيضاً، فهذا يؤدي إلى تعطيل مال عظيم على العدل من غير فائدة، ولكن القيمة مرهونة، والراهن مأمورٌ بتخليصها إذا كان الدين

_ (1) في الأصل: من الإذن. (2) في الأصل بدون نقط. والحرف الأخير بين (النون) والألف المرسومة (ياء). والمثبت من (ت 2)، (ص). (3) في (ص)، (ت 2): بغرم الراهن. والمعنى: يغرم العدل للمرتهن قيمة الرهن بالغةً ما بلغت. (4) في (ص)، (ت 2): ديناً.

حالاًّ، كما يؤمر المستعير بتخليص العبد (1) لمعيره، كما سنذكر؛ فإن تغريم القيمة لغير المالك، والعين مردودة على المالك يستحيل أن تبقى على التأبد بغير نهاية، فيتعطل مال بأن يتواطأ الراهن والمرتهن. ولو كان عين الرهن قائمة، فهي مستردة من الراهن. وإن تلفت، فضمان القيمة لتوضع رهناً متوجه على الراهن. ولو غرم العدل للمرتهن قيمةَ الرهن، وقد سلمه إلى الراهن، فله الرجوع بما غرم على المالك الراهن. فإن (2) فاتت العين، فإنه يقول: إنما غرمت بسبب أخذك الرهن بغير حق، فأرجع عليك. ولو كان الرَّهن قائماً في يد الراهن، لوجب رده على حكم قبض المرتهن. وهذا بيّن. وما ذكرناه فيه إذا أعرض المرتهن عن مخاصمة الراهن. وتشبث بالعدل. والتفصيل ما ذكرناه. فصل 3664 - ثم ذكر الشافعي تغير حال العدل عن العدالة، وبنى عليه أنه إذا فسق، فللراهن ألا يرضى بيده، وإن رضي الراهن، فللمرتهن ألا يرضى؛ فإن الحق ثابت لهما. أما الراهن، فله طلب الاسترداد والاستبدال به؛ محافظة على [ملكه، وللمرتهن مثل ذلك محافظةً على وثيقته] (3)، وإذا جنى العدل عمداً على الرهن، فهو منه فسوق، ولو جنى خطأً، لم يفسق، ولزمه أرش جنايته، والرهن مُقَرٌّ تحت يده، ولو كان من عدّل الرهن عنده (4) فاسقاً في الابتداء وكانا عالمين بفسقه، فأراد أحدهما أن يرفع يده عن الرهن، لم يكن له ذلك.

_ (1) في (ص)، (ت 2): "الرهن لغيره لا والمسألة إشارة إلى من استعار عبداً ليرهنه. وستأتي قريباً. (2) في (ص)، (ت 2): إن. (3) ما بين المعقَفين ساقط من الأصل. (4) في (ص)، (ت 2): يختص عنده.

فإن ازداد فسوقاً إلى فسوقه المتقدم، كان ذلك بمثابة فسوق العدل. وقد سبق التفصيل فيه. ثم ذكر الشافعي بعد ذلك أن العدل لو أراد أن يودع الرهن الكائن تحت يده عند إنسان، فكيف حكمه؟ وهذا لا اختصاص له بالرهن، وسأذكره مستقصى في كتاب الوديعة، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " ولو جنى المرهون على سيده ... إلى آخره " (1). 3665 - إذا رهن الرجل عبداً وسلمه إلى المرتهن، فجنى على السيد الراهن، فلا يخلو: إما أن يجني على طرفه وإما أن يجني على نفسه. فإن جنى على الطرف، لم يخل: إما أن يكون موجباً للقصاص أو للمال، فإن كان موجباً للقصاص، فللسيد الراهن أن يقتصّ منه؛ لأن عماد القصاص الزجرُ وشفاءُ الغيظ. والحاجةُ ماسة إلى زجر العبيد عن الجناية على السادة، وشفاءُ الغليل مما يحتاج السيد إليه، فله القصاص. وإن كان يؤدي إلى إبطال حق المرتهن من الوثيقة. ومهما (2) جرى من المرهون ما يوجب القصاص، لم يندفع القصاص بسبب حقِّ الغير في المالية. وإن كانت الجناية موجبة للمال في جنسها، أو كان موجباً للقصاص، فعفا السيدُ على مال، فلا يثبت المال أصلاً؛ لأن السيد لايستوجب في ذمة عبده مالاً على الابتداء قط. وإذا لم يثبت له حق مال في رقبة عبده، ولم يثبت القصاص، أو ثبت وسقط، فيبقى العبد مرهوناً إلى الفكاك. هذا ما أجمع عليه الأصحابُ، ولم يحكِ أحدٌ فيه خلافاً إلا صاحبُ التقريب، فإنّه ذكر وجهاً بعيداً فقال: ذهب ابن سُريج إلى أَنَّ للسَّيد أن يبيع من العبد الجاني بقدر

_ (1) ر. المختصر: 2/ 214. (2) "ومهما": بمعنى (وإذا).

أرش الجناية؛ حتى ينفك الرهن في ذلك المقدار، فيثبت له هذا الحق، وإن كان لا يثبت له دين على عبده. وهذا ضعيف جداً، حكيناه ولا نعود إليه. هذا إذا كان تعلُّق الجناية بالطرف. 3666 - فأما إذا قتل العبد المرهونُ السيدَ الراهن، فإن أراد ورثتهُ الاقتصاصَ، كان لهم ذلك. وإن لم تكن الجناية جنايةَ قصاص، أو ثبت القصاص فأسقطوه بالعفو، فلا يثبت لهم عُلقة مالية؛ فإنا إن قلنا: الدية تجب للمقتول (1)، ثم تنتقل منه إلى وارثه، فعلى هذا لو أثبتنا الدية للسيّد، لأثبتناها للمالك. وقد ذكرنا أن ذلك محال. وإن فرَّعنا على أن الدية تثبت ابتداءً للورثة، فهم يملكون رقبة العبدِ الجاني، في الوقت الذي يملكون فيه الدَّيْن لو أمكن ملكهم فيه. وكما لا يطرأ ثبوت الدين للسيد على ملكه، وكذلك لا يقترنان؛ فإنهما على حكم التناقض يتجاريان، فكيف فرض الأمر لم يثبت للورثة حق مالي؛ فيبقى العبد مرهوناً، كما كان، على المذهب المقطوع به. 3667 - ولو جنى العبد المرهون على ابن السيد الراهن، نُظر: فإن كانت الجناية على الطرف، فللابن القصاصُ، فإن استوفاه، فذاك. وإن عفا على مالٍ، أو كانت الجناية مالية، فالعبد يباع في الأرش، ويفك الرهن. وإن لم يتفق من الابن تحصيلُ ذلك، والمطالبه به حتى مات، وورثه أبوه الراهن، لم يُخَلِّف (2) وارثاً غيرَه، فهذا موضع تردد الأصحاب. منهم من قال: يثبت للأب حق فك الرهن على ما تقتضيه الجناية؛ فإن المال لم يثبت له ابتداءً حتى يحكم باستحالته. ومن أصحابنا من قال: لا يثبت حق فك الرهن. وبنى الأئمة هذا الاختلافَ على أصل، وهو أن من استحق دين على عبداً، ثم

_ (1) في (ص)، (ت 2): الدية حيث تجب تجب للمقتول، ثم تنتقل منه ... (2) الجملة حالية.

ملكه، فالدين الثابت قبل الملك هل يسقط بطريان الملك؟ فيه خلافٌ مشهور. فإن حكمنا بأن الدين يسقط بالملك الطارىء، قال الأصحاب: فعلى هذا لا يثبت للأب إذا ورث ابنَه حقُّ فك الرهن، وسقط بما جرى الاستحقاقُ. وإن قلنا: الدينُ لا يسقط بالملك الطارىء، فقد قال الأصحاب للأب حقُّ فكِّ الرهن في مسألتنا. هذا ما اشتملت عليه الطرق، واتفق الأصحاب عليه، كأنهم تواصَوْا فيه، وهو في نهاية الإشكال؛ من جهة أن الملكَ في العبد مستدامٌ، والإرث إن أثبت له ملكاً أثبته جديداً على مملوكه، فكيف يكون الاستحقاق الطارىء على الملك بمثابة الملك الطارىء على الاستحقاق؟ ولكن الأصحاب قالوا: إذا ثبت دينٌ، ففي سقوطه بالملك الطارىء خلاف. فإذا ثبت الدين لغير المالك، ثم انتقل إلى المالك، فيخرّج هذا على الخلاف؛ فإن أصلَ الدين ثبت (1). فهذا هو المنتهى في ذلك، نقلاً وتنبيهاً. وكان القول فيه يتعلق بأن العبد له ذمة، ولا احتكام للسيد عليه فيها. وإنما منعْنا معاملةَ السيد عبدَه القن، من جهة أنا لا نرى للعبد استمكان الخروج عما نقدّره لازماً، والرق لا نهاية له. فإذا فرض للدين ثبوت في جهة، فكأنهم على وجهٍ لا يستبعدون (2 انتقاله إلى السيد بعد ارتباطه بالذمة، كما لا يستبعدون 2) بقاء الدين إذا طرأ الملك. وكل ما ذكرناه فيه إذا جنى المرهون على طرف ابن الراهن ثم مات بسبب آخر. 3668 - فأما إذا قتل المرهونُ ابنَ الراهن، فإن كان القتل موجباً للقصاص، فقد مضى القول في القصاص، ووضح أنه لا دفع له إذا أراده مستحقُّه، وإن كان القتل خطأً، رتب الأئمة القولَ في ذلك على اختلافٍ سيأتي في الديات، في أن الدية تجب

_ (1) كذا في النسخ الثلاث. ولعلها (ثابت). ومن المفيد مراجعة المسألة في فتح العزيز بهامش المجموع: 10/ 152 - 154، وكذلك في روضة الطالبين: 4/ 104. (2) ما بين القوسين ساقط من (ص)، (ت 2).

للقتيل أولاً، ثم تنتقل إلى ورثته، أم تجب ابتداءً للورثة. قالوا: إن قلنا: تجب للورثة ابتداءً، فلو أثبتناها، لأثبتناها للسَّيد الوارث ابتداءً. وهذا لا سبيل إليه، فلا يثبت له حق فك الرهن. وإن قلنا: الدية تثبت للمقتول، ثم تنتقل إلى ورثته، فهذا في الترتيب كأرش الطرف، إذا ثبت للابن، ثم مات بسبب آخر. وقد فصَّلنا هذا. 3669 - ولو جنى العبد المرهون على عبد الراهن تُصوِّرت مسائل عند ذلك: إحداها - ألا يكون ذلك العبدُ المجنيُّ عليه مرهوناً، فحكمه حكم ما لو جنى على نفس الراهن. أمَّا القصاص، فإلى المولى، وأما المال، فلا يثبت كما مضى. ومن المسائل أن يجني العبد المرهون على عبد آخر للراهن مرهون عند إنسان آخر، أما القصاص، فكما مضى. وإن كانت الجناية مالية، أو آل الأمر إلى المال، فقد تحقق اعتراض على حق المرتهن الذي قُتل العبد المرهون عنده، فإن كانت قيمةُ العبد القاتل مثلَ قيمة المقتول، أو أقلّ منها، بعناه، ووضعنا ثمنه رهناً بدل العبد المقتول. وإن كانت قيمة الجاني أكثر، فنبيع منه قدرَ قيمة المقتول، ونضعه رهناً، وإن كان التشقيص يتضمن تعييباً، ففي بيع بعضه إبطالُ حق المالك، وفيه أيضاًً إبطال حق المرتهن الذي جنى العبد المرهون عنده. فإذا رضي المالك، ومرتهنُ الجاني ببيع كلِّه، بعناه، وصرفنا مقدار قيمة المقتول إلى مرتهن المقتول، وجعلناه رهناً عنده، وتركنا الباقي عند مرتهن الجاني. وإن قال مرتهن الجاني: لست أرضى ببيع الفاضل منه عن قدر القيمة، وقال المالك: لست أرضى بتنقيص ملكي بسبب التشقيص. وقد يفرض هذا على العكس بأن يرضى المالك بالتشقيص، ولا يرضى المرتهن، فالذي يدل عليه كلام الأصحابِ أنّا نرعى المصلحةَ ولا نبالي بمن يحيد عنها؛ فإن المالية هي المقصودة، فإذا اجتمع اعتبار المالية، وحقُّ الاختصاص بالغير، فالمالية أولى بالرعاية، وإذا لم يكن بد من إجابة أحدهما واستحال الجمع، فلا فرق في تقديم جانب على جانب، إلا رعاية المصلحة.

3670 - ومن تمام البيان في ذلك أن قيمة الجاني لو كانت مثلَ قيمة المقتول، وكنا نفك الرهن بسبب مرتهن المقتول، فلو قال الراهن لمرتهن المقتول: لا غرض لك في بيع هذا العبد، فاكتف برقبته، حتى أفك رهن مرتهن الجاني، وأنقلَ حقك إلى رقبته، فإن رضي بذلك مرتهنُ المقتول، جاز وفسخ الرهن في حق مرتهن الجاني، ولا مجال له في المناقشة في هذا؛ فإن حقه إذا كان يرتفع، فتعلقه باستدعاء البيع فضول. أما مرتهن المقتول إذا قال: لست أبغي هذا العبدَ، فبعه، وضع ثمنَه رهناً، فهل يجاب إلى ذلك؟ ذكر شيخي وصاحب التقريب وجهين في هذا: أحدهما - أنه لا يباع؛ فإن حقه عاد إلى المالية، والعبد الجاني قد تعلق الأرش برقبته، فهو أقرب من قيمته. والوجه الثاني - أنه يجاب فيباع؛ فإنه يقول: كان حقي في رقبة العبد الذي قتل، فإذا قتل، فحقي في قيمته، فلا أرضى إلا بها. ولا خلاف أنه لو أتى بعبدٍ آخر، وأراد أن يُجبر المرتهنَ على قبوله رهناً، بدل العبد المقتول، لم يُجبَر المرتهنُ على قبوله؛ فإنه ليس قيمة، ولا متعلّق قيمة والعبد الجاني قد تعلق القيمةُ برقبته. ولم نطوّل الفصلَ بذكر القتل الواقع عمداً، مع تصوير العفو مطلقاًً، أو على مال. وتخريجه على اختلاف الأقوال، ولكنا نذكر قولاً وجيزاً، فنقول: إذا ثبت حق القصاص للراهن على العبد المرهون، وكان قتل عبداً آخر مرهوناً عند آخر، فإن أراد الاقتصاصَ، فلا منع، وإن أراد العفو على مالٍ، ثبت المال، وتعلق به حق مرتهن المقتول. وإن عفا على غير مال، فهو في العفو على غير مالٍ كالمفلس يعفو عن قصاصٍ، ثبت له على غير مالٍ، والديون محيطةٌ والحجر مطرد، وذلك لأن الراهن محجورٌ عليه حجرَ خصوصٍ في المرهون، كما أن المفلس محجور عليه. وتفصيل هذا يأتي في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى. وكل ما ذكرناه فيه إذا قتل عبد مرهون عبداً آخر لذلك الراهن، وكان مرهوناً عند رجل آخر.

3671 - فأما إذا رهن رجل عبدين عند آخر، فقتل أحد العبدين الآخر، فإن كانا مرهونين بدين واحد، فقد فات العبدُ الذي مات، والعبدُ الباقي مرتهنٌ بجميع الدين، ولا حاجةَ إلى تكلف نقل، وكنا هكذا نقول لو مات أحدهما حتف أنفه. فأمّا إذا رهن كلَّ واحد من العبدين بدينٍ مغاير للدين الآخر. فإذا قتل أحدُ العبدين الثاني، وقال المرتهن للراهن: قرِّر الدينَ المتعلقَ برقبة القاتل، وانقل إلى رقبته الدينَ الذي كان متعلقاً برقبة العبد الذي قُتل، فلسنا نجيبه إلى ذلك. اتفق الأصحاب عليه، فليقطع الناظر إمكان ذلك عن فكره؛ والسبب فيه أنه ما لم يفك عن الرهن المتعلِّق به، لا يتصور ربطُ دين آخر به. هذا سبيل اعتراض الجنايات على المرهون. فإذا أردنا تقريرَ الرهن الأول، ونقلَ الدين الثاني، لم يكن ذلك على مقتضى تأثير الجناية في الرهن. فإذا ثبت هذا، نظرنا بعده، وقلنا: إن كان [الدين] (1) المتعلق بالقاتل أكثر من الدين الذي كان متعلقاً بالمقتول، فلا فائدة في نقض (2) رهن القاتل، ونقل رهن المقتول إليه، وليقع الفرض فيه إذا استوى الدينان في التأجيل والتعجيل، كذلك إذا استوى مقدار الدينين مع ما ذكرناه. فلا غرض، فإذا استدعى المرتهن النقل، لم نسعفه واعتقدناه ملتمساً شيئاًً غير مفيد. نعم لو قال: بيعوا هذا الجاني، وضعوا قيمته رهناً؛ فإني لا آمنه، وقد يبدر منه ما بدر، والقيمة أبعد عن قبول الآفات من العبد، فهل يجاب لهذا الغرض إلى ما يريد؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: نجيبه إلى مهواه؛ فإنه ذكر غرضاً صحيحاً، وقد حدث ما يوجب تغييراً على الجملة. والثاني - أنا لا نجيبه كما لو ارتهن عبداً، فبدر منه هناةٌ قرَّبته من الهلاك، فقال: بيعوه أثق بثمنه (3)، لم نجبه إلا أن يمرض مرضاً يخافُ موته، فيلحق التفصيل بالمطعوم الذي يُسرع الفساد إليه. وقد مضى.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (ص)، (ت 2): نقل. (3) في (ت 2): وأَبق ثمنه. وأثق بثمنه: أي اتخذ ثمنَه وثيقةً.

فإن قلنا: لا نجيب المرتهن في مسألة الجناية، فلا كلام. وإن قلنا: نجيبه، فنضع ثمنه إذا بعناه رهناً بالدين الذي كان متعلقاً برقبة المقتول. هكذا يقع (1) الأمر، وإن كان الغرض لا يختلف في المقدار والحلول والتأجيل، حتى لو كان الدين المتعلق بالقاتل أكثر، لم نجعل ثمنه رهناً إلا بالدين الأقل؛ فإنّ بيع العبد بسبب الجناية، مع تبقية القيمة في ذلك الرهن بعينه محال. ولو اختلف الجنس وكان أحدهما دنانيرَ والآخر دراهم، ولكنَّ المقدارين متساويان في المالية، وكانت الدراهم بحيث لو قومت بالدنانير، لبلغت قيمتُها مبلغَ الدنانير، التي هي أحد الدينين، فليس اختلاف الجنس من اختلاف الغرض. ولو كان الدينان متفاوتين بالحلول والتأجيل، فهذا من الأغراض، ولا فرق بين أن يكون دينُ المقتول مؤجلاً أو حالاً؛ [إذ] (2) في الحال غرض ليس في المؤجل، وفي المؤجل غرض ليس في الحال؛ فإن القاتل لو كان رهناً بالحال، نقلنا (3) إلى المؤجل ليتوثق، ويستوفى الحالُّ في الحال. وإن كان القاتل رهناً بالمؤجَّل، ننقله إلى الحالّ، فيبيعه فيه. وهذا غرض ظاهر. ومبنى المسألة على اتباع الغرض. فإن لم يكن في النقل غرض، فلا نقلَ إلا في استدعاء جواز البيع؛ فإن فيه اختلافاً ذكرته. وإنما ينتظم ذكر الأغراض إذا فرعنا على أنه لا يجاب إلى بيع القاتل إذا لم يلُح غرضٌ غيرُ البيع. ثم ذكرَ الشافعي إقرارَ العبد المرهون بما يوجب القصاص، وبما يوجب المال، وقد تقدم القول فيهما، وذكرنا التفصيل فيه إذا أقر بما يوجب القصاص، وقبلنا إقرارَه في العقوبة، فعفا المقَرُّ له على مالٍ.

_ (1) ساقطة من (ص)، (ت 2). (2) ساقطة من الأصل. (3) كذا بدون ذكر المفعول (أعني المنقول). فهو مفهوم من الكلام.

3672 - ثم قال: " فإن كان السيد أمر العبد بالجناية ... إلى آخره " (1). إذا رهن عبداً وأقبضه، ثم أمره بالجناية، فإن كان مميَّزاً، ولم يصدر من السيد إكراهٌ، فلا أثر لأمره، فيما يتعلق بأحكام الجناية، وحكم الجناية الصادرةِ عن أمره كحكم الجناية التي يستبدّ بها. وإن كان غير مميز ولكن كان ألِفاً لاتِّباع أمر سيده إلفَ السبُع [لمن] (2) يقوم عليه، وكان يسترسل في الجناية عند الأمر طبعاً، استرسالَ السبع عند الإشلاء (3) والإغراء، فإذا أشار السيد إلى مثل هذا العبدِ، فانطلق، وقتل إنساناً، أما السيد فحكمه حكم المكرِه على القتل، وأمّا العبد، فلا شك أنه لا يتعرض لاستحقاق عقوبة ولا تمييز له، فالعقوبة على المكلّف، وفي تعلق الأرش برقبة مثل هذا العبد وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يتعلق برقبته بصدور عين الفعل منه. والثاني - لا يتعلق برقبته، فإنه كالآلة المردَّدة، وكالسبع يغريه القائم عليه، ثم لا يتعلق برقبة الفهد المغرَى شيء، كما لا يتعلق بالسيف والأسلحة. ولو أكره السيد عبدَه المختارَ على الجناية، ففي المكرَه قولان، وتفاصيل طويلة ستأتي في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى. وقدر غرضنا منها أنا إن جعلنا المكرَه كالآلة، ولم نعلِّق به غرضاً، ولا عقوبة، فلا يمتنع أن نخرّج المسألةَ فيه على وجهين، في أن الأرش هل يتعلق برقبته أم لا؟ كما ذكرناه في العبد الأعجمي (4)، ولا يبعد أن يرتب، ويجعل المكرَه أولى بأن يتعلق برقبته من قِبَل أن التكليف ليس منقطعاً عنه، وإن كان مُكرهاً على القتل، فتأثيمه من أحكام ثبوت اختياره، وليس كالعبد الأعجمي. وحقائق هذه الفصول تأتي في الجنايات، إن شاء الله تعالى.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 215. (2) في النسخ الثلاث: " لم " والمثبت تقدير منا لا يستقيم الكلام إلا به. (3) الأشلاء: الإغراء، يقال: أشلى الكلبَ على الصيد: أغراه به، وأطلقه عليه (معجم). (4) المراد العبد الذي يألف سيده إلف السبع. والذي ذكره آنفاً.

فصل قال: " ولو أذن له، فرهنه، فجنى، فبيع في الجناية، فأشبهُ الأمرين أنه كير ضامنٍ، وليس كالمستعير الذي منفعته مشغولة ... إلى آخره " (1). 3673 - إذا استعار رجل عبداً من مالكه ليرهنه بدين عليه، فقد أطلق الأصحاب أنه إذا رهن العبد المستعار بإذن مولاه، فالرهن جائز. ثم قالوا في حقيقة هذا الرهنِ قولان؛ أحدهما - أنه يُنحى به نحو الضمان. والثاني - أنه يُنحى به نحو العاريّة، فنبيّن القولين، ثم نوجههما، ثم نفرعّ عليهما. أما بيانهما: فمن قال: سبيله سبيلُ الضمان، فتقديره أنه إذا أذن للمستعير أن يُلزم رقبةَ العبد المستعار مالاً، وسيد العبد وإن كان بريئاً عن دين المستعير، فلو ضمنه، لصار ملتزماً ماله. فهذا في حكم ضمانٍ في عين العبد، ومالكُ العبد متبرع به، تبرّعَ الضامنين بإنشاء الضّمان. ومن قال: يجري مجرى العارية، فمعناه أن المستعير ينتفع بمنافع المستعار، فكأنه جعل التوثق برقبته انتفاعاً به، فهذا معنى جريانه مجرى العواري. 3674 - توجيه القولين: من نزله منزلة الضمان، فوجهه أن المالك بريء عن دين المستعير، وإذا ثبت الرهنُ وانبرم بالقبض، فموجبه اللزوم، ولا وجهَ للزوم الدين في حق البريء عنه إلا الضّمان، غيرَ أن المالك يتصرف في ذمته، ويتصرف في أعيان ملكه، ثم ملك أن يُلزم ذمته البريئة دينَ الغير بطريق الضّمانِ، فيملك أن يُلزم رقبةَ ماله دينَ الغير متبرعاً، وهو في الوجهين متصرِّفٌ في محل تمكنه ومِلكه، غيرَ أنه إن ضمن، فلا تعلق للمضمون بماله، وإذا علق الدينَ بماله، فلا تعلّق له بذمته. ومن قال: يُنحى به نحو العارية، فوجهه أن الضمان محلُّه الذمة، فلا يتعلق الملتزَم بعينٍ قط، وهذا الحق يتعلق بالعين، وراهنه مستعيرٌ، فالرهن عاريةٌ في جهة مخصوصة.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 215.

ونصُّ الشافعي مردَّدٌ بين القولين، فإنه قال: " فأشبه الأمرين "، فكان هذا ترديداً. ثم قال: " وليس هذا كالمستعير "، ففي نصه تردد، وصغوُه إلى قول الضمان. أمّا التفريع، فقد اختلفت الطرق، وتباينت المسالك. والسبب فيه ميلُ هذا الأصل عن قياس القواعد، وبعده عن الأفهام، فلا يكاد يحيط بأطراف المسألة إلا فقيه موفق. 3675 - فأول ما نصدّر الكلامَ به بعد ذلك أن العراقيين حَكَوْا عن ابن سريج أنه قال: إن جعلنا الرهن مشبهاً بالضّمان، فهو صحيح ثابت. وإن قلنا: يُنحَى به نحو العواري، فالرهن غير صحيح؛ فإن من حُكم الرهن أن يلزم بالقبض، والعارية لا تلزم. فلا وجه لجمع حكميهما النقيضين. ولكن كأن المعير وعد المستعير أن يرخص له في بيع المستعار، وصرفِ ثمنه إلى دينه، وليس بينهما إلا موعد ورجاء. فإن وفى فحسن، وإن أخلف، فله ذلك. وهذا قريب في القياس بعيد في الحكاية. وسيكون لنا في أثناء الفصل إلى هذا عودةٌ مقرونة بتنبيه. فليقع التفريع على صحة الرهن. فالتفاريع نخرّجها على القولين، فنذكر من قضايا الفصل أحكاماً، ونفرعّ كل حكم على القولين، وإذا نجزت، تعدَّينا إلى حكمٍ آخر، حتى نأتي على أطراف المسألة. 3676 - فالذي أرى تقديمه القولُ في لزوم هذا الرهن. فإن فرَّعنا على قول العارية، فالذي ذكره القاضي أن للمعير أن يرجع عن إذنه قبل جريان الرهن، وله أن يفسخ الرهن بعد جريانه، وقبل اتصاله بالقبض، فإذا اتصل بالقبض، لم يملك المعيرُ فسخَ الرهن، والرجوعَ في العارية؛ فإنه لو ملك ذلك، لم يكن لهذا الرهن معنى، ولم تحصل به الثقة. ومن دقيق ما ينبغي أن يتأمله الناظر في هذه التفاريع الفرقُ بين المستعير وبين المرتهن، فالعارية متمحضة على قول العارية، في حق المستعير، فأما المرتهن، فليس مستعيراً وإذا لم يكن مستعيراً، وجب أن تثبت له خاصية الرهن، وهي وثيقة،

ولا وثيقة من غير ثقة، ولا ثقة مع إمكان الرجوع، ورب عارية تُفضي إلى اللزوم؛ فإن من استعار بقعةً ليدفن فيها ميتاً، فدفن، لم يجز نبشه، إلى غير ذلك من نظائرَ ستأتي إن شاء الله تعالى. وقطع صاحب التقريب والشيخ أبو محمد، والأثبات من أصحاب القفال أن الرهن لا ينتهي إلى اللزوم على قول العارية؛ والمعير متى شاء رجع، واستردّ، وإن اتصل الرهن بالقبض. وذكر صاحب التقريب وجهين في صورةٍ: وهي أنه لو كان الدين مؤجلاً، قال: يجوز له أن يرجع بعد حلول الأجل. وهل له أن يرجع قبل حلول الأجل؟ فيه وجهان: أحدهما - يجوز، كما لو كان حالاً، [إذ] (1) لم تلزم العارية. والثاني - يجوز؛ لأنه أقَّت إذنه، ورُبط به شيء فصار كما لو أعار للغراس إلى مدة. هذا بيان اختلاف الطرق على قول العارية. 3677 - فأما إذا فرّعنا على قول الضمان، فإذا اتصل الرهنُ بالقبض، لزم على هذا القول؛ ولم يملك المعير الانفراد بالرجوع. وهذا على هذا القول متفق عليه بين الأصحاب. ولو أراد المعير الرجوعَ بعد الرهن، وقبل القبض، مَلَك. فإن قيل: لم كان كذلك؟ وهلا ثبت الضمان لازماً في حق المعير بنفس عقد الرهن؟ قلنا: لا شك أن المستعير يتخير قبل الإقباض في فسخ الرهن، فإذا لم يلزم الرهن في حقه، وعليه الدين، فكيف يلزم في حق المعير. والتحقيق فيه أن الرهن إذا تم، حل محلَّ الضمان، ولا يتم إلا إذا اتصل بقبضٍ. والذي يُظهر سرَّ هذا الفصل في هذا المقام أن الذين صاروا إلى أن الرهن لا ينتهي إلى اللزوم على قول العارية ما نراهم يُثبتون من الرهن إلا اسماً ولقباً. وعندي أن مذهبهم موافقٌ لما حكاه العراقيون عن ابن سريج؛ فإن الرهن إذا كان لا يلزم،

_ (1) في الأصل: إذا.

ولا يملك الراهنُ المستعيرُ بيعَ الرهن في دينه كما سنذكره، فلا أثر للحكم بصحة الرهن، ويؤول القول فيه إلى وعد مجرد. 3678 - ومما نفرعه أنا إذا قلنا: هذا عارية، وحل الحق أو وَقع الرهن بدَيْنٍ حالٍّ أوّلاً، فلو أراد المستعير بيعَه وصرْفَ الثمن إلى دينه، من غير مراجعةِ مالك العين، لم يجد إليه سبيلاً، فلا يبيعه إلا بإذن مجدد، صرح بهذا معظم الأصحاب. ورمز به آخرون. وإن فرعنا على قول الضمان، فلا يملك المستعير الانفراد بالبيع أيضاًً ما وجد اقتداراً على أداء الدين من ماله، فإن أفلس، ولم يجد ما يؤدي به دينَه، فيباع المرهون في دينه وإن سَخِط المعير. فانتظم من هذا أنا إذا فرّعنا على قول العارية، فلا سبيل إلى البيع في اليسار والإعسار إلا بذن مجدد، ونفسُ الإذن في الرهن لا يكون إذناً في البيع. وإن فرَّعنا على قول الضمان، لم يجز البيع إلا عند العجز عن الأداء. فإذا تحقق، لم نرعَ رضا المالك المعير. وما ذكره من التفريع على قول العارية يؤكد تخريجَ ابن سريج، ويوهي الحكمَ بصحة الرهن، فليتنبه الناظر لما يمرّ به. وقياسُ طريق القاضي إذا حكم بلزوم الرهن على قول العارية أن يجوز بيعُ الرهن عند الإعسار من غير مراجعة، كما يجوز ذلك على قول الضمان. هذا قياسه. ولكن لم يتعرض له صريحاً. 3679 - وممّا نفرعه القولُ في أن المعير هل يجبر المستعير على فك الرهن؟ أما من قال: لا يلزم الرهن على قول العارية، فلا فائدة لهذا، والمعيرُ مستبد (1) بالرجوع متى شاء. وإن ألزمنا الرهن على قول الضمان، اتجه إجبار المعير المستعيرَ على فك الرهن. [قال القاضي: إن كان الدين حالاًّ، ملك المعير إجبار المستعير على فك الرهن] (2)،

_ (1) في (ص): مستند. (2) ساقط من الأصل.

سواء قلنا: إنه عارية، أو ضمان وليؤدِّ الدين من ماله. ولا شك أن هذا في حالة يساره. وإن كان الدين مؤجلاً، قال: خرج الإجبار على الفك على القولين: فإن قلنا: الرهن عارية، ملك إجبارَ المستعير على الفك، فأثر العاريةِ عند القاضي يظهر في الدين المؤجل، وكأنه جعل الإجبار على الفك من آثار العواري. وإن قلنا: الرهن ضمان، فلا يملك إجبارَ المستعير على الفك، كما لو ضمن ديناً مؤجلاً؛ فإنه لم يملك إجبارَ الأصيل المضمون عنه على تبرئة ذمته بأداء ما عليه من الدين. ولو كان الدين حالاًّ، فقد نقول: يملك الضامن بإذن المضمون له إجبارَ المضمون عنه على أداء ما عليه حتى يبرأ الضامن. فإن قيل: أليس ذلك مختلَفاً فيه؟ قلنا: نعم اختلف الأصحاب في أن من ضمن ديناً بإذن من عليه الدين، فهل يملك إجبارَه على أداء ما عليه؟ فإن يل: هلاَّ خرجتم الرهن في قول الضمان على هذا الخلاف، حتى تحكموا بأن إجبارَ المستعير على فك الرهن والدين يخرج على وجهين؟ قلنا: بين المسألتين فرق؛ وذلك أن الضامن قبل أن يغرَم ليس عليه بأس إلا تعلق الدين بذمته، وليس كذلك ما نحن فيه؛ فإن العبد المستعار مشتغل بوثيقة الرهن، فكان هذا شبيهاً بأداء (1) الضامن ما ضمنه، ولو أداه يرجع به على المضمون عنه إذا كان الضمان مأذوناً فيه، وهذا مضمومٌ (2) إلى العلم بأن الرهن ليس ضماناًً محضاً، وهو مشوب نقصاً بالعارية (3 وكأن حقيقة الخلاف راجع إلى أن المغلّبَ حكم الضمان أو حكم العارية 3) ومن طلب من المشوبات مقتضى التمحّض، لم يكن على بصيرة. 3680 - ومما نفرعه أن العبد المستعار المرهون لو مات في يد المرتهن، فحكم الضمان مفرّع على القولين: فإن أجرينا الرهن مجرى العارية، وجب ضمان القيمة على المستعير؛ فإن العارية مضمونة.

_ (1) في (ص): شبهاً بإذن الضامن، (ت 2): سببها بإذن الضامن. (2) في (ص)، (ت 2): مضمون. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

وإذا قلنا: سبيله سبيل الضمان، فلا ضمان. فإن قيل: هلا جعلتم تلف العبد على حكم المستعير، بمثابة تلف مالٍ في يد إنسانٍ قد أخذه ليصرفه إلى دينه؟ قلنا: ذلك اقتراض في الحقيقة، وما نحن فيه تعليق برقبة العبد، والأداء منه مرقوب، فإذا فرض التلف، فلا ضمان، قال القاضي: إذا ضَمَّنا المستعيرَ على قول العارية، فلا ضمان على المرتهن؛ فإنه ليس مستعيراً، وإنما المستعير هو الراهن، والمرتهن يمسكه رهناً، لا عارية. وهذا حسن منقاس. وإذا فرع مفرع على قول ابن سريج، ففي تعليق الضمان بالمرتهن نفسِه تردّدٌ، والظاهر أن لا ضمان عليه. 3681 - ومما نفرعه جنايةُ العبد المستعار، فإن حكمنا بأن الرهن ضمان، فلا يجب على المستعير ضمان أرش الجناية؛ فإن يد المستعير على هذا القول ليست يد ضمان، فما الظن على اليد المتفرعة على يده. وإن قلنا: الرهن عارية، فيد المستعير يدُ ضمان، فهل يضمن أرشَ جناية العبد المستعار؟ فعلى وجهين مبنيّين على أن العارية تُضمن ضمان الغصوب أم لا؟ فإن قلنا: تضمن (1) ضمان الغصوب، فيضمَن أرشَ جناية العبد؛ قياساً على العبد المغصوب يجني في يد الغاصب. وإن قلنا: لا تضمن العاريةُ ضمان الغصوب، فلا يضمن المستعيرُ أرش الجناية، والأقيسُ الوجه الأول. وهذا موضع نص الشافعي في المسألة، فإنه قال: " لو أذن له، فرهنه، فجنى، فأشبه الأمرين أنه غيرُ ضامنٍ، وليس كالمستعير "، فالنص دليل على أن التفريع على قول الضمان. وفيه دليل على أن المستعير يضمن أرشَ جناية المستعار؛ فإنه قال: " وليس كالمستعير". 3682 - ومما يتفرع على القولين أن العبد إذا بيع في دين المستعير إما بإذنٍ مجرّد، أو (2) بتصوير الاضطرار من المستعير فبماذا الرجوع؟ وكيف السبيل؟ لا شك أن

_ (1) في (ت 2): إنها لا تضمن. (2) في (ص)، (ت 2): وبتصوّر الاضطرار.

المستعير إذا صرف ثمنَ العبد إلى دينه، حيث يصح ذلك، فالسيد يرجع على المستعير، فإنْ بِيع بمقدار قيمته، فلا كلام. وإن كانت قيمتُه ألفاً واتفق بيعه بألفٍ ومائةٍ، فمالك العبد بكم يرجع على المستعير إذا صرف الثمن كاملاً في دينه؟ هذا ينبني على القولين: فإن قلنا: الرهن ضمان، فالرجوع على المستعير بالثمن بالغاً ما بلغ، ووجهه بيّن. وإن فرعنا على قول العارية، فالرجوع على المستعير بكم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع عليه بالثمن أيضاًً، وهو قياس بيّن. والثاني - أن المعير يرجع على المستعير بالقيمة، ولا يجد مرجعاً بالمائة الزائدة عليها؛ فإن العارية سبيلُ ضمانها القيمةُ، فلا يرجع المعير إلا بها، ولا يرجع بالزائد عليها. وهذا ضعيفٌ في القياسِ، ولا أصل لاستبداد المستعير بالزائد على القيمة، وهو من ثمن ملك المعير، ولم يجرِ ما يتضمن اختصاصَ المستعير به. وهذا الوجه على ضعفه لم يَحْكِ القاضي على قول العارية غيرَه. وممّا يتفرع على القولين أن العبد المستعار لو كانت قيمتُه العدل مائة، فبيع بمائة إلا دينار (1) أو أكثر، ولم ينته النقصانُ إلى مبلغٍ يعد غبناً، بل كان مقداراً يتغابن الناسُ في مثله. فإذا جرى ذلك، وصرفه المستعير إلى دينه. فإن قلنا: الرهن ضمان، لم يرجع المعير على المستعير إلا بمقدار الثمن. وإن قلنا: الرهن عارية، رجع المعير بالقيمة الكاملة، وهي المائة، ولم يحط القدرَ الذي يتغابن في مثله. 3683 - ومما نفرعه أنا إذا قلنا: الرهن عارية، فلا حاجة إلى إعلام القدر الذي سيقع الرهنُ به، ويكفي أن يستعير عبدَه مطلقاًً، ويستأذنَه أن يرهنه ولا يشترط أن يُبيِّن جنسَ ما يقع الرهن به، وقدرَه، ولا كونَه حالاً أو مؤجلاً. وإن قلنا: الرهن ضمان، فلا بد من إعلام الجنس، والقدر، والتعرض لبيان

_ (1) كذا في النسخ الثلاث (دينار) غير منصوبة، وقد سبق نظير لذلك، وأشرنا في تعليقنا إلا أنه لا وجه له إلا ما جاء بالرفع في روايةٍ للحديث الشريف: " كل أمتي معافىً إلا (المجاهرون) " .. !؟

الحلول والتأجيل، فإن الإعلام شرطٌ في صحة الضمان. وإذا قلنا: إعلام هذه الأشياء ليس بشرط على قول العارية، فلو نصَّ المعير على شيء منها، لم يكن للمستعير أن يخالفَه، ويزيدَ، وإن كان يجوز إطلاق الإذن من غير إعلامٍ، وذلك لأنه إذا أمَرَ، وقدَّر، فيجب إيقاع أمره؛ فإنه المستند والمعتمد في الباب. ومن ذلك أنا على قول العارية، لا نشترط أن يعيّن المعير من يرهن منه المستعار، بل يجوز إجراء الإذن فيه على الإطلاق، فلو عيّن المعيرُ شخصاً، فلا يجوز للمستعير أن يرهنه من غيره؛ لما ذكرناه من وجوب اتباع الأمر. ولو قال المستعير: [أرهنه] (1) من فلان، فكان التعيين من [جهته] (2)، ولم يصدر من المعير اقتراحٌ فيه، ولكنه نزَّل الإذنَ على حسب التماس المستعير، فالذي يقتضيه الرأي أن من عيَّنه المستعير يتعيّن، وإن لم يعين المعيرُ بتعيينه ابتداءً؛ فإن كلام المعير مبنيّ على كلام المستعير منزّل عليه. ولو فرعنا على قول الضمان، فعيَّن المعيرُ شخصاً، ولم يرضَ أن يرتهن غيرَه، فلا مَعْدل عنه. وإن أطلق، ولم يتعرض لتعيين المرتهن والتفريع على قول الضّمان، ووجوب الإعلام، فهل يصح الإذن على هذا الوجه مطلقاً من غير تعيين من يرتهن؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه لا يصح الإذنُ مع الإطلاق في ذكر المرتهن، حتى يُعيَّن. والثاني - لا حاجة إلى ذلك، والمستعير يرهنه ممن شاء. وهذا الخلاف ينبني على تردد الأصحاب في أنا هل نشترط في صحة الضمان أن يكون المضمون له معلوماً أمْ لا؟ ثم قال الأصحاب: لا يجوز للمستعير أن يخالف المعير فيما رسم له؛ فإن أصل أمره على اتباع الإذن، حتى لو أذن في الرهن بدراهم، لم يجز الرهن بالدنانير. [وكذلك القول في عكس هذا. ولو أذن في الرهن بالحال،

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: جهة.

لم يرهن بالمؤجل] (1). وكذلك لو أذنَ في الرهن المؤجل، لم يرهن بالحال. والأغراض تختلف بالحلول والتأجيل، ولا يكاد يخفى تقريره؛ فيجب اتباع مراسم المعير المالك. 3684 - ولو قال للمستعير: أذنت لك في أن ترهنه بمائةٍ، فلو رهنه بخمسين، جاز ذلك، ولا يعد النقصان في المقدار مخالفةً، بل إذا نقص، فقد زاد بالنقصان خيراً وحطَّ وبالاً وضُرّاً؛ فهو بمثابة ما لو قال مالك المتاع لوكيله: بعْ هذا العبدَ بألف، فلو باعه الوكيل بألفين، صح، ولا مرد لتلك الزيادة، والرجوع في أمثال هذا إلى العرف، ومعلوم أن هذا لا يعد مخالفة، بل يعد موافقةً. وسنذكر تحقيقَ هذا في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى. ولو قال المعير: ارهنه بألفٍ، فرهنه بألفين، فالزيادة مخالفة، ثم قال معظم الأصحاب: إذا خالف وزاد، لم يصح الرهن في مقدار الموافقة أيضاً؛ لأنه بنى صيغة العقد على مخالفة المالك، فلم يصح. وخرّج صاحب التقريب قولاً آخر: أن الرهن يصح في المقدار الذي عينه المعير، ورضي به، والزيادة مردودة. وزعم صاحب التقريب أن هذا يُخرّج على اختلاف القولى في تفريق الصفقة؛ فإنه جمع بين ألفٍ لا إذن فيه، وبين ألفٍ مأذونٍ فيه، فإذا بطل العقد في الألف الزائد، ففي المزيد الخلافُ الذي ذكرناه. وهذا لم يصححه المحققون، ورأَوْا القطعَ ببطلان الرهن. ولا خلاف أن من وكل إنساناً ببيع عبد، واقتضى مطلقُ التوكيل البيعَ بثمن المثل، فلو باعه بغبنٍ، فالبيع مردود. ولا يقال: نصحح البيعَ في مقدارٍ من العبد يكون الثمن قيمة عدلٍ له، ونحذف جزءاً من العبد عن مقتضى العقد. وتقديرُ الزيادة في المبيع كتقدير الزيادة في الثمن إذا وقعت الزيادة على موجب المخالفة. 3685 - ثم قال القاضي: لو جرى الرهن، واتصل بالقبض، ثم إنَّ المالك المعير

_ (1) ساقط من الأصل.

أعتق عبده، فنفوذ عتقه يخرّج على القولين، فإن قلنا: الرهن ضمان، فالعتق ينفذ، وإن قلنا: إنه عارية، فإعتاقه إياه بمثابة إعتاق الراهن المالك العبدَ المرهون، وفيه الأقوال المعروفة. وهذا خرّجه القاضي على طريقةٍ في الحكم بلزوم الرهن على قول العارية، ثم رأى الرهنَ على قول العارية رهناً محضاً في حق المرتهن لازماً، ورآه على قول الضمان غير متأكد في التعلق بالرقبة. ومعظم الأصحاب على مخالفته في ذلك؛ فإنهم ضعفوا الرهنَ وحكمَه على قول العارية، وألزموه وأكدوه على قول الضمان. وما ذكره جارٍ على قياسه. ولكن في قطعه بنفوذ العتق على قولِ الضمان كلام. والوجه عندنا تنزيلُ العبد على قول الضمان منزلة العبد الجاني الذي تعلق الأرش برقبته. وقد فصلنا القول في بيعه ورهنه. 3686 - ومما يتم به بيان الفصلِ أن القاضي سئل في التفريع على قول الضمان، وقيل له: لو قال: مالك العبد: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة عبدي هذا، فكيف حكم هذا؟ فقال: إذا فرعنا على قول الضمان، تعلّق الدين برقبة العبد، وكان بمثابة الرهن المستعار، فإن شئنا قلنا: رهن العبد المستعار ضمانٌ في رقبته، أو قلنا: الضمان في رقبته رهنٌ. وهذا الذي ذكره حسن بالغ على الجملة، ولكن فيه تفصيل، فإذا قال مالك العبد لمستعيره: ارهنه بدينك، فقد أنابه مناب نفسه في الضمان في رقبة عبده، فاجتمع رضا المالك، وإنشاءُ الرهن، وقبولُ المرتهن. وإذا قال المالك: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة هذا العبد، ولم يُوجَد قبولٌ من المضمون له ففي هذا تردُّدٌ. وظاهرُ كلام القاضي أن ذلك يكفي، تفريعاً على أنه لا يشترط في الضمان رضا المضمون له. ويجوز أن يقال: ذلك في الضمان المطلق الذي يرد على الذم، فأما ما يتعلق بالأعيان، فلا بُدّ من تقريبه من الرهون، وشرط صحتها القبولُ من المرتهن. ويجوز أن يقال: إنما يفتقر إلى القبول إذا جرى على صيغة الرهن، فأمّا إذا وقع الضّمان مصرّحاً به، فلا حاجة إلى ذلك. وقد تختلف الشرائط باختلاف الألفاظ، وإن اتحد المقصود؛ فإن المذهب أن الإبراء لا يفتقر إلى القبول. ولو قال مستحق

الدين لمن عليه الدين: وهبت منك الدين الذي لي عليك، فالأصح افتقارُ ذلك إلى القبول (1). وقد نجز الكلام في رهن المستعار على أبلغ وجه في البيان. فصل [قال: " والخصمُ فيما جُني على العبد سيدُه ... إلى آخره ". 3687 - إذا جنى جانٍ على العبد المرهون، فقد] (2) قال الشافعي: " الخصمُ فيما جُني على العبد سيده، فإن أحب المرتهن، حصر خصومتَه، فإذا قُضي له بشيء، أخذه رهناً " (3) هذا لفظُ الشافعي. فنقول: إذا جُني على العبد المرهون جناية، نُظر فيها: فإن كان موجَبها مالٌ، فقد تضمنت الجنايةُ إتلاف مالية، وتضمنت فواتَ حق الوثيقة للمرتهن في ذلك الفائت، فافتتاحُ الخصومة للمالك؛ فإن الأصل هو الملك، وحق الرهن متفرع عليه، وإذا بدأ المالك الخصومة، لم يزاحمه المرتهن، فإذا ثبت حق الملك، ابتنى عليه حقُّ الرهن. فإن قيل: لم لم تثبتوا للمرتهن حقَّ المخاصمة، وهو يخاصم المالك، وتدور بينهما الدعوى واليمين والرد؟ قلنا: هو كذلك، ولكن المالك في صورة الجناية أولى بالخصومة. وفي قيامه بها ثبوت حق المرتهن، فإذا كان حق المرتهن لا يتعطل، قدمنا المالك؛ حتى قال المحققون: لو امتنع المالك من الخصومة، انتهض المرتهن خصماً، وتوصل إلى ثبوت حقه، وليس هذا كما لو افترضه (4) السائل من مخاصمة المرتهن المالكَ؛ فإن تلك الخصومة لو تركها المرتهن، والراهن على إنكاره، لم يقم فيها غيرُ المرتهن مقامه، بخلاف ما نحن فيه. نعم لو ترك

_ (1) يشير إلى أن الإبراء وقع بلفظ الهبة، فكان الأصح افتقاره إلى القبول رعاية للفظ الهبة. (2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل. (3) ر. المختصر: 2/ 215. (4) في (ت 2)، (ص): " كما فرضه ".

المالك الخصومة، فلا جرم نقول للمرتهن أن يخاصم حتى لا يتعطل حقه. قال الشافعي: " ولو عفا المرتهن كان عفوه باطلاً ". وتفصيل القول في هذا أن المرتهن لو أبرأ الجاني عن أرش الجناية، فإبراؤه باطل؛ لأن الإبراء إنما يصح من مالكٍ مطلق التصرف، والمرتهن ليس مالكاً؛ فلم يصح إبراؤه. 3688 - وتمام البيان في هذا الفصل ما نذكره، فنقول: أطلق المراوزة القولَ بأنّ أرش الجناية لا يتصف بكونه مرهوناً؛ فإنه دين، والديون لا تكون مرهونة، كما قدمنا ذلك في صدر الكتاب، وألحقوا مصير العين المرهونة بسبب الإتلاف ديناً في ذمة المتلِف بأنقلاب العصير خمراً، ثم رأَوْا تفصيلَ المذهب إذا قبض الدينَ، وتعيّن بالقبض، كتفصيله إذا انقلبت الخمر خلاً. وذكر العراقيون عن بعض الأصحاب أن الدين وإن كان لا يجوز تقديره مرهوناً ابتداءً، فإذا استقر الرهن على عينٍ وجنى عليها جانٍ، فالدين اللازم بسبب الجناية على العين مرهون، وليس كالخمر؛ فإن الدين مملوكٌ، والخمر ليست مالاً، والدين مترتب على عين، حيث انتهى الكلام إليه، ومصيره إلى عين، إذا قُدِّر استيفاؤه. هذا ما حَكوه في ذلك. ثم قالوا: إذا قال المرتهن: عفوت عن حقي من الوثيقة، أو أسقطت حقي منها، والمسألة مفروضة فيه إذا أتلف الجاني المرهونَ، فقال المرتهن قبل استيفاء الحق من الجاني ما قال، فيسقط حقه، وإذا استوفى الدينَ (1)، فلا حق له فيه. ولو قال المرتهن: أبرأتك عما عليك أيها الجاني، فإبراؤه لا يتضمن سقوطَ الدين، ولكن هل يتضمن سقوط حقه من الوثيقة إذا استوفى الأرش؟ ذكروا وجهين: أحدهما - أن حقه لا يسقط؛ فإنه لم يتعرض للتنصيص على إسقاطه، وإنما أسقط الدين، وليس له إسقاطه، فلو سقط حق الوثيقة، لكان مرتباً على سقوط الأصل، وإذا لم يسقط الأصل، لم يسقط ما يترتبُ عليه هذا طريقهم.

_ (1) المعنى: إذا استوفى المالك الدينَ -ويعني به هنا الأرش الذي تعلق بذمة الجاني- من الجاني، فليس للمرتهن حق في الاستيثاق به؛ إذ أسقطه بقوله هذا.

وكان شيخي يقول: إذا قال المرتهن: أسقطت حقي من الرهن أو أبطلت وثيقتي، وكان الرهن قائماً، فهذا فسخ منه للرهن، وللمرتهن أن يفسخ الرهن؛ فإن الرهن في جانبه جائزٌ، ولم يتعرض لصورة الدين. ونصُّ الشافعي دليل على أن المرتهن إذا أبرأ الجاني، فإبراؤه لغوٌ، وعفوه باطل، وهذا يتضمن بقاء حقه. أما الراهن لو أبرأ الجاني عن الأرش، فقد قطع الأصحاب بإبطال إبرائه؛ لحق المرتهن؛ فإنا وإن لم نطلق القول بكون الأرش مرهوناً قبل الاستيفاء، فلسنا ننكر تأكُّد حق المرتهن فيه، فالإبراء في الدين (1) بمثابة الهبة في العين، ولو وهب الراهن العين المرهونة، لم يختلف المذهب في بُطلان هبته، وإنما تردُّدُ الأقوال في العتق والاستيلاد، كما تقدم. ثم قال الأصحاب: لو كانت الجناية على العبد المرهون موجبةً للقَصاصِ، فللرّاهن حقُّ الاقتصاص، وقد تكرر هذا، فلو عفا الراهن على مالٍ، ثبت المال، وتعلق حق المرتهن به، وإن عفا على غير مالٍ، ترتب على موجب العمد، ونزل عفوه منزلة عفو المفلس المحجور عليه. وقد أشرنا إلى ذلك وأحلنا استقصاءه على كتاب الجراح. فصل قال: " وأكره أن يرهن المشركَ المصحفَ ... إلى آخره " (2) 3689 - أراد بالكراهية التحريمَ. والقولُ في بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر قد تقدّم استقصاؤه في كتاب البيع، وبينا المذهب فيه على أكمل بيان. والرهن على الجملة مرتَّب على البيع، وهو أولى بالجواز، وإذا منعنا بيع السلاح من الحربي، ففي رهنه منه وجهان، وبيعُ السلاح من الذمي ورهنُه جائز؛ مات رسول الله

_ (1) يريد بالدين أرش الجناية، وهذا يؤكد صحة تفسيرنا في التعليق السابق. (2) ر. المختصر: 2/ 215.

صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند [أبي الشحم] (1) اليهودي. وقد نجز البابُ في (السواد) (2) وانسل عن ضبطنا في الأصول مسائلُ، ونحن نوردها فروعاً، ومنها ما أورده المشايخ، ولا اختصاص له بالرهن، ونحن نتأسى بهم. فرع: 3690 - إذا أقر المرتهن بأن العبد المرهون قد جنى، وكذبه الراهن، فالقول قول الراهن في نفي الجناية، فإذا بيع العبد في الرهن، وسُلِّم الثمن إلى المرتهن عن حقه، فجاء المقَرُّ له بالجناية، وقال للمرتهن قد أقررتَ لي بأرش الجناية، والآن قبضتَ الثمن، فسلمه لي. قال صاحب التقريب: ليس للمقَرّ له ذلك؛ فإنا إن جوزنا بيع الجاني، فهذا الثمن مسلم إلى المرتهن بحق، ولو ثبتت الجناية، لم يثبت للمجني عليه على قول جواز البيع إلا بيعُ العبد، فأمَّا التعلُّق بثمنه، فليس يثبت له، وليس كما لو قُتل العبدُ الجاني واستوفيت قيمته (3)؛ فإن حق المجني عليه في قيمته، كحقه في رقبته، فإن القيمة تخلفُ العين؛ حتى كأنها خلافة خِلقة، ولا حاجة فيها إلى اختيار مقابلة وإثبات معاوضة، فأما ثمن البيع، فلا حظ للمجني عليه فيه إجماعاً. فإن فرض البيع بإذنه على قولنا: لا ينفذ البيع

_ (1) في النسخ الثلاث: " أبي شحمة " وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه من نص الحديث. وقد ورد هذا الاسم في أول كتاب الرهن مصحفاً في نسخة (هـ 2)، (ص)، وصواباً في نسخة (ت 2)، وقد نبه الحافظ في التلخيص إلى هذا التصحيف، وهو قد أخذه عن ابن الملقن في البدر المنير: 6/ 629 حيث قال: " ووقع في نهاية إمام الحرمين في كتاب الرهن قُبيل باب الرهن والحميل بنحو ورقتين تسمية هذا اليهودي " بأبي شحمة " ا. هـ. وكان التصحيف في نسخة النهاية التي كانت بيد ابن الملقن كان في هذا الموضع دون الموضع الأول. وهذا هو السرّ في أنه أحال إلى هذا الوضع؛ فالتصحيف لم يكن في كل نسخ النهاية، ولم يكن في كل موضع. (2) السواد. تكرر هذا اللفظ مراراً. وهو معهود في كلام الأئمة السابقين، يريدون به (الأصل) أو (المتن). وهذا المراد هنا، فهو يعني مختصر المزني، الذي جعل هذا الكتاب بسطاً لألفاظ الشافعي وعباراته الواردة في هذا المختصر. (3) صورته أن يرتكب العبد المرتهن جنايةً، ثم قبل أن يباع فيها يجني جانٍ على هذا العبد فيقتله، فيستوفي السيد قيمته من الجاني القاتل، فيتعلق حقُّ المجني عليه -الذي جنى عليه العبد قبل أن يُقتل- بقيمة العبد، بعد أن كان متعلقاً برقبته التي فاتت بقتله.

دون إذنه، فهو بمثابة بيع الرهن بإذن المرتهن في حقه الحال. هذا إن قدرنا جوازَ بيع الجاني. وإن لم نجوز بيعَه، فالثمن الذي في يد المرتهن ملكُ مشتري العبد الجاني، ولا حظ للمجني عليه فيه، فينتظم منه أن المقَرَّ له بالجناية لا يرجع على المرتهن بسبب قبضه ثمن العبد الذي أقر المرتهن بجنايته. وهذا واضح. فرع: 3691 - ذكر صاحب التقريب في خلل الكلام مسألةً في الجنايات لا اختصاص لها بالرهن، فنسردُها على وجهها، ونقول: لو جنى رجل على بهيمة، وكانت ماخضاً (1)، فأَجْهَضَتْ جنينَها، وكان الجنين حيَّاً لما انفصل متأثراً بالجناية، فمات على القرب. ذكر قولين فيما يلزم الجاني في هذه الصورة: أحدهما - أنه يلزمه قيمةُ الجنين حيَّاً، ولا يلزمه أكثرُ من ذلك. القول الثاني - أنه يلزمه أكثرُ الأمرين من نقص الأم بالولادة والإجهاض، أو قيمةُ الجنين، فأيهما كان أكثر، فهو الواجب. ثم قال صاحب التقريب: والقولان فيه إذا لم يظهر بالأم شَيْنٌ سوى الولادة، وكان للجنين لو بقي حيَّاً قيمةٌ، [فإذا مات] (2)، فالنظر إلى الأكثر في أحد القولين. والواجب قيمة الولد في القول الثاني. وقد ذكر العراقيون هذين القولين على هذا الوجه. والذي يجب الاعتناء به في المسألة فهمُ صورتها، وفيها يبينُ مثارُ القولين، فالبهيمة وهي ماخض تساوي مائة، وإذا ولدت صارت تساوي تسعين، ولم يظهر فيها نقص إلا أن الولد زايلها، فكانت مع الولد تساوي مقداراً ودونه تساوي أقلَّ منه، لمزايلة الولد، لا لعيب أحدثه الولادة، ثم انفصل الولد حياً، وعليه أثر الجناية،

_ (1) مَخِضت المرأة، وكل حامل من باب تعب: دنت ولادتها، وأخذها الطلق، فهي ماخض (بغير هاءٍ). (مصباح). (2) في الأصل: وإذا مات، وفي (ت 2)، (ص): " فأما إذا مات " والمثبت تصرف من المحقق.

ومات. فلو أوجبنا قيمة الولد، وأوجبنا [ما انتقص] (1) من قيمة الماخض بسبب الولادة ومزايلة الولد، لكان ذلك تضعيفاً في الغرامة، والولد صار أصلاً بنفسه، فعسر الجمع بين الوجهين. وتردّدَ القولُ، فقال الشافعي في قول: " أنظر إلى الولد؛ فإن تعطيله صعب، وأوجب قيمته " وقال في القول الثاني: " أُوجب الأكثرَ من نقص الأم بسبب مزايلة الولد وقيمة الولد، فأيهما كان أكثر أوجبته ". هذا بيان القولين. 3692 - قال العراقيون: إذا كانت البهيمة مرهونة، وجرى ما وصفناه؛ فإن أوجبنا قيمة الولد، لم يكن ذلك رهناً، وإن أوجبناالأكثر، فقيمة الولد لم تكن رهناً أيضاًً، وإن أوجبنا ما نقص من قيمة الأم بسبب مزايلة الولد، كان ذلك رهناً. وهذا فيه نظر، والوجه تخريجه على أَنَّ الحمل الموجود يومَ الرهن هل يدخل تحت الرهن؟ فإن قُلنا: إنه داخل، فيجب أن يكون المأخوذ من الجاني رهناً كيف كان؛ فإنا على هذا القول كنا نبيع الولدَ لو بقي في الرهن. وإن قلنا: الرهن لا يتعلق بالجنين الموجود حالةَ الرهن، فإن أوجبنا قيمة الولد، لم يكن (2) رهناً، وإن أوجبنا نقصانَ الولادة، فالمسألة محتملة، ويظهر خلاف ما قالوه؛ فإن ذلك النقصان لم يكن إلا لمزايلة الولد، ولم تتغير صفتها، ويجوز أن يتخيل ما ذكروه بناء على أصلٍ، وهو أن الحمل لو بقي إلى البيع، لبعنا الأم حاملاً، ولصرفنا الثمن إلى الدين، إن لم يزد على مقداره، فمزايلة الولد تخرم هذا الوجه. والأصح عندي أنه لا يكون رهناً؛ فإن المزايلة قد وقعت. فرع: 3693 - إذا دفع الراهن والمرتهن الرهن إلى عدلين وفوضا إليهما الحفظَ مطلقاًً، فلو أن أحدهما سلم الرهنَ إلى الثاني كَمَلاً، وفوض إليه الاستقلالَ بالحفظ، فهل يكون بذلك متعدياً؟

_ (1) في الأصل: ما لا ينقص. (2) في (ص)، (ت 2): كان رهناً.

ذكر ابن سريج فيما حكاه العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يكون متعدياً؛ فإنه لم يثبت لواحدٍ منهما الاستقلال بالحفظ، فإذا أثبت أحدُهما ذلك لصاحبه، كان على خلاف موجب الاستحفاظ. والوجه الثاني - أنه لا يكون المسلِمُ إلى صاحبه متعدياً، وكذلك لا يكون المستقلّ متعدياً؛ فإن استحفاظهما يشعر في الظاهر بقيام كل وَاحد منهما بحق الحفظ، لو لم يكن صاحبه حاضراً؛ فإن اعتقاد اجتماعهما أبداً على الحفظ -وهو أمر دائم- بعيدٌ. والألفاظ المطلقة تؤخذ من موجَب العرف، وليس كما لو فرضَ الوصايةَ إلى رجلين، فإن التصرفات لا يستقل بها أحدُهما دون الثاني؛ فإن الاجتماع على تصرف يقع في الأوقات ليس متعذراً، فحَمْل الأمرِ على اشتراكهما، وصدور التصرفِ عن رأيهما ليس بعيداً، بخلاف دوام الحفظ. ثم إذا أثبتنا عند إطلاق الاستحفاظ لكل واحد منهما رتبةَ الاستقلال، فلو تنازعا، فليس أحدُهما أولى من الثاني. فإن أمكن الاشتراك في إثبات اليد، فلا مَعْدَل عنه. وإن عسر، وقد تنازعا، ورأى القاضي أن يقسم العين بينهما -وكانت قابلةً للقسمة- فله ذلك؛ فإنا إذا كنا نثبت لكل واحد منهما الاستقلالَ بالحفظ، فلا يمتنع بسبب النزاع أن ينفرد كل واحد منهما بحفظ البعض. وإن قلنا: لا يثبت لكل واحد منهما رتبة الاستقلال -وهو المذهب عند المراوزة- فلا سبيل إلى قسمة العين بينهما؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لكنا مخصصين كل واحد منهما بالانفراد في بعض العين، وهذا يخالف موجَبَ الاشتراك. فرع: 3694 - قال ابن سريج لو سلما الرهنَ إلى عدلٍ، ووكلاه ببيعه عند محِل الحق، وكانت العين من ذوات الأمثال، فأتلفه أجنبي، وغرم المثل. قال ابن سريج: يسلّم إلى العدل بحكم الاستحفاظ الأول، وإذا حل الحق، لم يبعه إلا بإذن جديد. أما قوله: لا يبيعه إلا بإذن جديد، فصحيح. وأما قوله: يحفظه العدل من غير

استحفاظٍ جديدٍ، فهذا لا وجهَ له أصلاً؛ فإن العين قد تبدلت، وتقييده بالمثل يشعر بأنه لا يقول ذلك في قيمة المتقومات. وكل ذلك خبطٌ غيرُ معدودٍ من المذهب. ولعل ابنَ سريج تخيّل في الفرق بين الحفظ والبيع أمراً، وهو أن العدل إذا استحفظه الراهن والمرتهن، لم يكن لكل واحد منهما أن يعدل عنه، فكأن الحفظ صار في حكم المستحق المتعيّن في حق هذا العدل، فإذا فرض التلف والاستحقاق في الحفظ إذا تمَّ (1)، لم يبعد أن يقوم البدل مقام التالف. والإذن في البيع ليس كذلك؛ فإن من صرفه من الراهن والمرتهن ينعزل، فليس البيع مستحقاً متعيناً في حق العدل. فهذا إن ثبت، فلا فرق فيه بين المتقوم والمثلي. والظاهر عندي أنه لا بد من استحفاظ جديدٍ؛ لأن العين قد تبدّلت. فرع: 3695 - إذا استعار رجل عبداً من شريكين، فرهنه، ثم أدى نصف الدين على قصد أنه يفك به نصيب زيدٍ من الشريكين، فهل ينفك نصيبه؟ أم لا ينفك شيء من الرهن ما بقي من الدين شيء؟ ذكر العراقيونَ قولين، ولهذا أمثلةٌ ستأتي في الكتاب، إن شاء الله عز وجل. فإن قلنا: لا ينفك، فلا كلام. وإن قلنا: ينفك حصته من الرهن، نُظِر: فإن كان المرتهن عالماً بحقيقة الحال، فلا خيارَ له. وإن كان جاهلاً، ولم يَدْرِ صدَرَ (2) الرهن في شركة، فهل له الخيار؟ ذكروا وجهين: أحدهما - له الخيار. وهو الذي قطع به الشيخ أبو محمد، ووجهه بيّن. والوجه الثاني - أنه لا خيار له؛ فإن الذي بدا ليس عيباً بالمرهون، والحال لا يطرد على نسق واحدٍ في الاتحاد، فلا خيار. ولعل الأشبه في هذا أن المرتهن إن لم يعرف كونَ العين مستعاراً (3)، تخيَّر، وإن علمه مستعاراً، فلا ضبط لمن يستعار منه.

_ (1) في (ت 2)، (ص): " والاستحقاق في الحفظ دائم ". (2) صَدَرَ: بثلاث فتحات بمعنى "صدور"، وتد تكررت إشارتنا إلى شيء من ذلك قبلاً. (3) كذا "مستعاراً" بالتذكير. على تأويل "الرهن".

ويجوز أن يقال: الغالبُ الاتحاد في السادة، ويبعد في الوقوع العبد المشترك إلا في المواريث والتجاير بين الشركاء. والوجه إثبات الخيار، كما قاله الإمام. فرع: 3696 - قال العراقيون: إذا رهن رجل جاريةً، فعلقت بمولود رقيقٍ من بعدُ، فجنى جانٍ عليها، فَأَجْهَضَت، ونقصت بسبب الإجهاض نقصاناً عائداً إلى صفتها، زائداً على مزايلة الولد، فإذا التزم الجاني بدلَ الجنين، لم يكن رهناً؛ فإن الولد طارىء، وليس للمرتهن بسبب نقصان الجارية شيء؛ فإن نقصانها يندرج تحت بدل الجنين، وبدل الجنين خارج عن الرهن، فنقصان الجارية في حق المرتهن بمثابة النقصان بآفة سماوية. وهذا حسن لطيف. فرع: 3697 - إذا قُتل العبد المرهون، فجاء إنسان، وقال: أنا قتلته. فإن صدقه الراهن والمرتهن غرّمناه القيمةَ، ووضعناها رهناً. وإن كذباه، لم يخفَ الحكم. فإن كذبه المرتهن وصدقه الراهن، غرِم القيمةَ، وفاز بها الراهن؛ فإن المرتهن أنكر حقه فيها. وإن صدقه المرتهن، وكذبه الراهن، فتؤخذ القيمةُ وتجعل رهناً في يد المرتهن. ثم إذا حلَّ الدينُ وقضى الراهنُ الدينَ من موضع، آخر، فترد تلك القيمة على المُقِرِّ بالجناية؛ فإن الراهن منكر لاستحقاقه. وفي هذه المسألة وأمثالها خلافٌ، ولكنا جرينا على الأصح. وقد نقول: نضع تلك القيمة عند الوالي، ويعتقدها مالاً ضائعاً. فرع: 3698 - قال صاحب التقريب: إذا خلّى الراهن بين المرتهن وبين الرهن المشروط في البيع، فامتنع من قبضه، فهل يجبره القاضي على قبضه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُجبر؛ حتى ينقطع خياره في فسخ البيع. وقد تتلف تلك العينُ المعينة قبل القبض وقد تعيب (1).

_ (1) عَابَ يعيب عيباً من باب سار. إذا صار ذا عيب. (المعجم والمصباح).

والوجه الثاني - أنه لا يجبر على القبض، ولكن، إن امتنع من القبض، أبطل القاضي خيارَه في فسخ البيع. اهـ (1). * * *

_ (1) هنا انتهت نسخة (ت 2) (الجزء التاسع منها) وجاء في نهايته ما نصه: "تم الجزء العاشر بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرم وعظم. يتلوه في الجزء الحادي عشر - إن شاء الله: باب في الرهن، والحميل في البيع ". هذا وقد أخطأ الناسخ في قوله: "تم الجزء العاشر" وإنما هو التاسع كما دُونَ على غلافه، وكما جاء على غلاف التالي أيضاًً أنه العاشر.

باب في الرهن والحميل في البيع

باب (1) في الرَّهْن وَالحَمِيلِ (2) في البيع ذكر الشافعي، رحمه الله في أول الباب أن الرهن أمانة، وتعلق بطرق من الحجاج، وسيأتي في ذلك باب، ثم قال: " فلو باع رجل شيئاًً على أن يرهنه به من ماله ... إلى آخره " (3). 3699 - شرط الرهن جائز في البيع، وإن كان مطلقُ العقد لا يقتضيه، ولكن لما كان من مصلحة العقد، عُدَّ شرطه (4) جائزاً، وكذلك شرط الضمان والإشهاد، فهذه الوثائق الثلاث يجوز شرطها في البيع، وذكر الشافعي لفظاً في صدر الفصل، نذكر ما فيه أولاً، ثم نخوض في مقصود الباب. ظاهر لفظه يدل على أن البائع إذا قال: بعتك عبدي هذا بألفٍ على أن ترهنني دارَك هذه، فقال المشتري: اشتريت ورهنت، فالرهن ينعقد من غير قبول يصدر من البائع، ومقتضى كلامه دليل على إقامة شرط البائع في الرهن مقام قبوله، من غير احتياج إلى شيء آخر. وقد صار إلى هذا طوائف من أصحابنا. والأصح الذي ارتضاه المحققون أن الرهن لا ينعقد مالم يذكر البائع بعد إيجاب المشتري الرهن قبولاً له، ولا يقع الاكتفاء بالشرط الذي يقدَّم؛ فإن الرهن عقد مفتقرٌ إلى الإيجاب والقبول، فلا بد منهما، وليس شرط الرهن بمثابة استدعائه؛ فإنا على قول صحيح نقيم استدعاءَ العقد من أحد الجانبين، مع الإيجاب من الجانب الثاني مقام

_ (1) تستمر نسخة (ت 2) في جزئها العاشر. فتبقى النسخ ثلاثاً، كما سيظل الأصل هو نسخة (هـ2). (2) الحَمِيل: بفتح المهملة وكسر الميم: الكفيل (الزاهر). (3) ر. المختصر: 2/ 215. (4) في (ت 2): شرطاً.

شقي العقد؛ وليس الشرط في معنى الاستدعاء؛ إذ صيغةُ الاستدعاء: أن يقول: ارهن مني دارَك هذه بألفٍ، فإذا قال: رهنتكها بالألف، كفى ذلك، على الصحيح. ومن قال بظاهر النص، احتج بأن الرهن وإن كان عقداً قائماً، يتعلق (1) بالبيع من جهة الشرط، فيجوز أن يقوم الشرطُ فيه شِقّاً، بخلاف العقد الذي لا يكون مشروطاًً في عقد، وهذا ضعيف. فإن قيل: كيف تُؤوّلون ظاهرَ النص؟ قلنا: ليس التعرض للإيجاب والقبول من مقاصد الفصل؛ فلم يفصله الشافعي؛ فالقبول مضمرٌ معنى، وإن لم يصرح به. 3700 - ثم إنما يصح شرط الرهن إذا عُيِّن، ولا يسوغ اشتراطُ رهنٍ مطلقاًً وفاقاً، ولو شُرط رهنٌ على الجهالة، كان الشرط فاسداً. وعند ذلك يختلف القول في فساد البيع، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى. وكذلك إذا كان يشترط في العقد ضميناً بالثمن، فلا بد من تعيينه؛ فإن الأغراض تختلف بمراتب الضمناء. وإذا شرط رهناً معيناً، فهل يشترط بيان من يوضع على يديه، فوجهان: أحدهما - لا بد من ذلك؛ فإن الغرض يختلف به. ومنهم من قال: لا يشترط، لأن الرهن هو الوثيقة، وهو متعين لا جهالة فيه، وظاهر النص مع الوجه الأول. وإن فرعنا على الثاني، فإن اتفقا على يد عدلٍ أو على يد المرتهن، فذاك. وإن تنازعا، رفع الأمرُ إلى الحاكم؛ حتى يعيِّن عدلاً، ويقطع الخصومة بينهما. فإن عين رهناً، فلم يفِ المشتري برهنه، ثبت الخيار للبائع في فسخ البيع، وكذلك إذا كان عيّن كفيلا في شرطه، فامتنع ذلك الشخص من الكفالة، تخير البائع. ثم إذا ثبت الخيار في البيع، فإن فسخ فذاك، وإن أجاز، ورضي، لزم العقد، ولم يتخير المشتري. وقال مالك يتخير المشتري، وتعرَّض الشافعي للرد عليه بما لا نحتاج إلى ذكره.

_ (1) جملة " يتعلق " في محل نصب صفة ثانية لـ" عقداً ".

فصل قال الشافعي: " ولو كانا جهلا الرهن والحميل، فالبيع فاسد ... إلى آخره" (1). 3701 - قد ذكرنا أن الوثائق ثلاث: الرهن، والكفيل، والشهادة، أما الرهن والكفيل، فلا بد من تعيينهما، وأما الشهادة، فلا يشترط تعيين من يتحمل الشهادة؛ وذلك أن الأغراض تختلف على الجملة باختلاف الرهون والضمناء، فأما الشهادة، فالغرض منها أن يتحمل عُدُولٌ العقدَ أو الإقرار به، وهذا لا يختلف باختلاف العدول، واتفق أصحابنا عليه، فلا يشترط إذن تعيين الشاهد. ولكن لو عين العاقد شهوداً في شرطه، فهل يتعينون كالرهن والكفيل، فعلى وجهين: أحدهما - يتعينون كالرهن والكفيل، فإن لم يشهد المتعينُ، تخير الشارط. والثاني - لا يتعينون، وإن عُينوا شرطاً؛ إذ لو تعينوا، لوجب شرطُ تعيينهم كالرهن والكفيل. ثم قال الأئمة: إذا حكمنا بأنهم لا يتعينون، وألغينا شرط التعيين، فلا يفسد العقد بهذا؛ من جهة أنا أخرجنا تعيين الشهود من مقاصد العقود، وكل شرط لا يتعلق بمقصود العقد، ففساده لا يبطل العقد، كما لو قال: بعتك هذا العبد على أن يلبس الخز، وما في معناه من الشرائط اللاغية. ثم إذا لم يتعين الشهود، فلا يبعد أن يقال: ينبغي أن يأتي المشروط عليه برجالٍ يقربون من المعينين في الصفات المقصودة في الشهادة، حتى لا يكتفي بإشهاد أقوام يظهر انحطاطهم عنهم. والعلم عند الله تعالى. 3702 - ثم إذا شُرط في العقد رهن مجهول، أو كفيل من غير تعيين، فقد ذكرنا فساد الشرط. ثم إذا فسد الشرط، ففي فساد البيع قولان: أحدهما - يبطل كسائر الشروط الفاسدة. والثاني - لا يفسد البيع؛ لأن الرهن عقدٌ مبتدأ ينفصل عن البيع. وقد يتأخر

_ (1) ر. المختصر: 2/ 215.

عقدُ الرهن عن عقد البيع، فليس إذن هو صفة في البيع، فلا يفسد البيع بفساده. والصداق لما لم يتأصل ركناً في العقد، وتصور انفراد النكاح عنه، لا جرم لم يفسد النكاح بفساده. فإن قيل: لم قطعتم بذلك في الصداق، وجعلتم المسألة على قولين في شرط الحَميل والرهن؟ قلنا: في الصداق قولٌ ضعيف أيضاًً سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى؛ ثم الرَّهن إذا كان مجهولاً، صار الثمن مجهولاً؛ فإنه متعلَّق الثمن، وجهالة الثمن تُبطل العقد. وهل يرد على هذا شرط الرهن الصَّحيح؛ فإنه إذا انضم إلى الثمن، كان زيادة، وليست مضبوطة، فكأن العين مبيع بألفٍ وشيء. قلنا: إذا كان الرهن معلوماً، فليس يخفى وقعه، ثم هو كالأجل والخيارِ في أنه من مصالح العقد، فاحتمل شرطه، ولا ضرورة في شرط المجاهيل، كما ذكرناه في الأجل. فصل ولو قال: " رهنتك أحدَ عبديَّ ... إلى آخره " (1). قد ذكرنا أن هذا مجهول، وشرط الرهن المجهول فاسد. ثم قال: " لو أصاب المرتهن بعد القبض بالرهن عيباً ... إلى آخره " (2). 3753 - إذا اختلف الراهن والمرتهن بعد قبض الرَّهن في عيبٍ كان بالرهن، فقال الراهنُ: حدث العيب في يدك، وقال المرتهن: بل كان قديماً في يدك، فالقول قول الراهن، كما قدمناه في اختلاف المتبايعين. وهذا إذا لم تكذِّب المشاهدةُ أحدهما، فلا يخفى حكمه إن كان كذلك. ثم إن كان الرهن مبتدأ غير مشروط، فلا أثر للعيب فيه؛ فإن المرتهن لو أراد أن يفسخ الرهن من غير عيب، كان له ذلك، وإنما مسائل عيوب الرهن فيه إذا كانت مشروطة في البيع، فإذا فُرض الرهن مشروطاًً في البيع، ثم اطلع المرتهن على عيبٍ قدبم به، كان له أن يفسح البيع، ولا يتأتى ذلك منه، ما لم

_ (1) ر. المختصر: 2/ 215. وفيه: " أرهنك ". (2) السابق نفسه.

يردّ الرهنَ، ففائدة الاطلاع على عيب المرهون ردُّ البيع. ولو قال: لست أفسخ البيع، ولكني أردّ الرهن. قيل له: لا فائدة في ردك إذاً (1) إلا فسخ الرهن، ولو لم تطلع على عيب، لكنتَ متمكناً من فسخ الرهن. 3704 - ولو كان الرهن مشروطاًً في البيع، فقبضه المرتهن، وتلف في يده، ثم اطلع على عيب قديم به، فالرد بعد التلف غيرُ ممكن في المبيع والثمن، ولكن يثبت للمطلع على العيب الرجوع بأرشه عند تعذر رده. والأرش لا معنى له في الرهن؛ فإن معناه في البيع الرجوعُ بقسطٍ من العوض المقابل للمبيع الفائت، والمرهون لا عوض له حتى يُفرضَ الرجوعُ في قسطٍ منه، فإذا لم يكن الرجوع ممكناً، فهل يثبت للمطلع على العيب حقُّ فسخ البيع؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإن حق الفسخ مرتب على رد الرهن، فإذا عسر رده، ولم يمكنّا أن نثبت للعيب أرشاً، فلا وجه إلا سدُّ باب الرد وإلزامُ البيع. والوجه الثاني - أنه يرد البيعَ ويفسخه ويقول: استحققت بالشرط رهناً سليماً، فلم يتفق الوفاء به، فكأنك لم ترهن عندي، ولو شرط (2) البائع رهنَ عبدين عيَّنَهما، فرهنَ المشتري أحدهما دون الثاني، فللبائع فسْخُ العقد بنقصان الصفة (3)؛ من حيث إنه يؤثر في المقصود بمثابة نقصان العين. والقائل الأول يقول: شُرط للبائع رهنٌ معين، فوفَّى المشتري به، فلم يوجد من جهته تأخير وتقصير يكون به غير موفٍ بالشرط، ثم تعذر الرَّدُّ، فَفَسْخُ عَقْده بعيد. وليس كما لو شرط رهن عبدين، فلم يف بأحدهما. وهذا يتوجه عليه أن الرد ثبت إذا

_ (1) في (ت 2)، (ص): للإذن. (2) هذا استمرار لتوجيه الوجه الثاني القائل بأن له أن يفسخ البيع إذا اطلع على عيب قديمٍ بالمرهون، فهي ليست صورة مستقلة. (3) في الكلام حذفٌ، والتقدير: ولو شرط البائع رهْن عبدين عيّنهما، فرهن المشتري أَحدَهما دون الثاني، فللبائع فسخ العقد، هذا لا خلاف فيه، فكذلك له فسخ العقد بنقصان الصفة عند اطلاعه على عيب قديم من حيث إنه يؤثر في المقصود تأثير نقصان العين عندما رهن أحد العبدين دون الثاني.

كان المرهون باقياً، ولا يقال: قد وفى المشتري بما شُرِط عليه في معين. هذا بيان الوجهين. فصل قال: " ولو اشترط أن يكون المبيع بعينه رهناً، فالبيع مفسوخ ... إلى آخره" (1). 3705 - إذا شرط البائع جعل المبيع رهناً بالثمن، نُفرِّع هذا على الأقوال في أن البداية في وجوب التسليم بمن؟ فإن حكمنا بأن البداية بالبائع، فشرطُ حبس المبيع بطريق الرهن يخالف هذا المقتضى، وإذا خالفه، فسد، وأفسد العقدَ. وكذلك إذا قلنا: هما يجبران على تسليم العوضين، أو قلنا: لا يجبران. ومن بدأ بتسليم العوض الذي التزمه، أجبر صاحبه على تسليم مقابله. فإذا وقع التفريع على هذين القولين، ثم جرى في العقد شرط رهن المبيع، فسد الشرط، وفسد البيع، من جهة أنه تضمَّن خروج البيع عن مقتضاه، فلا يحتمل هذا. ومن الأصول المعتمدة في البياعات أن العقد إذا كان له مقتضى عند الإطلاق، فلا يجوز تغييره في مقتضى إطلاقه بما لا نفع فيه ولا مصلحة تتعلق بالعقد. فأما الشرط الذي يتعلق بمصلحة العقد، فلا يجوز الاسترسال في تجويزه، بل يُتَّبع فيه توقيفُ الشارع، كالخيار وما في معناه؛ فإن هذه الأشياء في المعاملات كالرخص في العبادَاتِ، فلئن ثبت الرهن بنص الكتاب والإجماع، فرهن المبيع من وجهٍ لا حاجة إليه، وهو على حالٍ مغيرٌ لمقتضى إطلاق العقد، ولا توقيف فيه، فلا سبيل إلى احتماله. فإذا قلنا: البداية بالتسليم على المشتري، والمبيع بحق العقد محبوس بالثمن، فلو شرط البائع رهن المبيع عنده بالثمن، فهل يصح الشرط على هذا القول؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح؛ فإنه موافق لمقتضى العقد؛ إذ مقتضاه على هذا القول

_ (1) ر. المختصر: 2/ 216.

حبس المبيع بالثمن. والرهن يوافق هذا المعنى. والوجه الثاني - لا يجوز الشرط، ويفسد العقد به؛ لأن المبيع إذا كان محبوساً بالثمن، فهو من ضمان البائع، والرهن لو قدر ثبوته، فمقتضاه أن يكون المرهون أمانة في يد المرتهن، فقد اختلف موجَب الحبسين، فشرطُ أحدهما مع الثاني طلب الجمع بين مختلفين. ثم إن حكمنا بصحة الشرط ووفَّى المشتري به، فالمبيع يكون مرهوناً عند البائع مضموناً عليه بحكم العقد؛ فإن ضمان العقد لا يزول إلا بالقبض، ولا يتصور على مذهبنا مرهون يسقط الدين بتلفه إلا هذا، ولكن الثمن لا يسقط بسبب تلف الرهن من حيث كان رهناً. وإنما يسقط بتلف المبيع من حيث كان مضموناً على البائع. 3706 - ثم قال الشافعي: " ولو قال للذي عليه الحق: أرهنك على أن تزيدني في الأجل ... إلى آخره " (1). إذا قال المشتري والثمن مؤجل عليه للبائع: أزيدك رهناً، فزدني أجلاً. فنقول: الزيادة لا تلحق بالعقد؛ فلا مطمع في حصول هذا الغرض. ويُنظر إلى الرهن الذي يزيده المشتري، فإن أطلقه وما ذكر معه شرطاً، فالذي تقدم من الزيادة في الأجل لغوٌ، وهذا الرهن ثابت. وإن شرط في الرهن الزيادة في الأجل، فقد ضمّن الرهنَ شرطاً فاسداً، ففسد الرهن به. فصل قال: " ولو أقر أن الموضوع على يديه الرهنُ قبض الرهن ... إلى آخره ". 3707 - إذا رهن الرجل عيناً، وكانا ذكراً عدلاً. ثم قال الراهن: سلّمت الرهن إلى العدل، وقبضه عن جهة الرهن، ثم استرددته منه بعد لزوم الرهن للانتفاع أو غيره من الأغراض. فقال العدل: ما قبضتُ، ثبت لزوم الرهن بقول الراهن؛ فإنه معترف على نفسه بلزوم الحق للمرتهن، فكان مؤاخذاً بإقراره. وقوله غير مقبول على

_ (1) ر. المختصر: 2/ 216.

العدل، حتى لو بيع ذلك الرهن [و] (1) خرج مستحقا، فليس لمستحقه مطالبة العدل، بناء على أن متاعه قد مر بيده؛ فإنا لم نصدق الراهن على العدل، وإنما حكمنا عليه بموجب إقراره ليثبت حق المرتهن، وهذا هين المُدرَك في أحكام الأقارير [وما] (2) يتصل يها من القضايا. ولو قال لمن وكله بالبيع: قد بِعْتَ ما وكلتُك ببيعه من فلان، فإقراره محكوم به مقبول في حق المعيَّن للشراء، ولكن لا يُقبل إقرارُه على الوكيل إذا كان يتعلق بالوكيل ضمان أو عهدة، فلو أراد المشتري المقَرُّ له أن يطالب الوكيل بعهدة العقد بناء على إقرار البائع له بالبيع، لم يمكنه ذلك؛ لأن الوكيل لم يعترف بالبيع، وإقرار الموكل إنما يقبل على نفسه للمشتري، ولا يقبل على الوكيل حتى يلزمه عُهدة. فصل قال المزني: " وجملة قوله في اختلاف الراهن والمرتهن أن القول قول الراهن في الحق، والقول قول المرتهن في الرهن ... إلى آخره " (3). 3708 - أراد المزني أن يضبط الصور التي يُصَدَّقُ فيها الراهن، والمسائل التي يُصَدَّقُ فيها المرتهن، فأتى بقول مبهمٍ لا يفهم، وأجرى كلاماً ظاهره الفساد، ولا يجوز أن يشكل عليه وجه الحق فيه، فاجتمع أمران: أحدهما - أنه لم يُنتفَعْ بضبطه، والآخر- أنا نحتاج إلى تأويل اللفظ. أما قوله: " القول قول الراهن في الحق "، فصحيح، ومعناه لو اختلفا في قدر الحق، فقال الراهن: رهنت بخمسمائة، وقال المرتهن: بألفٍ، أو اختلفا في الجنس، فقال الراهن: رهنت بالدنانير، وقال المرتهن: بل بالدراهم التي لي عليك، وكانت له عليه دراهم ودنانير. فالقول قول الراهن.

_ (1) في الأصل: أو. (2) في النسخ الثلاث: ومما. (3) ر. المختصر: 2/ 216.

وأما قوله: " القول قول المرتهن في الرهن "، فمشكل؛ فإن الراهن والمرتهن لو اختلفا في مقدار الرهن، أو في إقباضه، فنفى الراهنُ مقداراً عن الرهن، أو نفى الإقباضَ، فالقول في ذلك كله قول الراهن، فلا يستدّ مطلق قول المزني، ولا بد للفظه من تأويل، فنذكر وجهه، وهو على التحقيق مراده، وسياق كلامه دليل عليه: فمراده أن الرهن إذا كان مشروطاًً في البيع، فالمرتهن هو البائع والراهن المشتري، فإذا تنازعا في أصل الرهن، كان أو لم يكن، أو في قدره، أو جنسه، فهذا اختلاف المتبايعين في صفة العقد، والحكم فيه التحالف. ثم البداية على الأصح تقع بالبائع وهو المرتهن، فالمعني بقوله: " القول قول المرتهن " هذا. ويمكن أن يُفرض نزاعٌ في بعض أحكام الرهن، والقول فيها (1) قول المرتهن: وذلك إذا اتفقا على الرهن والقبض، فقال الراهن: فسخنا الرهن. وقال المرتهن: لم نفسخه، فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل أن لا فسخ. ثم قال: "فيما يشبه ولا يشبه": وهذا رد على مالكٍ؛ فإنه يقول: لو كان الدّين ألفاً، فقال المرتهن رهنتني هذا العبد، وقيمته ألف، فقال الراهن: بل رهنتك الآخر، وقيمته خمسمائة. قال مالك (2): القول قول المرتهن؛ لأن الظاهر أنه لا يرضى أن يرتهن بالألف ما يساوي خمسمائة، وهذا الذي ذكره مالك لا عبرة به، ولا نظر إلى مقدار القيمة. فصل قال الشافعي: " ولو قال الرجل لرجلين: رهنتماني ... إلى آخره " (3). 3709 - إذا ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا منه عبدهما بمائة، نُظر: فإن صدّقاه، ثبت الرهن، وإن كذباه، فالقول قولهما مع اليمين؛ لأن الأصل عدم الرهن. فإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر، فنصيب المصدِّق وهو النصف رهنٌ

_ (1) إلى هنا انتهت نسخة (ص). وهي ناقصة من آخرها. ولذا خلت من الخاتمة. (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 585 مسألة: 977. (3) ر. المختصر: 2/ 216.

بخمسين إذا كان الدين مائة، ونصيب المكذِّب خارج عن الرهن إن حلف على ما نفاه، فإن شهد المصدِّق على المكذِّب، فشهادته مقبولة؛ فإن شهادة الشريك على الشريك مقبولة، وإنما النظر في شهادة الشريك للشريك، كما سنذكره الآن، إن شاء الله عز وجل. 3710 - ولو ادعى رجلان على رجل أنه رهن عِندهما ثوباً (1) له. فإن صدقهما، فذاك. وإن كذبهما، فالقول قوله مع يمينه. وإن صدق أحدهما دون صاحبه، فالنصف رهن من المصدَّق، فإن شهد هذا المصدَّق للمكذَّب، ففي قبول شهادته وجهان: أحدهما - أنها مقبولة؛ إذ لا جرَّ (2) في شهادته، ولا دفع. والوجه الثاني - لا تقبل شهادته له، وهذا الخلاف في الشهادة يبتني على أصل سنذكره في كتاب الأقارير وكتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى. والذي لا بد من ذكره هاهنا أن رجلين إذا ادعيا اتِّهابهما [عبداً] (3) من رجلٍ، وأنه وهبه منهما وسلمه إليهما، فصدَّق المدعى عليهِ أحدهما، وكذب الثاني فَيَسْلم من تصديقه الهبةُ في النصف، ثم ذلك النصف هل يستبدُّ به المقَرُّ له؟ أم لصاحبه أن يقول: نحن فيما بيننا تصادقنا وتقارَرْنا على أن الهبة جرت مشتركة إيجاباً وقبولاً وتسليماً. وقد سلم النصف بإقراره، فليكن هذا مشتركاً؟ فيه وجهان: أحدهما - أن النصف يَسْلم للمقرّ له لا نزاع فيه. والثاني - أن صاحبه يشاركه في النصف الذي سَلِم. وهذا التردد يجري في كل ملكٍ وحقٍّ متلقّىً من عقدٍ على سبيل الشيوع. ولو اعترف بأن هذه الدار ورثتها أنا وفلان من أبينا، وكانت مجحودة، فسلم لأحدهما بعضها، فيشركه فيها شريكُه في الميراث. وسيأتي هذا بأصله وتفريعه. عُدنا إلى غرضنا: إذا ادعيا على رجل أنه رهن منهما، فأقر لأحدهما، فذلك الحاصل بالإقرار إن قلنا: يختص به المصدَّق، فشهادته مقبولة للمُكذَّب، وإن

_ (1) في (ت 2): عبدهما يوماً له. وانظر الشرح الكبير: 10/ 72، ففيه المسألة نفسها بتصوير أنه رهنهما عبده هذا. (2) أي لا تجرّ هذه الشهادة نفعا للشاهد، ولا تدفع عنه ضراً. (3) في الأصل: عينا.

قلنا: يَشْركُه فيه المكذَّب؛ فشهادته تتضمن دفعاً عن نفسه؛ فترد لذلك. 3710/ م- ولو ادعى رجلان على رجلين أنهما رهنا عبداً لهما منهما، فإن صدقاهما، ثبت الرهن، وإن كذباهُما، فالقول قولهما مع أَيْمانهما، والنزاع بينهم يتصور على وجوه، ولا يكاد يخفى مُدرك جميعها على متأملٍ. ونحن نذكر أغمض الصور، فنقول: إذا ادعى بكر وخالد على زيد وعمرو أنهما رهنا منهما عبدَهما المشتركَ بينهما، فصدَّق زيد خالداً وكذَّب بكراً، وصدق عمرو بكراً، وكذب خالداً. وكلّ واحدٍ من زيدٍ وعمرٍو له نصفُ العبد، وقد جمع في نصفه بين إقرار وإنكار، فيضمن بكر من جهة المقر مُقِرّاً له بربع العبد، وهو نصف نصيب أحدهما، وكذلك الثاني. ولا غموض لهذا. وإنما يهاب المبتدىء هذا لما نقل بعضُ الأئمة أن ابن سريج قال: ما (1) انتهيت إلى هذه المسألة إلا احتجت إلى إتقان (2) الفكر، حتى أثبتها على حاشية الكتاب. فصل قال: " وإن كان له على رجل ألفان ... إلى آخره " (3). 3711 - إذا استحق على رجل دينين من جهتين، ومبلغ كلِّ دين ألفٌ، فإن رهن بألفٍ في جهة مخصوصة عبداً، ثم إنَّ مَنْ عليه الدين أدى ألفاً، وتنازع الراهن والمرتهن، فقال المرتهن: أديت الألفَ الذي لم يكن موثقاً بالرهن، والرهن باقٍ بالألف الثاني. وقال المؤدي: بل أديتُ عن الرهن، وفككته. فنقول: لا شك أن الاعتبار بقصد المؤدِّي، حتى لو فرض منه قصد في أداء دين مخصوص، ولم يُفرض من القابض قصدٌ في القبض؛ فإن المؤدَّى يقع في حُكم الله تعالى على نحو قصد المؤدي. فإذاً تبين هذا حكماً، حتى قال الأصحاب: لو ظن

_ (1) في (ت 2): لما. (2) في (ت 2): أضعاف. ولعلها: "إمعان". (3) ر. المختصر: 2/ 216.

القابض أن المؤدِّي يودعه الألفَ، وأنه مستحفظ فيه، وقصد المؤدِّي قضاءَ حقه، فالقبض يتم، وذمة المؤدي تبرأ. وهذا فيه أدنى نظر عندي؛ فإن الإقباض شرطه التمليك، وكل من عليه الدين إذا أداه، فكأنه يُملّك القابضَ، ويثبت له في الأعيان ملكاً؛ فإن حقه لم يكن متعلِّقاً بعين، فإن وصل المُقبضُ فِعله بقولٍ، فذاك. وإن لم يصله بقول، فلا يبعد أن نقول: لا بد من مَخِيلة مُملِّكة مشعرة بتسليط القابض؛ فإن التمليك بالمبهمات غيرُ متجه. 3712 - فإذا تبين ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ بعده إلى طريق فصل التنازع. فنقول: إذا اختلف الراهن والمرتهن على ما ذكرناه، فالقول قول الراهن مع يمينه. ولو قال: أديتُ الألفَ، وقصدت أن يكون نصفُه عن جهة الرهن، ونصفه عن الألف المرسل، فهو مصدَّق، فإن نُوزع، يُحَلَّف. وإن قال: لم يكن لي قصدٌ في تعيين جهةٍ، وإنما أديت الألف مرسلاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نقول له: الآن اصرف الألفَ إلى أي جهة شئت. فإن صرفه إلى الرهن، انفك. وإن صرفه إلى الآخر، بقي الرهن، وإن قسمه عليهما، انقسم. والوجه الثاني - أن الأداء المطلق محمول على التقسيم، فيقع عن كلّ دين قسطٌ من المؤدَّى. فإن [استويا] (1) في المقدار يقسط عليهما بالسوية، وإن اختلفا، يقسط عليهما على تفاوت القدرين. ولهذا نظائر منها: أنه لو أقرض مشرك مشركا ألفاً بألفين، ثم قضاه أحد الألفين في الشرك، ثم أسلما، فقال المؤدي: أديتُ في الشرك ما أديتُ عن جهة الربح، فالألف قائم عليه، وهو مطالبٌ به في الإسلام. وإن زعم أن الذي أديتُه قصدتُ به تأدية رأس المال، فهو مصدّق، وإن اتهم، حُلِّف. وموجب تصديقه الحكمُ ببراءته؛ فإن أصل الدين قد تأدى؛ ولا ربحَ في الإسلام. وإن زعم أني أديت الألف ولم أقصد صرفَه إلى جهة مخصوصة، فوجهان: أحدهما - أن المؤدّى مُقسط على الربح ورأس المال. وحكم ذلك أن يطالبه في الحال بخمسمائة؛ فإنه قد أدَّى

_ (1) في الأصل: استوفى.

خمسمائة من الأصل، ولم يبق إلا خمسمائة، ولا ربح. والوجه الثاني - أنه يقال له: اصرف ما أديته الآن إلى ما شئت، فإن صرفه إلى الربح، فعليه الألف التام عن جهة رأس المال. وإن صرفه إلى رأس المال، سقط الربح، وسقطت المطالبة. وإن بعَّض قصدَه تبعّض الأمرُ، ولم يختلف الحكم، كما قدمناه. وكذلك لو ترابيا في الشرك درهماً بدرهمين، وأقبض الزائدُ المُفْضِلُ أحدَهما، ثم أسلماً، فالقول في القصد والاختلاف على حسب ما مضى. وهذه المسألة مفروضة في البيع، والأخرى التي قبلها مفروضة في القرض. ولا فرق. ولو وكل الرجلان رجلاً ليقتضي دينين لهما على رجلٍ، وكل دين ألف مثلاً فدفع من عليه الدينان ألفاً إلى الوكيل، فإن قال حال الدفع: خُذْه عن دين فلان، وعيّن أحدَ موكِّلَيْه، وقع عن تلك الجهة. ولو قال بعد ذلك: قصدتُ خلافَ ما قلت، لم يقبل منه. وهذا يطرد في جميع المسائلِ التي ذكرناها. ولو لم يقل شيئاًً، ثم راجعناه، فقال: قصدت أحدَ الموكلَيْن، وقع المقبوض على حسب قصده. وإن قال: لم أقصد تعيين واحد منهما، فيعود الوجهان، نقول في أحدهما: يتقسط ما أداه على ديْنَي الموكِّلَيْن، ونقول في الثاني للمؤدي: اصرف الآن قصدَك إلى من شئت منهما أو قسِّط عليهما. 3713 - ولو قال من عليه الدين للوكيل من جهة المستحقَّيْن: خذ الألفَ وادفعه إلى فلان. فقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: إذا جرى ذلك، انعزل الوكيل بالقبض عن حكم ذلك التوكيل، وصار وكيلا للمؤدِّي؛ فإنَّ حكم قوله: ادفعه أن يتوقف الأمر على وصوله إلى الموكِّل، وحكم البقاء على توكيله بالقبض أن يبرأ الدافع بالدفع إلى الوكيل، فلا يكون لقوله: ادفع إلى فلان معنى. ومن أصحابنا من قال: لا ينعزل عن التوكيل بالقبض، وإن قبل التوكيل بالدفع على اللفظ الذي حكيناه؛ وذلك أن يدَ الوكيل ليست [تنتهي بالقبض] (1) ومعنى قبضه

_ (1) في الأصل: منتهى القبض. ومطموسة في (ت 2).

أن يوصّلَه إلى موكِّله. فإذا قال من عليه الدين: ادفع هذا إلى موكِّلك، لم يكن ما قاله مضاداً للقبض، والمسألة محتملة لطيفة. والأفقه الوجه الأول. 3714 - ثم مما يجب التنبه لهُ في تصوير المسألة أنا لا نشترط من الوكيل تصريحاً بالقبول لمّا قال من عليه الدين: ادفع إلى موكلك، بل مجرد قوله له: ادفع يتضمن أني لا أقنع بيدك على حسب ما وكلك صاحبك، ولكن آمرك ابتداءً بأن تسلمه إليه. هذا ما نشأ منه التردد. وهو لا يفتقر إلى تصوير قبول. فليفهم الناظر. وأثر ما ذكرناه أنا إذا قلنا: لا يقع قبضه على حكم توكيل موكِّله، فلو تلف في يده، فذمة من عليه الدين مشغولة. وإن قلنا: إنه يبقى على حكم التوكيل بالقبض، فلو تلف ما قبضه في يده، كان من ضمان موكِّله، وقد برىء المؤدِّي، فإن لم يكن منْ الوكيل تقصير، فلا ضمان أصلاً، وإن كان منه تقصير، فهو متعدٍّ في ملك غيره. وطرف الإنصاف والانتصاف بينهما بيِّن، والغرضُ ما اتضح من براءة المؤدِّي. فصل قال: " ولو قال: رهنته هذه الدارَ التي في يده بألفٍ ... إلى آخره " (1). 3715 - إذا اعترف الرَّجل بأنه رهن داره من إنسان، وصادفنا تلك الدار في يد المرتهن، ثم اختلفا، فقال الراهن: غصبته مني. وقال المرتهن: بل أقبضتنيه، فالقول قول الراهن في أصل المذهب " لأن الأصل عدم القبض والخيار إلى المقبض. ولو قال الراهن: أعرتُه، أو أودعتُه، أو أكريتُه، أو أكريتُ الدار من فلانٍ، فأكراها منه أو أعارها منه، فحصلت تحت يده بهذه الجهة. وقال المرتهن: بل أقبضتنيه عن جهة الرَّهن، ففي المسألة وجهان: أحدهما - القولُ قول الراهن كالمسألة الأولى، وهي إذا ادعى الراهن الغصبَ وادعى المرتهن القبض المستحق. والوجه الثاني - القول قول المرتهن، لتقارِّهما على أن القبض لا عدوان [فيه] (2) وأن صدَرَه عن

_ (1) ر. المختصر: 2/ 216. (2) ساقطة من الأصل.

الإذن، ثم ظاهرُ اليد يدل على حق ذي اليد، كما أن ظاهرها يدّل على ملك ذي اليد، إذا كان المتنازَعُ الملكَ. والظاهر بناء القبض على العقد المقتضي للقبض. هذا الذي سردناه أصلُ المذهب. وقد أبعد بعض الأصحاب، فذكر وجهاًً ضعيفاً في أن القول قول المرتهن، وإن قال الراهن غصبتنيه، وهذا ضعيف غيرُ معتد به، وسنعيده مع تفريعاتٍ في كتاب العارية، إن شاء الله تعالى. 3716 - فلو قال البائع: غصبتنيه، وقال المشتري: بل أقبضتنيه. والتفريع على أن المبيع محبوس بالثمن، وعلى المشتري البداية. فإذا تنازعا كما وصفناه. فإن كان قد وفر المشتري الثمنَ، أو كان الثمنُ مؤجَّلا، فلا معنى لهذا الاختلاف؛ فإن قبض المبيع مستحَق للمشتري. وإن كانَ الثمن حالاً، ولم يوفر المشتري [الثمن] (1) فالقول قول البائع؛ لأن الأصل عدمُ الإقباض. وإن قال البائع: أعرتكه أو أودعتكه، وقال المشتري: بل أقبضتنيه عن البيع، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- الحكمُ بالقبض؛ لأن المبيع ملك المشتري، وحق البائع في الحبس ضعيف. وهذا يصفو بشيء، وهو أن البائع لو أعار المشتري المبيعَ على أن ينتفع به ويردَّه محبوساً بالثمن، فالإعارة هل تُبطل حق حبسه؟ وجهان ذكرهما الشيخ، وصاحب التقريب، وطائفة من العراقيين. أحدهما - أن حق حبسه يبطل، فإنه لم يكن حقّاً (2) مقصوداَّ بَعقد، فإذا ثبتت يدُ المشتري وهو مالك، وكان زوال اليد عن رضاً، فلا عود إلى اليد. والوجه الثاني - أن حق البائع لا يسقط، فإنه لم يسقطه، فيجب الوقوف على منتهى قصده. ولو أودع البائع المبيع عند المشتري، ففي بطلان حق البائع من الحبس وجهان مرتبان على الوجهين في العارية، [و] (3) اختلف أصحابنا في كيفية الترتيب، فمنهم من جعل الإيداع أولى ببطلان حق البائع؛ من جهة أنه يبعد كل البعد أن يحفظ المالك

_ (1) مزيد لإيضاح العبارة. (2) في (ت 2): حقه. (3) في الأصل: فاختلف.

ملكه لغيره، وفي الإعارة غرضٌ على حالٍ سوى الحفظ. ومن أصحابنا من جعل الإيداع أولى بأن لا يُبطل حقَّ البائع؛ فإنه ليس فيه تسليط أصلاَّ، وفي الإعارة تسليط. ولم يختلف أئمتنا في أن المرتهن لو رَدَّ الرهنَ إلى يد الراهن [بأية] (1) جهة فرضت مع استمراره على الرهن، فحقه قائم لا يبطل. 3717 - عاد الآن بنا الكلامُ إلى ما كنا فيه من اختلاف البائع والمشتري. فإن قلنا: الإعارة، والإيداع يُبطل حقَّ البائع، فلا معنى للاختلاف؛ فإنه اعترف بمبطلِ حقه. وإن قلنا: الإعارة والإيداع لا يبطلان حقَّه من الحبس، فإذا تنازعا، انتظم الخلاف الذي ذكرناه. والوجه الضعيف في ادعاء البائع للغصب، وادعاء المشتري الإقباض عائدٌ. وبالجملة يد البائع ضعيفة. وآية ذلك أن المشتري إذا قتل (2) العبدَ المشترى، جعل ذلك قبضاً منه ناقلاً للضّمان، وإن كان على كُره من البائع، وكان من الممكن أن نقولَ يغرم قيمةَ المبيع، ويسلمَها لتُحبس على الثمن، كما نقول: يغرَم الراهن قيمةَ المرهون إذا قتله لتوضع رهناً إلى أداء الدين. وذكر صاحب التقريب وجهاً في كتاب البيع: أن إتلاف المشتري لا يكون قبضاً، وأن القيمة تلزمه، فتجعلُ محبوسةً كما ذكرناه في الرهن. وهذا بعيد جداً لم يتفق منا حكايتُه في كتاب البيع. ومما يتعلق باختلاف المحابس لما نحن فيه أنه لو قال من عليه الدين لمستحقه: رهنتك هذا العبدَ بالألف الذي لك عليَّ. وقال صاحب الحق: بل بعتنيه بالألف، فالقول قول من عليه الحق، لا خلاف فيه؛ فإن صاحبه ادعى عليه إزالةَ الملك بطريق البيع، والأصل عدمه، وبقاءُ الملك؛ فينتفي البيعُ بنفيه، ولا نحكم بالرهن؛ لأن المستحِق ليس يدعيه.

_ (1) في الأصل: فإنه. والمثبت من (ت 2). (2) في (ت 2): قبل. وفي الأصل بدون نقط.

ولو كان الخلاف على العكس، فقال من عليه الحق: بعتك هذا العبد بالألف الذي لك علي، وقال صاحب الحق: بل رهنتنيه، فالوجه أن يحلف كل واحد منهما على نفي العقد الذي يُدّعى عليه، فينتفي الرهن والبيع جميعا، فلا يبقى لصاحب اليد حق. أما الرهن فقد نفاه من عليه الحق وهو مصدّق، وأمّا البيع فقد نفاه هو في نفسه. فرع: 3718 - العدل إذا باع الرهن بإذنهما، ثم قال: قد سلمت الثمن إلى المرتهن، [و] (1) أنكر المرتهن، فالقول قوله، ولا يقبل قول العدل عليه؛ فإنه أمين المرتهن في تحفظ الرهن فحسب، ثم هو بالخيار إن شاء طالب الراهن بدينه، وإن شاء طالب العدلَ. فإن أراد مطالبة العدل، فله ذلك؛ فإنه يقول: قد أقررتَ بحصول عوض رهني في يدك، ورُدّ قولُك في التسليم، فله مطالبته إذن. ثم إذا غرِم العدلُ كما ذكرناه، فلا يجد العدل به مرجعاً على أحد؛ فإنه يعترف بأنه مظلوم من جهة المرتهن، ولا يرجع المظلوم إلا على من ظلمه. فرع: 3719 - حكى العراقيون عن الأصحاب أنهم قالوا: لو كان لرجل ألفُ درهم على رجلين، على كل واحد خمسمائة، ولهما عبد مشترك، فادعى أنكما رهنتماني العبدَ، فأنكر كل واحد رهنَ نصيبه، وزعم صاحبه رهنه وهو في نفسه لم (2) يرهن، ثم شهد كل واحد منهما على صاحبه، وحلف المدعي مع شهادة كل واحد منهما يميناً يميناً، فيثبت له الرهن عليهما جميعاً في جميع العبد. وتعليله بيّن، وهو موجَب القضاء بالشاهد واليمين. قال الشيخ أبو حامد: في هذا نظر عندي، فينبغي أن لا تقبل شهادة واحد منهما؛ فإن المدَّعي يقول: قد كذب كل واحد منهما لما أنكر الرهن في حق نفسه، فإذا كان يكذِّب شاهدَه في شيء، فكيف تقبل شهادته في حقه. وفيما قاله الشيخ أبو حامد نظر؛ فإن أقوالهما في إنكارهما مجمل لا يوجب

_ (1) في الأصل: فأنكر. (2) عبارة (ت 2): ولم يرهن هو في نفسه.

تفسيقهما؛ من تقدير غفلة أو ذهول. وبالجملة ليس من الرأي ابتدار التفسيق مع اتجاه احتمالاتٍ لا فسق فيها. فرع: 3720 - إذا رهن شيئاًً وسلمه إلى المرتهن، فمات المرتهن وقال: لا أرضى بيد الورثة، فكيف السبيل فيه؟ المذهب الأصح أن الأمر يرفع إلى القاضي، فينصب القاضي عدلاً، ويضع الرهن على يده. نقل العراقيون فيه نصَّ الشافعي، وخرّج منه أن للراهن إزالة يد الورثة، ولا فرق بين أن يكونوا عدولاً، وبين أن يكونوا دون مورثهم في الثقة والعدالة. وقال بعض أئمتنا: لا يزيل القاضي أيدي الورثة؛ فإنهم استحقوها خلافة ووراثة. نعم، للقاضي أن يضم إلى أيديهم يداً إذا استدعاه الراهن، فأما إزالة حقوقهم، فلا سبيل إليه. فرع: 3721 - إذا أراد العدلُ أن يسلم الرهن إلى القاضي، والراهن والمرتهن جميعاً حاضران، فليس له ذلك قبل عرض الأمر عليهما، وليس للقاضي أن يقبله إذا أحاط بالحال، فلو [سلم]، (1) من غير مراجعة، توجه الضمان على العدل. فأما إذا غاب الراهن والمرتهن إلى مسافة القصر، فللعدل التسليم إلى الحاكم. وإن كان دون مسافة القصر، فليس له الرفع إلى الحاكم حتى يستأذنَهما. ولا يمتنع عندنا اعتبار مسافة العدوى (2) في ذلك، حتى يقال: إن كانا على مسافة العدوى، فلا بد من مراجعتهما، وإن [كانا] (3) فوق مسافة العدوى، ففيه تردد. ولو كانا حاضرين، فعرض عليهما، فامتنعا من الاسترداد، فيرفع الأمرَ إلى القاضي حينئذ، حتى يحملهما على الأخذ منه، ثم لا يخفى منتهى الكلام في ذلك. * * *

_ (1) في الأصل: سلّم. (2) مسافة العدوى: قال ابن فارس: العدوى طلبك إلى والِ ليُعديَك على من ظلمك، أي ينتقم منه باعتدائه عليك. والفقهاء يقولون: " مسافة العدوى " وكأنهم استعاروها من هذه العدوى؛ لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعدوٍ واحد، لما فيه من القوة والجلادة. (المصباح). (3) في الأصل: كان.

بَابُ الزيادةِ في الرّهنْ ومَا يحدثُ فيهِ قال الشافعي: وقد روي عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال " الرهن محلوب ومركوب ... إلى آخره " (1) (2). 3722 - مقصود الباب الكلام في فوائد الرهن ومصارفها، وتفصيل القول فيها، وهي آثارٌ وأعيانٌ في التقسيم الأول. والمعنيُّ بالآثار المنافع، وهي للراهن وتَتْبَع ملكه، ولا تتعطّل. وأبو حنيفة في مذهبه المشهور يرى تعطيلها (3). وذهب أحمد (4) وإسحاق (5) إلى أنها للمرتهن. واعتمد الشافعي الخبر، ثم قد يقتضي إزالة يد المرتهن للانتفاع بالرّهنِ؛ فإن الراهن إذا أراد استخدام العبد وركوب الدابة، فلا يتأتى له ذلك إلا بإزالة يد المرتهن، ولأجل هذا عطل أبو حنيفة المنافع؛ إذ معتقده أن القبض وحق اليد الركن الأعظم في الرهن؛ ولهذا منع رهن المشاع، وجرى في المسألتين على تناقض؛ حيث منع رهن المشاع، وكان يمكنه أن يديم يد المرتهن على الشائع، وصحح رهن ما ينتفع به، وعطل المنافع. ولو طرد القياس، لمنع رهن ما ينتفع به؛ حتى لا تتعطل المنافع، وقد قررنا ذلك في (الأساليب). ثم لأصحابنا اضطراب في الجمع بين توفير المنافع على المالك، وبين رعاية حق المرتهن في القبض، ونحن نذكر مضطرب الأئمة في هذا.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 216. (2) رواه الدارقطني: 3/ 34، والحاكم: 2/ 58. وانظر التلخيص: 3/ 83 ح 1242. (3) ر. إيثار الإنصاف في مسائل الخلاف: 368، رؤوس المسائل: مسألة 193، وحاشية: الطحطاوي 4/ 236، وحاشية ابن عابدين: 5/ 310. (4) ر. المغني (4/ 432). وفيه تفصيل بين المرهون المركوب أو المحلوب وبين غيرهما. فليراجع. وانظر الموسوعة الفقهية مادة (رهن). (5) إسحاق بن راهويه (ت 238 هـ).

أولا- اتفقوا على أن الراهن لو أراد المسافرة بالعبد لينتفع به في سفره، لم يمكّن من ذلك. والزوج يسافر بزوجته لتأكد حقه منها، ولا يبالي بما يتعطل من منافع الزوجة الحرة. والسيد يسافر بالأمة التي زوّجها، ولا يبالي بحق الزوج منها. وهذه الأصول في ظواهرها أدنى تفاوت. ووجه الكلام على الإيجاز عليها أن النكاح في الحرة هو الأصل في بابه، وهو عقد العُمر، وبه قوام العالم، وبقاء النوع، فعظم قدره ويقل بالإضافة إليه منفعة بدن الحرّة، ونكاح الأمة دخيل في الباب، يُجرَى مجرى الرخص، والرهن عارض يعقد للتوثيق، وسيؤول على القرب إلى الفَكّ، أو إلى البيع. وليس في المنع من المسافرة تعطيل كلي. ثم قال الأصحاب: إن وثِق المرتهن بالراهن سلم العبدَ إليه نهاراً ليستخدمه، ثم يرده ليلاً إليه أو إلى يد عدلٍ، وإن لم يكن الراهن موثوقاً به [كلفه المرتهن أن يُشهد في كل أخذ ورد؛ حتى يقوم الإشهاد في أدائه التوثيق مقامه. وإن كان الراهن موثوقاً به] (1) في الناس مشهوراً بالعدالة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب الاكتفاء بعدالته؛ إذ يشق تكليفه كل غداة أن يُشهد على نفسه، وإن لم يكن مشهوراً بالعدالة، فقد [أُتي] (2) من قِبَل نفسه. ومن أصحابنا من قال: إذا طلب المرتهن الإشهادَ، وجب الإسعافُ به. وحكى صاحب التقريب من لفظ الشافعي [في الرهن] (3) الصغير من القديم قولاً: أن الراهن لا يزيل يدَ المرتهن قط، ولا يدَ العدل، ولكن يستكسب العبدَ في يد المرتهن، ويحصل أجرته، وإن كان يضيع معظم منافعه، فلا يبالَى به أصلاً؛ فإن إزالة يد المرتهن لا سبيل إليه. وليس كرهن المشاع؛ فإنه أُورد والإشاعة مقترنة به، وهي تقتضي قطع (4) اليد لا محالة، والوصول إلى المنفعة ممكن من غير إزالة اليد.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) في الأصل: أوتي. (3) في الأصل: رهن. (4) في (ت 2): تقطيع.

فهذا اضطرابُ الأصحاب. 3723 - فيتنخل منه أن المسافرة ممنوعة؛ فإنها حيلولةٌ عظيمة، ولم يسمح بها الأصحاب مع الإشهاد. وأما إزالة اليد مع حضور المرتهن لينتفع به في وقت الانتفاع، ويردّ في وقت السكون والاستراحة، فهو ظاهر النص في الجديد، وإليه ميل معظم الأصحاب. والكلام في أن الراهن هل يحسم الإشهاد؟ وقد فصلت المذهب فيه. وفي القديم قول آخر أن يد المرتهن لا تُزال بسبب الانتفاع، كما لا تزال يد البائع عن المبيع المحبوس بالثمن بسبب الانتفاع. وسنصف هذا في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى. ومن راعى الإشهادَ يقول: لو كان الراهن خائناً مشهوراً بالخيانة لا يسلم إليه وإن أشهد. فإن قيل: ما قولكم في منافع المبيع المحبوس بالثمن على قولنا بإثبات حق الحبس؟ قلنا: اتفق الأصحاب على أن المشتري لا يزيل يده لينتفع، بخلاف ما ذكرناه في الراهن؛ فإن ملك المشتري غيرُ مستقر قبل القبض، وملك الراهن مستقر. واختلف أصحابنا في أن المبيع هل يستكسب في يد البائع للمشتري، أم تتعطل منافعه؟ فقال بعضهم: لا سبيل إلى التعطيل، وهو مستكسب في يد البائع. وقال قائلون: منافعه تُعطل. هذا قولنا في منافع الرهن. 3724 - فأما القول في الفوائد التي تكون أعياناً، فهي منقسمة إلى الزوائد المتصلة، وإلى المنفصلة. فأما الزوائد المتصلة، فلا حكم لها، والرهن يتعلق [بالمزيد] (1) والزيادة، ولا أثر للزوائد المتصلة إلا في الصداق عند وقوع الطلاق قبل

_ (1) في الأصل: بالزوائد والزيادة.

المسيس، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأمّا الزوائد المنفصلة، فإنها تنقسم إلى ما كانت موجودة حالة الرهن على صفة االاتصال، وإلى ما يوجد بعد الرهن، ثم ينفصل: فأما ما لا يكون موجوداً حالة الرهن ويوجد من بعدُ، ثم ينفصل، كالحمل يطرأ وينفصل، وكذلك الثمار والألبان، فلا يتعلق الرهن بها، خلافاً لأبي حنيفة (1)، ووافق أن الرهن لا يتعلق بالأكساب، ثم ألحق العُقر (2) وإن لم يكن عوض عينٍ بالأعيان، في خبطٍ له معروف. 3725 - ونحن نجمع معاقد المذهب فيما يتعدى إلى الولد الطارىء، وفيما لا يتعدّى إليه، وعماد المذهب أن كل ما صار الملك مستغرَقاً به حتى يعدَّ الملك مستحَقاً في تلك الجهة، وبلغ تأكده مبلغاً يمتنع تقدير زواله، فما كان كذلك؛ فإنه يتعدّى إلى الولد، كالاستيلاد؛ فإن أولاد المستولدة من النكاح والسفاح بمثابة المستولدة في استحقاق العتاقة، وألحق الأئمة بذلك ولد الأضحية المعينة للتضحية، بقول المالك: جعلتها ضحية؛ فإن تعينها لجهة القربة لا يزول، كالاستيلاد، فالمالية مستهلكة فيها بجهة القربة، والرهن عارض على الملك التام، وكأنه عِدَةٌ موثوق بها، وهو عرضة الزوال. واختلف قول الشافعي في ولد المدبرة، والمكاتبة؛ من جهة أن من يُدبِّر يبغي التأبيد (3) إلى العتاقة وإن ملَّكه الشرعُ الرجوعَ، وكذلك الكتابة، واختلف القول في أولادهما. وولد الأمة التي نذر مولاها إعتاقَها على طريقين: أحدهما - أنه كولد المدبرة، والآخر أن الاستحقاق يتعدى إليه؛ فإن النذر لا رجوع عنه. ولكن من حيث إنه ربط العتق بالالتزام تردد الأصحاب. ومن نذر التضحية بشاةٍ، ولم يقل جعلتها ضحية، ففي ولدها طريقان أيضاًً على ما سيأتي في كتاب الضحايا، إن شاء الله تعالى.

_ (1) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 335، فتح القدير: 9/ 129. (2) العُقر: مهر المرأة إذا وطئت بشبهة، والصداق عامة (القاموس والمعجم). (3) في (ت 2): " من يُدبَّر يبقى للتأبيد ".

وفي ولد العارية والمأخوذ سوماً وجهان: أحدهما - أنه مضمون كالأم. والثاني - أنه ليس مضموناً. وسبيله سبيل الثوب يلقيه الريح في دار إنسانٍ، وهذا الاختلاف ينشأ من أن الأيدي المضمَّنة الصادرة عن إذن السيد هل توجب ضمان الغصوب أم لا، وفيه خلافٌ، رمزنا إليه، وسنصفه من بعد، إن شاء الله تعالى. ولو أودع رجل بهيمة عند رجل أو جارية، فولدت في يد المودَع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه وديعة بمثابة الأم. والثاني - أنه ليس بوديعةٍ. وهذا القائل يقول: ليس مضموناً، بل هو كالثوب تهبُّ به الريح، فتلقيه في دار إنسانٍ. وأثر هذا الخلاف أنا إن لم نجعله وديعة، فلا بد فيه من إذن جديد. وإلا لا تجوز إدامة اليد عليه، كمسألة الثوب والريح، وإذا قلنا: هو وديعة استمر المودَع، ولم يستأذن، وسبيله سبيل الأم. وهذا الخلاف في ولد الوديعة له التفاتٌ على خلاف الأصحابِ في أن الوديعة عقد أم لا؟ وفيه اختلاف بين الأصحاب. ومن أدنى آثار هذا الخلافِ أنه إذا أودع وشرط شرطاً فاسداً مثل أن يقول: أودعتك على أن يكون الإنفاق عليك، فهذا يخالف وضع الشرع. فمن جعل الوديعة عقداً، أفسدها بهذا الشرط، وما في معناه. فلا بد من ائتمانٍ جديدٍ، وإلا كان ما أخذه وديعة بمثابة الثوب والريح. وإن لم نجعل الوديعة عقداً، فالشرط لا يؤثر فيه أصلاً، بل يلغو الشرط الفاسد، ويبقى موجب الإيداع إلى الرد، أو إلى عدوان يصدر من المودَع. ويقربُ من هذا المأخذ مسألةٌ نص الشافعي فيها على قولين وهي إذا أودع صبياً، فأتلفه، هل يجبُ الضمان على الصبي؟ فعلى قولين: أحدهما - لا ضمان؛ لأن المالك سلطه عليه بعقد، فهو المتسبب إلى إتلاف ماله. والثاني - يضمن؛ فإن الإيداع ليس بعقد حتى يُقضى على المالك بأنه عقد عقداً على الفساد. ولكن مهما (1) أتلف الصبي ضمن؛ فإنه أتلف مال غيره ولا عقد. أما ولد المبيعة، فلا خلاف أنه لا يجوز حبسه لاستيفاء الثمن، يعني ولداً يحدث

_ (1) "مهما": بمعنى "إذا".

بعد لزوم العقد وقبل القبض. فإن قيل: ولد المغصوبة مضمونٌ بجهة ضمان الأم، فهلا كان ولد المبيعة مضموناً بجهة أمه؟ قلنا: المبيع يضمن بالعقد على مقابلة الثمن، والولد لم يقابل بالثمن. والغاصب يضمن بالعدوان وهو متعدِّ بإدامة اليد على الولد، كما أنه متعد بإدامتها على الأم. فهذه جملٌ تجري مجرى التراجم والمجامع في الأحكام التي تتعدى إلى الأولاد [و] (1) التي لا تتعدى إليها. وما ذكرناه نشأ من كلامنا في الولد المتجدد بعد الرهن، والمنفصل قبل بيع الرهن في الدين. 3726 - ونحن نذكر الآن تفصيل القول في الحمل الموجود حالة الرهن، ثم نتبعه نظائره، كان يقول شيخي أبو محمد: إذا كان الحمل موجوداً يوم الرهن على نعت الاجتنان في البطن ثم بقي مجتناً إلى البيع في الرهن، فلا حكم للحمل، ونعتقده صفة للجارية، [فكأنها] (2) بيعت على صفة كانت عليها حالة الرهن. فأما إذا كان الجنين موجوداً ابتداءً، وانفصل قبل بيع الرهن، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يكون رهناً؛ لأنه كان موجوداً حالة العقد. والثاني - لا يكون رهناً كالمعدوم ما لم ينفصل، وقد كان الانفصال بعد الرهن، وبنى الأصحاب القولين على أن الحمل هل يعلم؟ فإن قلنا: إنه لا يعلم، فكأن لا حمل، ونعتقد الولادة فائدةً جديدة بعد العقد. وإن قلنا: الحمل يعلم، فقد تناول الرهن الأم، ولا مانع في الولد. وكان شيخي يقول: إن قلنا: الحمل لا يعلم، فهو على ما ذكره الأصحاب: وإن قلنا: إنه معلوم، ففي تعلق الرهن به قولان؛ فإن الرهن ضعيف لا يقوى على الاستتباع، ولم يقع التعرض للولد. ولو وقع التعرض له، لكان فاسداً. ولو علقت الجارية المرهونة بمولودٍ بتيقن بعد الرهن ولم ينفصل حتى حل الحق، ومست الحاجة إلى البيع، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها تباع حاملاً؛ ويعتقد

_ (1) مزيدة من (ت 2). (2) في الأصل: وكانت.

الولد المجتن في البطن زيادة متَّصلة، فقد تعدّى الرهن إليه إذاً في هذه الصورة. والقول الثاني - إن الرهن لا يتعدى إليه، ولا تباع ما دام الولد مجتناً، وإذا انفصل، لم يتعلق استيثاق الرهن به، وَبَيْعُ الأم دون الولد لا سبيل إليه على ظاهر المذهب، فقد تحصلت أحوال أربع: أحدها - أن لا يكون الحمل موجوداً في الطرفين لا عند العقد، ولا عند البيع، ولكن يحدث وينفصل، فهذا خارج عن الرهن قطعاً مِنّا. والحالة الثانية - أن يكون موجوداً في الطرفين، فلا مبالاة به، وهو يجري مجرى الصفة. الحالة الثالثة - أن يكون موجوداً حالة العقد، وينفصل قبل البيع، وفيها القولان. والحالة الرابعة- أن يتجدد العلوق بعد الرهن، ولا ينفصل حتى يدخل وقت البيع وهو مجتن بعدُ، وفيه قولان. 3727 - أمّا الثمار إذا لم تكن مؤبرة حالة العقد، فأُبّرت من بعدُ فطريقان: من أصحابنا من قال: هي كالحمل، وقد مضى التفصيل فيه. ومنهم من قال: لا يتعلق (1) الرهن به قولاً واحداً؛ لأنه لم يذكر، وهو ممَّا يفرد بالتصرف، والتبعية ضعيفة في الرهن. وكان شيخي يقول: إذا كانت الثمرة غيرَ مؤبّرة حالة الرهن، وبقيت مستترة إلى وقت البيع، فالحمل على مثل هذه الصورة يتعلق الرهن به تعلقه بالصفات، وفي الثمار طريقان: من أصحابنا من أجراها مجرى الحمل، وقطع فيها بتعلق الرهن بها. ومنهم من خَرّج التعلق بها على قولين وإن وجد الاكتتام والاستتار في الطرفين، فهذا متجه فقيه. 3728 - وممّا نتكلم فيه اللبن والصوف، فنقول: أمّا اللبن الذي يتجدد بعد الرهن [ويحلب] (2) فلا شكّ فيه، ولا تعلق للرهن به، وقد صرّح به النبي صلى الله عليه

_ (1) في (ت 2): "يتعلق" بدون (لا) النافية. (2) مزيدة من (ت 2).

وسلم؛ إذ قال: "الرهن محلوب" ولا شك أنه أراد أن الراهن حالب البهيمة المرهونة، وراكبها، والمنفق عليها. فأما اللبن الكائن في الضرّع حالة العقد، ففيه طريقان: منهم من قال: هو كالحمل. ومنهم من قطع بأن الرهن لا يتناوله؛ فإنه موجود مقطوع به، وقد قابل النبي صلى الله عليه وسلم لبنَ المصرّاة بعوض. وأما الصوف الموجود حالة العقد، فالذي نقله الربيع أنه يدخل تحت العقدِ؛ فإنه متصل اتصال خلقة، وهو ظاهر بادٍ، فأشبه أغصان الأشجار. والصحيح أنه لا يدخل تحت العقد؛ فإنه وإن كان متصلاً معدودٌ في العرف منفصلاً. ومن أصحابنا من قال: إن كان الصوف مستجزًّا حالة العقد، فهو كالمجزوز، فلا يدخل في الرهن، وإن لم يكن مستجزًّا دخل في العقد، ثم تلك الجِزّة متعلق الرهن إذا جزت. 3729 - وأمّا أغصان الأشجار فما لا يعتاد قطعها داخلة في الرَّهن، وما يعتاد قطعها ثم إنها تنبت أغصاناً من محل القطع كالخِلاف، وما أشبهه، فهذه الأغصان نزَّلها العلماء منزلة الصوفِ، من جهة أن الصوف، يستجز، فتجز، كما أن الأغصان تستغلظ، فتقطع. وأمّا أوراق الأشجار فما يعتمد قطعها كأوراق الفِرصاد (1)، فالقول فيها كالقول في الثمار. وقد ذكرنا أن الثمار لا تدخل، ثم هي تُخلق ظاهرة، فكانت كالثمار المؤبرة البارزة. وأما الأوراق التي لا تقطع، ولكنها تنتثر أوان الخريف، فالرهن يتعلق على ظاهر المذهب بها، وإذا تجمع منها ما يُجمع، كان بمثابة ما ينتقض من الدار المرهونة. ومن أصحابنا من قال: إذا انتثرت الأوراق أو نثرت، لم يتعلق استحقاق الرهن بها. هذا بيان ما يتعلق بالزوائد الموجودة حالة العقد.

_ (1) الفرصاد: شجر التوت، ومعنى "يعتمد قطعها": أي يُقْصد.

3730 - ثم كان شيخي يختم هذا الفصل، ويقول كل حُكمٍ علقناه بالاقتران بالعقد، فالعقد هو المعتبر لا غير، حتى لو وجد حالة القبض، ولم يكن موجوداً حالة العقد، فهو متجدد. وقد مضى تفصيل القول فيما يتجدد من الزوائد. ومن أصحابنا من قال: العبرة في الاقتران بوقت القبض؛ فإنه الركن، وبه التمام، وكأن اللفظ جارٍ معه، وهو غير سديدٍ. وقد نجز ما أردناه من الكلام في الزوائد العينية التي تقارن العقد، ثم تنفصل ثم تتجدد من بعدُ، وتنفصل أو تبقى إلى وقت البيع. فصل قال: " وكذلك سكنى الدار، وزرع الأرض، وغيرها ... إلى آخره " (1) 3731 - المنافع قسمان: منفعةٌ لا يَنْقُصُ القيمةَ استيفاؤها، كالسكنى، والركوب، والاستخدام، فللراهن أن يستوفيها. وقد ذكرنا التردد في طريق استيفائها مع رعاية حق المرتهن في قبضه ويده. ومنفعة ينقص القيمةَ استيفاؤُها، كالغرس والتزويج والوطء، وفي الزرع تفصيلٌ، على ما سنصفه. فالقاعدة المعتبرة في هذا القسم أن المنافع، وإن لم تكن متعلَّقاً لوثيقة المرتهن، فالعين محل الوثيقة على الحقيقة، فكل انتفاع يؤدي إلى تنقيص القيمة، فهو ممنوع؛ من جهة أدائه إلى التأثير في محل الوثيقة، وقد سبق تصوير تأثير الغرس في نقصان الأرض، والتزويجُ لا شك أنه ينقص؛ فإذا رهن جارية لم يزوجها، والوطء في التي يخشى علوقها محرّم، وإن كانت الجارية بحيث لا يخشى علوقها لصغرها، أو كبرها، ففي حلّ الوطء وجهان: أشهرهما المنع، حسماً للباب، وقياساً على قاعدة العدة؛ فإن مبناها على استبراء الرحم، ثم الصغيرة الموطوءة تعتد كالبالغة. وكذلك تعتد الطاعنة في السن اعتداد الشابة.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 216.

والزراعة إن كانت تَنْقُصُ قيمةَ الأرض لتأثيرها في الرقبة وتضعيفها تربتها كالدُّرة [فيما] (1) قيل، فهي ممنوعة إلا أن يأذن فيها المرتهن؛ لسبب أدائها إلى تنقيص القيمة. أمّا زرع سائر الحبوب إذا كان لا يؤدي إلى تنقيصٍ معتبر، فالنظر فيه إلى مدة بقاء الرهن إلى الاستحصاد، فإن كان يحصد قبل حلول الأجل، فلا منع منه؛ فإن المنفعة تتوصل إلى الراهن ولا تؤدي إلى تنقيصٍ من القيمة، مع فراغ الأرض عند مسيس الحاجة إلى بيعها في الدَّيْن. فإن كان أمد الزرع يتمادى حتى تبقى الأرض مزروعةً عند حلول الحق، فالمذهب منعُ الراهن من هذا النوع؛ فإن الأرض لا يُرغب فيها مزروعة كما يُرغب فيها وهي فارغة. وقال الربيع: للراهن أن يزرع، ثم ينظر إلى حالة الحلول، فإن وفى بيعُ الأرض دون الزرع بالدين، فذاك. وإن لم يف، قلعنا الزرع. ولا معنى [للمنع] (2) من إنشاء الزراعة قبل حلول الحق إذا كان الاستدراك ممكناً بتكليف القلع. وهذا تخريج الربيع. والظّاهرُ المنع من الزراعة ابتداءً. وقد ذكرنا مثل هذا الخلاف في إنشاء الغرس. وأما إجارة المرهون، نُظر (3) فيها، إن كان حالاًّ، فغير جائز. وإن كان مؤجلاً، ومدة الإجارة تنقضي قبل حلول الحق أو معه، فالإجارة تنعقد. وإن كانت مدة الإجارة تدوم ولا تنقضي عند الحلول، فلا نحكم بانعقادها ابتداء، لأن مقتضاها التبعيض عند مسيس الحاجة، وتقليل الرغبة (4)، ولا جواز لذلك. والربيع يوافق فيما ذكرناه، وإن خالف في الزرع من قِبل أن الزرع إن أمكن قلعه، فالإجارة لو ثبتت، للزمت، ولا سبيل إلى قطعها على المستأجر.

_ (1) في الأصل: فيها. (2) في الأصل كلمة غير مقروءة. والمثبت من (ت 2). (3) جواب (أما) بدون الفاء. (4) أي الرغبة في شراء المرهون عند بيعه في الدين.

ولو كان الرهن فحلاً، فأراد الراهن إنزاءَه على إناثٍ، فإن كان الإنزاء ينقص من القيمة، منعنا منه، وإن كان لا ينقص، فلا منع. وإن كان الرهن أنثى، فأراد الإنزاء عليها، نُظر: فإن كان الحمل ينقصها، منعنا من الإنزاء عليها. وإن كان لا ينقصها، وفرعنا على أنها قد تباع حاملاً في الدين، فلا منع. وإن [أبينا] (1) بيعها حاملاً في الدين إذا كان الحمل متجدداً بعد الرهن، فإذا كان كذلك، فالإنزاء في أصله ممنوع. وهذا قياس بيّن في النفي والإثبات. 3732 - وكل منفعة تضمَّن إستيفاؤها نقصاناً، فاستيفاؤها بإذن المرتهن جائز؛ فإنّ الحق له. ومن هذه الجملة الإذنُ في الوطء، وهذا غريب؛ فإن الوطء إذا كان ممنوعاً، لم يستبح بإذن آذن. ولكن حقيقة القول أن الوطء مباح في نفسه، والمنع ليس راجعاً إلى عينه، وإنما المرعي حق المرتهن، فإذا رضي، استمر الوطء على الحل. 3733 - ثم قال: "وأكره رهن الأمة ... إلى آخره" (2). إن لم تكن الأمة مرغوباً فيها، لصغرها أو لخستها أو دمامة صورتها، فلا بأس برهنها وفاقاً. وإن كانت بمحل أن ترمق (3)، فظاهر النص والمذهب يشعر بجواز رهنها، ثم لا تسلّم إلى المرتهن إن لم يكن مأمون الجانب؛ فإنه قد يستخلي بها، ويُلمُّ بها، وما حرمت الخلوة مع الأجانب في وضع الشرع إلا من الجهة التي أشرنا إليها. ولكن الوجه وضعُها على يدي امرأةٍ أو عدل لا يتطرق إليه إمكان إلمام بها. وإن كان المرتهن محفوفاً بأهله وذويه وأقربته في دارٍ، وكانت الحشمة تَزَعُه من الإقدام على الإلمام بها بين أظهرهم، فهذا من الموانع، فليعتبر المعتبر ما جعلناه معتبرَ الفصل.

_ (1) في الأصل: أثبتنا. (2) ر. المختصر: 2/ 216. وفي الأصل: "وطء" مكان "رهن". (3) أي تلفت النظر: يقال: رمقه ببصره: إذا أتبعه بصره، يتعهده، وينظر إليه ويرقبه (المعجم). والمراد هنا أنها بحالةٍ أو صورة تجذب الانظار، وتثير الإعجاب. فالكلام على المجاز.

وذكر الشيخ أبو علي في شرح التخليص قولاً أن رهن الجارية الحسناء ممنوعٌ أصلاً، إلا أن تكون مَحْرماً للمرتهن، فلا بأس حينئذ. هذا تفصيل القول في المنافع وجهاتِ استيفائها. 3734 - ثم قال الأئمة: لا يُمنع الراهن من تعهد الرهن بما يدفع عنه ضرراً، أو يحصّل خيراً، فإذا دعت الحاجة إلى حجامةٍ أو فصدٍ، أو توديجٍ (1) في الدابة، أو بَزْغٍ (2)، فلا يُمنع الراهن من هذه الأجناس؛ إذ لا خطر. والحاصل منها دفعٌ أو نفعٌ، ومن جملة ذلك الختان، وأبدى بعض الأصحاب خلافاً في الختان عند القرب من حلول الحق؛ من جهة أن البيع يفرض ورودُه والمختون أَلِمٌ (3)، وهذا ينقص القيمةَ، والرغبةَ، وهذا باطل؛ فإن هذا القدر لا أثر له في النقصان أصلا، فلا منع منه، أمّا إذا أراد قطع سِلعةٍ يخاف سريانها إلى الروح، أو إلى العضو، فهذا ممنوع؛ تخريجا على القاعدة التي ذكرناها. 3735 - وإذا نجز القول في انتفاع الراهن وما يمتنع منه وما يسوغ، فنقول: مؤنة الرهن فىِ القاعدة الكلية على الراهن المالكِ؛ فإن المؤونة تتبع الملكَ في أصل الشرع، ثم الذي نص عليه الأصحاب في الطرق أن المؤن الراتبة على الراهن. وإذا امتنع عن شيء منها أُجبر، ويشهد له حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إذْ قال: "وعلى من يحلبه ويركبه نفقته" فجعل وجوب النفقة في مقابلة ملك الانتفاع، وأيضاً فإن الراهن ألزم نفسه الوفاء بتحقيق حق المرتهن من الوثيقة، ومِن ضرورة هذا الإنفاقُ على حسب مسيس الحاجة. وذكر شيخي وطائفة من الأئمة أن الراهنَ إذا امتنع من الإنفاقِ، لم يجبر ولكن

_ (1) التوديج للدابة كالفصد للإنسان (مصباح). (2) في (ت 2): "نزع"، وغير منقوطة بالأصل. والبَزْغُ من قولك: بَزَغَ البيطار الدابة بَزْغاً، من باب قتل: إذا شر حافرَها، علاجاً (للرَّهْصَة) وهي نزول الماء في حافر الدابة. فالبَزغُ شرط الحافر لإخراج هذا الماء (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 468، 469، وأيضاً المصباح). (3) في الأصل: آلم. وهي صحيحةٌ أيضاًً.

القاضي يبيع جزءاً من المرهون، ويصرفه في جهة المؤنة على حسب الحاجة، وهذا فيه نظر؛ فإن قصاراه يؤدي إلى بيع الرهن شيئاًً شيئاًً في جهة المؤنة، وهو منافٍ لحقيقة الاستيثاق، والوجه تكليف الراهن الإنفاقَ. وقد تحقق بعد البحث عن الطرق إطباق المراوزة على أن النفقة لا تجب على الراهن، وإن كان المرهون حيواناً، فليس إيجابُ النفقة لحق المرتهن وحفظ الرهن عليه، وإنما تجب لحرمة الروح، وليس للمرتهن فيه طَلِبة إلا من جهة الأمر بالمعروف، والمسلمون فيه شَرعٌ (1) سواء، وإن امتنع، فالقاضي يبيع شيئاًً من الحيوان على قدر مسيس الحاجة. وإذا ثبت هذا من مذهبهم في النفقة على الحيوان، لم يخف قياسُهم في سائر المؤن. وحاصل طريق المراوزة أن الإنفاق على الرهن لا يجب لحق المرتهن. وقطع العراقيون بأنه يجبُ على الراهن أن ينفق على المرهون إبقاءً لحق المرتهن، وإدامةً لوثيقته، واحتجوا عليه بأنا إن كنا نُنْفِق على الرهن من الرهن، والدينُ مؤجل، فهذا يُفضي إلى رفع الوثيقة، فالراهن إذا كان يحتاج إلى بذل مالٍ في الإنفاق على الرهن، فلا فرق عنده بين أن يأتي بطائفة من ماله وبين أن يباع جزء من الرهن. هذا كلامهم. ونصُّ الشافعي في آخر "باب الرهن يجمع شيئين" موافقٌ للعراقيين، وأنا أنقل لفظه على وجهه قال رضي الله عنه: "وإذا رهنهُ ثمرةً، فعلى الراهن تنقيتها وإصلاحُها وجِدادُها، وتشميسُها كما يكون عليه نفقةُ العبد" (2) وسيأتي في كتاب الإجارة إن شاء الله تعالى، أنا نوجب على المكري عمارة الدار في يد المكتري، حتى يتمكن من استيفاء المنفعة. والمراوزة فيما أظن يحملون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً إذ قال: "وعلى من يحلبه ويركبه نفقته" على أن الراهن لا يرضى ببيع ملكه في نفقته، وهذا

_ (1) شَرعٌ: بفتح الراء، وتسكن تخفيفاً، أي سواء. (2) ر. المختصر: 2/ 218. وفيه: "سقيها وصلاحها" بدل "تنقيتها وإصلاحها".

عليه الاعتياد الغالب، فالنفقة عليه لا على المرتهن، وفرض الامتناع عن النفقة ومسيس الحاجة إلى البيع ليس مما تعرض له الحديث ولا الشافعي. 3736 - والمسألة محتملة جدّاً. ويتصل بتمامها أنا إذا فرّعنا على طريق المراوزة، فيتشعب منه أن المرتهن إن علم أن النفقة ستأكل الرَّهن قبل الأجل، فحق هذا أن يلحق بما يفسد قبل حلول الأجل، حتى يسوغ للمرتهن طلبُ بيعه وردّه ناضّا يستقل بقاؤه دون مؤنة. وهذا طرفٌ لا بد من عرضه على الفكر. ولو كان الإنفاق يأكل نصفَ الرهن مثلاً فينقدح أن يُملَّك المرتهنُ طلبَ البيع في جميعِه؛ دفعاً لتنقيص التشقيص أولاً. والآخر أن النفقة تبقى على ما يبقى ثم يتسلسل القول فيه. فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه لطيف. وممَّا يتصل بالمؤن القول في أجرة البيت الذي يأوي الرهن إليه، فليلتحق بالمؤن، وقد تفصلت. وإنما أفردتها بالذكر؛ فإن الفَطِن قد يخطر له أن الحفظ حق المرتهن، فيختص بالتزام ما يتعلق بذلك. وليس الأمر كذلك بالإجماع. * * *

باب رهن الرجلين الشيء الواحد من الرجل الواحد

بابُ رَهْن الرَّجُلَيْنِ الشيء الواحد من الرجل الواحد قال: " وإذا رهنا عبداً بمائة ... إلى آخره " (1). 3737 - إذا رهن رجلان عبداً مشتركاً بينهما بمائة درهم لإنسانٍ عليهما، وتم الرهن ولزم، فالمائة مقسطة على الراهنين على كل واحد منهما خمسون فيما نصوره، فإذا أدى أحدهما ما عليه من المائة، انفك الرهن عن حصّته في العبد، وبقي نصيب الثاني من العبد مرتهناً بما عليه من الدين. وتعليل ذلك بيّن؛ فإنَّ كل واحد من الراهنين رهن ملكه بما عليه، وقد أدّى تمام ما عليه. ويستحيل أن يبرأ الراهن من الدَّين، ويبقى ملكه مرهوناً، ولو بقي مرهوناً، لبقي مرهوناً بدين غيره، ويستحيل ذلك؛ فإنه ما رهن نصيبه بدين غيره، وقال أبو حنيفة (2) لا ينفك الرهن عن شيء من العبد ما بقي من دين واحد منهما شيء. وهذا ظاهر السقوط. وإنما نذكر في الأحايين مذهباً يخالف مذهبنا حتى يكون ذلك تذكرة، ويتمهد الأصل به. 3738 - ولو رهن رجل واحدٌ من رجلين عبداً بدينين لهما عليه، فَأَوْجَبَ الرهنَ بلفظه وقبلاه، فإذا أدّى ما لأحدهما عليه، انفك الرهن في حصته، وانطلق تصرفه فيه، وبقي الباقي مرهوناً بدين المرتهن الآخر، وتعليل ذلك أن أحد المرتهنين استوفى جميع حقه وبرىء الراهن من دينه، فيستحيل أن يبقى ما كان مرهوناً به على الراهن. وأبو حنيفة يخالف في هذا الطرف أيضاً (3)، ويقول: تمام العبد مرهونٌ عند كل واحد منهما، وإذا أدى الراهن نصيب أحدهما، لم ينفك من الرهن شيء، ثم ناقض

_ (1) ر. المختصر: 2/ 217. (2) ر. البدائع: 6/ 138، حاشية ابن عابدين: 5/ 320، 321. (3) السابق نفسه.

أصلَه، فقال أوَّلاً: جميع العبد مرهون عند كل واحد منهما، وبنى عليه أنَّ الرهن لا ينفك عن شيء من العبد بأداء أحد الدينين، ثم ناقض وقال: لو هلك العبد وقيمته ألف، وكل دين ألف، لم تسقط الألفان بسقوط الدين بتلف المرهون، ولكن يسقط من كل دين مقدار قيمة الحصة المرهونة عنده. ولا فرق في مذهبنا إذا رهن الرجل من رجلين بين أن يثبت الدينان عليه من جهتين، وبين أن يثبتا من جهة واحدة، كإتلاف مقوم عليهما، أو كابتياع عبدٍ منهما، فالحكم ما ذكرناه. وحكى صاحب التقريب وجهاًً [غريباً]، (1) أن الدين إذا ثبت لهما من جهةٍ واحدة، فلا ينفك الرهن بأداء حصة أحدهما. وهذا غلط صريح؛ إذ لا يتحقق الشيوع في الدين. وكل واحد يطالِب بحقه من غير مزيد، فبقاء الرهن في تلك الصورة مع سقوط الدين محال. ولا يتصور أن يثبت دينان لرجلين إلا على حكم التعدد والتميز. 3739 - ولو استعار رجلٌ من رجل عبداً ليرهنه بمائة، فرهن من شخصين بمائة، ثم قضى دينَ أحدهما، انفك الرهن في النصف، كما قدمناه. ولو استعار من رجلين، ورهن من رجلين، ثم قضى دين أحدهما، انفكَّ الرهن في النصف، ويقع ذلك النصف للمعيرين لا محالة؛ فإن الرهن جرى في ملك مشترك، وحصتين شائعتين، فينزل الفك على حسب ذلك. ولو استعار رجلان من واحد، ورهنا من واحدٍ، ثم قضى أحدهما ما عليه من الدين، انفك النصف من الرهن، وعاد إلى المعير. وكذلك لو رهنا من رجلين بدينين عليهما. ولو استعار من شخصين، ورهن من واحدٍ [فالراهن] (2) واحد، وهو المستعير، والمرتهن واحد، فإذا [قضى] (3) الراهنُ المستعيرُ نصفَ الدين ليفتك نصفُ الرهن،

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) في الأصل، (ت 2): والرهن. والمثبت تقدير منا بناء على السياق. (3) في الأصل، (ت 2): اقتضى. والمثبت تقدير من المحقق مراعاة للمعنى الذي سيظهر تماماً في بسط المسألة الآتي قريباً.

ففي المسألة قولان، نص عليهما في الرهن الصغير (1): أحدهما - لا يفتك من الرهن شيء؛ لأن الدين واحد، ومستحقه واحد، وقد وقع الرهن من واحد بدين واحدٍ، وحكم الرهن أن يكون كله متعلقاً بكل جزء من الدين الواحد، وما ذكرناً من الصّور قبل هذا مضمونه تعدد الدين، إمَّا بتعدد من عليه، وإمّا بتعدد مستحق الدين، وإما بالتعدد من الجانبين، فجرت تلك التفاصيل بناء على تعدّد الدين، والدين متحد في مسألتنا، وإنما وجد التعدد في مالك الرهن. وسبب التمكن من تصوير العدد في الملك مع اتحاد الدّين والراهن والمرتهن التصويرُ في الرهن المستعار؛ فإن الملاك المتعددين لا دين عليهم، والراهن لا ملك له، فلما اجتمع عدد المالك حيث لا دين، واتحاد الراهن الذي عليه الدين، ولا ملك له، انتظم منه القولان. وقد ذكرنا أحدهما. والقول الثاني: أنه ينفك، لأن صَدَرَ (2) الرهن عن ملكين، فينبغي أن يكون ذلك كما لو صدر عن دينين. 3740 - ولا يتم الغرض في هذا مالم نوضح التصوير ببيانٍ أظهرَ ممَّا ذكرناه. فالمسألة فيه إذا استعار رجل عبداً من رجلين مشتركين فيه، ورهنه بألف درهم من رجل واحد، ثم أدى خمسمائة. هذا أصل التصوير. وتمامه أنه [إن] (3) نوى بالخمسمائة فكَّ نصيب أحدهما، وعين ذلك الشخصَ بقصده، فالمسألة تخرجُ على قولين: أحدهما - أنه لا ينفك شيء. والثاني - ينفك حصة من عينه (4). وأما إذا قصدنا بخمسمائة أن تؤدّى على الشيوع، من غير تخصيص بحقه، فلا ينفك في هذه الصورة من الرهن شيء؛ فإنه إذا تحقق تقدير أداء البعض عن كل حصة، فتلك الحصّة بكمالها تبقى مرتهنة إلى تقدير أداء جميع ما يقابلها من الدين. هذا حكم الرهن، فتصوير محل القولين يفتقر إلى

_ (1) ر. الأم: 3/ 171. (2) صَدَر: بفتحتين أي صدور. (3) مزيدة من المحقق مراعاة لاستقامة الكلام. (4) هذا التصوير بعينه في (الأم) في الموضع المشار إليه آنفا.

فرض قصد المؤدي في فك إحدى الحصتين. ولو استعار عبدين من شخصين، ورهنهما من رجل واحد بدين عليه متحد، ثم قضى نصفَ [الحق] (1) وقصد فكَ الرهن في أحد العبدين، وكانت قيمة كل واحد منهما مائة، فقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة على طريقين: فذهب جمعٌ من الأصحاب إلى أنه يفتك الرهن في العبد الذي عينه بقصده؛ ففرق هؤلاء بين العبدين والعبد الواحد؛ من جهة تعدد المحل وتميز أحد العبدين عن الثاني. وذهب المحققون إلى طرد القولين في صورة العبدين إذا اتحد الدين باتحاد الراهن، فالتعويل على اتحاد الدين وتعدده والمرهون لا ينظر إلى تعدده واتحاده، ولا يشك الناظر أن مسألة العبدين فيه إذا انفرد كل مالكٍ بعبدٍ، فعند ذلك تخيل أقوام الفرقَ، فأمّا إذا كانا مشتركين بين سيدين، فلا يخفى أن المسألة من صور القولين. ونقل بعضُ الأثباتِ عن الشافعي في الأم نصاً غريباً، وهو أنه قال: إن كان المرتهن عالماً بحقيقة الحال، وكونِ المرهون مستعاراً من شخصين، افتك الرهن في النصف؛ لمكان علمه بتعدد مالك الرهن، فإن لم يعلمه، لم يفتك. وهذا لا ندري له وجهاً؛ فإن عدم الانفكاك سببه اتحادُ الدَّين، وعدمُ النظر إلى تعدد المالك واتحاده. وهذا لا يختلف بعلم المرتهن وجهله. نعم يؤثّر العلمُ والجهل في شيء آخر، وهو أن من رهن عبداً مستعاراً من مالكين عند رجلٍ واحدٍ بثمن مشروط بالرّهن، وفرعنا على أن أداء ما يقابل نصيب أحد المعيرين يوجب انفكاك الرهن في حصته، نظر في المرتهن: فإن كان جاهلاً بتعدد المالك وصفة الحال، ثبت له الخيار إذا تبين الأمر؛ فإنه بنى الأمر على رهن مطلق بدينٍ واحد، وموجبه أن لا ينفك منه شيء ما بقي من الدين شيء. وإن كان عالماً بحقيقة الحال دارياً بأن ذلك يُفضي إلى تبعيضٍ في الفك، فلا خيار له إذا حصل التبعيض في الفك. ولو كان بين رجلين عبد مشترك، فأذن أحد الشريكين لصاحبه في أن يرهن نصيبه

_ (1) في الأصل: الرهن.

من المشتري مع نصيبه المملوك له، فرهن العبدَ، ونصفُه ملكُه، ونصفه مستعار من شريكه، بالدين الواحد الذي عليه، فلو قصد فك الرهن في نصيب نفسه وإبقائه في نصيب الشريك المعيرِ، أو على العكس، ففي المسألة القولان المقدمان؛ فإن المالك متعدد، وأحدهما المعير، والثاني الراهن، والدين متحد. وهذا منشأ الخلاف. 3741 - ولو وكَّل رجلان رجلاً واحداً ليرهن عبداً لهما من واحد، بدين لذلك الواحد عليهما، فإذا قضى أحد الموكِّلين نصيبَه من الدين، فقد ذكر بعض أصحابنا أن هذا من صور القولين؛ لأن الراهن متحد، وكذلك المرتهن، والراهن المتحد هو الوكيل. وهذا خطأ، ولا ننظر إلى اتحاد الراهن من طريق الصورة، وإنما يَفْهَم عَقْدَ هذا الباب من يدري أن قطبه ومداره على اتحاد الدين، وإذا كان لرجل على رجلين دين، فهو في التحقيق دينان، ولا يتصور اتحاد الدين مع تعدد المستحق أو تعدد المستحق عليه. فصل قال: " ولو كان الرهن ممَّا يكال، كان للذي افتك نصفه أن يقاسم المرتهن بإذن شريكه ... إلى آخره " (1). 3742 - إذا رهن رجلان شيئاًً من المكيلات مشتركاً، أو من الموزونات، فإذا قضى أحدُهما نصيبه من الدين، فقد افتك الرهنَ في نصيبه، بناء على ما مهدناه، من تعدد الدين. قال الشافعي: " للذي افتك نصيبه أن يقاسِم " وهذا الذي ذكره جواب (2) على قولنا: " القسمة إفراز حق ". فإن جعلناها بيعاً، لم يجز، لأنه يؤدي إلى بيع المرهون بغيره (3)، وهذا أصل يجري على الاطراد فيما يمتنع البيع فيه، ففي إجراء

_ (1) ر. المختصر: 2/ 217. (2) كذا في النسختين، ولعلها: جارٍ. (3) فنصيب الشريك الذي افتك لم يعد رهناً، وهو شائع مختلِطٌ بنصيب شريكه، فلو قلنا: القسمة =

القسمة قولان مبنيان على أن القسمة إفرازٌ أو بيع، وقد يطرأ على قول البيع في بعض المواضع قول في جواز القسمة؛ وذلك لمكان الضرورة. وهذا كما سنذكره في قسمة الوقف؛ فإنه على التأبيد والشركة القائمة قد تجرّ عسراً عظيماً. فإذا لم تفرض ضرورة ظاهرة، انطبق جواز القسمة ومنعها على القولين في أن القسمة بيع أم ليست بيعاً. ومسألتنا من صور القولين؛ فإن الرهن ينفك عما قليل، فلا يظهر الضّرر. 3743 - ثم ذكر الشافعي لفظاً، فقال: " للذي افتك نصيبَه أن يقاسم المرتهن بإذن الشريك ". قلنا: المقاسمة الحقيقية تجري مع الشريك؛ فإن المقسوم هو الملك، وهو منسوب إلى المالكين، ولكن الشافعي توسع في الكلام؛ إذ قال: يقاسم من افتك نصيبَه المرتهنَ، وحقيقة الاقتسام يتعلق بالمالك، والمرتهنُ (1) ليس مالكاً، حتى إذا فرّعنا على إجراء القسمة، فقد اختلف أصحابنا في أن إذن المرتهن، هل يشترط؟ فمنهم من قال: لا يشترط إذنُه، ولا تعلق للقسمة به. ومنهم من قال: لا بد من مراجعته لمكان حقه، [وهذا كقولنا: لا يصح بيع الرهن دون مراجعة المرتهن، وإن زعم الراهن أنه يبيعه في حقه] (2). ثم القسمة في المكيلات والموزونات قسمةُ إجبارٍ، فمن دعا إليها أجابه الحاكم، وإن امتنع الشريك المالك؛ فلا أثر للمراجعة؛ فإن المستدعي مجابٌ. نعم، حق على الحاكم أن يراجع الشريك؛ فإن أطاع، كان هو المنشىء للقسمة، وإن أبى، فإذ ذاك يظهر إجبار الوالي، وعلى هذا التفسير في مراجعة المرتهن من الخلاف ما قدمناه. فافهموه. ولا يختص ما ذكرناه بالمكيلات والموزونات، ولكن كل قسمة يَجري الإجبارُ عليها على الجملة، فإذا فرض الرهن في جنسه، فالكلام في القسمة فيه على ما مضى.

_ = بيع يكون قد بيع شيء من الرهن بغيره، ليصير رهناً، والرهن محبوسٌ للمرتهن لا يجوز بيعه. (1) في (ت 2): "الراهن" وهو سبق قلم واضح. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

3744 - ولو رهن رجلان عبدين مشتركين بينهما بدين كان لرجلين عليهما، ثم قضى أحدُهما ما عليه من الدين، فافتك الرهنَ في نصفي العبدين، فلو قال لشريكه: العبدان متساويان في القيمة، فتعال نقتسمها، وينفرد كل واحد منا بعبدٍ، فهذه القسمة ليست قسمة جزئية؛ إذ لا يعبر عن الحصتين فيهما بجزأين، بل لو جرت، لانفرد كل واحد بشخصٍ، وهذا النوع يسمى قسمةَ التعديل، ومعناه أنها لا تعتمد إلا تعديلَ القيمة. فالقِسَم (1) ثلاثٌ: منها ما يعتمد الجزئية المحضة، وهي في المثليات، ومنها ما يعتمد التعديل في القيمة والجزئية، وعليها بناء قسمة الأقرحة (2) والدور. والإجبار يجري في هذين القسمين. والقسم الثالث - يعتمد تعديل القيمة، ولا مجال للجزئية فيه، كتمييز عبدٍ من عبد، وكوضع القسمة على أن ينفرد شريك بدار، وينفرد الآخر بدارٍ أو بستانٍ، أو سلعة من المنقولات. وللشافعي في الإجبار على هذه القسم الأخير قولان سيأتي ذكرهما في باب القِسام، إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: يجري الإجبار على هذه القسمة، فمن أصحابنا من قال: هذا النوع بيعٌ قولاً واحداً. ومنهم من قال: هو خارجٌ على القولين. فإن قلنا: هي بيع قولاً واحداً، امتنع جريانُها في الرّهن. فإن قيل: أرأيت لو رضي المرتهن؛ قلنا: لا يصح مع رضاه أيضاً؛ فإن رضاه يعمل في فك الرّهن، فأما في بيع الرهن بما ليس برهن ليصير رهناً، فلا مساغ لهذا أصلاً. والأجوبة وإن اختلفت في جواز نقل الرهن من عين إلى عين على حكم التراضي، فلا اختلاف في أن التبادل بصيغة البيع لا يجوز. وإن قلنا: القولان جاريان في هذا الضرب من القسمة، فإن قلنا: لا إجبار عليها، فصحة القسمة مبنية على القولين، كما ذكرناه. ولكنا ذكرنا اختلافاً في القسمين المقدمين في أن المرتهن هل يُراجع؟ فإن قلنا ثَمَّ: يراجع، فلأن يراجع ها هنا أولى. وإن قلنا ثَمّ: لا يراجع، فهاهنا وجهانِ ذكرهما القاضي.

_ (1) جمع قسمة. (2) الأقرحة: جمع قَراح، وزان كلام، المزارع التي لي فيها بناء، ولا شجر (مصباح).

والأصح عندي أنه لا بد من مراجعة المرتهن، فإن ضرورة الإجبار إن أوهبَ (1) حقُّ المرتهن فيما تقدم، فيبعد جداً في صورةٍ لا إجبار فيها أن يخرج عن حق المرتهن في معرض التراضي شيءٌ كان متعلقَ حقِّه. فليفهم النّاظر ما يمر به من البدائع. 3745 - ثم ذكر الشافعي بعضَ تفريعات رهن المستعار، وبين أن حق المستعير أن يذكر للمعير الدَّينَ الذي يرهن به. وهذا تفريع منه على أن رهن المستعار ينحى به نحو الضّمان. وقد تقصينا بما فيه مقنع. فصل قال: "ولو رهن عبده رجلين، وأقر لكل واحد منهما بقبضه كله ... إلى آخره" (2). 3746 - هذا الفصل فيه تعقد من جهة التصوير، لا من مأخذ الفقه، والتدرج إلى البيان فيه يستدعي الاعتناء بالتفصيل. فنقدم أولاً على الخصوص في المقصود تجديدَ العهد بأمور سبق تمهيدها: أولاً - إذا أقر المالك بأنه رهن عبده من زيد، ثم بأن أنه رهنه من عمرو، وسلمه إليه، ولم يتعرض في الإقرار الأول للقبض، وإنما ذكر الرهن المطلق، فيسلم الرهن إلى المقر له الثاني؛ من قِبل أنه لم يعترف في حق الأول إلا بالرهن، ولو رهن من رجلٍ، ولم يُقبض، ثم رهن من الثاني وأقبض، فيرتفع الرهن الأول، ويتم الثاني. هذا إذا جرى الإقراران على هذا الترتيب. ولو قال أولاً: رهنت من زيد عبدي هذا، وسلمه إليه، ثم أقرّ بعد ذلك أنه رهنه

_ (1) أوهبَ: دام (المعجم). فكأن المعنى: إن دام حق المرتهن مع القول بالإجبار، فيبعد -ضرورة- ألا يكون له الحق في صورة عدم الإجبار. والله أعلم. (2) ر. المختصر: 2/ 217.

أولاً من عمرو، وسلمه إليه، فكان إقراره الثاني مخالفاً للأول. أما الرهن، فهو في ظاهر الأمر مسلَّمٌ إلى المقر له أولاً، وهل يغرَم المقِر للمقر له ثانياً قيمة ذلك الرهن لتوضع رهناً؟ فهو على قولين مأخوذين من أصلٍ معروف في أن الحيلولة في الأموال بالأقارير [وبالشهادات هل توجب الغرامة على المتسبب إلى إيقاعها بالإقرار] (1) أو بالشهادة المتصلة بحكم الحاكم؟ هذا الأصل على قولين. ومن صوره لو قال: غصبت هذه الدارَ من فلان، لا بل من فلان. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله عز وجل في كتاب الغصوب، وفيه يتبين تفاوت المراتب في مسائل الأصل، ويتسلسل الترتيب، وما ذكرناه من القولين في الرهن ليسا على كمال البيان. وكمال بيانهما في أثناء الفصل، وإنما غرضنا التنبيه على ما يُفضي إليه الإقرار الثاني من أمر الغرم. 3747 - ومما نقدمه أن المالك لو قال: رهنت عبدي فلاناً من زيدٍ وأقبضته، بعد أن كنتُ رهنته من عمرو وأقبضته، فصدقُ الإقرار يقتضي تقديمَ زيد. ومنتهى الكلام المنعطف على أوله يقتضي أن يكون المتقدم عمراً. هذا تخريجٌ على القولين في أن الاعتبار في مثل ذلك بأول الإقرار، أو بآخر الكلام المتواصل. فإن قلنا: الاعتبار بآخر الكلام، فالمقَرُّ له بحق السبق هو المذكور آخراً. وإن قلنا: الاعتبار بصدر الكلام، فالمقر له أولاً هو المذكور أولاً في صدر الكلام، وهذا مأخوذ من قول القائل: لفلان علي ألفُ درهم من ثمن خمرٍ، فإن بنينا الأمر على آخر الكلام، لم نُلزمه شيئاًً، وإن بنيناه على أوله، ألزمناه الألفَ المقرَّ به، المذكورَ صدراً في الكلام، وأحبطنا الآخر، وسيأتي بيان هذا في الأقارير إن شاء الله. فإذا تبين الاختلاف في مسألة الرّهن في أن الأوّل في ظاهر الحكم مَنْ؟ فمن نقدره أولاً، فالرهن مسلم إليه، وهل يغرَم المقر لمن نقدِّره آخراً أم لا؟ فعلى ما قدمناه من القولين.

_ (1) زيادة من (ت 2).

3748 - عاد بنا الكلامُ إلى الهجوم على مقصود الفصل. فإذا ادعى رجلان على واحدٍ، كلُّ واحدِ منهما يدعي عليه أنه رهن عبده منه وسلمه إليه، وقال كل واحد منهما: إنه بعدما سلمه إليه رهناً مستحقاً، انتزعه من يده غصباً أو استعاره منه وسلمه إلى الثاني. ونفرض المسألة فيه إذا لم يكن لواحد منهما بينة؛ فإن القول في البينات وتعارضها لا يبين إلا في كتاب الشهادات، فإذاً لا بينة، والدعوتان مطلقتان، لا تاريخ في واحد منهما، إلا أن كل واحد منهما يدعي السبقَ والتقديمَ بالقبض، فلا يخلو إما أن يكون العبد في يد المالك أو في أيديهما، أو في يد أحدهما: 3749 - فإن كان في يدي المالك، أو يدي وكيله أو نائبه، فلا يخلو في التقسيمة الأولى إما أن يصدقهما، وإما أن يكذبهما، وإما أن يصدق أحدهما ويكذبَ الآخر، فإن كذبهما، فالقول قوله مع يمينه، فيحلف وينتفي العقدان. وإن صدق أحدَهما وكذّب الثاني، حكم بالرهن في ترتيب الكلام للمصدَّق منهما. وهل للمكذَّب أن يستحلف المقِرَّ؟ هذا يبتني على أنه لو أقرّ له بعد أن أقر للأوَّل، فهل يغرم القيمة للثاني؟ فعلى قولين، نبهنا عليهما في صَدْر الفصل. فإن قلنا: لا يغرَم، فلا فائدة في تحليفه؛ فإن اليمين تعرض حتى يهابها المعروض عليه، ويقرّ. ولو أقر لم يكن لإقراره حكمٌ في حق الثاني: لا في نقض حق الأول من الرهن، ولا في إثبات العوض، فلا معنى لليمين إذاً. وهاهنا تنبيه على خبطٍ لبعض الأصحاب، تردد في مواضع فإن قلنا: لا يحلف المقِرّ، فلا كلام. وإن قلنا: يحلف، فإن حلف، فلا كلام. وإن نكل، رُدّت اليمين على المدعي، فإن نكل كان نكولُه بمنزلة حلف صاحبه. وقد مضى حُكم حلفه. وإن حلف، فقد قال بعض أصحابنا: هذا ينبني على أن يمين الرد بمثابة إقرار المحلَّف الناكل، أو بمثابة بيِّنةٍ مقامة في الخصومة؟ فإن قلنا: هي بمثابة إقراره، فلا يثبت إلا الغرم، كما تفصل من قبل. وإن قلنا: يمين الرد كبينة، فقد قال بعض الضعفة: تُجعل يمين الرد كبينة في الواقعة، تزيل يدَ المقر له أولاً، ويسلم الرهن إلى الثاني، كما لو قامت بينة على حسب هذا.

وهدا غلط صريح، صرّح الأصحاب بنقله، ونحن لا ننقل أمثاله إلا للتنبيه على كونه زللاً. والوجه فيه أن يمين الرد لا يكون كبينة في حق غير المتخاصمين، واعتقاد هذا محالٌ؛ فإن قصاراه أن يصير نكولٌ من خصم، ويمين من آخر حجةً على غيرهما، ولا يصير إلى اعتقاد هذا ذو لبٍ، وإذا كان غلطاً، فلا معنى للاعتناء بالتفريع عليه على عادتنا في العرض. ولكن القدر الذي فرعه الأصحاب على هذا الوجه الضعيف أنا لو استرددنا الرَّهن من الأول، ورددناه إلى الثاني، فالأول هل يغرم القيمة، من حيث قصر فلم يحلف؟ فيه طريقان: منهم من قال: قولان، ومنهم من قطع بأنه لا غرم عليه للأوَّل؛ فإنه إن كان يلتزم بالإقرار الثاني بعد الإقرار الأول غرماً، فسببه أنه قال ما كان من حقه أن لا يقوله، وتقصيره في مسألة الحلف امتناعه من اليمين، ويبعد أن يوجب ذلك تغريماً. ولا ينبغي أن نزيد على هذا الخبط في تفريع أصلٍ هو خطأ. هذا كله فيه إذا كذبهما، أو كذّب أحدهما وصدق الثاني. 3750 - فإن صدقهما، وقال: قد رهنت منك، وسلمته إليك، وقال للآخر: قد رهنته منك وسلمته إليك، وكنت في أحد الرهنين والتسليمين مبطلاً، ولست أدري من المحق منكما ومن المبطل، وكيف جرى تأريخ السبق والتقدّم، فإذا قال المالك ذلك، لم يخل المدعيان إما أن يدعيا علمه، فكلٌّ يقول: تعلم سبقي وتنكر علمك به، وإما ألا يدعيا علمه، فإن لم يدّعيا إحاطته بحقيقة الحال، فلا نزاع لهما معه، والخصومة بين المدعيين، فلكل واحد منهما أن يحلِّف صاحبه، فإن تحالفاً أو نكلا، عسر إمضاء الأمر بينهما، ولم يكن أحدهما أولى بحقه من الثاني. قال الأصحاب: إذا انتهى الأمر إلى هذا المنتهى، انفسخ الرهن. قال الشيخ أبو محمد: يمكن أن يجعل هذا بمثابة ما لو تحالف المتبايعان، وفيه خلاف في أن العقد ينفسخ أو يُفسخ، ثم إن قلنا: ينشأ فسخُه، فالقاضي يفسخ أو المتعاقدان، فليخرّج هذا على ذاك، فإن حكمنا بالانفساخ، أو نفذنا الفسخ كما سنذكره، فالقول

في الظاهر والباطن يعود، وهذا اختلافٌ حقُّه الجريان في كل موضع ترتب الحكم بالفسخ فيه على الإشكال، وتعذُّرِ إمضاءِ العقد. فإن قلنا بالانفساخ، وهو الذي أطلقه الأصحاب في هذه المسألة، فلا كلام. وإن قلنا بأنشاء الفسخ، فليس ذلك إلى المدعيَين، ولكن يفسخ الحاكم. ويبعد أن يقال: يفسخ المالك؛ فإن الخصومة ما تعلقت به: فالوجه والله أعلم تفويض الأمرِ إلى الحاكم. فإن قيل: إذا استوى المتداعيان في الحلف، أو في النكول، فهلا قلتم يقسم الرهن بينهما؟ قلنا: تداعيا عقداً، والعقود لا تقبل التقسيط. وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة في أثناء الكلام، إن شاء الله تعالى. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، قُضي للحالف. وكل ذلك فيه إذا لم يدعيا علمَ المالك. 3751 - فإن ادّعيا علمَه، وكلٌّ يدعي علمه على وفق ما يدعيه ففي ذلك مسائل: إحداها - أن ينكل عن اليمين في حقهما جميعاً، فتعود الخصومة إليهما، كما لو لم يدعيا علمَه؛ فإنه بنكوله عن اليمين حسم باب العلم، وأبهم الأمرَ. وإذا عادت الخصومة إلى المتداعيين، فقد تفصل ذلك بما فيه مقنع. ولو حلف المالك على نفي العلم في حق كل واحد منهما، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا منتهى الخصومة، وقد تحقق تعذر الإمضاء، فيترتب على حلفه لهما على نفي العلم انفساخُ الرهنين. ثم الكلامُ في الانفساخ ما مضى. والوجه الثاني - أنَّ فائدة حلفه لهما أن تنقطع الخصومة عنه من جهتهما، والخصومة قائمة بين المتداعيين ما بلغت منتهاها، وهذا الوجه الثاني ذكره صاحب التقريب وشيخي وهو حسن فقيه. وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً- أن الرهن بين المتداعيين نصفان؛ إذ هو مُقِرّ لهما، وقد أشكل المتقدم منهما، ولا يمكننا أن نجعل العين كلَّها رهناً من كل واحدٍ، ولا من واحدٍ على التعيين، فالتقسيط أعدل. وهذا [و] (1) إن كان مشهوراً، فليس

_ (1) زيادة من المحقق.

يستند إلى فقه مُبين، مع بقاء المتداعيَيْن على النزاع القائم. نعم لو اعترفا بالالتباس كما حلف المالك عليه، فالمصير إلى التقسيط في مثل ذلك رأيٌ قد نقول به، في الأملاك المُشْكِلَةِ، المترددة بين طائفة من المدعين، على ما سيأتي بيان الأملاك المشكلة بين المتنازعين، ثم [حكمها] (1) إذا اعترفوا بالإشكال. ثم قال القاضي إذا ذكرنا وجهاًً في أن الرهن بينهما، وقد حلف المالك، فهذا الوجه يخرج إذا نكل عن اليمين في حقهما جميعاً؛ إذ لا فرق. هذا كله إذا التبس الأمر كما قدمناه. 3752 - فأمّا إذا أقر لأحدهما، فإقراره له مقبول. وهل يحلف للثاني؟ فعلى وجهين، أو قولين: أحدهما - أنه يقبل إقراره للمقَر له بلا يمين؛ إذ الملك له، وإليه الرجوع. ولو رجع عن إقراره، لم ينفعه رجوعه. والثاني - يحلف. وهذه الأصول الملتفة راجعة إلى قواعدَ مضبوطة. فتحليفه في حق الثاني مأخوذ مما تقدم، من أنه هل يغرم للثاني لو أقر له. وقد مضى هذا. وعليه بنينا مسألةً في الجنايات من كتاب الرهن، وهي أن الراهن لو أقر بعد جريان القبض في الرهن بجناية قبل الرهن، وقلنا: القول قول الراهن، فهل يصدق بلا يمين؟ أم لا بد من تحليفه؟ فيه قولان: فإن قلنا: إنه يحلف، فلو حلف، انقطعت الخصومة، واستمر الإقرار، وإن نكل عن اليمين، ونكل المدعي أيضاًً عن يمين الرّد، فهو كما لو حلف المقر المالك. وإن حلف من رددنا عليه، فمن أصحابنا من قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه ينفسخ الرهنان، والثاني - يقسم بينهما. وهذا القائل يزعم أن الاقرار السّابق حجة، ويمين الرد من المدعي الثاني حجة، وينزل ما تقدم مع ما تأخّر منزلةَ ما لو ادعى المرتهنان عليه، فحلف لا يعلم، وذلك أن حلفه في الصورة المتقدمة يُلبّس

_ (1) في الأصل، (ت 2): حكمهما. والمثبت تقدير من المحقق؛ إذ الضمير يعود إلى الأملاك المشكلة.

الأمرَ ويُعمي الخصومة، ويوجب استواء المرتهنين. ثم ينشأ من استوائهما أوجهٌ، قدمناها. وجهان (1) منها: أن الرهن بينهما؛ إذ الرهنان ينفسخان، وقد تحقق الاستواء بالإقرار، ويمين الرد. وهذا مسلكٌ لبعض الأصحاب. وإذا قيل له: فلو أقرّ للثاني بعدما أقر للأول، لم يتضمن إقراره للثاني المترتب على الأول استواءً بين المرتهنين، حتى يقضى بأنفساخ الرهن أو انقسامه، قال مجيباً: الإقرار الثاني مردود إلا في حق الغرم، واليمين الصادرة من المدعي حجة انتظمت الخصومة بها، وأفضت إليها، فلم يكن كإقرار ثانٍ بعد الإقرار الأول. وسلك بعضُ أصحابنا مسلكاً آخر، فقال: إن جعلنا يمين الرد بمثابة الإقرار، فلا يستفيد الحالف المردود عليه حيث انتهى التفريع إليه إلا الغرم، كما قدمناه. وإن جعلنا يمين الرد بمثابة بيّنة، فالرهن يسلم إلى الحالف الآن؛ ويبطل حكم الإقرار الأول. وهذه الطريقة ضعيفة. والطريقة الصحيحة القطع بتقرير الرهن الأول على موجب الإقرار الأول، من غير أن يُتبع بشركةٍ أو نقض، أو انفساخ؛ فإن الانفساخ يعتمد الإشكال، وقد استقل الإقرار الأول في البيان. والشركة تعتمد الاستواء، ولا استواء مع التقدم والتأخر. ونقض الرهن الأول، وتسليمه إلى الثاني نتيجة بيّنةٍ تقوم، وقد ذكرنا أن يمين الرد ليست بيّنة في حق غير الناكل والمردود عليه، فقد بطلت هذه المآخذ. ولم يبق إلا القطع بأن الرهن يسلم إلى الأول، والناكل يغرَم للحالف القيمة؛ فإذا تبيّنا جواز تحليفه على تقديم الغرم، لا ينقدح عندنا في القياس إلا هذه الطريقة. 3753 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الرهن في يدي الراهن أو في يدي نائبه، بتقدير نزعه الرهن ممن سلمه إليه. وقد أجرينا المذهب بكماله في هذا الطرف. ولكنا نخشى أن يتخبط على الناظر، فاللائق بطلب البيان أن نترجم ما قدمناه إلى الآن، ثم نبتدىء القسم الثاني. فنقول: إذا جرى رهنٌ وتسليمٌ من رجلين، وعسر درك السابق منهما، فإن ادعيا

_ (1) كذا في النسختين، ووجهها أنها في محل (البدل) من (أوجه).

علماً على الراهن والرهن في يده، فإن حلف لا يعلم، فقد أشكل الأمر من جهته، ونشأ منه أوجه: أحدها - قسمة الرهن؛ أخذاً من استواء المدعيين. والثاني - انقسام الرهن، تلقياً من الاستواء. ولا تبعيض بينهما بالاتفاق. والثالث - وهو الأصح الأقيس أن المرتهنين لا بد وأن يختصما. فإن تحالفا، أو نكلا، اعترض عند ذلك الانفساخ -والفسخُ في معناه- أو القسمة، للاستواء. وإن حلف أحدهما، قُضي له؛ فإنه منتهى الخصومة. هذا إذا ادّعى علمَ الراهن، فحلف. فأما إذا نكل، فلا تقف الخصومة على النكول، وجهاً واحداً؛ فإن القضاء بالنكول لا يلائم مذهبنا، ولكن تسترسل الخصومة على المدعيين. ثم قد ذكرنا منتهى خصومتهما. هذا إذا ادعيا علمه. [فإن] (1) لم يدعيا علمه، فلا يتركان والاختصام من غير مراجعة المالك. ولكن لو اعترفا بأنه لا يعلم، وهو معترف أيضاً، فيكون هذا بمثابة ما لو نكل عن اليمين الموجهة عليه في دعوى العلم. ثم منتهى خصومتهما إذا أفضى إلى استواءٍ في نكولٍ أو حلف، عاد الوجهان في الانفساخ والانقسام. وإن وقعت الخصومةُ على حلف من أحدهما، ونكولٍ من الثاني، جرى القضاء باليمين، لا محالة. ولو قال الراهن: أنا على [علم] (2)، وأقر لأحدهما، واليد له، نفذ إقراره. ولو أقر للثاني، فقولا الغرم، وإن لم يقر، ففي التحليف قولان مأخوذان من الغرم. فإن حلف، انتهت الخصومة، واستقر الرهن على موجب الإقرار. وإن نكل، ونكل المدعي، فهو كما لو حلف. وإن حلف المدّعي، تحزب الأصحاب أحزاباً، وذكروا طرقاً ثلاثة، أتينا عليها في آخر التفصيل، وارتضينا الصحيحَ الجاري على القياس. هذه ترجمة ما قدمناه.

_ (1) في الأصل: وإن. والمثبت من (ت 2). (2) في الأصل: علمه.

3754 - ونحن نخوض الآن في القسم الأخير من مضمون أصل الباب. فنقول: كل ما ذكرناه فيه إذا كانت اليد فيه للراهن، فأما إذا كانت اليد لأحد المدعيين، أو كان الرهن في أيديهما جميعاً، فنقول في ذلك: لو كان في يد أحد المدعيين، نظر، فإن أقر المالكُ لصاحب اليد، حكم له بالرهن؛ فإنه حصلت له شهادة اليد، وإقرار المالك. وإن أقر المالك لصاحبه الذي لا يدَ له في الحال، وزعم أن هذا المرتهن الذي هو ذو اليد، أزال يده التي أثبتها له، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نرجّح الإقرار على اليد؛ فإن قول المالك هو المعتبر، وإليه الرجوع، واليد لا تدل على الرهن وإنما تدل على الملك. على تفاصيلَ ستأتي، وذو اليد ليس يدعي إلا حقّ الرهن. والقول الثاني أن الترجيح لليد. وهذا ضعيف لما قدمناه. وإن كان مشهوراً. وصاحبه يقول: إذا كنَّا نرجح اليد في دعوى الملك، فاعتبارها في دعوى الوثيقة ليس بعيداً، واليد أليق بالرهن منها بالملك، فإن القبض ركن الرهن، ولا يكاد يخفى فرض المسائل كلها في [تسليم] (1) جريان الرهن في صورته مع الرجلين، وإنما النزاع في السابق بالقبض. 3755 - ولو كان الرهن في أيديهما، فأقر لأحدهما، [فإن] (2) قلنا: نرجح الإقرار على اليد، حُكم به للمقر له. وإن قلنا: نرجح اليدَ على الإقرار، فالرهن بينهما. ثم من قضينا له بالإقرار، تمَّ أمرُه في استحقاق الرهن، وإن كنا نرجح [اليدَ] (3)، فلا نقضي باليد المجردةِ، فيبقى النزاع معها، غير أن القول قول صاحب اليد مع يمينه، وهذا لا شك فيه، وهو الشاهد بأن الإقرار أولى من اليد. واختار المزني أضعفَ القولين فقال: إذا أقر المالك بالرهن والقبض [لمن] (4) لا يد له، فالقول قول صاحب اليد. وهذا تقديم منه لليد على الإقرار، وليس له

_ (1) في الأصل: تسلم. (2) في الأصل: إن. (3) في النسختين: الرهن. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. لعله الصواب. (4) في الأصل: ولا يد له.

أصل ولا نعرف الخلاف أن الإنسان إذا كان في يده ملكٌ لغيره، فادعى أنه رهنه منه المالك، وأنكر صاحب الملك أصلَ الرهن، فالقول قول المالك في نفيه، ولا حكم ليد مدّعي الرهن. وإنما القولان فيه إذا جرى الرهن، وآل النزاع إلى القبض. وإذا كان الرهن لا يلزم بنفسه، فأي أثر له والقبض متنازع فيه. ثم فرع المزني، فقال: إذا صادفنا الرهن في يد أحدهما، فقال: لقد قبضت، وقبض صاحبي أيضاًً، ولكن كان قبضي أسبق من قبضه، فيقال له: لو كان قبضك أسبق من قبضه، كانت اليد لصاحبك الآن، فإنك أقررت له بصورة القبض أيضاًً، وادعيت أنك السابق، وهذا يقتضي أن تكون اليد لصاحبك، وقد تلقاها منك غصباً، أو استعارةً، فموجب ما قلت يتضمن إقراراً لصاحبك باليد، فسلِّم إليه الرهنَ، ثم أثبت سبقَك. قال القفال: فيما قاله نظر، وتفصيل، فنقول: إن صرح بأنه لم يقبض إلا مرّة واحدة، وكذلك صاحبه، لم تتجدد يده. ثم قال: وأنا سابق، ولم تزل يدي، فلم يتكرر، فهذه مناقضة. والجوابُ ما قال المزني. فأمّا إذا قال: كنت السابق بالقبض، فأخذ مني صاحبي غصباً، فانتزعته من يده، ففي هذه الصورة يبقى في يده. وما ذكره المزني محتمل في الصورة التي ذكرها القفال آخراً، فإنه على الجملة اعترف له بيده قبل هذه اليد التي نشاهدها. وادعى: أنه كان مغتصباً فيها، فعليه إقامة البينة فيما يدعيه من الغصب، والأمر محتمل كما ترى. * * *

باب الرهن يجمع شيئين

باَبُ الرّهنِ يَجْمَعُ شَيْئَينِ قال الشافعي رحمة الله عليه: " إذا رهن أرضاً ... إلى آخره " (1). 3756 - الفصل يشتمل على شيئين: أحدهما - أن من رهن أرضاً فيها أشجار، ولم يتعرض للأشجار، ولا لاسم يشتمل على الأشجار، كالبستان ونحوه، بل ذكر الأرض مطلقا، فهل تدخل الأشجار تحت تسمية الأرض؟ فيه اختلاف نصوص، وكذلك في البيع مثل ذلك. وللأصحاب طرق سبقت مفصلة، فلا نعيده. هذا أحد المقصودين. والثاني - أن يبيع شجرة في مغرسها، أو يرهنها من غير تعرض لذكر المغرس، فحاصل المذهب أقوالٌ، وربما كان يقول: أوجه، فإن النصوص في المقصود الأول وهو بيع الأرض من غير ذكر الشجر. وهذا من بيع الشجر من غير ذكر المغرِس. فمن أصحابنا من قال: لا يدخل المغرس لا في البيع، ولا في الرهن؛ فإن الشجر بالإضافة إلى الأرض فرعٌ، ويبعد استتباع الفرع الأصل. والثاني - أن المغرِس يدخل في الرهن والبيع جميعاً؛ فإن مطلق العقد على الشجرة القائمةِ التي لا يعتاد قلعها يُشعر بحق تقريرها، وذلك (2) يثبت الاستحقاق في المغرس. والثالث - أن البيع يتضمن استتباع المغرس بخلاف الرهن. والفرق ما قدمناه مراراً من ضعف الرهن وقوة البيع، وعليه خرّجنا الخلاف في أن مطلق تسمية الشجرة هل يستتبع الثمارَ التي لم تؤبر في الرهن استتباعها إياه في البيع؟ هذا قولنا في المغارس.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 217. (2) في (ت 2): لا يثبت.

فأما إذا كان بين النخيل قطع أراضٍ لا غراس فيها، نُظر: فإن كانت بحيث تفرد بالانتفاع بها دونَ النخيل، فلا شك أنها لا تدخل تحت مطلق تسمية النخيل. وإن كانت تيك القطع لا يتأتى إفرادها بالانتفاع بها إلا على طريق التبعية للأشجار فقد ذَكر شيخي وصاحب التقريب وجيهن فيها: أحدهما - أنها بمثابة المغارس حتى تخرّج فيها الأوجه التي ذكرناها في طرق الأصحاب (1). ومن أصحابنا من قطع بأنها لا تدخل تحت البيع والرهن جميعاً، وجهاًً واحداً؛ فإنها ليست مغارس. وإن كانت لا تستقل بأنفسها. وهذا هو الأصح فيها؛ فإن استتباع المغارس على حالٍ ضعيفٌ، لما ذكرناه من لزوم استتباع الفرع الأصل. 3757 - وما ذكره (2) في الأشجار ومغارسها يجري في بيع الأبنية من غير تعرض لأساسها. فالمسألة وقد سميت الجدران والبنيان في استتباع الأساس تُخَرّج على الأوجه الثلاثة. فإن قضينا بأن الشجرة تستتبع مغرسها، والجدار يستتبع أُسَّه، فهذا استتباع ملك، وهو كاستتباع الأرض الغراسَ والبناءَ في الأقوال المقدمة. ولو رتب مرتب استتباع الشجر والجدار المغرسَ والأساسَ على استتباع الأرض الغراسَ والبناء، كان متجهاً؛ فإن قلنا: لا تستتبع الأرضُ الغراسَ، فلأن لا يستتبع الغراسُ المغرس أولى. وإن قلنا: تستتبع الأرضُ الغراسَ، فهل يستتبع الغراسُ المغرسَ، والجدارُ الأسَّ؟ فعلى وجهين. والفرق لائح. وإن قلنا: الشجرة لا تستتبع مغرسَها ملكاً، فليس لبائعها قلعُها مجّاناً. نعم؛ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: حق عليه أن يبقيها ما أراد المشتري بقاءها، فإنه باعها، وهي ذات حق في الثبوت في المغرس، فليثبت للمشتري على وجه ثبوته للبائع اعتباراً بسائر الحقوق. والوجه الثاني - أن البائع لو أراد قلع الشجرة، لم يمنع من قلعها، ولكن يغرَم ما ينقصه القلع، كما يغرَمه المعير في مثل هذه الصورة؛ فإن من أعار أرضا لتغرس فغرست، فللمعير قلعُ الغراس على شرط الضمان فيما ينقصه القلع. وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب العَواري، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في (ت 2): في الاستتباع. (2) في (ت 2): ذكرناه.

فصل قال: " ولو رهن ثمراً قد خرج من نخله ... إلى آخره " (1) 3758 - يمتزج بمقصود هذا الفصل رهن ما يتسارع إليه الفساد، وقد فصلنا المذهب فيه، وفرقنا بين رهنه بالدين الحال، وبين رهنه بالمؤجل، وذكرنا ما يليق به من التفصيل. فإذا اعترض كلامٌ في أثناء الفصل يتعلق برهن ما يفسد، أحلنا البيان على ما تقدم. ومقصود الفصل التفصيل في رهن الثمار على رؤوس الأشجار. والقول فيها ينقسم: فنتكلم في رهنها وحدها دون الأشجار، [ثم نتكلم في رهنها مع الأشجار. فأما رهنها دون الأشجار] (2) فنقول: لا يخلو إما أن تكون مُزهيةً قد بدا الصَّلاح فيها، وإما أن تكون غيرَ مزهية، فإن كانت مزهية، فهي ناجية من العاهة، وكلامنا وراء ذلك في الدين الحال والمؤجَّل: فإن كان الدين حالاًّ، صح رهنها على كل حالٍ؛ فإنها وإن كانت لا تدّخر، فرهنها بالحالّ مسوغّ. وإن رُهنت بالمؤجل لم يخلُ صنف الثمر: فإن كان يُجدُّ ويجفف، فالرهن جائز، وليست الثمرة مما تُعد جارية إلى الفسادِ. وإن كان صنف الثمر بحيث لا يدّخر، يُنظر: فإن كان يفسد قبل حلول الأجل، فالرهن جائز، ولا غموض في الفصل. وكل ذلك إذا كانت الثمرة مُزهيةً. 3759 - فأمَّا إذا كانت غير مزهيةٍ، فما بدا الصلاح فيها، فلا شك أن بيعها مطلقاًً وبشرط التَّبقية باطل عندنا. والمعنى الذي ذكرناه حداً للمذهب تعرّضُ الثمار للعاهة قبل بدوّ الصلاح.

_ (1). المختصر: 2/ 217. وفي الأصل شجراً. والمثبت من نص المختصر، ومثله (ت 2) (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

فأما رهنها مطلقاًً، فكيف السَّبيل فيه؟ نرسم صوراً ونرتب بعضها على بعض. فنبدأ برهن الثمار قبل بدو الصّلاح فيها، ونفرض رهنها بالدين الحال. فنقول: إذا رهنت بالدين الحال مطلقاًً من غير شرط القطع، ففي صحة الرهن قولان، ذكرهما صاحبُ التقريب وغيرُه: أحدهما - أن الرهن يفسد كما يفسد البيع على هذا الوجه، والرهن يتبع البيع في الصحة والفساد. والثاني - أنه لا يفسد لمعنيين: أحدهما - أن الحلول في الرهن قرينةٌ حالّة محل شرط القطع؛ فإنّ مبنى الرهن بالدين الحال أن الرهن إذا كان بحيث يتسارع الفساد إليه، فإنه يباع على فوره، ويصرف ثمنه إلى الدين، أو يوضع رهناً. فإذا كنا نصحح رهنَ ما يتسارع إليه الفساد بالدين الحال حملاً على ما ذكرناه، فرهن الثمار بالدين الحال قبل بدوُّ الصلاح أولى؛ فإن ما يتوقعه من تعرّضها للصّواعق وغيرها من الآفات أبعد من توقع الفساد، فهذا أحد المعنيين. والثاني - أنا لا نشترط في الرهن من الاحتياط ما نشترطه في البيع؛ والسبب فيه أن حق المرتهن الأصلي دينه، ودينه لا يسقط بفوات الرهن؛ ومقصود البيع يضيع بتلف المعقود عليه. وهذا المعنى فيه ضعف، وإن ذكره الأئمة. والمعنى الأول كافٍ. هذا إذا كان الرَّهن بدين حال. 3760 - فأما إذا كان بدين مؤجل نُظر: فإن كان الصَّلاح لا يبدو قبل حلول الأجل، بل الأجل يحل أولا، فلو رهن الراهن هذه الثمارَ على شرط أن [لا] (1) تباع بشرط القطع، ففي صحة الرهن قولان مشهوران: أحدهما - لا يصح، كما لا يصح البيع في نظير هذا. ومن اشترى ثماراً لم يبد الصلاح فيها على شرط أن يقطعها بعد يوم، فالبيع يفسد لتضمنه شرط التبقية، ولو في زمن قريب، فليكن الرهن كذلك. والثاني - أن الرهن يصح، ولم يوجه الأصحاب هذا القولَ إلا بالمعنى الثاني الضعيف، الذي ذكرناه في صورة الرهن بالدين الحالّ. فقالوا: البيع لو بني على الغرر، خيف سقوط العوض والمعوض بتقدير التلف، والرهن لو ضاع، لم يضع الدين به.

_ (1) ساقطة من الأصل.

وهذا لست أُوثره، بل أقول: ليست الثمار قبل بدوّ الصلاح مما يعد فاسداً من ساعته. ولو رُددنا إلى المعنى لما أفسدنا بيعها بشرط التبقية، والمعتمد في إفساد البيع الخبر، والخبر وارد في البيع، فهذا أولى في توجيه هذا القول مما قدمناه، مع مصيرنا إلى فساد الرهن فيما يتسارع إلى الفساد، على تفصيلٍ مضى. ثم رتب أئمتنا القولين في رهن الثمار قبل بدوّ الصلاح في الصورة التي نصصنا عليها والدين مؤجل على القولين والدين حال. ولا شك أن الرهن بالفساد أولى إذا كان الدين مؤجلاً. ولو رهن الثمار قبل بدو الصلاح بدين مؤجل، وكان الصلاح لا يبدو إلا بعد الأجل، ولم يجر تعرضٌ للقطع عند المحل، ففي الرهن قولان مرتبان على القولين فيه إذا تعرض الراهن لذكر القطع عند المحل، إما بأن يشترط قطعه أو يشترط بيعه بشرط القطع، والصورة المبهمة الأخيرة أولى بالفساد، والفرق لائح. وقد قطع شيخي بصحة رهن ما لم يبدُ الصلاَّح فيه بالدين الحالّ، ولا وجه عندي إلا ما ذكر؛ فإنه إذا جاز رهن ما يفسد من ساعته بالدين الحالّ، فما المانع من تصحيح الرهن فيما لم يبد الصَّلاح فيه؟ والذي ينقدح لمن يخرج القولين تعارض أصلين: أحدهما - أن ما يفسد يباع ويوضع رهناً. والأصل الثاني - أن العادة مطردةٌ بتبقية الثمار. وقطع صاحب التقريب قوله بإبطال الرهن بالدين المؤجل إذا لم يقع تعرضٌ لذكر القطع عند المحل. هذا بيان الطرق. 3761 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصَّلاح لا يبدو إلا بعد الأجل. 3762 - فأما إذا كانت الثمار حيث يبدو صلاحها قبل الحلول، فقد قال الشيخ أبو علي بدوّ الصلاح عند المحل كشرط القطع عند المحل إذا كان الصلاح لا يبدو، فتنزل هذه المسألة في ترتيب المذهب منزلة ذكر القطع عند المحل؛ فإن سقوط شرط القطع بالصلاح عند المحل كذكر شرط القطع قبل الصلاح. هذا كله في رهن الثمار على الأشجار دون الأشجار.

3763 - فأما إذا رهن الثمار مع الأشجار، فالقول الوجيز فيها أن ما يتعلق بشرط القطع، فهو ساقط في هذه الصورة، اعتباراً بالبيع في مثلها. وإن كانت الثمار بحيث تفسد في حَبسها قبل حلول الأجل، فيتصل هذا برهن ما يتسارع إليه الفساد [بدين مؤجل، وتفصيله بيّن، فحيث يقتضي المذهب تصحيح الرهن في الثمار، لم نشك في تصحيحه في الأشجار، وحيث يقتضي المذهب فسادَ الرهن في الثمار، ففي فساد الرهن في الأشجار قولا تفريق الصفقة. هذا عقد المذهب. وألحق بعض أئمتنا رهن الثمار قبل بدوّ الصلاح برهن ما يتسارع إليه الفساد] (1) وإن كان توقّع الفساد لا يأتيها إلا من الجوائح، فعلى هذا إن قطعنا ببيع الأشجار وعليها الثمار، ففي رهن الأشجار وعليها الثمار كلام، ففي الثمار تفصيلها وفي الأشجار تفريق الصفقة. والسبب فيه أن الأشجار أصلٌ في حق المشتري، وليمست أصلا في حق المرتهن؛ فإنها تباع في حقه بيع الثمار. فصل قال: " وإن كان من الثمر شيء يخرج، فرهنه ... إلى آخره " (2). 3764 - المقصود ذكر الثمار المتلاحقة، وقد مضى التفصيل في تلاحقها قبل القبض في البيع، وذكرنا القولين في أن المبيع إذا اختلط بغير المبيع قبل القبض على وجه يتعذر التمييز، فهل ينفسخ البيع أم لا؟ فلو فرض هذا الاختلاطُ في الرهن بعد القبض، فالتفصيل في الرهن المقبوض كالتفصيل في البيع قبل القبض؛ وذلك أن المرتهن إنما يتوثق إذا قبض، فهو والرهن في يده كالبائع والمبيع محبوسٌ عنده. وقد ذكرنا أنّ الاختلاط في البيع بعد القبض لا يؤثر في فرع العقد وانفساخه على المذهب

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) ر. المختصر: 2/ 217.

الأصح؛ فإن العلائق في هذه الصور تنقطع في البيع بانتقال الضمان إلى المشتري وهذا في الرهن لا يتحقق. ثم إذا قلنا: ينفسخ الرهن بالاختلاط بعد القبض، فلا كلام. وإن قلنا لا ينفسخ، فلو فرض الاختلاط [قبل] (1) القبض في الرهن، فالمذهب الانفساخ لا وجه غيره. وأبدى بعض الأصحاب (2) وجهاً أنه لا ينفسخ، كما لو كان الرهن عصيراً، [فاستحال] (3) خمراً. وقد ذكرنا في ذلك وأمثالِه خلافاً. وهذا ليس بشيء؛ فإن الخمر يتوقع انقلابها خلاً، والمختلط لا يتوقع تميزه. هذا منتهى القول في ذلك. 3765 - ثم ذكر الشيخ أبو علي بعد الفراغ من الثمار رهنَ الزرع وهو بقل. ونحن نقول فيه: إن كان البقل متزايداً، وكان يُخْلِفُ على الركيب (4) إذا جُزَّ، فرهنهُ كرهن ما يختلط، وقد ذكرناه وإن فرض رهنه بمؤجل من غير شرط القطع، [فالرهن باطل قطعا؛ فإن المرهون يختلط بغير المرهون لا محالة، وإن شرط] (5) القطع، فالرهن صحيحٌ. ثم يقع بعد القبض في تفصيل ما يفسد، فإن البقل بعد الجزّ يفسد على القرب، وقد تفصل المذهب. وإن رهن بدين حالٍّ، ففي صحة الرهن قولان كما ذكرناه في الثمرة قبل الصلاح. هذا والركيب يخلُف بعد الجزّ، فأما إذا جرى العقدُ على زرع هو بقل، والركيب لا يُخْلِف، فقد اختلف أصحابنا فيما يزداد إلى الإدراك، فمنهم من جعله كما لا يزداد من البقل المخلف. وهذا اختيار الشيخ أبي علي، ومن أصحابنا من قال: لا حكم لهذه الزيادة، كما لا حُكم لكبر الثمرة. وهذا فقيه عندي.

_ (1) في الأصل: في. (2) عبارة الأصل: الأصحاب فذكر وجهاً. (3) في الأصل: واستحال. (4) كذا في النسختين. ولم أجدها في المعاجم العربية، وستتكرر في هذه المسائل، ومن السياق يظهر أن معناها أصول جذور البقل بعد الجز. (5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

وحقيقة المذهب فيه تتعلق بأن من ابتاع زرعاً لا يُخْلِفُ ركيبه، فهل يملك أصل الزرع المكتتم بالأرض؟ وفيه تردد. فإن قلنا: إنه يملك، فما يزداد يزداد على ملكه، وهو حقاً ككبر الثمرة، وإن قلنا: لا يملك مشتري الزرع الركيب المستتر، فيظهر إذن إلحاق الزيادة بما يزداد من البقل الذي يُجَزّ فيُخْلِف. عدنا إلى الكلام في الرهن. وقلنا: الزيادات التي تكون كالبقول ليست محتملة، فإن ألحقنا زيادة الزرع بها، فالتفصيل كما مضى من اختلاط المرهون بغير المرهون. وإن لم نبال بهذه الزيادة، بقي النظر في تعرض الزرع وهو بقل للآفات، والكلام في شرط القطع. وقد مضى ذلك على ما ينبغي. 3766 - ثم قال الشافعي: " وإذا رهنه ثمرة (1)، فعلى الراهن سقيها ... إلى آخره ". هذا تعرض منه للكلام في المؤن، وقد استَقْناه فيما تقدم، وأشرنا إلى اختلاف الطرق في ذلك؛ فلا نعيده. * * *

_ (1) في النسختين: (أرضا) والمثبت من المختصر: 2/ 218.

باب ما يفسد الرهن من الشرط

باب ما يُفسدُ الرَّهن مِنَ الشرْطِ قال الشافعي: " إذا اشترط المرتهن من منافع الرهن شيئاًً ... إلى آخره " (1). 3767 - الشروط في الرهن تنقسم: فمنها ما يوافق موضوع العقد ويتضمن تصريحاً بما يقتضيه مطلق العقد، فما كان كذلك لم يكن شرطاً على الحقيقة، وإنما هو تكرير معنى العقد، وهو بمثابة قول الراهن رهنتك هذا على أن تتوثق به، أو على أن يباع في دينك عند الحاجة إلى البيع، أو تَقَدَّم (2) به عند ازدحام الغرماء، فلا أثر لذكر أمثال هذا. والذي يذكر فيه أن من سماه شرطاً مجازفٌ متجوّز؛ فإنَّ الشرط هو الذي يزيد على مقتضى العقد. وأمَّا الشرط الذي لا يتضمنه إطلاق العقد، فإنه ينقسم قسمين: أحدهما - ما يقدح في مقصود الرهن، فلا شك أن الشرط يفسد، ويفسد الرهن بفساده، قولاً واحداً. وهو مثل أن يقول الراهن: رهنتك هذا على أن لا تَقدَّم به في مزدحم الديون، أو على أن لا يباع في حقّك، فهذا الشرط في الرهن بمثابة قول البائع: بعتك هذا على أن لا تملكه. هذا قسم. والثاني - ما لا يتعرض لإبطال حق المرتهن من مقصود الرهن ولكنه فاسد في نفسه، وقد يتضمن اشتراط مزيدٍ للمرتهن. وتصوير ذلك أن يقول الراهن رهنتك هذا على أن منافعه لك، أو رهنتك البستان، أو هذا القطيع، على أن الثمار والنتاج ملكُك. أما الشرط، فلا شك في فساده، وفي فساد الرهن به قولان: أحدهما - أنه يفسد؛ فإنه اشتمل على شرط فاسدٍ يتعلق بأغراض الناس، وأصحاب الرهون في

_ (1) ر. المختصر: 2/ 218. (2) تقدم: بحذف تاء المضارعة.

العرف الغالب يطلبون الرهون لمنافعها، فالشرط إذاً على فساده متعلق بما هو معدود من مقصود العقد. والقول الثاني - أن الرهن لا يفسد؛ فإن المقصود فيه للمرتهن، وحقه لم يتغير بالشرط، ولم يقع لمقصوده تغرّض، أما شرط تمليكه الزوائد، ففاسد مطَّرح، وليست الزيادات المشروطة على الفساد في البيع بهذه المثابة؛ فإنها إن تضمنت مزيداً في شق من غير تنقيص مقصود العقد في ذلك الشق، فإنها تتضمن تنقيصاً في الشق الآخر، والبيع معاوضة يتعلق مقصودها بالطرفين، ومقصود الرهن لا يتعلق إلا بجانب المرتهن. هذا بيان القول في ذلك. ولو قال: رهنتك هذه الشاة على أن يكون نتاجها رهناً عندك إذا وجدت (1)، فقد اختلف القول في الشرط هل يصح؟ حتى يُقضى بأن الرهن يتعدى إلى النتاج بالشرط، فأحد القولين - أن الرهن لا يتعدى، وهو الأصح؛ فإن العقد لا يقتضي التعدّي إلى النتاج، والشرطُ تعلّق بنتاج مفقودٍ. والقول الثاني - أن الرهن يتعدى إلى النتاج مع الشرط؛ فإن الذي حملنا على قصر الرهن على المحل المذكور ضعفُ الرهن، وحكمُ اللفظ؛ فإنه خُص على ضعفه بمحل، فاختص به، فإذا أثبت سارياً إلى النتاج، ثبت كما أثبت. وكان شيخي يقول: إذا فرعنا على أن الرهن يتعدى بالشرط إلى النتاج، ففي تعديه بالشرط إلى الأكسابِ تردد، والأظهر أنه لا يتعدى إليها؛ فإنها ليست من أجزاء الأصل، وإنما يثبت الملك فيها ابتداءً لمالك العبد، بسبب أن مكتسبها مملوكُه. وكان يلحق العُقرَ (2) بالأكساب، ولا يؤثر فيه مذهب أصحاب أبي حنيفة. هذا تفصيل المذهب في فساد الرهن والشرط، وصحتهما وصحة الرهن وفساد الشرط.

_ (1) كذا: " وُجدت " بتأنيث الفعل، على قصد (النتيجة) يقال: نتَجَ الرجل البهيمة نتجاً من باب (ضرب)، فهو ناتج، والبهيمة منتوجة، والولد نتيجة. (2) عبارة (ت 2): " وكان يلحق العقد بالأَكْساب فهو يؤثر فيه مذهب أصحاب أبي حنيفة ".

3768 - والآن نذكر أحكام الرهن المشروط في البيع على النعوت التي ذكرناها، فإن فسد الرهن بشرط يؤثر في مقصود الرهن وقد شرط هذا الرهن في بيع، فهل يفسد البيع بفسادِ ذلك الرهن المشروط؟ فعلى قولين مشهورين تقدم ذكرهما، وتوجيههما. ولو جرى ذكر تمليك المرتهن زوائدَ الرهن، وهذا الرّهنُ على هذا النعت مشروط في البيع، فالبيع يفسد قولاً واحداً، سواء رأينا فساد الرهن أو لم نره؛ لأن شرط زيادة ملكٍ على الفساد للبائع مقروناً بالثمن يُصيّر الثمنَ مجهولاً، ثم يفسد البيع لا محالة به، وليس كما لو شرط رهن خمرٍ أو مغصوب، أو شرط في الرهن ما ينقص حق المرتهن؛ فإن شيئاً من ذلك لا ينضم إلى الثمن، فلا يصير الثمن مجهولاً. والرهن عقد على حياله، فيتجه في قولٍ أن لا يفسد البيع. وإن قلنا: مثل هذه الزيادة لا يفسد بها الرهن، فيفسد البيع لما ذكرناهُ من انضمامها إلى الثمن، ويخرج منه أن البيع إذا فسد يفسد الرهن أيضاًً، لسقوط الدين الذي يُطلب توثيقه. وانتظم منه أن القولين في أن الرهن هل يفسد أم لا؟ لا يجريان [إلا] (1) في رهن غير مشروط في بيع، إما بأن يفرض رهنٌ مبتدأ في قيمة متلف، أو يُقدَّرَ رهنٌ في قرض، أو ثمنُ مبيع بعد لزومهما (2). فصل قال: " ولو كان له ألف، فقال زدني ألفاً ... إلى آخره " (3). 3769 - إذا استحق ألفاً على إنسان، فقال من عليه الدين: زدني ألفاً، تقرضنيه، على أن أرهنك بالألف القديم، والألف الجديد رهنا. فإذا جرى القرض مشروطاًً بهذا الشرط، كان القرض فاسداً؛ والسبب فيه أن القرض الجديد مشروط بالرهن في

_ (1) زيادة من: (ت 2). (2) أي القرض والبيع، ولم يجر القولان إلا بعد اللزوم؛ حتى لا تشترط الزيادة للمقرض، فيكون القرض جرّ نفعاً مشترطاً، وكذا في البيع؛ فإنه إذا لزم، ثم فرض الرهن واشتراط الزيادة، فلا يكون الثمن مجهولاً حينئذٍ؛ فقد لزم البيع، ولا علاقة للزيادة بالثمن. (3) ر. المختصر: (2/ 218).

الدين القديم، وهذا قرض جر منفعة، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وليس ذلك بمثابة ما لو شرط في نفس (1) الإقراض رهناً بذلك القرض بعينه؛ فإن الرهن في عين القرض لا يعد منفعة، وقد ذكرنا ذلك في باب القرض مفصلاً، وإنما ظهر جر المنفعة في هذه الصورة من قِبل شرط الرهن في غير القرض الجديد. ومن دقيق الكلام في هذا الفن أن المقرض لو قال: أقرضتك ألفاً، على أن ترهنني به وبالألف القديم. فهذا على التحقيق شرطٌ فاسد، مفسد لهذا القرض. ولو قال المستقرض: أقرضني ألفاً على أن أرهنك بالألف القديم، فجرى الشرط من المستقرض لا من المقرض، فهذا فيه تردد. والظاهر أن الشرط فاسد مفسد، كما لو صدر من المقرض. وقال بعض الأصحاب: الشرط المفسد هو ما يصدر من المقرض؛ فإن اللفظ يُرعَى في جانبه، والشرط لفظ يتعلق بالشق الذي يعتبر فيه اللفظ. فهذا يبتني على ما تقدم ذكره، من أنا هل نعتبر لفظ القبول في جانب المستقرض؟ فإن اعتبرنا في جانبه لفظا كما تمهد في باب القرض، فالشرط الصادر منه كالشرط الصادر من المقرض. وإن قلنا: لا يعتبر في جانب المستقرض لفظ، فالمسألة فيها احتمال، كما تقدّم، من قِبَل أن المستقرض إذا تلفّظ، ابتنى على لفظه لفظُ المقرض، ونزل شرط المستقرض منزلة شرط المقرض. فإذا تبين فساد القرض في الصورة التي ذكرناها، فإذا سلم (2) المقرض ألفاً على الفساد إلى المستقرض، ثم رهن المستقرضُ شيئاًً بالألف القديم والألف الجديد، فنقول: إن كان الألف الجديد موجوداً بعدُ؛ فالرهن به فاسد؛ فإنها (3) أعيان مقرَّة على ملك المقرض، والرهن بالأعيان فاسد، فإذا جمع بين الألف القديم والجديد في الرهن، وأبطلنا الرهن في الألف الموجود، فهل يبطل في القديم؟ فعلى قولي تفريق

_ (1) في (ت 2): تعيين. (2) في (ت 2): أسلم. (3) أي الألف.

الصفقة. وكل صورة جرى فيها تفريق الصفقة في الرهن، فهي مرتبة على نظير منها في البيع، والرهن أولى بالصحة؛ إذ ليس فيه عوض يصير مجهولاً، ويفسد العقد بسبب جهالته، والمعنى المعتمد في إفسادِ الصفقة إذا افترقت جهالةُ العوض، وهذا مفقود في أصل الرهن. ثم إذا أفسدنا الرهن في الألف القديم، فلا كلام. وإن صححنا الرهن فيه، فقد قال الأئمة: الرهن يتوثق بالألف القديم، ولا يوزّع الرهن على الألفين المذكورين، وقد تقدم في تفريق الصفقة في البيع أن الأصح إذا بطل البيع في بعض مضمون العقد أن يسقط قسطُه من الثمن، وهذا المعنى غير معتبر في الرهن، والدليل عليه أن الرهن لو صح بالألفين، ثم أدّى أحدَهما، فلا ينفك من الرهن شيء أصلاً، وكان الرهن على حقيقته في الألف الباقي، حتى كأنه لم يرهن ذلك الرهن إلا به. وإذا كان كذلك، فلا معنى للتقسيط في موضوع الرهن. وهذا بيّن لا خفاء به لمن تأمل. ولو أقرضه ألفاً على الفساد، فتلف الألف في يده، فقد صار ديناً الآن عليه، فيصح الرهن بالألفين جميعاً، ولا إشكال. 3770 - ومما يتعلق بتحقيق الفصل أنه لو شرط الرهن في الألف القديم مع القرض (1 الجديد كما صورناه 1)، وحكمنا بفساد الشرط، وأفسدنا بسبب فساده القرضَ، فلو رهن بالألف القديم، فقد قال القاضي: إن كان يعتقد أن الرهن به واجب، وأنه وافٍ بواجب [التزمه بالشرط] (2)، فالرهن مع هذا الاعتقاد لا يصح. واحتج عليه بأنه اعتقده واجباً، ولم يكن كما اعتقده. ولو لزم الرهن، لوقع واجباً، على معنى أنه لا دفع له بعد انبرامه بالتسليم. وشبه هذا بما لو أدى ألفاً إلى إنسان على ظن أنه دين عليه، ثم تبين أنه لم يكن عليه دين، فالمؤدى مسترد، والأداء غير معتد به (3).

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) في (ت 2): الذمة الشرط، وفي الأصل: التزمه الشرط. (3) ر. فتح العزيز: 10/ 53.

وهذا الذي ذكره غير صحيح. وقد صرح شيخي وغيره بتصحيح الرهن، إذا كان عرياً عند الإنشاء عن شرط يفسده. 3771 - ولو شرط بيعاً في بيع، وأفسدنا البيع الناجز لمكان الشرط الفاسد، ثم أنشأ المشروطُ عليه ذلك البيعَ المشروطَ الموعودَ، على ظن أنه يجب عليه الوفاء بذلك البيع، فقياس ما قاله القاضي أن البيع على اعتقاد الوجوب فاسد مردود. وكان شيخي يقطع بصحة البيع كيف فرض الاعتقاد، إذا كان خلياً عند الجريان عما يفسده. وهذا هو الذي لا يسوغ غيره. وقد يخرّج عليه أنه لو باع شيئاًً ظنه خمراً فإذا هو خل، فقياسه في ذلك قد يغمض. وقياسُ شيخي الصّحة. 3772 - ولو أسلفه ألفاً على أن يرهن عنده به رهن، وشرط المرتهن لنفسه منافع الرهن، فهذا جر منفعة على الحقيقة، والقرض يفسد بسببه. وإذا فسد القرض، فسد الرهن، لا محالة. ولو شرط البائع رهناً بالثمن، وشرط أن تكون منافع الرهن له، فالرهن يفسد لمزيد المنفعة التي شرطها، والثمن يصير مجهولاً به لا محالة. وقد حكى المزني هذه المسألة وحكى فيها أن البائع بالخيارِ، ثم أخذ يعترض ويقول: أصل الشافعي أن البيع إذا فسد، فلا معنى للخيار فيه (1) َ، وظن أن الشافعي يرى أن الشرط الفاسد لو حذف يصح العقد، وهذا ظن سوء (2). والجواب المبتوت أن العقد فاسد، ولا معنى للخيار فيه بعد الحكم بالفساد على وجهٍ أصلاً. ولكن المزني غلط في النقلِ (3 ثم أخذ يعترض، وإنما الخلل في النقل 3).

_ (1) ر. المختصر: 2/ 218. (2) ر. فتح العزيز: 10/ 45. لتجد أنه يقول: " والأصحاب خطّؤوا المزني في نقله وحسبانه " ونص عبارة المزني في المختصر: "قلت أنا: أصل قول الشافعي أن كل بيع فاسد بشرطٍ وغيره أنه لا يجوز وإن أجيز حتى يبتدأ بما يجوز" (2/ 218). (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

ثم أخل المزني بنظم الكلام من وجه آخر، فصوّر رهناً مشروطاًً في بيع، وقد شرط في الرهن أن يتعدى إلى الزوائد، وفرّع على أن ذلك فاسد، ثم قال: إذا وقع البيع على هذا الوجه، فرع الرهن، والبائع بالخيار. قال أصحابنا: إنما قال الشافعي في هذه المسألة: فُسخ البيع، أو البائع بالخيار، فردد قوله في فساد البيع، ووقع الفسخ عبارة عن الفساد؛ فذكر المزني فيما نقله: فَسْخَ الرهن والبائع بالخيار، وهذا كلام لا نظم له. وإنما أخل به المزني. ثم اختيار المزني مهما (1) فسد الرهن المشروط في البيع أن البيع لا يفسد. وهذا غريب من اختياره؛ فإن القياس فساد البيع إذا فسد الرهن المشروط. وهذا منتهى الغرض في ذلك. فصل قال: " ولو دفع إليه حُقاً، وقال: رهنتكه بما فيه ... إلى آخره " (2). 3773 - مضمون الفصل يتضح بأربع مسائل: إحداها- أن الراهن لو قال: رهنتك ما في هذا الحُق، أو ما في هذه الخريطة، فإن كانا عالمين بما فيهما، وكانا قد رأياه، فلا شك في صحة الرهن. وإن لم تسبق رؤيةٌ فيهما، وقع الكلام في رهن ما لم يُر. فإن جهلا وصف ما فيهما، مع انتفاء الرؤية، فقد نرى القطع بفساد الرهن. وذلك مذكور على الاستقصاء في تفريع بيع الغائب، فلا حاجة إلى إعادته. 3774 - المسألة الثانية: أن يقول: رهنتك الحُقَّ بما فيه، أو الخريطةَ بما فيها، فإن كان ما فيهما معلوماً مرئياً، صح الرهن في الحق والخريطة. (4 وإن كان الرهن لا يصح فيهما -كما تقدم-[فالنظر] (3) في الحق والخريطة 4).

_ (1) "مهما" بمعنى (إذا). (2) ر. المختصر: 2/ 218. (3) في الأصل: ففي النظر، والمثبت تقدير منا. حيث جاءت فيما سقط من (ت 2). (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

فإن كانا نفيسين بحيث يجرّد القصد إلى شرائهما [أو] (1) رهنهما، فنقول: فسد الرهن [فيما] (2) فيهما، وفيهما [قولا] (3) تفريق الصفقة، وإن كان الحُقُّ بحيث يُقصد، ولم تكن الخريطة بحيث تقصد. أما الحق. ففيه قولا تفريق الصفقة. وأما الخريطة، ففيها طريقان: من أصحابنا من قطع بفساد الرهن فيها؛ فإنها بالإضافة إلى ما فيها غير مقصود؛ فإذا لم يصح الرهن في حشوها بسببٍ، لم يصح في الخريطة أيضاًً؛ فإنها ما قُصدت، وإنما قصد ما فيها، فإذا لم يصح العقد على ما فيها فكأن (4) لا مقصود. وهذا فقيه لطيف، وهو كثير الجريان في المعاملات. ومعناه تنزيل العقد على موجب العرف والاعتياد، من غير اتباع صيغة اللفظِ. ومن أصحابنا من قال: إذا كانت الخريطة متمولة، فالرهن إن لم يصح في حشوها، فيصح فيها؛ لأن الرهن أضيف إلى الخريطة وما فيها. كما قدمناه في الحُق. وإن لم تكن الخريطة متمولة، فنقطع بفساد الرهن فيهما لا محالة. 3775 - المسألة الثالثة: أن يقول: رهنتك الحُق دون ما فيه، فيصح الرهن فيه دون ما فيه؛ فإنه خصص عقد الرهن بالحُق، فلم يتعدّه إلى ما فيه. ولا فرق بين أن يكون الحُق حقيراً أو خطيراً إذا كان له أدنى قيمة، بحيث يتمول. وقد سبق تفصيل التمول في آخر كتاب البيع؛ فيصح الرهن كما ذكرناه. 3776 - ولو أطلق رهنَ الحُق والخريطة، ولم يتعرض لذكر ما فيهما بنفي ولا إثبات، وهذه هي: المسألة الرابعة: فنقول: إن كان الظرف بحيث يقصد في نفسه، فذكر الظرفِ مطلقاً يقتضي نزولَ الرهن عليه، دون ما في جوفه. وتعليله بيِّن. وإن كان ذلك الظرف حقيراً لا يقصد في نفسه مفرداً أصلاً، ولكنه مما يتمول، فإذا جرى ذكرُ الظرف الذي وصفناه، ولم يجر

_ (1) في الأصل: ورهنهما. (2) ساقطة من الأصل، والمثبت من (ت 2). (3) سقطت من الأصل. (4) في (ت 2): وكان.

تعرض لما فيه نفياً وإثباتاً، فلأصحابنا فيه وجهان: أصحهما - أن الرهن ينزل على الظرف لا غير؛ فإنه قابل للعقد، واللفظ لا يشعر في وضعه إلا به، فأشبه ما لو كان خطيراً. والوجه الثاني - أن العقد نازل على الخريطة بما فيها؛ فإنها إذا لم تكن مقصودة، فذكرها في العرف يُعنَى به الخريطةَ لما (1) فيها، من هذا الوجه، وهو من باب تنزيل العقد على موجب العرف، من غير احتفالٍ بصيغة، والعقد منزل على قرينة الحال، وموجب التفاهم العرفي. وكل ما ذكرناه في الرهن، فلا شك أنه لو صوّر في البيع، لكان الجواب على نحو ما ذكرنا، حرفاً حرفاً. فلا إشكال في الفصل. وإنما المقصود منه تصوير ظرفِ مالٍ، ولكنه لا يقصد مع كونه مالاً، إذا كان في جوفه مقصود. وقد فصلنا الغرض في تفصيل المسائل على ما ينبغي. * * *

_ (1) في (ت 2): بما.

باب الرهن غير مضمون

بَابُ الرَّهْن غَير مَضْمُوْنٍ 3777 - ذكر الشافعي قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يغلَق الرهنُ من صاحبه، له غنمه، وعليه غرمه " (1) واختلفوا في قوله " لا يغلَق الرهن " قيل: معناه لا يملكه المرتهن بدينه، ولا يتعلق (2) الملك على الراهن. وقيل: معناه لا يغلَق على الراهن الانتفاع به. وقيل: معناه لا يسقط الدين بهلاكه. وقوله: " الرهن من صاحبه " أي من ضمان صاحبه. مذهب الشافعي أن الرهن أمانة في يد المرتهن، فإذا تلف في يده أو في يد العدل، كان أمانة. والدين لا يسقط منه شيءٌ عنده. وقال أبو حنيفة (3): هو مضمون بالدين على تفصيل له معروف. ولو شرط الراهن كون الرهن مضموناً على المرتهن، فالشرط فاسد؛ لأنه مخالف لمضمون الرهن، ثم يفسد الرهن بفساد الشرط، ولكنه مع فساده يكون أمانة في يد المرتهن. وهذا أصلٌ مطرد، فكل ما يكون أمانة في وضعه لو صح لا ينقلب مضموناً ولا يخرج عن كونه أمانةً بأن يفسد. واستثنى بعض الأغبياء مسألة عن هذه القاعدة، وهي إذا رهن شيئاًً عنده بدين مؤجَّل، وشرط أنه إن لم يفك الرهن في شهر، فهو مبيع عند المرتهن وراء الشهر (4)،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 119. والحديث رواه ابن حبان في صحيحه: 7/ 570، ح 5904، والدارقطني: 3/ 32، والحاكم في المستدرك: 2/ 51، والبيهقي في السنن الكبرى: 6/ 39 وانظر التلخيص (3/ 83 ح 1243). (2) كذا في النسختين، ولعلها: ولا يغلق. (3) ر. مختصر اختلات العلماء 4/ 308 مسألة: 2024، رؤوس المسائل: 303 مسألة: 191، البدائع: 6/ 140. (4) في (ت 2): وراء الشرط.

فهذا الشرط فاسد، ولكن إذا مضى الشهر، فيصير بعد مضي الشهر مضموناً، فهذا رهن انقلب مضموناًَ، بحكم شرط فاسد. وهذا يحتاج إلى فضل بيان. فنقول: إن تلف في يده قبل مضي الشهر، فلا شكَّ أنه يكون أمانة؛ فإنه لم يدخل أوانُ البيع بعدُ، وحكم الأمانة ثابت. فإذا دخل وقتُ البيع المشروط على الفساد، نظر: فإن كان يمسكه المرتهن على حكم البيع، فهو مضمون عليه، وهو خارج عن حقيقة الرهن، سواء قُدِّر على الصحة أو على الفساد. وإن علم أن شرط البيع فاسد، فكان يُمسكه على موجَب الرهن، وقصد ذلك ونواه، فالمذهب أن الضمان يجب؛ فإن الرهن فاسداً (1) قُدّرَ أو صحيحاً [ممدودٌ] (2) إلى شهر، فلا رهن بعد انقضائه، ولا يد إلا عن جهة البيع الفاسد. وهذا ظاهرٌ، لا إشكال فيه. وأبعد بعضُ الأصحاب، فنفى الضمان (3) إذا لم يقصد المرتهنُ إمساكه وراء الشهر عن جهة البيع، وقصر الضّمان فيه إذا كان يقصد الإمساك على اعتقاد البيع. وهذا رديء لا أصل له، لما ذكرناه. ووجه الغلط في الاستثناء أن المرهون وراء الشهر [خارج] (4) عن كونه مرهوناً بحكم اللفظ، فما (5) استثنى هذا القائلُ مرهوناً إذن، فكان ما جاء به لغواً. وقد نجزت مسائل الكتاب. ونحن نرسم الآن فروعاً تجري مجرى الأصول، وقد يقع فيها مسائل متبدّدة غير منتظمة، والغرض الإتيان بجميعها.

_ (1) في (ت 2): فاسد قدراً صحيحاً ممدودٌ. (2) في الأصل ممدوداً. وهو وهم من الناسخ. فهي خبر فإن .... (3) في (ت 2): فنفى الضمان ذلك إذا لم يقصد. (4) في الأصل: خارجاً. (5) " فما ": (ما) هنا (نافية)، والمعنى: أن الذي استثناه هذا القائل لي رهناً، ولذا وصفه بالغلط حينما قال: إن الرهن غيرُ مضمون إلا في هذه الحالة.

فرع: 3778 - قال العراقيون المودَع إذا ادعى رد الوديعة، على مالكها، فالقول قوله مع يمينه. ولو استأجر الإنسان شيئاً، ثم استوفى حقه منه لما قبضه، فهو أمانة في يده، ولو ادّعى أنه رده على المالك المكري، وأنكر المالك، فالقول قول المالك، فإنه قبض المستأجر لحق نفسه، لا لغرض المالك، ولا يُصدّق في دعوى الرد، بخلاف المودَع. قالوا: كذلك إذا ادّعى المرتهن ردّ العين المرهونة على الراهن، وأنكر الراهن، فالقول قول الراهن؛ لما ذكروه من أن المرتهن تثبت يده لغرضه، فلا يُقبل منه يمينه برد ما قبضه. ولو ادعى الوكيل الذي كان قبض من موكله عيناً ليبيعها أنه ردها على الموكل، قالوا: إن كان الوكيل يتصرف من غير جُعلٍ، فقوله مقبول، كما يُقبل قولُ المودَع؛ فإنه لا غرض له في قبضهِ ويدِه. وإن كان يتصرف بجُعلٍ، فادّعى ردَّ العين، ففي المسألة وجهان. وكذلك إذا ادّعى المقارض ردّ شيء من مال القراض على المالك، ففي قبول قوله وجهان: أحدهما - لا يقبل قوله؛ لما له في المال الذي كان تحت يده من الغرض، فأشبه المستأجر، والمرتهن. والوجه الثاني - يقبل قوله؛ لأنه لا غرض له في العين المقبوضة، وإنما غرضه في مالٍ قدر له بسبب العين التي في يده، وحق المستأجر والمرتهن في عين ما قبضه أولا ثم ادعى ردَّه. هذا ترتيب أئمة العراق. وهو حسن بالغ. وأما المراوزة، فإنهم قطعوا أقوالهم بأن كلَّ مؤتمن لو تلفت العين في يده من غير تقصيره، لم يلزمه الضّمان، فإذا ادعى رده على مالكه المطلق، فهو مصدق فيه مع يمينه، ولم يفصلوا بين الوديعة والرهن والإجارة. وهذا قياسٌ مُطَّرد، وهو [أوقع] (1) في طريق المعنى مما ذكره العراقيون. وما أشاروا إليه من كون يد المرتهن

_ (1) الأصل: واقع.

والمستأجر عائدة إلى منافعها، لا معتبر به؛ إذ لو جاز التعويل عليه، للزم أن يكون ما ذكروه سبباً في إيجاب الضمان في الأصل على المرتهن والمستأجر لو تلفت العين في أيديهما، كما يجب الضمان على المستعير والمستأجَر (1)، فإذا لم يكن كذلك؛ فلا معوَّل على ما ذكروه وليت شعري ما قولهم لو ادّعى المرتهن والمستأجر تلف العين في أيديهما، هل يصدقان عندهم أم لا؟ والقياس أن ينزل دعوى التَّلف منزلة دعوى الرد في كل تفصيل. فرع: 3779 - إذا رهن الغاصب العينَ المغصوبة عند إنسانٍ، وكان المرتهن يحسَبه مالكاً لتلك العين. فإذا تلفت في يد المرتهن، وجاء المغصوب منه مطالباً، قالوا: هل له مطالبة المرتهن أم لا؟ على وجهين: أحدهما - لا يطالبه؛ فإن يده يدُ أمانةٍ على الجملة، ولم يوجد من جهته عدوان؛ فلا وجه لمطالبته. والوجه الثاني - أنه يطالَبُ؛ لأن العين المغصوبة تلفت في يده، ولم يوجد من جهة مالكها ائتمان فيها. ثم فرعوا على الوجهين. قالوا: إن قلنا: لا يطالب المرتهن، فلا كلام. وإن قلنا: إنه مطالبٌ، فهل يستقر الضمان عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يستقر؛ فإن التلف حصل في يده، فأشبه ما لو أتلفه بنفسه، والتلف والإتلاف في الأعيان المغصوبة بمثابة واحدة، فينبغي أن يصير التلف منتهى الضمان في يد من وجد التلف في يده، وهذا معنى القرار. ثم من أثر الحكمِ بالقرار أنه إذا غرَّم المالكُ المرتهنَ، لم (2) يرجع على الغاصب، فإذا غرَّم الغاصبَ رجع [هو] (3) على المرتهن. وقد طردوا ما ذكروه من الترتيب في يد المستأجر من الغاصب، ويد المودَع من جهة الغاصب، وكل ذلك وهم (4) يحسبون أن الغاصب مالك العين (5).

_ (1) المراد الأجير المشترك، وتكون المستأجَر (بفتح الجيم). (وانظر روضة الطالبين: 4/ 97). (2) في الأصل كما في (ت 2): ولم. ولا محل للواو فيما قدرنا. والله أعلم. (3) مزيدة من (ت 2). (4) الضمير يعود على المستأجر، والمودَع، والمرتهن. (5) أما إذا علم أن هذا مغصوب، فاستأجره أو ارتهنه ... ، فهو ضامن ضمان الغصوب قطعاً.

وطريق العراقيين مخالف لطريق المراوزة في هذه القاعدة؛ فإن المراوزة يقطعون بتوجيه المطالبة على المرتهن والمستأجر والمودَع من جهة الغاصب على جهلٍ بحقيقة الحال في هذه المنازل، ثم يقطعون بأن الضمان مستقر على هؤلاء أصلاً. هذا بيان الطرق فيما ذكرنا. فرع: 3780 - قد ذكرنا صحة رهن المشاع عندنا، فلو كانت دار مشتركة بين شريكين، فلو رهن أحدُهما نصيبه شائعاً من بيتٍ معين من الدار المشتركة، فقد ذكر العراقيون وجهين في صحة الرهن: أصحهما - الصحة، جرياناً على القاعدة الممهَّدة. والثاني - لا يصح؛ فإنا لو قدرنا الاستقسام من الشريكِ، فربما يتفق وقوعُ هذا البيت كلِّه في نصيب الشريك، الذي لم يرهن، وهذا يُفضي -لو صح- إلى بطلان الرهن. وهذه مسألة لطيفة. ثم لو صححنا الرهن على الأصح، ففي كيفية إجراء القسمة تردّدٌ - إن كنا نرى إجراءها في المرهون؛ فإنا وإن جوزنا القسمة في المرهون، فليس فيها إبطال حق المرتهن بالكلية، ولكن يتعين حقه بعد أن كان مشاعاً. ولو أجرينا القسمة في الصورة التي ذكرناها، فقد يؤدي إلى إخراج البيت بالكلية عن الرّهن، وفيه إبطال حق المرتهن، فليتأمل الناظر في القسمة إن وقعت وتضمنت خروج البيت عن ملك الراهن بالكلية، أيتجه أن يقال: يغرَم الراهن قيمة الشقص المرهون، ويضعها رهناً عند المرتهن؟ أم كيف السبيل فيه؟ ووجه التردد أنه لم يأت من قبل الراهن شيء، ولم يجز (1) الشريكُ المستقسم، فقد يحتمل أن يجعل هذا بمثابة تلف المرهون في يد المرتهن، ولكن قد اعتاض عنه الراهن؛ فإن ملكه إن زال عن قسطه من البيت، فقد وقع له في القسمة خلوص شيء آخر في قُطرٍ آخر، فالوجه إذن تغريمه القيمة.

_ (1) كذا في الأصل، مع أن النقط فيها أندر من النادر، وفي (ت 2) بهذا الرسم أيضاًً وبدون نقط مع أنها تلتزم النقط دائماً. ولعلها: "لم يَجُر" من الجور، أو "لم يَجْنِ"، فالمعنى المفهوم من السياق: "أن خروج الرهن من يد المرتهن لم يأتِ بفعلٍ من الراهن، ولا بجناية من الشريك المستقسم، فأشبه ما لو كان بآفة سماوية".

فرع: 3781 - إذا اشترى رجل عبداً بألف، فجاء إنسان وتبرع بأداء الدين، وكان ما أداه من جنس الثمن، فيصح، وتبرأ ذمة المشتري، ولا يرجع المتبرِّع عليه بما أداه، وإن أبرأ ذمته؛ فإنه لم يؤدِّ بإذنه، فلو خرج المبيع مستحقاً، وبان بطلان العقد، فالبائع يرد ما قبض على المتبرع، ولا يرده على المشتري؛ فإن المتبرع إنما أداه ثمناً، فإذا لم يكن (1)، ردَّ عليه ما سلمه إليه. ولو استمر العقد على الصحة، ولكن وجد المشتري بالمبيع عيباً، فرده على البائع، فالبائع يرد ثمنه. واختلف أئمتنا: فمنهم من قال: يرده على المشتري؛ فإن البيع لم يتبين بطلانُه، وبقي الثمن على حقيقته، فلا سبيل للمتبرع إلى الرجوع فيما تبرع به. وليس ذلك كصور الاستحقاق. ومن أصحابنا من قال: يرد الثمن على المتبرع؛ فإنه ما جرى بينه وبين المشتري ما يتضمن تمليك المشتري من طريق التضمين. وإنما طلب المتبرع أن يبرىء ذمة المشتري من غير تقدير تمليك له، حتى يقال دخل المؤدَّى في ملك المشتري في ألطف زمان، ثم انتقل من ملكه، ودخل ملك البائع، فإذا لم يكن [ذلك] (2) ممكناً، فالرجوع إلى المشتري بعيد مع أنه لم يخرج من ملكه شيء، وإنما يعود إلى الملك ما يخرج منه. ولو جاء المتبرع وأدّى إلى البائع عَرْضاً عوضاً عن الثمن الذي في ذمة المشتري، فالمذهب أن ذلك جائز، كما لو تبرع بأداء جنس الثمن. ومن أصحابنا من منع ذلك من المتبرع؛ فإن بذلَ العوض يستدعي دخول المعوَّض في ملك باذل العوض، وهذا غير متصور في حق المتبرع. والأصح الوجه الأول، لما ذكرناه من نزول تبرع المتبرع منزلة الفداء، وذلك يجري في الجنس وغير الجنس.

_ (1) أي إذا لم يكن ما تبرع به ثمناً. (2) مزيدة من (ت 2).

ولو نكح الرجل امرأة وأصدقها شيئاًً، فتبرع أجنبي وأدّى ذلك الصدّاقَ عن الزوج من غير إذنه، ثم الزوج طلقها قبل المسيس، فنصف ما أدّاه المتبرع يرجع إلى الزوج أم يرجع إلى المتبرع، فعلى الوجهين؟ المذكورين في صورة الرد بالعيب. فرع: 3782 - إذا استحفظ الرهنَ عدلان، فهل لأحدهما أن ينفرد بالحفظ؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما - أنه لا ينفرد؛ لأن ظاهر التفويض إلى شخصين يقتضي أن يشتركا فيه، ويجمعا نظريهما، كما نقول في الوصيين. والثاني - يجوز لكل واحد أن ينفرد بالحفظ؛ فإن الاشتراك في عينٍ بحُكم العرف يقتضي تسليط كل واحدٍ على الحفظ. وقد ذكرت هذا فيما تقدم. ولكن رددت احتمالات، فقد وجدناها منصوصة للأئمة. فإن كان الشيء مما ينقسم، وقد جوزنا الانفراد بالحفظ، فهل يجوز أن يقسم بينهما حتى ينفرد كل واحد بحفظ حصته؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن ذلك جائز، كما يجوز على الوجه الذي نفرع عليه أن ينفرد كل واحد بحفظ الكل، إذا لم تكن منازعة. والثاني - لا تجوز القسمة؛ فإن الانفراد قد تلقيناه من العرف، أما القسمة، فليس يشعر بها العرف، ولا يتضمنها الإذن. فرع: 3783 - إذا رهن رجل من رجل شيئاًً، ثم سلمه إليه، وقال: قصدت بالتسليم إليك إيداعه عندك ولم أقصد إتمام الرهن وإلزامه بالقبض، فهل يصدق الراهن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يصدق؛ فإنه المسلَّم وإليه القصد والنية. ولا خلاف أنه لو قال عند التسليم: خذه وديعة، ولست أقصد إلزام الرهن، فإنه يقع وديعة، والرهن على جوازه، وكذلك إذا نوى وقصد. والوجه الثاني - أن القول قول المرتهن؛ فإن الغالب في العرف أن من رهن، فإنه لا يسلّم المرهون إلا من جهة الرهن، وإن هو لم يرد ذلك، فالغالب أنه يودع المرهونَ عند غير المرتهن، فصدقنا المرتهن لظاهر الحال. وللفرع التفاتٌ على أن اليد هل تدل على الرهن؟

فرع: 3784 - قد ذكرنا أن يد العدل تنوب عن يد الراهن من وجه، وعن يد المرتهن من وجهٍ، وليس للمرتهن أن يأخذ الرهن من يد العدل، فلو أنه اغتصبه وأخذه من يده، فقد صار متعدتاً، ضامناً بما جرى منه، فلو جاء ورده إلى العدل، فالذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب أن المرتهن يبرأ بما فعل عن ضمان الغصب؛ لأن يد العدل يدُ المالك؛ فإذا رد ما أخذه إلى نائب المالك، حكمنا ببراءته عن الضمان. ومن أصحابنا من قال: لا يبرأ عن الضمان ما لم يرد المأخوذ إلى المالك. ثم (1) يأذن للعدل إذناً جديداً في قبض الرهن من المرتهن؛ وذلك أن يد العدل قد [زالت] (2) بطارىء العدوان، فإعادة اليد أمر جديد، فلا بد فيه من إذن جديدٍ، والأصح الأول. وإن قلنا بالثاني، فليس للعدل أن يقبضه منه إذا جاء به؛ فإنا نزعم أن التعديل الأول قد انقطع وزال، فلا بد من تجديد. وما ذكرناه في العدل، فلا شكّ في جريانه في المودَع، وسيأتي شرح ذلك، وتفصيلُ القول في أنَّ المودَع هل يخاصِم من غصب الوديعة حتى يستردها - في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل. فرع: 3785 - إذا رهن عند إنسانٍ أرضاً، وشرط للمرتهن أن يغرسها لنفسه بعد مضي شهر، فيدُه قبل انقضاء - تلك المدة يد أمانةٍ، وإذا انقضت المدة، وأخذ في الانتفاع، صارت يده يدَ عاريةٍ؛ من جهة أنه منتفع بالإذن، من غير استحقاقٍ. وهذا معنى المستعير. فلو أنه غرس قبل المدة المضروبة، فقد تعدى موجَب الإذن؛ وغراسه لهذا السَّبب مقلوع، ولو أنه غرس في أوان الإذن في الغراس، فهو مستعير غارس، فلا يُقلع غراسه مجاناً، كما سيأتي ذلك مشروحاً في كتاب العارية. ولو قال الراهن: رهنتك الأرضَ فإذا مضى شهرٌ، فهي مبيعة منك. فإذا انقضى الشهر، فغرسه، فلا شك أن الأرض ليست (3) مبيعةً منه، فإذا غرسها نُظر: فإن كان

_ (1) في (ت 2): أو ما لم يأذن للعدل إذناً جديداً. (2) في الأصل: تزال، و (ت 2): زال. والمثبت تصرّفٌ من المحقق. (3) في (ت 2): غير مبيعة.

يعتقد أنها مبيعة، وأن غرسه واقع في ملكه، فقد نقل أئمة المذهب عن الشافعي في هذه الصورة أنه قال: "هو في غراسه كالمستعير إذا غرس على وفق الإذن، فإنا لا نقلع غراسه مجاناً". وهذا حسن منقاس لا شكّ؛ فإن ما جرى [من] (1) صورة البيع، لا ينحط عن الإذن في الغراس. فأما إذا كان عالماً بفساد البيع، وأقدم على الغراس، مع العلم بحقيقة الحال، فقد نُقل عن الشافعي أنه قال: "غراسه مقلوع". فإن قيل: إن لم يصح البيع، فهلا قيل: ما صدر من الراهن إذنٌ في الغراس؟ قلنا: لم يتعرض الراهن لتفصيل التصرفات، وإنما ذكر بيعاً، فإن صح، حكم به، وإن فسد وجرى غرس على جهل، يعذر الغارس، وكان كالمستعير. وَإن غرس عن علم، فلا عذر. وهذا على حاله غير خالٍ عن ضرب من الاحتمال. فرع: 3786 - من مات وخلف تركة والديون على قدرها، أو أكثر، أو أقل، فالذي أطلقه علماء الشريعة أن الديون تتعلق بأعيان التركة، وتصير التركة موثقة بها. ثم ذكر العراقيون قولين في أن تصرف الوارث هل ينفذ في التركة قبل أداء الدين: أحدهما - أنه لا ينفذ، وهو ظاهر ما اختاره المراوزة. والقول الثاني - إنّ تصرفه نافذ، ونزلوا تعلق الدين بالتركة منزلة تعلق الأرش برقبة العبد الجاني، وقد مضى في بيع الجاني قولان، والتفريع عليهما في كتاب البيع، وإنما شبهوا هذا بتعلق الأرش؛ من قِبل أن الأرش يتعلق برقبة الجاني من غير قصدٍ من المالك، كذلك الدين يتعلق بالتركة من غير إيثار واختيارٍ من المتوفَّى ومن الورثة. وهذا الذي ذكروه تشبيه حسن من طريق الظاهر. ولكن الذي يقتضيه الأصل عندي أن تعلق الدين بالتركة يضاهي طريق تعلق الرهون، والدليل عليه أن هذا مما حكم الشارع به نظراً للمتوفَّى، ولأجل تحقيق ذلك الحكم بحلول الآجال، مع ما فيها من التفاوت في المالية. فإذا كان سبب تعلق الديون

_ (1) في الأصل: في.

بالتركة ما وصفناه، فلا يليق بهذه المصلحة تسليطُ الوارث على التصرف، وليس كالأرش؛ فإنه أمر جزئي في حالٍ نادر، والديون في التركات عامة الكَوْن والوقوع. ثم فرع العراقيون، وقالوا: إن رددنا بيع الوارث، فلا كلام. وإن نفذناه، نظر: فإن أدّى الدينَ من ماله، جرى البيع على نفاذه، وإن امتنع، نقضنا بيعه والتفريع على الجملة يقع على حسب تفريع بيع السيد للعبد الجاني. فإن قلنا: لا ينفذ بيع الوارث، لمكان الدين، لم يفصل بين الدين المستغرق وبين الزائد وبين الناقص. هذا ظاهر المذهب. وذكر بعض أصحابنا وجهاًً أن الدين إن كان أقلَّ من التركة، لم يمتنع به التصرف على الوارث، وينفذ التصرف إلى أن لا يبقى من التركة إلا كِفَاء الدين. [وسنعود إلى هذا] (1) في كتاب التفليس، إن شاء الله عز وجل على قياس الديون في الرهون. 3787 - وإن لم يكن في التركة دين، وكان البائع باع عبداً واستوفى ثمنه وأتلفه، ثم مات، وخلف تركة، ولم يخلف ديناً، فتصرف الوارث في التركة بالبيع، ثم وجد مشتري العبد به عيباً، فردّه في التركة فيصير الثمن ديناً، وهل يتبع تصرف الورثة في التركة بالنقض، لمكان الدين المنعكس على التركة؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، مفرَّعين على أن الدين الناجز في التركة يمنع التصرف: أحدهما - أنا نتبين فساد تصرفه في الأصل، ونجعل ما لحق من الدين بسبب الرد بمثابة ما يكون موجوداً حالة الإقدام على التصرف؛ فإن السبب الموجب لذلك كان مقارناً، كمَا لو كان الدين مقارناً. ثم إن قلنا: يتبين فساد التصرف، فلا كلام. وإن قلنا: لا يستند (2)، والبيع قد انقضى على نعت اللزوم، فإن أدّى الوارث الثمن المنعكس على التركة، فذاك، وإن لم يؤده، فهل يفسخ تصرفه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نفسخه؛ فإنا لو لم نفعل ذلك، أدى إلى أن لا يجد من رد بالعيب مرجعاً، ولا سبيل إلى تضييع حقه.

_ (1) في الأصل: وسنعيد هذا. (2) أي لا يبطل (بالاستناد).

والوجه الثاني - أنا لا نفسخ [ذلك] (1) التصرف؛ فإنه كان انتهى إلى صفة اللزوم، فلا وجه لمنع لزومه على الوجه الذي نفرع عليه، ولو كنا نُسند الأمر إلى ما سبق، لأسندنا تبيّن الفساد إلى التصرّف، فعلى هذا إذاً لا وجه إلا مطالبةُ المتصرف في التركة، كما يطالب بدينه المختص به. ورُبَّ دينٍ يلزم إنساناً، وإن لم يكن ملتزمَه في الابتداء، كما يلزم الضامن بسبب الضمان. 3788 - ولو خلف تركة ولا دين، فاقتسم التركة الورثةُ وتصرفوا فيها، ثم تردَّى متردٍّ في بئر كان احتفرها المتوفَّى في محل عدوان، فاقتضى الحالُ انعكاسَ الضمان على التركة، فهل يُتبع ما تقدم من التصرفات بالنقض؟ في المسألة وجهان مرتبان على التي نجزت الآن. وهذه الأخيرة أولى بأن لا تنقض التصرفات فيها إسناداً؛ فإن من مات وكان باع عبداً، فعهدة العقد قائم، فكأنه ترك على الورثة ذلك العبدَ بعهدته، ولا شك أن هذا أقرب من فرض تردِّي بهيمة في بئر بعد سنين، ثم التفريع في هذه المسألة على حسب التفريع في مسألة الرد بالعيب. والله أعلم بالصواب. [وإليه المرجع والمآب. انتهى كتاب الرهن] (2). * * *

_ (1) مزيدة من (ت 2). (2) زيادة من (ت 2).

كتاب التفليس

كتاب التفليس 3789 - التفليس والإفلاس في أصل اللسان، يعبر بهما عن الانتهاء إلى غاية الضُّر في المسكنة. وقول القائل: أفلس فلان، معناه انتهى بضرورته إلى فلوسه، ولم يبق له مال يُرمق. وقول القائل: أفلس، معناه وصل إلى الفلوس. وهو على مذهب العرب، إذا قالت: أسهل زيدٌ، وأحزن عمرو، إذا انتهيا إلى السهل والحَزْن. والتفليس اكتساب المفلس نعتَ إفلاسه. 3790 - والذي نصدِّر به الكتابَ أن من قلّ مالهُ، وكثرت ديونه، فللقاضي أن يحجر عليه، لأجل غرمائه إذا استدعَوْا ذلك منه، ويستفيدون باستدعاء الحجر قصرَ يده عن التصرفات في ماله؛ حتى تُصرفَ أموالُه إلى جهات ديونه، والأصل في جواز ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه حجر على معاذ بن جبل رضي الله عنه، وباع عليه ماله في ديونه" (1)، وعن عمر بن الخطاب أنه قال في أثناء الخطبة: "ألا إن الأُسَيْفعَ، أُسيْفِع جهينة، رضي من دِينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاجَّ، فادّان معرضاً (2)، فأصبح وقد [رين] (3) به، وإنّا بائعو ماله غداً، فمن كان له عليه حق فليحضر" (4).

_ (1) حديث الحجر على معاذ: قال في البدر المنير: " هذا الحديث صحيح " وأخرجه الدارقطني: 4/ 230، والحاكم: 2/ 58 - 3/ 273، والبيهقي: 6/ 48، ورواه أبو داود في المراسيل، وانظر التلخيص: 3/ 86 ح 1244. (2) مُعرضاً: أي متوسعاً في الدين، من أعرض في الشيء إذا توسع فيه. (3) في الأصل: دين. ورين به (بالراء): وقع فيما لا طاقة له به، ولا يستطيع الخروج منه (معجم). (4) حديث عمر في أُسيفع جهينة رواه مالك في الموطأ بسند منقطع: 2/ 770 الوصية، ووصله الدارقطني في العلل: 2/ 147، وانظر التلخيص: 3/ 91 ح 1250.

ثم إذا زادت ديون المرء على ماله، واستدعى الغرماءُ الحجرَ عليه أسعفهم، وضرب عليه حجراً. 3791 - فإن كانت ديونه على مقدار ماله من غير زيادة ولا نقصان، فهل يحجر عليه إذا استدعى [الغرماء] (1) الحجرَ؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يحجر عليه؛ فإن ماله كفاءٌ لديونه، وفيه وفاءٌ بجملتها، وإنما فائدة الحجر تضارب الغرماء بحصصهم، ورجوع كلٍّ إلى ما يقتضيه بسبب حقه. والوجه الثاني - أنه يحجر إذا استدعَوْا؛ فإن الديون إذا ساوت، فما أسرع ما تزيد، ولو لم يبتدر القاضي الحجْرَ، لجرَّ تركُ الحجر ضرراً على الغرماء، وهذا الوجه مختار عند الأئمة؛ فإنا إذا كنا نسعى في إيصال الغرماء إلى حصصٍ من ديونهم عند ضيق المال، فلنسْع في إيصالهم إلى كمال حقوقهم عند مساواة الديون المالَ. 3792 - ولو كانت الديون أقل من مقدار المال واستدعى الغرماءُ الحجرَ عليه، فقد ذكر أصحابنا في إسعافهم وجهين مرتبين على الوجهين في مساواة الديون المال، والصورة الأخيرة أولى بأن لا يجابوا إلى ملتمسهم. وأطلق الأئمة ذكرَ الخلاف في الديون القليلة، فلا بد من تفصيل ذلك؛ فإنا على قطعٍ نعلم أن من يرجع إلى ثروة طائلة؛ ونعمة ضخمة، وعليه دين قليل بالإضافة إلن يساره، فتجويز الحجر على من هذا وصفه محال، وقائله في حكم الخارق للإجماع، فالوجه في تقرير القول في ذلك ما ذكره صاحب التقريب، حيث قال: إذا انحط قدر الدين عن قدر المال، ولكنا كنا نرى الديون إلى ازدياد، والدّخل (2) إلى انحطاط، وظهر في ظننا إفضاءُ الأمر على قُربٍ إلى المساواة، ثم منها إلى الزيادة، فإذا كان كذلك، اتجه الخلاف في ضرب الحجر. والأمر على ما ذكره، فلا يسوغ تخيلُ غيره. 3793 - ثم ذكر أئمتنا في الدين القليل في التركة خلافاً أيضاً، في أنَّ الوارث هل

_ (1) في الأصل: الورثة. (2) (ت 2): والرحل.

يمتنع عليه التصرف في التركة بسبب الدين القليل؟ وقد قدمنا ذكرَ هذا في آخر كتاب الرهن. والنظر في هذا إذا كان الدين قليلاً على خلاف ما ذكرناه في حالة الحياة؛ فإن التركة متعلقة بالديون، كالرهون التي يتوثق الدين بها، وكرقاب الجناة. [و] (1) على أي وجه فرضنا الأمر، فلا فرق بين القليل والكثير. والحجر في حالة الحياة ابتداءُ امرٍ لدرء الضرار عن الغرماء، وليست أموال من عليه الديون متعلقة للديون قبل اطراد الحجر. 3794 - ثم قال العلماء: لا يضرب القاضي الحجر إلا إذا. استدعى الغرماء، فإن استدعى كلُّهم، أجبيوا على التفصيل المقدّم وإن استدعى بعضُهم، نُظر: فإن كان دين المستدعي بحيث يجوز الحجر بمثله لو لم يكن معه دين آخر، فإنه يجاب، ثم لا يختص الحجر به، بل يصير محجوراً عليه في حقوق الغرماء كافة. ولو لم يوجد من الغرماء كلِّهم الاستدعاء، واستدعى مَن دينُه يقل عن مبلغ المال، والتفريع على أن الدين القليل لا يحجرُ القاضي به، فهل يحجر إذا استدعى بعضُ الغرماء؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحجُر، وهو اختيار شيخنا أبي محمد. ومن أصحابنا من قال: لا يحجرُ ما لم يبلغ ديونُ المستدعين مبلغاً يجوز الحجر بمثله لو لم يكن مزيد. ووجهه بيِّن. ولو لم يستدعِ الغرماء الحجرَ أصلا، فليس للقاضي أن يحجُر على المديون ابتداءً، نظراً منه إلى طلب المصلحة الكلّية. هذا لا خلاف فيه. 3795 - ولو ارتفع بنفسه إلى مجلس القضاء واستدعى منه أن يحجُر عليه، ويفض (2) أمواله على غرمائه، فهل يجيبه أم لا؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب الأكثرون إلى أنه يجيبه. وقال آخرون: لا يجيبه مالم يستدع الحجر غريمٌ، أو غرماء. وقد قال العلماء: ما كان حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ بن جبل

_ (1) مزيدة من (ت 2). (2) يفض: يقسم.

من جهة استدعاء غرمائه، والأشبه أن ذلك جرى باستدعائه (1). 3796 - ثم إن الشافعي ذكر بعد تمهيد القول في الحجر: أن البائع يرجع بعين المبيع إذا أفلس المشتري بالثمن، واطَّرد الحجر عليه، والقول في هذه المسألة وأطرافِها معظمُ الكلام في التفليس. 3797 - فنقول: من باع عيناً وسلمها وأفلس المشتري، فحجر القاضي عليه، فللبائع أن يرجع [بعين] (2) المبيع، ويفسخ البيع؛ حتى لا يحتاج إلى مضاربة الغرماء، و [محاصصتهم] (3) بالثمن والأصل في ذلك الحديثُ، وهو ما روي عن أبي هريرة أنه رأى رجلا قد أفلس، فقال: " هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيمّا رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه " (4) وقوله: " هذا الذي " ظاهر معناه أنه لم يُرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على ذلك الشخص المعيّن، وإنما أراد بتعيينه التعرض لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صنفٍ عينه. وأبو حنيفة (5) خالف في المسألة، ومنع فرع البيع بعد تسليم المبيع. ثم أجرى الفقهاء في الخلاف طرفاً من المعنى، ووجَّه الخصوم عليها أسئلة، فدفعها أئمة المذهب بأمور مستفادة مذهبية. ولا ينتظم ذكرها إلا في معرض الأسئلة والأجوبة.

_ (1) ينكر ابن حجر أن يكون الحجر على معاذ كان بطلب منه، ويقول: "هذا شيء ادعاه إمام الحرمين في النهاية، وتبعه الغزالي، وهو خلاف ما صح من الروايات المشهورة" ثم أشار إلى ما رواه الدارقطني من أن معاذاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمه ليكلم غرماءه ليرفقوا به، وبذلك تجتمع الروايات ا. هـ التلخيص: (3/ 88)، سنن الدارقطني: (4/ 231). (2) في الأصل: في عين. (3) من هامش (ت 2)، وفي الأصل، كما في (ت 2): مخاصمتهم. (4) حديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود: بيوع، باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه، ح 3523، ومسند الشافعي رقم (564)، والمستدرك (2/ 50)، وانظر التلخيص (3/ 87 ح 1246). (5) ر. حاشية ابن عابدين: (4/ 44).

3798 - فالذي هو عماد المذهب في إثبات حق الفسخ أن الثمن أحد عوضي البيع، فليكن التعذر فيه بمثابة التعذر في المبيع؛ فإن البائع يستحق على المشتري تسليمَ الثمن كما يستحق المشتري على البائع تسليمَ المبيع، [والتعاوض تبادل] (1) في العوضين، فالذي يقتضيه العقد استواء الشقين. ثم اعتضد الأصحاب بالقياس على تعذر المُسْلَم فيه بسبب انقطاعه. هذا متعلق المذهب على الجملة أوردناه [لنفضَّ] (2) عليه الأسئلة المذهبية. 3799 - فإن قيل: لو كان الثمن كالمُسْلَم فيه، لما جاز الاستبدال عنه قبل قبضه كالمُسْلَم فيه. قلنا: في الاستبدال عن الثمن قولان منصوصان. فإن قيل: هلا قلتم: انقطاع جنس الثمن يقتضي من الانفساخ، أو ثبوتِ حق الفسخ ما يقتضيه انقطاعُ المسْلم فيه؟ قلنا: هذا خارج على قولي الاستبدال، فإن ألحقنا الثمن بالمسلم فيه في الاستبدال عنه، فلو انقطع جنس الثمن، كان كما لو انقطع المسلم فيه. فإن قيل: هلا أثبتم للبائع حقَّ الرجوع وإن تلف المبيع في يد المشتري؟ قلنا: سبب إثبات حق الفسخ الخلاص من زحمة المضاربة، وإنما يتأتى هذا بالرجوع إلى عيْنٍ لا يزاحَم الراجِع فيها. فإن قيل: قدّموه بقيمة المبيع من غير مضاربة. قلنا: حقه في العين، فلا يقدَّم إذا فاتت. 3800 - فإن قيل: الرهن قد يفوت، وتنتقل الوثيقةُ إلى بدله، فهلاَّ كان الأمر كذلك في البائع مع المفلس؟ قلنا: حق المرتهن لا يتأتى في وضع الرهن إلا من بدله، فلم يمتنع انتقال حقه إلى البدل، بخلاف البائع؛ فإنّ حقّه في العين. فإن قالوا: إنما يُثبتون للبائع حق الرجوع طلبا لفائدةٍ، وقد يستفيد بالمضاربة بالقيمة

_ (1) في الأصل: والتعارض يتبادل. و (ت 2): والتعارض تبادل. والمثبت تصرف من المحقق. (2) في الأصل: بدون نقط. وفي (ت 2): نقصّ. وما اخترناه هو اللفظ المعهود في لغة إمام الحرمين.

أمراً، وذلك إذا كانت القيمة أكثرَ من الثمن المسمى، فإذا ضارَب بالقيمة، كانت حصته أكثر من حصته في المضاربة بالثمن. قلنا: الأمور (1) تحمل على اعتدال، والغالب أن القيمة كالثمن. وإن فرضت زيادتها تارة، لم يمتنع فرض نقصانها أخرى. وقد قال بعض أئمتنا بالمضاربة بالقيمة إذا ظهرت الفائدة. وحكى الإمام ذلك، وحكاه غيرُه على ندور، واشتهر بين الخلافيين. 3801 - فإن قيل: ينبغي ألا يفسخ إذا قدمه الغرماء بتمام الثمن، قلنا: له الفسخ وإن قدموه؛ لمعنيين: أحدهما - أنه ربما لا يرضى بتقلّدِ منةٍ منهم، ويأبى إلا ما أثبته الله تعالى له. والثاني - أنه لا يأمن ظهور غرماء لا يرضَوْن بتقديمه. فإن قيل: قد استشهدتم بالانقطاع في المُسْلَم فيه، وذلك لما أَثْبتَ حقَّ الفسخ، لم يفرق فيه بين أن يكون رأسُ المال قائماً أو تالفاً. قلنا: السبب فيه أن المُسْلَم إليه إذا لم يكن مفلساً، فالرجوع إلى بدل رأس المال ممكن معه؛ إذ لا مضاربة حيث لا حجر. فإن قالوا: لو أفلس المُسْلَمُ إليه وحُجر عليه وجنس المُسْلَم فيه غير منقطع، فماذا ترون؟ قلنا: يفسخ المسلِمُ، ويرجع إلى رأس المال رجوع البائع إلى المبيع. فلو كان رأس المال تالفاً في هذه الحالة، وجنس المسلَم فيه غير منقطع، فلا يثبت الفسخ بسبب فوات عين رأس المال، ومسيس الحاجة إلى المضاربة، كما قدمناه؛ فلا فرق بين الفلس بالمُسْلَم فيه، وبين الفلس بالثمن. فإن قيل: لو اجتمع فَلَسُ المسلَم إليه، وانقطاعُ جنس المسلَم فيه، فماذا ترون؟ قلنا: اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: لا يثبت الفسخ مع الفلس إذا لم يجد مَنْ يُقدَّرُ فاسخاً عيناً يُقدّم (2) بها؛ لأنه لو فرع، لاحتاج إلى المضاربة، والفسخ إنما أثبت للخلاص منها. وظاهر المذهب أنه ثبت حق الفسخ في هذه الصورة؛ لأنه يستفيد بالفسخ الوصولَ إلى بعض حقه عاجلاً، ولو لم يفسخ، لأنظره

_ (1) في (ت 2): (الأصول). (2) في الأصل: ويقدم بها.

إلى وجود الجنس، فربما يوجد الجنس ولم يبق بيده شيء يؤدى منه حق المُسْلِم. 3802 - ومما يجري في هذه المسألة أنهم يقولون: الفسخ لا يرد على العين المبيعة، فإنه سلمها إلى المشتري، وإيراد الفسخ على الثمن وهو دين محال، فإن الفسوخ تعتمد الأعيان، فتردها، ثم تقتضي استرداد أعواضها. قلنا: هذا ينقضه السَّلم؛ فإنَّ الفسخ ينشأُ من تعذر فيه، وهو دين، ثم الفسخ يرد على العقد إذا قام ما يوجب الفسخ، وعلى هذا بنينا إجراء التفاسخ إذا تحالف المتعاقدان بعد تلف المبيع. فإن قيل: هل تجوزون أن يقول البائع: رددتُ الثمن أو فسخت العقد فيه؟ قلنا: امتنع من إطلاق ذلك بعضُ الأصحاب، وقالوا: حق الفسخ أن يضاف إلى العقد المرسل، ثم إذا انفسخ استعقب الفسخُ مقتضاه. وقال قائلون: تصح العبارة على الوجه الذي طلبه السائل، ولا يضر إضافة الفسخ إلى الثمن، وقولنا في ذلك، كقول الجميع في السلم. 3803 - فإن قيل: إذا باع رجل عبداً بجاريةٍ، وتقابضا، فقبض المشتري العبدَ والبائع الجاريةَ، وتلف العبد في يد قابضه، وأفلس، ووجد قابضُ الجارية بها عيباً، فإنه يردّها، فهل يتقدم بقيمة العبد المستردّ على الغرماء؟ قال القاضي: هذا يحتمل وجهين: أحدهما - لا يتقدم بها؛ لأنّها دَيْنٌ والتقديم بالدّين محال. والثاني - يتقدم؛ لأن الغرماء، وإن قدمنا عليهم من ردّ الجارية، فذلك في مقابلة ما أدخلناه في حقوقهم، فإنا رددنا عليهم الجارية، وكان التقدم في هذه الصورة (1) بالقيمة يضاهي تقديم من يعامله بعد الحجر بأثمان المعاملات. فهذا تمام ما أردنا أن نذكره من دقائق المذهب في أثناء الأسئلة والأجوبة. 3804 - ومما نلحقه بقاعدة الفصل أنا إذا أثبتنا حقَّ الفسخ للبائع، فهو على الفور أم على التراخي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه على الفور؛ لأنه خيار فسخٍ شرع لدَرْء الضرار، فينبغي أن يكون على الفور، كخيار الرّد بالعيب والخُلف. والثاني - أنه على

_ (1) (ت 2): الصورتين بالقيمتين.

التراخي؛ لأنه خيار يتضمنه الرجوع في عينٍ سلمها، وأزال الملك عنها، فأشبه ذلك حقَ الرجوع في الهبة. قال القاضي: لا يمتنع أن يتأقت هذا الخيار بثلاثة أيام؛ فإنا سنذكر قولاً كذلك في خيار المعتقة تحت زوجها القن، إن شاء الله تعالى. 3805 - ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أن المشتري لو لم يكن مفلساً، ولكنه امتنع عن أداء الثمن، وعسر تحصيله منه، فهل يثبت للبائع حقُّ الرجوع؟ فوجهان: أحدهما - يثبت للتعذر. والثاني - لا يثبت، وهو ظاهر المذهب؛ لأن حكم الممتنع في الشرع أن يستوفَى منه الحقُّ طوعاً أو كرهاً. فإن فرض ماردٌ (1) لم يُبْنَ الشرعُ عليه. 3806 - وإن غاب المشتري، فإن كان للبائع بيّنة، وقد ترك المشتري في البلد ما يفي بالثمن، فلا يرجع في عين المبيع، وإن لم تكن له بينة، ولا له مال في البلد. فهذا بمثابة الامتناع الذي حكينا تردّدَ (2) الأصحاب فيه. ويثبت الرجوع إلى عين المبيع بعد وفاة المشتري، وفي حال حياته إذا أفلس وضُرب الحجر عليه، وأثبت مالك الرجوعَ [في حال الحياة، ولم يثبته بعد الوفاة] (3). وتعرض الشافعي له بالمحاجة بأمورٍ لا حاجة بنا إليها.

_ (1) (ت 2): ما زاد. وهي في الأصل بهذا الضبط (ماردٌ) على خلو نسخة الأصل من النقط والضبط. والمارد: الطاغية العاتي (معجم. ومصباح). وفي الروضة للنووي (4/ 149): " ... نادرٌ لا عبرة به" وهذا أشبه بلغة الفقهاء. (2) (ت 2): حكيناه، وتردد الأصحاب فيه. (3) في الأصل، وفي (ت 2): " وأثبت مالك الرجوع بعد الوفاة، ولم يثبته في حال الحياة "، والذي سوغ لنا هذا التصويب، واعتباره سبق قلم من الناسخ أمران: أ- أن هذا هو المنصوص في كتب المالكية، مثل: جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (2/ 94)، بُلغة السالك لأقرب المسالك (2/ 126)، وبداية المجتهد (2/ 217)، والموطأ: كتاب البيوع، ح 87. وهو ما حكاه عنهم الشوكاني أيضاًَ في نيل الأوطار (5/ 365). ب- والأمر الثاني الذي سوغ لنا هذا التصويب، محاجة الإمام الشافعي للإمام مالك، التي أشار إليها إمام الحرمين، فالشافعي يقول: " ويقال لمن قبل الحديث في الحياة دون =

3807 - ومما نثبته في أصل الكتاب توطئةً للقواعد أن أصحاب الديون الحالّة يتضاربون في مال المفلس، واختلف القول في الديون المؤجّلة، فأحد قولي الشافعي أنها تحل بالحجر، كما تحل الديون المؤجلة بالموت. والقول الثاني: إنها لا تحل. فإن قضينا بحلولها، اضطربوا مع المضطربين، وإن حكمنا بأنها لا تحل، فالمال العتيد الموجود مصروف إلى أصحاب الديون الحالة، وأصحاب الدُّيون المؤجلة يؤخَّرون. ثم إذا حلت آجال ديونهم بعد فضّ المال على الديون الحالة، لم يملكوا أن يرجعوا بشيء مما تضارب أصحاب الديون الحالة. وسيكون لنا إلى تفصيل القول في حلول الآجال عودة، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " فإن تغيرت السلعة بنقصٍ في بدنها ... إلى آخره " (1). 3808 - إذا أفلس المشتري، فالمبيع لا يخلو إما أن يكون تالفاً أو قائماً: فإن كان تالفاً، لم يثبت للبائع حق فرع العقد، وليس له إلا مضاربة الغرماء بمقدار الثمن، كما قررناه فيما تقدم. فأمّا إن كان قائماً، فلا يخلو إما أن يكون متغيراً في ذاته، أو غير متغير. فإن لم يكن متغيراً، لم يخل إما أن يكون خرج عن ملك المشتري، ثم عاد إليه، أو لم يكن خرج عن ملكه. فإن كان خرج عن ملكه، ثم عاد إليه، ثم أفلس، نُظر: فإن عاد بهبة، أو وصية، أو إرث، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يرجع نظراً إلى قيام

_ = الموت: قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة على الحي، فحكمتم بها على ورثته، فكيف لم تحكموا في المفلس في موته على ورثته، كما حكمتم عليه في حياته؟ " مختصر المزني (2/ 219). فاستشهاد إمام الحرمين بكلام الشافعي هذا في الرد على مالك، يشهد بأن ما كان في النسختين عكس ما يريده المؤلف، مما سوّغ لنا هذا التصويب. والله أعلم. (1) ر. المختصر: (2/ 219، 220).

السلعة في ذاتها. والثاني - أنه لا يرجعُ؛ فإن حق الفاسخ (1) أن ينقض بفرعه الملك الذي استقر (2) منه بالعقد من جهته. والملك الزائل العائد ليس كذلك. ولهذا نظائر، منها زوال ملك المتهب وعوده بإحدى هذه الجهات، فهل (3) للواهب الرجوع؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين. وإذا زال ملك المرأة عن الصّداق، وعاد قبل الطلاق، فإذا طلقها زوجهاً قبل المسيس، فهل يرجع في نصف عين الصداق؟ فعلى ما ذكرناه من الخلاف. وإذا باع عبداً بثوبٍ، فخرج العبد من ملك المشتري، ثم عاد إليه، وقد اطلع صاحبه على عيب بالعوض الذي قبضه، فله ردُّه، ولكنه هل يرجع بالعبد الذي زال وعاد؟ فعلى وجهين. ومسلك الكلام في جميعها واحد. 3809 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان زال ملك المشتري، وعاد بتبرع، أو بجهةٍ لا عوض فيها. فأما إذا زال ملك المشتري بجهةٍ من الجهات، أيةِ جهةٍ كانت، ثم عاد إليه ببيع، ثم أفلس، فقد تحقق إفلاسه بالثمن الأوّل في البيع الأوّل، وتحقق إفلاسه بالثمن الثاني، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن حق الرجوع للثاني، وهو القياس، فيرجع في المبيع إن شاء (4)؛ لأن تلقي الملك فيه من جهته الآن. والوجه الثاني - حق الرجوع للأول؛ لأنه أسبق، فهو أولى بالتقديم. وهذا يتجه بالبناء على أن الرجوع يثبت في الملك الذي زال وعاد، كما ذكرناه، فكأن الملك لم يزل في حق الأول، وحقه مستدام فيه. والوجه الثالث - أنهما يستويان فيه؛ لأن للأول حق السبق، وللثاني حق الدنوّ والقربِ، واطرادِ الملك من غير تقطع، وإذا تقابل المعنيان، أوجب ذلك أن يستويا،

_ (1) (ت 2): التفاسخ. (2) (ت 2): استعيد. (3) (ت 2): " فإن قلنا: للواهب ... . (4) في الأصل: "إن شاء الله" ولا محل لها تبريكاً ولا تعليقاً.

فيرجع كلٌّ بنصف الجارية (1) ويضارب بنصف الثمن. 3810 - ثم نفرع فنقول: إن عفا الأول، فالحق للثاني وجهاًً واحداً، وإن عفا الثاني، فهل للأول حق الرجوع؟ فعلى وجهين مبنيين على أنه لو زال ملكه بهبةٍ، ثم عاد بمثلها، أو بإرث، فهل يثبت للبائع حق الرجوع؟ فيه الخلافُ الذي تقدّم. هذا كله إذا كان قد خرج عن ملك المشتري وعاد. 3811 - فإن لم يخرج عن ملكه، بل اطرد ملكه، فلا يخلو: إما أن تعلّق به حق الغير، أو لم يتعلق: فإن تعلق به حق الغير، لم يخل إما أن يكون متعلقاً بعينه، أو لا بعينه: فإن كان متعلقاً بعينه، كحق المرتهن، والمجني عليه، والكتابة، فلا يملك البائع إبطال هذه الحقوق. ولكن لو صبر حتى فك عن الرهن، وبرىء عن الجناية، فإنه يرجع الآن. هكذا قال فقهاؤنا. وقد ذكرت طرفاً من هذا في أحكام الرد بالعيب. وأما إذا كان مكاتباً، فصبر حتى رَقَّ المكاتَب، وعجز عن أداء النجوم، قال بعض أصحابنا: هذا يخرّج على الوجهين؛ لأن الكتابة ألحقته في أحكام الاستقلال بالأحرار، فيجعل الاتصاف بها والعود إلى الرق المطلق، بمثابة زوال الملك في المبيع وعوده. هذا إذا كان الحق متعلقاً بالعين. 3812 - فأما إذا كان متعلقاً بالمنفعة كالإجارة والتزويج، فيثبت للبائع حقُّ الرجوع ناجزاً. ولكن المنافع تبقى مستحقة. أما منافع الإجارة، فإلى الاستيفاء، ومنافع الزوج لا تتأقت، فهي مستحقة ما دامت الزوجية. 3813 - فأمّا إذا كان المبيع قائماً، لم يتبدل الملك فيه، ولم يتعلق فيه حق، فلا يخلو إما أن يكون على هيئته التي كان عليها، غير متغير، لا بزيادة، ولا بنقصان،

_ (1) كذا. وصوابها: "العبد" كما بدأ التمثيل. والأمر قريب.

[وإما أن يكون متغيراً: فإن كان غير متغير، فإنه يرجع فيه، كما قدمناه. وإن كان متغيراً، لم يخل إما أن يتغير بزيادة أو نقصان] (1): فإن تغير بزيادةٍ، لم تخل [الزيادة] (2) إما أن تكون متصلةً وإما أن تكون منفصلة: فإن كانت متصلة، رجع البائع فيها مع الزيادة، ولا مبالاة بالزيادة المتصلة في قواعد الشريعة، إلا في أصلٍ واحد، وهو إذا أصدق الرجل امرأته عيناً، فزادت في يدها زيادة متصلة، وطلقها الزوج قبل المسيس، والعين زائدة، فللمرأة أن تتمسك بعين الصداق، ويرجع الزوج عليها بنصف القيمة، ولا فرق بين أن تكون موسرة أو معسرة. ولو أفلست والعين الزائدة في يدها، وإذا لم يرجع الزوج، لم يملك شيئاً إلا المضاربة، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه ليس له إلا القيمةُ، والمضاربة بها؛ فإن الزيادة قطعت حقه من العين. والوجه الثاني - وهو اختيار أبي إسحاق المروزي أنه يرجع إلى نصف العين. وإن زادت لضرورة المضاربة، والإفلاسُ إذا كان يسلط على رفع أصل العقد، فلا يبعد أن يؤثر في قطع حقها من الاختصاص بالصّداق لمكان الزيادة. ثم عَسُرَ على الأصحاب الفرقُ بين الصداق، وبين سائر الأصول فيما يتعلق بالزيادة المتصلة. ولعل المرضيَّ القريبَ أن الجهات التي يثبت فيها استردادُ العين تنقسم: فمنها الفسخ. والفسوخ تستأصل الأسباب من أصولها، فلا يبقى معها عُلقة لمن عليه الرجوع، ومنها ما يهجم على قطع الملك، كالرجوع [في] (3) الهبة، فهو في معنى الفسخ، والزوج بطلاقه ليس فاسخاً، ولا هاجماً على الرجوع، وإنما التشطير حكم من الشرع، لم ينشئه الزوج بسبب يقطع (4) أصلاً كالفسخ، ولم يتعمد قطع الملك، فقوي تعلُّقُها بعين الصداق. فإن قيل: ما تقولون فيه إذا زاد الصّداق في يدها، ثم ارتدت قبل المسيس؟ قلنا:

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: بالهبة. (4) (ت 2): يقع.

اختلف أصحابنا في ذلك: فقال قائلون: المرأة أولى بعين الصداق، قياساً على تشطير الصداق عند الطلاق. والصحيح أن الصداق يرتد إلى الزوج؛ فإن طريقه الفسخ، وقد ذكرنا أنَّ الفسوخ تستأصل الأسباب والعلائق. هذا في الزوائد المتّصلة. 3814 - فأما الزياداتُ المنفصلة، كالثمار، والأولاد، والألبان، وما في معانيها، فهي خالصة للمشتري مصروفةٌ إلى ديون الغرماء. والبائع يرجع في عين المبيع. هذا كله إذا كان التغير بالزيادة. 3815 - فأما إذا كان التغير بالنقصان، لم يخل إما أن يكون نقصان جزء أو نقصانَ صفة، فإن كان نقصان جزء، مثل أن يبيع عبدين، ويموتَ أحدُهما في يد المشتري، ويبقى الثاني وما كان قبض البائع من الثمن شيئاًً؛ فإنه يرجع في الباقي من المبيع، ويضارب الغرماء بقسطٍ من الثمن، وتفصيل التقسيط يأتي في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى؛ فإن هذا الفصلَ في حكم التراجم، والمعاقد، وشرح ما نفصل بين أيدينا. 3816 - فأما إذا كان النقصان راجعاً إلى الصفة، فلا يخلو إمَّا أن ينتقص المبيع بآفة، أو بجناية جانٍ: فإن انتقص بآفة سماويةٍ مثل: أن سلم إليه [العبد] (1) المبيع، فاعورّت عينُه في يده، أو شَلَّت [يده] (2). فنقول للبائع: المبيعُ كما ترى، فإن رضيتَ به معيباً، فارجع فيه، ولا حظَّ لك في غيره. وإن أردت أن تكون أُسوة (3) الغرماء، فضاربهم بالثمن. والعيب السماوي بالمبيع في يد المشتري في حق فسح البائع بمثابة العيب الحادث في يد البائع بآفة سماوية في حق فرع المشتري. وقد ذكرنا في أحكام العيوب أن

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) فى الأصل: يد العبد. (3) الأُسوة: المِثل (معجم) والمعنى أن تكون واحداً من الغرماء، وتضارب معهم.

المشتري يتخيّر: إن شاء فسخ البيع بالعيب الحادث في يد البائع، وإن شاء أجازه بتمام الثمن. هذا سبيل البائع مع المشتري فيما نحن فيه. 3817 - ولو حدث النقصُ بجناية، لم يخل إمّا أن يكون الجاني أجنبياً، وإمّا أن يجني المشتري: فإن كان أجنبياً، فلا شكّ أنه يلتزمُ الأرشَ للمشتري. ثم الأصح أنه يلتزمه باعتبار النسبة إلى الجملة، فجراح العبد من قيمته كجراح الحرّ من ديته، فإن كان قطع يداً، أو عوَّر عيناً، فنصف القيمة واجبٌ على الجاني. وإذا آل الأمر إلى البائع (1)، قلنا له (2): أرش [العيب] (3) على الجملة محطوط عنك؛ فإنَّا وجدنا للضمان فيه متعلَّقاً. فإذا لم يتعطل ذلك العيب في نفسه، لم يطوّق البائع أمره مجَّاناً، ولكن المعتبر في حق البائع نقصان القيمة، لا التقدير الشرعي المتعلق بنسبة الأعضاء إلى جملتها. وبيان ذلك أنَّ الجاني التزم للمشتري بقطع يده نصفَ القيمة، وكان انتقص (4) ثلث القيمة بالسوق، فيعتبر في حق البائع نقصانُ السوق، فنقول: كأنك ظفرت بثلثي المبيع، فارجع فيما وجدت، وضارب الغرماء بثلث الثمن، ويصير نقصان الصفة في هذه القسمة بمثابة نقصان الجزء. فإن قيل: هلا اعتبرتم تقدير الشرع في حق البائع؟ قلنا: الأطرافُ تتقدرُ في الجناية، فأمَّا المعاوضاتُ، فالأعواض تتقسط على المعوَّضات باعتبار القيم، وأرش الجناية تقدير الشرع. ولو التزمنا هذا، فربما يلقانا محالٌ لا سبيل إلى التزامه؛ فإن الجاني لو قطع يدي عبدٍ معا، فعليه كمالُ قيمته، فإذا أفلس مشتري ذلك العبد بالثمن، لم يمكنا أن نقول: ليس العبد الأقطع موجوداً، ويستحيل أن نثبت حقَّ الرجوع فيه، ثم نُثبت المطالبةَ بجملة الثمن، نظراً إلى ما وجب على الجاني.

_ (1) آل استحقاق الأرش إلى البائع. (2) قلنا له: أي للمشتري. (3) في الأصل: العين. (4) (ت 2): النقص.

هذا إذا كان الجاني هو الأجنبي. 3818 - فأما إذا جنى المشتري على العبد، فالصحيح أن المشتري كالأجنبي في حكم الجناية، وتفاصيل الرجوع. وقد مضى ذلك مبيناً الآن. ومن أصحابنا من قال: حكم جناية المشتري حكم جناية البائع على المبيع قبل القبض، حتى نقول في قولٍ: إنها كجناية أجنبي، وقد مضى. وفي قولٍ نجعل أثر جنايته كآفة سماوية. والجملة في ذلك أن المشتري والمبيعُ في يده كالبائع في المبيع قبل القبض. فهذا مجامع القول في التغايير التي تلحق المبيع حكماً وحقيقة. 3819 - فرع: إذا اشترى حنطة فبثها بذراً، فنبت الزرع وأحصد، ثم أفلس المشتري، فالحنطة الحاصلة من زرع ذلك البذر [لمن] (1)؟ اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: نجعلها مبيعة، ونقدر كثرتها زيادة متصلة، كالعبد يشتريه طفلا، ثم يشب ويترعرع، والفسيل يشتريه ويغرسه، ثم يصير أشجاراً، فيثبت للبائع الرجوع إذاً، ولا حكم لتلك الكثرة. ومن أصحابنا من لا يجعل الحبَّ الحاصل من الزرع بمثابة مبيع زائدٍ، ولكنا نجعلها أعيانا مستفادة في ذواتها، وليس للمشتري إلا المضاربة. ووجه ذلك أن البذر يعفَن (2) تحت التراب، ثم ينشأ الزرع منه بعد مصيره إلى حالة العفن، وفي هذه الحالة لا يُعدّ فيها مالاً. ثم الزرع نشءٌ جديد. ومن هذا ما لو اشترى بيضة، وأحضنها دجاجة، فتفقأت عن فرخ: من أصحابنا من جعل الفرخ مبيعا، وقدّر ما لحقه من تغايير الخلقة بمثابة الزيادة المتصلة. ومنهم من لم يقدره مبيعاً، ولم يُثبت للبائع حقَّ الرجوع. ومن هذا القبيل ما لو اشترى عصيراً، فانقلب خمراً في يد المشتري، ثم انقلبت الخمر خلا، فالخل هل يكون مبيعاً أم لا؟ فيه التردد الذي ذكرناه. ولا خلاف أن

_ (1) مزيدة من المحقق. (2) يعَفن من باب تعب.

الزرع مُلِك من البذر مِلْكِه، وكذلك القول في الفرخ والخل. وسنذكر هذه المسائل في موقعها في كتاب الغصوب، إن شاء الله تعالى. 3820 - وكذلك لو اشترى رجل أرضاً مزروعة وكان الزرع بقلا، لم يُسنبِل بعدُ، فإذا ظهرت السنابل، ثم أفركت، وديست، فهل نجعل الحب مبيعاً؟ ذكر العراقيون وجهين وبنَوْهما على المسائل التي تقدمت، ورأَوْا جعلَ الحب مبيعاً -وقد كان المشترَى زرعا- أوْلى؛ من جهة أن الزرع يشمل الأخضرَ والمسنبِل، فالسنبلة تعد من الزرع، فهي بالاندراج تحت ما كان مبيعا أولى من الفرخ، بالإضافة إلى البيض؛ فإنهما متباينان صفةً واسماً. 3821 - وحاصل القول في ذلك أن التغايير التي لا تنتهي إلى قلب الجنس، وتغيير الاسم لا حكم لها، ويبقى ما كان مبيعاً على حكمه، حتى يثبت للبائع الرجوع. ثم إن كان التغيير إلى زيادة متصلة، فهي للبائع إذا أراد الرجوع. وما تغير إلى نقصانٍ فلا حكم له عند قصد الرجوع، والبائع على خِيَرته إن شاء ضارب بالثمن، وإن شاء قنع بالمبيع الناقص. وكل تغييرٍ ينتهي إلى قلب الجنس والاسم، ولكن المتغير مترتب على ما كان مبيعاً، كالزرع والبذر، والفرخ والبيض، ففيه الخلاف. وما يغير الجنس ويبقى اشتمال الاسم معه، ففيه خلافٌ قريب. 3822 - وزوائد الأصول إذا انفصلت، وإن حصلت من أصولها، فهي منقطعة عنها؛ فإن الأصول قائمة على صفاتها، وقد تجدّد منها ما تجدّد. وليس كالبذر ينقلب زرعاً؛ فإنّه في نفسه ما بقي على ما كان عليه. نعم، الملك ينتظم الأصلَ والزيادةَ؛ فإنا لا نجد للزيادة مصرفاً أولى من مالك الأصل. فإن قدرناها جزءاً من الأصل، فلا كلام، وإن لم نفصل (1)،. وهو الرأي، فالوجه أن نجعلها كصيود تتعقل (2) بشبكات متهيئةٍ لها. وما ذكرته أصدق شاهدٍ في أن الزوائد المنفصلة ليست من عين الأصول؛

_ (1) كذا في النسختين. ولعلها: وإن لم (نفعل). (2) (ت 2) تتعلق. وفي هامشها: "تتعقل" وإشارة أنها من نسخة أخرى.

إذ لو كانت من أعيانها، لكانت كالحب الكثير ينبتها البذر اليسير، وكان يدرج في قياس المسائل التي نظمناها. فصل قال: " ولو باع نخلاً فيه ثمر أو طلعٌ قد أُبّر، فاستثناها المشتري ... إلى آخره " (1). 3823 - قوله فاستثناها المشتري لنفسه معناه فاشترطها لنفسه، وهذا اللفظ يطلق في غالب الأمر في استثناء شيء من جملة، فاستعملها للمشتري (2) في معنى الاشتراط. والمسألة مصورة فيه، إذا باع نخيلاً، عليها ثمار ظاهرةٌ مؤبرة، وأدخل الثمار في البيع، ثم قبض المشتري الشجر والثمر، واستهلك الثمرة، وأفلس بالثمن كله، فالبائع يرجع في الشجر، ولا يكتفي بها؛ فإنها بعضُ المبيع، بل يضارب بقسطٍ من الثمن يقابل الثمرة الفائتة. هذا الأصل ثابت لا شك فيه. ولكن لا يمكن الوصول إلى ما يرجع به من الثمن (3) إلا بمعرفة قيمة الثمار، وقيمة الأشجار، ثم إذا بانت القيمتان، قدَرَ (4) توزيعَ الثمن على المبْلَغَيْن، فما يقابل الثمر، ضارب به، وما يقابل الشجر، يكتفي فيه بالشجر، إن أراد الرجوع فيها؛ فيأخذ الشجر بقسطها، ويضارب الغرماء بقسط الثمرة من الثمن. 3824 - والكلام وراء هذا في أن قيمة الثمرة متى تعتبر، وكذا قيمة الشجر، ولا يلقَى الناظرُ في الكتاب أمراً أولى بإنعام النظر فيه من هذا، فهو عمدة الكتاب وسرّ الباب.

_ (1) ر. المختصر: (2/ 220). (2) (ت 2): للشافعي. (3) (ت 2): الثمر. (4) يقال: قَدَرَ الشيء بالشيء: قاسه به وجعله على مقداره (المعجم) فالمعنى: قاس توزيع الثمن على الثمر والشجر، وأبان مبلغ كل واحدٍ منهما.

3825 - قال الشافعي فيما نقله المزني: تعتبر قيمة الثمرة بيوم القبض، لا بيوم العقد، ولا بيوم الجائحة (1). هذا ما نقله. ونحن نستوعب ما يتعلق بالثمرة، ثم نذكر ما يتعلق بالشجر. أما القول في الثمرة، فقد ذهب المحققون إلى مخالفة النص المنقول، وقالوا: نعتبر أقلَّ القيمتين من يوم العقد والقبض. فإن كانت قيمته يوم العقد أكثرَ، وقيمتُه يوم القبض أقلَّ، فالمشتري يقول: لا تحتسب عليَّ زيادة كانت في يد البائع، وإنما دخلت الثمرة في ضماني يوم قبضتُها. فليس للبائع أن يعتبر زيادةً قبل ضمان المشتري. وإن كانت قيمته يوم العقد أقلَّ، وقيمته يوم القبض أكثر، فالمشتري يقول: ما كان من زيادةٍ بعد العقد، فهي لي وحدثت على ملكي، فليس للبائع أن يعتبرها في تقويم الثمن عليّ. ولا شك أن قيمة الثمرة إذا كثرت، كثر ما يرجع به من الثمن، فإذاً للمشتري أن يقول: لا تحتسب عليّ زيادةً، إن حسبتها، زاد مقدارُ ما ترجع به، والزيادة تثبت ملكاً لي. 3826 - فإن قيل: الزيادة المتصلة ينبغي ألا تفرد بالاعتبار؛ فإنها كانت تكون للبائع لو بقيت الثمار، فالرجوع بحصتها من الثمن يجبُ أن (2) يكون باعتبار زيادتها معها. قلنا: هذا غير سديد؛ فإنَّا لا ننكر أن الزيادة المتصلةَ حصلت للمشتري في ملكه، ولكن إذا كانت العين قائمةً، ومست الحاجة إلى ردّها، تبعت الزيادةُ الأصلَ ضَرورةً، [وإذا فاتت العين بعدما طرأت عليها زيادةٌ متصلة في ملك المشتري، فأي ضرورة] (3) تحوج إلى عدّ (4) تلك الزيادة الحادثة في ملك المشتري في حق البائع، حتى

_ (1) هذا معنى كلام الشافعي، وليس لفظه، بل ليس في كلام الشافعي ذكر للعقد، قال: " لو أكل الثمر، أو أصابته جائحة، ثم أفلس أو مات، فإنه يأخذ عينَ ماله -أي الشجر- ويكون أُسوة الغرماء في حصة الثمر يوم قبضه، لا يومَ أكله، ولا يوم أصابته الجائحة". (المختصر: 2/ 220). (2) (ت 2): ألا يكون. (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (4) (ت 2): "ردّ"

تكثر في التقويم، ليكثر ما يرجع به. فيلتأمل الفطن أول هذا الكلام؛ فإنه منشأ غائلة الفصل، فقد حصل من وفاق المحققين أنا نعتبر أقل القيمتين للثمرة في يومي العقد والقبض. 3827 - وحكى صاحب التقريب قولا مرسلا من بعض الأصحاب: أن الاعتبار بقيمة يوم القبض، ويزعم هذا القائل: أن القول مأخوذ من النص الذي نقله المزني. فإن كانت قيمةُ يومِ القبض أقلَّ، فلا شك في اعتبارها، وإن كانت أكثرَ، فكأن هذا القائلَ يعتبر تلك القيمة؛ مصيراً منه إلى تقويم الزيادة المتصلة للبائع، بناء على أنها لو كانت باقية، لكان البائع يأخذها بزيادتها. وهذا وهمٌ عظيم؛ من جهة أن البائع ليس يرجع عند تلفها إلى قيمتها، وإنما يرجع إلى قسطٍ من الثمن باعتبار (1) قيمتها، والقسط من الثمن إذا أُثبت، فهو في مأخذ الأحكام على مضادة الرجوع في العين، فنعتبر والحالة هذه بقسطٍ لا يحسب فيه حقّ المشتري عليه [للبائع] (2). هذا أقصى الإمكان في التعبير عن هذا الغرض. والفطن يبتدره، والبليد لا يزداد في هذا المقام بزيادة البيان إلا حَبَطاً (3). ولا عود إلى ما ذكره صاحب التقريب؛ فإنه ساقط غير معتد به. 3828 - هذا قولنا في القيمة التي نعتبرها للثمرة، وهذه القيمة لا تستقل بإفادة غرضها دون الإحاطة بقيمة الشجر، وقد اضطرب المحصلون في قيمة الشجر، ونحن نأتي بما قالوه، ونضبط حاصلَ الفصل عند نجازه بما يُبيّن مسلكَ كلِّ فريق.

_ (1) قال الرافعي: "وسبيل التوزيع، أن تُقوّم الأشجار، وعليها الثمار، فيقال: قيمتها مائة. وتُقَوَّمُ وحدها، فيقال: قيمتها تسعون، فيضارب بعشر الثمن" (الشرح الكبير بهامش المجموع: 10/ 358) ومعنى ذلك، كما هو واضح، أن يرجع البائع بالأشجار، فهي ما زالت قائمة، ثم يضارب بعشر الثمن في مقابلة الثمار التي تلفت، سواء كان عشر الثمن أقل، أو أكثر من قيمتها. وانظر أيضاً: روضة الطالبين: (4/ 165، 166). (2) في الأصل بهذا الرسم: " الما ـع " بدون نقط. (3) حبطاً: فساداً، وقد تكون خبطاً (بالخاء) أي عماية.

3829 - قال بعض الأثبات من أصحاب القفال: نعتبر في الشجر أكثرَ قيمةٍ، من يومي العقد والقبض. وهذا وإن كان في الظاهر يخالفُ ما ذكرناه في قيمة الثمرة، فهو موافق له في المقصود؛ فإن قيمة الشجر إذا كثرت، قلَّ ما يرجع به البائع من الثمر. وقيمةُ الثمر إذا قلَّت، قلَّ ما يرجع به البائع من ال ثمر، فإن الشجرة يأخذها البائع بقسطه، فإذا كثر، قل ما يبقى. وهذا الذي ذكرناه ضبط من طريق اللفظ، والتحقيق وراءه. 3830 - وذهب القاضي إلى مسلكٍ آخر، فقال: إن كانت قيمة الشجر يوم العقد أقلَّ، وكانت يوم القبض أكثر، فالاعتبار بقيمة يوم العقد. واحتج عليه بأن قال: إذا كان البائع يأخذ الشجر، فالزيادة المتصلة مأخوذة له، فلا تحسب عليه، وكأنا نتبين بالأخرة أنها زادت له، فليقع الاختصَار على قيمة العقد. وليس ما نحن فيه بمثابة الثمرة؛ فإن الثمرة فائتةٌ، فليست زيادتها منقلبة إلى البائع، وليست مضمونةً له ضمان قيمة. وقد حدثت للمشتري وهلكت له، فلا تدخل في حساب التوزيع. فأما زيادة الشجرة؛ فإنها منقلبة إلى البائع، فلا تحسب عليه في حساب التوزيع. وللقائل الأول أن يقول: حدوث هذه الزيادة على ملك المشتري لا شك فيه، فإن كنا نردها على البائع، وما حدثت في ملكه، فالذي يقتضيه الإنصافُ أن نقول: قدِّر هذه الزيادة أنها للبائع؛ كأنها كانت حالة العقد، وإذا قرن بها لأنها متصلة بالمبيع، فاعتبرها في قيمة المبيع، وليس من الإنصاف أن تفوز بها، وما حدثت في ملكك، ولا تحسبها من المبيع. هذا بيان المسلكين وهما متجهان. 3831 - وكأنَّ الكلامَ في الزيادة المتصلة في غرضنا يتعلق بثلاث مراتب: إحداها- أن البائع إذا كان يرجع في المبيع الزائد زيادة متصلة، ولا حاجة إلى تقدير توزيع، فإن المبيع بجملته باقٍ، فإذا كان كذلك، فلا نظر إلى الزيادة وهي تنقلب إلى البائع تبعاً للأصل. [المرتبة الثانية] (1) - إن زاد شيء من المبيع وتلف، واحتجنا إلى تقويم ذلك التالف

_ (1) زيادة من المحقق أخذا من تقسيم المؤلف نفسه.

المرجوع بقسط من الثمن يقابله، فلا تعتبر الزيادة المتصلة بالحادثة في ملك المشتري بعد العقد؛ فإن تلك الزيادة ليست ترتد إلى البائع ولا قيمتُها، فأخرجنا اعتبارها من البَيْن، حتى كأنها زيادة متَّصلةٌ غيرُ معتد بها. المرتبة الثالثة - في زيادة ترتدّ مع أصلها إلى البائع، ولكن تخلَّف الحكم في شيء لا يرجع إلى البائع باختلافها، فهل نعتبر تلك الزيادة بمقدارٍ من الثمن يتعلق بغير العين التي رجع فيها أم لا نعتبرها، كزيادة الأشجار المنقلبة إلى البائع؟ إن اعتبرناها، قلّ قسط الثمار، وإن لم نعتبرها، كثر قسطها. هذا موضع تردد المحققين على ما حكيناه عن القاضي وغيره. وإذا تمهد أصل الفصل، نهذبه الآن بالصور، ثم ننعطفُ على الأصلِ، ونَرِمّ (1) ما نراه على إشكال في أطراف المسألة. 3832 - فنصور كأن قيمة الشجرة كانت مائة، وقيمة الثمرة كانت خمسين، فإذا لم تفرض زيادة ولا نقصان في الشجر والثمر، وقد فاتت الثمر، فيرجع البائع في الشجر ويأخذها بثلثي الثمن، ويضارب بثلث الثمن في مقابلة الثمر. ولو لم تختلف قيمة الشجر، واختلفت قيمة الثمر، فكانت يوم العقد تساوي خمسين، وصارت تساوي يوم القبض خمساً وعشرين، فالاعتبار بقيمة يوم القبض؛ فإنها أقل، وقيمة الشجر لم تختلف، فيأخذ البائع الشجر على نسبة الأخماس بأربعة أخماس، ويضارب الغرماء بخمس الثمن في مقابلة الثمر. ولو كانت قيمة الثمر يوم العقد خمسين، فصارت يوم القبض تساوي مائة، فلا اعتبار بالزيادة؛ والتوزيع على نسبة الثلث والثلثين، كما تقدم هذا في تغيّر الثمر وبقاء الشجر. 3833 - فأما إذا تغيرت قيمة الشجر (2)، فنصور الشجر حالة العقد بحيث تساوي (3)

_ (1) نرم: نصلح (معجم). (2) كذا يعبر عن الشجرة بـ (الشجر) مع أن التصوير للمسألة والسياق يؤكد أن الكلام في (الشجرة) واحدة (الشجر). (3) أي: القيمة.

مائة، وكانت حالة القبض تساوي مائة وخمسين، وقيمة الثمرة كانت خمسين، وبقيت كذلك. أما من اعتبر في الشجر أكثرَ قيمةٍ، فيحسب زيادة القيمة على البائع إذا رجع، ويقول: الشجر مائة وخمسون والثمر خمسون، فيرجع البائع في الشجر بثلاثة أرباع الثمن، ويضارب الغرماء بربع الثمن في مقابلة الثمر. والقاضي يقول: تلك الزيادة يفوز بها البائع غيرَ محسوبة عليه؛ فإنها زيادة متصلة فيأخذ [الشجر] (1) إذاً بثلثي الثمن، ويضارب بثلث الثمن. ولو كانت الشجر تساوي مائة، فصارت يوم القبض تساوي مائتين. أمّا الأول، يقول: يأخذ البائع الشجر بأربعة أخماس الثمن ويضارب في مقابلة الثمر بخمس الثمن. والقاضي لا يحسب الزيادة على البائع ويقول: الحساب من المائة التي كانت قيمة الشجر. هذا بيان المذهب بالصور. ثم ننعطف الآن على أمور قد تزل عن فهم الناظر فنقول: 3834 - القاضي لم يحسب الزيادة في الشجر على البائع، ولكنه قال: لو كانت الشجر تساوي مائة حالة العقد، ثم نقصت، فصارت تساوي خمسين، فالنقصان محسوب على البائع؛ فإنه حدث من ضمانه. فإذا كانت الشجر تساوي يوم العقد مائة، فصارت تساوي يوم القبض خمسين، فيأخذها البائع بحساب المائة وهي الثلثان، ويضارب بالثلث. أما القاضي فيقول: النقصان محسوب على البائع. وأما من اعتبر الأكثر من قيمة الشجر، فأكثر القيمتين المائة، فيتفق المسلكان لا محالة، وإنما يختلفان في العلّة. 3835 - ومما يتعلق بأطراف المسألة، أنا قلنا في الثمرة: يعتبر فيها أقل قيمتي العقد والقبض، ولم نتعرض لما بينهما. وهذا مما يخطر للفقيه، فنفصله، ونقول:

_ (1) في الأصل: الحوادث.

إذا كان قيمة الثمرة خمسين يوم العقد، فرجعت إلى خمسٍ وعشرين في يد البائع، ثم عادت إلى خمسين، فما حكم ذلك النقصان إذا تخلل وزال؟ قلنا: 3836 - نجدد العهد بأصلٍ قدمناه في أحكام العيوب من باب الخراج بالضمان. وذلك أن من اشترى عبداً وقبضه، وعاب في يده عيباً حادثاً، واطلع على عيب قديم به، فالعيب الحادث يمنع الرد بالعيب القديم، فلو زال ذلك العيب الحادث، فهل يتمكن المشتري من الرد بالعيب القديم؟ فيه تردد للأصحاب معروفٌ. ولو عاب المبيع في يد البائع، فيثبت للمشتري حق الرد به، فلو زال ذلك العيب، وعاد المبيع كما كان، فظاهر المذهب أنه يزول حق رد المشتري، وفيه خلافٌ أيضاًً. فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، فنقول: 3837 - لو عاب المبيع قبل القبض، وصار ناقص القيمة بسبب العيب، ثم طرأت زيادة خِلْقية، ردت قيمة المبيع إلى ما كان، وذلك [العيبُ] (1) باقٍ يثبت (2) حقُّ الرّد للمشتري. وكذلك لو نقصت القيمة بالعيب، ثم صار المبيع يشترَى بالقيمة التامة لارتفاع سعر السوق، فهذه الزيادة لا حكم لها، والرد ثابت. فإذا ثبتت هذه المقدمات، عدنا إلى غرضنا، فنقول: 3838 - إذا طرأ نقصان على المبيع بالسوق، ثم زاد، وعاد إلى ما كان عليه، فلا حكم لذلك النقصان المتخلل، فإنا مع تشديد الشرع على الغاصب، لا نؤاخذه بما يطرأ من نقصان السوق، فما الظن بالبائع. وإن طرأ على الشجر في مسألتنا نقصان من جهة الآفة، ونقصت القيمة بها، ثم ارتفع السوق، وعادت القيمة بسبب السعر إلى ما كان، فالذي أراه في هذه الصورة اعتبار قيمة يوم العيب. وإن كان ذلك اليوم بعد العقد وقبل القبض، فإن النقصان قد تحقق من ضمان البائع، وما كان من ارتفاع بعد هذا، فهو في حق المشتري وملكه، فلا ينْجبر به ما وقع من النقصان.

_ (1) في الأصل: "المبيع والمثبث من (ت 2). (2) جواب (لو) أي: "لو عاب المبيع ... يثبت حق الرد للمشتري".

وإن نقصت الثمار بآفة وبقي النقص، ولكن حصلت زيادة خِلقية من جهةٍ أخرى، فالذي أراه أن تلك الزيادة لا تعتبر؛ فإن العيب قائم، ولا جبران على هذا الوجه. فأما إذا طرأ النقصان بعيب، ثم زال بزوال ذلك العيب، فهذا يخرج على ما ذكرناه في مقدمة هذا، والظاهر أن هذا إذا جرى في يد البائع، فإذا زال، سقط حكمه. هذا منتهى النظر في هذا. 3839 - ومما يتعلق بأطرافِ المسألة أن الثمرة لو نقصت في يد المشتري بعد القبض، فكانت تساوي يوم العقد خمسين، ويوم القبض خمسين، فنقصت وصارت تساوي ثلاثين، ثم فاتت الثمرة، وحل وقت التوزيع عند الإفلاس، فنقول: ذلك النقصان محسوب على المشتري؛ فإنه حدث في يده؛ فَحُسِب عليه. وإن كنا نقول: لو بقيت معيبة، لم يكن للبائع -إن أراد الرجوع- إلا الرضا بها على عيبها، ولكن لا ننظر إلى هذا إذا كنا نعتبر قيمة الثمار لأجل التوزيع؛ فإن رضا البائع بعيب الثمرة لو بقيت في حكم الضرورة، إذا كان يرجع إلى العين، فالنقصان في يد المشتري محسوب عليه في مقام التوزيع، كما أن النقصان في يد البائع محسوب على البائع. 3840 - ومن تمام البيان في هذا أن من اعتبر أكثر القيمتين في الشجرة إذا فرعنا على أصله، وقلنا: قيمةُ الشجرة يوم العقد مائة، ويوم القبض مائة وخمسون، ويوم رجوع البائع مائتان، فالوجه القطع باعتبار المائتين؛ فإنه يومئذ ياخذ، فيقع الحساب وقت قبضه، فإنا إذْ ذاك نقول: يأخذ ما يأخذ بكم؟ وعلى هذا المذهب لو كان يوم القبض مائة وخمسين، ويوم العقد مائة، ويوم أخذ البائع مائة، فيعتبر يوم أخذه؛ فإن ما طرأ من زيادة ثم زال لي هو ثابتاً يوم العقد، حتى نقول: إنه وقتُ مقابلة الثمن والمثمن، وليس وقتَ أخذ البائع حتى يحسب عليه، فلا وجه إلا ما ذكرناه. وهذا منتهى الفكر [لم] (1) نغادر منه للناظر مثارَ إشكال، إن شاء الله تعالى. 3841 - وذكر الأصحاب صورةً تداني ما مهدناه، وهي أن الرجل إذا باع عبدين،

_ (1) في الأصل: ثم.

قيمة أحدهما ألف، وقيمة الثاني خمسمائة، باعهما بألف، فإن أقبضهما من غير تغير، استحق الألف، وإن أقبض الذي قيمته خمسمائةٍ، فتلف الآخر في يد البائع، استحق البائع ثلث الألف، وسقط الثلثان؛ لأن المبيع تلف ثلثاه. ولو انحطّ الذي قيمته الألف إلى خمسمائة، ثم تلف في يد البائع، وأقبض الذي قيمته خمسمائة، يستحق أيضاً ثلث الألف كما بقيت لو بقيت قيمته ألفاً؛ فإن النقصان محسوب على البائع. ولو أنه أقبضه الذي كانت قيمته ألفاً بعد أن تراجع إلى خمسمائة، ثم تلف الثاني في يده، استحق نصف الثمن لأنه يوم القبض كان نصف المبيع. وهذا بيّن لمن تمهد عنده ما قدمناه من الأصول. 3842 - ثم قال الشافعي: "وكذلك الزرع خرج أو لم يخرج". منهم من قال: أراد به تسنبل الزرع، أو لم يتسنبل، وصورة المسألة أنه باع أرضاً مزروعة، فيرجع فيها مع الزرع، وإن كان تسنبل الزرع في ملك المشتري. وهذا يدل على أحد الوجهين المذكورين في فرع البذر والزرع، والبيضة والفرخ. ومن أصحابنا من قال: " قوله: خرج أو لم يخرج " معناه نبت أو لم ينبت. وصورة المسألة عند هذا القائل أنه باع أرضاً مبذورة، فأنبتت، ثم فرضنا الرجوع بعد الفَلَس. وهذا التأويل يخرّج على أصلين: أحدهما - صحة بيع الأرض المبذورة، وفيها قولان، تقدم ذكرهما. والثاني - في البذر إذا نبت، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في فرع البذر والزرع، والبيض والفرخ. فصل قال: "ولو باعه حائطاً لا ثمرة فيه، أو أرضاً لا زرع فيها ... إلى آخره" (1). 3843 - إذا باعه حائطاً لا ثمر على أشجاره، فأثمرت في يد المشتري وأُبّرت

_ (1) ر. المختصر: (2/ 220).

الثمار. أو باع أرضاً لا زرع فيها، فزرعها المشتري، ثم أفلس، فالبائع يرجع في الحائط والأرض، ولا حق له في الثمر [والزرع] (1) وعليه أن يُبقي الثمارَ إلى أوان الجِداد، والزرعَ إلى وقت الحصاد؛ لأن الزراعة كانت بحق، وكذلك إمساك النخيل الذي جرى فيه بدوّ الثمار كان بحق، فلزم تقرير الزرع والثمار. والغاصبُ إذا زرع، قُلع زرعه لاعتدائه في ابتداء الزرع. ثم البائع إذا ألزمناه تقرير الزرع، والثمر، فليس له أن يطلب أجرةً. أما الأشجار فلا أجرة لها اصلاً، وأما الأرض، فقد صادفت الزراعة فيها ملك المشتري، وقد دخل في العقد على أن المنفعة لا تكون مضمونة عليه؛ فإن منافع المبيع لا تكون مضمونة بعقد البيع، فلم تلزم الأجرة. 3844 - ولو اكرى أرضا، فزرعها المكتري، وفُلِّس المكتري، فالمكري يرجع فيما بقي من مدة الإجارة، ونجعله في المنافع الباقية كالبائع يجد عين ماله، ثم إذا فسح الإجارة في بقية المدة، فلا يقلع زرعَ المكتري المفلس، ولكنه يغرِّمه أجرةَ المثل للمدة التي يبقى الزرع فيها، والفرق بين المشتري والمكتري أن المشتري لم يدخل في العقد على أن يضمن المنافع، والمكتري دخل في العقد (2) على أن يضمن المنافع، وإذا انقطعت الإجارة، ضمن أجرة المثل لمدة الزرع. وما ذكرناه أن البائع [والمكري] (3) لا يملكان القلع، عنينا به أنهما لا يملكان القلع لحق فسخ العقد، لما ذكرناه. 3845 - ولكن وراء ذلك نظر في القلع والتبقية إلى الإدراك. فإن رضي المفلس والغرماء بالتبقية إلى الإدراك، بقَّيْنا، وإن رضوا بالقلع، قلعنا، وإن قال المفلس: يبقى إلى أن يدرك، ويحصل منه وفاءُ الديون، أو مقدارٌ صالح. وقال الغرماء: يقلع ويباع بما يشترى، ولا نرضى بتأخير حقوقنا، بل نتعجل

_ (1) في الأصل: والأرض. (2) (ت 2): الإجارة. (3) في الأصل: المكتري.

من حقوقنا ما نقدر عليه، فالغرماء يجابون إلى ما يبغون لما ذكروه. ولو قال الغرماء: يبقى إلى أن يدرك، فقال المفلس: بل أقلع وأتعجل إنفاق مالي في الديون، حتى ينفك عني الحجر، فللمفلس ذلك. وبالجملة كل من يدعو إلى التعجيل من المفلس والغرماء، فهو مجابٌ إلى ما يطلبه. وهذا الذي ذكرناه فيه إذا كان للمقلوع قيمة، وإن قلّت. فأما إذا لم تكن له قيمة أصلا، فلا يجاب من يطلب القلع، من جهة أن ما يبغيه يؤدي إلى إبطال المالية، وتضييع الملك بالكلية. وقد نُهينا عن إضاعة المال. 3846 - ولو قال بعض الغرماء: نقلع، وقال المفلس، وباقي الغرماء: نبُقي، فلا بدّ من اتباع رأي من يطلب القلع. ولكن قال القاضي: إذا طلب واحدٌ القلعَ، قلعنا الجميع، فإنا لا ندري كم نقلع بحصة المستدعي، فإذا لم يمكنّا أن نُقدِّر شيئاًً، فلا بد من قلع الجميع. وهذا فيه نظر عندي، فإن الزرع قد يبلغ مبلغاً عظيماً، وأعداد الغرماء قد يكون مائةً فصاعداً، فكيف يحسن أن نقلعَ جميع الزرع بسبب دين درهم لرجل واحد؟ ونعطّلَ مائة ألف لمائة نفسٍ؟ وليس من الرأي أن نترك (1) أصلاً ظاهراً لا سبيل إلى تقدير مثله، بسبب جهالة نستشعرها، فلا وجه لإبطال حقوقٍ كثيرة، بسبب تعنتٍ من ذي حق حقير. فإن قيل: كم تقلعون لحق من يستدعي؟ قلنا: إذا كان حقه عُشراً، لم يخف علينا أن مقدار الخمس لا يقلع بسببه، ونحن نستيقن استيفاء العشر إذا زدنا عليه قليلاً، فلم نجبه إلى استيعاب الزرع بالقلع. فإن كان من (2) نظرٍ، ففي المقدار الذي يتمارى فيه. ثم يتجه احتمالٌ في القلع إلى درك اليقين أو في الاكتفاء بما نَحْزِرُ ونخمّن. ويجوز أن يخطر لذي نظر أنا لا نقلع ما نشك فيه مراعاة لحق الغرماء [الآخرين] (3)؛ فيعود التردد

_ (1) في (ت 2): "ننزل". (2) (ت 2): ثَمَّ. (3) في الأصل: الأخرون.

إلى محل الإشكال، وفيه احتمال من الجهة التي ذكرتها، فأما استيعابُ الزرع بالقلع فلست أرى له وجهاًً. 3847 - ولو قال الغرماء: نصبر، وقال المفلس: نعجل ونقلع؟ قد ذكرنا أن المفلس يجاب إلى القلع، فلو قال الغرماء: نبذل مؤنة الزرع من عند أنفسنا، ونسقي ونتعهد إلى الإدراك، ولا نقلع، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في ذلك: أحدهما - أنه يمنع من القلع إذا كان كذلك؛ فإنه لا غرض للمفلس. وقلعُه وهو مكفيٌّ المؤونةَ تعنت. وهذا ضعيف؛ فإنه يقول: غرضي أن يتعجل انفكاك الحجر عني، وليس عليّ توفير حقوق الغرماء. وهذا لا يدرؤه قيامُ الغرماء بالمؤنة. فإن قيل: لو قال الغرماء: لا نقلع، ونحن نفك الحجر عنك، فهذا كلام عريٌّ عن التحصيل؛ فإنه لو انفك الحجر عنه، كان له القلع بعلّة انطلاق الحجر. وإن استمر الحجر، كان له القلع باستعجال انفكاك الحجر، فلا حاصل إذاً لما قاله الغرماء. 3848 - والذي نستتم به بيان الفصل أنه لو اجتمعت عليه ديون، وكانت أصنافٌ (1) من الأموال، وعلمنا أنه لا ينتجز بيعُها إلا في مدة شهرٍ مثلاً، وكان الزرع يدرك في هذه المدة، فالذي أراه أنه لا يقلع الزرع، وإن استدعاه المفلس؛ من جهة أنه لا يستفيد بقلعه انفكاك الحجر عنه، والحجر سيتمادى إلى منتهى مدة إدراك الزرع، ومال المحجور عليه في حكم المتعيِّن لحقوق الغرماء، فلا بد من رعاية غبطتهم فيه، إذا لم يظهر خلافَ جهة الغبطة غرضٌ ظاهر للمفلس. هذا منتهى القول في ذلك. 3849 - ومما ذكره الأصحاب في الفصل أنا قدمنا استيفاء الزرع والثمر، في الأرض والشجر، وأوضحنا أن البائع والمكري لا يجابان إلى تفريغ الشجر والأرض عن الثمر والزرع، فقد يكون البائع والمكري ذا دينين على المفلس، ويكونان من

_ (1) (كان) تامة و (أصناف) فاعل.

جملة غرمائه، ويثبت لهما طلب القلع على التفصيل المقدم في طلب الغرماء لحق استحقاق الدين، لا لحق الفسخ الثابت لهما في البيع والإجارة. وهذا واضح لا خفاء به. ولو اعتنى الفقيه بحل مشكلات الفقه، كان أولى من الاشتغال بتعقيداتٍ في الصورة. فصل قال: " وكذلك لو باع أمةً، فولدت ... إلى آخره " (1). 3850 - هذا الفصل يجمع صور الوفاق والخلاف فيما يبقى [للمفلس] (2) والغرماء من الحمل، والثمر، فنقول: الوجه تقديم الكلام في الحمل، ثم إتباعه بالثمرة. فمن باع جارية، فعلقت بعد البيع بولد، وانفصل الولد قبل رجوع البائع في الجارية، فالولد للغرماء يتضاربون فيه، وليس للبائع فيه نصيب؛ فإنه لم يكن موجوداً في طرفي البيع والرجوع. 3851 - وإن باع جاريةً حبلى، وأفلس المشتري، ورجع البائع في الجارية قبل الولادة، ارتد الحمل إليه في هذه الصورة وفاقاً؛ من جهة أنه كان موجوداً في الطرفين، وتحقيق الفقه فيه أن المشتري استحق الحمل الموجود تبعاً، ثم لم تتغير الجارية عن صفتها، فيرجع كما خرج. 3852 - ولو باع جارية حاملاً، فولدت في ملك المشتري، ثم رجع البائع بعد انفصال الولد، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنه يرجع في الولد أيضاً؛ فإنه كان موجوداً حالة العقد، وسبيل كل ما ملك على البائع بالبيع أن يرجع إليه بالرجوع. والقول الثاني - أنه لا يرجع الولد إليه؛ فإنه كان صفة حالة العقد غير موثوق بها،

_ (1) ر. المختصر: (2/ 220). (2) في الأصل: للمجلس.

وهو الآن عبدٌ مملوك مستقلٌّ بنفسه، [فقدرناه] (1) كأنه وجد جديداً بعدَ البيع. وبنى الأصحاب هذين القولين على القولين في أن الحمل هل يعرف؟ فقالوا: إن قلنا: إنه يعرف، فيرجع إلى البائع من حيث كان موجوداً حالة العقد. وإن قلنا: لا يعرف، فكأنه لم يكن حالة البيع، وإنما تجدد من بعد. والأولى في ذلك ما ذكرته في التوجيه من كون الحمل صفةً، وكون المنفصل عبداً مستقلاً، ويجعل تجدد الاستقلال كتجدد الوجود. وهذا أوْلى في التوجيه على ضعفه من التعرض لكون الحمل مجهولاً؛ فإنا إن شككنا في الحمل حالة اجتنانه، فإذا انفصل لما دون ستة أشهر، لم نشك بعد انفصاله في كونه موجوداً عند العقد. 3853 - ولو باع جارية حائلاً، ثم علقت بمولود بعد البيع، وأفلس المشتري وأراد البائع الرجوعَ، والجارية حامل، فظاهر النص أن الحمل يرجع إلى البائع، ويتبع الجارية، كما يتبعها حالة البيع، حتى يصير المشتري أولى بالتَّبع (2). وخرّج الأئمة قولاً آخر: أن الحمل لا يرجع إلى البائع (3) في هذه الصورة؛ فإنه إنما يرجع [إليه] (4) ما كان موجوداً حالة العقد، وليس الحمل كزيادة متصلة. 3854 - ونصُّ الشافعي دليل على أن الحمل لا ينفرد باعتبارٍ، وليس له قسط من الثمن، وسبيله التبعية. فإن قلنا: يرجع الحمل إلى البائع كما يقتضيه النص، فلا كلام. وإن قلنا: يبقى للمشتري وغرمائه، فلا ينبغي أن يمتنع رجوع البائع بالجارية بسبب حملٍ لا يرجع إليه؛ فإنا وإن منعنا بيع جارية في بطنها حملٌ حرٌ -على تفصيل قدمناه- فلا يمتنع الرجوع لمكان الحمل. والقول في هذا وفي كيفية الرجوع في الجارية دون الحمل، وفي معنى الرجوع فيها دون الولد المنفصل، على قولنا بمنع التفريق بين الأم وولدها كلامٌ لا يتصور

_ (1) في الأصل: فيقدر تارة. (2) التبع: أي الحمل. (3) في الأصل: المشتري. (4) زيادة من (ت 2).

الوفاء ببيانه إلا بعد تقديم فصل الغراس والبناء. وهو إذا اشترى الرجل أرضاً وغرسها، [أو] (1) بنى عليها، فأفلس وأراد بائع الأرض الرجوعَ بالأرض. وهذا الفصل يأتي مستقصىً، إن شاء الله بعد هذا، على القرب، ثم نعقبه بما ذكرناه من الحمل والولد المنفصل الذي يمتنع التفريق بينه وبين الأم. هذا منتهى مرادنا الآن في الحمل. 3855 - فأما إذا باع شجرة وعليها طلع لم يؤبر، فلأصحابنا في الثمار غيرِ المؤبرة، وفي تثبيه استتارها بالأكِمَّة باستتار الجنين بالأم، وتشبيه ظهورها بالتأبير بظهور الحمل بالولادة اضطراب (2). ونحن نجمع جميع مرادهم تحت سياق الترتيب. وقد ذكرنا أربع صور في الحمل، فنقابل كلَّ صورة منها بصورة في الطلع. 3856 - فلو باع نخلة وعليها طلع لم يؤبر، فأفلس المشتري، وكان رجوع البائع قبل أن يؤبر، فهذا يناظر ما لو باع جارية حاملاً، فأفلس المشتري وهي حامل، وقد ذكرنا ثَمَّ أن البائع يرجع في الجارية الحامل، فتنقلب إليه، كما خرجت عن ملكه. ونحن نقول في الثمار: إنها ترجع مع النخلة إلى الباح، على اتفاق، ولا حاجة إلى ترجيح محل الإجماع على محل الإجماع. وإذا ذكرنا الترتيب في صور الخلاف بأن غرضنا. 3857 - ومن صور الحمل ألا يوجد في طرفي البيع والرجوع، بل تَعْلقُ بعد البيع، وتلد قبل الرجوع، فلا حظ لبائع النخلة في الثمار؛ فإنها لم تكن موجودة حالة العقد، [ثم بدت وظهرت، وزايلت حدَّ التبعية قبل الرجوع. 3858 - ومن صور الحمل أن يكون الحمل موجوداً حالة العقد] (3)، ثم ينفصل قبل الرجوع، وفيه قولان، ونظيره من الثمار، ما لو باع نخلة عليها طلع لم يؤبر، ثم يؤبّر قبل الرجوع. وفي هذه الصورة قولان أيضاًً، مرتبأن على القولين [في] (4) نظير هذه

_ (1) في الأصل: وبنى. (2) "اضطراب" مبتدأ مؤخر، خبره المقدم: "فلأصحابنا في الثمار ... ". (3) ساقط من الأصل. (4) في الأصل: ونظير.

الصورة من الحمل، والثمارُ أولى بأن يَرجع فيها البائع، والسبب فيه أنها وإن تبعت الشجرة في معظم تسميتها، فهي مقصودة في نفسها، ويسوغ في المذهب الظاهر إفرادها بالبيع، فكأنها جُعلت مقصودةً في العقد، فكانت بالرجوع أولى، والحمل كأنّه صفة، والولادة كأنه التجدد والحدوث، كما ذكرناه في توجيه القولين. 3859 - ومن صور الحمل ألا يكون موجوداً حالة العقد، ويحدث العلوق به بعد العقد، ثم يتفق وقتُ الرجوع والحمل في البطن، فقد ذكرنا قولين في الحمل: أظهرهما - أنه يرجع في الحمل، والقول الثاني - أنه يبقى للمشتري، ونظير هذا من الثمر ما لو باع نخلة، لا طلع عليها، ثم أطلعت ولم تؤبر، وحان الرجوع، ففي الثمار قولان مرتبان على القولين في الحمل. فإن قلنا: لا يرجع البائع في الحمل،. فلأن لا يرجع في الثمرة التي لم تؤبر أولى. وإن قلنا: يرجع البائع في الحمل من حيث إنه غير مقصود، فهل يرجع البائع في الثمر أم لا؟ فعلى قولين. والفرق أن الثمر مقصود في نفسه، قابل للإفراد بالبيع، ولم يكن موجوداً حالة العقد، فرجوعٌ بشيء مقصود إليه لم يكن موجوداً حالة العقد بعيدٌ، بخلاف الحمل؛ فإن كونه مقصوداً مختلف فيه، فكان رجوعه إلى البائع أقربَ من الجهة التي اختلفت في كونه مقصوداً. هذا بيان ترتيب المذهب في الثمار والحمل في الصور الأربع. فصل قال: " ولو قال البائع: اخترت عين حقي قبل الإبار، وأنكر المفلس ... إلى آخره " (1). 3860 - فرَّع الشافعي رضي الله عنه هذا الفصل على القول المنصوص الظاهر، وهو أن من باع نخلة، فأطلعت بعد البيع، وأفلس المشتري قبل التأبير، وأراد الرجوع، فله أن يرجع في الثمار مع الأشجار. ولو أُبرت الثمار قبل الرجوع، لم يرجع البائع في الثمار وفاقاً. ومضمون الفصل مُدارٌ على هاتين الصورتين.

_ (1) ر. المختصر: (2/ 220).

3861 - فلو قال البائع: رجعتُ والثمار غيرُ مؤبرة، فهي لي، وقال المشتري: بل رجعتَ بعد التأبير، فالثمار لي تصرف إلى غرمائي، فالقول قول المشتري؛ لأن الأصل إبقاء ملكه في الثمار، والأصل عدم رجوعه أيضاًً. فإن قيل: قد تقابلَ قولُنا: الأصل عدم الرجوع و [قولُنا] (1): الأصلُ عدم التأبير، فتعارضا، وتقابلا، فليخرّج ذلك على تقابل الأصلين. قلنا: تعارض القولان كما ذكره السائل، والأصل بقاء الملك للمشتري. ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المشتري، وأراد البائع تحليفه، فلا يتأتى منه تحليفه ما لم يدَّع عليه العلمَ بتقدّم رجوعه على وقوع التأبير، ولو كلفه أن يحلف أنه ما رجع قبل التأبير، كان مكلفاً إياه ما لا سبيل إليه. ولو أقر البائِعُ بجهل المشتري بتاريخ الرجوع، فيكون مسلماً له الثمرة؛ إذ مبنى الأَيْمان المتعلقة بنفي فعل الغير على أن تتضمن نفي العلم بها؛ [إذ] (2) ليس في القوة البشرية درْكُ القطع بأنتفاء ما يمكن من فعل الغير، فإن لم يدع البائع العلمَ، بقيت الثمار للمشتري وغرمائه. فإن ادعى علمَ المشتري بتقدم رجوعه على التأبير، فيحلف المشتري على ذلك، فإن حلف بالله أنه لا يعلم أنه رجع قبل التأبير، انفصلت الخصومة، واستقرت الثمرة للمشتري على ذلك. وإن حلف المشتري على البت بالله أنه لم يرجع، فالخصومة تنفصل أيضاً بهذه اليمين، وإن كان المشتري يُعدُّ مجازفاً، ومحملُ يمينه البتُّ والقطعُ على أمور مظنونة. ومعظم الناس لا يميزون بين العلم وغالب الظن، فاليمين الباتة [تفيد] (3) ما يفيده اليمين النافية للعلم. هذا إن حلف.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: وليس. (3) في الأصل: مفيد.

3862 - فإن نكل المشتري، فهاهنا وقفة؛ فإن البائع لو رددنا عليه اليمين، وحلف، لفاز بالثمار. فلو قال الغرماء: لئن قصر المشتري ونكل، فالثمار لو ثبتت له، لكانت مصروفة إلينا، فلئن لم يحلف، فنحن نحلف، فلا تردُّوا اليمين على البائع، فنقدم على ذلك أصلاً قريباً منه ونقول: 3863 - إذا مات الرجل وعليه ديون، فادعى ورثة المديون ديناً للميت، وأقاموا به شاهداً، ونكلوا عن اليمين معه، فهل للغرماء أن يحلفوا؟ فعلى قولين مشهورين. ولو ادّعى المفلس ديناً له على إنسان، وأقام شاهداً واحداً، ثم لم يحلف معه، فقال الغرماء: نحن نحلف معه، حتى إذا ثبت الدين صُرف إلينا، ففي المسألة طريقان: أحدهما - تخرّج المسألة على قولين كما تقدم في ورثة المديون والغرماء، والطريقة الأخرى - القطع بأنهم لا يحلفون؛ فإن صاحب القصة -المتوفَّى في المسألة الأولى- وقد مات وأشكل أمره، فإذا حلف الغرماء لم يظهر نقيض الصدق في أيمانهم. والمفلس صاحب القصة في مسألتنا، فإذا امتنع عن اليمين، تمكنت التهمة من الغرماء إذا حلفوا. فنعود بعد ذلك إلى اختلاف البائع والمشتري في الرجوع والتأبير، فنقول: 3864 - إن لم يحلف المشتري، فهل يحلف الغرماء؟ فعلى الطريقين المذكورين فيه إذا أقام المفلس شاهداً على دينٍ، ولم يحلف معه، فأراد الغرماء أن يحلفوا، لا فرق بين المسألتين؛ فإن نكول المفلس فيهما جميعاً يجرّ تهمة إلى الغرماء، على أن الغرماء ليسوا مستحلفين من جهة المدعي، وإنما هم يقتحمون اليمين ويبغونها، والأصل المستحلَف ناكلٌ، وأيمانهم على صورة النيابة عن يمين المشتري، والنيابةُ لا تتطرق إلى الأيمان في وضعها. ونذكر لاستكمال هذا الفن مسألة أخرى، ثم نرجع إلى ترتيب المسألة، فنقول: 3865 - لو أقر المفلس لإنسانٍ بدَيْنٍ، فقد اختلف قول الشافعي في قبول إقراره في الحال، وسيأتي ذكر ذلك. فإن قبلنا إقراره، فلا كلام، وإن لم نقبل إقراره بسبب الغرماء، فهل للمقَر له أن يحلَّف الغرماء؟

قال العراقيون: في المسألة طريقان، على العكس مما تقدم: فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان؛ لأن الغرماء ليسوا أصولاً في الخصومة، والخصومة وإن أمكنت النيابةُ فيها، فلا نيابة في الأيمان، والطريقة الأخرى - القطعُ بأنهم يحلفون؛ فإنهم ليسوا نائبين عن المفلس في أيمانهم، والخصومة موجهة عليهم، ولولا حقوقهم، لنفذ إقرارُ (1) المفلس، فإذا أرادوا أن يأخذوا أموالهم، ويحرموا المقرَّ له، فقد انتصبوا خصومه. عدنا إلى ترتيب المسألة: إذا نكل المشتري عن اليمين. 3866 - فإن قلنا: الغرماء يحلفون، فيحلفون على نفي العلم، كما كان المشتري يحلف لو رغب في اليمين، وإن قلنا: إنهم لا يحلفون، فترد اليمين على البائع. وكذلك إن قلنا: إنهم يحلفون، ونكلوا، فإن نكل البائع عن يمين الرد جُعل نكوله كحلف المشتري، وبقيت الثمار للمشتري يتضارب فيها غرماؤه. وإن حلف المشتري فقد قال الأصحاب: هذا يخرّج الآن على الاختلاف في أن يمين الرد تنزل منزلة البينة المقامة للخصومة؟ أم تنزل منزلة إقرار المدعَى عليه؟ وفيه اختلاف معروف. وهذا أوان تقريره. فنذكر ما سرده الأصحاب على وجهه. قالوا: 3867 - إن قلنا: يمين الرد كالبينة، قضينا بالثمرة للبائع، كما لو أقام بينة على تقذم رجوعه على التأبير، وإن قلنا: يمين الرد كإقرار المدعى عليه، فتخرج المسألة على قولين مبنيين على أن المفلس لو صدّق البائع، وأقر له بما يدعيه من الثمار، فهل يُقضى له بموجب إقراره على الغرماء؟ وفيه قولان [مرتبان] (2): فإن رأينا قبول إقراره، فلا كلام، وينفذ القضاء بالثمرة للبائع، وإن رأينا ردَّ إقراره وقد نزلنا يمين البائع منزلة إقرار المشتري بحقوق الغرماء مقدمةً في الحال، فيتضاربون في الثمار تضاربهم في سائر أصناف الأموال.

_ (1) (ت 2): إقرارهم. (2) ساقطة من الأصل.

فإن قيل: فاليمين التي أقدم عليها البائع لاغيةٌ في عقباها، فلم حلّفتموه؟ قلنا: ليست لاغيةً؛ فإنّ تيك الثمار لو فصلت عن الديون، بأن وجدنا في السلع التي كنا نبيعها من يشتريها بأكثر من أثمانها، وفصلت الثمار، وانطلق الحجر، فهي مصروفة إلى البائع بيمينه. 3868 - فإن قيل: نراكم تذكرون هذا الأصل تارة، وتزيفون البناء عليه، وأنتم الآن لم تظهروا تزييفة، فأظهروا آراءكم (1) فيه. قلنا: نعم، إنما نزيف التلقي من هذا الأصل إذا كان يفرِّع المفرع عليه بما يُفضي إلى إزالة ملك الغير بعد ثبوته له، ولا تعلق للخصومة به، مثل أن يقرّ الراهن لأحد المتداعيين بالتقدم بالرهن والإقباض، وينفذ الحكم بإقرار المالك الراهن، فإذا ادعى الآخر على الراهن، وحلّفناه، فنكل، ورددنا اليمين على المدعي، فمن قال من أصحابنا: إنا إذا جعلنا يمين الرد بمثابة البينة؛ فإنا نسترد الرهن من المقر له [أولاً] (2)، فهذا مزيف لا سبيل إلى اعتقاده؛ من قِبل أن الإقرار الأول قد نفذ، فنقضُه بسبب إنكار المقر ونكوله محال؛ فإنه لو صرح بالرجوع، لم يكن لتصريحه بالرجوع عن الإقرار حكم، وحَلْفُ (3) المردود عليه قولُ خصمه، والقضاء عليه بيمين خصمه -وكان معه في رتبة المدعين (4) - محال. هذا هو الذي يزيَّف ويُطَّرح. 3869 - فأما إذا توجهت الدعوى على المفلس، فهو المخاطب بالخصومة، ولو ثبت له ملك، لكان له، ثَمَّ صَرْفُه إلى ديونه، قد يكون وقد لا يكون، وإن اتفق ذلك، فهو من مصلحته أيضاًً، ولا يمكننا أن نقول: للغرماء حق ثابت في هذا المتنازع فيه، لم يثبت بعدُ، فيجري التفريع على أن يمين الرد كالبينة، أو كالإقرار في مثل هذه الصورة، وذلك أنه لم يثبت بعدُ للغرماء حقٌ في الثمار، والمفلس ذُو عبارة صحيحة في الخصومة، فإذا انتظم من مخاصمته انتهاء الأمر إلى يمين الرد، فلا يمتنع

_ (1) (ت 2): فابدوا رأيكم. (2) في الأصل: وإلا. (3) بسكون اللام وكسرها. (مصباح). (4) في (ت 2): " المدعيَيْن".

القضاء به، ويكون ذلك منعاً للغرماء مما يرونه لأنفسهم، ولا يكون قطعاً لحقوقهم. 3870 - فإن قيل: إذا كنتم تردون إقرار المفلس في الحال، فلا يمتنع عليه أن يواطىء كلَّ من يريد الإقرار له حتى يدعي عليه، فينكر، وينكل، فيرد اليمين عليه. قلنا: هذا لو لم يكن لليمين بالله تعالى موقع في النفوس، وهي معظمة في دين الله تعالى، فمن أنكر أثرها، لم يبعد إنكار أثر الأَيْمان كلها. ومن ها هنا ينشأ التردد في أنه بينة، أم هي نازلة منزلة إقرار الخصم. 3871 - ومما يتم به التفريع في هذا الطرف أنا إن قضينا بيمين البائع (1) في الحال، فلا كلام. وإن أبَيْنا القضاء بيمينه، فحكم هذا أن يفوز الغرماء بالثمار، ويعود حق البائع إلى مطالبة المشتري بعد انفكاك الحجر عنه. 3872 - فلو قال البائع للغرماء: احلفوا لي بالله لا تعلمون تقدّمَ رجوعي على التأبير، فهل له أن يحلّفهم؟ فعلى طريقين ذكرناهما الآن: إحداهما - القطع بأنهم يحلفون، لما سبق تقريره. فإن رأينا ذلك، وحلفوا، فذاك، وإن نكلوا ردّت اليمين على البائع مرة أخرى في الخصومة الجديدة، وكأن اليمين الأولى من البائع لم تكن، ثم إذا حلف بعد نكول الغرماء، قُضي له بالثمار، لا محالة. فهذه صورة تنجَّز الكلام فيها. 3873 - فلو صدّق المشتري البائع فيما ادعاه من استحقاق الثمرة، وكذبه الغرماء، فالمسألة تخرّج على القولين في أن إقرار المفلس هل يقبل في الحال؟ فإن قبلنا إقراره، فلا كلام. وإن رددناه، فالبائع المقر له هل يحلّف الغرماء؟ فعلى ما ذكرناه من اختلاف الطريقين. 3874 - ولو ادعى البائع ما ادعاه، فكذبه المفلس، وصدقه جميع الغرماء، وانتجزت الخصومة بين البائع وبين المفلس، فإن حلف المفلس على ما أوضحنا كيفية

_ (1) في (ت 2): الرّد.

حلفه، فلا يقبل تصديق الغرماء للبائع في وجوب تسليم [الثمرة] (1) إليه، غير أنهم لو أرادوا أن يطالبوا المشتري بتسليم تلك الثمار إليهم عن جهة ديونهم، لم يكن لهم ذلك من قِبل اعترافهم بأنهم لا يستحقونها، فتبقى الثمار في يدي المشتري، لا تسلم إلى البائع، ولا يتعلق بها الغرماء لإقرارهم السابق. ثم لا يملك المشتري التصرف فيها؛ لأنه محجور عليه على حالٍ، وقد يظهر له غرماء لسنا نعرفهم الآن. ثم إن ضاق المال عن الديون، فالمفلس يلتمس من الحاكم أن يصرف إليهم تلك الثمار، فيما يصرفه إليهم. فإن قالوا: نحن نعلم أنها مغصوبة، فلِمَ يكلفنا أخذَها؟ قلنا: لا يقبل قولكم في حق المفلس، والحجر مطرد عليه، وغرضه ظاهر في حصول براءة ذمته عن ديونه، فخذوا الثمار عن حقوقكم، أو أبرئوه عن مقدارها من الديون، على نظرٍ في ذلك نستقصيه. فإن أخذوها، حكمنا ببراءة المفلس عن أقدارها من الديون ثم كما (2) ثبتت أيديهم على الثمار، لزمهم الرد على البائع لاعترافهم السابق؛ فإن إقرارهم إن كان مردوداً على المفلس وما يتعلق بأمره، فهو مقبول عليهم. وهذا بيِّنٌ في قواعد الشريعة. 3875 - ولو قالوا: لا تكلفونا قبض الثمار، ولا تصرفوا أثمانها إلينا، ونحن نرضى برفع الحجر عنه، فهل يجبرون على قبض ذلك؟ فعلى قولين. وهذا هو الأصل الذي تكرر مراراً، من قِبل أن الغرماء إذا كانوا لا يدّعون للمفلس مالاً، سوى ما في يد الحاكم، واعترفوا بأن الثمار ليست له، فالحجر ينفك، أو يفك، على تفصيل يأتي لا محالة، إن شاء الله. إلا أن يدّعوا له مالاً خفياً، وسيظهر أثر ذلك من بعد. فكأن المشتري مديون أتى بمالٍ ليصرفه إلى مستحق الدين، فأبى عن قبوله، وزعم أنه غصبٌ، فقوله بأنه غصب مردود، وهل يجبر على قبوله؟ فعلى القولين المشهورين في أن من جاء بدين مؤجل عليه أو حالٍّ، فامتنع المستحِق عن قبوله، فهل يجبر عليه أم لا؟

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) كما: بمعنى عندما.

هذا حاصل الكلام في ذلك. 3876 - ولو جاء المكاتَب بالنجم، فقال السيد: إنه مغصوب، لم يقبل قول السيد، وأجبر على القبول؛ فإن للمكاتب غرضاً صحيحاً في قبول ما جاء به، وقول السيد مردود عليه. نظير هذا من مسألتنا ما لو امتنع الغرماء من قبول الثمار، وأبَوْا أن يفكوا الحجر، وزعموا أن له مالاً سوى الثمار مغيّباً، وكانت الديون تتأدى بالثمار، فيجبر الغرماء حينئذ على القبول؛ لظهور غرض المفلس في استفادة انفكاك الحجر. هذا فيه إذا كذب المفلس البائع، وصدقه الغرماء. 3877 - فأما إذا كذب المفلس البائع، كما ذكرناه، وانقسم الغرماء، فصدّق بعضهم البائعَ، وكذبه آخرون، فالأولى أن يَرفُق الحاكمُ بالمصدقين، ويصرف الثمرة إلى المكذبين، ويصرفَ إلى المصدقين صنفاً آخر؛ فإنه لو لم يفعل ذلك، وصرف إلى المصدق شيئاًً من الثمرة، لكان ذلك خسراناً عليه (1)، من جهة أنه يلزمه تسليمه إلى البائع المقَر له. ثم يُبيّن المصدقَ والمكذبَ حكمٌ نصفه في صورة. فنقول: الثمرة خمسمائة، وللمفلس ألف سواها، وله غريمان لكل واحد منهما ألفٌ. فإذا صرفنا الخمسمائة إلى المكذّب منهما، وبقي الألف بين المصدق والمكذب، فلو قال المصدق: ضارب في الألفِ بخمسمائة؛ فإنها حقك بزعمك، فالألف بيننا أثلاثاً أضرب فيه بسهمين، وتضرب فيه بسهم، فكيف السبيل؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تقسم الألف ثُلثاً وثلثين بينهما، ويؤاخذ المكذب بإقراره. وقد قال: قبضت من حقي خمسمائة. هذا وجه ظاهر. ومنهم من قال: يضارب المكذب المصدق في الألف الباقي على نسبة التشطير، ويقول: ألفي باقٍ على زعمك، وأنت مؤاخذ بإقرارك، وقد فرّطتَ وضيعتَ

_ (1) أي على المصدق.

مضطرَبَك؛ إذ صدقت البائع، فيرجع من الألف خمسمائة إلى المكذب، ويتوفر عليه حقُّه كملاً. 3878 - وما ذكرناه من أمر الحاكم بتسليم الثمرة إلى المكذب كيف قولنا فيه؟ أهو حتمٌ؟ أم للحاكم أن يقسط الثمرة على المكذب والمصدّق؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز للحاكم صرفُ الثمرة إلى المصدّق إذا أمكنه صرفُها إلى المكذِّب لما فيه من [التخسير] (1). والثاني - لا يجب على الحاكم رعاية هذا، وإنما يُمضي حكمَه وقضاءَه على قول مَنْ جعل الشرعُ القولَ قولَه، والأصح أنه يجب عليه رعايةُ هذا، فإنه ناظِرٌ للمسلمين، فلا يجوز أن يسعى في إيذائهم من غير غرض. فصل قال: " وإن وَجَدَ بعضَ ماله، كان له بحصته ... إلى آخره " (2). 3879 - وهذا مما سبق تقريره فيما مضى، ولكنا نعيده لغرضٍ لنا، فنقول إذا باع شيئين بثمن وسلمهما، فأفلس المشتري، وقد تلف في يده أحدُ الشيئين، فقاعدة المذهب أنه يرجع بالعين الباقية، ويأخذها بما يخصها من الثمن، ويضارب الغرماء بما يخص العين الفائتة من الثمن. هذا هو الأصل. 3880 - وذكر صاحب التقريب والعراقيون في هذه المسألة، وفي كل مسألة تضاهيها أن من أصحابنا من خرّج هذا على أصلٍ ذكرناه في تفريق الصفقة، وهو أن من اشترى عبدَيْن، فتلف أحدهما قبل القبض، وانفرع العقد فيه، وأجاز (3) المشتري البيع في الباقي، الخِيَرةُ بتمام الثمن (4) أو بقسطه؟

_ (1) في الأصل: التنجيز. (2) ر. المختصر: (2/ 220). (3) (ت 2): "واختار". (4) قال الإمام هناك -في باب تفريق الصفقة-: " إن القول بالإجازة بتمام الثمن لا اتجاه له، ولولا اشتهاره في النقل، لما ذكرناه "

فعلى قولين: فقال قائلون: ها هنا يخرّج هذان القولان أيضاًً، ففي قولٍ، نقول للبائع: خذ العين القائمة (1) بجميع الثمن، أو دَعْها، وضارب بجميع الثمن. وفي قولٍ، نقول: يأخذ ما وجد بحصته ويضارب الغرماء بحصته من الثمن. والقول المذكور في أن العقد يجاز في العبد الباقي بعد تلف العبد الآخر بتمام الثمن، في نهاية الضعف، والمصير إلى ذلك القياس في هذا المقام خرقٌ لنظم المذهب بالكلية. 3881 - وطرد هذا القائل هذا المسلك في الشفعة، فقال: من باع سيفاً قيمته مائة، وشقصا قيمته عشرة، بمائة وعشرة، فجاء الشفيع يطلب الشقص؛ فنقول في قول: خذ الشقص بجميع الثمن، أو دع الشفعة، وفي قول نقول: خذ الشقصَ بنسبته. وهذا الآن عندي قريب من خرق الإجماع، فالوجه القطع بأن البائع يرجع فيما بقي ويأخذه بقسطه، ويضارب بقسط من الثمن. فإن قيل: كيف نعتبر قيمة الفائت (2) والباقي؟ قلنا: نحن على قرب عهدٍ بهذا، فالفائت بمنزلة الثمار في المسألة العويصة في صدر الكتاب إذا (3) صوَّرنا فواتها، والعبد الباقي بمثابة الشجرة الباقية. وقد ذكرنا تفصيل المسألة على أحسن مساق. فصل قال: " ولو كانت داراً، فبنيت، أو أرضاً، فغرست ... إلى آخره " (4). هذا من فصول الكتاب، فليخصِّصْه الناظر بتثبُّت في الفكر. 3882 - إذا باع الرجل أرضاً من إنسان، وسلّمها، فغرسها المشتري، أو بنى فيها، ثم أفلس. وما كان أدّى الثمن، والأرض مبنية و (5) مغروسة، فالوجه التنبيه

_ (1) (ت 2): الباقية. (2) (ت 2): التالف. (3) كذا في النسختين، و (إذا) هنا بمعنى (إذ) وهو استعمال صحيح، نبه إليه إمام النحاة ابن مالك (ر. شواهد التوضيح والتصحيح: 63). (4) ر. المختصر: (2/ 220). (5) كذا. ولعلها: أو مغروسة.

لمثار الإشكال في المسألة أولاً، ثم نخوض فيها بعون الله وتوفيقه. 3883 - فنقول: المشتري بغرسه وبنائه متصرف في ملك نفسه، وليس أيضاًً على رتبة مستعير؛ فإن العاريّة عرضة الاسترداد، [و] (1) لما أفلس وقد تمهد في الشرع أن البائع يرجع إلى عين ماله، وعين ماله عتيدة، ولكنها مُغيَّرة. والجمع بين تفريغ الأرض له وبين رعاية حق المشتري والغرماء عَسِر، فكيف السبيل؟ فنقول أولاً: إن طمع البائع في أن يقلع البناء والغراس مجاناً وتحبَطَ (2) قيمة البناء والغراس، ويرد إلى النقض والحطب (3)، فهذا طمع محال؛ فإن المشتري لم يكن غاصباً، وإنما يُنقض على هذا الوجه بناء الغاصب وغراسه. فلو قال البائع: لست أرجع في عين الأرض إلا على هذا الوجه، قلنا: فلا مرجع لك إذاً، فضارب الغرماء بالثمن، واقنع بما يخصك. وإن كان لا يبغي البائع هذا المحال (4)، ولكن أراد أن يرجع إلى عين حقه، ومعلوم أن الأرض البيضاءَ أكثرُ قيمة من الأرض المبنية والمغروسة، إذا كانت تباع دون الغراس والبناء، فلا بد وأن يتداخله نقص. فإذا تنبه الفقيه لهذا، ولما ذكرناه، فعبارات الأصحاب فيها بعض الإيهام والخبط. وأنا بعون الله تعالى آتي بمقصود الطرق على أقرب صيغةٍ إن شاء الله تعالى. فأقول: 3884 - حاصل ما ذكره الأئمة في ذلك أقوال: أحدها - أنا نجعل البائع واجداً عين ماله، فليرجع فيها من غير أن يعتقد جواز القلع مجاناً، وله أحكامٌ (5) على هذا القول سأصفه في التفريع.

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) تحبط: تهلك. (من باب تعب). (3) النقض والحطب: أي مخلفات الهدم، وقلع الزرع. وفي (ت 2): النقص والحبط. (4) المحال: أي الرجوع في الأرض، وإتلاف البناء والغراس، على صاحبها. (5) (ت 2): احتكام.

والقول الثاني - أنا نجعل بائع الأرض فاقداً عين ماله. فإن قيل: لم ذلك؟ وهو يقول: أنا أقنع بالأرض ناقصةً، ولا أقلع الغراس والبناء؟ قلنا: قد جرى البناء بحق، وقيمته على مبلغ لو كانت الأرض معه، ولو رجع البائع بعين ماله، لنقص البناء وإن لم يقلع، فتضمن ذلك غضاً من قيمة البناء. وقد أُنشىء (1) بحق، وليس كما لو كان المبيع مجرداً، لا يؤدي الرجوعُ فيه إلى تنقيص حق المشتري. ويتم وجه هذا القول بأن الباني يغرَم في البناء أموالاً يجبرها قيمة البناء، فإذا قطعنا الأرض عن البناء، تضمن ذلك تخسيراً للمشتري ظاهراً، وهذا يضاهي الردَّ بالعيب القديم مع عيب حادث؛ فإنه لو تسامح (2)، كان استدراك ظلامة في ضمن إلحاق ظلامة. هذا بيان هذا القول. 3885 - وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً، وهو أن البائع يرجع في عين الأرض، ولكن لا يمكن بيعها، فتباع الأرض مع البناء؛ حتى لا يؤدي إلى التخسير، ويجعل البائع الراجع شريكاً، بمثابة صاحب الثوب غير المصبوغ إذا صبغ المشتري ثوبَه، على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله عزّ وجلّ، ثم الثوب المصبوغ يباع ويوزع الثمن على قيمة الثوب والصبغ، وهذا عدلٌ في رعاية الحقين؛ فلا صاحب البناء يبيع بناءه وحده، ولا صاحب الأرض، بل تباعان. ومن سلك المسلك المقدم، استبعد الحجر على صاحب الأرض في بيعه أرضَه، وقال: ليس ذلك كالثوب والصبغ؛ فإن إفراد أحدهما بالبيع غير ممكن، فاضطررنا إلى بيع الثوب في الحقين. 3886 - وحكى العراقيون قولاً آخر بعيداً، وقالوا: إن كانت قيمة البناء أكثر، فليس بائعُ الأرض واجداً عينَ ماله. وإن كانت قيمة الأرض أكثر، فصاحبُ الأرض واجدٌ لعين ماله. ولعل هذا القائل يذهب مذهب اتباع الأقل [و] (3) الأكثر، ولم

_ (1) في النسختين: أنشأ. (2) (ت 2): ساغ. (3) مزيدة من (ت 2).

يتعرضوا لاستواء القيمتين، وهذا يقل قدره عن إتعاب الفكر في تفريعه. 3887 - والآن نفرع على الأقوال، فنقول: من قال: إنه فاقدٌ لعين ماله، فنجعل حقه في المضاربة بالثمن، ومن قال: إنه واجد وليس وجدانه على مذهب الشركة التي ثبتت في الثوب المصبوغ، فظاهرُ التفريع على هذا القول أنه إذا رجع في عين الأرض، ثبتت له سلطنة، وهي خِيَرةٌ بين ثلاث خلالٍ. فإن أراد بذَلَ قيمة البناء والغراس ثابتين، وإن أراد قلَعَهما، وضمن ما ينقصه القلع. وإن أراد بَقَّاهُما وألزم من يبقى البناء له أجر المثل له (1) في المستقبل. والتعيين في كل خصلة من هذه الخصال إلى البائع الراجع، وكأنا أحبَبْنا (2) ردَّ الأرْض عليه كما خرجت عن ملكه، فصدّنا عنه امتناعُ إبطال البناء والغراس، فأثبتنا له رتبةَ سلطان المالكين، حتى كأن البناء صدر عن إذنه، وكأنه المعير. ومن أعار أرضاً حتى نبتت وغرست، فمآل الأمر يؤول إلى ما ذكرناه. 3888 - ومن تمام البيان في ذلك أن الغرماء لو امتنعوا عن قبول هذه الأشياء، واختلفوا: فعيّن البائع خصلة وطلبَ الغرماءُ والمشتري خصلة، فكيف السبيل والحال هذه؟ اختلف أصحابنا في هذه المسألة: فمنهم من قال: إذا [استيقن] (3) منهم النكد (4)، وظهرت المخالفة، قُلع الغراس والبناء مجاناً، كما يفعل ذلك بين المعير والمستعير؛ فإن المستعير إذا أبى قبول خصلة من الخصال التي ذكرناها، قُلع غراسه مجّاناً. وقد نزّلنا البائع على التقدير الذي ذكرناه منزلة المعير. هذا وجه. والوجه الثاني - أنهم وإن خالفوا ولم يقبلوا، لم يُقلع بناؤهم مجاناً، ولكنا نقول للبائع: ماذا تريد؟ فإن أراد القلع، قلعنا، ولهم ما ينقصه القلع. وإن أراد تملك البناء والغراس بالقيمة، ملّكناه تلك الأعيان، وألزمناه قيمتها. وإن أراد أن يلزمهم الأجرة ما أبقَوْا البناء والشجر، ألزمناهم؛ فلا حاجة إلى تعطيل حقوقهم، وقلع بنائهم

_ (1) عبارة (ت 2): من يبقى له البناء أجر المثل في المستقبل. (2) وكانا أجنبيين. (3) (ت 2): استقر. (4) النكد: العناد، والمعاسرة. (معجم).

وغراسهم مجاناً، ونحن نتمكن من تحصيل ما يريده البائع في (1) الخِيَرَات الثلاث. نعم، إذا عاند المستعير، ارتفع عذرُ المعير، وجاز له استرداد الأرض كما كانت من غير غرم، وسنستقصي ذلك في كتاب العاريّة. والمشتري لا يعتمد بناءه وغراسه إذنا متعرضاً للرجوع، ولكنه اعتمد ملكه الثابت، فلا حاجة لتعطيل تصرفه وتخسيره ماله. 3889 - وإن فرعنا على أن بائع الأرض يرجع فيها رجوع بائع الثوب بعد صبغه، فمعنى ذلك أن الأرض والغراس أو البناء يباعان معاً، ويوزّع الثمن عليهما، فما خص الأرض كما سنصف التوزيع ينفرد البائع به، وما خص البناء، فهو للمشتري وغرمائه. ومن امتنع من بيع ما أضفناه إليه، أُجبر على البيع؛ فإنا لو كلفنا واحداً أن ينفرد ببيع ملكه، لكان ذلك مضراً به مُخسراً إياه، وسبيل الأرض والبناء في هذه القاعدة -وهي الحَمْل على بيعهما- كسبيل الثوب والصبغ، على ما سنذكره. هذا بيان هذا القول على الجملة. وتمام بيانه موقوف على بيان كيفية التوزيع. 3890 - وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تقوَّم الأرض دون النخيل، والبناء، ثم مع النخيل، والبناء، فنقول: قيمتهما دونها مائة، ومعها مائة وخمسون، فيقسم الثمن أثلاثا بالغاً ما بلغ، ثلثاه لمالك الأرض. ومنهم من قال: تقوّم الأرض دون النخيل والبناء، فإذا قيمتها مائة، ثم يقوّم البناء والنخيل دون الأرض، فإذا قيمتهما مائة، فيقسم الثمن بينهما نصفين، وقد تقدّم نظير هذا الاختلاف في الأصول السابقة. 3891 - ولو وهب رجل أرضاً بيضاء وسلمها، وكان يثبت له حق الرجوع في الهبة، فلو بنى المتَّهب وغرس فيها فرَجْع (2) الواهب في الأرض بعد بناء المتهب وغراسه، كرجوع البائع في كل تفصيلٍ، بلا فرق في الأقوال، والتفريع عليها.

_ (1) (ت 2): والخيرات. (2) في (ت 2): "رجع " (بهذا الضبط). ورَجْع وزان (فَعْل) بسكون العين مصدر رجع يرجع رَجْعا ورجوعاً. (مصباح).

3892 - فرع: إذا باع الرجل جاريةً، فولدت في يد المشتري وأفلس المشتري، وكان الولد بحيث لا يرجع فيه بائع الجارية، ومنعنا التفريق بين الأم وولدها، فكيف يرجع البائع، وليس الولد له؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يقال له: إما أن تبذل قيمة الولد فتأخذه مع الجارية، وإما أن يباعا معاً، فتأخذ حصتك من الجارية، وتدفع إلى الغرماء ما يقابل الولد. والوجه الثاني - أنه يقال: إما أن تبذل بدلَ الولد، وإما ألافجعلك واجداً لعين مالك، فتضارب الغرماء بثمن الجارية، ويبطل حقك من الرجوع، فإذا كان يرجع البائع في الجارية الحامل، ولا يرجع في حملها على قولٍ في صورةٍ، فلا وجه إلا المكث إلى انفصال الولد، وعند ذلك يتفرع ما ذكرناه في الجارية، وولدها من اختلاف الجوابين عن طريقة العراق (1)، ولا يمكننا أن نقوّمها حاملاً، ونقوّمها حائلاً؛ فإن الحمل غير موثوق به قبل الانفصال، فلا ينتظم توزيع يُهتدى إليه. والأصحُّ، وظاهر النص أنه يرجع في الحمل كما تقدم. فصل قال: " ولو كانا عبدين بمائةٍ ... إلى آخره " (2). 3893 - صورة المسألة باع عبدين متفقي القيمة بمائةٍ، وقبض خمسين، فتلف أحدهما في يد المشتري وفُلِّس، فقد اجتمع في المسألة تبعيضٌ في الثمن، وتبعيض في المثمن، فإن البائع قبض نصف الثمن، وبقي في يد المشتري عبدٌ، وهو على نصف قيمة المثمن. فالذي نص عليه الشافعي أن البائع يرجع في العبد الباقي ببقيّة الثمن، فجميع المقبوض من الثمن في الهالك، والباقي في القائم، وصار في هذا إلى أن إحالة البائع على المفلس بشيء من الثمن مع أن الباقي من المثمن وافٍ بالباقي

_ (1) كذا في النسختين، والمعنىُّ طريقة العراقيين. (2) ر. المختصر: (2/ 220).

من الثمن لا وجه له، وكأن هذا القائل يجعل تعلق البائع بالمبيع في الثمن بمثابة تعلق المرتهن بالرّهنِ في مقابلة الدين. وفي المسألة قول آخر، خرّجه الأصحاب من أجوبة الشافعي في الصداق والزكاة. وهو أن المقبوض من الثمن يتوزع على التالف والباقي؛ والباقي من الثمن يقابل التالف والباقي، وهذا يتضمن أن يرجع في نصف العبد القائم الذي في يد المشتري، ويضارب الغرماء بما يقابل نصف التالف، فيقع الرجوع في ربع الجملة، وهو نصف العبد القائم، وتقع المضاربة في ربع الثمن. وهذا القول المترجم بالشيوع اختيار المزني. وهو القياس. والقول الأول يُشهر بقول الحصر (1). وسنذكر حقيقة الشيوع في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " ولو أكراه أرضاً، ففُلِّس، والزرع بقلٌ في أرضه ... إلى آخره " (2). 3894 - إذا اكراه أرضاً مدة، ولم يقبض الأجرة، وسلّم الأرض، ثم أفلس المكتري، فالمكري في بقية المدة بمثابة البائع الواجد لبعض المبيع بعينه، والمنافع في المدة الماضية مستوفاة فائتة، فلا يتوقع الرجوع فيها، والمنفعة الباقية بمثابة بعض المبيع؛ فللمكري أن يفسخ الإجارة في بقية المدة، ويرجع إلى قسطٍ من الأجرة، في مقابلة المنافع المستوفاة. هذا هو المنصوص عليه، وهو الذي قطع به جماهير الأئمة. 3895 - وحكى صاحب التقريب قولاً (3) غريباً أنه لا يثبت الرجوع بالمنافع، وليست كالأعيان؛ فإن الوجود لا يتحقق فيها، وإنما الرجوع في الأعيان القائمة، فلا

_ (1) في (ت 2): "يشهد لقول الحصر". (2) ر. المختصر: (2/ 221). (3) (ت 2): وجها.

مرجع (1) للمكري إلا إلى المضاربة بالأجرة المسماة، ثم تلك المنافع في بقية المدة ينبغي ألا تضيع، ولكن تكرى الأرض في بقية المدة، وتصرف أجرتها إلى ديون المفلس. وهذا القول وإن كان يتجه بعض الاتجاه، فليس معدوداً من متن المذهب. فنعود إلى التفريع على النص ونقول: 3896 - إذا أراد الرجوع إلى المنفعة في بقية المدة، فالوجه تقويمها فيما يبقى من الزمان، حتى إذا ثبت مقدار أجرتها، قيس بمقدار أجرة المثل للمنفعة الماضية، ثم يقع التوزيع على المبلغين، فيأخذ المنفعة الباقية بما يساويها من الأجرة المسماة، المنسوبة إلى أجرة المثل، ويضارب بما يقابل أجرة المنفعة الماضية من الأجرة المسمّاة. ولا تعويل على زمانٍ؛ فإن الأوقات ليست معقوداً عليها، وإنما المعقود عليه المنافع الواقعة فيها، فهي لها ظروف مقدرةٌ، كالآصع والمكاييل للمكيلات، ومبَالغ الأجر تتفاوت بكثرة الراغبين وقلتهم، فيعتبر ذلك، لا الزمانُ نفسه، وقد تقع المنافع في الزمان الماضي وفي المستقبل في مواسم الرغبات، فالمسكن في موسم الحج قد يكترى بالمائة، وأيام الموسم شهرٌ أو أقل، وذلك المسكن يكترى في طول السنة بعشرة، فلا بد من اعتبار هذا. وسنصفه إن شاء الله تعالى. 3897 - ولو كان أكرى [أرضا] (2) وسلَّمها، فزرعها المكتري، وفُلِّس، واختار المكري الرجوعَ إلى المنفعة في بقية المدة، فليفعل ذلك، وليفسخ الإجارة، ولا سبيل إلى [قلع] (3) الزرع؛ فإنه زرع بحق الملك. ولا يجوز للمكري القلع بشرط ضمان النقصان، بخلاف ما ذكرناه في الغراس والبنيان. والسبب فيه أن الغراس والبنيان لا ينتهيان إلى أمدٍ في الزمان، فلم يبعد التسليط فيهما على القلع بشرط الضمان، والزرعُ له أمد معلوم.

_ (1) (ت 2): فلا يرجع المكري. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: بيع.

وأقرب المسالك في استدارك الحقوق جُمَع تبقيةُ الزرع. ثم فائدة فرعه الإجارةَ أنه يرجع إلى أجرة المثل للمدة الباقية، لا يضارب بها، بل يُقدَّم بها، كما نُقدِّم مَنْ تعامل بعد الإفلاس معاملة تليق باستصلاح أموال المفلس، فيرجع بأجرة المثل فيما بقي من المدة مقدَّماً بها، ويضارب بأجرة مثل ما سبق من المنافع الغرماءَ. 3898 - وقد كنا ذكرنا أن من باع أرضاً وسلمها؛ فزرعها المشتري ثم أفلس، ورجع البائع إلى عين الأرض، فالزرع يبقى إلى الحصاد، كما ذكرناه، ثم لا يرجع البائع بأجرة مثل الأرض في تلك المدة، وفرقنا بين الشراء والاكتراء، بأن المكتري خاض في العقد على ضمان المنافع، والمشتري لم يخض على ضمان المنفعة. هذا ما ذهب إليه جميع الأصحاب. 3899 - وحكى صاحب التقريب قولاً مخرجاً عن ابن سريج في أن البائع إذا فسخ البيعَ، ورجع في المبيع (1)، استحق أجرة المثل لبقية المدة؛ فإن الأرض انقلبت إلى ملكه، والمنافع المحتسبة بسبب إبقاء الزرع تالفة من حقه وملكه، فلتُضمن له. وأقرب نظير في هذا أن المشتري لو بنى وغرس، فأراد البائع الراجع في المبيع أن يُبقي البناءَ والغراسَ، ويُلزم المفلسَ أجرة المثلِ مدة بقاء البناء، فله ذلك، وهذا أجرة منفعة في عاقبة بيعٍ فُسخ بالإفلاس، فلا فرق بين منافع الأرض في مدة الزرع وبين منافعها في آمادٍ من البناء، إلا أنَّ لإحدى المنفعتين أمداً محدداً. وهذا منقاسٌ بالغ. ولكن المذهب المشهور ما ذهب إليه الجمهور، من أن منفعة الأرض في مدة الزرع في صورة البيع لا تقابل بأجرة، وتعتقد كأنها تابعةٌ، ومدةُ مهلة في تفريغ المبيع. 3900 - ثم ما ذكرناه من أن الزرع لا يقلع عَنَيْنا به أن المكري لا يملك القلع بحق الفسخ، فلو طلب الغرماء القلع ليتعجلوا ميسور حقوقهم، أجيبوا. ولو كان المكري

_ (1) (ت 2): البيع.

من الغرماء بسبب المنفعة المستوفاة في الزمان الماضي، فله المطالبة بالقلع لحق تعجيل الدين، لا لحق الفسخ. وهذا مما سبق تقريره. ولو اتفق الغرماء على التبقية، واحتيج إلى السقي، والتعهدِ إلى الإدراك؛ فإنْ تطوَّع الغرماءُ بهذا، فلا كلام، وإن أرادوا بذلَ المؤنةِ على أن يُقدَّموا بها، ورضي المفلس، واقتضت المصلحة ذلك، أجيبوا إلى هذا. فلو فرضنا غريمين لا غيرَ، ثم قَدَّما المؤنة على نسبة حقَّيهما، فإن لم يَبْدُ غريمٌ غيرُهما وحقوقهما تزيد على مبلغ المال، فلا يظهرُ أثرُ تقديمنا للغريمين ما عجلاه من المؤنة؛ فإن المال كلَّه مصروف إلى حقوقهما. وإن فرض بُدُوُّ غريمٍ ثالث، فإذ ذاك يتبين أثر تقديمنا للغريمين بما عجلاه لمؤنة تبقية الزرع. وهذا واضحٌ لا خفاء به. فصل قال: " وإن باعه زيتاً فخلطه بمثله ... إلى آخره " (1). 3901 - إذا اشترى زيتاً وخلطه بما عنده، لم يخل: إما أن يخلطه بجنسه، وإما أن يخلطه بما ليس جنساً له، فإن خلطه بجنسه: إما أن يخلطه بمثله، أو أردأ منه، أو أجود منه، فإن خلطه بزيتٍ مثله، أو أردأ منه، فظاهر النص أن بائع الزيت واجدٌ عينَ ماله، وسبيل رجوعه إلى عين ماله القسمةُ فإن كان الخلط بالمثل، وكان خلطه مكيلةً بمكيلةٍ، فالقسمة على السّوية. وإن خلطه بأردَأ منه، فالقسمة على السوية أيضاًً. ثم إذا رَدَدْنا من هذا المختلط مقدار المبيع إلى البائع، فلا شك أن حقه ناقص، ولكن ما لحقه من النقص ملحقٌ بعيب يفرض طريانه. وإذا عاب المبيع، ثم أفلس المشتري وأراد البائع الرجوع إلى عين المبيع، فيلزمه أن يقنع بالمبيع معيباً. ولا يرجع بأرش.

_ (1) ر. المختصر: (2/ 221).

وهذا كلامٌ منّا مُبْهمٌ في صدر الفصل، ولا ينتجز الفصل إلا بعد انكشاف الغطاء، إن شاء الله تعالى. هذا إذا كان الخلط بالمثل أو الأردأ. 3902 - فأما إذا خلط المشتري الزيتَ بزيت -عنده- أجود (1)، فهل يكون البائع واجداً عين ماله؟ تردد قولُ الشافعي فيه، فقال في أحد القولين: إنه واجد كما إذا وقع الخلط بالمثل أو الأردأ، وكما لو باع ثوباً فصبغه المشتري فبائع الثوب واجد (2) عينَ ماله، وإن اتصل به عينُ مال المشتري اتصالاً لا يقبل التمييز، على ما سنذكر هذا على الاتصال بهذا الفصل. وقال في القول الثاني: البائع فاقدٌ -في الحكم- عينَ المبيع. قال الشافعي: لأن الذائب إِذا اختلط بالذائب، انقلب. وأشار إِلى أن عين المبيع لا يمتاز أصلاً، ولا يتأتى امتيازه حساً ودَرْكاً. وليس كالثوب يُصبغ، والسَّوِيقُ يُلتُّ بالسّمن؛ فإِنّ أحد الجوهرين ممتازٌ في الدرك. ثم إِن أصحابنا لما رأَوْا الشافعي يتعلق بانقلاب الذائب، انعكسوا على الخلط بالمثل والأردأ، فرأى بعضهم أن يخرّج فيما مضى قولاً أن البائع فاقدٌ عين ماله؛ فإن المبيع لا يأتي تميُّزه فصلاً، ولا دَركُه على التعيين. وقد ذكرنا أن من اشترى حنطة، فانثالت عليها حنطة أخرى للبائع قبل التسليم إِلى المشتري، فهل يُقضى بأنفساخ العقد؟ فعلى قولين. وإِذا كنا نجعل الاختلاط في قولٍ بمثابة تلفِ المبيع، فلا يبعد أن يجعل الاختلاط بالمثل في يد المشتري بمثابة التلف. ومن أصحابنا من أجرى الخلط بالمثل والأردأ على القطع، وخصص القولين بما إِذا كان الخلط بالأجود. وهذا ظاهر النص، ومقتضى نظم كلام الشافعي. ويبعد عن موافقة مراده أن نقول: ما فصَّله، ثم قطع جوابه في بعض التفاصيل، وردده في البعضِ لا فرق فيه. وهذا إِن قيل به ردٌّ لكلام الشافعي، وإِبطالٌ لتقسيمه وتفصيله.

_ (1) في (ت): "أجود عنده". (2) في الأصل: واجداً.

3903 - ونحن نذكر تنبيهاً على قواعدَ في الخلط، فنقول: أما فرض الاختلاط في البيع قبل القبض، فإِنه جارٍ في ملكٍ غيرِ مُفضٍ إِلى القرار، وهو عرضةٌ للانقلاب إِلى البائع، فإِن تردد القول، وتمثل في انفساخ العقد عند اختلاط المبيع بمثله، [فسببه] (1) ما ذكرناه. ولو كان للرجل ملكٌ مستقر في شيء دون شيء من ذوات الأمثال، [فاختلط] (2) به ملكٌ لغيره مثلٌ له، وليس بينهما عقد يُفسخ، فالوجه قسمة ذلك المختلط بينهما، لا طريق غيره. وليس في هذه الواقعة عقد يتوقع رفعه، بل الاختلاط في المثليات يصير بمثابة الشيوع في الملك، فلا فرق بين أن يرث رجلان صاعين من الحنطة في أن طريق التفاصل القسمة، وبين أن يختلط صاعٌ لأحدهما بصَاعٍ لآخر؛ ولهذا صحت الخلطة في المثليات عمدةً للشركة، كما سنصف ذلك في قاعدة الكتاب، إِن شاء الله تعالى. وإِذا باع شيئاًً من ذوات الأمثال، فخلطه المشتري بجنسه، فهذا خلط في معقودٍ عليه، جرى بعد قرار الملك، ولكن طريان الإِفلاس يسلط البائعَ على الرجوع في المبيع، فكان على مخالفة المبيع قبل القبض، ولم يكن أيضاًً كاختلاط ملك بملكٍ من غير فرض عقد؛ فإِن البائع إِنما يرجع في المبيع لمكان البيع الذي جرى. وهذا يقتضي أن يرجع فيما كان مورداً للعقد. فألحق بعضُ الأئمة الخلطَ كيف فرض بالخلط قبل القبض، حتى يتردد القول في الخلط بالمثل والأجود والأرْدأ. والوجه في المذهب ألا يُقضى بأن الخلط في عينه يؤثر، من قِبَل أنه جرى في ملكٍ مستقر، ولكن إِن أمكن فرض الرجوع من غير تعذر، لزم إِثباته، وتنزيلُ الأمر على التفاصل الذي يجري بين الملكين إِذَا اختلطا. وإِن فرض تعذرٌ في طريق الرجوع كما سنصفه في الخلطِ بالأجود، فينشأ منه تردُّدٌ في أن البائع هل يكون واجداً عين ماله؟ وسبب التردد تعذر تصوير الرجوع إِلى المقدار المبيع. وهذا إِنما يتبين بالتفريع. فهذا بيان قاعدة الفصل، في الفرق بين الخلط بالمثل، والأردأ، والأجود.

_ (1) في الأصل: سببه. (2) في الأصل: فالخلط.

3904 - عُدنا إِلى التفريع على القولين في الخلط بالأجود، فنقول: لو كان الزيت المشترى يساوي درهماً، وقد خلطه بمقدارٍ من الزيت الجيد مثلِ مقدار المبيع، ولكن كان قيمةُ الجيد درهمين. فإِن قلنا: لا يكون البائع واجداً عين ماله، ضارَب بالثمن، وكان أُسوة الغرماء. وإِن جعلناه واجداً عين ماله، ففي طريق إِيصالِه إِلى حقه من عين المبيع إِذا اختار فسخَ البيع قولان: أحدهما - أن الزيتين يباعان، ويوزع الثمن بالغاً ما بلغ على الثلث والثلثين. وهذه النسبة مأخوذة من تفاوت القيمتين. هذا قول. والقول الثاني - أن الزيت المختلط يقسم بين البائع والمشتري على نسبة القيمة ثلثاً وثلثين، فإِن كان المقدار المختلط مكيلتين، قسمناها ثلثاً وثلثين، فرددنا إِلى البائع ثلثي مكيلةٍ، وبقَّينا على المشتري مكيلةً وثلثاً، يضطرب فيها غرماؤُه. 3905 - فإِن قيل: هذا صورة الربا؛ فإِنه سلّم مكيلةً، وألزمتموه الاكتفاء بثلثي مكيلةٍ، قلنا: هذا القول يخرّج على أصلين: أحدهما - أن القسمة إِفراز حق؛ فإِنا لو قدرناها بيعاً، فلا مجاز لهذا؛ إِذ حقيقته مقابلة مكيلة ببعضها، ثم لا تخرج القسمة مع التفريع على أنها إِفراز حق إِلا على أصلٍ آخر، وهو أن القسمة التي تبنى على تعديل القيمة، لا على تسوية الأجزاء، هل يقع الإِجبار عليها؟ وهي كفرض قسمةٍ بين عبيدٍ ودورٍ وغيرها. بأن تُفصّلَ أقساماً معدَّلة القيم، فتُوقع العبيدَ مثلاً في قسم، والثيابَ في آخر، والدور في آخر، على ما يتفق من ضم بعض الأصناف إِلى البعض، فهذا الضرب من القسمة هل يجري الإِجبار فيها؟ فعلى قولين، سنذكرهما في كتاب القسمة. فإِن رأينا الإِجبار على مثل هذه القسمة، واعتقدنا أن القسمة إِفرازٌ، انتظم منه قسمة الزيتين على تعديل القيمة، من غير نظر إِلى الجزئية. أما الربا، فلا يلزم القول به، لمصيرنا إِلى أن القسمة ليست بيعاً، وأما الإِجبار من غير جزئية تعويلاً على التعديل بالقيمة؛ فإِنه خارج على الأصل الآخر الذي ذكرناه. 3906 - فإِن قيل: هلا قسمتم الزيت بين البائع والمشتري نصفين، وألحقتم ما ثبت من المزية بسبب الخلط بالأجود بالزيادات المتصلة، ولو باع الرجل عبداً صغيراً، فشبَّ ويَفَع في يد المشتري، وتضعَّفت قيمتُه، فالبائع يرجع في عينه؟ قلنا:

لا سبيل إِلى ذلك؛ فإِن عين ملك المشتري اتصل بالمبيع، فإلحاقه بالزيادات المتصلة لا وجه له. وما كان المشتري معتدياً فيما فعل، فتخسيره وضم ماله إِلى مال الراجع محال. فلا وجه مع القول بكون البائع واجداً عينَ ماله إلا ما ذكرناه من القولين في كيفية الرجوع. والأصح أنه يباع الزيتان، ويقسط الثمن على القيمتين؛ فإِن القسمة على مخالفة الجزئية تقع على صورة الربا، وإِن تكلفنا له تخريجاً على الأصلين، والشرع حرم مقابلة المطعوم بمثله، وبأكثر من مثله، لا لاسم البيع، فلتحرم المقابلة على نعت المفاضلة كيف فرضت. 3907 - وذكر صاحب التقريب تصرفاً عن ابن سريج في خلط الزيتِ بالأردأ، وذلك أنه قال: إِذا كنا نرعى مقدارَ قيمتي الزيتين عند التفاضل في العين، أو عند البيع، وقد اتفق الخلط بالأجود، فيجب سلوك هذه الطريقة في الخلط بالأردأ، حتى يقال: إِذا كان [قيمة] (1) الزيت المبيع درهمين والزيت الذي خلطه المشتري به درهماً، فيتجه قولان: أحدهما - أنه يباع المختلط، ويصرف ثلثا الثمن إلى البائع. والثاني - أنه يقسم الزيتان على هذه النسبة، فيصرف ثلثاه إلى البائع، ويبقى ثُلُثُه للمشتري؛ فإنه إذا قسمنا الزيتين نصفين، واعتقدنا الرداءة التي لحقت الزيت المبيع عيباً سماوياً، لزمنا أن نعتقد الجودة التي لحقت في الخلط بالأجود زيادةً متصلة. هذا ما يقتضيه الإنصاف والنظر للجانبين. 3908 - ومن صار إلى طريقة الجماهير، فصل بين الجانبين بأن المشتري تصرف بحق، ورجوع البائع إلى عين المبيع ليس ضربة لازب، فلا يجوز أن نعتبر جانبَ الرّاجع بجانب المشتري، بل لا يبعد أن يقال للبائع: إما أن تقنع، وإما ألا ترجع أصلاً، فأما أخذ عين من مال المشتري ليستمر للبائع رجوعه، وهو نقضٌ لبيعٍ لزم، فهذا لا سبيل إليه. هذا منتهى القول في المسألة. 3909 - وكل ما ذكرناه فيه إذا وقع الخلط بجنس المبيع، فأما إذا وقع المزجُ بما

_ (1) ساقطة من الأصل.

لا يجانس المبيعَ، فلا يخلو: إما أن يختلط اختلاطاً لا يبين [معه] (1) في الحس لمدرِكٍ، وإمّا أن يتميز المبيع في الحس للمدرِك، وإن عسر تمييزهُ فعلاً. فأما إذا تحقق الاختلاط، وعسر المَيْز والدرك، مثل أن يختلط الزيت بدهن البان، أو الشَّيْرج، فهذا اختلاط مع اختلاف الجنس وتعذُّر التمييز بالفعل والدرك. فقد ذهب جماهير الأصحابِ إلى القطع بأن البائع فاقدٌ لعين ماله، بخلاف ما إذا اتحد الجنس؛ فإن القسمة يمكن فرضُها مع اتحادِ الجنس، ولا يمكن تقديرها، والجنس مختلف. وهذا ينقدح فيه احتمال ظاهر، مع تحقق وجود المبيع، وإمكان بيع المختلط، فالوجه أن نقول: إذا جعلنا سبيل إيصال البائع إلى حقه في الخلط بالأجود بيعَ المختلط، وفَضَّ الثمن، فهذا ممكن و (2) الخلطُ بغير الجنس. 3910 - وإن قلنا الطريق في إيصال البائع إلى عين حقه القسمةُ، فالقسمة عسرة مع اختلاف الجنس، وقد ينقدح للفطن تخريجاً على قسمة التعديل؛ فإن هذا المنهج إذا احتمل مع التفاوت في المقدار نظراً إلى التعديل، لم يبعد ذلك مع اختلاف الجنس. وهذا لعمري محل النظر؛ فإن قسمة التعديل في الأجناس المختلفة إنما تجري بسبب ثبوت الشيوع في كل جنس، فيقع التفاصل بالتعديل من جهة القيمة. ولم يكن للمشتري قبل الشراء في الزيت شِرْك (3)، ولم يكن للبائع في البان شرْك، وهذا يعارضه زيادة المقدار، أمّا تخريجه على قول البيع وفضّ الثمن، فظاهرٌ لإدراكه. والذي يعضد ذلك القسمُ الثاني، وهو إذا خلط المبيعَ بجنسٍ يخالفه، وكان متميزاً في الدَّرْك والإحساس. مثل أن يشتري صِبغاً ويصبغ به ثوباً عنده، أو يشتري ثوباً ويصبغه بصبغ عنده، فقد تحقق الاشتباك بين المبيع وغيره، وأجمع الأصحاب على أن البائع واجدٌ عين ماله. هذا متفق عليه. ولا فقه في إمكان الرؤية (4) بعدما تحقق تعذر التمييز بين الثوب والصبغ المعقود.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) الواو هنا واو الحال. (3) شِرْك: نصيب. (4) في الأصل: إمكان الرؤية مع الرؤية.

ثم سبيل إيصال البائع إلى حقه بيعُ الثوب المصبوغ، وقسمةُ الثمن على قيمة الثوب والصبغ، كما سنذكره بعد هذا في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى. ولو اشترى سويقاً ولتَّه بسمن عنده أو على العكس، والسمن بادٍ على السويق حسَّاً، فهو ملتحق بصبغ الثوب. وسيأتي إن شاء الله متصلاً بهذا. وقد نجزت أطراف المسألة، ولم يبق فيها للناظر مضطرَب إلا فيما أصفه: فأقول: 3911 - لو اشترى مائةَ منٍّ من الزيت، وخلطه بربع رطل عنده، أو أقل على شرط أن يكون متمولاً، والغرض بالتصوير أن يُفرض كونُ الأكبر غامراً للأقل، وكونُ الأقل مستهلكاً فيه حساً. وهذا يحسن تصويره على قولنا: إن الاختلاط يُلحق المبيع بالمفقود والمعدوم. فإذا كان المبيع كما وصفناه، كيف السبيل؟ قلنا: إن كان ذلك المقدار النزر بحيث لا يبين له أثر من طريق القدر، وذلك بأن يفرض وقوعُ مثله بين الكيلين والوزنين. فإن كان كذلك، فالوجه عندي القطع بكون البائع واجداً عين ماله، ولا يحبَط حق المشتري مع ذلك، فنرد عليه مقدار ما خلطه. 3912 - فإن كان هذا المقدار النزرُ مبيعاً، وكان الأكثر للمشتري، فالظاهر عندي القطعُ بكون البائع فاقداً، ولا يبعد خلافُ ذلك. أما وجه الظهور، فلأن مثلَ هذا المقدار لا يشيع في المقدار الكثير، ولا يثبت على الانبساط في الجميع، وليس كذلك إذا كان المبيع مقداراً بيِّناً يظهر اختلاطه؛ فإنه إذا رجع لا بد وأن يرجع إلى شيء من عين ماله. فلا يبعد أن يقال: هو واجد، ثم يسلم إليه مقدار المبيع من المختلط. 3913 - فإن كان الخلط بالأجود، فعلى ما يقتضيه القولان، والتفريع عليهما. وإن كان المقدار النزر بحيث يبين من الكيلين والوزنين، ولكنه مغمورٌ بالمقدار الكبير، فيجوز أن يخرّج على التفاصيل المقدمة، حيث لا غمر، ويجوز أن يرتب على ما تقدم. وتجعل هذه الصورة أولى بأن يكون البائع واجداً إذا كان نصيبه كثيراً غامراً، ويجعل أولى بالفقدان إذا كان نصيبه مغموراً. هذا منتهى الفصل، والله أعلم.

فصل قال: " وإن كان حنطة، فطحنها، ففيها قولان ... إلى آخره " (1). 3914 - هذا من الفصول المنعوتة في الكتاب فلْيخُض الناظر فيه على أناةٍ مستعيناً بالله تعالى. وسبيل بيان مضمونه أن نطرد ما ذكره الأصحاب مرتباً على أحسن مساق، ثم ننعطف عليه، ونتدارك مواقع الإشكال، فنكون جامعين بين النقل، وبين حلّ المُعْوصات، فليقع في ابتداء الفصل [طرفٌ] (2) من حكم الصبغ، ثم نبني عليه ما عداه، ثم نختم الفصل باستقصاء القول في الصبغ، فنسأل الله تعالى التأييد والتوفيق. 3915 - فإذا اشترى الرجل ثوباًً وصبغه بصِبغ من عنده، فالصِّبغ عين مال المشتري ألحقه بالثوب المشترَى، فإن لم يبن مزيدٌ في قيمة الثوب، وانعقد الصبغ عليه، وعسر التمييز، فالصبغ ضائع. وذلك (3) إذا اشترى ثوباً بعشرة، وصبغه بصبغ يساوي درهماً، فإذا [كان] (4) الثوب مصبوغاً يساوي عشرة، فنقول: ضاع الصبغ للمشتري، ويرجع البائع إلى الثوب المصبوغ. اتفق الطرق عليه. والسبب [فيه] (5) أنه لو صبغ بشيء لا قيمة له، وليس مما يتمول، فلا يخفى أنه لا وقع، ولا أثر لما استعمله في الثوب، فكذلك إذا لم [يبق] (6) للصبغ قيمة؛ فإنه كان مالاً قبل الاستعمال، والآن صار في حكم الصفة للثوب، ولم يظهر له في الثوب قيمة؛ ولأنه صار بالاستعمال غيرَ متمول. وإن ظهر مزيدٌ في قيمة الثوب، فصاحبُ الصِّبغ شريك في الثوب. وإذا بيع الثوب، قُسِّط الثمن كما سنوضح تفصيلَه. وليس الكلام في الصبغ من غرضنا الآن.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 221. (2) في الأصل: طرفا. (3) أي ومثال ذلك. (4) مزيدة لاستقامة العبارة. (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: (يبقى) بدون حذف حرف العلّة. والمثبت من (ت 2).

وإنّما ذكرنا هذا المقدار ليبين للناظر كون الصبغ عيناً. 3916 - ونحن نبني الآن عليه القِصارةَ (1) في الثوب وما في معناها. فإذا اشترى رجل ثوباًً على البت (2)، وقصره، ثم أراد البائع الرجوع في الثوب، فالذي. أطلقه الأئمة في صدر الفصل أن قالوا: القِصارة في الثوب، والطحن في الحنطة، وما في معنى هذين أثرٌ في الثوب أم عين؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه أثر. والثاني - أنه عين، هكذا عبر الأئمة عن القولين. وقد ذكرنا أنا نسوق ترتيب الأصحاب، ثم ننعطف على مواقع الإشكال. 3917 - والقدر الذي يلوح به القولان ويعلقان بالفهم إلى تمام البيان: أنا إن قلنا: هذه الصفات آثار، فلا حكم لها، ولا تعلق بها، ومن له الاستحقاق في العين على استحقاقه، لا يزاحم فيها. وإذا قلنا: هذه الصفات أعيانٌ، أردنا أنها كالأعيان المشابكة للموصوفات بها، كالصبغ في الثوب، والسَّمن في السويق، وما في معناهما. ومن حُكم هذا القول أن يصير محصِّل هذه الصفة شريك في الثوب، كمالك الصبغ. فإذا ظهرَ المراد من رسم القولين، فهذان القولان لا يجريان في جملة الصفات المتجددة؛ فإن السِّمن، وكبر الغلام وإرقال (3) الشجر زوائدُ متصلة، لا حكم لها؛ فقال الأئمة: القولان يجريان في كل صفةٍ تحدث في العين، يتسبب إلى تحصيلها بفعلٍ يجوز الاستئجار عليه، وتعدّ (4) الصفةُ من آثار الفعل، ثم لا بد من ظهور الصفة. فلو استأجر المشتري من يحفظ الدابة المشتراةَ، ويسوسها، فهذا فعل يجوز الاستئجار عليه، ولكن لا تظهر منه صفة في الدابة، فإن هي كبرت، فللترقي في السن، وإن سمنت، فمن العلف. والقصارة أثر يوقعه فعل القصّار في الثوب، وكذلك الطحن في الدّقيق.

_ (1) القصارة: اسم للحرفة من قصرتُ الثوب قصراً: بيّضته. (المعجم). (2) على البتّ: أي على طبيعته وهيئته. فالبتُّ: كساء غليظ من صوف أو وبر. (المعجم). (3) إرقال الشجر: استطالته من أرقلت النخلةُ: طالت (معجم). وفي (ت 2): أوراق. (4) (ت 2): ونقدر.

ويتصل بذلك ما يتعلق بالأخلاق كارتياض الدابة، وتعلّم العبد الحرف، فلتلتحق الأخلاق بالصفات التي تحسن. هذا بيان محل القولين. 3918 - ثم فرع الأصحاب في غير المفلس على القولين، ثم اندفعوا في تفريع أحكام المفلس. فمما فرعوه في غير المفلس أن القصارَ المستأجَر على القصارة، إذا قصر الثوبَ، أو طحن الطحان البُّرّ، فهل يثبت للصّابغ حبسُ محل صُنعه، حتى يحبس القصار الثوب، والطحان الدقيق إلى أن يتوفر عليه الأجرة، حَبْسَ البائع المبيع -إن رأينا له الحبس- إلى توفية الثمن؟ هذا يُخرّج على القولين في الأثر والعين. فإن جعلنا هذه الصفات آثاراً، فلا يجوز للعَمَلة حبسُ محالّ العمل بسبب الأجرة. وإن جعلناها أعياناً، فالعمَلةُ في حبس محال العمل كالبائع في حبس المبيع. 3919 - ومما فرعوه أن العامل إذا وفَّى عملَه، وأثبت الصفةَ المطلوبةَ في محلّها، فلو تلف محلُّ العمل في يده قبل تسليمه إلى المالك، فهذا [يتفرعّ] (1) على الأثر والعين. فإن جعلنا القصارة أثراً، فللعملة أجورُهم، وهي (2) لا تسقط بسبب تلف المحالّ في أيديهِم. وإن قلنا: إنها أعيان، سقطت أجورهم، كما تسقط الأثمان بتلف الأشياء المبيعة في أيدي البائعين. هذا ما فرعه الأصحاب على القولين في حق غير المفلس. 3920 - ثم اندفعوا في تفريع حكم المفلس، فصوروا فيه صورتين: إحداهما - ألا يتعاطى القِصارةَ بنفسه، ويحصلها بعمل أجيرٍ، ويوفِّي أجرته قبل التفليس، ثم يُفلس، فهذه صورة. وسنذكر الأخرى إذا نجز الكلام في الأولى. فإذا جاء بائع الثوب، فصادفه مقصوراً، فهذا يفسخّ على الأثر والعين. فإن جعلنا القِصارة أثراً، فإن البائعَ [أحق] (3) بالثوب، ولا حكم للقصارة، وهي نازلة منزلة

_ (1) في الأصل: متفرّع. (2) (ت 2): فهي. (3) مزيدة لرعاية السياق؛ حيث سقطت من النسختين.

الزوائد المتصلة. هذا اختيار المزني. والتمسك بالزوائد المتصلة احتجاجُه. 3921 - وإن حكمنا بأن القِصارة عين، فهي في معنى الصبغ، فنقول: إن كانت قيمة الثوب بعد القِصارة كقيمتها (1) وهي على البت، فلا شركة للمفلس في الثوب والقصارة مُنمحقة (2). وقد ذكرنا ذلك في الصبغ المنعقد، وهو جِرمٌ على التحقيق. فأما إذا زادت قيمة الثوب بسبب القصارة التي حصلها المفلس، فهو شريك بمقدار الزيادة: يُباع الثوب ويقسم الثمن على قيمة المِلْكين: الثوب والقِصارة، فلو كان الثوب يساوي على البت عشرة، وهو يساوي مقصوراً خمسة عشر، فالقِصارة قيمتها خمسة، فإذا بيع الثوب بخمسة عشر، فالعشرة مدفوعة إلى البائع، والخمسة إلى المشتري، يقتسمها الغرماء. فلو لم يتفق بيعُ الثوب حتى ارتفعت القيمة إلى ثلاثين، فيضعّف حق البائع والمفلس، والقسمة على نسبة الثلث والثلثين: للبائع عشرون، وللمفلس عشرة بين غرمائه. 3922 - ولو عهدنا الثوب بخمسة عشر على الترتيب الذي ذكرناه، الثوب عشرة، والقِصارة خمسة. ثم انحطت قيمةُ الثوب بالسوق إلى عشرة، فهي مقسومة بين البائع والمفلس ثلُثاً وثلثين. فينقص (3) حقُّ كل واحدٍ بانحطاط السوق. وإنما يظهر التصوير بما نذكره، فنقول؛ كان الثوب على البت عشرة، والنقصان خمسة. والآن يوجد ثوبٌ على البت بستة دراهم وثلثي درهم، والقصارة في مثله لا يساوي إلا ثلاثة وثلثاً. فهذا معنى الانحطاط. ولْيميز الناظر هذا عما قدمناه من أن القِصارة قد تنمحق في الثوب بألاّ يزيد في قيمته شيئاًً، وذلك بأن يكون الثوب على البت والثوب المقصور متساويين في القيمة. والذي ذكرناه أخيراً فرضُ نقصانٍ في [قيمة] (4) جوهر الثوب، وصفة القصارة.

_ (1) كذا: بضمير المؤنث. (2) (ت 2): متحققة (3) (ت 2): فينحط. (4) زيادة من (ت 2).

3923 - ولو ارتفعت قيمة الثوب دون القصارة، فالزيادة للبائع، ليس لصاحب القصارة فيها شيء. وبيان ذلك أن الثوب على البت كان عشرة ومع القصارة خمسة عشر. والآن صار الثوب على البت يشترى، بخمسة عشرَ، وهذا المقصور يشترَى بعشرين، فالقصارة ما ازدادت قيمتُها، وإنما الازدياد في جوهر الثوب. لا جرم نقول: يصرف إلى البائع من العشرين خمسةَ عشرَ، ويصرف إلى صاحب القِصارة خمسةٌ، بلا مزيد. 3924 - ولو فرض الارتفاع في القِصارة، فالزيادة الحاصلة من أجلها مصروفة إلى صاحب القِصارة. وتصوير ذلك أن الثوب [المقصور] (1) كان يساوي خمسة عشر على الترتيب الذي ذكرناه، عشرة للثوب وخمسة للقِصارة، ثم صار هذا الثوب المقصور يساوي عشرين، ونحن نجد ثوباًً على البت مساوياً لهذا الثوب بعشرة، فنستبين أن الزيادة منحصرة في قيمة القصارة، لا جرم نصرفها إلى مستحق القصارة، ونبيع الثوب بالعشرين، فنصرف نصف الثمن إلى البائع، ونصفه إلى المفلس يتضارب فيه غرماؤه. ثم إذا تمهدت عندنا نسبة في قيمتي الثوب والقِصارة، فلو وجدنا زبوناً يشتري الثوب رغبةً (2) بأكثر من قيمته [بالقصارة] (3)، فالمأخوذ منه مقسّط على النسبة التي تمهدت عندنا في القيمتين، فالثوب الذي جعلناه نصفين، وهو يساوي عشرين، لو اشتراه راغب بثلاثين، فللبائع من الثلاثين خمسةَ عشرَ، وللمشتري خمسةَ عشرَ، في الصورة الأخيرة. ولا يخفى قياس الباب. فلو قال قائل: إذا ارتفعت قيمة القِصارة، كما صورتم في الصورة الأخيرة، فهلاّ قلتم: يرجع من الزيادة شيء إلى بائع الثوب؛ فإن القصارة ما قامت إلا بثوبه، وهو حاملها؟ فهلاّ كانت القصارة كالبناء يَسْتَجِدُّه المشتري في الأرض المشتراة؟ قلنا: حقيقة هذه الصورة تحل هذا الإشكال، وتدفع هذا السؤال؛ فإنا في الأرض المبنية

_ (1) في الأصل: المصبوغ. (2) (ت 2): برغبة. (3) زيادة من (ت 2).

لا نزيد لمالك الأرض على قيمتها بيضاء، وقد تنقص، على اختلافٍ ذكرناه للأصحاب في كيفية التوزيع. وإذا نحن وفينا مالكَ الثوب قيمةَ ثوبه على ما باعه من غير قِصارة، فطمعه في الزيادة والمشتري قصر بحقٍّ طمعٌ في غير مطمع. هذا الذي ذكرناه كلامٌ في إحدى الصورتين في المفلس. 3925 - الصورة الأخرى: أن يشتري ثوباًً، ويستأجر من يقصره، فيقصره الأجير، ولا يتوفر عليه الأجرة، ويُفلس المشتري، فللأجير تعلُّقٌ بالقِصارة على قول العين، فيزدحم على الثوب القصارُ للقِصارة التي حصَّلها، وبائع الثوب. فنقول: إن حكمنا بأن القِصارةَ أثر، فلا أثر لها، ولا حكم، وبائع الثوب يرجع إلى الثوب المقصور، ولا يُزاحَم فيه، والأجير أُسوة الغرماء؛ يضاربهم بالأجرة، من غير تعلّق بالعين (1). وإن قلنا: القصارة عينٌ، فللأجير على الجملة تعلق، فإن لم [يزدد] (2) بالقصارة (3) أولاً شيء في قيمة الثوب، وكان الثوب مقصوراً يساوي عشرة، ولو فرض على البت، لكان يساوي عشرة، فالثوب مسلّم إلى البائع بلا زحمة، وقد انمحقت القِصارة، وصارت مستهلكة. فأما إذا زاد بالقصارة شيءٌ، فنقول: أجرة القِصارة درهم وقيمة القصارة خمسةٌ، فالثوب على البت عشرة، وهو مع القصارة خمسة عشر، فإذَا بيع بخمسةَ عشرَ، فالعشرة لبائع الثوب، والدرهم للقصّار، يقدم به على الغرماء، لتعلقه بعين القصارة، وأربعة دراهم للمشتري يتضارب فيها غرماؤه. هكذا نص الشافعي. ولو استأجر الأجيرَ بخمسة، والثوبُ على البت عشرة، وهو بعد القصارة أحدَ عشرَ، فإذا بعنا الثوب بأحدَ عشرَ، سلمنا عشرة إلى مالك الثوب، ودرهماً إلى القصّار -على قول العين- يقدم بها، ويضارب الغرماء ببقية أجرته، وهو أربعة. هذا تفريع الشافعي، والأصحابِ على قولي الأثر والعين. وقد تخطينا مواقع الإشكال لإنهاء الترتيب نهايته.

_ (1) (ت 2): بالثوب. (2) في الأصل: يزداد. والمثبت من (ت 2). (3) (ت 2): أولاً بالقصارة.

[و] (1) الآن ننعطف عليها بعد وقوع الإيناس، وتتبُّع مظنة كل إلباس (2). ونبدأ بخاتمة الكتاب. 3926 - فإن قيل: فرّع الشافعي على قول العين، فاقتضى ذلك أن يقال: ليس للقصّار إلا القصارة، إذا أراد التعلق بها، ويلزم من مساق هذا أن نقول: إذا كانت قيمة القصارة خمسة، وأجرة القصارة درهماً (3)، فأراد الرجوعَ في القِصارة، فينبغي أن يفوز بقيمة القِصارة، وهي الخمسة بتمامها، ولا نظر إلى أجرته، نقصت، أو زادت؛ فإن الأجرة كالثمن، والقصارة كالعين المبيعة. وقد قال الشافعي: إذا كانت الأجرة درهماً، فليس للقصّار إلا درهم، وهذا يناقض التفريع على قول العين. ثم تمام السؤال أن الأجرة لو كانت خمسة، وقيمة القصارة درهم، فإذا آثر القصّار التعلق بالقصارة، وجب ألا تثبت له إلا القصارة، كالمبيع إذا قلت قيمته، وزاد مبلغُ الثمن عليها، فإذا أراد البائع الرجوعَ، لزمه الاكتفاء بالمبيع. وقد قال الشافعي: إذا كانت القصارة درهماً، والأجرة خمسة، أخذ القصار الدرهم، وضارب بالأربعة الباقية. وهذا أيضاً يخالف قياس قول العين. 3927 - وقد اعتاص (4) على كثير من الأصحاب الخروج عن عهدة هذا السؤال، ولا يبيّن الغرضَ فيه إلا التصريحُ بحقيقة هذا القول، وكنا لا نقدر على البوح به قبل الإحاطة بمجامع المسألة، وتقاسيمها (5). فالآن نقول: ليست القصارة على قول العين عيناً على الحقيقة، مملوكة، تباع وتشترى، ويتصرف فيها بالرجوع والاسترداد حسب ما يتصرف في الأعيان. هذا محال تخيُّلُه مع العلم بأن القصارة صفةٌ. والدليل عليه أن المشارك في الثوب بالقصارة ليس مالكَ عين، ولو كانت القصارة عيناً، للزم

_ (1) مزيدة من (ت 2). (2) إلباس: من أَلْبَس الأمر إذا أشكل عليه واشتبه واختلط (المعجم)، وهي في (ت 2) مصحفة إلى (الناس). (3) خبر كانت المفهومة من العطف. (4) اعتاص: صعب وعسر. (5) في (ت 2): ونقائصها.

أن يقال: من غصب ثوباً وقصره، وزادت قيمة الثوب بسبب القصارة؛ فيصير شريكاً في الثوب، كما لو صبغ الثوبَ بصِبغٍ من عنده. وقد اتفق العلماء على أنّ الغاصب يصير شريكاً في الثوب إذا صبغه بصِبغٍ من عنده، ولا يصير شريكاً إذا قصره. فحاصل قولنا: "القصارة عين" أنها صفة مقصودة، يتعلق بها العامل المُوقعُ لها تعلق اختصاص كما يتعلق المرتهن بالرهن. هذا قولنا في الأجير. أمَّا إذا أضفناها إلى المشتري، فله فيها حقيقة الاستحقاق؛ لأنها وقعت في ملكه. وإذا تبين أن تعلق الأجير على النحو الذي ذكرناه، فإن كانت الأجرة درهماً، وقيمة القصارة خمسة، فلا يزاد الدين بزيادة قيمة الرهن. وإن كانت الأجرة خمسة ووالقصارة درهماً، فإذا صرفت القصارة إلى الأجرة، كان ذلك كصرف الرهن إلى الدين. وإذا نقص ثمنُ الرهن عن مبلغ الدين، فالفاضل من الدين يبقى لا محالة. فتمهد مما ذكرناه أن القصارة ليست في حكم المملوكة للأجير، وإنما تكون في حكم المملوكة للمشتري. 3928 - وههنا الآن غلطتان نذكرهما، لا ليلتحقا بالمذهب، ولكن ليتبين وجه الغلط: إحداهما - أن الأجرة إذا كانت درهماً، والقصارة خمسة، والثوب عشرة، فقد ذكرنا من نص الشافعي أن الثوب إذا بيع بخمسةَ عشرَ، فللبائع الراجع عشرةٌ، وللأجير درهم، وللمشتري أربعة. فلو زادت قيمة الثوب؛ فاشتري بثلاثين، قال شيخي في دروسٍ (1): يتضاعف حق كل ذي حق، فلصاحب الثوب عشرون، وللأجير درهمان، وللغرماء ثمانية. أما تضعيف حق صاحب الثوب، وتضعيفُ حق الغرماء فبيّن؛ فإن الثوب ملكُ البائع الراجع، والقصارة مستحقة للمشتري، فارتفاع قيمة المستحق ليس بدعاً، فأما تضعيف الأجرة، فلا وجه له؛ فإنا ذكرنا أنّه ليس مستحقاً للقصارة؛ إذ لو كان مستحقاً، لفاز بجميعها فَوْزَ البائع بجميع المبيع، وإن ارتفعت قيمته. فالوجهُ القطع بأنه على [درهمه] (2) ولكنه مقدم به لتعلّقه بالعين كما يقدم

_ (1) كذا. ولعلها في دروسه. (2) في الأصل: درهمٍ. والمثبت من (ت 2).

المرتهن بالدين الموثق بالرهن، فذلك الدرهم إذاً للمشتري؛ فإنه من قيمة القصارة، وليس للبائع إلا ثلثاً الثمن، وما سلّم إلى القصّار من حساب القصارة. فهذه غلطة. 3929 - الغلطة الأخرى (1)، وهي شائعةٌ في ألفاظ الأصحاب، ولا يتجه فيها احتمال، وذلك أنهم قالوا في التفريع على قول العين: يفسخ القصّارُ العقدَ، ويرجع إلى القِصارة، ثم فصلوا المذهب. وهذا بعينه مصير إلى أن القصارة هلكت (2) من القصّار، وهي ترجع بالفسخ إليه. ولو كان كذلك، لاستحق القصارة بكمالها [بالغة] (3) ما بلغت قيمتها، وليس الأمر كذلك؛ فليس للقصار من القصارة إلا التوثّق المحض، ولا معنى مع هذا الذكر للفسخ. نعم لو أراد المضاربة، كان كالمرتهن يُبطل حق توثقه ويجعل نفسَه مع الغرماء مضارباً، ويسلم لهم محل تعلقه. هذا تفصيل القول في ذلك، والتنبيه على محل الإشكال والانفصال، وإيضاح عثراتِ العاثرين. 3930 - فإن قيل: أليس ذكر الأصحابُ قبل الخوض في أحكام التفليس من هذا الفصل أن العامل يحبس الثوبَ المقصورَ حبس البائع المبيع؟ قلنا: ليس ذلك بدعاً، والمرتهن يحبس المرهون إلى توفير الدين عليه، وحبسُه آكد من حبس البائع. فإن قيل: إن كان كذلك، فلا وجه لدفع قولهم: لو تلف الثوب في يد القصار، سقط حقُّه من الأجرة، كما يسقط الثمن بتلف المبيع قبل القبض، ولو كان تعلقُ حقه على قياس تعلق حق المرتهن، لما سقط حقه بتلف متعلَّقه، كما لا يسقط [الدين] (4) بتلف الرهن في يد المرتهن. قلنا: هذا الآن يُحْوِجُنا إلى فن آخر من الكلام، فنقول: سبب سقوط أجرته أننا نقدر القصارة كأنها جزء من عمله، فإذا لم ينته إلى يد المستأجر، وكان عمله بعدُ في ضمانه، فإذا تلف الثوب، سقطت الأجرة لذلك، ولا تكون القصارة مملوكةً مبيعةً.

_ (1) (ت 2): الثانية. (2) (ت 2): ملكت. (3) ساقطة من الأصل. (4) زيادة من (ت 2).

هذا واضح. ولم يبق بعد هذا إشكال على ذي نظر. 3931 - وحان أن نخوض في فصل الصِّبغ مشمرين مستعينين بالله تعالى، فنقول أولاً: إنما أخرنا طرف الصِّبغ، لأنّه يتعلق بما هو عين وفاقاً، وهو جِرمُ الصِّبغ، وإنما اختلف القول في أنه أثر أو عين فيما هو صنعة الصباغ المسمى الصَّبغ. فإذا تمهد القول في محل الأثر والعين، ينتظم بعد ذلك ما نحاول في هذا الفصل، إن شاء الله تعالى. فنقول: 3932 - من اشترى ثوباًً وصبغه بصبغ من عنده، فالصِّبغ القائم في الثوب عينٌ حسّاً، فلو ارتفعت قيمة الثوب والصّبغ أيضاً، مثل أن يكون الثوب غيرَ مصبوغ عشرةً (1)، والصِّبغ درهم، والثوب المصبوغ خمسةَ عشرَ، فالزيادة على قيمة الثوب وجِرم الصِّبغ إنما حصلت بالصَّبغ وحسنِ الصنعة، وما يحصل من الصنعة، فهو على قولين في أنه أثر أو عين، كالقِصارة. فنبيّن غرضَنا بالصور نرسلها، ونأتي في كل واحدة بما يليق بها. 3933 - فإذا ابتاع الثوب بعشرة، وقيمته عشرة، فصبغه بصبغ من عنده، يساوي خمسة، نُظر: فإن كان الثوب يساوي مصبوغاً عشرة، فقد ضاع الصِّبغ، والثوب المصبوغ للبائع الراجع، لا حق للمشتري والغرماءِ فيه، فصار الصبغ مستهلكاً. وقد قررنا ذلك مراراً. ولو كان الثوب مصبوغاً يساوي ثلاثة عشر، فالنقص محسوبٌ على الصِّبغ دون الثوب؛ فنقول: يسلم إلى صاحب الثوب عشرة كاملة، وإلى المشتري والغرماء ثلاثة. ولو لم تزد قيمة الثوب والصبغ، ولم تنقص، وكان الثوب مصبوغاً يساوي خمسةَ عشرَ، والثوب وحده عشرة، والصبغ خمسة. فليس في هذه المسألة للصنعة أثر. فإن كان من نعتٍ، فضائعٌ غائصٌ في عين الثوب والصبغ. فإذا بعنا الثوب بخمسةَ عشرَ، فالثلث من الثوب مصروف إلى المشتري وغرمائه، والثلثان للبائع.

_ (1) كذا في النسختين بإضمار فعل: "يساوي" أو نحوه.

ولو كانت قيمة الثوب كما وصفنا عشرة، وقيمة الصّبغ خمسة، والثوب المصبوغ يساوي عشرين، فالزائد على خمسةَ عشرَ من آثار الصنعة، فتخرج المسألة على قولين، في أنها هل تكون في حكم الأثر، أم في حكم العين؟ فإن قلنا: هي أثر، فلا حكم لها، وكل زيادة حصلت أثراً (1) للصنعة، فهي مصروفة إلى بائع الثوب، يستبدّ بها، بلا مزاحمة. هكذا أورده الشيخ أبو علي في الشرح. 3934 - وكنت أودّ أَنْ يُفَضَّ (2) أثرُ الصنعة على الثوب وجرم الصَّبغ، فيصرف إلى صاحب الثوب ثلثاه وإلى المشتري الذي هو مالكُ جِرم الصَّبغ ثلثه؛ فإن الصنعة اتصلت بالصَّبغ والثوب جميعاً، وهذا بيّن. ولكن لعله قال ما قال من حيث إن الموصوف هو (3) الثوب وإليه يرجع أثر الصنعة. فليقف المتأمّل إذا انتهى (4) إلى ذلك، ولينعم النّظر. وإن قلنا: سبيله سبيل العين، فقد حدثت العين للمشتري، وقد فرضنا فيه إذا كان الصّبغ مملوكاً للمشتري، فالصَّبغ له، وأثر العمل له، فإذا بعنا الثوب بعشرين، صرفنا عشرة إلى صاحب الثوب، وعشرة إلى المشتري وغرمائه، خمسة في مقابلة الصِّبغ وخمسة في مقابلة أثر الصنعة. وإذا كان كذلك، فلو وجدنا راغباً يشتري الثوب بثلاثين، فقاعدة الحساب بيننا التنصيف في الثوب كما ذكرناه. 3935 - صورة أخرى: إذا كان الثوب يساوي عشرة، والصِّبغ يساوي درهماً، فلما صبغ المفلسُ الثوبَ، صار يساوي خمسةَ عشرَ، فقد زادت أربعة دراهم بالصنعة. قال الشيخُ: إن قلنا: ما يحصل بالصنعة أثرٌ، لا حكم له، فالأربعة لبائع الثوب مع العشرة، وليس للمشتري إلا قيمة صِبغه، وهذا جوابه الأول. وعليه من السؤال ما تقدّم. فأما إذا قلنا: أثرُ الصنعة عينٌ، فهي للمشتري، فله إذاً خمسة، وللبائع عشرة. فلو كانت المسألة بحالها، ووجدنا راغباً اشترى الثوب بثلاثين، فإن جعلنا الزيادة

_ (1) (ت 2): من أثر الصنعة. (2) (ت 2): نقص. (3) (ت 2): وهو. (4) (ت 2): إذا نظر إلى ذلك.

للمشتري، فثلث الثمن يصرف إليه، والثلثان للبائع. وإن قلنا: الزيادة للبائع، فثمن الأصل خمسةَ عشرَ. وإنما اتفق البيع بالثلاثين رغبة، فيوزع الثمن على خمسةَ عشرَ، فللبائع من أصل القيمة أربعةَ عشرَ، فنضعِّفها له، وللمشتري درهم، فنضعِّفه له. فنقول للبائع ثمانية وعشرون، وللمشتري درهمان. فإن قيل: هلاّ جعلتم هذه الزيادة للبائع؟ قلنا: ليست هذه زيادةَ صنعة، وإنما هي اتفاق ربح، فيقسط الربح عليهما على مقدار استحقاقهما في الأصل، وتضعّفُ قيمةِ الصبغ منقاسٌ، وإنما الغلط تضعيفُ أجرة الأجير في القصارة كما بيّنته من غلط بعض الأئمة. 3936 - ثم ذكر الشيخ أبو علي قولي الشافعي في أن القِصارة أثر أم عين، وحكى عن صاحب التلخيص شيئاًً ممّا لا بد من ذكره، فقال: إذا باع ثوباًً قيمته عشرة، واستأجر المشتري مَنْ قَصره بدرهم، فإذا الثوب المقصور يساوي خمسةَ عشرَ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القِصارة عينٌ. والثاني - أثرٌ. فإن قلنا: إنها أثر، فهي للبائع. لكنا نقول للبائع: لك الثوب المقصور لا تُشارَك فيه، وعليك أجرة القصارة حتى كأنك استأجرته. وهذا غلط منه باتفاق أصحابنا. فإنّا إذا قلنا: إن القصارة أثر، فللبائع الثوبُ، ولا شيء عليه من الأجرة. والأجير يضاربُ الغرماء بأجرته. وذلك أنّا لم نجعل القِصارة عيناً، فيتعلق بها الأجير، وبائع الثوب لم يستأجره. فهذا غلط ظاهر لا شك فيه. وقد نجز الفصل بأطرافه. فصل ذكره صاحب التلخيص، وغلط فيه من أوله إلى آخره. 3937 - ونحن ننقل أجوبته، ونذكر وجه الصواب فيها. قال: إذا اشترى رجل من العصير عشرة أرطالٍ بعشرة دراهم، ثم أغلاه بالنار حتى

رجع إلى ثمانية أرطال، وصار رُبّاً (1). ذكر ثلاثة [أحوالٍ] (2) في المسألة، فقال: إذا كان العصير يساوي عشرة، ولما عاد إلى ثمانية أرطال، صار يساوي سبعة؛ فللبائع الرجوع في عين الرُّب، ومضاربة الغرماء بقدر نقصان القيمة. وقدرُ النقصان ثلاثةُ دراهم، فيضارب بها. وعلل بأن قال: ليس ما حدثَ مجرد نقصان صفة، بل انضم إليه نقصان العين. هذا جوابه وتعليله. وهو خطأ. والصواب أن نقول: قد نقص بالنار خُمس المبيع، فهو كما لو نقص بانصبابٍ أو غيرهِ من أسباب الضياع، فيرجع في الرب إن شاء، ولا حظَّ له في مقابلة الدرهم الناقص من القيمة؛ فإن العين باقية في أربعة الأخماس وزناً وقدراً، فليرجع إن أراد في الأربعة الأخماس كما هي، ويضارب بخمس الثمن، وهو درهمان. وإن لم يُرد الرجوع في المبيع ضرب مع الغرماء في جميع الثمن. والجملة في هذا أنا نجعل النقصان بسبب الغليان بمثابة التلف في ذلك القدر، ويجري في الباقي على قياس الأصول. فهذه حالة من الأحوال الثلاثة. 3938 - أما الحالة الثانية - فهي أن تكون قيمةُ العصير عشرة، كما صورناه، فلما صار رُبّاً، رجع إلى ثمانية، ولكن كان يساوي عشرة مع نقصان وزنه. قال صاحب التلخيص: إن أراد الرجوع، فيرجع في الرُّب، ولا يضارب الغرماء بشيء؛ فإنه قد وصل إليه قدرُ المبيع قيمةً. وقد ساعده بعض الأصحاب في هذه الصورة. وهو خطأ. والسديد أن نقول: أما القدر الذي هو نقص، وهو خُمس المبيع، فله أن يضارب الغرماء في مقابلته بخمس الثمن، ويَبْقى الكلام في أربعة أخماس المبيع، وقد زَادت قيمته بالصّنعة. فإن قلنا: زيادة الصنعة للبائع، وهي أثر، فيرجع في الرُّب، ويفوز بالزيادة، ويضارب الغرماء بخمس الثمن، كما ذكرنا.

_ (1) الرُّبُّ: بالضم: دبس الرطب إذا طبخ، وعصارة التمر المطبوخة. (مصباح ومعجم). (2) في الأصل: أقوال.

وإن قلنا: زيادة الصنعة بمنزلة العين، وهي للمشتري، فقد قال القفال في هذه الصورة: إن هذه الزيادة على هذا القول للبائع أيضاً؛ فإنها بمنزلة السِّمَن وكِبر الغلام؛ فإن الغليان مما لا يجوز الاستئجار عليه، فلا يصح أن يُستأجر رجل ليرد عشرةَ أرطالٍ بالإغلاء إلى ثمانية؛ فإن هذا مما لا ينضبط. هذا طريق القفال. وذهب بعض أصحابنا إلى أن الاستئجار عليه جائز، فالزيادة إذاً للمشتري، وقد ضارب البائع بخمس الثمن، وبقي أربعة أخماس المبيع، للبائع فيه ثمانية وللمشتري درهمان. وقد سبق القول في مثله. والجملة في ذلك أن هذه المسألة تنزل منزلة ما لو باع ثوبين، أحدهما يساوي درهمين، والثاني يساوي ثمانيةً، فتلف في يد المشتري الذي يساوي درهمين، وقَصَر المشتري الآخر (1)، فصار يساوي عشرة. 3939 - والحالة الثالثة - هي أن يكون العصير مساوياً عشرة، كما قدمنا، ورجع وزن الرُّب إلى ثمانية، ولكنه يساوي اثني عشر درهماً. قال صاحب التلخيص: البائع بالخيار إن شاء لم يرجع في العين، وضارب الغرماء بالعشرة التي جعلت ثمناً ابتداءً. وإن أراد الرجوعَ إلى الرُّب، فله ذلك، ولكنه يغرَم الزيادة على القيمة الأولى، [فيرجع إلى الرّب ويغرَم للمشتري والغرماء درهمين] (2) وطرد قياسه الفاسد في الأحوال الثلاثة. والصحيح أن نقول: أما خمس المبيع، فقد فات، فيضارب الغرماء بخمس الثمن، وأمّا أربعة الأخماس، فقد زادت. فإن قلنا: زيادة الصنعة أثر، فهي للبائع، فيرجع في الرُّب بكماله، ويستبدّ بالزيادة، ويضارب الغرماء بخمس الثمن. وإن قلنا: الزيادة الحاصلة بالصنعة للمشتري، فعلى طريقة القفال هي للبائع في هذه الصورة. وعلى طريقة غيره هي للمشتري، وقد رجع البائع في خمس الثمن

_ (1) (ت 2): الثوب. (2) عبارة الأصل: ويرجع إلى الرُّب، وبقي للمشتري والغرماء درهمين. (كذا).

بجهة المضاربة، وله في الأخماس الباقية ثمانية دراهم، وللمشتري أربعة دراهم. وقد سبق التفصيل في مثله (1). 3940 - هذا بيان جوابه في الأحوال الثلاثة، ووجهُ الصواب في هذا. وقولُه في هذا الفصل غير [معدود] (2) من المذهب؛ فإنه هفوة. وقد ذكرنا أن هفوات الأئمة إذا لم يكن للظن فيها مضطرب لا يعتد بها. 3941 - ومما ذكره صاحب التلخيص في أثناء كلامه أن من اشترى عبداً وعلمه حرفة، أو علمه القرآن، فهذا بمثابة القصارة في الثوب. وهذا الذي ذكره صحيح. وقد ذكرناه في فصل القصارة، وإنما أعدناه لأن الشيخ أبا علي حكى عن بعض الأصحاب وجهاًً أنّ الزيادة الحاصلة من هذه الجهة أثرٌ، قولاً واحداً، وإن جاز الاستئجارُ على تحصيله، لأنه لا يظهر على المبيع ظهوراً محسوساً، وإنما القولان في أثر يُحسّ كالقصارة في الثوب، والطحن في الحنطة، والحِرفُ ليست كذلك. وهذا مزيّفٌ مردود. والصحيحُ طرد القولين في كل صفةٍ يتوصل إلى تحصيلها بالاستئجار، سواء كانت مدركة بالحس أو لم تكن مدركة. فصل قال: "ولو تبايعا بالخيار ثلاثاً، فَفُلّسا أو أحدهما، فلكل واحد منهما إجازةُ البيع وردُّه دون الغرماء؛ لأنّهُ ليس ببيع مستحدث ... إلى آخره" (3). 3942 - من اشترى شيئاًً على شرط الخيار أو باع شيئاًً كذلك، فَفُلِّس، وجرى الحجر عليه، ففي إجازته وفرعه بحكم الخيار طريقان لأصحابنا: أحدهما - أن تصرفه ينفذ بالفسخ والإجازة من غير رعاية مصلحةٍ وغبطة، كما كان ينفذ وهو مطلق. وما صدّرنا به الفصلَ من لفظ الشافعي دليل ظاهر على هذا. ووجه ذلك أن التصرف

_ (1) (ت 2): مسألة. (2) ساقطة من الأصل. (3) ر. المختصر: 2/ 221.

بحكم الخيار مستفاد بعقدٍ مضى في حالة الإطلاق، فهو مستند إليه، وما يجري منه لا يحمل على تصرف مبتدأ. والذي يوضح ذلك أن الحجر يطَّرد على الأملاك الثابتة؛ فإنها مهيأة للتصرف إلى ديون الغرماء، والمعقود عليه على حكم الخيار ليس كذلك؛ فإنه لا يؤثر الحجرُ فيه، ومساق ذلك يقتضي استثناءَه [عن] (1) حكم الحجر، وبقاءه على موجب الإطلاق. وليس المفلس منظوراً له بخروجه عن الاستقلال، وإنما سبب الحجر عليه قَصْرُ تصرفه عما يجب صرفه إلى الدَّين، وهذا إنما يتحقق في الأملاك اللاّزمة؛ فإذاً لا يفصل هذا القائل في تنفيذ الفسخ والإجازة بين البائع والمشتري، ولا يخصص ما ينفذه بقولنا: لا يحصل الملك في زمان الخيارِ للمشتري؛ بل يطرده على كل قول، في كل حالٍ. هذا بيان هذه الطريقة. ولو جن المشتري في زمن الخيار، وانتصب قوّامٌ عليه، فلا بدّ من رعاية مصلحته في الفسخ والإجازة؛ لأنه منظور له، ولا وجه لتصرف وليه إلا طلب مصلحته. 3943 - والطريق الثاني - يُبيّنُه تفصيلٌ، فنقول: من اشترى على شرط الخيار، ثم فُلّس- في مدة الخيار، فرعنا ذلك على القولين في حصول الملك. فإن قلنا: لا يحصل الملك في المبيع للمشتري، فإن فرع المشتري أو أجاز على وفق (2) الغبطة، فلا شكّ في نفوذ ذلك. ولم يختلف (3) أصحابنا في تنفيذ الفسخ والإجازة منه. وإن كان لا ينفذ بيعه في أمواله التي شملها الحجر، وإن وافق الغبطة. وفي شرائه كلام سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. وهذا يوضح أن التصرف بالفسخ والإجازة مستثنى على الجملة عن التصرفات. فأمّا إن فرع أو أجاز على خلاف الغبطة، قلنا: أمَّا الفسخ على خلاف الغبطة، فنافذ؛ فإنه ليس يُخرِجُ به عن ملكه شيئاًً، وإنما يمنع به عن جلب ملك، والتفريع على أنه لا ملك له في زمان الخيار في المبيع والثمن قارٌّ على ملكه؛ فقد بقي بالفسخ

_ (1) في الأصل: على. (2) (ت 2): وجه. (3) (ت 2): يحتل.

على ملكه الثمن، ولم يحصل له الملك في المبيع. ورجع ترك نظره إلى عدم الكسب والجلب، وليس على المفلس أن يكسب وإن قدر عليه. هذا إذا فسخ. وأمَّا إن أجاز العقد على خلاف الغبطة -والتفريع على أن لا ملك له في المبيع في زمان الخيار- فإجازته على خلاف الغبطة مردودة؛ من جهة أنه يُخرج بها الثمنَ عن ملكه، على خلاف المصلحة، وليس له أن يُخرج عن ملكه شيئاًً على خلاف الغبطة. وإن قلنا: إن الملك في المبيع للمشتري في زمان الخيار، فإن فسخ أو أجاز، ولم يخالف الغبطة، نفذ ذلك. والذي دل عليه كلام المشايخ في هذه الطريقة - أنه ينفذ الفسخُ والإجازةُ إذا استوى وجه الغبطة، ولم يترجح وجهٌ على وجهٍ. فأمَّا إذا فسخ والغبطة في الإجازة، ففسخه مردود؛ من جهة أنه بفسخه يُخرج المبيع عن ملكه، والغبطة في خلافه. وإن أجاز على هذا القول على خلاف الغبطة، نفذت إجازته؛ لأنه بالإجازة تاركٌ ردّ الثمن إلى ملكه، وإذا ملكناه المبيع في زمان الخيار، ملكنا البائع الثمن لا محالة؛ فهو بالإجازة تاركٌ جلبَ الملك في الثمن، وليس على المفلس الجلبُ والكسبُ، كما قدمناه. فحاصل الطريقة إذاً راجع إلى أنا لا ننفذ منه على خلاف الغبطة إخراجَ شيء عن ملكه، ولا نكلّفه ردَّ شيء إلى ملكه. هذا بيان الطريقتين. 3944 - ونقل الأصحاب نصاً عن الشافعي متعلقاً بالرد بالعيب، قال رضي الله عنه: "إذا اشترى في الصحة عبداً، ثم مرض، واطلع على عيبٍ به في مرضه، لزمه الرد، وإن لم يَرُد، حُسب من ثُلثه؛ لأن العيب كفقد جزء". كلامه المطلق يحتاج إلى التفصيل، فنقول: إن اشترى في الصحة عبداً بمائةٍ، وقيمته خمسون، لو كان سليماً، فالمحاباة محتملة (1) بسبب جريان العقد في الصحة. فلو اطلع على عيب في مرض الموت ينقص عُشرَ قيمة (2) العبد، فإن رده، فذاك. وإن

_ (1) "محتملة": بمعنى جائزة نافذة، من الاحتمال والإطاقة، وليست من الاحتمال بمعنى التوقُّع. (2) (ت 2): تنقص قيمته عشر العبد.

أجاز العقدَ، كان متبرعاً بعشر الثمن، وهو عشرة، ولا نجعله متبرعاً بعشر قيمة العبد؛ لأنّ المسترد في مقابلته (1) الثمن، والأرش المقابل للعيب عشر الثمن لا عشر القيمة، فإجازته تتضمن ترك عشر الثمن، والمحاباة وراء ذلك جارية في الصحة، وليس على المريض أن يكسب للورثة باسترداد جميع الثمن. 3945 - وفي الفصل غائلة ننبه عليها، وندرؤها بسؤالٍ وجواب. فإن قيل: قد ذكرتم أن المريض ليس عليه الاكتساب، فليس عليه أن يقبل الهبة والوصية، ولا أن يكتسب بجهة أخرى، والملك حاصل للبائع في جميع الثمن، واستردادُ الأرش نقصٌ للملك في حق البائع، وجلبٌ من جهة المشتري، فلم كان تركه تبرعاً؟ قلنا: هذا العقد يتضمن الاستحقاقَ، فإسقاطه إسقاط [حق] (2) مستحق تضمنه العقد، وقد ثبت هذا في مرض الموت، وكان إسقاطه بمثابة إسقاط دين، والدين وإن سميناه ملكاً، فليس شيئاً محصلاً، ولكنه استحقاق التوصل إلى تحصيل الملك في عين، ولذلك يحط الأرش عن الشفيع، وإن كان مقتضى الشرع أن يأخذ الشّقصَ بثمن العقد، وليس هذا كما ردَّدْناه في خيار الشرط؛ فإن ذلك [تروٍّ] (3) محض، وليس الفسخ به والإجازة متضمنين إسقاط حق مستحق. فليفهم الناظر ذلك، فبه تمامُ الغرض. 3946 - فإن قيل: الرد مستحق أيضاًً بالعيب، فأوجبوه. قلنا: لو أوجبناه، لألزمنا نقضَ المحاباة التي أمضيناها في صحته، وهذا لا سبيل إليه. فإن قيل: لو كان الثمن جارية، وقد فرض الاطلاع على العيب، فهل تجوزون لقابض الجارية وطأها؟ قلنا: نعم؛ فإن الجارية في يده وإن تعرضت للاسترداد بمثابة الجارية في يد المتهب، مع استمكان الواهب من الرجوع في الهبة. 3947 - فإن قيل: لو كانت المسألة مفروضة حيث نقلتم نص الشافعي في الصحة

_ (1) (ت 2): مقابلة. (2) مزيدة من (ت 2). (3) (ت 2): نزو. وفي الأصل بدون نقط. وكذا قدرناها. والمعنى أن الإجازة والفسخ في مرض الموت لمن له خيار الشرط، ليس فيها إسقاط حق، ولا تبرع، ولا تكسب، وإنما الخيار هنا للتروّي المحض. والله أعلم.

والمرض، فإذا ترَوْن؟ قلنا: إن كان الثلث وافياً، فمجوز الوطء إلى أن يتفق ما يجري من بائع الجارية، وإن لم يكن الثلث وافياً، فالمحذور الرجوع إلى قسط من الجارية، ولو فرض ترك ذلك القسط على قابض الجارية؛ فهو في الحال تبرع. ولكن لو تبرع المريض بجارية لا يملك غيرها، وأقبضها، تسلط المتهب على وطئها، بناءً على استمرار الحياة. ثم إذا مات المتبرع، نقضنا تبرّعه في ثلثيها تبيُّناً، وقد نلزمه ثلثي مهرها، كما سيأتي في الوصايا. فخرج من مجموع ذلك أنا لا نحرم الوطءَ كيف فرض الأمر، وهذا تصريح بحقيق الملك. ومع ذلك نجعل ترك مقدار الأرش تبرعاً. 3948 - وتمام القول فيه أنه لو مات هذا التارك للأرش المريض ولم يَفِ الثلث، فالزائد على الثلث -على قولنا: التبرعُ الزائد مردود- يُثبت للورثة ملكاً لهم، أم هم يثبتوه (1)؟ الظاهر عندنا أنه يثبت لهم. ولا حاجة إلى إثباتهم لأنفسهم. وما قدمناه من التسليط على الوطء محمول على مذهب التبيّن بالأَخَرة والإسناد (2). فانتظم من هذا أنّه إذا مرض مرضَ موته، وفرض الاطلاعُ على العيب، وتَرْكُ الأرش، فقد تبيّن بالأَخرة رجوعُ شيء من الثمن إسناداً. فليفهم الناظر ذلك. ويحتمل أن يقال: للورثة حق الرجوع في الأرش بعد الموت، وإذ ذاك يثبت ملكهم، والأظهر الأول. 3949 - ونحن نذكر صورة أخرى في ذلك، فنقول: لو اشترى عبداً قيمته [مائة] (3) بخمسين، واطلع على عيب به ينقص عشرَ القيمة، فلو رد، كان الرد على خلاف الغبطة؛ فإن العبد مع العيب يساوي تسعين، فلو رده واسترد خمسين، كان متبرعاً بأربعين، فالرد إذاً تبرع -كما ذكرناه- لأن الغبطة في إمساكه، وهو ملكه الحاصل، ورده إخراجٌ له عن الملك، فإذا كان على خلاف الغبطة، كان متبرعاً. فلو قال:

_ (1) (ت 2): ملكاً أم لهم أن يثبتوه؟ (2) (ت 2): والاستناد. وهما بمعنىً، والتبين والاستناد من طرق إثبات الأحكام، وقد ثبث بيانهما. (3) في الأصل: تسعين.

أرجع بالأرش، فقال بائع العبد: بل ردّه، فليس له مطالبة بالأرش؛ فإنا نبني الأمر على حياته. وإذا كان الرد ممكناً في الحياة، لم يجز التحكم بإلزام الأرش. ولو مات فأراد الورثة المطالبة بالأرش، لم يكن لهم ذلك أيضاًً؛ فإن المريض تبرّعُه (1) في الرد، فإذا لى يرد، فإنما راعى الغبطة في ترك الرد، ويستحيل أن يقع ترك الرد غبطة، وينضمُّ إليه الرجوعُ إلى الأرش. ونظير هذا ما لو اشترى الولي للطفل عبداَّ بَخمسين، وقيمته مائة لو كان سليماً، فلو اطلع على عيب به ينقص عشرَ قيمته، فليس له الرد، وليس له أن يُطالبَ بائع العبد برد شيء من الثمن. هذا ما نراه، واللهُ أعلم. وقد يخطر لمن لا يغوص أن الرد إذا امتنع، فالأرش جزءٌ مستحق الاسترداد. وليس الأمر كذلك. فصل قال: "ولو أسلفه فضة بعينها في طعام، ثم فُلّس، كان أحقَّ بفضته ... إلى آخره" (2). 3950 - قد ذكرنا في غير المفلس أن من أسلم في جنس وانقطع جنسُ المسلَم فيه عند المَحِلِّ، ولا إفلاس، ولا حجر، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن العقد ينفسخ. والثاني - أن المسلم يتخير: إن شاء فسخ، وإن شاء أنظر المسلَم إليه إلى وجود الجنس، ونحن نذكر في السلم بعد تجديد العهد بهذا الأصل صورتين في المفلس: إحداهما - أن يفلس المسلم إليهِ، والمسلَمُ (3) فيه عامّ الوجود. فإن كان رأس المال قائماً، فللمسلم فرع العقد، والرجوعُ إلى رأس المال. ولا فرق بين أن يعيّن رأس المال حالة العقد، وبين أن يطلق ذكر الدراهم حالة العقد، ثم يعينها في

_ (1) خبر إن. والمعنى: أن تبرع المريض في ردّ العبد، لا في ترك الأرش. (2) ر. المختصر: 2/ 221. (3) (ت 2): فيما المسلم فيه.

المجلس بالإقباض. فإذا كان ما عين أولاً بالتسمية، أو عين بالإقباض في المجلس قائماً، فرع العقد، ورجع في تيك العين. وإن أراد المضاربة، فسنذكر في آخر الفصل كيفية المضاربة بالمسلَم فيه. ولو كان رأس المال تالفاً، فهل للمسلم أن يفسخ العقد؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يفسخ؛ لأنه لو فسخ، لضارب ببدل رأس المال؛ إذْ عيْنُه تالفة، وإنما يثبت الفسخ بعذر الفلس إذا كان الفاسخ يتخلص عن المضاربة. والوجه الثاني - أنه يثبت له الفسخ بتعذر الوصولِ إلى تمامِ المسلم فيه. وإذا كان التعذر بانقطاع الجنس يثبت حق الفسخ، فالتعذر بالفلس ينبغي أن يُثبت حق الفسخ. وهذا القائل لا يخرّج قول الانفساخ بسبب الفلس، بخلاف ما إذا انقطع الجنس. هذا بيان صورة واحدة. 3951 - الصورة الثانية: مفروضة فيه إذا أفلس المسلم إليه، وانقطع المسلم فيه، فاجتمع الفلس والانقطاع؛ فإن كان رأس المال قائماً، فسخ العقد، ورجع فيه. وإن كان تالفاً، فهل يثبت للمسلم حق الفسخ؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ لأنه لا يتخلص عن مضاربة الغرماء. والثاني - وهو الأصح- أنه يثبت له حق الفسخ؛ لأنه بالفسخ يصل إلى بعض حقه في الحال. ولو لم يفسخ، وصبر إلى عود جنس المسلم فيه فربما لا يجد في يده شيئاًً يأخذه بحقه؛ فترك الفسخ يلحق به ضرراً بيِّناً. وأيضاًً، فإن حق الفسخ إذا كان يثبت في حالة الإطلاق، فيستحيل أن لا يثبت في حالة الحجر، وكل سبب أثبت الفسخ في الإطلاق، لم يُبْن الأمرُ فيه على الغرض، فإن من اطلع على عيب المبيع الذي قبضه، فله رده على مفلس لا يجد ما بقي بالثمن. وقد نعود في آخر الفصل إلى تحقيق هذا الوجه من هذه الصورة إن شاء الله تعالى. 3952 - ونحن نذكر الآن كيفية المضاربة في المسلم فيه، فنقول: إذا كان المسلم فيه جنساً من الأجناس، فالمضاربة [به] (1) غير ممكنةٍ؛ لأن التضارب إنما ينتظم في النقود، فإذا لم يكن المسلم فيه نقداً، فلا وجه لتقدير المضاربة به. ولكنا نرده إلى

_ (1) ساقطة من الأصل.

القيمة تقديراً، ونُثبت المضاربة بها، ثم ننظر إلى مقدار ما يخصه في المضاربة، فإن كانت القيمة مائة، وقد خصه بالمضاربة عشرة، لم نترك (1) العشرة عليه؛ فإنا لو فعلنا ذلك، كنا معتاضين عن المسلم فيه، وأخذ البدل عن المسلم فيه باطل، غيرُ مباح، فالوجه أن يصرف ما يخصه من الدراهم والدنانير إلى جنس المسلم فيه وتسلمه إليه، فتكون المضاربة واقعةً في أحد النقدين، وملكُ المسلِم مستقرٌ آخراً في مقدارٍ من جنس المسلَم فيه. والذي قطع به الأئمة أن ملك المسلم لا يثبت في الحصة التي تميزت له من الدراهم، وإنما يثبت ملكه في القدر الحاصل من المسلَم فيه. فلو ميزنا له باعتبار القيمة عشرة، وقدرناها عُشْرَ حقه مثلاً، فهاج رخصٌ وانخفض السعرُ قبل اتفاق صرف الدراهم إلى جنس المسلم فيه، ووجدنا بذلك القدر الذي أقررناه له قدرَ حقه من جنس المسلم فيه بكماله، قال الأصحاب: صرفنا الكلَّ إليه وأوصلنا إليه حقه كَمَلاً، وبرئت ذمة المسلم إليه. وان وجدنا [به] (2) أكثر من حقه، فالزيادة مردودة على الغرماء. 3953 - قال القاضي: هذا مشكل. والقياسُ أن نقول: إذا هاج الرِّخص، وصار ما كنّا نقدره بمائة يوجد (3) بعشرة، فنغير اعتبار القيمة، ونقول: إنه يضرب بعشرة، وننظر ما يخصه مع مزدحم الديون، ونبتدىء بتبيّن (4) مقدار حقه. وإنما كان كذلك، لأن الحصة المقررة له على حساب المائة لم تدخل في ملكه لما قدمناه من استحالة ملك عوض المسلم فيه، فإذا لم يثبت ملكه فيما ميزنا، بان أن الأمر موقوف على ما يتبين آخراً، وقد بان برخاء السعر، وظهور الرخص أن قيمة المسلم فيه عشرة، فدينه إذاً يقدر بهذا. هذا ما قاله.

_ (1) (ت 2): ننزل. (2) في الأصل: وجدناه. (3) (ت 2): نجده. (4) (ت 2): بتيقن.

3954 - والذي ذهب إليه الجماهير ما قدمناه أولاً. فانتظم مما قالوه، وقاله القاضي وجهان: أحدهما - ما ذكره القاضي، ووجهه القياس البيّن الذي ذكره. والثاني - ما ذكره الأصحاب، ووجهه أنا وإن كنا لا نملِّك المسلِم العشرةَ الدراهم، فنجعله أولى بها؛ حتى كأنها مرتهنة بحقه، وكأنه مرتهن فيها. ولو كان كذلك، لكنا نقدمه بتمام حقه فيما هو مرهون عنده، فيجري إذاً قياس الرهن. ونقول: إن وفّى ما ميزناه بحقه أدينا منه حقه كاملاً. وإن زاد على مقدار حقه، أدينا منه قدرَ حقه، وصرفنا الفاضل إلى الغرماء، كدأبنا في المرهون إذا بعناه. فإن قيل: لم فعلتم ذلك؟ قلنا: [إفراز] (1) الحاكم للحصص (2) تخصيصٌ منه لكل ذي حق بمقدار، فما (3) يتصور فيه التمليك حُمل تخصيصه على حقيقة الملك، وما امتنع التمليك فيهِ حُمل على ما يتصوَّر، وهو التخصيص بطريق الاستيثاق، فكأن حقوق الغرماء انقطعت عن العشرة بالقسمة التي جرت على التقدير الصحيح ابتداءً. فهذا هو الممكن في توجيه ما قاله الأصحاب. وليس يخفى ظهور ما قاله القاضي في القياس. 3955 - ثم إن كان المسلم فيه شيئاًً من ذوات الأمثال، وقد خص المسلِم عشرُ قيمته، فإنا نصرفه إلى عشر المسلم فيه. وإن كان المسلم فيه ثوباًً واحداً، أو حيواناً، فالوجه صرف ما يخص المسلِم إلى جزء شائع من ثوب، أو حيوانٍ مستجمعٍ للصفات المذكورة لا (4) وجه غيره. هكذا ذكره صاحب التقريب وغيرُه. فإذا ضارب بمائة، فخصه من زحمة الديون عشرة، وصرفناها إلى جنس المسلَم فيه، فلو انطلق الحجر، وحدث له مال جديد وعاد الغرماء يضاربون، فللمسلم حق المضاربة في بقية حقه في المال الجديد، فتقوَّم السلعة مرة أخرى، فإن كانت مثل القيمة الأولى، فلا كلام. وإن كانت القيمة أعلى من هذا الوقت، فإنه يضارب بالقيمة العالية؛ فإنَّ المقصود

_ (1) (ت 2): إقرار. وفي الأصل بدون نقط. وقدرناها على ضوء المعنى. (2) في (ت 2): "المحصص". (3) (ت 2): فيما. (4) (ت 2): ولا وجه.

إيصالُه إلى جنس المسلم فيه، والقيمة في البين واسطةٌ، اضطررنا إلى اعتبارها، فنعتبر إذاً قيمة المسلم فيه بالغة ما بلغت. وهذا سديد. 3956 - فأمَّا إذا قومنا المسلم فيه آخراً في الصورة التي انتهينا إليها، فكانت قيمته أنقص في الكرّة الثانية، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في ذلك: أحدهما - أنه يضارب باعتبار القيمة الثانية، وهي قيمة الوقت. ووجهه بيّن. والوجه الثاني - أنه يضارب بالقيمة الأولى المعتبرة في الحجر الأول. وهذا لا أدري له وجهاًً، مع قطعنا بأن القيمة ليست عينَ حقه. ولو لم يتفق الحجر الثاني، ووفى ما في يد المسلم إليه بتمام حق المسلِم، وهاج الرخص، فليس على المسلم إليه إلا توفيةُ حقه. وإذا رخص السعر، فإذا فرض حجرٌ ثانٍ وجب أن يضارب بالقيمة الناجزة، فإن القيم تقديرات، والغرض الوصول إلى المقوّم. ولولا أن صاحب التقريب كرّر هذا الوجه الثاني، وإلا كنت لا أذكره لضعفه. فصل قال: " ولو أكرى داراً منه سنة، ثم أفلس المكري ... إلى آخره " (1). 3957 - هذا الفصل يشتمل على بيان إفلاس المكري، وإفلاس المكتري والبداية بإفلاس المكري. ولا تخلو الإجارة إما أن تكون واردة على العين، وإما أن تكون واردة على ذمة المكري، فإن كان الكراء [على] (2) العين بأن أكرى داره أو دابته، وعقد إجارةً على شرط الصحة، فإذا أفلس المكري قبل انقضاء الإجارة، وحصول الوفاء بها، فالإجارة لا تفسخ لمصلحة المفلس، حتى لو فرعنا على منع بيع المكرى؛ فإنا نمتنع عن بيع العين المكراة إلى انقضاء مدة الإجارة، وفاءً بما اقتضاه العقد. وإن قلنا: يجوز بيع

_ (1) ر. المختصر: 2/ 221. (2) في الأصل: في.

المكرَى، فنبيعه في ديونه، ولو كانت قيمته تنقص لمكان الإجارة، لم نبال بنقصانها. فإذا اتفق بيعُ الدار المكراة، وصرْفُ ثمنها في حقوق غرماء المكري، وانفصل الأمر، وانطلق الحجر، والإجارة باقيةٌ، فلو انهدمت الدار في بقية المدة، وقضينا بأنفساخ الإجارة، وكان المكتري وفَّى الأجرة كاملة، فيثبت له حق الرجوع بقسط من الأجرة لانفساخ الإجارة في بقية المدة. وهذا الحق يثبت جديداً مترتباً على الانفساخ الواقع بالانهدام. فهل لهذا المكتري أن يزاحم الغرماء الأولين فيما اقتسموه بينهم، وتضاربوا به؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون أحدهما - أنه لا يزاحمهم؛ لأن دينه متجدد حادث بعد القسمة، وفضّ المال على الغرماء، فلا يثبت لأصحاب الديون الجديدة مزاحمةُ القدماء من الغرماء. والوجه الثاني - أن المكتري يزاحمهم مزاحمةَ غريم يبدو [أخِراً] (1) ونتبين استحقاقَه لدَيْنه متأخراً بتاريخ سابق لاستحقاق الأولين ديونَهم حالة المزاحمة. ووجه ذلك أن الرجوع وإن ثبت الآن، فهو مستند إلى موجَب عقد سابق، وهو الإجارة. فإذا كان رجوع المكتري مستنداً إلى الإجارة السابقة، كان حقه بمثابة دين سابق يبدو. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردة على العين وقد أفلس المكري. 3958 - فأما إذا كانت الإجارة واردة على ذمة المكري، وما كانت ربطت بعين، وهذا كالتزام المكري نقلَ مقدار مبيّنٍ من طعامٍ أو غيره، من بقعة إلى بقعة، فهذا لازمٌ ذمةَ المكري، فإذا أفلس وفي ذمته ما وصفناه، لم يخلُ: إما إن كان سلّم دابةً إلى المكتري ليحمّلها الطعامَ المذكور. وإما إن لم يكن سلم إلى المكتري شيئاًً. فإن لم يكن سلم إليه شيئاًً، فالذي في ذمته دينٌ من الديون. فإن كان عِوضُ الإجارة باقياً، وقد أفلس المكري، فللمكتري الرجوع إلى العوض الذي صادفه باقياً. وإن كان العوض تالفاً، ضارب المكتري الغرماءَ بأجر مثل ما استحق من المنفعة، على القياس الذي ذكرناه في رجوع المسلِم، إذا أفلس المسلم إليه.

_ (1) الأخِر: الأخير. (معجم) وغير مقروءة في (ت 2) وفي الأصل: (أخر) بدون ألف التنوين.

3959 - ثم يعرِض في منتهى الكلام أمرٌ يجب إنعام النظرِ فيه. وهو أنا إذا أثبتنا للمكتري حقَّ المضاربة بأجرة المنفعة المستحقة، فإذا بأنت حصته في تقدير المضاربة، فصرْفُ ذلك المقدارِ إليه بمثابة صرفِ مقدارٍ من قيمة المسلم فيه إلى المسلِم. وهذا اعتياضٌ عن المسلم فيه. 3960 - وقد اختلف أصحابنا في الإجارة الواردة على الذمة هل تنزل منزلة السلم حتى نرعى فيها ما يُرعى في السلم من وجوب تسليم الأجرة في مجلس العقد، أم كيف السبيل فيه؟ وسيأتي شرح ذلك في كتاب الإجارة، إن شاء الله تعالى. فإن جعلنا الإجارةَ الواردة على الذمة بمثابة السَّلم، وهو الصحيح، فلا سبيل إلى ترك حصة المكتري -النازل منزلة المُسْلِم- عليه من القيمة (1)؛ فإن ذلك اعتياضٌ عن المسلم فيه. ثم إن كان المقصود أمراً لا يتبعض، مثل أن يقول: تحملني إلى بلدة عيّنها، فالحمل إلى بعض الطريق قد لا يفيد، أو، (2) ربما يكون الموضع المقدَّر مهلكة، فإذا تحقق التعذر، وامتنع الاعتياض، فلا وجه إلا تخيير المكتري في الفسخ، وإذا فسخ العقد، ضارب الغرماء بقيمة الأجرة التي كان بذلها، وقد يتجه عُسرٌ إذا كان المسلَم فيه ثوباًً؛ فإنه إذا خصّه عشرُ القيمة، فلا يجد به عشرَ ثوب، فإذا ظهر تعذرٌ يجر نقيصةً وخسراناً، ثبت الخيار، كما ذكرناه. وإن كان ألزم ذمة المكري حملَ مائة منٍّ إلى بقعة، وكان حَمْلُ البعضِ مُفيداً على قدره، صرفنا القيمة التي (3) خصته إلى البعض. والجملةُ أن التبعيض إن أمكن من غير تعذر، صرفنا حصة المضاربة إليه. وإن عسر، أو تضمن التبعيض نقصاً، ثبت الخيار، لا طريقَ غيرُه. ولا وجه لتمليك القيمة، والتفريع على أَنَّ الإجارة سلمٌ.

_ (1) في الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى: "لا سبيل إلى ترك حصة المكتري -من القيمة- عليه، فإنه نازلٌ منزلة المسْلِم، ولا يجوز الاعتياض عن المسلَم فيه". (2) الواو زيادة من (ت 2). (3) (ت 2): إلى حصته.

3961 - وإن حكمنا بأن الإجارة الواردة على الذمة لا تكون بمثابة السلم، فإذا ضارب المستحق الغرماء بأجرة المنفعة المستحقة، وبانت حصته منها، لم يمتنع أن يملك حصته من القيمة عوضاً؛ فإن الاعتياض عن الديون غيرُ ممتنع، إذا لم يكن مسلماً [فيها] (1). وللنّظر فيها مضطرب، والعلم عند الله. 3962 - [و] (2) كل ما ذكرناه في الإجارة الواردة على الذمة إذا لم يكن قد سلم المكري عيناً إلى المكتري. فإن كان ألزم ذمته حمل مائة منٍّ، فسلم إليه دابة، حتى يحمّلها المائة. ثم أفلس المكري، فظاهر المذهب أن تلك الدابة متعيّنة لاستحقاق المكتري، كما لو استأجرها في عينها وأورد الإجارة (3) عليها، فليستوف حقه من تلك الدابة وليحمّلها؛ فإنها سُلمت إليه قبل اطّراد الحجر، فتعينت كما تتعين الدراهم إذا سلمها من عليه الدراهم. والحقوق المتعلقة بالذمم تتعين بالتعيين والتسليم. ومن أصحابنا من قال: لا تتعين تلك الدابة؛ فإنها ليست مورد الإجارة، والمنافع ليست أعياناً. ويشهد لهذا أن تلك الدابة لو عطبت لم تنفسخ الإجارة بعطبها، بخلاف ما لو وردت الإجارة على عينها. فإذا كان لا يثبت لها حُكم التعيين في انفساخ الإجارة عند تقدير تلفها، لم يثبت لها حكم التعيين في اختصاص المكتري بها؛ فعلى هذا إذا أفلس المكري، فلا حكم لتسليم تلك الدابة. والأصح الأول. 3963 - وهذا يخرّج على اختلافٍ للأصحاب، سيأتي مشروحاً في الإجارة. وهو أَنَّ من التزم حمْلَ إنسان إلى موضع، وسلم إليه دابةً، فهل له أن يبدلها بأخرى، من غير سببٍ؟ فيه اختلاف سيأتي موضحاً، إن شاء الله تعالى. هذا كله إذا أفلس المكري. 3964 - فأما إذا أفلس المكتري، فلا يخلو: إما أن تكون الإجارة على العين أو على الذمة. فإن كانت الإجارة على العين، بأن كان اكترى داراً معينة أو دابةً معينة،

_ (1) في الأصل: فيه، والمثبت من (ت 2). (2) في الأصل: فكل. (3) (ت 2): العقد.

وما سلم الأجرة، فأفلس، والإجارة باقية، فالمذهب الصحيح أنه يثبت للمكري الرجوعُ إلى المنافع في بقية المدة. فإن آثر ذلك، فلتفرع الإجارة في بقية المدة، ويضارب الغرماء بأجرة المنفعة الماضية. وقد تقدم شرح هذا. 3965 - ثم قال العلماء: إن كان أجَّر أرضاً، فزرعها المستأجر، وأفلس، فللمكري الفسخ [و] (1) لا يقلع الزرع، بل يرجع بأجرة مثل بقية المدة، يقدم بها من غير مضاربة، كما تقدم. ولو كان اكترى دابة وحمَّلها، وأفلس في خلال الطريق، فللمكري الفسخُ. ولكن لا يضيّع متاع المفلس، بل يمكّنه من نقله إلى مأمن، وليس عليه أن يمكنه من نقله إلى مقصده؛ فإنّ المطلوب ألا يضيع حق المكتري، لا أن يحصِّل مقصودَه. ولو لم يؤثر [المكري] (2) الفسخ (3) وأراد مضاربةَ الغرماء بالأجرة المسماة، فله ذلك، ولا تضيع المنفعة في بقية المدة على الغرماء؛ فإن كانت مشغولة بزراعة أو غيرها، فهو المراد. وإن لم تكن مشغولة، أكريت تلك العين، وصرفت أجرتها إلى حقوق الغرماء. هذا إذا كانت الإجارة واردة على العين. 3966 - فأمّا إذا كانت على الذمة، وأفلس المكتري، فإن كان المكري قد استوفى الأجرة قبل الحجر، فلا كلام، والمنفعة في ذمة المكري، حقٌّ من حقوق المكتري المفلس، تُصرف إلى ديونه كسائر أمواله. وإن لم يكن المكري قبض الأجرة، وفرعنا على أن الإجارة الواردة على الذمة ليست سلماًً، ولا يجب تسليم الأجرة في المجلس، فإذا أفلس المكتري، فللمكري فسخُ الإجارة بسبب تعذر العوض؛ فإن آثر ذلك، برئت ذمته منه عما عليه من الحق، وانفسخت الإجارة.

_ (1) في الأصل: ثم. والمثبت من (ت 2). (2) في الأصل، (ت 2): المكتري. (3) ساقطة من (ت 2).

فصل: "ولو قسم الحاكلم ماله بين غرمائه، ثم قَدِم آخرون ... إلى آخره" (1). 3967 - إذا حجر القاضي على المفلس، وقسم ماله على غرمائه، ووزعها عليهم، فلا شك أن التوزيع يقع على أقدار الديون، لا على أعداد الرؤوس. فإذا كان له غريمان لأحدهما عليه أربعة آلافٍ، وللثاني ألفان، وجملةُ ماله ثلاثة آلافٍ، فيصرف ألفان إلى من له الأربعة ألف، وألف إلى من له ألفان. ووضوح ذلك مغنٍ عن بسطهِ. فإذا قسمنا المال على مبالغِ الديون، فظهر للمفلس غرماء آخرون بعد القسمة وفَضِّ الأموال على الحصص، وتبين أن الذين ظهروا كانوا على استحقاقهم حالة الحجر، ولكن كانوا غُيَّباً، فهؤلاء يخاصمون الذين قسمنا المال عليهم، وينزلون معهم منزلة ما لو كانوا موجودين حالة القسمة، حتى إذا كان المال ثلاثةَ آلافٍ، والغريمان الأولان على أربعة آلافٍ وألفين، فظهر غريمٌ ثالث بأربعة آلافٍ؛ فإنه يسترد من الألفين الذين سلمناهما إلى صاحب الأربعة ثمانمائة، ويسترد من صاحب الألفين من الألف أربعمائة، فيخلص له ألف ومائتان، ويبقى لصاحب الأربعة آلاف ألفٌ ومائتانِ، ويبقى في يد صاحب الألفين ستمائةٍ، فتعتدل القسمة على [الاحتياط] (2) والحصص. 3968 - ولو كان عند القسمة غريمان لكل واحد منهما ألف، والمال ألف، فقسمناه بينهما نصفين، فأتلف أحد الغريمين حصته وأعسر، وظهر غريم ثالث بألف ولم يجد مرجعاً على الغريم الذي أتلف ما خصَّه وأعسر، فصادف الخمسمائة في يد الآخر، فبكم يحاصّه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب الأكثرون إلى أنه يشاطره فيها، ويقول: تلك الحصة قد فاتت وأنا وأنت سيّان فيما بقي، وتقدُّمُ صورة القسمة لا يخلّفني عنك، وقدْرُ دَيْني كمقدار دينك، فيشترك في هذا الباقي على استواءٍ.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 222. (2) كذا في (ت 2)، وفي الأصل بغير نقط. ولعلها: " على الاحتصاص ".

وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يأخذ من هذه الخمسمائة إلا ثلثها؛ فإن الحصة الأخرى لو كانت باقية، لكان يأخذ منها ثلثها أيضاً، فلئن فاتت تلك الحصة وأعسر صاحبها، فلا ينبغي أن يرجع بما فات من حقه بسبب تلك الحصة الفائتة على الحصة الباقية، وكان حقه في أيديهما، ففواته بسبب فوات ما في يد أحدهما لا يرد جميع حقه إلى ما في يد الثاني. وهذا الخلاف قريبُ المأخذ من القولين في أن أحد الوارثَيْن لو أقر بدَيْنٍ وأنكر الثاني، فهل ينحصر جميعُ الدين في حصة المقر؟ أم لا يلزمه [منه] (1) إلا ما كان يطالَب به لو أقر صاحبه معه؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما في كتاب الأقارير، إن شاء الله تعالى. 3969 - ومما أطلقه الأصحاب (2) في قاعدة هذا الفصل أن قالوا: إذا اقتسم الغرماء مالَ المحجور، ثم ظهر غريم بدين قديم، فالقسمة السَّابقة لا تنقض، ولكن الغريم الظاهر يُحاصن كلَّ واحد بمقدار حقه، واعتلّوا بأن قالوا: الغريم لا حق له في أعيان الأموال، وإنما تعلقه بالمالية، وإذا (3) كان يرجع على كلٍّ بحصته، فلا معنى لنقض القسمة مع وصوله إلى ما هو حقه، من غير تقدير تعويض وإبدالٍ. وهذا يظهر جداً إذا ردت الأمتعة إلى النقود وفُضّت على أقدار الديون، ولم يكن لواحد من الغرماء في محل الكلام عين مال، وإنما حقوقهم ديون مرسلة. 3970 - ولو اقتسم الورثة أعيان التركة، ثم بدا دينٌ، فالأصح المنصوص عليه أن القسمة لا تنقض ببَدْو (4) الدَّيْن، بل يرجع الغريم على كل وارث بحصته إلى استيعاب حقه؛ فإن حقه يتعلق بمالية التركة، لا بأعيانها. وأثر القسمة في إفراز الأعيان. وإلا فالتركة في أيدي الورثة.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (ت 2): بعض الأصحاب. (3) (ت 2): إذا (بدون واو). (4) (بَدْو): مصدر بدا بَدْواً: أي ظهر. (قاموس).

ولو اقتسم الورثة أعيان التركة، ثم ظهر وارث آخر، فالقسمة منقوضة؛ فإن الوارث يتعلق استحقاقه بالأعيان، فتصحيح الإفراز مع شيوع شركته في التركة محال. وللشافعي قول آخر: إنه إذا بدا دين، تبيّنا انتقاض القسمة من أصلها؛ لأن التركة مرتهنة بالدين، والتصرف في المرتهن مردود، وسنذكر هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى. 3971 - ولو أجرى مُجرٍ (1) هذا القول في بُدوّ غريم للمحجور عليه بعد اقتسام الغرماء الأوَّلين، لم يكن بعيداً؛ إذ لا فرق بين بُدوّ دَيْنٍ في التركة، وبين ظهور غريم للمحجور عليه. 3972 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن المحجور عليه لو استفاد مالاً جديداً، والحجر مطّردٌ عليه، بأن قبل هبةً، أو وصية، أو احتش، أو احتطب، أو اشترى وصححنا شراءه على الأصح، فهذه الأملاك الحادثة في اطراد الحجر هل يتعدى إليها مقتضى الحجر، حتى لا ينفذ فيها تصرف المحجور عليه؟ أم هي خارجة عن موجَب الحجر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها خارجةٌ عن موجب الحجر؛ فإن الحجر تعلق بالأموال العتيدة الموجودة لدى الحجر، وكان المقصود منه قصر يد المفلس عن التصرّف فيها، فلا سبيل إلى تعدية الحجر عن تلك الأموال. والحجر من القاضي في أموال المفلس، كحجر الراهن على نفسه في العين المرهونة، ثم الرهن لا يتعدى موردَه. هذا وجه. والوجه الثاني - أن الحجر يتعلق بالأموال المستجدة؛ فإن السلطان لم يقصد بحجره تخصيصَ مالٍ، وإنما قصد التسبب إلى إيصال الحقوق إلى مستحقها، وهذا القصدُ لا اختصاص له بالمال الموجود، فليكن المحجور عليه تحت الحجر فيما كان موجوداً، وفيما استجدّه واستحدثه. 3973 - ومن الأصول اللائقة بما نحن فيه أَنَّ الحجر إذا انطلق -كما سنوضح سبب انطلاقه في آخر الفصل- وكان الغرماء على بقايا من ديونه، فلو حدث للمديون مالٌ بعد

_ (1) ساقطة من (ت 2).

انطلاق الحجر، لم يعد محجوراً عليه بنفس حدوث المال، ولكن لو استدعى الغرماء إعادةَ الحجر بسبب المال الحادث، وكانت بقايا الديون زائدةً على المال الحادث، أو مساوية له - على التفصيل المقدم في أول الكتاب - فالقاضي يجيب إلى ذلك. فلو تجددت له ديون مع تجدد الأموال، لم يختص الغرماء الذين حدثت حقوقهم [بالمال الحادث، بل اشترك فيه القدماء من الغرماء الذين حدثت حقوقهم] (1). ولو بدا للمحجور عليه مال قديم، اختص بالتضارب فيه الغرماء القدماء، ولم يشاركهم فيه من حدث حقه. 3974 - والضَّابط فيه أن المال الحادث يشترك فيه الغريم القديم والحادث، والمال القديم الذي كان في الحجر الأوَّل يختص به الأولون، ولا يشارك فيه من حدث حقه بعد انطلاق الحجر الأوّل. ولو انطلق الحجر الأول، (2 وحدث بعده مال، ولا حجر بعدُ 2)، وحدث بعد حدوث المال دين، ثم ضرب الحجر ثانياً، اشترك القدماء، ومن حدث دينه، وليس للقدماء أن يقولوا: لا يشركنا في المال الحادث من حدث دينه بعد حدوث المال؛ فإن ذلك الدين إذا حدث قبل عَوْد الحجر، فلا نظر إلى تقدم المال عليه إذا اجتمع حدوث المال والدين في انطلاق الحجر. وهذا واضحٌ لا يخفى على الفقيه، ولا يضرّ التنصيص عليه. 3975 - ومما يليق بمضمون الفصل أَنَّ الديون التي تتجدد في زمان الحجر تنقسم: فمنها ما يتجدد في المصلحة المتعلقة بمال المفلس كالمؤن التي تلزم: [من] (3) أجرة الدلال أو الكيّال أو غيرهما، فما كان كذلك، فهو متقدّم على حقوق الغرماء، من غير مضاربة؛ فإنا لو لم نقدم هذه الديون، لامتنع التصرف في مال المفلس على مقتضى الصَّلاح، ولرغب العمَلة عن العمل الذي لا بد منه. وأما ما يتجدد من دَيْن في ماله، ولا تعلق له بصلاح الأمر، وحاجة الوقت، فلا

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (3) مزيدة من (ت 2).

تعلق لمستحق هذا النوع من الدين بمال المحجور عليه، فإن ذلك المال في حق الغرماء الذين جرى الحجر باستدعائهم بمثابة المرهون في حق المرتهن، فلو أتلف المفلس مالاً، تعلق بدلُه بذمتهِ، ولم يزاحم مستحقُّ الدين الغرماء في الأموال. وكذلك القول في جملة الديون التي لا يتعلق لزومها بالمصلحة والحاجة. فهذا تمامُ القول في ذلك. فصل قال: "وإن أراد الحاكم بيع متاعه أو رهنه، أحضره ... إلى آخره" (1). 3976 - إذا استمر الحجر، اشتغل الحاكم على القُرب بتنجيز الأمر حتى لا يطول أمد الحجر من غير حاجة، وذلك بأن يبتدر بيعَ الأمتعة ويَنْصِب في ذلك كافياً أميناً إن كان لا يتعاطاه بنفسه، ولا ينبغي أن يُفْرِط في العجلة، فتُشتَرَى الأمتعة ببخس، ولا يتأنَّى بعد حصول الاحتياط اللائق بالحال. ثم قال: ينبغي أن يحضر المحجورُ عليه مكانَ البيع؛ فإن ذلك أنفى للتهمة، وقد يعرف صاحب المتاع مما يُروِّج به متاعَه ما لا يعرفه غيره، وهذا استحباب، وذكرٌ للأَوْلى. ثم قال: ينبغي أن يبدأ ببيع الحيوانات؛ فإنها عرضةٌ للتلف، وفي إبقائها تكثيرُ المؤن. ثم يبيع ما يتسارع إليه الفساد، ويؤخر بيعَ العقار. ويبيعُ كل شيء في سوقه، فإن ذلك أرْوج لها، وأحرى بأن يَنْفَد (2) العَرْض (3) فيها. 3977 - ثم إن رضي الغرماء، جَمْعَ أثمان السلع، حتى إذا انتجزت، فرقها حينئذ على أقدار الحقوق. وإن أبَوْا أن يصبروا، ورأَوْا أن يفرّق عليهم كلَّ مقدار ينتجز ويَحصُل، أجيبوا إلى ذلك. وإن رضوا بالجمع، جمع القاضي عند عدل. ولا يبعدُ

_ (1) ر. المختصر: 2/ 222. (2) (ت 2): ينفذ (بالذال) وفي الأصل غير منقوطة. ثم، نَفِدَ من باب تعب (مصباح). (3) العَرْض: المتاع. والمعنى أن كل متاعٍ يباع في سوقه، فهو أروج له.

في مسلك الرأي أن يُقرِضَ ما يتحصل مَليّاً وفيّاً؛ فإن أعيان الأموال قد تضيع، والدين في ذمة المليء الوفي أقربُ إلى الثبوت. وقد ذكرنا في تصرف القُوَّام أنهم لو شاؤوا (1) أن يُقرضوا مالَ الطفل على موجَب المصلحة، فلا معترضَ عليه. 3978 - ثم قال صاحب التقريب: إذا أراد القاضي أن يبتدىء قسمةَ المال، لم يُحوج الغرماء أن يقيموا بيِّنةً على أنه لا غريمَ للمحجور غيرُنا. وقد نقول: لا يقسم الحاكم التركة بين ورثة المتوفَّى، حتى تقوم بينة من أقوام ذوي خبرة بباطن أمر المتوفى أنهم لا يعرفون [له] (2) على طول المخالطة والخبرة وارثاً سوى الحاضرين. وسيأتي ذلك في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل. قال صاحب التقريب: إذا حجر القاضي، وشَهَر حجرَه، وأشاعه في الناس، كفى ذلك في حصول الغلبة على الظن بأنه لا غريم له سوى هؤلاء؛ إذ لو كانوا لظهروا. ولما حجر عمر رضي الله عنه على الجهني، اكتفى بأن شَهَر الحجرَ بذكره إياه في أثناء الخطبة. وما ذكره صاحب التقريب حسن. ولكن لا فرق عندنا بين القسمة على الغرماء، والقسمة على الورثة، فحيث نقول: لا بد من إقامة الشهادة على أن لا وارث، فلا بد من مثله في القسمة على الغرماء. 3979 - وممّا يتعلق بتمام الفصل أن القاضي إذا قسم ما وجد من ماله على غرمائه، واعترف الغرماء بأن لا مال له سوى المقسوم علينا، فهل يُحكَم بانطلاق الحجر عنه، أم لا بد أن يتولى القاضي إطلاقَه؟ فعلى وجهين في طريقة العراق: أحدهما - أنه لا حاجة إلى إطلاقه؛ فإن موجَب الحجر قد زال. والثاني - أنه لا بد من الإطلاق؛ فإن ذلك مجتهَدٌ فيه، وقد تمس الحاجة إلى مزيد بحث، فليتوقف الأمر على إطلاق القاضي، حسماً للمادّة، وقطعاً للتهمة، وكما لا يثبت الحجر ابتداء من غير ضرب، ينبغي ألا ينحلّ انتهاءً من غير رفعٍ، وليس كحجر الجنون والصبا، على ما سيأتي ذكرهما في كتاب الحجر، إن شاء الله تعالى.

_ (1) (ت 2): رأوا. (2) ساقطة من الأصل.

3980 - ثم المنصوبُ الذي يتولى بيع مال المفلس بإذن الحاكم ليس له أن يسلّم مبيعاً من ماله قبل توفير الثمن عليه. وقد ذكرنا في أن البداية في التسليم بالبائع أو المشتري أقوالاً في كتابِ البيع، ولا يجري منها في الذي يبيع مال المفلس إلا قولان: أحدهما - أن المشتري منه هو المجبر على تسليم الثمن. والقول الثاني - أنهما يجبران على تسليم المبيع والثمن [معاً] (1) ولا يخرج قولنا: إن البائع يجبر على البداية؛ من جهة أنه يجب على النائب رعاية حق من يتصرف له. هذا هو اللائق بمنصب النائب الأمين. ولا يخرج أيضاًً قولنا: لا يجبران؛ فإن الحاجة ماسة إلى تنجيز الأمر، حتى لا يطول أمد الحجر. 3981 - وقد يقع الفرض في صورة لا يخرج فيها إلا قولٌ واحد. وهو أن يكون البائع نائباً كما ذكرناه، ويكون المشتري وكيلاً أيضاً، فلا يخرجُ في هذه الصورة [قولُ] (2) إجبار المشتري على البداية، وينحصر الجواب في أنهما يجبران معاً، حتى يتوفر الغرضان، ويعتدل الجانبان. وما ذكرناه في [المتصرف] (3) في مال المحجور يجري في كُلّ وكيلٍ. 3982 - ولو باع الوكيل سلعةَ مُوكِّله، ونَهَيْنا عن البداية بالتسليم، كما تقرر، فلو ابتدر وسلم المبيع، فقد تعدّى وأساء، ولو وُفّر (4) الثمن عليه، خرج عن حكم العهدة، إذا كان مأذوناً له في قبض الثمن، ولا نقول: تعدّيه في البداية يُديم عليه حكمَ العدوان في الثمن الذي توفر عليه. ولو سلم المبيع، وعسُر قبض الثمن، وفات الأمر، فيضمن الوكيل. وفيما يضمنه وجهان ذكرهما صاحبُ التقريب: أحدهما - أنه يضمن الثمن؛ فإنه فوّت متعلّق الثمن، وكان كالشاهد الزور إذا أوقعت شهادته حيلولة، ثم رجع عن شهادته. وهذا

_ (1) في الأصل: جميعاً. (2) في الأصل: إلا قول. والمثبت من (ت 2). (3) في الأصل: المصرف. (4) (ت 2): توفر.

القائل يعضد مذهبه بأن تغريم الوكيل قيمة المبيع للموكِّل بالبيع بعيد، والمبيع ليس ملكاَّ بَعدَ البيع للمُوكِّل بالبيع. وليس كالمرهون الذي يضمن متلفه قيمتَه للمرتهن؛ فإن حق الوثيقة يتعدى إلى القيمة. والوجه الثاني: أنه يضمن قيمة المبيع، من جهة أنه التزام بالخوض في البيع ألا يسلمه، ولا يثبت حق موكله فيه إلا بشرط، فإذا لم يف بالشرط، لزمته القيمة؛ نظراً إلى ما قبل البيع. وإن كان المبيع عند التسليم خارجاً عن ملك الموكل. 3983 - وهذا الضمان على الجملة بدعٌ خارج عن قانون الضمان؛ فإنه لم يلتزم الثمنَ بجهةٍ، ولما سلم المبيع، لم يجر عدوانُه في ملك الموكِّل، وحق الحبس لا يُضمن بالقيمة، فالقياس الكلّي نفيُ الضمان، والاقتصار على تأثيم الوكيل إن عمد؛ فإن المشتري إذا قبض المبيع، وأتلفه، فقد وقع القبض مستحقاً. ولكن اتفق الأصحاب على الضمان. وهو من آثار عهدة العقد، فالأوجه إذاً ألا يلزم الوكيلَ إلا الأقلُّ؛ فإن كان الثمن أقلَّ من القيمة، لم (1) يلزمه إلا الثمن. وإن كانت القيمة أقل، فقد يقول الوكيل: احسبوني غاصب عين ومتلفها. وإلزامه الثمنَ، والقيمة أقل، له وجهٌ على بعد، وأما إلزامه القيمة والثمن أقلُّ، فلا وجه له. فصل قال: "وينبغي أن يُشهد أنه وقف مالَه ... إلى آخره" (2). 3984 - إذا حجر على المفلس الحاكمُ، فالأوْلى أن يُشهد على الحجر (3 وليس ذلك بواجب، ولكن الأولى ما ذكرناه. والغرض منه شَهْرُ الحجر 3)، ونشر الأمر، والتأكيدُ بالإشهاد، حتى إذا ظهر ذلك، لم يعامَل المحجور اغتراراً بما عُهد له من مال. 3985 - ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول فيما يمتنع من تصرفات المحجور.

_ (1) عبارة (ت 2): بَعُدَ أن يلزمه أكثر من الثمن. (2) ر. المختصر: 2/ 222. (3) ساقط من (ت 2) ما بين القوسين.

والقول الجامع أن تصرفاته تنقسم إلى ما يتعلق بعين ماله، وإلى ما لا يتعلق (1 بها: فأما ما يتعلق 1) بعين ماله، فلا ينفذ في الحال انفرادُه بالتصرفات، وهذا أثر الحجر، ولو كان من ماله عبيدٌ، فأعتقهم، لم ينتجز نفوذُ العتق فيهم وفاقاً، وإذا مست الحاجةُ إلى بيعهم في الديون، بعناهم، وصرفنا أثمانهم إلى الغرماء. وإن جزم المفلسُ إعتاقَهم. 3986 - ولو أعتق الراهن العبدَ المرهون، فقد اختلف القولُ في نفوذ عتقهِ، فقد نقول: في قولٍ: ينفذ عتقه، وإن كان معسراً. وهذا مما يجب التنبيه له، والوقوفُ عنده؛ فإنَّ الفقيه قد يرى الحجر بالرّهن المنبرم بالإقباض آكد. والتحقيق في هذا أن القاضي يحجر على تصرفه، وليس يرهن ماله، فأثر حجره منعه من التصرف. والرهن متضمنه تعليق وثيقة بعين، فتخيل قائلون أن ملك الراهن أقوى من حق وثيقة المرتهن. ولكن إذا أعتق المفلس عبداً، واتفق تأدية الديون، بأن وجدنا راغبين اشتَرَوْا الأمتعةَ بأكثرَ من قيمتها، وفضَلَ ذلك العبدُ، فهل نحكمُ بنفوذ العتق فيه، وقد برئت الذمة؟ فعلى قولين، وتوجيههما: أن العتق من المفلس مردود أم موقوف؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه مردود؛ فإن الحجر تضمن إبطالَ عباراته في التصرفات المتعلّقة بالمال، فلغا ما قال. والقول الثاني - العتق موقوف؛ فإن القاضي لم يلحق المحجور عليه المفلسَ بالناقص بصباه أو سفهه، وإنما راعى حق الغرماء، فالمفلس تامٌّ بصفته، والعتق قابل [للوقف] (2)، فانتظم منه انتظار العاقبة. ثم إذا فضل ذلك العبدُ، تبيّنا نفوذَ العتق على هذا القول من وقت اللفظ. هذا في إعتاقه. 3987 - ولو كاتب عبداً لم تنجّز الكتابة، حتى نقدرها مانعة من صرف هذا العبد إلى الدين. ولكن لو فضل هذا العبدُ عن الديون، كما صورناه في العتق، ففي نفوذ الكتابة على مذهب التبيّن القولان.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) في الأصل: التوقف.

ولو باع شيئاً من أمواله، لم يكن بيعه مانعاً للقاضي من تصرفه (1) اللائق بالحال. ولكن لو فضل ذلك المبيع، ففي نفوذ البيع على التبيّن قولان. 3988 - وكان شيخي يرتب هذه المسائل، ويجعل العتق أولى بالنفوذ، من قِبَل قبوله التعليق بالأغرار (2)، والوقفُ دون التصريح بالتعليق. والكتابة تلي العتقَ، وتستأخر عنه لما فيها من المعاوضة. والبيع يترتب على الكتابة، وهو أولى بأن لا ينفذ؛ لأنه معاوضة محضة عرية عن قبول التعليق بالأغرار، والهبة في هذا الترتيب في درجة البيع، فإنها لا تُعلّق، كما أن البيع لا يعلّق. فهذا بيان ترتيب هذه المسائل. 3989 - فإن رأينا إلغاء هذه التصرفات وإبطالَها في الحال والمآل، تصرفنا في المبيع، والمعتَق والمكاتَب تصرُّفَنَا في سائر الأموال. وإن رأينا إجراءها على الوقف، وأمكننا تأدية الديون دون التصرف في محال تصرفات المفلس، أخرنا محالَّ تصرفه، وإن انتهت الحاجةُ إليها، ابتدرنا ما وهبه، وقدمنا التصرف فيه على التصرف في المبيع؛ فإن البيع ألزم من الهبة، وأبعد من النقض، ثم نتصرف بعد الموهوب في المبيع، ثم في المكاتَب، ويؤخر المعتق. وهذا الذي نذكره على قول الوقف استحقاقٌ، وترتيبه واجب، وليس على مذهب الأوْلى والمستحب، وكل تصرف كان أقوى، فإنا نؤخر محلَّه جهدنا. 3990 - ولو لم نجد زبوناً يشتري من أمتعة المحجور إلا العبد الذي أعتقه، والتفريع على قول الوقف، فقال الغرماء: حاجتنا ماسة في الحال إلى شيء، فلا

_ (1) كأن بالعبارة نوعاً من الغموض. فالمعنى: أن بيع المفلس شيئاًً من ماله - يكون موقوفاً، ولا يمنع القاضي من تصرفه في أمواله بما يليق بحال مصلحة الغرماء. (2) كذا في النسختين، وعند الرافعي حكاية هذا الكلام عن الشيخ أبي محمد بلفظ: " العتق أولى بالنفوذ لقبوله الوقف، وتعلقه بالإقرار، وتليه الكتابة .. إلخ " (ر. فتح العزيز: 10/ 205). وكأني بها مصحفة عند الرافعي، وعندنا هنا أقرب للصواب، فالمعنى أن العتق يقبل التعليق بالأغرار (أي ما ينتظر وَيُتَوقَّع) والوقف دون التعليق، فهو أكثر قبولاً، أي صحة.

تؤخروا حقّنا، ونَجِّزوا بيعَ هذا العبد، فهذا فيه احتمالٌ ظاهر؛ فإن تأخير حقهم بعيدٌ، وإبطالُ الإعتاق لتوقفٍ (1) -مع الاشتغال والتشمير- فيه (2) بعيدٌ (3) أيضاًً؛ فلينظر الناظر. وغالب الظن أن الغرماء يجابون في الصورة التي ذكرناها. فهذا بيان تصرفات المفلس في أعيان أمواله. 3991 - فأما تصرفه الذي لا يتعلق بعين ماله، فنذكر ما قد يخفى، ونترك ما لا خفاء به، كنفوذ طلاقه وخُلعه، وعفوه عن القصاص، واستلحاق النسب، ونفيه باللعان، فلا خفاء بنفوذ هذه الأشياء. 3992 - والذي يُعتنى به أنه لو نكح امرأةً، صح. وإن كان النكاح يُلزمه النفقة، على ما سنعيد هذا في الفصل المشتمل على بيان النفقات، إن شاء الله تعالى. 3993 - ولا شكّ أنه لو اتّهب، أو قبل الوصيّة، صح ذلك منه؛ فإنّ ما يأتي به من هذه الأجناس اكتساب أموالٍ، وليس تصرفاً في المال الذي اشتمل الحجرُ عليه. 3994 - ولو اشترى المفلس، فالمذهب الأصح أن شراءه صحيحٌ، إذا كان الثمن وارداً على الذمة؛ فإنه ليس محجوراً عليه في لفظه وذمته. وذكر بعض أصحابنا قولاً في إبطال شرائه، توجيهه يظهر بالتفريع. فإن قلنا: لا يصح الشراء، فلا كلام. وإن قلنا: يصح الشراء، فلا يؤدَّى الثمنُ

_ (1) كذا. وحكى الرافعي عن الإمام هذه المسألة بصيغة أخرى ليس فيها هذا اللفظ، قال: " قال الإمام: فلو لم يوجد راغب في أموال المفلس إلا في العبد المعتق، وقال الغرماء: بيعوه، ونجزوا حقنا، ففيه احتمال، وغالب الظن أنهم يجابون " ا. هـ (ر. الشرح الكبير بهامش المجموع: 10/ 205). (2) فيه: أي الإعتاق. (ولعلها: المتوقف فيه). (3) في الأصل، كما في (ت 2): بعدٌ. والمثبت تقدير منا. ومعنى العبارة -كما هو واضح من السياق- إن تأخير حقوقهم بعيد، وإبطال الإعتاق الموقوف -مع تشميرنا واجتهادنا في البحث عن المشترين- بعيدٌ أيضاً. والله أعلم. والعبارة على أي حال فيها نوع قلق.

من المال الذي اشتمل الحجر عليه. ولكن هذا يخرّج عندنا على الخلاف المقدّم في أن المال الذي يحدث للمحجور هل يشتمل عليه الحجر؟ فإن قلنا: يشتمل الحجر على ما يستحدثه، فهذا القياس يقتضي أن يصرف ما اشتراه إلى ديونه، ويقال لمعامله والبائع منه: أسأْتَ إذ عاملته (1)، فاكتف بذمته، وارتقب يُسره في ثاني الحال. هذا هو القياس، وفيه تحقيق (2). 3995 - وحاصل المذهب المأخوذ من مرامز كلام الأصحاب وجهان: أحدهما - ما ذكرناه، وهو أن الغرماء يتضاربون في المبيع، والبائع محالٌ على ذمة المفلس، يطالبه بالثمن إذا انطلق عنه الحجر. وتعليله ما ذكرناه. والوجه الثاني - أن البائع لا يضارب الغرماء في الأموال التي انعقد الحجر عليها؛ فإن دينه جديد، ولكنه يضارب الغرماء في ثمن المبيع المستفاد منه؛ فإن فى دينه يثبت مع ثبوت الملك في المبيع، وهو عوض المبيع. فلا أقل من أن يشارك الغرماءَ في العين المبيعة. 3996 - وممَّا يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل القولُ في أن البائع لو أراد الرجوعَ في العين [المبيعة] (3) على الأصل الممهد في إثبات ذلك للبائع، إذا وجد عين ما باعه في يد المشتري. ونحن نقدم على ذلك مسألة، ذكرها الشيخ في شرح التلخيص: وهي أَنَّ العبد القِنَّ لو اشترى بغير إذن سيده شيئاًً، فالمذهب أن البيع فاسد، ومن أصحابنا من حكم بصحة البيع. وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع. فإن فرعنا على صحة البيع، فلا شكّ أنه يتعذر على البائع استيفاء الثمن؛ فإن متعلقه الذمة على الإطلاق، وكل دين تعلق بالذمة، فالعبد لا يطالَب به في رقِّه، ولكن إذا عَتَق اتُّبع به. فإذا علم البائع ذلك، وكان الثمن حالاًّ، ولم يكن عالماً بكونه عبداً حالة العقد،

_ (1) (ت 2): بايعته. (2) (ت 2): تحيف. (3) في الأصل: المبيع.

فله حق فسخ البيع، والرجوع إلى المبيع. قطع به الشيخ، وحكى فيه وفاق الأصحاب. ولو كان عالماً بحقيقة رقِّه عند البيع، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - أنه يثبت الخيار. وهو الذي حكاه الشيخ في الشرح. والثاني - أنه لا خيار له، حكاه غيره، ووجهه أنه أقدم على معاملته مع العلم بحقيقة صفته، فلا يثبت الخيار لمن يكون مطلعاً على سببه عند العقد. فإذا ثبتت هذه المقدمة، عدنا إلى غرضنا، فنقول: 3997 - إذا باع شيئاًً من المفلس المحجور عليه، وكان عالماً بحاله عند العقد، فظاهرُ المذهب أنه لا خيار له، بخلاف العبد؛ فإن انطلاق الحجر عنه مأمولٌ قريب، غيرُ بعيد، بخلاف العتق؛ فإن توقعه (1) بعيد، وظاهرُ الرق الاستمرار، فإذا انضم ذلك إلى علمه بفلسه، امتنع ثبوت الخيار. وفي المسألة وجه آخر بعيد: أن الخيار يثبت كما ذكرناه في العبد إذا اشترى بغير إذن مولاه، ووجه الجمع بيّنٌ واضح. ولو باع من المفلس ظانّاً أنه مطلق في تصرفه، فإذا تبيّن له فلسه، واطرادُ الحجر عليه، فالظاهر أنه يثبت له حق الفسخ؛ لاطلاعه على السّبب الذي تعذر به استيفاء الثمن. ومن أصحابنا من لم يُثبت الخيارَ في هذه الصورة؛ إذ لا خلاف أنه لو باع من معسرٍ غيرِ محجور عليه، لم يكن له أن يفسخ، إذا اطلع على إعساره، حتى يُحجر عليه. والحجر الواقع في مسألتنا لم يضرب لأجل البائع، بل كان المحجور مطلقاً في حق البيع الذي جرى؛ فإنه استبد بنفسه فيه، فنفذناه دون مراجعة الوالي والغرماء، فكان بيعه مستثنى عن حكم الحجر، وهو بمثابة ما لو باع شيئاًً ممن ظنه موسراً، وسلمه إليه، ثم تبين أنه معسر؛ فإنه لا يفسخ البيع من غير حجر على المشتري. 3998 - ومما يتعلق بتصرفات المفلس، أنه لو أقر في حال قيام الحجر بدين في

_ (1) (ت 2): موقعه.

ذمته، فالمقَر له لا يضارب الغرماء الذين ثبتت ديونهم إذا لم يصدقوا المفلسَ. ولكن الدين يثبت في ذمة المفلس للمقر له، يطالبه به إذا انطلق الحجر عنه، واستفاد مالاً. وهذا متفق عليه؛ فإن الإقرار ليس عقداً أنشأه. وإذا كنا نقول: الظاهر صحة شرائه لوروده على الذمة، وإن كان الشراء عقْدَ عهدة على الجملة، فالإقرار الذي هو إجبار محض يُلزم ذمتَه المقَرَّ به لا محالة. من غير تخيل خلاف، ولكن لا يضارب المقَرُّ له الغرماءَ في الأموال التي جرى الحجر فيها. 3999 - ولو أقر المفلس بأن عيناً من الأعيان - التي اطرد الحجر عليها ظاهراً وكانت في يده مغصوبةٌ (1)، وهي لفلان، فقد نص الشافعي في كتبه القديمة على قولين في إقراره بالعين: أحدهما - أنه لا ينفذ في الحال، وإن مسّت الحاجة إلى صرفها إلى ديونه، صرفت إليها. والثاني - أن إقراره ينفذ في العين، وهي مصروفة إلى المقر له بها؛ فإن عبارة المفلس صحيحة، ولا تهمة في قوله. فقال الأئمة: يجب طرد القولين في الإقرار بالدَّين المرسل: أحدهما - أن المقر له لا يضارب الغرماء بالدين. والثاني - أنه يضارب تخريجاً على قبول إقراره بالعين ناجزاً. وهذا القول يتجه في القياس. وفي الجملة لا فرق بين الدين والعين. والمريض وإن كان محجوراً عليه في الزائد على الثلث، فقراره بالدين المستغرِق مقبول. وكذلك لو أقر بعين مالٍ، قُبل إقراره. 4000 - فإن قيل: قطعتم القول برد عتقه وبيعه في الحال، وذكرتم القولين في نفوذهما لو سلم محالهما عن الصرف إلى الديون على مذهب الوقف، وذكرتم قولاً في تنفيذ الإقرار بالعين والدين المرسل ناجزاً، وإن أضر ذلك بالغرماء. قلنا: هو كذلك؛ فإن الحجر مقصوده منع المحجور عليه من التصرف؛ فتنفيذ تصرفه فيما جرى الحجر عليه يناقض مقصود الحجر، والحجر لم يسلبه العبارة عن أمرٍ مضى، وليس هو إنشاء تصرف في الحال (2)؛ فكان ذلك فرقاً واضحاً.

_ (1) خبر (أن) في قوله: بأن عيناً. (2) (ت 2): المال.

وإذا لم ينفذ إقراره بالعين في الحال، ولكن سَلِمت العين عن الصرف إلى الديون، وانطلق الحجر، فلا خلاف في مؤاخذة المحجور بإقراره في تلك العين بعد ارتفاع الحجر، ولا يخرّج على القولين المذكورين في البيع والعتق وغيرهما؛ فإنَّ مذهب الوقف في العقود على التردد مشهور، والإقرار يحتمل مثل ذلك، ولو قال إنسان: إن فلاناً أعتق، فرُدّ قولُه فيه، فلو اشتراه، كان مؤاخذاً بموجب قوله السابق. فهذا منتهى المراد في تصرفات المفلس في غرض الفصل. فصل قال: " وذهب بعض المفتين إلى أن ديون المفلس تَحِلُّ بالحجر ... إلى آخره " (1). 4001 - لا خلاف أن من مات وعليه ديون مؤجلة، حلت الديونُ بموته، وهذا متفق عليه، وإن كان قد يظهر إضرار ذلك بالورثة؛ فإن الدين المؤجل إلى عشرين سنة لا يساوي شيئاًً به مبالاة؛ وإذا حل الدين، فقد تضاعفت المالية في حق مستحق الدين، ولكن الأمر على ما وصفناه. 4002 - ولو جن من عليه ديون مؤجلة، ففي حلول الدين وقد استمر الجنون قولان: أصحهما - أنها لا تَحِلُّ؛ فإن حلولها على الميت غير منقاس. على أن الممكن أن الآجال مَهْلٌ وفَسْحٌ. والغرض منها طلبٌ لمحل الدين في مدة الأجل؛ وذلك مأيوسٌ منه في حق المتوفَّى؛ فإن الموت حسم إمكان العمل، واستأصل أصلَ الأجل؛ فلا يبعد أن يقطع مدّة الأجل، وهذا لا يتحقق في طريان الجنون؛ فإن الآمال مبسوطة، ما بقيت الحياة. 4003 - وكان شيخي أبو محمد يذكر في طريان الجنون القولين، كما ذكرناهما.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 222.

ثم كان يذكر في طريان الحجر بسبب الفلس قولين مرتبين على القولين في الجنون، ويجعل الجنون أولى بمضاهاة [الموتِ] (1) في اقتضاء الحلول من الحجر؛ من قِبل أن المجنون لا استقلال له، ولكن يخلفه قيِّمه ووليّه، كما يخلف الوارثُ الموروثَ، والمفلس ليس خارجاً عن الاستقلال في التصرفات المختصة به. وهذا فيه نظر عندي؛ من قبل أن قيّم المجنون لو أراد أن يتصرف له تصرفاً مشتملاً على ثمن مؤجل، لم يمتنع ذلك ابتداءً؛ وإذا كان لا يمتنع ما ذكرناه ابتداء، فاقتضاؤه قطعَ الأجل محالٌ لا اتّجاه له. والوجه عندي تخصيص القولين بالمفلس المحجور، نظراً لمستحق الدين، والحجر مضروبٌ لمصلحة أصحاب الديون. وبالجملة لا وجه للمصير إلى حلول الأجل في غير الموت. والمعتمد في الموت الاتباع كما ذكرناه. ولا يستدّ فيه معنى على السبر. ونحن الآن نفرع على القولين في حلول الأجل وبقائه، فنقول: 4004 - إن حكمنا بأن الأجل لا ينقطع، والدين لا يحل، فنتكلم في أمرين: أحدهما - المضاربة بالدين المؤجل. والثاني - فسخ البيع. فأمَّا الكلام في فسخ البيع، فالمذهبُ الأصح أن من باع شيئاًً بثمن مؤجل، وفُلّس المشتري بسبب ديونٍ حالة، فليس للبائع، والثمن مؤجل أن يفسخ البيع، ويرجع إلى عين (2) المبيع؛ فإن الأجل يمنع حقَّ الطلب، والفسخُ مترتب على تعذر الثمن المطلوب. وذكر العراقيون، وغيرُهم وجه آخر، وقالوا: نقرر المبيع، ولا نصرفه إلى الديون الحالّة، وننظر ما يكون، فإن حل الأجل والحجر قائم بعدُ، فللبائع حقُّ الفسخ، وإن كان الحجر قد انطلق، وأمكن استيفاء الثمن كاملاً، استوفاه البائع، وإن كان معسراً، فقد ثبت حقُّ الفسخ، كما سنصفه في التفريع. وهذا القائل يحتج بأصل هذا الوجه بأن حق البائع متعلق بالمبيع، تعلقَ حق

_ (1) في الأصل: الجنون. (2) (ت 2): نفس.

المرتهن بالمرهون. ثم لو فرض دَيْنٌ مؤجَّل موثَّق برهن، ثم جرى الحجر، فاختصاصُ المرتهن بالرهن قائم مع استمرارِ الأجل، فليكن الأمر كذلك في الثمن المؤجل. وهذا مزيف عند المحققين؛ فإن اختصاص المرتهن كان ثابتاً مقدَّماً على جريان الحجر، فدام ذلك الحق. ومن باع شيئاًً مؤجَّلاً، فمقتضى بيعِه تسليمُ المبيع، وتركُ التعلّق به، فإثبات الاختصاص بالمبيع مع دوام الأجل بعيد. وهذا الوجه على بعده مشهور؛ فلا بد من تفصيله بالتفريع، فنقول: إذا حل الأجل والحجر قائم، فحق الفسخ يثبت كما ذكرناه، وإن انطلق الحجر، وحل الأجل والمشتري معسر، فالظاهر على هذا الوجه أن يفسخ البيع من غير حاجةٍ إلى إعادة الحجر؛ فإنّ وَقْفَنا [المبيع] (1) وعزلَنا إياه على انتظار حلول الأجل من أحكام الحجر، فكأنّ حكمَ الحجر قائم باقٍ في حق المبيع. ومن أئمتنا من قال: إذا حل الأجل والعسر دائم، أعدنا الحجرَ، ليفسخ البائع. وهذا بعيد غيرُ سديد. 4005 - ومما يتصل ببيان هذه القاعدة أنا إذا كنّا لا نحكم بحلول الأجل؛ جرياً على الصحيح، فلو لم يكن على المشتري إلا أثمانٌ مؤجلة، ولم يكن عليه دين حال، فلا يثبت لأصحاب الأثمان المؤجلة طلب الحجر عليه، وإن فرعنا على الوجه البعيد في عزل المبيع للبائع بالثمن المؤجل؛ فإنَّ من لا يملك طلب الثمن كيف يملك طلب الحجر؟ والتفريع على بقاء الأجل. وإن رأينا عزلَ المبيع [وانتظارَ] (2) حلول الأجل، فسببه ألا يصرف المبيع إلى الديون الحالة، فيخيب البائع. وهذا واضح لا إشكال فيه. وما ذكرناه تمام الغرض في حكم فسخ البيع على الوجه الذي فرعنا عليه. 4006 - فأما القول في المضاربة بالدين المؤجل، فقد قطع الأصحاب كافة بأن صاحب الدين المؤجل لا يعزل له مقدارُ دينه؛ فإن أصحاب الديون الحالة يختصون

_ (1) في الأصل: البيع. (2) في الأصل: غير مقروءة. وأثبتناها من (ت 2).

بالتضارب في الأموال العتيدة التي جرى الحجر فيها، واطرد عليها، والوجه الذي حكيناه في عزل المبيع سببه على بعده تشبيه (1) المبيع بالمرهون. وهذا المعنى لا ينقدح في مؤجل لا متعلق له بعين. 4007 - وكل ما ذكرناه تفريع على أن الأجل لا يَحِلّ، فأمّا إذا قلنا: بحلول الأجلِ، فأصحابُ الديون المؤجَّلة يضاربون أصحاب الديون الحالة. وهذه فائدة الحلول. ولا يشك فقيه في أن من مات، وكانت عليه ديون حالة، وأخرى مؤجلة، ووقع الحكم بالحلول بسبب الموت، استوى في التضارب من كان دينه مؤجلاً، ومن كان دينه حالاً. ولو كان في يد المفلس مبيع، وقد وقع [الحكم] (2) بحلول الثمن، فالمذهب أن البائع يملك فسخ البيع بسبب حلول الثمن مع الحجر. ومن أصحابنا من قال: وإن حكمنا بحلول الثمن، فلا يثبت حق الفسخ، والسَّبب فيه أن البيع مع الأجل مبناه على انقطاع حق البائع عن المبيع بالكلية، ولهذا لا يثبت للبائع حق حبس المبيع إذا كان الثمن مؤجلاً، فلا ينبغي أن يتغير البيع (3) عن وضعه، وينقلب البائع إلى التعلق بالمبيع، وهذا ضعيف لا أصل له؛ فإن الثمن إذا كان حالاًّ، فحق الحبس يبطل بتسليم المبيع إلى المشتري طوعاً قبل استيفاء الثمن، ثم يعود تعلّق البائع بالمبيع بسبب طريان الفلس؛ فالوجه إذاً القطع بأنه يثبت للبائع حق الحبس (4) إذا فرّعنا على اقتضاء الحجر حلولَ الثمن. 4008 - وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً في التفريع على وجه الحلول، فقال: فائدة الحكم بالحلول ألا يخيب من كان حقه مؤجّلاً. وإذا كان كذلك، اكتفينا بأن

_ (1) (ت 2): تشبه. (2) في الأصل تردّدَ الناسخ بين الحجر والحكم، وصوب واحدة منهما بالأخرى، فلم نعلم اختياره. والمثبت من (ت 2). وهو أوفق للسياق. (3) (ت 2): المبيع. (4) (ت 2): الفسخ.

نعزل حقَّ من كان دينه مؤجّلاً على ما يقتضي حسابُ التضارُب، ثم ننتظر حلول الأجل، فكأن الأجلَ باقٍ في حق المفلسِ، وإن سقط أثره في حقوق الغرماء، الذين هم أصحاب الديون الحالة. وهذا مزيّف لا أعدُّه من المذهبِ، ولا يجب أن نعتقد جريان هذا الوجه الضعيف في حق الميت إذا حلت الديون عليه؛ فإنه ليس للانتظار وجهٌ في حقوق الورثة. وإنما ذكر الأصحاب هذا الوجهَ في حق المفلس الحي، وهو باطل حيث ذكروه. 4009 - ومما يتعلق بتمام البيان في التفريع على حلول الديون في حق المفلس أنه إذا لم يكن على الإنسان دَيْنٌ حال، وإنما ديونه مؤجَّلة كلها، فهل يملك أصحابها المطالبةَ بالحجر حتى لا تضيع حقوقهم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنهم يملكون ذلك؛ فإن ديونهم تحل بالحجر، فينبغي أن يملكوا طلبه. والثاني - لا يملكون ذلك؛ فإن طلب الحجر يتبع طلب الدين، وليس ذلك ثابتاً لهم، فكيف يملكون الحجرَ وطلبَه، وهم لا يملكون طلبَ أصل الدّين، حتى إذا تعذر مطلوبُهم توصلوا إلى استدعاء الحجر، وهذا الوجه أصح وأقيس. فرع: 4015 - إذا قلنا: لا يحل الأجل بالحجر، فلو باع الإنسان شيئاًً بثمنٍ مؤجَّل، وحل الأجل، وحجر على المفلس، والمبيع قائم، فالمذهبُ أن البائع يملك فسخ البيع، طرداً للقياس في الباب. وقال بعض أصحابنا: لا يملك الفسخ؛ لأن مبنى العقد على انقطاع علائق البائع عن المبيع بالكلية. وهذا غير سديد. ولا خلاف أن أصحاب الديون المؤجَّلة إذا حلت حقوقُهم، ملكوا طلب الحجر، كما يملكه من كان أصل دينه حالاً. فرع: 4011 - إذا باع شيئاًً من عبدٍ بغير إذْن مولاه، وفرَّعنا على الوجه الضعيف في صحة البيع، فلو أراد البائع فسخَ البيع، قبل حلول الأجل، لم يملكه. قطع به الشيخ في الشرح. وإذا حل الأجل، فأراد الفسخَ، فقد قطع أيضاًً بأنه لا يفسخ. وهذا محتمل أن

يثبت له حق الفسخ، كما إذا كان الثمن حالاً، ولهذا قلنا: يثبت حقُّ الفسخ لمن كان الثمن في بيعه مؤجَّلاً، ثم يحل قبل الحجر، ثم يتفق الحجر. وإذا فرعنا على أن الثمن لا يحل بالحجر، وجرينا على أنه لا يثبت للبائع حق الفسخ بأن يعزل المبيع له، وحكمنا بأن المبيع مستحق الصرف إلى الديون الحالة، فلو لم يتفق صرفُه إليها حتى حل الأجل في أثناء الأمر، فهل يثبت له الآن حق الفسخ؟ فيه احتمالٌ، وترددٌ، مترتب على ما مهدناه في نظائر ذلك. فصل قال: " ولو جُني عليه عمداً ... إلى آخره " (1). 4012 - مضمون الفصل ذِكْرُ الجناية على المفلس، وعلى عبده، وذكْرُ جناية المفلس وجناية عبده. فأمَّا الجناية على المفلس، فإن كانت موجبة للقصاص، فله حق الاقتصاص، وليس للغرماء أن يكلفوه العفوَ على مالٍ ليصرف إلى حقوقهم. وإن عَفا على مالٍ، صُرف إلى ديونه؛ تفريعاً على الأصح في أن ما يستفيده المفلس جديداً، فحكم الحجر جارٍ فيه. وإن عفا المفلس على غير مال، فهذا يتفرع على أن موجب العمد ماذا؟ وسيأتي شرح هذا في كتاب الجراح، والفصلُ بين المفلس وبين المبذّر والسّفيه. ولو كانت الجنايةُ موجبة للمال ابتداءً، فهو مصروف إلى الديون؛ جرياً على اطراد الحجر على المال المستحدث. والجناية على عبد المفلس كالجناية على المفلس نفسه، فتنقسم إلى العمد وغيره. وتفصيل القصاص والعفو عنه، كما سبقت الإشارة إليه، وإحالة الاستقصاء على كتاب الجراح. 4013 - فأما إذا جنى المفلس، فلا يخفى تفصيل القصاص عليه. وإن جنى جناية موجَبُها المال، لم يشارك المجنيُّ عليه أصحابَ الديون في الأموال التي جرى الحجر

_ (1) ر. المختصر: 2/ 222.

فيها؛ فإن الأرش دينٌ جديد، وليس متعلقاً بمصلحة الحجر، فإن صدرت الجناية من عبد المفلس، فهو من جملة الأموال الموقوفة للغرماء، فلو أراد المفلس أن يفديه بعين من أعيان أمواله، فهذا تصرُّفٌ منه في أعيان الأموال، وقد سبق التفصيل في تصرفاته، فلا حاجة إلى إعادتها. والقاضي لو أراد الفداء، ورأى ذلك مصلحة وغبطة، نفذ ذلك منه. وحق المجني عليه إذا تعلق برقبة العبد مقدم على حقوق الغرماء، كما نُقدِّم حقَّ المجني عليه على حق المرتهن، إذا جنى العبد المرهون. وهذا واضح. وليس كالجناية على المفلس نفسه. ووضوح ذلك يغني عن بسطه. فصل قال: " وليس على المفلس أن يُؤاجر نفسه ... إلى آخره " (1). 4014 - ليس على المديون عندنا، محجوراً كان، أو مطلقاً، أن يكتسب لأجل الدّين؛ وإن كان ممكناً منه. وقال أحمد (2): عليه ذلك، وزعم أن القاضي يؤاجر المفلسَ، ويصرف أجرته إلى نفسه. ومعتمدنا أن الرّب تعالى قال في كتابه {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] أوجب الإنظار، ولم يُلزم الاكتساب. وفي إيجاب الاكتساب لأجل النفقة كلامٌ، سيأتي في كتاب النفقة، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: أليس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع سُرَّقا (3) في دينه، وحُمل ذلك على أنه آجره؛ فإن الحر لا يباع؟ قلنا: يحتمل أنه كان عبداً، فباعه في أرشٍ كان تعلق برقبتهِ. 4015 - ولو كان للمفلس أم ولد، فهل يؤاجرها القاضي ليصرف أجرتها إلى الديون؟ فعلى وجهين: أحدهما - يفعل ذلك؛ فإن منافعها مالٌ، فلئن تعذر بيعها،

_ (1) ر. المختصر: 2/ 222. (2) في المغني لابن قدامة روايتان لأحمد، الثانية منهما: " عليه أن يؤاجر نفسه "، والأولى كمذهب الشافعي ومالك (4/ 498). (3) الحديث رواه الدارقطني: 3/ 61. وسُرّق: بضم أوله، وتشديد الراء، بعدها قاف. وضبطها العسكري بتخفيف الراء وزن عمر وغُدر. (ر. الإصابة: 2/ 20، 4/ 125).

فلا تعذر في صرف منافعها إلى الدين. والثاني - لا يفعل ذلك؛ فإنّ المنافع ليست أموالاً عتيدة موجودة، ولو كانت بمثابة الأموال الموجودة، لوجب إجارةُ المفلس من نفسه. واختلف الأئمة فيه أيضاً إذا كان على المفلس وقفٌ، وأمكن إجارته (1) هل يجب ذلك، وصرفُ الأجرة إلى الديون؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه في أم الولد. ثم إن لم نوجب الإجارةَ، فلا كلام، وإن أوجبناها، فالوجه أن نوالي بين المُدد في الإجارة إلى الوفاء بالديون؛ فإن المنافع لا نهاية لها، وليست كالأموال العتيدة التي تعنى بالصرف إلى الديون. فإذا كان كذلك، فيلزم من قياس هذا أن يدوم الحجر إلى أداء الديون من جهة الإجارة. وهذا فيه بُعد لا يخفى مُدركه على الفقيه. فصل قال: " ويترك له من ماله ما لا غِنى به عنه ... إلى آخره " (2) 4016 - الحاكم قبل تفرقة مال المفلس ينفق عليه، وعلى من تلزمه نفقته من زوجاته وأقاربه الذين يستحقون إنفاقه عليهم. فإن قيل: النفقة على المفلس بيّنة، فما سبب الإنفاق على غيره، والمال موقوفٌ بسبب الديون؟ قلنا: النفقة في ترتيب المعاملة مقدمة على أداء الديون في كل يوم، وأمواله بنفقاته أولى منه بديونه. والإشكال في نفقة الأقارب. وكان لا يمتنع أن يُلحق (3) في حقوقهم [بالفقير الذي لا مال له] (4). ولكن

_ (1) أي إجارة الوقف، ومنشأ الخلاف أن المنفعة ليست مالاً عتيداً، وإنما هو اكتساب، كما هو مفهوم، وصرح به الغزالي في الوجيز: 1/ 172. (2) ر. المختصر: 2/ 222. (3) أي يلحق المفلس بسبب حاله وإفلاسه بالفقير الذي لا مال له؛ أي لا يُنفق من ماله على أقربائه. (4) في الأصل: بالفقر على الذي لا مال لهم. والمثبث من (ت 2).

أجمع الأصحاب على ما ذكرناه، فليثق الطالب (1) بما نقلناه. 4017 - ولو كان عليه دينٌ، وقد رهن به مالاً لا يملك غيره، لا ينفق عليه، ولا على أهله وأولاده منه؛ فإن المرهون خارجٌ عن حكم تصرفه إلى الفكاك، والأموالُ باقية على حق المحجور، ولكنه بالحجر محمولٌ على أن يبتدر إلى صرفها إلى [ديونه] (2)، ثم القاضي يجري فيها على ما كان يجري المديون لو لم يكن محجوراً عليه. وفي القلب من نفقة الأقارب مخالجةٌ ظاهرة، ولكن المذهب نقلٌ. ونحن لا نذكر وجهاً إلا عن نقل صريح، أو أخذٍ من رمز وفحوى في كلام الأصحاب، ولم أر فيما حكيته شيئاًً. ثم لا شكَّ أن نفقته نفقةُ المعسرين. 4018 - وإذا فضّ القاضي أموالَه على ديونه، فلا شكّ أنه يُبقي له نفقةَ اليوم الذي يتفق التفريق فيه، قال الأصحاب: يُبقي أيضاً نفقة زوجاته وأقاربه في ذلك اليوم، كما تقدم، ولا مزيد على نفقة ذلك اليوم؛ فإنه لا ضبط بعده يقف عنده. 4019 - ثم قال: " يُبقي له دستَ ثوبٍ من ماله ". والأمر على ما ذكره؛ فإنه لا سبيل إلى تركه عارياً، ولا خلاف أنا لا نكتفي بما يستر عورته، بل نرعَى ستراً لا يخرم مروءته، ويختلف ذلك باختلاف الدّرجات. فإن كان الرجل من العلماء، فقد قال كثير من الأئمة: يُبقي له دَسْتَ ثوب، ومن جملته طيلسان، وخُفّ. ولي في الخف والطيلسان نظرٌ؛ فإنهما معدودان وراء الاقتصاد، وليس في تركهما خرمٌ للمروءة، والمتبع أن لا تنخرم مروءته. ولا شك أنا لا نبقي له دستَ ثوب يليق بحاله في بسطته وثروته، ولكن ليكن ما نُبقيه لائقاً بحالته. وإن كان الرجل سوقياً نبُقي له دستَ ثوب يليق بحاله. وإن كان أتونياً (3)، نبُقي له أطماراً لائقةً به. وإن كان في

_ (1) (ت 2): الناظر. (2) في الأصل، كما في (ت 2): ديون. والمثبت تصرف من المحقق. (3) الأتون: الموقد الكبير كموقد الحمام والجَصَّاص، وتشدد التاء (معجم، ومصباح) والمراد =

انبساطه تزيّدٌ (1) في التجمل على ما يليق برتبته، فنرده في إفلاسه إلى ما يليق بمنزلته (2)، ولا يُعتبر مجاوزتُه حدَّ الاعتدال اللائق بحاله (3). ولو كان في ثروته يلبس الخسيس من الثيابِ، وكان يُعدّ مقتراً على نفسه، فإن أفلس، رضينا له بما كان يرضى به في ثروته؛ فإنا لا نزيده في حالة الإفلاس على ما كان عليه قبله. نعم لا نقول بحطه عما كان يعتاده من الخسيس (4) بسبب إفلاسه، كما قد نفعل ذلك في حق المقتصد. فليفهم الناظر ذلك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فالمنجيات القصدُ في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب، وذكر الله تعالى على كل حال. والمهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه " (5). ويعطيه في الصيف ما يليق به، وإن اتفق تفريق ماله في الشتاء، أعطيناه ما يليق بالشتاء، ولا يجمع له بين كسوتي فصلين. 4020 - ولو مات المفلس، بدَأْنا بكفنه، ومؤنة دفنه، وفي القدر الذي يكفن به خلافٌ، ذكرناه في كتاب الجنائز. ونحن نرمز إليه لغرضٍ لنا في فقه هذا الفصل. قال أبو إسحاق المروزي: إذا مات المفلس، اكتفينا بستر عورته بخرقة، وهذا مأخوذ عليه، واختلف أصحابنا في تزييف هذا المذهب على وجهين: أحدهما - أنه يكفن في ثوب واحد يواريه؛ فإن الغرض المواراة بالكفن، وقضاء دينه أهم من تكفينه في ثلاثة أثواب.

_ = بالأتوني: الذي يعمل في إيقاد الأتون، ويقوم عليه. (1) (ت 2): مزيد. (2) (ت 2): برتبته بمنزلته. (3) (ت 2): بأمثاله. (4) (ت 2): الحسن. (5) حديث حسن رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر، وهو في صحيح الجامع برقم: 3045، والصحيحة برقم: 1802.

والوجه الثاني - أنه يكفن في ثلاثة أثواب إقامةً لشعار الدين في إكرام جثة المسلم. والغرض ممّا ذكرناه أن الأصحاب فرقوا بين الكفن وبين ما نبقيه للمفلس من دست ثوب؛ إذ أجمعوا على أن الثوب الواحد لا يكتفى به في حق الحي، وفي الاكتفاء بالثوب الواحد (1) الساتر الخلافُ الذي ذكرناه. والفرق أن الحي يراعَى فيه ما يُبقي عليه رتبتَه ومروءتَه، والميت وإن شُرع إكرامُه، فإلى البلى مصيره، فليعرف الناظر قصدَ الأصحاب في الفرق بين الباب والباب. ولو مات عبده أو قريبه الذي يمونه، فالكفن من المال العتيد، كالنفقات الدارّة. والقول في تكفين هؤلاء كالقول في تكفين المفلس نفسه. 4021 - ولو ماتت زوجةُ المطلِّق الموسر، ففي وجوب تكفينها على الزوج وجهان مشهوران ذكرناهما. وإن كان الزوج مفلساً، ففي وجوب التكفين الخلافُ الذي ذكرناه، ولا معنى لتخيل الترتيب؛ فإن كل مؤنة لا يشترط فيها اليسار مُخْرجة من مال المفلس بسبب الذين يمونُهم المفلس. 4022 - وممّا يتعلق بتمام البيان في الفصل أن المفلس لو كان مخدوماً، وكان أَلِف غلاماً يخدمه، فالمنصوص عليه أنه يباع في الدين، ونص في الكفارة (2) على أن ذلك العبد غيرُ محسوب على من عليه الكفارة، ولا يلزمه [صرفه] (3) إليها، واختلف أصحابنا، فمنهم من جعل في المسألتين قولين، نقلاً وتخريجاً. والمذهب تقرير النصين. والفرق من وجهين: أحدهما - أن العتق في الكفارة حق الله تعالى، وحقوق الله تعالى مبناها على المسامحة، ومبنى حقوق الآدميين على الضيق. والثاني - أن العتق له بدل في الكفارة ينتقل إليه، ولا بدل للدّين. هذا قولنا في الخادم. ثم إن رأينا إبقاءه، فليكن قريبَ القيمة، لائقاً بأحوال المعسرين.

_ (1) أي الثوب الواحد في الكفن، كما هو مفهوم من السياق. (2) (ت 2): الكفارات. (3) في الأصل: صرفها.

ولو لم يكن له خادم وكان ممن يُخدم، فهل نشتري له خادماً، كما نشتري له دستَ ثوب إن لم نصادفه؟ فعلى وجهين: والأصح أنا نشتريه إن فرّعنا على هذا الوجه الضعيف، فظاهر المذهب أنا لا نبقي له خادماً، بل نصرفه إلى الديون. 4023 - فأما المسكن، فهو أحق من الخادم إذا كان لائقاً بالحال، ولم يكن رفيع القيمة، وإبقاءُ المسكن أولى من إبقاء الخادم، على كل حال، سيّما إذا كان الرجل ضعيفاً ذا عيلةٍ. وذِكْرُ الخلاف في إبقاء المسكن للمفلس أقربُ من ذكره في إبقاء الخادم، لما أشرنا إليه من الفرق بينهما في حكم الحاجة. وذكر الخلاف على طريق النقل في احتساب المسكن على من لزمته الكفارة المرتبة أبعدُ من تقدير النقل في الخادم. 4024 - وإذا أردنا جمع مقتضى ما أشرنا إليه من الفرق بين الخادم والمسكن في حق المفلس، فالصيغة المشعرة بالمقصود أن نقول: في الخادم والمسكن في حق المفلس ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها - أنهما لا يبقيان له. والثاني - أنهما يبقيان. والثالث - أنه يبقى المسكن دون الخادم. ومهما أبقينا له شيئاًً مما ذكرناه، اشترينا له إن لم نجده، كدأبنا في الثياب. فصل قال: "وإن أقام شاهداً واحداً على رجل بحق ولم يحلف مع شاهده ... إلى آخره" (1). 4025 - قد سبق منا تمهيد هذا الأصل، ولكنا نعيد تنبيهنا عليه للجريانِ على الترتيب، فالذي نص عليه الشافعي أن المفلس لو ادّعى ديناً على إنسان، وأقام شاهداً واحداً، وامتنع عن الحلف معه؛ فأراد الغرماء أن يحلفوا مع شاهده، لم يكن لهم ذلك. وقال الشافعي: "لو أقام الوارث شاهداً واحداً على رجل بدين للميت، ولم

_ (1) ر. المختصر: 2/ 222.

يحلف معه، فأراد غرماء التركة أن يحلفوا، لم يكن لهم، كما ذكرناه في المفلس". هذا نصه في الجديد. ونص في القديم على قولين في مسألة الوارث: أحدهما - أن الغرماء يحلفون. والثاني - أنهم لا يحلفون. فمن أصحابنا من ذكر في غرماء المفلس قولاً بنقل الجواب عن غرماء التركة (1) أنهم (2) يحلفون إذا لم يحلف المفلس. والصحيح الفرقُ بين المسألتين، وقَطْعُ القول بأن غرماء المفلس لا يحلفون؛ فإن المفلس صاحبُ الواقعة، وقد ادّعى الدين لنفسه، فإذا امتنع عن اليمين من ادعى الحق لنفسه، بعُد تحليف غيره، والدين في مسألة الوارث يُدّعى للميت، فكان حَلِفُ الغريم أقربَ إذا فرض نكول الوارث. 4026 - ومما يخرّج على ما ذكرناه أنه لو لم يُقم المفلسُ والوارث شاهداً، ولكنهما ادّعيا، فحلَّفنا المدعى عليه، فنكل عن اليمين، واقتضى الحال ردّ اليمين على المدعي، فنكل المدعي، فهل يحلف الغريم (3) يمين الرد؟ ترتيب المذهب فيه كترتيب المذهب في اليمين مع الشاهد. ولو ادعى الراهن أنه استولد الجارية المرهونة بإذن المرتهن، والتفريع على أن الاستيلاد لا يثبت دون إذنه، فإذا أنكر المرتهن الإذنَ وحلّفناه، فنكل، فإن حلف الراهن، ثبت ما يبغيه، وإن نكل، فأرادت الجارية أن تحلف، كان لها ذلك، نصَّ عليه في الجديدِ والقديمِ قاطعاً جوابه. والفرق بينها وبين الغريم في المفلس والوارث ظاهر، وذلك أنها صاحبة حق في تأكد حق الحرية لها، (4 وهذا في حكم حق ثبت ناجزاً من غير تقدير توصل إليه 4)، بخلاف الغريم؛ فإن الدين لو ثبت لم يكن حقاً له، ولكنه قد يصير إليه بطريقِ الصرف. 4027 - وممّا يجب أن يُعتنى به أن الأصحاب وإن ذكروا خلافاً في حِلْف الغريم، قالوا: لو لم يدّع المفلس والوارث، لم يكن للغريم أن يدعي في المسألتين ابتداءً،

_ (1) أي نقل ما قيل في غرماء التركة، من أن لهم أن يحلفوا إلى غرماء المفلس. (2) أنهم أي غرماء المفلس. (3) (ت 2): المدعي. (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

وإنما التردد فيه إذا سبقت الدعوى من الوارث والمفلس، وأفضى الأمرُ إلى الحلف، كما ذكرناه. وكان شيخي [يصرح] (1) بنقل الخلاف في أن الغريم هل يبتدىء الدعوى؟ ويقول: الحلف تِلْوُ (2) الدعوى، فمن ملكه، لم يمتنع أن يملك الدعوى. وهذا وإن كان قريباً في المعنى، فلم أره إلا له. وقطع الأصحاب القول بأن الدعوى ممتنعة، وإنما ذكروا الخلاف في الحلف إذا سبقت الدعوى من المفلس والوارث. والمستولدة إذا ادعت عُلقةَ الاستيلاد، والرّقُ بعدُ مستمر عليها نُظر، فإن ادعته والمولى يبغي بيعها، فحاولت دفعَ ذلك، فالوجه قبول دعواها. وإن كان المولى لا يتعرض لبيعها، ففي قبول دعواها على الابتداء، والمولى صامتٌ غير متعرض تردّدٌ ظاهر، واحتمال بيّنٌ، مأخوذ من فحوى كلام الأئمة. 4028 - ومما يتعلق بتتمة الكلام في الفصل أن رجلاً لو ادّعى على المفلس ديناً، فإن أقر به، ففي قبول إقراره وردّه الخلافُ الذي تقدم ذكره في تصرفات المفلس. وإن أنكر، كان إنكاره مقبولاً على معنى أنه يبتدىء عليه تحليفه. فإن حلف، انقطعت الخصومة إذا لم تكن بيّنة، وإن نكل، فهل تردّ اليمين على المدعي؟ قال الأئمة: هذا يخرّج على أن يمين الرد بمنزلة البينة في الخصومة، أو بمنزلة إقرار المدعى عليه. فإن قلنا: إنها كالبينة، حلّفنا المدعي يمين الرد، وقضينا بثبوت [الدعوى] (3). وإن قلنا: إنها كالإقرار، ورأينا التفريع على ردّ إقرار المفلس، فلا تُثبت يمين الردِّ حقَّ المدعي حتى يثبت له مضاربةُ الغرماء. وصورة يمين الرد تجري بلا خلاف. وإنما الكلام في تعلق حق المضاربة ناجزاً، فإنا وإن رددنا إقراره في حق الغرماء في الحالة الراهنة، لم نختلف في ثبوت موجَب

_ (1) في الأصل: يصرف. (2) تلو الدعوى: أي تابع لها. (3) في الأصل: الإقرار.

إقراره في حق المفلس نفسه، حتى يطالَب به إذا انطلق الحجر عنه. وإذا كان كذلك، فإجراء صورة يمين الرد تخرج على ما مهدناه من ثبوت حكم إقراره (1 على الجملة 1). فرع: 4029 - نص الشافعي على أن الرَّجل لو كان وَهَب شيئاًً في حالة الإطلاق، ثم أفلس وحجر عليه، فأثابه المتهب ما هو أكبر قيمةً من الموهوب، لم يلزمه القبول في حالة الحجر، وإن أثابه ما (2) هو أقل قيمة من الموهوب، فله الرضا. وهذا يبتني على أصلٍ سنشرحه في الهبات، إن شاء الله تعالى. والوجه في النص في الهبة المطلقة، والتفريعُ على أنها تقتضي الثواب. ثم إذا جرينا على هذا، ففي مقدار الثواب خلافٌ، وتفصيلٌ طويل، فإن قلنا: الهبة المطلقة تقتضي المثلَ في الثواب من جهة المالية والقيمة، فلا يجوز أن يرضى المفلس بما هو أقل من ذلك؛ فإن المثل عِوض مستحق. نعم، لا يلزمه قبول الزائد على مقدار المثل. وإن قلنا: للمتهب أن يثيب بما شاء، وإن قل وانتقصَ عن المثل، فعلى هذا يخرّج نص الشافعي " فإن زاد الثوابُ على المثل، لم يلزمه القبول "؛ فإن الزيادة غير مستحقة، وليس على المفلس قبول الهبات والتبرعات. وإن كان الذي بذله أقلَّ من المثل؛ فإنه يقبله؛ إذ لا يجب على المتهب غيرُه، والرجوع فيما نثُبته ونَنْفيه إلى أصلين أحدهما أنه لا يجب على المفلس قبول التبرع، وليس له أن يُسقط مستحقاً. ...

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) (ت 2): بما.

باب العهدة في مال المفلس

بَابُ العُهْدةِ في مالِ المفلس 4030 - ذكر الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب فصلاً، قدمنا ذكره في تعلق الضّمان بالعدل في الرّهن، والوصي، والحاكم. ولا شكّ أن هؤلاء أمناء إذا تلفت أعيان الأموال في أيديهم من غير تقصير منهم. وغرض الشافعي التعرض لبيان المرجع في [عهدة] (1) العقود. فإذا باع العدلُ (2) في الرهن بالإذن، وقبض الثمن، وضاع في يده الثمنُ الذي قبضه، ولم يكن وكيلاً من جهة المرتهن بالقبض، فالثمن من ضمان المبيع عليه (3)، وهو الراهن. وكذلك القول في الوصي (4)، إذا باع مالاً، فضاع الثمن من (5) يده، فهو من ضمان المبيع عليه. ولو فرض استحقاقٌ في المبيع، ففي تعلق الضمان بالعدل، والوصيّ، والقيم، والحاكم، التفصيلُ المقدم في كتاب الرهن؛ فلا حاجة إلى إعادته. 4031 - والذي يختص بغرض الباب أنا إذا بعنا عيناً من أعيان مال المفلس، وقبضنا الثمن، وخرج المبيع مستحقاً، فإن كان عين الثمن باقيةً (6) قائمة، فلا شكّ أن المشتري يرجع فيها، وإن كنا سلمناه إلى الغريم، اتبعها المشتري، ولو تلفت في يده؛ فإنه يضمّن الغريم لا محالة، فإن عين ماله تلفت في عقد ضمان في يد إنسان، فله اتباعه بالتغريم.

_ (1) في الأصل: عهد. (2) (ت 2): العبد. (3) "عليه" الضمير يعود على الراهن، كما فسره بقوله: "وهو الراهن"، فالعدل يبيع (الرهن) عليه، أي من أجله، أو عنه. فلا ضمان على العدل؛ فإنه أمين، وإنما الضمان على الراهن. (4) (ت 2): لو أوصى. (5) (ت 2): في. (6) ساقطة من (ت 2).

4032 - ولو تلف الثمن في يد الحاكم، وقد تمهد أن الضّمان لا يتعلق بالحاكم، فللمشتري الرجوع، وظاهر النص أنه يقدّم بمبلغ الثمن، ولا يحمل على المضاربة. ونقل الربيع وحرملة أنه أُسوة الغرماء، فيضاربهم. فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يتقدّم في رجوعه، لأنه دين في ذمة المفلس كسائر الديون. ومن أصحابنا من قطع القولَ بأنه يقدم، لأنا لو لم نقدمه، لامتنع الناس عن معاملة المتصرفين في أموال المفاليس، وسبيل كل دين يتعلق بمصلحة المفلس حالةَ الحجر أن يقدم، ولذلك تُقدم أجرةُ الدَّلالين، والمتصرفين، على حسب الحاجة في الأموال العتيدة التي اطرد الحجر عليها. وكذلك القول في أعواض المؤن الثابتة في حالة الحجر، فلتكن عُهدة البيع المنشأ لمصلحة التصرف في مال المفلس مقدمةً أيضاًً. والدليل عليه أنا لو راعينا قياس الديون في المضاربة، للزم أن نقول: لا يضارب الغرماء أيضاًً، فإن حقه متجدد بعد جريان الحجر، والذي يقتضيه قياس الباب أن الدين الحادث بعد الحجر لا يُقدّم [ولا] (1) يضارب به أصلاً. فهذا منتهى القول في ذلك. ...

_ (1) في الأصل: لا يقدم أو لا يضارب. وفي (ت 2): يقدم ولا يضارب. والمثبت تقدير منا رعاية لسياق الباب.

باب حبس المفلس

باب حبس المفلس 4033 - مضمون هذا الباب ثلاثة فصول: أولها - في قاعدة الحبس. والثاني - في إثبات الإعسار. والثالث - في مسافرة من عليه الدين. فأما: الفصل الأول، فنقول: 4033/ م- إذا ثبت الحق، وتعذر استيفاؤه، لم يخل إما أن يكون التعذر بسبب الإعسار والفلس، وإما أن يكون بسبب امتناع من عليه الحق من تأديته. فإن كان بسبب الفلس، فحكم الله تعالى إنظار المفلس، وإزالة التعرض عنه إلى ميسرة، قال الله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] الآية. وإن امتنع من عليه الحق من أداء ما عليه مع القدرة، فهو ظالم، مندرجٌ تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلمٌ" "ليُّ الواجد ظلم" (1) ثم القاضي إن وجد له مالاً، وقد تحقق امتناعَه؛ فإنه يملك بيعَه وصرفه إلى دينه، ولا حاجة إلى ضرب الحجر عليه، بل يبتدر البيع؛ فإن منصب الولاية يقتضي استيداءَ (2) الحقوق، وإيفاءها على مستحقيها، على ما يساعد الإمكان فيه.

_ (1) الحديث بلفظ "لي الواجد" أخرجه من حديث عمرو بن الشًرِيد عن أبيه أبو داود في الأقضية ح 3628، والنسائي: بيوع، باب مطل الغني، ح 4689، وابن ماجة: صدقات، باب الحبس في الدين: 2/ 811 ح 2427، وابن حبان: 7/ 273 ح 5066، والحاكم: 4/ 102، وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر التلخيص: 3/ 89 ح 1248، شرح السنة: 8/ 195. وبلفظ "مطل الغني": أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري: في أول الحوالة، ح 2287، ومسلم: المساقاة، باب تحريم مطل الغني، ح 1564. (2) (ت 2): استيفاء. والاستيداء: طلب الأداء، والمعنى: أن منصب الولاية يقتضي تحصيل الحقوق، وإعطاءَها لمستحقيها.

4034 - ومنع أبو حنيفة بيع العروض والسلع في الديون، وناقض، فجوّز بيعَها في بعض النفقات، وسوغ على العموم صرف الدراهم إلى الدنانير، وصرف الدنانير إلى الدراهم (1). ولا فصل عندنا. 4035 - ولو لم يظهر للممتنع مالٌ، وأشكل الأمرُ، فحكم الحال الحبس. هذا ما درج عليه الأوّلون، ومضى عليه الحكام، والحبس في نفسه عقوبة. ولكن قد يقع حيث لا يُستيقن استحقاقُ الممتنعِ العقوبةَ؛ من جهة أن الممتنع إذا لم يثبُت يسارُه، وادعى الإعسارَ؛ فإنا نجوّز صدقَه، ومع تجويز ذلك نحبسه، والسَّبب فيه أن إطلاقه تضييع لحق المدعي من غير ثَبَت، فلا وجه إلا حبسُه إلى البيان. وليس الحبس إيلاماً في الحال، فالمسلك القصد يقتضيه لا محالة. 4036 - ولو تحقق القاضي ظلمَ من عليه الحق في امتناعه، وعلم أنه متمكن من تأدية ما عليه -وقد يظهر ذلك بقراره أو بجهةٍ أخرى، على ما سيأتي الشرح عليه، إن شاء الله تعالى- فالأمر وقد ظهر العناد مفوّضٌ إلى رأي القاضي، فإن أراد أن يعزّره حتى يُظهر المال، فله ذلك، ولا مزيد على الحبس مع اليسر، وإن ظهر العناد، فللقاضي أن يزيد على الحبس ويعزّر. وقد نص الشافعي في نكاح المشركات على [أن] (2) من أسلم على أكثر من أربع، وأوجبنا عليه أن يختار أربعاً، وحبسناه لذلك، فإن تمادى على امتناعه، فللقاضي أن يعزره. وسببُ التعزير امتناعُه عن حقٍّ محتوم عليه مع الاقتدار عليه. وإنَّما خصص الشافعي هذه الصورة بذكر التعزير، لظهور العناد فيه، وتبيّن الاقتدار على الاختيار، فمهما ظهر العنادُ في الحقوق المستحقةِ، كان الأمرُ على ما ذكره الشافعي في نكاح المشركات.

_ (1) الذي ذكره إمامنا هو قول أبي حنيفة، حيث يرى أن استيفاء الديون تكون من جنسها، واستثنى من ذلك ما إذا كان للدائن دنانير والمديون يملك دراهم، أو العكس، فأجاز بيع هذه بتلك؛ لاتحادهما في الثمنية، وخالفه صاحباه، والفتوى بقولهما. (ر. مختصر الطحاوي: 95، 96، وحاشية ابن عابدين: 5/ 95، ورؤوس المسائل: 311 مسألة 198). (2) ساقطة من الأصل.

ثم التعزير المتعلق بالنظر العام والاستصلاح، موكول إلى رأي الإمام، ولسنا نعني بذلك أنه يتخير فيه، بل يجتهد، ويرى رأيه، ويسلك المسلك الأقصَد. وقد يختلف ذلك باختلاف مراتب الخلق: فذو اللّدَدِ، والعناد، قد لا يكترث بتطويل (1) الحبس، وقد يعلم القاضي، أو يظن أن الغرض يحصل بالحبس المحض؛ فليجر على ما يقتضيه الحال. 4037 - ثم التعزير لايبلغ مبلغ الحد، على ما سنصف المذهبَ فيه في كتاب الحدود. وقد يقتضي الحال تعزيراتٍ في أوقاتٍ يبلغ مجموعها حداً، أو يزيد، فليفعل ما يراه. والاستمرارُ على الامتناع على ممرّ الأوقات في حكم أسبابٍ متجددة، يقتضي تجددَ التعزيرات. ولا يغفل فيما يأتيه من ذلك عن (2) ترك الموالاة وما في معناها. فإذا بلغ التعزير مبلغاً، وكان أثره ظاهرَ البقاء، فليصبر إلى الاستقلال وظهور البُرْء. ونحن قد نرعَى ذلك في إقامة حدود الله تعالى على شخصٍ واحد، فما الظن بتعزيرات موكولة إلى الاجتهاد لا يُقضى بتعيّنها (3)؟ الفصل الثاني من الباب 4038 - إذا ادّعى من عليه الحق الفلس والإعسار، لم يخل: إما أن يكون له بينةٌ، وإما ألا تكون. فإن وجد بينةً، أقامها، كما سنذكر الوجه فيها. وإذا قامت، وجرى البحثُ عن التعديل، فلا يسوغ عندنا إدامة الحبس بعد ذلك؛ فإنه على الجملة من قبيل العقوبات. وقد يرى الوالي التعزيرَ به وحده. وقال أبو حنيفة: لا يُصغي القاضي إلى البيّنة على الإعسار، حتى يمضي أمدٌ (4)،

_ (1) (ت 2): بطول. (2) (ت 2): على. (3) (ت 2): يفضي تبقيتها إلى الهلاك. (4) عبارة الأصل: يمضي أمدٌ (فيه). وفي (ت 2): يمضي مدة.

ثم اختلف قوله فيه، فقال مرة: لا بدَّ من مضي شهرين، وقال مرة: أربعين يوماً، أو خمسين، وقال مرة: أربعة أشهر (1). ونحن لا نرعى شيئاًً من ذلك، ونُصغي إلى البينة، ونقضي بها من غير تأخير. 4039 - ثم نتكلّم وراءَ ذلك فيما يتعلق بحق الشاهد وتحمّله، ونذكر بعده نظرَ القاضي في أحوال الشهود على الإعسار. فأما الشاهد، فلا يحل له أن يشهد على الإعسار بظاهر الحال؛ فإن الأموال في وضع الجبلات تخفَى ولا تظهر، هذا حكم العادة الغالبة، فليبحث من يتحمل هذه الشهادةَ عن الباطن ولْيسبُر حالَ المشهود له، ولا يخفى طريق البحث في كل باب على الخبير. هذا قولنا في الشاهد. 4040 - فأمّا الكلام في نظر القاضي، فقد قال الشافعي: لا ينبغي له أن يقبل هذه الشهادة إلا من أهل الخبرة الباطنة؛ والسَّبب فيما افتتحناه من ذلك أن مستند الشهادة على الإعسار النفيُ، ولو جرينا على قياس الشهادات، لم نقبلها، فإن النافي لا يكون مثبتاً، ولا يستمكن من ادعاء العلم بالنفي. ولهذه الشهادة نظائر: منها الشهادة على أن لا وارث للمتوفَّى سوى من حضر، وهذه الشهادة متعلقة بالنفي، مقبولةٌ من أهل الخبرة الباطنة، ومنها الشهادة على تعديل الشهود؛ فإن متضمنها نفيُ الأسباب المخرجة عن العدالة، ويلزم قبول هذه الشهادات، ولا مستند لها إلى اليقين قطعاً، للضرورةِ، ومسيسِ الحاجة؛ فإن تخليد الحبس، وتأبيد وقف الميراث محال، والتعديلُ عماد القضاء، ولا يتصور فيه إلا المسلك الذي ذكرنا، فيلتحق عندنا بما ذكرناه الشهادةُ على الأملاك؛ فإنها لا تنتهي إلى يقين قطّ، وإنّما غايتها بناء الأمر على ظواهرَ يصفها العلماء، من اليد، والتصرف، وغيرهما. ولكن لا بد من الاكتفاء بما ذكرناه؛ إذ الحاجةُ ماسة، ومنتهى الإمكان ما أشرنا إليه، فكأنّا نشترط استنادَ الشهادة إلى اليقين فيما يمكن اليقين فيه، كالأقوال، والأفعال التي يتعلق بها الحواس.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 96، والاختيار: 2/ 90.

ولا مزيد على ما ذكرناه؛ فإن أسرار الشهادات مذكورة في كتابها. 4041 - ومن لطيف الكلام في ذلك أن كل ما تستند الشهادةُ فيه إلى اليقين، فلو علمه القاضي بنفسه، اختلف القولُ في جواز قضائه بعلمه. ولو انتهى القاضي فيما لا علم فيه، إلى منتهى يشهد فيه، كالأصولِ التي ذكرناها، فلا يحل له القضاء. وإن كان يحلّ له أن يشهد بما أحاط به، وظهر عنده، فليتأمل الناظر هذا؛ فإنه من أسرار القضاء. 4042 - وتمامُ البيان في الفصل يتعلق بتردد الأصحاب في أمرٍ نذكره: وهو أن القاضي إن علم أن الشاهد من أهل الخبرة الباطنة في الإعسارِ ونظائرِه، [قبل] (1) شهادته، وإن لم يتحقق ذلك عند القاضي، [ولكن] (2) ذكر الشاهدُ [أنه خبر باطنه، وهو عدل رضاً، كفى ذلك، فإنه قد يُعتمد في شهادته، كما يعتمد في ذكره أنه من أهل الخبرة الباطنة. وإن أطلق الشهادة على الإعسار، ولم يتبين للقاضي من جهة بحثه، ولا من جهة ذكر الشاهد] (3) أنه من أهل الخبرة، فيتوقف لا محالة. هكذا ذكره الأئمة. والشهادة على الملك وإن كانت لا تستند إلى يقين مقبولةٌ على الإطلاق من العدل الموثوق به، وليس على القاضي بحثٌ عن أسباب تحمّل الشهادة، والسَّبب فيه أن تلك الأسباب ثابتةٌ، من اليد، والتصرف، ولا يُظَن بالشاهد إلا التثبتُ. والإعسارُ وانتفاءُ الوارث وعدمُ الأسباب المخرجة عن العدالة نفيٌ محققٌ، وعلى الناظر في هذا مزيد بحثٍ، سيأتي الشرح عليه في الشهاداتِ، إن شاء الله تعالى. 4043 - وممَّا يليق بهذا أن الإعسار يثبت بشهادة شاهدين مع الاحتياط الذي ذكرناه. وذكر بعض المصنفين لفظاً مضمونه أنه لا بد من ثلاثة شهود، وهذا خُرقٌ (4) عظيم، وخروج عن الضبط، ولعله أراد أن القاضي إن بدا له أن يستظهر بالعدد، فعل، لما حققناه من إشكال الإعسار.

_ (1) في الأصل: قبلت. (2) ساقطة من الأصل. (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (4) خُرق: حمق (معجم).

وفي [استظهار القاضي] (1) بعدد الشهود كلام طويل لا نخوض فيه. ثم قال الشافعي: إذا قامت البينة على الإعسار، حلّفنا الشهود بعساره مع البينة، وخالف أبو حنيفة (2) فيه. واختلف أصحابنا في أن هذا التحليف هل يقف على استدعاء الخصم ومسألته؟ منهم من قال: إنه موقوف على الاستدعاء والمسألة، وهو من حق الخصم. ومنهم من قال: إنه من أدب القضاء، فيتحتم على القاضي التحليف، وإن لم يسأله الخصم، إلا أن يقنع الخصمُ، ويبدي الرضا بإطلاقه، فلا إشكال إذاً. هذا كله إذا أقام بينة على الإعسار. 4044 - فأمَّا إذا قال: أنا معسر، وليس يشهد على إعساري أحد، فكيف خلاصي من هذا الحبس؟ قال الأصحاب: إن عُرف له يسار سابق، فلا سبيل إلى إطلاقه، والحالة هذه، ما لم تقم بينة على زوال اليسار؛ فإنَّ الظاهر بقاؤه، والغالبُ استمكانه من إثبات زوال أسباب اليسار. فإذا لم يُقم بيّنةً، ظهر كذبه. وإن لم يعرف له يسار سابق، فادّعى الإعسارَ، ففي قبول قوله مع يمينه أوجه: أحدها - أنه يُقبل؛ إذ الأصلُ الفقر. والثاني - لا يقبل؛ لأن الظاهر من حال الحُرّ أن يملك شيئاًً، وإن قلّ، ويندرُ حُرٌّ لا ملك له. والثالث - أنه إن التزم الدينَ باختياره مثل مال الضَّمان، والصَّداقِ، فلا يُقبل قوله؛ لأن الظّاهر أنه لا يلتزم باختياره مالاً إلا مع التعويل على ملكٍ وافٍ به. وإن لزمه ضمانٌ من غير اختيار، قُبل قولُه في دعوى الإعسار. هذه الأوجه [الثلاثة] (3) هي التي عليها التعويل. 4045 - وذكر أصحابنا وجهاًً رابعاً، نسوقه على وجهه ونبيّن اختلاله، قالوا: من أصحابنا من قال: كل دين لزمه عوضاً عن مالٍ، فلا يقبل فيه دعوى الإعسار، وما لم

_ (1) في الأصل: الاستظهار للقاضي. (2) ر. الاختيار: 2/ 90. (3) مزيدة من (ت 2).

يكن عوضاً عن مالٍ، يقبل فيه دعوى الإعسار، وهذا ليس وجهاً رابعاً؛ فإنا حكينا وفاق الأصحابِ في أنه لو ثبت له ملك، لم تقبل دعوى الإعسار منه بتقدير زوال اليسار، وإذا كان هذا متفقاً عليه، فكأن هذا القائل في تفصيله جمع بين صورة الإجماع وبين قبول قوله مطلقاً في غير محل الإجماع. وقد يخطر للفقيه حملُ هذا الوجه الرابع على دين ثبت [عوضاً] (1)، وكان ملتزمه يدعي أنه لم يقبض (2) المعوّضَ، فإن كان ذاكرُ (3) هذا الوجه منزّلَه على هذا التقدير، لا على الاعتراف بقبض المعوّض، وادعاء تلفه، فهذا على حالٍ وجهٌ ضعيف؛ فإنه إذا ثبت الملك في المعوّض، فالظّاهر قبضُه، ونحن إنما لا نقبل قول من سبق له يسارٌ، بتأويل ادعاء [زواله] (4)؛ من جهة أن قولَه يظهر الخُلف فيه، وزوال اليسار ممكن، فعدم قبض المبيع بهذه المثابة. والعلم عند الله تعالى. 4046 - ووراء هذه الأوجه نوعان من الكلام، يحصل بهما تمام الغرض. أحدهما - أنا إذا قلنا: يُقبل قول المعسر مع يمينه، فلست أرى قبولَ قوله مع اليمين بداراً، فيظهر عندي مسلك أبي حنيفة (5 في التأني مع البحث الممكن عن أحواله، غير أن ما ذكره أبو حنيفة مع البينة 5) باطل عندنا؛ من جهة أنا نحمل كلام الشهود على صدوره عن بحث منهم، فإذا شهدوا، وجب الاكتفاء بشهادتهم. أما إذا لم تكن بينة، وكان الرجوع إلى قول المدَّعي ويمينه، فيظهر أن يبحث القاضي عن بواطن أمره، وليس ذلك بعيداً عن الإمكان. وهذا يقرب عندي من قول الشافعي في الفاسق: إذا تاب، استبرأتُه أشهُراً، (6 فإن التوبة مأخوذةٌ من قوله، فرأى الشافعي معه الاستبراء6) نعم، لست أنكر فرقاً بين الأصلين؛ فإن يمين المعسر بمثابة الجحد.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (ت 2): يقبل. (3) (ت 2): ذكر هذا الوجه، فنزله. (4) في الأصل: يساره. (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (6) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.

والذي ذكرته لست أعزيه إلى نقلٍ. وفي كلام الأصحاب ما يدل عليه، وظاهر النقل يُشعر بالبدار إلى قبول قوله مع يمينه، حيث يقبل قوله. فهذا أحد النّوعين. 4047 - والثاني - أنا إن قلنا: لا يقبل قوله، والمحبوس غريبٌ لا يتوصل إلى إثبات (1) إعساره ببيّنة، فتخليد [حبسه] (2) شديدٌ عندي. والذي أراه فيه أن السلطان يوكّل به من يبحث عن منشئه، ومولده، ومنقَلبه، ويتناهى في البحث جهده، ثم يُسوّغ المُفتون للباحثين أن يشهدوا، هذا لا أرى منه بداً، والعلم عند الله تعالى. 4048 - وممّا يتعلق بهذا الفصل أنه لو أقام البينة على الإعسار، فأقام مستحق الدين بيّنة على أنه كان في يده مالٌ، فاعترف بكونه في يده، وقال: كان لفلان في يدي وديعة، فإن نسبه إلى حاضرٍ، قُبل قولُه بلا يمين، وإن كان غائباً، حُلِّف. وهذا من معَاصاتِ كتابِ الدعاوى. فإذا ادّعى رجل على رجل مالاً في يده، فقال المدعى عليه: المال لفلانٍ، وليس لي ولا لك، فالقول في تقاسيم هذا الفصل وجوانبه غمرة كتاب الدعاوى وسنذكره إن شاء الله تعالى. والقولُ الذي يليق بما نحن فيه ما أشرنا إليه، فإنْ تفرّق (3) فكرُ الناظرِ في جوانب الفصل، فلينظر شرحها، وليطلبه من موضعه. 4049 - وإذا (4) ثبت الإفلاس وجب الإطلاق، فلا حبس على معسر، ثم لا يجوز التعرض له إلى (5) أن يُفيد مالاً، فإن صرفه إلى دينه، فذاك، وإن أبى، رفع إلى مجلس القضاء، وحُمل على تأدية الدّين من المال الذي أفاده، بالحبس وغيره، على ما تفصّل.

_ (1) (ت 2): ثبوت. (2) في الأصل: إعساره. (3) (ت 2): تفريق. (4) (ت 2): فإذا. (5) (ت 2):إلا.

4050 - والمحجور عليه المفلس إذا صرف القاضي أموالَه الموجودةَ إلى غرمائه، فهل يرتفع الحجر عنه أو لا بد من أن يفكه الحاكم؟ في المسألة وجهان: أحدهما - لا بد من رفع الحاكم؛ فإن ذلك يتعلق بالنظر والبحث والاجتهادِ، فكما لا يثبت الحجر إلا بضربِ السلطان [كذلك] (1) لا ينفك إلا بفكه. والوجه الثاني - أن الحجر [ينفك] (2)؛ فإن سببه صرفُ ما كان له من مالٍ إلى ديونه، فإذا انتجز ذلك، لم يكن للحكم باستمرار الحجر -وقد زال سببه- معنىً. 4051 - والسَّفيه إذا ظهر صلاحه في الدِّين، وإصلاحه المالَ (3)، فلا ينطلق الحجر عنه إلا بطلاق القاضي، كما سنذكرُه في كتاب الحجر، إن شاء الله تعالى. والسبب فيه أن الحجر نظرٌ للسَّفيه، والحق فيه له، ونظر السلطان قائم، والأمر موقوف إلى إظهاره انطلاقَ الحجر عنه. وسيأتي هذا في كتاب الحجر، إن شاء الله تعالى. 4052 - وأمّا المجنون إذا أفاق، فلا شك في ارتفاع الحجر عنه؛ فإن الجنون وارتفاعَه لا يتعلقان بالنظر والاجتهاد، وسنستقصي القول فيمن عدا المفلسَ من المحجورين في كتاب الحجر، إن شاء الله تعالى. ومن تمام القول في ذلك أن الغرماء لو قالوا: رفعنا الحجر عنك، والحق لا يعدونا، ففي ارتفاع الحجر من غير رفع الأمر إلى القاضي ترددٌ للأصحاب، يدل عليه تلويحاتُهم، ومرامزُهم، فيجوزُ أن يقال: يرتفع الحجر لما ذكرناه من أن الحجر كان بسببهم، وهم مطلقون لا تولي عليهم، وهم في الأموال تحت الحجر كالمرتهن في العين المرهونة (4). ويجوز أن يقال: لا بد من الرفع إلى القاضي، فقد يظهر غريم غيرهم، والأمر فيه مربوط بنظر الوالي؛ فإنه النائب عن كل غائب.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: يفك. (3) (ت 2): للمال. (4) أي الأمر إلى المرتهن في الإذن ببيعها والتصرف فيها، وردّها إلى الراهن.

4053 - وذكر الشيخ في الشرح مسألةً تتعلق بما نحن فيه: وهو أَنَّه لو باع المفلس جميع ماله من غريمه، ولا نَعرف غريماً سواه. قال صاحب التلخيص: يصح بيعُه، قطع جوابَه به؛ فإن الحجر بسبب هذا الغريم. فإذا دار العقدُ بينهما، وصدر عن تراضيهما، فلا وجه إلا تصحيحه. قال الشيخ أبو علي: كان يدور في خلدي إمكان خلافٍ في ذلك، حتى رأيت للشيخ أبي زيدٍ وجهاًً آخر في ذلك: أنه لا يصح البيع من الغريم من غير مرافعة القاضي، وما ذكرته من التردد في رفع الغريم الحجرَ (1) عن المحجور عليه من غير مراجعة القاضي، مأخوذ من هذه المسألة. 4054 - ولما حكى الشيخ الترددَ في البيع من الغريم بالدين الذي له على المحجور، حكى بعده أن المحجورَ لو باع ماله من غريمٍ (2) بعينٍ آخر، ولم يبعه منه بالدين الذي له عليه، فلا يصح هذا، وإن صدر عن الرضا (3). وكذلك قال: لو باع المحجور بإذن الغريم مالَه من أجنبي، لم ينفذ. وإنما حكى عن صاحب التلخيص وأبي زيد المروزي الخلاف فيه إذا باع المحجورُ عليه مالَه من الغريم بالدين. والذي ذكره الشيخ من الوفاق لا يساعَد عليه، ونفوذ البيع بإذن الغريم على نهاية الظهور في الاحتِمال. ثم وجْهُ تخصيص الخلاف بالبيع بالدين، أن ذلك يتضمن سقوطَ الدين، وفي سقوطه انطلاقُ الحجر، وفي البيع بغير الدين اطّرادُ الحجر، وكذلك في البيع من الأجنبي. وما ذكرته من رفع الحجر ينطبق على البيع (4) بالدين لا محالة. وقد نجز الفصل الثاني من الفصول الثلاثة.

_ (1) ساقطة من (ت 2). (2) (ت 2): غريمه. (3) عبارة (ت 2): .. عن الرضا بالدين الذي عليه. (4) (ت 2): المبيع.

الفصل الثالث قال: " وإذا أراد الذي عليه انحق إلى أجلٍ السفرَ ... إلى آخره" (1). 4055 - من عليه دينٌ حالّ، ولم يثبت إعساره، إذا هم بالسفر، استمكن مستحِق الدين (2) من منعه من المسافرة. وحقيقةُ القول في ذلك أنه لا يمنعه عن السفر في عينه منع السيد عبدَه، والزوجِ زوجتَه، ولكنه يتمكن من شغله عن السفر، برفعه إلى مجلس الحُكم، والتشبثِ به إلى تَوْفية الحق. 4056 - ولو كان الدين مؤجَّلاً، لم يمتنع على من عليه السفرُ؛ إذْ ليس (3) لمستحق الدّين التشبث به قبل حلول الأجل. وهذا مُطّردٌ في الأسفار، خلا سفر الغزو؛ فإن أصحابنا اختلفوا فيه، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز منعه؛ فإن مسيره ومصيره إلى مصرعه، وهو سببُ حلول الدين. وهذا بعيدٌ، لا أصل له. والأصح أنه لا يمتنع على من عليه الدين المؤجل أن يسافر نحو الغزو، فإن النظر إلى الحالِّ. 4057 - ولوْ همَّ من عليه الدين المؤجل بالسفر، فساوقه مستحق الدين، عازماً على أن يلزمه حيث يحل الدين، فلا يمنع من الخروج معه، إذا كان لا يؤذيه إيذاء المراقب، والجادّة (4) مَطْرق الخلق. 4058 - ولو قال مستحق الدين المؤجل لمن عليه الدين: لا تسافر حتى تعطيني كفيلاً بالدين أو رهناًَ، لم يكن على من عليه الدين إسعافُه، خلافاً لمالك (5).

_ (1) ر. المختصر: 2/ 223. (2) (ت 2): الحق. (3) (ت 2): وليس. (4) الجادّة: الطريق. ومَطْرق مكان الطريق، والطروق. (معجم). (5) ر. القوانين الفقهية لابن جزي: 314.

ولو قال لمن عليه الدين: أشهد على ديني، فالذي قطع به الأصحابُ أنه لا يلزمه ذلك، وهو الذي اختاره صاحبُ التقريب أيضاً. وحكى وجهاًً غريباً أنه يلزمه إجابته إلى الإشهاد. وهذا لا أصل له، فلا أعده من المذهب. فرع: 4059 - إذا أراد الإنسان أن يدّعي ديناً مؤجلاً على إنسان ففي قبول دعواه قبل حلول الأجل وجهان: أحدهما - أنه لا يقبل؛ فإنه لا يملك المطالبة به، فكيف يملك الاستعداءَ والرفعَ إلى مجلس القضاء. ومن أصحابنا من قال: تُقبل الدعوى؛ فإنه يبغي به التسبب إلى إثباتِ ملكٍ له، فليملك ذلك، وإن كان لا يتوصل إليه في الحال. فإن قلنا: الدّعوى بالدين المؤجل مقبولة، فلا كلام، وإن قلنا: إنها غيرُ مقبولة، فعلى من يدعي الدين الحال أن يصرح بذكر الحلول، أو يقول: لي عليك ألف يلزمك تسليمه إليّ. فإن قال ذلك، وكان الدّين مؤجَّلاً، فللمدعى عليه أن يقول: لا يلزمني تسليم ما ادّعيتَه. 4060 - وكشف القول يستدعي مزيد بَيانٍ مأخوذٍ من الاختلاف في مسألة، وهي أن الرجل إذا أقرّ بألفٍ مؤجل، فهل يقبل قوله في الأجل أم يؤاخذ بالألف حالاًّ، والقول قول المقر له في نفي الأجل مع يمينه؟ فيه قولان سيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى، في كتاب الأقارير. فإن قلنا: لا يقبل قوله في الأجل لو أقر بالدين المؤجل، فيكتفَى منه -والحالة هذه- أن يقول: لا يلزمني التسليم، ويحلف عليه. وإن قلنا: لا يؤاخذ بالألف حالاًّ لو اعترف به مؤجلاً، فوراء ذلك نظرٌ، يجب التثبت فيه. وهو أنا إذا فرعنا على أنه لا يؤاخذ بالألف حالاً؛ فلو قال المقر له: حلفوني أحلف على نفي الأجل، قلنا: لا يكتفى منك بهذا؛ فإنا نفرع على أنه غير مؤاخذ بالألف، وما ذكرته موجب المؤاخذة؛ فإنه على قول المؤاخذة كان لا يعجز عن تحليفك، فكأنا نقول: لا يلزمه إلا ما اعترف به، والمعترَف به دين مؤجل. فإذا ثبت هذا، عدنا إلى غرضنا قائلين.

4061 - إن حكمنا بأنه يؤاخذ بالألف حالاًّ، وقد ادعى المدعي الألف حالاًّ، ولو اعترف المدعى عليه بالألف المؤجل، لكان مؤاخذاً بالألف حالاًّ. وغاية مضطرَبه أن يحلف المقر له، فعلى هذا يكفيه أن يقول في جواب الدعوى: لا يلزمني تسليم ما ادّعيتَه، ولا يحلفُ إلا على هذا الوجه. وإن قلنا: لو أقر بالدّين المؤجَّل، لم يؤاخذ بالألف حالاًّ، فهل يقنع منه بأن يقول: لا يلزمني تسليمه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُقنع منه بذاك؛ فإن مقصود الدعوى مطالبة المدعى عليه، فإذا أنكر وجوب التوفية، وحلف عليه، فقد تعرض لمضادة مقصود الدعوى. ومن أصحابنا من قال: عليه أن يبوح. فإن لم يكن أصلٌ (1) للدين، فليصرح بنفيه في الإنكار، وإن (2) كان (3) الدين ولكنه مؤجل، فليقر به مؤجلاً. 4062 - وممّا يتعلق ببيان ما نحن فيه: أن من اعترف إعسار إنسان، وأراد أن يدعي عليه ديناً ليثبته على توقع مطالبته به إذا أفاد مالاً، ففي سماع ذلك خلافٌ مضاهٍ لما ذكرناه من دعوى الدين المؤجل. وهذه الصورة أولى بأن لا تُقبل الدعوى فيها؛ فإنّ زوال العسر لا منتهى له بضبط. وليس كالأجل. 4063 - وذكر الأئمة في الدعوى على العبد في دين متعلق بذمته تردداً (4) أيضاً. 4064 - وقد اشتمل كلامنا على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى في الدين المؤجل، والثانية - في الدعوى على المعسر مع الاعتراف بإعساره، والثالثة - وهي أبعدها، وأولاها بالرد الدّعوى على العبد بدَيْن متعلقٍ بذمته على ارتقاب العتق وزوال الرق. ...

_ (1) (ت 2): له أصل. (2) (ت 2): فإن. (3) (كان) هنا تامة: والمعنى إن وجد الدين، ولكنه مؤجل. (4) في النسختين: تردد.

كتاب الحجر

كتاب الحجر 4065 - الحجر هو المنع، وكل تحريمٍ حجرٌ في الشرع. والحجر في اصطلاح الفقهاء ما يتضمن المنعَ من التصرف. والأسبابُ المقتضية للحجر: الجنون، والصبا، والرق، والسفه، والفلس. فأما المجنون، فلا استقلال له، وأمره مفوضٌ إلى القوّام عليه. والجنون يسلب حكمَ أقوال المجنون بجملتها. والصبا يضاهي الجنونَ في سلب الأقوال الملزمة، وعليه بنينا منعَ إسلام الصبي على المذهب الظاهر، والصلاة تنعقد منه؛ لأنها ليست لازمة. وفي إحرامه احتياط في المذهب بيَنَّاه في المناسك. والفرق بين الإسلام والإحرام عسر. 4066 - وأمّا الحجر بالرق، فثابت. وقد أنكر بعضُ أصحابنا عدَّ الرقيق من المحجورين، وقال: إنه لا يملك شيئاًً، فلم يتصرف. وهذا لا أصل له. ووجه منعه بيّنٌ، والقول في ذلك لا يشير إلى فقهٍ. وتصاريف أحوال العبيد تنقسم ثلاثة أقسام: قسمٌ - لا ينفذ منه، وإن أذن المولى فيه كالولايات والشهادات. وقسم - يستفيده دون إذن المولى كالعبادات، والتصرفاتِ في النكاح المأذون فيه. وقسم - يتوقف نفوذه على إذن السيد وهو كابتداء النكاح، والبيع والشراء، على الأصح وغيرهما. 4067 - وأمَّا المحجور عليه بالفلس، فقد انقضى حكمه في كتابه، وأمَّا المحجور عليه بالسفه، فتفصيل القول في اطراد الحجر عليه، وفيما ينفذ منه وما لا ينفذ، سيأتي على الاتصالِ، إن شاء الله تعالى، وهو مقصود الكتاب. 4068 - ثم ذكر الأصحاب في صدر الكتاب تفصيلَ القول في البلوغ وسببه.

والغرض التعرض للسَّفَه والتبذير والرشد المناقض لهما، ولكنّ نظمَ الكلام يقتضي ذكرَ زوال الصبا، والنظرُ بعد زواله في الرشد والسفه. والصّبي في الإطلاق غيرُ مكلَّف، وكأن الشرعَ لم يُلزم الصبيَّ قضايا التكليف بسببين: أحدهما - أنه في مظنة الغباوة وضعف القصد، فلا يستقل بأعباء التكليف. والثاني - أنه عري عن البلية العظمى وهي الشهوة. ثم ربط الشرعُ التزام التكليف بأمدٍ، أو تركّب الشهوة، أمّا الأمد فيُشير إلى التهذب بالتجارب، وأما تركب الشهوة؛ فإنه تعرض للبلايا العظام، فرأى الشرع تثبيت التكليف معه زاجراً، وإن اتفق ذلك دون الأمد المعتبر في البلوغ. 4069 - فأما الأمد، فمذهب الشافعي أن بلوغ الغلام والجارية يحصل باستكمال خمسَ عشرةَ سنة. هذا هو المذهب. وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً في أن البلوغَ يحصل بالطعن في السنة الخامسة عشرة، من غير استكمال. وهذا لا أصلَ له. هذا قولنا فيما يتعلق بالزمان. 4070 - فأمّا تركب الشهوةِ، فلا مُطَّلعَ عليه إلا من جهة العلامة، حتى نذكر العلامة في الغلام والجارية والخنثى. فأمّا الغلام فعلامة تركّب الشهوة فيه انفصالُ المني، وقد وصفناه في كتاب الطّهارة. ثم اختلف أصحابنا في أقلّ السّن الذي يُفرض بلوغ الغلام بالاحتلام فيه، فقال قائلون: إنه يحتلم (1) إذا استكمل العاشرة. ولو فرض انفصال ما نراه على صفة المني في التاسعة، فهذا نادرٌ. وقد مضى القول في كتاب الحيض فيما يُفرض ندورُه في الحيض، وأقلِّه وأكثرِه. والمتبع في هذه الأبواب الوجودُ، واتباع الأولين، وقد أشبعنا القول في ذلك على أقصى الإمكان. وإنما الذي نُجريه الآن ذكرُ كلام الأصحاب، خلافاً ووفاقاً، على ما تقرّر عندهم في حكم العادة. هذا قولنا في سبب بلوغ الغلام.

_ (1) (ت 2): يحتمل.

4071 - فأمّا سبب بلوغ الجارية، فاعتبار السن [فيها كاعتبار السن] (1) في الغلام. وقد روى الدارقطني بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا استكمل المولود خمسَ عشرةَ سنةً، كتب ما له وما عليهِ وأقيمت عليه الحدود " (2) ولفظ المولود يعم الغلام والجارية، فلا فرق بينهما فيما يتعلق بالسن باتفاق الأصحاب. وأمّا (3) الخارجُ الدال على البلوغ فيها، فالحيض لا شك أَنَّه يدل على البلوغ. والقول في أقل سن الحيض استقصيناه في كتاب الحيض. والمرأة إذا احتلمت وخرج منها ما يُعتقد أنه أصل فطرة المولود من جانبها، فقد ذكرنا في كتاب الطّهارة أن المرأة تغتسل إذا رأت ذلك، واستشهدنا عليه بحديث المرأة التي سألته صلى الله عليه وسلم وقالت: ما على المرأة إذا هي احتلمت؟ فقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: " إذا رأت ذلك، فلتغتسل "، فإذا رأت الصبية ما وصفناه، فهل يكون ذلك بلوغاً منها إذا رأت ذلك على سن إمكان البلوغ (4)؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب: أحدهما - أنه يكون بلوغاً منها، بمثابة احتلام الغلام. والثاني - لا يكون بلوغا؛ لأن ذلك نادر في جنسهن، وحق البلوغ أن يُناط بالعلامات الظّاهرة. وللنَّظر (5) وراء ذلك مضطرَبٌ. فإذا قلنا: يحصل البلوغ، وهو الأصح، فلا إشكال. وإن قلنا: لا يحصل البلوغ، فالذي يتّجه عندي أن هذه لا يلزمها الغسل في هذا المقام؛ فإنا لو ألزمناها ذلك، لكان حكماً [بأن المنفصل منيٌّ] (6) والجمع بين الحكم بأنه منيٌّ يوجب خروجُه

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (2) حديث "إذا استكمل المولود ... " رواه البيهقي في السنن: 6/ 57، وقال: "إنه ضعيف"، كما رواه في الخلافيات أيضاً. وعقب الحافظ على قول إمامنا: "رواه الدراقطني" قائلاً: لعله في الأفراد أو غيرها، فإنه ليس في السنن (ر. التلخيص: 3/ 93 ح 1252). (3) (ت 2): أصحابنا. فأما. (4) (ت 2): إمكان سن البلوغ. (5) (ت 2): والنظر. (6) في الأصل: بأنه المني المنفصل. وفي (ت 2): بأن مني المنفصل. والمثبت تصرّف من المحقق.

الغسلَ وبين الحكم بأن البلوغ لا يحصل به، فيه تناقض. فعلى هذا يُقطع بوجوب الغسل بخروج المني من المرأة التي لا نشك في بلوغها. وإذا رأت الصبيةُ ذلك في مظنة البلوغ، ففي وجوب الغسل ما ذَكرته. هذا ما رأيته. وظاهر كلام الأصحاب ثبوتُ الغسل وجهاً واحداً، والتردُّدُ في حصول البلوغ (1 من جهة ندور الشيء. وهذا غير سديد. وظاهر المذهب حصول البلوغ 1)، فقد اجتمع للمرأة أسبابٌ ثلاثة إلى أن يلحق بها بعد ذلك ما ينبغي، فالأسباب الثلاثة: السن، والحيض، وانفصال ماء الفطرة. 4072 - فأما الإنباتُ - يعني إنباتَ العانة - فإنه يعم الغلامَ والجارية، ولم يختلف الأصحاب في أنه تعلّقَ به الحكمُ بالبلوغ في حق أولاد الكفار، والشاهد له ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، لما حكم سعدٌ بقتل مقاتلتهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجالهم، فضربت أعناقهم، وكان يأمر بالكشف عن مؤتزر الغلام، فكل من أنبت منهم، كان يقدّم وتضربُ رقبته (2). 4073 - ثم الترتيب الجامع المرضي في ذلك، أن الأصحاب اختلفوا في أن الإنبات عينُ البلوغ، أو علامةُ البلوغ. هكذا قال الأصحاب. فإن جعلنا الإنبات عينَ البلوغ، وجب الحكمُ بالبلوغ عنده (3) في أولاد المسلمين، كما يجب ذلك في أولاد الكفار. وإن قلنا: إنه علامةُ البلوغ، ففي أولاد المسلمين وجهان: أحدهما - يحكم بالبلوغ فيهم قياساً على أولاد الكفار.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) متفق عليه دون قصة الإنبات، من حديث أبي سعيد (اللؤلؤ والمرجان ح 1155) وأما قصة الإنبات، فهي عند أصحاب السنن: رواها أبو داود: الحدود باب في الغلام يصيب الحد، ح 4404، والترمذي: السير باب ما جاء في النزول على الحكم، ح 1584، والنسائي: الطلاق، متى يقع طلاق الصبي، ح3430، وعنده أيضاًَ في كتاب قطع السارق، باب حد البلوغ، ح 4981، وابن ماجة: الحدود باب من لا يجب عليه الحد، ح 2541، 2542، وانظر التلخيص: 3/ 94 - ح 1253، 1254. (3) عنده: أي عند من يقول بأن الإنبات عين البلوغ.

والثاني - لا يُحكم؛ فإنا نطلع على تواريخ ولادة أولاد المسلمين؛ فلا نتعلق بالأمر الخفي، وقد لا نطلع على التواريخ في أولاد المشركين، فنكتفي بهذه العلامة. وهذا الذي ذكره الأصحاب فيه بعضُ النّظر، [فلا] (1) وجه عندنا للحكم بأن الإنبات عينُ البلوغ، ولا طريق إلا القطعُ بأنه علامةٌ. ثم ينتظم عليه مراد الأصحاب في القطع بأنه علامة في أولاد الكفار، والتردد في أولاد المسلمين. والمعنيُّ بالإنبات ظهورُ الشعر الخشن الذي يتميز عن الزغب. وحكى بعض الأثبات عن القاضي أنه نزَّل نبات اللحية، والشارب، والإبط، منزلة نبات العانة، وهذا حسن متّجه. وإنبات العانة يقع في مفتتح تحريك الطبيعة، في [تركب] (2) الشهوة. ونباتُ اللحية، والشاربِ والإبط لا يتراخى في الغالب عن البلوغ، فكان أولى بالدلالة على البلوغ من إنبات شعر العانة. فأمَّا انفراق الأرنبة (3)، ونتوء غضروفة الحلقوم، وثقل الصوت، ونهودُ الثدي، فشيء منها لا يكون علامةً في البلوغ. هذا منتهى ما أردناه في بلوغ الغلام والجارية، وما يختص به كل واحد منهما، وما يشتركان فيه. 4074 - فأمّا الخنثى، فالسن في حقه كالسن في حق الجنسين، وأمَّا انفصال ما هو على نعت المني، وخروجُ ما هو على صفة الحيض، فهل يتعلق البلوغ به؟ ذكر الشيخ أبو علي، والعراقيون طريقةً، نحن طاردوها، ثم ننبه على وجه التحقيق. قالوا: إذا انفصل [منه] (4) ما هو على صفة المني، فلا نحكم بالبلوغ، لجواز أن

_ (1) في الأصل: ولا. (2) في الأصل: تركيب. (3) (الأرنبة) بمعنى: طرف الأنف. (المصباح - المعجم) ولكن ما معنى انفراقها؟ وكيف يكون انفراقها عند البلوغ؟ (4) ساقطة من الأصل.

يعارضه خروجُ ما هو على صفة الحيض، وكذلك إذا سبق خروج المني (1) من فرج النساء، لم نحكم بالبلوغ لما ذكرناه من احتمال خروج الدم بعده. ولو خرج المني من الذكر، والدمُ من الفرج، ففي الحكم بالبلوغ وجهان: أحدهما - أنه يحكم به؛ فإنه إن (2) كان رجلاً، فقد أمنى، وإن كانت امرأةً، فقد حاضت. والوجه الثاني - أنه لا يُحكم بالبلوغ لتعارض الخارجَيْن، وليس أحدهما بأن يحال عليه البلوغ أولى من الثاني. قال الشيخ أبو علي: نصُّ الشافعي يدل على هذا الوجهِ الأخير، وهو أن البلوغ لا يحصل عند التعارض. 4075 - وهذا الذي ذكروه كلام مختلط، لا يستند إلى تحصيل. وقد ذكر الأصحابُ في الطرق في علامات الذكورة والأنوثة، أن الخنثى إن كان يبول بمبالِ الرجل، فهو رجل، وإن كان يبول بمبال النساء، فهو امرأة، وإن كان يبول بهما، فالأمر مشكل (3)، فيتعلق بخروج المني والحيض أوان البلوغ، فإن أمنى بفرج الرجال، فهو رجل، وإن حاض بفرج النساء، فهو امرأة، فإن كان خروج ما هو على نعت المني دالاًّ على الذكورة، فيجب القطع بكونه منيَّاً دالاًّ على البلوغ، وإن لم نحكم بالبلوغ، وجب ألا نحكم بالذكورة، وهذا لا شك فيه. والقول في الحيض إذا انفرد، ولم يعارضه المني كالقول في المني إذا لم [يعارضه] (4) الحيض. 4076 - وأنا أذكر مسلكين: أحدهما - الحق عندي. والثاني - يفيد تقريب كلام الأصحاب من وجهٍ، على بعده. فأمّا الحق الذي يجب اتباعُه، فهو أن نقول: المني إذا انفرد خروجه، كان بلوغاً. وكذلك القول في الحيض إذا انفرد. فإن قيل: إذا سبق المني، لم يبعد توقعُ الحيض بعده، فكيف يقع به الحكم بالبلوغ؟ قلنا: هذا

_ (1) (ت 2): الدم. (2) (ت 2): فإن كان. (3) (ت 2): ملتبس. (4) في الأصل: يعرض.

يتوجه في الحكم بالذكورة والأنوثة. وإن شبب مشبب بخلافٍ في الذكورة والأنوثة في الحيض والمني، أُلزم خروجَ البول من أحد المبالين؛ فإنه يبيّن الذكورة والأنوثة، وإن كنا لا نأمن خروجَه من المبال الثاني بعد خروجه من المبال الأوَّل. ثم لا خلاف أنا نعلق الحكم بالمبال إذاً سبق، فإن تأخّر عنه الخروج من المبال الثاني، نقضنا ما حكمنا به، فالوجه إذاً القطع بحصول الذكورة بالمني إذا انفرد، وحصول البلوغ. وكذلك القول في الحيض إذا انفرد. وإن خرج المني والحيض، فلا شك أنا لا نحكم بالذكورة والأنوثة، لتعارض الأمرين. وهل [يُحكم] (1) بالبلوغ؟ هذا محتمل جدّاً. يجوز أن يقال: يحصل البلوغ؛ فإنه إن التبس الذكورة والأنوثة، فقد حصلت العلامتان المعتبرتان في البلوغ، فإن كانت امرأة، فقد حاضت، وإن كان رجلاً، فقد أمنى. ويجوز أن يقال: لا يحصل البلوغ بناء على أن الخارجَيْن ليسا منياً ولا حيضاً؛ فإن تعارضهما قد [يثير] (2) هذا الإشكال، فإنَّ الجبلّة التي تنشىء المني، لا تنشىء الحيض من مغيضه، والطبيعة التي تنشىء الحيض لا (3) تنشىء المني، فلا يمتنع ألاّ نحكم على الواحد من الخارجَيْن تحقيقه، وبهذا نوجه نصّ الشافعي -إن كان له نص (4) - فهذه الطريقة التي أرتضيها. فأما تقريب قول الأصحاب، وحملُه على وجهٍ يقرب بعض القرب، فهو أن يقال: إن سبقَ المني، حكمنا حكماً ظاهراً بالبلوغ، وكذلك إن سبق الحيض؛ فإن سبق أحدُهما، ولحقه الثاني، فحُكْمنا بالبلوغ، ربطاً بالسابق منقوضٌ لا محالة. فهذا هو المعنيّ بقول الأصحاب: لا نحكم بالبلوغ. فإذا اعتقبا، فهل نحكم الآن، وقد نقضنا حكمنا الأول بالبلوغ؟ فعلى التردد. وهذا مع بذل الجهد فيه مُثبَّجٌ (5).

_ (1) في الأصل: يحتكم. (2) في الأصل: يكثر. (3) ساقطة من (ت 2). (4) في هامش (ت 2): حاشية: " نصَّ الشافعي رضي الله عنه في الأم أن الخنثى إذا حاض وأمنى، لا نحكم ببلوغه ". (5) مثبّج: معمَّى. (معجم).

فصل 4077 - قد ذكرنا ما يحصل البلوغ به، ونحن نذكر الآن الرشدَ ومعناه، ونقيضه، وهو السفه؛ فإن الربَّ تعالى علق زوال الحجر في حق الصبي بالبلوغ، وإيناس الرشد، فقال تعالى: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فنذكر معنى الرشد، فنقول: الرشيد هو الصالح في دينه، المصلح لمالهِ، فلو بلغ الصبي مبذراً، وهو الذي يصرف ماله في جهةٍ لا يستفيد به أجراً في الآجل، ولا حمداً ممّن يُعتبر حمدُه في العاجل. هذا معنى التبذير. 4078 - فإن بلغ الصبي فاسقاً، وكان يعدُّه أهل المعاملات مصلحاً لماله، مقتِّراً ضابطاً، فهو في معنى المبذر؛ والسَّبب فيه أن الفاسقَ قد يصرف أمواله إلى [اتخاذ] (1) الخمور، [وأجرة القَيْنات] (2) وأبناءُ جنسه يعدّونه مقتصداً في نوعه، وصرفُ المال إلى هذه الجهات تبذيرٌ في الشرع، وإفسادٌ للمال. 4079 - ولو كان يتعدى طوره (3) في اتخاذ الأطعمة الفائقة الكثيرة القيمة والمؤنة، وكان لا يليق ما يفعله بمنصبه ومرتبته في اليسار، فهذا منه تبذير. ويختلف ما أشرنا إليه باختلاف المنازل والرتب. 4080 - وذكر أئمتنا أنّ صرف المال في الخيرات وجهاً القربات ليس بتبذير. ومن رشيق كلام المتقدمين قول بعضهم: لا خير في السَّرف، ولا سرف في الخير. وكان شيخي يفصل ذلك تفصيلاً حسناً، ويقول: إذا بلغ الصبي، وكان يتشوف إلى صرف المال إلى الخيرات على سرفٍ، فهو تبذير منه، [وإن بلغ مصلحاً للمال مقتصداً، وزال الحجر، ثم طرأ السَّفه، فنذكر أنه يعود الحجرُ، فلو طرأ إفراطٌ في صرف المال إلى الخيرات، فلا نُعيد عليه الحجرَ بهذا. وعند ذلك يقع الفرق بين

_ (1) مزيدة من (ت 2). (2) ما بين المعقفين أثبتناه من (ت 2). مكان كلمة واحدة بالأصل تعذر قراءتها، صورتها هكذا: (واحساه). (3) في الأصل: في طوره.

السرف في النفقات، وبين السرف في الخيراتِ] (1) وهذا على حسنه ممَّا انفرد به. والأئمة لم يفرقوا بين حالة البلوغ، وبين ما يطرأ من ضراوةٍ بالخيرات، والمسألة في الإطلاق والتفصيل محتملة جدّاً. 4081 - وإذا بلغ الصبي سفيهاً، اطرد الحجر عليه، ووليّه بعد بلوغه سفيهاً مَنْ كان وليّه في صباه؛ فإن السَّفه اتصل بالصبا، فكان ذلك بمثابة تمادي الصّبا. 4082 - وإذا زال سفهُ السفيه وبان رشدُه، فالأصح أنه ينطلق الحجر عنه من غير حاجةٍ إلى رفع القاضي وإطلاقهِ؛ فإن استمرار الحجر لم يكن بضرب القاضي، [فلا] (2) يتوقف زواله على إطلاقه، وإزالته. ومن أصحابنا من قال: لا ينطلق الحجر عنه، وإن ظهر رشدُه، ما لم يتصل الأمر بنظر القاضي وإطلاقه؛ فإنَّ زوال السَّفه مجتهدٌ فيه، فيجب ربط رفع الحجر بمن إليه النّظر العام. وهذا بعيد جداً. 4083 - وممَّا يتصل بتمام القول في ذلك أن الصبيَّ لو بلغ، ولم يظهر منه ما يخالف الرشدَ، فالأصح أن الحجر يرتفع عنه، ولا حاجة إلى إطلاق القاضي. وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في هذا المقام أيضاًً في أن رفع الحجر يتصل بالحكم وإطلاق الحاكم. وهذا بعيد جدّاً، وهو أبعد ممَّا حكيناه فيه إذا بلغ سفيهاً، ثم زال السفه واستمر الرشد؛ فإنه قد يظن أن الحجر ثبت (3) بمجتهَدٍ فيه، وهو السفه، فيزيله المجتهد بنظره. وهذا يبعد كل البعد إذا لم يثبت سفَه متصل بزوال الصبا. 4084 - فلو بلغ الصبيُّ رشيداً، وثبت كونُه مطلَقاً، فعاد سفيهاً، فلا بد من الحجر. والمذهبُ الأصح أنه لا يعود بنفسه محجوراً عليه، بل يتوقف الحجر على ضرب القاضي؛ فإنه ثبت استقلالُه، وانقطاع الولاية عنه؛ فلا سبيل إلى عَوْد الحجر

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 2). (2) في الأصل: ولا. (3) (ت 2): يثبت.

بأمرٍ مجتهد فيه، من غير أن يصدرعن نظر المجتهد. ومن أصحابنا من قال: يعود محجوراً عليه، كما (1) عاد السفه، ولا حاجة إلى نظر القاضي، بل عَوْدُ السفه، وطريانُه بمثابة طريان الجنون. 4085 - ثم إذا كان الحجرُ يثبت بنفس السفه، أو بضرب القاضي، فلو طرأ الفسقُ مع استدامة الضبط في المال والضِّنةِ به، فهل يعاد الحجر عليه لمكان الفسق؟ المذهب أَنَّه لا يعاد؛ ولو حجر القضاةُ على الفسقة، لحُجر على معظم الخليقة. وكل ما يفعله الحُكّام نظراً، فهو محتوم. ونحن نعلم أن الأولين لم يَرَوْا الحجرَ على الفسقة، ولو رأَوْه، لأظهروه، ثم كان لا يخفى النقل فيه. فخرج ممَّا ذكرناه أن طريان الفسق مع التبذير يتضمن الحجرَ، وطريان التبذير مع الصَّلاح في الدين يوجب الحجرَ أيضاً. فأمّا الفسق المجرَّد، ففيه من الخلاف ما ذكرناه. 4086 - ولئن قال قائلون: طريان التبذير يوجب الحجرَ من غير ضربٍ من جهة القاضي، فلا ينبغي أن يُعتقدَ هذا الوجهُ في الفسق المجرّد مع الضِّنة بالمال، ويجب القطعُ بأن الحجر بالفسق المجرد -إن رأيناه - فلا مأخذ له إلا ضربُ القاضي واجتهادُه. 4087 - ثم إن زال السفه الطارىء وظهر الرشدُ، فإن قلنا: الحجر موقوف على ضربٍ، فالانطلاق (2) عنه موقوف على قضاء القاضي. وإن قلنا: نثُبت الحجرَ من غير ضرب من جهة القاضي، ففي زوال الحجر عند زوال السَّفه الطارىء وجهان، كما تقدّم ذكرهما في زوال السّفه الذي كان متصلاً بالصبا. 4088 - وتمام الغرض في ذلك أن الصبيّ إذا بلغ سفيهاً، وكان يليه في صباه أبوه، فوليّه في السفه وليُّه في الصبا بلا خلاف. وكذلك لو بلغ مجنوناً، واتصل الجنون بالبلوغ فيليه مجنوناً من كان يليه صبياً. ولو بلغ عاقلاً رشيداً، ثم طرأ الجنون، فلا شك في كون المجنون محجوراً عليه،

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) (ت 2): فانطلاق الحجر.

واختلف أصحابنا في أن وليه القاضي، أو الأب. فمن أصحابنا من قال: وليّه الأبُ، كما كان يليه من قبل، فليَلِيَه الآن. ومن أصحابنا من قال: يليه القاضي. ولو عاد التبذير، وقلنا: القاضي هو الضارب للحجر، فهو الولي، أو من ينصبه القاضي؟ وإن قلنا: يعود الحجر من غير ضربٍ للقاضي، ففي وليّه وجهان، مرتبان على الوجهين في الجنون الطارىء. وهذه الصورة أولى بأن يكون القاضي ولياً فيها؛ فإن التبذير وزواله مجتهَدٌ فيه بخلافِ الجنون. فرع: 4089 - إذا بلغ صبيٌّ في قُطرٍ شاغرٍ عن الولاة، وكان سفيهاً، ولم يكن له أبٌ ولا جدٌّ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه محجور عليه، لا ينفذ تصرفه على ما سنذكر تصرفَ المحجور عليه، ونصفه. وحكى الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً عن بعض الأصحاب أن تصرفه ينفذ إلا أن يلحقه نظرُ والٍ، فيضرب عليه حجراً حينئذ. والسفهُ المتصل عند هذا القائل بالبلوغ بمثابة السفه الطارىء على الرشد، وقد ذكرنا أن المذهب أن من طرأ عليه السفه لا يصير محجوراً عليه من غير ضرب القاضي ونظرِه. وهذا بعيدٌ. والوجه القطع بما قدمناه من اطراد الحجر عليه، ووقوعُه نبذةً (1) من نظر الولاةِ وهو سفيه، كوقوعه كذلك وهو صبي. فرع: 4090 - إذا كان البالغ رشيداً في الوجوه (2)، بَيْد أنه كان يغبن في بعض التصرفات على الخصوص، فهل للقاضي أن يضرب عليه حجراً خاصاً فيه؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن الحجر والإطلاق يبعد اجتماعهما في حق شخصٍ واحدٍ. والوجه الثاني - أنه يجوز ذلك اتباعاً للمعنى. قال الشافعي رضي الله عنه في توجيه جواز ذلك: قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) في الأصل: بدون نقط. ونبذةً: أي ناحية (المعجم) والمراد هنا ناحيةً بعيدة عن الحكام. وفي (ت 2): (بيده) وهو من تصحيفاتها العجيبة. (2) كذا في النسختين. ولعلها في "كل الوجوه".

لحَبّان، وكان يغبن في البياعات " إذا بعت، فقل لا خلابة " (1) يشبه أن يكون حجراً عليه، في إلزام البيع، وعقدِه من غير خيارٍ. وهذا قاله في سياق الاحتجاج على مالك (2)؛ إذ قال: الغبن يُثبت حقَّ الفسخ، فقال الشافعي: لو كان الأمر كذلك، لما أمر حَبَّانَ بشرط الخيار، ثم بنى عليه ما ذكرناه من تبعيض الحجر. فصل 4091 - قد ذكرنا فيما تقدم السفه ومعناه، وثبوتَ الحجر وارتفاعَه، والتفصيلَ في اقتران السَّفه بالبلوغ، وطريانه بعد الرشد. ومقصود هذا الفصل تفصيلُ ما يصح منه، وما لا يصح. قال الأئمة: يصح طلاقُه، وخلعُه وظهاره، وإقراره بالنسب استلحاقاً؛ فإن هذه الأشياء لا تدخل تحت الحجر، وليس المبذر كالصبي؛ فإن الصبي مسلوبُ العبارة بالكلية، ويصح أيضاً إقرارُه بما يوجب القصاصَ عليه. فإن قيل: لم صححتم الخلع منه وهو تصرف مالي؟ قلنا: إذا كان يصح منه الطلاق بلا عوض، فلأن يصح منه الطلاق (3) بعوض -وإن قلّ- أوْلى. وذهب الأكثرون إلى أنه يصح منه قبول الهبة، بخلاف الصبي؛ فإنه لا عبارة له، وسنذكر في وصيّة الصبي، وتدبيره عبدَه قولين في كتاب الوصايا. وفي المبذر في التدبير والوصية قولان، مرتبان على الصبي، وهما بالنفوذ أوْلى من المبذر؛ فإنه من أهل العبارة. وأمَّا بيعُه وشراؤُه ونكاحُه، فلا يصح شيء منها، إذا استقل واستبد بذاته. 4092 - ولو أذن له الولي في عقدٍ، وعيّنه له، فحاصل ما قاله الأصحاب أوجهٌ:

_ (1) سبق تخريجه في باب الخيار في البيع. (2) ر. البهجة في شرح التحفة: 2/ 106 - 108. (3) (ت 2): الخلع.

أحدها - أنها (1) تصح إذا صدرت عن إذن الولي؛ فإنّ عبارته صحيحة، والمحذور استقلاله. والوجه الثاني - أنها لا تصح؛ فإن عبارته مسلوبة في العقود الملزمة. والوجه الثالث - أن النكاح يصح بعبارته عند الإذن، بخلاف البيع والإجارة. وفي نكاح المحجور تفاصيلُ مشروحة في كتاب النكاح، فليطلب منه. فرع: 4093 - إذا اشترى المحجور شيئاًً في ذمته، من غير إذن الولي، فالذي قطع به الأصحاب أن شراءه فاسد، لمكان الحجر. وحكى بعض المصنفين وجهاًً في صحةِ شرائه، تخريجاً على الوجه الضعيف، الذي حكيناه في شراء العبد بغير إذن مولاه. وهذا ليس بشيء؛ فإن العبد من أهل النظر، إذا كان رشيداً، وإنما الحجر عليه بسبب المولى. فإذا كنا لا نعلِّق برقبة العبد وكسبه شيئاًً من عُهدة عقده، فلا يمتنع تصحيحُ عقده. والمبذر يُنظر له في الحجر، وحقه مرعيّ (2) في الحال والمآل. وقد نَسب (3 هذا الإنسان 3) هذا الوجه إلى الشيخ أبي حامد (4)، وقد تتبعت كتب العراقيين، وتعليق أبي حامدٍ، فلم أجد ذلك، فالتفريع إذاً على أنه إذا اشترى المحجورُ المبذّر شيئاًً، لم يصح. فلو أقبضه البائع ما باعه، فتلف في يده؛ لم يلزمه الضمان. والبائع هو الذي ضيّع حقَّ نفسه. 4094 - ثم قال الأئمة: لو صار السفيه رشيداً، وانطلق الحجر عنه، فلا يطالَب أيضاًً؛ والسبب فيه ما ذكرناه من أنّا رَاعَينا حقَّ المبذر. وحقُّه مرعيٌ في الحجر والإطلاق؛ وليس كالمفلس؛ فإنّا قد نردّ بعض تصرفاته في الحجر، ثم ننفذه إذا

_ (1) بتأنيث الضمير على معنى الصيغة أو العبارة. (2) (ت 2): يُرعى. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). وهذا الإنسان هو الذي عبر عنه (ببعض المصنفين) آنفاً. وقد تقدم أنه يقصد به (الفوراني)، فهو كثير الحط عليه، وتضعيفه في نقله. كما قرر ذلك ابن السبكي. (4) الشيخ أبو حامد الإسفراييني. شيخ العراقيين.

انطلق الحجر عنه، والسبب فيه أن المرعي حقوقُ الغرماء، والحجر مضروب بسببهم. وقد زالت حقوقهم. 4095 - وقال الأئمة: لو اشترى المبذر شيئاًً، وقبضه وأتلفه، كان كما لو تلف في يده، وإن كان لو أتلف مال أجنبي ابتداءً، تعلق الضّمان بماله، ولكن إذا ترتب الإتلاف على الشراء، فسببه تسليط البائع. قال صاحب التقريب: " هو غير مطالب ظاهراً، ولكن إذا انطلق الحجر عنه، فهل نقول: إنه وإن لم يطالب ظاهراً، فالضمان واجبٌ عليه بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين ". وهو عندي هفوة؛ فإنه لو ثبتت المطالبة باطناً، فلا مانع من توجيهها ظاهراً. والذي ذكره فيه إذا أتلف، وما أراه يطرُد ما حكاه فيه إذا تلفت العين في يده من غير إتلافٍ. والعلم عند الله. فرع: 4096 - إذا أقر المبذر أنه أتلف مالاً لأجنبي، ففي قبول إقراره قولان: أصحهما - الرد، كما لو أقر بدين مرسل، أو أقر بأن عيناً من أعيان أمواله مغصوبةٌ من فلان؛ فإن أقاريرَه مردودةٌ في هذه الجهات. والقول الثاني - أن إقراره مقبول؛ فإن الإتلاف يتصوّر منه، ولو جرى، لأوجب، وكل ما يتصور، فالإقرار به صحيح، ممّن تصح عبارته. والأصح الأول؛ فإن الإقرار تعبير (1) بإنشاء مسوّغٌ في الشرع، وإتلاف مال الغير غيرُ مسوَّغٍ. ثم كل إقرارٍ رَدَدْناه في حالة الحجر، فلا مؤاخذة به بعد الإطلاق، إلا أن يعيد بعده إقراراً جديداً. فرع: 4097 - ينبغي للولي أن يختبر الصبيَّ أوانَ البلوغ، ليعلم سفهَه ورشده، فإن كان على مرتبة السوقة والتجار، دفع إليه مالاً وأمره بالتصرف فيه بالبيع [والشراء] (2). وإن لم يكن من هؤلاء، وكان منصبه لا يقتضي البيعَ والشراء،

_ (1) في (ت 2) تعيين. (2) مزيدة من (ت 2).

فاختباره بأن يدفع إليه مالاً، ويأمره بإنفاقه على الخدم، ويعلم اقتصادَه وغباوتَه. والاختبار في كل جنسٍ على ما يليق بهم. ولا حاجة إلى التطويل بالتفصيل. 4098 - ثم قال الأصحاب: ينبغي أن يقع الاختبار قُبَيْل البلوغ، حتى إذا ظهر الرشد، وقع البدار إلى تسليم المال، فإن كان الاختبار بعقد بيعٍ، فالأصح أنه يأمر الصبيّ حتى يساوم، ويطلب، ويماكِس، فإذا حان العقد ورآه الوليُّ صواباً، تولى بنفسه العقدَ؛ فإنَّ عقدَ الصبي باطلٌ. وأبعد بعضُ أصحابنا، فصحّح عقدَ الاختبار من الطفل، وتعلق بظاهر قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] ولا متعلَّق فيها؛ فإن الابتلاء مجملٌ، لا تعرض فيه للعقد وأسبابه. فرع: 4099 - السفيه إذا أحرم بالحج، انعقد إحرامُه، فإن كان الحج تطوعاً، فلا يسلّم إليه الولي [مالاً] (1) يتبلغ به. واختلف أصحابنا بعد ذلك، فمنهم من قال: حكمه حكمُ المحصر الذي له أن يتحلل، وقد مضى القول في الحصر. ومنهم من قال: ليس كالمحصر، ولا سبيل إلى تحليله، وحكمه حكم معسر، يُحرم، وعدمُ النفقةِ لا يكون إحصَاراً. فرع: 4100 - إذا كان السفيه مِطلاقاً، والحاجة ماسة، فالوجه أن يشتري الولي له جاريةً، فإنَّ عتقه لا ينفذ فيها. ومهما تبرم بها، باعَها الولي، واشترى غيرها (2). * * *

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) إلى هنا انتهت نسخة الأصل (هـ 2) وجاء في خاتمتها ما نصه: "تمت المجلدة، ولله الحمد والمنة. ويتلوه في المجلد الآخر إن شاء الله كتاب الصلح. واتفق الفراغ منها في الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة خمسٍ وستين وخمسمائة، غفر الله للقارىء والكاتب، والمصنف ولجميع المسلمين، ورحم [ ..... ] آمين.

كتاب الصلح

كتاب الصلح 4101 - صدّر الشافعي رضي الله عنه الكتاب تيمناً بقول عمر رضي الله عنه؛ إذ قال: " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً " (2). فالمحلِّل للحرام هو الصلح المورَد على عوضٍ محرم، كالخمر والخنزير، والمغصوب، وغيرها. والصلح المحرِّم للحلال هو المشتمل على شرط يتضمن المنعَ من تصرفٍ مباح شرعاً، كشرط المنع من المبيع والهبة في العوض المذكور في الصلح. 4102 - والوجه أن يصدَّر الكتابُ بتقسيمٍ حاوٍ يجمع صحيح الصلح وفاسدَه، ومحلَّ الوفاق والخلاف جمعاً كلياً، فإن شذّ عن التقاسيم شيء، تداركناه بفرض المسائل، ورسم الفروع. والصلح في البحث الأوّلي ينقسم إلى ما يجري بين المدعي والمدعى عليه. وإلى ما يجري بين أجنبي وبين المدّعي. فأما الصلح الذي بين المدّعي والمدعى عليه قسمان (3): صلح مع الإقرار، وصلح مع الإنكار. فأما الصلح مع الإقرار، فإمَّا أن يكون عن عين، وإما أن يكون عن دينٍ. فأمَّا الصلح الواقع عن عينٍ، فينقسم إلى صلح معاوضة، وإلى صلح حطيطة.

_ (1) يبدأ من هنا اعتماد (ت 2) أصلاً، بل هي النسخة الوحيدة إلى آخر كتاب الحوالة. (2) ر. المختصر: 2/ 224. والحديث رواه البيهقي في السنن (6/ 65)، وفي المعرفة (4/ 467 رقم 3659) موقوفاً على عمر. وقد ورد مرفوعاً من حديث أبي هريرة، رواه أبو داود، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، (ر. أبو داود: الأقضية، باب في الصلح، ح 3594، ابن حبان: 5091، الحاكم: 2/ 50، التلخيص: 3/ 98 ح 1295) (3) كدأبه بإسقاط الفاء في جواب أما.

فأمّا صلح المعاوضة الذي يشتمل على عوض سوى العين المدعاة المعترف بها. وذلك إذا ادّعى رجل على رجل داراً أو عبداً أو ثوباًً، فاعترف به، وصدق المدعي، ثمِ قال للمدعي: صالحني عن هذه العين على هذا، وعين عوضاً، أو وصفه وصفاً يُقنعُ به في المعاوضات. فإذا أسعفه المدعي، وقال: صالحتك من (1) ثوبي الذي في يدك على كذا، فقال المدعى عليه: قبلتُ، صحت المعاملة. وهي بيعٌ على الحقيقة، معقودة بلفظ الصلح. وإذا قال الفقيه: حكمه حكم البيع، كانت عبارته مختلّة؛ فإنه بيعٌ بنفسه، ويتعلق به جميعُ أحكام البيع وقضايا الربا، إن اشتمل على الربويات. والعُهَدُ المألوفة في البيع، وأحكام الضّمان، والردود، ولا مزيد؛ فقد قطعنا بأنه بيع. قال صاحبُ التلخيص: الصلح في المقام الذي نحن فيه بيع عُقد بلفظ الصلح. 4103 - ويجوز عقد الصلح بلفظ البيع إلا في شيء واحد، وهو الصلح عن الجنايات؛ فإن الصلح جائز عن الإبل، وإن لم تكن على الصفات الضابطة في السلم، ولو فرض عقد تلك المعاملة بلفظ البيع، لم يصح. 4104 - قال الشيخ أبو علي (2): هذا الذي ذكره غير صحيح. والتفصيل فيه أن الأرش إن كان مجهولاً، كالحكومة التي لم تقدَّر، فلا يصح الصلح عنه، ولا يجوز تقدير بيعه، وإن كان الأرش معلوماً على التحقيق، كما إذا كان دراهم أو دنانير، صحَّ الصلح عنه، ويصح التصرف فيه بلفظ البيع. وإن كان الأرش مقدراً، ولكن كان من الإبل، والأوصافُ المرعية في الديات لا يقع الاكتفاء بها في السلم، ففي جواز الصلح عنها وجهان، اختار صاحبُ التلخيص أحدهما. فإن نحن صحَّحْنا الصلحَ، لم يمتنع تصحيح المعاملة بلفظ البيع أيضاًً، وإذا لم نصحح الصلح، فلا شك في امتناع البيع أيضاًً. ثم قال الشيخ: إذا قلنا: موجب العمدِ القودُ المحض، فالصلح من (3) القصاص جائز، ولا يجوز استعمال لفظ البيع فيه.

_ (1) كذا، وهي صحيحة. فـ (من) تأتي مرادفة لـ (عن). (2) أي في شرح التلخيص، راداً على صاحبه. (3) سبقت الإشارة أن (من) تأتي مرادفة لـ (عَن).

ثم هذا القسم الذي نحن فيه من الصلح يجوز أن يكون [العِوضُ] (1) فيه عيناً، ويجوز أن يكون ديناً إذا لم يكن الذي عنه الصلح مالَ رباً يقتضي العقد عليه التقابضَ في المجلس. ولا معنى للإطناب بعد البيان. هذا صلح المعاوضة. 4105 - فأما صلح الحطيطة في هذا القسم، [فتصويره] (2) أن يدعي رجلٌ على رجلٍ عيناً من الأعيان، فيعترف المدعى عليه بالملك للمدّعي، ثم يقول: صالحني منهُ على نصفه. فإذا قال: صالحتك، كان تقدير هذا راجعاً إلى هبة بعض العين من المدعى عليه، فإذا جرت المعاملة كذلك، فقال المدعي: صالحتك من ثوبي هذا على نصفه، وقال المدعى عليه: قبلت. ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص: أحدهما -وهو الظاهر الذي قطع به مَنْ سِواه - أن ذلك يصح، ويتضمن هبةَ النصف من المدعى عليه، ويثبت له أحكام الهبات في جملة المعاني، والقضايا. والوجه الثاني - أن هذا باطل؛ فإن الصلح متضمنه المعاوضة، وبيع الرجل ملكه من عينٍ بنصف العين باطلٌ متناقض. والقائل الأوَّل يقول: الصلح عبارة صالحة للمعاوضة في أوانها، وهو مشعر بالهبة في هذا المقام. والدليل عليه أَنَّ إطلاق هذا اللفظ شَائعٌ في الاستعمالِ، ولا معنى له إلا ما ذكرناه. والمطلوب من الألفاظ معانيها، وما يفهم من وضعها. هذا كله فيه إذا كان الصلح دائراً بين المدعي والمدّعى عليه من عينٍ. 4106 - فأمَّا إذا كان الصلح عن دين، فتصويره أن يدعي رجل على رجلٍ ديناً، فيعترف به، ثم يقع الصّلح فيه. والصلح في هذا القسم ينقسم إلى صلح معاوضة، وإلى صلح حطيطة: فأمَّا صلح المعاوضة، فهو أن يذكر أعواضاً [عن] (3) الدين المعترف به. ثم إن كان ذلك

_ (1) في الأصل: "العَرْضُ". وهو تصحيف ظاهر، والمثبت تصرّفٌ منا. (2) في الأصل: وتصويره. (3) في الأصل: "غير"، والمثبت من تصرف المحقق.

العوض عيناً، وسُلّمت العين في مجلس المعاوضة، صح الصلح على شرط الشرع، ومتضمن الصلح مقابلة عينٍ بدين. وإن لم يتفق تسليمُ العين في مجلس الصلح، فهل يبطل الصلح [بالتفرق] (1)؟ فعلى وجهين مشهورين: أقيسهما أنه لا يبطل؛ لأنه لم يَجُرّ ما يتضمن الإقباض من أصل الربا. وليس الصلح الموصوف بيعَ دين بدين، حتى يدخل تحت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " بيع الكالىء بالكالىء ". والوجه الثاني - أن الصلح يفسد بالتفرق قبل إقباض العين المجعولة عوضاً؛ [وكان] (2) ذلك نوعاً من الإنساء المضاهي للدينية. وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فالأصح الأول. ولو كان العوض المذكور عن الدين المعترف به ديناً، ثم فرضت المفارقة قبل الإقباض، فلا شك في بطلان الصلح؛ فإنه اشتمل على مقابلةِ الدين بالدين، وهو المنهي عنه نصّاً. ولو ذكر العِوض موصوفاً ديناً، ثم أُحضر في المجلس وسُلّم، جاز؛ فإن هذا لا يمتنع في عقد الصرف، فكيف يمتنع في غيره. هذا كله في صلح المعاوضة عن الدينِ. 4107 - فأمّا صلح الحطيطة في الدين، فصورته أن يقول المدّعى عليه المعترف بالألف للمدّعي: صالحني عن الألف الذي لك على خمسمائة، فإذا قال: صالحتك، وقبل المستدعي، أو جعلنا الاستدعاء كافياً، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أن ذلك يصحُّ، ومتضمنه الإبراء عن خمسمائة. والوجه الثاني - حكاه الشيخ أبو علي أن ذلك باطل، والألف باقٍ بكماله؛ فإن صيغة اللفظ المعاوضة، وهي مناقضة لمعنى الإبراء. 4108 - فإن فرعنا على الأصح، وهو أن ذلك إبراء، فلو ابتدأ المدعي، وقال: صالحتك من الألف على خمسمائة، فهل يكفي ذلك في حصول البراءة؟ أم لا بدّ من

_ (1) في الأصل: "بالإقرار". والمثبت من عمل المحقق. (2) في الأصل: "كان". [بدون واو].

القبول يقدّم عليه. إن الإبراء إذا استعمل لفظه، نفذ، ولا حاجة إلى قبول المبرأ عنه، على الأصح. وفي المسألة وجه بعيد أنه لا بدّ من القبول. فإن فرعنا على الأصحّ وهو أنه لا حاجة إلى القبول إذا استعمل لفظ الإبراء، فهل يشترط القبول إذا كان المستعمل لفظ الصلح؟ فعلى وجهين. وهذا يناظر ما لو قال مستحق الدين لمن عليه دين: وهبت مالي من الدين منك، فهذا إذا نفذ، معناهُ الإبراء. وفي اشتراط لفظ القبول وجهان: أحدهما - لا يشترط كلفظ الإبراء0 والثاني - يشترط؛ لأن اللفظ معناه التمليك، فيستدعي في وضعه القبول. 4109 - وإذا كان المدعَى المعترف به عيناً، وفرضنا صلح الحطيطة فيه، بأن يقول المدّعي: صالحتك من ثوبي هذا على نصفه، فإذا صححنا ذلك على معنى الهبة، فلا شك في اشتراط القبول؛ فإن الهبة في معناها تفتقر إلى القبول، بخلاف الإبراء. وهذا واضح. 4110 - ولو كان الصلح عن دين وهو ألف مثلاً، فأحضر المدعى عليه خمسمائة، فقال المدعي: صالحتك من الألف على هذه الخمسمائة. والتفريع على أنه لو قال: صالحتك عن الألف على خمسمائة من غير تعيين، كان إبراءً عن الخمسمائة، فعلى هذا إذا أشار إلى الخمسمائة المعينة، وقال: صالحتك من الألف الذي لي عليك على هذه الخمسمائة، فالأصح أن هذه المعاملة فاسدة؛ والألفُ باقٍ؛ فإن اللفظ الذي جاء به مع التعيين صريح في عرض المعاوضة، وبيعُ الألف بخمسمائة باطل. وقيل: يجوز. والمقصود الإبراء عن خمسمائة، ثم تيك الخمسمائة المعينة لا تتعين عند هذا الإنسان إلا باتفاق تسليمها إليه؛ إذ لو تعينت، لكان عوضاً. ولا خلاف أنه لو قال: بعتك الألفَ الذي لي عليك بهذه الخمسمائة، فالبيع باطل، والألف باقٍ بكماله. وكل ما ذكرناه فيه في الصلح الواقع من المدير والمدعى عليه، مع الإقرار.

4111 - وأمَّا الصلح بينهما مع [إنكار] (1) المدّعى عليه، فلا يخلو إما أن يكون على عوضٍ غير المدعى، وإما أن يكون على بعض المدعى. فإن كان الصلح بشيء غيرِ المدعى مع الإصرار على الإنكار، فالصلح باطل عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2). ولا بد من تصوير محل الخلاف، والتنبيه على تمام البيان. فإن قال المدعى عليه، والمدعَى ثوب، أو ألفُ درهم للمدعي: صالحني عن دعواك بكذا من الدراهم، أو بهذا الثوب، فهذا هو الصلح على الإنكار في حقيقته. وهو باطل عندنا. ولو قال المدعى عليه بعد الإنكار: صالحني بكذا، أو بهذا، فقال المدعي: صالحتك، فهو باطل، وهو من صور الصلح على الإنكار. ولو قال المدعى عليه بعد الإنكار السابق: (3) صالحني عن هذه الدار على كذا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا صلح على الإنكار، وهو باطل. والثاني - أنّه إذا أضاف الصلح إلى العين المدعاة، كان ذلك إقراراً منه بالملك فيها للمدّعي؛ فإن الصلح -حيث يصح - كالبيع، وإضافة البيع إلى تلك العين إقرار بها، فليكن إضافة الصلح إليها بهذه المثابة. والقائل الأول يقول: البيع صريح في اقتضاء إثبات الملك لمن هو في منزلة البائع، ولفظ الصلح قد يستعمل في اللَّبس والاختلاط، ومحاولة الخلاص. وما ذكرناه فيه إذا جرى الصلح مع الإنكار على غير العين المدعاة. 4112 - وأمَّا إذا جرى الصلح على بعض المدعى، مع تصوير الإمكان، فلا يخلو المدعَى إمّا أن يكون عيناً، وإما أن يكون ديناً، فإن كان عيناً، [كأن] (4) كان المدعى

_ (1) في الأصل: الإنكار. (2) ر. مختصر الطحاوي: 98، اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: 43، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 195 مسألة: 1887. (3) في الأصل خللٌ في هذه العبارة، بإقحام بعض الألفاظ. هكذا: .. بعد الانكار السابق، ولو قال صالحني عن هذه الدار .. (راجع المسألة في الروضة: 4/ 198). (4) في الأصل: بأن.

ثوباً، فأنكر، ثم قال: صالحني على نصفه، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - لا يجوز ذلك ويلغو (1)، والصلح صلحُ إنكار، فيُقضَى بفساده. والوجه الثاني - يجوز، ويجعل كأنه وهب منه نصف المدّعى. وفي الحقيقة إذا صالحه على النصف وسلمه إليه، فقد اتفقا على استحقاقه فيه، غير أنهما اختلفا في جهة الاستحقاق: فالمدعي يزعم أنه يستحقه بحكم الملك، والمدعى عليه يقول: بل بحكم الهبة. 4113 - ولو كان المدعى ديناً، فأنكره المدعى عليه، ثم صالحه المدعي على خمسمائةٍ (2)، نُظر: فإن صالح على خمسمائة في الذمة، لم يجز الصلح. وإن وقع تعيينُ الخمسمائة وإقباضُها؛ فإن المدعى عليه يزعم أنه وَهَب من (3) المدعي خمسمائةٍ، وإيراد الهبة على الذمة باطل. ولو قال رجل لآخر وهبتُ منك ألف درهم، ثم حصله وأقبضه إياه، لم يصح ذلك. ولو أحضر المدعى عليه خمسمائة، فقال المدعي: صالحتك على هذه الخمسمائة، فهذا يترتب على ما قدمناه فيه إذا كان المدعى عيناً، فإن حكمنا ببطلان الصلح في العين، فلأن يبطل الصلح في الصورة التي انتهينا إليها أولى، وإن حكمنا بأن الصلح من العين على بعضها صحيح محمول على الهبة، فإذا جرى الصلح من ألف على خمسمائةٍ معينة، ففي هذا الصلح وجهان: أحدهما - أنه يصح، وهو محمول على هبة الخمسمائة الحاضرة، وما ذكرناه في تقدير هبة بعض العين إذا كان المدّعى عيناً والصلح على بعضها. ومنهم من قال: لا يصح. والفرق أن الصلح من العين على بعضها ليس في معناه شَوْبُ معاوضة، والصلح من ألف في الذمة على خمسمائةٍ حاضرةٍ منقودةٍ فيه معنى المعاوضة، فكان حريّاً بالبطلان، مع قيام الإنكار، ومقابلة الألف بالخمسمائة.

_ (1) أي يقع الكلام لغواً، لا أثر له. (2) أي والمدعى ألف، كما هو مفهوم من السياق، والأمثلة قبلُ. (3) أي وهب له، كما هو معروف من لغة الفقهاء.

وكل ما ذكرناه في جريان الصلح بين المدعي والمدعى عليه مع الإقرار والإنكار. 4114 - فأما إذا جرى الصلح بين المدّعي والأجنبي، لا يخلو (1) إمّا أن يكون مع إقرار المدعى عليه، وإمّا أن يكون مع إنكاره. فإن كان مع إقراره، لم يخل إما أن يكون المدعى ديناً، أو عيناً. فإن كان عيناً [كأن] (2) ادّعى عليه ثوباًً، فأقر به، فتقدم أجنبي إلى المدعي ليصالح، ففي ذلك مسائل: إحداها - أن يقول: وكلني المدعى عليه لأصالحك عنه له على كذا، فيجوز هذا، والأجنبي وكيل بالشراء. والمسألة الثانية: أن يقول: أصالحك عنه لنفسي على كذا، فأجابه المدّعي، والأجنبي [كأنه] (3) يقصد [الشراء] (4) لنفسه. قال الأصحاب: ذلك صحيح، وقد اشترى عيناً من مالكها. وكان شيخي يتردَّد في ذلك تردُّداً يؤول إلى اللفظ. ويقول: أولاً في غير صور المنازعة والدعوى، إذا تقدّم رجل إلى مالك عينٍ، وقال: صالحني عن ثوبك هذا بدينارٍ، فقال: صالحتك. فهل يكونُ ذلك شراءً صحيحاً؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح. والثاني - لا ينعقد البيع، فإنّ الصلح من غير تقدم منازعةٍ غيرُ مستعمل. ولو تقدمت دعوى في مفصل خصومة ترتب عليها إقرارٌ، فقال المدعى عليه: صالحني على كذا، صح، ولو قال أجنبي للمدعي: صالحني على كذا، وقصد أن يملك لنفسه، وقد ثبت ملك المدعي بإقرار المدَّعى عليه، ففي صحة ذلك وجهان مرتبان على ما لو جرى الصلح من غير نزاع أصلاً، وهذه الصورة أولى بالصحّة؛ فإن لفظ الصلح ترتب على صورة دعوى وجواب، وإن لم تتعلق الدعوى بالأجنبي (5) المصالح.

_ (1) لا يخلو: بدون الفاء في جواب (أما) كدأب إمامنا. (2) في الأصل: كأنه. (3) في الأصل: كان. (4) مزيدة لرعاية السياق. (5) إلى هنا كلام الشيخ أبي محمد. وانظر: الشرح الكبير: 10/ 204 بهامش المجموع.

4115 - ولو تقدم الأجنبي إلى المدعي، وقال: أصالحك عن العين المدَّعى عليه بكذا، وما كان وكله المدعى عليه (1) المقر، فأجابه المدّعي، فلا يقع الملك للمدّعى عليه المقر، تفريعاً على المذهب الظّاهر في منع وقف العقود، كما فصلناه في كتاب البيع. وإذا لم يقع الملك للمقر المدّعَى عليه، فهل يقع (2) [للأجنبي؟ في وقوعه وجهان يجريان في كل من اشترى لغيره شيئاًً من غير توكيل، فلا يقع لغيره، وفي وقوعه للعاقد وجهان، هذا إذا صرح بالإضافة، فإن أضمرها، فلا خلاف في الوقوع للعاقد، ولو قبل النكاح لمن لم يوكله، لم يقع لواحد منهما اتفاقاً. أما إذا قال: وكلني لأصالح له بثوبي أو عبدي، ففي وقوعه عن الموكل وجهان يجريان في التوكيل كذلك، من غير نزاع، فإن لم نوقعه للموكل، ففي وقوعه للوكيل الوجهان، وإن أوقعناه للموكل فنقول:] (3) هل الثوبُ موهوبٌ أو مقرض؟ فعلى الوجهين السابقين. والثاني - لا يقع للمدَّعى عليه، فعلى هذا لا يقع للأجنبي المُصالح أيضاًً، تفريعاً على بُطلان شراء الدين في ذمة الغير. وهذا بخلافِ العين؛ فإن شراء العين جائز. هذا منتهى الكلام في صلح الأجنبي، مع إقرار المدعى عليه، عيناً كان المدعى، أو ديناً. 4116 - فأما الصلح من الأجنبي مع إنكار المدعى عليه، فينقسم إلى العين والدين، فإن كان في العين [كأن] (4) ادّعى عليه ثوباًً، وأنكر، فجاء أجنبي ليصالح، ففي ذلك مسائل: إحداها - أن يقول: أقر المدّعى عليه عندي، ووكلني لأصالحك عنه على مالٍ، فهذا جائز، لا امتناع فيه بوجهٍ.

_ (1) وهذا ما يسمى شراء الفضولي. (الروضة: 4/ 200). (2) هنا خرم مقداره ورقة (لقطة) كاملة يمين وشمال، لم تصوّر من الأصل، وهي ظهر الورقة 182، ووجه الورقة 183. وللأسف العمل هنا عن نسخة وحيدة، لا مجال لتدارك خرومها. والله المستعان. (هذا، وقد سعينا كلَّ السعي لدى الخزانة التي تملك أصل المخطوطة، لتصوير هذه الورقة، فجاءنا الردّ: إنها ساقطة من الأصل). وسنحاول أن نسدّ هذا الخرم من مختصر النهاية للعز بن عبد السلام. (3) انتهى المنقول من مختصر النهاية. (4) في الأصل: كأنه.

وفي المسألة غائلة، لا بد من التنبيه لها، وهي أنا لو سمعنا المدعى عليه يُعيد الإنكار بعد ما ادّعى الأجنبي أنه وكيله، فعادة الإنكار منه عزلٌ له، فتنقطع الوكالة، ولو لم يُعِدْ إنكاراً بعد الإنكار الأول، فالأمرُ على ما ذكرناه حينئذ. 4117 - ومن مسائل هذا القسم أن يقول الأجنبي: قد أقر المدّعى عليه عندي بعد إنكاره، وأنا أصالحك عنه لنفسي على كذا، فقد قال طوائف من أصحابنا: يصحّ هذا العقد. فإنَّا نبني صحة العقد على الصيغة الدائرة بين المتعاقدين، وهما متقارّان، وصورة العقد مبنيّة على التقارِّ. وهؤلاء يشترطون لا محالة أن يكون المشتري قادراً على انتزاع تلك العين من يد المدعى عليه. ولو قال الأجنبي: أنا قادر على الانتزاع من يده، بُني العقدُ على حكم قوله في الظاهر، وحُكم بصحته. وكان شيخي أبو محمّد يطلق القول بأن الصلح في هذه الصورة لا يصح على هذا الوجه؛ فإن ظاهر الشرع قاضٍ بثبوت الملك للمدعى عليه، وابتياعُ ملكه المحكومُ به من غير إذنه لا يصح. [والوجه التفصيلُ عندنا، بأن] (1) يقال: إن كان الأجنبي صادقاً بينه وبين الله تعالى، حُكم بصحة العقد باطناً قطعاً. ولكن. لو قيل: يُحكم (2) بصحة العقد ظاهراً، على معنى أن تزال يدُ المدعى عليه، من غير ثَبتٍ، فهذا لا وجه له، ولا سبيل إليه. وإن قيل: هل يطالِب المدّعي الأجنبيَّ المصالحَ بالثمن الذي التزمه بناء على قوله والتزامه؟ فالوجه القطع بأنه يطالبه، ويؤاخذه بحكم قوله. وإن كان المدّعي كاذباً في علم الله تعالى، فالعقد باطل باطناً، وفي مؤاخذة الأجنبي بالظاهر بناء على قوله والتزامه - الذي ذكرناه (3). وما ذكرهُ شيخي له اتجاهٌ؛ فإن انتزاع تلك العين من يَدِ المدّعى عليه ممنوع شرعاً،

_ (1) في الأصل: والوجه في التفصيل عندنا أن. (2) في الأصل: هل يحكم. (3) أي الوجهان. كما صرح بنقله الرافعي، في الشرح الكبير: 10/ 305 بهامش المجموع.

لا يعارضه إقرار الأجنبي بالاقتدار على (1) الانتزاع. هذا منتهى الكلام. والوجه مَا ذكرناه من التعرض للظاهر والباطن. 4118 - ومن المسائل أن يقول الأجنبي: لم يُقرّ المدعى عليه عندي، لكني أعلم أنك محق، فأصالحك لنفسي، فهذا [بزعم] (2) هذا الأجنبي شراء المغصوب، والتفصيل فيه كالتفصيل، في المسألة المقدمة (3). 4119 - ومن المسائل أن يقول: لم يقر المدعى عليه، لكني أعلم أنك محق، فأصالحك للمدعى عليه لقطع الخصومة، وتخليص العين للمدّعى عليه، ففي المسألة وجهان مشهوران: أظهرهما - أن ذلك ممتنع؛ فإنه موقعٌ الصلحَ لمنكرٍ، والمدّعى عين من الأعيان. والثاني - يصح العقد؛ لأن الأجنبي والمدعي متقاران بينهما (4)، وهو يبغي تنزيه العين عن دعوى المدعي، فكان كما لو سعى في تبرئة ذمته عن دين، وهذا رديء جدّاً، ولكنه مشهورٌ في الحكاية. 4120 - ومن المسائل أن يقول: أقر عندي وأنا الآن أصالحك له، وما وكلني، فلا يقع للمدعى عليه بلا خلاف؛ فإنه يزعم أنه أقر باطناً، فليس متمادياً على إنكاره، فلا بد من التوكيل من جهته، ولكن إذا لم يقع عن المدّعى عليه، فهل يقع عن الأجنبي فعلى الوجهين المذكورين في نظائر هذا. ولو قال الأجنبي (5): أعلمك مبطلاً، ولكني أصالح لقطع الخصومة، فهذا

_ (1) بمعنى أن كون الانتزاع ممنوع منه شرعاً، يجعله كالعجز عنه حسّاً. (2) في الأصل: (برغم) ومعنى العبارة: " فهذه الصورة حكمها حكمُ شراء العين المغصوبة، إذا اشتراها غير الغاصب " وانظر الشرح الكبير للرافعي: 10/ 305 بهامش المجموع. (3) أي في قضية القدرة على الانتزاع. (4) "والاعتبار في شرائط العقد بمن يباشر العقد". قاله الرافعي (ر. الشرح الكبير - بهامش المجموع-:10/ 305). (5) أي للمدّعي.

باطل؛ فإن الصلح على هذه الصيغة مع المدعى عليه لا يصح؛ لأنه على الإنكار، [فكذلك] (1) لا يصح مع الأجنبي. وكل ما ذكرناه والمدّعى عين. 4121 - فأمَّا إذا كان المدعى ديناً، وقد أنكره المدعى عليه، فجاء أجنبي ليصالح، نُظر: فإن قال: أقر عندي، ووكلني لأصالح له، فجائز على نحو ما ذكرناه في العين، وقد تقدم. وإن قال: أصالح لنفسي، فهو شراء الدين، وتفريعنا على الحكم ببطلانه. وإن قال الأجنبي: أعلمك مبطلاً ولكني أصالحك لقطع الخصومة، فهذا باطل، وهو صلح على الإنكار. وإن قال: لم يقر، وأعلمك محقاً، ولكني أصالح للمدعى عليه، فالأظهرُ أنه جائز؛ لأنه قضاء دين الغير دون إذنه، وقضاء الدين لا يقف على إذن المقضي عنه، بخلاف العين؛ لأن تملك العين بغير إذنه وقبوله غيرُ متجه، وقيل: لا يصح هذا في الدين، وهو بعيد. 4122 - وفي هذا الفصل مزيد تفصيل يستدعي تقديم مقدّمةٍ، هي مقصودة في نفسها: وهي أن من عليه الدين إذا قال لإنسانٍ: أدِّ ديني، فإن أدى المأمور جنسَ الدين، جاز. وإن أدى [عِوضاً] (2)، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه يجوز كما لو أعطى جنس الحق. والثاني - لا يجوز؛ لأنه يعطيه على سبيل العوض، ومبنى ما يعطيه المرء عوضاً أن يقابله [تملك] (3) شيء من جهة باذل العوض، وليس الأمر كذلك. ولو ضمن رجل مالاً، فأعطى عوضاً إلى المضمون له، وقع الموقع وجهاًً واحداً؛ لأن الضّامن من التزم المال بالضمان، فصار أصلاً في الالتزام، فما يعطيه يعطيه

_ (1) في الأصل: وكذلك. (2) في الأصل: عَرْضاً. (3) في الأصل: مملك.

فيما عليه، ويُسلّم له في مقابلة براءته. فإن قلنا: بظاهر المذهب في جواز بذل العوض، أو وضعنا الكلام في الضّامن الذي يملك الرجوع على المضمون عنه، والتصوير في المأمور بأداء الدين فيه إذا كان يملك الرجوع، وإن كان العوض المبذول قيمته مثل الدين، رجع به. وإن كان أكثر من الدين، لم يرجع بالزائد. وإن كان أقلَّ من الدين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يرجعُ بقدر قيمته اعتباراً بما غرم. والثاني - بقدر الدين؛ اعتباراً بما سقط، وسنقرر هذا الأصل في كتاب الضمان إن شاء الله تعالى. 4123 - فإذا ثبتت هذه المقدمة، فإذا جاء الأجنبي في صورة الصلح، وقال للمدعي: أعلمك محقاً، وأريد أن أصالح المدعى عليه، وما أقر عندي، وما وكلني، فإن بذل الأجنبي جنس الدين، فالظاهر الصحة، وفيه الوجه الضعيف. وإن بذل عوضاً، [والتفريع] (1) على أن بذل جنس الدين صحيح، ففي بذل العوض وصحته من الخلاف ما ذكرناه فيه إذا قال من عليهِ الدين: " أدّ ديني "، فبذل المأمور عوضاً. فصل يحوي مسائل من الصُّلح مع الإقرار، والمدَّعَى المَقَرُّ به دينٌ 4124 - فلو استحق الرجل ألف درهم مؤجّلاً، وصالح على ألف حالٍّ، فهذا إسقاط الأجل عن الدين. ولا يسقط الأجل عن الدين. نعم، لو عجَّل من عليه الدينُ المُؤجَّلُ الدينَ، وقبله مستحق الدين، وقع الموقع. وإنّما الذي ذكرناه في أن هذا الصلح لفظٌ لا يوجب سقوط الأجل. ولو كان الألفُ حالاًّ، فقال صالحتُ على ألفٍ مؤجَّل، فهذا ليس بشيء، وهو على الحقيقة إلحاق الأجل بالدين، والأجل لا يلتحق بالدين.

_ (1) في الأصل: فالتفريع.

فلو صالح من ألفٍ مؤجَّل على خمسمائة حالّ، لم يجز، لأنه طلب الحلول، ورأى المقدار الذي ذكره حالاًّ أولى عنده من الألف المؤجّل، فكان ذلك على حقيقة المعاوضة. ومقابلةُ الألف بالخمسمائة باطل. ولو قال: صالحت من ألفٍ حالٍّ على خمسمائة مؤجلة، فمعنى الكلام الإبراء عن خمسمائة، وإلحاق الأجل بالخمسمائة الباقية. وليس في هذا الكلام معنى المعاوضة، وطلب مقصود يُطلب بالمعاوضة، فالوجْه أن نقول: الإبراء صحيح عن خمسمائةٍ، وخمسمائة ثابتةٌ على حلولها، وذِكْره الأجلَ وعدٌ بالتأخير، فلا يلزمه الوفاء بهِ. 4125 - ولو صالحهُ من ألف صحاحٍ على ألفٍ مُكسّرة، فهذا وعد جميل، من جهة صاحب الحق، لا يجبُ الوفاء به. نعم، لو قبض المكسر مسامحاً، وقع الموقع. ولو صالح من ألف مُكسَّرٍ على خمسمائة صحاحٍ، لم يصح الإبراء عن شيء؛ فإن ذلك صيغة المعاوضة؛ إذ الصحة صفة مقصودة في الخمسمائة، فكأنه قابل الألفَ المكسّرَ بالخمسمائة الصحاح، فيبطل العقد لا محالة. ولو صالح من ألفٍ صحاح على خمسمائة مكسرة، فليس في هذا ثبوت المعاوضة، فالوجه تصحيح الإبراء في الخمسمائة، والخمسمائة الباقية على صحتها، وذكر المكسرة وعد جميل منه. ولو استحق على رجلٍ ألفَ درهم وخمسين ديناراً، فصالحه منها على ألفي درهم، فقد قال معظم الأصحاب: يجوز، ونجعله في أحد الألفين مستوفياً الألف الذي له، والثاني في مقابلة الدنانير، وهذا متجه حسن. قال القاضي: الصحيح عندي فساد هذه المعاملة، وحمل الأمر على بيع ألف درهم وخمسين ديناراً، بألفي درهم. والأوجهُ عندي ما ذكر الأصحاب؛ فإن الألف في مقابلة الألف استيفاءً، ولا يجوز تقدير البيع فيه، ولو قال مستحق الألف: بعتك الألف الذي عليك بهذا

الألف الحاضر، فالذي جاء به لي بيعاً، وإنما هو استيفاء. وإذا اتضح ذلك، فالوجه حمل أحد الألفين على استيفاء الألف الذي كان ديناً، فتتجرد المعاوضة في الألف الأخير والدنانير، وذاك لا امتناع فيه. فصل يحوي مسائل مقصودة في المذهب أَلزمَها أصحابُ أبي حنيفة في تصحيح صلح الإنكار منها: 4126 - أن الرجل إذا طلق إحدى امرأتيه لا بعينها، ومات قبل التعيين، نوقف بينهما ميراثَ زوجة، فإن اصطلحتا على اقتسام الموقوف نصفين، أو على نسبةٍ، فقد أجاز الأصحابُ ذلك، فاستمسك أصحابُ أبي حنيفة بالمسألة (1)، وقالوا: هما متناكرتان: كل واحدة تدعي أنها زوجته، وأن صاحبتها محرومة، فالذي جرى من الصلح صلح مع تقرير الإصرار على التناكر. وهذا الذي ذكروه في الإلزام باطلٌ، واقتسام على التراضي صحيح. وما ذكروه من التناكر لا حقيقة له؛ فإنهما لو أنصفتا، لاعترفتا بالإشكال؛ إذ ليست إحداهما مختصة بنوع من البيان دون صاحبتها، فليس بينهما تناكر. ولو فرضنا تناكراً، فلا محمل له إلا أن تدعي كل واحدة أنها اطلعت على بيانٍ في أنها الزوجة. فإن كان كذلك، فالصلح مع الإنكار على نعت الحطيطة. وقد ذكرنا أن صلح الحطيطة هل يحمل على الهبة أم لا؟ وفيه الخلاف المقدّم. وإن اعترفتا بالإشكال، فالقسمة على التراضي صحيحة.

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 6/ 40، مختصر الطحاوي: 98، اختلاف أبي حنيفة، وابن أبي ليلى: 43، رؤوس المسائل: 315 مسألة: 201، طريقة الخلاف: 428 مسألة: 26، إيثار الإنصاف في آثار الخلاف: 372، وانظر أيضاً: الاصطلام: 4/ 336.

فإن قيل: كيف صححتم المعاملة مع الجهل؟ قلنا: إذا انحسم البيان، وتعذر وقف المال إلى غير نهايةٍ، فالشرع يحتمل الجهالةَ في مثل هذه الصورة، ولا وجه إلا احتمالها. 4127 - ولو صالحت إحداهما الأخرى على عينٍ أخرى سوى الموقوف بينهما، فقد قال الأصحابُ هذا باطل، مع الاعتراف بالإشكال، فإنه استبدال مالٍ هو ملك من يبذل، في مقابلة ما لا يعلم كونه ملكاً له. وليس كما لو اقتسما ذلك الموقوف؛ فإن كل واحدة تقول: إن كنت أنا الزوج، فالحاصل في يدي ملكٌ لي، والباقي أيضاًً ملكٌ لي، وإن لم أكن زوجة، فالحاصل في يدي موهوب مني من صاحبتي، وهذا لا يمكن اعتقاده، وقد بُذل عوضٌ آخر سوى الموقوف. 4128 - ومما أَلزَموه ما إذا أسلم الرجل عن أكثر من أربع نسوة: فكنَّ خمساً، أو ستاً، ومات الزوج قبل البيان. فإنا نقف بينهن ميراثَ زوجة. ثم الكلام في الاصطلاح على حسب ما ذكرنا إلزاماً وجواباً. 4129 - ولو ادعى رجلان داراً في يد إنسان، كل واحد يدعي تمامها لنفسه، فقال المدعى عليه: الدار لأحدكما، ولم يبيّن، ومات، وعسر تلقي البيان منه، فلو اصطلحا، واقتسما الدار، صح. وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإنهما ما بنيا الأمرَ على الاعتراف بالإشكالِ، بل كل واحد ادعى الانفراد بالملك في جميع الدار، فكان هذا نظيراً لما إذا ادّعت المرأتان -وقد وقعت طلقةٌ مبهمةٌ بينهما - العلمَ بحقيقة الحال، فكانت كل واحدة تدعي: إني معينةٌ للزوجية. وقد ذكرنا أن الصلح في هذه الصورة، صلحُ حطيطة على الإنكار، فالقول في المدعيين يحل هذا المحل.

فصل قال: " فإن صالح رجل أخاه من موروثه ... إلى آخره " (1). 4130 - إذا صالح واحد من الورثة الباقين (2) عن حصةٍ من التركة، وهي أعيان، فهذا [منه] (3) بيعُ حصّته بعوض، فحكمُه حكمُ البيع في كل معنىً، فقد يدخل فيه أحكام الصَّرف، وتفريق الصفقة، والقطع بالبُطلان في المجهول، والعبد الآبق. ولا حاجة إلى البيان في الواضحات. 4131 - ولو كانت التركة بين اثنين مثلاً، وكانت عشرةَ دنانير، وأقمشةً، فصالح أحدهما صاحبَه على عشرة، نقل القاضي عن الأصحاب جوازَ ذلك، وحكى عنهم أن ذلك استيفاءُ حصته من الدنانير، واعتياضٌ فيما زاد على حصته من الدنانير عن حصته من الأقمشة. ثم قال القاضي: والذي عندي أنه لا يجوز، فإنه مقابلة دنانير بدنانير. وهذا الذي ذكروه (4) كلام مختلط. والوجهُ أن يقال: إن أحضر الدنانير سوى دنانير التركة، فالبيع باطل قطعاً، ولا يجوز تقدير خلافٍ في هذه الصُّورة من الأصحاب. وإن سُلمت الدنانيرُ التي في التركة إلى أحد الوارثَيْن، واكتفى بها، فالوجه القطع بجوازها؛ فإنه يكون مستوفياً لحقه من العشرة، وأخذ [باقي] (5) العشرة عوضاً عن حصته من الأقمشة، لا وجه غيرُ هذا. والذي قدمناه منه (6) إذا كان على رجل ألفُ درهم دَيْناً وخمسون ديناراً وبذل ألفي

_ (1) ر. المختصر: 2/ 224. (2) "الباقين" مفعول الفعل "صالح". (3) في الأصل: منع. وهو تصحيف عجيب، لا يتفق مع السياق. (4) انظر المسألة في فتح العزيز: 10/ 300 بهامش المجموع. (5) في الأصل: الباقي. (6) يشير إلى ما ذكره في آخر الفصل قبل هذا بفصل.

درهم عما عليه، فتقديرُ المنع من هذه الصورة فيه إخالة على البعدِ؛ من جهة أن الألفين المنقودين عينٌ، والذي في ذمة باذلهما دينٌ، أمّا العشرة هاهنا إذا قبضها، فقَدْرُ حقه يقع استيفاءً، فتجرد باقي العشرة في مقابلة الأقمشة. فصل قال: " ولو أشرع جناحاً على طريقٍ نافذةٍ ... إلى آخره " (1). 4132 - إشراع الجناح والساباط (2) فيه مسائل: إحداها - أن يُشرِعَه في ملك الغير من غير إذنه، فهو ممتنع منقوضٌ على المُشْرع؛ فإن هواء الملك حق المالك، ولو أراد المصالحة عن ذلك الهواء بمالٍ يبذله، لم يجز ذلك؛ فإن العِوض مالٌ، فلا يجوز بذلُه إلا في مقابلة مال. 4133 - والثانية - أن يُشرع في الشارع، وهو المسلكُ النافذ الذي يشترك فيه الطارقون، فالمرعي في المنع والجواز تضرر السالكين، وانتفاء ذلك، فإن كانوا يتضررون، امتنع الإشراع، وإن كانوا لا يتضررون لا يمتنع، ولا يتوقف على أمر مَنْ إليه الأمر، ولا مخاصمة لآحاد الناس فيه عندنا. وأبو حنيفة (3) يعتبر في المنع مخاصمةَ من يخاصم من آحاد المسملين. فإذا ثبت أن أصل الضرر هو المعتبر عندنا، فلا يخصص الضرر بالمشاة المارين، بل لو كان [يتضرَّرُ] (4) الركبان بالجناح المشرَع، مُنع، حتى قال الأصحاب: ينبغي أن يكون الجناح بحيث لا يصطك به [كنيسة] (5) على بعير، ولا نظر إلى أن هذا قد

_ (1) ر. المختصر: 2/ 224. (2) الساباط: سقيفة تحتها ممرٌ نافذ. والجمع: سوابيط، وساباطات. (معجم). (3) ر. مختصر الطحاوي: 100، البدائع: 6/ 265، حاشية ابن عابدين: 5/ 380. هذا وقول الصاحبين موافق للشافعي، قال الطحاوي في مختصره: وبقولهما نأخذ. (4) في الأصل: متضرر. (5) في الأصل: كنيسته. والكنيسة هنا كالهودج: يغرز في المحمل، أو الرحل قضبانٌ، ويلقى عليه ثوب يستظل به الراكب، ويستتر به، والجمع: كنائس، وزان: كريمة وكرائم. (مصباح).

يندر؛ فإنه لا ضبط لأحوال المارة، واطراد الرفاق مع الحمولات، والكنائس، وغيرها، وقد يتفق ذلك ليلاً ونهاراً، فالوجه اعتبار الأقصى في الباب. وحكى العراقيون وغيرهم عن بعض الأصحاب أن الجناح ينبغي أن يكون بحيث لا يناله رأسُ رمحٍ منصوب من رَاكب، وهذا عزاه العراقيون إلى أبي عبيد (1) بن حَرْبُوَيْه، ثم زيف الأصحاب ذلك، [وفيه زحف] (2)، وعدُّوه سرفاً في تصوير الصور؛ فإن إضجاع الرمح يسيرٌ غيرُ عسير، فينبغي أن يكون ضبط الضرر بما يتعسر تغييره على الطارقين، لمكان الأجنحة، كالكنائس، والحمولات. 4134 - وممَّا يتعلق بأحكام الشوارع في الفن الذي نحن فيه: أن طائفة من أصحابنا قالوا: لو بنى الإنسان دَكَّةً على باب داره، أو غرس أشجاراً، فإن كان يتضرر به المارة، مُنع منه، وإن كان لا يتضرر به المارة، فلا منع. ثم قال هؤلاء: لا يختص بناء الدَّكة، وغرسُ الأشجار بفِناء الملك، بل لو تباعد عن داره، [وبنى] (3) دَكة بقرب دار الغير، أو غرس أشجاراً لا يتضرر بها المارة، فلا يمتنع منه. هذا مسلكٌ لبعض أصحابنا، وإليه ميل القاضي فيما نقل الأثبات عنه. وكان شيخي يقول: لا يسوغ غرس الأشجار في الشوارع؛ فإن مكانه مستحق للطروق، وفي شغله بالغراس منعٌ للطريق. والدَّكةُ المرتفعة في معنى الغراس، ولا نظر إلى اتساع الطريق وتضايقها، مع ما حققناه؛ فإن الرفاق قد تصطدم، وقد يفرض طروقُ عسكرٍ، أو أسرابٍ من البهائم. والذين ذكروا في الأجنحة توقع اصطكاك الحمولات والكنائس، لم يفصلوا بين اتساع الطرق وتضايقها.

_ (1) أبو عبيد بن حَربُوَيه: علي بن الحسين بن حرب، بن عيسى البغدادي، القاضي، ت 319 هـ ببغداد. أحد أركان المذهب، تخرج بأبي ثور، سمع أحمد بن المقدام العجلي، والحسن بن عرفة، والحسن بن محمد الزعفراني، وغيرهم، كان مهيباً، وافر الحرمة، ولي القضاء بمصر ثماني عشرة سنة (طبقات السبكي: 3/ 446، وتاريخ بغداد: 11/ 395). (2) ما بين المعقفين غير مفهوم المعنى. والعبارة مستقيمة على أية حال، بدون الوقوف عنده. (3) في الأصل: وفنى.

ومن أشخص دكاناً أو غرس أشجاراً، فقد جمع بين شغل بقعةٍ من الشارع، وبين شغل هواء الشارع، فكان البناء والغراس أولى بالمنع، [من] (1) الجناح المختص بشغل الهواء. وإنما لم ينظر المحققون إلى اتساع الطرق؛ من جهة أن الرفاق قد تطرق ليلاً، ويعسر عليها مراقبةُ الأجنحة، وهذا يتحقق في الغراس والدَّكة. 4135 - والذي يتحتم على من يسوّغ بناء الدَّكة وإثبات الغراس أن يفصل في الجناح بين اتساع الطريق وضيقها، وهذا لم نذكره إلزاماً (2)، وإنما هو قولٌ لا بد منه في التفريع على هذا الوجه. وفي البناء والغراس مزيدُ أمرٍ، وهو أنه قد يلتبس على طول الزمان محلُّ البناء والغراس بالأملاك، وينقطع أثر استحقاق الطروق، وقد لا يتحقق ذلك في الأجنحة، ولا يتحقق شفاء الغليل في هذا الفصل إلا بذكر ماهية الشرع في أصل الوضع (3)، وسنصف ذلك في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. وقد نجز القول في إشراع في ملك الغير، وفي الشارع المشترك بين الكافة. 4136 - ونحن نذكر الآن التفصيل في إشراع الأجنحة في السكة [المنسدةِ] (4) الأسفل، فإذا أراد واحدٌ من أهل السكة أن يشرع جناحاً، فاشتغل به هواء السكة، فقد قال الأصحاب: إن الذين دون أسفل من موضع الجناح إلى أسفل السّكة [لهم] (5) المنعُ من البناء، والنقضُ بعدَه؛ فإنهم في محاولة النفوذ من رأس السكة [يطرقون] (6) ما يسامت الجناح من عَرْصة السّكة، فأمّا الذين دارهم أعلى من مكان الجناح، فقد

_ (1) في الأصل: والجناح. (2) إلزاماً: أي يلزم من قولهم، نلزمهم به. والإلزام من مصطلحات علمي الجدل والمناظرة. (3) ماهية الشرع في أصل الوضع: أي حقيقة جَعْل الشارع شارعاً. (4) في الأصل: المفسدة. (5) في الأصل: فلهم. (6) في الأصل: يطوفون.

اختلف أصحابنا فيهم: فذهب ذاهبُون إلى أنهم لا يعترضون؛ فإنّهم في النفوذ من السكة لا [يطرقون] (1) مكان الجناح، فلا اعتراض. وقال آخرون: لهم الاعتراض؛ فإن السكة في حكم عرصة مشتركة بين سُكَّان السّكة، فيثبت حق الاعتراض للجميع، ولمن تعلو داره حقُّ الاعتراض في جميع السّكة. وغاية هذا الفصل تتبين بذكرنا حقيقة المذهبِ في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. ولو صالح أهل السّكة مُشرع الجناح، لم يجز، لما قدمناه من امتناع المصالحة على الهواء المجرّد. فهذا الذي ذكرناه الطريقةُ المشهورة للأصحاب، وفاقاً وخلافاً. 4137 - وقال العراقيون يجوز إشراع الجناح في السكة [المنسدة] (2)، حيث يجوز إشراعُها في الشوارع، وإنما قال العراقيون ذلك فيمن له بابٌ نافذ في السكة، فأما من لا ممر له، وإنّما جداره على السّكة، فليس له أن يُشرع الجناحَ في السكة المنسدة. وهذا نقلته من طرق معتمدة لهم على ثَبَت. فالمرعي عند هؤلاء الضرر وانتفاؤه، كما تقدّم في الشارع العام، وهذا لا تعرفه المراوزة أصلاً، ولعل العراقيين لم يثبتوا في عرصة السكة حقيقةَ الملك لأهل السكة، وإنما أثبتوا فيها حق الطروق، ولكنه مختص بسكان السكة. والطروقُ في الشارع العام لا اختصاص فيه. 4138 - وممَّا يتعلق بهذه التصرفات فتح الأبواب و [الكَوَّاتِ] (3) والمنافذ، فأمّا فتح الأبواب في الشوارع العامة، فلا منع منه؛ فإن الذي يفتحها يتصرف في جدار نفسه بالرفع، وذلك إليه، وإذا رفع مقداراً منه، استحال منعُه. ثم حق الطروق بعد الفتح ثابت؛ فإنه حقٌ عام للناس كافة.

_ (1) في الأصل: يطوفون. (2) في الأصل: المفسدة، وقد تكرر ذلك بلا عدد. وهو وهم عجيب. (3) الكَوات جمع كَوَّة: الثقبة في الحائط. وهي بفتح الكاف، فتجمع على كَوات، مثل: حية وحيات، وتكون بضم الكاف، فتجمع على كوًى، مثل: مُدية، ومدًى (مصباح).

فأما فتح باب جديد في السكة المنسدة، ففيه تردد يستدعي مزيد تثبت. قال بعض المحققين: لو أراد من له باب في السكة المنسدة أن يفتح باباً آخر في السكة على جداره المملوك، نُظر، فإن كان يفتحه دون باب دارِه، فللذين دورهم أسفل المنعُ، وهل للذين دورهم أعلى من داره المنع؟ فعلى الوجهين المذكورين في الجناح. وإن كان يفتح الباب الجديد فوق بابه المعهود، فليس للذين دورهم أسفل المنعُ أصْلاً، وهل للذين دورهم أعلى من ذلك الباب المفتوح أو هم في مقابلة ذلك الباب المنع؟ فعلى وجهين. أما ذكر الوجهين في الذين بابهم أعلى من الباب المفتوح، فهو على القياس المقدّم في الجناح، وليس تفصيلاً محدثاً، وأمَّا القطع بأن الذين هم أسفل من بابه المعهود لا يعترضون وجهاًً واحداً، فهذا إحداث حكم لم نذكره في الجناح. وكان شيخي يذكر في الذين هم أسفل وجهين إذا كان الفتح أعلى من الباب المعهود، كما ذكرنا وجهين في الذين هم فوق الجناح المشروع، ويقول: من أصحابنا من لا يخصص المنعَ ببعض السكان دون بعض، طرداً للقياس. ثم الذي يتخيل في المنع من إحداثِ باب جديد ازدحامُ الناس عليه، أو وقوف دابةٍ بالقربِ منه، وهذا في حق الأعلى والأسفل على وتيرة. فهذا ما قيل فيه. 4139 - ووراء ذلك فكر لا بد من الإحاطة به، وهو أنه إن سد الباب القديم، وأحدث فوقه باباً مما يلي الدرب، فلا يتجه أصلاً حق المنع لمن هو أسفل، ولا لمن هو أعلى. وإن فتح باباً جديداً، ولم يسد الباب القديم، فقد يتجه حق المنع للمتسفلين، فإن هذا إحداث فتحٍ، وهو مظنة [الشغل] (1) مع استدامة [الأول] (2)، فالذين هم أعلى، فالأمر فيهم على التردد كما ذكرناه في السَّابَاطِ، والظاهر أن الذي يقابل الفتح الجديد يثبت له حق الاعتراض؛ لأن الضرر الذي أومأنا إليه يناله، وهذا مما يجب القطع به.

_ (1) في الأصل: السفل. (2) في الأصل: الأوْلى.

ولو كان الباب المقابل بين بابي هذا الفاتح القديم والحديث، فلا وجه إلا القطعُ بثبوت الاعتراض؛ فإن ممرّه على الباب المستحدث، وليس بابُه أسفل من الباب القديم؛ حتى يقال: هذا البابُ الحديث في معنى البابِ القديم، بل هو في حقه إحداث ممرٍّ لم يكن له. والسر في هذا مبيَّنٌ في آخر الفصل. 4140 - والذي نذكره الآن نقل مقالاتِ الأصحاب، مع التحقيق الذي يليق به: فأمّا فتحُ الكوّاتِ والمنافذ لجلب الضوء من غير إشراعٍ في الهواء، فلا منع منه أصلاً. ولو فتح باباً جديداً وزعم: إني أريد الاستضاءة، ولست أطرق منه، وطلب أن يقيمه مقام كوة يفتحها، فقد اضطرب أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: لا سبيل إلى منعه، وكذلك لو أراد رفع جميع جدارِه، لم يمنع. ومنهم من قال: يمنع؛ فإن الباب شاهد على حق المرور من محل الفتح، فليمنع من هذا، وليس كالفتحة العالية، التي لا يتوقع النفوذ منها. 4141 - ولو كان للإنسان دار بابُها لافظٌ في سكة منسدة، وكانت تلي الشارع، ففتح لها باباً في الشارع، جاز ذلك. ولو كان بابُها لافظاً في الشارع، وكان جدارٌ منها يلي سكة منسدةَ الأسفل، لم يجز له أن يفتح باباً في تلك السكة إلا برضا أهلها، فإذا رضُوا، كان ذلك إعارةً منهم [للمرور] (1) من السّكة، ومهما أرادوا الرجوع، رجعوا في العارية، ولا يلتزمون إذا رجعوا شيئاً، بخلاف ما إذا أعار مالك الأرض ممّن بنى عليها؛ فإن الرجوع وإن كان جائزاً، فقلْع البناء مجاناً لا يجوز، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى. 4142 - ولو كانت له داران بابُ أحدهما لافظٌ في الشارع، وبابُ الثانية نافذٌ في سكة غيرِ نافذة، فأراد أن يفتح باباً من إحدى الدارين في الأخرى، ليصيرا واحدة، فهل لأهل السكة المنعُ؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه لا يُمنع؛ لأن حق الاستطراق في السكة مُستحق له، ومنعه من فتح ملكه في ملكه لا وجه له.

_ (1) في الأصل: للمرء.

ومن أصحابنا من جوز لأهل السكة المنسدة أن يمنعوه، والسَّبب فيه عند هؤلاء أنه أثبت للدَّار التي تلي الشارع ممراً في هذه السّكة لم يكن، وربما يسد باب الشارع، فيرجع الممرُّ من تلك الدّار إلى هذه السّكةِ. 4143 - ولو كانت له داران بينهما جدارٌ، وباب أحدهما لافظٌ في سكةٍ، وبابُ الثانية نافذٌ في أخرى، والسّكتان منسدتان، فأراد فتحَ بابٍ بين الدّارين، فهل لأهل السّكتين المنعُ؟ فعلى الوجهين المتقدمين. فهذا منتهى القول في المسائل التي ذكرها الأصحابُ في هذا الصنف. 4144 - ونحن نختم الفصلَ الآن بتحقيق القول في أصل الشارع العام، ثم نذكرُ الآن حقيقةَ القول في السكة المنسدة. أما الشارع فالذي نبتدىء به: أنا إذا ألفينا جادَّة معبّدةً، ومسلكاً مشروعاً نافذاً، تبينا حكمَ استحقاق الاستطراق بظاهر الحال، ولم نلتفت إلى المبدأ الذي عليه ابتنى مصير تلك البقعة [شارعاً] (1)، وهذا لا خفاء به. ثم حكم الشارع ما قدمناه في مسائل الفصل. وفيه أحكام تتعلق بالمقاعد في الأسواق، يحويها بابٌ من كتاب إحياء الموات. وغرضنا وراء ذلك أن من جعل ملكاً من الأملاك شارعاً، وصرفه إلى هذه الجهة، صار الملك سبيلاً مسبَّلاً (2) على السابلةِ (3)، وكان ذلك جهةً في ثبوت الشارع. 4145 - ولو أحيا جماعةٌ قريةً أو بلدة، وملكوا البقاع بطرق الإحياء، وفتحوا أبواب المساكن إلى صوب، وتركوا مسلكاً بين دورهم، ومساكنهم، وبساتينهم، نافذاً، فتصير تلك البقعة شارعاً؛ فإنهم لا يستغنون عن النفوذِ في مساكنهم إلى البقاع، وكذلك يحتاجون إلى نفوذ الناس إليهم.

_ (1) في الأصل: شارعة. (2) مسبَّلاً: أي مباحاً، متبرعاً به، من قولك: سبَّلتُ الثمرة: إذا جعلتها في سبل الخير، وأنواع البر. (مصباح). (3) السابلة: الجماعة المختلفة المتحركون في الطريق لقضاء حوائجهم. (مصباح، ومعجم).

وهذا من لطيف ما يتعين تأمله، فالموات لا ينتقل عن حُكمِ الإباحة من غير ظهور آثار حكم الإحياء فيه، وفي الآثار تفاصيل ستأتي في كتابها، إن شاء الله تعالى. والشارع قد لا يحتاج فيه إلى إثباتِ أثر، ولكن احتفافَ الدور واصطفافَها، على شقي بقعةٍ من الموات، مع تهيئة المنافذ إليها يهيئها، وينزل منزلة التأثير في المواتِ باتخاذها مزارعَ، أو زرائبَ، أو دوراً، ولا حاجة في ذلك إلى لفظٍ ونطقٍ، ولا حاجة إلى تقدمٍ في المواتِ، ثم ردّه إلى جهة الاستطراق، وليس [الشارع] (1) من حقوق الأملاك؛ فإن الناس فيه شَرَعٌ (2). فلم يلتحق بالحقوق المختصة كالدِّمَن (3)، ومطارح التراب، وغيرها؛ فإذاً اتجه مصير المواتِ شارعاً بجهتين: إحداهما - صرفُ الملك إليه. والثاني - ما ذكرناه من تشكيل الأملاك على شكلٍ، يقتضي مصيرَ المواتِ شارعاً. 4146 - وكل موات في علم الله تعالى - فهو شارعٌ للخلق، على أنه لا منع من الاستطراق، ولكن لا يمتنع إحياؤه، حتى لو لم يفرض ما قدمناه من تهيئة الشوارع. وكان بعض الناس يطرقون الموات، فلا يُمنع إحياؤه، والتحويطُ عليه، وصرفُ الممرّ منه. وكان شيخي يقول: " هذا إذا لم يصر موضعٌ من المواضع جادَّةً مَتْناً (4)، يطرقها الرفاق، فإن ظهرت جادةٌ موصوفة [بهذه الصفة] (5)، وإن لم تحتفّ بها أملاكٌ ذاتُ منافذ، فلا يجوز تغييره، وصرفُ الممر عنه". فإن (6) كان هذا يُعدّ إحياءً، فهو بدع لا نظير له، إذ ليس يُدرى فيه مبتدىء عن قصدٍ، وممهِّدٌ، ولا يتعين فيه قصدُ قاصد، ولكن إذا أُلفي، أُقرّ. فليفصل الفاصل بين الممر المعروف وبين مسلك

_ (1) فِي الأصل: التنازع. (2) شَرَعٌ: أي متساوون. (3) الدّمن: جمع دمنة، والدمنةُ موضع الدمن: والدمن هو ما يتلبد من السرجين، وفضلات الدواب. (مصباح). (4) متناً: المتن من الأرض، ما ارتفع وصلُب. (معجم). والمراد هنا أن يصير الموات شارعاً مُعبَّداً مهيَّاً يطرقه الناس ويعتادونه، فلا يجوز عندئذٍ صرف الناس عنه بحجة الرغبة في إحيائه. (5) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق. (6) هذا تعليق الإمام على كلام شيخه. رضي الله عنهما.

التعاسيف (1). وكان يتردد (2) في بُنيّات (3) الطرق إذا لم تكن جادة (4)، وكانت مسالك يعرفها الخواص في كل بقعة. فهذا منتهى القول في الشارع العام. 4147 - فأمّا السّكة المنسدة، فلا شك في اختصاص عَرصتها لأصحاب الدور التي لها أبواب إليها، ولو أراد أهلها أن يسدوا الدرب، حتى لا يدخلها داخل، كان لهم ذلك. وجواز دخول السّكة المنسدة إذا صودفت أبوابُها مفتّحةً، من قبيل الإباحاتِ المستفادة من قرائن الأحوالِ، على ما سيأتي تفصيل أصنافها، ومواضعها، إن شاء الله تعالى. فأطلق الأئمةُ أقوالهم بأن عَرْصة السكة مملوكةٌ لأهلها، ولم يختلفوا في أنهم لو أرادوا أن يلحقوها بعَرصاتِ دورهم، ويوسِّعوا بها رِباعَهم، كان لهم ذلك. وكذلك لو رجعت الدور ملكاً لواحد، فله رفع السّكة وردها إلى رقعة الدور، ثم يفتح باباً أو أبواباً إلى الشارع العام. وقال المشايخ: لو أراد من يسكن في أسفل السكة أن يُدخلوا ذلك القدر من السّكة في أملاكهم، فهل للذين يسكنون أعلى السكة حق الاعتراض؟ فعلى الوجهين المذكورين في الأجنحة وما في معانيها. فتحصّل من كلام المشايخ أن السكة المنسدة مملوكة. وكان شيخي يطلق القولَ بجواز بيعها، وطريق تملكها على الاختصاص كطريق ثبوت الشارع العام، غير أنها أثبتت على هيئة الاختصاص، فمُلِّكت كذلك. وقد نجز المقصود من تفصيل الفصل أولاً، وتأصيله آخراً.

_ (1) التعاسيف: يراد بها هنا: الطرق غير الممهدة، غير المستقيمة، وهي عكس الجادّة، ومنه قولهم: يركب التعاسيف، واعتسف الطريق: إذا سار على غير هدى، في طرق غير مستقيمة، ولا واضحة. (معجم). (2) أي شيخه، الشيخ أبو محمد كان يتردد ولا يقطع الحكم في الطرق المتفرعة غير الممهدة. (3) بنيات الطرق: أي الطرق الصغيرة التي تتفرع من الجادة (معجم). (4) أي لم تكن مرتفعة صلبة، والمراد كاملة التمهيد (معجم).

فصل قال: "ولو أن رجلين ادعيا داراً في يد رجل، فقالا: ورثناها من أبينا ... إلى آخره" (1). 4148 - إذا ادّعى رجلان داراً في يد رجل. وقالا: ورثناها من أبينا، ولم يذكرا أنهما قبضا تلك الدار، فإذا أقر المدعى عليه لأحدهما بنصف الدّار، فقد نصَّ الشافعي رضي الله عنه على أن ذلك النصف مشترك بين المدعيين، فإنهما ادعيا من جهة الإرث، وحكم الإرث الشيوع، فإذا تخلص بسبب الإقرار نصفُ الدار عن يد المدعى عليه، فهو ميراث أبيهما بينهما بزعمهما. ولو قالا: ورثناها، وكانت في أيدينا، فغصبها منا، فإذا أقر المدعى عليه لأحدهما بنصف الدار، فقد اختلف أصحابنا فيه: فذهب الأكثرون إلى أن ذلك النصف مشترك بين المدعيين في هذه الصورة، كما ذكرناه في الصورة المتقدمة، ولا أثر لادعاء تقدم اليد، ونسبةِ المدعى عليه [إلى] (2) الغصب. وذكر صاحب التقريب والعراقيون، وجهاًً آخر أنه يختص بالنصف المقَرّ له، ولا يشاركه صاحبه؛ فإن الغصب الذي ادعياه، يُشعر بنوع اختصاصٍ، كأنّ كلَّ واحد منهما ادّعى أنه غُصب منه النصف، ومن صاحبه النصف الآخر، فإذا سلم لأحدهما [نِسْبته] (3) إلى نفسه، لم يشارَك فيه. وهذا بعيد؛ فإن دعوى الغصب لا تقدحُ في شيوع الإرث، ولا تتضمن اختصاصاً معقولاً. هذا قولُنا إذا ادعيا الإرث. 4149 - فلو ادّعيا الدار عن جهتين، فقال أحدهما: النصف لي اشتريتُه منك، وقال الآخر: النصف لي وهبتنيه، فإذا أقر لأحدهما بنصف الدار مُطلقاً، ولم يتعرض لتصديقه في الجهة التي ذكرناها، فالنصف الذي يثبت له بالإقرار، لا يشاركه فيه الآخر

_ (1) ر. المختصر: 2/ 224. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: نسبه.

وفاقاً؛ فإن السبب متميز عن السَّبب، ولا يمتنع ثبوت أحدهما دون الآخر، ويمتنع ثبوتُ الإرث لأحد الاثنين دون الثاني. هذا إذا [نسبا] (1) دعوتيهما إلى جهتين مختلفتين. 4150 - فأمَّا إذا [نسباهما] (2) إلى جهةٍ واحدة، غيرِ الإرث: مثل أن يقولا: الدارُ لنا، اشتريناها، أو اتهبناها، فأقر المدعى عليه لأحدهما بالملك المطلق في النصف، فقد اختلف جوابُ أئمتنا: فقال بعضهم: هذا النصف مشترك بينهما كما لو ادّعياه إرثاً، وهو اختيار القاضي، وجماعة من المحققين. وذهب بعضهم إلى أنه يختص بالنصف المقَر له به، بخلاف جهة الإرث. وقد ذكره شيخي، والصيدلاني، وبعض المصنفين. ووجهه في القياس أن الشراء يتميز عن الشراء، وإن جمعهما اسم واحد، فكان الشراء في حقهما كجهتين. وقد [جلبتا] (3) الوفاق. والذي يحقق ذلك أنّه لو جرى شراؤهما في النصفين بدفعتين، وقعت الدعوى منهما كذلك، ولا يجوز أن يتخيل خلافٌ في هذه الصورة، بل الوجه القطع بأنه إذا أقر لأحدهما، لم يشاركه الآخر؛ فإن الشراء متميز عن الشراء تميُّز الشراء عن الهبة، والتميز هو المعتبر، لا صورة الاختلاف والتماثُل. وإذا ثبت هذا فشراء رجلين في صفقة من رجل في ظاهر مذهبنا محمول على تفريق الصفقة وتعددها، وإذا ثبت ما ذكرناه، ترتب عليه أنهما إذا ادّعيا أنهما اشتريا معاً، فالأمر على الخلاف الذي ذكرناه، وإن ادّعى كل واحدٍ منهما انفراده بالعقد، في النصف الذي يدعيه، فلا مشاركة، إذا فرض إقرار لأحدهما. وإذا ادّعيَا الشراء مطلقاًً، فهو متردد بين تعدد الشراء واتحاده، فإذا أقر لأحدهما

_ (1) في الأصل: نسبنا. (2) في الأصل: نسبنا. (3) في الأصل: (حلـ ـ) بالحاء المهملة، وبدون نقط ما بعد اللام. وعسى تقديرنا يكون صواباً. (انظر صورتها).

روجع، فإن ادعى الانفراد بالشراء، انفرد بالمقر به. وإن ادعى وقوع الشراء معاً، فهو على الخلاف. 4151 - ثم قال الشافعي إذا ادّعيا الدّار عن جهة الإرث، فأقر لأحدهما بالملك، وثبت أن صاحبه مشاركه في ذلك النّصف، فلو صالح المقر له من النصف المقر به، على مالٍ، فظاهر النص يشير إلى صحة الصلح، وكَوْنُ العوض ثابتاً على الاشتراك. والوجه المبتوتُ في ترتيب المذهبِ أن يقال: إذا ثبت كونُ ذلك النصف مشترَكاً، فإن جرى الصلح بإذن الشريك، صح. وإن جرى من غير إذنه، فالصلح باطل في حصة شريكه، وهل يبطل في حصة المقَر له؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. هذا قياس المذهب. 4152 - وذكر طوائف من أصحابنا وجهاً آخر في صحة الصلح، في جميع النصف، وهو ظاهر النص في (السواد) (1) ولست أعرف لهذا وجهاًً. وكل ما تُكلف ذكرُه في التصحيح يتضمن استبداد المقر له بالنصف وثمنه، وأقصى ما قيل فيه: إن كان يعرف حكم المسألة يعترف لصاحبه بحصته في النصف المقر به، وإن كان لا يعرفه، فهو كذلك. ومَنْ ظن ملكَ الغير ملكَ نفسه، لم ينفذ بهذا السَّبب بيعُه فيه. فرع: 4153 - قال صاحب التقريب: إذا باع اثنان عبداً مشتركاً بينهما، بثمن معلوم، فهل لأحدهما الانفرادُ بقبض حصته من الثمن؟ ولو قبض شيئاًً من الثمن، فهل يشاركه فيه صاحبه؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له أن يشاركه، وله الانفراد بقبض حصته، ووجه ذلك في القياس بيّن. والوجه الثاني - أنه لا ينفرد، وما يجري القبض فيه مشترك، كما لو [كاتَبَا] (2) عبداً، فأراد أحدُهما الانفرادَ بقبض حصته من النجوم، لم يكن له ذلك، كما سنذكره في كتاب الكتابة، إن شاء الله تعالى. والقائل الأول يقُول: ليست الكتابة كالبيع؛ إذ يتصور من أحد الشريكين بيع

_ (1) السواد: المراد به مختصر المزني، كما تكرر ذلك. وانظر النص في: 2/ 224. (2) في الأصل: كاتب.

نصيبه، وإن لم يبع الثاني، وليس لأحد السيدين أن يكاتب نصيبه دون الثاني، كما سيأتي في الكتابة إن شاء الله تعالى - وثَمَّ (1) توضيح تعليل ما ذكرناه في الكتابة جُهدنا. فرع: 4154 - إذا ادّعى رجلان داراً في يد ثالثٍ على الشيوعِ وذكرا الملك المطلق، ولم ينسباه إلى سبب، فقد ألحق أصحابنا هذا بما لو نسبا دعوتيهما إلى الشراء أو غيره من الأسباب المتحدة الواقعة على موجب الشركة، وقد مضى التفصيل فيه. فرع: 4155 - إذا ادّعى رجلان داراً في يد [رجل] (2)، وقال كل واحدٍ منهما: نصف هذه الدار لي، فأقر المدعى عليه بأن جميع الدار لأحدهما، وعيَّنه، نُظر: فإن لم [يَزِد] (3) المقر له ابتداءً على أن نصف الدار لي، ولم ينف عن نفسه النصف الآخر، فلا يمتنع الحكم بجميع الدّار له آخراً بسبب الإقرار؛ إذ لا منافاة بين ادعائه النصفَ، وبين ثبوت الكل؛ إذ مستحق الكل قد يدّعي نصفَه. وإن ادّعى أن النصف له، والنصف لصاحبه المدعي معه، فإذا أقر المدعى عليه له بالجميع، فلا يثبت له إلا النصف؛ تعلقاً بقوله الأول. ولو ادعى النصف لنفسه، ونفى الاستحقاق عن غيره، ولم يثبته لشريكه في الدعوى، وقد أقر له صاحب اليد بالجميع، ففيه ثلاثة أوجه: جمعها العراقيون: أحدها - أن ذلك النصف مُقَرٌّ في يد المقِر، فإنه أولى به لثبوت يده في الظاهر، والمقَر له ينفيه. والثاني - أنه يسلم إلى القاضي، فيحفظه، كما يحفظ الأملاك التي لا يتعين ملاكها، ويُنتظر البيانُ فيها. والثالث - أنه يسلم النصف إلى الشريك الثاني المدعي؛ فإن المدّعى عليه أقر بزوال الملك له، ونفاه المقَرّ له عن نفسه، وأولى من يصرف إليه هذا الذي يدعيه. وهذا

_ (1) أي في باب الكتابة. (2) في الأصل: رجلين. وهو مخالف للسياق. (3) في الأصل: يرد.

ضعيفٌ، لا أصل له، وهو على التحقيق إثبات الملك بالدعوى المجرَّدة. 4156 - ولو ادّعى أولاً النصف، ونفى استحقاقَه عن غيره، ثم تخلل زمان يجوز أن يتجدّد في مثله له ملكٌ في النصف الباقي، ثم أقر له صاحب اليد بجميع الدّار، فصدّقه المقَر له، يثبت له الملك في جميع الدار؛ إذ لا منافاة بين الأوّل والثاني. وإن لم يتخلل زمان يفرض فيه تجدد الملك، فالإقرار في النصف الثاني مردود للمقر له (1)، لقوله الأول، والمرء مؤاخذ بالقول الأول. فإن قيل: إذا قال أولاً: النصف لي، والنصف لصاحبي، فأقر صاحب اليد بالتمام له، فهل يؤثر إقراره أولاً لصاحبه بثبوت الملك له؟ قلنا: لا أثر لهذا الإقرار في هذا المعنى. والأمرُ على الأوجه الثلاثة التي ذكرناها. 4157 - ولو قال رجل: هذا العبد لزيد، وكان في يد عمرو، وتحت تصرفه، فرد قوله، ثم أكذب نفسه في قوله الأول، واشترى ذلك العبد من صاحب اليد؛ فإنا نحكم بصحة البيع ظاهِراً لتقارّ المتعاقدين لذا العقد، ثم إذا حكمنا بالصحة بينهما، ألزمنا المشتري أن يرد العبد إلى من أقر له به أولاً؛ فإنه تمكن من ذلك الآن. وليس هذا كما إذا أقر أحد المدعيين للثاني بالنصف، ثم أقر صاحب اليد له بالجميع؛ فإن الإقرار له مردود في الشرع بقوله، فلا حكم له، وليس كالشراء. وهذا بيّن. فصل قال: "فإن تداعى رجلان جداراً بين داريهما ... إلى آخره" (2). 4158 - وصورة ثبوت الجدار أن يكون حائلاً بين عرصتي الداريْن، أو بين بيتَيْن من الدارين، أو بين بيت وعرصة. فإذا تنازع مالكا الدارين في الجدار، لم يخلُ: إما أن يكون متصلاً ببناء كل واحدة منهما اتصال ترصيع، وإما أن يكون متصلاً ببناء أحدهما دون الآخر.

_ (1) في العبارة تقديم وتأخير قد يصيبها بشيء من الغموض، فلو قلنا: "فالإقرار في الصف الثاني للمقر له مردود"، لكانت أوضحَ. (2) ر. المختصر: 2/ 224.

4159 - وأول ما نبدأ به بيان التصوير. واتصال البناء معناه أن يتداخل نصفٌ من الجدار المتنازع فيه، في الجدار المتفق عليه، ونصف من ذلك في هذا. وإنما يظهر ذلك في الزوايا، فإذا كان الجدار ممتداً بين الدارين كما قدمناه، واتصل أحد طرفيه بجدارٍ هو ملك لمالك إحدى الدارين، وانعطف أحد الجدارين على الثاني، وظهر في المنعطف زاوية، وكانت على هيئة التداخل والترصيع، فهذا هو الاتصال. ونقيضه أن يُرى انعطاف الجدار على الجدار، ولا ترصيع بينهما عند الملتقى في طرف الجدار، بل كان أحدهما ملصقاً بالثاني، إلصاق مجاورة. فهذا منفصل. 4160 - فإذا تبين ذلك قلنا: إذا لم يتصل طرفٌ من الجدار الواقع بين الدارين بجدار دارِ واحدٍ منهما اتصال بنيان، فاليد في الجدار لهما جميعاً؛ والسَّبب فيه أن الجدار سورُ دار كل واحد منهما، أو سور بنيان داره، ولو لم تقدَّر الدارُ الأخرى، لكان جزءاً من هذه الدار قطعاً؛ فإذا وقع الجدار من دار كلٍّ منهما هذا الموقع، فقد تحقق استواؤهما فيما لو انفرد كل واحد منهما به، لكان اليد له. والاشتراك في هذه الصورة يتضمن الاشتراك في ظاهر الملك. 4161 - فهذا إذا لم يتصل الطرفان اتصال بنيان، ولو اتصل الطرفان بالدارين اتصال بنيان، فالجوابُ كما مضى، وهما متساويان في اليد وظاهرِ الملك. وإن اتصل أحد طرفي الجدار بجدارٍ خالص من دار أحدهما، عند المنعطف، اتصال بنيان، ولم يتصل الطرفُ الآخر من الجدار بدار الآخر، إلا اتصال جوارٍ، فاليد في الجدار لصاحب الاتصال، اتفق العلماء فيه؛ والسَّبب فيه أنا على تحقيق نعلم أن هذا الجدار بني مع الجدار الآخر بناءً واحداً، والوصف والترصيع شاهد فيه لا يدافَع، فلزم الحكم به؛ إذ يستحيل أن يُبنى جدار الغير مع جداره ترصيعاً، ثم لا يتصل بدار من يدعيه إلا جواراً. ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من الترصيع فيه، إذا كان الجداران على هذا النّعت من الأصل، والأمر (1) إلى الطرف الأعلى، حيث نتبين أنه لا يتصور إحداثه بعد البناء.

_ (1) كذا، ولعلها: و (الأس). فتكون عطف بيان للأصل.

فأمَّا إذا وجد التداخل في جر ـن (1) من الجدارين، بحيث يظهر أنه بعد البناء، فلا تعلق به، وذلك مثل نزع طوبة وإدخال أخرى على التداخل. 4162 - وإذا كان الجدار بين الدارين، وكان لأحد المالكين على الجدار جذوع، ولم يكن للثاني جذوع، فلا ترجيح لصاحب الجذوع، والجدارُ في أيديهما [ولا فرق بين الجذع الواحد والعدد] (2). ومعتمد المذهب أن وضع الجذوع يقع بعد بناء الجدار، وقد ذكرنا أن كون الجدار بين الدارين مثبتٌ لمنصب اليدِ في حق كل واحد منهما، وكيف لا، وهو جزء من كل دارٍ، ووضع الجذوع يقل عن هذا، ويقصُر عنه، ويتجه حمله على الإعارة، والإجارة، وابتياع حق البناء، كما سنذكره بعد هذا، فاختصاص أحدهما بالجذوع اختصاصُ مزيد انتفاع، بعد الاستواء في اليد، فكان كما لو سكن رجلان داراً لأحدهما فيه أمتعةٌ وأقمشة، ولا قماش للثاني. 4163 - ولو تنازع رجلان دابةً، أحدُهما راكبها، فالركوب يناظر وضعَ الجذوع، ولكن لم يثبت متعلَّق في اقتضاء اليد في الدابة [فتعَلَّقنا] (3) بالركوب. وقد أوضحنا ثبوتَ اليد في الجدار، ورددنا وضع الجذع إلى مزيد انتفاع بعد الاستواء في اليد. ولو تنازعا دابة، وأحدهما راكبها والثاني متعلق بلجامها، أو تنازعا ثوباًً، وأحدُهما لابسه، والثاني متعلق به [يجاذبه] (4)، فالمذهبُ أن اليد للراكب واللابس.

_ (1) كذا: جيم ثم راء ثم (كأس) بدون إعجام، تصلح أن تكون ياءً مثناة، أو باء موحدة، أو ثاء مثلثة، ثم نون. ولم أصل إلى معناها على أي صورة تصوّرت، والمعنى واضح من السياق على كل حال، وعبارة الرافعي: "ولا يحصل الرجحان بأن يوجد الترصيف المذكور في مواضع معدودة من طرف الجدار، لإمكان إحداثه بعد بناء الجدار، بنزع طوبة وإدراج أخرى" فتح العزيز: 10/ 332 بهامش المجموع. ولعلها (في جزأين). أو (في جزء من) (انظر صورتها). (2) في الأصل: [وإن فرق بين الجدار الواحد والعدد] وهو تصحيف عجيب، ووهم غريب. (3) في الأصل: متعلقاً. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. (4) في الأصل: يحاذيه، ولكنها غير منقوطة الياء، ولم أر لها وجهاً على أية صورة إلا ما اخترناه (يجاذبه). والله أعلم.

وأبعد بعضُ الأصحاب، فأثبت اليد لهما (1). 4164 - وهذه الأحوال حقها أن تؤخذ من العاداتِ؛ إذ ليس فيها توقيفاتٌ شرعية، ولا يخفى أن الرّاكب هو الذي يعد مستولياً على الدابة، دون المتعلَّقِ باللجام، وكذلك القول في لابس الثوب [وجاذبه] (2). 4165 - ثم لما ذكر الشافعي معتبرهُ في الجدارِ، وأوضح أن الرجوع إلى اتصال البنيان كما وصفناه، قال: فإن لم يكن، فالجدار مقر على اليدين، واعتبار تقريره على اليدين أوْلى من كل ما يتخيل بعده، سوى اتصال الرّصف والترصيع، وعدَّه ممّا لا يعتبر، مما قد يُخيل. وأشارَ إلى خلاف العلماء، قال: "لا أنظر إلى من إليه الخوارج والدواخل وأنصافُ اللَّبن ومعاقدِ القُمط" والقُمُط جمع القِماط، وهو الحبل. وأراد بالدواخل والخوارج الكتابةَ بالجص والآجر، إذا كان على أحدِ وجهي الجدار كتابة، فلا تعويل عليها، وكذلك إذا كان على أحد وجهي الجدار تزويقاتٌ أو طبقات تزين الجدار، وأراد بأنصاف اللبن أن الجدار لو كان متخذاً من اللبناتِ المقطعة، وكان الوجوه إلى أحد الجانبين والجوانب المكسرة من الجانب الآخر، فلا احتفال بشيء من هذا. ومعاقد القمُط يظهر في الستر بين السطوح [والمتخذ من القصب والحُصر] (3) وغيرهما، فقد يشد عليها خشبة مستطيلة ومعترضة بالحبال، وقد يُظن أن [الباني] (4) لها [لا] (5) يجعل وجه العقد والخشب في جانب نفسه، ويجعل

_ (1) وصف إمام الحرمين من أثبت اليد لهما، بالخَوَر والجهل بمآخذ المذهب، وذلك في كتابه (الدرّة المضية). (2) هنا رسمها بالحاء والدال المهملتين، والباء الموحدة. فلعل هذا يرجح اختيارنا، ولم نجد عند الرافعي في الفتح، ولا النووي في الروضة، ولا الغزالي في الوسيط، ولا في حواشي التحفة - لم نجد ما نرجح به لفظاً آخر غير ما اخترناه. (3) في الأصل: "بين السطوح والحطر" وفيه تصحيف وسقط. وما أثبتناه اختيار منا على ضوء المعنى مع الاستعانة بكلام الرافعي في فتح العزيز: 10/ 333. (4) في الأصل: الثاني. (5) زيادة من المحقق، على ضوء السياق.

الوجه المستوي إلى الجانب الذي يليه، ولا تعويل على ذلك، ولا ترجيح خلافاً لمالكٍ (1). 4166 - ولو كان لأحد المتنازعين في الجدار على الجدار أَزَجٌ (2)، نظر: فإن [كان] (3) على منتهاه، فهو بمثابة وضع الجذوع بعد تمام البناء، وقد ذكرنا أنه لا تعلق بوضع الجذوع، ولو كان الجدار من أصله مقوساً من جهة أحدهما إلى منتهى الأَزَج، فإذا فرض النزاع والحالة هذه، فصاحبُ الأزَج صاحب الجدار؛ فإن الجدار جزء من الأَزَج، وليس الأزَج موضوعاً بعد بناء الجدار، ولا يعد مثل هذا سوراً في جانب جدارٍ من الأزج له، فإذا كان البيت المؤَزَّج لأحدهما وفاقاً، فالجدار الذي ذكرنا من غير الأَزَج. فهذا منتهى القول في ذلك. 4167 - ثم ردد الشافعي قوله في أمر نحن [نوضِّحه] (4) ونستعين بالله تعالى فيهِ، فنقول: إذا كان بين رجلين جدار مشترك، فأراد أحدهما أن يضع عليه جذوعاً، لم يكن له أن ينفرد به دون إذن شريكه؛ فإن انفراد أحد الشركاء بالتصرف في الملك المشترك لا مساغ له. وقال الشافعي رضي الله عنه في القديم: إن ثبتت حاجةُ الجار إلى الجذوع على الجدار، وجب إسعافه، ولا يختص هذا بالجدار المشترك؛ فإنه لو كان الجدار ملكاً خالصاً للجار، ومسَّت إليها حاجة الآخر -كما ذكرناه- لم يُمنع من وضع الجذوعِ على الجدار، واعتمد في القديم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يمنع جاره بأن

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 597 مسألة 1003، عيون المسائل: 4/ 1652 مسألة 1166. (2) الأزج بفتحتين: البناء المستطيل المقوس السقف. والمراد هنا أن يكون لأحدهما قوسٌ بالبناء، يتكىء بأحد طرفيه على الجدار محل النزاع. (مصباح، ومعجم). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: نوضعه.

يضع خشبة على جداره" (1) وقيل: كان الناس لا يعملون بهذا، فلما ولي أبو هريرة مكة أو المدينة قال: "ما لي أراكم معرضين عنها، والله لأرمين بها بين أكتافكم" واختلف في تفسير لفظه، فقيل: معناه لأكلفنكم ذلك، ولأضعن جذوع الجيران على أكتافكم، ضرباً للمثال، وقصداً إلى المبالغة في البيان. وقيل: أراد بقوله لأضعنها: أي لأضعن هذه السُّنة بين أكتافكم، ولأحملنكم العمل بها. 4168 - فإن فرعنا على الجديد، فلا سبيل إلى الوضع على الملك الخالص، ولا على الملك المشترك، وإن مست الحاجة إليه. وهذا قانون الشرع، ومقتضى القياس الكلّي والجزئي، وحديث أبي هريرة محمول على التأكيد في الندب والاستحباب، وقد يرد أمثال هذا في الحث على المكرمات. 4169 - وإن فرعنا على القول القديم، فلا بد من فرض حاجةٍ. ثم قال الأصحابُ: هذا مشروط بشرطين: أحدهما - أن يضع ما لا يُثقل الجدار، ولا يؤدّي إلى هدمه، فأما أن يبني عليه ما يثقله، فهو ممنوع إلا بالرضا. والثاني - أن تكون الجوانب الثلاثة من البيت لصاحب البيت، وهو يحتاج إلى جانب رابع. فأمّا إذا كان الكل للغير، فلا يضع الجذوع عليها قولاً واحداً. ومن أصحابنا من لم يشترط هذا الشرط الأخير. والحاجة التي أطلقناها لم نُرد بها ضرورةً، وإنما أردنا حاجة البناء، حتى لا يظن ظان أن المعنيَّ بالحاجة ضرورةٌ مرهقةٌ، وداعيةٌ مستقرة. ولكن لو بنى بناء لا يحتاج إليه، وكان البناء يحتاج إلى ما وصفناه من وضع الجذع، فله الوضع. وفي هذا أدنى نظر عندي. ولا يمتنع تخصيص ما ذكره في القديم بحاجةٍ إلى أصل الوضع، وهذا التردد

_ (1) حديث أبي هريرة متفق عليه، رواه البخاري في المظالم، الفتح: 5/ 131، ح 2463، ورواه مسلم: كتاب المساقاة، باب غرز الخشب في جدار الجار، ح 1609. وانظر: التلخيص 3/ 99 ح 1262.

يضاهي ما ذكرناه في كتاب الطهارة من تضبيب الإناء بالفضة، [إذْ شرطنا] (1) الحاجة إلى التضبيب. 4170 - وإذا فرعنا على القول الجديد، قلنا: إن رضي مالك الجدار بوضع الجذوع على جداره من غير عوض، كان ذلك إعارة، وسنصف في كتاب العارية أن من أعار أرضه، أو جداره للبناء عليه، أو للغراس، فإذا بنى المستعير، وغرس، فللمعير الرجوع في العارية، ولكن يضمن ما ينقُصه بالقلع في الغراس والبناء. وسيأتي هذا على الاستقصاء في موضعه، إن شاء الله تعالى. وغرضنا الآن: أن من استعار أرضاً وغرسها، أو بنى فيها، فللمعير الرجوع، على شرط ضمان النقصان. ومن استعار جداراً ووضع عليه جذوعاً، فإذا أراد مالك الجدار الرجوعَ في العارية، رفعَ الجذوعَ والتزمَ غرامةَ النقصان. وظاهر المذهب أن ذلك سائغ على قياس الباب. وقال بعض أصحابنا فيما حكاه القاضي: لا يجوز الرجوع في هذه العارية؛ فإن ضرر القلع والرفع يتداعى إلى ما هو خاص ملك المستعير؛ فإن الجذوع إذا رفعت أطرافها من جدارٍ لم تستمسك على باقي [الجُدُر] (2) فإذا عظم الضرر، امتنع القلع. فأثرُ رجوع المعير أن يُلزم المستعير أجر المثل في مستقبل الزمان، وتفصيل ذلك يأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. 4171 - وممّا أجراه الأئمة من أحكام العارية إذا اتصل الكلام بها أن من استعار أرضاً وزرعها، لم يكن للمستعير قلعُ الزرع قبل إدراكه، بخلاف الغراس؛ فإن الزرع له أمدٌ معلوم. فلو كان غرس، فأثمرت الأشجار، فلا يجوز للمعير قلعها قبل جِدادِ الثمار؛ فإن الثمار لها أمدٌ كالزرع. وهذا منقاسٌ لا خفاء به. فإذا جُدَّت الثمار؛ فإذ ذاك يقلع المعيرُ إن أراد، على شرط الضمان.

_ (1) في الأصل: إذا شركنا. (2) في الأصل: الجدار.

فرع: 4172 - إذا كان الجدار المتنازع. بين الدارين مبنياً على خشبةٍ طويلة، وكان طرفٌ من تلك الخشبة والِجاً في ملك أحدهما، ولم يكن شيء منها والِجاً في ملك [الثاني] (1)، قال العراقيون: الخشبة تكون لمن يكون طرفها في ملكه، ثم قالوا: إذا ثبت أن الخشبة له، فالجدار المبني عليها تحت يده؛ فإن الظاهر أن جدار غيره لا ينبني على ملكه. هذا ما ذكروه، ولم أجده في طرقنا، وليست المسألة خاليةً عن احتمال في الخشبة والجدار. فرع: 4173 - قال العراقيون: إذا تنازع الجاران الجدارَ بينهما، وشهدت بيّنة لأحدهما بملك الجدار، ولزم القضاء بها، فيصير صاحبَ يدٍ في القاعدة التي عليها الجدار. وكذلك إذا تنازع رجلان شجرة وشهدت البينة لأحدهما، فيصير مالك الشجرة صاحبَ يد في مغرس الشجرة. هكذا قالوا. وهو قياس طريقنا. فإن قيل: الجدار على قاعدته، والشجرةُ على مغرسها بمثابة الجذع على الجدار، فكيف يدلُ على اليد وقاعدته؟ وكذلك السؤال في الشجرة ومغرسها؟ قلنا: نبهنا على هذا؛ إذ قلنا: الجدار بين الدارين في يدي مالكهما؛ من حيث إنه جزء من كل دارٍ، فكان هذا التمسك بالجزئية أولى من التعلق بوضع الجذع. وهذا لا يتحقق في قاعدة الجدار ومغرس الشجرة، فصار الجدار يداً في القاعدة، والشجرة يداً في المغرس. ونظير ذلك أن الدار إذا كانت مشحونة بأمتعة إنسان، وكان لا يسكنها أحد، فالدار تحت يد صاحب الأمتعة. ولو كان يسكنها رجلان، ولأحدهما أمتعة، فلا نظر إلى الأمتعة مع شهود المتداعيين في الدار وسكونها (2). 4174 - ثم قال العراقيون: لو أقر إنسان بجدار لإنسان، أو بشجرة، فالإقرار لهما هل يكون إقراراً بقاعدة الجدار وبمغرس الشجرة؟ فعلى قولين مأخوذين من أن البيع فيهما هل يتناول أصلهما، وفيه قولان، قدمنا ذكرهما.

_ (1) في الأصل: الباني. (2) "سكونها": أي (سُكْناها).

وفي المسألة فضل نظر فيما نصفه سؤالاً وجواباً. فإن قيل: إذا كان لفظ المقر مع اختصاصه بالجدار يتعدّى إلى أصله، حتى يجعل إقراراً به في أحد القولين، مع أن مبنى الإقرار على الحمل على الأقل. فإذا شهد عدلان لإنسان بملك جدار، فقولوا: لفظ الشهود يتضمن الملك في أصل الجدار على أحد القولين قياساً على الإقرار. قلنا (1): هكذا نقول، ولا فرق، والعلم عند الله تعالى. 4175 - وهذا يلتفت إلى أصلٍ، وهو أن الشاهد على البائع تقبل شهادته مطلقاًَ، من غير بحث عن شرائط صحة البيع، على المذهب الظاهر، ويحمل البيع المشهود به على الصحّة، على ما سيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. فصل قال: "ولا أجعل لواحد منهما أن يفتح كوة فيه ... إلى آخره" (2). 4176 - الجدار المشترك بين شريكين لا يجوز لأحدهما أن يفتح كوة أو يثبت فيه وتداً يعلق فيه شيئاًً؛ فإن التصرف في [الجدار] (3) المشترك تصرفٌ في ملك الشريكِ، والتصرف في ملك الشريك من غير إذنه [غيرُ] (4) سائغ، ولا يمتنع على كل واحد من الشريكين أن يستند إلى الجدار المشترك، أو يسند إليه شيئاً من الأمتعة؛ فإن هذا النوع من المنفعة غيرُ معتدٍ به، ولا أثر له. ولو استند إنسان إلى جدارٍ خالص لغيره، لم يمتنع ذلك، ولو منع المالكُ منه، ففيه تردد للأئمة. ويخرَّجُ عليه ما لو تمانع الشريكان في هذا النوع أيضاً؛ فإن الملك المشترك في حكم الملك الخالص.

_ (1) في الأصل: فإن قلنا. (2) ر. المختصر: 2/ 224. (3) زيادة من المحقق. (4) سقطت من الأصل. وأثبتناها رعاية للسياق.

وأمّا الاستظلال بظل جدار للغير في الشارع، فلا أثر له، ولا يملك مالك الجدار المنعَ منه. 4177 - [و] (1) كما يمتنع التصرف في الجدار المشترك بالفتح، يمتنع البناءُ عليه. ولا يجوز للشريك في الدار أن يسكنها دون إذن الشركاء، وإذا تمانعوا، فالمهايأة (2) إذا رضوا بها، توفر عليهم حقوقهم من المنافع، وهي في الظاهر تناوبُ في المنافع، وفي الحقيقة بيعُ المنافع، فإذا تراضى شريكان بالمهايأة على أن يسكن أحدهما شهراً، فالمنفعة الحاصلة في كل نوبةٍ في أصل الوضع مشتركة، فكأنَّ كلَّ شريكٍ باع حصته من المنفعة في نوبة شريكه بما يتوفر عليه في نوبته من حق شريكه. 4178 - والصحيح أن المهايأة لا تلزم، ولا يجب الوفاء [بها] (3) وإن وقع التراضي فيها. فإن قيل: لو اكترى رجل داراً سنة بمنفعة عبد سنة، أو أكثر، أو أقل؛ فالإجارة صحيحة، ومقابلة المنفعة بالمنفعة سائغةٌَ عندنا، فهلا وقع القضاء بلزوم المهايأة الصَّادرة عن التراضي؟ قلنا: من ضرورة التناوب بالمهايأة على منافع العين الواحدة أن تنتجز نوبة وتتأخرَ الأخرى، والمنافع المضافة إلى المدة التي ستأتي، لا يجوز إيراد العقد عليها عندنا؛ فإن من استأجر داراً السنة القابلة، لم يصح، فلا تلزم المهايأة على هذا الأصل، وليست معاملةً تقتضي تمليكاً على الصحة. نعم، هي على صورة بيع فاسد، ولهذا قلنا: لا يصح الإجبار عليها؛ فإن الإجبار على البيع الصَّحيح ممتنع، فما الظن بالإجبار على ما هو على صورة البيع الفاسد. فإن قيل: هلا جعلتم المهايأة قسمة بمعنى الإفراز؛ تخريجاًَ على أن القسمة إفراز حق؟ قلنا: ليست المهايأة على صورة القسمة الصحيحة أيضاًً؛ فإن القسمة ينتجز فيها الأقساط والحصص، ويفرض تعديلها وتنزيل الشركاء عليها، والمنافع توجد شيئاًً

_ (1) في الأصل: كما (بدون واو). (2) المهايأة: المناوبة، وهي نوع من قسمة المنافع بين مستحمَيها. (ر. طِلبة الطلبة: 259). (3) سقطت من الأصل.

فشيئاً، وليس من التعديل مقابلة واقع منتجز بمتوقع. 4179 - وذهب بعض أصحابنا إلى الإجبار على المهايأة؛ لأن الضرورة ماسّةٌ إليها عند تنازع الشركاء، ولو لم يجبر عليها، لتعطلت المنافع. وهذا بعيد عن القياس، ولكن مبناه على الحاجة الحاقّة العامّة، وقد نميل عن مسلك القياس بمثل ما ذكرنا. 4180 - فإن قلنا: لا إجبار على المهايأة، فلو تهايأ شريكان على التراضي واستوفى أحدهما المنفعة في النوبة التي قُدّرت، ثم أراد الرجوعَ فيما توافقا عليه ومَنع شريكِه من استيفاء المنفعة في نوبته، فله ذلك، ولكنه يغرَم لشريكه قيمةَ حصته من المنفعة في النوبة التي استوفاها. وإن قلنا: بالإجبار على المهايأة، فإن استوفى أحدُهما النوبةَ الموظفةَ، لم يكن له الرجوع، بل تُوفَّر على الشريك مثلُ تلك النوبة. ثم تعتقب النوب الموضوعة، إلا أن يتراضى الشركاء على نقضها، فلابُدّ من اتباع رضاهم. ثم النوب تطرد إلى غير نهاية، وهذا من الوجوه الظاهرة في الخروج عن القياس. ثم إن قلنا بالإجبار على المهايأة، فلا كلام، وإن منعنا الإجبار عليها، واستمر الشركاء على التدافع، فهذا يؤدي إلى تعطيل المنافع، فهل يباع عليهم الملك عند الامتناع من المهايأة، وإدامةِ الطلب؟ فعلى وجهين حكاهما القاضي: أحدهما - أن العين تباع على الشركاء، لقيام النزاع، وإفضاءِ الأمر إلى تعطيل [المنافع] (1) وهذا وجهٌ ضعيف، لم أره في غير هذه الطريقة. والأصح أنه لا إجبار على المهايأة، ولا على البيع، وتترك المنافع تتعطل إلى أن يتراضيا. ولم يذكر أحد من الأصحاب الإجبارَ على الإجارة (2)، ولعل السَّبب فيه أن الأمد

_ (1) سقطت من الأصل. (2) أي إجارة العين محل النزاع.

في الإجارة لا متوقف له، ولا سبيل إلى التحكّم بهذه (1)، والإجبارُ يقدر والشريكان متمانعان، والبيع يرد على مورد متعين. وكل ذلك خبط، والوجه نفي الإجبار في المهايأة والبيع. فصل قال: " وقسمته بينهما إن شاءا ... إلى آخره " (2). 4181 - الكلام في هذا الفصل يتعلق بأمرين: أحدهما - التفصيل في قسمة الجدار المشترك، إجباراً، واختياراً. والثاني - القول في قسمة أُس الجدار ومبناه، إذا كان قد انهدم الجدار وانهار. 4182 - فأمّا الجدار المشترك، فقسمته تفرض على وجهين: أحدهما - قسمة جميع الطول في نصف العرض، فهذا النوع لا إجبار عليه لوجهين: أحدهما - أن قسمة الإجبار لو فرضت، لكان التعيين بالقرعة، ثم القرعة ربما تخرج على خلاف ما يقصد في جهة الانتفاع، بأن تخرج قرعة زيد على الشق الذي يلي دارَ صاحبه، ولا يتأتى -والحالة هذه- من واحدٍ منهما الانتفاع المقصود. هذا وجه. والثاني - أن [الإفراز] (3) على الحقيقة لا يتصور؛ من قبل أنا وإن فصلنا شِقاً عن شق بخط نرسمه فاصلاً بين الشقين، فلو وضع أحدهما على شقه جذوعاً، أو بنى عليه أدّى ذلك [إلى تثقيل] (4) الشق الآخر والتحامل عليه. وهكذا يكون نعت الجدار "فلا تتأتى المفاصلة إذاً. وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً في الإجبار على هذا النوع من القسمة، إذا دعا إليها أحد من الشريكين. ثم قال: "نخصص كلَّ واحد منهما بالحصة التي تليه من غير قرعة". وهذا بعيد في الحكاية، وإن كان يتجه بعضَ الاتجاه، وما ذكرناه من أن

_ (1) كذا، ولعل تمام العبارة: "ولا سبيل إلى التحكم بهذه الجهة" أو كلمة نحوها. (2) ر. المختصر: 2/ 224. (3) في الأصل: "الإقرار" والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. (4) في الأصل: تنقيل.

المفاصلة لا تتحقق، فيه نظر؛ من قِبل اتفاق الأصحاب على تصحيح القسمة بالتراضي. ولو كانت المفاصلة لا تتحقق، لامتنعت القسمة أصلاً. وما ذكرناه في قسمة الجدار في جميع الطول في نصف العرض. 4183 - فأمّا قسمة الجدار في جميع العرض في [نصف] (1) الطول، فإنها صحيحة مع التراضي، وهل يجبر عليها الممتنع منهما إذا دعا إليها أحد الشريكين؟ فعلى وجهين مذكورين في الطرق، بناهما المرتِّبون على المعنيين اللذين ذكرناهما في الصورة الأولى. فإن اعتمدنا تعطل الانتفاع لأمرٍ يرجع إلى خروج القرعة، فهذا لا يتحقق في الصورة الأخيرة، فليقع الإجبار على القسمة. وإن اعتمدنا على أن المفاصلة لا تتحقق، فهذا المعنى قد يجري في النوع الأخير من القسمة؛ فلا إجبار إذاً. 4184 - ولو انهدم الجدار وبرز الأُس، فأراد قسمته، فالقسمة في جميع العرض في بعض (2) الطول يجري الإجبار عليها، لفقد المعنيين، فأمّا القسمة في جميع الطول في بعض العرض، فإن جرينا على تعيين حصة كل شريك فيما يليه من غير قرعةٍ، فالإجبار جائز، وإن قلنا: لا بُدّ إذا فرضت القسمة من إجراء القرعة، ففي الإجبار على [القسمة] (3) وجهان مبنيان على المعنيين المذكورين في قسمةِ الجدار نفسه على هذه الصورة. فصل 4185 - إذا انهدم الجدار فعمّراه، وأعاداه بالأعيان التي كانت في الجدار، من غير مزيدٍ، واستويا في العمل وفي الاستئجار عليه، واشترطا أن يكون الثلثان لواحد، والثلث لآخر، فهذا الشرط لغوٌ، والجدارُ نصفان كما كان. ومن رضي بالنقصان

_ (1) في الأصل: "بعض" ثم هذا هو الوجه الثاني من وجهي القسمة. (2) الصورة هي في حالة الجدار بين اثنين، فـ (البعض) هنا إما أن يراد به النصف، أو يقدّر أن بعض أجزاء الجدار تختلف عن بعض، هذا إذا لم تكن كلمة (بعض) مصحفة عن (نصف) في هذا الموضع وفي الذي يليه. (3) في الأصل: القرعة. والمثبت من هامش الأصل.

منهما واعدٌ هبةً، فإن وفَّى بها، فذاك، وإلا، فلا طَلِبَة عليه. 4186 - ولو اختص أحدهما بالإعادة، وشرط أن يكون الثلثان من الجدار له، فتقدير ذلك مقابلة عمل العامل على الثلث الذي يقدّر بقاؤه، وللذي لم يعمل بالسدس من ملكه في الجدار، فالسدس إذاً أجرةُ العمل على الثلث. وهذا سائغٌ، على شرط تقدير ذلك من الأساس والنقض؛ حتى تكون الأجرة عتيدة. ولو فرض ربط الأجرة بالسدس بعد البناء، لم يصح؛ فإن هذا تعليق في عين. 4187 - وذلك إذا لم يجدّد العاملُ عيناً في الجدار من ملك نفسه، فلو جدد، ليقع الفرض فيه إذا أعاد الجدار بأعيانٍ من عند نفسه من غير أن يستعمل شيئاًً من النقض - فهذه المعاملةُ يتدبرها النّاظر تصوراً، ثم لا يخفى الحكم فيها. فالعامل كأنّه يبيع ثلثَ الأعيان التي أتى بها، ويضم إليها عملَه فيها، والعوض المقابل السدس من أس الجدار. هذا تقدير المعاملة، وهي مشتملة على الجمع بين العين والمنفعة، وهو من صور تفريق الصفقة. والتنبيه كافٍ فيما ذكرناه. ولا بد في الصورة الأخيرة من تعيين الأعيان، والإشارة إليها على سبيل الشيوع، أو ذكرِها وصفاً على سبيل السَّلم. 4188 - ثم ذكر الشافعي في آخر الفصل أن الشريكين لو اصطلحا على وجه يصح، وشرطا أن يحمل أحدهما على الجدار ما شاء، فهذا الشرط مفسد (1)؛ فإن الجدار لا يحتمل الوفاء بالشرط، والقدرُ المحتمل مجهول، فالشرط فاسد، وإذا فسد، أفسد ما يفرض من معاملة. فهذا طرد المذهبِ على وجهه في التفصيل. 4189 - وقد ذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً في الصورة الأولى، لا وجه له، فأخرته، وأنا الآن ذاكره. قال: لو استويا في الإعادة بالنقض القديم، ولم يتخصص

_ (1) ر. المختصر: 2/ 225.

أحدهما بمزيدٍ، فلا يمتنع أن ينقص نصيب أحدهما بالتراضي، وزعم أن المشتركَيْن في الدار على تقدير التشطير، لو قال أحدهما: بعت نصفي من الدار بثلث الدار من نصفك، فقال المخاطبُ: قبلت. قال: لا يمتنع أن يحصل بهذه المعاملة أحدهما على الثلثين، ويبقى للآخر الثلث. وهذا عندي كلام ملتبسٌ، لا أصل له. والوجه القطع بفساد هذا النوع من المعاملة. ولو قال أحد الشريكين لصاحبه مع استمرار الشيوع: بعت نصفي من الدار بنصفك، فلا يجوز أن يقدر هذا بيعاً (1)، حتى يترتب عليه تقدير شفعةٍ، أو غيرها من أحكام البيوع؛ فإن وضع الشرع في البيع على إفادة التبادُل، ولا يتحقق مع اطراد الشيوع، فلا وجه لما قال إذاً. فرع: 4190 - إذا استعار رجل جداراً ووضع عليه جذوعاً، ثم انهدم الجدارُ، نُظر: فإن أُعيد الجدارُ بأعيانٍ جديدةٍ، لم يملك المستعيرُ ردَّ الجذوع على الإعارةِ الأولى، وإن أعيد الجدارُ بنقضه من غير مزيدٍ، واستعمالِ عين جديدة، فقد (2) ذكر العراقيون وغيرُهم وجهين في أن المستعير هل له ذلك من غير مراجعةٍ؛ بناءً على الإعارة الأولى؟ ففيه الخلاف الذي ذكرناه. ولا ينبغي أن يُعتقد خلافٌ في أن صاحب الجدار، لو منع من الإعادة يبقى للمستعير خيار. ثم إذا منع، فلا يغرَم ما يغرَمه لو رفع الجذوع، ونقض بناء المستعير، مع بقاء الجدار، فعاد الخلافُ إذاً إلى الاستمرار على حكم [الإعارة] (3) الأولى. ثمَّ لو فرض إعادة الجذوع تفريعاً على جواز ذلك، فلا ينقض المستعير إلا مع ضمان أرش النقصان.

_ (1) في الهامش ما نصه: حاشية: قد يتصور فائدةٌ خارجة عن البيع، بأن يكون قد حلف ليبيعنّ نصيبه. (2) في الأصل: قد ذكر. (3) في الأصل: الإعادة.

فصل قال: "وإن كان السفل في يد رجلٍ، والعلو في يد آخر، فتنازعا سقفه ... إلى آخره" (1). 4191 - إذا كان السفل في يد إنسانٍ، والعلو المسامتُ له في يد آخر، فتنازع صاحبُ العلو والسفل السقفَ الحائلَ بينهما، نُظر: فإن كان بناء سقف العلو قبل بناء سقف السفل ممكناً، بأن يفرض سقفٌ عالٍ، ثم يفرضَ سقف دونه، بأن تدرج رؤوس الجذوع في وسط الجدار، وينظم عليها السقف، فإذا كان هذا التصوير ممكناً، فالسَّقف الحائل بين العلو والسفل إذا تداعياه، فهو في أيديهما؛ فإنه في حكمِ الجزء للعلو أرضاً، وهو أيضاً في حكم الجزء للسفل سماءً وسقفاً، فصار توسط السقف بين العلو والسفل كتوسطِ الجدار بين دارين، الواقع سوراً لكل واحدٍ منهما. هذا إذا كان إحداث سقفٍ للسفل ممكناً بعد تقدير سقف العلو. 4192 - فأمّا إذا كان لا يمكن [إحداث] (2) سقف السفل على وسط الجدار بعد امتدادِه إلى منتهى العلو، وذلك كالأزَج، فإنه لا يمكن استحداثُه على وسط الجدارِ، فإذا كان كذلِك، علمنا أن السَّقف بُني أولاً، واستحدث بعده جدار العُلو وسقفُه، فالسقف في هذه الصورة في يد صاحبِ السُّفل. 4193 - وممَّا يجبُ تأمله فيما قدمناه من تفصيلٍ القولُ في التنازع في الجدار الممتدّ بين الدارين: ذكرنا تفصيلاً في الأَزَج، وجعلنا الأَزَج المبني على الجدار المستوي بمثابة الجذوع التي توضع بعد تمام بناء الجدار، [والأزج] (3) الذي قوّس له الجدار من أسّه هو المعتبر، وهذا التفصيل لا وقع له فيما ذكرناه في السفل والعلو؛ فإن الجُدران المحيطةَ بفضاء السفلِ لا نزاع فيها، وهي مختصة بيد صاحبِ السفلِ، والأَزج هو

_ (1) ر. المختصر: 2/ 225. (2) زيادة من المحقق، رعاية للسياق. (3) في الأصل: والجدار. وهو سبق قلم.

الذي فيه الكلام، وقد تبين أنه [ما] (1) بُني أرضاً للعلو، وإنما تم بناء السفل بالأَزَج، ثم كان استحداث العلو بعده، فلم يكن الأَزَج مضافاً إلى العلو والسفلِ، على قضية الاستواء أرضاً وسماءً. وهذا بيّنٌ. 4194 - فإن كان السقف كما ذكرناه في القسم الأوَّل، وحكمنا بأنه في أيديهما، فلا خلاف أن صاحب العلو يجلسُ عليه، ويضع عليه أثقاله على الاعتيادِ في مثله، وهذا انتفاعٌ بالمشتركِ، وقد تقدم امتناع الانتفاع بالمشترك، ولكن هذا منزَّل على الاعتياد في مثله. واتفق الأصحابُ على أن صاحبَ السفل، لو أراد تعليق شيء من السَّقفِ، لم يمنع منه، والسَّبب فيه أن صاحب العلوّ انتفع بالسّقف، وملك تثقيله بنفسه وأمتعته، فملك صاحبُ السفلِ مساواتَه في تعليق الأثقال في السَّقف، وهما محمولان على حكم العادة في الباب. هذا هو المذهب الظاهر. ومن أصحابنا من لم يجوز لصاحب السفل تعليقَ ثقل في السّقف، ويُلزمه أن يكتفي بالاستظلال من السَّقف. ومن أصحابنا من قال: إن أمكن التعليق من غير إثبات وتدٍ في جرْم السّقف، جاز، مع اجتناب السَّرَف، ولزومِ الاقتصاد، فأما إثبات الوتد في جِرم السقف، فممتنع. فتحصل ثلاثةُ أوجهٍ على ما ذكرناه. 4195 - والذي يجب الاعتناء به صرفُ الفكر بين الجدارِ الممتد الواقع بين الدارين سوراً لهما، وبين السقف الفاصل بين العلوّ والسفلِ، فنقول: أصل الفرق لابُدّ منه؛ فإن جلوس صاحب العلوّ، ووضعَه الأثقالَ على السّطح انتفاعٌ ظاهر مؤثر في السقف، وهو مسوَّغ بلا خلاف، ولا يجوز مثله في الجدار الممتد بين الدارين، والسبب فيه أنا لو منعنا صاحبَ العلو ممّا ذكرناه، لتعطل العلو، فكان هذا في حكم الضرورة، من وضع العلو والسفل، ثم ثار الاختلاف بين

_ (1) في الأصل: لما.

الأصحاب في صاحب السفلِ، ثم حاولوا أن يسوّوا بين صاحب السفل والعلوّ، فكان الظاهرُ تمليكَ صاحبِ السفل تعليق شيء في السقف، ليوازي صاحبَ العلو في تثقيل السقف. ومنع مانعون ذلك، صائرين إلى أن الاستظلال في حق صاحب السفلِ هو قدْرُ الضرورة، وفصَل فاصلون بين نصب الوتِد والتعليق وغير ذلك، كما قدمناه. 4196 - وكان شيخي يقول: إذا منعنا صاحب السفلِ من نصبِ وتِد في الوجه الذي يليهِ من السقف، فنمنع صاحب العلو في العلو من [غرز] (1) الوتِد أيضاًً؛ إذ لا ضرورة فيه. وإن جوزنا لصاحب السفلِ نصبَ الوتِد في الوجه الذي يليه، فهل يجوز ذلك لصاحب العلو؟ فعلى وجهين؛ فإن صورة التعليق قد تُحوج إلى نصب وتِد، ولا يتحقق مثلُه على هذا النسق في حق صاحب العلو. وما اختلف الأصحاب فيه من التعليق، فيما يُقدَّر له أثر، فأما ما لا أثر له كتعليق ثوب، أو غيره ممّا لا يؤثر على طول الدهر في السقف، فلا منع منه، ولا يُدرج في الخلاف الذي حكيناه؛ إذ هو بمثابة الاستناد إلى الجدار المشترك الممتد بين الدارين. وقد يتعلق بهذا الفصل أحكام من عمارة الأملاك المشتركة. فصل 4197 - الأملاك المشتركة إذا استرمَّت (2)، ومست الحاجة إلى العمارة، فإن توافق الشريكان على العمارة، أو على تركها، فلا كلام. وإن امتنع أحدهما عن العمارة، ودعا الثاني [إليها] (3)، ففي إجبار الممتنع عن العمارة قولان: أقيسهما وهو المنصوص عليه في الجديد - أنه لا يجبر الممتنع؛ فإن [الملك] (4) المشترك يشتمل على ملك الممتنع وعلى ملك غيره، ويبعد أن يجبر

_ (1) في الأصل: غير. والمثبت تقدير منا على ضوء المعنى. (2) استرمت: أي احتاجت إلى ترميم وإصلاح، وفي هامش الأصل: استهدمت والمعنى واحد، فاستهدمت أي آلت إلى الهدم، وأوشكت عليه. (3) زيادة من المحقق. (4) زيادة من المحقق.

لملكه، كما لو انفرد بملك شيء، ويبعد أن يجبر لملك غيره. والمنصوص عليه في القديم أن الممتنع يُجبر على العمارة، وهذا القول مبني على مصلحةٍ عامة لا سبيل إلى إنكارها، ولو لم يفرض الإجبارُ، لأفضى إلى ضرر بيّن، سيّما في القنوات، وما في معناها من الضِّياع وغيره. وإن كنا نجبره على القسمة لضرر المداخلة في المساهمة، فالضرر بترك العمارة أشد وأعظم. التفريع على القولين: 4198 - إن جرينا على الجديد وفرضنا الكلام في العلو والسُّفل ليقيس النّاظر على محل الكلام ما في معناه، قلنا: لو انهدم العلو، والسفل، وامتنع صاحب السفل من العمارة، لم نجبره، فإن قال صاحب العلو لصاحب السفل: أنت حامل ثِقْلي، فأعد الأمر إلى ما كان، واحمل ببناء السفل ثِقْل العلو، لم نجبه إلى مراده في إجبار صاحب السفل؛ فإن جدران السفل خالصُ ملكه، فلم يُجبر على إعادتها. وما ذكره صاحب العلو من حقه مردود عليه؛ فإن ذلك إنما يثبت إذا بُني السفل، فأمّا الإجبار على تحصيل السّفل لمكان العلوّ، فلا سبيل إليه على هذا القول. 4199 - فلو قال صاحب العلو: أنا أبني السُّفل، وأعيد عليه علوي، فلا يمتنع عليه البناء، وإن كان ذلك تصرفاً في ملك صاحب السفل؛ فإنا إن كنا لا نلزم صاحب السفل شيئاًً، فإبطال حق صاحب العلوّ محال، ومنعه من التوصل إلى حقه في العلو ببناء السفل تعطيلٌ لصاحب العلو. ثم لا يخلو إما أن يعيد السفلَ بالنقض القديم من غير مزيدٍ، وإمّا أن يُدخل فيه أعياناًَ من ملك نفسه، وأي الأمرين فعل لم يُمنع منه. أجمع الأصحاب عليه، لما ذكرناه؛ لأن المنع من ذلك تعطيل لحقه. 4200 - ثم ينظر: فإن بنى بالنقض القديم، وكانت أعيان السقف الفاصل بين السفل والعلو عتيدة، فلصاحب السُفل أن يأوي إلى سفله، وينتفع به على حسب ما كان ينتفع به قبلُ [من] (1) المسكن والاستظلال.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

فلو قال صاحب العلو: اغرَم لي أجرة البانين، لم يُجب إلى ذلك. وإن قال: أمنعك من السكون (1)، لم يجب إلى ذلك؛ فإنه أوى إلى ملك نفسه. وإن قال: إذا كان كذلك، فأنا أنقض بنائي، وأرُدُّ الأمرَ إلى ما كان، نُظر: إن لم يأت بعينٍ جديدة في البناء، فليس له نقضه؛ إذْ ليس له في الجدار إلا حقُّ الصنعة، وقد كان انفرد بها، ولا سبيل إلى استدراك الصنعة، فالصنعة (2) لا تستدرك. وإن كان أعاد جدران السفل بأعيانٍ من عند نفسه، [فله نقضه] (3)، وليس له منعُ صاحب السفل من السكنى إلى اتفاق النقض؛ لأنه يقول: أنا أدخل ملكي، فلا سبيل إلى منعه، ثم حيث نمنعه من النقض -وذلك إذا لم يحدث عيناً في البناء- فلو هدم، فالمذهب أنه يغرَم ما ينقصُه النقض؛ فإنه إذا بنى، فقد انقطع عمله، والبناء على صفته مملوك لصاحب السفل، فإذا هدمه، كان جانياً على ملك غيره. وسنمهد هذه القاعدة في كتاب الغصوب، ونذكر فيها ضبطاً لبعض الأصحابِ، إن شاء الله تعالى. 4201 - ولو كان بنى السفل بأعيان ملكه، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه لا يمنع صاحب السفل من الانتفاع بالسفل سُكنى، وليس للباني إلا النقضُ، والرجوعُ إلى عين ماله. وذكر صاحب التقريب وجهاً أن لصاحب العلو الباني [منع] (4) صاحب السفل فيقول له إما أن تبذل قيمة أعيان ملكي، وإما أن تنكف عن الانتفاع بها، وإذا دخلت السفل، فقد انتفعت بالسقف والجدران، وهي من أعيان ملكي، وقد بنيتُ ولي البناء. وهذا وجهٌ غريبٌ غيرُ معتد به، والمذهب والقياسُ ما قدمناه، من أن الباني لا يملك إلا نقضَ البناء، فأما المنع من الانتفاع، فلا. والذي ذكره صاحب التقريب يشبه قياس المصالح، والمصلحة تقتضي الإجبارَ على العمارة. وتفريعنا على الجديد.

_ (1) أي السكن. (2) في الأصل: والصنعة. (3) في الأصل: فلم يقضه. (4) في الأصل: مع.

4202 - فأما إذا قلنا بالقول الثاني، وهو أن الممتنع مجبر على العمارة، فلسنا نعني بها عمارةً تجلبُ مزيداً، فإنا لو أجبرنا عليها، فقد لا نجد لها موقعاً، [سيما في] (1)، وإنما الإجبار على العمارة التي لو تركت، لاختل الملك بتركها، ثم قد يتداعى الخلل. فإن اتفق إجباره، فلا كلامَ، وإن لم يصادفه، فالقاضي يبيع عليه ماله إن وجده، وإن لم يجد له مالاً، فله أن يستدين عليه، وله أن يأذن للشريك في الإنفاق على شرط الرجوع على الشريك الغائب. ثم الأولى أن يُشهد على ما يجري ليكون أقطعَ للخصومة. ولو لم يُشهد، وأنكر صاحبه، [إذْ ذاك] (2) يكون القول قول المنكر مع يمينه، فإن استبد الشريك، وأنفق بنفسه من غير مراجعة القاضي، فالذي قطع به معظم الأصحاب أنه لا يرجع على شريكه. وذكر شيخي وصاحب التقريب وجهاًً آخر أن للشريك أن ينفرد بالعمارة، ويرجع، وهذا الوجه خرجوه على ظفر صاحب الحق بغير جنس حقه؛ فإنا في وجهٍ نجوّز له الانفرادَ ببيع ما ظفر به، واستيفاءِ الحق من ثمنه. وقال قائلون: إن أمكنه مراجعة الحاكم، [فليس له] (3) أن يستبد إذ ذاك بالإنفاق. وهذا أعدل الوجوه، وله التفات إلى هرب الجمَّال واستئجار صاحب المتاع جمَّالاً، وستأتي تلك المسألة، إن شاء الله تعالى. 4203 - ثم قال الأئمة: كما اختلف القول في الإجبار على عمارة الملك المشترك، كذلك اختلف القول في أن صاحب السفل هل يُجبَر على العمارة، مع العلم بأن السُّفل خالصُ حقه. ولكن يتعلق [ببنائه] (4) حقُّ صاحب العلو، فجرى الإجبار

_ (1) ما بين المعقفين إما أنه جزء من جملةٍ لم تتم، أو هو مقحم في الكلام، فالعبارة مستقيمة بدونه. (2) في الأصل: إذا أن ذلك. والمثبت اختيار منا على ضوء السياق. (3) في الأصل: فله أن يستبد. والمثبت تقديرٌ منا نرجو أن يكون هو الصواب. بل تأكد أنه الصواب، عندما اطلعنا على عبارة النووي في الروضة: 4/ 217. (4) في الأصل: بنيانه.

على القول القديم على العمارة؛ لمكان حق البناء لصاحب العلو. وإذا فرعنا على القول القديم، فبنى صاحب العلو السفلَ بأعيان ملكه، فلو أراد نقضَه، فقال صاحب السفل: لا تنقضه، وأنا أغرَم لك قيمة أعيان ملكك، فأبى الباني إلا النقضَ، فقد أجمع الأئمة في الطرق على أنه يُمنع من النقض على القديم، ونسعف صاحب السفل فَنَقْنَع منه ببذل القيمة؛ فإنا نفرع على القول القديم، ومبناه على رعاية المصلحة، والمصلحة تقتضي ما ذكرناه. فصل 4204 - إذا ملك الرجل بيتاً، فجاء رجل واشترى منه حقَّ البناء على سطحه، فقد أجمع أصحابنا على جواز ذلك، ودلَّ عليه نص الشافعي. ثم الذي أطلقه الأصحاب أنَّ (1) هذا بيعٌ، واتفقوا على أنه لا يعتمد ملكَ عين، ولم يمتنعوا من تأبيد العقد، والقضاءِ بلزومه، وترددوا في جواز إنشاء هذا العقد بلفظ الإجارة، فجوز بعضهم ذلك، وامتنع آخرون مصيراً إلى أن الإجارة في وضع الشرع تستدعي إعلام المقصود (2) بطريق النهاية، وذلك يحصل بضرب المدّة تارة، وبذكر عملٍ متناهٍ أخرى: مثل الاستئجار على خياطة الثوب ونحوها. فإن قيل: ما وجه تسمية هذه المعاملة بيعاً، ومقصودُها منفعة؟ قلنا: البيوع وإن كانت في الظاهر ترتبط بأعيانٍ تقضي بجريان الملك فيها، فنهاية المقصود ترجع إلى الانتفاع، وملكِ التصرف، وهو ضربٌ من الانتفاع، ولكن أضيفت المنافع إلى عينٍ هي متعلّقها، وُضع (3) عن جميع حقوق المنافع فيها بلفظ الملك. 4205 - قال المحققون: هذا النوع الذي نحن فيه بيعُ حقوق الأملاك، وقد قال الشافعي رضي الله عنه: الإجارة صنفٌ من البيوع، وذهب المحققون إلى جواز عقد

_ (1) في الأصل: في أن. بزيادة لفظ (في). (2) أي المقصود بالعقد. (3) وضع: أي اصطلح، وتووضع، وعُبِّر.

الإجارة بلفظ البيع، ومعتمد المذهب في ذلك مسيس الحاجة إليه، وهو مضنون به، يهون بَذْلُك العوضَ في مقابلته. ثم إنما ينتظم هذا النوعُ من الانتفاع بالتأبيد، كما أن مقصود النكاح ينتظم بالتأبيد، ولا ضرورة إلى تأبيد الاستئجار للسكون (1) وغيرِه من جهات الانتفاع، والأبنية (2) [وضْعُها] (3) التأبيد. ويجوز الوصية بالمنفعة أبداً؛ فإنا نحتمل في الوصية ما لا نحتمله في المعاملات. فهذا عقد المذهب. 4206 - وذهب المزني إلى أن هذه المعاملة فاسدة، لخروجها عن قضية الإجارة والبيع جميعاً، وهذا معدود من مذهبه المختص (4) به، لم يخرِّجه للشافعي. واحتج المزني بأن قال: لو أخرج الرجل جناحاً في ملك غيره بعوض، لم يصح ذلك، فليكن ما نحن فيه بهذه المثابة. قلنا له: ما استشهدتَ به يعتمدُ الهواءَ المحضَ، وأمّا حق البناء، فإنه يتعلق بعينٍ، والدليل عليه أن المزني لا يمنع استئجار بقعةٍ مدةً معلومة للبناء عليها، ولا يجوز فرضُ مثل هذا في إشراع الجناح، فبان افتراق الأصلين، في باب جواز المعاملة، في جواز أحدهما ونفيه في الثاني، وآل الكلام بعد ذلك إلى أنا نجوز تأبيد المعاملة للحاجة الماسة، كما تقرر، ولا [نمنع] (5) أيضاً من تقرير هذه المعاملة إن وقع التوافق عليها. 4207 - وينتظم للفقيه في ذلك مراتب: إحداها - البيعُ. والتأبيدُ مستحق فيه؛ فإنه يتضمن التمليك الحقيقي، واستئصالَ حق المتقدم (6) بالكلية.

_ (1) السكون: السكن من وضع المصدر مكان اسم المصدر. (2) المراد الأبنية موضوع المسألة، أي التي تبنى فوق سطحٍ يشترى لذلك. (3) في الأصل: وصيغها. وهو تصحيف واضح. (4) يميز إمام الحرمين بين شرح المزني لكلام الشافعي، والتخريج على نصوصه، وبين اختيارات المزني، وتخريجاته على غير نصوص الشافعي، ومعاني كلامه، ويسمى هذا مذهباً للمزني. (5) في الأصل: يمتنع. (6) كذا. والمعنى: "حق المالك المتقدم" فلعل لفظ (المالك) سقط من الناسخ.

[و] (1) هذا يشعر على (2) بقاء الملك للمُكري (3)، ودخول المستأجر على وجه الإلمام، والأصلُ لغيره. ثم هذا ينقسم إلى ما يجب ضبطه بالنهاية؛ إذ لا حاجة إلى إثباته دون الضبط، وفي هذا القسم ضرورات الإجارات، ويقع في هذا ما يظهر فيه قصد التأبيد، كما نحن فيه، ولا يمتنع تأقيتُه أيضاًً. ومن المراتب - ما يقصد فيه المنفعة، ولكن لا ينتظم أيضاً إثباته على نعت التأقيت [كالنكاح] (4)؛ فإن الغرض منه التواصل والتوصل (5) إلى النسل، وذلك ينافيه التأقيت. [و] (6) لما كان النكاح يسوغ تأقيته في ابتداء الإسلام -لعله (7) - كان يشير إلى اكتفاء بعض الناس بقضاء الأوطار أياماً معدودة، ثم استقر الشرع على استحقاق التأبيد؛ ليقع النكاح على وضعه، ثم قدرة الزوج على الطلاق تُفيده الاستمكانَ من الخلاص إن أراد. 4208 - ثم ما ذكرناه من المعاملة لا يختص بحق البناء؛ إذ لو أراد ابتياعَ حق الممر، أو حقِّ مجرى الماء، أو مسيله (8) في ملكه، ساغ ذلك كلُّه. والضابط أنها حقوق مقصودةٌ، تتعلق بأعيان الأملاك. وهذا يَقُضُّ (9) من لا خبرة له بالحقائق، وزعم أن هذه المعاملات بيعٌ، والمبيع

_ (1) زيادة من المحقق. والإشارة (هذا) إلى ما نحن فيه من بيع حق البناء على السطح. (2) كذا. و (على) هنا بمعنى (الباء) أي: "يشعر ببقاء الملك للمكري". (3) العبارة فيها نوع اضطراب، وسقط، فالمعنى: "وبيع حق البناء فوق السطح هذا يشبه الإجارة، فهي تشعر ببقاء الملك للمُكري، ودخول المستأجر على وجه الإلمام، والأصل لغيره" راجع هذا المعنى، والحكم بأن هذا يشبه الإجارة من جهة، والبيع من جهةٍ أخرى، عند الإمام النووي - الروضة: 4/ 219 وما بعدها. وانظر الأشباه والنظائر للسبكي؛ فقد نقَل هذا الكلام عن النهاية، ورتبه وفصله على نحو ما أشرنا. (ر. الأشباه والنظائر: 2/ 306، 307). (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: والتواصل. (6) في الأصل: لما كان (بدون الواو). (7) الضمير في "لعله" يرجع إلى (التأقيت). (8) في الأصل: أو في مسبله. (9) كذا. والمعنى واضح من السياق، على أية حال. مان كنا لم نصل إلى صاحب هذا القول، =

منها الصفحةُ العليا من الموضع الذي يتعلق الحق به، وإنما أُتي هذا القائل من ضِيق العَطن (1)، وبلادةِ الفِطن، والمصيرِ إلى [أن] (2) ما سماه الشرع (3) بيعاً يستدعي عيناً مملوكة (4). وقد مهدنا القول في هذا بما فيه أكمل مقنع. 4209 - ثم إذا تمهدت المعاملة، فلا بد فيها -وإن تأبَّدت- من الإعلام اللائق بها، فإن كان مقصودها البناء على جدارٍ، فلا بد من إعلام المبني؛ فإن الغرض يختلف بذلك، فتُذكر الجدران طولاً وعرضاً، وتوصف بكونها مُطبقة أو رَصْفاً، وتوصف السقوف بما يثبتها، ولم يشترط معظم أصحابنا ذكرَ الوزن، وحكى شيخنا عن بعض الأصحاب اشتراط ذلك. وهذا غلوٌّ ومجاوزةٌ لحكم العادة في الإعلام. 4210 - ومن اشترى من أرضٍ حقَّ البناء عليها، فلا حاجة [بعد] (5) تعيين الأرض وإعلام رقعتها إلى إعلام القدر المبني؛ فإن الأرض تحتمل كلَّ ثقل. وعلى هذا قال الأئمة: لا يجوز أن يقول الباني على العلو: أبني ما أشاء، ويجوز إيراد المعاملة على الأرض بهذه الصيغة. 4211 - ومن لطيف ما يذكر في ذلك أن من اشترى البناء على علوّ، وصح له ما يبغيه، ثم انهدم السفل، فالقول في عمارة السُّفل والإجبار عليها، كما تقدم. 4212 - والغرض الآن أن ما اشتراه إذا سُلّم إليه، وثبتت يده عليه، ثم فرض التلف، فلا يكون ذلك بمثابة انهدام الدار المكراة؛ فإن الإجارة تنفسخ، وقد تقدّم أن المقصود من المعاملة التي نحن فيها منفعةٌ مؤبدة، فلا انفساخ؛ إذ لا خلاف أن

_ = الذي وصفه الإمام بهذه الصفات. (1) ضيق العطن: قلةُ الحيلة، والعجزُ (معجم). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: ما سماه علماء الشرع. (وواضح أن لفظ (علماء) مقحمة في الكلام). (4) مملوكة، أي تملك بعقد البيع للمشتري. (5) في الأصل: إلى تعيين. وهذا تقديرٌ منا.

السفل لو أعيد، فحق البناء ثابتٌ لمستحقه، والدار لو أعيد بناؤها، لم تعد الإجارة التي حكمنا بأنفساخها. فخرج مما ذكرناه أن التلف بعد التسليم لا يوجب الانفساخ، والعوض المأخوذ لا يرتد، ولكن من أتلف هذا الحق على إنسانٍ، ضمن له قيمتَه، فيقال له: [اغرَم] (1) قيمةَ حق البناء على هذا الموضع. 4213 - ولو باع صاحب السفل حقَّ البناء، ثم إنه أتلف السُّفل بعد التسليم، وغرمناه القيمة كما ذكرناه، وقررنا العوضَ في يده، فلو أعاد البناء بعد سنةٍ مثلاً، فيعود حق البناء. ويسترد تلك القيمةَ، ويُقضى بأنها سلمت في مقابلة الحيلولة، كما يغرَمُ الغاصب قيمةَ العبد المغصوب إذا أبق، وإذا رجع استرد العوض المبذولَ على مقابلة الحيلولة. 4214 - فإن قيل: فهل يغرَم متلفُ السفل لمستحق البناء على العلو أجرةَ البناء للمدة التي دامت الحيلولة فيها؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن هذا مما يبعد تبعيضه، ومن هدم على رجلٍ داره، غرِم أرشَ النقض، ولم يغرَم قيمة منفعة [الدار]، (2) بعد هدمها، كذلك القول في إتلاف السفل، وتعطيل حق البناء. ومن هذا الوجه يُشبّه المعقودُ عليه في هذه المعاملة بالعين المملوكة تتلفُ. والذي يوضح المقصود: أن حق البناء إذا عاد، فقيمته -وهو مؤبّد- لا تنقص عن قيمته قبل هذا بسنين وهو مؤبد، فإن ما يقدّر لا يُحطُّ مما لا يتناهى. وليس من حصافة الفقيه أن يقول: قد يستأجر الرجل علواً للبناء عليه عشر سنين، فلنوجب مثلَ ذلك العوض على من أوقع الحيلولةَ في تلك المدة؛ فإن مسألتنا مفروضةٌ فيه إذا عاد إليه الحق المؤبد، فليفهم الناظر، [ولْيتأنَّ] (3) في هذا المقام. فرع: 4215 - إذا كان للإنسان حق مجرى ماءٍ في ملك غيره واسترم (4) ذلك

_ (1) في الأصل: كم. (2) في الأصل: الدور. (3) في الأصل: "وليتأتي". (4) في هامش الأصل: "واستهدم" (نسخة أخرى).

[المجرى] (1)، فلا يجب على صاحب [الحق] (2) المشاركة في العمارة "فإن تيك العمارة تتعلق بأعيان الملك، وليست الأعيان لمستحق المجرى. ولو كان ذلك [الاختلال] (3) بسبب جريان الماء، فعمارةُ المجرى على مَنْ؟ هذا محتملٌ عندي، والظاهر أن العمارة لا تجب على مستحق الجري، ولعلنا نطلع [في] (4) ذلك على تصرفٍ لبعض الأصحاب فنلحقه بهذا المحل. فصل 4216 - إذا كان لرجل سُفل دارٍ، أو سفل خَانٍ (5)، وما فيه من بيوت، وأروقة، وصُفَف (6)، وكان علو الخان لآخر، وصاحب العلوّ كان يرقى من درجٍ في السفل إلى علوّه. فلو تنازعا في العرصة هي في يد من؟ فكيف التفصيل؟ قال علماؤنا: إن كان المرقى في آخر الخان، بحيث يخرق الماشي إليه العرصةَ، فالعرصةُ -والحالة هذه- في يد صاحب السفل والعلو جميعاً، فإنها محل انتفاعهما. أجمع الأصحاب على هذا في الطرق. وفي القلب من هذا أدنى شيء؛ من جهة أنا لا نلقى لصاحب العلو في العرصة إلا حقَّ الممر، وقد قدمنا في الفصل السابق أن حق الممر يجوز أن يُشترَى على حياله، ووجدنا لصاحب السفل حقُّ الممرّ، والتبسطُ في العرصة، بالوضعِ فيها، والجلوس، وما شاء من ذلك، وكان لا يبعد في طريق المعنى ألا يثبت لصاحب العلو

_ (1) في الأصل: الماء. (وهو سبق قلم). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: لاحتمالٍ. (4) في الأصل: على. (5) الخان: فارسيٌّ بحت، وهو الحانوت، وهو موجود في جميع اللغات الشرقية الدارجة، ويطلق على الدكان، والمخدع، والماخور. (هذا ما قاله أدّي شير. في معجمه: الألفاظ الفارسية المعرّبة) وفي المعجم الوسيط: فارسي معرّب، بمعنى: الفندق، والحانوت، والمتجر، والحاكم. قلتُ: والمراد هنا: المتجر. (6) صفف: جمع صفة، وهي الظلة، والبهو الواسع العالي السقف. (معجم).

إلا حقُّ الممرّ، فأمّا الملكُ في رقبة العرصة، فلا. ولم يصر إلى هذا أحدٌ من الأصحاب؛ فإنَّ المقصود الظّاهر من العرصات المرور؛ والذي يرقى إلى العلو لا يلزمه أن يستدّ (1) في مقابلة المرقى، ولو أراد أن يجلس ساعة، أو يقف، فلا منع. وكذلك جرى العُرف بأن صاحب العلو لا يُمنع من وضع شيء في عرصة الخان. فهذا منتهى القول في ذلك. 4217 - ولو كان المرقى في دهليز (2) الخان، فتنازعا في ذلك، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك: فمنهم من قال: اليد فيها لصاحب السفل. ولعله الأصح، ووجهه بيِّن. ومنهم من قال: هي في أيديهما، وهذا الخلافُ قرَّبَه الأصحابُ من التردد الذي ذكرناه في السكة المنسدّة (3) الأسفل (4)، إذا أشرع بعض السكان جناحاً في أسفل السكة، فهل يثبت لمن أعلاها حقُّ الاعتراض، ولا ممرَّ له في أسفل السِّكة، وهذا التشبيه قريب. ويمكن أن يقال: العلو محتفٌّ بالعرصة احتفافَ السفل، والهواء [محتوش] (5) بالسفلِ والعلو، فلا يبعدُ والحالة هذه أن تضاف العرصة إليهما؛ فإنه يقال: صحن الخان، وعرصة الخان، والعلو والسُفل من الخان. وهذا الذي ذكرناه ظاهر فيه إذا كان مالك العلو يحيط ملكه بالعلو كله. وإن ملك بعضاً منه، وملك إنسان بعضاً من السُفل، فالاستحقاق من المستحق على قدر الاستحقاق في السفل والعلو، على التفصيل الذي ذكرناه.

_ (1) يستد: يستقيم. (2) الدهليز: المدخل بين الباب والدار. (معجم). (3) في الأصل: المفسدة. وهو تصحيف عجيب. (4) في الأصل: الأسفل فيه إذا. (5) في الأصل: مخصوص. والمثبت من نسخة أخرى (بالهامش).

4218 - ولو كان المرقى على نصف العرصة لا في صدر الخان، فإن قلنا: اليد في العرصة لهما لو كان المرقى في الدهليز، فما الظن بهذه الصورة؟ وإن قلنا: يختص باليد على العرصة صاحب السفل، إذا كان المرقى في غير الدهليز، فاليد تثبت لصاحب العلوّ على ما يُسامت ممشاه من العرصة، وفيما وراء المرقى التردد الذي ذكرناه في أعلى السكة وأسفلها. وهذه الصورة على حالٍ أولى بأن تثبت اليد فيها لصاحب العلو على ما لا ممشى له فيه من العرصة. 4219 - ولو كان مرقى العلو خارجاً من خِطة الخان، فيبعد -والحالة هذه- أن يثبت لصاحب العلو يدٌ في العرصة، وليس كما لو كان المرقى في الدهليز؛ فإنَّ الدهليز من العرصة، فكان من العرصة كأعلى السكة من أسفلها. هذا قولنا في العرصة وثبوت اليد فيها. 4220 - فأمَّا الدرج والمرقى، فقد قال الأصحاب: إن لم يكن لصاحب السفل به انتفاع، ولم يكن تحته بيت مسكون، فاليد في المرقى لصاحب العلوّ فحسب. وإن كان ينتفع صاحب السفل بالدرج، بأن كان يصفف عليها الصفريّات (1) وغيرها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن اليد لصاحب العلو، كما ذكرناه. والثاني - أنهما مشتركان، فإنهما مشتركان في المنفعة. والأصح الأول؛ فإن الدرج لا تبتنى لذلك، وإنما تبنى للرقي فيها. ولو كان تحت المرقى بيت، وهو سقفه، فاليد لهما في الدرج؛ فإنها سقفُ أحدهما من جهة، وممرّ الآخر من أخرى، فصار كالسقف من السفل والعلو. ولو كان لا ينتفع صاحب السُّفل إلا بوضع الجدار والكيزان (2) تحت الدرج مستظلاً

_ (1) الصُّفر (بضم الصاد): النحاس، وفي (اللسان): قال الجوهري: الذي تُعمل منه الأواني. ا. هـ والمقصود هنا الأواني النحاسية. (ولعلها كانت وسيلة لعَرْض البضائع وحفظاً). (2) الكيزان: لم أصل إلى معنى لوضع (الكيزان) تحت الدرج، والاستظلال بها. وعلى فرض أن الضمير يعود على الجدران ليكون الاستظلال بها، فما معنى اختصاص الكيزان وحدها =

بها، فالظاهر أن ذلك لا يوجب له يداً في الدرج، وفيه شيء بعيد. 4221 - وأصل الدرج في يد من الدرج في يده؛ فإن مغرس الشجر، وأسَّ الجدار في يد من له اليد في الشجرة والجدار. وقد نجز الغرض من المسائل المقصودة في الصلح. وذكر المزني فصولاً معادة، قليلةَ الفائدة، سنجمعها في فصلٍ في آخر الكتاب. فصل قال: "وإن كان لرجلٍ شجرةٌ، أو نخلةٌ، فاستعلت أغصانُها ... إلى آخره" (1). 4222 - إذا غرس الرجل شجرة في ملكه، فعلت وانتشرت أغصانها في هواء ملك الغير، فله أن يمنعه من ذلك؛ فإن هواء ملكه حقُّه، وإن أمكن صرفُ الأغصان عن الهواء، بأن تضم إلى الشجرة، كفى ذلك، وإن كان لا يتأتى تفريغ الهواء إلا بقطع الأغصان، فلا بد من قطعها، إذا طلب صاحب الهواء تفريغه. وانتشار العروق تحت الأرض، كانتشار الأغصان في الهواء، والأرض أولى بالتنقية؛ فإنها مملوكة، والهواء حق الملك، والشكاير (2) التي تنبت على العروق المنبثة لمالك العروق، وإن حدثت في ملك الغير، خلافاً لأبي حنيفة.

_ = بالوضع تحت الدرج؟ ولعل في الكلام تصحيفاً. أو أن الكلمة (عامية) من ألفاظ التجار في ذلك العصر. هذا مع أننا لم نجدها في معاجم المعرب والدخيل (للشهاب الخفاجي، وأدّي شير، والجواليقي). وعبارة الرافعي: "وإن كان تحته (الدرج) موضع حب أو جرَّة، فوجهان ... والأصح أنه لصاحب العلو، لظهور بنائه لغرض صاحب العلو، وضعف منفعة صاحب السفل": فتح العزيز: (10/ 336 بهامش المجموع). (1) ر. المختصر: 2/ 225. (2) الشكاير: جمع شكيرة، وهو ما ينبت حول الشجرة من أصولها. (معجم).

فصل يجمع المسائل التي ذكرها المزني 4223 - ونحن نورد صورها، ونرمز إلى المُعاد، ونذكر ما يشتمل على فائدةٍ جديدة. فممَّا ذكره: أن (1) من صالح عن دراهمَ بدنانير، أو عن دنانير بدراهم، أو عن عين بدين، أو عن دين بعين، وكل هذا ممَّا تقدّم. وممَّا زاده أنه إذا جرى القبض في المجلس، فيتعلق القول بتفريق الصفقة (2). 4224 - وممَّا ذكره أن من ادعى داراً في يد إخوةٍ، وكانت تحت أيديهم على حكم الإرثِ في الظاهر، فقال المدعي: هذه الدار لي، كان غصبها أبوكم مني، فلو صدقه أحدُ الإخوة، وكذبه [الآخران] (3). فيثبت الثلث بتصديق ذلك المصدق. فلو صالحه الأخ المقِر على جميع الدار، فنقول: أما صلحه عما في أيدي إخوته، فسبيله كسبيل صلح الأجنبي عن العين المدعَى عليه مع إنكاره، وقد مضى، فإن صححناه، فذاك، وإن أبطلنا الصلح في حق الآخرين، فهل يصح في حقه؟ فعلى قولي تفريق الصفقة، وقد مضى هذا في تأصيل الكتاب. فصل (4) 4225 - إذا ادعى على رجلين داراً، فأقر له أحدُهما بنصيبه، وأنكر الثاني، فقد ثبت النصف بحكم الإقرار للمدَّعي، فلو صالحه المقر عن النصف الذي أقر به على مالٍ، فالصلح صحيح بينهما. فلو قال الأخ المنكر: آخذ هذا النصف بالشفعة، نُظر: فإن كان سبب استحقاق كل واحد منهما مخالفاً لسبب استحقاق الثاني، فيثبت

_ (1) لفظة (أنّ) لا موضع لها هنا، فالكلام بدونها مستقيم، والفقرة كلها فيها شيء. (2) واضح أن هنا سقطاً في الكلام، فأي تفريق للصفقة إذا جرى القبض في المجلس؟ ولعلها: "فإن جرى القبض في المجلس في بعضٍ، وبقي بعضٌ، فيتعلق القول بتفريق الصفقة" والله أعلم. (3) في الأصل: الآخر. والمثبت تقدير منا رعايةً للسياق. (4) في هامش الأصل: فرع - في نسخة أخرى.

للمنكر حقُّ الشفعة، كأن كان أحدهما اشترى نصيبه، والثاني ورثه من جهةٍ أخرى، أو اتّهبه. والسَّبب فيه أن السبب إذا اختلف، فليس في إنكار المنكر في نصيبه تكذيبُ المدعي في نصيب صاحبه، وإن كان ثبت حقهما ظاهراً من جهة واحدة لا تنقسم كالإرث مثلاً، فإذا ادّعى عليهما، فأقر أحدهما، وأنكر الثاني، ففي [ضمن] (1) إنكار المنكِر تكذيبُ المدّعي في جميع دعواه، فإذا جرى الصلحُ، وحكمنا بصحته بين المدّعي والمقر، فالمذهب الظاهرُ أنه لا يثبت حق الشفعة للمنكر، وأبعد بعض أصحابنا فأثبت له الشفعة، وهذا بعيد، لا أصل له؛ فإن الإنسان مؤاخذ بحكم قوله في حق نفسه. 4226 - وممَّا ذكره المزني أن من ادعى داراً في يد إنسانٍ، فأقر المدعى عليه بها، ثم صالحه على أن يبني (2) على سطحها، [جاز] (3)، وهذا كلام عري عن التحصيل، وحاصله أنه أقر بالدار، ثم طلب منه أن يُعير منه سقفها ليبني عليه، وليس هذا مما يورد في المختصرات. 4227 - وممَّا ذكره المزني نقلاً عن كتاب أدب القاضي (4) أن الشافعي قال: "لو كان البيت علوُّه لواحد، وسفلُه لآخر، فأرادا أن يقتسماه على أن يصير العلوّ لصاحب السُّفل، والسفل لصاحب العلو، قال الشافعي: لا يجوز ذلك". وإنما نقل هذا تأكيداً لمذهبه في أن حق البناء لا يجوز بيعه، وهذا كلام مضطرب؛ فإنه يجوز بيع العلو بالسفل، وإنما أورد الشافعي هذا في سياق ما لا يجبر عليه من أنواع القَسْم، وعد منها ما نقله، ولم يُرد منعَ التبادل إذا صدر عن تراضٍ منهما، ثم أنَّى هذا من مراد المزني في

_ (1) في الأصل: ضمان. (2) أي المدعى عليه المقر، كما هو صريح لفظ النووي: الروضة: 4/ 221. (3) سقطت من الأصل، وزدناها، حيث لا يتم الكلام بدونها. وهذا لفظ النووي في المرجع السابق نفسه. والمزني يمنع ذلك، بناءً على أصله في منع بيع حق البناء على السطح. (مختصر المزني: 2/ 225). (4) ر. مختصر المزني: 2/ 226. ونص عبارته: "هذا عندي غيرُ منعه في كتاب أدب القاضي أن يقتسما داراً على أن يكون لأحدهما السفل، وللآخر العلو، حتى يكون السفل والعلو لواحدٍ".

بيع حق البناء، والمسألة التي نقلها في بيع العلو بالسفل، والعلو مبني كالسفل. 4228 - ومما نقله المزني مسألة معادة في شراء الزرع (1)، ونحن نطردها بمزيد فائدة فيها، فنقولُ: إذا ادّعى رجل على رجل زرعاً في أرضٍ، فاعترف المدعى عليه، وصالح عن الزرع على شيء، فلا بُدّ من شرط القطع؛ فإن الصلح مع الإقرار بيعٌ. وإن لم يجر شرطُ القطعِ، والأرضُ لغيرِ المقر، لم يجز. وإن كانت الأرض للمقر، ففي المسألة وجهان، تقدّم ذكرهما، في باب بيع الثمار، إذ ذكرنا أن من اشترى النخلة والثمرة جميعاً، فليس عليه شرط القطع، وإن اشترى الثمرة وحدها قبل بدوّ الصَّلاح، فلا بد من شرط القطع. وإن كانت الشجرة له والثمرة لغيره، فاشترى الثمرة، وضم ملكها إلى ملك الشجرة، ففي اشتراط القطع الخلاف الذي ذكرناه الآن في الزرع. 4229 - فلو أقر المدعَى عليه بنصف الزرع، ثم أراد بيعَه، وهو أخضر، أو المصالحةَ عنه حيث يشترط القطع، فالبيع فاسد؛ فإنّ قطعَ النصف غيرُ ممكن، ولا يتوصل إليه إلا بقطع الجميع (2). قال الأصحاب: لا يتصور [شراء] (3) نصف الزرع بشرط القطع، إلا في صورة واحدةٍ، وهي إذا كانت الأرض والزرع مشتركين بين شخصين، فاصطلحا على أن يصير الزرع خالصاً لواحد، والأرض خالصة لآخر، بشرط القطع. قيل: يصح، ويلزم قطع النصف، بحكم شرط القطع فيه، وقطع النصف بحكم تفريغ المبيع (4)، وهي الأرض، وهذا فيه نظر. وقد منع طائفة من المحققين البيعَ في هذه الصورة أيضاً؛ فإن تفريغ الأرض من

_ (1) ر. مختصر المزني: 2/ 226. (2) لأن الإقرار بنص شائع في جميع الزرع، فلا يتأتى قطعه وحده. (3) في الأصل: سوى. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. (4) أي في هذه الحالة يصح شرط قطع النصف؛ لأن الزرع سيقطع كُلُّه، نصف بشرط القطع، ونصفه للآخر إخلاءً للمبيع.

الزرع لا يجب بقطعه، وإذا شُرط، لم يجب الوفاء، فيبقى تعذّر استحقاق القطع. ثم الذين قالوا بالصحّة، بناءً على شرط تفريغ الأرض، فلست أدري ما قولهم في أن شرط التفريغ هل يجب الوفاء به؟ أم هو على الجواز؟ هذا محتمل؛ من جهة أن هذا ليس في المعقود عليه من الزرع، وإنما هو في بيع حصّةٍ من الأرض. ولو باع رجلٌ أرضاً مزروعة، واستثنى الزرع لنفسه، وشرط قلع الزرع، وتفريغ الأرض منه، ففي وجوب الوفاء تردد للأصحابِ، قدمت رمزاً إليه في بيع الثمار. وهذا منزَّلٌ على ذلك. فرع: 4230 - إذا كان للرجل حقُّ مسيل ماءٍ في أرض الغير، فليس له أن يدخل الأرض من غير سبب وحاجةٍ. ولكن إن مسَّت الحاجة إلى تنقيته من الحَمْأة (1)، وسدِّ البثق (2)، وغيره، فله طروق الأرض، لهذا السَّبب. هكذا قال الأصحاب. * * *

_ (1) الحَمَأ: الطين الأسود المنتن، والحمأةُ القطعة منه. (معجم) وهو يترسب عادة في مجاري المياه، فيعوق سيرها. (2) البثق: موضع انبثاق الماء من نهرٍ ونحوه (معجم).

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة 4231 - الأصل في الحوالة ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَطل الغني ظلم وإذا أُتبع أحدُكم على مليءٍ فليَتْبع" (1). وفي رواية "ليُّ الواجد ظلم، فإذا أحيل أحدكم على مليءٍ، فليَحْتل". والحوالة مجمعٌ عليها، ونسُمِّيها من طريق المعنى الارتفاقَ الظاهر، وهي في مخالفتها قياسَ (2) البياعات، لما فيها من الحاجة الحاقّة - تشبهُ (3) القرضَ، والسلمَ، والإجارةَ، وكلَّ عقدٍ أثبته الشرعُ مُرفِقاً خارجاً عن قياس النظائر. 4232 - وأصل الحوالة في اللغة من الإحالة والتحويل، وصورتها في محل الوفاق بيّنة، ومدارها على ثلاثة أشخاص: المحيل - وهو من عليه الحق، والمحتال - وهو صاحب الحق، والمحال عليه - وهو الذي يحال بالحق عليه، وعليه للمحيل مثلُ ما كان للمحتال على المحيل، ولا يخفى أن الحوالة متضمنها مقابلةُ دين في ذمةٍ بدين في ذمةٍ أخرى. 4233 - وقد اختلفت عبارة الأئمة عن حقيقتها وماهيتها، فقال قائلون: الحوالة معاوضة؛ لأن المحتال يعتاض ما للمحيل في ذمة المحال عليه عمَّا له في ذمة المحيل، والمحيل يعوّضه ماله في ذمة المحال عليه عما عليه للمحتال. 4234 - وقال قائلون من أئمتنا: الحوالةُ استيفاءٌ، ومن كان له دين، فاستوفاهُ،

_ (1) حديث أبي هريرة متفق عليه. وقد سبق الكلام عنه، وعن الرواية الأخرى في أول باب حبس المفلس. (2) في الأصل بالرفع (قياسُ) وهو من الأخطاء الكثيرة في هذه النسخة السقيمة. (3) هذه الجملة الفعلية في محل رفع خبر لقوله: "وهي في مخالفتها ... ".

فما قبضه ليس نفسَ الدين؛ فإن الدين لم يكن متعيناً، وليس ما عُيّن عوضاً عن الدين هو الدين أيضاً، بل هو الحق الموفَّى، كذلك الحوالة أقيمت استيفاءَ حقٍّ، حتى كأن المحتالَ استوفى ما في ذمته (1) عما كان له في ذمّته (2)، وصار استحقاقه على المحال عليه، وحلوله محل المحيل نازلاً منزلة استيفاء عينٍ عن دين. 4235 - وقال قائلون: تسمية الحوالة معاوضة محضة غير سديد، وتسميتها استيفاء محضاً غير سديد، والصحيح أنها متركبة من المعاوضة والاستيفاء، فهي معاوضةٌ ضمِّنت استيفاءً، واستيفاءٌ بطريق المعاوضة. وأقرب شيء شبهاً بها ما لو أخذ مستحق الدين عوضاً عمّا له في ذمة المديون، فهذه معاوضة تضمنت استيفاء الحق. 4236 - وذكر شيخي بعد تزييف محض المعاوضة والاستيفاء قولين عن ابن سريج في حقيقة الحوالة: أحدهما - أنها معاوضة باستيفاء، والثاني - أنها ضمان بإبراء، فكان هو (3) عن حق المحيل. أمّا القول الأوّل - فهو الصحيح. وحاصل الخلاف أن الغالب على الحوالة معنى المعاوضة ومعنى الاستيفاء، فأما تضمنها المعنيين، فلا خلاف فيه. وأمّا القول الثاني - وهو أنّها ضمان بإبراء، فليس له معنىً في أصل الحوالة؛ فإن المحتال يملك ما في ذمة المحال عليه في مقابلة ما كان له على المحيل، وإنّما تحسن هذه العبارة إذا لم يكن على المحال عليه دين، كما سنصف ذلك بعد هذا، إن شاء الله تعالى. 4237 - ثم الأصل في الحوالة الأشخاص الثلاثة الذين ذكرناهم. ورضا المحيل والمحتال (4) معتبرٌ، أمّا رضا المحيل؛ فإنما اعتبر؛ لأنه مالك الدين على المحال عليه، فلا يُسْتَحَقُّ عليه ماله على المحال عليه دون رضاه، وأمّا المحتال، فحقه ثابت

_ (1) ما في ذمته: أي ما في ذمة المحال عليه. (2) عما كان له في ذمته: أي ذمة المحيل. وعبارة الأصل: "عما كان له (ما) في ذمته" بزيادة لفظ (ما) ولعل في العبارة سقطاً أو خللاً. (3) كذا. والمعنى: فكأن المحال عليه ضمن الحقَّ عن المحيل، وأبرأه المحتال. (4) في الأصل: "والمحتال عليه" بزيادة كلمة (عليه). وهو سبق قلم من الناسخ.

على المحيل، فلا يتحول حقُّه دون رضاه. والعبارة الجامعة لهما أنهما على مرتبة المعاوضِيْن، فلا بد من رضاهما. وأمّا المحال عليه، فالمذهب أنه لا يشترط رضاه؛ لأنه متصرَّفٌ فيه؛ ورضا محل التصرف لا يشترط في المعاملات، والمحيل والمحتال متصرفان. وقال أبو حنيفة (1) يعتبر رضا المحال عليه، وهو اختيار الاصطخري من أصحابنا. وهذا ضعيف لا اتجاه له. 4238 - وممَّا نذكره في تأسيس الكتاب التفصيلُ فيما تجري الحوالة فيه. قال الأئمة: يشترط فيما تجري الحوالة فيه أمران: أحدهما - التجانس بين الدَّيْنين. والثاني - استقرار الدين، ولزومُه، على ما نصفه. 4239 - فأمَّا القول في التجانس، فلا تصح إحالة الدراهم على الدنانير، وإحالة الدنانير على الدراهم، وكذلك لا يصح إحالة الصحاح على المكسر، وإحالة المكسرة على الصحاح؛ فإن الحوالة إذا اشتملت على ما ذكرناه، لم تخل عن عوضٍ للمحيل أو المحتال، يستفاد مثله في المعاوضات المحضة، وليس في الحوالة معاوضة محضة. وكشْفُ ذلك أن الدين على المحيل إن كان صحاحاً، فيستحيل أن يزول الاستحقاق عن صفة الصحة من غير قبضٍ حسِّي؛ فإنه لو قال (2): أبرأتك عن الصحة، لم يصح، وكذلك عكس هذا. [فوعد] (3) المحتال لا يتحقق قبل القبض الحسي. 4240 - ولو كان ما على المحيل [حالاً، فالإحالة] (4) على مؤجل لم تجز؛ لما ذكرناه من الغرض المشعر بحقيقة المعاوضة، ولو حكمنا بالصحة، لكان معنى الكلام أن يلتزم المحتال تأخيراً لم يكن. ولو أحال مؤجّلاً على حالّ، المذهب أنه لا يصح؛ لغرض المحتال. ومن أصحابنا من قال: يجوز ذلك، إذا غلّبنا معنى الاستيفاء على الحوالة؛ فإن الدين المؤجَّلَ لا يمتنع تعجيل توفيته، فلتكن الإحالة على حالّ بمثابة تعجيل دين مؤجَّل. وهذا إن كان يخرّج، فعلى تغليب معنى الاستيفاء، ولكن يلزم

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 102، البدائع: 6/ 15، حاشية ابن عابدين: 4/ 289. (2) قال: أي قال المحتال. (3) في الأصل: "موعد في". والمثبت والحذف تقدير منا. (4) في الأصل هكذا: "خلافاً لإحالة" والمثبت تقديرٌ منا على ضوء المعنى والسياق.

منه تصحيحُ إحالة الصحاح على المكسرة، والمكسرة على الصحاح؛ فإن ذلك يجري في الاستيفاء أيضاًً مع الرضا، من غير احتياج إلى اعتياض. وكان (1) شيخي ربما يذكر وجهاًً، ويقول: كلّ ما لا يؤخذ [في مقابلة الدين إلا معاوضة، فلا تجوز الحوالة عليه، وكل ما يؤخذ] (2) استيفاء من غير حاجةٍ إلى الرضا، فيجوز إحالةُ الدين عليه إذا كان ديناً، وكل ما يجوز استيفاؤه، ولكن يشترط فيه الرضا، ففي جواز الإحالة الخلافُ الذي ذكرناه. والظّاهر المنع. وقال العراقيون: كل ما هو من ذواتِ الأمثالِ يجوز أن يحال الدين فيه على مثله، وما ليس من ذواتِ الأمثالِ إذا فرض دينان مع اتحاد الجنس والنوع، فهل تصح الإحالة فيه؟ فعلى وجهين. ويمكن تصوير ثبوت العروض والحيوانات في الذمة، في القرضِ على وجهٍ ظاهرٍ لا يحتاج إلى ردّ الأمر إلى الحوالة في السلَم. هذا قولنا في أحد الوصفين المعتبرين، وهو التجانس. 4241 - فأما الوصف الآخر وهو الاستقرار، قال الأئمة: لا تصح الحوالة على نجم الكتابة، ولا بنجم الكتابة، كما لا يصح ضمانه. وحكى العراقيون وجهاً غريباً عن ابن سريج: أنه صحح ضمانَ النجم، والحوالةَ به، وعليه. وهذا يأتي مشروحاً في أول كتاب الضَّمان، إن شاء الله. وقال العراقيون: الحوالة على نجم الكتابة فاسدةٌ على ظاهر المذهب (3)، فأمَّا إذا أحال المكاتَبُ بالنجم على دينٍ ثابت، فهو صحيح؛ لأنَّ (4) الجائز لا يضر أن يكتسب

_ (1) في الأصل: فكان. (2) في الأصل خللٌ في العبارة والمثبت تصرف منا، نرجو أن يكون صواباً. كنا قد تصرفنا وأقمنا النص من عند أنفسنا وعند مراجعة تجارب الطباعة جاءني تلميذي وابني الحبيب علي الحمادي بالنص كاملاً، نقله التاج السبكي في الأشباه والنظائر، فأخذنا منه السقط الذي بين المعقفين. (ر. الأشباه والنظائر: 1/ 311، 312). (3) لأن نجوم الكتابة غيرُ لازمة على المكاتَب، وله إسقاطها، متى شاء، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال. (4) التعليل -بقوله (لأن) - لجواز الحوالة بنجم الكتابة، فالمعنى: أنه تصح إحالة السيد بنجم الكتابة -على جوازه- لأن تحصيل الجائز واكتسابه، لا منع منه.

نادراً. والذي ذكره القاضي منعُ الحوالة بالنجم وعلى النجم؛ فإن وضع النجوم على الجواز. وتحصيل القول في هذا عندنا أن المكاتب يُحيل بالنجم الأخير الذي يحصل العتق به، وكذلك يحيل بجميع النجوم دفعة واحدة. فأما الإحالة على المكاتب بالنجم الأخير لا (1) يجوز؛ إذ لو قدر جوازُها، لما عَتَقَ المكاتَب؛ إذ عتقه يوجب براءَته، وإذا برىء، فما الذي يؤديه إلى المحتال؟ بخلافِ الحوالة بالنجم (2)؛ فإن الدين يبقى في ذمة المحال عليه، ويعتِق. 4242 - هذا ولم يذكر في شرط الحوالة ما لا خفاء به، وهو أن تتعلق بدينين، ولا يجوز فرضُ عَيْنٍ في أحد الشقين. 4243 - ومما يتعلق بأصول الكتاب الحوالة على من لا دين عليه، وقد ذكر ابن سريج فيها وجهين: أحدهما - أنها لا تصح. والثاني - أنها تصح، وخرَّج هذا على تغليب المعاوضة أو (3) الاستيفاء، وقال: إن قلنا: إنها معاوضة، لم يصح؛ إذ لا عوض في أحد الشقين، وإن قلنا: استيفاءٌ، صح. وكأنَّ من لا دين عليه وفّى الدين على مستحقه، وذلك غير ممتنع. وهذا كلام مختلط. والصحيح عندنا [أن] (4) يخرّجَ هذا على أصلٍ سيأتي في الضمان، وهو أن الأجنبي الذي لا دين عليه لو ضمن ديناً على إنسان، على شرط براءة المضمون عنه، ففي صحة ذلك وجهان سيأتي ذكرهما، والذي نحن فيه بهذه المثابة؛ فإن المحال عليه لا دين عليه، وإنما التزم على شرط أن يبرأ من أحال عليه، وليس ما نحن فيه مأخوذاً من ذلك، بل هو عينه. 4244 - ثم إن قلنا: الحوالة على من لا دين عليه باطلةٌ، فلا كلام.

_ (1) هكذا جواب أما بدون الفاء. كما تكررت الإشارة إليه مراراً. (2) أي الأخير. كما هو ظاهر من السياق. ويبدو أن لفظ (الأخير) سقط من الناسخ. (3) في الأصل: والاستيفاء (بالواو). (4) زيادة من المحقق.

وإن قلنا: صحيحة، فقد ذكر العراقيون وجهين في أنها جائزة، أو لازمة: أحدهما - أنها لازمة، ولا يكاد يخفى معناها. والثاني - أنها جائزة، وللمحال عليه الفسخ، ولا يتوجه عليه المطالبةُ، ولا يتم الأمر ما لم يُسلَّم الدينُ إلى المحال، فإذا سلِّم، لم يملك الاستردادَ. ووجه الجواز عندي باطل ملغىً، لا أصل له؛ إذ لا أثر لقول القائل: الحوالة صحيحة، ولا مطالبةَ، وقولُ هذا القائل: إن الغرض يتم بالتوفية لا حاصل له، مع العلم بأن أجنبياً لو وفَّى دينَ إنسان، وقع الموقع. 4245 - ومما يتفرع على ذلك أن المحالَ عليه إذا لم يكن عليه دين، وصححنا الحوالة، وألزمناها، فقد قطع العراقيون بأنه يملك مطالبة المُحيل بتحصيله، قبل أن يغرَم للمحتال. قال الشيخ أبو علي: لم يذكر الأصحاب غيرَ ذلك، وقطعوا أقوالهم به إلا القفالَ؛ فإنه ذكر لذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - ليس له مطالبةُ المحيل [بتحصيله] (1)، ولكن إذا غرِم المحال عليه للمحتال، فنقول: إن تقبّلَ الحوالةَ على شرط الرجوع على المحيل، فإذا غرم، رجع عليه. وإذا لم يشترط الرجوعَ، فإذا غرِم، فهل يرجع؟ فعلى وجهين: سيأتي [نظيرهما] (2) في كتاب الضمان، إن شاء الله تعالى. 4246 - وممّا ذكره العراقيون في تفريع ذلك أن المحال عليه الذي لا دين عليه، إذا أبرأه [المحتال] (3) عمّا التزمه. قالوا: لا يرجع على المحيل؛ لأنه لم يغرَم شيئاًً. ولو غرِم للمحتال ما التزمه بطريق الحوالة، ثم إن المحتالَ وهب عين ما قبضه من المحال عليه، فهل يملك المحالُ عليه الرجوع على المحيل؟ فعلى قولين مأخوذين من أصلٍ [في] (4) كتاب الصداق.

_ (1) في الأصل: بتخليصه. والمثبت تقدير منا على ضوء العبارة السابقة. (2) في الأصل: نظرهما. (3) في الأصل: المحيل. (وهو وهم عجيب، من أوهام هذه النسخة التي لا تحصى). (4) زيادة من المحقق.

وهو أن المرأة لو وهبت صداقها من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يرجع عليها بنصف قيمةِ الصّداق، أو لا رجوع عليها؟ فعلى قولين مشهورين: قال شيخي: إذا أصدق امرأته دَيْناً، ثم إنها أبرأته، فطلقها قبل المسيس، وقلنا: لو وهبت الصداق قبل الطلاق، لم يملك الزوج الرجوع عند الطلاق بشَطر الصداق، فإبراؤها بذلك أولى. وإن قلنا: لو وهبت الصداق قبل الطلاق، ملك الزوج [الرجوعَ] (1)، ففي الإبراء قولان. ثم قال: إبراء المحال عليه، الذي لا دين عليه كبراء المرأة زوجَها، ورجوعُ المحال عليه على المحيل كرجوع الزوج بنصفِ الصَّداق عند الطلاق. 4247 - ومما يتعلق بأصولِ الحوالة أنها إذا تمت على شرطها، ثم طرأ على المحال عليه إفلاسٌ، أو جَحْدٌ للحق، ولم يصادف المحتال بيّنةً [يُقيمها] (2)، فلا يرجع على المحيل أصلاً، وليس إفلاسُ المحال عليه كإفلاس المشتري بالثمن، وقد ذكرنا معتمدَ المذهب في القاعدتين في (الأساليب). 4248 - ولو أحيل على من ظنه غنياً، ثم تبين أنه كان عند الحوالة مفلساً، فهل يثبت له حق الفسخ والإفلاسُ مقترنٌ بالحوالة؟ فعلى أوجهٍ؛ جمعتها من الطرق: أحدها - أنه لا خيار؛ فإن الحوالة في وضعها إذا صحت، لم تحتمل الفسخ؛ إذ هي قاطعةٌ للعلائق بالكلية. والوجه الثاني - أنه يَفسخ تداركاً لما لحقه وما كان مطلعاً عليه، وليس كالإفلاس الطَّارىء؛ فإنا قد نجعل الحوالة في نفسها بمثابة قبض الحق، والطريانُ بعد القبض لا يُثبت الفسخ. فأما إذا اطّلع القابض على عيب قديم، فالذي تمهد في الشرع ثبوت الفسخ. ومن أصحابنا (3) من قال: إذا كانت الحوالة مُطلقة، فلا خيار، وإن جرى فيها شرطُ مَلاءة المحال عليه، ثم اختلف الشرط، فيثبت الفسخ إذ ذاك؛ فإن الحوالة أُنشئت على اقتضاء [الدين] (4)، فيجب الوفاءُ بموجبها، فإن قيل: هل صار إلى نفي الخيار مع

_ (1) سقطت من الأصل. (2) في الأصل: بقيمتها. (3) هذا هو الوجه الثالث. (4) في الأصل: المدّة. وهو تصحيف واضح.

الشرط وإخلافه أحدٌ من الأصحاب؟ قلنا: نعم. ذهب إليه ذاهبون، فصاروا إلى حسم (1) الفسخ، وإلغاء الشرط. حكاه العراقيون. 4249 - وتردُّدُ الأصحابِ في قبول الحوالة الفسخَ عند الاطلاع على فلس المحال عليه يقرب من ترددهم في أن الحوالة هل يلحقها خيار المجلس والشرط؟ وفيه خلافٌ قدمته في أول البيع. مبنيٌّ على أن حكم المعاوضة أغلبُ على الحوالة؟ أم حكم الاستيفاء، وفيه الخلاف الذي مهدناه الآن. فرع: 4250 - إذا كان الدين على المحيل مؤجَّلاً، وكذلك على المحال عليه، واستوى الأجلان في مقدارهما، صحت الحوالة. فلو مات المحيل، فلا يَحِل الدين بموته؛ فإنه قد تحول الدَّين عن ذمته، ولو مات المحال عليه، فيحل الدين حينئذ؛ س فإنه المديون الآن. ذكره العراقيُّون وغيرُهم. ولا خفاء به. ولكني أحببتُ نقله منصوصاً. * * *

_ (1) حسم: أي منع.

باب في مسائل

بابٌ في مَسائِلَ قال المزني: [تحريتُ فيها] (1) معنى قول الشافعي رضي الله عنه، "فمن ذلك: لو اشترى عبداً بألف درهم ... إلى آخره" (2). 4251 - صورة المسألة أنه إذا باع عبداً من رجل بألفِ درهم، وأحال المشتري البائعَ على رجلٍ بالثمن، ثم اطلع على عيبٍ قديم بالعبد، فرده، فالذي نص عليه المزني هاهنا (3): أن الحوالة ترتد، وتبطل، ونص في المختصر الكبير (4) أنها لا تبطل. ومنصوصات المزني في مجال التحرِّي معدودةٌ من مَتْن المذهب، وهي عند المصنفين كنصوص الشافعي، فالذي ذهب إليه الجمهور تخريجُ المسألة على قولين مخرّجين مبنيين على أن الغلبةَ للمعاوضة أو للاستيفاء؟ فإن جعلناها معاوضة، لم نبطلها، كما لو اعتاض البائع عن الثمن ثوباًً اعتياضاً صحيحاً، ثم وجد المشتري بالعبد المشترَى عيباً، فردّه، فلا يرتد ما جرى من الاعتياض عن الثمن، فلتكن الحوالة كذلك، بل الحَوالة أولى، بألا تنفسِخ؛ فإنها بعيدةٌ عن قبولِ الفسخ. وإن جعلنا الحوالة استيفاءً، بطلت؛ لأنها نوعُ رِفقٍ في الاستيفاء، فإذا بطل الأصلُ، بطل الرِّفْق الذي كان تبعاً له، كما لو باع بألفٍ مكسرٍ، فقضاه المشتري صِحاحاً، ثم رد المبيعَ بالعيب، فإنه يسترد الصحاح. وليس للبائع أن يقول: أغرَم

_ (1) زيادة من نص المختصر. (2) ر. المختصر: 2/ 227. (3) ها هنا: أي في المختصر المعروف. (4) المختصر الكبير هو للمزني أيضاًً، جمع فيه -كضَرِيبه المختصر المعروف- نصوص الشافعي، وقد يسمى (الكبير) بدون ذكر المختصر، وهو أقل شهرة وذكراً في الكتب وعلى لسان الأئمة من (الصغير) المشهور الذي يعرف بـ (المختصر) فقط بدون أي وصف. والكبير قد يسمّى (الجامع الكبير) كما سماه الرافعي في هذا الموضع. (ر. فتح العزيز: 10/ 346 بهامش المجموع).

المكسرَ، ليسلم لي ما سمحتَ به من الصحة؛ لما ذكرناه في (1) التبعية. ولو اشترى بالصحاح أولاً، ثم رضي البائع بالمكسر، فإذا ردّ المشتري بالعيبِ، فلا يرجع إلا بالمكسر. 4252 - ومن أصحابنا من قال: إن جرى فسخُ البيع قبل قبض المبيع، ارتفعت الحوالة. فإن جرى الفسخ بعد القبض، لم ترتفع. وهذا القائل يفصل بين الحالتين بتعرض البيع لقبول الفسخ قبل القبض. وهذا مزيفٌ. والأصل إطلاق القولين قبل القبض وبعده. 4253 - وكان شيخي يقول في التفريع على هذه القاعدة: ولو أحال المشتري البائعَ بالثمن على إنسانٍ في زمن الخيار الثابت في البيع، فالأصح صحةُ الحوالة، وإن كان العقد جائزاً، بخلاف الحوالة في تجويز الكتابة؛ فإن عقد البيع، وما فيه من عوضٍ، لا يلتحق بالأعواض الجائزة التي لا ثبات لها. والخيار طارىء [فيه] (2)، فإذا أفضى في العاقبة إلى اللزوم، كان الحكم على موجب اللزوم. 4254 - ومن أصحابنا من منع الحوالة في زمان الخيار، مَنْعَ (3) ضمان النجوم، ثم قال: إذا صححنا الحوالة في زمان الخيار، ففُسخ البيعُ بالخيار، ارتدّت الحوالة بلا خلاف؛ فإنها إنما صحت على تقدير إفضاء البيع إلى اللزوم، فإذا لم يُفضِ إليه، فلا سبيل إلى التزام الحوالة في الثمن، وقطع الخيار في المبيع. التفريع على القولين في صورة الرد بالعيب: 4255 - فإن قلنا: لا تبطل الحوالة، فالمشتري هل يرجع على البائع بما أحاله؟ نُظر: إن كان البائع قبضه، فلا شك أنه يرجع عليه، ولا يتعين عينُ ما قبضه، فإن أحبّ أتى ببدلٍ عنه، وتعليله بيّن. وان لم يكن قبض البائع من المحال عليه، فهل يرجع المشتري على البائع؟ فعلى

_ (1) "في" هنا مرادفة لـ (من). (2) في الأصل: فيها. (3) في الأصل: "في منع" بزيادة (في).

وجهين: أقيسهما - أنه يرجع؛ لأن الحوالة أقيمت مقام الإقباض في وضعها، بل هي أقوى من الإقباض؛ فإن القبض قد يُنقض، والحوالةُ بعيدةٌ عن قبول النقض. والثاني - لا يرجع عليه؛ لأن الاسترداد على حسب الإقباض، وهو لم يقبضه حساً، فكيف يسترد منه حساً، بل سبيل الاسترداد أن يقع إذا حصل القبض الحقيقي. 4256 - ثم إن قلنا: الحوالة باقية، فلا شك أن البائع يطالب المحال عليه بتوفية مال الحوالة، فلو أبرأه على هذا، فيضمن حينئذ [للمشتري] (1) الثمنَ؛ فإنَّ إبراءه بمثابة استيفائه. وممّا ينشأ من ذلك: أنا إذا قلنا: لا يرجع المشتري على البائع قبل قبض مال الحوالة، فهل يملك مُطالبتَه بمُطالبة المحال عليه أم لا؟ من أصحابنا من قال: يملك مُطالبتَه على النحو الذي ذكره؛ لأن البائع مالكٌ لمطالبة المحال عليه، فيبعد أن يمتلك البائع ذلك من جهة المشتري، ولا يثبت للمشتري أصلُ توجيهِ المطالبةِ. ومن أصحابنا من قال: لا يملك المشتري الرجوعَ بالثمن، ولا المطالبةَ بتحصيله. وهذا بعيدٌ جداً. 4257 - وإن حكمنا بأن الحوالة تنتقض برد المبيع، فإنْ كان قبض المال قبل الرد، فهل نحكم بأنتقاض الحوالة الآن؟ وفائدةُ ذلك أن يتعين على البائع ردُّ عين ما قبضه؟ أم نحكم بأن الحوالة لا تقبل النقضَ بعد قبض المال من المحال عليه؟ فعلى وجهين، وفائدة قولنا: لا تنتقض، أن البائع لو أراد أن يأتي ببدَلٍ عما قبضه، ولا يردّ عينَه، كان له ذلك. ولو لم يقبض البائع المالَ من المحال عليه حتى حكمنا بارتفاع الحوالة، فلا شك أن المطالبة تنقطع عن البائع، وينقلب الدّينُ في ذمة المحال عليه، بعد الحكم بانفساخ الحوالة، فلا شك أنه لا يقع قبضُه لنفسه. ولكن هل يقع عن المشتري؟ فعلى وجهين ذكرهما شيخي: أحدهما - وهو الذي لا يتجه غيرُه - أنه لا يصح قبضُه للمشتري؛ فإن الحوالة لم تقع للمشتري، وإنما وقعت للبائع، فإذا انفسخت وزالت، لم يبق لها أثر، ويستحيل أن تنعكس الحوالة وكالةً بالاستيفاء. والوجه الثاني - أن قبضه يصح عن المشتري؛ فإنه جرى الأمر بالقبض على جهةٍ،

_ (1) في الأصل: "المشتري" والمثبت تصرف منا.

فإن بطلت تلك الجهة، بقي الأمر المطلق. وهذا بعيد. وكان شيخي أبو محمد يقرّب هذا الاختلاف من أصلٍ بعيد عن وضع المعاملاتِ، وهو أن من تحرّم بصلاة الظهر، قبل الزوال، وحكمنا بأن صلاته لم تنعقد فرضاً، فهل يُقضى بأنعقادها نفلاً؟ فعلى قولين، أجريناهما في هذه المسألة وفي نظائرَ لها. 4258 - ولو أصدق الرجل امرأته ديناً، ثم أحالها زوجها بصداقها على إنسان، وطلقها قبل المسيس، فهذا في نصف الصداق يناظر ما لو أحال المشتري البائعَ بالثمن، فهل يُحكم ببُطلان الحوالة في نصف الصَّداق؟ اختلف أصحابنا على طريقين: منهم من أجراه على القولين المذكورين في البيع، ومنهم من قطع القول بأنّ الحوالة لا تبطل؛ وذاك لأن الطلاق ليس بفسخٍ في الحقيقة، بل هو تصرف في الملك، وليس كذلك الرد بالعيب، والصداق في الجملة أثبت من غيره. ولهذا قلنا: إن الصداق إذا زاد في يد الزوجة زيادةً متصلة، منعت تلك الزيادةُ ارتدادَ النصف عند الطلاق قبل المسيس، ولا تمنع الزيادةُ نفوذَ شيء من الفسوخ. ولو كان الصّداق يرتد إلى الزوج بسبب فسخ من الفسوخ، فالقول في الحوالة كالقول في العقد الذي يطرأ عليه الرد بالعيب، ولا فرق، وإنما التردد في الطلاق. 4259 - ولو باع الرجل عبداً بألفٍ، ثم أحال البائع رجلاً له عليه [مثلُ] (1) الثمن، فأحاله على المشتري، ثم وجد المشتري بالعبد عيباً، فرده، فالأظهر في هذه الصورة أن الحوالة لا تنفسخ؛ لأنها تعلقت بثالثٍ؛ إذْ (2) تحقق تعلقُها بغير المتعاقدَيْن. ومن أصحابنا من أعاد ذكرَ الخلاف في هذه الصورة، وجعل الحوالة على المشتري كإحالة المشتري البائع على إنسان، وعلل بأن الحوالة وإن تعلقت باستحقاق ثالثِ؛ فإنها تبعٌ للبيع والتبعية لا تزول (3). وهذا وإن كان منقاساً، فهو غريب، حكاه العراقيون، والقاضي، وغيرُهم.

_ (1) في الأصل: مِن. (2) في الأصل: "وإذا تحقق تعلقها بغير المتعاقدين" والمثبت تصرفٌ منا. (3) في الأصل: لا تزول في هذا ...

وإذا وقع التفريع على الأصح، وهو أن الحوالة تبقى ولا تنفخس، فإذا فسخ المشتري العقدَ بالرد، وكان غرِم للمحتال، فلا شك أنه يرجع على البائع [وإن لم يكن غرِم] (1) فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يرجع عليه؛ فإنه لم يغرَم بعدُ شيئاًً. والثاني - أنه يرجع عليه، فإنَّ الاستحقاق قد تأكد عليه، وحسابه مع المحتال لا يتعلق به حكم العقد؛ إذ لو كان تتعلق الحوالة بالعقد، لارتفعت بارتفاع العقد. فصل قال المزني: "ولو أحال رجل على رجلٍ بألفِ درهم، وضمنها، ثم اختلفَا ... إلى آخره" (2). 4260 - إذا كان لرجل على رجلٍ دينٌ، وكان للمديون (3) دينٌ على آخر يماثل الدينَ الأول، فأمر المديونُ مستحقَّ الدين بقبض ذلك الدين. ثم اختلفا، فادّعى أحدهما أن الذي جرى حوالة وادّعى الآخر أنه لم يجر إلا وَكالة، نُظر: فإن قال الآمر: قد قلت لك: وكلتُك بقبض ما لي على فُلان، أو قلت: اقبض ما لي عليه، ونويتُ الوَكالة. وقال المأمور: لا بل قلتَ لي: أحلتك، أو قلت: اقبض ما عليه، ونويتَ الحوالة، فالقول قَولُ الآمر؛ لأن الأصلَ أنْ لا حوالة، وأنّ ملكَه باقٍ في ذمّة ذلك الثالث. وإنما يثور هذا الخلاف إذا كان المحال عليه موسراً، وكان استيفاءُ الدين منه أيسر. 4261 - فإن جرى النزاعُ كما ذكرناه، فالقولُ قول الآمر كما وصفناه، ثم إن صدقنا الآمر، فلا يخلو: إمّا إنْ قبض المأمور، أو لم يقبض. فإن لم يكن [قبض] (4) قبَّضه الآمر، وإن كان [قبض] (5)، نُظر: فإن كان قائماً، استردّه من المأمور إن كان حقُّه مُؤجَّلاً، وإن كان حقُّ المأمور حالاً، فقد ظفر بجنس حقه، وإن عسر عليه استيفاء

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (2) ر. المختصر: 2/ 227. (3) في الأصل: "المديون عليه" بزيادة لفظ (عليه). (4) في الأصل مقبوضاً. (5) في الأصل مقبوضاً.

جنس حقه منَ الآمر، فازَ بما قبضه. وإن لم يعسر [ردّ] (1) عليه ما قبضه، وطالبه بحقه. ولو كان قبض، وتلف في يده، فالآمر لا يُطالبُه بالضّمان؛ من قِبَل أنه اعترف بكونه وكيلاً قابضاً له على حكم الوكالة، ولم ينسبه إلى تفريطٍ مضمِّن. والتجاحُد جرى بعد التلف، فلا يتضمن عكس الضّمان على ما تقدم، والمأمور لا يطالب الآمرَ بحقه؛ فإنه اعترف بسقوط حقه بالحوالة، فتنقطع الطَّلبة من الجانبين بسببين. 4262 - ولو اختلفا، وما كان قبض، فالقول قول الآمر في نفي الحوالة؛ كما ذكرناه، والمأمور لما ادّعى الحوالة، فقوله يتضمن الانعزالَ عن الوَكالة، والوكيل إذا ذكر ما يوجب عزلَه، لم يكن له أن يقبض. فإذا تعذر على المأمور استيفاءُ حقه من المحال عليه لما ذكرناه، فهل له مُطالبة المحيل الآمر؟ فعلى وجهين في طريقة [العراقيين] (2): أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن المأمور يُقرّ بأن ذمة الآمِر قد برئت، وتحوّل دينُه. [والوجه] (3) الثاني - له المطالبة؛ فإنه تعذّر على المأمور حقُّه من جهة المحيل الآمِر؛ فهو الذي عسَّر عليه الحوالة، وهو معترفٌ. ولو كان الاختلاف على العكس، فقال الآمر: أحلتك، وقال المأمور: بل وكلتني، فالقول في نفي الحوالة قولُ المأمورِ؛ فإنّ الآمرَ يبغي بما ذكره سُقوطَ [حقِّ] (4) المأمور عن ذمته، والأصل بقاءُ حقه. وهذا في الغَالب يتفق حيث يكون المحال [عليه] (5) معسراً، والآمر يطلب نفيَ الطَّلِبة عن نفسه. 4263 - ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المأمور، فلا يخلو: إمّا إن كان قبض، أو لم يكن قبض، فإن لم يكن قبض المأمورُ، فلا يقبضه؛ لأن قول الموكل: ما وكلتُك يتضمن عزْلَه لو كان وكيلاً. أو كان قبض، فإن كان قائماً في يده، فالآمرُ يزعم أن

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: العراق. (3) في الأصل: والقول. والمثبت مراعاةً للسياق. (4) في الأصل: حقه. (5) زيادة لا يستقيم المعنى بدونها.

المقبوضَ حقُّ المأمور وملكه، ولا حق له عليه. والمأمور يزعم أن المقبوضَ ملكُ الآمر، وحقُّه باقٍ في ذمته. وقد ذكرنا أن القول قولُ المأمور في بقاء حقِّه في ذمة الآمر. فإن عسر عليه استيفاءُ حقه، فالوجه أن يتملك [المقبوضَ] (1)؛ لأنه جنس حقه. وإن تيسر استيفاء حقِّه منه، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يطالِبُ الآمرَ بحقه، وما قبضه موقوفٌ، ومنهم من قال: ما قبضَه يكتفي به، ولا يطالِبُ. والخلاف مخصوص به إذا لم يكن قبض، فإذا كان قبض، فاعترافُ الآمر بأنه [حقُّه] (2) كافٍ نازلٌ منزلة تمليكه إيَّاه الآن. ولا خلافَ أن الآمرَ لو قال للمأمور: لمْ تصدقني وزعمتَ أن ما قبضتَه حقي، فقد وَفَّيْتُكَ إياه، فيجتمع [لك] (3) من قولي الأخير، وقولي الأول الملكُ في المقبوض، فقد تمس الحاجة إلى تصوير القبض كما قدمناه في كتاب البيع والرهن في إقباض الإنسان شيئاً لحقه، وهو في يده. فهذا كله فيه إذا قبض، والعين قائمةٌ في يده. 4264 - فأمّا إذا قبض، وتلف، فهل يكون التالف مضموناًً عليه؟ فعلى وجهين، ذكرهما الإمام (4) وصاحب التقريب: أحدهما - أنه يكون مضموناً على المأمور. والثاني - لا يكون مضموناًً عليه. توجيه الوجهين: من قال: إنه لا يضمنه، قال: لأنا جعلنا القول قولَهُ في نفي الحوالة، فإذا انتفت الحوالة، ثبتت الوكالة، والمالك ليس يدعي إلا جهةَ الحوالة، فإذا انتفت، لم يبق على زعمه ما يقتضي الضّمان.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: حقك. والمثبت تقدير منا. (3) في الأصل: ذلك. والمثبت تقدير منا. (4) الإمام: يريد به شيخه، أي والده. كما حققنا ذلك من قبل.

ومن قال: إنه يكون مضموناًً عليه، قال: إنا إنما نجعل القولَ قولَ المأمور؛ لأن الأصل بقاءُ طَلِبته على الآمر، وهو يدّعي انتفاءَه، فإذا آل الأمرُ إلى الغرامة، فالأصل أن ماله لا يكون أمانةً، إلا أن يُقرّ بها، ومن تلف في يده ملكُ غيره، فالأصل أن يكون مضموناًً عليه. ولهذا نظائر، منها: أن المشتري والبائع إذا اختلفا في عيبٍ، فزعم المشتري أنه قديم، وزعم البائعُ أنه حادث، فالقول قول البائع، كما ذكرناه (1) في البيع. فإذا صدقناه، وحلفناه، وجرى القضاء به، ثم اختلف هو والمشتري في قدر الثمن، وتحالفا، وأوجب ذلك ترادّاً، فلو قال البائع: غرمُوا المشتري أرشَ العيب؛ فإنه ثبت بيميني أن العيب حادثٌ في يده، فلا يلزمه أرشُ العيب. وقد مهدنا ذلك في مواضِع. وقد يتطرق إلى وجه إثباتِ الضّمان سؤالٌ: وهو أن الآمر معترف بأن ما قبضه المأمور ليس ملكاً للآمر، فلا يجري ما ذكرنا [في] (2) هذا الوجه، من أن الأصل أن ملك الغير مضمونٌ، ولكن يتجه أن نقول: قولُ الآمر يتضمن قبضاً على حُكم الضّمان، ولكنه ضمانُ مقابلةٍ، والتعويل على نفيه الأمانة (3)، والأصل عدمُها. 4265 - وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يجر بين الآمر والمأمور لفظُ الحوالة، فأمّا إذا جرى بينهما لفظُ الحوالة، فقال الآمر: أحلتك بكذا على فلانٍ، ثم يُفرض الخلاف مع جريان لفظ الحوالة، من وجهين: أحدهما - أن يقول الآمر: ذكرتُ لفظَ الحوالة، ولكن أردتُ به الوكالة، وقال المأمور بل أردتَ الحوالة. فالذي يدل عليه ظاهر لفظ المزني في المسائل التي يُجريها أن القول قولُ الآمر؛ فإنه ذكر الإحالةَ والحوالةَ، ثم فرض الخلاف، ثم قضى بأن القولَ قولُ الآمر، ولو كان يختلف الأمر

_ (1) في الأصل: ذكره. (2) في الأصل: من. (3) المعنى: أن التعويل على نفي الضمان هو نفي الأمانة.

باللفظ، [لتعرض] (1) له؛ فإن التصوير لا يتم إلا باللّفظ إذا كان الحكم متعلقاً به؛ فإذاً ظاهرُ قوله إن (2) القول قولُ الآمر. قال صاحب التقريب: قد ذكر ابنُ سريج في المسألة قولاً آخر: إن القول قول المأمور الذي يدّعي حقيقةَ الحوالة؛ فإن لفظ الحوالة موضوعٌ لمقصودٍ [وضعاً] (3) صريحاً، فمن أراد حملها على خلاف معناها، لم يقبل منه، كما إذا ذكر لفظاً من صرائح الطلاق، ثم حمله على خلاف ظاهره، فلا يقبل ذلك منه. وحاصل القولين راجعٌ إلى أنَّا على قول المزني لا ننظر إلى لفظِ الحوالة، ولكن ننظر إلى قياس الاختلاف، وقياسه يقتضي أن المأمورَ إذا ادعى حوالةً، والآمر ينفيها، فالقول قول الآمر. وعلى القول الثاني يُعتبر صريحُ الحوالةِ، ولا يقبل قول من يحيدُ عن ظاهر معناها، مع الاتفاق على صدور لفظها من الآمر. 4266 - وذكر بعض المحققين وجهاًً ثالثاً، فقال: إن قال: أحلتُك بالألف الذي لي على فلان، ولم يقل بالألف الذي لك عليَّ على الألف الذي لي على فلانٍ، فيجوزُ أن يقال: القول قولُ من يدعي الوَكالة؛ لأنه لم يقل بالألف الذي لك عليّ. ولو قال: أحلتك بالألف الذي لك عليّ على الألف الذي لي على فلان، ثم ادّعى الآمرُ الوكالة، فلا يقبل ذلك منه. وهذا التفصيل لا ينتهض عندي وجهاًً ثالثاً؛ إذ لا يجوز أن يقدّر خلافٌ فيه، إذا قال أحلتك بالألف الذي لك عليّ، على فلانٍ بالألف الذي لي عليه، فادعاء الوكالة بعد هذا الامتناع (4) لا وجه له، فالوجه أن نقول: إن صرح كما صورناه آخراً، فلا وجه إلا القطعُ بتصديق المأمور. وإن أطلق الحوالةَ، ولم يقيدها بهذه القيود الصريحة، فإذْ ذاك ينقدح ذكر القولين.

_ (1) في الأصل: التعرض. (2) جملة: " إن القول قول الآمر " في محل الخبر: (ظاهر)، وليست مقول القول. (3) زيادة اقتضاها ورود لفظ (صريحاً) هكذا بالنصب. (4) كذا، وكأنها مقحمة، لا مكان لها في السياق.

التفريع: 4267 - إن قلنا: القول قولُ المأمور في ثبوت الحوالة، فلا كلام. وإن قلنا: القولُ قول الآمر في نفي الحوالة، فإذا نفاها، فقد اختلف أصحابنا فيما رتبه صاحب التقريب: فمنهم من قال: إذا نفى الحوالةَ، انقطعت علائقها بالكلية. وهذا هو القياس على هذا القول. والوجه الثاني - أنه يكون بمثابة حوالة فاسدةٍ، فلا يُرفع حكم الحوالة من كل وجه؛ للفظ الحوالة. وهذا كما يثبتُ الضّمان في البيع الفاسدِ، ويثبت في الكتابة الفاسدة بعضُ أحكام الكتابة الصحيحة. فإن قلنا: إن سبيله سبيلُ الحوالة الفاسدة، فإذا كان المحال عليه سلَّم المال إلى المحتال، فهل يبرأ بالتسليم إليه [ممّا عليه؟] (1) فعلى وجهين ذكرهما: أحدهما - أنه يبرأ بالدفع إليه، والآمر يُطالب المحتالَ. والثاني - لا يبرأ بالدفع إلى المحتال؛ فإنه لم يكن سبيلُه سبيلَ الوكالة المحضة، ولم تصح الحوالةُ أيضاًً؛ فعلى هذا يطالِبُ الآمرُ المحَالَ عليه بحقه، ثم المحالُ عليه يسترد من المحتال ما سلمه إليه. وهذا عندي بُعدٌ بحقه. والوجه أن نقول: إذا نفينا الحوالةَ ثبتت قضية الوَكالةِ؛ فإن الأمر بقبض المال من المحال عليه متفق عليه، والنزاع في وجهه. وقد ذكر المتداعيان وجهين، فإذا انتفت الحوالة، وصدقنا الآمر، فالوَجْه ثبوتُ الوَكالةِ، وعلى هذا يبرأ المحالُ عليه بما دفعه إلى المأمور. وما ذكرناه صورةٌ واحدةٌ في الاختلافِ، مع جريان لفظ الحَوالة. 4268 - فلو كان النزاع على العكس، فقال الآمر: أردتُ لفظَ الحوالة، وقال المأمور: ما قبلتُ الحوالة، وإنما قبلت الوَكالة، قال الأصحاب: قياسُ المزني أن القول قولُ المأمور، فإنّ الأصل بقاءُ طَلِبته على الآمر. وعلى قياس ابن سريج القول [قولُ] (2) من يُثبت الحوالةَ كما ذكرناه، تمسكاً باللفظ. فإن قيل: قَصْدُ الآمر فيما زعم مُطابقٌ للفظه الصريح، فهلاَّ قطعتم بتصديقه؟ قلنا: الأمرُ كذلك. ولا تتم الحوالة إلا بقبول المحتال، وقد زعم أنه نوى قبولَ الوكالة، فعاد التردُّدُ في أن الاعتبارَ بالقصد، أوْ بظاهر اللفظ.

_ (1) ما بين المعقفين غير مقروء في الأصل. (2) زيادة من المحقق.

فصل 4269 - ذكر المزني صوراً ظاهرةً في الحوالة، نذكرها على وجهها. قاك: لو أحال زيدٌ عمراً على بكرٍ، بما له عليه من الحق، ثم أحال بكرٌ عمراً على خالدٍ، ثم أحاله خالدٌ على جعفرَ، فذلك جائز. ولو أحال زيدٌ عمراً على بكرٍ، ثم عمرو أحال خالداً على بكرٍ، ثم خالدٌ أحال عبدَ الله على بكرٍ، فهذا جائز. وقد تعدد المحتال في هذه الصورة والمحال عليه واحد، وفي الصورة الأولى تعدد المحال عليه، والمحتال واحد. فرع: 4270 - إذا جنى على إنسانٍ؛ والتزم الأرشَ، وجُني عليه، فاستحقَّ الأرشَ، فإن كان الأرشان دراهم أو دنانير، جازت الحوالة. وإن كان الأرشُ إبلاً من الجانبين، فهذا ينبني على ما قدمناه من أن الحوالة هل تجري في غير ذواتِ الأمثالِ؟ فإن قلنا: إنها تختص بذواتِ الأمثال، فالحوالة فاسدة في مسألتنا هذه. وإن قلنا: إنها تجري في كل موصوفٍ مستقرٍّ في الذمة، فهل تجري في إبل الدية؟ فعلى وجهين مَبْنِيَّيْنِ على أن الاعتياض عن إبل الدية هل يجوز؟ وفيه قولان سبق ذكرهما. وسيأتي استقصاؤهما في الديات، إن شاء الله تعالى. فرع: 4271 - إذا ضمن مالاً بإذن المضمون عنه، وأحال المضمونَ له بذلك المال الذي ضمنه على واحد، رجع على المضمون عنه، كما لو أدّاه. ولو ضمن رجلان ألفاً عن واحدٍ، كل واحد منهما ضمن نصفَه، ثم ضمن كل واحد من الضّامنين عن صاحبه، فلو أحال أحدهما المضمونَ له بالألفِ على واحدٍ، فإنه يرجع بخمسمائةٍ على المضمون عنه، وبخمسمائةٍ على صاحبه الضامن. وهذا لا إشكالَ فيه. فرع: 4272 - قال المزني: وإذا باع رجل عبداً من رجل بألف درهم، فأحال البائع رَجُلاً له عليه ألف على المشتري، ثم تصادق البائع والمشتري على أن المبيع كان حُرّاً، ينقطع العقد بينهما، ولا يُحكم ببطلان الحوالةِ في حق ذلك الثالث، إلا أن يصدِّقَهما، فإن لم يصدقْهما، فلا يُقبل قولُهما عليه (1). وليس كما لو رد المشتري

_ (1) ر. المختصر: 2/ 227.

العبدَ بعيبٍ قديم؛ فإنا قد نقول في وجهٍ غريب: إن الحوالةَ ترتفع، والفرق أن الرد واقعٌ لا سبيل إلى إنكاره، وهو أمرٌ منشأ، والمتبايعان فيما نحن فيه أخبرا عن حرية المبيع، والخبر يتردَّد بين الصدق والكذبِ، فلو صدقهما المحتال، قطعنا ببطلان الحوالةِ، والمسألة في هذا الطرفِ تنفصل عن الرد بالعيب أيضاًً؛ فإن الأصح بقاء الحوالة وإن جرى الرد؛ فإنا نقدر الحوالة معاوضة برأسها، متعلقة بحق ثالث، فلا يمتنع تقدير بقائها، وإن ارتفع العقد؛ فإنَّا لا نتبين بالرّد أن [الثمن] (1) لم يكن قبل الرد. وإذا تصادقوا على حرية المبيع، تبينا أن أصل الثمن لم يثبت، فلا نتصور ثبوتَ الحَوالة؛ فإن بقاء الشيء فرْعٌ على ثبوتِ أصله، وهذا واضح. فرع: 4273 - قال صاحب التقريب: إذا أحال الرجل غريمَه على رجلٍ، ثم بان المحال عليه عبداً، فلا يخلو: إما أن يبين أنه عبد لأجنبي، أو يبين أنه عبد للمحيل، فإن بان أنّه عبد لأجنبي، وكان لهذا المحيل [على هذا العبد] (2) دينٌ في عنقه، يتبعه به إذا عَتَق. قال صاحبُ التقريب: الحوالة صحيحة، وهي بمثابة الحوالة على معسرٍ في ذمته دين، ثم المحتال يطالبُ العبدَ بعد عتقه. فلو لم يعلم كونَه عبداً، ثم علم، فهذا يترتب على الفصل المقدم، في أن المحتال إذا اطلع على إعسار المحال عليه، وما كان عالماً بإعساره عند الحوالة، فإن قلنا: للمطّلع على إعسار المحال عليه الخيارُ، فلأن يثبت الخيار هاهنا أولى. وإن قلنا: لا خيار للمطلع على الإعسار، ففي هذه الصورة وجهان؛ إذ طريان العتق ليس ممَّا يُعدّ من ميسور الأمور، واليسار والإعسار متعاقبان. وما ذكرناه فيه إذا كان العبدُ لأجنبي، فأمّا إذا كان العبد للمُحيل، قال صاحب التقريب: إن كان كسوباً، ينبغي أن يتعلق الدين بكسبه، وإن كان غير كسوبٍ، كان متعلِّقاً بذمتهِ. 4274 - وهذا كلام مختلط لا أصل له. والوجه أن نقول: لا يتصوّر أن يكون للسيد على عبده دينٌ يتعلق بذمته، أو في كسبه، إلا في صورةٍ واحدةٍ، سنشير إليها

_ (1) في الأصل: اليمين. وهو تصحيفٌ ظاهر. (2) مطموس بالأصل، والمثبت تقدير منا.

آخراً. وإذا كان كذلك، فحوالة [السيد على] (1) مملوكه باطلة، إلا أن تجوز الحوالة على من لا دين عليه، وقد ذكرنا أن تحقيق ذلك يرجع إلى [الضمان] (2)، وكأن العبد ضمن عن سيده، وسيأتي شرح ذلك في كتاب الضمان، إن شاء الله. ثم إذا صحَّ، نُظر: فإن كان الضمان بإذن السَّيد، تعلق بكسب العبد إن كان له كسب، وإن لم يكن، فبذمته، ومن ضرورة كل ما يتعلق بالكسب أن يتعلق بالذمة. ويتصور للسيد على عبده دينٌ يتعلق بذمته على أحد الوجهين، وذلك أن من ثبت له دين على عبد الغير، ثم ملكه، ففي وجهٍ يقسط الدين عن ذمته بالملك الطَّارىء، وفي وجهٍ يبقى عليهِ يتبعه به إذا عَتَق، فعلى هذا يمكن تقدير حوالة السيد على عبده. فرع: 4275 - إذا أحال رجلاً له عليه ألفُ درهم، على رجلين، على كل واحد منهما خمسمائة درهم، وشرط في الحوالة أن يكون كل واحد منهما كفيلاً ضامناً عن صاحبه. قال ابن سريج: في صحة هذه الحوالة وجهان مبنيان على أن المعاوضة مغلّبة على الحوالة، أو معنى الاستِيفاء: فإن غلّبنا المعاوضة، لم يمتنع شرطُ الوثيقة فيها، وإن غلبنا الاستيفاء، امتنع ذلك، فإن [الضمان إنما] (3) يشترط في المعاوضات. وهذا التردّد يلتفت على أنه هل يثبت في الحوالة خيار المجلس والشرط (4). * * *

_ (1) مطموس تماماً في الأصل. (2) مطموسة في الأصل. وأثبتناها تقديراً منا. (3) ما بين المعقفين مطموس في الأصل. (4) " تم الجزء العاشر من نهاية المطلب بحمد الله تعالى وحسن توفيقه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرَّم وعَظّمَ يتلوه في الجزء الحادي عشر إن شاء الله تعالى كتاب الضّمان".

وبلائي كله من شيئين: أحدهما - أن بني الزمان ليس يأخذهم في طلب الغايات، لا بل في طلب حقيقة البدايات ما يأخذني، فلا يهتدون لما أبغيه من مداركها، بل أخاف أن يتبرموا بها ... الإمام في نهاية المطلب

كتاب الضمان

كتاب الضمان (1) 4276 - يشترط في الضمان رضا الكفيل، ولا يشترط رضا الأصيل. وفي المضمون له وجهان، والأكثرون على أنه لا يشترط، فإن شرط، ففي القبول وجهان، فإن شرط، فلا بد من أن يتصل بالضمان، كاتصال القبول بالإيجاب في سائر العقود، وإن شرط الرضا دون القبول، جاز أن يتقدم على الضمان تطويل الزمان، فإن تأخر عنه، فهو كالإجازة، إن جوّزنا وقف العقود. وإن لم يشترط رضاه، ولا قبوله، فهل يشترط أن يعرف الضامن المضمون له، والمضمون عنه؟ فيه أوجه: أحدها - يشترط معرفتهما، والثاني - لا يشترط، والثالث - يشترط معرفة المضمون له وحده، واختاره في التقريب، والرابع - يشترط معرفة المضمون عنه وحده. فصل في رجوع من أدى دين إنسان بغير ضمان 4277 - إذا أدى دين إنسان بغير إذنه برىء، ولا يرجع عليه اتفاقاً، وإن أداه بإذنه، فإن شرط الرجوع، رجع اتفاقاً، وإن لم يشترط، رجع، على الأصح. وفي اقتضاء الهبة المطلقة للثواب أقوال: ثالثها - التفرقة بين أن يكون الواهب ممن يستثيب مثله من المتهب أو لا يكون، فرتَّب أبو محمد الرجوع بالدين على وجوب الثواب، وجعل الدين أولى بالرجوع، وقال: لا يمتنع تخريج وجه ثالث يفرق فيه بين

_ (1) من كتاب الضمان إلى (فصلٌ في الشهادة بالإقرار من غير تعرّض لشروطه) من كتاب الإقرار لم يقدّر لنا الحصول عليه من النهاية، ولا من مختصر ابن أبي عصرون، فرتقنا هذا الفتق من مخطوط مختصر النهاية للعز بن عبد السلام.

أن يكون المؤدي ممن يسترفد من الأمراء أو لا يكون. ولو أَوْجر إنساناً طعاماً في غير المخمصة، لم يرجع. فصل في إجبار المضمون له على قبول الدين من الضامن 4278 - إذا لم نشترط رضا المضمون له، فأدى الضامن الدين، فإن ضمن بغير إذن الأصيل، لم يجبر المضمون له على قبول الدين، بل هو بالخيار: إن شاء، [طالب] (1)، وإن شاء، ترك، كما لو أدى دين غيره بغير إذنه؛ فإن رب الدين لا يجبر على القبول. وإن ضمن بإذن الأصيل، فإن أثبتنا الرجوع، أجبر المضمون له على القبول، وإن لم نثبت الرجوع، ففي الإجبار على القبول وجهان، كالوجهين فيمن أمر بقضاء الدين من غير ضمان، وقلنا: لا رجوع. والأشهر الإجبار؛ لوقوع الأداء بإذن المدين. ولو قال: أدّ ديني بشرط الرجوع، فلا خلاف في الإجبار على القبول. فصل في رجوع الكفيل على الأصيل 4279 - للضمان والأداء أحوال: الأولى - أن يقعا بغير إذن الأصيل؛ فلا رجوع اتفاقاًً. الثانية - أن يقعا بإذنه، فيرجع عليه اتفاقاً، سواء شرط الرجوع، أو لم يشترط، ويحتمل إذا لم يشترط الرجوع أن يخرج على الوجهين فيما إذا قال للأجنبي: "أدّ ديني"، ولم يشترط الرجوع، وقد رمز إليه في التقريب، ولم يصرح به أحد من الأصحاب.

_ (1) في الأصل: "طلب" والمثبت من تصرف المحقق في ضوء عبارة الرافعي والنووي، ونصها: "إن ضمن بغير إذن المضمون عنه (الأصيل)، فالمضمون له بالخيار: إن شاء طالب الضامن، وإن شاء تركه" (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 10/ 359، والروضة: 4/ 241).

الثالثة - أن يضمن بالإذن، ويؤدي بغير إذن، فثلاثة أوجه: الثالث (1) - إن أجبر على الأداء، ولم يقدر على مؤامرة الأصيل، رجع. وإلا، فلا، وهو الذي ذكره العراقيون، ومال إليه في التقريب، واختار الأمام (2) أنه يرجع في الحالين. الرابعة - أن يضمن بغير إذن، ويؤدي بالإذن، فوجهان: رتّبهما الإمام على ما إذا أمر الأجنبي بأداء الدين، ولم يشترط الرجوع، والضامن أولى بألا يرجع. فصل في إشهاد الضامن على الأداء وتقصيره فيه 4280 - إذا أشهد الضامن على الأداء عدلين، أو عدلاً وامرأتين، رجع، وفي المستورَيْن وجهان، وفي العدل الواحد ليحلف معه وجهان، ولا وجه للمنع؛ إذ لم يشترط أحد من الأصحاب إشهاد من يتفق العلماء على قبول شهادته. فإذا أدى ولم يُشهد، فإن كذبه الأصيل وربُّ الدين، فلا رجوع، وإن صدقه الأصيل، وكذبه رب الدين، وحلف، فوجهان. وإن كذبه الأصيل، وصدقه المدين، سقط الدين (3)، وفي الرجوع وجهان: فإن منعنا الرجوع إذا ترك الإشهاد، فادعى أنه أشهد عدلين وماتا، فإن صدقه الأصيل، رجع على الأصح، وإن كذبه، فوجهان. وإن قال: أشهدت زيداً وعمراً، فكذباه، فهو كترك الإشهاد، على ما دلّ عليه كلام الأصحاب. وإن قالا: لا نُبْعد أنا شهدنا ونسينا، ففيه تردد، وهو أولى بالمنع مما إذا ادعى موت الشهود. فرع: 4281 - إذا منعنا الرجوع عند ترك الأشهاد، فأدى الدين مرّةً أخرى، وعلم الأصيل بذلك، فالأصح أنه يرجع. وهل يرجع بما غرمه أولاً، أو بما غرمه ثانياً؟ فيه وجهان، يظهر أثرهما عند اختلاف صفتهما.

_ (1) الوجهان: الأول والثاني مفهومان من التفصيل في الثالث، وهما: يرجع بإطلاق، ولا يرجع بإطلاق. (2) يعني به العزُّ بن عبد السلام: إمامَ الحرمين، فتنبه لما سيتكرر من ذلك. (3) لأن تصديق المدين أقوى من البينة، قاله النووي (ر. الروضة: 4/ 272).

فصل فيما يرجع به 4282 - الضامن إذا أدى مثل دين الأصيل، رجع به، وإن أدى عنه عوضاً، كالثوب والعَرْض، برىء الأصيل، ورجع بقيمة العَرْض إن ساوت قيمة الدين، وإن زادت، لم يرجع بالزيادة اتفاقاً، وإن نقصت، برىء الأصيل من جميع الدين، وهل يرجع الكفيل بجميع الدين، أو بقيمة العَرْض؟ فيه وجهان: يتفرع عليهما ما إذا ضمن ذمي عن مسلم ديناً لذمي، فصالحه عنه بخمر، ففي صحة الصلح -لتعلقه بالمسلم- وجهان. فإن قلنا: يصح، فللمضمون له أن يطالب الضامن، وإلا فلا. فإن قلنا بالمطالبة، فهل للضامن الرجوع؟ فيه وجهان: إن قلنا: يرجع بالدين، رجع هاهنا لتحصيله براءة الأصيل. فرع: 4283 - إذا أمر أجنبياً بقضاء دينه، فأدى عرضاً، برىء المدين، وفي الرجوع أوجه: أصحها - الرجوع كالضامن، والثالث - إن قال: أدِّ ديني، رجع. وإن قال: أدِّ الدنانير التي عليَّ، لم يرجع. فرع: 4284 - إذا ادّعى على حاضر وغائب أنهما اشتريا عبده وقبضاه، ثم ضمن كل واحد منهما ما على الآخر، وأقام بينة بذلك، حكم عليهما بالثمن. فإن أداه الحاضر وأراد الرجوع على الغائب، نُظر، فإن لم ينكر، بل وكل عند الدعوى، أو سكت عن الجواب، فله أن يرجع، وإن صرح بالإنكار: فإن أصرّ عليه، فلا رجوع، وإن اعترف بعد ذلك، فلا رجوع على أقيس الوجهين. وإن سكت بعد قيام البينة، فلم يقر، ولم ينكر، ففيه تردُّدٌ لأبي محمد. فرع: 4285 - إذا ضمن الصداق، ودفعه إلى الزوجة، فارتدت قبل الدخول، رجع ما قبضته إلى ملك الزوج، ولم يكن لها إبداله، فإن رجع الضامن على الزوج، فله إبدال ما رجع إليه؛ لأن ثبوت ملك الزوجة فيه يتضمن ملك الزوج له بطريق القرض.

فرع: 4286 - إذا أثبتنا الرجوع قبل الأداء، فضمن عن زيد بشرط أن يضمن له عمرو ما يرجع به، ففي صحة الضمان وجهان: فإن قلنا: لا يصح، فلا شيء على الضامن. وإن قلنا: يصح، ثبت الشرط، فإن لم يف به، تخير الضامن في فسخ الضمان، كالبيع إذا شُرط فيه الضمان، وهذا بعيد؛ إذ الضمان لا يقبل الخيار، ولا نعرف خلافاً أن الضمان بشرط الخيار باطل. فرع: 4287 - إذا ضمن العبد دين سيده بإذنه، ثم أداه بعد العتق، ففي رجوعه به وجهان، كالوجهين في رجوعه بالأجرة إذا أعتقه وهو مأجور. فصل في رجوع الضامن قبل الأداء ومطالبته بالتخليص 4288 - إذا أراد الضامن الرجوع قبل الأداء، أو عاوض الأصيل عما يرجع به، فهل له ذلك؟ فيه وجهان، وإن أبرأ (1)، فوجهان. وقال الأمام: إن أثبتنا الرجوع قبل الأداء، صح الإبراء، وإلا، فقولان؛ إذ وُجد سبب الوجوب ولم يجب. وإن أدى الصحاح عن المكسر، لم يرجع بالصحاح اتفاقاً. وإن أدى المكسر عن الصحاح، لم يرجع إلا بالمكسر، بخلاف الرجوع بعوض للقرض الناقص؛ لأن هذا استيفاء، وليس بمعاوضة، ولو طولب الضامن بالدين، فله أن يطالب الأصيل بتخليصه، وأبعد من منع ذلك، وقال الإمام: إن أثبتنا الرجوع قبل الأداء، فله طلب التخليص، وإن لم نثبت الرجوع قبل الأداء، فالمذهب أنه يطالب بالتخليص إن طولب، وليس له ذلك قبل الطلب. ولو حُبس الضامن، وأثبتنا له الرجوع قبل الأداء، فله أن يطلب حبس الأصيل، وأبعد من منع ذلك.

_ (1) "وإن أبرأ": أي أبرأ الأصيل.

فصل في ضمان المجهول وما لم يجب 4289 - إذا ضمن مجهولاً لم يجب، ولم يوجد سبب وجوبه، فإن لم يمكن الوصول إلى معرفته، لم يصح، مثل أن يقول: "ضمنت لك شيئاً"، وكذا لو قال للمدين: "ضمنت عنك شيئاًً". وإن أمكن التوصل إلى معرفته، فقولان: القديم - أنه يصح، ولا يطالب إلا بعد الوجوب، وليس له الفسخ بعد الوجوب، وفيما قبله وجهان. فإذا قال: "ضمنت لك ثمن ما تبيعه من فلان"، صح، وإن لم يعين المبيع، ويصير بذلك ضامناً لجميع الأثمان. وإن قال: "إذا بعتَ من فلان، فأنا ضامن للثمن"، فإنه يختص بثمن العقد الأول. وأما معرفة المضمون له، فإن شرطناها في الدين الثابت، فهاهنا أولى، وإن لم نشرطها ثَمَّ، ففيه هاهنا -لكثرة الغرر- وجهان، ثم تجري الأوجه الأربعة، واشتراط المعرفة هاهنا أولى؛ لما فيه من غرر الجهل، وعدم الوجوب. ولو علق ضمان الدين الواجب بوقت معلوم، أو بقدوم إنسان، جاز على هذا القول. وأما القول الجديد -وبه الفتوى- فيشترط في معرفة الدين ما يشترط في معرفة الأثمان، ويصح إن عرفه الضامن وجهله المضمون عنه، وإن جهله المضمون له، فوجهان مأخوذان من اشتراط قبوله ورضاه، ولو عرفه الأصيل، والمضمون له، وجهله الضمين، لم يصح الضمان. ولو ضمن ما لم يجب، بطل، إن لم يوجد سبب وجوبه، وإن وجد، فقولان مشهوران، وذلك مثل أن يضمن نفقة الزوجة لمدّة معلومة، مما يستقبل من الزمان. وإن ضمن الثمن في مدة الخيار، صح وجهاً واحداً، وفيه احتمال، لا سيّما إن بقَّينا الملك للبائع.

وإن قال: "ضمنت من درهمٍ إلى عشرة"، وجوّز كون الدين درهماً، وكونه عشرة، ففي ضمان العشرة وجهان. وفي ضمان الجُعل قبل العمل طريقان: إحداهما - المنع. والثانية - على القولين فيما وجد سبب وجوبه ولم يجب. ولا يصح ضمان نجوم الكتابة؛ إذ لا تلزم بحال. وأبعد من خرجها على القولين فيما لم يجب، ووجد سبب وجوبه، وفي ضمانها على القديم وجهان. فرع: 4290 - إذا جوزنا للضامن تغريم المضمون عنه قبل أداء الدين، فضمن عن زيد بإذنه على أن يضمن عن زيد بهذا الضمان عمرو، ففي صحة الضمان بشرط الضمان وجهان: فإن قلنا: لا يصح، فسد الضمان، ولا شيء على الضامن. وإن قلنا: يصح، فإن وفَّى المضمون عنه، وأعطى الضامن، فذاك، وإن لم يف، تخير الضامن بين فسخ الضمان والبقاء عليه، كنظيره في الضمان المشروط في البيع. وهذا بعيد عن وضع الضمان؛ فإن البيع يقبل الخيار، والضمان لا يقبله. ولا خلاف أن شرط الضمان مفسد للضمان. فصل في ضمان الدَّرَك ويسمَّى ضمان العهدة 4291 - ومقصوده التزام الثمن إن ظهر استحقاق المبيع، ويصح على القديم، وفي الجديد أقوال: ثالثها - لا يصح إلا بعد قبض الثمن، والمذهب الصحة على الإطلاق، والقولان الآخران مخرجان. وإن ضمن سلامة الثمن عن الزيف، ففيه الأقوال، وكذلك ضمان نقصان صنجة (1) الثمن عند ابن سُريج على الأقوال. فإن جوزنا ضمان عهدة الاستحقاق،

_ (1) صنجة الثمن: هي المعيار الذي يوزن به، وكانت تصنع من معدنٍ كالنحاس أو الحديد، وتوضع في كِفة الميزان مقابل الشيء الموزون في الكفة الأخرى، وذلك قبل ظهور الموازين الرقمية في أيامنا هذه.

فصرح بالضمان إن فسد البيع بشرط مفسد، أو بفوات شرطٍ معتبر أو إن رد المبيع بالعيب، فوجهان. والفرق إمكان التحرز من المفسدات، وتعذره عن الاستحقاق. فإن جوزنا ذلك، ففي اندراجه في مطلق ضمان العهدة وجهان. ولو خص الضمان بالاستحقاق، اختص به اتفاقاً، وكذلك إن خصه بغيره من المفسدات، إن جوزنا ذلك. ولا يعلّق ضمان العهدة بالإقالة إن جعلت بيعاً، وكذلك إن جعلت فسخاً، على الجديد؛ إذ لا استناد لها إلى العقد، بخلاف الرد بالعيب. فرع: 4292 - إذا استُحق بعض المبيع، أُخذ الضامن بما يقابل المستحق. وفي فساد البيع في الباقي قولان: فإن أفسدناه، ففي تعلق الضمان به الوجهان في عهدة المفسدات، وإن لم نبطله، فاختار الفسخ، ففيما يقابل المفسوخ وجهان، كالرد بالعيب. فرع: 4293 - إذا ضمن نقص الصنجة، فادعى البائع نقص الثمن، فالقول قوله، وليس له مطالبة الضامن إلا ببيّنةٍ أو اعتراف. هذا قياس الأصول. ولو كان الثمن عشرة، فادعى المشتري إقباضها، وقال البائع: إنما قبضت تسعة، فالقول قول البائع، وله مطالبة المشتري، وليس له أن يطالب الضامن، على أقيس الوجهين. فصل في ضمان الحال مؤجلاً، والمؤجل حالاً 4294 - إذا ضمن المؤجل بما يساويه في الأجل، صح، وأيهما مات، حلّ ما عليه دون ما على صاحبه. فإن مات الأصيل، فأراد الكفيل إلزام رب الدين بقبضه من التركة، أو أن يُبرئه من الضمان، فله ذلك على أظهر الوجهين. وإذا حل المؤجل، أو كان أصل الدين حالاً، فضمنه مؤجلاً، لم يثبت الأجل اتفاقاً، ويفسد الضمان على أظهر الوجهين، ولو ضمن المؤجل حالاً، ففي صحة الضمان وجهان. فإن قلنا: يصح، ففي ثبوت الأصل وجهان، مأخذهما أن الشرط الفاسد هل يفسد الضمان؟ فإن أثبتنا الأجل، فهل يثبت تبعاً، أو مقصوداً؟ فيه وجهان، يظهران عند موت الأصيل. فإن جعلنا الأجل تابعاً، حلّ الدين على الضامن، وإلا فلا.

فرع: 4295 - إذا ضمن الصداق ضماناً موجباً للرجوع، ودفعه إلى الزوجة، فارتدت قبل الدخول، فإن كانت العين باقية، رجعت إلى الزوج، وليس لها إبدالها، فإذا رجع الضامن على الزوج، لم يلزمه أن يرد عليه تلك العين. ولو ضمن العبد عن سيده ديناًً بإذنه، فأداه بعد العتق، ففي رجوعه به على السيد وجهان، كالوجهين في رجوع العبد المأجور بأجرة مثله إذا عَتَق في أثناء المدة. فرع: 4296 - إذا جوزنا ضمان المؤجل حالاً، فأطلق الضمان، ودَيْن الأصيل مؤجل، فهل يثبت الضمان حالاً أو مؤجلاً؟ فيه وجهان: أظهرهما - ثبوت الأجل، وعلى هذا هل يشترط أن يعرف تأجُّل الأصل، ومقدار الأجل؟ فيه على الجديد وجهان. فصل في تعليق الإبراء والضمان 4297 - إذا علق الضمان بمجيء زمنٍ معلوم، أو قدوم إنسانٍ، بطل على الجديد، ويجري الإبراء مجرى الضمان في صور الخلاف والوفاق، فالإبراء عما لم يجب باطل إن لم يوجد سببه، وإن وجد، فقولان، ولا يصح الإبراء من المجهول، وإن أبرأ من درهم إلى عشرة، ففيه الوجهان، ولا يجوز تعليقه على الجديد كالضمان. وقال الإمام: إن لم يشترط فيه القبول، ففيه احتمال، وإن علقه، فقد أجازه الإمام على القديم. فرع: 4298 - إذا جوزنا تعليق الضمان، وجهالة المضمون، فقال: بع عبدك من فلان بعشرة، وأنا ضامن لها، أو قال: إذا بعته منه بعشرة، فأنا ضامن لها، فباعه منه بعشرين، لم يلزمه العشرة الزائدة، وفي لزوم العشرة الأخرى خلاف، يجري فيما إذا باعه بخمسة، ومذهب ابن سُريج أنها لا تلزمه لمخالفة البائع لشرطه.

_ (1) سبق إيراد هاتين المسألتين المذكورتين في هذا الفرع في فرعين منفصلين.

ولو قال: أقرضه عشرة على أني ضامن، فأقرضه خمسة عشر، لزمه ضمان العشرة اتفاقاًً؛ لأن أجزاء القرض لا يجمعها عقد رابط، بخلاف البيع؛ فإنه إذا باعه بخمسة عشر، فقد باع ثلثيه بعشرة، فلم يوجد الشرط، ولو أقرضه خمسة، فقد قطع ابن سُريج بلزومها، وهو خلاف قياسه. فرع: 4299 - يجوز ضمان إبل الدية، والإبراء عنها في الجديد والقديم، سواء ثبت للضامن الرجوع أم لم يثبت، وهل يرجع الضامن بالإبل، أو بقيمتها؟ يحتمل وجهين، كما في بدل القرض. فصل في الاختلاف في قبض الأصالة أو الكفالة 4300 - إذا باع عبده من اثنين على أن يضمن كل واحد منهما ما على صاحبه من الثمن، بطل البيع. ولو كان له على اثنين خمسة خمسة، فضمن كل واحد منهما ما على الآخر، فله أن يطلب العشرة ممن شاء منهما، فإن أخذها من أحدهما رجع على الآخر بخمسة، إن كان الضمان موجباً للرجوع، وإن أخذ من كل واحد منهما خمسة الأصالة، برئا جميعاً، وإن أخذ من كل واحد خمسة الكفالة، ففي تراجعهما أقوال التقاصّ، فإن قال الدافع: إنما أقبضتك الخمسة الأصلية، وقال القابض: بل خمسة الكفالة، فقد برىء من الخمسة الأصلية، وهل للقابض أن يطالبه بخمسة الكفالة؟ فيه خلاف، من جهة أنه اعترف بقبضها، وقطع القفال بجواز المطالبة؛ لأنه بنى قوله الأول على ظن وتخمين - قال الإمام: إذا أمكن استناد الأقارير إلى اليقين، فرجع المقر، وقال: أخطأت، لم يقبل. وإن لم يمكن الاستناد إلى اليقين، فإن ابتدأ بالإقرار من غير خصومة، ثم رجع، لم يقبل رجوعه. وإن أقر في أثناء الخصومة، أو تقدم الإقرار، ثم وقعت الخصومة، ففيه الخلاف المتقدم. ولو ادعى استحقاق المبيع، فقال المشتري: كان ملكاً للبائع إلى أن اشتريته منه، ثم ثبت الاستحقاق، فإنه يرجع بالثمن على البائع، وأبعد من منع الرجوع.

فصل فيمن يصح ضمانه ومن لا يصح 4301 - ويصح الضمان من كل مكلف مطلق (1)، ولا يصح من المبذر، وإن أذن الولي، ويصح من المرأة، وإن لم يأذن الزوج، وضمان المكاتب كتبرعه، والعبد إن لم يكن مأذوناً، فإن ضمن بإذن السيد، صح، وتعلق بكسبه على الأصح، وقيل: يتعلق بذمته. وإن ضمن بغير إذن، ففي الصحة وجهان: فإن صححناه، طولب بعد العتق، وإن كان مأذوناً، فإن لم يأذن السيد في الضمان، فهو كغير المأذون. وإن أذن فيه، فإن لم يكن عليه دين، فإن قيد الإذن بالأداء مما في يده، تعلق به اتفاقاً. وإن أطلق، فالأصح أنه يتعلق بكسبه، وبما في يده، فإن علقناه بما في يده، أو أذن له في الأداء مما في يده، فإن كان محجوراً عليه بالفلس بالتماس الغرماء، فلا يتعلق الضمان بما في يده؛ لتعيُّنه لديون المعاملة. وإن لم يكن عليه حجر، وكان بيده عشرون وعليه من المعاملة عشرة، والضمان عشرون، ففي تعلق الضمان بما في يده أقوال: أحدها - لا يتعلق؛ لأنه كالمرهون بدين المعاملة، فليس له التصرف فيه إلا بالمعاملة. والثاني - يتعلق تعلق دين المعاملة، فيوزع على قدر الدينين. والثالث - أنا نقدم دين المعاملة، ونصرف الفاضل إلى الضمان، فلو كان بيده عشرون، وعليه من المعاملة والضمان عشرون عشرون، صرفت العشرون إلى المعاملة، ولو أبرىء عن دين المعاملة، ففي صرف العشرين إلى الضمان قولان، هما الأول والأخير في الصورة السابقة. فرع: 4302 - إذا لزمته ديون معاملة ولا حجر، فحكم تبرع السيد بما في يده حكم الضمان المأذون فيه، فإن منعناه، فالإعتاق لما في يده من الرقيق كإعتاق الراهن على ما ذكره أبو محمد.

_ (1) "مطلق": أي غير محجورٍ عليه.

فرع: 4303 - إذا لم نعلق العهدة بالسيد، ونفذنا تبرعه، فتبرعه (1) كالاسترداد، ولو استرد ما في يده بعد ثبوت دين المعاملة، لانقلبت عهدة الدين إليه. فصل في ضمان السيد عن عبده 4304 - إذا ضمن الدين المعلق بذمة عبده، صح، مأذوناً كان أو غير مأذون، ولا يرجع إن ضمن بغير إذنه، وإن ضمن بإذنه بحيث يستحق الرجوع لو كان الأصيل حراً، فلا يرجع إلا بعد العتق. وإن ضمن دين المعاملة، فإن أداه في الرق، فلا رجوع؛ لأنه استخلص بأدائه ما في يد العبد من ماله، وأبعد من أثبت له الرجوع، وبناه الإمام على الوجهين في المأذون إذا أدى دين المعاملة بعد العتق. فإن قلنا: يرجع على السيد، فلا رجوع للسيد هاهنا. وإن قلنا: يرجع ثَمَّ، ففي رجوع السيد هاهنا وجهان. وأما المكاتب، فيصح ضمان ما عليه لغير السيد، ولا يصح ضمان نجومه على المذهب، وإن كان للسيد عليه دين معاملة، فضمنه أجنبي، فإن قلنا: لا يسقط إذا رق، صح الضمان، وإن قلنا: يسقط، فهو كالنجوم. فصل في كفالة الأبدان 4305 - المقصود من كفالة البدن التزام إحضار المكفول به إن كان ممن يلزمه الحضور، وفي صحتها طريقان: إحداهما - قولان، والثانية -وهي المذهب- القطع بالصحة، فيصح التكفل بإحضار من ثبت عليه الدين، ومن لم يثبت عليه إن لم يقر، ولم ينكر، وإن أنكر بعد الدعوى، فالأصح جواز الكفالة؛ لأنه يلزمه الحضور إلى انقضاء الخصومة،

_ (1) "فتبرعه كالاسترداد": أي تبرع السيد بما في يد العبد كاسترداده من يده.

ولا يصح التكفل إلا بمن يلزمه الحضور عند الاستعداء (1)؛ إذ يستحيل أن يلزم الكفيل ما لا يلزم الأصيل. فلو تكفل رجل بالبصرة بإحضار رجل هو ببغداد، لم يصح، وإن قال: إذا قدم من بغداد، فقد كفلت ببدنه، وجوزنا التعليق، فابتداء لزوم الإحضار عند القدوم. فرع: 4306 - إذا ادعى زوجية امرأة، صحّ التكفّل بإحضارها؛ إذ يلزمها الحضور إذا دعيت. فرع: 4307 - إذا ضمن ردّ الآبق، لزمه السعي في ردّه، فإن مات، لم يلزمه شيء على المذهب، وأبعد من أوجب قيمته. فرع: 4308 - إذا تكفل برد المغصوب من يد الغاصب، صح، إذا جوّزنا كفالة البدن، وهو أولى، لأن الرد مقصودٌ ماليّ بخلاف إحضار من يلزمه الحضور؛ فإن فاتت العين، ففي وجوب قيمتها على الكفيل وجهان: فإن قلنا: تجب، فهل تجب قيمة يوم التلف، أو أقصى القيم الواجبة على الغاصب؟ فيه وجهان. ويجوز ضمان الأعيان المضمونة، كالمستعار، والمأخوذ على وجه السَّوْم. ولا يصح ضمان الودائع في أيدي الأمناء؛ إذ لا يلزمهم ردّها، وإنما يلزمهم التخلية بينها وبين مستحقيها، والمعنيّ بضمان الأعيان المضمونة القيام بمؤنة ردّها، ومقاساة ما فيه من مشقة وكلفة. وإذا لزم البائع تسليم المبيع، جاز ضمانه، بمعنى وجوب القيام بتسليمه، فإن تلف في يد البائع، ففي تغريم الكفيل وجهان: فإن قلنا: يغرم، غرم الثمن على المذهب، وأبعد من قال: يضمن الأقل من القيمة أو الثمن.

_ (1) "عند الاستعداء" أي عند طلب إحضاره، يقال: استعديت الأمير، أو القاضي على الظالم، فأعداني، أي طلبت منه النصرة، فنصرني، فالاستعداء طلبك التقوية والنصرة، والاسم منه "العدوى"، والفقهاء يقولون مسافة "العدوى" -وكأنهم استعاروها من هنا- وهي المسافة التي يصل فيها صاحبها الذهاب بالعودة في عَدْوٍ واحد (ر. المصباح) وبهذا يفهم الكلام الآتي عن عدم جواز كفالة إحضار رجل بالبصرة من هو في بغداد؛ فهو فوق مسافة (العدوى)، وتقدر بمسافة القصر.

فصل فيما يلزم الكفيل 4309 - يلزم الكفيل إحضار الأصيل إذا أمكن، وعليه مؤونة الإحضار، فإن امتنع، حُبس حَبْسَ الممتنع من أداء الحق، فإن تعذر الإحضار بغيبة الأصيل إلى مكان لا يُعْدى عليه فيه، أو مات، وعسر إحضاره، فإن لم يثبت عليه شيء، فلا طلبة على الكفيل اتفاقاً. وإن ثبت الحق، فهل يطالب الكفيل بالدين، أو بالأقل من الدين ودية الأصيل، أو لا يطالب بشيء؟ فيه أوجه: أقيسها، وأصحها آخرها، ولا غرم عليه مهما (1) تمكن من الإحضار. ولا تصح كفالة البدن إلا برضا الأصيل، وأبعد من لم يشترطه، ولا يشترط رضا المكفول له، على الأصح، كضمان المال، ولو كفل برضا المكفول له، دون رضا الأصيل، فهل يملك إحضار الأصيل؟ فيه وجهان، من جهة أن الإذن في الكفالة كالتوكيل في الإحضار، ولو قال: كفلت ببدن فلان، حمل على الكفالة الشرعية، وكذلك الإقرار المطلق بسائر العقود، فإن طلب المكفول له الإحضار، فقال الكفيل: لم يأذن الأصيل في الكفالة، فهل يملك إحضاره؟ فيه وجهان؛ إذ المطالبة بالإحضار كالتوكيل. فصل في بيان الموضع الذي يحضر فيه الأصيل 4310 - إذا لم يبين موضع الإحضار، صح التكفل قولاً واحداً، ولزم الإحضار في محل الضمان، وإن قيد الإحضار بمكان معين، لزم الإحضار فيه، ومهما أحضره الكفيل برىء من الضمان، إن تمكن منه المكفول له، وإن لم يتمكن منه لتعززه، وتمنعه، فالضمان بحاله.

_ (1) "مهما" بمعنى (إذا).

وإن أحضره بالقرب من محل الإحضار المطلق أو المقيد، فإن كان في إحضاره إلى موضع الإحضار كلفة ومؤونة، لم يبرأ، وإن لم يكن، ففي البراءة وجهان. والاعتبار في ذلك بالكُلفة والمؤونة، دون المسافة. ولو أحضره، فقال المكفول له: لا أقبله الآن، ولا أتسلمه، برىء اتفاقاًً. فصل في تعليق الكفالة 4311 - إذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد كفلت ببدن فلان، ففي صحة الكفالة وجهان. وإن علّق بما يتقدم ويتأخر كالحصاد، فوجهان مرتبان، وأولى بالبطلان. وإن علقها بمجهول قد يكون، وقد لا يكون، كقدوم إنسان، فوجهان مرتبان. ولو نجز الكفالة، وعلق الإحضار على شهر، صح على المذهب، ولم يلزم الإحضار إلا بعد الشهر، فإن أحضره قبل الشهر، برىء عند المزني، وقال ابن سريج: لا يبرأ، إن كانت بيّنة المكفول له غائبة، أو كان دينه مؤجلاً بالشهر، وإن لم يكن شيء من ذلك، ففي إجباره على القبول وجهان، كما في الإجبار على قبض الدين المؤجل. ولو نجز الكفالة، وعلق الإحضار بالحصاد، أو بقدوم زيد، ففيه خلاف مرتب على صور التعليق، وصور التنجيز، وأولى بالصحة من صور التعليق، وهذه الصور بأعيانها جارية في تعليق التوكيل. فصل في دعوى الكفيل براءة الأصيل إذا ادعى الكفيل أن المكفول له قد أبرأ الأصيل، فالقول قول المكفول له. فإن نكل عن اليمين، فحلف الكفيل، برىء من الضمان، ولا يسقط دين الأصيل؛ إذ لا نيابة في اليمين. وإن حلف المكفول له، طالب الكفيل بإحضار الأصيل. فإن قال الأصيل: ليس لك إحضاري؛ لإقرارك ببراءتي، فعلى الخلاف المذكور في

المؤاخذة بالإقرار الواقع في أثناء الخصام، إذا قامت البينة بخلافه، والوجه القطع بإيجاب الإحضار؛ إذ لو لم يثبت، لاتخذ الكفلاء ذلك ذريعة إلى إسقاط الضمان. وإنما ينقدح الخلاف في الرجوع بعد الغرم إن كانت الكفالة بمال. ولو قال الكفيل: تحققت أن كفالتي وقعت بعد الإبراء، ففي سماع دعواه للتحليف وجهان يجريان في كل عقد يُدّعى بعده ما يتضمن إبطاله. فصل في الكفالة بأهل الحدود، وبإحضار الموتى 4312 - إذا تكفل بإحضار من لزمه حد، فثلاثة أوجه: ثالثها - تخصيص الصحة بحقوق الآدمي، كحد القذف، والقصاص. ولو مات المكفول به، ففي انقطاع الكفالة بموته وجهان؛ إذ جميع العقود والتصرفات مقيدة بحال الحياة. وتصح الكفالة ببدن الميت، حيث يجب إحضاره مجلس الحكم؛ لإقامة الشهادة على عينه، وصورته، وكذلك تصح بإحضار الصبيان لإقامة بينة أو غير ذلك، ويعتبر فيه إذن القوّام. فرع: 4313 - إذا كفل ببدن إنسان، فمات المكفول له، ففي انقطاع الكفالة أوجه: أقيسها - أنها لا تنقطع بموته، بل تبقى لورثته، كما في ضمان الديون. وثالثها -وهو ضعيف- إن كان في التركة وصي أو كان على الميت دين، استمرت الكفالة، وإلا فلا. فصل فيمن كفل به جماعة، وأحضره أحدهم إذا كفل ثلاثة بإحضار زيد، فأحضره أحدهم، فقد برىء، وفي براءة صاحبيه قولان مخرجان، بخلاف أداء الدين في الضمان؛ فإنه المقصود الأقصى، وكفالة الأبدان وسيلة، لم يحصل مقصودها بمجرد الإحضار. ولو كفل به ثلاثة، وكفل كل واحد بإحضار صاحبيه، صح، فإن أحضره أحدهم

برىء، وبرىء الآخران عن ضمان المحضِر، وفي براءتهما عن أصل الضمان القولان. فإن قلنا: لا يبرآن، وهو القياس، فعلى المحضِر إحضار صاحبيه، والكفالة باقية عليهما، فلو حضر زيد بنفسه، ثم غاب، فينبغي ألا يبرأ الكفلاء بذلك، بخلاف تأدية الدين؛ إذ لا مقصود وراءه. فصل في ألفاظ الكفالة وما تضاف إليه 4314 - إذا قال: كفلت ببدن فلان، أو عليَّ إحضاره، أو التزمت إحضاره، أو أنا بإحضاره كفيل، أو قبيل، أو قال: ضمنت، صح. وإن قال: أُحضره، لم يصح؛ لأنه وعد، وإن قال: كفلت ببدنه، أو وجهه، صح، ولعل الرأس في معنى الوجه. وإن أضاف الكفالة إلى عضو آخر، كاليد والرجل، فأوجه: أحدها - يصح في كل عضو يضاف إليه الطلاق. والثاني - يختص بالوجه. والثالث - يبطل إلا أن يضاف إلى مالا يقوم البدن إلا به، كالرئة، والظهر، والكبد، والقلب، وهذا بخلاف الطلاق؛ فإنه قويٌّ سارٍ، ولذلك لو حصره في شهر، سرى إلى ما بعده، ولو حصر الكفالة في شهر، اختصت به اتفاقاًً. فصل في الشهادة على الضمان 4315 - إذا ادعى عشرة، ولم يذكر سببها، فشهد بها شاهد، وشهد الآخر بخمسة، ثبتت الخمسة اتفاقاًً، ولو ادعى عشرة من ضمانٍ أو غيره، فشهد بها شاهدان، وقال أحدهما: قد قضى منها خمسة، فهل تثبت العشرة أو خمسة؟ فيه وجهان. فإن أثبتنا العشرة، فللمدين أن يحلف مع شاهد القضاء بشرط إعادة الشهادة بعد ادعاء القضاء، وأبعد من أجاز الحلف من غير إعادة الشهادة. فإن حلف، سقطت

الخمسة، ولو ادعى ضمان عشرة، فشهد أحدهما بذلك، وشهد الآخر بضمان خمسة، فإن حلف، استحق العشرة، وإن لم يحلف، لم يستحقها. وهل يستحق خمسة؟ فيه وجهان. ولو ادعى عشرة عن ضمان، فشهد أحدهما أنه ضمنها عن زيد بن خالد بن بكر، وقال الآخر: ضمنها عن رجل أعرف عينه دون نسبه، ثبتت العشرة. وأبعد من قال: لا تثبت. ولو ادعى أنه ضمن له عن زيد بن خالد، فشهد اثنان أنه أقر بضمان العشرة، ولم يتعرضا لاسم الأصيل، فالمذهب ثبوت العشرة. وأبعد من طرد فيها الوجه المذكور في الصورة السابقة. ***

كتاب الشركة

كتاب الشركة 4316 - لا يصح من الشِّرَك إلا شركة العِنان، وأبعد من أجاز شركة الأبدان، وهي الاشتراك في الصنائع والأعمال، وشركةُ الوجوه، كالقراض الفاسد، وهي أن يكون لأحدهما مال، وللآخر خبرة بالتجارة ووجهٌ عند التجار، فيشتركان على أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر، ولا يسلم إليه المال. وشركة المفاوضة أن يتشاركا في الغرم والغنم من غير خلط في المال. وتجوز شركة العنان بالنقدين، وفي غيرهما من العروض وجهان، والفتوى بالصحة. ولا خلاف أنها لا تتم إلا بخلط المال بشيوعٍ حكمي، أو خلط حسّي، لا يمكن معه التمييز في الحس والعِيان، فلا يتأتى ذلك بين الصحيح والمكسر، والعتيق والحادث، والمختلف النقوش والألوان، وإن تعذر التمييز لكثرة المخالط. فإن اختلف الجنس، فلا شركة، كالسمسم مع الكتان. وإن اتحد الجنس واختلف النوع: كالبرّ الأصفر مع الأحمر، فوجهان: والأوجه المنع. وإن استوى عرْضان في الوصف والقيمة، والْتبس أحدهما بالآخر التباساً مأيوس الزوال، فلا شركة (1).

_ (1) عبارة الرافعي والنووي عن هذه الصورة أكثر وضوحاً؛ حيث قالا: "ولو كان لهما ثوبان اشتبها، والتبسا عليهما، لم يكلف ذلك لعقد الشركة؛ فإن المالين متميزان، لكن أبهم الأمر بينهما". (ر. الشرح الكبير -بحاشية المجموع- 10/ 412، روضة الطالبين: 4/ 278).

فصل فيما يشترط في شركة العنان 4317 - حقيقة الشركة اختلاط المال، ويشترط الإذن في التصرف من الجانبين، أو من أحدهما، فإن كان الإذن من أحدهما، فللآخر أن يتصرف في نصيب نفسه، وهل يملكان التصرف بقولهما: "اشتركنا"؟ فيه وجهان. ولا يشترط التساوي في قدر المال، خلافاً للأنماطي، وفي اشتراط علمهما بقدر المالين وجهان. وشرط العلماء في الشركة أن تعقد بعد اختلاط المال، فإن تقدم العقد على الخلط، لم يصح إذا وقع الخلط بعده. وفيما قالوه نظر؛ لأن إذنهما توكيل من الطرفين، فإن علقاه على الخلط، خرج على تعليق التوكيل. وإن نجزاه، فالوجه القطع بصحته واستمراره إلى ما بعد الخلط، إلا أن يشترطا إفراد كل واحد من النصيبين بالتصرف. فرع: 4318 - إذا كان التصرف من الجانبين، لم يشترط انفراد أحدهما باليد، وإن كان من أحدهما، فوجهان، بناهما الإمام على الخلاف في شرط الزيادة (1) للمنفرد بالتصرف، فإن منعناه، لم يشترط انفراده باليد، وإن أجزناه، فإن لم يشترطاه، فلا يشترط الانفراد باليد، وإن شرطاه، ففي الانفراد باليد الوجهان. فرع: 4319 - إذا باع أحد الشريكين العبد بإذن شريكه، مع جهلهما بقدر ملكهما، ففي صحة البيع وجهان: فإن قلنا: يصح، تعدى الابهام إلى الثمن. فصل في توزيع الربح والخسارة على رؤوس الأموال 4320 - وضع الشركة على توكيل بالتصرف مضافٍ إلى التصرف بالملك. ولا تتغير بها القواعد، فيجب توزيع الربح والخسارة على رؤوس الأموال، فإن شرطا تفاوتاً، فإن كان التفاوت في الخسران، بطل الشرط، كأن كان في الربح، فإن استويا في

_ (1) أي الزيادة في الربح مقابل العمل.

العمل، وقدر المال، بطل الشرط، وإن استويا في المال، وتفاوتا في العمل، فإن شرطت الزيادة لمن زاد عمله، ففي ثبوتها وجهان: أقيسهما - الثبوت؛ لمقابلتها بالعمل، فإن قلنا: لا تثبت، فانفرد أحدهما بالعمل، أو بزيادة فيه، فإن صرحا بالتوزيع على الأموال، فالعامل متبرع، وإن أطلقا الشركة على أن ينفرد أحدهما بالعمل، أو بزيادة فيه، فهل يلحق بمن استعمل إنساناً، ولم يُسمّ له أجرة؟ فيه وجهان والفرق جريان العادة بتسامح الشركاء في الأعمال. فصل في حكم الشرط الفاسد 4321 - إذا فسد اشتراط التفاوت في الربح، ففي فساد الشركة وجهان. والمعظم على نفي الفساد؛ للاتفاق على تنفيذ التصرف وتوزيع الأرباح على رؤوس الأموال. وقال أبو علي: يظهر أثر الفساد في حكمٍ واحد، وهو إذا استوى المال، وشرطت الزيادة لمن زاد عمله، ثم فسدت الشركة بسبب من الأسباب؛ فإنه يستحق أجرة المثل لما عمل على نصيب شريكه، ولا يستحق الزيادة المشروطة، ولو فسدت الشركة، وقد زاد عمل أحدهما، ولم يشترط له شيء، فالأصح أنه لا أجرة له، فإن أوجبناها، فقد ظهر الفرق بين الشركة الصحيحة والفاسدة. ولو استويا عملاً ومالاً، لم يظهر فائدة الفساد إلا على منع التقاصّ، ولا خلاف أن الشركة لو صحت، لم يطالب أحدهما بأجرة عمله، ولا بزيادة. وتنتفي الشركة بانتفاء الخلط، لأنه حقيقتها، ولذلك أبطلنا شركة الأبدان. ولو اشتركا في التصرف، وشرط انفراد أحدهما باليد، فالشرط فاسد، وفي فساد الشركة الوجهان.

فصل في فسخ الشركلة وانفساخها الشركة عقد جائز، لأنها توكيل من الجانبين، أو من أحدهما، فأيهما مات أو جن، انفسخت، فإن أراد الوارث تجديدها، فليعقدها مع الشريك الباقي، وينعزلان بقول أحدهما: فسخت الشركة. ولو عزل أحدهما الآخر، اختص العزل بالمعزول، وبقي العازل، واقتسامهما المال كاقتسام سائر الشركاء، فإن خلطا رديئاً من أموال الربا بجيد، كزيت رديء بجيد، قسم بينهما على ما ذكرناه في باب التفليس (1)، ولو كان لهما دين على رجلين، فأراد أن ينفرد كل واحد منهما بما على أحد الرجلين، فإن جوزنا بيع الدين من غير المدين، فليشتر كل واحد منهما نصيب الآخر من الدين على أحد الرجلين بعين، فيصير مختصاً به. فصل في الشركة في المنافع لا تصح الشركة بالمنافع لامتيازها، فلو كان لرجل بغل ولآخر راوية، فشاركهما من يسقي بالبغل والراوية على أن يكون الماء بينهم، لم تصح الشركة، فإذا استقى ماء مباحاً، فأصح الطريقين أنه إن نوى نفسه، اختص بالماء اتفاقاً، وعليه أجرة البغل والراوية، وكذلك يلزمه الأجرة إن استقى من ماءٍ يملكه. وإن نوى نفسه وصاحبيه، فهل يشاركانه في الماء؟ فيه وجهان: فإن منعنا المشاركة، لزمته الأجرة، وإن أثبتنا المشاركة، فالماء بينهم أثلاثاً. وقيل:

_ (1) والطريقةُ أن يباع الجميع، ويأخذ كل شريك قدر نصيبه وقيمته؛ لأن صاحب الأجود لو أخذ الكليل أو الوزن الذي شارك به بغير زيادة، يكون قد نقص نصيبه بدخول الأردأ فيه، وان أخذ زيادة يكون قد أربى.

يشتركون فيه على قدر الأجور، فإن ثلَّثناه، فلا تراجع، وإن وزعناه على الأجور، فيرجع كل واحد على كل واحد من صاحبيه بثلث أجرة المثل لما بذل. والطريقة الثانية - فيه للشافعي ثلاثة نصوص-: أحدها - اختصاص الماء بالمستقي، والثاني - يتشاركون فيه، ويتراجعون بالأجور ثُلثاً ثُلثاً، والثالث - التقسيط على قدر الأجور. وهذا تخليط لا يصح. فرع: 4322 - إذا استأجر رجل بغلاً وراوية ومُسقياً لاستقاء ماء مباح، فإن أفردت كل منفعة بإجارة، صح، ووقع الماء للمستأجر -وإن نوى الأجير نفسه- لاستحقاق منافعه بالإيجار، وكذلك الإيجار لإحياء الموات، وتملك المباحات. وإن استؤجر الجميع في صفقة واحدة، ففي صحة الإجارة قولان: فإن قلنا: تصح، وزع المسمى على قدر الأجور. وإن قلنا: لا تصح، فالذي ذكره أبو علي: أن الماء للمستأجر -وإن نوى الأجير نفسه- لأن منافعه مضمونة بالأجرة، وقال الإمام: إذا نوى نفسه، فالوجه إيقاع الماء له، وسقوط أجرته، وعليه أجرة البغل والراوية. ولو كان لأحدهم بغل، وللآخر بيت رحا، ولآخر حجرها، فشاركهم رابع على أن يعمل والحاصل بينهم، لم يصح. فإن استؤجر العامل لطحنٍ في الذمة، فطَحَنه، استحق المسمى، وعليه الأجرة لأصحابه، ولذلك لو غصب البيت والحجر والبغل، أو استأجر ذلك إجارة صحيحة أو فاسدة؛ فإنه يستحق المسمى، وعليه أجرة المثل، في الغصب والإجارة الفاسدة، والمسمى في الإجارة الصحيحة، وإن أوقع الإجارة على عين الطاحن والبيت والرحا، صح إن كان في عقودٍ، وإن كان في عقدٍ، فقولان. فلو ألزم ذمم الأربعة طحن حب معلوم، صح اتفاقاًً. فإن وقع الطحن بالأعيان التي اشتركوا عليها، استحقوا المسمى أرباعاً، ولكل واحد على أصحابه ثلاثة أرباع أجرة المثل.

فصل في الشركلة بالمنافع والأعيان 4323 - ولو كان لأحدهم أرض، وللآخر بَذْر (1)، وللثالث آلات الحرث، فشاركهم رابع على أن يزرع ويكون الزرع بينهم، لم يصح، والزرع لمالك البذر، وعليه لأصحابه كمال أجور الأمثال. ولو كان لأحدهم ورق، وللآخر بزر القز (2)، فشاركهما آخر، على أن يعمل ويكون الفَيْلَج (3) بينهم، لم يصح. ولو اشتركوا في البزر، أو باع أحدهم بعض الدود من صاحبيه، اشتركوا في الفَيْلَج، ولا نظر إلى التفاوت فيما يخرج من الدود، كما لا ينظر في البذر المشترك إلى التفاوت فيما يُنبت وما لا ينبت. فرع: 4324 - إذا استؤجر لتملكِ مباحٍ، كالاحتطاب والاحتشاش، جاز، وحصل الملك للمستأجر، وإن توكل في ذلك، فوجهان، خصهما الإمام بما إذا قصد بذلك موكله، وقطع بأنه إن قصد نفسه، ثبت الملك له، وفي احتطابه بغير إذنه تردّد، والظاهر حصوله للوكيل.

_ (1) البَذْر: بفتح الباء وبالذال: المبذور، تسمية بالمصدر، أو فَعْل بمعنى مفعول، قيل: البذرُ للحبوب كالحنطة والشعير، والبزر: بفتح الباء وكسرها وبالزاي، للرياحين والبقول، وهذا هو المشهور في الاستعمال. ونقل عن الخليل: كل حب يبذر فهو بذر وبزر، أي التسوية بينهما. (ر. المصباح). (2) "بزر القز": بيض دودة القز، و"الورق": المراد به ورق التوت الذي هو طعام دود القز. (3) الفيلج: وزان زينب، ما يتخذ منه القز، وهو معرب، والأصل: فيلق، كما قيل: كوسج، والأصل: كوسق، ومنهم من يورده على الأصل، ويقول: "الفيلق". (ر. المصباح).

فصل في الاختلاف 4325 - إذا أراد أحدهما ردّ المبيع بالعيب، وأراد الآخر إمساكه، ففي انفراده بالردّ قولان، وإن غبن أحدهما في الشراء، فإن كان الثمن في الذمة، فالعقد له، وإن كان بالعين، لم يصح في نصيب شريكه، وفي نصيبه قولان، ولو تنازعا عيناً في يد أحدهما، فادعى الخارج أنها للشركة، وقال ذو اليد: بل هي لي، فالقول قول ذي اليد، مع يمينه، فإن كان المال عشرين، وفي يد أحدهما عشرة، يدعي أنها حصلت له بالقسمة، وأنه سلم إلى الآخر عشرة، فالقول قول الخارج في نفي القسمة، وقول الداخل في الخمسة التي ادعى ردّها إليه من جملة العشرة، وتقسم العشرة التي في يده بينهما، بعد أن يحلف كل واحد منهما على نفي ما ادعى عليه. فصل في أمانة الشركاء 4326 - الشركاء أمناء يقبل قولهم في دعوى الرد والتلف، ومن ادعى منهم خيانة مطلقة، لم تسمع، وإن فصَّل، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. ولو باع أحدهما عيناً، فادعى المشتري أنه أقبضه الثمن، فصدقه الشريك الآخر، وأنكر البائع، فالقول قول الشريك البائع، فإن حلف، فله طلب حصته دون حصة شريكه؛ لاعتراف الشريك ببراءة المشتري، وليس للشريك أن يساهم البائع فيما يأخذه من الثمن، فإن شهد الشريك على البائع بالقبض، لم تُقبل شهادته فيما يخصه، وفيما يخص البائع قولا تبعيض الشهادة، وإن نكل البائع عن اليمين، عرضت على المشتري، فإن حلف، برىء، وإن نكل، فهو كحلف البائع، هذا إذا تنازع البائع والمشتري. ولو تنازع البائع والشريك، فالقول قول البائع، فإن نكل، عرضت اليمين على

الشريك، فإن نكل، كان كحلف البائع، وإن حلف، طلب حصته من البائع، وللبائع مطالبة المشتري بحصته من الثمن على قول الكافة، وقيل: لا يطالب؛ لأن نكوله مع اليمين كبينة أو إقرار، وأيهما كان، امتنع به الطلب والخصام، وهذا غريب منقاس، ومقتضاه أن الخصام لو وقع في الابتداء مع المشتري، فحلف المشتري يمين الرد بعد نكول البائع، فينبغي أن يطالب الشريك بحصته من الثمن؛ لأن يمين الرد كبيّنة أو إقرار. ولو أذن أحدهما للآخر في البيع، وقبض الثمن، ولم يأذن الآخر في ذلك، فادعى المشتري دفع الثمن إلى الآذن، وصدقه المأذون، فالقول قول الآذن، وللمأذون طلب حصته من المشتري بكل حال؛ لأنه لم يأذن لشريكه في القبض، وليس له طلب نصيب الآذن، فإذا قبض المأذون نصيب نفسه، فلشريكه أن يساهمه فيه عند المزني، وقال ابن سُريْج: لا يساهمه؛ لأنه اعترف بانعزاله بالقبض، قال الشيخ (1): وإن انعزل المأذون كما قال ابن سريج، فينبغي أن يخرج ذلك على ما إذا باعا شيئاًً صفقة واحدة، وقبض أحدهما نصيبه من الثمن، فهل يساهمه الآخر؟ فيه وجهان، ولو شهد البائع على الإذن بقبض جميع الثمن، قبلت شهادته؛ إذ لا جَرَّ فيها. فصل في بيع الجزء الشائع وغصبه والإقرار به 4327 - إذا قال أحد الشريكين للمشتري: بعتك نصفي، أو حصتي من هذا العبد، صح، وانحصر البيع في نصيب البائع، وإن قال: بعتك نصف العبد، فهل ينحصر أو يشيع في النصفين؟ فيه وجهان: فإن أشعناه، بطل بيع ربع العبد، وفي الربع الآخر قولا تفريق الصفقة.

_ (1) "الشيخ": هنا هو " الشيخ أبو علي" كما صرح بذلك الرافعي، وإذا قيل الشيخ أبو علي، فهو السِّنجي. (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 10/ 450).

وإن أطلق أحدهما الإقرار بالنصف، فإن أشعنا البيع، فالإقرار أولى، وإن حصرناه، شاع الإقرار في أصح الوجهين، وإن أطلق، فروجع، فحصر الإقرار في نصيب الشريك، قُبل عند أبي محمد، واستبعده الإمام. وقد نص الشافعي، واتفق أصحابه على تصور غصب الجزء الشائع؛ إذ الغصب إزالة يد محقة، وإحداث يد عادية، فإذا أزال الغاصب يد الشريك، وأحل نفسه محله، ولم يتعرض لنصيب الآخر، فقد غصب النصف، فإن باعه، خرج على الوقف، وإن باع الجميع هو والشريك الآخر من شخص واحد، فقد قطعوا بالنفوذ في حصة الشريك البائع، لاتفاقهم على تعدد الصفقة بتعدد البائع، وقيل: لا يصح لاشتمال القبول على الصحيح والفاسد مع اتحاده، وهذه هفوة. ***

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة 4328 - تصح الوكالة بإجماع العلماء، ولا تصح فيما لا تطرق للنيابة إليه، كعبادات الأبدان، إلا الحج، وركعتي الطواف، إذا أتى بهما الأجير على الحج، وفي الصوم خلاف، ويصح في كل ما تتطرق إليه النيابة، ويقع معظم نفعه للموكِّل، كالعقود، والفسوخ، والطلاق، والعتاق، والرجعة، والنكاح، والصلح، والسلم، والرهن، والحوالة، والقبوض المستحقة، والعواري، وقبول الهبات. وفي تملك المباح وجهان. ولا يجوز في الإيلاء؛ لأنه يمين، ولا نيابة في الأيمان، وفي الظهار جوابان، مأخذهما تغليب الطلاق أو الأَيْمان. والوجه القطع بالتصحيح في الإيصاء والضمان. ولا يجوز في الغصب، والعدوان، فإن غصب ما أذن له فيه، اختص بأحكام الغصب والضمان. ويجوز في إثبات القصاص، وحد القذف اتفاقاً، وكذلك في استيفائهما إن حضر الموكِّل، وإن غاب، ففيه -لاختلاف النص- طريقان: إحداهما - المنع، قولاً واحداً، والثانية - فيه قولان. والمذهب منع التوكيل في طلاق امرأة سينكحها. وأصح الوجهين بطلان التوكيل في الإقرار، وبه قطع المراوزة. فإن قلنا: يصح، فقال: أقرّ عني لزيد بعشرة، لم يكن التوكيل إقراراً، وإن عزله، امتنع الإقرار. وإن قلنا: لا يصح، فالأصح أن نفس التوكيل إقرار، فإن قال: أقر عني لفلان بشيء، فهو كقوله: "له علي شيء". ولو قال: أقرّ لزيد، واقتصر، فوجهان، وقطع العراقيون بأنه ليس بإقرار؛ إذ يحتمل أقر له بالفضل والإحسان.

فصل فيمن يجوز توكيله وتوكُّله 4329 - كل من ملك مباشرة أمرٍ لنفسه، وهو مما يقبل النيابة، جاز أن يوكل فيه، وكل من باشر لنفسه أمراً يقبل النيابة، جاز أن يتوكل فيه، وهذا مطرد، واستثنى من عكسه مسائل، فالعبد والسفيه لا يتزوجان بغير إذن السيد والولي، ولو توكّلا فيه بغير إذنٍ، جاز، على المذهب. ولو توكلا في الإنكاح، لم يجز، على المذهب؛ إذ لا يملكانه بالإذن. وفي توكيل المرأة في طلاق غيرها وجهان. والمحجور بالفلس لا يتصرف في أمواله، وإن توكل فيما لا عهدة فيه، جاز، وكذلك فيما فيه العهدة، على المذهب. فصل في التوكيل في المخاصمة 4330 - لا يشترط في التوكيل في الخصام رضا الخصم، رجلاً كان، أو امرأة، مخدَّرة أو غير مخدّرة، ويدخل تحت لفظ الخصومة إقامة البينة، وسماعُها وجرحُها، واستزكاؤها، فإن استثنى الموكل شيئاً من ذلك، لم يملكه الوكيل، ولا يملك المصالحة وإن جاز التوكيل في صلح المعاوضة والحطيطة. وليس له أن يقبض الحق إذا ثبت، على أصح الطريقين؛ إذ لا يعدّ من الخصام، وقيل: فيه وجهان. ولو توكل في قبض حق، فاحتاج إلى الخصام، فهل له ذلك؟ فيه وجهان. وإن توكل بالمخاصمة من الجانبين، لم يجز، على الأصح، فإن أجزناه، فليفرغ من حجة أحدهما، ثم يشتغل بحجة الآخر. وإن وكل اثنين بالمخاصمة، فهل لأحدهما الانفراد؟ فيه وجهان: فإن منعناه، لم يخاصم إلا بحضور صاحبه؛ إذ الغرض بذكرهما حضورهما للتشاور والتناصر، وكذلك الغرض من كل ما يفوض إلى اثنين على الإطلاق، كالوكالة والوصاية، وسائر التصرفات.

ولو توكل في مجلس الحكم، فله أن يخاصم فيه، وفي غيره من المجالس في الاستقبال. وقال القاضي: يتخصص ذلك بمجلس التوكيل، على مصطلح القضاة، وليس الأمر كما قال. وإن وكله في مخاصمة خصمائه، ولم يعين، صح في جميع الخصومات، وقيل: لا يصح؛ للجهالة. وإن ادعى أنه وكيل زيد في مخاصمة عمرو، فإن صدقه عمرو، ثبتت بذلك الوكالة، واطرد الخصام، فإن كان عمرو مدعىً عليه، لم يملك الامتناع من المخاصمة إلى أن يحضر الموكل، وإن كان مدعياً، فله أن يخاصم وأن يؤخر، وإن كذبه عمرو، لزمه الإثبات، وتسمع بينته في حضور الخصم، وغيبته. وقال القاضي: لا بد أن ينصب القاضي من يسمع البينة في مسألة الغيبة؛ إذ لا بدّ من مقضي عليه بخلاف القضاء على الغائب؛ فإنه يتوجه إليه، بخلاف الوكالة؛ فإن إثباتها ليس قضاء على الغائب، ولا أصل لما قال. فرع: 4331 - إذا وكل في مجلس القضاء، فللوكيل أن يخاصم عنه ما دام حاضراً، وإن غاب، لم يخاصم، إلا أن يعرفه الحاكم بنسبه، ولا يجوز أن يعتمد على قوله في نسبه، فإن أقام بينة بالنسب، سُمعت، ووجب استزكاؤها. وقال القاضي: جرت عادة القضاة بترك الاستزكاء هاهنا؛ اعتماداً على ظاهر عدالة الشاهدين، وهذا مما تفرّد به؛ فلا تخرم به الأصول. فصل في قبول الوكالة لا تفتقر الإباحة إلى قبول المباح له، ولا تبطل برده، وفي اشتراط قبول الوكالة طريقان: إحداهما - وجهان. والثانية - لا يشترط إن كانت بلفظ الأمر، وإن كانت بلفظ التوكيل، أو الإنابة أو التفويض، فوجهان، ولو عزل نفسه، انعزل اتفاقاًً. فرع: 4332 - إذا شرطنا القبول، فلا بدّ أن يتصل بالإيجاب، فإن كتب الغائب بالوكالة، نفذت على الأصح.

فإن لم نشترط القبول، نفذ تصرف إلوكيل، وإن شرطناه، فليقبل إذا عرف مضمون الكتاب. فصل في تعليق الوكالة 4333 - إذا علق الوكالة بصفةٍ أو وقت، فطريقان: أحسنهما - أنا إن شرطنا القبول، لم يجز، وإن لم نشترطه، جاز. والثانية - إن لم نشترطه، جاز، وإن شرطناه، فوجهان. ولو عجل التوكيل، وعلّق التصرف، جاز، ولا يتصرف قبل وجود الشرط، ورمز العراقيون إلى تخريجه على الخلاف في التعليق، إذ لا معنى للوكالة مع منع التصرف. فرع: 4334 - إذا منعنا التعليق، فتصرف الوكيل بعد وجود الشرط، نفذ عند العراقيين، ويسقط المسمى، ويجب أَجْر المثل. ومنعه أبو محمد، وقال الإمام: إن وكل بصيغة التوكيل، لم ينفذ إن شرطنا القبول، وإن وكل بصيغة الأمر، نفذ إن لم نشترط القبول. فرع: 4335 - إذا لم نشترط القبول، ففي اشتراط علم الوكيل بالوكالة خلاف مرتب على العلم بالعزل، وأولى بالاشتراط، فإن شرطناه، فهل يشترط أن يقترن بالوكالة؟ فيه وجهان. فإن لم نشترط الاقتران، فتصرف قبل العلم، ففي نفوذ تصرفه قولان، كما لو باع مال أبيه على ظن حياته، فظهرت وفاته. فصل في العزل 4336 - لا يقف العزل على القبول اتفاقاًً، ولا على علم الوكيل على الأصح، وفيه قول مخرّج. وإن مات الموكل أو جن، أو أَعْتَق العبد الذي وكَّل في بيعه، أو باعه بيعاً لازماً، ولم يشعر الوكيل، نفذ التصرف، وانعزل الوكيل.

ولا ينعزل الحاكم قبل بلوغ الخبر؛ لما في ذلك من الضرر، وقيل: فيه القولان. فرع: 4337 - إذا لم نشترط العلم بالعزل، فتصرف الوكيل، فادعى الموكل أنه عزله قبل التصرف، لم يقبل إلا ببيّنة. فرع: 4338 - في تعليق العزل خلاف مرتب على تعليق الوكالة، والأصح الجواز. فرع: 4339 - إذا جوزنا التعليق، فقال: مهما عزلتك، فأنت وكيلي، ثم عزله، عاد التوكيل، فإن عزله ثانياً، لم تعد الوكالة، إلا إذا قال: كلما عزلتك، فأنت وكيلي، فيتكرر التوكيل بتكرر العزل. فإن عزله في غيبته، فإن شرطنا العلم بالعزل، فالوكالة بحالها، وإن لم نشترطه، فهل تعود الوكالة، أو تخرج على الخلاف في اشتراط علم الوكيل؟ فيه وجهان؛ لأن الوكيل قد أمن من اطراد العزل. فرع: 4340 - إذا حكمنا بعود التوكيل بعد العزل، فصادف التصرف وقت الانعزال، ففي نفوذه وجهان. وإن شككنا في ذلك، أو اختلفا فيه، فالأصل بقاء التوكيل. فرع: 4341 - إذا حكمنا بتكرر الوكالة إذا تكرر العزل، فالخلاص منها بأن يقول: كلما وكلتك، فأنت معزول. فصل في إقرار الوكيل على الموكل 4342 - إذا توكل بالمخاصمة لمدعٍ، أو مدعىً عليه، لم يقبل إقراره عليه، ولو عدّل وكيل المدعى عليه ببينة المدعي، لم يقبل؛ لأنه يقطع الخصومة كالإقرار، وليس للوكيل أن يختار قطع الخصام.

فصل في التوكيل في الإبراء 4343 - إذا قال: أبرأتك مما لي عليك، وهو عالم بقدره، صحّ، وإن لم يصرح بذكر المقدار، كما لو قال: بعتك بما باع به فلان، ويشترط في الإبراء معرفة الموكل لما يبرىء منه، دون الوكيل، فإذا قال: أبرأتك مما لموكلي عليك، صح، وإن جهله الوكيل، بخلاف البيع؛ فإن عهدته تتعلق بالوكيل. فصل في توكيل الوكيل 4344 - إذا وكل إنساناً بتصرفاتٍ أو خصومة، فإن تيسّر عليه تعاطي ذلك، لم يملك التوكيل فيه اتفاقاًً، وإن عسر، فطرُقٌ: إحداهن - التجويز فيما يعسُر منه، وفي المتيسر وجهان. والثانية - المنع في المتيسر، وفي المتعسر وجهان. والثالثة - في الجميع وجهان: أحدهما - الجواز في الكل، وفيما شاء منه، والثاني - المنع في الكل، والجواز في البعض، والتعيين إليه، وهل يعتبر في العُسر عظم المشقة، أو عدم الإمكان؟ فيه وجهان. فرع: 4345 - توكيل العبد المأذون كتوكيل الوكيل، في الخلاف والوفاق، وللوصي، والمقارض، والولي المجبِر أن يوكّلوا وفي غير المجبر خلاف. فصل في التوكيل بإذن الموكل 4346 - يجوز التوكيل بالوكالة، فإذا وكله بتصرف، وأذن له أن يوكل فيه، فله أحوال: الأولى - أن يقول: وكل عني فيما وكلتك فيه، فيكون الوكيل الثاني وكيلاً عن المالك، لا ينعزل بانعزال الأول بحال.

الثانية - أن يقول: وكل عن نفسك، فهل يملك الأول عزل الثاني؟ فيه وجهان، يعبر عنهما بأنه وكيل عنه أو عن المالك، فإن جوزنا له عزله، انعزل بموته وجنونه، وإن منعناه من عزله، ففي انعزاله بموته وجنونه وجهان. ولو انعزل الأول بعزل المالك، ففي انعزال الثاني بذلك وجهان، اعتباراً بالموت والجنون. وإن عزل المالك الثاني، انعزل إن منعنا الأول من عزله. وإن أجزناه، فوجهان، فإن قلنا: لا ينفذ، فطريق الخلاص أن يعزل الأول، فينعزل الثاني بذلك. الثالثة - أن يقول: وكلتك في التوكيل، ولا يزيد، فبأي الحالين يُلحق؟ فيه وجهان. فرع: 4347 - إذا جوزنا للوكيل المطلق أن يوكل، فإن أضاف إلى الموكل، فهو كالحال الأولى، وإن أضاف إلى نفسه، فهو كالحال الثالثة. فصل في دعوى الأمين الرد على المؤتمن 4348 - كل أمين ادعى الرد على المؤتمن، فالقول قوله باتفاق الخراسانيين، وقال العراقيون: إن كان الغرض للأمين: كالمستأجر والمرتهن، فالقول قول المؤتمن. وإن كان الغرض للمؤتمن كالوديعة والوكالة بغير جُعل، فالقول قول الأمين. وإن كان الغرض لهما كالوكيل بالجعل، فوجهان. فرع: 4349 - كل أمين تلفت العين عنده بغير تفريط منه، لم يضمن، وكل أمين ادعى التلف، فالقول قوله باتفاق الخراسانيين، وقياس العراقيين إلحاق دعوى التلف بدعوى الرد، ويحتمل أن يفرقوا بين الرد والتلف.

فصل في دعوى الرد على غير المؤتمن 4350 - إذا ادعى الرد على غير المؤتمن، لم يقبل قوله إلا على وجه بعيد، كمن، التقط لقطة، أو أطارت إليه الريح ثوباً، فادعى الرد على المالك، لم يقبل، وكالقيم إذا ادعى الرد بعد البلوغ والرشد، فلا يقبل على الأصح، وإن ادعى النفقة في، الصغر، فإن ذكر سرفاً، ضمن، وإن ذكر اقتصاداً، قبل على الأصح. فرع: 4351 - من طولب بالدين، فله أن يمتنع من أدائه حتى يُشهد له بقبضه، وفي الوديعة وجهان. وقال العراقيون: لا يمتنع في الدين، إلا إذا كان به بينة. فصل في دعوى الرد على رسول المؤتمن 4352 - إذا ادعى الأمين الدفع إلى الرسول، واعترف المالك بالإرسال، وكذب، الأمين في الدفع، فالقول قول الرسول في عدم القبض، وفي تغريم الأمين وجهان؛ إذ يد الرسول كيد المرسل، وقطع الإمام بالتغريم؛ لأنه ادعى الرد على غير المؤتمن، وإن كذبه الرسول، وصدقه المالك، فإن قلنا: لا يغرم إذا كذبه المالك، فهاهنا أوْلى، وإن قلنا: يغرم ثمَّ، فهاهنا وجهان مشهوران لتقصيره بترك الإشهاد. فصل في التنازع في إيقاع التصرفات 4353 - إذا توكل بتصرف، أو أداء أمانة، أو دين، فادعى أنه فعل ذلك، وأنكره الموكل، ففي قبول قول الوكيل مع يمينه طريقان: إحداهما - ثلاثة أقوال: أحدها - لا يقبل في الجميع، لتعلقه بثالث، والثاني - يقبل حتى في أداء الديون والأمانات، والثالث - إن شابه لفظُ الدعوى لفظَ الإنشاء، قبل، وإلا فلا، فيقبل في العتق

والطلاق، ولا يقبل في الاقتصاص. ولو قال: بعتُ، فالقياس أنه لا يقبل؛ إذ لا يستقل بالإنشاء من غير قبول. والطريقة الثانية -وهي المشهورة- إن ادعى دفع دين أو أمانة، لم يقبل، على المذهب. وإن ادعى عقداً وهو باقٍ على الوكالة، قبل؛ لقدرته على الإنشاء. فرع: 4354 - إذا صدقه المالك على قضاء الدين، ولكنه، لم يُشهد، لزمه الضمان، إلا على قول بعيد. وقال العراقيون: إذا جحد القابض، فإن ترك الإشهاد في غيبة الموكل، ضمن، وإن تركه بحضرته، فوجهان. وإن دفع الوديعة بحضوره، لم يضمن، وفي الغيبة أوجه: ثالثها - التفرقة بين أن يدفعها في مكانٍ يتعذر فيه الإشهاد، أو يتيسر. فصل في التنازع في قبض الديون والأثمان 4355 - إذا توكل في قبض دين، فادعى أنه قبضه، وأنه تلف في يده، فقال الموكل: لم تقبضه، فالقول قول الموكل؛ إذ لا غرم على الوكيل، ولا خصومة معه، وللموكل أن يطالب المدين بالدين، بخلاف ما لو اتفقا على الاستيفاء، ثم اختلفا في الرد أو التلف، فالقول قول الوكيل؛ فإنا لو كذبناه، لغرمناه. ولو سلَّم المبيع بإذن الموكل، أو كان البيع بالمؤجل، فسلم المبيع، ثم ادعى أنه قبض الثمن، فالقول قول الموكل، فإن اتفقا على قبضه، ثم اختلفا في تلفه أو ردّه على الموكل، فالقول قول الوكيل؛ فإن البيع إذا كان مطلقاً أو مقيداً بالحلول، فسلّم المبيع قبل قبض الثمن، لزمه الأقل من قيمة المبيع أو الثمن، فإذا ادعى الموكل أنه سلمه، فأنكر، فالقول قول الوكيل؛ لأنا لو كذبناه، لغرمناه، وليس للموكل مطالبة المشتري بالثمن على الأصح؛ لتعلق الخصومة بالوكيل، بخلاف ما ذكرناه في الدين، فإن قلنا: لا يطالبه بالثمن، فرد المشتري المبيع بالعيب، فله طلب الثمن من المالك والوكيل، فإن غرّم الوكيل، لم يرجع على المالك؛ لأن يمينه صلحت للدفع دون الإثبات، فأشبه ما لو اختلف المتبايعان في عيب ممكن الحدوث، فحلف

البائع، ثم انفسخ البيع بالتحالف، فليس له أن يغرّم المشتري أرش العيب الحادث اتفاقاًً، إلا أن في صورة الوكالة إشكالاً، من جهة أنا قد برّأنا المشتري من الثمن، وصدقنا الوكيل في قبضه وتلفه أو ردّه على المالك، وذلك يقتضي الرجوع على المالك، ولا يتجه منع الرجوع إلا إذا جوزنا مطالبة المشتري بالثمن. فصل فيمن طولب بأمانةٍ فأخّر ردها 4356 - كل من طولب بأمانة، لم يجز له تأخير ردها إلا بعذر، فإن أخر بغير عذر، ضمن، وإن كان مشتغلاً بأكل، أو طهارة، أو حمّام، لم يلزمه القطع، فإن تلفت في هذه الحال، لم يضمن عند الأصحاب، وقال الإمام: إن تلفت بسببٍ تتلف به لو كانت عند المالك، لم يضمن، وإن تلفت بسبب التأخير، ضمن. فرع: 4357 - إذا ادعى المالك تأخيراً لا عذر فيه، أو اتفقا على التأخير، وادعى المالك نفي العذر، فالقول قول الأمين. فصل فيمن جحد الأمانة، ثم ادعى ردّها أو تلفها 4358 - إذا ادعى عليه بوديعة أو قَبْض ثمن توكل في قبضه، فأنكر، فله حالان: إحداهما - أن يقول: ما لك عندي شيء، أو لا يلزمني تسليم ما ادعيت، ثم تقوم عليه البينة بالاستيداع وقبض الثمن، فيدعي الرد أو التلف، فالقول قوله مع يمينه، فإن أضاف التلف إلى ما بعد الإنكار، لزمه الضمان. الثانية - أن يقول: ما استودعتُ، ولا قبضتُ، فتقوم البينة عليه بذلك، فيدعي الرد أو التلف، فإن أضافهما إلى ما قبل الإنكار، لم يقبل قوله، فإن أقام بينة، لم تسمع على أظهر الوجهين؛ لأنه كذبها بالإنكار، وإن أضاف التلف إلى ما بعد الإنكار، قبل قوله، كالغاصب، وعليه الضمان. وإن أضاف الرد إلى ما بعد

الإنكار، لم يقبل قوله، فإن أقام بيّنة، فقد سمعها الأصحاب، وخرجها الإمام على الخلاف لإكذابها بسابق الإنكار. فصل في مخالفة الوكيل ما يقتضيه اللفظ أو العرف 4359 - إذا قال: اشتر بهذه الدراهم، وجب الشراء بعينها، فإن خالف، انصرف العقد إليه. وإن قال: اشتر في الذمة، وانقد فيه هذه الدراهم بعد اللزوم، فاشترى بعينها، لم ينعقد، على الأصح. وليس للوكيل أن يبيع، ولا أن يشتري من نفسه اتفاقاً، وإن نص له على ذلك، فوجهان أجراهما ابن سريج في كل عقد مفتقر إلى الإيجاب والقبول، فإن أذنت المرأة لابن عمها أن يتزوجها متولياً للطرفين، أو توكل في جلد نفسه حدّاً، أو في قطع يده قصاصاً أو حداً، ففيه الوجهان، وهو بعيد في النكاح؛ لما فيه من التعبد، وفي الجلد، لما فيه من التهمة. وإن كان عليه دين، فتوكل في قبضة من نفسه، فعلى الوجهين عند الإمام، وإن توكل في إبراء نفسه منه، صح، وفي طريقة العراق وجهان، ولا وجه للمنع إلا إذا شرطنا القبول في الإبراء. وعلى الوكيل المطلق أن يبيع بثمن المثل حالاً من نقد البلد، فإن باع بنسيئة من مليء وفيٍّ، أو باع بالغبن أو بغير الغالب في البلد، لم يصح، والغبن هو النقص الظاهر الذي يعدّ به حاطّاً من ثمن المثل، وإن باع ما يساوي مائة بنقص درهم، صح؛ لأنه يعدّ ثمن المثل أيضاً. وإن كان في البلد نقدان غالبان، فباع بهما أو بأحدهما، صح، وتردد بعضهم في البيع بهما، ولو باع أو اشترى بشرط الخيار، ففي الصحة طريقان: إحداهما - إن شرطه في البيع للمشتري، لم يصح، وإن شرطه لنفسه، فوجهان، وإن شرطه في الشراء لنفسه، جاز، وإن شرطه للبائع، فوجهان. والطريقة الثانية -وعليها الجمهور- فيه أوجه: ثالثها - إن اختص بالخيار، صح، وإلا، فلا.

وإن أذن في البيع بأجلٍ ثمنُ المثل فيه مائة، فباع بالمائة حالاً، فوجهان. وإن باعه بتسعين حالاً، لم يجز، وإن قال: اشترِ بمائة حالة، فاشترى بمائة نسيئة، فلأيهما يقع؟ فيه وجهان، وإن اشتراه بمائة وعشرة مؤجلة، وقع للوكيل. فصل فيما يعد مخالفة وموافقة 4360 - إذا باع بثمن المثل، أو أكثر، أو اشترى بثمن المثل، أو أقلّ، نفذ للموكل، وإن اشترى بأكثر من ثمن المثل، انصرف العقد إليه، وإن قال: بع بمائة، فباع بمائتين من جنس المأذون، صح اتفاقاً، وإن باع بجنس آخر، لم يصح، فإن أذن في البيع بمائة درهم، فباع بمائة ديناًر، لم يصح. وإن قال: بع بمائة، ولا تزد، أو قال: اشترِ بمائة، ولا تنقص، فزاد في البيع، أو نقص في الشراء، فوجهان. قال الإمام: إن نص على ذلك نصاً لا يحتمل التأويل، لم يصح، وإن احتمل تأويله بأني لا أكلفك مشقة في تحصيل الزيادة، ونحو ذلك، ففيه الوجهان. وإن قال: اشتر عشرة أعبد، فاشتراهم في عشرة عقود، أو في صفقة واحدة، صح. وإن اشتراهم دفعة واحدة من رجلين: لكل واحدٍ منهما خمسة، وقلنا: يصح هذا البيع، مع ما فيه من جهالة الثمن، وقع للموكل، وإن قال: اشترهم صفقة واحدة، فاشتراهم بعقود، لم ينفذ للموكل، وإن اشتراهم من اثنين بقبول واحد، فوجهان، وإن قال: اشتر عبداً بعشرة، فاشترى نصفه بأربعة، أو اشترى النصفين بثمانية في عقدين، لم ينفذ للموكل. فصل في اختلاف الوكيل والموكل في الثمن 4361 - إذا اشترى جارية بعشرين، فقال الموكل: إنما أذنت في الشراء بعشرة، فقال الوكيل: بل بالعشرين، فالقول قول الموكل، وينصرف العقد إلى الوكيل إن وقع على الذمة، وإن وقع على العين، بطل. فإن لم يعترف البائع بالوكالة، وحلف على نفي العلم، أخذ العشرين التي تناولها العقد، وغرمها الوكيل للموكّل. وينبغي

للحاكم (1) أن يقول للموكل: لا يضرك أن تقول للموكل: بعتك الجارية بعشرين، فإن أجاب، صح البيع، وحلت الجارية للوكيل، ولا يكون ذلك إقراراً من البائع، على النص، وللوقف في هذا العقد احتمال ظاهر. وإن امتنع من البيع، فهل يجوز للوكيل وطء الجارية؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها - لا تحل له إلا أن يضرب عن الخصام. والثاني - يجوز؛ بناء على أن العقد يقع له، ثم ينصرف إلى الموكل، وهذا لا يصح في الثمن المعين، وإن كان في الذمة، لم يصح أيضاً إلا على قول أبي حنيفة. والثالث - التخريج على الظفر بمال الظالم، فإن منعناه، لم يتصرف في الجارية، ويخرج على هذا وجه: أن الحاكم ينتزعها ليحفظها حِفْظ ما لا يعرف مالكه. وقال الإمام: إن كان الوكيل صادقاً في الباطن، خرج على الظفر بمال الظالم، وإن كان كاذباً، فلا تعلق له بالجارية، إذ لا حق له على مالكها. فصل فيمن يوكل في تزوج أو شراء، فيقبل غير ما أذن فيه 4362 - صيغة النكاح بالتوكيل أن يقول الموجب: زوجت فلانة من فلان، فيقول الوكيل: قبلت نكاحها لفلان. وفي انعقاد البيع بمثل هذه الصيغة وجهان، وقطع الصيدلاني بالمنع، فإن أجزناه، لم تتعلق العهدة بالوكيل. وإن توكّل بقبول امرأة معينة، فقبل للموكل نكاح غيرها، لم يقع العقد للموكل، ولا للوكيل، وإن توكل بشراء جارية معينة، فاشترى غيرها، ونوى الموكل، فإن كان الثمن في الذمة، فإن منعنا وقف العقود، انصرف العقد إليه، وإن صرح بإضافته إلى الموكل، فهل يبطل، أو يقع للوكيل؟ فيه وجهان.

_ (1) أصبحت الجارية في يد الوكيل بعقد باطل، لايصلح سبباً لنقل، وقد أخذ البائع ثمنها (العشرين)، وغرم الوكيل (العشرين) للموكل، ومع ذلك لا تحل له الجارية؛ لأن ملكها لم ينتقل إليه، والمخرج من ذلك أن يقول الموكل للوكيل: بعتك الجارية بعشرين، فتحل للوكيل. والمسألة مبسوطة في الروضة: 4/ 338، 339.

فصل في دفع الحق إلى من يدّعي أنه وارث المستحق أو وكيله 4363 - إذا كان بيده حق، فادعى عليه مدعٍ أنه وكيل في قبضه، فدفعه إليه، فتلف عنده، فأنكر المستحق الوكالة، وحلف، فله أن يغرّم القابض، والدافع، ولا يرجع واحد منهما على الآخر، إن تصادقا على التوكيل، وإن لم يتصادقا عليه، رجع الدافع على القابض، ولا يرجع القابض على الدافع، ولو وقع ذلك في الدين، فلا غرم للمالك إلا على الدافع، لأن الحق غير متعين، وغلط أبو إسحاق، فأجاز تغريم القابض. فرع: 4364 - إذا ادعى الوكالة في قبض الدين، وصدّقه المدين، لم يجبر على التسليم إليه، ما لم يثبت التوكيل، خلافا للمزني، وبعض الأصحاب. ولو قال: لفلان عليَّ ألف -وقد مات- ولا وارث له سوى هذا، أجبر على التسليم على ظاهر المذهب، وإن قال: أحالني فلان بالألف الذي له عليك، فصدقه، ففي إجباره على إلتسليم وجهان. فصل في اختلافهما في البيع بالتأجيل 4365 - إذا باع الوكيل بأجل، فقال الموكل: لم آذن في التأجيل، فالقول قول الموكل، فإن حلف، فللمشتري حالان: الأولى - أن ينكر الوكالة، فالقول قوله، فيحلف على نفي العلم، ويقرّ المبيع بيده، فإن نكل، فحلف الموكل، أخذ المبيع، وإن نكل الموكل، لم ينتزع المبيع، ولا يمنع نكوله من تحليفه الموكل أنه لم يأذن في التأجيل، فإن حلف، لزم الوكيل بدل المبيع. ثم لا يطالب الوكيل المشتري بالثمن إلا بعد الأجل، فإذا حلّ، فإن صدق الوكيل المالك على نفي الأجل، لم يطالب المشتري إلا بالأقل من الثمن أو قيمة المبيع، وإن أصر على تكذيب الموكل، فله أن

يطالب بالثمن، فإن زاد على بدل المبيع، فهل يحفظ الزيادة، أو يدفعها إلى الحاكم ليحفظها، أو يتخير بين الأمرين؟ فيه ثلاثة أوجه، هذا إذا لم نجعل إنكار الوكالة عزلاً، فللوكيل أن يطلب بقدر ما غرم، ولا يخرج على الظفر بغير الجنس، لأن الموكل هاهنا لا يدّعيه. الثانية - أن يقول: علمت أنك وكيل، فإن كان المبيع باقياً، ردّه، وإن كان تالفاً، فللموكل تغريم كل واحد منهما، وللمشتري في التصديق أحوال: الأولى - أن يقول: إنما اعتمدت على قولك في التأجيل، مع العلم بأنك وكيل، فإن غرّم الموكل المشتري قبل قبض الثمن، أو بعده، لم يرجع على الوكيل، وفيه قول أنه يرجع بما زاد على الثمن من قيمة المبيع لأجل التغرير، وإن غرّم الوكيل، لم يرجع بزيادة قيمة المبيع، والمطالبة بالثمن عند الأجل على ما تقدم. الحال الثانية - أن يقول: أعلمُ أنه أذن في التأجيل، فأيهما غَرِم، لم يرجع على الآخر، لعدم التغرير، وطلبُ الثمن على ما سبق. الثالثه - أن يقول: لم يأذن لك في التأجيل، فإن غرم الوكيل، رجع على المشتري، لأنهما كغاصبين مرّ المغصوب بيد أحدهما، وتلف عند الآخر. فصل فيمن توكل بشراء شاة، فاشترى شاتين 4366 - إذا قال: اشتر بهذا الدينار شاة، فاشترى به شاتين تساويان ديناراً، لم يصح، ولو ساوت كل واحدة ثلث دينار، فقد أشاروا إلى القطع بالبطلان، لعدم حصول الغرض، وإن ساوت كل واحدة ديناراً، أو ساوت إحداهما ديناراً والأخرى نصف دينار، فإن اشتراهما بعين الدينار، صح الشراء على أصح القولين، كما لو قال: بع بمائة، فباع بمائتين. واتفقوا على تصحيح هذا القول، وإن اشتراهما في الذمة، ونوى الموكل، فهل يقع العقد له أو للموكل؟ فيه قولان: فإن أوقعناه للموكل، ففي تخيره في الإجازة قولان، فإن خيرناه، فله الإجازة في إحداهما بحسابها من الثمن، فإن ساوت كل واحدة ديناراً، رجع على الوكيل بنصف دينار، ونفذ العقد في الأخرى للوكيل بنصف دينار، ولا يخرج قول التخيير في الشراء بعين

الدينار؛ لأنه قابل الشاتين بملك الموكل، فلم يجز التبعيض، وفيه نظر؛ لأن الصفقة متحدة في الصورتين. فرع: 4367 - إذا قال: بع هذا العبد بمائة، فباع نصفه بالمائة، صح. وإن باع النصف بعرْض يساوي المائة، لم يصح، وإن باع أحد النصفين بمائة، والنصف الآخر بعرْض، لم يصح إلا فيما قوبل بالمائة، وإن باع الكل بمائة، وعرْضٍ يساوي مائة، فإن أبطلنا شراء الشاتين، فهذا أولى لمخالفته للجنس المأذون، وإن نفذنا شراء الشاتين، فهاهنا قولان. فإن نفذناه، فهل ينفذ في الكل، أو في النصف المقابَل بالمائة؟ فيه قولان، وضابط هذا الفصل أنه إن لم يحصّل الغرض، لم يصح، وإن حصّله مع زيادة، ففيه الخلاف. فصل في ردّ الوكيل بالعيب 4368 - إذا توكل بشراء عبد موصوف، أو معين بثمن مسمى، فوجده معيباً، فله حالان: إحداهما - أن يساوي الثمن المسمى مع العيب، فللمالك الرد، معيناً كان العبد أو موصوفاً، ولا يبطل الردّ بتأخير الوكيل، ولا بإسقاطه، اتفاقاًً. وإن أراد الوكيل الردّ، فإن كان العبد موصوفاً، جاز إلا على وجه غريب، وإن كان معيناً، فوجهان: فإن قلنا: يرد، فأبطل الرد، ففي البطلان وجهان: أصحهما -عند الإمام- البطلان؛ لأن تأخيره وإبطاله كعزله لنفسه. الثانية - ألا يساوي الثمن المسمى، فلا ينعقد البيع للموكل على المذهب فإن عقد على العين، بطل، وإن عقد على الذمة، انعقد للوكيل، وفيه وجه أنه ينعقد للموكل، ويثبت له الخيار، كما لو زوّج وليّته من معيب، جاهلاً بعيبه، فإن النكاح ينعقد مثبتاً للخيار، ولو علم ذلك، لبطل النكاح. فرع: 4369 - إذا اشترى الموصوف مع العلم بالعيب، ففي انعقاده للموكل ثلاثة أوجه: أبعدها - أنه ينعقد له، بشرط ألا يمنع العيب من التكفير به، واستثني الكفر من

جملة العيوب، فإن أوقعناه للموكل، فلا ردّ للوكيل، وللموكل أن يرد، وأبعد من منعه من الردّ؛ تنزيلاً لعلم الوكيل منزلة علمه، كما أن رؤيته كرؤيته. فرع: 4370 - إذا اطلعا على العيب، فرضي به الموكل، فلا ردّ للوكيل، اتفاقاً، بخلاف عامل القراض. فرع: 4371 - إذا اشترى الوكيل في الذمة، راضياً بالعيب، فردّه المالك (1)، فهل ينفسخ العقد، أو ينقلب إلى الوكيل؟ فيه وجهان، مأخذهما التبين (2) والوقف. فرع: 4372 - إذا ردّ الوكيل، فأقام البائع البينة على رضا المالك، قبْل الرد، بطل الردّ. وإن لم يُقم البينة، ولم يمض زمان يتسع لاتصال الخبر بالموكل والعود برضاه، لم تسمع دعوى الرضا، وإن مضى ما يسع ذلك، حلف الوكيل أنه لا يعلم برضا [الموكل] (3)، وردّ المبيع، وإنما حلف هاهنا لغرضه في البراءة من العهدة. فصل في عهدة الثمن 4373 - إذا اشترى لموكله في الذمة، فإن لم يصدقه البائع على التوكيل، طالبه بالثمن في [الحال] (4)، وإن صدقه البائع والموكل، فهل يطالب الوكيل أو الموكل، أو يطالبان؟ فيه أوجه: أعدلها - آخرها، وأيهما خصصناه بالمطالبة فأعسر لم يطالب

_ (1) "المالك": أي الموكل. (2) "التبين هو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي" كشاف اصطلاحات الفنون: (3/ 647) والمراد هنا أن الوجه الذي ينفسخ العقد عليه مأخذه التبين، حيث تبيّنا أن العقد وقع غير صحيح، عندما اشترى الوكيل راضياً بالعيب، وهو يشتري للوكيل، مخالفاً إذنه؛ فمطلق الإذن يقتضي السلامة من العيوب. أما الوقف فينبني عليه الوجه القائل بأن العقد ينقلب للوكيل، حيث وقع شراء المعيب صحيحاً موقوفاً على رضا الموكل، فإذا لم يرض به الموكل لا يرتد باطلاً، بل ينقلب إلى الوكيل. (3) في الأصل: "البائع" وهو سبق قلم. (4) في الأصل: "الحكم" والمثبت من اختيار المحقق، والمعنى: طالبه بالثمن في البيع الحالّ.

صاحبه، فإن خصصنا الطلب بالوكيل، فغرم، فله الرجوع على الموكل، وإن لم نشرطه، وفي رجوعه قبل التغريم وجهان، كما في الضمان، وقيل في رجوعه إذا لم نشترط الرجوع وجهان، كما لو قال: أدّ ديني إلى فلان. فرع: 4374 - إذا دفع الموكل قدر الثمن إلى الوكيل، فقضى به الثمن، ثم ردّ المبيع بالعيب، لزم الوكيل أن يردّ عين الثمن على الموكل، إلا إذا خصصنا الوكيل بالطلب، فإن له أن يردّ بدله، ويمسكه، لأن بذل الموكل لذلك إقراضٌ للوكيل. فصل قبض الثمن وتسليم المبيع 4375 - إذا برىء المشتري من الثمن، استبد بقبض المبيع، وعلى الوكيل تمكينه من ذلك. والوكيل بالبيع هل يملك قبض الثمن؟ فيه وجهان، فإن شرط عليه ألا يسلم المبيع وإن قبض الثمن، بطل الشرط، وصح البيع، وفي بطلان الوكالة وجهان يظهران في سقوط المسمى، ولزوم أجرة المثل، وإن شرط عليه أن يشرط في البيع أن لا يسلم المبيع، فالتوكيل والبيع باطلان، سواء اقترن الشرط بالبيع، أو خلا عنه. فصل في عهدة الثمن إذا استُحِقَّ المبيع 4376 - إذا باع الوكيل، وقبض الثمن، فتلف في يده، ثم بان استحقاق المبيع، فإن لم يعترف المشتري بالوكالة، طالب الوكيل، وإن تصادقوا على التوكيل، ففيمن يطالَب الأوجه الثلاثة، وأقيسها هاهنا اختصاص الطلب بالوكيل؛ لأنه كالمأذون في الغصب، فإن خصصنا أحدهما بالتغريم، لم يرجع على صاحبه، وإن قلنا: يطالبان، فغرم أحدهما، فلا تراجع من الجانبين، وأيهما رجع، فيه ثلاثة أوجه: أشهرها - أنه لا رجوع إلا للوكيل، لأنه مغرور، والثاني - لا رجوع إلا للموكل، لتلف العين عند الوكيل. والثالث - لا رجوع من الجانبين.

فصل في عهدة ما يشتريه الوكيل 4377 - إذا قبض الوكيل العبد المشترى، فتلف عنده، قبل أن يقبضه الموكل، ثم استُحِق، فللمالك (1) مطالبة البائع اتفاقاًً، لاشتمال يده على المبيع، وهل يطالب معه الوكيل، أو الموكل، أو يطالبان؟ فيه الأوجه الثلاثة، ويبعد مطالبة الموكل هاهنا، إذ لا تغرير منه، ولم يقبض المبيع، ويقرب أن يقال: لا يطالَب إلا إذا عَيَّن العبد في التوكيل، والقياس أنه لا يغرم إذا تلف الثمن أو المبيع في يد الوكيل، لأنه كالإذن في الغصب، وإذا غرم أحدهما؛ فالرجوع على ما تقدم. فرع: 4378 - إذا أنكر البائع أو المشتري التوكيل، حلف على نفي العلم، وإن صدق البائع على التوكيل، وقال: لم تنو موكلك، فالقول قول الوكيل. فصل في الوكالة العامة 4379 - إذا قال: وكلتك بكل قليل وكثير، لم تصح اتفاقاً، وإن ذكر ما يقبل النيابة مما يتعلق به، فإن فصل أجناسه، كالعتاق، والطلاق، صح، إلا في الشراء. وإن قال: وكلتك بكل ما إليَّ مما يقبل التوكيل، فوجهان. وإن وكله بشراء عبد، ولم يصفه بشيء، لم يصح؛ لأنه غررٌ؛ إذ لا تدعو الحاجة إليه، وفيه وجه أنه يجوز التوكيل في شراء عبد، وفي الإسلام في ثوب. وإن وكله في شراء شيء، ففيه تردد ظاهرٌ على هذا الوجه، وإن ذكر الجنس: كالهندي والسندي، فإن قدر الثمن، صح. وإن لم يقدره، فوجهان، وشرط أبو محمد ذكر النوع، ولم يتعرض له الأصحاب.

_ (1) المالك هنا هو المستحِق صاحب العبد، واشتمال يد البائع عليه غصب وعدوان.

وإن قال: اشتر عبداً كما تشاء، فقد منعه الأكثر، وأجازه أبو محمد لتصريحه بالتفويض التام. فصل في شهادة الوكيل للموكل 4380 - إذا شهد لموكله بما لو ثبت، لكان وكيلاً فيه، لم يقبل، والوكيل بالخصومة إن شهد بغير ما تتعلق به الخصومة، قُبل، إلا أن يصير عدواً للمشهود عليه، وإن شهد بما فيه الخصومة، لم يقبل مع قيام الخصام، وإن عزل، فطريقان: إحداهما - الرد إن خاصم. وإن لم يخاصم، فوجهان. والثانية - القبول إن لم يخاصم. وإن خاصم، فوجهان. وقال الإمام: إن قصُر الزمان بحيث تقع التهمة، ففيه الخلاف، وإن طال، فالأوجه القطع بالقبول، وفيه احتمال. فرع: 4381 - إذا ادعى الوكالة، فشهد بها شاهدان، إلا أن أحدهما شهد بالعزل، لم تثبت الوكالة، على المذهب، وأبعد من أثبتها. ولو شهدا بالتوكيل، ثم قال أحدهما: تحققت عزله بعد الشهادة، فوجهان: أظهرهما - المنع من إثبات الوكالة. ولو شهد أحدهما بأنه قال: وكلته، وشهد الآخر بأنه قال: أنبته، لم تثبت الوكالة. ولو شهد أحدهما أنه قال: وكلته، وشهد الآخر أنه أذن له، ثبتت الوكالة. فصل في التوكيل في الصلح عن الدم 4382 - إذا وكل في الصلح عن الدم، لم يكن التوكيل عفواً، وله أن يقتصَّ قبل الصلح. وإن أمره أن يصالح عن الدم على خمر، فإن امتثل، سقط القصاص، وإن صالح على خنزير، ففي السقوط وجهان: فإن أسقطناه، وجبت الدية. ولو صالح على الدية، فإن أسقطنا القصاص، صح، ولو وقع هذا الاختلاف بين الإيجاب والقبول، لم يصح اتفاقاًً، لعدم الانتظام.

فصل في توكيل العبد في شراء نفسه 4383 - إذا وكل العبدُ من يشتري له نفسه، فإن أضاف الشراء إلى العبد، صح، وعَتَق، وإن نوى العبد، ولم يصرح بذكره، انعقد للمشتري، ولزمه الثمن؛ لأن السيد لم يرض ببيعٍ يتضمن العتق قبل أداء الثمن. ولو توكل العبد في شراء نفسه لزيد، فإن أضاف الشراء إلى زيد، وقع لزيد، وإن نوى زيداً، وقع العقد للعبد، وعَتَق؛ لأن قوله: اشتريت نفسي صريح في العتق، فلا يقبل إبطاله. فصل في انعزال العبد بالبيع والإعتاق 4384 - إذا وكل عبده، ثم أعتقه، ففي انعزاله طريقان: إحداهما - فيه وجهان. والثانية - ينعزل إن أمره بذلك استخداماً، وإن صرح بالتوكيل والتخيير، لم ينعزل، وإن أطلق، فوجهان. فإن جعلنا قول السيد أمراً، فلا أثر لعزل العبد نفسه، وإن جعلناه توكيلاً، فله أن يعزل نفسه. وفي اشتراط القبول وجهان. وإن باعه بعد أمرٍ أو توكيلٍ، فإن لم نعزله بالعتق، فالبيع أولى، وإن عزلناه بالعتق، ففي البيع وجهان: فإن قلنا: لا يبطل الأمر، فكان إنشاء التصرّف مما يفتقر إلى إذن السادة، فلا بد من إذن المشتري (1) في الامتثال، ويحتمل ألا يتوقف نفوذ التصرف على إذنه وإن شرطناه.

_ (1) أي لا بد من إذن السيد الجديد (المشتري) لالتزام أمر سيده الأول (الذي باعه).

4385 - فروع شتى: الأول - إذا قال: بع من عبيدي من شئت، فباعهم إلا واحداً، صح، اتفاقاًً، وإن باع الجميع، لم ينفذ في الكل. الثاني - إذا قال: خذ حقي من زيد، لم يأخذه من ورثته إذا مات. وإن قال: خذ حقي، أخذه من الورثة. الثالث - إذا وكل في السلم، وأذن لوكيله أن يؤدي رأس المال من عنده قرضاً، أو هبة، لم يصح على النص، لعدم القبض، وقال ابن سريج: يصح لحصول القبض ضمناً. الرابع - إذا أسلم للموكل في شيء، ثم أبرأ المسلم إليه، فإن لم يعترف المسلم إليه بالتوكيل، نفذ الإبراء في الظاهر دون الباطن، ويضمن الوكيل بدل رأس المال للحيلولة، ولا يغرم مثل المسلم فيه، ولا قيمته؛ لأن ذلك اعتياضٌ، وخرّج الإمام تضمين الثمن على قولي الحيلولة الممكنة الزوال بالاعتراف، وأصحهما إيجاب الضمان. الخامس - إذا مات أحد المصطرفين في المجلس قبل القبض، فإن لم نبطل الخيار، ثبت لوارثه القبض والإقباض، وإن أبطلناه، بطل الصرف. ويجوز التوكيل في قبض عوضي الصرف، فإن قبضه الوكيل قبل مفارقة الموكل للمجلس، صح، وإلا فلا. فصل فيما ينعزل به الوكيل الوكالة جائزة، لا تلزم بحال، فتنفسخ بالموت، والجنون، ولا تنفسخ بردة الوكيل، وإن أزلنا بها الملك، فإن حجر على المرتد، فهو كحجر الفلس، والمذهب صحة وكالة المفلس، وفيه وجه بعيد؛ لأجل تعلّق العهدة، وهو جارٍ هاهنا. ولا بالإغماء، والعدوان. وخالف أبو محمد في الإغماء، وأبعد من عزل بالعدوان.

فرع: 4386 - إذا قصر زمان الجنون، فقد تردّد فيه في التقريب وقطع أبو محمد بالانفساخ، وقال الإمام: هو كالإغماء إن امتد بحيث تتعطل المهمات، وتحتاج إلى قوَّام. فرع: 4387 - إذا جحد الموكل الوكالة، ثم اعترف، ففي كون جحوده عزلاً وجهان: أشهرهما - أنه عزل، والأقيس أنه ليس بعزل؛ لأن العزل إنشاء لا يدخله صدق ولا كذب، بخلاف الإقرار، ولا يبعد أن يجعل عزلاً إذا تعمد الكذب خاصة. ***

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار باب الإقرار بالحقوق والمواهب والعارية 4388 - الإقرار إخبار عن وجوب حق بسبب سابق، وهو حجةٌ بالإجماع، ويصح من كل حرٍّ بالغ رشيد، ولا ينفذ ممن لا يميز كالمجانين، والأطفال، ولا يصح من الصبي المميز بالعقوبات والأموال، وفي إقراره بالتدبير والوصية قولان (1). فصل في إقرار العبيد 4389 - ويصح إقرار العبد بالحدود والقصاص في النفس والأطراف وفي ثبوت المال المسروق تبعاًً للقطع قولان (2)، يجريان في إقرار السفيه، والمفلس بالسرقة، إذا رددنا إقرارهما بالإتلاف من غير سرقة، فإن لم نوجب المال المسروق، فقد أطلقوا

_ (1) توجيه القولين في إقرار الصبي المميز بالتدبير والوصية، أن ذلك لا يترتب عليه حقوق ناجزة، فالتدبير أن يقول لعبده: "إذا متُّ، فأنت حرّ"، فلا يترتب على ذلك تصرف ناجز، وكذلك الوصية، فهي تصرّفٌ مضاف لما بعد الموت، وهما عقدان غير لازمين، ومن هنا جاء قولٌ بصحة التدبير والوصية من الصبي المميز؛ لأنه إن عاش حتى بلغ رشيداً، فله الإمضاء والرجوع، وإن مات فلا يحتاج إلا الثواب وقد حصّله. (2) إذا أقر العبد بسرقة مالٍ، نُظر: فإن كان المال تالفاً، فقولان: أحدهما - يقبل، ويتعلق الضمان برقبته، وأظهرهما - لا يقبل، إلا أن يصدقه السيد، فيقبل، ويتعلق الضمان بذمته، وإن كان المال باقياً، نظر: إن كان في يد السيد، لم ينتزع منه إلا بتصديقه، وإن كان في يد العبد، فطريقان: إحداهما - أن في انتزاعه القولين في التالف، فإن قلنا: لا ينتزع، ثبت بدله في ذمته، والطريق الثانية - لا ينتزع قطعاً؛ لأن يده كيد سيده. (ر. الروضة: 4/ 351).

وجوب القطع، ورأى الإمام تخريج القطع على الوجهين، فيما إذا أقرّ الحرّ بسرقة مالٍ من غائب، ولعلّ أصحهما أنه لا يقطع (1). ولو عُفي عن العبد في قصاص الجناية المقر بها، ففي وجوب الدية قولان مرتبان على قولي الغرم في السرقة، وأولى بالوجوب؛ لأنها ثبتت ضمناً للقتل، وسبب قطع السارق مميز عن وجوب الضمان؛ ولذلك يضمن في الحرز، ولا يقطع ما لم يخرج المال، وإن أوجبنا القود المحض، ففي الدية قولان مرتبان على إيجاب أحد الأمرين، وأوْلى بالإيجاب؛ لأنها وجبت بالعفو دون القتل، وإن أقر، أو قامت عليه البينة بدين معاملة لم يأذن فيها السيد، لم يتعلق إلا بذمته. وإن أقر بجناية خطأ، أو إتلاف مالٍ، لم يتعلق برقبته إلا بالبينة، أو تصديق المالك (2)، فإن ثبت ذلك، فداه المالك بأقل الأمرين على الأصح، فإن فضل شيء، تعلق بذمته، على الأصح. وإن كذبه السيد، ففي تعلق الأرش بذمته طريقان: إحداهما -وعليها الجمهور- يتعلق وجهاًً واحداً. والثانية - فيه الوجهان. فصل في إقرار السفيه 4390 - وينفذ إقراره بأسباب العقوبات، ولا ينفذ بما يستبد به من المعاملات، فإن اشترى شيئاًً، وسلمه البائع إليه، فأتلفه، وقامت اليبنة بذلك، لم يطالب ببدله في الحال، ولا بعد الإطلاق (3)، وإن ثبت عليه إتلافٌ من غير معاملة، وجب الضمان، وإن أقر به، فقولان، وإن ادُّعي عليه بإتلافٍ، فإن نفذنا إقراره، سمعت الدعوى، وعرضت اليمين، فإن حلف، انقطع الخصام، وإن نكل، عُرضت اليمين

(1) من أقر بسرقة مال من غائب، المذهب أنه لا يقطع في الحال؛ لاحتمال أن يأتي صاحب المال، فيقر بأنه كان أباحه له. (ر. قليوبي وعميرة: 4/ 97). (2) المالك: أي السيد: مالك العبد. (3) لأن البائع هو الذي سلّطه عليه، وقصّر ببيعه منه، وتسليمه إليه.

على المدعي، فإن حلف، استحق، وإن أبطلنا إقراره، لم تسمع الدعوى إلا إذا جعلنا يمين الرد كبينة تقام. وإن أقرت الرشيدة أو السفيهة بالنكاح، نفذ، على المذهب (1). ولو أقر به سفيه، فينبغي ألا ينفذ، لعجزه عن الإنشاء، ولتعلق الحقوق المالية به. فصل في إقرار المفلس 4391 - ويصح إقراره بالعقوبات. وإن باع ما تعلق به الحجر، ففي وقوفه على الإطلاق قولان في الجديد، بخلاف بيع الفضولي، فإنه ممنوع في الجديد، إذ لم يصادف ملكَ البائع. وإن باع الراهن الرهن، بطل في الجديد، وإن كان ملكاًً له؛ لأنه أدخل الحجر على نفسه (2)، بخلاف المفلس (3). وإن أقر بعينٍ تعلّق بها الحجر، فإن وقفنا البيع، فالإقرار أولى، وإن رددنا البيع، فالأصح وقف الإقرار. ولو عامل بعد الحجر، فلا مضاربة (4) بدين المعاملة اتفاقاً. وإن أقر بمعاملة سابقة على الحجر، فقولان. وإن ثبت عليه إتلافٌ بعد الحجر، ببينة، أو اتفاق منه ومن الغرماء، فلا مضاربة على المذهب، وفيه وجه. وإن أقر بذلك، فإن لم تثبت المضاربة عند قيام البينة، فهاهنا أوْلى، وإن أثبتناها ثَمَّ، فهاهنا قولان مرتبان على قولي إقرار السفيه بالإتلاف،

_ (1) لأن إقرارها بالنكاح لا يُلزمها مالاً، بل تستحق بسببه مالاً. (2) أدخل الحجر على نفسه: أي برهنه لملكه حُجر عليه في بيعه. (3) بخلاف المفلس؛ فقد حُجر عليه لحق الغير، فاحتمل أن يوقف بيعُه على الإطلاق من الحجر، فإن استوفى الغرماء حقوقهم، وسلمت هذه العين، موضوع عقد البيع، مضى العقد. (4) أي لا يضارب الدائن، صاحب دين المعاملة التي تمت بعد الحجر، مع الغرماء أصحاب الديون قبل الحجر.

وإقرار المفلس أوْلى بالنفوذ؛ لأن السفه خبلٌ في العقل؛ فأشبه الصبا، بخلاف الإفلاس. وإن أقر بإتلافٍ سابق على الحجر، فقولان. وإن أقر بسرقة أنشأها بعد الحجر، لم تثبت المضاربة، إلا إذا أثبتنا المضاربة عند ثبوت الإتلاف، ففي نفوذ إقراره للمضاربة قولان، مرتبان على القولين في الإقرار بمطلق الإتلاف، وصورة السرقة أولى بالنفوذ؛ لبُعد التهمة. فصل في الإقرار بالمبهات 4392 - إذا ادعى بمجهولٍ، لم يُسمع إلا في الوصية (1)، وخالف القاضي في الوصية، وإن أقرّ بمجهولٍ، صح، إجماعاً، ورجع إليه في البيان، فإن امتنع منه بعد الطلب، فثلاثة أوجه: أحدها -وعليه الجمهور- أنه يحبس إلى البيان، والثاني - لا يحبس، ويقال لخصمه: ادّع عليه بمعلوم، فإن أقر، أُخذ به، وإن أنكر، وأصر على الامتناع، حلف خصمه، وقضى له. والثالث - إن قال: غصبت منه شيئاًً، حُبس، إن امتنع من الرد والبيان، وإن أقر بدين، فحكمه ما ذكرناه في الوجه الثاني. ومن أسلم على عشر نسوة، وامتنع من اختيار أربع، حبس اتفاقاًً؛ لقدرته على إنشاء الاختيار، بخلاف معرفة قدر المقرّ به؛ فإنه قد يجهله. فصل فيما يقبل في تفسير الشيء 4393 - إذا قال له: علي شيء، قبل في تفسيره أقل ما يتموّل، فإن فسره بسمسمة أو حبة حنطة، قُبل، على النص؛ لأنها شيء يحرم أخذه، ويجب ردّه، وأبعد من قال: لا يُقبل، وإن ادعى بها، لم تسمع عند القاضي (2)، وقطع الأمام بالسماع؛ إذ

_ (1) لأن الوصية تصح بالمجهول كحملٍ وثمرة سيحدثان، على الأصح. (قليوبي وعميرة: 3/ 160). (2) المراد هنا القاضي حسين.

لا يمتنع طلب ما يحرم أخذه، ويجب ردّه. وإن فسَّر بتمرة أو زبيبة، فإن كان في موضع يعزان فيه، قبل، وإن لم يعزا، كالتمرة بالبصرة، فإن لم نقبل التفسير بالسمسمة، ففي التمرة والزبيبة تردد، وقطع الإمام بالقبول. وإن فسر بما لا يتمول جنسه، فإن لم يتعلق به اختصاص، كالخنزير والخمرة غير المحترمة، لم يقبل؛ لأن قوله: "عليّ" التزام، ولا حق في الخنزير والخمرة المراقة لأحد، وإن تعلق به الاختصاص، كخمر الخل، وكلب الصيد، والجلد القابل للدبغ، قُبل، على أَقْيس الوجهين، والأظهر أن الكلب القابل للتعليم، كالجلد القابل للدباغ، ويجوز أن يفارقه بأنه لا يصير إلى المالية بخلاف الجلد. وفي التفسير بالخمرة المحترمة شيءٌ؛ من جهة أن من أظهر الخمر، وزعم أنها خمر خل، فقد ذهب طوائف إلى أنها تراق، ولا يقبل قوله، وإنما لا نتعرض باتفاق المحققين لما تطهر (1)، فلو اطلعنا عليها مع مخايل شاهدة بالاحترام، لم نتعرض لها على المذهب، ولو أبرزها، ظهر التسارع إلى إراقتها. وإن فسر بردّ سلام، أو حق عيادة، لم يقبل عند الأصحاب؛ لبعده عن فهم أهل الخطاب. فصل فيما يقبل في تفسير غصب الشيء 4394 - قال الشافعي: "إذا قال: غصبته على شيء، ثم فسر بخمرٍ أو خنزير، قبلتُه، وأرقت الخمر، وقتلت الخنزير" (2) ولم يخالفه أحد من الأصحاب، وقالوا: لو قال: له عندي شيء، فهو كقوله: غصبته على شيء، وخالفهم أبومحمد والإمام؛ لأن اللام ظاهرة في، الملك، وإن فسر الغصب بما يتعلق به الاختصاص، ولا يتموّل، وجب القطع بالقبول.

_ (1) في الأصل: لما لا تطهر. (2) ر. الأم: 3/ 215.

فرع للقاضي: 4395 - إذا كان بيد المضطر ميتة، لم يكن أولى بها من مضطر آخر؛ إذ اليد لا تثبت على الميتة. والوجه خلاف ما قال؛ إذ الميتة بالنسبة للمضطر كالمباح بالنسبة إلى المختار. فصل في تكذيب المقر في التفسير 4396 - إذا أقر بمبهم، ثم فسره بما يُقبل، فأكذبه المقَرُّ له، وقال: "أدعي عليك عشرة (مثلاً)، وأنك أردتها بالإقرار، ثم فسرته بدرهم"، سُمعت الدعوى، وحلف المقِر على نفي الزيادة، وأنه لم يردها بالإقرار، وإن ادعى بالإرادة لا غير، أو ادعى على إنسان بإقرار، فالأصح أنها لا تسمع، وإن قال المقر: أردت العشرة بالإقرار، ولا تلزمني الزيادة، أو قال: العشرة لك، ولم أرد بالإقرار إلا الدرهم، لزمته العشرة، ولا تحليف. فصل فيما يقبل في تفسير المال 4397 - إذا قال: له عليّ مال، ثم فسره بما لا يتموّل جنسه، كالخمرة المحترمة، أم بما لا يتمول لقلته، كالخردلة، لم يقبل، وفي التمرة والزبيبة حيث تكثران تردد، والظاهر القبول، وتردد أبو محمد في المستولدة (1) ومال إلى أنها مال، وإن فسر بأقل ما يتمول، قبل. وضابط أقل ما يتمول: "كل ما يظهر أثره -وإن قل- في جلب نفع أو دفع ضرار". وإن قال: له عليّ مال عظيم أو كثير، لزمه أقل ما يتمول، على المذهب. وأبعد من قال: لا بد من زيادة وإن قلّت، ومن قال: لا بد من التفسير بما يزيد، ولو بعِظَم الجِرْم والذات، وكلاهما لا يصح؛ إذ العظيم والكثير قد يراد بهما الجلال، قال

_ (1) سبب التردد في المستولدة أنها تصير إلى العتق.

الشافعي: "أصل ما أبني عليه الإقرار اتباع اليقين، واطّراح الشك والغلبة، إذ الأصل براءة الذمة". ولو قال: له عليّ أكثر من مال فلان، قبل فيه أقل ما يتموّل؛ لأن الكثير يطلق على الحلال، وعلى الدين الذي لا يتعرض للهلاك. وإن قال: له علي أكثر من الدراهم التي بيد فلان، فكانت ثلاثة، واعترف أنه عرف عددها، لزمه ثلاثة، على المشهور وقول الجمهور، وقبل منه أبو محمد أقل من ذلك؛ إذ يجوز أن يقال: درهم خير من دراهم وأكثر بركة، وإن كان في يده عشرة، فقال: ظننتها ثلاثة، أو عرفت أنها عشرة، ونسيت عند الإقرار، فإن حلف على ذلك، لزمه ثلاثة على المشهور. وإن قال: له علي مثل ما في يد فلان، لزمه مثل ما في يده؛ لتعدد الحمل على المرتبة والفضل. وإن قال: له علي أكثر مما في يد فلان من الدراهم عدداً، ثم فسر [بجنس] (1) يزيد عدده على تلك الدراهم، قُبل؛ لأن التفضيل وقع في العدد دون الجنس. وإن شهد اثنان على رجل بمالٍ، فقال: له علي أكثر مما شهدا به، لزمه أقل ما يتمول، لاحتمال أن يريد أنهما شهدا بزور، وأن قليل الحلال أكثر من كثير الحرام، فإن حكم بشهادتهما، فقال: له عليّ أكثر مما حكم به الحاكم، فوجهان. فصل في تمييز الأعداد وعطف المعلوم على المجهول 4398 - إذا أقر بعدد مبهم، وعطف عليه معيناً، لزمه المعين، وأخذ بتفسير المبهم، سواء كان المعين مكيلاً، أو موزوناً، أو غير ذلك. وإن أقر بعدد مبهم، ثم جاء بعده بمفسَّر، فإن خلا العدد عن العطف، كان المبهم من جنس المفسر، بخلاف

_ (1) في الأصل: بجوزٍ، وهو تصحيف واضح، وعبر النووي عن المسألة بعينها في الروضة قائلاً: "ولو قال: له علي أكثر مما في يد فلان من الدراهم، لم يلزمه التفسير بجنس الدراهم، لكن يلزم بذلك العدد من أي جنس فسّر، وزيادة أقل متموّل" (ر. الروضة: 4/ 376).

العطف على المبهم؛ فإن المعطوف إنما ذكر ليُثبت، والمفسر إنما ذكر ليُبيّن. وإن اشتمل العدد على حرفٍ عاطف، فالجميع من جنس المفسر، خلافاًً للإصطخري. فإذا قال: ألف ودرهم، أو ألف وثوب، أو ألف وقفيز حنطة، لزمه ما عيّن، ورجع في الألف إليه. وإن قال: عشرون درهماً، أو خمسة عشر درهماً، أو مائة درهم، أو ألف درهم، فالكل دراهم. وإن قال: خمسة وعشرون درهماً، أو مائة وخمسة وعشرون درهماً، أو ألف وثلاثة دراهم، فالكل دراهم، وقال الإصطخري: يلزمه العدد الأخير دراهم، ويرجع فيما قبله إلى تفسيره. وإن قال: درهم ونصف، فالأكثرون على أنه نصف درهم، وقيل: إنه (1) مبهم. فصل في الاستثناء 4399 - يصح الاستثناء في كل معدود، بشرط أن يتصل، ولا يستغرق، سواء ساوى المستثنى منه، أو نقص عنه، أو زاد. فإذا قال: له علي عشرة إلا تسعة، لزمه درهم. وإن أقر بشيء ثم كرر الاستثناءات بعده، فإن عطف بعضها على بعض، فحكمها واحد، وإن لم يعطف، كان الاستثناء من الإثبات نفياً، ومن النفي إثباتاً، فإذا قال: له علي عشرة إلا خمسة، وخمسة إلا أربعة، أو عشرة إلا خمسة، وإلا أربعة، لزمه درهم. وإن قال: عشرة إلا تسعة إلا ثمانية، وكذلك إلى آخر العدد، لزمه خمسة، وطريقه أن تجمع أعداد الاستثناءات المثبتة بيمينك، والنافية بيسارك، ثم تسقط النفي من الإثبات، وتوجب ما بقي بعد الإسقاط، والإثبات فيما ذكرته ثلاثون، والنفي

_ (1) إنه مبهم: أي النصف المعطوف.

خمسة وعشرون، فنسقطها من الثلاثين، فتبقى خمسة. وإن أردت تمييز النفي عن الإثبات، فانظر إلى العدد الأول، فإن كان شفعاً، فالأوتار نفي، وإن كان وتراً، فالأشفاع إثبات. وإن قال: ليس علي شيء إلا درهماً، لزمه درهم، وإن قال: ليس له عليّ عشرة إلا خمسة، لم يلزمه شيء عند الأكثرين، ويلزمه خمسة عند بعض القيَّاسين. وإن قال: عشرة إلا عشرة، بطل الاستثناء، ولزمت العشرة، وإن قال: عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة، فهل يبطل الاستثناءان، ويلزمه عشرة، أو يصحان، ويلزمه ثلاثة، أو يختص البطلان بالأول؛ فيلزمه سبعة؟ فيه ثلاثة أوجه تجري في نظائره. وإن وقع العطف في المستثنى أو المستثنى منه، فهل يجمع أو يبقى على تفريقه؟ فيه وجهان. فإذا قال: له عليّ درهم ودرهم، ودرهم إلا درهماً، ففي صحة الاستثناء الوجهان، إن جمعنا، صح، وإلا، فلا. ولو قال: ثلاثة إلا واحداً، وواحداً، وواحداً، أو إلا اثنين وواحداً، فإن جمعنا، بطل الاستثناء، وإن لم نجمع، بطل آخر المعطوفات. وإن قال: ثلاثة إلا واحداً واثنين، فإن جمعنا، وجبت الثلاثة، وإن فرقنا، وجب درهمان. وإن قال: عشرة إلا خمسة، وإلا خمسة، فإن جمعنا، لزمه عشرة، وإن فرقنا، لزمه خمسة. فصل في الاستثناء من غيرالجنس 4400 - يصح الاستثناء من غير الجنس في المكيل، والموزون، وغيرهما، ويجوز استثناء المعلوم من المجهول، والمجهول من المجهول، ومن المعلوم، فإن قال: له علي حمار إلا ديناراً، ثم فسر الحمار بما يزيد على الدينار، قُبل، وإن فسره بما يساويه، أو يزيد، لزمه الدينار؛ لاستغراق استثنائه، وقيل: لا يلزمه الدينار، ويؤخذ بالبيان.

وإن قال: له عليّ مائة دينار إلا حماراً، ثم فسر الحمار بما ينقص عن المائة، قُبل. وفيما [زاد] (1) أو ساوى الوجهان، وظاهر النص يشهد للوجه البعيد. وإن قال: له عليّ حمار إلا ثوباً، ثم فسرهما بما لا يستغرق، قُبل، وفي المستغرق الوجهان. وإن اتفق اللفظان، فقال: له علي مال إلا مالاً، أو شيء، إلا شيئاًَ، ففي صحة الاستثناء وجهان ذكرهما القاضي، ولا وجه للخلاف؛ إذ لا يلزمه الزيادة على أقل ما ينطلق عليه الاسم. فصل في الإقرار بالظرف والمظروف 4401 - إذا أقر بظرف أو مظروف، لم يكن إقراره بأحدهما إقراراً بالآخر، فإذا قال: علي تمر في جراب، أو فص في خاتم، أو سمن في بُستُوقة، أو دابة في إصطبل، لم تلزمه الظروف. وإن قال: عمامة على عبد، أو سرج، أو إكاف على فرسٍ، لزمه العمامة، والسرج، والإكاف، دون الدابة والعبد. ولو قال: دابة عليها سرج أو إكاف، أو عبد عليه عمامة، أو قميص، أو شيء من اللباس، لم يلزمه إلا الدابة والعبد. وقال في التلخيص (2): يلزمه لباس العبد، لأجل يده، فعده بعضهم وجهاًً، وغلطه الأكثرون، لأن العبد ولباسه في يد المقر (3).

_ (1) في الأصل: نقص. وهو سبق قلم. (2) ر. التلخيص: 386. (3) إذا أقر بفرس عليه سرج، أو بعبدٍ عليه عمامة، فالإقرار بالفرس والعبد دون السرج والعمامة، فلا يلزمه إلا الفرس والعبد. وخرّج صاحب التلخيص وجهاًً بلزوم العمامة مع العبد، والفرق بين الفرس والعبد، أن للعبد يداً على ثيابه، ثم هي بعد ذلك يد مولاه، فكل ما في يد العبد لسيده، فإذا أقرّ به، فإن العمامة يجب أن تكون في يد مولاه الذي أقرّ له به، فلا تسمع =

وإن أقر بخاتم فيه فص، لزمه فصه، على أظهر الوجهين، لدخوله تحت اسمه، ومخالفته للخاتم، كمخالفة السقف للدار، وإن أشار إلى الفص، فقد قطع الأمام بلزوم الفص. وإن أقر بحملٍ في بطن أَمةٍ، أو حيوان، لزمه الحمل، دون الأم. وإن قال: علي جارية في بطنها حمل، ففي لزوم الحمل وجهان. وإن قال: له هذه الجارية، ثم زعم أنه أرادها دون حملها، فوجهان. وإن قال: له هذه الجارية إلا حملها، لم يلزمه الحمل على ظاهر المذهب. وإن أقر بشجرة، لزمته بعروقها وأغصانها، وفي طلعها وجهان، وتدخل الأشجار في اسم البستان. والضابط أن ما يدخل تحت الاسم، فهو لازم، وما يتصل ولا يدخل في الاسم، فإن لم يندرج في البيع، لم يدخل في الإقرار، وإن اندرج فيه، كالحمل والطلع، فوجهان. فصل في الاستثناء من المعينات 4402 - الاستثناء من المعين باطل على الأصح، وقال في التلخيص: الأصح صحته، فإذا قال: له هذه الدراهم إلا هذا، بطل الاستثناء، على الأصح، ولو قال: له هذا، وهذا إلا هذا، فلا خلاف في البطلان. ولو قال: هذا الخاتم لفلان، وفصه لي، أو هذه الدار لفلان، وهذا البيت

_ = دعوى المقر أن العمامة له إلا ببينة، وهذا بخلاف الفرس -كما أشرنا- لأن الفرس لا يد له، وإنما الذي عليه من السرج يكون في يد من هو في يده. هذا توجيه (الروياني) في (البحر) لكلام صاحب التلخيص، ثم قال: "ومن الأصحاب من خالفه في ذلك، وقال: هذا لا يصح على أصل الشافعي، وإنما يجب عليه تسليم العبد فقط، وتكون العمامة للمقِرّ كالسرج، وهو اختيار القفال وجماعة؛ لأن العبد -في الحقيقة- لا يد له على نفسه، ولا على ما هو لابسه وممسكه، ولهذا لا يقبل قوله: إني عبدٌ لغير من هو في يده" ثم قال الروياني: "وهو الصحيح عندي" (ر. بحر المذهب: 8/ 244، 245).

منها لي، أو هؤلاء العبيد لفلان، وهذا لي، فهذا عند صاحب التلخيص، كالاستثناء من الأعيان، وإن قال: له هؤلاء العبيد إلا واحداً، أخذ بالبيان، فإن ماتوا إلا واحداً، فزعم أنه المستثنى، فالمذهب أن القول قوله مع يمينه. فرع: 4403 - إذا قال: له علي ألفٌ في هذا الكيس، فلم يكن فيه شيء، لزمه ألف، وإن نقص ما فيه عن ألف، ففي وجوب الإكمال وجهان. وإن قال: له علي الألف الذي في هذا الكيس، فنقص عن الألف، لم يجب الإكمال، إلا على وجه مزيف، وإن لم يكن فيه شيء، ففي وجوب الألف قولان. فصل فيما يقبل من التفسير لكذا وكذا 4404 - إذا قال: له علي كذا، أو كذا كذا، فهو كقوله: علي شيء، وإن قال: كذا وكذا، لزمه شيئان، وإن قال: كذا درهماً، أو كذا كذا درهماً، لزمه فى رهم، وإن قال: كذا وكذا درهمٌ (بالرفع)، لزمه درهم اتفاقاً. وإن نصب الدرهمَ، ففيه -لاختلاف النص- طريقان: أظهرهما - أنه يلزمه درهمان. والثانية -ثلاثة أقوال- أحدها - درهم. والثاني - درهم وشيء، والثالث - درهمان. وقال أبو حنيفة (1): إن قال: كذا درهماً، لزمه عشرون، لأنه أول اسم مفرد ينتصب بعده الدرهم، وإن قال: كذا كذا درهماً، لزمه أحد عشر، لأنها أول اسم مركب ينتصب بعده الدرهم، وإن قال: كذا وكذا درهماً، لزمه أحد وعشرون؛ لأنه أول عدد يعطف عليه، وينتصب بعده الدرهم. وقال أبو إسحاق: يؤخذ الجاهل بما ذكره الشافعي، والعالم بالعربية بما قاله أبو حنيفة، وهذا لا يصح؛ لأن اللغة لا تقتضي تنزيل التمييز على المبهم، ولأن البصير بالعربية قد يخطىء. ولا نعرف خلافاًً أنه لو قال: له علي كذا درهمٍ صحيح، فلا يلزمه مائة، وإن كانت أول عدد ينخفض بعده الدرهم.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 221 مسالة: 1925.

فصل في الجواب ببلى ونعم 4405 - إذا قال: أليس لي عليك ألف، فأجاب بنعم، لم يلزمه، وإن أجاب ببلى، لزمه، خلافاًً لأبي محمد والإمام، فإنهما جعلاه مقرّاً في الصورتين، وعللا بأن اللفظين قد يستعملان في التصديق، وإن كان على خلاف الأفصح، والإقرار محمول على ما تبتدره الأفهام، دون دقائق اللغة. قال أصحابنا: إذا قال: لي عليك ألف، فقال: نعم، لزمه، ولو قال: بعتك عبدي بألف، فقال: نعم، لم يصح القبول؛ لأنه إنشاء لا يدخله صدق ولا كذب، ونَعَم وعد أو تصديق يدخلها الصدق والكذب. ولو قال الدلاّل للمالك، أو للولي: بعت متاعك من فلان، أو زوجت ابنتك منه، فقال: نعم، أو قال: بعتُ أو زوجتُ، لم يصح الإيجاب، ولو قال: بعته من هذا، فقال: بعته، لم يصح الإيجاب. فصل في إقرار المريض والوارث 4406 - من أقر في صحته وفي مرض موته بديون، لم يقدم إقرار الصحة على إقرار المرض، وإن أقر المريض بدين وعين، فلم يترك غيرها، فإن سبق الإقرار بالعين، قدمت، وإن سبق الإقرار بالدين، فهل يقدم الإقرار بالعين، أو يستويان؟ فيه وجهان. وإن أقر في الصحة أو المرض يدين، ثم أقر عليه الوارث بدين أسنده إلى الحياة، فهل يقدم إقرار الميت أو يستويان؟ فيه وجهان يقربان من القولين في إقرار المفلس. فرع: 4407 - إذا تعدّى بحفر بئر، فهلك بها حيوان بعد موته، فلا خلاف في تعلق القيمة بالتركة، وتقديمها على الميراث، فإن لزمه دين في الحياة، فهل يقدم

على هذه القيمة، أو يتساويان؟ فيه وجهان. وإن مات وعليه دين، فأقر الوارث بتردِّي الحيوان، فهل يقدم دين الحياة أو يتساويان؟ فيه الوجهان. وإن مات ولا دين عليه، فأقر الوارث عليه بدين، نفذ، وتعلق بالتركة، فإن أقر بدين آخر، فهل يزدحمان، أو يقدم الأول؟ فيه وجهان. والأكثرون على الازدحام. ولو مات عن ألف، فادعى رجل أنه أوصى له بثلث المال، وادعى آخر أنه له عليه ألفاً. فإن بدأ الوارث بتصديق الموصى له، دفع إليه ثلث الألف، وصرف الباقي في الدين، وأشاروا إلى وجهٍ أنه يقدم الدين، مأخوذٍ من الوجه في تزاحم الدينين المتعاقبين، وهو متجه منقاس، وإن صدقهما معاً، قسم الألف بينهما أرباعاً؛ لأنه ازدحم عليه ألف وثلث، فعاد الثلث ربعاً بالعَوْل، وقياس الوجه الآخر سقوط الوصية، واختاره الصيدلاني، واستبعد القسمة بالأرباع، وقال: لو ادعى رجل أنه أوصى له بالثلث، وآخر أنه أوصى له بالجميع، فصدقهما الوارث، لاقتسما الألف أرباعاً، فكيف نجعل الدين مع الوصية كالوصية مع الوصية، وقد قدمه الله عليها. فصل في إقرار المريض للوارث 4408 - إذا أقر لوارث في مرض الموت بدين، فطريقان: إحداهما -القطع بالقبول، وأشهرهما طرد قولين- أصحهما - القبول، هذا فيمن يرث عند الموت والإقرار، فإن كان وارثاً في إحدى الحالين دون الأخرى، فبأيهما نعتبر؟ فيه قولان، الجديد أن الاعتبار بحال الموت. 4409 - إذا نفذنا الإقرار، فأقر في المرض أنه وهبه في الصحة هبة لازمة، وأنه أتلفها عليه في المرض، ففي البطلان لعجزه عن الإفشاء وجهان.

فصل في إقرار المريض بالاستيلاد 4410 - إذا كان لأمته ابن، فقال: هذا ولدي منها، علقت به في ملكي، وولدته في ملكي، فالولد حر نسيب، لا ولاء عليه، وأمه أم ولد تعتِق من رأس المال؛ لأن إيلاد المريض كإيلاد الصحيح، إذ لا يحسب عليه ما صرفه في أغراضه من الثلث، وإن قال: هذا ولدي منها، ففي ثبوت الاستيلاد وجهان (1)، وظاهر النص الثبوت. وإن قال: هذا ولدي منها ولدته في ملكي، فوجهان (2) مرتبان، وأولى بالنفوذ، وإن كان عمر الولد سنة، فقال هذا ولدي منها، وملكي مستمر عليها من عشر سنين، ثبت الاستيلاد. فصل في الإقرار للحمل 4411 - ويصح الإقرار [للحمل] (3) اتفاقاًً، ولو أقر لحمل، نفذ، إن أسنده إلى سبب صحيح، كالوصية، والميراث (4)، وإن أطلق، فقولان: أوجههما - الصحة، وظاهر النص البطلان، وإن أسنده إلى جهة مستحيلة، كمعاملةٍ مع الجنين، فهل يبطل أو يخرج على قولي تبعيض الإقرار، إذا قال: له عليّ ألف من ثمن خمر؟ فيه طريقان. والفرق أن بيع الخمر معتاد بخلاف معاملة الأجنة، فإن صححنا الإقرار، فانفصل ميتاً، فإن كان عن وصية، صرفت إلى ورثة الموصي، وإن كان عن إرث، صرف إلى

_ (1) لاحتمال أنه أولدها في نكاحٍ، ثم ملكها. والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها، أنه هناك عين أن الولادة كانت في ملكه. (2) لأنه لم يعين أن العلوق كان في ملكه، وهذا هو الفرق بينها وبين الأولى. (3) في الأصل: "بالحمل". (4) كأن يقول: ورثه من أبيه، أو وصّى له به فلان.

بقية الورثة، فإن وضعت حياً وميتاً، قدّر الميت كأنه لم يكن، وإن نفذنا الإقرار المطلق، أو المضاف إلى جهة مستحيلة، أُخذ المقر بالبيان، وفيه إشكال؛ إذ لا طالب له إلا السلطان. ولو وضعته حياً لدون ستة أشهر من حين الإقرار، صُرف المال إليه، على ما تقتضيه الوصية، أو الميراث من التسوية، أو التفضيل، بين الذكور والإناث، فإن كانا اثنين، صرف إليهما ما يقتضيه التوريث، ودفع الباقي إلى سائر الورّاث (1). وإن وضعته لأكثر من أربع سنين، بطل الإقرار، وصرف المال إلى ورثة الموصي، أو المورث، وإن وضعته لما بين الأربع [سنوات] (2) وستة الأشهر (3)، فإن كانت فراشاً، بطل الإقرار (4)، وإن لم تكن فراشاً، لم يبطل على أظهر القولين (5).

_ (1) كذا. وهو صحيح مطرد في جمع كل وصف على وزن (فاعل) كقارىء وقرّاء، وصانع وصناع. (2) زيادة من المحقق. (3) الأربع سنوات وستة الأشهر: هي أقصى مدة الحمل، وأقل مدته. (4) كانت فراشاً، أي كانت تحت زوجٍ في زوجية قائمة، ويبطل الإقرار إذا وضعت الحمل المقرّ له ْبعد ستة أشهر؛ لاحتمال أن تكون علقت به بعد الإقرار، فيكون غير موجودٍ وقت الإقرار، فيبطل الإقرار لهذا الاحتمال؛ لأننا لم نتيقن وجوده عند الإقرار. (5) وإن لم تكن فراشاً: أي لم تكن ذات زوج، بأن كانت متوفى عنها مثلاً، فقال المقرّ: عليَّ لهذا الحمل الذي في بطن فلانة ألف درهم، فلو أتت به لأقل من ستة أشهر، أو أكثر، إلى أربع سنوات، لم يبطل الإقرار؛ لاحتمال أن يستمر حملها لأقصى مدة الحمل (أربع سنوات)، وهذا الاحتمال -على بعده وندرته- يجعلنا نصحح الإقرار. تنبيه: وهنا لا بدّ أن ننبه إلى عظمة أئمتنا، وعمق نظرتهم الإنسانية؛ حيث طلبوا أتم اليقين وغايته عندما تكون الحامل فراشاً، فقالوا: تأتي به لستة أشهر فأقل، حثى نصحح الإقرار، ولا نبطله. أما في حالة ما إذا كانت الحامل غير فراشٍ، فقد صححوا الإقرار لأدنى احتمال، فلو جاءت به بعد ستة أشهر إلى أربع سنوات، فهناك احتمال أن تكون هذه الحالة من النوادر التي يبلغ فيها الحمل أقصى مدته. وسرّ هذه التفرقة أننا في حالة ما إذا كانت فراشاً، لا نطمئن إلى أن نُؤكل الحمل المال الذي يرتبه له الإقرار إلا بيقين، وليس عندنا ما يدعونا لأن نؤكله هذا المال مع الاحتمال. ْأما في حال ما إذا كانت غير فراش، فنحن في حاجة إلى إثبات نسب هذا الحمل، وفي =

فرع: 4412 - إذا فسر الإقرار المطلق بجهة الإرث، نزل الإرث على ما فسر، فإن فضل شيء، رُدّ على الورثة، وإن كان قد أقر بأن الجميع للحمل (1)؛ إذ لا معرفة له بذلك، ولا تصح القسمة قبل الوضع، فيحمل إقراره على الإشاعة في جميع الميراث، ولا يمتنع أن يطلب الورثة القسمة (2)؛ فينصب القاضي نائباً عن الحمل، ويأخذ بالأسوأ (3) في حقوق بقية الورثة. فصل ْفيمن أقر لواحد بعد واحد 4413 - الحيلولة الفعلية موجبة للضمان، وكذا القولية فيما لا يُستدرك، كالطلاق والعتاق، وفيما يمكن تداركه بالتصادق قولان: أقيسهما - وجوب الضمان، فإذا رجع الشاهدان بعد الحكم، فإن كانت الشهادة بطلاق أو عتاق، ضمنا؛ إذ لا يستدركان، بالتصادق، وإن كانت في الأموال، فقولان يجريان فيما لو قال: هذه الدار لزيد، لا، بل لعمرو، أو غصبتها من زيد، لا بل من عمرو؛ فإنها تسلم إلى الأول، فإن سلمها الحاكم، ففي التغريم للثاني القولان، وإن سلمها المقر، فطريقان: إحداهما - التغريم، والثانية - فيه القولان.

_ = حاجة إلى نفي تهمة الزنا عمن أتت به؛ فهان أمر المال بجانب هذا، فصححنا الإقرار، وأعطيناه المال لأدنى احتمال، إثباتاً للنسب، ونفياً للتهمة، تأمّل روعة هذا الفقه والفهم ومقايسة الأمور!! حينما تعلق الأمر بالمال واستحقاقه، طلبنا اليقين الكامل، وحينما تعلق الأمر بإثبات النسب ونفي التهمة، تعلقنا بأدنى احتمال، وهان أن يأكل المال تبعاً. رحم الله أئمتنا ورضي عنهم. (1) صورة المسألة: أن يقول: عليّ لهذا الحمل عشرة آلاف، فهذا إقرار مطلق، فإذا طولب بتفسيره، ففسره بجهةٍ ممكنة كالإرث، صح الإقرار، فإذا فسره قائلاً: استحقه إرثاً عن أبيه، أو عن عمه، أو عن أخيه ... ، نزل الإرث على ما فسّره، بمعنى أن هذا الحمل -إن انفصل حياً- استحق بجهة الإرث المذكورة مع باقي الورثة. (2) أي لا مانع من أن يطلب الورثة القسمة قبل وضع الحمل. (3) بالأسوأ: أي من حيث حجب النقصان، وحجب الحرمان، وذكورة الحمل، وأنوثته، وتعدّده.

ولو قال: العبد الذي خلفه أبي لفلان، لا بل لفلان، فقولان مرتبان على قوله: هذا العبد لزيد، لا بل لعمرو، وأولى بنفي الضمان، لأنه أضاف أول الإقرار، وآخره إلى غيره. وإن قال: غصبته من زيد، وملكه لعمرو، لزم التسليم إلى زيد، ولا يضمن لعمرو على المذهب؛ إذ لا منافاة بين أن تكون الدار لزيد، واليد لعمرو، بإجارة أو رهن، وقيل: في التغريم القولان. ولو قال: هذه الدار لزيد، وقد غصبتها من عمرو، فالجمهور على أنها كالمسألة السابقة، فتسلم إلى عمرو، ولا غرم لزيد، على المذهب، وقيل: بل تسلم إلى زيد لتقديمه، وفي الغرم لعمرو القولان. وإذا قال: غصبت من زيد، لزمه الرد اتفاقاًً، وإن جاز أن تكون يده عن إعارة أو إيداع؛ إذ يجب إعادة الأيدي إلى ما كانت عليه من الإبهام. فصل فيما يتعلق برقبة العبد وما لا يتعلق 4414 - يتعلق برقبة العبد كل ما وجب بغير رضا المستحِق، كأبدال المتلفات، وكل ما لزم بغير رضا السيد، كبدل المبيع، والقرض إذا أتلفهما؛ فإنه يتعلق بذمته دون كسبه ورقبته. ولو أتلف شيئاً بإذن السيد، لم يتعلق بكسبه، على الأصح، وما لزم برضا السيد والمستحِق، فإن لم يكن من التجارة: كالنكاح، والضمان، والشراء لغير التجارة، فلا خلاف في تعلقه بجميع الأكساب. وإن كان من التجارة، تعلق برأس المال وربحه، وفي سائر الأكساب خلاف، وهل يعد الاقتراض من التجارة؟ فيه احتمالان؛ لأن التاجر يحتاج إليه في بعض الأحوال. وإذا أقر بإتلاف، فلم يصدقه السيد، لم يتعلق إلا بذمته، وعليه بدله بالغاً ما بلغ، وأَبْعد من أوجب الأقل من قيمة الرقبة أو الأرش. وإن أقر بدين معاملة غير مأذونة، لم يتعلق إلا بالذمة، وإن أقر المأذون بدين معاملة، فإن كان الإذن باقياً، تعلق برأس المال والربح، وفي بقية الأكساب الخلاف.

وإن حجر عليه، لم يقبل على الأصح، لعجزه عن الإنشاء؛ إذ كل من ملك الإنشاء، ملك الإقرار، ومن لا يملك الإنشاء لا يملك الإقرار إلا الإقرار بالرق، وإقرار المرأة بالنكاح. 4415 - إذا أقر المأذون بدين مطلق، ثم فسره بدين معاملة، قُبل، وإن فسره ببدل إتلاف، لم يقبل، وإن مات قبل البيان، لم يحمل على دين المعاملة، على الأصح، لاحتمال أنه من إتلاف. فصل فيمن أقر بشيء ثم فسره بوديعة 4416 - إذا قال: له علي عشرة، ثم أحضر عشرة، ذكر أنها وديعة، وفسر بها، ففيما يلزمه طريقان: أصحهما - أنه لا يلزمه إلا عشرة. فإن انفصل تفسيره، ضمنها، فلم يقبل قوله في ردّها وتلفها، وإن اتصل تفسيره، ففي الضمان قولان، يقربان من قولي ذكر الأجل في الاتصال. والطريقة الثانية - إن انفصل التفسير، لزمه العشرة المحضرة، ولا يلزمه عشرة أخرى، في أصح القولين. وإن اتصل التفسير، فقال: له علي عشرة وديعة، أو عشرة أودعنيها، فإن أوجبنا العشرين في الانفصال، ففي الاتصال قولان، والتفريع على الطريقة الأولى إذا قبلنا قوله في الانفصال، فقال: له في ذمتي عشرة، ثم جاء بوديعة، وفسره بها، فإن لم يتأول إقراره، لزمه عشرون، على المذهب، وإن تأوله بأنه اعتدى فيها، فلزمه ضمانها، ففي لزوم العشرين وجهان. وإن قال: له علي عشرة ديناً، ثم فسر بالوديعة، فإن تأول كلامه، فعلى وجهين، وإن لم يتأوله، لزمه عشرون، وأبعد من ألحقه بما لو قال: له في ذمتي عشرة. فرع: 4417 - إذا قال: له علي عشرة، ثم ادعى أنها من ثمن خمرٍ، أو فسرها بوديعة، وزعم أن المالك شرط عليه ضمانها وأنه ظن وجوب الضمان، لم يقبل قوله

في ذلك، وفي سماع دعواه للتحليف وجهان. هذا إذا فسر منفصلاً. وإن وصل الإقرار بتفسير ينافيه، فإن لم يشعر بواقعة، كقوله: له علي عشرة إلا عشرة، لم يقبل، وتلزمه العشرة. وإن أشعر بواقعة، فإن عُدَّ الكلام مع المفسر منتظماً، كقوله: علي ألفٌ وديعة، أو ألف من ثمن خمر، فقولان، وإن لم يعدّ الكلام منتظماً، كقوله: علي ألفٌ قضيتها، أو له في ذمتي ألفٌ وديعة، فالمذهب أنه لا يقبل، وأبعد من قال: فيه القولان. 4418 - إذا قال: له عندي، أو معي، أو في يدي ألف، ثم فسر بالوديعة، قبل. وإن قال: له عندي ألف درهم، ثم فسر بالعارية، لزمه الضمان، سواء صححنا إعارة الدراهم، أو منعناها؛ لأن ما يضمن إذا صح مضمون إذا فسد، وما لا يضمن صحيحه، لم يضمن فاسده. فصل فيمن قال: له في هذا العبد ألف 4419 - الألفاظ ثلاثة: نص، وظاهر، [ومجمل] (1)، فيعمل بموجب النص والظاهر، ويرجع في [المجمل] (1) إلى البيان. فإذا قال: له في هذا العبد ألف درهم، سئل عن مراده، فإن فسره بأرش جناية، قُبل، وتخير بين أن يفديه أو يسلمه ليباع. وإن فسر بأنه رهن بألف عليه، لزمه الألف، وفي قبول تفسيره وجهان: فإن قلنا: لا يقبل، فامتنع من التفسير، ففي حبسه (2) الأوجه الثلاثة (3)، ولا يطالب بمجرد

_ (1) في الأصل: "محتمل" والمثبت من تقسيم الإمام للألفاظ في البرهان، وهو الشائع في ألسنة الفقهاء. (ر. البرهان: 1/ فقرة: 236، والروضة: 4/ 371). (2) حَبْسه: أي حبسه حتى يفسِّر إقراره. (3) والأوجه الثلاثة هي: "أولها -وهو أظهرها- أنا نحبسه حَبْسَنا إياه إذا امتنع من أداء الحق؛ لأن التفسير والبيان حقٌّ واجب. وثانيها - أنه لا يحبس، بل ينظر: إذا وقع الإقرار المبهم في جواب دعوى، وامتنع عن التفسير، جُعل ذلك إنكاراً منه، وتعرض عليه اليمين، فإن أصر، =

التفسير، بل يدعي عليه بجهة ينبني عليها الطلب. وإن فَسَّر بأنه وصَّى له من ثمنه بألف، بيع، وصرف إليه ألف، فإن فضل شيء، فهو للمقر، وإن بيع بالألف أو بدونه، صرف الثمن إلى المقر له، ولا حق للمقر في الثمن. وإن فَسَّر بأنه وزن في ثمنه ألفاً، سئل عما وزن هو في الثمن، فإن قال: وزنت ألفاً، كان بينهما نصفين، وإن قال: وزنت ألفين، قضي له بالثلثين، سواء نقصت قيمة العبد أو زادت؛ لأنهما قد يَغْبنان ويُغبَنان. فصل في إضافة الإقرار إلى مال المقر 4420 - إذا قال: له في مالي ألف درهم، لزمه. وإن قال: من مالي، فهو وعد بالهبة، على النص فيهما، ولهم في النصين طريقان: إحداهما - أنه وعد بالهبة في الصورتين، والثانية - إن قال: من مالي، فهو واعد، وإن قال: في مالي، ففي كونه مقراً، قولان؛ لأن كلمة من للتبعيض، وكلمة في للظرف والمكان.

_ = جعل ناكلاً عن اليمين، وحلف المدعي. وإن أقر ابتداء، قلنا للمقر له: ادّع عليه حقك، فإذا ادعاه، وأقر بما ادعاه أو أنكر، فذاك، وأجرينا عليه الحكم، وإن قال: لا أدري، جعلناه منكراً، فإن أصر، جعلناه ناكلاً، وذلك أنه إن أمكن تحصيل الغرض من غير حبس لا يحبس. والثالث - أنه: إن أقرّ بغصب، وامتنع من بيان المغصوب، حبس، وإن أقر بدين مبهم، فالحكم كما ذكرنا في الوجه الثاني" انتهى بتصرفٍ يسير جداً بألفاظ الرافعي حاكياً إياه عن إمام الحرمين (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 11/ 120، 121). وزاد النووي في الروضة وجهاً رابعاً هو - "إن قال: عليّ شيء، وامتنع من التفسير، لم يحبس، وإن قال: عليّ ثوب أو فضة، ولم يبين، حبس، قاله أبو عاصم العبادي، وأشار في شرح كلامه إلى أن الفرق مبني على قبول تفسير الشيء بالخمر ونحوه؛ فإنه لا يتوجه بذلك مطالبة وحبس". انتهى بنصه (ر. الروضة: 4/ 373).

وإن قال: له ألف في ميراث أبي، فقد أقر على أبيه بالدين، وإن قال: له في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف، فهو وعد بالهبة، في الصورتين، وخرجه القاضي، وصاحب التقريب على الطريقين. وإن قال: له في داري نصفها، لم يكن مقراً، وأجراه بعضهم على القولين، وغلطه الإمام؛ إذ لو قال: داري لفلان، لم يكن مقراً بلا خلاف. وإنما يمكن تخريج تقدير الإقرار إذا قال: له في داري ألف درهم، وكذلك لو قال: له في عبدي، بخلاف ما لو قال: له في هذا العبد، فإنه لم يضفه إلى نفسه، فلذلك يؤخذ بالتفسير. ولو أتى بكلمةِ (عليَّ) وأضاف المال أو الميراث إلى نفسه، أو إلى أبيه بكلمة (من) أو (في)، لزمه ذلك؛ لإتيانه بصيغة الالتزام. وإن قال: له عليّ في داري نصفها، لم يكن مقراً؛ إذ لا يصح التزام الأعيان. قلت (1): قد يصح التزامها بالنذر للمقر له، فينزّل الإقرار عليه؛ لإمكانه، أو يخرج على القولين في الإقرار المطلق للحمل. فصل في قبول الإقرار 4421 - من التصرف ما يشترط فيه القبول، كعقود المعاوضة. ومنه ما لا يشترط قبوله، ولكنه يبطل بالرد، فلا يعود إلا بإنشاء جديد، كالوكالة إذا لم نشترط قبولها، على الأصح. ومنه ما لا يشترط قبوله، ولا يُبطله الرد على التأبيد، بل إن رجع فيه بعد الرد، لم يفتقر إلى إنشاء جديد، مثاله: لو أقر لرجل بثوب، فكذبه، ثم صدقه، وقال: تذكرت، فظهر لي صدقه، قُضي له بالثوب، وإن لم يجدد المقر الإقرار، وإن أصر على التكذيب، لم يحكم له بالملك في الحال، والمذهب أنه يترك في يد المقر، ليحفظه، وقيل: بل ينزعه الحاكم ليحفظه بنفسه، أو نائبه، أو يستحفظه المقر إن رآه أهلاً لذلك.

_ (1) القائل هو العز بن عبد السلام.

ولو أقر بأن بيده مالاً، لا يعرف مالكه، فالوجه القطع بالانتزاع، وأبعد من خرجه على الخلاف. فرع: 4422 - إذا أصر المقر له على التكذيب، فرجع المقِرُّ عن الإقرار، وزعم أن المقر به ملك له، وأنه اشتبه عليه، أو غلط في الإقرار، فإن أوجبنا الانتزاع، لم يقبل رجوعه، وكذلك إن لم نوجبه على المذهب، لأن المقر له لو رجع إلى التصديق، لقُبل اتفاقاًً. وأبعد من نفذ رجوعه وتصرفه بشرط إصرار المقر له على الإنكار، وعلى هذا الوجه لو رجع المقر له إلى التصديق بعد تصرفٍ لازم، اتجه ألا ينقض لتعلقه بثالث. فرع: 4423 - إذا أقر بعبدٍ قد ثبت أنه يملكه، فإن صدقه المقر له، فأقر العبد لثالث، لم يقبل إقراره، لثبوت الملك عليه، وإن كذبه المقر له، ففي القضاء بحرية العبد وجهان؛ لأنه قد عاد إلى يد نفسه، فإن قلنا: يَعتِق، لم ينقض العتق برجوع المقر له إلى التصديق، وإن قلنا: لا يعتِق، ففي انتزاعه الوجهان. فرع: 4424 - إذا ثبتت اليد على إنسان، فادعى حرية أصلية، فالقول قوله، إذ الأصل حرية الإنسان، ولو كان بيده طفل يظهر أنه ملكه، ويتصرف فيه تصرف الملاك، فادعى بعد البلوغ حرية أصلية، فالقول قوله، على الأصح. وقد قال الفقهاء: الحزم للمالك أن يأخذ إقرار الرقيق بالرق، حذراً من الإنكار. فصل فيمن شهد بإعتاق عبد ثم اشتراه 4425 - إذا شهد على رجل أنه أعتق عبده، فردت شهادته، بسببٍ من الأسباب، ثم اشتراه، صح الشراء، وعَتَق اتفاقاً، وولاؤه موقوف. فإن مات عن كسبٍ، فله أن يأخذ منه قدر الثمن، على الأصبح، وأبعد من منع من أخذ الثمن للاختلاف في جهته. وهذه المعاملة: شراء، أو فداء، أو بيع من جهة البائع، فداء من جانب

المشتري؟ فيه ثلاثة أوجه: فإن جعلت فداء، فلا خيار لواحد منهما، وإن جعلت بيعاً من الجانبين، أو من أحدهما، فلا خيار للمشتري اتفاقاًً؛ إذ لا ملك له، وهل يثبت خيار المجلس للبائع؟ فيه وجهان، ولا يبعد أن يثبت له خيار الشرط، لأنه يقبل الإثبات من أحد الجانبين. فرع: 4426 - إذا اشترى لنفسه عبداً [ممن] (1) أقرّ بغصبه، صح عند الجمهور، ولزم دفعه إلى المغصوب منه، وقيل: لا يصح أن يشتري لغيره بمال نفسه، بخلاف ما ذكرناه في العتق، فإنه افتداء. فصل فيمن أقر بدراهم، ثم فسرها بناقصة أو مغشوشة 4427 - الدرهم صريح في الخالص الذي زنة كل عشرة منه سبعة مثاقيل، فإذا أُطلق، حمل على الخالص الوازن، لأن لفظ الأقارير، والمعاملات صريح وكناية، فيحمل الصريح على ظاهره، ويرجع في الكناية إلى اللافظ، والصريح ما شاع تكرره في عرف الشرع، أو اللغة، فلفظ المال صريح في الأقل محتمل فيما زاد، فيرجع فيه إلى البيان. فإن أطلق الإقرار بالدراهم، ثم فسرها بالنقص، فإن انفصل التفسير، وكانت دراهم بلد الإقرار وازنة، لم يقبل، وإن كانت ناقصة، قبل، على الأصح، وإن اتصل التفسير، فإن كانت أوزان البلد ناقصة، قبل، وكذا إن كانت وازنة على الأصح، وقيل: فيه قولان. فإن حملنا الإقرار على الناقصة، فالمعاملة بذلك أولى، وإن حملناه على الوازنة، ففي المعاملة وجهان. وإذا اختلفت الدراهم في طبعها، وسكتها، حملت المعاملة على أغلبها في موضع المعاملة، اتفاقاً، والفرق أن العرف لا يؤثر في تغيير الصريح، وإنما يؤثر في

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

إزالة الإبهام؛ ولذلك لو عم العرف باستعمال لفظ الطلاق في الخلاص والانطلاق، ثم زعم الزوج أنه أراد ذلك بلفظه، لم يُقبل، ويعتبر في تعليق الطلاق، والخلع، والعتاق من الدراهم ما يعتبر في الإقرار. فرع: 4428 - التفسير بالمغشوشة كالتفسير بالناقصة؛ لأن الغش موجب للنقصان. ولو عمت الفلوس في ناحية، لم يحمل عليها مطلق الدراهم اتفاقاًً. فرع: 4429 - تصغير الدرهم لا يقتضي النقصان، فإذا قال: له عليّ دريهم، أو دريهمان، لزمه الوازن اتفاقاًً؛ لأن الصغر والكبر إضافيان، فالدرهم الصريح صغير بالنسبة إلى البغلي، كبير بالنسبة إلى الطبري. فصل في بيان العطف والتأكيد في الإقرار والطلاق 4430 - إذا قال: له علي درهم في دينار، فهو كما لو قال: له في هذا العبد دينار في جميع الصور إلا في الجناية، وإن فسر بأنه درهم مع دينار، لزمه الدرهم والدينار، وإن قال: له علي درهم درهم، أو: درهم، بل درهم، لزمه درهم واحد. وإن قال: درهم بل درهمان، لزمه درهمان، وإن قال: له هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان، لزمه الثلاثة. وإن قال: درهم ودرهم، لزمه درهمان، وإن قال: درهم، ودرهم، ودرهم، أو قال: أنت طالق وطالق وطالق، فإن أراد باللفظ الأخير التحديد، لزمه ثلاثة دراهم، ووقع ثلاث طلقات، وإن أراد به التأكيد، لزمه درهمان، ووقع طلقتان، وإن أطلق، فقولان عند الأصحاب، وقال الإمام: يتجه تخصيصهما بالطلاق، وأن يُرجع في الإقرار إلى البيان. وإن أراد بالثالث تأكيد الأول، ففي القبول وجهان. وأبعد من قبل ذلك في الإقرار دون الطلاق. ولو قال: درهم ثم درهم، ثم درهم، فهو كقوله: درهم، ودرهم، ودرهم.

ولو قال: درهم ثم درهم ودرهم، أو درهم ودرهم ثم درهم، لزمه ثلاثة؛ لاختلاف العاطف. وإن قال: درهم ثم درهم، لزمه درهمان. وإن قال: درهم فدرهم، فإن أراد العطف، لزمه درهمان، وإن أراد فدرهمٌ لازم إذاً، لزمه درهم، على النص، ويقع في نظيره من الطلاق طلقتان، وخرّج ابن خيران المسألتين على قولين، والفرق أصح؛ لأن الإقرار يقبل التكرار وإن طال الزمان، بخلاف الطلاق، ولذلك لو أتى بلفظ الإقرار في يومين، لزمه شيء واحد، ولو أتى بلفظ الطلاق في يومين، وقع طلقتان. فصل فيما يختلف فيه الطلاق والإقرار 4431 - إذا قال: له علي درهم فوق درهم، أو فوقه درهم، أو تحت درهم، أو تحته درهم، أو مع درهم، أو معه درهم، فالنص لزوم درهم، ويقع في نظيره من الطلاق طلقتان، وأبعد من خرج ذلك في الإقرار، وأوجب درهمين؛ إذ يحتمل أن يريد بالفوقية والتحتية الجودة والرداءة، أو يريد فوق درهمٍ لي، أو تحت درهم لي، ولا ينتظم مثل هذا في الطلاق. ولو قال: درهم قبل درهم، أو قبله درهم، أو بعد درهم، أو بعده درهم، فالنص وجوب درهمين، وعلى قولٍ مخرج يجب درهم، وقيل: إن قال: قَبْل درهم أو بعد درهم، وجب درهم، وإن قال: قبله أو بعده، وجب درهمان. فصل في الإضراب عن الإقرار 4432 - إذا قال: له علي قفيز، لا بل قفيزان، لزم قفيزان. ولو قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين، فقد نحكم بوقوع الثلاث. وإن قال: درهم، لا بل قفيزان، لزم درهم وقفيزان. وإن قال: عشرة، لا بل

تسعة؛ وجبت العشرة، وإن قال: دينار وديناران، لا بل قفيز وقفيزان، لزم ثلاثة دنانير وثلاثة من القفزان، وإن قال: دينار فقفيز حنطة، لم يجب إلا الدينار، وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة، لزم ثمانية اتفاقاًً. وإن قال: من درهم إلى عشرة، فالواجب ثمانية، أو تسعة، أو عشرة؟ فيه ثلاثة أوجه. وإن قال: بعتك من الجدار إلى الجدار، لم يدخل الجداران، والفرق أن التحديد إنما يحسن فيما يتعلق به الحسّ والعيان. فصل في إعادة الإقرار 4433 - إذا أقر بألفٍ في يومين، أو والى بين الإقرارين، فإن اتفق وصفهما وسببهما، أو أمكن اتفاقهما، لزم ألف واحد، وإن اختلفا أو أحدهما، وجب ألفان. وإن اختلف قدر المقرّ به، واتفق سببه ووصفه، دخل الأقل في الأكثر، سواء تقدم الأكثر، أو تأخر، فإذا أقر يوم السبت بألف، ويوم الأحد بألفين، وجب ألفإن، وإن أقر يوم الأحد بألف، ويوم الجمعة بألف، أو بخمسمائة، لزمه ألف. وإن أقر يوم السبت بألف صحاح، أو من ثمن مبيع، ويوم الأحد بألف مكسر، أو من قرض وجب ألفان، وإن أقر يوم السبت بألف مطلق، ويوم الأحد بألف صحيح أو مكسر، لزمه ما يقتضيه التقييد من الصحة أو التكسير، ولو لزمه ألف، فأثبت أن المستحِق أقر بقبض خمسمائة في شعبان، وبثلثمائة في رمضان، وبمائتين في شوال، فإن كانت هذه الأشهر تواريخ [للقبض] (1)، لم يثبت القبض إلا في خمسمائة، وإن كانت تواريخ لما أقرّ به من القبوض، ثبت قبض الألف.

_ (1) في الأصل: "للإقرار" والمثبت تصرّف من المحقق.

فصل فيمن أقر بوراثة، أو وصية، أو توكيل، ثم امتنع من التسليم 4434 - إذا أقر للميت بدين، وحصر إرثه في معين، لزمه التسليم إليه، ولو صدق على التوكيل في قبض الدين، لم يلزم التسليم إلى الوكيل، ما لم يثبت التوكيل، على النص في الصورتين. وللأصحاب في النصين ثلاث طرق: إحداهن - في الصورتين قولان بالنقل والتخريج. والثانية - القطع [بالتسليم] (1). والثالثة - القطع بالتسليم في صورة الإرث، والتردد في صورة التوكيل، والفرق أَمْنه من التكذيب في صورة الإرث، وتوقعه في التوكيل. ولو ادعى أنه وصِيُ الميت على أولاده، فصدّقه من عليه الحق، فهو كالتصديق على التوكيل، إذ لا يأمن تكذيب الأطفال عند الاستقلال. فصل فيمن ادعى أنه تزوج أمة وادعى المالك أنه باعها منه 4435 - إذا كان بيد رجل جارية، فقال لمالكها: زوّجتنيها، فقال: بل بعتكها (2)، حلف كل واحد منهما على نفي ما يُدّعى عليه؛ لأنهما اختلفا في عقدين، بخلاف المتبايعين (3).

_ (1) في الأصل: "بالتقرير"، والمثبت تصرفٌ من المحقق، رعاية للسياق. (2) من ادّعى البيع يطلب الثمن؛ لأنه سلّم المبيع، ومن ادعى الزواج يقرّ بالمهر، وينكر الثمن. فكل واحد منهما يدّعي الأفضل له، لأن الثمن أكبر من المهر، لا شك. (3) فإن حلفا، سقطت دعوى الثمن، ودعوى النكاح، ولا مهر، سواء دخل بها صاحب اليد أم لم يدخل؛ لأنه وإن أقر بالمهر لمن ادعاه مالكاً مزوِّجاً، فهو منكر للتزويج مكذب للمقر بالمهر، وشرط صحة الإقرار عدم تكذيب المقرّ له، وتعود الجارية إلى المالك؛ لأن من له اليد عليها مقرّ له بملكها، وتوجيه عودتها سيأتي في كلام المؤلف قريباً. وانظر في بسط هذه المسألة (روضة الطالبين: 4/ 409، 410).

وقال في التقريب: إن جعلنا يمين الرد كالإقرار، فلا يمين على مدعي البيع، لإقراره بزوال ملكه، ومن أقر بزوال ملكه، لم يسمع إقراره بالزوجية (1). وقال الإمام: إن قبلنا رجوع المقر عن الإقرار (2)، فالحكم ما ذكره الأصحاب، وإن لم نقبل رجوعه، فالحكم ما ذكره صاحب التقريب. قلت (3): الوجه ما ذكره الأصحاب؛ لأنا إنما رددنا الإقرار بالتزويج بعد زوال الملك لما فيه من الإضرار بالمالك، وهاهنا لا ضرر على مدعي الزوجية في تصديقه عليها، والحق لا يعدوهما. والتفريع على ما ذكره الأصحاب، فإذا حلف كل منهما على نفي ما ادُّعي به عليه، فإن كان التنازع قبل الوطء، أو بعده وقبل الإحبال، فهل لمدعي البيع أن يفسخه، لتعذر الثمن، كما يفسخ في صورة الإفلاس، أو يخرّج على الظفر بغير الجنس؟ فيه وجهان، وهل ينتزع الحاكم المهر ليحفظه، أو يتركه بيد الواطىء؟ فيه وجهان. وأيهما نكل عن اليمين، حلف الآخر يميناً للنفي، وأخرى للإثبات، وأبعد القاضي، فاكتفى بيمين تجمع النفي والإثبات. وإن كان التنازع بعد الاستيلاد، فلا تعلق لمدعي البيع بالجارية، ويعتِق ولدُها، ويثبت لها حكم الاستيلاد، لاعتراف المالك بجميع ذلك، ولمدّعي التزويج أن يطأها في الباطن، وكذا في الظاهر على الأصح، وأبعد من أطلق وجهين، ولم يفرق بين الباطن والظاهر.

_ (1) هناك خلاف -سيأتي تفصيله في كتاب الدعاوى والبينات- في عدّ يمين الرد بمنزلة البينة، أو بمنزلة الإقرار، وبكل منها تنقطع الخصومة. فإذا اخترنا جَعْلَ يمين الرد إقراراً، فلا يمين على مدعي البيع؛ لأنه مقر بزوال ملكه، فعلى تقدير النكول، وفصل الخصومة بيمين الرد، نكون جعلناه قد أقرّ بتزويج أمةٍ لا يملكها، ومثل هذا الإقرار لا يسمع. هذا مأخذ كلام صاحب التقريب، وبيان مبناه ومعناه. (2) علق الإمام (إمام الحرمين) قبول قول صاحب التقريب على حكمنا بأن رجوع المقر عن إقراره لا يقبل، أما إذا قبلنا رجوع المقر عن إقراره، فلا مانع من أن يحلف مدعي البيع - كما ذكره الأصحاب، وتكون يمين الردّ -إذا فصلت بها الخصومة- إقراراً آخر رجع به عن إقراره الأول. (3) "قلت": القائل هو العز بن عبد السلام.

وإنما غلط في ذلك من غلط، لظنهم أن الاختلاف في الجهة يمنع الحلّ، حتى قال كثير منهم: الاختلاف في الجهة لا يبيح إن كان في الأبضاع، وإن كان في الأموال، فوجهان. وإنما نشأ هذا الغلط من نص الشافعي أن من اشترى زوجته بشرط الخيار، لم يجز؛ لأنه لا يدري أيطأ زوجته أو مملوكته، وقد تصرف الأصحاب في النص، فقالوا: إن بقَّيْنا ملك البائع، جاز الوطء؛ لأنها زوجته، وإن نقلنا الملك إلى المشتري، فحِلّ الوطء وتحريمه على ما تقدّم في البيع إذا كان الخيار لهما أو لأحدهما. وإن وقفنا الملك، فهذه مسألة النص: من جهة أن النكاح ينفسخ بالملك الضعيف الذي لا يُبيح الوطء، فلو وطئها، لكان وطؤه مردداً بين أن يقع في زوجة يجوز وطؤها، أو في مملوكة لا يجوز وطؤها. فرع: 4436 - نفقة الأولاد على المستولد عند الجمهور، كما لو قال لإنسان: بعتك أباك، فأنكر، فإنه يعتِق عليه، ويلزمه نفقته. ونفقةُ المستولدة على المستولد إن أبحناها له، وإن حرّمناها، فلا نفقة عليه؛ لأن تحريمها كنشوزها، وهل تجب في كسبها، أو على مدعي البيع؟ فيه وجهان: أظهرهما - أنها عليه؛ لأنها كانت لازمة له، فلا تسقط عنه بدعواه، فإن أوجبناها في كسبها، فلم تكن وجبت في بيت المال، وإن ماتت في حياة المستولد، كانت مؤونة تجهيزها وتكفينها كنفقتها، فإن تركت كسباً، وُقف، فإن كان الثمن قد استوفي من المستولد، فله أن يأخذ من الكسب بقدره، وإن مات المستولد قبلها، عَتَقَت بموته، فإن ماتت بعده عن كسب، ورثه أقاربها، فإن لم يكن لها قريب، وقف كسبها، ويؤخذ منه قدر الثمن، إن كان قد ثبت بالبينة، وإن كان البائع لم يقبض الثمن، فله أخذه من الكسب؛ لأنه إن كُذِّب، فالكسب له، وإن صُدِّق، فقد ظفر بمال الظالم، وأبعد من منعه من الأخذ.

فصل في جواب الدعوى 4437 - إذا ادعى عليه بمال، فقال: أنا مقر، لم يلزمه شيء، لاحتمال أن يريد: أنا مقر ببطلان ما ادعيت، وإن قال: صدق، أو بلى، أو نعم، أو أجَل، أو قال: أنا مقر بما ادعيت، أو أقر بما ادعيت، لزمه ذلك، لوجود صرائح الإقرار. وخالف القاضي في قوله: أنا أقر بما ادعيت، لإمكان حمله على الوعد بالإقرار، وفرق بينه وبين لفظ الشهادة؛ فإنها لا تحمل على الوعد لقرائن الأحوال، وعرف الاستعمال، ولما في لفظها من التعبد، ولذلك لو قال الشاهد: أعلم وأتيقن، لم تقبل على الأصح، وهذا مما انفرد به، والقرائن أيضاً تصرف هذا اللفظ إلى الإقرار، وإن جاز حمله على الوعد، فالقياس أن الوعد بالإقرار إقرار، كما جعل الجمهور التوكيل بالإقرار إقراراً. فصل في نكول المدعى عليه 4438 - إذا سكت بعد الدعوى، أو قال: لا أقر، ولا أنكر، كان ذلك كالتصريح بالإنكار، فإن أصر عليه، حكم بنكوله، وردت اليمين على خصمه، ولا يبادر الحاكم إلى ردّ اليمن حتى يغلب على ظنه النكول، ويأخذ في ذلك بقرائن الأحوال؛ لأن سكوته قد يكون عن دهشة أو تأنٍّ، أو هيبة، وقد يكون للنكول والامتناع، وحسنٌ أن يقول له: إن تماديت على السكوت، حكمت بنكولك، وحلَّفت خصمك، والأولى ألا يحكم بنكوله حتى يعرض اليمن عليه ثلاثاً، وتكفي (1) العرضة الواحدة.

_ (1) لعلها: "وقيل: تكفى العرضة الواحدة".

فإن قال: أنظرني حتى أفكر وأراجع الحساب، لم نمهله. وإن صرح بالنكول، أو قال: لا أحلف، أو ظهر للحاكم أن سكوته نكول، ثم رغب في اليمين، فإن كان قبل الحكم بنكوله، أجبناه. وإن كان بعد الحكم، منعناه، إلا أن يرضى المدعي بتحليفه، فلهما ذلك، اتفاقاًً. وقيل يسقط يمينه بالتصريح بالامتناع، كما يسقط بالحكم بالنكول إذا سكت. ولو أعرض الحاكم عنه، وأقبل على المدعي ليحلفه، كان كالحكم بنكوله، وقيل: لا يمتنع تحليفه ما لم يعرض اليمين على المدعي. والحاصل أن يمين المدعى عليه لا تسقط إلا بإقراره، أو الحكم بنكوله، مع رغبة خصمه في يمين الرد. فصل في نكول المدعي 4439 - إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة، كان كحلف المدعى عليه في انقضاء الخصام، وإن سكت، أو قال: سأفكر وأراجع الحساب، فله أن يحلف متى أراد. وقيل: إذا ظهر للحاكم نكوله، لم يمهله، وحكم بانقضاء الخصومة؛ اعتباراً بجانب المدعى عليه، بل أولى؛ لأن المدعى عليه قد تفجؤه الدعوى مع التباس الحال، والمدعي لا يُقْدم إلا عن بصيرة؛ لأنه مختار في الدعوى، فيبعد أن يتمكن من إحضار المدعى عليه للتحليف متى أراد.

فصل فيمن أقر بشيء، ثم تأول الإقرار 4440 - إذا أقر بهبة وإقباض، أو رهن وإقباض، ثم قال: لم أقبضه حقيقة، بل ظننت أن القبض يحصل بالقول، أو اعتمدت على كتاب وكيل صدوق، ثم بان أنه مزور، فالنص سماع دعواه لتحليف خصمه، فإن حلف أنه أقبضه حقيقة، انقطع الخصام، وإن نكل، ردت اليمين عليه، فإن حلف، قضي له. ولو أقر على نفسه أنه اقترض، أو باع وقبض الثمن، ثم ادعى أنه لم يقبض ذلك، وإنما قدم الإشهاد بالقبض على ما جرت به العادة، وطلب يمين الخصم، فالمذهب أنه لا يجاب، لأنه لم يتأول الإقرار، فلا نخالف الصريح لأجل الاعتياد، وفيه وجه أنه يجاب، فعلى هذا لو كان المشتري قد صالح عن الثمن، ففي كيفية يمينه وجهان: أحدهما - يكفيه أن يحلف أنه لا يلزمه تسليم الثمن، والثاني - يحلف على المصالحة، ولا يضره؛ لاعتضاده بالإقرار السابق، وبأن الصلح معتاد. ولو أشهد على نفسه بإتلاف، ثم ادعى أنه ما أتلف، وإنما أشهد على نفسه بذلك لعزمه على الإتلاف، لم تسمع دعواه؛ إذ لا تأويل، ولا اعتياد. فصل فيمن باع عبده من نفسه أو أعتقه على عوض ناجز 4441 - إذا قال لعبده: أنت حرٌّ على ألف، فقبل متصلاً، أو قال: إن ضمنت لي ألفاً، فأنت حر، فضمن متصلاً، عَتَقَ في الحال، ولزمه الألف، وثبت عليه الولاء. وإن قال: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حرّ، اختص الإعطاء بالمجلس، فإن أعطاه ألفاً، كان اكتسبه، أو اغتصبه، وقع العتق، على الأظهر، وقيل: لا يقع حتى يعطيه ألفاً من كسبه يحدثه بعد التعليق؛ لأن الغرض من التعليق حثه على الاكتساب. فعلى هذا إن تُصوّر أن يكتسبه في المجلس، ويدفعه إليه، عتق، وإلا فلا.

وإن قال: بعتك نفسك، فقال: قبلت، فقولان: أحدهما - لا يصح، ولا يعتِق، والثاني - يصح، ويعتق، ونُلزمه الثمن، وثبت الولاء. وأبعد من نفى الولاء. ولا يثبت في هذه المعاملة خيار المجلس، ولا خيار الشرط. ولو اشترى الرجل أباه، ففي ثبوت خيار المجلس للمشتري وجهان، فإن أثبتناه، ففي خيار الشرط وجهان، فإن أثبتنا الخيار للمشتري، فالبائع بذلك أولى، وإن منعناه، ففي ثبوته للبائع وجهان: والأظهر أنه لا يثبت لواحدٍ منهما؛ لأنه عقد إعتاق. ولو اشترى من شهد بحريته، فلا خيار له اتفاقاًً. فصل فيمن ادعى شيئاًً، فاختلفت الشهادة له بالزيادة والنقصان 4442 - إذا ادعى ألفين، فشهد بهما شاهد، وشهد آخر بألف، أو بخمسمائة، ثبت الألف، أو الخمسمائة، ولو ادعى ألفاً، فشهد به أحدهما، وشهد الآخر بألفين، ردت شهادته بالألف الزائد. فإن كذبه المدعي فيه، ففي قبول شهادته في الألف المدعى به قولا تبعيض الشهادة. وإن صدقه، فهل يصير مجروحاً في الألف الزائد على الخصوص؟ فيه وجهان يجريان في كل شهادة تقدمت الدعوى، والقياس أنه لا يصير مجروحاً بذلك، لضعف تهمة المبادرة، فإن أثبتنا الجرح، فلا يتعدى إلى غير تلك الواقعة من الشهادات، وفي تأبده وجهان: أحدهما - التأبد، كالفاسق إذا ردّت شهادته، فأعادها بعد التعديل. والثاني - يستمر الجرح إلى أن يستبرىء، وتزول عنه تهمة المبادرة. وإن لم يثبت الجرح، ففي قبول شهادته في الألف المدعى به طريقان: إحداهما - التخريج على التبعيض، والثانية - القطع بالقبول؛ لأن تهمة المبادرة ضعيفة، فلا تمنع

القبول في غير محلها كما لو أتى بلفظ الشهادة في غير مجلس الحكم. فرع: 4443 - لو ادعى بالألفين ثانياً، فأعاد الشهادة بهما، فإن لم نثبت الجرح، قبلت شهادته، وإن أثبتناه، ردت في الألف الزائد، وفي الآخر قولا التبعيض، فإن قلنا بالتبعيض، ثبت الألف، وإن منعنا التبعيض، فلا بد من إعادة الشهادة بالألف المدعى، ولا يشترط إعادة الدعوى على الأصح. فصل فيما يلفق من الشهادات وما لا يلفق 4444 - إذا ادعى عليه بألف ثمناً، فأنكر، واعترف بألف قرضاً، ففي ثبوت ألفٍ وجهان، والأكثرون على الإثبات، ولو ادعى بألفٍ ثمناً، فشهد شاهد له، أو أحدهما بألف قرضاً، لم يثبت شيء، وإن شهد أحدهما بطلاق في شعبان، والآخر بطلاق في رمضان، لم تتلفق الشهادتان. ولو شهد أحدهما أنه أقر في شعبان بغصب مكانٍ معين، وشهد الآخر أنه أقر في رمضان بغصب ذلك المكان، تلفقت الشهادتان، هذا هو النص، وعليه الجمهور، وخرج بعضهم مسألة الغصب والطلاق على قولين، ولا يتجه التخريج في الطلاق، وإن اتجه في الإقرار؛ لأن لفظ الإقرار لو أتى به في يومين، لم يتعدد الحق، ولو أتى بلفظ الطلاق في يومين، لتعدد الطلاق. والذي نقله المعتبرون أن المشهود به إذا تعدد أو اختلف بالزمان، أو المكان، فإن كان إقراراً، واتحد المقرّ به، تلفقت الشهادتان، وإن كان إنشاء كالبيع والإتلاف والطلاق، فلا تلفيق، فلو شهد أحدهما أنه أقر بألف في شعبان، والآخر أنه أقر بألف في رمضان، أو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية بألف، أو بقذف، وشهد الآخر أنه بالعجمية بألف، أو بقذف، ثبت الألف والقذف، وتلفقت الشهادتان. ولو شهد أحدهما بألف ثمناً لبيع أنشأه في شعبان، وشهد الآخر بألف ثمناً لبيع أنشاه في رمضان، أو شهد أحدهما أنه قذف بالعربية، والآخر أنه قذف بالعجمية، أو

شهد أحدهما بقذف يوم السبت، والآخر بقذفٍ يوم الأحد، أو شهد أحدهما بقذف بالشام، والآخر بقذف في العراق، لم تتلفق الشهادتان. فروع: 4445 - الأول - إذا شهد أحدهما على إقراره بقذفٍ عربيٍّ، والآخر على الإقرار بقذفٍ عجمي، ثبت القذف عند الأصحاب، وخالفهم القاضي، وأبو محمد؛ إذ المقر به مختلف (1). والثاني - لو شهد أحدهما أنه أقر بألف ثمناً، والآخر أنه أقر بألف قرضاً، فقد حكى القاضي ثبوت الألف، وهذه هفوة، قطع الإمام بخلافها لتعدد المقرّ به، ولذلك لو شهد على كل واحدة من هاتين الجهتين شاهدان، أو أقر بذلك عند الحاكم، للزمه ألفان. الثالث - إذا ادعى بألف مطلق، فشهد به أحدهما، وشهد الآخر بألف من قرض، ففي ثبوت الألف خلاف، والأظهر الإثبات. الرابع - إذا ادعى الملك، فشهد اثنان على إقرار المدعى عليه بالملك، ثبت الملك وإن لم يتعرض في الدعوى للإقرار. وأبعد من شرط دعوى الإقرار. وإن ادعى الملك، ولم يتعرض للإقرار، فأقر له به عند الحاكم، ثبت الملك اتفاقاًً، وإن ادعى أن حاكماً حكم له بالدار، أو أن عدلين شهدا له بها عند بعض الحكام، فإن أضاف إلى ذلك دعوى الملك، سمعت دعواه، وإلا، فلا، ولو ادعى الملك والإقرار، سمعت دعواه، وإن جرّد الدعوى بالإقرار، لم تسمع على الأظهر. الخامس - إذا ادعى الملك، فشهد به أحدهما، وشهد الآخر على الإقرار به، فلا تلفيق على الأظهر، وأبعد من لفق؛ لاجتماعهما على المقصود.

_ (1) المذهب ما اختاره القاضي وأبو محمد، فقد اتفق عليه الشيخان الرافعي والنووي (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 11/ 157، والروضة: 4/ 390).

فصل في تبعيض الإقرار 4446 - إذا أتى بلفظ ملزم بتقدير الاقتصار عليه، ثم عقبه بما ينافيه، فله حالان: إحداهما - أن يتضمن الإسقاط، وفيه صور: الأولى - أن يستند إلى واقعة يخفى حكمها على بعض الناس، كقوله: له علي ألف من ثمن خمر، أو خنزير، أو ضمان بشرط الخيار، ففي لزوم الألف قولان، ويتجه أن نفرق بين العالم والجاهل (1)، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب. الثانية - أن يستند إلى واقعة لا يخفى حكمها على أحد كقوله: علي ألف قضيته، فهل يلزمه أو يخرج على الخلاف؟ فيه طريقان. الثالثة - أن يُعدّ مطلقُه هازلاً، كقوله: له علي ألف إلا ألفاً، أو له علي ألف لا شيء له علي، فيلزمه الألفء الرابعة - أن يقول: لك علي ألف إن شاء الله، أو إن شئت، فلا يلزمه شيء عند الأصحاب، وخرج صاحب التقريب التعليق بمشيئة الله على القولين، وقال الإمام: التعليق بمشيئة العباد أولى بالخلاف؛ لأن التفويض إلى مشيئة الله معتاد بخلاف التفويض إلى مشيئة العباد. فرع: 4447 - إذا قال: بعتك إن شئت، فقال: قبلت، انعقد البيع على أحد الوجهين، وهو اختيار القاضي؛ إذ البيع مفوض إلى مشيئة القابل. ولو قال: اشتريت ثوبك بدرهم، فقال: بعتكه إن شئت، فإن لم يجدد القبول، لم ينعقد، وكذلك إن جدده على قياس القاضي؛ إذ يبعد حمل المشيئة على طلب القبول مع تقدمه، وإذا تعذر ذلك، صار تعليقاً للبيع. الخامسة - أن يقول: لك هذه الدار عارية أو هبة عارية، فيحمل على العارية

_ (1) "نفرق بين العالم والجاهل": بمعنى أن من كان عالماً بأن ثمن الخمر ونحوه لا يلزم، فلا يعذر، ويصح الإقرار، أما من كان جاهلاً بأن ثمن الخمر لا يلزم، فلا يصح إقراره.

والهبة، على النص وقول الأكثرين، وخرجه في التقريب على القولين، فإن ادعى أنه لم يقبض الهبة، فالقول قوله في نفي القبض. الحال الثانية - ألا يتضمن الإسقاط، وفيه صور: الأولى - أن يعلقه على تسليم مبيع كقوله: له علي ألف من ثمن هذا العبد، أو من ثمن عبد، فإن سلم العبد، سلمت الألف، فهل يقبل أو يجري على القولين؟ فيه طريقان. الثانية - أن يقر بمال، ويصفه بوصف، فيلزمه مع الوصف، كقوله: علي ألف مكسرة، فيلزمه المكسرة. الثالثة - أن يقول: علي ألف مؤجل، فيلزمه الألف، وأما الأجل، فإن لم يذكر سبب الدين، أو ذكر سبباً يقبل الحلول والتأجيل، فهل يثبت الأجل، أو يخرج على القولين؟ فيه طريقان. وإن ذكر سبباً يقبل أحد الأمرين، فإن لم يقبل التأجيل كالقرض، سقط الأجل، وإن لم يقبل الحلول، كدية الخطأ، فإن صدّر الإقرار بالأجل، ثبت، وإن عقبه به،، فهل يثبت أو يخرّج على الطريقين في التأجيل؟ فيه خلاف. والمحققون على الإثبات. ولو أطلق الإقرار، ثم فسره بالمؤجل، أو أضافه إلى الخمر - بعد طول الفصل لم يقبل. فصل في تعليق الإقرار، وفيمن أقر بغير لغته 4448 - إذا علق الإقرار على شرط، لم يصح، فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فلك علي ألف، لم يلزمه اتفاقاً؛ لأن هذا اللفظ، وإن تردد بين التعليق والوصية والتأجيل، فلا يجب شيء بالاحتمال، وإن فسر بأجل، أو وصية، أمر بدفعها عند رأس الشهر، قيل: وإن قال له: علي ألف إذا جاء رأس الشهر، فإن فسره بالتعليق، فعلى قولي تبعيض الإقرار، وإن فسره بالتأجيل، فعلى طريقي الوصف بالتأجيل. وإن أقر عربي بالعجمية، أو عجمي بالعربية، صح. فإن قال: لقنت كلمة لا أفهمها، قُبل قوله إلا أن يكذبه، وكذلك حكم العقود والحلول والطلاق وأشباهها.

فصل (1) في الشهادة بالإقرار من غير تعرّض لشروطه قال الشافعي رضي الله عنه بعد ذكر ضمان الدّرَك: "ولو شهدوا على إقراره، ولم يقولوا صحيح العقل .. إلى آخره" (2). 4449 - ذكر الشافعي ضمان العهدة والدّرك وقد مضى مفصّلاً في كتاب الضمان، ولستُ أرى لإعادته وجهاً، وذكر أيضاً أن العربي إذا أقر بلغة العجم، صحَّ، وكذلك عكس هذا، ولو أقر بغير لغته، ثم قال: لُقِّنتُ، ولم أفهم ما تلفظتُ به، فإن كانت الحالةُ تكذّبه، لم يقبل ذلك منه، وإن لم يبعد صدقه فيما ادعاه، قُبل ذلك منه، ولا اختصاص لهذا بالأقارير، بل هو جارٍ في العقود، والحلول، والطلاق. وما في معناها. ومما يتعلق بالألفاظ وغرضِ الفصل التعرضُ لصيغة الشهادة على الأقارير. فإذا شهد عدلان: أن فلاناً أقر لفلانٍ بألف، فظاهر النص أن الإقرار يثبت ملزماَّ، وإن لم يتعرض الشاهدان لذكر الشرائط المرعية في صفات المقر: من البلوغ، والعقل، والصحّه -إن كان الإقرار لوارث على أحد القولين- وكذلك الحريّة، والرشد، والطواعية وعدم الإكراه. ومطلق الإقرار من (3) شهادة الشهود محمول على الإقرار الصحيح. وذكر صاحب التقريب قولين في أن المقر لو كان مجهول الحريّة والرق، فهل يشترط تعرض الشهود لذكر حريته أمْ لا؟

_ (1) نبدأ من هذا الفصل إلى صفحات من كتاب العارية، معتمدين على توفيق الله، وعلى نسخة وحيدة هي (ت 2) ج 12. وهي نسخة سقيمة كثيرة السقط، والخطأ، كما أوضحناه في موضعه من وصف النسخ. ونستعين في هذه المضايق بالشرح الكبير والروضة، وتكملة السبكي للمجموع، ومعها مخطوطة مختصر العز بن عبد السلام، ومخطوطة البسيط، حتى نصل إلى النسخة الأخرى المساعدة. وتوفيق الله من قبل ومن بعد، هو معولي، ومعتمدي. (2) ر. المختصر: 3/ 7. (3) "من" مُرادفة لـ (في).

قال: اختلف الأئمة في سائر الصفات المرعيّة: فمنهم من خرّجها على قولي الحريّة. ومنهم من لم يعتبرها، من جهة أنها لا تخفى ولا يُشكل على العامّة اشتراطُها. والقياسُ التسوية. فإن جرينا على ما ذكره الأصحاب، ففيه تفصيل لابُدّ من المعرض له: وهو أن الشاهد لو أطلق الشهادة على الإقرار، فللقاضي أن يسأله عن الصفات المعتبرة، فإن فصَّل، فذاك، وإن امتنع، فقال: لا يلزمني التعرض لذكر هذا، ولو كان لازماً، لبينتُ. قال القاضي: إن كان امتناعُه لا يورث القاضي رَيْباً، أمضى القضاءَ بشهادته، وإن ارتاب، توقف في شهادته. فيخرج من ذلك أنه لا ينحسم على القاضي مسلك الاستفصال. وهذا يبينه شيءٌ: وهو أنّ الشاهد لو شهد مطلقاً؛ ومات، أو غاب، وتعذر الاستفصال، امتنع تنفيذُ القضاء بالشهادة المطلقة. وإن شهد، واستفصل القاضي، فأبى الشاهد؛ صائراً إلى أنه لا تفصيل عليه، وعلم القاضي [أنه] (1) لا يشهد إلا على بصيرةٍ، فظاهر كلام الأصحاب أن الشاهد لا يلزمه أن يفصّل، كما لا يلزمه أن يذكر مكانَ الإقرار، وزمانَه. ومن القضاة من يرى البحثَ عن المكان والزمان، وغرضُه أن يستبين تثبتَ الشاهد وثقتَه بما يقول. فإن كان الشاهد خبيراً، لم يجب القاضي إلى ذكر المكان والزمان. 4450 - ولا بد من قولٍ ضابطٍ في هذه الفصول، فنبدأ بإطلاق الإقرار [مع] (2) السّكوت عن الصّفات المشروطة المرعية. فالمذهبُ الظّاهر أن الشهادة على الإقرار المطلق مقبولة. وقد ذكرنا قولاً على طريقة صاحب التقريب أنه لا بد من التعرض لذكر الشرائط. فإن فرعنا على ظاهر المذهب، فللقاضي أن يستفصل، وله أن يترك الاسْتفصَال؛ إذ لو كان الاستفصال حقاً عليه، لأفضى إلى تكليف الشاهد ذكرَ الشرائط، وهذا هو القول البعيد الذي ذكره صاحب التقريب وليس

_ (1) في الأصل: أن. (2) في الأصل: من.

[ما] (1) ذكرناه من جواز الاستفصال من القاضي مردوداً إلى خِيَرته، ولكنَّه ينظر إلى حال الشاهد، فإن رآه على عدالته خبيراً بشرائط الشهادة، فطناً، مستقلاً، فله ترك الاستفصال حتماً (2). وإن تمارى في أمره، فلابد من الاستفصال. وقد يقع حالة لا تجب المباحثة فيها حتماً، والاحتياطُ يقتضيها، وهذا من خفايا أحكام القضاء. وستأتي مستقضاة في موضعها. ثم إذا استفصل القاضي، فهل يتعين على الشاهد التفصيلُ في أن [المسؤول] (3) عنه شرائط الإقرار؟ فعلى وجهين: أحدهما - يتعين عليه ذلك. والثاني - لا يتعين عليه. ولا خلاف أنه لا يجب على الشاهد تفصيلُ المكان والزمان، وإن استفصل القاضي، والفرق أن الجهل بالمكان والزمان لا يقدح في الشهادة، والجهلُ بالشرائط يقدح. وإنما قبلنا الإقرار المطلقَ للعلم الظاهر باستقلال الشاهد بالإحاطة بالشرائط، والثقةِ بأن الإقرار لو كان عديم الشرط، لما استجاز الشاهدُ -مع العلم والعدالةِ- ذكرَ (4) الإقرار المطلق. 4451 - ومما يتعلق بتمام البيان في هذا، أن الشاهد لو قيد الإقرار المشهودَ به بصحة العقل، فقال المشهود عليه: كنتُ مجنوناً، إذْ لفظت بالإقرار، فلا يقبلُ مجرّدُ قول المشهود عليه. فإن أطلق الشاهد الشهادةَ على الإقرار، ولم يتعرض للعقل، وعسر الاستفصال، [لبعض] (5) الأسباب، فقال المشهودُ عليه: كنت مجنوناً لما لفظت بالإقرار، نُظر: فإن عُرف له حالة جنون فيما سبق، فالقول قوله مع يمينه، وإن كان ظاهرُ الشهادة مشتملٌ على تقدير اجتماع الشرائط، ومنها العقل. ولكن إذا لم يقع له تعرض،

_ (1) في الأصل: مما. (2) كذا. ولعل العبارة: فلا بد من ترك الاستفصال حتماً. (3) في الأصل: للمسؤول. (4) في الأصل: ذكرُ. (بالرفع). (5) في الأصل: فبعض.

وادّعاه المشهود عليه، وعُهد له جنون، فهذا [أعرف] (1) بحال نفسه. ولو لم يعرف له جنون، والغالب أنه لو كان يُعرف (2)، فهو مدّعٍ، والظّاهر مع المشهود له، فيحلف ويثبتُ غرضُه. فلو قال المشهود عليه والشهادة مُطلقة، وقد عسر الاستفصال بموت الشاهد، أو غيبته: كنت مكرهاً على الإقرار، نُظر: فإن تبينت أماراتُ الإكراه، فإن كان في قهر المقَرِّ له وحَبْسه، فالقول قوله مع يمينه؛ لظهور الأمارة. وهو كما لو ادّعى الجنون، وكان عُهد منه ذلك في الزمان السابق. وإن لم تثبت أمارةٌ على الإكراه، فهو مُدّعٍ، فالقول قول المدّعَى عليه مع يمينه. ولو كان في قيد زيدٍ وحَبْسه، والإقرار لعمرو، فهو مُدّعٍ، والقول قول عمرٍو، مع يمينه. والجملة في ذلك أن الشهادة المطلقة، محمولةٌ على الصحّة، إلا أن يدعي المشهودُ عليه أمراً ظاهراً، فإذ ذاك يحلف. وإن ادّعى أمراً ممكناً، من غير ظهورٍ، فالقول قول المشهود له مع يمينه. 4452 - ولو تعرض الشاهدُ لاستجماع الإقرار الشرائطَ المعتبرةَ، فلا يقبل قولُ المشهودِ عليه، وإن ظهرت أمارة على صدقه؛ فإنَّ الشهادة لا تعارضها الأمارات، وهي أبداً مقامةٌ على ضد الأمارات الظاهرة، وذلك يقع في [جَنْبة] (3) المدّعي، والظاهر مع المدعَى عليه. وإن لم تكن أمارةٌ على الإكراه، فأقام المشهود عليه مُطلقاً بينةً أنه كان مُكرهاً حالة الإقرار، والشهادة على [الإجبار] (4) على (5) تاريخ واحدٍ، قال الأئمة: لا تقبل الشهادة على الإكراه مُطلقاً، حتى يفسر الشاهدان الإكراه، وذلك لاختلاف العلماء في قدرِه

_ (1) في الأصل: عرف. (2) كذا. ولعلها: لَعُرِف، فهي في جواب لو. (3) في الأصل: جنبية. وقد تقرأ بالخاء المعجمة. وجَنْبة المدعي جانبه، وناحيته. (معجم). (4) في الأصل: الإخبار. (5) "على" بمعنى "في"، والمعنى أن الشهادة على الإقرار والشهادة على الإجبار تعيّن تاريخاً واحداً.

ومحله، فلابد من التعرض للبيان. وهذا بمثابة الشهادة القائمة على [جروحِ] (1) الشهود الذين ظاهرهم العدالة، فإنا لا نقبلها مُطلقة؛ لمكان اختلاف العلماء فيما يُوجب الجرح، وينفي العدالة؛ فقد يرى الشاهد الجرحَ بما لا يراه القاضي. وكذلك المذاهبُ تختلف فيما يقع الإكراه به، وهو على الجملة مُشكل الضّبط في محل الوفاق، لا يستقل بتقريب القول منه إلا الغواصون. 4453 - فإن قيل: قبلتم الإقرار المطلق من الشاهد، ولم تقبلوا الشهادة المطلقة على الإكراه، فإذا شرطتم تفصيل الإكراه، فاشترطوا تفصيل الإقرار. قلنا: لنا متمسكٌ لا بأس به لمن يشترط تفصيل الإقرارِ، ثم الفرق أن الإقرار لا يذكره الشاهد إلا لتقوم به الحجة، والإكراه لفظٌ ملتبس، والفرقُ ليس باليسير. وقد قال كثير من أصحابِ أبي حنيفة: الشهادة على الإكراهِ المطلق مقبولة. وهكذا مذهبهم في الجرح أيضاً. ولو لم يُقِم المشهودُ عليه بينةً على الإكراهِ، ولكن أقام بينة على أمارتهِ، استفاد بثبوتها ظهورَ صدقه، حتى يكتفى بيمينه. ولو قال المشهود عليه: كنت صبياً إذ لفظتُ بالإقرارِ، والشهادة على الإقرار مُطلقة. وما قال محتملٌ، فقوله مقبول مع يمينه، كما لو ادعى الجنون، وقد عهد منه، كما سبق. ولو أقام المشهودُ عليه بينة على الإكراه المفصَّلِ الموجبِ لرد الشهادة، وقد تقيدت الشهادة على الإقرار بكونه طائعاً، فقد ذهب أصحاب أبي حنيفة (2) إلى تقديم البينة في الإكراه. وكان شيخنا أبو محمد يحكي في ذلك خلافاًً على وجهٍ سنصفه، فنقول: الظاهر تقديمُ البينة في الإكراه؛ لأنها تستند إلى علمٍ في الخفايا، ورب مهدَّدٍ متوعد في السر يبدي الطوعَ في تصرفه، وتستند شهادة الشاهد على الطواعية إلى ظاهر حاله، والمطلِعُ على سر الأخبار يعلم ما لم يُحط به الشاهد على الاختيار. وهذا ظاهر.

_ (1) في الأصل: خروج. (2) ر. اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: 44.

ومن أصحابنا من قال: تُعارض بينةُ الإكراه بينةَ الطواعية، و [تخرِم] (1) شهادةُ الإكراه شهادةَ الطواعية، فيبقى الطوعُ مشكلاً. وإذا ارتبنا في [اختلال] (2) شرطٍ، لم نقض بالشهادة. ولو جهل راجعان (3) إلى حاصلٍ واحد. ولو قُيد الرَّجلُ، وحبس، وضيق عليه، وحمل في ظاهر الحال على الإقرار، وقال من [حسبناه] (4) مُكرهاً: لقد أقررتُ كاذباً، ولكن كنتُ أعلم لو لم أقر، لكانُوا يُطلقونني على القرب، فقد قال صاحب التقريب في هذه الصورة: لا يثبت الإقرار؛ فإن الإجبار قائم ظاهر، واعتقاد المقيَّد المحبوس أَنَّ الحبس والتضييق كان يزول، ولا يدوم ظنٌّ منه وحِسبانٌ (5)، لا تعويل عليه. هذا كلامه. وقد قطع الجواب به. وفيه احتمال ظاهر؛ فإنه أقر بأنه لم يكن مكرهاً، وقوله مقبول عليه، وهو مؤاخذ فيه. فروع: 4454 - إذا ادّعى الإنسان البلوغ، نظر: فإن ادعى أنه بلغ بالسن، لم يُقبل قوله؛ لأنا يمكننا أن نعرفَ بلوغَه بالسن من جهة غيره. وإن ادعى البلوغَ بالاحتلام في سن احتمال البلوغ، بأن كان ابنَ عشرٍ، أو ادعت الصبيةُ البلوغَ بالحيض، وهي ابنة تسع، فقولهما مقبول؛ فإنه لا يمكن معرفة ذلك إلا من جهتهما. ثم قال الأصحاب: إن جرت الدعوى في خصومة، وحكمنا بقبول القول، فلا تحليف في زمان الإمكان، فإنا إن صدقنا من يدّعي هذا، فلا معنى للتحليف، مع التصديق. فإن قدّرنا تكذيباً، فمعناه اعتقاد الصبا، ولا سبيل إلى تحليف من يعتقد الصبا فيه. وهذه المسألة تكادُ تلتحق بالدوائر الفقهية، فإن في تحليفه تقديرُ الصبا. وهذا التقديرُ يُحيل التحليفَ. وفي هذا للنظر بقية من وجهين اثنين: أحدهما: أنه لو كان الشخص الذي فيه الكلام غريباً فينا، خاملَ الذكر، ولم نعرف لولادته تاريخاً حتى يتعرف منه أمرُ السّن،

_ (1) في الأصل: وتحرم. (2) في الأصل: "خلال". (3) في العبارة خلل. ولكن السياق مفهوم على الجملة. (4) غير مقروءة في الأصل. (5) الحسبان بالكسر: الظن والتوقع، وبالضم: العدُّ، والتدبير الدقيق (معجم).

وادّعى البلوغَ بالسّن، ففي هذه الصورة احتمالٌ؛ من جهة أنا لا نتمكن من معرفة ذلك إلا من جهته، فيجوز أن يلتحق بادعاء الاحتلام، ويجوز أن يقال: لا يقبل؛ فإن هذا على الجملة ممَّا يمكن فرضُ الاطلاع عليه من غير جهته. وإذا تمهد هذا في أصلٍ، لم تُعتبر الصّورةُ النادرة، ولا يتبع الإنباتُ في مثل هذه الصّورَة؛ فإن سبب التعلق به في أولاد الكفار عُسرُ الرجوع إلى تواريخ ولادتهم، ولا يُتعلق بالإنبات في دعوى الاحتلام أصلاً. ومما يتعلق النظر به أنا إذا قبلنا قولَه، وأمضيناه، ولم نر تحليفه لما ذكرناه، فلو ارتفع بالسن، وبلغ مبلغاً نستيقن بلوغَه فيه، فهل يجوز أن نحلفه الآن: أنه كان بالغاً حين ادعائه؟ الظّاهرُ أنا لا نحلّفه؛ فإنا أمضينا حكمَ قوله، ونُطنا به موجَبَه من غير توقف، وهذا يتضمن انفصالَ الخصومة، وانتهاءها نهايتَها. ويستحيل أن نعطف يميناً بعد تطاول الزمن على خصومةٍ منفصلة. هذا ما نراه. والعلم عند الله. فروع: 4455 - الإقرار بأعيان الأملاك مقبول. وإنَّما يقبل ممّن كان على ظاهر الملك، وكان متمكناً باليد، والمخايل المعتبرة الدالة على الملك. ويستحيل في وضع الإقرار تقديرُ امتدادِ ملك المقر إلى وقت الإقرار؛ فإنه لو كان كذلك، لكان كاذباً في إقراره لغيرهِ بالملك؛ من جهة أن الإقرار في نفسه لا يتضمن إزالة الملك، وإنما هو إخبار عن ثبوت الملك للمقَرّ له، وذلك يتضمن تقدم المخبَر على وقوع المخبِر لا محالة، فلو شهدت بينةٌ على أن فُلاناً أقر بأن الدّار التي في يده لفلانٍ، وكانت ملكَه إلى أن أقر بها، فهذه الشهادة باطلةٌ؛ فإنها متناقضةٌ. ولو صدر الإقرارُ على هذه الصيغة من المقر، نُظر: فإن قال: هذه الدارُ لفلانٍ، وكانت لي إلى إنشاء الإقرار، فإقراره بالملك نافذ، وقوله كانت لي إلى إنشاء الإقرار أمرٌ مُطّرحٌ. وهذا يلتحق بما لو قال: هذه الدار لفلان، وليست له. ولو قال أولاً: هذه الدار لي، وهي في ملكي، وقد صارت الآن لفلان، فالإقرارُ في نفسِه باطِل، فإنه أنشأه على صيغة البُطلان. وكذلك لو قال: داري هذه لفلان، أو ثوبي هذا المملوك لفلان، فهذا متناقض. وما ذكرناه في الإقرار بالأعيان.

فأما إذا ثبتت ديونٌ لإنسان (1)، وشهد بذلك ظاهرُ تصرف ومقتضى معاملة، فقال هذه الديون لفلان، نُظر: فإن أمكن وقوع ذلك الدين للمقَر له بتقدير المقر وكيلاً في المعاملة الملزمة، فالإقرار مقبول. وإن ثبت الدين في جهةٍ لا يتصور فيها تقدير النيابة، كالصّداق في حق المرأة، وبدل الخلع في حق الزوج، فلا يتصور الإقرار بثبوت أصل الحق، ليخبر به من ثبت له. ولو فرض الإقرار في انتقال هذا النوع من الدين، أو في انتقال سائر الدّيون إلى إنسان، فلا محمل لذلك إلا تقدير بيع الدين، وفي صحته قولان، فالإقرارُ إذاً مخرّج عليهما (2). فرع: 4456 - إذا ادّعى رجل على رجلٍ درهماً، فقال المدّعى عليه: زِنْ. فهذا ليس بإقرار؛ من جهة أنه غيرُ مصرِّحٍ بالالتزام، ولا يمنع حمله على الاستهزاء في مطرد العرف. ولو قال: زِنْه، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه بمثابة قوله: زِنْ. وقال صاحب التلخيص: قولُه: "زِنْه" إقرارٌ، بخلاف قوله: زِنْ. وهذا الذي تخيله من الفرق بين قوله: زنه. وقوله: "زِنْ"، لا حاصل له؛ فالوجه القطع بأنه لا يكون مقراً باللفظين؛ فإنَّه ليس في واحد منهما ما يشعر بالالتزام. وكذلك لو قال: خُذْ، أو خذه. وممَّا أعُدُّه من الغلطات ما ذكره الشيخ أبو علي (3) عنه (4) في شرح كتابه: فيه: إذا قال المقر: لفلانٍ عليّ درهم أو دينار، قال: فيه وجهان: أحدهما - أنه يلزمه أحدُهما، ويطالب بالتفسير على نحو ما قدمنا سبيل المطالبة في الأقارير المبهمة، في أول الكتاب. والوجه الثاني - أنه لا يلزمه شيء؛ فإن قوله مُردَّدٌ، ليس فيه إقرار

_ (1) في الأصل: ديون الإنسان. (2) زاد العز بن عبد السلام صورةً أخرى يقطع فيها بصحة الإقرار في هذا الذي لا تجوز فيه النيابة، وذلك قوله: "قلت: ينبغي أن يحمل على الحوالة، فيصح قولاً واحداً" ا. هـ (ر. الغاية في اختصار النهاية: 2/ 390 مخطوط تحت الطبع). (3) المراد أبو علي السنجي. (4) عنه: أي عن صاحب التلخيص، فأبو علي السنجي، هو شارح كتاب التلخيص.

جازمٌ بشيء. وهذا ساقطٌ من الكلام، لا أصل له، ولا يعدّ مثلُه من المذهب. وإنما ذكرته لعُلو قدر الحاكي. فرع: 4457 - إذا قال: "لفلان علي درهم درهم"، لم يلزمه بلفظه إلا درهم، على مذهب التأكيد بتكرير اللفظ، من غير عطفٍ. ولو قال: "لفلان علي درهم، بل درهمٌ"، لم يلزمه إلا درهم. ولو قال: "علي درهم، بل درهمان"، يلزمه درهمان، بتقدير زيادة درهم آخر على الدرهم الأوّلِ، وضمها في صيغة التثنية. ولو أشار إلى دراهم مُعينة، وقال: "لفلان هذه الدراهم بل هذان الدّرْهمان"، فأشار أولاً إلى درهم فرد، ثم إلى درهمين مجموعين، كان مقراً بالدراهم الثلاثة، لا شكّ فيه. فرع: 4458 - ولو أشار إلى العبد الذي في يده، وقال: إنّه لأحد هذين الرجلين، فهو مطالب بالبيان والتعيين، فإذا عين أحدَهما، تعيّن. وهل للثاني أن يُحلّفه؟ هذا يبتني على أنه لو أقر للثاني بعدما أقر للأوّل، فهل يغرَمُ له قيمةَ العبد؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما، فإن قلنا: إنه يغرَم للثاني قيمة العبد، فله أن يحلّفه رجاء أن ينكل عن اليمين، فتردَّ اليمين على المدعي، وتنزل يمين الرد منزلة الإقرار. وإن قلنا: إنّه لا يغرَمُ للثاني قيمة العبد، فالمذهبُ القطعُ بأنّه لا يحلف. وأبعد بعضُ أصحابنا، فقال: إذا قلنا: يمين الرّد بمثابة البينة، فإنا نحلّفه، ولو نكل رددنا اليمين على الثاني، فإذا حلف، قضينا له بالعبد؛ لأن اليمين نازلة منزلة البينة القائمة. وهذا زلل وغلط، قد ردده طوائف من الأصحاب في أمثال هذه المواضع. ووجه الغلط أن يمين الردّ، وإن كانت بمثابة البينة، فإنها كذلك في حق النّاكل. ويستحيل أن تكون البينة في حق ثالثٍ، لم يتعلق به خصومةُ الحالف. ثم فرعّ الأصحاب على هذا الوجه الضعيف فرعاً بعيداً، فقالوا: إذَا استرددنا العبدَ من المعيّن الأوّل، وسلّمناه إلى من حلف يمين الرد، فهل يغرَم الناكل للأوّل، من جهة تسببه بنكوله عن اليمين إلى إيقاع الحيلولة بين الأوّل وبين ملكه؟ فعلى طريقين:

من أصحابنا من قطع بأنه لا يغرم؛ إذ لم يوجد منه إلا النّكول، فلم يتعلق بمجرّده حُكم، وإنّما تعلّق باليمين المردودة، وهي [المقامة] (1) في هذه الطريقة مقام البينة، ومن أصحابنا من قال: في ضمان النَّاكل للأول قولان خارجان على ما لو أقر بعينٍ لفلان، ثم أقر بها لآخر. وهذا خبطٌ عظيم، وتخليط مجاوز للحدّ. وقد يقتضي قُصاراه إلى إستحالةٍ، وخلطِ قول بقول. وسبب هذا أنّه تفريعٌ على وجهٍ باطل قطعاً، وهو إحلال يمين الرد محلَّ البينة في حق ثالثٍ، لا تعلق للخصومة به. فإن قيل: أليس وقعَ ذلك الوجهُ الضعيفُ مفرعاً على أن الناكل لا يغرَم القيمة لخصمه، الذي رُدت اليمين عليه، فلا يتفرع على هذا تردّدٌ في الغرامة للأوَّل؟ قلنا: ذاك الوجه الضعيف يجريه صاحبه على قول التغريم أيضاً في استرداد العين. وبالجملة لا خير فيه. فالوجه قطع الكلام فيه. ولو قال المقِر المبهِمُ، لما طولب بالتعيين: "لا أعلم المالك منهما". إن صدقاه، فذاك؛ والعبد موقوف لهما. وإن كذباه، وادّعى كل واحد منهما أنه يعلم أن العبد له، فالقول قولُه مع يمينه: يحلف لكل واحدٍ منهما: "لا يعلمه له". ولو قال: أحد هذين العبدين لك، طولب بالتعيين، ثم لا يخفى قُصَارَى المُطالبةِ والخصومةِ، فلا معنى للتطويل بذكره. ولو مات قبل التعيين، قام الوارث مقامه في التعيين، والتهدُّفِ في الخصومة. وسنذكر تحقيقَ هذا الفنّ على غَاية الإمكان في البيان، من كتاب النكاح، إذا زوج المرأةَ وليّانِ من رجلين، والتبس الحال، إن شاء الله تعالى. فرع: 4459 - إذا أشار إلى عبد لرجلٍ، وقال: لهذا العبد عليَّ ألفُ درهم. قد جعل الأصحاب هذا إقراراً للسيد، وحملوا إضافة المقرِّ به إلى العبد على تأويل معاملته؛ فإنّه من أهل المعاملة. ولو قال: لحمار فلان عليَّ ألفٌ، كان ذلك لغواً من الكلام مُطَّرحاً، لا يُلزم أمراً.

_ (1) في الأصل: المقاملة.

ولو قال: عليَّ بسبب هذا الحمارِ ألفٌ، كان إقراراً لمالكه، ويحمل على أنه استأجره، فلزمه بما ذكره [أجرُه] (1). وفي هذا للنّظر مجالٌ؛ من جهة أنه لم يعيّن المقرَّ له بالألف، وربَّما كان هذا الحمار ملكاً لغير مالكه الآن، وكان تقدير الاستئجار من ذلك الغير. وهذا ظاهرٌ، وإن حمله الأصحاب على الالتزام لمن هو مالكٌ في الحال. فرع: 4460 - لو قال: "لفلان علي مائة درهم عدداً"، كان ذلك إقراراً بمائةٍ من الصحاح وازنةً، ولا يحمل ذكر العدد على الاكتفاء به من غير رعاية وزن. وكذلك لو جرى بيعٌ بهذه الصيغة، [ينصرف] (2) العقدُ على مائةٍ من الصحاح تزن مائةً. ثم قال المحققون: لا يلزمه مائةٌ، كل درهم منها [يزن] (3) درهماً، وإنما المأخوذ عليه أن يأتي بدراهمَ صحاح، تزن مائةً، ولا يضر أن يكون عددها ثمانين، أو خمسين. وذكر الشيخ أبو علي وجهاًً في الشرح أنا نُلزمه مائةً عدداً، تزن مائةً. وهذا بعيد. وكان شيخي على الوجه الأوّل الصحيح يتردد فيه، إذا أتى بدرهم واحدٍ، يزن مائةً، أو درهمين. فخالفَ الدراهمَ التي تسمى مائةً عدداً. ولا شكّ أن البيع إذا عقد بهذه الصيغةِ يحمل على الصحاح الجارية (4) في العرف. وإنما التردد الذي ذكرناه في الإقرار؛ فإنا قد لا نلتزم فيه العرفَ في كل مسلك. ولو قال: عليّ مائةٌ عدداً من الدراهم، قُبل منه مائةٌ عدداً وإن لم تكن وازنة؛ فإن لفظه مصرِّح بهذا المعنى. فرع: 4461 - ولو قال؛ علي درهمٌ في عشرة: إن أراد الضرب الحسابي، لزمه عشرة، وإن أراد درهماً مع عشرة، لزمه أحدَ عشرَ درهماً. فإن أراد درهماً في عشرةٍ

_ (1) في الأصل: آخرة. (2) مزيدة لاستقامة العبارة. (3) في الأصل: بزنة. (4) في الأصل: المجارية في العدد.

لي، لزمه درهمٌ واحد. وإن أطلق، فلفظه محمول على الواحد؛ فإنه الأقل، والخصومة جارية وراءه. فرع: 4462 - قال القاضي: لو قال رجل: لك عليَّ شيء، فقال المخاطب: ليس [لي عليك] (1) شيء، وإنّما لي عليك ألفُ درهم، فدعواه الألف مردودة؛ لأنّه نفى أولاً أن يكون ألف درهم، فدعواه الألف مردودة، لأنه نفى أولاً أن يكون له عليه شيء، واسم الشيء يعم القليل، والكثير. وبمثله لو قال المقِر: لك عليَّ درهمٌ، فقال المقَرّ له: ليس لي عليك درهم، ولا دانق، وإنما عليك ألفُ درهم، فتُقبل الدعوى. وإن كان قد نفى الواحدَ والألفُ آحاد مجموعة. ولكن جرت العادة بمثل هذا، فإن الإنسان ينفي الأقلَّ، وهو يبغي إثبات الأكثر، فكأنه يقول: ليس حقي على قدر درهم ودانقٍ، وإنّما حقي ألف درهم. ...

_ (1) في الأصل: لك علي.

باب إقرار الوارث للوارث

باب إقرارِ الوَارثِ لِلوَارثِ 4463 - مضمون الباب التعرض لإثبات، الأنساب، وما يتعلق بها. ومعظم القولِ في ذلك مذكورٌ في باب القافة، من كتاب الدعاوى، ولكنا نذكر خَاصيّة الباب. وقد [نُحْوَج] (1) إلى ذكر ما سيعودُ في كتاب الدّعاوى. فنقول: النسب يثبت بالبينة تارةً، وبالإقرار أخرى، فأمَّا البينة، فإذا شهد رجلان عدلان في مجهول النسب بأنّه ابنُ هذا المدّعي، وكان يولد مثله لمثله، يثبت النسب، ولا يثبت برجلٍ وامرأتين. فأمّا الإقرار، فنتكلم في إقرار الإنسان على نفسه، ثم نوضح إقراره على غيره. فأمّا إذا أقر على نفسه فاستلحق نسباً وقال: هذا ابني، نُظر: فإن كان المستلحقُ معروفَ النسب لغير المستلحِق، لم يلحقه النسب بالدعوى المجردة. وكذلك إذا كان ذلك المستلحَق لا يولد مثله لمثل المستلحِق، فالاستلحاق باطل وإقرار المستلحِق مردود. وإن استلحق نسبَ مجهولٍ يولد مثله لمثله، وقال: "هذا ابني"، لا يخلو إمَّا أن يكون صغيراً، أو بالغاً. فإن كان بالغاً، فوافق المستلحَقُ، ثبت النسب. وإن أنكر وقال: لستُ ابنَه، فالقول قوله مع يمينه. وكذلك لو ادّعى رجل على رجلٍ، وقال: "أنت أبي"، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. ولو كان المستلحَق صغيراً، قُبل قول المستلحِق، ونفذ الحكمُ به في الحال، حتى لو مات الصغير في صغرِه، ورثه المستلحِق، ولو مات المستلحِق، ورثه الصغير.

_ (1) في الأصل: نخرج. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء أسلوب الإمام، ومعهود لفظه.

فإن بلغ وادّعى أنه ليس بابن له، ففي قبول قوله وجهان: أحدهما - لا يقبل (1)، لنفوذ الحكم بالنسب في الصغر، فنستديم الحكمَ المتقدم. والثاني - يقبل؛ لأنه لم يكن وقت الاستلحاق ذا قولٍ، وقد صار من أهل القول الآن، فيجب قبولُ قوله (2). والذي يناظر ذلك أن من ادّعى على بالغٍ أنه رقيقُه، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ فإن كان صغيراً، حكم له بالملك فيه، فإذا بلغ هل يُقبل قوله: إني حر الأصل؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يقبل؛ لتقدم الحكم بالرّق، فيجب استدامة الحكم السابق، والثاني - يقبل قوله مع يمينه، لأنه صار من أهل القول (3). وعلى الوجه الأول تُقبل دعواه، ولكن القول قولُ مولاه، مع يمينه. وهذه المسائل تلتفت إلى أنّ اللقيط المحكومَ له بالإسلام بحكم الدّار إذا بلغ، وأعرب عن نفسه بالكفر، فنجعله مرتداً، أم يقدر كافراً أصلياً؟ قولان، سيأتي ذكرهما، وتوجيههما، وتفريعهما في كتاب اللقيط، إن شاء الله تعالى. ولو مات صغيرٌ مجهولُ النسب، فاستلحقه إنسان، لحقه النسب، فإن طريق الاستلحاق لا يختلف بالحياة والموت، ولا التفات إلى قول من يقول: إنه متهم، وغرضه إحرازُ ميراثه؛ فإن مثل هذه التّهمة قد تتحقق في حال الحياة، إذا كان الصغير ذا ثروة ويسار، وكان مستلحقه فقيراً. ولو كان الميت المجهول الحال بالغاً، فاستلحقه، ففي المسألة وجهان، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن النسب يلحق قياساً على الصغير الميت. والوجه الثاني - أنه لا يلحق نسبه، وهو الذي اختاره القاضي، ووجهه أنه يُنسب مستلحقه إلى أمرٍ ظاهرٍ يوجب رد قوله، وهو أن يقال له: "لَمْ تستلحقه حياً، مخافة أن ينكر، فيكونَ القولُ

_ (1) في الهامش: حاشية: الأصح أنه لا يقبل. (2) في هامش الأصل: حاشية: هذا الموضع يحتاج إلى تأمل في أنه هل يحتاج مع قوله إلى يمين. (3) في هامش الأصل: حاشية: والأصح أنه لا يقبل قوله بعد البلوغ، وتسمع دعواه على قولهم، بخلاف الصغير المستلحق .... وقلنا: لا يسمع قوله، لا يسمع منه الدعوى قَبل المقر. والفرق أن المقر المستلحق إذا امتنع من اليمين ... وادعى المستلحَق على ... لم تسمع منه. وإذا كان كذلك، لم ... للدعو ... (هذا ما أمكن قراءته من هذه الحاشية).

قولَه، وأخرت الاستلحاق إلى ما بعد الممات، حتى ينفذ من غير مراده". وهذا المعنى لا يتحقق في استلحاق الصغير الميّت. وهذا وإن كان [مُخيلاً] (1)، فمنتهاه التعلق بالتهمة. وحق هذه المسائل أن لا تُبنى تفاصيلها على التهم. ولو استلحق نسبَ مجنون، وقال: إنه ابني. فإن بلغ مجنوناً بعد الاستلحاق، كان كاستلحاق الصغير، وإن بلغ عاقلاً، ثم جُن، فقد تَردد الأئمة في استلحاقه. وهذا بعينه هو الاختلافُ الذي ذكرناه في استلحاق الميت البالغ؛ فإنه سبق له حالُ استقلال، كان يفرض فيه إنكارُه لو استلحِق، فطريان الجنون كطريان الموت. ويتعلق بالاستلحاق أصول وقواعد سيأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى. في موضعها. وإنما الذي ذكرناه التوطئةُ للتقسيم. 4464 - والغرض القسم الثاني. وهو إذا أقر الإنسان بنسبِ منسوب إلى غيره، وكان المقر وارثَ ذلك المنسوب إليه، وهو ميت، فلا يخلو المقِر إمّا أن يكون حائزاً لتركته، أو كان لا يحوزها كلَّها، فإن كان لا يحوز التركة: مثل أن يموت رجل ويخلف ابنين، فيقرَّ أحدُهما بابن ثالث للمتوفى، وأنكر الثاني وكذبه، أو خلف ثلاثةً من البنين في ظاهر الحال، فأقر اثنان وكذَّب الثالث. فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن النسب لا يثبت بإقرار من لا يحوز التركة، ثم كما لا يثبت النسب، لا يثبت الإرث، فليس لذلك المقَر له أن يطالب المقر بشيء من التركة، ويقولَ: قد أقررتَ لي بالنسب واستحقاق الإرث، فأشركني فيما تثبت يدُك عليه من التركة؛ فإنك مؤاخذ في حق نفسك بإقرارك. هذا مذهبُ الشافعي. وقال أبو حنيفة [في المسألة الثانية: إنه يثبت النسب ويرث لوجود الإقرار؛ إذ هو شرطٌ عنده، وذهب في المسألة الأولى، وهو أن يُقِرَّ أحدُ الاثنين وينكر الثاني إلى أنه] (2) يثبت للمقَر له قسط من الميراث، يُطالب به المقِر. وذهب المتقدّمون من

_ (1) في الأصل: مختلاً. (2) ما بين المعقفين لحقٌ في هامش الأصل، بخط مغاير، وهو غير مقروء تماماً. وقد أقمنا عبارته =

أصحاب أبي حنيفة إلى أن النسب لا يثبت، ويثبت استحقاق المال. وذهب المتأخرون إلى أن النسب يثبت في خبطٍ لهم، لست له الآن ذاكراً. وإنما أشرنا إلى مذهب أبي حنيفة لغرضٍ لنا سنجريه في أثناء الكلام، إن شاء الله عز وجلّ. ثم الذي اعتمده أثمة المذهب في الذب عن المذهب: أن الميراث لا يستحق فيما نحن فيه إلا بالنسب، والنسب غير ثابت؛ فإن المعترف به ليس مستلحِقاً في حق نفسه، وإنما يُلحِق النسبَ بغيره، وليس حالاًّ محله على معنى حيازة ما خلفه، فإذا لم يثبت النسب وهو أصل الميراث، لم يثبت الفرع الذي لا يتخيل ثبوته دون ثبوت الأصل. هذا معتمد قدماء المذهب. ثم نوجّه عليه أسئلةً من الخصم تتعلق بمسائل مذهبيةٍ. [و] (1) لم أذكر عمدة المذهب إلا [لأفض] (2) عليها الأسئلة، وأذكر المسائل مجموعة. 4465 - فإن قيل: ما ذكره هؤلاء ينقضه ما لو قال المالك: بعت منك هذا الشقص، فأنكر الشراء، فللشفيع الشفعة، وأصل الشفعة الشراء؛ والشفعة في حكم الفرع له، ففيم ثبت الفرع دون ثبوت أصله؟ قلنا: هذا مختلف فيه، سنستقصيه في كتاب الشفعة. فإن قيل: إذا قال الرجل: لفلان على فلان ألفُ درهم، وأنا به ضمين. فأنكر من قدّره أصيلاً أصلَ الدين، صدقه الشرع مع يمينه. فالمقر بالضّمان مطالَبٌ، وإن كان فرعاً لأصلٍ لم يثبت. وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن الضّمان لا يثبت بناء على ما ذكرناه من انتفاء الفرع عند انتفاء الأصل. والأصح الذي ذهب إليه الجمهورُ ثبوتُ المالِ على المعترف بالضّمان. وسنذكر بعد إيرادِ المسائل ما فيه أدنى تخيل في إفادة الفصل بين مسائل الإلزام، وبين مسألة النسب والميراث.

_ = على ضوء ما وجدناه في مصادر الأحناف. وانظر في هذه المسألة للحنفية: القُدوري: 1/ 233 مع الجوهرة، والبدائع: 7/ 229، 230، وتنوير الأبصار: 8/ 187. (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "لأقص" (بالمثناة والمهملة)، والمثبت تصرف منا على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، وأسلوبه.

4466 - ومما أُلزمناه على ما رأيناه عمدةَ المذهب تحريمُ المناكحة؛ فإن أحد الابْنين إذا اعترف بأن هذه بنت أبينا، وأنكر الثاني، فيحرم على المقِر مناكحةُ تلك المرأة. قال القاضي: إن كانت مجهولة النسب، ثبتت الحرمة، وإن كانت مشهورة النسب لغير هذا المتوفى الذي ينسبها المقِر إليه [ففي] (1) ثبوت الحرمة وجهان. وذكْر الخلاف في هذا عظيم، لا خلاص فيه مع تسليم الحرمة، في مجهولة النسب. وإذا اعترف الزوج بأنه خالع امرأته على مالٍ، فأنكرت المرأة، وانتفى المال بيمينها، ثبتت البينونة بإقرار الزوج، وإن كانت فرعاً لثبوت المال. وإذا خلف المتوفى مملوكاً في ظاهر الحال والظن، فاعترف أحد الابنين بكونه ابناً للمتوفى، ففي نفوذ العتق فيه بحُكم إقرار المقر وجهان، وسبب الخلاف سلطانُ العتق. وإذا ادّعت المرأة أنها زوجةُ فلانٍ، فقال الرَّجل: ما نكحتُها قط، ففي حرمة النكاح عليها وجهان، حتى يجوزَ لها في وجه أن تنكح بسبب إنكار الزوج أصلَ النكاحِ. وإذا قالت المرأة: أصابني زوجي قبل أن طلقني، وأنكر الزوج الإصابة، ففي وجوب العدة عليها وجهان. فهذه مسائلُ مذهبيةٌ أرَدْنا نقلَ قول الأصحاب فيها. فإن أردنا دفعها على التسليم عن مسألة النّسب والميراث، فلا ينقدح إلاّ وجهان: أحدهما- أَنَّ مقصود الإقرار النسبُ في مسألة الخلاف، والميراثُ متفرعٌ وهو مسكوت عنه. والأحكام التي أثبتناها في المسائل مقصودة في أنفسها، كالمال على الضَّامن، وحرمة النكاح. والدليل عليه أن المقَر له بالنسب لو أنكر، لم يستحق الميراث. ولو أنكرت التي أقر بنسبها أحد الورثة، فالتحريم قائم، [و] (2) هذا مسلك ضعيف لا استقلال فيه. والثاني - أنّ النسب، وإن قُدّر ثبوته، فلا يجبُ القضاء باقتضائه الميراثَ؛ فإنا نجدُ أنساباً لا يتعلق بها استحقاق الميراث، [كنسب الرقيق إذا لم تكن مقتضيةً موالاة] (3)، ونسب المخالفِ

_ (1) في الأصل: "في" بدون فاء الجواب. (2) مزيدة رعاية للسياق. (3) في الأصل: تقديم وتأخيرٌ هكذا: "إذا لم تكن مقتضيةً موالاة، كنسب الرقيق".

في الدين، فلا يمتنع أن يقال: الميراث إنما يثبت بنسب يثبت ظاهراً، ولا حكم لما يبطن منها. وكل هذا تكَلُّفٌ. ومن لم يعترف بإشكال هذه المسألة، فليس من التحقيق على نصيبٍ. وسنذكر بعد طرد ظاهر المذهب، وعَدّ ما يتعلق به من المسائل خلافاًً من بعض الأصحاب في أصل المسألة، إن شاء الله تعالى. 4467 - فنعود إلى استتمام المسائل بناء على ما هو مذهبُ الشافعي. فلو أقر أحد الابنين لامرأةٍ بأنها كانت زوجةً لأبيه، وأنكر الثاني، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنها لا ترث؛ لأن إرثها فرعٌ لثبوت أصل الزوجيّة في الحياة، وذلك لم يثبت بقول أحد الابنين. والوجه الثاني - أنها ترث؛ لأن الإرث لا يثبت إلا بعد زوال الزوجيّة، إذ النكاح ينتهي بالموت، ثم يثبت الإرث. وهذا كلام ركيك تَوافق نقلةُ المذهب على ذكره. 4468 - ومن المسائل أنه إذا أقر أحد الابنين بثالثٍ، وأنكر الثاني، ثم مات المنكر المكذِّبُ، وخلف ابناً، فأقر ابنه بنسب ذلك المقَر به، وساعد عمه في الإقرار، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن نسب ذلك الإنسان يثبت الآن؛ إذ قد اجتمع على الإقرار به من يستغرق الميراثَ. وقال القاضي: هذا يبتني على مسألةٍ، وهي أن من نفى نسباً، وفَرْضَ الثبوت (1) باللعان، ثم مات، فاستلحق ابنُه المستغرقُ لميراثه مع تقدير النفي [نسبَ] (2) ذلك المنفي، ففي لحوق النسب والحالة هذه وجهان: أحدهما - يلحق، ويكون استلحاق الوارث كاستلحاق الملاعن. والوجه الثاني - لا يثبت نسبُ ذلك المنفي، فإنّ في استلحاقه تكذيبَ الملاعن، وقد صدقه الشرع، إذ لاعن. فإذا ثبت هذا الخلاف، قال القاضي بعده: إذا اعترف أحد الابْنين، وكذّب الثّاني، ومات المكذّب على التكذيب، وخلف ابناً، فأقر كما أقر عمُّه، فهذا يجوز أن يخرّج

_ (1) تقرأ هكذا بصعوبة. (2) في الأصل: بسبب.

على الخلاف الذي ذكرناه في استلحاق المنفي باللعان، بعد موت الملاعن؛ فإنّ تكذيب أحدِ الاثنين محكومٌ به، كما أن نفي النسب محكوم به. وهذا الذي ذكره حسنٌ (1). وفيه احتمالٌ؛ من جهة أن من نفاه الأب باللعان، ففي إلحاقه بعد موته إلحاقُ عارٍ بنسبه. وهذا لا يتحقق في موت المكذب من الابنين. 4469 - ومن المسائل إذا أقرّ أحد الابنين، وكذّب الثاني، ثم مات المكذّب، ولم يخلف إلا أخاه المقِر، فهل يحكم الآن بثبوت نسب ذلك المقر به بما سبق من الإقرار؟ في المسألة وجهان: أحدهما - يثبت؛ لأن المكذب خرج من البين (2)، وصار المقر مستغرقاً. والثاني - لا يثبت؛ لأن تكذيب المكذب، ثبت، فلا يبطل أثره. ثم هذا القائل لا يفصل بين أن يجدد الابن الباقي إقراراً، وبين ألاّ يجدّد؛ فإن التعويل على أن التكذيب الثابت لا يقطعُ أثره بعد ثبوته. 4470 - ولو مات عن ابنين، فمات أحدهما، ثم أقر الآخر بابن لأبيه، قبل، وثبت النسبُ؛ لأنه لما أقر كان مُستغرقاً لميراثِ الأول والثاني، فهو خليفتهما، ولم يتقدم من الأخ الذي مات تكذيبٌ. ولو مات عن ابنين صغيرٍ وكبير، فأقر الكبير بنسبٍ، فقد أطلق بعض المحققين القول بأنا نحكم بثبوت النسب في الحال، ثم فرّع عليه. وقال: لو مات أحدُهما، ورثه الثاني، فلو بلغ ذلك الصبيُّ، ولم يكذب الكبيرَ، فذاك. وإن كذّبه، بان أنه لم يكن ثابتاً بإقراره. وهذا الكلام متناقضٌ؛ فإن ما يتعرض للوقف والتبيين، وللتبيين منتهىً منتظر، فلا معنى لإطلاق القول، [بنفوذ] (3) الحكم، بل الوجه أن نقول: إذا أقر الكبير، لا نحكم بثبوت النسب، بل ننتظر ما تقتضيه العاقبة. ونقول على ذلك: لو مات المقر، أو المقر له قبل بلوغ

_ (1) في هامش الأصل: "حاشية: الأصح في المسألتين ثبوت النسب؛ لأنه كمل شروط الإقرار، والله أعلم. وكذا في المسالة الثالثة، وهو كون المكذب لم يخلف غير المصدق". (2) البين. هذه اللفظة من ألفاظ الإمام التي ذكرها مرات في هذا الكتاب، ويفهم معناها من السياق. وإن لم نجد لها تخريجاً في المعاجم. (3) في الأصل: "ونفوذ". والمثبت تصرّفٌ من المحقق.

الصبي، فلا توريث، بل نقف إلى التبيين (1). ولا ننُفذ أمراً يقتضي النظرُ رفعَه، ولا يرد على هذا إلا تصرّف المريض في مرض موته؛ فإنه يتبرع بجميع ماله، والمتبرَّع عليه يتصرفُ فيه. ثم إذا مات المريض فقد نتتبّع [ .... ] (2) تصرفَه بحكم النقص. وفي هذا نظر غامضٌ سيأتي في الوصايا، ولكنّا مع تقدير التسليط نفرق بين تصرف المريض، وبين ما نحن فيه، فنقول: المرض وإن اشتد، فحكم الحياة غالبٌ في الحال، وليس الموت أمراً يُنتظر لا محالة، بخلاف بلوغ الصبي؛ فإنه مما ينتظر، ويناط بانتظاره أحكام. ولو أقرّ الكبير من الابنين، ومات الصغير قبل بلوغه، ولم يُخلّف وارثاً سوى الكبير، فيستقر حينئذ إقرارُ الكبير؛ من جهة أنا أَمِنّا مخالفةَ الذي مات، وصار الكبير مستغرقاً للميراثين، وليس كما لو أقر أحد الابنين وكذب الثاني، ثم مات المكذب [ولم يخلّف إلا المقر، فإنا على رأي لا نثبت نسباً ولا إرثاً؛ لأن التصديق مسبوق بتكذيبٍ، حُكم بموجبه] (3). 4471 - ولو مات الرجل، وخلف بنتاً فحسب، نظر: فإن كانت حائزةً للميراث، بأن ترث بالبنوة، النّصف، وبالولاء (4) الباقي، فإذا أقرت بنسبِ مولودٍ مجهولٍ، ثبت النسب بإقرارها (5). وإن كانت لا ترث إلا بالبنوة، فأقرت بنسب مجهولٍ، لم يثبت بإقرارها النّسب؛ فإنها ليست مستغرِقةً، فإن النصف لها والباقي للمسلمين. فلو أقرت وساعدها الإمام النائب عن المسلمين، فهل يثبت النسب بإقرارهما؟ اختلف

_ (1) كذا في الأصل، ولعلها: التبين. (2) قدر كلمة مطموسة. (3) ما بين المعقفين لحق من هامش الأصل، بخط مغاير. ويقرأ بصعوبة بالغة، فعسى أن نكون موفقين في ذلك. (4) ذكر الولاء، لأن الشافعية لا يقولون بالرد، مادام بيت المال منتظماً. (5) في هامش الأصل: "حاشية: والأصح أن المجهول النسب الثابت نسبه بإقرار البنت المستغرقة لا يرث؛ لأنه لو ورث، لحجب البنت عن الميراث بالولاء، وأخرجها عن الاستغراق [فتصير كبنت ومعتق أقرا بابن أبي المتوفى] والأصح أنه يثبت نسبه ولا يرث لما ذكرنا". (وانظر هذه المسألة: فتح العزيز: 11/ 205 بهامش المجموع).

أصحابنا، فذهب بعضهم إلى ثبوت النسب لمكان الإقرارين. وقال آخرون: لا يثبت، فإن حقيقة الوراثة لا تثبت للمسلمين (1). ونحن نرى استغراق الإرث بطريق خلافة الوراثة. وبنى الأصحاب هذا على أن الإمام لو أراد أن يقتصّ من قاتل من لم يخلّف وارثاً، فهل له ذلك؟ وفيه قولان. فإن أثبتنا الاقتصاص، لم يثبت ذلك إلا على حقيقة التوريث. وإن منعنا إجراء القصاص، احتمل أن نقول: ليست جهة الإسلام جهة توريث، ويتطرق إلى مسألة الإمام نظر، وهو أَنَّ قوله: ينبغي أن لا يُصوَّر حُكماً، فإن حكم الإمام نافذٌ لا مردّ له. ويتجه الغرضُ بأن (2) لا يجوز للإمام أن يقضي بعلمه. 4472 - ومما يتعلق بقاعدة المذهب أن الأئمّة قضَوْا بأن إقرار كافة الورثة بالنسب ينزل منزلة إقرار الموروث به. هذا معتمدهم، وظاهر المذهب أنّه لو كان في الورثة زوج، أو زوجة، فلا بدَّ من اعتبار إقراره، فإنه من الورثة، وخصص بعضُ أصحابنا الأمرَ بإقرار أصحاب القرابة؛ فإنهم المشاركون في النسب والمقَرُّ به نسبٌ. وهذا بعيد. ومال جماهير الأصحاب [إلى اعتبار إقرار المولى، فإن الولاء لحمة كلحمة النسب، وفيه شيء عن بعض الأصحاب] (3). فأبعدُ سببٍ معتبرٍ في الاستغراق جهة الإسلام بنيابة الإمام، ويليها الزوجيّة، ويلي الزوجية، الولاء.

_ (1) ر. فتح العزيز: 11/ 198 بهامش المجموع. (2) هنا سقط ألحقه مطالعٌ للنسخة بخط مخالف بالهامش، وتعذرت قراءته، وخلاصة المسألة ننقلها هنا عن الرافعي في فتح العزيز، بنصها، ليفهم السياق عوضاً عن هذا السقط غير المقروء: "ولو خلف بنتاً واحدة، فإن كانت حائزة بان كانت معتِقةً يثبتُ النسب بإقرارها. وإن لم تكن حائزة ووافقها الإمام، فوجهان، جاريان فيما إذا مات من لا وارث له، فألحق الإمام به مجهولاً، والخلاف مبني على أن الإمام له حكم الوارث أم لا؟ والذي أجاب به العراقيون أنه يثبت النسب بموافقة الإمام. ثم هذا الكلام (أي الخلاف) فيما إذا ذكر الإمام ذلك لا على وجه الحكم. أما إذا ذكر على وجه الحكم، فإن قلنا: إنه يقضي بعلم نفسه، ثبت النسب، وإلا فلا " فتح العزيز: 11/ 199 بهامش المجموع. (3) ما بين المعقفين لحق أضافه بعض قراء النسخة بهامشها، بخط مخالف، يقرأ بكل عسر.

ولو صرفنا طائفةً من مال كافر، إلى أهل الفيء، لم يعتبر إقرار الإمام عن أهل الفيء بنسب، بلا خلاف؛ فإن ذاك ليس وِراثةً قطعاً، والمرعيُّ خلافةُ الوراثة. [وأما من له قرابة من المتوفى] (1) ثم هو محجوبٌ بغيره من أهل النسب، فلا عبرة بإقراره، كالأخ مع الابن والأب، وكالعم مع الأخ، وكذلك المحجوب بالأوصاف، كالابن الكافر مع الابن المسلم، والمتوفى مسلم، أو بالعكس والمتوفى كافر. كما يقبل إقرار الابن على أبيه بالنسب إذا كان مستغرقاً يقبل على جدّه، ولكنه على شرط الاستغراق، كما إذا أقر بعم ولم يخلّف جدُّه إلا أباه، وأبوهُ إلا إياه، أو قد خلف ثانياً سوى المقر ولكنه مات قبل موت أبيه، أو بعد موته. وقد نجز تمهيد الكتاب. 4473 - ونحن نلحق فروعاً بالأصل، منها: أن من مات، وخلف ابناً، فأقر لمجهول بالنسب، فقال ذلك المقَر [له] (2) بالنسب: أنا ابن الميت، وهذا الذي أقر بنسبي ليس ابنَه. فقد ذكر أصحابنا في المسألة وجهين: أحدهما - أن نسب المقَرّ له ثابت، ونسب المقِر -كما كان- ثابت، والإرث قائم، ولا أثر لإنكار هذا المجهول المقَر به (3)، فإن هذه المسألة تُتصوّر إذا كان الابن المقر معروفَ النسب، فإذْ ذاك يُقر، ويبنى الأمر على إقراره، ويقضى بأنه على منصب الاستغراق لولا الإقرار، وإذا كان كذلك، فالنسب المشهور لا ينتفي بإنكار مجهول مقَر به. وأبعد بعض أصحابنا، فقال: إذا أنكر المقَر له نسبَ المقِر، احتاج إلى أن يقيم البينةَ على نسب نفسه؛ لأنه معترف بنسب هذا المجهول، والمجهول منكر لنسبه، معترفٌ بنسب نفسه. وهذا من ركيك الكلام؛ لما قدمناه من أن المقر نسبُه مشهور. وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً وهو أنه لا يثبت نسب هذا المجهول المقر به؛ فإن سبيل ثبوتِ نسبه إقرارُ الابن المشهور النّسب، لا طريق غيرُه. فإذا زعم أن المقر له

_ (1) ما بين المعقفين لحق من الهامش. (2) ساقطة من الأصل. (3) في هامش الأصل: "حاشية: هذا الوجه الأول الصحيحُ الذي عليه العمل".

ليس نسيباً، فقد أنكر صحة إقراره؛ فإن من لا يناسب، ولا يرث، لا حكم لإقراره. 4474 - ومما نفرعه أن من مات وخلف ابناً واحداً في ظاهر ما يظن، فأقر الابن المشهور النسب لمجهولَيْن بالبنوة، فكذب أحدُهما صاحبَه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يثبت نسبهما ولا عبرة بتكذيب أحدهما الآخر؛ لأن من كان على منصب حيازة التركة أقر بهما، فيثبت نسبهما، ولا أثر بعد الثبوت لتناكرهما. والوجه الثاني - لا يثبت نسب واحد منهما؛ لأن المشهور مقر بكونهما وارثَيْن، فإذا تناكرا، فلا يجتمع لواحد منهما إقرارُ جميع الورثة. فإن قيل: إذا أقر الابن الذي كنا لا نحسب غيره وارثاً بنسبِ مجهولٍ، فقد خرج المقِر عن كونه مستغرقاً، فإذا ثبت نسب الثاني، فهذا إذاً يناقضُ اعتبار كون المقر مستغرقاً. قلنا: المعنيُّ بكونه مستغرقاً أن يُقدرَ كذلك لو فرض عدم إقراره؛ فإن الإقرار يُغيِّر حكمَ الظّاهر الذي يستند إليه الإقرار؛ فإن صاحب اليد والتصرف إذا أقر بأن الدار التي في يده لفلان، قضينا لملك المقر له ظاهراً، وأقررنا يده على المقر به، وإن كان إقرار المقر تضمن إخراجه عن استحقاق اليد والتصرف. فأصل الإقرار المفيد أن يصدر عمّن له منصب الاستحقاقِ، ثم مقتضاه خروجه عن حقيقة الاستحقاق. ثم إذا أقر ابن بابن مجهول، فهما المستغرقان، وقد ثبت في حق المجهولِ إقرارُ المعروف، وتصديق المجهول، فيجتمع له قول من يستغرق الميراث. 4475 - وممّا فرعه الأصحاب أن قالوا: إذا مات رجل، وخلّف من يحكم بكونه وارثاً ظاهراً، فأقر بمن إذا ثبت كونه وارثاً، كان المقِر محجوباً به، مثل أن يخلف أخاً من أبٍ، ولم يعرف غيره، وإذا انفرد الأخ استغرق، فإذا أقرَّ بابنٍ مجهولٍ للمتوفى، فالابن يحجب الأخ. قال بعض الأصحاب: يثبت نسب ذلك الابن، ولكنّه لا يرث؛ فإنّ في توريثه إسقاطَ توريثه؛ إذ لو ورثناه، لحجب الأخَ المقر، وإذا صار محجوباً، خرج عن أن يكون وارثاً، ومن لا يرث، [لا] (1) يقبل إقراره، وإذا لم يقبل إقراره، لم يثبت

_ (1) في الأصل: لم.

النسب. وهذا من الدوائر الحُكمية، وسأجمعها على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى. 4476 - وأنا أذكر حظّ هذه المسألة من الأدوار: أما توريث المقر به، فلا سبيل إليه؛ لأنا لو قدرناه، كان مستندَ إقراره محجوبٌ. ومن أصحابنا من قال: يرث الابنُ، ويسقط الاخ. وهذا الوجه ذكره صاحب التقريب، واختاره، وذكره العراقيون، وسقوط الأخ -وإن كان قوله حجة- كسقوط حق صاحب اليد إذا أقر بما في يده. وأمّا نسبه، فالذي ذهب إليه الجمهور أن النسب يثبت؛ إذ لا منافاة بين ثبوته وبين تصحيح إقرار المقِر به، إذا كنَّا لا نُثبت التوريث، وكم من نسبٍ لا يناط التوريث به. فكأن هؤلاء يُثبتونَ موجَب الإقرار إلى أن ينتهي الأمر إلى انعكاس الحكم وانتفائه، من جهة ثبوته. وهذا متحقق في الإرث وحده. وذهب طائفة من المحققين إلى أن النسب لا يثبت، لأنَّ في إثباته إيجابَ التوريث، ثم تدور المسألة، فالوجه المصيرُ إلى أن إقرارَ من نقدره وارثاً بنسبِ حاجبهِ مردود أصلاً. وسنكثر الدوائر الحكميّه في النكاح، ونجري فيها أمثالَ ما ذكرناه الآن، ونقسمها إلى لفظياتٍ تتلقى من صيغ الألفاظ. وقد انتهى أصل مذهب الشافعيّ في الباب، وبيّنا تفرُّعَه، وصدور المسائل عنه. 4477 - والآن كما (1) انتهينا إلى معضلات الباب وإشكاله، قد ذكرنا في صدر الباب لما حكينا تعليلَ المذهب مما نفرض من إشكالٍ، فإن أحد الابنين إذا أقر بثالث، وأنكر الثاني، فالمقر معترفٌ بأن هذا الثالث يستحق مما في يده شيئاًً، فترْكُ مؤاخذته بموجَب إقراره في خاصيّته بعيدٌ عن الأصول. وقد ذكر صاحب التقريب مسلكين للأصحاب: أحدهما - أنه لا يثبت للثالث المقَر به مطالبة المقر بشيء ممَّا في يده ظاهراً، ولكن إن لم يكن المقِر على بصيرة في إقراره

_ (1) بمعنى: عندما.

فلا نُلزمه شيئاًً باطناً لذلك الثالث، كما لا يلزمه ظاهراً. وإن كان على بصيرةٍ في إقراره، وقد يستندُ إقرارُه على مشاهدة لا يُمكنُ التماري فيها، وذلك إذا ماتت امرأةٌ وخلّفت ابنين، وكان شاهَدَ أحدُهما ولداً ثالثاً انفصل منها. قال: إذا كان كذلك، فهل يلزمه أن يدفع ممَّا في يده شيئاًً إلى المقَر له؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه؛ إذ لو لزمه باطناً، للزمه ظاهراً؛ فإنه بإقراره أظهر ما قدرنا ثبوته باطناً، وهو من أهل الإقرار والإظهار. والثاني - يلزمه في الباطن؛ لأن الطّلبة في الظاهِر تتعلق بثبوت النسب ولم يثبت ظاهراً، ولكنه ثابتٌ في علم الله تعالى، فإذا لم يجر ما يقتضي في الظاهر ثبوت النسب، فلا طلب ظاهراً. وإذا تحققه المرءُ باطناً، لزمه أن يشركه باطناً، لعلة الباطن، لا لقوله الظاهر. هذه طريقة. والطريقة الثانية - أنه حكى خلافاًً ظاهراً في أنه هل يجب على المقر تشريك المقَر له ظاهراً؟ فعلى وجهين: أحدهما- وهو الذي يوافقُ النصَّ، أنه لا يجب. والثاني - يجب، وهو مذهبُ أبي حنيفة (1)؛ يؤاخذ به ظاهراً وحكم الباطن منوطٌ بالتحقيق والثبوت في علم الله تعالى. وهذا قد يُعزَى إلى ابن سُريج، وهو مخالفٌ للنصّ. فإن قلنا: لا يشارك المقَرّ له المقِر أصلاً، وهو ظاهر المذهب، فلا كلام. وإن قلنا: يشارك المقَر له المقِر، ففي مداره وجهان: ذكرناهما. والوجهان يوافقان مذهبين لإمامين: أحدُهما- ابنُ أبي ليلى والثاني أبو حنيفة. ونحن نذكر مذهب كل واحدٍ منهما في المقدار الذي يستحقُّه الثالث المقَر به مما في يد المقر، وإذا بان المذهبان، فهما الوجهان المنسوبان إلى أصحابنا. 4478 - أما مذهبُ ابن أبي ليلى، فليقع الفرض في ابنين أقر أحدهما بابنٍ ثالثٍ، وأنكر الثاني، فيقول ابن أبي ليلى: يغرَم المقر للمقر له ما كان يغرمه، لو (2) أقر صاحبه بهِ. وبيان ذلك: أن الابنين لو أقرا بثالثٍ، وتصادقا، لكان ذلك الثالث مستحقَّ ثلثِ التركة، فتصور ابنين يقتسمان التركة ثم يبدو ابنٌ ثالثٌ، ويثبت نسبه ببينةٍ،

_ (1) ر. البدائع: 7/ 230. (2) في الأصل: ولو.

أو بإقرارهما، فإنه يستردّ من كل واحدٍ منهما ثلث ما في يده، فيبقى لكل واحد ثلثُ التركة، ويحصل لهذا الثالث ثلثُ التركة. وحرّر الفقهاء مذهبَ ابن أبي ليلى فذكروا فريضةً في الإنكار منهما، وفريضة في الإقرار منهما، فنقول: لو أنكر الاثنان نسب الثالث فالميراث بينهما نصفان، من سهمين. ولو أقرا بثالثٍ، فالميراث بينهم من ثلاثةِ أسهمٍ. فنضرب فريضة الإقرار في فريضة الإنكارِ، فيرد علينا ستةً، ونقول بعده: لو أنكرا والقسمة من الستة، فلكل واحدٍ منهما ثلاثةٌ، ولو أقرا والقسمة من هذا المبلغ فلكل واحدٍ سهمان. فإذا أقر أحدهما، وأنكر الثاني، فالمنكر يأخذ من فريضة الإنكار، ويفوز بها، والمقر يأخذ من الثلاثة من حسابِ فريضة إقرارهما بالثالث، وهو سهمان، ويُسلم سهماً إلى المقَر له، فيخلصُ له ما بين فريضة الإقرار والإنكار من حصّة المقر، وهذا بيّنٌ. وأما أبو حنيفة، فإنه يقولُ: يقدر كأَنَّ [المنكِر] (1) وحصتَه مفقودان، ويقسم ما في يد المقِر والمقر له بينهما نصفين؛ فإن المقر له يقول إن ظلمني المنكِر، فأنت معترف، وأنا في كل درهم بمثابتك، فينبغي أن تستوفي ما في يدك. هذا بيان المذهبين. والوجهان المنسوبان إلى الأصحاب، هما المذهبان اللذان ذكرناهما. وارتضى المحققون مذهب ابنِ أبي ليلى؛ من جهة [أن] (2) تنصيفَ ما في يد المقر قسمةٌ تخالف الإنكار والإقرار جميعاً، والمقر لهُ معترف باستحقاق المنكر من الاثنين. 4479 - ثم قال صاحب التقريب: إذا اخترنا مذهبَ ابن أبي ليلى، فلابدَّ من تفصيلٍ به يتهذب الغرض، فنقول: مذهب ابن أبي ليلى أن المقر لا يغرَم للمقَر له إلا الزيادة التي حصلت في يده على زعمه بسبب الإنكار، ولا يغرَم له ما استبدَّ به صاحبهُ. قال: وهذا مفروضٌ في صورةٍ مخصوصةٍ، وهي أن يقاسم المقر أعيان التركة قهراً،

_ (1) في الأصل: المقرّ. وانظر حاشية ابن عابدين:4/ 466، والبدائع: 7/ 229، 230. وفتح العزيز: 11/ 203. بهامش المجموع. (2) في الأصل: أنه.

والمنكر (1) ممتنع عن القسمة، فإذا كان كذلك، فالجوابُ ما ذكرناه عن ابن أبي ليلى. فأما إذا جرت القسمة بين المقر والمنكر طوعاً، فقد كانت يدهما ثابتة على الجميع ثبوتاً سائغاً، فلما اقتسما، فقد رفع المقر يده عن نصفِ حصّةِ الثالث، وسلمه، وترك المنكر على المقر مثلَ ذلك، وإذا انتسب المقر إلى تسليم نصف حصّة [الثالث] (2) إلى المنكر، كان معتدياً فيه، فيلزمه أن يغرَم ما حصل في يد صاحبه، كما يغرم ما حصل في يده من الزيادة. وهذا يظهر إذا جرت القسمةُ طوعاً، والمقر عَالمٌ بأن معهما ثالثاً مستحقاً، فيخرج من ذلك أنهما إذا كانا ابنين، فاقتسما التركة طوعاً نصفين، مع علم المقر، فيغرَم للمقَر له من حصّة نفسه. وحصةُ المقَرّ له الئلث، فيغرم له الثلثَ من نصفه، لتفريطه. هذا إذا طاوع في القسمة، وكان عالماً باستحقاق الثالث. فأما إذا قاسم أخاه طائعاً، ولكن لم يكن عالماً بعدُ بنسب الثالث، ثم بعد القسمة أحاط علمُه بذلك، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان في هذه الصورة: أحدهما - أنه يغرَم للمقر له ما كان يغرمه لو كان مجبراً على القسمة، لأنه لم يكن مقصراً عند إقدامه على القسمة، وكان حكم الله في ظاهر الحال ما أجراه. فكان كما لو جرت القسمة قهراً. والوجه الثاني - أنه يلزمه في هذه الحالة ما كان يلزمه لو أقدم على القسمة مع العلم؛ فإنا لا نفصل بين العلم والجهل فيما يليق (3) بالغُرْم أصلاً. وإنما نفصل بينهما فيما يرجع إلى المأثم. هذا منتهى نقل صاحب التقريب وتصرفه.

_ (1) في هامش الأصل: والمقر. (2) ساقطة من الأصل. (3) كذا: ولعلها: يتعلق.

فصل قال: "ولو قال في المرأة تقدم من أرض العدو، ومعها ولد ... إلى آخره" (1). 4480 - مضمون هذا الفصل ليس يتعلق بهذا الكتاب، فإنه تعرّضٌ للقول في لحوق الأنساب، وما يعتبر فيها من الاحتمال. وهذا يُذكر طرفٌ صالحٌ منه في اللعان، ثم يُستوعب في باب الدعوى والقائف، ولكنّا نذكر حاصل الفصل، للجريان على ترتيب السواد (2)، فنقول: النسب لا يلحق عندنا إلا مع ظهور الإمكان، ولا يشترط ظهور الإمكان، بل يكفي تصوُّره على بعدٍ، فإذا لم يكن إمكان، لم يلحق أصلاً، فإذا قدمت امرأةٌ من أرض الرُّوم مثلاً، ومعها ولدٌ لها، فادعى واحدٌ (3) من ديارنا أنه ولده، وكان بحيث يولد مثله لمثله، فإن كان غاب المدّعي عن بلده مدة تحتمل وصوله إليها قبلُ، لحقه النسب، وإن لم يخرج هو قط، فكان بمرأى منا مذ نشأ، وكنّا لا نبعد دخول تلك المرأة هذه الديار، على اجتهادٍ أو ظهور، فالاحتمال قائمٌ. وإن تحققنا أنها لم تدخل هذه الديار قط، والرجل لم يخرج عن هذه الديار، ولا احتمالَ، فالدعوى (4) باطلة. ولأبي حنيفة في هذا [خبطٌ] (5) لا حاجة إليه. ثم أجرى كلاماً يتعلق بمناظرة أبي حنيفة، ولا حاجة بنا إلى ذكرها، فإنا إنما نذكرُ ما يتعلق بتمهيدِ المذهبِ، أو ما ينشأ منه مسائل مذهبيَّة. والقدر الذي ذكرناه من رعاية الإمكان بالاستقلال فيه، فإن هذا أحد ما يعتبر. وأصولُ اللحوق بالقرائن، والدعوى، تستقصى في الكتابين: كتاب اللعان، وكتاب الدعاوى.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 28. ونصُّ عبارته وتمامها: "وقال في المرأة تقدم من أرض الروم، ومعها ولد، فيدّعيه رجلٌ بأرض الإسلام: إنه ابنه، ولم يكن يعرف أنه خرج إلى أرض الروم: فإنه يلحق به". (2) السواد: المراد به مختصر المزني. (3) في الأصل: كل واحد. (4) في الأصل: والدعوى. (5) في الأصل: حط.

فصل قال: "وإذا كانت أمتان لا زوج لواحدٍ منهما ... إلى آخره" (1). 4481 - صورة المسألة: أن يملك الرجل أمتين لا زوج لواحدةٍ منهما، ولكل واحدةٍ ولدٌ، فقال المالكُ: أحد هذين ولدي، ثبت النسبُ لأحدهما، لا بعينه ويطالَب بالتعيين، فإذا عيّن أحدَهما، نحكم بعتقه؛ فإن الابن يعتق على الأب. وأما أمّيّة الولد، فنقول: إن كان قال: قد استولدتُها في ملكي، وصرَّح تصريحاً لا يُبقي للتأويل مساغاً، فهي أم ولدٍ؛ فإنه خلق حراً. وإن قال: هذا ابني، ولكن استولدتُ الجارية في النكاح، وكنت نكحتُها، ثم اشتريتُها، فهي قِنٌ، والولد خلق رقيقاً، وقد عَتَقَ الابن على أبيه، فعليه الولاء. وإن قال: استولدتُها بشُبهةٍ، ثم ملكتها ففي [كونها] (2) أم ولد قولان، معروفان، ولا ولاء على الولد؛ فإن الولد الحاصل من وطء الشبهة حُرّ الأصل. ولو لم يتعرض لهذه التفاصيل، واقتصر على قوله: هذا ولدي من هذه، وأشار إلى مملوكته، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن [الإقرار] (3) المطلَق محمول على الاستيلاد في الملك، ويُثبت أميّة الولد، والولد حر الأصل. والوجه الثاني - أن أمّيّة الولد لا تثبت بالإطلاق، ولا يثبت إلا النسبُ، وحريةُ الولد [بالمطلق] (4). وهذا قدمناه في أوائل الإقرار واستقصيناها فيه. فإذا عيّن السيد أحد الولدين، وقلنا: تثبت أمّيَّة الولد للجارية، والحرية الأصليّة للولد، فلو جاءت الثانيةُ، وقالت: إنَّ ولدي ابنكَ، عَلِق في الملك منكَ، وأنا أم ولدك، [فلو] (5) كان بلغ الابنُ، فجاء وادعى أنه الابنُ، فلا شكّ أن القول قول السيد

_ (1) ر. المختصر: 3/ 28. (2) زيادة من المحقق. (3) سقطت من الأصل. (4) في الأصل: "بالملك". (5) في الأصل: لو.

في الخصومتين. ولا يخفى حكم حلفه. فلو نكل، حلفت إن كانت هي المدَّعية، وحلف الولد إن كان هو المدّعي، فيثبت نسبُ الولد الأوّل [أو] (1) عتقه بالإقرار، ونسبُ الثاني وعتقُه بيمين الرد بعد النكول. فإن مات قبل التعيين، فيقوم الوارث مقامه في التعيين، وتعيينه مقبول على التفصيل الذي ذكرناه في تعيين الموروث، وحكم الجارية والولد كما سبق. فإن مات الموروث، وقال الوارث: لا أعلم، فقد تعذَّر طريق التعيين من الموروث والوارث، فإن أمكننا أن نُرِي الولدين القائفَ إن كان رأى الموروث، فعلنا، ثم نتّبع إلحاقَ (2) القائف على السداد، فإذا ألحق أحدَهما، فهو السَّببُ ويثبت العتق لا محالة في الولد. ثم قال الأصحاب: لا نفصل معنىً في (3) كيفية الإعلاق. والأمر مشكلٌ، فنجعل [إلحاق] (4) نسب المولود في هذه الصورة بمثابة ما لو أطلق السيّد، وقال: هذا ولدي من هذه، ولم يتعرض لتفصيل وقت العلوق. فهذا أوْلى حالة يعتبر إلحاق القائف بها؛ من جهة أن إلحاق القائف كاستلحاق السيّد. فإذا جرى اللحوق منها (5)، فالأمرُ على ما فصّلناه. فإن لم نجد قائفاً، قال الأصحاب: نقرع بين الولدين، فإذا خرجت القرعة لأحدهما، لم نثبت النسب بالقرعة؛ فإن القرعة خارجةٌ عن القياس، فلا نثبتها في غير محل النصّ، وإنما وردت القرعة المؤثرة في العتق (6). 4482 - وممَّا يتم به البيان أنه [إذا] (7) عرفنا أنه مات عن ابن حُر، والتبس علينا

_ (1) في الأصل: في. (2) في الأصل: اللحاق. (3) كذا ولعل الأولى: لا نفصل معنى كيفية الإعلاق. (4) في الأصل: اللحاق. (5) يمكن أن تقرأ: بينها. والمراد جرى اللحوق بجهة القيافة. (6) أي من خرجت له القرعة عَتق، وكفى، ولا نُثبت له النسب. (7) زيادة لاستقامة العبارة.

عينُه، فهل نقف بينهما ميراث ابنٍ؟ اختلف أصحابنا في المسالة، فذهب الأكثرون إلى أنا نقِف ميراثَ ابنٍ، لقطعنا بأن أحدهما مستلحقٌ، وقد أشكل عينُه، فكان ذلك كما لو طلّق الرجُل إحدى امرأتيه ولم يبيّن، ولم يعيّن، حتى مات؛ فإنا نقفُ لهما ميراث زوجةٍ؛ من جهة أنا عرفنا أن إحداهما زوجة، والجهل بالعين لا يمنع أصل الاستحقاق. والوجه الثاني - أنا لا نقف لهما من الميراث شيئاًً، لاستبهام النسب، [واليأس من الوصول] (1) إلى البيان، والميراث لا يناطُ إلا بسببٍ ظاهرٍ، ولهذا قلنا في ظاهر المذهب: إذا اعترف أحد الابنين بابنٍ ثالثٍ، لم يلزمه أن يدفع إليه شيئاً من حصته إذا كان صاحبه منكراً. وهذا تلبيسٌ؛ فإن أصل الاستلحاق قد ثبت في مسألة الابنين، وإذا أقر أحد الابنين بثالثٍ، وأنكر الثاني، لم يثبت أصل النسب؛ فإن إقرار أحد الابنين إقرار منه على الميّت، فلم نر قبوله إلا من أهل الاستغراق. 4483 - والذي يجب ذكره تجديد العهد بجامع القَول في الفصل في معرض الضبط والترجمة، فنقول: إذا قال السيّد: أحد هذين الولدين منّي، فالقولُ في أميّة الولد، والولاء على أحد الولدين، وربطُ هذين الحكمين بذكر السيّد تفصيلَ الإيلاد وإطلاقَه اللفظ لا شك فيه. والغرض الآن إيضاح التعيين بعد الإبهام، فالبداية في طلبِ التعيين بالسيّد، فإن مات قبل التعيين، فالرجوع إلى ورثته، فإن ماتوا، ولم يُعلموا، فإنا [بعد] (2) انسداد البيان من الجهتين نتعلق بالقائف. وإنما تقعُ البدايةُ بالقائفِ، إذا لم يكن في المسألة من يُعتمدُ قوله في التعيين حُكماً، فإن فرض نزاع، فصلت الخصومة بطريقها. ومن محال القائف أن يتنازع رجلان في مولود، فادعى كل واحدٍ منهما [أنه ابنه] (3) فليس أحدهما أولى بالدعوى من الثاني، فنُري الولد القائف، وفي مسألتنا ما لم نعجز

_ (1) في الأصل: والقياس من الأصول. (2) في الأصل: نعُدّ. (3) زيادة اقتضاها السياق.

عن مراجعة السيّد وورثته، لا نتعلق بقول القائف. فإن لم نجد القائف، أو غلط، وعسر التعلق بقوله، فالرجوع إلى القرعة. وفائدتها الحكمُ بالعتق لا بالنسب، كما تقدم، ثم إذا تعيَّن أحدُ الولدين المعتق، فهل تحصل أميّة الولد بخروج القرعة على الولد؟ المذهب الصحيح أنه لا تحصل؛ فإن أميّة الولد تبع النسب، وقد ذكرنا إن النسب لا يثبت بالقرعة. فإذا لم يثبت، لم يثبت الاستيلادُ. ومن أصحابنا من حكم للأم التي تخرج القرعة على ولدها بأمية الولد، وتعلق بأن معنى الحكم بالاستيلاد تحصيلُ الحرمة للأم، وذلك حكمٌ بالعتاقة، ولا يمتنع حصول العتاقة تعييناً بالقرعة. والمسألة مفروضة فيه إذا جرى الإقرار المبهم من السيد، بحيث يقتضي الاستيلاد، ثم من لم يحصّل الاستيلاد لأم الذي تعيّن للحريّة؛ فإنه يقول: بين الجاريتين كما بين الولدين عتقٌ. [ولكن لا قائل] (1) بتفرد الجاريتين بالقرعة. وإن كان يعسرُ إتباع أمرهما الولدين، فإنا لسنا ننكر حصول الحرية على التعيين بطريق القرعة. 4484 - ومما يتم به الفصل أن الإقرار إذا جرى على وجهٍ يقتضي ثبوتَ النسب للولد، ولا يقتضي أميّة الولد، ثم يثبت النسب، ويعيّن لأحدهما، فتثبت الحريّة له، إما مع ولاءٍ أو من غير ولاءٍ، ويستحق الإرثَ إذا جرى التعيين من المُبهِم، أو من الورثة. ثم إذا حكمنا بانتفاء الاستيلاد، فالذي يرث يملك بالإرث قسطاً من [أمه] (2)، فيعتق

_ (1) ما بين المعقفين زيادة لمحاولة إقامة العبارة، التي لا تزال قلقة، وإن كانت المسألة مفهومة على الجملة، ونزيدها وضوحاً بذكر خلاصتها في الشرح الكبير للرافعي، جاء فيه: " ... فإن عجزنا عن الاستفادة من القائف، أقرعنا بينهما لنعرف الحرَّ منهما، ولا يُحكم لمن خرجت قرعته بالنسب والميراث، لأن القرعة على خلاف القياس؛ وإنما ورد الخبر بها في العتق، فلا تعمل في النسب والميراث، وهل تحصل أمِّة الولد في أم ذلك الذي خرج بالقرعة؟ حكى إمام الحرمين فيه وجهين. وقال: المذهب أنها لا تحصل؛ لأنها تتبع النسب؛ فإذا لم نجعله ولداً [أي لم نثبت نسبه]، لم نجعلها أم ولد، والذي أورده الاكثرون أنها تحصل؛ لأن المقصود العتق، والقرعة عاملة فيه، فكما تفيد حريته، تفيد حرّيتها. ولا يقرع بينهما مرة أخرى؛ إذ لا يؤمن خروج القرعة على غير التي خرج لولدها" ا. هـ ملخصاً: الشرح الكبير (فتح العزيز: 1/ 193 بهامش المجموع). وهذا الذي ذكره الرافعي هو خلاصة كلام إمام الحرمين الذي أمامنا. (2) في الأصل: "من أَمةٍ" بهذا الرسم والنقط والضبط.

عليه ذلك القدر، بحكم الملك، ثم لا يسري العتق؛ فإن الملك الحاصل بالإرث قهري، وإذا ترتب العتق على ذلك [فهو] (1) قهري لا تسبب فيه، فلا سريان بذلك العتق، كما سيأتي مقرراً في كتاب العتق، إن شاء الله تعالى. فصل قال المُزني: سمعته يقول: "لو قال عند وفاته لثلاثة أولادٍ: أحد هؤلاء ولدي ... إلى آخره" (2). 4485 - صورة هذه المسألة: أن الرجل إذا كانت له أمةٌ، ولها ثلاثة أولادٍ، وأنسابهم مجهولة، وليست ذاتَ زوج، ولم يثبت أن المولى يستفرشها، والأولاد على الملك لرق [الأمّ] (3) فلو قال السيّد: أحد هؤلاء الأولاد ولدي، فيطالب بالتعيين. ولنفرض المسألةَ فيه إذا ذكر هذا الاستلحاق على صفة تقتضي أميّة الولد؛ فإن مقصود المسألة وراء ذلك، فنقول: الجارية أم ولد، والنظر بعد ذلك في تعيين الولد المستلحق، فنرجع إلى السيد ونطالبه بتعيين المستلحق، فإن عيّن الأصغر حكم بعتقه، والأكبر والأوسط رقيقان. وإن عيّن الأوسط، ثبت نسبه [و] (4) وقع الحُكم بعتقه، وثبت أن الجارية صارت فراشاً به، وجرى فيها الاستيلاد؛ فالولد الأصغر ولد مستولدة؛ فإن لم يدّع الاستبراء، عَتَق الأصغر أيضاً، وثبت نسبه. وإن ادعى الاستبراء، ففي انتفاء نسب الأصغر تفصيلٌ يأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى - في آخر كتاب الاستبراء، عند ذكرنا أن الإقرار بوطء الجارية يتضمَّن استلحاقَ الولد الذي تأتي به على الجملة إذا لم [يجدد] (5) دعوى الاستبراء بعد الإقرار بالوطء.

_ (1) مزيدة لاستقامة العبارة. (2) ر. المختصر: 3/ 29. (3) في الأصل: الأمر. (4) مزيدة لإقامة العبارة. (5) في الأصل: يجرد.

والمسألةُ مختلفٌ فيها في المستولدة إذا ادّعى السيّد استبراءها، ثم أتت بولد لو [كان] (1) يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء. وليس من الممكن الوفاء بشرح هذا. فإن لم يثبت نسب الولد الصغير لدعوى الاستبراء بعد الأوسط، فهل يعتق هذا الولد الأصغر إذا عَتَقت الأم بموت المولى؛ من جهة أنه وإن كان عن سفاح، فهو ولد مستولدة. والأولاد الذين تأتي بهم المستولدة عن سفاح أو نكاح يثبت لهم من عُلقة الحرية، ما ثبت للأم، ويعتقون بما تعتق به الأم؟ فنقول: 4486 - نقدم صورة مقصودة في نفسها يترتب عليها غرضنا فيما ذكرناه. فإذا رهن الرجل جاريته، وأولدها بعد ذلك، وقلنا: لا يثبت الاستيلاد، فبيعت في الرهن، وأتت بأولادٍ بعد زوال الملك، عن نكاحٍ أو سفاحٍ، فلو ملك الراهن تيك الجارية، فللأصحاب في حصول أميّة الولد لها عند ثبوت الملك عليها طريقان: منهم من خرَّج ذلك على ما إذا وطىء جارية الغيرِ بشبهةٍ وعلقت بولدٍ حرٍ، ثم اشتراها، ففي حصول الاستيلاد في الملك الطارىء قولان، فكذلك إذا ردَدنا الاستيلاد في المرهونة، وبيعت، وعادت ملكاًً للراهن، فالمسألة على قولين. ومن أصحابنا من قطع بأنها مستولدة، بخلاف ما إذا وطىء الرجل جاريةَ الغير بشبةٍ وأولدها ثم ملكها. والفرق أن وطء الراهن صادف مملوكتَه، ولكن امتنع نفوذُ الاستيلاد، لحق المرتهن، وانبنى عليه (2) في حقه، فمهما (3) عادت، ثبت الاستيلاد في ملك الراهن (4). فإذا وقع التفريع على هذا -وهو الأصح- فلو ملكها الراهن، وملك أولادها الذين أتت بهم لمَّا زال الملك عنها، فهل يثبت للأولاد عُلقة الاستيلاد؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإنّها أتت بهم وهي مملوكة مطلقة، وإنما يثبت للأولاد حريّة الاستيلاد إذا وجد في الحال أميّة الولد للأُمّ. والثاني - يثبت لهم حريّة الاستيلاد، إذا

_ (1) في الأصل: بان. (2) أي على امتناع نفوذ الاستيلاد. (3) مهما: بمعنى (إذا) وهذا الاستعمال وارد بكثرة في لسان إمام الحرمين وتلميذه الغزالي. (4) انظر هذه المسألة عند الرافعي أيضاً: الشرح الكبير: 11/ 194، 195. بهامش المجموع.

ملكهم كما (1) ملك الأمّ؛ فإنهم يتبعونها؛ فإذا ثبت لها الاستيلاد عند الملك الطارىء، وكانت مملوكةً قبلُ، لم يمتنع حصول الحرية لأولادها. ولا شكَّ أن السيّد لو ملك أولادها، ولم يملكها، لم تثبت الحرية لهم؛ فإنهم يتبعون الأُم؛ فإذا كانت هي مملوكة مطْلَقة تحت أيدي المتصرّفين فيها، فيستحيل أن يثبت لأولادها الحريةُ، بطريق التبعيَّة، وهي مملوكة. 4487 - فإذا ثبتت هذه المقدمة عُدنا إلى غرضنا من الكلام في الولد الصَّغير، وقد ثبتت أميّة الولد بالولد الأوسط، فمن الممكن أن يفرض كونها مرهونة، على الترتيب الذي نظمناه، ثم نصوّر إتيانها بالولد الصغير بعدما بيعت، فإن كنّا نرى أنه لو ملك الراهن الأمَّ، وهذا الولد الصغيرَ، تثبت الحرية للولد، فيلزم عند الحكم بأميّة الولد بالولد الأوسط الحكمُ بثبوت الحريّة للولد الأصغر. وإن كنا نقول: لا تثبت الحرية للولد الذي أتت به ومِلْكُ الراهن زائلٌ عنها، فإن صرَّح السيد المقر بهذا التفصيل، فالولد الأصغر رقيق. وإن لم يتعرض لهذا التفصيل، ولكن أطلق استلحاقَ الولد الأوسط على وجهٍ يقتضي أميّة الولد للجارية، فما حكم إطلاق هذا الإقرار؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الحرية [تثبت للأصغر] (2)؛ حملاً على ما يظهر جريانه من ثبوت الاستيلادِ تَنَجُّزاً بالولد الأوسط. وهذا القائل لا يحمل على الصورة النادرة المذكورة في المرهونة. والوجه الثاني - أنا لا نحكم بالعتق والحريّة في الولد الأصغر عند إطلاق الإقرار؛ فإنا نجد من طريق الإمكان جريانَ تلك الصورة المذكورة في الرهن، وإذا أمكن وجهٌ، فلا طريق إلا مراجعة السيد المقر. هذا حاصل الكلام فيه. إذا عين الأوسط على وجهٍ تثبتُ أميّة الولد به. فأمّا إذا عيَّن الولد الأكبر، فهو حر والجارية أم ولدٍ، وفي الولد الأوسط والأصغر

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) في الأصل: بقيت الأصغر.

من الكلام ما ذكرناه في الولد الأصغر في الصورة المتقدمة. 4488 - ومما أجراه الشافعي في المسألة إذا استلحق على الإبهام ولداً، وحكمنا بأميّة الولد، ثم مات قبل البيان، وعسر الرّجوع إلى الورثة أيضاً، قال: نقرع بين الأولاد كما قدمناه، فقال المزني: [الصغير] (1) منهم يجب أن يعتق بكل حساب؛ فإن الاستيلاد إن (2) كان به، فهو حر، وإن كان الاستيلاد بالأوسط أيضاً [عتق] (3) الأصغر؛ لأنه ولد أم ولد، وكذلك إن كان الاستيلاد بالأكبر. ثم قال: الأصغر يعتق بثلاث تقديرات ولا رابع لها في الإمكان: يعتق إذا فُرض الاستيلاد به، والمعنيّ بالعتق الحرية. هذه حالة. والثانية - أن يقع الاستيلاد بالأوسط. والثالثة - أن يقع الاستيلاد بالأكبر. وللأوسط (4) حالتا حرية، وحالةُ رقٍّ: إحدى الحالتين أن يحصل الاستيلاد به، والأخرى أن يحصل الاستيلاد بالأكبر. وحالة الرق أن يحصل الاستيلاد بالأصغر. والأكبر له حالة حرية، وحالتا رق: فحالة الحريّة أن يحصل الاستيلاد به، وحالتا الرق إحداهما - أن يقع الاستيلاد بالأوسط (5)، والأخرى أن يقع الاستيلاد بالأصغر. وسياق كلامه أن الإقراع لا معنى له بين الأولاد الثلاثة. والصغير [حرٌّ] (6) من كل وجهٍ. وهذا الذي ذكره يجيب عنه ما قدمناه من التقديرات والاحتمال. 4489 - ثم قال قائلون: وإن وافقنا المزني في أن الأصغر يعتق، فلا بأس بإدخاله في القرعة مع الأكبر والأوسط، وليس أثر إدخاله أن يقدّر رقه، ولكن فائدة إدخاله أن قرعة العتق لو خرجت عليه [رَقَّ] (7) الأوسط والأكبر. ولهذا نظائر من أحكام القرعة ستأتي مستقصاةٌ في كتاب العتق، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: الصغيرة. (2) في الأصل: وإن. (3) مزيدة رعاية للسياق. (4) في الأصل: والأوسط. (5) في الأصل: الأوسط. (6) في الأصل: جزء. (7) في الأصل: في.

فإذن نقول: يقرع بينهم على طريقة الأصحاب في موافقة المزني في عتق الأصغر، فإن خرجت القرعة على الأصغر، رَقَّ الأوسط والأكبر، وإن خرجت قرعة الحرية على الأكبر، عَتَق الأولاد الثلاثة، وإن خرجت قرعة الحريّة للأوسط، عَتَق، وعَتق الأصغر، ورَق الأكبر. وإن خرجت القرعة للأصغر، حكم بحريته ورَق الأكبر والأوسط. ومن أصحابنا من قال: يخرج الأصغر من القرعة، ويقرع بين الأكبر والأوسط. وهذا غير صحيح؛ فإنا إنما نقرع بين عدد نستيقن فيهم حراً. وإذا كنّا نجوز حصول الاستيلاد بالأصغر ونُرِق الأوسط والأكبر، فلا وجه للإقراع على هذا الوجه. وهذا الفصل لا يحتمِلُ تحقيق القول في كيفيّة الإقراع، فالوجه أن نحيل استقصاءه على باب القرعة. أما نصّ الشافعي، فإنه مصرحٌ بإدخال الثلاثة في القرعة، وظاهر النص أنا لا نعيّن الأصغر للحريّة أيضاً. وهذا هو الذي أحوج الأصحاب إلى فرض الصورة النادرة التي ذكرناها في المرهونة. ومما يتعيَّن التنبيه له من كلام الشافعي والمزني؛ أن الشافعي لمَّا أقرع بينهم، قال: من خرجت له قرعةُ الحرية عَتَق، ولم يثبت نسبٌ ولا ميراثٌ، وفرض الشافعي مع هؤلاء الثلاثة ابناً معروف النسب للمتوفى، واقتضى كلامه صرفَ الميراث إليه، فقال المزني: يتعين أن نقف شيئاًً من الميراث للأولاد الثلاثة؛ فإن فيهم نسيباً بحكم إقرار المتوفَّى. وقد رأينا كلاماً للأصحاب في أنا هل نقفُ الميراث مع إشكال النسب، والأقيس أن نقف كما ذكرناه في إبهام طلقةٍ بين امرأتين، فنصُّ الشافعي لا يخرج إلا على هذا الوجه الضعيف في أنَّا لا نقف الميراث إذا استبهم النسب، وكان لا يتميز. وهذا مشكل كما ذكره المزني. 4490 - ثم ذكر المزني الصحيح عنده ولم يبده مذهباً لنفسه، بل ألحقه بمذهب الشافعي، فإنه قال: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا. وفيما أبداه المزني إشكال أيضاً، فإنه قال: الابن الصغير حر قطعاً، وحكم له بالميراث، ثم قال: يصرف ربع الميراث إلى الابن المعروف، وربعه إلى الأصغر من البنين الثلاثة، ونقف النصفَ بين الأكبر والأوسط، وبين المعروف والأصغر.

أمّا تسليمه الربع إلى المعروف، فبيّن، وفي قطعه بتوريث الأصغر مجالٌ للنّظر، فإنه يجوز أن يقال: حصلت حريته بموت المستولِد تبعاًً للأم وإذا كان هذا من جهات الحرية، فما وجهُ القطع بتوريثه؟ فنقول: إنّما قال المزني ذلك على أصلٍ، وهو أن الاستيلاد إذا كان بالأصغر؛ فإنه يرث، وإن كان بالأكبر والأوسط، فنسب الأصغر يثبت أيضاً لثبوته بعد ثبوت الفراش. والقول مفروض فيه إذا لم يدَّع الاستبراء، [و] (1) قلنا: يلحق النسب مع دعوى الاستبراء، فإنّ في ذلك خلافاً مشهوراً في المستولدة. هذا مخرج كلام المزني. وأمّا وقف النصف، فهو على قانون التوقف في مواريث الخناثى على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. وقد نجز الفصل على نهاية البيان، مع الاعتراف بالإشكال في معنى النص؛ فإنّه اجتمع فيه إدخال الأصغر في إمكان الرق، وقطعُ الميراث، مع القطع بأن في الأولاد نسيباً. أمّا خروج الأصغر على الرق، وعن تعيّن العتق، فلا يخرّج إلا على وجه الصُّورة البديعة التي تكلفها الأصحاب في المرهونة، وأمّا ترك وقف الميراث بين البنين، فلا يخرّج إلا على وجهٍ ضعيفٍ أشرنا إليهِ. فصل قال: "ويجوز الشهادة أنهم لا يعرفون له وارثاً ... إلى آخره" (2). 4491 - إذا مات الإنسان، فجاء رجل وادّعى أنه وارثه، ولم يبين جهة استحقاق الميراث، لم تسمع دعواه. ولو أقام بينةً على هذه الصفة، فهي باطلة؛ لأن العلماء مختلفون في أعيان الورثة، وجهات التوريث، فلا بد من التنصيص والتعيين. ولو جاء إنسان وقال: أنا ابن الميت، وأقام بينةً على ذلك، فلا يكفي هذا أيضاً، حتى يتعرض المدعي والشاهدان لكونه وارثاً؛ فإن الابن قد لا يرث

_ (1) في الأصل: وقلنا. (2) ر. المختصر: 3/ 31.

بأسباب، والغرض إثبات استحقاقٍ، فليقع التعرضُ لهُ. ثم إذا شهد عدلان على أن هذا ابنُ الميتِ ووارثُه، فلا بد من التعرض لنفي من عدا هذا المذكور، ليتبين أنه مستغرِق أو مشارك. فإذا شهد عدلان من أهل الخبرة الباطنة على أن هذا ابنهُ ووارثه، لا نعرف له وارثاً سواه؛ فإذا قامت البينة كذلك، سلم القاضي التركة إلى المشهود له. وقال الأئمة: لا بد من الخبرة الباطنة في ثلاث شهاداتٍ: هذه إحداها، والثانية - الشهادة على العدالة، والثالثة - الشهادة على الإعدام (1)، وإنما اشترطنا الخبرة الباطنة في هذه الأشياء؛ لأن مستند الشهادة فيها النفيُ على وجهٍ لا يستيقن، ولكن مست الحاجة إلى قبول البينة في هذه المنازل، والاكتفاءِ بغالب الظن، ولولا تجويز ما ذكرناه، لتعطَّل تعديل الشهود، وتسليمُ التركات إلى الورثة، ولتخلَّد الحبس على المعسر. ثم أهل الخبرة الباطنة فيما نحن فيه مَن عاشر الميت حضراً وسفراً، أو سراً وعلناً، وكان [ممن] (2) يطلع على باطن حاله إذا نكح أو تسرى، فإذا كان كذلك حالُ الشاهد، فيبعد أن يعزب عنه وارثٌ سوى من علم. هذا ظاهر الحال. 4492 - وممَّا يجب التنبيه له أن الشهود لو شهدوا على وارث، وقالوا: لا نعلم له وارثاً سواه، لم (3) يسلم القاضي التركةَ إلى من عيّنوه، حتى يتحقق له أنهم من أهل الخبرة الباطنة. وإنما يتحقق له هذا بأن يخبروه بأننا خبرنا بواطن حاله في عمره، ولا يشترط أن يذكروا ذلك في صيغة الشهادة. ولكن لو أخبروا بها قبل إقامة الشهادة [أو] (4) بعدها، كفى. ولو اطلع القاضي على ذلك من أحوال الشهود، لا من جهتهم، ثبت الغرض بذلك.

_ (1) الإعدام: أي الفقر المعدِم، وعدم الملك. (2) في الأصل: من. (3) في الأصل: ولم. (4) في الأصل: وبعدها.

4493 - وممّا يدور في النفس من هذا أن الشهود إذا شهدوا أن هذا ابنُ الميت، لم يكن هذا بمثابة ما لو شهدوا على الإقرار من غير تعرض لذكر شرائطه، بل تثبت البنوة، ثم يبحث القاضي، فإذا لم يظهر وصفٌ حاجبٌ، ورث. وليس يبعد أن يقال: الشهادة بالبنوة تُورِّث عند ظهور الحرية والإسلام؛ فإن الصفات التي تسقط الميراث، اختلافُ الدين، والقتل، فإذا ظهرت الحرية والإسلام إذا كان المتوفى مسلماً، فلا معنى للبحث عن القتل، من غير دعوى فيه. 4494 - ثم إذا شهد الشهود على وراثة شخص ونَفَوْا علمهم بوارث غيره، وهم (1) أهل الخبرة الباطنة، فالتركة تسلم من غير طلب كفيل؛ فإن الاحتياط الممكن قد حصل بشهادة الشهود، فإن ثبت وارثاً، ولم يثبت انتفاء من سواه، ولم يُقم شهادةً من أهل الخبرة، فسبيل القاضي في مثل هذا أن يبحث عن مواضعِ نهضات المتوفَّى، وجهاتِ أسفاره، ويكتبَ إلى ثقاتٍ من تلك الجهات يخبر بموت هذا الرّجل، ويأمر بإشاعة ذلك، حتى إن كان وارثٌ ظهر، فإذا مضى زمن يغلب على الظن -مع السبيل الذي ذكرناه- ظهورُ وارثٍ لو كان، فإذا لم يظهر، نُظر: فإن كان الوارث ممن لا يُحجب حجبَ حرمانٍ، فلا خلاف أنّه يسلم إليه التركة، إذا كان عصبة. وهل يجب طلب كفيل منه؟ في المسألة وجهان: أحدهما - يجب [للاحتياط] (2) في مظنة الإشكال. والثاني - لا يجب، ويستحب؛ فإنّه إذا بحث، فقد قدّم الممكن في الاحتياط. وإذا كان ذلك الشخص ممن يتصور أن يحجب حجب حرمانٍ، كالأخ، فهل يدفع القاضي إليه المالَ ولا بيّنة من أهل الخبرة، واحتاط كما رسمنا؟ في المسألة وجهان: أحدهما - لا نسلم إليه، لإمكان وارث يحجبه، وليحرص الأخ على إقامة البينة من أهل الخبرة. والوجه الثاني - أنه يسلم المال إليه، ثم في طلب الكفيل وجهان مرتبان على الوجهين في الابن. ولا شك أن هذه الصورة أولى بطلب كفيل.

_ (1) في الأصل: ونفوا. وهو تصحيف عجيب. (2) في الأصل: الاحتياط.

4495 - ولو كان للمتوفى أصحاب فرائض، وكانوا لا يحجبون، فيعطى صاحب الفرض سهمَه عائلاً على أقصى تقديرٍ في العول، ولا وقوف في هذا؛ فإنه مستيقن، فتعطى الأم سدس المال عائلاً من عشرة، إذا كان ذلك ممكناً. والقول في الزائد [عن] (1) السدس الذي يعول، أو الثلث الذي تستحقه الأم في بعض الأحوال، كالقول في التسليم إلى الأخ، مع تقدير كونه محجوباً. ثم ما نستيقنه لا نتوقف فيه ولا نطلب فيه كفيلاً. وهذا إنما يتصور في أصحاب الفرائض الذين لا يحجبون. والعصبة، وإن كانوا لا يحجبون حجب الحرمان، فلا ضبط لأقل ما يصرف إلى الواحد، فيجري في ابتداء الأمر توقفٌ، وفي انتهائه خلافٌ في طلب الكفيل. ولو شهد شهود من أهل الخبرة الباطنة على أن هذا هو الوارث، لا وارث للمتوفى غيره، فجزْمُهم القولَ مجازفة منهم. ولكن الشافعي نص على أنا لا نرد شهادتهم في ذلك، وتابعه الأصحابُ عليه، فإن الناس قد يطلقون هذا تعويلاً على غالب الظن عندهم، وإذا روجعوا فسروه بما ذكرناه. وإذا قال أهل الخبرة: لا نعلم له وارثاً، كفى ذلك مع كونهم من أهل الخبرة؛ فإن عدم علمهم يغلب على الظن أن لا وارث سوى المعين. ...

_ (1) في الأصل: إلى.

كتاب العارية

كتاب العارية 4496 - العارية من المبارّ التي استحث الشرعُ عليها، وحمل كثير من المفسرين قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] على منع إعارة الفأس، والقدرة (1) والمسحاة، ونحوها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المنحة (2) والعارية مضمونة والزعيم غارم" (3). ولما استعار من صفوان أدرعاً وسلاحاً، فقال: أغصباً يا محمد؟ قال عليه السلام: "لا بل عاريّةً مضمونةً مؤدّاة" (4) وقيل: العارية في اللسان من قولهم: عار فلان يعيرُ إذا جاء وذهبَ، ومنه العير، وسمي العيَّار عيّاراً لجيئته وذهابه. والعارية إنّما سميت عارية لتحولها من يد المالك إلى يد المستعير، ثم من يد المستعير إلى يد المعير. وهي في الشريعة عينُ مالِ الغير في يد الإنسان، لينتفع بها، بإذنٍ، ويردَّها، من غير استحقاق.

_ (1) كذا بالتاء (القدرة) والوارد في اللغة: (القِدْرُ) بدون تاء. أم المراد آلة من آلات الزرع والغرس بدليل ذكرها بين الفأس والمسحاة. (2) "المنحة" هذا لفظ أبي داود، وابن ماجة، وفي بعض الروايات "المنيحة". (3) حديث: العارية مضمونة ... عن أبي أمامة، رواه أحمد: 5/ 267، وأبو داود: البيوع، باب في تضمين العارية، ح 3565، والترمذي: البيوع - باب ما جاء في أن العارية مؤداة، ح 1265، وابن ماجة: الصدقات، باب العارية، ح 2398. قال الحافظ: أكثر ألفاظهم: "العارية مؤداةٌ"، وأما (مضمونة)، فهي في الحديث التالي. وانظر التلخيص: 3/ 105 ح 1265، 116 ح 1285. (4) حديث صفوان ... رواه أبو داود: البيوع، في تضمين العارية، ح 3562، 3563، 3564، وأحمد: 3/ 401، والحاكم: 2/ 47، والبيهقي: 6/ 89. وانظر التلخيص: 3/ 116 ح 1286.

ثم صدر الشافعيُ الكتاب ببيانِ مذهبه في أن العارية مضمونة على المستعير، خلافاًً لأبي حنيفة (1). وحكى الشيخ أبو علي في الشرح قولاً عن الشافعي في الإملاء أن العارية أمانة لا يضمنها المستعير ما لم يتعدَّ فيها. وهذا قول غريبٌ، لا تفريع عليه، ولا عودَ إليه. 4497 - ثم إذا حكمنا بكون العارية مضمونة، لم نفصل بين الحيوان وغيره من الأعيان التي تستعار، واعتمد الأئمة في تثبيت الضّمان كونَ العارية مضمونةَ الرّد، وقالوا: مالٌ مضمون الرّد على المالك، فكان مضمون القيمة عند التلف، كالمأخوذ سوْماً. وتحقيق ذلك أن الذي يجب ردّه، لو تلف تحت يد من يلزمه الرد، لم يلتزم بدلاً (2)؛ لأنا قيدنا الكلام بالمال (3)، وفقهه أن المال له بدل، فأمكن تضمين بدله، وهذا غير متصور فيما ليس مالاً. وما ألزموا والمال يستويان في إمكان الرد، فاستويا في مؤونة (4) الرد. وإن ألزمونا المستعيرَ من المستأجر يلزمه ردّ العارية، ولو تلفت في يده، لم يضمنها. قلنا: اختلف أصحابنا فيه. فقال بعضهم: على المستعير من المستأجر الضّمانُ. والصحيح أنه لا يضمن. وفي الطريقة احتراز عنه؛ فإنا قلنا: مال يجب رده على مالكه، والمستعير لا يلزمه الرد على المالك، ولا يتصور الضمان للمستأجر، فخرج على الفقه الذي ذكرناه، ثم يده متفرعة على يد أمانةٍ، فاستحال تقدير الضمان من غير عدوان. والعين المستأجرة إذا تلفت في يد المستأجر، لم تكن مضمونةً عليه، ولا محسوبة من ماله، والمال في يد مالكه إذا تلف، كان ذلك خسراناً حالاً محل ما يضمنه بالإخراج من ماله.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 185 مسألة 1876، ومختصر الطحاوي: 116، وإيثار الإنصاف: 266، والبدائع: 6/ 215. (2) حصلنا على نسخة (ي) بعد أن كنا قد انتهينا من العمل في هذه الأبواب، فأعدنا القراءة، والمقابلة، وغيّرنا المثبت في الصلب، فجعلنا (ي) هي الأصل حتى أوائل كتاب الغصب، حيث بقيت (د 2) أصلاً، وبمساعدة (ت 2) و (ي). (3) ساقطة من (ت 2). (4) في هامش الأصل: صورة. خ. (أي في نسخة أخرى: صورة).

4498 - وأرسل الأصحاب مسائل في ضمان العواري نفياً وإثباتاً ونحن نرسلها كذلك. فإذا قال: أعرتك حماري لتعيرني حمارك، كان إجارةً فاسدة؛ لاشتمال ما جرى على ذكر العوض، ولا ضمان في الإجارة الفاسدة. ولو قال: أعرتك ثوبي هذا على أن تضمن لي عشرةً، إذا تلف في يدك، وكانت قيمته خمسة، فالخمسة الزائدة تشبه أن تكون عوضاًً، فلحق [ما] (1) ذكرناه بالإجارة الفاسدة. ويشبه أن يكون عاريَّةً مشتملة على شرط فاسدٍ، فذكر القاضي وجهين في المسألة، وهي محتملة جدّاً. ثم قال: أصل هذا أنه (2) إذا قال: وهبت منك هذا العبد بألفٍ، أنجعل ذلك بيعاً محضاً؟ أو هو على قضايا الهبات. وفيه قولان. وهذه المسائل يجمعها أنا نعتبر اللفظ تارة في أمثال هذه المسائل، فعلى هذا اللفظُ للإعارة. وقد نعتبر المعنى دون اللفظ؛ فالمذكور من الزيادة عوضٌ. ولو أشخص رجلٌ رجلاً إلى موضعٍ، لغرض المُشخِص، وأركبه دابةً، فليس ذلك عاريةً؛ فإن غرض المشخِص هو المعتبر، والعارية عينٌ يأخذها المستعير لمنفعة نفسه، لينتفع بها، ويردّها. ولو جمحت دابة على مالكها، فأركبها إنساناً ليسيرها، ويحفظها، فلا ضمان، لما ذكرناه، وإن انتفع الراكب. ولو وجد المسافر من قد أعيا وأعجزه الكلال، فأركبه دابةً من غير التماسه، فتَلِفت تحته، ضمنها؛ فإن ذلك عارية. ولو أردفه مركبه الذي هو راكبه، فتَلِف المركب تحتهما، ضمن الرديف نصف قيمة الدابة، لما ذكرناه. وفي المسألتين عندنا نظر. من وجهين: أحدهما - أنه يقع في قبيل العواري ما يضاهي الصدقات بالإضافة إلى الهبات، والصدقاتُ ليست على حكم الهبات؛ فإن من تصدق لم يرجع في صدقته، والواهب قد يرجع في هبته، فلا يمتنع أن لا يضمن من تبرع المعير عليه محتسباً أجراً، وحائزاً ثواباً. هذا وجه.

_ (1) مطموسة في الأصل، (ت 2): بما. (2) (ت 2): أن قال.

والثاني - يظهر في الرديف، فإن الدابة في يد مالكها، فإن نَفَقَتْ، أضيف تلفُها إلى يده، ولا تعويل على تأثير الرديف في الإهلاك، فإنَّ ضمان العواري لا يأتي من هذه الجهة، ولهذا لا يضمن المستعيرُ ما يُبليه من الثوب المستعار، على حسب الإذن، وسنقرر هذا متصلاً بما نحن فيه. 4499 - واختلف أئمتنا في إعارة الدراهم والدنانير وإجارتهما: فذهب بعضهم إلى تصحيح إجارتهما وإعارتهما، وفصل آخرون، فمنعوا الإجارة، وصححوا الإعارة. ومنشأ الخلاف يدور على ضعف منفعتها، فإن غاية المطلوب منها التزين والتجمل. ومن يفصل بين الإجارة والإعارة يرى الإعارة مكتفية بأدنى منفعة، وليست إعارتها قرضاً عندنا خلافاًً لأبي حنيفة (1)، فإن صححنا إعارتها، فهي مضمونة على المستعير. فإن قلنا: لا تصح إعارتُها، فهل يضمنها المستعير؟ فعلى وجهين: أحدهما - يضمنها، لأنها عارية فاسدة، وما اقتضى صحيحه الضمانَ، اقتضى فاسدُه الضّمانَ. والوجه الثاني - وهو الأفقه، أن الضمان لا يجب؛ لأن العارية فسدت أو صحت تَعتمد منفعةً معتبرةً، فإن لم تكن، فلا عارية، فهذا من انعدام العارية، لا من فسادها. ومن أقبض الغير مال نفسه لا لمنفعةٍ، كان أمانةً. وما ذكرناه في الدراهم يجري في استعارة الحنطة والشعير، وما في معناهما. 4500 - ثم تردد الأئمةُ في ضمان الأجزاء التي تتلف باستعمال المستعار، على حسب إذن المالك. فالذي ذهب إليه المحققون القطعُ بأنّها لا تُضمن، من قِبل أنها تتلف بإتلاف المستعير، وإتلافهُ مأذون فيه من قِبل المالك. ولو قال المغصوب منه للغاصب: أحرق هذا الثوبَ الذي غصبته مني، فأحرقه، لم يضمن، وإن كانت يده يدَ ضمانٍ. هذا إذا [انسحقت] (2) أجزاء من الثوب وغيرِه، على حسب الإذن بسبب

_ (1) ر. المبسوط: 11/ 145، البدائع: 6/ 215. (2) في الأصل: استحقت.

الاستعمال، فأما إذا امّحق الثوبُ بالاستعمالِ، فقد ذكر القاضي وجهين حينئذ: أحدهما - أنه لا يجب الضّمان، وهو الأصح؛ لما قدمناه من ترتب الإتلاف على إذن المالك. ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان؛ فإن حقَّ العارية أن تُردّ، فإذا فات ردُّها، وجب الضمان. وكل مَرْفِقٍ فيها مشروط بالردّ. وهذا لا حاصل له. ثم إن لم نوجب الضمان، فلا كلام، وإن أوجبناه، اندرج جميعُ الأجزاء تحت الضّمان؛ إذ لا ضبط، ولا موقف على وسط. وقد ذكر كثير من أئمتنا وجهين في ضمان الأجزاء وإن لم تتلف [العين] (1) مصيراً إلى أن العارية مؤدّاة. وإذا تلف بعضُها، فقد فات الرد فيما تلف، والإذنُ في اللُّبس إذن على التزام الرد في الجزء والكل. وكل هذا خبْط، والأصح نفي الضمان، من غير تفصيل. 4501 - ولو استعار دابةً ليركبها، فتلفت تحته، أو عابت بسبب الركوب مع اقتصاده، والدواب تهلك إذا حملت أثقالها، فإن هلكت بهذا السَّبب، كان هلاكُها بمثابة امّحاق الثوب، وإن عابت بهذا السبب، كان ذلك بمثابة انسحاق الثوب بالبلى، مع بقاء ما يُردّ منه. وإن تلفت الدابة أو عابت بآفةٍ سماويّةٍ، وجب الضمان حينئذٍ. ولو استعار حماراً ليركبه إلى مكان، ويرجع، فإذا جاوز ذلك المكانَ، فهو غاصبٌ من وقت المجاوزة. ومن حكم الغاصب أن يضمن أجرةَ المثل. هذا سبيله من وقت مجاوزته. فإذا أقبل راجعاً، فهل يضمن أُجرة المثل لمدة الرجوع، أم نقول: يضمن أجرتها إلى أن يردها إلى المكان المعين؟ وهل يضمن أُجرتها من ذلك المكان، إلى أن يردها إلى مالكها؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي. والاحتمالُ فيهما بيّن. وقد بناهما على أصلٍ في القَسْم بين النساء، فقال: إذا سافر بإحدى نسائه بالقرعة، فلا يقضي إذا عاد للواتي خلفهن أيام السَّفر، وإن انفرد بالتي سافر بها. فلو نوى الإقامة في موضعٍ، وقضى به أياماً ثم انتقض عزمه، وبدا له أن يعود. أما أيامُ

_ (1) ساقطة من الأصل.

الإقامة، فإنه يقضيها للمخلفات. فأمّا الأيام التي مضت من وقت انتقاض عزمه، واتجاهه راجعاً إلى بلدته، فهل يقضيها؟ فعلى وجهين، سيأتي ذكرهما. ووجه التنبيه لائح. 4502 - وممّا نلحقه بهذه المسائل الكلامُ في كيفية ضمان العواري، وللشافعي قولان فيه: أحدهما - أن العارية مضمونة ضمان الغصوب. والقول الثاني - أنها لا تضمن ضمانَها. فإن قلنا: إنها تضمن ضمانَ الغصوب، فيجب فيها إذا فاتت أقصى القيم، من يوم القبض إلى يوم التلف. وحقيقة الضمان يحال على كتاب الغصب، وهو بين أيدينا. وإن قلنا بالقول الثاني، فقد ذكر القاضي وغيره طريقين في معناه. فمن أصحابنا من قال: الاعتبار في قيمة العاريّة بقيمة يوم التلف. ومنهم من قال: الاعتبار بقيمة يوم القبض. والصحيح في العارية إذا قلنا: إنها لا تضمن ضمان الغصوب، أنها تضمن بقيمة يوم التلف، فإنا لو ضمناه يوم القبض، لضمّناه الأجزاءَ، وقد ذكرنا أنها ليست مضمونةً على الأصح. ثم المنافع لا تضمن من المستعار بلا خلاف، وإن قلنا: إن العارية تضمن ضمان الغصوب (1)، وهذا أصدق شاهد على أن الأجزاء لا تضمن، فإن المنافع لم يضمنها المستعير، من جهة أنَّه استوفاها بإذن مالك العين، والأجزاء بهذه المثابة. والمأخوذ بالسوْم مضمونٌ، وفي ضمانه قولان في الأصل: أحدهما - أنه يضمن ضمانَ الغصوب. والثاني - أنه لا يضمن ضمان الغصوب. ثم الأصح فيه إذا لم يثبت ضمانُ الغصوب، أنه يضمن بقيمة يوم القبض. ومن أصحابنا من اعتبر يوم التلف. وليس في المأخوذ بالسوم ما ذكرنا في العارية من استحالة اعتبار يوم القبض، لمكان الأجزاء، كما قررناه. وإذا ولدت العارية في يد المستعير، فإن قلنا: إنه يضمن ضمانَ الغصوب، فولدها مضمونٌ، كولد المغصوبة. وإن قلنا: إنها لا تضمن ضمان الغصوب، فحكم الولد حكم ما لو ألقت الريحُ ثوباً في دار إنسانٍ. ثم سبيل المذهب فيه أنه إذا طالبه صاحبه

_ (1) جواب الشرط مفهوم من الكلام قبله: "المنافع لا تضمن من المستعار".

بالرّد، فلم يرد، دخل في ضمانه، وإن تلف في يده قبل أن يتمكن من ردّه على صاحبه، فلا ضمان. وإن لم يطالب صاحبه بالرد، وتمكن من حصل في يده من الرد، فلم يرد حتى تلف، ففي وجوب الضمان وجهان. هذا حكم الثوب يُلقيه الرّيح في دار إنسانٍ، وحكمُ ولدِ العارية إذا قلنا: إنها لا تضمن ضمان الغصوب. 4503 - وممَّا نذكره متصلاً بذلك ما لو استعار إنسان شيئاًً من إنسانٍ، وحسِب المستعير المعيرَ مالكاً، فإذا تلفت العين في يد المستعير، فقرار الضمان عليه في قيمة العين، فأمّا إذا غرَّمه المالك أجرَ مثل المنفعة مدة استيلائه على العين، نظر: إن لم يكن قد استوفى منفعتَها، رجعَ بما غرِم على المعير؛ لأنه لم يدخل في الاستعارة على أن تتقوم عليه المنفعة، وكانت المنافع في حقه بمثابة العين المودَعة في حق المستودع من الغاصب. هذا إذا لم يستوفها. وإن كان قد استوفى المنافع وغرَّمه المغصوب منه الأجرةَ، ففي رجوعه بما غرِم وجهان، مبنيان على أن الغاصب إذا قدَّم الطعام المغصوبَ إلى إنسانٍ، فأكله ذلك الإنسانُ، ثم غرَّمه المالك، فهل يرجع بما غرِمه على الغاصب الغارّ؟ فعلى قولين، سنذكرهما في الغصوب، إن شاء الله. 4504 - ثم ذكر الأئمة مسائل متفرقة فيما يجوز استعارته، وفيما [لا] (1) يجوز ذلك فيه، فنقول: من استعار جاريةً للخدمة، نظر: فإن كانت مَحرماً له، جاز، وإن لم تكن محرماً، فإن كان يستخدمها من غير استخلاء بها، فلا تحريم، والكراهية ثابتة، فإن استخلى بها حرُم. ولا يحل أن يستعير أباه للخدمة؛ فإن في استخدامه استذلالٌ وامتهانٌ، وسنذكر التفصيل في استئجار الإنسان أباه. والمُحْرِم إذا أعار صيداً من الحلال كان مالكاً [له] (2)، إذا أحرم، فإن قلنا: زال ملكه بالإحرام، لزمه الإرسال. وإذا أوقعه في يد المستعير، وتلف في يده، لزمه

_ (1) سقطت من الأصل. (2) مزيدة من (ت 2).

الجزاء. وإن قلنا: لم يزل ملكه، لم يلزمه الإرسال، وتصح منه إعارته. فإذا استعار المحرم صيداً من الحلال، فتلف في يده غرِم القيمةَ للمالك، والجزاء لله تعالى. فرع: 4505 - ليس للمستعير أن يؤاجر المستعارَ؛ فإنه ليس مالكاً للمنافِع، والإجارة تمليك، فلا يتأتى منه أن يملك ما لا يملك، والمنافع في حق المستعير مباحة لا يثبت له فيها ملكٌ. وهل للمستعير أن يعير من غير إذن المالك؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يجوز ذلك؛ فإن المالك خصصه بالاستباحة، فلم يكن له إحلالُ غيره محلَّ نفسه، كما إذا قدم الإنسان طعاماً إلى الضيف ليأكله، فليس له أن يُبيحه لغيره، حتى قال العلماء: لا يحل له أن يُلقي لقمةً إلى هرةٍ إلا أن تدل القرائن دلالةً ظاهرة أن صاحب الطعام سلط الضيف على جميع هذه الجهات. وسيأتي شرح ذلك في باب الوليمة، إن شاء الله تعالى. فصل قال الشافعي: "ولو قال: أكريتُها إلى موضع كذا، بكذا ... إلى آخر الفصل" (1). 4506 - إذا أخذ الإنسان الدابة من مالكها ليركبَها، ثم اختلفا، فقال المالك: أكريتُك هذه الدابة بأجرة مسماةٍ، ذكرها، وقال الراكبُ: ما أكريتني، بل أعرتنيها، فلا تخلو الدابة إما أن تكون قائمةً، أو تالفةً: فإن كانت قائمة، فلا يخلو إما أن يقع النزاع على الاتصال بالعقد قبل مضي مدّةٍ لمثلها أجرة، وإمّا أن يتفق النزاع بعد مضي المدة التي ادعى المالك أنها مدة الإجارة، ولو انقضى بعض المدّة، لانتظم ما نحاوله في هذا القسم. ولكنا نفرض الكلام في انقضاء المدة بكمالها. فإذا انقضت والنزاع كما ذكرناه، فقد تحقق باتفاق المالك والراكب أن انتفاع الراكب كان بإذن المالك، ولكنهما تنازعا، فادّعى الراكبُ أنه أباح له المالك المنفعة من غير عوضٍ، وادعى المالك عوضاً، فالقول قول من؟

_ (1) ر. المختصر: 3/ 33.

المنصوص عليهِ للشافعي هاهنا أن القول قول الراكب، ونص في كتاب المزارعة على أن مثل هذه الصورة لو جرت في أرضٍ، فزعم المنتفع بها أنه استعارها، وزعم مالكها أنه لم يُبح له منافعها، وإنما أجَّرها (1). قال: "القول قول المالك"؛ فاختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين، فمنهم من قال: في المسألتين قولان، نقلاً، وتخريجاً: أحدهما - أن القول قول المنتفع في المسألتين. والقول الثاني - القول قول المالك في المسألتين. ومن أصحابنا من أقر النصَّين (2)، وفرق بينهما بأن قال: استعارة الدابة معتادةٌ فقول (3) المنتفع ليس بعيداً عن الصدق، والأصل براءتُه عن الأجرة. وإعارة الأرض بديعة في العادة، غيرُ معتادةٍ، فالظاهر مع المالك في نفي الإعارة. والصَّحيح طريقة القولين في المسألتين. 4507 - توجيه القولين: من قال: القول قول المنتفع، احتج بأن قال: إن المنتفع يقول: وافقتني أيها المالك في الإذن بالانتفاع، وادّعيت عليَّ وراء ذلك مالاً، والأصل براءة ذمتي منه. ومن قال: القول قول المالك، احتج بأنه يقول: الإذنُ في الانتفاع لا ينافي التزامَ العوض، وأنت أيها المنتفع تدعي وراء الإذن عليَّ إباحةً مُحبطةً لمالي، فلا يقبل قولُك، وقد أتلفت المنافعَ، وهي متقومة في الشرع. هذا بيان القولين. التفريع عليهما: 4508 - إن قلنا: القول قول المالك مع يمينه، فلا بد أن يتعرضَ في يمينه لنفي الإعارة؛ فإنه مدعًى عليه في العارية. ثم قال شيخي وطائفة من المحققين: لا يتعرض المالك لإثبات الإجارة، بل يقتصر على نفي الإعارة؛ فإنه إنما يحلف فيما يُدَّعى عليه، ولو حلف في إثبات الإجارة، لكان مدَّعياً حالفاً على إثبات دعواه، وهذا لا يسوغ إلا في القسامة.

_ (1) في النسختين: أجر. (2) (ت 2): النصيبين. (3) (ت 2): فتقول.

وذكر العراقيون والقاضي: أن المالك ينفي الإعارة، ويتعرض لإثبات الإجارة، وأجرتها المسماةِ، فيقول: بالله ما أَعَرْتُ (1)، ولقد آجرت بكذا. ووجه ما ذكرهُ شيخنا لائحٌ، لا حاجة إلى الإطناب فيهِ. فأمّا من قال:. إنه يتعرض لإثبات الإجارة، قال: إنما كان (2) يُكتفى بنفي الإعارة لو كان ينكر أصل الإذن، وليس هو بمنكرٍ له، ولا يمكنه أن يتوصل إلى إثبات الماليّة بنفي الإذن، ونسبةِ المنتفع إلى الغصب، والاستبداد؛ فإن أصل الإذن متفق عليه. وإنما يثبت المال مع اعترافه بالإذن بطريق الإجارة، فقد اضطررنا إلى تمليكه الحلف على إثبات الإجارة. والقائل الأول يقول: إذا نفى الإباحة، ثبت له حق المالية في المنافع، وهذا إثباتٌ يعارض نفيَ الإباحة، مع تقدير الإذن، فليقع الاكتفاء بهذا. وهذا أقيس، ولما ذكره العراقيون وجه، كما أشرنا إليه. فإن قلنا: لا يتعرض المالك لإثبات الإجارة، فلا تثبت الأجرة المسماة، ولا نطلق القولَ بثبوت أجرة المثل أيضاً، ولا سبيل إلى إحباط حق المالك، فالوجه أن نقول: إذا حلف، استحق أقل الأمرين من أجرة المثل، والمسمّاة. فإن كانت أجرة المثل أقلَّ، لم يستحق غيرَها؛ فإنه لم يُقم حُجةً على إثبات الأجرة المسماة، (3 وإن كان المسمى أقلَّ من أجرة المثل، لم يطالب إلا بالأجرة المسماة 3)؛ فإنّه معترف بأنه لا يستحق إلا هذا المقدار، فكان مؤاخذاً بإقراره. هذا إذا قلنا: إنه لا يتعرض لذكر الإجارة، وما فيها من العوض المسمى. 4509 - فأمّا إذا فرعنا على ما ذكره العراقيون: من أنه يتعرض في يمينه المعروضة عليه لإثبات الإجارة، وما فيها من الأجرة المسماة، فإذا حلف على نفي الإعارة، وإثبات الإجارة، فيستحق ماذا؟ فعلى وجهين: ذكرهما القاضي، وقال العراقيون: فيه قولان منصوصان

_ (1) (ت 2): أعرف. (2) سقطت من (ت 2). (3) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

للشافعي: أحدهما - أنه يستحق أقلَّ الأمرين من أجرة المثل، والأجرة المسمّاة، كما ذكرناه؛ وذلك أن إثبات ما يدعيه بيمينه المعروضة عليه ابتداءً بعيدٌ جداً، ولكنه ذكر الإجارة لينتظم كلامه، من حيث كان معترفاً بأصل الإذن، فلا يستفيد إذاً بذكر الإجارة إلا نظمَ الكلام، وتعليلُ الأقل ما قدمناه من مؤاخذته بالإقرار إذا كانت الأجرة المسماة أقل. والقول الثاني - أنه يستحق الأجرة المسماة؛ فإنه إذا أُحوج في يمينه إلى ذكر الإجارة، وقد ذكرها بصفتها، فيثبت له العوض الذي سمّاه. وهذا وإن كان بدعاً في قياس الخصومات، فسببه أنّ الواقعة في نفسها بدْعٌ، كما نبهنا عليه؛ إذ قلنا: الإذن متفق عليه، فلا يأتي ضمان المنافع من استقلال بانتفاعٍ، وإنما يأتي من إذنٍ مقرون بالعوض، وحق المالك لا يُحبَط، فعسُر الأمر، وتركَّبت المسألة من أصلين متعارضين، كما نبهنا عليه. 4510 - ومما يتعلق بتحقيق هذا الفصل: أنا إذا أثبتنا للمالك المسمى، فلا بد من ذكر الأجرة المسماة لا شك فيه، وإن قلنا إنه يستحق أقل الأمرين، فالظاهر عندنا أنه يكفيه ذكر الإجارة، لينبه بذكرها على الطريق؛ فإنّه إذا كان لا يستحق عوضاً (1)، فلا حاجة إلى ذكر العوض، وهذا محتمل جداً. والعلم عند الله. 4511 - ولو عرضنا اليمين على المالك، فنكل، فقد قال العراقيون: لا ترد اليمين على الرّاكب؛ فإنه لا يدعي إلا الإعارة، ولا حق على المستعير، ووضع يمين الرد أن يثبت للمردود عليه حقاً، وليس الأمر كذلك في هذه الصُّورة، فالحقُّ إذاً للمالك، فإن أثبتها باليمين، فذاك. وإن تركها، فلا معترض عليه. وهذا الذي [ذكروه] (2) حسنٌ فقيه. ولكنه خارج عن قياس المذهب، مفضٍ إلى القضاء بالنكول، وإنما وقعت المسألة شاذّة، لأنها بصورتها مخالفة لصور الخصومات، فإنّا أقمنا المدّعي في منصب المدّعى عليه، لفقهٍ حمل على هذا، ودعا إليه، والخصم الراكب ليس يدعي لنفسه مالاً، فيحلف على ماذا؟ وفي كلام القاضي رمز ظاهرٌ إلى أن اليمين ترد على الراكب، وفائدتها الخلاص من

_ (1) (ت 2): عوضها. (2) في الأصل، (ت 2): "ذكره".

الغُرم، وإن استبعد مستبعد هذا، عارضناه بتحليف من يدعي الإجارة، وبالقضاء بالنكول (1)، وكلُّ خصومة تدار على قضية تليق بها. والأظهر ما ذكره العراقيون. والعلم عند الله. هذا كله تفريع على قولنا: القول قول المالك. 4512 - فأما إذا قلنا: القول قول المنتفع، فيحلف بالله ما اكترى. فإن حلف على نفي ما يُدّعى عليه من الإجارة، كفاه ذلك، وبرىء عن الغُرمِ، وإن نكل عن اليمين، رُدّت اليمين على المالك، فيحلف على إثبات الإجارة، والأجرةِ المسماة. وليس ذلك بدعاً؛ فإن يمين الرد تتضمن إثبات الحقوق للحالف. ثم الوجه القطع بأنّه يستحق الأجرةَ المسماةَ، بالغة ما بلغت؛ فإنه أثبتها بيمين الرّد، وادعاها أولاً. وهذا قياس يَطّرد في الحقوق المدعاة، إذا انتهت الخصومة إلى يمين الرد فيها. وذكر القاضي وجهين: هذا أحدهما. والوجه الثاني - أن المالك يستحق أجرة المثل؛ لأن المنتفِع ينفي أصل الكراء، وهو مدع للإذن في الانتفاع (2)، وقد نكل عن اليمين على أصل الكراء، فيقع يمين الرد على إثبات أصل الكراء. وهذا على نهاية السقوط، وإنما حكيته لعظم قدر القاضي. ثم في هذا الوجه الضعيف خللٌ آخر، وهو أنه أثبت أجرة المثل، والوجه أن يقال: إن كانت أجرة المثل أقلَّ، فله أجرةُ المثل، وإن كان المسمى أقلَّ، فليس له إلا الأقلَّ، كما قدمناه. ولا ينبغي أن نعد هذا الوجهَ من المذهب. والعراقيون في التفريع على تصديق المالك ذكروا القولين في المسمّى أو الأقل، وقطعوا القول في التفريع على تصديق المنتفع بأنه (3) إذا نكل وحلف المالك، استحق ما ادعاه. وهذا كله فيه إذا جرى الخلاف كما وصفناه، والعين قائمة، وقد مضت المدة التي تقابلها الأجرة لو (4) صحت الإجارة.

_ (1) (ت 2): وبالنكول. (2) (ت 2): في أصل الانتفاع. (3) (ت 2): به. (4) (ت 2): ولو.

4513 - فأما إذا كانت العين باقيةً، ولم يمض من وقت التعامل، أو التقاول بين المالك وبين المنتفع، وأَخْذه العينَ زمانٌ به مبالاة، ولمثله أجرة، فقد قال العراقيون والقاضي: نقطع القول في هذه الصورة بأن (1) الراكب يحلف على نفي الإجارة، وتردّ الدابة، ولا ينقدح في هذه الصورة اختلافُ القول بأن المالك يدّعي إجارةً، والراكب ينفيها، ويذكر الإعارة، فالقول قوله في نفي الإجارة مع يمينه. فإن حلف ردّ العين؛ فإن إنكار المالك للإعارة نقضٌ لها إن كانت، فليس إلا ردّ العين. وإن نكل المنتفع عن اليمين رَدَدْنا اليمين على المالك، فإن حلف يمين الرد، استحق الأجرة، وسلم الدابة إلى الراكب. فإن قيل: لِمَ لَمْ تجعلوا المسألة على قولين في هذه الصورة، في أن القول قول المالك أو قول الراكب، كما ذكرتموه في الصورة الأولى، وهي إذا مضت المدة؟ قلنا: إذا لم تمض المدة، فالمدعي على الحقيقة المالكُ، والمنتفع ليس يدعي لنفسه حقاً، فلا معنى لتخيل الخلاف في هذه الصورة. وسبب اختلاف القول في الصورة الأولى، أن المنافع تلِفت تحت يد الراكب، وعسر علينا إحباطها، فأعضلت الخصومة وجرّت تردداً، أما هاهنا، فلا المنتفع يدعي لنفسه حقاً، ولا المنافع تلفت على المالك. والذي يُشْكِل في هذا الطرف أنا على طريقة العراقيين في صورة القولين، إذا جعلنا القول قولَ المالك، نحلِّفه ابتداء على إثبات الأجرة، ونقول في قول: إنه يستحق الأجرة المسماة: فكان لا يمتنع على هذه الطريقة أن يصدق المالك مع يمينه في إثبات الإجارة؛ تفريعاً على تصديق المالك. وهذا ليس بشيء؛ فإن قول تصديق المالك، إنما جرّه ضرورةُ فوات المنفعة، فإذا لم يتفق هذا، فليس إلا الرجوع إلى القانون في أن المالك يدعي إجارةً، وراكب الدابة ينفيها. فالقول قول النافي مع يمينه، فإذاً لا وجه إلا القطعُ بما ذكره العراقيون والقاضي. وكل ما ذكرناه تفريع فيه إذا كانت العين قائمة.

_ (1) (ت 2): فإن.

4514 - فإن تلِفت العينُ في يد المنتفع، فلا يخلو النزاع إما أن يقع قبل مضي المدة، وإما أن يقع بعد مضي المدة: فإن وقع النزاع قبل مضي المدّة، فصاحب اليد معترف بالقيمة للمالك؛ من جهة ضمان العارية، والمالك منكرٌ لوجوبها عليه، فلا نثبت له ما أقر به المنتفع، إلا أن يعود فيصدقه ثانياً، بعدما كذبه، فيثبت حينئذ موجَبُ العارية. 4515 - وإن انقضت المدة، ثم تلفت العين، يُنظر: فإن كانت الأجرة أكثرَ من القيمة، فالمالك يدعي عِوضَ المنافع التي أُتلفت عليه، والمنتفع ينكرها فتخرج المسألة على (1) قولين، في أن القول قول من؟ وسبب خروج القولين أن تلك الزيادة يبعد إحباطها على مالك المنافع من غير ثَبَت. وإن كانت الأجرة والقيمة سواء، فهما متنازعان في جهة الثبوت، متفقان على الأصل والمقدار. وفيه وجهان: أحدهما - أن التنازع في جهة الثبوت لا يمنع الأخذَ، فعلى هذا يُطرح الاختلاف، والتحليف، والرّد، ويُعطى الرجل مقدارَ ما يدعيه. هذا وجه. والوجه الثاني - أن اختلاف الجهة يمنع الأخذ، فعلى هذا لا يأخذ المالك من المنتفع شيئاً مع التنازع في الجهة، أمّا القيمة، فليس يدّعيها، ولا يستحق أخذَها على الوجه الذي عليه نفرّع، بقي (2) ادّعاؤه للأجرة، وهو يدّعيها، والمنتفع ينفيها؛ فيعود القولان لا محالة. وقد نجز القول في صورةٍ واحدةٍ من اختلاف المالك والمنتفع. 4516 - ونحن نذكر صُورتين أخريين بعد هذه: إحداهما - عكس الصورة المتقدمة: فإذا قال المالك: أعرتكها، وقال المنتفع: بل أكريتنيها، فلا يخلو إما أن تكون العين قائمةً، أو تالفة: فإن كانت العين قائمة، لم يخل إما أن يكون النزاع متصلاً من غير تخلل زمانٍ معتبر، وإما أن يقع بعد التسليم زمانٌ معتبر.

_ (1) هنا سقط في نسخة الأصل مقداره ورقة كاملة. وهو ما يوازي [ش 44، 45 كلها، ونصف ي 46]، من نسخة (ت 2). (2) في الأصل: ففي.

فإن وقع النزاع متصلاً، فالقول قول المالك: إنه ما أكراه؛ فإن الأصل عدمُ الإجارة، وهي مدّعاة على المالك في ملكه، فالقول قوله مع يمينه. فإن نكل، حلف المنتفع، واستحق دعواه. فإن تنازعَا بعد مضي المدّةِ، فالمنتفع مقر للمالك بالأجرة، وهو ينكرها. ولا يخفى حكم ذلك. 4517 - وإن كانت العين تالفةً، فلا يخلو إما أن يتنازعا على الاتصال، أو يقع النزاع منفصلاً، بعد مضي المدّة، فإن تلفت على الاتصال، ثم تنازعا، فالمالك مدّعٍ للقيمة، والمنتفع يدعي أن العين كانت أمانةً بحُكم الإجارة. فالقول قول المالك مع يمينه "بالله ما أكراه". فإذا حلف كذلك، استحق القيمة؛ لأنهما اتفقا على أنه أخذ العين للانتفاع. والمالك نفى الإجارة، فتعينت الإعارة؛ إذ ليس بين الإجارة والإعارة مسلكٌ بين المتنازعين. فإذا بطل أحد المسلكين، نزلت القضية على الثاني. فإذا انقضت المُدّة واعترف المنتفع بالأجرة، وتلفت العين، فالمالك مدّعٍ للقيمة، منكرٌ للأجرة. والمنتفع معترفٌ بالأجرة منكر للقيمة. فإذا كانت القيمة أكثرَ من الأجرة، فالقول قول المالك، مع يمينه في نفي الإجارة. وسبيل ثبوت القيمة بكمالها وإن زادت على مبلغ الأجرة، كثبوت أصل القيمة، والتنازع وتلف العين متصلانِ. فإذا كنّا نثبت القيمة على المنتفع بطريق إنكاره الإجارة، وإن كان المنتفع منكراً لأصلها، وكذلك القول في لزوم القيمة الزائدة بكمالها حتى يعترف المنتفع بالأجرة. وإن استوى مبلغ القيمة والأجرة، فهذا تخريج على أن الاختلاف في الجهة، مع الاتفاق في المدّعى عليه جنساً وقدراً، كيف سبيله؟ فإن حكمنا بأن الاختلاف في الجهة لا أثر له، فقد انقطعت الخصومة بين المالك والمنتفع، وهو مطالب بالمبلغ الذي أقرّ به، فليسلمه إلى المالك، وليعتقده أجرةً أو قيمةً، وإن حكمنا بأن اختلاف الجهة يؤثر، فاعتراف المنتفع بمقدار الأجرة ساقط الأثر، والمالك مدع للقيمة بطريق الإجارة، فليحلف كما تقدم ويستحق القيمة. وحظ الفقه من هذا الفصل أن يفهم الناظر تميزه عن الصورة التي أجرينا القولين

فيها في الصورة الأولى من الاختلافِ، ومن (1) كان سباقاً إلى ذكر القولين وادّعائهما، فهو غير محيطٍ بأطراف المسألة. وإنما ينشأ القولان إذا فرض تلف المنافع في يد المنتفع، مع قيام الوفاق على الإذن، وفرض الاختلاف بعد ذلك في أنها إذا تلفت مع الإذن مضمونة، أو غير مضمونةٍ. وقد كررنا هذا مراراً، ونحن نطلبُ بتكريره أن يحيط الناظر به علماً. 4518 - الصورة الأخيرة في اختلافهما أن يقول المالك لراكب الدابة: قد غصبتنيها، ويقولَ المنتفع: بل أعرتنيها، فلا يخلو إمّا أن يجري ذلك والعين قائمة، أو يجري والعين تالفة: فإن كانت قائمةً، ينقسم القول إلى فرض النزاع متصلاً بحيث لا يمضي زمان معتبر بين تسليم العين وبين إنشاء النزاع، وإلى تقديره بعد مضي زمانٍ من وقت قبض العين. فإن اتصل النزاع، فلا معنى له، ولا أثر؛ فإنه لم يفت شيء من العين، والمنفعة بالعين مردودة على مالكها. وإن مضت مدة، فالمالك يدعي أجرة مثل تلك المدة، والمنتفع ينكرها. قال المزني: قال الشافعي: القول قول الراكب الذي يدعي الاستعارة، وقطع جوابه بهذا. واختلف أصحابنا على طرقٍ: فذهب القياسون إلى القطع بتخطئته في النقل، ورد الأمر إلى تصديق المالك في نفي الإعارة مع يمينه. وإذا هو نفاها، استحق أجرة المنفعة التالفة تحت يد المنتفع، بها. وليس ذلك كالاختلاف في الإجارة والإعارة؛ فإن هناك اتفقا على الإذن في الانتفاع، واختلفا وراء ذلك في جهة الإذن. قال (2): القول قول المالك إلى ادعاء عقد، وهو الإجارة، وتعرضت المنافع على زعم المنتفع، وموجَبِ قوله للتعطيل. فكان اختلاف القول لذلك، والمالك في هذه الصورة الأخيرة منكر لأصل الإذن.

_ (1) في الأصل: وما كان سياقاً. (2) القائل هو الشافعي، فالكلام في مسألة النزاع في الإعارة والإجارة.

ومن أصحابنا من قال: ما حكاه المزني قولٌ، وفي المسألة قول آخر، فيحصل قولان في أن القول قول من؟ وهذا بعيد عن القياس. ومن أصحابنا من قطع القول بما نقله المزني، واتبع نقله ووثق به، ثم لم يعتصم إلا بمسلكٍ مائل عن القياس، وهو أنه قال: الأصل نفيُ العدوان، والظنُّ بكل منتفع انتفاءُ اعتدائه. وكأن هذا القائل يقول: لا نحمل يد صاحب اليد على الغصب والعدوان، وقد أمرنا بتحسين الظن به، فعلى من ادّعى العدوان إثباتُه. وهذا لا وقع له عند المحصلين وإن اضطر الأصحابُ إلى ذكره. هذا كله، والعين قائمة. 4519 - فإن تلفت العين، انقسم الأمر، فلا يخلو: إما أن يقع التلف متصلاً، أو بعد مضي مدّةٍ، فإن اتصل التلف، ثم تنازعا، فللمالك القيمة، ولا أثر للخلاف؛ فإن العارية مضمونةٌ، والغصب مضمون، ولا يتصوَّر فرض تفاوت مع الاتصال. ولا يخرج في هذه الصورة الخلاف المشهور للأصحاب باختلاف الجهة، حتى يقال: إحدى الجهتين غصبٌ والأخرى عارية، فإن العين متحدة، فلا وقع للاختلاف. وإن وقع التلف بعد مضي مدة، فالمالك يدعي أجرة مثل المنفعةِ في ذلك الزمان، والقيمةَ، والمنتفع مقر بالقيمة، منكر للأجرة، فالكلام في الأجرة في هذه الصورة كالكلام فيها إذا كانت العين قائمةً، وقد ذكرنا نقل المزني واختلافَ الأصحاب وراء نقله. وما قدمناه يعود، يعني الطرق الثلاث. أما القيمة إن (1) قلنا: تضمن العارية ضمان الغصوب، فقد وقع الوفاق في قدر القيمةِ، فيستحقها المالك. وإن قلنا: العارية مضمونة بقيمتها يوم التلف، وكان قيمة يوم التلف أكثر، فتجب القيمة ولا أثر للنزاع والاختلاف. وإن كان قيمة يوم التلف أقل، فلا نقل في هذه الصورة. والذي يقتضيه القياس أن القول قول المالك، لأنه جاحد لأصل الإذن، وقياس نقل المزني أن ننفي العدوان ونجعل القول في نفيها قول صاحب اليد. ثم ينتظم من ذلك الطرق التي قدمناها. هذا نجاز القول ومنتهاه في اختلاف المالك والمنتفع.

_ (1) نذكر بالتزام إمام الحرمين حذف الفاء في جواب (أما) (تقريباً) وهو مذهب الكوفيين.

فصل قال: "ومن تعدى في وديعةٍ، ثم ردّها ... إلى آخره" (1). 4520 - هذا الفصل غير لائق بمسائل العارية، وإنما هو من كتاب الوديعة. ولكن إذا اعترض، فلا بد من الكلام عليه جرياً على الترتيب، فنقول: المودَع إذا تعدى في الوديعة، فاستعملها: بأن كانت ثوباً فلبسه، أو دابة فركبها، ثم ترك العدوان، وقطع الانتفاع، فالعين مضمونة، لا يزول ضمانُها بقطع العدوان، من طريق الصورة. خلافاًً لأبي حنيفة (2). فلو قال المالكُ بعد ثبوت الضّمان: استودعتك على الابتداء، وجرى هذا بعد العدوان، واليدُ مستمرة. ففيه الخلاف المشهور، المذكور في كتاب الرهون. ولو قال المالك: أبرأتُك من الضمان، ففيه وجهان قدّمتُ (3) ذكرَهما أيضاً. والخلاف عن أبي حنيفةَ مشهورٌ في المسألة. 4521 - ولو فسق الأب المتصرف في مال الطفل، فهل ينعزل؟ فعلى وجهين، سيأتي نظيرهما في فسق الولي في النكاح، إن شاء الله- ثم إن حكمنا بانعزال الولي فلو عاد أميناً هل يعود تصرفُه بحكم الولاية؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب: أحدهما - وهو الذي يجب القطع به، أنه يعود بنفسه ولياً؛ فإنه كان ولياً شرعاً من غير توليةٍ، وقد زال المانع من ائتمانه، وهوآبَ (4) من أهل النظر، فيجب أن يلي. والوجه الثاني - أنه لا يعود ولياً، ما لم ينظر الحاكم في أمره، فإن رآه أميناً، واستبرأه، أعاده (5) إلى حكم الولاية. وهذا القائل لا يشترط أن يقول للولي: نصّبتك (6) ولياً، ولكن الغرض عنده أن يُظهر الحاكم عودَه بحكمه له بالولاية،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 34. (2) ر. رؤوس المسائل: 357 مسألة 236، وطريقة الخلاف في الفقه: 271 مسألة 113. (3) (ت 2): قد ذكرهما. (4) (ت 2): الآن. والمعنى أنه عاد -بعد الفسق- إلى الأمانة، وصار ثانية من أهل النظر والصلاح للولاية. (5) (ت 2): عاد. (6) (ت 2): نصيبك ولياً لي.

لا بإنشاء (1) التولية. ثم قال هؤلاء: لو كان السلطان انتزع المال من يد الأب لما فسق، ثم لما حسنت حالتُه، واستبرأ، فردّ المال إليه، كفى ذلك. وهذا صحيح؛ فإنا على هذا الوجه، لا نبغي تولية الأب إنشاءً، بل نشترط أن يُظهر الحاكمُ عودَه متصرفاً، وهذا يحصل بردّ المال إليه، ولا شك فيما ذكرناه. فالخلاف راجعٌ إلى أنا هل نشترط أن يُظهر الحاكم عدالة الولي بعد فسقه؟ من أصحابنا من يشترط ذلك، ومنهم من لا يشترطه ويحكم بعَوْد سلطان الأب، وتصرفه، إذا عاد عدلاً (2)، وإن لم نرفع أمره إلى الحاكم. والوصي إذا فسق، فالظاهر أنه ينعزل، كما سنذكر في كتاب الوصايا، ثم إذا عاد أميناً، لم يعد تصرفه، إلا أن يأتمنه الحاكم ابتداءً. [ولا يكتفى] (3) في هذا بإظهار الحاكم، حتى ينشىء التولية. وهذا بيّنٌ. 4522 - ثم من سلطان الأب والجد عند عدم الأب أنهما يملكان تولي طرفي العقود الواردة على الأموال، وقد تكرر ذكر هذا، فلو وكّل الأب أو الجد وكيلاً، وفوّض إليه أن يتولى طرفي العقد، فهل يصح من الوكيل ذلك؟ فعلى وجهين: أحدُهما - لا يصح؛ فإنه لا يتعاطى هذا غيرُ الأب والجدّ. والثاني - يصح من الوكيل ذلك؛ من جهة أن عبارته بمثابة عبارة الموكل، والتوكيل جائز في قبيل هذه التصرفات. ومما يتصل بمضمون هذا الفصل، ما قدمناه في كتاب الوكالة من أن الوكيل إذا تعدّى في العين التي سلمها الموكِّل إليه لبيعها، فهل ينعزل بعدوانه في محل تصرفه عن التصرف الذي فوّض إليه؟ المذهبُ أنه لا ينعزل. وفيه وجهٌ بعيد، قدمتُ حكايته. فصل قال: "وإذا أعاره بقعة ليس فيها بناء ... إلى آخره" (4). 4523 - قال الأصحاب: مالك الأرض إذا أعارها مطلقاً من إنسانٍ، ولم يبيّن نوعاً

_ (1) (ت 2): "لا نشا". (2) (ت 2): عدولاً. (3) في الأصل: يكفي. (4) ر. المختصر: 3/ 34.

من المنافع، لم تصح العارية، ولم يملك من تصدّى للاستعارة الانتفاعَ بوجهٍ من الوجوه، فلا بد إذاً من ذكر نوعٍ من المنفعة. والسببُ فيه أن الإعارة معونةٌ شرعية، نزلت على قدر حاجة المستعير، فلتُفرض على حسب الحاجة، ولا حاجةَ تمس إلى الإعارة المرسلة، ولم يَجْرِ بها عرفٌ بين المستعير والمعير. هذا الذي ذكرناه هو الظاهر. ومن أصحابنا (1) من قال: تصح الإعارة المرسلة، والمستعير ينتفع على أي وجه شاء. ولو قال المالك: أعرتك هذه الأرضَ، فافعل بها ما بدا لك، ففي هذه الصُّورة وجهان عند من لا يصحح الإعارة المرسلة. وإن بيّن نوعاً من المنفعة، ولم يفصله، صحت الإعارة في ظاهر المذهب، مثل أن يقول: أعرتكها لتزرع فيها، أو قال لتغرس، أو تبني، فظاهر المذهب صحّة الإعارة، وإن لم يفصل الزروع وعلمنا تفاوت آثارها. ومن أصحابنا من لم يصحح الإعارة؛ للتفاوت الظاهر البين في النوع الواحد. 4524 - وإن أذن له في نوع من الزرع وخصصه، لم يكن له أن يزرع زرعاً يزيد ضررُه على عين ما عيّن، مثل أن يعين المعيِّن زراعةَ الحنطة، فليس للمستعير أن يعيّن الذرة. وكذلك لو عين الشعير، لم يزرع الحنطة؛ فإن ضرر الحنطة أظهرُ وأكثر من ضرر الشعير. وهي فيما قيل تنتشر عروقها أكثر من انتشار عروق الشعير، وتجتذب قوة الأرض. وإذا عين المعير زرعاً، فللمستعير أن يزرع ما هو أقل ضرراً (2) منه، والسبب فيه أن مقصود المعير بالتعيين المنعُ عما يزيد ضرره، فإذا كان الضرر فيما جاء به المستعير أقلَّ، عُدَّ في العرف موافقاً للمعير المالك. وهذا بمثابة ما لو قال لوكيله: اشتر لي هذا العبد بألف درهم، فلو اشتراه بخمسمائةٍ، كان موافقاً. ولو اشتراه بأكثرَ من ألفٍ، كان مخالفاً.

_ (1) في هامش (ت 2) حاشية صعب الانتفاع بها، إذ انتقصت أطراف الكلمات بسبب تصوير المخطوطة. (2) في هامش (ت 2): حاشية: وله أن يزرع مثله، والله أعلم.

ولو نصّ المعير على تعيين الحنطة مثلاً، وصرح بالمنع من زراعة الشعير، فظاهر المذهب أنه يتعين على المستعير اتباع ما ذكره المعير (1). فإن قيل: قد قلتم: ليس للمستعير أن يعير في ظاهر المذهب، وإن كان انتفاع غيره بمثابة انتفاعه، فهلا قلتم: ليس له أن يبدل زرعاً بزرع، عند جريان التعيين جرياناً على الاتباع في الموضعين؟ قلنا: لا سواء؛ فإن اليد إذاً لم تتبدّل، فليس عين الزرع من حظ المعير، وإنما حقه الذي أباحه مقدارٌ من منفعة الأرض، فلا فرق بين أن يستوفيها بالزرع المذكور، وبين أن يستوفيها بغيره إذا لم يزد الضرر، فأمّا إذا أعار، فقد أزال يد نفسه ولإزالة اليد وقعٌ في النفوس لا ينكر. ولو قال: أعرتك لتزرع ما شئت، زرع ما شاء. ولو قال: لتزرع، لم يَبْنِ المستعيرُ، ولم يغرس. ولو قال: لتبني، أو لتغرس، فله أن يزرع؛ فإن ضرر الزرع دون ضرر البناء والغراس. ولو قال: لتبني. هل يغرس؟ أو قال: لتغرس. هل يبني؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون وصاحب التقريب: أحدهما - له ذلك. والثاني - وهو الأصح- أنه لا يفعل؛ فإن في كل واحدٍ من البناء والغراس نوعاً من الضرر لا يجانس النوعَ الذي في الآخر. وهذا يضاهي ما لو قال: بع عبدي بكذا درهماً، فلو باعه بدنانير، وإن وفت قيمتُها بمبلغ الدّراهم المعينة، لم يصح العقد؛ لتفاوت الغرض في الجنسين. ثم إذا أعار للبناء والغراس، فلا يخلو إما أن يؤقت الإعارة، أو يطلقها: فإن أطلق، ولم يؤقّت، صحت الإعارة، وإن استرسلت بالإطلاق على أزمانٍ مجهولة؛ فإنَّ الإعارة معروفٌ لا تقابِل عوضاًً، فيتسامح في تجويز إطلاقه، ويحتمل ما فيه من الجهالة، قياساً على الوصايا؛ فإنها تصح مجهولة. وهذا ينعكس بالإجارة. 4525 - ثم قال الأصحابُ: إن أغرس المستعير، أو بنى، لم ينقطع سلطانُ المعير في الرجوع في العاريّة متى شاء، ولكنه إذا أراد الرجوع، لم يكن له أن يضرّ بالمستعير، ومقصود الفصل تفصيل هذا الغرض.

_ (1) (ت 2): كالوكيل.

فلو أراد المعير قلع بناءِ المستعير وغراسِه مجاناً، فليس له ذلك؛ فإن فيه إضراراً بيّناً (1)، ولو أن المستعير بدا له أن يقلع بنفسه، فلا معترض عليه، وإذا قلع، فهل يلزمه (2) تسوية حفر الأرض؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يلزمه ذلك؛ فإنه هو الذي اختار القلعَ، وإيقاعَه، وأحدث بما أراده أخاديد في الأرض، فيلزمه أن يطمها، ويرد الأرض إلى ما كانت. والوجه الثاني - لا يلزمه ذلك، فإنّ في ضمن الإعارة تسليط المستعير على الإبقاء إن أراد، والنزعِ إن شاء، وليس من موجَب الإعارة إلزامُ المستعير الإبقاء. فإذا تبين اقتضاءُ الإعارة ما ذكرناه، فالذي فعله المستعير، فهو مأذون فيه، فإن ترتب عليه حصول نقصٍ في الأرض، كان بمثابة ما ينسحق من الثوب بالبلى، مع الاقتصاد في اللُّبس. نعم، لو حفر عند القلع حفائر، لا يحتاج إليها، لزمه تداركها. 4526 - ولو أراد المعير أن يقلع على المستعير بناءه وغراسه، فله ذلك، ولكنه يغرَم ما ينقصه القلع، وهو تفاوت ما بين البناء والغراس قائماً ومقلوعاً. والسبب فيه أن الإعارة برٌّ ومكرمة، فلو كان عقباها تخسير المستعير، لكانت حائدةً عن وضعها، والمطلوبِ بها، ولكان المستعير مغرراً بماله، ولا سبيل إلى ذلك. فإذا اختار المعير القلعَ وضمانَ الأرش (3)، فالمستعير محمول على هذا، شاء أم أبى. قال ابن سريج: للمعير الخيار بين ثلاثة أشياء: القلع وضمان الأرش، أو أخذ البناء والغراس، بالقيمة، وحمل المستعير على بيعهما منه بثمنهما قائمين، أو تبقيتهما في الأرض وإلزام المستعير أجرةَ المثل في مستقبل الزمان. وأي الأشياء

_ (1) في الأصل: إضرار بين. (2) في هامش (ت 2) ما نصه: حاشية: صحح الإمام الرافعي في الشرح أنه يلزمه تسوية الأرض، ووافقه الشيخ محيي الدين النووي على تصحيحه، ونبه عليه. وصحح في المحرر أنه لا يلزمه تسوية الأرض. واستدركه النووي في مختصر المحرر. والله أعلم. (3) (ت 2): الأرض.

اختار، فعلى المستعير الإجابةُ والرّضا. وهذا موقف يتعين عنده التنبه لسرِّ المذهب. 4527 - فالعاريّة في نفسها على الجواز، وحقها أن تبعد عن إحباط حق المستعير؛ فإنها لو أفضت إلى جواز إحباط حقه، لخرجت عن قياس المذهب، والمكرمات. فالذي يقتضيه الرأي السديد الجمعُ بين تخيير المعير في الرجوع، وبين الاجتناب من إبطار حق المستعير. والتخيير بين هذه الخلال أُضيف إلى المالك؛ فإنه صاحب الأمر. وما ذكرناه وإن نسبه الأئمة إلى ابن سريج، فهو مذهب كافة الأصحاب، فإن أراد المعير القلعَ، فامتنع المستعير، قلع عليه وله الأرش. وإن زعم أنه لا يريد الأرش، فهو حق ثبته الشرع له في هذا المقام، فإن لم يُردْه، فليسقطه. وإن طلب المعير أن يبيع المستعير منه البناء والغراس، فقد قال الأصحاب: حق على المستعير أن يجيبه إن أراد ألا يُحبط حَقه، ولم يريدوا بهذا إلزامَه البيع؛ إذ لا خلاف أنه لو أراد أن يقلع البناء عند طلب المعير القلعَ، فله القلع. ولكن قال الأصحاب: إذا لم يجب المعير إلى ما طلب، أفضى ذلك إلى قلع البناء مجاناً. ولو قال المستعير: هذا المعير يطلب مني البيع وأنا لا أريده، ولا أحبط حق المعير، بل أغرَم له أجرة مثل أرضه، في مستقبل الزمان، قيل له: ليس إليك تعيين الجهات؛ فإمّا الإسعافُ بما عينه، وإما تفريغ أرضه من غير طلب أرش. ولو قال المعير: بقِّ ذاك بأجرة، فقال المستعير: لست أبغي (1) ذلك، ولكن اشتر مني بنائي، قلنا: يستحيل إجبارُ المعير على ذلك، ولكنه يقال للمستعير من وقت طلب الأجرة: استمر عليك الأجرة، فإنه رجع عن التبرع بالمنفعة، فإن لم ترد الأجرة، ففرغ أرضَه. ثم إذا فرغ، لم يكن له أن يُلزمه أرشَ النقص. هذا حاصل كلام الأصحاب. وإذا أطلق المطلق القول بأن المعير إذا عين خَصلةً من الخصال الثلاث، فامتنع المستعير، قُلع عليه بناؤه مجاناً، لم يُشعر هذا بتمام البيان، حتى نوضحَ ما يليق باختيار كل خَصْلة كما ذكرناه. وهذا يعد مما يغمض

_ (1) (ت 2): أُبقي له.

تعليله، ولا غموض فيه بعد ما مهدناه في الأصل من اعتبار حق المستعير، مع تمليك المعيرِ الرجوعَ. 4528 - فلو قال المعير: لست أرضى بشيء من هذه الخصالِ، ولكني أَبْغي (1) أن يُقلع البناءُ والغراس مجاناً، قلنا: ليس لك ذلك، إذا لم يرض المستعير به. قال المزني: لو ارتفع إليّ المعير والمستعير، وكان المعير يبغي القلع من غير ضمانٍ، والمستعيرُ يأباه، لقلت: لا حكومة لكما عندي، فشأنكما حتى تعودا إلى ما يقتضيه الشرع. وهذا الذي ذكره صحيح (2). ولكن في عبارته لَبسٌ؛ فإنها مشعرة بقيام خصومة بين شخصين، مع تعذر فصلهما (3)، وليس الأمر كذلك؛ فإن المستعير ليس يطلب شيئاً، وإنما المعير يبغي أمراً يخالف وضعَ الشرع، فلا يجاب إليه. فإن ابتدر القلع، ضمن. نعم، في هذا المقام نظر: وهو أن المعير إذا قال ما ذكرناه، فيحتمل (4) أن نقول: تأخذ أجرة المثل في الثبوت في مستقبل الزمان، من وقت بداية ما أبداه؛ فإن ما ذكره رجوع في الشرع في العارية. ويجوز أن يقال: لا يثبت حتى يكون رجوعه على سمت الشريعة. وفي هذا الفصل بقايا سنذكرها في آخر كتاب المزارعة، في شرح الفروع (5)، إن شاء الله.

_ (1) (ت 2): أرضى. (2) في هامش (ت 2) ما نصه: "حاشية: في هذه المسألة وجه آخر ذكره الرافعي، عن الأصحاب، أن الحاكم يبيع الأرض مع ما عليها، من بناء أو غراس، ويقسم الثمن عليهما، على ما يقتضيه التوزيع. والله أعلم. وكيف يوزع؟ فيه وجهان: أحدهما - كما يوزع إذا بنى المرتهن، أو غرس في الأرض المرهونة. والثاني - يوزع على الأرض مشغولة بما فيها، وعلى ما فيها بمفرده، فما يقابل ما فيها يختص بالمستعير. والله أعلم". (3) (ت 2): قضاء. (4) (ت 2) ت محتمل. (5) يعني الفروع التي يفرعها على الأصول في آخر كل باب، وليس يعني كتاباً يسمى (شرح الفروع).

وحق الناظر في الفصل أن يضم تلك الفصول إلى هذا الموضع. 4529 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن المستعير لو قال: قيمة بنائي ألفٌ، وقيمة العرصة مائة، فبيعوا العرصة مني، ولا تكلفوني أن أبيع بنائي. قلنا: لا يجاب إلى ذلد؛ فإن العرصة وإن قلت قيمتها، لا تتبع البناء، بل البناء يتبع العرصة. ولا نظر إلى القيمة. هذا اتفاق الأصحاب. ولو اتفقا على بيع العرصة والبناء، لساغ ذلك، ثم في كيفية تقسيط الثمن على العرصة والبناء القائم كلامٌ للأصحاب، قدمته في كتاب التفليس وغيره، فليطلبها الطالب، وحاصله أنا نبغي قسمة الثمن على قيمة العرصة مشغولةً، وعلى قيمة الأشجار قائمةً، وفي كيفية ذلك تفصيل قدمتُه واختلافٌ للأصحاب، وهو بمثابة ما لو اشترى الرجل عرصة، وبنى فيها، ثم أفلس بالثمن. والجامع أن حق الرجوع ثابتٌ ثَمَّ بالفلس، وهاهنا بمقتضى الإعارة، والإحباط مجتنبٌ في البابين. ولو أراد المعير أن يمنع المستعير من دخول الدار التي بناها، فله ذلك، وللمعير أن يدخل تلك العرصة؛ فإنها ملكه، ولا يستند إلى الجدارات؛ فإنها ملك المستعير، ولا يتكىء عليها، ولا يمنع من الاستظلال بالسقوف. فإن قيل: هذا يضاهي قلعَ بنائه مجاناً، قلنا: المحذور أن يُحبط ملكَ المستعير في رجوعه، فأما أن يمنعه من الانتفاع بالعرصة، وينتفع هو بالعرصة، فلا منع في ذلك. ولو مست حاجة المستعير إلى دخول الدار لمرمّة الجدار، أو لاجتناء الثمار، ففي المسألة وجهان: أحدهما - ليس له ذلك؛ لأن العرصة ملك الغير. وهذا سرفٌ وفيه إرهاقٌ (1) إلى هدم البناء، وتعطيلِ الثمار. والصحيح أنه لا يُمنع من القدر الذي ذكرناه. وللمعير بيع العرصة؛ لأنها مملوكةٌ له ملكاً مستقراً. والمستعير لو أراد بيع البناء قائماً من غير المعير بغير إذنه، ففي صحة بيعه وجهان: أحدهما - أنه باطل؛ فإنه عرضة للنقض والقلع. والثاني - أنه صحيح؛ فإنه متصرف في حق نفسه، وتعرضُه للنقض لا يزيد على تعرض بيع المشتري للشقص

_ (1) إرهاق: أي إكراه وإرغام (معجم).

المشفوع لنقض الشفيع. ثم البيع نافذ بحكم الملك، وللشفيع نقضه بحكم الشفعة. 4530 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت العارية مطلقة، فأمّا إذا أقّت الإعارة بسنةٍ، أو سنتين، فلو أراد القلعَ قبل (1) انقضاء المدّة، فله ذلك على شرط الضمان، والقلع قبل تصرم المدّة في العارية المؤقتة كالقلعِ في العارية المطلقة متى شاء المعير. والكلام في ترتيب الخلال الثلاث، على ما مضى حرفاً حرفاً. فإذا انقضت المدَّة، فلو أراد المعير القلعَ مجاناً، لم يكن له ذلك عند الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: له القلع مجاناً (2). وزعم أن فائدة التأقيت للإعارة هذا. والذي رآه الشافعي أن فائدة التأقيتِ للإعارة تأقيت التبرع بالمنفعة بهذا الوقت، والأمد المضروب (3)، فإذا انقضت، فالمراد إلزامه الأجرة وإذا كان هذا ممكناً في قصد التأقيت، فلا يجوز الهجوم على إبطال ملك المستعير مع التردد. نعم، لو قال: أعرتك عرصتي سنة، فإذا مضت، قلعت بناءك مجاناً، فإذ ذاك له القلع مجّاناً؛ فإنه صرّح بما يُزيل الاحتمال. فالمسألة إذاً مأخوذة من قضية لفظية، لا من موجَب حُكمي. 4531 - ومما يتصل ببيان ما نحن فيه أنه لو أعار أرضاً ليزرعها المستعير، فإذا زرعها، فأراد المعير قلعَ الزرع، فالذي صار إليه الأصحاب أنه ليس له ذلك، ويتعين عليه إبقاء الزرع إلى أوان الحصاد، بخلاف البناء والغراس، والسبب فيه أن المعير ممنوع عن إحباط ملك المستعير، ولكن البناء لا منتهى له، وكذلك الغراس. ويبعد إجبار مالك الأرض على استدامة شغل أرضه أبداً بملك غيره، فكان المسلكُ الأقربُ الأقصدُ إلى رعاية الحقوق من الجانبين ما نظمناه في بيان الخصال الثلاث. ومدة

_ (1) (ت 2): بعد. (2) راجع هذا في كتب الحنفية: ابن عابدين: 4/ 505، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 188 مسألة 1877، الاختيار لتعليل المختار: 3/ 57، والبدائع: 6/ 217، ومختصر الطحاوي: 116. وفي كل هذه المظان لا يكاد يوجد هذا الحكم إلا رمزاً، وأصرحها عند ابن عابدين. (3) (ت 2): المصروف.

الزرع منتهية، ولا بدّ من رعاية حق المستعير، وأقرب المسالك في رعاية حقه تبقيةُ زرعه. هذا ما ذهب إليه الجمهور. وينضم إلى ما ذكرناه أن تغريم قيمة الزرع قبل الإدراك عسر لا يُهتدى إليه، فإن الزرع إذا كان بقلاً، فعاقبته مجهولة، فإن قومت بقلاً، فهذا إفساد وإحباط، وإن قومت بتقدير إدراكها، فلا مطّلع على هذا، وقيمة البناء والغراس بيّنةٌ في الحال. ثم قال الأصحاب: ليس للمعير قلعُ الزرع، ولكن لو رجع عن العاريّة، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه يستفيد بالرجوع إلزامَ المستعير الزارع أجرةَ المثل، من وقت الرجوع. وأبعد بعض الأصحاب، فقال: لا يملك ذلك، والمنافعُ صارت في حكم المستوفاة، والمستعير إذا استوفى المنافع، لم يلتزم بعد استيفائها [أجرةً] (1) وهذا حكاه العراقيون، وهو بعيد. ومن تمام القول في ذلك أنه لو ضرب في إعارة الأرض للزرع مدّة، فاتفق استئخار الزرع في الحصاد عن منتهاها بسبب اختلاف الهواء، فلا يُقلع الزرع وراء المدة أيضاً، للترتيب الذي قدمناه. هذا مسلك أئمة المذهب. 4532 - وذكر صاحب التقريب وراء ذلك تصرفاً حسناً، نحكيه على وجهه: فقال: من أقّت إعارة عرصة للبناء، فإذا بنى المستعير، فظاهر المذهب أن للمعير أن يرجع ويقلعَ قبل انقضاء المدة، ويغرمَ أرش النقص، كما مهدناه قبلُ. قال صاحب التقريب: لا يمتنع أن نقول ليس له أن يقلع كما ذكرناه في الزرع، والجامعُ بيِّن، ثم انعطف على الزرع، وقال: إذا قلنا: للمعير في العارية المؤقتة قَلْعُ البناء قبل انقضاء الوقت، فلا يمتنع أن نقول: له أيضاً قلعُ الزرع قبل الإدراك، فخرّج في كل واحدةٍ من المسألتين جواباً من أصل المذهب، من الأخرى (2).

_ (1) في الأصل: "حق" والمثبت من (ت 2). (2) (ت 2): أخرى.

وهذا من تصرفه وتخريجه. والصحيح ما ذهب إليه الأصحاب. والفرق بين التأقيت في البناء، والتأقيت في الزرع أن الزارِع يستفيد بترك زرعه إلى الحصاد التوصُّلَ إلى حقه المطلوب في الزرع، والثاني لا يستفيد بترك بنائه التوصلَ إلى حقه عند انقضاء المدة، إذا كان البناء مقلوعاًعليه بعد انقضاء المدة. ثم لا حاجة في الزرع إلى ذكر مدةٍ؛ فإن إعارة الأرض للزرع تُشعر بشغل منفعة الأرض بالزرع، في الأمد المعتاد في الزرع. وإذا قال صاحب التقريب: للمعير قَلْع الزرع (1)، فإنه يغرّمه أرشَ النقص، ولا يقوّم الزرع بقلاً مقلوعاً، ولكنه يقومه بقلاً قائماً في حق من يبغي تبقيته، ويقول: ما قيمة هذا الزرع الآن في حق عازم على تبقيته. 4533 - ومما يتعلق بهذا الفصل من قواعد المذهب تفصيلُ القول في إعارة رأس الجدار لوضع الجذوع. وأطلق المحققون: أنه إذا أعار رأسَ الجدار لوضع الجذوع، فله الرجوع عن العارية قبل اتفاق الوضع، وليس له القلع، ولا إلزامُ الأجرة، ولا تكليفُ الواضعِ بيعَ الجذوع منه. وما قدمناه من الخِيَرة في الخلال الثلاث الأخرى هاهنا. ثم انتهى كلامهم إلى أن قالوا: لو انهدم الجدار، فأعاد مالكه بناءه، نُظر: فإن أعاده بطوب جديدٍ وحجارة مستحدثة، لم يكن لصاحب الجذوع أن يعيد جذوعه إلا بإعارة جديدةٍ. وإن أعيد الجدار بأعيانِ ما كان فيه من طوبٍ وحجر، فهل للمستعير إعادةُ جذوعه من غير إعارةٍ مُجددةٍ، فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب. وهذا الفصل يحتاج إلى مباحثةٍ وأنا أقول والله المستعان. إنما قطع الأصحاب خيرة المعير أولاً لمعنىً، وهو أنا لو ملّكناه القلع، لم يقتصر هدمُه على رفع رؤوس الجذوع من جداره، بل يؤدي الهدم إلى تغيير الجذوع عن

_ (1) (ت 2): زرعك.

منابتها على ملك مالكها أيضاً. وإنما لم يملكوه (1) الحملَ على الابتياع؛ فإنه لا غرض في ابتياع (2) رؤوس الجذوع، ولا مطمع في ابتياع جملة الجذوع الخارجة عن مسامتة الجدار. ولم يملّكوه إلزامَ المستعير الأجرةَ؛ لأنه لا أجرة لرأس جدارٍ، وليس مما تقابل منفعتُه بأجرة تبذل، فلو صوّر المصوّر إعارة رأس الجدار على خلاف هذا الوجه، لاختلف الحكم، فنفرض رأسَ جدارٍ تُقابَل منفعتُه بأجرة، ونفرض بناءً منتصباً مستقلاً بالاعتماد عليه. فإن كان كذلك، فرأس الجدار كالعرصة في الخلال الثلاث. وهذا لا شك فيه. فإن قيل: إذا كان الأمر على ما صوّره الأصحاب قبلُ، فهلاّ (3) مَلَك إجبارَ المستعير الواضعِ على أن يشتري منه حق البناء؟ قلنا: إن كان لحق البناء قيمة، فله أن يَجْبُر عليه، وهو بعينه يناظر أجرة المثل في العرصة. فإذا انكشف أصل المذهب، وبان أن لا فرق، ولا اختلاف، وبقي الكلام فيما ذكره الأصحاب من الخلاف في أنه هل يعيد واضعُ الجذوع بعد إعادة البناء؟ فالذي أراه أن هذا الخلاف ليس في استحقاق الإعادة، وإنما هو كلام في أن الإعارة الأولى هل تُشعر بالتسليط على الإعادة، حتى لا يحتاجَ إلى مراجعةٍ، أم لا بد من فرض مراجعة؟ ولا يجوز أن يقال: لَوْ منع صاحبُ الجدارِ بعد إعادته من وضع الجذوع، فلصاحب الجذوع الإعادةُ قهراً؛ فهذا لا سبيل إليه. وقد نجز تمام الغرض من هذا الفصل. فرع: 4534 - إذا استعار رجل أرضاً ليدفن فيها ميتاً، فللمعير الرجوع قبل اتفاق الدفن، وإذا اتفق الدفنُ، لم يملك الرجوعَ؛ فإن في الرجوع [هتكَ] (4) حرمة الميت بالنبش. ولا فرق بين أن يقرب العهد بالدفن، بحيث لو فرض النبشُ، لكان يُلفَى الميتُ متغيراً، وبين أن يبعد العهد؛ فإن في نبشه هتكَ الحرمة. ولذلك يحرم النبشُ

_ (1) (ت 2): يملكوها. (2) (ت 2): بيع. (3) (ت 2): فهل لايملك. (4) في النسختين: ترك.

من غير ضرورة. ثم منتهى العارية امّحاق أثر المدفون. ولو كان للمعير في تلك البقعة أشجارٌ، فأراد سقيها، نُظر: فإن كان السقي يخرق موضع الدفن بحيث يُبدي (1) من المدفون شيئاً، منع. وإن كان لا يؤدي إلى هذا، لم يُمنع، ولا حكم لنقش القبور إذا زال. فرع: 4535 - إذا جاء السيل بنواةٍ من ملك إنسان، فنبتت في أرض آخر، وأنبتت شجرة، فلا شكّ أنها لمالك النَّواة، فلو أراد صاحب الأرض قلعها مجاناً من غير أن يغرَم ما ينقصُه القلع، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك. وهو الصحيح؛ فإنها نبتت في أرضه من غير إعارته وإذنه، فليقلعها قلعَ شجرةِ الغاصب إذا غرس. والوجه الثاني - أنها كشجرة المستعير؛ فإن صاحب النّواة لم يجن بإنباتها، فكان كالمستعير. والأصح الوجه الأول. فرع: 4536 - إذا أودع رجل ثوباً عند إنسانٍ، وائتمنه فيه، وقال: إن أردت أن تلبسه، فالبسه. قال الأصحاب: الثوب أمانة قبل أن يفتتح (2) اللُّبس، فلو تلف، لم يضمنه. وإن ابتدأ اللُّبسَ، صار عاريّة مضمونةً. قال صاحب التقريب: لو قلت: إنها عارية مضمونة عليه قبل اللبس؛ لأنها مقبوضة على تقدير الانتفاع، لم يكن ذلك بعيداً، قياساً على العين المأخوذة على سبيل السوم؛ فإنها مضمونة؛ لأنها مقبوضة على توقع عقد ضمانٍ، وهو البيع. قال صاحب التقريب: ولو قيل: لا ضمان في المأخوذ على سبيل السوم، لم يبعد، قياساً على الوديعة المقبوضة على قصد الانتفاع. وهذا الذي قاله قياسٌ، وليس مذهباً؛ فإنا لا نعرف في تضمين الأخذ على سبيل السّوم خلافاً.

_ (1) (ت 2): يندِّي. (2) (ت 2): يفسخ.

فصل يجمع مسائل عن استعمال الإنسان غيرَه من غير ذكر الأجرة 4537 - فإذا قال رجل لغسّال: اغسل ثوبي هذا. فإن سمى له عِوضاً، صحيحاً، فإجارة. وإن قال: إن غسلت ثوبي ذلك عليّ درهم، فالمعاملة جُعالة، على ما سيأتي شرح الإجارة والجعالة، وخواصهما. وإن قال: اغسله وأنا أرضيك وأعطيك (1) حقَّك، فهذه إجارة فاسدة، فإذا غسل استحق أجرةَ المثل. وإن قال: اغسله مجاناً. فإذا غسل، لم يستحق شيئاً. وإن أطلق (2 ولم يتعرض 2) لإثبات العوض ونفيه، ففي المسألة أوجه ثلاثة: أحدها - أنه لا يستحق شيئاً؛ لأنّه لم يجرِ ذكرُ العوض. والثاني - يستحق؛ فإنه، لم يجرِ ذكر نفي العوض. والثالث - أنه نفصل بين أن يكون معروفاً بذلك مشهوراً باستبدال العوض عليه، وبين ألا يكون كذلك. فإن كان معروفاً، استحق الأجرة، وإلا، فلا. ويمكن أن يقال: إن لم يكن معروفاً، اختلف الأمر بالمرتبة، فإن كان مثله لا يطالِب على مثل هذا عوضاً، فلا عوض، وإلا فيجب. وهذا يناظر اختلاف المذاهب في الهبة المطلقة، واقتضائها الثوابَ، على ما سيأتي مشروحاً في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى. وإذا جلس بين يدي الحلاق، ولم يسم له شيئاً، فحلق رأسه، ففي استحقاق الأجرة الخلافُ (3) الذي ذكرناه. ولو دخل حماماً، والحمامي ساكت، فأراق الماء، وسكن في الحمام ما سكن، فعليه قيمةُ ما أتلف من الماء، وأجرةُ مدّة سكونه وكَوْنه فيه؛ فإنه أتلف الماء والمنافعَ. قال الأصحاب إن وفّر قيمة ما أتلف، فذاك، وإلا فما حبسه في ذمته،

_ (1) (ت 2): وأعطيت. (2) ساقط من (ت 2) ما بين القوسين. (3) (ت 2): للحلاق.

وهو مطالب به، إلا أن يسامحه صاحب الحمام. ولا يقاس ماء الحمام بما يتكلف المرء تسخينَه في بيته؛ فإن تسخين الماء في الحمام يسير، لمكان الآلات العتيدة فيه. وأجرة الدّلاك (1) ومن يخدم بوُجوه (2) الخدمة، كأجرة الحلاق. وهذه المسائل يشترك فيها أصلان: أحدهما - إقامة قرائن الأحوال مقام القول. وهو أصل نستقصيه في باب الوليمة، حيث نذكر تقديم الطعام إلى الضيفان، ولَقْطَ ما ينثر وغيرَها. هذا أصل. والثاني - ما ذكرناه من ترك ذكر الأجرة. وذكر القاضي وجهين في أن المعاطاة هل تكون بيعاً؟ تخريجاً على هذا الأصل، وهو إقامة القرائن مقامَ اللفظ. وهذا يناظر خلافَ الأصحاب في أن إشارةَ الناطق في العقود والحلول هل تحل محلّ نطقه؟ ولهذا اتصال بعقد البيع بالكتابة (3). وسنذكر مسائل الكتابة في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى. ...

_ (1) (ت 2): الدلال. (2) (ت 2): موجره. (3) في (ت 2): "الكِتْبة" وهي أيضاً مصدر (كتب يكتب) كتابةً وكِتْبَةً.

كتاب الغصب

كتاب الغصب 4538 - الأصل في أحكام الغصوب الكتاب، والسنة، والإجماع، فأما الكتابُ، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] اشتملت الآية على تحريم التسالب والتناهب، وإنما التجارة الصادرة عن تراضٍ. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" (1) وقال "من ظلم شبراً من الأرض طُوّقه من سبع أرَضين يوم القيامة" (2). وأجمعوا على تحريم الغصب. ومعظم قواعده في الضمان. 4539 - والغصب هو: "الاستيلاء على ملك الغير بغير حق" (3). وإنما يحصل الاستيلاء بإزالة يد المستحق، واستحداث يدِ الضمان، ولا حاجة إلى التقييد بالعدوان، فقد ثبت الغصب وحكمُه من غير انتسابٍ إلى عدوان؛ فإن من أودع ثوباً عند إنسانٍ، ثم جاء وأخذ ثوباً للمودَع على تقدير أنه الثوب الذي أودعه؛ فإنه يضمنه

_ (1) حديث: "على اليد ما أخذت ... " رواه أحمد: 5/ 8، 12، 13، وأبو داود: البيوع، باب ما جاء في تضمين العارية، ح 3561، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة، ح 1266، وابن ماجة: الصدقات، باب العارية، ح 2400، والحاكم: 2/ 47، وانظر التلخيص: 17/ 13 ح 1287. (2) حديث: "من ظلم شبراً من الأرض ... " متفق عليه من حديث عائشة. البخاري: بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، ح 3195، ومسلم: المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، ح 1612، وانظر التلخيص: 3/ 118 ح 1291. (3) في هامش (ت 2): حاشية. قال النووي رحمه الله تعالى: الأصح في حد الغصب: إنه الاستيلاء على حق الغير بغير حق. ليدخل فيه من غَصَبَ الكلبَ وجلدَ الميتة، فإنه يطالب بالرد، وما استولى عليه ليس مال الغير، حق الغير. (هذا ما أمكن فهمه من هذه الحاشية. وانظر: الروضة: 5/ 3).

ضمان الغَصبِ، والمودَع لو استعمل الثوبَ الموضوع عنده على تقدير أنه ثوبه المملوك، ضمنه ضمان الغصب،؛ فلا حاجة في تصوير الغصب إلى ذكر العدوان. ولو حال بين المالك وبين ملكه، وكان ذلك سببَ ضياع ملكه، لم يلزمه الضمان. مثل إن كان رجل يسوق بهيمة له، فمنعه ظالم من اتباعها، وحبسه، فضاعت البهيمة، لم يلزمه الضمان. ولو أمر إنساناً بالغصب، فالغاصب ذلك المأمور-إذا استولى- دون الآمر ولو دلّ الظلمة والسرّاقَ على أموال خفيةٍ عنهم كانوا لا يهتدون إليها دون دَلالةِ مَنْ دلهم، فلا ضمان على الدال. فتبين أن الغصب هو الاستيلاء على مال الغير بغير حقٍ. فإن قيل: إذا صادف رجل عيناً مغصوبة في يد غاصبها، فانتزعها من يده ليردها على مالكها فما ترون في ذلك؟ قُلنا: فيه اختلافٌ مشهور بين الأصحاب، ذهب بعضهم إلى أنه لا يضمن؛ لأنه محتسب، وذهب آخرون إلى أنه يضمن؛ لأنه ليس له ولاية وتسليط على إزالة أيدي الغصاب، والتعرض لأمثال ذلك من شأن الولاة، ثم جواز الأخذ مبني على الضمان، فمن ضمَّنه، لم يُجِز له أن يأخذ، ومن لم يضمّنه سوّغ له أن يأخذ. والملتقط مثبت يدَه على مال الغير، ولكنه متسلط شرعاً على أخذه، كما سيأتي تفسير [اللقطة] (1) في كتابها، إن شاء الله تعالى. وقد نص الشافعي على أن من صادف عين مال المسلم في يد حربي، فله أن ينتزعه، ولو تلف في يده، لم يضمن، فقال الأئمة: ما نص عليه مقطوع به، وليس على الخلاف الذي ذكرناه في إزالة يد الغاصب. والسبب فيه أن الحربي ليست يده يدَ ضمان، فالأخذ منه ليس مترتباً على يد ضامنةٍ، وليس كذلك الأخذ من الغصّاب. ثم إن الشافعي ذكر في صدر الكتاب جملاً من أحكام الجنايات، فاعترض المعترضون، وقالوا: كان الترتيب يقتضي أن يذكر صدراً من أحكام الغصب في أول الكتاب، فقيل لهم: الغصب سبب من أسباب الضمان، وليس هو في نفسه مضمناً، فأراد الشافعي أن يستفتح الكتاب بأحكام الجنايات والإتلافات، ثم رتب عليها اليدَ

_ (1) في الأصل: اللفظ.

الغاصبة المتسببة (1) إلى الضّمان. 4540 - ثم الوجه أن نذكر تقسيماً يحوي قواعد الضّمان ويجري من الكتاب مجرى الجُمل الدالة على التفاصيل، فنقول: جملة المضمونات قسمان: مال، وغير مالٍ. فغير المال الأحرارُ. وهم يضمنون بالجناية، وهي تنقسم إلى المباشرة، والتسبب. ومحلها النفس، والطرف. وضمان النفس بيّن، وبدله مقدّر، وأروش الأطراف تنقسم إلى ما يتقدّر، وإلى ما لا يتقدر. ومواضع استقصاء هذه الأصول الجراح والديات، ولا يتطرق إلى الأحرار سبيل الضمان باليد. ولا فرق بين أن يكون صغيراً أو كبيراً. قال الشافعي: إذا غصب الرجل حراً صغيراً، وحمله إلى أرض مَسْبَعَة، فافترسه سبع، أو إلى أرض مَحْواة (2)، فنهشته حيّة، فلا ضمان. فإن قيل: هل يجب على من فعل هذا مؤونة (3) رده إلى موضعه؟ قلنا: القول في ذلك لا يجري على قاعدة رد الغصوب، ولكن كل من صادف (4) مثلَ هذا الشخص في مضيعة، واستمكن من رده، لزمه ذلك، ولا يختص وجوبُ ما ذكرناه بمن اعتدى بحمله إلى المضيعة، بل هو جار في حق كل متمكن من الإنقاذ. ثم يكفي أن يُرَدَّ إلى مأمن، وإن لم يكن موضعه الذي أخذ منه، وما يبذله الباذل في إنقاذه ينزل منزلة الطعام يوجَرُه المضطرَّ. وإذا أوجر رجلٌ مضطراً طعاماً، ففي ثبوت الرجوع على الموجَر بقيمة الطعام خلاف، سيأتي، إن شاء الله. ولا فرق في ذلك بين من اعتدى أولاً وبين [من] (5) ينتهى إليه، ويسعى في إنقاذه. وهذا رمز إلى هذا القسم، ذكرناه لإقامة رسم التقسيم.

_ (1) (ت 2): المنتسبة. (2) مَحْواة: كثيرة الحيات. (معجم). (3) في هامش (ت 2) ورقة 60: حاشية: قال في الروضة: قال المتولي: يجب عليه ردّ الحر الصغير والكبير إذا كان غرض في الرد إلى موضعهم، ومؤنة الرد على الناقل لتعديه، والله أعلم. (وانظر الروضة: 5/ 15). (4) (ت 2): صادق. (5) في الأصل: أن.

4541 - وأما المال، فإنه قسمان: حيوان، وغير حيوان. فالحيوان قسمان: آدمي، وغيرُ آدمي، فأما الآدمي، فإنه يضمن بالجناية، وباليد. والجناية تنقسم إلى المباشرة والسبب، ومحلها النفس والطرف. فأما الجناية على النفس، فموجبها بعد تفصيل القصاص القيمةُ بالغةً ما بلغت. وأما الطرف، فما لا يتقدر أرشه من الحر لا يتقدر أرشه من العبد، وما يتقدر أرشه من الحر ففي تقديره من العبد قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن ما يتقدر من الحر يتقدر من العبد: قال الشافعي: "جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته" ففي يد العبد نصف قيمته. وإن كان النقصان أقل من ذلك أو أكثر منه، فلا اعتبار بالنقصان، وإنما الواجب المقدر الذي ذكرناه. والقول الثاني - نصّ عليه في القديم، وهو مذهب مالكٍ (1) أنه يجب في الجناية على أطراف العبد ما ينقُص من قيمته. فلو قطع يدي عبدٍ قيمتُه ألف دينار، فعاد إلى مائةٍ، فجاء آخر، فقطع رجليه، وعاد إلى عشرة، فجاء آخر، وفقأ عينيه، فعاد إلى دينار، فجاء آخر فقتله. فعلى الجديد: على الأول ألف. وعلى الثاني مائة، وعلى الثالث عشرة. وعلى القديم: على الأول تسعمائة، وعلى الثاني تسعون، وعلى الثالث تسعة، وعلى الرابع دينار. والقول القديم موجَّه بتغليب المالية في ضمان العبد؛ ولذلك لا تتقدر قيمته، والرجوع في مبلغها إلى تقويم السوق. والقول الجديد موجّه بالشبه البالغ عند الشافعي المبلغَ الأعلى، وذلك أن العبد في منافعه وأعضائه كالحر، وإنما يفترقان في حُكم الرق والحرية، فإذا كانت يد الحر بمثابة نصفِه، وغناءُ يدِ العبد من العبد كغناء يد الحر من الحر، كان بمثابة نصفه أيضاً. واختار ابن سريج القولَ القديم، ثم قال: مفرعاً على الجديد يجب في يدي

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 821 مسالة: 1568، جواهر الإكليل: 2/ 153.

العبد كمالُ قيمته؛ تفريعاً على الجديد، إلا في حكم واحد، وهو إذا اشترى الرّجل عبداً، ثم إنه قَطعَ يديه في يد البائع، فلا نجعله قابضاً للعبد، ويعتبر في التفريع على الجديد في هذا الحكم ما ينقصُ من القيمة؛ فإنا لو لم نقل ذلك، للزمنا أن نجعل المشتري قابضاً للعبد، والعبد المقطوع في يد البائع بعدُ. وهذا مستحسن من تفريعات ابن سريج. وذهب بعض أصحابنا إلى أنا نجعل المشتري قابضاً حكماً، لتمام العبد، ويسقط ضمان العقد في العبد الباقي في يد البائع. وهذا ضعيف جداً. فهذا إشارة إلى أصول الضّمان في الجنايات على العبيد. 4542 - والعبد يضمن باليد، كسائر الأموال. وضمان اليد يجري عندنا في أم الولد، والمكاتب، فلو استولى غاصب على مكاتب، وأمّ ولد وماتا في يده، ضمنهما، فالعبيد في حكم اليد ملتحقون بأصناف الأموال. ولو غصب غاصب عبداً، وقطع يده، ونقص من قيمته ثلثاها، فأما القديم، فلا يخفى التفريع عليه. وإن فرعنا على الجديد، ضمّناه نصفَ القيمة، لمكان الجناية وسدساً آخر، لمكان اليد العادية. ولو غصب عبداً، فسقطت إحدى يديه بأَكَلة [و] (1) نقص من قيمته ثلثها فإذا فرعنا على القديم، لم يخف الحكم. وإذا فرعنا على الجديد، فالأصح أنا لا نوجب إلا الثلث؛ فإن اليد إنما تقابل بنصف القيمة في الجناية، وليست المسألة مفروضة في الجناية. 4543 - ثم مما يلتحق بهذا القسم أن المملوك، يضمن عينه وأجزاؤه، ويضمن منفعته، واليد تثبت من منافع المملوك على كل منفعةٍ يجوز الاستئجار على قبيلها (2). ويجوز أن يقال: في تقسيم المنفعة: إنها تنقسم إلى منفعة الحر، وإلى منفعة

_ (1) مزية من (ت 2). (2) (ت 2): مثلها.

العبد: فأمَّا منفعة الحر، فهي مضمونة بالإتلاف، لا خلاف على المذهب فيه. فلو قهر حراً، واستسخره، ضمن أجر مثل منافعه. وإن حبسه في بيتٍ، وعطل منافعه، فوجهان: أحدهما: أنه يضمن أجر المثل. والثاني - لا يضمن؛ لأن الحر لا تحتوي اليد عليه. ولو استأجر الرجل حراً، فجاء، ومكن المستأجر من استيفاء المنفعة، فمضى زمانٌ يسع إمكانَ الانتفاع المستَحق، ففي تقرير الأجرة الوجهان المذكوران في وجوب أجر المثل بحبس الحر. هكذا قال القاضي وغيرُه. ثم قال القاضي: لو استأجر حراً، أو أراد أن يؤاجره، فالقول في تصحيح إجارته يخرّج (1) على ما ذكرناه: فإن جعلنا منفعة الحر في الحبس بالعدوان وفي تقرير الأجرة المسماة من عقد الإجارة كمنفعة العبد، فإجارة الحر المستأجَر كإجارة العبد المستأجر. وإن قلنا: لا تثبت اليد على منافع الحر في الأصول التي ذكرناها، فلا تصح إجارة الحر المستأجَر؛ فإنّ منفعته لا تدخل في ضمان المستأجَر، إلا عند وجودها، وتسليمها الحقيقي، ولا يصح إيراد العقد على المنفعة التي لم نقدر حكماً دخولها في يد المستأجر وضمانه. هذا في منفعة الحر. فأما منفعة المملوك، فإنها تضمن بالإتلاف واليد. فلو حبس عبداً، ضمن أجرة مثله في مدة الحبس. ومنفعةُ البضع مستثناة من المعاقد التي نجمعها. 4544 - فأما غير الآدمي من الحيوانات، فيُضمن بالجناية واليد. فإن أتلفت، فالقيمة. وإن جنى على أطرافها، فما نقَص من قيمتها. وسئل القفال عمَّن جنى على بهيمة، (2 وكانت قيمة مثلها يوم الجناية مائة، فسرت الجراحة، وأهلكتها، وقد انحطت القيمة بالسوق 2)، فكانت قيمة مثلها، يوم الهلاك خمسين، فما المعتبر؟ فقال: يعتبر أقصى القيم من الجراح إلى يوم الهلاك؛ فإنا إذا كنا نعتبر الأقصى في اليد

_ (1) (ت 2): تخريج. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

وليست اليد سببَ الهلاك في المغصوب، فاعتبار الأكثر في [الجروح] (1) أوْلى. فهذا ما أردناه في الحيوان. 4545 - وأمّا غيرُ الحيوان ينقسم (2) إلى النقد، وإلى غيره، فأمّا ما ليس نقداً ينقسم إلى المثلي والمتقوم، فالمثلي يُضمن بالمثل في الجناية واليد إن كان المثلُ موجوداً (3)، وإلا، فالقيمة، إن عدمنا المثل. فالأصل على الغاصب ردُّ العين، فلو فاتت، وكانت من ذوات الأمثال، فالمثل أقرب ما دمنا نجده. وإن لم تكن العين من ذوات الأمثال، فالواجب القيمة. 4546 - ونحن الآن نذكر أصولاً ضابطة في ذوات الأمثال، ولتقع البداية بحدِّ ذوات الأمثال. قال القفال: ما كان مكيلاً، أو موزوناً، وصح السلم فيه، وجاز بيع بعضه بالبعض، فهو من ذوات الأمثال (4). أمّا الكيل والوزن؛ فلأن غير المقدرات لا تتقارب أجزاؤه في القيمة والمنفعة، وأما اشتراط السلم؛ فلأن المسلم فيه يثبت في الذمة موصوفاً، فليكن المثل الواجب ممّا يصح وجوبه في الذمة. وأمّا اشتراط بيع البعض بالبعض، فسببه أن مايجوز بيع بعضه ببعضٍ داخل تحت ما يتقابل على التبادل، ونحن نريد في المثليات أن نُقيم المثل بدلاً عن المتلف. وحذف بعض أصحابنا الشرطَ الأخير، وهو جواز بيع البعض بالبعض. وينشأ من إثبات ذلك وحذفه خلافٌ بين الأصحاب في أن الرطب والعنب وما في معناهما مما يتماثل أجزاؤه، ويمتنع بيع بعضه بالبعض. هل هو من ذوات الأمثال؟ حتى يجبَ على متلِف الرطب والعنب مثلُ ما يتلف؟

_ (1) في النسختين: الخروج. (2) نذكر بمذهب المؤلف في ترك الفاء في جواب (أما). (3) (ت 2): مرجواً. (4) في هامش (ت 2): حاشية: قال النووي في الروضة: الأصح في حده أنه ما يحصره كيل أو وزن، ويجوز السلم فيه. والله أعلم. (ر. الروضة: 5/ 19).

قال القاضي: يرد على الحد الذي ذكره القفال القماقم الموزونة والملاعق والمغارِف؛ فإنها موزونة ويجوز السلم فيها، ولا يمتنع بيع بعضها بالبعض، وليست من ذوات الأمثال. والسبب فيها أنها مختلفة الأجزاء، ويندر اتفاق اثنين منها في الصفات. والفقه المرعي عندنا في حدّ ذوات الأمثال أن تكون متساويةَ الأجزاء في المنفعة والقيمة، فهذا حقيقة التماثل. وإلى هذا مال العراقيون، ولم يتعرضوا للسلم، وقضَوْا بأن الرطب، والعنب، من ذوات الأمثال. وكذلك الدقيق وما في معناها. فهذا مأخذ التماثل. ثم ما كان كذلك يحصره الكيل والوزن، ويصح السَّلم فيه؛ فإنه يكون مضبوطَ الوصف. وأمَّا إخراج الرطب والعنب عن المكيلات، فلا معنى له؛ فإنه إنما امتنع بيعُ بعضه بالبعضِ تعبّداً من الشارع، يشير إلى تفاوتٍ عند كمال الادخار. وما لهذا وما نحن فيه من التماثل ومقابلة الشيء بما يماثله في الصفات. وذكر شيخي وجهاً أن المقدَّرات متماثلةٌ، وهي الموزونات والمكيلات. وهذا بعيد، ولكن للشافعي نصٌّ -قبل فصل صبغ الثوب- يدل على هذا. 4547 - هذا قولنا فيما هو من ذوات الأمثال، ونقول بعده: إذا أعوز المثل، فالرجوع إلى القيمة، والقول في ذلك ينبسط، ولنقلة المذهب فيه خبط خارج عن ضبط معظم علمائنا، وقد جمعت طرقَ الأصحاب على بحث وتثبت، ونحن نذكر الطرق: طريقة، طريقة، ثم نذكر مأخذ كل فريق، وما حملهم، على تشبث الرأي وافتراق المذاهب، ثم نذكر ما يخرج من جميع الطرق. 4548 - ونبدأ بطريقة الشيخ أبي علي، فهو أحسن الأصحاب سياقةً لغرض هذا الفصل: فإذا غصب الرجل شيئاً من ذوات الأمثال، وأقام في يده ما أقام، ثم تلف والمثْلُ موجود، وتمادى الزمن، ثم أعوز المثل، وكان الرجوع إلى القيمة. فالقيمة بأية حالةٍ تعتبر؟

ذكر الشيخ أبو علي ثلاثة أوجهٍ: أحدها (1) - أنا نوجب أعلى قيمة وأكثرها، من يوم الغصب إلى يوم إعواز المثل. وهذا منقاس حسن، ووجهه أن من غصب عيناً من ذوات القيم، وأقامت في يده، ثم تلفت، فإنا نوجب أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى. وسبب إيجاب الأقصى أنا نقول: ما من حالة تُفرضُ (2) فيها قيمة إلا والغاصب كان مخاطباً فيها برد العين المغصوبة، فإذا لم يردّ، فقد فوّت الرد؛ فلزمه بدلُه. وهذا المعنى يتحقق في وجود المثلي؛ فإنه كان الغاصب مخاطباً بالرد في كل حالٍ. ولما تلف المغصوب المثلي، وكان المثل موجوداً، كان مخاطباً [ببذل] (3) المثل في كل حالٍ فلما قصّر، اعتبرنا في حقه الأقصى من يوم الغصب، إلى يوم الإعواز. ولا نظر إلى تفاوت القيمة بعد الإعواز، كما لا نظر إلى ارتفاع القيمة بعد تلف العين المغصوبة. هذا وجه. والوجه الثاني - أنا نقول: يعتبر أقصى القيم للمثلي من يوم الغصب، إلى تلف العين، ولا يعتبر ارتفاع القيم في زمان وجود المثل؛ فإنَّا إنما نعتبر قيمة المغصوب، والمغصوب هو العين التي تلفت في يد الغاصب، فلا معنى لاعتبار القيمة بعد تلفها. وإن كان وجود المثل مطرداً. والوجه الثالث - الذي ذكره الشيخ أنا نعتبر القيمة في وقت بقاء المثلي المغصوب في يد الغاصب، ولا نعتبر القيمة أيضاً بعد تلفه في وقت بقاء المثلي (4)، وإنما نعتبر قيمة يوم المطالبة. أما عدم اعتبار القيمة يوم وجود المثلي المغصوب، فسببه أن المثلي يعتبر مثله ما وجد المثل، ولا تعتبر قيمته، وكذلك إذا اطرد وجود المثل، فلا معنى للنظر في القيمة، ولما أعوز المثل، فاعتبار القيمة بذلك الوقت (5) لا ينضبط؛ فإنا لا نتحقق الإعواز إلا عند الطلب، والبحث عن المطلوب الواجب؛ فقد انسد

_ (1) في النسختين: أوّلاً أحدها. (2) (ت 2): تعرض. (3) في النسختين: ببدل. بالدال المهملة. (4) (ت 2): وجود المثل. (5) ساقطة من (ت 2).

اعتبار القيمة في وجود المغصوب، وفي اطراد المثل؛ لامتناع اعتبار القيمة مع المثل، ولم نعتبر أيضاً ما بعد الإعواز، لاستبهام الأمر، وردَدْنا النظر إلى اعتبار يوم الطلب، حتى قال رحمه الله في بيان ذلك: لو طلبَ يومَ السبت فلم ينتجز توفير حقه، فعاد بعد أيام، وقد اختلفت القيمة، فالاعتبار بقيمة الوقت الذي يتفق فيه توفيةُ الحق. وهذا الوجه مضاد للوجهين المتقدمين عليه؛ فإن صاحب الوجه الأول يعتبر [القيمة] (1) حالَ بقاء المغصوب، وحال اطراد وجود المثل. ويجعل هاتين الحالتين بمثابة حالة بقاء العين المتقوّمة المغصوبة. وصاحب الوجه الثاني يعتبر حالة بقاء المثلي (2) في يد الغاصب، ولا يعتبر ما بعد تلفه. وكل واحد من القائلين يعتبر بقاء شيء. وصاحب الوجه الثالث يرى اعتبار القيمة مضاداً لوجود (3 المثلي ثم لوجود 3) المثل بعد تلفه، ويحيل تقدير القيمة مع وجود أحدهما، فيقع هذا ضد المسلكين. ولئن كان يبعد اعتبار القيمة لإمكان المثل، فلأن يبعد اعتبار القيمة مع وجود العين المتقومة أولى، وللمثل قيمة في السوق، كما للمتقوم قيمة، فلاح أن الوجه الثالث مزيف. 4549 - وحكى الشيخ أبو علي (4) عن أبي الطيب بن سلمة عبارة عن الخلاف حسنة، نذكرها، ثم نستخرج ما فيها، قال أبو الطيب: إذا عدلنا إلى القيمة عند إعواز المثل، فهذا الواجب قيمةُ العين المغصوبة، أو قيمةُ مثلها بعد تلفها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الواجب قيمة المغصوب، فعلى هذا نعتبر أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم تلف المغصوب. والوجه الثاني - أن الواجب قيمةُ المثل لا قيمةُ عين المغصوب؛ فإن المغصوب لما تلف، ثبت في الذمة وجوبُ مثله، ووقع التحول من العين إليه، فلما أعوز المثل، كان إيجاب القيمة بسبب إعواز المثل، فالواجب إذن

_ (1) في النسختين: قيمة. (2) (ت 2): المثل. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (4) (ت 2): الشيخ أبو علي، عن أبي علي، عن أبي الطيب بن سلمة. وفي الأصل ضربٌ واضح على (عن أبي علي).

قيمة المثل؛ فعلى هذا يعتبر أقصى القيم، من تلف المغصوب إلى انقطاع المثل وإعوازه. وإذا نظرنا إلى هذين الوجهين المنسوبين إلى أبي الطيب وإلى الأوجه الثلاثة التي ذكرها الشيخ (1) وجدنا أحدهما مندرجاً تحت الوجوه الثلاثة، وهي إيجابُ أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم تلف المغصوب، ولم نجد للوجه الثاني ذكراً (2)، وهو إيجاب أقصى القيم من يوم التلف إلى يوم الإعواز، فينضم هذا إلى تلك الأوجه، فتصير أربعة. وزاد القاضي وجهاًً خامساً، فقال: الاعتبار بقيمته يوم انقطاع المثل. فلم يعتبر القيمة مع وجود المغصوب، ولا مع وجود مثله، واعتبر قيمة الانقطاع، ولم يحك اعتبارَ قيمةِ وقت المطالبة والتوفير، بل وافق هذا الوجه في ترك (3) اعتبار القيمة مع بقاء المغصوب، ومع وجود المثل بعد تلفه، غير أنّه اعتبر قيمة الانقطاع في هذا الوجه، بدلاً عما حكاه الشيخ من اعتبار قيمة وقت المطالبة، وهذا أوجه من اعتبار وقت المطالبة، وأصل الوجه ضعيف. وإذا ضممنا هذا إلى الأوجه الأربعة، انتظمت خمسةُ أوجه. وذكر بعض الأصحاب وجهاًً سادساً: أنا نعتبر قيمةَ وقت تلف المغصوب. وهذا يناظر اعتبار قيمة الانقطاع، فكأن ذلك القائل اعتبر قيمة المثل عند انقطاعه. وهذا القائل يعتبر قيمة المغصوب عند تلفه، ولهذين الوجهين التفات إلى طريق أبي الطيب في أن المضمون المغصوبُ أو قيمةُ مثله؟ غير أن أبا الطيب قرب من القياس، فاعتبر أقصى القيم من يوم الغصب إلى التلف؛ إذ قال: المضمون قيمةُ المغصوب، أو أقصى القيمة من التلف إلى الانقطاع إذا كان المضمون قيمة المثل. وصاحب الوجه الخامس كان يعتبر قيمة المثل، ولكن يعتبرها عند طرف الانقطاع. وصاحب الوجه السادس يعتبر قيمة المغصوب، ولكن عند تلف المغصوب. فقد تحصلت ستة أوجه.

_ (1) المراد: أبو علي السنجي. (2) في النسختين: ذكر. (3) ساقطة من (ت 2).

4555 - وذكر شيخي أبو محمد ثلاثة أوجه على نسق آخر مخالفٍ للأوجه الستة التي حصَّلناها على أبلغ وجه في التثبت، فقال: في المسألة أوجه: أحدها - أنا نعتبر أقصى القيم من يوم انقطاع المثل إلى يوم الطلب، وهذا القائل يُبعِد تقدير القيمة مع بقاء المغصوب، ومع بقاء مثله. وهذا يناظر من هذا الوجه بعض الأوجه الستة. والذي أحدثه اعتبار الأقصى بين انقطاع المثل والطلب. ونحن ذكرنا من قبل فيما يقاربه هذا وجهين: أحدهما - حكاه الشيخ أبو علي وهو اعتبار وقت الطلب. والثاني - حكاه القاضي، وهو اعتبار وقت انقطاع المثل، فأما اعتبار الأقصى بين الانقطاع والطلب، فلم يجر له ذكر. وهو عندي غلط؛ فإن اعتبار مزيد القيمة بعد تلف العين المغصوبة المتقوّمة محال، واعتبار الأقصى بعد الانقطاع في معنى اعتبار ارتفاع القيمة بعد تلف العين المغصوبة المتقوّمة. فإن صح محاذرة القيمة مع وجود المثل، فالذي يقرب اعتباره قيمةُ يوم الانقطاع. والذي اعتبره الشيخ أبو علي في هذا الوجه يوم الطلب، وحمله على ذلك استبهام الأمر في الانقطاع، ومصيره إلى أَنَّ الحكمَ بتفصيل يوم التوفية. والوجه الثاني - الذي حكاه شيخي أنا نعتبر أقصى قيمة المثل، من وقت ما تلف المغصوب إلى الوقت الذي نُقدّر التغريم فيه. وهذا الوجه يجمع أحد مذهبي أبي الطيب؛ حيث اعتبر أقصى القيم من تلف المغصوب إلى إعواز المثل، إلى مزيدٍ لا يصير إليه أبو الطيب، وهو اعتبار الأقصى بعد انقطاع المثل، وهذا المزيد خطأ لا شك فيه. والوجه الثالث - الذي حكاه شيخي: أنا نعتبر الأقصى من يوم الغصب إلى يوم التغريم، فهذا الوجه يجمع مضمون أصح الوجوه، وهو اعتبار الأقصى من الغصب إلى انقطاع المثل إلى مزيد، وهو اعتبار الأقصى بعد الانقطاع إلى التغريم، وهذا المزيد خطأ، ذكرناه في الوجه الثاني؛ فإذن لم يسلم وجهٌ من ذلك. أما الوجه الأول، فخطأ محضٌ، لا يشوبه صواب، وهو اعتبار الأقصى من الانقطاع إلى التغريم. والوجهان الباقيان يتضمنان ضَمَّ خطأ إلى مسلكٍ من الصواب، كما نبهنا عليه.

4551 - فإن قيل: فما الذي تصححون من هذه الوجوه كلها؟ قلنا: أصحها اعتبارُ أقصى القيم من الغصب إلى انقطاع المثل، وتنزيل هذه الأوقات منزلة أوقات بقاء العين المغصوبة المتقوّمة، ولم يذكر الصيدلاني إلا هذا الوجه، وأعرض عما سواه. ويلي هذا الوجه وجهاً أبي الطيب، وما عدا ذلك بعيد عن الصواب. ولكن لكل مسلكٍ وجهٌ إلا ما ذكره شيخي من اعتبار الأقصى بين الانقطاع والتغريم، فهذا لا وجه له أصلاً مفرداً أو مضموماً. وقد نجز أقصى ما في الوسع في بيان ذلك، تثبتاً في النقل، وتصحيحاً لما يجب تصحيحه. وما ذكرناه مفروض فيه إذا غصب مثلياً، وأقام في يده مدة، وتلف، ثم انقطع المثل بعده. 4552 - فأما إذا أتلف شيئاًً من ذوات الأمثال على إنسان من غير فرض غصب واحتواء باليد، فقد ذكر القاضي وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أنا نعتبر أكثر القيم من يوم التلف إلى يوم الانقطاع. والوجه الثاني - أنا نعتبر قيمة يوم الانقطاع. وينقدح وجه ثالث ضعيف، وهو اعتبار قيمة يوم التغريم. وليس يخفى تنزيل كل واحد على أصل من الأصول التي ذكرناها في حق الغاصب. ولست أعتدّ باعتبار الأقصى بعد الانقطاع إلى التغريم؛ فإنه غلط عندي. ومن غصب عبداً، وأبق من يده، فإنا نُلزمه القيمة للحيلولة، ولم يختلف المذهب في أنا نعتبر أقصى القيم من يوم الغصب إلى وقت المطالبة. وقيمة الحيلولة مع بقاء العين تناسب قيمةَ المثل عند فرض انقطاعه. فليفهم الناظر ذلك؛ إذ لا خلاف أن المثل لو انقطع، ولم يتفق من صاحب الحق طلب حتى وُجد المثل، فحقه المثل إذا أراد الطلب الآن. وهو بمثابة ما لو استأخر الطلب من مالك العبد الآبق حتى رجع، فإن حقه في عين العبد. 4553 - ولو انقطع المثل، وغرِم الغاصِب أو المتلِف القيمة، ثم وجد المثل، فهل لصاحب الحق أن يرد القيمة، ويطلب المثل؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك؛

فإن حقه في المثل، وإنما جرى تغريم القيمة لتعذر المثل. والآن قد زال التعذر. والوجه الثاني - ليس له أن يرد القيمة ويطالب بالمثل؛ فإنَّ الأمر قد انفصل ببذل القيمة، وإذا تم البدل، وقام مقام المبدل، وانقضى، فلا رجوع إلى المبدل، كما لو صام المعسر في الكفارة المرتّبة، ثم أيسر. ويجوز أن يقال: لا مردَّ للبدل في الكفارة فلذلك (1) لا يرجع إلى المبدل. والردُّ والاسترداد ممكنٌ فيما نحن فيه. ولا خلاف أن الغاصب إذا غرم القيمة لمالك العبد في إباقه، فلو رجع العبد، ردَّ العبدَ، واسترد القيمة. هذا مذهبنا. وأبو حنيفة (2) يزعم أن الغاصب يملك العبد في إباقه ببذل قيمته. والخلاف مشهور معه. فليتخذ الناظر مسألة الإباق متعلقاً في هذا الفصل، فإنا إذا كنا نعتبر أقصى القيم في المثليات في الغصب، ففي التلف أولى. 4554 - ومما يتعلق بأحكام المثل أن من أتلف شيئاً من ذوات الأمثال في بقعة، وفارقها، وظفر به صاحب الحق في غير مكان الإتلاف، فالذي أطلقه أئمة المذهب أنه لا يطالبه بالمثل مع وجوده، وإنما يطالبه بالقيمة. وكان شيخي يقول: إذا لم يكن للمثل قيمة حيث ظفر بالمتلِف، فالوجه اعتبار القيمة [بالمكان الذي أتلف فيه] (3) وهذا كما إذا تلف الماء على إنسان في البادية، فظفر صاحب الماء بالمتلف في بغداد، فله أن يطلب منه قيمة البادية، ولا يقنع بالمثل؛ فإن المثل لا قيمة له في مواضع وجود الماء من البلاد والقرى، ولو ألزمناه الرضا بالمثل، لكان ذلك إحباطاً لحقه. فأما إذا كان المثل متقوّماً مع اختلاف البقاع، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه

_ (1) (ت 2): فكذلك. (2) ر. رؤوس المسائل: 347 مسألة 227، مختصر الطحاوي: 118، طريقة الخلاف في الفقه للأسمندي: 260 مسألة: 108، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 179 مسألة: 1869. (3) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 2).

لا يطالِب بالمثل، وإنما يطلب القيمة. وأقيسهما أنه يطلب المثل واختلاف الأماكن كاختلاف الزمان. ولم يختلف أصحابنا أن من أتلف على رجل حنطة في رخاء الأسعار، فله أن يطلب الحنطة في سنة الأَزْم، وإن غلت الأسعار. وكذلك عكس هذا، فاختلاف المكان كاختلاف الزمان. ثم إذا قلنا: يطلب القيمة، فمن حكم هذا ألا يكلفَ المثل، ومن حكمه ألا يرضى بالمثل لو (1) غرم له. 4555 - وإذا طلب القيمة في غير مكان الإتلاف؛ تفريعاً على الوجه الأوجه الأظهر، فبذلت له، ثم ظفر بالمتلِف في مكان الإتلاف، فهل له أن يرد القيمة، ويسترد المثل؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا غرِم المتلِف القيمةَ عند انقطاع المثل، ثم وجد المثل. ثم لا يخفى على الفقيه أن الوجهين يجريان في الجانبين، فإن جوزنا لصاحب الحق أن يرد القيمة، جوزنا للغارم أن يسترد القيمة، ويبذل المثل. ولم يختلف الأصحاب أنهما لو تراضيا بما جرى، جاز. ولم يكن ذلك فيما أظن (2) تعاقداً. والعلم عند الله. ولو رجع العبد الآبق، فلا ينقدح الرضا بالقيمة إلا بتقدير بيعٍ ينشأ في العبد، وإنما ذلك لأن القيمة في العبد وجبت للحيلولة، وقيمة المثلي تدل على الحقيقة عند انقطاع المثل. فإذا كان المثل موجوداً، فالقيمة [لا تؤخذ] (3) إلا بمعاوضة، وإجراءِ اعتياضٍ عن المثل. ثم إذا قلنا: تُطلب قيمة المتلَف (4) في غير مكان الإتلاف، فلا خلاف أنه تُطلب

_ (1) (ت 2): ولو. (2) ساقطة من (ت 2). (3) في الأصل: لا توجد. (4) (ت 2): المثل.

قيمةُ مكانِ الإتلاف. وهذا سببُ ردِّه إلى القيمة. ولو كنا نرعى قيمة مكان المطالبة، لكنّا نوجب المثل في مكان المطالبة، ولكان ذلك أقربَ من إيجاب القيمة. ثم في اعتبار قيمة مكان الإتلاف ما قدمناه من التفصيل. 4556 - وذكر الشيخ أبو علي في اختلاف الأمكنة طريقةً في ذواتِ الأمثال، فقال: ما ذكره الشافعي والأصحاب من أن المتلف عليه إذا ظفر بمتلِف المثل في غير مكان الإتلاف، لا يغرمه المثل، وإنما يغرمه قيمة مكان الإتلاف، [فذلك مفروض فيما إذا كانت قيمة مكان الإتلاف أكبر، فلنفرض] (1) فيه إذا كانت قيمة المكان الذي ظفر به صاحبُ الحق بالمتلِف فيه (2) أكثر من قيمة مكان الإتلاف، فعند ذلك قال الشافعي ما قال، فأما إذا استوت القيمتان، ولم يتفاوت السعر، أو كانت قيمة المثل في المكان الذي وقع الظفر فيه بالمتلِف أقل، فيلزمه المثل في هذه الصورة. وهذه الطريقة ادعاها الشيخ أبو علي للأصحاب، ولم يردد فيها قولاً. والذي ذكره الأئمة في الطرق إطلاق القول بأن المثل لا يطلب في غير مكان الإتلاف من غير تعرض للتفصيل، ولو كان الحكم مفصلاً عندهم كما ذكر الشيخ، لفصلوه؛ فإن التفصيل في مثل ذلك ليس ممَّا يعزب عنه نظر الناظر على ظهوره. وذلك التفصيل هو معتمد الفصل عند الشيخ. فقد حصلنا على مسلكين، وثالثٍ بعدهما: المسلك الظاهر المنصوص عليه إطلاقُ القول بأن المثل لا يُطلب في غير مكان الإتلاف من غير نظر في التفاصيل. والمسلك الثاني أنا نفصل كما ذكر الشيخ وقطع به. ثم ما ذكره الشيخ لا يخلص من إشكال الزمان، وقد ذكرنا أن تفاوت القيمة إذا رجع إلى الزمان، لم يُعتبر وفاقاً، سواء تفاوتت القيمة أو استوت. وحكينا عن شيخنا إيجاب المثل مع اختلاف الأمكنة، من غير تفصيل. وهذا منقاسٌ، لكني لست أثق به؛ فإني لم أره في شيء من الطرق، وسبيلي فيما أنفرد بنقله إذا لم أجده في عين (3)

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) ألحقها أحد المطالعين بالهامش (لحقاً لا تعليقاً). (2) كذا في النسختين. (3) (ت 2): غير.

طريقةٍ أن أتوقف، ولا أخلي الكتاب عن ذكره. وقد ينقدح على الجملة (1) فرقٌ بين الزمان والمكان؛ فإن التغريم والإتلاف يقعان في زمانين لا محالة. فلو ذهبنا ننظر إلى تفاصيل (2) الأزمنة، لطال المراء في ذلك، وخرج عن الضبط، وجرّ نزاعاً، والغالبُ اطراد القيم في الأوقات، كما أن الغالب اختلافُها في الأمكنة. فهذا منتهى القول في ذلك. 4557 - ثم قال الشيخ أبو علي: لو كان لرجل على رجل دراهم أو دنانير، فظفر به في غير مكان الالتزام، طالبه بما عليه، واعتبر في ذلك معنىً، فقال: الدراهم لا يعسر نقلها ولا مؤنة في تحويلها من مكانٍ إلى مكان؛ فإنها [خفيفة] (3) المحمل، وليس كذلك ذوات الأمثال. وهذا الكلام لا يكمل به الغرض. ولعل المعنى أن النقود في الغالب، لا تختلف قيمها -إن قدّرت لها قيم- باختلاف الأماكن، إلا أن يتكلف متكلف تصويراً (4) بعيداً عند إفراط البعد. وهي قيم الأشياء، فيبعد تقدير قيمتها، فهي في الأماكن كالمثليات في الأزمان. فأما ما ليس نقداً من المثليات، فيظهر التفاوت في قيمها، بأدنى تفاوت يفرض في الأماكن. ولن يحيط بحقيقة هذا الفصل إلا من يعلم أن المضمون من المثلي المالية، وإيجاب المثل [تقريب] (5) من العين المتلفة، فيجب الالتفات على المالية. وعن هذا اختبط الأصحاب في اعتبار قيمة المثل عند فرض الإعواز والانقطاعِ. 4558 - ثم ما ذكرناه من تفصيل القول في التزام المثل بالإتلاف يجري في جميع

_ (1) (ت 2): الجهة. (2) (ت 2): التفاصيل اللازمة. (3) في الأصل: كما في (ت 2): حقيقة. (4) (ت 2): تصوراً. (5) في الأصل: غير مقروءة بسبب النقط، فصورتها هكذا: (ـهونت) وفي (ت 2) هكذا (ـقرب). والمثبت اختيار منا.

طرق الالتزام، فلو استقرض من رجلٍ بُرّاً، ثم رأى المقرضُ المستقرضَ في غير مكان الاستقراض، فلا يطالبه بالمثل، كما قدمناه في الإتلاف. وكذلك لو استحق عليه شيئاًً من ذوات الأمثال سَلَماً، فالحكم ما ذكرناه إذا التقى المسلِم والمسلَم إليه في غير مكان الاستحقاق. قال صاحب التقريب: كما لايطالب المسلِم المسلَم إليه في غير مكان الاستحقاق، كذلك لا يطالبه بقيمته أيضاً؛ فإنه لو طالبه بالقيمة، كان ذلك اعتياضاً منه عن المسلم فيه، وكل ما كان فيه معنى الاعتياض عن السلم، فهو مردود. وهذا الذي ذكره ظاهر القياس. ولكن فيه إشكالٌ يتعلق بأمر كلي، وذلك أن المسلم إليه لو اعتمد الانتقال إلى موضعٍ، وعليه أموال من جهة السلم، فهذا يؤدي إلى انقطاع الطّلبة عنه، فينقدح في ذلك عندنا وجهان، سوى ما ذكره صاحب التقريب: أحدهما - أنه إذا فعل ذلك عُدَّ هذا تعذراً في المعقود عليه مُثبتاً حقَّ الفسخ، ثم يعود الطلب عند الفسخ إلى رأس المال، ويجري فيه قياس سائر جهات الضمان، ويقع النظر في كونه نقداً، أو مثليا ليس نقداً، أو متقوماً. هذا وجه. والثاني - أنا إذا قلنا: مَنْ أخذ القيمةَ، ثم استمكن من طلب المثل، ردّها، واسترد المثل، فالقيمةُ على هذا الرأي ليست عوضاً، وإنما أثبتت للحيلولة، فلا يمتنع إثباتها إذا كنا لا نقدرها عوضاً. وهذا فيه مزيد نظر. والله أعلم. 4559 - ومما ذكره الأصحاب في هذا الفصل أن من غصب حنطة ببلدة، ونقلها إلى بلدة أخرى، وأتلفها بها، فقد وجد منه العدوان في مكانين أحدهما - مكان الغصب، والثاني - مكان الإتلاف. فإذا ظفر صاحبُ الحق به في أحد المكانين، كان له مطالبته بالمثل؛ فإنه تحقق تعدّيه في البلدين، ولا ننظر إلى تفاوت الأسعار في الموضعين، لتعلق التعدي بهما. فلو ظفر مستحق الحق بالمتعدّي في موضع ثالث، طالب أقصى قيمة في البلدين. وهذا مستقيم على القياس. وبه انتجز الغرض في هذه الفصول.

فصل 4560 - قد مهدنا قواعد القول في ذوات الأمثال، ونحن نذكر الآن طرفاً من الكلام في النقود، والتبر، إلحاقاً بالمثليات، فنقول: في هذا النوع ثلاث صور: إحداها - الكلام في الدراهِم والدنانير المطبوعة، والثانية- الكلام في التبر. والثالثة - الكلام في المصوغات من الأواني والحلي. فأما الدراهم والدنانير المطبوعة، فهي معتبرة في المثليات، وإذا أتلفت، ضمنت بأمثالها، ولم تختلف بالأماكن والأزمان، كما قدمنا ذكره. فأما التبر، فإنه من ذوات الأمثال، فيضمن بمثله، ويعتبر التساوي في المثل المضمون. والمتلف. 4561 - وأما القول في المصوغات، فهو مقصود الفصل: فالمصوغ ينقسم إلى ما للصنعة فيه حرمة، وإلى ما لا حرمة للصنعة فيه، فأما ما لا حرمة لصنعته وصيغته، وكان يحرم إيجاده، كصور الأصنام والصلُب، والأواني المتخذة من التبرين على أحد الوجهين، فلا قيمة للصيغة والصنعة. وإذا أتلفت هذه الأشياء، وجب على متلفها التبرُ وزناً بوزن، ولم تجب الدراهم المطبوعة. 4562 - فأمّا إذا كانت الصنعة محترمة، كالحلي المباح، وكالأواني على أحد الوجهين، فإنا نبتدىء الآن الكلام فيها، ونقول: أولاً إذا كان الرجل يتحلى بحلي تليق بالنساء، مثل أن كان يتختم بخاتم الذهب، أو يلبس السوار، فهذا الفعل محرم منه، والحلي في نفسه محترم الصنعة، لا يجوز إتلافه، وإفساد صنعته. وإن كنا قد نقول: تجب الزكاة قولاً واحداً على الرجل في الحلي الذي يستعمله، على وجه التحريم، وإن كان يحل استعماله للنساء؛ فإنّ أمر الزكاة مبني على قاعدة أخرى قررناها في باب زكاة الحلي، والمعتبر في هذا الباب أن تكون الصنعة في نفسها محترمة ولا نظر، إلى [ما] (1) يستعمل على وجهٍ مباح أو على وجهٍ محظور.

_ (1) في الأصل: من.

فإذا أتلف الرَّجُل مصوغاً محترمَ الصنعة، من النُّقْرة، وزنه مائة، وقيمته بحسن الصنعة مائة وخمسون، ففيما يلتزمه المتلِف أوجه: أحدها - أنه يضمن الأصل، والصنعة، بغير الجنس. فإن كان من الذهب قوّم بالفضة مصنوعاً، وإن كان من الفضة قوم بالذهب. ونصُّ الشافعي دال على هذا في كتاب الصداق. وهذا القائل يعدل عن جنس المتلف حتى لا يقابل ما وزنه مائة بمائةٍ وزيادة. والتماثل واجبُ الاعتبار في الجنس الواحد من أموال الربا. والوجه الثاني - أن المتلف يضمن الأصل بالجنس، والصنعة بنقد البلد، حتى إن كان من الذهب، والنقد في البلد الذهب يغرَم الأصلَ، وتقوم الصنعة بالذهب. فإن كان النقد الذهب، والمصنوع من الفضة، غرِم الأصلَ بالفضة، والصنعةَ بالذهب. وهذا الوجه منقاسٌ حسن، والمعتبر فيه مقابلة الأصل بالمثل، فإنه من ذوات الأمثال، وتقوم الصنعة بنقد البلد. وهذان قياسان لا سبيل إلى دفعهما؛ فإن من أتلف التبر، ضمن مثله، ومن أفسد الصنعة ولم يفوّت التبر غرِم أرش النقص من نقد البلد، فإذا اجتمع تفويت التبر وإفساد الصنعة، لزم اطّراد القياسين. ثم إذا قيل لصاحب هذا الوجه: ما قلتَه يؤدي إلى صورة الربا؛ فإن زنة المصنوع مائة، وقد قوبل بمائةٍ وخمسين، إن كان النقد من جنس الأصل، وإن لم يكن من جنسه، فبيع مائةٍ بمائة، ودنانير. فكيف الخلاص والحالة هذه؟ كان من جواب هذا القائل: إن التماثل إنما يُرعى في البيع، وليس ما نحن فيه من البيع بسبيل، والصنعة والأصل متلفان، يقابل كل واحد منهما بالبدل الذي يقتضيه الشرع، وليس هذا (1 من التقابل في شيء؛ فإن غرامة البدلين بعد فوات الأصل، فلشى هذا 1) من التقابل الجاري في البيع، فإن التقابل إنما يتحقق بين موجودين. فإذا زالت صورة التقابل، زال التعبد برعاية التماثل. والذي يحقق ذلك أنه لو أفسد الصنعة أولاً، وغرم الأرش من نقد البلد، فلو عاد

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

وأتلف الأصل، وجب القطع بتضمينه [مثلَ] (1) ما أتلف، ولا يجوز تخيل خلاف في هذا. فأي فرق بين وقوع الإتلافين معاً، وبين ترتب أحدهما على الثاني؟ والوجه الثالث - أنا نقابل الأصل بالجنس تمسكاً بقياس الضمان في إتلاف المثليات، ثم ننظر، فإن لم يكن نقد البلد من جنس الأصل، فهو المطلوب، فنوجب قيمة الصنعة بنقد البلد. وإن اتفق كون نقد البلد من جنس الأصل، أوجبنا في الأصل المثلَ، وملنا في قيمة الصنعة عن النقد الغالب، وأوجبنا جنساً آخر يخالف جنسَ الأصل. فإن كان الأصل من الفضة قابلناها بالفضة، وأثبتنا أرش الصنعة ذهباً، سواء كان نقد البلد ذهباً، أو لم يكن. فإن كان الأصل ذهباً، قابلناه بالذهب وأوجبنا قيمة الصنعة دراهم، سواء كان النقد دراهم أو لم يكن. 4563 - وأنا أذكر حقيقة هذا القول في المباحثة التي أبتديها الآن. فكأن صاحب الوجه الأول الذي هو على ظاهر النص، يجتنب صورة الربا، ويقدر ما يقابل المصنوع ثمناً (2) له، فكل ما يجوز أن يكون ثمناً في البيع لذلك المطبوع، يجوز أن يكون بدلاً له في الإتلاف، وما لا يجوز تقديره ثمناً لا يجوز تقديره بدلاً في الإتلاف. ويخرج من هذا وجوب الحيد عن جنس المتلف في أصله وصنعته، ومضمون هذا الوجه ترك القياس في مقابلة المثليات بأمثالها. والحامل على ذلك اجتناب صورة الربا. وإذا قيل لهذا القائل: الصنعةُ متميزة عن المصنوع، لم يقبل ذلك، وجعل الصنعة بمثابة الجزء من المصنوع، ولم يرها مستقلة بنفسها؛ فإن الإتلاف جرى فيهما معاً. وأما صاحب الوجه الثاني، فقاعدته طرد القياس كما مضى. وإذا ألزم حكم الربا، قال: ليست قيمة المتلف على قياس عوض البيع، كما سبق تقريره. ومعتمد هذا القائل اعتقاد تميز المصنوع عن الصنعة. وصاحب الوجه الثالث لا يخفى عليه أن مقابلة ما يزن مائة درهم بمائةٍ ودنانيرَ على صورة الربا، لكنه يبغي (3) أن يفصل بين الصنعة، وبين الأصل. ثم قاعدته: أن الربا

_ (1) في الأصل: لمثل. (2) (ت 2): بمثاله. (3) (ت 2): يتعجل.

[لا يلزم قياساً] (1) في الإتلافات، والذي جاء به من المغايرة ورعاية المخالفة بين بدلي (2) الأصل والصنعة سببه أن نفصل أحدهما عن الثاني، ونقدرهما بمثابة متلفين. هذا بيان الوجوه. وأصحها عندنا الوجه الثاني، ولا جواب عما أجريناه في توجيهه من فرض ترتب إتلاف الأصل على تفويت الصنعة. 4564 - ومما يجب التنبّه له أنا إذا رأينا مقابلة الأصل بمثله في الوجه الثاني والثالث، فليس مثله دراهم ولا دنانير مسكوكة، وإنما مثله التبر؛ فإنه بعد ما كسر وأفسدت صنعته، فهو تبر متبر. وهذا ظاهر جداً في الوجه الثالث، وفيه نظر في الوجه الثاني؛ فإن صاحب الوجه الثاني إذا كان لا يتحاشى من صورة الربا، وقد وقع إتلاف المصنوع [والصنعة] (3) معاً؛ فإن أوجب قيمة الأصل من جنسه دراهم أو دنانير، لم يكن مستحيلاً عنده؛ فإن في ذلك رعايةَ المثلية، وما عهد المصنوع متبراً. ثم الإتلاف بعد التكسير. وهذا فيه تكلف. والوجه عندنا في الوجهين مقابلة الأصل بالتبر. والعلم عند الله تعالى. فصل 4565 - ذكر الشافعي رحمه الله أحكام تغيير الأعيان المغصوبة، وصادف مسائل خالف أبو حنيفة فيها القواعدَ الكلية، فأخذ يرادّه فيها. ويجوز أن يقال: إنّما صدر كتاب الغصب بأحكامٍ في الجنايات؛ لأنه طلب أن يتوصل بذكر تغايير يحدثُها الغاصب في المغصوب إلى مسائل أبي حنيفة، كما سنشير إليها بعد تمهيد أصلنا، فنقول: الأصل في المغصوب وجوب رده إذا لم يتغير. فإن تغير، لم يخل تغيره، إمّا أن يكون بنقصان، أو بزيادةٍ. فأما التغير بالزيادة، فسنذكر حكمه في مساقِ فصلٍ على إثر هذا الفصل، إن شاء الله تعالى. 4566 - وأمَّا التغير بالنقصان، فقاعدة مذهب الشافعي أن يغرَم الغاصب أرش

_ (1) في الأصل: لا يلتزم قياسها. (2) (ت 2): يدي. (3) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.

النقص، ويلزمه رد المغصوب ناقصاً مجبوراً [بالأرشِ] (1) المغروم، ولا فرق بين أن يتفاحش النقص، وبين أن يقل. وأبو حنيفة لم يرع هذا الأصل، وأعرض عنه في مسائل خلطَها، وتخبط فيها، ونحن نأتي بها، ونخرجها على أصلنا، ونبين مذهب أبي حنيفة فيها، وننبه على مأخذه. والغرضُ بذكر ذلك من مذهبه وضوحُ تميز أصلنا عن أصله. فإذا غصب الرجل عبداً، وقطع يديه، وفرعنا على أن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته، وأوجبنا القيمة الكاملة، فيجب على الغاصب الجاني بذلُ القيمة، وردُّ العبد المجني عليه على مالكه. وأبو حنيفة (2) يزعم أنه إذا غرِم القيمةَ، ملك العبد المجني عليه، وطرد هذا الأصل في كل جنايةٍ أرْشُها كمال القيمة، وادّعى أن الواجب عند قطع اليدين قيمةُ العبد، لا أرشُ اليدين، ثم ادعى استحالةَ اجتماع القيمة والمقوّم المجني عليه في ملك المغصوب منه، ووافق أن الغاصب لو قطع إحدى اليدين، والتزم نصف القيمة، لم يملك من العبد شيئاًً. ونحن نقول: الواجب في اليدين -وإن بلغ مقدارَ القيمة- أرشُ اليدين لا قيمةُ الرقبة. فهذا نوع من التغايير التي تلحق المغصوب. ولو غصب رجل ثوباً، وخرَّقه خِرقاً، ومزقه مِزقاً، فأصلنا أنه يغرَم ما نقص، ويرد الخِرق، وإن صارت سلكاً سلكاً. وأبو حنيفة يقول في هذا النوع: إذا أحدث الغاصب تغيراً يبطل به معظمُ منفعة المغصوب؛ فإنّه يغرَم القيمة، ويملك ذلك المغصوب المغيّر (3)، وبنى عليه مسائلَ، منها: أنه لو غصب عمامةً وشقها طولاً، فإنه يغرَم قيمتها صحيحة، ويملك المنديل المشقوق، ولو شقه عرضاً ردّه، وردَّ أرش النقص. ولو غصب شاة، وذبحها، لم يملكها، ولو شوى اللحمَ، أو طبخه غرِم قيمةَ الشاة، وملك اللحم المشويَّ. وقال: لو غصب ثوباً، وصبغه بصبغٍ (4) يقتل صبغاً

_ (1) في الأصل: بأرش المغروم. (2) ر. رؤوس المسائل: 346 مسألة 226، إيثار الإنصاف؛ 256. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 175 مسألة 1863، المبسوط: 11/ 86. (4) عبارة (ت 2): بصبغ يكفي أن يكون لثوب يقتل.

آخر، لم يملكه، ولو صبغه أسود غرِم قيمته (1)، وملكه، في فضائح ومخازي لا نعددها. ومعتبره في هذه التغايير يخالف معتبره في الجناية على العبد، فإنه راعى في الجناية وجوبَ تمام القيمة أرْشاً (2)، وراعى في هذه التغايير سقوطَ معظم المنافع. ولست أدري كيف يجري هذا في صبغ الثوب أسود. والشافعي (3) متمسك في جميع هذه المسائل بما يقتضيه وضعُ الشرع، من رد ما بقي على المغصوب منه مجبوراً بأرش النقص. 4567 - وجرى في مذهب الشافعي مسألةٌ واحدة تكاد تكون مستثناة من القاعدة التي مهدناها. ونحن نصورها، ونذكر المذهب فيها: فإذا غصب رجل حنطة، وتركها في مكانٍ نَدِيّ، حتى استمكن العفن الساري منها، وغرضُنا أنها لو تركت، لتسرع الفساد الكلي إليها. قال الشافعي: المغصوب منه بالخيار بَيْن أن يترك هذه الحنطةَ العفنةَ على الغاصب، ويغرّمه (4 مثل حنطته، وبين أن يسترد منه الحنطة العفنة ويغرّمه 4) أرش عيبٍ سارٍ غيرِ متناهٍ (5). ثم أرشُ نقصان المثليات من نقد البلد، ولا تقابل صفات المثليات بذوات المثليات. وهذا الذي نقل عن الشافعي في الحنطة العفنة، مشكلٌ جداً مخالف لقانونه في وجوب رد الأعيان الناقصة مجبورةً بأرش النقص. وقد ذكر الأئمة جواباً آخر من متن المذهب، جارياً على القياس اللائق بقاعدة الشافعي (6 وهو أنه يتعين ردّ الحنطة كما هي مع أرش العفن غير المتناهي 6)، وفي ألفاظ الشافعي ما يشعر بهذا الجواب أيضاً. ثم من رأى التعلق بالجواب الثاني افترقوا فرقتين، فذهب بعضهم إلى حمل نص الشافعي في الجواب الأول على ما إذا انتهى

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 179 مسألة 1870، مختصر الطحاوي: 119، المبسوط: 11/ 86. (2) (ت 2): إن شاء. (3) (ت 2): وللشافعي مستمسك. (4) ما بين القوسين ساقط من الأصل. (5) في الأصل، كما في (ت 2): ساري غير متناهي. (6) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

ظهور العفن إلى سقوط قيمة الحنطة بالكلية، وهذا ترك لفحوى كلام الشافعي وإضرابٌ عن نصه؛ فإن قوله: "يتخير المغصوب منه، فإن شاء وإن شاء" - ناصٌّ على أن المالية قد بقيت منها بقية. ومن أصحابنا من أقر نص الشافعي قراره، وذكر قولاً آخر معه، ووجه القول الثاني لائح، كما ذكرناه، ووجه النص عسر، والممكن فيه أن أرش العفن الساري لا يمكن ضبطه، ولا يمكن إلحاق الحنطة التي ظهر العفن فيها بالتالف بالكلية. فينتظم من ذلك تخير المالك بين أن يكفي نفسه مؤونة الاطلاع على الأرش، وبين أن يسترد عين ماله. وهذا تكلف؛ فإن الحنطة العفنة إنما تكون على بقية من المالية إذا كان يتأتى استعمالها على حالٍ، وما كان كذلك ينبغي أن يجعل كطعام رطبٍ، قابل للتغايير على قرب الزمان، فليكن صاحبه أولى به على ما هو عليه، وليتعيّن مسلك الاسترداد. وقد ذكر العراقيون في مسألة العفونة قولين للشافعي: أحدهما - أن المالك يغرّمه المثل ليس له غيرُ ذلك. والثاني - أنه يأخذ عينَ حنطته، كما وجدها، ويرجع عليه بأرش النقصان. وأما القول الثاني، فهو الجواب الثاني الذي حكيناه. وأما القول الأول، فهو مخالف للجوابين اللذين حكيناهما، وذلك أنهم قالوا: نغزمه المثلَ، ونحسبه تالفاً، ولم يثبتوا خِيرةً أصلاً. وهذا بعيد في النهاية، موافق لمذهب أبي حنيفة، فإذا أثبتنا الخيارَ أشارَ إثباتُه (1) إلى تعلق حق المالك بالعين إن أرادها. وإذا كان الخِيرةُ إلى المالك، وكان ترك الحنطة العفنة مصلحةً له يراها، كان تحكمه على الغاصب لائقاً بالحال، كما قررناه على حسب الإمكان. فهذا منتهى القول في ذلك. 4568 - ثم ألحق الأئمة بالحنطة العفنة السارية العفونة ما لو غصب دقيقاً، وحلاوة، وسمناً، واتخذ منها حلاوة؛ فإن هذه الأجناس إذا جمعت، وأقيمت أركاناً لحلاوةٍ أمعن تأثير النار فيها، فالحلاوة المجموعة صائرة إلى الفساد، لو لم يبتدر استعمالها. فهذا ما ذكره الأصحاب في ذلك.

_ (1) (ت 2): غير مقروءة، صورتها هكذا: لـ ـاتهِ.

4569 - وفي النفس وراء قبول إشكال النص [فكرٌ] (1) في محاولة ضبط هذا التغيير، [فلا] (2) خلاف أن من غصب حنطة، فطحنها دقيقاً، فالدقيق يقرب من أمد فساده بالإضافة إلى الحنطة، ثم إذا اتخذ من الدقيق خبزاً، فالخبز أسرع إلى قبول الفساد من الدقيق، فليت شعري ما المرعي في التغيير المثبَت سبباً (3) سارياً مُفضياً إلى الفساد؟ فنقول: ربّ طعام على كماله يكون أمد بقائه أقصرَ من أمد بقاء الحنطة العفنة، التي صورناها، فلا نظر في ذلك إلى قرب الفساد. ولكن الممكن عندنا فيه إضافةُ ما تغيّر إلى جنسه، بالطريق الذي نذكره. فالدقيق على حالٍ مما يعتد ويعد دقيقاً، كما أن الحنطة تدخر، والفساد يسبق إلى الحنطة على مر الزمان، كسبقه إلى الدقيق، وإن كان أمد أحدهما أقصرَ من الثاني. فأما الحنطة العفنة الظاهرة العفونة؛ فإنها خارجة عن صفة جنسها؛ فإنها لا تدخر، بل تبتدر، ولا يعد مثلها من المدخرات، وهي من جنسٍ يجري الادخار فيها على أنحاء لها ومناصب. وهذا يضاهي قولَنا: اللبن في حال كمالِ الادخار، مع العلم بأنه على القرب، يحول ويتغير، ولكنه في جنسه كاملٌ. والقدر الممكن من ادخاره ما يعد ادخاراً لائقاً به. 4570 - وكان شيخي يتردد في العبد المغصوب إذا مرض مرضاً سارياً عَسِر العلاج، مثل أن يصير مسلولاً، أو مدقوقاً (4)، أو مستسقياً، مأيوس البرء، فربما كان يلحق ما ذكرناه من الأمراض بالعفن، الذي وصفناه في الحنطة. وهذا غير مرضي؛ فإن العفن شرطه أن يُفضي إلى التلف، والأمراض لا حكم عليها، ولا وصول إلى درك اليأس منها، وكم عُهد من المرضى (5) المحكوم عليه

_ (1) في الأصل: فكرة. (2) في الأصل، كما في (ت 2): ولا. (3) (ت 2): شيئاً. (4) أصابته حمى الدِّق، وهي حمى معاودة يومياً تصحب غالباً السل الحاد. (معجم). ومما ينبغي الإشارة إليه أن المعجم أشار إلى أن هذه اللفظة من الألفاظ التي أقرها مجمع اللغة العربية، فهل كانت من ألفاظ اللهجات منذ عهد إمام الحرمين؟ (5) (ت 2): المزمن.

بالموت استقل (1) واستبلّ (2) عما به. فهذا تمام القول في التغايير التي تلحق المغصوب من جهة النقصان، وسنعيدها على غرض لنا سوى ما ذكرناه في أثناء التقاسيم. فصل قال: "ولو غصب جاريةً تساوي مائة، فزادت في يده بتعليمٍ منه ... إلى آخره" (3). 4571 - نقول في مقدمة الفصل: من غصب عيناً، فعليه ردها على مالكها، فإذا أمسكها، كان في كل لحظةٍ على حكم من يبتدىء غصباً، ثم تلك العين لا تخلو: إما أن تتلف في يده، أو تبقى إلى أن يردَّها. فإن تلفت، وكانت من ذوات القيم، غَرِمها بأكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم التلف: فلو كانت تساوي يوم الغصب ألفاً، ثم كانت تساوي يوم التلف مائة، لانحطاط الأسعارِ، وركود الرغبات، فالواجب الألف. وكذلك لو كان الأمر على العكس. ولو كان يوم الغصب تساوي مائة، ويوم التلف تساوي مائتين، واتفق في الأثناء هَيْجُ الأسعار، وكثرةُ الرغبات، فصارت العين تساوي ألفاً، فإنا نُوجب عليه الألفَ. وما ذكرناه معلل بما صدرنا الفصل به من تقديره غاصباً في كل لحظةٍ؛ فإن الأمر بالرد إذا كان مستمراً، فالدوام والابتداء على وتيرة. 4572 - وإن بقيت العين، فردها على المالك، فلا تخلو إما أن تكون على هيئتها، لم تتغير عنها، بزيادة ولا نقصانٍ، وإما أن تتغير عما كانت عليه. فإن لم تتغير، وردها، فالكلام في نوعين: أحدهما - أنه لو فرض في أيام الغصب

_ (1) استقل نهض، وقام. (2) ت (2): غير مقروءة، صورتها هكذا: واست ـل. واستبلّ: أي شفي، وعوفي من مرضه، والهمزة والسين والتاء هنا للصيرورة، والتحول. وأصل المادة: بلّ: أي برىء من مرضه. (3) ر. المختصر: 3/ 36.

ارتفاع قيمه وانخفاضها، فلا مؤاخذة بالقيم، ولا نظر إليها إذا ردت العين في العاقبة؛ فإنها ردت كما أخذت. وقال أبو ثور: إذا زادت القيمة، ثم انحطت، كان الغاصب مؤاخذاً بتلك الزيادة مع رد العين؛ من حيث إنه انتسب إلى تفويت تلك الزيادة، لإدامة اليد العادية. وهذا عده القياسون منقاساً. والمعتمد عندنا أن العين إذا رُدَّت كما أخذت، فالقيم المتفاوتة محمولة على رغبات الراغبين، وانكفافهم، وليست هي من صفات العين، وليس كذلك إذا تلفت العين؛ فإنها قد فاتت، فحمل الأمر مع الغاصب على تقدير التفويت في أرفع الأسعار والقيم. فهذا أحد النوعين. وأما النوع الثاني - فالكلام فيه في المنفعة. فإن لم تكن العين مما ينتفع به مع بقاء العين، فلا منفعة إذن، ولا ضمان من هذه الجهة. وإن كانت العين منتفعاً بها، فإن لم يمض في الغصب زمان للمنفعة في مثله قيمة، فلا كلام. وإن مضى زمان للمنفعة في مثله قيمة غَرِم الغاصبُ مع رد العين أجرةَ المنفعة. ولا فرق بين أن يستوفيها، وبين أن تضيع وتتلف تحت يده. فلو كان العبد صنَاعَ اليد أوْجبنا أُجرةَ صنعته. وإن كان يُحسن صناعاتٍ، فلا سبيل إلى إيجاب أجر جميعها، فإن الاشتغال بعملين غيرُ ممكن. فإذا كان العبد يحسن صناعاتٍ، اعتبرنا أغلاها أجرةً، وأرفعَها عِوضاً، وأوجبنا الأجرة باعتبارها. ولا خلاف أنا لا نوجب على الغاصب عوض منفعة بُضع الجارية المغصوبة إذا لم يطأها؛ فإن اليد لا تثبت على منافع البُضع، على ما قرره المقررون في الخلاف. هذا إذا لم تتغير العين عن هيئتها. 4573 - فأما إذا تغيرت، فلا تخلو: إمّا أن تتغير بالزيادة أو بالنقصان. فإن تغيرت بزيادة، ردَّها زائدةً، ولا حقَّ له في تلك الزيادة؛ لأنها نماء ملك الغير، والنماء يتبع الملك. وإن تغيرت العين بالنقصان، فلا تخلو: إما أن ينقص أصل العين، أو صفة من

صفاتها. فإن انتقصَ أصلُ العين، ضمن النقصان بأكثرَ ما كانت قيمُه من يوم الغصب إلى يوم النقصان. مثل أن يغصب ثوباً قيمته ديناران، فاحترق نصفه، ثم انخفض السوق، وارتفع، فعليه دينار ورد النصف الباقي. 4574 - ويليق بهذا المنتهى كلام ابن الحدّاد، قال: إذا غصب ثوباً قيمته عشرة، فأبلاه، ونقص بالبلى، ورجع إلى خمسة. ثم ارتفع سعر السوق، فصار الثوب البالي يساوي عشرة، ولو كان غير بالٍ، لكان يساوي عشرين، قال ابن الحدّاد: يرد الغاصب الثوب ويلزم عشرة. وهذا مأخوذ عليه، ومُغلَّطٌ فيه، وجوابه معدودٌ من هفواته، لم يصححه محقق، وإنما تابعه ضعفةٌ من الأصحاب لا مبالاة بهم. ووجه الغلط أن البلى نقصان عين، فإذا رجع الثوب بالبلى إلى خمسة والسعر مستقر، فقد تلف نصف الثوب؛ فما يفرض بعد ذلك من ارتفاع سعر السوق، لا يؤثر فيما بلي، وتلف. ولا خلاف أن من غصب ثوباً ثمنه عشرة، فتلف في يده، والقيمة عشرة، ثم هاج السعر (1)، فصار مثل ذلك الثوب مساوياً عشرين، فلا يلزم الغاصب إلا عشرة. كذلك إذا تلف بالبلى أجزاءُ من الثوب، وانسحق، ثم ارتفع السعر، فلا أثر للسعر المرتفع (2) فيما بلي قبل ارتفاع السعر، فالوجه في صورة مسألة ابن الحداد أن يرد الثوب البالي، ويغرم خمسة دراهم. ومن ساعد ابنَ الحدّاد فتمسكه أن ما ينسحق من الثوب بالبلى، لا ينزل منزلةَ جزء من الثوب على التحقيق. بل هو حالّ محلَّ الصفات. وهذا ساقط من الكلام لا أصل له؛ فإنَّ البلى يُزيل من جرم الثوب ما لا سبيل إلى إنكاره. 4575 - ثم لو فرضنا الكلامَ في الصفات، وقلنا: عبد صانع يساوي مائة، فنسيَ الصنعةَ، ثم صار من يحسن مثل تلك الصنعة يساوي مائتين، فلا يلزم الغاصب بسبب ارتفاع السعر، بعد نسيان الصنعة مزيد. وبيان ذلك أنه إذا كان يساوي مائةً، فنسي الصنعة في يد الغاصِب، وصار يساوي

_ (1) (ت 2): السوق. (2) عبارة (ت 2): إن لم يرتفع فيما بلي ارتفاع السعر.

لأجل النسيان خمسين، ثم ارتفع السوق، فصار عند تعرف تلك الصنعة يساوي مائتين، فجوابنا أنه يرد العبد الناسي، ويغرَم خمسين درهماً. على القياس الذي ذكرناه في الثوب البالي. وهذا ظاهرٌ إذا كان ارتفاع القيمة بعد نسيان الصنعة، ولأن (1) سببه الصناعة لا عين العبد، والله أعلم. وذكر الشيخ أبو علي لصورة ابن الحدّاد عكساً، فقال: لو غصب ثوباً قيمته عشرة، فنقص بالسوق، ورجعت القيمة إلى خمسة، والثوب بحاله لم يتغير عن هيئته، ثم أبلاه، فرجع بالبلى إلى درهمين، فقد أتلف ثلاثة أخماس الثوب، فيلزمه قيمةُ ثلاثة أخماس الثوب بأقصى ما كان من يوم الغصب. ولقد كان عشرة، فثلاثة أخماسها ستة دراهم. قال الشيخ: ذكر بعض من شرح الفروع (2) هذه المسألة، وتخبط في جوابها، فقال: إذا رجع الثوب بالسوق إلى خمسة، فأبلاه، فرجع إلى درهمين بالبلى، يلزمه ثلاثة دراهم؛ نظراً إلى حالة البلى. وهذا غلط لا يستراب فيه؛ فإنا نعتبر الأقصى من يوم الغصب إلى يوم التلف. ولقد كانت القيمة عشرة من قبل، فليكن الغرم بحساب العشرة؛ فإنَّه الأقصى. ومسألة ابن الحدّاد مصورة فيه إذا بلي، ثم ارتفع السوق، وهاهنا كان السّوق مرتفعاً قبل البلى. فهذا منتهى المراد في ذلك. وما ذكرناه فيه إذا انتقص عينُ (3) الثوب. 4576 - وقد يتصل بهذا تغايير تلحق الصّفات بالزوال والعود، ونحن نستقصيها ونذكر ما فيها.

_ (1) في (ت 2): "وكان". (2) الفروع: اسم كتاب لابن الحداد. عني بشرحه كثير من أئمة المذهب وأعلامه قبل السنجي المتوفى سنة 430 هـ وبعده نذكر منهم: القفال المروزي (ت 417 هـ)، أبو إسحاق الإسفراييني (ت 418هـ)، أبو بكر الصيدلاني (نحو 427 هـ)، أبو الطيب الطبري (450 هـ) والقاضي حسين (465هـ) (3) (ت 2): عن.

فمن الصفات: السّمن، والحسن، والصنعة، فإذا غصب جارية سمينة، فهزلت نقصت قيمتُها، ردّها هزيلة، وضمن النقصان. وكذلك إذا غصب عبداً صانعاً، فنسي الصنعة. ولو غصب جارية هزيلة، فسمنت في يده، ثم هُزِلَت، وكانت ازدادت بالسمن الطارىء، ثم نقصت بالهزال، فيردها ويغرَم النقصانَ، ولا فرق بين السمن الطارىء، وبين السمن المقارن (1) للغصب. وكذلك لو غصب عبداً، فتعلم صناعةً في يد الغاصب، ثم نسيها، ردّه مع أرش نقصان الصنعة. ولو تكرر عَوْدُ السّمن، وتخلل الهزال بأن كانت سمينةً أولاً، ثم هزلت، ثم سمنت، فردها سمينةً كما كان غصبها، فهل يغرم نقصان الهزال المتخلل بين السمنين؟ أم يجبر السمن الهزالَ، وتقدر كأنها بقيت سمينة؟ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن السمن لا يجبر الهزال (2)، ويجب على الغاصب مع رد الجارية أرشُ نقصان الهزال. والسبب فيه أنّ كل سمن مغايرٌ للسمن السابق، فإذا زال السمن الأول، استقر أرش النقصان. والسمنُ الثاني زيادة جديدة. وكذلك القول لو تكرر السّمن مراراً، فيجب في كل هزال أرشُ نقصه. والوجه الثاني - أن السمن الثاني يجبر الهزال؛ فإنه في عرف الناس يعد بدلاً عن السمن الزائل، حالاً محله، كأنه لم يزُل أول مرة. ومن سلك مسلك الجبران يقول: لو سمنت مراراً كثيرة، ثم عاد السّمن آخراً، وردّها سمينةً، لم يغرم شيئاً، وإن ردها هزيلة، لم يغرم نقصان الهزال إلا مرةً واحدةً، فإن ردّت سمينة، فلا أثر لما مضى، وإن ردّت هزيلة، فالضمان مرة. والأصح مذهب التكرير: فلو غصب جارية هزيلة قيمتها مائة، فسمنت حتى بلغت قيمتها ألفاً، ثم هُزِلت، فعادت إلى مائة، ثم سمنت حتى بلغت ألفاً، ثم هُزِلت حتى

_ (1) (ت 2): المقارب. (2) (ت 2): "السمن" وهو سبق قلم.

عادت إلى مائة، فردها هزيلة، فإنه يرد معها ألفاً وثمانمائةٍ، وإن تلفت غرِم ألفاً وتسعمائة. ولو فرضنا مثلَ ما ذكرناه في الصنعة وطريان نسيانها وعَوْدها، فقد رتب الأئمة ذلك على عود السمن، وجعلوا عودَ الصنعة أولى بالجبران؛ فإن السمن زيادةٌ في الجسم محسوسة، فإذا تكررت كانت متعددة، والصنعة إذا نسيها العبد، ثم تذكرها عُدَّ ما تخلل كالغفلة، والنوم، والذهول، ولا يعُد أهلُ العرف تذكرَ الصنعة شيئاً متجدداً. 4577 - ثم كل ما ذكرناه من العود والزوال جارٍ في اتحاد الجنس، فلو اختلف الجنس، لم يختلف المذهب في أنه لا جبران، وبيانه أنه لو كان سميناً، وقيمته لأجل السمن ألف، فهُزِل وصار يساوي مائة، فتعلم صنعةً بلَّغت قيمتَه ألفاً، ورده صانعاً هزيلاً؛ فإنه يغرم نقصان الهزال، وهو تسعمائة. وكذلك لو فرضنا صنعتين مختلفتين، فلا تجبر إحداهما الأخرى أصلاً. 4578 - وذكر الأئمة في ذلك صوراً تهذب ما ذكرناه، فقالوا: لو غصب نُقرةً، فصاغ منها حلياً، ثم كسره وصاغه ثانياً، نُظر، فإن صاغه على هيئةٍ أخرى سوى الهيئة الأولى، فلا جبران. وإن أعاده إلى الهيئة الأولى، ففي الجبران وجهان: قال صاحبُ التلخيص: من غصب من جوهر الزجاج ما قيمته درهم، ثم إن الغاصب اتخذ منه قدحاً يساوي عشرة، ثم انكسر في يده، وكان مكسوراً يساوي درهماً، فيرد الزجاج مكسوراً، ويرد تسعةَ دراهم؛ فإن تلك الزيادة قد حدثت في يده، وتعلق الضمان بها، وإن حصلت بفعله. ولو أعاد (1) ذلك الزجاج المكسّر قدحاً، فإن كان على هيئة القدح الأوَّل، فهو على الوجهين، وإن أعاده إناء آخر، فلا جبران. ومن أحكم هذه الأصول التي مهدناها، لم يخف عليه هذه التفاريع. فرع: 4579 - إذا غصب عصيراً، فاستحال في يده خمراً، فجاء المغصوب منه مطالباً (2)، غرّمه مثلَ العصير؛ فإن الخمر التي صادفها ليست مالاً. ولو انقلبت الخمر في يد الغاصب خلاً، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يرد الخل على

_ (1) (ت 2): كان. (2) (ت 2): يطلب.

المغصوب منه (1)، ويغرم له مثلَ عصيره؛ فإنّ العصير تلف لما انقلب خمراً، فاستقر وجوب (2) مثله، ثم استحالت الخمر خلاً، فهو فرع أصلٍ للمالك، فصرف إليه، وعُد رزقاً جديداً. وهذا يتأيد بما مهدناه من بطلان الجبران عند اختلاف الصفات، فالخل على هذا لا يجبر العصيرَ. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أنه يرد الخل، فإن كانت قيمتُه مثلَ قيمة العصير، فلا ضمان على الغاصب؛ إذ لا أرش، فلو غرّمناه لكنا نغرمه مثلَ العصير، كما قال القائل الأول، وهذا مجاوزة حد، وليس كما إذا بقي (3) الملك في المغصوب وتَعاوَرَتْه الصفات. وسنذكر لذلك مثلاً في أثناء الكتاب عند مسيس الحاجة على مقتضى ترتيب الفصول، إن شاء الله تعالى. ولم نذكر في هذا الفصل الجامع تفصيلَ المذهب في الزيادات المنفصلة؛ فإنا أحببنا حصر الكلام في التغايير التي تختص بالعين، ولا تعْدُوها. وسنذكر في الفصل الذي يلي هذا الفصلَ الزوائد المنفصلة، إن شاء الله تعالى. فصل قال: "وكذلك هذا في البيع الفاسد ... إلى آخره" (4). 4580 - أراد بالبيع الفاسد هاهنا بيعَ الغاصب المغصوبَ. والبيوع الفاسدة قسمان: فبيع من المالك يفسدُ بشرط فاسدٍ، وبإخلالٍ بشرط معتبر، فالمبيع (5) في مثل هذا البيع لا يدخل في ضمان المشتري إلا إذا أُقبض. ثم إذا أُقبض، فالمقبوض مضمون عليه ضمانَ العاريّة على المستعير، وقد فصلنا ذلك، غير أنه ينفصل عن المستعار بشيء، وهو أنا إذا حكمنا بأن العاريّة لا تضمن ضمان الغصوب، ففي

_ (1) (ت 2): له. (2) ساقطة من (ت 2). (3) (ت 2): أبقى. (4) ر. المختصر: 3/ 37. (5) (ت 2): فالبيع في مثل البيع.

الوقت المعتبر وجهان: أحدهما - أنه وقت القبض. وهذا مزيف عند المحصّلين في العارية. والثاني - أنه وقت التلف، وهو الصحيح؛ فإنّه في اعتبار وقت القبض إدخال الأجزاء التي تسحق بالبلى تحت الضمان، وإذا اعتبرنا يوم التلف، خرجت الأجزاء عن الاعتبار. ونخرّج في المقبوض على حكم البيع الفاسد الصادر من المالك قولاً في أنه يضمن ضمان الغصُوب، أو يضمن من غير تغليظٍ. فإن قلنا: لا يضمن ضمان الغصوب، فالأصح أنه يعتبر يوم القبض؛ إذ ليس في هذا ما أشرنا إليه في العاريّة من ضمان الأجزاء. وذكر شيخي في المقبوض عن البيع الفاسد أنه يضمن بقيمته يومَ التلف. ولم أرَ هذا لغيره. فهذا ما تفترق فيه العاريّة والمقبوض على حكم البيع الفاسد. ثم لو فرض ولدٌ في يد القابض عن الفاسد، فضمان الولد خارج على القولين، كما ذكرناه في ولد العاريّة. وضمان المنفعة أيضاً يخرّج على القولين، يعني منفعة تلفت (1) تحت اليد. فإن استوفاها المشتري، ضمنها لا محالة. وليس كالمستعير؛ فإنه مأذون له في الانتفاع. والمأخوذ بالسوم في كيفية الضمان كالمأخوذ عن البيع الفاسد من غير تفاوت. فالعاريّة إذا باينت هذه النظائر على قولنا: لا يثبت ضمان الغصب في الوقت المعتبر في القيمة، فلا شكَّ أنها تباين النظائر في المنافع؛ فإن وضعها لإباحة المنافع. هذا قسم أجريناه، وليس مقصودَ الفصل، ولكن اشتمل التقسيم عليه، فذكرناه. 4581 - فأمَّا المشتري من الغاصب، فالقول فيه يستدعي تقديمَ أحكامٍ في الغاصب نفسه، فنقول: الغاصب إذا وطىء المغصوبة، فلا يخلو إمّا أن يكونا عالمين أو جاهلين، أو أحدهما عالم، والآخر جاهل: فإن كانا جاهلين، فلا حد عليهما للشبهة، وعلى الغاصب المهرُ للمالك: إن كانت ثيباً التزم مهر ثيب، وإن كانت بكراً، فلا شك أن الوطء يتضمن إزالة البكارة والبكارة لو أزيلت بخشبةٍ أو أصبع،

_ (1) (ت 2): تخلفت.

فعلى المزيل الأرش. ثم لو فرض الوطء بعد ذلك، تعلق به مهر ثيب. فإن أزال الغاصبُ البكارة بالوطء، فقد جنى، ووطىء. فالتفصيل فيه أن يُنظر: فإن كان مهرُ بكرٍ لو ضبط مبلغه، ثم قيس به أرش بكارة ووطء تلك بعد الثيابة، لما اختلف المقدار، فلا فرق بين أن يقول القائل على الواطىء مثلُ مهر بكرٍ، وبين أن يقول: عليه أرش العُذرة ومهرُها بعد الثيابة؛ فالإجمال والتفصيل في هذا سواء. وما عندي أنه يتصور في هذا تفاوت. فإن فرض فارض تفاوتاً، وكان إفراد المهر عن الأرش أكثر من مهر بكرٍ، فيجب على الغاصب التزامُ تلك الزيادةِ لا محالة. فإنّ باب ضمان الغاصب على التغليظ وإيجابِ الأقصى. 4582 - وإن وطىء الجارية وأحبلها، والمسألة مفروضة في الجهالة، فالولد ينعقد حراً. ثم إن انفصل حياً، فعليه قيمةُ الولد وقت انفصاله، فنقدره رقيقاً ونوجب قيمتَه؛ فإنه باغتراره فوَّت الرق، فكان كما لو فوت الرقيق. هذا إذا انفصل حياً. فأما إذا انفصل ميتاً، فلا يخلو: إمَّا أن ينفصل بنفسه ميتاً من غير جناية جانٍ، أو ينفصل بتقدم جناية يُحمل الانفصال عليها. فإن انفصل بلا جناية، فلا ضمان أصلاً؛ فإنه لم تتحقق جناية، ويجوز أن الروح لم تنسلك فيه. ولو كان رقيقاً، لكان لنا فيه تفصيل، كما سنذكره في ضمن التقاسيم. وعند ذلك نفصل بين الحر والرقيق إذا انفصل بجناية جانٍ، فيجب على الجاني والجنينُ حر مسلم غرَّةٌ: عبدٌ أو أمة، كما سيأتي في آخر الديات، إن شاء الله تعالى. ثم يجب الضّمان على الغاصب؛ لأن الجنين انفصل مضموناً، فلم يكن كما إذا انفصل من غير جنايةٍ ميتاً. والعبارة عن غرضنا في ذلك: أن الجنين إن يقوّم له، يقوم عليه؛ فإن الأبدال تحل محل المبدلات، وتخلُفها عند عدمها، فكأن الجنين انفصل حياً إذا استعقب خروجه ضماناً، فإذا ثبت أصل الضمان، فالنظر بعد ذلك في المقدار الذي يضمنه الغاصب للمغصوب منه. 4583 - وقد اختلفت الطرق في ذلك، ونحن نذكر طريقةً مرضية، ونتخذُها

أصلاً، ونزيدُ فيها ما يخالفها من غيرها من الطرق، حتى ينتظم الكلام، مع استغراق مقصود الطرق، فنقول: ننظر إلى قيمة الغرة، وننظر إلى عشر قيمة الأم؛ فإن الجنين الرقيق يضمن بعشر قيمة الأم، فإن كانا سواء، ضمن الغاصب عشر قيمة الأم. وإن كانت قيمة الغرة (1 أكثر، ضمن عشر قيمة الأم، والفاضل من قيمة الغرة له 1)؛ فإنه ثبت لحرية الولد المنتسب إليه، ولا حظ للمغصوب منه في الفضل الذي تقتضيه الحرية. وإن كانت قيمة الغرة أقلّ (2) من عشر قيمة الأم، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنّ الغاصب لا يغرَم إلا مقدارَ قيمة الغرة؛ لأنا لو ألزمناه إكمال العشر، لكان الزائد إلى كمال العشر غير متقوّم للغاصب، وما لا يتقوم له، لا يتقوم عليه، فإذا كان سبب الغرم وجوب الغرم على الجاني؛ فإيجاب ما لم يغرمه الجاني بعيد. والوجه الثاني - أنه يجب عشر قيمة الأم وإن زاد على قيمة الغرة؛ لأنا أحللنا انفصال الجنين ميتاً مضموناً محل انفصاله حياً، وقضينا بأن بدله حل محله، فليكن ما نحن فيه بمثابة ما لو انفصل حياً في أصل الضّمان. ثم لا يمكن تقدير الحياة في المنفصل ميتاً. هذا بيان الطريقة المرضية. ذكرها القاضي، والعراقيون. وذكر شيخي أبو محمد هذه الطريقة، غير أنه لم يعتبر عشرَ قيمةِ الأم، بل قدر الحياة في الذي انفصل ميتاً، واعتبر قيمته مقدَّراً رقيقاً، ثم نظر في قيمة الغرة وهذه القيمة، ولم يعتبر عشر قيمة الأم. وهذا غير متجه؛ من جهة أن تقدير الحياة في الذي لم يعهد حياً، لا يلائم مذهب الشافعي. وأبو حنيفة هو الذي اعتبر ذلك في الجنين الرقيق. وهذا الاختلاف في عشر قيمة الأم، واعتبار حياة الجنين مع تقدير رقّه يلتفت على أصلٍ، قدمناه، وسنعيده بعد ذلك. وهو أن ما يتلف في يد الغاصب من عضوِ (3) بآفةٍ

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) (ت 2): أكثر. (3) (ت 2): غصوب.

سماويةٍ، أو بجناية جانٍ غير الغاصب، فهل يعتبر في حق الغاصب البدلُ المقدر في حق الجاني؟ فعلى وجهين، سبق ذكرهما، وسيعود تحقيقهما في فصلٍ متصلٍ بهذا الفصل. فإيجاب العشر من قيمة الأمّ إيجاب المقدار الواجب على الحياة، فهذا من هذا الوجه يشعر بخلافٍ. ولكن يعارضه، أن تقدير الحياة في الجنين لا ينتظم على مذهب الشافعي أصلاً. فهذا تمام الغرض. وفي بعض التصانيف غلطة فاحشة، وهي أنه حكى أن بعض الأصحاب قال: يغرَم الغاصب للسيد أكثرَ الأمرين، من قيمة الولد، وقيمة الغرة. أما القول في قيمة الولد فقد ذكرناه، وأما إيجاب الأكثر، فخطأ لا نشك فيه، فإن معناه أن قيمة الغرة إن كانت زائدة على بدل الجنين المقدر رقيقاً، وجب تسليمها بكمالها إلى السيد، وهذا محال؛ فإن تلك الزيادة ثبتت بسبب الحرية، وما ثبت بسبب الحرية يستحيل أن يستحقه مالك الرق. هذا منتهى الكلام في قاعدة الفصل. 4584 - ثم المسألة مفروضة فيه إذا كانت الغرة مصروفةً إلى الغاصب؛ من جهة أنه أبُ (1) الجنين، ولم يكن معه وارث. فلو غصب الجارية وأحبلها، ومات، وخلف أباً، هو جد الجنين، فضرب ضارب بعد موت الأب الغاصب الجاريةَ، وأَجْهَضَتْ جنيناً ميتاً، فالغرة مصروفةٌ إلى الجدّ. قال القاضي: يجب عليه في ضمان الجنين للمالك ما كان يجب على الغاصب لو كان حياً. والسبب فيه أن ضمان الجنين للمالك، إنما يجب بسبب وجوب الغرة، فمن يملك الغرة، يلتزم الضمان. فكأن القدر المطلوب مستحق من الغرة للسيد المغصوبِ منه. ثم قال القاضي: لو كان مع الأب الغاصب جدة وارثة، وهي أم الأم، ونفرضها حرة لترث، فالسدسُ من الغرة لها. قال: ننظر إلى خمسة أسداس الغرة، وإلى عشر قيمة الأم، ونجعل كأن السدس المصروف إلى الجدة غيرُ ثابت، والخمسة الأسداس نازلةً منزلة الغرة كلها. هذا كلامه.

_ (1) يجوز في (أب) هذا الاستعمال -على ندور- ومشهورٌ ذائعٌ على الألسنة: "ومن يشابه أبه، فما ظلم".

ولا شك أن إخراج السدس عن الاعتبار يقتضي قياسُه إخراجَ الجد (1) عن الضمان؛ من جهة أنه لم يغصب، ولم يصدر منه سبب يقتضي ضماناً. ومسألة الجد في جميع الغرة، والسدس في حق الجد [محتملان] (2). يجوز أن يقال: لا ضمان على الجد، وقد فاز بالغرة إرثاً، ولا يتعلق الضمان بالسدس المصروف إلى الجدّة. ويجوز أن يقال: يتعلق الضمان بالغرة في مسألة الجد وسدس الغرة المصروف إلى الجدة؛ فيتبع الضّمانُ الغرةَ، وإذا رأينا أن لا يضمن الجد، فهل يحبط الضّمان، أو نعلقه بتركة الغاصب؟ هذا فيه احتمال. والظّاهر إتباع الضمان الغرةَ، وطرْد هذا القياس في السدس المصروف إلى الجدة. وممَّا يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الغرة إذا وجبت على الجاني، والأبُ الغاصب حي، ولا وارث معه، فلو عسر عليه استيفاء الغرة من الجاني، فهل يجب عليه تعجيل حق المغصوب منه، أو يتوقف على أن يستوفي الغرة؟ هذا محتمل، وهو قريب من الاختلاف الذي ذكرناه في أن قيمة الغرة لو كانت أقل من عشر قيمة الأم، فهل يجب على الغاصب التكميل؟ فإن أوجبنا التكميل، لم يبعد أن نوجب التعجيل، وإن لم نوجب التكميل، لم نوجب التعجيل. والذي يقتضيه الرأي أن الأمر لا يتوقف على استيفاء الغرة، إذا كان استيفاؤها متيسراً، وإنما التردد فيه إذا تحقق عسر استيفائها. وممَّا يجب أن لا يغفل عنه إيجاب ما تنقصه الولادة ضماً إلى المهر، وموجب الجنين إن أوجبناه. اتفق المحققون على ذلك في الطرق. ولكن هذا فيه إذا كان الرجل جاهلاً وكانت الأمة جاهلة، وقد يتصور ثبوت اليد المضمنة ضمان الغصوب من غير علم. 4585 - وإن كانا عالمين بالغصب والتحريم، فوطئها، نظر: إن كانت مستكرهة مضبوطة (3)، وجب المهر على الغاصب المستكرِه، وإن كانت مطاوعة مع العلم

_ (1) (ت 2): إخراج السيد الجد. (2) في الأصل: محتمل. (3) مضبوطة: أي مقهورة. (معجم).

بالتحريم، فظاهر النص أنه لا يثبت المهر؛ فإنها مسافحة تلفت منفعة بُضعها على وجه السفاح منها، فكانت ساقطة الحرمة، مندرجة تحت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي. وذكر طوائف من أصحابنا وجهاًً آخر أن المهر يجب للسيد؛ فإن سبب سقوط مهر الحرة الزانية بذلُها بضعها، وبذلُ الأمة لا يحبط ملكَ السيد، كما لو أباحت قتلَ نفسها، أو أباحت طرفاً من أطرافها. 4586 - ولو كانت جاهلةً وكان الواطىء عالماً بالتحريم، وجب المهر، كما لو كانت مستكرهةً. ثم إذا أولدها الغاصب العالم بالتحريم، فالولد لا ينتسب إليه؛ فإنه ولد زنا، وإن كان كذلك، لم ينعقد حراً؛ إذ لا حرمة لمائه، فالولد إذاً رقيق، فإن انفصل حياً، كان لمالك الأم، وهو داخل في ضمان الغاصب، يضمنه ضمان الأم، خلافاًً لأبي حنيفة (1). ولو انفصل ميتاً من غير جناية جانٍ، فظاهر المذهب أن الغاصب لا يضمن شيئاًً للمغصوب، كما لو انفصل الولد حراً ميتاً، فإنه لا ضمان، بخلاف ما إذا انفصل حياً. وذهب بعض أصحابنا إلى إيجاب الضّمان في الولد الرقيق المنفصل ميتاً، وهذا القائل يطلب فرقاً بين انفصال الجنين الحر ميتاً، وبين انفصال الجنين الرقيق ميتاً، وغايته أنا لم نعلم حياة واحد من الجنينين، واختص الجنين الحر بأنّه لم تثبت اليد عليه، واليد تثبت على الجنين الرقيق تبعاًً للأم، وتعلق الضمان به صفةً وتبعاً، فلئن انفصل ميتاً، لم يبعد إيجابُ الضّمان. والأصح عندنا أن لا ضمان؛ لأنا لم نتحقق سبب الضمان؛ إذ سببه فوات رقيق تحت يدي الغاصب. والذي لم يتحقق انسلاك (2) الروح فيه، لم يتحقق رقه؛ فإن الرقيق هو الحي. فإن قلنا: لا ضمان، فلا كلام. وإن قلنا: يجب الضمان، فقد صرح شيخي بأنا نعتبر قيمة الجنين لو قدر حياً. وقد ذكرنا غائلة هذا الفصل؛ فإن إيجاب القيمة باعتبار

_ (1) ر. المبسوط: 11/ 70، حاشية ابن عابدين: 5/ 130. (2) في (ت 2): انسلال.

حياةٍ لم تعهد بعيد عن التحصيل. وما يقتضيه قياس طريق القاضي إذا أوجبنا الضمان، فنوجب عشر قيمة الأم؛ فإنّ تقدير الحياة عسر، فالغاصب على وجه الضمان نجعله كالجاني الذي يترتب على جنايته الإجهاض. هذا تفصيل المذهب فيه إذا كانا عالمين بالتحريم، أو كان الغاصب الواطىء عالماً بالتحريم. فأمّا إذا كان الغاصب جاهلاً بالتحريم، وكانت الأمة عالمةً بالتحريم، فهي زانية محدودة. وقد ذكرنا وجهين في أنه هل يجب مهر الأمة إذا كانت زانية. فأما إذا علقت بمولودٍ، فهو حر، نظراً إلى قيام الشبهة في حق الواطىء. ثم القول في انفصاله حياً وميتاً من غير جنايةٍ أو بجنايةٍ على التفصيل الذي ذكرناه الآن. 4587 - ولو غصب بهيمةً، فحبلت، وانفصل ولدها حياً، فهو داخل في ضمان الغاصب. وإن انفصل ميتاً، ففي المسألة الخلاف الذي حكيناه؛ فإن لم نوجب الضمان، ولم تنتقص الأم، فلا كلام. وإن أوجبنا الضمان، فلا طريق إلا إيجابُ ما انتقص من قيمتها إذا كانت حاملاً. ويخرج من ذلك أن الخلاف لا يظهر أثره في البهيمة، فإنا إذا كنا نعتبر ما ينقص من قيمتها، [نظرنا] (1): فإن كان ينقص من قيمتها وهي حامل شيء، فيجب القطع بإيجاب ما نقص. وإن كان لا يَنقُص وهي حامل شيء، فلا وجه لإيجاب شيء. و [إنما] (2) انتظم الخلاف في الأمة؛ من قِبل أنا على الطريقة المرضية اعتبرنا مقابلة الجنين بعشر قيمة الأم، ولم نلتفت إلى نقصان الجارية، ولا يتحقق مثل ذلك في جنين [البهيمة. فإن رأينا في جنين] (3) الأمة أن نقدره حياً، ونوجب قيمته بتقدير الحياة، فيتجه مثل هذا في جنين البهيمة، فنقدره حياً عقيب الانفصال. ونوجب قيمته اعتباراً بتلك اللحظة، وهذا بعيد كما ذكرناه. ثم اعتمد أئمتنا في [اعتبار] (4) ضمان الغصب بولد المغصوبة إذا انفصل حياً حراً،

_ (1) في الأصل: نُظر. (2) في الأصل: وإن. (3) ساقط من الأصل. (4) في النسختين: اتصال. والمثبت من هامش الأصل.

فقالوا: اليد [تُضَمِّن] (1) كالإتلاف، ثم التلف يقع على وجهين: أحدهما - المباشرة، والثاني - التسبب، فلتنقسم اليد هذا الانقسام، حتى يقال: التسبب إلى اليد بما يعدّ في العرف سبباً إذا أفضى إلى حصول الشيء تحت اليد، ينزل منزلة مباشرة اليد. ثم قالوا: من اقتنى قطيعاً عُد متسبباً إلى إثباتِ اليد على الأولاد، فاُلزِم الأصحاب ما إذا غصب بقرة، فتبعها الفحل، أو غصب هادي القطيع، فتبعه القطيع، فذكر الأئمة وجهين في أن هذا هل يكون تسبباً إلى إثبات اليد على الفحل والقطيع؛ حتى نقضي بأن حركتها في صوب الهادي كحركتها في الصوبِ الذي يريده من استاقها؟ وفي المسألة احتمال. [والوجه] (2) المنع إذا سلكنا هذه الطريقة. وقد ذكرنا في الأساليب (3) طريقةً معتمدة سوى التسبب إلى اليد. وتيك أمثلُ عندنا. 4588 - هذا بيان أحكامٍ أردنا تقديمها في حق الغاصب، ونحن الآن نبني عليها مقصودَ الفصل، وهو الشراء من الغاصب، وما يتعلق به فنقول: من غصب عبداً وباعه من إنسان، وأقبضه إياه، فلا يخلو المشتري من الغاصب إما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، أو جاهلاً. فإن كان عالماً، فحكمه إذا قبض من الغاصب عن هذه الجهة كحكم الغاصب من الغاصب، غيرَ أنه دفع الثمن إلى الغاصب، فيرجع فيه ويستردّه. ثم من غصب من الغاصب، ضمن ما غصبه من يوم الاستيلاء إلى الفوات، إن قُدّر الفوات، فيضمنه بأقصى قيمته من يوم غصبه إلى أن تلف في يده، ولا يضمن ما تقدم على غصبه ممّا جرى في يد الغاصب الأول. وبيان ذلك أن الأول لما غصب العبد، كان قوياً سليماً مساوياً ألفاً، لسلامته عن العيوب، ثم عاب في يد الأول، وعادت قيمته إلى خمسمائةٍ. وغصبه الثاني، فلا يطالب الثاني بالزيادة التي كانت في يد الغاصب الأول فعابت. ولو فرضت زيادة في يد الغاصب الثاني. فلا شك أنه مطالب بها.

_ (1) في الأصل: (مضمن). (2) في الأصل: والأوجه. (3) الأساليب: اسم كتاب لإمام الحرمين.

ثم الغاصب الأول يطالب [بما يطالب] (1) به الغَاصب الثاني؛ فإنَّ غصبه طريقٌ إلى غصب الثاني. والغاصب الثاني لا يطالب بزيادةٍ كانت في يد الأول؛ فإن ضمان الغصب يستحيل أن يسبق الغصب منعطفاً على سابقٍ. ولو تلفت العين في يد الثاني، فقرار الضّمان في التالف عليه، وللمغصوب منه أن يضمن من شاء منهما: فإن ضمّن الثاني، استقر الضمان عليه، وإن ضمّن الأولَ ما دخل في ضمان الثاني، رجع به الأول على الثاني. وإن ضمن الأول ما اختص الأول بضمانه، ولم يدخل في ضمان الثاني، فلا شك أنه لا يجد مرجعاً به على الثاني. هذا كله إذا كان المشتري من الغاصب عالماً بحقيقة الحال. 4589 - فإن كان جاهلاً، وقد اشترى جاريةً مغصوبة، فإن وطىء، فلا حدّ، ووجب المهر، وإن علقت بولد، فهو حر. والتفصيل في وجوب الضّمان إذا انفصل حياً، ونفيِه إذا انفصل ميتاً من غير جنايةٍ، والعوْد إلى إثبات الضمان إذا انفصل ميتاً بجناية جانٍ، وما فيه من التفصيل، كما مضى حرفاً حرفاً، في الغاصب نفسه إذا جهل التحريم. ويعود تفصيل القول في الجارية ومطاوعتها، وجهلها، وجريان الاستكراه منها (2). ومما نذكره الآن أن المشتري إذا وطىء على الجهالة مراراً، لم يلزمه إلا مهرّ واحد، وكذلك من نكح امرأةً نكاحاً فاسداً، فوطئها مراراً، لم نُلزمه إلا مهراً واحداً، وكذلك إذا صادف على فراشه امرأةً وظنها زوجتَه، فوطئها. والسبب فيه أن المقتضي للمهر الشبهةُ وهي متحدة، ولو انكشفت الشبهة بعد جريان الوطء فيها، ثم عاد وجرى وطء آخر في الشبهة الثانية، فحينئذٍ يتعدد المهر، لتعدد الشبهة. ولو كان يطأ الغاصب المغصوبة على علم، وكانت مستكرهة، أو مطاوعةً، ورأينا أن نوجب المهر، فلو تعدد الوطء من غير شبهةٍ، فقد كان شيخي يتردد في تعدد المهر، ولا معنى للتردد عندنا، بل الوجه القطع بأن في كل وطأةٍ مهراً؛ فإن موجِب المهر

_ (1) سقطت من الأصل. (2) (ت 2): فيها.

إتلافُ منفعة البضع، لا شبهةٌ تطّرد. وهذا المعنى متعدد. ثم ينشأ مما ذكرناه لطيفةٌ في المذهب يقضي الفقيه العجبَ منها، وهي أن الغاصب، أو المشتري من الغاصب إذا وطىء على شبهةٍ، و [ظنٍّ] (1) في التحليل، فيظهر تعدد المهر، إذا قلنا: المهر يتعدد مع العلم بالتحريم؛ فإن موجِب المهر الإتلافُ، ولا حاجة إلى إحالته على الشبهة، والإتلافُ متعدد. وإنما يظهر اعتماد اتحاد الشبهة، حيث لا يجب المهر لولا الشبهة. وهذا واضحٌ لا خفاء به. 4590 - ثم إذا تلف العين المغصوبة في يد المشتري، استقر عليه الضّمان في قيمتها. والكلام يقع وراء ذلك فيما يرجع به المشتري -إذا ضمنه- على الغاصب البائع، وفيما لا يرجع به. وهذا مقصود فصل الشراء. فنقول: أما العين إذا تلفت (2) في يد المشتري، وغرم قيمتها، فإنه لا يرجع بما غرِم على البائع، والسبب فيه [أنه] (3) قبض المبيع على اعتقاد أنه قابضه على حكم الضمان؛ فإن البيع عقد ضمانٍ. وأمّا ما يلتزم من قيمة الولد الذي حصل العلوق به على الحرية، فإنه يرجع به على الغاصب باتفاق الأصحاب. وإذا غرم المهر لما وطىء، فهل يرجع بالمهر الذي غرِمه على الغاصب، فعلى قولين، ونحن نرسل موضع الوفاق والخلاف، ثم ننعطف، فنحقق كل شيء على حسب ما يليق به. وإذا غرم المشتري أجرة المنافع، نُظر: فإن غرمها لأجل اليد، وما كان استوفى المنفعة؛ فإنه يرجع بما يغرمه من الأجرة، وإن استوفى المنفعة وغرِم أجرتَها، ففي رجوعه على الغاصب القولان اللذان ذكرناهما في المهرِ. فهذان بيان قواعد المذهب فيما يرجع به، وفيما لا يرجع به، وفاقاً وخلافاًً، من طريق النقل.

_ (1) في الأصل: وطء. (2) في النسختين: (تلف) والذي نعرفه وجوب تأنيث الفعل إذا كان الفاعل ضميراً. (3) في الأصل: أن.

4591 - وبيان هذه المنازل من طريق التحقيق أن كل ما يقابل العوضَ المبذولَ في الشراء، فالضمان فيه يستقر على المشتري إذا تحقق الفوات، وما لا يقابله عوض الشراء ينقسم إلى ما يستوفيه المشتري، وإلى ما يفوت في يده من غير استيفائه، فأما ما يفوت من غير استيفاء، وليس مقابلاً بالعوض، فإذا غرِمه، رجع به. والسَّبب فيه أنه لم يتلف مضموناً بالعقد لو قُدِّر العقدُ صحيحاً؛ إذ المنافع ليست معقوداً عليها في شراء العين، وكل ما لا يقابله عوض العقد لا يدخل في ضمان العقد. والذي يحقق ذلك أن من اشترى شيئاً شراء صحيحاً، وانتفع به زمناً، ثم اطلع على عيبٍ ورده؛ فإنه لا يرد لمكان فوات المنافع شيئاً. وكل قبض لا يترتب على جهة ضمانٍ، فلا يكون سبباً لقرار الضّمان؛ فإن الغاصب إذا أودع شيئاًً عند إنسانٍ، فقبله المودَع ظاناً أنه مالك الوديعة، وتلف في يده؛ فإنه إذا ضمن، لم يستقر الضمان عليه. بخلاف ما لو استعار من الغاصب على جهلٍ، أو أخذ منه عيناً على سبيل السوم كذلك؛ فإنه إذا تلف (1) في يده، والجهة جهة ضمانٍ في وضعها، فالضمان يستقر. وكل ما لا يقابل عوضاًً في الشراء، ولكن أتلفه المشتري، واستوفاه، فتخرّج المسألة على قولين. والسَّبب فيه أن الإتلاف مستَقَر الضمان في وضع الشرع، ولكن البائع غرَّ المشتري، لما سلطه على الانتفاع، وإذا اجتمع الغرور، وإتلاف المغرور، فينتظم قولان: أحدهما - أن القرار على المتلِف، وهو القياس. والثاني - أن القرار على الغارّ. وسيأتي أصل ذلك فيه، إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى إنسان، وسلطه على أكله، فأكله ظاناً أنه ملك المقدِّم، فإذا غرِم قيمته للمالك، ففي رجوعه بما غرم على الغار قولان، سيأتي ذكرهما. فإن قيل: هلا طردتم هذا الخلاف في قيمة الولد المنفصل حياً حراً؟ قلنا: [إنّ] (2) المغرور ليس ينتسب إلى حقيقة إتلافٍ في الولد، فيقوى وقعُ الغرور فيه؛ فإن سبب الحرية اغترار الواطىء الوالد، ولكن موقع هذا الاغترار الغار.

_ (1) تلف: أي المأخوذ، أو الشيء. وإلا فالفعل واجب التأنيث إذا عاد الضمير على قوله (عيناً). (2) في الأصل: لأن.

فهذا بيان القواعد. 4592 - ثم ذكر صاحب التقريب أمراً بدعاً، لم أر ذكره على نسق المذهب، ولم أر الإخلال بما جاء به. قال: إذا اشترى عبداً بألفٍ، وقيمته ألف، وتلف في يده، فلا شك في إقرار الضمان عليه. ولو اشترى عبداً قيمته ألفان بألفٍ، وتلف في يده، وغرم ألفين، فلا يرجع بأحد الألفين، ويرجع بالثاني. وهذا مما انفرد به من بين الأصحاب كافّة؛ فإن الأصحاب اعتبروا مقابلة العين بالثمن. فإذا تقرر ذلك، فلا نظر إلى قيمة العين بالغةً ما بلغت؛ فإن عُلقة الضّمان متعلقة بالعين. وما ذكره صاحب التقريب على بعده يمكن أن يوجَّه بأن أحد الألفين في حكم المحاباة الخارجة عن حقيقة المعاوضة. ولهذا يعد تبرعاً في حق المريض، محسوباً من الثلث. وإذا وهب الغاصب العينَ المغصوبة وسلمها، فتلفت في يد المتهب، ففي قرار الضمان على المتهب قولان، سنذكرهما بعد هذا، على نظم مسائل تقديم الطعام إلى المغرور. وقال (1): لو اشترى عبداً قيمته ألف بألفٍ، ثم زادت قيمته في يده، فصار يساوي ألفين وتلف في يده، وغرم أقصى القيم، فلا يستقر الضّمان إلا في مقدار الثَّمن من القيمة، ويرجع بالباقي. وهذا أبعد من الأول؛ فإن العقد عري عن انعقاده عن معنى المحاباة، وما جرى من زيادة لا تلحق العقد بالمحاباة التي ذكرناها. ولو اشترى رجل بهيمة، أو جارية من الغاصب، فولدت في يده ولداً جديداً، لم يكن موجوداً حالة العقد حملاً، ثم تلف في يد المشتري، فلا شك أنه يضمن قيمتَه، وإذا ضمنها، رجع بها؛ فإنّ هذا الولد لم يرد عليه العقد، ولم تشتمل عليه عهدتُه، ولهذا قلنا: ينفرد المشتري عن المالك على الصحّة به، ويردّ الأصل بالعيب. 4593 - ومن تمام ما نحن فيه وهو من الطوام الكبار تفصيل القول فيه إذا عابَ

_ (1) أي صاحب التقريب.

المغصوب في يد المشتري بآفة، وغرِم أرش النقص للمغصوب منه، نظر: فإن عاب بفعل المشتري فإذا غرم أرشه، استقر الضّمان عليه، ولم يرجع به على الغاصب. وقياس ذلك بيّن؛ فإنّ العين إذا كانت مضمونة عليه، فالأجزاء بمثابتها، فإذا كان يستقر الضمان في قيمة العين لو تلفت، فيستقر في النقصان اعتباراً للأجزاء بالجملة، وهذا ظاهرٌ في العيب الذي يحدثه المشتري. فأما إذا حدث العيب بآفة سماوية، فقد قال الشافعي: إذا غرِم المشتري نقْصه، رجع به على البائع. قال المزني: هذا خلاف أصله، لأنه قد قال: لو تلفت الجملة، فغرِم قيمتها، لم يرجع بها على الغاصب، والأجزاء حكمها حكم الجملة. وقد وافق المزني طوائفُ من الأصحاب. وإذا تصرف المزني على قياسِ مذهب الشافعي مخرِّجاً، كان تخريجه أولى بالقبول من تخريج غيره. فاتسق إذاً قولان: أحدهما - منصوص. والثاني - مخرّج، ووجه المخرّج لائح، كما ذكره المزني. قال ابن سُريج: إن قلنا: يستقر الضّمان ولا يرجع، فالوجه ما ذكره المزني. وإن قلنا: يرجع ولا يستقر الضمان، وهو ظاهر النص، فوجهه أن العاقد يدخل في العقد على أنه يضمن الجملة دون الأجزاء؛ يدل عليه أنَّ المبيع إذا عاب في يد البائع، فليس للمشتري أن يغرّمه أرشَ العيب، بل له الخيار بين الفسخ وبين الرضا بالعيب، من غير استرداد شيء. وكذلك لو باع رجل عبداً بثوب وأقبض العبدَ، وقبض الثوب، ثم اطلع على عيبٍ قديم بالثوب، والعبد قد عاب في يد من قبضه، فليس لصاحبِ الثوب أن يرد الثوب بالعيب ويسترد العبد، ويطلب أرش العيب الحادث، بل له الخيار بين أن يفسخ العقد بالعيب ويرضى به معيباً. وبين أن يرد الثوب ويرجع بقيمة العبد - هكذا نقله من يوثق به عن القاضي. وليس الأمر كذلك عندنا، بل الوجه أن يرد الثوب، ويستردَّ العبد مع أرش النقص؛ فإن العبد في هذا المقام ليس مضموناً بالثمن، إنما هو مضمون بالقيمة. ومعنى هذا الكلام أن العبد لو كان تالفاً، فصاحبُ الثوب يرد قيمة العبد. وإذ كان

يستردّ جملة العبد سليمةً، وقيمتَها تالفة، فيسترد العبدَ معيباً، مع أرش العيب. وليس كالمبيع في يد البائع؛ فإنه مضمون بالثمن. (1 ولو تلف العبد، سقط الثمن بتلفه، ولا يقابل العيب منه بجزء من الثمن 1) بسبب أن رده واسترداد جملة الثمن ممكن. والذي قاله القاضي ليس بعيداً عن الصواب، أيضاً؛ فإن الرجل إذا أصدق امرأته عبداً، فعاب في يدها، ثم طلقها زوجهاً قبل المسيس، واقتضى الطلاق تنصيفَ العبد، ورجوعَ نصفه إلى المطلِّق، فالزوج بالخيار بين أن يرجع في نصف قيمة العبد سليماً، وبين أن يرضى بنصف العبد معيباً، ولا يكلّفُها ضمَّ أرش النقص إلى نصف العين، فيجوز أن يقال: من يرد الثوب يجري على هذا المنهاج، في استرداد المعيب. وبين المبيع المسترد وبين الصداق فرقٌ، سنذكره في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى. فإذاً أفاد ابن سريج مذهباً في مسألة الثوب والعبد، وبنى عليه تعليلَ نص الشافعي في المشتري من الغاصب، فإذا صح ما ذكره ابن سريج في مسألة الثوب والعبد، ابتنى عليه ما أراده من توجيه النصين. ثم قال ابن سريج مدلاً بما أورده: إن هذا معنى يلطف مدركه. 4594 - ومما يتم به تفريع القول في التراجع: أن كل ما لو غرِمه المشتري، لرجع به على الغاصب، فإذا غرمه الغاصب، استقر الضمان عليه، وكل ما لو غرمه المشتري لم يرجع به على الغاصب، فلو وجه المالك الغرم فيه على الغاصب، كان له ذلك. ثم إنه يرجع به على المشتري؛ فإنه لا يتصور قرار الضمان على شخصين على البدل. 4595 - وممّا يختلج في الصدر أن الغاصب إن طولب بقيمة ما باع أو منفعته، فقياسه بيّن. فأمّا مُطالبته بالمهر وليس منافع البضع مضمونةً بالغصب، وليس هو متلفاً لمنافع البضع، فإن الواطىء هو المشتري، فهل يطالَب الغاصب بالمهر؟ وكيف السبيل فيه؟ نقدّم عليه أن الجارية المغصوبة لو وطئها واطىء بالشبهة في يد الغاصب، ففي مطالبة الغاصب احتمالٌ، يجوز أن يقال: لا نطالبه لما نبهنا عليه. ويجوز أن

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

يقال: إنه يطالَب، لأن الأمر أفضى إلى الغرم، فيبعد فرض غرم في مغصوب لا تتعلق المطالبة فيه بالغاصب. 4596 - فإذا تبين هذا، عدنا إلى غرضنا. فإن قلنا: المشتري لا يرجع بالمهر على الغاصبِ، فمطالبة الغاصب بالمهر محتمل، وظاهر القياس أنْ لا يُطالب. فإن قلنا: المشتري يرجع على الغاصب بالمهر، إذا غرِمه، فتظهر مطالبة الغاصب حينئذ؛ من جهة أن مقر الضّمان عليه، وليس يبعد أن يقال: لا يطالبه المغصوب منه؛ فإن حكم الغصب لا يقتضي المطالبة بالمهر. وهذا التردد في المهر ذكره صاحب التقريب على وجهه. وإنما الرجوع بسبب الغرور، وعُلقة الغرور مختصة بالمغرور، فليطالب المشتري الواطىء أولاً، ثم إنه يرجع بسبب الغرور على من غره. 4597 - ومن تمام القول في ذلك أنَّ الغاصب لو أكرى العبدَ المغصوب من إنسان، [فاكتراه ذلك الإنسان] (1) على جهلٍ، فلو تلفت العينُ في يد المكتري، وغرَّمه المغصوب منه، رجع بالقيمة على الغاصب المكري، على طريقة المراوزة؛ من جهة أن العقد لم يتضمن ضماناً في العين المكراة؛ إذ معقود الإجارة [و] (2) مقصودُها المقابلُ بالعوض المنافعُ. وسنذكر للعراقيين في مسألة الإجارة كلاماً بعد هذا، إن شاء الله. وإذا غرِم أجر مثل المنفعة، لم يرجع بما غرمه على الغَاصِب، سواء استوفاها، أو تلفت تحت يده؛ لأنه دخل في العقد على التزام العوض في مقابلة المنفعة. فإن زوج الغاصب الجارية المغصوبة، وسلمها إلى الزوج، فلو تلفت تحت يد الزوج، فالقول في قيمتها، كالقول في قيمة العين المكراة. وإن غرم أجر مثل المنافع، نُظر: فإن لم يستوفها، رجع بما غرم في مقابلتها على الغاصب؛ فإن عقد النكاح لا يرد على منافع البدن، فليست مقابلةً بالعوض. وإن

_ (1) ساقط من الأصل. (2) زيادة من (ت 2).

استوفاها، واستخدم الجارية، فما يغرمه في مقابلة ما استوفاه لا يرجع به على الغاصب قولاً واحداً. وليس كما لو اشترى الجارية المغصوبة، وانتفع بها؛ فإنَّ في الرجوع قولين مأخوذين من قاعدة الغرر. والفرق أن المشتري يتسلط على الانتفاع بالمبيع بتسليط البائع إياه؛ فإن عقد البائع إذا صح، اقتضى ذلك، وعقد النكاح إذا صح، لم يقتض تسليط الزوج على استخدام الزوجة. وإذا غرِم المتزوجُ من الغاصب (1) المهرَ، لم يرجع به على الغاصب؛ لأنه دخل في العقد، على أن يقابل الوطء بالعوض، والمغرور بحرية زوجته وهي رقيقة إذا غرِم المهرَ، ففي رجوعه على الغار في النكاح الصحيح قولان. والفرق أنه مَلَكَ منافعَ البُضع، وَبذَل المهرَ على أن يتأبد له البضع، فإذا (2) بأن ما يوجب الفسخ، فلا يلزمه الرضا بالعيب، فمقتضى الفسخ استرجاع البدل، فثبت الرجوع على الغارّ على أحد القولين لذلك. والعقد في مسألة الغصب فاسد، لا يقتضي استحقاق البضع، حتى لو غرّ من لا يحل له نكاح الأمة بحرية زوجته، فوطئها، ثم بانت أمة، وبان فساد النكاح، فإنه يلتزم مهر المثل، ولا يرجع به المغرور على الغار لما ذكرناه. وفي فساد النكاح في مسألة المغرور بحرية زوجته مزيد نظر، نذكره في كتاب النكاح إن شاء الله. وما ذكرناه في الغصب مستقيم لا مراء فيه. وقد نجز تفصيل القول في الشراء من الغاصب. فرع: 4598 - قال العراقيون: إذا اشترى من الغاصب -على ظن أنه مالكٌ- جاريةً، وأولدها، وغرِم قيمة الولد للمغصوب منه، وغرم نقصَ الولادة؛ فإنه يرجع بقيمة الولد على الغاصب قولاً واحداً، ويرجع عليه أيضاً بنقص الولادة، وعللوا بأنّه مقتضى الولادةِ وأثرِها، فإذا رجع بقيمة الولد، رجع بأثر انفصاله. وقطع المرَاوزة بخلاف هذا؛ فإن نقصان الولادة من نقصان العين، والعينُ مضمونة، فليلحق نقصان الولادة بكل نقص يقتضيه آفة سماوية.

_ (1) أي الذي زوجه الغاصب. (2) في الأصل: وإذا.

وقد ذكرنا نص الشافعي في العيوب وتخريج المزني وكلام ابن سريج. والغرض من رسم هذا الفرع أن نبين أنه لا فرق بين نقصٍ اقتضته الولادة وبين غيره من النقائص. فصل يجمع أحكام الجناية في العبد المغصوب بأصولها وفروعها 4599 - فنذكر التفصيل في جناية العبد المغصوب، ثم نذكر الجناية عليه. فإن جنى العبد المغصوب، نُظر: فإن كانت جنايته قتلاً موجباً للقصاص، فإذا قُتل قصاصاً، غرِم الغاصب للمالك أقصى القيم من الغصب إلى يوم الاقتصاص. وإن كانت الجناية على طرفٍ، وكانت موجبة للقصاص، فإذا قطعت يده قصاصاً، وكان قطع يداً، فنجعل ذلك بمثابة ما لو سقطت يده بآفةٍ سماوية. ولو كان كذلك، نظر: فإن كان ما نقص من قيمته نصفُ قيمته، فهو الواجب على الغاصب. وإن كان أكثرَ من النصف، وجب ما نقص، وإن زاد على أرش اليد. وإن كان النقصان دون نصف القيمة، فقد ذكرنا اختلاف الأصحاب فيه، والأظهر أنه لا يجب إلا ما نقص؛ فإن أرش الطرف إنما يتقدر على الجاني، والغاصب ليس جانياً. ومن أصحابنا من ألزمه المقدَّر، وإن زاد على ما نقص من القيمة، وأحله محل الجاني. ولو كانت جناية العبد موجبة للمال، فالأرش متعلق برقبته، ثم يجب على الغاصب تخليصه بالفداء. ثم ذكر الأئمة فيما يفديه الغاصب به القولين المشهورين: أحدهما - أنه يفديه بأقل الأمرين: من الأرش والقيمة. والثاني - أنه يفديه بالأرش بالغاً ما بلغ. والقولان يجريان في الغاصب جريانهما في المالك إذا أراد أن يفدي عبده الجاني. فإن قيل: قول الأرش إنما يتجه في حق المالك؛ من جهة امتناعه عن بيع العبد، مع التمكن منه، وكنا نجوز أن يعرض على البيع، فيشترى بمبلغ الأرش، فكان المنع من البيع سبباً في التزام الأرش، والغاصب لا يتمكن من البيع، فكيف يقدر مانعاً؟ قلنا: هو بغصبه مانعٌ مولاه من بيعه، فصار ذلك سبباً في تضمينه، ونُزِّل لأجله منزلة

المالك، ثم إذا ثبت وجوب الفداء عليه، ابتنى عليه توجه الطَّلِبة على الغاصب، من جهة المجني عليه، وسيزداد هذا وضوحاً في تفاصيل المسائل. هذا بيان قاعدة الحكم في جناية العبد المغصوب. 4600 - فأمّا الجناية عليه، فلا يخلو الجاني إما أن يكون هو الغاصب أو أجنبي، فإن كان هو الغاصب، نُظر: فإن قَتلَ العبدَ المغصوبَ فعليه القيمة، كما تقدم تفصيل قيمة المغصوب. وإن جنى على طرفه، فقطع يده، والتفريع على أن أرش أطراف العبد تنتسب إلى قيمته، نسبة أروش أطراف الحر إلى ديته، فقد اجتمع موجِبان للضّمان: أحدهما: اليد. والثاني - الجناية؛ فينتظم من اجتماعهما أن نوجب أكثر الأمرين: من النقصان، والأرش المقدر. فإن كانت قيمة العبد ألفاً، وقد قطع الغاصب يده، نُظر، فإن نقص من قيمته أربعمائة، فيلتزم الغاصب خمسمائة، لكونه جانياً. وإن نقص خمسمائة، فقد وافق النقصانُ المقدَّر، فيلزمه خمسمائة. وإن نقص ستمائة، ألزمناه ستمائة، لمكان اليد. وهو ضامنٌ بسببين، فننظر إلى أكثر الموجَبين. وإن كان الجاني أجنبياًَ، وكانت الجناية نفساً، فعليه القيمة، والمالك بالخيار إن شاء ضمّن الغاصب، وإن شاء ضمّن القاتل، فإن ضمّن القاتل، لم يرجع على الغاصب، واستقر الضمان عليه. وإن ضمن الغاصب، رجع بما ضمنه على الجاني؛ فإن منتهى الغرامات الإتلافُ، واليد سببٌ، فإحالة قرار الضمان على ما يحقق التفويت، وهو الإتلاف. وإن جنى الأجنبي على طرف العبد، فقطع يده، نظر: فإن كان ما نقص مثلَ المقدَّر، فإن كانت قيمته ألفاً، فنقص بقطع إحدى اليدين خمسمائةٍ، وجبت خمسمائة، والمالك في التضمين بالخيار، كما قدمنا، وقرار الضمان على الجاني. وإن كان ما نقص أقل، بأن كان أربعمائة، فإن اختار تضمين الجاني غرَّمه خمسمائةٍ، ولا مرجع [له] (1) على الغاصب. وإن أراد تضمين الغاصب، فقد قدمنا

_ (1) زيادة من (ت 2).

أن يد العبد المغصوب، إذا سقطت بآفةٍ، أو قُطعت قصاصاً، أو في سرقة، وكان النقصان أقلَّ من المقدّر، ففي المسألة وجهان: أشهرهما - أنه لا يجب على الغاصب إلا النقصان. وفيه وجه آخر. وقال المحققون في المسألة التي نحن فيها، وهي إذا جنى أجنبي على العبد، فقطع يده، وغرّمناه نصفَ القيمة، خمسمائة: لو (1) أراد المالك تغريمَ الغاصب، غرّمه خمسمائةٍ؛ فإن اليد قُطعت بجهةٍ تُضمن فيها بخمسمائةٍ، وجرى هذا في يد الغاصب، فتوجَّه عليه خمسمائةٍ اعتباراً بما يلتزمه الجاني، وليس كذلك لو قطعت في حدِّ؛ فإنها لم تقابل بمالٍ، وكذلك إذا سقطت بآفةٍ سماوية، وهذا حسن فقيه. ومن أصحابنا من خرّج وجهاًً مثلَ ما ذكرناه في قطع اليد في السرقة، وقال: ليس الغاصب جانياً حتى يتقدّر عليه الأرش. وإنما [ضمانه] (2) باليد الغاصبة. والأصل في ضمان اليد اعتبارُ النقصان: نَقَص من (3) المقدّر، أو زاد عليه. ولا خلاف أنه لو نقص من القيمة ستمائة، فالغاصب مطالبٌ بها، لمكان يده. ثم إن طالب المغصوبُ منه الغاصبَ، طالبه بستمائة، وهو يرجع على الجاني بخمسمائة، ويستقر الضّمان عليه في المائة الزائدة، فلا نجد بها مرجعاً. وإن طالب الجاني، لم يطالبه إلا بخمسمائةٍ، ويطالب الغاصب بالمائة الزائدة. 4651 - ولو غصب عبداً، وسرق في يده، وقُطِع، غرِم الغاصب للمالك ما نقص في ظاهر المذهب. وكذا لو سقطت يده بآفةٍ سماوية. وهذا تقدم ذكره. وقيل: يضمن الغاصب أكثر الأمرين من المقدّر وما نقص، تغليظاً للأمر عليه. ولو غصب عبداً سارقاً، استوجب القطع بالسرقة قبل الغصب، فقُطع في يد الغاصب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يضمن شيئاًً؛ لأن القطع وقع بسببٍ

_ (1) في النسختين: فلو. وقدرنا أنه لا مكان للفاء، فهذا أول مقول القول. (2) في الأصل: ضمنه. (3) كذا في النسختين: "من". وهي صحيحة؛ فمن معانيها أن تأتي مرادفة لـ (عن).

متقدم على الغصب، والثاني - يضمن؛ لأن القطع جرى في يده، فلا نظر إلى ما تقدم. وهكذا لو غصب مرتداً، فقتل بالردة، وقد سبقت الغصب، ففي وجوب الضّمان وجهان. وهذا ينبني على نظائرِ ذلك في الشراء. ولو اشترى [عبداً] (1) مرتداً أو سارقاً، فقتل في يده، أو قُطع، فما جرى محسوب على البائع، لتقدم سببه على قبض المشتري، أو هو محسوب على المشتري لوقوع الهلاك أو النقصان في يده؟ فيه الخلاف المشهور. وهذا الذي ذكرناه قاعدة الجناية على العبد المغصوب. 4602 - وقد ذكر ابنُ الحدّاد فروعاً، وراء تمهيد الأصول، ونحن نأتي بها فرعاً فرعاً، إن شاء الله تعالى. فمنها: أن قال: إذا غصب الرجل عبداً، فجنى العبدُ في يد الغاصب جنايةً تستغرق قيمتَه، فيتعلق الأرش برقبته، كما قدمناه. فلو مات العبد في يد الغاصب بعد ذلك، فالمالك يطالبه بقيمة العبد، وهو ألف مثلاً، لا يطالبه بأكثرَ منه. ثم إذا أخذ الألفَ، فللمجني عليه أن يتعلق به، ويقول: كان حقي متعلقاً برقبة العبد، وقد مات مضموناً، فيتعلق بقيمته، كما كان متعلقاً برقبته. وهو بمثابة ما لو أتلف متلفٌ العينَ المرهونة، والتزم القيمة، فحق المرتهن يتعلق بها، كما كان متعلقاً بالعين المرهونة. ثم إذا أخذ المجني عليه من المالك الألفَ، فالمالك يرجع على الغاصب، ويقول: لم تَسْلَم لي القيمة، وأُخذت مني بسبب جناية حدثت في يدك، فيغرَم له الغاصب القيمة مرة أخرى، وتخلص له القيمة هذه المرة. ولو قال المالكُ للغاصب أولاً: اغرم لي قيمتين؛ فإن إحداهما مستحقة، فليس له ذلك أصلاً، ولكن يطالبه أولاً بقيمته، كما رتبناها، فإن أُخذت منه عن جهة الجناية، رجع على الغاصب بقيمةٍ أخرى. فلو أبرأه الجاني وأسقط حقه بالكلية، فلا مرجع له على الغاصب؛ إذ قد سلمت له القيمة التي أخذها.

_ (1) ساقطة من الأصل.

ولو كانت قيمة العبد ألفَ درهم، والجناية خمسمائةٍ، والمسألة بعد ذلك كما صورناها، فيغرم الغاصب ألفاً، ثم إذا أُخذت منه خمسمائة، رجع بخمسمائةٍ، وهو القَدْر الذي لم يسلم للمالك، وهذا بيّن. ثم ظاهر كلام المشايخ أن المجني عليه لو لم يطالب المالكَ، وفي يده القيمة، وأراد مطالبة الغاصب بأرشِ الجناية، فله ذلك. وهو بالخيار إن شاء طالب الغاصب، ولم يتعرض للمالك، وإن شاء اتّبع القيمة التي أخذها المالكُ من الغاصب، ثم المالك يرجع على الغاصب، كما سبق التفصيل فيه. وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن المجني عليه لا يطالِب المالكَ، وإن قبض القيمة، فليطالب بحقه الغاصبَ، ولا يتبع القيمة التي أخذها المالك، حتى قال هذا القائل فيما حَكى: لو قبض المالك القيمةَ، وعسر على المجني عليه الرجوعُ على الغاصب لإعساره، أو بسبب آخر، لم يكن له أن يتعلق بالمالك، وإن أخذ القيمة. وهذا بعيدٌ مزيف؛ فإن القيمة في كونها متعلقاً للأرش، تنزل منزلة العبد، كما لو بقي، كما ذكرناه في قيمة المرهون. ولا نعرف خلافاًً أن العبد الذي يساوي ألفاً، لو جنى في يد الغاصب جناية أرشُها ألف درهم، ثم لم يمت العبد واسترده مالكه، فالمجني عليه يتبع العبد إن أراد، ثم إذا رجع إلى حقه، فحينئذٍ يرجع المالك على الغاصب، على الترتيب الذي ذكرناه. 4603 - ومما فرّعه (1) أنه إذا جنى عبدٌ في يد سيده جناية أرشُها ألف، وقيمة العبد ألف، فغصبه غاصب، ثم استرده المالك، فلا شيء على الغاصب بسبب الجناية، فإنها لم تجر في يده، وقد رد العبد كما أخذه. فإذا جنى العبد في يد السيد، كما صورناه، فلما غصبه الغاصب جنى في يده [أيضاً] (2) جناية أرشُها ألف، ثم استرده المالك من الغاصب، وباعه في الجناية بألفٍ، فإنه يقسم هذا الألفَ بين المجني عليه الأول وبين الثاني نصفين: لكل واحد

_ (1) أي ابن الحداد. (2) مزيدة من (ت 2).

منهما خمسمائةٍ، ثم يقول للغاصب: قد سلمتُ إلى المجني عليه في يدك خمسمائة، فاغرمها لي فيغرم له خمسمائة، فإذا أخذها سلمها بكمالها إلى المجني عليه الأوّل، لا يساهم فيها المجني عليه الثاني، وقد انقطعت الطَّلِبَات، فلا طَلِبة للمجني عليه الثاني على أحد، ولا طَلِبة للسيد على الغاصب في هذه الكرّة؛ فإنه سلم هذه الخمسمائة الأخيرة إلى جهة الجناية الأولى، وقد اتفقت تلك الجناية في يده. هذا ما صار إليه الأصحاب. فإن قيل: لم خصَّصتم بالخمسمائة الثانية المجني عليه الأوّل، وقسمتم الألفَ الأولَ عليهما؟ وقد أجمع العلماء على أن [الألف] (1) الأوّل مقسومٌ على [الجنايتين] (2): لا يختص الأول منهما بشيء دون الثاني، فهلا قسمتم الخمسمائة الثانية بينهما، كما قسمتم الألفَ؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك: أمّا الألف، فمقسومٌ بينهما؛ فإنه قيمةُ العبد، ولا فرق في القيمة بين المجني عليه الأوّل، وبين المجني عليهِ الثاني؛ فإن التقدم والتأخر لا يوجب تقديماً ولا تأخيراً في الازدحام على القيمة. وإنما اختص المجني عليه أولاً بالخمسمائة الثانية؛ لأن سببَ وجوب هذه الخمسمائة الغصبُ، وهو متقدم على الجناية الثانية، متأخرٌ عن الأولى. فإذا كان سببُ ضمان الخمسمائة بعد بذل القيمة الغصبَ المتقدّم على الجناية الثانية، كان ذلك بمثابة ما لو جنى عبدٌ قيمته ألفٌ جنايةً أرشُها ألفٌ، ثم قطعت يد العبد، ووجب أرشها، ثم جنى العبد، بعد ما قطعت يدُه جنايةً أخرى، أرشها ألف، فيتخصص المجني عليه الأوّل بأرش اليد التي قُطعت من العبد الجاني، فجعل الأصحاب تقدم الغصب على الجناية الثانية، بمثابة تقدم قطع اليد على الجناية الثانية. هذا ما ذكره الأئمة. 4604 - ونحن نوجّه عليه سؤالاً ونجيب عنه.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: الجانيين.

فإن قيل: ليس (1) الغصبُ المتخلل بين الجنايتين بمثابة قطع يد الجاني المتخلل بين الجنايتين؛ فإن العبد إذا جنى، فقطعت يده، فقد صادف القطعُ متعلَّق الجناية الأولى، ثم إنه بعد قطع يده أقدم على الجناية الثانية، فلم تصادف الجنايةُ الثانيةُ اليدَ من العبد الجاني، فيستحيل أن يكون لها تعلق بأرش اليد، وليس كذلك تخلل الغصب بين الجنايتين. وربما عضد السائل السؤال بأن قال: جنى العبد الجناية الأولى، وقيمته ألفٌ، وجنى الجناية الثانية، وقيمته ألفٌ، ولا أثر للتقدم والتأخر في ازدحام الجنايات، ثم الألف المقسوم على الجنايتين لم يوفِّر حقَّ الجنايتين بكمالهما، فاختصاصُ المجني عليه الأول بالخمسمائة الأخيرة، كيف يتجه؟ وهذا السؤال فيه إشكال. والوجه الممكن في الانفصال عنه أن يقال: إن المجني عليه الأول يقول: كان حقي مستغرقاً لرقبة العبد، فلمّا غصبه الغاصب تعرض بغصبه لضمان حقي، وهو الألف، فلما جنى جنايةً في يد الغاصب وأُخذ الألفُ، وقُسّم بيننا، فالخمسمائة التي توجهت بها الطَّلِبة، إنما تثبت لأن المجني عليه الثاني أخذ من الألف الأول نصفه، فلم تسلم الألفُ الداخل في ضمان الغاصب، فإذا غرِم الخمسمائة، كانت تتمة الألف الداخل في ضمانه لما غصب، وذلك الألف مستحق للمجني عليه الأول، فليصرف إليه. هذا منتهى الإمكان في الانفصال. وفي الإشكال بقية، وذلك أنا نقول: لا مطمع في فضّ الخمسمائة عليهما؛ فإن هذا يجر محالاً لا يستأصل، ولا سبيل إلى قطعه، وذلك أنا لو قسمناها، لرجع المالك بما يخص المجني عليه في حالة الغصب، ثم كان يفضّ ذلك ثالثاً، ويقتضي رجوعاً، ويدور الأمر إلى غير منقطعٍ. وربّما توجه الإشكال من وجهٍ آخر، وهو أن يقال للمجني عليه الأوّل: كنتَ على استحقاق ألفِ لو انفردتَ، فإذا جرت الجناية الثانية، فقد زوحمتَ في الألف، بناءً على أن المستأخر من الجناية كالمتقدم. وإذا [ازدحمتما] (2) في الألف، فالخمسمائة

_ (2) في (ت 2): "أليس" بزيادة همزة الاستفهام. (2) في الأصل: ازدحمتا.

إنما وجبت على الغاصب لمكان الجناية الثانية، الجارية في يد الغاصب، فاكتفيا بالألف، ولتسلم الخمسمائة للمالك. وهذا له اتجاه من طريق الاحتمال من غير نقل. والذي نقله الشيخ (1) عن وفاق الأصحاب ما قدمناه. ثم ذكر الشيخ وجهاً آخر هو في التحقيق عَضُدُ (2) المسلك الأول، على مبالغة، وذلك أنه قال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الألف الذي يأخذه أول مرة يصرفه بكماله إلى المجني عليه الأول، لا مساهمةَ فيه للمجني عليه الثاني، ولا طلبة للمجني عليه الثاني على السيد، ولكنه يطالِب الغاصبَ بخمسمائة؛ تحقيقاً لما ذكرناه من أن الغاصب ضمن قيمة العبد بكمالها للمجني عليه الأول. وهذا بعيد جداً. وقال الشيخ في إتمام حكاية هذا الوجه: لو جرت الجنايتان على الترتيب الذي ذكرناه، ولم يمت العبد، واسترده المالك، وباعه بألفٍ، صرف الألف إلى المجني عليه الأوّل، ولا تعلق للثاني إلا بالغاصب. وهذا لا يُشك في بطلانه؛ فإن رقبة العبد متعلَّقُ الجنايتين، فكيف يخص بثمنه الأولَ. هذا منتهى الكلام. 4605 - صورة أخرى: لو جنى العبدُ في يد الغاصب أولاً، وما كان جنى قبل ذلك، والأرش ألفٌ، فاسترده السيد، وجنى ثانياً جناية أرشها ألف. قال الشيخ: يباع العبد بألفٍ، ويدفع إلى الذي جنى عليه في يد الغاصب خمسمائة، وإلى الثاني الذي جنى عليه في يد السيد بعد الاسترداد خمسمائة. ثم يرجع المالك بخمسمائةٍ على الغاصب؛ فإنه غرِمها بسبب الجناية التي صدرت في يده، ثم يسلم هذه الخمسمائة إلى المجني عليه في يد الغاصب؛ فإنه السابق في هذه الصُورة بالاستحقاق، ثم يقول للغاصب: قد أُخذت مني الخمسمائة الثانية بسبب الجناية التي حصلت في يدك، فيغرِّمه خمسمائة أخرى، ويستبد بهذه الخمسمائة، ولا طَلِبة عليه فيها. هذا ما حكاه.

_ (1) الشيخ: المراد به هنا الشيخ أبو علي السنجي، كما هو مصطلح إمام الحرمين. وقد تأكد هنا بما صرح به الرافعي في فتح العزيز: 11/ 299، 300 بهامش المجموع. (2) عضُدُ: معين ومقوّي.

قال (1): وراجعت القفال في هذه المسألة، فقال: إذا استرد العبدَ وباعه في الجنايتين، ودفع إلى كل واحد خمسمائة، فيغرَم الغاصب خمسمائة أخرى، ويستبد بها المالك من غير مشاركة، وقد انقطعت الطَّلِبات. وعلل بأن قال: لما غُصب العبدُ، فقد ثبت للسيد حق القيمة أولاً، ثم لما جنى العبد في يد الغاصب، ثبت له الأرش ثانياً، ثم لما جنى في يد السيد ثبت ذلك ثالثاً، فلما بعنا العبدَ، قسمنا الألف بين المجني عليهما، وما يغرَمه الغاصب ينفرد به المغصوبُ منه؛ لأن حقه أسبق. قال الشيخ: حق المالك وإن كان أسبق، [فيقدم] (2) حقُّ المجني عليه على حقه، كما يقدم حق المجني عليه على ملك المالك في العبد. ثم قال: ناظرت فيه القفال، فرجع إلى قولي. والذي يحقق ما ذكره الشيخ، ويفصل بين هذه الصُّورة وهي إذا سبقت جنايةٌ في يد الغاصب، ولحقت جنايةٌ بعد الاسترداد في يد المالك، فنعلم علماً كلياً أن العبد لمّا غصبه، وكان بريئاً، فجرت جنايةٌ أرشها ألف في يد الغاصب، وطرأت الجنايةُ في يد الغاصب من عبد كان غصبه، ولا جناية في رقبته، فلا بد وأن يغرَم مع العبد ألفاً، ثم الكلام في مصرف الألف، كما فصله الشيخ، والغصب جرى في الصُّورة الأولى في عبد جانٍ مستحَق القيمة، فلا يلزم الغاصبَ بذلُ الألف، لتخلص الرقبة للمالك، والزحمة ثابتة في الجناية. ولا يستريب الناظر على الجملة أن الغاصب في المسألة الأخيرة لا يتخلص ما لم يغرَم ألفاً، ثم تفصيل القسمة وسلامة الخمسمائة كما تقدم. والإشكال الدائر في المسألتين أن ازدحام الجنايتين يوجب حصرَ حقَّي الجنايتين في ألف واحد. وهذا هو الذي ذكره في المسألة الأولى، وأشار إليه القفال في المسألة الثانية، فإذا انحصر حقاهما في الألف، وجب من ذلك في المسألة الأولى استبدادُ المالك

_ (1) القائل هو الشيخ أبو علي السنجي، كما صرح بذلك الرافعي في فتح العزيز: 11/ 300 بهامش المجموع، وكذا الروضة: 5/ 36. والقفال هو شيخه، فانظر -رعاك الله- إلى مجد أمتنا، وتأمّل بِدْعَ هذا العصر الرديء الذي تُعلَّم أمتنا فيه (فن الحوار)!!! (2) في الأصل: "فيتقدّم".

بالخمسمائة، ووجب في المسألة الثانية ألا يغرَم الغاصب إلا خمسمائة، كما قال القفال، ثم يستبد بها، ولا ننظر إلى سابق ولا حق في الجنايتين؛ فإنهما لو ازدحما على ملك واحد في صورة التقدم والتأخر، وأرش كل جناية قيمةٌ، فليس لهما إلا قيمةٌ واحدة، فطريان الغصبِ لا يكثِّر حقهما؛ بل إنما يرد الغصبَ على حق المالكِ (1) من الرقبة. وهذا نهاية الكشف في ذلك، فليتأمل الناظر، والله الموفق. 4606 - ومما فرعه (2): أن قال: إذا غصب الرجلُ عبداً، فجاء عبدٌ لإنسان، وقتل ذلك العبدَ المغصُوبَ، قَتْلَ قِصاص، فللسيد طلبُ القصاص، فإذا اقتص من ذلك العبد القاتل، فقد سقطت الطَّلِبة عن الغاصب؛ فإن القصاص نازل منزلة استرداد العبد، ولا ننظر إلى قيمة العبد القاتل المقتصِّ منه، فلو كانت قيمته خمسمائة، وقيمة المغصوب المقتول ألف، فإذا استوفى القصاصَ، فليس له أن يقول للغاصب: قد استوفيتُ ما قيمته خمسمائة، فأرجع عليك بخمسمائةٍ؛ فإن القصاص لا يراعى فيه تفاوت الأبدال، ولذلك تقتل المرأة بالرّجل، ويحسم باب الطَّلبة مع تفاوت الدّيتين. وهذا سديدٌ لا يشك فيه. قال الشيخ: فلو غصب عبداً قيمته ألف، فنقص في يده بعيب، ورجع إلى خمسمائة؛ فقتله العبد كما صورنا، واقتص منه السَّيد، فللسيد تغريم الغَاصِبِ الخمسمائة الناقصة بالعيب؛ فإن القصاص كاسترداد العبدِ، فلو استرد ذلك العبدَ المغصوبَ، وقد نَقَصه العيبُ، لكان يغرَم الغاصبُ أرش العيب، مع استرداد العبد. نعم لو غصب عبداً قيمته ألف، فتراجعت قيمته بالسوق إلى خمسمائة من غير عيب، ثم طرأ القتلُ والاقتصاصُ، فلا تتوجه الغرامة على الغاصب، ويجعل الاقتصاص بمثابة ما لو غصب عبداً، فانحطت قيمته، ثم استرده المالك، فإنه لا يغرَم حطيطةَ السوق. والجملة فيما ذكرناه تنزيلُ الاقتصاص منزلةَ استرداد العبد.

_ (1) (ت 2): الملك. (2) الضمير يعود على ابن الحداد.

4607 - ولو غصب عبداً، فقتل العبدُ المغصوبُ حراً، واستوجب القصاصَ، ثم جاء عبد وقتل هذا العبدَ، ولزمه القصاص، فلسيد العبد الاقتصاصُ من قاتل عبده، وليس لأولياء الحر أن يقولوا: لا تقتص من قاتله، ليتعلق حقنا بالأرْش. ثم إذا اقتص السيد، فقد بطل حقُّ أولياء الحر؛ فإن العبد الذي قَتَل قد فات، ولما قُتل وفات، تبعته المالية، لما اقتص السيد من قاتله، وكان الأرش متعلقاً برقبة قاتل الحر، وقد فات من غير تقصير من السيد، فيبرأ السيد، ويبرأ الغاصب أيضاً؛ لأن الاقتصاص بمثابة الاسترداد، كما قدمناه. وهذا لا يتضح إلا بسؤال وجواب عنه. فإن قيل: قد قدمتم أن الغاصب في عهدة جناية العبد المغصوب، وذكرتم أنّ العبد إذا جنى في يد الغاصب، فللمجني عليه مطالبةُ الغاصب بفداء العبد في غيبة السيد، فيلزم من هذا المساق أن تقولوا: لما قتل العبد حراً قَتْل قصاص، فالقتل وإن كان موجباً للقصاص، فهو مضمّن بمالية، وتلك المالية تثبت بفوات محل القصاص. فإن قلنا: موجَبُ العمد القودُ المحض، فاجعلوا اقتصاص السَّيد من قاتل العبد القاتل بمثابة فوات محل القصاص، ثم علِّقوا عُهدة المال بالغاصِب؛ بناء على ما تقدم من تعلق عهدة الجناية به؟ قلنا: هذا لا يصفو إلا بتقديم صورة، فنقول: لو قَتل العبدُ في يد السّيد قَتْل قصاصٍ، ثم قُتل هذا العبد قتل قصاص، فاقتص السيد من قاتله، فلا حق لولي مقتول هذا العبد على السيد، والسبب فيه أن عهدة الجناية لا تتعلق بذمة السيد، بل تتعلق بذمة العبد ورقبته. ثم للسيد تخليص الرقبة بالفداء، إذا كانت الجناية مالية، وليس للمجني عليه إلا التعلّق بالرقبة، وتعلّقه بالرقبة لا يزيد على تعلق حق المرتهن برقبة العبد المرهون، ولو قُتِل العبد المرهون قَتْل قصاص، فللراهن أن يقتص من [قاتله] (1). وإذا اقتص، حبط حق المرتهن من التعلق. فاقتصاص السيد من العبد القاتل يُبطل حقَّ أولياء القتيل، وليس في ذمة السيد شيء.

_ (1) في النسختين: راهنه، والمثبت من هامش (ت 2)، وهو المناسب للسياق.

فإذا ثبت هذا، عدنا إلى الجواب عن السؤال وقلنا: إذا قتل العبدُ المغصوب حراً قَتْل قصاصٍ، فلا يتصور طلب المال مع بقاء القصاص إلا من جهة فوات المحل، والمحلُّ إذا فات بالاقتصاص لم يُعقب تبعةً أصلاً، فانقطعت الطَّلِبة بالكلية من الغاصب، لما مهدناه. 4608 - ولو أتلف العبدُ المغصوبُ مالاً، ثم قُتِل قَتْلَ قصاص، واقتص السيد من قاتله، فالجواب في ذلك يستدعي تقديم صورةٍ، تناظر هذه في المسائل (1)، فنقول: إذا أتلف العبد في يد السيد مالاً، (2 وتعلق قيمتُه برقبته، ثم 2) قتل قتْل قصاص، فاقتص السيد من قاتله، فهل يضمن لصاحب المال المتلَف عليه ما كان تعلق برقبة العبد؟ التفصيل فيه أنه إن سبق من السيد منعٌ (3)، ثم جرى بعد ذلك القتلُ، فيضمن للمنع السَّابق، وإن لم يجر منعٌ قبل قتل العبد، فلا ضمان، وقتله كموته، ثم القول في موته يتفصّل كما ذكرناه. نعود بعد هذا إلى الغاصب وحكمه، فنقول: نفس الغصب منه يورّطه في العهدة، فإذا أتلف العبدُ المغصوب في يدهِ مالاً، ثم قُتل العبدُ قتْل قصاصٍ، فاقتص السيد من قاتله، أما السّيد، فلا طلبة عليه، وللمتلَف مالُه أن يطالب الغاصب، كما يطالَب السيدُ المانعُ قبل قتل العبد. ثم نختتم هذا بأن العبد لو قَتَل في يد السيد قتلاً استوجب القصاص به، فطلب وليُّ القتيل القصاصَ، فامتنع السيد من الاقتصاص، ثم مات العبد، فلا تبعة على السيد، ولا طَلِبة؛ فإن القصاص ليس أمراً يُضمن، فلا جرم لو قُتِل العبدُ قتل قصاصٍ بعد استيجابه القصاصَ، وفرضِ الممانعةِ من السيد، فإذا اقتصّ، كان اقتصاصه كموت العبد نفسه بعد المدافعة في الاقتصاص.

_ (1) (ت 2): المالك. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (3) أي طولب السيد بالمال الذي تعلّق برقبة عبده، فمنعه، ثم حدث القتل.

فنقول على هذا: نجعل الغاصب كأنه مماطل في القصاص، ولا حكم للمطل فيه، فلهذا افترق ما يوجب القصاص، وما يوجب المال. وقد يخطر للفقيه وراء هذا كله أن السيد لو مطل، ولم يقتص، ونحن نقول: القصاص يتضمن المالية، فيكون بمطله ومدافعته ملتزماً لتبعة فوات المحل. وليس الأمر كذلك؛ فإن عُلقة المال لا تثبت مع طلب القصاص، وفي هذا المنتهى أدنى احتمالٍ، فإن ثبت، انعكس على تثبيت مطالبة الغاصب. هذا منتهى النظر، والله المستعان. وقد نجز غرضنا من جنايات العبد المغصوب والجنايات عليه. فصل قال: "فإن كان ثوباً، فأبلاه المشتري ... إلى آخره" (1). 4609 - إذا غصب الرجل ثوباً، ولم ينتقص في يده، وأمسكه مدة، فعليه أداء الثوب، وأجرُ مثل المنفعة، استعملَ أو لم يَستعمل؛ فإن المنافع مضمونة باليد العادِيَة (2) عندنا. وإن انتقص الثوب بآفةٍ، لا بسبب الاستعمال، فعليه أرش ما نقص، وأجر مثل المنفعة، استعملَ أو لم يستعمِل. وإن انتقص الثوبُ بالاستعمال، وبلي بعضَ البلى، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يضمن أكثر الأمرين من أرش النقص، أو أجر مثل المنفعة؛ لأن النقصَ جاء من جهة الاستعمال، ووقع بسببه، فدخل الأقل من المضمونَيْن تحت الأكثر. والوجه الثاني - وهو الأصح أنه يضمن أرش النقص على حياله، وأجر المنفعة على حياله؛ فإنه يضمن كل واحدٍ منهما عند الانفراد، فإذا ثبت الموجبان، ثبت الضمانان.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 38. (2) العادية: من العدوان، أي اليد المعتدية.

4610 - ولو اشترى إنسان من الغاصب الثوبَ المغصوب على جهلٍ بحقيقة الحال، فاستعمله، وأبلاه بالاستعمال، فتوتجُهُ الطَّلِبة عليه من جهة المالك يُخرّج على الخلاف الذي ذكرناه في الغاصب نفسه: فإن فرعنا على الأصح، وهو أنه يُضمّنه أرش النقص على حياله وأجر مثل المنفعة على حياله فنقول: أما الرجوع بأجر المنفعة، فيخرّج على قولي الغرور؛ فإنه استوفاها مغروراً، وأما أرش النقص، ففي الرجوع به ما ذكرناه في أرش العيوب الحادثة في يد المشتري من الغاصب. وفيها النص، وتخريجُ المزني، وكلام ابن سُريج. 4611 - ثم ذكر الشافعي مسألة ضمان المنافع بالغصب، وقد ذكرناها فيما تقدّم، وأوضحنا أن المنافع تضمن باليد وتضمن بالإتلاف، وأبو حنيفة (1) لا يثبت ضمانها بواحد منهما، وإنما يثبت ضمانها بالعقد الفاسد، أو الصحيح. وقد ذكر الشافعي أن المستكرهة على الوطء يثبت مهرها على المستكرِه الزاني، رداً على أبي حنيفة، فمنفعةُ البضع تضمن بالإتلاف إذا كانت المرأة مستكرهة، ولم تكن بغيّة، ولا مهر للحرة البغية. وفي الأمة المطاوعة البغيةِ الخلافُ الذي ذكرناهُ. ولا تُضمن منافِع البضع باليد، وأبو حنيفة فيما زعم لا يضمّنها (2) إلا في عقدٍ صحيح، أو في شبهة عقد. فصل قال: "ولو غصب أرضاً، فغرسها ... إلى آخره" (3). 4612 - الغصب يتصور عندنا في العقار، فإذا ثبت تصوره، ابتنى الضّمانُ عليه. وأبو حنيفة (4) منع تصور الغصب في العقار، وترددت الرواية عنه في الغُرف المغلقة،

_ (1) ر. رؤوس المسائل: 351 مسألة 231، وطريقة الخلاف: 259 مسألة: 107، وإيثار الإنصاف: 258. (2) لا يضمنها: أي المنافع. (3) ر. مختصر المزني: 3/ 40. (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 176 مسألة 1864، ومختصر الطحاوي: 118، رؤوس المسائل: 354 مسألة 234، وطريقة الخلاف: 257 مسألة: 106، وإيثار الإنصاف: 259.

وهذا كتردده في منع بيعها قبل القبض من البائع، مع قطعه بجواز بيع العقار الثابت قبل القبض. والذي يجب الاعتناء به في هذا الفصل التعرّض لصورٍ يتردد النظر في تصوير الغصب فيها، فنقول أولاً: حقيقةُ الغصب في المنقول والعقار جميعاً استيلاء الغاصب بيده، وإنما يُعرف استيلاؤه بموجب العرف. هذا هو الأصل، والصور تهذبه. فنقول: من أزعج مالك الدار عنها لم يكن بنفس الإزعاج غاصباً، وكان ذلك كما لو أقطع (1) المالك عن حفظ ملكه، وحال بينه وبينه. ولو أزعج المالك، ولم يصادفه في الدار، فدخل الدار بصبيته وأهله، وماله، واستولى استيلاء المنتفع، وأغلق الأبواب بأغلاقها، فهذا استيلاء محقق على الدار صورةً، من غير حاجةٍ إلى فرض قصد، وعليه نقول في الجندي (2) إذا نزل داراً كما صورناه وأزعج مالكها، فقد استولى غاصباً، وصارت الدار مضمونة، ثم لا ينقطع الضّمان بأن يرحل عنها إلا أن يعود المالك، ويرد الدار إلى يده، فيكون هذا بمثابة استرداد المغصوب. ولو دخل داراً ناظراً إليها، لم يصر بذلك غاصباً، فإنه لا يعدّ مستولياً، وكذلك لو اجتاز بأرضٍ مملوكة لإنسانٍ، لم يصر ذا يدٍ في الأرض لاجتيازه؛ فإن ذلك لا يعد في العرف استيلاءً، وقد ذكرنا أن الاستيلاء هو المقصود المطلوب، والرجوع فيه إلى العرف. ولو دخل داراً خالية، وزعم أنه قصد الاستيلاء، وكان ما ذكره ممكناً، فيصير بقصده غاصباً، ولو زعم أنه لم يقصد الغصبَ والاستيلاءَ، لم يصر غاصباً، فالأمر يختلف بالقصد في هذه الصورة. 4613 - والضابط بعد الإيناس بالصور أنه قد يجري في الدور وما في معانيها أحوالٌ

_ (1) أقطع: قطع. وقطع فلاناً عن حقه منعه منه. (معجم). (2) كي تعرف لماذا خص الجندي هنا، اقرأ ما كتبه المؤلف في (الغياثي) عن واجبات الإمام، وأن منها "كف عادية الجند". فيلوح لنا أن هذا كان أمراً شائعاً، يستولي الجند في طريقهم على الدور والأموال يرتفقون بها إلى أن يتفق رحيلهم.

وأفعالٌ هي على صورها غصبٌ، كما ذكرنا في نقل الصبية ودخُول الدُّور. وقد يجري ما لا يكون استيلاءً، وإن زعم صاحب الواقعة أنه قصد استيلاء، وهو كدخول الضعيف دار القوي بنفسه، مع القطع بأنه لا يستمكن من الاستيلاء، وصاحب الدار في الدار، فهذا خارج عن قَبِيل الاستيلاء، غيرُ مختلف بالقصد. وإذا دخل داراً، وكان لا يمتنع تصوّر الاستيلاء منه، فدخوله متردد بين النظر، وبين الاستيلاء، فيختلف الحكم باختلاف القصد. فلا بد من تخيل هذه المراتب على وجوهها. وقد يفرض في المنقول ما يناظر المرتبة الأخيرة، فإذا كان بين يدي الرجل كتابٌ مملوك له، فرفعه رافع، وقصد الغصب، فنجعله غاصباً، فإن قصد النظر فيه وردَّه، لم نجعله غاصباً، على المذهب الظّاهر. وسنضرب لذلك أمثلةً في مرور الدنانير المغصوبة بأيدي النقاد (1). وإنما غرضنا التمهيد الآن. وقد يعترض في انعقار أمرٌ، وهو أن من دخل داراً، فدخل بيتاً (2)، فقد يختص استيلاؤه بذلك البيت، فيقدّر غاصباً له دون غيره، وهذا يتضح بألاّ يغلق بابَ الدار على نفسه، ويقطع العرصة عابراً. على هذا الوجه يُفرض الغصب في بيتٍ من خانٍ (3)، ويمكن أن يقال: إن ظهر الانتفاع بالدار، فهو استيلاء عليها، وإن لم يظهر، ولم يكن استيلاءٌ، فالدخول ليس استيلاء. وإن لم يظهر، وحصل الدخول وأمكن الاستيلاء، اختلف الأمر بالقصد. والرجوع بعد ذلك كله إلى العرف، فإذا ثبت أهلية (4) [الاستيلاء] (5)، ثبت الغصب

_ (1) النقاد: أي الصيارف الذين يعملون في النقد. (2) الدار تحوي عدة بيوت، فالبيت جزء من الدار. (3) الخان: النُزل: الفندق، وهي لفظة فارسية معناها أصلاً: الحانوت، ثم صارت تطلق على ذلك المبنى الذي يقام لأيواء المسافرين الذين يمرون بالمدينة، أو ينزلونها لحاجتهم، ثم يعودون. وهو الفندق تماماً. إلا أنه كان مجاناً وتطوعاً. (4) (ت 2): أصلية. (5) في الأصل: استيلاء.

وحكمه. وإن نَفَوْه من كل وجهٍ، فلا غصب. وإن ترددوا، رجعنا إلى قصد صاحب الواقعة. 4614 - ومما نذكره في ذلك أنا إذا قلنا: لا يثبت القبض في المنقولاتِ في أحكام العقود [إلا بنقلها] (1) فإذا فرض الاستيلاء على شيء منها اعتداءً، فظاهر المذهب أنه غصب، لما ذكرناه من تصور الاستيلاء. وحكى شيخي وجهاًً آخر: أنه لا يثبت حكم الغصب، إلا بما يثبت به قبضُ الرّهن والهبة، والقبض الناقل للضمان في البيع. وهذا غير صحيح، وصورة المسألة أن يزعج رجلاً عن بساطه المملوك، ويجلس عليه، أو يركبَ دابته، ولا يسيرها. وممّا نذكره في تصوير الاستيلاء: أن من دخل داراً، وفيها ربها، فلم يزعج المالك، ولكنه استولى مع استيلاء المالك، وصارا على صورة ساكِنَيْن للدار، فنجعل المعتدي غاصباً لنصف الدار. ولو دخل رجل ضعيف دار محتشم (2) في حال غيبته عنها، ووُجِد منه فيها صورةُ اليد في الظاهر، فالأصح أنا نجعله غاصباً، وإن كان يُخرَج ويُزعج على قرب؛ فإنه ليس من شرط الغصب انتهاءُ يد الغاصِب إلى حالة تعسر إزالتها. وذهب بعض الضعفة من أصحابنا إلى أن هذا لا يكون غاصباً؛ فإنه لا يعد في العرف مستولياً، والذي جاء به لا يسمى استيلاءً، بل هو في حكم الهزء والعبث، في مطرد العادة. وهذا غير سديد لما قدمناه من وجود صورة اليد. وليس كما لو دخل هذا الضّعيف الدارَ، وفيها ربها؛ فإنه لا تظهر له يد، مع استيلاء يد المالك، واستمكانه من إزعاجه بزجره، وأَخْذه، وصعقه (3). والتعويل في الجملة والتفصيل على العرف وما يعلمه أهله في معنى اليد والاستيلاء. هذا عقد المذهب في تصوير الغصب في العقار.

_ (1) في الأصل: بألا ينقلها. (2) محتشم: مهيب، وصاحب حشمٍ يغضبون له. (معجم). (3) (ت 2): وصفعه.

4615 - ثم وصل الشافعي بتصوير غصب العقار ذكْرَ تصرفاتٍ من الغاصب ونحن نستوعبها ونأتي عليها واحداً واحداً، إن شاء الله تعالى. فلو غصب الرّجُل أرضاً، واحتفر فيها بئراً، فهو معتدٍ بحفر البئر، ولو تردّى فيها متردٍ، وجب عليه الضّمان، كما لو احتفر بئراً في مضيقٍ من الشارع. فإذا ثبت ذلك، ابتنى عليه، أنه يجب عليه طمُّ البئر وكبسُها (1)، ليخرج عن هذا الضرب من العدوان، فإذا استرد المغصوب منه الأرضَ، وأمر بكبس البئر، فقد تأكد ما ذكرناه من وجوب ذلك، وكان واجباً دون أمره؛ لعلةِ الخروج عن العدوان. وهو الآن واجب لعلتين: إحداهما - ما ذكرناه. والأخرى امتثال أمر المالك، على ما سنوضح في سياق الفصل تحقيقَ الفقه فيه. ولو قال المالك: أمنعك من الكبس، لم يكن له ذلك؛ فإن في منعه إدامةُ سبب العدوان، وبقاءُ التعرض للضمان. ولو قال: رضيت بالبئر، فاتركها، فهل له أن يطمّ مع الرضا؟ فعلى وجهين مشهورين، ترجع حقيقتهما إلى أن رضا المالك بإدامة البئر هل تنزل منزلة رضاه بحفر البئر ابتداءً؟ ولا شك أن المالك لو رضي بحفر بئر في ملكه، وأذن فيه، أو أمر به، فلو تردّى متردٍّ فيها، لم يضمن المالكُ، ولا الذي تولى حفره. وهذا (2) مختلف فيه: فإن قضينا بأن الرضا بالدوام كالإذن ابتداءً بالحفر، فقد يمنع الغاصِب من الكبس. وإن قلنا: لا يكون الرضا بالدوام بمثابة الإذن بالحفر ابتداء، حتى لو قدر تردي متردٍّ، وجب الضمان، فعلى هذا يطم الغاصب البئر قطعاً لسبب العدوان، وخروجاً عن الضمان. وهذه الصورة التي ذكرنا الخلاف فيها تمتاز عما قدمناه عليه من أن المالك لو منعه من الطمّ، لم يمتنع؛ فإن ذلك فيه إذا لم يتعرض للإذن، واحتفر على المنع. فأما إذا صرح بالرضا، فهو صورة الخلاف. وذكر كثير من أئمتنا في الإذن الذي ذكرناه تقييداً، نحن نورده، فقالوا: لو رضي بالدوام، وأبرأه عن ضمان من يتردّى، ففي المسألة الوجهان. وذهب ذاهبون إلى

_ (1) في هامش (ت 2): الكبس: طمُّ الحفيرة بالتراب. (2) أي حكم الضمان.

اشتراط التعرض للإبراء عن ضمان العدوان، حتى تخرّجَ المسألة على الخلاف. وهذا عندي زلل، فليس إلية الإبراء. [فإن] (1) كان الرضا بالدوام قاطعاً سبب الضمان، نازلاً منزلة الإذن في الابتداء، فذاك. وإن كان الرضا بالدوام لا يتضمن انقطاع سبب العدوان، فالإبراء عن الضمان لا معنى له؛ فإن الضمان قد يجب بسبب تردي من ليس من مالك الأرض بسبب، والإبراء عن حق الغير قبل ثبوته محال تخيله؛ فإنه بعد الثبوت لا ينفذ، فما الظن بتصحيح مطلَقه (2) قبل الوقوع. وهذه المسألة لا تصفو عن شوائب الفكر إلا بذكر تمام الغرض فيه، فنقول: مهما قلنا: يكبس الغاصب، ويطم، فحق عليه أن يطم؛ فإن هذا إزالةُ سبب العدوان، ولا أثر فيه على هذا الوجه للرضا، ولا خِيرةَ في إزالة سبب العدوان. وإن بعد نظر الفقيه عن هذا، فسببه ضعفُ هذا الوجه؛ فإن الظاهر أن دوام الرضا من المالك ينزل منزلة الابتداء. 4616 - ونحن نستتم الآن تفصيل القول في ذلك بذكر مقدمة مقصودة في الفصل، ثم نعود بعدها إلى إكمال البيان، فنقول: لو نقل الغاصب مقداراً من التراب، من الأرض المغصوبة، من غير فرض احتفارٍ، فالتراب مملوك. وإذا كان متشابه الأجزاء، فهو من ذوات الأمثال، فإن بقي عينه، فللمغصوب منه تكليفُه ردَّ عينه إلى المكان الذي أخذ منه. ولو قال للغاصب الناقل: رضيت بأن تتركه، ولا تعيدَه، نظر: فإن كان الغاصب نقله إلى ملك نفسه، أو نقله إلى ملك غيره متعدياً، أو نقله إلى شارع المسلمين وضيق به على الطارقين، وقد يكون نصبه منضَّداً في الشارع سبباً لضمان من يتعثر به، ففي هذه المواضع ينقل التراب إلى الأرض المغصوبة؛ فإن له أغراضاً صحيحة في النقل، فإنه بين أن يفرّغ ملك نفسه، وبين أن يفرغ الشارع، أو يفرغ ملك غيره، وقد كان اعتدى بالنقل إليه.

_ (1) في الأصل: وإن. (2) أي مطلق الإبراء.

فأمّا إذا كان نقل التراب إلى موات، أو إلى الشارع على وجهٍ لا يضر بالمارة، فإذا قال المغصوب منه: لا تنقله إلى الأرض، لم يكن له نقله؛ فإنه لا غرض له في النقل، ومالك التراب راضٍ بتبقيته في المكان الذي هو فيه. ولا يخفى على الفقيه أنه لو كان نقله إلى الشارع على وجهٍ يفرض لأجله الضمان والعدوان، فإذْن المالك وإبراؤه عن الضّمان لا معنى له؛ فإنه ليس إليه هذا. ولو أراد المالك [بتبقيته] (1) أن يضيق مسلك المارة، أو يأذن فيه، لكان ممنوعاً منه. ومن تمام ذلك أنه إذا كان للغَاصب غرض، فلو ردَّ التراب إلى الأرض، وأراد أن يبسطه لتعود إلى هيئتها التي كانت عليها، ويعود التراب إلى المكان الذي أخذه منه، فقال المالك: اتركه على طرف الأرض، ولا تبسط، فحق عليه أن يترك البسط، ويقتصر على ما رسمه المالك؛ فإنه لا غرض له في البسط. والمسألة مفروضة فيه إذا لم يكن لنقل التراب حفيرة يفرض التردي فيها، فلا غرض إذن للغاصب في البسط، ولا معنى لمخالفة المالك. وهذا الذي ذكرناه مشروط بشرط، وهو أن نقل التراب، ورفعَه عن وجه الأرض إن لم يكن أحدث في الأرض نقصاً -وقد انتهى الكلام إلى المنتهى الذي ذكرناه- فالأمر على ما وصفناه، وإن كان رفعُ التراب أحدث نقصاً في الأرض، فإن أبرأ المالكُ عن أرش النقص، ورسم ألا يبسط التراب، لزم امتثال أمره. وإن كان يطلب أرش النقص، ولو ردّ الغاصبُ التراب إلى المكان الذي أُخذ منه، لكان ذلك جبراً لما وقع، وردّاً للأرض إلى ما عهدت عليه، فإنه يبسط التراب لغرض إبراء الذمة عن ضمان النقصان؛ فإن هذا من الأغراض الظاهرة. 4617 - وما ذكرناه استفتاح أصل آخر، وهو أن من أحدث نقصاً في أرض غيره، بسبب نقل التراب منه، واستمكن من إزالة ذلك النقص برد التراب؛ فإنه يفعل ذلك، ويتحتم عليه إن طلبه المالك. ويجوز له أن يفعله إن لم يطلبه المالك. وإن قال

_ (1) في الأصل: بنفسه.

المالك: دعه، فلست أطالبك بأرش النقص، لم يكن ذلك إبراء منه عن الضّمان، بل هو عِدةٌ، لا يجب الوفاء بها، فلا يثق الغاصب، ويرد التراب، ويسوي الحفائر. وهذا يخالف ما لو شق ثوباً لإنسان وطلب أن يرفوَه؛ فإنه لا يجاب إلى ذلك، باتفاق الأصحاب. ولا فرق بين أن يحتاج في الرَّفْو إلى الإتيان بأجزاءَ لم تكن في الثوب، وبين أن يستمكن من الرَّفْو من غير الإتيان بشيء من غير الثوب. والسبب فيه أن الرَّفْو لا يرد الثوب إلى ما كان عليه قبل الشق، وإن تناهى الرافي في المهارة. والأرض يمكن ردُّها إلى [ما كانت] (1) عليه قبلُ. فهذا هو الفرق. 4618 - ومن تمام البيان في ذلك: أن عين التراب المنقول إن كان باقياً، فالجواب ما ذكرناه، وإن تلف ذلك التراب وانمحق في مدارج الرياح، أو جرفه سيل، غشيه وبدَّده، فقد نقول: التراب مضمون بالمثل، فلو أراد ردّ مثل ذلك التراب إلى المكان لتسوية الحَفِيرة (2)، فقال المغصوب منه: لا أمكنك من رد مثل ذلك التراب إلى الحفر، وألزمك تركَ ما تضمنه على طرف من الأرض، وأطالبك بأرش النقص، الذي أحدثته في الأرض بسبب نقل التراب منها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن للمالك ذلك، بخلاف ما لو كان عينُ التراب باقياً؛ فإنه إذا رده وسوى به الأرض، فقد رد ما أخذه كما أخذ، وإذا ابتغى ردَّ المثل، فليس معيداً لعين ما أخذه. والمسألة محتملة. ولا خلاف أنه لو كان لا يتمكن من رد الأرض إلى ما كانت عليه إلا بزيادة تراب يأتي به، فلا يمكن من هذا. 4619 - وممَّا يتصل ببيان الكشف، أنه لو كان نقل التراب، وما أحدث في الأرض نقصاً يوجب الضّمان، ولكن نقله إلى ملك نفسه، أو اعتدى بنقله إلى ملك غيره، أو إلى الشارع، على الوجه الذي وصفناه، فقد أوضحنا أنه يرد الترابَ إلى الأرض، فلو كان يستمكن من طرح ذلك الترابِ -الذي يُفرِّغ عنه ملكَه، أو ملكَ غيره، أو الشارع-

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (ت 2): تسوية الحفر به.

في مواتٍ، هو في طريقه التي يقطعها في رد التراب، فقال المالك: اطرحه في الموات، فهو أهون عليك، ولست أبغي أن تشتغل به أرضي، وما أحدثت بنقلك نقصاً، وفعلُك في الطرح في ذلك الموات، كفعلك في الطرح على أرضي، لو رددتَ إليها، والأمر أهون عليك؛ من جهة قِصَر المسافة، فقد يعترض في ذلك أن الغاصب يبغي ردّ التراب إلى يد المغصوب منه؛ فإنه مضمونٌ في نفسه. فإن فرض للمغصوب منه ملكٌ في الطريق، فإذا نقل التراب إليه، كان عائداً إلى حكم يد المالك، فالذي نراه القطعُ بأن الغاصِب يلزمه أن يمتثل أمرَه؛ إذ لا ضرر عليه، ولا غرض له في النقل إلى المكان الذي أخذ التراب منه. ولو قال المغصوب منه: انقل التراب إلى مواتٍ بالقرب منك، أو إلى ملكٍ لي بالقرب منك، وليس على صوْب مجيئه لو طلب الردّ إلى المكان الذي أخذ منه، ففي هذا تردد، يُشعر به كلام الأئمة، وقد يظهر أنه يلزمه موافقةُ المالك، إذا لم يكن عليه مزيدُ مشقة، على الشرائط التي قدمناها. ويظهر أنه لا يفعل هذا؛ فإنه استخدامٌ، وليس كما لو طلب منه الطرحَ في الطريق؛ فإنه اختصار على بعض ما كان يفعله. فانتظم ممَّا ذكرناه فصولٌ في ردِّ التراب، وملكِ الغاصب ذلك، وتفصيلِ القول في رد الأرض إلى ما كانت عليه، إذا حصل فيها نقص، وبان أن الغاصب قد يلزمه ذلك إذا طلبه المالك، وقال: رُد ترابي وسوِّ الحفر، وقد يكون له ذلك وإن لم يطلبه المالك، لأغراضٍ، من جملتها أن يكفي نفسَه ضمان النقصان، ولاح الفرق بين ذلك، وبين رفْو الثوب. ومما يلتحق بالرفو معالجة العبد الذي جنى عليه الغاصب جنايةً تنقصه، فإنه لو قال: مكِّني من مداواته؛ فإني أعيده بها إلى حالة صحته، فلا يمكَّن من هذا. والمنع من المداواة أظهرُ من المنع من الرَّفْو، والثقةُ بحصول الغرض بها أقلُّ. 4620 - فإذا تمهدت هذه الأصول فيما على الغاصب وله؛ فنستتم بعدَ بيانِ ذلك القولَ في طم البئر، ونقول: إن لم نجعل الرضا بالدوام مسقطاً للضّمان، فله الطم، بل عليه ذلك. وإن جعلناه مسقطاً للضمان، اعترض فيه جواز رد التراب إلى موضعه

أخذاً [من] (1) الفصول التي قدمناها، فليتنبه الفقيه للقواعد، ولْيبن الأمرَ على مقتضاها. وممَّا نذكره أن الغاصب لو كان نقل تراباً من أرضٍ مُقلّبة مُكرَّبة (2) مثارةِ التراب، مهيأةٍ للغراس، فردُّ التراب إلى ما عهد سهلٌ. وإن كانت الأرض صلبة، ففُرِض نقلُ التراب، ثم طلب إعادته إلى موضعه، فعلى الراد أن يتكلف تنضيده، وهو سهل أيضاً. وإنما ذكرنا ذلك، فإن الأرض الصلبة قد تصلح للبناء عليها، فلو لم ينضد التراب المنقول، فلا يحصل الغرض الذي كان، وفي التنضيد تُردّ أجزاء التراب إلى مقارها الحقيقية. هذا منتهى ما أردناه في ذلك. وقد يتعلق بالفصل ما إذا غصب أرضاً، وغرس فيها غراساً أو بنى بناءً، وهذا سنذكره في فصل الصبغ بعدُ، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ولو غصب جارية، فهلكت ... إلى آخره" (3). 4621 - مضمون الفصل الكلامُ في طرفٍ من اختلاف الغاصب والمغصوب منه، وهو يتعلق بنوعين: أحدهما: الاختلاف في صفات المغصوب. والثاني: الاختلاف في قيمته بعد تلفه. فأما الخلاف في صفات المغصوب، فإذا ادّعى المغصوب منه سلامة المغصوب عن العيوب، وطلب بذلك وفور القيمة، والعين فائتة. وقال الغاصب: بل كان مئوفاً (4)، ووقع التعرض لعيبٍ مثلاً، نُظر فإن قال الغاصب: كان العبد المغصوب أَكْمه، أو كان عديم اليد في أصل الفطرة، وادّعى المالك أنّه كان بصيراً سليم اليد، فقد قال الأصحاب: القول قول الغاصب، وعلى المالك إقامة البينة؛ فإن الغاصب

_ (1) في الأصل: بين. (2) مكرَّبة: من كَرَبَ يكرُب من باب قتل: كربْتُ الأرض قلَبتُها للحرث (معجم ومصباح) وكرّب مضعف كرب للمبالغة. (3) ر. المختصر: 3/ 41. (4) مئوفاً: اسم مفعول، من آفت البلاد إذا أصابتها آفة. (معجم) والمراد هنا أن الغاصب يدعي أن المغصوب كان معيباً، أيّاً كان هذا المغصوب.

أنكر وجودَ عضو، ولا يمتنع (1) أن يقال: الأصل عدمها (2)، وينضم إلى ذلك أن الأصل براءة ذمته عن المقدار الزائد المدعى عليه. وإن اعترف الغاصب بأن العبد كان كامل الخلقة، وادعى طريان العمى والقطع قبل الغصب، وزعم أن يده صادفته معيباً بالعيب الذي وصفه، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول المالك؛ فإن الأصل دوام سلامة العبد عما ادعى الغاصب طريانَه عليه من قطعٍ، أو عمى. والقول الثاني - أن القول قول الغاصب؛ فإن الأصل براءةُ ذمته عن المزيد المتنازع فيه، وهذا يلتحق بالأصل الذي يسميه الفقهاء: "تقابل الأصلين". وذكر بعض أصحابنا أن الغاصب لو ادعى عيباً خِلْقياً، كما قدمنا وصفه، وكان ذلك العيب يفرض نادراً، في آحادٍ من الناس، كما ذكرناه من ادعائه كونَه أَكْمهَ، أو عديمَ اليد، ففيه خلاف؛ من جهة ادعائه نادراً، فقد يغلب على الظن كذبُه فيه، ومحاولتُه الغضَّ مما يلزمه من القيمة، والأصلُ (3) في الناس السلامة، وعليه ابتنى ثبوتُ حق الرد بالعيب؛ فإن المشتري يبني العقدَ المطلقَ على معهود السلامة، فينزل ذلك منزلةَ شرط السلامة. ثم هذه الطبقة من الأصحاب ذكروا أوجهاًً: أحدها - أن المصدَّقَ المالكُ، بناء على السلامة. والثاني - أن المصدَّقَ الغاصبُ، لما سبق تمهيده قبلُ. والثالث - أنه يفصل بين العيوب النادرة، وبين ما لا يندر. وكل هذا خبطٌ، لا أعده من المذهب (4). والذي يجب القطع به، أن الغاصب إذا لم يعترف بأصل السلامة، فهو مصدَّق مع يمينه في ادعاء انعدام عضو أو صفةٍ في أصل الخلقة، وإنما محل الخلاف فيه إذا اعترف بأصل السلامة، ثم ادّعى طريان آفة، كما بيناه.

_ (1) (ت 2): يمكن. (2) الضمير يعود على اليد، وليس الآفة، فالإمام يقطع بهذا، ولا يرى في المسألة غيرَه. (3) (ت 2): فإن الأصل. (4) ما رآه الإمام (خبطاً) هو ما استقر عليه المذهب، يشهد بذلك قول النووي: "فلو قال: كان أكْمهَ أو وُلد أعرج، أو عديم اليد، فالمصدّق الغاصبُ على [الوجه] الصحيح؛ لأن الأصل العدم، ويمكن للمالك البينة، والثاني - يصدّق المالك نظراً إلى غلبة السلامة، والثالث - يفرق بين ما يندر من العيوب وغيره" (ر. الروضة: 5/ 28، 29).

4622 - ومما يلتحق بذلك أن المالك لو ادّعى أن العبد المغصوب الفائت كان يحسن صناعةً من الصناعات، وأنكرها الغاصب، فالذي قطع به المراوزة أن القول قول الغاصب؛ فإن الأصل براءة ذمته، والأصل عدم الصناعة التي يدعيها المالك. وذكر العراقيون وجهاًً غريباً: أن القول قولُ المالكِ، ووجهوه عندهم بأن صفات العبيد قد لايطلع عليها إلا السَّادة، ويعسر إثباتها من غير تصديقهم، فلو لم نصدقهم، لأدّى إلى تعطيل كثير من الصفات في محل النزاع. ونحن قد نصدق في إثبات شيء والأصل عدمُه إنساناً، إذ (1) كان لا يتلقى ثبوته إلا من جهته، ومنه تصديقنا المرأةَ في الحيض، إذا كان الزوج علّق طلاقَها على أن تحيض، وإن كان الأصل بقاءَ النكاح وعدمَ الطلاق. وهذا تخليط غيرُ معدودٍ من المذهب، والوجه القطع ببناء الأمر على عدم الصناعات، وعلى من يدّعيها البيّنة. هذا في اختلاف الغاصب والمغصوب منه في صفةِ المغصوب. 4623 - فأما إذا وقع الاختلاف في مبلغ قيمة العبد مطلقاً، من غير تعرض لصفاته، فإذا قال المالك: كانت قيمة العبد ألفين، وقال الغاصب: كانت ألفاً، فالقول قول الغاصب مع يمينه، لا خلاف فيه؛ بناء على ما قدمناه من براءة ذمته عن المزيد المدَّعى. ولو ادعى المالك بقاء العين المغصوبة في يد الغاصب، وادعى الغاصب تلفَها، والتزم ضمانَ قيمتها، فقد اختلف الأصحاب في ذلك، فالذي ذهب إليه المحققون، وهو اختيار القفال، فيما حكاه شيخي عنه أن القول قولُ الغاصب، فإنا لو لم نصدقه مع يمينه، لأوجب ذلك تضييقاً عليه، لا نجد عنه مخرجاً، وقد يخلّد حبسه فيه، والتلف يجري بحيث لا يشعر به غيرُ الغاصب، سيما في الجواهر والأعيان الخفية. ومن أصحابنا من اكتفى بظاهر الحال، وقال: الأصل بقاء العين حتى تقوم البينة على تلفها. وهذا القائل يحلِّف المالك، والصحيح ما اختاره القفال، والثاني مزيف.

_ (1) كذا في النسختين: "إذا" وهو صواب؛ فوضع (إذْ) مكان (إذا) سائغ كعكسه. (ر. شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: 62).

4624 - ومما يتم به غرض الفصل: أن العبد المغصوب إذا مات فإن كان رآه المقومون، فلا شك أنهم يعتمدون عِيانهم في الشهادة على قيمته، وإن لم يره المقوّمون، فأراد مالك العبد أن يقيم شهوداً على صفاته، وحِلْيته، وصورته، ورام أن يعتمد المقومون تلك الصفات، ويبنوا التقويم عليها، فليس له ذلك، وليس للمقومين اعتمادُ الصفات التي يشهد بها العدول. والسبب فيه أن ما يعتمده التقويم لا يدخل تحت ضبط الواصفين؛ فإن المعتبر الأظهر الذي تختلف القيم به لا يدخل تحت الوصف؛ فإن القيمة تختلف بالملاحة، ولطف الشمائل، وغيرها، ممَّا يدِق مُدركُه. فإن قيل: ألستم صححتم السلم في الحيوان اعتماداً على الوصف، ثم استقصاء الأوصاف مقصود في السلم؟ قلنا: قد ذكرنا في كتاب السلم أن الإسلام في الحيوان يضاهي أبواب الرخص، ولا يشترط فيه من استقصاء الصّفات، ما يشترط في سائر الأجناس. وقد مهدت في ذلك أصولاً في كتاب السلم، والقدر الذي يقع الاكتفاء به هاهنا أن مبنى السلم على تنزيل المسلم فيه على أقل مراتب الصفات، والاكتفاء بأول المنازل، ولا يتصور بناء التقويم على هذا؛ فإن المقوّم يحتاج إلى الاطلاع على النهايات ليبني ظنه عليها في التقويم. وهذا واضحٌ، لا خفاء به. وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً أن التقويم يقع بأوصافٍ، تنزيلاً على الأقل كالسلم. وهذا بعيدٌ غير معتدٍ به. وإن ذكر الغاصب في إقراره بالغصب أوصافاً للمغصوب، وقال: كان المغصوب مورّدَ الخدين، أزجَّ الحاجبين، نجلاءَ العينين، أكحلهما، مستدقَّ الأنف، وارد الأَرْنبة (1)، رقيق الشفتين، مديدَ القامة، حسن الهامة، مكلثمَ (2) الوجه، مستطيلَ الجيد (3)، عريض الكتف، [مخصّر] (4) الوسط، نادر الرِّدْفِ (5)،

_ (1) وارد الأرنبة: يقال: فلان وارد الأرنبة: طويل الأنف. (معجم). (2) الكلثوم: الممتلىء لحم الخدين والوجه. وكَلْثم وجهه: اجتمع لحمه بلا جهومة (معجم). (3) في (ت 2): الجسد. (4) في الأصل: مختصر. والمراد دقيق الوسط. (5) نادر الرِّدْف: من ندرَ الشيء خرج من غيره وبرز، يقال ندر العظم عن موضعه، برز وخرج،=

[خديجَ] (1) الساقين، غائص الكعبين (2) إلى غير ذلك. فهذه الصفات لا يعتمدها التقويم، ولكنها تفيد من جهة أنه لو ادّعى قيمةً لا تليق بهذه الصفات، مثل أن يذكر شيئاًً نزراً دراهم معدودة، فلا يقبل منه ما ذكره؛ فإنا وإن كنا لا نعتمد الصفاتِ في التقويم، فنستفيد مناقضةَ ما ادّعاه من القيمة، لما اعترف به من الأوصاف. فإذا قال ذلك، قلنا: ارتَقِ، وزِدْ، فإن زاد زيادةً لا تليق أيضاً بالأوصاف، كلفناه الرقي، ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى مبلغٍ، قد يُظن أنه يليق بالأوصاف التي ذكرها. ولو أقام المالك بينةً على الأوصاف، فقد ذكرنا أن القيمة لا تعتمدها، ولكن المالك يستفيد إبطالَ دعوى الغاصب مقداراً حقيراً، فلا فرق بين أن تثبت الأوصاف بقول الغاصب وبين أن تثبت بتحلية الشهود ووصفهم. 4625 - وإن قال المالك: قيمة العبد ألف، وقال الغاصبُ: بل خمسمائةٍ، فأقام المالك بينة أن القيمة كانت أكثر من خمسمائةٍ، ولم تتعرض البينة لضبطٍ، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن البينة تُسمع على هذا الوجه، وفائدة السماع أن يكلَّف الغاصبُ أن يزيد على الخمسمائة، ويرقَى، كما ذكرناه في الأوصاف، فإن زاد، فقالت البينة: كانت القيمة أكثر من هذا، فنكلفه الزيادة إلى أن ينتهي إلى موقف لا يقطع الشهود أقوالهم بالزيادة عليه. وقال بعض أصحابنا: لا تقبل البينة على هذا الوجه. وهذا ساقط غيرُ معتد به، وذهولٌ عن الحقيقة؛ فإن الجهالة إنما تقدح إذا كنا نبغي معها إثباتَ مقدّرٍ (3)؛ ولسنا نبغي في هذا المقام إثبات مقدَّرٍ، وإنما نطلب إبطالَ قول الغاصب، وذلك ممّا يمكن التوصل إليه على تحقيقٍ. والعلم بالمشهود به إنما يشترط إذا كان المطلوب معلوماً، فإذاً الغرض يحصل في تكذيب المدعى عليه بالجهة التي ذكرناها؛ فالوجه قبول البينة، مع الإبهام.

_ = ونادرُ الجبل ما يخرج منه ويبرز. والرِّدف: العجز (معجم، ومصباح). (1) في النسختين حديج بالحاء المهملة. وخديج الساقين بالمعجمة: أي دقيق الساقين، من خدج الصلاة: نقصها. (معجم، ومصباح). (2) أي غير شديد البروز والنتوء للكعبين. والعرب تتمدّح بامتلاء موضع الخلخال. (3) (ت 2): مقدور.

ولا يختص ما صورناه بالغصب. فلو ادّعى رجل على رجل ألف درهم، فاعترف المدعى عليه بخمسمائةٍ، فأقام المدعي بينةً على أن له عليه أكثرَ من خمسمائة، فالأمر فيه على التفصيل الذي ذكرناه. فصل قال: "ولو كان ثوباً، فصبغه ... إلى آخره" (1). 4626 - الغاصب إذا غير المغصوب نوعاً من التغيير، وأحدث فيه صِفةً، فلا يخلو إما أن يكون ما أحدثه أثراً، أو عيناً، فإن كان أثراً، مثل أنه كان غصب حِنطةً، فطحنها، أو دقيقاً، فعجنه، وخبزه، أو شاة، فذبحها، أو لحماً، فطبخه، أو قطناً، فغزله، أو غزلاً، فنسجه، أو نُقرةً، فطبعها، أو تراباً، فضربه لَبِناً، أو ثوباً، فقَصَره، فهذه، وما في معانيها آثارٌ؛ فإنها تثبت من غير مزيدِ عين، والقول في جميعها على نسق واحد. فنقول: إن اقتضت هذه الآثار نقصاناً، فالحكم فيها أنه يجب ردُّ العين على ما هي عليها، مع أرش النقص. وإن اقتضت الآثار زيادةً، فالعين مردودة على مالكها على ما هي عليها، ولا حق للغاصب في الزيادة التي حدثت بسبب فعله. ولا خلاف أن هذه المعاني لا تلتحق في حق الغصب بالأعيان الزائدة، وقد ذكرنا في كتاب التفليس قولين في أن القِصارة، وما في معناها إذا صدرت من المشتري، ثم أفلس بالثمن، فتيك الزيادة أثرٌ أوْ عين. وقد مضى القولُ مفصلاً في كتاب التفليس. وغرضنا الآن الإشارة إلى الفرق بين البابين. فنقول: المفلس أحدث ما أحدث بحقٍّ في محل ملكه وحقه، فيجوز ألا يضيع سعيُه في تحصيل تلك الزيادة. والغاصب المعتدي ظالم بما أحدثه، فلا نقيم لسعيه وزناً، ونخيّب عملَه وظنَّه. وممَّا ذكرناه في التفليس أن المشتري لو استأجر قصاراً، فقَصَر الثوبَ المشترى،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 41.

فقد نقول: إذا أفلس المشتري، فللقصار تعلُّقٌ بالثوب، لأجل ما حصّله من القِصارة، ولا سبيل إلى تخيّل مثل ذلك في الغصب، فالآثار التي تضمنت مزيداً انقلبت إلى المالك لا محالة، لا حظ فيها للغاصب، ولا تعلق بها للعامل. ولو أحدث الغاصب أثراً، واقتضى زيادةً: مثل أن يغصب نُقرة فيطبعها دراهم، وازدادت قيمتُها لذلك، أو غصب تراباً، فضربه لَبِناً، فلو أراد المغصوب منه أن يكلفه ردَّ الدراهم تبراً بالإذابة والسبك، وردَّ اللبن تراباً بالدق، فالذي قطع به الأئمة أن له أن يكلفه ذلك، ولا نظر إلى تتبع (1) الأغراض؛ فإنها على الجملة ممكنة (2). وإذا أمكن غرضٌ، لم تَجْرِ (3) مطالبة المالك بإظهاره. وهذا مقطوع به في الطرق. وفيه تنبيهٌ على أصلٍ، وهو أن من غصب شيئاً على صفةٍ وغير صفتها، فهو على حكم هذه القاعدة مطالبٌ بردّ صفتها إذا كان ردُّها ممكناً. وهذا غائص يتعيّن حفظه. ويقرب منه ردُّ التراب إلى الحفائر، وتسويتُها به، وهو يستند إلى أصلٍ آخر، وهو رد المغصوب إلى المكان الذي غصبه منه. والذي ذكرناه الآن إعادةُ الصفات لأعيانها. ولو هدم رجلٌ جدار إنسانٍ، فلا يكلف إعادتَه؛ فإنه لا يتأتى إعادتُه على النعت الذي كان عليه إلا أن يكون منضداً من غير ملاطٍ، (4 فتكليف تنضيد أحجارٍ من غير استعمال ملاط 4) يلتحق برد التراب المنقول إلى موضعه. ولو رضي المغصوب منه بالدراهم، فقال الغاصب: أردها سبائك، لم يكن له ذلك؛ فإنّه لا غرض له في ذلك، ولا يتوصل إليه إلا بملابسة (5) ملكِ غيره، والتصرفِ فيه، فلا يجاب إلى هذا. وطم البئر إنما ساغ للغاصب على التفصيل المقدَّم بسبب ما فيه من تعرضه للضّمان والعدوان.

_ (1) كذا في النسختين: "تتبع الأغراض" والمعنى المفهوم بوضوح من السياق: أنه لا نظر في أغراض الملاك، وتتبّعها؛ لنرى هل هي معقولة مقبولة، أو لا معنى لها، مثل دقِّ اللبِن وإعادته تراباً؛ فذلك لا اطلاع عليه، لأن الأغراض في الجملة ممكنة مهما بعد تصورها. (2) ممكنة: بمعنى محتملة. (3) في (ت 2): "لم يجز". (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (ت 2): بملك يثبه ملك غيره.

وعند هذا المنتهى سر، وهو أنا لا نجوّز لحافر البئر طمَّها ليبرأ عن الضّمان؛ إذ لو كان المعنى هذا، لما بالينا بتورطه في الضّمان، ولقلنا: أنت الذي ورطت نفسك في هذا الضمان، ولكن المعتبر أن قطع العدوان واجب، فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه من لطيف الكلام. ولو كان قَصَر الغاصب الثوبَ، فليس من الممكن أن يكلفه المغصوبُ منه رده إلى البت (1)، فلا تكليف في هذا، وما يناظره. 4627 - وذكر الأئمة في قسم الآثار (2) مسائلَ تستفاد ذكرنا بعضها فيما سبق، ونحن نجمعها الآن: لو غصب عصيراً، فانتهى في آخر أمره إلى حموضة الخل؛ فإنه يرد الخلَّ، وهل يضمن العصير؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه لا يضمن؛ فإنه ردَّ عين ما غصب، ولكن صفته حائلة، فينظر في نقصان القيمة على التفصيل المقدم. والثاني - يضمن العصير؛ فإن الذي رده خل، وقد صار العصير خمراً في يده، ثم صارت الخمر خلاً، ولما انقلب العصير خمراً، وجب إذ ذاك مثلُ العصير؛ فإنه باشتداده خرج من أن يكون مالاً، فما أوجبناه من المثل لا يزيله، والخل رزقٌ ساقه الله إلى المغصوب منه. ومن هذا الجنس ما لو غصب بيضة فأحضنها دجاجة، ففرخت، فيجب ردّ الفرخ على مالك البيضة، وهل يجبُ على الغاصب قيمةُ البيضة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب؛ لأنها تصير مَذِرَة (3)، ثم تنقلب فرخاً، والمذِرة لا قيمة لها كالخمر. والثاني - لا يجب ضمان البيضة، كما تقدّم في العصير. ولو غصب بَذراً، فَزَرَعَه فنبت وتَسَنْبل، وأَدْرَك، فلا شك أن الزرع لمالك البذر، وهل يغرَم الغاصب مثلَ البذر للمغصوب منه؟ فعلى وجهين؛ لأن البذر يتعفن، ويخرج عن المالية، ثم يُنبت.

_ (1) البتّ: كساءٌ غليظ من صوف أو وبر. (معجم) فالمعنى أن البتّ هو الثوب الخام الذي لم تدخله القصارة، وهي دق الثوب وتبييضه (المعجم). (2) قسم الآثار: أي الآثار التي يحدثها الغاصب فيما غصبه. (3) مذرة: من مذرت البيضة إذا فسدت (مصباح).

4628 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو غصب خمراً، فصارت في يده خلاً، أو غصب جلد ميتة، فدبغها، فهل يلزم رد المدبوغ والخل؟ حاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها - أنه يجب الرد؛ فإن المملوك آخراً فرعُ المغصوب، وإن لم يكن مالاً لمَّا غُصب، فيجب رد الفرع إلى من كان مختصاً بالأصل. وهذا أصح الوجوه. والثاني - أنه لا يرد ويفوز بالخل والجلد المدبوغ؛ لأن الملك حصل في يده، وما غصب ملكاًً، فاستبدّ بما جرى الملك فيه، ولو تلفت الخمر خمراً، والجلد قبل الدباغ، لما كان يضمن شيئاً؛ فهذا إذن فائدةٌ مستجدة، حصلت في يد الغاصب. والوجه الثالث - أنه يمسك الخل، ويفوز به، ويردّ الجلدَ، والفرق أن الخمر لا يحل اقتناؤها لتُعالج، وجلود الميتات تُقتنى للمعالجة. والأصح الوجه الأول. ويمكن أن يقال: الخلاف في الخمر مفروض في الخمرة المحترمة حتى تناظرَ الجلدَ قبل الدِّباغ. ولو أخذ خمراً مستحقة الإراقة، ولم يتفق منه إراقتُها حتى انقلبت في يده خلاً، فالظاهر عندنا القطع بأنه يفوز بالخل؛ فإن تيك الخمر، لم تكن مستحقة، ولم يكن فيها اختصاصٌ، بل كانت مضيّعة في حكم التالفة التي لا حق فيها ولا اختصاص، فمن استفاد منها خلاً، كان ذاك رزقاً مبتدأً في حقه. وليس تخلو هذه الصورة عن احتمالٍ أيضاً. وكل ما ذكرناه آثار مجرَّدة، ليس فيها إحداث عين. 4629 - فأما إذا أحدث في العين المغصوبة عينَ مالٍ، مثل: إن غصب ثوباً، فصبغه. في هذا الفصل (1) اضطراب في الطرق، وتباينٌ بيّن، ونحن نرى أن نسوق ترتيباً هو الأصل عندنا في المذهب، ونُلحق ما يليق به من الوجوه الغريبة، ثم إذا نجز، ذكرنا بعد نجازه ما نراه خارجاً عن قاعدة المذهب، مما نقله الأئمة، فنبتدىء ونقول: إذا صبغ الغاصب الثوب بصِبغٍ، لم يخلُ إما أن يكون الصِّبغ للغاصب، وإما أن يكون

_ (1) في (ت 2): "وفي هذا الفصل".

لمالك الثوب، وقد غصبه مع الثوب، وإما أن يكون لأجنبي، وقد كان غصبه منه. فأمّا إذا كان الصِّبغ ملكَ الغاصب، فيتصور الثوب والصِّبغ على صور، ونحن نأتي عليها، ونذكر في كل صورة ما يليق بها. ونقول: قد يزداد الثوب بسبب الصبغ، وقد ينقص، وقد يبقى على القيمة الأولى: من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ. فإن لم يزدد، ولم ينتقص، وتصويره أن قيمة الثوب لو كانت عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وكان الثوب بعد الصبغ يساوي عشرين، فهذا هو الذي عنيناه. فالثوبُ على قيمته، والصبغ على قيمته. والقول في ذلك ينقسم، فلا يخلو: إمَّا أن يكون الصبغ معقوداً لا يتأتى فصله، وإمّا أن يكون غير معقود، وكان فصله ممكناً. فإن كان الصبغ معقوداً، فالثوب المصبوغ مشترك بين مالك الثوب والغاصب، وليس ذلك كالقِصارة وما في معناها؛ فإن الصبغ عينٌ قائمة؛ فلا سبيل إلى إحباطها، وإبطالِ ملك مالكها فيها، ولا وجه لتمييز الصبغ عن الثوب؛ فإنا فرضنا الكلام في الصبغ المعقود، الذي لا يتميز (1). ثم لا يملك صاحبُ الثوب إجبارَ الغاصب على البيع، والغاصب لا يُجبر صاحبَ الثوب على البيع، فإن اتفقا على البيع وباعا الثوب المصبوغَ بما يساوي، وهو عشرون، فالثمن مقسوم بينهما، وإن وجدا زبوناً، واشترى الثوب بثلاثين، فالمبلغ مقسوم نصفين بينهما. وإنّما لم يُجبر أحدُهما على مساعدة صاحبه في البيع؛ تنزيلاً للثوب مع الصبغ منزلةَ ملكٍ مشترك بين شريكين، لا يقبل القسمة؛ فإن واحداً منهما لا يُجبر صاحبه على البيع، وإن كانت القسمة متعذرة، فلكل واحدٍ من الشريكين أن يبيع حصته من الملك المشترك. وهل يملك كلُّ واحدٍ من صاحب الثوب والصبغ أن يبيع ملكه على حياله؟ القياس أنه يملك اعتباراً بالملك المشترك بين شريكين الذي لا يقبل القسمة. ويجوز أن يقال: لا ينفذ البيع؛ فإنه لا يتأتى الانتفاع بالثوب وحده، ولا بالصبغ. والبيعُ فيما يعسر الانتفاع به قد يفسد. والملك المشترك يفرض التوصل إلى الانتفاع به بالمهايأة. وهذا الذي ذكرناه يشبه بيعَ دارٍ لا ممر لها، وقد ذكرنا في صحة بيعها خلافاًً.

_ (1) لا يتميز: أي لا ينفصل من الثوب.

هذا تفصيل القول فيه إذا لم تزد قيمةُ الثوب والصبغ، ولم تنقص. 4635 - فأمّا إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة، فصبغَ الغاصب الثوبَ بصبغه، وعقده، فإذا الثوبُ المغصوب يساوي عشرة، فقد سقطت إحدى القيمتين، واتفق أئمتنا على أن النقصان محسوب من الصِّبغ، فلم يبق إلا قيمةُ الثوب، فالثوب المصبوغ مسلمٌ لصاحب الثوب، لا حظَّ فيه لصاحب الصِّبغ؛ فإن الأصل الثوبُ، والصبغ وإن كان عيناً فهو في حُكم الصفة للثوب، فكأن الصِّبغ قد انمحق، وما ذكرناه في الغاصب وصبغه، ليس بدعاً، إذ قد ذكرنا في كتاب التفليس أن من اشترى ثوباً قيمتُه عشرة، وصبغه بصبغٍ من عنده قيمتُه عشرة، فإذا الثوب المصبوغ يساوي عشرة، فإذا أفلس المشتري بالثمن، وحُجر عليه، فبائع الثوب يرجع في عين الثوب المصبوغ، ويستبدّ به، وإن كان فيه عينُ الصبغ، فإذا كنا نقول ذلك، وقد حصل استعمال الصبغ (1 من المشتري المالك، فالغاصب المعتدي باستعمال الصِّبغ 1) بأن يسقط حقه أولى. وعلى حسب هذا نقول: إذا طيرت الريح ثوباً لإنسان وألقته في إجّانةِ صباغ، فانصبغ، وما ازدادت قيمةُ الثوب، وتعلق بالثوب من الصِّبغ ما قيمته خمسة، ولم ترتفع قيمةُ الثوب، وكان الصبغُ معقوداً، فقد حبط حق مالك الصِّبغ. وإن قال قائل: لم يَعْتدِ مالكُ الصبغ، فلِمَ يحبط حقُّه؟ قلنا: لم يظهر للصِّبغ أثر في الثوب، فصار كما لو طيرت الريح جِرمَ الصِّبغ. ومن تعجب من ذلك، رددناه إلى مسألة المفلس؛ فإن المشتري المفلس تصرف في ملك نفسه، واستعمل في الثوب المملوكِ الصِّبغَ المملوكَ، ثم أحبطناه في الصورة التي نحن فيها. هذا كله إذا سقط مقدار قيمةِ الصِّبغ بالكلية. 4631 - فأمّا إذا لم تسقط، [ولكن نقصت] (2) فكان الثوب يساوي عشرة، والصِّبغ يساوي عشرة، وكان الثوب المصبوغ يساوي خمسةَ عشرَ، فالنقصان محسوبٌ من

_ (1) سقط من (ت 2) ما بين القوسين. (2) زيادة من (ت 2).

قيمة الصِّبغ، وقيمةُ الثوب نقدرها عشرة، كما كانت. وإذا بعنا الثوب برضاهما، فالثمن مقسوم بينهما أثلاثاً. ولو زادت قيمة الثوب المصبوغ على قيمة الثوب وحده، وعلى قيمة الصِّبغ وحده (1)، فإذا وفت القيمتان، حسبنا الزيادة منسوبة إليهما على مقدارهما. وبيان ذلك: أنا قدَّرنا الثوب عشرة والصبغ عشرة، ثم وجدنا الثوب المصبوغ يساوي ثلاثين، فالقيمتان متساويتان، والزيادة مفضوضةٌ عليهما بالسوِيَّة. فإذا بيع الثوب، فلمالك الثوب خمسة عشر، ولصاحب الصِّبغ خمسةَ عشرَ. فهذا قياس الباب. والضابطُ فيه. من طريق الحساب أنا إذا لم نجد بعد الصِّبغ إلا مقدارَ قيمة الثوب غيرَ مصبوغ، فقد انمحق الصِّبغ، فالمصبوغ لصاحب الثوب. [وإن] (2) وجد الثوب المصبوغ ناقصاً عن القيمتين، احتسب الثوبُ على كمال قيمته قبل الصبغ، واحتسب النقصان كله من الصِّبغ. وإن وفت القيمتان، اعتبرناهما جميعاً. وإن زادت قيمة المصبوغ على قيمة الثوب والصبغ مفردين، فالزيادة على القيمتين مفضوضةٌ عليهما. ولو وجدنا المصبوغ أقلَّ قيمةً من الثوب قبل الصبغ، فقد انتقص الثوب بذلك المقدار، فعلى الغاصب ردُّ الثوب، وأرشُ ما نقص. وهو كما لو كان الثوب وحده عشرة، والصِّبغ عشرة، والثوب المصبوغ ثمانية، فالغاصب يرد الثوب، ودرهمين. وقد انمحق الصبغ. وكل ما ذكرناه في الصبغ المعقود الذي لا يتأتى فصله أصلاً. 4632 - فأمّا إذا كان فصل الصبغ ممكناً، فالذي ذهب إليه المراوزة أن للغاصب أن يفصل الصبغ؛ فإنه عين ماله، ثم لم يفرقوا بين أن يكون للصِّبغ المفصول قيمةً، وبين ألا يكون لها قيمة، وبين أن تكون قيمتها (3) نَزْرةً بالإضافة إلى ما كان الصِّبغ عليه قبل الاستعمال، واعتمدوا فيه أنه عينُ مال الغاصب، (4 فهو أولى به 4) من غير التفاتٍ إلى أصل القيمة ومقدارِها.

_ (1) (ت 2): بعده. (2) في الأصل: فإن. (3) كذا. فإن الصِّبغ يذكر ويؤنث. (معجم). (4) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.

ثم قالوا: لو لم يطلب الغاصبُ فصلَ الصِّبغ، فلصاحب الثوب أن يجبره على الفصل، مَصيراً إلى تفريغ الثوب عنه، ثم لا نظر إلى القيمة، كما ذكرناه. ثم قالوا: إذا فصل الغاصب الصّبغ، بإرادته واختياره، أو فصله بإجبار مالك الثوب إياه، فإن كانت قيمة الثوب بعد فصل الصبغ كقيمته قبل استعمال الصِّبغ، فلا كلام، والثوب مردود على مالكه، وإن نقصت قيمة الثوب بعد فصل الصِّبغ، عن قيمته قبل استعمال الصبغ، فعلى الغاصب أرشُ النقصان؛ لانتسابه إلى العدوان في استعمال الصبغ ابتداءً. هذا والأمر مفروض في فصل الصبغ. فإن تراضيا على بيع الثوب مصبوغاً، فالقول في الثمن والحالة هذه، كالقول فيه إذا كان الصبغ معقوداً. هذا طريق المراوزة. وقال العراقيون: إن أمكن فصلُ الصبغ من غير نقصانٍ في قيمة الصبغ، فللغاصب الفصل، ولمالك الثوب الإجبارُ عليه. وإن كان الصبغ المنفصل لا يساوي شيئاًً، أو كان يساوي مقداراً نزراً، بالإضافة إلى قيمة الصبغ قبل الاستعمال، وكان الغاصب الذي هو صاحب الصبغ يبغي أن يُبقي الصبغ، ولا يزيله؛ حتى لا يحبطَ ملكُه، أو لا يخسر خسراناً مبيناً، وليقع التصوير فيه إذا كان الثوبُ المصبوغ يساوي عشرين، فصاعداً، والصبغ لو فصل، لما كانت له قيمة، أو كانت نزرة. فإذا أراد الغاصب ألا يفصل، وأراد صاحب الثوب أن يُلزمه الفصلَ، وإن كان الفصل يؤدي إلى تخسيره، قال العراقيون: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يُجبَر الغاصبُ على إزالته، بل يُجبر مالكُ الثوب على تبقيته، ويكونان شريكين في الثوب. قالوا: وهذا اختيار ابن سريج، ووجهه أن صاحب الثوب متعنت، في تكليف الغاصب إزالة الصبغ؛ وليس يتعلق بهذا غرض صحيح. والوجه الثاني - أنه يُجبر على الإزالة إذا طلب مالك الثوب. قالوا: وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي، وابنِ خَيْران، وتعليلُه ما ذكرناه في طريق المراوزة. هذا إذا طلب مالك الثوب فصلَ الصبغ، ولم يرض به الغاصب. فأما إذا رضي

صاحب الثوب بتبقية الصبغ، وأبى الغاصب، وطلب أن يفصل صِبغه، فإن كان لا ينتقص الثوب بفصله، فهو مجابٌ إلى ما يريد من فصل الصبغ؛ فإنه عين ماله، ولا ضرر على صاحب الثوب بفصله، ثم لا نظر إلى قيمة الصبغ، سقطت أو نقصت. فإن كان فصل الصبغ يؤدي إلى إلحاق نقصٍ بالثوب، بأن كان يرده إلى تسعةٍ، أو ثمانية، ولو ترك الصبغ، اشتري بالعشرين مثلاً، فيعود في هذه الصورة الخلاف الذي حكاه العراقيون: ففي وجهٍ لا يمكَّن الغاصبُ من فصل الصبغ؛ لأنه ليس له في فصله غرض صحيح، وفيه تنقيص الثوب في الحال، إلى أن نفرض جُبران النقصان بالضّمان، وفي وجهٍ يجاب الغاصب إلى ما يريده، ثم إن كان نقصٌ جَبَره. وهذا قياس المراوزة. ولا يخفى على النّاظر في قياس القواعد أن الوجه ما قطع به المراوزة، وما عداه خبط وتخليط، لا ينضبط فيه رأي، وإنما هو استصلاحٌ محض، لا معوّل عندنا على مثله. ثم قد أَدَرْنا في تفصيل الكلام تصويرَ نقصان الصبغ إذا فُصل، وتصوير سقوط قيمته على رأي العراقيين في تخريج الوجهين، فالذي يقتضيه فحوى كلامهم أن الخلاف يختص بسقوط قيمة الصبغ، أو سقوط معظمها عند تقدير الفصل. فالذي يقتضيه القياس مع التزام أصلهم أنه إذا كان الصبغ المفصول يسقط من قيمته ما لا يتغابن الناس في مثله بالإضافة والنسبة إلى ترك الصّبغ في الثوب، فيطّرد الخلاف، حتى لو كان الثوب المصبوغ يساوي عشرين، وحصة الصبغ منها عشرة، وكان الصبغ لو فصل يساوي تسعة، فالدرهم الناقص مما لا يتغابن الناس في مثله، فيظهر من فصل الصبغ تخسير معتبر، ويلزم منه طرد الخلاف الذي ذكروه. 4633 - ونحن الآن نُلْحِق بطريق المراوزة وهي اختيار أبي إسحاق المروزي -فيما حكاه العراقيون- تفريعَ حكم آخر، فنقول: إذا كان مالك الثوب يملك إجبار الغاصب على فصل صبغه، وكان الغاصب يتعب بفصله مثلاً، فقد ذكرنا أنه مجبر عليه، فلو قال: تركت الصبغ على مالك الثوب نِحْلة وهبةً، فلا تطالبوني بتكليف فصله، فكيف السبيل في ذلك؟ ذكر الأئمة وجهين: أحدهما - أن صاحب الصبغ يجاب إلى

ملتمسه، فيدخل الصبغ في ملك صاحب الثوب قهراً وإن لم يُرِدْه. والوجه الثاني - أنّه لا يجاب صاحب الصبغ إلى ذلك، بل يجبر على فصل الصبغ وإن لاقاه من الكلفة ما لاقى (1). توجيه الوجهين: من قال لا يجاب الغاصب، فهو متمسك بالقياس الكلي؛ فإن (2) إجبارَ مالك الثوب على الملك في الصِّبغ خارج عن القانون، وتكليف الغاصب ما يتعبه محمولٌ على نتيجة عدوانه. ومن قال: يجاب الغاصب، اعتقد الصِّبغ في حكم الصفة التابعة، وقال للمالك: إذا كنت لا تخسر شيئاًً، وقد صار الصبغ صفةَ ثوبك، فاحتمله. وظاهرُ المذهب أن من اشترى فرساً وأنعله، لما قبضه، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ به، ولو كلفناه قلعَ النعل، لعاب الفرس عيباً حادثاً، ولامتنع ردُّه بالعيب القديم لمكان العيب الجديد الذي يحدثه قلعُ النعل، فللمشتري رد الفرس منعلاً، ثم النعل يدخل في ملك المردود عليه. هذا ظاهر المذهب، وقد فصلتُه في كتاب البيع، في فصول الرد بالعيب. وهذا يفارق الخلاف الظّاهر الذي ذكرناه بين الغاصب والمغصوب منه في الصبغ، والفرق أن المشتري ليس متعدِّياً؛ فإنه أنعل الفرس الذي ملكه بالشراء، ثم فُرض الاطلاعُ على العيب، فلم يكن المشتري منتسباً إلى التقصير. وبناءُ أمر الغاصب على العدوان، فهو بألا يجاب إلى ملتمسه أوْلى. هذا بيان قاعدة الكلام في ذكر الخلاف. 4634 - ثم اختلف (3) أئمتنا في محل الوجهين المذكورين في الغاصب وصِبغه. وحاصل ما فهمنا من نقل الأئمة وفحوى كلامهم ثلاثُ طرقٍ في محل الوجهين: إحداها للعراقيين، وهي: أنا لا ننظر إلى ضررٍ ينال الغاصب، ولكنّا نطلق

_ (1) كذا. والمتبادر: ما لاقاه. (2) (ت 2): قال. (3) (ت 2): ذكر.

الوجهين، مهما (1) أراد ترك الصبغ على مالك الثوب، والمتبع عندهم اتصال الصبغ بالثوب، وقيامُه فيه مقامَ الصفة، قالوا: سواء كان ينتقص الصبغ لو فصل، أو لا ينتقص، وسواء كان ينتقص الثوب، و [يُلزم] (2) انتقاصُه الغاصبَ الضّمانَ، أو كان لا ينتقص، فمهما ترك الغاصب الصبغ على مالك الثوب، فالوجهان جاريان، ومعتمد جريانهما الاتصال، وقيام الصبغ مقام الصفة. وطرد هؤلاء الوجهين في الصبغ المعقود الذي لا يفرض فصله، فقالوا: لو تركه الغاصب، وأراد أن يُملِّكه صاحبَ الثوب، فالوجهان يجريان. وهذه طريقة بعيدة. ومن (3) أصحابنا، من قال: إذا كان على الغاصب تعبٌ في فَصْل الصِّبغ، فإذ ذاك يجري الوجهان: إذا أراد تَرْكَ الصبغِ على مالك الثوب، وكذلك إذا كان لا ينتفع به لو فصله، أو كان يثبت له قيمةٌ نزرة، فيجري الوجهان في هذه الصورة. فأمّا إذا تيسر الفصلُ وللصبغ المفصول قيمةٌ معتبرة، يطلب مثلُها، أو كان الصبغ معقوداً، فإذا سَمَح صاحب الصبغ في هذه المنازل، فأراد أن يتركه ملكاً على صاحب الثوب، فلا يجاب إلى ملتمسه، بل إذا كان معقوداً، فالشركة قائمة، وإن لم يكن معقوداً، أجبر على فصله إذا لم يكن تعبٌ ولا سقوطُ معظم القيمة. ولعل هذا القائل يقيس التعب بما يبقى من القيمة، فإن كان ما يبقى من القيمة لا يفي بالتعب الذي يلقاه المزيل، فهو من صور الوجهين. وإن كان يفي بالتعب ويزيد، فلا إجبار على التمليك. وإن كان يفي بالتعب، ولا يزيد، فلا فائدة إذاً ويجري الوجهان. هذا بيان الطريقة الثانية في محل الوجهين. ومن (4) أصحابنا من قال: الغاصب مجبر على إزالة الصِّبغ إذا كان لا يؤثر فصلُه في تنقيص قيمة الثوب، كيف فُرض الأمر في الصبغ، ولا نظر إلى التعب، ولا إلى

_ (1) (مهما): بمعنى (إذا). (2) في الأصل: ونلزمه. (3) هذه هي الطريقة الثانية. (4) هذه هي الطريقة الثالثة.

سقوط قيمة الصبغ. وإن كان فصلُ الصبغ ينقُص قيمةَ الثوب، فأراد الغاصب ترك الصبغ؛ حتى لا يحتاج إلى غرامة أرش النقص الذي يلحق الثوبَ، فإذ ذاك يخرّج الوجهان في أنه هل يجاب إلى ملتمسه. وصاحب هذه الطريقة يقابل أرش النقص بقيمة الصِّبغ المفصول، فإن كانت قيمةُ الصبغ تفي بأرش النقص، أُجبر الغاصب على الفصل، وإن كانت قيمةُ الصبغ لا تفي بأرش النقص، فإذ ذاك نُجري الوجهين. هذا بيان أصل الوجهين. وذُكر الاختلاف في محلها. ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إجابة الغاصب في الصبغ المعقود، إلا ما ذكرناه من طريقة العراقيين. 4635 - ومما تتم به هذه التفاريع: أنا حيث لا (1) نوافق الغاصبَ، ولا نجيبه إلى ما يبغيه، فإذا أراد هبة الصبغ، فلا بد من رعاية شرائط الهبات: من فرض الهبةِ من صاحب الصِّبغ، وقبوله (2) من صاحب الثوب. وحيث قلنا: يجاب الغاصبُ إلى ما يلتمسه، فلا حاجة إلى قبول صاحب الثوب، ولا بد من لفظ يصدر من صاحب الصِّبغ، ويجوز أن يقال: يكفي أن يقول: تركت الصبغ على صاحب الثوب، ولا حاجة إلى لفظ الهبة، وما يقوم مقامه؛ فإنا إذا كنا لا نشترط القبولَ، فمجرد لفظ الهبة لا معنى لاشتراطه، ولكن لابد من لفظة تشعر بقطع حق الغاصب، كقوله: أعرضت، أو تركت، أو أبرأت عن حقي، أو أسقطت، ولا شكّ أنه لا يقع الاكتفاء بلفظ متردد بين الإعراض وبين التَّوقف. ويجوز أن يقالَ: لا بد من لفظ يشعر بالتمليك والتبرع، وإن كنا لا نشترط القبول، فينزل لفظ التبرع مع سقوط القبول منزلةَ لفظ الأب إذا وهبَ من طفله شيئاًً، ولم نشترط القبول. ثم إذا جرى لفظٌ نقنعُ به، والتفريع على أنه يجاب، فلو أراد أن يرجع، فهو رجوع في هبة تامةٍ. والكلامُ مفروض فيه إذا كان الثوب في يد مالكه. فليتأمّل الناظر ما نلقيه من أعواص الكلام في هذه التفاصيل.

_ (1) (ت 2): نوافق (بدون لا النافية). (2) كذا: ولعلها مراعاة للفظ الصبغ.

ومما يبقى علينا بعد هذا الإيضاح فروعٌ نرسمها نستدرك ما يُقَدَّر شذوذه عن ضبط الأصول. فرع: 4636 - إذا كان الصبغ معقوداً، وأثبتنا صاحبَ الثوب والغاصبَ شريكين، فلو قال صاحب الثوب: أنا آخذ الصِّبغ بقيمته، وهو معقود، أو كان الصبغ بحيث يتصوّر أن يزال على يسر أو عسرٍ، فإذا أراد أن يأخذ الصبغ بقيمته، لم يُجب إلى ذلك. وهكذا إذا غرس الغاصب في الأرض المغصوبة، فقال المالك: أنا آخذ الغراس بالقيمة، لم يكن له ذلك. هكذا ذكره القاضي. وليس كما لو أعار أرضاً، فغرسه (1) المستعير، ثم رجع المعير في العاريّة، وطلب أخذ الغراس بالقيمة، فقد يجاب إلى هذا في تفاصيلَ قدمنا ذكرها، والفرق بين القاعدتين أن المعير لا يتمكن من قلع ملك المستعير أو إجباره على القلع مجّاناً؛ فكان فيه حاجة إلى الأخذ بالقيمة في بعض مجاري الكلام. والمغصوب منهُ متمكن من إلزام الغاصب إزالة ملكه مجاناً، وهذا واضح لا شكّ فيه. فرع (2): 4637 - إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة، والثوب المصبوغ يساوي ثلاثين. وقد ذكرنا أنهما إذا رضيا ببيع الثوب، فالثمن مقسوم بينهما نصفين. فلو كان الصبغ بحيث يمكن إزالته، فإن أراد الغاصبُ فصله، فله ذلك. ولكن إن بقي الثوب بعد فصله مساوياً خمسةَ عشرَ، فذاك. وإن نقص الثوب عن خمسةَ عشرَ، فعلى الغاصب ضمان النقصان. والظاهر أنه ينقص إذا فصل الصبغ، إلا [أن يفرض] (3) في الثوب تغيير سوى استعمالِ الصبغ. والغرض أن الخمسة عشر محسوبة على الغاصب إذا اختار فصلَ الصبغ.

_ (1) كذا بضمير المذكر، في النسختين، وعود الضمير مذكراً على مؤنث، والعكس سائغٌ بتأويل. (ر. شواهد التوضيح: 143) ويمكن تأويلها هنا (بالحقل). (2) يبدأ من هنا اعتماد نسخة 345 (د 2) أصلاً. ونسخة 325 (ت 2) نصاً مساعداً، ويضاف إليها أيضاً نسخة (ي). (3) في الأصل ألا يفرض، والمثبت من (ت 2)، (ي).

فإن قيل: لم قلتم ذلك؟ وهلا اعتبرتم قيمةَ الثوب في الأصل وهي عشرة، فاعتبروا النقصان منها، ولا تحسبوا على الغاصب غيرها؟ قلنا: الخمسة الزائدة في قيمة الثوب زيادةٌ حصلت في الثوب في يد الغاصب -وإن كانت بفعله- فهي محسوبة عليه، ومحمولةٌ على الزيادة التي تحصل بالآثار التي ليست أعياناً، كالقِصارة وما في معناها، فشابهت الزيادةُ (1) التي ذكرناها ما لو غصب الرجل جوهرَ الزجاج، وقيمتُه درهم، ثم اتخذ منه قدحاً قيمتُه عشرة، فلو انكسر القدح، فكان الزجاج المنكسر يساوِي درهماً، فعلى الغاصب التسعةُ الناقصة بسبب الكسر. هذا إذا أراد الغاصِب فصْل الصّبغ. ولو لم يرده، ولكن أجبره مالك الثوب على فصله، فإن رجعت قيمةُ الثوب إلى عشرة، فلا يغرَم الغاصب بسبب نقصانِ الخمسة التي كانت زادت شيئاًً؛ فإن المالك أجبره على الإزالة. وإن نقص من العشرة شيء، فيلزم الغاصب حينئذ ما ينقص من العشرة؛ فإن هذا محمول على عدوان الغاصب باستعمال الصبغ ابتداء. وهذا بمثابة ما لو غصب نُقرةً قيمتها دينار، فصاغ منها حلياً قيمتُه دينار وسدس، فأجبره المغصوب منه على رد الحلي تبراً. فإن كان التبر يساوي ديناراً، فلا شيء على الغاصب. وإن نقص التبر عن الدينار، فعلى الغاصب ذلك النقصان المنسوب إلى الدينار. وهذا بيّنٌ لا إشكال فيه. فرع: 4638 - إذا كان الثوب المصبوغ يساوي ثلاثين كما صوّرناه، ثم انحط السعر، فصار ذلك الثوب يساوي عشرة، فهذه الحطيطة محمولةٌ على نقصان الثوب والصبغ جميعاً، فيقدر كأن سعر الثوب دون الصبغ خمسة، وقد كان عشرة، وسعر الصبغ دون الثوب خمسة، وقد كان عشرة، وإنما يحسن وقعُ هذا التصوير إذا وجدنا الأمر كذلك في الثوب والصبغ مفردين. فلو رد الثوب، فهو شريكٌ فيه؛ فإن العين المغصوبة إذا لم تنتقص بآفة (2)، فنقصان السوق غيرُ معتبر مع رده، وقد ردّ الثوبَ، فترتب عليه كونُ مالك الثوب

_ (1) ت 2: الزيادةَ (بالنصب). (2) (ت 2) و (ي): صفتها، فنقصان الثوب.

ومالك الصبغ شريكين. [وإن] (1) كانت قيمتهما الآن مثلَ قيمة الثوب وحده لمّا غصب، فإن هذا التفاوت راجع إلى السوق، وقد أوضحنا أنَّ تفاوت السوق غيرُ معتبر مع رد العين. فإذا تصورت المسألة على هذا الوجه، فلو نزع الغاصب الصبغ بإذن المالك (2) بعد أن عادت القيمة بالسوق إلى عشرة، فصار الثوب يساوي أربعاً، وقيمة ثوبٍ غيرِ مصبوغ الآن خمسة، فإذا انتقص خُمسُ قيمة الثوب، فلا نقول: يلزمه درهم، بل يلزمه النقصان بحساب العشرة؛ فإن ما ينتقص (3) في يد الغاصِب [يحسب] (4) عليه نقصانه من أكثر القيم، وكانت قيمة الثوب دون الصبغ عشرة، فليقع الاحتساب منها؛ فيلزمه خُمسُ العشرة وهو درهمان. وقد انتهى غرضنا في ترتيب المذهب في قسمٍ واحدٍ من الأقسام الثلاثة التي صدّرنا بها أول فصل الصبغ، وهو إذا كان الصبغُ ملكَ الغاصب. 4639 - والآن نلحق بعد نجاز ترتيب المذهب شيئاًً حكاه صاحب التقريب أخّرناه، ولم نر ذكره في سياق الترتيب. وذلك أنه قال: إذا غصب ثوباً، وصبغه بصبغ من عنده، وكان الصبغ معقوداً لا يُزالُ، فللشّافعي قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الغاصب يكون شريكاً في الثّوب إذا كانت قيمة الثوب المصبوغ زائدة على قيمة الثوب من غير صبغ، وهذا هو الذي قطعنا به وبنينا عليه ترتيبَ الطرق. والقول الثاني -حكاه عن القديم- أن الصبغ المعقود لصاحب الثوب، وهو بمثابة سمن العبد المغصوب في يد الغاصب، وهذا غريبٌ جداً، لم أره لغير صاحب التقريب. وقال أيضاً: لو كان الصبغ بحيث يمكن فصله، ولكن لو فصل، لما كانت له قيمة، فالمنصوص عليه في الجديد أن ذلك الصبغ معتبر في حق الغاصب، ثم

_ (1) في الأصل: فإن. (2) (ت 2)، (ي): الصبغ بعد أن عادت ... (3) عبارة (ت 2) مشوشة هكذا: فإن تم لم ينتقص الغرة في يد الغاصب. (4) في الأصل: يجب.

يُفصِّله (1) ما ذكره الأصحاب، إذ رتبوا المذهب كما قد بيّناه (2). والقول الثاني - وهو فيما زعم منصوص عليه في القديم: أن الصبغ بمثابة زيادة متصلة، كالسمن ونحوه، فهو ملك صاحب الثوب وهذا الذي ذكره في الصبغ الذي يمكن إزالته في نهاية البعد؛ فإنه إن تخيل متخيل مشابهة الصبغ المعقود السمن؛ من حيث لا يتعلق فصله بالاختيار (3)، فهو فيما يمكن فصله بعيد؛ فإن صاحب العين أولى بها، وإن كانت ساقطةَ القيمة. وكلّ هذا في قسمٍ واحدٍ. 4640 - فأمَّا إذا كان الصبغ ملكَ مالك الثوب، وكان غَصَبَ الثوبَ والصبغَ من شخصٍ واحدٍ، ثم استعمل الصبغ في الثوب. فإن كان الثوب عشرة، والصبغ عشرة، فصار الثوب المصبوغ يساوي عشرين، فلا نقصان إذاً؛ فإن كان الصبغ معقوداً، فلا ضمان على الغاصب، وإن كان بحيث يمكن إزالته، فإن رضي المالكُ به، فلا كلام. وإن أراد أن يكلفه إزالة الصبغ، فله ذلك، كما له أن يكلفه إبطال (4) الصَّنعة المجردة التي أثبتها في العين المغصوبة، وهي إذا طبع من النُّقرة دراهمَ، ثم كلف الغاصب ردها نُقرة، فله ذلك. فلو أزال الصبغ، فانمحق، أو نقصت قيمته، أو نقص الثوب، فلا يلتزم الغاصب بسبب النقصان شيئاً؛ فإنّ كل نقصان يثبت بسبب فك الصنعة بإذن المالك، فلا يكون مضموناً. وقد ذكرنا أن المغصوب منه إذا كلف الغاصبَ ردّ الدراهم نقرة، فابتنى عليه نقصانٌ لا بدّ منه، فلا ضمان على الغاصب. 4641 - ويتعين في هذا المقام التنبيه لسرٍّ لطيف في المذهب، وهو أن الصّفات إذا فاتت في يد الغاصب لصنعة أحدثها، وقد ازدادت القيمةُ بالصنعة، ولكن خرج التبر عن كونه تبراً، فالمالك يجبر الغاصبَ إن أراد على إبطال صنعته. وليس الغرض من

_ (1) (ت 2): تفصيله. (2) (ت 2)، (ي): قدمناه. (3) (ت 2): الإجبار. (4) في (ت 2): إزالة.

ذلك اعتقاد استحقاق الصّفةِ التي كان التبرُ عليها قبل أن صِيغت (1) أو طبعت؛ إذ لو كنا نعتقد ذلك، لألزمنا الغاصبَ النقصان إذا سبك الدراهم نُقرةً بأمر المالك. ولكنَّا نثبت هذا الحق للمالك على الغاصبِ؛ من جهة أنا نبني الأمر على غرضٍ له في النقرة، فالمرعي في ذلك الأغراضُ، لا المالية. فليفهم الناظر ذلك. وهذا إذا لم يفسد صنعة متقومة. فأمَّا إذا غصب حلياً لصنعته قيمةٌ، فاتخذ منه حلياً آخرَ، قيمةُ صنعته تضاهي قيمة صنعة الحلي المغصوب، فقد نقول: لا جبران (2)؛ فإنه يكسر الحلي الأوّل ثم [يصوغه] (3) مرة أخرى، [فليلتزم] (4) بالكسر أرش النقص، ثم [الصيغة الجديدة] (5) التي يحدثها لا تجبر ما تقدم من النقصان. وقد مهدنا ذلك. ولو غصب حلياً وكسره، واتخذ منه صنفاً آخر من الحليّ، فالمغصوب منه لا يكلفه رده إلى الصنعة الأولى؛ فإن ذلك لا يمكن الوفاء به (6). وقد ذكرت ذلك فيما تقدم. فإذا تجدد العهد بهذا، ابتنى عليه أن المغصوب منه لو كلف الغاصبَ إزالة الصبغ، فله ذلك، ولكن لو فرض نقصانٌ، لم يلزمه أرش النقصان. ومما لا يخفى أنه لو غصب ثوباً قيمته عشرة، وغصب من مالك الثوب أيضاً صبغاً قيمته عشرة، ثم صبغ الثوب، فصار الثوب المصبوغ يساوي عشرة. فقد أتلف الغاصب الصبغَ، فيلزمه بدلُه: المثلُ إن كان من ذوات الأمثال، أو القيمةُ إن كان من ذوات القيم. وإن كان الثوب يساوي خمسةَ عشرَ، يلزمه ما يقابل النقصان، ويحتسب النقصانُ من الصبغ. هذا منتهى القول في هذا الأصل.

_ (1) أي النقرة، أو العين المغصوبة عامة. (2) أي لا تجبر الصنعة، والصياغة الجديدة أثرَ الكسر. (3) في الأصل: يصوغ. (4) في الأصل: ويلتزم. (5) في الأصل: صيغة الجديد. (6) أي لا يمكن الثقة بأنه سيعود إلى ما كان عليه في الصنعة الأولى، كرَفْو الثوب، وإعادة بناء الجدار إذا هدمه وكان مبنيا بالملاط.

4642 - فأمَّا إذا غصب ثوباً من زيدٍ، وغصب صبغاً من عمرو، فإن كان الصبغ معقوداً [ولم] (1) يفرض نقصان، فلا ضمان على الغاصب الصابغ، وقد صار مالك الثوب ومالك الصبغ شريكين. فإن فرض نقصان والصبغ معقود، نظر: فإن انمحق الصبغ، وكان الثوب يساوي عشرةً، فالغاصب يغرَم بدل الصبغ للمغصوب منه (2). وإن كان الثوب يساوي خمسة عشر، فصاحب الصبغ شريك، وحقه الثلث من الثوب المصبوغ، وملكه على الحقيقة عين الصبغ، ولكنه يقع ثلثاً مع الإضافة إلى الثوب، ويغرَم في هذه الحالة الغاصبُ نصفَ قيمة الصبغ إذا كان متقوماً. وكل ذلك إذا كان الصبغ معقوداً. فأمّا إذا كان يمكن إزالته، فليقع الفرْض فيه إذا لم تتفق زيادة ولا نقصان في الثوب والصبغ. فإن رضيا، فهما شريكان، وإن أرادا أن يُكلفا الغاصِبَ استخراج الصبغ، وتمييزه عن الثوب، فلهما ذلك. ثم إذا فصل، وحدث نقص غرِم الغاصب أرش النقص لا محالة. وليس هذا من [باب] (3) فك الصنعة المجرّدة عند اتحاد المالك؛ فإن في هذه الصورة نوعاً من الاعتداء، وهو وصل ملك زيد بملك عمرو، فيلتزم النقصانَ. وهذا يتضح بصورة: وهي أن الصبغ والثوبَ لو زادا، فصار الثوب يساوي ثلاثين، فإن [أزال] (4) الغاصبُ بنفسه، التزم نقصان الثوب من حساب خمسةَ عشر، والتزم نقصان الصبغ أيضاً من حساب خمسة عشر. وفي القلب من هذا شيء؛ من جهة أن الملك لم يتحد، حتى يقال: حصلت هذه الزيادة بالصنعة في ملكٍ واحدٍ في يد الغاصب، ثم ترتب عليه نقصان، بل حصل ما حصل من الزيادة بسبب ضم ملك زيد إلى ملكِ عمروٍ، فكان لا يمتنع في القياس أن يقال: هذه الزيادة غير معتبرة ولا محسوبة على الغاصب. وهذا دقيق لطيف.

_ (1) في الأصل: فلم. (2) الصورة مفروضة فيما إذا كان الثوب يساوي عشرة، والصبغ يساوي عشرة. (3) مزيدة من (ت 2)، (ي). (4) في الأصل: زال.

والأصل ما قدمناه للأصحاب، وهو المذهب. ولو كلفناه الإزالة والثوب ثلاثون ففُرض نقصان، فالنقصان محسوب عليه من حساب العشرة في كل جانب؛ فإن الزيادة حصلت بالصنعة، وقد أفسدها بإذنهما. وفيما ذكرناه أن الصنعة إذا أفسدها الغاصبُ بإذن المغصوب منه، لم يضمن نقصانها. وإن أمره أحدهما بالفصل دون الثاني، فالذي يقتضيه قياس الأصحاب أن النقصان في حق الآمر محسوب من العشرة، وفي حق من لم يأمر من خمسة عشر. ويظهر من هاهنا الاحتمال الذي ذكرناه (1) قبل هذا؛ فإن الغاصب يقول للذي لم يأمره (2) بالفصل: كيف أغرَم لك من حساب الخمسة عشر، وإنما تمت الصنعة في صبغك بأن وصلته بثوب غيرك وقد أجبرني مالك الثوب على فصله، ويقتضي (3) هذا حَسْبَ النقصان في حق من لم يأمر منهما من العشرة أيضاً. هذا نجازُ القولِ في فصل الصبغ. ولو غصب أرضاً وغرس فيها، أو بنى، فتفصيل القول في الغراس مع الأرض والبناء [عليها] (4) كتفصيل القول في صِبغٍ يستعمله الغاصب في ثوب مغصوب، والصبغ يمكن إزالته. وقد مضى ذلك مفصلاً مقسماً. فصل قال: "ولو كان زيتاً فخلطه بمثله ... إلى آخره" (5). 4643 - الرأي أن نذكر في صدر الفصل نص الشافعي رضي الله عنه على وجهه، ونبين معناه، ثم ننشىء بعده ترتيبَ المذهب. قال رضي الله عنه: إذا خلط الزيت المغصوب بزيت له، وزيته أجود من الزيت المغصوب، فالغاصب بالخيار بين أن

_ (1) (ت 2)، (ي): أظهرناه. (2) (ت 2): الذي يأمر. (3) (ت 2): وهذا مقتضى هذا حسب. (4) في الأصل: معها. (5) ر. المختصر: 3/ 42.

يعطيه من المخلوط مثلَ مكيلته، وبين أن يعطيه من موضع آخر مثل زيته. وإن خلط الزيتَ المغصوب بمثله، فظاهرُ النص أنه يتخير أيضاً: إن شاء أعطاه من المخلوط مثلَ مكيلته، وإن شاء أعطاه من غيره. وإن خلطه بزيتٍ أردأَ من زيته، فالمالك بالخيار، إن لم يرض بالمخلوط، فله ذلك، فيطلب من الغاصبِ مثلَ زيته، وإن رضي بذلك المخلوط،. فالغاصبُ بالخيارِ، إن شاء أعطاه من ذلك المخلوط مكيلة زيته، وإن شاء أعطاه من موضع آخر (1). هذا نص الشافعي رضي الله عنه. وهو مصرح بأن الخلط يتنزل منزلة عدم العين المغصوب؛ فإنه خيّر الغاصبَ في الأقسام الثلاثة بين أن يعطي حقَّ المغصوب منه من المخلوط، وبين أن يعطيه من موضع آخر، فإذا كان يتخيّر على هذا الوجه، فهذا يدل على أن حق المغصوب منه زائل في التعلق بعين ماله. وعلى الغاصب أن يوفيه حقه، فإن أتاه بمثل زيته من أي موضع شاء، قبِله المغصوبُ منه، وإن أتاه بمثل مكيلته من هذا المخلوط، فلا خيار للمغصوب منه؛ فإنه أعطاه أجود من حقه، ولكن الغاصب لا يتعين عليه البذلُ من هذا المخلوط. وإن كان الخلط بالأردأ، فإن أعطاه مثل زيته من موضعٍ آخر، قبله. وإن أعطاه من المخلوط، فالخيار إلى المغصوب منه. هذا معنى النص. ونحن نبتدىء بعد هذا تفصيل المذهبِ، فنقول: 4644 - حاصل ما ذكره الأئمة في تأسيس المذهب ثلاث طرق: أشهرها، وأظهرها - إجراء القولين في الأحوال الثلاثة أحدهما - أن عين مال المالك في حكم المفقود. وقد قال الشافعي في التعبير عن هذا: "الذائب (2): إذا اختلط بالذائب، انقلب". والقول الثاني - أن عين المال قائمةٌ، وهذا هو الحق في مسلك القياس؛ فإنا نقطع بقيامها حِساً، فبعُد إلحاقها بالمعدومات، مع تحقق وجودها.

_ (1) ر. الأم: 3/ 226. وهو بتصرفٍ من الإمام في نصّ الشافعي. (2) (ت 2): الباب.

فإذا طردنا الطرق بتفريعاتها، نبهنا بعدها على مشكلة عظيمةٍ، وغائلةٍ صعبة الموقع، فما ذكرناه من طرد القولين طريقة واحدة. الطريقة الثانية: قطعُ القول بموجب النص، وهو أن الزيت إذا خلط بزيتٍ، كان كالمعدوم. [وقد] (1) أوضحنا شهادةَ النص على هذا. والطريقة الثالثة: أن الخلط بالمثل لا يُلحق الزيت بالمعدوم، وفي الخلط بالأردأ والأجود القولان؛ فإن التسليم من المخلوط المتشابه الأجزاء ممكن، بلا مراجعة. وفي التسليم من المخلوط المختلف رداءةً وجودة عسر، كما سنصفه في التفريع. 4645 - هذا بيان الطرق الثلاث. والرأي بعدها أن نختار طريقة القولين، ونجريهما في الأقسام الثلاثة، ونفرعُ عليهما. ثم في التفريع عليهما بيانُ المذهب في جميع الطرق. فإن حكمنا بأن العين المغصوبة كالمفقود، فأصل المذهب أن يُلْحَق الخلط بإتلاف الزيت. ولو غصب زيتاً، فأتلفه، وكان يملك مثله، وأجود منه، وأردأ منه. فإن أعطى المالك مثل حقه، قبله لا محالة، ولا خِيَرة. وإن أعطاه أجود من حقه، تعيّن على المالك قبوله. ولم يكن له أن يقول أبغي مثل حقي ولا أتقلّد (2) منة البذل في مزية الجودة؛ فإن هذا محتمل في الصّفة بلا (3) خلاف، [فلا] (4) حكم للمنة فيها. ولو أتاه بأردأ من حقّه، فله أن يمتنع من قبوله؛ فإن قبله، وقع الموقع. فالمخلوط بالأجود ملك الغاصب، فإذا أعطى منه، كان ما جاء به أجود ممّا غصب، والمخلوط بالأردأ ملك الغاصب أيضاً، فإذا جاء به تخير المغصوب: إن شاء قبله، وإن شاء رده. هذا بيان هذا القول. فأما إذا فرعنا على القول الآخر: وهو أن العين المغصوبة قائمةٌ حكماً، كما لو (5) أنها قائمة حساً، فينظر: فإن كان وقع خلط الزيت المغصوب بمثله، فحق (6) المالك

_ (1) في الأصل: فقد. (2) (ت 2)، (ي): أقبل. (3) (ت 2): فلا خلاف ولا حكم. (4) في الأصل: ولا. (5) (ت 2)، (ي): بدون (لو). (6) (ت 2): لحق.

مختص بهذا المخلوط، ولا يتعداه، وسبيل الوصول إليه أن يسلم إليه [مثل] (1) مكيلة زيته من هذا المخلوط. ثم نحن نعلم أن ما رجع إليه ليس خالصَ حقه، وفيه من ملك الغاصب. وفيما خلفناه على الغاصب ملكُ المغصوب منه. ولكن القسمة توجب التفاصل في الحقوق. وسنشرح هذا في آخر الفصل. وإن وقع الخلط بالأجود، فليس للمغصوب منه أن يقول للغاصب: أعطني مثل مكيلتي من هذا المخلوط؛ فإنا لو كلفنا الغاصب ذلك، كنا مجحفين به. والذي ذكره الأصحاب أن الغاصب والمغصوب منه شريكان في المخلوط. والوجه أن يبيعاه ويقتسما الثمن على مقدار القيمتين. فإذا كان الزيت المغصوبُ يساوي درهماً، وزيت الغاصب يساوي درهمين، والمخلوط يساوي ثلاثة دراهم، فنبيع المخلوط ونقسم الثمن أثلاثاً بينهما. ولو أرادا أن يقتسما عين الزيت المخلوط على نسبة الثلث والثلثين، على أن يكون للمغصوب (2) منه ثلثُ الجملة. والمسألة مفروضة فيه إذا كان مقدارُ المغصوب مثلَ مقدار زيت الغاصِب، فلو أراد المالك أن يأخذ ثلثي مكيلته، ويترك الباقي على الغاصب، بناء للقسمة على نسبة القيمتين، فقد قال الشافعي: لا يجوز هذا، فإنه ربا، وإجراءٌ للتفاضل، فيما تُعبدنا فيه بالتماثل. ونقل البويطي عن الشافعي جوازَ القسمة على هذا الوجه. وتكلف أصحابنا، فخرّجوا قوله على أن القسمة إفرازُ حق، وتفاصلٌ (3) فيه، وليس على أحكامِ البيوع، والتفاصُل في الحقوق محمول على القيم ورعاية القسط، في المالية في هذا القسم. هذا بيان هذا القول في الخلط بالأجود. وينقدح (4) عندنا مسلك ثالث في هذا، وفي كلام العراقيين رمز إليه، وهو أنا نكلف الغاصب أن يعطي المغصوب منه مثلَ مكيلته من هذا المخلوط؛ فإنا نقول له:

_ (1) مزيدة من: (ت 2)، (ي). (2) (ت 2): الغاصب. (3) (ت 2): وتفاضل. (4) (ت 2): وقد ينقدح.

إذا اختلط المالان، صارت الجودة في حكم صفة شائعةٍ في جميع الزيت، فكأنَّ المغصوب زاد زيادة متصلة في يد الغاصب، وهذا [متجه] (1) وإن لم يثبت عندنا فيه نقل صريح. 4646 - فأمّا إذا وقع الخلط بالأردأ، فنقول للمغصوب منه: خذ مكيلتك من هذا المخلوط، وغرِّم الغاصبَ أرشَ النقص، هذا طريق وصولك إلى حقك. وقد ذكرنا في مسائل التفليس أن المشتري إذا خلط الزيت المشترى بأردأ منه، وجعلنا البائع واجداً عين ماله، فنقول له: إمَّا أن تقنع بمقدار حقك من هذا المخلوط، وليس لك أرش النقص، وإما أن تُضارب الغرماء بالثمن، والسببُ فيه أن العيوب في أمثال هذه المسائل من البيع لا تقابل بالأروش، والنقيصةُ مقابلةٌ بالأرش في الغصوب، ومسائل العدوان. فلو قال المغصوبُ منه للغاصب: نحن مشتركان في هذا المخلوط، فنبيعه ونقسم الثمن على نسبة قيمتي الملكين، فإن رضيا بذلك، جاز، ونفذ. وإن أرادا أن يقتسما الزيت متفاضلاً على نسبة القيمتين، فقد قال قائلون من أصحابنا: الترتيب في ذلك كالترتيب فيه إذا وقع الخلط بالأجود، حتى يخرّج فيه القولُ الذي حكاه البويطي. وهذا رديءٌ، لا أصل له؛ فإن الرجوع إلى مقدار الحق من هذا المخلوط ممكن، مع غرامة أرش النقص. وهذا أقرب؛ [فلا] (2) حاجة إلى التزام صورة التفاضل مع الاستغناء عنها. ولمن يجري القولين أن يقول: إذا كان بناء قولي البويطي على أن القسمة ليست [بيعاً] (3) بل هي مفاصلة لا يلتزم فيها رعاية المماثلة، فلا نظر -والمعتبر هذا- إلى إمكان الرجوع إلى أرش النقص. ولو كنا نلتزم ذلك، لكان الأرش ومقدار المغصوب في مقابلة مثل المغصُوب، وهذا غير سائغ فيما ترعى المماثلة فيه؛ إذ لا يجوز مقابلة صاع ودرهم بصاعٍ.

_ (1) في الأصل: يتجه. (2) في الأصل: ولا. (3) في الأصل، وفي (ت 2): تبعاً، والمثبت من (ي).

هذا حاصل التفريع. وقد طردنا تفصيل المذهب على ما نقله الأئمة. 4647 - ونحن نذكر وراء ذلك إشكالاً عظيماً، فنقول: ظاهر النص أن المغصوب المخلوط كالمعدوم، وهذا مشكل جداً، فإنه ليس حق المغصوب منه بأن يحكم عليه بالعدم لاختلاطه بملك الغاصب بأولى من عكس ذلك، حتى يقال: انعدم ملك الغاصب باختلاطه بملك المغصوب منه، والخلط متحقق من الجانبين جميعاً. ولا خلاف أن رجلين لو اجتمعا وخلط أحدهما [زيتاً له] (1) بزيت الآخر، فهما مشتركان. ومسائل الشركة مستندة إلى اختلاط مالي الشريكين. 4648 - ولو انثالت حنطة لرجلٍ على حنطة لآخر من غير فرض قصد، فهما مشتركان، ثم يقع النظر في التفاصل، فإن تماثلت الأجزاء، سهل الأمر، وإن اختلفت جودة ورداءة، ففي وصولهما إلى حقهما التفصيل الذي ذكرناه في تفريع المذهب إذا عسر الفصل. وما ذكرناه في الحنطة لو فرض في الذائب، كان كذلك. وممّا يعضد الإشكال وينهيه نهايته أن من غصب صبغاً، وصبغ به ثوباً لنفسه، أو ثوباً غصبه من الغيرِ، ولم ينمحق الصبغ، فصاحب الصبغ مع صاحب الثوب شريكان [إن] (2) كان الصبغ معقوداً يتعذر فصله؛ فإذاً لا يبقى على هذا التقدير لظاهر النص توجيهٌ عليه تعويل. وأقصى الممكن فيه أن نقول: مسألة الخلط في الغصب مأخوذة من نظير لها في البيع: وهي إذا اختلط المبيع بغير المبيع قبل القبض، فإذا جرى ذلك، ففي انفساخ العقد قولان، ذكرناهما في كتاب البيع توجيهاً وتفريعاً. وتحقيق الشبه [فيه] (3) أن من باع عيناً، التزم تسليمها مخلّصةً، فإذا عسر ذلك، ولم تكن القسمة -لو قدرت- تسليماً للعين التي اقتضى العقد تسليمها، فنقول: تعذّرُ ذلك كانعدام العين في قولٍ. كذلك الغاصب لما غصب الزيت، التزم رد عينه، فإذا

_ (1) في الأصل: ماله بزيت الآخر. (2) في الأصل: فإن. (3) مزيدة من: (ت 2)، (ي).

عسر ذلك بالخلط، ولم (1) تكن القسمة تسليماً للعين المغصوبة، كان هذا التعذر بمثابة انعدام العين. وهذا غاية ما نتكلفه، وهو ركيك؛ فإن العقد عرضةُ الفسخ، والأملاك (2) يبعد نقضُها في غير العقود. 4649 - ولنا أن نقول: إنما تعلقنا بانفساخ العقد، لا بخيار فسخه، وانفساخ العقد يتبع تلف العين. وهذا غير مرضي؛ إذ يجوز أن يقال: إنه يحصل عند اليأس من إمكان تسليم المعقود عليه على ما اقتضاه العقد. وأما مسألة الصبغ، فواقعة، وهي مناقضة لما ذكرناه. غير أن الذي ذكره الأصحاب أن الصبغ متميز عن الثوب عياناً وحساً، ولكنه ملتزق به إذا كان معقوداً التزاقاً يتعذر الفصل معه، ولأجل هذا الخيال (3) جرى القول القديم في أن الصبغ المعقود يصير بمثابة الزيادة المتصلة، على ما حكاه صاحب التقريب. ومما يشكل [في] (4) ذلك أنّا نقول: من غصب عبداً، فأبق من يد الغاصب، وغرِم الغاصب للمغصوب منه قيمةَ العبد، فإنه لا يملك الغاصب رقبةَ العبد ببذل قيمته. وقد ملكنا الغاصب على ظاهر النص زيتَ المغصوب منه، وألزمناه البدل، فكان هذا مناقضاً لأصلنا. وسبيل الجواب عن ذلك أن الإباق لا يتضمن للغاصب ملكاً في الآبق، بلا خلاف. ولكنه يغرَم القيمة لمكان الحيلولة. ثم رأى أبو حنيفةَ أن يملك الغاصب رقبة العبد، فكان هذا تمليكاً منه بعلة التضمين (5). ونحن نقول في مسألة الخلط: (6 نفس الخلط 6) يُملِّكُ الغاصب ما غصبه، ثم

_ (1) (ت 2): لم (بدون الواو). (2) (ت 2)، (ي): والأمر. (3) (ت 2): الخيار. (4) (ت 2): وذلك. وسقطت من الأصل. والمثبت تقدير منا. وصدقتنا (ي). (5) ر. رؤوس المسائل: 346 مسألة: 226، إيثار الإنصاف: 256. (6) ما بين القوسين سقط من (ت 2)، (ي).

جريان الملك للغاصب في المغصوب يُلزمه الضمان، فهذا تضمين بتمليك سابق وما قاله أبو حنيفة تمليك بتضمين. 4650 - ثم قال الشافعي: "وإن خلطه بشَيْرَج (1)، أو صبه في بانٍ (2) ... إلى آخره". قال أصحابنا: ما قدمناه من فصول الخلط فيه إذا خلط الشيء بجنسه، فأما إذا خلطه بما لايجانسه، مثل أن يخلط زيتاً ببانٍ أو بجنسٍ آخر من الأدهانِ، فالمغصوب يلتحق بالمنعدم المفقود. هذا ما أطلقه الأصحابُ. [وخرّج] (3) القاضي فيه قولاً أن المغصوب (4) واجدٌ لعين ماله. وألحق ذلك بالخلط بالأرْدأ والأجود، مع اتحاد الجنس. وهذا تخريج منقدح لما نبهت عليه من وجوه الإمكان (5). ومن عجيب الأمر أن الأصحاب ألحقوا ما لو غصب زيتاً ولتَّه بالسويق بخلط الزيتِ بالبان، وقطعوا بأن الغاصب لا تعلق له بعين مال. وهذا عندي على نهاية الفساد؛ فإن الزيت لا يخالط السويق مخالطة المائع المائعَ، بل هو مع السويق كالصبغ مع الثوب قطعاً، وقد مضى القول في الصبغ. وغاية الأمر أن يجعل الزيت مع السويق كالصبغ المعقود بالثوب. وممّا أجراه الشافعي من صور الخلط أنه لو غصب دقيقاً وخلطه بدقيقٍ. فإن قلنا: الدقيق يقبل القسمة، فهو كخلط الزيت بالزيت. وإن قلنا: إنه لا يقبل القسمة، فالوجه إن جعلنا المغصوب منه واجداً لعين ماله بيعُ الدقيق، وقسمةُ الثمن على أقدار القيمة.

_ (1) في الأصل: بشيء منه، و (ت 2)، (ي): بشرٍّ منه .. والمثبت اختيار منا، على ضوء السياق، أكد صحته أن عبارة الأم: " ... وإن كان صب زيته في بانٍ، أو شيرق، أو دهن طيب، أو سمن، أو عسل، ضمن ... " 3/ 226. وأما قوله في الأم قبيل ذلك: "فإن كان صب ذلك المكيال في زيت شر من زيته، ضمن الغاصب ... إلخ"، فهذا هو الخلط بالأردأ، وقد تقدم، فلا محل لتكرار المؤلف له هنا. فرجح ما اخترناه. والله أعلم. (2) المراد دهن البان. وهو يتخذ من الشجر المعروف بهذا الاسم (مصباح). (3) في الأصل: إذْ صرح القاضي. (4) في (ت 2)، (ي): الغاصب. (5) (ت 2): الإشكال ومثلها (ي).

فرع: 4651 - إذا غصب الرجل رطلاً من الماورد وصبّه في أرطالٍ من الماء، فإن انمحق، ولم يبق له أثر، ولا قيمة، فهذا على القطع نازلٌ منزلة هلاك المغصوب، ولا نظر إلى بقاء عين الماورد بعدما تحقق سقوط القيمة، وهو كبقاء جثة العبد إذا مات. وإن بقي للماورد أثرٌ، فهذا [من باب خلط] (1) الشيء بما لا يجانسه. وقد مضى القول فيه مفصلاً. فرع: 4652 - إذا خلط البر المغصوب بالشعير، فعليه أن يميزه، ولو بلقط الحبات؛ فإن التمييز ممكن على عسره وهو بمثابة ما لو غصب عبداً وأرسله إلى بلدة نائية، فعليه رده، وإن كان يحتاج في ردّه إلى بذل مؤن تزيد على قيمته. وكذلك إذا خلط حنطةً حمراء بحنطة بيضاء. هذا نجاز فصول الخلط. ثم ذكر الشافعي بعد هذا حكمَ الحنطة العفنة. وقد تقصيناه. فصل قال: "ولو أغلاه على النار ... إلى آخره" (2). 4653 - إذا غصب من الزيت دَوْرقين (3) ثم أغلاه، ففي المسألة أقسام: أحدها - ألا تنقص القيمة، ولا المكيلة، فيردّه، ولا حكم لما جرى. القسم الثاني - أن تنقص القيمة، ولا تنقص المكيلة؛ فإن النار قد تعيب؛ فيرد ما أخذ، ويغرَم أرش النقص. ومن أقسام المسألة: أن تنتقص المكيلة ولا تنقص القيمة، (4 وذلك بأن يرجع الدورقان إلى دورق واحد، وقيمة ما بقي كقيمة دَوْرقين قبل الإغلاء 4)، وذلك بأن

_ (1) في الأصل: كخلط. (2) ر. المختصر: 3/ 42. (3) دورقين: مثنى دَوْرق: مكيال للشراب (معجم). (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). وفي الأصل: "كقيمة دورق" والمثبت من (ي).

تُحدث النارُ فيه صفةً مطلوبة وإن كان ينقص من عينه، قال الأصحاب: يردّ ما في يده، ويغرَم مثلَ ما نقص، فإن نقص دورق، غرِم له مثل زيته دورقاً؛ فإن نقصان العين في المثليات يقابل بالمثل، ونقصان الصفة مع بقاء العين يقابل بالقيمة. ومن صور (1) المسألة أن تنتقص المكيلة، وتزداد القيمة وذلك بأن يغصب دورقين، فيرجع بالإغلاء إلى دورق، وكان قيمة كل دورق درهمين (2) قبل الإغلاء. وهذا الدورق الآن يساوي أربعة دراهم (3)، ففي المسألة وجهان: أحدهما - وهو الأصح - أنه يرد ما بقي، ويغرَم له دورقاً مثلَ زيته، والزيادة التي حدثت في الدورق المغلي زيادة صفةٍ متصلة بملك المغصوب منه. والوجه الثاني - أنه يرد ما بقي، ولا غرم عليه؛ لأن ما بقي زاد بسبب النقصان، فإذا كان النقصان سببَ الزيادة، لم يكن سبباً للغرامة ومقتضى ذلك الجبران، وهذا ليس بشيء. وقد ذكرت طرفاً من هذا من كلام صاحب التلخيص في مسائل التفليس. 4654 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن من غصب عصيراً ورده بالإغلاء إلى نصفه، حتى خثَر (4)، وصار دبساً. وكانت قيمته مثلَ قيمة العصير التام. فقد قال قائلون من أصحابنا: هذا بمثابة إغلاء الزيت، فيخرّج على الخلاف الذي تقدم ذكره. وذهب ابنُ سُريج إلى القطع بأن الباقي إذا كانت قيمته مثلَ قيمة العصير ردّه، ولم يجب جبر (5) النقصان فيه، بخلاف الزيت. والفرق أن الزيت لا يخثُر بالإغلاء، والذاهب هو الزيت، فيتحقق نقصانُ العين فيه، والذاهب من العصير مائية لا قيمةَ لها، والباقي هو الأجزاء الحلوة المطلوبة.

_ (1) (ت 2): أقسام. (2) (ت 2): درهماً. (3) (ت 2)، (ي): درهمين. (4) خثر: من باب نصر. ثخن وغلظ. (معجم). (5) (ت 2): ردّ.

فصل قال: "وإن كان لوحاً فأدخله في سفينة ... إلى آخره" (1). 4655 - إذا غصب الرجل ساجَةً وأدرجها في بنائه، فالساجة منتزعة عندنا مردودة على مالكها، وإن أدّى انتزاعُها إلى انهدام قصرٍ، أنفق الغاصب عليه ألفاً، خلافاً لأبي حنيفة (2). وضبط المذهب أن أملاك الغاصب لا تحترم إذا انتسب (3) إلى بنائها على مغصوب. وممّا نُجريه في هذا الفصل إدخال اللوح المغصوب في السفينة. 4656 - وهذا يستدعي ذكرَ مقدمة مقصودة في نفسها، فنقول: إذا غصب الرجل خيطاً، وخاط به جرحاً -كان به- فالتحم الجرح، وكنا نخاف من انتزاع الخيط انتقاضَ الجرح، وإفضاء الأمر إلى خوف الهلاك، أو إلى الخوف من فساد عضو، فلا يُنزع الخيط والحالة هذه، بل يحرم انتزاعُه، ويجب رعاية حرمة الروح، ولو خفنا من انتزاع الخيط طولَ الضَّنا (4)، أو بقاءَ الشَّيْن، فقد ذكرت تفصيل ذلك في كتاب الطهارة. والقول الجامع فيه أن كل ما يجوز ترك استعمال الماء به، والتحولُ إلى التيمم من الجرح والمرض، فإذا تحقق في مسألتنا امتنع منه (5) نزعُ الخيط. وكل ما لا يجوز التحول به من الماء إلى التراب، فلا ينتصب عذراً فيما نحن فيه، وينتزع الخيط معه ويردّ على مالكه. ومواقع الخلاف في الماء والتراب يجري فيها الخلاف هاهنا. ولو رتب مرتب، انقدح وجهان: أحدهما - أن ترك الخيط أولى لقيام قيمته

_ (1) ر. المختصر: 3/ 42. (2) ر. رؤوس المساثل: 349 مسألة رقم 229، وإيثار الإنصاف: 260. (3) (ت 2)، (ي): إذا تسبب إلى ... (4) ضني من باب تعب: اشتد مرضه حتى نحل جسمه (معجم). (5) (ت 2): معه، وسقطت من (ي).

مقامه. والثاني - أن نزع الخيط أولى، لتعلقه بحق الآدمّي، وهو على الضيق. والتحول من الماء إلى التراب رُخصة، والرخص لا تبنى على نهايات الضرورات. وإذا مات المجروح، فهل ينزع الخيط بعد موته، فعلى وجهين: أحدهما - وهو الأصح أنا (1) ننزعه. والثاني - لا ننزعه؛ فإنا نحاذر المثلةَ بالميت. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي" (2). فإن قلنا: الخيط منزوع من الميت، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينزع منه، فالوجه فيه اعتبار حالة الحياة، فإن كان الخيط مستحق النزع في الحياةِ، نزعناه بعد الموت. وإن كان لا يجوز نزعُه في الحياة، وكان نزعه بعد الموت يُظهر مُثلةً (3)، فإنا لا ننزعه. وإن لم ننزعه في الحياة لخوف هلاكٍ، أو لبقاء شين ظاهر إن اعتبرناه، ولم يكن في نزعه بعد الموت مُثْلةٌ ظاهرة، فهذا محتمل على الوجه الذي نفرع عليه. 4657 - وكل ما ذكرناه في خيط جرح الآدمي، فأما إذا خاط جرح حيوان آخر، فإن كان حيواناً محترماً، انقسم القول إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل؛ فأما ما يؤكل لحمه من الحيوانات، ففيه وجهان: أحدهما - أنه يجب ذبحه، ونزعُ الخيط منه؛ فإن الذبح مسوغ (4)، فليكن طريقاً يتوصل به إلى رد المغصوب، ولا نظر إلى المالية التي تفوت بذبح بُختية (5)، أو جواد الخيل. والثاني - أنه لا يلزمه ذبح الحيوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة" (6) وليس القصد من هذا الذبح -لو قلنا به- مأكلة.

_ (1) (ت 2)، (ي): أنه ينزعه. (2) حديث "كسر عظم الميت ... " رواه أحمد: 6/ 58، 100، 105، وأبو داود: الجنائز، ح 3207، وابن ماجة، ح 1616، والبيهقي في السنن الكبرى: 4/ 58، والدارقطني: 3/ 188 ومالك في الموطأ: 1/ 238. وانظر تلخيص الحبير: 3/ 121 ح 1293. (3) مَثُلة، ومُثْلة بمعنى. (4) (ت 2): مشروع. (5) البختي: الإبل الخراسانية. وهي من أجود الإبل، ومثله الجواد في الخيل. (6) حديث النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكلة ... أبو داود في المراسيل، ومالك في الموطأ: 2/ 358 - الجهاد، ح 10، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 121 ح 1294.

فأما الحيوانات المحترمة التي لا تؤكل، فلا يحل نزع الخيط منها على التفصيل الذي ذكرناه في الآدمي. وقد اعتبر بعض أصحابنا في الآدمي الشينَ، والتوقي منه، وهذا غير معتبر في البهيمة؛ فإنا لو اعتبرناه، لرجع الأمر فيه إلى المالية، وليست المالية مرعية في هذا المجال. فأمَّا الحيوان الذي لا يحترم، فينقسم إلى ما يستحق قتله كالكلب العقور، والسبع الضاري (1)، وإلى ما لا يستحق قتله: (2 فأما ما يستحق قتله، فينتزع الخيط منه، وأما ما لا يستحق قتله 2)، ولكنه ليس محترماً، فقد عد الأصحاب في هذا القسم الكلبَ والخنزير، ثم قَضَوْا بأنّ الخيط منزوع منهما. أما الخنزير، فأراه كذلك؛ فإن الذَّكَر من جنسه أعظم ضرراً من السباع كلها. والأنثى من المؤذيات في المزارع وغيرها. وأما الكلبُ، فالصَّيود منه، وكلبُ الماشية، وكل ما تصح الوصيةُ به - لا يجوز نزع الخيط منه. والكلب الذي لا منفعة فيه لا يبعد أن يلحق بالمؤذيات، [حتى] (3) لا يحرم قتله، فينزع الخيط إذن. وقد ذكر القاضي الكلبَ مطلقاً ولم يفصله، وأطلق جواز نزع الخيط منه. وهذا مفصل عندنا. ولو جُرح مرتدٌ وخِيط جرحُه، والتحم، ففي نزع الخيط منه ترددٌ، والأَوْجَهُ المنع؛ لأن المثلة بالمرتد محرّمة، وليست كالمثلة بالميت؛ فإنا نتوقع للمرتدّ عوداً إلى الإسلام، [وإن أظله السيف، وإن مات، فات] (4). هذا تفصيل القول في نزع الخيط وينبني عليه أنا مهما (5) منعنا نزع الخيط، جوزنا

_ (1) (ت 2): العادي. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (3) مزيدة من (ت 2)، (ي). (4) المعنى: وإن أظله السيف: أي نتوقع عوده إلى لحظة قتله بالسيف. وفي الأصل: فإن أظله السيف ومن مات فات. (5) مهما: بمعنى إذا.

أخذ الخيط قهراً لخياطة الجرح، إذا لم نجد غيرَه؛ فالدوام معتبر بالابتداء. وإن كان عند المجروح خيوط، فغصب خيطاً، وخاط الجرح، والتحم، فقد أساء وظلم أولاً. ولكن لا ننزع الخيطَ لعدوانه الأول؛ فإنا لا نرعى محضَ حقّه. وإنما نرعى ما لله من الحق في الأرواح. 4658 - ونحن نعود بعد بيان ذلك إلى تفصيل المذهب في غصب الألواح وإدراجها في السفن. فإذا غصب لوحاً وأدرجه في سفينة، نزعناه، إن كانت السفينة على اليبس، أو كانت مرساةً على الساحل، وأمكن التوصل إلى النزع من غير إتلافِ روحٍ [أو] (1) مالٍ على ما سنفصل، إن شاء الله. وإن كانت السفينة في اللُّجة، ولو انتزع اللوح، لغرقت بما فيها، ومن فيها، فإن كان فيها آدميون أو ذوات أرواحٍ محترمةٍ، فلا سبيل إلى نزعه، وإن لم يكن فيه إلا الغاصب، لم ينزع أيضاً، لما مهدناه في الخيط ونزعه. ولو لم يكن في السفينة ذو روح، وكانت مربوطةً إلى سفينة، وهي تجري بجريها، فإن كان فيها أموال، قال الأصحاب: لم ينتزع اللوح إن كانت الأموال لغير الغاصب. وإن كانت للغاصب، فوجهان: أحدهما - أنه ينتزع؛ فإنّ الأموال لا تحترم لأعيانها، والغاصب قد فرط فيها؛ إذ وضعها في مثل هذه السفينة، فصار كما لو زرع أرضاً مغصوبة، فزرعه مقلوعٌ، [وإن] (2) كان له مدى يرتقب انقضاؤه، فليكن مال الغاصب في السفينة كذلك. هذا هو الأصح. والوجه الثاني - أنه لا يقلع، ويتأنَّى [إلى] (3) انتهاء السفينة إلى الساحل، بخلاف الزرع؛ فإن الزرع تَنْبَثُّ عروقه، ثم يظهر منه مزيدُ إفساد للأرض، بخلاف اللوح، حتى إن كان البحر يؤثر في اللوح في غالب الظن، ولو نزع، لم يتأثر، فيرتفع الخلاف

_ (1) في الأصل: ومال. (2) في الأصل: فإن. (3) مزيدة من (ت 2).

عند بعض أصحابنا. ومنهم من علل منع نزع اللوح بأن إجراء السفينة إلى الشط يوصّل إلى رد اللوح، فهو أمثل من النزع، والتغريق. ولو لم يكن في السفينة مالٌ للغاصب ولكن كانت بنفسها تغرق لو انتزع اللوح، فهو بمثابة مال الغاصب. ولم يختلف الأئمة في أن مال الغير [يمنع من نزع اللوح، وقد يخطر للفقيه أن يُضمِّن الغاصب أموال الغير] (1) ويذكرَ وجهاً في نزع اللوح. ولكن لم يصر إليه أحد؛ فإن أصل النزع متردد في السفينة نفسها [و] (2) في مال الغاصِب، فإذا انضم إلى ذلك حرمةُ مال الغير، انتظم منه وفاق الأصحاب في وجوب الانتظار. ولو زرع الرجل ببذر غيره أرضاً مغصوبة، فلا خلاف في قلع الزرع. فليتأمل الناظر ما يلقى إليه في كل [معاصٍ] (3). فصل قال: "ولو غصب طعاماً، فأطعمه من أكله ... الفصل إلى آخره" (4). 4659 - إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى إنسانٍ ليأكله، فإن كان الطاعم عالماً بكون الطعام مغصوباً، لم يخف استقرار الضمان عليه. وإن كان جاهلاً، وحسب الطعام ملكاًً للغاصب، فإذا أكله، ففي استقرار الضمان قولان: أحدهما - وهو الأقيسُ أنه يستقر على الطاعم؛ لأنه المتلف المختار، والأسباب إذا انتهت إلى حقيقة الإتلاف، فالاعتبار بالإتلاف. والقولُ الثاني - أن قرار الضّمان على الغاصب المقدِّم؛ فإنه متمسك بأظهر أسباب التغرير، والضمان يستقر على الغارّ، ولذلك يرجع المغرور بحرية زوجته بقيمة الولد

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) زيادة من (ت 2). (3) في الأصل، (ت 2): (مغاص) بالمعجمة. والمثبت من (ي) وهو المعهود في ألفاظ إمام الحرمين بالمهملة من عَوِصَ. (4) ر. المختصر: 3/ 43.

إذا غرِمها على الغارّ. وقد ذكرنا توجيه القولين، ومأخذَ الكلام في (الأساليب). ثم إن قلنا: القرار على الغاصب، فالطاعم مطالَبٌ، ثم إذا غرم، رجع. وإن قلنا: القرار على الطاعم، فالغاصِب مطالبٌ، ثم (1) إذا غرِم رجع على من طعم. ولو قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى المغصوب منه، فأتلفه، فإن كان على علمٍ، كان مسترداً للمغصوب. وإن كان جاهلاً، ففي المسألة قولاًن: إن قلنا: إن قرار الضّمان على الأجنبي الطاعم، فالذي (2) جرى من المغصوب منه استرداد الطعام. وإن قلنا: لا يستقر الضمان على الأجنبي، لم ينتقل الضمان إلى المالك. وقد رأى الأصحاب انتقالَ الضمان إلى المالك أولى من قرار الضمان على الأجنبي؛ فإنّ تصرف المالك إذا انضم إلى إتلافه، تضمّن قطعَ عُلقة الضمان من الغاصب، وسيظهر لهذا أثر في التفريع. 4660 - وقد قدمنا قواعد للمراوزة في الأيدي التي تترتب على يد الغاصب. وقد ذكرنا طريقةً للعراقيين تخالف طريقة المراوزة، ولا بد الآن من إعادتهما؛ فإنهما لائقان بمضمون الفصل. قال المراوزة: كل يد ليست يدَ ضمانٍ، فإذا ترتبت على يدِ الغاصب، وفرض التلف من غير إتلافٍ، فصاحب اليد مطالبٌ، وقرار الضمان على الغاصب. وإن كانت اليد يدَ ضمانٍ، وحصل التلف، فقرارُ الضمان على صاحب اليد الضّامنة. وبيان ذلك في الوجهين أن المودَع من الغاصب لا يستقر الضّمان عليه، إذا تلفت الوديعة في يده. وكذلك اليد الحاصلة عن الرهن، والاستئجار، والقِراض، وكذلك يد الوكيل، فهذه الأيدي تثبت على سبيل الأمانة. فإذا ترتبت على يد الغاصب، لم يحصل بها قرار الضّمان. والمطالبةُ تتوجه على أصحابها، ثم إنهم إذا غرِموا، رجعوا على الغاصب.

_ (1) (ت 2)، (ي): ولكن. (2) (ت 2): فإن جرى.

فأمّا الأيدي التي تقتضي الضمان إذا ترتبت على يد الغاصب، فإنها تتضمن قرار الضمان إذا ترتب التلف عليها كيد الشراء، والعاريّة، والسَّوم. هذا مسلك المراوزة. فأمّا العراقيون، فإنهم أثبتوا قرار الضمان بالأيدي الضّامنة، كما أثبته المراوزة، وفصلوا أيدي الأمانة، وقسموها ثلاتة أقسام. وقد قدمت ذكرها فيما تقدم من كتب المعاملات. وأنا أعيدها الآن، لينتظم الكلام. قالوا: كل يد ثبتت لمحض غرض المالك من أيدي الأمانة، فإذا ترتبت على يد الغاصب، لم تقتض قرارَ الضمان عند التلف، كيد الوديعة، وكل يدٍ تتعلق بمحض غرض صاحب (1) [اليد فإذا ترتبت على يد الغاصب، تعلق بها قرارُ الضمان، كيد الراهن. وألحقوا بيده يدَ المستأجر، والمقارض. وقد تصرفنا من قياسهم على يد المستأجر، والمقارض، والوكيل إذا قبض. قالوا: إن كان يتصرف من غير جُعلٍ، فيده كيد المودَع، وإن كان يتصرف بجُعلٍ، ففي المسألة وجهان. هذا كلامهم. وهو يجانب طريق المراوزة بالكلية. 4661 - وكان شيخي يتردد في يد واحدةٍ ليست يدَ ضمان، وهي يد المتهب، فإذا وهب الغاصبُ المغصوبَ من إنسانٍ، وأقبضه (2) إياه، فقبض على جهلٍ منه، وتلف في يده، كان يقول: هذه اليد، وإن لم تكن يدَ ضمانٍ، فهي يد تسليط على الإطلاق، فيمكن أن يقال: يخرّج قرار الضمان إذا فرض التلف من غير إتلافٍ على قولين؛ فإن حكم الهبة إذا تمت بالإقباض انقطاع علائق الواهبِ بالكلية، فإذا فرض القبض على الهبة، كان القابض عنها في حكم المبتدىء قبضاً على الكمال. وهذه الصورة تضاهي الغصب.

_ (1) من هنا بدأ خرم في نسخة الأصل. مقداره نحو ورقة من المخطوط. ومن هنا سيكون المثبت نص نسخة (ت 2) بدءاً من الورقة 148 ي سطر 14 إلى 150 ش سطر 10. والله المستعان والهادي إلى الصواب. (2) في الأصل: وقبضه، والمثبت من (ي).

وهذا الذي ذكره حسن، وكان يتردد فيه [إذا] (1) أودع الغاصب العين المغصوبة من مالكها، فلم يشعر المالك بملكه فيها، حتى تلفت في يده. [فيحتمل] (2) أن يقال: تلفت من ضمانه؛ فإن يد المالك إذا ثبتت، لم يقطع أثرَها الجهلُ والظنُّ. والظاهرُ أنها تتلف من ضمان الغاصب، كما لو جرى الإيداع عند أجنبي. 4662 - ولو غصب عبداً، ثم أمر إنساناً بقتله، فقتله معتقداً أن الآمرَ مالكٌ، فقد قيل: في قرار الضَّمان على القاتل قولان، كما ذكرناه في الإطعام. والصحيح أنه يستقر عليه الضّمان؛ فإن القتل ممَّا لا يستباح الإقدام عليه بالإباحة، ولا يتحقق التغرير فيه. ولو قال غاصب العبد لمالكه: "أعتقه"، فتلفظ المالك بإعتاقه، وهو لا يشعر أنه مملوكه، بل بنى الأمر على أنه وكيلٌ في إعتاقه من جهة المالك، فقد قال بعض الأصحاب: لا ينفذ العتق؛ لأنه قدّره ملكَ الغير. وهذا غلطٌ غيرُ معتد به؛ فإن العتق لا يندفع بأمثال ذلك. ولهذا كان هزله جداً. ولو واجه الإنسان عبد نفسه بالإعتاق ظاناً أنه عبد غيره وهو هازل بإعتاقه، نفذ العتق. وكذلك لو رآه في ظلمةٍ، فوجه العتق عليه، فإذا ثبت نفوذ العتق، فمن أصحابنا من خرّج انتقال الضمان إلى المالك، وانقطاعَه من الغاصب على قولي الإطعام. وهذا مزيفٌ لا أصل له. وإن اعتمده صاحب [القفال] (3) أبو سليمان.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، ثم صدقتنا نسخة (ي). (2) في الأصل: يحتمل، ومثلها (ي). (3) ما بين المعقفين يقع في الورقة الساقطة من نسخة الأصل، وفي (ت 2): صاحب القصار أبو سليمان، وفي (ي) مثلها إلا أن كلمة (القصار) غير واضحة، فالراء تقرأ بين التاء المربوطة والراء، والصاد غير واضحة، ووضع الناسخ فوقها علامة تضبيب تفيد شكه في قراءتها، فرسمها كما هي. ولذا رجحنا ما أثبتناه من أنه صاحب القفال أبو سليمان، فأبو سليمان الخطابي أحد رفعاء المذهب، ينقل عنه شيوخ المذهب كثيراً مثل النووي في المجموع، ثم هو من تلاميذ القفال، فصح أن يطلق عليه الإمامُ: صاحب القفال. =

والصحيح أن الغاصب يبرأ على الضمان، لأن وضع العتق أن لا ينفذ في ملك الغير. والضيف يأكل طعام المقدّم إليه مستباحاً، وهو في ملك المقدِّم على ظاهر المذهب. ولو زوج الغاصب الجارية المغصوبة من مالكها، على جهلٍ منه بها، ثم استولدها المالك، ثبت الاستيلاد لا خلاف فيه. ويبرأ الغاصب عن الضمان بثبوت يده على مستولدته. وشبب بعض الأصحاب بالخلاف في ذلك. والأصح ما ذكرناه. 4663 - ولو أطعم البائع المشتري الطعام المشترَى على جهلٍ منه بأنّه يأكل [ما اشتراه] (1)، فقد قال القاضي: يجب أن يخرّج على القولين المذكورين في إطعام الغاصب المغصوبَ منه الطعامَ المغصوب. فإن حكمنا بان الغاصب يبرأ، فإذا فرض هذا من المشتري، كان أكله قبضاً للطعام المشترى. وإن حكمنا بأن الغاصب لا يبرأ عن الضمان، فتَلفُ الطعام محسوب عليه. فكذلك نقول: هذا محسوب من ضمان البائع. ثم الوجه أن نجعل ذلك كما لو أتلف البائع المبيع قبل القبض. وحكمه مفصَّل في كتاب البيع. فصل قال: "ولو حل دابةً، أو فتح قفصاً عن طائرٍ ... إلى آخره" (2). 4664 - إذا فتح الإنسان باب قفص، أو حل الرِّباط عن طائر، فأطلقه عن الوثاق،

_ = وهاك ترجمة موجزة له: أبو سليمان حَمْد (بفتح الحاء وسكون الميم) بن محمد بن إبراهيم البُسْتي، المعروف بالخَطَّابي. صاحب معالم السنن في شرح سنن أبي داود. تفقه بأبي بكر الففال الشاشي، وأبي علي بن أبي هريرة ونظرائهما، وكان رأساً في الفقه واللغة والأدب. ولد سنة بضعَ عشرَةَ وثلاثمائة، وتوفي ببُسْت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وهو مذكور في الشرح الكبير للرافعي في عدة مواضع. (ر. طبقات السبكي: 3/ 282 - 290، طبقات الإسنوي: 1/ 476، طبقات ابن الصلاح: 1/ 467، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 156، سير أعلام النبلاء: 17/ 23). (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) ر. المختصر: 3/ 43.

إن نفّره مع الحل، فطارَ، وجب الضّمان، لا خلاف فيه. وإن اختصر على حل الرباط وفَتْح باب القفص، فمذهبنا الظاهر أن الطيران إن اتصل بالحل، وجب الضّمان، وإن استأخر الطائر بعد الحل، وتخلل زمان يعدُّ فاصلاً بين الفتح والطيران، فلا ضمان. وقال أبو حنيفة (1): لا يجبُ الضّمان، وإن اتصل الطيران، إذا لم يظهر مع الفتح تنفير. وقال مالكٌ (2): يجب الضّمان سواء اتصل الطيران بالفتح، أو انفصل عنه. وقد ذكر الأصحاب قولين مثل مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة رحمة الله عليهما. فحصل على هذا التقدير ثلاثة أقوال. والمذهب المشهور منها الفصل كما قدمناه، وعصام المذهب أَنَّ الطيران فعلُ حيوانٍ ذي اختيارٍ، وهذا لا ننكره. وقياسه أنه إذا لم [يجرِ] (3) إرهاقٌ، وحمل على الفعل، ولم يوجد من الفاتح إتلافٌ، ولا إثباتُ يدٍ، فلا يجبُ الضمان. وإذا اتصل الطيران، فالأمر محمولٌ على اقتضاء الفتح تنفيراً، والتنفير فيما لا يعقِل ينزل منزلة الإكراه، والإلجاء [فيمن] (4) يعقل. ومن حكم بوجوب الضّمان مع الاتصال والانفصال، ألحق ذلك بالأسباب المضمّنة كحفر البئرِ في محل العدوان ونحوه. ومن لم يوجب الضّمان في الاتصال والانفصال، أحال الضياع على فعل حيوانٍ [ذي] (5) اختيار، يعتمد الخلاص. والمتردي في البئر لا يعتمد التردي فيها. وسيكون لنا كلام ضابط في كتاب الديات في الأسباب وما يتعلق بها [من] (6) الضمان وما لا يتعلق، إن شاء الله عز وجل؛ فإن القول في ذلك منتشر على من لا يحيط بالمدارك.

_ (1) رؤوس المسائل: 350 مسألة 230، البد ائع: 7/ 166. (2) الإشر اف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 630 مسألة 1084، جواهر الإكليل: 2/ 148 (3) في الأصل: يحز. (4) في الأصل: ثم يعقل. (5) في الأصل: ذو. (6) زيادة اقتضاها السياق.

4665 - ولو فتح بابَ اصطبلٍ وخرجت بهيمةٌ، فضاعت، فالأمرُ كما ذكرناه. وكان الشيخ أبو محمدٍ يشبب بالفصل بين حيوان نافرٍ بطبعه إذا حل رباطَه، وبين حيوان آنِسٍ لا نِفار فيه، ويقول: اتصال حركة البهيمة الإنسية، كانفصال حركة النافر من الطير والوحوش. وهذا منقاس. ولكني لم أره إلا له. فإذا أطلق عبداً مجنوناً عن قيده، فهو في التفصيل] (1) كالبهيمة. وإن فتح باب دارٍ، فخرج منه عبد مميز، فأبق، فلا ضمان، اتفق الأصحاب عليه. ولا فرق بين أن يتصل خروج العبدِ، أو ينفصل. واضطرب الأصحابُ في العبد المعروف بالإباق إذا اعتمد مالكه تقييدَه، أو إغلاقَ بابٍ عليه، فإذا حل إنسان قيدَه، أو فتح الباب، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يجب الضمان إذا كان العبد مميزاً؛ فإن التعويل على إحالة الضياع على فعلِ مختارٍ، وهذا يتحقق من المميز. وإن كان معروفاً بالإباق. وأبعد بعض الأصحاب، فجعل حلّ القيد عنه، كحل الرباط عن طائرٍ أو بهيمة، ثم التزم تخريجه على قياس الطائر، ففصل بين أن يتصل الإباق أو ينفصل. وهذا ساقطٌ، لا اتجاه له. وممّا نذكره أن الطائر لو كان في بيتٍ كبير، ففتح الفاتح القفص، فابتدأ الطائر الطيران، وتخلل زمانٌ إلى اتفاق انفصاله، وربما يستدير الطائر مراراً إلى أن يصادفَ موضع الفتح، فهذا يعد من الطيران المتّصل، وإن استأخر الضياع. 4666 - ولو (2) حل الوكاءَ عن زقٍّ، وفيه مائعٌ، فإن كان الزق منبطحاً، فإن ما فيه يتدفق بحل الوكاء على هذه الهيئة؛ فلا خلاف في وجوب الضمان على من حل الوكاء. وإن كان الزق منتصباً، وكان حل وكائه على هيئة الانتصاب، لا يدفق ما فيه لو بقي منتصباً، نُظر: فإن سقط الزق متصلاً بالحل، واندفق (3) ما فيه، فإن كان

_ (1) انتهى هنا الخرم الموجود في نسخة الأصل (د 1). (2) (ت 2): أوحل. (3) (ي): واندفع.

سقوطُه بسبب تحريك الوكاء وجذبه في صوب الحل، فيجب الضّمان؛ فإنّه حلَّ وأسقطَ الزقَّ. ولو صادف زقاً منتصباً محلولاً، فأسقطهُ، وجب الضّمان؛ فإن هذا يعد من اعتماد الصب والتدفيق. ولو حل الوكاء، وترك الزق منتصباً، فبقي كذلك، ثم هبت ريح، فأسقطته، فقد قطع الأصحاب بأن الضمان لا يجب؛ فإن السقوط كان محالاً على الريح، ولا تعويل عليها، ولا يدرى متى تهب. وإن هبَّت، فمتى تبلغ مبلغاً يُسقط الزق. ولو حل الوكاء عن زق، وكان ما فيه جامداً، فشرقت الشمس، وأذابت مافيه، فاندفق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الضّمان لا يجب؛ لأن الشمس هي المؤثرة، وما جرى من الضياع والفوات محال عليها، كأنها على صورة من يباشر إتلافاً. والوجه الثاني - أنه يجب؛ من قِبل أن الشمس يتيقن شروقها، وليست كالرياح التي لا يدرى متى تهب، فمن عرّض جامداً للشمس، عُدّ ساعياً في تضييعه وتدفيقه. 4667 - وذكر القاضي وجهين في صورةٍ تناظر ما ذكرناه، على تقديره -رحمه الله- وهي أن من أزال أوراق كَرْمٍ وجَرَد (1) العناقيدَ لحَمْي الشمس في الموضع الحار، فأفسدتها الشمس، فهل يجبُ الضمان، على مَنْ نجا (2) الأوراق؟ فعلى الوجهين الذين ذكرناهما في تعريض الجامد لشروق الشمس. وهذا يعسر تصويره في البلاد المعتدلة. ولو حل الوكاء عن زقٍّ، فاتصل بحلّه سقوطُه، ولم يظهر لنا أن سقوطَه بسبب جذب الوكاء، فقد أطلق الأئمة أن السقوطَ إذا كان على الاتصال، وجب الضّمان، إذا كان ما في الزق مائعاً، فاندفع لما سقط. وليس هذا لأثر الاتصال، وإنما هو لعلمنا بأن الزق الذي يكون منتصباً إذا سقط متصلاً بفعلٍ، فسقوطه به؛ لأن السقوط لا يكون إلا بسببٍ. فإذا قال المصور: إذا اتصل السقوط، ولم يبن لنا أن السقوط

_ (1) جَرَد الشيء قشره، وأزال ما عليه وعرّاه. (معجم). (2) ينجو نجاءً ونجاة: كشط، وقشر، ونجا الأوراق أي قطعها وأزالها (المعجم).

بفعل الحالّ. قيل له: هذا تلبيس؛ فإن السقوط إذا اتصل، لم يكن إلا لتأثير مؤثر. وهذا لا خفاء به. والغرض من هذا التنبيه ألا يؤخذ هذا من قياس الطيران وانفصاله؛ فإن ذلك يتعلّق (1) باختيار حيوان، أو بإزعاجه. ولو حل الوكاء عن زق فيه مائع، وكان مملوءاً، والزق منتصب، فأخذ ما فيهِ يسيل قليلاً قليلاً، ويبتلّ لأجله أسفل الزق، حتى أفضى هذا إلى سقوط الزق، واندفاق ما فيه، فيجب الضمان في هذه الحالة؛ لانتسابِ الاندفاق إلى حل الوكاء. 4668 - ولو فتح (2) المُحْرِم القفص عن صيدٍ مملوك، فطار على الاتصال، على قول التفصيل، وهو المذهب، وجب عليه الجزاءُ، لو هلك الطائر قبل أن يستقر؛ فإنا نجعل هذا تنفيراً. والمحرم إذا نفّر، واتصل التلف بالنّفار، التزم الضّمان، فيجب عليه الجزاءُ في الصورة التي ذكرناها لله تعالى، والقيمةُ للمالك. وإذا استأخر الطيرانُ، فلا جزاء، ولا ضمان؛ فإن الأمر محالٌ على الطيران الذي اختاره الطائر، من غير تنفير. وإذا فرعنا على قول مالكٍ، وجب الضمان للآدمي، ولم يجب الجزاء؛ فإن الضمان على قوله لا يتلقى من التنفير، والجزاء لا يثبت إلا بالتنفير. فصل قال: "ولو كصبه داراً، فقال الغاصبُ: هي بالكوفة ... إلى آخره" (3). 4669 - ليس في هذا الفصل أمرٌ (4 يتعلق بأحكام الغصوب، وما فيه 4) يتعلق بالدعوى والإقرار. وحاصل القول فيه أنّ من ادعى على رجل داراً ببلدة، فلا بد وأن

_ (1) (ت 2): يقع. (2) (ت 2): حلّ عن قفصٍ عن صيدٍ. (3) ر. المختصر: 3/ 44. (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

يتعرض في دعواه لتعيينها بالوصف، وذلك يحصل بذكر [المحِلّة] (1) التي فيها الدار، ثم قد لا يكفي ذلك، حتى يعين سكةً من المحلّة، ثم إن كان فيها دور، ميّز (2) الدار التي يدّعيها، بذكر الحدود المشتملة عليها. ولو ادعى داراً مطلقة، كانت الدعوى مجهولةً، غيرَ مقبولة. وهذا [يُفَصَّل] (3) في كتابِ الدعاوى. ثم صور المزني دعوى دارٍ بالمدينة، وصوّر إقرار المدعى عليه بدارٍ بالكوفة، فالذي جاء به ليس جواباً عن الدعوى، وإنما هو إقرار بغير (4) المدعى. فإن قال المدعي [هذه] (5) الدار التي أقررتَ بها فهي لي، [ثبتت] (6) تلك الدار، ويبقى المدعى عليه مطالَباً بجواب الدعوى. وتفصيل أجوبة الدعاوى لا يمكن ذكره على التبعية. وما يتعلق بتفصيل الإقرار استقصيناه في [كتاب] (7) الأقارير. فصل قال: "ولو غصبه دابة، فضاعت من يده ... إلى آخره" (8). 4670 - إذا غصب عبداً، فأبق، أو دابةً فشردت، فحكم ضمان الغصب مستدام، وإن زالت يد الغاصب، ثم للمغصوب منه مطالبة الغاصب بقيمة الآبق والشارد، فإذا غرَّمه القيمة، لم يصر الغاصب مالكاً للآبق بسبب بذل القيمة، وموجِب القيمةِ عندنا

_ (1) في الأصل: الحارة. (2) (ت 2): عين. (3) في الأصل: الفصل. (4) (ت 2): بعين. (5) في الأصل: هذا. (6) في الأصل: فتثبت. (7) زيادة من (ت 2). (8) ر. المختصر: 3/ 44.

الحيلولةُ الواقعة بين المالك وملكه، بسبب الغصب، ثم المالك يتصرف في القيمة تصرفه في أملاكه، وإذا استمكن الغاصب من العبد؛ فإنه يرده ويسترد القيمةَ. وكان شيخي يتردد في أن تلك القيمة لو كانت قائمةً في يد المغصوب منه، فإذا رد الغاصب العبدَ، فهل له أن يسترد أعيان تلك الدراهم ولا يرضى بغيرها؟ أم للمغصوب منه الخيار بين أن يردّها، وبين أن يرد أمثالها؟ وهذا التردد لا يوجب توقفاً في [تسلّط] (1) المغصوب منه على التصرف. ولكن القيمة في يدِه بمثابة القرض (2 في يد المستقرض، وقد ذكرنا اختلافَ قولٍ في أن ملك المستقرض متى يحصل 2). ثم قال القاضي: إذا غرِم الغاصب القيمة، ثم رجع العبد، فللغاصب أن يستمسك بالعبد، ولا يرده حتى تُردَّ القيمةُ عليه، وهذا نقله عن نص الشافعي رضي الله عنه في غير مسائل المختصر، ونص أيضاً على أن من اشترى شيئاًً شراءً فاسداً، وأدّى ثمنه، ثم تبين له الفساد، فإنه يتمسك بما قبضه على حكم الفساد، حتى يُرَدَّ الثمنُ عليه. وهذا فيه فضل نظر؛ فإنا ذكرنا أقوالاً في أن المبيع هل يحبس في مقابلة الثمن، حتى يقال: البداية بالتسليم على المشتري؟ ولا ينبغي أن [يزيد] (3) العبد الآبق إذا آب على المبيع في مقابلة الثمن، فليخرّج الأمر على الاختلاف. ويتجه جدّاً إيجابُ البداية بالتسليم على الغاصب؛ تغليظاً عليه؛ فإن يده هذه بقيةُ يد العدوان. والذي غرِمه لأجل الحيلولة، [بحقٍّ غرمه،] (4) والحيلولة قائمة إلى أن يرد، فيظهر إيجاب البداية عليه، لما نبهنا عليه. هذا في العبد الآبق. فأمّا إذا اشترى شيئاً شراءً فاسداً، ووفّر الثمن، وقبض المشترى، فالاستمساك به

_ (1) في الأصل: مسألة. وفي (ت 2): تسلّك. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق. والحمد لله صدقتنا (ي). (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). هذا، وفي الأصل بعد كلمة يحصل: "ولكن القيمة في يده بمثابة القرض" وهو تكرار لا محل له. (3) في الأصل: يرتد. (4) ما بين المعقوفين مكان كلمتين مطموستين في (ت 2) وغير مقروءتين في الأصل هكذا: [نحو غرمه] والمثبت من (ي).

أبعد من استمساك الغاصب بالعبد الآيب عن الإباق؛ من جهة أن للقيمة المبذولة في مقابلة العبد الآبق [بدلٌ] (1) مستحقٌّ شرعاً، والمشترى على الفساد لا يقابله عوض مستحق، فالأوجه فيه أن يطلب (2) ماله، ويرد ما في يده، من غير ترتيب أحدهما على الثاني. 4671 - وممّا يتعلق بمضمون الفصل أن العبد إذا أبق، فعلى الغاصب أن يضمن للمغصوب أجرة مثل المنافع للأيام التي تمر، وهذا مقطوع به قبل اتفاق غرامة القيمة. فإذا غرِم للمغصوب [منه] (3) القيمةَ، فهل يجب عليه أجرُ المثلِ بعد ذلك إلى اتفاق الإياب والرد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يلتزم الأجر؛ فإن القيمة التي بذلها، ومكن المالكَ من التصرف فيها في الحال، تنزل منزلة ردّ (4) المغصوب، فضمان أجر المنفعة مع ما ذكرناه يبعد. والوجه الثاني: وهو الأصح أنه يلتزم الأجرَ، كما كان يلتزمه قبلُ؛ فإن حكم [الغصب] (5) قائم. وإنما وجبت القيمة على مقابلة الحيلولة الواقعة، فليجب الأجر على مقابلة ضياع المنفعة، والقيمة على مقابلة وقوع الحيلولة. ولو ازداد العبد الآبق زيادة متصلة، أو ولدت الجارية الآبقة، ففي وجوب ضمان الزيادة وجهان، مأخوذان مما ذكرناه. فإن قلنا: لا يجب الأجر تنزيلاً لبذل القيمة منزلةَ ردّ المغصوب، فلا يجب ضمان الزوائد، وكأَنَّ المغصوب خارج عن عهدة الغاصب. وإن قلنا: يلتزم الأجرَ استدامةً لحكم الغصب [فيثبت] (6) الضمان في الزوائد. وهذا الخلاف الذي ذكرناه في الزوائد أبعد من الخلاف في الأجرة. والوجه القطع

_ (1) في الأصل: بذل. (بالمعجمة). (2) (ت 2): يأخذ الثمن. (3) زيادة من المحقق، وفي (ت 2): الغاصب، ومثلها: (ي). (4) ساقطة من (ت 2)، (ي). (5) في الأصل: المغصوب. (6) في الأصل: ويثبت.

بضمان الزوائد؛ من جهة أنا إن قلنا: تمكُّنُ المغصوبِ منه من الانتفاع بالقيمة، [بالتصرف] (1) فيها يسد مسد ما يفوت من منفعة العين، فهذا على بعده قد يُتخيل، فأما المصير إلى انقطاع عُهدة الغصب، فبعيد. ومما يخرّج على الخلاف أحكامُ جنايات العبد في إباقه، ففي وجهٍ نُعلِّق ضمانَها بالغاصب استدامةً لحكم الغصب، وفي وجهٍ نبرئه منها لبذله القيمة. 4672 - ثم قال المحققون: لو غصب عبداً وغيّبه إلى مكانٍ بعيدٍ، ولما توجهت الطَّلِبةُ عليه بردّه، عسر عليه ردُّه، وغرِم قيمته. قالوا: يجب [عليه] (2) في هذه الصورة ضمانُ الأجر إلى الرد. وكذلك القولُ في ضمان الزوائد، والتزام عهدة الجنايات. وزعموا أن هذا محلُّ الوفاق، بخلاف ما قدمناه في حالة الإباق. والفارق أن العبد المغصوب إذا كان خروجه وغَيْبتُه على حكم الغاصب وتصريفه إياه، فهو باقٍ في حقيقة يد الغاصبِ، فَقَطْعُ علائق الضّمان محالٌ بخلافِ الآبق. وهذا الفرق وإن كان له اتجاهٌ، فقد كان شيخي يطرد الخلاف في هذه الصُّورة؛ بناء على صورة بذل القيمة، ونزولها منزلة العين. والمسألة محتملة. 4673 - وحكم الأجرة في اللوح المغصُوبِ المدرج في السفينة، يخرّج على الترتيب الذي ذكرناه، فإن لم يضمن الغاصب قيمة اللَّوح لمكان الحيلولة، فعليه أجر مثلها إلى التمكن من نزع اللوح ورده. وإن غرِم القيمة لوقوع الحيلولة، وتعذر الرد، فإذا كان الغاصب مع السفينة، فهذه الصورة تناظر ما لو صَرَفَ العبد إلى بعض الجهات وغيّبه. وفيه من التردد ما ذكرناه. وحكم أجر المثل يجري في الخيط مادام جزءٌ منه باقياً في الجرح، فإذا تعفن وبلي، فقد تلف. ومن آثار ما ذكرناه أنه إذا غرِم قيمة الآبق، وكانت ألفاً، ثم ازداد بالسُّوق، فصار مثله يساوي ألفين، فزيادة السوق في هذا المقام بمثابة زيادة الأعيانِ. فإن قطعنا

_ (1) (ت 2): فالتصرف. ولعلها: والتصرّف. (2) زيادة من: (ت 2).

علائق الضّمان ببذل القيمة الأولى، فلا نظر إلى ما يتفق من بعدُ من ارتفاع السعر. وإن استدمنا حكمَ الضمان والتغليظَ على الغاصب، فلما ارتفع السوق، وجب بذلُ مزيدٍ في القيمة. 4674 - ومن دقيق المذهب ما نختم الفصل به: وهو أن ضمان القيمة عند وقوع الحيلولة، وحصول التعذّر من الرد واجبٌ، كما ذكرناه في قاعدة الفصل. فلو جاء الغاصب بالقيمة للحيلولة، فللمغصوب منه أن يمتنع منها على ظاهر المذهب؛ من جهة أنها ليست حقاً مستحقاً ملتزَماً في الذمّة، يأتي الملتزم به، فيجبر المستحِق على قبوله أو الإبراءِ عنه. ويتصل بذلك أنه لو أبرأ مالكُ العبد عن القيمة المعلّقة بالحيلولة، فلا معنى لإبرائه عنها؛ فإن الحيلولة تتجدد حالاً على حالٍ. وهذا يضاهي نظائرَه من إسقاط امرأة المولي حقها عن الطلبِ بعد انقضاء المدّة؛ فإنه لا حكم لإسقاطها؛ من جهة تجدد حقوقها على ممرّ الزمن في المستقبل. ونزَّل بعضُ أصحابنا قيمة الحيلولة منزلةَ الحقوق المستقرة، حتى صحح الإبراء عنها، وألزم مالك العبد قبولَها. وهذا غفلة عن حقيقة الفصل، والتعويل على ما قدمناه. فصل قال: "ولو باعه عبداً، وقبضه المشتري ... إلى آخره" (1). 4675 - مقصود الفصل غيرُ متعلقٍ بأحكام الغصوب، وإنما هو مجمع من قضايا الأقارير والدعاوى. ولكنا نذكره جرياناً على ترتيب (السَّواد) (2) فنقول: من باع عبداً وأَلْزم في ظاهر الحالِ بيعه، ثم قال: كنتُ غصبته، فقوله مردود في انتزاع العين من يد المشتري، ولكنه هل يغرَم للمقَرّ له قيمةَ العبد؟ من أصحابنا من خرج ذلك

_ (1) ر. المختصر: 3/ 45. (2) السواد: المراد مختصر المزني، كما أشرنا من قبل.

على القولين فيه إذا قال: غصبت هذه الدارَ من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلَّمةٌ إلى الأول، وفي وجوب ضمان القيمة للثاني قولان، تمهد ذكرهما. ومن الأصحاب من قطع في مسألة الإقرار بعد البيع بوجوب ضمان القيمة للمقَرّ له. وفرق بأنه في مسألة الإقرار لم ينشىء أمراً، وإنما صدر منه إخبارٌ مجرّد. وفي مسألة البيع أنشأ البيع في ظاهره، وهو موجب لحكم الحيلولة. وهذا الفرق مما سبق ذكره. ولو قال البائع ما قال، فصدقه المشتري، وجب عليه تسليم العبد إلى المقَرّ له، ويرجع بالثمن على البائع (1). وإن لم يقر البائع لكنّ المشتري أقرّ بأن هذا العبدَ الذي اشتريتُه مغصوب من فلان، غصبه البائع وباعه، فلا يرجع بالثمن على البائع. وإن لم يوجد الإقرار منهما، ولكن جاء إنسانٌ [وادّعى] (2) أن العبد الذي باعه ملكُه، كان غصبه (3) منه، وباعه مغصوباً، فكذباه -أعني البائع والمشتري- فالقول قولهما. أما المشتري، فيحلف: "لا أسلم العبد إلى المدعي". ولا عليه لو قيّد يمينه -إن أراد- بكَوْن العبد ملكاً له، بناء على ظاهر الحال. وأمّا البائع، فإنما يتجه تحليفُه إذا كنا نرى تضمينه القيمة. وينبغي أن يقع يمينه على نفي القيمة؛ فإنها المدعاة عليه في الحال. ولو تعرض لنفي الغصب للمدّعي، فلا بأس مع التعرض لنفي القيمة. ولو اقتصر في يمينه على نفي الغصب، ففيه وفي أمثاله خلافٌ يأتي في الدعاوى، إن شاء الله تعالى. 4676 - وفرض الأصحاب صورة طوّلوا الفصل بذكرها، فقالوا: لو اشترى عبداً وقبضه، وأعتقه، فجاء المدعي وادّعى أن البائع كان غصبه، فإن كذبوه -يعني البائعَ والمشتري والعبدَ- والتفريع على الصحيح في حق البائع، فيحلف البائع: "لا تلزمه

_ (1) ساقط من (ت 2)، (ي). (2) في الأصل: فادعى. (3) (ت 2)، (ي): عصب منه.

القيمة" ويحلف المشتري: "لا يلزمه ردُّ العبد" (1)، ولا نزاع مع العبد؛ فإنه قد أعتقه المشتري ظاهراً، ومضى حكم الشرع بنفوذ العتق فيه. وسنبين ما نبغيه في أثناء الفصل، إن شاء الله. 4677 - فلو صدقه البائع، لم يقبل قوله في انتزاع العبد؛ فإنه يتضمن إبطالَ ثلاثة حقوق: حق المشتري، وحق العبد، وحق الله تعالى في العتق. وإن صدقه البائع والمشتري، لم يقبل في ردّ العتق لحق العبد، وحق الله تعالى. وعلى المشتري القيمةُ، [والطلبة] (2) بها؛ من جهة إعتاقه، فلو صدقه البائع، والمشتري، والعبد، لم يبطل العتق؛ لأن فيه حقَّ الله تعالى. ولو [مات هذا العبد] (3) وكان كسب مالاً، ولم يكن له نسيبٌ وارث، فميراثه للمقَر له بالغصب (4)؛ لأن البائع والمشتري أقرا له (5 بالملك، وليس 5) في [قبول] (6) إقرارهما في هذا المقام -وقد نفذ العتق- مُرادّةُ (7) حقٍّ. وهذا ظاهر؛ فإن [العتيق] (8) لا يرثه إلا مولى [العتاقة] (9) إذا لم يكن له من يحجب مولاه، ولا يمكن (1) أن يُقدَّر حرَّ الأصل؛ فإن الحرية الأصلية ليست ثابتة في حساب، ولا على موجب قولٍ من أقوال هؤلاء. 4678 - وهذه المسألة فيها لطفٌ؛ من جهة أن قبول قول المشتري يوجب ارتداد

_ (1) (ت 2)، (ي): العين. (2) في الأصل: والطالبة. (3) في الأصل: ولو فات هذا العتق. وفي (ي): ولو مات هذا العتيق. (4) أي يرثه بالولاء. (5) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (6) في الأصل: قبوله. (7) اسم ليس مؤخر. (8) في النسختين: (العتق)، والمثبت تقدير منا. وقد صدقتنا نسخة (ي) وقد حصلنا عليها بعد الانتهاء من هذا الجزء. (9) زيادة من المحقق للإيضاح. (10) (ت 2)، (ي): ولا يمكننا أن نجعله، حرّ الأصل.

العتق، لو أمكن الوفاء بذلك، فكيف انتهض مثبتاً (1 للميراث. ولكن الغرض من هذا أن الاختصاص الذي يمكن إثباته يثبت بقول المشتري 1)، وإن لم يثبت، رُدَّ العتقُ. وليست المسألة خالية عن إمكانٍ واحتمال (2). وتكاد أن تكون من دواير (3) الفقه؛ فإن في قبولِ إقرار المشتري ردَّ العتق، وفي رد العتق ردُّ التوريث، وما في يد هذا العتيق ربما حصّله من جهاتٍ لا يصح من العبيد التحصيلُ منها من غير إذن السَّادة. وقد ينقدح في المسألة تفصيلٌ، فنقول: ما يصح من العبد اكتسابه من غير إذن المولى يجب أن يصرف إليه، فإنه بين أن يكون كسبَ عبده، أو ميراثَ عتيق ثبت أصل الملك له فيه [لزوماً] (4)، وما ثبت في يده عن جهةٍ لا يصح استبداد العبد بها، فالوجه الحكم بأن المقر له لا يستحقه؛ فإنه ينكر الملك فيه، ويرد عتق المشتري. هذا [ما] (5) لا بد منه. وهو مستقر المسألة. والأئمة وإن لم يذكروا هذا التفصيل، فلا شك أنهم عنَوْه، ولو عرض عليهم، لم ينكروه. فصل قال: "ولو كسر لنصراني صليباً ... إلى آخره" (6). 4679 - آلات الملاهي تُكسَّر في أيدي المسلمين، فاختلف الأئمة في الحد الذي ينتهي الكاسر إليه. فقال القائلون: إذا فصلها، كفى، وينبغي أن يُبقي انتفاعاً آخر به، إن أمكن الانتفاع، وهذا القائل يقول: إذا كان الكلام مفروضاً في الأوتار، فيكفي في الكسر رفعُ وجه البَرْبَط (7)، وتركُه على شكل قصعه؛ فإنه بهذا القدر يخرج

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) (ت 2)، (ي): إمكان احتمال. (3) أي من مسائل الدّور. (4) مزيدة من (ي). (5) زيادة من (ت 2)، (ي). (6) ر. المختصر: 3/ 45. (7) البَرْبط: العود. من آلات الموسيقى.

عن اللهو (1)، والاستعمال المحرّم. ومن أئمتنا من رأى الزيادة على الحدّ الذي ذكرناه. ثم الضبط فيما ينتهي إليه ألا يتأتى من [المنكسر] (2) اتخاذ آلةٍ كالتي كانت، أو اتخاذ آلة أخرى من المعازف. وحاصل الخلاف المذكور آيلٌ إلى أن المعتبر عند بعض الأصحاب إخراجُ الآلة عن إمكان استعمالها في الوجه المحرم. والاعتبار عند الآخرين بإخراجها عن إمكان الرد إلى الهيئة المحرّمة. وذهب آخرون إلى مسلكٍ وسط، فقالوا: ليس من الشرط إنهاء الكسر إلى استحالة اتخاذ الآلة من الرُّضَاض (3)؛ فإن الخُشب متهيئة لاتخاذ آلات منها، فإذا وجدنا أصولها في أيدي من يتعاطى صنعة الآلات لم نفسدها عليه. فالمعتبر إذاً انتهاء الكسر إلى حالةٍ لو فرض محاولة صنعة الآلة من الرّضاض، لنال الصانع من التعب ما يناله في ابتداء الاتخاذ. ولم يكتف أحد من أصحابنا بقطع الأوتار وترك الآلات. والسبب فيه أن الأوتار منفصلة عن الآلة، [وهي] (4) في حكم المجاورة لها، فلا يقع الاكتفاء بإزالتها؛ فإنَّ الآلات باقية. ووراء ما ذكرناه [نظر] (5)؛ فالذي يصنع هذه الآلات إذا وجدنا في يده صفائح لم تتم الصنعة فيها، فإن كانت على حدٍ لا يتجاوزها الكسر، (6 فلا نفسدها، وإن كانت على حدٍّ قد يتجاوزها الكسر 6) ففي كسرها تردُّدٌ عندي؛ فإن من يبالغ في الكسر بناء على ما عهد من الآلة المحظورة قد لا يرى هذه المبالغة في الابتداء، قبل أن تثبت الهيئة.

_ (1) (ي): يخرج من التهيؤ للاستعمال المحرّم. (2) في الأصل: الكسر. والمثبت من (ت 2)، (ي). (3) الرضاض: شظايا وبقايا أثر الكسر. (معجم). (4) في الأصل: وهو. (5) في الأصل: مضض. (6) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

ومن بالغ في الكسر ينبغي أن يتوقف في الصليب؛ فإن الصليب خشبة معرَّضة على خشبة، فإذا رفعت إحداهما عن الأخرى، فلا معنى للازدياد على هذا. وقد سقطت هيئة الصليب بالكلية، والعلم عند الله. فصل " فإن أراق له خمراً ... إلى آخره" (1). 4680 - تفصيل القول في إراقة الخمر على المسلمين بيّن، وغرض الفصل تفصيل القول في إراقة خمور أهل الذمة. اتفق الأئمة على أنه لا يجوز أن يُتَّبعوا في مساكنهم، وتراق عليهم خمورهم. وإن كنا نعلم أنهم يتخذونها. وإذا ظهر لنا هذا من المسلم، اتّبعناه، وأرقنا عليه؛ وذلك أنا عقدنا الذمة على تقريرهم على مُوجب عقدهم (2)، بمعنى المتاركة والإضراب، وليس اقتناؤهم للخمور بأكثر من استمرارهم على الكفر. ولا نشك أنهم إذا استخلوا بأنفسهم، أظهروا تكذيب نبينا؛ فإذا سوّغ الشرع تقريرهم على كفرهم، لم يبعد أن يسوغ تقريرهم على خمرهم. ثم هم ممنوعون من إظهار الخمور والتظاهر بشربها، بحيث يُطَّلع عليهم، وكذلك يُمنعون من إظهار المعازف، وإظهارُهم إياها استعمالُها، بحيث يسمعها من ليس في دورهم. ثم إذا أريقت عليهم الخمورُ التي اقتنَوْها، فلا ضمان على مريقها، وإن كان ممنوعاً من اتباعهم، خلافاًً لأبي حنيفة (3). وأجرى الأصحابُ في أثناء المسألة مسألة مذهبية في الحد؛ فإنهم ألزمونا (4) سقوط الحد عن الذمي إذا شرب وارتفع إلينا راضياً بحكمنا، والذي قطع به المعتبرون

_ (1) ر. المختصر: 3/ 46. (2) أي: عقيدتهم. (3) ر. رؤوس المسائل: 348 مسألة 228، ومختصر الطحاوي: 119. (4) (ت 2): ألزموا.

من أئمة المذهب أنه لا يحد شاربهم، وإن رضي بحكمنا، إذا كانوا يعتقدون حل الخمر. وهذا وإن كان يغمض الجواب عنه في الخلاف، فهو المذهب. وذكر أئمة الخلاف وجهاً في وجوب الحدّ وفي كلام الشيخ أبي علي رمز إليه. وتوجيهه هيّن إن صح النقل، فإنا نستتبعهم في موجب عقدنا، ولا نتبعهم. وقد يعتضد هذا بنص الشافعي رضي الله عنه إذ قال: "لو شرب الحنفي النبيذ حددتُه، وقبلت شهادته" فإذا كان عقد الحنفي في استحلال النبيذ لا يعصمه من الحدّ، فعقد الذمي لا يمنعه من الحد، إذا رضي بحكمنا. وهذا موضع [الغَرَض] (1)، والكلام. 4681 - فإن قيل: ما المعتمد في المذهب الظاهر في الفصل بين إقامة الحدّ على الحنفي وبين الامتناع من إقامة الحد على الذمي؟ قلنا: لما رأى الشافعي المعنى الذي يجب الحد على شارب الخمر لأجله موجوداً في النبيذ، لم يعرّج مع وجود المقصودِ على مذهبِ ذي مذهبٍ؛ فإنا على اضطرار نعلم أن كل خبل (2) يجره شرب الخمر يقتضيه (3) شربُ النبيذ. وإذا كان هذا معتمدَ الحدّ، وهو مقطوع به، فلا وقع للخلاف وراءه. والحنفي مزجور بالحدّ زجرَ غيره. والذمي ليس مزجوراً بحد الشرب، مع العلم بأنه يشرب الخمر إذا [استخلى] (4). وعماد الحد الزجرُ، ولا حاصل له في حق الذمي. وهذا حدٌّ واضح. 4682 - ثم لما ذكر الشافعي هذا في النبيذ، اضطرب الأصحابُ في النكاح بلا ولي، ونكاح الشغار، وما سواهما من الأنكحة المختلف فيها. فقال أبو بكر الصيرفي (5): يجب الحد على من وطىء في النكاح بغير وليّ، قياساً على شرب النبيذ. وهذا مزيف لا أصل له. والمعنى الذي نبهنا عليه يُسقطه؛ فإن

_ (1) في الأصل: الفرض. (2) (ت 2): تخيل. (3) (ت 2): فقاضيه. (4) في الأصل: استحلّ. (5) (ت 2): الصيارفي.

كل ما يُحذَر في الخمر، فهو موجود في النبيذ، والزنا من غير تعلقٍ بصورة العقد هو السِّفاح، ولا يضاهيه نكاحٌ بُني على رضاً وإشهادٍ، فليس يقتضي زاجرُ الزنا في الوطء في النكاح بلا وليّ ما يقتضيه الزاجرُ عن شرب الخمر في شرب النبيذ. ثم كان شيخي يحكي عن الصيرفي (1) ثبوتَ (2) الحد على الحنفي في النكاح بلا ولي طرداً لقياس النّص (3) في شرب النبيذ. وحكى الشيخ أبو علي عن الصيرفي (1) مصيرَه إلى إيجاب الحد في حق من يعتقد تحريم النكاح بغير ولي، والقطع بأنه لا حد على من يعتقد تحليله. هذا منتهى مسائل الغصب في نقل المزني. ونحن نرسم فروعاً بعدها. فرع: 4683 - سنذكر في بابٍ مخصوص بأحكام البهائم في ربع الجراح، إن شاء الله تعالى أن ما تفسده البهيمة، فالأمر في الضمان مبني على تفريط مالكها، فإذا كان المالك معها، فأتلفت شيئاً بخبْطها (4) أو عضِّها أو رَمْحها (5)، فعلى المالك الضمان، ولا تعلق للمضمون برقبة البهيمةِ. فإذا كان معه طائر، فالتقط لؤلؤة، فإن لم يكن مأكولَ اللحم، فعليه القيمة للمالك؛ إذ لا يحل ذبح الطائر الذي لا يؤكل لحمه، (6 إذا لم يكن من الفواسق. وإنما وجبت القيمة لمكان الحيلولة. ثم إن كان الطائر مأكول اللحم 6)، ففيه الخلافُ الذي ذكرته في الذبح. وأنه هل يسوغ؟ وقد قدّمتُه في فصول الخيط. فإذا تمهد ما ذكرناه، بنينا عليه فرعاً (7). فإذا باع الرجل حماراً بشعير معين، فقضم الحمار الشعير، فإن كان الشعير مُسلَّماً

_ (1) (ت 2): الصيارفي. (2) في الأصل: في ثبوت. (3) (ت 2): طرداً للقياس اقتضى في شرب الخمر. (4) خبط البعير الأرض ضربها بيده. وفي (ت 2): خلطها. (5) رمح ذو الحافر رمحاً: ضرب برجله. (معجم). (6) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (7) (ت 2): فروعاً.

إلى البائع، (1 لا ينفسخ العقد لدخوله في ضمان مستحقه، ثم الكلام في الضمان يترتب على تفصيلٍ: فإن كان سلّم الحمار إلى المشتري، وكان المشتري معه لما قضم، لزمه الضمان للبائع 1)، ويغرَم له مثل شعيره. وإن كان الشعير في يد المشتري بعدُ، والحمار في يد البائع، فإذا قضم الشعيرَ، نظر: فإن كان البائع مع الحمار، فما جرى يكون قبضاً للشعير المجعول ثمناً. وهذا يوضحه أمر بيّن (2) وهو أن من ثبتت له يد، وإن لم يكن مالكاً، فهو مؤاخذ بحفظ ما تحت يده، فلو كان الحمار وديعة في يد إنسان، وكان يستاقه ليسقيه، فما يتلفه الحمار مضمون على المودَع، والبائع إذا كان ذا يدٍ للحمار (3)، وإن كان ملكُه للمشتري، فما يتلفه محسوب على البائع، فكأنه أتلف الشعير بنفسه [و] (4) لو أتلفه، كان قابضاً له؛ فإن مستحق العوض إذا أتلفه، كان إتلافه له بمثابة قبضه إياه. هذا مقصود الفرع. فرع: 4684 - الغاصب إذا أدخل فصيلاً في خوخة، فكبر بحيث لا يتأتى خروجه من المدخل (5) الذي أدخل فيه، وكان لا يمكنه ردُّه إلى مالكه إلا بهدم البيت، أو فتح باب كبير، فإنا نهدم على الغاصب على قدر الحاجة، ولا ضمان؛ لأجل أنه المتعدي. ولو دخل الفصيل البيتَ، وصادف فيه ما يأكله ويشربه، فكَبِر، ثم انتهى إلى حالةٍ لو ترك فيه لهلك، فصاحب البيت ليس غاصباً في هذه الحالة، والنظر مردود إلى تفريط مالك البهيمة، فإذا كان مفرِّطاً بترك مراعاته، حتى دخل الموضع الذي دخله، فيهدم ما تمس الحاجة إلى هدمه في تخليص الحيوان، ولسنا نرعى فيه حرمةَ مالكه، وإنما نرعى حرمةَ الروح، ثم يغرَم المالك ما ينقصه الهدم؛ من جهة انتسابه إلى التفريط.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) ساقطة من (ت 2). (3) (ت 2): في الحمار. (4) في الأصل: فلو. (5) (ت 2): خروجه من الخوخة إلا بهدم البيت.

فلو أمكن تصوير صورة لا يكون المالك مفرطاً فيها في إرسال بهيمته، فلا تفريط من مالك البهيمة، ولا من رب البيت، وقد (1) جرت الواقعة على الصورة التي ذكرناها؛ فعدم الغصب من صاحب البيت يوجب احترامَ ملكه؛ وعدم التفريط من صاحب البهيمة يوجب براءة ذمته، فكيف [الوجه] (2) والحالة هذه؟ قلنا: نهدم ما تمس الحاجة إلى هدمه، ثم لا ضمان؛ فإن الهدم مستحق لحرمة الرّوح ولا تفريط من أحد، فالوجه نفي الضمان. وقد ينقدح فيه خلافٌ؛ تخريجاً على [أن] (3) من أوجر مضطراً طعاماً يلزمه قيمة الطعام لرجوع المنفعة إليه، فعلى رب البهيمة على هذا التقدير ما ينقصه النقض. والعلم عند الله تعالى. فرع: 4685 - زوج خف يساوي عشرين أخذ الغاصب منه فرداً، وكان الفرد الذي أبقاه يساوي درهماًً، فما الذي يجب على الغاصب، إذا تلف ما غصبه في يده، أو أتلفه؟ حاصل ما ذكره الأصحابُ أوجه: أحدها - أنه يجب على الغاصب تسعةَ عشرَ؛ فإنّه تسبب بأخذ فرد وإتلافه إلى رد قيمة ما أبقاه إلى درهم، فيلزمه تمامُ ما انتقصه. ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الغاصب إلا درهم؛ فإنه قيمة الفرد، وهو لم يأخذ غيره. ومن أصحابنا من قال: يجبُ عليه نصفُ قيمة الزوج. وهذا معتدل بين طرفي التكثير والتقليل. فرع: 4686 - إذا غصب شاةً وانتفع بدرّها، ونسلها، وصوفها؛ فإنه يرد الشاة، ويغرَم ما ثبتت يدُه عليه [من الشاة. ثم منه ما هو من ذوات الأمثال، ومنه ما هو من ذوات القيم، كالنتاج. وللشافعي وقفةٌ في الصُوف، في أنه من ذوات الأمثال] (4) أو

_ (1) (ت 2): ولو جرت. (2) (ت 2): توجه. (3) ساقطة من الأصل. (4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2)، (ي). وعبارة الأصل هكذا: ويغرم ما ثبتت يده عليه، ثم الصوف هل هو من ذوات الأمثال، أو من ذوات القيم، والأمر محتمل ...

من ذوات القيم. والأمر محتمل، من جهة أن الصوف من الشاة الواحدة لا يتماثل، فما الظن إذا تعددت المحال. فرع: 4687 - إذا أجج ناراً في داره، فطارت منها شرارة [إلى دار جاره] (1) أو إلى كُدْسه (2)، فجرَّت حريقاً، فهذه المسألة، ونظائرها، معروضة على العادة. فإن عُد صاحب النار مقتصداً في إيقاده، فلا ضمان عليه، وإن حدث ما حدث بسببه؛ فإن التحفظ من مثل هذا غير ممكنٍ، فمجرى الحال محمول على القدر [المقدّر] (3) ولو لم نَقُل ذلك، لمنعنا الملاك من التصرف في أملاكهم. ولا يجري ما ذكرناه مجرى التعزيرات (4) المشروطة بسلامة العاقبة؛ فإن حسم تصرف الملاك عظيم، فلا يقاس بهلاك يقع نُدرةً، مع الاقتصاد في [التعزير] (5). وإن عُدّ صاحب النار مجاوزاً للغاية، توجه الضمان عليه. قال الأصحاب: النار القريبةُ في اليوم [ذي] (6) الريح في العرائش، وبيوت القصب، كالنار العظيمة المجاوزة للحدّ. وفقه الفرع أنا إن تحققنا المجاوزة، أثبتنا الضمان. وإن تحققنا الاقتصادَ، نفيناه. وإن ترددنا، فلا ضمان مع التردد. والمعني بالتردد تساوي العقدين. فإن غلب على الظن مجاوزةُ الحد من غير قطع، أمكن تخريج هذا على غلبة الظن في النجاسات؛ فإن البابين مستويان في إمكان التعلق بالأماراتِ. ولو كان الإنسان يسقي الزرع فانبثق بثقٌ من أرضه إلى دار جاره، وجرّ هدماً، وفساداً، فالقول فيه خارج على ما ذكرناه. وعلى الذي يسقي أرضه [أن] (7) يتعهد

_ (1) في الأصل: شرارة في داره أو إلى كُدسه. (2) الكدس، وزان قُفل، ما يجمع من الطعام في البيدر (مصباح). (3) في الأصل: المقدور. (4) (ت 2): التقديرات. (5) في الأصل: التقدير، وفي (ي): التقديرات. (6) مزيدة من (ت 2)، (ي). (7) في الأصل: أو.

ما جرت العادة بتعهده. والنائم عن مثل هذا مقصّر، إذا لم (1) يقدم احتياطاً موثوقاً به. وقد يختلف الأمر باختلاف البقاع، وصفات الأراضي، في كونها صُلبة، أو خوارة (2)، ويختلف أيضاً بأن تكون الأرض المسقيّة مستعليةً؛ فإن الماء يسرع انحداره من العلوّ. فهذا منتهى الضبط في ذلك. فرع: 4688 - إذا اشترى الرجل أرضاً مغصوبة على جهلٍ بحقيقة الحال، [وبنى عليها، وغرِم على البناء مالاً، ثم تبين الاستحقاق، نُقض] (3) بناؤه، وألزم الأجر. أما القول في المنافع وأنه هل يرجعُ بما [غرمه] (4)، فقد مضى مفصلاً. والذي نُحدثه الآن أنه إذا هُدم بناؤه، فهل يرجع بأرش النقصِ على البائع الذي غره؟ فيه اختلاف بين الأصحاب. ومال القاضي إلى أنه يرجع، وهذا استمساكٌ بمحض التغرير. ولا أحد يصير إلى أنه يرجع (5) بما بذله في البناء؛ فإن ذلك يختلف، وإنما الرجوع بما ينقصه النقض. فرع: 4689 - قد ذكرنا خلافاًً في أن المستعير، والقابضَ عن الشراء الفاسد، والمسْتام، يضمنون ضمانَ الغصوب أم لا؟ فإن نفينا ضمان الغصب، فقد خَرَّج الأصحابُ ضمان الزوائد المنفصلة والمتصلة على هذا القانون، واستقر جواب المحققين على أن الاعتبار -إذا نفينا تغليظ الغصبِ- بيوم القبض، فكلّ (6) ما يحدث بعده، لا (7) يقع مضموناً. قال صاحب التقريب: الذي أراهُ وأختاره، أن الزوائد

_ (1) في (ت 2): إلا أن يقدم، وفي (ي): إلى أن يقدم. (2) (ت 2): رخوة. (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 2)، (ي). وفيهما: "ونقض بناؤه". (4) في الأصل: يغرمه. (5) في الأصل: يرجع مال بما بذله. (6) (ت 2): فكان. (7) (ت 2): فلا.

المتصلة مضمونة. وما ينفصل لا يضمن، كالولد، والثمار. وهذا غريب، وإن اتجه في الرأي. فرع: 4690 - إذا غصب الرجل عيناً وباعها، فأراد المالك إجازة البيع، فهو خارج على وقف العقود، وإن كثرت البياعات، وعسر تتبعها، وتفرق المتعلقون بها، فإذا فرعنا على الجديد في منع وقف العقود، ففي هذه الصورة تردد، لما في [التتبع] (1) من الضرر العظيم. وللشافعي في الجديد ترديد جوابٍ في هذا. وقد أدرجت هذا في تقاسيم الوقف في كتاب البيع. فرع: 4691 - إذا باع رجل، أو أجرى البيعَ إلى حالة الإلزام، ثم قال: كنت غصبته، فقد ذكرنا في وجوب الضمان عليه للمقَر له خلافاًً. وقد زاد صاحب التقريب وجهاًً مفصلاً، فقال: إن قال: بعته وهو ملكي، ففيه التردد في الغرم، وإن أطلق البيع، ولم يدّع الملك، لم يضمن؛ فإنَّه قد يبيع الإنسان ما لا يملكه. وهذا لا أصل له؛ فإنه ببيعه أوقع الحيلولة، وإن لم يدع الملك لنفسه. ومعتمد الضمانِ في الباب الحيلولةُ وإيقاعُها، والله أعلم. [انتهى كتاب الغصب بحمد الله] (2). ...

_ (1) في الأصل: التبيع. (2) زيادة من (ت 2).

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة (1) 4692 - الأصل في الشفعة السنة والإجماع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقت الحدود، فلا شفعة" (2) وقال عليه السلام: "الشفعة في كل شركٍ من رَبعْ أو حائط" (3) وأجمعوا على أصل الشفعة، وأَخْذُها من قولك شفعت شيئاً بشيء إذ جعلته شفعاً به. ثم المبيعات في الشفعة على أقسام: قسمٌ يثبت فيه الشفعة سواء انفرد معقوداً عليه، أو اشتمل العقد عليه، وعلى غيره، مما لا شفعة فيه. وهو العقار. على ما سنفصل القول فيه. وقسم لا تثبت الشفعةُ فيه، لا مفرداً، ولا مضموماً إلى غيره، وهو المنقولات. وقسم تثبت الشفعة فيه تابعاً، ولا تثبت الشفعة متبوعاً مقصوداً، كالأشجار والأبنية. فإذا بيعت مع العرصاتِ، ثبتت الشفعة فيها ثبوتَها في الأراضي، وإذا أُفردت الأشجار بالبيع دون مغارسها، أو أفردت الأبنية بالبيع دون أساسها، فظاهر المذهب أنّه لا شفعة فيها. وخرّجها بعض الأصحاب على تفصيل القول في القسمة. وقال: إن قلنا: لا تثبت الشفعة فيما لا ينقسم، فالأشجار والأبنية الشاخصة، والسقوفُ لا تقبل

_ (1) من أول كتاب الشفعة بدأت نسخة (هـ 3)، فصارت النسخ ثلاثاً، ثم حصلنا على (ي)، فصارت أربعاً. وما زال الأصل هو (د 2). (2) حديث الشفعة فيما لم يقسم. الموطأ: 2/ 713، والسنن الكبرى: 6/ 102، 105. وانظر التلخيص: 3/ 124 ح 1301. وهو عند البخاري بلفظ: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يفسم ... ح 2257، وعند مسلم ح 1608. (3) مسلم بالرقم السابق.

القسمة في معظم الأحوال، فلا شفعة فيها، إلا (1) إذا كانت تنقسم. وإن قلنا: تثبت الشفعة فيما لا ينقسم من العقار، [ففيها الشفعة] (2) كما سنذكره الآن بهذا الفصل، إن شاء الله. [فلو] (3) فرض جدار عريض قابل للقسمة، أو صُوِّر سقف قابل لها، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا تثبت الشفعة فيها مفردة؛ فإنها محدثات ليس لها (4) حقيقة التأبّد، وهي إلى الزوال؛ فإن الأشجار ستُرقل (5) وتصير قَحاماً (6)، والأبنية تنهدم على طول الدهر؛ ولقد كانت منقولةً، فأُثبتت في الأرض، ومصيرها إلى ما كانت عليه قبل التثبيت. والقولُ الثاني - أنه تثبت الشفعة فيها؛ فإنها لا تعدّ من المنقولاتِ، وتثبت فيها الشفعة مع الأراضي؛ فلتثبت الشفعة فيها وحدها. هذه طريقة لبعض الأصحاب. وكان شيخي أبو محمد رحمه الله يرددها في الدروس. والطريقة المرضية التي قطع بها أئمة المذهب أنه لا تثبت الشفعة فيها مفردة متبوعة وإنما تتعلق الشفعة بها إذا كانت تابعة للأرض. 4693 - ثم مذهب الشافعي أن الشفعة لا تثبت إلا للشريك في العقار، ولا شفعة بالجوار، ولا بالاشتراك في المسيل والممر وغيرهما من حقوق الأملاك، ومذهبه

_ (1) (ت 2): إذا كانت لا تنقسم. (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (3) في الأصل، (ت 2)، (هـ 3): أو، وفي (ي): ولو، والمثبت تصرف من المحقق. (4) (ت 2): عليها. (5) أي ستطول، وتنمو، وتبلغ عمرها. يقال: أرقلت النخلة: طالت (معجم، مصباح). (6) (ت 2): فحاماً بالفاء. وفي الأصل، (ي)، (هـ3) قحاماً بالقاف. والقحامة: بلوغ أرذل العمر، والقحم من بلغ أرذل العمر، والجمع قِحام. ونخلة قحمة إذا كبرت ودق أسفلها، وقل سعفها. والجمع قحام أيضاً. أما بالفاء (فِحام) فهي جمع فحم (معجم، مصباح). ورجحنا (قحاماً) بالقاف، لأنها من ألفاظ الفقهاء، فقد ذكرها الأزهري في الزاهر: 318 - فقرة 696.

الظاهر أن الشفعة تختص بالشقص الشائع من العقار القابل نلقسمة. [فإن كان ممّا لا يقبل القسمة] (1)، كالطواحين، والحمامات، والقَنَى (2)، وما في معناها مما لا ينقسم، فلا شفعة فيها للشريك. وذكر الأئمة عن ابن سريج قولاً مخرجاً أن الشفعة تثبت فيما لا ينقسم من العقار. وذكر بعض الأصحاب وجهين على الإطلاق في أن الشفعة هل تثبت فيما لا ينقسم. 4694 - فمن خصص الشفعة بما (3) يقبل القسمة -وهو ظاهر المذهب- علل ثبوتها بما (4) يتعرض الشريك له من مؤنة القسمة عند فرض الاستقسام وما تمس الحاجة إليه عند وقوع القسمة من إفراد الحصة المميزة بمرافق كانت ثابتة على الاشتراك قبلُ كالبئر، والمَبْرز والممر في بعض الأحوالِ، وغيرها من مرافق الدار. فإن قيل: كان الاستقسام من الشريك متوقعاً (5) قبل البيع، ثم كان يترتب عَليْهِ ما ذكرتموه من مسيس الحاجة إلى إفراد الحصة المتميزة بالمرافق، فلم يتجدد بالشراء شيء. قلنا: نعم كان الأمرُ كذلك قبل البيع، ولكن الشريكين مستويان، ليس أحدهما أولى بطلب الاستخلاص، وطلب الخلاص (6) من الشركة من الثاني، فلم يكن قبل وقوع البيع لذلك مدفع، فإذا أراد أحد الشريكين أن يزيل الملك عن نصيبه وتمكن من إزالته إلى شريكه وتخليصه ممّا كان بصدده، فالذي يقتضيه حُسن العشرة أن يبيع منه، فيصل إلى مطلوبه من عوض ملكه ويخلُصُ (7) شريكُه عن الضرار. فإذا لم يفعل ذلك، وباعه من أجنبي، سلّط الشرعُ الشريكَ على صرف ذلك الملك إلى نفسه. هذه طريقة.

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وفي مكانه: "وما لا يقبل القسمة". (2) القَنَى: وِزان الحصى: جمع قناة: مجرى الماء، ضاق أو اتسع. وجمعها قنوات، وقنىً مثل حصاة تجمع حصوات وحصىً (معجم - مصباح). (3) (ت 2): بما لا يقبل القسمة. (4) (ت 2)، (هـ3): بما لا يتعرض. (5) (هـ3): متوفاً. (6) سقط من (ت 2)، (ي): "وطلب الخلاص". (7) (ي): وتخليص.

ومن أثبت الشفعة فيما لا يقبل القسمة من العقارات المشتركة، فالشفعة عنده معلّلة بالضرار الذي يتعرض الشريك له من تضييق المداخل، ولم يكن إلى دفع ذلك سبيل عند استمرار الشركة؛ فإذا أراد أحد الشريكين بيعَ نصيبه، فينبغي أن يخلِّص شريكه مما كان بصدده من تضييق المداخلة، فإذا لم يفعل ذلك، فباع من آخر، أثبت الشرعُ للشريك صرفَ ذلك إلى نفسه، ليتوفر على البائع حظُّه، ويندفعَ الضرار. 4695 - فإن قيل: هلا قلتم: لا يعلل ثبوت الشفعة، والمتبع فيه الخبر؟ قلنا: اتفق القياسون على تعليلها، ثم الأصول المعللة لو تتبعت، لأُلفيت كذلك، ولو طُرّق إليها منعُ التعليل، لانحسمت مسالك النظر. و [بالجملة] (1) لسنا ندّعي أن ما يعلل من الأحكام تشهد العقول لعللها، ولكن يفهم الناظر عن علم تارة وبظن أخرى أن الشارع أثبت الحكم المعلوم بسبب، ثم إذا غلب ذلك على الظن، فلا يكون المعنى المظنون إلا مخصوصاً. وهذا يطرد في كل معنى اتفق القياسون عليه، فالشفعة معتمدها درءُ ضررٍ مخصوص. ثم ما رآهُ الشافعي صحيح على السبر، وما اعتمده أبو حنيفة (2) في إثبات شفعة الجار معلوم في نفسه، لا يبعد في مأخذ الشرع تعليق الحكم بمثله. ولكنه باطل على السبر في نفسه، كما يذكره الخلافيون (3). فقد عاد عقد المذهب إلى مسلكين في تعليل الشفعة، وانتظم منه أن العلة ما أشرنا إليه، ومحلها البيع الجديد. وحكى صاحب التقريب عن ابن سُريج أنه مال إلى القول بإثبات الشفعة بالجوار. وهذا غريب، لم يحكه عن ابن سريج غير صاحب التقريب. وذكر الشيخ أبو علي عن ابن سريج لفظاً، وحمله على محملٍ نذكره، فقال: إذا قضى حنفي بشفعة الجار، لشافعي، فلا معترض على الشافعي في ظاهر الحكم،

_ (1) ساقط من الأصل. (2) ر. مختصر الطحاوي: 120، مختصر اختلاف الفقهاء:4/ 239 مسألة 1947، إيثار الإنصاف: 329، طريقة الخلاف: 358 مسألة: 150. وانظر أيضاً: الاصطلام: 4/ 161. (3) (ت 2): الحذاق.

ولكن هل يحل له المقضيُّ به باطناً لاتصال الحكم بقضاء القاضي؟ فعلى وجهين. وهذا يطّرد في نظائرِ ذلك. كالحكم بالتوريث بالرحم (1) ونحوه. وسنذكر هذا الأصل وسرَّه في كتاب الدعاوى، إن شاء الله، فحمل الشيخ أبو علي ما نقل عن ابن سريج من لفظه المبهم في شفعة الجوار على ما ذكرناه من اتصال الأمر بقضاء القاضي. ولفظُ ابن سريج أنه قال: "لو قضى قاضٍ بشفعة الجوار نفذتُ قضاءه"، ثم قال: "وقضيت بشفعة الجوار". وظاهر كلامه يشعر بما ذكره الشيخ، كأنه قال: قضاء القاضي بالشفعة نافذ، وأنا أقضي بتنفيذ قضائه. 4696 - فإن قلنا: تثبت الشفعة فيما لا ينقسم، فلا كلام، وإن خصصنا ثبوت الشفعة بما يقبل القسمة -وهو ظاهر المذهب- فالقول فيما ينقسم وما لا ينقسم يأتي مستقصىً في كتابٍ متعلق بالدعاوى والبينات، ولكنا نذكر هاهنا ما يقع الاستقلال (2) به فنقول: المذهب الصحيح أن المعتبر فيما يقبل القسمة، وفيما لا يقبلها أن يبقى جنس المنفعة الثابتة حالة الاشتراك لكل حصةٍ، بعد المفاصلة، والإفراز. فإن كان الملك المشترك ينتفع به مسكناً، فلتكن كل حصة بحيث يتصور اتخاذها مسكناً. ثم هذا القائل لا يشترط بقاء ذلك الجنس على ذلك الوجه؛ فإن كل حصة، أضيق من جملة المسكن، فالنظر إلى أصل المنفعة لا إلى قدره (3). والحمّام على هذا غير منقسم، فإنه لو فصل وقسم قسمة الدور، لم يكن كل قسم منتفعاً به الانتفاع الذي كان، فكذلك القول في الأَرْحية، وما في معانيها. هذا هو الذي إليه الرجوع فيما يقبل القسمة وفيما لا يقبل. وذكر الأصحاب وجهين بعيدين، لا معول عليهما سوى ما ذكرناه: أحدهما - أن شرط ما ينقسم ألا تؤدي القسمةُ إلى حطيطةٍ بيّنة في الحصصِ المفرزة، حتى إذا كانت

_ (1) إشارة إلى أن الشافعية لا يورثون ذوي الأرحام، بل تؤول التركة إلى بيت المال، إذا لم يوجد للمتوفى عصبة نسبية، ولا سببية، في ترتيبٍ وتفصيل يطلب في موضعه من علم الفرائض. (2) (ت 2)، (هـ 3)، (ي): الاستقرار. (3) كذا، بضمير المذكر. في جميع النسخ. وهو سائغ بتأويلٍ، فلنؤوله هنا (بالنصيب) أو (الجزء) أو (المسكن).

الدار تساوي مائةً، ولو قسمت، لكانت كل حصةٍ -وقد قسمت [نصفين] (1) - تساوي ثلاثين، فهذا عند هذا القائل مما لا ينقسم، لما في القسمة من البخس العظيم، والحطيطة البيّنة. وهذا الوجه ذكره العراقيون وزيفوه. والوجه الآخر - أنه لا نظر إلى القيمة، ولا إلى الجنس الذي كان من المنفعة، ولكن إذا كان يبقى لكل حصّةٍ نوع من الانتفاع، فهو قابل للقسمة، فالحمام على هذا منقسم، إذ يمكن [فرض] (2) الانتفاع بكل حصة منه (3) سكوناً (4). وإذا كان يسقط أصل الانتفاع، أو عسر تصوير القسمة عِياناً كما في أسراب (5) القَنَى وآبارها. هذا هو الذي لا ينقسم. والوجهان مردودان، لا اعتداد بهما، ولا عَوْدَ إليهما، والتفريع على المسلك المشهور. 4697 - وها نحن نذكر صورة تمس الحاجة إليها في حكم الشفعة، وهي أنه إذا كان بين رجلين حجرة مشتركة ضيقة الخِطة (6) وكان تسعة أعشارها لأحدهما والعشر للآخر، ولو قدر إفراز العشر، لم يكن مسكناً، فصاحب العشر لا ينتفع بالقسمة الانتفاعَ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) زيادة من (ت 2)، (ي). (3) المراد بالحمام هنا الحمام العام الذي يغشاه الناس كافة، كلّ من يريد منهم. وهو يقصد للتنظف والتطبيب، وليس ما يتبادر إلى الذهن الآن، من الحمامات داخل البيوت، بل يشبه مراكز علاج السمنة والبدانة الموجودة الآن بواسطة حمامات البخار، والتدريبات الرياضية، حتى يتصور أن يُتخذَ منه مسكنين. (4) سكوناً: أي سكناً من وضع المصدر مكان الاسم، وقد صرح بهذا المعنى الرافعي، ولفظه: "أما إذا اعتبرنا بقاء منفعةٍ ما، كفى أن يصلح كل سهم من الحمام بعد القسمة للسكنى" فتح العزيز: 11/ 386 بهامش المجموع. وكذلك صرح بهذا المعنى الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج، قال: "ظاهره أنه لو انتفع به من غير ذلك الوجه، كأن أمكن جعل الحمام دارين ... " حواشي التحفة: 6/ 57 سطر 3. أما حجة الإسلام الغزالي، فقد أخذ لفظ شيخه إمام الحرمين، فقال: "وقيل المعنى أن يبقى فيه (أي الحمام) منفعة، ولو للسكون" الوسيط: 4/ 70. (5) السَّرب -بفتحتين- بيتٌ في الأرض، لا منفذ له: فإن كان له منفذ، فهو النفق (مصباح) فالمراد هنا الخزانات التي تتجمع فيها مياه الصرف تحت الأرض لحين التخلص منها. (6) الخِطة بالكسر: المكان المختط لعمارة، والجمع خِطط، مثل: سدرة وسِدر. والخطة بالضم: الحالة والخِصلة. والجمع: خُطط (معجم، ومصباح).

المرعي، وصاحب التسعة الأعشار ينتفع بحصّته ويتأتى منه اتخاذها مسكناً، فقال الأئمة: إن طلب صاحب العشر القسمة، لم يجب إليها قهراً؛ فإنّه لا يستفيد بالقسمة فائدة. وإن دعا صاحب التسعة الأعشار إلى القسمة، فهل يجبر صاحب العشر على إجابته؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يجبر؛ لما عليه من الضرار. والثاني - يجبر، فإنَّ طالب القسمة منتفع وإنما يلحق الضرر صاحب العشر لنقصان ملكه. ثم بنى الأصحاب على هذا حكم الشفعة (1)، فقالوا: إذا باع صاحب العشر نصيبه، فلا شفعة لصاحب التسعة الأعشار؛ لأنه يأمن من مشتري العشر الاستقسامَ والدعاءَ إلى القسمة قهراً. وإذا باع صاحب التسعة الأعشار نصيبه، فلصاحب العشر طلب الشفعة إن قلنا: يجبر صاحب التسعة الأعشار على القسمة. وإن قلنا: لا يجاب صاحب التسعة الأعشار إلى القسمة، فلا شفعة لصاحب العشر؛ فإن معتمد الشفعة إمكان الإجبار على القسمة، فإذا ارتفع ذلك من الجانبين، ارتفعت الشفعة، على المسلك المشهور. هذا بيان قاعدة المذهب، فيما تثبت الشفعة فيه وفيما لا تثبت. فصل قال: "وللشفيع الشفعة بالثمن الذي وقع البيع به ... إلى آخره" (2). 4698 - قد قدَّمنا ما يؤخذ بالشفعة. ومضمون هذا الفصل الكلام فيما يبذله الشفيع في مقابلة ما يأخذه بالشفعة، فنقول: إن كان الثمن من ذوات الأمثال، أخذ الشفيع الشقص بمثل المسمى في العقد، قدراً، ووصفاً. وإن كان [الثمن] (3) من ذوات القيم، كعبدٍ، أو ثوبٍ، وغيرهما، أخذ الشفيع الشقص بقيمة ذلك المتقوَّم.

_ (1) (ت 2): القسمة. (2) ر. المختصر: 3/ 50. (3) ساقطة من الأصل.

ثم قال الأئمة: الاعتبار بيوم العقد في القيمة، وهذا ظاهرٌ لا حاجة إلى توجيههِ؛ فإن يوم العقد يومُ إثبات العوض، فيثبت تقدير العوض في حق الشفيع في الوقت الذي يثبت فيه العوضُ على المشتري. 4699 - ثم فرض الأئمة صورةً، وفي ذكرها الاطلاعُ على حقيقة الفصل، وذلك أنهم قالوا: لو اشترى رجل شقصاً بمائة مَنٍّ حنطةً، فإذا أراد الشفيع أن يأخذ (1) بالشفعة، فماذا عليه؟ قال القفال: لا يبذلُ الشفيع مائةَ مَنٍّ؛ فإن الحنطة مكيلة، ولا يجوز أن تتقابل حنطتان وزناً بوزن؛ فإن المعتبر عندنا معيار الشريعة، ومعيارها في البر الكيل، ولكن الوجه أن نكيل المائة المن التي كانت ثمناً، ونضبط (2) مبلغها بالكيل، ثم الشفيع يبذل للمشتري من صنف الحنطة التي بذلها: جودةً، وصلابةً، أو استرخاءً. وحاصل ذلك أنا نقدّرُ كأن الشفيع أتلف على المشتري الحنطةَ التي بذلها؛ من حيث [إنه] (3) فوّت عليه مقصودَ بذلها، ومن أتلف حنطةً، غرِم مثلَها كيلاً. هذا كلام القفال. وهو الذي أطلقه أئمة المذهب. ثم قالوا في سياق هذا: الحنطتان وإن لم يكونا عوضين متقابلين في بيعٍ، فهما متقابلتان في حكم بيعٍ، فيجب أن يرعى فيهما معيار الشرع، وحنطةُ المشتري قابلت شقصاً، فلم يؤاخذ (4) بمعيار الشرع، وحنطة الشفيع تقع في مقابلة حنطة المشتري، فلا بد من رعاية المعيار. ثم قطعوا بأن من أقرض حنطة وزناً، لم يصح؛ فإن القرض، وإن لم يكن على حقائق المعاوضات، ففيه معنى التقابل؛ فإن من يقرض شيئاًً يطلب مثله، فلزم اعتبار المعيار الشرعي. وقال القاضي يبذل الشفيع مائةَ مَن، ولا نظر إلى المعيار؛ فإنه ليس يبذل الحنطة في مقابلة الحنطة، وإنما يبذلها في مقابلة الشقص؛ فإنه على القطع يأخذ الشقص

_ (1) (ت 2)، (ي): طلب الشفعة. (2) (ت 2): فتقسط، (هـ 3): فنضبط. (3) ساقطة من الأصل. (4) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): فراع معيار الشرع.

بعوض، وعوضه ما يبذله، وهو في التحقيق بمثابة المشتري من المشتري، ولكن أثبت الشرع هذا قهراً. وهذا الذي ذكره بالغٌ حسن. والذي قدمناه في توجيه ما ذكره القفالُ وغيرُه تكلّفٌ. ثم تكلم القاضي على القرض وقال: يجوز عندي إقراض الحنطة وزناً، فإن القرض مستخرج عن قياس المعاوضات، ولو راعينا فيه أحكام الربا، لم يصح إقراض الربويات؛ من جهة أَنَّ التقابض فيه غيرُ مرعي، وإذا لم يكن التقابض مرعياً، فاتباع معيار الشرع تفصيل نرعاه في تعبدات الربويات. وهذا الذي ذكره حسن، وإن خالف معظمَ الأصحاب فيه. وما نحن فيه من الشفعة ليس شبيهاً بالقرض، فإن ما يأخذه المستقرض يقابله ما يرده، فإن روعي فيه مكيال الشرع، لم يبعد، وقد ذكرنا أن ما يبذله الشفيع ليس عوضاًً عن ثمن العقد، وإنما هو عوض عن الشقص المبيع، فليس القرض فيما نحن فيه بسبيل. وسنقرر هذا الفصل عند الكلام في أن الممهور (1) مأخوذ بالشفعة، [وسنوضح ثَمَّ تنزيل] (2) ما يبذله (3) [الشفيع] (4)، تقديراً، وتحقيقاً. 4700 - ومما وصله الأصحاب بهذا أن قالوا: إن كان الثمن معلوماً، فالشفعة ثابتة، والتعويل فيما يبذله (5) الشفيع على مبلغ الثمنِ (6)، ثم القول ينقسم إلى الكلام في المثلي والمتقوم، كما قدمناه. وإن اشترى المشتري الشقص بثمن مجهول المقدار، مشارٍ إليه، مثل أن يقول: اشتريت هذا الشقصَ بهذا الكف من الدنانير، أو بما في هذا الجُوَالق (7) من

_ (1) الممهور: أي المبذول مهرا. (2) في الأصل: ثم نوضح تنزيل. (3) في (ت 2)، (ي)، (هـ 3): يأخذه. (4) في الأصل: الشرع. (5) (ي): يثبته. (6) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): على الثمن ومبلغه. (7) الجُوالق: وعاء من الخيش أصغر من الغِرارة، ويجمع الجُوالق على جَوالق، وجَواليقَ بفتح =

الحنطة، فالبيع يصح، تعويلاً على الإشارة. فإذا [استمكن] (1) الشفيع من إعلام ما أُثبت ثمناً، فيأخذ الشقص (2) بما يعلمه. وإن أخرج البائع الثمن، أو أتلفه، أو تلف في يده، وعسر الاطلاع على مبلغه، فالمنصوص عليه للشافعي أن الشريك لا يستحق الشفعة؛ لأنه لا يدري بما يأخذ الشقص، ولا سبيل إلى أخذ الشقص من غير عوض. وهذا من الحيل في دفع الشفعة، وليست حيلة مستعملة؛ فإن المشتري والبائع يبعد أن يرضيا بالثمن المجهول، فلا يدري واحد منهما أنه مغبون، أو مغبوط، والحيلة هي التي تستعمل مع رعاية غرض العقد، وتندفع الشفعة بها. وسنجمع طرفاً منها في آخر الكتاب، إن شاء الله عز وجل. هذا نص الشافعي. وحكى الأئمة عن ابن سُريْج أنه قال: الشفعة لا تبطل بهذا، ولكن يقال لطالب الشفعة: خمن في نفسك قدراً، وادَّع الشفعةَ به، فإذا تبيّنه، فقال المشتري: كان أكثرَ مما تقول، فالقول قول المشتري مع يمينه: يحلف بالله أنه اشترى بأكثر ممَّا سماه. ثم يقال للشفيع: زِدْ في مقدار الثمن، وأعد الدعوى، ونعرض اليمينَ على المشتري، فإن حلف، زاد الشفيع، فلا يزال كذلك، والمشتري يحلف، فإن نكل المشتري، حلف الشفيع على المقدار الذي استقرت عليه الدعوى آخراً، واستحق الشقص به. 4701 - ولو قال المشتري لما توجهت (3) عليه الدعوى: لست أدري بكم اشتريتُ، وأصرّ على ذلك، كان هذا منه إنكاراً أولاً، مقتضاه عرض اليمين عليه، فإن أعاد قولَه، كان ما جاء به نُكولاً، واليمين تردُّ على المدّعي، فيحلف على المقدار الذي ذكره ويستحق. وهذا الكلام حكاه من يوثق به عن القاضي، وهو كلامٌ مختلٌّ. والوجه عندنا أن نقول: إن اعترف صاحب الشفعة والمشتري بأن الثمن كان

_ = الجيم، وعلى جُوالقات بضمها، كالمفرد، وهو لفظ معرب (معجم). (1) في الأصل: استكمل. (2) (ت 2)، (ي)، (هـ3): السفعة. (3) (ي)، (هـ3): استقرت.

جزافاً، غيرَ مقدّر، فلا حاجة لذكر مقدارٍ معين في الدعوى، ولو فرض ذلك، وعُدّ ما يبديه المشتري من التردد إنكاراً ونكولاً، فكيف يستجيز الشفيع أن يحلف يميناً باتةً على المقدار الذي قدّره في دعواه؟ وتكليفه أن يربط دعواه (1) بمقدارٍ، مع اعترافه بأنْ لا مقدارَ، كلامٌ خارج عن الضبط، وحاصلُه تسويغ الكذب له أوّلاً، مع تجويز الحلف عليه على بتٍّ آخراً، ويبعد جريان مثل ذلك في مقتضى التكاليف. فالوجه إذن القطعُ بتعذر طلب الشفعة، إذا اعترفا بكون الثمن مجهولاً، وتعذّر البحثُ عن ابتاعه (2)، والاطلاعِ على مقداره. 4702 - ولكن لو لم يقرّ الشفيعُ بوقوعِ العقد على مقدار مجهول، وادّعى أن العقد وقع على معلوم، وزعم المشتري أنه وقع على مجهول أوّلاً، أو كان معلوماً ولكنه نسيه في أثناء المعاملات، فليقع التصوير هاهنا أولاً. ثم هذه الصورة تنقسم قسمين: أحدهما - أن يزعم الشفيع أنه عالم بالمقدار الذي وقع العقد به، وينسب المشتري إلى العلم به، ثم إلى المناكرة بادعاء الجهل. والآخر - أن يزعم الشفيع أن العقد وقع على معلوم، ولم يوُرَد (3) .. على كف، ولا على صُبْرة من حنطةٍ، ولكن كان غيرَ عالم بالمقدار الذي وقع العقد عليه. ونحن نتكلم في القسمين: فأمّا إذا زعم الشفيع أن الثمن كان ألفاً، فهذا موقع النظر. فإذا قال المشتري: لست أدري، فقوله هذا يمكن أن يكون صدقاً، وليس الجهل والنسيان بدعاً، فنقول: من ادعى مالاً مقدّراً على إنسان عن إتلافٍ، أو اقتراضٍ، أو عن جهةٍ أخرى من الجهات الملزمة، فقال المدعى عليه: لست أدري، فهذا لا ينفعه، ولا يكتفى منه بالحلف على نفي العلم، ولكن إذا جزم المدعي الدعوى، وربطها بمقدارٍ، ولم يذكر المدعى عليه إلا ما وصفناه، فهو كالإنكار المضاد للدعوى، فنقول له: تحلف بالله لا يلزمك ما يدعيه خصمك، فإن لم يزدنا

_ (1) (ت 2)، (ي): ذلك. (2) كذا في النسخ الأربع. ولم أصل إلى معنى مناسب لها، في مادة: ب. ت. ع. ولا في مادة: ت. ب. ع ولعلها لفظة عامية بمعنى (أصله) مثلاً، ولعل في الكلام تصحيفاً أو سقطاً. ويكون صوابها: وتعذر البحث عنه، واتباعه، والاطلاع عليه. (3) في غير الأصل: "ولم يورد هذا على كف، ولا ... " [انظر صورتها].

على قوله: "لا أدري" لمّا عرضنا (1) اليمين عليه، جعلناه ناكلاً، ورددنا اليمين على المدَّعي، وإن كنا نجوّز أن يكون صادقاً في دعوى الجهل، ولكن مبنى الدعاوى في الشرع على هذا. فمن ادعى حقاً مقدَّراً على إنسانٍ، وجزم دعواه فيه، لم يقنع من المدعى عليه بذكر الجهل، ولم يُجَب إلى (2) الاكتفاء بتحليفه على نفي العلم. 4703 - ولو ادّعى الشفيع استحقاق الشفعة بمقدارٍ عيّنه، فقال المشتري: لست أدري مقدار الثمن، فهذا موضع النظر، من قِبَل أن المدعي ليس يدعي استحقاق ذلك المقدار عليه، وإنما يدعي استحقاق الشقص مترتباً على بيعٍ جرى، ومقدار الثمن فيه ما ذكر، فادعاء المشتري الجهلَ بذلك المقدار ليس يصادم ما يدعي الشفيعُ استحقاقَه، وإنما يتعلق بما التزمه المشتري لغير المدعي وذلك الملتزَم وإن كان يتعلق بالمشتري، فله تعلق بغيره أيضاً، وهو البائع؛ فإن لزوم الثمن يترتب على إيجاب البائع، وقبول المشتري، فإذا كان الأمر كذلك، فالذي يقتضيه النص (3) أن يُكتفَى من المشتري باليمين على نفي العلم، وإذا حلف توقفت الشفعةُ إلى أن تقوم بينة، أو يعترف المشتري. وابنُ سُريج يقول: لا نقنع من المشتري بقوله: "لا أدري"، ونعرض عليه اليمين الثانية، كما لو ادعى مدّعٍ على رجلٍ ألفاً. وهذا الذي قاله ابن سُريج في هذا المقام حسنٌ متجه. ووجهُ النص ظاهر، فينتظم قولٌ منصوصٌ عليهِ، وآخرُ مخرّج. وفيما قدمناه تنبيه على توجيههما. فإن جرينا على النص، حلّفنا المشتري على نفي العلم. فإن حلف، وقفت الشفعةُ، وتوقفنا على بيانٍ، ولم نقطع ببطلانها. وإن نكل عن يمين العلم (4)، رددنا اليمين الباتّة على الشفيع بالمقدار الذي عينه، فإن حلف، استحق الشفعة. وإن فرعنا على ما خرجه ابن سريج، لم نقنع من المشتري بيمين العلم، وإذا امتنع

_ (1) (ت 2)، (هـ 3): رددنا. وعبارة (ي): وإن لم يزدنا على قوله: لا أدري، عرضنا اليمين عليه، وجعلناه ناكلاً ... (2) عبارة (ي): ولم يجب الاكتفاء بتحليفه. (3) (ت 2): النظر. (4) أي اليمين على نفي العلم.

عن اليمين الجازمة، جعلناه ناكلاً، ورددنا اليمين. هذا في قسم من القسمين. 4754 - والقسم الثاني - أن يقول الشفيع (1): قد جرى البيع بمقدَّرٍ، ولكني لست أدريه، فالمنصوص عليه في هذه الصورة أن دعواه لا تقبل، ولا يقال له: قدّر، وادّعِ وهو يقول: لست أدري. وحكى النقلة عن ابن سريج في هذه الصورة أنه قال: يَنُصّ المدعي على مقدارٍ، ويطالب المشتري بجزم اليمين، ولا يكتفى منه بيمين العلم، فإن نكل، استظهر الشفيع بنكوله، وكان له أن يستجيز الحلف بالمقدارِ الذي اتفق منه تعيينه، واليمين قد تستند إلى اليقين، وقد تستند إلى الظن، ونحن نقولُ: إذا رأى الوارث خط أبيه الموثوق به مشتملاً على مالٍ له، على زيد، فللوارث أن يعتمده، ويحلفَ به. وإن حلف المشتري اليمينَ الباتة، قيل للشفيع: إن أردت الشفعة، فزد في الثمن، وأعد الدعوى، ثم يُعرض على المشتري اليمين الجازمة، وحكم حلفه ونكوله على ما ذكرناه في الدعوى الأولى. فإن حلف المشتري، زاد الشفيع، ولا يزال كذلك حتى يسأم المشتري وينكل، فيحلف المدعي مستظهراً بنكوله. هذا على هذا الوجه منقولٌ عن ابن سريج. وهو مزيف عند الأصحاب في هذه الصورة. والقسمان جميعاً: -الأول، وهذا - خارجان عما ذكرناه في أول الكلام، وهو إذا اعترفا بأن العقد أورد على مجهولٍ، فإنهما إذا اعترفا بذلك، يجب القطع بوقوف الشفعة، وإن فرض اليأس من الإحاطة بالثمن المعيّن، بطلت الشفعة. هذا بيان الفصل. 4705 - ولا خلاف أنه لو أقرض إنساناً كفاً من الدراهم، فالقرض فاسد؛ فإن المقْرَضَ لا يدري ماذا يرد. وهذا واضح، إذا وقع البناء على أن يستقرض كفاً، ويخرجَه على الجهالة، ولو أقرضه كفاً على أن يرى (2) مقدارَه ويردّ مثلَه، فهذا

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): المشتري. والمثبت هو الصواب، كما سبق تصوير المسألة في قسميها. (2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): يبين.

مختلف فيه؛ من جهة ورود القرض ابتداء على مجهول، والأصح الصحةُ إذا كان بناء الأمر على أن يضبط ما اقترضه، ثم يخرجَه. والصورة الأولى تفرض فيه إذا أقرضه تمرات، فأكلها، أو كان تسليمه لها بأن يُوجرها المقترض. ومما يتعلق بما نحن فيه، أَنَّ من اشترى شقصاً بمائة مَنّ حنطةٍ، وفرعنا على طريقة القفال، فالسبيل أن نكيل تلك المائة المنّ، ثم نقول للشفيع: ائت بهذا النوع، وكِل مثل ما كِلنا المائة، ولا نتعرض للوزن. ولو تلفت تلك المائةُ [المن] (1) المجعُولةُ ثمناً، قال القفال: يكيل مائة من مثلها، ثم يكلّف الشفيع ما قدمناه، وإن جهلنا نوع تلك الحنطة، وقعنا في جهالة الثمن. وقد مضى التفصيل فيه. فصل قال: "فإن علم وطلب مكانه، فهل له ... إلى آخره" (2). 4706 - مضمون الفصل القول في أن الشفعة تثبت على الفور أم على التراخي؟ والفصل من أقطاب الكتاب. و [القول في] (3) التفريعات في أطرافه ينتشر، ونحن - بعون الله- نأتي به مضبوطاً، إن شاء الله تعالى. 4707 - فنبدأ بنقل النصوص. ظاهر المذهب وما نص عليه في منقول المزني أنّ الشفعة على الفور، ونص في رواية حرملة على أن طلبها يتقدّر بثلاثة أيام، ونص في القديم على قولين: أحدهما - أَنَّ طلبها متابد، ولا يبطل إلا بصريح الإبطال، والثاني - أنه يتأبد، ويبطل بصريح الإبطالِ أو دلالة الإبطال، على ما سنفصل. وسبيل الترتيب أن نقول: الشفعة على الفور أو على التراخي؟ فيه قولان: فإن قلنا: هي على التراخي، فهل تتابّد أو تتقدّر بأمدٍ؟ فيه قولان: فإن قلنا: تتأبد، فهل

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ر. المختصر: 3/ 50. (3) ساقط من الأصل.

تبطل بدلالة الإبطال، أو لا تبطل إلا بصريح الإبطال؟ فيه قولان آخران. وإن قلنا: لا تتأبّد، وليست على الفور، فالصحيح أنه تتقدّر بثلاثة أيام، كنظائر في ذلك نَصِفُها في الفصل. وذكر صاحب التقريب في هذا المنتهى قولاً آخر: أنا لا نقدّر بالثلاث، ولكن نبهم الأمرَ، ونرجع إلى مدّة التدبّر، وذلك يختلف باختلاف المطلوب، ومقدار ثمنه، فكل مدة يُعَدّ الشفيع فيها متدبراً لا يقضى ببطلان شفعته بالتأخير فيها، وكل مدة نقضي على المؤخر فيها بالإعراض (1)، فنحكم ببطلان شفعته بالتأخير فيها، وهذا لم يحكه إلا صاحب التقريب. ولستُ أعتد بهِ، فالوجْه التعلق بالأيام الثلاثة على هذا القول، لنظائرَ سنذكرها في الشرع، إن شاء الله تعالى، والتعلق بها أولى من الإحالةِ على الاستبهام. ولا خلاف أن حق الرد بالعيب على الفور، فاختلفت الأقوال في حق التي تَعتِق تحت عبدٍ في فسخ النكاح، فاجتمع فيها أقوال: أحدُها - الفورُ، والثاني - التقدير بثلاثة أيامٍ، والثالث - التأبيد، على ما ستأتي الأقوال في موضعها من النكاح، إن شاء الله تعالى. وجرى قولان في الفور والتأقيت بثلاثة أيام، مع حذف قول التأبُّد في مسائلَ: منها استتابة المرتد، ففيها قولان: أحدهما - الفور بعد وضوح الحجة، والثاني - الإمهال ثلاثة أيام. ومنها تارك الصلاة، ففيه قولان: أحدهما - أنا نتأنّى به ثلاثاً. والثاني - نقتله على الفور إذا امتنع من القضاء. ومنها نفيُ الولد باللعانِ، وفيه قولان: أحدهما - الفور، والثاني - التأقيت بثلاثة أيام. وألحق بعضُ الأئمة بذلك فسخَ النكاح بالإعسار براتب النفقة، فقال: فيه قولان بعد ثبوت الإعسار: أحدهما - الفور، والثاني - الإمهال ثلاثة أيامٍ. وإذا انقضت مدّةُ الإيلاء، فهل يطلّق على المولي في الحال أم لا، حتى تمضي ثلاثةُ أيام؟ فعلى القولين. وخيار الخُلف ملحق بخيار الرد بالعيب، وإنما قطعنا بالفور في الرد بالعيبِ،

_ (1) (هـ 3) بالإبطال.

والخُلفُ في معناه؛ لأن الاطلاع على العيب معلوم قطعاً، فلا مجال للتدبّر بعد الاطلاع، والعقد متسرع إلى اللزوم (1) في وضع الشرع إذا لم يفسخ. 4708 - ونحن الآن نوجه أقوال الشفعة ونميزُها عن الرد بالعيب والخُلف، ونذكر الضبطَ في مسائل القولين، وسببَ انحذاف قول التأبد فيها: فوجه قولنا: تثبت الشفعة على الفور قوله عليه السلام "الشفعة كحل العقال" (2)، ومعنى الحديث أنها على الفور، وإن لم تُبتدر، فاتت، كالبعير يحل عنه العقالُ، ولأنها حق ثبت في المبيع لدفع الضرر، فأشبه حق الرد بالعيب والخُلف. ووجه قولنا: يتقدر بثلاثة أيام هو أنه لا بد فيه من تفكرٍ وتروٍّ، ليعرف صاحب الحق غبطتَه في الأخذ أو في الترك، والثلاث غايةُ القلة، وبداية الكثرة. ووجه قولنا: إنه يتأبد أن الأخذ بالشفعة يملّك المبيع بالثمن، فكان كالشراء يبتدئه المختار، غير أنه ثابت على القهر. فهذا رمزٌ إلى توجيه الأقوأل، وقد ميزنا العيبَ والخُلف عن الشفعة. فأمّا الصُّور التي يجري فيها قولان فحسب، فالذي نحتاج إلى ذكره فيها سببُ انحذاف قول التأبد، والسبب فيه لائح؛ فإنَّ التأبد يجرّ استحالةً فيها؛ إذ إمهال المرتد أبداً محالٌ، وكذلك إمهال المولي بعد انقضاء المدة أبداً لا وجه له، وفيه إدامةُ الضّرر على المرأة، وهو في التحقيق إبطال حقها، ورفع حكم الإيلاء. وكذلك ترك تارك الصلاة أبداً لا وجه له، وقد ثبت أن ما جاء به من موجبات القتل. والذي فيه أدنى ترددٍ الفسخُ بالإعسار، وكان لا يبعد فيه أن يقال: سبيله كسبيل التي عتَقَت تحت عبد، وغالب ظني أنّه قال به قائلون، وليس الإعسار عيباً، وهو مجتهد فيه أيضاً، فإذا جرى في الفسخ بالعتق تحت العبد قول التأبد، فهو أحرى

_ (1) (ت 2)، (ي): متسرع للزوم إذا لم يفسخ. (2) حديث "الشفعة كَحَلِّ العقال" رواه ابن ماجة والبيهقي من حديث ابن عمر، والحديث ضعيف، بوّب له البيهقي بقوله: باب رواية ألفاظ منكرة يذكرها بعض الفقهاء في مسائل الشفعة، (ر. ابن ماجة: الشفعة، باب طلب الشفعة، ح 2500، 2501، السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 108، تلخيص الحبير: 3/ 125 ح 1302، إرواء الغليل: حديث رقم 1542).

بالجريان في الفسخ بالإعسار. وإن رُدّ الأمر إلى استمهال الزوج، وقوله: [سأتطلب] (1) راتب النفقة، فلا ينقدح إلا قولان، وينحذف قولُ التأبّد، كما ذكرنا. 4709 - فإذا تمهدت القواعدُ فرقاً وجمعاً، وتفصّلت في قضاياها، عُدْنا بعدها إلى التفريع على أقوال الشفعة. فإن قلنا: إنها على التأبد، فأول ما نفرعه على ذلك أَنَّ الأصحاب قالوا: للمشتري على قول التأبد - أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليكلّف الشفيع الأخذَ بالشفعة، أو الإبطالَ، والسَّبب أنه لا يثق بتصرفاته، وبنائه، وغراسه، وقد بذل في الشراء مالَه، ومبنى الشفعة على دفع الضرار، فيبعد أن يتضمن هذا الإضرارَ العظيمَ بالمشتري. وذكر صاحب التقريب قولين في المسألة: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه لا يُطالب الشفيع بإبطال حقّه، أو البدارِ إلى طلبها، بل الأمرُ إليه، وهذا حقيقة تأبيد الحق، والشفيع ينزل في حقه منزلة مستحِق القصاص في طلب حق القصاص. وهذا قولٌ حكاهُ ومال إلى اختياره في التفريعات. 4710 - ومما يتفرع على قول التأبد أنا إن قلنا: لا يبطل حق الشفيع إلا بصريح الإبطال، فلا كلام، ولا أثر للعلامات الدالة على الرضا بترك الشفعة. وإن قلنا: إنها تبطل بالعلامات، فلا خلاف أن التأخيرَ [والإضرابَ] (2)، وعدمَ المبالاة في أخذ الشقص ليس من العلامات المبطلة، بل هذا حقُّ التأخير، والوفاءُ بموجبه، وكذلك لو رأى المشتري يتصرّف بالبناء والغراس والبيع، فسكت، لم يبطل حقه بشيء من ذلك. ولم يذكر الأئمة علامةً عليها تعويل، إلا المساومة، فإذا قال الشفيع للمشتري: بع مني هذا الشقصَ بكذا، أو قال: هب مني، فالذي ذهبَ إليه الأكثرون أن الشفعة تبطل على هذا القول بالمساومة، وطلب الهبةِ، إذا جرت مع العلم بثبوتِ حق الشفعة. وحكى صاحب التقريب وجهين: أحدُهما- ما ذكرناهُ. والثاني - أن المساومة ليست مبطلة؛ فإنّ الشفيع قد يبغي بالشراء استرخاصاً، ووجهاً في الصلاح، حتى إن

_ (1) في الأصل: سأطلب. (2) في الأصل: "والإضرار"، والمثبت من (ت 2)، (ي)، (هـ 3).

انتظم له مرادُه، أغناه ذلك عن الشفعة، وإن لم ينتظم، فهو على أصل حقه، وهذا قد يبين في طلبِ (1) الهبة، وفي طلب الشراء بأقلَّ من الثمن الأول. فأما إذَا طلبَ الشراء بمثل ذلك الثمن، أو بأكثر منه، فلا يتجه ما ذكره صاحب التقريب من الاسترخاص. ويتجه شيء آخر، وهو أنه رُبما يبغي استرضَاءهُ ويقدر أن يبيع راضياً، حتى يستغني عن طريق القهر، فإن أبى، عاد إلى حقه القهري. وإذا ردَّدنا القول في المساومة، وطلب الهبة، فقد يعوز [تصويرُ] (2) علامةٍ تبطل الشفعة، من غير تصريح بالإبطالِ. وينبغي أن يقال: إذا قال الشفيع للمشتري: تبرع بهذا الشقص على من شئت، وهبه ممن بدا لك، فهذا عَلَم يبطل الشفعة من غير خلافٍ؛ فإنا إن حملنا المساومة على غرضٍ للشفيع، كما قدمناهُ، فلا غرض لهُ في أن يهب المشتري الشقصَ من غيره، فكذلك إذا قال: بعه ممن شئت، فهو إبْطالٌ للشفعة الثابتة في هذا العقد، ثم يتجدد الحق في الشراء، ويبعد مع القناعة بالعلامة أن يُحمل قولُه: بعه وهبه، على أنك إن وهبت أو بعت، نقضتُ تصرفَك. فإن تمسك متمسك بهذا بوجهٍ آخر سوى ما أشعرت به العلامة، كانَ طالباً للتصريح بالإبطال. ولا خلاف أنا إذا حكمنا بتأبيد حق المعتقة تحت العبد، فلو مكنت زوجَها من الوطء، بطل حقُّها. 4711 - وإن فرعنا على تأقت الشفعة بثلاثة أيام، فالأشبه عندنا أنها تسقط بالعلامات في الأيام الثلاثة. ولا يبعد أن يخرّج قولُ اشتراط التصريح بالإبطال في الأيام الثلاثة. 4712 - فأمّا التفريع على قول الفور، فهو ظاهرُ المذهب وعليه تتفرع المسائل. فنقول: أولاً الشفعة تبطل على قول الفور بالتقصير والتأخير، وكل ما ينافي الفورَ، والبدارَ. هذا أصل المذهب؛ فلا حاجة إلى علامةٍ ظاهرةٍ دالةٍ على إبطال الشفعة. ثم إذا أردنا أن نحصّل القول في معنى الفور، أوضحنا أولاً ميلَ نص الشافعي

_ (1) (ي)، (هـ 3): أصل الهبة. (2) في الأصل: التصوير.

إلى المبالغة في الفور والبدارِ، ومن ألفاظه في ذلك أنه قال: "إن عَلِم، فطلبَ مكانَه، فهي لهُ" (1). فأول ما نذكره بعد ذكر النص أن معظم أئمتنا صاروا إلى أن الرّجوع في تحقيق الفور إلى العرف، واكتفوا بأن لا يصدر من الشفيع ما يدل على التواني في الطلب، وبنَوْا عليه أنه لو كان ملابساً شغلاً، فبلغه ثبوت الشفعة [له] (2) ولم يكن في استكماله ما هو فيه من الشغل القريب ما يدل على التواني والتأخير، فلا يبطل حقه باستكمال ما هو فيه، وذلك مثل أن يكون في أثناء أكل الطعام، أو يكون في الحمام، أو متحرماً بصلاة نافلةٍ، فهذه الأشغال القريبة إذا أتمها، ثم استفتح، لم يكن مقصراً، وأبعد بعضُ أصحابنا، فقال: تحقيق الفور قطعُ ما هو فيه من هذه الأشغال، وقد أشار القاضي إلى هذا، وعضده بنص الشافعي في وجهٍ من الاحتمال، فإن الشافعي قال: "فطلبه على مكانه، فهي له". ونص في خيار المعتقة -تفريعاً على قول الفور- أنها لو تركت الفسخ ساعة من نهارٍ، بطل حقها، وقال: "لو أخرت أقل زمان بطل حقها". فقد حصلنا على اختلافٍ محقق في هذا. ولا تبين حقيقة المراد إلا بأمرٍ، وهو أن علة الفور عندنا لا تتضح بما قدمناه، وحاصله أنا لو أثبتنا حق الشفعة -وهو لدفع الضّرار- من غير ربط بالفور، لَتوانَى الشفيعُ، وبقي المشتري غيرَ واثق بشيء من تصرفاته. ثم إن قيل: يُبطل (3) عليه، فسبيله أن يرفع إلى حاكمٍ، فربما يُغَيِّب وجهه، أو يمتنع. وفي العلماء من قال: إذا لم نقل بالفور، لم نبطل على الشفيع حقه. وهذا يُفضي إلى إلحاق ضررٍ بالمشتري يزيد على ما يدفعه الشفيع عن نفسه. ثم إذا بطل التأبيد، فلا سبيل إلى التحكم بتأقيتٍ من غير توقيف، فلا يبقى إلا المصيرُ إلى الفور، فإن كان الذال على الفور ما ذكرناه، فالذي ذهب إليه الجمهور متجه حسن، وحاصله ألا يبدُوَ منه توانٍ. ومساق هذا لا ينافي استكمالَ الأشغال القريبة.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 50. (2) ساقطة من الأصل. (3) يُبطل: أي يبطل المشتري على الشفيع حقه بالرفع إلى الحاكم.

وذهب آخرون إلى أن الشرط أن يُبدي من نفسه البدار، ومساق هذا (1) يقتضي قطعَ الأشغال. وهذا ضعيف؛ فإنا إذا أوضحنا أن المقصود من إثبات الفور ألا يتضرر المشتري بانتظار ما يكون، فلا ينتهي الأمر بتضرره باستكمال الأشغال التي ذكرناها. ثم من لم ير قطعها، يمنع وصلَ الشغل بالشغل، مثل أن يستتم الأكل، ويبغي أن يستحم، فهذا لا يُرخِّص العرفُ فيه فيما يطلب فيه الفور، إلا أن يفرض إرهاق (2)؛ فإذ ذاك يعذر. هذا عقد الفصل. 4713 - وممّا يتصل بذلك أنه إن أراد أن يوكِّل من يَطلب الحق له، جاز هذا؛ فإن الغرض حصول التسرع إلى الطلب، وهذا يحصل بالوكيل، ولو امتنع على الشفيع أن يطلب بنفسه لعارضٍ، ولم يتمكن من التوكيل أيضاً، عُذِر، ولم يسقط حقه على الجملة. ولو عجز عن الطلب بنفسه، واستمكن من التوكيل بالطلب، فهل عليه الابتدارُ إلى التوكيل، فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يلزمه ذلك إن أراد الشفعة؛ فإن هذا طريقٌ في الطلب، وهو متيسر عليه، والدليل عليه أنه إذا تمكن من الطّلب بنفسه، فله أن يقيم طلب الوكيل مقام طلب نفسه، فإذا قام طلبُ الوكيل مقام طلبه، فكأنه بمثابة طلبه، فإذا قدر عليه، وتوانى فيه، كان مقصراً. ومن أصحابنا من قال: لا يجب ذلك؛ فإنه قد يحتاج إلى بذل أجرة الوكيل، وليس في طلب الشفعة إلزامُ الشفيع بذلَ مالٍ، وإن تبرع، احتاج إلى تقلّد المِنة، أما بذل الأجر، فيضاهي الاحتياجَ إلى بذل المال في سبيل الحج، وهو ينافي الاستطاعة، وتبرع الوكيل يضاهي تبرعَ أجنبي بالحج. والصحيح عندنا في هذا أنه إن احتاج إلى بذل مال، لم يلزمه، وإن وجد متطوعاً، لم تثقل المنةُ بهذا الشغل القريب. وممّا يتصل بما نحن فيه ما إذا كان الشفيع محبوساً، فقد فصّل بعض الفقهاء ذلك

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): وحاصله يقتضي قطع الأشغال. (2) إرهاق: المراد هنا اضطرار أو حاجة شديدة.

تفصيلاً ظاهراً، قد يشذ عنه فكر الفقيه، وذلك أنهم قالوا: إن كان محبوساً بباطلٍ من جهةِ ظالمٍ، فهو معذور، وإن كان محبوساً بحق كالمحبوس بالديْن، وهو قادرٌ على أداء ما عليه، غير أنه يماطل ويسوّف، فهذا الاحتباسُ لا يعذرُه. 4714 - وما ذكرناه تفصيل القول في الحاضر، فلو كان الشفيع غائباً، فبلغه الخبر، فعليه أن يسير نحو الجهة التي فيها طلب الحق، وبها المشتري الذي منه الطلب، ثم لا نكلفه ركوب غرر، ولكنَّه يترصد رُفقةً وثيقة. ولو وكل وكيلاً، فابتدر وكيله، جاز ذلك، وكفى؛ فإن الوكيل يحل محل الموكّل، وإذا أحللناه محله في الشهود والحضور، مع القدرة على أن يبرز بنفسه ويطلب، فهذا في حق المسافر أولى بالجواز. وممّا يتصل بمساق هذا الفن: أن الغائب قبل أن يبرح لو وجد المشتري، وكان قد خرج وفاقاً إلى تلك الجهة، فليطلب حقَّه (1) على الفور، وليس له أن يؤخر بناء على أن يعود مع المشتري إلى الناحية التي بها هذا الشقص المبيع؛ فإن الطلب توجّه على المشتري وهو حاضر، فشهود الشقص وغيبته بمثابةٍ. وتمام الكلام فيما نحن فيه أن المشتري في الحضور مع الشفيع مطالب من جهة الشفيع، فإن طالبه الشفيع خرج من التواني، وإن تركه، وابتدر إلى مجلس الحاكم، واستعدى على المشتري، فهذا من البدار، وهو فوق مطالبة المشتري؛ إذ المشتري لو طولبَ، ربما يتمادى ويقول قولاً محوجاً إلى الارتفاع إلى مجلس الحكم، فإذا وقعت البداية بالحاكم، كان استيثاقاً من المقصود، وتمسكاً بمصير الأمر ومآله. 4715 - فإذا تمهد هذا الأصل، ذكرنا بعده فصلاً اختبط الأصحاب فيه، وهو القول في إشهاد الشفيع على أنه على الطلب، والكلام في ذلك يقع في صور، ونحن نأتي بها على ترتيبٍ نراه أقربَ إلى البيان. فالمسافر إذا بلغه الخبر، ولم يستمكن من الخروج بنفسه، ولا من إخراج وكيلٍ، فظاهر المذهب أنه لا بد من الإشهاد على الطلب في مثل هذا المقام، والتعليل يأتي بعد طرد الصور.

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): منه.

وذكر شيخي في هذه قولاً اختاره، وربما كان لا يذكر غيره: أن الإشهاد مستحب، فلو ترك الإشهاد، لم يُقضَ ببطلان حقه، فلتكن هذه الصورة مقدّمة في المرتبة. ويليها ما لو ابتدر الشفيع التوجهَ إلى صوب المشتري. فلو لم يُشهد، واكتفى بالبدار في نحو المشتري، ففي وجوب الإشهاد قولان نقلهما العراقيون: أحدهما - أنه يتعين، وتركُه يبطل الحق. والثاني - لا يتعين، ويكفي البدار في نحو الطلب. وإذا ثبت خلافٌ في الصورة الأولى، فهذه الصورة تترتب عليها والأخيرةُ أولى بألا يستحق الإشهاد فيها، ووجه الترتيب [لائح] (1). ولو كان الشفيع حاضراً مع المشتري، ولكن أقعده مرض، أو منعه عن الظهور للطلبِ خوفٌ واستشعار (2)، فوجوب الإشهاد على الطلب في هذه الصُّورة يضاهي الإشهادَ في السفر، إذا استأخر الخروجَ لاستئخار الرفاق. ولو كان حاضراً مع المشتري، وكان لا يمنعه من الطّلب مانع، وجرينا على أنه لا يقطع الأشغال القريبة التي هو ملابسها إذا بلغه خبر الشفعة، فهل يجب الإشهاد والحالة هذه؟ ظاهر كلام الأئمة أنه لا يجب، وأن وجوب الإشهاد عند من يراه يختص بالمعذور الذي يتعذر عليه مبادرة الطلب. وذكر القاضي في هذا المقام وجهين في تعيين الإشهاد، واستنبطهما من نصّ الشافعي، حيث قال في الحاضر إذا بلغه موجب الشفعة: "إن طلب على مكانه، فهي له" ومعلوم أن الطلب في ذلك المكان من غير خروج إلى المشتري أو إلى مجلس الحاكم لا معنى له، ولا يكلف الإنسان أن يناطق نفسه بالطلب، فلا معنى للطلب الذي ذكره الشافعي مختصاً بمكان بلوغ الخبر، إلا أن يُشهد إذا قدَر على الإشهاد. وهذا استنباط حسن لائق باللفظ. والخلاف الذي أبداه يترتب على الإشهاد في السفر لا محالة. 4716 - فإذ ذكرنا الصور في الإشهاد مرتبة، فنذكر بعدها معنىً كلياً يستند الإشهاد إليه، ثم لا يخفى على الفقيه استعماله في تفاصيل الصور، فمن بلغه الخبر،

_ (1) في الأصل: لاغٍ. (2) كذا في النسخ الأربع. ولعلها: خوفٌ، أو استشعار خوف.

واستمكن من الإشهاد، ولم يشهد، أشعر سكوته بالتواني، فهذا المعنى هو الذي أوجب هذا الخبطَ والخلافَ، ومن لم يوجب الإشهاد كأنه يميل إلى الطريقة التي ذكرناها من أنا لا نشترط إظهارَ قصد (1) البدار، ولكن نشترط عدم التواني، ومن يشترط الإشهادَ كأنه يميل إلى إظهار أصل البدارِ. ثم هذا المعنى مفضوضٌ على الصور، فإذا استأخر الإنسان عن الاشتغال بالطلب، فالإشهاد به أليق، وإن كان معذوراً. وإذا أقبل على ما يصلح أن يكون اشتغالاً بالطلب، كان اشتراط الإشهاد أبعدَ، ووجه اشتراطه عند من يشترطه أن إقباله على أفعاله يمكن أن يُحمل على مقصودٍ آخر. وأبعد الصور عن استحقاق الإشهاد صورةُ الحضور مع انتفاء العذر؛ فإن اتصال الاشتغال بالطلب مخيلةٌ ظاهرةٌ في حق الحاضر في طلب الشفعة، وهذا في حق المسافر أبعد. فهذا منتهى القول في الإشهاد. ولا شك أنه إذا عسر الإشهاد، فلا يكلف صاحب الحق أن يقول: أنا على الحق وطلبِه. وإذا اطلع المشتري على عيب بما اشتراه، فهل يشترط أن يقول: فسخت العقدَ ورددتُ المبيع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نشترط ذلك؛ فإن الفسخ يحصل بالقول، ولا حاجة إلى حضور المردود عليه. ومن أصحابنا من لم يشترط ذلك وسوّغ له التأخيرَ إلى أن يلتقي بالمردود عليه، مع بذل الجد في طلبه. 4717 - ومما يتعلق بمضمون هذا الفصل القولُ في أحوالٍ تتعلق بالعلم بالبيع وصفته، والعفو عن الشفعة أو التواني فيها على ظن، ثم بدوّ خلاف ذلك المظنون، فنقول: إذا أخر الشفيع الطلب، ثم افتتح يطلب (2)، سألناه عن سبب التأخير، فإن قال: لم أخبر بالبيع، فالقول قوله مع يمينه. وإن قال: لم أصدِّق الخبرَ، نظر: فإن أخبره جمعٌ يقع العلم بقولهم، لم يقبل قوله. وإن قال: أخبرني عدلان، لم يعذر في

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): عدم البدار. (2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): بالطلب.

قوله: "لم أصدقهما". وإن كان أخبره صبي، أو كافر، أو فاسق، عُذر في ترك تصديق هؤلاء. وإن كان أخبره عدلٌ واحد، ففي المسألة وجهان، لا يخفى مُدرَك توجيههما. وألحق بعض أصحابنا إخبارالعبد بإخبار الفاسق؛ من حيث إنه ليس من أهل الشهادة، ولست أرى الأمر كذلك، فإن أخذ هذا من الرواية أقرب، إذا لم يُشترط العدد، ولست أرى لاشتراط العدد معنى. 4718 - ومما ينتظم في هذا الفصل أنه إذا قيل للشفيع: اشترى فلان الشقصَ بألف، فترك الشفعة، بأن توانى فيها، أو عفا عنها، ثم بان أنه اشتراه بخمسمائةٍ، فهو على حق الشفعة؛ فإنه وإن أطلق العفو، كان ذلك على تقدير وقوع البيع بالألف، وليس ذلك مما يكون المجهول فيه كالمعلوم، والهزل كالجدّ؛ فإنه مدار الغرض. وهذا بيّن. وكذلك لو قيل له: اشتراه بألفٍ صحيح، فتوانى، أو عفا، ثم بان أنه اشتراه بألفٍ مكسر، فله الشفعة، ولا حكم لما جرى. ولو قيل: اشتراه زيدٌ بألفٍ، فعفا، أو توانى، ثم بان أنه كان اشتراه عمرو، فله الفسخ؛ لأن الغرض يختلف في ذلك، فربما يرضى بمداخلة زيد وشركته، ولا يرضى بشركة غيره. وإذا قيل له: اشترى النصف بخمسمائةٍ، فعفا، ثم بان أنه قد اشترى الكل بها، فهوعلى شفعته. وكذلك لو قيل: اشترى النصف بخمسين، فبان أنه اشترى الكل بمائةٍ. وكذلك لو أُخبر أنه اشترى الكل بمائة، ثم بان أنه كان اشترى النصف بخمسين، فله حق الشفعة؛ لأنه قد يكون له غرض في القليل دون الكثير، وفي الكثير دون القليل، وبمثله لو قيل: اشتراه بمائةٍ، فعفا، ثم بان أنه اشتراه بمائتين، فلا شفعة له؛ فإنه لم يطلب الشفعة بالمائة، فأي غرض لهُ في طلبها بالمائتين. وكذلك لو أخبر أنه اشتراه بمائةِ دينارٍ مكسرة، فعفا، [ثم بان أنه كان اشترى بالصحاح، فلا شفعة.

4719 - ومما ذكره القاضي: أنه لو قيل له: اشتراه بمائة دينارٍ، فعفا] (1) ثم بان أنه كان اشتراه بألف درهم، فقد حُكي عن القاضي أنه على شفعته؛ لأن الغرض يختلف باختلاف الجنس، وقال: وكذلك لو كان الأمرُ على العكس. فأما الصورة الأولى، فلا شكّ فيها، فإنه عفا إذا أخبر بالثمن الكثير، والغالب أن الألف أقلُّ من مائة دينار. فأما إذا أخبر بألف درهم، ثم بان أن الثمن مائةُ دينار، وقد عفا أولاً، فإثبات الشفعة في هذه الصورة محالٌ؛ فإن عفا وقد بلغه أقلُّ الثمنين المذكورين، فطلب الشفعة بالأكثر لا يليق بالأغراض المرعيَّة. والتعويل في هذَا الباب على المالية؛ فإن الشفيع ليس يأخذ بعين الثمن، وإنما يأخذ ببدلٍ مشبهٍ بالثمن المذكور في العقد (2). فإذا كانت مائةُ دينارٍ تساوي ألفين فصاعداً، فلا يتحقق غرضٌ في ذلك. وليس هذا كما لو قال لوكيله: بع عبدي هذا بألف درهم، فباعه بمائة دينار؛ فإن البيع يبطل؛ من جهة أن مبنى تصرف الوكيل على اتباع لفظ الآمر، وقد يغمض على الفقيه تعليل صحة البيع فيه إذا وكله بالبيع بألف درهم، فباعه بألفي درهم. ثم سبيل حل الإشكال ما قدمناه. فأمَّا إذا اختلف الجنس، فيظهر وقوع عقد الوكيل مخالفاً لقول الموكل. نعم. لو أُخبر الشفيع بأن الثمن ألفا درهم فعفا، ثم بان أنه مائتا دينار، وكانت قيمة المائتين ألفين، فهذه المسألة فيها احتمال؛ من جهة أنه قد يعسر عليه تحصيل الدراهم، وقد يتجه فيه أن هذا ليس بعذر؛ فإن صرف الدنانير [إلى الدراهم سهل؛ فإن الدنانير ليست] (3) سلعة من السلع، حتى يفرض في بيعها ترصد وانتظار. ولو قيل له: اشتراه بألف مؤجلٍ، فعفا، ثم بان أنه قد اشتراه بألفٍ حال، فلا شفعة له؛ إذ لا غرض في ترك الشفعة بالمؤجل والأخذ بالحال. ولو كان على العكس من هذا، فله الشفعة، لظهور الغرض في الترك بالحال، والأخذ بالمؤجل. والجملة المعتبرة في هذه المسائل أنه إذا لم يظهر غرض بعد العفو، فالشفعة

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): مشبه بثمن العقد. (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

ساقطة. وإن ظهر غرض على خلاف ما أخبر الشفيع به، فهو على شفعته. وهذه المسائل نختمها بسرٍّ، وهو أن العفو عن الشفعة ليس عفواً عن حق متقرر، بل الأمر فيه أولاً وآخراً على التوقف، كما سنبينه من بعدُ. والعفو المطلق فيما هذا وصفه.، لا يقع مبتوتاً، بل يقع مقدراً على وجه، فإذا بان غيره، لم يتناوله العفو. 4720 - ومما يتعلق بهذا الفن أن الشفيع قد يتلفظ بألفاظٍ لا تتعلق بطلب الشفعة عند الانتهاء إلى المشتري، وللأصحاب فيها كلام، فلو انتهى إلى المشتري وقال: السلام عليكم، ثم ابتدأ طلبَ الشفعة بعد ذلك، فقد قال العراقيون: لا تبطل شفعته بافتتاح الكلام بالسلام. وهذا الذي ذكروه ظاهرٌ، خارجٌ على ما ذهب إليه الجمهور، من أنا لا نشترط قطعَ الأشغال التي يكون الشفيع ملابساً لها عند بلوغ الخبر. ومن غلا من أصحابنا وشرط قطعها، فلا يبعد أن يشترط الابتداءَ بطلب الشفعة. ومما ذكروه أنه لو قال للمشتري: بارك الله لك في صفقة يمينك، وعَنَى ابتياعه الشقصَ، ثم قال بعد ذلك: أنا طالب الشفعة. قال العراقيون: له طلبها، وإن كان التفريع على قول الفور، وقياس طريق المراوزة يخالف هذا؛ فإن قوله: بارك الله لك يشعر بتقرير الشقص في يده. وتعقيب هذا الكلام بما يوجب إزالة يده يُلحق نظمَ الكلام بالاستهزاء. وقال العراقيون: لو انتهى إلى المشتري، وقال: بكم اشتريت الشقص؟ قالوا: هذا يبطل حقّه، على نقيض ما ذكروه في اللفظ السابق. وقياس المراوزة في هذا أنه لا يبطل حقه؛ فإنه معذورٌ في البحث؛ من جهة أنه ربما يطلب الشفعة إذا كان الثمن مقداراً (1) عنده، ولا يطلبها إذا كان أكثر منه، ولا شك أن هذا يُفرض فيه إذا لم يكن عالماً بمقدار الثمن من جهةٍ أخرى. ولا يمتنع أن يقال: لو كان عالماً (2) فيعذر في البحث، ويحمل الأمر فيه على أخذ إقرار المشتري.

_ (1) في (ي): "مقدراً". (2) (ت 2)، (ي)، (هـ3): وإن كان عالماً بمقدار الثمن يعذر.

وإذا قلنا: الشفعة على التراخي؛ فالبحث والسلام، وما في معناهما لا يؤثر، نعم. لو قال: بارك الله لك في صفقة يمينك، فقياس المراوزة أن هذا من علامات الرضا بإسقاط الشفعة، إذا لم نشترط التصريح. والعراقيون، لم يسقطوا به الشفعة على قول الفور. ولو أخر الشفيع، ثم طلب، قلنا له: أخرت وقصرت، فلو قال: نعم أخرتُ ولكن لم أدرِ أن التأخير يُبطل حق الشفعة، فإن كان يليق بحاله أن يجهل هذا، فالقولُ قوله مع يمينه، والشفعة باقيةٌ (1) إذا حلف؛ فإن صورة التأخير لا تُبطل الشفعة، وإنما تبطل الشفعة بما يدل التأخير عليه من توان، مع العلم بأن الحق على البدار، فكأن التأخيرَ من وجهٍ يلتحق بالعلامات، مع العلم بأن الأمر ينبني على البدار. فليفهم الناظر ما ينتهي إليه من أمثال ذلك. 4721 - ومما يتعلق بهذه الفصول القول في أن الشفيع متى يملك الشقص المشفوع؟ وما الذي يموجب تمليكه؟ أولاً - لا خلاف أنه لا حاجة في ثبوت الملك إلى عقد مجدد يُفرض إنشاؤه بين الشفيع وبين المشتري، والشفيع إذا ملك، يملك بالعقد الذي عقده المشتري، على سبيل البناء. ثم اعترض فيما يطلبه أمور متعارضة: أحدها - أنّ الملك [مستحق] (2) على المشتري، ويُفرض انتقاله منه إلى الشفيع قهراً، من غير رضا يصدر منه، ولا تمليكٍ من جهته. هذا لا شك فيه. والملك لا يحصل للشفيع قهراً، بل الأمر مربوط بخِيرته (3). ثم إذا اختار الشفيع حصولَ الملك في المشفوع، فلو قلنا: إنّه يملك الشقص، وينقلب الثمن إلى ذمته قبل توفيره على المشتري، لكان في ذلك إجحاف بيّن، ومبنى الباب على دفع الضرر، فلا ينبغي أن يتضمن إلحاقَ ضررٍ بالغير. 4722 - فإذا حصل التنبيه على هذه الوجوه، فنحن نذكر ما يقتضي ثبوتَ الملك

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): ثابتة. (2) في الأصل: يستحق. (3) الخِيرة: بفتح الياء وسكونها: اسم من الاختيار.

للشفيع وفاقاً، ثم نذكر صور التردد بعد وضوح محل الوفاق، فنقول: إذا سلم الشفيع العوضَ إلى المشتري، ملك الشقصَ قطعاً؛ فإن الذي كنّا نحاذره فيما شببنا به تخلفُ الثمن عن المشتري، مع الحكم بالملك للشفيع. هذا متفق عليه. وكذلك لو سلم المشتري الشفيعَ حقه، ورضي بأن يتخلف تأديةُ العوض عن جريان الملك في الشقص، فيحصل الملك على هذا الوجه أيضاً. وليس هذا تمليكاً يفتقر إلى مملِّك (1)، ولا إيجاباً يفتقر إلى قبول، وإنما هو رضاً من المشتري بأن يتأخر حقُّه، ويتعجل حق الشفيع في الشقص. وإذا كان يحصُل الملك بهذه الجهة، فقد اختلف أصحابنا في أنَّه هل يتوقف حصول ملك الشفيع على قبضه، وتسلّمه للشقص، أو يكفي ما صورناه من الرضا على الوجه الذي أوضحناهُ؟ فالذي ذهب إليه الأكثرون أن جريان الملك لا يتوقف على الإقباض والتسليم؛ فإن هذا ملك حاصل بحكم البيع، والأملاك التي تحصل بجهة المعاوضة لا يتوقف حصولها على صور القبوض. ومن أصحابنا من قال: لا يتم ما قاله المشتري- إذا لم يقبض الثمن- إلا بقبض الشفيع المثمّن. وقول المشتري في حكم وعدٍ، وإتمام موجَب الملك التسليمُ. وهذا بعيد لا تعويل عليه، والاعتداد بما ذكرناه، من أن القبض ليس بشرط. ولو ارتفع إلى مجلس القاضي، وأثبت حقُّه في الشفعة، وحَقّق طلبَه، فقضى [له] (2) القاضي بحق الشفعة، ولم يوجد بعدُ تسليمُ الثمن، ولا رضا من المشتري، كما صوَّرناه، ففي حصول الملك للشفيع في الشقص وجهان: أحدهما - وهو ما نقله صاحب التقريب أن الملك يحصل للشفيع في الشقص بثبوت حق الشفعة، وتأكُّد الطلب، وجريان القضاء. وحقيقة هذا الوجه أن الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري، حتى كأنّ العقد عُقد له، إذا تأكَّد حقُّه، وهذا يحصل بجريان القضاء به. وإذا كنا لا نشترط تمليكاً جديداً، وعقداً مبتدءاً، ويستحيل وقوف الملك على بذل العوض؛

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): تملك. (2) ساقطة من الأصل.

اعتباراً بجملة عقود المعاوضات، ولكن الشفيع متخير بين الأخذ والترك، فإذا جرد قصدَه وأكُد بالقضاء، وجب الحكم بالملك له. ومن أصحابنا من قال: لا يحصل الملك دون بذل الثمن، أو رضا المشتري، كما قدمنا؛ فإن الشراء أوجب الملك للمشتري، وحق الشفيع ثابت إلى أن نتبيَّن طلبه أو إسقاطه، فلو كان الملك يحصل له، لحصل بنفس العقد على حكم تخير، ثم كان يسقط إن لم يُرِدْه، ويستقر إن أراده. ولا خلاف أن الأمر لا يكون كذلك. هذا ذكر كلام الأصحاب على الإجمال، والبيان منتظر في سياق الكلام بعدُ. 4723 - فإن قلنا: لا يحصل ملك الشفيع بجريان القضاء بثبوت حق شفعته، فلا كلام. وإن قلنا: يثبت ملك الشفيع في الشقص بنفوذ القضاء له، فلو أشهد الشفيع عدلين على طلبه، فهل يثبت له الملك بنفس الإشهاد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يثبت؛ فإن الإشهاد دون القضاء، لا يستقل بالإفادة؛ إذ لا حكم أولاً لصورة الشهادة، ما لم تتصل بمجلس الحكم. وإنما الذي يجري من الشفيع تحميل الشهود [الشهادة] (1) حتى يندفع عنه الانتسابُ إلى التقصير، وإن ادعي عليه تقصير، أغنته شهادة الشهود عن الحلف. والوجه الثاني - أنه يثبت الملك بالإشهاد، ذكره صاحب التقريب، وحكى عن الأصحاب أن الشفيع إذا أشهد، لم ينفذ بعد ذلك تصرّفُ المشتري في الشقص. ثم قال بانياً على هذا: إذا امتنع نفوذ تصرف المشتري، كان السبب فيه جريان ملك الشفيع في الشقص المشترى. هذا تأسيس الكلام فيما يقتضي ثبوتَ الملك للشفيع في الشقص على الجملة. 4724 - وها نحن الآن نتطلع إلى حقيقة الفصل، ونذكر ما عندنا فيه إن شاء الله عز وجل. فنقول: إن وفر الثمن على المشتري، فلا خلافَ في ثبوت الملك، ثم لا يثبت

_ (1) ساقطة من الأصل.

للمشتري خيار المجلس في ذلك المكان الذي جرى التسليم فيه؛ فإنه مقهور فيما يجري، والجمع بين الاقتهار وإثبات الخيار محال (1). وهل يثبت للشفيع خيار المجلس، حتى يثبت له ردُّ الشقص، واسترداد الثمن؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه لا خيار له؛ فإنَّ حكم خيار المجلس أن يتعلق بشخصين، فإذا انتفى الخيار عن المشتري، فيبعد أن يثبت للشفيع. والثاني - أنه يثبت؛ فإن هذا جريان ملك جديد، بحكم عقد بيعٍ، فلا يخلو عن خيار المجلس. وهذا الخلاف يصدر عن قاعدة يتفرع منها مسائل في خيار المجلس، وهي أن خيار المجلس هل يتصور أن يثبت في أحد الشقين؟ أو هل يتصور أن يبقى في أحد الشقين، مع بطلانه في الشق الآخر؟ فيه تردّدٌ واختلافٌ بين الأصحاب، مضى استقصاؤه في أول كتاب البيع. فإن قلنا: لا يثبت الخيار للشفيع، فلا كلام. وإن قلنا: يثبت الخيار له، فالأمر موقوفٌ على مفارقته ذلك المكان. فلو فارقه المشتري، ففي انقطاع الخيار بمفارقته وجهان: أحدهما - أنه ينقطع بمفارقته؛ فإنه الذي ملك عليه، وإن لم يكن له خيار، فهو بمثابة ما لو ثبت خيار المجلس من المتبايعين، فأسقط أحدهما خيار نفسه، وبقي الخيار للثاني، ثم فارق الذي أبطل (2) خيار نفسه المجلسَ. ومن أصحابنا من قال: لا يبطل خيار المجلس بمفارقة المشتري؛ فإنه لم يثبت له حظٌ في الخيار أصلاً، فلا معنى لاعتبار [فراقه] (3). هذا إذا بذل المشتري الثمن. ثم إذا قلنا: لا ملك في زمان الخيار، فيتفرع على هذا أن الملك لا يحصل ببذل الثمن، ما لم ينقطع خيار المجلس، وهذا لا يخفى دركه على من فهم مأخذَ الفقه، وإن حصل الملك في الشقص للشفيع برضا المشتري، فالأمر على ما وصفناه في خيار المجلس.

_ (1) في غير نسخة الأصل: بين الاقتهار والاختيار. (2) (ت 2): أثبت. (3) في الأصل: خياره.

فأمّا إذا نفذ القضاء بثبوت حق الشفعة، وقلنا: إنه يتضمن الملك، أو (1) حكمنا بأنّ الإشهاد يتضمنه، فلو أخر الشفيع تأديةَ الثمن، مقصراً من غير عجز، فهل نحكم ببطلان ملكه بعد جريانه أم لا؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يبطل ملكه؛ فإنا لو لم نبطله، لوقع بالمشتري الضّرار الذي بنينا الفصل على محاذرته، وهو أن يملك عليه ما ملك قبل استمكانه من الثمن. والوجه الثاني - أنه لا يبطل ملك الشفيع، ما لم يرفع الأمر إلى القاضي، ثم إذا رفع إليه، طالب الشفيعَ؛ فإن أبى، أبطل عليه حقه، وهذا هو الذي اختاره القاضي؛ فإن الامتناع عن التأدية أمر مظنونٌ، لا يتبين إلا بالرفع إلى مجلس القضاء. وهذا يلتفت من صور الوفاق على اشتراط تعلق إثبات العُنة بمجلس الحكم، ومن صور الخلاف على القول بالإعسار بالنفقة. 4725 - فخرج من مجموع ما ذكرناه أن حق الشفيع إذا ثبت من غير تأدية الثمن، ولا رضا المشتري، فهو عرضةُ البطلان بلا خلافٍ، وإنما التردد في أنه يبطل من غير قضاء، أو يتوقف على القضاء. وهذا أوان التنبيه لطرفٍ من الحقيقة، فنقول: قد تقدم في كتاب البيع أن البائع هل يملك حبس المبيع حتى يتوفر عليه الثمن؟ وفيه أقوال سبقت، والمشتري يملك حبسَ الشقص حتى يتوفر عليه الثمن بلا خلافٍ. وإنما الخلاف في أثر منعه، فمن الأصحاب من يقول: أثر منعه امتناعُ الملك للشفيع. ومنهم من قال: لا يمتنع ملكُ الشفيع بمنعه، بل يجري بالقضاء أو الإشهاد، ولكن يثبت عُرضةً للبطلان إن مَطَل وسوّف. وهذا يناظر من البيع حكماً، وهو أنا إذا قلنا: على البائع البدايةُ بالتسليم، فلو سلم المبيعَ، ثم ظهر من المشتري الامتناعُ عن تسليم الثمن، فقد قال الشافعي: "أحجر على المشتري، وأنقض عليه الملك في المبيع". فإذا كان ثبت ذلك في البيع المملِّكٍ، فما الظن بملك

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): وحكمنا.

الشفيع (1)!! والفرق بين البابين أن نقض ملك [المشتري] (2) فيه تردد، وخبطٌ في المذهب. ولا خلاف فيما نحن فيه. ومن لطيف ما يجب التنبيه له أنا إذا لم نثبت للشفيع الملك بالقضاء والإشهاد، فإذا جرى القضاء والإشهاد، ثم أقبل الشفيع على تأدية الثمن، فالأصح أنه لا يُرعى من الفور في تأدية الثمن ما يرعى في أصل الطلب؛ فإنا قد نبطل الشفعة على قول الفور بتأخيرٍ في لحظة على ما تفصّل القولُ فيه. فأما إذا تأكد الطلب، فيشتغل الشفيع بتأدية الثمن اشتغال ما لا يعد منتسباً إلى التقصير فيه، مع الاتصال بالتمكن، فينبغي أن يرعى إقبال قادر على أداء الثمن. ومن أسرار الفقه في ذلك أنّ خبر الشفعة قد يفجأ الشفيعَ، وليس الثمن عتيداً عنده، فلو قلنا بالتضييق عليه في التأدية، كان ذلك سعياً في إبطال معظم حقوق الشفعاء؛ فقلنا: عَجّل الطلبَ (3)؛ [فإنك] (4) متمكن من إبداء الطلب، ثم أَقْبل (5)، وعبر الأصحاب عن الفسحة التي أشرنا إليها في التأدية بأن قالوا: كل اشتغالٍ لا يوجب حبسَ من عليه الحق في الديون، فهو محتمل فيما نحن فيه، وكل اشتغالٍ يجر تطويلاً، يسوغ لصاحب الحق استدعاءَ حبسٍ معه، فهو غير محتمل فيما نحن فيه. ووراء ذلك ما ذكرناه من خلاف الأصحاب في أن الحق يبطل، أو يُبطله القاضي. 4726 - وقد انتهى الكلام الآن إلى بيانِ أصل من الأصول، وهو أن الشريك لو كان معسراً، لا وفاء معه بالثمن، والتفريع على قول الفور، فمن أصحابنا من قال: إذا اطّرد الإعسار، تبيّنا أنه لم تثبت له الشفعة أصلاً. ومنهم من قال: تثبت، ثم تسقط، وإنما أثبتناه (6)؛ لأنه لو جرى العقد فرزق الشفيع معه مقدار الثمن، فلا خلاف أنه يأخذ الشقص إن أراد، فكأن الأمر عند بعض الأصحاب موقوف، والشفعة عند

_ (1) (ت 2): المشتري. (2) في الأصل، (ي): الشفيع. والمثبت من (ت 2)، (هـ3). (3) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): الثمن. (4) في الأصل: فإنه. (5) أي أقبل على أداء الثمن. (6) كذا بضمير المذكر على معنى (حق) الشفعة.

بعضهم ثابتة، ثم يطرأ سقوطها باطِّراد العسر. ولو قال الشفيع: أحصّل الثمنَ ببيع [عقارٍ لي، وأظهره] (1) للعرض، فإن كان عقاراً لا يطلب مثله، فلا تعلّق به. وإن كان يطلب مثله، ولكن تباطأ انتظام بيعه، فهذا ممّا لو فرض في الديون، [لاستحق] (2) صاحب الدين طلب الحبس إلى اتفاق البيع. وهل يبطل حق الشفيع في مثل هذا المقام، والضِّياع (3) المعروض مرغوب فيه؟ فيه احتمالٌ عندنا، ولا يخفى على الفقيه أن كل ما نفرعه على قول الفور. 4727 - وممَّا يتصل بأطراف الكلام أن الشفيع إذا ملك الشقص برضا المشتري، لا بتسليم الثمن، فلو قال المشتري: قد ملكتَ، ولكن لا أسلم الشقصَ إليك، حتى تسلم الثمن، فهذا (4) يخرّج على تفصيل الأقوال في أن البداية بالتسليم في البيع بمَن؟ والمشتري في رتبة البائع، والشفيع في رتبة المشتري منه. ولو سلم الثمن، وملك بهذه الجهة، لا برضا المشتري، ثم خرج ما سلمه مستَحَقاً، فقد تبينا أن المشتري (5) لم يملك، ونحن نقول: لو بان أنّ ما أداه المكاتب مستحَقٌ في النجم الأخير، فالعتق الذي حكمنا به مردود تبيُّناً. وكذلك القول فيما نحن فيه. ولو وجد المشتري بما قبضه عيباً، فردَّه، ففي المسألة احتمالٌ، يجوز أن يقال: تبيّن أنه لم يملك، كنظيره في الكتابة إذا رد السيد النجم بالعيب، والجامع أن المقصود حاصل في الموضعين بأداءِ موصوفٍ، وإذا لم يحصل أداء الموصوف، تبيّنا أن الغرض لم يحصل. ويجوز أن يقال: يحصل الملك للشفيع، ثم يرتد؛ فإن الملك في المعاملات

_ (1) في الأصل: عقاري، وأظهر. (2) في الأصل: لا يستحق. والمثبت من النسخ الثلاث. (3) الضِّياع: جمع ضَيعة. مثل: كَلْبة وكلاب. والضيعة العقار. (مصباح). (4) (ي) فهل. (5) كذا في جميع النسخ: "المشتري"، والصواب "الشفيع"، كما سيظهر بعد أسطر، وعلى فرض أنها "المشتري" فالمراد: لم يملك الثمن، فقد خرج مستحقّاً، وليس المراد: لم يملك الشقص.

يقبل الارتداد، والعتقُ لو حكمنا به، لم يقبل الانتقاض والارتداد، فكان الأمرُ في العتق مبنيّاًَ على التبين. 4728 - ومن تمام البيان في هذا أنا إذا حكمنا بالملك للشفيع من غير تأدية الثمن، ولا رضا من المشتري، ولكنَّا حصَّلنا الملك بالقضاء أو الإشهاد، فهذا الملك عرضةُ النقض في حق (1) المشتري لو استأخر حقُّه، كما قدمناه. والشفيع بنفسه (2 إن أراد أن ينقضه، فقد حكى شيخي أنه لا ينقضه 2)، وذكره صاحب التقريب أيضاً. والذي يدل عليه كلام الأصحاب أن الشفيع في نفسه بالخيار في الإعراض وترك الحق بعد الطلب، وإنما يتأكد حقُّه تأكداً لا يملك النقض، إذا أدى الثمن، أو رضي المشتري، فحصل منه القبول، ولسنا نعني القبولَ الذي يعارض الإيجاب؛ فإنا لا نشترط إيجاباً من المشتري، حتى يقابل بالقبول، ولكن يقابل الرضا بالرضا. ولو بدت منه مخيلةُ الرضا في مقابلة رضا المشتري، كفى ذلك، فإذا لم يوجد هذا، ولا بذل الثمن، فالشفيع بالخيار بين الإضراب وبين التمادي على الحق. وممَّا ذكره صاحب التقريب أن قال: إذا أشهد الشفيع على الطلب، لم ينفذ بعد ذلك بيعُ المشتري وتصرفُه، وادعى الوفاق فيه. وهذا فيه نظر، فالوجه أن نقول: إن حكمنا بحصول الملك للشفيع، لم ينفذ تصرف المشتري، وإن لم نحكم بحصول الملك، ففي نفوذ تصرف المشتري تردد، لمكان تأكد الشفعة بالطلب، فقد يبعد أن نأمر الشفيع بالإقبال على تحصيل (3) الثمن، ونُسلِّط المشتري على البيع. والأظهر نفوذ تصرف المشتري إذا لم يحصل الملك للشفيع، ثم للشفيع نقض تصرف المشتري. وسيأتي بيان شافٍ في تصرف المشتري وتفصيل القول في نقضه. وقد انتهى الكلام في ملك الشفيع، وما يوجبه على أبلغ وجه في البيان.

_ (1) المعنى لحق المشتري. (2) ما بين القوسين سقط من: (هـ3). (3) في (ت 2)، (ي)، (هـ3): "على طلب الثمن".

4729 - وقد حان الآن أن نتكلم في حكم ملكه الحاصل، فنقول: إن قبض الشقص، وجرى ملكه فيه، فتصرفاته نافذة فيما قبضه. وإن وفر الثمن، ولم يقبض الشقصَ من المشتري، ففي نفوذ تصرفه فيه قبل القبض وجهان، ذكرهما صاحب التقريب، وغيره من أئمة المذهب: أحدهما - أنه لا ينفذ فيه تصرفه. وهو مع المشتري كالمشتري مع البائع، فيما ينفذ ويُرد من التصرفات؛ والسبب فيه أن ملك الشفيع ترتب على ملك المشتري، كما ترتب ملك المشتري على ملك البائع. والوجه الثاني - أنه ينفذ تصرف الشفيع؛ فإنا نثبت له الملك بناء قهراً، حتى كأن المشترَى ملكٌ له، ومساق هذا يقتضي تنفيذَ تصرفه، وهذا الخلاف فيه إذا حصل الملك بأداء الثمن. فأمّا إذا قلنا: يحصل الملك بالقضاء أو الإشهاد، فلا يملك التصرفَ بلا خلافٍ فيه. ولو حصل الملك برضا المشتري، فالظاهر عندي في ذلك امتناعُ تصرف الشفيع، إلى أن يتوفر عليه الثمن. وهذا إذا أثبتنا له حق الحبس. وقد تبقّى علينا من الفصل بقية تتعلق بالعهدة الدائرة بين الشفيع والمشتري، وسيأتي الشرح عليه بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل. وهذا نجاز غرضنا من الفصل بما نحن فيه. فصل قال: "فإن اختلفا في الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه ... إلى آخره" (1). 4730 - نذكر وجوهاً من الاختلاف بين من يطلب الشفعة وبين المشتري، فنقول: إذا جاء طالباً للشفعة، فقال المشتري: لا ملك لك في الدار، ولا شِرْكَ، فإذا أنكر أصل الملك، فالقول قول المشتري، وعلى الشفيع البينة، ثم إن لم يجد الشفيع

_ (1) ر. المختصر: 3/ 50.

البينةَ، فكيف يحلف المشتري؟ قال الأصحاب: يحلف بالله لا يعلم له ملكاً، وقضَوْا بأنه لا يقع الاكتفاء بهذا، ونفيُ ملك الغير باليمين في هذا المقام ينزل منزلةَ نفي فعل الغير (1)؛ من جهة أن المشتري ليس يدعي لنفسه ملكاًً في محل النزاع، وإنما يجزم المرءُ نفيَ ملك الغير إذا كان يدعيه لنفسه، مثل أن يدعي رجل أن الدار التي في يدك لي، فيحلفُ المدعى عليه على نفي ملك المدعي ويُسند يمينه إلى ثبوت الملك لنفسه. هذا وجهٌ من الاختلاف. ولو أقر له بالملك، ولكنه أنكر الشراء، فقال: ما اشتريتُ الشقص الذي تبغيه، فالقول قوله مع يمينه الجازمة في نفي الشراء، وعلى الشفيع إقامة البينة إن وجدها على الشراء. وإن أقر بالشرك، وأقر بالشراء، وادعى جهالة الثمن؛ فقد فصلنا القول في ذلك فيما سبق. وإن اعترف بكل ما يدعيه الشفيع، وادعى عليه ما يُسقط الشفعة من تقصير في الطلب وغيره، فالقول قول الشفيع. 4731 - وإن اختلف الشفيع والمشتري في مقدار الثمن، فادعى الشفيع أنه اشتراه بألفٍ، وقال المشتري: اشتريته بألفين، فإن كان لأحدهما بينة دون الثاني، حكم ببينته. وإن أقام كل واحد منهما بينةً على وفق قوله، فحكم البينتين إذا تعارضتا سيأتي في كتاب الشهادات. ولكن الوجه هاهنا التفريعُ على التَّهاترِ (2)؛ فنجعل كأن البينتين لم تقوما، وسنذكر حكم ذلك في سياق الفصل، إن شاء الله تعالى. وإن شهد البائع لأحدهما، فلا خلاف أنه لو شهد للمشتري، لم تقبل شهادته، سواء كان قبض الثمن، أو لم يقبضه؛ لأنه لو شهد، كانت شهادته متضمنة أمراً باشره، وصدر منه، مع من باشر ذلك الأمرَ معه. وهذا يناقض وضع الشهادة، ولا فرق بين أن يشهد قبل قبض الثمن أو بعده؛ فإن صيغة الشهادة خارجة عن القاعدة.

_ (1) ومعلوم أنه لا يجوز الحلف على نفي فعل الغير، وإنما يحلف على عدم علمه به. (2) التهاتُر: الشهادات التي يكذب بعضها بعضاً.

ولو شهد البائع للشفيع، فمن أصحابنا من قال: لا تسمع شهادته؛ لأنه شهد على فعل نفسه. ومنهم من قال: إن شهد قبل قبض الثمن، تسمع؛ لأنه يقابل ما يطالِب به المشتري، ولا ينسب إلى التهمة. وإن شهد بعد قبض الثمن، لم تسمع؛ لأنه يقابل العهدةَ، وما يثبت للمشتري الرجوع به في تفاصيل [العهدة] (1)، فتمكنت التهمة فيه. وإن لم يُقم بينةً، فالقول قول المشتري مع يمينه. وليس الشفيع مع المشتري بمثابة المتبايعين يختلفان في مقدار الثمن، ويتحالفانِ، والفرق أن المتبايعين اعترفا [بثبوت] (3) الملك للمشتري، ثم تداعيا، فاشتمل كلام كل واحدٍ منهما على شيئين، هو في أحدهما مدعٍ، وفي الثاني مُدّعىً عليه، وليس أحدهما أولى من الآخر، وكل واحد منهم تولى أحد طرفي العقد، واستوى القولان في الاحتمال، فكان التحالف لذلك. وفي مسألتنا لم يقع الوفاق على حصول الملك للشفيع، ولم يتول الشفيع أحد شقي العقد، وإنما تولاه المشتري، فجعلنا القول قوله؛ لأنه أعلم بما تولاّه، والشفيع يدّعي لنفسه حق تملكٍ بدون ما ذكره المشتري وأبداه، فكان القول قولَ المشتري، بخلاف ما ذكرناه في المتبايعين. فصل قال: "وإن اشتراها بسلعة ... إلى آخره" (4). 4732 - إذا كان الثمن سلعة، أخذ الشفيع الشقص بقيمة السلعة، فالاعتبار (5) بيوم العقد، كما تقدم.

_ (1) في الأصل: العهد. (2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): منه. (3) في الأصل: بوقوع. (4) ر. المختصر: 3/ 50. (5) كذا في جميع النسخ (بالفاء)، ولا محل لها؛ فإن جواب الشرط هو: أخذ ... فالواو هنا أولى.

وذهب ابن أبي ليلى إلى أن الشفيع يأخذ بقيمة الشقص، ووافق أن الثمن إذا كان مثلياً يؤخذ الشقصُ بالمثل. وعماد المذهب أن الشفيع أحَلَّه الشرعُ محل المشتري إن أراد التملك فيما يتصور أن يحل فيه محله، فإن كان الثمن من النقود، أو من ذوات الأمثال، أخذ الشفيع الشقص بمثل الثمن المسمَّى، ولا يتصوّر منه أخذُه بعين المسمَّى؛ فإن الثمن المسمى في العقد خرج من ملك المشتري إلى البائع، فقدر الشرع في تملك الشفيع ثمناً يضاهي ثمنَ الشراء، وقَرَّبَ القول في التقدير والتمثيل على أقصى الإمكان. وهذا ينافي الأخذَ بقيمة الشقص؛ إذْ لو فرض الأخذ بها، لكان ذلك إضراباً عن إيقاع الملك بالشراء للشفيع. ولهذا قلنا: إذا وهب الشريك الشقص من إنسانٍ، فلا شفعة؛ إذ لا عوض، ولا سبيل إلى الأخذ بقيمة الشقص؛ فإنه لو اشترى المشتري بمتقوم، أخذ الشفيع بقيمة ذلك، لا بقيمة الشقص. ثم الفقه الواقع فيه أن الشريك لا غرض له في البيع من أجنبي، ولو باعه من شريكه، لحصل مقصودُه من الثمن، [ولانْدفع] (1) عن الشريك الضرار، كما تقدم. فإذا باعه من غيره -وقد ندبه الشرع إلى عَرْضه على شريكه- راغم الشرعُ مقصوده، وصرف البيع إلى الشريك. وإذا وهب من إنسانٍ وقصد التقرب إليه والامتنان عليه، فربما لا يبغي أن يسلك هذا المسلك مع غيره؛ فإن الأغراض تختلف في المنح والهبات باختلاف الأشخاص، فأعظم داعيةٍ إلى الهبة صفةُ المتهب، وليس كذلك الشراء؛ فإن الداعية إليه تحصيل العوض، والغرض (2) في هذا لا يتفاوت. وقد بان أنّ الشقص لا يؤخذ بقيمته، ولا سبيل إلى مخالفة الواهب بصرف هبته إلى غير قصده وجهته، واقتضى مجموع ذلك سقوط الشفعة في الموهوب.

_ (1) في الأصل: ولا يدفع، (ت 2)، (ي)، هـ 3: ولا يندفع عن الشريك بالضرار. (2) (ي): العوض.

فصل قال: "أو تزوّج بها، فهي للشفيع بقيمة المهر ... إلى آخره" (1). 4733 - إذا أصدق امرأته شقصاً في مثله الشفعة، استحقه الشفيع عندنا بقيمة مقابله، وهو البضع، وقيمته مهرُ المثل، خلافاً لأبي حنيفة (2)، ولو اختلعت المرأة نفسها بشقصٍ، أخذه الشفيع بقيمة البُضع. ولو وقعت مصالحة عن قصاصٍ بشقصٍ، أخذه الشفيع بالدِّية، والبدل المالي لذلك الدَّم، ولو أثبت الشقص أجرةً في الإجارة، أخذه الشفيع بقيمة المنافع، وهي أجرة المثل. وأبو حنيفة لم يثبت الشفعة في هذه المسائل أصلاً، وتخيل في الصداق، وبدلِ الخلع، والصلح عن الدم أن الشقص لم يثبت في معاوضاتٍ حقيقية، وما ذكره في الإجارة بعيدٌ جداً عن قياس مذهبه؛ فإن الأجرة في الإجارة عِوضٌ على التحقيق، وامتنع عنده ثبوت العبد الموصوف (3)، والوصيف المطلق أجرة، كما يمتنع ذلك في البياعات، بخلاف المسائل الثلاث، ووافق أنه لو أصدق امرأته دراهم، ثمَّ اعتاضت عنها شقصاً، فالشفيع يستحق الشقص بمثل الصداق إن كان مثلياً. ثم إذا ثبت الشقصُ صداقاً، وتعلق حقُّ الشفيع به، فلو طلقها زوجها قبل المسيس، فالطلاق يتضمن تشطُّرَ الصّداق، فقال الأصحاب: لو طلق الزوج، وارتد إليه شطر الصّداق، ولم يكن إذ ذاك شفيع حاضر يطلب، فأخذ الزوج النصف، ثم جاء الشفيع طالباً؛ فإنه لا يتبع ما أخذه الزوج، وإنما يتعلق بما بقي في يد المرأة، فيأخذ بنصف مهر المثل. ولو جاء الشفيع طالباً، وفُرض طلاق الزوج مع قيام طلب الشفيع، فهذا موضع تردد الأئمة. قال أبو إسحاق المروزي: الزوج أولى بنصف الصَّداق. وقال ابن

_ (1) ر. المختصر: 3/ 50. وفيه: وإن تزوج بها. (2) ر. مختصر الطحاوي: 124، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 244 مسألة: 1954، وانظر أيضاً: الاصطلام: 4/ 171. (3) (ي): الموهوب.

الحداد في مسألة تناظر هذه، وهي إذا أفلس المشتري، فأراد البائع الرجوع في الشقص بعذر الفلس في الشقص وأراد الشفيع الأخذ بالشفعة، قال: الشفيع أولى؛ فمساق ما قاله ابن الحداد في مسألة الإفلاس أن الشفيع في مسألة الصداق أولى من الزوج، ومساق ما قاله المروزي أن البائع في مسألة الإفلاس أولى، فنقل الأصحابُ كل جواب من الإمامين إلى جوابِ الآخر، وخرّجوهما على وجهين: أحدهما - الشفيع أولى في مسألة الصداق والإفلاس؛ لأن حق الشفيع أسبق؛ فإنه ثبت قبل التطليق المشطِّر، وكذلك ثبت قبل طريان الفلس واطراد الحجر، هذا أحد الجوابين. والجوابُ الثاني - أن الزوج أولى بالشطر، والبائع أولى بالرجوع إلى عين المبيع؛ لأنهما يرجعان بسبب ملكٍ لهما سابق متقدمٍ، على حق الشفيع؛ فإن قلنا في مسألة الإفلاس: الشفيع أولى، فيأخذ الشقص، ويبذل الثمن. ثم اختلف أصحابنا في ذلك الثمن: فمنهم من قال: هو مصروف إلى البائع يختص به من بين سائر الغرماء؛ فإنه ثمن المبيع الذي له فيه حق الرجوع لولا الشفيع. ومن أصحابنا من قال: الثمن مصروف إلى الغرماء، والبائع أُسوتهم؛ فإنه إن لم يرجع في عين المبيع، فتخصيصه بالثمن محالٌ. وهذا اختيار ابن الحداد. 4734 - ومما يتعلق بالقبيل الذي نحن فيه أن من اشترى شقصاً مشفوعاً، واطلع على عيبٍ به، فأراد رده، فقال الشفيع: لا ترده فإني رضيتُ به معيباً، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الشفيع أولى؛ فإن حق شفعته متأكّد متقدّم على اطّلاع المشتري على العيب، وهو أيضاً يُحصِّل غرضَ المشتري، فيرد عليه مثلَ ثمنه، أو قيمتَه، إن كان من ذوات القيم؛ فلا معنى لإبطال حق الشفيع. والقول الثاني - أن الرد ينفذ، والمشتري أولى به من الشفيع بالأخذ؛ والسَّبب فيه أن حق الشفعة إنما يثبت لو سلِم العقدُ عن الرد، فإذا لم يستقر العقدُ، عاد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد، وجُعل كأنّ العقدَ لم يجرِ، وأيضاً ربّما يكون للمشتري غرض في استرداد عين ماله الذي جعله عوضاًً، وإذا منعناهُ من الرد؛ فاته هذا الغرض. 4735 - ومما يتفرع في ذلك أن المشتري لو رد بالعيب في غيبة الشفيع، نفذنا الردّ

في الحال، وإذا جاء الشفيع بعد جريان الرد، فهذا يتفرع على أنه لو اجتمع طلبُه، مع همّ المشتري، فمن المقدم منهما؟ فإن قلنا: المشتري مقدم، لحق الرد، فإذا نفذ الردّ، فلا مستدرك. وإن قلنا: حق الشفيع مقدم، فإذا جرى الرد، ثم جاء الشفيع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا شفعة؛ فإنها فاتت بجريان الردّ وتقدمه. والوجه الثاني - له حق الشفعة. وهذا القائل يقول: الرد مردود، والشفعة تترتب على الملك السّابق، ويُجعل كأن الرد لم يجر. وهذا فيه ضعف؛ من جهة أن الفسخ لا يفسخ. وكان شيخي يقول: إذا أثبتنا حق الشفعة في هذه الحالة، تبيّنا بطلانَ الردّ؛ لأنه صادف حقاً مقدّماً عليه. ولا نقول: ينفذ الرَّد، ثم يُرد. فرجع حاصل القول إلى وجهين في الأصل: أحدهما - أن الشفعة بطلت بالرّد، والثاني - أنها لم تبطل. فإذا قلنا: إنها بطلت، فلا كلام. وإن حكمنا بأنها لم تبطل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الرد يُرد. والثاني - أنا نتبين فساد الرد من أصله، ويجعل كأنه لم يجر. وقد قدمنا أن الزوج إذا طلق زوجته قبل المسيس، وكان الصداق شقصاً، وجرى ذلك قبل طلب الشفيع الشفعة، وحكمنا بتشطير الصَّداق، فإذا جاء الشفيع يطلب، فقد قدَّمنا أن ما ارتد إلى الزوج لا ينتزع من يده. وكان يقول رضي الله عنه: إذا رددنا الرّد على بعد [القول] (1) بفسخ الفسخ، فاسترجاع ما ارتد إلى الزوج أولى. وبالجملة اختلف أئمتنا، فذهب ذاهبون منهم إلى تنزيل ما ارتد إلى الزوج من الصَّداق بالطلاق قبل المسيس، منزلة ما لو جرى الرد قبل طلب الشفيع؛ فيخرّج على وجهين: أحدهما - أن الشطر منتزع من يد الزوج، ورجوعُه إلى قيمة الصداق. والثاني- أنه لا ينتزع من يده، ويأخذ الشفيع ما بقي في يد المرأة من الشقص، بحصته من مهر المثل. هذه طريقة. ومن أئمتنا من قطع في الطلاق بأن ما رجع إلى الزوج لا يسترد منه، وجهاًً واحداً؛

_ (1) في الأصل: القرن.

لأن الطلاق هو الموجب للتشطر، والطلاق لا مردّ له، وشطر الصداق يرتد من غير اختيار، فبعد نقض حكم التشطير فيه. والأصح عندنا التسويةُ بين طلب الشفعة بعد الطلاق، وبين طلبها بعد جريان الرد؛ فإن القول كما اختلف في اجتماع طلب الشفيع والقصد بالردّ كذلك اختلف القول فيه إذا انضم طلب الشفعة إلى تطليق الزوج قبل المسيس، فإذا اتفقا في الابتداء، فإن لم يكن للطلاق مرد، وجب أن يتفقا في طريان طلب الشفعة. 4736 - وممَّا يتصل بذلك تفصيل الإقالة، فإذا اشترى شقصاً، ثم فرض جريان الإقالة، نظر: فإن لم يكن عفا الشفيع عن الشفعة، وجرت الإقالة، نُفرّع ما نقوله على القولين في أن الإقالة فسخٌ أو بيع؟ فإن جعلنا الإقالة بيعاً، فالشفعة لا تبطل، والشفيع بالخيار إن شاء نقض الإقالة؛ حتى يرتد الشقص إلى ملك المشتري، فيأخذه بالشفعة منه. وإن قلنا: الإقالةُ فسخ، فهذا طلب شفعة ترتب على جريان فسخ، فيلتحق هذا بما ذكرناه في طلب الشفعة بعد جريان الردّ بالعيب. وما ذكرناه فيه إذا كان الشفيع على طلب شفعته، وما كان عفا. فأما إذا عفا الشفيع عن الشفعة، ثم جرت الإقالة من بعدُ، فإن قلنا: الإقالة بيعٌ، فللشفيع أخذ الشفعة من البائع الأول؛ فإنه بالاستقالة (1) صار مشترياً. فإن قلنا: الإقالة فسخ، لم يتجدد حق الشفيع؛ فإن الفسخ لا يُثبت حقَّ الشفعة. وإن كان يشتمل على تراد في العوضين. وهذا مما اتفق عليه الأصحاب. فصل قال: "وإن اشتراها بثمنٍ إلى أجل ... إلى آخره" (2). 4737 - إذا اشترى الرجل شقصاً بثمن مؤجلٍ، فالذي نص عليه الشافعي في الجديد، وهو ظاهر المذهب، ولم يحك الصيدلاني وشيخي غيرَه أنّا نقول للشفيع:

_ (1) في (ت 2): "الإقالة". (2) ر. المختصر: 3/ 51.

إن شئت عجل الثمنَ للمشتري، وتعجل حقك من الشفعة. وإن شئت، فاضرب عن الطلب حتى يحل الأجل. ونص الشافعي فيما رواه حرملةُ على أن للشفيع أن يأخذ الشقص بالثمن المؤجل، وحكم ذلك أن يأخذ المبيع من المشتري في الحال، ويكون الثمن للمشتري في ذمة الشفيع، كما أن الثمن للبائع في ذمة المشتري. وحكى أبو العباس بن سُريج عن كتاب (الشروط) (1) أن الشفيعَ يأخذ الشقص بعَرْضٍ يساوي مقدارَ الثمن مؤجلاً بأجله. وهذا في ظاهر الأمر فيه إنصاف؛ فإنا لو كلفناه ألفاً حالاً، كان ذلك تفاوتاً في المالية بيّناً. ولو قلنا: عجل بعضَ الثمن ونكتفي به، مصيراً منا إلى أن البعض الحال يقوم مقام الألف المؤجّل، كان ذلك مقابلةَ ألفٍ مؤجلٍ بستمائة حال، وهذا صورة الربا. فإذا قدرنا عرضاً قيمته الألف المؤجل، لم يؤد هذا التقدير إلى الربا، وكان رعايةَ الانتصاف في الحقوق المالية. هذا بيان الأقوال. وقال مالك (2) رحمه الله: إن كان الشفيع ملياً، ثقةً، سلمنا إليه الشقصَ بالثمن المؤجل، وإن لم يكن ملياً، وأعطانا كفيلاً ملياً، سلمنا إليه الشقص أيضاً بالثمن المؤجل، وإن لم يكن ملياً ولم يجد كفيلاً، لم نسلم إليه الشقص. 4738 - ونحن الآن نوجه الأقوال، ثم نفرع عليها،: فأما وجه قوله الجديد، فعماده أن البائع إن رضي بذمة المشتري ووثق بأمانته، فالمشتري لا يلزمه أن يرضى

_ (1) كتاب (الشروط). لم يبين إمام الحرمين من هو صاحب كتاب الشروط، وتركنا نبحث عن كل من له كتاب في الشروط، من رجال المذهب السابقين لابن سريج، حتى ترجح لدينا أنه كتاب الشروط للمزني، ثم وجدنا الرافعي يقول: "عامة الأصحاب ذكروا أن ابن سريج نقله عن الشافعي رضي الله عنه من كتاب الشروط. والمفهوم من إيراده أنه نص عليه فيه. وقال الشيخ أبو علي: إن ابن سريج خرجه من قول الشافعي في كتاب الشروط: إنه يجوز بيع الدين، فقال: يقوّم الدين المؤجل بعرض، ويأخذه الشفيع به" ا. هـ بنصه من فتح العزيز: 11/ 450. قلتُ: فكأن ابن سريج نقله نصاً للشافعي، أو مخرجاً من معاني كلامه. عن كتاب الشروط للمزني. (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 635 مسألة 1096، جواهر الإكليل: 2/ 58.

بذمة الشفيع، وإن كلفناه أن يسلم الشقص، ويعوّل على ذمّة المشتري، فقد ألزمناه أمراً مخطراً؛ فنقول: إن رددت الشقص، فعجّل؛ فإن المؤجل يصح تعجيله، وإن لم ترُد الشقصَ، فانتظر حلول الأجل، فاجتمع إذن مراعاة حق المشتري واستدامة حق الشفيع. ومن قال: نُسلِّم الشقصَ المبيع إلى الشفيع بالثمن المؤجل، احتج بأن الشفيع ينزل منزلة المشتري في تملك الشقص، ومقدارِ الثمن، وكل ما تتصور المساواة فيه تقريباً؛ فينبغي أن يحل محله في الأخذ عاجلاً بالثمن المؤجّل. ومن نصر القول الثالث، فاحتجاجه ما ذكرناه في بيان القول (1) الأول، من اعتبار الإنصاف، واجتناب صور الربا. وإذا كنَّا نُقيم قيمةَ الثمن إذا كان سلعة مقام السلعة، فلا يبعد أن نقيم سلعة مقام الثمن، مع التقريب في الغرض المالي، إذا كان ينتظم ذلك في المقاصد. هذا بيان توجيه الأقوال. التفريع: 4739 - من قال بالقول الجديد، وهو ظاهر المذهب، فوّض الأمرَ إلى الشفيع، كما مضى، وجوز له أن يعجل ويتعجل، وأن ينتظر (2) حلول الأجل، ويترك الشقص في يد المشتري. ويتفرع على هذا القول ثلاثةُ أشياء: أحدها - أنا إذا فرعنا على قول الفور، فقد اختلف أئمتنا في أنا هل نوجب أن يُشعر الشفيعُ بأنه على الطلب، ثم يؤخر إن أراد التأخير؟ فمن أئمتنا من قال: لا يجب ذلك، ولا فائدة فيه، فإذا جوزنا له التأخير إلى حلول الأجل، جوزنا له السكوت عن الطلب إلى ذلك الوقت. ومن أصحابنا من قال: لا بُدّ من الإشعار بالطلب، كما فرعنا على قول الفور. ثم إذا أكّد الشفعة بالطلب، كان تأخير أداء الثمن إلى منتهى الأجل بمثابة تأخر أداء الثمن الحالّ (3) إلى أوقاتٍ [يتيسّر] (4) أداؤه فيها عادة، مع العلم بأن تأخير الطلب إلى تلك الأوقات مبطل لحق الشفعة.

_ (1) (ت 2)، (ي): في بيان ذلك القول من اعتبار .... (2) في (ت 2)، (ي)، (هـ3): "وينتظر" بدون (أن). (3) ساقطة من كل النسخ، عدا الأصل. (4) في الأصل: "يتبين" وفي (ت 2): يتأخر.

فهذا أحد الأشياء الثلاثة. والثاني - أن المشتري إذا مات، وحل الأجل عليه بموته، فالأمر موسع على الشفيع في تأخير أداء الثمن كما قدمناه في حالة الحياة، والسبب فيه أنه وإن كان يتلقى من جهة المشتري، فهو مُباين له في المرتبة. وقد ذكرنا أن من ضمن ديناً مؤجلاً على صفة التأجيل، ثم مات المضمون عنه، وقُضي بحلول الدين، وانقطاع الأجل، فلا يحل الدين على الضامن بسبب حلوله على المضمون عنه. والأمر الثالث - أن الشفيع لو مات بنفسه، فوارثه يقوم مقامه في استحقاق الشفعة، ثم لا يقضى أنه يحل عليه الثمن؛ [إذ] (1) لم يكن عليه أجل حقيقي، ولم يكن الثمن ديناًً في ذمته حتى يفرض حلوله بموته، لكن كان ثبت له حق الشفعة على وجهٍ، فيثبت ذلك الحق على ذلك الوجه لوارثه. ذكره الصيدلاني وغيره من المحققين. وهو ممّا لا يشك فيه. هذا تمام التفريع على القول الجديد. 4740 - فأمّا التفريع على القول الذي رواه حرملة، فإنا نرى هذا قولاً قديماً، فإنه في الأصل يضاهي مذهب مالك، ثم اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: نعتبر ما اعتبره مالك من كون الشفيع ملياً موثوقاً به في ظاهر الحال؛ فإن لم يكن، اشترطنا أن يقيم كفيلاً ملياً وفياً، فإذ ذاك نوجب على المشتري تسليمَ الشقص، وتركَ الثمن في ذمة المشتري. وإن لم يتحقق ذلك في المشتري، ولم يأت بكفيلٍ، لم نسلم إليه الشقص. وهذا هو الذي حكاه الشيخ أبو علي في تفريع هذا القول في مذهبنا. فكأنَّه إذاً مذهبُ مالكٍ. ومن أصحابنا من لم يشترط ملاءةَ الشفيع، ولا الإتيانَ بكفيل، وأحل الشفيع محل المشتري، وأوجب تسليم الشقص إليه عاجلاً؛ تنزيلاً له منزلة المشتري، من غير نظر إلى صفته، وهذا فيه بُعد وإجحاف بالمشترى. وإن كان يميل إلى طرفٍ من القياس بعض الميل. وقد حكاه موثوقٌ به عن القاضي.

_ (1) في الأصل، و (ت 2)، (هـ 3): إذا.

ثم يتفرع على هذا القول أن المشتري لو مات، وحل عليه الأجل، لم يحلّ على الشفيع، كما ذكرناه في الضامن والمضمون عنه. ولكن لو مات الشفيع، وجب القضاء بحلول الثمن عليه؛ فإن الأجل [تأصّل] (1) في حقه، بدليل استئخار الشقص، وأخذه عاجلاً. وإذا أخذ الشقص وملكه، استقر الثمن في ذمته. فليتنبه المفرع لذلك، وليفصل بين ثبوت حقيقة الأجل على هذا القول، وبين ثبوت فسخه على القول الجديد. [و] (2) ليست من حقيقة الأجل في شيء، ولذلك لا يتعجل الشفيع على الجديد أخذَ الشقص، فلا جرم لم يكن للحكم بالحلول على الشفيع معنى إذا مات قبل حلول الأجل. ولو فرض في ذلك القول أخذُ الشقص، لكان يتعين أن يعجل الثمن في حياته. ومما نفرعه أنا إذا أحللنا الشفيعَ محل المشتري في الأجل على قول حرملة، وفرعنا على قول الفور، وجب على الشفيع البدار إلى الطلب؛ فإن الشقص معجل له، حتى إذا أخر، كان مقصراً، ويُقضى بسقوط حقه. وليس هذا كالتفريع على الجديد؛ فإن تلك الفسحة تثبت في أخذ الشقص، حتى كأنها أجل في الشقص. فليفهم الناظر ذلك. 4741 - فأما (3) إذا فرعنا على القول (4) الثالث، [فتعيين] (5) العَرْض إلى الشفيع، وتعديل القيمة إلى من يعرفها، فنعتبر مبلغ الثمن مؤجلاً، ثم نقيس به ثمناً حالاً، ونراجع في المقدارين المقومين، ونقول: ما يساوي ألفاً إلى سنةٍ، بكم يُشترى نقداً؟ فيقال: بخمسمائة، فنكلف الشفيع أن يأتي بسلعة تساوي خمسمائة عاجلة، وهذا قد قدمناه في تصوير القول. فلو لم يتفق طلبُ الشفعة حتى حل الأجل، فالمشتري مطالب بالألفِ، والشفيع يجب أن لا يطالَب إلا بالسلعة المعدّلة التي ذكرناها؛ فإنّ لاعتبار في قيمة عوض الشراء، بحالة العقد، فكأن المشتري لما اشترى بألفٍ

_ (1) في الأصل وحدها: تأجل. (2) ساقطة من الأصل. (3) (ت 2): فإنا. (4) القول الثالث هو ما حكاه ابن سُريج عن كتاب الشروط، وهو أن يأخذ الشفيع الشقص بعرْضٍ يساوي مقدار الثمن مؤجلاً بأجله. (5) في الأصل: فتعين.

مؤجّل، اشترى بخمسمائةٍ حالةٍ، فالاعتبار إذاً بحالة العقد. ولهذا قلنا: إن ثمن العقد إذا كان متقوماً، فالاعتبار في مبلغ قيمته بحالة العقد. فإن قيل: إذا فرعتم على القول الجديد، فهل تنفذون تصرفات المشتري في مدة الأجل في الشقص؟ قلنا: نعم. ولا يملك الشفيع نقضَها مادام الأجل، إلا أن يعجل الثمن. ثم إذا تصرم الأجل، يتبع التصرفاتِ بالنقض. فقد نجز ما أردناه في هذا الفصل. فصل قال: "ولو ورثه رجلان، فمات أحدهما، وله ابنان ... إلى آخره" (1). 4742 - الذي نراه أن نقدم على هذا الفصل أصلاً مقصوداً في كتاب الشفعة، وهو أنّه إذا ازدحم شفيعان فصاعداً على المبيع المشفوع، وكانا مختلفين في مقدار الملك في الشركة، فالشفعة مقسومة على الرؤوس بالسوية، أم هي مقسومة على مقدار الحصص في أملاك الشفعاء؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن القسمة على أقدارِ الحصص، وبيان ذلك بالتصوير أن الدار إذا كانت مشتركة بين ثلاثة، لواحد نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر سدسها، فإذا باع مالك النصف نصيبه، وهو النصف، فهو مقسوم على الجديد بين صاحب السدس والثلث أثلاثاً على الملكين. والقول الثاني - وهو المنصوص عليه في القديم أن القسمة تقع على رؤوسهم بالسوية، فيأخذ كل واحد منهما نصفَ الشقص المبيع، وهو ربع الدار، وهذا مذهب أبي حنيفة (2)، واختيار المزني، وتوجيه القولين قد استقصيناه في [كتاب] (3) الأساليب والغنية، وليس يتعلق بذكرهما ضبطٌ مذهبي، فنعيده. ولو انفرد الشفيع، واستحق الشفعةَ، ومات من غير تفريطٍ قبل اتفاق أَخْذ

_ (1) ر. المختصر: 3/ 51. (2) ر. مختصر الطحاوي: 121، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 248 مسألة 1965. (3) زيادة من (ت 2). وهما كتابان للإمام في علم الخلاف.

الشقص، وخلف ابناً وبنتاً، فحقُّ الشفعة موروث، كما سنذكره بعد ذلك. ثم اختلف أصحابنا على طريقين، في تخريج القولين في قسمة الشفعة، فصار صائرون إلى أن القولين يخرجان في الابن والابنة، وإن تفاوتا في استحقاق نصيب الشفيع، وشِرْكه القديم. ففي قولٍ نسوي بينهما في الشقص المشفوع. وفي قولٍ يوزع على مقدار ملكيْهما في الشرك القديم. ومن أصحابنا من قطع القولَ بأن الشفعة في حق الوارثين مقسومةٌ على اختلاف الملكين؛ فإنها موروثة، والإرث يقتضي التفاوت. وحقيقة هذا الاختلاف للأصحاب ستأتي واضحة، إن شاء الله تعالى، في الفصل الذي نذكر فيه توريث الشفعة. 4743 - فإذا وضح هذا الذي ذكرناه، عدنا بعده إلى بيان مضمون الفصل. فإذا مات الرجل، وله دار، وخلف ابنين، ثم مات أحدهما عن ابنين، وانصرفت حصته من الدار إليهما، ثم باع أحد الحافدين نصيبه من الدار، فأخوه أولى بالشفعة، أو يشاركه العم فيه؟ فعلى قولين: أحدهما -وهو المنصوص عليه في القديم- أن الأخ أولى؛ لأنهما اختصا بوراثة أبيهما دون العم، وانحازا عنه بحيازة الميراث، فإذا تصرف أحدهما تعلق حكم تصرفه بأخيه، ولم يتعدَّه، كما اختص الإرث بهما دون العم. وهذا لست أرى له [وجهاًً] (1) أصلاً. ولست أصفه بالضعف، فأكون حاكماً باتجاهه على بعد، ولكن لا أصل له في القياس. والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في الجديد- أن العم يشارك في الشفعة؛ فإنه شريك، والشفعة نيطت بالشركة، وهو مساوٍ للأخ في الشركة الشائعة؛ فوجب أن يساويه في استحقاق الشفعة. ثم قال الأصحاب: القولان لا يختصان بالوراثة، بل لو اشترى شخصان داراً، ثم باع أحدهما نصيبه من شخصين، أو وهبه منهما، واستقر ملكهما، ثم باع أحدهما نصيبه، فالشفعة تختص بمن كان شريكاً له في الدرجة الأولى، أو يشاركه الشريك

_ (1) زيادة من: (ت 2)، (ي)، (هـ 3).

الأصلي في الدار، وهو شريك البائع؟ فعلى هذين القولين. 4744 - ولو كانت الدار بين ثلاثة، فباع واحد منهم نصيبه من شخصٍ، أو وهبه منه، واستقر ملكه، ثم باع أحد الأصلين الباقيين نصيبه، فالشفعة تثبت للشريك الأصلي القديم أو يشاركه الشريك الحادث فيه، يعني المتهب، فعلى هذين القولين؛ فإن بين القديمين تواصلاً، واختصاصاً قديماً، ليس ذلك للحادث. فكما لا يتعدى تصرفُ المحدثين في الشركة إلى القدماء على القول القديم، فكذلك لا يتعدى تصرف القدماء إلى الحادثين، إذا كان في الجهة القديمة شريكان فصاعداً. ثم إذا وقع التفريع على القديم، فلا شك أن الحافدين (1) في الصورة الأولى لو باعا جميعاً ما يملكان، فالشفعة تثبت للعم، وإنما يقدم أحد الأخوين على العم إذا باع أحد الحافدين، ووقع الكلام في تقديم الاخ، أو التشريك بينه وبين العم. وهذا واضح. وكذلك إذا كان الشريك القديم واحداً، فباع ما يملكه، أو كان في المسألة شركاء متقدمون، فباعوا جميعاً حصصهم، فالشفعة تثبت للحادثين. وإنما الكلام فيه إذا باع بعض القدماء، وثبت شفيع قديم، وشريكٌ حادث؛ فإذ ذاك يجري القولان. والذي يبين هذا الفصل أنا إذا فرضنا ابنين أولاً، ثم قدرنا موت أحدهما وتخليف ابنين. ثم باع أحد الأخوين الحافدين نصيبه، والتفريع على القديم، فالشفعة تثبت للأخ الذي لم يبع دون العم على القول القديم. هذا حكم الحال. فلو عفا ذلك الأخ عن الشفعة، فهل للعم أن يأخذ الشفعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا شفعة له؛ لأنه لو كان من أهل الشفعة، لما تقدم الأخ عليه؛ لأنه مساوٍ له في الشركة الشائعة، فلما تقدم الأخ عليه، عُلم أنه لا شفعة له؛ فإن التقديم والتأخير لا يثبت في قاعدة الشفعة. ولذلك استدل أصحابنا في إسقاط شفعة الجار بتقدم الشريك عليه، وقالوا: لما تُصوّر سقوط استحقاقه مع الشريك، دلَّ ذلك على أنه لا حق له أصلاً. هذا أحد الوجهين.

_ (1) (ي): الحادثين.

والوجه الثاني - أن العم تثبت له الشفعة إذا عفا الأخ؛ لأنه شريك، ولكنا رأينا تقديم الأخ عليه؛ من جهة أنه أقرب، فإذا سقط حق الأقرب، وجب أن يستحق العم لوجود الملك، وأصلِ الشركة. 4745 - وهذا يضاهي مذهب أبي حنيفة (1) في تقديم الشريك على الجار، وهو يناظر من صور الوفاق تقديمَ المرتهن على سائر الغرماء بالمرهون، فلو أسقط المرتهن حقه من الرهن، أو أبرأ عن الدين، صُرف المرهون إلى حقوق الغرماء، وكذلك إذا قتل رجل جماعة، وثبت القصاص عليه، فإذا كان قتلهم ترتيباً، فحق الاقتصاص لولي القتيل الأول، ولو عفا، فحق الاقتصاص لولي القتيل الثاني. وهكذا إلى انتهاء الأمر إلى ولي القتيل الأخير. وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى أنا إذا قدمنا الأخ على العم، فهذا إسقاط للعم عن الاستحقاق أصلاً، أم ثبتت له الشفعة ولكنا نراه مزحوماً بالأخ؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. وقد يجري مثل ما ذكرناه هاهنا في ازدحام الشفعاء إذا عفا بعضهم عن الشفعة؛ فإن الحق في ظاهر المذهب في جميع الشقص يثبت للباقين، وليس هذا حقاً متجدداً لهم، ولكن لكل واحد من الشفعاء حقُّ استحقاق جميع الشقص لو انفرد، فإذا كان مزحوماً بآخرين، لم يأخذ كل واحد إلا مقداراً، فمن عفا وخرج عن الاستحقاق، عاد الباقون إلى التقدير الذي ذكرناه. حتى لو عفا الجميع إلا واحداً، فهو يأخذ الشقص بأصل الاستحقاق، لا باستفادةٍ من جهة الشركاء. وسيأتي تقرير (2) ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. ثم ما ذكرناه في الأخوين والعم، وعفوِ الأخ يخرّج في كل صورة ذكرناها في قوله القديم، فإذا اشترى رجلان داراً، ثم وهب أحدهما نصيبه، من اثنين، ثم باع أحد المتهبين نصيبه، وفرعنا على أن صاحبه أولى بالشفعة من الشريك القديم، فعلى ما ذكرناه من خلاف الأصحاب.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 239 مسألة: 1947، البدائع: 5/ 8. (2) (ت 2)، (ي)، (هـ3): تحقيق.

4746 - ومما فرعه ابن سريج على هذا الأصل أن من قال: لو مات رجل عن دارٍ وابنتين، وأختين، فللبنتين الثلثان، والباقي للأختين، وهو الثلث، فلو باعت إحدى البنتين نصيبها، والتفريع على القديم فالشفعة تثبت لمن؟ قال ابن سريج: يحتمل أن نقول: تختص بالشفعة البنت التي لم تبِع، ولا شفعة للأختين؛ من جهة أن البنتين كانتا مختصتين بجهة الإرث، ؤالحصة مضافة إليهما، فاقتضى ذلك اختصاصَ إحداهما بالشفعة إذا باعت إحداهما، وعدم تعلق الاستحقاق بالأختين، تفريعاً على القديم. هذا احتمال أبداه ابن سريج في التفريع على القول القديم، ثم زيَّف هذا الوجهَ، وقال: يجب تشريك الأختين في الشفعة؛ لأن الوراثة تثبت لجميع الورثة دفعةً واحدة، والورثة مستوون، فلا معنى لتقديم بعض الجهات على البعض. وهذا الذي ذكره في بيع إحدى البنتين يجري في بيع إحدى الأختين، حتى يتردد الجواب تفريعاً على القديم في أن الشفعة تختص بالأخت أو تتعدى إلى البنتين. وهذا يجري في جملة أصناف الورثة، حتى إذا كان فيهم زوجاتٌ وبناتٌ، وأخوات، فباعت زوجة حصتها، ففي اختصاص الزوجات الكلامُ الذي ذكرناه. والوجه تشريك جميع الورثة. 4747 - ثم إذا وقع التفريع على القول الجديد، وهو المذهب المبتوت، وإن كنا نحكم بأن القديم مرجوع عنه، فهذا أوانه. فإذا باع أحد الحافدين نصيبَه، وأثبتنا الشفعة لأخيه وعمّه، فللعم نصف الدار، وللأخ ربعها، والمبيع الربع، ففي كيفية القسمة على الأخ والعم كلامٌ يتعين التأنِّي فيه، في ترتيب المذهب. فإن جرينا على القياس، أرسلنا القولين في أن المبيع يقسم أثلاثاً بين العم والأخ، أو يقسم بالسوية بينهما. هذا طريق التفريع القياسي. وإن راعينا نظم المذهب، قطعنا بالقسمة على التفاوت، نظراً إلى الحصتين والشريكين؛ فإن القسمة على رؤوس الشفعاء في القول القديم. ونحن في القديم لا نثبت للعم الشفعةَ، وفي الجديد لا نرى القسمةَ على الرؤوس، فإذا فرعنا على تشريك العم في الشفعة، وهو الجديد، قطعنا النظر إلى الحصتين، وفاوتنا في المقدار أخذاً بالجديد، وأصحابنا يمنعون من بناء الجديد على القديم، والقديم على الجديد.

وقد تقدم مراراً أن القول القديم لا ينبغي أن يعد من مذهب الشافعي؛ فإنه مرجوع عنه. فإن قيل: قد اختار المزني القولَ القديمَ، ورأى قسمةَ الشفعة على رؤوس الشفعاء، واحتج بقول الشافعي في مسألة العم، والأخ، ونقل فيه لفظَ الشافعي، فقال: قال الشافعي: "العم والأخ سواء في استحقاق الشفعة"، وفهم المزني من نص الشافعي القسمةَ على الرؤوس، وهذا تفريع القديم. وتشريك العم هو القول الجديد، قلنا: لا محمل لهذا في ترتيب المذهب إلا وجهان: أحدهما - أنه يحمل الاستواء على الاستواء في أصل الاستحقاق، لا على التساوي في المقدار. والثاني - أن نُقدر للشافعي قولاً في الجديد في أن الشفعة تقسم على الرؤوس لا على الأنصباء. وهذا فيه نظر؛ فإنه لم يصح في الجديد القسمةُ على الرؤوس. ومهما (1) قطع الشافعي في الجديد فتواه، فالذي أراه موافقةُ المزني في أن ذلك رجوع منه عن ترديد القول. فصل قال: "ولورثة الشفيع أن يأخذوا ما كان يأخذ أبوهم ... إلى آخره" (2). 4748 - الشفعة موروثة عندنا على الجملة، فإذا مات الشفيع قبل اتفاق أخذ الشقص، ولم يقصّر، انتقلت الشفعةُ إلى الورثة. وقال أبو حنيفة (3): الشفعة لا تورث. فنقول: إذا مات الشفيع وخلّف ابناً وبنتاً، وامرأة، وخلف الشقص الذي كان ملكه من الدار، وبه استحق الشفعة، فالشقص مقسوم بين الورثة، على أربعةٍ وعشرين للزوجة الثُّمن ثلاثة، والباقي بين الابن والبنت للذَّكر مثلُ حظ الأنثيين، فيخص البنتَ ثلث ما بقي، وهو سبعة، ويخص الابن أربعةَ عشرَ. وحق الشفعة ثابت لهم، ثم الشفعة تقسم على رؤوسهم، أو على حصصهم في الشِّرك القديم؟ فعلى

_ (1) "مهما" بمعنى: (إذا). (2) ر. المختصر: 3/ 52. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 248 مسألة: 1966، مختصر الطحاوي: 123.

القولين والتفصيل المقدم. فمن أصحابنا من قطع بأن الشفعة مفضوضةٌ على نسب الحصص، ولم نر هذا من صور القولين، ومنهم من أجرى القولين. وحقيقةُ هذا الاختلاف تستند إلى حقيقة الفصل. وقد اختلف الأئمة في أن الورثة يأخذون الشفعة لأنفسهم في الحقيقة، أم يأخذونها للموروث، ثم يخلفونه؟ وفي ذلك وجهان: فإن قلنا: إنهم يأخذونها لأنفسهم، جرى القولان في كيفية التقسيط. وإن قلنا: إنهم يأخذونها للميت تقديراً، ثم ينتقل المأخوذ إليهم إرثاً، فليس إلا القطع باعتبار الحصص. 4749 - وممَّا نفرعه في هذا المنتهى أن واحداً من الورثة إذا عفا عن الشفعة، فكيف يجري هذا التفريع؟ وهذا يستدعي رَمْزاً إلى أصلٍ سيأتي استقصاؤه، إن شاء الله. وهو أن من انفرد باستحقاق الشفعة إذا عفا عن بعض الشفعة، ففيه أوجه: أحدها - أنه يبطل جميع حقه بالعفو عن البعض، كما لو عفا مستحق القصاص عن بعض حقه في القصاص؛ فإنه يسقط جميعُ القصاص، ولا يتصور بقاء شيء منه. والثاني - لا يسقط بالعفو عن البعض شيء ويلغو العفوُ. والثالث - أنه يسقط ما أسقط، ويَبقى ما أبقى. وسيأتي ذلك على الاستقصاء، إن شاء الله تعالى. فإذا عفا واحد من الورثة، نفرِع ذلك على الوجهين في أن الورثة يأخذون الشفعة لأنفسهم أم يأخذونها للميت؟ فإن قلنا: إنّهم يأخذون للميت، فإذا عفا واحدٌ منهم، سقط حق الباقين، ونزل منزلة ما لو عفا عن بعض حقه في حياته، ولو فعل ذلك، بطل حقه في الجميع، في ظاهر المذهب. وفيه خلاف، سنذكره في الفصل الذي يلي هذا الفصل. وإن قلنا: إنّ الورثة يأخذون الشفعة، لأنفسهم، فإذا عفا واحد منهم، أخذ الباقون الشقصَ بكماله، وسقط حق العافي على ظاهر المذهب. وسنصف هذا بعد ذلك، إن شاء الله تعالى. وغرضنا الآن أن نلحق عفوَ بعض الورثةِ في وجهٍ، بعفو الشفيع الواحد عن بعض

حقه. ونلحقَ عفوَ بعض الورثة في وجهٍ بعفوِ واحدٍ من الشفعاء الذين استحقوا الشفعة لأنفسهم من غير وراثة. والتفصيل وراء ذلك بين أيدينا. فصل 4750 - إذا كان بين رجلين دارٌ مشتركة، لكل واحد نصفُها، فباع أحدهما عُشرَ نصيبه من إنسانٍ، ثم باع تسعة الأعشار بعد الصفقة الأولى من رجلٍ آخر، فقد قال أبو حنيفة (1) في هذه المسألة: للشريك الذي لم يبع أن يأخذ العشر الذي اشتملت عليه الصفقة الأولى، ثم الشريك القديم ومن اشترى العشر يشتركان في تسعة الأعشار؛ لأن بيع التسعة الأعشار جرى بعد ثبوت الملك في العشر لمشتريه، فاقتضى ذلك اشتراكهما في التسعة الأعشار. هذا مذهبُ أبي حنيفة. فأما تفصيل مذهبنا، فحاصل ما ذكره الأئمة طريقان: منهم من قال: إن أراد الشريك القديم أخْذَ مضمون الصفقتين، كان له ذلك: العشر والتسعة الأعشار؛ فإن بيع المبلغين جرى وملك الشريك القديم سابق. وهؤلاء يخالفون مذهب أبي حنيفة، ويحتجون عليه بأن أخذ العشر المتلقى من الصفقة الأولى متفق عليه. وإذا أخذه الشريك القديم، استحال بعد زوال ملك المشتري أن يستحق الشفعة في التسعة الأعشار. ولو عفا الشريك عن الشفعة في الصفقة الأولى وأراد أخذ التسعة الأعشار، فمشتري العشر قد استقر ملكه فيه، وجرى بيع التسعة بعد ملكه، فهل يزاحم الشريكَ القديم في العقد الثاني؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يزاحمه؛ لأنّ ملكه في العشر قد تقرر، وكان متقدماً على الصفقة الثانية، وإذا كان صاحب العشر مع الشريك القديم شريكين عند العقد الثاني، وجب أن يشتركا في الشفعة. والوجه الثاني - أن صاحب العشر لا يشارك الشريك القديم في العقد الثاني؛ لأن ملكه كان عرضة لأخذ الشريك القديم لما جرى البيع الثاني، ومستحق الشفعة الشريك

_ (1) ر. طريقة الخلاف: 361 مسألة: 151، إيثار الإنصاف: 332.

القديم، فإذا كان ملكه عرضة لأخذ الشريك القديم وقت جريان العقد الثاني، استحال أن يزاحم بذلك الملك الشريكَ الثاني. نعم: لو عفا الشريك القديم عن الشفعة في العُشر، ثم جرى البيع الثاني، فلا خلاف أنهما يزدحمان في التسعة الأعشار. هذه طريقة. 4751 - ومن أصحابنا من قال: إن عفا الشريك بعد جريان [العقد] (1) عن الشفعة في العُشر الذي اشتمل عليه العقد الأول، فصاحب العشر والشريك القديم يزدحمان في التسعة الأعشار وجهاً واحداً. فإن أخذ الشريك القديمُ العشرَ بالشفعة، فهل للذي اشترى العشرَ أن يزاحم في التسعة الأعشار كما صار إليه أبو حنيفة؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه لا يزاحم؛ لأن الشريك يأخذ العشر الذي اشتراه وفاقاً، فلا يبقى له مِلكٌ يزاحم به. والوجه الثاني خرّجه القفال - أنه يزاحم في التسعة الأعشار، وإن أُخذ العشر الذي اشتراه؛ لأن ملكه كان ثابتاً لما جرى العقد الثاني، فاقتضى ثبوتَ حق الشفعة له، فلا يضر زوال ملكه بعد ذلك على قهر. وكان القفّال يبني هذا التردد على أصلٍ، وهو أن بعض الشركاء في الدار إذا باع حصّته، ولم يُشعر شريكَه بذلك، ولم يعلم ثبوتَ حق الشفعة له، فباع ملك نفسه على جهلٍ منه باستحقاق الشفعة، ثم تبين له ثبوتُ حق الشفعة له، فهل نحكم بأن ما جرى من البيع في ملكه القديم عن جهلٍ وغِرّة يتضمن بطلان الشفعة؟ في المسألة قولان: أحدهما - أن حق الشفعة يبطل؛ فإن الغرض من الشفعة دفع الضرار عن المالك كما فصلناه، فإذا زال الملك، فلا حاجة إلى الدفع، فأشبه ما لو باع على علمٍ بثبوت الشفعة. والقول الثاني - أن حق الشفعة ثابتٌ، لا ينقطع بما جرى من البيع على الجهل. ومما يجب الإحاطة به أن الشفيع إذا باع ملكه بعد الإحاطة بالشفعة، فحقه من الشفعة يبطل، وإن قلنا الشفعة على التأبيد، وشرطنا التصريح بالإسقاط، فبيع الملك على عمدٍ وعلمٍ يتضمن إسقاط الشفعةِ، على اتفاق بين الأصحاب، لم أعثر فيه على خلافٍ.

_ (1) في الأصل: العقدين.

قال القفال: إذا أخذ العشرَ الذي اشتملت عليه الصفقةُ الأولى، فليس ذلك عن اختيارٍ من المشتري، فشابه ذلك ما لو باع الشريك ملكه على جهلٍ بثبوت الشفعة. هذا حاصل القول في المسألة. 4752 - فإن عفا الشريك القديم عن الشفعة في العشر، وجرينا على الأصح، وأثبتنا له المزاحمة في التسعة الأعشار، فكيف نقسمها بينهما؟ إن حكمنا بأن الشفعة تقسّم على الرؤوس، فتلك الشفعة تقسم بين الشريك القديم، وبين صاحب العشر نصفين، ولا حاجة إلى تصحيح ذلك بطريق الحساب. وإن أردنا التصحيحَ، لم يخف مُدركه. وإن قلنا: الشفعة تقسم على الأنصباء وأردنا التصحيحَ والضبط، فالوجه أن نتخيل أصلَ المسألة، وهو عشرون لاشتمالها على نصف العشر؛ فإن الشريك الأول باع عُشراً من نصفه، وعشر النصف نصف العشر، فوضعنا المسألة من عشرين. النصف للشريك القديم: عَشَرة، وما سُلِّم (1) لمشتري العشر سهمٌ، فبين الشريك القديم، وبين صاحب العشر أحدَ عشرَ سهماً، فتقسم التسعة على أحد عشر سهماً، فلا تنقسم. وإذا انكسر عدد على عددٍ، فالوجه في التصحيح ضربُ العدد الذي عليه الكسر في أصل المسألة، فنضرب أحدَ عشرَ في عشرين، فتردّ علينا مائتين وعشرين، وهذا المبلغ أجزاء الدار، النصفُ القديم منها مائة وعشرة، والذي سلم في الصفقة الأولى أحدَ عشرَ، بقي تسعة وتسعون. لصاحب نصف العشر تسعة، وللشريك القديم تسعون، فيخلص للشريك القديم ملكاً أصلياً ومأخوذاً بالشفعة مائتان، ويخلص للمشتري نصف العشر من الصفقة الأولى ومن الثانية عشرون. ثم إذا تبيّنا هذا من طريق البسط، تلقينا منه نسبةً بيّنة، فالدار بين القديم وبين المزاحم على أحدَ عشرَ جزءاً، عشرة منها للشريك القديم، وواحد للمزاحم. وما ذكرناه من فرض يتعين (2) في العشر والتسعة الأعشار مع رجلين لو فُرِضا مع رجل

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ3): يسلم. (2) في (ت 2): "معين".

واحد على الترتيب، فالترتيب في الصفقة الأولى والثانية [في العفو، والأخذ، والمزاحمة، كالتفصيل في البيعين من شخصين في جميع ما ذكرناه. وهذا قد نعيده] (1) في آخر الكتاب عند جمعنا حيلاً في تعسير الشفعة على الشفيع، إن شاء الله تعالى. فصل يحوي قواعد من الشفعة، نحيل عليها تفريعات مسائل الكتابِ 4753 - فنقول: إذا ثبت حق الشفعة لرجلٍ واحد، فعفا عن بعض حقه، ففي المسألة أوجه مشهورة مذكورة في الطرق: أحدها - أنه يسقط جميعُ حقّه؛ فإن الشفعة لا تتبعض، فإذا وجب القضاء بسقوط بعضها، تداعى ذلك إلى أصلها، وهي شبيهة عند اتحاد المستحق بحق القصاص، إذا ثبت لواحد؛ فإنه لو عفا عن بعضه، كان كما لو عفا عن جميعه. والوجه الثاني - أنه لا يلغو العفو عن البعض، ولا أثر له، والشفعة ثابتة بكمالها؛ فإن التبعيض إذا تعذر -وليست الشفعة مما يُدرأ بالشبهة- فالوجه تغليب ثبوتها. وهذه الأوجه إنما يتسق جريانها إذا لم نقل بأن الشفعة على الفور. وسنذكر ترتيب الأصحاب فيها على قول الفور، إن شاء الله تعالى. والوجه الثالث - أنه إذا أسقط بعضَ حقه، سقط ما أسقطه، وبقي ما أبقاه؛ فإنه حق مالي ولا يبعد تطريق الانقسام إليه. قال الشيخ أبو بكر: هذا الوجه إنما يخرّج -على ضعفه- إذا رضي المشتري بأن تبعّض عليه الصفقة، فأمّا إذا أبى ذلك، وقال للشفيع: إما أن تترك الجميع، أو تأخذ الجميع، فله ذلك. وهذا الذي قاله حسن، لا يسوغ في القياس غيرُه، فإن تبعيض الصفقة على المشتري إضرار بيّن، وتعييب لما يبقى في يده. وإن فرّعنا على قول الفور، فقد اختلف أصحابنا على طريقين: منهم من أجرى الأوجه الثلاثة على قول الفور، وصور العفوَ عن البعض مع البدار إلى طلب الباقي.

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحدها.

ومنهم من قطع بأنا إذا فرعنا على قول الفور، فالعفو عن البعض يُسقط الجميع؛ فإن ابتناءه على الفور على هذا القول، يشعر بتسرع السقوط إليه، وكان حَريّاً بمشابهة القصاص، وقد ذكرنا أن العفو عن بعض القصاص يُسقط الجميع. 4754 - ومن الأصول التي نذكرها في هذا الفصل: أنه إذا ثبت في شقص واحدٍ شفيعان، فلو عفا أحدهما عن حقه، فكيف السبيل فيه؟ ذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع أربعةَ أوجه: أحدها - وهو الأصح المشهور أن حق العافي يبطل من الشفعة، ويثبت الحق بكماله للثاني. فلو أراد أن يأخذ بعضَ الشقص، وهو القدر الذي كان يخصه مع شريكه لو لم يعف، فليس له الاقتصار عليه، وللمشتري أن يقول: إما أن تأخذ الكل، وإما أن تدع. وهذا هو الذي قطع به شيخنا أبو محمد، والصيدلاني، وكل معتبر من أثبات النقلة. وتعليل هذا الوجه أنه إذا عفا أحدهما، جُعلَ كأنه لم يكن، وأُخرج من البَيْن، وقدر الثاني منفرداً باستحقاق الشفعة. وهذا هو الأصل، والمذهب. وقد ذكر الشيخ أبو علي سواه ثلاثةَ أوجه: أحدها - أَنَّ الذي عفا [قد] (1) سقط بعفوه نصف الشفعة، وثبت ذلك القدر للمشتري، ولو أراد الشفيع الثاني أن يأخذ جميع الشقص، لم يكن له ذلك، ولو أراد المشتري أن يُلزمه أخذ الجميع، لم يكن له ذلك. وهذا الوجه يوجّه بأن الحق ثبت لهما، وسقط [سهمهُ] (2) بإسقاطه، وحقوق الأموال تقبل الانقسام. والوجه الآخر أن أحد الشفيعين إذا عفا، سقط نصيبهما جميعاً بعفوه، وانقطعت الشفعة أصلاً، كما إذا ثبت القصاص الواحد لرجلين، فعفا أحدهما. وهذا ضعيف جداً. والوجه الثالث - أنه لا يسقط حق من لم يعف، ولا يسقط حق من عفا أيضاًً؛ فإن الشفعة لا تقبل الانقسام، فإذا كان حق من لم يعف ثابتاً؛ من جهة تشميره في طلبه،

_ (1) في الأصل، (ي)، (هـ 3): فقد. والمثبت من (ت 2)، وتمام عبارتها: قد سقط حقه بعفوه نصف الشفعة. (2) زيادة اقتضاها السياق.

فحق صاحبه بمثابة حقه، فينبغي أن يغلّب [جانب] (1) الثبوت على [إخالة] (2) القول بالتبعيض، ويخرج من مجموع ذلك إلغاء عفو العافي. فهذا الذي ذكره ثلاثة أوجه، وإذا ضممناها إلى ما هو المذهب، كان المجموع أربعة أوجه. 4755 - وليقع التفريع بعد هذا على الوجه الأول، الذي هو المذهب. قال الشيخ: هذا الذي ذكرناه فيه إذا ثبتت الشفعة لرجلين ابتداء، فأما إذا ثبتت الشفعة لرجل واحد، فمات، وخلّف وارثَيْن، فعفا أحدهما، قال: اختلف أئمتنا على طريقين: منهم من قال: هذه المسألة تجري مجرى المسألة الأولى، وهي إذا ثبتت الشفعة ابتداءً لرجلين، فعفا أحدهما. ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة تنزل منزلة ما لو ثبتت الشفعة لرجلٍ واحد، فعفا عن بعضها. وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى ما قدمناه من أن الوارث يأخذ الشفعة لنفسه أو يأخذها للمورث. فإن قلنا: يأخذها لنفسه، فالورثة بمثابة الشفعاء على الابتداء. وإن قلنا: إنه يأخذها للمورث، فهو واحد، والتفصيل فيه كالتفصيل في تصرف الشفيع الواحد. 4756 - ومما يتعلق بهذا الأصل أنه لو كانت الدار مشتركة بين ثلاثة، فباع أحد الشركاء نصيبه من أحد الشريكين، فللشريك الذي لم يشتر حقُّ الشفعة، ولكن هذا المشتري يقول: كما ثبتت الشفعة لك لشركتك، فكذلك ثبتت لي، فإني شريكٌ مثلك، فالذي اشتريته، فهو بيننا لحق الشفعة. قال الأصحاب: للمشتري ذلك. وقال ابن سريج: لا شفعة للمشتري؛ فإن الشفعة في الشرع أثبتت جلباً للملك، ولو أثبتنا المشتري شفيعاً، لكان مستبقياً للملك بالشفعة، وهذا يخالف موضوعَ الشرعِ في قاعدة الشفعة، فعلى المشتري أن يسلم على رأي ابن سريج تمامَ الشقص الذي اشتراه للشريك الذي لم يشتر.

_ (1) زيادة من: (ي)، (هـ 3). (2) في الأصل، (ي)، (هـ3): "إحالة" والمثبت من (ت 2).

ولو باع بعضُ الشركاء بعض حصته، ثم لما طلب سائر الشركاء الشفعة قال البائع: قد بقي لي شِرْكٌ في الدار، فأنا أساهمهم فيما بعت لحق الشفعة، فليس له المساهمة عند الكافة. والفرقُ بين الشراء والبيع أن المشتري جالبٌ، والشفعة جلبٌ، فالمسلكان متوافقان والبيع إزالة، فلم يستقم أن يُقْدمَ على الإزالة، ويُلزمَها بطريق إلزامها، ثم يبغي الاسترجاع من عين ما أزال. وباع. فإذا فرعنا في مسألة الشراء على الأصح، وقلنا: إن المشتري له حق الشفعة، فلو قال الشفيع: خذ جميع الشقص، فقد تركت حق الشفعة. فإما أن تأخذ أنت الشقص المشترَى بكماله، أو تدع، فظاهر المذهب أنه ليس للمشتري ذلك بخلاف ما لو ثبت في الصفقة شفيعان، وليس أحدهما مشترياً؛ فإنا على المذهب المعتبر نجوّز لأحدهما أن يترك الشفعة إلى صاحبه، ثم الحكم على المتروكِ عليه أن يأخذ الكل، أو يدع الكل. والفرق بين الشفيع الذي ليس مشترياً وبين الشفيع في مسألتنا أن الشفيع الذي ليس مشترياً جالب على الحقيقة، فلا يتحتم عليه الطلب، والمشتري إنما جلب الملك بطريق الشراء، فليس له أن يكلف صاحبه استخراج الملك عن حكمه، وهو لو ترك، كان تاركاً ملكاًً لزم له بالشراء، فلذلك لم [يجز] (1)، وكان شفيعه على أخذِ محض حقه. وذكر الشيخ أبو علي وجهاًً عن بعض الأصحاب أن المشتري إذا ترك حقه من الشفعة في استبقاء ما اشترى، فيجوز ذلك، ثم يتوجه في ظاهر المذهب على الشفيع الذي ليس مشترياً أن يأخذ جميع الشقص أو يدع قياساً على الشفيعين اللذين ليس أحدهما مشترياً. وهذا بعيد. والوجه ما ذهب إليه عامة الأصحاب. هذا مقصود الفصل. فرع: 4757 - إذا وجد الشريك في الدار نصيب شريكه في يد أجنبي، وألفاه متصرفاً فيه، وزعم أنه اشتراه من شريكه، وكان ذلك الشريك غائباً، فهل يجوز

_ (1) في الأصل، (ت 2)، (ي): يلزم. والمثبت من (هـ 3).

للشريك الحاضر أن يأخذ ما صادَفه في يده بحكم الشفعة، بناء على تصديقه فيما ادعاه من الشراء؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك ما لم يتحقق عنده الشراء من جهةٍ أخرى. والوجه الثاني - وهو الأظهر أن له أن يعوّل على قوله؛ فإن أحكام البياعات يعتمد معظمُها قولَ من يُتلقى الملك منه، فإذا قال هذا المتصرف: قد ملكت بالشراء، فبناء الشفعة على قوله بمثابة بناء الشراء على قوله. ولا خلاف أنه يجوز الشراء منه تعويلاً على قوله: اشتريت. ثم إذا رجع الغائب، فإن صدّق [صاحبُ الملك ما ادّعاه صاحبُ اليد] (1) من الشراء، نفذت الشفعة. وإن كذبه، فالقول قوله حينئذٍ في تكذيبه مع يمينه، فإذا انتهت الخصومة معه، رددنا الشفعة عوداً إلى قول الشريك الراجع المكذب. فصل (2) قال الشافعي: "فإن حضر أحد الشفعاء أخذ الكل بجميع الثمن ... إلى آخره" (3). 4758 - نصور المسألة فيه إذا كانت الدار بين أربعةٍ، فباع واحد منهم، فالثلاثة الباقون شفعاء، ثم لا يخلو إما أن يكونوا حضوراً، أو غُيَّباً، فإن كانوا حضوراً، أخذوا بالشفعة، ويقسم الربعُ المبيع بينهم بالسوية، والمسألة مفروضة في استوائهم في الحصص. وإن تركوا الشفعة، جاز، وسلم للمشتري ما اشتراه. وإن طلب بعضهم الشفعة وعفا البعض، فقد ذكرنا كلامَ الأصحاب في هذا الطرف، وأوضحنا أن المذهب الظاهر أن الذي لم يعفُ يأخذ الكل إن شاء، أو يدع.

_ (1) في الأصل: فإن صدّقَ فيما ادعاه صاحب اليد. وفي (ي): فإن صدق فيما ادعاه صاحب اليد. وفي (هـ 3): فإن صاحب صدّق اليد فيما ادعاه صاحب اليد. والمثبت عبارة (ت 2). (2) في (ت 2): (فرع) مكان (فصل). (3) ر. المختصر: 3/ 52.

فإن قال: آخذ ما يخصني عند المزاحمة، لم يكن له ذلك. هذا ظاهر المذهب. 4759 - ولو كان الشفعاء غُيّباً لمّا جرت الصفقةُ، فلو حضر واحد منهم، وطلب الشفعةَ، فله ذلك، وليقع البناء على ظاهر المذهب فيه إذا حضر، كما أعدنا المذهب فيه الآن، فنقول في هذا الآيب الراجع: خذ الشقص بتمامه، وابذل جميعَ الثمن للمشتري، ليس لك إلا هذا إن أردت الشفعة. فلو قال: آخذ ما يخصني عند المزاحمة وأترك نصيب صاحبيَّ الغائبين، لم يكن له ذلك. وللمشتري أن يقول: لا آمن ألا يحضر صاحباك أو يحضرا ولا يرغبا في الشفعة، فتتبعض الصفقة عليَّ. هذا حكمنا في الأول إذا حضر. فلو أخذ تمام الشقص بتمام الثمن، ثم رجع الثاني، فله أن يقول للأول: "أنا وأنت بمثابة واحدةٍ في استحقاق الشفعة، وعودُ الثالث مغيّبٌ، قد يكون وقد لا يكون، فينبغي أن نستوي"، فهذا الكلام الذي أبداه حق، ولا بد من إجابته إلى ملتمسه، فعلى الأول إذن أن يشاطره، ثم الثاني يبذل نصف الثمن، ويسترد نصف الشقص. فإذا عاد الثالث وهو على الطّلب، فإنَّه يأخذ من كل واحد من الأول والثاني ثلثَ ما في أيديهما، ويبذل مقدار ما يأخذ من الثمن. هذا هو الترتيب في قاعدة المذهب. فلو حضر الأول، وقال: أنا آخذ نصيبي، وأتوقف في نصيب صاحبيّ؛ فإني لو أخذتُ الجميع، لكان الظاهر أن ينقضا عليَّ. فإذا فرعنا على قول الفور، وجرينا على ظاهر المذهب الذي جعلناه قاعدة الفصل، فالمشتري لا يجيبه إلى ما يبغيه من قبض البعض؛ فإن هذا يفرّق الصفقة عليه في الحال. وهل يُجعل توقف هذا الراجع في أخذ الكل تقصيراً منه مبطلاً لحق شفعته رأساً؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا نجعل هذا التوقف -على قول الفور- مبطلاً لحقه من الشفعة؛ فإنه يتمكن في الحال من أخذ الجميع، فتركه ما هو متمكن منه لتوقع أمرٍ - مبطلٌ لحقه. هذا اختيار ابن أبي هريرة. والوجه الثاني - لا يبطل حقه، وينتصب ما أبداه من توقع استرداد ما يأخذ منه عذراً في التأخير. ثم محل عذره في حق صاحبيه ثلثا الشقص، والثلث منه يمتنع عليه أخذه

بسبب امتناع المشتري من تبعيض الصفقة عليه، فانتظم في الجميع عذرٌ في التأخير. هذا مذهب أبي إسحاق المروزي. فإن قلنا: بطلت شفعته بهذا التأخير، فهذا جريانٌ على ظاهر المذهب، فنجعل تقصيره بمثابة تصريحه بالعفو، وقد ذكرنا في تصريح بعض الشفعاء بالعفو عن نصيبه الأربعةَ الأوجه. ونحن وإن كنا نجري مقصود كلّ فصلٍ على ظاهر المذهب، فنشير في الأثناء إلى ما سواه، حتى لا تنسل الوجوه البعيدة عن ذكر الناظر في الفصل وفكرِه. ونعود بعد التنبيه إلى [الفصل] (1) فنقول: إن قلنا: بطلت شفعته بهذا التأخير، فإذا حضر صاحباه أخذا جميع الشقص، واقتسماه نصفين، على المذهب، ويخرج الأول من البين. وإن قلنا: لم يبطل حق الأول، فإذا حضر صاحباه، فإن طلبا الشفعة، فإنهم يقتسمون الشقص بينهم بالسويّة، وإن عفا في الحضور بعضُهم، فقد مضى فيه الأوجه الأربعة. 4760 - ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو حضر الأول، وأخذ تمام الشقص، كما رسمناه، ثم حضر الثاني، وكان حقه أن يشاطر الأول، فلو قال: أنا أقنع بمقدار حقي، وهو ثلث الشقص، وأترك نصيب الغائب على الذي رجع أولاً؛ فإني لو أخذتُ النصف، لنقض عليَّ الثالثُ إذا عاد ثلث ما في يدي، فلست أرغبُ أن آخذ ما سيؤخذ مني، فإذا بقي على هذا التقدير الثلثان في يد الأول، وقبض الثلثَ، وبذل مقداره من الثمن، فإذا رجع الثالث، فقد قال ابن سريج: للثالث أن يقول للثاني: تركت ما تركت عافياً مُخلاً بحق نفسك، وجرى ذلك على الشيوع ولي مما في يدك الثلث، فيأخذ منه ثلث ما في يده، ثم يأتي إلى الأوّل ويقول: أضمُّ ما أخذتُه من الثاني إلى ما بقي في يدك، ونشترك فيه، ونقتسمه نصفين بيننا. هذا هو الذي رآه ابن سريج. وإذا أردنا تصحيحَ هذا الحساب طلبنا عدداً له ثلث ولثلثه ثلث، ثم أقله تسعة،

_ (1) في نسخة (د 2) وحدها: الأصل.

فنصرف ستة منها إلى الأول، وثلاثة إلى الثاني ثم ينتزع الثالث من يد الثاني واحداً فيضمه إلى الستة في يد الأوّل، فتصير سبعة، ثم السبعة لا تنقسم على اثنين، فتضرب اثنين في أصل المسألة، وهو تسعة فتصير ثمانية عشر، وقد كان للثاني من التسعة اثنان، فنضربهما في المضروب في المسألة فيرد علينا أربعة، وهي حصة الثاني، فتبقى أربعة عشر، تقسمه بين الأول والثالث، فلكل واحد منهما سبعة. وإذا كان ربع الدار ثمانية عشر، فجملتها اثنان وسبعون، فهذا وجه القسمة عند ابن سريج. قال القاضي: لما ترك الثاني على الأول سدساً، كان ذلك عفواً منه في بعض الحق، والشفيع إذا عفا عن بعض حقه، فإنا في ظاهر المذهب نُبطل جميع حقه، فيخرج منه أنه يسقط حق الثاني بالكلية. ويقسم الشقص نصفين بين الأوّل والثالث. وهذا الذي قاله متجه في قياس الشيوع. وابن سريج بنى مذهبه الذي قدّمناه على تقدير العفو، وعليه قال: للثالث أن يقول للثاني: إن أسقطت حقك، لم يسقط حقي ممَّا في يدك. وحقيقة هذه المسألة عندنا تبتني على الوجهين المقدّمين في أن الأول لو رجع وقال: لا آخذ إلا نصيبي، وأتوقف في نصيب صاحبي، فقوله هذا هل يكون تقصيراً منه مبطلاً لحقه؟ فإن جعلنا هذا تقصيراً، اتجه ما قاله القاضي من سقوط حق الثاني. وإن قلنا: نعذر الأول في توقفه، ولا نجعل ذلك عفواً منه، فإذا قال الثاني: تركت عليك نصيب الثالث، فيكون معذوراً، ولا يكون ما صدر منه عفواً. فعلى هذا لا يملك الثالث أن يحط نصيب الثاني من الثلث، ويرجع القول إلى اقتسامهم في آخر الأمر الشقص أثلاثاً بينهم (1). وهذا متجه حسن. فانتظم إذاً في المسألة ثلاثة أوجه في حق الثاني: أحدها - مذهب ابن سريج. والثاني - مذهب القاضي، والثالث - اقتسام الثلاثة [آخراً] (2) بالسوية أثلاثاً. 4761 - ومما فرعه العراقيون في أطراف المسألة أن الأول لو أخذ الكل كما رسمناه، ثم شاطره الثاني، ثم عاد الثالث، ولم يظفر إلا بأحدهما، فلو قال له:

_ (1) في (ت 2)، (ي)، (هـ 3): "ويرجع القول في اقتسامهم في آخر الأمر إلى أن الشقص أثلاث بينهم". (2) في الأصل، (ت 2): أجزاء.

لست أظفر إلا بك، ولا [فرق] (1) بيني وبينك، فأشاطرك فيما في يدك ثم [ننظر] (2) ما يكون، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - له ذلك، وهو قياس أرشد إليه ما حكيناه من صيغة [قول الثالث] (3)، فإن مبنى هذه المسألة على استواء الشفعاء آخراً، وبناء الأمر على ترك التبعيض على المشتري. والوجه الثاني - أنه ليس له أن يأخذ ممّا ظفر به إلا الثلث؛ فإن باقي حقه في يد الآخر، فليس له مؤاخذة هذا الحاضر بما هو في يد غيره. 4762 - ومما يتعلق بتمام البيان في الفصل أن الأول لما أخذ جميع الشقص، فلو انتفع بما أخذه، وأخذ من ثمرة الأشجار، وغَلة (4) الأرض ما أخذ، فإذا رجع الثاني وشاطره، فإنه يشاركه في المنفعة من وقت المشاطرة، ولا يسترد منه شيئاًً مما أخذه؛ إذ (5) كان منفرداً. والسبب أن الأوَّل لما أخذ الكل ملكه ملكاً محققاً، ولم نقل ملكه موقوف على [ما يبدو من عفو] (6) صاحبيه. وكيف [يستأخر] (7) وقد بذل جملة الثمن، وزال ملك المشتري (8) عن الشقص. ويستحيل أن يملك لصاحبيه من غير توكيلهما. فإذا تحقق زوال ملك المشتري، ولم يكن الأول وكيلاً لصاحبيه، فلا طريق إلا الحكمُ بثبوت الملك للأول، ثم هو عرضة النقض ابتداءً وافتتاحاً في نصيب صاحبيه، وهذا يقتضي صرفَ المنفعة إليه في زمان الانفراد؛ إذ هو في حقهما بمثابة المشتري في حق الشفيع. ثم لو انتفع المشتري قبل أن يتفق أخذُ الشفيع، فذاك الذي يأخذه غيرُ مسترد منه، ثم إذا جاء الثاني وشاطر، فإنه يشارك في شطر المنفعة من وقت المشاطرة، ثم الثالث

_ (1) في الأصل: قرب. (2) في الأصل: انظر. (3) في الأصل: والثالث. (4) (هـ 3): وغابة الأرض. (5) في الأصل: إن، (ي)، (هـ 3): إذا. (6) في الأصل: على تأييد وأثر من عود صاحبيه، وفى (ت 2): على لما يبدو من عفو صاحبه والمثبت من (ي)، (هـ 3). (7) في الأصل، (ت 2)، (هـ 3): نستجيز. والمثبت من (ي) وحدها. (8) أي زال إلى الشفيع الأول.

يشارك في ثلث المنفعة من وقت المثالثة. هذا ترتيبٌ مجمع عليه، وهو يرشد إلى ثبوت الملك للأوّل في الجملة تحقيقاً، وكذلك القولُ في الثاني، ثم القرار على الأثلاث في آخر الأمر. 4763 - وممّا يتعلق بما نحن فيه أن الأول بذل الثمن للمشتري فعهدته عليه، والثاني يبذل شطر الثمن للأول، فعهدته على الأول، والثالث يبذل الثمن للأول، والثاني، فعهدته عليهما، وسنعيد هذا الفصل بعينه (1) في فصل العهد إن شاء الله تعالى. فصل قال: "وكذلك لو أصابها هدم من السَّماء ... إلى آخره" (2). 4764 - نقل المزني عن الشافعي أن الدار إذا انهدمت بعد ثبوت حق الشفعة، فالشفيع يأخذ الكل بكل الثمن، ونقل الربيع أنه يأخذ الباقي بحصته من الثمن. وقد اضطربت طرق الأصحاب، وأتى بها الباقون على خبطٍ لا يُجدي فائدة، ولا يوضح مقصوداً، والفصل يعترض فيه أمران: أحدهما - أن الدار إذا انهدمت، التحق النقض بالمنقولات، وأَخْذُ المنقول بالشفعة بعيد، ولكن جرى هذا بعد استحقاق الشفعة، فأثار تردّداً ويعترض في المسألة أيضاًً أن النقض إذا تلف، ولم نر أخْذَه، فالشفيع يأخذ العرصة، وما بقي من البناء بكل الثمن أو بقسطه؟ وهذا يُفضي إلى تردُّدٍ أيضاًً. 4765 - والوجه الاقتصار على طريقةٍ تحوي الغرض، وتشتمل على وجه البيان في الأطراف، فنقول: إن ارتجت الدار وتزلزلت، ولم تنهدم ولكن ظهر فيها فطور، وتكسّر، فهذا تعيّبٌ في الشقص المشفوع، ولا نقض، فالشفيع بالخيارِ إذا جرى ذلك في يد المشتري بين التَّرْك والأخذ بكل الثمن. وهذا بمثابة ما لو تعيب المبيع في يد البائع، فالمشتري بالخيار بين إجازة العقد بجميع الثمن، وبين رد المبيع واسترداد جميع الثمن.

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ3): عليهما. (2) ر. المختصر: 3/ 52.

وإن سقط السقف أو [بعض] (1) الجدران على الأرض فلا يخلو النقض إمّا أن يكون قائماً أو تالفاً، فإن تلف النقضُ، فهذا يبتني على أصلٍ، وهو أن أجزاء البناء تجري من الدار مجرى الصفات، (2 أو تجرى مجرى الأعيان؟ وفيه جوابان ظاهران ذكرهما القاضي والأئمة: أحدهما - أنها تجري من الدار مجرى الصّفات 2)، وهي منها بمثابة الأطراف من العبد، ولو سقطت أطرافُ العبد في يد البائع، لم يُسقط من الثمن شيئاً، ولم يثبت للمشتري إلا الخِيَرةُ في الإجازة بالكل والفسخ، واسترداد الثمن. هذا أحد الوجهين. وهذا القائل يقول: إذا انهدمت الدار المبيعة، وتلف نقضها، أو بعضُ نقضها في يد البائع، فالمشتري بالخيار بين الرد والإجازة بجميع الثمن، كما ذكرناه في أطراف العبد، فعلى هذا نقول في مسألتنا: يأخذ الشفيع بكل الثمن إن شاء، فإن أحب أعرض. والوجه الثاني - أن أجزاء البناء تجري مجرى الأعيان المقصودة حتى، إذا انهدمت الدار في يد البائع، وفات النقض، جعلنا فوات النقض بمثابة تلف أحد العبدين قبل القبض، إذا كان المشتري اشترى عبدين، فتلف أحدهما؛ فإنه يأخذ العرصة (3) بحصتها من المسمى في ظاهر المذهب، كما فصلنا ذلك في تفريع تفريق الصفقة، والغرض إلحاق أجزاء البناء بأحد العبدَيْن، والثوبين، كما ذكرناه. فعلى هذا يأخذ الشفيع العرصةَ بحصتها من الثمن، كما لو اشتملت الصَّفقةُ على شقص وسيف، فالشفيع يأخذ الشقص بقسط من الثمن. هذا كله إذا كان النقض فائتاً. 4766 - فأما إذا كان النقض قائماً، فهل للشفيع أخذ النقض؟ فعلى وجهين، أو قولين؛ أخذاً للتردد من النَّصيْن: أحدهما- لا يأخذ النقض؛ لأنه منقولٌ ولا يُستحق المنقول بالشفعة. والثاني- أنه يأخذه؛ فإن ذلك جرى بعد تعلّق الشفعة، وتأكدها، فصار كما لو

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ما بين القوسين ساقط من (هـ 3). (3) العرصة: أي الأرض التي أقيمت عليها الدار.

أخذ الشقص بالشفعة، ثم فرض الانهدام، وليس هذا كالشقص والسيف إذا اشتمل العقد عليهما؛ فإن الشفعة لم تتعلق إلا بالشقص وحده. التفريع: 4767 - إن حكمنا بأن الشفيع يستحق النقضَ، رجع الكلام إلى التعيب بالانهدام، وقد فصلناه، فنقول للشفيع: إن أردتَ الأخذَ، فخذ العرصة والنقضَ بتمام الثمن، وإلا، فأعرض. وإن قلنا: يخرج النقض عن الاستحقاق، فإن جعلنا أجزاء البناء بمثابة أحد العبديْن، أخذ الشفيع العرصة، وما بقي ثابتاً من البناء بقسطه من الثمن، وإن لم نجعل أجزاء البناء بمثابة أحد العبدين، بل جعلناها أوصافاً، فإذا قطعنا استحقاق الشفيع عن النقض، وبقَّيناه على ملك المشتري، فهل يأخذ الشفيع ما بقي بقسطه، أو يأخذ بالتمام؟ فعلى وجهين: أحدهما -وهو ظاهر القياس- أنه يأخذ بالتمام؛ فإنا نفرع على أن أجزاء البناء صفةٌ. والثاني - أنه يأخذ بالقسط. وإن فرعنا على أن البناء صفاتٌ، والسَّبب فيه أنا نُبقي النقضَ -وقد كان من الدار- ملكاًً للمشتري، فيبعد أن يبقى في يده ما هو مملوك، ويغرم الشفيع تمامَ الثمن. ورب قولٍ يعسر طردُ قياسه لأمر يعترض. وهذا من ذاك، فليفهم الناظر، وليفرق بين بقاء النقض للمشتري وبين تلفه بآفة سماوية. والقائل الأول يُلحق النقضَ وقد بقي للمشتري بالثمار، والزوائد التي يستفيدها المشتري قبل قبض الشفيع. ولو تلف النقض بإتلاف أجنبي، فإن قلنا: النقضُ حق الشفيع غرِم المتلف قيمةَ النقض، وأخذ الشقصَ بتمام الثمن. وإن قلنا: للمشتري النقضُ، فقيمة النقض على المتلف للمشتري. وهل يأخذ الشفيع ما بقي بتمام الثمن، أو يأخذه بقسطه؟ فعلى التردد الذي ذكرناه في بقاء النقض، مع البناء على أصلين: أحدهما - أن الشفيع لا يستحق النقضَ، والثاني - أن الأجزاء صفاتٌ، وليست أعياناً في تقدير العقد. ومن قال مع هذين الأصلين بالرجوع إلى التفصيل، فهذا يُناظر أصلاً ذكرناه لابن

سريج، وذلك أنه قال: إذا رأينا مقابلةَ أطراف العبد بالمقدَّرات نضطر إلى نقض هذا الأصل فيه، إذا قطع المشتري يدي العبد؛ فإنا لو جعلناه قابضاً لجميع العبد، والعبد [بعدُ] (1) في يد البائع، لكان ذلك محالاً، فيرجع في هذا التفريع إلى قول اعتبار النقصان. كذلك يبعد أن يبقى النقضُ ملكاً للمشتري، ويغرَم له الشفيع تمام الثمن، فيرجع هذا القائل لهذه الاستحالة من قول الصفة إلى قول الجزء في هذه الصورة المخصوصة. وهذا نجاز الفصل بجميع ما فيه. فصل قال: "ولو قاسم، وبنى، قيل للشفيع: إن شئت، فخذ بالثمن وقيمة البناء ... إلى آخره" (2). 4768 - المشتري إذا بنى بعد جريان القسمة، أو غرس، ثم جاء الشفيع، وطلب الشفعة، فإنه لا ننقض غِراسه وبناءه مجاناً، خلافاً لأبي حنيفة (3). ومعتمد المذهب أن المشتري بنى وله البناء، وصادف تصرفُه ملكَه، فكان بناؤه محترماً، والبناء المحترم لا يُحبط على الباني. ثم تفصيل المذهب في البناء والغراس، كتفصيل المذهب فيهما إذا صدرا من المستعير في الأرض المستعارة، ثم للمعير أن يرجع في العاريّة. وقد تقصَّينا هذا على أحسن مساقٍ في كتاب العواري، وأوضحنا أن مالك الأرض يتخير بين ثلاث خلال: إحداها - أن يقوّم عليه البناء والغراس. والثانية - أن يبقيها ويُلزمَ المستعيرَ أجر المثل في مستقبل الزمان. والثالثة - أن ينقضها ويغرَم ما ينقُصه النقضُ، فالشفيع مع المشتري في تفصيل هذه الخلال، بمثابة المعير مع المستعير.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ر. المختصر: 3/ 52. (3) ر. مختصر الطحاوي: 123، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 247 مسألة: 1963.

وقد ذكرنا أن المستعير لو زرع الأرض المستعارة بإذنٍ، لم يقلع زرعُه في أصْل المذهب، وأشرنا إلى تردُّدٍ في أنه إذا رجع عن العاريّة هل يغرَم المستعير أجر المثل في بقية المدة؟ والذي قطع به أئمتنا أن المشتري إذا زرع الأرض، ثم أخذ الشفيعُ الشقصَ، فلا شك أن زرعه لا يقلع، ولا يلزمه الأجرة؛ فإنه كان تصرف في ملكه، وليس كالمستعير مع المعير؛ فإن انتفاع المستعير كان يعتمد إباحةَ المعير، وقد انقطعت بالرجوع. وألحق الأئمةُ سقوطَ الأجر في الزرع عن المشتري بما لو باع الرجل أرضاً مزروعة، فإذا صححنا البيع، فليس على بائع الأرض أجرُ الأرض من وقت البيع إلى الحصد. وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على إلحاق المشتري (1) بالمستعير في أجرة الأرض المزروعة. وهذا غير بعيد في القياس، وإن كان بعيداً في النقل؛ وذلك أن المشتري زرع الأرضَ، والشفعةُ متعلقة بها، بخلاف من زرع أرضه الخالصة، ثم باعها؛ فإنه لم يكن على بائع الأرض في وقت الزرع استحقاق. وهذا بيّن من هذا الوجه. 4769 - ثم إن المزني لما نقل من نص الشافعي البناء والغراس، أخذ يعترض ويقول: هذه المسألة لا تتصور على مذهب الشافعي؛ لأن المشتري لو بنى قبل القسمة، فهو متعدٍّ غاصب، لأنه بنى في ملك الغير، فيقلع عليه مجاناً، وإن فرض البناء بعد القسمة، فالقسمة والمفاصلة تُبطل الشفعة، فكيف ينتظم بقاء الشفعة مع جريان البناء والغراس بعد القسمة (2). فقال الأصحاب: يمكن تصوير القسمةِ من وجوه، مع بقاء الشفعة، فمنها: إذا قيل للشفيع: اشترى فلانٌ الشقص بألف، فرغب الشريك عن طلب الشفعة، ورأى الثمنَ فوق المقدار الذي هو ثمن المثل، فلو قاسم المشتري، ثم بان أنه كان اشترى الشقصَ بخمسمائة، فللشفيع حقُّ الشفعة، وتلك القسمةُ لا تُبطل الشفعةَ؛ لأنه أقدم

_ (1) المشتري: المراد به هنا مشتري الشقص. (2) هذا معنى كلام المزني في المختصر: 3/ 53.

عليها على تقدير زيادةٍ في الثمن، وقد بان الأمر بخلاف ما قدّر. ومما ذكره الأصحاب في وجوه القسمة، أن الشريك إذا رأى الشقصَ في يد إنسان، فقال: اتَّهبتُه، وصدَّقه، وقاسمه، ثم بان أنه اشتراه، فالشفعة ثابتة، والقسمة صحيحةٌ. ومن الوجوه ما لو غاب عن البلد، ووكّل من يقاسم شريكَه، ومن (1) يشتري من شريكه، فقاسم وكيلُه، صحت القسمةُ، وله الشفعة إذا رجع، والإذن في المقاسمة لو وقع بعد ثبوت الشفعة والعلم بها، لكان مبطلاً للشفعة، ولكن إذا تقدم التوكيل بالمقاسمة على جريان البيع، كان لتصحيح الوكالة وجه على رأي من يرى تعليقها. والشفعة لا تسقط؛ فإن الإذن تقدَّم على ثبوتها. ولو علق الشريك العفوَ عن الشفعة بوجود الشراء قبل وجوده، لم ينفذ العفو عند وجوده. ومن الوجوه أن يرفع المشتري [العقدَ] (2) إلى مجلس الحاكم، ولا تبين حقيقة الحال، ويقول: هذه الدار مشتركة بيني وبين غائب، وأنا أريد القسمة، فعلى الحاكم أن ينصب قيّماً عن الغائب، ليقاسمه، وليس على القاضي طلبُ الشفعة له، لأنه استحداث تملك، فلا يليه على غائب. ومما ذكره الأصحاب أن المشتري لو وكل البائع بالمقاسمة، ولم يشعر الشريك بحق الشفعة، فقاسمه البائع على تقدير أنه باقٍ على [حقيقة] (3) ملكه، ثم بان له حقيقة الحال ثبتت الشفعة. فهذه وجوه صوّرها الأصحاب في القسمة، وقضَوْا بأن الشفعة تبقى معها. وبحقٍّ تمارى (4) المزني في تصوير المسألة.

_ (1) أي وكّل من يقاسم شريكه، والمشري الذي يشتري من شريكه، فبهذا يقع التوكيل بالمقاسمة قبل ثبوت الشفعة، فلا تبطلها. (2) في الأصل: القصة. (3) ساقطة من الأصل وحدها. (4) (هـ 3): تمادي.

والذي نراه أن كلَّ قسمة تولاها الشريك، أو وكيلٌ من جهته، وبناها على عدم العلم بالشفعة، فتلك القسمة صحيحة، وعدم علم المالك بثبوت حقٍّ له لا يتضمن ردَّ تصرفٍ أنشأه على اختيارٍ، وهو نافذ التصرف، والإشكالُ في ثبوت الشفعة مع صحة المقاسمة، فإن المقاسمة قاطعةٌ لعلة الشفعة، وكل ما قطع مقتضى الشفعة قبل التملك بها يقطعها، ولهذا كانت الشفعة عرضةَ السقوط على قول الفور بتأخير لحظة. ومعتمد الأصحاب في الشفعة مختلَفٌ فيه، فمنهم من اعتبر مؤنةَ المقاسمة وإفرازَ المرافق، وقد انفصل الأمر بوقوع القسمة، ومنهم من اعتبر المداخلة والتضييق، وقد زال هذا المعنى بصحة القسمة. وإذا كانت الشفعة تسقط بالرضا بالضرر، فتسقط بانقطاع الضرر. 4770 - والذي نحققه أن الشفيع يأخذ ملكاً مجاوراً أو شائعاً، فإن كان يأخذ ملكاًً مجاوراً، فهذا بعيد عن مذهب الشافعي، وإن كان يأخذ ملكاً مشاعاً، فلا قسمة إذاً، والبناء تبين وقوعُه في مشاع، فيجب منه سقوطُ حرمته، وليس كالمستعير؛ فإنه يغرس بإذن المالك على بصيرةٍ، وهاهنا لم يجر إذنٌ في البناء، وإنما جرت مقاسمة، فإن صحت، فلاَ شفعةَ بعدهَا، وإن بطلت، لم تقتض جوازَ البناء. وأقصى الإمكان في ذلك أن نجعل جريان القسمة مع الحكم بالصحة، بمثابة زوال ملك الشفيع عن الشرك القديم، وهو غير عالم بثبوت الشفعة، وقد ذكرنا قولين في ذلك، ولعلنا نعود إليهما من بعدُ، والجملة في ذلك أن الشفعة عمادُها ملكُ الشفيع، والشيوعُ، ثم في بقاء الشفعة مع زوال الملك قولان، فيجب إجراء القولين في زوال الشركة. وهذا بمثابة اختلاف القول في أن الأمَة إذا عتقت تحت زوجها العبد، ثم لم تشعر حتى عَتَق الزوجُ، ففي بقاء خيارها قولان. ويلتحق بهذا الفن زوال العيب القديم في يد المشتري، قبل بطلان حقه من الرد. ولو قلنا: القياس في هذه الأصول تغير الأحكام بهذه الطوارىء، لم يكن قولنا هذا

بعيداً؛ فإن ما ينافي في أصل وضعه ثبوتَ شيءٍ ودوامَه على علمٍ، فوقوعه على الجهل كوقوعه على العلم. هذا منتهى النظر في ذلك. 4771 - وفي النفس بعدُ بقيةٌ، فلعل الشافعي يرى دوام الشفعة إذا انتهى الشيوع إلى الجوار على صفة الغرور، وقطعُه بهذا مع قطع الأصحاب بعد المزني يُشعر به، فإن كان هذا مذهباً، اعتقدناه، واتبعناه، وانتظم من أصلنا أن الشفعة تبقى مع زوال الشيوع، إذا كان زوالها على الوجوه التي ذكرناها، ويبقى معه أن الضابطين وأصحاب الاستثناء، لم يصرحوا بهذا وأبهموه، والرأي وراء ذلك مشترك؛ فإن سنح لأحد بعدنا أمرٌ، فليلحقه بالكتاب. وما ذكره الأصحاب من قسمة القاضي، ففيها نظر عندنا، ولسنا نؤثر الخوض فيها الآن؛ فإنها من أحكام القضاة. ونحن نستوفق الله تعالى، وننتهي من أحكامهم إلى مبالغ لم نسبق إليها. وغرضُ الفصل يتم بما [سلّفناه] (1) من القسم في الأمثلة السابقة. فصل قال: "ولو كان الشقص في النخل فزادت ... إلى آخره" (2). 4772 - الزيادات الحادثة في يد المشتري تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها - الزياداتُ المتصلة: ككبر الوديِّ (3) وسوق (4) النخيل، فلا أثر لها، والشفيع يأخذ الأصول معها، ولا يلتزم للمشتري بسببها مزيداً، وإن كانت الزيادات حاصلة بتنمية المشتري وتعهده. والقسم الثاني - زيادة منفصلة تخلصُ للمشتري، وهي كالثمار تحدث في يد

_ (1) في الأصل: سلمناه، والمثبت من: (ت 2)، (ي)، (هـ 3). و"سلّفناه": أي قدمناه. (معجم). (2) ر. مختصر المزني: 3/ 53. (3) الوديّ: على فعيل: صغار الفسيل. الواحدة وديّة. (4) سوق النخيل: جمع ساق.

المشتري فيجُدُّها أو يؤبّرها، ثم يبتدىء الشفيع طلبَ الشفعة، فتيك الثمار تبقى للمشتري. وإن كانت موجودة حالة العقد، لم يتعلق بها استحاق الشفيع، إذا كانت بارزة مُؤبرة مُدْخلة في العقد بالتسمية؛ فإنها إذا كانت كذلك، التحقت بالمنقولات، ولو كانت غير مؤبرة حالةَ العقد، وقد دخلت تحت مطلق تسمية المبيع، ثم أبرت، انقطع عنها حقُّ الشفيع (1)، إذا جرى التأبير قبل أخذه. وفي هذا بقية سنوضحها آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. والقسم الثالث - زيادة اختلف القول فيها، وهي الثمرة قبل التأبير، فإذا ظهرت الثمرةُ في يد المشتري، ولم تؤبر، حتى أخذ الشفيع المشفوعَ، فالمنصوص عليه في الجديد أن الثمار للمشتري، لا حظ للشفيع فيها، كما إذا أبرت. وقال في القديم: هي للشفيع على سبيل التبع (2). وهذان القولان يجريان في المشتري إذا أفلس، وقد أطلعت النخيل المشتراة، ولم تؤبر، فالبائع هل يرجع في الثمرة أو تخلصُ للمشتري وغرمائِه؟ فعلى قولين. ولو أطلعت النخيل الموهوبة، ولم يؤبر الطلع، وقد تلف الإطلاع في يد المتهب، فعلى [هذين القولين] (3). وإذا ردّ المشتري النخيل بعد أن أطلعت في يده، فهل يبقى الطلع للمشتري أو يرده مع الأصل؟ فعلى قولين. 4773 - ومما يجب التنبه له أن الثمار لو كانت موجودة على النخيل حالة العقد، وبقيت غير مؤبرة، فأفلس المشتري، فالبائع يرجع في الثمار قولاً واحداً، رجوعَه في النخيل، وكذلك القول فيه إذا كانت الثمار موجودةً حالة الهبة، ودامت إلى وقت الرجوع، وكذلك لو فرضت موجودةً في البيع، ودامت إلى وقت الردّ. ولو كانت الثمار موجودة حالة البيع، ودامت غيرَ مؤبرة، ففي أخذ الشفيع لها

_ (1) في (ي)، (هـ 3): "المبيع". (2) في (ت 2)، (ي): البيع. (3) في الأصل: فعلى قولين.

قولان، لا يختلف التفريع بأن تحدث بعد الشراء، أو توجد عند الشراء وحالة الأخذ. وذلك أن الشفعة تنافي استحقاقَ المنقولات، وهذا لا يختلف بأن يكون موجوداً حالة العقد، أو حدث بعده. فإن التحقت الثمار (1) بالزوائد المتصلة، أخذها الشفيع (2 كيف فرضت، حادثةً أو مقارنةً للعقد، وإن لم نر إلحاقها بزوائد الشجرة المتصلة، فلا يأخذها الشفيع 2)، ولا يختلف الأمر بأن تكون موجودة حالة العقد أو تحدث من بعد. ولهذا قلنا: الثمار إذا كانت موجودة مؤبرة حالة العقد كذلك، وأدرجت في البيع ذِكْراً، فالشفيع لا يأخذها. 4774 - وقد يخطر للفقيه أنا إذا رأينا أخذ النقض بالشفعة، فيكون التأبير بعد العقد بمثابة انتقاض البناء، وهذا لا ينبني عليه حقائق الفقه؛ فإن الثمار إلى التابير تصير. فإن لم يتفق أخْذ المشفوع حتى أُبّرت، فقد تبينا أنها، لم تستحق بالشفعة، وهذه قضية لا تخفى على الفقيه، ولا يضر التنبيه عليها، والثمار لو كانت هي المبيعة في الإفلاس، لثبت الرجوع فيها، فيختلف الترتيب بأن تكون موجودة حالة العقد، أو تحدث بعدها والثمار قبل التأبير تدخل تحت مُطلق تسمية الشجر، إذا ثبتت الأشجار مثمنات أو أعواضاً، فيستتبع الشجرُ الثمرَ قبل التأبير في البيع، والصداق، وإذا أثبتت أجرةً، وكذلك القول في الهبة وإن كانت عريّةً عن العوض. 4775 - فإن قيل: قطعتم بالاستتباع في ابتداء هذه العقود، وردّدتم القولَ في الرجوع من البائع في حق المفلس، ومن الواهب، وكذلك في الردود، قلنا: لعل الفرق أن إنشاء التملّك بالتراضي اختيارُ قطع العلائق عن الأحوال، فقوي، واستتبع. والفسوخ والردود أمورٌ تنشأ قهراً، والرهن لما ضعف عن إفادة الملك، كان في استتباع النخيل الثمارَ التي لم تؤبر اختلافُ قولٍ، كما تقدم، ولا نطنب في هذه التفاصيل، فقد وضحت في مواضعها، وإنما قدرُ غرضنا ذكر ما يتعلق بالشفعة، وقد بان على ما ينبغي.

_ (1) (ت 2)، (ي): المنقولات. (2) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

فصل قال: "ولا شفعة في بئرٍ لا بياض لها، لا تحتمل القسمة ... إلى آخره" (1). 4776 - تفصيل القول في بيع شقص من بئر: أنها إن كانت واسعةَ القعر فسيحة المقر، بحيث يمكن أن يتخذ منها بئران، وكان فيها عيون يتأتى وقوع قدرِ الكفاية في كل قسم، فإذا بيع شقصٌ من مثل هذه البئر، ثبتت الشفعة للشريك؛ من جهة احتمالها للقسمة. وإن ضاقت البئر عن احتمال ما ذكرناه من القسمة، ولم يتأت اتخاذ بئرين منها، فإذا بيع شقص منها، فظاهر المذهب أن الشفعة لا تثبت للشريك. وفيه تخريج ابن سريج، وقد قدّمنا ذلك في صدر الكتاب. فإن رأينا إثبات الشفعة فيما لا ينقسم، فلا كلام، وإن لم نر إثبات الشفعة فيما لا ينقسم، فقد قسّم الأصحاب القول في ذلك على وجهين: فقال قائلون: إن لم تكن للبئر حريم، وكانت غيرَ منقسمة، فلا شفعة إذا اشترطنا كونَ المشترك قابلاً للقسمة. وإن كان للبئر حريم واسع، يقبل القسمة، فهل تثبت الشفعة في البئر تبعاًً للحريم؟ فوجهان: أحدهما - تثبت تبعاًً، كما تثبت الشفعة فى الأشجار؛ تبعاًً للمغارس والأرض. والثاني - لا تثبت بخلاف الأشجار؛ فإنها متصلة بالشقص في محل الشفعة، بخلاف البئر؛ فإنها مباينة عن الحريم، إذ هي بقعة أخرى، فلم تتبع الحريم. ولفظ الحريم أطلقه القاضي وغيرُه، وفيه استبهام عندي، فإن أريد به ما يتصل برأس البئر، مما يجب أن يصان لتبقى البئر مصونةً (2) كما [سأستقصي] (3) القول في حريم الأملاك في إحياء الموات، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 53. (2) (ي): مضمونة. (3) في الأصل: أستقضي.

فالحريم لا يكاد يوصف بالملك إلا على تفصيلٍ، واتباع البئر الحريمَ، وإن كان مملوكاً بعيدٌ؛ فإن البئر هي الأصل، والحريم تبع، فليس في الحريم على هذا التفسير ما يقتضي استتباعَ البئر. وصرح بعض أصحابنا بأمرٍ مفهوم في نفسه، فقالوا: إن كانت البئر تسقي مزراعَ، وكانت تيك المزارع قابلةً للقسمة، فإذا بيع قسطٌ منها مع جزء من البئر، ففي ثبوت الشفعة في البئر -على قولنا الصحيح، وهو اشتراط قبول الانقسام- وجهان: أحدهما - لا تثبت الشفعة؛ فإن البئر غيرُ منقسمة. والثاني - أنها تثبت تبعاًً للمزارع المنقسمة، وتوجيه الوجهين ما تقدم. والذين أطلقوا الحريم أرادوا به ما صرح به هؤلاء، من ذكر المزارع، وإنما وقع كلام الشافعي على الآبار التي تسقي النواضحُ منها المزارعَ، ثم تيك المزارع تنسب إلى البئر، والبئر تنسب إليها، فإذاً ليس المراد بالحريم ما يتصل بحافات البئر، وإنما المراد ما تسقيه البئر. 4777 - ثم اختلفت عبارة الأئمة فيما يحتمل القسمة، فقال الشيخ القفال، وطبقة من المحققين: المنقسم هو الذي يمكن الانتفاع [بأفراد] (1) الحصص المفروزة من الجنس الذي كان ينتفع [به] (2) قبل الإفراز: فإن كانت مزرعة أمكنت الزراعة في كل حصة، وإن كانت داراً مسكونة أمكنت السكنى، فيخرج مما ذكرناه الحمام الصغير الذي لو قسم، لم يتأت من كل قسم حمّام. وكذلك ما في معناه. ومن أصحابنا من قال: إذا كانت الحصة المفرزة بحيث يمكن الانتفاع بها بوجهٍ من الوجوه، كفى ذلك في الحُكم بكون الملك المشترك قابلاً للقسمة، وإن لم يمكن الانتفاع بالحصة من جنس الانتفاع بالجملة المشتركة. ومن أصحابنا من قال: إن كانت القيمة (3) تنتقص بالقسمة انتقاصاً متفاحشاً، فهو

_ (1) في الأصل: "بإفراز" والمثبت من (ت 2)، (ي)، (هـ 3). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) (ت 2)، (ي): الحصة.

غير محتملٍ للقسمة. وإن كان لا ينتقص انتقاصاً متفاحشاً، فهو محتمل للقسمة. فأما الحمّام، فإن كان كبيراً يمكن أن يُتخذ منه حمامان، فهو محتمِل للقسمة على المذهبين الأولين. فإن كان لا يتفاحش نقصان القيمة، ارتفع الخلاف، وإن كان صغيراً لا يمكن اتخاذ حمامين منه، لكن لو [أفرز] (1)، لصلح كل نصيب لمنفعة أخرى كالسكنى، واتخاذ المخازن، وغيرها، فهو على طريقة القفال غير قابلٍ للقسمة، وعلى طريقة الآخرين هو قابل للقسمة، ومن يرعى القيمة يتّبعها. 4778 - ومما نذكره الطاحونة، فإن كان يمكن أن يتخذ فيه حَجَران دائران تثبت فيها الشفعة، وإلا فعلى الخلاف الذي ذكرناه، ولو لم يكن في الطاحونة الكبيرة إلا حجر واحد وأمكن نصب حجرين، فهو مما ينقسم على المذهب، ثم الكلام في دخول الحجر الأعلى والأسفل تحت مطلق البيع مما سبق في موضعه على الاستقصاء. وإنما قصدتُ بذلك التنبيهَ على أن المعتبرَ إمكانُ نصب الحجرين، لا ثبوتهما. والدار إذا قسمت، فقد تمس الحاجة، إلى إفراد كل حصة بمرافق تُستحدث لها، ثم مسيس الحاجة إلى ذلك لا يخرجها عن كونها قابلةً للقسمة. فرع: 4779 - إذا كان بين رجلين دار مشتركة، لكل واحدٍ منهما نصفها، فبنى أحدُهما على السقف حجرةً، بإذن شريكه وإعارته إياه، أو بأن يعقد عقداً يستحق به ذلك. قال الشيخ: تثبت الشفعة لشريكه في نصف الدار إذا بيع، ولا تثبت الشفعة في الحجرة؛ فإنه ليس لشريكه في الحجرة شرك أصلاً، بل البائع ينفرد بالحجرة ولا شفعة، فيها. وكذلك إذا كان بين رجلين أرض مشتركة، ولأحدهما فيها أشجار انفرد بها، فإذا باع شقصَه من الأرض، وباع معه الأشجارَ، فلا شفعة في الأشجار، كما قدمناه. قال الشيخ: هذا ما علقته عن القفال. ثم عُرِضت عليه المسألة، فقال (2): ينبغي أن تثبت الشفعة في الحجرة والنخيل التي انفرد بها البائع، وإن لم يكن للشريك فيها

_ (1) في الأصل: "أفرد". (2) القائل الشيخ، وكأنه خالف ما علقه عن القفال. والشيخ إذا أطلق، فهو أبو علي السنجي.

شرك؛ فإن الحجرة متصلة بالدار المشتركة اتصالاً لو بيعت الدار مطلقاً، لتبعها العلو، وكل ما ينسب إلى الدار. فإذا تحقق هذا الضرب من الاتصال، تثبت الشفعة؛ فإنه فوق اتصال الجوار. وهذا ليس بشيء، والصحيح ما قدمناه أولاً؛ فإن الشفعة عند الشافعي رضي الله عنه لا تثبت إلا في مشترك. فرع: 4780 - أصول الأشجار تتبع الأراضي في الشفعة؛ لأنها ثوابت، فتبعت الأرض، وبمثله لو باع مبقلة وفي الأرض أصول البقل، وكانت تخلّف، وينبت منها ما ينبت، وتُجَز، ثم تعود فتخلّف، فقد قال الشيخ أبو علي: إنها بمثابة الأشجار في الاستحقاق بالشفعة. وهذا فيه نظر، ولم أره إلا للشيخ رضي الله عنه. فصل قال: "فأما الطريق التي لا تُملك، فلا شفعة فيها ... إلى آخره" (1). 4781 - الممر الشائع (2) الذي لا اختصاص فيه لا حُكم للاشتراك فيه في اقتضاء الشفعة؛ فإن الشارع غيرُ مملوك؛ فلا يتصور ورود عقد عليه، فإذا بيع ملكٌ يُفضي إلى الشارع أو يُفضي الشارع إليه، فلا يثبت للمشارك في الممر شفعةٌ في الدّار المبيعة، التي بابها لافظٌ في الشارع. وهذا لا إشكال فيه. والسكة المنفتحة في الأسفل شارعٌ، فأما السكة المنسدة، فَعَرْصَتُها، أو ساحتها ملك لسكان السكة، فإن فرض بيعُ دارٍ، فليس للمشتركين في عرصة السكة حق الشفعة في الدار التي بيعت؛ إذ لا شركة في الدار. وأما السكة في نفسها، فملكٌ من الأملاك، فالذي يقتضيه قياس الأصول أن يقال: إن كانت قابلةً للقسمة تثبت الشفعة فيها، وإن لم تكن قابلة للقسمة، فلا شفعة فيها، على ظاهر المذهب.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 54. (2) (ت 2)، (ي): الشارع.

ثم الصحيح في اعتبار ما يقبل القسمة ما ذكره القفال، فإذا قلنا: السكة قابلة للقسمة عنينا بذلك أنها لو أفرزت، كانت كلُّ حصة بحيث يتأتى اتخاذها ممراً، فهذا هو القابل للقسمة على الطريقة المشهورة. وإذا ثبت هذا، فمعلوم أن من باع داراً دخل تحت مطلق بيعها ممرُّها من السكة، فلو أثبتنا للشركاء في عرصة السكة حقَّ أخذ حصة الدار المبيعة من عرصة السكة، فهذا يقتضي أن يستحقوا على المشتري الممر الثابت للدار المشتراة، وإذا كان كذلك، فكيف السبيل فيه؟ فصّل الأصحاب هذا أولاً، فقالوا: إن كان المشتري يتمكن من أن يتخذ للدار المشتراة ممراً من جانب آخر يدخل منه ملكَه، فالشفعة ثابتةٌ في الممر على قياس الأصول. وإن كان لا يتأتى للدار ممرٌّ إلا في هذه الجهة، [فلا] (1). 4782 - وقد عبر الأئمة من أوجه وراء ذلك عن المقصود، فقال قائلون: في ثبوت الشفعة أوجهٌ: أحدُها- أن الشفعة تثبت جرياً على الأصول، ثم يمتنع على المشتري الممرُّ، ولا مبالاة بهذا. [إذا] (2) أفضى القياس إليه؛ فإن المتبع الدليل. والوجه الثاني - لا تثبت الشفعة؛ لأن في إثباتها إلحاق ضرر عظيم بمشتري الدار، وهو قطع ممرها، والشفعة أُثبتت في أصلها على دفع الضرر، فيستحيل أن تثبت على وجه يتضمن إلحاق الضرر بغير الشفيع؛ فإن الضرر لا يُزال بالضرر. والوجه الثالث - أنه يقال للشفيع: إن كنت تُمكِّنُه من المرور، فلك الشفعة، وله حق المرور، وإن كنت تمنعه من المرور، فلا شفعة لك. وهذا الوجه مختل؛ فإن تخيير الشفيع في هذا غيرُ معقول، فإنا (3) إذا كنا نثبت له أخذ ما اندرج تحت البيع من عرصة السكة، فلا يخلو إما أن نوجب للمشتري حقَّ المرور من غير خِيَرة، أو لا نوجب ذلك، فإن كنا نوجب للمشتري حقَّ المرور، فلا يعبر عن هذا بما ذكره

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. وفي (ت 2): فإذا. (3) (ت 2)، (ي): فأما.

صاحب الوجه الثالث من رد الأمر إلى خيرة الشفيع. وإن كان لا يستحق المشتري المرورَ [فقول] (1) القائل للشفيع: إن منعت، وإن لم تمنع عبارةٌ مضطربة، والعبارة السديدة عن الغرض هي التي ذكرها صاحب التقريب، إذ قال: هل تثبت الشفعة أم لا؟ فعلى وجهين موجهين بما ذكرناه من قياس الأصول، وإلحاق الضرر، ثم قال: إن قلنا: تثبت الشفعة، فهل يستحق مشتري الدار حقَّ الممر في السكة، والملكُ فيها للشفيع؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يستحق، وهو القياس. والثاني - يستحق، وقد يثبت للإنسان حقُّ الممر في ملك غيره. ويمكن أن نعبر عن الطريقة، فيقال في المسألة أوجه: أحدها - أن الشفعة لا تثبت. والثاني - تثبت، وينحسم حق الممر. والثالث - تثبت ويبقى حق الممر مستحقاً للمشتري. ومبنى هذه العبارات على تفصيل في [صدر] (2) المسألة بنينا الغرض عليه، وذلك [أنا] (3) قلنا: إن كان يتأتى للمشتري اتخاذُ ممر في غير هذه السكة، وجب عليه أن يستجد ممراً آخر وتؤخذ حصتُه من السكة بثمنها. وإن كان لا يتأتى منه اتخاذ الممر في جهةٍ أخرى، فإذ ذلك يختلف الأصحاب. وكان شيخي يقول: إذا كان اتخاذ الممر ممكناً، ولكن لا يتوصل إليه إلا بمعاناة عُسر والتزام مؤنة، فهذا أيضاً داخل تحت الخلاف، وتصوير الضرر لا ينحصر في أن يسقط الإمكان في اتخاذ الممر. ومن الممكن على هذه الطريقة أن نقابل ما يأخذه تقديراً من ثمن الممر بما يلزمه من المؤنة في استحداث ممرًّ آخر. فإن تقابلا، فلا ضرر. وإن قل التفاوت، احتمل. وإن ظهر، خرج الخلاف. فإذاً صار هذا أصلاً مختلفاً فيه، في قاعدة الكلام، فليتأمل. وقد نجز الغرض.

_ (1) في الأصل: فقال، (ت 2): فيقول. (2) في الأصل: في صورة. (3) في الأصل: إن.

فصل قال: "ولولي اليتيم، وأب الصبي أن يأخذ بالشفعة ... إلى آخره" (1). 4783 - ولي الطفل إذا كان أباً أوجداً، أو وصياً من جهتهما، أو قيماً مطلقاً من جهة القاضي، إذا بيع شقصٌ، وللطفل فيه الشفعة، فعليه أن يأخذ الشقص المشفوع بالشفعة، إذا كان النظرُ، والغبطة للصبي في الأخذ. وهذا يُضبط بأن يقال: إذا كان للولي أن يشتري العقارَ للطفل، فعليه في مثل تلك الحالة أن يأخذ له بالشفعة، فإن لم يأخذ، فله الأخذ بعد البلوغ، والاستقلال بالنفس. وبيان ذلك [أنه] (2) إن كان يفوت للصبي غبطة ظاهرة، فيتعين أخذُ الشفعة له، ولا يجوز إبطالها عليه، وإن كان في أخذها له ما يخالف النظر والغبطة، ووجه الصلاح، فليس للولي أن يأخذه. وقد يعارض ذلك أمرٌ بذكره يبين المقصود. وهو أنه إذا تمكن الولي من شراء شيء للطفل ابتداء وكان في الشراء غبطةٌ ظاهرة، فلا شك أن الأوْلى للولي أن يشتري. ولكن تردد الأئمة في أن ذلك هل يجب على الولي؟ فقال الأكثرون: يجب، ووجه ذلك ما تمهد من وجوب رعاية المصلحة. وقال آخرون: لا يجب؛ فإن الذي يؤاخذ الولي به ألا يفرط في مال الطفل، فأما أن يحصّل له مالاً عن جهةٍ أخرى، فلا يلزم ذلك. ولو ألزمناه، لأوجبنا أن يبذل كنه المجهود في سلوك طرق المكاسب والمتاجر، ويبعد أن نوجب ذلك. ومما ذكره الأئمة أنه لو أراد الولي أن يشتري شيئاً بمال الطفل، وما كان للطفل فيه منفعة، فهذا في حكم العبث، الذي لا يفيد شيئاً، ولا يجدي، وليس هذا النوع مما يفيد مصلحةً، وتصرف الولي في مال الطفل يجب أن يتقيد بالمصلحة الناجزة، أو بتوقعها على ظنٍّ غالب، وكان شيخي يقطع بأن التصرف الذي لا خير، ولا شر فيه ممنوع. وهذا حسنٌ متجه.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 54. (2) ساقطة من الأصل.

4784 - ونحن نعود بعده إلى القول في الشفعة، فنقول: إن كانت المصلحة في الأخذ بالشفعة، فلا يجوز للولي الترك وجهاً واحداً، وليس على التردد الذي ذكرناه في ابتياع ما فيه مصلحة ظاهرة؛ فإن الأخذَ بالشفعة يُعد من حقوق الطفل، ولا يجوز تضييع حقه، والشراءُ ابتداءً ليس مستنداً إلى حق الطفل، فليفهم الناظر ذلك. ثم إن أخذ الولي، فذاك، وإن لم يأخذ، فحق الطفل المَوْليِّ عليه لا يبطل، بل إذا بلغ واستقل، فله طلب الشفعة والأخذُ بها، ولو لم يكن في أخذ الشفعة مصلحةٌ، بل كانت المصلحة في تركها، قالوا: لا يأخذ بها، ولو أخذ بها، كان أخذُه مردوداً؛ فإن التصرفات في مال الطفل تنحصر في رعاية المصلحة، فلو بلغ الطفل مستقلاً، وأراد أخْذَ الشفعة، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أنه لا يثبت له ذلك؛ فإن الولي قد تركه مصلحةً ونظراً، فنفذ تركُه نفوذاً لا يستدرك. والوجه الثاني - أن الصبي يأخذ حق الشفعة إن أراد؛ فإن الولي إن لم يأخذ بها لانحصار تصرفه فيما يجلب منفعة، فلا منفعة للطفل في إبطال حق شفعته. ومما يتعلق بحقيقة هذا الفصل أن الغبطة إذا كانت في الأخذ، فتأخير الولي وتقصيره لا يبطل شفعةَ الطفل، بل لو صرح بالعفو، لم يظهر لعفوه أثر، والتقصير لا يزيد على العفو الصريح. ويتصل [بهذا] (1) أن القاضي لو اطّلع على ترك الولي الطلبَ بالشفعة مع أن الغبطةَ في الأخذ بها، فإنه يتعين عليه أن يأخذ للطفل ما يتركه الولي، ولا يمتنع أن يكون على خبرة من مطالعة القوّام والأوصياء، كما سنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. ولا يلزمه أن يكون على بحثٍ عن أحوال الآباء والأجداد، بل يكل الأمر إليهم، واثقاً بشفقتهم، وسنذكر تفصيل ذلك في كتاب الوصايا، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: به.

فصل قال: "وإن اشترى شقصاً على أنهما جميعاً بالخيار، فلا شفعة ... إلى آخره" (1). 4785 - غرض الفصل الكلامُ في أن الشفيع هل يأخذ بالشفعة في زمان الخيار؟ وقد قال الأصحاب: إن كان الخيار للمتعاقدَين، أو للبائع وحده، فلا يثبت للشفيع حقُّ الأخذ؛ فإنّ أخذ الشفيع موضوعٌ في الشرع لدفع الضرر، فلو قدرنا له حق الأخذ مع بطلان خيار البائع، كان محالاً، فإن حقه يتعلق بالمشتري، ويستحيل أن يتضمن إبطال حق على غير المشتري. وإن قلنا: يأخذ الشفيع، ويبقى حق البائع في الخيار، فليس هذا الأخذَ المشروعَ؛ فإن الضرار لا يندفع به، بل هو قائم كما كان، فمهما لم يكن أخذ الشفيع محسمةً للضرر، ومقطعة له، فلا سبيل إلى إثبات حق الأخذ له. وهذا ظاهر في مقصود الشفعة. وإن كان الخيار للمشتري وحده، فأحسن ترتيبٍ في ذلك أن نقول: إن حكمنا بأن الملك للمشتري في زمان الخيار، ففي المسألة طريقان: أحدهما - أن أخذ الشفيع ينبني (2) على الخلاف الذي ذكرناه إذا أراد الشفيعُ الأخذ، وأراد المشتري ردَّ الشقص بالعيب القديم، وقد ذكرنا اختلاف القول في ذلك، فليكن الأخذ في زمان الخيار بهذه المثابة، حتى يخرّج على قولين: أحدهما - أنه لا يأخذ استبقاءً لخيار المشتري. والثاني - أنه يأخذ وينقطع بأخذه خيارُ المشتري، كما ينقطع حقُّ رده بالعيب، ولا أحد يصير إلى إثبات الأخذ للشفيع، مع بقاء الخيرة للمشتري. هذه طريقة. ومن أصحابنا من رأى القطعَ بأن الشفيع لا يأخذ في زمان الخيار، بخلاف الأخذ والمشتري يهم بالرد؛ وذلك لأن الأخذ بالشفعة يستدعي إفضاء العقد إلى استقرار الملك، وليس الأمر كذلك في زمان الخيار.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 54. (2) (ت 2)، (ي)، (هـ3): الشفعة يخرّج.

والصحيح في ترتيب المذهب إجراء القولين، ثم إن قلنا: إنه لا يأخذ، فيصبر إلى انقضاء الخيار، وانقطاعه بإلزام المشتري العقد، فإن فسخ، انقطع العقد، وفاتت الشفعة، وإن أجاز، أو انقضى الخيار، ثبتت الشفعة حينئذ. وإن قلنا: يأخذ الشفيع في زمان الخيار، فيلزم العقد بأخذه، ولا خيرة للمشتري، كما تقدم، ولا خيرة للشفيع أيضاًً. فإن قيل: هلا أحللتم الشفيع من المشتري محل الوَارِثِ من الموروث، ثم أصلكُمْ أن الوارث يخلف الموروث في خيار الشرط، فاطردوا ذلك في حق الشفيع؟ قلنا: لا سواء؛ فإن الوارث يردُّ على من كان يردّ عليه الموروث، واقتضت خلافة الوارث حلولَ الوارث محل الموروث، فإذاً تبذل المتصرف، والحقُّ بحالِه، لم يتبذل، وهذا حقيقة الوراثة في كل ما يجري الإرث فيه، والشفيع لو أثبتنا له الخيار ليردّ على البائع، كان محالاً؛ فإنه ليس يتلقى (1) الملكَ منه. وإن أثبتنا له الخيار ليردّ على المشتري، لكان هذا خياراً جديداً، لم يتضمنه العقد، وهذا حسَنٌ لطيف. فإن قيل: أليس يثبت للشفيع حقُّ الرد بالعيب على المشتري؟ قلنا: أجل. وسببه استدراك الظلامة، والرد بهذه الجهة أمر يثبت شرعاً، وهو يرد على من يتلقى منه، وهذا الآن ظاهرٌ، لا حاجة إلى المزيد عليه. وكل ما ذكرناه تفريعٌ على قولنا: إن الملك في زمان الخيار للمشتري. 4786 - فأما إذا فرعنا على أن الملك في زمان الخيار للبائع، وإن انفرد المشتري بالخيار، فهذا القول أوّلاً ضعيفٌ. (2 والأصح والنص أن الملك للمشتري إذا كان منفرداً بالخيار. فإن فرعنا على القول الضعيف 2) فالأصح أن الشفيع لا يأخذ بالشفعة؛ فإن أخْذه مبني على ثبوت الملك للمشتري، وإذا كان الملك القديم باقياً، بَعُدَ الأخذُ؛ إذ الشفعة أثبتت شرعاً عند تجدد ملك وحدوثِه، لأجنبي، وهذا ظاهر.

_ (1) في غير الأصل: " لم يتلق ". (2) ما بين القوسين سقط من (هـ 3).

ومن أصحابنا من ذكر وجهين في أن الشفيع هل يأخذ؟ ذكرهما صاحب التقريب، وأشار إليهما القاضي: أحد الوجهين- أنه يأخذ؛ فإنه لم يبق للبائع سلطان؛ إذ لوْ أراد تداركَ الأمر -ولا خيار له- لم يملك ذلك، فالحق كله للمشتري، [ولهذا] (1) التحقيق ضعُف قولُ بقاء الملك للبائع، وصار إطلاق ذلك في حكم اللفظ الذي لا حاصل له، ثم إن فرّعنا على هذا الوجه على ضعفه، فإذا أخذَ الشفيع، ملكَ؛ فإنه لا يبقى الخيارُ مع أخذه. وإذا انقطع الخيارُ، ثبت الملكُ، ومن ضرورة ذلك تقديرُ الملك للمشتري متقدّماً، وترتّبُ ملك الشفيع على ملكه. وهذا يناظر في التفريع ما إذا اشترى رجل شيئاًً، وانفرد بالخيار، فلو باعه، نفذ بيعُه على الأصح، وإن قلنا: لا ملك له في زمان الخيار؛ فإن بيعَه يتضمن قطعَ الخيار أوّلاً تقديراً، ثم ينبني عليه تصحيحُ التصرف، وما تَحصّل ضمناً من هذه الأحكام له قياسٌ بيّن في الشرع. هذا منتهى الكلام، واستكماله بسؤال وجوابٍ عنه، ينعطف على ما تقدم. فإن استبعد مستبعد إثباتَنا حق الشفعة في زمان الخيار لما فيه من قطع خيار المشتري. قلنا له: إذا كان لا يبعد أن يقطع الشفيع ملكَه اللازم قهراً، لم يبعد أن يقطع حقه. فصل قال: "ولو كان مع الشفعة عَرْضٌ بثمنٍ واحد ... إلى آخره" (2). 4787 - إذا اشترى الرجل شقصاً ومنقولاً، أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، وتركَ المنقول على المشتري، وهذا ظاهر. وقصد الشافعي الرد على مالك (3) رحمه الله، في إثباته الشفعةَ في بعض المنقولات، وذلك أنه قال (4): إن كان مع الشقص منقول يتعلق بمصلحته، فلا يأخذه الشفيع، وإن اشتراه المشتري مع

_ (1) في الأصل: " وهذا " والمثبت من (ت 2)، (ي)، (هـ3). (2) ر. المختصر: 3/ 54. (3) ر. الكافي لابن عبد البر: 442. (4) القائل الشافعي.

الشقص، وهذا كالغلمان الذين يعملون في العقار، وكالثيران في الضيعة وآلاتِ الحرث، فلا يأخذ [الشفيع] (1) شيئاًً منها. هذا مقصود الفصل. ثم الاعتبار في قيمة التوزيع بوقت العقد؛ إذْ فيه يتوزع الثمن على المثمن، لم يختلف الأصحاب في ذلك. ويتعلق بهذا فائدتان: إحداهما - أن هذا يدل على أن التوزيع مقتضى العقد؛ فإنه لو حمل على الضرورة المُحْوِجَة، لأمكن أن يقال: الاعتبار بحال طلب الشفيع. والأخرى- أن الأصحاب أطلقوا العقد، فإن حكمنا بأن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد، فهذا متجه، وإن كنا لا نرى أخْذ الشفعة في زمان الخيار؛ فإن المقابل يحصل بتقدير انتقال الملك، وإن لم يكن على اللزوم، وإن حكمنا بأن الملك لا ينتقل ما لم يَنْقَضِ الخيار، أو ينقطع، فالمسألة محتملة احتمالاً ظاهراً، يجوز أن يقال: الاعتبار بقيمة يوم الانتقال؛ إذ فيه يتحقق الملك الحديث، الذي بسببه الشفعة، ويجوز أن يقال: الاعتبار بيوم العقد، وهذا هو الذي أطلقه الأصحاب من غير تفصيل. ووجهه أن العقد يرسم تقدير المقابلة، وإن كنا نتمارى في نقل الملك، فالاعتبار بما رسمه العقد. وهذا [فقيه] (2) حسن. فصل قال: "وعهدة المشتري على البائع ... إلى آخره" (3). 4788 - هذا الفصل من أصول الكتاب، فينبغي أن يكون للناظر بفهمه وجميع ما فيه فضلُ اعتناء، فنقول في قاعدة الفصل: إن الشفيع يرجع في عهدة ما أخذه على المشتري، لأنه يتلقى الملك منه، ويبني ملكَه على ملكه، فهو في حق المشتري بمثابة المشتري في حق البائع.

_ (1) في جميع النسخ: المشتري، والمثبت تقدير منا، رعاية للسياق والسباق. (2) في الأصل: تقدير حسن. (3) ر. المختصر: 3/ 54.

هذا أصل المذهب. ومن موجبات هذا الأصل أن الشفيع يدفع الثمن إلى المشتري في الأحوال كلها، سواء كان الشقصُ في يده، أو في يد البائع، وسواء كان قد أدى المشتري الثمنَ إلى البائع، أوْ لم يُؤدّه، فيدفع الثمنَ إلى المشتري، ويرجع بالعهدة عليه. ولو قال الشفيع والتفريع على قول الفور، والمبيع [بعدُ] (1) في يد البائع: لستُ أنقدُ الثمنَ، حتى ينقده المشتري. قلنا: ليس لك ذلك، ولا تعلّق لك بما بين المشتري والبائع. ولكن يعترض في هذا شيء، وهو أنه [إذا] (2) دفع الثمن إلى المشتري، ولم يدفعه المشتري إلى البائع، والتفريع على أنه يثبت للبائع حق الحبس، ولا يستعقب أداءُ الشفيع الثمنَ إلى المشتري قدرة المشتري على تسليم المبيع، فالوجه في ذلك عندنا، أن يقال: إذا كان البائع حاضراً وكان توفيرُ الثمن عليه، وإلزامُه تسليمَ المبيع ممكناً، فليبذل الشفيعُ الثمنَ للمشتري، ثم إنه يتوصل إلى تسليم المبيع إلى الشفيع بطريقه. ولو كان البائع حاضراً، والمبيع معه، ويعلم أنه لا يقدر المشتري على التوصل إلى تحصيل المبيع في الحال، فلا يجب على الشفيع توفيرُ الثمن، وإذا أخر توفية الثمن على المشتري للعذر الذي ذكرناه، لم يكن مقصراً، ولم ينزل منزلة الشفيع يعجل الطلب، ويماطل بالثمن، حتى ينتهي الأمرُ إلى تفصيلٍ قدمناه، في أن شفعته تبطل في وجهٍ، ويُبطلها القاضي إذا استدعى المشتري ذلك في وجهٍ. هذا الذي ذكرناه أصلُ المذهب، وبه الاعتبار، وعليه التعويل. 4789 - وذكر صاحب التقريب وجهاًً بعيداً عن ابن سريج في العهدة، وهو أنه قال: عهدة الشفيع على البائع، وعليه رجوعه، وبه تعلقه، وإذا طالب بالشفعة، وكان قبض البائعُ الثمن من المشتري، رد ما قبض على المشتري، وأخذ من الشفيع ما يبذله، وينزل الشفيع منزلة المشتري، وكأنه المشتري في الحقيقة، ومن كان

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقط من الأصل.

مشترياً مرفوعاً من البين، وزعم أن الشفيع لا يدفع الثمن إلى غير البائع. وهذا بعيدٌ جداً، لم أر أحداً من أصحابنا حكاه كذلك سوى صاحب التقريب، وكيف يستقيم المصيرُ إلى هذا، ولا خلاف أن الملك يحصل للمشتري بالشراء، وسبب ثبوت الشفعة ملك المشتري، فإن كان هذا القائل يسلم أن ملك الشفيع يترتب على ملك المشتري، فيبعد مع هذا تقديرُ رفعه من البين. وإن كان يزعم أنا نقدر ارتفاع المشتري من البين؛ فإن الملك يرتد إلى البائع، فإذا ارتد إليه، فأي حاجةٍ إلى الشفعة. ويتطرق إلى هذا [خبالٌ] (1) آخر، لا استقلال به، وهو أن ثمن العقد إذا كان عبداً مثلاً، فإن كُلّف البائع ردّه إلى المشتري، وأُلزم أن يقبل قيمته من الشفيع، فهذا كلام ساقط ليس في أساليب الفقه، وقوانين الشريعة، وإن جوز له أن يستمسك بالعبد، فكيف يسلّم الشفيع الثمنَ إليه، فإذاً لا وجه لعدّ ما نقله ابنُ سريج من متن المذهب. ولا شك أن قياسه على ما نقله صاحب التقريب، يقتضي ردَّ العبد إلى المشتري، وأخذَ قيمتِه من الشفيع، ومساقه يوجب أن يرد الشفيع الشقصَ بالعيب على البائع، ومن يسلك هذا المسلك الذي حكاه صاحب التقريب، يلتزم جميع ذلك. ولا عَوْد إلى هذا الوجه بعد هذا، ولا اعتداد به. 4790 - والمقدار الذي حكاه الأئمة من تعلّق الشفيع بالبائع مخصوص بصورةٍ، وهي إذا اعترف الرجل أنه باع الشقص المشفوع من زيد، وأنكر زيدٌ الشراء أصلاً، وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب طوائف إلى أن الشفعة تثبت على ما سنفصلها. وهذا اختيار المزني، ومذهب أبي حنيفة (2). وذهب ابن سريج في بعض أجوبته إلى أن الشفعة لا تثبت. 4791 - توجيه الوجهين: من قال: لا تثبت الشفعة احتج بأن الشفيع (3) في قاعدة

_ (1) في الأصل: خيال. (2) ر. بدائع الصنائع: 5/ 30. (3) (ت 2): احتج بأن الشفيع إنما تثبت له الشفعة، فرعاً على الشراء؛ فإذا ... ، (ي):=

المذهب فرع المشتري، فإذا لم يثبت الشراء، وهو الأصل، فكيف تثبت الشفعة، وهي الفرع؟ ومن قال: تثبت الشفعة، احتج بأنَ البائع اعترف بالبيع ومصير الملك في الشقص إلى الشفيع، فإذا اعترف الشريكُ بالبيع وادّعاه من إليه مصير الملك، لزم من موجب القولين. ثبوتُ الحق لمن يدعي استحقاقَه، وهو الشفيع. التفريع على الوجهين: 4792 - إن حكمنا بأن الشفعة لا تثبت، فغاية ما نذكره على هذا أن نتوقف إلى ثبوت الشراء، ولا نثبت في الحال للشفيع شيئاً، فإن لم تكن بينة، فالقول قول المشتري مع يمينه، وينقطع الخصام بحلفه. وإن نكل، لم يخفَ ردُّ اليمين والحكمُ بها. وإن فرعنا على ثبوت الشفعة، كما ذهب إليه المزني، فالشفيع يسلّم الثمن إلى من؟ ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك على هذا الوجه: فقال قائلون: يسلم الثمن إلى البائع، فإنه وإن كان لا يتلقى الملكَ منه، والقياس يقتضي أن يسلم الثمن إلى من يتلقى الملك منه، فإذا قضينا بثبوت حق الشفعة، ولا سبيل إلى أخذ الشقص من غير عوض، والبائع يزعم أنه ما قبض الثمن، والشفيع معترف بالتزام الثمن، فالضرورة تقتضي صرفَ الثمن إلى البائع، كأنّ الشفيع في هذا المقام، هو المشتري المؤدي للثمن. هذا وجهٌ. والوجه الثاني- أنه لا يسلم الثمن إلى البائع، ولكن يرفع (1) الأمرَ إلى الحاكم، فينصب الحاكم منصوباً نائباً عن المشتري، ويسلم الشفيعُ الثمنَ إليه، ثم ذلك المنصوب يسلم ما قبضه إلى البائع. وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه لهُ؛ فإن نصب المنصوب عمن لا يدعي لنفسه حقاً، لا حاصل له، والقُضاةُ إنما ينصبون المستنابين عن أصحاب الحقوق، إذا لم يكن لهم استقلال بطلب حقوقهم، لغيبةٍ، أو سقوط عبارةٍ، بجنونٍ، أو صبا، أو موت، فلا وجه إذاً لهذا التقدير، ولا تحقيق له.

_ =احتج بأن الشفيع فرع المشتري، فإذا ... ، (هـ 3): احتج بأن الشفيع المذهب أنه فرع المشتري، فإذا ... (1) في الأصل: لا يرفع.

ومن هذا الوجه يتضح إسقاط الشفعة، وليس للشافعي نص في إثباتها في الصورة التي ذكرناها. 4793 - ومما يتعلق بالتفريع على مذهب المزني أنّ البائع لو اعترف بالبيع، وأنكر المشتري، واعترف البائع بأنه قبض الثمن من المشتري، فهذا فيه مزيد إشكالِ؛ من جهة أن الشفيع ليس يدعي الشقص من غير ثمن يبذله ولا مُدّعيَ للثمن الذي هو معترف به، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يدفع الثمن إلى القاضي ليحفظه للمشتري. والثانن- أنه يأخذ الشقص، ويبقى الثمن في ذمته إلى أن يدّعيه المشتري. ومن الممكن أن يعترف المشتري باستحقاق الثمن بعد الإنكار، وقد سبق تقرير (1) هذا في كتاب الأقارير. والوجه الثالث - أنه لا شفعة في هذه الحالة، وإن فرّعنا على مذهب المزني، فإنّ أخذها من غير عوض عَسِر، ولا مدعي للعوض، فلا وجه إلا التوقف في الشفعة إلى بيان الأمر. فهذا قاعدة المذهب في أصل العهدة. 4794 - ثم استتم الأصحاب التفريعَ على الأصل الذي عليه التعويل، وعادوا إلى فرض الكلام في إقرار المشتري بالشراء مع إقرار البائع بالبيع، وأجرَوْا تفريعاتٍ في تسليم الثمن، لا بد من ذكرها. فقالوا: إنْ دفع الشفيع الثمنَ إلى البائع، نُظر: فإن دفعه بأمر المشتري، فهو كما لو دفعه إلى المشتري، وهذا فيه إذا قال: ادفع الثمن إليه؛ فإنّ قوله هذا يتضمن احتساب ما يؤديه له. ولو قال له: اقض [ما عليّ للبائع] (2)، فقد ذكرنا أن من عليه الدين إذا قال لأجنبي: اقض دَيْني، ولم يُقيّد الإذنَ بشرط الرجوع، فإذا أدّى المأمورُ الدينَ، فهل يملك الرجوعَ؟ فيه الخلاف المشهور. وإذا قال المشتري للشفيع: أدّ ما للبائع

_ (1) في (ي): تقدير. (2) في الأصل: بما على البائع.

عليّ، فيظهر في هذه الصورة الاعتداد بما يؤديه؛ فإن الحالة القائمة بينهما مصرِّحةٌ بما أشرنا إليه. وقد أشار بعض الأصحاب إلى تخريج هذا على الخلاف المذكور في أمر الأجنبي بأداء الدين، وهذا بعيد. ثم إذا سلم الشفيع الثمنَ إلى المشتري، فيتحتم عليه أن يسعى في قبض المبيع من البائع وتسليمه إلى الشفيع، وكذلك إذا أدى الثمنَ بإذنه إلى البائع، [فيكلف القبض من البائع، ويسلّمه إلى الشفيع فذلك حقٌّ على المشتري] (1). وكل ذلك من تحقيق تعلّق عهدة الشفيع به. 4795 - ولو أدّى الشفيع الثمن إلى البائع، دون أمر المشتري، فهذا رجُلٌ قضى ديْنَ الغير، دون أمرِه، فسقط الثمنُ عن المشتري، ولا يستحق الشفيعُ الشقصَ، وإن نقد الثمن، فيسلّم البائعُ المبيعَ إلى المشتري، ثم المشتري لا يلزمه تسليمُ الشقص إلى الشفيع، حتى يؤدي الثمنَ إلى المشتري؛ لأن الذي قدّمه كان تبرعاً منه، ولا يرجع المتبرع بما يتبرع به. ولو دفع الشفيع الثمن إلى البائع، وقال: خذ هذا لأتملكَ الشقصَ بالشفعة، فهذا إذا قيده بشرط التملّك، فله أن يرجع على البائع بما أدّى؛ لأنه لم يتبرع، بل شرط شرطاً، ولم يحصل له ذلك. وإذا جوزنا -عند إنكار المشتري- للشفيع أن يدفع الثمن إلى البائع المقرّ، فإذا عاد المشتري، وأقر بالشراء، لم يكن له أن يغرِّم الشفيعَ الثمن؛ فإنا سلطنا الشفيع على تسليم الثمن إلى البائع، فلا نُثبت للمشتري عليه مرجعاً. 4796 - ومما أجراه الأئمة من المسائل المتصلة بأحكام العهدة القولُ في ركنين هما عماد العهدة، ونحن نستقصيهما بعون الله تعالى: أحد الركنين- يتعلق بالرد بالعيب. والثاني- يتعلق بظهور الاستحقاق.

_ (1) عبارة الأصل: "فتكليف القبض من البائع، وتسليمه إلى الشفيع حق على المشثري" والمثبت من (ت 2)، (ي)، (هـ 3).

فأما القول في الرد بالعيب، فإنه ينقسم إلى ردّ الثمن، وإلى رد الشقص. فأما رد الثمن، فينقسم إلى رد البائع ثمنَ العقد الذي أخذه من المشتري، إذا اطلع على عيبٍ. وإلى رد المشتري ما قبضه من الشفيع إذا رآه معيباً. فأمّا التفصيل في ثمن الشراء، فالوجه أن نصوّر الثمن عيناً معيَّنةً (1)، ونقول: إذا اشترى الشقصَ المشفوعَ بعبدٍ معيّن فسلّمه إلى البائع، وأخذ الشفيع الشقصَ بقيمة العبدِ، ثم إن البائع وجد بالعبد عيباً قديماً، فردّه على المشتري، فالذي ذهب إليه الأئمة أن المشتري يغرَم للبائع قيمةَ الشقص؛ إذ لا سبيل إلى ردّه بعدما زال الملك عنه إلى الشفيع، وهو بمثابة ما لو اشترى داراً بعبدٍ، وقبضها، وباعها، ثم اطلع بائع الدار على عيبٍ بالعبد، فإنه يرده ولا يصادف الدارَ في ملك المشتري، فَيُلْزِمُه قيمتَها. وكأن المبيعَ تالفٌ في حق البائع، فهذا هو المسلك البين والسبيل الممهد في المذهب. 4797 - وذكر صاحب التقريب (2) قولاً بعيداً في المسألة، وهو أن البائع إذا ردّ الثمن بالعيب، فالمشتري يسترد الشقص من الشفيع، ويردّ عليه ما أخذه منه، ويرد الشقص على البائع. وهذا القائل يقول: ردُّ البائع يتضمن نقضَ ملك الشفيع؛ فإنه بمنزلة المشتري، وإنما أخذ الشقصَ بالعقد الذي جرى بين البائع وبين المشتري، ولم يتجدد عقدٌ بين المشتري والشفيع. وهذا بمثابة ما لو خرج الثمن المعين مستحقاً؛ فإنا نتبين فساد العقد الأول، ويتبين من فساده فسادُ أخْذ الشفيع. وهذا قولٌ ضعيف لا اتجاه لهُ؛ فإنَّ أخْذَ الشفيع وملكَه جديد، وإن لم يُحوِج الشرعُ فيه إلى إجراء عقدٍ، فيستحيل أن ينتقض بردٍّ جرى في العقد الأول. ثم فرع صاحب التقريب على هذا القول الضعيف، فقال: لو وجد البائع المشتري، ردّ عليه الثمنَ على التفصيل الذي ذكرناه، ولو لم يجد المشتري، ووجد الشفيعَ، فما حكمه؟ قال صاحب التقريب: لا يردّ الثمن على الشفيع؛ فإنه لم يتملكه من جهة

_ (1) (ت 2): الثمن معيناً، (ي)، (هـ 3): عيناً معيبة. (2) (ت 2): صاحب التهذيب.

الشفيع، وإنما تملكه من جهة المشتري، ولكن يرفع الأمرَ إلى القاضي، فيقبض القاضي الثمن وهو العبد، ثم إن القاضي يبيع ذلك العبد، ويرد على الشفيع ما بذله من الثمن، فإن وفى قيمةُ العبد بما بذله الشفيع، فلا كلام، وإن لم يفِ ثمنُ العبد بما بذله الشفيع، فيقول الحاكم للبائع: إن تبرعت بتكميل ما بذله الشفيع أسترِدُّ منه الشقصَ، وأرده عليك، وإن لم تتبرع بالتميل، لم أسترد الشقص. وهذا الذي ذكره خبطٌ عظيم، وخروج عن سبيل الفقه. فأما إذا قلنا بالصحيح: وهو أن الشقص لا يسترد من الشفيع، ولكن يغرَم المشتري قيمةَ الشقص، فإن كانت قيمةُ الشقص مثلَ ما بذله الشفيع من غير زيادة، ولا نقصان، فلا كلام. وإن كان ما بذله المشتري من قيمة الشقص أكثر مما بذله الشفيع، فالمذهب أنه لا يرجع على الشفيع بتلك الزيادة أصلاً. وذكر صاحب التقريب في المسألة قولاً آخر: إن المشتري يرجع على الشفيع بتلك الزيادة التي بذلها، وذكر العراقيون هذا القول، وله على ضعفه وجهٌ؛ فإن المشتري يقول للشفيع: ينبغي أن تاخذ الشقص بما قام عليّ الشقصُ به، وقد قام عليّ بهذا المبلغ الذي بذلتُه آخراً. هذا إذا كانت قيمةُ الشقص أكثر مما بذله الشفيع. فأما إذا كانت قيمةُ الشقص أقلَّ مما بذله الشفيع، فقد ذكر العراقيون في هذا الطرف وجهين أيضاًً: أحدهما - أن الشفيع لا يجد بتلك الزيادة مرجعاً. والوجه الثاني - أنه يرجع بتلك الزيادة على المشتري، وتوجيه الوجهين في صورة النقصان كتوجيه القولين (1) في صورة الزيادة. ثم قال العراقيون: إذا قلنا: المشتري يغرَم قيمةَ الشقص فغرِمها، ثم رجع الشقص إلى المشتري بوجهٍ من الوجوه إما بهبةٍ أو ابتياعٍ، أو إرث، فإن أراد أن يرد الشقصَ ويستردَّ القيمة، إذ تمكن من ردّه الآن؛ أو أراد البائع أن يجبره على رد الشقص، فليس يثبت ذلك من الجانبين.

_ (1) (ت 2): الوجهين.

وبمثله لو غصب عبداً فأبق من يده، وغرِم قيمته [لمالكه] (1) ثم ظفر بالعبد، فيرد العبد ويسترد القيمةَ، والفرق أن ملك المالك لم يزُل بإباق العبد، فيُرَد عليه ملكُه إذا عاد، وقد زال ملك المشتري عن الشقص، ونفذ الردُّ على القيمة، فلا مرد لذلك الرد، ولا تغيير له. هذا كله تفصيل القول في رد البائع ثمنَ [العبد] (2) على المشتري. 4798 - فأما الركن الثاني فيما إذا بذل الشفيع العوضَ للمشتري، وأخذ الشقصَ، فخرج ما بذله مستَحقاً، فالمشتري يُطالب الشفيع بالثمن الآن، وقد تبين أنه لم يوفِّ الثمن الذي كان عليه، ولا يتصور ردٌّ ينقض الشفعة؛ فإن ما يلتزمه الشفيع أبداً يكون واقعاً في ذمته، والعوض الثابت في الذمة لا يطرأ عليه ردٌّ يفسخ الأصل، والاستحقاق فيه غير قادحٍ في أصل التملك. فإن قال المشتري: قد قصرتَ إذْ أديتَ ما لم يكن لك، فيبطل حقُّك بتقصيرك، وتأخيرِك أدَاءَ ما عليك، فلا يخلو: إما أن يقول الشفيع: لم أدر أن ما أديتُه مستحَق، وإما أن يعترف بأنه كان عالماً بكونه مستحقاً إذْ أداه، فإن قال: لم أكن عالماً؛ فالقول قوله مع يمينه، إن مست الحاجة إلى التحليف، ولا تبطل الشفعة. ولكن إن كان يملك بجهةِ توفيةِ الثمن؟ فهل نقول الآن تبيُّناً: إنه لم يملك الشقص، فعليه إن أراد التملك أن يوفي الثمن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نتبين أنه لم يملك؛ فإن عماد الملك من هذه الجهة التوفية وأداء الثمن، وقد بان أنه لم يؤد الثمن. والوجه الثاني- أن ملكَه ثابت في الشقص، لجريان القبض حسّاً وصورة، والقبض من جهات تملك الشقص المشفوع، فيبقى الشقص ملكاً للشفيع، وهو مُطالب بالثمن. هذا إذا قال: لم أعلم أن ما أديتُه مستحَقاً. فأما إذا اعترف بكونه مستحَقاً، وبعلمه ذلك حالة التسليم، فهل نقول: يبطل حقه من الشفعة، لما صدر من تقصيره وتأخيره؟ فعلى وجهين. وهذا الخلاف قد قدمتُه بعينه، إذ قلتُ: لو ماطل بعد طلب الشفعة فهل نحكم بأن حقه يبطل أم يتوقف بطلان حقّه على أن يُبطلَه القاضي؟ فإن قلنا: يبطل حقه من الشفعة، فلا كلام. وإن قلنا:

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: العقد.

لا يبطل حقه من الشفعة، فهل نحكم بأنه ملَك الشقصَ بقبضه أم لا نحكم له بالملك؟ فعلى وجهين، مرتبين على ما إذا كان جاهلاً بأن ما أدّاه مستحق. وهذه الصورة الأخيرة أولى بأن نقول فيها: لا يحصل الملك. فهذا تحصيل القول. وما ذكرناه فيه إذا خرج ما أدّاه مستحقاً، أو خرج زيوفاً. 4799 - فلو لم يكن مستحَقاً، ولكن كان معيباً، وكان من الممكن أن يرضى المشتري به فإذا لم يرض، وردّ، أما الشفعة، فلا تبطل؛ فإنه إن كان جاهلاً، فهو معذور، وإن كان عالماً، لم يبعد أن يقدِّر أنه يُسامَح ويساهَل في قبول ما أدّاه. فإن أبى المشتري إلا الاستبدالَ، فليفعل. والأصح أن ملك الشفيع لا يزول عن الشقص في هذه الصورة. وفيه وجه آخر ضعيف: أن ملكه يزول، ولعل هذا القائل لا يحكم بثبوت الملك، ثم بزواله، بل يقول: كان الملك موقوفاً على ما يبين (1). وذكر القاضي صورةً بديعة في سياق هذه المسائل، فقال: لو قال الشفيع حالة تسليم الثمن: تملكتُ الشقص بهذه الدنانير، ثم خرجت مستحَقة، أو رديئة الجنس، فرُدّت. قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه تبطل شفعته؛ لأنه أعطى ما لا يملكه، وعلّق الاستحقاق به. والثاني - لا تبطل. وخصص الخلافَ بالتعيين، وأطلق القول بأن الشفيع إذا لم يقل: تملكتُ الشقصَ بهذه الدنانير، ولكن جرى الإقباضُ والقبضُ مطلقاً، لم ينتقض الملك، ولم تبطل الشفعة. أمّا ذكر الوفاق عند الإطلاق، فإخلالٌ بذكر خلاف الأصحاب، ولكنه متجه في المعنى. والتفصيل البالغ ما ذكرناه. [وأمّا ما ذكره في صورة التعيين] (2)، فوجه الخلاف لم يأخذه من اعتقاد تعيين

_ (1) في (ي): "على تبين". (2) في الأصل: فأما ما ذكره أولاً، فوجه الخلاف لم يأخذه ..

الدنانير، وإنما أخذه من لفظ الشفيع؛ إذ قال: تملكتُ بهذه، والترتيب أنا إن قلنا: المطلق مع العلم يتضمن الملك، فإذا لفظ بربط الملك بما يسلمه (1)، فالمسألة محتملة. ويظهر أن لا يملك، ووجه تمليكه أن تعيينه باطل، فإن التعيين لا أصل له، وإنما ملك الشقص بقبضه. هذا منتهى الغرض في هذا الركن من العهدة. 4800 - ويلتحق به بعد نجازه أن الشفيع لو لم يكن قبض الشقص بعدُ، واطلع البائع على عيب بالعبد المسمى ثمناً، فإن أراد البائع الردَّ ليسترد الشقصَ، وأراد الشفيع أن يأخذ الشقص، فقد ذكرنا فيما تقدم أن المشتري لو أرادَ ردّ الشقص بالعيب، وأراد الشفيع أخذه، وبذْلَ الثمن فمن الذي يجابُ منهما إلى ملتمسه؟ في المسألة قولان، قدمنا ذكرهما. والرد في هذه الصورة التي ذكرناها الآن من جهة البائع. وحاصل المذهب في هذا يحصره طريقان: من أصحابنا من أجرى القولين في هذه الصورة إجراءهما فيه إذا كان المشتري هو الذي يرد الشقص. وسبيل التسوية بينهما أن في كل صورة من الصورتين ردّاً يتضمن نقضَ العقد الذي هو محل الشفعة، والشفيع يبغي بقاء العقد، ليدوم حقُّه، فينتظم القولان، مهما تعارض غرض الراد، وغرض الشفيع. ثم المشتري مدعوٌّ إلى أن يسترد من الشفيع مثلَ ما بذله أو قيمتَه، إن كان من ذوات القيم، والمشتري يبغي أن يسترد عين ماله، والبائع إذا كان هو الراد مدعوٌّ إلى أن يقنع بقيمة الشقص، وهو يبغي أن يسترد عينَه، فلا فرق، والتسوية اختيار القاضي. ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرّاد هو البائع والشفيع لم يملك الشقص بعدُ، فرأْيُ البائع متبعٌ؛ فإنّ رده نافذ، ولا ملك للشفيع بعدُ في الشقص، فتقديم غرض البائع أولى، وليس كرد المشتري؛ فإنه ينشىء الرد في [عين] (2) محل الشفعة، والبائع ينشىء الرد في غير محل الشفعة، وهو العبد.

_ (1) (ت 2): فإذا اللفظ مرتبط بما يسلمه، (ي)، (هـ 3): فإذا لفظ، فربط بما يسلمه. (2) في الأصل: غير.

وفي المسألة احتمال ظاهر، والتسوية أقيس. 4801 - ومما نرى إلحاقه بأعقاب هذا الفصل أن المشتري لو وجد بالشقص عيباً قديماً، وقد امتنع عليه الرد به لعيب حدث في يده، فرجع على البائع بأرش العيب القديم، فذلك القدر يُحط عن الشفيع بلا خلافٍ؛ فإنه وإن جرى بعدَ العقد، فهو مستحَق بالعقد، ولو تمكن المشتري من الرد بالعيب القديم، ولكن اتفق البائع والمشتري على الرجوع إلى الأرش والمصالحة عليه، ففي صحة ذلك وجهان مشهوران. فإن قلنا: لا يصح، فلا كلام. وإن قلنا: يصح، فهل يُحط في هذه الصورة عن الشفيع ما حُط عن المشتري؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - يُحط، كما لو امتنع الرّد؛ فإنه في مقابلة عيبٍ بالشقص. والثاني- لا يحط؛ فإن هذه مصالحة عن حق الرد، لا عن [عين] (1) العيب. وممَّا ذكره صاحب التقريب أن من اشترى شقصاً بعبدٍ، وكان العبدُ معيباً، فلما رآه البائع، رضي بعيبه، ولم يردّه، فإذا أراد الشفيع الشفعة أخذها بقيمة العبد معيباً، وليس للمشتري أن يُلزمه قيمةَ العبد سليماً، ويقول: تبرع البائع عليَّ إذْ رضي بعيب العبد، وجوّزه تجويزَ السليم، فاغرم أنت أيها الشفيع قيمته سليماً، فيقال له: ليس على الشفيع إلا قيمةُ ما عيَّنته، إن كان سليماً، التزم قيمةَ السليم، وإن كان معيباً، التزم قيمةَ المعيب؛ فإنّ حكم الشَّرع أن يلتزم الشفيع قيمةَ المعيّن ثمناً على ما هو عليه من صفاته. وغلط بعضُ المصنفين، وصار إلى أن الشفيع يغرَم قيمة العبدِ سليماً. وهذا غلط صريح لا يشك فيه ذو تحصيل. فصل ذكره الأئمة في أثناء فصول العهدة، فرأينا إفراده 4802 - ومضمونه مسائلُ، منها: أن الشفيع لو ضمن العهدة للمشتري في الثمن، لو فرض دَرَك (2)، قال الأئمة: هذا لا يمنعه من طلب الشفعة إذا استقر العقد.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) الدرك هو ضمان العهدة عند الشافعية، وعرفوه بأنه: ضمان الثمن للمشتري، إن ظهر المبيع=

وكذلك قالوا: لو ضمن للمشتري سلامة المبيع، أو ضمن الثمنَ للبائع، فلا يبطل حقُّ طلبه بهذه الجهات. فإن قيل: [ما ذكرتموه] (1) في هذه الوجُوه يُشعر بتقرير المشتري على ما اشتراه، فهلا كان هذا رِضاً منه بأن يبقى الملك للمشتري، ويسقط حقُّه؟ قلنا: يُحمل ما يأتي في ذلك على قصدِ تمهيد سبب استحقاق الشفعة، والسعي في تحصيله؛ فإن الشفعة لا تثبت ما لم يثبت البيع. 4803 - ولو وكل أجنبيٌّ شريكاً في الدار حتى يشتري له نصيبَ صاحبه، فإذا توكَّل، واشترى لموكله، فهل تبطل شفعته؟ ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - لا تبطل، لما قدمناهُ من حَمْل ما صدر منه على تحصيل سبب الشفعة، فأشبه ما تقدم من ضمان العهدة، وضمان الثمن. والثاني - يبطل حقه من الشفعة؛ لأنه تعاطى بنفسه تحصيلَ الملك للمشتري، فكان ذلك رضاً منه بدوام الملك. وكان شيخي في غالب ظني يطرد الخلاف في الصورة المقدّمة. وهي ضمان العهدة، وضمان الثمن، والفرق على حالٍ بيّن. ولكن احتمالَ الخلاف في تلك الأسباب غيرُ بعيد. فإن طردنا خلافاًً، رتبنا تعاطي الشراء للموكِّل على الأسباب. والذي ذكرته إن كان ينقدح في ضمان العهدة، فليس له ظهور في ضمان الثمن؛ فإن الشفيع ضامنٌ للثمن، ملتزم غير أنه يؤديه إلى المشتري، فإذا أضافه إلى البائع، فقد يُخيل ذلك شيئاًً على بعد. وهذه التفريعات على قول الفور. 4804 - ولو قال أحد الشريكين لصاحبه: بع نصيبي من فلان، فباعه منه، ففي بطلان الشفعة الوجهان المذكوران فيه إذا كان وكيلاً لذلك الأجنبي، [في الشراء] (2).

_ =مستحقاً، أو معيباً، أو ناقصاً، بعد قبضى الثمن. (الموسوعة الفقهية: 28/ 237 مادة ضمان. فقرة: 30). (1) في الأصل: ما ذكره. (2) ساقط من الأصل.

ولو عرض الشريك نصيبه على شريكه تأسياً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والحديث وارد في العرض على الجار، فاستنبط الأصحاب استحباب العرض على الشريك، واستدل الشافعي بحديث العرض على الجار على أن الجار لا شفعة له، وأن العرض غليه من مكارم الأخلاق؛ إذ لو كان يستحق الشفعة، لما كان في البيع من الغير تفويت عليه. ثم إذا اتفق العرض [على الشريك] (1)، فرغب عن الابتياع وأبدى زهداً فيه، فإذا اتفق البيع، فله الشفعة، لم يختلف الأصحاب فيه؛ بناءً على أن إسقاط الشفعة قبل ثبوتها باطلٌ، غيرُ مؤثر. وليس ما ذكرناه بمثابة ما لو كان الشريك وكيلاً في البيع من الأجنبي، وفي الشراء له؛ فإن ذلك خوض منه في عين إزالة الملك إلى الأجنبي، فانتظم فيه الخلاف، وليس في العرض هذا المعنى. فرع يتعلق بعلائق العهدة: 4805 - إذا أخذ الشفيع الشقص وبنى فيه أو غرس، فاستُحق الشقصُ، وقلعَ المستحِقُّ غراسه وبناءه، فلا شك أن الشفيع يرجع بالثمن على المشتري إذا كان وفر الثمن عليه. ثم التفصيل فيما عدا الثمن كالتفصيل المقرر في المشتري من الغاصب، وقد أوضحنا مواضع الخلاف والوفاق فيما يرجع به على البائع الغاصب، فنزل الأئمةُ الشفيعَ من المشتري، منزلة المشتري من الغاصب البائع، في كل ما تقدم. ومما أثبت القاضي للشفيع الرجوعَ به قاطعاً قولَه، التفاوتُ الواقع بين قيمة الغراس والبناء قائماً ومقلوعاً، وهذه طريقة في المشتري من الغاصب على جهل. وكان شيخي يفتي بهذا. والوجه عندنا إلحاقُ هذا بأحكام الغرور؛ فإنه هو الذي تعاطى البناء والغراس، ولكن اتصل فعله بتغرير من جهة غيره، فخرج (2) على قولي تقديم الطعام المغصوب إلى الضيف.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): فحمل.

وكان شيخي يذكر الخلاف ويميل إلى إثبات الرجوع، رعايةً للمصلحة. 4806 - والذي يدور في خلد الفقيه مما ذكرناه أن المشتري لم يعاقد الشفيع اختياراً، وإنما أخذ الشفيع الشقص قهراً، فالضمان الذي يتعلق بسبب الغرور، كيف يتعلق به، وهو ما غرّ أحداً. وهذا فيه إشكال لا ننكره، ولم يتعرض له أحد من الأصحاب، ويمكن أن يُفصَّلَ القولُ فيه، فيقال: إن قبض المشتري الثمن أو طالب به، أو لم يُبدِ كراهيةً، وجرى مع الشفيع على صفة المطاوعة، فقد يقال: هذا منه بمثابة البيع. فأما إذا وقع الفرض في أَخْذ الشقص منه، وهو ممتنع محمول على تسليم الشقص بالقهر، فلا يكون مغرّراً، ولكن الفقه فيما (1) ذكره الأصحاب: أنه في شرائه مختارٌ، وأخْذ الشفيع موجَبُ شرائه، فارتبط هذا بما يختاره وينشئه، وهذا متجه حسن. فإن تعرض متعرض لفرض جهل المشتري بكون المشترَى مغصوباً، أشعر ذلك بعروه عن التحصيل؛ فإن أحكام الضمان في الغصوب لا تختلف بالعلم والجهل، وإنما يفارق العالمُ الجاهلَ في المأثم. نعم، شرط المغرور أن يكون جاهلاً؛ فإنه لو كان عالماً بحقيقة الحالة، لم يقع الغرور تصوُّراً، حتى يناط به حكم. فأما الواقف موقف من يغرِّر، فلا يختلف حكمه بعلمه وجهله، إذا اغتر المغرور بقوله أو بفعله. فصل (2) ثم إن المزني جمع مسائل [تحرَّى] (3) فيها مذهب الشافعي. قال المزني: "وإذا تبرّأ البائع من عيوب الشفعة ... إلى آخره" (4). 4807 - جمع المزني مسائل قليلة النَّزَل (5)، وأجراها على قواعد المذهب، ونحن

_ (1) في غير الأصل: " ولكن الفقه الذي ذكره ... ". (2) العنوان (فصل) انفردت به نسخة الأصل. (3) في الأصل: " يُجري" والمثبت من (ي)، (هـ 3). (4) ر. المختصر: 3/ 55. (5) (ي): النزر. والنَّزَل (بفتح النون مشدّدة، وفتح الزاي) العطاء، والفضل، والبركة (معجم).

نَجري على ترتيبه فيها، فمن ذلك هذه المسألة (1)، واختلف الأصحاب في صورتها، فمنهم من قال: صورة المسألة: إذا اشترى بشرط البراءة من العيوب -وقد استقصينا القولَ في ذلك في بابٍ من كتاب البيع- ففي صحة الشراء خلاف، ثم إن صح، ففي صحة الشرط قولان، فإن صح الشرط، لم يملك المشتري الرد بالعيب؛ لأنه [يبرأ] (2) البائع بحكم الشرط عن الرد بالعيب. ولكن هذا يختص به فإذا اطلع الشفيع على عيبٍ بالشقص المشفوع، ردّه على المشتري، ولم يكن للمشتري أن يقول: إنما أخذتُ الشفعة (3) بصفقةٍ متضمنُها البراءةُ من العيوب، فالتزمْها؛ فإن الشفيع مع المشتري بمثابة المشتري من المشتري، في هذه القضايا. والبراءة وإن صحت، فهي مختصة بالمشتري، ولا تتعدّاه. وإذا أخذ الشفيع، لم يفرق بين أن يكون عالماً بسقوط حق المشتري، وبين أن يكون جاهلاً؛ فإن حقه في استدراك الظلامة لا يختلف بإسقاط المشتري حقَّ نفسه. 4808 - ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أن يطّلع المشتري على عيبٍ (4)، والمراد بحصول البراءة هذا؛ فإن المزني لو أراد فرض الكلام في شرط البراءة، لذكر الخلاف، وما قيل فيه رمزاً أو تصريحاً؛ فإنه يتسرع إلى ذكر مثل ذلك، وإلى إعادة اختياراته في صور الخلاف، فالمسألة مصورة في سقوط حق المشتري من الرّد بسبب اطلاعه على العيب. وهذا مُسقط لحق الرد وفاقاً. ثم الترتيب فيه أن الشفيع إن اطلع كما اطلع المشتري، ثم أخذ الشفعة، لم يملك الرد، وإن لم يطلع المشتري، ولا الشفيع رد الشفيع على المشتري، ثم يرد المشتري على البائع على الترتيب البيّن فيه، إذا اشترى رجل شيئاًً من مشترٍ، ثم اطلع على عيبٍ. ولو لم يطلع المشتري واطلع الشفيع، وأخذ، لم يملك الردّ على المشتري، والمشتري لا يرجع بأرش العيب على البائع منه؛ فإن الذي لحقه من النقصان قد روّجه

_ (1) الإشارة إلى مسألة البراءة من العيب في رأس الفصل. (2) في الأصل: لا يبرأ. (3) "الشفعة": المراد (الشقص) محل الشفعة، وإلا فالمشتري ليس شفيعاً. (4) أي ورضاه به؛ فيسقط حقه في الرد.

على غيره. [وكل] (1) هذا مما سبق في البيع. وإذا قلنا: الشفيع مع المشتري كالمشتري من المشتري في مضمون هذا الفصل، فما غادرنا من البيان شيئاً، إذا لم يكن في الفصل استثناء. ثم ذكر المزني بعد هذا فصلاً في خروج الثمن الذي عينه المشتري مستحقاً، وقد أدرجنا هذا في فصول [العهدة] (2) مبيناً، فلا نعيده. فصل قال: "ولو حط البائع ... إلى آخره" (3). 4809 - مقصود الفصل يتعلق بشيئين: أحدهما - فيه إذا تبرع البائع، وحطّ عن المشتري شيئاًً من الثمن. والثاني- فيه إذا حط عن المشتري أرش العيب. وهذا الأخير أجريناه مستقصىً في فصل العهدة. فأما إذا تبرعّ البائع بحط شيء من الثمن، فلا يخلو إمّا أن يتفق ذلك بعد لزوم العقد، وإما أن يجري والعقدُ جائز في مكان الخيار، أو زمان الخيار، فإن جرى الحط بعد اللزوم، فهو [منحة] (4) تختص بالمشتري، فلا تلحق الشفيع، وهذا فرع أصلٍ، قد أوضحناه في البيع، وهو أن الزوائد، والحط، والتغايير بعد اللزوم، لا تلحق العقد عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (5)، وقد خالف هاهنا في الحط، وصار إلى أن ما حُط عن المشتري محطوطٌ عن الشفيع، إذا بقي من الثمن شيء، ووافق أنه لو حُط عن المشتري تمامُ الثمن، لم يؤثر ذلك في حق الشفيع، وكان مُطالباً من جهة المشتري بتمام الثمن، ووافق أيضاًً أن البائع والمشتري لو ألحقا زيادة بالثمن، لزمت المشتري، ولم تلحق الشفيع.

_ (1) في الأصل: روّجه على غيره، ورجّاه. ولكن. (2) في الأصل: العهد. (3) ر. المختصر: 3/ 55. (4) في النسخ كلها: متجه. والمثبت تقدير منا. نرجو أن يكون هو مراد المؤلف. (5) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 146.

هذا في الحط بعد اللزوم. 4810 - فأما إذا جرى الحط في زمان الخيار، لم يخل: إما أن يُحط البعضُ أو يُحط الكل. فإن حُط البعضُ، فأحسن ترتيب فيه أن نقول: ينبغي أن يُبنى هذا على الأقوال في أن الخيار هل يمنع نقل الملك؟ فإن قلنا: إنه لا يمنع نقل الملك، فكما يملك المشتري المبيعَ، فكذلك يملك البائع الثمن، فإذا جرى الإبراء من البائع، فهو مصافٌ ملكَه؛ فإن الثمن ملكُه، فيصح الإبراء لمصادفته ملكَ البائع. هكذا ذكره الأئمة. وفي صحة الإبراء عندي احتمال خارج على تردد الأصحاب في إعتاق المشتري: هل ينفذ في العبد المشترَى في زمان الخيار على قولنا: إن الملك للمشتري؟ فإذا ترددوا في العتق [مع] (1) سلطانه، لم يبعد التردد في الإبراء؛ فإن المبيع متعلَّق خيار البائع، فامتنع لذلك نفوذ تصرفات المشتري عند طوائفَ من الأصحاب. كذلك الثمن متعلق خيار المشتري، فلا يبعد أن يمتنع تصرفُ البائع فيه، سيّما إذا منعنا الإبراء عما لم يجب، وإن وجد سببُ وجُوبه. فإن فرعنا على ما ذكره الأصحاب من نفوذ الإبراء، فلا شك أنه على معنى الوقف، حتى لو اختار المشتري الفسخ، وارتد المبيعُ، فلا أثر لما تقدم من الإبراء، إلا على قول ضعيفٍ في أن المرأة إذا أبرأت زوجها عن الصداق الواقع في ذمته، ثم إنه طلقها قبل المسيس، فالمذهب أنه لا يطالبها بنصف الصداق، وفيه قول غريب، وهو يخرّج على ما إذا وهبت عين الصداق من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس. فإذا حكمنا بنفوذ الإبراء، فهل يلحق هذا الحطُّ المشتري على هذا القول الذي نفرع عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يلحقه، بل لا يلحق العقد، وإنما هو تغيير بعد العقد، فشابه التغيير بعد اللزوم، ومعتمد المذهب في امتناع التحاق التغايير بالعقد أن العقد إذا عقد على صيغة، فلا حاصل للإلحاق بها، إلا أن ترفع تلك الصيغة، وتستفتحَ أخرى.

_ (1) في الأصل: وسلطانه.

والوجه الثاني- أن الحط يلحق العقد؛ فإن العقد في زمان الجواز يضاهي حالة تواجب المتعاقدين بالإيجاب والقبول، فيقبل من التغيير ما لا يقبله إذا لزم. هذا كله إذا فرعنا على أن الخيار لا يمنع نقل الملك. 4811 - فأما إذا قلنا: يمنع نقل الملك، فكما لا يملك المشتري المبيع، لا يملك البائع الثمن. فإذا أبرأ البائعُ عن بعض الثمن، فقد ذكر القاضي وجهين في صحة الحط: أحدهما - أنه لا يصح؛ لأنه تصرفٌ من البائع فيما ليس بمملوك له، فلغا. والثاني - يصح، ويلحق أصلَ العقد، وهذا يعتضد بتعامل الخلق في الأعصار، المنقضية. فإن قلنا: لا يصح الحط، فلا كلام. وإن حكمنا بصحة الحط، فالأصح أن الحط على هذا القول يلحق بالعقد؛ فإنه في حكم توطئة العقد وتقريره، وما يجري من ذلك قبل اللزوم وانتقال الملك، فهو بمثابة ما يجري بين المتساومَيْن، قبل التواجب. ومن أصحابنا من قال: في لحوق هذا الحط العقدَ وجهان. وهذا وإن كان يبعدُ بعض البعد، فله خروج على ما قدمناه، من أن تغيير العقد برفعه وابتدائه، ولا يختلف في ذلك حُكم الجواز واللزوم. هذا بيان التفصيل في الحط في زمان الخيار. والقفال كان لا يزيد في دروسه على أن يقول: الصحيح نفوذ الحط ملتحقاً بالعقد. وما ذكرناه من التخريج على أقوال (1) الملك أورده العراقيون، وهو حسن لا بد منه. ثم إن ألحقنا حط البعض بالعقد، أثبتنا الحط في حق الشفيع، وإن جعلناه طارئاً على العقد، غيرَ ملتحق، فهو بمثابة الحط بعد الانبرام، فحكمه الاختصاص بالمشتري. 4812 - ولو حط البائع جملة الثمن، تفرع هذا على ما ذكرناه، فإن جعلنا حط البعض في زمان الخيار، كحطه بعد الانبرام، فحط الجميع بهذه المثابة، والشفيع

_ (1) في (ت 2): قول.

مُطالب بتمام الثمن، وإن ألحقنا حطَّ البعض بالعقد، وجعلنا كان الثمن المسمى ما بقي بعد الحط، فحط الجميع يُفسد العقد لا محالة؛ من حيث يتضمن تعريتَه عن الثمن، غنَيْنا بالفساد أن البيع لا يثبت. ووراء ذلك نظرٌ آخر، وهو أن الرجل إذا قال لإنسان: بعت منك عبدي هذا بلا ثمن، فلا شك أن ما أجراه ليس بيعاًً، ولكنه هبةٌ مملِّكةٌ صحيحة، أم ليست هبةً؟ في ذلك وجهان ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما - أنه هبة؛ لإشعار اللفظ بالتمليك، مع التنصيص على نفي العوض، وهذا معنى الهبة. والثاني - أنه ليس هبةً؛ فإن البيع في وضعه صريح في اقتضاء العوض، فإذا قرن بنفي العوض: كان جمعاً بين النقيضين. والعقود الصحيحة لا تنتظم من العبارات الفاسدة. وعبر المحققون عن الوجهين بأن الاعتبار بمعنى اللفظ ومقصود اللافظ، أو بصيغة اللفظ، فإن اعتبرنا مقصود اللافظ، اقتضى ذلك تصحيحَ الهبة، وإن اعتبرنا صيغة اللفظ، فهي فاسدة، ومعتمد العقود الألفاظ. التفريع على الوجهين: 4813 - إن حكمنا بصحة الهبة، لم يخفَ حكمُها، وافتقارُها إلى القبض، وإن لم نصحح من هذا اللفظِ هبةً، فلا شك، أن ما يقبضه ملكُ البائع، ولكن اختلف أصحابنا في أنه أمانة في يده، أو مضمون: فمنهم من قال: هو مضمون؛ لأنه مقبوض عن بيع فاسدٍ. ومنهم من قال: هو أمانة؛ لأن علائق الضمان نتيجة ما في العقد الفاسد من اقتضاء العوض، وإن كان على الفساد، وإذا قال بعتك بلا ثمنٍ، فليس فيما جاء به ما يتضمن عُهدة، ولا عُلقة، من طريق العوض. وعن هذا قال الأصحاب: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق على زق خمر، فقبلت، بانت، وعليها مهر المثل. ولو قال: أنت طالق على الريح، وقع الطلاق رجعياً، ولم يقبض عوضاًً. هذا حقيقة القول في ذلك. فإذا فرض الحط في الجميع، وألحقنا ذلك بالعقد، وأخرجناه عن كونه بيعاً، انتظم بعد ذلك تبيُّناً ما لو قال ابتداءً: بعت منك هذا بلا ثمن.

فصل 4814 - إذا ادعى على رجل أنه اشترى شقصاً له فيه شفعة، فأنكر المدعى عليه، فالقول في حكم الاختلاف على هذا الوجه قدمناه مستقصىً في أدراج الفصول، ولكن المزني ذكره في مسائل التحري، فنعيده على الإيجاز، فنقول: للإنكار صيغتان مقبولتان: إحداهما تعرِض لمضادة الدعوى لفظاً ومعنى، مثل أن يقول المدّعي: اشتريتَ شقصاً فيه شفعة، فيقول المدعى عليه: ما اشتريت. والثانية تعرِض لمضادة مقصود الدعوى، ولا تناقضها لفظاً. مثل أن يقول في جواب المدعي -والدعوى على ما وصفناه- لا يلزمني تسليم هذا الشقص إليك، فهذا الإنكار يُكتفى به، وسبب الاكتفاء به أن الشفعة ربما كانت تثبت، ثم سقطت بتقصير من الشفيع، أوعفوٍ. ولو اعترف المدعى عليه بصورة الحال، لكان مؤاخذاً بالإقرار بالشفعة، مدّعياً سقوطها. والقول قول الشفيع في نفي ما يُدَّعَى عليهِ، فسوَّغَ الشرعُ للمدعى عليه أن يبهم الإنكار. وهذا من أسرار الخصومات، ولا يمكن التطفل ببسط القول في ذلك هاهنا، ولا اختصاص لهذه الصورة بهذا النوع من الإنكار، فليقع الاكتفاء بنقل الوفاق في صحة هذا الإنكار، ثم يحلف على حسب إنكاره. فإن أتى بالصيغة المصرحة بنفي الشراء، ولما عرضنا اليمين أراد أن يحلف: لا يلزمه تسليم الشقص، فهل يُقبل اليمين كذلك؟ فعلى وجهين مشهورين جاريين في نظائر هذه الصورة، وموضع استقصائهما الدعاوى. ولو أقام المدعي بينة على الشراء، لما أنكر المشتري، وحكمنا بالشفعة، فيأخذ الشقصَ، والمدَّعى عليه لا يخلو إما أن يعترف الآن، أو يصر على إنكاره، فإن اعترف، صرفنا الثمن إليه، وإن أصر على إنكاره، ففي المسألة الأوجه الثلاثة الجارية في أمثال هذه المسألة: أحدها - أنه يجبر المدعى عليه على القبول، أو الإبراء، حتى تبرأ ذمة الشفيع؛ فإن الإنكار والإقرار لا يبرئان الذمم. والوجه الثاني - أنه يترك الثمن في [ذمة] (1) الشفيع إلى أن يعترف به المدعى عليه. والوجه الثالث - أنه يؤخذ الثمن

_ (1) في الأصل: يد.

منه ويوضع حيث توضع الأموال المشكلة، ثم يرى السلطان رأيه فيها. وشفاء الغليل في ذلك يتعلق بالإيالة الكبيرة (1)، ولكنا لا نخلي هذا المذهب (2) عن شفاء الغليل إذا رأينا الانتهاء إلى ذكره. فصل قال: "ولو أن رجلين باعا من رجلٍ شقصاً ... إلى آخره" (3). 4815 - إذا اشترى رجلان من واحدٍ شقصاً، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، ويترك نصيب الثاني، لم يختلف أصحابنا فيه. فإن قيل: أليس حكيتم قولاً في كتاب البيع أن أحد المشتريين لا ينفرد برد ما اشتراه على البائع، وجعلتم اتحاد البائع مقتضياً اتحاد الصفقة، فهلا خرّجتم هذا القولَ في منع تبعيض الشفعة؟ قلنا: ذلك القول على ضعفه له خروج؛ من قبل أن المبيع خرج جملة واحدة، من ملك البائع، فلو رجع إليه بعضه، لتضرر لا محالة، فكان سببُ منع الرد في ذلك القولِ القديم هذا، والشفعة لا تؤخذ من مأخذ الرد؛ فإنّ الشفيع يأخذ من المشتري، فينبغي ألا يتبعض على من يأخذ منه، فقلنا: إذا اشترى رجلان من رجلٍ، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، ويترك نصيب الآخر؛ إذ لا تعلق لأحد المشتريين بالثاني، فلا تبعيض على المأخوذ منه. ولو اشترى رجل من رجلين شقصاً، قال المزني: للشفيع أن يأخذ نصيب أحد البائعين، وقاس ذلك على الرد بالعيب؛ فإنه لو اطلع على عيبٍ بما اشتراه، كان له أن يردّ على أحد البائعين، ويُمسك ما اشتراه من الثاني. 4816 - وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى موافقة المزني، وهو القياس؛ فإن تعدد البائع يتضمن تعدد العقد والصفقة، ولو اشترى رجل واحدٌ من رجل واحدٍ شقصاً، في صفقتين، فللشفيع أن يأخذ مضمون إحدى الصفقتين، فليكن

_ (1) الإيالة الكبيرة: أي أحكام الخلافة، وسياسة الأمة. وقد أفرد لها الإمام كتابه الماتع (الغياثي). (2) المذهب: المراد به هذا الكتاب؛ فقد سماه بذلك في مقدمته. (3) ر. المختصر: 3/ 56.

الأمر كذلك فيما نحن فيه؛ فإنهما إذا قالا: بعنا منك، فكل واحد من البائعين متميز (1) عن الثاني، والقبول وإن اتحد من حيث الصيغة، متعدد من حيث المعنى، والمعنى أولى بالاتباع. ومن أصحابنا من خالف المزني، وقال: ليس للشفيع أن يأخذ بعضاً، ويترك بعضاً، لأن فيه تبعيضَ الشقص على المشتري. وقد ملَكه دفعة واحدة. ولو اشترى واحدٌ شقصين من دارين من رجلٍ واحد، وكان (2) شفيعهما واحداً، فالصفقة متَّحدة إذا نظرنا إلى البائع والمشتري، وقد تمهد أن الصفقة لا تتعدد بتعدد المعقود عليهِ، إذا لم يكن في العقد عليهما اختلاف. فلو أراد الشفيع أخذ الشقصين من الدارين، فله ذلك. وإن أراد أخذ أحد الشقصين، وتَرْكَ الآخر، ففي المسألة وجهان مشهوران، وسبب الخلاف أنه ليس في أخذ أحدهما وترك الثاني تبعيضُ شقصٍ من دارٍ واحدة. وهذا بعينه هو الاختلاف المذكور في تفريق الصفقة بما يطرأ عليها آخراً، مثل أن يشتري الرجل عبدين، فيجد بهما أو بأحدهما عيباً، فأراد ردَّ واحد بالعيب، وإمساك الثاني بقسطٍ من الثمن، ففي ذلك قولان. ولا مأخذ لهما إلا تفريق الصفقة؛ إذْ لا ضرار من جهة التبعيض. ولو اشترى عبداً، فوجده معيباًً، فأراد ردَّ بعضِه، لم يكن له ذلك، لما فيه من ضرار التبعيض، وهذا يناظر ما لو اشترى شقصاً في صفقة واحدةٍ، فأراد الشفيع أخْذ بعضه، وترك الباقي. 4817 - ولو اشترى شخصان من شخصين شقصين من دارين، شفيعهما واحد، فهذه الصورة يلتف (3) فيها وجوه من التفريق، فانظر كيف تجري فيها، وقد أصبتَ (4)، فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقصين، وبين أن يأخذ النصف من كل واحد منهما من واحدٍ (5)، وبين أن يأخذ نصف أحد الشقصين من أحدهما، ومن

_ (1) في الأصل: غير متميز. (2) ت 2: كانت شفعتهما واحداً. (3) في (ت 2)، (ي)، (هـ 3): يلتفت. (4) المراد أن كل صور التفريق تصح فيها. (5) أي من واحدٍ من المشتريين.

الثاني كلا النصفين، وبين أن يأخذ نصف شقصٍ من واحدٍ، ونصف الثاني من الآخر، إذا جوزنا تفريق الصفقة في الشفعة. ثم ذكر المزني الاختلاف في مقدار الثمن وقد مضى. وذكر ما لو كان الثمن [عبداً] (1) معيّناً فخرج مستحقاً، وهذا استقصيناه في أحكام العهدة. وذكر بعده ما لو ثبت الشقص عِوضاً عن صلح على إنكارٍ، و [بان] (2) فساد الصلح، ثم قال: فلا شفعة إذاً. ولا حاجة إلى ذكر شيء من هذا. فصل قال: "ولو أقام رَجُلان كلُّ واحدٍ منهما بينةً أنه اشترى من هذه الدار شقصاً ... إلى آخره" (3). 4818 - صورة المسألة: دارٌ في يد رجلين، اعترف كل واحدٍ منهما بأنه اشترى نصفَها، ولكنهما تنازعا في التاريخ، فادعى كل واحد منهما أنه اشترى نصيبه قبل صاحبه، وله الشفعة فيما اشتراه صاحبه، فإذا تنازعا كذلك ولا بينة لواحد منهما، فالذي جاءا به خصومتان: إحداهما متميزة عن الأخرى، وليس اختلافهما بمثابة التنازع من المتبايعين، في مقدار ثمن المبيع أو جنسه. وإذا كان كذلك، فمن ابتدر منهما، وادّعى في مجلس الحكم، فالقاضي يفصل خصومتَه، وإن جاءا وادّعيا معاً، لم يُتركا كذلك، فإن تنازعا في البداية، أقرع بينهما، فمن خرجت قرعتُه، نصبناه مدعياً، وأجرينا خصومته بطريقها. فإذا قال من تقدم وفاقاً، أو قدمته القرعة: اشتريت نصيبي قبل صاحبي، فالقول قول صاحبه مع يمينه، لا ينبغي أن يحلف على البتِ أن صاحبه ما اشترى قبله، ولكن يحلف أنه

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل، (ت 2)، (ي): وأبان. (3) المختصر: 3/ 57.

ما اشترى بعده، لتتعلق يمينه برد الدعوى على هذه القضية، فإن نَفْيَ فعل الغير بيمين باتَّة لا وجه له في صيغ الأيْمان. فإذا حلف على هذا، انتجزت الخصومة وينتصب المدعى عليه مدعياً، فيدعي أنه اشترى نصيبه قبل نصيب صاحبه، والقول قول صاحبه مع يمينه، فإن حلف صاحبه، كما حلف هو، أقررنا الدار بينهما، ونفينا الشفعة، وكلٌّ على ما اشتراه. وإن نكل الأول لما حلّفناه، حلف صاحبه، واستحق الشفعة، فلو أراد المدعى عليه بعدما نكل، ورُدّت اليمين أن يدعي دعواه، صائراً إلى أن هذه خصومة أخرى، لم نمكنه من ذلك؛ فإن نصيبه قد أخذ بالشفعة، وحلف صاحبه يمين الرد، على أبلغ وجه في التصريح، فكيف نحلفه مرة أخرى على الإبهام؛ فإن يمين المدعى عليه تقع على النفي، كما تقدم، وإذا أخذ الشقصَ بالشفعة، فقد انقطعت الخصومة. وهذا من لطيف أحكام الخصومات؛ فإن الخصومة متعددة، ثم وقع الاكتفاء بانتهاء إحداهما نهايتها، وأغنت عن الأخرى، لمّا كان متعلّق الخصومتين متحداً، كما ذكرناه. 4819 - هذا كله إذا لم يكن بينهما بيّنة. فأما إذا كان في الخصومة بينة، لم يخل إما أن يقيم أحدهما بينة، أو يقيم كل واحد منهما بينة، فإن انفرد أحدهما بالبيّنة، فشهدت على تقدم شرائه على شراء صاحبه، قضي له بالشفعة. وإن أقاما بينتين، فقد تقومان من غير تناقضٍ، فلا فائدة فيهما، وهو أن تشهد كل بينة أن هذا اشترى يوم الجمعة، ولم يتعرضا لتعيين الوقت، فلا أثر للبيّنتين؛ إذ ليس فيما جاءا به بيانٌ. وإن شهدت كل بينةٍ أن تملك من يقيمها سابق على تملك الثاني، فهذا تناقض في المقصود، والأصح في مثل ذلك التهاترُ والتساقطُ، حتى نجعل كأنْ لا بينة، ونعود إلى فصل الخصومة بينهما من غير بينةٍ. وللشافعي قول في استعمال بينتين. ثم في كيفية الاستعمال أقوال: أحدها - القرعة، والثاني- الوقف، والثالث- القسمة.

أما القسمة، فلا معنى لها؛ فإنا لو قسمنا كل شقص بينهما، عاد كلٌّ إلى النصف، وهو [حيث يجري قول ضعيف] (1)، أما قول القرعة فجارٍ، وكذلك قول الوقف، وليس هذا وقفَ العقود، وإنما هو وقف حق التملك بالشفعة. ونحن سنبين أن قول الوقف من أقوال الاستعمال قد لا يجريه بعض الأصحاب، إذا كان المدعى المتنازع بين الخصمين عقداً، بناء على أن العقود لا تحتمل الوقف. وهذا فيه نظر. ومما يطرأ علينا في تأليف الكلام اتصال أطرافه بأصول عظيمة، ومبنى الكتاب على طلب البيان، وهو غير ممكن في أطراف أصول (2)، لم يجر لها ذكرٌ. فالوجه في مثل هذا الاقتصارُ على الإحالة على موضع الاستقصاء. 4820 - ولو أقاما بينتين، فنصت كل بينة على وقت واحدٍ، وتبيّن وقوع الشراء منهما في ذلك الوقت، فليس هذا من تعارض البينتين، إنما يتعارضان إذا تعرضت كل واحدة لمقصود مقيمها، ومقصود كل واحدٍ من المدعيين في مسألتنا التقدم، وليس في البينة تعرض لذلك، فلا تهاتر (3)، ولا تعارض، وإنما دقيقة الفصل في قبول البينتين، فقد (4) قال الأكثرون: نقبلهما، وتسقط الشفعة من الجانبين؛ فإنه ثبت وقوع الملكين معاً، وإذا كان كذلك، فلا شفعة لواحد منهما. ومن أصحابنا من قال: لم تقم بينة على وفق مراد مقيمها، فسقطت البينتان، وعاد الأمر إلى الخصومة من غير بيّنة، كما تقدم في صدر الفصل. ووجه ما ذكره الأكثرون أن كل بينةٍ تنص على وقتٍ ليست فائدتها مأيوساً منها، فإن الأخرى قد يتأخر تاريخها، فإذا لم يتأخر تاريخ الثانية، أفادت دَفْعاً (5)، وإن لم تُفد شُفعة.

_ (1) في الأصل: وهو حقه يجري قول خسيس. (2) في (ت 2)، (ي)، (هـ 3): " فصول ". (3) (ت 2)، (ي): تهافت. (4) (ت 2)، (ي): وقد. (5) (ي): وقفاً.

4821 - ثم ذكر المزني ما لو أقر البائع، وأنكر المشتري، وأخذ يفصل حكمَ الشفعة، وهذا مما مضى على الاستقصاء، فلا معنى لإعادته. ثم قال: إذا كان في الشقص ثلاثة من الشفعاء، فشهد اثنان منهم أن الثالث عفا عن الشفعة، فإن عفَوَا عن الشفعة أوّلاً، وأظهرا عفوهما، ثم شهدا، قُبلت شهادتهما، وإن لم يقدما العفو، وشهدا على عفو الثالث، ردت شهادتهما؛ فإنّ مقتضى عفوِ الثالث لو ثبت، أن يأخذ نصيبه هذان اللذان شهدا، فهذه شهادة تضمنت جرّاً (1) صريحاً. ولو شهدا قبل العفو، ثم رددنا شهادتهما، فعفَوَا، فالشهادة المردودة لا تنقلبُ مقبولة، بطريان العفو. ولو أعادا تلك الشهادة بعد العفو، لم نقبلها؛ فإنا قد رددناها للتهمة، فلا نقبلها بوجهٍ. وقد مضى هذا في نظائرَ له فيما تقدم. وممَّا ذكره المزني أنه إذا رأى شقصاً في يد إنسان، فقال: قد اشتريتَه من شريكي الغائب، وأقام عليه بيّنة. قال: يثبت حق الشفعة، وأبو حنيفة (2) يقول بهذا، وإن منع القضاء على الغائب. وذكر فصولاً تقدمت على الاستقصاء. فصل قال المزني: "ولو شجه مُوضحة عمداً ... إلى آخره" (3). 4822 - إذا شج رجل رجلاً شجة، لم يخل: إما أن تكون موجبةً للقود، وإما ألا تكون مُوجبة له، فإن كان لا توجب القود، وإنما توجب المال، فوقعت مصالحةٌ عن موجَب الشجة على شقصٍ، في مثله الشفعة، نظرنا في أرش الشجة، فإن كان أرشها من أحد النقدين والمقدار بيّنٌ، لا شك فيه، فالمصالحة صحيحة، وإذا صحت المصالحة، ترتب عليها استحقاق الشفعة، فيأخذ الشفيع الشقص بأرش الشجة.

_ (1) (ت 2): جزاء، (ي): بإهمال الأول والثاني معاً. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 251 مسألة 1973. (3) ر. المختصر: 3/ 59.

وإن كان أرش الشجة من الإبل، فجرت المصالحة على شقصٍ، فإن لم يكن المتصالحان عالمين بما يعتبر في أرش تلك الجناية، في أسنان الإبل وصفاتها المرعية، في التغليظ والتخفيف، فالصلح باطلٌ. وإن كانا عالمين بما يقتضيه الشرع من السن والصفة والمقدار، ففي صحة الصلح وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يصح؛ لأن المذكور في أروش الجناياتِ، وفي الديات الأسنانُ وطرف من رعاية نوع الإبل في كل قبيلة، ولا يقع الاكتفاء بهذا في إعلام الأعواض. والثاني - يصح الصلح؛ فإن ما اقتضاه الشرع إعلامٌ على الجملة، وليس الأرش في حكم المصالحة واجبَ الاستيفاء، بل الغرض سقوطه إلى البدل المذكور على الإعلام المشروط، وقد تكرر هذا في مواضع. فإن حكمنا بفساد الصلح، فلا شفعة، وإن حكمنا بصحة الصلح، ففي ثبوت الشفعة وجهان: أحدهما - أن الشفعة تثبت بناءً على صحة الصلح. والثاني - لا تثبت؛ فإن الأرش ساقط في الصلح مستوفىً من الشفيع، واستيفاء المجهول عسر، وقد ذكرنا أن الشفعة لا تثبت مع جهالة العوض في ظاهر المذهب؛ فإن أسقطنا الشفعة، فلا كلام، وأن أثبتناها، أخذ الشفيع الشقص بقيمة الإبل الثابتة أرشاً، ثم السبيل في قيمتها النزول على قيمة ما يجزىء في الدية، وليس يخفى على الفقيه ما يجزىء في الدية. وإلى هذه القيمة نصير عند إعواز الإبل. فإن قيل: أليس ذكرتم قولاً أن البدل عند إعواز الإبل [مقدّر] (1) شرعاً، فهلا رجعتم إليه في حق الشفيع؟ قلنا: تقديرات الشرع في الديات، لا تتبع في أحكام المعاوضات، فليس إلا ما ذكرناه في اعتبار القيمة. 4823 - وكل هذا إذا كانت الشجة أو غيرها من الجناية موجبة للمال، فأما إذا كانت موجبةً للقصاص، وأرش مثلها من الإبل إذا لم يثبت القصاص، فإذا جرت مصالحة، تفرع ذلك على القولين في موجب العمد: فإن قلنا: موجبه المال أو

_ (1) في الأصل، (ت 2)، (هـ 3): يتقدر.

القود، ففي صحة المصالحة الوجهان المذكوران في الجناية المالية؛ فإن الصلح بمحض المال، فيقع الصلح عن المال. ثم يعود الترتيب بسبب جهالة الإبل. فأما إذا قلنا: موجب العمد القودُ (1) المحض، فعلى هذا القول قولان في أن مطلق العفو (2) هل يتضمن ثبوت المال، فإن قلنا: مطلَقه، يثبت المال، فالمصالحة تقع عن المال، ويخرج الوجهان كما تقدم. وإن قلنا: مطلق العفو لا يتضمن المالَ، فقد ذكر أصحابنا طريقين: منهم من قال: يقطع بصحة الصلح؛ فإن عوض الصلح القصاص، وهو معلوم، ومنهم من خرّج صحة الصلح على الوجهين، واحتج بفقةٍ لا يدفع، وهو أن الصلح على مالٍ عفوٌ عن القصاص على مال، [فلئن كان يظن ظان أن العفو المطلق لا يوجب المال، فالصلح على مالٍ عفوٌ على مال] (3). ويلزم في ترتيب المذهب ردُّ الأمر إلى الخلاف في صحة الصلح وفساده. وهذا ينشأ عندي من أصلٍ، وهو أنا إذا قلنا: موجَب العمد القودُ المحضُ، فلو صالح عن القتل على مائتين من الإبل، فقد اختلف الأصحاب في صحة المصالحة، وحقيقة الاختلاف راجع إلى أن هذا بدلُ القصاص أو بدلُ المال الذي يتضمنه سقوطُ القصاص؟ فإن قلنا: إنه بدلُ القصاص، صح بالغاً ما بلغ، وإن قلنا: إنه بدلُ المال، فمقابلة مائةٍ من الإبل بمائتين مع التساوي في الصفة محالٌ. فنقول: إن جعلنا القصاص بدلاً، فالوجه القطع بصحة المصالحة، وإن جعلنا البدل ما يتضمنه سقوط القصاص، فالصلح واقع على الأرش، فيخرّج على الخلاف. وإن قلنا: موجب العمد أحدهما، فلا خلاف أن المرعي معنى المال، ثم وإن قطعنا بصحة الصلح، ففي الشفعة خلاف؛ من جهة أن الشفيع يأخذ الشقص، بالأرش لا محالة، وفي الأرش من الجهالة ما قدمناه.

_ (1) من هنا بدأ خرم في نسخة (ت 2) مقداره ورقة واحدة. (2) (ي)، (هـ 3): العقد. (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، ومن (هـ 3). والمثبت من (ي) أما (ت 2) فالورقة كلها مخرومة.

[فصل] (1) ثم قال المزني: "لو اشترى ذمي من ذمي شقصاً بخمرٍ ... إلى آخره" (2). 4824 - الشقص المشترى بالخمر لا يؤخذ بالشفعة؛ فإن الشراء فاسد، ولو فرض دوران العقد بين ذميين، وكان طالب الشفعة مسلماً، فلا شفعة له، ولو كان الطالب ذمياً، وارتفع إلى مجلسنا، ورضي بحكمنا، فلا نحكم له بالشفعة، بل نقضي بسقوطها؛ فإنا لا نحكم إلا بما يوافق الدين. وإن تبايعوا فيما بين أظهرهم، أعرضنا عنهم، وذلك متاركةً، وليس حكماً بتصحيح العقد، ولو جاءنا الذمي بدراهم ليوفيها في جزية أو معاملة جرت له، وذكر أن تيك الدراهم أخذها من ثمن خمرٍ أو خنزير، وربما يتحقق ذلك، ففي جواز أخذ تلك الدراهم (3) منه وجهان مشهوران: أحدهما - لا نأخذها؛ لأنها ثمن خمر، والثاني لا نبالي بما كان منه، وإنما ننظر إلى الدراهم الحاصلة في أيديهم. وسيأتي جوامع أحكامهم في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل. 4825 - ثم قال المزني: "ولا فرق بين المسلم والذمي" أراد بذلك أن المسلم كالذمي في استحقاق الشفعة، إذا استجمع أوصافها، وفي استحقاق الشفعة عليه، وقصد بهذا، قَطْع الوهم، حتى لا يظن ظان أن استحقاق الشفعة يختص به المسلم؛ من حيث إنه ملك قهري، والذمي لا يكون من أهل ذلك، فقطع هذا [الخيال] (4) وأبان التسويةَ، ثم جرى رضي الله عنه على أن ما لا يقبل القسمة، لا تجري فيه الشفعة (5)، وقدم عليه (6) أن الشفعة لا تثبت في بيع بعض العبدِ ورام بهذا أن يبيّن أن استحقاق الشفعة لا يتعلق بكل شائع. وقد نجزت المسائل المنصوصة في الباب، ونحن نرسم بعدها مسائل وفروعاً.

_ (1) عنوان [فصل] سقط من الأصل، وهو في (ي)، (هـ 3)، أما (ت 2) فيقع ضمن الورقة الساقطة. (2) ر. المختصر: 3/ 59. (3) هنا انتهى الخرم الموجود في (ت 2). (4) في الأصل: الخيار. (5) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): لا تثبت الشفعة في بيع بعضه. (6) عليه: أي على التقدير الذي نقدر. وأسقطت (ت 2) كلمة (عليه) ولعله أوفق.

فرع: 4826 - إذا باع المريض في مرض موته شقصاً مشفوعاً بألفٍ (1)، وهو يساوي ألفين، والشفيع وارثُ المريض، فهذه المسألة ردد ابن سُريج فيها أجوبتَه، وحاصل ما ذكره أربعة أوجه، وزاد الأصحاب بعده وجهاًً خامساً، ونحن نذكرها على وجوهها بعد أن ننبه على الإشكال فيها. لو أثبتنا الشفعة للوارث، لكان ذلك محاباة (2) في مرض الموت معه، ولا يُنجي من هذا المصيرُ إلى أن الوارث يتلقى الملك (3) من المشتري؛ فإنه إذا كان يتوصل إلى الأخذ قهراً، فبيع الموروث يُثبت له حقَّ التملك قطعاً، من غير أن يتعلق باختيار متوسط. هذا وجه. ولو لم نثبت الشفعةَ، لكان خروجاً عن قاعدة الشفعة، ومذهبنا الخاص، من أن الشفيع يترتب أمرُه على المشتري، فاضطرب الأصحاب لما نبهنا عليه. وذكر ابن سريج أربعة أوجه نأتي بها وِلاءً: أحدها - أن الشفيع يأخذ نصف الشقص بتمام الثمن، لتنتفي المحاباة والوصيةُ للوارث. فإن أبعد مبعدٌ هذا؛ من جهة تغيير الثمن عن وضعه، قلنا: نحن نقدر أعواضاً نعتقد أن العقود (4) لا تقتضيها، ولذلك نثبت على الشفيع مهرَ مثل المنكوحة، إذا كان الشقص صداقاً، وبدَلَ الدم إذا كان الشقص عوضاًً عن المصالحة، وقيمةَ العبد المعيّن المسمى ثمناً، فليكن ما ذكرناه من هذا القبيل. وهذا الوجه بعيدٌ؛ فإن مساقه أن نسلم للمشتري نصف الشقص من غير عوض، ولا محمل لهذا؛ فإن البيع بالمحاباة إن كان يشتمل على تبرع، فهو شائع، في العقد (5)، وليس مضمونُ العقد بيعاًً وهبة. والوجه الثاني - في الأصل- أن الشفيع إذا أراد الشفعة، فيصح البيع في نصف الشقص بتمام الثمن، ويبطل البيع في النصف الثاني، ثم للمشتري الخيار لتبعض

_ (1) (ت 2): بثوب. (2) (ت 2): مجاناً على فرض الموت معه. (3) (ت 2): الكلام من المشتري فأما إذا كان ... (4) (ي)، (هـ 3): أن العقود عليه لا تقتضيها. (5) (ت 2): في النصف.

الصفقة عليه. فلو قال: أفسخ، وقال الشفيع: آخذ الشفعة، فأيهما أولى؟ فعلى وجهين ذكرنا نظيرهما في الرد بالعيب. ووجه هذا الوجه أن تقرير البيع على وجهه، غيرُ ممكنٍ لوصول المحاباة إلى الوارث، وتبقية شيء من المبيع موهوباً في يد المشتري بعيدٌ جداً، فلا وجه إلا التغيير الذي ذكرناه، وبناء التخيير عليه. والوجه الثالث في أصل المسألة- أن البيع باطل، فإنا لو صححناه، لتقابل فيه أحكامٌ متضادة، لا سبيل إلى التزام شيء منها، فالوجه إبطال البيع، لتناقض مضمونه. والوجه الرابع- أن البيع يصح، ويثبت، ولا شفعة؛ فإنا لو أثبتناها، لزم من إثباتها تصحيحُ الوصية لوارث، وإن غيرنا البيعَ عن مضمونه، كان تحكماً بما يخالف قياسَ الأصول، فأقرب الأمور قطعُ الشفعة. هذه أجوبة ابن سريج. والوجه الخامس بعدها- أن البيع يصح، ويأخذ الشفيع الشفعة، مع المحاباة، ولا يكون ذلك وصيةً لوارث؛ فإنه يتلقى الملكَ من المشتري، لا من البائع المحابي، فليأخذ الشقص بكماله بألفٍ. وهذا قد يبتدره الكيّس، ويراه قياساً، ولكنه حسيكة في صدور الفقهاء، لما نبهنا عليه، من أن هذا إثباتُ محاباةٍ في حق الوارثِ، على قهرٍ، من غير أن يتعلق باختيار المتوسط في البين. وقول القائل: إنه يتلقَى من المشتري إنما يستقيم لو طلب خيارَ الشراء، وربط الأمر برضاه. ومع هذا كلِّه أعدلُ الوجوه هذا الخامس، فليس (1) فيه خروج عن قانون إلا ما ذكرناه من وصول المحاباة إليهِ، وسبيل الجواب عنه أن المحاباة تثبت في حق المشتري ثبوتاً معقولاً، ثم ابتنى عليه أخذ الشفيع، فإن لم يكن بد من احتمال شيءٍ في هذه المسألة الحائدة، فما ذكرناهُ أقرب محتمل. والعلم عند الله. فرع: 4827 - إذا شهد البائعُ على عفو الشفيع عن الشفعة، قال الأصحاب: إن كان ذلك قبل قبض الثمن، فلا تقبل شهادته؛ فإنه إذا لم يقبض الثمن يبقى له عُلقه في

_ (1) في الأصل، (ي)، (هـ 3): وليس.

المبيع، وهو حق الرجوع عند تقدير الإفلاس. ولو قبض الثمن، وشهد على العفو بعد ذلك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا تقبل شهادته؛ فإنه يتوقع فيه تراد ورجوع إلى العين، بسببٍ من الأسباب. والوجه الثاني- أن شهادته مقبولة؛ فإن حكم العقد إذا انتهى إلى تقابل العوضين أنه بلغ غاية المقصود، فلا تعويل بعد ذلك على تقديراتٍ من طريق التوقع، وهذا التفصيل لصاحب التقريب. فرع: 4828 - إذا شهد شاهدان أن الشفيع أخذ الشقص بالشفعة، وكان الشقص في يد الشفيع، وشهد شاهدان أقامهما المشتري أن الشفيع عفا عن الشفعة، وأبطل حقه منها، فقد ذكر شيخي وجهين: أحدهما - أن بينة الشفيع أولى؛ لمطابقتها ظاهر اليد. والوجه الثاني - أن بينة المشتري أولى؛ فإنها تُثبت العفوَ، ولم يعارضها في مقصودها شيء، ومعارضتها -لو قدرت- نفيٌ، ولا شهادةَ على النفي، وسبيل امتحان ذلك أن الأخَذ بظاهر الشفعة ممكن مع تقدّم (1) العفو سراً، بحيث اطلع عليهِ شاهدان. وهذا الوجه، لا وجه غيره، وما سواه غير معتد به. فرع: 4829 - قال صاحب التقريب: إذا كان في يد العبد المأذونِ له في التجارة شقصٌ، فبيع الشقص الثاني، فأراد المأذون أخْذَه بالشفعة، وكانت التجارة تقتضي أخْذه، فله أن يأخذه، ولا حاجة إلى إذنٍ مجدد؛ إذ يعدُّ ذلك من التجارة. ولو عفا السيد عن الشفعة، سقطت الشفعة؛ فإن الحق في الحقيقة له، وسواءٌ كان على العبد ديون، أو لم يكن؛ فإن الشفعة تسقط بإسقاط المولى. وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشفعة حق اعتياض، وللسيد منع عبده من الاعتياض في المستقبل؛ إذ لو نهاه عن التصرف، لصار محجوراً عليهِ، وإن كان عليه ديون، ولو أقدم على التصرف، لاستفاد ربحاً في غالب الظن، ولكن لا نظر إلى هذا.

_ (1) (ت 2): تقدير العفو.

وليس كذلك لو أراد أن يتبرَّع بشيء ممّا في يد المأذون، وقد أحاطت به الديون؛ فإنه تبرعٌ بعين مالٍ تعلقت به ديون، والشفعة ليست عينَ مالٍ، وإنما هي حيث تثبت استحقاقُ اعتياض. وقد ذكرنا أن العبد لا يستحق ذلك أبداً، لا لنفسه ولا بسبب غرمائه. فإن قيل: أليست الشفعة موروثة كحق الرد بالعيب، ثم المولى بعد إحاطة الديون بالعبد، لو أراد الرضا بالعيب، فقد لا يكون له ذلك على الإطلاق. قلنا: أمّا جريان الإرث في الشفعة، فلا متعلق فيه مع إجرائنا الإرث في خيار الشرط، وغيره من حقوق العقد، وأما الرد بالعيب، فقد فصلنا القول فيه في عهدة المأذون، وبالجملة إن كان عفو السيد متضمناً احتمالَ حطيطةٍ وغبينة، فعفوه مردود، إذا كان لا يبذل للغرماء مثل ما يحط. وقد مضى في مسائل المأذون. فرع: 4830 - الشريك إذا وجد الشقص المشفوع الذي كان لشريكه في يد إنسان، فقال صاحب اليد: قد اشتريت هذا الشقص، من فلان الغائب، وسمى شريكه، فذكر صاحب التقريب فيه قولين عن ابن سريج: أحدهما - أن الشفيع يأخذ الشقص بالشفعة، بناء على إقرار صاحب اليد، ثم الغائب إذا رجع، فهو على حجته إن أنكر، وجحد. والقول الثاني- أنه لا يأخذ الشقص من المُقر؛ فإنه أسند البيع إلى غائبٍ، ولكن القاضي يكتب إلى البلدة التي بها البائع، ويبحث عن إقراره، فإن أقر، وثبت ذلك عنده بطريق ثبوت الأقارير في مجالس القضاة، أثبت الشفعة، وإن لم يثبت، توقف، وقرر الشقص موقوفاً، إلى أن يبين الأمر. وهذا التردد الذي ذكره ابنُ سريج خصصه بالشفعة، ولم يصر أصلاً إلى إزالة يد من يدعي الشراء، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف؛ فإن الأيدي نراها تتبدل، ولا نتعرض لها، ثم كما لا نتعرض لأصحاب الأيدي كذلك لا نتعرض لانتفاعهم بما في أيديهم. وهذا أصل لا نصادمه، وهو مجمع عليه، ولا هجوم على مواقع الإجماع.

نعم، لو اعترف صاحب اليد بالشراء، ثم أراد أن يبيع ما ادعى شراءه، ففي بيعه، وهبته، ورهنه، وتصرفاته المستدعية حقيقة ملكه التردُّدُ الذي ذكره ابن سريج. والوجه القطع بإثبات حق الشفعة بناء على ظاهر اليد في الحال، ورفعاً للخيال الذي أبداه. ثم فرع الأصحاب على ما ذكره ابن سريج، فقالوا: إن قلنا: يأخذ الشفيع الشقص، قهراً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يأخذه قهراً، فلو سلم صاحب اليد إلى الشفيع طوعاً، ففيه جوابان: أحدهما - وهو الذي قطع به صاحب التقريب أنا لا نتعرض لهذا إن جرى، وإنما ثبوت التردد في فرض الطلب القهري. والثاني- وهو الذي قطع به العراقيون أنه لا يجوز للشفيع أخذه أصلاً، على هذا القول لابن سريج، وإن طاوعه صاحب اليد، ولم يمتنع عليه. وبالجملة إن كان لهذا القول ثبات، فلا معنى للفصل بين الطوع وبين (1) القهر، فإن المرعي حق ذلك الغائب، وهذا لا يختلف، بأن يتطابق الشفيع والمشتري، أو يتمانعا. فرع: 4831 - قال صاحب التقريب: إذا اشترى الرجل شقصاً رآه، ولكن الشفيع لم يره، فيثبت حق الشفعة للشفيع، وإن منعنا بيعَ ما لم يره المشتري؛ فإن حق الشفعة يثبت قهراً. والحقوق القهرية لا تستدعي ما يستدعيه إنشاء العقد، كالإرث وغيره. ثم إذا منعنا بيعَ الغائب، فالشفيع لا يأخذ الشقص حتى يراه. ولو بذل الثمن، لم يملكه؛ إذ هو مختار في التملك، وإنّما حظ القهر في أصل حق الشفعة، فقد ثبت حق الشفعة لما قدمناه، ولكن لا يجري الملك إلا على شرط العقد الذي ينشأ، وليس للمشتري أن يمنعه من الرؤية؛ فإنه قد ثبت له حق الشفعة.

_ (1) هكذا بتكرير (بين) مع الاسم الظاهر، مع أن المشهور أنها لا تكرر إلا مع الضمير. ولكن هذا ما جرى عليه إمام الحرمين، والتزمه -تقريباً- وقد نبهنا إلى ذلك من قبل، وذكرنا أن له وجهاً في الصحة، ونعيد هذا هنا من باب التذكرة.

هذا إذا قلنا: لا يصح بيع الغائب. فأما إذا قلنا: يصح بيع الغائب، فإنه يملك الشقص ببذل الثمن، ثم يكون على خيار الرؤية، على هذا القول، أم كيف السبيل؟ خرّج أصحابنا هذا على الخلاف المقدم في خيار المكان، وهذا غير سديدٍ، والوجه القطع بثبوت خيار الرؤية للشفيع، إذا ملكناه قبل الرؤية؛ فإن المانع من إثبات خيار المجلس له عند بعض الأصحاب بُعْدُ ثبوتِ خيار المجلس من أحد الجانبين دون الثاني. وهذا المعنى غير مرعي في خيار الرؤية. ويجوز أن يقال: يملك الشفيع الشقص قبل الرؤية، وإن منعنا بيع الغائب، حتى نقول: إذا بذل الثمنَ، ملك، قولاً واحداً؛ فإن ملكه يستند إلى قهرٍ، وليس فيه عقدٌ منشأ. وهذا يقرب من الخلاف في أن بيع الشفيع بعد بذل الثمن للشقص القائم في يد المشتري هل ينفذ أم يمتنع ذلك، امتناعَ بيع المبيع قبل القبض؟ وفي هذا اختلافٌ قدمناه. ثم ذكر صاحب التقريب أن المشتري لو قال: لا أمكنك من قبض المبيع من غير رؤيةٍ، وإن جاز بيع الغائب؛ فإنك لو قبضته كنتَ على خيار الرؤية، ولم أكن واثقاً بالثمن الذي تبذله. قال: إنه يجاب إلى هذا، ويسوغ له أن يمتنع من إقباض الشفيع حتى يراه. هكذا قال، وفيه احتمال ظاهر. ولو فرض في الشقص عيب وكان المشتري يمنع من تسليمه حتى يطّلع الشفيع عليه، فلا معنى لهذا؛ فإن ذكر العيب كافٍ في ذلك، ولا يسد مسدَّ الرؤية المرعيّة ذكرٌ وإعلام. فرع: 4832 - إذا ثبتت الشفعة للشفيع، وعلم به، ثم إنه باع الشقص الذي به استحق الشفعة، قبل أن يستقر ملكه في الشقص المشفوع، فلا شك أن حقه يبطل من الشفعة. وهذا يحسن تصويره على قولنا: ليس حق الشفعة على الفور، وهذا يناظر ما لو

علمت الأمة بأنها عَتَقت تحت زوجها القِنّ، وعلمت ثبوتَ الخيار لها، وقلنا: إن حقها في الفسخ على التراخي، فأخرت حتى عَتَق الزوج، فلا خيار لها. ولو باع الشفيع الشقص ولم يشعر بثبوت الشفعة، ثم علم أن الشفعةَ كانت ثابتةً وقت بيعه ملكَه، ففي ثبوت الشفعة قولان مشهوران. وحيث قلنا: تبطل الشفعة لو باع جميع الشقص، فلو باع بعضه، فكيف حكمه؟ ذكر الشيخ أبو علي والعراقيون وجهين: أحدهما - أن الشفعة تبطل، وتكون كما لو عفا عن بعض الشفعة، وظاهر المذهب البطلان في الجميع لو فعل ذلك، فبيع البعض إذاً بمثابة العفو عن بعض الشفعة عند هذا القائل. والثاني- لا تبطل شفعته أصلاً؛ فإنه قد بقي من ملكه القدرُ الذي لو لم يملك في الابتداء غيرَه [لاستحق] (1) الشقص بكمالهِ. فرع: 4833 - إذا وهب لعبده شقصاً من دارٍ، وقلنا: إن [العبد] (2) يملك بالتمليك، فإذا باع الشقص الثاني، قال شيخي: تثبت الشفعة على الجملة. وهذا فيه احتمال ظاهر؛ من قبل أن ملك العبد ضعيف، والشفعة لا تستحق بالملك الضعيف عند كثيرٍ من أصحابنا. ثم قال رضي الله عنه: إذا ثبتت الشفعة هل يحتاج العبد في أخذ الشفعة إلى إذن جديدٍ من جهة السيد؟ فعلى وجهين حكاهما: أحدهما - لا بد من إذن، وهو القياس؛ فإن العبد، وإن قلنا: إنه يملك، فإنه لا يستبد بالتصرف، فيما ملّكه مولاه. فرع: 4834 - قال شيخي رضي الله عنه: إذا شهد سيد المكاتب على شقصٍ فيه شفعة لمكاتَبه، تُقبل شهادته. وهذا أراه هفوةً غيرَ معتد بها؛ فإن شهادة السيد لمكاتَبه لا تُقبل. ولكن لعله أراد إذا ادعى المشتري الشراء، فجُحد، فأقام سيدَ المكاتب شاهداً، والغرض إثبات

_ (1) في جميع النسخ الأربع (لا يستحق). وهو تصحيف عجيب، لا يستقيم مع السياق، والسباق. (2) في الأصل: العقد.

الشراء، وليس الشراء في المرتبة الأولى حق المكاتب، ففي ثبوت الشراء على هذا الوجه احتمال. ثم إن أثبتناه، لم يمتنع ترتب الشفعة عليه تبعاًً، ولا ينبغي أن يشك أنه أراد رحمة الله عليهِ غيرَ هذا. ثم إن ثبتت الشفعة على طريق التبعية، كان ذلك شبيهاً بقضائنا بعيدِ شوَّال عند بعض الأصحاب، بناء على شهادة شاهدٍ واحدٍ على هلال رمضان -إذا رأينا قبول شهادة الشاهد الواحد- ثم استكملنا بعد ذلك العدة ثلاثين، فأصل الشراء يظهر فيه قبول شهادة السيد لمن يدعي الشراء. وفيه احتمال. وإن أثبتنا (1)، فيظهر انتفاء الشفعة للمكاتب. فأما إذا ادعى المكاتب شراءً في شقصٍ هو فيه شفيع، وغرضه إثبات الشفعة، فالسيد لا يشهد في مثل هذه الخصومة قط، وما ذكرناه في السيد والمكاتب، يجري في الوالد والولد، على الترتيب الذي طردناه. فرع: 4835 - المقارض إذا اشترى شقصاً بمال القراض، ولم يظهر بعدُ في المال ربحٌ، ولرب المال شقصٌ في تلك الدار، ليس من مال القراض. قال ابن سريج فيما نقله القفال عنه: لرب المال أخذ الشقص بالشفعة، قال القفال: هذا غلط؛ فإن الملك في المشترى لرب المال، وإذا وقع الشقص ملكاًً، فيستحيل، أن يأخذه بالشفعة لنفسه عن نفسه. وهذا لم أره محكياً عن ابن سريج في التقريب وغيره من مبسوطات المذهب، وإنما كان يحكيه شيخي عن شيخه. ولعل الذي حمل ابنَ سريج على ما قاله أن مال القراض مستحَق البيع؛ إذ للمقارض أن ينضَّه بالبيع، على ما سيأتي تمهيد ذلك في كتاب القراض، إن شاء الله عز وجل. فرب المال يُثبت ملكَ (2) نفسه بحق الشفعة، ويقطع حق العامل في التسلط على البيع. وهذا يضاهي ما لو اشترى أحدُ الشركاء نصيبَ شريكه، فللذي لم يشترِ حقٌّ

_ (1) كذا. ولعلها: أثبتناه. أي الشراء. (2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): الملك لنفسه.

الشفعة، ثم المشتري يقول له: أنا أُثبت بشرْكي القديم الملكَ في قسطٍ مما اشتريتُه، كما تأخذ أنت قسطاً منه. وإذا كانت الشفعة تقوى على جلب ملك؛ فإنه لا يبعد أن تقوى على إثباتِ الملك وتقريره. وهذا تكلّف. والصحيح نفي الشفعة. ثم إذا نفيناها، كان الشقص كسائر أموال القراض. فرع: 4836 - إذا اشترى شقصاً من أرضٍ، فزرعها. وتصوير الزراعة كتصوير البناء، فإذا أراد الشفيع أخذ الشفعة، فله ذلك. قال صاحب التقريب: للشفيع تأخير الشفعة -وإن فرعنا على الفور- حتى يُحصدَ الزرع؛ فإنه لا ينتفع بالأرض مزروعة، ولا سبيل إلى قلع الزرع، فلو وفر الثمن، لكان باذلاً عوضاً في مقابلة ما لا ينتفع به. فأمّا إذا كان بالشقص أشجار مثمرة، وكانت المسألة مصورة حيث لا يستحق الشفيع الثمار، فلو أخّر الأخذ بالشفعة إلى قطاف الثمار، فهل يبطل حقه على قولِ الفور؟ فعلى وجهين: أحدهما- لا يبطل حقه بالتأخير، كما تقدم في الأرض المزروعة. والثاني- يبطل حقه بالتأخير؛ لأن الثمار لا تحجزه من الانتفاع بخلاف الزرع، والقائل الأول يقول: صاحب الثمار يدخل البستان لتعهد الثمار، فيتبعض الانتفاع. هذا كلام صاحب التقريب. والوجه في مسألة الزرع أن يعجِّل طلبَ الشفعة، ثم يُعذر في تأخير توفير الثمن. هذا منقدح. ويجوز أن يقال: يتعين تعجيل الطلب، وتوفير الثمن، وإن لم يفعل، بطل حقه. كما فصلناه. ولا نظر إلى استئخار منفعته إذا كان يجري ملكه في رقبة الشقص. والدليل عليه أن الشقص المشفوع لو فرض بيعه وسط الشتاء (1)، حيث لا يفرض الانتفاع به، لفوات وقت الانتفاع، فلا يسوغ تأخير طلب الشفعة إلى أوان إمكان الانتفاع؛ فإن منع مانع هذا، على طريق صاحب التقريب، كان بعيداً.

_ (1) المؤلف متأثر ببيئة خراسان التي يعيش فيها، حيث الشتاء القارص الذي لا يمكن معه الانتفاع بالأرض المزروعة.

فرع: 4837 - مشتري الشقص لو أراد بيعه، نفذ منه بيعُه، لا نعرف في ذلك خلافاًً بين الأصحاب. ثم الذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن من اشترى شقصاً مشفوعاً وباعه، فالشفيع بالخيار إن أحب نقض بيع المشتري، وردّ الشقص إلى حكم البيع الأول، وأخذه بالثمن المسمى فيه. هذا إذا لم يكن عفا عن حق الشفعة في العقد الأول. فإن كان عفا أو قصر، فبطل حقه، فيتجدد له حق الشفعة بسبب البيع الذي أنشأه المشتري. هذا مذهب الجمهور. وحكى طوائف عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا سبيل إلى نقض بيع المشتري؛ فإن الأخذ بالشفعة ممكن بناءً على العقد الثاني، فلا معنى لإبطال تصرف المشتري، وجعل أبو إسحاق المنعَ من نقض بيعه بمثابة المنع من نقض بنائه مجاناً (1). وهذا مزيف غيرُ سديدٍ؛ فإن في إلزام بيعه إبطالَ حق الشفعة في العقد الأول، وقد يظهر الغرض في الأخذ بموجَب العقد الأول. ولو وهب المشتري الشقص، وأقبض، أو وقفه وقفاً حَقُّ مثله أن يلزم، فالذي ذهب إليه الجمهور أن الشفيع له أن (2) يبطل هبته ووقفه، ليأخذ بموجب العقد الأول؛ فإن الهبة لا تُثبت حقَّ الشفعة، وكذلك الوقف (3). وإذا فرعنا على مذهب المروزي، فقد اختلف أصحابنا على قياس مذهبه على وجهين: فمنهم من قال: تبطل الشفعة بالهبة، ولا سبيل إلى نقضها، (4 فيصير هذا النوع من التصرف، قاطعاً لحق الشفعة 4). ومنهم من قال: للشفيع إبطال هذا النوع بخلاف البيع؛ فإن البيع ليس قطعاً

_ (1) (ت 2): محاباة. (2) (ت 2): أن الشفيع الآن يبطل .... (3) المعنى: أن الموهوب له، والموقوف عليه لا تثبت له الشفعة. (4) ما بين القوسين سقط من (ت 2)، (هـ 3).

للشفعة، فإذا أمكن الجمع بين تقرير التصرف وإثبات الشفعة، تعيّن [ذلك] (1). وليس كذلك الهبة، وما في معناها. هذه هي الطريقة المشهورة التي رتبها الأئمة، في الطرق. وذكر الشيخ أبو علي مسلكاً غريباً عن أبي إسحاق المروزي، لم أره لغيره، وهو أنه قال: إذا باع المشتري الشقص، نفذ البيع، وبطل حق الشفعة، ولا يتجدد للشفيع أخْذ الشفعة بالعقد الثاني. وهذا لست أدري له وجهاً قريباً، ولا بعيداً؛ فإن البيع الثاني لو لم يجر غيرُه، لكان مثبتاً للشفعة، فلا معنى لإبطال الشفعة، والذي شبب به الشيخ أبو علي في توجيه ما نقله عن المروزي أن عقد المشتري إذا وجب تنفيذه وإلزامه، وامتنع نقضه، كان مبطلاً للشفعة، ويستحيل أن يثبت الشفعةَ ما يبطلها، وهذا كما أن من تحرم بالصلاة، ثم شك في صحة النيّة، فأتى بتكبيرةٍ تامةٍ مع النية، لم تنعقد الصلاة بها؛ لأن من ضرورة العقد الحل، وما يصلح للعقد لا يصلح للحل، ولا ثبات لمثل هذا الكلام، ولا تُتلقى حقوقُ الأملاك من أحكام النيات في العبادات. فرع: 4838 - إذا اشترى الرجل شقصاً، دونه (2) شفيعان، فقد قدمنا أن ظاهر المذهب أنه إذا عفا أحدهما، أخذ الشفيع الثاني تمامَ الشقص، فإذا تجدد العهد بهذا، قال ابن الحداد بعده: لو ادعى المشتري على الشفيعين عفوهما عن الشفعة، فإن حلفا على نفي العفو، فهما على حقهما، وإن نكلا، رددنا اليمين على المشتري. وإن حلف أحدهما، ونكل الثاني، فلا يرد اليمين على المشتري، فإنه لا يستفيد بيمين الرد شيئاً؛ إذ لو صح عفوُ أحد الشفيعين، لأخذ الثاني تمام الشقص. وهذا الذي ذكره لطيف حسن، وهو من لطائف أحكام الخصومات؛ فإن دعواه تعلق بشخصين، ثم يتوقف رد اليمين على نكول الثاني، والسبب فيه ما نبهنا عليه. ولو ادعى على أحدهما العفوَ، وصاحبه غائب، فأنكر، وِنكل عن اليمين، ففي

_ (1) زيادة من (ي) وحدها. (2) في (ت 2)، (ي)، (هـ3): "وفيه شفيعان".

رد اليمين على المشتري في هذه الحالة ترددٌ للأصحاب. فمنهم من قال: لا ترد اليمين، كما لو كانا حاضرين؛ فإن الرد يتوقف على نكولهما جميعاً. وهذا هو القياس، ومنهم من قال: ترد اليمين؛ فيثبت بها عفو الحاضر، ثم لا يمتنع أن يلحق الخصومات تغاييرُ من جهاتٍ. وإنما امتنعنا من الرد بنكول أحدهما عند حضورهما للتمكن من اختصار الخصومة، والوصول إلى الغرض منها. وإذا نكل أحدهما من اليمين، وحلّفنا الثاني، فلو أراد الحالف أن يستبد بالشقص، لم يكن له ذلك؛ فإن العفو لم يثبت من صاحبه. ولو أثبتناه، لكان ذلك قضاءً بالنكول المجرّد. نعم، بين الشفيعين خصومة، فإن لم يتخاصما، فهما مشتركان في طلب الحق، وقسمة الشقص. وإن ادعى من حلف على الناكل العفوَ، فإنا نحلفه الآن، ونكوله مع المشتري لا يمنعه من الحلف مع الشفيع، فإن حلف، فذاك. وإن نكل، ردت اليمين على الشفيع المدعي، فإن حلف، استبد بحق الشفعة، وأخذ الشقص بتمامه. وفي كلام ابن الحداد اختلال في اللفظ، حمله الأصحاب على الغلط في المعنى، ونحن ننقله على وجهه. لمَّا فرض دعوى المشتري على الشفيعين، وصوَّر نكول أحدهما عن اليمين، وقال: لا يحلف المشتري، بل يحلف [الحاضر] (1) من الشفيعين، أن صاحبه عفا، ويأخذ جميع الشقص (2)، وهذا في ظاهره يدل على أنه يملك أن يحلف من غير استفتاح دعوى وابتداء خصومة مع الناكل. هذا ظاهر الكلام، وعليه حمل الأصحاب مذهب ابنِ الحداد، ثم غلطوه، وقالوا: كيف يحلف على العفو، وهو لم يدّع على صاحبه العفو، ولا يظن بابن الحداد أنه يثبت الحلف في حق الشفيع من غير دعوى واستئنافِ خصومة، وإنما أراد بتحليف الشفيع أن يحلف في أوان التحليف، ومن ضرورة ذلك أن يدعي ما ينبغي أن

_ (1) في الأصل، (ت 2): الحالف. (2) جواب لمّا محذوف، ومفهوم مما تقدم: "حمله الأصحاب على الغلط".

يحلف عليه، ثم لا يخفى حكم ابتداء الدعوى، وعرض اليمين مرة أخرى، كما ذكرناه. ولست أشك أن ابن الحداد لم يُرد إلا ما قاله الأصحاب، ولكنه أوجز الكلام فيما لم يكن مقصوداً له. وقدْرُ غرضه ما ذكره من أن اليمين لا ترد على المشتري إذا نكل أحدهما، ثم جرى في كلامه أن الشفيع الثاني يأخذ، فقال: نعم، جميع الشقص إذا حلف. ولم يتعرض لتفصيل القول في وقت حلفه. فرع: 4839 - إذا مات رجل، وخلف داراً وابناً، وخلَّف من الدين مثلَ نصف قيمة الدار، فإذا بيع نصف الدار في الدَّيْن، فهل للابن أخْذ ما بيع بالملك الذي بقي في الدار؟ ترتيب المذهب فيه أن هذا يخرّج على أن الدَّيْن في التركة هل يمنع ثبوت الملك للوارث في عين التركة؟ فعلى قولين، سنذكرهما في الوصايا، إن شاء الله. أصحهما -وهو الجديد- أن الملك يثبت للورثة، وإن كانت التركة مرتهنة بالدين. والمنصوص عليه في القديم أن الملك لا يثبت للورثة في جزءٍ من التركة، مع بقاء جزءٍ من الدين. فإن قلنا: التركة ملك الورثة، فإذا بيع بعض الدار في الدين، فلا شفعة للابن الوارث. فإن الذي بيع من الدار كان ملكَه، ومَن بِيع جزءٌ من ملكه بحقٍّ، لم يملك استرجاعه بالشفعة. وإنما وضْعُ الشفعة على جلبِ ملك الغير. وإن حكمنا بأن التركة ليست مملوكة للورثة مع الدين، وإنما هي مبقاة على ملك الميت، فالبيع يصادف ملك الميت. فهل تثبت الشفعة للوارث؟ هذا يترتب على أمرٍ، وهو أن الدين إذا كان ألفاً وقيمة الدار ألفان، فنقول: الباقي على ملك الميت مقدار الدين، أم جميع التركة، من غير نظر إلى مقدار الدين؟ وهذا مما اختلف الأصحاب فيه، وله أصل سيأتي إيضاحه، إن شاء الله في التركات، من كتاب الوصايا. فإن قلنا: لا يملك الوارث شيئاًً من التركة؛ فلا شفعة في هذه الصورة أيضاً؛ فإن النصف الذي يبقى للورثة إنما يخلص له مع نفوذ البيع في النصف المبيع، وحق الشفعة إنما يستحق بملكٍ يتقدم على البيع الذي هو محل استحقاق الشفعة.

وإن قلنا: يبقى (1) على ملك الميت من التركة مقدارُ الدين، ويثبت الإرث في الزائد عليه، فتثبت الشفعة للابن الوارث بسبب النصف الذي بقي له. ولو كان للابن في هذه الدار شركٌ قديم، مثل أن كان الأب يملك فيها ثلثا، وكان للابن ثلثاها، وقيمة الثلثين ألفان، والدين ألف، فإذا فرض بيعُ بعض الدار في الدين، والتفريع على الجديد، فلا شفعة للوارث، فإن الذي بيع كان ملكاً للوارث على الجديد. وإن فرعنا على القديم، فيثبت حق الشفعة للابن بملكه القديم، من غير حاجة إلى تفصيل. هذا هو المذهب. وفي نقل الأصحاب كلامَ ابن الحداد خبطٌ وتخليط، لم أوثر ذكرَه؛ فإن الحق الذي لا محيد عنه ما ذكرناه، فما وافق ما قدمناه، فهو سديد، وما خالفه، فهو غلط غيرُ معتدٍّ به. فرع: 4840 - الوصي إذا باع شقصاً من دارٍ للطفل، وراعى شرطَ الغبطة، والمصلحةِ في بيع العقار، كما قدمناه في كتاب البيع. وكان للوصي شِرْكٌ في تلك الدار، فلو أراد أخْذَ ما باعه من ملك الطفل بحق الشفعة، قال الشيخ أبو علي: ليس للوصي ذلك. بإجماع الأصحاب، والسبب فيه أنه قد يتهم، فيقال: إنما باع ليأخذ، وهذا الباب محسوم، سواءٌ وافق الغبطة الظاهرة، أو لم يوافقها. وإنما منعنا الوصي من بيع مال الطفل من نفسه، وتولِّي طرفي العقد؛ لأنه ليس متعلقاً بما يدل على الشفقة التامة، وتولي طرفي العقد يُشعر بالتهمة، فالمعنى الذي لأجله امتنع عليه بيعُ مال الطفل من نفسه، امتنع عليه أخذ ما يبيعه بالشفعة. والأب لما تولى طرفي العقد، وملك أن يبيع مال الطفل من نفسه، فلا جرم لو باع الشقص من مال الطفل، وله شركٌ قديم، فله أخذه بالشفعة. هذا ما حكاه الشيخ أبو علي. وقال: لو اشترى للطفل شقصاً من دارٍ، وكان له شرك قديم فيها، فله أخذ ما اشتراه بالشفعة، فإن هذا لا تهمة فيه؛ إذ هو المشتري

_ (1) (ت 2)، (ي)، (هـ3): يقرّ.

له، وهو الآخذ، وكان يمكنه أن يشتري لنفسه، وكان لا يتمكن من بيع مال الطفل من نفسه. وفي القلب شيء من إثبات الشفعة للوصيِّ في المسألة الأولى إذا تحققت الغبطة للطفل. وليس يكاد يخفى وجه الغبطة على أهل البصائر وامتناع تولّي طرفي العقد ليس مما يعلل. وممَّا نقطع به أنه ليس معللاً في حق الأب بالشفقة فإن الوصي إذا نزل منزلة الأب في بيع أموال الطفل، فلا يبقى بعد ذلك مضطرب. 4841 - ومما ذكره الشيخ أبو علي أن الرجل إذا وكل شريكه حتى باع شقصه من الدار، فهل لهذا الوكيل إذا نفذ البيع أن يأخذ بالشفعة ما باعه؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - ليس له أن يأخذه، كما ليس للوصي أخذ ما باعه من مال اليتيم. والوجه الثاني- أن له أن يأخذه بملكه القديم؛ لأن الوصي هو الناظر في حق الطفل، ولا استقلال للطفل، فكان الوصي متهماً فيما يأخذه. والوكيل ليس ناظراً للموكل، وإنما يمتثل أمره، والموكل ينظر لنفسه، فلا موقع للتهمة هاهنا. فرع: 4842 - إذا ارتد أحد شركاء الدار، وقلنا الرّدّة تزيل ملكه حقيقة، ثم باع شريكه حصة نفسه في زمان ردته، فلا شفعة للمرتد؛ إذ لا ملك له، فلو عاد مسلماً، فلا شفعة له، وإن عاد ملكه؛ فإنه لم يكن له عند البيع ملك. وبمثله لو ثبتت الشفعة للشريك أولاً، ثم ارتد، وقلنا: زال ملكه، فلو عاد هل تعود شفعته؟ قال الشيخ أبو علي: المسألة محتملة، والظاهر أن لا شفعة؛ فإنه لا يُعذر فيما جرى منه، من سبب زوال الملك. فالوجه انقطاع شفعته. ووجه الاحتمال أنه لم يعتمد إزالة ملك نفسه، وإنما جرت عليهِ شقوتُه، فارتد. وليس كالذي يزيل ملك نفسه بعد ثبوت الشفعة قصداً. والعلم عند الله تعالى. فرع: 4843 - لا يجوز أخذ العوض عن حق الشفعة في ظاهر المذهب. وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي ثلاث مسائل أخالف فيها أصحابي: المصالحة عن حق

الشفعة، وحدُّ القذف، ومقاعد الأسواق، منع أصحابي أخذَ العوض عن هذه الأشياء، وأنا أجوّز أخذ العوض عنها. فإذا فرعنا على ظاهر المذهب وقلنا: لا يحل أخذ العوض عن حق الشفعة، فلو أخذه، ثم تبين لهْ، واستُرِدَّ العوض، وكان أخذه على ظن أنه يحل، فهل يبطل حقه من الشفعة؟ أم هو على حقه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وليس يخفى نظائرهما وتوجيههما. فرع: 4844 - [إذا جاء] (1) الشفيع على قول الفور، وقال: لقد اشتريتَه رخيصاً، وأنا أطلب الشفعة، قال الأصحاب: يجب أن تبطل الشفعة على قول الفور؛ لأن الذي جاء به فصول (2)، وهذا متجه. ولو قال: بكم اشتريتَ؟ قال الأصحاب: بطل حقه؛ لأنه لم يبادر الطلب. قال القاضي: الذي عندي أنه لا يبطل حقه بالبحث عن مقدار الثمن؛ لأن الجهل به يمنعه من الأخذ، والبحث عن المقدار إزالة للجهل المانع من الأخذ. وقد ذكرت هذا التردد فيما تقدم، وإنما أعدته لمصير القاضي إليه. فصل 4845 - يجمع مسالك تُعسِّر الشفعةَ على الشفيع، وقد ذكر الأصحاب منها جملاً: أحدها - أن يبيع الشقصَ بأضعاف ثمنه دنانير مثلاً، ثم يأخذ عَرْضاً قيمته مثل ثمن الشقص، أو أقل عن الثمن المسمى، فلا يرغب الشفيع في الشفعة؛ لأنه لو رغب فيها، لأخذ الشقص بالثمن المسمى أوّلاً. وهذا وإن كان يعسّر الشفعة، ففيه تغرير؛ لأن البائع إذا التزم له المشتري الثمن ربما لا يرضى بالعَرْض الذي قيمته دون ذلك المبلغ.

_ (1) عبارة الأصل: الشفيع -على قول الفور- إذا قال. (2) في (ت 2): " فضول ". والمعنى أن ما جاء به من العبارة يشهد بأنه تراخى في طلب الشفعة، حيث فصل بين العلم بالبيع والطلب بالسؤال والاستفصال عن السعر.

ومن الحيل أن يقع بيع الشقص بأضعاف الثمن، ثم يحط البائع بعد لزوم العقد عن المشتري ما يزيد على ثمن المثل، فالشفيع لو أخذ بالثمن الأول؛ فإن الحط لا يلحق الشفيع. وفيه أيضاً تغرير؛ فإن المشتري إذا التزم للبائع الثمن العظيم، فربما لا يحط البائع بعد اللزوم. ومن هذا القبيل أن يشتري عرْضاً قيمته مائة بمائتين، ثم يعطيه عن المائتين الشقص الذي قيمته مائة. وفيه غرر؛ لأنه ربما لا يرضى بالشقص بدلاً عن المائتين. ومن الحيل أن يهب تسعة أعشار الشقص مثلاً من إنسان، ويبرم الهبة، ثم يبيع العشر بثمن الشقص، فلا يرغب الشفيع؛ لأن الموهوب لا شفعة فيه، والمبيع منه ثمنه مضعّف، ويشارك فيه المتهب، لتقدم ملكه في التسعة الأعشار، وليس يخلو هذا عن الغرر من الجانبين، مع أن الهبة مفصلة، كما سيأتي ذكرها، فمنها ما يقتضي الثواب، وهذا سهل المُدْرك، فإن تعريتها عن الثواب ممكن. ومن أسباب التعسير اعتماد جعل الثمن مجهول المقدار، مشاراً إليه، وقد أوضحنا أن الأخذ بالشفعة مع جهالة الثمن غير ممكن، فهذا وما في معناه يتضمن تعقيد الأمر على الشفيع (1). ...

_ (1) آخر الجزء الثاني عشر من نسخة (ت 2) ومن هنا أصبح الاعتماد على نسخ ثلاث فقط. وفي خاتمة نسخة (ت 2) ما نصه: "تم الجزء الثاني عشر من نهاية المطلب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرم وعظم. يتلوه في الجزء الثالث عشر إن شاء الله (كتاب القراض) ".

كتاب القراض

كتاب القراض (1) 4846 - القراض والمضاربة لفظان دالان على معاملةٍ على أحد النقدين، أو عليهما، بين مالكِ رأس المال، والعامل الذي لا يملك من رأس المال شيئاً، على أن يتَّجر العامل، وما يرزق الله من ربحٍ، فهو مقسوم بينه وبين المالك، على جزئيةٍ يتوافقان عليها شرطاً، وذلك بأن يقول للعامل: اتَّجر، وتصرف، وما يتفق من ربحٍ، فلك النصف، ولي النصف، أو على جزئيةٍ أخرى يتشارطانها. ولفظ القراض شائع بالحجاز، شيوع لفظ المضاربة بالعراق، وإنما سميت المعاملة قراضاً ومقارضة، لاشتمالها على قطع الربح على نسبة بين المالك والعامل، فالقراض القطع، ومنه المقراض. وسميت مضاربة لتضارب المالك والعامل في الربح، فكلٌّ يضرب فيه بالجزء الذي شُرط له. ثم المعاملة صحيحة، باتفاق العلماء على الجملة، وإن كان من خلافٍ ففي التفصيل. 4847 - وتكلم الشافعي وراء ذلك في ماخذ الإجماع، وقال: الإجماع وإن كان حجة قاطعة سمعية، فلا يتحكم (2) أهل الإجماع بإجماعهم، وإنما يصدر الإجماع عن أصلٍ، فنبه رضي الله عنه على وجوب البحث عن أصل هذا الإجماع، على من يبغي النظرَ في مأخذ الشريعة، ثم رأى رضي الله عنه أن يُتَّخذ خبرُ المساقاة أصلَ الإجماع، على ما سأرويه في أول كتاب المساقاة إن شاء الله عز وجل، ولم يبالِ الشافعيُّ بخلاف من يخالف في المساقاة، لما وثق باتجاه الخبر، وانقطاع التأويل عنه، ولم يتكلف (3)

_ (1) من هنا صارت النسخ ثلاثاً فقط (د 2، هـ 3، ي) وقد اتخذنا (د 2) أصلاً. (2) (هـ 3): يتكلم. (3) في الأصل: "ولم يتكلف متكلف" بزيادة لفظ (متكلف).

إلا الجمعَ بين المعاملتين. وقد ذكرتُ في (الأساليب) (1) طريق الجمع، وحظُّ المذهب (2) منه: أنه يكثر في الناس ملاك النخيل الذين لا يحسنون العملَ عليها، [وإن أحسنوه، لم يريدوا تعاطيه، وفوائد النخيل تتعلق بعمل المتفقِّدين وتعهد القائمين عليها] (3) ولن يحرص العامل على توفية العمل، حتى يكون له حظٌّ من الثمار، وهذا المعنى يتحقق في الاتِّجار، فإنه يقلّ في الناس من يستقلّ بمعرفة التجايرِ (4) والكَيْس فيها، فكانت المقارضة مَرْفقاً بين مَنْ لا مال له، وبين من لا علم له بالتجارة. وقال قائلون: مستند الإجماع في القراض حديثُ عبد الله وعبيد الله ابني عمر، قيل: رجعا من غزوةِ (نهاوند) فمرّا بالعراق، وعليها أبو موسى الأشعري، فقال: إني أريد أن أصلَكما بشيء، وليس في يدي ما أصلكما به، وإنما معي مائة ألف درهم من مالِ بيت المال، أدفعها إليكما، اشتريا بها سلعة، وتبيعانها بالمدينة وتردّان رأس المال على أمير المؤمنين، والربحُ لكما، فأخذاها، واشتريا بها من أمتعة العراق، فربحا عليها بالمدينة ربحاً كثيراً؛ فقال لهما عمر: أَوَ أسلف كلَّ الجيش مثلَ ما أسلفكما؟ فقالا: لا. فقال: أنْ كنتما ابني أمير المؤمنين، لا أراه فعل ذلك إلا لمكانكما مِنِّي! رُدَّا الربحَ في بيت المال، فسكت عبد الله بنُ عمر، وراجع عبيد الله أباه، وقال: يا أمير المؤمنين أليس لو تلف، لكان من ضماننا؟ فقال: بلى، فقال عبيد الله: الربحُ لنا إذاً، أشار إلى أن الخراج بالضمان، فسكت عمر، ثم قال مِثلَ قوله الأول، فراجعه عُبيد الله ثانياً، وأعاد قوله الأول، فقال عبدُ الرحمن بنُ عوف: لو جعلته قراضاً على النصف يا أمير المؤمنين، فأخذ منهما نصفَ الربح، وترك النصف في أيديهما (5) وتعلق العلماء بقول عبد الرحمن: لو جعلته قراضاً، وقالوا: التقريرُ على ذلك، والعملُ بحكمه يدل على أن القراض كان معلوماً فيهم. وليس في

_ (1) من كتب إمام الحرمين في الخلاف، ولم نصل إلى خبر عنه للآن. (2) المذهب: المراد به هنا: هو هذا الكتاب، فكأنه قال: وحظ هذا الكتاب. (3) زيادة من: (ي)، (هـ 3). (4) التجاير: جمع تجارة، وزن: رسالة ورسائل، وسُهِّلت الهمزة كما هو الشأن في لغة هذا الكتاب. (5) حديث ابني عمر، رواه مالك في الموطأ: 2/ 687 - كتاب القراض، والدارقطني: 3/ 63، ورواه الشافعي عن مالك، انظر تلخيص الحبير: 3/ 127 ح 1303.

هذا كثير تعلق عندنا، ولا يجوز أن يكون للإجماع مستندٌ يحتاج الناظر إلى الغوص عليه، وتدقيق النظر في دَرْكه إلى هذا الحد، ولا بدّ وأن يكون للإجماع صَدَرٌ عن أصلٍ، ويبعد في مطّرد العرف خفاؤه، فلا وجه فيه إلا القطعُ بأنهم ألفوا هذه المعاملة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شائعةً بين [المتعاملين] (1) وتحققوا التقرير عليها شرعاً، وكان شيوع ذلك في الخلق أظهرَ من أن يُحتاج فيه إلى نقل أقاصيص، فكان الإجماع عن مثل هذا. واستقصاءُ ذلك في الأصول. 4848 - ثم تكلّم الفقهاءُ على القصة التي جرت، وتنزيلها على وجهها، فمنهم من قال: استقرضا المائة ألف استقراضاً صحيحاً، وللوالي أن يُقرض مالَ بيت المال إذا رأى المصلحةَ فيه، فكان الربح بكماله لهما غيرَ أن عمر استطاب أنفسَهما عن بعض الربح، فلم يخالفاه، وكان هذا بمثابة استطابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفسَ الغانمين عن سبايا هوازن لما أراد ردََّها عليهم، بعد قسمتها، وجريانِ ملك الغانمين فيها. وقال بعض العلماء: ما جرى كان قراضاً فاسداً؛ فإن أبا موسى شرط عليهما ردَّ المال بالمدينة، فكان قرضاً جر منفعةً، وقد ذكرنا فسادَ السفاتج (2) في مثل ذلك. ثم يجوز أن يقال: كانا اشتريا الأمتعة في الذمة، فوقع الملك فيها لهما، والربح على الأمتعة، غيرَ أنهما لما ارتفقا بمالِ بيت المال في تأدية أثمان الأمتعة رأى عمر رضي الله عنه استطابة أنفسهما عن بعض الربح. وقيل: كان ما جرى قراضاً فاسداً بين أبي موسى وبينهما؛ فإنه شرط عليهما وراء التصرف النقلَ إلى المدينة، وسنذكر فسادَ القراض بمثل هذا، فكان الربح بكماله لبيت المال، ولكن رأى عمر نصف الربح موازياً لأُجور أمثالهما. فهذا ما أردناه في رسم القراض، وتأصيله، ومستندِ الإجماع فيه، ونحن نذكر

_ (1) في الأصل: المتبايعين، والمثبت من: (ي)، (هـ 3). (2) السفاتج جمع سُفتَجة قل بضم السين، وقيل بفتحها، أما التاء فمفتوحة، والسفتجة: أن يعطي آخرَ مالاً، وللآخر مال في بلد المعطي، فيوفيه إياه هناك، فيستفيد أمن الطريق. وهو فارسي معرب (المعجم والمصباح).

بعد ذلك فصلاً جامعاً يحوي أركان القراض، والشرائطَ المرعيةَ في صحته، ونحرص على أن نستوعب في هذا الفصل معظمَ قواعد الكتاب. حتى يُلفيها الناظر مجموعة في مكان واحد. فصل قال الشافعي: "ولا يجوز القراض إلا في الدنانير، أو الدراهم التي هي أثمانٌ للأشياء وقيمتها ... إلى آخره" (1). 4849 - فنقول: أركان القراض ستة [أشياء] (2) نأتي بها مفصلة مع مسائلها إن شاء الله عز وجل، ونبدأ بما صدّر الشافعي الكتابَ به، فنقول: عقْدُ القراض يختص بالدراهم والدنانير المطبوعتين من النُّقرة الخالصة [والتبر] (3) الجاريَيْن أثماناً وقيماً، وهذا لا نعهد فيه خلافاً. وقد تردد الأصحاب في المعنى الذي اقتضى تخصيصَ القراض بالنقدين، فاكتفى بعضهم بما أشعر به ظاهرُ النص، وقال: هذه معاملة احتمل الشرعُ فيها جهالاتِ وأغراراً؛ إذْ لا تُضبط أقدار العمل فيها، وليس لها مدّةٌ في وضع الشرع، وغرضُ (4) العامل فيها تعلَّقَ بالغرر؛ فإن الربح قد يكون، وقد لا يكون، وسبب احتمال هذه الجهات والجهالات مسيسُ الحاجة إليها، ولمثل ذلك صحت الإجارة، ثم كان الغرض منها التوصل إلى تنمية المال، فاقتضى الشرعُ تخصيصَ المعاملة بالنقد الذي هو وسيلةٌ إلى تحصيل كل غرض في التجارة. ولو كان رأس المال عَرْضاً فربما يكسد سوقُه، ولا يخرج على (5) إرادة العامل، وتتفق متجرةٌ رابحة، ولو كان النقد عتيداً (6)،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 60، 61. (2) زيادة من: (ي)، (هـ 3). (3) زيادة من (ي)، (هـ 3). (4) في (ي)، (هـ 3) ولخوض. (5) (هـ3): عن مراد. (6) عتيداً: أي حاضراً مهيأً.

لحصلت، فكان التخصيص بالنقد لتحصيل الغرض الذي احتُمل ما في هذه المعاملة من الجهالة لأجله. هذا تعليلٌ على الجملة. والأصول إذا حاولنا تعليلها، لم نعثر إلا على مصالحَ كلية، قد لا تُحرّر على مراسم [الحدود] (1). ومن أصحابنا من قال: المعنى فيه أنه لا بد من رد العروض إلى النقد عند المفاصلة على ما سيأتي، إن شاء الله في أثناء الكتاب. 4850 - ثم شرْطُ هذه المعاملة أن لا يستبد رب المال بجميع الربح، وأن لا يأكل العامل جزءاً من رأس المال. والقراض على غير النقد قد يؤدي إلى أحد هذين، وبيان ذلك أن رأس المال لو كان وِقراً من حنطة، واتفق القراضُ في غلاء السعر، فكانت قيمةُ [الوِقر] (2) عشرةَ دنانير، فلو باعه العامل في الحال مثلاً، فانخفض سوق الحنطة، وعاد قيمةُ كل وِقر إلى دينار، فسنقول: إذا تفاسخا، فالرجوع إلى جنس رأس المال، فيردُّ العاملُ على رب المال وِقراً من الحنطة يشتريه بدينار، والباقي بينهما، فيأخذُ العامل أربعةَ دنانيرَ ونصف من رأس المال، من غير كُلفة وتصرف. ويُمكن فرض ذلك على العكس بأن يقال: قيمةُ الوِقر يوم العقد دينار، فباعه وتصرف فيه حتى بلغ عشرة دنانير، ثم ارتفع سوق الحنطة، فبلغ الوِقرُ قيمتُه عشرة دنانير، فإذا تفاسخا، فعلى العامل تحصيلُ رأس المال، وهو وِقرٌ من حنطة، ولا يمكنه ذلك، إلا بصرف جميع العشرة إلى الوِقر، فيستبد ربُّ المال بجميع الربح. 4851 - فإن قيل: قد تتفاوت أسعار الدراهم والدنانير أيضاً؛ لأن الأسواق فيهما ترتفع وتنخفض. قلنا: يقل وقوع التفاوت في الدراهم والدنانير المطبوعة، مع خلوص النُّقرة، وقد يتمادى الزمان، ولا يعرض فيها تفاوتٌ. فإن قلّ، احتُمل. نعم، الدراهم المغشوشة قد تتفاوت بالرواج والكساد، والقراض لا يصح إيرادُه إلا على المطبوع من النُّقرة الخالصة، فإن لم يمكن ذلك في الدراهم، فالدنانير المطبوعةُ من الذهب الإبريز عتيدةٌ، غيرُ مُعْوزةٍ، فلتقع المعاملة عليها.

_ (1) في الأصل: الجدل، والمثبت من (ي)، (هـ 3). (2) في الأصل: العَرْض، والمثبت من (ي)، (هـ 3).

فإن قيل: ما المانع من إيراد المعاملة على الدراهم المغشوشة؟ قلنا: أما البيع بها إشارةً إليها أو إطلاقاً لذكرها، فقد فصَّلنا المذهبَ فيه في كتاب البيع، وفرقنا بين أن يكون مقدار النُّقرة مجهولاً، وبين أن يكون معلوماً. فأما تفصيل القول فيها في القراض، فنقول: لا يمتنع بيع الدراهم المغشوشة إذا انضبط مقدارُ العيار، ولا يقع الاكتفاء بهذا في القراض؛ فإن مقدار النُّقرة، وإن كان مضبوطاً، فالنحاس المضمومُ إليه سلعةٌ، وإيرادُ القراض عليه بمثابة إيراده على نقدٍ وسلعة، وذلك ممتنع، فالوجه منعُ إيراد القراض على المغشوش. قال القاضي: أبعد بعضُ أصحابنا، فجوز إيرادَ القراض على المغشوش إذا جرى نقداً؛ فإن المعنى المتبعَ ما ذكرناه من كون النقد وسيلةً إلى أغراض التجارات، فإذا جرى المغشوشُ، وعم جريانُه، تحقق ذلك. ولم يسمح أحد من الأصحاب بإيراد القراض على الفلوس. وإن عمّ جريانُها في بعض الأقطار، وكذلك القول في الغِطْرِيفية (1) فيما وراء النهر، والسبب فيه أن الفلوس لا يعم جريانها في البلاد الكبيرة، وإنما يتواطأ عليها أهل ناحيةٍ، ثم تكون عرضةً للكساد، ولو كسدت وركدت أسواقها، لتفاوتت تفاوتاً عظيماً. والذي جوزه الأصحاب في الدراهم المغشوشة فيه إذا كانت قيمتُها قريبةً من مبلغ النقرة، وقيمة النحاس، ومؤن الطبّاعين. وأمثال هذه الدراهم لو فرض في جريانها ركودٌ، لقلّ المقدار الذي يفرض فواتُه، وإن كانت الدراهم المغشوشة جاريةً على مبلغٍ من القيمة لا يدنو مما فيه من النقرة، والغش، ومؤن العَمَلة، فهي على التحقيق جاريةٌ جريان الفلوس، فلا جواز لإيراد القراض عليها. على أن من جوّز إيراد القراض على الدراهم المغشوشة فهم الأقلون من المتأخرين، والمذهب المبتوت ما قدمناه.

_ (1) الغِطْرِيفيّة: أي الدراهم الغطريفية، منسوبة إلى غِطْرِيف أمير خراسان أيام الرشيد، وقد كانت من أعزّ النقود ببخارى، وواضح من السياق أنها كانت مغشوشة لا يجوز القراض فيها، وهذا ما قاله ياقوت، فقد ذكر أنها كانت "من حديد وصُفر وآنُك وغير ذلك من جواهر مختلفة، وقد ركبت فلا تجوز هذه الدراهم إلا في بخارى ونواحيها وحدها" (ر. معجم البلدان: مادة بخارى، المبسوط للسرخسي: 2/ 194، التعريفات الفقهية للمفتي محمد عميم الإحسان البركتي - ضمن مجموع بعنوان: قواعد الفقه: ص 401).

وكان شيخي أبو محمد يقول: لا نلتزم ذكر علة [معتمدةٍ] (1) في اختصاص القراض بالنقدين، ونكتفي بانعقاد الإجماع. وهذا وإن كان يجري في مسالك الجدل، فلا سبيل إلى التعلق [بمثله، في مقام المباحثات، عن أصول المذهب. 4852 - فإذا تبين اختصاص القراض بالنقدين] (2)، فقد كان شيخي يقول: إذا وردت المعاملةُ على الدنانير في ناحيةٍ (3)، لا تجري الدنانير فيها نقداً في العقود، فالمعاملة صحيحة، ولا معول على عدم جريان الدنانير؛ فإنها على حالٍ ليست كالسلع التي يُتربص بها، ويُفرضُ فيها تفاوتُ القيم وارتفاعُ الأسواق وانخفاضُها. ولو كنا لا نصحح القراض إلا على نقدٍ جارٍ، لامتنع القراض في كثيرٍ من البلاد؛ إذ لا يعم فيها إلا المغشوش، وقد أوضحنا امتناع ورود القراض على المغشوش. ثم يتصل بتفصيل هذا الركن أن إيراد القراض على النقرة التي لم تطبع بَعْدُ غيرُ جائز؛ فإن النقرة لا تعد من النقود، بل تعد من السلع قبل جريان الطبع، ولا يحصل بها التوصل إلى الاسترباح. هذا بيان الركن الأول. 4853 - والركن الثاني - في صحة القراض ألا يُشترطَ على العامل عملٌ، سوى التجارة، وما يتعلق من هذه الجهة بالاسترباح والاستنماء، فلو وُظّف عليه عملٌ لا يجانس ما ذكرناه، فسد القراض به، وهذا [تبيّنه] (4). مسائل 4854 - منها أن الرجل إذا قارض رجلاً بمَرْو، وشرط عليه أن ينقل المال إلى نَيْسابور، ويشتري من أمتعتها، ثم ينقلها إلى مرو، أو يتركها بنيسابور، فهذا فاسدٌ؛ من جهة أن نقل المال من قُطر إلى قُطر عملٌ زائد على التجارة، وقد يُفرَضُ نقلٌ مجردٌ

_ (1) في (هـ 3)، (ي): تعتمد. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (3) ناحية: أي جانب من البلاد، والأصقاع. (4) في الأصل: فيه.

من غير تجارة، فإذا ضُم شرطُ النقل إلى التجارة، كان عملاً ممتازاً عن التجارة، فيفسد القراض. وسنذكر أن رب المال لو أذن له في السفر، فلا بأس، ولكن هذا جرى رفعاً للحرج عنه، من غير اشتراط عملٍ سوى التجارة. هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب. وكان شيخي يحكي عن طوائفَ من المحققين، منهم الأستاذ أبو إسحاق: أنَّ شرط المسافرة في الثمار الثقيلة (1) والأموال التي لها قدر، ليس مما يؤثِّر في القراض، بل الباب الأعظم في التجارة المسافرة، وهذا حَسنٌ متجه إذا لم يُبْنَ الأمرُ على نقل المال مقصوداً إلى موضعٍ؛ فإن التجارة ليست بيعاً وشراءً فحسب، وقد يتصل بها أعمال من الطي والنشر [والحرز] (2) ونفض الثياب، والحفظ، وما في معانيها. وهذه الأعمال يمكن [تقدير] (3) إفرادها من غير تجارة، ولكن إذا اتصلت بالتجارة، عُدّت من توابعها، فليكن المسافرةُ منها. فتحصَّل مما ذكرناه اختلافٌ بين الأصحاب، فمنهم من أبى شرط السفر، واعتقده مُفسداً، وجوّز ذكرَ السفر في معرض رفع الحجر، ومنهم من جوز شرطَ السفر، كما ذكرناه، إذا كان السفر معدوداً من توابع التجارة. 4855 - ومن المسائل أنه لو دفع إلى العامل ألفاً وقال: اشتر بها حنطةً، واطحنها، واخبزها، وبع الخبز، والربحُ بيننا، فلا يصح القراض؛ لأنه شرط عليه (4) عملاً وراء التصرف، والمطلوبُ من عقد القراض التصرفُ، وما يقع تابعاً له، كالحفظ والحَرْز وما في معناهما، والطحنُ والخَبزُ عملان مقصودان، وقد أوضحنا انحصار هذه المعاملة في ابتغاء الربح، بالحذاقة في التصرف والكَيْس في التجارة، فأما أن يعمل عملاً آخر يتعلق بالحِرف، فليس ذلك من مقاصد القراض. وإذا اشترط في القراض أفسده، وهذا متفق عليه.

_ (1) في (ي)، (هـ 3): التجاير النقلية. (2) الحرز: الصيانة. وفي الأصل: والحزز، وفي (ي): الحرن. (3) زيادة من: (ي)، (هـ 3). (4) عليه: أي على العامل.

وكذلك لو دفع إليه ألفاً ليشتري به السِّمسمَ ويعصرَه ويبيعَه، لم يصح القراض كذلك. 4856 - ثم أجرى الأصحاب في ذلك كلاماً نأتي به، ونذكر ما فيه. فقالوا: لو أورد القراض على النقد، ورأى العامل أن يشتري به حِنطةً، فلا امتناع فيما يفعل، فلو اشتراها، وطحنها، فقد قال القاضي: يخرج ذلك الدقيق عن كونه مالَ القراض، ولو لم يكن في يده غيرُه، لانفسخ القراض؛ فإنه بعمله أخرجه عن جنسه وصفته، ولو باعه، لم يقع بيعُه للدقيق على وجه بيع العامل للسلع التي يُتربص بها ويُبغى ارتفاعُ أثمانها، فإذا كان ما يُفرض من فائدةٍ لا يحال على البيع والشراء، وإنما يحال على التغيير الذي وقع بفعلٍ، لو شرط في القراض، لأفسده، فخرج ذلك المالُ بذلك الفعل عن المقصود المرعي في [معاملة] (1) القراض، فإذا اختبط الأمرُ فيه، وأمكن حمل فائدةٍ -إن كانت- على التجارة وعلى التغيير الذي أحدثه، فلا وجه إلا الحكمُ بارتفاع المعاملة. هذا ما ذكره القاضي، وطوائف من المحققين. وقال بانياً عليه: إذا أقر ربُّ المال العاملَ بطحن حنطةِ القراض، صار بذلك فاسخاً للعقد؛ لأن الحنطة تخرج بالطحن عن المعنى الذي نبهنا عليه، وينقسم النظر في الفوائد، فيجوز أن تُحمل على التجارة، ويجوز أن تُحمل على التغيير الواقع. وهذا متجه حسن، وفي القلب مثه شيء إذا لم يقع الطحن شرطاً في المعاملة، ولا يبعد عن وجه الرأي الحكمُ بأن ما يتفق (2) من هذه التغييرات لا يوجب انفساخ المعاملة؛ فإنا لا نعرف خلافاً أن من اشترى عبداً صغيراً فكبر، وشب، وباعه يافعاً، وكان اشتراه رضيعاً، فما يُفرض من فائدةٍ تحمل على التغيير الذي لحق المملوكَ، ثم لا يؤثر ذلك وفاقاً، ولا يجب القضاء بأن المملوك إذا تغيّر، خرج عن كونه مال قراض، فكذلك إذا جرى الطحن من غير شرط. ويجوز أن يقال: التربص لا بد منه في التجارة، وهو يؤدي إلى تغايير تلحق الحيوان، فكان هذا في معنى الضرورة التي لا يتأتى دفعها، وليس كذلك التغيير الذي يلحق بفعل ينشأ. هذا ما أردنا التنبيه عليه.

_ (1) في الأصل: مقابلة. (2) (ي) (هـ 3): يقع. والمعنى يتفق وقوعه من غير شرط، ومن غير تجريد القصد إليه وحده.

4857 - ومما يتصل بهذا الركن أنه لو كان له ألفُ درهمٍ على إنسان، فقال لآخر: قارضتك على مالي على فلان، فاقبضْه، وتصرفْ، فلا يصح القراض باتفاق الأصحاب على هذا الوجه؛ لأن النقد لم يكن عتيداً حالةَ العقد، واحتاج العامل إلى تحصيله، وتحصيلهُ ليس من أعمال التجارة. وقد ذكرنا أنه لا يجوز ضمُّ عملٍ إلى عمل التجارة في معاملة القراض. ولا يصفو هذا حتى نبيّن معه أمراً آخر، فنقول: إذا أحضر ربُّ المالِ المالَ، وقال: إذا جاء رأسُ الشهر، فقد قارضتك على هذا المال، فالمعاملةُ فاسدةٌ، باتفاق الأصحاب، وإن كنا قد نجوّز تعليق الوكالة؛ فإن القراض ليس وكالة محضة، ولكنها معاملةٌ ضمنُها معاوضة، وقد احتمل الشرع فيها جهاتٍ من الجهالات على حسب الحاجات، فلا تحتمل ما لا حاجة إليه، والتعليقُ [منه] (1). ولو قال: قارضتك الآن على هذه الدراهم، ولكن افتتح التصرفَ بعد شهر، ففي صحة القراض وجهان ذكرهما القاضي: أحدهما - المنع؛ لأن حاصل هذا يؤول إلى تعليق القراض أيضاً إذا (2) كان لا ينتجز تسلُّط العامل على العمل في الحال. فإذا ثبت هذا الذي ذكرناه، عُدنا إلى ما كنّا فيه من قوله: عاملتك على مالي على فلان، فاستوفِهْ، وتصرف، فهذه المعاملة ناجزةٌ، ولكن التصرف موقوف على الاستيفاء والقبض، فالمعاملة فاسدة، لم يختلف الأصحاب في فسادها، وإن اختلفوا فيه إذا كان النقد حاضراً، فقال: قارضتك الآن عليه، وتصرف بعد شهر، والسبب فيه أن معتمد القراض نقدٌ حاضر، والدَّيْن في الذمة، وإن كان مملوكاً، فهو أبعد عن إمكان التصرف من العروض. 4858 - ولو كان لرجل على رجلٍ ألفُ درهم، فقال مستحق الدين لمن عليه الدين: قارضتك على ما لي عليك، فانقده، وتصرف، فلا تصح هذه المعاملة؛ فإنا إذا كنا نمنع صحتها، والدَّيْنُ على الغير، فلأن نمنع صحتَها في هذه الصورة أولى،

_ (1) منه: أي مما لا حاجة إليه. وفي الأصل: فيه. (2) في النسخ الثلاث: "إذا"، وهي هنا بمعنى (إذْ)، وهو استعمالٌ سائغ كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ومثلها (إذ) مكان (إذا) فهو سائغ أيضاً.

والدليل عليه أن ما على الغير إذا كان استوفاه المأمور، فإنه يحصل في يد المستوفي ملكاً للآمر، وما على الإنسان إذا أحضره لا يصير ملكاً لمستحق الدين، فلا وجه لصحة المعاملة. ويتصل بهذا أنه إذا قال: عاملتك على ما لي على فلان، فاقبضْه، وتصرف فيه، ولك من الربح كذا، فالمعاملة فاسدة، كما تقدم، ولكن إذا قبض ما على فلان، وافتتح التصرفَ فيه، نفذ تصرفُه لوقوعه على حسب الإذن، والقراض الفاسد أثرُ فساده في خروجه عن الوضع، وبطلانِ ما وقع التشارط عليه في تجزئة الربح، أما التصرف، فمعتمدُ نفوذِه الإذنُ من المالك، فلا فساد منه، ثم ما يحصل من ربح في المعاملة الفاسدة، فهو بجملته لمالك أصل المال، وللعامل أجرُ مثل عمله، كما سنذكر ذلك على أثر نجاز القولِ في الأركان، إن شاء الله عز وجل. هذا فيه إذا قال: قارضتك على ما لي على فلان، فاقبضه وتصرف فيه، فأما إذا قال: عاملتك على ما لي عليك، فحصّله، وتصرف فيه، فما يحصّله ويحضره لا يدخل في ملك الآمر، ويبقى ملكاً له. فإذا تصرف فيه، [لزم] (1) تخريجُ ذلك على أصلٍ قدمناه. 4859 - ونحن نذكر مزيدَ تفصيل فيه، ثم نعودُ إلى غرضنا من هذه المسألة التي انتهينا إليها. فإذا قال الرجل لصاحبه: اشتر لي بثوبك هذا الحمارَ، وأشار إلى حمارٍ لإنسان، فإذا اشترى ذلك الحمارَ بذلك الثوب، فلا يخلو إما أن يسمي في العقد الآمرَ، وينسبَ الشراء إليه، أو ينويه ولا يسميه. فإن سماه، ففي وقوع الشراء له وجهان: أحدهما - يقع له؛ لأنه اشتراه له بأمره، فعلى هذا ما حكم الثوب الذي يتعين في العقد؟ وجهان: أحدهما - أنه هبة، فكأنه وهب منه الثوب، في ضمن هذا التصرف، وأقْبَضه، ثم توكّل عنه في شراء الحمارِ به. والثاني - أن يقدره قرضاً، فكأنه أقرضه، ثم التقدير بعده على ما ذكرناه، هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - في الأصل أن

_ (1) سقطت من الأصل.

العقد لا ينصرف إلى الآمر؛ لأن الثمن غيرُ مملوكٍ له، فعلى هذا في المسألة وجهان: أحدهما- أن العقد يبطل؛ لأنه لم ينصرف إلى من سماه، فأبطلناه. والوجه الثاني - أن العقد يقع لمالك الثوب، وتلغو التسمية. هذا إذا سماه، فأما إذا لم يسمِّ الآمر، ولكنه نواه، ففي انصراف العقد إلى ذلك الآمر من الخلاف ما ذكرناه، ثم إذا حكمنا بانصرافه إليه، فالتفريع في الثوب المجعول ثمناً على ما قدمناه. وإن لم نقض بانصراف العقد إلى من نواه، فينصرف العقد إلى هذا المأمور العاقد، وجهاً واحداً؛ إذْ لم تجر تسميةٌ تخالف وضعَ الشرع. 4860 - فإذا تمهّدَ هذا، عُدنا بعده إلى غرضنا، وقلنا: إذا قال: حصِّل الألفَ الذي عليك، وتصرف فيه، فإذا حصله، فهو ملكه بعدُ إلى أن يَقْبض عنه قابضٌ، وما يقع من تصرفٍ بعد هذا على نية الآمر، فهو خارج على ما مهدناه من التصرف للغير، بعين مالِ المتصرف، فليجر هذا ذلك المجرى؛ فإنه عينُ المسألة التي أوضحناها. 4861 - ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن الرجل إذا قال للغير: اشتر لي الخبز بدرهمٍ من مالك، فإذا اشتراه في الذمة، وقع الشراء للموكّل، ولا يلزم هذا المأمور أن ينقد الدرهمَ من ماله، فإذا نقده من ماله، كان مأخذ هذا من أصلٍ آخر، وهو أن من أدى دين غيره بإذنه على شرط الرجوع عليه، فإنه يرجع عليه، وإن أذن له في الأداء مطلقاً، ولم يُقيِّد بشرط الرجوع، ففي الرجوع وجهان، تكرر ذكرهما، كذلك إذا اشترى الخبز بأمره، فقد وجب الثمن على الآمر، فإذا أداه من مال نفسه بإذنه، ففي الرجوع ما قدمناه. ولو اشترى الخبز بدرهم عيَّنه من ماله، فهذه المسألة هي التي مضت؛ فإنه (1) اشترى للآمر شيئاً بعين مال نفسه. فإذا تمهَّد ذلك، عدنا إلى مسألتنا عودةً أخرى، وقلنا: إذا قال: عاملتك على ما لي عليك، فحصِّله، وتصرف على سبيل القراض، فإن اشترى شيئاً في الذمة للآمر، ثم نقد الثمنَ، فهو بمثابة ما لو اشترى الخبز في الذمة، ونقدَ الثمن من عند

_ (1) (ي)، (هـ3): فإنه إذاً اشترى.

نفسه، وإن حصّل الدراهم واشترى بأعيانها شيئاً، فهو بمثابة ما لو اشترى للآمر مالاً بعين مال نفسه، [وقد تفصَّل] (1) القولُ في هذه المسائل. 4862 - ولو قال: خذ هذه العين، وأشار إلى سلعة، فبعها، وقد قارضتك على ثمنها، فقد نص الشافعي على فساد القراض، والنص يعضد ما قدمناه. ولو قال: قارضتك على ألف درهم، وذكر شرائطَ القراض، وأحضر الألفَ في المجلس، فقد قال القاضي رضي الله عنه: يصح ذلك، وتُحتمل غَيْبةُ الألف حالة العقد، إذا حصل التَّنْجيزُ في المجلس، ولو فارق المجلسَ، ثم حصّل الدراهم، لم يصح، ولا بد من تجديد عقدٍ بعد تحصيلها. وما ذكره حقٌّ، لا دفع له، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف؛ فإن من باع درهماً بدرهم، وأجرى ذكرهما على الإطلاق، ثم أُحضر الدرهمان، وجرى التقابض فيهما قبل التفرق، صح العقدُ. ولا يجوز بيعُ الدراهم بالدراهم ديناً بدين، ولكن إذا جرى التعيين في المجلس، فالحكم له. كذلك القول في إحضار الدراهم في المجلس في غرضنا من القراض. وقد تم بيان هذا الركن. 4863 - الركن الثالث من أركان القراض: أنه يجب تسليم مال القراض إلى العامل وتثبت اليد له فيه على التمحُّض من غير مشاركة. وهذا متفق عليه بين الأصحاب. فلو قال رب المال: يكون الكيس في يدي، وأنت تتصرف وتشتري، وإذا احتجت إلى الثمن، جئتني فنقدتُه، فلا يصح القراض على هذا الوجه. والسببُ فيه أن مبنى هذه المعاملة على الاتساع في طرق تحصيل الربح، والشرعُ إنما احتمل ما في القراض من الجهالة لهذا السبب وإذا لم يكن المال في يد العامل، لم يحصل غرض الاستنماء على الاتساع المطلوب في بابه، والاستمكان المشروط في أسبابه؛ فإن السلعةَ قد تحضر فيتخيّل العامل فيها منفعة، ولو وقف صاحبها حتى يطلب المالَ، لفات المتجَرُ. وهذا ظاهرُ الوقوعِ، ولو انفرد العامل باليد، وكان المال حاضراً معه، لم تفته هذه الأسباب. والتجايرُ فُرَصٌ تمر مرّ السحاب.

_ (1) في الأصل: هذا تفصيل.

ولو قال المالك: أتصرف معك، كان هذا مفسداً للقراض؛ من جهة أن تصرف المالك يُضعفُ ويوهي يدَ العاملِ، ويخرجه عن الاستقلال ويحوجه إلى المراجعة. وكل ذلك يَنْقُص من بسطته في التصرف. 4864 - ومما يتصل بهذا الركن قول الشافعي: "ولو قارضه، وجعل معه غلامَه ... إلى آخره" (1). فنقول: إذا شرط ربُّ المال أن يعمل مع العامل، فهذا فاسدٌ لما ذكرناه، ولو شرط أن يعمل مع العامل غُلامُه؛ يعني غلامَ المالك، فالنص في القراض والمساقاة أن ذلك جائز، أما المساقاة فنتركها إلى موضعها. وأما القراض، فتفصيل القول فيه أنه إذا لم يشترط أن يكون المال في يد عبده، وأثبت للعامل منصبَ الاستقلال بالتصرف، ولم يشترط عليه مراجعةَ العبد، وأقام العبدَ مُعيناً له ليخدمه في الجهات التي يحتاج إلى خدمته فيها، فظاهر النص أن شرط ذلك لا يُفسد العقدَ؛ لأنه ليس مناقضاً لمقصود المعاملة، وفي تصوير المسألة تقرير ذلك. ومن أصحابنا من قال: إذا شرط أن يكون عبده معه في تصرفاته، وإن كان لا يراجعه فيما يريد الاستقلال به، فالشرط فاسد مفسد؛ من قِبل أن يدَ العبد يدُ مولاه، فيكون العبدُ معه بمثابة كون السيد معه، ولو شرط أن يكون معه بنفسه، لفسدت المعاملة؛ لأن اليد يتطرق الانقسام إليها، فكذلك القول في العبد. ومن أصحابنا من قال: لا يضرُّ كون العبد معه؛ فإنه مستخدَمُ المقارض، ومن استأجر عبداً، أو استعاره، فيدُ العبد المستخدَمِ بجهة الاستعارة، أو جهةِ الإجارة يدُ المستخدِم بالجهتين، لا يدُ مالكِ العبد، ولهذا تُجعل الدار المستأجرة والمستعارة حرزينِ للمستأجر والمستعير، في أحكام السرقة. ومحل الخلاف فيه إذا لم يكن على المقارض حجرٌ من جهة العبد ولم يُلزمْه مالكُ العبد مراجعةَ العبد في [حَرْز] (2) المال، ولا في التصرفات، فلو جرى حجر من هذه الفنون، لفسد القراض بسبب

_ (1) ر. المختصر: 3/ 61. (2) في الأصل، (هـ 3): حزن.

الحجر، كما سنصفه في الركن الذي يلي هذا الركن. 4865 - الركن الرابع: في بيان التعرض للتصرف المقصود بالقراض، ووضع هذا العقد على الاتساع في الاسترباح والاستنماء، كما قررناه مراراً. والتصرف من قبيل التجارة لا غير؛ فإن سائر الجهات في المكاسب يتيسر تحصيلها بالاستئجار، بخلاف التجارة، فليكن مقصود القراض التجارة المتسعةَ المضطرب من غير حجرٍ يتضمن تضييقاً ظاهراً، ولسنا نشترط التفويض المطلق الذي لا احتكام فيه للمالك، فإنه لو قال: عاملتك على هذه الدنانير على ألا تتّجر إلا في الثياب، جاز؛ لأن فيها متسعاً رحباً، وكذلك قد يُعيّن صنفاً من الثياب يعم وجوده، ويظهر توقع الاسترباح فيه، فيجوز القراض. ولو عيّن شيئاً يعزّ وجودُه، ولا يتسع المتجر فيه، لم تصح المعاملة. والتعويل في النفي والإثبات على ما نبهنا عليه. ومما يجب التنبيه له الآن أن القراض يشتمل على معنى التوكيل في التصرف، وإن كان يؤول في منتهاه إلى الشركة عند ظهور الربح، كما سنصف ذلك. وقد ذكرنا في كتاب الوكالة أن الوكالة الخاصة أولى بالصحة من الوكالة العامة، حتى لو أفرط العموم، فقد نقول: لا يصح التوكيل، والسبب في البابين أن الوكيل يقول ويعمل لموكِّله نائباً عنه، لا حظ له [في تصرفه] (1)، والقياس أن يتصرف المرء لنفسه بنفسه، وإنما أقام الشرع الوكلاء مقام الموكِّلين لمسيس الحاجة إلى الاستنابة [في بعض الأمور، وهذا إنما يظهر في الأشغال الخاصة، والقراضُ لا ينبني على الاستنابة] (2) المحضة، وإنما هي معاملةٌ مالية يتعلق بها غرض رب المالِ والعاملِ، فحصولُ الغرضِ فيه يستدعي انطلاقاً في التصرف، وانبساطاً في جهات الاسترباح، وانتهى الأمر فيه إلى [تخصيص] (3) المعاملة في أول الوضع بما هو ذريعة إلى تحصيل المقاصدِ جُمَعٍ، من غير تربصٍ لارتفاع الأسواق.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (3) في الأصل: التخصيص.

وقال الأئمة في تمهيد هذا الأصل: لو قال رب المال لا تبع إلا من فلان، أو لا تشتر إلا من فلان، فهذا يفسد القراض؛ فإنه حَجْر بيّن، وإذا تبين ذلك المعيَّن أن الأمرَ مرْدودٌ إليه، احتكم بائعاً ومشترياً، وفسد نظام المعاملة. وقالوا: [لو] (1) قال: لا تتصرف حتى تستشير فلاناً وتستضيء برأيه، فالمعاملة تفسُد؛ من جهة أنه قد لا يصادفه إذا حانت متجرةٌ وتعرضت للفوات، ولهذا شرطنا في صحة المعاملة انفرادَ العامل باليد، وكذلك لو قال: لا تنفرد بشيء من التصرف حتى تراجعني، فهذا مفسدٌ. والقراض كما يقتضي انفرادَ العامل باليد يقتضي انفراده بالتصرف؛ فإن اليد لا تُعنى لعينها، وإنما شرطنا استقلاله بها، ليكون مادة لانبساطه، فكيف يسوغ الحجر عليه في عين (2) التصرف؟ فإن قيل: قد أطلق الأصحاب جواز مقارضة الرجل الواحد رجلين، وسيأتي ذلك في تفاصيل المسائل، إن شاء الله تعالى؟ قلنا: هذه المسألة فيها تفصيل، فإن قارض رجلين وشرط أن لا يستقل واحدٌ منهما بالتصرف دون صاحبه، فالذي يدل عليه ظاهرُ كلام الأصحاب أن ذلك فاسدٌ، وإذا كنا نفسد القراض بأن يشترط على العامل أن يراجع رجلاً بعينه، فلا شك أن هذا المعنى يتحقق فيه، إذا ارتبط التصرف برجلين لا ينفذ دون اجتماعهما. ولو قارض رجلين وأثبت لكل واحد منهما الاستقلالَ بالتصرف، فهذا هو الذي جوزه الأصحاب، وفيه كلامٌ وإشكالٌ، ليس هذا موضعه. وسيأتي ذلك مفصلاً في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى. هذا قولنا في إطلاق تصرف العامل على الانبساط، مع منع الحجر عليه، بما يؤدي تضييق المجال في [طريق] (3) المتاجر (4). 4866 - الركن الخامس في القراض: في التعرض للإطلاق والتأقيت:

_ (1) سقطت من الأصل. (2) (ي)، (هـ 3): معنى. (3) في الأصل: تضييق. (4) في (ي)، (هـ 3): "المتَّجِر".

لم يختلف الأئمة في أن إطلاقَ القراض، وتركَ التأقيت فيه موضوع المعاملة، وأول ما نذكره أن التأقيت ليس شرطاً في هذه المعاملة، بخلاف المساقاة، والسبب فيه أن المقصود من أعمال المساقاة تحويه المدة، فلا بد منها لحصول الإعلام، والمقصود من القراض تحصيل الربح، ولا ضبط له، وهو في غالب الأمر يتعلق باتفاقاتٍ، لا تنضبط، وتوقعات لا تنحصر. هذا قولنا في أن التأقيت ليس شرطاً في القراض. ونحن نتكلم وراء ذلك، في أن التأقيت هل يبطل القراض؟ وقد اضطربت طرق الأصحاب، ونحن نأتي بترتيب يجمع ويحوي الغرض. قال العراقيون: إن أقّت ربُّ المال بيعَ المقارض للسلع، فالتأقيت فاسدٌ مفسد، مثل أن يقول: تبيعُ العروضَ وتردها إلى الناضّ في سنة، ولا تبعْ بعدها. هذا فاسدٌ؛ من جهة أنه قد لا يجد للعروض زبوناً في المدة المضروبة. فإذا فرض ارتفاع القراض بالتفاسخ، فيبقى العامل مطالباً ببيع العروض، وتنضيضها؛ إذ لا تتأتى المفاصلة إلا كذلك، فلا وجه إذاً للمنع من البيع، ولا لتأقيته. وإن ذكر التأقيت في شراء الأمتعة، مثل أن يقول: تشتري من الأمتعة ما تراه في سنة، فإذا انقضت، لم تزد في الشراء وتفتتح البيعَ - من غير مدة، ففي ذلك وجهان ذكرهما العراقيون: أصحهما- أن القراض يصح على هذا الوجه؛ فإنه ليس في هذا التأقيت ما ينافي مقصودَ العقد، ولا حجراً، ينقص من البسطة المرعية. والوجه الثاني- أن القراض يفسد بالتأقيت؛ فإن مبناه في وضع الشرع على الإطلاق، وهذا أسنده العراقيون إلى أبي الطيب بن سلمة. ولو قال قارضتك [سنة] (1) ولم يتعرض لتأقيت البيع، ولا تأقيت الشراء، ولكن ذكر التأقيت مضافاً إلى القراض، ففي المسألة وجهان: من أصحابنا من جعل هذا كالتصريح بتأقيت البيع، حتى يفسد القراض. ومنهم من جعله كالتصريح بتأقيت الشراء حتى يُخرَّجَ على الوجهين المذكورين. هذا هو الترتيب الجامع في الباب.

_ (1) في الأصل: منه.

4867 - ومن تمام البيان في ذلك أنّا إذا صححنا تأقيت الشراء، فالشرط أن يذكر وقتاً يتأتى فيه الانبساط في الشراء على موافقة غرض الاسترباح، حتى لو قال: قارضتك على أن تشتري في ساعةٍ من نهار، لا يصح، فإن هذا المقدارَ من الزمان لا يسع من الشراء ما يوافق في غالب الأمر، ويُثبت متسعاً في التجارة. ومما نُلحقه بهذا الركن أن المالك لو عيّن للعامل شراء ضربٍ من العروض يوجد غالباً في فصول السنة، فذاك. وإن عيّن ما يختص وجودُه ببعض فصول السنة، كالرطب والفواكه الرطبة، ففي الاتجار في هذا الضرب متسع لا ننكره، ولكن إذا انحصر وجوده في بعض الأزمنة فينحصر البيع فيها لا محالة، وذكرها مع هذا التنبيه يتضمن تأقيت البيع. وقد ذكرنا أن تأقيت البيع ينافي صحة القراض، فاختلف لذلك أصحابنا، فذهب بعضهم إلى منع القراض، لما أشرنا إليه، وذهب آخرون إلى صحة القراض؛ فإن بيع الرطب في أوانه يتنجَّزُ، وليس مما يُبنى الأمر فيه على تربص، حتى يُحملَ تأقيتُ البيع على تضييقٍ في التجارة، من حيث يخالف التربصَ المعتاد في السلع، فإذا كان الغالب انتجاز البيع، وإن فرض وقوفُه في بعض السنة، فهو غير مُكترَثٍ به في العادة، فلا حكم لتأقيت البيع، ولم يختلف أصحابنا أنه لو قال: اتَّجِرْ في البطيخ مادام، فإذا انقضى، ففي غيره، جاز ذلك، ولم يمتنع. وإن كان الرطب متأقتَ البيعِ على ما ذكرناه ولكن لم يحمل ذلك على تضييق، وصح لأجله القراض، وهذا يقتضي تصحيح القراض مع الاقتصار عليه. 4868 - الركن السادس من أركان القراض: قسمةُ الربح على جُزئية صحيحة وحصر عِوض المقارض فيما يسمى له من الربح. وبيان ذلك: أن رب المال والعامل ينبغي أن يتشارطا الربح بينهما على جزئيةٍ معلومة حالة المعاقدة، ويذكرا ذلك ذكْرَ العوض في مقابلة المعوَّضِ المطلوبِ من العامل، وهو عملُه، وعِوضُ عمله الجزءُ الذي يسمى له من الربح. فيقول رب المال: قارضتك، أو ضاربتك، أو عاملتك، على التصرف في هذا المال، ولك من ربحٍ يرزقه الله نصفه، ولي نصفه، أو لك ثلثه، ولي ثلثاه، على ما يتفقان عليه.

فلو ذكر للمقارض أجراً معلوماً، لم يكن ما جاء به قراضاً، ولا إجارةً صحيحة؛ فإن شرط الاستئجار إعلامُ العمل، والعملُ في معاملة القراض لا ينضبط، ومحاولة تقديره يخالف مقصود العقد. كما أن طلب تأقيت النكاح يخالف موضوعَه، والإعلام حيث يشترط لا يُعنَى لعينه، وإنما يُطلب منه نفيُ الجهالة على وجه يليق بمقصود العقد. ولو قال المالك: قارضتك على أن لي النصف من الربح، ولم يتعرض لإضافة النصف الآخر إليه، أو قال: على أن لك النصف من الربح، ولم يتعرض لإضافة النصف الآخر إلى نفسه. أما إذا أضاف إلى نفسه جزءاً، فظاهر ما نقله المزني أن ذلك غير صحيح؛ فإن الأصل أن الربح بكماله لمن الملك له في رأس المال، وإنما يثبت للمقارض جزءٌ منه، بأن ينسب إليه ولم يَجْر لنسبة جزءٍ إلى العامل ذكرٌ. وذكر ابن سُريج قولاً مخرّجاً أن القراض يصح، ويقع الاكتفاء بإضافة جزءٍ إلى المالك؛ فإن هذا مع جريان المعاملة صريحٌ في إضافة الباقي إلى العامل من طريق الفحوى، والمعاني هي المقصودة، لا صيغُ الألفاظ. هذا إذا أضاف إلى نفسه وسكت عن الإضافة إلى العامل، فأما إذا أضاف جزءاً من الربح إلى العامل، وسكت عن إضافة الباقي إلى نفسه فالذي قطع به الأئمة الحكمُ بصحة القراض، بخلاف الصورة المتقدمة؛ فإن المعاملة تقتضي ذكر عوضها والمعوّض من الربح ما يسمى للعامل، وما عداه لا يثبت للمالك بحكم الشرط. وإنما يثبت له بحكم ملك الأصل، فإذا اشتملت المعاملة على ذكر عوضها، يكفي ذلك في الحكم بتصحيحها، وليس كالصورة الأولى. وذكر العراقيون وجهاً عن بعض الأصحاب أن العقد لا يصح حتى تجري الإضافة في الجزأين إلى الجانبين. ونظموا من تخصيص الإضافة بأحد الجانبين ثلاثةَ أوجه: أحدها- الصحة. والثاني- الفساد. والثالث- الفصل بين أن تقع الإضافة إلى العامل وبين أن تقع الإضافة إلى المالك. وليس لما ذكروه من الخلاف في الإضافة إلى العامل وجهٌ. 4869 - ولو قال: قارضتك على أن لك الربحَ كلَّه، فلا يصح القراض على هذا الوجه؛ فإن هذه المعاملةَ إنما جوّزت لارتفاق ملاك الأموال بأعمال الذين لهم كَيْسٌ

في التجارة. فأما إذا صُرف جميعُ الربح إلى العامل (1)، سقط غرض المالك بالكلية، وعاد النظر إلى أن هذا الذي صدر من المالك منحة، أو هبة متعلقة بالربح الذي سيكون. فاذا ثبت ما ذكرناه، فمن أصحابنا من قال: هذا إقراضٌ، والعامل يملك رأس المال مِلْكَ [القرض] (2)، وإذا اتفق ربحٌ، فهو له، وهذا ضعيف لا شيء؛ فإن المعاملة على الأصل (3) مصرَّحةٌ باستبقاء (4) الملك في رأس المال، وتحصيلُ الملك فيه للمستقرض لا وجه له. ومن أصحابنا من قال: الذي جرى قراضٌ فاسد، وسنختم نجاز الأركان بحكم القراض الفاسد على الجملة. 4870 - والذي ننجزه الآن أنّ تصرف العامل نافذٌ لصَدَره عن إذن المالك، وكمالُ الربح للمالك؛ فإن العامل إنما يستحق جزءاً منه بمعاملةٍ صحيحة، وهي فاسدة، فيما نحن فيه، وللعامل أجرُ مثل عمله، ربحَ أو خسر؛ فإنه خاض في العمل على أملٍ في العوض، فإذا لم يحصل ما أمّله، لم يحبَط عمله. فلو قال: قارضتك على أن لي تمامَ الربح، فالقراض لا يصح على هذا الوجه، ولكن ينفد تصرفُ العامل، لصدوره عن إذن المالك. وهل يستحق أجرَ مثلِ عمله؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحقه، حملاً على أن القراض فسد، فرُدَّ الرّبحُ إلى أصله، وقوبل العمل بأجر مثله. والوجه الثاني - أنه لا يستحق شيئاً؛ لأنه خاض في العمل من غير أن تُشعر المعاملةُ بإثبات عِوضٍ له على مقابلة عمله. والقائل الأول يُجيب عن هذا، ويقول: نفس جريان المعاملة يدل على أن لا يحبَط عملُ العامل، ومقصود المالك أن يخلص الربح له، وللعامل أجرُ عمله. وهذا يمكن تقديرُه في نظْم الكلام، ولو أراد استخداماً مجرداً، لما ذكر المعاملة والقراض، وما في معناهما.

_ (1) في (ي): " إذا فرض جميع الربح للعامل " ومثلها (هـ 3). (2) في الأصل: المقبوض، وفي (هـ3): المقرَض. (3) (ي)، (هـ3): الأصح. (4) (ي): باستيفاء.

4871 - فإذا تمهد ما ذكرناه من نسبة الربح إلى جزئية إليهما، واتضح أن إثبات الربح بكماله لأحدهما منافٍ لمقصود العقد، فنقول بعد ذلك: لو شرط المالك لنفسه درهماً مثلاً، ثم قال: الربح بعده نصفان بيننا، فهذا مفسد للمعاملة؛ من جهة أنه قد لا يتفق الربح أكثر من درهم، فيؤول حاصل الأمر إلى اختصاص المالك بجميع الربح المتّفق، وكذلك لو وقع الشرط على أن يختص العامل بدرهم، ثم قسمةُ الربح بعده، فهذا مفسدٌ؛ لأن الربح قد لا يزيد على درهم، فيُفضي مقصودُ العقد إلى شرط تمام الربح للعامل. ولو قال: لك درهم من عُرض المال، والربح إن اتفق نصفان بيننا، فهذا يُفسد لا من جهة الفساد الذي ذكرناه الآن، ولكن ذكر الأجرة للعامل من غير الربح مفسدٌ للعقد كما مهدناه. وعلّل بعضُ الأصحاب الفسادَ فيه إذا قال المالك: لي درهم أختص به من الربح، والباقي مقسوم بيننا، بأن قال: الجمع بين التقدير وبين الجزئية يُفسد ضبط التجزئة؛ فلا ندري أن المشروط للمالك من الربح كم. ولا حاجة إلى هذا التعليل عندنا. وفيما قدّمناه مَقْنع. واستشهد القاضي في محاولة تحقيق هذه العلّة بمسألة في المذهب فيها نظرٌ عندنا، وهي أنه قال: لو قال مالك الصُّبْرة لمن يخاطبه: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، ونصفُ الباقي منها بكذا، فالبيع باطلٌ لضمه التقديرَ إلى الجزئية، ولو قال: بعتك نصفَ هذه الصُّبرة، لصحَّ. هذا ما ذكروه. وفيه احتمالٌ؛ فإن الصاع معلومٌ، ونصف الباقي معلوم. فإن كانت الصبرة مجهولة الصِّيعان، فقد نقول: لا يصح بيع الصاع منها، فإن جرينا على الأصح، وصححنا بيعَ صاعٍ من الصُّبرة المجهولة المقدار، فذكْرُ نصفها بعد أخذ الصاع منها، كذكْر نصفِها من غير أخذ الصاع، فليتأمل الناظر، وليكتف في مسألة القراض بالمسلك الذي قدمناه. 4872 - ولو قال: قارضتك على أن تتصرف في الثياب والحبوب، وما يتفق من ربح على الثياب، فهو لي، فهذا فاسد؛ إذ قد لا يتفق الربحُ إلا على الثياب، فيؤدي

حاصل الشرط إلى اختصاص المالك بجميع الربح. وكذلك إذا شرط للعامل ربح صنفٍ، فقد لا يتفق غيرُه فيُفضي الشرطُ إلى اختصاص العامل بجميع الربح. وعلى هذا لو دفع إلى العامل ألفاً، ثم دفع إليه بعد ذلك ألفاً، وشرط تمييز أحدِ الألفين عن الثاني، فيما يتصل به من المعاملات، وقال: ما يتفق من الربح على الألف الأول، فهو لي. هذا غير جائزٍ، لما ذكرناه، وكذلك لو فرض تخصيص العامل. ولو دفع إليه الألفين معاً، ثم قال: ربح أحد الألفين بكماله لي وربح الثاني لك. قال ابن سريج: لا يصح هذا. وقال القاضي: الوجه عندي القطعُ بتصحيحه؛ إذ لا تمييز بين الألفين، ولا فرق بين أن يقول: نصفُ الربح لك، وبين أن يقول: ربح الألف من الألفين لك. وهذا الذي ذكره متَّجه حسنٌ، ولا وجه لما ذكره ابنُ سريج إلا فسادُ اللفظ؛ فإن الذي يقتضيه موجَب العقد قسمةُ الربح على الشيوع بين المالك والعامل، من غير تعرض في اللفظ لربح جزءٍ من رأس المال، فإذا قال: نصف ربح الألفين لك، فهذا جارٍ على الإشاعة. وإذا قال ربح أحد الألفين لك، فهذا يتضمن تخصيصاً غيرَ مُفيدٍ، فيفسد اللفظُ، والمعول في العقود على الألفاظ. 4873 - ولو قال: ثلث الربح لي، وثلثه لعبدي هذا، وثلثه لك، فقد أجمع الأصحاب على صحة العقد، وقَضَوْا بأن إضافة الثلث إلى العبد بمثابة إضافته إلى السيد، فكأنه قال: الثلثان من الربح لي والثلث لك. ولو قال: الثلث من الربح لي والثلث لزيد، وذكر شخصاً آخر، لا تعلق له بالمعاملة، فهذا الشرط فاسد؛ فإنه تضمَّن شرطَ الربح لمن ليس مالكاً لرأس المال، ولا عاملاً فيه. وكذلك لو شرط جزءاً من الربح، لمكاتبه، فهو فاسد أيضاً للمعنى الذي ذكرناه. فإن قيل: إذا تبين ما يستحقه العامل، فقد وضح عِوضُ عمله، وحُكم الشرع صرفُ الباقي إلى المالك، فإن فرض فيما ليس عوضاً لعمل العامل فسادٌ، فليس لذلك الفساد تعلقٌ بمقصود العقد، فليرتفع ذلك الفساد، وليصح العقدُ. قلنا: لو شرط العاملُ جزءاً من الربح لثالث، لم يخفَ على الفقيه كوْنُ ذلك فاسداً مفسداً إذا نشأ الشرط من جهة العامل، وإنما ينتفي الإشكالُ في هذا الطرف من جهة إمكان صدور الشرط عن غرضٍ للعامل، وإذا لاح هذا، ابتنى عليه التشارط من

الجانبين؛ فإنّ في جريان التشارط ثبوت الشرط من جانب العامل لا محالة. فلو وجد شرطٌ من جانب المالك، وقبولٌ من العامل، فهو التشارط بعينه، فإن قبول الشرط من [العامل] (1) شرطٌ، وسرّ ذلك أن الربح في هذه المعاملة وإن كان مستنده رأسَ المال، فهو في حكم المحصَّل بعمل العامل، فإذا قُسم، فليقسم على وفق الشرع، وذلك بأن يُفرضَ بين المالك والعامل، فإن فرضت قسمةٌ، على خلاف هذه القضية، كانت مجانبةً لوضع الشرع، فالشرع إنما سوغّ هذه المعاملة للحاجة التي صدرنا الكتاب بها. وكل ما ذكرناه فيه إذا أثبت الملك في مقدارٍ لثالث بحكم الشرط. فأما إذا قال: الثلث لك، والثلثان لي، وأنا أصرف أحد الثلثين إلى فلان، فهذا الآن شرطٌ منه وراء مقصود العقد، وهو في حكم وعدٍ منه، لم يتحكم به أحد عليه، فإن وفّى به كان جميلاً، وإن أبى، فهو على ملكه في القسط المشروط له. 4874 - ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الركن: أن المالك لو شرط لنفسه سوى الجزء المسمى من الربح انتفاعاً ببعض أصناف الأموال، مثل: أن يقول: أركب دابةً تشتريها، أو ما جرى هذا المجرى، فهذا فاسدٌ؛ من جهة أنه ضم إلى الربح ما ليس في معناه. وإذا لاح هذا في جانب المالك، فهو في جانب العامل أوضح؛ فإن استحقاقه عن جهة [عوض] (2) عمله، فإذا ضمَّ إلى الجزء المسمَّى له شيئاً، فسد العوض، فالمالك يستحق بأصل ملكه، فإذا فسد من المالك شرطُ مزيدٍ، فلأن يفسدَ هذا من جانب العامل أولى. وهذا الفصل يتضح عند ذكر تفصيل القول في أن المالك هل ينتفع بمال القراض انتفاعاً لا يضرُّ به. وسنأتي في ذلك بفصلٍ جامع، إن شاء الله عز وجل. وقد نجزت الأركان التي أجريناها توطئةً للكتاب، وتمهيداً للقواعد، والمسائلُ بعدها نردُّها إلى ترتيب (السواد) (3).

_ (1) في الأصل: القائل. (2) سقطت من الأصل. (3) السواد: المراد به مختصر المزني. كما تكرر مراراً.

فصل قال: "وإذا سافر كان له أن يكتري من المال مَنْ يكفيه بعضَ المؤنة ... إلى آخره" (1). 4875 - إذا كان القراض مطلقاً ولم يجرِ من المالك إذنٌ في المسافرة، لم يكن للعامل المسافرةُ بمال القراض، اتفق الأصحاب عليه، وإن كانت التجارة قد تقتضي السفر إذا كسدت البضائع في موضع المعاملة؛ لأن الأسفار مظِنة الأخطار، فلا ينبغي أن يهجم عليها من يتصرف بالإذن، فالمقارض في هذا كالمودَع، فإن سافر دون الإذن، دخل المالُ في ضمانه، والعقد قائمٌ لا ينقطع، فلو سلمت البضائع، فباعها في بلدةٍ أخرى، لم يمتنع نفوذ البيع وإن لم يتفق في مكان (2) المعاملة. فإن قيل: إن تقيدت المعاملة بمكانها، فليتقيد جوازُ البيع بالمكان. قلنا: الإذن عام، لا ينكر عمومه، ولولا أخطار الأسفار، لما منعنا منها، والبيع لا خطر فيه. ثم قال العلماء: إن باع المال بمثل ثمن البلد الذي جرت المعاملة فيه أو أكثر، فجائزٌ، وإن باعه بأقلّ من ذلك الثمن، وظهرِ النقصان، وبلغ مبلغاً لا يتغابن الناس بمثله، كان هذا كما لو باع في مكان المعاملة بغبْنٍ. ثم إذا صححنا البيعَ منه، وقد تعدى بالسفر، فالثمن الذي يقتضيه من ضمانه أيضاًً، كالأصل. ولو وكل وكيلاً في بيع ماله، فتعدّى فيه، دخل في ضمانه، فلو باعه، لم يكن الثمن من ضمانه؛ لأن عدوانه اختص بما تعدى فيه، ولم يوجد منه تعدٍّ في الثمن. وسبب عدوان العامل في مسألتنا المسافرةُ، وهي حاصلة في الثمن حصولَها في الأصل. فإن قيل: هذا يستقيم لو سافر بالثمن، وزايل مكانه، فأما إذا تلف الثمنُ في البلدة التي اتفق البيع بها بآفة سماوية، لا تعد من أخطار الأسفار، فما رأيكم فيها؟

_ (1) ر. المختصر: 3/ 62. (2) أي: وإن لم يتم في مكان العقد.

قلنا: الضمان واجبٌ، لأنه في تلك البلدة مسافرٌ، وإذا ضمَّنا المسافر، لم يقف وجوب الضمان على حصول التلف بما يختص بأخطار السفر، وإن فَرض علينا من لا يهتدي إلى مأخذ الفقه إقامتَه بتلك البلدة، فالإقامةُ في غرضنا شرٌّ من السفر؛ فإنّ الذي عنيناه بالسفر المضمِّن مزايلةَ مكان المعاملة، وهذا المعنى حاصل نوى الإقامة، أو لم ينوها. وكل ذلك فيه إذا لم يأذن له المالك في السفر. 4876 - فأما إذا أذن له في المسافرة، فلا شك أنه يسافر بالإذن أميناً غيرَ ضامنٍ. والكلام يقع وراء ذلك في مؤن السفر، فنقول أولاً: الأعمالُ في حق المقيم قسمان: أحدهما - ما يتولاه العامل بنفسه، وهو ما جرت به عادة التجار، كطي الثياب ونشرها، وردها إلى الأسفاط (1)، وإخراجها منها. إذا كان من هذا القبيل، فلا يستأجر العامل عليه بأجرة يُخرجها من مال القراض. نعم. إن أراد أن يستأجر بأجرةٍ يبذلها من خاصِّ ماله، فله أن يفعل ذلك. والقسم الثاني من الأعمال، ما لا يتولاه التاجر بنفسه غالباً، وقد جرت عادةُ التجار بالاستئجار عليه، وهو كالكيل والوزن، والنقل من مكانٍ إلى مكان، فالمقارض يستأجر على هذه الأعمال، ويؤدي الأجرةَ من مال القراض، ولو تولاه العامل بنفسه، وأراد أن يأخذ أجرةَ نفسه من مال القراض، لم يكن له ذلك، ونجعله متبرعاً بتلك الأعمال. وأما نفقة العامل في الإقامة، فلا نحتسب شيئاًً منها من مال القراض. وكذلك أجرةُ المسكن الذي يسكنه العامل محسوب عليه من ماله. وأجرة الحانوت الذي يتَّجر عليه مأخوذةٌ من مالِ القراض. وإذا أراد السفر بالإذن فإنه يخرجُ من مال القراض مؤن الجمال وكذا الجَمّال، وما تمس إليه الحاجة في نقل المال وصيانته. فأما نفقة العامل في نفسه، فالذي نص

_ (1) الأسفاط: جمع سَفط، وزان سبب وأسباب. والسقط: ما يخبأ فيه الطيب والثياب ونحوها (مصباح).

عليه هاهنا أن له النفقةَ بالمعروف، ونص في رواية البويطي على أنه لا يستحق النفقة في مال القراض، فاختلف أصحابنا على طريقين، فمنهم من قطع بأنه لا نفقة له في مال القراض، وحمل نص الشافعي على المؤن المتجددة الراجعةِ إلى المال، كمؤنة الجمال وكذا الجمّال. ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين: أحدهما - أنه لا يستحق النفقة من مال القراض، قياساً لحالة السفر على حالة الحضر. والثاني - أنه يستحق، لأنه بسفره هذا، احتبس عن سائر مكاسب نفسه، فانحصرت حركاته وسكناته في غرض مال القراض، بخلاف حالة الإقامة. التفريع: 4877 - إن حكمنا بأنه لا يستحق النفقة، فلا كلام. وإن حكمنا بأنه يستحقها، ففي القدر قولان: أحدهما - أنه لا يستحق من النفقة إلا ما يزداد بسبب السفر؛ فإن هذا الزائد هو المتجدد بسبب السفر، وما سواه كان يطّرد في الحضر والسفر. والقول الثاني- أنه يستحق جميعَ النفقة من مال القراض؛ فإنه سلم نفسه بالكلية إلى هذه الجهة، وقد ثبت أنها جهةُ استحقاق النفقة، فينبغي أن يستحق تمامَها، كالزوجة الحرة تُسلم نفسها إلى الزوج. ثم هذا القائل إنما يُثبت للعامل كمالَ النفقة، إذا كان سفره مقصوراً على مال القراض، فلو كان حمل مع نفسه مالاً لنفسه، أو لغيره، فالنفقة تقسط على مقدار المالين، فينفق من مال القراض قدر ما يخصّه، والباقي عليه في مال نفسه. ثم اعتبر أئمتنا في هذا المنتهى مقدارَ المالين، ويجوز أن يعتبرَ مقدارُ العمل على المالين. وقد يكون المال المحمولُ مع مال القراض قليلَ المقدار من حيث القيمة، ولكنه ثقيلٌ كثير [التعب] (1) فيتجه التوزيع على أجرة المثل في العملين. والله أعلم. فرع: 4878 - إذا سافر بمال القراض إلى بلدة، فاتفق أن التقى العامل ورب المال

_ (1) في الأصل: الشغب. وفي (هـ 3): يقبل كثير التعسف. والمثبت من (ي).

في تلك البلدة، وتفاصلا وأخذ رب المال رأسَ المال وحصته من الربح، فلو قال العامل: لو بقيت المعاملة، وبقيت الأموال، أو أثمانها في يدي، لرجعت إلى وطني بها، ونفقتي فيها، والآن إذا تفاصلنا، فاغرَم لي ما يردّني إلى وطني، فهل له ذلك، تفريعاً على قول استحقاق النفقة؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - له ذلك؛ فإن بقيةَ السفر عليه من أعمال القراض، التي كانت تقابَل بمزيدٍ على ما شُرط للعامل من الربح. والوجه الثاني- أنه لا يستحق شيئاً من ذلك؛ فإن القراض قد انفصل، وخرج المال من يده، وإذا انكف، فليس مسافراً بمال القراض. فرع: 4879 - إذا رجع العامل من سفره، وكان قد بقي معه فضلُ زادٍ، كان أعده للسفر، أو بقيت آلات كان أعدها للسفر، كالمِطهرة، ونحوها، فقد ذكر شيخي وجهين: أحدهما - أنه يجب عليه ردُّ الآلاتِ، وفاضلِ الزاد إلى مال القراض؛ فإن السبب الذي كان يُستحق به قد زال، وهذا هو القياس الذي لا ينقدح غيره. والوجه الثاني- أنه لا يرد؛ فإن هذا يعد مستوعباً بحاجة السفر، وكان يُقرِّب (1) هذا الخلافَ من تردد الأصحاب في أن جند الإسلام إذا انبسطوا في طعام المغنم، وعُذروا، لكونهم في ديار الحرب، لو انتهَوْا إلى دار الإسلام، ومعهم بقايا من تلك الأطعمة، فهل يلزمهم ردُّها إلى عُرض المغنم؟ فيه وجهان مشهوران. وعندنا أن ذلك محمول على توسُّعٍ شهدت به الأخبار في السِّيَر، ولا يسوغ أن يتخذ أصلاً في أحكام المعاملات. ثم إذا فرَّعنا على الوجه الضعيف هاهنا في فاضل الزاد، فلا بد من الانتهاء إلى ضبطٍ فيه، والوجه أن نقول: إن كان الفاضل بحيث لو ضُم إلى ما اتفق إخراجه (2)، وقدِّر إخراجه، لما كان ذلك سرفاً، فهذا هو الذي أراه في محل الخلاف. وإن كان زائداً على هذا، فذلك الزائد بضاعةٌ.

_ (1) أي الشيخ أبو محمد. (2) أي اتفق إنفاقه من العامل.

فصل قال الشافعي: "ولو اشترى، فله الرد بالعيب ... إلى آخره" (1). 4880 - قد ذكرنا أن الوكيل إذا اشترى لموكِّله شيئاً، واطلع على عيب قديم به، فله أن يرده بالعيب، ولا يحتاج في تنفيذ الرد إلى مراجعة الموكِّل، وإن كان لو رضي الموكل بذلك العيب، لامتنع من الوكيل الرد بعد رضاه. والسبب في هذا أنه لو أخر الرد، وهو ينتظر رأي موكِّله، فقد يرى الموكل الرد، ولو أراد الوكيل بعد الاطلاع على ذلك أن يرد، لامتنع عليه الرد، ولصار متطوّقاً لما اشتراه، والذي عامله قد لا يصدّقه في أنه وكيل، فيخرج منه أنه يصير ملتزماً لحكم العيب، فأثبتنا له الابتدارَ إلى الرد، لما ذكرناه. ولو قال المردود عليه: قد رضي موكلك، فالقول قول الوكيل مع يمينه، يحلف بالله: أنه لا يعلم رضاه. وهذا قد ذكرناه، وقدمناه في أحكام عهدة الوكيل. ولو اشترى المقارض شيئاً، واطلع منه على عيبٍ قديم، فالأولى عندنا بناءُ الأمر على تقسيمٍ، فنقول: إذا خرج المشترَى معيباً، لم يخل: إما أن تكون الغبطة في الرد وكان الإمساك ينافيها، أو كانت الغبطة في الإمساك مع ظهور العيب، فنذكر ما يتعلق بالقسمين ثم نذكر استواء الأمرين، في الرد والإمساك في جهة الغبطة. فأما إذا كانت الغبطة في الرد، فللعامل أن ينفرد بالرد، فإذا كنا نجوز للوكيل الانفرادَ بالرد، فهذا في حق المقارض أولى؛ من جهة أن للمقارض غرضاً يخصه في تحصيل جهات الغبطة، والتوقِّي عن نقيضها، ثم يَنْفصل المقارضُ في هذا المقام عن الوكيل من حيث إن الموكل لو رضي بالعيب، لم يملك الوكيل الردَّ، ولو رضي المالك بالعيب، فللمقارض الردُّ، وليس من حصافة الرأي أن يقول القائل: إذا كان المبيع لا يتمحّض حقاً للعامل، فينبغي أن يملك ربُّ المال إلزامَ العقد في بعضه؛ فإن هذا في هذا المقام غيرُ مبني على أقْدار (2) الحقوق، والنظر في التوزيع عليها. وقد

_ (1) ر. المختصر: 3/ 62. (2) في (ي)، (هـ 3): "إفراز".

تقع هذه الواقعة، ولم يظهر بعدُ في المال ربحٌ، فالحكم على ما ذكرناه، فلسنا نُثبت للمقارض حقَّ الرد لملكٍ له في الرقبة ناجزٍ، حتى يقدَّرَ مع ملكه ملكٌ ونبني عليه ما قدرناه، ولكنَّ الحقَّ الذي أشرنا إليه أمرٌ يعم هذا المشتري في وجه الرأي من طريق التوقع، والأمور تنفصل في العاقبة. ولو رضي هذا المقارض بما اشتراه، وأبى المالك، فلا ينصرف المشترَى إلى جهةِ مال القراض. ومهما كانت الغبطة في الرد، فلا يتصور بقاء المبيع لجهة القراض إلا بتراضيهما، وسنعود إلى ذلك في آخر هذا الفصل، إن شاء الله عز وجل. 4881 - فأما إذا كانت الغبطة في الإمساك، وتصوير ذلك أن يشتري العامل عبداً يساوي -مع ما به من العيب- ألفاً بتسعمائة، فالغبطة في إمساكه، فلو أراد العامل أن يرد، لم يكن له ذلك؛ لأن تصرفه منوط بطلب الفوائد، وهو برده في هذا المقام مفوّتٌ حظّاً مالياً لا خفاء به. وكذلك لو أراد المالك الرد، لم يكن له ذلك، فالنظر إلى الغبطة من الجانبين. وهذا الفصل لا يصفو عن شوائِب الإشكال، ما لم نذكر في هذا المنتهى حكمَ الوكيل، فنقول: إذا اشترى الوكيل لموكله عبداً بتسعمائة، ثم اطلع منه على عيبٍ، وكان يساوي العبد مع ذلك العيب ألفاً، فهل للوكيل -والحالة هذه- أن ينفرد برد العبد قبل مراجعة الموكل؟ اختلف أئمتنا في هذه المسألة: فذهب الأكثرون إلى أن للوكيل أن يرد، وإن كانت الغبطة في الإمساك، واعتقد هؤلاء الردَّ من حق الوكيل، وقالوا: لا سبيل إلى منعه منه، مادام هو متعرضاً لالتزامه وتطوّقه، كما صورناه في صدر الفصل، والإنسان له غرض في رد المعيب، وإن لم يتعلق به غرضٌ مالي؛ فإن من اشترى عبداً، واطّلع منه على عيبٍ قديم، وكان يساوي مع ذلك العيب أكثر من الثمن المسمى، فحق الرد ثابت إجماعاً، وإن لم يكن للراد غرضٌ مالي، فكذلك الوكيل إذا كان يتعرض لالتزام العيب، كما نبهنا عليه، فله أن يبتدره على خلاف الغبطة، فيردّه، هذا وجهٌ. ومن أصحابنا من منع الوكيل من الرد في هذا المقام؛ فإن في الرد -لو ابتدره الوكيلُ- تخسيراً للموكِّل وإحباطَ جزءٍ من المالية عليه، وعيافةُ الوكيل عيبَ

العبد بتقدير أنه قد يلزمه، لا يعارض ناجز ملكِ الموكل، وينبني عندنا على هذا الأصل أن الوكيل بشراء العبد لو اشترى عبداً معيباً، مع العلم بعيبه، ولكنه كان مغبوطاً غيرَ مغبون، وقد وكله موكله بشراء العبد مطلقاً، فهل يصح منه شراءُ هذا العبد لموكِّله؟ هذا يخرّج على الوجهين في النظر إلى العيب والغبطة، ففي وجهٍ يجوز، ثم للموكل حقُّ الرد إن أراد، وفي وجهٍ لا يقع العقد عن الموكِّل؛ لمكان العيب المعلوم. وكان شيخي يذكر وجهاً ثالثاً ويقول: إن كان يشتريه للتجارة، فينعقد البيع عن الموكل، وله الخيار، وإن كان يشتريه للقُنية والخدمة، فلا يقع العقد عن الموكل. وهذا حسن لا بأس به. 4882 - ونحن نعود بعده إلى المقارض، فنقول: ما ذهب إليه معظم الأئمة في الطرق أن المقارض لا يملك الردَّ إذا كانت الغبطة في الإمساك؛ فإن تصرفاتِه مُدارةٌ على رعاية الأغراض المالية. ومن أصحابنا من ألحق المقارض بالوكيل فيما ذكرناه من أنه هل يملك الرد؟ وهذا متِّجه؛ فإن حطّ رتبته عن الوكيل لا وجه له فيما رتبناه، ونظمناه، وإلى هذا مال جوابُ القاضي رضي الله عنه. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الغبطة في الرد، أو كانت الغبطة في الإمساك. 4883 - فأما إذا استوى الأمران، ولم يترجح أحدُهما على الثاني في غرضٍ ماليٍّ، فلا شك أن المقارض له أن يرد؛ فإنه مالكٌ للتصرف، فإذا كان يملك بيعَ هذا العبد بثمن مثله، فينبغي أن يملك ردّه واستردادَ الثمن المبذول. 4884 - ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل: أن الغبطة إذا كانت في الإمساك، كما تقدم تصويره، فإذا قلنا: للمقارض الردُّ مع ذلك، وهو مسلكٌ بعيدٌ، لما فيه من التخسير، ولكن إذا فرعنا عليه، فيجب أن يملك ربُّ المال الردَّ أيضاًً؛ إذْ هو أولى بذلك، وهو مالك الأصل، غيرَ أن العامل إذا ردَّ، ارتد الملك وانتقض العقدُ، وإذا ردّ المالكُ، ولم يرض العامل بالردّ، نظر: فإن كان وقع العقد بعينٍ من أعيان مال القراض، فالرد يتضمن نقضَ العقد من المالك أيضاًً، وإن كان العقد وارداً على الذمة مصروفاً بالنية إلى جهةِ القراض، فردُّ المالك لا يتضمن نقضَ العقد،

ولكنه يتضمن صرفه إلى المقارض، فعليه الثمن، وله المبيع. فلو فرض مثل ذلك في الموكِّل والوكيل، فإن لم يعترف البائع بكون المشتري وكيلاً، فالأمر على ما ذكرنا في المقارض العامل، وإن اعترف بكونه وكيلاً، ولم يردّ الوكيلُ مقصراً، أو راضياً، ففي المسألة وجهان: أحدهما- أن العقد ينفسخ؛ فإنه لا [حظ] (1) للوكيل فيه. والثاني - أنه يرتد إلى الوكيل، وينقلب العقد إليه؛ فإن العقد ورد على ذمته، ثم لم يوجد منه ردُّه مع تمكّنه منه، ولم يجد نفاذاً على الموكل. وهذا الوجه يشير إلى أن الوكيل بالشراء الوارد على الذمة عرضةٌ لأن يكون هو المتملّك، وينقدح إذا حكمنا بأن العقد يرتد إلى الوكيل أن نقول: نتبين أن العقد وقع له إذا انعقد؛ فإنّ صَرْفَ الملك من الموكل بعد حصوله له إلى الوكيل من غير عقدٍ جديد بعيدٌ، وظاهر القياس أن الملك ينقلب إلى الوكيل على نعت التجدّد ولقد (2) كان واقعاً للموكل. هذا حاصل الغرض فيما يتعلق برد العامل ورد المالك. 4885 - ومما جرى الرسم بذكره أن المردودَ عليه لو قال للوكيل: قد رضي موكلك، فلا ترد، فلا يملك الوكيل الردَّ، ما لم يحلف على نفي العلم، كما أشرنا إليه، وهو مستقصىً في كتاب الوكالة. ولو قال المردود عليه للعامل: لا ترد؛ فإن المالك قد رضي به، فقد قال الأئمة: يردُّ المقارض من غير يمين؛ فإنه يملك الرد، وإن اعترف برضا المالك، وهذا متجه إذا كانت الغبطة في الرد، فأما إذا كانت الغبطة في الإمساك، فالتفصيل فيه ما قدمناه. فليتبع الناظرُ تأصيلَنا، وتفصيلنا في ذلك، يَرْشُد، إن شاء الله. فصل قال: "لو اشترى وباع بالدين، فضامنٌ إلا أن يأذن له ... إلى آخره" (3). 4886 - فأما بيعُ سلع القراض نسيئةً، فممتنعٌ، لا شك فيه، لما في النسيئة من

_ (1) في الأصل: حق. (2) في (ي)، (هـ 3): ولكن. (3) ر. المختصر: 3/ 62.

الغرر، ولسنا ننظر إلى غرض التجارة في ذلك، صائرين إلى أن البيع إذا كان من مليء، وفيٍّ، وحصل مع ذلك التوثّقُ برهنٍ، أو كفيلٍ، فهذا مما يعتاده التجار، من ضروب التجارة؛ فإن هذا تصرفٌ مستفادٌ بالإذن، فكان محمولاً على مطلق الإذن. وأمرُ الوكيل بالبيع والابتياع إذا جرى مطلقاً، نافى النسيئة، ونزل منزلة العقد لو فرض مطلقاًً، ولو كان البيعُ والشراء مطلقين، تضمَّنا حلولَ العوض. وهذا فيه ضربٌ من التلفيق؛ فإن معتمدنا في بيع الوكيل العرفُ، ولأجل ذلك منعنا بيعَه بدون ثمن المثل، إذا كان موكلاً بالبيع مطلقاً، فكان لا يمتنع أن يتعلق متعلق بقرينة الحال في قصد التجارة: ويسوِّغُ من المقارض في استصلاح المال ما يجوز من أب الطفل، ولكنّ المانعَ منه أن الولاية تُثبت رتبةَ الاستقلال للولي، والشفقةُ المعتضدةُ بالعدالة والديانة تُؤَمَّنُ من [بوائقِه] (1)؛ فقيل له: تصرف في مال طفلك تصرفَك في مال نفسك، إذا كنت ترعى الغبطةَ، وصلاحَ المال. والقراضُ دائرٌ بين مستقلّيْن، لا ينتظم التصرف بينهما إلا باللفظ، والأغراض تختلف اختلافاً بيناً؛ فلم يمكنا أن نترك اللفظ على عُرفٍ مطّردٍ؛ فمن التجار من لا يبيع نسيئةً أصلاً، ولا يشتري نسيئة ويُعدُّ صاحبَ النسيئة على مجازفةٍ وغرر. وهذا يغلب في معظم الأزمان. فإن لم يتّحد الغرض، ولا متعلّق إلا اللفظ، فمطلقه يقتضي الحلولَ في البيع، والشراء. فإن قيل: إن ظهر تفاوتُ الأغراض في البيع نسيئةً؛ من جهة أنه يتضمن إزالةَ اليد عن الملك، وانتظارَ الثمن، والطوارقُ تطرق، والعوائق تطرأ فهذا متَّجهُ. أما الشراءُ بالنسيئة، فما المانع منه؟ قلنا: قد لا يؤْثر أصحابُ الديانات بقاءَ التبعات، واشتغال الذمم، وهذا غير مُنْكَرٍ في عادات كثير من الناس. هذا منتهى القول. ثم إذا أبطلنا البيعَ نسيئة، ولم يصر المقارض متعدياً بنفس البيع حتى يسلّمه، فإذا سلمه صار غَاصباً، والمشتري منه مشترٍ من الغاصب، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصىً في كتاب الغصب. فأما إذا اشترى شيئاًً مؤجلاً، فمن ضرورةِ التأجيل وقوعُ

_ (1) في الأصل: يوافقه.

الثمن في الذمة، فلا ينصرف ما اشتراه إلى جهة القراض، ولكنه ينفذُ عليه. وهذا واضح. فصل قال: "وهو مصدَّق في ذهاب المال، مع يمينه ... إلى آخره" (1). 4887 - لم يختلف علماؤنا في أن يد المقارض يدُ أمانة فيما يتلف في يده من غير تقصير، فلا ضمان عليه فيه. ولو ادّعى تلفاً، وكان ما ادعاه ممكناً، فأنكر رب المال، فالقول قول المقارض مع يمينه. ولا يشترط في تصديقه مع يمينه أن يغلب على القلب صدقه، بل يكفي إمكانُ صدقِه، وبيان ذلك: أنه لو ادَّعى احتراقَ شيء من المال، وكان حانوته، أو مسكنهُ في مَحِلَّةٍ وقع فيها حريقٌ ظاهر، فالظاهر صدقه، ولكنّا نحلّفه لو ادّعى ذهابَ المال بجهةٍ لم تظهر، كسرقةٍ ونحوِها، ولكن كانت الجهةُ ممكنة، فإنه يصدّق مع يمينه. ولو نسب الضياعَ إلى جهةٍ يُعلم أنها (2) لم تكن، مثل أن يدعي احتراق ثياب نهاراً في حانوتٍ بارزٍ للناظرين، وذكَر وقتاً لو جرى فيه حريق، لم يخف وقوعُه، فقوله مردود؛ إذ لا إمكان على الوجه الذي قال. ولو ادعى ضياعَ المال مطلقاً من غير أن يذكر جهة، صُدِّق مع يمينه، ولم يكلَّف ذكر جهةِ الضياع. والقول في المقارض في ذلك كالقول في المودَع. 4888 - ولو ادعى المقارض ردَّ طائفةٍ من المال على رب المال، فالذي قطع به القفال أنه مصدّقٌ مع يمينه، ومذهب القفال طردُ ذلك في الأمناء كلَّهم. 4889 - وقد قدمنا ترتيبَ العراقيين وتقسيمهم في الأمانات. ونحن نعيدُه لغرضٍ لنا. قالوا: إن لم يكن للمؤتمن أرَبٌ في الأماناتِ، ولا منفعةٌ، وإنما كانت المنفعةُ كلُّها في الحفظ لرب المال، فإذا ادعى هذا المؤتمن ردَّ الأمانة صُدِّق مع يمينه.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 62. (2) عبارة (ي)، (هـ3): إلى ما يعلم أنه لم يكن.

وإن كان للأمين منفعةٌ فيما في يده كالمرتهن في العين المرهونة، فإذا ادّعى ردَّ الرهن، لم يصدَّق إلا أن يقيم بينةً، والقول قولُ الراهن مع يمينه، وطَردوا هذا في يد المستأجِر في العين المستأجَرة؛ فإنه قبضها لمنفعةِ نفسه. وإن تردد الأمر، فكان [للمؤتمن] (1) غرضٌ فيما في يده، وكان للمالك غرضٌ أيضاًً، فإذا ادّعى مَنْ هذا وصفُه الردَّ، فقد ذكروا وجهين: أحدهما- أن القول قولُ المؤتمن الذي يدعي الردَّ؛ لأن المنفعة ليست خالصةً له. والوجه الثاني- أن القول قول المردود عليه، وضربوا في هذا القسم مثالين: أحدهما - الوكيل إذا قبض شيئاًً لبيعه بأجرةٍ، ثم ادعى ردَّه، ففي المسألة وجهان. والثاني - المقارض، إذا ادّعى الردَّ على رب المال. ولم يختلفوا أن الأمناء بجملتهم لو ادّعَوْا تلفَ المال في أيديهم، صُدِّقوا مع أيمانهم. وإنما هذا التفصيل للعراقيين فيه، إذا ادعى المؤتَمنُ الردَّ على المالك. ثم بنَوْا على هذا، وقالوا إذا لم يصدقوا المؤتمن في دعوى الرد، فمؤنة الرد [عليه، وإن كنا نصدقه في دعوى الرد، فمؤنةُ الرد على المالك؛ فأتبعوا مؤنةَ الرد] (2) وجوبَ التصديق عند دعوى الرد، وطبقوا الوفاق على الوفاق في النفي والإثبات، والخلاف على الخلاف. هكذا حكاه القاضي عن طريقهم، وهذا بعيد جداً، ولم يصح عندنا من طُرقهم إلا الترتيبُ الذي ذكرناه في (3) أن من ادّعى الرد هل يصدق؟ فأما إيجابُ الردّ ومؤنته، مع القطع بأن اليدَ يدُ أمانة، فبعيدٌ عن قانون المذهب، ويبعد كل البعد أن يجب على المرتهن والمستأجر مؤنةُ الرد. 4890 - وأما القفال، فإنه قطع بتصديق كل مؤتمن في دعوى الرد إذا لم تكذبه المشاهدة. وأجرى المرتهن والمستأجِرَ والمقارضَ والوكيلَ مجرى المودَع، ونزَّل دعوى الرد في جميع هؤلاء منزلةَ دعوى التلف، وسلم العراقيون دعوى التلف،

_ (1) في الأصل: المرتهن. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (3) في (ي)، (هـ3): أنه لو ادعى الرد هل يصدق.

والتصديقَ فيها مع اليمين، وإنما خالفوا في دعوى الرد، كما ذكرناه. 4891 - فحاصل (1) المذهب أن طريقة المراوزة التسويةُ بين الأمناء وبين دعوى الرد والتلف، والقطعُ بأنه لا يجب على أمينٍ ردٌّ، وإنما عليه التخلية بين المالك وبين ملكه. وإذا كان هذا أصلَهم، فيستحيل عندهم إلزامُ مؤنة الرد على أمين. والعراقيون وافقوا المراوزة في المودَع، ووافقوهم في دعوى التلف من سائر الأمناء، ورتبوا كلاماً في دعوى الرد، ولم ينقل أحدٌ عنهم التزامَ مؤنة الرد، إلا القاضي، كما تقدم. والذي يدور في النفس من ترتيبهم شيئان: أحدهما - أن المستأجر ليس يتمحض انتفاعُه مع بَذْله العوض، وفي انتفاعه تقريرُ الأجرة، وكان لا يبعد عن أصلهم إلحاقُ ذلك بما لا يتمحض فيه انتفاع صاحب اليد، وعندي أني قدمت هذا فيما سبق. والذي نجدَِّدُه الآن أن قياس طريق المراوزة أن المقارض لو قال: رددتُ على المقارض رأسَ المال، وحصتَه من الربح، وهذا الباقي في يدي حصتي أنه يصدق، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الذي يبقى في يده عِوضُ عمله، ولا يسلّم له عوض عمله إلا بأن يثبت التسليمُ في رأسِ المال، وقسطِ الربح، فيؤول الخلاف في هذا إلى حكم المعاوضة، وهذا إن طُرد فيه قياسُ تصديق المقارض في نهاية الإشكال. نعم، لَوْ لم يتفق ربحٌ، وادّعى المقارض ردّ رأس المال بكماله، فتصديقه حكم الائتمان. ولا شك أن المراوزة يطردون قياسهم في تصديق المقارض؛ فإن ما ذكرناه من التصاق (2) حكم المعاوضة بالأمانة لم يوجب إثبات حكم الضمان [بعلقة المعاوضة، وكأن المشروط للمقارض ليس له حقيقةُ المعاوضة. وقد قال] (3) العلماء: القراض في ابتدائه وَكالة، وفي انتهائه إذا ظهر الربح شركة. وسيأتي ذلك [مشروحاً في المسائل إن شاء الله] (4).

_ (1) في (ي)، (هـ 3): وأصل المذهب. (2) (ي)، (هـ 3): التفاق. (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ي)، (هـ 3). (4) سقط من الأصل ما بين المعقفين.

فصل قال: "ولو اشترى من يعتق على رب المال بإذنه عَتَق ... إلى آخره" (1). 4892 - العامل إذا اشترى ابنَ ربِّ المال أو أباه، فلا يخلو: إما أن يشتريه بإذنه، أو دون إذنه، فإن اشتراه بغير إذنه، لم ينصرف الشراء إلى جهة القراض، ولم يخل إما أن يشتري بعين المال، أو يشتري مطلقاً في الذمة. فإن اشتراه بالعين، فالشراء باطل؛ لأنه مأذونٌ في التجارة المربحة، وهذه صفقة إن حكمنا بها خاسرة، فينبغي أن يكون المرعي في القراض [أعواض] (2) المال، لا غيرها. ولو اشتراه في الذمة، صح الشراء، وانصرف إلى العامل. وخرج من مجموع ذلك أن التسليط على التجارة، والإذنَ فيها، لا يملّك العامل شراء من يعتق على الآمر. ولو أراد العامل أن يشتري جاريةً كانت زوجة رب المال، أو أراد أن يشتري زوجَ ربةِ المال، فهل يصح ذلك تلقياً من مطلق الإذن في التجارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يصح لما فيه من الإضرار، ونحن نعلم خروج ذلك عن إرادة الآمر وإذنه، من طريق المعنى؛ فإنه لو أراد ذلك، لنص عليه، ونبه عليه، والألفاظ العامة في هذه المسالك تُخصَّصُ بقضايا العرف، ولهذا قلنا: لا يبيع الوكيل بالإذن المطلق ما وُكّل ببيعه بالغبن الفاحش، وإن كان لفظ البيع شاملاً من طريق اللسان لكل بيع. وهذا القائل يستشهد أيضاًً بامتناع ابتياع من يعتِق على رب المال. والوجه الثاني- أن الشراء صحيح، في الزوج والزوجة؛ فإنه يُفيد مقصودَ المالية فيهما حَسَب إفادته ذلك في سائر المماليك، والمرعيّ فيما ينصرف إلى جهة القراض، الغرضُ (3) الذي وُضع القراض له. وإذا كان ذلك (4) يحصل، فلا نظر

_ (1) ر. المختصر: 3/ 62. (2) ساقطة من الأصل. وفي (ي)، (هـ 3): أعراض. (3) ساقطة من (ي)، (هـ 3). (4) في (ي)، (هـ 3): اذا كان كذلك، فلا ...

إلى (1) ضررٍ آخر يلحق من جهةٍ أخرى؛ لا مِن ماليةِ المعقود عليه ابتداءً وبقاءً؛ وبهذا ينفصل ما نحن فيه من (2) شراء الأب [وكل من يَعتِق] (3) على رب المال؛ فإن ذلك الملك لا يبقى، لو قدرنا حصولَه. 4893 - فإذا تبين ما ذكرناه، فليقع الفرضُ بعده فيه إذا اشترى العامل من يعتِق على المالك بإذن المالك، فإذا جرى الشراء بإذنه، صحّ، ونفذ، ثم ينقسم القول وراء هذا؛ فلا يخلو: إما أن يكون في المال ربح، وإما أن لا يكون في المال ربح، فإن لم يكن في المال ربح، فلا يخلو: إما أن يشتريه بكل المال، أو ببعضه، فإن اشتراه بكل المال عَتَق عليه، وانتهى القراض، وكان كما لو استرد المال؛ إذْ الإتلاف أو التسبب إلى التلف الحُكمي محل الاسترداد، ثم إذا نفذ العتق في الجميع، فلا شيء للعامل؛ فإن القراض صحيح والعامل في القراض لا يستحق إلا الربح، إن كان، فإن لم يكن، واتفق استردادُ المال قبل ظهور الربح، فلا شيء للعامل. وسنذكر هذا في أثناء فصول الكتاب، إن شاء الله -نعم، لو كان القراض فاسداً، وكان (4) للعمل الذي جاء به العاملُ أجرُ مثلٍ، فله أجر مثل عمله، إذا استرد رأس المال قبل الربح، أو بعده، ولم نفصل فيما أجريناه بين أن يكون الشراء وقع بعين المال، وبين أن يقع في الذمة؛ فإن الشراء إذا كان على وَفْق الإذن، فإنه ينصرف إلى الجهة المنوية حسَب وروده عليها، لو فرض تعيين الأعيان عوضاًً، وهذا بيّن. وما ذكرناه فيه إذا اشترى بكل المال، ولا ربح. فأما إذا اشتراه ببعض المال، ولا ربح، فيصح الشراء، وينفذ العتق، ويصير ذلك القدرُ مسترداً من رأس المال وسنذكره مفصلاً (5)، إن شاء الله. 4894 - فأما إن كان في المال ربح، فلا يخلو: إما أن يشتري بالكل أو بالبعض،

_ (1) (ي)، (هـ 3): إلى أمر آخر من جهة أخرى. (2) (من) مرادفة لـ (عَنْ). (3) في الأصل: ومن كان يعتق. (4) في الأصل: أو كان. (5) في الأصل: وسنذكره مفصلاً بهذا.

فإن اشتراه بالكل، [و] (1) كان رأس المال ألفاً، فربح العامل ألفاً، ثم اشترى من يعتِق على المالك بالألفين، فلا شك في نفوذ العتق في مقدار رأس المال فيه (2). وهو يقع نصفاً من العبد. وأما الربح إن كانا شَرَطَا وقوعَه شَطْرين، فيَعْتِقُ من الربح المقدارُ المشروط للمالك، ويحصُل من رأس المال ومن حصةِ الربحِ العتقُ في ثلاثة أرباع العبد، والربع الباقي يُنظر فيه، فإن كان المالك موسراً، ذا وفاءٍ عَتَق عليه من طريق السِّراية الربعُ الباقي، وغرِم للعامل مقدارَ حصته، وهو خمسمائةٍ في الصورة التي فرضناها، والتفريع على تعجيل السِّراية. فإن قيل: لم تتعرضوا للقولين في أن العامل هل يصير مالكاً للربح المشروط له بالظهور، أم يتوقف جريان ملكه على المفاصلة؟ قلنا: لا حاجة في هذا المقام إلى هذا الأصل؛ فإنا وإن حكمنا بأن الملك للعامل، فالعتق يسري لا محالة، إذا كان من حصل العتق عليه موسراً. فإن قيل: هلا خرّجتم حكماً آخر على هذين القولين، وقلتم: إذا صرنا إلى أن العامل لا يملك ما شرط له إلا عند المفاصلة، فالعتق يسري في الجميع، ولا شيء للعامل؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن نفوذ العتق في مقدار رأس المال ينزل منزلة المفاصلة باسترداد رأس المال، ولو استرد ربُّ المال رأسَ المال، وقد ظهر الربح، فيثبُت حصةُ العامل من الربح لا محالة، فإنا نُنزِل الإتلافَ والتسببَ إليه بمثابة استرداد رأس المال، واستردادُ رأس المال مفاصلةٌ، ومقاسمةٌ. ولو كان رأس المال ألفاً، وما زاد قبل الإقدام على شراء من يعتق على المالك، ولكنه لما [اشتراه كان] (3) يساوي ألفين على [مكانته] (4) لو بقي رقيقاً، فهذا ربحٌ حصل بهذا العقد، فكان (5) التفريع فيه كالتفريع على ما لو حصل الربح قبل هذا العقد (6).

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (ي)، وساقطة من (هـ 3). (3) في الأصل: اشترى وكان. (4) في الأصل: مكانه. (5) (ي)، (هـ 3): فإن. (6) أي أنه يعتق عليه مستهلكاً الربح ورأس المال.

وكل ما ذكرناه فيه إذا اشترى من يَعْتِق على المالك بما يساوي رأسَ المال والربحَ الحاصلَ. 4895 - فأما إذا وقع الشراء ببعض مال القراض، وقد ظهر الربح [كأن] (1) كان رأس المال ألفاً، والربحُ الظاهر ألفٌ، وقد وقع الشراء بألفٍ، فالذي قطع به الأئمةُ أنه إذا عيّن هذا المقدار من مال القراض في العقد، أو كان اشترى في الذمة، ونقد الثمنَ، فالعتق ينفذ، ولا نحكم بانحصار ثمن العبد في جهة رأس المال، بل نقضي بأنه يقع شائعاً؛ فإن الربحَ شائعٌ في رأس المال، ورأسُ المال شائعٌ في الربح، والاسترداد يقع على الشيوع، فكأنه استرد نصفَ رأس المال، ونصفُ الربح على هذا الوجه يقع (2). ثم لا يخفى تنفيذ العتق، ولا حاجة إلى تقديرِ السِّراية، [وتنزيلِ] (3) ما جرى منزلة استرداد نصفِ المال، مع اعتقاد الشيوع بين رأس المال والربح، وسنذكر على أثر هذا الفصل فصلاً جامعاً في الاسترداد، ووقوعِ المسترد على حكم الشيوع، إن شاء الله. هذا هو المذهب الذي لا يجوز أن يُعتقدَ غيرُه. وحكى القاضي عن العراقيين طريقةً أخرى، لم أطلع عليها من مسالكهم، على بحثي عنها، وذلك أنه قال: ذكر العراقيون أن العامل إذا اشترى من يعتِق على رب المال بإذنه، وقد ظهر الربح في المال، فإن اشتراه بقدر رأس المال عَتَق، وكأنّ (4) المالكَ استرد رأس المال، والباقي بينهما ربحٌ، يتقاسمانه على موجَب الشرط. وإن اشتراه بأقلَّ من رأس المال، فالثمن محسوب من رأس المال، مُنحصرٌ فيه، لا يُحسب شيءٌ منه من الربح. وإن اشتراه بأكثرَ من رأس المال، حَسَبْنا من رأس المال على كماله، ثم حَسَبْنا

_ (1) مزيدة لاستقامة العبارة، حيث سقطت من النسخ الثلاث. (2) أي يقع مستردّاً، وهي في (ي)، (هـ 3): "تبع" (3) في الأصل: " ونزل ". (4) (ي)، (هـ 3): وإن كان.

الزائد من حصة المالك من الربح، ثم إن استوفى حصتَه، فالباقي للعامل، وإن أبقى من حصته شيئاً، فله البقية. ثم لما حكى القاضي هذا قال: هذا الذي ذكروه غلطٌ، ولا شك أن ما حكاه غلطٌ، ولكن أخشى أن يكون الناقل غالطاً؛ فلا يستجيز المصير إلى ما حكاه عن العراقيين من أحاط بأطراف الكلام في أحكام هذه المعاملة. هذا كله تفصيل القول فيه إذا اشترى العامل بإذن رب المال من يعتق عليه، وقد بان من سرّ الفصل أن مغزاه يرجع إلى استرداد طائفة من المال، وتفصيلُ الاسترداد، وتحقيق الشيوع فيه سنذكره متصلاً بهذا الفصل. 4896 - والعبد المأذون له في التجارة إذا اشترى أبَ المولَى، فلا يخلو: إما أن يشتريَه بإذنه، أو دون إذنه، فإن اشتراه بإذنه، نُظر: إن لم يكن عليه ديْن، صحَّ شراؤُه، وعَتَق على المولى، وإن كان عليه دَيْن، ففي عتقه عليه قولان. وقرّب الأصحاب ما في يد المأذون إذا ركبته الديون، قبل أن يحجر القاضي عليه، من المال المرهون، وذكروا قولين في أن السيد لو أعتق عبداً مما في يد عبده المأذون، وقد ركبته ديون، فيكون كما لو أعتق الراهن العبد المرهون، وكذلك العبد في التركة التي تعلق الدين بها، فإذا أعتق الوارث عبد التركة، فهو بمثابة الراهن، فإذا اشترى العبدُ بإذن المولى من يعتِق عليه، وعليه ديون، فإن جرى ذلك برضا الغرماء، صحّ، ونفذ العتق، وكذلك القول فيه إذا أعتق المولى عبداً بإذن الغرماء، والعبدِ المأذون، فالعتق ينفذ نفوذَه من الراهن في المرهون، عند إذن المرتهن. وقد ذكرت مجامع أحكام المأذون فيما تقدم، وأخرت جملاً من أحكامه إلى كتاب النكاح. ولو اشترى العبد المأذون بغير إذن مولاه من يعتق عليه، فليقع الفرض فيه إذا لم يكن عليه دَيْن، ففي صحة الشراء قولان منصوصان للشافعي رضي الله عنه: أحدهما - لا يصح، وهو اختيار المزني، لأنه مأمور بالتجايرِ (1) المربحة، والذي اشتراه ليس

_ (1) التجاير: أي التجارات، جمع تجارة، وزان رسالة ورسائل، وتركناها مسهّلة الهمزة كما وردت.

ممّا يُتَّجرُ فيه، وقد يكون فيه استيعابُ المال، فشابه العبدُ المأذونُ في ذلك العاملَ في القراض، وقد قطع الأئمة بأن العامل في القراض لا يصح منه أن يشتري من يعتِق على رب المال، فليكن المأذون له في التجارة بهذه المثابة. والقول الثاني- أن ابتياعه يصحّ، لأنه مستخدمُ السيد، ومأمورُه، وما يصدر منه في امتثال أمر المولى، يقع خدمةً مستحقة عليه، فيليق به أن يرعى في حقه مطلق الأمر، وقد أذن له في الشراء، والعامل (1) مَبْنَى أمره على التجارة؛ فإنّ عِوض عمله فيما يحصله من الربح، فكانت تلك المعاملة متقيدةً بالتجارة، ومعاملةُ العبد خدمةٌ، كما ذكرناها. هذا ما قيل في توجيه القولين. وفي هذا فضلُ نظرٍ عندي، فيجب أن يقال: إن قال لعبده: اتّجر في هذه الأموال، فإذا اشترى من يعتِق على المولى، لم يصح؛ لأن ما جاء به لا يسمى تجارة. وإن أطلق له التصرف، ولم يتعرض لذكر التجارة، وما يدل عليها، فإذا اشترى من يعتِق على مولاه -والحالة كما وصفناها- فيحتمل قولين. ولو قال للعامل: تصرف، ولم يقل له: اتّجر، فلا يصح من العامل أن يشتري من يعتِق على رب المال قولاً واحداً؛ لأن المعاملة وإن لم تتقيّد بالتجارة، فقرائن الأحوال، ومقتضى المعاملة، دالةٌ على قصد التجارة. هذا ما لا بد منه. 4897 - ومما يتصل بما نحن فيه أن الرجل إذا وكل وكيلاً، حتى يشتري له عبداً، وذكر بعض صفاته، فلو اشترى له من يعتِق عليه، وتوكيله إياه ليس مقيداً بالتجارة، فقد اختلف أصحابنا: منهم من قال: يصح ذلك من الوكيل، ويعتِق على الموكِّل؛ من جهة أن التجارة غيرُ محققة، والتصرف مع الوكيل خاص. ومن أصحابنا من قال: لا يصح ذلك من الوكيل؛ فإن قرينة الحال تدل على أنه يبغي منه عبد قِنْية، أو عبد تجارة، فإذا اشترى مَنْ يعتِق عليه، لم يكن ما جاء به من القبيلين، فبطل. هذا إذا وقع شراؤه بعين مال الموكل، فأما إذا اشترى في الذمة، فإن صححناه عن

_ (1) العامل: أي المقارض.

الموكل، فلا كلام، وإلا فينفذ العقد على الوكيل، ثم لا يعتِق، فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه القولُ في العامل، والعبدِ المأذون، والوكيل بالشراء. فأما العامل، فلا يصح منه أن يشتري لرب المال من يعتق عليه من غير إذنٍ، لتمحّض قصد التجارة من المعاملة. والعبد المأذون إذا اشترى بغير إذن مولاه من يعتق عليه، ففيه القولان المنصوصان، وسببُ تردد القول ما ذكرناه، من أن العبد ليس يعمل لنفسه، وإنما هو مأمور من جهة غيره. والوكيل بشراء عبدٍ يتأخر في المرتبة عن المأذون له في التجارة، وشراؤه من يعتِق على موكله يُخرَّج على الخلاف الذي ذكرناه. وهو على حالٍ أولى بالنفوذ من شراء العبد المأذون. ثم إذا لم يصح شراء العبد المأذون، فلا كلام، وإن صححناه، لم يخل: إما أن يكون عليه دين، وإما أن لا يكون عليه، فإن لم يكن [عليه] (1) دينٌ، ففي نفوذ العتق قولان، كما تقدم ذكرهما. 4898 - فأما إذا اشترى العامل ابنَ نفسه، أو أبا نفسه، فلا يخلو إما أن يكون في المال ربحٌ، وإما أن لا يكون في المال ربحٌ، فإن لم يكن في المال ربحٌ، وكان اشترى بعين مال القراض من يعتِق عليه نفسِه، صح الابتياع، ووقع المشترى ملكاً لرب المال، ولم يعتِق. وإن كان ظهر في المال ربح، وقلنا: إن العامل لا يملك الربح إلا عند المفاصلة، فيصح الشراء في هذه الصورة، ولا يعتِق على العامل. فأما إذا قلنا: إن العامل يملك من الربح ما شُرط له قبل المقاسمة، فقد اشترى من يعتق عليه بعين مال القراض، فهل يصح البيع في قدر حصته من الربح؟ فعلى قولين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما- لا يصح؛ فإنا لو نفَّذنا في قدر حقه العتقَ، لكان ذلك خلافَ مقصود القراض؛ إذ المقصودُ منه الاستنماء والاسترباح، ولو لم نحكم

_ (1) ساقط من الأصل.

بالعتق، والحالة هذه، أدى ذلك إلى أن يدخل في ملكه بعضُ من يعتِق عليه، ولا يعتق؛ فحسمنا البابَ، وقلنا: لا يصح البيع في نصيبه. والقول الثاني- أنه يصح؛ فإنه مطلقُ التصرف في ملكه، فلا يؤاخذ فيه بما ذكرناه. التفريع: 4899 - إن قلنا: لا يصح البيع في نصيبه، فهل يصح في نصيب المالك؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وإن قلنا: إن البيع يصح في حصّته، فهل يعتِق عليه؟ فعلى قولين، ذكرهما صاحب التقريب أيضاً: أحدهما- يعتق لثبوت ملكه. والثاني- لا يعتق، لأنه وإن ثبت ملكُه، فهو ملكٌ ضعيف، غيرُ مستقر (1)؛ إذ الربح (2) وقايةٌ لرأس المال، فيجب اعتباره (3) لهذه الجهة، إلى انفصال الأمر بالمقاسمة. والقولان يقربان من القولين في أنّ عتق الراهن هل ينفذ في المرهون؟ فإن قلنا: لا ينفذ العتق، فلا كلام. وإن قلنا: ينفذ فيه العتق، فيسري العتق إلى نصيب المالك، إن كان العامل موسراً. هذا كله فيه إذا اشترى من يعتق عليه بعين مال القراض. 4900 - فأما إذا اشتراه في الذمة، فلا يخلو: إما أن يشتريه مطلقاًً، أو ينوي نفسه، أو يصرفَه إلى جهة القراض. فإن نوى نفسه، أو أطلق، فينصرف إليه العقد، ويلزم الثمنُ ذمتَه، ويعتق عليه العبد، لا شك فيه، ولا تعلق له بالقراض. وإن صرفه بالنية إلى القراض، خرّجنا ذلك على ما لو (4) اشتراه بعين مال القراض. فإن قلنا: لو عين مال القراض، صح العقدُ، فيصح العقد عن جهة القراض، (5 والتفصيل كما قدمناه. وإن قلنا: لو عين مالَ القراض، لم يصح، فإذا أورد العقدَ على الذمة، فلا يصح عن جهة القراض 5)، ويقع عن المشتري، ويكون كما لو أطلق العقد، أو نوى نفسَه.

_ (1) في (ي)، (هـ 3): " مستمر ". (2) (ي)، (هـ 3): الملك. (3) (ي)، (هـ 3): اعباده للجهة (بهذا الرسم). (4) ساقطة من (ي)، (هـ 3). (5) ما بين القوسين سقط من (ي).

ومما ذكره صاحب التقريب في تمام الفصل: أنه لو اشترى العامل أباه مطلقاًً، ولم يصرح بصرفه إلى جهة القراض لفظاً، ثم قال: نويت به الصرف إلى جهة القراض، وقلنا: لو انصرف إلى القراض، لم يعتق منه شيء، فهل يُقبل منه ادعاؤه الصرفَ إلى القراض؟ فعلى قولين ذكرهما (1): أحدهما - يُقبل قوله، وهو القياس؛ لأنه الناوي، وإليه الرجوع. والثاني - أنه لا يقبل قوله؛ فإن العقد الذي يُقدِمُ عليه عقدُ عتاقة؛ فإذا أراد حمله على ما ينفي العتقَ عنه، لم يُقبل ذلك منه. 4901 - ومما يتعلق بتفريع القول في العامل أن رأس المال لو كان ألفاً، فاشترى به من يعتِق عليه، ولم يظهر ربحٌ في المال، فقد ذكرنا أنه لا يعتق عليه شيءٌ؛ فإنه لم يظهر في المال ربحٌ، فلو أمسك العبدَ المشترى، فارتفعت قيمته، فصار يساوي ألفين؛ فإن قلنا: لا يملك من الربح شيئاًً قبل المفاصلة، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يملك ما شرط له، فهل يعتِق مقدار حصته، فعلى الخلاف الذي ذكرناه. فإن قلنا: إنه يعتق عليه، فهل يسري العتق إلى تمام العبد إذا كان العامل موسراً، فعلى وجهين: أحدهما - أنه يسري، كما لو اشترى والربح ظاهرٌ. والثاني- لا يسري؛ فإنّ العتق حصل في الدوام، من غير اختيارٍ من جهته، وإذا حصل العتق بجهةٍ، لا تتعلق بالاختيار، فلا يتعلق بها السريان. ولهذا قلنا: لو اشترى الرجل بعضَ من يعتِق عليه، عتق عليه ذلك القدر، وسرى العتق إلى تمام العبد. ولو ورث الرجل بعض من يعتِق عليه، وعتَق ما ورثه، لم يسر العتق إلى الباقي؛ لأن الوراثة تقتضي ملكاً قهرياً، والعتق المترتب على السبب القهري لا يسري. ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن الإرث، وقال: لا اختيار فيه أصلاً، بخلاف ما نحن فيه، فإنه اختار الشراء أولاً، ثم كان له اختيار في الإمساك إلى ظهور الربح، فانتظم الخلاف مما ذكرناه.

_ (1) أي صاحب التقريب.

فصل قال: "ومتى شاء ربُّه أخْذَ ماله ... إلى آخره" (1) 4902 - مضمون هذا الفصل شيئان: أحدهما - قد نبهنا عليه في الأركان، وهو أن معاملةَ القراض جائزةٌ من الجانبين، فمهما أراد المالك فسْخَها، كان له فسخُها، وكذلك هي جائزة من جهة المقارض، فمهما (2) أراد الفسخَ، فلا معترض عليه، وهذا بيّنٌ. والمقصودُ الآخر يتعلق باسترداد طائفةٍ من مال القراض، وهذا من أقطاب الكتاب، ولا بد من صرف العناية إلى دَرْكه، والاهتمامِ به؛ فإن معظم التعقيدات في المسائل ينشأ من هذا الأصل. ونحن نقول فيه. 4903 - إذا عامل الرجل على مقدارٍ من المال، ثم استردّ بعضَه، لم يخلُ: إما أن يكون ذلك قبل ظهور الربح والخسران، وإما أن يستردّ بعد ظهور الخسران في رأس المال. فإن لم يكن ظهر ربحٌ، ولا خسرانٌ، حُطَّ ذلك المقدار المسترد من رأس المال، ولم يَخْفَ رجوع رأس المال إلى المقدار الباقي، فعليه يُبنى الربح والخسران، وكأن المعاملةَ وقعت على ذلك المقدار أول مرة. وإن ظهر ربحٌ في المال، وفرض استرداد طائفةٍ، فغرض هذا الفصل يُبيّن شيئين: أحدُهما- اعتقادُ الشيوع في رأسِ المال والربحِ في حكم الاسترداد. والثاني - أنه إذا اتّفق ربحٌ، ثم اتّفق بعده خسران من غير تقدير استرداد، فالربح وقايةٌ، والخسران محسوب منه، لا خلاف فيه. فأما إذا أتى الخسرانُ على الربح، ولم يبق منه شيء، ثم فرض بعده نقصانٌ، فهو محسوب من رأس المال. فإذا ظهر ما ذكرناه صوَّرْنا صورةً، وبيّنا فيها غرضنا، فنقول: لو كان رأس المال مائةً؛ فربح العامل عشرين، ثم استرد ربُّ المال عشرين، ثم

_ (1) ر. المختصر: 3/ 63. (2) فمهما: بمعنى: فإذا.

خسر العامل عشرين، فليس لرب المال أن يقول: قد دفعت مائةً، وأخذتُ عشرين، وفي يدك الآن ثمانون، فلا لي، ولا عليّ، ولا حق لك أيها العامل، بل للعامل أن يقول: هذه العشرون التي هي خسرانٌ لا يلزمني جبرُها؛ فإن لي أن أنكف عن العمل، وأما العشرون التي أخذتَها، فقد كان السدس منها ربحاً وهو ثلاث دراهم وثلث، فقاسمني ذلك المقدارَ من الربح، فلي منه نصفه. وهذا يُحقِّق أن المسترد يقع شائعاً على نسبة رأس المال والربح. ولو كان الربح عشرين، ورأس المال مائة، فكل مقدارٍ يعرض أخذُه يقع على نسبة الربح ورأس المال، والعشرون من المائة والعشرين سدس الجملة، فإذا أخذ ربُّ المال عشرين، فسدُس ما أخذه ربحٌ، وخمسة أسداسِه من رأس المال. 4904 - ولو كان رأس المال مائة فخسر أولاً عشرين، ورجع المال إلى ثمانين، ثم استرد ربُّ المال في حالة الخسران عشرين، ثم ربح العامل عشرين، فصار ما في يده ثمانين، فلو قال صاحب المال: دفعتُ مائة وأخذت عشرين وهذه ثمانون في يدك، فلا شيء لك. فللعامل أن يقول: العشرون التي أخذتَها كانت في الأصل خمسةً وعشرين، والخسران مفضوضٌ على جميع رأس المال، [وحصةُ كل عشرين منه خمسة، فلم يبق في يدي على هذا التقدير من رأس المال] (1) إلا خمسة وسبعون وأنا إنما أجبر خسران ما بقي في يدي فأما ما تستردُّه مني، فلا ألتزم جبران خُسرانه، فإذا بقي في يدي خمسة وسبعون، وإذا أنا حصَّلتُ خمسة وسبعين، فقد جبرتُ ما عليّ جبرُه، إذا كنت أتمادى على التصرف، وفي يدي الآن ثمانون، فخمسةٌ منها ربح لا تحسب في جُبران، فنقسمها بيْننا على الشرط. وقد تحصّل مما ذكرناه شيوعُ الخسران في المال على حساب شيوع الربح فيه. 4905 - ونحن نذكر صورةً أخرى في تمهيد ذلك ذكرها ابن الحداد، فنقول: إذا كان رأس المال مائة، فخسر العامل ورجع إلى تسعين، ثم استرد ربُّ المال من التسعين عشرة، فالقدر الذي يستردّه من المال يخصُّه قدرٌ من الخسران، وذلك

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

القدر لا ينجبر بما سيتفق من الربح بعدَ ذلك؛ فإنه لو استرد جميع المال، لانقطع أثر [الجبران] (1) بالكلية، فإذا استرد قدراً، فما قابل ذلك القدرَ من الخسران، لا يتقدّر (2) فيه الجبران، فنقول: لما خسر عشرة، قسَّطْنا العشرة على تسعين، فخص كلَّ عشرة منها تسعُ العشرة، وهو درهمٌ وتُسع، فلو ربح العامل بعد ذلك، وبلغ [المال] (3) مائة وخمسين، فكم يكون قدر رأس المال؟ معلوم أنه استرد عشرة في الوقت الذي كان في المال خُسران عشرة، وقد خص ما استرده تُسعُ العشرة، وهو مما لا ينجبر (4)، فيحط من المئة أحدَ عشر وتسعُ درهم، فيبقى ثمانية وثمانون، وثمانية أتساع درهم، فهذا رأس المال من المائة والخمسين، والباقي ربح، يقتسمانه على الشرط بينهما. ولو دفع إليه مائةً، وَرَبِحَ، فصار مائة وخمسين، ثم إن المالك استرد من الجملة خمسين، فالربح مقسطٌ على جميع المال، فإذا استردّ خمسين، فنقول: ثلث ما استرده ربح شائع مشترك بين المالك والعامل. وبمثله لو استرد خمسين كما ذكرناه، ثم خسر العامل، فرجع ما في يده إلى الخمسين، فنقول: ثلثا الخمسين المستردّة تحسب من رأس المال، وثلثُها يحسب من الربح، فقد نقص من رأس المال ثلاثة، وثلاثون، وثلث، وعاد رأسُ المال إلى ستة وستين وثُلثيْن، والربح من المقبوض ستةَ عشرَ وثلثان، فإذا خسر العامل كما ذكرناه، وسلم هو مما قبضه من الربح نصفَه إلى العامل، إن كان الشرط كذلك، وهو ثمانية وثلث، فإنّ المسترد ربحاً لا يخرج عن كونه ربحاً بما يتفق من الخسران. وإنما يكون الربح وقايةً لو بقي في عُرض المال، وهذا كما أن ما يخص المسترد من الخسران لا يلحقُه الجبران بالربح الطارىء. هذا حقيقة ما ذكره الأصحاب في شيوع الربح والخسران، وبيان موقعهما في المسترد.

_ (1) في الأصل: الخسران. (2) (ي)، (هـ 3): فما قابل ذلك من الخسران لا يتقرر فيه من الجبران. (3) ساقطة من الأصل. (4) (ي)، (هـ 3): يتخير.

4906 - ثم نعود بعد ذلك إلى أمرٍ متصل بفسخ القراض. فإذا انعقدت المعاملة، ثم انفسخت بفسخٍ من رب المال، أو العامل، فإن كان قبل العمل والتصرف، أخذ رب المال رأس المال، ولا كلام. وإن كان بعد التصرف، نُظر: فإن كان المال ناضَّاً، وقد حصل ربحٌ، أخذ رب المال رأسَ المال، واقتسما الربح بينهما. وإن لم يكن ربح، أخذ ربُّ المال رأسَ المال، ولا إشكال. فلو قال العامل: أحبطتم سَعْيي، قلنا: إنك دخلت في العقد على أن تستحق جزءاً مما يحصل من الربح، ولم يحصل شيء، فلا مال لك. ولو قال: اتركوه في يدي حتى أتصرّف فيه لم نتركْه؛ إذ لا منتهى له، والمعاملة جائزة. ولو جرى الفسخ والمال عُروض، لم يخلُ: إما أن يكون فيها ربح أو لم يكن، فإن لم يكن فيها ربح، فهل يجب على العامل تنضيضُ رأس المال ببيع العروض؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما- أنه يجبر على تنضيض العروض وردّها نقداً كما كان، وهذا مما قطع به شيخي والقاضي، وإليه إشارة الشيخ أبي علي. وكأَنَّ المحققين اعتقدوا أن العامل إذا صرف النقد إلى العروض، التزم ردَّ العروض إلى النقد، وبه يخرج عن المطالبة. والوجه الثاني- لا يلزمه ذلك، وهو الذي قطع به بعض المصنفين؛ فإنه يقول: المعاملة جائزة، وقد انفسخت، ولا تبعةَ عليّ، نقصت قيمةُ العروض أو زادت، فإلزامي البيعَ والتنضيضَ لا معنى له. فإن قلنا: لا يلزمه البيع، أو رضي المالك بترك العروض، فقال العامل: أبيعها، ولم يكن في ضمنها (1) ربح، فهل له بيعها على قهرٍ وكُرْهٍ من رب المال؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا؛ لأنه كفاه شغلاً، وأسقط عنه حقاً، وليس في المال ربح حتى يكون له فيه حق. والوجه الثاني - له بيعها؛ لأنه ربما يتفق زبون فيشتريه بأكثرَ، فيحصل الربح. وفي النفس من هذا شيء، فإذا قُوِّمت العروضُ، فأراد أن يبيع عرْضاً بما

_ (1) (ي)، (هـ 3): قيمها.

يساوي، فما عندي أنه يسوغ له ذلك على سُخطٍ من المالك؛ فإنَّا لو فرضنا البيع على هذا النسق في سائر العروض، لم يستفد العامل ببيعها شيئاً. نعم، إذا فسخ القراض، ووجد العامل زبوناً يشتري العروضَ بأكثرَ مما تساوي، فهذا محتمل؛ فإن هذا ليس ربحاً على الحقيقة، وإنما هو رزقٌ يساق إلى مالك العروض، ولا خلاف (1) أن هذا الجنسَ محسوبٌ من الربح في دوام القراض، فهذا السرّ لا بد من التنبه له. 4907 - ومما يتفرع على هذا المنتهى أن القراض إذا فسخ، ووقع التراضي على ردّ العروض إلى رب المال، [إذا] (2) لم يكن ربح، فلو ارتفع السوق، وظهر الربح، فهل له أن يرجع فيه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا رجوع له؛ لأنه أسقط حقّه بالتسليم، فلم يمكنه الرجوع. والثاني- بلى؛ لأن حقه إنما يثبت في الربح بالظهور، وقد [ظهر] (3) الآن، فلم يُؤثِّر إسقاط الحق قبل الظهور. هذا كله تفصيل القول فيه إذا تفاسخا، ولم يكن في المال ربح. 4908 - فأما إذا كان في المال ربحٌ، [فنكلّفه] (4) تنضيض قدر رأس المال. هذا متفق عليه في هذا المقام؛ فإنه إذا كان يبغي الربحَ، فعليه أن يُتمِّمَ العملَ، وتنضيضُ رأس المال من تمام العمل، وليس كالصورة التي تقدمت، وهي إذا لم يكن ربح. ثم إذا حصل التنضيض في مقدار رأس المال، فالذي قطع به المحققون: أنه لا يجب تنضيض الباقي؛ بل هو مال مشترك بين رب المال والعامل، وسبيله سبيل عَرْضٍ مشترك بين شريكين. ولو كان في المال ربح، كما صورنا، فقال العامل: تركتُ حقي من الربح على رب المال، فهذا يُبنَى أوّلاً على أن العامل يملك الربح بالظهور أو القسمة؟ فإن قلنا: إنه يملكه بالظهور، لم يسقط حقه بإسقاطه، حتى يجري فيه مسلكاً مُمَلِّكاً قياساً على كل

_ (1) (ي)، (هـ 3): فلا شك. (2) في الأصل: أو لم. (3) في الأصل: ذكر. (4) في الأصل: فتكليفه.

شِرْك مملوك في مال مشترك. وإن قلنا: حق العامل يثبت في الربح عند المقاسمة، فهل يسقط حقُّه بالإسقاط من غير نظرٍ إلى رضا رب المال؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط؛ لأنه حق ملكٍ، وليس بحقيقة ملك، فيسقط كما يسقط حق الغانم بالترك والإعراض قبل القسمة. والثاني- لا يسقط؛ لأنه حق متاكد، وليس عقداً يُفسخ، وليس كالمغنم؛ فإن المغانمَ ليست مقصودَ الغُزاة، وإنما مقصودهم إعلاءُ كلمة الله، والذبُّ عن دِينه. ثم لم يختلف أصحابنا أن حق العامل يسقط من الربح بما يقع من الخسران، كما سنفصله عند ذكرنا القولين في أن العامل متى يملك الربح، إن شاء الله. فإن قلنا: لا يسقط حق العامل بالترك على رب المال، والإعراض، فالمطالبة لا تسقط عنه بتنضيض رأس المال. ويخرج من ذلك أن القراض يُفضي في عاقبته إلى مقتضى اللزوم؛ فإن العامل إذا لم يجد سبيلاً إلى إسقاط حقه من الربح، ودامت عليه الطَّلبة لأجل ذلك بتنضيض رأس المال، فهذا عملٌ يجب على العامل إيفاؤه إذا تحقق ظهور الربح. وإن قلنا: يسقط حق العامل من الربح، فهل تبقى عليه الطَّلبة بتنضيض رأس المال؟ القولُ في هذا كالقول فيه إذا لم يظهر ربح، ولكنه صرف النقدَ إلى العروض فهل يجب عليه تنضيضها؟ فعلى ما تقدم من الخلاف والتردد. 4909 - [ويتنخَّل] (1) من هذا أنه إذا لم يظهر ربح، ففي تكليفه التنضيض الكلامُ المقدم. وظاهر قول الأصحاب أنه يكلّفُ التنضيض، ولم يعرف شيخنا والقاضي غيرَه. وإن ظهر الربح، وقلنا: لا يقدر العامل على إسقاطه، فإنه يكلف تنضيض رأس المال، وإن قلنا يملك العامل إسقاط حقه، فأسقطه، ففي تكليفه التنضيض خلاف. والمراتب منقسمة: المرتبة الأولى- وفيها يتحقَّق (2) الجوازُ أن تنعقد المعاملة على النقد، فالعامل على خِيَرته إلى أن يصرفه إلى العروض، ولا تكليف عليه مهما انكفَّ،

_ (1) في الأصل: وتتخذ، وفي (ي)، (هـ3): ويحل. والمثبت اختيارٌ منا على ضوء تعبير الإمام في مواطن سابقة بلفظ (يتنخل). (2) (ي)، (هـ3): تحقيق الجواب.

فإذا صرفه إلى العروض، ترتّب الأمر إلى ظهور الربح وعدم ظهوره. وقد فصّلناه. ولو قال العامل: قوّموا العروض، وأفرزوا مقدار رأس المال منها، وسلّموا إليّ من حساب الربح قسطاً من العروض، لم يُجَب إلى ذلك، ولم يكن له أن يأخذ من العروض سلكاً (1)، وإن أَبَرَّت (2) الأرباحُ على قدر رأس المال؛ فخرج من هذا الاتفاقُ على منعه من أخذ جزءٍ من الربح، حتى يفي بالتنضيض، ولو حصل التنضيض في معظم رأس المال، لم يكن له أن يأخذ بقسطِ ما نضَّ من الربح، فأخْذُ أقلِّ القليل من الربح موقوفٌ على تنضيض جميع رأس المال. ثم لا يجب التنضيض في غير رأس المال. وكأَنَّ العقد ألزمه أن يرد رأس المال كما أُخذ، إن أراد أن يأخذ الربح. والسبب فيه أن هذه المعاملةَ مع ما فيها من الأغرار على رعاية مصلحةٍ [بيّنة] (3)، ومن أعظم (4) أسبابها أن يلتزم العامل تنضيض العروض. وما ذكرناه فيه إذا كان رب المال مطالِباً بالتنضيض. فأما إذا رضي ربُّ المال بأن يُفرَزَ رأسُ المال من العُروض، ثم يقع اقتسام الربح وراء ذلك، فإن رضي به العامل أيضاً، جاز ما تراضيا عليه. وإن رضي رب المال بأن لا تباع العروض، وأبى العامل إلا بيعها، فهل يجاب العامل إلى مراده؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا لم يظهر في المال ربحٌ، [وقال] (5) العامل: أبيع العروض، فهل يجاب العاملُ إلى مراده؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. 4910 - فخرج من ذلك أنه إذا كان في المال ربحٌ؛ فلرب المال المطالبةُ بتنضيض رأس المال.

_ (1) كذا في النسخ الثلاث، والسلك هنا المراد به (الخيط)؛ فالمعنى لا يأخذ عامل القراض من العروض أيَّ شيء، مهما بلغت قلّة المأخوذ، ولو (خيطاً). حتى لو زادت الأرباح على رأس المال، لا يأخذ من العروض لا نقيراً ولا قطميراً، حتى يقوم بتنضيض رأس المال. (2) أَبَرَّت: زادت. (3) ساقطة من الأصل. (4) (ي)، (هـ3): معظم. (5) في الأصل: "ولو قال".

وإن رضي رب المال (1)، فهل للعامل تنضيضُ رأس المال، فعلى الخلاف الذي ذكرناه. ولو نضَّ رأسُ المال، فالذي ذهب إليه المحققون أنه لا مطالبة وراء رأس المال بتنضيضٍ، لا من جهة رب المال، ولا من جهة العامل، بل تبقى العروض مشتركة بعد تنضيض رأس المال، وسبيل الشركة فيها كسبيل الشركة في المواريث وغيرها من الجهات التي تُثبت الشركة. وفي القلب من هذا أدنى بقية، أما إذا نضَّ رأسُ المال، فلا يبقى طَلِبةٌ لرب المال [بالتنضيض] (2) هذا لا سبيل إليه. فأما العامل إذا قال: أبيع الكلَّ، فلعل حقي يزيد بالبيع عند وجدان زبون، فهذا فيه احتمال، والأظهر أنه لا يملك ذلك؛ فإنه إذا ظهر أن ربَّ المال لا يكلفه ذلك إذا امتنع، فحمْلُه ربّ المال على البيع -مع أن رب المال لا يقدر على حمله- بعيدٌ (3)، والذي قطع به المحققون أنه لا طَلبةَ من الجانبين، بعد تنضيض رأس المال. فصل قال: "وإن مات رب المال صار لوارثه ... إلى آخره" (4). 4911 - القراض من العقود الجائزة. هذا وضعه، ولا نظر إلى ما يُفضي القراض إليه من تكليف التنضيض؛ فإن ذلك في حكم الخروج عن عُهدةٍ تثبُت على حسب [المصالحة] (5)، وكلُّ عقدٍ جائزٍ من الجانبين كالشركة والوكالة، فحكمه أنه ينفسخ بموت أحد المتعاقدين. 4912 - ونحن نذكر تفصيل المذهب في موت المقارِض، ثم نذكر التفصيلَ في

_ (1) أي رضي رب المال بعدم تنضيض رأس المال. (2) في الأصل: في التنضيض. (3) بعيدٌ: خبر لقوله (فحمله). (4) ر. المختصر: 3/ 63. (5) في الأصل: المصلحة.

موت المقارَض، فإذا مات المقارِض، انفسخ القراضُ، ولم يكن للعامل الاستمرار على الاتّجار حَسَب ما كان يفعل في حياة ربّ المال، نعم، إن أوجبنا عليه التنضيضَ، مع فسخ العامل القراض، فذلك الأمرُ يبقى بعد موت المقارِض، وهذا هو الذي يدلُّ على أنه ليس تنضيض رأس المال [مقصود القراض] (1)، وإنما عُهدةُ الشروع في القراض، فإذا كنا نرى تكليف المقارض [ذلك] (2) بعد انفساخ القراض، فالوارثُ إن كان مستقلاً يكلفه ذلك أيضاً، وإن انفسخ القراض. وإن كان الوارث طفلاً؛ فالوصي يطالب العامل، وإن لم يكن وصيٌّ، فالقيّم الذي ينصبه القاضي يطالِب بذلك، وإن أراد القاضي أن يكلّفه ذلك بنفسه ويقوم على ذلك الطفل، فهو حسنٌ. وإن أراد الوارث المستقل استدامةَ القراض، من غير إعادة عقدٍ وتجديدٍ (3)، فلا سبيل إلى ذلك؛ فإن القراض قد تحقق انفساخُه. ولا يمتنع ابتداءُ القراضِ في مال الطفل على شرط المصلحة اللائقة بالحال، [وليكن] (4) العامل ممن يجوز إيداعُ مال الطفل عنده، أو إقراضُه منه. ثم إن كان المال ناضّاً، وليس فيه ربحٌ ولا خسران؛ فيجوز ابتداءُ القراضِ [المفيد] (5) للطفل، والمتبع في قسمة الربح ما تعلق التشارط به على حسب المصلحة. وإن كان الوصي والمقارَضُ عالمين بالنسبة التي وقع القراض عليها ابتداء، فقالا: تعامُلُنا على ما كنا عليه، لم يمتنع ذلك، إذا كانا محيطين بمعنى اللفظ الذي أبهماه، والمصلحة في أثناء ذلك كلِّه مرعيةٌ. 4913 - ثم لو قال الوصي، أو الوارثُ المستقل للعامل: قررتُك على موجَب

_ (1) في الأصل: مقصوداً للقراض. (2) ساقطة من الأصل. (3) (ي)، (هـ 3): وتجديده. (4) في الأصل: ولكن. (5) ساقطة من الأصل. والمثبت من (هـ 3) وفي (ي) المقيد.

العقد الذي كان في [حال] (1) الحياة، وهما عالمان كما وصفناه، [فظاهر] (2) المذهب أن العقد ينعقد بلفظ التقرير، وإنا كان مشعراً بالاستدامةِ والاستصحاب؛ فإن المعنيَّ به [أن] (3) يثبت هذا العقدُ المجدَّدُ على موجب العقد المتقدم، وكما يعبّر بالتقرير عن الاستصحاب، يُعبّر به عن بناء العقد على العقد. وكان يمنع شيخي تجديدَ العقد بعبارة التقرير، وهذا التردد يشبه تردُّدَ الأصحاب في الوصية الزائدة على الثلث، إذا قلنا: تنفيذها من الورثة ابتداءُ عطية، فهل تنفذ الزيادة بلفظ الإجازة؟ [ظاهر المذهب أنها تنفذ بلفظ الإجازة] (4) حملاً على أن هذا بناءٌ على سابقٍ وتأسٍّ به. وكان شيخي يحكي وجهاً أنه لابد من لفظٍ يصلُح لابتداء التبرّع (5)؛ من جهة الوارث، ثم كان يقول: إن استعمل الوارث الإجازة أخذاً من قول القائل: أجاز فلان فلاناً، إذا أعطاه جائزةً، فقد يجوز من هذا التأويل، فإن لم يرده، لم يجز. وإذا قال: أجزت وصية أبي، فهذا غير صالح للحمل على الجائزة، فيظهر فيه التردد. ولو فسخ القراض في الحياة، فانفسخ، فاستعمال التقرير بناء على ما تقدم يُخرّج على ما ذكرناه؛ إذْ لا فرقَ بين أن يُفسخ القراض بالموت، وبين أن ينشأ فسخه في الحياة. [ولو انفسخ البيع بين المتعاقدين، فأراد إعادتَه على الموجب الأول، فقال صاحب المتاع:] (6) قررتُ البيع على ما كان، وقال المخاطَب: بذلك قبلتُ، فهذا على ما ذكرته. ولو ارتفع النكاح فقال الولي للخاطب: قررتُ النكاحَ على ما كان، فقال

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: ظاهر. (3) ساقطة من الأصل. (4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (5) في (ي)، (هـ3): التصريح. (6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

الخاطبُ: قبلتُ، فالذي [رأيته للأصحاب] (1): أن ذلك لا يُحتمل في النكاح؛ فإنه مبنيٌّ على تعبدٍ في اللفظ ظاهرٍ، ولا تعويل فيه على اتباع المعنى، وليس يخلو النكاح من احتمالٍ إذا جرى لفظ النكاح مع التقرير. 4914 - ثم نعود إلى القول في القراض، ونقول: إن كان المال ناضّاً، فتجديد القراض لا امتناع فيه على الشرط المقدّم. وإن كان مالُ القراض عُروضاً، فأراد الوارث مع العامل أن يقرر العقد عليها، فقد ذكر العراقيون والقاضي في جواز ذلك وجهين: أما المنع، فبيِّنٌ؛ فإن هذا ابتداءُ القراض، وأما التجويز، فلست أرى له وجهاً، مع القطع بانفساخ القراض أولاً. ومن يذكر الوجهين في هذا المقام يلزمه طردُهما فيه إذا فسخ القراض في الحياة، ثم طلب تجديده على موجب العقد الأول، وهذا بعيدٌ. ومن أصحابنا من قطع القولَ بمنع [هذا] (2) إذا جرى الفسخُ والإعادة في الحياة، وخصص الوجهين بما يُبنى على الموت، والانفساخ الحاصل [به] (3). ولم يختلف الأصحاب أن القراض إذا انفسخ بطريان الموت، أو بإنشاء الفسخ، فينقطع حكم القراض الأول. وبيانه أنا كنا (4) نرى الربحَ الحاصلَ وقايةً لما يتوقع من خسران، ونقصان، والآن إذا جُدّد العقدُ، فالعامل شريك في المال ولا يصير حقُّه من الربح وقاية [للمال وعرضةً] (5) لجبر الخسران، نعم، لو فرض ربحٌ جديد في العقد المجدّد، فهو الذي يكون وقاية لرأس المال في هذا العقد المستفتح؛ وذلك أنا لا نشك في ارتفاع العقد الأول، والاحتياج إلى تجديد عقدٍ آخر إن أرادا تجديده، وإنما تساهل الأصحابُ في لفظ التقرير. وتجويزُ التجديد، والمالُ عروض مجاوزةٌ للحد، وتركٌ لركن العقد.

_ (1) في الأصل: رأيت الأصحاب. (2) ساقطة من الأصل. (3) ساقطة أيضاً من الأصل. (4) (ي)، (هـ 3): إذا كنا نرى. (5) في الأصل: الحال، وعوضه.

4915 - مما يتعلق بما نحن فيه أن المقارض إذا مات، وكان قد [ظهر] (1) في المال ربح قبل الموت، فحق العامل في ذلك الربح مقدَّم على الديون والوصايا، وحقوقِ الورثة، سواء قلنا: إنه يملك ما شُرط له بالظهور، أو يملك عند المفاصلة؛ فإن حقه متعلق بالعين، لازمٌ، لا يصادمه دينٌ ولا وصية. قال الأصحاب: إن جعلنا العاملَ مالكاً لما شُرط له، فلا كلام، وإن لم نجعله مالكاً في الحال (2)؛ فحقه المتعلِّق بالعين آكدُ (3) من حق المرتهن المستوثِق بالرهن، ثم حق المرتهن مقدَّم، فحق من استحق التملكَ أولى بالتقدم. 4916 - هذا كله فيه إذا مات رب المال، فأما إذا مات العامل، فلا شك في انفساخ القراض بموته، فلو أراد ربُّ المال أن يبتدىء عقداً مع وارث العامل، وكان المال ناضّاً، جاز ذلك. وإن كان عُروضاً، فقد اتفق الأصحاب على منع إعادة العقد عليها في هذا الطرف. وهذا متَّجه. وإنما المشكلُ ذكرُ الوجهين في الطرف الأول، وقد تكلف بعض الأصحاب فَرْقاً، فقال: المعقود عليه (4) من المقارِض رأسُ المال، وقد انتقل هو بعينه إلى الوارث، وخلَفه فيه، فلا يبعد مع هذا حكم البناء. والمعقود عليه من جانب العامل العملُ، وقد انقطع العمل بموته، ولا خلافة فيه. وهذا تكلف لا أصل له، مع القطع بأن العقد ينفسخ بموت رب المال، وإنما كان هذا فقهاً، لو ساغ المصير إلى الحكم بدوام العقد، فإذا لم يكن كذلك، فلا اتجاه للالتفات (5) إلى البناء، ولا بناء. وإنما القدرُ المحتمل ما يتعلق باللفظ، كإقامة

_ (1) في الأصل: يظهر. (2) (ي)، (هـ 3): المال. (3) (ي)، (هـ 3): أقوى. (4) (ي)، (هـ 3): المعقود عليه -إذا مات رب المال- رأسُ المال، وقد انتقل. (5) (ي)، (هـ 3): فلا اتجاه إلا الالتفات على البناء، وإنما القدر ...

التقرير مقام لفظ التجديد والابتداء، ومن تعدى ذلك إلى حكمٍ، فقد خرج عن قالَب الفقه. 4917 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن العامل إذا مات والمال ناض، ولا ربح، فتصوير ابتداء القراض مع الوارث هيّن. وإن كان المال ناضاً، وفيه ربحٌ، فوارث العامل شريك في المال، فإذا فُرض ابتداء القراض معه، فقد صححه الأصحاب، وهذا على التحقيق إيراد القراض على مالٍ شائعٍ، ليس متعيناً في نفسه (1)، وأطبق الأصحاب على جوازه. وفي هذا فضل نظر عندنا، فإنا ذكرنا في كتاب الشركة أن الشريكين إذا كان بينهما دراهم على التنصيف ملكاها إرثاً مثلاً، فإذا عقدا عقد الشركة، فمقتضاها قسمة الربح على مقدار الملك في رأس المال، فلو فوض أحدُهما التصرفَ إلى الآخر، وشرط له مزيدَ ربحٍ بسبب انفراده بالعمل، فقد ذكرنا في ذلك تردداً في كتاب الشركة، وهذا أوانُ كشفِ القول فيه. فالذي أراه أن أحد الشريكين إذا ترك العمل بالكليّة إلى شريكه، ورفع اليد عن ملك نفسه، وجرى مع الشريك على الشرائط المرعية في القراض، فيجب والحالة هذه القطعُ بإثبات حكم القراض، وكأن الشريك قارضه على نصيب نفسه من المال، وقد ذكرنا أن الشيوع لا يمنع صحةَ القراض، وسنذكر في ذلك أمثلةً بعد هذا، إن شاء الله. وإذا كان كذلك، فمن ضرورة القراض أن ينفرد العاملُ بربحِ نصيبه، ويكون مقارضاً في نصيب شريكه، ومن حكم كونه مقارضاً أن يكون ربح ذلك [النصيب] (2) مقسوماً بينهما على جزئيةٍ، ونسبةٍ يتوافقان عليها، فلست أرى لذكر الخلاف وجهاً في هذه الصورة، إلا إن تشبث متشبث باشتراط كون رأس المال متميزاً غير شائع، ولم أر أحداً من الأصحاب يصير إليه، أو يتشبث به. وأنا أقول: لو كان المال بينهما نصفين، وسُلِّم العمل على شرط القراض لأحدهما، على أن يكون الربح نصفين، فهذه معاملة فاسدة، وهي بمثابة ما لو شرط

_ (1) هنا خرم في نسخة (ي)، مقداره (لَقْطة) واحدة. (2) في (هـ 3): "النصف".

رب المال على العامل أن يكون جميع الربح في رأس المال له. والذي أراه ما ذكره الأصحاب من الوجهين فيه إذا انفرد أحدهما بمزيد عمل، ولم ينفرد بكلِّه، ولم ترتفع يدُ الشريك عن نصيبه، فإذ ذاك يظهر تمحّضُ حكم الشركة. ومن أصحابنا من احتمل فيه التفاوت في الربح؛ شرطاً لمصلحة تتعلق بالشركة على طريقة التبعية، من غير رعاية أركان القراض. فعلى هذا يقوى المصير إلى رد الأمر إلى موجب الشركة، وإبطال اتباع الشرط. هذا تمام البيان في موت رب المال والمقارَض، وعلينا بعدُ بقيةٌ في موت العامل سنذكره في غرض آخر بعد هذا، إن شاء الله وحده. فصل قال: "وإذا قارض العاملُ بالمال ... إلى آخره" (1). 4918 - إذا جرى قراض صحيح وتسلّم العاملُ المالَ، وأراد أن يقارض رجلاً آخر، نظر: فإن فعل ذلك بغير إذن رب المال، لم يكن له هذا، فإنّ إقامة العامل غيرَه مقامَ نفسه مستقلاً بذاته تتنزَّل منزلةَ نَصْب الوصي وصياً، على معنى إقامته غيرَه مقام نفسه في جميع ما هو منوطٌ به، وهذا يمتنع في الوصاية المطلقة، وكذلك يمتنع أن ينصب الوصي بعد موت نفسه وصياً، إذا لم يثبت له ذلك، والوكيل في الشغل الخاص لا ينصب وكيلاً؛ فالمقارَض إذا نصب مقارَضاً، بمثابة الوكيل في الشغل الخاص ينصب وكيلاً، ثم إذا أفسدنا ذلك من العامل، فليس قولنا فيه على قياس قولنا في فساد القراض الصادر من المالك، وسبب الفساد إخلالٌ بشرط، فإنا ننفذ تصرفَ العامل (2) بناء على إذن المالك، و [نرد] (3) أثر الفساد إلى غرض القراض، والعاملُ إذا نصب عاملاً من غير إذن المالك لم ينفذ (4) تصرف العامل الثاني؛ فإنه ليس مأذوناً من

_ (1) ر. المختصر: 3/ 64. (2) أي في القراض الفاسد الصادر من المالك. (3) في الأصل: ومردّ. (4) وهذا هو الفرق بين هذا الفساد وذاك.

جهة المالك، وتصرُّفُه في مال القراض -ولا إذن من المالك- كتصرف الغاصب، وسنعود إلى ذلك الآن في أثناء الفصل، إن شاء الله. 4919 - هذا إذا قارض العامل رجلاً من غير إذنٍ من المالك. فأما إذا أذن المالك للمقارَض الأول أن يقارض رجلاً، فهذا ينقسم معناه: فإن أراد بهذا الإذن أن ينسلخ المقارَضُ عن حكم القراض، وينتهض وكيلاً في معاملة إنسان، فهذا جائز، والمقارَض الأول إذا أراد ذلك في حكم السفير عن المالك، وحكم القراض بين المالك والعامل الثاني، ولا يجوز والمسألةُ مفروضةٌ كذلك أن يشترط المقارَض الأولُ لنفسه شيئاًً من (1) الربح؛ إذا (2) لم يعمل؛ فإنَّ استحقاق الربح يترتب على ملك رأس المال، أو على عملٍ فيه، ولم يوجد من الأول ملْكٌ ولا عملٌ، فشرْطُ شيءٍ من الربح له بمثابة شرط جزء من الربح لأجنبي، وقد أوضحنا فساد ذلك فيما تقدم، وإن كان يعتقد جوازَ شرْط شيء من الربح له؛ من حيث إنه يسعى في تحصيل العمل بنصب العامل، فهذا طمعٌ في غير مطمع؛ فإنّ ربح القراض لا يستحق إلا بعمل القراض، وليس نصبُ المقارَض من عمل القراض، وقد حققنا هذا في أركان القراض. هذا وجهٌ في تصوير صدور الإذن من المالك في نصب عامل آخر، وقد يُتصور ذلك على وجهٍ آخر، وهو أن يعامل المالك رجلاً والربح بينهما نصفان، ثم يقول للعامل: إن أردت أن تشرك مع نفسك عاملاً، وتجعل ما شرطتُ لك من الربح بينك وبينه على ما تتوافقان عليه [فافعل] (3)، فالذي أشار إليه اختيار الأئمة أن ذلك ممتنع؛ فإنه لو جاز ذلك، لكان العامل الثاني فرعَ الأوّل، والأولُ ليس مالكاً لشيءٍ من رأس المال، ونصيب العامل على ما سيثبُتُ من الربح ليس على موجَب الشرع، وهذه معاملة يضيق فيها مجال القياس، ووضْعُ القراض على أن يكون أحد المتعاقدين مالكاً لرأس المال لا عمل من جهته، والثاني صاحبُ عملٍ لا ملك من جهته.

_ (1) إلى هنا انتهى الخرم في نسخة (ي). (2) كذا في النسخ الثلاث: "إذا" وهي بمعنى (إذْ). (3) ساقطة من الأصل.

ومن أصحابنا من جوز القراض بإذن المالك على هذه الصورة (1)، وقال: كأن المالك نصب مقارَضَيْن في ابتداء الأمر، ولو فعل ذلك، لم يمتنع، وربما نذكر ذلك [مشروحاً] (2) في الفروع، إن شاء الله تعالى. ثم من جوّز هذا [يفرض] (3) الأمرَ في اشتراكهما في العمل؛ فأما أن يفوِّض أحدُهما العملَ بكلّيته إلى الثاني ويطمع في شيء من (4) الربح، فلا سبيل إليه أبداً؛ لما صورناه؛ فإن استحقاق الربح من غير ملك، ولا عمل محالٌ. هذا قولٌ كُلِّيٌّ في تصوير الإذن من المالك في مقارضة العامل رجلاً آخر. 4920 - ونحن نعود إلى مقصود الفصل، والمعنى الذي ساق الشافعيُّ الكلامَ له فنفرض فيه إذا عامل المقارَض ثانياً من غير إذنٍ من المالك، ونقول فيه أولاً: هذا عدوانٌ متضمنٌ للضمان، فإذا سلّم المالَ إلى العامل الثاني، ارتبط الضمان به، ثم لا يخلو هذا الثاني: إما إن يكون عالماً بحقيقة الحال، وإما أن يكون جاهلاً: فإن كان عالماً؛ فغاصبٌ على التحقيق ضماناً وغُرْماً، وإثماً، ثم لو تلف المال في يده على علمه؛ فالضمان مستقر عليه استقراره على الغاصب من الغاصب، ورب المال بالخيار إن شاء طالب الأول، وإن شاء طالب الثاني، فإن طالب الثاني، استقر الضمان، ولا مرجع للثاني على الأول. وإن طالب الأول، فله ذلك، ثم يرجع هو على الثاني؛ إذ عليه قرار الضمان. وإن كان العامل الثاني جاهلاً بحقيقة الحال، معتقداً أن العامل الأول مالكٌ، فحكم الضمان، والتراجع، [والقرار] (5) على ما قررناه في كتاب الغصوب، في الأيدي المترتبة على يد الغاصب، مع اعتقاد كون الغاصب مالكاً. وقد أوضحنا من طريقة المراوزة أن كلَّ يدٍ لو ترتبت على يد المالك كانت يدَ أمانة، فإذا ترتبت على يد

_ (1) (ي)، (هـ 3): الصيغة. (2) في الأصل: مشروعاً. (3) في الأصل: فيفرض. (4) (ي)، (هـ 3): في ثبوت الربح. (5) في الأصل: والمقدار.

الغاصب، تعلّقت الطَّلِبة بها، ولكن ليست يدَ قرار الضمان. وذكرنا للعراقيين في ذلك اختلافاً وترتيباً. فالمقارَض إذن على رأي المراوزة لا يستقر الضمان عليه فيما يتلف في يده؛ لأن يده يدُ أمانة. والعراقيون ذكروا في قرار الضمان عليه وعلى غيره خلافاً. 4921 - وهذا الذي ذكرناه من فصل الضمان ليس مقصودَ الفصل، بل اعترض فرمزْنا (1) إليه، وأحلناه على ما بيّناه في الغصوب (2). وإنما مقصود الفصل ما نبتديه الآن، ونذكر مقدمةً للمسألة قائمةً بنفسها. نقول (3): إذا غصب رجل دراهمَ، وتصرَّف فيها، وظهرت أرباحٌ في ظاهر الحال، أو تصرف المودَع على خلاف الإذن، وربح، فإذا فعل ذلك، فهو غاصب، فالمنصوص عليه للشافعي في الجدبد، وهو القياس الذي لا حَيْد فيه أن تيك التصرفات إن وردت على الأعيان المغصوبة، فهي منقوضة، وإن تعددت، وبلغت مبلغاً يعسر تتبعها، وإن كانت الأعيان المغصوبة قائمةً، فهي مستردّة، والبياعات الواردة عليها فاسدة، والأعيان [المأخوذة] (4) في مقابلتها مردودة على ملاكها. هذا في التصرف الوارد على العين. ولو اشترى الغاصب في ذمته شيئاً، وأدى الثمنَ من الدراهم التي غصبها، فبَيْعُ المتاعِ في الأصل واقع للغاصب؛ [إذْ] (5) ورد على الذمة؛ وتأديةُ الثمن من الدراهم المغصوبة عدوان، وتلك الأعيانُ متَّبعةٌ (6) مستردةٌ حيث تُلْفَى (7)، على قاعدة الغصب. وإذا ملك الغاصب ما اشتراه في الذمة، ثم ارتفع السعر، وباعه، فالربح له؛ فإنه

_ (1) (ي)، (هـ 3): فنبرنا. (2) (ي): العقود، (هـ 3): الفصول. (3) في (ي)، (هـ 3): ونقول. (4) في الأصل: الموجودة. (5) في الأصل: إذا. والمثبت من (ي)، (هـ 3). (6) (ي)، (هـ 3): متتبعه. (7) أي حيثما وجدت، جرياً على قاعدة الغصب.

ربح على ملكه الصحيح. وهذا هو القياس الذي لا يخفى مُدركه. ونصَّ الشافعي في القديم على أن الغاصب إذا تصرف في الدراهم المغصوبة، واتفقت أرباحٌ بسبب تصرفه، فإنه (1) يُجيز تلك التصرفات، ويفوز بالأرباح، واعتمد في ذلك مصلحة كلّية؛ من جهة أن تتبُّعَ التصرفات الكثيرة في الأمتعة التي تداولتها الأيدي، وتشتتت في البلاد عَسِرٌ، وقد لا يُوصَل إليه، هذا وجه (2). والآخر (3): أنَّا لو لم نجوّز هذا، فقد يتّخذ الغضابُ ذلك ذريعةً إلى تحصيل الأرباح؛ فإن الشراء في الذمة، ونقْد الثمن من الدراهم المغصوبة متيسّرٌ لا عسر فيه. 4922 - وهذا القول ينتشر تفريعه، ونحن نبذل المجهودَ في الجمع، فنقول أولاً: التصرف الذي أورده الغاصب على الذمة يُجيزه المالك إذا كان النقد من دراهمه، ويتوصّلُ إلى الأرباح؛ فإن المعتمد في هذا القول اتّخاذُ الدراهم المغصوبة ذريعةً إلى تحصيل الأرباح (4)، وهذا ينطبق على إيقاع الشراء في الذمة قصداً، مع بناء الأمر على أداء الثمن من الدراهم المغصوبة، فقد اتّفق الأصحاب على جريان الإجازة في عقود الذمة على هذا القول، كما قالوا بجريانها لو أورد الغاصب التصرف على الأعيان المغصوبة. وهذا في عقود الذمة على نهاية الإشكال؛ فإن عقد الذمة -إذا لم يصدر عن إذنٍ- منصرفٌ إلى العاقد، ويعظم تفريع الأصول الفاسدة الحائدة عن النسق. واختصاص مذهب الشافعي بإمكان التفريع سببُه التزامه الجريانَ على الأصول، فإذا فرض حَيْدٌ اضطرب تفريع المذهب، ولم يحتمل مذهب الشافعي ما يحتمله غيره من المسالك المبنية على الميل عن الأصول. 4923 - ثم يعترض الآن أمور نرسلها: منها أن معظم أقوال الأصحاب مصرَّحةٌ بأن المالك بالخيار في الإجازة. ومضمونُ هذا أنه إن لم يُجز العقودَ، لم تجز، وانقلب

_ (1) فإنه: الضمير يعود على المالك، أي أن المالك يُجيز تلك التصرفات، ويأخذ الأرباح المترتبة عليها. (2) هذا وجه: أي من وجوه ترجيح هذا القول القديم. (3) أي الوجه الآخر من وجوه الترجيح، فليس المراد ما يتبادر من أن الوجه (الآخر) قسيم للوجه الأول، وعلى عكسه. (4) أفاض الرافعي في الشرح الكبير في هذه المسألة: 12/ 42 - 48 (بهامش المجموع).

التفريع إلى قياس القول الجديد في اتباع العقود وأعيان الأموال على موجب الشرع (1). وذهب بعضُ (2) المحققين إلى أن هذه العقود نافذةٌ كذلك، غيرُ موقوفة لتعذّر (3) التتبع، وفي كلام القاضي إشارة إلى هذا. وهو بعيد، ووجهه على بعده أنا إن خرّجناه على الوقف، فكيف نقف عقود الذمة، ومعلوم أن عاقدها لم يقصده بها، وهذا وقف لا عهد به، فليتأمل الناظر ذلك، وليعلم أن هذا القول البعيد فيه إذا ظهرت أرباح، فإن لم يظهر، فلا مساغ لهذا القول، وليس إلا اتباع القياس. واختلف جواب أئمتنا المفرعين على القول فيه إذا لم تكثر العقود، وسهل الوصول إلى تتبعها، فقال قائلون: القول القديم يجري، وإن (4) كان الأمر كذلك؛ فإن النظر إلى الكثرة والقلة وإمكان التتبّع عسيرٌ، لا يهتدى إليه، والأمر المتبع في الباب ظهورُ الربح. وكان شيخي يحكي عن شيخه القفال أن العقود إذا كثرت، وعسر اتباعها، ووجدنا الأثمان عتيدة، ولا ربحَ، فهذا القول يجري، وإن تخللت عقودُ ذمة. 4924 - فحصل من مجموع الكلام أن العقود إذا كثرت، وحصل ربحٌ، جرى القولُ القديم، والتردد بعده في وقوف الأمر على الإجازة، أو وقوع [العقود] (5) كذلك من غير حاجةٍ إلى إجازة. وإن أمكن تتبع العقود على يسر وقد حصل (6) ربحٌ، فوجهان، وإن كثرت العقود وعسر التتبع ولا ربح، فوجهان. وإن لم يكن ربحٌ، وأمكن التتبع، لم يجر القول القديم. هذا هو الترتيب الحاوي. وفيه سر، وهو أنا ذكرنا قولاً للشافعي في وقف العقود موافقاً لمذهب أبي حنيفة،

_ (1) عبارة (هـ3)، (ي): "على موجب الشرع على القياس". (2) (ي)، (هـ 3): معظم. (3) (ي)، (هـ 3): لبعد. (4) (ي)، (هـ 3): فإن. (5) في الأصل: العقد. (6) (ي)، (هـ 3): تحقق.

وذلك القول يجري على شرطه و [خاصية] (1) القول القديم في عقد الذمة إذا لم يقصد العاقد بها المغصوب منه. 4925 - ومن تمام البيان في ذلك أن الغاصب لو قال: نويت بالشراء المغصوبَ منه، فقياس قول الوقف المعروف يجري هاهنا؛ فإن العقد عندنا يقف إذا فرعنا على الوقف في جانب الشراء، كما أنه يقف في جانب البيع. ولو قال مشتري السلعة: نويتُ بالعقد نفسي، أو أطلقتُه، فالمفرع على القول القديم، لا يبالي به؛ فإن معوَّلَه قطعُ الذريعة، وهذا إنما يتحقق إذا لم نبُالِ بقصده؛ فإنه ليس يعسر عليه أن يقصد (2) نفسه أو يطلق. والذي أراه في هذا أنه لو اشترى شيئاً في ذمته، ولم يخطر له أن يؤدي الثمن من الدراهم المغصوبة، ثم سنح له هذا من بعدُ، فينبغي أن يخرج هذا من تفريع هذا القول، إن صدقه صاحب الدراهم، وإن لم يصدقه، فالذي يقتضيه القياس في التفريع على هذا القول أنَّ تصرفه يقع لصاحب الدراهم، كما قدمناه، وقد يعترض في ذلك فرضُ نزاعٍ بين المتصرف، وبين صاحب الدراهم بأن يقول المتصرف: قد عرفتَ أن ابتياعي لهذا لم يكن على قصد تأدية الثمن من دراهمك، ولا يكاد يخفى فصْلُ هذه الخصومة، وليس على مالك الدراهم إلا أن يحلف لا يعلم ذلك منه. وهذا قد يظهر في أداء [الثمن] (3) من الوديعة. ولم يبق في تفريع هذا القول الفاسد شيء، والأصل مضطرب، والتفريعاتُ مختبطة. 4926 - فإذا تمهد هذا عدنا إلى صورة القراض في غرض الفصل: فإذا سلَّم رجل إلى رجل ألفَ درهم قراضاً، فقد ذكرنا أنه ليس له أن يستبد بمقارضة إنسانٍ دون مراجعة المالك، فإذا فعل، وسلم المالَ إلى المقارَض الثاني، وعمل الثاني، وربح

_ (1) في الأصل: وخاصيته. (2) (ي)، (هـ 3): ينوي. (3) في الأصل: الدين.

على تقدير أن المالك هو المقارض الأول، فلا شك أن الأول ضامنٌ غاصب، وكذلك الثاني، والتصرفات التي جرت من العامل الثاني لا تقع عن المالك الأصلي على القول الجديد، فإن ما كان منها على عين المال مردود باطل، وما كان على الذمة، فلا ينصرف إلى المالك، ولكنه ينصرف إلى المقارَض الأول؛ فإنه هو الآمر الموكّل في حق الثاني، والثاني ينويه بتصرفات الذمة، ولا يكاد يخفى تفريع القول الجديد، وإنما الغرض تفريع القراض على القول القديم. فالذي نقله المزني عن الشافعي في (السواد) (1) وهو الذي فهمه الأئمة من نقله: أن المالك لو قارض الأول على [شطر] (2) الربح، ثم قارض الأولُ الثاني على شطر الربح، فإذا نفذنا عقود المقارَض الثاني، وتصرفاته، وخرّجناها على حكم الصحة، فالمالك يسترد رأسَ المال، ويأخذ نصفَ الربح لجهة القرض، ثم المقارَضُ الأول والثاني يقتسمان النصف الباقي نصفين. هذا جواب الشافعي على القول القديم، وأصل هذا القول مشكلٌ، لا يستريب الفقيه في ميله عن القياس، وهذا التفريع مائل عن قياس القول القديم. ولا يتضح الغرض إلا بأسئلة وأجوبةٍ عنها. 4927 - فإن قيل: قياس القول القديم تنفيذُ التصرفات الواقعة على خلاف الإذن للمالك، وصرف جميع الأرباح إليه، وقد أوضحنا أن المقارَض الثاني في حكم الغاصب، والغاصب إذا تصرف في المال المغصوب نفذت تصرفاتُه، وانصرفت أرباحها إلى المالك. هذا سؤالٌ متّجهٌ. ولكن يجوز أن يقال: نحن إنما نصرف عقودَ الذمة إلى المالك من غير إذن منه على خلاف القياس قطعاً، لتذرعّ الغصاب إلى التصرف في الأموال المغصوبة بوسائط عقود الذمة، فإذا كنا نرعى حق المالك، ونخالف القياس في صرف عقود الذمة إليه، فإذا تقدم منه الرضا [بشطر] (3) الربح ابتداءً، لم نزد له على ما رضي، ولم نخالف

_ (1) السواد: هو مختصر المزني، كما سبق ذلك مراراً وتكراراً. وهذا النقل من المختصر: 3/ 64. (2) في الأصل: شرط. (3) في الأصل: بشرط.

القياسَ على خلاف رضاه، فهذا وجهُ دفع هذا السؤال. فإن قيل: لم صرفتم شيئاً من الربح إلى المقارَض الأول، ولا ملك له في رأس المال، ولا عمل من جهته، والربح إنما يُستحق لجهتين: إحداهما - ملكُ رأس المال. والثانيةُ- العملُ على شرط الشرع؟ قلنا: معظم عقود القراض تقع على الذمة، والمقارَض الثاني تصرف على اعتقاد أن المقارَض الأول هو المالك، وكان ينويه بتصرفات الذمة، والقياسُ يقتضي وقوعها عنه، ثم الأرباح تتبع في منهاج القياس الملكَ في السلع، فاتجه صرف جميع الربح في عقود الذمة إلى العامل الأول، ولكنا في التفريع على القول القديم امتنعنا عن إجراء القياس مصلحةً للمالك الأصلي، وقطعاً للذريعة، كما تمهد، فلم يبعد إذاً صَرْفُ شيء من الربح إليه. فإن قيل: إن صح هذا، فلا تصرفوا شيئاً من الربح إلى العامل الثاني، فإن حاله كحال المقارض مقارضة فاسدة. قلنا: إذا أشرنا إلى تأصُّل المقارض الأول؛ فقد جرت منه معاملةٌ مع الثاني، وإذا كنا نجيز التصرفات الفاسدة في القياس، احتمل هذا المسلكُ الوفاءَ للعامل الثاني. فإن لجَّ السائلُ وقال: تَدْوارُكم على عقود الذمة، فيلزمكم أن تخالفوا هذا القياسَ في العقود الواردة على الأعيان. قلنا: مبنى هذا القول على التسوية بين تصرف العين والذمة، [ثم] (1) يقع من قياس انصراف عقود الذمة إلى المقارض الأول تصرفاتٌ على تلك الأعيان التي يقتضي القياس وقوعها له، ومبنى هذا القول على ترك البحث وإجراء الأمر على ظواهر الحال؛ إذْ لو كنا نبحث عنها، لما قلنا بالقول القديم أبداً؛ فأقصدُ الطرق إجراء الربح على ما قاله المزني تفريعاً على القديم. هذا مع علمنا بأن هذا القولَ فاسدٌ من أصله، وإنما نلتزم تقريبَ القول على قاعدة القول القديم (2) في الخروج عن هذه الإشكالات. والذي ذكرناه أفضى للإشكال.

_ (1) في الأصل: لم. (2) عبارة الأصل: القول القديم ثم في الخروج عن الإشكالات. (بزيادة "ثم") والمثبت عبارة (هـ 3)، (ي).

4928 - ثم نقول بعد ذلك: إذا انكشف السر، وظهر الأمرُ، وقد عمل المقارَض الثاني على أنَّ نصف جميع الربح له، ثم لم يسلم له إلا نصف النصف، فهل يرجع على العامل الأول؟ وكيف السبيل إلى قطع العلاقة والأمر على ما وصفناه؟ فالوجه أن نقول: أما نصف النصف، فيسلم له على القديم، وفي رجوعه على العامل الأول بنصف أجر مثل نفسه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يرجع عليه، لما نبهنا عليه من أن الوفاء بتمام النصف لم يُمكن، فقد تعطل شَطر عمله عن مقابل، فالوجه إثبات شطر أجر مثله على العامل الأول. وهذا له التفاتٌ على قاعدة التغرير ونُزوعٌ إليه. والوجه الثاني - أنه لا يستحق إلا ما سلّم له من الربح؛ فإن الجمع بين حكم الصحة والفساد متناقض، وصرفُ جزءٍ من الربح إلى العامل [من] (1) حكم الصحة، وإثبات أجر المثل حكم الفساد، فلا سبيل إلى الجمع. هذا بيانُ تردد الأصحاب. وذهب ذاهبون منهم إلى الفصل بين عبارة وعبارة، وقالوا: إن كان قال المقارَض الأول للمقارَض الثاني: خذ هذا قراضاً على أن ما رزق الله من ربحٍ، فهو نصفان بيننا، فإن كان اللفظ كذلك، لم يرجع العامل الثاني على الأول؛ لأن الله تعالى لم يرزقهما من الربح أكثر مما خصَّهما بالمقاسمة. وإن كان قال: على أن الربح بيننا نصفان، ففي ثبوت رجوع الثاني على الأول وجهان كما تقدم. وكان شيخي لا يفصل بين العبارتين؛ فإن العامل الثاني يفهم منهما تشطّر جميع الربح، ولو لم يفهم [هذا] (2)، وتردد، كان ذلك مضاربةً على جهالة بجزئية الربح. هذا تمام الغرض من هذا الفصل، وهو حسيكةُ الكتاب؛ لما فيها من الحَيْد عن قانون القياس. وشرطُنا بلوغُ أقصى الإمكان في كل فصل.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقط من الأصل.

فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن حال على سلعةٍ في القراض حوْلٌ، وفيها ربحٌ، ففيها قولان ... إلى آخره" (1). 4929 - مقصود الفصل الكلامُ في أن الملك في الجزء المشروط من الربح متى يحصل للعامل؟ وفيه قولان للشافعي: أحدهما - أنه إذا ظهر الربحُ، مَلكَ العاملُ القسطَ المشروطَ له من الربح، ولم يتوقف ثبوتُ ملكه على المفاصلة. والقول الثاني: أن العامل لا يملك ما شرط له بمجرد الظهور، حتى تنتهي المعاملة على ما سنصف انتهاءَها. وهذا اختيار المزني. توجيه القولين على قدر الحاجة: من قال: يحصل الملك للعامل بظهور الربح، احتج بأنه يستحق الجزءَ المشروط له بالشرط، فيجب أن يملكه على مقتضى الشرط، ومقتضاه أن يملك من الربح إذا تحقق الربح الجزءَ المشروط له، وقد تحقق ظهور الربح، فإن كان استحقاق الربح مأخوذاً من موجب الشرط، فهذا موجب الشرط، ولا نعرف له مأخذاً سوى ذلك، ثم لا يمتنع مع استحقاق ما سمي له أن يبقى عليه عملٌ بعد الاستحقاق. ومن قال بالقول الثاني، اعتمد في نُصرته مسلكين: أحدهما - أن العامل لو ملك ما شرط له عند ظهور الربح، لصار شريكاً في المال، ثم يلزم من ذلك أن يقال: لو فُرض نقصان، لشاع في جميع المال. فإذا قيل: النقصان مُنحصرٌ في الربح، والربح وقايةُ رأسِ المال، دل ذلك على أن الملك غيرُ ثابتٍ للعامل، ولا يلزم عليه [حصة] (2) المالك، فإن زيادة ملكه (3) إن كانت وقاية لماله، لم يمنع ذلك، والمشروط للعامل ليس زيادةً في حقه، بل هو عوض كدّه وعمله، هذا مسلك في التوجيه.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 64. (2) ساقطة من الأصل. (3) (ي)، (هـ 3): ماله.

والمسلك الثاني - أن العمل في القراض غير مضبوط، وهو مذكور [في] (1) معاملة جائزة، فكان كالجُعالة، وحكمها أن لا يثبت استحقاق الجُعل فيها إلا عند نجاز العمل، وعمل المقارَض لا ينتجز بظهور الربح. التفريع على القولين: 4930 - إن قلنا: لا يملك العامل ما شرط له بالظهور، فرأس المال والربحُ بكماله ملكُ ربّ المال. وفرع الأئمةُ على هذا القول وجوبَ الزكاة عليه إذا كان المال زكاتياً، وانقضى (2) الحول. وقد استقصيتُ تفصيلَ القول في زكاة مالِ القراض على أحسن مساقٍ في بابٍ من كتاب الزكاة. ثم إذا فرعنا على ذلك، لم يملك رب المال أن يبطل حق العامل من القسط المشروط له، ولا خلاف في ثبوت حق العامل، وإنما الكلام في أنه ملكٌ أو حقُّ ملك. ومهما (3) ظهر الربح، فللمقارض أن ينكفَّ عن العمل، ويسعى في تنضيض مقدار رأس المال، حتى يأخذ حصته من الربح، هذا ثابت له، لا سبيل إلى إبطاله عليه. ولو أتلف ربُّ المالِ المالَ كلَّه: الأصلَ، والربحَ، فيغرَم للعامل حصَّتَه من الربح وفاقاً، والسبب فيه أن الإتلاف في هذه المنازل بمثابة القبض المحسوس، وإذا استرد ربُّ المال رأسَ المال والربحَ، ملك العاملُ حصتَه من الربح، والإتلات بمثابة الاسترداد. وكذلك نقول لو مات المقارَض بعد ظهور الربح وقبل التفاصل، فورثتُه في طلب المشروط من الربح ينزلون منزلة الموروث. 4931 - ومما يتفرع على ذلك أن المال لو كان جارية، فلا يحل لرب المال وطؤها، وإن قلنا: إنه مالك الأصل والربح؛ فإنا لا ننكر مع ذلك ثبوتَ حق العامل في المقدار المشروط له.

_ (1) في الأصل: " من ". (2) عبارة (ي)، (هـ 3): وقد انقضى القول فيه، واستقصيت. (3) ومهما: بمعنى: وإذا.

وقد قال القاضي والمحققون: لو اشترى المقارضُ جارية برأس المال، ولم يظهر الربح بعدُ، فليس لرب المال أن يطأها، واعتلّوا [بأنا] (1) لا نتحقق انتفاء الربح في المتقوّمات وإنما الاطلاع على نفي الأرباح وإثباتها بأن تنض. وهذا فيه فضل نظر. ولعل الوجهَ أن يقال: إن كان الربح ممكناً فيها، فالتحريم كما ذكره الأئمة، وإن تحققنا أن لا ربح -وقد نستيقن ذلك عند انحطاط قيمتها بعد الشراء- فتحريم وطئها على مالكها بعيدٌ. ويمكن أن يخرّج على أن العاملَ لو طلب بيعَها، وربُّ المال يأبى، فهل يجب إسعاف العامل بما يطلبه؟ فيه خلافٌ قدّمناه: فإن أوجبنا إسعافه، فقد أثبتنا له عُلقةً مستحقةً فيها، فيحرم الوطء بها، وإن لم نُوجب إسعافَه، ولا ربح، والسيد مهما أراد، فَسَخ القراضَ، فلا يبعد تحليلُ الوطء والحالة هذه. ثم رأيت [لشيخي] (2) تردداً في أنا إذا حرمنا الوطء، فلو وطىء ربُّ المال، فهل يكون ذلك فسخاً منه للقراض؟ فعلى جوابين: الأظهر- أنه لا يكون فسخاً. هذا مقدار غرضنا الآن في التفريع على أن العامل لا يملك ما شرط له من الربح بالظهور. 4932 - فأما إذا قلنا: يملك العامل ما شُرط له، فلا يتسلط على أخذه استرداداً حتى يحصل تنضيضُ رأس المال، ولا يملك التصرفَ فيه، والسبب فيه أن المعاملة مادامت قائمةً، فالربح وقايةٌ لرأس المال، حتى لو فرض نقصانٌ أو خسرانٌ، انحصر ذلك في الربح، فلا ينتقص من رأس المال شيء ما دام بقي من الحصتين شيء -وإن قلّ- فالربح بجملته وقايةٌ لرأس المال، وهذا الحق راجع إلى رب المال. فكأنا وإن (3) ملكنا العاملَ ما شرط له من الربح، فلسنا نقطع عن نصيبه حق الوقاية، وكمالُ الربح على القول الأول ملك رب المال، وللعامل في القدر المشروط

_ (1) في الأصل: بأن. (2) في الأصل للشافعي. وهو وهم من الناسخ، دلّ عليه السياق، وأكده تصريح الرافعي بأن التردّد من الشيخ أبي محمد. انظر فتح العزيز: 12/ 60. (3) ساقطة من (ي)، (هـ3).

له حق التملك. و [على القول الثاني] (1) ملَّكنا العامل عند الظهور الجزءَ المشروطَ له من الربح، ولرب المال فيه حقُّ الوقاية، فليس للعامل أن يستبد بالتصرف ويكون قاطعاً لحق رب المال. ثم إذا نضَّ مقدارُ رأس المال، وانفسخ القراض، ورجع رأس المال إلى تصرف المالك، فهذا هو النهاية التي يستقر عندها ملك العامل على نصيبه من الربح. ولو اتفق نُضوض المال، والعامل متمادٍ على العمل، ولم يطرأ ما يوجب انفساخَ القراض، فالكلام في ثبوت الملك للمقارَض في القدر المشروط له يُخرّج على القولين. ولو انفسخ القراض والمال عروضٌ، فقد ذكرنا التفصيل في أن العامل هل يجبر على التنضيض؟ فإن حكمنا بأنه لا يجبر عليه، وقد ارتفع القراض، فهل يُقضى بثبوت الملك للعامل قولاً واحداً؟ وهل (2) يُقضَى باستقرار حقه؟ فعلى وجهين: أحدهما -[أنا] (3) لا نحكم بالاستقرار، ولا نقطع القول إلا بأحد أمرين: أحدهما - تنضيض رأس المال. والثاني - الاقتسام من غير تنضيض، فإذا بقيت العروض ولم يجر فيها اقتسام، فالقول في الربح كالقول فيه قبل انفساخ القراض. [والوجه الثاني- أنه يحكم باستقرار حكم العامل] (4). التفريع على هذين الوجهين: 4933 - إن حكمنا بأن القول في الربح على ما كان، فالربح بكماله يُعدّ وقايةً لرأس المال، وإن حكمنا باستقرار حق العامل، فيخرج المشروط له عن كونه وقاية، ويشيع النقصان -إن وقع- في جميع المال (5)، شيوعَه في الأملاك المشتركة، وقد زال الربح ووقايته وآل الكلام إلى ملكٍ مشترك. وهذا كله تفريع على أنه لا يُجبر العامل على التنضيض.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في (ي)، (هـ 3): " أم هل ". (3) في الأصل: لأنا. (4) ساقط من الأصل. (5) (ي)، (هـ3): رأس المال.

ولو نضت العروض، وانفسخ القراض ولم يجر اقتسامٌ، فالمذهب الأصحُّ القطعُ باستقرار ملك العامل، ثم موجب الحكم باستقرار ملكه خروجُه عن كونه وقاية، ورجوع الأمر إلى التصرف في الأملاك المشتركة. ومن أصحابنا من اعتقد أن القسمة بعد التنضيض من تمام عمل المقارَض، وهذا ضعيف لا شيء. فخرج من مجموع ما ذكرناه أن القراض ما دام باقياً، فالربح على القولين، وحق الوقاية ثابت، سواء كان المال ناضّاً، أو عُروضاً. وإن انفسخ القراض والمال عروض، نُفرع على أن العامل هل يجبر على بيعها؟ فإن قلنا: هو مجبر على البيع، فظاهر المذهب جريان القولين في الربح، وعدم استقرار حق العامل. وفيه وجه ضعيف أن حقه يستقر؛ فإنّ عملَ القراض قد انتهى لما انفسخ، وهذا واقع وراء المنتهى، تبعةً للعقد، وعُلقةً له. وإن قلنا: إنه لا يجبر على تنضيض العروض، ففي المسألة [الوجهان] (1) وإن نضت العروض، ولم يبق إلا القسمة، فالمذهب استقرار حق العامل. فإن حصلت القسمة، لم يبق خلافٌ. وكذلك لو حصل التنضيض في مقدار رأس المال، ورُدّ إلى المالك، فالباقي -وإن كان عُروضاً- ملك مشتركٌ خارج عن قياس الأرباح، ويستقر فيها حق [العامل] (2). فهذا تمام البيان في ملك الربح، وما يتعلق به. والقول في الزكاة تقصَّيتُه على أحسن وجهٍ في كتابها. 4934 - قال المزني: "هذه مسائل أجبت فيها عن معنى قوله، وقياسه: من ذلك لو دفع إليه ألفَ درهم وقال: خذها، فاشترِ بها (هَرَويّاً)، أو (مَرْويّاً) بالنصف، كان فاسداً ". هذا لفظ المزني (3). وقد اختلف أصحابنا في صورة المسألة، وسببِ الفساد:

_ (1) في الأصل: وجهان. (2) في الأصل: المالك. (3) ر. المختصر: 3/ 66.

فمنهم من قال: ما ذكره المزني من ذكر (الهرَوي) و (المرْوي) تنويعٌ منه للكلام، وفرضٌ للصورتين، مع ترديد الحكم فيهما. وليس ذلك الترديد من كلام المتعاملين، والمعاملةُ مفروضة مع الجزم في (الهروي) أو (المروي)، وإذا كان كذلك، فقد حكم المزني بفساد القراض، فَمَحْملُ (1) الفساد في (2) مراده عند بعض الأصحاب أنه لم يُضف النصفَ إلى مستحقه، بل أطلق، وقال بالنصف. وقد قدمنا في بعض أركان القراض، أن رب المال لو قال: قارضتك على أن لك النصف، فالظاهر صحة [هذا] (3) اللفظ. وإن قال: على أن لي النصف، ولم يتعرض لإضافة النصف الثاني إلى العامل، ففي المسألة وجهان. واختيار المزني أن القراض لا يصح. فإذا قال: قارضتك على أن تشتري الثيابَ الهروية بالنصف من الربح، فليس فيه إضافة إلى العامل، ولا إلى المالك، فلم يصحح المزني المعاملةَ. وإذا كنا نجري على هذا التأويل، فالأكثرون من الأصحاب يخالفونه في الفساد، ويذهبون إلى صحة المعاملة؛ فإن المذهب الصحيح أنه لا فصلَ بين أن يسمي الجزءَ لنفسه، أو للعامل، ولعل إطلاقَ نسبة النصف (4) أولى بالصحة من إضافة النصف إلى المالك. وإذا كانت الجملة بين شخصين، فبيان نصيب أحدهما بيانٌ لنصيب الثاني، قال تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث} [النساء: 11]، فكان في تعيين الثلث للأم تعينُ الباقي للأب. 4935 - ومن أصحابنا من قال: ذكْر (الهروي) و (المرْوي) ترديدٌ في صيغة العقد، من جهة العاقد، فكأنه قال [له] (5): تصرف في الهروي أو المروي: إن شئت في هذا، وإن شئت في ذلك، وإن اخترت التصرف في أحدهما، فلا تتصرف في الآخر. فقال الأصحاب: سببُ الفساد ترْكُ الجزم وترديد لفظ المعاملة على النوعين،

_ (1) (ي)، (هـ 3): فيحمل. (2) (ي): على. (3) زيادة من (ي)، (هـ 3). (4) (ي)، (هـ3): التنصيف. (5) مزيدة من: (ي)، (هـ 3).

فلا هو أطلق تفويضاً إلى العامل، ولم يجزم أيضاً. وهذا كما قال الشافعي: لو ساقاه على أنه إن سُقي النخيلُ بماء السماء، فله الربع، وإن سقاه بالنضح، فله الثلث، لم تصح هذه المساقاة، للترديد. قال القاضي: الحكم بالصحة محتمل مع هذا الترديد، فإنه لو عيّن أحدَ النوعين، وفيه متسع كما ذكرناه، لم يبعد الحكم بالصحة (1)، فإذا ذكرهما على الترديد، فقد زاد العاملَ مزيد بسطة؛ إذ خيّره بينهما، وهذا أولى بالصحة من تعيين أحدهما، وهذا الذي ذكره حسنٌ متجه لا ينساغ عندنا غيره. 4936 - ومن أصحابنا من قال: سببُ الفساد في هذه المسألة أنه أذن له في الشراء دون البيع، وقضية القراض أن يتسلط العامل على البيع إذا حصلت العروض في يده بالشراء، والذي يحقق هذا المحملَ في كلام المزني أنه قال: "كان فاسداً، لأنه لم يبين، فإن اشترى، فجائز، وله أجر مثله، وإن باع، فباطل؛ لأن البيع بغير أمره" (2). وهذا ظاهرٌ من النص أن البيع غير مستفاد بحكم الإذن. وهذا وجهٌ من الفساد لا سبيل إلى إنكاره؛ فإن عماد عمل العامل على الشراء والبيع، وهما طرفا (3) التجارة وركناها. ونحن نقول في ذلك: إن صرح [المالك] (4) بالأمر بالشراء والنهي عن البيع، فهذا مفسدٌ للقراض، ثم حكمه اختصاصُ المالك بالربح، وردُّ العامل إلى أجر مثل عمله. ولو تعرض للتسليط على الشراء، ولم يذكر التسليطَ على البيع، لانفياً ولا إثباتاً، فهذه صورة المزني، والقول في ذلك ينقسم: فإن قال: تصرّف في هذه الدراهم، واشتر بها، ولم يذكر لفظة المضاربة والمقارضة، وأثبت الشراء، ولم يتعرض للبيع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن إطلاق الأمر محمول على التسليط

_ (1) (ي)، (هـ 3): بصحته. (2) هذا نهاية كلام المزني بنصه. (المرجع السابق). (3) (ي)، (هـ 3): طريقاً. (4) في الأصل: العامل.

على البيع، وإنما لم يجرِ ذكْرُه؛ من جهة أنه لا بد منه، ووقع التعرضُ للشراء تنبيهاً على البيع بعده. ومن أصحابنا من حمل السكوت [عن] (1) البيع على ترك التسليط عليه، فعلى هذا تفسد المعاملة ولا [يتسلّط على البيع] (2)، كما ذكرناه. 4937 - ولو قال: قارضتك، أو قال: ضاربتك، أو قال: خذ هذه الدراهم قراضاً أو مضاربة على أن تشتري، ولم يقع للبيع تعرضٌ، فظاهر المذهب وهو الذي قطع به القاضي وكلُّ محقِّقٍ أن المعاملة صحيحة؛ فإنه استعمل فيها اللفظَ الصريح الموضوعَ لها، فأغنى ذكرُه عن تفصيل حكمه، واقتضى إطلاقُه التسلّط الذي يوجبه العقد، وكان السكوت عن ذكر البيع محمولاً على الاكتفاء باقتضاء لفظ القراض له. ومن أصحابنا من أجرى الوجهين في هذه الصورة أيضاً؛ لأن الأصل أن العامل لا يتصرّف إلا بالإذن، وقد جرى الإذنُ (3) في أحد النوعين، وهو الشراء، فبقي النوع الثاني على المنع والحظر. هذا منتهى كلام الأئمة في تصوير ما ذكره المزني وقد جرت [في] (4) جهات خلافهم في التصوير مسائلُ مذهبية، أجريناها وذكرنا وجوهَ الخلاف فيها. 4938 - ومما أراه متعلقاً بلفظ المزني أنه لم يتعرض للربح، ولا لرأس المال، ولكن ذكرَ النصفَ مرسلاً، فقال: على أن تشتري هروياً أو مرْوياً بالنصف، ولم يقل: بالنصف من الربح، وهذا يقتضي إشكالاً في لفظ العقد. ويجوز أن يقال: تفسد المعاملة بهذا الإشكال (5)، ويجوز أن يحمل ذكْر النصف على الربح اتباعاً للمعروف المعهود في الباب. وهذا منتهى الغرض في المسألة.

_ (1) في الأصل: على. (2) في الأصل: تسلّط على المبيع. (3) (ي)، (هـ 3): وقد أذن في أحد ... (4) سقطت من الأصل. (5) (ي)، (هـ 3): بسبب هذا.

قال: "إن قال: خذها قراضاً، أو مضاربةً على ما شرط فلان من الربح لفلان ... إلى آخره" (1). 4939 - إذا قال: قارضتك على هذه الدراهم، ولك من الربح ما شرطه فلان لفلان، فإن كانا عالمين بما شرطه فلان لفلان، فالمعاملة تصح وفاقاً، وإن لم يُجريا ذكرَ تلك النسبة؛ فإن التعويل على علمهما وعلى عبارة بيّنةٍ على ما علماه. وإن جهلا المقدارَ الذي ذكره فلان لفلان، ولكن كان التوصل إلى الإحاطة به ممكناً، فالمعاملة فاسدة؛ فإنها لم تَعتمد حالة العقد جزئيةً معلومة. وهذا بعيْنه يجري في البياعات والمعاملات المشتملةِ على الأعواض. فإذا قال: بعتك عبدي هذا بما باع به فلانٌ دارَه أو فرسَه -وكانا عالمين بذلك المقدار- صحّ، وإن كانا جاهلين به، قادرين على الوصول إلى دَرْكه، فالبيع فاسد، وجهْلُ أحد المتعاقدين في ذلك كله كجهلهما. وإذا قال المنتهي إلى الميقات: لبيك بإهلال كإهلال فلان، فعقدَ الإحرامَ على الإبهام، انعقد على الصحة، وهو من خصائص الحج؛ فإن الذي يقتضيه قياس التعيين في النيات افتقارُ الحج إلى التعيين، ثم انعقاد الإحرام مبهماً. والمحرم (2) لا يدري أحاجٌّ هو أم معتمر، أو هو محرمٌ بهما مشكلٌ في القياس جداً؛ ولكنا أعرضنا عن وجه القياس، وتعلقنا فيه بالخبر، وهو ما روي: "أن علياً رجع من اليمن عام حجة الوداع، وانتهى إلى [قَرْن] (3)، وقد بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النسك، فأحرم، وأبهم وقال: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله، ثم

_ (1) ر. المختصر: 3/ 66. (2) (ي)، (هـ 3): والمبهم. (3) في الأصل: فنون، (ي): قرين. والمثبت من (هـ 3). وقرن ميقات أهل اليمن (فيما حكاه ياقوت عن بعضهم) فهل (يلملم) وهو ميقات أهل اليمن المعروف، كان يسمى ب (قرن)؟؟ هذا وليس في حديث إحرام علي رضي الله عنه أي ذكرٍ للميقات الذي أحرم منه.

ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه " (1). أما المعاملات، فقد تُعبِّدنا فيها بالإعلام، ونُهينا عن العقد على الجهالة والإبهام، فاتّبعنا في كل بابٍ ما تعبدنا به. 4940 - ثم قال المزني: "فإن قارضه بألفٍ على أن ثلث ربحها للعامل، وما بقي من الربح، فثلثه لرب المال وثلثاه للعامل، فجائز" (2). هذا كلام المزني. وغرض الفصل أن الربح إذا ذكر جزئيتَه، وانقسامَه على نسبةٍ معلومة، تهون الإحاطة بها، فلا شك في [صحة (3) العقد]. وإن أجرى نسبةً معقَّدةً، معلومةً في الحساب، ولكن كان يختص بدَرْكها العلماءُ بالحساب، ويتوصل إلى درْكها من ليس حسوباً إذا تفكّر، أو أرشده مفسّر، وهذا مثل أن يقول للعامل: لك ثلثُ الربح، وخمسُ تُسع عُشر الباقي، فهذا معلوم في طريق الحساب. ولكن إخراجَه يُحوج إلى تصحيح المسألة، وبسط طرق الحساب فيها، فالوجه أنهما إن كانا عالمين بالحساب ومُدرَكِه، وكان اللفظ المذكور في العقد مُعْلِماً في حقهما للمقدار، فيصح العقد قطعاً؛ فإنا نقول: لو قال رب المال لصاحبه: عاملتك، ولك من الربح ما شرطه فلان لفلان، فالمعاملة صحيحة إذا كانا عالمين بما ذكره فلان لفلان؛ تعويلاً على علمهما، فكذلك تصح المعاملة مع اطّلاع المتعاملين على ما يقتضيه الحساب. هذا إذا انتجز علمهما بذلك الجزء حالة العقد. فإن لم ينتَجز علمُهما حالة العقد، أو كان أحدهما غيرَ مهتدٍ إلى الحساب، ففي المسألة وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أن المعاملة فاسدة، لعروّها عن العلم المطلوب حالة العقد. وهذا يتنزل منزلة ما لو قال: لك من الربح ما شرطه فلان لفلان، وكانا جاهِلَيْن بما شرطه، أو كان أحدهما جاهلاً، فالمعاملة فاسدة، وإن أمكن التوصل إلى ما ذكره فلان لفلان، كذلك القول في اللفظة الحسابية.

_ (1) الحديث متفق عليه. وقد مضى في الحج. (2) ر. مختصر المزني: 3/ 66. (3) في الأصل: في الصحة.

ومن أصحابنا من قال: المعاملة صحيحة، لأن اللفظة المشتملة على الجزئية معلومة في صيغتها، فتعتمد صحةُ العقد تلك الصيغة. وقول القائل: لك ما شرط فلان لفلان مجهولٌ في نفسه، لا إعلام فيه. ثم طريق إخراج الجزئيات لا يليق استقصاؤه بهذا الفصل، ولعلنا نذكر طرفاً صالحاً يُثبت الاستقلال في هذه الأبواب في كتاب الفرائض، إن شاء الله عز وجل، ثم في كتاب الوصايا. ونذكر إخراج ما ذكره المزني: فإذا قال: لك ثلث الربح، والثلث مما بقي لي، والباقي لك. فنطلب عدداً له ثلث، ولثلثيه ثلث، وهو تسعة فنجعل الربحَ تسعة أجزاء، ونصرف منها ثلاثة إلى العامل أولاً، فيبقى ستة، فنصرف منه ثُلثَه إلى المالك، وهو سهمان من تسعة، ثم يُصرف الباقي، وهو أربعة من تسعة إلى العامل، فيحصل له من [التقديرين] (1) سبعةُ أتساع الربح، وللمالك تسعاه. هذا بيان ما ذكره المزني. فصل قال: "وإن قارضه على دنانير، فحصلت في يده دراهم ... إلى آخره" (2). 4941 - إذا كان رأس المال دنانير معلومة، فتصرّف فيها العامل، وصرفها في العروض، ثم نضت العروض، [ورجعت] (3) إلى الدراهم، فهذه الدراهم بمثابة العروض في حق هذا القراض، فيتعين على العامل -على القياس الذي مهدناه- ردُّ الدراهم إلى الدنانير، وكذلك لو كان الأمر على العكس. وهذا يناظر من القواعد زكاةَ التجارة في العروض، فإنا نقوّم العروض في نهايات الأحوال ومُنقرض السنين بما كان رأسُ المال في ابتداء الحول، حتى لو [كان] (4) رأس المال دراهم، وقع التقويم بها لا غير، فلو صادفنا في آخر الحول دنانير، لم نوجب

_ (1) في الأصل: التقدير. (2) ر. المختصر: 3/ 66. (3) في الأصل: ووجبت. (4) في الأصل: قال.

الزكاة فيها بحساب مقدارها، ولكنا نقومها بالدراهم، ونوجب الزكاة في قيمتها على هذه النسبة. 4942 - ومما يتعلق بمضمون الفصل من حكم القراض، أن أموال القراض لو كانت عُروضاً، فقال رب المال: رضيتُ بأن آخذ مقدار رأس المال عروضاً، وقال العامل: بل أبيعُ؛ ففيه الخلاف المقدم، ولو كان رأس المال دنانيرَ، وقد آل الأمر إلى الدراهم، فلو قال رب المال: رضيت أن آخذ مقدار حقِّي من الدراهم، فالذي قطع به المحققون أن العامل لو أراد صرف الدراهم إلى الدنانير على خلاف مراد الآمر في قدر رأس المال، فليس له ذلك، بخلاف مسألة العروض. والفرقُ أن قيمة العروض لا تنضبط، وقد يتفق في أثمانها تفاوتٌ، والتعويل فيها على الرّغبات ونقيضها، فلا يمتنع إسعاف العامل ببيعها، فعساه يستفيد مزيداً، وأما الدراهم والدنانير فلا يفترض في أسعارهما تفاوت معتبر، وليس مما يُفرض فيه رغبةٌ من راغب، وزهدٌ من زاهد. فإذا قال العامل: [أصرف] (1) الدراهم إلى الدنانير، كان ذلك تعنتاً منه. هذا ما ذهب إليه المحصلون. وأبعد بعضُ أصحابنا فأجرى في الدراهم والدنانير من الخلاف ما ذكرناه في العروض، وردِّها إلى النقد. ولو جرت المعاملة على الدنانير مثلاً، والنقد الغالب في التصرفات الدراهم، فالمذهب الذي عليه التعويل أن العامل يُكلّفُ رد العروض في مقدار رأس المال إلى الدنانير. فلو قال: أردّها إلى الغالب في البلد، ثم يأخذ منه رب المال بمقدار رأس المال، فلا يترك [و] (2) ذلك. وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً عن بعض الأصحاب: أن العامل إذا رد العروض إلى نقد البلد، كفاه، وهذا بعيد لا اتجاه له، وليفرق الفقيه فيما نثبته

_ (1) في الأصل: تصرف. (2) زيادة من (ي)، (هـ 3).

وننفيه بين أن يرضى ربُّ المال بأخذ النقد الحاصل عن حساب رأس المال، وبين أن يبغي مطالبةَ العامل برده إلى نوع رأس المال، فإن رَضي ربُّ المال، فالوجه اتباعُ رضاه، والكلام في نقدين. فإن طالب ربُّ المال العاملَ برد النقد الحاضر إلى نوع رأس المال، فالمذهب أن له ذلك إذا كان في المال ربح، والوجه الذي ذكره الشيخ أبو علي ضعيف، في هذا الطرف، كما نبهنا عليه. ولو كان رأس المال دراهم صحاحاً، فحصلت في يد العامل المكسرةُ من ذلك النوع، فعليه تحصيل الصحاح في رأس المال، فإن وَجد الصحاح بالمكسرة سواءً، فذاك، وإن لم يجد، ولا سبيل إلى المفاصلة، باع المكسرة بالدنانير، واشترى بالدنانير الصحاحَ من الدراهم. ولو أراد أن يبيع المكسرة بعرْضٍ، ثم يبيعَ ذلك العرضَ بالصحاح المطلوبة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك يجوز؛ فإنه إذا لم يكن من إدخال واسطةٍ بدٌّ، فلا فرق بين أن يكون عرْضاً، أو نقداً. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز صرف المكسرة إلى العروض، لتصرف العروض إلى الصحاح، فإنّ العروض قد تكسد، وتبقى إلى أن يطلبها طالب، (1 وقد يكون في عرضها فيمن يزيد بخسٌ ظاهر. وإذا صرف المكسرة إلى الدنانير، تيسر الأمر، فإن 1) الدنانير رابحةٌ أبداً لا حاجة إلى التربص بها. فصل قال: "وإن دفع مالاً قراضاً في مرضه ... إلى آخره" (2). 4943 - إذا دفع المريض في مرض موته دراهمَ، أو دنانيرَ إلى إنسان قراضاً، وشرط له جزءاً من الربح، فالمعاملة صحيحة، وإذا اتفق الربحُ فيها، فللعامل ما شرط له، ولا ينتهي الأمر إلى حكم التبرع، والاحتسابِ من الثلث، حتى لو كان

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ي)، (هـ 3). (2) ر. المختصر: 3/ 67.

الربح الحاصل بحيث لو [قيست] (1) حصة العامل فيه بأجر مثله لزادت عليه، فلا يجعل المريض في حكم المتبرع بتلك الزيادة. فهذا اتفاق الأصحاب، والسبب فيه أن الربح لا معوّل عليه، فقد لا يحصل منه شيء فيخيب تعبُ العامل، وقد يحصل مقدارٌ نزرٌ يزيد أجر مثل العامل عليه، والربح أيضاً في حكم المعدوم قبل حصوله، فإذا حصل عُدّ حصولُه من آثار عمل المقارض. يخرج عما ذكرناه (2) أن المشروط من الربح ليس من باب التبرعات أصلاً. ونقول على حسب ذلك: لو كان العامل أحدَ الورثة، جازت المعاملة، ولم نقل: إنها تبرع على وارثه في المرض. 4944 - ولو ساقى المريض رجلاً على نخيل، ثم كان ما شرط له من الثمار زائداً على أجر عمله، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من أجرى المساقاة مجرى القراض، وقد تمهد قياس القراض، والجامع أن المطلوب مفقودٌ في المعاملتين؛ إذ لا ربح ولا ثمرة فيهما، وحصول الثمار منسوب إلى عمل المساقى وإلى حسن قيامه على الأشجار، فلا فرق. ومن أصحابنا من قال: إذا زاد حصةُ المساقى من الثمار على أجر مثله، فتلك الزيادة تبرع محسوب من الثلث، وإن كان المساقى وارثاً، فهو مردود. والفرق بين المعاملتين أن الثمار منتظرة في أوانٍ معلوم، وأما الأرباح، فلا وقت لها، ولا ضبط. والوجهان ذكرهما العراقيون. فصل قال: "وإن اشترى عبداً، فقال العامل: اشتريتُه بمالي لنفسي ... إلى آخره" (3). 4945 - كل شراء يقع [بعين] (4) مال القراض، فلا شك في انصرافه إلى جهة

_ (1) في الأصل: قسط. (2) في (ي)، وفي (هـ 3): فخرج عما ذكرناه. (3) ر. المختصر: 3/ 67. (4) في الأصل: بعض.

القراض، ولا أثر لنية العامل فيه، ولو نوى نفسه، كانت نيته باطلة ساقطةَ الأثر، فأما العقود الواردة على الذمة، فالتعويل فيها على النية، فإن نوى العاملُ بها جهةَ القراض، وقعت عنها، إذا لم تكن مخالفةً لوضع التصرفات في القراض، ولو نوى بالشراء الذي ثمنه واقعٌ في الذمة نفسَه، انصرف إليه، وكذلك مطلقُ الشراء الذي وصفناه مُنصرفٌ إلى العامل، ولا يقع عن القراض، وهذا بيّن. 4946 - والغرض بعده أن العامل إذا اشترى عبداً فقال: اشتريتُه لنفسي، وقال رب المال: بل اشتريتَه لجهة القراض. وهذا الخلاف في الغالب يجري إذا ظهر في العبد (1) غبطةٌ ظاهرة. ولو كان الخلاف على العكس، فقال العامل: اشتريتُه عن جهة القراض، وقال رب المال: [بل] (2) اشتريتَه مطلقاً، أو اشتريته لنفسك. وهذا الخلاف يُفرض فيه إذا كان ابتياع العبد بثمن مثله، ولكن اتفق انحطاطٌ في سوق العبيد. فإذا جرى الخلافُ على الوجهين، فالقول فيهما قول العامل، والسبب فيه أن المعتمد في انصراف العقد إلى جهة القراض، أو وقوعِه عن العامل نيةُ العامل، ولا مُطّلع على نيته إلا من جهته، فلزم الرجوع إلى قوله. ثم لا نصدقه إلا باليمين. ونظائر ذلك كثيرة. فإن قال قائل: لم تحلّفونه، وهلا اكتفيتم بمجرد قوله؟ قلنا: الجواب عن هذا ظاهر في طريق الخصومة، فإن من ظهر صدقه، فلا يُكتفى منه بمجرد قوله، بل نكلفه إقامةَ الحجة عليه، والحجةُ في الباب اليمينُ. ولو أنه قال: اشتريتُ هذا العبدَ لنفسي، ثم اعترف بأنه اشتراه للقراض، قُبل رجوعه على هذا الوجه، وإذا كان رجوعه مقبولاً؛ فإنا نأمل من عرض اليمين عليه أن ينكفَّ ويرجع، وسبب عرض الأيمان، الحملُ على الإقرار، فإذا كان الإقرار ممكناً، فاليمين لا بد منها، ثم إن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، ردت اليمين إلى رب

_ (1) (ي)، (هـ 3): العقد. (2) ساقطة من الأصل.

المال، فيحلف على حسب ما يدّعيه، واليمين المردودة تقع باتّةً، وهي مشكلةٌ في هذا المقام؛ من جهة أنه لا مطّلع على النية إلا من جهة الناوي، ولكن [يمين] (1) الرد تستند في هذا المقام إلى قرائن ومخايل تظهر ولا يمتنع استناد الأيمان إلى أمثال ذلك، وسنقرر هذا على أبلغ وجه في أحكام القضاء، إن شاء الله عز وجل. ومن المخايل في الباب أن رب المال لو كان سمعه يقر بأني اشتريت لجهة القراض، ثم جحد وأنكر، فللمدعي أن يعوّل على الإقرار الذي علمه، وهو أقوى من مخيلةٍ تخيلها، وقرينةٍ يرجم ظنه فيها. 7ا 49 - ولوح رجلان ألمفين إلى رجل، وقال كل واحد منهما: اشتر لي بالألف عبداً، فإذا اشترى عبداً بألف لأحدهما، فادّعى كلُّ واحدٍ منهما أنه اشترى له هذا العبدَ، فإذا أقر الوكيل لأحدهما قُبل قوله؛ إذ الرجوع إليه، والاعتبار بنيته. ثم إذا حكمنا بالعبد لأحدهما، بحكم إقراره، فلو ادعى عليه الثاني، فهذا يُبنى على أنه لو أقر للثاني بعد الإقرار الأول، فهل يغرم للمقر له ثانياً قيمةَ المقر به. وفي هذا وفي أمثاله قولان، قدمنا ذكرهما. وهذه المسألة تمتاز عن نظائرها بشيء، وهو أن قيمة العبد لو كانت ألفاً، وسلّم إليه كل واحد منهما ألفاً، [فهو] (2) إذا زعم أنه اشترى العبد لأحدهما، فالألف الآخر قائم في يده للثاني، فقد لا يفيد قولنا: إنه يغرم للثاني على قولٍ إلا إذا فرضنا تفاوتاً في قيمة العبد وثمن العقد؛ فإذْ ذاك يختلف القول. فلنفرض هذه المسألةَ فيه إذا لم تزد القيمة، ويخرج عليه أنه بسبب هذا الإقرار لا يغرَم شيئاًً، ولا يصح أيضاًً رجوعُه عن الإقرار الأول. فإذا انتفى إمكانُ الرجوع، وانتفى الغرم، فلو أراد الثاني أن يحلفه، لم يكن له ذلك؛ فإنّ اليمين فائدتها الحمل على الإقرار، ولو أقر للثاني، لما أفاد إقرارُه شيئاً. فإن قيل: هلا حلَّفتموه حتى إذا نكل تردّون اليمين على الثاني؟ قلنا: هذا لا وجه له؛ فإنا إن جعلنا يمين الرد كالإقرار، فقد سقطت فائدة إقراره، فلا

_ (1) في الأصل: ليس الردّ (وهو تصحيف عجيب). (2) في الأصل: وهو.

[موقع] (1) ليمينه إن حلف. وإن قلنا: يمين الرد تنزل منزلة البيّنة، فقد يظنّ ضعفةُ الأصحاب أنها تتضمن استرداد العبد، كما لو قامت البينة. وهذا مزيفٌ، لا أصل له، وقد يبتدره، ويسبق إليه في أمثال هذه المسألة طوائفُ من الأصحاب. واعتقادُه في هذا الموضع على نهاية الضعف؛ فإن البينة لا يتصور قيامها على النية، وإنما يُفرضُ قيامُها على الإقرار، وقد ذكرنا سقوط أثر الإقرار، والحالف يمينَ الردّ ليس يُسند يمينَه إلى إقرار كان من هذا الشخص فيما سبق، وإنما يسندها إلى مخيلةٍ وظنٍّ، والبينةُ لا تكتفي بأمثال ذلك. فصل قال: " ولو قال العامل: اشتريت هذا العبدَ بجميع الألف ... إلى آخره" (2). 4948 - إذا دفع ألفاً إلى العامل، وقارضه عليه، فليس للعامل أن يشتري للقراض بأكثرَ من الألف، لأن رب المال لم يرض بأن العامل يشغل ذمتَه بأكثرَ من هذا المبلغ، فإن اشترى عبداً بالفٍ، ثم عبداً آخر بألف، قلنا: إن اشترى العبدَ الأول بعين الألف، أو اشتراه لجهة القراض، فهو واقعٌ عن جهة القراض، ولا يقع العبدُ الثاني عن جهة القراض أصلاً. ولكن إن اشتراه بعين الألف، فالشراء باطل، سواءٌ وقع الشراء الأول بعين الألف، أو لم يقع بالعين. والسبب فيه أنه إن وقع العقد الأول بعين الألف، فقد تعين عوضاً مملوكاً في العقد الأول، فإذا عينه ثانياً في عقد آخر، لم يخف بطلان هذا العقد الثاني. وإن لم يقع العقد الأول بعين الألف، فقد صار الألف مستغرقاً به مستحقاً، فامتنع تعيينه في العقد الثاني، [كما يمتنع تعيين مرهونٍ ثمناً في غير حق المرتهن، هذا إذا وقع العقد الثاني] (3) بعين الألف.

_ (1) في الأصل: نتوقع. (2) ر. المختصر: 3/ 67. (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

ولو وقع [العقد] (1) الثاني بألفٍ في الذمة، ولكنّ العامل نوى به جهةَ القراض، فنيته مردودة، ولكن العقد لا يبطل، بل ينصرف إلى العامل، فيقع شراء العبد الثاني [له] (2) على هذا التأويل، فلو وقع العبد الأول عن القراض، ووقع العبدُ الثاني عن العامل، كما صورناه، فلو صرف الألفَ الذي هو رأس مال القراض إلى ثمن العبد الثاني، فقد أساء وظلم؛ فإنّ الألف الأول إن كان معيّناً، فهو مملوكُ بائعِ العبد الأول، وإن لم يكن معيناً بالعقد الأول، فهو مستغرقٌ باستحقاق تلك الجهة، وعلى أي وجهٍ فُرض، فالعقد (3) الثاني منصرفٌ إلى العامل، وليس للعامل أن يصرفَ إلى ما يشتريه لنفسه شيئاً من مال القراض، فإذا فعل، فالألف يُسترد إن كان باقياً، فإن فات وتلف، نظرنا إلى صفة العقد الأول، فإن كان وارداً على عين الألف -وقد فات الألف- نحكم بانفساخ ذلك العقد؛ فإن العوض المتعيّن في البيع إذا فات قبل التسليم، يترتب على فواته انفساخُ البيع، وإن لم يكن الألف متعيناً في العقد الأول، فلا يقضى بانفساخ ذلك العقد. وفي هذا المقام يبين الفرق بين كون الألف مستحقاً ملكاً بطريق التعيين، وبين كونه مستغرقاً بحق البائع، فإذا انتهى الأمر إلى ذلك، فالعبد الأول ملكٌ لرب المال، ولرب المال على العامل ألفُ درهم؛ لأنه أوقعه (4) في جهة نفسه، وصرفه إلى العقد الواقع له، ولبائع العبد الأول مطالبةُ رب المال بألف. والمسألة مفروضة حيث لا نزاع، ولكنهم معترفون بحقيقة الحال، فلو جاء العامل وأدى ثمن العقد الأول، نُظر: فإن فعل ذلك بإذن رب المال على شرط الرجوع عليه، صح، وبرئت ذمة رب المال عن حق البائع الأول، وثبت للعامل ألفٌ على رب المال، ولرب المال على العامل ألفٌ، فإذا جرينا على التقاصّ، حصل بما جرى براءةُ الذمم، وانقطاعُ التبعات.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) (ي)، (هـ 3): فالعبد الثاني ينصرف. (4) (ي)، (هـ3): أنفقه.

وإن أدى العامل ثمن العقد الأول من غير مراجعة رب المال، فتبرأ ذمةُ رب المال عن مطالبة البائع الأول. ولكن لا يجد العامل بما بذله مرجعاً، ولرب المال عليه الألفُ الذي صرفه في حق نفسه، وقد حصلت براءة ذمة رب المال بما فعله العامل. 4949 - ومما يتعلق بتمام المسألة أنا إذا صرفنا العبدَ الأول إلى جهة القراض، ثم تعدى المقارَض، وصرف الثمن إلى العبد الثاني، فذلك العبد الأول أمانةٌ في يد المقارض؛ فإنه لم يتعد فيه، وإنما تعدى في ثمنه، والتعدي في عوض الشيء لا يُثبت حكمَ العدوان ومُوجبَ الضمان في غير ما وقع التعدي فيه. وهذا يناظر ما لو وكّل رجلٌ رجلاً يبيع عبدٍ، وسلمه إليه، فاستخدمه الوكيل، صار متعدياً لذلك، فلو تلف في يده قبل اتفاق بيعه، لكان ضامناً لقيمته، فلو (1) باعه وقبض ثمنه على حسب الإذن، فالثمن في يده أمانة. 4950 - وذكر القاضي رضي الله عنه في أطراف هذه المسألة أن رب المال لو قال للعامل: خذ الألفَ قراضاً، واشتر بعينه، أو قال: اشتر ما تشتريه في الذمة، ثم أدّ الثمن من الألف، فهذا تضييق وحجرٌ، وقد ذكرنا أن هذا الضرب من التضييق يُفسد القراضَ؛ من جهة أنه يخالف موضوعَه ومقصودَه. وهذا الذي ذكره حسن [فقيه] (2) إذا شرط عليه أن يشتري بعين الألف؛ فإن هذا تضييق، وقد تتفق صفقةٌ لا (3) يحضره الألف فيها، ولو انتظر إحضارَه لتعيُّنه، لفاتت، فهذا منافٍ للانبساط الذي يقتضيه وضع القراض. فأما إذا قال: لا تشتر إلا في الذمة، فلستُ أرى هذا حجراً، وفيه غرضٌ؛ فإنّ تعيين الأعواض يجر [رباً] (4) وخبلاً لو لم يكن العوض من حلّه (5)، وإذا صادف العقدُ عوضاًً في الذمة، انقطع هذا الضرب من الشبهة، ورجع النظر إلى العوض الثاني، فإذا صحّ غرضٌ، ولم يتحقق تضييقٌ، لم يبعد الحكم بصحة القراض والشرط.

_ (1) (ي)، (هـ 3): ولو. (2) في الأصل: فيه. (3) عبارة (ي)، (هـ 3): وقد يتفق أن لا يحضره الألف. (4) في الأصل: يجرّ ريباً وخبلاً، وفي (ي): يجر زبناً وخيالاً، وفي (هـ 3): يجر عيباً، والمثبت تقدير منا. (5) (حله) كذا في النسخ الثلاث.

فصل قال: "وإن نهى ربُّ المال العاملَ أن يشتري ويبيع ... إلى آخره" (1). 4951 - إذا فسخ القراض، ونهى ربُّ المال العاملَ عن الشراء، لم يكن له أن يشتري شيئاً بعد النهي، فإذا اشترى، نظر: فإن كان بعين مال القراض، فباطلٌ. وإن كان في الذمة، وقع للعامل، وبطلت نيّتُه في جهة القراض. هذا قولنا فيما يشتريه بعد النهي. فأما البيعُ، فقد ذكرنا تفصيلاً في أن العامل بعد فسخ القراض هل يملك بيعَ العُروض إذا كان في المال ربح؟ وفصّلنا أطراف المذهب فيه إن لم يكن ربح. فإذا قلنا: له أن يبيع، فليس هذا البيع الذي كان يُقدم عليه قبل فسخ القراض، وإنما هذا بيعٌ لتنضيض السلعة، وردّ رأس المال، فلا أثر للنهي في هذا الضرب، ويتبيّن أثر هذا في شيء، وهو أن العامل لو كان مستمراً على تصرفه، وكان أذن له رب المال في بيع العرْض بالعرْض، فإنه يبيع العرض بالعرض، وإذا نهى، وفسخ القراض، فليس له أن يبيع العرض بالعرض، ولكنه يبيع العروض بالنقد بقصد التنضيض، كما تقدم. فصل قال: "ولو قال العامل: ربحت ألفاً، ثم قال: غلطتُ ... إلى آخره" (2). 4952 - إذا أقرّ: بأني ربحتُ ألفاً، ثم قال: كذبتُ متعمداً، أو غلطتُ، وقلتُ ما قلت غالطاً، فلما رجعتُ إلى الحساب، لم أصادف [ربحا] ً (3)، أو ادّعى أنه كذب مخافة أن يُنتزع المال من يده، فرجوعه عن الإقرار الأول لا يقبل في هذه المسائل؛ بناء على أن المرء مؤاخذٌ بإقراره الأول. ولو قال: ربحتُ ألفاً، ثم قال بعده: تلف

_ (1) ر. المختصر: 3/ 68. (2) ر. المختصر: 3/ 68. (3) ساقطة من الأصل.

في يدي ألف، فإنا نصدقه مع يمينه؛ لأنه أمين، فهو يتوصل بدعوى التلف إلى طرح ما أقر به أولاً، ولا منافاة بين ما ابتدأه (1) وبين ما ادعاه آخراً، وهو مصدق فيهما. وظهور هذا يغني عن بسط القول في تقريره. فصل قال: "وإن اشترى العامل، أو باع بما لا يتغابن الناس بمثله، فباطلٌ ... إلى آخره" (2). 4953 - المقارض في هذا المعنى كالوكيل، وقد ذكرنا أن الوكيل بالبيع المطلق لو باع بالغبن، لم يصح ذلك منه، والوكيل بالشراء المطلق لو اشترى الشيء بأكثر مما يساوي، لم يقع الشراء عن الموكِّل. ولكن إن كان وارداً على الذمة، انصرف إلى الوكيل، وإن كان وارداً على عين مال الموكِّل، بطل. والقول في المقارض على هذا النحو، فإن باع عيناً من أعيان مال القراض بغَبْن، لم يصح، وإن اشترى شيئاً بعينٍ من أعيان القراض مع الغبن، لم يصح، وإن اشترى في الذمة ونوى جهة القراض، انصرف العقد إلى العامل. ثم مما أجراه الفقهاء في هذا المجال أن ثمن العرْض إذا كان مائة، وقد انتهى المقوّمون إلى هذا المبلغ، ولم يتعدَّوْه، فهذا قيمةُ المِثل. فلو باع رجل مثلَ هذا العرض بمائةٍ إلا درهماً أو بخمسةٍ وتسعين، فقد لا يُعدُّ البائع مغبوناً. وكذلك لو اشترى هذا العرْضَ بمائةٍ ودرهم أو دريهمات، لا يُعدّ مغبوناً. وعبَّر الفقهاء عن هذا فقالوا في جانب النقصان: هذا ممَّا يتغابن الناس بمثله، وقالوا في جانب الزيادة كذلك. والقول في هذا يؤول إلى أن الحكم بالقيمة لي أمراً مبتوتاً، وإنما هو مظنون، والنقصان القليل لا يخرم الظن، وكذلك الزيادة القليلة. وليس معنا في هذا ضبطٌ ننتهي إليه. نعم، سنذكر أن المسروق لو قُوّم، فقد يبلغ

_ (1) (ي)، (هـ3): ما ابتدأ به. (2) ر. المختصر: 3/ 68.

نصاباً، وقد [يُفرض فيه خطأٌ] (1) قليل لا ينتهي إلى الغبن الظاهر، ويكون ذلك المقدار محتملاً، ولكن لو أخذنا به، لما وجب القطع؛ فإن نصاب السرقة توقيفي، وليس ثابتاً من طريق التقريب، فلا يوجب القطع إذن عند معظم المحققين؛ فإنّ إيجاب القطع [بقيمةٍ مظنونةٍ] (2) لا سبيل إليه. وسيأتي استقصاء ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. 4954 - وحظ هذا الفصل مما ذكرناه أن الوكيل أو المقارض لو باع ما قوّم بمائة بخمسٍِ وتسعين، وكان لا يعدُّ مغبوناً، فالبيع نافذ، ولو باعه بثمانين، فالبيع مردود. فلو فاتت العين في يد المشتري، فالقيمة تلزم، ثم يقع النظر في تغريم الوكيل وفي تغريم المشتري الذي تلفت العين في يده. فإن أراد تغريم الوكيل، أو تغريم المقارَض، فهل يُحطُّ عنه القدر الذي يتغابن الناس بمثله، حتى لا نغرمه إلا خمسة وتسعين مثلاً؟ ففي المسألة قولان، نص عليهما الشافعي في (الرهن اللطيف) (3) أحدهما - أنه يغرمه القيمة التامة، وهذا ظاهر القياس عنده؛ فإنه قد اعتدى بما فعل. وحكمُ المعتدي ضمان القيمة، والرجوعُ في مبلغها إلى المقوِّمين، وقد قوّموا السلعةَ بمائة. والقول الثاني - أنه لا يغرّمه القدرَ الذي يتغابن الناس بمثله، فإنه لو باع ابتداء بمائة إلا دريهماتٍ، لصح البيع، ونفذ، وقُبل منه ذلك الثمن. فلا ينبغي أن يغرم آخراً أكثر من ذلك المقدار. وهذا فيه بُعد. ولم يذكر أصحابنا خلافاً في أن الغاصب يغرَم القيمة البالغة. وليس لقائل أن يقول: القدر الذي يتغابن الناس [بمثله] (4) ليس ملتحقاً بالقيمة تعيُّناً،

_ (1) في الأصل: يعرض فيه حط. (2) في الأصل: بقيمته مضمونة. (3) الرهن اللطيف: جزء من كتاب الرهن في (كتاب الأم). وهو في المطبوع يسمى (الرهن الصغير). (4) ساقطة من الأصل.

وشغلُ ذمة الغاصب في هذا القدر المظنون لا وجه له، فإنا وإن كنا نغلظ على الغصاب، فلا نُلزم ذممهم إلا على بصيرة وتثبّتٍ (1). وإذا اختلف المالك والغاصب في مقدار القيمة، فالقول قول الغاصب، وكذلك المشتري من المقارَض -في مسألتنا- لو اختار ربُّ المال تغريمَه، لغرّمه مائةً كاملة. وإذا كان كذلك، فلا يبقى للتردد في حق المقارَض والوكيل وجه؛ فإنه قد باع بيعاً فاسداً، وكان في اعتدائه كالمغتصب، فلا خروج لهذا القول في حقه. 4955 - فإن قيل: قد ينتج مما ذكرتموه فنٌّ من الإشكال: فإن كان ما يتغابن الناس بمثله محطوطاً عن الوكيل، وسببه أن القيمة مظنونةٌ، فيجب على مساق هذا أن لا تُشغلَ ذمةُ ضامنٍ بذلك المقدار. وإن كان ذلك معدوداً من القيمة، فالتسامح به لا وجه له، وحق الوكيل أن يبيع بثمن المثل، وكذلك المقارَض، فما وجه التلفيق في هذا؟ قلنا: هذا مقامٌ يتعيّن التثبتُ فيه. والأصل الذي يجب تأسيسُه أن القيمة التامة هي المتبع في الغرامات، وأبواب الضمان، وإنما التوقف في اعتبارها في قطع السرقة، على ما رمزنا إليه، وأحلنا استقصاءه على موضعه. فإن قيل: القيمة مظنونةٌ. قلنا: لتكن كذلك؛ فإن معظم متمسكات الفقه ظنون، فلا محاشاة (2) من هذا، فارتد النظر إذاً إلى بيع الوكيل بأقلَّ من المائة، ولا مساغ لهذا إلا من جهة الأخذ من العرف؛ فإنا لو رددنا الأمرَ إلى صيغة الأمر بالبيع، فاسمُ البيع ينطلق على البيع بالغبن، وإنما لم ينفذ بيع الوكيل بالغبن، لأن أهلَ العرف لا يرون الأمرَ بالبيع متناولاً لهذا، والعرف هو المقيِّد للأمر المطلق، فإذا رأينا أهل العرف يتغابنون بالمقدار النَّزْر، فقد زال التقيد العرفي، ولزم تصحيح العقد بحكم الأمر بالبيع. هذا مَخْرجُ الكلام في هذا. ويجب على حسب ذلك تزييف القول المحكي في الحط عن الوكيل البائع بالغبن؛ فإنا إذا أبطلنا تصرّفَه وألحقناه بالمعتدين، لم يبق للحط وجهٌ، وأي فقهٍ في قول

_ (1) انتهى هنا قول القائل المقدّر. (2) (ي)، (هـ 3): يتحاشى.

القائل: لو باع بنيّف وتسعين، لقبل منه، فإذا لم يبع واعتدى، وجب أن نقنع منه بذلك المقدار؟ ولكنّ هذا الخلافَ مشهورٌ، فإذا لم نرض تنزيله على الصورة التي ذكرناها، فهل ننزّله على موضعٍ أقربَ من هذا؟ قال صاحب التقريب: إذا باع الوكيل عبداً يساوي مائة بالمائة، ثم سلّمه قبل تسليم الثمن، فقد أساء، فلو عسر الثمن، فالموكِّل يطالب الوكيل بماذا؟ فيه خلافٌ بين الأصحاب: منهم من قال: يطالبه بالثمن؛ فإنه فوته بتسليم العبد. ومنهم من قال: يطالبه بقيمة العبد. فإن قلنا: يطالبه بالثمن، فيطالبه بالمائة. وإن قلنا: يطالبه بقيمة العبد، فهل يطالبه بالمائة الكاملة؟ أم يحط عنه ما يتغابن الناس بمثله؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه. وهذا غير مرضيّ عندي أيضاً؛ فإنه إن طولب بالقيمة، فسببه اعتداؤه بتسليم العبد، وقيمةُ العدوان تامةٌ. وأقرب الصور أن نبيع العبد بما يتغابن الناس بمثله، [ثم] (1) يفرط فيسلّمُ العبدَ، فيظهر (2) الخلاف في أنه يقنع منه بالثمن، أم تلزم القيمة التامة؟ وهذا يخرّجُ على أن الوكيل إذا تعدى بالتسليم، فيغرَم الثمن أو يغرم القيمة؟ هذا تفصيل القول في ذلك، وتنزيل محل الخلاف والوفاق على منازلهما. 4956 - ثم قال الأصحاب: كما لا يبيع المقارَض بالغبن الفاحش، فكذلك لا يبيع بالنسيئة، إلا أن يأذن له رب المال. ثم إذا أذن في الشراء أو البيع بالنسيئة، فلا بد من الإشهاد، فإن لم يُشهد وأدّى الأمرُ إلى جحْدِ المشتري الثمنَ، فيجب الضمانُ بترك الإشهاد؛ فإن هذا يعد تقصيراً أو تركاً للتحفظ، ولم أر في هذا الطرف خلافاً، وتخريجه على ما أشرنا إليه. ونحن نقرره، فنقول: لو اعتدى المقارَض [في المال] (3)، ضمن، ولو ترك الاحتياط في الحفظ، ضمن، وترْكُ الإشهاد في العُرف تركٌ للاحتياط والتحفظ، فإذا جرَّ ضياعاً، أوجب الضمان، وعلى هذا الأصل قلنا: يضمن الوكيلُ البائعُ بالنقد إذا

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (ي)، (هـ 3): فيقع. (3) ساقط من الأصل.

سلّم المبيعَ قبل توفّر الثمن، هذا في البيع إذا (1) وقع نسيئة. فأما إذا باع عيناً بثمن حالّ، وترك الإشهاد، لم ينسب إلى التقصير بترك الإشهاد لأمرين: أحدهما - أن العادة لم تجر بالإشهاد في البياعات الواقعة بالنقود، والمتبع في ذلك كله العرفُ. والآخر- أنه في بيع العين يستمسك بالعين حتى يتوفر الثمنُ عليه، فإن سلم العيْن وجحد المشتري الثمن، فهذا تفريط منه الآن؛ فيلزمه الضمان. وقد اختلف أصحابنا في القدر الذي يضمنه، فقال بعضهم: يضمن الثمن، وقال آخرون: يضمن قيمة المبيع؛ لأنه برَفْع اليد عنه في حكم من يضيع حقَّ الوثيقة على المرتهن. وقال القفال: يضمن أقل الأمرَيْن من القيمة أو الثمن؛ لأن القيمة إن كانت أقلَّ، فنقول: كأنه فوت العين، وإن كان الثمن أقلَّ في صورة التغابن، فحقُّه بعد العقد الثمنُ، بدليل أنه لو حَصَلَ الثمنُ، لم يكن عليه شيء بعده. فهذا ما قاله الأصحاب. والأصح عندنا أنه يضمن الأقلَّ، كما قال القفال، وإن (2) كان الثمن أكثر، فتسليم العين لا يتضمن تفويتاً [للزيادة] (3)، فليقع التعويل على هذا. والذي أراه أن من ذكر خلافاً في أنه يضمن الثمن أو القيمة، سنح له طرَفا الكلام ولم يستكملهما. والاحتواءُ عليهما يقتضي ما قاله القفال؛ فلا مزيد عليه. 4957 - ولو اشترى في القراض خمراً، أو خنزيراً، أو أم ولد، وسلّم الثمن، فلا شك في بطلان الشراء، وإنما الكلام في الضمان. فلو فعل المقارض ذلك على علمٍ، فهو ضامنٌ للمال الذي بذله، ثم لا تفصيل في شراء الخمر والخنزير بين المسلم والذمي. وإن كان الذمي قد لا يرى نفسه مُفرطاً في شراء الخمر، فلا معوّل على عَقده. ولو كان المقارَض جاهلاً فيما زعم، بأن ظن الجارية قنّة، فإذا هي أمُّ ولد، لم

_ (1) (ي)، (هـ 3): الذي وقع. (2) (ي)، (هـ 3): فإن. (3) في الأصل: في الزيادة.

يضمن الثمنَ الذي بذله؛ فإنه معذور في جهله بحالها، لأن القِنّة لا تمتاز عن أم الولد بعلامة تقْبلُ الإحاطةَ بها. ولو اشترى خمراً وبذل ثمنها، ثم زعم أنه حسبها عصيراً، فهل يضمن الثمن المبذول؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يضمن كمسألة المستولدة. والثاني - أنه يغرَم بسبب التقصير في ترك التأمل، والخمر تتميز عن العصير والخل بالرائحة الفائحة، فإذا التبست عليه، كان ذلك بسبب تقصيره. ثم إذا خرجت الجاريةُ أمّ ولد، فأراد ردَّها على البائع، فأنكر البائع أصلَ البيع وقَبْضَ الثمن، وتعذّر الردُّ لذلك، لم يضمن المقارَض شيئاً لرب المال، بسبب تركه الإشهاد على شرائها، لما أوضحناه من أن ترك الإشهاد في شراء الأعيان وبيعها لا يُعدّ تقصيراً. هذا منتهى المسائل المنصوصة، ونحن نرسم بعدها فروعاً مستفادة، وقد يجري فيها ما لا يختص بأحكام القراض صادفناها للأئمة في أثناء الكلام. فرع: 4958 - نص الشافعيُّ على أنه لو دفع إليه ألفاً قراضاً، ثم ألفاً آخر، فإذا خلط (1) أحدَ الألفين بالآخر إن لم يكن تصرّف في واحد منهما، جاز، وكأنه دفع الألفين دفعة واحدة. وإن كان قد تصرف، لم يجز الخلط؛ لأنه ربما يكون قد وقع خُسرانٌ في أحد المالين، فإذا خلطهما وصارا مالاً واحداً، فيختلط الأمر، فإنّ جبران الخسران في أحد المالين لا بدّ منه، ثم يلتبس الأمر، فلا يُدرَى الجابر والمجبور. ونص على أنه لو اشترى عبداً للقراض، فقال رب المال: كنتُ قد نهيتك عن شراء هذا [العبد] (2)، وأنكر العامل ذلك، فالقول قول العامل مع اليمين؛ لأنه أمين، والأصل إطلاق التصرف. 4959 - ومما نص عليه الشافعي، وهو أصل في الباب أنه لو كان في [مال] (3)

_ (1) (ي)، (هـ 3): وقال: اخلط. (2) في الأصل: العقد. (3) في الأصل: باب.

القراض عبد، فلا ينفرد رب المال بكتابته، وكذلك العامل لا يكاتبه، وذلك لأن الكتابة بمنزلة الإتلاف، ولهذا يُحسب على المريض من ثلثه، وهذا بيّنٌ، والغرض وراءه. فإن اتفقا على الكتابة صحت، ثم ينظر: فإن لم يكن في المال ربحٌ، وكاتباه على قدر القيمة، فهو مكاتَب رب المال، يعتِق بدفع النجوم (1) إليه، والولاء فيه له. والذي ذكره المحققون: أن الكتابة إذا صدرت على التراضي (2) تتضمن في الصورة التي ذكرناها فسخَ القراض؛ فإن الكتابة في حكم الإعتاق، وما يستفاد من المكاتَب أمرٌ جديد وسنَنْعطف على هذا آخراً. وإن كان في المال ربح: بأن كان رأس المال ألفاً وقيمةُ العبد ألفان، وقد يظهر الربح بالكتابة [بأن] (3) كانت قيمته ألفاً، وكاتباه على ألفين، فالمكاتب بينهما، والنجوم بينهما: لرب المال ثلاثةُ أرباعها، وللعامل ربعها، فإذا أُعتق فثلاثة أرباع الولاء لرب المال، وربعُه للعامل. وهذا -من كلام الأصحاب- دليلٌ على أن الكتابة لا توجب فسخ القراض على الإطلاق؛ فإنهم أجرَوْا التصرفَ في نجوم الكتابة للمقارَض، لمّا فرضوا ورود الكتابة بعد ظهور الربح، وزادوا [على هذا، وفرضوا الربح بعقد الكتابة. فكأنهم اعتقدوا الكتابة منجزة] (4) على هذا التقدير، ووجه التخريج أن الكتابة إن لم تكن مندرجةً تحت التجارة المطلقة، فإذا وقع التراضي بها عُدّت من المكاسب الملتحقة بالتجارات. وهذا يناظر عندنا البيعَ بالنسيئة؛ فإن المقارَض لا يستفيده بإطلاق معاملة القراض، ولكن إذا وقع الرضا به، التحق بمعاملات القراض. فليفهم الناظر ذلك، وليرجع من هذا المنتهى إلى أول المسألة: وهو إذا لم يظهر ربحٌ، وكان مالُ القراض عبداً، لا ربح (5) فيه، فوقعت كتابته بقيمته، فمن أصحابنا

_ (1) النجوم: جمع نجم، وهو القِسْط، من نجم الدين: إذا دفعه أقساطاً. (معجم). (2) (ي)، (هـ 3): عن تراضٍ. (3) في الأصل: " فإن ". (4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (5) (ي)، (هـ 3): عبداً ولا ربح، فوقعت.

من يرى ذلك فسخاً للقراض، ومنهم من لا يراه فسخاً، ويربط القراض بالنجوم. وهذا تنبيه تفصيل المراتب، فنقول: إن تأكد القراض بظهور الربح، فالكتابة لا تتضمن فسخاً. وإن تضمنت الكتابة في نفسها إظهارَ ربحٍ، فالجواب كذلك. فإن لم يكن ربحٌ، ولم تتضمن الكتابة ربحاً، ففي انفساخ القراض وجهان. فرع: 4960 - إذا دفع رجلان كلُّ واحد منهما ألفاً إلى رجل ليشتري له به جارية، فاشترى بالألفين جاريتين لهما، ثم اشتبهتا عليه، ووقع الاعتراف بالاشتباه، فقد نص الشافعي على قولين: أحدهما - أنه تُباع الجاريتان للمالكين، ويقسم الثمن بينهما، ولا نظر إلى تفاوت القيمتين (1)؛ فإنّ التمييز قد تعذر، فإن حصل ربحٌ، فهو مقسوم بينهما. والقول الثاني - أنا نترك الجاريتين على المشتري، ونلزمه قيمتَهما للمالكين، وكأنه أتلفهما عليهما بالنسيان [المؤدي] (2) إلى الاشتباه، فالتزم قيمتهما، والجاريتان له؛ لأنه أحق بهما إذا غرم بدلهما لمالكيهما. التفريع على القولين: 4961 - إن قلنا بالقول الأول، وقد فرضنا المسألة في الوكيل، فنعود ونفرضها في المقارض، وللشافعي رضي الله عنه نصٌ على القولين في الوكيل والمقارَض جميعاً. فإذا اشترى جاريتين لمقارضين على حسب ما صورناه، والتبس الأمر، بعناهما، فإن كان الثمن مثلَ مالَيْهما من غير مزيدٍ، قسم عليهما. وإن كان في الثمن ربحٌ، قسم الربح بينهما بالسَّوِية إذا استويا في أصل المال، ثم يرجع المقارَض على كل واحد منهما بحصته من الربح المشروط له. وإن اتّفق خسرانٌ، فعلى المقارَض الضمان. هكذا قال الأصحاب. وهو يحتاج (3) إلى فضل تدبر.

_ (1) (ي)، (هـ 3): قيمتي الجاريتين. (2) في الأصل: وأدى. (3) (ي)، (هـ 3): يرجع.

فإن كان النقصان من غير انحطاط السوق، فهو محمولٌ على التضييع، ولكن التبس الأمر، فلزمه الضمان، وإن انحط السوق، فعليه جبر ذلك النقصان. وهذا فيه فضل نظر؛ [فإنا] (1) إذا بعنا الجاريتين، وقسمنا قيمتهما، فالقراض لا يرتفع، ولو أراد المقارَض أن يتمادى على التصرف، جاز ذلك، ما لم يفسخ القراض. ثم إذا فرضنا خسراناً عن انحطاط السوق، فإطلاقُنا القولَ بأنه يجب جبره، معناه أنه يُجبر بالربح، الذي سيكون، وهذا لا يجب؛ فإن المقارَض لو أراد الانكفاف عن العملِ [والاسترباحِ] (2)، كان له ذلك، والخسران في القراض لا يجبر إلا بالربح المستقبل. فإذا كان لا يجب الاسترباح، فكيف يجب جبرانُ الخسران؟ والوجه في ذلك أن قيمة الجاريتين إن انحطت على نسبة واحدة من غير تفاوت، وكانت القيمتان متساويتين، فإيجاب جبران الخسران بعيدٌ هاهنا. وإن انحطت قيمةُ واحدةٍ دون الأخرى، والتفريع على أنهما تباعان، فلا يمتنع وجوب الجبران هاهنا؛ فإن كل واحد من المالكين يقول: لعل الجارية التي لم تنقص هي لي، فيصير العامل جانياً جنايةً تقتضي الغرمَ بسبب النسيان. ثم هذا الجبران إن وجب، فهو من مال هذا العامل، لا من الربح الذي سيكون. فهذا منتهى النظر في التفريع على هذا القول. 4962 - وإن فرعنا على القول الثاني، فالجاريتان تنقلبان إلى ملك العامل إذا تحقق اللّبس، ثم اختلف جواب الأئمة، فقال بعضهم: يغرَم المقارَض لهما أموالَهما، ولا نظر إلى قيمة الجاريتين. وإليه إشارة العراقيين، وهذا يلحق بانقلاب البيع إلى الوكيل، وتنفيذه عليه. وقد مضى لذلك أمثلةٌ في كتاب الوكالة. وذهب طوائف من المحققين إلى أنه يغرَم قيمة الجاريتين ويقسطها عليهما بالسَّويّة، وهذا إذا لم تنقص القيمتان عن مالَيْهما، وإن زادت القيمتان التزمهما وجُعل بالنسيان كأنه أتلف الجاريتين. وإن كانت القيمتان أقلَّ، فلا بد من جبر

_ (1) في الأصل: فأما. (2) في الأصل: بالاسترباح.

النقصان؛ فإنّا لو لم نقل هذا، لضيعنا طائفةٌ من أموالهما. ثم من اعتبر مالَيْهما، فيظهر أن يقول: تنقلب الجاريتان إليه قبل أن يغرَم لهما المالَين، ومن اعتبر القيمة، فالرأي في ذلك مترددٌ عندي، وفحوى كلام الأئمة على هذه الطريقة أنه كالمتلف، ومساق هذا أنه يملك، ويغرّم، ولا يترتب الملك على الغرامة، [ولا] (1) يمتنع أن نقول: يتوقف جريان ملكه في الجاريتين على بذله قيمتيهما، كما يقول أبو حنيفة في ملك المضمونات بالضمان، فكيفما قدرنا، لم نسلِّم الجاريتين إليه، يفعل بهما ما يشاء قبل الغُرْم، هذا بيان القولين. والقياس عندنا مذهبٌ ثالث، وهو أن تبقى الجاريتان لهما على الإشكال إلى أن يصطلحا، وسيكون لنا كلامٌ بالغٌ -إن شاء الله عز وجل- في اختلاط المتقومات بالمتقومات، مع تعذر التمييز. والذي أراه في ذلك أن أذكر فصلاً في كتاب الصيود عند ذكرنا اختلاطَ حمامِ زيدٍ بحمام عمرو مع اليأس من التمييز. وما ذكره الشافعي من ترديد القول سببُه نسبةُ الوكيل إلى التقصير، من حيث [إنه] (2) لم يتحفظ حتى نسي، فنشأ من هذا تنزيلُ النسيان منزلةَ الإتلاف في قولٍ. ولو خلط رجل حمامَ زيد بحمام عمرو قصداً، فلا يمتنع أن يخرّج فيه هذا القول؛ فإن الخلط أثبت عُسراً لا يزول وحيلولةً قائمةً لا ترتفع واعتماد الخلط أشبه بالإتلاف من طريان النسيان على الوكيل. فصل يشتمل على مسائل لفظية في جزئية الأرباح أو نسبة جملتها إلى أحد الجانبين، نراها شذت عن الضوابط المذكورة في أول الكتاب. 4963 - فنقول: أولاً- إذا قال: قارضتك على هذه الدراهم، ولم يَجْر للربح ذكرٌ، فهذا قراضٌ فاسد، وحكمه أن الأرباح لرب المال، وللعامل أجرُ عمله.

_ (1) في الأصل: فلا. (2) ساقطة من الأصل.

وليس هذا كما لو قال: قارضتك على أن جميع الربح لي، على ما [تقدم] (1) بيانه؛ وذلك أنه لم يتعرّض لإضافة الربح فيما ذكرناه الآن بنفي ولا إثبات. فليفصل الفاصل بين الصورتين، وهما يناظران صورتين في البيع: إحداهما - أن يقول: بعتك عبدي هذا، ويقول [المخاطب] (2): اشتريتُ، ولا يقع للثمن تَعرض بنفيٍ ولا إثبات، فهذا بيعٌ فاسد، ولا يحمل على الهبة، جواباً واحداً، والقبض المترتب عليه يتضمن الضمان. وهذا يناظر ذكرَ القراض مع السكوت عن جزئية الربح. والصورة الثانية في البيع- أن يقول: بعتك عبدي هذا بلا ثمن، فللأصحاب تردد في أن هذا يحمل على الهبة. وإن لم يحمل على الهبة، فهل يتضمن ضماناً إذا اتصل القبض به؟ وقد يناظر هذا في بعض الوجوه ما لو صرَّح بإضافة الربح إلى العامل. والغرض مما ذكرناه التنبيهُ على الفصل بين السكوت عن الربح، وبين إضافته بكماله إلى أحد الجانبين. 4964 - ولو قال: قارضتك على هذه الدراهم على أن الربح بيننا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القراض فاسد لعروّه عن جزئيةٍ معلومةٍ في قسمة الربح. والوجه الثاني - أنه يصح، ويحمل قولُه: "والربح بيننا" على نسبة التنصيف والتشطير، وكل ما أضيف إلى جهتين، أو شخصين بهذه الصيغة فمقتضاه التنصيف؛ فإن من قال: هذه الدار لزيد وعمرو، حمل مُطلق قوله على الإقرار لكل واحد منهما بنصف الدار. ولو قال: قارضتك على أن كل الربح لك، أو على أن كل الربح لي، فهذا مما تقدّم استقصاءُ القول فيه، فلا نُعيده. وفي المساقاة لو قال: ساقيتُك على هذه النخيل على (3) أن الثمار لك، فهذه مساقاة فاسدة، ولا يتجه إلا هذا الوجه. وليس كما لو قال للمقارَض: كل الربح

_ (1) في الأصل: تقرر. (2) في الأصل: الخاطب. (3) في الأصل: أو على أن الثمار.

لك؛ فإنا في وجهٍ نجعل ذلك إقراضاً. وهذا لا يتأتى في المساقاة؛ فإن صرف جميع الثمار مع العلم بأنها متميزةٌ عن النخيل، لا يتضمن إقراض رقاب النخيل. ولو قال: ساقيتُك على أن جميع الربح لي، فلا يبعد التسوية بينهما في هذا الطرف. وقال بعض أصحابنا: إذا شرط جميع الثمار لنفسه في المساقاة، كانت مساقاة فاسدة وجهاً واحداً، ولا يجري فيه الاختلاف الذي ذكرناه فيه إذا قال في القراض: على أن جميع الربح لي. والفرقُ لا يظهر في هذا الطرف، وإنما يظهر في الطرف الآخر، كما تقدم. ولو قال: خذ هذه الدراهم، وتصرف فيها على أن جميع الربح لك، فقد قال قائلون: هذا قرضٌ وجهاً واحداً، وإنما الوجهان فيه إذا قال: قارضتك على أن جميع الربح لك، ففيه التردد الذي مضى. والفارق عند هذا القائل، أنه لم يجر اللفظ المختص بالمعاملة، بل قال: خذ، وتصرّف. وكان شيخي لا يُفرّق بين هذه الصورة، وبين ما إذا قال: قارضتك على أن كلَّ الربح لك. 4965 - فإن قيل هل تُعيّنون في المعاملة التي نحن فيها ألفاظاً؟ قلنا: القراضُ، والمضاربة، والمعاملة، ألفاظٌ مختصة بهذا النوع. وإن لم تجر هذه الألفاظ، بل جرت عبارات تُشعر بمقاصد المعاملة، كفت، والضابط فيه إذا وقع التصريح بالمقصود من التسليط على التصرف وقسمة الربح، كفى. وإذا جرت الألفاظ المشهورة، أغنى جريانُها عن ذكر التسليط على التجارة؛ لأنها صرائحُ شائعةٌ في مقاصد العقد. وإن جرى لفظُ القراض مع ما يُناقض الموضوعَ، فقد نقول بالفساد، وقد نرى الحيدَ عن موضوع المعاملة، وذلك مثل أن يقول: على أن كل الربح لك، أو يقول: على أن كل الربح لي. وإن لم يجر لفظ صريح، وجرى حيدٌ عن مقصود المعاملة، مثل أن يقول: خذ،

وتصرف، ولك الربح كله. فمن أصحابنا من يقطع بأن هذا حائد عن القراض، لعروّه عن صريح لفظه، وعن مقصوده الشرعي. ومن أصحابنا من جعل هذا وقولَ القائل: قارضتك على أن كلّ الربح لك بمثابةٍ. ومما ذكره القاضي أنه لو قال: قارضتك أو ضاربتك، فلا بد من القبول المتصل، على ما لا يكاد يخفى وجه اتصال الإيجاب بالقبول. ولو قال: خذ هذه الدراهم، واتّجر فيها، ولك نصف الربح، فلا حاجة إلى القبول. قال القاضي: وهذا بمثابة ما لو قال لمن يخاطبه: بع عبدي، فلا حاجة إلى القبول. 4966 - ولو قال: وكلتك ببيعه، فقد نقول: لا بد من القبول. أما الوكالة، فقد قدمنا ما فيها، وأما مصير هؤلاء إلى أن المعاملة إذا عريت عن لفظها الصريح، وفُرضت بمثل قول القائل: خذ هذا، وتصرف، فلا حاجة إلى القبول، فبعيدٌ، لا أصلَ له. وقد قطع شيخي والطبقة العظمى من نقلة المذهب أنه لا بد من القبول، وكيف لا يكون كذلك، وهذه معاملة مختصة بمعيّنٍ، فيها استحقاق العوض والمعوّض، فكيف تثبت من غير قبول؟ وإن ظن ظانٌّ أن ذلك يلتحق بالجعالات، فقد أبعد؛ فإن وضع القراض يخالف وضع الجعالة؛ [إذ وضعُ الجعالة] (1) على إبهام العامل، مثل قول القائل: من رد عليّ عبدي الآبق، فله كذا، ومصلحة [تيك] (2) المعاملة تقتضي هذا. ثم شرط صحة الجعالة إعلامُ الجعل تقديراً، أو تعييناً، والقراض معاملةٌ برأسها بعيدةُ المأخذ من الجعالات. ولا خلاف أن لفظ المقارضة يستدعي القبول، فإذا جرى ذكر مقصود المقارضة، وجب الافتقار [إلى] (3) القبول؛ فإن المقارضة لا [تُعْنى] (4) لصيغتها، وإنما هي لفظة

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في الأصل: ملك. (3) حرفت في الأصل: إن. (4) في الأصل، (ي): يغني. والمثبت من: (هـ3).

دالّةٌ على مقصود، وهذا إن احتمل في الوكالة من حيث إنه إذنٌ، لم يتجه مثلُه فيما يتضمن عوضاًً، ومعوضاً، وأحكاماً وأركاناً. فرع: 4967 - رأس مال القراض يجب أن يكون معلوم المقدار، ولا يكفي في الإعلام الإشارة؛ [فلو] (1) قال: قارضتك على هذه الدراهم، وأشار إلى صُرَّةٍ منها، مجهولةِ المقدار، فالمعاملة فاسدة جواباً (2) واحداً. وقد اختلف قول الشافعي في أنا هل نشترط إعلام رأس المال في السّلم؟ والفرق بين الأصلين أن مال القراض يؤول إلى تنضيض رأس المال، وكيف يتصور المصير إلى هذا من غير إعلام رأس المال، وليس كذلك السَّلَم؛ فإن استبهام الأمر فيه بسبب جهالة رأس المال موهومٌ، وذلك بأن يُفرض انقطاعُ المسْلَم فيه، ومسيسُ الحاجة إلى الرجوع إلى رأس المال. وأمر القراض مبناه على تمييز رأس المال عن الربح. فصل 4968 - فيما يتّفق في مال القراض من الزوائد المنفصلة، كالثمار والنِّتاج، وما في معناهما، ويتصل بذلك القولُ في منافع مال القراض، وهذا أصلٌ لم يعتن الأصحاب بجمع قولٍ فيه، ونحن تكلفنا تلقِّي حقيقة المذهب من النص، وأقوال الأئمة في هذا الفصل، فنقول: إذا اشترى العامل مواشيَ، وكان يتربص بها ليبيعها، فاتفق نتاجٌ في مدة التربّص، أو اشترى نخيلاً، فاتفقت ثمارٌ في مدة التربص، فالذي نحققه من مذهب الأئمة أن هذه الزوائد [تلحق بمال القراض، وتُعدّ منها، وكان من الممكن في طريق القياس أن يقال: هذه الزوائد] (3) فوائدُ عينية ليست مستفادةً من قبل التجارة، وإنما يشارك العامل ربَّ المال في الأرباح؛ فإن هذه المعاملة موضوعة لتحصيل الأرباح، ولكن لم يقل بهذا أحدٌ، والسبب فيه أن العامل إذا اشترى برأس المال نخيلاً أو مواشي،

_ (1) في الأصل: ولو. (2) (ي)، (هـ 3): جواب. (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

فقد استبهم من هذا الوقت أمرُ الربح ورأس المال؛ فإن المتقوّمات لا ثقة بقيمتها حتى تنض. وإذا كان يثبت للعامل حقٌّ في الربح، بل يثبت له حق في العروض، وإن لم يبدُ ربحٌ، فما يتفق شراؤه يجب أن تشيع فوائده وزوائده. وكان شيخي يقول: حصول الفوائد محمولٌ على تسبب العامل إلى شراء الأصل؛ إذ لولا شراؤه له، لما حصلت الزوائد. والأرباحُ إنما تحصل على تحصيله من هذه الجهة أيضاً، فيجب أن يعتقد التحاقُ الزوائد بمال القراض، ثم لا نحكم فيها بأنها أرباح أو زوائد، ولكن هي من مال القراض، وجملة مال القراض لا تميُّزَ فيها من طريق التعيين، ولكن رأس المال والربح شائعان، وإنما يتميز رأس المال عن الفوائد (1) الزائدة بالمفاصلة آخراً، كما ذكرناه. 4969 - ومما يتعلق بتحقيق هذا الفصل حكمُ المنافع. أولاً: قال الأصحاب: لو كان في مال القراض جاريةٌ، فوطئها أجنبيٌّ بالشبهة، والتزم مهر المثل، فهو مأخوذٌ منه، مضموم إلى مال القراض، شائعٌ فيه؛ ولا نقول: إنه متجدد في نفسه، ويلحق (2) بالفوائد تعييناً وتخصيصاً، وإذا ذكروا ذلك في عوض منفعة البُضع، فأعواض سائر المنافع بذلك أولى؛ فإنها إلى المالية أقرب، وهي مضمونة بيد العدوان، كالأعيان، بخلاف منافع البُضع. ويخرج من ذلك أن المقارض لو أراد ألا يعطل منافع الأعيان المنتفع بها، بأن يعقد في زمان [التربص] (3) بالبيع -على ما يرى- فيها إجارةً، فلا بأس. ثم ما يحصل ينضم إلى مال القراض. وليس للعامل أن يزوج الجارية؛ لأن التزويج ينقص قيمة العين، بخلاف الإجارة. وقد نص الشافعي على أن المالك لو أراد أن ينتفع ببعض أعيان القراض، لم يكن

_ (1) (ي)، (هـ 3): عن الزوائد. (2) (ي)، (هـ 3): فيلتحق بالزوائد. (3) غير مقروءة بالأصل.

له ذلك، حتى لو شرط ركوب دابة تتّفق، أو استخدام عبد يقع في مال القراض، كان الشرط فاسداً مفسداً. وقد ذكر الأصحاب أن المأذون له في التجارة لا يكري، ولا يؤجر، وصرحوا بأن الإجارة ليست من التجارة. وقد يبتدر الفقيه إلى أن المقارَض متجرٌ في المال، فينبغي ألا يزيد على التجارة. وهذا فيه نظر؛ فإنا في المسلك الذي نُجريه نعتقد أن العامل من وجهٍ متجرٌ، ومن وجهٍ متصرّفٌ في ملك نفسه؛ من جهة أنه يملك جزءاً شائعاً، أو يملك أن يملكه، ولا نُطلق القولَ بنفي الربح، ولا بإثباته. والأمر مبهم [مشتبه] (1). هذا وضع القراض. ولو كان يتصور لرأس المال منفعة، ربما كان يغمض النظر فيها، ولكن لا منفعة للنقد، [و] (2) إذا صرفه إلى العروض، التبس الأمر، كما قررناه، ولذلك يستحق البيع، أو يجب عليه البيع، كما فصلنا القول في ذلك. 4970 - ثم ذكر القاضي أمراً بدعاً لا يهجم على مثله [إلا صؤولٌ] (3) في الفقه (4) جوّالٌ في [معاصاته] (5): وذلك أنه قال: لو وطىء رب المال جارية القراض، فنقول: هو بالوطء متلف منافع البضع، فنجعله كما لو أتلف عيناً من أعيان مال القراض، ولو فعل ذلك، لكان مسترداً لذلك القدر من مال القراض. ثم المسترد وفي المال ربحٌ يقع شائعاً من رأس المال والربح، كما قدمنا تفصيل ذلك، فيجعل رب المال بالوطء مسترداً لمقدارِ مَهْر المثل، وذلك بأن يقدر ثبوت مهر المثل أولاً منضمّاً إلى المال، ثم نقدرُ استرداده [وبمثل] (6) هذا لو وجب مهر المثل بوطء أجنبي، ثم فرض الاسترداد فيه. وهذا قد يستبعده الناظر على البديهة، فإذا أحاط بما مهدناه قبلُ، ثابت إليه

_ (1) في الأصل: مشتبك. (2) [الواو] ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: أصول في الفقه. (4) (ي) (هـ 3): إلا صؤول في فقهه. (5) في الأصل: مغاصاته. (6) في الأصل: ولمثل.

نفسُه، واستمر مريره (1) وعلم من خاصية القراض ما نبهنا عليه. ومن بديع ما [نذكره] (2): أنا لا نوجب على العامل أن يكري ويؤاجر، وكيف نوجب عليه ذلك، ولا نلزمه أن يتجر، ولو ضيّع متاجرَ رابحةً، وجهاتٍ في المكاسب لائحةً، لم يتعرض للضمان، ولكن يكفيه أن يخيب مع خَيْبة رأس المال. ولو وطىء رب المال الجاريةَ الواقعة في مال القراض، وأولدها، صارت أمْ ولد له، ويصير مستردّاً لقيمتها، ثم حكم الاسترداد ما ذكرناه. ولم يتعرض القاضي في هذه المسألة لثبوت المهر تقديراً، ثم لثبوت القيمة بعد المهر، والذي يقتضيه قياس مذهب الشافعي، تميز المهر عن القيمة، وثبوتهما جميعاً؛ ولهذا نقول: إذا استولد الأب جارية ابنه، التزم مهرها، وقيمتَها: المهرُ بالتغييب (3) والقيمةُ بحصول العلوق. وهذا محتمل جداً في حق رب المال؛ فإنه إذا أفضى أمره إلى الاستيلاد، حُمل أول فعله وآخرُه على استرداد الجارية، وهذا لا يتحقق في جارية الابن مع الأب؛ فإنه فيها بمثابة المتلف، وهذا مشكل جداً، والقياس الجمع بين المهر والقيمة، ولم يتعرض القاضي لذكر المهر مع جريان الاستيلاد، وقرن به ذكرَ المهر إذا تجرد الوطء. فليتأمل الناظر هذه [المعاصات] (4). فرع: 4971 - من غصب دراهمَ، ثم إن مالكها قارض الغاصب عليها، فالقراض صحيحٌ. وفي براءة الغاصب عن ضمان الغصب، وجهان ذكرهما الأصحاب. ولم يسمح أحدٌ بذكر خلافٍ في زوال ضمان الغصب بسبب رهن المغصوب من الغاصب، مع أن الرهن أمانةٌ كأموال القراض، والقراض والرهن لا يعقدان للائتمان المجرد، وهما متعلقان بغرض الغاصب، بل الغرض في القراض أظهر؛ فإنه حق تملك.

_ (1) ساقطة من (هـ 3)، وفي (ي): مردّه. واستمرّ مريره: أي استحكم عزمه (معجم). (2) في الأصل: ذكرناه. (3) كذا في النسخ الثلاث: بالتغييب، أي الوطء وتغييب الحشفة، وقد تكون (التعييب) بالمهملة، بمعنى إتلاف منفعة البضع. (4) في النسخ الثلاث: المغاصات.

وأقصى ما أقدر عليه في مثل ذلك [ذكر] (1) وجه الإشكال. فإن قلنا: لا يزول ضمان الغصب بطريان القراض، فلو صرف تلك الدراهم المغصوبة إلى جهات التجارة، وقبض أعواضها، انقطع الضمان عنه في الدراهم؛ فإنه بتسليمها جرى على موجب الإذن فيها، وزالت يدُه عنها. ثم ما يقتضيه من أعواضها، فهو أمين فيها؛ فإنه لم يتقدم منه فيها سببُ ضمان، وهذا لائح. فرع: 4972 - إذا دفع إلى رجل ألفاً قراضاً على الشرط المرعي، فلو خلطه بمال نفسه، فقد أساء، وصار ضامناً؛ فإن من الأسباب المضمنة للأمناء أن يخلطوا الأمانة بغيرها. ثم مع هذا قال الأصحاب: لا ينعزل من التصرف، بل ينفذ تصرفه في المال حتى إذا خلط ألفاً بألفٍ، وأخذ يتجر، فرأس مال القراض من الألفين ألفٌ، والألف الآخر للعامل، وما يتفق من ربحٍ يُنصّف بين الألفين، وللعامل النصف على مقابلة ألفه، والذي يخص ألفَ القراض يقسم بين المالك وبين العامل، على موجب التشارط. وهذا إذا جرى من غير شرط، فحكمه ما ذكرناه. ولو عامل [رجل] (2) رجلاً على ألفٍ، على أن يخلطه بألفٍ آخر لنفسه، فالشرط على هذا الوجه فاسدٌ مفسدٌ؛ فإنه مخالفٌ لوضع الشرع في تصوير القراض، وآيةُ ذلك أنه إذا وقع، صار ضامناً لمال القراض، وإن كان لا ينقطع التصرف به. فرع: 4973 - إذا اختلف العاملُ وربُّ المال في شرط الربح وجزئيته، فقال العامل: شرطت [لي] (3) النصف، وقال رب المال: بل الثلث، قال الأصحاب: يتحالفان، ثم حكم تحالفهما أن يرتدّ الربحُ بكماله إلى رب المال، ويثبت للعامل أجر مثله، وهذا في ظاهر الأمر قياسٌ. وفيه فضل نظر سنذكره على أثر هذا، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: تذكير، وفي (ي)، (هـ 3): بذكر. والمثبت من تصرف المحقق. (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: إلى.

ولو قال رب المال: رأس المال كان ألفاً، وقال العامل: بل كان خمسمائة، فالذي ذهب إليه المحققون أن هذا ليس من صور التحالف، بل القول فيه قول العامل؛ فإنه مؤتمن، وأدنى درجات الائتمان أن يصدَّق في مقدار المقبوض. وإذا لم يجر التحالف في هذه الصورة، حلّفنا العاملَ، وميزنا رأس المال أخذاً بقوله، وقسمنا الفاضل على موجب التشارط. وذكر العراقيون وجهاًً في أن الاختلاف في رأس المال يوجب التحالف، ثم أثره ارتداد الربح بكماله إلى المالك، ورجوع العامل إلى أجر المثل، وهذا ضعيفٌ مزيف. وليس ما ذكرناه كالاختلاف في جزئية الربح؛ فإن ذلك تنازعٌ في صفة العقد. فصل 4974 - قد ذكرنا القراض الفاسد، وهذا أوان بيان حكمه، فنقول: القراض الفاسد هو الذي يجري قراضاً، ويختل [شرط] (1) صحته. والحكم فيه انقطاع المسمى من الربح في مقابلة العمل، ومقتضى ذلك رجوع الربح بجملته إلى المالك، ثم لا يخيب العامل، فله قيمةُ عمله، وهو أجر المثل، وهذا جارٍ على قياس ترادّ الأعواض. ثم إن حصل ربحٌ بالعمل -وإن قلّ- فالحكم ما ذكرناه. وإن لم يحصل شيء من الربح، وقد فسد القراض، فهل يستحق العامل أجر المثل؟ فعلى وجهين. ذكرهما شيخي: أحدهما - وهو الظاهر- أنه يستحق أجر مثل عمله، ولا نظر إلى الربح، حصل أو لم يحصل؛ فإنّ موجب القراض الفاسد تقويم عمل العامل. والوجه الثاني - أنه لا يستحق أجر المثل إذا لم يكن ربحٌ؛ فإن القراض لو كان صحيحاً، لكان يتعطل في هذه الصورة حقُّ العامل، فمبناه إذاً على أنه لا يستحق شيئاً، إذا لم يكن ربحٌ. وهذا ضعيفٌ لا اتّجاه له.

_ (1) في الأصل: بشرط.

وقد يجري في صور الفاسد حيْدٌ عن جهة القراض بالكلية، عند بعض الأصحاب، ولم (1) يقع تصرفهم فيه على حسب ذلك. وهو إذا جعل الربحَ بكماله لنفسه، أو جعله بكماله للعامل، وقد قدمنا تصرف الأصحاب في ذلك، و [ذكرنا] (2) مصير بعضهم إلى أن هذا إقراضٌ في صورة، وإبضاع في أخرى. والجملة في ذلك أن القراض إذا فسد والمقارَض فيه على طمعِ استحقاق جزء من الربح بموجب القراض، فهذا هو القراض الفاسد، الذي يقال فيه: للعامل أجر عمله، ولرب المال الربح. وإن لم يكن خوض العامل على قصد استحقاق جزء من الربح؛ فيختبط النظر حينئذ. فصل في مقارضة الرجل رجلين، وفي مقارضة رجلين رجلاً فنقول: أطلق الأصحاب القول في تجويز ذلك كله. فإن قارض رجلان واحداً على مالٍ مختلط بينهما، على نسبة معلومة، وشرط أحدهما للعامل من نصيبه النصف، وشرط آخر له من نصيبه الثلث، فهذا جائز، وهو كما لو [أفرد] (3) هذا قراضاً معه على النصف وهذا قراضاً آخر على الثلث. ولو شرطا نصف جميع الربح له من المالين، فجائزٌ حسن، فلو أنهما قالا للعامل: النصفُ. وقالا: ما بقي من الربح بعد نصيبه مقسومٌ بيننا، لا على ما يقتضيه مقدارُ المِلكين. فإن استويا في الملك، وشرطا أن يكون بقيةُ الربح أثلاثاً بينهما، فهذا فاسدٌ، مخالف لوضع الشرع، ثم قال الأصحاب: هو مفسدٌ للقراض، وقد يخطر للفقيه أن هذا تشارط وراء مقصود القراض، فيجب ألا يؤثر فيه، وليس الأمر كذلك.

_ (1) (ي)، (هـ 3): ثم يقع. (2) ساقطة من الأصل. (3) غير مقروءة بالأصل.

والمسألة شبيهةٌ بما لو شُرط في القراض جزء من الربح لثالثِ، ليس عاملاً، ولا مالكاً، وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك، فشرط مزيد الربح لأحد المالكين على خلاف ما يقتضيه قدرُ ملكه يضاهي شرطَ الربح لثالث، وهو لا يستحقه في وضع الشرع. 4975 - ولو قارض رجل رجلين وشرط لأحدهما النصف، وللآخر الثلث، فجائز لتعدد المالك (1)، وحكم التعدّد (2) تعددُ العقد. ويعترض في هذا إشكالٌ، وهو أن مقارضة الرجل رجلين إن كان على أن يستبد كل واحد منهما بالتصرف، إذا اتفق متجرٌ من غير أن يحتاج إلى مراجعة صاحبه، فهذا على هذا الوجه انبساط في التصرف، فيُخيّل (3) انتفاء الحجر. لكن فيه إشكال؛ من جهة أن أحدهما لا يثق بتصرف نفسه، ولا يأمن أن يكون تصرفه مسبوقاً بتصرف صاحبه. وقد يتفرع عليه أنه إذا لم يتفق من أحدهما عمل أصلاً، وجرى العمل كله من الثاني، فيستحيل أن يستحق من لم يعمل شيئاً، ويجب أن يكون المشروط من الربح للعامل، وهذا فيه إشكال؛ فإنه لم يشترط الربحَ له وحده، ثم يلزمه منه إذا قبل بذلك أن يختلف الأمر (4) بمقدار العملين، وهذا أمر لا ينضبط. هذا إذا جرى القراض على أن يستقل كل واحد منهما بالتصرف. ولو كان القراض على ألا ينفرد أحدهما بالتصرف ما لم يطابقه الثاني، فهذا يجرُّ إشكالاً آخر؛ فإن ذلك يتضمن حجراً على كل واحد منهما، وقد قدمنا فيما سبق أن المالك لو شرط على المقارض ألا يمضي أمراً حتى يشاور رجلاً عيّنه، أو حتى يراجع ربَّ المال، فالقراض يفسد بذلك. هذا وجه الإشكال.

_ (1) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها (العامل) أو المراد: التعدد الحكمي، لتعاقده مع اثنين. (2) (ي)، (هـ3): وحكم ذلك تعدد العقد. وعبارة الرافعي: "إذا فارض الواحد اثنين، وشرط لأحدهما ثلث الربح وللآخر ربعه .. جاز لأن عقد الواحد مع اثنين كعقدين". انظر: فتح العزيز (بهامش المجموع: 12/ 27). (3) (ي) (هـ3): وتخيل. (4) (ي)، (هـ 3): الربح.

4976 - ونحن نقول بعده: مقارضة رجلين على أن يستقل كل واحد منهما بالتصرف في جميع المال فاسدٌ، لا شك فيه؛ فإن هذا وإن كان يُخيل انبساط أمر (1) كل واحد منهما، فهو في التحقيق أعظم تضييق، وفيه سقوط ثقة كل واحد منهما بما [يكون] (2) عليه. ثم يجر من الخبل في التفريع ما ذكرناه من اتفاق انفراد أحدهما بالعمل، أو تفاضلهما فيه؛ فلتخرج هذه الصورة عن إرادة الأصحاب للحكم بالصحة. فأما إذا قارض رجلين على ألا ينفرد واحد منهما بالتصرف، فهذا فيه ما أشرنا إليه من إشكال الحجر، ولكن يعارضه التعاون والتناصر، وهذا يزيد أثره على ما ينحسم بالحجر. وينفصل رجوع أحد العاملين إلى الثاني عن مسألتين: إحداهما - اشتراط مراجعة ثالث، لا خوض له في القراض، والأخرى- اشتراط مراجعة المالك. أما اشتراط مراجعة ثالث، فتثير حجراً ظاهراً؛ فإنه ليس في ذلك الثالث ما يستحثه على تنفيذ التصرف، والاتساع في المتاجر، وإذا لم يكن له غرض، فقد يتبرّم بالمراجعة، ويبغي الإفلات منها، ثم يجرّ ذلك عسراً بيّناً. والعاملان إذا تناصرا فكل واحد منهما يستحثه ماله من الحظ على السعي في تحصيل المتاجر. هذا وجه بيّن. وأما مراجعةُ المالك؛ فإنها تُحبط استقلال العامل بالكلية، ويتشوّف المتصرفون إلى المالك، وما يُسقط استقلال العامل ينافي وضعَ القراض، فهذا ما أردناه. وقد يتجه في مقارضة الرجل رجلين أن يحمل على كون كل واحد من العاملين مقارضاً في قسطٍ من المال، وقد أوضحنا أن الشيوع غير ضائر، وكلام الأصحاب في التفريع يشير إلى ذلك؛ فإن مما ذكروه: أنه لو قارض رجلين، وجعل نصيب أحدهما من الربح أقلَّ جاز، وهذا إنما يفرض بأن يقدّرَ كلُّ واحدٍ منهما مقارضاً في قسط، وهو منفرد بمعاملة المالك فيه، ثم المالك إن أثبت في كل معاملة نسبةً أخرى، على حسب التوافق، فلا معترض. ولو قدرنا القولَ بصحة مقارضة رجلين على التناصر، فهما كالعامل الواحد في

_ (1) (ي)، (هـ 3): انبساط من كل. (2) في الأصل: تقدم.

جميع المال، فلا يبقى لرب المال مقامُ الاحتكام بتفضيل أحدهما على الآخر. 4977 - فخرج من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أقسام: أحدها - أن يقارض رجلين على أن يتصرف كل واحد منهما في جميع المال، وهذا باطل، لا شك فيه؛ فإن في استقلال كل واحد منهما عدمُ استقلال صاحبه، وهو في التحقيق شَغْلُ مال واحد بقراضين. هذا قسم. والقسم الثاني - أن يتعاونا على العمل في الجميع، هذا محتملٌ، كما رددنا القول فيه. والأظهر البطلانُ لما ذكرنا آخراً من إضافةِ مالٍ واحدٍ إلى حقَّي عاملين، وهذا لا وجه له. وحق المقارَض عظيمُ الوقع في الشرع. والقسم الثالث - أن يقع مقارضةُ الرجلين، على أن يكون كل واحد منهما عاملاً في شطر المال. وهذا جائزٌ لا يرده راد. وقد قال الشافعي: تعدد المقارض يتضمن تعددَ القراض، ولا محمل لهذا إلا ردَّ تصوير مقارضة الرجلين إلى ما ذكرناه آخراً؛ فإنا لو فرضنا متناصرين على العمل في جميع المال، لكانا كالعاقد الواحد. فهذا منتهى الكلام في ذلك، وقد نبهنا في أول الكتاب على الإشكال، ولم نفصله. 4978 - وقد بأن الآن ومما أُجريه في هذا المجموع -ولا شك في تبرم بني الزمان به- أني كثيراً ما أُجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تُفضي إلى مقر المذهب (1) آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب، والنظر، وهذا من أشرف مقاصد الكتاب؛ فلست أخل به لجهل من لا يدريه. فصل في تلف مال القراض، أو تلف بعضه 4979 - لا خلاف أنه إذا تلف جميع المال قبل التصرف، فقد انتهى العقد، وانقطعت علائقه.

_ (1) (ي)، (هـ 3): المسألة.

وإن تلف البعضُ بأن كان رأسُ المال ألفاً، فتلفت خمسمائة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القراض ينفسخ فيما تلف، ويبقى فيما بقي، وفائدة ذلك خروج التالف عن الحساب، والمصيرُ إلى أن رأس المال هو الذي بقي، حتى (1) نقول: إذا تصرف العامل فيما بقي وربح، فلا يلزم جبرانُ الخمسمائة التالفة. والوجه الثاني - أن القراض لا ينفسخ فيما تلف، وإذا اندفع العامل في العمل، فرأسُ المال ألف، ويجب جبران الخمسمائة التالفة. ووجه الوجه الأول واضح، ووجه الثاني أن العقد إذا بقي ببقاء بعض رأس المال، فما جرى من النقصان يُعدُّ في عُرف المعاملة من النقصانات التي تجبرها الزيادات إذا اتفقت، ولعل الأقيس الأول. 4980 - ولو اشترى بالألف التي دفعها إليه عبداً، ثم تلف الألفُ قبل أن يوفره على البائع، [نظر: فإن كان اشترى العبد بعين الألف، انفسخ العقد بتلفه، وارتد العبد إلى البائع] (2)، ولا ضمان على المقارَض، وانقطعت علائق القراض. وإن كان اشترى العبدَ في الذمة، فالعقد قائم، ثم فيه وجهان: أحدهما - أنه ينقلب العقد إلى العامل، ويلزمه نقدُ الثمن من ماله؛ لأن رب المال لم يرض بأن يزيد تصرفُه على الألف المسلم إليه، ولا سبيل إلى الحكم بانفساخ العقد، فلا مسلك أقربُ من انقلاب (3) العقد إلى من تولاه. والوجه الثاني - أن العقد لا ينصرف عن رب المال؛ فإنه وقع له، ودخل العبد في ملكه تحقيقاً، فعليه بذلُ ألفٍ آخر في ثمن العبد، والألف الذي تلف لا ضمان بسببه على العامل، لكونه مؤتمناً. فإن حكمنا بأن العقد ينصرف إلى العامل، فقد انقطع القراض، ولا كلام فيه، وعلى العامل ثمن العبد.

_ (1) في الأصل: حتى لا نقول. (وهو لا يتفق مع السياق). والمثبت من (ي)، (هـ 3). (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (3) (ي)، (هـ 3): ردّ العقد.

وإن حكمنا بأن العقد لا ينصرف إلى العامل، وعلى المالك (1) بذلُ ألفٍ آخر، فرأسُ المال ألفٌ أو ألفان؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا تلف من الألف خمسمائة. فإن قلنا: رأسُ المال الخمسمائة الباقية، فرأس المال الألف الواحد، وهذا أولى؛ فإن الألف الأول تلف بالكلية؛ وفي المسألة الأولى بقي من رأس المال شيء. وإن قلنا: في تلف بعض رأس المال: إن رأس المال الألفُ الكامل، فرأس المال في هذه المسألة ألفان، والباقي في المسألة الأولى هو [عُلقة] (2) العقد، ومنه ينشأ جبران النقصان، والباقي في المسألة الثانية علقة العقد، وبقاؤه على حكم القراض. ولا يمتنع عندنا أن يقال: إذا تلف الألف، انفسخ القراض، وانقطع أثره، وخرج العقد عن موجب القراض بالكلية، ويبقى العبد مملوكاً لمن ملكه أولاً، فإن فرض ربحٌ، فهو المختص به. ثم يتفرع على هذا المنتهى ترددٌ في أن العامل هل يتصرف في العبد بحكم الإذن الأول؟ والسبب فيه أن صيغة الإذن وإن كانت قائمة، فقد اختلفت الجهة، والوكالة لا تحتمل استرسال تصرفات الوكيل كذلك من غير ضبط. وإن قلنا: ينفذ تصرفه؛ فإنه يستحق أجر مثل عمله، لا عن جهة فساد القراض، ولكن عن جهة توقعه العوض على مقابلة عمله. فليفهم الناظر عن تأملٍ تام، فليس هذا مما تبتدره بوادر الأفهام. 4981 - ولو اشترى المقارَض أولاً بالألف عبدين، وقبضهما، ثم تلف أحدهما في يده، إن قلنا: لو تلفت خمسمائة من الألف قبل التصرف، فرأس المال ألف، فهاهنا أولى؛ فإنه قد تأكد القراض بالتصرف والعمل، وإلا فوجهان. وقال القاضي وطائفةٌ من المحققين: هذا في التصرف الأول، فأما إذا فرض تلفٌ

_ (1) عبارة (ي)، (هـ 3): لا ينصرف عن المالك فعليه بذلُ ... (2) ساقطة من الأصل.

في الصرف الثاني، والثالث، إلى حيث ينتهي (1)، فلا خلاف أن رأس المال لا ينقص بالتلف. وقال شيخي، وطائفة من الأصحاب: التلف مهما وقع، تضمن خلافاً في أن رأس المال هل ينتقص، وإنما النقصان الذي لا ينقص رأس المال في الحساب هو [الخسران، وانحطاط الأسعار] (2) فأما تلف عيْن المال، فيخرّج على الخلاف. ثم لا ينبغي أن يغفل هذا القائل عن تفصيلٍ: فإن فرض التلف قبل الربح، جرى الكلام ظاهراً، وإن فرض بعد ظهور الربح، فالتالف يقع على الوجه البعيد عن رأس المال والربح، وهذا خبطٌ وتخليط، والصحيح ما ذكره القاضي لا غير. فإن قال مستبعدٌ: إذا ذَكَر (3) خلافاً في التصرف الأول، فما الفرق بينه وبين التصرف الثاني؟ قيل: الصحيح في التصرف الأول أن رأس المال لا ينتقص بالتلف. والوجه الآخر (4) بعيد مشوّشٌ للقانون، ووجهه على بعده: أن العامل كانه يحصّل مالَ القراض بالتصرف الأول، والدراهمُ (5) رأس المال. و [العَرْض] (6) في التصرف [الأول] (7) مال القراض، فكان تصرف الكسب هو الثاني. ولا يجوز أن يكون بين العلماء خلاف في أن عبد القراض لو عاب، فانتقصت قيمته، ثم زال العيب، فرأس المال كما كان، وإذا كنا نحتمل إلحاق النتاج والثمار بالأرباح، فالوجه أن يحتمل إلحاق التلف بالخسران. ثم قال الأصحاب: لو أتلف متلفٌ بعضَ مال القراض، لم ينفسخ القراض، وكذلك لو أُتلف كله، فيؤخذ البدل من المتلف، ويستمر القراض عليه، والمقارَض يستقل بالمطالبة، فإنه في تصرفاته واستقلاله بها يضاهي تصرف الملاك.

_ (1) (ي) (هـ 3): حيث بلغ. (2) في الأصل: وهو انحطاط الأسعار. (3) ذكر: أي القاضي، فالفاعل ضمير يعود عليه. (4) (ي)، (هـ 3): الثاني. (5) في الأصل: فالدراهم. (6) في الأصل، (هـ 3): والغرض. (7) ساقطة من الأصل.

4982 - ولو أتلف العامل شيئاً من مال القراض، نُظر: فإن لم يظهر ربحٌ، ضمن ما أتلفه للمالك، وانفساخُ القراض ثابت عندي. وكذلك لو أتلف الكل، [حصل الانفساخ] (1)؛ فإن ما يأتي به بعد الضمان لا يقع ملكاً (2) لرب المال، فكيف يبقى القراض والحالة هذه (3)؟ فالوجه أن نقول: إذا أتلف الكلَّ، ضمن، وزال القراضُ، وإن أتلف البعضَ، ضمن، والقراضُ ينقطع في القدر الذي أتلفه، وجهاً واحداً، ويكون إتلاف العامل ذلك القدرَ في انفساخ القراض بمثابة إتلاف رب المال قدراً من رأس المال. وسيظهر تعليل هذا على الوضوح في أثناء الفصل. وليس تلف البعض بإتلاف العامل كتلفه بآفةٍ سماوية. (4 وإن ظهر الربح، فما يُتلفه منقسمٌ على رأس المال والربح، فلا يضمن نصيبه 4) من الربح في ذلك المتلف، والكلام فيما يقابل رأسَ المال كالكلام في التلف السماوي، ولكنه يضمن لرب المال ما أتلفه عليه. ثم يعترض في هذا إشكالٌ، وهو أنه يزدحم نوعان من الجبران: أحدهما - الجبران بالضمان. والآخر- الجبران بالربح. وهذا محال؛ فيتجه القطع بانفساخ القراض في ذلك القدر من رأس المال، وإن وقع في أثناء التصرفات؛ فإن التفريع يقتضي ذلك؛ إذ ما يضمنه يقع خارجاً عن حساب القراض، وجبران المال بالربح مع الضمان محال، وليس كما لو فرض تلفٌ بآفة سماوية؛ فإن الجبران ثَمَّ محمولٌ على

_ (1) ساقط من الأصل ما بين المعقفين. (2) في الأصل: "ملكاً للمقارض" وإذا ضبطت بكسر الراء، فمعناها: " رب المال " أيضاً. ولكنا آثرنا إثبات ما في (ي)، (هـ 3)؛ خروجاً من الاحتمال، والتزاماً بأسلوب (الإمام) حيث جرى على استعمال رب المال، والمقارَض (بفتح الراء) كطرفي عقد القراض. (3) والمعنى هنا: أن العامل إذا أتى ببدل مال القراض، بعد أن أتلفه، وانفسخ الفراض بالإتلاف، فإن هذا البدل لا يدخل في ملك رب المال إلا بقبضٍ منه، وحيئذ يحتاج إلى عقدٍ جديد لاستئناف القراض. (4) ما بين القوسين سقط من (ي)، (هـ 3).

قياس الخسران؛ إذ لم يرجع إلى رب المال عوضٌ عن [التالف] (1)، وهاهنا رجع العوض إليه خارجاً عن حكم القراض، فقد انفصل القراض فيه. وإذا تحقق الانفصال، فلا جبران. ثم نقول: يغرَم للمالك حصته من الربح فيما أتلفه، وهذا أيضاً خارج بحكم التفاصل، فإتلاف العامل طائفةً من المال يخرجه من حكم القراض، كإتلاف رب المال، غيرَ أن إتلاف رب المال استرداد منه لمقدار من رأس المال، وتفاصلٌ في مقدار من الربح، وإتلافُ العامل يتضمن الإخراج عن القراض، ولكن بجهة الضمان، كما قررناه. فرع: 4983 - ذكر العراقيون مسألةً عن ابن سريج وهي أنه قال: لو قارض رجل رجلين على مال، وحصل في أيديهما ثلاثةُ آلاف، وقال رب المال: رأس المال ألفان والربح ألف وصدّقه أحد [العاملَيْن] (2)، وكذبه الثاني، وقال: بل رأس المال ألف والربح [ألفان، والتفريع] (3) على الصحيح: وهو أن هذا الاختلاف لا يقتضي تحالفاً، فالطريق فيه أن الذي ادعى أن رأس المال ألفٌ، فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف، أخذ من المال خمسمائة على تقدير أن الربح ألفان، والمسألة مفروضة فيه إذا كان الشرط على أن يكون نصف الربح للمالك، والنصف الآخر بين العاملين، فيخص أحدهما خمسمائة إذا كان الربح ألفين، ثم إن المالك يقول للعامل الثاني: قد ظلَمَنا العاملُ المنكر بمائتين وخمسين درهماً، وأنت قد صدقتني أن الربح ألف، فالمائتان والخمسون التي ظَلَمَ بها تنزل منزلة الخسران بيننا، فتحسب من الربح دون رأس المال، والآن [بيننا] (4) خمسمائة من الربح، فنقتسم هذا القدر بيننا أثلاثاً؛ إذ لو اعترف العامل الآخر بأن الربح ألف، لكان الألف مقسوماً بيننا أرباعاً، الربع منه لكل واحد من العاملين، والنصف لي، ثم نسبة حصة كل عامل مع نصيبي تقع على وجه

_ (1) في الأصل: التلف. (2) في الأصل: القائلين. (3) ساقط من الأصل. (4) في الأصل: بينهما.

التثليث، فإن الخمسمائة حصتي، والمائتان والخمسون حصةُ كلٍّ عامل، وإذا ضمت حصة [كل عامل] (1) إلى الخمسمائة، كانت ثلثَ الجملة، والآن لم يسلم من الربح بيني وبينك إلا خمسمائة، فنقسمها أثلاثاً على النسبة التي ذكرناها، ثلثاها لي وهي ثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، والباقي لك وهو مائة وستة وستون وثلثان. هذا جواب ابن سريج. وهو حسنٌ بالغ، وفي تفريعه هذا أولاً: ما يدل على أن مقارضة رجلين على صفة التناصر والتعاون جائز؛ فإن التفريع الذي نظمه لا يستقيم إلا في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه لو كان قارض كلَّ واحد على ألفٍ من الجملة على شرط التنصيف، فالمصدِّق يقول له: عاملتني على ألف، وقد ربحتُ خمسمائة، فاقسمها بيننا نصفين، وإذا جرت المُقارضةُ على أن يكون كل واحد من العاملين مقارضاً في جميع المال، ويكونان متعاونين على العمل، لا يستبد أحدُهما، فهما (2) كالشخص الواحد، فيتعلق ما يقع من خسرانِ بهما جميعاً، ويتَّسقُ عليه جوابُ ابن سريج. وقد قدمنا تردُّداً من طريق الاحتمال في مقارضة المتعاونين، والآن شهد تفريعُ ابن سريج على تصحيحها، مع ما فيها من الإشكال، وليس عندي نقلٌ في إفساد مقارضة المتعاونين، والذي قدمته من التفصيل والتقسيم جرى ترديداً لوجوه الاحتمال. وليس عندي أيضاً نقلٌ صريح بأن كل واحد من العاملين لو كان يستقل بالعمل من غير احتياج إلى مراجعة الثاني، فالقراض فاسد، وإنما قلتُه عن احتمالٍ، وفسادٍ في التفريع بيّن. فهذا منتهى المراد في ذلك. 4984 - وفيما ذكره ابنُ سريج سؤالٌ، وعنه انفصالٌ، وفيه تمام المقصود. فلو قال العامل المصدق: قد سلمتُ أنَّ صاحبي مُحِقٌّ في مائتين وخمسين، وإنما ظلمَ بما زاد على ذلك، فقدِّر كان الزائد تلف وفات مستدركُه، فالربح سبعمائةٍ وخمسون، فأعطني ربع سبعمائة وخمسين، وهو أكثر من ثلث خمسمائة. وهذا تلبيسٌ، [فإنا إذا] (3) حسبنا المائتين والخمسين التي ظَلم بها خسراناً، فلا يخص

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في الأصل: أحدهما بهما فهما. (3) في الأصل: فإذا.

المنكر بعد [حط] (1) ذلك مائتان وخمسون، بل يخصه مائةٌ ونيفٌ وثمانون، فهو على [هذا] (2) التقدير ظالمٌ ببعض المائتين والخمسين أيضاً، فلا وجه إلا أن تقسم الخمسمائة الحاصلة على نسبة الأثلاث. وهذا سديد. فرع: 4985 - السيد يعامل مكاتَبه، ورب المال لا يعامل المقارَض في مال القراض، والسيد لا يعامل العبدَ المأذون إذا لم يكن عليه ديْن. وإن ركبه ديْن، فقد ذكر العراقيون وجهين في أن المولى هل يعامله على المال الذي في يده؟ وهذا لا أصل له، والوجه القطع بامتناع المعاملة؛ فإن ركوب الدين لا يتضمن إزالة ملك المولى عن الأعيان الكائنة في يد المأذون. والله أعلم بالصواب. تم كتاب القراض بحمد الله ومنِّه. ...

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) زيادة من (ي)، (هـ 1).

ومن أراد أخذ المذهب من حفظ الصور، اضطرب عليه في أمثال هذه الفصول، ومن تلقاه من معرفة الأصول، استهان بدرك هذه الفصول. الإمام في نهاية المطلب

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة 4986 - المساقاة: أن يعامل مالكُ النخيل والكروم من يحسن العملَ فيها، ليقوم بسقيها، وتعهدها، ويشترط للعامل جزاء معلوماً مما يخرج من الثمر. وهذه المعاملة جائزة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1)، ومعتمد الشافعي في جوازها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر، واقتسم بساتينها بين الغانمين وأجلى أهلَ خيبر عنها، فجاؤوا مستأمنين، فقالوا: نحن أعرف بالنخيل منكم، فأعطونا، نكفكم، فساقاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شَطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، وقال: " أقرّكم ما أقرّكم الله تعالى " (2) وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن اليهود كانت لا ترى النسخ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أساس المعاملة على تجويزه، وأنبأهم أنه إن نُسخ، حَكَم بغير حكم المعاملة، ومثل هذا الشرط جائزٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الشرع كان عرضة [التغايير] (3) في زمنه، ومثل هذا التردد لا يسوغ منا. ثم لما أدركت الثمار، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إليهم خارصاً، فلما نَذِرُوا (4) بقدومه، استقبلوه بحلي نسائهم، وأرادوا أن يخدعوه، فقال رضي الله عنه: هذا سحتٌ في ديننا، فلما أيسوا من هذه الجهة، أرادوا أن يستدرجوه بالكلام، فقالوا: أنت ابنُ أختنا، وإنما قالوا ذلك، لأن أمه كانت خيبرية، وقالوا: أنتَ أحب من قدم إلينا من هذه الجهة، فقال

_ (1) المساقاة ومثلها المزارعة، لا يجيزها أبو حنيفة، وزفر، وأجازها أبو يوسف، ومحمد بن الحسن. ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 181 وما بعدها، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 21 - مسألة: 1685 - وما بعدها. (2) حديث مساقاة أهل خيبر، متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر، رواه البخاري: المزارعة، باب المزارعة بالشرط ونحوه، ح 2328، ومسلم: المساقاة والمزارعة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، ح 1551، وانظر التلخيص: 3/ 130 ح 1307، 1308. (3) في الأصل: المغايير، وفي (ي) الغايير. والمثبت من (هـ 3). (4) نذروا: علموا، وزناً ومعنى. (المعجم).

رضي الله عنه: أما أنا فقد قدمت من عند رجلٍ هو أحب إليَّ من نفسي التي بين جنبي، على قومٍ هم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، فقالوا: إذاً لا يمكنك أن تعدل بيننا، فقال: أما حبي إياه لا (1) يحملني على الميل إليه، وبُغضي إياكم لا يحملني على الحيف عليكم، فخرص عليهم مائة ألف وَسق، فقالوا: أجحفت بنا يا بن رواحة، فقال: إن شئتم، فلكم، وإن شئتم فلي، معناه: إن شئتم سلمتُ الجميع إليكم، وتضمنون نصيب المساكين، وإن شئتم سلمتم الجميع إليّ، وأضمن لكم نصيبكم، فقالوا: هذا هو العدل الذي قامت به السموات والأرض. قيل: لما رفعت تلك الثمار، لم ينتقص مما كان قال بعشرة أوسق. ولأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه أسئلة وعنها أجوبة مذكورة في الخلاف. 4987 - وأول ما نرى تصديرَ الكتاب به ذكر أربعة عقودٍ متقاربة في الصور مختلفةٍ في الحكم، يصح من جملتها عقدان ويفسد عقدان: وهي المقارضة، والمساقاة، والمزارعة، والمخابرة، أما القراض، فقد وضح القول فيه، والمساقاة صحيحة، وقد عبرنا عن تصويرها، وسيأتي تفصيل أركانها، إن شاء الله عز وجل. والمزارعة، والمخابرة عقدان فاسدان. أما المزارعة فهي أن يعامل مالك الأرض رجلاً على أن يزرعها ببذرٍ لرب الأرض، وللعامل بعض ما يخرج منها، وهي استئجار الزراع ببعض يخرج من الزرع، فالمعاملة فاسدة. والمخابرة أن يدفع الأرض إليه ليزرعها ببذر نفسه على جزء من الزرع يشرطه المالك للأرض. والعبارة عن المخابرة إنها استئجار الأرض ببعض ما يخرج منها. قال الشافعي رضي الله عنه: لم نردّ إحدى سنتيه بالأخرى. أشار إلى أن القياسَ التسويةُ بين المساقاة والمزارعة في الجواز والمنع، ولكن السنة فرقت بينهما ووردت بتجويز المساقاة وبالمنع من المخابرة. روي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً، حتى ورد علينا رافعُ بنُ خَديج فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها بقول رافع (2). واستدل بعض الفقهاء

_ (1) جواب (أما) بدون الفاء. (2) حديث رافع بن خديج في النهي عن المخابرة، رواه الشافعي (ترتيب مسند الشافعي) 2/ 136،=

بهذا الحديث على أن الأمر لا يلزم المأمور قبل اتصال الأمر به. فهذا صورة هذه العقود. 4988 - ثم قال العلماء: المساقاة تنزع إلى عقود، وتشبهها في أحكام: هي شبيهة بالسَّلَم، من حيث إن العامل يلتزم العمل في الذمة، ولا تبطل بموت العامل، وتشبه بيعَ العين [الغائبة] (1)؛ إذ لا يجب فيها تسليم العوض في المجلس، بل لا سبيل إلى ذلك؛ فإن عوض العمل جزء من الثمار التي سيخلقها الله تعالى، وهي شبيهة بالإجارات؛ إذ المقصود منها العمل، وهي على الجملة معاملةٌ مستقلة بنفسها، ذاتُ خاصية، كما سيأتي شرح أحكامها، إن شاء الله تعالى. ثم الكلام في ذكرها، وتمهيد قضاياها الجُملية يتعلق بفصول: منها في ذكر محلها، ومنها في ذكر وقتها، ومنها في ذكر أركانها في نفسها. 4989 - فأما محلها، فلا خلاف أنها تصح في النخيل والكروم، واختلف قول الشافعي في أنها هل تجري في غير النخيل والكروم من الأشجار؟ ففي المسالة قولان مشهوران: أحدهما- أنها تختص؛ فنها معاملة غيرُ مُنْقاسة، وقد ورد الشرع بها في النخيل، واتفق العلماء على أن الكروم في معنى النخيل، كما اتفقوا على أن الأَمَة في معنى العبد في قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِركاً له من عبد قُوّم عليه ". والقول الثاني- أنها تصح على جميع الأشجار المثمرة؛ فإن مبنى المعاملة على مسيس الحاجة؛ إذْ مُلاك الأشجار يعجزون عن القيام بتعهد الأشجار، فأثبت الشارع هذه المعاملة، وأثبت حقَّ العامل في جزء من الثمار، حتى يحرص ويبذل المجهودَ في التعهد، والتفقّد، كما ذكرناه في عامل القراض، وهذا المعنى يعم الأشجار.

_ =ح 447، ومعناه متفق عليه من حديث جابر: البخاري: المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ح 2381، ومسلم: البيوع، باب النهي عن المحاقلة ... ح 1536، الرقم الخاص 81، وأبو داود من حديث زيد بن ثابت: البيوع، باب في المخابرة، ح 3407، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 130 ح 1309، 1310. (1) ساقطة من الأصل.

وقد رأى بعضُ أصحابنا [بناءَ] (1) القولين على أن الخرصَ هل يجري فيما عدا النخيل والكروم، وسنذكر الخرص وأثره في هذه المعاملة. فإن فرعنا على قول الاختصاص، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في شجر المُقل (2) وسبب ذلك أنها شديدة الشبه بالنخيل، وثمرتها بارزة بروز العناقيد. وإن قلنا بتصحيح المساقاة على سائر الأشجار المثمرة، فقد ذكر الشيخ أبو علي على هذا القول وجهين في شجر الخِلاف، وشجر الفرصاد (3)، أما شجر الخلاف، [فرَيْعُها] (4) أغصانُها تُقطع، ثم تُخلف، وأما شجرُ الفرصاد، فالمقصود منها الأوراق، ووجه التردد أن الأشجار المثمرة على حالٍ يقرب من النخيل والكروم. وما لا يثمر، وإن كان يستفاد منه الأغصان والأوراق، يبعد بعداً ظاهراً. ولا خلاف في منع المعاملة على البقول التي تبقى أصولُها في الأرض فتخلف على تردد الجزّ، وليست الجَزَّاتُ منها كأغصان الخلاف، وأوراق الفرصاد. هذا تفصيل القول فيما يصح إيرادُ هذه المعاملةِ عليه. 4990 - فأما الكلام في الوقت الذي تُبْتدأ [فيه] (5) هذه المعاملة: إذا جرت المساقاة قبل ظهور الثمر، صحت، وكانت مصادِفةً وقت الوفاق. فلو خرجت الثمرةُ، ولكن لم يبدُ الصلاحُ فيها بعدُ، ففي صحة المساقاة بعد خروج الثمار قبل بدوّ الصلاح قولان: المنصوص عليه في الجديد أنها صحيحة، والمنصوص عليه في القديم أن المساقاة فاسدة. التوجيه: من قال بالفساد، احتج بأن الثمار حدثت ملكاً لرب الأشجار، فإثبات المعاملة يتضمن ربطَ استحقاق العامل بملكٍ [حاضر] (6) لرب الأشجار، وهذا يناقض

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) المُقل بضم الميم: حَمْلُ الدَّوْم وهو يشبه النخل. (المصباح والمعجم). (3) (ي)، (هـ 3): التوت. وهو الفرصاد بعينه، كما سيأتي في السطر التالي. (4) في الأصل: من نفسها (وهو تحريف عجيب). (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: خاص.

موضوع المعاملة؛ فإن مبناها على تعليق استحقاق العامل بما سيكون، فالثمار في الأشجار بمثابة الربح في معاملة القراض. ومن قال بالصحة، قال (1): المقصود العمل على النخيل بما يُصلح ثمارها، وكُثْرُ العمل باقٍ إذا لم يبدُ الصلاح بعدُ، وقال الشافعي في الجديد: إذا صحت المساقاة قبل وجود الثمار، فهي بعد وجودها أَجْوَزُ، وعن الغرر أبعد. وحقيقة القولين تؤول إلى أنا في قولٍ نشترط أن يكون حدوث الثمار على الحقَّيْن، وإنما يتحقق هذا إذا جرت المساقاة قبل حدوثها. وفي القول الثاني لا يشترط هذا، وإنما يُنظر إلى بقاء وقت (2) العمل. وما ذكرناه فيه إذا جرت المساقاة بعد وجود الثمار، قبل بُدوّ الصلاح، وأما إذا بدا الصلاح في الثمار، فيترتب ذلك على ما قبل بدوّ الصلاح؛ فإن منعنا المساقاة قبل بدو الصلاح، فلأن نمنعها بعد بدوّ الصلاح أولى. وإن جوزناها قبل بدوّ الصلاح، ففي جواز إنشائها بعد [بدوّ] (3) الصلاح وجهان: أحدهما- أن المساقاة لا تصح؛ لأن معظم الأعمال على الأشجار تكون [فائتة] (4) في هذا الوقت. ولا خلاف أن الثمار إذا دنا قطافُها، لم يجز ابتداء المساقاة. 4991 - والمعنى المعتبر في الباب أنا على القول القديم نشترط أن يكون وجود الثمار بعد لزوم المعاملة، لتوجد وتحدث على الحقّيْن. وفي القول الجديد نعتبر العمل، ثم ذكرنا مرتبتين إحداهما قبل بدو الصلاح، والأخرى بعد بدوّ الصلاح، ثم جوزنا إنشاء المساقاة قبل بدو الصلاح، لبقاء معظم العمل، وذكرنا خلافاً على القول الجديد بعد بدوّ الصلاح، لفوات معظم الأعمال، والمرعي في القول الجديد العملُ وبقاءُ مدته. ثم يُشترط أن يبقى عملٌ له أثر في الثمار، فإن بقي إلى الإرطاب وأوان

_ (1) (ي)، (هـ 3): تمسك بأن المقصود. (2) (ي)، (هـ 3): تفاوت العمل. (3) في الأصل: وجود الصلاح. (4) في الأصل: فائدته.

القطاف أيامٌ لكن [لو فرض] (1) عمل فيها لم تتأثر الثمار بها، فلا يصح ابتداء المساقاة، والحالة هذه. ولا ينظر إلى انتفاع الأشجار وتأثيرها بتلك الأعمال، وإنما ينظر إلى تأثر الثمار. فليفهم الناظر ذلك. فإن قيل: لم تذكروا في المراتب التي نظمتموها التأبير في الثمار؟ قلنا: لا أثر للتأبير في الحكم الذي نبغيه، وإنما الأثر لبدوّ الصلاح وعدم بدوّه، وتأثيرُ التأبير في الخروج عن تبعية الأشجار في البيع المطلق. هذا تمام البيان في الأوقات التي تُنشأ فيها المساقاة، مع ذكر الخلاف والوفاق في النفي والإثبات. 4992 - فإذا نجز ذلك، فالقول بعده في أركان المساقاة، فنقول: المساقاة مضاهية للقراض في المقصود، والتعلق [بالمفقود] (2)، واحتمال الجهالة في العوض. وبيان ذلك: أن القراض مقصودُه حملُ عاملٍ على الاسترباح؛ إذْ قد لا يحسنه ملاكُ الأموال ثم تعلّق القراض بالفائدة المنتظرة، كذلك مقصودُ المساقاة قيامُ من يحسن العملَ على الأشجار به؛ إذْ يغلب في النالس عدمُ الدراية بكيفية العمل على الأشجار، وجهة الاستثمار، ثم تعلق غرضُ العامل بالفائدة التي ستظهر، أو ستكمُل، كما مضى تفصيل ذلك، ثم يستحق العامل جزءاً من الثمار، وهي غيب أصلاً، وقدراً، كالأرباح في معاملة القراض. هذا وجه تشابه المعاملتين. ثم المساقاة تمتاز عن المقارضة بأمرين متقاربين: أحدهما- أن التأقيت شرطٌ في المساقاة، كما سنفصله، ووضعُ القراض على الإطلاق، وقد يكون التأقيت مفسداً له، على التفصيل الذي مضى، هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني- أن المساقاة معاملةٌ لازمةٌ، إذا عُقدت، وتمت، لم يتخير

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في الأصل: بالمعقود.

المالك، ولا العامل في الانفراد بالفسخ. والمقارضةُ جائزةٌ، وسبب الفرق بينهما في التأقيت والإطلاق، أن الأعمالَ المقصودةَ المؤثرةَ في الثمار مضبوطةٌ في الأوقات، يعرفها الدهاقنة (1)، وأهل الخبرة. وإذا كانت متأقتةً فتأقيتها في العقد إعلامٌ مطابق لمقصود العقد، فكان مرعيّاً. والأمر في الأرباح على الضِّد من ذلك؛ فإنه ليس لتحصيل الأرباح وقتٌ يتخيّر (2) يُطلب إعلامه، فاقتضى ذلك الإطلاقَ في العقد. ومن هذا المنشأ أخذنا افتراق المعاملتين في اللزوم والجواز؛ فإن القراض إذا استرسل على الزمان، فلو اتّصَف باللزوم، لكان عقداً مؤبداً، لا محيص عنه، وهذا غير محتملٍ في المعاملات، وإنما احتمله الشرع في النكاح؛ لأن مصالحه تتعلق باللزوم والدوام، ثم الشارعُ أثبت فيه حلاً (3) للملك متعلقاً بمقصود صاحب الحق، وهو الطلاق. ولما تأقتت المساقاةُ، لاق بها الحكم باللزوم؛ فإنها إلى الانقضاء. هذا بيان وضع المساقاة. 4993 - ثم نقول بعد ذلك: المساقاة تستدعي أركاناً: منها ضربُ المدة، ثم ذكر [الإمام] (4) في مدة المساقاة اختلافاً بين الأصحاب، فقال: منهم قال: ينبغي أن تكون مدة المساقاة كمدة الإجارة، فليقع تقديرها بالسنين والأشهر والأيام، كما تقدّر مُدد الإجارات، والآجال في البياعات، وهذا القائل لا يصحح المساقاة بذكر سنة إدراك الثمار؛ فإنّ الوقت في ذلك يتفاوت، فقد يستأخر إدراكُ الثمار لبرد الهواء، وكثرة [الأنداء] (5)، وقد يتقدم إدراكها بنقيض ذلك، فالإحالة على مذة الإدراك إحالةٌ على مجهول.

_ (1) الدهاقنة: جمع دُهقان (بالضم والكسر): القوي القادر على التصرف مع شدة خبرة. (المعجم). (2) (ي)، (هـ 3): يتخيل ويطلب. (3) (ي)، (هـ 3): حدّاً للمالك. (4) في الأصل: الإتمام. (وهو من غرائب التصحيف) والإمام يعني به والدَه: أبا محمد الجويني. (5) في الأصل: الأنواء.

والوجه الثاني- أنه لا يشترط في المساقاة ضربُ مدة الإجارة، ولكن لو ضُربت فيها مدة الإدراك، كفى، وذلك بأن يقول: ساقيتك لتعمل إلى صرام النخيل، وذلك أنّ الغرض من المعاملة تحصيلُ هذا المقصود، والسعيُ في تتمته (1)، وهذا يحصل بما ذكرناه. ثم هذا القائل لا يمنع تأقيت المساقاة بمدة الإجارة، ولكن يشترط ضربَ مدة يجري فيها إدراكُ الثمار لا محالة، إن لم تفسدها [الجوائح] (2). ثم إن شرطنا الإعلامَ بالسنة والشهور، كما في الإجارة والأجل، فلا كلام، وإن صححنا هذه المعاملة بناءً على إدراك الثمار، فلو قال رب الأشجار: ساقيتك سنةً، والتفريع على أن المعاملة تكتفي بسنة الإدراك. فالسنة المطلقةُ محمولةٌ على ماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما- أنها محمولة على السنة العربية. والثاني- أنها محمولة على سنة الإدراك. وسيكون لنا التفات على تفريع الوقت مرة أخرى، إذا خُضْنا في بيان الأعمال المطلوبة من العامل المساقَى. هذا مقدار غرضنا الآن في ذكر المدة. 4994 - ولو اختار مالكُ الأشجار طريقَ الاستئجار على الأعمال، جاز؛ إذا كانت الأعمالُ معلومةً، ويتعين إذ ذاك [الإعلامُ] (3) بمدة الإجارة، وليكن الأجرُ من غير الثمار إذا أنشئت المعاملةُ على صيغة الإجارة وحقيقتها. ولو قال: استأجرتُك، وذكر إعلاماً في المدة يصلح للبابَيْن، ولكنه أثبت للعامل جزءاً من الثمار، فالمذهب فساد الإجارة. ومن أصحابنا من قال: لا ننظر إلى اللفظ وننظر إلى المعنى، ولا يبعد استعمال لفظ الإجارة في معاملة المساقاة. وقد قدمنا لذلك نظائر. وسنعود إلى هذا، إن شاء الله. وقد انقضى الآن ما نطلبه في هذا الركن، وهو التعرض لإعلام المدة.

_ (1) (ي)، (هـ 3): تنميته. (2) في الأصل: الحوائج. (3) الأعمال.

4995 - ومن أركان المعاملة ربطُها بجزءٍ من الثمار، كما ذكرناه في المقارضة، فإن وقع التوافق على غير الثمار، بأن سمى له دراهمَ معلومةً، أوْ ما في معناها، فقد خرجت المعاملةُ عن وضعها، والنظرُ بعد ذلك في استجماع ما جرى لشرائط الاستئجار. ولو أراد عقد الإجارة بلفظ المساقاة، ففيه التردد الذي ذكرناه في عقد المساقاة بلفظ الإجارة. فإذا تبين أن المساقاة تتعلق بجزءٍ من الثمار، فلا بدّ من إعلامٍ بالجزئية، كما قدمناه في إعلام جزئية الربح في القراض، ويفسد إعلامُ الجزئية باستثناءٍ مُقَدَّرٍ منها، كما يفسد القراض بمثل ذلك، حتى لو قال رب الأشجار: صاعٌ من الثمار لي، والباقي منها مقسوم بيننا نصفين، أو ثلثاً وثلثين، أو على ما يتفقان عليه، فهذا باطل؛ (1 فإن الثمار مغيبةٌ 1)، فربما لا يوجد أكثر من صاع، فيكون هذا بمثابة ما لو شرط أن يكون كلُّ الثمار له، وهذا ممتنع، كنظيره من القراض. ولو شرط جملة الثمار للعامل، ولم يستبق لنفسه شيئاً، فالمعاملة فاسدةٌ أيضاً. وتفترق المساقاة والقراض عند إضافة جملة الثمار إلى إحدى الجهتين على الوجه الذي ذكرناه في القراض. فإن قيل: [إن] (2) كان لا يظهر في القراض غرض مالي في صرف جميع الربح إلى العامل، ويفسد القراض لأجله، فقد يقصد ربُّ الأشجار تنمية الأشجار، ويرى أن يجعل الثمار في المدة في مقابلة الأعمال المنمِّية للأشجار. قلنا: لسنا ننكر كَوْنَ ذلك مقصوداً في مطرد العرف، ولكن الشرعَ وضع هذه المعاملةَ، واحتمل ما فيها من الجهالة لتحصيل الثمار، ولهذا تكون أعمالُ المساقَى مؤثرةً في تنمية الثمار، وليس عليه كلُّ عمل يفرض ويقدَّر في البستان، وإنما يمتاز عمله بما ذكرناه من تأثيره في الثمار، على ما سنصف ذلك من بعدُ، إن شاء الله. وبالجملة كل معاملة تشتمل على جهالة، وقد ظهر احتمال الشرع لها، فهي

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ي)، (هـ 3). (2) في الأصل: إنه.

مخصوصة بمورد الشريعة لا تتعداه. وقد نجز بيان هذا الركن. 4996 - ومما يتعلق بهذه المعاملةِ على مناظرة القراض، القولُ في انفراد العامل باليد، وامتناعِ مداخلة المالك، وهذا يأتي مستقصىً في أثناء الكتاب بما فيه من وفاقٍ وخلافٍ، و [عند] (1) ذلك نذكر ما لو شرط ربُّ الأشجار أن يعمل مع المساقَى غلامُ المالك. 4996/م- ولسنا نذكر ما يُشترط في المساقاة، وفي غيرها من المعاملات، كالإيجاب والقبول ونحوه. [وإنما] (2) نشير إلى جمل القول في خصائصها. ومما يتعين ذكره في هذا المنتهى: أنه لو لم يذكر لفظَ المساقاة، وذكر مقصودَها، فلا بأس، مثل أن يقول: خذ هذه النخيل، واعمل فيها كذا وكذا، ولك الثلث من ثمارها، فالمعاملة تصح بهذه الصيغة، كما تصح (3) المقارضة بمثلها. قال القاضي (4): " قد ذكرنا أن مقصود القراض إذا ذكر على هذه الصيغة، فلا حاجة إلى قبول العامل لفظاً، وليس الأمر كذلك في المساقاة؛ فإن القبول لا بد منه هاهنا؛ إذ المساقاة [معاملة] (5) لازمة، فيبعد ثبوتُها على اللزوم من غير التزام بالقبول، وليس كذلك القراض؛ فإنه من المعاملات الجائزة، فناظر التوكيلَ بالبيع، والأمرَ به ". وهذا الذي ذكره في المساقاة صحيح، لا كلام فيه، وما قدمه في القراض، فليس هو مساعداً عليه، وقد أوضحنا في ذلك ما يُقنع ويكفي. فهذا آخر غرضنا من عقد الجُمل في وصف المعاملة، وذكر تراجم أركانها. 4997 - والذي يليق بهذا المنتهى ذكرُ الخَرْص، وقد قدمنا في كتاب الزكاة جريانَ

_ (1) في الأصل: وبعد. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: تصح هذه المقارضة. (4) "قال القاضي" سقط من: (ي)، (هـ 3). (5) ساقطة من الأصل.

الخرص على الملاك لحقوق المساكين، وذكرنا اختلافَ القول في أن الخرص عبرةٌ فيها، أو تضمين، وفرَّعنا على كل قول ما يليق به. ولو [رام] (1) ربُّ الأشجار أن يخرص الثمارَ على العامل، فهل للخرص أثر في ذلك؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا أثر له، وإنما وقع الحكم به في الزكاة توقيفاً، وإلا فهو تخمين، وحدسٌ، ورجمُ ظنٍّ. ومن أصحابنا من قال: يثبت حكم الخرص هاهنا، كما يثبت في حقوق المساكين. وهذا القائل احتج بحديث عبد الله بن رواحة؛ فإنه خرص على أهل خيبر ثمار النخيل، ولا يمكن حملُ خَرصه على حقوق المساكين، فإنهم ما كانوا ملاك الثمار، والخرصُ في الزكاة على ملاك الثمار، لا على العاملين فيها. ومن أصحابنا من قال: إنما جرى ذلك الخرص؛ لأن المعاملة كانت مع الكفار، ونحن قد نحتمل في المعاملة مع المشركين، ما لا نحتمله في المعاملة مع غيرهم. وهذا غيرُ سديد، فإنا إنما نفرق بين المسلم وبين الكافر فيما يتعلق بالموادعة، والعهود، والمواثيق، فأما المعاملات الخاصة المتعلقة بالأموال، فلا ينبغي أن يقع فيها فرقٌ بين المسلم والمشرك. ثم من أصحابنا من خرّج القولين في جواز المساقاة على ما عدا الكروم والنخيل من الأشجار على القولين في أن الخرص هل يجري في هذه المعاملة؟ وذلك لأن الخرص لا يتأتى فيما عدا النخيل والكروم، فإن ثمار النخيل والكروم عناقيدُ متدلّيةٌ بارزةٌ للناظرين، فيتأتى خرصُها، وما عداها من الثمار مستترٌ بالأوراق فيعسرُ الاطلاع عليها. وهذا البناءُ فيه نظر، لأنا وإن أثبتنا للخرص أثراً إذا جرى، فلا يُشترط إجراؤه في هذه المعاملة على ما سنعيد ذكره، إن شاء الله عز وجل- فلا معنى لأخذ اختلاف القول في جواز المساقاة من هذا المأخذ.

_ (1) في الأصل: أزم.

قال: " وإذا ساقى على نخلٍ، وكان فيه بياضٌ ... إلى آخره " (1). 4998 - قد ذكرنا فيما قدمنا فسادَ المزارعة، والمخابرة، إذا جُرّدَ القصدُ إليهما، وأُفردا، وهذا الفصلُ معقودٌ في الأراضي التي تكون في ظلّ النخيل، ويعتاد أربابُها زراعتَها، ثم سقيها مع النخيل. فإذا كانت بحيث لا يتوصل إلى سقي النخيل إلا بسقيها؛ وإلى العمل على النخيل إلا بالعمل عليها، فيجوز على الجملة المزارعةُ عليها تبعاً للنخيل في المساقاة. والأصل في ذلك ما روّيناه أن النبي صلى الله عليه وسلم " ساقى أهل خيبر على أن لهم نصفَ الثمر والزرع ". وهذا نص في هذا المقصود، والحاجة ماسة من طريق المعنى إلى تجويز هذه المزارعة، ولو منعناها، لتعطلت تلك الأرأضي إذا لم تزرع، وإن كان يزرعها المالك يتعطل عمل [المساقَى] (2) عليها، ويقع مجاناً؛ إذ لا يتوصل إلى العمل على النخيل إلا بالعمل عليها، وقد يجوز الشيء تبعاً، وإن كان يمتنع ثبوتُه مقصوداً متبوعاً، وهذا كالحمل في البطن يتعلق به استحقاقُ المشتري إذا أشترى الأصلَ، ولا يتأتى فرض تملكه على الابتداء، والثمرة قبل التَّأْبير تتبعُ الشجرةَ في مطلق البيع، وقد لا يجوز بيعُها وحدها، وكذلك تتبع الثمارُ الأشجارَ بعد الظهور قبل بدوّ الصلاح في أن لا يشترط القطع فيها إذا بيعت مع الأشجار، ولو بيعت وحدها قبل بُدوّ الصلاح، فلا بد من شرط القطع، ونظائرُ ذلك كثير. فإذا تمهد هذا الأصلُ، ووضح (3) أن المزارعة إذا صححناها؛ فإنّا نصححها على طريق التبعية للنخيل، [فلو] (4) عامل المساقَى على النخيل، وعامل غيرَه على الأراضي التي في خللها، فالمزارعة على تيك الأراضي فاسدة؛ لأنها أثبتت مقصودة

_ (1) ر. المختصر: 3/ 71. (2) في الأصل: الساقي، (ي)، (هـ 3): المساقاة. والمثبت تقدير منا؛ فهو أقرب لفظ لصورة الأصل. (3) (ي)، (هـ3): وصحّ. (4) في الأصل: ولو.

مع عامل منفرد، وفيه خبطٌ آخر؛ فإن من ينفرد بقبول المزارعة لو عمل على تلك الأراضي، لعمل على النخيل، والمساقَى لو عمل على النخيل، لعمل عليها، فلا يتأتى انفصال الأمر في ذلك. ولو أدرج المزارعة والمساقاة تحت عبارةٍ، واتَّحد العاملُ، ولم يتفاوت المقدار المشروط من الزرع والثمرة، فهذا هو الذي يصح وفاقاً، وهو أن يقول: عاملتك على النخيل والأراضي التي في خللها على أن لك النصف من الثمر والزرع، فهذا جائز لما ذكرناه. 4999 - فلو اتحد العامل والمالك، ولكنه أفرد المزارعة على الأراضي بعقد، وأفرد المساقاة على النخيل بعقد، فحاصل ما ذكره الأصحاب في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها- أن المزارعة فاسدة؛ لأنها أُفردت مقصودةً بالعقد وأُخرجت عن حقيقة التبعية، وهذا هو الأقيس. والوجه الثاني- أنها تصح؛ فإن العامل إذا اتحد، ولم يؤد إلى اختلاط العمل، فالمقصود حاصل، ولا أثر للإفراد والجمع. والوجه الثالث- وهو أعدل الوجوه- أن المساقاةَ إذا تقدمت، وثبتت المزارعةُ بعدها، فنحكم بصحتها؛ فإنها تدخل على المساقاة، وتلحقها لحوقَ التابع المتبوعَ. فإذا تقدمت المزارعة، لم تصح؛ فإنها أُثبتت متبوعةً مقصودةً على سبيل الاستفتاح. ويشهد لهذا أن من باع الأشجار وعليها ثمارٌ مؤبرة، فالثمار تبقى لبائع الأشجار، فلو باع الثمارَ بعد بَيعْ الأشجار من مشتري الأشجار، ففي اشتراط القطع خلاف ذكرناه في كتاب البيع. ولو باع منه الثمار أولاً، ولم يشترط القطعَ، وهي غيرُ مزهية، فلو باع الأشجار ممن اشترى تلك الثمار، فبيعُ الثمار مقر على حكم البطلان. ثم من يرى تصحيح المزارعة وإن تقدمت، فيضطر فيها إلى تقدير (1) الوقف والتبيّن؛ فإنه لو فرض الاقتصارُ على المزارعة، فهي فاسدةٌ لا شك فيه، فكأن المساقاة بعدها تُبيِّن صحتها. وهذا فيه بُعد، ولكن أشار إليه الشيخ أبو علي.

_ (1) (ي)، (هـ3): إلى أن يقدر هذا الوقف والتبين.

ولو كان لهذا الوجه صحةٌ وثبوتٌ، فلا بد من طرده في مسالة بيع الثمار إذا تقدم واستأخر عنه بيع الأشجار. 5000 - ومما نفرّعه في ذلك أنه لو قال المالك: زارعتك على هذه الأراضي بالنصف، وساقيتُك على النخيل بالنصف، وقدّم لَفْظَيْه على النسق الذي ذكرناه، على قبول العامل. ثم قال العامل: قبلتهما، فللأصحاب طريقان: منهم من ألحق ذلك بمحل الصحة وجهاً واحداً. ومنهم من ذكر في هذه الصورة، اختلافاً، لتمييز المزارعة في الذكر عن المساقاة، ثم يُرتِّب هذا القائلُ هذا الخلافَ على ما لو أفرد كل واحد منهما بعقدٍ، وقبولٍ، على حكم التمييز. وقد قال القاضي: " لو قال: زارعتك على هذه الأراضي، وساقيتك على النخيل بالنصف، فهذا يصح وجهاً واحدأ، وإن تعدّدت العبارة عن مقصود الأراضي والنخيل؛ إذا كان ذكرُ الجزئية بعدهما راجعةً إليهما. ومسألة التردد فيه إذا ذُكر جزئيةُ المزارعة، ثم ذُكر المساقاة وجزئيتُها، ثم ذكر القبول بعد ذلك ". وهذا الذي ذكره صحيح، فلا يشترط في تصوير الوفاق أن نذكر عبارةً واحدةً صالحةً لهما، مثل أن يقول: عاملتك، أو ما جرى هذا المجرى. ولو جمع بين الأراضي والنخيل في العقد واللفظ، ولكنه غاير بين الجزئين فقال: ساقيتك على هذه النخيل، وزارعتك على هذه الأراضي على أن لك من الثمر النصفَ، ومن الزرع الثلث، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم مَنْ صحح ذلك، لاتحاد العقد والعاقد، وجريان التبعية. ومنهم من لم يصحح المزارعةَ؛ لأنها ميزت على الصيغة المغايرة عن النخيل، وأفردت بقسطٍ وجزء، فكان ذلك خارماً للتبعية. ثم لا يخفَى أن الخلاف في ذلك يترتب على الخلاف فيه إذا أُفردت المزارعة بعقدٍ تقديماً أو تأخيراً، ولا يشكل وجه الترتيب. و [كل] (1) ما ذكرناه فيه إذا جرت المزارعة على الأرض، مع المساقاة في النخيل، واتحد العامل.

_ (1) في الأصل: ولكن.

وقد قدمنا صورة المزارعة، وأوضحنا أن البذر فيها يكون من جهة مالك الأرض، والعمل من الزراع. 5001 - فلو ساقى المالك رجلاً على النخيل وخابره على الأراضي المتخللة. والمخابرة أن يكون البذر من العامل، ويقع شرط جزء من الزرع لمالك الأرض عوضاً عن منفعة أرضه. فلو جرت هذه المعاملة في الأراضي في ضمن المساقاة على النخيل، ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما- أن المخابرة صحيحة لمعنى التبعية؛ فإنها في معنى المزارعة، وكل واحدة منهما باطلة لو أفردت. والوجه الثاني- أن المخابرةَ فاسدة؛ لأنها لا تُضاهي المساقاة؛ من جهة أن وضع المساقاة على شرط [شيء] (1) من الثمار للعامل، والأصل أن تكون الثمار لمالك الأشجار، والمزارعة في معناها؛ فإن الغلّة تبعُ البذر، فالأصل أن تكون الغلةُ بكمالها للمزارع، فإذا شُرط جزء منها للعامل؛ فإن (2) ذلك كشرط جزء من الثمار للعامل؛ وليس كذلك المخابرة؛ فإن البذر فيها من العامل، والأصل أن تكون الغلة له. وكل هذه المسائل تدور على التبعية، ومراعاتها. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الأراضي بحيث لا يتأتى إفرادها [بالسقي] (3) والعمل دون النخيل، وكانت مع ذلك قليلةً، لا يجرّد القصدُ إلى إفرادها. 5002 - فأما إذا كانت تلك الأراضي كثيرة، وكان يمكن إفرادُها بالعمل فيها، فلا تجوز المزارعة عليها مع النخيل، وإن احتوى عليها حائط واحد. ولو كثرت الأراضي، ولكنها كانت لا تفرد بالعمل، ولا يتأتَّى إفرادها، ففي المسألة وجهان: أحدهما- أن المزارعة فاسدة؛ لأنها بكثرتها يمتنع تقديرها تبعاً.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (ي)، (هـ 3): كان ذلك. (3) في الأصل: بسقي.

والثاني- وهو الأصح- أن المزارعة تصح؛ فإنها تابعة في العمل؛ من جهة أنه لا يتأتَّى إفرادُها بالعمل عليها. ثم اختلف أئمتنا المعتبرون في ذلك: فمنهم من اعتبر كثرة الأراضي، وقال: إن كانت أكثر من مغارس النخيل، أو كانت مثلَها، فتقع في الخلاف، وإن كانت أقلَّ من النخيل، فالتبعية ثابتةٌ والمزارعة صحيحة، على شرط التبعية. ومن أئمتنا من راعى الرَّيْعَ، وقال: إن كان ريْعُ النخيل أكثرَ فالأراضي تابعةٌ، وإن كان ريعُ الأراضي أكثرَ، أو كان مماثلاً، فلا تبعية. وبالجملة كل ما ذكرناه فيه، إذا كان لا يتأتى إفراد الأراضي بالعمل فيها دون النخيل، فإن كان يتأتى ذلك، فلا وجه لتصحيح المزارعة أصلاً. هكذا ذكره الأئمة رضي الله عنهم. فصل قال: " ولا تجوز المساقاة إلا على جزء معلوم ... إلى آخره " (1). 5003 - الثمار في المساقاة بمثابة الربح في القراض، وعوض العامل في المعاملتين جزءٌ من الفائدة الحاصلة بأثر عمل العامل، ثم سبيل الإعلام الجزئية، وقد ذكرنا تفاصيلها في القراض. وجُملة تلك المسائل في هذا الفن تعود هاهنا: فإذا قال المالك للعامل: لك نصف الثمار ولي نصفُها، صحَّ ذلك. ولو قال: لي نصف الثمار، وسكت عن النصف الثاني، أو قال: لك نصف الثمار، وسكت عن إضافة النصف الثاني إلى نفسه، فالخلاف في ذلك كالخلاف في نظيره من القراض. ولو سمى للعامل في مقابلة [عمله] (2) ثمرة نخلة، أو نخلات، فالمساقاة فاسدةٌ؛ لأن تيك إن لم تُثمر، تجرّد عملُه على باقي النخيل عن مقابل، وإن أثمرت، ولم يثمر

_ (1) ر. المختصر: 3/ 72. (2) ساقطة من الأصل.

غيرُها، فلا يَسْلَمُ لرب النخيل شيء، وهذه المعاملة لا يجوز أن يعدل عن موضوعها. ولو شرط للعامل صاعاً، ثم جعل الباقي نصفين، أو شرط لنفسه صاعاً، فذلك فاسد، كنظيره من القراض. وكذلك لو شرط أن تكون الثمار نصفين، ثم إنّ أحدهما يردُّ على الآخر صاعاً، فيفسد؛ إذ قد لا يكون النصف إلا صاعاً، وهو بمثابة ما لو شرط لصاحبه صاعاً، ثم قدّر القسمة بعده. وكل هذه الفصول متكررة، اكتفينا بالرمز إليها. 5004 - والذي يجب الاعتناء بدَرْكه: أن شرط جميع الثمار للعامل فاسدٌ مفسد للمعاملة، وكان لا يمتنع من طريق المعنى تجويز ذلك اكتفاءً من مالك الأشجار بتنميتها، وقد يقع هذا غرضاً في أوّل نماء الأشجار الحديثة، المحتاجة إلى التعهد، ولكن لا يسوغ هذا، كما لا يسوغ شرطُ تمام الربح للعامل. ومبنى المعاملةِ على تمليك حق المالك في اقتضاء ملك الثمرة لمالك الأشجار، وصرف شيء منه إلى العامل، والغرضُ من صرف شيء إليه أن يسعى في تكثيره، بناءً على أن ما [يبقى] (1) للمالك عند عمل العامل أكثرُ من كل الثمرة لو لم يكن عمل. هذا هو المفهوم من وضع هذه المعاملة. وقال القاضي في أثناء هذه المسائل: " لو باع نصفاً من صُبرة، وصاعاً من النصف الآخر، لم يجز؛ لأنه لم يمحض الجزئية ". وهذا لستُ (2) أراه كذلك؛ فإن هذا التفريع إنما يحسن إذا جوزنا بيع صاع من صُبرة مجهولة الصيعان، وفيه خلافٌ، ذكرناه؛ فإن جوزنا هذا، فبَيعُ النصف من الصُّبرة المجهولة جائزٌ؛ فيقع (3) النصفُ الثاني كصُبرة مجهولةٍ، بيع صاعٌ منها، ولا يجوز غير هذا.

_ (1) في الأصل: بقي. (2) (ي)، (هـ 3): لا أراه. (3) عبارة (ي)، (هـ3): وبيع صاع من النصف الثاني كصبرة ...

فصل قال: " ولو دخل في النخيل على الإجارة ... إلى آخره " (1). 5005 - هذه المعاملة تنعقد بلفظ المساقاة وهو خِصِّيصٌ بها، نصٌّ فيها، ولو لم يأت بها، وذكر المعاملةَ، صح العقدُ، ولا بدّ من القبول. ولو قال: خذ هذه النخيل، واسقها، وتعهدها، واعمل فيها كذا وكذا، على أن ما رزق الله من الثمار، فهو بيننا نصفان، جاز هذا. ولا بدّ من القبول باتفاق الأئمة، بخلاف نظيره في القراض؛ فانا ذكرنا فيه تردداً. والفارق أن المساقاة لازمة، فلا بد فيها من التزام، وإنما يحصل الالتزام بالقبول، والقراض جائزٌ، فضاهى الوكالة. وقد مضى هذا. ثم إن قال: خذ، فلا بدّ من شرحٍ للأعمال التي تستحق على العامل، على تفصيلها. وإن قال: ساقيتك، كفى أن يذكر جزئية الثمار، ويقبل العامل، ولا حاجة إلى تفصيل الأعمال؛ فإنها بيّنة في موضوع العقد، كما سنشرحها. ولو قال: عاملتك على هذه النخيل، ففي اشتراط تفصيل الأعمال تردد واحتمال. ولو قال: استأجرتك لتعمل في هذه النخيل، ولك النصف من ثمارها، لم يصح ذلك أصلاً قبل بُدوّ الثمار. 5006 - فإن قيل: هلاّ صححتم المساقاة بلفظ الإجارة، والإجارةُ موضوعة لاستحقاق المنافع، وفي المساقاة استحقاق المنافع؟ قلنا: الإجارةُ صريحةٌ في بابها، وهي ممكنةٌ فيما نحن فيه، وكل لفظٍ صريحٍ استعمل في مكان إمكان استعماله، لم يجز أن يُصرف بالنية إلى غيره، كالطلاق لا يصرف إلى الظهار، والظهار لا يصرف إلى الطلاق. فإذا كانت المساقاة لا تصح بلفظ الإجارة، والإجارةُ تستدعي عوضاً معلوماً مَوْجوداً، أو ملتزماً في الذمة. ولو استأجر إنساناً ليعمل عملاً في غير البستان،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 72.

وجعل أجرته جزءاً من ثمرة البستان، فالإجارة فاسدة، لا شك في فسادها، فالاستئجار على العمل على النخيل بهذه المثابة. هذا إذا جرت لفظة الإجارة، والثمار معدومة، فإن كانت موجودةً، فاستأجره على أعمالٍ معلومةٍ ببعضٍ من تلك الثمار، لم يخلُ إما أن يكون ذلك قبل بدوّ الصلاح، وإما أن يكون بعد بدوّ الصلاح. فإن كان قبل البدوّ، لم يصح؛ لأن بيع الثمار قبل البدوّ مشروط بشرط القطع، ولا يتأتى القطع في جزءٍ مشاعٍ. وإن فُرض استئصال الثمار بالقطع، تضمّن تقرير العقد على البعفقطعَ ما ليس معقوداً عليه (1)، وهذا فاسد غير محتمل. وإن بدا الصلاح، فاستأجره على أعمالٍ، وجعل أجرته نصف الثمار، صحت الإجارة، ويحمل الأمر على التبقية إلى أوان الجداد. وإن استأجره ليعمل على النخيل أعمالاً بيّنها، وأعلمها، وشرط أجرته ثمرةَ نخلة أو نخلات بعينها، فإن لم تكن الثمار خارجةً، لم تصح الإجارة، وإن خرجت، فإن كان قبل بدوّ الصلاح، جاز بشرط القطع، وإن كان بعده، جاز مطلقاً. والأجرةُ في الإجارة حكمها حكم العوض في البيع في كل تفصيل. فصل قال: " وكل ما كان [فيه] (2) مستزاذٌ في الثمرة ... إلى آخره " (3). 5007 - مقصود الفصل بيان ما على العامل من الأعمال، ونحن نفصلها، ثم نعود، فنضبطها من جهة المعنى على أقصى الإمكان، إن شاء الله. فعلى العامل السقي وتنقية الأنهار مما فيها لسَوْق الماء، وعليه كنسُ الآبار من الحمأة، وتصريفُ (4) الجريد، وتأبيرُ النخيل، وقطعُ الحشيش المضرّ، وقد تمس

_ (1) لأنه يستحيل قطع الجزء الشائع إلا بقطع الكلّ. (2) مزيدة من نص المختصر، حيث سقطت من النسخ الثلاث. (3) ر. المختصر: 3/ 72. (4) تصريف الجريد: الجريد سعف النخيل، ويسمى جريداً لأنه يجرّد من خوصه، وتصريف=

الحاجة إلى تقليب الأرض في المغارس، وهو عليه أيضاً، وعليه الجِدادُ، ونقلُ الثمار إلى الجرين، وتجفيفُها. فهذه الأعمال على العامل. 5008 - فأما ما يتعلق بإصلاح الحائط، وبناء الجدران، ونصب الأبواب، وشراء الدولاب، وحفرِ بئرٍ جديد، ونهرٍ، فهذه الفنون تجب على رب النخيل. 5009 - والضبط فيما على العامل، أن ما يتعلق بتنمية الثمار، ولا يتأصل عمارةً في البستان ثابتةً، فهو على العامل، وما يتعلق بالعمارات الدائمة في البستان، فليس على العامل. وعبّر بعضُ الأصحاب، فقال: ما تكرر في كل عامٍ، ولا يبقى أثره بعد مضي السنة، فهو الذي يلتزمه العامل، وما لا يتكرر في كل عام، ويبقى أثره بعد مضي السنة وخروج العامل عن العمل، فهو في جانب رب النخيل. ونحن نعلم أن الأعمال المنمِّيةَ للثمار تؤثر أثراً ظاهراً في الأشجار؛ إذْ لو قُطع السقي في سنةٍ، لتأثرت الأشجار تأثراً بيّناً، وكذلك إذا تُرك تصريف الجريد عن النخيل تأثرت، والنخلة تُخْلِف كلّ سنة [ضغثاً] (1) من السعف والجرائد، وتجف، ولو لم تقطع، لتضررت النخلة. فإذا كنا نعلم ذلك، ونستيقن أن الأشجار تنتفع بأعمال العامل، فالوجه ما ذكرناه من تكرر العمل في كل سنة، فالواجب ما يؤثر في الثمرة، ويتكرر في كل سنة، ولا يثبت أثراً دائماً. 5010 - وتردد أئمتنا في القيام بحفظ النخيل، فمنهم من قال: على العامل؛ فإنه مما تتأثر به الثمار بأن لا تسرق، وليس هو أمراً دائماً، فشابه السقي. ومن أصحابنا من قال: ليس ذلك على العامل، وهو القياس؛ فإنه ليس عملاً

_ =الجريد أن يشذِّبه من سُلائه (شوْكه)، ويذلّل العذوق فيما بين الجريد لقاطعه. والتشذيب: تشنيخُ شوكه عنه، وتنقيحه مما يخرج من شَكيرِه الذي يضرّ به إن ترك عليه (والتشنيخ: تنحية الشوك عن الشجر، والتنقيح مثله). (الزاهر: 250 فقرة: 537، والمعجم). (1) في الأصل: صنفاً.

ينمِّي الثمار بطباعه، وإنما هو حفظٌ عن اللصوص، لا يعدُّ من أعمال المُساقَى. ولو حصل أدنى ثُلمةٍ في الحائط، وكان يهون ردْمها، فقد ردّد القاضي جوابه فيه أيضاً؛ فإنه من الأمر الهين، الذي لا يعد من الآثار المتخلّدة. والمسألة محتملة. فلو قيل: قطعتم القولَ بأن القطاف على العامل، وليس القطاف منمِّياً للثمار. قلنا: هو إصلاحٌ لها، وكذلك النقل إلى الجرين، والتجفيف. ثم إن جرى العقد بلفظ المساقاة، فلا حاجة إلى تفصيل هذه الأعمال ذكراً؛ فإنها مقتضى المساقاة. وظاهر نص الشافعي يوهم أنه لا بد من ذكرها؛ لأنه قال في الأعمال: " جاز شرطها على العامل "، ولو كانت المساقاة مقتضيةً لها، لما كان لشرطها على العامل معنى، وقد رمز إلى هذا بعض الأصحاب، وصار إلى أن أعمال المساقاة مختلفة الأصناف، وقد يُفرض الذهول عن بعضها [وتختلف] (1) عاداتُ أهل النواحي (2) فيها، فالاقتصار على إطلاق لفظ المساقاة لا يفيد إعلامَنا. وهذا وإن أمكن توجيهه، فلا ينبغي أن يُعتدَّ به مذهباً إذا كان المذكورُ لفظَ المساقاة. والوجه القطعُ بأن المساقاةَ تُغني عن تفصيل الأعمال، ولو فصلت مع هذا اللفظ لم يضر، وعليه يُحمل كلامُ الشافعي رضي الله عنه. 5011 - ولو شرط مع الأعمال المستحقة في المعاملة ما ليس مستحقاً، كحفر بئرٍ جديدٍ، أو ما في معناه، فالمعاملة تفسد عندنا؛ فإن ما شرط لا يُستحَقُّ إلا بطريق الاستئجار، والاستئجار يستدعي عوضاً يليق بالإجارة (3)، فإذا وقع الاقتصار على ذكر جزء من الثمار، لم يكن ذلك على وفق الاستئجار، فيبقى ذلك المزيد مشروطاً في العقد على حكم الفساد، فيفسد وتفسد، وأجاز مالك (4): أن يشترط في العقد كل ما كان من مصلحة الحائط. وهذا باطل. ...

_ (1) في الأصل: فتخلف. (2) (ي)، (هـ 3): البوادي. (3) (ي)، (هـ 3): عوضاً معلوماً. (4) ر. جواهر الإكليل: 2/ 180، حاشية العدوي: 2/ 193.

باب الشرط في الرقيق

باب الشرط في الرقيق قال: " ولا بأس أن يشترط المساقى على رب النخيل غلماناً يعملون معه ... إلى آخره " (1). 5012 - أراد بالمساقي -والقاف مكسورة- العاملَ، ولو قال المساقَى- بفتح القاف - لكان أظهر في تفاوض الفقهاء، غير أن ما ذكرناه صحيح في اللغة؛ فإن المساقاة مفاعلة، فيجوز أن يعبَّر عن كل واحد منهما باسم الفاعل والمفعول، وهو يضاهي كلمة المصادفة والموافاة، وما في معناهما، فيجوز أن تقول إذا التقيت بزيد: صادفتُ زيداً، ويجوز أن تقول صادفني زيد، ووافيتُ زيداً، ووافاني زيد، ولاقيتُ زيداً، ولاقاني زيدٌ. وغرض الباب أنه لو كان في البستان الذي جرت المعاملة فيه غلمانٌ مرتبون للعمل فجرت المساقاة مطلقة بين ربُّ البستان وبين العامل، فالعبيد لا يدخلون في موجَب العقد المطلق. وقال مالك (2): الغلمان الذين هم من عَمَلة الحائط يدخلون تبعاً، والعامل يستعملهم، وهذا الذي ذكره وهمٌ، وغلطٌ؛ لأن المالك ربما لم يرضَ بالمساقاة إلا [لقطع] (3) غلمانه عن العمل، حتى يتفرغوا، وهو يستعملهم في أمورٍ سواه، فيجب حملُ المساقاةِ على مقتضاها. وخروج العبيد. هذا إذا كان العقد مطلقاً، [فإن قُيّد، فشرَط] (4) العاملُ دخولَهم في العقد،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 73. (2) جواهر الإكليل: 2/ 179، حاشية الدسوقي: 3/ 541. (3) في الأصل: يقطع. (4) في الأصل: فلو شرط، والمثبت عبارة (ي)، (هـ 3).

ليعملوا معه، فظاهر النص أن الشرط صحيح، وإذا (1) وقع التوافق عليه، لزم الوفاء به. ثم لو جرى هذا الشرط لعبيدٍ (2) مرتّبين معروفين بالعمل في هذا البستان، أو جرى في عبيد آخرين، لم يُشْهَروا بالعمل في هذا البستان، فلا فرق، والكل على وتيرة. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن (3) يشترط عملَهم معه؛ فإن المعاملة تقتضي استحقاق صنوفٍ من الأعمال على العامل، فإذا اشترط أن يعمل العبيد معه، اقتضى ذلك الحطَّ من تلك الأعمال، وقد يتعاطى العبدُ معظمها وهذا تغييرٌ لوضع العقد. وسنذكر (4) أن المالك لو شرط أن يعمل مع العامل، لم يجز. وعمل العبد كعمل المالك، ويدُ العبد إذا كان يتصرف بإذن المالك كيد المالك، فإذا امتنع شرطُ عمل المالك، وجب أن يمتنع شرطُ عمل العبد. 5013 - فيخرج من هذا الترتيب أن المالك لو شرط أنه يعمل، لم يجز على ما سنذكره. وفي شرط عمل العبيد الخلاف الذي ذكرناه (5): ظاهر النص الجوازُ، وفيه الوجه المخرّج المشهور. ومَنْ نصر النصَّ، انفصل عن عمل المالك بأن قال: المالك إذا كان يعمل، ففي عمله إفساد تدبير العامل، وشرطُ عمله أن يكون صادراً عن استقلاله بنفسه، واستبدادِه برأيه؛ وهذا لا يتحقق في العبد؛ فإنه مع العامل في حكم المصرَّف المستخدم، حتى لو وقع الشرطُ على أن يستقلَّ العبدُ بالعمل، ولا يتبعَ استعمال العامل إياه، فذلك فاسدٌ مفسدٌ، نازلٌ منزلة اشتراط عمل المالك، فإذاً العبيد إذا ذكروا، وقعوا [عوناً] (6) للعامل على سبيل التبع.

_ (1) (ي)، (هـ 3): وإن. (2) (ي)، (هـ 3): في عبيدٍ. (3) (ي)، (هـ 3): لا يشترط. (4) عبارة (ي)، (هـ 3): وسنذكر أن العامل لو شرط على المالك أن يعمل معه لم يجز. (5) (ي)، (هـ 3): ذكره. (6) في الأصل: عيناً.

ولو شرط رب النخيل أن يُعينَ العاملَ بثيرانٍ عوامل، أو ما في معناها من الآلات التي يحتاج إليها العامل، لم يضرّ شرطُ ذلك، اتفق الأئمة عليه في الطرق، والفرق أنها ليست عواملَ بأنفسها (1)، وإنما هي كالآلات، والعملُ مضافٌ إلى مستعملها، ولا يُتوقع منها مزاحمةٌ، بخلاف عبيد رب النخيل. وإنما يتّضح هذا الفصل بآخره. 5014 - وقد ذكر المزني في آخر مسائل التحري شيئاً، وأنا أرى في طريق البيان أن أذكره الآن: فلو شرط العامل أن يستأجر في الأعمال الأجراءَ، أو في بعضها، وشرط أن تكون أجرتُهم على المالك، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما- أنه يسوغ. والثاني- لا يسوغ. توجيه الوجهين: من قال: لا يجوز شرطُ ذلك، احتج بأن الأعمال إذا تولاها الأجراء واستحق المساقَى جزءاً من الثمار، لم يكن استحقاقه في مقابلة عمل [و] (2) رب المال كان متمكناً من تحصيل تفاصيل هذه الأعمال بالأجراء، فإذا حصلت بهذه الجهة، والتزم المالك الأجرة، لم يبق للعامل مع ذلك معنىً. ومن قال بالجواز، احتج بأن قال: إذا وقع التشارط كذلك، فالمطلوب من العامل استعمالُ الأجراء في الوجوه التي يستصوبها، وتخيّر الأوقات للأعمال، وانتصابه قهرماناً (3) عليهم، وهذا جارٍ في العرف. فإن قيل: هلا وقع القطعُ بجواز ذلك اعتباراً بمؤنة الحمال والكيال والدلال في مال القراض؛ فإن مؤنهم محسوبة من عُرض (4) المال، فليكن الأُجراء بهذه المثابة؟ قلنا: لا سواء؛ فإنّ الأعمال التي يتولاّها هؤلاء في القراض لا يتولاها التاجر بنفسه، ويستحيل أن نكلف مرموقاً في التجارة أن يتعاطاها، فتلك الأعمالُ خارجةٌ عن كونها ثابتةً على المقارض، والأعمال التي يقع استئجار الأجراء عليها في مسألتنا

_ (1) (ي)، (هـ 3): ليست مستقلة بأنفسها. (2) الواو ساقطة من الأصل، ومن (ي). (3) القهرمان: أمين المَلك، ووكيله الخاص بتدبير دخله وخرجه. فارسي معرب (معجم). (4) في الأصل: غرض: وعُرض المال، عامته، ووسطه. (معجم).

مستحقةٌ على العامل في وضع المعاملة. نعم، قد ذكرنا أن عرض الثياب، ونشرَها، وردَّها إلى ظروفها من عمل المقارَض، فلو شرط الاستئجارَ على هذه الصنوف، جرى الخلاف الذي ذكرناه في الاستئجار على أعمال المساقاة. 5015 - ولو شرط العامل في المساقاة أن يصرف إلى أجرة الأجراء أجزاء من الثمار، فهذا الشرط يُفسد؛ فإنه لا يجوز إضافةُ الثمار إلا إلى العامل والمالك. وإذا قال: أصرف إليهم من الثمار أجرتهم والباقي بيننا، فهذا يجر جهالةً في المشروط بين العامل وبين رب النخيل، وإذا وقع الشرط على أن يبذل المالك أجرة الأجراء، لم تصِرْ جزئيةُ الثمار مجهولةً، وسنقرر هذا الفصل، وهو إضافة مؤن الأجراء إلى الثمار في آخر المسائل. وكان قَدْرُ غرضنا التردّدُ الذي ذكرناه إذا كانت الأجرة مشروطةً على المالك. ثم مَنْ صحح ذلك، [فلا خلاف] (1) أنه يجب أن يبقى متعلَّقٌ من عمل العامل، وأوْلى أعمالِه استعمالُه الأجراء في وجوه الاستصواب، فإذا وقع الشرط على ألا يعملَ، ولا يستعملَ، فلا شك أن المعاملةَ فاسدةٌ. ولو ذكر أنه يَعُدُّ الأجراء، أو يضبط حسابَهم، فالذي أراه أن (2) هذا لا يكتفى به، إذا لم يكن يهتدى (3) إلى الدهقنة، وجهات الاستصواب، ولم يقع الشرط على الاستقلال بالاستعمال، فإنّ عدّ الأجراء، أَوْ ضبطَ حسابهم عملُ أجيرٍ، آخر لا يختص بالدهقنة المطلوبة. 5016 - فإذا تمهد ما ذكرناه، التحق اشتراط عمل العبيد باشتراط الأجراء. وفي عمل العبيد مزيد أمرٍ يشير إلى فساد الشرط، وهو أنّ أيديهم تضاهي يدَ المالك بخلاف أيدي الأجراء، فالوجه ترتيب اشتراطهم على اشتراط الأجراء، والمصيرُ إلى أن اشتراطهم أولى باقتضاء الفساد من طريق القياس، والنصُّ على الصحة، فليقع التفريع عليه.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) عبارة (ي)، (هـ 3): أنه. (3) (ي)، (هـ 3): إذا لم يهتد إلى ..

5017 - فنقول: إذا شُرطوا وتعينوا بالشرط، فالكلام بعد ذلك في نفقاتهم ومؤنهم، وقد أجمع الأئمة على أنه لو لم يقع التعرض لنفقتهم، فنفقاتُهم على المالك؛ فإن النفقة تتعلق بالمالك إذا لم يقطعها قاطع عنه، ولو وقع الشرط على أن ينفق المالك، فقد تطابق الشرطُ ومقتضى الشرع. ولو وقع الشرط على أن تكون النفقة على العامل، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: هذا فاسدٌ؛ لأنه قطعٌ لمقتضى الشرع في اقتضاء الملك نفقةَ المملوك. ومنهم من قال: يصح شرطُ النفقة على العامل؛ فإن العمل في وضع العقد مستحَقٌّ عليه، فلا يمتنع شرط مؤنة [العملة] (1) عليه، وهذا ظاهرُ النص؛ فإنه قال: رضي الله عنه: ونفقة الرقيق على ما يتشارطان. وذهب مالك (2) إلى أن مطبق العقد يقتضي أن تكون النفقة على العامل، وإياه قصد الشافعيُّ بالرد حيث قال: والنفقة على ما يتشارطان، فهذا هو الترتيب في الأصل. وذكر شيخي عن بعض الأصحاب وجهاً أن شرطهم لو كان مطلقاً، ولم يقع التعرض لذكر نفقاتهم، فالعقد يفسد بهذا الإطلاق؛ فإنه يجرّ جهالة في المقصود. وهذا مزيف ضعيفٌ. فإذا حكمنا بأن النفقة على المالك في التفاصيل التي ذكرناها، فإنه ينفق عليهم إنفاقه قبل ذلك. فإن قلنا: النفقة على العامل عند الشرط، فهل يُشترط إعلامها؟ فعلى وجهين: أحدهما- أنه يجب الإعلام، وهو الأقيس، ولا يخفى وجهه. والثاني- لا يشترط الإعلام ويتسامح في ذلك، ويُرد الأمر إلى [الأمر] (3) القَصْد الوسط في الإنفاق، ومثل ذلك محتمل في عرف المعاملات.

_ (1) في النسخ الثلاث: العمل. والمثبت تقدير منا لرعاية السياق. (2) ر. جواهر الإكليل: 2/ 179، حاشية الدسوقي: 3/ 541. (3) في الأصل: إلى الآمر القصد. وفي (ي): إلى القصد الوسط. والمثبت من (هـ 3).

ومما أجراه الشافعي في محاجّة مالك لما نقل عنه أن [نفقة العبيد] (1) على العامل من غير شرط، فقال رضي الله عنه: كما [ألزمته] (2) النفقة، فألزمه أجرة العبيد؛ فإن أجرة أعمالهم تزيد على نفقاتهم. وهذا الكلام ينشىء في المذهب نظراً على الفقيه. 5018 - وقد ذكرنا في اشتراط أجرة الأجراء على المالك تفصيلاً، [فإذا جَرَيْنا] (3) على أن حقَّ العمل أن يكون مستحقاًً على العامل، فاشتراط أجرة العبيد عليه لا [يمتنع] (4) ليكون هو الموفي عملَ المساقاة. ويرجع النظر إلى تعيين العبيد وأن أيديهم هل تنزل منزلةَ يد المالك، فليتبيّن الناظرُ ذلك، ثم ليعلم أن الأصح جوازُ اشتراط أجرة الأجراء على المالك، وردّ الأمر إلى أن جملة الأعمال لو قوبلت بجزءٍ من الثمار، جاز. ولو قوبل بعضها على شرط الاستقلال بجزءٍ من الثمار، فالأصح الجواز. ولو لم يكن للعامل استقلالٌ، وإنما كان يصرّفه المالك في عملٍ يريده، وذكر له جزءاً من الثمار، لم يجز ذلك بلا خلاف، فإن هذا خارج عن المساقاة المعهودة، وهو على الحقيقة استئجارٌ بجزءٍ من الثمار. والاستئجار على هذا الوجه فاسد. فهذا بيان أطراف الكلام في الفصل. ...

_ (1) في الأصل: أن النفقة على العامل. (2) في الأصل: لزمته. (3) في الأصل: وأجرينا. (4) في الأصل: يمنع.

باب (1) قال المزني: "هذه مسائل أجبتُ فيها على معنى قوله وقياسه ... إلى آخره" (2). 5019 - فمن ذلك لو ساقاه على نخيلٍ سنين معلومة، على أن [يعملا] (3) فيها جميعاً، لم يجز في معنى قوله. فقال الأئمة: أصاب فيما قال؛ لأن [المالك] (4) إذا شرط أن يعمل معه في البستان مَنَع انفراده بالرأي والاجتهاد (5)، وغيَّر وضْعَ المعاملة، وردَّ مرتبة العامل إلى محلّ مستعمَل محتكمٍ عليه، وهذا صفة الأجير الذي يستعمله مستأجِره، ووجدت الطرقَ متفقةً على ما ذكرت، وقد قدمتُ في القراض أن المالك لو شرط أن يعمل مع المقارَض، أفسد القراضَ بهذا الشرط. وهذا في القراض أظهر؛ من جهة أن صاحب المال إذا كان يزاحِم في العمل عليه فأهل العرف لا يعاملون العامل، ولا يقيمون له وزناً والغرض من نصبه أن يظهر أثره في التجارة، وهذا قبضٌ على يده. وهذا التعليل على هذا الوجه قد لا يظهر في المساقاة إلا على وجه التكلف، في أن العامل لو لم يكن مستبداً، فقد يؤدي ذلك إلى فوات وجوهٍ من العمل، وأعمال الدهقنة في أحيانها [كالفُرص] (6) في أوانها. وقد ذكرنا في القراض أن المالك لو لم يشترط أن يعمل مع المقارض، ولكن شرط أن يكون له يدٌ في المال، فهذا الشرط مفسدٌ وفاقاً. 5520 - ولو شرط ربُّ النخيل أن يكون البستان تحت يده، نُظر: فإن لم يكن

_ (1) هذا العنوان (باب) سقط من نسخة الأصل وحدها. (2) ر. المختصر: 3/ 73. (3) في الأصل: يعمل. والمثبت من (ي)، (هـ 3). (4) في النسخ الثلاث: العامل. والمثبت تقدير منا. (5) (ي)، (هـ 3): والاستبداد. (6) في الأصل: كالقراض، وفي (ي)، (هـ 3): كالقرض. والمثبت تقدير منا.

للعامل يدٌ، وكان يحتاج إلى مراجعة المالك، مهما (1) أراد الدخول والعمل في البستان، فهذا التضييق مفسدٌ للعمل إجماعاً؛ فإنه يؤثر أثراً بيِّناً في عين مقصود المعاملة، إذ قد يَرْهَق (2) عملٌ في الدهقنة لا يقبل التأخير. وإن كانت اليد ثابتةً للعامل، وكان متمكناً من الوصول إلى العمل متى شاء، فهذا مما رأيت كلامَ الأصحاب فيه على التردّد، فرأى بعضُهم أن تُلحَقَ المساقاة بالقراض، حتى تكون مشاركةُ المالك في اليد مُفسدةً كالقراض. وهذا غير سديد؛ فإن المالك إذا كان لا يزاحِمُ في العمل، فلا أثر ليده، والحالة كما وصفنا، بخلاف اليد في القراض؛ فإن نفسَ مخالطة المالك للمال تصرف وجوهَ الطالبين والراغبين عن العامل، وتتضمن قبضاً على يده، وهذا لا يتحقق في عمل المساقاة أصلاً. وتمام البيان في ذلك: أنا إذا لم نجعل مجردَ يد المالك مؤثراً، فلو شرط أن يعمل مع العامل على حسب استعمال العامل إياه، من غير أن يستبد بنفسه، أو يزاحمه في التدبير والاستقلال، فهذا فيه احتمالٌ ظاهر، ولكن مقتضى قول الأصحاب أنه إذا كان يشارك في العمل، وجرى شرطُ ذلك، كان فاسداً مفسداً. وهذا فيه نظر، ولا يبعد حمل كلام الأصحاب على اشتراط العمل، على وجهٍ يزاحم تدبير العامل. هذا منتهى الكلام في هذا. فصل قال: " ولو ساقاه على النصف، على أن يُساقِيَه في حائط آخر على الثلث، لم يجز ... إلى آخره " (3). 5021 - وهذا كما قال: وعلّة الفساد أنه شرط عقداً في عقد، وكان كما لو قال:

_ (1) مهما: بمعنى إذا. (2) رهق الشيء: حان أوانه، ودخل وقتُه. (معجم). (3) ر. المختصر: 3/ 73.

بعتك هذا العبدَ بألفٍ، على أن تشتريَ داري بألفين. وكذلك لو قال: ساقيتك في هذا الحائط على النصف على أن تساقيني في حائطك هذا- لا يجوز، كما لو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ، على أن تبيعني دارَك. ثم المساقاة الثانيةُ صحيحة، إذا جرت مطلقةً؛ فإنها خليّةٌ عما يُفسدها، وإنما فسدت المساقاةُ الأولى بشرط هذه فيها، فإذا لم يقع في العقد المتأخر شرطٌ، وجرى على موجب الشرع، صحَّ. وكذلك القول في البيعين، فالبيع الأخير المطلق صحيحٌ. فإن جرى ما يتضمن تعليقاً في العقدين، مثل أن يقول: ساقيتُك في هذا الحائط على النصف على أن تساقيني في حائطك هذا على الثلث، فإذا وجب لك هذا، وجب لي هذا، فإذا رأيا ذلك إنشاءً للعقدين، لم يصح واحدٌ منهما؛ فإنَّ كلَّ واحد معلّقٌ بالآخر، والتعليق ممنوعٌ في ذلك. ولو جرى هذا على هذه الصيغة، ثم [استفتحا] (1) المساقاةَ الثانيةَ، أو البيعَ الثاني، وقد جرى قبلُ صيغةُ التعليق، فلا أثر لما تقدم، ويصح العقد الثاني إذا استقل بشرائط الصحة، ولا يؤثر إضمارُهما أن ذلك وفاءٌ بالتعليق المقدّم، إذا لم يَجْرِ تعليقٌ عند استفتاح هذا العقد. 5022 - ثم مهما فسدت المساقاة، فللعامل أجر مثل عمله، والثمار، بجملتها لرب النخيل. فلو فسدت المساقاة، وعمل العامل، واجتاح الثمارَ الجوائح، ولم يحصل شيء منها، فهل يستحق العامل على الفساد أجرةَ المثل؟ فعلى وجهين: أحدهما- أنه يستحق بعمله، ولا تعويل على الثمار في حقه، كانت أو لم تكن. والثاني- أنه لا يستحق شيئاً، لأن العقد لو كان صحيحاً، لما استحق شيئاً، فإذا عمل على الفساد، فقد صدر منه العمل على وجهٍ لا يعتقدُ استحقاق شيء بعمله، مع اعتقاد الصحة، فليكن الفاسدُ كالصحيح، حتى لا يختلفا إلا في المستحق، فالواجب في الصحيح جزءٌ من الثمار، وفي الفاسد أجرة المثل. وقد ذكرنا نظير ذلك في القراض.

_ (1) في الأصل: استثنى. وفي (ي): غير مقروءة، صورتها هكذا: (اسسحقا). والمثبت من (هـ 3).

فصل قال: " فإن ساقاه أحدهما نصيبه على النصف، والآخر نصيبه على الثلث ... إلى آخره " (1). 5023 - البستان إذا كان مشتركاً بين شريكين فساقيا عاملاً على نخيلهما، وشرط أحدُهما له نصفَ الثمار من نصيبه، وشرط الثاني له الثلثَ، وكان العامل عالماً بنصيب كل واحد منهما من النخيل، فهذه المعاملة صحيحةٌ، والجاري في حكم عقدين، كلُّ واحد منهما منفردٌ عن الثاني، وإن كان العامل جاهلاً، ولم يدر أن نصيب مَن شرط الثلث كم، ونصيبَ من شرط النصف كم، فالمعاملة فاسدةٌ؛ فإنه لا يدري كم يخصه من النصيبين؛ فإنَّ نصيبَ من شرط الثلث إذا كان أقل، كثُر نصيبُ العامل، وإذا كان على العكس قلّ نصيبه، فلا تنعقدُ المعاملة على الجهالة. ولو جهل مقدارَ ملك كل واحد منهما من النخيل، ولكنهما شرطا له النصف من نصيبهما، فالمذهب الصحيح تصحيحُ المعاملة؛ إذْ لا جهالة فيما يستحقه، ولا أثر لتفاوت ملكيهما. ولو ساقى واحد رجلين، وشرط لأحدهما النصفَ، وللآخر الثلثَ، جاز. 5024 - ولو ساقى رجلان رجلين، وشرطا النصفَ للعاملين، جاز، وإن لم يُبيّنا قدْرَ ما يستحق كل واحدٍ من العاملين من النصف الذي سمَّيا لهما، جاز؛ لأن الإطلاق يقتضي كونَ المسمى لهما بينهما، ثم الباقي يقسّم بين المالكين على قدر الملكين. [فإن وقع الشرطُ على أن الباقي يقسم بعد نصيب العاملين بين المالكين، لا على قدر الملْكين] (2) [وذلك بأن يستشرطا] (3) الاستواء في الباقي، وملكهما متفاوت أو [يشترطا] (4) التفاوت وملكهما متساوٍ، فلا شك في فساد هذا الشرط، وأنه غير متبع.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 74. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (3) عبارة الأصل هكذا: ثم الباقي يقسم على قدر الملكين، فإن شرطا الاستواء في الباقي ... (4) في الأصل: أو اشترطا.

ثم قال قائلون من أئمتنا: هذا يفسد العقد إذا جرى شرطاً فيه. وقد ذكرتُ نظير ذلك في القراض، وحكيت الوفاق فيه عن الأصحاب، وتكلُّفَ (1) تعليلِه على وجهٍ يلوح من خَلَله احتمالٌ في أن القراض لا يفسد؛ من جهة أن هذا الشرط يتعلق بالمالكَيْن، ولا تعلق له بالعامل والمعاملة، وهذا أظهر في المساقاة؛ لأن تشارط المالكَيْن في الثمار لا أثر له في المشروط للعامل، وليس استحقاقهما الثمار بحكم عقدٍ حتى يظهر في العقد أثرُ تشارطهما، فيظهر جداً أن نقول: يفسد هذا الشرط، وتصح المساقاة، ويقسم الفاضل من نصيب العاملين بينهما على نسبة المِلْكين. وإنما رأينا ذلك في المساقاة، وأشرنا إلى فرقٍ بينها وبين القراض؛ من جهة أن الربح كأنه جزءٌ من عمل المقارَض، ولو لم يصرف الدراهمَ إلى العُروض، لما ثبت ربحٌ أصلاً. والثمار قد لا تكون كذلك؛ فإن حصولَها بالخَلْق والفطرة وتعهدها لتحسُنَ وتنمو بعمل العامل. فصل قال: " ولو ساقاه على حائطٍ فيها أصنافٌ ... إلى آخره " (2). 5025 - إذا كان في الحائط أجناس من النخيل كالدَّقَل، والعجوة والصَّيحاني وغيرها. فذا عامل المالك عاملاً على أن له من العجوة النصف، ومن الدَّقَل الثلث، ومن الصَّيْحاني الربع، نُظر فإن علما مقدار كل نوع بالعِيان، جاز العقد، كما لو كانت الأصناف الثلاثة في حدائق مفرَّقة. وإن جهلا، أو أحدهما، لم يجز. فإن شَرط له النصفَ من كل صنفٍ، جاز، ولا يضر الجهل بأقدار الأصناف، وهذا بيّن. قال الأصحاب: لو اشترى عبداً من رجلين مطلقاً، يصح الشراء، وإن جهل نصيب كل واحد منهما، فإن قال: اشتريت نصيب زيد بألف، ونصيب عمرو بألفين،

_ (1) (ي)، (هـ 3): تكلفتُ. (2) ر. المختصر: 3/ 74.

نُظر: فإن كان عارفاً بنصيب كلِّ واحدٍ منهما، صح، ولو جهل نصيبَ كلِّ واحد منهما، لم يصح؛ فإن الغرض يتفاوت في ذلك تفاوتاً بيِّناً، كما ذكرناه في المساقاة. فصل قال: " ولو كانت النخيل بين رجلين، فساقى أحدُهما صاحبَه على أن للعامل ثلثي الثمر ... إلى آخره " (1). 5026 - صورة المسالة نخيلٌ بين رجلين نصفان، ساقى أحدُهما صاحبَه على أن للعامل فيها الثلثين، وله الثلث، فهو جائزٌ، وكأنه ساقاه في نصف نصيبه على ثلث الثمرة، وهو سدس الجملة، ولا يكاد يخفى أن المساقاة إنما تنعقد على النصف الذي ليس للعامل، وإجراء ذكر العمل (2) على جملة البستان غير ضائر. وإن ساقاه على أن يعمل في الجميع بالنصف، فهذا فاسد؛ لأنه لم يشترط له شيئاً، واستعمله في نصيب نفسه، ولم يقابل عمله في نصيبه بشيء؛ فإنه يستحق النصف بأصل الملك. ولو ساقاه والنخيل نصفان على أن يعمل في الجميع بثلث الثمرة، فلا شك في الفساد؛ فإنه استعمله، وحط من حصته من الملك شيئاً. 5027 - ثم إذا عمل العمل في هاتين الصورتين، فهل يستحق أجرةَ المثل لعمله [في] (3) نصيب مستعمِله؟ في المسألة وجهان: أحدهما- وهو ظاهر اختيار المزني أنه لا يستحق؛ لأنه تبرع بالعمل، حيث دخل في العقد على ألاّ يأخذ من الثمار إلا النصف أو الثلث، ولم يكن عمله على قصد استحقاق عوض. والوجه الثاني- أنه يستحق أجر مثل عمله على نصيب صاحبه، وهو اختيار ابن سُريج، لوجود لفظ المساقاة، وفيها اقتضاء معنى المعاوضة (4).

_ (1) ر. المختصر: 3/ 75. (2) (ي)، (هـ3): العقد. (3) في الأصل: من. (4) (ي) (هـ3): المعامة.

وقد تعترض مسألة في أجرة المثل تخالف هذه، وفيها الخلاف، وذلك أن يشترط المالكُ الثمارَ بجملتها للعامل، فالمعاملة فاسدة، فإذا عمل، فهل يستحق أجر مثل عمله؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه يستحق؛ لأنه عمل ليستحقَّ الثمرة، فإذا لم تسلّم له بحكم الفساد، استحق أجرةَ المثل. والوجه الثاني- أنه لا يستحق شيئاً، لأنه عمل لنفسه في الثمار، إذا (1) اعتقد أنها بجملتها له، ومن عمل على هذا القصد لم يستحق أجر المثل. وهذا الخلاف يناظر مسائلَ: منها أن من استأجر رجلاً حتى يعمل على معدنٍ (2) للمستأجِر، وشرط له ما يستفيده من نيلٍ (3) في مدة عمله، فالنَّيْل لا يُصرف إليه، وهل يستحق أجر المثل. إذا عمل، فعلى وجهين، وسبب الاختلاف أنه كان يعمل لنفسه في [ابتغاء] (4) النيْل. ومن ذلك أن يستأجر الرجل أجيراً على أن يحجْ على وجهٍ يصح، فإذا أحرم ذلك الأجير عن مستأجِره، ثم صرف الإحرام إلى نفسه، فالإحرام يقع عن مستأجِره، وفي استحقاق اجرة خلافٌ مشهور. وعندي أن هذه الضروب من المسائل شرطُها أن يكون العامل جاهلاً، فإن علم المساقَى. وقد شرط له جميع الثمار أن المساقاة فاسدة، فالظاهر أنه يستحق أجرة المئل؛ لأنه خاض في العمل على علمٍ بأنه لا يستحق الثمار، فلم يكن عاملاً لنفسه. والله أعلم. فصل قال: " ولو ساقى أحدهما صاحبه نخلاً بينهما ... إلى آخره " (5). 5028 - إذا كان بين رجلين نخيلٌ نصفين، فإذا تساقيا فيها على أن يعملا معاً، ولأحدهما ثلثُ الثمرة، وللآخر ثلثاها، فلا شك في فساد المعاملة؛ لأنهما استويا في

_ (1) (إذا) بمعنى (إذ). (2) معدِن: المعدن: موضع استخراج الجوهر من ذهبٍ ونحوه. (معجم). (3) النَّيل: ما ينال. وقد جرى هذا اللفظ على ألسنة الفقهاء اسماً لما ينال من المعدن. (4) في الأصل: استيفاء. (5) ر. المختصر: 3/ 76.

العمل والمِلك، فلا معنى للتفاوت في الاقتسام، بل الوجهُ القسمةُ على نسبة الملك، وكأن الذي رضي بالثلث وهب من صاحبه ثلث ثمرة نصيبه، وهي معدومة، لم تخلق. ولو كانت الثمرةُ موجودةً، لم تصح الهبة أيضاًً؛ فإن الذي جرى ليست صيغةَ الهبة. ولو شرطا أن يعمل أحدهما ثلث العمل، ويأخذ ثلث الثمرة، ويعمل صاحبه ثلثي العمل، ويأخذ ثلثي الثمرة، فالمعاملة فاسدةٌ على كل حال، ولو لم يكن فيها إلا اشتراكهما في العمل، وقد مهدنا أن اشتراك المالك. والعامل في العمل -إذا جرى شرطاً - فاسدٌ مفسدٌ. ثم الثمار مقسومةٌ نصفين على نسبة الملك، وصاحب العمل الكثير يرجع على شريكه بأجر مثل زيادة عمله. وينتظم في ذلك عبارتان: إحداهما- أنه يرجع عليه بنصف أجر مثل ما زاد من عمله؛ لأن عمله مِثلا [عمل] (1) شريكه فيُحطّ مثلُ عمل الشريك، وهو الثلث (2) فيكون قد زاد عليه بسدس العمل. والعبارة الثانية- أنه يرجع عليه بأجر مثل ما زاد من عمله على ملكه، وكلاهما يرجعان إلي معنى واحد. ولو شرطا على أحدهما زيادةَ العمل وشرطا له الاقتصار على نصف الثمار أو على أقلَّ من النصف، فهل يرجع بأجر مثل ما زاد من عمله جملى ملكه، على شريكه؟ فيه الوجهان المقدمان في نظائر هذه المسألة. فصل قال: "ولو ساقى رجلاً نخلاً مساقاة صحيحة، فأثمرت، ثم هرب العامل ... إلى آخره " (3). 5029 - هذه المسألة تداني مسألة هرب الجمال على ما سيأتي مشروحاً في كتاب

_ (1) في الأصل: على. (2) عبارة (ي)، (هـ 3): فيحط مثل عمل شريكه، وهو السدس. (3) ر. المختصر: 3/ 76.

الإجارة، إن شاء الله وحده. ولكنا نذكر مساق المذهب هاهنا، ونوضح ما في المساقاة من خواص، فنقول: إذا عمل العامل في المساقاة بعضَ العمل، وظهرت الثمار، فهرب، ولم يستتم العمل، فإن كان للعامل مالٌ، وكانت يد الحاكم ممتدةً إليه، وسهل الاستئجار عليه، فالحاكم يفعل ذلك إذا التمس منه مالكُ النخيل، والسبب فيه أن المعاملة لازمةٌ، والعملُ ديْن في ذمة المساقَى، ومهما امتنع مَنْ عليه الدينُ عن توفيته، وتمكن الحاكم من أدائه من ماله أداه. ثم إذا تيسر ذلك، لم يملك ربُّ النخيل فسخَ المعاملة، ونزل التمكن [مما] (1) ذكرناه منزلة استمرار العامل على العمل. وإن رأى السلطانُ أن يستقرض عليه من بيت المال، أو من واحدٍ من عُرض الناس، فهذا يلتحق بما ذكرناه، [فيقضي] (2) العملَ، وللعامل ما شُرط له من الثمرة، وعليه ما استقرض الحاكم عليه. 5030 - وإن تعذّر ذلك، فلم يكن له مال، ولم يرَ الحاكم الاستقراض من بيت المال، أو لم يكن في بيت المال مالٌ، فإذا تحقق [التعذّر] (3)، فأول ما نذكره أن المألك لو أراد فسخ المعاملة، كان له ذلك؛ فإن تعذر العوض في المعاملات يثبت سلطانَ الفسخ. فلو جاء متبرع أجنبي، وقال: أنا أعمل [عنه] (4) أو أستاجر من يعمل، فلا [تفسخ] (5)، فإن رضي المالك بذلك، جاز، واستمر العقد، وكان ذلك بمثابة ما لو أدى أجنبيٌّ دينَ إنسان، وقبله مستحِق الدين، فتحصل براءةُ الذمة. وإن كان الأجنبي غيرَ مأذونٍ من جهة من عليهَ الدين، [فلا] (6) يجد مرجعاً عليه إذا أدى دينه.

_ (1) في الأصل: بما. (2) في الأصل: فينقضي. (3) في الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا (التغرض). والمثبث من (ي)، (هـ 3). (4) ساقطة من الأصل. (5) في الأصل: ينفسخ. (6) في الأصل: ولا.

ولو بذل الأجنبي من نفسه الاشتغال بالعمل، فامتنع عليه رب البستان، وقال لا أرضى بدخولك بستاني، فله منعه، وإذا منعه، فله حق الفسخ، كما قدمناه. 5031 - ولو دخل أجنبيٌّ البستان من حيث لم يشعر المالك، وأكمل العمل المطلوب، فهذا فيه فضل نظر يبيّنه تقديمُ أصل مقصودٍ، وهو أن الأعمال المطلوبة بعقد المساقاة إذا وقع الاستغناء عن بعضها، مثل أن وقع العقد على السقي وغيره من ضروب الأعمال، فأغنت الأمطار عن السقي، فهل يستحق المساقَى [تمام] (1) ما شرط له؟ أم كيف السبيل فيه؟ أولاً - إن وقع الاستغناء عن جميع أعمال المساقَى، أو عن معظمها، فلا شك أن هذا يؤثر؛ إذ لو قلنا: لا أثر لذلك، لزم أن يستحق ما شرط له من الثمر من غير عمل، وهذا محال؛ فإنّ الجزء الذي شرط له قوبل استحقاقه بالعمل، فيستحيل ثبوتُ استحقاقه دونه. ثم يجري هذا فى المعظم. ويعترض إشكال، وهو أن التقسيم في الثمار، وإبقاء بعضها، وإسقاط بعضها، ليس بالهيّن، وليس ينقدح لي فيه وجه، إلا نسبة أُجرة المثل إلى الأعمال حتى يتبيّن أنه لو استتمها كم كان أجر مثله؟ وإذا سقط بعض الأعمال، فكم أجر مثله؟ فينسب ما سقط من أجرة المثل إلى جميعها، وتضبط الجزئية ويسقط مثل ذلك من الجزء المشروط له من الثمار، فإن كان الساقط نصفَ أجرة المثل، سقط نصف ما شرط له من الثمار. هذا هو الوجه لا غير. وقد يعترض في ذلك أن أعمال المساقَى خارجةٌ عن الضبط، بعضَ الخروج، والجهالة متطرقةٌ إليها على حالٍ؛ فإن من أعمالها السقيَ، وهو لا يجري على نسق واحد في كل سنة، فقد تزيد أعدادُ السّقيات، ثم لا يقام لما يزيد مزيدُ عوض، وقد تنقص أعدادُها لكثرة الأنداء، ثم لا يُحطُّ لما ينقص.

_ (1) ساقطة من الأصل.

[فالقدر] (1) الذي يتساهل فيه أهلُ الشأن، ويرَوْن مقابلة الزائد فيه -لو مَسّت الحاجة- بالناقص لو أغنت الأنداء؛ فذلك لا كلام فيه. وهذا عندي قريب الشبه بما يطلقه الفقهاء فيما يتغابن الناس بمثله [وقد لا يحتمل] (2) مثل هذا في الإجارة. فما يتساهل أهلُ العرف فيه، لم يؤثِّر سقوطُه في حطٍّ، وما يسقطُ من العمل على ندورٍ ولم يكن مما يُتساهل في مثله، فهو الذي فيه الكلام. 5032 - ومما يعترض في ذلك أنه إذا عمل العامل بعضَ الأعمال وهرب، وامتنع باقي العمل، وأثبتنا حقَّ الفسخ، فإذا فسخ المالك لا نقول: يستحق العامل جزءاً مما شرط له ويسقط جزء، بل ينقطع حق الاستحقاق من الثمار بالكلية. ولو جَرْينا على قياس الإجارة، ونزّلنا الثمار منزلةَ الأجرة، لأثبتنا بعضاً من الثمار؛ فإن الإجارة إذا انقضى بعضُ مدتها، وطرأ في باقيها ما يوجب الفسخَ، فإذا فسخت في البقية، لم تنفسخ الإجارة فيما مضى، على ظاهر المذهب. فأعمال المساقَى لا تجري مجرى المنافع في الإجارة، حتى يقابَلَ [المنقضي] (3) منه بقسطٍ [من] (4) العوض المسمى في المعاملة. فإذا ثبت ذلك، فلو سقط جملةٌ من أعمال المساقى، لا يُتسامح بمثله، فلست أرى إجراء هذا على قياس حالة الفسخ، حتى يقال (5): إذا تبعض الأمر، واستحال إثباتُ جميع المسمى من الثمن، فالرجوع إلى أجر المثل ويسقط الاستحقاق من الثمن. والفارق فيما أظن أن نماء الثمر قد حصل، وسقط بعضُ العمل. والفسخُ مفروضٌ فيه إذا كان الثمر لا ينمو إلا بأعمالٍ تعذر صدورها من العامل، وعسُر تحصيلها من

_ (1) في الأصل: القدر (بدون فاء). (2) عبارة الأصل: وذلك لا يحتمل مثل هذا. (3) في الأصل: المقتضي. (4) ساقطة من الأصل. (5) ساقطة من (ي)، (هـ 3).

جهته، فإذا جرى الفسخُ، فالوجه ما ذكرناه. وإن قيل: إذا حصل بعض النماء بما تقدّم من العمل، فكيف وجهُ إسقاطه، وردّ الأمر إلى أجر المثل؟ قلنا: هذه المعاملة مائلة إلى مضاهاة القراض في النظر إلى العقبى، ومنقرض العمل، فالذي (1) تحصّل إذاً أن الفسخ يوجب إسقاط الحق من الثمار، نص عليه الأصحاب. وسقوطُ بعض الأعمال بالاستغناء عنه ما أراه كذلك. ومظنوني فيه ما ذكرته من اعتبار نسبة الثمار بنسبة أجر المثل، وليس يبعد المصير إلى سقوط الحق من الثمار؛ فإن تبعيض الثمار عسر في وجه الرأي. 5033 - وليس يصفو هذا الفصل إلا باستتمامه، فنقول: إذا عمل الأجنبي من حيث لا يشعر المالك؛ فيمكن أن يكون هذا بمثابة سقوط بعض الأعمال بغناء السنة (2) عنه، ويمكن أن يقال: إذا أوقع الأجنبي العمل، كان كما لو أوقعه العامل، وهذا هو الظاهر، وبه يشعر كلام الأصحاب. وتمام البيان، و [جُمَام] (3) الفصل أن الأئمة أجمعوا على أن المالك لو لم يفسخ، وعمل بنفسه متبرعاًً استحق العامل تمام ما سمي له، ونزّلوا تبرعه بالعمل منزلة تبرع الأجنبي إذا رضي به المالك، وقد يخطر للفقيه أن تبرع الأجنبي بمثابة أداء الدين، وتبرع المالك ليس يضاهي هذا المسلك، ولكن النصوصَ وأقوال الأصحاب متفقةٌ على ما ذكرناه. ولو لم يعمل العامل شيئاًً وتبرع المالك بجميع العمل، فهذا مشكلٌ، وما أرى العاملَ مستحقاً في هذا المقام -ولم يعمل شيئاً- وإن كنا ننزّل عملَ المالك متبرعاً كعمل الأجنبي، فالمسألة محتملة. فهذا منتهى النظر، وغاية المضطرَب فيما حضرنا.

_ (1) (ي) (هـ 3): فإذا تحصل إذا. (2) السنة: المراد المطر والخصب. وهو هنا من أسماء الأضداد. فالسنة تستعمل أصلاً بمعنى الجدب. (معجم). (3) في الأصل: وختام.

5034 - ومما يتعلق بأطراف الكلام في الفصل، أن الحاكم لو أذن للمالك أن يستقرض على العامل الهارب، ينفق على قدر الحاجة في استكمال العمل، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين، وكذلك لو أذن له أن ينفق من مال نفسه بشرط الرجوع عليه، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أن ذلك يجوز، ثم يرجع على العامل، إذا تمكن من الرجوع؛ لأنه مؤتمنٌ من جهة الحاكم. والثاني- لا يجوز ذلك؛ لأنه يستحق إتمام عمل العامل، ويستحيل أن يكون الإنسان مؤتمناً فيما يستحقه لنفسه على غيره، وهذا بعينه يأتي في هرب [الجمال] (1)، فلم نطنب فيه، وإنما أَغْرَقنا الكلام في خصائص المساقاة. 5035 - ولو أنفق المالك بنفسه وفي البلد حاكم يمكن أن يراجَع، وقصد بما ينفقه الرجوعَ به على العامل، لم يجد مرجعاً؛ لأنه ترك الاستئذان من صاحب الأمر، مع القدرة، ولو لم يكن [بتلك] (2) الناحية حاكم، وصاحب أمرٍ يراجع، فأنفق [المالك] (3)، ففي رجوعه على العامل إذا وجده ثلاثة أوجه: أحدها- أنه لا يرجع؛ لأنه لم يصدر إنفاقه عن أمر حاكم، ولا عن إذن العامل، ولم يفسخ أيضاً بل تمادى على العقد، فكان كالمتبرع، ولو قصد التبرع، لم يرجع. والوجه الثاني- أنه يرجع؛ فإن تخسيره لا وجه له، ولا تقصير من جهته في ترك استئذانٍ ممكنٍ، فاستحقاقه، مع تحقق الضرورة يُثبت له سلطانَ الرجوع. والوجه الثالث- أنه إن كان يُشهد (4) على ما يُنْفق، فيرجع، ويتنزّل (5) ذلك منزلة ما لو أذن الحاكم لو كان حاكم. وإن لم يشهد، مع القدرة على الإشهاد، لم يجد رَجْعاً (6).

_ (1) في الأصل: المال. (2) في الأصل: مثل. وهو تصحيف عجيب. (3) في النسخ الثلاث: العامل. (4) (ي)، (هـ3): قد أشهد. (5) عبارة (ي)، (هـ 3): وينزل منزلة إذن الحاكم، لو كان الحاكم. (6) رَجْعاً ومرجعاً بمعنىً. تقول: رجع يرجع رجوعاً، ورَجْعاً ومرجعاً. (مصباح).

وفي كلام القاضي إشارة إلى أن حق العامل إنما يسقط بالفسخ إذا لم تظهر الثمرة، فأما إذا ظهرت الثمرة، ففي كلامه تردد ظاهرٌ، في أن الفسخ لو جرى، لم يتضمن إسقاطَ حق العامل من الثمرة بالكلية؛ التفاتاً على ما ذكرناه في الإجارة، ثم لا بد من سقوط البعض، ولا مرجع فيه إلا ما مهدناه في صدر الفصل. هذا منتهى مرادنا في ذلك، وبقية التقرير هو ما يشترك فيه العامل، والجَمّال وسنذكره في كتاب الإجارة. إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " وإن عُلم منه سرقةٌ، وفسادٌ، مُنع من ذلك ... إلى آخره " (1). 5036 - إذا ادّعى المالك على العامل سرقةً وخيانةً، فالقول أولاً قولُ العامل؛ فإنه أمين، والأصل عدم ما يدّعيه المالك، فإن أثبت ذلك بالبينة، أو بإقرار العامل، لم يثبت للمالك حقُّ الفسخ، كما إذا ظهرت خيانةٌ من المرتهن في الرهن، لم يثبت للراهن حق الفسخ، بل تُزال يدُ المرتهن، ويعدّل الرهن، ويُقرّ العقدُ. ثم إذا أثبتنا الخيانة، فقد قال المزني: يُكترى عليه من يقوم مقامه، وتزال يده عن النخيل. وذكر في موضع آخر أنهُ يضم إليه من يعمل معه، ويحفظه من الخيانة، ولا تُزال يدُه. فقال الأئمة: إن كان لا تنحسم خيانته بمراقبة من يراقبه؛ لتهدّيه إلى سبل الخيانة، فإذا تبين ذلك، أو غلب على الظن، نُحِّي، على (2) هذا يُحمل قول المزني، حيث قال: " يكترى عليه، وإن أمكن تمكينُه من العمل مع درء خيانته بالمراقبة، لم ينح ولم تُزل يدُه ". فالمسألة على حالتين، وليست على قولين.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 77. (2) (ي)، (هـ3): وعلى هذا.

ثم قد يعترض في ذلك الكلامُ في [أجرة] (1) مَنْ [يُشارفه] (2)، وفيها إشكالٌ، فإن الحاجة إلى بذلها نشأت من قلة الثقة بالعامل، وظهور الخيانة [منه] (3)، ويبعد عندنا أن تكون هذه الأجرةُ محسوبةً عليه، وهو يزعم أنه ليس يخون في المستقبل. وإن كان يعترف بالتمادي على الخيانة مهما وجد فرصةً، فيجب تنحيتُه، والاكتراءُ عليه، وإذْ ذاك يُستغنى عن الرقيب وأجرتِه. ولو لم تثبت خيانةٌ من العامل، ولكن المالك اتّهمه، فلا تُزال يده عن النخيل، ولكن ينصب عليه المالك مشرفاً يطالع أحواله إن شاء، ولا يرتاب الفقيه في أن نفقة الرقيب ومؤنته على المالك في هذا المقام إذا لم يظهر من العامل خيانة. فصل قال: " فإن مات قام ورثته مقامه ... إلى آخره " (4). 5037 - قد ذكرنا أن المساقاةَ عقدٌ لازم، لا ينفسخ بموت العاقد، ثم ننظر، فإن مات رب المال؛ أكمل العامل ما بقي من الأعمال، واستحق المشروط له من الثمرة. وإن مات العامل، فالذي قدمناه من لزوم المعاملة يقتضي ألاّ يحكم بانفساخ المساقاة. وهذا هو الذي ذكره المزني، وقطع به الأصحاب في طرقهم، وهو الذي صححه الشيخ أبو علي. وحكى وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب أن المساقاة تنفسخ بموت العامل، وهذا وجهٌ ضعيف لا مستند له من أصل؛ فإن الحقوقَ اللازمةَ إذا أمكن تحصيلها بعد الموت، لم تنقطع بالموت، فالذي حكاه غلط إذن، غيرُ مُعتدٍّ به. والوجه أن نقول إذا مات العامل، لم يخْلُ: إما أن يُخلّف تركةً تفي بتحصيل العمل، وإما ألاّ يُخلّف.

_ (1) في الأصل: أخرة. (2) في الأصل: مشارفه. ومعنى يشارفه أي يطلع عليه، ويدنو مه. (معجم). (3) ساقطة من الأصل. (4) ر. المختصر: 3/ 77.

فإن لم يخلف شيئاًً، لم يجب على [الورثة] (1) تحصيل العمل؛ فإن العمل كان ديناً في ذمته، والمديون إذا مات لم ينتقل الدين إلى ذمة وارثه. ولكن لو أراد الوارث أن يتمم العمل بنفسه، أو بمن يستأجره، جاز له ذلك، لثبوت عُلقة الاستحقاق في الثمار، فإن استتم العمل، صرفنا إليه الجزءَ المشروطَ له من الثمرة، وإن أبى أن يعمل، فللمالك حقُّ الفسخ، وقد قدمنا التفصيل فيه فيما تقدم، وفرّقنا بين أن يكون ذلك قبل بُدوّ الثمرة أو بعدها، وأوضحنا وجوه الرأي. وإن كان خلّف تركة، فالسلطان يحصّل بقيةَ العمل من التركة، كما يؤدِّي الديون منها. وكذلك القول فيه إذا كان التزم في ذمته خياطةً، أو صبغاً، ثم مات، فالأمر على ما ذكرناه في الفرق بين أن يخلّف تركةً وبين ألاّ يخلفها. 5038 - ومما يتم به غرض الفصل، وهو أصلٌ بذاته أن المساقاةَ حيث تُفرض [تصرفٌ] (2) [واردٌ] (3) على الذمة، وحكمُ المعاملةِ الواردةِ على الذمة أن يكون تحصيلها على الملتزم، فإن حصَّلها بنفسه، أو استأجر من يعمل، فلا معترض عليه، ولو شرط في المساقاة تعيين العامل (4)، حتى يعمل بنفسه، ولم يسوّغ له أن يستأجر؛ فيجوز أن يقال: لا تصح المساقاة؛ فإنّ هذا تضييق، والتضييق ينافي هذه المعاملةَ، وأمثالَها، وتركُ تعرض الأصحاب يدل على أنهم لم يعتقدوا جوازَ المساقاة متعلقةً بعين العامل، والمسألة محتملة على حال؛ فإن المالك ربما لا يعتمد الأجراء، ولا يرضى بدخولهم البستان. وليس في التعيين [كبير] (5) تضييق أيضاً. ثم لو قدرنا ورودَ المساقاةِ على عين العامل، فلو مات، انفسخت المساقاة بموته، لا محالة، فإنْ عمل غيرُه، والمعاملة واردةٌ على عينه.، لا يسدّ مسدّ عمله.

_ (1) في الأصل: الوثرة. وهو تصحيف واضح، حصل بالقلب المكاني. (2) في الأصل: يصور واردة. (3) في النسخ الثلاث: واردة. (4) " العامل ": أي "المساقى" والمعنى أن يشترط في العقد قيامه بالعمل بنفسه. (5) ساقطة من الأصل.

فصل قال: " ولو عمل فيها العامل، فأثمرت ثم استحقها ربُّها ... إلى آخره " (1). 5039 - إذا استُحقت النخيلُ بعد تمام العمل، وحصولِ الثمرة، فلا يخلو إما أن تكون الثمرة قائمةً، أو هالكةً. فإن كانت باقيةً، فهي للمستحِق؛ لأنها حدثت من عَيْن مِلكه، ولا حقّ للعامل فيها. ثم قال الأصحاب: إذا أخذ المستحِق الأشجار والثمار، وقد عمل العامل، فلأصحابنا طريقان: منهم من خرّج أمرَه على قولين؛ لأنه أتلف عمل نفسه، غير أن الغاصب هو الذي استعمله، فهل يرجع على الغاصب بأجرة مثل نفسه؟ فعلى قولين مأخوذين من أصل الغرور. ومن أصحابنا من قطع بأنه يرجع على الغاصب؛ لأن قولٍ الغرور إنما يجريان فيه إذا رجع الحظُّ من الإتلاف إلى المغرور، فحينئذ نقول في قولٍ: لا يرجع؛ لأنه المنتفع بما أتلفه، فيبعد أن يجتمع له الانتفاع به [وحق] (2) الرجوع. وفي قول نغلّب حكمَ الغرور؛ ونثبت الرجوعَ على الغار. فأما العامل في مسألتنا؛ فإنه لم يُتلف شيئاً له فيه حظٌّ ونصيب، ولكنه عمل، ولم يقصَّر، وإنما حمله على العمل الغاصبُ، فوجب القطع بثبوت الرجوع عليه. هذا إذا كانت الثمار قائمةً، فردت على المستحِق. 5040 - فأما إذا كانت الثمار تالفةً، فالقول في ذلك ينقسم: فإن اقتسماها، وتلف نصيب كل واحد منهما في يده، فليقع الكلام أولاً في نصيب العامل. فالذي ذكره معظمُ الأصحاب في الطرق: الشيخ أبو محمد، وصاحب التقريب، والصيدلاني في مجموعه، وصاحب التصنيف المعروف؛ أن المستحِق إذا غرَّم العاملَ

_ (1) ر. المختصر: 3/ 77. (2) في الأصل: وهو.

ما تلف في يده، فهل يرجع على الغاصب؟ كان ذلك خارجاً على الترتيب المشهور في الغارّ والمغرور؛ فإن العامل يدُه مترتبةٌ على يد الغاصب، والغاصب سببٌ في تحصيل يده؛ فكان في مرتبة الغارّ. وفصّل الصيدلاني ذلك، فقال: إن تلف ما خصّ العاملَ في يده من غير إتلافٍ من جهته، فطولب، ضمن، ثم رجع على الغاصب قولاً واحداً. وإن أتلفه على [حكم] (1) الغرور، ففي رجوعه على الغاصب قولان، كالقولين إذا قدّم الغاصبُ الطعامَ المغصوبَ إلى ضيفه، فأكله، فجعل يده عند التلف بمثابة يد المستودَع من الغاصب، وجعل إتلافه بمثابة إتلاف الضيف للطعامِ الذي قُدِّم إليه. هذا ما ذكره هؤلاء. وأما العراقيون، فإنهم قطعوا أقوالهم بأن الضمان يستقر على العامل في حصته التي [قبضها] (2)، سواء تلفت في يده، أو أتلفها؛ لأنه قبضه عوضاً، وحكم العوض في المعاوضة الصحيحة أن يضمنه مَنْ قبضه؛ فكانت يد العامل في حصته من الثمرة بمنزلة يد المشتري من الغاصب، وقد قطعنا القول في كتاب الغصوب أن قرار الضمان فيما قبضه المشتري [على المشتري] (3)؛ فلا يتجه في القياس إلا ما ذكره هؤلاء، وهو الذي اختاره القاضي لنفسه، وظن أنه غير مسبوقٍ بهذا الاختيار. ولم يذكر العراقيون غيره. هذا قولنا في حصته إذا فرض [منه] (4) قبضها عند اقتسام الثمار. ولست أرى لما ذكره أصحابنا (5) وجهاً، إلا إخراجَ عوض المساقاة عن قياس الأعواض، وهذا غير متجه، مع كونه عوضاً عن منافعَ مستحَقة، في معاملة لازمة. 5041 - ولو تلفت الثمار على الأشجار قبل قطافها بجائحة، أما الكلام في حصة العامل، فعلى ما ذكرناه، وأما الكلام في الحصة الأخرى، فقد ذكر الأئمةُ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: قبضوا. (3) ساقط من الأصل. (4) في الأصل: فيه. (5) يريد المراوزة، حيث جعلوا المسألة على قولين، ولم يقطعوا قولهم كالعراقيين.

المراوزة، والعراقيون في توجه المطالبة على العامل (1) خلافاً، وقالوا: من أصحابنا من قال: لا تتوجه المطالبة على العامل، وهو ظاهر كلام المزني، ومنهم من قال: تتوجه المطالبة عليه، وهذا الخلاف في توجيه المطالبة أولاً، لا في قرار الضمان. ثم وجه الأئمة الخلاف بأن قالوا: لا تثبت اليد للعامل؛ فإنه غيرُ مستحفظٍ بخلاف المودَع؛ فإنه مستحفظٌ من جهة المودع، واستدلّوا في ذلك بأن قالوا: لو جرت المساقاة مع المالك، ثم سُرقت الثمار، وكانت على رؤوس الأشجار بتقصيرٍ من العامل في الحفظ؛ فلا ضمان عليه؛ فإنا لا نكلّفه القيامَ بالحفظ، وإنما نكلفه الأعمال المشهورة المؤثرة في تنمية الثمار. فهذا وجهُ من لا يضمّن العامل الآخذ من جهة الغاصب. والوجه الثاني- أنه يضمن لثبوت يده ظاهراً حساً. قال القاضي: قد ذكرنا تردداً في أنه هل يجب على العامل القيام بحفظ الثمار، وهل يلتحق ذلك بالأعمال المشروطة عليه، وهذا الخلاف الآن دليلٌ على ذلك التردد الذي قدمناه، فيجب أن نقول: إن ألزمناه الحفظَ، توجهت عليه المطالبةُ؛ إذ ترتبت يده على يد الغاصب، وكان كالمستودَع من الغاصب، وإن لم نُلزمه الحفظَ، لم تتوجه عليه المطالبة. وهذا عندي كلام خارج عن الضبط المعتبر في مثل ذلك، من وجهين: أحدهما- أن اليد وثبوتَها أمرٌ محسوس، فتلقِّي ذلك من وجوب مؤنة الحفظ كلامٌ مضطرب، فالثمار مما تثبت اليدُ عليها، ويد العامل -من طريق الصورة- ثابتةٌ حسّاً، وضرورةً، ومن ثبتت يدُه على عينٍ مغصوبة فيستحيل بعد ذلك إبداءُ المراءِ في أنه هل يطالب أم لا. وعندي أنه يجب القطع بوجوب الحفظ على العامل في الثمار، حالةَ استمرار يده؛ فإنا لا نجد صاحب (2) يدٍ في ملكِ غيره بجهةٍ شرعيةٍ، إلا وهو مأمور برعاية حق الحفظ

_ (1) وجه المطالبة للعامل -وقد تلفت الثمار على الأشجار- أنها تكون تحت يده. (2) (ي)، (هـ 3): أصحاب.

[فيها] (1)، وهذا جارٍ في الوكيل بالبيع، وفي المستأجِر في العين المستأجرة، وفي المرتهن، وغيرهِ من أصحاب الأيدي. نعم. إنما يظهر التردد في مؤنة الحفظ (2) في صورة، وهي أن العامل إذا كان يعمل نهاراً، ويترك العمل ليلاً، فإذا فارق البستان، ولم يستخلف عليه ناطوراً، حتى سُرقت الثمار، ولا يد للعامل، فهذا فيه ترددٌ، قد ذكرناه، فيجوز أن يقال: يجب استخلافُ حافظٍ، ويجوز أن يقال: لا يجب عليه. فأما ما دامت يدُه ثابتةً في زمان عمله، فكيف يستجيز المستجيز أن يسوّغ له الإغضاء على سرقة من يسرق، مع التنبّه لذلك؟ أم كيف يجوز ألا يتكلف بذلَ المجهود في الحفظ ما استمرت يدُه في مدة العمل؟ وكيف يستقيم أن يُتمارى في اليد المحسوسة، لزللٍ وخطأٍ في أن الضمان هل يجب على العامل لو قصر في الحفظ. فيجب إذاً على القاعدة توجيه الطّلبة على العامل من جهة المستحِق المغصوب منه لتحقق اليد. 5042 - ومما يتفرع عليه، أن الأشجار في أنفسها لو تلفت تحت يدِ العامل، أو تلف بعضها، فلا حظ، ولا حصةَ للعامل في رقاب الأشجار، وقد أجراها الأئمة مجرى الثمار الواقعة في حكم المعاملة حصةً للمالك، فترددوا في توجيه المطالبة حَسب ما ذكرناه، وبنَوْا الأمرَ فيه على مؤنة الحفظ، وقد أوضحنا أن ذلك كلامٌ مضطرب، ووجه ردِّه إلى سَنن التحقيق ما ذكرناه. ومن بديع ما ذكره الأصحاب الذين لم يثبتوا للعامل في حصته من الثمار يدَ قرارِ الضمان، أنهم قالوا: الكلام في حصة العامل إذا تلفت الثمار بالجوائح قبل القطاف، يجوز أن يخرّج على ما ذكرناه في حصة المالك؛ لأن اليد غيرُ ثابتةٍ قبل القطاف، والإحراز.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في (ي)، (هـ 3): "في ثبوته في صورةٍ ... ".

وهذا في نهاية البُعد؛ فإنه فرع أصلين ضعيفين جاريين غلطاً وخطأ (1)، أحدهما - التماري في اليد المحسوسة. والثاني - التغافل عن ضمان العوضية في حق العامل، في مقدار حصته، فوقع الفرع بعيداً بصدَره (2) عن هذين الأصلين. 5043 - ولو جنى العامل الثمارَ، وردّها إلى المخزن (3)، فقد رأيت الطرقَ متفقةً على ثبوت اليد على الحقيقة، وهذا صحيح، ولكن لا معنى لتخيل [الفرق بين] (4) هذه الحالة، وبين حالة قيام الثمار على الأشجار. ومن أخذ ما ذكرناه من التردد في توجيه الطَّلِبة من القول في مؤنة الحفظ، لزمه أن يتردد في مؤنة الحفظ بعد الرد إلى الجرين؛ إذ لا فصل، واليد ثابتة حساً في الموضعين، فلا وجه إلا القطعُ بقرار الضمان في حصة العامل عليه. ثم يجب القطع بتوجيه المطالبة بما ليس حصتَه، ثم الكلام في أنه فيما ليس حصتَه إذا طولب عند الفوات يرجع على الغاصب رجوع المستودَع عليه. وللعراقيين طريقة ذكرناها في كتاب الغصب، في أن المستودَع من الغاصب إذا ضمن ما تلف في يده للمغصوب منه، فهل يرجع على الغاصب؟ أم يستقر الضمان عليه تنزيلاً لليد منزلة الإتلاف؛ من جهة أنها تضمِّن كما يُضمِّن الإتلاف؟ هذا مختلفٌ فيه عندهم، وهو مجانب لطريقة المراوزة، ثم يجب طرد قياسهم فيما ليس حصةً للعامل إذا تلفت تحت يده. هذا بيان حقيقة المسألة، وقد اتفقت فيها عثرات وغلطات متداركة لأصحابنا المراوزة. والتردد في اليد والثمار على الأشجار، مما استوى في الغلط فيه المراوزةُ، والعراقيون. وهذا قبيحٌ، وأخْذ ذلك من مؤنة الحفظ زللٌ آخر؛ فإنَّ الأمر مفصلٌ فيه عندنا، كما قدمناه. ولسنا على ظنٍّ في جميع ما نبهنا عليه، بل الأمر مقطوع به.

_ (1) في الأصل: أو خطأ. (2) صَدَره: أي صدوره. وهذا استعمالٌ شبه دائم لإمام الحرمين لهذا المصدر. (3) (ي): الجرين. (4) في الأصل: الفرقة من.

فصل قال: " وإن ساقاه على أنه إن سقاها بماء سماء أو نهر ... إلى آخره " (1). 5044 - صورة المسألة أن يقول المالك للعامل: ساقيتك على هذه النخيل على أنك إن سقيتها بماء سماءٍ أو نهر، فلك الثلث، وإن سقيتها بالنَّضح، فلك النصف، فالمعاملة فاسدةٌ على هذا الوجه؛ لمكان التردد الذي فيها، وشرط المعاملة الجزمُ، وبتُّ القول في تقدير العوض. وقد قال الأئمة: لو قال رب المال للمقارض: إن، اتّجرت في البز، فلك ثلث الربح، وإن اتَّجرت في الطعام، فلك نصف الربح، فالقراض فاسد على هذا الوجه، فإذا فسد القراض مع جوازه ومشابهته الجعالة باحتمال (2) الجهالة، وإطلاق الأعمال من غير ضبطٍ بوقت، فلأن تفسد المساقاة أوْلى. 5044/م- ثم ذكر المزني تفصيلَ القول في أجرة الأجراء، وأنها على العامل أو على المالك، وقد فصلتُ القولَ في هذا في باب الشرط في الرقيق، فلا أُعيده. ومما جدده القاضي في الأجراء صورةٌ أراها مضطربة، فأنقلها، وأبين التحقيق فيها. قال: ولو قال المالك: ساقيتك، ولك الثلث من الثمار، والسدس فيها (3) إلى تتمة النصف للأجراء. قال: "هذا صحيح". وهذا مختلٌّ، والخلل من الناقل، فإن إضافة جزء من الثمار إلى الأجراء باطل؛ فإنهم ليسوا في عقد المساقاة، وإنما تضاف الثمار إلى المالك بحكم الأصل أو إلى العامل بحكم العمل. نعم، لو أضاف النصف من الثمار إلى العامل، ثم ذكر أن مؤنة الأجراء عليه، فهذا جائز. ولو أجرى قبل العقد أو بعده في معرض [المفاوضة] (4) أني زدتك سدساً، وحقُّك

_ (1) ر. المختصر: 3/ 77. (2) في (ي)، (هـ 3): في احتمال. (3) في (ي)، (هـ 3): منها. (4) في الأصل: المعاوضة.

الثلث، لتتحمّلَ مؤنةَ الأجراء، فهذا -إذا لم يُجره شرطاً- كلامٌ لا يقدح في العقد. وقد ذكرتُ أن إطلاق المساقاة توجب قيام العامل بالأعمال المنمِّية للثمار كلها، وإنما تنصرف مؤنة الأجراء عند بعض الأصحاب إلى المالك، بالشرط، كما قدمناه مفصلاً. فصل قال: " ولو ساقاه على وديٍّ (1)، لوقت يعلم أنها لا تثمر إليه، بم يجز ... إلى آخره " (2). 5045 - مقصود هذا الفصل تحصره مسائل: منها- أن يقول المالك في وديٍّ مغروس لرجلٍ: ساقيتُك على هذا الوديّ، لتعمل عليها، ودكر مدةً يُعلم أنها لا تثمر في مثلها، وإنما يدخل أوان إثمارها وراء تلك المدة، وجرى في لفظ المساقاة شرطُ شيء من ثمارها للعامل، فهذه المساقاة فاسدة؛ فإنها مستندةٌ إلى شرط شيءٍ لا يكون للعامل. ثم إذا عمل العامل، فهل يستحق أجر المثل على المالك؟ قال الأئمة: إن علم العامل أنها لا تثمر في المدة المذكورة في المعاملة، ففي استحقاقه أجر المثل وجهان: أحدهما - أنه لا يستحقه؛ لأنه شرع في العمل شروع من لا يشك أن ما شرطه له لا يكون، فكان قانعاً بإحباط عمله، غيرَ خائضٍ فيه على اعتقتاد استحقاق عوض. والوجه الثاني - أنه يستحق أجرة المثل، وهو اختيار ابن سريج وتعلق هؤلاء بلفظ المساقاة والمعاملة؛ فإن متضمنه إلزام عملٍ في مقابلة عِوض، فلئن كان لا يثبت ذلك العوض، فهو عبارة عن استحقاق عوضٍ ممكنٍ، وهو أجر المثل. هذا إذا كان العامل عالماً بأن الوديّ لا يثمر في تلك المدة، فإن ظن أن الوديّ يثمر

_ (1) الودي: على فعيل صغار الفسيل. الواحدة: وديّة. (المصباح). (2) ر. المختصر: 3/ 78. وفي الأصل: لا تثمر ... الفصل. إلى آخر.

في تلك المدة، فالذي ذهب إليه الأئمة أنه يستحق أجرة المثل في هذه الصورة [وجهاً واحداً] (1) لمكان الظن. ومن أصحابنا من طرد الخلاف الذي ذكرناه في استحقاق أجر المثل، والتفصيل أفقه وأحسن. 5046 - ومن مسائل الفصل أن تقع المساقاة في مدة يعلم أنها تثمر في السنة الأخيرة منها، أو في سنتين في آخر المدة، فهذا مثل: أن يعامله على العمل فيها عشرَ سنين، ويعلم أنها إن بقيت، وسلمت عن الآفة، ستثمر في سنتين من آخر المدة، فقد أجمع الأصحاب على صحة المساقاة، وجعلوا هذه السنين وإن خلا [معظمها] (2) عن الإثمار كالسنة الواحدة في النخيل المثمرة. ثم إذا حصل الثمر، فليس للعامل إلا ما شُرط له. ولو أصابت الثمار آفةٌ وجائحةٌ، فلا حق للعامل، كالمساقاة على النخيل المثمرة، فإن الجوائح إذا اجتاحت ثمارها، لم يستحق العاملُ شيئاً من أجر المثل، وكان كالعامل في القراض إذا لم يربح، فإنه لا يستحق شيئاًً. ولو كنا نعلم أن الوديَّ يثمر في السنة الأخيرة، من المدة المضروبة، وكنا لا نقدّر أنها تثمر (3) قبل السنة الأخيرة، فإذا اتفق الإثمار في سنة على النُّدور، وكان قد شرط للعامل جزءاً من الثمار الحاصلة في المدة، ولم يقع التخصيص بثمار السنة الأخيرة، فالعامل يستحق الجزءَ المشروطَ له من ثمار السنة النادرة، كما يستحق من السنة الأخيرة. 5047 - ولو ساقى مالك النخيل رجلاً سنين، وكانت النخيل تُثمرُ إن لم تُصبها جائحة في كل سنة، فإن عُقدت المعاملة على أن يستحق العامل جزءاً من ثمرة كل سنة، جاز ذلك في السنين، جوازَه في السنة الواحدة.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في الأصل: معظم أواخرها. (3) (ي)، (هـ 3): لا تثمر.

وإن قال مالك النخيل المثمرة: ساقيتك ثلاث سنين على العمل (1) فيها، وليس لك إلا ثلث الثمرة في السنة الأخيرة، وتخلُص الثمرة لي في السنة الأولى والثانية، فهذه المعاملة فاسدة، قطع بفسادها المحققون. وسبب الفساد أنه أثبت لنفسه الاستبدادَ [بثمار] (2) سنةٍ، أو سنتين، وإن كان عمل العامل جارياً فيها، وخصّص استحقاقه بسنة، وهذا بمثابة ما لو عامله، وشرط أن يعمل على جميع النخيل، ولا يستحق إلا النصف من بعض أنواع النخيل، وهذا ممتنع غيرُ سائغٍ كما تقدم. 5048 - ولو ساقاه على الوديّ، على جزءٍ من الثمار في السنة الأخيرة، وإنما خصص السنةَ الأخيرة [بالذكر] (3) بناءً على أن الثمرة إنما تقع فيها، فإذا اتفقت الثمرة في سنة أخرى قبلها، فالذي ذهب إليه الأئمة صحةُ المساقاة في هذه الصورة، ولم يجعلوها كالمساقاة على النخيل التي تثمر في السنين مع التخصيص بجزءٍ من ثمار بعض السنين. وبنى (4) الأئمة على مسألة الوديّ وجوبَ الوفاء بالشرط وتخصيصَ الاستحقاق بثمار السنة الأخيرة، على حسَب الشرط ومقتضاه، والفرق ظاهر على رأي الأئمة لا غُموضَ فيه. ولكن في مسألة الودي ضربٌ من الاحتمال؛ من جهة أن هذه المعاملة لا تحتمل انفرادَ المالك بثمار سنة (5) لا حظَّ للعامل فيها. وكان (6) يجوز أن يقال: كان من حق مالك الودِي ألا يخصص استحقاق العامل بثمار السنة الأخيرة، بل يطلق لجواز أن يتّفق إثمارٌ في سنةٍ قبل السنة الأخيرة.

_ (1) (ي)، (هـ 3): على أن تعمل. (2) في الأصل: بثماره. (3) ساقطة من الأصل. (4) (ى)، (هـ 3): ثم بنى. (5) (ي)، (هـ 3): سنين. (6) (ي)، (هـ 3): فكان.

5049 - ومن مسائل الفصل أن يساقي مالكُ الودِي العاملَ مدةً، ويغلب على القلب إثمارها فيها، ولا ينتهي الأمر إلى الاستيقان، فكيف الوجه في ذلك؟ جمع الأئمة هذه الصورة إلى الأخرى، وهي أن تكون المدة المذكورة بحيث لا يغلب على القلب إثمارُ الودِيّ فيها ولكن كان لا يبعد أن يثمر، وما نذكره يرجع إلى المدة، لا إلى تقدير السلامة من الجائحة والآفة؛ فإن الجوائح ممكنة في النخيل الباسقة. فليفهم الفاهم أن هذا التردد محمول على قصر المدة وطولها. ثم حاصل ما ذكره الأصحاب في الصورتين اللتين ذكرناهما طريقان: منهم من قال: إن كان لا يغلب على القلب إثمار الوديّ في تلك المدة، فالمساقاة فاسدة، وإن كان يغلب على الظن إثمارُها، ولكن لا ينتهي الأمر إلى الاستيقان، ففي صحة المساقاة وجهان. وهذه الطريقة غيرُ مرضية، والصحيح عكسها، فنقول: إن غلب على الظن الإثمار، صحت المساقاة وجهاً واحداً، وإن لم يغلب على الظن، ولكن الإثمار كان ممكناً، فعلى وجهين. وإنما رأينا القطع بالتصحيح عند الغلبة على الظن؛ لأن الحكم للأعم الأغلب، في مثل ذلك. والدليل عليه أن من أسلم في جنسٍ يغلب على الظن وجودُه في محله، فإن السلم يصح، كما يصح الإسلامُ فيما يستيقن وجودُ جنسه حالةَ المحل. وإذا تبين ما ذكرناه في الصحة والفساد، فنقول وراء ذلك: إن صححنا المساقاة، فإن اتفقت الثمار، فللعامل ما شُرط له منها، لا شيءَ له غيرُه. وإن لم يتفق الإثمار في تلك المدة، فقد خاب العامل، ونزل عدمُ الإثمار في المساقاة التي حكمنا بصحتها منزلة عدم الثمار بالجوائح في النخيل المثمرة. وإذا حكمنا بفساد المساقاة فللعامل أجر المثل، أثمرت الودي، أو لم تثمر، ونقطع بأنه يستحق أجرَ المثل إذا كان على رجاء من وجود الثمار. وإنما الخلاف فيه إذا عُلم أن الثمار لا تكون وقنع بشرط جزءٍ من الثمار، ففي استحقاقه الأجرةَ الخلاف المقدم.

وللقاضي تفصيلٌ، لم أره لغيره، وذلك أنه قال: إذا [استوى] (1) الاحتمالان في وجود الثمار، ففي الفساد.، والصحة وجهان، وإن ترجّح ظنُّ العدم، فالقطع بالفساد. وهذا حسنٌ. ويُحتمل المصير إلى الصحة بمجرد الإمكان، وإن كان الغالب على الظن ألا تكون الثمار. وهذا ما ذكره الأصحاب. فليتأمل الناظر المنازلَ والمراتبَ، فقد نبهنا عليها فلا نعيد ترتيبها. 5050 - ومن مسائل الفصل أن يدفع المالك ودِيَّاً إلى العامل ليغرسه وينميه مدةً، ستثمر في آخرها إن علقت، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب فسادُ المعاملة؛ فان ابتداء الغراس ليس من أعمال المساقاة، وإنما أعمالها تنميةُ أشجارٍ مغروسةٍ، والمطلوب ثمارها، وهذا يضاهي في هذه المعاملة ما لو قال المالك للمقارَض: بع هذه العروض و [قد] (2) قارضتك على أثمانها إذا نضّت. هذا مسلك الأصحاب. وقد حكى شيخي وجهاً في تصحيح المساقاة، وهذا مزيَّفٌ، غير معتدٍّ به، ولكن ذكره صاحب التقريب، كما حكاه شيخي. وتمام القول في ذلك أنا إن قلنا: لا تصح المساقاة، فلا كلام. وإن قلنا: تصح المساقاة على الثمار التي ستكون في آخر المدة، فلو قال: اغرس هذا الوديّ، ونمّه، على أن لك الثلثَ من أعيان هذه الأشجار ورِقابها، فالذي قطع به الأئمة في الطرق فسادُ هذه المعاملة؛ فإن مبناها على استحقاق فوائد الأشجار، لا على استحقاق جزء من أعيانها. وذكر صاحب التقريب [وجهاً] (3) في صحة المعاملة على هذا الوجه، في الودِيّ والفسيل، فإنّ تعلّق (4) الودي هو مقصودُ

_ (1) في الأصل: اشترى. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: وجهين. (4) تعلّق الودي: أي نشوبها في الأرض، وتشبثها بها، كنشوب الجنين، وقراره في الرحم (ر. المعجم).

المعاملة، فكانت أعيانها بمثابة الثمار، إذا كان العامل يسعى في تحصيلها. ثم قال صاحب التقريب: لا يضر وجودُ أعيانها حالة العقد؛ فإن الثمار قد تكون موجودة حالة عقد المساقاة، كما ذكرنا ذلك في أول الكتاب. فهذا بيان مسائل الفصل. فصل قال: " وإن اختلفا بعد أن أثمرت النخيل ... إلى آخره " (1). 5051 - إذا اختلف العامل ورب النخيل في المشروط من الثمار للعامل، فقال رب النخيل: شرطتُ لك الثلث، وقال العامل: بل النصفَ، فإذا لم يكن في الواقعة بيّنة، فإنهما يتحالفان، ويفسخ العقد بالتحالف، وترتدُّ الثمار بجملتها إلى مالك النخيل، ويرجع العامل بأجر المثل، وإن كان أكثرَ من قيمة نصف الثمار. فأما إذا كان في الواقعة بيِّنةٌ، فإن انفرد أحدهما بقامة البيّنة على ما يدّعيه، قُضي له بموجبها على [خصمه] (2)، وإن أقام كل واحد منهما بيِّنةً على وَفْق دعواه، وليقع الفرض فيه إذا [تعرضت] (3) البيِّنتان لتعيين الوقت الذي جرى العقد فيه على وجهٍ لا يمكن حمل البينتين على عقدين، فإذا جرى العقدُ كذلك، ففي المسألة قولان مشهوران: أصحهما - الحكم بتهاتُر البيّنتين، ورَدُّ الأمر إلى خلوّ الواقعة عن البيّنة، ولو خلت عنها، كنا نحكم بتحالفهما، فالأمر إذن كذلك. والقول الثاني - أن البينتين تستعملان، ثم في استعمال البيّنتين في غير هذه الواقعة أقوال: أحدها - القسمة. والثاني - الوقف. والثالث - القرعة، على ما سيأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى. فأما قول الوقف، فلم يُجره الأصحاب هاهنا، وفيه فضل نظرٍ، سيأتي في

_ (1) ر. المختصر: 3/ 78. (2) في الأصل، (هـ 3): حصته. والمثبت من (ي). (3) (ي)، (هـ 3): تعارضت.

الدعاوى. وأجرَوْا قولَ القرعة، فمن خرجت له القرعة، فاز. وهل يحلف مع القرعة؟ فعلى وجهين. والأصح أنه لا يجري قولُ القسمة. ومن أصحابنا من قال: يثبت للعامل ما حصل الاتفاق عليه، وهو الثلث مثلاً، والمتنازع الزائد يقسّم بين الدعويين فيسقط نصفُه، ويثبت نصفه. وهذا بعيدٌ. 5052 - ولو ساقى رجلان رجلاً، فادعى العامل أنهما شرطا له النصف، فصدقه أحدهما، وكذبه الآخر، فيثبت نصيبه على موجَب التصديق على المصدِّق، ويعود الخلاف والنزاع إلى المكذِّب والعامل؛ فيتحالفان، ويرجع عليه بنصف (1) أجر مثل عمله. فلو شهد المصدّقُ من المالكيْن على المكذّب للعامل، قبلت شهادتُه؛ إذ لا تهمةَ، ولا معنىً يوجب ردَّ شهادته. ثم ذكر المزني أن رجلين لو ساقيا رجلاً، وشرط أحدهما له النصفَ من نصيبه، وشرط الثاني له الثلث، فإن تعيّن مقدار نصيب كل واحد منهما للعامل، صح ذلك. وإن لم يبن له مقدارُ نصيب كل واحد منهما، وقد جرى الشرطُ على التفاوت، فالمعاملة فاسدة. وقد ذكرنا ذلك، ونظائره فيما سبق، وأوضحنا تعليله بما فيه مقنع، فلا حاجة إلى الإعادة. وقد نجزت مسائل الكتاب. فرع: 5053 - قد رمزنا في صدر الكتاب إلى تردُّدِ الأصحاب في أن الخرْص هل يجري في حكم المساقاة؟ فالذي مال إليه الأكثرون أن الخرص يجري في المساقاة [بين] (2) المالك والمساقَى، وهؤلاء استدلّوا بحديث عبد الله بن رواحة، لما خرص على أهل خيبر، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن خرصُه لأجل الزكاة؛

_ (1) (ي)، (هـ 3): بمثل. (2) في الأصل: من.

فإن أهل خيبر كانوا يهوداً، لا زكاة عليهم، فدلّ [على] (1) أن الخرص كان في حكم المساقاة. ومن أصحابنا من قال: لا يتعلّقُ في المساقاة بالخرص حكمٌ، وحمل ما جرى على معاملةٍ بين المسلمين والكفار، لا يجوز فرض مثلها بين المسلمين بعضهم مع بعض. فإن أثبتنا للخرص حكماً، فقد تقدم قولان في كتاب الزكاة، في أن الخرص عِبْرةٌ، أو تضمينٌ، وأوضحنا أنا إذا جعلنا الخرص عبرةً، فليس يتعلّق به حكمٌ محقّق. وإذا جعلناه تضميناً، فأثره قطعُ تعلّق الزكاة عن عَيْن الثمار، وردُّها إلى ذمة من عليه الزكاة، وتسليطُه على التصرف في الثمار بجملتها، حتى كأنا ننقُل حقَّ المستحقين من عين الثمار إلى الذمة. فمن أثبت للخرص حكماً في المساقاة، فقد يعتقد أن حصة المالك بعد تقدير التَّجفيف تنقلب إلى ذمة العامل المخروص عليه، وتصير الثمار بجملتها ملكاً له؛ لضمانه حصةَ المالك. وهذا لا يجترىء على القول به إلا جسورٌ؛ فإنّ قطعَ ملك المالك عن أعيان الثمار، وردَّه إلى ذمة العامل، من غير معاوضة يهتدي إليها محالٌ، وليس كالزكاة؛ فإن الأصل في ملك النصاب المالك، والزكواتُ حقوقٌ معترِضةٌ. وقد نقول: الأصح أنها لا تتعلق بالمال تعلق استحقاق، فردُّ الزكاة إلى الذمة على شرط الضمان، لا يبعد كلَّ البعد. وإن قلنا في المساقاة: أثر الخرص أن يتقدر نصيب المالك على العامل، حتى لو ادعى نقصاناً مفرطاً، عما حزره الخارص تقريباً، لم يُقبل منه، إلا أن تعترض جائحة وآفةٌ، فهذا أقرب من نقل حق المالك من العين إلى الذمة، وتمليكِ العامل جميع الثمار، وهذا يضاهي تفريعَنا على قول العبرة في حق الزكاة. فهذا ما أردناه في ذكر الخرص ومعناه.

_ (1) ساقطة من الأصل.

ومن امتنع من تأثير الخرص في المساقاة فسببُ امتناعه غموضُ أثره في العِبرة، والتضمين، كما أشرنا إليه. 5054 - ثم إن جعلنا للخرص أثراً، فالخرص يجري في النخيل والكرم، [وجرت] (1) المساقاة فيها، وهل يجري الخرص فيما عداهما من الأشجار؟ فعلى قولين. ولذلك خرّجنا المسألة في المساقاة على سائر الأشجار على قولين. فإذا أثبتنا الخرص وتأثيره، اعتقدناه أمراً مرعيّاً، وأصلاً معتبراً في تصحيح المساقاة. والله أعلم بالصواب. وإن لم نثبت للخرص أثراً، فيليق (2) بهذا القول تجويز المساقاة على جميع الأشجار، وإن افترقت في جريان صورة الخرص عادةً وإمكاناً. 5055 - ومما نلحقه بآخر هذا الفصل أن الثمار إذاً وجدت، فالمشروط للعامل منها مملوكٌ له، ولا يتوقف جريان ملكه فيه على استكماله الأعمالَ المشروطةَ عليه، وليست الثمار في ذلك بمثابة الأرباح في القراض؛ إذا (3) اختلف القول فيها، و [أن] (4) العامل هل يملك حصته منها بالظهور. وهذا الذي ذكرناه مأخوذ من فحوى كلام الأئمة في الطرف، والسبب فيه أن [من] (5) منع ثبوتَ الملك للعامل في القراض تمسك بحرفين: أحدهما - أن الربح وقايةٌ [لرأس] (6) المال، وهذا المعنى لا يتحقق في الثمار، بالإضافة إلى الأشجار؛ فإن الأشجار لو عابت في أنفسها لآفةٍ أصابتها، لم يُجبر نقصانها بالثمار.

_ (1) في الأصل: فجرت. (2) في الأصل: فلا يصح، فيليق. (3) كذا في النسخ الثلاث: "إذا" وهي بمعنى (إذ). (4) في الأصل: وأنا. (5) سقطت من الأصل. (6) في الأصل: "برأس"

ومن أصحابنا من عوّل في الربح على تنزيله منزلة الجُعل في الجعالة؛ من حيث لا تنضبط أعمال المقارَض في معاملة جائزة وهذا لا يتحقق في المساقاة؛ فإن الأعمال فيها إلى الضبط، وهي لازمة لا يملك العامل التخلص منه اختياراً. فرع: 5056 - أجرى القاضي في أثناء المسائل كلاماً متعلقاً بالعاريّة أحببنا نقله، وإن لم يكن من مسائل المساقاة. قال: إذا وهب الرجل نَيْلَ معدنٍ مملوكٍ له، في مدةٍ من واحدٍ، ليعمل عليه، ويكونَ له ما يستخرج منه، فالهبة فاسدة في نص الشافعي، لأنها هبةُ [مجهولٍ] (1)، وليس كما لو أعار المالك من إنسانٍ عبدَه أو دارَه، وترك العين في يده من غير إعلام وضبطٍ؛ فإن المستعير يملك المنافع مدةَ اتّفاق بقاء العين المستعارة في يده، وهذا في التحقيق هبةٌ ومنحةٌ [في] (2) مجهول. ثم فرّق، فقال: المنافع في وضع الشرع جعلت كالأعيان الموجودة، وجاز إيراد المعاوضة عليها، كما يجوز إيراد ذلك في الأعيان الموجودة، فكذلك يجوز أن تكون كالأعيان الموجودة في عقد التبرع، ومثل هذا لا يتحقق في نيل المعادن. ثم ما يستفيده العاملُ على المعدن من نيلٍ يلزمه ردُّه على مالك المعدن؛ فإن الرد فيه ممكن، والرد غيرُ ممكن في المنافع المستوفاة. وهذا كلامٌ مختلطٌ. وكان شيخي يقول: الإعارة ليست تمليكاً، والمستعير لا يملك المنافع قط، وإنما الإعارةُ إباحةٌ وإمتاعٌ، والمستعير ينتفع [بالمنافعِ] (3) انتفاع الضيف بما يأكله من الطعام، والأصح أن الضيف لا يملك ما يأكله، والإباحة لا تجري إلا في منتفعٍ به حالةَ الاستيفاء، ونيل المعدن ليس كذلك، ولو كان النَّيل مطعوماً، فأباح لمن

_ (1) في الأصل: مجهولة. (2) في الأصل: من. (3) ساقطة من الأصل.

يأكله، أو يشربه، فما جرى من ذلك، فلا معترض فيه، ولا ضمان (1). تمّت المساقاة. ...

_ (1) في خاتمة نسخة (ي). ما نصه: (والله أعلم. ثم في الهامش: بلغ مقابلة سنة 674 وبالله التوفيق). ثم بعد ذلك (آخر المجلد الثامن، يتلوه - ولله الحمد والمشيئة، في التاسع كتاب الإجارة الحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً حمداً كثيراً طيباًَ مباركاً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً. وحسبنا الله ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انظر إلى الدهر وتفكر بعجايبه، وانظر إلى الناس تراهم كثيري التقلب). أما نسخة (هـ 3)، فقد جاء في خاتمتها ما نصه: (والله أعلم. يتلوه في الذي يليه بعون الله وحسن توفيقه كتاب الإجارة صح. نقل هذا الجزء بأسره من النهاية لإمام الحرمين إلى خزانة سيدنا ومولانا الفقيه الإمام العالم سيد الورى فخر الدين شرف الأئمة أدام الله عليه ....... لمجد .... )

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة (1) 5057 - الإجارة معاملة صحيحة، تورد على منافعَ مقصودةٍ قابلةٍ للبذل والإباحة، على شرط الإعلام مع العوض المبيّن. 5058 - وقد أجمع من بإجماعه اعتبار على صحة الإجارة، وخلاف ابن كيسان (2) الأصم، والقاساني (3) غيرُ معتدٍّ به من وجهين: أحدهما - أنهما ليسا من أهل الحل والعقد، والآخر - أن خلافهما مسبوقٌ بإجماع الأمة على صحة الإجارة قبلهما. 5059 - وتيمّن الأئمةُ بذكر قصة شعيب في استئجار موسى صلوات الله عليهما، والاستئجار على الإرضاع منصوصٌ عليه في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].

_ (1) من هنا -من كتاب الإجارة- بدأ العمل معتمداًَ على نسختين فقط، حيث انتهت نسخة (ي)، ونسخة (هـ 3) وبدأت نسخة (د 1) مع نسخة الأصل: (د 2). (2) ابن كيسان، عبد الرحمن بن كيسان الأصم، أبو بكر، فقيه معتزلي، تلميذ العلاف، وله معه مناظرات، ت نحو 225 هـ. (ر. نشأة الفكر الفلسفي: 1/ 397، 410، 451 - والمنية والأمل: 52، لسان الميزان: 3/ 427، والأعلام: 3/ 323). (3) القاساني، محمد بن إسحاق القاساني الظاهري، أخذ عن داود، وخالفه في مسائل، نقضها عليه ابنُ المغلّس. والقاساني بالسين، والعامة تقولها بالشين، نسبة إلى قاسان، من نواحي أصبهان. (تبصير المنتبه، بتحرير المشتبه: 3/ 1146) زاد الشيرازي في (طبقات الفقهاء: 176) قوله: " خالف داود في مسائل كثيرة في الفروع والأصول " ثم ذكر اسم كتاب ابن المغلس الذي رد به على القاساني، وهو: (القامع للمتحامل الطامع)، كما زاد أيضاًًً أنه يكنى بأبي بكر. وانظر (الفهرست: 300) وعنده: القاشاني (بالمعجمة) وعنده أيضاًًً أنه انتقل إلى مذهب الشافعي، وألف في إثبات القياس!!! قلتُ: لعله وهمٌ من ابن النديم، فالإمام في (البرهان) يعدّه ممن لا يقولون بالقياس على إطلاقه. وكذلك لم يقل هذا أحدٌ من أصحاب طبقات الشافعية (فيما نعلم).

وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجفّ عرقُه " (1). والحديث الذي أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، إذ قال: " مثلكم ومثل الذين من قبلكم من اليهود والنصارى، كمثل رجل استأجر أجيراً من الصبح إلى الظهر بقيراط " (2). معروف. وهو أصل في الباب. وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاثةٌ أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمتُه: رجل باع حراً، وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منفعته، ولم يؤدّ أجره، ورجل أعطاني صفقةَ يمينه، ثم غدر " (3). " وأجّر عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه نفسَه من يهودي كان يستقي له الماء، كل دلو بتمرة " (4). " واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بنَ أريقط دليلاً " (5).

_ (1) حديث " أعطوا الأجير أجره "، رواه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب أجر الأجراء: 2/ 817، ح 2443، والطبراني في الصغير: 1/ 43، ح 34، وأبو يعلى: 12/ 34، ح 6682، وابن عدي في الكامل: 6/ 230، والبيهقي في السنن: 6/ 120، 121. وانظر التلخيص: 3/ 132، 1314. (2) حديث: " مثلكم ومثل الذين من قبلكم "، رواه البخاري: كتاب المواقيت، ح 557، وكتاب الإجارة، ح 2268، وكتاب الأنبياء، ح 3459، والترمذي: كتاب الأدب، ح 2871، وأحمد: 2/ 6، 111. (3) حديث: " ثلاثة أنا خصمهم ... " عند البخاري من الأحاديث القدسية، فقد رواه عن أبي هريرة بلفظ: " عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم ... " وهو أيضاًًً على غير هذا الترتيب، فقد قدم من أعطى وغدر، وهو بلفظٍ مغاير أيضاًً: " رجل أعطى بي ثم غدر " وقد رواه في كتاب البيوع: باب إثم من باع حراً، ح 2227، وفي كتاب الإجارة: باب إثم من منع أجر الأجير، ح 2270، ورواه أحمد: 2/ 358. (4) حديث علي " أنه أجر نفسه من يهودي " أخرجه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب الرجل يستقي كل دلو بتمرة، ح 2446، 2447، وأخرجه البيهقي في السنن: 6/ 119، ورواه أحمد في مسنده: 1/ 90، 135، وانظر التلخيص 3/ 134 ح 1319. (5) حديث استئجار الرسول صلى الله عليه وسلم لابن أريقط، أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وهو عند البخاري من غير تصريح باسم الدليل. (تخريج أحاديث السيرة للألباني. بهامث فقه السيرة للغزالي: 170، والبخاري: كتاب الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، ح 2263. وأيضاًً باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاث، ح 2264).

والحاجة ماسة إلى الإجارة بينةٌ لا خفاء بها. 5060 - ولسنا ننكر أن الإجارة من حيث وردت عدى منافعَ لم تخلق [بعدُ] (1) مائلةٌ عن القياس بعض الميل، ولكنها مسوغةٌ لعموم الحاجة. وقد ذكرنا في مواضعَ أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة. ثم ما ثبت أصله بالحاجة، لم يتوقف إثباته وتصحيحه في حق الآحاد على قيام الحاجة، حتى يقال: الإجارة تنعقد في حق من لا مسكن له، وهو محتاج إلى المسكن، ولا تنعقد في حق من يملك المساكن، بل يُعمم [في حكم] (2) التجويز الكافة. 5061 - ثم نذكر تراجم في أصول الكتاب بالتوطئة والإيناس، وننعكس في المسائل على تفصيلها، فنذكر معقود الإجارة، والألفاظَ التي تنعقد الإجارةُ بها، وما تصح الإجارة فيها، ونرمز إلى [انقسام] (3) الإجارة في قاعدتها. إن شاء الله تعالى. 5062 - فأما القول في معقود الإجارة، فقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه قديماً وحديثاً، فقال بعضهم: المعقود عليه في الإجارة العينُ المستأجرة، وإنما حملهم على ذلك محاذرةُ الحكم بإيراد المعاوضة اللازمة على مفقودٍ، وهي المنافع. وقال قائلون: المعقود عليه في الإجارة المنافعُ. وهذه الطريقةُ هي المرضية عند الفقهاء، فإن معقودَ كلِّ عقدٍ هو المقصود منه، والمنافع هي المقصودةُ، والإجارة عقدُ تمليكٍ، والمنافع هي التي تُملّك، وتستحق فيها دون العين، والأجرة في الإجارة تتوزع على المنافع، إذا تبعضت في منازل الفسخ والانفساخ، فهي المقصودة المعقودُ عليها، ولكن الشرعَ احتمل إيراد العقد عليها، وهي تثبت شيئاًً شيئاً (4)؛ لما أشرنا إليه من مسيس الحاجة.

_ (1) مزيدة من: (د 1). (2) في الأصل: بحكم. (3) في الأصل: انفساخ. (4) (د1): شيئاًً فشيئاًً.

وقد ينتهي الكلامُ إلى ماهية المنفعة، وليست المنافع (1) رقبةَ العين المستأجرة، ولا ما يعقل من صفاتها كتركّب الجدران وتنضّد السقف على الهيآت (2) المطلوبة، وغيرها من الصفات. فالمنافع إذن نعني بها تهيُّؤَ العين المستأجرة لانتفاع المستأجِر بها في الوجه المطلوب، ولا مزيد في الأحكام الشرعية على هذه المواقف. 5063 - وقال القاضي: الإجارة ترد على العين، لاستيفاء المنفعة منها، وأشار بذلك إلى أن [العاقد] (3) يقول: أجرتك هذه الدارَ، فيضيف لفظَه إلى عينها، والمقصود استيفاء المنفعة منها. وهذا الذي قاله قريب؛ فإنه (4) عَنَى [بذكر] (5) العين إضافةَ لفظ الإجارة إليها. وهذا لا اختلاف فيه، ثم أشار إلى المنافع، وأبان أنها المقصودة، وفيما ذكره مزيد نظر وتفصيل، [سننبه] (6) عليه في ألفاظ هذا العقد، إن شاء الله تعالى. 5064 - فأما القول في الألفاظ التي تنعقد الإجارةُ بها، فاللفظ الشائع الصريح في الباب -من غير استكراه- الإجارةُ، والإكراءُ. فقول المالك: أكريتُك هذه الدارَ سنةً، أو أجرتك بكذا. ولو قال: ملكتك منفعةَ هذه الدار، أو منفعةَ هذا العبدِ شهراً بكذا، صحَّ، باتفاق الأصحاب. وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن المعقود عليه المنافع. 5065 - ولو قال: بعتُ منك منافعَ هذه العين شهراً بكذا، ففي صحة الإجارة وجهان مشهوران: أظهرهما - أن الإجارة لا تنعقد؛ لأن لفظ البيع موضوعٌ لتمليك الأعيان، فاستعماله في المنافع بعيدٌ عن موضوعه، ونقْلٌ له عن حقيقة بابه.

_ (1) (د1): المنفعة. (2) (د1): اللبنات المطلوبة. (3) في الأصل: القائد. (4) (د1): فإن. (5) في الأصل: ذكر. (6) في الأصل: سنبينه.

ولفظُ التمليك لا اختصاص له ببابٍ (1)، بل هو صالح لكل ما يثبت فيه الملك، والمنافع مملوكة بالإجارة. وقال ابن سُريج: تصح الإجارةُ باستعمال لفظ البيع على الصيغة التي ذكرناها؛ فن البيع يتضمن تمليكَ الأعيان، والمنافعُ تملك بملك الأعيان، فلا يبعد استعمال لفظ البيع فيها، كما لا يبعد مساواةُ المنافع للأعيان في جريان الملك، وقد قال الشافعي: الإجاراتُ صنفٌ من البيوع. 5066 - ولو قال: أكريتك، أو قال: أجرتك منافع هذه الدار، كان اللفظ لاغياً؛ فإن وضع لفظ الإجارة على الإضافة إلى العين المنتفع بها، فإذا أضيف إلى المنافع، كان لاغياً في اللسان، غيرَ مفيد، ولا يضاف إلى المنافع إلا ما يقتضي التمليك في وضعه وصيغته، والإجارةُ ليست كذلك. وإنما أفادت الملكَ بالشيوع في الاستعمال، فلتستعمل على الوجه المعتاد. 5067 - وهذا أوان التنبيه على ما ذكرناه قبلُ من كلام القاضي: فقوله: الإجارة ترد على العين لاستيفاء المنفعة، يختص بلفظ الإجارة والإكراء؛ فإنهما لا يتضمنان تمليكاً، وما يتضمن تمليكاً يَضاف إلى المنفعة دون العين، فلو قال: ملكتك هذه الدارَ شهراً، وأراد الإجارة، لم يجز، وحُمل اللفظُ فيه (2) على تمليكٍ مؤقت في العين، وهو فاسد. فإذا كان [يقع الكلام كلياً] (3) في معقود الإجارة، فلا معنى للتعلق بصيغة لفظة من الألفاظ مختصة، وإنما يمتحن المعقود من الألفاظ الناصّة على الغرض كالتمليك، فلا جرم هو مضاف إلى المنافع، والإجارة تعمل عن جهة شيوعها في العادة، لا عَنْ معناها. فهذا ما أردنا التنبيهَ عليه. 5068 - فأما القول فيما تصح إجارته، وما لا تصح إجارته، فالأوْلى فيه التعرض

_ (1) هذا توجيهٌ للوجه المقابل للأظهر الذي فهم من الكلام، ولم يذكره صراحة، ولكنه سيأتي فيما نقلها عن ابن سريج. (2) (د 1): منه. (3) في الأصل: نفع الكلام كلّها.

للتقسيم. فالأعيان تنقسم إلى الجمادات، والحيوانات، فأما الجمادات، فإنما تجري الإجارة فيما يُنتفع به انتفاعاً [يقابَل] (1) بالمال عرفاً، مع بقاء العين. وما لا يتأتى الانتفاع به إلا باستهلاكه، فلا يتخيل فيه الإجارة. كالأطعمة والأشربة، فلا تُستأجر التفاحةُ لتُشتمَّ؛ فإن ذلك، وإن كان منفعة، فليست من المنافع التي تُبذل عليها الأموال، ومالك التفاحة لا يرضى بتسليمها لتُبذلَ، وتقربَ من الفساد، ثم تُرد. 5069 - واختلف أئمتنا في استئجار الدراهم والدنانير، لتزيين الحوانيت، ودكاكين الصيارفة، فذهب الأكثرون إلى منع استئجارها؛ فإن ما ذكرناه ليست منفعةً مقصودةً؛ فإن الغرض مما أشرنا إليه موقوفٌ على أن يُرِي الصرافُ أنها ملكُه، ولو ظهر ذلك، لفسد الغرض، فغاية المقصود تلبيسٌ إذاً، وإذا منعنا الاستئجار، ففي جواز استعارتها للمقصود الذي ذكرناه خلافٌ، ولا وجه لمنع الإعارة إلا ما نبهنا عليه من التلبيس، وإلا فالإعارة تقبل الجهالةَ والإبهام، ولا تقبلها (2) الإجارة. 5070 - وذكر القاضي في الاستشهاد بفساد إجارة الدراهم، والدنانير: أن استئجار الأطعمة لمثل الغرض الذي ذكرناه في الدراهم فاسدٌ. ولستُ أرى الأمرَ كذلك، فلو استأجر الرجلُ صُبرةَ حِنطةٍ، ليزين بها دكّانه، فالكلام فيه [كالكلام في] (3) استئجار الدراهم والدنانير. ولا يجوز تخيّل الفرق بينهما (4 والخلاف جارٍ فيهما 4)، والأصح المنع، كما قدمناه. 5071 - وأما الحيوان قسمان (5): آدمي، وغيرُ آدمي، فالآدمي يجوز إجارته، حراً كان أو عبداً. وغير الآدمي قسمان: منتفعٌ به، وغير منتفع به. فما لا ينتفع به

_ (1) في الأصل: فيقابل. (2) (د 1): ولا تقتضي ما تقتضيه الإجارة. (3) في الأصل: فالكلام فيه كاستئجار الدراهم. (4) ما بين القوسين ساقط من (دا). (5) هكذا. بدون الفاء في جواب (أما) وهي لغة (كوفية)، يجري عليها غالباً إمام الحرمين، في كتابه هذا، وفي غيره، كما أشرنا مراراً.

يظهر فساد إجارته، كالخنازير، والسباع غير (1) الجوارح، والحشرات ونحوها. والمنتفع به قسمان: نجس العين، وطاهر العين. فأما ما هو نجس العين، فالكلب المعلّم، وفي جواز إجارته وجهان: أحدهما - لا تصح، كما لا يصح بيعه. والثاني - أنها تصح؛ لأن مَوْرد البيع العين، وعين الكلب نجسة، ومورد الإجارة المنافع، وهي لا تتصف بالطهارة والنجاسة. وأما الحيوان الطاهر المنتفع به، كالجوارح من [الطيور] (2)، وكالفهد، والحُمر، والبغال، والفيلة، والبقر، التي تركب، وتَحمل، أو تصلح للحراثة، فاستئجارها جائز. 5072 - ولا يجوز استئجار الأعيان لأعيانٍ تنفصل منها، كاستئجار الأشجار لمكان الثمار؛ قصداً إلى تملكها، وكاستئجار المواشي قصداً إلى درِّها ونسلها. هذا ممتنع لا مجوّز له. 5073 - ثم الإجارة تنقسم، فقد تُفرضُ واردةً على العين، بحيث لا يتصور ورودها على الذمة، وهذا بمثابة استئجار الأراضي، والمساكن، والقنوات، ونحوها، فلا يتأتى فرض إيرادها على الذمة، كما لا يتأتى الإسلامُ في شيءٍ (3) منها في الذمة، يُلتزم، ثم يُعيّن، والسبب فيه أن مقصودَها الأعظم يتعلق بتعيينها؛ وإلا، فالقَراح (4) في موضعٍ يُقوّم بمائة، ومثله في موضع آخر يُقوّم بعشرة، فإذا كان مقصودُها الأظهر في تعينها، ولا يتصور نقلُها، لم ينتظر إيراد البيع إلا على ما يتعين منها. وكذلك القول في إجارتها. فأما ما سواها من الأعيان [وهي] (5) المنقولات، فالإجارة تنقسم فيها إلى ما يرد على العين، وإلى ما يرد على الذمة. وهذا مما سيأتي مفصلاً في مسائل الكتاب.

_ (1) المراد هنا الجوارح التي يمكن تعليمها للصيد. (2) في الأصل: الصيود. (3) (د 1): في موصوفٍ. (4) القَراح: وزان كلام: المزرعة التي ليس فيها بناء ولا شجر (المصباح). (5) في الأصل: فهي.

ولكنا نذكر الآن جُملاً من خواصّ ما يرد على الذمة، وقضايا ما يرد على العين. والقسمان أولاً يستويان في وجوب الإعلام في العوض والمعوّض، [وقد تختلف طرق الإعلام] (1) في المنافع على ما سنذكر معاقد الكلام، فيها، إن شاء الله تعالى. 5074 - فإن وردت الإجارة على عينٍ مثل أن يقول: استأجرت [منك] (2) هذا العبد أو هذه الدّابة، صحّت الإجارة. ولإعلام المنفعة مسلكان: أحدهما - المدة، والآخر - الإعلام بذكر نهاية المقصود، فأما المدة، فيقول: استأجرت منك هذه الدّابة لأتردد عليها في حوائجي في هذا اليوم، أَوْ أَحملَ عليها في هذا اليوم أقمشةً أنقلها من الحانوت إلى الدار، فهذا وجهٌ. والوجه الآخر - أن يقول: استأجرت هذه الدابة، [لأركبها] (3) إلى موضع كذا، أو أحمل عليها كذا وكذا إلى موضع كذا، فإذا صحت الإجارة، فمن حكمها ألا يجب تسليم الأجرة في المجلس؛ فإنها لم تقع سلماً، بل ارتبطت بعينٍ، ولا يجري فيها إبدال العين المعيّنة بغيرها، وإن تلفت قبل استيفاء المنفعة، انفسخت الإجارة. كما سنصف ذلك من بعدُ، إن شاء الله، وإن عابت، فردها المستأجر، انفسخت الإجارة. 5075 - ثم مما نمهده في هذا القسم أن المستأجر إذا ذكر نوعاً من الانتفاع، لم يتعين، وكان ما (4) يساويه في الإضرار بالدابة في معناه. فلو قال: استأجرت هذه الدابة لأركبها، ثم أراد أن يُركب غيرَه، وكان ذلك الغير مثلَه، فذلك جائز. ولو استأجر أرضاً لزراعة الحنطة، كان له أن يزرعها شعيراً؛ فإن ضرر الشعير أقلُّ، ولسنا نلتزم تفصيل هذا؛ فإنه بين أيدينا (5). والضابط الذي يليق بعقد التراجم أن الإبدال جائز في جهات الانتفاع، إذا لم يزد

_ (1) في الأصل: قد يختلف طرفا الإعلام. (2) زيادة من (د 1). (3) ساقطة من الأصل. (4) في (د 1): بما. (5) أي سيأتي فيما نستقبل من مسائل.

الضررُ، ولم يختلف جنسُه. أما زيادة الضرر، فمثل: أن يستأجر الدابة لركوب نفسه، وهو نحيف، ثم يُركبها رجلاً ضخماً، وأما الاختلاف في الجنس، فهو أن يستأجر دابة ليحملها تبناً، فحمّلها مثلَ وزن التبن تبراً، [لم يجز] (1)؛ فإن ضرر التبن في أن [يغمر] (2) الدابة ويعمّها، وضرر التبر في ثقلها [على] (3) موضع من البهيمة؛ فهي (4) تكُدُّ (5) ذلك الموضعَ، وتُميده (6)، فلا يجوز هذا النوع من الإبدال. ثم إجارة العين تضاهي بيعَ العين في الافتقار إلى الرؤية، على حسب ما ذكرناه في اختلاف القول في بيع الغائب. 5076 - وأما الإجارة الواردة على الذمة، فمثل أن يقول: ألزمت ذمتَك خياطةَ هذا القميص، أو نقلَ هذه الحمولة ووزنُها كذا، من هذا الموضع إلى موضع كذا، أو تنقلني إلى موضع كذا، فهذا النوع جائز على الجملة. فإن وقع العقدُ بلفظ السّلم، صح، ويجب تسليمُ الأجرة في المجلس، كما يجب تسليم رأس المال في السلم. (7 وإن جرت الإجارة على الذمة من غير لفظ الإسلام 7) والإسلاف، ففي اشتراط تسليم الأجرة في المجلس وجهان أجرينا نظيرهما في البيع الوارد على الذمة [من غير لفظ السلم والسلف. ثم من أحكام الإجارة الواردة على الذمة] (8) ذكرُ أوصاف ما ينتفع به على ما يليق بأوصاف المسْلَم فيه، فإذا طلب مركوباً، ذكر جنسَه ونوعَه، والذكورة والأنوثة، وصفةَ المشي، والتعرضُ للذكورة والأنوثةِ يؤول إلى صفة المشي، وسيأتي استقصاء

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في الأصل: يعم. (3) في الأصل: حتى. (4) (د 1): فهل. (5) (د 1): تهدّ. (6) (د 1): وتكده. وتميده: من ماد الشيء ميداً: اضطرب وتمايل. (المعجم). (7) ما بين القوسين ساقط من (د 1). (8) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى. وقَدْرُ (1) المقصود الآن عقدُ الجُمل. ثم إذا جاء الملتزِم بالمنتفَع به، فلم يكن على الوصف المستحق، أبدله، وإن عابت تلك الدابة، ولم يرض بذلك العيبِ المؤثر في المنفعة - المستأجرُ ردَّها، ولم ينفسخ العقد، فليأخذ (2) بدلها. وكذلك لو تلفت تلك الدابة، وجب إبدالها. 5077 - ولو قال: استأجرت هذه الدابة، كانت الإجارة واردةً على عينها. ولو قال للرجل الذي يخاطبه: استأجرتك بكذا وكذا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الإجارة واردةٌ على عين المخاطب، وقوله: استأجرتك، كقوله: استأجرتُ هذه الدابة. والوجه الثاني -وهو الذي صححه القاضي- أن الإجارة تنعقد على الذمة بهذه العبارة؛ لأن معناها في التحقيق: استحققت عليك خياطةَ هذا الثوب، أو ما عينه من العمل سواه، وهذا يتضمن إلزامَ الذمة، وليس كما لو قال: استأجرت هذه الدابّة؛ لأنه طلب انتفاعاً (3) بعينها، وفي مسألتنا طلب أن يوقع المخاطَب عملاً في عين مالٍ له، إما بنفسه، وإما بغيره. فعلى هذا لو أراد أن يعلّق الإجارة بعين المخاطب، احتاج إلى مزيد تقييد، فيقول: استأجرت عينَك، أو نفسك، أو استأجرتك لتخيط بنفسك. 5078 - ومما يليق بالمعاقد الكلية، أن إعلام المنفعة قد يقع بذكر المدة، كما ذكرناه. وليست المدّةُ في الحقيقة تأجيلاً، (4 ولا تأقيتاً؛ فإن الأجل معناه مَهْلٌ يحِلّ الحق عند انقضائه، وهذا لا يتحقق في مدّة 4) الإجارة، والإجارة ليست مؤقتة في الحقيقة؛ فإن علائق العقد تبقى بعد انقضاء المدة، ويكفي في تحقيق بقائها تصوّر فسخها بعد المدة بالتحالف، والاختلاف في مقدار الأجرة والمدة، فالمدة إذاً تُعلِم

_ (1) عبارة (د 1): وقد رد المقصود الحمل. (ففيها سقط وتصحيف) والله أعلم. (2) عبارة (د 1): فليطالب ببدلها. (3) (د 1): انتفاعها. (4) ما بين القوسين سقط من (د 1).

المنافعَ إعلام الكيل والوزن [المكيلَ] (1) والموزون. فإذا كان يتأتى إعلام المنفعة من غير مدة، كفى، مثل أن يقول: استأجرتك لخياطة هذا القميص، فهذا كافٍ، فلو جمع بين الإعلام بهذه الجهة وبين ذكر المدة، فقال: استأجرتك لتخيط هذا الثوبَ في هذا اليوم، ففي صحة الإجارة وجهان: أحدهما - أنها تصح، وأن مزيد الإعلام لا يضر. والثاني - أنها لا تصح؛ فإن الوفاء بالوجهين يعسر، فقد يتم العمل وفي النهار بقية، وقد ينقضي النهارُ وفي العمل بقية، فلا معنى للجمع بين الجهتين. وإذا صححنا الجمعَ بين الجهتين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن المقصود العملُ، فإذا تم، كفى، ولا يستعمل الأجير في بقية النهار، ولو انقضى النهار، وبقي من العمل وجب استتمامهُ. ومن أصحابنا من قال: يتم المقصود المقابل (2) بالأجرة بإحدى الجهتين، فإن قم العمل، كفى، وإن انقضى النهار والأجير مُكبٌّ على العمل، كفى، واستحق تمامَ الأجرة. فهذه جملٌ رأينا تصدير الكتاب بها. فصل قال: " وقد يختلف الرضاعُ ... إلى آخره " (3). 5079 - أبان الشافعي أن الشرط في صحة الإجارة كونُ العمل معلوماً على الجملة، فإن تطرقت جهالةٌ إلى التفاصيل، لم يضر؛ إذ لو شرطنا العلم بالتفاصيل، لما صحت الإجارة على الإرضاع، وقد دل نصُّ القرآن على صحتها، ثم ما يشربه الصبي من اللبن في كل يوم غيرُ معلوم، وقدرُ ما يحتاج إليه غيرُ معلوم، وهو إلى النموّ والازدياد،

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (د 1): والمقابل. (3) ر. المختصر: 3/ 80.

والأعراض تعرض، والصبيّ للأمراض بالمرصاد، فثبت ما أشار إليه الشافعي من المقصود. 5080 - ثم نجمع ما يتعلق بالاستئجار على الحضانة والإرضاع تأصيلاً وتفصيلاً، فنقول: الاستئجار على الحضانة المجرّدة من غير إرضاع جائز، ويجوز استئجار الحاضنة في الولد الذي ليس مرتَضعاً، ويجوز للأم أن تستأجر حاضنةً لا لبن لها، والأم ترضع. ثم نقول وراء ذلك: إن استأجر مرضعةً على الإرضاع المجرد من غير حضانة، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من جوّزه، ومنهم من لم يجوّز الاستئجار على الإرضاع دون الحضانة. 5081 - توجيه الوجهين: من قال: لا يجوز، استدل بأن [الإرضاع] (1) المجردَ صرفُ اللبن إلى الصبي، وهو عينٌ، [واستحقاق] (2) الأعيان مقصودةً بالإجارة بعيدٌ عن القواعد؛ فإن الإجارةَ تعتمد المنافعَ، كما أن البيع يعتمد العين. وأيضاًً، فإن الإرضاع لا يتأتى دون الاحتضان في رفع الصبيّ ووضعه، وهو مقصودُ الحضانة. ومن قال بالجواز، احتج بظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فذكر الأجْرَ في مقابلة الإرضاع، ثم الفقيه من (3) لا يألف فنّاً من الكلام، ويتبع المعنى، فالمرعي الحاجةُ في هذه الأبواب، وهي ماسة إلى الإرضاع، واللبن وإن كان عيناً، فليس موجوداً في الحال، ولكنه يَدِرُّ شيئاًً شيئاًً، ويضاهي المنافع من هذه الجهة، والمتبع الحاجةُ. وما ذكره القائل الأول من استحالة الأرضاع دون الحضانة، ليس بشيء؛ فإن المرضعة تلقم الصبيَّ الثديَ، وعلى غيرها الرفع والوضع. ومما يتصل بهذا المنتهى أن المرأة لو كانت ذاتَ لبن، فقد اضطرب طرق

_ (1) في الأصل: إرضاع. (2) في الأصل: فاستحقاق. (3) (د 1): ثم الفقيه لا يألف فنّاً.

الأصحاب في ذكر الحضانة دون الإرضاع، وفي ذكر الإرضاع دون الحضانة. ونحن نصف ما ذكره الأصحاب، ثم ننص على المختار. 5082 - فإذا استأجر المرضعةَ للحضانة، ولم يتعرض للإرضاع، فهل يدخل الإرضاع تبعاً؟ ولو ذكر الإرضاعَ، ولم يتعرض للحضانة، فهل تدخل الحضانة تبعاً؟ اضطرب الأئمة: فقال قائلون: في الطرفين وجهان: أحدهما - أن ذكر الحضانة يستتبع الإرضاع، إذا كانت الحاضنةُ مرضعةً، وذكر الإرضاع يستتبع الحضانة. والوجه الثاني - أنه لا يستتبع أحدُ المقصودين الثاني، بل لا يثبت إلا ما ذكر. التوجيه: من قال بالاستتباع، قال: الإرضاع في العرف لا يخلو عن الحضانة -وإن كان يتصوّر تجريده- فَحُمِلَ الأمرُ على المفهوم عرفاً، والحضانة في ذات اللبن لا تطلق إلا والمراد القيام بالإرضاع مع الحضانة، فوجب تنزيل اللفظ في الشقين على موجَب العرف. ومن قال بنفي التبعية، تمسك بظاهر الصيغة. ومعناها الاقتصارُ على المذكور. وذكر القاضي وجهاً ثالثاً - وهو أن الحضانة لا تستتبع الإرضاعَ، والإرضاعُ إذا ذكر، استتبع الحضانة. وهذا فقيهٌ حسنٌ؛ من جهة أن انفراد الإرضاع يتضمّن صرفَ الإجارة إلى استحقاق العين، وإذا ثبتت الحضانةُ، كان اللبن في حكم التبع، كما سنصفه. فالخارج إذاً مما ذكرناه: أن إفراد الحضانة من غير لبنٍ جائزٌ. وكذلك (1) يجوز إفرادُ الحضانة من ذات اللبن، إذا وقع التنصيصُ على ذلك، وقُطعَ العرفُ -كما ذكرناه في التوجيه- وذلك بأن يقول: استأجرتكِ على الحضانة دون الإرضاع. والاستئجار على الإرضاع من غير حضانةٍ فيه خلافٌ قدّمناه، ونبهنا على وجهه. 5083 - وتمام البيان عندي يقف على بيان الحضانة، وبيانُها مقصود في الفصل. قال علماؤنا: الحضانة تنقيةُ بدن الصبي عن الدرن والنجاسات، وغسلُ الخرق،

_ (1) (د 1): ويجوز أيضاً.

وثياب البدن، [عما] (1) يغسل عنه ثياب الصبيان، ورفعه، ووضعُه، وإضجاعه في المهد، وربطه، وتحريكه، على المعتاد في مثله. فهذه جمل أعمال الحاضنة. فإذا (2) قلنا: يجوز (3) إفراد الإرضاع بالاستئجار، لم يشترط جميع هذه الأعمال، بل يكفي ضمُّ الرضيع إلى النحر عند الإرضاع، ووضعُه في الحجر، وما جرى هذا المجرى، [مما] (4) يتعلق بالإرضاع، هذا لا بد منه. فأما ما يزيد على هذا من الغسل، وغيرِه، فلا وجه لاشتراطه. وأما الكلام في إطلاق الحضانة، وأن الرضاع هل يتبعها، وفي إطلاق الإرضاع، وأن الحضانة هل [تتبعه] (5)، فعلى ما قدمناه. وإذا أتبعنا الحضانةَ الإرضاعَ بحكم العرف، أردنا جميعَ أعمال الحضانة. ولو استأجر امرأة للحضانة والإرضاع، وصرح بالجمع، وأراح نفسه من الخلاف، ثبت الأمران. 5084 - ثم اختلف أئمتنا في أن المقصود من العقد أيّهما، فمنهم من قال: المقصود الحضانة، والخدمةُ، واللبن تبعٌ؛ لأن المنافع هي المستحقةُ بالإجارة، واللبن عينٌ، وإذا انعقد على المنفعة، لم يبعد أن يتبعها عينٌ، كما إذا استأجر داراً فيها بئرٌ، فالإجارة على منافع الدار، وماء البئر يختص بالمستأجِر تبعاً، والدليل عليه أن الله تعالى [سمى] (6) ما يبذل لصاحبة اللبن أجرةً، والأجرةُ عِوض المنافع، واللبن يبعد أن يكون مقصوداً، وهو مجهول متفاوت. ومن أئمتنا من قال: المقصود اللبن، والحضانةُ تابعةٌ، فإن إحياء الولد وتربيتَه باللبن، والحضانةُ تعهدٌ، وقيامٌ بالخدمة.

_ (1) في الأصل: "كما". (2) (د 1): وإذا. (3) (د 1): لا يجوز. (4) في الأصل: فيما. (5) في الأصل: تتبعها. وعبارة (د 1): وأن الحضانة تتبعه. (6) في الأصل: ثمى (بالثاء).

وبالجملة إنما يتميز المقصود بحكم العرف. ومن أئمتنا من قال: هما جميعاً مقصودان. ولعله الأصح، والأعدلُ؛ فإنه يجوز الاستئجار على كل واحدٍ منهما، على حياله. وما ذكرناه من منع إفراد الإرضاع عند بعض الأصحاب بعيدٌ، وقد فسرناه بما يخرج معظم أفعال الحاضنة، فبان أن كل واحدٍ منهما يجوز إفراده بالعقد، فإذا جمعا كانا مقصودين. التفريع على الوجوه: 5085 - إن قلنا: المقصود الحضانة، فلو انقطع اللبن، لم تنفسخ الإجارةُ؛ لبقاء مقصودها، ولكن يثبت الخيار، كما لو استأجر طاحونةً، وانقطع الماء المدير، فللمستأجر خيارُ الفسخ. ومن قال: المقصود اللبن؛ فإذا انقطع، وجب الحكم بانفساخ الإجارة. ومن جعل اللبن والحضانة مقصودين، فإذا انقطع اللبن، وجب أن يقال: هو بمثابة ما لو اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، فينفسخ البيع في التالف، وفي الانفساخ في الثاني قولا تفريق الصفقة. هذا بيان الوجوه وفوائدها. 5086 - وقال قائلون: ما ذكرناه من أن الحضانة تتبع الإرضاعَ، والإرضاعُ يتبع الحضانةَ مأخوذٌ من هذا الاختلاف الذي ذكرناه في أن المقصود من الإجارة المشتملة على الحضانة والإرضاع ماذا؟ وهذا غفلةٌ عن مأخذ الكلام؛ فإن الإتباع والاستتباع محالان على حكم العرف، كما قدمناه، بدليل أنه يجوز إفراد الحضانة والتصريحُ بقطع الإرضاع، وكذلك يجوز إفراد الإرضاع والتصريح بقطع الحضانة. فرع: 5087 - ليس للمنكوحة أن تؤاجر نفسها للإرضاع، وإن كان الزوج لا يستحق منها هذه المنفعة، والسبب في المنع أنها لا تقدرعلى تسليم نفسها، وعلى توفية ما يستحق عليها، ولو قدرنا صحة الإجارة؛ إذ لو أرادت إدخال الصبي دار زوجها، لم يكن لها ذلك، وللزوج منعها من الخروج. ولو أجرت نفسها بإذن زوجها للإرضاع، صح ذلك، ثم يجب الوفاء بالعقد. 5088 - ولو أراد الزوج أن يستأجرها لترضع ولده منها، أو من غيرها، فقد ذكر

العراقيون أن الاستئجار فاسد، فإنها على الجملة مستغرقة المنافع بحق الزوج. وقطع المراوزة بصحة الاستئجار، والوجه ما ذكروه؛ فإنّ استئجار الزوج إياها بمثابة إذنه لها في أن تؤاجر نفسها، والإرضاع ليس واجباً عليها، والزوج لا يستحق من منافعها شيئاً إلا منفعة المستمتع. والذي ذكروه (1) مذهبُ أبي حنيفة (2) - رضوان الله عليه، فلستُ أعتد إذاً بما حكَوْه، وإن قطعوا به. فرع: 5089 - إذا استأجر الرجل وراقاً ليكتب له شيئاً معلوماً، فهل يدخل الحِبرُ في مطلق الاستئجار؟ ذكر الشيخ أبو علي طريقين للأصحاب: فمن أصحابنا من قال: في المسألة وجهان، كالوجهين في أن الرضاع هل يتبع الحضانة. وقد ذكرنا وجهين في ذلك، والمتبع في تشبيه الحبر باللبن العرفُ، وجريانُه بأن يهيء الوراق الحبرَ منْ عند نفسه، ويصلحه على ما يُحب [ويؤثر] (3). التفريع (4): 5090 - إن قلنا: الحبر يتبع، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتبع، فلو شُرط، ثبت، وإن كان مجهولاً كالرضاع. هذه طريقة. ومن أصحابنا من قطع بأن الحبر لا يتبع الكتابة، وليس في معنى [اللبن في] (5) الإرضاع، ولو ذكر مع الكتابة على الجهالة، فسد، وإن ذُكر وأُعلم، فهو جمعٌ بين بيع عينٍ وإجارة في صفقة واحدة، وفيه الخلاف المشهور. وهذه الطريقةُ أمتن وأقيس؛ فإن الاستئجار على الرضاع المجرد جائز، ولا يجوز أن يبتاع الإنسان من الحبر ما يكتب به مجلّدةً، أو مجلدتين، والسر في ذلك أن تصحيح الاستئجار على الإرضاع متلقى من الضرورة المرهقة، والحاجة الحاقة.

_ (1) المراد العراقيون. (2) الذي عند الأحناف -فيما رأيناه- أن استئجار الزوجة على إرضاع ولده ليس جائزاً بإطلاقه، بل يجوز إذا كان الولد من غيرها، أما إذا كان منها فلا يجوز، نص عليها السرخسي والكاساني (ر. المبسوط: 5/ 127، 129، البدائع: 4/ 192). (3) في الأصل: ويؤثره. (4) (د 1): التفريع عليه: أنا إن. (5) زيادة من (د 1).

وكان شيخي يقطع بأن استئجار الخياط لا يُلزمه الخيطَ، بخلاف الحبر، والأمر على ما ذكر. والفاصل أن جريان العرف في الورّاق قريبٌ من الاطراد، في أن الورّاق يتكلف الحبرَ، والأمر في الخياط بخلاف ذلك. وإن اضطربت العادة في الخياط والورّاق، في الحبر والخيط، فقد ذكر القاضي وطائفة من الأصحاب أن إطلاق العقد يُبطله، ولا بد من التعرض لما يقع التوافق عليه في الحبر والخيط؛ فإنّ العادات إذا ترددت واللفظ بينها لا تفصيل فيه، فهو ملتحق بالمجملات. وكان شيخي يقطع بأن العادات إذا اختلفت، فالحبر والخيط على المستأجر، وليس على [الآجِر] (1) إلا الكتابة [والخياطة] (2)؛ فإنها المذكورة، فلا مزيد على مقتضى اللفظ، ووضع العقود على اتباع [قضايا] (3) الألفاظ إلا أن يغيّرها العرف، فإذا اضطرب العرف، لم نبالِ به، ورجعنا إلى موجب اللفظ، وكذلك القول في الخياطة. فصل قال: " والإجاراتُ صنفٌ من البيوع ... إلى آخره " (4). 5091 - الإجارات معاوضةٌ محققة مشتملةٌ على التمليك من الجانبين، فالمُكري يملك الأجرة على المستأجر، والمستأجر يملك عليه في مقابلة الأجرة منفعةَ العين، أما الأجرة، فنها بمثابة الأثمان، فإن عُجِّلت، تعجلت، وإن أُجلت، وكانت ديناً، تأجلت. وإن أطلقت، تعجلت، كما لو قيدت بالتعجيل، فهي فيما ذكرناه تنزل منزلة الثمن.

_ (1) في الأصل: الورّاق. وأثبتنا (الآجر) من (د 1)، كي تشمل الخياط، الذي زدناه منها. (2) مزيدة من (د 1). (3) ساقطة من الأصل. (4) ر. المختصر: 3/ 80.

5092 - ولو كانت الأجرة عيناً مشاراً إليها، تعيّنت، ولو كانت الأجرة صُبرةَ دراهم أشير إليها، ولم تكن معلومةَ المقدار، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: يصح ذلك، وتثبت الأجرة جزافاً، تعويلاً على الإشارة، كما يثبت الثمن كذلك. ومن أصحابنا من خرّج جواز ذلك على قولين، كالقولين في رأس المال في السلم، وقد قدمنا قولين في أن رأس مال السلم إذا كان جُزافاً هل يصح السلم، والجامع بين العقدين أن السلم عقدُ غررٍ، وكذلك الإجارة عقدُ غرر؛ فإنّ المنافعَ توجد شيئاًً، فشيئاًً، ولا يستقر الضمان ما لم تنقض المدة في يد المكتري، وقد [يعرض] (1) تلفُ العين المستأجرة، وانفساخُ الإجارة في المدة المستقبلة، ثم تمس الحاجة إلى توزيع الأجرة المسماة على ما مضى وبقي، فإذا لم تكن الأجرة معلومةً، جَرَّ ذلك خبطاً وجهالة يعسر دفعُها. والفقه في العقدين أنهما جُوَّزا على حسب الحاجة، واحتمل فيهما من الغرر ما يليق بقدر الحاجة، [فما] (2) يفرض زائداً على مقدار الحاجة [فسد وأفسد] (3). هذا قولنا في الأجرة. 5093 - فأما المنافع، فمذهب الشافعي أن المستأجر يملكها بالعقد، ومعنى ملكه لها أنه يستحق على مالك الدار توفيةَ المنافع، من عين الدار، وهذا الاستحقاق يضاهي من وجهٍ استحقاقَ الديون؛ من حيث إن المنافع ليست موجودة، ونحن نقضي بالملك حملاً على الاستحقاق، كما نقضي بكون الدين مملوكاً لمستحقه، وإن لم نكن نعني به استحقاقَ عينٍ موجودة في الحالة الراهنة، ولكنّ الدين لا يتعلق بعين، والمنافع تستحق من عينٍ مخصوصة. وقد قررنا ذلك في (الأساليب). 5094 - ثم إذا قبض المستأجر العينَ المستأجرةَ، ثبت حكم الملك، والقبضِ في

_ (1) في الأصل: يفرض. (2) في الأصل: وما. (3) عبارة الأصل: يفسُد ويُفسِد.

منافع [العين] (1) المستأجرة، وآية ذلك أنه لو أصدق امرأةً سكنى دارٍ مدةً معلومة، وسلم الدار إليها؛ فإنه يستحق عليها تسليمَ النفس. ولو فُرض ما ذكرناه نجْمَ الكتابة، فالمكاتب يعتِق. لكن لا ينتقل الضمان إلى المستأجِر؛ فإن العين المستأجرة لو تلفت بعد قبض المستأجر، انفسخت الإجارة في المدة المستقبلة، فالقبض في العين وإن كان يؤثر في تأكيد حق المستأجِر، وتسليطه على الإجارة، فلا يتضمن نقلَ الضمان عن المُكري بالكلّية، ولا تنقطع العلائق بالكلية؛ فإن القبضَ في المنافع لم يحصل محسوساً، وإنما حصل حكماً. ومن الدليل على بقاء العُلقة أنه يجب على المكري السعيُ في إدامة يدِ المستأجر على العين المستأجرة، حتى لو استرمّت الدارُ المكراة ولوْ لم تُعمَّر، لَعسُر استيفاء المنفعة، فيجب على المُكري أن يعمّرها، كما سيأتي ذلك مشروحاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل. 5095 - ثم المذهب الأصح أن المستأجِر لو أراد أن يُكري الدارَ المستأجرةَ قبل قبضه إياها، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، وإنما يتسلط على إجارتها إذا قبضها. وقبضُه يؤثر في تسليطه على الإجارة، ولا يقطع عُلقة الضمان عن المكري؛ لأن العين المستأجرة، لو تلفت بعد القبض، حُكم بانفساخ الإجارة. وأبعد بعض أصحابنا، فجوّز للمستأجر إجارة العين المستأجرة قبل القبض، فإنّ قبض العين إذا كان لا ينقل الضمان على الحقيقة، ولا يقطع عُلقةً من المكري، فلا أثر لهُ في التسليط على الإجارة، فكما تصح الإجارة من المستأجر بعد قبض العين، فكذلك يصح ذلك منه قبل القبض.

_ (1) في الأصل: الدار.

فصل قال: " فإن قبض العبدَ، فاستخدمه، أو المسكن، فسكنه ... إلى آخره " (1). 5096 - قد ذكرنا أن القبض في العين المستأجرة لا ينقل الضمان عن المكري، وإن كان يُبيح التصرفَ للمكتري، فإذا استأجر عبداً وقبضه، فتلف، نُظر: فإن تلف كما (2) قُبض، ولم ينقضِ [من] (3) مدة الإجارة شيء به اعتبار؛ فإن الإجارة تنفسخ، وترتدّ الأجرة. وإن مضى بعضُ المدة في يد المستأجر، ثم تلفت العين، فالإجارة تنفسخ في المدة الباقية المستقبلة. وهل نقضي بانفساخها في المدة الماضية؟ فعلى قولين: أظهرهما وأشهرهما - أنها لا تنفسخ في المدة الماضية؛ فإن المنافع صارت مستوفاة فيما مضى تحت يد المستحِق، ثم فاتت من ضمانه واستحقاقه، فلا ينعطف انفساخ العقد عليه. والقول الثاني - وهو ضعيف مزيف، أن الإجارة تنفسخ فيما مضى. وهذا القول يجري فيه إذا اشترى عبدين، وقبض أحدَهما، وتلف في يده، ثم تلف العبدُ الآخر في يد البائع، فالبيع ينفسخ في العبد الذي تلف في يد البائع. وهو نظير الإجارة في المدة المستقبلة في مسألتنا. وهل نحكم بانفساخ البيع في العبد الذي قبضه المشتري وتلف في يده؟ المذهب أنا لا نحكم بذلك؛ لتلفه تحت يد المستحق. وفيه قولٌ بعيد أنا نحكم بانفساخ العقد فيه. التفريع على القولين في الأجارة: 5097 - فإن حكمنا بأن الإجارة تنفسخ في المدة الماضية بانفساخها في المدة المستقبلة، فترتد الأجرة المسماة بكمالها على المستأجر، ويغرَم [المستأجر] (4)

_ (1) ر. المختصر: 3/ 81. (2) "كما" بمعنى "عندما". (3) ساقطة من الأصل. (4) مزيدة من: (د 1).

للآجر قيمةَ ما تلف في يده، وهو أجرة مثل المنافع في الزمان الماضي. وإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ في المدة الماضية، ولا يقع الانفساخ فيها، فهل يثبت للمستأجر الخيارُ في فسخ الإجارة؟ فعلى قولين: أصحهما - أنه لا يثبت خيارُ الفسخ فيها؛ فإنها لو قبلت الفسخَ إنشاءً بسبب الخيار، لقبلت الانفساخ. والقول الثاني - أنه يثبت خيار الفسخ فيها لتبعّض الأمر وانفساخه، وخيار الفسخ أعم من الانفساخ؛ فإنه يثبت لا محالة، حيث لا يثبت الانفساخ وقوعاً. 5098 - فإذا انتهى التفريع إلى التبعيض، وهو الجواب الصحيح، وأردنا أن نبُقي العقدَ وحُكمَه في الزمان الماضي، ونقضي بانفساخه في الزمان المستقبل، فلا ننظر في ذلك إلى مقدار الزمان، حتى إذا كان مضى نصفُ المدّة، وبقي نصفُها، فلا نحكم بالانفساخ في النصف وبقاء العقد في النصف، ولكن ننظر في أصل التوزيع إلى أجرة المثل، فإن كان مثل ما مضى كأجر مثل ما بقي، نصّفْنَا، وقضينا بانفساخ العقد في النصف، واستقراره في النصف. وإن كانت الأجرة (1) للزمان الماضي أكثرَ، [لوقوع ذلك الزمان في موسم يكثر في مثله الرغبات] (2) في منافع العين، وكان (3) أجر مثل ما بقي أقل، ضبطنا النسبة (4)، ونسبنا ما بقي إلى ما مضى وأجرينا الحكم على حسب ذلك. فإذا كان أجر مثل الماضي ثلثين، وإجر مثل الباقي ثلثاً، قضينا باستقرار العقد في ثلثي المعقود، واستقر بحسب ذلك ملكُ الآجِر في ثلثي الأجرة المسماة، ونحكم بانفساخ الإجارة في الثلث، فيسترد المستأجر ثلثَ الأجرة المسماة. وكذلك الاعتبار لو كان الأمر على العكس في ذلك، وكانت أجرة مثل ما مضى مائة، وأجرة مثل ما بقي مائتين والأجرة المسماة خمسمائة، فيستقر ثلثها، ويرتد ثلثاها إلى المستأجر لمكان الانفساخ في المدة المستقبلة.

_ (1) عبارة (د 1): وإن كانت أجرة المثل في الزمان الماضي .. (2) عبارة الأصل: مثل الزمان في الموسم، فإنه تكثر الرغبات. (3) عبارة (د 1): وكانت أجرة المثل فيما بقي أقل. (4) (د 1): ضبطنا التقسيم.

وتفاوت الأجرة في المدتين كتفاوت القيمة في عبدين يشتريهما، ويقبض أحدَهما، ويتلف في يده، ثم يتلف الثاني في يد البائع، فينفسخ البيعُ في العبد التالف في يد البائع، ويستقر في العبد الذي قبضه المشتري وتلف في يده، والرجوع إلى القيمتين في العبدين قراراً وانفساخاً. ووضوح ذلك يغني عن مزيد الشرح فيه. وهذا كله فيه إذا استأجر عيناً، وقبضها، ثم تلفت في يده تحقيقاً، كالعبد يتلف في يد المستأجر، وهو موْرد العقد. 5099 - فلو استأجر داراً، وقبضها، ثم انهدمت في يده بعد مضي مدة كما سبق تصويرها، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الإجارة تنفسخ بانهدام الدار في المدة المستقبلة، كما تنفسخ بموت العبد المستأجَر. والكلام في انفساخها أو فسخها بالخيار في المدة الماضية على التفصيل الذي تقدم ذكره. وذهب بعض القياسين من الأئمة إلى أن الإجارة لا تنفسخ بالانهدام [في] (1) المستقبل، فإن المنافع لا تزول بالكلية؛ إذ العرصةُ باقية، والانتفاع بها سُكُوناً (2) ممكن على الجملة، وليس كموت العبد المستأجَر؛ فإن موته يزيل وجهَ الانتفاع بالكلية. فإن جرينا على ما ذهب إليه الأصحاب في الانهدام، فالتفريع في التوزيع كما تقدم في تلف العبد. وإن لم نجعل الانهدام بمثابة التلف، فإنا نجعله بمثابة تعيّب المعقود عليه، ولو تعيّب، لثبت للمستأجر حقُّ الخيار. فإن أجاز العقدَ، استقرت الأجرة المسماة بكمالها للمكري، ولم يملك المستأجر استرداد شيء منها، لرضاه بالعيب، ولا يخفى نظير ذلك في المبيع إذا وقع الرضا [بعيبه] (3).

_ (1) ساقط من الأصل. (2) سكوناً: أي سكناً، وهذا الاستعمال واردٌ في كلام الغزالي أيضاً وغيره من الفقهاء، ولم أعثر عليه في المعاجم، ولم أجد أحداً ممن يشتغلون بعلوم اللغة سمع به، بل كانوا جميعاً يستغربونه، ويعجبون منه. (3) في الأصل: بعينه، و (د 1): بدون نقط.

وإن فسخ العقدَ، انفسخ بفسخه في المستقبل، وعاد التفريع على التوزيع الذي قدمناه في المدة الماضية والمستقبلة. والانهدامُ إذا لم يكن تلفاً عند هؤلاء، فهو كالتعيب في المعقود عليه، وليست العَرْصة الباقية مع السقوف التالفة بمثابة عبدين استأجرهما، وتلف أحدهما وبقي الثاني. 5100 - وقد ذكرنا في أحكام البيع أن من اشترى داراً واحترق سقفها في يد البائع، فيكون ذلك كتعيّب المبيع في يد البائع، أم يكون كتلف بعض المبيع، حتى نقول (1): السقف مع بقاء العرصة بمنزلة تلف أحد العبدين المبيعين مع بقاء الثاني؟ فيه اختلاف مشهور، تقدم ذكره في كتاب البيع. وهذا الاختلاف لا يجري في الإجارة. فإن حكمنا بأن انهدام الدار بمثابة تلف العبد المستاجَر، فلا كلام. وإن لم نجعله تلفاً في جميع المعقود عليه، لم (2) نقل: تَلِفَ بعضُ المعقود في الإجارة، وبقي البعضُ. والفرق بيّنٌ بين العقدين: الإجارة والبيع؛ فإن الغرض من البيع المالية، فلا يمتنع أن يكون للسقف جزءٌ معلوم من المالية، ولا يتحقق مثل ذلك في الإجارة. وهذا بينٌ للمتأمل لا خفاء به. 5101 - ومما فرعه الأئمة في ذلك أن قالوا: من استأجر عبداً مدةً معلومة، وقبضه، ثم إن المستأجر أتلفه بنفسه، فالإجارة تنفسخ بفوات العبد بهذه الجهة، كما تنفسخ إذا مات حتف أنفه، أو قتله أجنبي، وليس ذلك كما لو اشترى عبداً وأتلفه؛ فإنا نجعل إتلافه إياه قبضاً منه، كما تقدم تقريره، في كتاب البيع، ولا نجعل إتلافَ المستأجِر للعين بهذه المثابة. والفرق أن إتلاف المشترى يرِد على عين المعقود عليه، فيقع قبضاً لما تقدم ذكره (3) في البيع. وإتلاف المستأجَر (4) لا يرد على المعقود عليه في الإجارة؛ فإن

_ (1) (د 1): ننزل السقف مع العرصة منزلة. (2) (د 1): ثم. (3) (د 1): تقريره. (4) (د 1): المشتري.

المقصود فيها المنافع، والإتلافُ لا يتناولها. نعم يمتنع بسبب إتلاف العبد وجودُ منافعه في المستقبل، فالحكم إذاً ما ذكرناه من الانفساخ، كما لو مات العبد بنفسه، أو قتله أجنبي. 5102 - قال القاضي إذا استأجر داراً، وقبضها، وعابت الدار في يده، فإنا نُثبت له حقَّ الفسخ، كما سنشرح ذلك في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى. فلو أنّ المستأجر عيّب تلك الدارَ بنفسه، والتزم أرش النقص بسبب جنايته، فله حق فسخ الإجارة؛ فإن العيب قد وقع، فلا نظر بعد وقوعه إلى جهة الوقوع؛ بناء على ما مهدناه في التلف؛ فإنه يوجب الانفساخ، سواء وقع أو أوقعه المستأجر قصداً. [فالقول] (1) في وقوع العيب كالقول في وقوع التلف. وهذا الذي ذكره منقاسٌ حسن، لا ينقدح في الفقه غيرُه. ولكن قد يختلج في صدر الفقيه خلافُه؛ من جهة أنه المتسبب إلى إيقاع هذا العيب، وهذا الاحتمال لا يظهر في الإتلاف؛ (2 من جهة أن المنفعة قد فاتت بالإتلاف 2)، ولم يصادفها في عينها إتلاف، والمنفعة في مسألة التعييب لم تفت، وإنما طرأ عليها عيبٌ، والمستأجِر (3) سببه، فلا يبعد ألا يثبت الخيار. 5103 - وقال القاضي مفرعاًعلى ما ذكره: إذا (4) جعلنا طريان الجَبّ على الزوج مثبتأ للمرأة حقَّ الفسخ، على التفصيل الذي سيأتي ذكره في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى، في الفرق بين ما قبل المسيس وبعده، فلو (5) جبَّت المرأةُ بنفسها زوجَها ينبغي أن يثبت لها الخيار في الفسخ، وإن حصل العيب بجنايتها، وفعلها. وهذا الذي ذكره جارٍ على قياسه الفقيه الذي مهده، وفيه الاحتمال الذي ذكرناه،

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ما بين القوسين سقط من (د 1). (3) (د 1): فالمستأجر. (4) سقطت من (د 1). (5) جواب (إذا).

وقد [يعتضد] (1) الاحتمال بشيء، وهو أن المرأة لو أخّرت حق الفسخ مع التمكن منه، فقد نجعل ذلك سبباً في بطلان حقها، فإذا كان يبطل حقها بالتأخير لإشعاره برضاها بالمقام تحت الزوج المجبوب، فإقدامها على الجب لأن (2) يدل على رضاها أولى. هذا وجهٌ، والأوجه الأفقه ما ذكره القاضي. فصل قال: " ولا تنفسخ بموت أحدهما ما كانت الدار قائمة ... إلى آخره " (3). 5104 - مذهب الشافعي أن الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين، إذا بقيت العين المستأجرة، فلا نقضي بانفساخها بموت الآجِر، ولا بموت المستأجر؛ فإن الإجارة معاوضةٌ لازمة، فإذا لزمت، لم يتضمن موتُ أحد المتعاقدين انفساخَها، كالبيع. وأبو حنيفة (4) خالف في ذلك. ولو أجر الحرُّ نفسَه، ثم مات، فالإجارة تنفسخ لفوات المعقود عليه، لا لفوات العاقد. والإجارة فيما ذكرناه تضاهي النكاح في القاعدة، فإذا زوّج السيد أمته من إنسانٍ، ثم مات السيد، وبقيت الأمة المزوّجة وزوجُها، فالنكاح قائم، ولا يؤثر فيه تلفُ السيد المزوَّج، وإذا مات أحد الزوجين، فموته يضاهي موت المعقود عليه في الإجارة، ولكن لا ينفسخ النكاح بموت أحد الزوجين، بل ينتهي نهايته؛ فإن النكاح معقودٌ للعمر، فإذا تصرّم، كان منقضَى العمر منتهى النكاح.

_ (1) في الأصل: يقتضيه. (2) (د 1): لا يدل. (3) ر. المختصر: 3/ 81. وفي الأصل: باقية، وفي (د 1): مادامت باقية. والمثبت نص المختصر. (4) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 52.

وإذا فاتت العين المستأجرةُ في أثناء المدة، فات بفواتها المنفعة المستحقة في بقية المدة؛ فإن الإجارة عقدت للمنفعة التي تحتويها المدة. ثم ذكر الأئمة أحكاماً في طريان الملك على الإجارة، ونحن بعون الله تعالى نأتي بها موضّحة مشروحة إن شاء الله عز وجل. 5105 - فنقول أولاً: من نكح أَمَةً، ثم ملكها بإرثٍ، أو اكتسابٍ، فينفسخ النكاح بطريان الملك على رقبة الزوجة، بلا خلاف. ومن اكترى داراً اكتراءً صحيحاً، ثم ملك في أثناء المدة رقبةَ الدار بإرثٍ، أو اكتسابٍ، فهل نقضي بانفساخ الإجارة في بقية المدة، فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنا نحكم بالانفساخ قياساً على النكاح؛ إذ لا خلاف أن طريان الملك على الزوجة يتضمن انفساخَ الزوجيّة، والجامع أن ملك اليمين يُثبت استحقاق منفعة البضع، والنكاحُ يتضمن ذلك، فيستحيل (1) أن يستحق منفعةَ البضع بجهتين. وملكُ الرقبة لا سبيل إلى درائه (2) ودفْعه، فاقتضى ذلك انقطاعَ النكاح. فكذلك ملك الرقبة يتضمن ملك المنفعة، والإجارة تقتضي ملكَ المنفعة، فلا يسوغ اجتماعُ موجبي الاستحقاق في شيء واحدٍ. 5106 - ومن أصحابنا من قال: لا تنفسخ الإجارة بطريان الملك على الرقبة، بل تبقى على مقتضاها، كما سنبين حكمَ بقائها بالتفريع، إن شاء الله تعالى. ولو أكرى الإنسانُ داره، ثم إن المالكَ المكري اكترى تلك الدارَ من المكتري، ففي صحة ذلك وجهان [مأخوذان] (3) مما تقدم ذكرُه. فإن جعلنا ملك الرقبة والاستئجارَ نقيضين، لم تصح الإجارة، وإن حكمنا بأنهما لا يتناقضان، وإذا طرأ الملك على الرقبة، بقيت الإجارةُ، فنحكم بأنه يصح من المالك أن يُكريَ ملكه، ثم يكتريه من المكري.

_ (1) في (د 1): ويستحيل. (2) درائه: أي درئه، ويستخدم الإمام دائماً، بل غالباً هذا الوزن (دراء) مكان الدّرء. (3) ساقطة من الأصل.

5107 - فإذا ثبت ما ذكرناه، فنقول في التفريع: من اكترى داراً سنةً، ثم ملكها في أثناء السنة، فإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ في بقية المدة، فلا يسترد [المكتري] (1) شيئاًً من الأجرة؛ فإن الإجارة قائمة، ولو انقطع الملك الطارىء في رقبة الدار بسببٍ مثل أن يشتري المستأجر الدارَ، ثم يطلع على عيبٍ قديمٍ يُثبت مثلُه حقَّ الفسخ في البيع، ولا يُثبت حق الفسخ في الإجارة، فإذا فُسخ البيعُ بالعيب، فالإجارة باقية كما كانت، فيتمسك بالدار بحق الإجارة إلى انقضاء المدة. وإن حكمنا بانفساخ الإجارة بسبب طريان الملك على الرقبة، فإذا رد المبيعَ بالعيب، فالإجارة لا تعود بعد انفساخها. وهذا بيّن لا شك فيه. 5108 - ثم إن ابنَ الحداد فرّع على هذا الأصل، واختار أن طريان الملك على الرقبة يوجب انفساخ الإجارة، وقال (2) بعد هذا الاختيار: إن حصل الملك في الرقبة قهراً بالإرث، وحكمنا بانفساخ الإجارة، فالمستأجر يرجع بقسطٍ من الأجرة في مقابلة المدة المستقبلة، ولو حصل له الملك باختياره، فاشترى الدار المستأجرة، فالإجارة تنفسخ، كما ذكرناه في اختيار ابن الحداد. ثم قال: لا يسترد من الأجرة شيئاًً، واعتلّ بأن الانفساخ ترتب على اختياره لمَّا تملّك الرقبةَ قصداً، وإذا كان حصول ذلك مترتباً على الاختيار كما ذكرناه، فهو المتسبب إلى رفع الإجارة في المستقبل، من غير سببٍ خاص يُثبت حقَّ رفع الإجارة، كالرد بالعيب المؤثر في مقصود الإجارة، فلا يثبت له حق استرجاع الأجرة في المستقبل (3). 5109 - وهذا الذي ذكره ضعيف، خارج عن قياس الفقه خروجاً ظاهراً؛ فإن الإجارة إذا انفسخت، فلا أثر للقصد، وعدم القصد في سبب ارتفاع الإجارة. [وسنذكر هذا الفرع لابن الحداد مستقصىً في آخر المزارعة من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى] (4).

_ (1) في الأصل: المكري. (2) (د 1): وقال ابن الحداد. (3) سيأتي مزيد شرح، وتفصيل لفروع ابن الحداد في آخر كتاب الإجارة. (4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

وليت شعري ماذا يقول ابن الحداد فيه إذا هدم المستأجر الدار المستأجرة، أو قتل العبدَ المستأجر، فهو المتسبب إلى انفساخ الإجارة قصداً، فقياس ابن الحداد أنه لا يسترد من الأجرة شيئاًً في مقابلة المدة المستقبلة. وهذا إن قال به في نهاية البعد. 5110 - ثم فرق ابن الحداد بين طريان الملك القهري، وبين طريان الملك على سبيل الاختيار، فحكم بأن الملك إذا كان قهرياً، وترتَّب عليه انفساخ الإجارة، فيثبت (1) حق استرداد الأجرة في المستقبل، بخلاف ما لو حصل الملك باختياره، واستشهد الأصحاب لما ذكره من الفصل بين القهر والاختيار بأصلٍ يناظر ما نحن فيه من النكاح، وهو أن من نكح أمةً، ثم ورثها قبل المسيس، وانفسخ النكاح، فلا يثبت من مهرها شيء، ولو اشترى زوجته قبل المسيس تشطّر المهرُ، كما لو طلّق قبل المسيس، فرقاً بين أن يختار سبب الفسخ، وبين أن يقع من غير اختياره. وهذا التفريع من ابن الحداد والفرق (2) بين الملك القهري، وبين الملك الاختياري ساقط لا أصل له، ويلزمه بحسبه أن يقول: لو أتلف المستأجر [العين المستأجرة، لم يسترد من الأجرة شيئاًً، لمكان اختياره؛ بخلاف ما لو تلفت] (3) العين بنفسها، فإن (4) ارتكب ذلك طرداً لقياس مذهبه، رجع الكلام معه إلى إفساد أصل مذهبه، وإن سلم ذلك، لم يجد فصلاً. هذا تمام البيان في طريان ملك الرقبة على مدة الإجارة. 5111 - ومما يتصل بما نحن فيه أن المالك إذا أجر الدار، ثم أراد بيعها، ففي بيع الدار المكراة قولان مشهوران، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، ولكنا نشير إليهما لغرضٍ لنا ناجزٍ في الفصل. فإن قلنا: لا يصح البيع، فلا كلام.

_ (1) (د 1): يثبت. (2) (د 1): في الفرق. (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (4) (د 1): وإن.

وإن قضينا بصحة البيع، فالإجارة لا تنفسخ، ويجب الوفاء بها إلى انقضاء مُدتها، فإن أقدم المشتري على الشراء عالماً بأنها مستأجرة، فلا خيار له، وإن اطلع على ذلك بعد الشراء، فله خيار الفسخ. ولو باع مالك الدار الدارَ من المستأجر، صح بلا خلاف، سواء قلنا: إن طريان الملك على الرقبة يوجب انفساخ الإجارة، أو قلنا: تبقى الإجارة. فأما إن حكمنا بانفساخ الإجارة، فقد زال المانع (1). وإن حكمنا ببقائها، فسبب القطع بصحة البيع أن الحق لا يعدوهما، وإن كنا نمنع بيع المكري لمكان يد المكتري وتعذّر إزالة يده؛ فاليد فيما نحن فيه للمشتري، فإنه المكتري. 5112 - فإذا وضح الحكم بصحة البيع من المكتري، فنقول بعد ذلك: إذا صححنا البيع في صورة القولين، والمكتري غير المشتري، فلو فسخ المكتري الإجارة بسببٍ، فالدار تسلم إلى المشتري أم للبائع الاستمساكُ بمنافع الدار إلى انقضاء مدة الإجارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الدار تسلم إلى المشتري؛ فإن الحق في المنافع [كان] (2) للمكتري، وقد انقطع حقُّه، فصار كما لو اشترى داراً خليَّةً عن الإجارة. والثاني - أن حق المنافع إلى تمام مدة الإجارة للبائع؛ فإن البيع ورَدَ والمنافعُ مستثناةٌ عن استحقاق المشتري، والردّ من المكتري على البائع، لا على المشتري، فيخلف البائعُ المكتري باستحقاق المنفعة. 5113 - وهذا الخلاف ينبني على مسألةٍ، وهي أن الرجل إذا باع داراً واستثنى سكناها سنةً، ففي صحة البيع على هذا الوجه وجهان: أحدهما - أنه يفسد؛ فإنه يخالف موضوعَ البيع؛ إذ مقتضاه أن يملك المشتري المنافعَ بملك الرقبة. والثاني - أنه يصح وتبقى المنافع المستثناة للبائع. قال الأئمة: اختلاف القول في صحة بيع الدار المكراة يؤخذ من هذا. فإن قلنا:

_ (1) المانع: تفويت المنفعة على المستأجر. (2) في الأصل: كانت.

لا يمتنع استثناء منافع الدار، فلا يمتنع بيع الدار المكراة، وإن قلنا: يمتنع استثناؤها، فيمتنع بيع الدار المكراة. وهذا الذي ذكره يقارب من طريق اللفظ، ولولا خبرٌ ورد في استثناء منافع المبيع، لما كان للاختلاف في استثناء المنافع وجه. ولكن ورد خبرٌ (1) في جواز استثناء المنافع مدة يقع التوافق عليها، ومقتضى العقد في وضعه يخالف ذلك. 5114 - ولا نعرف خلافاًً أنه لو باع أشجاراً، لم تثمر بعدُ، واستثنى ثمار تلك السنة، أو ثمار سنين، فلا يصح الاستثناء، وملك الرقبة يقتضي للمشتري استحقاقَ المنافع، كما يقتضي له استحقاق الزوائد والفوائد، فالحكم بفساد الاستثناء لا ينافي إجراء القولين في صحة بيع العين المكراة؛ فإن استحقاق المنافع بالإجارة تقدم على جريان البيع، ولم يُبعد تنزيلَ البيع على الرقبة، وإن كان لا يتأتى تسليم الدار على الفور إلى المشتري، كما لو باع الرجل داراً مشحونةً [بالأمتعة] (2)، وكان لا يتأتى منه تفريغُها على الفور، ولو أقدم على التفريغ باذلاً جهده، لم يتأت إلا في مدة، فالبيع يصح؛ فإذاً القولان في بيع المكري لا يستدّ (3) أحدهما من مسألة الاستثناء لما نبهنا عليه. فصل 5115 - الإجارة عندنا لا تفسخ بالمعاذير، إذا لم يثبت في العين المستأجرة ما يقتضي الفسخَ، خلافاًً لأبي حنيفة (4)، فإنه قال: تفسخ الإجارة بالمعاذير، فلو اكترى رجل حانوتاً ليحترف عليه، ثم بدا له الانتقالُ إلى سوقٍ آخر، فيفسخ به العقدَ، وكذلك إذا اكترى دابة للمسافرة، ثم انتقض عزمُه، فله الفسخ في تفصيلٍ لهم. ونحن لا نرى الفسخَ بشيء من ذلك، وقد ألزمونا في أثناء الكلام مسألة مذهبية، لا بد من شرح القول فيها.

_ (1) يشير إلى الخبر الذي جاء فيه أن جابراً رضي الله عنه باع في بعض الأسفار بعيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يكون له ظهره إلى المدينة. (2) ساقطة من الأصل. (3) يستدّ: أي يستقيم. والمعنى: لا يؤخذ أحدهما من مسألة الاستثناء. (4) ر. مختصر الطحاوي: 130، حاشية ابن عابدين: 5/ 50.

5116 - فنقول: من استأجر من يقلع له سناً، نُظر، فإن لم يكن به وجع، فالإجارة فاسدة؛ لأن السن الذي لا وجع به يحرُم قلعه، كما يحرم قطعُ عضو من غير علّة، ولا ضرورة مرهقة. وإن كان السن وجِعاً وقال أهل الخبرة: قلعُه لا يُريح ولا يقطع الألم، فلا يجوز الاستئجار، والحالة هذه. ولو قيل: قلعُ السن يريح من الألم، فيسوغ القلع. وهذا فيه إذا عظم الوجعُ، وصعب احتمالُه. وقد يؤدي إلى السهر، ثم السهر عظيمٌ يجر أمراضاً صعبة. فأما الوجع القريب، فلا يجوز قلع السن لأجله. ومن هذا القبيل قطعُ اليد المتآكلة إذا قال أهل الصنعة: إن الأكَلَة تترامى وتتقاذف لو لم تقطع اليد، ثم إنما ينفع القطع إذا أخذ القاطع شيئاًً من الصحيح، وإن قلّ. وكان شيخي أبو محمد يحكي في هذا اختلافاً، من جهة وضع الحديدة على المحل الصحيح، والقطع في نفسه مهلك، ولعله أرجى من الأكلة. وأما السن الوجِع، (1 فليس في قلعه قطعُ ما لا وجع به، فإن جوّزنا قطع اليد المتآكلة، كما يجوز قلعُ السن الوجع 1) فقد قال الأئمة: يحق بذل مالٍ لمن يقلع السن. 5117 - واختلفوا في أن سبيله سبيل الجِعالة (2)، أم سبيله سبيل الإجارة؟ فمنهم من قال: هو جعالة، فإن الوجع قد يسكن في أثناء الأمر، وإذا سكن، لم يجز القلع، وليس فتور الوجع أمراً بدعاً غريباً، فجواز العمل ليس موثوقاً به، والإجارة إنما تصح في عمل موثوقٍ به، أما الجعالة مبناها (3) على الغرر، [وترقُّب] (4) ما يكون. ومنهم من قال: لا يمتنع الاستئجار عليه؛ فإن القلع في نفسه فعلٌ معلوم، وإمكانهُ ظاهر، وفتور الوجع في الزمان الذي يتأتى فيه القلع بعيد، ولا يشترط في

_ (1) ما بين القوسين سقط من (د 1). (2) الجعالة: بالكسر، وفيها التثليث. (3) مبناها: جواب أما بدون الفاء، كما نبهنا على ذلك مراراً. (4) في الأصل: فيرقب.

صحة الإجارة القطعُ بسلامة العقد عمّا يُنافيه، ويطرأ عليه؛ فإن الإجارة الصحيحة متعرضة لتقدير الطوارىء. 5118 - وأما قطع اليد المتآكلة إن جوزناه، فيظهر جواز الاستئجار فيه، وذلك أن الذي اعتمدناه في منع الاستئجار على قلع السن إمكان فتور الوجع، ولا إمكان في اليد المتآكلة؛ فإنا على تحقيقٍ نعلم أن الأكلة لا تزول في الزمان الذي يُفرض فيه عقد الإجارة على القطع، وليس لقائلٍ أن يقول: القطع في نفسه مما لا ينضبط؛ فإنه مضبوط، ولو لم يكن منضبطاً، لما جاز. فإذا جوزناً القطعَ، وجب أن يجوز الاستئجار عليه. 5119 - فإن قيل: معتمد من منع الاستئجار على قلع السن أن الوجع قد يفتر، ويمتنع القلع، فقولوا على حسب ذلك: من استأجر امرأة على كنس المسجد، وهي مُشفيةٌ (1) على دَوْر حيضها، لا يجوز استئجارها، لظهور الاحتمال في طريان الحيض، والسؤال مفروض في الاستئجار على الكنس في زمان معين. قال القاضي: لا نص في هذه المسألة. ولو قلنا: لا يصح الاستئجار إذا صور المصور مسألته على التضييق الذي وصفناه، لم يمتنع، ولا يمتنع الفرق أيضاًًً؛ فن الكنس على الجملة أمر جائز، وإنما الكلام فيمن يتولاه، ولا ثقة بأدوار النسوة (2)، فيحمل الأمر على الظاهر. فإن قيل: هلا قلتم: إن من استأجر امرأةً حائضاً على كنس مسجدٍ، ففعلت، فقد عصت، ولكنها وفت العمل المستحق عليها بالإجارة؟ قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ فإن كنس الحائض في زمان الحيض حرام في نفسه، والاستئجار على الحرام باطل. 5120 - وقد يتصل بهذا الفصل إشكالٌ نبيّنه من بعدُ، إن شاء الله تعالى. وهو أن من استأجر شخصاً لكنس دارٍ معينة، ثم أراد أن يستعمل ذلك الأجير في

_ (1) مشفية: من أشفى على الشيء أشرف عليه وقاربه. (مصباح). (2) (د 1): النسوية.

كنس دارٍ أخرى تساويها، فكيف السبيل [فيه] (1)؟ إن جوّزنا ذلك، فالتعيين إذاً لا حكم له، ومعقود الإجارة كنسُ بقعةٍ تساوي البقعةَ المذكورة في قدرها، ويلزم من مساق ذلك تصحيحُ الاستئجار على كنس المسجد، ثم تنزيل المعقود عليه على ما ذكرناه. وهذا مع ما يتصل به سنذكره من بعدُ، إن شاء الله عز وجل. فصل 5121 - الإجارة إذا أضيفت إلى مستأجَرٍ معين، فيجب اتصال الاستحقاق بالعقد، فلو وقعت الإضافة إلى زمانٍ منتظرٍ، لا يعقب انعقادَ العقد، والمستأجَر عينٌ، فإجارةٌ فاسدةٌ عندنا. وذلك إذا قال في رجب: أجرتك داري هذه شهراً مبتدؤه غرةُ شعبان، والمسألة خلافية مع أبي حنيفة (2) وإضافة العقد في المعيّن إلى زمانٍ سيأتي تتنزل (3) منزلة تعليق العقد عندنا على مجيء الوقت المذكور، فلا فرق بين أن يقول: أجرتك داري هذه الشهرَ الآتي، وبين أن يقول: إذا جاء [رأس] (4) الشهر، فقد أجرتك. 5122 - واختلف أئمتنا فيه إذا أجر شيئاًً من شخصٍ، واستعقبت الإجارةُ الاستحقاقَ، ثم قال معه: إذا انقضت هذه المدة، فقد أجرتك هذه البقعةَ سنةً أخرى. فمنهم من قال: لا يصح ذلك. وهو القياس؛ لأنه تعليق العقد، والإجارة الثانية متميزة عن الأولى، وهي [مستأخرة] (5) كما ذكرناه، فلتبطل هذه الإجارة، كما لو لم تتقدّم الإجارةُ الأولى. ومن أصحابنا من قال: تصح (6) الإجارةُ الثانية المترتبةُ على الأولى، إذا (7) اتحد

_ (1) مزيدة من (د 1). (2) ر. مختصر الطحاوي: 131، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 128 مسالة: 1824. (3) عبارة (د 1): تنزل عندنا منزلة تعليق العقد على. (4) سقطت من الأصل. (5) في النسختين: مستأجرة بالمعجمة من أسفلها. والمثبت اختيار منا، لعله الصواب. (6) (د 1): لا تصح. (وهو سبق قلم). (7) (د 1): واتحد.

القائل؛ وذلك أن المنافع في حقه متواصلة الاستحقاق، لا تقطّع فيها، فلا فرق بين أن تفرض في عقدٍ واحدٍ أوْ عقود، وإذا أجر الرجلُ داراً سنة، فالشهر الأخير من السنة مستأخِر عن العقد، وكذلك كل جزء يتأخر عن الجزء المقترن بالعقد. وهذا [لا] (1) أصل له. والصحيح الحكم بفساد الإجارة الثانية؛ نظراً إلى هذه الإجارة في نفسها، وما ذكرناه بجملته فيه إذا كانت الإجارة واردةً على العين. 5123 - فأما إذا كانت واردة على الذمة، فلا يمتنع ثبوت الأجل فيه، وذلك بأن يقول: ألزمتُ ذمتك خياطةَ هذا الثوب غُرةَ شعبان، فالتأجيل غيرُ ممتنعٍ؛ فإن العمل المستحق دينٌ، والدين يتأجل ويحل. 5124 - ويتعلق بالقاعدة التي نحن فيها تفصيل القول في كراء العُقَب (2)، فله التفات على [تأخر] (3) الاستحقاق عن العقد، ونحن نستوعب ما فيه من الصور، ثم نذكر في كل صورةٍ ما يليق بها، إن شاء الله تعالى. فمن الصور أن يضيف المستأجر الإجارةَ إلى دابةٍ معيّنة، ويقول: أركب هذه نصف الطريق وأسلّمها إليك نصفَها، فالذي سبق إليه المزني أوّلاً في هذه الصورة، وتابعه معظمُ الأصحاب عليه أن الإجارة فاسدة، في هذه الصورة؛ فإن مضمونها أن يركب على الاتصال مثلاً، ثم ينقطع استحقاق ركوبه، ثم يعود الاستحقاق بعد تخلّل قاطعٍ، والإجارة تبطل على هذا الوجه؛ فإن الاستحقاق الثاني غيرُ متصل بالأول، فيقع في حكم تأخر الاستحقاق عن العقد، واستئجار دابةٍ الزمانَ الآتي. ومن أصحابنا من قال: الإجارة صحيحةٌ، ومعناها استئجار نصف الدابة على الشيوع، ومذهبنا أن الشيوع لا يمنع صحةَ الإجارة، كما لا يمنع صحة الرهن والهبة والبيع، فمقتضى (4) الإجارةِ استحقاقُ نصف منفعة الدابة، ثم حكم المهأياة بين

_ (1) سقطت من الأصل. (2) العُقب: جمع عقبة: وزان غرفة وغرف: وهي هنا النوبة، حينما يتعاقب الراكبون دابة الركوب (مصباح ومعجم). (3) في الأصل: أخر. (4) (د 1): ومقتضى.

المستأجِر والمالك توجب التقطّعَ لا محالة، فرجع التقطّع إلى قسمة المنافع بالمهايأة، والعقد في أصله يضمن استحقاقَ نصف المنافع على الاتصال والاستعقاب (1). وهذا منقدحٌ في القياس بالغٌ. ونص الشافعي يدل على تصحيح كراء العُقب. هذا ما ذكره الأئمة في هذه الصورة، وعلينا فيها فضلُ نظر. 5125 - فنقول: هذه الصورة تنقسم قسمين: أحدهما - أن تعقد الإجارة على صيغة التقطيع، وتدرج هذه القضية في موجب العقد، مثل أن يقول: أركب هذه الدابة نصف المنزل، وأتركها إليك في الباقي، هذه صورة. والأخرى - ألا يقع التعرض لذلك، بل يستأجر الرجل النصفَ من دابة. فإن جرت صيغة التقطيع في صلب العقد، فميلُ الجمهور إلى الفساد، لما ذكرناه من التقطيع في الاستحقاق، وهؤلاء لا يرَوْن الإجارةَ واردة على [كل] (2) الدابة مع التقطيع الذي ذكرناه. ومن أصحابنا من لم يجعل التقطيعَ محمولاً على حقيقته، وجعله عبارة عن الشيوع في الإجارة، ثم اعتقد أن الشيوع لا يمنع صحة الإجارة. 5126 - ولو لم يقع في العقد تعرض للتقطيع، ولكنه استأجر نصف دابة معيّنة، فالذي ذهب إليه الجمهور صحةُ الإجارة، ثم المهايأة موقوفة في أصلها وتفصيلها على ما يقع التراضي به. وغلا بعض أصحابنا، فلم يصحح الإجارةَ في العين المعينة إذا وقع التعرض إما باللفظ، وإما بقرينة الحال للركوب، فإن ذلك لا يتأتى إلا بالتقطيع، فيعود الكلام إلى التصريح بالتقطيع. وهذا القائل يقول: الشيوع لا يمنع صحةَ الإجارة ما لم يُردّ إلى ما ذكرناه من تقطيع الاستيفاء، فإذا علمنا أن الاستيفاء لا يتصور إلا مقطَّعاً، حكمنا بالفساد.

_ (1) والاستعقاب: ساقطة من (د 1). (2) مزيدة من (د 1).

5127 - وهذا وإن كان يتأتى توجيهه بعيدٌ عن مذهب الشافعي مخالف لنصه. فإن قيل: فمتى يجوّز هذا القائل استئجارَ الجزء الشائع؟ قلنا: إنما نجوّزه إذا كان لا يحتاج إلى التقطيع في توفية المنافع، كالذي يستأجر جزءاً من دارٍ، ويتأتى منه مساكنة غيره من غير فرض مهايأة. وهذا خبطٌ وتخليط. والصحيح (1) التصحيحُ، إذا لم يجْر لفظُ التقطيع في العقد، فهذا بيان صورة واحدةٍ، قسمناها، وفصلنا (2) ما قيل فيها. 5128 - فأما إذا استأجر رجلان دابة معينة على أن يتعاقبا، ويتناوبا في الركوب، فهذا ينقسم أيضاًًً: فإن لم يتعرضا للتناوب وذكر التعاقب، ولكنهما استأجرا دابة معينة عن مالكها، فلا يجوز أن يفرض في ذلك اختلاف. والوجهُ القطع بصحة الإجارة. ثم إنهما إن أرادا المهايأة أجرياها على حسب التوافق، وأصل العقد وارد على استعقاب العقد الاستحقاقَ. وشَبّبَ بعضُ الضَّعَفةِ من الأصحاب بفساد الإجارة؛ لأنهما يستحقان المنافع، واستيفاؤها على هيئة التقطّع لو صحت الإجارة، والتقطّع يُفضي إلى استئخار الاستحقاق، وهو مفسد عند الشافعي. وكأن هذا القائل لا يصحح الإجارةَ على نعت الشيوع، إلا حيث يُتصور الوصول إلى الانتفاع على الاشتراك، من غير تقطيع، وهذا كالرجلين يستأجران بعيراً على أن يحمّلاه محمَلاً ويركبانه جميعاً، فهذا مسوغٌّ لا دافع له، فأما إذا كان لا يتأتى اجتماعهما للركوب (3) والانتفاع، وكان سبيل الانتفاع التعاقب، فالإجارة فاسدة؛ فإن العقد إنما يصح إذا كان يصح استيفاء المعقود فيه (4) على وجه يطابق الشريعة. هذا إذا استأجرا على الشيوع، ولم يتعرضا في العقد لصيغة التقطيع.

_ (1) عبارة (د 1): والصحيح إذا لم يجر لفظ التقطيع في العقد - أنه يصح. (2) (د 1): وفصلناها من قيل فيها. (3) (د 1): في الركوب. (4) (د 1): عليه.

5129 - فأما إذا تعرضا للتقطيع، فقالا: يركب زيد هذا شطر المرحلة، ثم يركب عمرو هذا، فإذا جرى العقد كذلك، فمن قطع بصحة الإجارة الواردة على الإشاعة من غير تقطيعٍ في اللفظ والصيغة، يجعل في هذا العقد وجهين، لما فيها من التصريح بالاستئخار، حتى كأن مضمونَها أن كل واحدٍ استأجر جملةَ الدابة في بعض المرحلة. هذا منتهى البيان في ذلك. 5130 - ثم نصَّ الشافعيُّ على صحة استئجار الرجلين الدابة على أن يركباها تعاقباً وتناوباً، ولفظه رضي الله عنه صالح لأن يُحمل على الاستئجار المطلق من غير تعرضِ لذكر التقطيع في صيغة العقد، وهو صالحٌ أيضاًً لذكر التقطيع في صيغة العقد. ثم من تفريعه رضي الله عنه أنهما إذا كانا يتناوبان على الدابة، فينبغي أن يرعيا الإنصاف، والانتصاف، ومن مقتضى هذا ألاّ تطولَ مدةُ ركوب كل واحدٍ، فإن أحدهما إذا ركب فراسخ وصاحبه (1) يمشي فإذا أراد الركوبَ، وقد لحقه العِيُّ (2) والكلال، فيثقل بدنه على الدابة إذا ركب، وهذا مما يظهر أثره، وإذا كانا يتناوبان على أزمنة متقاربة بحيث لا ينتهي واحدٌ منهما إلى الكلال، فلا يؤدي إلى الإضرار بالدابة. وهذا حسنٌ، لا بد من مراعاته، إلا أن يكون الذي يُطيل المشيَ لا ينتهي إلى العِيّ الذي يُفضي إلى ثقل البدن، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، واعتبارُه هيّن، إذا فهم المقصود.

_ (1) (د 1): فصاحبه إذا أراد الركوب .. (2) (د 1): العياء. والعي والعياء بمعنى العجز، وإن غلب على الأول الاستعمال في وصف المرض الذي يعجز عنه الطبيب. وعلى الثاني الاستعمال في وصف من عجز عن البيان، ولم يهتد إلى الرأي، والمعنى المراد هنا كما هو واضح من السياق: العجزُ عن المشي، لا عن البيان (المعجم والمصباح).

فصل قال: " وإن تكارى دابة من مكة إلى [بطن] (1) مَرّ، فتعدى بها إلى عُسفان ... إلى آخره " (2). 5131 - صورة المسألة أن يكتري دابة ليركبها إلى موضعٍ معلوم، فإذا انتهى إلى ذلك الموضع، وتعدّاه راكباً للدابة، وذلك بأن يكتريها للذهاب إلى ذلك الموضع فحسب، من غير رجوع من ذلك الموضع إلى مكان الإجارة، فإذا كان كذلك، فكما (3) انتهت الدابة إلى المنتهى المذكور، فقد انتهت الإجارة، ولا يجوز للمستأجر أن يركبها بعد ذلك، وعليه أن يسلمها للمالك إن كان معه المالك، أو إلى نائبه. فإن لم يكونا حاضرين في ذلك المكان، سلّم الدابة إلى حاكم البقعة، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك، فحكمه حكم المودَع إذا كان يضطر إلى مفارقة البلدة والانجلاء منها، وكان لا يجد من يودع الوديعةَ عنده، ولم يجد أيضاًًً حاكماً يراجعه، فلا وجه إلا أن يسافر بالوديعة، كذلك القول في المسافرة بالدابة بعد انتهاء الإجارة نهايتها، فيسوقها أو يقودها راجعاً، ولا ينتفع بها. 5132 - فلو جاوز المكانَ المعلومَ، وتعدّاه راكباً منتفعاًَ بالدابة، فقد تعدى إذا فعل ذلك، وصار غاصباً للدابة، ودخلت في ضمانه فيغرَم أجر المثل بعد انتهاء الإجارة. فإن تلفت الدابة في يده، ضمنها بأكثر قيمتها من يوم التعدي إلى يوم التلف، وكذلك يغرم أجر المثل لمدة العدوان، فلو رد الدابة إلى المكان المعلوم المعيّن في الإجارة، لم يخرج عن الضمان. وهذا جارٍ على قياسنا؛ فإنا نقول: المودَع إذا تعدى في الوديعة، ثم كف عن

_ (1) في النسختين (إلى مرّ) والزيادة من مختصر المزني. وبطن مَرّ: بفتح الميم وتشديد الراء: من نواحي مكة، عنده يجتمع وادي النخلتين، فيصيران وادياً واحداً. (ياقوت الحموي). (2) ر. المختصر: 3/ 83. (3) "فكما": بمعنى (فعندما).

عدوانه، لم يعد (1) أميناً، وبقي ضامناً. وأبو حنيفة (2) خالف في ذلك، وحكم بأن المودَع إذا ترك عدوانه، عاد إلى حكم الائتمان، ثم إنه مع المخالفة في هذا الأصل، وافق في أن المستأجر إذا جاوز بالدابة المنتهى المعلوم، وصار متعدّياً ضامناً، فإذا ردّها إلى ذلك المنتهى، لم ينقطع أثر العدوان، وتكلّف فرقاً لسنا له (3) الآن. 5133 - ومما يتعلق بأصول هذا الفصل أن من اكترى دابة ليركبها إلى موضعٍ عيّنه، فلا يتعين الخروج في ذلك الصوب، فلو ركبها في صوب آخر، واستوت المسافتان، وتماثل المسلكان في السهولة والوعورة، فلا معترض، ولا بأس؛ فإن المنفعة هي المستحقة، والدابة متعيّنة، ولا يتعين جهة استيفاء المنفعة مع رعاية الاقتصار، فليس الصوب المعيّن معقوداً عليه، حتى يتخيل تعيّنه، ولهذا الأصل جوّز الشافعي أن ينيب المستأجرُ غيرَه مناب نفسه في الركوب إذا كان مثلَه، وجوّز أن [يُكري] (4) مستأجرُ الدابةِ الدّابةَ من غيره، على شرط استواء المستأجر الأول والثاني. ولو استأجر ثوباً ليلبسه مدة، فله أن يُلبِسَه غيرَه، مع رعاية التساوي والاقتصاد. ومنع أبو حنيفة (5) الاستنابة تبرعاً، وإجارةً في الحيوان والثوب، ووافق في العقار والدار، فجوز الاستنابة والإجارة من المستأجر. 5134 - فإذا تمهد ما ذكرناه إلى أن الصوب المعين لا يتعين في الإجارة، فلو

_ (1) لم يعد أميناً: بمعنى لم يرجع، ولا تعود له صفة الأمانة ومنصبها. (2) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 26 آخر سطر، نقلاً عن الهداية، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 116 - مسألة 1809. (3) الفرق الذي يشير إليه إمام الحرمين، هو " أنه مأمور بالحفظ في الوديعة قصداً، فيبقى الأمر بعد العَوْد (أي إلى الأمانة والانكفاف عن العدوان) أما في الإجارة، والإعارة، فهو مأمور بالحفظ تبعاً للاستعمال، فإذا انقطع الاستعمال لم يبق هو نائباً ". ا. هـ من حاشية ابن عابدين: 5/ 26. (4) في الأصل: يكون. (5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 116 مسألة 1808، وحاشية ابن عابدين: 5/ 18 سطر 13.

استأجر دابة من مكة إلى مَرّ ظهران، فركب المستأجر إلى نصف الطريق، ثم عنت له حاجة في البلدة، فانعطف راجعاً، قلنا له: إن كنت استأجرت الدابة لتركبها أربعة فراسخ وعيّنت لانتهاء سفرك مرّ ظهران، فقد استوفيت ما استحققت؛ إذ ركبت ذاهباً، ومنعطفاً راجعاً أربعة فراسخ، فقد استقرت الأجرة، والدابة مردودةٌ على ربها. ولو خرج نصفَ فرسخٍ من مكةَ، ثم انعطف على مكة، فقد استوفى ربعَ المنفعة. فلو [اتجه] (1) في صوب [مَرّ] (2)، فإذا طوى ثلاثة فراسخ، قيل له: انتهى استحقاقُك، فلا تتعدَّ موضعَك، فإن تعدَّيْته راكباً، كنت غاصباً، وعليك أجرُ المثل للزيادة، مع التعرض لضمان [الدابة] (3). وكل ذلك يخرج على ما مهدناه من أن الاعتبار بالمسافة، ولا أثر لتعيين الصوْب. 5135 - ويعترض فيما نُجريه أنه إذا ذكر صوباً سهلاً معبّداً، ثم ركب الدابة في صوبٍ آخر وعرٍ، فهذا عدوان. وإذا فرض عيبُ الدابةِ أو تلفُها بسبب سلوك المسلك الوعر، كان هذا كما لو استأجر داراً ليسكنها، فأسكنها القصَّارين، والحدادين، فتزلزلت القواعد، واختلت، ففي ذلك كلامٌ مجموعٌ، يأتي من بعدُ، إن شاء الله عز وجل. ولو استأجر دابةً إلى مَرّ ليركبها إليه، ثم يرجع، فهذا استحقاق الركوب، في ثمانِ (4) فراسخ، فإن من مكة إلى مَرّ أربعةَ فراسخَ، فالذاهب إليه والراجع طاوٍ ثمانِ فراسخَ، وما مهدناه من أن المرعِيَّ المسافةُ، لا الصوْبُ المعين، يقتضي أن يجوز

_ (1) في الأصل: أتى. (2) في الأصل: مرّة. (3) ساقطة من الأصل. (4) كذا في النسختين. وهذا لأنه نظر إلى لفظ الجمع، فعامله معاملة المؤنث، أما حذف الياء في (ثماني)، فله وجه عند أهل الصناعة، جاء في أوضح المسالك، لابن هشام، قوله: "لك في (ثماني) فتح الياء، وإسكانها، ويقلّ حذفها مع بقاء كسر النون، ومع فتحها" أوضح المسالك: 172 طبعة مصطفى الحلبي.

للمستأجر [أن] (1) يمرّ على الدابة ثمان فراسخَ في [أيّ] (2) صوبٍ. ولكن يعترض فيه أنه إذا فعل هذا، وانتهى إلى منقطع الفراسخ الثمان، فإلى من تسلم الدابة، وكيف الطريق فيه؟ فنقول: إن رضي المالك بهذا، وصاحَب الدابةَ، أو أصحبها نائباً له، فلا امتناع، ولا عدوان، والدابة تسلّم عند منتهى الفراسخ الثمان إلى المالك، أو إلى نائبه من غير عدوانٍ، وهذا جرى بعد إيراد العقد على الذهاب إلى مَرّ والرجوع منه. 5136 - ثم حكم هذه الصورة استقرار الأجرة المسماة لحصول استيفاء الركوب في ثمان فراسخَ، ولو جرى العقد على المرور والرجوع، ثم لم يصدر من المالك إذنٌ في مجاوزة مَرّ، وعسر تسليم الدابة على منتهى ثمان فراسخ، فهذا يجر عدواناً لا محالة؛ فإن العقد انعقد على رد الدابة إلى بلدة المكري، وهو بها، ولكن إذا اتفق هذا، فنقول: أما الأجرة المسماة، فقد استقرت من جهة استيفاء المنافع، وإذا انتهت المسافة، فلا شك أن الراكب المستأجر متعدٍّ؛ فإنه كان مأموراً بالرد إلى مكة راجعاً، وقد ترك هذا وأنهى الدابةَ إلى محل يعسر الجريان فيه على موجب الشرط، ولو ردها من تلك المسافة، فهو في ردّه معتدٍ غارمٌ لأجر المثل. 5137 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا جاوز مَرّاً، والمسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يكن الطريق الذي سلكه -مجاوزاً (3) - أوعرَ مما بين مكة ومَرّ، فإنا نجعله بنفس مجاوزته متعدياً، من جهة أنه بمجاوزة مرٍّ، يتعرض لمخالفة الأمر في جهة رد الدابة، وهو مقصودٌ بَيِّنٌ، فهو إذاً غيرُ متعدٍّ من جهة استيفاء المنفعة، ولكن [يأتيه] (4) العدوان من الجهة التي أشرنا إليها، وهذا واضحٌ لا إشكال فيه.

_ (1) زيادة من (د 1). (2) زيادة من المحقق. (3) مجاوزاً: بالنصب (حالٌ) من الضمير الفاعل، و (أوعرَ) (خبر) يكن. (4) في الأصل رسمت هكذا: [ـاننه]. بدون إعجام الحرف الأول. وإعجام الثالث والرابع من فوق، وفي (د 1): ثابتة.

وقد يخطر للفقيه أنه لا يصير متعدياً ما لم يستوف الفراسخ، فإنّ (1) عُسْر الرد يتبيّن (2) إذ ذاك. وهذا ليس بشيء ولم نذكره ذِكْرَنا الاحتمالات الممكنة. 5138 - ومما يتم به الغرضُ أنه إذا استأجر دابةً ليركبها إلى مرّ، ويرجع عليها إلى مكة، وكانت العادة أن من انتهى إلى مرّ لم يرجع على فوره، بل يبيت ثم يُصبح راجعاًً، فإذا جرى على العادة، جاز، ولا [مستدرك] (3)، ولا نقول: اليوم الذي سكن فيه بمرّ محسوبٌ عليه؛ من جهة تضييعه المنفعة، كما سنوضح هذا في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. ولو كانت العادةُ جاريةً بأن ينكفىء (4) على فوره راجعاًً، فلينكفىء. فإن أقام على خلاف المعهود في العادة، كان ذلك الزمان محسوباً عليه. كما سيأتي تفصيله. ولو اضطربت العادةُ فالأصح حملُ مطلق العقد على الانكفاء (5) على البدار. ومن أصحابنا من أوجب التعرض لذلك عند اضطراب العرف، وزعم أن إطلاق العقد مع اضطراب العرف يفسده. وهذا رديءٌ لا أصل له. 5139 - ولو استأجر دابةً للذهاب والرجوع، فخرج والطريق آمنٌ، فلما انتهى إلى المكان المعيّن، حدث خوفٌ في الطريق، فليس له أن يقتحمه، ولو فعل، وضاعت الدابة، صار ضامناًً، وإذا مكث في ذلك المكان، (7 وتثبط (6) إلى أن انجلى الخوف، فذلك الزمان غيرُ محسوبٍ، فإنا أمرناه بمصابرة تلك البقعة في ذلك الزمان 7) احتياطاً

_ (1) (د 1): وإن. (2) ساقطة من (د 1). (3) في الأصل: يستدرك. (4) (د 1): ينقلب. (5) (د 1): الانقلاب. (6) تثبط: تريث، وتعوّق. وهنا تظهر براعة إمامنا، ودقة عبارته، وحسن اختياره لألفاظه، وهو هنا ناظرٌ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]، فالتأخر بهذا المكان ليس برادة المكتري، وإنما هو معوّق، ثُبط، فتثبط، ولذا لم يكتف بقوله: " مكث في ذلك المكان ". (7) ما بين القوسين سقط من (د 1).

للدّابة، فكان في حكم المودَع المؤتمن في تلك المدة. وإن استأجر الدابة، وفي الطريق خوفٌ، ثم رجع، وذلك الخوفُ قائم، ففاتت الدابة، فلا ضمان؛ لأن الخوض في العقد جرى مع العلم بالخوف القائم، ووقع الرضا بالذهاب، والرجوع. ولو كان الخوفُ قائماً، ولكن لم يكن مالكُ الدابة عالماً به، بل كان يظن أن الطريق آمن، فهذا مما تردد فيه كلامُ الأصحاب، فقال بعضهم: لا ضمان على المستأجر، وإن فاتت الدابة؛ وكان التقصيرُ من المالك؛ إذْ (1) لم يبحث، ولم يحتط لملكه. ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان على المستأجر؛ فإن المالك بنى الأمرَ على تقدير الأمن، وقصّر المستأجر؛ إذْ (1) لم [يبيّن] (2) له حقيقةَ الحال. 5140 - ولو كان الطريق آمناً في الممر، ووقع بناءُ العقد عليه، ثم حدث الخوف بعد الانتهاء إلى الموضع المعيّن، فقد ذكرنا أن المستأجر لا ينقلب راجعاًً حتى ينجلي الخوفُ، فلو رجع، وسلمت الدابةُ من جهة ذلك الخوف المعترض، ولكن أصابتها آفةٌ أخرى، فالمذهب أن الدابة مضمونة؛ لأن المستأجر في خروجه في هذا الوقت متعدٍ. ومن صار [متعدّياً] (3)، لم يتوقف وجوب الضمان عليه على أن يكون التلف من جهة عدوانه. هذا هو الذي لا يجوز أن يُعتقد غيره. وقد أنهيتُ مسائلَ الفصل وختامها ما وعدناه من بيان احتساب الضمان على المستأجر. 5141 - وتفصيل القول فيه أنه إذا اكترى دابةً، وذكر في الإجارة مدةً معلومة، فإن

_ (1) في (د 1): إذا. (2) في الأصل: يتبين. (3) في الأصل: معتدٍ. والمثبت من (د 1).

لم يسلِّم المكري الدابةَ حتى انقضت المدةُ المضروبة، تنفسخ الإجارة، وترتفع بانقضاء مدتها، ولو سلم الدابةَ إلى المكتري على أثر العقد، فربطها المكتري، ولم ينتفع بها حتى انقضت المدة، فقد انتهت الإجارة نهايتَها، وقرّت الأجرةُ المسماة؛ فإنه استمكن من الانتفاع، وضيّع حقَّه، حتى تلفت المنافع تحت يده. ولو لم يضرب مدةً في الإجارة ولكن استأجر دابة (1) معينةً ليركبها إلى موضعٍ عيّنه، فلو سلّم المكري الدابةَ إلى المستأجر، فربطها مدةً لو سافر فيها، لأمكنه قَطْع المسافةِ المذكورة، فالإجارةُ تنتهي، وتستقر الأجرة، ولا يملك المسافرة؛ فإنا جعلناه في حبسه وربطه بمثابة المستوفي. 5142 - ولو كانت المسألة بحالها، فلم يسلِّم المكري الدابةَ حتى انقضت مدة كان يتأتى في مثلها قطعُ المسافة، فهل نحكم بانفساخ الإجارة قياساً على ما لو اعتمد العقدُ مدةً مضروبة، ثم حبس المكري الدابةَ فيها، حتى انقضت تلك المدة؟ اختلف أصحابنا: فذهب المراوزةُ إلى أن الإجارة تنفسخ، وإن لم يجر للمدة ذكرٌ، إذا مضى زمنٌ يسع في مثله استيفاءُ المنفعة، وقطعُ المسافة، وهذا قياسٌ حسنٌ، لا يتجه غيره؛ فإنَّ المدة وإن ذُكرت، فليست معيّنة، وإنما المطلوب المنفعةُ فيها، فليكن الاعتبار بمضي زمان إمكان الانتفاع، وأيضاًً لم يختلف أصحابنا في أن الإجارة تنتهي نهايتها بربط المستأجر الدابة في الإجارة التي لم يجر فيها ذكر المدة، فإذا استوى ذكرُ المدة وذكرُ المنفعة في حق المستأجر، وفي حكم انتهاء الإجارة، فينبغي أن يكون الأمر كذلك في حق المكري. 5143 - وذهب العراقيون إلى أن المدةَ إذا لم يجر لها ذكرٌ في الإجارة وإنما اعتمدت الإجارةُ قطعَ المسافة، وإعلامَ المدى، فإذا لم يسلم المكري الدابةَ في زمان لو سلمها فيه، لأمكن استيفاء المنفعة، فالإجارة لا تنفسخ، والمكري مطالبٌ بتسليم الدابة، وعللوا بأن المدة لم يجر ذكرُها، والتسليم ممكنٌ بعد هذا الحبس، وليس كحبس

_ (1) (د 1): مدة معينة.

المستأجر الدابة، فإنا لو لم نحسب عليه تلك المدة، لكان ذلك تضييعاً للمنفعة على المكري، وإسقاطاً لحقه. وهذا الذي ذكروه وإن كان في ظاهره بعضُ الإخالة، فلا وجه عندنا في القياس إلا ما ذكره المراوزة. وهذا واضح لا إشكال فيه على [المتأمل] (1). 5144 - ولو استأجر دابة وقبضها، ثم تعذَّر عليه المسافرة عليها، واحتبست عنده مدةً تسع المسافرة لو أمكنت، فالأجرة تتقرر عليه؛ فإن المنافع فاتت (2) تحت يده. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردةً على العين. 5145 - فأما إذا كانت واردةً على الذمة، فالإجارة الواردة على الذمة تقبل التعجيل والتأجيل، فإن كانت معجلةً، فلم يسلّم المكري حتى مضت مدة، لم تنفسخ الإجارة وبقي الدين مستقراً في الذمة؛ فإن الإجارة ليست تعتمد عيناً حتى يُفرض انفساخ العقد بضياعٍ وتلفٍ فيها، وهذا بيِّنٌ، لا شك فيه. ولو سلم المكري في إجارة الذمة دابةً إلى المكتري على شرط الاستحقاق، فحبسها، حُسبت المدةُ عليه؛ فإنَّ حقه تعين بتسليم الدابة، فلم يفترق الأمر في حقه بين أن يكون أصل العقد على العين، أو على الذمة. وهذا واضحٌ، لا إشكال فيه. 5146 - وقد يتصل بهذا الفصل القول في ثبوت الخيار في الإجارة، ثم الكلام في أن الخيار إذا ثبت، فالمدة من أي وقتٍ تُحتسب. وهذا قد استقصيناه في أول كتاب البيع على أبلغ وجهٍ في البيان، فليطلبه في فصول الخيار من يريده.

_ (1) في الأصل: التأمل. (2) (د 1): تلفت.

فصل قال: " وله أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة ... إلى آخره " (1). 5147 - نص الشافعي هاهنا على أن من أراد أن يؤاجر ملكه ثلاثين سنة في عُقدةٍ (2) واحدةٍ، جاز له ذلك، ونص في بعض كتبه على أنه لا يزيد على سنة واحدة في مدة الإجارة، ونص في كتاب الدعاوى على أنه يؤاجر ما شاء، فجعل المدة إلى خِيَرَته من غير ضبط. واختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من جعل هذه النصوص أقوالاً، وأجرى ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا ضبط من طريق التعبد في المدة، والأمرُ مفوّضٌ إلى ما وقع التراضي عليه، وهذا هو القياس، ولا حاجة إلى تكلف توجيهه. والقول الثاني - أنه لا يجوز المزيد على سنة؛ فإن الإجارةَ أُثبتت للحاجة، وإلا فهي حائدةٌ عن القياس؛ من جهة إيرادِها على مفقودٍ، يتوقع (3) وجوده من عينٍ مخصوصة، والحاجة في الأغلب لا تزيد على السنة، والسنة الواحدة تشتمل على جميع جهات المنفعة، وما يزيد بعد انقضائها في حكم المتكرر. والقول الثالث -وهو أضعف الأقوال- أن الأمدَ الأقصى ثلاثون سنة، ولا مزيد على هذه، وهذا وإن (4) لم يترتب على أثرٍ، فلا يليق بقاعدة الشافعي -رضي الله عنه - في توقِّيه عن التحكم بالتقديرات، من غير توقيفٍ، ولكنّ الممكن في توجيهه، أن هذه المدة في تفاوض الناس [هي] (5) المعتبر الأقصى في نهايات [التغايير] (6) وهي نصف العمر الغالب.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 82. (2) (د 1): في عقدٍ واحد. (3) في الأصل: ويتوقع. (4) (د 1): إن لم يترتب. (5) في الأصل: هو. (6) التغايير. هذه أقرب قراءة إلى السياق، فالكلمة غير واضحة في (د 1) بسبب أثر تصويب فيها، وغير واضحة -قراءةً- في الأصل بسبب عدم استقرار (النقط) فوق الحروف وتحتها.=

وهذا وما يدانيه لا ثبات له. 5148 - وذهب المحققون من أئمتنا إلى قطع القول بأن مدة الإجارة مردودة إلى التراضي، ولا تعبّد فيها، ولا ضبط، ولكن يجب أن يؤاجر كلُّ شيء مدةً يُعلم بقاؤُه فيها، أو يظن ذلك، فإن كانت المدة بحيث يُقطع بأن المستأجَر لا يبقى فيها، فالإجارة مردودة، وإن كان [يغلب] إمكان البقاء فيها، صحت الإجارة، وإن غلب على الظن أن العين لا تبقى فيها، وأمكن البقاء على بُعدٍ، ففي المسألة احتمالٌ، والأظهر التصحيحُ. وهذا القائل يحمل ذكر الثلاثين على وفاقٍ أجراه الشافعي في [محاولةِ] (1) بيان تطويل المدة. وقد يُجري المبيِّن عدداً على قصد المبالغة، ولا يبغي تقديراتها، وهو كقوله تعالى: [إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] [التوبة: 80]. ومما يجب التنبيه له أن القول الثالث في طريقة الأقوال، وهو القول المنقاس المحكي عن الدعاوى، محمول على ما وقع القطع به في هذه الطريقة لا محالة. 5149 - ثم من أجر شيئاًً سنة لم يلزمه بيان حصة كل شهر من الأجرة. وإذا آجر سنين، ففي المسألة قولان: أحدهما -وهو القياس- أنه لا يلزمه أن يبين حصةَ كل سنة منها، كما لو اشترى عبيداً صفقةً واحدةً؛ فإنه لا يجب بيان ما يخص كلّ واحد من العبيد. والقول الثاني - أنه يجب أن يُبيّن ما يخص كلَّ سنة من الأجرة؛ لأن في ذلك تقليلَ الغرر، وقد يُفرض تلف المعقود عليه، ومسيس الحاجة إلى تقسيط الأجرة المسماة على ما مضى وبقي، فإذا كانت الحصصُ مُبيّنةً، هان دَرْكُ المقصود، ووقع الاكتفاء بنص العقد عن طلب الحصص بالاشتهار، وقد يعسر البحث عن الأُجَر في الأزمنة

_ =وساعد على ذلك الاختيار ورجحه قول الرافعي: " .. لأنها نصف العمر، والغالب ظهور (التغيير) على الشيء بمضي هذه المدة ". فتح العزيز: 6/ 111. والمعنى أن مدة الثلاثين هي أقصى مدة يتخيل فيها بقاء الحال على ما هو عليه، والآن نحن نقول: إن الحياة يتغير وجهها كل ثلاثين سنة؛ حيث ينتهي جيل، وينشأ جيل في نحو هذه المدة. في الأصل: يعقب. (1) في الأصل: مجاوزة.

الماضية، وإذا أمكن تقليل الغرر، تعيّن في عقود الغرر. ثم هذا القائل يرعى هذا في السنين؛ فإن إدراك حصص الشهور قريب، وإنما يُتوقع التفاوت في السنين، لتطاول الآماد بها. وهذان القولان يقربان من الخلاف الذي حكيناه في كون الأجرة جزافاً مشاراً إليها. 5150 - ومما يتعلق بهذه الفصول أنه لو قال: أجرتك هذه الدارَ سنةً، مبتداها من وقت العقد، صح ذلك. ولو قال: أجرتك هذه الدارَ سنةً، ولم يذكر أنها السنة التي تعقب العقد، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن الإجارة تفسد؛ فإن السنة ذكرت مطلقةً مجهولةً، وهي متناولة للسنة المتصلة بالعقد ولغيرها، والإجمال في صيغ العقود يفسدها. ومن أصحابنا من يصحح الإجارة، وإلى ذلك مال الجمهور؛ فإن السنة إذا ذكرت على الصيغة التي ذكرناها، لم يُفهم منها في مطرد العرف إلا السنة المتصلة بالعقد، والعرفُ إذا اقترن باللفظ المجمل بيّنه وأوضحه. وهو كما لو قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فاللفظ في نفسه مجملٌ من طريق وضع اللغة، ولكنه محمول على النقد الغالب يوم العقد. وهذا متِّجه، ولا يبقى معه للوجه الأول متمسك، إلا أن يقال: الإجارة تقع على أنحاء ووجوه، وقد لا يحيط بتفاصيلها إلا الخواص، والمدة تختلف فيها، ولا يمكن اطراد العرف في أنها تحتسب في ظن المتعاملين من وقت العقد، أو من وقت التسليم، وإذا كان الأمر مضطرباً في ظنون الناس، فلا بد فيه من البيان. 5151 - ومما يتعلق بأحكام المدة أنه لو قال: أكريتك هذه الدار شهراً من السنة، ولم يعين الشهر، فهذا فاسد وفاقاً. وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا ذكر شهراً، ولم يضفه إلى سنة، فإذا قال: شهراً من السنة، فتقديره: أكريتك شهراً من شهور السنة، وهذا إبهام لا شك فيه.

ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، وكانت معلومةَ الصيعان، فالبيع صحيح. وإن كانت مجهولة (1) الصيعان، ففيه وجهان، قدمنا ذكرهما في كتاب البيع، والجريان على الصحة. والفرقُ بين صاعٍ من صُبرة، وبين شهر من شهور السنة أن الغرض يختلف بتقدم الشهر وتأخره، وينضم إلى ذلك أنه لو فرض متاخراً، لكان ذلك باطلاً؛ من جهة استئخار الاستحقاق عن العقد الوارد على العين، وهذا لا يتحقق في الصاع من الصُّبرة؛ فإنه إذا عقد عليه، فقد تنجّز استحقاقُ جزءٍ من الصُّبرة، وتسليمه سهلٌ، لا عسر فيه. 5152 - ولو قال: أجرتك الدار سنةً، كلُّ شهر منها بكذا، وأوضح حصةَ كل شهر، فهذا جائزٌ، ولا فرق بين أن يجعل الشهور متساوية في الحصص، وبين أن يقدّرها مختلفة، ونظير ذلك من مسائل البيع أنه لو قال: بعتك هذه الصُّبرة: كل صاعٍ بدرهم، فالبيع صحيح، ولو قال: بعتك هذه الصّبرة: كلّ صاع من نصفها بدرهم، وكلُّ صاع من نصفها الآخر بدرهمين، فالبيع صحيح وإن تفاوت ثمن الصيعان؛ فإن (2 النصف من الصُّبرة كصبرةٍ على حالها، فكأنه في تقدير 2) النصفين يشير إلى صُبرتين، ويقول: بعتك هذه الصبرة: كل صاع بدرهم، وبعتك هذه الصبرة الأخرى: كلّ صاع بدرهمين. 5153 - ولو قال: أكريتك هذه الدارَ: كلَّ شهرٍ بدينار، [ولم] (3) يذكر مدةً مضبوطة، فالإجارة لا تصح على هذه الصيغة عندنا، والمذهب أنها لا تصح في الشهر الأول أيضاًً. ومن أصحابنا من قال: تصح الإجارةُ في الشهر الأول، وهو اختيارُ ابن سُريج، وهو غير مرضي عند أئمة المذهب؛ فإن الإجارة وردت على صيغةٍ واحدةٍ مسترسلة على الشهور كلها، فتصحيحها في بعضها دون البعض لا يتجه.

_ (1) (د 1): معلومة. (2) ما بين القوسين ساقط من (د 1). (3) سقط من الأصل.

ونظير الإجارة فيما ذكرناه من البيع ما لو قال: بعتك كلَّ صاع من هذه الصُّبرة [بدرهم. قال الأئمة: لا يصح البيع في جميع الصبرة؛ فإنه لم يقل: بعتك هذه الصُّبرة] (1)، كلَّ صاع بكذا، بل قال: بعتُك كلَّ صاعٍ من هذه الصُّبرة، فلم يأت بعبارةٍ تشتمل على جميع الصّبرة. وكان شيخي يقول: إذا قال: بعتك كلَّ صاع من هذه الصبرة بكذا، فالبيع يصح في الصبرة، كما لو قال: بعتك الصبرة كل صاع بكذا. والمسألة محتملة. 5154 - فإذا فرعنا على المشهور الذي ذكره (2) القاضي، فلم (3) نجعل ذلك بيعاً في جميع الصبرة، فهل يصح البيع في صاعٍ واحد من الصبرة؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا قال: أجرتك داري هذه كل شهر بكذا، فهل تصح الإجارة في الشهر الأول؟ فيه ما ذكرناه من خلافِ ابن سريج، ولكن مذهبه يختص بالشهر الأول؛ [إذْ] (4) لا يتصور تصحيح الإجارة في غيره. وفي مسألة الصبرة يصح البيع في صاعٍ من جملتها عند ابن سريج، والأصح أن لا تصح الإجارة في الشهر الأول، ولا يصح البيع في صاعٍ من الصبرة إذا لم نجعل ما جرى بيْعاً في جميع الصُّبرة. فهذا تمام المراد في ذلك. فصل 5155 - ذكر الأئمة في إجارة الوقف كلاماً متصلاً بما نحن فيه، فنقول: إذا أجر الوقفَ من تصح إجارته، فذكر مدةً معلومة، ثم مات الآجرُ، نُظر: فإن كان الآجِرُ

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) في النسختين: ذكر. (3) (د 1): ولم. (4) ساقطة من الأصل.

متولِّياً، ولم يكن موقوفاً عليه، فموته لا يؤثر في الإجارة، وهي باقية على لزومها. فأما إذا أجر الوقفَ من هو موقوف عليه، وكان شرط الواقف مقتضياً ترتيبَ البطون، وألا يستحق من في البطن الثاني شيئاً ما لم ينقرض مَن في البطن الأول، ثم أجّر الموقوفُ عليه في البطن الأول الوقفَ، فالقول في أن الموقوف عليه هل يؤاجر بسبب استحقاقه لرَيْع الوقف يأتي مستقصًى في كتاب الوقف، إن شاء الله عز وجل، وفيه نذكر تخريج ذلك على الأقوال في أن الملك في رقبة الوقف لمن؟ فلسنا نخوض الآن في تفصيل ذلك؛ فإنه من أقطاب كتاب الوقف، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى. 5156 - فإذا أجر الموقوفُ عليه حيث يجوز له ذلك، ثم مات الآجر في البطن الأول، وشرْطُ (1) [الواقف] (2) يقتضي انتقالَ الاستحقاق إلى البطن الثاني، فهل نحكم بارتفاع الإجارة في بقية المدة عند موت من في البطن الأول؟ في المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن الإجارة لا تنفسخ؛ فإنها انعقدت على اللزوم، فلا يتضمن طريانُ الموت انفساخَها، كما لو أجر المالك داره المملوكةَ، ثم مات في أثناء المدّة، فالملك ينتقل إلى الوارث في الرقبة، ولكن لا تنفسخ الإجارة. والوجه الثاني - أن العقد لا يبقى في بقية المدة إذا انتقل الاستحقاق إلى البطن الثاني. 5157 - وبنى الأصحاب هذين الوجهين على اختلافٍ ذكروه في الوقف، وذلك أنَّهم قالوا: البطن الثاني يتلقى الاستحقاقَ من البطن الأول تلقي الوارثِ من الموروث أم يتلقى من الواقف؟ فيه اختلاف مشهورٌ بين الأصحاب، ثم بنَوْا مسألتنا على ذلك، فقالوا: إن حكمنا بأن البطن الثاني يتلقى من الأول، فالإجارةُ تبقى في بقية المدة، كما تبقى الإجارة إذا مات الموروث، وإن حكمنا بأن البطن الثاني يتلقى الاستحقاقَ من الواقف، فالعقد يزول في بقية المدة إذا مات من في البطن الأول.

_ (1) (د 1)؛ فشرط. (2) في الأصل كما في (د 1): الوقف. والمثبت تقدير منا على ضوء عبارة الأصل التي مضت آنفاً.

وهذا الاختلاف الذي ذكره الأصحاب في الوقف لست أرى له وجهاً، بل يجب عندي القطعُ بأن البطنَ الثاني يتلقى الاستحقاقَ من الواقف؛ فإن المتبع في الوقف، وتعيينَ المستحقِّ والقدرِ شرطُ الواقف، ومن في البطن الثاني يستحق [بما] (1) يستحق به من في البطن الأول ولا وِراثةَ (2) في الوقف. ولكن توجيه الوجهين مع القطع بما ذكرته ممكنٌ؛ فإن الإجارة صحت من البطن الأول على حالٍ، فلا يمتنع الحكمُ بدوامها. ثم إذا حكمنا ببقاء الإجارة في بقية المدة، فيجب صرف حصة تلك المدة إلى البطن الثاني لا محالة، ولو استنفق من في البطن الأول جميعَ الأجرة، فحصة بقية المدة دينٌ في تركته. هذا لا بد منه، ولا شك فيه. 5158 - ثم ذكر الأصحاب وجهين في انفساخ الإجارة، وهذا يستدعي عندنا نظراً، والوجه ألاّ نذكر عبارةَ الانفساخ، بل نقول: نتبيّن في وجهٍ أن الإجارة باطلةٌ في بقية المدة؛ من جهة أنا علمنا أن من في البطن الأول تصرّف فيما لم يكن له. ومساق هذا يقتضي [تبيّنَ] (3) البطلان، لا الحكمَ بالانفساخ؛ فإن الانفساخ يُشعر بانعقاد العقد، ثم بارتفاعه بعد حقيقة الانعقاد، كقولنا: إذا تلف المبيع قبل القبض، انفسخ البيع، وكقولنا: إذا انهدمت الدار في أثناء مدة الإجارة، انفسخت في بقية المدة، فلا معنى إذاً للانفساخ في مسألة الوقف. ولم يصرح بالبطلان على أحد الوجهين إلا الصيدلاني، والأمر على ما ذكرنا، ووافق فيه الصيدلاني. 5159 - ومما يتصل بهذه القاعدة، ويناظر ما نحن فيه أن الولي إذا آجر الطفلَ، فهو جائز على حكم الغبطة على الجملة، فلو أجَّره مدةً سيبلغ بالسن في أثنائها لا محالةَ، فالإجارة وراء البلوغ باطلةٌ؛ فإنها وقعت وراء أمد الولاية. وهل تصح الإجارة في المدة التي تقع في الصبا؟ ذكر الأصحاب بطلانَ الإجارة من غير تفصيل،

_ (1) في الأصل: مما. (2) (د 1): وارث. (3) في الأصل: تبيين.

ولم يتعرضوا لبيان الإجارة في مدة الصبا. وقال القاضي: يجب تخريج صحة الإجارة في المدة الواقعة في الصبا على قولي تفريق الصفقة. وهذا حسنٌ متّجهٌ، ويحمل ترك تعرض الأصحاب لذلك على اعتمادهم وضوحَ الأمر في هذا. 5160 - ولو أجر الولي الطفلَ مدة لا يعلم أنه يبلغ بالسن فيها، ولكن كان بلوغه بالاحتلام ممكناً في أثناء المدة، فيحكم على ظاهر الحال باستمرار الإجارة، فإن لم يتفق البلوغ حتى تمت الإجارة، فلا كلام. وإن اتفق البلوغ في المدة، ففي الإجارة وراء البلوغ خلافٌ، ذكره الأصحاب منهم من قال: الإجارة تبقى، فإنها جرت من وليٍّ على شرط الغبطة، ووقع الحكم أولاً بنفوذ الإجارة، فيجب الوفاء بها. والصحيح أن الإجارة لا تبقى. ثم ذكر الأصحاب عبارة الانفساخ، والوجه عندنا أن نقول: نتبين بطلانَ الإجارة وراء البلوغ، وهذا كما ذكرناه في مسألة الوقف. 5161 - ثم إذا حكمنا ببطلان الإجارة وراء مدة البلوغ، فهل نقول: تبيّنا أن الإجارةَ اشتملت على ما يصح، وعلى ما يفسد، حتى يُخرّج على قولي تفريق الصفقة قولٌ إن الإجارة باطلة في جميع المدة، كما ذكرناه فيه إذا أجر الصبي مدةً يعلم أن شيئاًً منها يقع وراء بلوغه بالسن؟ هذا لم يتعرض إليه الأصحاب. وإذا أوضحنا أن انتفاء الإجارة وراء البلوغ سبيله البطلان، لا الانفساخ، فلا بد من خروج هذا القول. وقد يظهر للفقيه القطعُ بصحة الإجارة فيما تقدم على البلوغ بالاحتلام، وأن الإجارة عقدت على احتمال أن تصح وتستمر في جميع المدة، وكل عقد يُعقد كذلك، ثم يتبين آخراً أمرٌ، فيظهر تخصيصُ الإبطال بما يتبين آخراً، وسنذكر نظير ذلك في محاباة المريض في البيع، إذا لم يفِ الثلث باحتمالها. 5162 - ومما يتصل بما نحن فيه أن المالك إذا أجر عبده سنة، ثم إنه أعتقه في أثنائها، فالذي قطع به الأصحاب أن الإجارة لا تنفسخ في بقتة المدّة بطريان العتق.

وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكره الأصحاب. والثاني - أن الإجارة تنفسخ في بقية المدة. وهذا ضعيفٌ لا خروج له على قاعدة المذهب. والسبب فيه أن الإجارة جرت من المالك بحقِّ الملك، ثم طرأ عليها ما يتضمن زوال الملك عن الرقبة، فكان ذلك بمثابة ما لو أجر المالك فى اره، ثم مات. وأبو حنيفة (1) مع مصيره إلى أن الإجارة تنفسغ بموت المكري- سلّم أن العبد المستأجَر إذا أُعتق في خلال المدة، لم تَنْفسخ الإجارة (2)، فالوجه القطع بأن الإجارة لا تنفسخ. ثم هل يثبت للعبد إذا عَتَق الخيارُ في فسخ الإجارة في بقية المدة؟ فعلى وجهين- ذكرهما صاحب التقريب أيضاًًً: أحدهما - أنه لا خيار له، والإجارة تجري على موجب لزومها. والوجه الثاني - أنه يثبت له الخيار كما تتخير الأمة إذا عَتَقت تحت زوجها القِنّ، وهذا بعيدٌ لا أصل له. نعم إن حكمنا ببقاء الإجارة ولزومها، وأوجبنا الوفاء بها، فإذا عمل المعتَق في بقية المدة، بعد نفوذ العتق، فهل يرجع بأجرة مثله في هذه المدة الواقعة بعد العتق

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 128، المبسوط: 15/ 153، البدائع: 4/ 222، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 129 مسألة 1826، البحر: 8/ 41، تبيين الحقائق: 5/ 144، فتح القدير: 8/ 84، حاشية ابن عابدين: 5/ 52، الاختيار: 2/ 55، مجمع الأنهر: 4/ 401. (2) هذه المسألة (انفساخ الإجارة بعتق العبد المستأجر) أجهدتنا كثيراً، فلم نجدها في مظانها من كتب السادة الأحناف برغم طول بحثنا. وأخيراً وجدناها في (البدائع: 4/ 199 عند شروط المستأجَر) كما وجدناها في غير مظانها أيضاًً في: تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 5/ 141، والبحر: 8/ 37، وحاشية ابن عابدين: 5/ 46، ومجمع الأنهر: 1/ 396، والاختيار: 2/ 55. كلهم في باب ضمان الأجير، وليس في باب فسخ الإجارة. وهذا مما يدعونا أن ننادي مع المنادين بضرورة فهرسة كتب الفقه وتكشيفها. ورحم الله ابن حجر الذي قال: " ولطالما قرأت المجلدة كاملة فلم أظفر بما أريد " فمن لنا بصبره وجَلَده!!! والله المستعان.

على سيده؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يرجع به على سيده؛ فإنه بسبب العقد الذي قدّمه في الرق استسخره بعد العتق، مع أنا نعلم أن السيد لا يستحق منفعةَ مُعتَقه بعد نفوذ العتق. والوجه الثاني - أنه لا يرجع عليه بشيء، نظراً إلى ابتداء العقد، وقد جرى في حالة الرق، وما بقي منه من بقايا أحكام الرق، والدليل عليه أن المعتَق على المذهب الذي عليه الجريان لا يجد محيصاً عن العمل في بقية المدة، فالمعنى الذي أوجب إلزامَ الإجارة وإدامتَها بعد العتق، ذلك المعنى يوجب قطعَ الرجوع [والتبعة] (1) عن السيد. 5163 - ومما يجب تجديد العهد به في آخر الفصل التنبيه للفرق بين البطلان، وبين الانفساخ، فما ذكرناه من انتفاء الإجارة بعد بلوغ الطفل محمول على البطلان، وكذلك ما ذكرناه من انتفاء الإجارة بعد موت مَنْ هو في البطن الأول محمول على البطلان، وما ذكرناه في العبد إذا عتق [عن] (2) صاحب التقريب من أن الإجارة تنتفي (3) بعد العتق، فهو إن صح محمولٌ على الانفساخ؛ فإن الإجارة صدرت من المالك بحق الملك، ثم أنشأ تصرفاً ينافي حجرَ الرق، فكان ذلك بمثابة ما لو أتلف البائع المبيعَ قبل القبض، وقلنا بانفساخ البيع. وهذه المراتب يجب أن يتنبه لها الفقيه، ولا يعتقدها على قضية واحدة. 5164 - ثم قال الأئمة: إذا أكرى من في البطن الأول الوقفَ ممّن في البطن الثاني، ثم مات القريب قبل انقضاء المدة، فهذا يُخرّج على ما ذكرناه من أن تصرفه ينتفي (4) إذا مات أم لا؟ فإن قلنا: إجارته تنتفي بموته لو جرت مع أجنبي، فلا شك أنها تنتفي في الصورة التي فرضناها. وإن قلنا: لا تنتفي إجارته مع الأجنبي في بقية المدة إذا مات، ففي

_ (1) في الأصل: والمنفعة. (2) ساقطة من الأصل. (3) (د 1): تنتهي. (4) (د 1): ينتهي.

انتفاء الإجارة، وقد جرت ممّن هو في البطن الثاني وجهان، والسبب في جريانهما أنه قد طرأت حالةٌ في حقه توجب له استحقاق المنفعة من غير إجارة. وقد ذكرنا أن المستأجر إذا اشترى في خلال المدة الدارَ المستأجرة، فهل تنفسخ إجارته؟ والوجه ترتيب مسألة الوقف على طريان الملك على الرقبة، ومسألة الوقف أولى بارتفاع الإجارة، والفرق أن طريان الملك في الرقبة ليس يُثبت الاستحقاقَ في المنافع مقصوداً، بل مالكُ الرقبة يستحق منفعتها تبعاً لملك الرقبة، والموقوف عليه في البطن الثاني يستحق المنافع استحقاقاً مقصوداً، من غير تقدير تبعية، فكان ذلك أولى بانفساخ الإجارة. ثم نقول في هذا المنتهى هذا انفساخٌ، وليس بطلاناً، وهو بمثابة ما لو اشترى الزوج زوجته، فإن النكاح ينفسخ بما يطرأ من ذلك. هذا بيان مسائل الفصل. فصل قال: " وأي المتكاريين هلك ... إلى آخره " (1) 5165 - قد ذكرنا من مذهب الشافعي أن الإجارة لا تنفسخ بموت واحد من المتعاقدَيْن، ولا بموتهما جميعاً؛ فإنها معاملةٌ لازمةٌ، فيجب الوفاء بها. 5166 - وإذا أجر الحرُّ نفسه، ثم مات، فانفساخ الإجارة ليس بسبب موت الآجر، وإنما هو بسبب فوات المعقود عليه. 5167 - ثم نقول: الإجارة لا تخلو إما أن تُفرضَ واردةً على عينٍ، أو تُفرضَ واردةً على ذمة الآجر، فإن وردت على عينٍ، وبقيت العين، ومات العاقد، فالإجارة تبقى. وإن كانت الإجارة واردةً على [ذمة الآجر] (2) فإذا مات، فسبيل الإجارة في

_ (1) ر. المختصر: 3/ 82. (2) في الأصل: على الذمة.

ذِمّته كسبيل الديون اللازمة، فإن كان في تركته وفاءٌ استأجرنا منها من يتمم العمل المستَحق في ذمته، وإن لم يكن في تركته وفاءٌ، أو لم يخلّف شيئاًً فوارثه بالخيار إن شاء سعى في إتمام العمل، واستحق الأجرة، وإن شاء أعرض. ثم المستأجر يتخير في فسخ الإجارة، ورفع المعاملة لتحقق العذر (1)، ولم نحكم بانفساخ الإجارة، فإن العجز لا يتحقق إلا عن مباحثة، وما كان كذلك، فهو متعلّق بخيَرةِ صاحب الحق. ولو كان عمل بعض العمل في حياته، وكان استوفى تمامَ الأجرة، فإذا انفسخت، وقع الاعتداد بقسطٍ يقابل عملَه في الحياة، ويصير الباقي ديناً في ذمة المتوفَّى، وهذا بيّنٌ، والعهد بتقريره قريب في كتاب المساقاة. 5168 - ثم ذكر الأصحاب مسائلَ مختلفاً فيها، منها: أن الشيوع لا يمنع صحة الإجارة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2)، وقد ذكرنا تحقيق المذهب فيه في مسألة كراء العُقَب (3). ومنها أن من استأجر شيئاًً وقبضه، ثم أراد أن يكريه، فله ذلك، ولا معترض عليه في مقدار الأجرة، فلو كان استأجر [داراً] (4) بمائةٍ سنة، وقبضها، ثم أكراها بمائتين، ساغ، وما يأخذه (5) من الزيادة حلالٌ طيب. وقال أبو حنيفة (6): الإكراء بالزيادة صحيح، ولكن الزيادة على الأجرة ليست بطيّبة (7)، ويلزم التصدق بها، وهذا لا أصل له في الشريعة عندنا. 5169 - ولو أجر المستأجر العينَ التي قبضها من المالك المُكري، فقد ذكر

_ (1) (د 1): التعذر. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 124 مسالة: 1821، إيثار الإنصاف: 334. (3) العُقَب: جمع عقبة وزان غرفة وغرف، ويراد بها (النَّوْبة) حينما يتعاقب الراكبون دابة الركوب. وانظر ما يحيل إليه في فصل وجوب اتصال الاستحقاق بالعقد. (4) سقطت من الأصل. (5) (د 1): يأكله. (6) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 126 مسألة: 1823، ومختصر الطحاوي: 129. (7) (د 1): ليست طيبة، ويجب.

الأصحاب في صحة ذلك وجهين وبنَوْهما على الوجهين في أن المكتري إذا ملك رقبةَ المكترَى، فهل تنفسخ الإجارة؟ وقد قدمنا تفصيلَ المذهب في ذلك، والوجهُ ترتيب الوجهين فيه إذا أكرى من المكري على الوجهين فيه إذا طرأ للمكتري ملكُ الرقبة، والإكراء (1) من المكري أولى ألا يصح، والسبب في ذلك أنه اجتمع مع ملك المكري للرقبة أن المنافع بعدُ في ضمانه للمكتري منه، فلو صححنا الإجارة معه، لكانت المنافع مضمونةً له، و [مضمونة] (2) عليه، وهذا متناقضٌ في موجب المعاملات، والله أعلم. ...

_ (1) (د 1): والاكتراء. (2) سقطت من الأصل.

باب كراء الإبل

باب كراء الإبل قال الشافعي: " وكراء الإبل جائز للمحامل والزوامل والرحال ... إلى آخره" (1). 5170 - المحامِل جمع مَحْمِل، وهو كالمرقد، والزوامل جمع الزاملة، ومعناها ما يزمّل ويلف من الثياب والأمتعة على ظهر الدابة ليركبها من يركبها، ويقال: تزمّل فلانٌ بكسائه إذا التفَّ به، ومنه قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ] [المزمل: 1]، وقيل: الزاملة على صيغة الفاعل، ومعناه المفعول؛ فإن الزاملة اسمٌ للثياب المزمِّلة، ويجوز أن يقال: الزاملة اسمٌ لشكلٍ في وضع الأمتعة جامعٍ لها، فتلك الصورة زاملةٌ [لاثةٌ] (2) للأمتعة. والرحال جمع الرحل، وهو يطلق على الإكاف، وقد يطلق على الزاملة أيضاًًً. 5171 - ثم قال المرتَّبون مقصود الباب تفصيلُ القول في كراء الدواب في الوجوه والمقاصد التي تُكترى إليها. ثم لها أربعة مقاصد: أحدها - الركوب. والثاني - الحمل. والثالث - الاستقاء. والرابع - الحرث. ونحن نذكر كلَّ مقصودٍ من هذه المقاصد، ونوضّح ما يتعلق به، إن شاء الله عز وجل. 5172 - فلتقع البداية بالركوب. والاستئجارُ لهذا المقصود، ولغيره ينقسم إلى الإجارة الواردة على العين، وإلى الإجارة الواردة على الذمة، ونحن نذكر تفصيل الإجارة الواردة على عينِ الدابة فنقول: لا بد أولاً مع تعيين الدابة من وجوهٍ في

_ (1) ر. المختصر: 3/ 82. (2) في الأصل تقرأ (لانه)، وفي (د 1): لافة. والمثبت هو أقرب صورة للأصل. ولاثّة: من لاث العمامة إذا لفها على رأسه، وعصبها به. (المعجم).

الإعلام: منها إعلام المنفعة، وذلك يحصل بوجهين: أحدهما - المدة، وذلك بأن يقول المكتري: اكتريت منك هذه الدابة لأركبها في بياض هذا النهار، وأتردد عليها في حوائجي. فهذا وجه في إعلام المعقود عليه. والوجه الثاني - ألا يتعرض للمدة، ولكن يذكر المقصود ويوضحه، بأن يقول: اكتريت هذه الدابة لأركبها إلى الموضع الفلاني، وهذا إعلامٌ تامٌّ، ولا حاجة إلى ذكر الوقت، مع ما ذكرناه. 5173 - ومما يجب إعلامه في إجارة العين للركوب صفةُ الراكب، فإن حضر، وعاينه مالك الدابة، كفى ذلك وإن لم يحضر، فلا بد من وصفه، فإن ذكر وزنه، كفى. وإن لم يذكر وزنه، وذكر قدّه، وما هو عليه من نحافة أو سمن، على التقريب الممكن، فالأصح أن ذلك كافٍ؛ فنا إذا كنا نكتفي بمعاينة الراكب، فذكر هذه الأوصاف تنزل منزلة المعاينة، وإن كنا لا نحيط بحقيقة الوزن في المعاينة، ولا في الوصف. ومن أصحابنا من أوجب ذكر الوزن إذا لم يكن الراكب حاضراً حالة العقد -ولا خلاف أن العِيان يكفي في ضبط الراكب- وهذا الوجه ضعيف غيرُ معتد به. 5174 - ثم إذا انعقدت الإجارة على عين الدابة، فمن أحكامها أن تلك الدابة لا سبيل إلى بدلها؛ فإن بقيت استمرَّت الإجارة، وإن تلفت في يد المستأجر، انفسخت الإجارة في بقية المدة، كما تقدم تقرير ذلك. ولو عابت عيباً يؤثر في مقصود الإجارة تخيّر المكتري، فإن رضي بالعيب، استمر العقدُ، وإن فسخ ارتفعت الإجارة. 5175 - ومن أحكام تعيّن الدابة أن (1) استئجارها يجب أن يكون بحيث يستعقب العقدُ استحقاقَ منفعتها، فلو أضيف العقدُ إلى مدة في الاستقبال، لم يصح مثل: أن يقول: أجرتك هذه الدابة غرة شعبان، والعقد في رجب. وقد أوضحنا ذلك.

_ (1) (د 1): على استئجارها.

5176 - ثم إذا قبض المستأجر الدابةَ، وكان ذكر أنه يركبها، فلو أراد أن يُركبها غيرَه، جاز، [والجملة] (1) الضابطة في ذلك أن المستحَقَّ في الإجارة منفعةُ الدابة، فهي مخصوصةٌ، وذكرُ عين الراكب (2) لا يعيّنه، فإن التعيين إنما يؤثر في المعقود عليه، والراكب مستوفٍ للمنفعة وليس معقوداً عليه، فإذا أراد أن يُركب غيرَه، جاز. ولهذا قطع الأئمة بأنه (3) يُكري الدابة إن رام ذلك، ومن ضرورة تجويز ذلك تبدّل الراكب. ثم إنما يجوز تبديل الراكب إذا كان مثلَ المستأجر المعيّن للركوب، فإن كان أثقلَ منه، لم يجز، وذلك بيّنٌ. 5177 - ولو كان المستأجر رفيقاً في ركوبه وتزْجيَة الدابة، فلو أكراها ممن هو في الجثة مثلُه، ولكن كان أعنفَ منه في الإجراء، أَو التَّزْجِية، فهذا لا يؤثر في إفساد الإجارة، والسبب فيه أن ما يصدر من ذلك الراكب من ضربٍ وتعنيف ينقسم، فمنه ما كان لا يُمنع منه المستأجر لو أراده، وهو القدر المعتاد في إجراء الدابة، ومنه ما يزيد على المعتاد الشائع، فيمنع منه الراكب. فإذا ثبت ما ذكرنا، فلو ركب المستأجِر من المستأجِر، وعنّف، واعتدى، وزاد في التعنيف والضرب، على ما يسوغ، فهلكت الدابة بهذا السبب، فلا شك أن الضمان يتوجه عليه. 5178 - ثم قال الأئمة: ليس للمالك مطالبةُ المستأجر الأول ليرجع بما يغرَم. وهذا متفق عليه. وليس كما لو [أكرى] (4) الدابة من رجل ضخمٍ تزيد جثتُه في الثقل؛ فإن الدابة إذا هلكت بسبب ثقل الراكب الثاني؛ فالضمان يتوجه عليه، ويتوجه أيضاًًً المطالبةُ على المستأجر الأول من جهة المالك. والفرق أن الدابة إذا تلفت بتعنيفٍ من الثاني،

_ (1) في الأصل: فالجملة. (2) (د 1): الدابة، وهو سبق قلمٍ لا شك. (3) (د 1): بأن. (4) في الأصل: اكترى.

فالأول غيرُ مقصّرٍ في الإجارة والتسليم، وإنما جاء العدوان من الثاني، فلم يتعلق بالأول عدوانٌ، ولا سببُ عدوان، وليس كذلك إذا ركب من هو أثقل منه؛ فإن عيْنَ ذلك عدوان. ولكن إذا تحقق الإتلاف من الثاني، فعليه قرارُ الضمان، والمطالبة تتوجه على الأول؛ لأنه تسبب إلى ما جرى. وهذا واضحٌ. 5179 - ومما يتعلق بالركوب في الدابة المعيّنة أنه لو اكترى بعيراً (1) [ليحمله] (2) مَحْمِلاً ليركبه، فلا بد من إعلام المَحْمِل، فإن عاينه، كفى، إجماعاً، ولا يشترط مع العيان معرفةُ الوزن. وإن لم يكن المَحْمِل حاضراً، فلا بد من وصفه؛ فإن وقع الاقتصار على ذكر وزنه، فالذي قطع به المحققون أن ذلك لا يكفي؛ فإن المحامل تختلف بالسعة والضيق، وغيرهما من الصفات، مع التقارب في الوزن، ويختلف الضرر والعناء على الدابة باختلاف هذه الصفات اختلافاًً بتناً. وذكر بعضُ الأصحاب أن الاقتصار على ذكر الوزن كافٍ، ثم لهيئة المحمل على الوزن المعلوم ضبطٌ يعرفه أهل الصناعة فيتّبع ذلك. وهذا الوجه ضعيفٌ، لا أعتدُّ به. ولو وصف المَحْمِل بالطول والعرض والسعة، وكل ما يختلف الغرض به، ولم يتعرض للوزن، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن الوزن لا بد منه؛ فإنه الأصل. والثاني - أن الصفات كافية كما في العيان؛ إذ لا خلاف أنه لا يجب الوزن مع العيان. 5180 - والأصح أن الراكب إذا كان غائباً، كفى في إعلامه وصفُه، ولا حاجة إلى ذكر وزنه، وفيه أيضاًً خلافٌ قدّمته، والأصح في المحمل وجوب ذكر الوزن إذا كان غائباً، والأصح أن ذلك لا يجب في الراكب الغائب، والمتبع في النفي والإثبات والفرق والجمع العرفُ، وهو هيّنٌ على أهل المعاملة. 5181 - ولو جرى ذكر المَحْمِل في موضعٍ محاملُه متدانية كمحامل بغداد،

_ (1) (د 1): بعين. (2) في الأصل: ليحملها.

وشقادف (1) الحجاز، فقد قال أبو إسحاق المروزي: إطلاق المحمل في مثل هذه البقعة كافٍ، وخالفه معظمُ الأصحاب؛ فإن المحامل لا تتوافق في شيء من البقاع، ولا بد وأن تختلف اختلافاًً معتبراً. 5182 - ومما يتعلق بالركوب أن المستأجر إذا ذكر أنه يركب الدابة بالإكاف، فلو أبدله بالسرج، جاز، فإن السرج أهونُ، وأخفُّ على الدابة من الإكاف. ولم يذكر أحد من الأصحاب اشتراط ذكر الوزن في السرج والإكاف، وإنما تعرضوا للوزن في المحامل الغائبة، واكتَفَوْا بالعادة في الإكاف والسرج؛ لأن ذلك مما لا يختلف اختلافاًً به مبالاة. 5183 - ومما ذكره الأئمة في ذلك أن قالوا: من اكترى دابة وقبضها، ثم أفلس [المكري] (2)، فلا أثر لفلسه في الإجارة، فإن منعنا بيع المكرَى يصْبرُ الغرماء حتى تنقضي الإجارة، ثم تباع الدابة، وتصرف إلى الغرماء. وإن جوزنا بيْعَ المكرَى، فأراد الغرماء البيعَ، جاز لهم ذلك، وإن كانت القيمة تنتقص والرغبات تقلّ، فإنا لا نكلفهم أن يؤخروا حقوقهم رعايةً لغبطة المحجور عليه. وقد ذكرنا لذلك نظائر في كتاب التفليس. ثم إذا بيعت الدابة، فهي تقِرّ في يد المستأجر إلى أن يستوفي تمام حقه، وتنقضي الإجارة، وذلك واضحٌ لا إشكال فيه. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المقصود من الإجارة الركوب، وقد وردت على عين الدابة. 5184 - فأما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، فيجري في ذلك لفظان: أحدهما - أن يقول: ألزمت ذمتك إركابي إلى الموضع الفلاني، فهذا لفظٌ. ولا بد فيه من إعلام المركوب، فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاًً عظيماً. وقد

_ (1) الشُّقدُف: بضم الشين والدال، مركب أكبر من الهودج، يستعمله العرب، وكان يركبه الحجاج إلى بيت اله الحرام. جمعه شقادف. (المعجم). (2) في الأصل، كما في (د 1): المكتري، والمثبت تقدير منا رعاية للمعنى.

ذكرنا في السَّلَم أنه يجب فيه ذكر الأوصاف المقصودة، فليذكر الجنسَ والنوعَ، وليبيِّن أن المركوب حمار، أو بغل، أو فرس، أو بعير (1)، وذكر الأئمة أنه يذكر أنه ذكر أو أنثى؛ فإن السير يختلف بالذكورة والأنوثة، والذي يدل عليه ظاهرُ كلام الأئمة أن ذلك شرطٌ، وقد رأيت في كلام بعضهم ما يدل على أن ذلك احتياطٌ، وليس بشرط، والمسألة محتملة. ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب لوصف سير الدابة، وأنها تخطو أو تُهَمْلج (2)، والذي لا يستراب فيه وجوبُ ذكر ذلك؛ فإن البهائم تختلف في هذا، وما ذكرناه في صفة السير يجري لها مجرى الأوصاف، ومعظم الغرض يتعلق بذلك، وإذا ذكروا الذكورة والأنوثة، فما ذكرتُه أولى بالاشتراط. فهذا بيان ما يتعلق من الإعلام بلفظٍ يتفق استعماله في إلزام المقصود ذمّةَ المكري. 5185 - واللفظ الثاني أن يقول: ألزمت ذمتك تسليمَ مركوبٍ إليَّ أركبه إلى موضع كذا، فهذا يُداني اللفظَ الأول، ولكنهما قد يختلفان في التفريع، كما سيأتي شرحُ ذلك، إن شاء الله تعالى- ثم القول في وصف الدابة كما ذكرناه. 5186 - ولا يشترط أن يذكر صحةَ الدابة وقوّتَها، واستقلالَها؛ فإن مطلق العقد يقتضي ذلك، وما يقتضيه مطلقُ العقد، فلا حاجة إلى التصريح بذكره. 5187 - ثم إن جرى العقد بلفظ السَّلَم، فيجب تسليمُ الأجرة في مجلسِ العقد، وإن لم يجر لفظُ السلم، وإنما قال: ألزمت ذِمتك، ففص وجوب تسليم الأجرة في مجلس العقد خلافٌ بين الأصحاب قدّمنا ذكره، وهو جار في البيع الوارد على مبيع موصوفٍ في الذمة من غير ذكر لفظ السلم، والسلف. 5188 - ثم إذا وردت الإجارة على الذمة، فيتصور فيها الحلول والتأجيل: فالحالّ

_ (1) (د 1): أو غيرهما. (2) تهملج: هملجت الدابة سارت سيراً حسناً في سرعة. (المعجم).

هو الذي يُقيَّد بالحلول، أو يطلق؛ فإنَّ المطلق عندنا كالمقيّد بالحلول والتعجيل. والمؤجل مثل: أن يقول: ألزمت ذمتك أن تُركبني غُرّةَ المحرم إلى موضع كذا، فهذا جائز؛ فإنّ الديون تقبل الآجال. فأما إذا ورد العقدُ على دابة معينة، ففرض الأجل محال؛ فإن الأعيان لا تقبل الآجال، ولو أضيفت إجارة الدابة المعيّنة إلى وقتٍ مستقبل، فهو باطل، كما تقرر من المذهب. ثم لا بد من إعلام الراكب في عقد الذمة، وقد ذكرنا طريق إعلامه بالعيان، أو الوصف، فإن قيل: أليس التعيين ينافي وضعَ السَّلم، فلم تجوّزون تعيين الراكب؟ قلنا: إنما يمتنع تعيين المعقود عليه، مثلُ أن يعيّن المسلم في الرطب نخلاتٍ من بستان، هذا ينافي مقصودَ السلم، والراكب ليس معقوداً عليه، والذي يوضح الحقَّ في ذلك أن الراكب وإن عُيِّن في الإجارة في الدابة المعيّنة، فإنه لا يتعين؛ إذ له أن يُركب غيرَه، فلا أثر إذاً لتعيين الراكب. والأمر على ما وصفناه. 5189 - ثم من أحكام الإجارة [الواردة] (1) على الذمة أن المكري لو سلّم دابةً على الصفة المطلوبة، ثم تلفت تلك الدابة في يد المستأجِر، فلا تنفسخ الإجارة، بل يجب على المكري أن يأتي بدابةٍ أخرى، على صفتها، وتحقيق ذلك أن الدابة إذا كانت معيَّنةً في الإجارة، فسلمها المستأجرَ، وتلفت في يده، فالإجارة تنفسخ، والتلف يقع من ضمان المكري. هذا حكم الإجارة الواردة على العين. فأما إذا كانت واردةً على الذمة، ففيها متسع، فلا وجه للحكم بالانفساخ إذا كان الوفاء بالعهد ممكناً، وكذلك لو عابت تلك الدابة في يد المكتري، فإنه يردّها ولا تنفسخ الإجارة، بل يستبدل عنها دابةً أخرى، غيرَ معيبة، وإذا عابت الدابة المعيّنة في الإجارة، فردُّها يتضمن انفساخَ الإجارة لا محالة. ومما يتعيّن الاعتناء بفهمه في هذا المقام أن الدابة المسلّمة في إجارة الذمة يتعلق بها حق المستأجر على التحقيق، وإن كان مستند الإجارة الذمةَ، وبيان ذلك: أن

_ (1) ساقطة من الأصل.

المستأجر لو أراد أن يكري الدابةَ التي قبضها عن إجارة الذمة، فله ذلك، أطبق عليه أئمة المذهب. ومما ذكروه في تحقيق ذلك أن المكري لو أفلس قبل تسليم الدابة، فقد يُضارب بحقه المستأجرُ، كما سنصفه الآن، إن شاء الله تعالى- وإذا سُلِّم الدابة، ثم جرى الإفلاس، فلا مضاربة، والمستأجر أولى بتلك الدابة حتى يستوفي حقَّه منها؛ فإن اختصاصه بها -وقد تسلمها- يزيد على اختصاص المرتهن بالرهن. 5190 - ومما ذكره الأئمة في ذلك: أن المستأجر لو أراد الاعتياض عن حقّه قبل تسلّم الدابة، لم يكن له ذلك؛ فإنه اعتياضٌ عن المسلم فيه، وهو ممنوعٌ إجماعاً، ولو تسلم دابة على الصفة المطلوبة، ثم أراد المكتري أن يعتاض عن حقه في تلك الدابة، فله ذلك، وفي تصحيح هذا الاعتياض سقوطُ حقِّ المستأجر، وعللوا بأن حقَّه إذا تعين في الدابّة (1)؛ فإن الاعتياض يقع عن حقٍّ في عين، فإذا كنا نجوز للمستأجر في إجارة الذمة أن يُكري الدابةَ التي قبضها، فقد أثبتنا له حقاً في عينها محققاً، فالاعتياض من المسلم إليه يَرِدُ على حقه المتعيّن في الدابة، ثم يترتب على تصحيح الاعتياض انقطاع حقّه من المسلم. فإن قيل: لو تعين حقه كما ذكرتموه في الدابة، فلم قلتم إذا تلفت تلك الدابة، وجب على المسلم إليه الإبدال؟ قلنا: لأن القبض لا يتحقق في المنافع من الوجوه كلِّها قبل انقضاء المدة، فلذلك قلنا: لو تلفت الدابة المعيّنة في الإجارة في يد المستأجر، تضمن ذلك انفساخ الإجارة. 5191 - فلينتبه الناظر إلى هذه الأحكام؛ فإنها مستقيمةٌ على قاعدة الإجارة، وموجب الذمة، وقد يظن المبتدىء فيها تناقضاً، وليس الأمر كذلك. وسبب اختلافها ظاهراً [صدورُها] (2) عن حكم الذّمة (3)، وثبوتُ حق التعيينِ بالقبض، مع

_ (1) في (د 1): الذمة. (2) في الأصل: صدورهما. (3) (د 1): ظاهر صدورها عن حكم الحدمة.

العلم بأن القبض لا يتم في المنافع، ما لم تنقض المدّة (1). 5192 - ومن تمام البيان في ذلك أن المكري في الذمة لو سلم دابَّة، ثم استردّها وأتى بأخرى، وقد يعتاد المكرون ذلك، فنقول: إن لم يرض المكتري بهذا، فلا يسوغ استرداد الدابة منه، لما قرره الأئمة من ثبوت حق اختصاصه بالدابة، حتى أثبتوا له أن يُكري تلك الدابة، وهذا ينافي جواز انفراد المكري بالاستبدال. 5193 - وكان شيخي أبو محمد يقول: إن كان لفظُ الإجارة معتمِداً ذكر الدابة، مثل أن يقول: ألزمتك دابة صفتُها كذا، أركبها، فإذا سلمت إليه الدابة، فلا يجوز الاسترداد أصلاً. وإن قال: ألزمت ذمتك إركابي، فالمعتمد الإركاب، فيجوز الاستبدال، والحالة هذه. والأئمة لم يفصلوا بين اللفظين؛ فإن المعتمدَ -كيف جرى اللفظُ- الدابةُ وصفتُها، والذي ذكره شيخي إنما يتجه، ويحسن، إذا كان الاكتراء لنقل حُمولة؛ فإن الدابة لا أثر لذكرها (2)، فإذا قال: ألزمت ذمتك نقلَ متاعي هذا إلى موضع كذا، فلا ينبغي أن يكون لتسليم الدابة في هذه الصورة أثرٌ ووضعٌ 3) أصلاً، وسنوضح أنه لو أراد نقلَ ذلك المتاع بكتفه، جاز، فلا أثر إذاً للدابة في هذا الموضع إذا لم يقع التعرض لها، فإذا جاء المكري المتلزمُ بالدابة وحمّلها الحُمولة المذكورة، فلا أثر للإتيان بها وتسليمها؛ فإن مقصودَ العقد نقلُ المتاع على أيِّ وجهٍ فُرض. أما إذا كان المقصود الركوب، فلا بد من التعرض للدابة، بل لا بدّ من ذكر جنس المركوب ووصفه؛ فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاً بيّناً، ولا أثر لذكر الدابة في نقل الحُمولات. هذا منتهى القول [في] (4) ذلك. 5194 - ومن بقية الكلام في هذا القسم أن المكري الملتزم في الذمة إذا أفلس قبل

_ (1) (د 1): الذمة. (2) (د 1): لدركها. (3) (د 1): ووقع. (4) في الأصل: من.

تسليم الدابة الموصوفة، وإقباضها، فإن كانت الأجرة التي سلمها إليه قائمةً بعينها، فالمكتري بالخيار بين أن يفسخ العقد، ويسترد عينَ ماله، وبين أن يُمضي العقدَ، ويضارب الغرماء. وإن لم تكن الأجرة باقيةً، فلا وجه له إلا المضاربة، والسبيل فيها أن يضارب بكراء مثل إركابه على الدابة الموصوفة، إلى الموضع المذكور، وما خصه بالمضاربة لا يسلّم إليه؛ إذ لو سُلّم إليه، لكان اعتياضاً عن المسلَم فيه، ولكن يصرف ما يخصه إلى دابة يركبها، فإن أمكن شراء دابة للمفلس، حتى يركبَها المكتري إلى المكان المسمى، ثم الدابة تباع، وتصرف إلى الغرماء، فهذا بالغٌ حسن، وفيه توفية حق المكتري من غير تنقيصٍ من حقوق الغرماء. وإن لم يتمكن من ذلك، اكترينا بما يخصه دابةً على الصفة التي ذكرها، فإن لم يف ذلك المقدارُ بتمام الغرض، حصّلنا بعضَ المقصود، وبقي الباقي ديْناً له في ذمة المفلس، وقد ذكرنا المضاربة في السلم في كتاب التفليس. وهذا عين (1) ذاك. وقد نجز القول في اكتراء الدابة للركوب على صفة التعيين، وعلى إلزام الذمّة. 5195 - فأما الاكتراء للحمل، فينقسم إلى إجارةٍ ترد على عين الدابة وإلى إجارةٍ تعتمد إلزام ذمة [المكري] (2)، فأما ما يتعلق بالعين، فهو استئجار دابة معيّنة لتحمل متاعاً، وفي اشتراط رؤيتها قولان، كالقولين في شراء العين الغائبة، ثم لا بد من الإعلام، وله مسلكان، كما تقدم ذكره: أحدهما - الإعلام بالزمان، وذلك مثل أن يقول: اكتريت منك هذه الدابة بياضَ هذا النهار، لأنقل عليها أمتعةً لي من الحانوت إلى الدار؛ فالإجارة تصح، فإنّ ذكْر المدة يُعلم المقصودَ، ويبيّنه، ولكن لا بد من ذكر المقدار الذي تحمله الدابة كلَّ كرّة، فإنها لو حملت ما لا تُطيق في كل كرة، لتفسخت، وهلكت. فهذا وجهٌ في الإعلام.

_ (1) (د 1): غير ذاك. (2) في الأصل: المكتري.

والوجه الثاني - أن يتعرض لنفس المقصود من غير ذكر زمان؛ مثل أن يقول: اكتريت منك هذه الدابة لأحملها كذا وكذا، إلى موضع كذا، فهذا إعلامٌ كافٍ، وإن لم يقع لذكر الزمان تعرّضٌ. 5196 - ثم التعويل في هذا السبيل على ذكر المقدار المحمول (1)، ولإعلامه مسالكُ ذكرها الأصحاب، ونحن نذكرها على وجوهها، ونُتْبع كلَّ وجهٍ بتعليله، ثم إذا نجزت فصول اكتراء الدواب، وما ذكره الأصحاب فيها، جمعنا بعد انقضائها كلاماً ضابطاً، يحوي مآخذ الكلام، إن شاء الله تعالى. فمن وجوه الإعلام في (2) الحُمولة ذكرُ الوزن، فإذا قال: اكتريت هذه الدابة لأحمّلها مائة مَنٍّ، إلى الموضع الذي يُسمّيه، كفى ذلك في الإعلام، وأجمع الأصحاب على أنه لا يجب ذكر جنس المحمول، وإن كان قد يختلف الغرض به، كما سيأتي شرح الكلام عليه، إن شاء الله تعالى. ثم قال الأئمة: (3 إذا ذكر الوزن 3)، فله أن يحمّلها مائةَ منٍّ من أي جنسٍ شاء. هذا وجهٌ في الإعلام. 5197 - ومما ذكره الأصحاب في الإعلام معاينة المحمول، فإذا قال: اكتريت هذه الدابة لأحمّلها هذا، جاز. اتفق عليه الأصحاب، وأطبقت عليه الطرق وإن كان العيان لا يبيّن مقدار الوزن، وإنما يقرّب بعضُ الخواص، القولَ في وزن ما يعيّنه خرصاً وتخميناً، والعقد يصح تعويلاً على العِيان فيما يُخرَص، وفيما لا يُخرَص. 5198 - ومما ذكره الأئمة أن المتاع لو كان في ظرف لم يعايِن جنسَه، فشاله (4) المُكري باليد، كفى ذلك في الإعلام، إذ الشَّيْلُ في الوزن أقرب إلى العِيان، فإذا كفى العيان، كفى الشَّيْلُ، والتقريب المستفاد منه. أما إذا لم يعايَن المتاع في الظَّرْف،

_ (1) (د 1): المعلوم. (2) (د 1): أن الحمولة. (3) ما بين القوسين ساقط من (د 1). (4) شاله: أي رفعه، فهي من العامي الفصيح. (المعجم).

ولم يُشَلْ، فلا يصح العقد؛ فإن المحمول مجهولٌ، لم يتطرّق إليه وجهٌ من الإعلام. ويجوز أن يكون المغطّى بظرفه شيئاًً خفيفَ الجنس، ويجوز أن يكون حديداً، أو تبراً. هذا بيان إعلام المحمول فيما ذكره الأصحاب. 5199 - ثم قالوا: إن قال: استأجرت هذه الدابة لأحملها مائة (1 منّ من الحديد، لم يتعين الحديد، بل كل ما يشابهه في الرزانة والاكتناز، فهو بمثابته، فإذا قال: أحملها مائة منّ من الحديد، لم يتعين الحديد، فله أن يحملها النحاس والرصاص والتبر؛ فإن هذه الأجناس متقاربة، ولو أراد أن يحملها مائة منّ من التبن لم يكن له ذلك؛ وكذلك لو عين التبن، فقال: أحمّلها مائة 1) منّ من التبن، فله أن يُحمّلها مائة من من القطن؛ فإنه في معنى التبن، وليس له أن يحمّلها مائة منّ من الحديد. والسبب فيه أن كلّ واحدٍ من الحديد والتبن فيه نوع من الضرر لا يمكن دفعه، أما الحديد، فإنه باكتنازه، وثقله يَلْقَى موضعاً من الدابة، [فيهدّ] (2) ذلك الموضع، ويدقه، وقد يُقرّحه. وفي حمل التبن ضرر آخر؛ فإنه [يغمّ] (3) الدابة ويعمّها ويحوي جملتَها، فإذا وقع [تعيين] (4) في أحد هذين الجنسين، لم يكن للمكتري أن يبدله بالجنس الآخر. ولو قال أُحمّل الدابة مائةَ مَنّ من الحنطة، فله أن يحمّلها مائةً منّ من الشعير، وكذلك عكسه؛ لأنه لا يتفاوت الأمر، وهذا لائح، لا إشكال فيه. وإنما نذكر الآن المسائل مرسلةً، وسيأتي ضابطها في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. 5200 - ومما ذكره الأئمة في ذلك أنه لو قال المستأجر: أحمّلها مائة مَنّ، فالظرف

_ (1) ما بين القوسين سقط من (د 1). (2) في الأصل: فيمد. (3) في الأصل، كما في (د 1): يعمّ. والمثبت تقدير منا لتحقيق التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وغمّ الشيء غطاه (المعجم). (4) ساقطة من الأصل.

محسوبٌ في المائة، ولو قال: أحمّلها مائة مَنٍّ مِن الحنطة، فالظرف زائد على المائة المنّ؛ فإن الحنطة التي ذكر وزنها لا يتأتى حملُها إلا في ظرف. ثم لا بد وأن يكون الظرف معلوماً، إما بالمعاينة، وإما بالوصف، ثم من ضرورة الوصف التعرض لوزنه، وإن جرت الإجارة في موضعٍ لا يتفاوت الظروف فيه، كالغرائر الحبليّة (1) التي تُنسج على منوالٍ واحد، فالعرف المقترن بالعقد كافٍ في البيان، هذا ظاهر المذهب. ومن أئمتنا من قال: إذا قال: أحمّلها مائةَ منّ، فالظرف زائد على المائةِ أيضاًً؛ فإن الغالب أن التعرض يقع للمحمول في الظَّرف، وإن لم يقع التنصيص على جنسه. [فقوله: أحمّلها مائة منّ، كقوله: أحملها مائة مَنّ من الحنطة] (2). وهذا محتمل. وظاهر المذهب ما قدّمناه. ثم سيأتي في الظروف وأنها على المكري أو على المكتري فصلٌ منفردٌ، إن شاء الله عز وجل. 5201 - وما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردةً على عين الدابة. فأما إذا أورد الاكتراء على الذمة بحمل الحُمولة، فلا يجب فيها وصف الدابة والتعرض لها؛ ويكفي أن يقول للمستأجر: ألزمت ذمتك نقل مائة منٍّ من الحنطة إلى موضع كذا، وإنما لم نوجب التعرضَ للدابة؛ لأن المقصود لا يتفاوت في نقل الحُمولة بتفاوت الدواب، وليس كما إذا كان المقصود الركوب؛ فإن الغرض الأظهر يتعلّق بصفة المركوب، فلو ذكر المكتري دابةً ووصفها، ولم يعيّنها، والمقصود نقل الحُمولة، فلا بأس أيضاًً، وقد يكون له في وصف الدابة غرضٌ.

_ (1) الحبلية: نسبة إلى (الحبْل) اسم موضع بالبصرة، أو إلى قرية من قرى عسقلان اسمها: (حبْلة). أو إلى (الحَبْل) الذي منه مادتها. كل ذلك فحتمل، فلم أصل فيما راجعت من أسماء المواضع والبلدان، ومعاجم الألفاظ والأنساب، ما يقطع بواحدٍ من هذه. والله أعلم. (2) المثبت بين المعقفين عبارة (د 1)، وعبارة الأصل: "وإن لم يقع التنصيص على جنسه بقوله: أحملها مائة من من الحنطة".

5202 - فخرج مما ذكرناه أن الكراء الواقع في الذمة لنقل الحُمولة يفرض على وجهين: أحدهما - الاقتصار على إلزام الذمة من غير ذكر مركوب. والثاني - التعرضُ لمركوبٍ، ووصفُه، وكلا الوجهين جائزان. وإن كان المقصود الركوب، فلا بد من التعرض لمركوب كما ذكرناه. 5203 - قال القاضي: إذا كان المحمول شيئاًً يُخاف انكساره، وكان مما يتأثر بالحركة العنيفة، فلا بد من التعرض للدابة، كالزجاج وما في معناه، فلا يصح فيما هذا سبيله إطلاق الإلزام في الذمة، حتى يذكر الدابة، وهذا الذي ذكر حسنٌ، وهو مفروض فيه إذا أشار إلى المحمول، وهو زجاج، أو ما في معناه، أو ذكره. فأما إذا جعل عماد العقد الوزنَ، ونوى حملَ الزجاج، وأضمره، وما ذكره، وما أظهره، فلا يجب التعرّض للدابة، والحالة هذه. 5204 - فأما الاكتراء للاستقاء، فإنه ينقسم أيضاًًً إلى ما يرد على عين الدابة وإلى ما يرد على الذمة. فأما الإجارة الواردة على عين الدابة، فهي أن يقول: اكتريت هذه الدابة لأستقي بها، وهذا يستدعي الإعلامَ، وله وجهان: أحدهما - أن يتعرض للزمان، فيقول: أستقي بها في هذا اليوم، فهذا ضبطٌ (1)، ولا بد معه من ذكر الدار التي يقع بها الاستقاء، والبئر التي يقع منها الاستقاء، وهذا يناظر قولنا في نقل الحُمولة: إنه إذا ذكر زماناً ينقل فيه حُمولةً من الخان إلى المنزل، فلا بد من ذكر مقدار ما تحمل الدابة كل مرة، كذلك لا بدّ هاهنا من ذكر الدلو، والبئر، ولا يخفى اختلافُ الغرض فيما ذكرناه. هذا وجهٌ في الإعلام. والوجه الثاني - في الإعلام أن لا يتعرض للمدة، ويُبيّن العملَ، فيقول: اكتريت هذه الدابة لأستقي من هذه البئر كذا وكذا دلواً إذا أشار إلى دَلو وعيّنه، ولو وصفه،

_ (1) (د 1): إعلام.

ووصف البئر، وعمقها، كان الوصف كالتعيين، بل هو أبلغ في إفادة الإعلام من التعيين. 5205 - وأما الكراء الواقع على الذمة في هذا القسم، فإنه ينقسم انقسام الاكتراء الواقع على الذمة في نقل الحُمولة، فيجوز إيراده على الذمة المطلقة، من غير تعرُّضٍ للدابة، ولا بد من إعلام البئر والدَّلْو، إن كان التعويل على عدد الدِّلاء. وإن أراد المكتري التعرضَ لدابة يصفها، يقع بها الاستقاء، فله ذلك، كما قدمناه في نقل الحمولة. 5206 - فأما الاستئجار للحرث، فينقسم إلى العين، والذمة، فأما الإجارة الواردة على العين، ففيها الإعلامان المذكوران قبلُ في المسائل: أحدهما - يشتمل على ذكر الزمان، فيقول: اكتريت منك هذه الدابة لأحرث بها اليومَ، ولا بد من وصف الأرض، أو الإشارة إليها، فإن أشار إليها، كفت الإشارة، والتعيينُ إذا كان يُطلع بالإشارة على صفة الأرض، فقد تكون الأرض مُتستِّرة بترابٍ حُرّ ووراءه الحجرُ والرمل (1). وإن اعتمد الوصفَ، ولم يعيّن الأرضَ، قال: إنها خصبة، أو سهلية، أو جبلية، أو صلبة، أو خوارة، [جاز] (2). والغرض يختلف بهذا اختلافاًً ظاهراً. وإن لم يُرد أن يذكر الزمان، فعيّن الدابة، وأعلم العمل بالإشارة إلى الأرض، أو بذكر أرضٍ موصوفةٍ، فذلك جائز، كما تقدم. 5207 - والاكتراء على الذمة في الحراثة ينقسم، كما تقدم في الاستقاء، ونقل الحُمولة؛ فلا يمتنع إلزام الحرث في الأرض المعيّنة، أو الموصوفة في الذمة. وإذا كان المكتري لا يُجري ذكرَ البهيمة، ذَكَرَ مساحةَ الأرض، والمنتهى الذي يبغيه في التكريب (3)، والتقليب، والحرث، فلا بد من وصف الأرض كما تقدم.

_ (1) (د 1): والوصف. (2) ساقطة من الأصل. (3) التكريب: هو تقليب الأرض، وزناً ومعنىً. (المصباح).

وإن أراد التعرضَ للدابة التي يقع الحرث بها، فيجب الاعتناء بوصف الدابة، وذكر جنسها؛ فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاً بيناً. 5208 - [فهذه جهات الأغراض] (1) في اكتراء الدواب وبيان الإعلام في المطلوب من كل فن، وإيضاح انقسام الإجارة إلى ما يرد على العين، أو على الذمة، وقد ضمّنَّا الكلامَ انقسامَ الإعلام، وانقسامَ كراء الذمة. ونحن نرسم بعد ذلك فصولاً متصلةً بالأصول التي مهدناها، ثم نذكر بعد نجازها الضابط الموعود. فصل فيما على المكري والمكتري من الآلات في تحصيل الأغراض التي قدمنا ذكرها. 5209 - فإن كانت الإجارة واردةً على العين، وكانت مطلقة، فالإكافُ والحزامُ (2) والبرذعة والخِشاش (3)، أو البُرَةُ (4)، والخطامُ في البعير، كل ذلك على المكري [إذا] (5) جرت الإجارةُ مطلقةً واردةً على عين الدابة، والمعوّل فيما ذكرناه على العرف الغالب؛ فإن مطرد العرف يقضي بكون هذه الآلات على المكري. واختلف أصحابنا في السرج والدابةُ معينة للركوب، فمنهم من قال: يأتي به المكري قياساً على الإكاف، ومنهم من قال: يأتي به المستأجر، بخلاف الإكاف. والتعويلُ في ذلك على العادة، وأنها في السرج تجري على خلاف حكمها في الإكاف، والمتبع في الخلاف والوفاق العرفُ، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.

_ (1) عبارة الأصل: هذه الأغراض في اكتراء الدواب. (2) في الأصل، كما في (د 1): الحرام بالإهمال للراء. (3) الخِشاش: بكسر الخاء عود يجعل في أنف البعير يشدّ به الزمام. يقال: خشَّ البعيرَ إذا جعل في أنفه الخشاش. (المعجم). (4) البرةُ: حلقةٌ من صُفرِ (نحاسٍ) أو غيره تجعل في أحد جانبي أنف البعير للتذليل. (المعجم). (5) في الأصل: أو.

5210 - وأما الظروف التي فيها نقل الحُمولة، فإن كانت الإجارة واردةً على عين الدابة، فهي على المكتري، وليس على مُكري الدابة إلا تسليمُها، مع الإكاف، وغيره، مما وصفناه. وإن كانت الإجارة واردةً على الذمة في نقل الحُمولة، فقال الملتزم: التزمتُ نقلَ متاعك إلى موضع كذا، فالظرف على المكري الملتزم؛ فإنه إذا التزم النقلَ مطلقاً، فقد التزم التسبب إلى تحصيل الآلات التي يقع النقلُ بها. 5211 - وإن كان الاكتراء للاستسقاء، فقد قال القاضي: إن كان الرجل معروفاً بالاستقاء بجمل نفسه، ودَلْو نفسه، فمطلق التزام الاستقاء يلزمه الإتيان بالدَّلو والرِّشا. وإن لم يكن المكري معروفاً باعتياد ذلك، فليس عليه إلا الإتيانُ بدابةٍ صالحةٍ للاستقاء. ويتجه عندنا في ذلك ضربٌ من التفصيل، فنقول: إن لم يقع التعرض للدابة، وإنما اعتمد العقدُ الالتزامَ المطلق في تحصيل الغرض، فالظرفُ، والدَّلو، والرّشا، وما عداها من الآلات، التي تمس الحاجةُ إليها- على المكري الملتزم. وإن وقع التعرضُ للدابة ووصفها، فالأمر يختلف وراء ذلك بالعادة، فإن اطّردت عادةُ الناحيةِ بأن يأتي الملتزم بالآلات، فعليه الإتيان بها، وهي تنزل منزلة الإكاف، وما في معناه، وإن جرت العادة بأن المكتري يأتي بالظروف والآلات، فليس على المكري الإتيان بها. 5212 - وإن اضطربت العادات، والإجارةُ واردةٌ على الذمة، وقد وقع التعرض للدابة وصفتها، فالمسألة محتملة: يجوز أن يقال: [على المكتري] (1) الظروفُ والآلات؛ فإن الاعتماد على الدابة والإتيان بها، ويجوز أن يقال: إنها على الملتزم المكري، فإنه التزم النقلَ، فأشعر التزامُه بالتزام الأسباب التي لا بد منها في النقل. ثم يتصل بهذا المنتهى أن العادة إذا اضطربت، ورأينا اتباع العادة، فهل يبطل العقدُ لاضطراب العادة، حتى يقال: لابد من التقييد، حتى لا يقعَ العقدُ في

_ (1) في الأصل: ليس على المكري.

مضطرب العادة؟ أم لا حاجةَ إلى ذلك، ويرجع إلى صيغة اللفظ (1) ومقتضاها؟ [فيه] (2) خلاف قدمته. ولا خلاف بعد تقدير ذلك أنه لو خصص العقد بالدابة، ونفى التزام الإتيان بالآلات فينعقد العقد على حسب ذلك، حتى قال الأصحاب: ولو قال: أكريتك هذه الدابةَ العاريةَ، بلا إكافٍ وحزام وبرذعة، فالإجارة تنعقد على هذا الوجه، وينقطع اتباع العادة. 5213 - ولا خلاف أن المكتري إذا كان يركب المَحْمِل، فعليه الإتيان بالمَحْمِل، والمظلة والغطاء، وما يفرش في المحمل والحبل الذي يُشدّ به أحدُ المحملين إلى الآخر، والذي يشد به المحمل على الدابة. هذه الأشياء بجملتها، يأتي بها المكتري، إلا أن يشترطها على المكري. 5214 - وإن مست الحاجةُ إلى سائقٍ يسوق، وإلى هادٍ دالٍّ يدل، فإن كانت الإجارة واردةً على العين، فليس على المكري إلا تسليم الدابة. وإن كانت الإجارةُ واردةً على الذمة، فالتفصيل في أجرة السائق والهادي، كالتفصيل في الإتيان بالظرف، وقد بينا ذلك. فصل 5215 - قد ذكرنا في قاعدة المذهب أن المَحْمِل لا بد وأن يكون معلوماً للمكري، وأوضحنا طريقَ الإعلام فيه، ونحن نذكر الآن تفصيلَ القول في المعاليق التي يُعلّقها المكري كالسفرة (3)، والقُمقُمة (4)، والمِطهرة (5)، ونحوها.

_ (1) (د 1): العقد. (2) في الأصل: ففيه، ومطموسة في (د 1). (3) السفرة: طعام يصنع للمسافر، وسميت الجلدة التي يوعى فيها الطعام سفرةً مجازاً، والجمع سُفر، مثل غرفة وغرَف. (المصباح). (4) القُمقمة: وعاء من صفر (نحاس) له عروتان، يستصحبه المسافر. (مصباح). (5) المطهرة: الإداوة، وهي إناء صغير يحمل فيه الماء (المعجم، والمصباح).

5216 - فأول ما نذكره فيها أنها إن أُعلمت وصفاً، أو تعييناً، فلا كلام، وإن أُطلقت، قال الشافعي: القياس أن إطلاقها فاسدٌ مفسد؛ فإنه لا بيان فيها، ولا ثبت يُرجَع إليه، وهي مذكورة في العقد على الجهالة. قال: ومن الناس من يقول: يصح العقد، والرجوع إلى ما يراه الناس وسطاً مقتصداً. هذا كلام الشافعي. 5217 - واختلف أصحابنا، فمنهم من قال: هذا الذي ذكره الشافعي ترديدُ قولٍ منه، ففي المسألة قولان: أظهرهما - أن العقد لا يصح للجهل، كما قررناه. والثاني - أن العقد يصحّ، ويحمل الأمرُ على ما يراه أهل العرف قريباً مقتصداً في المعاليق. ومن أئمتنا من قال: لا يصح العقد قولاً واحداً؛ لما قدمناه من ظهور الجهالة، فالمذهب الآخر حكاه الشافعي عن بعضِ الناس، فلا يُلحق بمذهبه. 5218 - وفي بعض التصانيف (1) أن المَحْمِل إذا أطلق، ولم يقرن ببيانٍ من طريق الوصف، ولا من طريق العيان، فهو كالمعاليق حتى يُخرَّجَ فيها الطريقان. وهذا غلطٌ لا تعويل عليه، لم أره إلا في هذا التصنيف، وليس المَحْمِل كالمعاليق؛ فإنه من الأمور المقصودة، ولا يعد من التوابع في الإجارة، فإبهامه كإبهام الحُمولة. 5219 - وإذا أجرينا القولين في المعاليق، وهي الطريقة المشهورة، ثم فرّعنا عليها، وقلنا بصحة العقد، وتنزيل المعاليق على المعتاد، فلو لم يذكر المعاليقَ أصلاً، فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - أن المكتري (2) لا يحمل المعاليق؛ فإنه لم يجر لها ذكر. ومن الناس من لا معاليق له. ومنهم من قال: يقبل من المكتري المعاليق، ويحمل على قضية الاعتياد، كما ذكرناه.

_ (1) يقصد ببعض التصانيف، كتب الإمام أبي القاسم الفوراني، فهو كثير الحط عليه، وتغليطه. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك مراراً. (2) في (د 1): " المكري ".

5220 - ومما يتصل بما نحن فيه، أن من اكترى دابة ليحمّلها حُمولة تستقلّ الدابة بها فحسب، ولا يتأتى ركوبها، فلا معاليق في مثل ذلك، وإنما [المعاليق] (1) للدابة التي يركبها المكتري. وهذا بيّن متفق عليه. ولا شك أن المعاليق تختلف باختلاف المركوب، فمعاليق الحمار دون معاليق البعير. 5221 - وألحق أئمتنا السُّفرةَ بالمعاليق. فأما حمل طعامٍ فيها، فقد اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من ألحقه بالمعاليق، ورد الأمر في مقداره إلى الاقتصاد في العادة. ومنهم من لم يُثبت حملَ الطعام إلا مبيناً مُقدَّراً؛ فإن التقدير فيه متيسّرٌ غيرُ بعيدٍ عن العادة، فأما وزن القماقم [والإداوات] (2)، فممَّا لا يُعتاد أصلاً، ويُبنى الأمر فيه على التسامح والتساهل. فإن قلنا: لا بد من ذكر مقدار الطعام المحمول، فهو مما يؤكل في كل محط ومنزل. 5222 - فإذا وقع التشاوط على حمل عشرين مَنّاً من الطعام، فقد قال الشافعي: القياسُ [أن له إبدال] (3) ما يفنى من الزاد. والتفصيل فيه أن المكتري إن أكل الطعام المحمولَ، فالمذهب أن له أن يأخذ مثل ذلك الطعام، وأبعدَ بعضُ أصحابنا فيما نقله بعضُ المصنفين، فقال: ليس للمكتري أن يحمل طعاماً جديداً، إذا فني ما حمله أولاً؛ فإن المكري إنما يسامح في حمله بناء على أنه يؤكل ويَفْنَى، ثم المكتري يشتري في كل مرحلةٍ قدرَ حاجته. وهذا وجه مزيّفٌ، لا أعدّه من المذهب. وقد قطع الأئمة بأن الطعام إذا فَني، أخذ المكتري مثلَه.

_ (1) في الأصل: المعلاق. (2) في الأصل: الإداوة. (3) في الأصل: أن يبدل.

5223 - والمسائل مفروضة فيه. إذا قال المكتري: أحمل عشرين منّاً من الطعام، فهذا اللفظ يشعر باستدامة حمل هذا المقدار، والعادةُ جاريةٌ بين المسافرين، بأن حَشْو السفرة إذا فني أعادوا مثله، وإذا تطابق اللفظ والعرف، فلا وجه لمخالفتهما. نعم. محلّ تردد الأصحاب ما نصفه. قالوا: إذا نفذ جميعُ الزاد، فله حملُ مثله، وإن انتقص، فهل له أن يُكمل المقدارَ المذكورَ كلما انتقص، أم ليس له ذلك، حتى ينفد الزاد؟ فعلى قولين: أصحهما - وهو اختيار المزني أنه يزيد كلّما نقص، كما أن الحمولة المقصودة لو نقص شيء منها بسببٍ، فإن المكتري يُكملُها ويردّها إلى المقدار المشروط، فكذلك الزاد المشروط. والقول الثاني - أنه لا يكمل ما نقص؛ لأن العادة في الزاد أنه لا يشتري منه ما لم يَفْن الأول. 5224 - ثم موضع التردد والخلاف فيه إذا كان في المراحل المستقلة زادٌ بأسعارٍ راخية. فإن لم يكن فيها زادٌ، أو كان، ولكن بسعرٍ عالٍ زائد على سعر المنزل، الذي اتفق فيه نقصانُ الزاد، فيجوز الإبدال في هذه المنازل، قولاً واحداً؛ فإن اللفظ في تقدير الزاد مشعرٌ بهذا، والعادةُ مطردة، موافقةٌ، ثم تحقق القحط (1) والغلاء كما ذكرناه، والظن فيه والاستشعار بمثابة التحقق، وهذا معلوم في العادة. 5225 - ومن تمام البيان في ذلك أن المسائل التي حكينا النصَّ، وتردُّدَ الأصحاب فيها في إبدال الزاد وجَبْر النقصان مصوّرةٌ فيه إذا ذكر المكتري أنه يحمل خمسين منّاً من الزاد مثلاً، فإن لم يجر للزاد ذكرٌ، والطعام موجود، فالذي عليه التعويل أن المكتري لا يحمل شيئاًً، وليس القول في ذلك كالقول في المعاليق؛ فإن المسافر لا يخلو عن المعاليق، والعادات مضطربة في حمل الطعام، إذا كان موجوداً في المنازل. وأبعد بعضُ أصحابنا كما قدمنا، فألحق حملَ الطعام بالمعاليق.

_ (1) (د 1): تحقيق العقد.

فإن فرعنا على هذا الوجه الضعيف، وجوزناً له أن يحمل مقداراً من الطعام، ورجعنا فيه إلى عادة المسافرين، فالظاهر في التفريع على هذا المنتهى أنه إذا نقص شيء من الطعام، لم يجبره؛ فإن المعتمد في المسائل المتقدمة أن المكتري ذكر مقداراً من الزاد، فاقتضى اللفظُ استدامةَ ذلك المقدار، فإذا لم يجر ذكرُ مقدارٍ، ووقع التعويل على العادة المجردة، فالعادة تقتضي أن الطعام لا يزاد كلما نقص. 5226 - وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في جواز الزيادة، وهذا على نهاية الضعف؛ فإنه تفريع ضعيف على أصلٍ ضعيفٍ. نعم، إذا لم يكن بين يدي المسافر طعام في المنازل، أو كان ولكن بسعر زائد، فالعادة تقتضي الاستظهار بالزاد، ويعود الكلام الآن إلى المقدار، وفيه جهالة، فيتصل ترتيب المذهب في هذا المقام بالمعاليق؛ فإنها معتادة محمولة. هذا منتهى البيان في ذلك. فصل قال: " وإن أكراه إلى مكة، فشرط سيراً معلوماً، فهو أصح ... إلى آخره (1). 5227 - إذا اكترى دابةً ليركبها، أو يُحمّلها إلى موضعٍ مخصوص، فإن ذكرا قدرَ السير كلَّ يوم، وأبانا أنهما يسيران خمسة فراسخ، أو أقلَّ، أو أكثر على ما يتوافقان عليه، وكانت الدابة تحتمل ذلك، فالشرط متبع. وإن لم يذكرا مقدار السير، وأطلقا العقدَ، نُظر: فإن لم (2) يكن في الطريق مراحلُ معلومةٌ، كطريق سماوة (3)، وتبوك، فالمذهبُ الصحيح أن العقد يفسد؛ فإن المقصود فيه مجهولٌ، غيرُ متقيّد بلفظٍ، ولا عادة. ومن أصحابنا من صحح الإجارة، وتشوّف إلى ضبط السير بالزمان، مع الاقتصاد في المسير.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 83. (2) (د 1): فإن كان. (3) السماوة: بادية السماوة بين الكوفة والشام.

فإن كان في الطريق مراحل معلومة، بالمناهل والرباطات، والقُرى، أو بالأميال، والبُردُ والصُّوى (1)، فالعقد صحيح محمول على موجب العادة والكلام في كيفية تسيير الدابة استحثاثاً وتزجيةً، مردودٌ إلى العادة، وهو مضبوطٌ، لا يعدّ من المجاهيل، فإذا تقيّد المسير بالعرف، والمراحل المرتبة في الطريق، فلا مزيد ولا نقصان إلا عن تراضٍ من المكري والمكتري. 5228 - ومما يتعلق بما نحن فيه الكلامُ في زمان السير والسُّرَى (2)، فإن بيّناه شرطاً في العقد، اتّبعناه، وإن أعرضا عن ذكر الزمان، وأطلقا العقدَ، فالعادة يُكتفَى بها في ذلك، فنحملها إذا تنازعا في زمان المسير على المعتاد في ذلك الطريق، فإن لم يكن للعادة ضبطٌ في الزمان الذي يقدّر السير فيه، فهذا يجرّ جهالةً مفسدةً؛ من جهة أن المتعاقدَيْن إذا تنازعا، وليس أحدهما بالموافقة بأولى (3) من الثاني، فيؤدي مثلُ هذا إلى قيام الخصومة ناشئةً بينهما، لا نجد لها مفصلاً. وهذا غير مُحتمل. 5229 - ولو تنازع المكري والمكتري في محل النزول، فطلب المكري النزولَ في الصحراء بارزاً من القرية وخِطّتها، ورأى صاحب المتاع النزولَ في القرية احتياطاً لمتاعه، وليشتري في القرية ما يبغيه على يُسر، فإذا تنازعا كذلك، حملناهما على العادة، فإن كان وقت أمنٍ، فالعادة النزول في الصحارى، وإن كان وقت خوف، فالعادة النزول في القرى، ومما يؤثر في ذلك الصيفُ والشتاءُ، والعادة هي المتبعة. وإن اضطربت العادة في محل النزول، ولم نجد منها بيّناً (4) بعَيْنه نتَّبعه، ففي المسألة احتمال، والأظهر أن ذلك يؤثر في الفساد؛ فإنه يجرّ نزاعاً عظيماً بين المكري والمكتري.

_ (1) الصوى: جمعُ صُوّة، وهي العَلَم من الحجارة المنصوبة في الطريق، وزان مُدية ومُدّى (المصباح). (2) السُّرى: سيرُ عامة الليل (يذكّر ويؤنّث) وفي المثل: " وعند الصباح يحمد القومُ السُّرى " (المعجم). (3) (د 1): بالموافقة منها أولى ... (4) كذا في النسختين. ولعلها: شيئاً.

5230 - ومما يتصل بذلك أن المكتري الراكب قد ينزل بالرواح، ويمشي مقداراً، فإن وقع فيه شرط على المكتري، فقد قال الأصحاب: يلزمه اتباعُ ذلك الشرط، وهذا يعترض فيه إشكال، وهو أنه إذا قُدّر ذلك مستحقاًً، رجع استحقاق الركوب إلى بعض المسافة، وينقطع الأمر فيه، ويقع في تفريع كراء [العُقَب] (1)، وقد تَفَصَّل ذلك فيما مضى. وذهب طوائف من أصحابنا إلى احتمال هذا القدر -وإن منعنا كراء [العُقَب] (2) - بناءً على التساهل، وهذا إنما يحسن إذا لم يكن النزول محتوماً. هذا إذا جرى شرطُ النزول، فإن لم يَجْرِ، فقد ذكر الأصحابُ وجهين: أقيسهما - أنه لا يلزمه النزول؛ فإنّ لفظَ الاكتراء للركوب يقتضي استدامةَ الركوب، فالتعلق بموجب اللفظ أولى. والوجه الثاني - أنه يلزمه النزول، ولفظ العقد ينزل على العادة. وهذا مزيّفٌ؛ فإن العادة لا تقضي بإلزام النزول، بل هي جاريةٌ بالتبرع بالنزول، ثم قرّبَ القاضي الوجهين في هذا المقام من القولين في المعاليق؛ فإن تفصيل المذهب فيها دائر على اللفظ والعادة، كما تقدم. فصل قال: " وعليه أن يُركِبَ المرأة، ويُنزلَها عن البعير، والبعيرُ بارك ... إلى آخره " (3). 5231 - قال الأئمة: إن كانت الإجارة واردةً على العين، فلا يلزم مالك الدابة الإركاب، والإنزال وإناخة البعير، وإنما عليه تسليمُ الدابة المعيّنة. وإن كان العقدُ وارداً على الذمة، وقد التزم المُكري تبليغَ الراكب المنزلَ المعيّنَ،

_ (1) في الأصل: العُقبة، وهي مفرد العقب، وقد مرّ شرحها آنفاً. (2) في الأصل: العقبة. (3) ر. المختصر: 3/ 84.

فالذي ذهب إليه الجمهور أنه يجب على المُكري إعانة الراكب إن كان عاجزاً، فيُركب المرأة، ويرعى حدَّ الشرع، وموجب الدين في إركابها. وكذلك القول في الشيخ الهِمِّ (1)، والمريضِ والصبي، ويجب إناخة البعير لهؤلاء، أما الشاب القوي القادر على أن يركب بنفسه، لا يجب إعانته، ولا يجب إناخة البعير له، إذا قدر على أن يَركب بنفسه، والبعير قائم. هذا الذي ذكرناه يجب القطع به؛ فإن الإجارة إذا وردت على الذمة؛ فمعتمدها تبليغُ المكري الراكبَ الموضعَ المعيَّنَ، وهذا يتضمن -لا محالة- الإعانةَ عند العجز. 5232 - وفصل شرذمة من الأصحاب بين أن يقع التعويلُ في إجارة الذمة على التبليغ، ويجري ذكر الدابة تبعاً، مثل أن يقول: ألزمت ذمتك أن تبلغني الموضعَ المسمّى، على دابةٍ صفتُها كذا وكذا، فإن كان كذلك، وجبت الإعانة، وبين أن يقع التعويل على الدابة، على صيغة الإيقاع في الذمة، مثل أن يقول: ألزمت ذمتك منفعة دابةٍ صفتها كذا وكذا. وهذا الفصل فقيهٌ لا بأس به. والمشهورُ إيجاب الإعانة في إجارة الذمة كيف فرضت؛ وذلك لأنّ إجارة الذمة لا بد فيها من التعرض للدابة، إذا كان المقصود الركوب، فلا يختلف الأمر باختلاف الصيغ. 5233 - وذكر بعض المصنفين وجهاً بعيداً في أن الإجارةَ إذا وردت على عين الدابة، وجبت الإعانة فيها على الركوب، وهذا على بعده معتضدٌ بالعادة بعضَ الاعتضاد، وللعادة وقعٌ عظيمٌ في أمثال ذلك. 5234 - ومما يتصل بما نحن فيه حملُ الحُمولةِ على الدابة وحطُّها في المنزل. وقد ألحق القياسون ذلك بالإعانة على الركوب. وقد تفصّل المذهب فيه. وذهب آخرون إلى أن الإعانة على الحطّ والترحال مستحقةٌ لعموم العادة فيها، من

_ (1) الهمّ: الشيخ الفاني. (المصباح).

غير فرقٍ بين إجارة العين والذمة، بخلاف الإعانة على الركوب؛ فإن التعويل على العادة، وهي مطردة في الحط والترحال، وإن اضطربت في الركوب والإعانة عليه. 5235 - ثم قال العراقيون تفريعاً على هذا: رفعُ المَحْمِل، وحطُّه على المكري، وشدُّ (1) أحدِ المحملين إلى الثاني على الرسم في مثله في ابتداء السفر- فيه وجهان: أحدهما - أنه على المكري؛ فإنه من تمام الترحال، وقد عمت العادةُ به. والوجه الثاني - أن ذلك على المكتري؛ فإنه بمثابة ضمّ المتاع بعضِه إلى بعض، وتنضيدُ الأمتعةِ في ظروفها على مالك المتاع، فليس على المكري أن يفعل ذلك، وإنما عليه حطُّها ورحْلُها. فصل قال: " وينزل الرجل للصلاة ... إلى آخره " (2). 5236 - قال الأئمة: كل ما يتهيّأ فعلُه على الدابة، كالأكل والشرب، وإقامة النافلة، فالمكري لا يُنزلُ المكتري لأجله، وكل ما لا يتأتى فعله على الدابة كصلاة الفرض، وقضاء الحاجة، والوضوء، فالمكتري ينزل لأجله، والمكري هل يُعينه؟ فيه التفصيل المقدّم في الإعانة، وتقف الدابة حتى يفرغ. فإذا نزل للصلاة، لم يعجله المكري، والمكتري لا يطوّل ولا يبطىء، بل يصلي على حقّه وتمامه. هذا منتهى القواعد والأصول، في مضمون الباب، وفيه فصول منتشرة، يحسبها المبتدىء متفاوتة غيرَ داخلةٍ تحت ربطٍ وضبط، وهذا أوان الوفاء بما وعدناه في صدر الفصول. 5237 - فنقول: هذه المسائل بما فيها تدور على مقتضى اللفظ، وموجب العرف في إفادة الإعلام، ويتعلق بعضُ أطرافها بتساهلٍ معتادٍ في بعض المقاصد، فأما النظر في مقتضى الألفاظ، فلا يكاد يخفى على الفطن، وأما العادة، فإنها تنقسم إلى

_ (1) (د 1): وسنذكر أحد المحملين. (2) ر. المختصر: 3/ 84.

ما يطّرد، ولا يستراب في اطراده، وإلى ما يضطرب بعضَ الاضطراب، فأما العادةُ المطَّردة، فنعم المرجعُ هي في أمثال هذه المعاملات، ولها أثران: أحدهما - تقييدُ اللفظ المطلق. وهذا معلوم من أثر العادة، وبيانُه فيما نحن فيه أن السير إذا أطلق في مسلكٍ فيه مراحل، فليس في اللفظ تقييد في مقدار السير، ولا في كيفيته، ولكن العادة المطردةَ تُنزل المعنى المتردد في اللفظ على وجهٍ واحد، وهذا بمثابة حمل النقود المطلقة في العقود على ما يعمّ في المعاملة جريانُه. فهذا أثر في [العادة] (1) لا ينكر. والأثر الثاني - أن العادة إذا اقتضت شيئاًً، وليس في لفظ العقد له ذكرٌ، لا على إجمال، ولا على بيان، فهذا موضعُ نظر الفقهاء، ثم ينقسم، فمنه ما تظهر العادة فيه على اطرادٍ، كالإعانة على وضع الحُمولة ورفعها، في الإجارة الواردة على العين. ظاهرُ المذهب أن ذلك واجبٌ، وكأن العادة [نطقت] (2) به. ومن أصحابنا من لم يوجب ذلك، وقال: أثر العادة في بيان إجمال اللفظ، فأما أن تقتضي شيئاًً لا ذكر له، فلا. 5238 - ويلتحق بهذا القسم (3) إيجاب الإتيان بالإكاف، وما في معناه في إجارة العين، وهذا متفق عليه، لاطراد العادة، ولا يعرف خلافُه. وقد يفرض نزاعٌ على الإعانة في الرفع والخفض. هذا بيان أثر العادة المطردة. 5239 - فأما إذا اختلفت العادة، وحصل الوفاق على اختلافها، فلا حكم لها. فإن كان اللفظ مستقلاً بإفادة المقصود، فعليه التعويل. وقول القائل: عادةٌ مضطربة: كلامٌ (4) مضطرب؛ فإن المضطرب ليس عادة.

_ (1) في الأصل: الفساد. (2) في الأصل: قطعت. (3) (د 1): الفن. (4) خبر، مبتدؤه: وقولُ القائل: عادة مضطربة.

ومن أصحابنا من يقول: إذا اختلفت العادة فيما يتعلق بمقصود العقد، فلا بد من تقييد لفظ العقد بما يقطع العادة المضطربة. وقد قدمتُ لهذا نظائرَ في المسائل، وهو كلام ضعيفٌ، مزيفٌ عندي؛ فإن اللفظ إذا كان مستقلاً، فلا مبالاة بما يضطرب من أحوال الناس. 5240 - ومما يتعلق بالضوابط في هذا المنتهى أنا قدمنا في صدر الفصول الاكتفاءَ بذكر وزن الحُمولة، وقد يخطر للناظر أن ذلك مجهول؛ فإن الغرض يختلف باختلاف الحُمولات، فالرزينُ منها المكتنز يهُدُّ [الأضلاع] (1)، ويكُدّ، ويُقرّح، والمنفوش منها كالتبن والقطن، يَغُمّ ويَعُمّ. ولكن لم يعتبر الأصحاب ذلك؛ لأن الضررين يتقاربان (2) ويدنوان من التقابل، وإنما الذي يجب ذكره ما يظهر غرضاً، ولو سكت عنه، لأشكل، ولم يقابله ما يماثله. فأما التعرض لأعيان الأغراض القريبة من التقابل، فبعيدٌ اشتراطه، فليفهم الناظر ذلك. 5241 - وما أجريناه من الاكتفاء بالعِيان في الحمولة والشَّيْل باليد، فهو من باب التسامح والتساهل. فإذا انتشر المطلوبُ وكثر، لاقَ به التساهل في بعض الأطراف؛ سيّما إذا اعتضد بالعرف. وعلى هذا الأصل انبنى كثير من الكلام في أوصاف السَّلَم، ولما عظمت الأوصاف في الحيوان، ومست الحاجة إلى السلم، ازداد التسامح في السلم في الحيوان، على حسب كثرة أوصافها، وانتشار الأمر فيها. 5242 - وأما مسائل التردد كالمعاليق؛ فإنها مأخوذةٌ من عادةٍ جاريةٍ فيها، مع إبهامٍ ونزاعٍ يُؤلَف في أمثالها، وعُسرٍ في ضبطها، ولا ينبغي أن يظن الفقيه أن اختلاف القول من اختلاف العادة، فإن العادة لو اختلفت، لأسقطناها وعدنا إلى تحكيم اللفظ. 5243 - فهذا منتهى الإمكان في ذكر مأخذ الفصول المقدمة، والتطلع إلى ضبطها. وإنما يصعب مُدركُ أمثالها على من لا يستمدّ من بحور الأصول، ولا يغزر حظُّه من مآخذ الشريعة.

_ (1) في الأصل: الأضلاح. (2) (د 1): يتفاوتان.

فصل قال: " وإن اختلفا في الرِّحْلة (1)، رُحِل لا مَكْبوباً، ولا مستلقياً ... إلى آخره" (2). 5244 - إذا تنازع المكري والمكتري في كيفية رِحْلة المحمِل، فقال المكتري: نُرْحله مكبوباً، وقال المكري: بل نُرحله مستلقياً، فقد اختلف الأئمة في تفسير ذلك، فقيل: المكبوب أن يكون مقدّم المحمل الذي يلي عنقَ البعير منكبّاً، والمستلقي أن يكون مؤخره الذي يلي العجز متسفِّلاً، والمكبوبُ أهون على الراكب، وأشق على البعير. وقيل: المكبوب أن يكون الجانب الذي يلي جنب البعير في عرض المحمل مُلتصقاً به، ويستعلي ما يلي الصحرا (3) في مقابلة ذلك. وهذا يشق على الراكب. والمستلقي عكس ذلك (4). وعلى الجملة إذا فرض نزاعٌ بينهما، لم يُحمل لا مكبوباً، ولا مستلقياً، ولكن يحمل معتدلاً بينهما. فصل قال: " وإن هرب الجمال ... إلى آخره " (5). 5245 - إذا هرب الجمّال، فلا يخلو: إما أن يذهب بالجمال أو يدعَها في يد

_ (1) الرّحْلة: بكسر الراء، وضع الرَّحل على البعير، من رَحَله يرحله رحلاً ورِحلةً (المعجم). (2) ر. المختصر: 3/ 84. (3) كذا في النسختين، ولم يسعفنا في بيان معناها، لا المصباح، ولا المعجم، ولا القاموس، ولا الزاهر، ولا الأساس. وقد يكون بها تصحيف أو تحريف. والله أعلم. (4) للرافعي في الشرح الكبير، وكذلك النووي في الروضة تفسير آخر للمكبوب والمستلقي، وفيه أن المستلقي أسهل على الراكب من المكبوب. ولم أجد عند أيهما لفظ (صحرا) الذي أبحث له عن معنى هنا. (الشرح الكبير: 6/ 141، والروضة: 5/ 222). (5) ر. المخثصر: 3/ 85.

المكتري. فإن ذهب بها، لم تخلُ الإجارة إما أن تكون واردةً على أعيانها، أو تكون واردة على ذمة المكري. فإن كانت واردةً على أعيانها، فلا شك أن الإجارة تنفسخ في المدّة التي تغيّب الجمّال فيها، ولا سبيل إلى الاكتراء عليه؛ فإن المعقود عليه كان متعيَّناً، والعقد إذا ورد على العين، لم يتعدّها إلى غيرها. فإن كانت الإجارة واردةً على الذمة، فهرب الجمال، فلا نقضي بانفساخ الإجارة، ولكن ما التزمه الجمال دينٌ في ذمته، فيرفع المكتري القصةَ إلى مجلس الحاكم، وإذا ثبت عنده الأمر على حقيقته، ووجد مالاً للمكري، فإنه يكتري عليه من ماله. وإن لم يجد له مالاً، فله أن يستدين عليه إن رأى ذلك. فإن لم يفعل الحاكم، ولم يتيسر [المقصود] (1) فللمكتري أن يفسخ الإجارة. هذا إذا هرب بالجمال. 5246 - فأما إذا هرب وترك الجمال في يد المكتري، فلا يخفى أن المؤن عليها كانت على مالكها، وكذلك القيام بتعهدها، فإذا هرب، فإن تبرع المكتري بالإنفاق، وبَذْلِ مؤنةِ التعهد، لم (2) يجد مرجعاً. فإن أبى (3)، ورفع الأمر إلى الحاكم ثَمَّ، يفعلُ الحاكم في تحصيل المؤونة ما وصفناه. [فإن] (4) لم يجد الحاكم له مالاً، ولم ير الاستقراضَ عليه، وكان في الجمال [فضلٌ] (5) عن مقصود المكتري، فله بيع الفاضل من رقابها، وصرفُه إلى نفقة الباقي. 5247 - ولو أذن للمكتري في أن يُنفق عليها من مال نفسه، على شرط الرجوع،

_ (1) في الأصل: المفقود. ومعنى "لم يتيسّر المقصود": أي تعذر الأكتراء عليه، كما في عبارة الرافعي في الشرح الكبير: 6/ 174. والجملة حينئذٍ تكون من باب عطف البيان للجملة قبلها. (2) (د 1): المتعهد ولم نجد. (3) (د 1): وإن أراد رفع الأمر. (4) في الأصل، كما في (د 1): وإن لم. (5) في الأصل: قصد.

ففي المسألة قولان: أحدهما - يجوز ذلك، فإن الضرورة على الجملة قد تُحْوج إليه، والضرورات تغيّر قياس العقود، ثم إذا تمهّد أصلٌ لإمكانِ حاجةٍ، لم يتوقف نفوذُه على [تحقق] (1) الحاجة في كل صورة. وعلى هذا الأصل جرت الإجارة جملةً وتفصيلاً، والحاجة ظاهرة في الإذن للمكتري؛ فإن الغالب أن الحاكم لا يجد مالاً للهارب، ولا يثق بالرجوع عليه لو استقرض. والقول الثاني - أن ذلك غيرُ جائز، فإن المكتري لو تعاطى، كان قائماً بتأدية حق نفسه، واستيفائه، وهذا لا سبيل إليه. فإن قلنا: يجوز للحاكم تفويض الأمر إليه، فلو أنفق، واقتصد، ووجد الجمّال، رجع عليه. ولو نازعه في المقدار، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أن القول قولُ المكري؛ فإن الأصل براءة ذمته، عن المقدار الذي يدّعيه المكتري. والوجه الثاني (2) - أن القول قول المكتري؛ فإنه إذا كان مأذوناً من جهة الحاكم، فهو مؤتمنٌ من وجهٍ، وإن كان راجعاًً بنفسه لنفسه، فيجب أن يُصدَّق مع يمينه. والمعنى الذي جوّز تفويضَ الأمر إليه، لا يبعد على مقتضاه تصديقُه [في] (3) القدر الممكن المقتصد مع يمينه. 5248 - ولو استبدّ المكتري، فأنفق بنفسه، مع إمكان مراجعة الحاكم، لم يجد مرجعاً. وإن لم يجد حاكماً، وأنفق، ففي المسألة الأوجهُ الثلاثة، التي ذكرناها في كتاب المساقاة: أحدها - أنه يرجع للحاجة الماسة. والثاني - لا يرجع. والثالث - أنه إن أشهد، رجع. وإن لم يُشهد، لم يرجع.

_ (1) في الأصل: تحقيق. (2) (د 1): والقول الثاني. (3) في الأصل: على.

ولا يرجع ما لم يقصد الرجوع، فلو قصد التبرعَ، لم يرجع، ولو لم يقصد شيئاًً، فلا يرجع أيضاًً، وإنما التردد والاختلاف إذا أنفق على قصد الرجوع. ولو كان في الموضع حاكم، ولكن عسر عليه إثبات الواقعة في مجلسه، والقاضي لا يتصرف على غير بصيرة، فهذا بمثابة ما لوْ لم يجد الحاكم في التفصيل الذي ذكرناه. 5249 - وما ذكره الأصحاب من الفصل بين أن يُشهد، وبين أن لا يُشهد مشهورٌ في المذهب، ولكن لستُ أرى لذلك أثراً في إثبات الرجوع في الأصل؛ فإن الشهود لا يسقطون على حكمٍ غيرِ ثابتٍ، وإنما التفويض والتسليط إلى الولاة. ولكن هذا يضاهي أصلاً سيأتي في كتاب اللقطة، وهو أنه هل [يجب] (1) على الملتقط أن يُشهد، إذا تمكن من الإشهاد، فهذا مأخوذٌ من ذلك، وسيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل. 5250 - ثم قد ذكرنا فيه إذا فوّض الحاكمُ إليه الإنفاقَ أنه لو اختلف المكري والمكتري في المقدار، فالقول قول من؟ والذي يقتضيه القياسُ أنه إذا أنفق بنفسه من غير تفويضٍ، وقلنا: له الرجوع في القدر المتفق عليه، فلو فرض نزاعٌ، فالقولُ قولُ المكري؛ فإنه لم يستند إنفاقُه إلى ائتمان من جهة السلطان. وفيه احتمالٌ؛ من جهة أن الشرعَ سلّطه على الإنفاق، فيجوز أن يكون كتفويض الحاكم إليه، وللحاكم سلطنةٌ في مال الغُيّب على شرط النظر، والمصلحة. ولو وجد مالاً لغائب، وكان ضائعاً لا يتأتى حفظه إلا بمؤونة، وقد يبلغ مبلغاً، فلو أراد بيع ذلك المال، وإمساك ثمنه للغائب، جاز ذلك، وسنصف هذه الأبواب في أحكام القضاة، إن شاء الله عز وجل. فرع: 5251 - الأجرة إذا كانت مؤجلةً في الإجارة، فحلّت، وقد تغيرت صفةُ النقد، وكان ذُكر مطلقاً في العقد، فلا شك أن الاعتبار في صفة النقد بالنقد الذي كان غالباً يومَ العقد، ولا نظر إلى نقدِ يوم الحلول. وكدلك القولُ في الثمن إذا حل.

_ (1) ساقطة من الأصل.

5252 - فأما إذا ذُكر في الجعالة مقدارٌ من الدراهم، وكانت الدراهم إذ ذاك على صفةٍ، ثم استكمل المجعولُ له العملَ، وقد تغيرت صفة النقد، فقد اختلف أصحابنا فيما حكاه القاضي، فذهب بعضُهم إلى أن الاعتبار باليوم الذي تم العملُ فيه؛ فإنه يوم استحقاق الجُعل. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له. والصحيح أن الاعتبار بالنقد [العام، يوم ذُكر؛ فإن العرف العام قرينُ اللفظ، فكأنه وإن أطلق الدراهم] (1) قيدها بالصفة العامة حالة الذكر. ...

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

باب تضمين الأجراء

باب تضمين الأجراء قال الشافعي رحمة الله عليه: " والأجراء كلهم سواء، وما تلف في أيديهم، ففيه واحدٌ من قولين ... إلى آخره " (1). 5253 - نقول أولاً قبل الخوض في مقصود الفصل: من استأجر دابةً، أو غيرَها من الأعيان، وقبضها ليستوفي المنفعةَ منها، فإذا تلفت في يده من غير عدوانه وتقصيره في الحفظ، لم يضمنها، لا نعرفُ في ذلك خلافاًً، والسببُ فيه- عندنا- أنه استحق المنفعة منها، ولا سبيل إلى استيفاء المنفعة منها إلا بقبضها، وليست العين هي المستحقة في نفسها، فلما كان قبضُها طريقاً في استيفاء المنفعة، لم يثبت الضمان فيها. ولو اشترى رجل سمناً في بُستوقة (2) ليستخرج السمن منها، فتلفت في يده من غير عدوانٍ وتقصيرٍ، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن البُستوقة لا تكون مضمونةً على القابض، قياساً على العين المستأجرة، ووجه التقريب أن اتصال المنفعة بالعين كاتصال السمن بالبُستوقة. وهذا غير صحيح، والذي ارتضاه المحققون أن البستوقة مضمونة؛ فإن إخراج السمن منها من غير نقلٍ وإثبات يدٍ عليها ممكنٌ، ولا يتأتى الانتفاعُ دون نقل الأعيان التي بها الانتفاع، فالبستوقة في يده كالعين المستعارة، فهذه مقدمةٌ، جددنا ذكرها. ونحن نخوض بعدها في مقصود الباب، فنقول:

_ (1) ر. المختصر: 3/ 85. (2) البُستوقة: إناءٌ من الفخار، فارسي معرّب (معجم الألفاظ الفارسية المعربة).

5254 - إذا تلفت عينٌ في يد الأجير، [وكانت سُلِّمت] (1) إليه ليوقع فيها العملَ المستحَقَّ على الأجير بالإجارة، فلو تلفت تلك العينُ، فنقول: إن كانت يد المالك قائمةً، والأجير كان يعمل بين يديه، فليس للأجير يدٌ على الحقيقة، فإذا تلفت العينُ بآفة سماوية، فلا ضمان؛ فإنها لم تتلف في يد الأجير، وهذا يسمى الأجير المشاهَد. ومعناه أنه يعمل في مشاهدة المالك، وتحت يده. 5255 - فأما إذا زالت يد المالك وثبتت يد الأجير على العين التي كان يوقع عملَه فيها، فإذا فرض التلف بآفةٍ من غير صُنعٍ من جهة الأجير، ولا تقصيرٍ، ولا عدوانٍ، فحاصل المذهب طريقان: من أصحابنا من رأى أقوال الشافعي محتملة في ذلك، ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها- أنه لا يجب الضمان، وهو الأقيس؛ فإنه لم تثبت يده على العين لمنفعةِ نفسه، وإنما أثبتها ليوقع فيها عملاً مستحقاً عليه، وإذا كان مستأجرُ العين لا يضمنها، لأنه يستوفي منها منفعةً له، فلأن لا يضمن الأجير -وسببُ قبضه منفعةٌ مستحقة عليه- أولى؛ فإن من استحق شيئاً متخيِّرٌ في إسقاط حقه، ومن استحق عليه شي، فلا خِيَرَة له. والقول الثاني - أنه يجب الضمان؛ لأنه يقبض ما يقبض لتقرير عوضِ عملِ نفسه، وترجع المنفعةُ إليه. والقول الثالث- أن الأجير المشترك يضمن، والأجير المنفرد لا يضمن. 5256 - واختلف أئمتنا في الأجير المشترك، ويظهر من ذكر الاختلاف فيه الأجيرُ المنفرد، فمنهم من قال: الأجير المشترك هو الذي يلتزم تحصيلَ العمل في ذمته، فإن شاء أوقعه بنفسه، وإن شاء استأجر من يُحصِّلُه، فيجتمع في يده أعيان أملاك الناس، وسمي مشتركاً، لأنه لا يختص بواحدٍ من المستأجرين، والأجير المنفرد هو الذي تتعلق الإجارة بعينه لا بد منه، فهو منفرد لمستأجِره. والمشترك أولى بالضمان؛ لاتساع الطريق عليه، حتى كأنه غيرُ مأمورٍ في عينه بتحصيل العمل، بخلاف المنفرد.

_ (1) في الأصل: " وكأنه سلمه " بهذا الرسم.

5257 - وذكر العراقيون وجهاً آخر في معنى المشترك والمنفرد، فقالوا: المشترك من لا يتعين لعمله مكانٌ، وهو الذي يستأجَر لعملٍ موصوفٍ، من غير ذكر وقت، وقد يُتصور ذلك مطلوباً من عمله، حتى لو أراد إقامة غيره مقام نفسه، لم يجد إليه سبيلاً، وذلك أن يقول: خِط بنفسك هذا الثوبَ، فيتصور إذاً أن يعاقده على عمله في عينه أقوامٌ، والأجير المنفرد هو الذي يستعمل عقيب العقد، ولا يمهل، ويتعين له مكانٌ على هذا، ولا يقدّر مشتركاً. 5258 - وهذا الذي ذكره العراقيون فيه نظر، أولاً - في نفسه، ثم الرجوع يقع بعد ذلك إلى مقصود الفصل. فإذا استأجر رجل شخصاً في خياطة ثوب وأورد الإجارةَ على عمله (1)، فلو أراد أن يلزمه الاشتغال بما استحقه عليه، فله ذلك، وإذا كان يملك هذا، فمنافعه مستحقة في هذه الجهة، فيجب أن لا يصح من الغير استئجاره، ومنفعة عينه مستحقةٌ مستغرقةٌ. وهذا فيه احتمال، فلو جرينا على حقيقة الاستغراق، لزم منه أن يقال: إذا مضى على أثر العقد زمانٌ يسع العمل، فلم يعمل فيه، تنفسخ الإجارة، كما لو استأجر داراً شهراً، ولم يتفق تسليمُها حتى انقضى الشهر، وقد ذكرت طرفاً من هذا فيما تقدم، وهذا أوان استقصائه. فإذا وردت الإجارة على الذمة، لم يخف مقصودُنا فيه، وإذا وردت على العين، وقُرنت بالتأقيت، فيتحقق [لا محالة] (2) الاستغراق، ويترتب عليه الانفساخ إذا مضت المدة قبل التسليم. وإن كانت الإجارة متعلقةً بالعين، ولكن المعتمدَ فيها صفةُ العمل، وبيانُ مقداره، كخياطة الثوب، وما في معناها، فهذا مختلف فيه. والاختلاف مأخوذ من فحوى كلام الأئمة.

_ (1) كذا في النسختين، ولعلها: "على عينه". (2) ساقطة من الأصل.

فالذي يقتضيه قياس المراوزة أن الإجارة إذا كانت متعلقة بالعين، [فهي] (1) على التضييق، وحقيقةِ الاستغراق، كما لو تقيدت بالوقت. والذي تقتضيه طريقة العراقيين أنها ليست على التضييق، حتى كأنها مستحقة في ذمة الأجير من عينه، فمهما أقامها (2)، وقعت الموقع. وإن استبعد سائلٌ الجمعَ بين العين والذمة، أمكن أن يقال: كل إجارة واردةٍ على عينٍ بهذه المثابة؛ فإن المستأجر يستحق منفعةَ الدار من عين الدار، قبل وجود المنفعة. فرجع حاصل الكلام إلى أن الأجير المشترك هو الذي (3) لا يضيّق عليه تضيّق التأقيت. والأجير المنفرد هو الذي يضيّق عليه المستأجر، [فيقول] (4): استأجرتك لتخيط هذا، ويشتغل به عقيب العقد من غير تأخير، وقياسهم أن إطلاق العمل لا يتضمن التضييق المؤدي إلى الانفساخ، وإذا قيد بالتضييق، ومضى الزمان الذي يسع العمل وقد [تقيّد] (5) بالتضييق، اقتضى ذلك الانفساخَ. 5259 - فإذا ظهر ما أردناه، فالذي [نُجلِّيه] (6) من فرق بين الأجير المشترك، والأجير المنفرد، أن المنفرد كأن يده [نائبة] (7) عن يد المالك؛ فإنها مستغرَقة به لا يُشارَك فيها، ويد الأجير المشترك ليست مختصةً بأحد، فتثبت اليد له على التحقيق.

_ (1) في الأصل: فهو. (2) (د 1): أتى بها. (3) (د 1): هو الذي لا يضيق التأقيت. (4) في الأصل: ويقول. (5) في الأصل: تفسد. (6) في الأصل: (نخيله) أو (نحيله) تقرأ بهما. وفي (د 1): (ـحليه) هكذا بإهمال الأول والثاني. والمثبت اختيار من المحقق. (7) في الأصل: (ثايبة) و (د 1): ثانية. والمثبت تصرف منا، على ضوء السياق، وعبارة الرافعي التي تقول: " يده كالوكيل مع الموكل " (الشرح الكبير: 6/ 148).

وكل ما ذكرناه من التطويل، [والتفصيل] (1) وإن كان مُقيداً في نفسه، فلا جدوى فيه فيما نحن فيه، كما سيتبين في الطريقة الثانية. هذا بيان المسلك الأول. 5260 - الطريقة الثانية - قال معظم المحققين: الأجير لا يضمن ما يتلف تحت يده من غير عُدوان وتقصير، قولاً واحداً، ويده يد أمانة. وقد حكى الربيع " أن الشافعي كان يرى أن الأجراء لا يضمنون، ولكنه كان لا يبوح به لأجراء السوء، وكان يرى أن القاضي يقضي بعلمه، وكان لا يبوح به لقضاة السوء ". ووجه ذلك في القياس واضح لا حاجة إلى تكلف بيانه. وهذا القائل يقول في قول الشافعي: " لا يجوز في الأجير إلا واحدٌ من قولين ": لم يُرد الشافعيُّ به ترديدَ القول، وإنما قصد محاجة أبي حنيفة (2)، فإنه يقول: ما يتلف بعمل الأجير، وإن اقتصد فيه يضمنه، وما يتلف تحت يده من غير صُنعه لا يضمن، فقال: لا يجوز إلا واحدٌ من قولين: إما ألا يضمن أصلاً، وإما أن يضمن كيف فرض الأمر، سواء تلف بآفة أو بصنعٍ هو مأذون فيه، فرجع قوله إلى الرد على من فصل بين أن يتلف بصُنعه أويتلف بآفة. هذا بيان طرق الأصحاب. 5261 - ثم إن جعلنا يدَ الأجير يدَ ضمان، فلو تلف تحت يده بآفةٍ، ضمن، ولو تلف بصُنعه، ضمن. وإن قلنا يدُه ليست يدَ ضمان، فلو تلف بآفة، لم يضمن، [وإذا تلف] (3) بسبب عمله، نُظر: فإن جاوز الحدَّ، وتعدَّى في عمله، ضمن، وإن اقتصر واقتصد، ولم يجاوز الحدّ، فلا ضمان أصلاً، ولا أثر للعمل من غير تفريط وعدوان، عند أصحابنا. وقد يخطر للفقيه على قياس [قول] (4) الشافعي أنا إذا جعلنا يدَ الأجير يدَ الضمان،

_ (1) في الأصل: في التفصيل. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 85، مسألة: 1767، المبسوط: 15/ 80، إيثار الإنصاف: 335. (3) في الأصل: فإذا أتلفه. (4) في الأصل: مذهب.

فلو عمل في العين ما أُمر به، ولم يزد، فأدى ذلك إلى عيبٍ، فلا يجب ضمان ذلك، وينزل ذلك منزلة ما لو لبس المستعيرُ الثوبَ وأبلاه (1)؛ فإن المذهب أن ضمان الأجزاء البالية لا تجب، ولو تلف الثوب بآفةٍ، وجب ضمانُه على المستعير. وهذا ظاهرٌ في الأجير، ولا ينبغي أن يقدَّر خلافٌ في أن الأجير لو فصَّل الثوبَ النفيسَ وقطّعه، فانتقصت قيمته بالقطع أنه لا ضمان عليه، فإذا جرى ذلك في النقصان الذي يوجبه القطع، فغيره بمثابته إذا اقتصر العامل على امتثال الأمر، وقد قررتُ هذا في (الأساليب) (2). هذا بيان عقد المذهب في تضمين الأجراء. 5262 - ثم إن الشافعي ذكر مسائلَ، وبين فيها عملَ الأجراء، [وتعدّيهم] (3) واقتصادهم، ونحن نذكرها، ولكن حظَّ الفقيه في جميعها ما قدّمناه، من أنه إن اعتدى، ضمن، وإن لم يعتد واقتصد، فالذي أطلقه الأصحاب تخريجُ ذلك على أن يدَ الأجير يدُ أمانة، أو يد ضمان. والذي نراه في القياس الجلي أنه لا يضمن ما يقتضيه عملُه المأذون فيه، كما ذكرناه في بلى الثوب باللُّبس المأذون فيه للمستعير. وإذا تمهدت القاعدة شرعنا بعدها في المسائل، ونُفرد لكل مسألة فصلاً، ونوضِّح ما يليق به. فصل قال: " إذا استأجر من يحجمه، أو يختن غلاماً له، أو يبيطر دابته ... إلى آخره " (4). 5263 - إذا استأجر من يحجمه، فلم يقصّر الحاجم، فأدى إلى سبب محذور،

_ (1) (د 1): وأبلاه بالإذن. (2) الأساليب: اسم كتاب في علم الخلاف لإمام الحرمين. وقد تكرر ذكره مراراً. (3) تقدير من المحقق، مكان كلمة بالأصل رسمت هكذا: " وبعد خيطهم " فهل هي كناية عن التعدي. وقد خلت (د 1) من الكلمة. (4) ر. المختصر: 3/ 85.

فإن كان المحجوم حراً، فلا ضمان، لأن يدَ الحر ثابتةٌ عليه، وإن كان استأجره ليحجم غلاماً له، فإن كانت يد المالك ثابتةً على الغلام، فلا ضمان على الحجام، إذا لم يجاوز ما أُمر به، وإن ثبتت يده عليه، ولم يكن السيد معه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه من اختلاف الطرق، والفرق بين المنفرد والمشترك، ويعترض فيه ما نبهنا عليه من أن ذلك حاصل بفعلٍ مأذونٍ فيه، كما تقدم، ولسنا نعود بعد ذلك إلى هذا التفصيل، ولكن نذكر ما يتجدّد. فصل قال: " ولو استأجر للخبز ... إلى آخره " (1). 5264 - الخبز عملٌ من الأعمال، فإن فسد الخُبز بتقصيرٍ من الخباز، ضمن، وإن لم يَزد الخبّاز على ما استدعى منه، ولكن احترق بعض الخبز، ففي الضمان التفصيلُ الذي ذكرناه. 5265 - والذي نذكره في هذا الفصل أن من استأجر خبازاً، فلا بد من أن يوضّح أنه يخبز في تنّور (2)، أو فرنٍ، وأنه يخبز الأقراص، أو الغلاظَ من الأرغفة، أو الرقاق. والغرض يختلف بذلك. وكل ما يوضحه العُرف من غير تردّد، فهو متبع، وهذا بمثابة ذكر التنور في هذه الديار؛ فإن العرف يعيِّنها، وإنما تمس الحاجة إلى التعيين عند إمكان التعدد. 5266 - ثم إن كانت الإجارة واردة على العين، فالآلات التي لا بد منها على المستأجر، وليس على الأجير إلا تسليم نفسه إلى المستأجر. وإن كانت الإجارة واردةً على الذمة، فالآلات على الملتزم في الذمة. 5267 - وأما حطب التسجير، فإن عمّت العادة بأنه يأتي به المستأجر، فهو يجري

_ (1) ر. المختصر: 3/ 86. (2) لم يفرق المعجم الوسيط بين الفرن والتنور، بل فسر التنور بأنه الفرن، ولكن المصباح نقل عن ابن فارس: أن الفرن الذي يخبز عليه غير التنور.

على حكم العرف، وإن كانت العادة مطردةً في أن الحطب يأتي به الملتزم، ففيه اختلاف بين الأصحاب. فالذي ذهب إليه القاضي والمحققون أن العادة محكّمةٌ في ذلك، وقد التزم الأجير تحصيل الخبز، فعليه التسبب إليه. ومن أئمتنا من قال: لا يكون على الملتزم حطبٌ؛ فإنه عينٌ يُشترى، وهو تمليك بجهات التملك، فلا يتبع المنفعة. وهذا الذي ذكرناه في الخبز [يجري في القلم والحبر] (1) في حق الورّاق، والخيط في حق الخياط. وإن اضطربت العادة، فلا يستحق على الخباز، ولكن في بطلان العقد الخلاف الذي قدّمناه. فصل قال: " وإن اكترى دابة، فضربها أو كبحها باللجام ... إلى آخره " (2). 5268 - هذه المسألة ليست نظيراً للمسائل التي تقدمت؛ فإنها كانت مفروضة في استئجار أجيرٍ للعمل، وهذه المسألة فيه إذا استأجر الرجل دابةً ليركبها، أو يحمّلها حُمولةً، فلو قبضها، أو ضربها (3) في التسيير، أو كان يكبح لجامها، فهلكت، فقد قدمنا أن العين المستأجرة أمانةٌ في يد المستأجر، وأنها لو تلفت بآفةٍ سماوية تحت يده، لم يلتزم الضمان أصلاً، فإذا وجد من المستأجر فعلٌ كما ذكرناه، من الضرب وكبح اللجام، فإن لم يجاوز المعتادَ في ذلك، ففرض التلفُ، فلا ضمان أصلاً، وإن جاوز العادةَ في ذلك، بحيث يُعدّ مجاوزاً، فقد أثبت الأصحاب الضمان. وقال أبو حنيفة (4) يجب الضمان سواء عُدّ الضارب مقتصداً أو مجاوزاً للعادة، وهذا أجراه على مذهبه في أن سراية القصاص مضمونة، وسنجمع بعد ذلك بفصول قولاً بالغاً في التعزيرات، وحكم الضمان [فيها] (5) إذا أدت إلى الهلاك، ونعيد هذا

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، سقطت من النسختين. (2) ر. المختصر: 3/ 87. (3) (د 1): وتركها. (4) ر. بدائع الصنائع: 4/ 213، وحاشية ابن عابدين: 5/ 24. (5) في الأصل: منها.

الفصل في أثناء التعزير والتحرير الضابط، إن شاء الله عز وجل. 5269 - فأما إذا استأجر رائضاً حتى يروض دابةً له، فضربها الرائض، وكبح لجامها، فعابت، أو هلكت، فهذا عائد إلى سَنَن المسائل التي تقدمت، فإن عُد متعدياً، ضمن؛ وإن لم يعد متعدياً في تحصيل المستدعَى منه، فيعود التفصيل في المشترك، والمنفرد، واختلاف الطرق. والرأي عندنا القطع بنفي الضمان، (1 إذا كان السببُ الفعلَ المأذون فيه، كما أجرينا ذكرَ ذلك مراراً. وتمام البيان فيه بين أيدينا 1)، ونحن، إن شاء الله- ذاكروه في فصل التعزير. فصل قال: "وهذه الأغنام والبقور التي تسلم إلى الراعي من غير عقدٍ ... إلى آخره" (2). 5270 - إذا سلم مالك المواشي المواشيَ إلى الراعي، واستعمل الراعي في رعيها، ولم يذكر أُجرة مسماةً، فهذا يخرّج على أن المستعمل إذا عمل هل يستحق أجر المثل؟ وهذا سيأتي مستقصَى، إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: يستحق، فالذي جرى في حكم إجارةٍ فاسدةٍ، وحكم الفساد في الضمان حكم الصحيح، وقد فصلنا ذلك. فأما إذا قلنا: لا يستحق المستعمل شيئاًً إذا عمل، فالذي جرى ليس باستئجار على الفساد، وإنما العامل متبرع بالعمل، وليس على المتبرع ضمانٌ إذا لم يجاوز فيما فَعلَ

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (د 1). (2) هذه العبارة بألفاظها ليست في المختصر، وإنما عبارته: " قال: والراعي إذا فعل ما للرعاة فعله مما فيه صلاح لم يضمن، وإن فعل غير ذلك، ضمن " المختصر: 3/ 87. هذا. ولم أصل إلى هذا النص من كلام الشافعي في "الأم"، كما لم أصل إلى هذا الجمع (البقور) للبقرة، لا في المعاجم اللغوية، ولا في معاجم ألفاظ الفقهاء، ومما ذكرته المعاجم: البقرة للمذكّر والمؤنث، والجمع: بقر، وبقرات، وبُقُر (بضمتين)، وبُقَّار، وأُبْقور، وبواقر، وأما باقر، وبقير، وبيقور، وباقور، وباقورة، فأسماء للجمع. (القاموس، واللسان).

مراسمَ المالك، وعلى هذا [يخرّج] (1) على ضياع الثوب في الحمام، وليس فيه إجراء ذكر الأجرة. وتمام البيان في هذه الفصول يأتي في فصل [التعزيرات] (2) وما يتعلق بها، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " ولو أكرى حَمْلَ مكيلةٍ، وما زاد فبحسابه، فهو في المكيلة جائز، وفي الزيادة فاسد ... إلى آخره " (3). 5271 - نذكر في مقدمة الفصل فصولاً تتعلق (4) بإعلام المعقود عليه، وترتبط بألفاظ العقد، ثم نخوض بعدها في مقصود الفصل. [فإذا] (5) أشار إلى صُبرة مجهولة الصيعان، وقال: اكتريت هذه الدابة لتحمل هذه الصبرة إلى موضع كذا، أو ألزمت ذمتك ذلك، فالعقد جائز، وقد مهدنا ذلك فيما سبق، وقلنا: الإشارة كافيةٌ كما لو أشار في بيع الصّبرة. ولو قال: تحمل هذه الصُّبرة كلَّ صاع بكذا، صحّ، وإن لم تكن الصيعان معلومة، كما لو قال: بعتك هذه الصّبرة كلَّ صاع بدرهم. ولو قال: تحمل عشرة آصعٍ من هذه الصبرة، فجائز. ولو قال: تحمل كل صاعٍ من هذه الصبرة بكذا، ولم يذكر لفظاً يتضمن حملَ الصُّبرة بكمالها، فقد قال الجمهور: يفسد العقد، [فإنه] (6) لم يتعرض لحمل الصبرة، ولم يبين مبلغاً منها، بل أبهم، وكذلك يبطل البيع على هذه الصيغة.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: التقريرات. (3) ر. المختصر: 3/ 88. (4) (د 1): فصول لا تتعلق. (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: فإن.

وقال بعضُ الأئمة: قوله " تحمل كلّ صاعٍ بكذا من هذه الصبرة " بمثابة قوله: " تحمل هذه الصبرة كل صاع بكذا ". وكذلك القولُ في البيع. وهذا متجهٌ في المعنى، وإن كان بعيداً في الحكاية، ووجهه أن قوله: " تحمل كل صاع من هذه الصبرة " عبارةٌ تشمل جميعَ الصّبرة من غير اختصاص بمقدار. 5272 - فأما صورة مسألة الكتاب، فهي أن يقول: تحمل عشرة آصاع من البُرِّ بكذا، وما زاد، فبحسابه. قال الشافعي: الاستئجار صحيح في المقدار المبين، وهو فاسد في الزيادة، أما الفساد في الزيادة، فمن قبل الجهالة؛ فإنه لم يذكر للزيادة ضبطاً، لا بإشارة، ولا بإعلام المنتهى، [فأما] (1) علة الصحة في المقدار المذكور، [فهي] (2) أنه صحيحٌ لو فرض الاقتصار عليه، والزيادة المذكورة لم تذكر على صيغةٍ تتضمن إلزامَها، واشتراطَها في العقد مع المذكور المقدّر، فليست معقوداً عليها مع المقدّر، ولا مشروطة في العقد الوارد على المقدّر. فإذا ثبت ما ذكرناه في ألفاظ العقد، فقد قال الشافعي بعده: لو حمل مكيلةً، فوجدها زائدة ... إلى آخره. 5273 - إذا استأجر دابة ليحمل عليها مقداراً مُقدَّراً: عشرةَ آصعٍ مثلاً، فاتفق حملُ أحدَ عشرَ، فلا يخلو إما أن يحصل هذا التعدي من المكتري، أو من المكري، أو من أجنبيٍّ سواهما. 5274 - فإن (3) حصل التعدي من المكتري، وكان تولّى بنفسه الاكتيالَ، فزاد على المشروط، وحمل على الدابة، فانفرد باليد في الدابة، وكان مالكها سلّمها إلى المكتري، فنقول: إن سُلمت الدابة، فعلى المكتري الأجرةُ المسماةُ في مقابلة المذكور المشروط، وعليه أجرةُ المثل في مقابلة الزائد، ولو تلفت الدابة في يده، ضمن في هذه الصورة كمالَ قيمتها؛ وذلك لأنه لما حمَّلها أكثرَ مما تستحق، صار

_ (1) في الأصل: وأما. (2) في الأصل: فهو. (3) (د 1): أما إذا حصل.

عاصياً، ويده يدُ عدوان، فيلتزم كمالَ الضَّمان. ولو تلفت الدابة والحالة هذه بآفةٍ سماوية، فيجب ضمانُها أيضاً، وإن لم يكن التلف بسبب العدوان. ولو كان المكتري يكتال بمرأًى من مالك الدابة، فكان يراه يزيد، فسكت، ولم ينكر، فحكم أجرة المثل، وضمان الدابة لو تلفت كما ذكرناه، وسكوتُ المالك على سبب الضمان، لا يغيّر حكمَ وجوبه. 5275 - ولو اكتال المكتري وزاد، ولكنه سلّم إلى المكري، حتى تولى الحملَ بنفسه، وكانت اليدُ له في دابته، قال الأئمة: إن كان المكري عالماً بما جرى، فلا يستحق للزيادة أجرَ المثل؛ فإنه تعاطى حملها، ولو تلفت الدابة، فلا يستحق ضماناً على المكتري؛ فإن المالك هو الذي تعاطى سببَ الهلاك بنفسه، مع العلم بحقيقة الحال. وهذا الذي ذكروه في نفي الضمان سديدٌ، فأما نفي أجرة المثل في الزيادة، ففيه نظر، ولا أقل من أن يُحمَلَ ذلك على استعمال إنسان، أو استعمالِ دابته من غير ذكرِ الأجرة، وفي ذلك تفصيل سيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل. فأما إذا زاد المكتري، وسلّم إلى المكري، فحمل المكري على الدابة، مع الجهل بحقيقة الحال؛ فقد قيل: يستحق الأجرة (1) في مقابلة الزيادة، ويثبت الضمان لو تلفت الدابة؛ فإن المكري لم يرض بهذه الزيادة إذا (2) كان جاهلاً بها. 5276 - وهذا فيه فضل نظر. فأما الضمان، فقد تعاطى المالك بنفسه حَمْلَ الزيادة

_ (1) هنا خلل غريب في سياق نسخة (د 1)، فقد أقحمت في السياق إحدى عشرة ورقة، ومن العجيب أن الخلل ليس في رؤوس الصفحات، فقد انتقلت من ص 39 س1 من منتصفه، إلى ص50 س1 من نهايته، مما يشهد بأن الخلل كان في الأصل المنقول عنه، وليس من عمل ناسخ نسختنا هذه (د 1) وهذا المقدار (إحدى عشرة ورقة) يشهد بأن سبب الخلل أن ناقل الأصل المنقول عنه، وضع كراسة كاملة في غير مكانها، ونسخها في غير سياقها، فقد كانوا يقسمون الكتاب إلى كراسات كل كراسة عشر ورقات، وهذا بعينه نظام الملازم الذي يتبع الآن في المطابع، حيث يقسم الكتاب إلى ملازم، كل ملزمة ثماني ورقات. (2) في الأصل، كما في (د 1): إذا. وهي بمعنى (إذ) وهو استعمال سائغ، كما أشرنا إلى ذلك مراراً.

على الدابة، فوُجد منه سببُ التلف مباشرة، ولكنه كان مغروراً من جهة المكتري، فيجب تخريج ذلك على قولي الغرور، كما تكرر مراراً. فأما لزوم أجر المثل في الزيادة، ففيه احتمالٌ أيضاًًً على بُعدٍ؛ فإنه لم يجرِ لتلك الزيادة ذكرٌ، والظاهر لزومُ أجر المثل؛ فإن الزيادة حُملت في ضمن عقد معاوضة، وليس كالعمل المطلق، حيث لا يجري ذكر الأجرة. 5277 - ثم إذا تلفت الدابة بآفةٍ تحت يد مالكها، وما تلفت بسبب الحمل، فلا يجبْ ضمان الدابة أصلاً. وإن كان تلفُها بسبب الحمل الثقيل، واتفق التلف في يد المالك، ففي مقدار الواجب قولان: أحدهما - أنه يجب نصف الضمان، ولا ينظر إلى مقدار الزيادة، قل أو كثر، والقول الثاني - أنا نوزع قيمة الدابة على المحمول المستحق وعلى الزائد، ونوجب ما يخص الزائد، فإن كان جزءاً من أحد عشر جزءاً، وجب ضمان جزء من أحدَ عشر جزءاً من القيمة، وإن كان أقلَّ أو أكثر، فبهذا الحساب. وهذان القولان بناهما الأصحاب على القولين في أن الجلاد إذا زاد على الحد سوطاً أو أكثر، وهلك المحدود، ففيما يلتزمه الجلاد قولان: أحدهما - أنه يلتزم شطرَ الضمان. والثاني - أنه يلتزم جزءاً من الأجزاء؛ فإن كان الحدُّ ثمانين، فزاد سوطاً، التزم جزءاً من أحد وثمانين جزءاً من الدية. وعلى هذا البابُ وقياسُه، إن كثرت الزيادةُ، أو قلَّت. ومن يُوجب الشطرَ يطردُه فيه إذا كثرت الزيادة، وزادت على المقدار المستحق. 5278 - ولا خلاف أن الجراحات إذا تعددت من شخصين، وآل الأمر إلى التوزيع، وكان جَرَحَ أحدُهما مائةَ جراحة، وجَرح الثاني جراحةً واحدةً، فالدية عليهما نصفان، والسبب فيه أن آثار الجراحات تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وربما يكون أثرُ الجراحةِ الواحدةِ أكثرَ من أثر مائةِ جراحة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا نظر إلى أعداد الجراحات، ولا سبيل إلى استدراك أغوارها، فالوجه التوزيعُ على رؤوس الجناية، وأما الزيادةُ على الجلدات المستحقة، فإنها خارجة على القولين، فهي في قولٍ: كالجراحات، والمتبع التشطير، وفي قولٍ: يقع التوزيعُ على الأعداد؛ فإن آثار

الجلدات لا تتفاوت، بخلاف الجراحات والزيادة في الحمل ملحقةٌ بالجلدات. وذهب بعضُ المحققين إلى أن الأولى القطعُ بالتوزيع في الزيادة المحمولة على الأجزاء؛ فإنها لا تتفاوت قطعاً، والسياط يقدّر فيها تفاوت، وهذا حسنٌ. ولكن الطريقة المشهورة تخريج القولين بناءً على الجلدات. 5279 - وكل ما ذكرناه في زيادةٍ تتحقق، فأما إذا كانت تلك الزيادة بحيث يقع مثلُها من الكيلين، فلا حكمَ، ولا وقعَ لها؛ فإنها غيرُ متحققة، وقد يعاد الكيل مرة أخرى، فلا تظهر الزيادة، وقد يظهر نقصان. 5280 - وما ذكرناه فيه إذا زاد المكتري والمكري [مغرور] (1)، وقد حمل بنفسه. وقد يحمل المكتري بنفسه، واليدُ في الدابة [للمكري] (2)، فحكم الأجرة والضمان على ما ذكرناه، وهذه الصورة تقع مقطوعاً بها، في أجرة المثل، في الزيادة، وفي أصل الضمان. ثم القولان في مقداره على ما ذكرناه، ولا حاجة إلى تخريج الضمان على قاعدة الغرور؛ فإن المكتري قد تولى بنفسه حملَ الزيادة. والذي يجب التنبيهُ له في تفاصيل المسألة أن لا يُصوّرَ حملُ الزيادة والدابة في يد المكتري؛ فإنها لو كانت تحت يده، فيصير بنفس حمل الزيادة غاصباً، ولو تلفت الدابة بسبب آخر، وجب كمال الضمان، فكذلك بسبب الحمل، فليقع التصوير فيه إذا كانت الدابة في يد مالكها. 5281 - فأما إذا تولى المكري الكيلَ وكان المكتري فوّض إليه أن يكيل القدرَ المشروط، ويحملَه، فزاد المكري وحمل أكثر من المشروط، فنقول: لا يستحق في مقابلة الزيادة أجرةً، ولو تلفت الدابة بسبب الحمل، (3 فلا ضمان 3)، وتعليله بيِّنٌ. 5282 - ويطرأ في المسألة شيء آخر، وهو أن المكري نقل شيئاًً من حنطةِ المكتري

_ (1) في الأصل: معذور. (2) في الأصل: للمكتري. (3) ما بين القوسين سقط من (د 1).

إلى بلدةٍ أخرى، من غير إذنه، فكان حكمه فيما فعل حكمَ الغاصب. ونحن نذكر ما يتعلق بذلك. ونقول: أولاً- يجب على الناقل أن يرد تلك الزيادة إلى الموضع الذي نقلها منه؛ جرياً على وجوب ضمان الرد، فلو ظفر صاحب الحنطة بالناقل في المكان الذي نقل عنه؛ فإنه يلزمه مثلُ حنطته، لمكان الحيلولة التي أوقعها، وقد جرى سبب الضمان في هذا المكان ابتداءً، فهو كما لو أتلف حنطةً، فظفر صاحب الحنطة بالمتلِف في مكان الإتلاف؛ فإنه يغرمه المثلَ، ثم لا تنقطع الطَّلِبةُ عن الناقل بهذه الغرامة، بل هو مطالب برد تلك العين التي نقلها إلى موضعها، ولا فرق بين أن تكثر المؤنة، أو تقل، فإذا ردّها، فإنه يسترد ما كان بذله، والقول في أنه يسترد عينَه، إن كانت باقيةً، كما تقدم في المغصوب منه، إذا أبق العبد المغصوب وغرم الغاصبُ للمالك قيمتَه، لمكان الحيلولة، فإذا رجع العبدُ، وعينُ تلك القيمة باقية، فهل يستردّها؟ فيه تفصيل قدمتُه. 5283 - ولو ظفر صاحب الحنطة في مسألتنا بالناقل في البلدة التي نقل إليها، فلو قال المتعدي بالنقل: خذ حنطتَك، فإن أخذها مالكها، فلا كلام، ولو طلبها من الناقل، وجب عليه ردُّها عليه، وإذا قبضها، انقطعت مؤنة الرد، فلو بدا لمالك الحنطة، فقال: ردّها الآن من يدي إلى المكان الذي نُقلت عنه، فالظاهر أنه لا يلزمه ذلك؛ فإنّ قبضَه قد تم في [الملك] (1)، فكان ذلك قطعاً للمادّة، واستئصالاً لتبعة الطّلبة، وإبراءً عن مؤنة الرد. وفي المسألة احتمالٌ على تأويلِ أنه يقول: لست أثق بيدك في عين مالي، فاليد لي، والْتزم النقلَ. 5284 - ولو لم يقبل منه الحنطة في تلك البلدة، وقال: الْتزم ردَّها إلى مكانها، فله ذلك. فلو قال الناقل؛ خذها إليك، وأنا أنقلها في يدك، فللمالك أن يمتنع، ويقول:

_ (1) في الأصل: ملك.

لو قبضتُها، لكانت مؤنة الحفظ عليّ، ولو تلفت في يدي، لسقط الضمان، فكن أنت الملتزمَ لذلك كله. 5285 - ثم لو قال المالك، والحالة هذه: اغرم لي على مقابلة الحيلولة، فله ذلك؛ فإن الحنطة، وإن كانت حاضرةً، فهي بمثابة الغائبة للوجوه التي ذكرناها، ثم لا يغرّمه مثلَها؛ إذ يستحيل أن يغرّمه المثلَ، وعينُ ماله قائمة، ويعسر عليه نقل المثل، كما يعسر عليه نقلُ العين، فلا يغرّمه إلا القيمة. ثم إذا ردّ الحنطةَ إلى مكانها، استرد القيمة. 5286 - وكان شيخي يقول: يغرّمه أرفعَ قيمةٍ من مكان النقل، إلى حيث انتهت؛ فإن العدوان مطّردٌ في هذه الأماكن جملتِها، ولا مكان منها وإلا للمالك طلبُ حنطته إن صادف ناقلَها فيه مع الحنطة، وله طلب قيمتها في ذلك المكان، حملاً على تكليفه نقلَها إلى الأول، الذي نقلها منه، فينتظم من مجموع ذلك إيجابُ أقصى القيم. 5287 - وقد مهدنا في كتاب الغصوب في ظاهر المذهب أصلاً، فقلنا: إذا أتلف رجل مثليّاً في مكان، ثم ظفر المتلَفُ عليه بالمتلِف في غير مكان الإتلاف، فالمذهب الظاهر أنه لا يطالبه بالمثل، وإنما يطالبه بقيمة مكان الإتلاف. وما ذكرناه في هذا الفصل مباينٌ لذلك الأصل؛ فإن الحنطة في عينها فائتةٌ، واقتضى الترتيب على ما رآه الأصحاب ألا نُغرّمَه المثلَ في غير مكان الإتلاف، والحنطة قائمة في مسألتنا، فجرى ما مهدناه من غرامةِ المثلِ والقيمةِ على ترتيبٍ يخالف الإتلاف، ويكفي في ذلك التنبّه والتأمل. 5288 - ولو جرى نقلُ تلك الحنطةِ الزائدةِ من ثالثِ، مثل أن يُفوّض المكتري الكيلَ إلى إنسانٍ، فيزداد ويحملَ أكثر من المشروط، فالكلام في أجر المثل والضمان في الدابّة لو تلفت معلّقٌ بهذا الثالث، فيغرَم أجرَ المثل في الزائد، وفي الضمان عند فرض التلف اختلافُ القول، كما تقدم. وللمالك أن يكلفه ردَّ الزيادة إلى البلد المحمول عنه، كما ذكرناه في حق المكري إذا كان هو الناقل.

5289 - ومما يتعين [التصوير] (1) عنه في أطراف المسألة ألا تُفرض اليدُ عند فرض حمل الزيادة للضامن؛ فإن اليدَ لو كانت له، ونقدِّر التلفَ في الدابة وجب ضمانُ تمام القيمة، لأنه بنفس حمل الزيادة، صار في حكم الغاصب للدابة، وإذا كان كذلك، فإذا كانت اليد للمكتري، وهو الحامل، ضمن تمام القيمة، وإنما يختلف القول في مقدار الضمان، مع القطع بأن جميع القيمة لا تلزم إذا كانت اليد في الدابة للمكري، فإذا فرضنا ثالثاً، فينبغي أن يكون منصوباً من جهة المكري، ثم ينبغي أن تكون يده مع يده؛ إذ لو انفرد باليد، لضمن تمامَ القيمة إذا اعتدى بحمل الزيادة، ثم لا نظر إلى صدور ذلك عن أمر المكتري؛ فإن الأمر بالعدوان من غير إكراهٍ لا يُثبت على الآمر ضماناً. فخرج من ذلك أن الثالث إذا انفرد باليد، ثم نفقت الدابة، ضمن تمام قيمتها، إذا كان هو الحامل للزيادة بالأمر [أو بغير] (2) الأمر، وإن كانت اليد للمكري، فإذ ذاك يضطرب القول في مقدار الضمان. فصل قال: " ومعلّم الكتّابِ، والآدميين، مخالف لراعي البهائم ... إلى آخره" (3). 5290 - هذا الفصل يجمع قواعدَ المذهب في بيان التلف الذي يُفضي إليه ضربٌ جنسُه مأذونٌ فيه. والوجه أن نرسل المسائل، فنذكرَ ما يتعلق بالمذهب فيها، ثم نحرص على ضبطها، كصنعتنا في أمثالها. فنقول: 5291 - لمعلّم الصبي أن يؤدِّبه إذا مست الحاجةُ إلى تأديبه، وعليه التحفظ عما

_ (1) في الأصل: التصور، والمثبت من (د 1). (2) في الأصل: لو تغير الأمر. (3) ر. المختصر: 3/ 88.

يؤدي إلى هلاكه، أو تعييب عضوٍ من أعضائه؛ فإن تأديبَه في الشرع، مشروطٌ بالسلامة. ولو كانت العرامة (1) التي به لا تزول بالضرب الخفيف، وكان يظهر أن إمكانَ زوالها يقتضي ضرباً عنيفاً مخوفاً، فلا يجوز أن يُضرب ضرباً عنيفاً، وإن كان زوال العرامة موقوفاً عليه. فإن فرض تأديبٌ لا يقصد في ظاهر الظن بمثله الإهلاكُ، فاتفق التلف منه، تعلق الضمان به. فإن قال المؤدب: قد اقتصدتُ، واقتصرتُ على حدّ الأدب، فقد جوزتم لي هذا القدرَ، فلم تثبتون الضمان فيما جوزتموه؟ قلنا: لا يتصور التلفُ إلا بمجاوزة الحدّ في كيفية الضرب، أو مقدارِه، أو محلِّه، أو زمانه، وقولُ القائل وقع التلفُ وفاقاً عريٌّ عن التحصيل؛ فإن القتلَ لا يقع وفاقاً إلا بمجاوزة حدٍّ من الحدود التي أشرنا إليها. ثم إذا حصل التلف، وبان أن سببَه مجاوزةُ الحد، وكان التأديب مشروطاً بتوقي [التَّلف] (2)، وجب الضمان. 5292 - ثم ما جرى شبهُ عمدٍ، ولا يخفى الكلامُ في متعلّق ضمانه، فالدية على العاقلة، وهي مغلظةٌ، والكفارة على الضارب. 5293 - والزوج إذا أدّب زوجتَه، فالكلام فيه على نحو ما ذكرناه. 5294 - ولو كان أذن الولي للمؤدب في الضرب العنيف، فلا حكم لإذنه، مع نهي الشرع عنه، ولا يتعلق بالولي الضمانُ لإذنه. 5295 - وأبو حنيفة (3) رضي الله عنه لا يوجب الضمانَ في تأديب الصبي إذا أفضى

_ (1) العرامة: الشراسة والشدة، من قولهم: عَرُم فلان يعرُم (بالضم فيهما) عرامةً وعُراماً إذا شرس واشتد. (المعجم). (2) في الأصل: المتلف. (3) قال السرخسي في المبسوط (16/ 13): "فإن ضربه بغير إذن الأب، فلا إشكال في أن يكون ضامناً، وإن ضربه بإذن الأب، فلا ضمان عليه في ذلك؛ لأنه غير متعدٍ في ضربه بإذن الأب. ولو كان الأب هو الذي ضربه بنفسه فمات، كان ضامناً في قول أبي خنيفة، ولا ضمان عليه في قول أبي يوسف ومحمد، وهما يدعيان المناقضة على أبي حنيفة فيقولان: إذا كان الأستاذ لا يضمن باعتبار إذن الأب، فكيف يكون الأب ضامناً إذا ضربه بنفسه؟ لكن أبا حنيفة رحمه الله=

إلى إهلاكه، مَصيراً إلى أن المرعي مصلحته، وأوجب الضمانَ على الزوج إذا أدّب زوجتَه، وأهلكها، وقال: مطلوب الزوج أن تصلح الزوجةُ له، فإذا هلكت، ضمنها. وهذا كلامٌ ساقط؛ فإن التأديب المهلك، لا استصلاح فيه. 5296 - ولو سلّم مالكُ العبد عبدَه إلى من يعلّمه، وسوغ له من تأديبه ما يسوغه الشرع، فالقول في وجوب الضمان إذا أدى التأديب إلى التلف ما ذكرناه في الصبي. ولو أذن له المالك في الضرب العنيف المخُوف، فإذا ارتسم المأمورُ رسمَه، ولم يتعدّه، فأدى إلى التلف، لم يضمنه لمالكه، وإن تعدى، وظلم؛ فإن حق المالية في رقبة العبد للمولى. ولو أباح دمَه، لم يحلّ للمأمور بقتله أن يقتله، ولكن لو قتله، لم يضمنه. 5297 - ولو عزر السلطانُ في أمرٍ يتعلق بحق الله وأدى التعزيرُ إلى التلف، وجب الضمان. ثم في محله قولان: أحدهما - أن محلّه عاقلتُه المختصون به. والثاني - أن محله بيتُ المال. وسيأتي شرح ذلك في موضعه، إن شاء الله - ولكن إذا انتهى نظمُ كلامٍ إلى حكمٍ، فلا بد من الرمز إلى أصله، مع إحالة البيان على موضعه. ثم إن أوجبنا الضمان على عاقلته، فالكفارةُ يختص وجوبها به، لا تحملها العاقلةُ. وإن ضربنا الغرمَ على بيت المال، ففي ضرب الكفارة عليه قولان، سيأتي ذكرهما، ومأخذ وجوب الضمان أن التعزير لحق الله تعالى يجري مجرى التأديب، وهو مشروط بالسلامة.

_ =يقول: ضربُ الأستاذِ لمنفعة الصبي لا لمنفعة نفسه، فلا يوجب الضمان عليه إذا كان يأذن وليه، فأما ضرب الأب إياه لمنفعة نفسه؛ فإنه يغير سوء أدب ولده، فيتقيد بشرط السلامة، كضرب الزوج زوجته لما كان لمنفعة نفسه ". اهـ .. والواقع أنه لا مناقضة في كلام أبي حنيفة رضي الله عنه، حيث علق الحكم بالمصلحة، فمن يؤدب لمصلحة نفسه كالأب والزوج يضمن، ومن يؤدب لمصلحة غيره بإذنه كالمعلم، لا يضمن. على حين علّق الآخرون الحكم بالإذن، وقد ألمع إلى هذا السرخسي رحمه الله.

5298 - واختلف أئمتنا في أن التعزير إذا وجب حقّاً للآدمي، فأقامه الإمام لأجله، فأدى إلى التلف مع الاحتياط في الاقتصاد، فهل يجب الضمان؟ والأصح القطعُ بوجوب الضمان، والمصيرُ إلى نفي الضمان ذهولٌ عن حقيقة مذهبنا، كما سنصفه عند خوضنا في ذكر ضابط المذهب في المسائل. 5299 - فإن قيل: من أصلكم أن سِرايةَ القصاص ليست مضمونة، وإن كان مستحقُّ القصاص (1) بالخيار في استيفاء القصاص، وليس محمولاً عليه بقهر شرعي، فما المتّبعُ في هذه المسائل؟ قلنا: قد ظن من لا يحيط بمأخذ الكلام أن المذهب مُدارٌ في النفي والإثبات على كون سبب الإتلاف مقدَّراً أو غيرَ مقدَّر، وزعم أن التعزير اقتضى الضمانَ، من حيث إنه لا يتقدّر، فالأمر فيه مفوّضٌ إلى اجتهاد المعزِّر، والقصاص في حكم الأفعال المقدّرة المحدودة، ولا اجتهاد فيها، فإذا أفضى إلى التلف، لم ينتسب المقتصُّ إلى الخطأ في الاجتهاد. وهذا كلام غيرُ بالغٍ في مقصوده، وإن كان تحويماً على الحق (2). 5300 - والمتبع في الباب فَهْمُ الشرع على وجهه، فحيث ينهى الشرعُ عن السبب المتلِف، ويأمر بالاقتصار على ما لا يُتلف، فإذا فُرض التلف، فقد تعدّى الضارب ما رُسم له، مخطئاً، أو عامداً، فإذا أباح الشرعُ سبباً متلفاً، لم يتعلق به الضمان. والاقتصاص من الأسباب المتلفة، ثم لا يختلف ذلك بالوجوب والإباحة، ولا يختلف بكونه مضبوطاً، أو محالاً على الاجتهادِ والنظرِ، بدليل أن من دفع صائلاً على (3) نفسه، أو ماله، فمقدار الدفع يتقيد بقدر الحاجة، وليس فيها ضبطٌ شرعي، وتقديرٌ محسوس، ثم ما يُفضي إلى تلف الصائل لا يُعقب ضماناً؛ لأن الشرع سلّط

_ (1) (د 1): وإن كان المقتص بالخيار. (2) في (د 1): تحويماً عليه. (3) (د 1): عن. و (على) تأتي بمعنى (عن).

على القدر المتلف عند الحاجة، ثم لا يضرّ أن يكون ذلك مظنوناً؛ فإن معظم مسائل الدماء تتعلق بالظنون. ويُخرّج على القاعدة التعزيرُ؛ فإنه لم يَثبت مُهلكاً، وإنما أُثبت أدباً يستبقي المؤدَّب، فإذا أهلك، أثبت الضمانَ. ومن أخذ هذا من أن التعزير لا يجب، تعرّض كلامُه للانتقاض بالقصاص، ومن فرّق بين التعزير [الذي يجب لحق الله تعالى، وبين التعزير الذي يجب للآدمي، فقد اضطرب عن مأخذ هذا الأصل؛ فإن الشرع لم يثبت التعزير] (1) لحق الآدمي إلا أدباً، بمثابة تعزير الزوج زوجته. وهذا أصل جليٌّ، فليتبعه الناظر. 5301 - وإذا سلم المكري الدابة إلى المكتري، فكان المكتري يزجيها ويضربها، فهلكت، أو عابت، فإن عدّ مقتصداً، فلا ضمان. فإن قيل: كيف يُخرّجُ هذا على الحد الذي ذكرتموه، وقتل البهيمة ممتنع شرعاً؟ قلنا: الأسباب التي أذن الشرع فيها في البهائم مهلكاتٌ، أو أسباب في الهلاك؛ فإن تحميل البعير العبء الثقيل على الاعتياد في مثله، وجَوْب البوادي عليه، على الظمأ، مع التَّزجية بالضرب المعتاد، مما لا يندر الهلاكُ منه، فالإذن فيه من المالك إذنٌ في سبب الإهلاك. 5302 - ومما يجب التنبه له في هذا المنتهى أن المتمادي في كلامه إذا قال: لا يجوز السعي في إهلاك البهيمة، رُدّ عليه قوله بما ذكرناه، وقيل له: أباح الشرعُ قتلَ كثيرٍ من البهائم لحاجة الآدميين إلى أكل لحومها، فتحميلها المشاقَّ في معنى الإذن في إهلاكها، ولكن على اقتصادٍ معتادٍ. فإن لم يقنع السائل وقال: كيف يرضى مالك الدابة النفيسة بإهلاكها وحظه من كِراها مقدارٌ نزرٌ؟ قلنا: مثل هذه الدابة لا تتلف إلا بسَرفٍ، فلا جَرَم يجب الضمان. والتلفُ إنما يقع في الدابة الضعيفة، أو المئوفة (2)، والإذن في تحميلها إذنٌ في سبب

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (2) المئوفة: شيء مئوف وزان رسول، والأصل مأووف على مفعول، لكنه استعمل على=

تلفها، أو تعيّبها، فقد خرج ما ذكرناه على القاعدة خروجاً بيّناً. 5303 - فإن قيل: إذا تعدى المكتري، وجاوز حدّ الحاجة، فتلفت الدابة، فقد حصل التلف بما له أن يفعله، وبما ليس له أن يفعله، فهلا قسَّطتم الضمان، وحططتم بعضَه على مقابلة ما يجوز فعله؟ وتقريب القول فيه أن ضرباتٍ معلومة لو فرض الاقتصار عليها، لعد الضارب مقتصداً، فإذا زاد، عُدَّ مجاوزاً، فقد حصل التلف بما يجوز وبما لا يجوز؟ قلنا: إن كان المكتري منفرداً باليد، فيصير بأول العدوان غاصباً، والغاصب يضمن ليده، وإن لم يصدر منه إتلافٌ. وإن كانت الدابة في يد مالكها، وكان المكتري يزجيها، فزاد على حد الاقتصاد، فهذا موضع السؤال، فانه لا يضمن ليده، وإنما يضمن لفعله. 5304 - والذي قطع الأصحاب به وجوبُ تمام الضمان؛ والسبب فيه أن القدرَ الذي لو اقتصر عليه، لكان مقتصداً إنما يكون مأذوناً فيه من المالك بشرط الاقتصار عليه، فإذا جاوزه، فقد خرج أصل الضرب عن الإذن. فهذا بيّنٌ في فنِّه. ولكنّ الاحتمالَ متطرقٌ إليه من طريق المعنى؛ لأن الفعل المقتصد منفصلٌ عن الزائد، فكان لا يبعد في القياس التقسيطُ إذا لم يكن سببُ الضمان اليدَ، كما نبهنا عليه. وهذا بمثابة الزيادة على الجلد في الحدّ. ولنا أن نعتصم بتأديب المؤدب، وتعزير المعزّر؛ من جهة أن الهلاك يحصل بالقدر الزائد، ثم يجب تمام الضمان. ولم نُبد الاحتمالَ الذي ذكرناه ليكون مذهباً وإنما ذكرناه للتنبيه على وجوه الكلام. 5305 - وإذا تعدّى الأجير في فعله، وزاد على الحد المطلوب، وأتلف العين التي استؤجر لإيقاع الفعل فيها، وجب كمالُ الضمان؛ تخريجاً على هذه القاعدة. ثم الضبط في هذا القبيل يستدعي الربطَ بالخروج عن التقدير، فإذا كان كذلك، وثبت

_ =النقص. والمئوف هو من أصابته آفة (المصباح).

النهي عن سبب الإتلاف، وفوّض القدر إلى المتعاطي، فلا تقسيط إذا تعدّى الحدَّ أصلاً. هذا منتهى الكلام في غرض الفصل. فصل قال: " ولو اختلفا في ثوب، فقال ربُّه: أمرتك أن تقطعه قميصاً ... إلى آخره" (1). 5306 - إذا دفع مالكُ الثوب الثوبَ إلى خياطٍ ليخيطه، فخاطه قَبَاءً، ثم اختلفا، فقال صاحب الثوب: أمرتك بأن تخيطه قميصاً، وقال الخياط: بل أمرتني بأن أخيطه قَباءً، فقد حكى الشافعي من قول ابن أبي ليلى (2) أن القول قولُ الخياط، وحكى من مذهب أبي حنيفة (2) أن القول قولُ رب الثوب، ورجَّحَ مذهبَ أبي حنيفة ورآه أوقع، ثم قال: " وكلاهما مدخول "، فأشار إلى قولٍ ثالثٍ في المسألة، وقد نصّ في الأمالي على أنهما يتحالفان. وهذا هو القول الثالث الذي أشار إليه هاهنا. واختلف أئمتنا: فمنهم من قال: مذهب الشافعي التحالف، وما سواه حكاه مذهباً لغيره. ومن أصحابنا من أثبت للشافعي ثلاثة أقوالٍ، وأخذ ذلك من ترجيحه مذهبَ أبي حنيفة على مذهب ابن أبي ليلى، وهذا يشر بتردده في القولين؛ فإن من يُفسد القولين لا يرجّح أحدهما على الثاني. فليقع التعويل على طريقة الأقوال، ونحن نوجهها ونفرع عليها.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 89. (2) ر. المبسوط: 15/ 96، وبدائع الصنائع: 4/ 219، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: 106، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 98 مسألة: 1779.

5307 - فمن قال: القولُ قول الخياط، احتج بأن أصل الإذن متفقٌ عليه، والأجير مؤتمن فيما أُمر به، وصاحب الثوب يبغي تضمينَه، والأصل براءةُ ذمته. ومن قال: القول قول رب الثوب، احتج [بأنه] (1) الآذن، ولو أنكر أصلَ الإذن، يصدّق مع يمينه، فالقول في تفصيل الإذن قوله. والذي يوضّح الحقَّ أنه إذا ثبت الرجوع إلى قوله في أصل الإذن، فإنه ينكر أصلَ الإذن في قطعه قباءً. [فهذا] (2) وإن سمي تفصيلاً، فهو أصلٌ متنازع فيه نفياً وإثباتاً، فليقع الرجوع إلى الآذن. ومن قال: يتحالفان، احتج بأن سبب التحالف بين المتعاقدين الاختلافُ في المعقود عليه، وتعرُّضُ كلِّ واحدٍ منهما لكونه مدعياً من وجهٍ ومدعىً عليه من وجهٍ. فإن نظرنا إلى المنفعة المعقود عليها، فهي على التنازع، وكل واحد مدّعىً ومدعىً عليه، فالمالك يدعي جنايةَ الخياط، ويُدّعَى عليه الإذن، والخياط يدعي إذنَ المالك ويُدّعَى عليه الجناية، ومجموع ذلك يقتضي التحالفَ؛ إذ ليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني. فإذا توجهت الأقوال، فرعنا عليها. 5308 - فإن قلنا: القول قول الخياط مع يمينه، فقد قال الأصحاب: إنه يحلف بالله ما أمره بقطع الثوب قميصاً، وإنما أمره بقطعه قَباءً، فيشتمل اليمين على النفي والإثبات. فإن قيل: هلا اقتصر على النفي؟ قلنا: نفي الأمر بقطعه قميصاً لا ينفعه في نفي الجناية، فإن نفي الجناية ادّعاها ربُّ الثوب؛ من حيث قطع الثوبَ قَباء، فلم يكن بدٌّ من التعرض لنفي. ذلك، وسبيل نفي الجناية إثباتُ الإذن، فإن كان لهذا إشكال، فهو من إشكال القول، وإلا، [فلا] (3) طريق في تفريعه- غيرُه إذا اعتمد أصله. ثم من

_ (1) في الأصل: بأن. (2) في الأصل: هذا. (3) في الأصل: فطريق في تفريعه غيره.

حكم يمينه أنه لا يغرم لرب الثوب أرشَ النقصان. 5309 - ويقع النظر وراء ذلك في استحقاق الأجرة. وقد اضطرب طريق الأصحاب فيه، فالذي صرح به شيخي -وهو مقتضى ما ذكره الصيدلاني وغيرُه- ذكرُ الاختلاف في أنه هل يستحق الأجرة المسماة إذا حلف؟ وقال العراقيون: لا يستحق الأجرة المسماة وجهاً واحداً، وهل يستحق أجرَ مثل عمله؟ فعلى وجهين، فنوجه الخلافَ في استحقاق الأجرة، ثم نبين ما صار إليه العراقيون من الفرق بين الأجرة المسماة وأجرة المثل. فالتوجيه في الأصل: من قال: لا يستحق الأجرةَ، قال: يكفيه أن تنفي يمينُه الغرمَ عن نفسه، فأما أن يُتوصل بها إلى استحقاق ما يدّعيه، فهو بعيد عن [نظم] (1) الخصومة. ومن قال: إنه يستحق الأجرَ، احتج بأن أصلَ الأجرة متفق عليه، وإنما الكلام في تعيين العمل، وبينهما عملان يتنازعان فيهما، ومن ضرورة انتفاء الغُرْم عن الأجير ثبوتُ الإذن في العمل الذي صدر منه. فإذا ثبت كونه مأذوناً فيه، وقد تقرر أن العمل المأذون فيه مقابَلٌ بالأجرة، فتثبت الأجرة. 5310 - هذا أصل التوجيه. والذي صار إليه العراقيون من الفرق بين المسمى وأجرة المثل مُنقدح؛ فإن الأجرة المسماةَ قد تزيد على أجرة المثل، فثباتها بقولِ من يدّعيها بعيدٌ، [ويبعد أن يحبَطَ تعبُ العامل] (2) إذا ثبت كونُه مأذوناً فيه، فالإنصاف أن ألا يزيد على أجر المثل. ومن يُثبت الأجرةَ المسماةَ يقول: سبب ثبوت الأجرة أنها متفقٌ عليها ذكراً، وقد انتفى العدوان بيمينه، وتعيّن بانتفائه وقوعُ الفعل مأذوناً فيه، ومساق ذلك يُثبت الأجرة المسماةَ، إن كنا نرى إثبات الأجرة.

_ (1) في الأصل: تعلّم. (2) في الأصل: ولا يمتنع ألا يحبط تعب العامل.

ومما يجري في [خلل] (1) الكلام، أن من أثبت أجرة المثل؛ فإنه يقول لا محالة: إن كانت المسماة أقلَّ منها، فليس للخياط إلا الأجرةُ المسماة؛ فإنه ليس يدّعي أكثر منها، فيستحيل أن يستحق أكثر من المدَّعَى. التفريع على ما ذكرناه في الأجرة: 5311 - فإن حكمنا باستحقاقها، فلا كلام، واستقلت يمين الخياط بنفي الغُرم، وإثبات الأجرة. وإن قلنا: لا يستحق الأجرةَ، فله أن يعرض اليمين في طلب الأجرة على رب الثوب، فإن حلف رب الثوب، انتفت الأجرة في ظاهر الحكم، وإن نكل، فقد اختلف مسلك الأئمة: فذهب بعضهم إلى أنا نثُبت الأجرةَ الآن باليمين السابقة الصادرة من الخياط؛ فإنها اشتملت على النفي والإثبات، ولكنا لم نثبت بها مالاً للحالف، حِذاراً من إثبات المدعَى بيمين المدعي ابتداءً، فإذا تبيّن آخراً نكولُ رب الثوب، وقع الاكتفاء بما تقدّم، فإنا لو أعدنا تحليفه، لم نزد على تحليفه على إثبات الإذن، وقد تقدّم هذا، فلا معنى لإعادته، فهذه يمينُ ردٍّ اقتضى ترتيبُ الخصومة تقدُّمَها، ولكنها لا تقع الموقع في استحقاق الأجرة، حتى يتبين نكولُ رب الثوب عن اليمين. هذا مسلك متجه، فإن كان فيه إشكالٌ، فلا إشكال القول (2) لا بخلل التفريع، ولكن تصديق الخياط يجر هذا. 5312 - وهذا [هو] (3) الذي ارتضاه القاضي في التفريع. وذهب ذاهبون إلى أنا إذا لم نثبت الأجرة بمجرد يمين الخياط ابتداءً، فيقتصر على درء الغرم عنه، وخروجه عن العدوان. فإن أراد الأجرةَ، فينبغي أن يبتدىء دعوى فيها، ولا نظر إلى ما تقدم، ثم حكم الدعوى التي يبتديها عرضُ اليمين على رب الثوب، فإن نكل، رددنا اليمينَ على المدعي، وحلّفناه، ولا نظر إلى ما تقدّم.

_ (1) في الأصل: ذلك الكلام. (2) (د 1): الوجه. والعبارة غير مستقيمة في النسختين، ولعل بها سقطاً، أو تصحيفاً. ولعلها: "فالإشكال في القول، والخلل في التفريع" والله أعلم. (3) مزيدة من (د 1).

وهذا قياس الخصومات، وقد يفرض في خصومةٍ ذاتِ أطراف نكولٌ عن يمينٍ في جانب مع الإقدام عليها في جانب آخر، فإذا تميزت الخصومة عن الخصومة، وجب أن نُوفِّر على الخصومة الأخيرة حقَّها، وترتيبَها. وهذا حسنٌ منقاس. وكل ذلك تفريع على قولنا بتصديق الخياط. 5313 - وإن قلنا: القول قولُ ربّ الثوب مع يمينه، فيحلف بالله ما أمره بقطعه قَباءً، وتنتفي الأجرة عنه بيمينه. ثم اتفق الأصحاب على أن الخياط يضمن، ولم يختلفوا في أصل الضمان، وهذا في الترتيب قد يناظر الأجرة في التفريع على القول [الأول] (1). ثم ثبوت الأجرة مختلف فيه، وثبوت الضمان في التفريع على تصديق المالك غيرُ مختلف فيه، والسبب أن رب الثوب بيمينه يهجم على إثبات عدوانه؛ فإن الإذن إذا انتفى، ثبت العدوان، فإذا كان العدوان يثبت بالنفي وهو متضمَّنُ اليمين في قياس الخصومة، والأجرة لا تثبت إلا بتقدير إثبات، فكان الافتراق لذلك. 5314 - ثم إذا ثبت الضمان على الخياط، ففي قدره قولان: أحد القولين- أنه يجب ما بين القطعين، وبيانه أن الثوب لو كان يساوي عشرةً، غيرَ مقطوع، وكان يساوي القميص تسعة، والقَباء ثمانية، فالتفاوت بين القطعين دينار؛ فهو الواجب في قولٍ. والقول الثاني - أنه يجب ما بين قيمة الثوب غيرَ مقطوع وبين كونه قَباء، وهو ديناران. توجيه القولين: من أوجب الدينارين، احتج بأنه إذا لم يكن القطع مأذوناً فيه، فهو عدوان، ومن اعتدى، فقطع ثوباً قباءً، التزم كمالَ النقصان. ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن قال: أصل القطع مأذون فيه، وفي تقرير هذا لطف، فقطع الثوب بنصفين مثلاً يليق بتفصيله قميصاً، وهذا القدر يقع مأذوناً فيه،

_ (1) مزيدة من (د 1).

والعدوان في الزيادة، فإن من يبغي القَباء يَزيد بعد هذا القطع قطعاً، وذلك هو المضمَّنُ، وهذا يتضمن تضمينه ما بين القطعين. 5315 - وبنى الأئمة هذين القولين على أن الوكيل بالبيع إذا باع بغبن فاحش، وفاتت العين، فماذا يضمن؟ وفيه قولان -نص عليهما في الرهن اللطيف (1): أحد القولين- أنه يضمن كمال قيمة العين، والقول الثاني - أنه يغرَم المقدارَ الذي لو باع به، لنفذ، ويُحطّ عنه ما يتغابن الناس بمثله. وقد ذكرنا حقيقة هذين القولين. ووجْهُ بناء القولين في مقدار الضمان في مسألتنا على هذا ظاهرٌ من طريق اللفظ. ولست أوثر هذا البناء؛ فإن مَن يوجب ما بين القطعين يأخذ مذهبه ممّا أشرت إليه، من جريان ابتداء القطع على حسب الإذن، كما ذكرته. وإذا كان مأخذ تعليل الضمان هذا، فلا مناسبة بين هذا الأصل، وبين ما ذكرناه في الوكيل. 5316 - وأنا أقول: لو كان القطع المنفي باليمين على وجهٍ لا يترتب شيء منه على جنس القطع المأمور به، فيجب القطعُ بإيجاب تمام الضمان، وإنما يختص القولان بالصورة التي ذكرناها، وهي أن يجري ابتداء القطع على حسب الإذن، ثم يترتب عليه قطعٌ يخالف الإذنَ، ثم الأصح في صورة القولين إثباتُ تمام الضمان؛ فإن بعض الإذن لا ينفع مع العدوان. ولهذا قلنا: إذا تعدى القصار، وزاد في الدّق، ضمن التمامَ وإن كان بعضُ الدقات مأذوناً فيه. 5317 - وإن قلنا: إنهما يتحالفان، فيترتب على جريان التحالف سقوطُ الأجرة؛ فإن من ضرورة التحالف انتفاء الإذن، وانقطاعُ العقد، وهذا يقتضي سقوط الأجرة. ثم ذكر العراقيون في التفريع على قول التحالف قولين للشافعي منصوصين، في أن الخياط هل يضمن؟ أحدهما - أنه لا يضمن؛ فإن الذي يقتضيه الإنصاف أن تسقط الأجرة ويسقط بإزائها الضمان، وبهذا يحصل الاعتدال في الجانبين.

_ (1) (الرهن اللطيف) عنوان ضمن كتاب الرهن في كتاب الأم، وهو بلفظ (الرهن الصغير) وتحته اختصار وزيادات لكتاب الرهن.

والقول الثاني - أن الضمان يثبت؛ لأن المتعاقدَيْن إنما يتبارآن إذا رجع كلٌّ إلى ما كان عليه قبل العقد، وصاحب الثوب يقول: هذا الثوب رددتموه عليَّ مقطعاً على خلاف إذني، وقد انتفى العقد، فضمّنوه لي. وهذا القول مشكلٌ؛ من جهة أنه يضاهي [تصديقنا] (1) صاحبَ الثوب، ويسقط أثر تحليفنا الخياط، ولو قدّرناه ناكلاً عن اليمين، لما لزمه إلا هذا، واليمين التي لا تجرّ نفعاً، ولا تفيد دفعاً لا معنى فيها. وسبب جريان هذا القول ضعفٌ في (2) أصل التحالف؛ فإن ملك الإنسان إذا غُيّر عليه والقول قوله في نفي الإذن فيه، فالتحالف يبعدُ في هذه الصورة، فإذا قيل به، ثم رجع في عاقبته إلى إبطال أثر التحالف، كان تناقضاً، ولا (3) يستدّ على القول بالتحالف إلا سقوطُ الغُرم، في مقابلة سقوط الأجرة. 5318 - ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن الخياط إذا أسقطنا أجرتَه، لو قال: كانت الخيوط لي، وأنا أنزعها؛ [فإنها تبعت عملي الموجب للأجرة] (4)، فإذا كانت الخيوط له، فله نزعها إذا كانت متقوّمة منتفعاً بها بعد النزع. ثم قال الأصحاب: إذا نزعها، يغرَم ما دخل الثوبَ من النقص بسبب نزع الخيوط، كما إذا صبغ ثوبَ الغير بصبغ من عنده، ثم نزع الصبغ، فإنه يضمن لمالك الثوب أرشَ النقص، الذي يلحقه بسبب نزع الصبغ، كما قدمنا تقريره. وهذا يستدعي مزيد نظر، فإن قلنا: لا يجب الضمان على الأجير، تفريعاً على قول التحالف، فإذا نزع، فقد أحدث نقصاً؛ [إذ] (5) ردَّ الثوب قِطَعاً؛ فيغرم ما بين الثوب مخيطاً، [وبين] (6) القِطَع. وإن قلنا: إنه يضمن نقصان القطع في الأصل، فقد ضمّناه أرشَ نقصان التقطيع

_ (1) في الأصل: تصديقاً. (2) (د 1): ضعف أصل التحالف. (3) (د 1): فلا. (4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (5) في الأصل: إن. (6) في الأصل: أو بين.

مرة، فيبعد أن يضمنه مرة أخرى، ولكن إن حدث بسبب نزع الخيط مداخلُ الإبر، وكانت انسدت بالخيوط، وقد يُحدث النزعُ خرقاً في موضع الخيط، فهذا يضمنه، فأما تضمينه الزيادة، وقد ضمّناه مرة؛ فإنه يتضمن تضعيف الضمان. والذي ذكره الأصحاب ظاهرٌ في إيجاب الضمان عليه مرة أخرى، لتفصيله للثوب بعدما نظمه (1)، وهذا غير سديد؛ فإنه لا معنى لضمّه إلا وصل الخيوط به، فإذا جوزنا نزع الخيوط، عادَ الأمرُ إلى ما كان عليه. هذا منتهى الكلام في الفصل. فصل قال: " ولو اكترى دابة، فحبسها ... إلى آخره " (2). 5319 - إذا اكترى دابة، وقبضها، فالإجارة لا تخلو إما أن تكون معقودةً على مدة، وإما أن تكون معقودة على منفعة معلومة. فإن كانت معقودة على مدة، فإذا حبسها حتى انقضت المدة، ولم ينتفع بها، استقرت الأجرة، وانتهى العقد، ووجب ردُّ الدابة. ولو وردت الإجارة على منفعة معلومةٍ، ولم يقع التعرض للمدّة، فمضى في يد المستأجر من الزمان ما يسع استيفاءَ تلك المنفعة، استقرت الأجرة، وانتهت الإجارة، وقد قدمنا ذلك. 5320 - ثم قال الأئمة: لو تلفت الدابة في يد المستأجر في المدة المضروبة، أو في مدة العمل الموصوف، بآفة سماوية، فلا ضمان على المكتري؛ فإن يده يدُ أمانة، والأمانةُ لا تختلُّ بتركه حظَّ نفسه في الانتفاع، وإذا كان الزمان محسوباً عليه، فترك الانتفاع ترفيهٌ للدابة. نعم لو ربطها في إصطبلٍ، فانهدم الإصطبل عليها، من

_ (1) كذا، ولعلها: بعد ما قطّعه. أو لعلّ نظمه في لغة السوق في ذلك العصر تعني (فصّله). أي قطعه إعداداً للخياطة. (2) ر. المختصر: 3/ 91.

غير انتسابه إلى تقصير، بأن اتفقت رجفة ورجّة، تهدَّم السقف لها، فقد قال الأئمة: يجب الضمان، وإن كنا نقول: لو كانت الدابة مودعة عنده، وربطها في المحل الذي وصفناه، فاتفق انهدام السقف، فلا ضمان. والسبب في إيجاب الضمان في مسألتنا أنه لو كان راكبها وسائراً عليها، لما كانت ربيطةً تحت سقفٍ، فإن ربطها، وكان ذلك سببَ الهلاك، أوجب الضمانَ؛ فإن التلف حصل بسببٍ يخالف مضمون [العقد] (1). وسيأتي تقرير ذلك في كتاب الوديعة إن شاء الله، عند ذكرنا مخالفة المودَع المالك في جهة الحفظ. 5321 - ولو ربط الدابة في إصطبل، كما ذكرناه، فماتت بآفة لا تتعلق بالإصطبل، فلا ضمان، فنفس الربط ليس عدواناً، ولكنه يجر ضماناً من الجهة التي ذكرناها، فهذا ربط على شرط السلامة من آفة الربط في الإصطبل. وتمام البيان في هذا محال على الوديعة. 5322 - ثم قال الشافعي: إذا انقضت المدة، فحبس الدابة بعد انتهاء المدة، ضمنها. وهذا مما اضطرب الأصحاب فيه، فقال المراوزة: لا يجب على المستأجر ردُّ العين المستأجرة. نعم لا يمنع المالك من استردادها، وسبيله فيها كسبيل المودَع. ثم ليس على المودَع ردُّ الوديعة، ولكن إن أرادها المالك، لم يحل بينه وبينها، ومكّنه من أخذها، فقول الشافعي: " ضمنها " عند هؤلاء محمولٌ على ما إذا طولب بالتمكين من الاسترداد فأبى. 5323 - ومن أصحابنا من قال: إذا انقضت المدة، دخلت الدابة في ضمان المستأجر، وهؤلاء ذهبوا إلى أنه يجب عليه ردُّ العين، والتزام (2) مؤنة الرد. وهذا الوجه ذكره العراقيون، وصاحب التقريب.

_ (1) في الأصل: مضمون ذلك. (2) (د 1): ويلزمه مؤنة الرد.

ثم فرع صاحب التقريب وقال: لو اكترى دابة وشرط أن يردّها إلى بلد المكري من منتهى سفره، لزمه الرد. وإن كان العقد مطلقاً، فإن كان المالك مع الدابة، هان ردُّها عليه في منتهى السفر، وإن لم يكن رب الدابة معها، فعليه أن يردها إلى بلده جرياً على وجوب الرد. والمراوزة يقولون: لا يلزم الرد، ولكن إذا انتهى السفر، فالمستأجر في العين المستأجرة كالمودَع إذا أراد سفراً، وسبيله إذا أراد ذلك أن يسلّم العين إلى الحاكم، وفيه تفصيل سيأتي في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل. وهؤلاء يقولون: لو شرط الردَّ على المستأجر، كان شرطاً باطلاً، مفسداً للإجارة. 5324 - فخرج من مجموع ما ذكرناه اختلافُ الأصحاب في أن الإجارة إذا انتهت، فيد المستأجر يدُ ضمان أم لا؟ وعليه يترتب مؤنةُ الرد، أو على مؤنة الرد يترتب الضمان. وهما كالقضية الواحدة؛ فإن ضمان العين نتيجة ضمان الرد، كما قررناه في العواري. وطريقة المراوزة أمثل، ويبعد كل البعد أن يقال: إذا انقضت المدة، وهمَّ المستأجر بالرد، فتلفت العين في يده من غير تقصيره، يجب الضمان عليه. ومن أوجبه طردَ القياس في إثبات الضمان وألحق العينَ بعد الإجارة بالمستعار، والمأخوذِ سَوْماً. ولا يمتنع عندنا أن يفصل الفاصل بين ألا يرد ويحبس، وبين أن يسعى في الرد غيرَ مقصّر. ولفظ الشافعي -إن كان الأخذُ منه- يتضمن هذا، فإنه قال: " ولو حبسها بعد انتهاء المدة، ضمنها ". فخصص الضمان بالحبس. 5325 - وذكر القاضي مسألةً لها اتصالٌ بما نحن فيه، فقال: إذا دفع الرجل بضاعةً إلى إنسان، فالتمس منه أن يحملها إلى بلد،، ويشتري له جاريةً، ففعل، فلا يلزمه نقلُ الجارية، بل يتركها؛ لأنه متبرع في عمله، وقد فعل ما أُمر به. وهذا الذي ذكره قياسٌ، لا شك فيه، والجارية التي يقبضها وتحصُل في يده، في حكم وديعةٍ وهو في

تركها مسافر عن الوديعة. ثم في المسافرة عن الوديعة تفصيلٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله. ولا يمتنع أن يقول القائل: إذا [قبض البضاعة] (1) التزم ردَّ الجارية إليه. وإنما سمحت نفسُ صاحب البضاعة بتغييبها حتى يرد الجارية إليه. [و] (2) هذا له ظهورٌ في حكم العرف. ولكن الأصل ما ذكره القاضي، ثم لا نفصل بين أن يلتزم ردّها، ثم يبدو له، وبين أن يجري الإبضاعُ مطلقاً؛ فإن من التزم ردّ مال إنسان، ولم يُستأجر عليه، لم يلزمه الوفاء به. فصل نجمع فيه تفاصيلَ ما على المكري في عمارة الدار المكراة 5326 - فالوجه أن نرسل عبارات الأصحاب في الغرض المقصود، ثم نبحث عن الحقيقة. قالوا رضي الله عنهم: إذا انكسر جذعٌ من الجذوع، وأمكن إصلاحه من غير إبدالٍ، فذلك على المكري، وإذا استرمّ جدارٌ، فمال، فإقامته على المكري. وإن مست الحاجة في العمارة إلى الإتيان بجذعٍ جديدٍ، فقد ذكر شيخي وجهين: أحدهما - أن على المكري ذلك. والثاني - ليس عليه الإتيان بجذعٍ جديد، وهو الذي قطع به معظمُ الأئمة. توجيه الوجهين: من قال: لا يجب الإتيان بجذعٍ، قال: إن كانت الإجارة متعلقةً بما انكسر، فقد فات محل الإجارة، فلا يجب إبداله، كما لو أجر جذعاً، فانكسر، لم يلزم الإبدال. ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الجذع كان في حكم الصفة للدار، والإتيان بجذعٍ جديد في حكم تغيير (3) الصفة، وليس كما لو كان الجذع مخصوصاً بالإجارة

_ (1) المثبت من (د 1). وعبارة الأصل: " إذا التزم ذلك، ردّ الجارية ". (2) زيادة من المحقق للإيضاح فقط، وإلا فالعبارة صحيحة مستقيمة، وإن كان هذا الأسلوب غير مألوف. (3) تغيير الصفة: أي إعادة صفة الدار إلى ما كانت عليه، كما سيشير إليه، فيما يأتي قريباً.

مقصوداً فيها. وهذا الخلاف نازع إلى تردد الأصحاب في أن أجزاء البنيان هل توصف بكونها معقوداً عليها؟ أم هي كالصفات بمثابة أطراف العبد؟ وفيه تردد ظاهر قدمناه. 5327 - ومما نرى تقديمه في صدر الفصل أن العمارة التي أطلقنا القولَ بوجوبها على المكري، كإصلاح الجذع المنكسر، وإقامة الجدار المائل، مما تمارى الأصحاب فيه، فالذي ذكره العراقيون أنه لا يجب في التحقيق، ولكن إن فعلها المكري، استمرت الإجارة، وإن امتنع تخير المكتري. وهذا مذهب أبي حنيفة (1). ووجه هذا أن الإجارة وردت على عين الدار، فإيجاب إحداثِ فعل فيها إيجابُ زائدٍ، لا تقتضيه الإجارة بلفظها. نعم، يثبت الخيار؛ إذ الدار لو انهدمت، لانفسخت الإجارة، فإذا كان العقد ينفسخ بالتلف، يثبت التخير فيه [بالتعيُّب] (2). 5328 - وذكر شيخي والقاضي ما يدلّ على أن العمارة تجب، على التفصيل الذي ذكرناه. وهذا متجه، من جهة أن توفية المنافع لا تتأتى إلا بمرمة الدار إذا هي [استرمت] (3)، وبناء مذهبنا على أن المنافع مستحقة على المكري، ولا يتجه في الحكم بانفساخ الإجارة إذا انهدمت الدار في يد المكتري إلا أن يقال: يد المكتري وإن ثبتت، وسلّطته على التصرف بالإجارة، ففي العين عُلقةٌ متعلقة بالمكري، وهي وجوب توفية المنافع عليه، فإذا كنا لا نوجب عليه العمارة، فلا يبقى لإيجاب توفية المنافع على المكري [معنى] (4) سديد. فقد حصلنا إذاً على طريقين للأصحاب أثبتناهما عنهم على ثبتٍ وثقة. 5329 - ولو استأجر داراً، ولم يكن على بعض مداخلها بابٌ، أو لم يكن على مجرى مائها مزراب، فإذا اطلع المكتري على ذلك، وكان ما رآه مؤثراً في تنقيص

_ (1) ر. المبسوط: 15/ 144، وحاشية ابن عابدين: 5/ 49، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 134 مسألة: 1833. (2) في الأصل: بالتعصب. وهو تصحيف طريف. (3) في الأصل: استرجت. (4) في الأصل: نعنى.

المنفعة، فلا نوجب على المكري في هذه الحالة تعليقَ بابٍ، ولا نصبَ مزراب؛ فإنا لو ألزمناه ذلك، كنا موجبين عليه إحداث ما لم يكن ثابتاً حالةَ العقد، ولكن للمكتري الخيار في الفسخ والإجازة. 5330 - ولو انكسر جذعٌ، وكان الاكتفاء يقع بأن يُدعم بدِعامة، فقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فذهب معظمهم إلى أن هذا يلتحق بإصلاح الجذع من غير مزيد، وإقامة الجدار المائل؛ فإن الدعامة وإن لم يكن منها بد، وهي زائدة لم تكن، فإنها ليست جزءاً من الدار، وإنما هي مستعارة. وفي كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن هذا بمثابة إحداث جذع جديد؛ فإن الدعامة جديدة، وقد شغلها بالعمارة، وإذا تحقق شغلها، وهي لم تكن، فلا أثر وراء ذلك لكونها جزءاً من الدار، أو خروجها عن أجزاء الدار. وفي المسألة احتمال. 5331 - ومما يتعلق بذلك أن كنس الدار مما لا يجب على المكري، وليس هذا معدوداً من عمارة الدار، وإنما هو من تنقية الساكن مسكنه إن أراد تنقيته، ولا تؤثر في المنافع المقصودة. 5332 - واختلف أئمتنا في تنقية البالوعة إذا امتلأت، فمنهم من قال: هي على المكري. ومنهم من قال: ليست على المكري؛ فإن ما يتجمع فيها يضاهي ما يتجمع في الدار من الكناسات، وفضلات الأطعمة ونَفْض الموائد، وقشور البطيخ، ونحوها. ومنهم من قال: هي ملتحقة بعمارة الدار؛ فإن الكناسات ليس لها ضبط، فقد تكون، وقد لا تكون، والعادة جارية بأن السكان يتولَّوْن طرحَها وإلقاءها، وتنقيةُ البالوعة من الرواتب التي تقع لا محالة، فإذا امتلأت البالوعة، تعذّر الانتفاع، فوجب إلحاقُها بالعمارات. 5333 - فأما كسحُ الثلوج، فالقول فيه منقسمٌ إلى كسح عَرْصة الدار، وإلى كسح السطوح. فأما كسح العرصة، فإن كان الواقع فيه من الثلج لا يمنع كن الانتفاع، لقلّته وخفته، فهو ملتحق بكنس الدار من الغبار، وإن كثف الثلج، وكثر، وامتنع التردد

في الدار بسببه، فظاهر المذهب أنه يلتحق بالكنس، ولا يمتنع التحاقه بتنقية البالوعة. وفي كلام الأصحاب ما يدل على المسلكين جميعاً، وهو لكثرته [يجانب] (1) الغبار المعتاد الذي يكنس، ويخالف امتلاء البالوعة، من حيث إن ذلك يقع على اعتياد، بخلاف الثلج. 5334 - فأما الثلج على السطوح، فلا يجب على المكتري كسحُه؛ فإن كان يضر بالسقوف إضراراً مؤثراً في الانتفاع، فكسحه بمثابة إقامة الجدار المائل، وإصلاح الجذع. ثم يعود ما قدمناه من التفصيل في أن ذلك يجب على المكري، حتى يطالَب به أم لا يجب؟ فإن أوجبناه، فلا كلام. وإن لم نوجبه، فما لم يظهر نقصٌ مؤثر في الانتفاع، لا يثبت الخيار للمكتري. ومن أصحابنا من قال: لا يجب كسحُ الثلج على المكري، وإن أوجبنا عليه العمارة؛ فإن العمارةَ تغييرٌ في [صفة] (2) الدار، وردّها إلى ما كانت عليه، وكسح الثلج ليس بهذه المثابة. 5335 - وإن انتهت الإجارة، وانقضت، فلا يجب على المكتري تنظيفُ البالوعة التي امتلأت في زمان الإجارة، ليردّها منظَّفة كما قبضها، هذا لا يجب وفاقاً على المكتري، وإن ترددنا في أنه هل يجب على المكري تنقية البالوعة في أثناء المدة. 5336 - ومما يجب التنبه له أنا إذا لم نوجب التنقيةَ في أثناء المدة، فلو امتنع الانتفاع بالدار بسبب امتلاء البالوعة، والتفريع على أنه لا يجب على المكري التنقيةُ، فهل يثبت خيار الفسخ للمكتري؟ اضطرب (3) أئمتنا، فذهب الأكثرون إلى أنه لا خيار له، ولكنا نقول له: إن أردت الانتفاع فنقِّ البالوعةَ، كما تنقي الدارَ من الكناسة. وهذا هو الظاهر. وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت للمكتري التخيّر، وهذا التردد إنما يحسن إذا كنا

_ (1) في الأصل: بجانب. وفي (د 1): بدون نقط. (2) في الأصل: وصف. (3) (د 1): اختلف.

نوجب العمارة على المكري، ونوجِّهُ عليه الطَّلِبة بها، فنقول هاهنا: لا يجب عليه التنقية، ولكن [للمكتري] (1) الخيار. 5337 - ويظهر أثر ما ذكرناه بمسألة، وهي أن الإجارة إذا انتهت، وقد تجمعت كناسةٌ في الدار، فقد قال الأصحاب: على المكتري نقلُها، وتسليمُ الدار فارغةً منها، ولم يوجبوا تنقيةَ البالوعة، فكذلك لا يوجبونها في أثناء المدة، ويقولون: إذا عسر الانتفاع، ثبت الخيار، بخلاف ما لو عسر باجتماع الكناسة. والكناسةُ التي أطلقناها عَنَيْنا بها، ما يُلقيها المكتري من قشور، ونَفْض طعام، وأما ما يقع في الدار من ترابٍ بسبب هبوب الرياح، فلا يجب على المكتري نقلُه، وتنقيةُ الدار منه أصلاً؛ فإن هذا لم يحدث بفعله، وسببِه، وهو -إن كان ثقل- ينزل منزلة الثلج، الذي يقع، في أنه لا يجب على المكتري تنقيتُه. 5338 - ولو اغتصب مغتصب الدارَ من يدي المكتري في أثناء المدة، فالذي [أطلقه] (2) معظم الأئمة أنه لا يجب على المكري تخليصُها من يد الغاصب، وإن اقتدر عليه. وفي كلام بعض المحققين ما يدل على أنه يجب عليه التخليص؛ لتمكين المكتري من الانتفاع. وهذا يتفرع على مذهب من يرى إيجابَ العمارة، التي يحصل بها التمكّنُ من الانتفاع. 5339 - وإذا اكترى الرجل حماماً، فتنقية الأتّون عن الرماد على المكتري؛ فإنه بمثابة الكناسة التي تجتمع في الدار المكتراة، بإلقاء المكتري إياها؛ إذ الرماد من أثر وقود الأتّون، فإذا انتهت الإجارةُ، فعلى المكتري نقلُ ذلك، كما ذكرنا في كناسة الدار. ولا يجب على المكتري تنظيفُ مستنقع الماء، كما لا يجب عليه تنظيف البالوعة، وهذا فيه إذا انتهت الإجارة نهايتَها. وهل يجب في أثناء المدة تنقية المستنقع، ومجتمع فضلات الماء؟ فعلى وجهين، كالوجهين في تنقية البالوعة في الدار، فلا فرق. والذي اختاره الأئمة في المسألتين أنهما على المكتري.

_ (1) في الأصل: المكري. (2) في الأصل: أطلق.

5340 - ثم إذا اكترى حماماً، فالذي يجب على المكري أن يسلّمه [مع] (1) الأبواب؛ فإنها (2) بمثابة الأبواب المُحكمة (3)، وإن كان يسهل نقلها، فأما الأرز (4) العتيدة، والطاسات والحبل، والدَّلو، فلا يدخل شيء منها في إجارة الحمام. وإذا اشترطنا في إجارة الأعيان رؤيةَ العين المستأجرة، فلا بد من رؤية مواضعَ من الحمام، وما يتصل بها، إحداها [البيوت] (5) وبئر الماء، والقِدر، ومطرح الرّماد، ومبسط القماش، والوقود والأتون، والموضع الذي تجتمع فيه فضلات الماء، وعلى مشتري الحمّام أن يراها، إذا اشترطنا رؤيةَ المبيع. 5341 - وإذا اكترى الرجل داراً، فعلى مكريها تسليمُ المفتاح إلى المكتري؛ فإن منعه منه، انفسخ الكراء في زمان المنع، هكذا قال الأصحاب، وإن كان يتأتى من المكتري قلعُ الباب، أو قلعُ الأغلاق، أو العلوّ (6) في السطح، فمنع المفتاح منعٌ من المكرى. ولو سلّم إليه المفتاحَ، فضاع في يده، أبدله المكري بغيره. ثم قال الأئمة: لا يجبر المكري على الإبدال، وإنما يُجبر ابتداءً على بذل المفتاح؛ فإن البذل الأول هو ابتداء التسليم، وابتداء التسليم واجبٌ على المكري، والإبدال بعد التسليم الأول في حكم الامتناع الطارىء. وألحق الأئمة إبدال المفتاح، بإبدال جذع ينكسر في الدار، والحاجة ماسة في توفية المنافع إلى الإتيان بجذعٍ جديد، غيرِ الذي انكسر. ثم ينبني على ذلك أن

_ (1) زيادة من (د 1). (2) عبارة (د 1): فإنها الأبواب المحكمة، إن كان يسهل نقلها. (3) والمعنى المفهوم من السياق أن للحمامات أبواباً غير ثابتة تتميز بها عن أبواب الدار، ويُرَاد بها -فيما نقدِّر- مزيد السَّتر، وأظنها تشبه الحواجز المتنقلة التي تفصل بعض الناس عن بعض في الصالات والفناءات الواسعة. (4) في الأصل: الأزر. والأرز هو الصاروج، وهو النُّورة وأخلاطها، وهو مسحوق يستخدم في التنظيف، وإزالة الشعر (طلبة الطلبة للنسفي: 259، والمصباح، والمعجم). (5) في الأصل: الثبوت. (6) (د 1): أو التسلق.

المكري إذا لم يُبدل، فللمكتري الخيار، كنظيره في الجذع. 5342 - وإذا اكترى الرجل طاحونة، فعلى المكري [مع] (1) تسليم البيت تسليمُ الآلات العتيدة، كحجرِ الرَّحا، والآلةِ المعلّقة فوق الرّحا، التي هي مجتمع الحب، والقطبِ، وما عليه مداره من أسفل في رحا الماء؛ فإن العادة مطردة بتسليم هذه الأشياء، وإن كان يسهل نقلُها، فهي بجملتها معدودة من الطاحونة، على اعتيادٍ مطرد. والقول في بيع الطاحونة كالقول في إجارتها، وقد ذكرنا في كتاب البيع تردداً في أن مطلق البيع في الدار هل يستتبع ما فيها من رحاً مثبتٍ، وليس ذلك مما نحن فيه؛ فإن متعلّق العقد اسمُ الدار، ومتعلّقُ العقد فيما ذكرناه اسمُ الطاحونة، وهذا الاسم يستدعي هذه الأشياء. وذكر الأئمة نقولاً جاريةً لقواعدَ في الإجارة، ونحن نأتي بها مستقصاة، إن شاء الله عز وجل. فصل 5343 - إذا اكترى الرجل داراً بعشرين ديناراً، وشرط المكتري على المكري أن يصرف مالَ الكراء إلى عمارة الدار، فالكراء فاسد، وعلّة الفساد الاحتكام على المكري في صرف عين الكراء إلى العمارة، ولفظ الشافعي في ذلك الكراهية، فإنه قال: " لو اكترى داراً، وشرط أن يُنفق الكراءَ على الدار، كرهتُ ذلك " وأجمع الأصحاب على حمل الكراهية من لفظ الشافعي على التحريم. ولو وقع العقد بكراءٍ معلوم، وشرط المكري على المكتري أن يعمّر الدارَ بها، فهذا فاسد مفسدٌ أيضاًًً؛ من جهة أن قيامَ المكتري بالعمارة عملٌ منه مجهولٌ، واشتراط عمله مضموماً إلى الأجرة، يتضمن جهالةً بيّنة في العِوض. ولو جرت الإجارة مطلقة عرية عن الشرط، ثم إن المكري وكّل المكتري ابتداءً بأن يصرف ما عليه من الأجرة إلى عمارة الدار، فهذا جائزٌ لا منع فيه.

_ (1) زيادة من (د 1).

فصل 5344 - إذا استأجر من يحفر بئراً، ولم يتعرّض لذكر المدة، ولا بد من تبيين محلّ الحفر، وذكر عرْضِ البئر وعمقها، فإذا وقع الاستئجار على هذا الوجه، فأخذ الأجير في الاحتفار، فكل ما يحتفره، فهو جزء من عمله، واقعٌ [مسلّم] (1)، وأثر ذلك أنه لو شرط على الأجير احتفارَ عشرين ذراعاً في عرض ذراعين، فإذا احتفر عشرة أذرعٍ ثم انهارت البئر، فانطمست، فالأجير يستحق من المسمى مقدارَ عمله. ولا يخفى أن التوزيع لا يقع على أذرع العمق في العرض المذكور، حتى يقال: إذا كان المشروط عشرين ذراعاً، وقد احتفر عشرة أذرع، فنجعل ذلك في مقابلة نصف الأجرة المسماة. هذا لا سبيل إليه. ولكنا نوزّع المسمى على أجرة المثل فيما عمل، وبقي. فإن قيل: أجر مثل ما بقي خمسةَ عشرَ درهماً، وأجر مثل ما حفر خمسةُ دراهم، ولا شك أن العمل يكثر كلما ازداد عمقُ البئر، فيستحق الحافر من المسمى ربعَه، والأذرع المذكورة في توزيع الأجر عليها كالأيام في مدة الإجارة في الدور والمساكن، مع وقوع بعضها في المواسم. 5345 - ولو انتهى الأجير في حفره إلى موضع صلب يخالف ما كان يعمل فيه، فإن كانت المعاول والفؤوس تعمل في الكُدية (2)، فعلى الأجير أن يعمل. وهذا الفن من التفاوت يقع في أمثال هذه الإجارة، فيحتمل، من جهة أن الضبط في قبيله غيرُ ممكن، ومبنى (3) تصحيح الإجارة على الضرورة والحاجة. ولو كانت المعاول لا تعمل في محل الإكداء (4)، وكان الأجير يحتاج إلى استعانة بإيقاد النار على الكُدية، فليس على الأجير ذلك؛ فإن هذا مجاوزةٌ لحد الحفر المطلق.

_ (1) في الأصل: مسلّماً. (2) الكُدية: الأرض الغليظة أو الصلبة، لا تعمل فيها الفأس (المعجم). (3) (د 1): فمبنى. (4) الإكداء: مصدر أكدى إكداءً: إذا بلغ الكُدية. (المعجم).

5346 - ولو استأجر أجيراً ليحفر، واعتمد في الإجارة ذكر المدة، فقال: تحفره في بياض هذا النهار، فلا حاجة -ومعتمد الإجارة المدة- إلى إعلام العمق والعرض؛ فإن الإجارة وردت على عين الأجير، [والمطلوب منه] (1) عمل الحفر في المدة المقدرة. فصل يجمع مسائل على نسقٍ 5347 - فإذا استأجر من يذبح له شاةً، ويسلخها، فجعل أجرة الأجير جلدَ الشاة، لم يجز له ذلك؛ لأنه جعل الأجرة جزءاً من الحيوان، وذلك ممتنع. ويجوز أن يقال: الفساد بعلةٍ أخرى، وهي أن الجلد إنما ينفصل عن الشاة المذكّاة بعمل السلخ، فعمله المذكور في الإجارة يتصل بالأجرة المسماة ويقع [عملاً] (2) فيها، وهذا ممتنع، والشرط أن يقع عمل الأجير في خالص ملك المستأجر. 5348 - وإذا استأجر من يحمل ميتة إلى المزبلة، ويسلخها، وجعل الأجرة جلدَها، فهذا ممتنع للمعنيين المقدّمين، ولمعنى ثالث أجلى منهما، وهو أنه جعل الأجرة جلدَ الميتة، وهو قبل الدباغ نجسُ العين، غيرُ متقوّم، إلى أن يدبغ. 5349 - ولو استأجر من يجني ثماراً له، وجعل أجرة الأجير جزءاً من تلك (3) الثمار، فالإجارةُ فاسدةٌ عند الأصحاب؛ لأن عمله يقع فيما سُمي أجرةً، وقد ذكرنا أن الشرط أن يقع عملُ الأجير في خالص ملك المستأجر؛ فإذا وقع بعضٌ من عمله فيما قُدّر أجرة، فكأنه عمل فيما هو ملكه. 5350 - وإذا استأجر من ينخل دقيقاً، وجعل أجرته النخالة، لم يجز، وكذلك إذا

_ (1) في الأصل: ومطلوبه عمل الحفر .. (2) (د 1): عمداً. (3) هنا انتهى الخلل في السياق في نسخة (د 1)، وصوابه الرجوع من ص60 ش (هنا) إلى ص 39 ي.

استأجر من يطحن حنطةً بقفيزٍ من الطحين، فالإجارة فاسدة. 5351 - والعلل وإن كانت ظاهرةً في إفساد الإجارة في هذه المسائل، فالمعتمد الأظهر فيها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن قفيز الطحان " (1)، ومراده صلى الله عليه وسلم استئجارُ الطحان بقفيزٍ من الطحين. 5352 - ولو استأجر مالكُ الجاريةِ مرضعةً لترضع الجاريةَ الرضيعةَ، وشرط أجرتها جزءاً من الجارية إذا فُطمت، فالإجارة فاسدة، تخريجاً على قفيز الطحان. ولو قال: استأجرتُكِ على إرضاعها، وأجرتُك ثلثُ رقبتها في الحال، فهذا يخرّج على مسألةٍ نُقدّمها، ونذكر ما فيها: وهي أنه إذا كان بين رجلين جاريةٌ رضيعةٌ، فلو استأجر المالكان مُرضعة، جاز ذلك، ويقع العمل على نصيبهما، والأجرةُ عليهما، ولو أراد أحدُهما أن يستأجر مرضعةً، ولم يساعده شريكه، فالإجارة لا تنتظم في بعض الجارية؛ من جهة أن إيقاع العمل في البعض غيرُ ممكن، وإيقاع العمل في الجميع يتضمن إيقاعَ عملٍ في ملك الغير، من غير إذنه، وهذا مما لا يسوغ من الشريك الانفرادُ به. نعم، لو ظهرت الضرورة، فالحاكم يستأجر على الممتنع، والطالب. ولو كانت الجارية الرضيعة مشتركةً بين رجلٍ ومرضعته، فاستأجر الرجل المرضعة على الإرضاع، فعملها يقع على ملكها وملك الشريك المستأجِر، فتفسد الإجارة. فإذا ثبت ما ذكرناه، فنعود، ونقول: إذا كانت الجارية الرضيعة خالصةً لإنسانٍ، فاستأجر مرضعةً، وجعل أجرتها جزءاً من الجارية، فعملها لو صحت الإجارة يقع على ملكها وملك المستأجر، فتفسد الإجارةُ بناء على القاعدة التي مهدناها. فرع: 5353 - إذا استأجر حلياً من ذهبٍ بذهب، أو فضة، فلا بأس، ولا نظر إلى جوهر الحلي، وإلى الأجرة المذكورة، فإن الأجرة في مقابلة منفعة الحلي، لا في مقابلة جوهره، فلا يثبت شيءٌ من أحكام الربا على هذا الوجه.

_ (1) حديث النهي عن قفيز الطحان رواه الدارقطني: 3/ 47، والبيهقي: 5/ 5339، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 1533، ح 1316.

5354 - ولو أتلف الرجل حُليّاً قيمته تزيد على زنته، وكانت الصنعة فيه (1) محترمة، فللأصحاب فيه اضطراب، فيما يغرَمه المتلف، قدمنا ذكره. وسببُ الاختلاف أن ما يبذله المتلف بدل المتلَف؛ فامتنع بعضُ الأصحاب من مقابلة حلي الذهب بما يزيد على مقدار وزنه من الذهب، على التفصيل الذي سبق، وليست الإجارة من هذا بسبيل. فرع: 5355 - إذا استأجر الرجل صباغاً، ووصف العملَ المطلوبَ منه، فالعادة جاريةٌ -على الطرد- بكون الصِّبغ من جهة الصباغ، فإذا جرت (2) الإجارة على الصبغ، ففي دخول عين الصبغ تبعاً من التفصيل ما ذكرناه في دخول الحبر في عمل الورّاق، وقد ذكرنا ثَمَّ التفصيلَ في اطراد العادة واختلافها، فمسألة الصبغ ملحقةٌ بما إذا اطرد العرف في كون الحبر من جهة الورّاق، وقد مضى ذلك مشبَعاً. فصل 5356 - قد ذكرنا أنه لا يجوز للمرأة وهي في حياة زوجها أن تؤاجر نفسَها للإرضاع، ولا يختص ذلك بهذا النوع، بل لا تؤاجر نفسَها في عملٍ من الأعمال، كالغَسْل، والخَبز، والغزل والخياطة، وما في معناها، وليس ذلك لاستحقاق الزوج هذه المنافع منها، ولكن لكونها مزحومة بحق الزوج؛ فإن (3) حق الزوج في الحرة [المنكوحة] (4) على الاستغراق. ولو كانت الزوجة أمةً، فقد ذكرنا أن للسيد أن يستخدمها نهاراً، في المدة التي كان يستخدمها فيها إذا كانت خَلِيَّة عن [حق] (5) الزوج. فلو أراد أن يكريها في تلك المدة، جاز؛ لأن منفعة الأمة لا تكون مزحومةً بحق الزوج.

_ (1) (د 1): غير محترمة. (2) (د 1): ثبتت. (3) (د 1): إذ بناء حق الزوج. (4) مزيدة من (د 1). (5) ساقطة من الأصل.

5357 - ولو أذن الزوج لزوجته الحرة في أن تؤاجر نفسَها، صح ذلك منها، ثم يجب الوفاء بموجَب الإجارة. ولو كانت آجرت نفسَها للإرضاع، قبل أن نَكَحت، ثم نَكَحت، فطريان النكاح لا يغير أمرَ الإجارة، ويجب عليها الوفاء بمقتضى الإجارة، حتى قال الأصحاب: لو كنا نخشى من وطء الزوج إياها أن تعلَق، وتحبَل، فإذا حبِلت، قلّ اللبن، وفسد، فالزوج ممنوعٌ عن (1) وطئها؛ فإن حقَّ الإجارة تأكد أولاً، ثم طرأ النكاح، ومنع الزوج من الوطْء المؤثر في مقصود الإجارة بمثابة منع الراهن من وطْء الجارية المرهونة. ولو فرضنا الإجارة بعد النكاح واردةً على ذمة المرأة، لصحت؛ فإن ذلك لا ينافي حقَّ الزوج؛ من جهة أنها لو أرادت تحصيلَ ما التزمته بأن تستاجر، كان لها ذلك، وهذا لا يزاحم حقَّ الزوج. ثم إذا انعقدت الإجارة على ذمتها، فوجدت في خَلَل الأيام فرصة، واستمكنت من توفية بعض العمل بنفسها، فلها ذلك؛ فإن معتمد الإجارة الذمة. وهذا واضحٌ. 5358 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن المرأة إذا آجرت نفسها لإرضاع ولدٍ، ولم تكن ذات زوج، أو كانت ذاتَ زوج، وقد جرت الإجارة بإذن الزوج، فيجب عليها توفيةُ المنفعة بكمالها، فلو مات ذلك المولود الذي استؤجرت المرضعة لإرضاعه، فتفصيل القول في هذا يستدعي تقديمَ أصلٍ مقصودٍ في الإجارة، فنقول: 5359 - من استأجر دابةً معينةً لمنفعة معلومة، فلو تلفت الدابة، ترتب [على تلفها] (2) انفساخُ الإجارة لا محالة؛ فإن المعقودَ عليه قد مات، ولو مات المستأجر للدابة أو مُكريها، لم يؤثر موتُ واحدٍ منهما في الإجارة، وقد مهدنا هذا في صدر الكتاب، إذ قلنا: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين، والجملة المرعية فيه أن المكتري مستحِقٌ مستوفٍ، والحقوق يرثها الورثةُ، وتبدُّلُ المستوفي غيرُ ضائر، وقد قدمنا أن المستأجر لو أجر ما استأجره، جاز ذلك، ولو أقام غيره مقام نفسه، لم يمتنع.

_ (1) سبق أن أشرنا أن (عن) تأتي مرادفة لـ (مِنْ). (2) في الأصل: عليها.

5360 - ولو استأجر أجيراً ليعمل في عينٍ من الأعيان عملاً، مثل أن يقول: استأجرتك لتخيط هذا الثوبَ، فلو تلف ذلك الثوبُ المعيّن، فقد ذكر العراقيون في انفساخ الإجارة وجهين: أصحهما - أنها لا تنفسخ؛ فإن العمل لا يتعذّر، ومن الممكن الإتيانُ بثوبٍ آخر يضاهي ذلك الثوبَ، وليس الثوب معقوداً عليه في نفسه. والوجه الثاني - أن العقد ينفسخ بتلف محل العمل، فإنه كان متعيَّناً في بقائه (1)، فإذا فات، انقطع العقد. وهذا وجهٌ ضعيف. وينبني على ما ذكرناه تمامُ التفريع. 5361 - فنقول: إن حكمنا بانفساخ الإجارة، فلا كلام، وإن حكمنا ببقائها، فلو أتى المستأجر بثوبٍ آخر، وأمر الأجير أن يُوقع العملَ المستحَقَّ عليه في الثوب الثاني، جاز ذلك. ولو قال المستأجر: ليس عندي ثوبٌ آخر، أو قال: لست آتي بثوبٍ آخر، والثياب عتيدةٌ عندي، فكيف السبيلُ فيه؟ ذكر العراقيون وجهين وأطلقوهما، ثم فصلوهما على أحسن وجهٍ في البيان: قالوا: من أصحابنا من قال: إن لم يأت المستأجر بعينٍ أخرى عن عجزٍ، أو عن امتناع، ومضت المدة التي يتأتى في مثلها العملُ لو صادف محلاً، استقرت الأجرة المسماة؛ فإن الأجير مسلِّمٌ نفسَه، لا امتناع منه. والوجه الثاني - أن الأجرة لا تستقر، [وإذا مضت المدةُ، انفسخت الإجارةُ. ويتأتى أن نعبر عن هذين الوجهين بتخير المستأجر في وجهٍ وعدم تخيّره في وجه. 5362 - ولا يتضح الغرض ما لم نكشف الأصلَ فيه، فالأجير الحر إذا سلّم نفسه إلى المستأجر، والإجارة واردةٌ على عينه، فلم يستعمله المستأجر حتى انقضت المدة، ففي استقرار الأجرة وجهان: أحدهما - أنها تستقر، كما لو سلم مكري الدار الدارَ إلى المستأجر، فلم ينتفع بها، وانقطعت المدة، والدار تحت يده.

_ (1) في بقائه: أي لو لم يتلف يكون متعيَّناً للعمل ومحلاً له، ولا يجوز إبداله.

والوجه الثاني - أن الأجرة لا تستقر] (1) في مسألة الحر؛ فإن منفعته إن ضاعت في مدة التمكين، فإنما ضاعت تحت يده؛ فإن اليد لا تثبت على الحر، وعلى هذا يخرّج القول في حبس الحر قهراً ظلماً حتى تتعطل منافعه، فهل يجب على حابسه أجرته؟ فيه كلام قدمناه في كتاب الغصوب. 5363 - وإذا ثبت ما ذكرنا، عدنا إلى غرضنا، وقلنا: إذا لم يأت المستأجر بثوب آخر بعد تلف الثوب المعين، فنقدر أولاً كأن الأجير مسلِّم نفسَه إلى المستأجر، ولو فعل ذلك، ففي استقرار أجرته الخلاف، فإن رأينا أن نقول: لا تتقرر أجرته، فينشأ من هذا المنتهى شيء، وهو أن الثوب المعيَّنَ للقطع والخياطة لو كان باقياً، فلم يسلِّمه إلى الأجير المعيّن، فالقول في أن أجرته لا تستقر على ما ذكرناه. ولكن لو بدا (2) له في قطع ذلك الثوب، فهل نقول: يجب عليه الإتيان به أم كيف السبيل فيه؟ فالذي يتجه عندنا أنه لا يجب عليه الإتيان بذلك الثوب ليقطع، وقد سنح له غرضٌ ظاهر في الامتناع من قطعه، ولكن إذا كنا نفرع على أن أجرة الأجير تستقرّ، فلو ترك الإجارة حتى انقضى زمانُها، استقرت الأجرة. ولو قال: أفسخ الإجارة، أو بدا لي لم يكن له فسخها؛ إذ لو أثبتنا له الفسخ، لكان ذلك فسخاً بالمعاذير، ونحن لا نرى ذلك، وإنما قال به أبو حنيفة (3) رحمة الله عليه. وإن قلنا: أجرة الأجير لا تستقر بانقضاء زمان الإجارة، ولا [يجب] (4) -على ما ذكرناه- الإتيانُ بالثوب ليقطع، فيثبت حق الفسخ للأجير لا محالة، فإن فسخ تخلَّصَ، وسلمت منافعُه، وإن تمادى الأجير، ولم يفسخ، فهو الذي تسبب إلى تضييع منفعة نفسه. وإذا أثبتنا للأجير حقَّ فسخ الإجارة على الوجه الذي نفرّع عليه، فلو أراد المستأجر الفسخَ، فلست أرى له ذلك، ولست أعلم في فسخه غرضاً؛ فإنه لو لم يفسخ، لم يلتزم شيئاًً، وغرض الأجير ظاهرٌ في الفسخ. وإذا ترك الأجير الحظ

_ (1) كل ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) بدا له: أي غير رأيه، وصرف نظره عن قطع وخياطة ذلك الثوب المعين. (3) ر. المبسوط: 16/ 2، وبدائع الصنائع: 4/ 197، وحاشية ابن عابدين: 5/ 50. (4) في الأصل: " نجيز ".

لنفسه (1)، فلا يجب على المستأجر تحصيلُه له. ولو شبب مشبب بإثبات الخيار للمستأجر، كان ذلك وقوعاً في مذهب أبي حنيفة، على أن أبا حنيفة إنما يفسخ بعذر ظاهر، ولا عذر للمستأجر، حيث انتهى الكلام إليه. فإذا ظهر ما ذكرناه في امتناع المستأجر عن قطع ذلك الثوب المعيّن، مع بقائه، قلنا بعده: إن تلف ذلك الثوب، وقلنا تنفسخ الإجارة بتلفه، فلا كلام. وإن قلنا: لا تنفسخ بتلفه، وفرعنا على أن أجرة الأجير تستقر بانقضاء زمان الإجارة، فالظاهر عندنا أن المستأجر له أن يفسخ الإجارةَ؛ فإنه قد لا يجد ثوباً، وإن وجده، فقد يظهر غرضُه في أن لا يقطعه، وليس كما إذا بقي الثوب المعيّن الذي أوْرد العملَ عليه. 5364 - وعن هذا الخبط صار من صار من أصحابنا إلى انفساخ الإجارة بتلف الثوب المعيّن. وقد ظهر لي من كلام طوائفَ من أصحابنا أن الإجارة لا يفسخها المستأجر إذا قلنا: إنها لا تنفسخ، وإن حكمنا بأن الأجرة تستقر بانقضاء زمان الإجارة. فهذا إذاً واقعةٌ تلتحق بتوابع العقود، ومَغَبَّاتها، فالأمر في [تخيّر] (2) المستأجر، وقد تلف الثوب المعيّن على التردد الذي ذكرناه. 5365 - ومما يتصل بتمام القول في هذا الفصل، ما قدمناه من الاستئجار على قلع الضرس، والذي سبق ذكره لا نعيده، فإن صححنا الاستئجار، فسكن الوجع، امتنع القلع. والأصح في هذه الحالة انفساخ الإجارة؛ فإن محل العمل قد انتهى إلى حالة يمتنع إيقاع العمل فيه، [ولا بدل له] (3). وكان شيخي يحكي عن بعض الأصحاب أن الإجارة تبقى، والأجير يستعمل في قلع وتدٍ أو مسمار، مع تقريب القول في تداني العملين. وهذا عندي كلامٌ سخيف

_ (1) كذا. ولعلها: حظ نفسه، أو الأحظ لنفسه. (2) في الأصل: تغيّر. (3) في الأصل: ولا بد له.

لا حاصل له، فليس قلعُ الوتد من قلع السن في شيء، ومن كان له في قلع السن غرض؛ لم يقع قلعُ الوتد من غرضه بسبيل، فلا وجه إلا الحكم بانفساخ الإجارة. 5366 - وإذا ثبت ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى المرضعة واستئجارها لإرضاع الولد المعيّن، [فنقول] (1): إذا مات ذلك الولد، فالقول في انفساخ الإجارة على ما تفصّل، والتفريعاتُ (2) تنتظم على ما مضى. فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة، فذلك فيه إذا كانت تُرضع ولداً ليس منها. 5367 - وإن وقع استئجارها لترضع ولد الزوج منها، فمات ذلك الولد، والتفريع على أن الإجارة لا تنفسخ بموت الولد الأجنبي منها، لو كانت الإجارة واردةً عليه، فإذا كان الولد ولدها، وقد مات، فهل تنفسخ الإجارة أم يأتيها المستأجر بولد رضيع أجنبي؟ فعلى قولين منصوصين: أحدهما - أن الإجارة لا تنفسخ؛ بناء على المنتهى الذي انتهينا إليه، وذلك لأن إرضاع الولد الأجنبي ممكن، ويجوز الاستئجار عليه ابتداء، فيجب بقاء العقد بإمكانه انتهاءً. والقول الثاني - أن الإجارة تنفسخ؛ فإن لبنها لا يدرّ على الأجنبي درورَه على ولدها، ولا [تترأم] (3) الأجنبيَّ حسب ما كان تترأم على ولدها. وهذا قولٌ ضعيف، لا أصل له. والذي عندي فيه أن المصير إلى الانفساخ باطلٌ على الأصل الذي نفرّع عليه، وإنما الذي يخيل على بُعدٍ ثبوتُ الخيار لها لما أشرنا إليه؛ فإن الانفساخ ينبني على تعذر العمل بالكليّة، ثم الخيار أيضاًً فاسد من جانبها؛ من جهة أن المستأجر لو قال: رضيت بما يحصل من اللبن على نقصانٍ، فلا عذر لها. نعم قد يتجه ثبوت الخيار للمستأجر؛ من حيث يقدّر أن لبنها يقل على الأجنبي،

_ (1) فىِ النسختين: ونقول. (2) (د 1): في التفريعات. (3) في الأصل: تتزأم. وتترأم (بالراء): أي تتعطف، وتتحبب، وتلزم (المعجم).

وحضانتها لا تصدر عن ترأُّمٍ وشفقة، وكلّ ذلك خبطٌ، وسببه ضعف القول الذي عليه التفريع. والوجه القطع بأن ولده منها كالولد الأجنبي منها في التفريعات. فصل 5368 - إذا استأجر الرجل قميصاً ليلبسه، جاز ذلك على شرطِ الإعلام بالمدة، ثم يرعى المستأجرُ العادةَ في اللُّبس، فيلبس بالنهار، وبالليل في اليقظة، ولا ينام فيه؛ فإن ذلك مما يؤثر أثراً زائداً على اللّبس، ويتجه أن يقال: إنه غير معتاد، وإن كان يعتاده بعض الناس، فهو من احتكامه على ملكه، فإذا تعلق الكلام بالمضايقة في الانتفاع، فالعرف حاكم بالتوقّي من مثل هذا في ملك الغير. وقال بعض الأصحاب: لا يلزم نزع القميص للقيلولة بالنهار؛ فإن العادة جارية بأن الرجل لا يتجرد للقيلولة، ويتجرد لنوم الليل، وقد يتطرق إلى وجوب النزع بعضُ الاحتمال في حق من يعتاد القيلولة. ولو استأجر قميصاًً ليلبسه فوق قميصٍ، فقد يظهر وجوب النزع للقيلولة؛ إذ هكذا العادة. ولو استأجره للّبس، فاتّزر به، لم يجز؛ فإن الاتزار أضرُّ بالثوب من اللُّبس على الوجه المعتاد. ولو ارتدى به، فقد ذكر العراقيون وجهين في جواز ذلك: أحدهما - أنه لا يجوز؛ فإنه انتفاعٌ مخالف للمعتاد، والوجه الثاني - أنه يجوز؛ لأنه أقلُّ ضرراً من اللُّبس. فصل 5369 - إذا دفع ثوباً إلى غسالٍ ليغسله، فإن ذكر أجرةً مسماةً، فلا كلام، وإن لم يذكر الأجرةَ، ولكن عرّض بها، فقال: اغسله، وأنا أُرضيك، أو أعرف حقك، فإذا غسل، استحق أجرة المثل.

ولو لم يتعرض للأجرة لا بتصريع ولا بتعريض، فالمنصوص عليه، وهو ما عليه عامة الأصحاب أنه لا يستحق شيئاً؛ لأن المنافع غايتها أن تكون كالأعيان في المالية، بل هي دونها. ولو أتلف رجل مال رجل برضاه، لم يضمن شيئاًً، فكذلك إذا أتلف الأجير منفعة بدنه برضا صاحب الثوب. ومن أصحابنا من قال: يستحق العاملُ أجر مثل عمله، وهذا اختيار المزني. ومن أصحابنا من قال: إن كان ذلك الرجل معروفاً بالغسل بالأجرة، استحق الأجرة بحكم العادة، ونزلت منزلة النطق، وإن لم يكن معروفاً بهذا، لم يستحق لعمله أجراً. ومن أصحابنا من قال: إن التمس الغسال دَفْع الثوب إليه فأسعفه صاحبُ الثوب، لم يستحق الأجرة؛ فإنه الذي ورّط نفسه في هذا، ورضي بتلف منفعته، فلا يستحق شيئاًً، وإن التمس صاحب الثوب منه الغسلَ، فيستحق حينئذ أجر عمله؛ فإن المالك هو الذي أوقعه في العمل، فكان بمثابة المتلِف لمنفعته. والقول في أمثال ذلك كثير، ونحن نذكر مجامع المذهب فيها. 5370 - فإذا دخل الرجل الحمّام، ولم يَجْرِ للأجرة ذكرٌ، فنقول: أما قيمة الماء الذي سكبه، فواجبة، وقد يتجه إثبات المثل؛ فإنه من ذوات الأمثال، ويجب أجرة منفعة الحمام؛ فإنه أتلفها، وعلى المتلف قيمةُ ما أتلف، وإن جرى الإتلاف بمشهدٍ من المالك، فإذا كان كذلك، فما الظن، والعرف جارٍ بالتزام الأجرة. فأما أجرة الدلاّك، والمزيّن، فتُخرّج على القاعدة التي ذكرناها في الاستعمال من غير ذكر أجرة، ومهما غلبت العادة، ظهر وجوب اتباعها. ويبعد أن نقول: إذا تقدم الغسّال إلى ثوب إنسان، فرفعه وغسله أنه يستحق الأجر إلا أن يُفرضَ في رجل معروف بذلك، وقد جرت عادته بهذا، واستمرت عادة الناس معه ببذل الأجرة. والمزيّن في الحمام يتقدم من غير استدعاء في الغالب، وكذلك الدّلاك، ولكن اطرد به العرف، وهو في نهاية الظهور، فَقَوِي إيجابُ الأجر مع العلم، بتطرق الخلاف.

5371 - ومما يتعلق بهذا أن الماء وإن كان مثلياً، فقد جرى العرف بأنه يُتلف بالقيمة، فللعرف في هذا أثر، ووجه الخلاف في هذا المقام لائح، فكأنا في وجهٍ نجعل عموم العرف، كبيع الماء، وقد ذكرنا في المعاطاة الغالب، وأنها هل تكون بيعاً، خلافاًً للأصحاب، وسنذكر في الضيافة، وتقديمِ الطعام إلى الضيفان كلاماً بالغاً، من الفن الذي نحن فيه في باب الوليمة، ونلحق بها فصولاً في النَّثر واللقط، إن شاء الله عز وجل. 5372 - ونختم هذا الفصلَ بأمرٍ، وهو أن العادة تفسَّر اللفظَ المجملَ في العقود وفاقاً، وعلى هذا تحمل الدراهم المطلقة على غالب النقود يوم العقد، فلا يمتنع ذلك من حكم الحرف، وإن لم يجر لفظ أصلاً، ففي إقامة العرف الغالب مقام اللفظ التردُّدُ الذي ذكرناه. فصل 5373 - يتعلق بالاستئجار في القصارة، وتلف الثوب مقصوراً، وما يتعلق به، وهو فصلٌ عويص، يجب إلاعتناء بفهم ما فيه. 5374 - فنقول أولاً: إذا استأجر الرجل قصَّاراً حتى يقصُر الثوبَ، فعليه أن يقتصد ويقتصر على ما يُحصّل الغرض، فإن جاوز الحدّ، وعدّه أهلُ الصناعة زائداً في الدق وغيره من الأعمال المؤثرة على قدر الحاجة، ثم ترتب عليه تلفُ الثوب أو تعيّبُه، وجب الضمان. وهذا العدوان لو فرض من الأجير المشاهَد، لأوجب الضمان عليه؛ فإنه إتلافٌ، والإتلاف يستقلّ بإيجاب الضّمان من غير فرض يد. ولو اقتصر على القدر المطلوب في مثل الغرض المستدعَى، لم يتعلّق الضمان بفعله، وإن أدّى إلى التلف. 5375 - وينشأ الاختلاف من اليد، وقد ذكرنا تردّدَ القول في يد الأجير المنفرد، ويدِ الأجير المشترك، وقد ذكرتُ ما في النفس من هذا، وهو إشكالٌ على المذهب لا يُحلّ، فإني قلتُ: إن كان التلف بآفةٍ سماوية، فيخرّج هذا على اليد، وأنها يدُ

أمانة، أو يدُ ضمان قريب، ويؤول الكلام إلى تقوية قولٍ، وتضعيفِ قولٍ، كما قدمتُه في تضمين الأجراء. ثم إن جعلنا يدَ الأجير يدَ ضمان، فيده كيد المستعير، وفي كيفية الضمان على المستعير القولان المشهوران: أحدهما - أنه كضمان الغصب، والثاني - أنه ليس كضمان الغصب. 5376 - فأما إذا كان سببُ العيب أو التلف الفعلُ، وهو مقتصدٌ مأذون فيه، فلست أرى لإيجاب الضمان وجهاً. ولو أذن المغصوب منه للغاصب في إتلاف العين، فأتلفها، لم يلتزم الضمان، ولكن الذي ذكره الأصحاب في الطرق تخريج التلف بالفعل على التلف بآفة سماوية. والأجير المشاهَد إذا قَصَر، وما فرّط وما قصّر، فإن الأصحاب لم يصرِوا إلى إيجاب الضمان عليه؛ إذ لا يدَ له، والفعل مأذون فيه، وانفرد أبو سعيد الإصطخري بإيجاب الضمان على الأجير المشاهَد إذا عمل، واقتصد وأدى عملُه إلى التلف، أو التعيُّب، على ما حكاه العراقيون عنه، وهذا متروكٌ عليه، وليس معدوداً من المذهب، وهو كثير الهفوات في القواعد، ولا شك أنه لم يوجب الضمان على المشاهَد بسبب اليد؛ فإن اليد للمالك الكائن معه، وإنما أوجبه للفعل، وهذا ينافي قاعدةَ الشافعي؛ فإن الفعل مأذون فيه، وقد صوّرناه مقتصداً، وضمان الأجراء يأتي على قول التضمين من جهة اليد؛ لا من جهة الفعل. وإنما ربط الضمان بالفعل أبو حنيفة، لما قال: لو تلفت العين في يد الأجير بآفةٍ، لم يلزم الضمان، ولو تلفت بسبب الفعل المستدعى يجب الضمان. 5377 - ومما يتعلق بمضمون الفصل أن الأجيرَ لو قصَرَ الثوبَ، كما رُسم له، ثم جحد الثوبَ، وتلف في يده، فضمان الثوب واجبٌ، لمكان الجحود؛ فإنه عُدوان يناقض الأمانة، ويضمنُ به المودَع. 5378 - والكلامُ في استحقاق الأجرة، فنقول: إن قَصَر أولاً، ثم جحد، استحق الأجرة، فلو اعترف بعد الجحود، وردَّ الثوب مقصوراً، طلب الأجرَ. ولو جحد

أولاً، وقصر الثوبَ جاحداً، ثم اعترف، ورد الثوبَ، ففي استحقاق الأجرة وجهان: أحدهما - أنه يستحق الأجرة لإيفائه العمل المعقودَ عليه، ووقوعه على حسب الاستدعاء. والوجه الثاني - أنه لا يستحق الأجرة، فإنه أضمر أن يعمل لنفسه لمّا جحد، ثم قصر، فلا يستحق لذلك أجراً. والوجهان في ذلك كالقولين فيه إذا نوى الأجيرُ على الحج [الحجَّ عن] (1) مستأجِره أولاً عند العقد، ثم صرف النية إلى نفسه، ظاناً أن الحج ينصرف إليه، فنقول: الحج يقع عن المستأجِر، وفي استحقاق الأجير الأجرةَ قولان، مأخوذان من الأصل الذي ذكرناه. 5379 - ومما يتعين تجديد العهد به، وعليه تتفرع مسائل مهمّة أن القِصارة إذا وقعت من القصَّار، فهي أثرٌ أم هي نازلةٌ منزلةَ الأعيان؟ وفيه قولان مشهوران، ذكرناهما في كتاب التفليس، وتناهينا في تقريرهما، وبيانهما، ونبهنا على غلطاتٍ لبعض المفرّعين [فيهما] (2)، ونحن الآن نذكر في هذا المقام ما يليق بالتفريع عليهما، فنقول أولاً: 5380 - إذا صبغ الأجير الصبّاغُ الثوبَ بصِبغٍ من عند نفسه، وظهرت قيمةُ الصبغ زائدةً على عين الثوب، فللأجير أن يحبس الثوبَ حتى يستوفي الأجرة؛ لأن له فيها عينُ مالٍ. هكذا أطلقه الأئمة. 5381 - وإن كان الأجير قصَّاراً، فقَصَر، فهل يستمسك بالثوب إلى أن تتوفر الأجرةُ عليه؟ فعلى قولين مبنيَّيْن على أنَّ القِصارة أثرٌ أو عين، فإن جعلناها عيناً، جوزنا للأجير التمسكَ بالثوب حتى تتوفر الأجرةُ عليه؛ فإن حقَّه على هذا القول يتعلق بالقِصارة تعلّق استيثاق، كما تقدم إيضاحه في التفليس، ولا يتصور التمسك بالقصارة وحدَها، فيثبت التمسك بالثوب.

_ (1) عبارة الأصل: " إذا نوى الأجير على الحج مستأجر أولاً عند العقد " وفي نسخة (د 1): " إذا نوى الأجير على الحج مستأجره أولاً عند العقد والمثبت تصرف من المحقق رعاية للمعنى. (2) في الأصل: منهما.

5382 - (1 وإن قلنا: القصارة أثر، فليس للأجير التمسك بالثوب، فليتعيّن 1) عليه ردُّه، وطلبُ الأجرة حقّه لا تعلق له بالثوب. 5383 - وما أطلقه الأصحاب من حبس الثوب المصبوغ فيه مستدرَكٌ للناظر؛ فإنا ميَّزنا في التفليس بين الصِّبغ، وبين عمل الصابغ، فيجب أن يقال: ما يقابل قيمةَ الصبغ يجوز إمساك الثوب لتسلّمه، وما يزيد على قيمة الصبغ، فهو في مقابلة العمل، فيُبنى على القولين في أنه أثر أم عين. 5384 - ومما يجب التنبّه له في هذا المقام أنا ذكرنا اختلافَ القول في أن بائع العين هل يثبت له حق حبسها إلى استيفاء الثمن، ولم يتعرض الأصحاب لذلك في الصبغ، ولم يُشيروا إلى الاختلاف، بل قطعوا بجواز الحبس، وفيه توقُّفٌ وتردد، فيجوز أن يقال: جرى قطعهم بذلك تفريعاً على ثبوت حق الحبس، وكثيراً ما يُجري الأصحابُ التفريع على قول الحبس من غير تعرض لذكر الخلاف، والظاهر الذي يشير إليه فحوى كلام الأصحاب أن حق الحبس في هذا غيرُ مختلَفٍ فيه، وليس من قبيل حبس المبيع، ولعل السببَ فيه أن الأجير إذا تمم العمل، فقد وفّى ما عليه كَمَلا، وفات [المعوَّضُ] (2) من جانبه، وهذا يوجب له حقَّ استمساكٍ واستدراكٍ، ثم الصبغ جرى على منهاج المنافع، ولذلك لم يُشترط إعلامه على الصباغ، وانبثاثه في الثوب المملوك للمستأجِر مشابهٌ لحصوله في يد مالك الثوب. وحق الفقيه أن يتفطّن للأصول ويميّزَ بعضَها عن البعض، فلا يعتقد انسحابَ حكمٍ واحدٍ على القواعد، فهذا إذن قاعدة أطلقها الأئمة في الصبغ، لم يشبّبوا فيها بخلاف. 5385 - فإذا تمهّد ما ذكرناه، رتّبنا عليه أصلاً، ينْشعِب عنه أربعُ مسائل. والأصل أن القصارَ إذا قصرَ الثوبَ، ثم تلف في يده، وفات، فلا يخلو إما أن يتلف بآفةٍ سماوية. أو يتلف بإتلاف أجنبي.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (د 1). (2) في الأصل: المقصود.

أو يتلف بإتلاف المالك. أو يتلف بإتلاف القصار. 5386 - فإن تلف الثوب بآفةٍ سماويةٍ، أُثبتت المسألة أولاً على القولين في أن القصارة أثرٌ أو عين. فإن حكمنا بكونها أثراً، (2 وهو الأصح، الذي لا [يستدّ] (1) على القياس غيره 2)، فالحكم الآن يُبتنى على أصلٍ آخر، وهو أن يد الأجير يدُ أمانة أو يدُ ضمان، إن قلنا: يده يدُ أمانة، فلا شيء للمالك على القصَّار، وللقصَّار عليه الأُجرة، ومن حُكم هذا القول ثبوتُ الأجرة، مهما ثبت العمل، والأصل أنا نقدره في حكم المسلَّم الموفّر، فنقضي [بالأجرة] (3)، ثم ننظر فيما وراءها من الأحكام. وإنّ حكمنا بأن يدَ الأجير يدُ ضمان، ألزمناه ضمان الثوب مقصوراً، وله حقُّ الأجرة، ثم يجري التقاصّ [بعد الأجرة] (4) ومقدارِها، مما يلتزمه الأجير للمالك. فهذا إذا فرعنا على أن القِصارَة أثر. 5387 - فإن حكمنا، بأنها عينٌ أو حالّة محل العين، فحكم هذا القول يتفرع أيضاًًً على قولي الضمان والأمانة. فإن حكمنا بأن يد القصار يدُ أمانة، لم يضمن الأجير شيئاًً للمالك، ولم يستحق الأجرَ أيضاًً، وكأنا نقول: ضَرباً للمثل: القصارةُ قبل تسليم الثوب إلى المالك، تحت يد الأجير، بمثابة المبيع تحت يد البائع، فإذا فات الثوبُ، وفاتت القِصارة، سقط عِوض القِصارة سقوطَ الثمن بتلف المبيع، وهذا تمثيلٌ. والتحقيق فيه أنا نقدر القِصارَة جزءاً من عمل الأجير، فإذا لم يصل إلى المالك، قدّرنا كأن العمل لم يكن. وقول العين في نهاية الضعف، وتضمين الأجير بالغٌ في الضعف أيضاًًً، فإذا اجتمعا

_ (1) في الأصل: "يستمرّ" والمثبت تصّرف من المحفق، على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، والأوفق للمعنى. (2) ما بين القوسين ساقط من (د 1). (3) في الأصل: الأجرة. (4) ساقط من الأصل.

تفرَّعَ عليهما تفريعٌ ملفقٌ أضعفُ منهما، فإن حكمنا على قول العين بأن يدَ الأجير يدُ ضمان، فيتفرع أولاً سقوطُ الأجرة لفوات القِصارة، ونزوله منزلةَ تلف المبيع، والنظر وراء ذلك فيما يضمنه الأجير. والصور تتشعب، وقد أتيْتُ على أطرافها في كتاب التفليس، وأنا أرتاد الآن منها صورةً تقع وسطاً، وننبّه على طرفها، فأقول: 5388 - كان الثوب على البت (1) يساوي عشرة، فصار يساوي مقصوراً خمسةَ عشرَ، والأجرة المسماة درهمٌ. أما الأجرة، فتسقط لفوات القِصارة، وأما ما يضمنه الأجير، فالذي أشار إليه كلامُ الأصحاب، وصرّح به المحققون أن الأجير يغرَم قيمةَ الثوب على البت، ونجعل كأن القصارة لم تكن، فإذا اعتقدنا القِصارةَ من طريق التقدير كالعين المبيعة وبائعها الأجير، فإذا فات المبيع قبل القبض، لم يلتزم البائع شيئاً إلا سقوطَ الثمن، فكذلك الأجير، تسقط أجرتُه ويغرَم قيمةَ الثوب غيرَ مقصور، وكأن القصارة لم تقع. 5389 - وهذا يتطرّق إليه إشكال من كتاب التفليس، وذلك أنا إذا فرعنا على أن القِصارة عينٌ، وقد اشترى الرجل ثوباً قيمتُه عشرة، واستأجر من يقْصُره بدرهم، فبلغت قيمةُ الثوب خمسةَ عشرَ، ثم أفلس المشتري، وأجرة [الأجير] (2) وثمن الثوب في ذمته، فإذا فرّعنا على أن القصارة عينٌ، وفسخ البائع البيع وآثر الأجير التعلّقَ بالقصارة، حتى لا يضارب، فالثوب يُباع ولا يُصرف من ثمنه إلى الأجير إلا درهمٌ. وباقي التفصيل مذكور في موضعه. 5390 - ووجه التعلّق بالمسألة أنا لم نجعل الأجير راجعاً إلى تمام قيمة القصارة ولم يزد على أجرته، وما ذكرناه قبلُ من أن القِصارة إذا فاتت في يد الأجير، فكأنها فاتت له، يناقضُ هذا الذي ذكرناه الآن، والمصير إلى قصر حقه على الأجرة يوجب أن يضمن الأجيرُ لمالك الثوب أربعةَ عشرَ درهماً. هذا بيّنٌ، فإذاً ينقدح في الصورة

_ (1) البت: أي قبل القصارة. (الخام) بلغة عصرنا. (2) في الأصل: الثوب.

التي ذكرناها وجهان: أحدهما - وهو ظاهر كلام الأصحاب أن القصارة تسقط بجملتها من حساب الضمان، ووجهه ما نبهنا عليه. والوجه الثاني - أنه لا يسقط إلا قدر الأجرة من القِصارة، والباقي يضمنه الأجير ضمّاً إلى قيمة أصل الثوب. 5391 - وذكر شيخنا أبو علي وجهاً غريباً، عن بعض الأصحاب: أنا إذا حكمنا بتضمين الأجير، وجرينا على أن القصارة أثرٌ، فإذا قَصَر، وتلف الثوب المقصور في يده، لم يستحق الأجرَ، وإن حكمنا بكون القصارة أثراً؛ فإنَّ تغليظ التضمين ينافي استحقاق الأجر. وهذا الوجه ضعيفٌ جداً بالغ الشيخُ في تزييفه، وحكم بكونه غلطاً، ولهذا أخّرتُه عن ترتيب المذهب وسياقِه. هذا كله كلامٌ فيه إذا تلف الثوبُ المقصور في يد الأجير بآفةٍ سماوية. 5392 - فأما إذا تلف بتلاف أجنبي، فذلك يتفرع على الأصلين: أحدهما - أن القِصارة أثر، أو عين، والآخر أن يد الأجير يدُ أمانة، أو يدُ ضمان، وترتيب التفريع أن نقول: إن صرنا إلى أنها أثر، فللقصار الأجرة المسماة؛ فإنه قد أتم العمل، واستحق الأجرة، ثم إن قلنا: يدُ الأجير يدُ أمانة، فلا تبعةَ على الأجير، والأجنبي يغرَم الثوبَ مقصوراً لمالكه. وإن قلنا: يد الأجير يد ضمان، فلا شك أن قرار الضمان على الأجنبي المتلِف، ولكن الأجير طريقٌ في الغرم، فالمالك يُغرِّم أيَّهما شاء، فإن غرَّم الأجنبيَّ طلب منه قيمةَ الثوبِ مقصوراً، [واستقر الضمان. وإن اختار تغريمَ الأجير غرَّمه قيمةَ الثوب مقصوراً] (1) أيضاً، ثم إنه يرجع بما يغرَم على الأجنبي، وللأجير أجرتُه على قولِ الأثر سواء ضَمَّنَّاه، أو لم نضمِّنه. 5393 - وإن جعلنا القصارة عيناً، فليقع التفريع على الأصح، وهو أن الأجنبيَّ إذا أتلف المبيعَ قبل القبض، لم نحكم بانفساخ العقد، فنقول على موجَب هذا: إذا

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

جعلنا القصارةَ عيناً، وقد أتلف الأجنبيُّ الثوب، وفوّت القِصارة، فلا ينفسخ العقد بين الأجير والمالك المستأجِر، لكن يثبت للمستأجر الخيارُ في فسخ العقد المعقود على القصارة، وهكذا القول في المشتري، وتخيُّره إذا أتلف الأجنبيُّ المبيعَ قبل القبض، فإن اختار المستأجرُ فسخَ العقد في القصارة، سقطت الأجرة للقصار عن المستأجر، ثم نقول وراء ذلك: 5394 - إن جعلنا يده يدَ أمانة، فلا تبعة، ولا طَلِبَة للمالك عليه، ثم لا يحبَط حقُّه؛ فإن القصارة في حكم عين متلفة عليه، ونصور في هذا المنتهى الصورة التي ذكرناها قبلُ، فالثوب على البت عشرة، والأجرة المسماة درهمٌ، والثوب المقصور خمسةَ عشرَ، ونزيد، فنقول: أجرة مثل القصار نصف درهم، فيرجع الأجير على الأجنبي المتلِف. والذي قطع به الأئمة قاطبةً أنه لا يغرِّمه قيمةَ القِصارة خمسة، بل يرجع بمقدار أجرته، ثم المسألة محتملة، فيجوز أن يقال: إنه يستحق مقدار الأجرة المسماة من القصارة، وكأن ذلك القدر ارتدّ إليه بفسخ المستأجر، فيطالِب بقيمة ذلك المقدار المتلِف المفوّت. ويجوز أن يقال: لا يطالب المتلِف إلا بأجر مثله؛ فإنَّ فسخ المستأجر، أسقط اعتبار الأجرة المسماة، فلا يستحق الأجير إلا مقدارَ قيمة عمله من القصارة، وقيمةُ عمله أجرُ مثله. فإن قيل: هلا جعلتم جميع القصارة له؟ قلنا: هذا أصلٌ مهدناه في كتاب التفليس، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا. 5395 - وتمام الكلام في ذلك أن المالك إن غرّم الأجنبيَّ، غرَّمه قيمةَ الثوب إلا ما غرّمه الأجير، فإنه لو غرمه القيمة [التامة] (1) وغرمه الأجير (2) ما ذكرناه لتثنَّى الضمان عليه في ذلك المقدار. 5396 - وإن جعلنا يد الأجير يدَ ضمانٍ، فإنه يضمّنه إن أراد ما يضمّن المتلِف، ثم إنه يرجع بما يغرَمه على الأجنبي المتلِف. 5397 - وإذا بأن الحكم في الصورة التي ذكرناها، لم يخف ما سواها، فلو كان

_ (1) في الأصل: الثانية. (2) في (د 1): " الأجنبي ".

الثوب على البت عشرة، وهو مقصور أحدَ عشرَ، والأجرةُ درهمٌ، فينتظم في هذه الصورة أن نقول على قول العين، وعلى تضمين الأجير: إن أراد المالك تضمينَ الأجنبي، ضمّنه قيمةَ الثوب على البت، وكذلك إن أراد تضمين الأجير، ولانطلق هذا الحد في الصورة الأولى، فإنا صوّرنا القِصارة زائدةً على الأجرة [في الصورة الأولى] (1)، ورأينا قصرَ حق الأجير على مقدار أُجرته، فنظمنا في تلك الصورة ما يليق [بها] (2) ولا يحيط الناظر بهذه المسائل علماً، ما لم تكن قاعدةُ التفليس على ذُكرٍ. 5398 - وما ذكرناه فيه إذا اختار المالك في مسألة إتلاف الأجنبي فَسْخَ العقد المعقود على القِصارة، فإن أجازَ العقدَ فيها، غرم للقصار الأجرة المسماة، ثم إن قلنا: يد الأجير يدُ أمانة، [فلا] (3) تبعة للمستأجر على الأجير، فيغرِّم الأجنبيَّ قيمةَ الثوب مقصوراً، بكمالها. وإن قلنا: الأجير ضامن تخيَّر المالك، فإن شاء غرّم الأجير القيمةَ التامة والثوب مقصور، ثم إنه يرجع بما يغرَمه على الأجنبي المتلِف، وإن غرّم الأجنبيَّ، استقر الضمان عليه، فيغرّمه قيمةَ الثوب مقصوراً، ولا تعلّق للأجير بالثوب؛ فإنه استوفى أجرته من المستأجر؛ إذْ أجاز العقد، فلم يبق له طَلِبة. 5399 - فأما إذا تلف الثوبُ بإتلاف المالك، فالأجرة تتقرر على كل قول؛ فإنها مستقرة على قول الأثر، وإن جعلنا القِصارة عيناً، فقد أتلفها مستحقُّها، فصار بإتلافها قابضاً، كالمشتري يُتلف المبيعَ، فإن الثمنَ يتقرر عليه. 5405 - [وأما إذا] (4) تلف الثوبُ بإتلاف الأجير، فينبني هذا على القولين في أن البائع إذا أتلف المبيع، فكيف حكمه. وفيه قولان: أحدهما - أنها كآفةٍ سماوية.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في الأصل. بهذا. (3) في الأصل: من يد من لا تبعة. (4) في الأصل: وإن تلف.

والثاني - أنها كجناية أجنبي. 5401 - فإن جعلناها كآفة سماوية، وجعلنا القصارة أثراً، فللأجير أجرته، ويغرَم هو قيمةَ الثوب مقصوراً للمالك. وإن قلنا: القصارة عين، فتسقط الأجرة بسبب إتلاف الأجير الثوبَ، وتفويته القصارةَ، ويغرَم للمالك ما يزيد على حقه من الأجرة، كما فصّلته في الصورة المقدّمة. 5402 - وإن جعلنا إتلافَه كجناية أجنبي، وقلنا: القِصارةُ أثر، فله أَجْرُه، وعليه قيمةُ الثوب مقصوراً. 5403 - وإن قلنا: القصارة عين مالٍ، فللمالك الخيار في فسخ العقد المعقود على القصارة، فإن فسخ، سقطت الأجرة، وطالب الأجيرَ [بما] (1) يطالب به الأجنبي المتلِف، ولا شك أن حق الأجير محطوطٌ من القيمة كما ذكرنا وجهَ الكلام فيه على أبلغ سبيل في البيان. ثم لا شك أنه لا يستحق الأجرة؛ فإنا (2) حططناها له، والقول في أجرة المثل، والأجرة المسماة على ما تفصل. وإن اختار المالك الإجارة، استحق الأجير الأجرة، وغرم قيمة الثوب مقصوراً. وقد نجزت المسائل على أحسن مساق، والله المشكور. ...

_ (1) في الأصل: ما. (2) (د 1): قلنا حططناها.

كتاب المزارعة

كِتَابُ المُزَارَعَةِ 5404 - قد قدمنا تفسيرَ المزارعة، والمخابرة في كتاب المساقاة، ونحن نجدد ذكرهما لغرضٍ لنا، فالمزارعة أن يسلّم مالكُ الأرض الأرضَ والبَذْرَ إلى مَنْ يعمل في الأرض، ويزرعها بتكريبه، وتقليبه، وثيرانه، وفَدّانه (1)، وسائر آلات الزراعة، على أن ما يحصل من الزرع، فهو بينهما على ما يتشارطان، وعبّر الأئمة، فقالوا: المزارعة استئجار الزراع ببعض ما يخرج من الزرع. 5405 - والمخابرة أن يسلّم الأرض ليزرعها ببَذرٍ من عند نفسه، والزرع بينهما، على ما يتشارطان، فمعنى المخابرة إكراء الأرض ببعض ما يخرج منها. 5406 - والمعاملتان باطلتان عندنا، وهو مذهب معظم العلماء، لا تصح واحدة منهما، إلا المزارعةُ على الأراضي الواقعة في خَلَلِ النخيل، تبعاً للمساقاة المعقودة على النخيل، كما تقدّم تفصيلُ ذلك في كتاب المساقاة، وقد روي عن ابن عمرَ أنه قال: " كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى بذلك بأساً، حتى ورد علينا رافعُ بنُ خَديج، فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، فتركناها لقول رافع " (2). وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة، غير أن النهي عن المخابرة أصح (3).

_ (1) الفدّان: بالتثقيل آلةُ الحرث (المحراث، والنِّير) (المعجم والمصباح). (2) حديث رافع بن خديج أخرجه الشافعي عن ابن عيينة، في مسنده: 2/ 136، ح 447، ورواه مسلم بمعناه: كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح 1536. وانظر التلخيص: 3/ 130 ح 1309. (3) حديث جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، متفق عليه من حديث جابر: اللؤلؤ والمرجان: ح 992، التلخيص: 3/ 130 ح 1310. أما حديث النهي عن المزارعة فقد رواه مسلم من حديث ثابت بن الضحاك (المساقاة، باب في المزارعة والمؤاجرة، ح 1549)، وانظر التلخيص: 3/ 131 ح 1312.

والمزارعة عند الشافعي مقيسة على المخابرة، وصحح محمدُ بنُ الحسن رحمة الله عليه المزارعة، وقاسها على المساقاة، فإنه من القائلين بصحة المساقاة. 5407 - ثم حكم المزارعة أن الزرع بكماله لمالك البَذر، لا حظ للأجير فيه، وله مثلُ أجر عملهِ، ولا شك أن الأجرة تكون من النقد، وحكم المخابرة أن الزرع بكماله للزراع، فإنه صاحب البَذْر، وليس لمالك الأرض إلا أجرةُ مثلِ أرضه. 5408 - ثم الناس مبتلون بصورة المزارعة مع الحرّاثين، فذكر العلماء حيلاً قريبة في تصحيح الغرض، ذكر الشافعي منها حيلتين- إحداهما- أن [يعير] (1) مالكُ الأرض نصفَ الأرض من صاحبه، ثم يأتيان ببَذْر من عندهما، ويعملان فيها معاً، فيكون الزرع بينهما نصفين بحكم الاشتراك في البَذْر. وهذا صحيح. ولكن عمل مالك الأرض مع الحراث، غيرُ معتاد؛ فالأولى تمهيدُ طريقٍ تُبرىء مالكَ الأرض من العمل. 5409 - فقال الشافعي في ذلك: يكري مالكُ الأرض نصفَ الأرض بنصف عمل العامل، ونصف منفعة الآلات التي يستعملها العامل- إن كانت الآلات له، ويكون البَذْر مشتركاًً، فيشتركان في الزرع على حسب الاشتراك في البذر، فإن ملك الغلّة يتبع ملكَ البذر في الخلوصِ والاشتراكِ، والعملُ يقع نصفُه عوضاًً عن نصف منفعة الأرض، فيعتدل الأمر. وإذا أراد أن يكون الزرع بينهما أثلاثاً، فليكن البذر بينهما كذلك، فالتعويل على البذر، فإن لم يكن للعامل بذر أقرضه ربُّ الأرض المقدارَ الذي يُشترط له من الزرع، وإذا وقعت الشركة في البَذْر، فلا حاجة إلى شرطٍ في الزرع، ولو جعل بعض البذر أجرةً لبعض عمل الزارع، أمكن ذلك. ولست للأطناب في مثل هذا؛ فإني لا أنتهض إلا لحل المشكلات، وأرى الاجتزاءَ بالمرامز في الجليّات.

_ (1) في الأصل: يعين.

هذا مقدار الغرض في صدر هذا الكتاب. 5410 - ثم مسائل الكتاب بعد ذلك في إجارة صحيحة، على الأراضي على شرط الشرع، فيقع مضمون الكتاب باباً من الإجارات في صنفٍ من العقارات، وإنما أفردها الشافعي [لاختصاصها] (1) بقضايا وخواصَّ تتعلق بها. 5411 - ثم قال الشافعي: " ويجوز كراء الأرض بالذهب والورِق، وما ينبت من الأرض " (2) وقصد بهذا الفصلِ الردَّ على مالك (3)، فيجوز استئجار الأرض عندنا بالنَّقْدين، وبمقدارٍ مُقدَّرٍ مما تنبته الأرض، ومنع مالك اكتراء الأرض بما تنبته الأرض وإن قُدّر وأثبت عوضاً، ولم يُضَف إلى ما تنبته الأرض المكتراة (4). وهذا من القول الركيك، والنظرِ الحائد، وإنما حمله على هذا إطلاقُ الناس قولَهم بأن المزارعة هي إكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، ولم يعلم أن المحذور جعلُ جزء مما يخرج من الأرض أجرةً؛ فإن ذلك مجهول وغرر. فصل قال: " ولا يجوز الكراء إلا على سنة معروفة ... إلى آخره " (5). 5412 - اكتراء الأرض بمثابة اكتراء الدور والمساكن، وغيرها؛ فلا بد من إعلامِ المعقود عليه بضربِ المدة، ثم شرطُها أن تكون مضبوطةً بالزمان المقدّر، ولو قال: اكتريت هذه الأرضَ مدة الزراعة والحصاد، لم تصحّ الإجارة، وإن كنا قد نُصحح معاملةَ المساقاة على هذا الوجه؛ فإن المساقاة فيها جهالات محتملة لائقة بمصلحتها، فقد لا يبعد احتمالُ مثل ذلك في المدة. وأما إجارة الأراضي، فإنها بمثابة إجارة

_ (1) في الأصل: لاختصاص هذا. (2) ر. المختصر: 3/ 92. (3) ر. حاشية الدسوقي: 4/ 17، جواهر الإكليل: 2/ 188، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 120 مسألة: 1813. (4) في (د 1): المكرَاة. (5) ر. المختصر: 3/ 93.

الدور، ثم سبيل إعلام مدة الإجارة كسبيل إعلام الآجال في الأعواض المؤجلة. 5413 - فإن قال: اكتريت هذه الأرضَ سنة، [صحّ و] (1) حملت السنة على الأشهر بالأهلة، وتحسب أحد عشرَ شهراً بالأهلة نقصت أو وفت، وينكسر الشهر الذي جرت الإجارة فيه، فتحسب أيام ذلك الشهر ثلاثين يوماً، نقص الشهر، أو وفى، ثم تُستكمل أيام ذلك الشهر من الشهر الثالث عشر. وهذا بيّنٌ مكررٌ في مواضعَ. وحظ الفقه (2) منه أن السنة المطلقة لا تحمل إلا على السنة العربية، وهي بالأهلة، كما وصفنا. وإن ذكر سنة رومية، أو فارسية، وكانا عالمين بذلك الحساب، صحّ العقد، وإن جهلا أو أحدُهما، لم يصح العقد. والتأجيل بعيد الفطر والأضحى جائز. وإن وقع التأقيت بعيدٍ من أعياد المشركين، فإن كان المسلمون لا يعرفون ذلك إلا بمساءلة الكفار، فلا يصح؛ إذ لا تعويل [على] (3) أقوالهم، وإن كان المسلمون يشاركونهم في معرفة ذلك اليوم، صح التأقيت به على المذهب الأصح. وأبعد بعضُ الأصحاب، فمنع التأقيت بما يشتهر بالكفار ويعزى إليهم من المواقيت. وهذا ساقطٌ لا أصل له؛ فإن الغرض من التأقيت الإعلام، فإذا حصل، لم يختلف الأمر بأن يُعزى إلى الكفار أو إلى المسلمين. نعم يجوز أن يقال: يكره ربط المواقيت بحسابهم من طريق الأدب. فصل قال: " وإذا تكارى الرجل الأرض ذات الماء من العين، أو النهر ... إلى آخره" (4). 5414 - مَن أكرى أرضاً للزراعة، فكان لها شِربٌ معلوم، من عينٍ، أو نهر،

_ (1) زيادة من (د 1). (2) (د 1): الفقيه. (3) في الأصل: عن. (4) ر. المختصر: 3/ 93.

فالاستئجار صحيحٌ، على شرط الشرع، وغرض الفصل أن الإجارة إذا صحت، ثم انقطع الماء الذي كان منه شِربُ الأرض، فالمنصوص عليه للشافعي أن الإجارة لا تنفسخ، ولكن يثبت للمكتري الخيارُ، ونص الشافعي على أن من اكترى داراً، فانهدمت، حُكم بانفساخ الإجارة. 5415 - قال العراقيون وغيرهم من نقلة المذهب: الأصح نقلُ النصين في المسألتين وتخريجهما جميعاً على القولين: أحدهما - أن الإجارة لا تنفسخ فيهما؛ لأن منفعة الأرض لا تتعطل بالكلية بانقطاع الماء، وكذلك منفعة الدار لا تنقطع بجملتها، بالانهدام؛ فإنه يمكن سكون (1) العَرْصة، واتخاذها مُخيَّماً. 5416 - وكان شيخي أبو محمد يرى القطعَ بانفساخ الإجارة الواردةِ على الدار، بانهدامها، وكان يقطع بأن الإجارةَ على الأرض لا تنفسخ بانقطاع الماء، وكان يفرّق بأن الماء ليس صفةً للأرض، [فانقطاعه] (2) لا يغيّر صفةَ مورد العقد، وانهدامُ الدار تغيير معطّلٌ للمنفعة، واردٌ على المعقود عليه. وهذا الفرق غيرُ سديد؛ فإن المنفعة في الموضعين لا تتعطل بالكلية، ومعظم المنفعة زائل، ولعل ما بقي في عرصة الدار أكثر، وهو إمكان السكون وضرب الخيام، والزراعة إذا [انقطعت] (3) في القراح (4) الضاحي، لم يبق فيه منتفعٌ به مبالاة. وعلى الجملة طريقة القولين أسدّ، وتوجيهها ما أجريناه في أثناء الكلام. 5417 - فإن قلنا: تنفسخ الإجارة في مسألة انقطاع الماء، أو اختار المستأجر فسخها، إن قلنا: إنها لا تنفسخ، فإذا فسخها، فيرتد إليه ما يقابل بقيةَ المدة من الأجرة المسماة، والوجه توزيعها على أجر المثل، كما تفصَّل في المسائل المقدّمة.

_ (1) سكون العرصة: أي سكنى الساحة. واستعمال هذا الوزن (سكون) بمعنى السكن، والسكنى، وارد في لسان إمام الحرمين، والغزالي كثيراً، وقد مضى في مواضع من قبل. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: انقطع. (4) القراح: الأرض الخالية من الزراعة، ليس عليها بناء، ولا غيره (المعجم، والمصباح).

ثم إذا انفسخت -على قول الانفساخ في بقية المدة- لم تنفسخ في الزمان الماضي على الرأي الأصح. وفيه قولٌ غريب [حكيناه] (1)، فلا وجه لإعادة ما تكرر، والوجهُ الاكتفاءُ بالرمز في مثل ذلك. 5418 - فإن قلنا: الإجارة لا تنفسخ، وللمستأجر حقُّ الفسخ، نُظر: فإن فسخ، استرد ما يقابل المدةَ الباقية من الأجرة، وإن لم يؤثر الفسخ، وأجاز العقدَ، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يرجع بشيءٍ إذا رضي؛ فإنَّ انقطاعَ الماء يتنزل منزلة العيب، وإذا وقع الرضا بالعيب، فلا يثبت للراضي الرجوعُ بشيءٍ من العوض (2)، وهو بمثابة ما لو تعيّب المبيعُ في يد البائع، فللمشتري الخيارُ، فإن رضي المشتري بالعيب، لزم العقدُ، ولم يرجع بقسطٍ من الثمن؛ فإن العوضَ لا يتوزّع على الصفات في هذا المقام. 5419 - وذكر شيخي وجهين في المسألة: أحدهما - ما ذكره الأصحاب. والثاني - أنه يرجع مع اختيار الإجازة بقسطٍ من الأجرة. وهذا بعيدٌ، لم أره إلا لشيخي، وكأنه تشوّف إلى تنزيل انقطاع الماء منزلةَ تلف بعضِ المعقود عليه، وهذا لا أعتدُّ به، ومساقه يقتضي الحكمَ بانفساخ العقد في [جزءٍ؛ إذ] (3) هذا حكم فوات بعض المعقود عليه. ثم إن صحّ ذلك، واتجه القول به، فوجه التوزيع أن يقال: لو بقي الماء في بقية المدة، فكم أجرة المثل؟ فيقال: كذا، ثم يقال: كم أجرة مثل الأرض في بقية المدة، ولا ماء؟ فيقال: كذا، فنضبط ما بين المبلغين، ونوزّع الأجرة المسماةَ على المبلغين. وهذا ضعيف، لا أصل له. 5420 - ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن المكتري إذا أجاز العقد، وكان عوْد الماء

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (د 1): العين. (3) في الأصل: حق واحد.

المنقطع مأيوساً في مدة الإجارة، فإذا وقع الرضا بذلك، ثم حاول الراضي الفسخَ، لم يكن له ذلك، كالمشتري إذا رضي بالعيب الذي اطلع عليه. ويليق بهذا القسم كون الخيار ثابتاً على الفور، كخيار الرد بالعيب. 5421 - وإن لم يكن عوْدُ الماء مأيوساً، بل كان مأمولاً، فالخيار ثابتٌ، لتحقق الانقطاع في الحال، فإن أجاز المكتري، ثم ندم، وأراد الفسخَ، فله الفسخ؛ فإن إجازته محمولةٌ على توقّع العَوْد، فلا يمتنع أن يفسخ بعدما قدّم الإجازة. وهذا شبّهه الأصحابُ برضا المرأة بالمقام تحت زوجها المعسر بالنفقة، وأنها بعد الرضا لو أرادت الفسخَ، كان لها ذلك، حَمْلاً لرضاها على رجاء زوال العسر. وكذلك إذا انقضت مدة الإيلاء، فرضيت المرأة بالمقام تحت زوجها، فلو أرادت أن تعود إلى المطالبة بالفيئة، أو الطلاق، فلها ذلك بناءً على ما ذكرناه. 5422 - وإذا غصب غاصبٌ الدارَ المكراةَ في مدة الإجارة، فللمكتري أن يفسخ، فإن أجاز والغصب دائم، ثم أراد العودَ إلى الفسخ، كان له ذلك. 5423 - ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن الأرض إذا (1) كان لها شِرب معلوم، كما وصفناه، فإن اكتراها المكتري للزراعة، وذكر قسطَها من الشّرب، صح، وكان ما [ذكره] (2) تصريحاً بمضمون العقدِ ومقصودِه. 5424 - وإن أطلق اكتراء الأرض، وهي ذاتُ شربٍ، ولم يتعرض لذِكر شِربها من الماء، فهل تصح الإجارة؟ وكيف الوجه؟ هذه المسألة لها التفاتٌ على مسألة الحبر والورّاق، والصِّبغ والصباغ، ثم يتطرق إليها نظرٌ في اطراد العادة، (3 واختلافها، فرُبما تطرد العادة 3) بألا تكترى قطعة من الأرض إلا مع قسطها من الشِّرب، وربما تجري العادة بإفراد الأرض بالإجارة، وربما

_ (1) (د 1): التي لها شرب. (2) في الأصل: ذكرناه. (3) ما بين القوسين سقط من (د 1).

تختلف العادة. وإذا اشتركت هذه الأصول في المسألة، فالرأي أن نؤخرها حتى نذكر التفصيل في إجارة أرضٍ لا ماء لها، ثم نختم ذلك الفصل بما نبهنا عليه الآن. فصل قال: " ولو تكاراها سنة، فزرعها، فانقضت السنة ... إلى آخره " (1). 5425 - إذا اكترى أرضاً مدةً للزراعة، لم يخْلُ إما أن يذكر زرعاً، ويذكر مدة يُدرِك الزرعُ المذكور فيها. وإما أن يذكر مدة لا يُدرِك الزرعُ المذكور فيها. فإن كان الزرعُ المذكور يُدرِك في المدة المذكورة، فالإجارة تصح، ثم إن أدرك الزرعُ في تلك المدة، فلا كلام. 5426 - وإن استأخر إدراك الزرع، لم يخل إما أن يكون ذلك لتقصيرٍ وتأخيرٍ من المكتري في الزراعة، وإما أن يكون لأمورٍ قدريّة، سماويّة، فإن أخّر الزراعة، وابتدأها في وقت يُخرح إدراكَ الزرع عن منتهى المدّة، فلا يقلع زرعه ما دامت المدة؛ فإن المنافع فيها مستحقّة له. وإذا انقضت المدّة، والزرع بقلٌ بعدُ، فلمالك الأرض قلعُه؛ فإن المكتري خالفَ جهةَ الانتفاع، ولم يأت بالزراعة على مقتضى العقد والعادة، وإن رضي مالك الأرض تبقية الزرع معيراً متبرعاً، فحسنٌ، وإن أراد تبقيته بأُجرة المثل، فالأمر مردود إلى صاحب الزرع، فإن قلعها، فلا أجرة، وإن أبقاها، استمرت عليه الأجرة، ولا يتوقف استمرارها على رضا المكتري، إذا كان يُبقي الزرعَ. ولو لم يوجد من مالك الأرض تعرّض للقلع، ولا للإبقاء، وبقي الزرع زماناً فعلى الزارع أجرُ المثل؛ فإنه بإدامة زرعه منتفعٌ بملك غيره، من غير عقدٍ واستحقاقٍ. 5427 - ولو استأجر الأرضَ مدةً تسع للزرع المذكور، ولكنه حُبس، وامتنعت

_ (1) ر. المختصر: 3/ 93.

عليه الزراعة، للحيلولة القهرية، ثم زرع لمّا تمكّن، واستأخر عن منتهى المدّة، فللمالك القلعُ، وإن كان المكتري معذوراً؛ فإن الحكم لا يختلف بما يطرأ على العاقد، إذا لم يحدث في المعقود عليه منع، وهذا مستغنٍ بوضوحه عن تكلّف بسطه. 5428 - ولو زرع المكتري في أوان الزراعة، ولم يقصّر، ولم يؤخّر، ولكن استأخر الإدراك لبرد الهواء، أو كثرةِ الأنداء، فإذا انقضت المدةُ المضروبةُ والزرعُ غير مدرِك، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه لا يقلع أصلاً؛ لأن المكتري غيرُ مقصر، وهو جارٍ على موجَب العقد والعادة. 5429 - وذكر العراقيون وجهين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أن الزرع يُقلع إذا انقضت المدة، وما فرض من عذرٍ، بمثابة ما لو حُبس المكتري، وحيل بينه وبين الزراعة، فهذا العذر لا ينتصب سبباً في وجوب تبقية زرعه. 5430 - ثم إذا رأينا تبقية الزرع، فهو مبقّى بأجرة المثل، وراء المدة المضروبة. 5431 - ومما يتم به الغرض أن الزراعة لو امتنع ابتداؤها، لتتابع الأمطار والبرد المفرط، ثم لما انجلى المانع، وزرعَ الزارع، استأخر الإدراك، فهذا محتمَلٌ مترددٌ، يجوز أن يشبَّه بحبس المكتري، ومنعه من الزراعة. ويظهر أن يُلحق ما يقع من ذلك في ابتداء المدة بما يطرأ بعد الزراعة، فإن الأمور الكليّة الهوائية تنطبق على معاذير الزرع والحرث، والحبس للمكتري لا تعلّق له بالمعقود عليه. هذا كله فيه إذا ذكر مدةً يسع مثلُها الزرع المذكور. 5432 - فأما إذا ذكر نوعاً من الزرع، وذكر مدة لا تسعه، ولا تفي بإدراكه، مثل أن يستأجر الأرض شهرين ليزرعها قمحاً، أو شعيراً، فمعلوم أن الشهرين لا يفيان بإدراك الزرع المذكور، فيتشعب من هذا مسائل:

5433 - إحداها- أن يذكر الزرع (1 والمدة، ويقع التشارط على قلع 1) الزرع عند منقرض المدة، فإن كان كذلك، صحّ -ولعل غرضَ المكتري [القصيلُ] (2)، وهو على الجملة مقصود- ثم إذا انقضت المدة، قُلع الزرع، وللمالك أن يُبقيه مجاناًً وبأجر المثل، فإن اتفق إبقاؤه بعد المدة، جرى أجرُ المثل من غير تعرضٍ له، فإنّ أجر المثل قيمة المنفعة التالفة من غير استحقاق، فإذا حصل تلفُ المنفعة، تقوّمت. هذه مسألة. 5434 - المسألة الثانية - أن يقول: اكتريت هذه الأرضَ لزراعة الحنطة شهرين، على أن الزرع لا يقلع عند منقرض المدة، ويبقى إلى الإدراك، فالعقد يفسد على هذه الصيغة، نصَّ عليه الشافعي في المختصر، وعلل بأن التأقيت واشتراط الإبقاء بعد انقضاء الوقت متناقضٌ؛ فإنَّ ما وراء المدة إن قدّر معقوداً عليه، فالتأقيت لا معنى له، على أن التأقيت بإدراك الغلّة مفسدٌ. وإن قدر ما وراء الوقت غير معقودٍ عليه، فاشتراطه في العقد لا معنى له، فالإجارة فاسدة إذاً، والأجرة المسماة ساقطةٌ، والواجب أجرُ المثل. ثم إذا انقضت المدة المضروبة، فلا يجوز قلع الزرع. فإن قيل: إذا لم يصح العقد، لم يترتب استحقاق الانتفاع عليه. قلنا: الإذن في الإجارة الفاسدة، بمثابة الإعارة، ومن أعار أرضاً، فزرعت، لم يكن [للمعير] (3) قلعُ الزرع، وإن كان مبنى العارية على جواز الرجوع فيها، وقد مهدنا ذلك في كتاب العواري، وفرقنا بين الزرع، وبين البناء والغراس. ثم الرجوع إلى أجر المثل في المدة التي يبقى الزرع فيها. 5435 - المسألة الثالثة - أن يذكر المتعاقدان مدةً لا تسع الزرع المذكور، ويُطلقا

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (د 1). (2) في الأصل: الفضيل، وفي (د 1) بدون نقط. والقصيل: هو ما يقطع من الزرع أخضر لعلف الدواب. (3) في الأصل، كما في (د 1): المستعير.

العقدَ من غير تعرض للقلع والتبقية بعد انقضاء المدة، فالذي قطع له شيخي أن الإجارة تفسد؛ فإن الزرعَ المذكورَ ليس يوافق المدة المذكورة، فظاهر إطلاق الزراعة يشعر بإبقاء الزرع إلى أوان الحصاد، وهذا غير ممكن في المدة المحصورة. فحصرها إذن يوجب في الإطلاق قصرَ الانتفاع عليها، وذكر الزراعة يتضمن الزيادة عليها؛ فكان ذلك تناقضاً، في صيغة العقد، ومقصوده، وكان يشبِّه هذا بما لو قال الرجل: اكتريت منك هذه الدابة على أن أسافر بها إلى مكة في يوم (1)، فالإجارة تفسد لا محالة، وفي نص الشافعي في السواد (2) ما يشير إلى هذا من طريق المفهوم. 5436 - وقطع غيره من الأئمة بصحة الإجارة، وقالوا: استأجر مدة معلومة، فإذا انقضت المدة، نظرنا فيم يقتضيه الحكم من القلع، أو [التبقية] (3). 5437 - ثم قالوا: في ذلك وجهان: أحدهما - أنه يُقلع عليه الزرع، وهو فائدة التأقيت المطلق، فكان هذا بمثابة ما لو وقع التصريح بشرط القلع عند منقرض المدة. والوجه الثاني - أنه لا يقلع الزرع بل يُبقَّى إلى الاستحصاد بأجر المثل؛ فإنه لم يقع التعرّض للقلع، ولم يرض واحد منهما بتوقيت حقِّه، فالذي يقتضيه رعايةُ الحقين، والنظر للجانبين أن يبقى الزرع إلى الحصاد، بأجرة المثل وراء المدة المضروبة، فيستحق المكري الأجرة المسماةَ للمدة المذكورة، ويستحق أجر المثل وراءها. 5438 - فإذا (4) كان الأئمة يختلفون كذلك في التأقيت المطلق، فيجب أن يختلفوا على هذا الوجه في الإعارة المؤقتة، حتى يقولوا في جواز قلع الزرع وراء المدة المذكورة وجهان. وظاهر المذهب الذي مهدناه في كتاب العاريّة أن التأقيت المطلق

_ (1) يلاحظ في ضرب هذا المثل أنه يضربه على لسان من يقيم في نيسابور، حيث كان يعيش الشيخ. أما إذا كان في عرفات أو في منى، وقال: اكتريت منك هذه الدابة على أن أسافر عليها إلى مكة في يوم، فالإجارة صحيحة. فليلاحظ ذلك. (2) السواد: يراد به المختصر. مختصر المزني، كما تكررت الإشارة إلى ذلك. (3) في الأصل: الترك. والمثبت لفظ (د 1). (4) (د 1): وإذا.

لا يسلِّط على القلع وراء المدة، وإنما صار إلى القلع أبو حنيفة، والقلع محتمل من طريق المعنى. فإن ذكرنا هذا الاختلاف في العارية المؤقتة، فهو المراد، وإن لم نذكره، تعيّن إلحاقه؛ إذ لا فرق بين التأقيت في العاريّة، وبين التأقيت في العقد على الوجه الذي وصفناه. 5439 - ولا ينبغي أن يغتر الفقيهُ بفرقٍ لا أصل له؛ فيقول: إذا صححنا العقد في مسألتنا، تضمن ذلك حصرَ الاستحقاق في المدة المذكورة، وهذا الانحصار يوجب الفرقَ بين المدة وبين ما وراءها، بخلاف العاريّة، فإنه لا استحقاق فيها، والأمر محمولٌ على مكارم الأخلاق، والمساهلةِ ابتداءً ودواماً. وهذا لا يتحصل (1) مع القطع باستواء الأصلين في جواز اشتراط القلع صريحاً، وإذا جاز ذلك في الموضعين، فإشعار التأقيت المطلق بالقلع في الموضعين على وتيرة واحدة. 5440 - ومما يتعلق بهذا المنتهى أن من استأجر أرضاً مدة لزرعٍ، فكانت المدة تسع ذلك الزرعَ غالباً، فلو زرعها المكتري زرعاً تطول مدتُه، وتزيد على المدة المذكورة، ولكن كان إضرار ذلك الزرع بالأرض كإضرار الزرع المذكور، من غير مزيد، فإذا اتفق الزرعُ، فلا شك أنه مقلوع عند منتهى المدة المذكورة؛ من جهة أن المكتري فرّط، إذ عدَل عن النوع المشروط، والمدة تَسَعُه، إلى النوع الذي لا تسعه المدة. ثم لو أراد المكري قلعَ الزرع في أثناء المدة؛ [بناءً] (2) على أن له أن يقلعه وراء المدة، لم يكن له ذلك؛ فإن المنفعة في المدة مستحقة للمكتري، وليس في ترك الزرع إضرارٌ، فيجب إدامتُه إلى انقضاء الوقت. وهذا بيّن بعد (3) الزرع. 5441 - ولو همّ المكتري بابتداء الزراعة فأراد المكري منعَه من الابتداء، فقد ذكر العراقيون: أن له أن يمنعه من الابتداء.

_ (1) (د 1): تحصيل. (2) ساقطة من الأصل. (3) يمهد بهذه الجملة للمسألة الآتية، وهي حكم منعه قبل الزرع.

والذي يقتضيه قياس المراوزة القطعُ بأنه لا يمنعه من الابتداء؛ فإن المنفعة مستحقة، ولا ضرار، فكما يمتنع على المكري القلعُ دواماً، وجب أن لا يجوز له المنع ابتداءً، وإنما سلطان المكري عند انقضاء المدة، فينتظم من الطريقين قياساً ونقلاً وجهان: الأصح أن لا يُمنع المكتري من ابتداء الزرع، وليس لما ذكره العراقيون -وإن قطعوا به- وجهٌ. فصل قال: " وإذا تكارا الأرضَ التي لا ماء لها ... إلى آخره " (1). 5442 - جملة الأراضي تنقسم إلى ما لها شِرب معلوم، وإلى ما ليس لها شرب معلوم. 5443 - فلتقع البداية بالأرض التي لا شِرب لها على علم. وهذا القسم ينقسم ثلاثة أقسام: 5444 - أحدها - أن لا يتوهم لها ماء بحالٍ يتأتى بناءُ الزرع عليه، وذلك بمثابة أرضٍ في قُلّة جبلٍ مَحْلٍ (2)، إن وقع عليه مطرٌ على الندور (3)، لم (4) يسد مسدّاً، فإن كان كذلك، فلا يجوز اكتراؤها للزراعة، فلو اكتراها المكتري، وذكر الزراعة، فالعقد باطل؛ لاشتماله على جنسٍ من الانتفاع مستحيلٍ. ويجوز اكتراء مثل هذه الأرض لغرضٍ آخر، لا يستدعي الماءَ، وهو أن يتخذها مبركاً لجماله، أو مجثماً لغنمه، أو مُخيَّماً لنزوله، فهذه الجهات إذا وقع التصريح بها، صحت الإجارة، ولا أثر لذكر الماء فيها. وهذا بيّنٌ غير ملتبسٍ.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 95. (2) مَحْل: المحل انقطاع المطر، ويُبس الأرض من الكلأ، وأرضٌ محْل: لا مرعى بها (المعجم). (3) في الأصل: النذور (بالذال المعجمة). وغير منقوطة في (د 1). (4) (د 1): ولم.

5445 - فلو وقع العلم بما ذكرناه، فجرى اكتراء مثل هذه الأرض مطلقاً، من غير تعرضٍ للزراعة، أو لجهةٍ أخرى من الجهات التي أشرنا إليها، فالإجارة صحيحة محمولة على الانتفاع الممكن، كما سنذكره في التفريع. 5446 - وذكر العراقيون وجهاً بعيداً أن إطلاق [الإجارة] (1) لا يصح من غير ذكر حالِ الأرض في أنها لا ماء لها، ثم إنهم كما نقلوه زيفوه، وهو لعمري ضعيفٌ، حريٌّ بالتزييف؛ فإن الغرض من ذكر ما يُذكر الإفادةُ، ولا إفادة في التقييد، مع القطع بأن مثل هذه الأرض لا يتصور أن يكون لها ماء في مطّرد العرف. 5447 - فليقع التفريع على صحة الإجارة المطلقة. ثم المكتري يتسع في الجهات الممكنة من الانتفاع، ولا يمنع عن شيء منها؛ فإن الأرض تحتمل جميعَها، فلا منعَ منها، وإنما يمنع المكتري من تغيير جِرْم الأرض بحفرٍ أو غيره. وهذا متفق عليه، بين الأصحاب. وما ذكره العراقيون وجهاً ضعيفاً ليس يقتضي تعيينَ جهة الانتفاع ذكراً، وإنما يشترط ذلك القائل التعرضَ لذكر انتفاء الماء، فأما التنصيص على تعيين جهة الانتفاع، فلم يصرْ إليه أحد، فليفهم الناظر ذلك. وهذا كلام في قسم واحد، وهو إذا كان لا يتصوّر للأرض ماءٌ يستقلّ الزرع به. 5448 - فأما القسم الثاني، وهو أن تكون الأرض بحيث قد يُرجى لها ماءٌ، ولا يأس منه، ولكن لم يكن لها شِربٌ معلوم، [فإذا] (2) كان كذلك، فلو استأجرها وذكر في صلب العقد أنه لا ماء لها، فالقول في هذا القسم، يتنوع: 5449 - فنقول: إن اكتراها للزراعة بناءً على إمكان الماء على بُعدٍ، فلا خلاف بين الأصحاب أن الإجارة فاسدة؛ إذ لا ثقة على الظهور بالماء، الذي لا بد منه للزرع؛ فكانت جهة الزراعة فاسدةً، لم يختلف الأصحاب فيها.

_ (1) (د 1): الجارية. (2) في الأصل: وإذا.

ثم لا فرق بين أن يذكر أنه لا ماء للأرض، وبين أن لا يذكر ذلك؛ فإن الفساد أتى من [جهة] (1) تعذر الزرع في ظاهر الظن. وقد ألحق الأصحاب [فسادَ هذه الأجارة] (2) بفساد بيع [العبد] (3) الآبق؛ فإن رجوعه وعَوْدَه ممكنٌ، لكنْ بناءُ البيع على كوْن المبيع مقدوراً على تسليمه حالة العقد. 5450 - ولو اكترى المكتري هذه الأرضَ ليتّخذَها مخيّماً، أو مبركاً، أو مأوى للأغنام، فتصح الإجارةُ. ولا حاجة في هذا القسم إلى التعرض للماء، نفياً، ووجوداً؛ فإن هذه الجهات لا تستدعي الماء. 5451 - فأما إذا اكترى الأرضَ مطلقاً، ولم يقع التعرض للزراعة، ولا لغيرها من جهات الانتفاع، فإن جرى في العقد أن الأرض لا ماء لها، صحت الإجارة، وانقطع الوهم عن اقتضاء الإجارة زراعةً، وإذا صححنا العقدَ، فالمكتري ينتفع بالجهات التي ذكرناها، وإن لم يقع لها تعيين. فلو أراد أن يزرع الأرضَ بناءً على توقّع الماء، كان له ذلك؛ وهذا إذا جرى ذكر الماء نفياً، فأما إذا لم يجر لنفيه ذكرٌ، لم يخلُ إما أن يكون أمر الماء مشكلاً على المكتري، وإما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، فإن كان جاهلاً، فالإجارة فاسدة؛ لأن مطلق استئجار الأرض يشعر بالزراعة، فيصير المطلق كالمقيّد بالزراعة، وقد ذكرنا أن استئجار الأرض التي وصفناها للزراعة باطل، ونزّلنا الاستئجار لها على رجاء الماء من غير ثبت منزلةَ ابتياع العبد الآبق على رجاء العَوْد والإياب، والعقد المطلق كالمقيّد بالزراعة. هذا ولا علم بحقيقة الحال. 5452 - فأما إذا كان المتعاقدان عالمين بصفة الأرض، وأنه ليس لها شِرب

_ (1) في الأصل: جهته. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (3) سقطت من الأصل.

معلوم، ورجاء الماء ليس غالباً، فالعلم في ذلك هل يتنزل منزلة التصريح بأن الأرضَ لا ماء لها؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أن العقد يصح، كما لو تقيّد بنفي الماء، ووجهه أن ما يذكر في العقد فائدته الإعلام، والإشعار به، فإذا عَلم المتعاقدان ما يدل عليه لفظ نفي الماء، فلا حاجة إلى الذكر. والوجه الثاني - أن العقد لا يصح؛ فإن اللفظ المطلق فيه يتضمن الزرعَ، فلا بد من قطع تضمّن (1) اللفظ صريحاً بلفظ. 5453 - ولا بد وأن يتنبه الفقيه في هذا المنتهى للفرق بين هذا القسم الذي نحن فيه، وبين ما إذا كانت الأرض بحيث لا يتصور [أن يكون] (2) لها ماء؛ فإن الرجاء إذا كان زائلاً، فلا يتوقع طلب الأرض للزراعة، وذلك القسم الأول فيه، إذا كانت الأرض بحيث لا يخفى أنها لا تصلح للزراعة، ولا يُتوقع لها ماء، وإذا انتهى الأمر في الظهور إلى هذا المنتهى، فلا حاجة إلى التعرّض والذكر. وإنما يظهر موقع الذكر إذا كان الإمكان متطرَّقاً على قربٍ أو بعدٍ. والذي ذكر العراقيون من الوجه الضعيف في القسم الأول بَعُدَ [لذلك] (3). ولو كان المكتري مثلاً لا يحيط بأن مثل تلك الأرض لا تصلح للزراعة، لجهله وسلامة صدره، وذلك في القسم الأول - فقد ينقدح الآن والحالة هذه التعرضُ لنفي الماء، ويجوز أن يقال: الجهل بصفة الأرض في القسم الأول بمثابة العلم بصفة الأرض في القسم الثاني. 5454 - فأما القسم الثالث - وهو أن تكون الأرض بحيث يغلب على الظن إمكانُ زراعتها بماء (4) المطر أو سيلٍ يتفق [و] (5) تنمية الزرع.

_ (1) (د 1): ما يضمن اللفظ. (2) زيادة من (د 1). (3) في الأصل: كذلك. (4) (د 1): ووفاء المطر. (5) الواو زيادة من المحقق، والمعنى: "سيل يصادف، ويناسب نماء الزرع ".=

فلو استأجر مثلَ هذه الأرض للزراعة، ولم يتعرض [لنفي] (1) الماء والشِّرب. فالذي يظهر من كلام الشافعي، وهو اختيار القفال أن الإجارة فاسدة؛ فإنه إذا لم يكن للأرض شربٌ معلوم، فبناء الزراعة على وقوع القطر غررٌ، والغرر مجتنبٌ في العقود. وقال القاضي: ينبغي أن يصح اكتراء مثل هذه الأرض للزراعة؛ بناءً على الغالب، واحتَجَّ عليه بأن الأرض إذا كان لها شِرب معلوم، فاستئجارها للزراعة جائز، ولسنا نقطع ببقاء ذلك الشِّرب؛ فإن انقطاعَه ممكنٌ، ولكن حُمل تصحيح الإجارة للزراعة على ظاهر الحال، ووقوع هذا الغالب في المطر بمثابة وقوعه في الشرب من النهر العِدِّ (2)، والعين الفوارة بالماء. 5455 - فالقاضي يقول إذاً: يصح الاستئجار للزراعة مطلقاًً من غير تعرض لذكر الماء؛ بناءً على الغالب، والقفال يقول: لا يصح الاستئجار للزراعة بناء على المطر، وما في معناه، ثم في قول القفال تردُّدٌ نُنبِّه عليه. 5456 - أما إذا لم يجر لنفي الماء ذكر، فالاستئجار للزراعة باطلٌ عنده، وإن ذكر المتعاقدان أن الأرض لا ماء لها على علمٍ، ثم جرى الاستئجار على الزراعة، فالقفال [مُردِّدٌ] (3) قولَه في ذلك، وهو لعمري محتمل، تفريعاً على اختياره. فتحصَّل من مجموع ما ذكرناه: أن استئجار مثل الأرض التي نحن فيها للزراعة جائز عند القاضي من غير تعرض لنفي الماء، وهو ممتنع عند القفال، إذا لم يجر ذكرُ نفي الماء العِدّ، وإن جرى ذكرُ نفي الماء، ففي جواب القفال تردّدٌ. 5457 - ومما يلتحق (4) بهذه الأقسام أن الأراضي التي يسقيها فيضُ النيل إذا امتد،

_ =وأما (د 1) فعبارتها: "إمكان زراعتها، ووفاء المطر، أو سبيل يتفق تنمية فلو استأجر .... " ولعل كلمة (تنمية الزرع) مقحمة، وبحذفها يستقيم الكلام. (1) في الأصل: نفي. (2) العِدّ: الجاري الذي لا انقطاع له. (المصباح). (3) في الأصل: مردود. (4) (د 1): ومما يليق.

فصفتها (1) أولاً: أن النيل إذا زاد أوانَ المدّ، انبسط الماء على الأراضي، [و] (2) بقي عليها، ثم ينحسر الماء إذا نقص النيل، و [يفيض] (3) من ماء النيل على الأراضي ما يفيض، ثم إذا انحسر الماء، زُرعت الأراضي، ووقع الاكتفاء بتلك الندوة الواحدة، ولو [مُطر] (4) أهلُ مصر، فسدت زروعهم. فهذا معتمد الزراعة في تلك الديار. والنيل كثيراً ما يخون، فلا يفيض، إذا لم تنته زيادتُه إلى المكان الذي يعرفونه. فاكتراء هذه الأراضي كيف سبيلها؟ قال الأئمة: إن اكتراها المكتري للزراعة بعد جريان الفَيض والانحسار، والاكتفاء بما جرى، فالعقد صحيح؛ فإن الزراعة ممكنةٌ، ولا حاجة إلى الماء، والماء ليس يُعنَى لعينه، وإنما يعنى لتنمية الزروع، فإذا كانت الأرض مستقلة بندوتها، صح استئجارها للزروع. ولو استأجر أرضاً من تلك الأراضي قبل الفيض على توقّع مدّ النيل، فهذا ملتحق بالقسم الثاني: وهو إذا كان البناء على رجاء المطر، وليس وقوعه غالباً. والسبب فيه أن النيل خوّان، ولا يمكن حملُ الأمر فيه على غلبة الظن. وإذا أحلنا هذا على القسم الثاني، لم يخفَ تفصيل المذهب فيه. ولو كان بالقرب من ضِيفة (5) النيل أرضٌ يغلب على الظن فيضُ النيل عليها، وإن نقص المدّ. وإنما تتقابل الظنون في الأراضي البعيدة، فالقول في الأراضي القريبة، والظنُّ غالبٌ يلتحق بالقسم الثالث. وقد فصلنا المذهب فيه.

_ (1) (د 1): فيفيضها. (2) في الأصل: أو. (3) في الأصل: ويغيض. (4) في الأصل: نظر. ولعلها حرفت عن (قُطر) أي أصابهم القطر. (5) ضيفة: الضِّيف (بكسر الضاد المعجمة): الجانب والناحية، يقال: ضِيفُ الوادي، وضيف الجبل. (المعجم). وفي (د 1): ضفة.

5458 - وأما الأراضي التي تبنى زراعتها على مدّ (1) البصرة، فيجوز استئجارها للزراعة مطلقاً باتفاق الأصحاب؛ فإن مدّ البصرة لا يختلف، وهو أثبت من كل ماءٍ عِدٍّ، وشِربٍ معلوم. ومن أحاط بالأصول التي ذكرناها، لم يخف عليه تفريعُ (2) المسائل بعدها. 5459 - ومما يتصل بهذا المنتهى كلامٌ للشافعي، ذكره في الأم، فقال: إذا كانت الأرض بقرب نهرٍ، لو ازداد ماؤه، امتنعت زراعتها، ولو انتقص الماء، أمكنت الزراعة، فإذا كان الماء مزداداً، فاستأجرها مستأجرٌ للزراعة، بناء على انحسار الماء، وكان الانحسار موهوماً، لا يغلب فيه ظنٌّ، فالإجارة فاسدةٌ؛ فإن المانع قائم في وقت العقد، وزوالُه موهومٌ، فكأن الاستئجار والحالة هذه بمثابة ابتياع العبد الآبق. 5460 - ولو كان الماء ناقصاً، وكان الانتفاع ممكناً، فجرت الإجارةُ والأرض حالة العقد على هذه الصفة، ولكن كان يُتوقع ازدياد الماء وامتناع الزراعة، فالإجارة تصح، ويعتمد (3) صحتها انتفاءُ المانع في الحال، وتوهمُ طريان الزيادة المانعة لا حكم له، ولا عبرةَ (4) بالموهومات، إذا صادف العقدُ حالةَ إنشائه الشرطَ المرعيَّ. وهذا ننزله منزلة ما لو اشترى الرجل عبداً، وكان إباقه ممكناً بعد العقد، فإمكان ذلك لا يمنع صحةَ العقد. ثم إن طرأ لم يخف حكم طارئه. وهذا الذي ذكره الشافعي في الطرفين متجهٌ بالغٌ متفَق عليه.

_ (1) المدّ: السيل، وكثرة الماء، وارتفاع الماء، ضد الجزر. (المعجم). والمراد هنا فيضان النهر بالبصرة. (2) عبارة (د 1): ومن الأصول التي ذكرناها ثمّ عليه تفريع المسائل. (3) كذا في النسختين. ولعل الأولى: ومعتمد صحتها. (4) (د 1): وغيره.

5461 - ثم قال الأصحاب: زيادة الماء إذا كانت تمنع، أو تقطع، بمثابة انقطاع الماء العِدّ في أثناء مدّة الإجارة. والأمر كما ذكروه؛ فإن الانقطاع إنما يؤثر طريانه لامتناع تنمية الزرع، وإذا تحقق المانع بالزيادة، كانت في معنى الانقطاع. وكل ما ذكرناه من تفصيل الكلام وتنويع الأقسام في الأرض التي ليس لها شِربٌ من ماءٍ عِدّ. فإن أجرينا ذكرَ ماءٍ عدٍّ كمدّ البصرة، فذاك وقع طرفاً من الكلام. 5462 - ونحن الآن نذكر غرضَنا في الأرض التي لها شِربٌ من ماءٍ عِدّ (1) ونُنجز ما وعدنا في ذلك، فنقول: إذا أكرى مالك الأرض الأرضَ مع شِربها، ووقع التصريح بذلك ذكراً، فالإجارة صحيحة، لا اختلاف في صحتها. ولو اكتراها المكتري للزراعة وحدها، ونفى (2) استحقاقَ سقيها من شِربها العِدّ المعلوم نُظر: فإن كان يهون على المكتري سقيُها من أوديةٍ وأنهارٍ ومياهٍ عِدّة، فيصح اكتراؤها للزراعة (3 على هذا الوجه؛ فإن الزراعة ممكنة، ولا امتناع 3) فيما ذكرناه، لا عرفاً ولا شرعاً. ولو تشارطا [نَفْيَ] (4) استحقاق السقي من الشرب (5) العِدّ، وكان المكتري لا يجد ماءً عِدّاً، وإنما يعوّل على أملٍ ورجاءٍ في المطر، أو سيلٍ إن اتفق، فهذا يلتحق باستئجار أرضٍ ليس لها ماءٌ عِدّ، ثم الكلام ينقسم إلى الأقسام الثلاثة، فلا فرق بين أن لا يكون للأرض ماء عدٌّ، وبين أن يُشترط في العقد نفيُ استحقاقه. 5463 - ولو استأجر الأرضَ ذاتَ الشرب العِدّ مطلقاً، ولم يقع التعرض لنفي السقي من الشِّرب، ولا لإثباته، لم يخل العرف في ذلك المكان، فإن كان يقتضي اقتضاءً

_ (1) هذا هو القسم الثاني، قسيم القسم الأول، الذي جعله ثلاثة أقسام، وانتهى منها. (2) (د 1): وبقي استحقاق. (3) ما بين القوسين سقط من (د 1). (4) (د 1): وبقي، وفي الأصل: ففي. والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق. (5) (د 1): الماء.

غالباًً [مطرداً] (1) السقيَ من الشِّرب، حُمل العقدُ المطلقُ عليه، بلا خلاف، وجعل كما لو وقع التصريح بالسقي من الشِّرب. وإن وقع ترديدٌ في حبر الورَّاق، وخَيْط الخياط، وإرضاع المستأجَرة للحضانة، فلا ترديد فيما نحن فيه؛ فإن ذلك من الأمور الكليّة العامة التي يتبع المسلمون العرفَ فيها، وحق مثل (2) هذا الأصل التمهيد (3)، ثم يستثنى (4) منه الجزئيات في آحاد المسائل. هذا إذا غلب العرف بالسقي من الشِّرب، واستمر؛ فإن الإجارة على الأرض لا تُطلب إلا مع السقي من الشِّرب العِدّ. 5464 - فأما إذا لم يطّرد العرف في ذلك على وجهٍ، فكانت الأرض تكرى وحدها، والماء يكرى مجراه وحده، وربما يُجمع بينهما، فإذا كانت الحالة هذه، فاستأجر [الرجل] (5) الأرض للزراعة مطلقاً، ولم يتعرض للماء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الإجارة المطلقة بمثابة الإجارة المقيّدة بشرط الماء، فأما الزراعة إذا ذكرت، أشعر ذكرها بالاستمداد من الماء، وعلى المكري توفيةُ المنفعة المذكورة في الإجارة، ومن الوفاء بتوفية منفعة الزراعة إمدادُ الزرع بالماء. هذا وجهٌ ظاهر، وإليه صَغْو (6) جماهير الأصحاب. والوجه الثاني - أن الإجارة لا تحمل على استحقاق الماء، وهذا هو القياس؛ فإن اللفظ ليس يشعر باقتضاء الماء، والعرف ليس يحكم به أيضاًًً، وإذا عُدم اقتضاء اللفظ والعرف، فإثبات الاستحقاق لا معنى له، وليس لما ذكره ناصر الوجه الأول أصلٌ؛ فإن الزراعة ليس من ضرورتها ما ذكره ناصر ذلك الوجه، بدليل أن التصريح بنفي

_ (1) في النسختين: مطردَ السقي. (2) ساقطة من (د 1). (3) (د 1): أن يمهد. (4) (د 1): يستقى. (5) سقطت من الأصل. (6) (د 1): صغُوا. والصغو الميل.

السقي من الشِّرب العِدّ ينتظم في الكلام، ولا يعدّ ذكر الزراعة مع نفي استحقاق الشِّرب كلاماً متناقضاً. التفريع على الوجهين: 5465 - إن فرعنا على الأول، لم يخف حكمُه. وإن فرعنا على الوجه الثاني، فعليه وجهان: أحدهما - أن الإجارة تفسد، لتردد العرف. وهذا وجهٌ رددناه في مسائلَ، وليس بمرضيٍّ عندنا. والوجه الثاني - أن صحة الإجارة وفسادَها يُؤخد من إمكان سقي تلك الأرض من جهةٍ أخرى، وقد فصلنا هذا. والقول الوجيز في ذلك: أنا نجعل إطلاق الاستئجار للزراعة، حيث انتهينا إليه، بمثابة التصريح بنفي استحقاق السقي. هذا تمام البيان (1) في هذه الأقسام. 5466 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الاستئجار للزراعة. فأما إذا قيدت الإجارة بغرضٍ من الأغراض، سوى الزراعة، لم يخف الحكم بصحة الإجارة. ونحن وإن لم نغادر من البيان شيئاًً، فإنا نرى اختتام هذا الفصل بالتنبيه على شيء. 5467 - وهو أن الأرض التي لا ماء لها، إذا ذكر أنه لا ماء لها، فلا حاجة إلى تعيين جهةٍ سوى جهة الزراعة، ولكن يكفي نفيُ الماء. ثم الإجارة تُحمل على كل منفعةٍ ممكنة، ومنها الزرع إن أراده المستأجر، بناء على الرجاء. ولو جرى الاكتراء مطلقاًً، حيث لا ماء، فإن لم يكن رجاء للماء، صح، وحمل على الممكن من الانتفاع، وإن كان رجاء الماء ثابتاً، ولم يجر ذكر نفي الماء، فالأصح فسادُ الإجارة، وفيه وجه آخر ذكره القاضي: أن الإجارة تصح. فهذه قواعد يجب التنبه لها في مجاري الكلام.

_ (1) (د 1): الكلام.

5468 - وإن كان للأرض شربٌ، فيجب التنبه لأمر العرف في اطراده وموقع اختلافه، إذا كانت الإجارة مطلقة، لا ذكر للماء فيها. والله أعلم. فصل قال: " وإن تكاراها، والماء قائم عليها، وقد ينحسر لا محالة في وقتٍ يمكن فيه الزرع، فالكراء جائز ... إلى آخره " (1). 5469 - صورة المسألة: أرض علاها الماء وعلمنا انحساره عنها بالنضوب (2)، أو بالتحدّر في وقت الزراعة. قال الشافعي: إذا كانت الأرض كذلك، فاستؤجرت، والماء قائم، فالاستئجار صحيح. 5470 - وتفصيل المذهب فيها: أن الماء الواقف إن لم يمنع من رؤية الأرض لصفائه، أو كانت سبقت فيها الرؤية على وجهٍ يُكتفى بها، وكان ذلك الماء الواقف لا يمنع من الزراعة، وإن بقي واقفاً. وهذا كاستئجار الأرض لزراعة الأرز؛ فإن كان كذلك، فالإجارة صحيحة؛ إذ لا مانع. 5471 - ولو كانت الرؤية ثابتةً، أو سبقت، ولكن كانت الزراعة ممتنعة في الوقت، فلا يخلو: إما أن يكون الماء بحيث يمنع الزراعة في الحال، وفي الوقت الذي نرقب فيه الزراعة، أو كانت الزراعة تمتنع في الحال، [ولكن الماء ينحسر لا محالةَ، في وقت الحاجة إلى الزراعة. فإن منع الماءُ الزراعة في الحال] (3) والمآل، لم تنعقد الإجارة (4 لا شك فيه 4)؛ فإن المقصود ممتنعٌ.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 95. (2) في هامش الأصل: " بالنضب نسخة أخرى ". (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (4) ما بين القوسين سقط من (د 1).

وإن كان الماء الواقف مانعاً من الزراعة في الوقت، ولكنه كان [ينحسر] (1) لا محالة في وقت الحاجة إلى الزراعة، فالذي نص عليه الشافعي، وقطع به معظمُ الأصحاب أن الإجارة صحيحة، والماء القائم على الأرض ليس مانعاً من الانتفاع في وقت الحاجة، وهو فيما قيل: ينفع، ويُعفِّن (2) ما في الأرض من عروق العُشب. 5472 - وذكر العراقيون في المسألة وجهاً بعيداً: أن الزراعة إذا كانت ممتنعةً بالماء الواقف، [فالإجارة] (3) غيرُ صحيحة. وهذا نقلوه وزيّفوه، والأمر على ما ذكروه. 5473 - والفصل على ظهوره ملتبسٌ لا بدّ من كشفه (4)، فنقول: لم يختلف الأصحاب في صحة استئجار الأرض للزراعة، وإن كانت الإجارة لا تستعقب إمكانها في الحال، وإنما تنشأ الزراعة بعد تاريخ العقد، وليس ذلك من استئخار الانتفاع عن العقد، حتى يقال: الإجارة إذا تقدّمت على وقت الزراعة، وإمكانُ الانتفاع متأخرٌ، فيكون كاستئجار الدار (5) الشهرَ القابل. والفرق بين ما جوّزناه، وبين ما منعناه، أن الإجارة إذا صحت في الأرض، [ثبتت] (6) يد المستأجر عليها، واستمر احتكامه فيها بالإمساك، والإجارة إن [تنشأ، فتأخر] (7) الزراعة غيرُ ضائر، والعقد إذا أضيف إلى زمانٍ في الاستقبال، كان في حكم المعلّق به، ولا يثبت للمستأجر استحقاقٌ ناجزٌ. فإذا بأن هذا، فإنا نقول:

_ (1) سقطت من الأصل. (2) يعفن ما في الأرض من عروق العشب: أي ما تحت السطح من بقايا جذور الزرع السابق، بل وما تناثر على السطح. وتعفّنه يحوله إلى سماد نافع. كما يعرف ذلك أهل هذا الشأن. (3) ساقطة من الأصل. (4) (د 1): لا كشف فيه. (5) (د 1): الدابة. (6) في الأصل، كما في (د 1): وثبتت. وحذف الواو تصرّف منا، لاستقامة العبارة. (7) في الأصل: شاء وتأخر.

5474 - إذا كان الماء واقفاً في زمانٍ لا يمكن إنشاء الزراعة فيه، ولو كانت الأرض ضاحيةً عريّةً، لأُخِّرت زراعتُها، وسينحسر الماء قطعاً في أول وقت الزراعة، أو قبله، وزالت الموانع التي أشرنا إليها، كامتناع الرؤية، فلا معنى لذكر الخلاف في هذه الصورة. 5475 - فأما إذا كان الماء واقفاً في أول وقت الزراعة، ولولاه، لأمكن افتتاحُها، وكان (1) لا يمتنع لمكان الماء الوقتُ (2) المطلوب في الزراعة (3)؛ فإنّ تأخُّرَ الزراعة بأيامٍ معدودة، لا أثر له عند الدهاقنة، ويقومُ انتفاع الأرض بالماء مقام البدار إلى الزراعة. فهذا موقع النظر. والظاهر تصحيح الإجارة، وقد استشهد الأصحاب في تصحيحها بما لو اشترى الرجل داراً مشحونةً بأمتعة البائع، فالبيع صحيح، والبائع مشتغل بتفريغ الدار على الاعتياد في مثله. 5476 - والذي ذكره العراقيون قد يتجه على بُعدٍ في هذا المقام؛ فإن الزراعة ممتنعةٌ (4) لاجل الماء ووقوده. وكان شيخي يقول: لو أجر داراً مشحونة بالأمتعة، كان كمسألة الماء؛ فإن الانتفاعَ متأخر وليس (5) كابتياع الدار المشحونة؛ فإن المنفعة ليست معقوداً عليها في البيع، وقد يجوز بيع الدار المكراة في قولٍ، ولا شك في امتناع إكراء الدار المكراة، وإذا كان في الماء الواقف الحائر خلاف، فالدار المشحونة بالأمتعة أولى بالخلاف؛ إذ الماء من مصلحة الزراعة، وإجراؤه في الأرض فاتحةُ العمل.

_ (1) (د 1): لكن. (2) (د 1): الموقت. (3) أي أن وجود الماء، وإن لم يمكن معه بدء الزراعة (الآن) إلا أنه لا يؤخرها عن وقتها، ويضيّع إمكانها. (4) (د 1): متبعة. (5) سقطت من: (د 1).

فهذا ما لابد من التنبه له. 5477 - وإذا جوّزنا الإجارة مع الماء، ولكنه كان كَدِراً يحول بين الناظر وبين درك الأرض، ولم تتقدّم رؤية قبل وقوف الماء يقع الاكتفاء بها، فالمذهب تخريج المسألة على قولي بيع الغائب. ومن أصحابنا من صحح الإجارة في هذه الصورة، وإن منع استئجار الغائب، وصار إلى أن الماء من مصلحة الأرض واستتارُ الأرض به استتارُ اللبوب بالقشور. وهذا ضعيف، لا أصل له؛ فإن ما استشهد به هذا المجيزُ، خِلقةٌ يتوقف عليها صلاحُ الادخار، والماء عارض يعرض، فإذا استتر الأرض به كانت غائبة عن نظر المستأجر، فلا حاصل إذاً لهذا. وما ذكرناه فيه إذا استأجر الأرضَ والماء واقف على ما فصلناه. 5478 - وأما إذا استأجر والأرضُ عارية ضاحية، وانعقدت الإجارة، ثم تغشاها ماء، فقد أكثر الأصحاب في التفاصيل، والتقاسيم، وهذا فن، لا أوثره في هذا المجموع. وقد تولّع المصنفون بتطويل الكلام، بالإعادات، ونحن إذا كنا نُضطر إلى مجاوزة الحد في كشف المشكلات، فينبغي أن نؤثر قبضَ الكلام في المعادات، ونقتصرَ على ذكر المعاقد، والمرامز، ونقول: إذا كان الماء بحيث لا يُرقب انحداره، وانحساره، حتى يفوت وقت الزراعة، فهذا ينزل منزلةَ تلف المعقود عليه، فإن كان في جميع الأرض، فهو كانهدام جميع الدار، إذا جعلنا الانهدام من أسباب الانفساخ، وإن كان ما جرى في بعض الأرض، فهو كالتلف في البعض، ويتشعب منه قواعد التفريق في دوام العقد. 5479 - وإن كان الماء [بحيث] (1) يُتوقع انحساره عن الأرض [قبل انقضاء مدة الزراعة] (2)، نظر: فإن تحققنا ذلك من غير تردد، فلا أثر لطريان هذا. ومن ذكر خلافاً في الابتداء، لم يجعل هذا مؤثراً في الدوام.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

وإن كنا نظن الانحسار، ولا نقطع به، فهذا بمثابة ما لو غصب غاصبٌ الأرضَ قبل أوان الزراعة، فإن زال الغصب، ولم تفت الزراعة، فلا أثر لطريانه، وإن تمادى الغصب والاستيلاء إلى فوات الزراعة، انفسخت الإجارة، والقول في الماء على هذا النحو. وإن وُجد ما ذكرناه في البعض من الأرض، جرت فصول (1) التفريق. 5480 - وما استشهدنا به من الغصب من أصول الكتاب، وسيأتي فيه فصل (2) مقصود، فلذلك لم نُطنب في بيان حُكمه. وهذا القدر مقنع. فصل قال: " وإن مرّ بالأرض ماء، فأفسد الزرعَ ... إلى آخره " (3). 5481 - إذا زرع المكتري، وأنبتت الأرض، فركبها ماءٌ، وأفسد الزرعَ، وذلك بعد إمكان ابتداء الزراعة، فالذي جرى في حكم جائحةٍ. ولو احترق زرع المستأجر بالصواعق، أو حطّمه البَرَدُ، أو استأصله الجرادُ، فلا أثر لما يجري في العقد، والإجارة قائمة، والأجرة ثابتة بكمالها؛ فإن هذه الجوائح لم تغير المعقود عليه في الإجارة، وإنما أفسدت ملكَ المستأجِر. 5482 - ولو أفسد السيل الأرض بعد فوات (4) الزراعة، فهذا قد يتردد الناظر فيه. والرأي عندنا أنه لا يؤثر في الإجارة؛ فإن الأرض لو بقيت على صفتها، وقد هلك الزرع، لما كان للمستأجر فيها منتفع. وهذا الذي ذكرناه مصوّرٌ فيه إذا فسد الزرع بالماء، ثم فسدت الأرض. وليست المسألة خاليةً عن احتمال؛ من جهة أن بقاء الأرض على صفتها على الجملة مطلوب

_ (1) (د 1): أصول. (2) (د 1): فصول مقصودة. (3) ر. المختصر: 3/ 97. (4) أي بعد هلاكها بالجوائح، كما صوره.

في تنمية الزرع، وقد حالت الأرض عن صفة التنمية، وإن هلك الزرع. 5483 - ولو فسدت الأرض أولاً، وفسد الزرع بفسادها، فهذا يؤثر في الانفساخ وسقوط بعض الأجرة (1). 5484 - وينقدح فيه وجه آخر، وهو أن فساد الأرض آخراً لو جُعل سبباً لانفساخ أصل الإجارة فيما مضى من الزمان، لكان ظاهراً؛ فإن فسادها أحبط أصلَ الانتفاع، ولم يبق إلا نَصَبُ (2) الزرَّاع. وهذا بديع في التصوير؛ فإن المنافع في الزمان الماضي في حكم المستوفاة، ولكن الأوجه التوقّف فيها إلى بيان الأمر، وسلامة الأرض عن إحباط ما مضى وبقي. فهذا محالّ النظر والتردد؛ فَلْيتثبَّت عندها الفقيه. فصل قال: " ولو اكتراها ليزرعها، قمحاً ... إلى آخره " (3). 5485 - إذا أكرى الرجلُ أرضاً للزراعة، وسمى نوعاً من الزرع، فلا يتعين ذلك النوع، بل للمستأجر أن يزرع ما يساوي المسمّى في الضرر، أو يتقاصر عنه؛ فإنه إذا استحق منفعةَ الأرض على حدّ، فالزرع استيفاءٌ لتلك المنفعة، ولا يتعين على مستحِق المنفعة جهةُ استيفائها، إذا كان لا يتعدّى المستحقَّ، ولهذا قلنا؛ من استأجر دابة ليركبها، فله أن يُركب الدابة غيرَه، إذا كان على حدّ المستأجر في الضخامة والعبالة، أو كان أقلَّ منه؛ ولهذا جوّزنا للمستأجر أن يُكري المستأجَر. وكذا لو استأجر أرضاً ليزرعها قمحاً، فزرعها شعيراً، وضررُ الشعير -فيما يقال- أقلُّ. 5486 - ولو عين القمح، ثم أراد أن يزرعها ذرةً، مُنع؛ لأن ضرر الذرة يزيد على ضرر القمح زيادةً ظاهرةً.

_ (1) (د 1): الأرض. (2) نصب: أي تعب الزراع، وضاع ما سبق من المنافع التي حصلوها. (3) ر. المختصر: 3/ 97.

5487 - ولو عين القمحَ وشرَط أن لا يزرع غيرَ القمح، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن الشرط يُفسد الإجارة، وهذا هو الظاهر؛ لأنه يتضمن احتكاماً على مستحِق المنفعة، وحَجْراً في التصرف، فهو كما لو قال: أجرتك هذه الأرض على أن لا تؤاجرها، وهذا لا شك مفسد، كما لو قال البائع بعتك عبدي هذا، على أن لا تبيعه. والوجه الثاني - أن الشرط يلغو، والعقد يصح والمستأجر على خِيَرته، كما ذكرناه في الإجارة المطلقة. ووجه هذا: أن هذا التعيين ليس يتعلق بغرضٍ صحيح في الجانبين، اشتراطاً وقبولاً، وما كان كذلك، فهو حقيق بأن يلغى، وليس كذلك المنعُ من الإجارة؛ فإنه حجرٌ في الملك يتعلق بغرضٍ؛ إذ المكري ربما لا يثق بيد غير المستأجِر، ولا يؤثر أن تتداول الأيدي ملكَه، وهذا الذي يهواه على خلاف مقصود العقد ومقتضاه، فكان الشرط فاسداً مفسداً. 5488 - وذكر القاضي وجهاً ثالثأ لا يليق بمنصبه، وهو أن الشرط يصح (1)، ويتعيّن ما عيّن، وزعم أنه تلقّى هذا مما إذا نوى المتوضىء بوضوئه استباحةَ صلاةٍ بعينها، دون غيرها، فإن تيك الصلاة تتعين عند بعض أصحابنا. وهذا ظاهر السقوط؛ فإن ذلك الوجه أولاً مما لا يليق بالفقيه (2) التفريعُ عليه، ولا ينبغي أن يزيد من له قدرٌ على تزييف ذلك الوجه، ثم العبادات والنيات بعيدةٌ عن المعاملات، وما فيها من الشرط الفاسد والصحيح. 5489 - ومقصود الفصل أن المستأجر إذا عيّن القمح، ثم زرع الذرة، فهو أولاً ممنوع عن ابتداء الزرع لما قدّمناه، فإن زرع قلع المالكُ زرعه، ولم يكن له أن يقول: اتركه إلى الحصاد، أغرَم لك ما يوجبه عليّ من مزيد، وكذلك لو قال: ليس يتبين ضرره في ابتداء النبات، فاتركه حتى ينتهي إلى توقّع الإضرار؛ فإن هذا أمرٌ لا ينضبط، فالزرع مقلوعٌ، ثم المالك يكلّفه القلعَ، وإذا أثر قلعُه في احتفار

_ (1) (د 1): لا يصح. (2) (د 1): الفقه.

الأرض، وإظهار حفائرَ فيها، لزمه تسويتُها، كما يلزم الغاصب. فإن غَفَل المالكُ عن تعدّيه، حتى حصدَ الزرعَ المضرَّ، قال الشافعي: لصاحب الأرض الخيارُ، فإن شاء ألزمه الأجرة المسماةَ، وألزمه أرشَ نقص الأرض بسبب الذّرة، فينظر إلى ما بين تنقيص القمح وتنقيص الذرة، ويُلزمه مع الأجرة المسماة أرشَ ما زاد من النقص بسبب الذرة. وإن شاء أن لا يطالبه بالأجرة المسماة أصلاً، ويطالبه بأجر مثل الأرض لو زرعت ذرة، فله ذلك. 5490 - ولما نقل المزني هذا قال: الأول أولى بقوله، فاحتمل كلامُ المزني أنه فهم من كلام الشافعي قولين، ثم اختار الأول، حتى كأنه اعتقد أن ما ذكره الشافعيُّ ليس إثباتَ خِيَرةٍ بين خصلتين؛ فإن إثبات الخيرة مذهبٌ واحد، ومن ضرورة الخِيرة تعلّقها بأمرين، فرأى المزني أن هذا من الشافعي ترديدُ القول بين الحُكْمين على ما سنوضحهما. وقد اختلف أئمتنا في المسألة، فنذكر [ما ذكروه] (1) ثم نتصرف في لفظ المزني. 5491 - فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن صاحب الأرض ليس له إلا الأجرة المسماة، والرجوعُ بالنقص المتخصص بالذرة. والقول الثاني - أنه ليس له إلا أجرة المثل. توجيه القولين: من قال: ليس له إلا أجرةُ المثل، احتج بأن المستأجر تركَ الانتفاعَ الذي يستحقه جملةً، وشغل الأرضَ بنوع آخر، فانفسخت الإجارة، وصار المستأجِر في حكم من يغصب أرضاً، ويزرعها ذرة. ومن قال بالقول الثاني (2)، احتج بأنه لم يحِد (3) عن قبيل الزراعة وجنسها، ولكنه اعتدى، وزاد، فكأنه استوفى المنفعة المستحقةَ، وتعدّى محلّ الاستحقاق، ففي

_ (1) في الأصل: ما ذكرتموه. (2) الثاني هنا: هو الأول ذكراً، ففي الكلام لفٌّ ونشرٌ. (3) (د 1): يمل.

الذرة ضررُ القمح، مع مزيدٍ، والدليل على هذا أن ما ذكره ناصر القول الأول من ادعاء الانفساخ لا أصل له، وقد انقضت المدة تحت يد المستأجر، فكان يجب لو صح ذلك المسلك أن يقال: إذا فاتت المنفعةُ تحت يده في كمال المدة، وجب الأجرةُ المسماة، ويجب أجرة المثل لزراعة الذرة، وهذا سرفٌ في الإلزام. ولناصر القول الثاني أن يقول: المستأجر بزراعة الذرة سدَّ جهةَ الانتفاع بزراعة القمح، والمستأجر لو أتلف العين المستأجرة، ترتب على إتلافه انفساخُ الإجارة، كما لو تلفت بنفسها، فلا معنى لتخيل (1) الجمع بين الأجرة المسماة، وبين أجرة المثل. 5492 - وهذه الطريقة في القولين تخالف نص الشافعي، فإنه صرح بتخيّر المالك، وهذا القائل [بإجراء] (2) القولين رفَعَ حكم الخيرة من البَيْن. 5493 - ومن أصحابنا من سلك طريقةً أخرى، فقال: في المسألة قولان: أحدهما - أن صاحب الأرض مخيرٌ، كما نص عليه الشافعي، فإن شاء ألزم المستأجِرَ الأجرةَ المسماةَ، وأرشَ النقص الزائد، كما ذكرناه. والقول الثاني - أنه يتعين عليه أخذُ أجرة المثل. 5494 - وذكر بعضُ أصحابنا القولين على صيغة أخرى، فقال أحدهم: إنه يتخير كما ذكرناه. والثاني - أنه لا يتخير، وليس له إلا المسمَّى وأرشُ النقص. وكان شيخي يؤثر هذه الطريقة، ويراها أصحَّ من التي قبلها. 5495 - التوجيه: من أثبت الخيرة وهو ظاهر النص، احتج بأن المستأجر من وجهٍ لم يحد عن الزرع، ومن وجهٍ لم يأت بالجنس المستحَق، والحكم بالانفساخ بعيدٌ، والمسألة مترددةٌ بين القواعد، فإذا لم ينقدح الانفساخ وقوعاً، ولم يتجه تعيّن الأجرة المسماة لحيد المستأجر عن النوع المستحق، فلا (3) وجه إلا أن يخيَّرَ المالك.

_ (1) سقطت من (د 1). (2) في الأصل: في إجراء. (3) (د 1): فالأوجه.

ووجه من منع التخيير أن الإجارة قد انتهت، [فَعَطْفُ] (1) الفسخ عليها محال، فيجب أن يقع الحكمُ مجزوماً. ثم من جزم القولَ بأجرة المثل، فوجهه ما تقدم. ومن رأى الجزم بالمسمّى، وأرْشَ النقص، فقد سبق في الكلام ما يوجه ذلك أيضاً. 5496 - ومن أصحابنا من أبى طريقةَ القولين، وقال: لا مذهب للشافعي إلا التخيُّر بين المسمَّى وأرشِ النقص، أو أجر المثل. وهذا بيِّنٌ في لفظه. ومن استنبط من كلام المزني القولين، فهو غير منصفٍ؛ فإنّ ترك نص الشافعي، وهو صريح في الخِيرة، لا معنى له بخيالٍ في كلامِ المزني. على أنه يمكن حملُ كلامه، إذ قال: الأوّل أولى: أنه لا يؤثر التخير مذهباً لنفسه، بل رأى ما ذكره الشافعي إحدى الخيرتين المذهبَ المجزوم، فإذا (2) احتمل كلام المزني هذا، فلا معنى لمخالفة النص، وليس للشافعي نص إلا التخيير، فمذهبه التخير إذاً. هذا بيان مسالك الأصحاب في المسألة. 5497 - ولو أردنا أن نجمع ما ذكروه وننظمه أقوالاً، انتظم منه ثلاثةُ أقوال: أحدها - أنه يتعين المسمى وأرشُ النقص. والثاني - يتعين أجر المثل. والثالث - أنه يتخير، كما سبق معنى التخيّر. 5498 - ومما يتعيّن الإحاطة به في ضبط المذهب، في هذا الأصل: أن من استأجر دابةً ليحملها مائة منٍّ من الحنطة، فحمّلها مائةً وخمسين، فالأجرة المسمّاة تثبت قولاً واحداً، ويجب في مقابلة الزيادة أجرةُ المثل، وليس هذا [من صور] (3) القولين؛ فإنه استوفى ما استحق، وزاد عليه، فثبت لاستيفائه الحكمُ اللائق، وثبت لما زاد الحكم الذي تقتضيه الزيادة.

_ (1) في الأصل: بعطف. (2) (د 1): إذا. (3) في الأصل: في صورة القولين.

وإذا ذكر زراعةَ البرّ، وعدل [منها] (1) إلى زراعة الذرة، فهذا ميلٌ من نوعٍ إلى نوعٍ من غير خروج عن قبيل الزراعة، فترددت الأقوال لذلك، ونظير هذه المسألة ما لو استأجر داراً ليسكنها، فأسكنها الحدّادين، والقصارين، حتى اشتغلوا بأعمالهم، فتزلزلت السقوف لهَا، وبدت الشقوق في الجدرات (2) وغيرها، فهذا يخرّج على الخلاف المذكور في إبدال زراعة الحنطة بزراعة الذرة. 5499 - ومما يلتحق بذلك أنه لو اكترى دابة ليحمّلها مائة منٍّ من الحنطة، فحمّلها مائة منٍّ من الحديد، فهذا عدوان [منه] (3) وتعد من النوع المستحَق إلى نوعٍ آخر، فيكون هذا على الأقوال التي ذكرناها. وقد لا يظهر من [تحميل] (4) الدابة الحديدَ نقصٌ، فترجع (5) [الخيرةُ] (6) على قول التخيّر إلى الأجرة المسماة، وإلى أجرة المثل. وإن كانت الأجرة المسماة في تحميل الحنطة كأجرة مثل حمل الحديد، فلا يظهر للتخيّر معنى. والذي يظهر في ذلك أنا إذا عيّنا المصيرَ إلى أجرة المثل، فنحكم بأن الإجارةَ قد انفسخت، ويظهر هذا المسلك، وإن كان لا يظهر تفاوتٌ. وكذلك إذا عيّنا الأجرة المسماة، فيكون هذا مسلكاً، ومقتضاه أن الإجارة غيرُ منفسخة. ويجوز أن يقال: على قول التخيّر: إن أراد الفسخ، فيرجع إلى أجرة المثل، وإن كانت مثلَ المسمى، والظاهر أن التخيّر لا معنى له؛ فإن الخيار في الفسخ إذا كان مربوطاً (7) [بغرضٍ] (8) لا يثبت حيث لا يظهر الغرض.

_ (1) في الأصل: فيها. (2) كذا في النسختين. ولعلها: الجدران. فلم أر هذا الجمع (الجدرات) منصوصاً. (3) في الأصل: فيه. (4) في الأصل: تحمل. (5) (د 1): فيراجع. (6) غير مقروءة في الأصل. (7) (د 1): مضبوطاً. (8) في الأصل: لغرض.

وفي هذا المقام احتمال، فليتأمله الناظر، كما نبهنا عليه. 5500 - ورأى بعض أصحابنا أن يشبه القولين في بعض الطرق بأصلٍ قدمناه في الغصوب، وهو أن الغاصب إذا تصرف في الدراهم المغصوبة، وظهر الربح، ففي القول المنقاس نقول: المالك يتبع دراهمَه لا غير، وفي القول الثاني يتخيّر بين أن يأخد منه الدراهمَ، وبين أن يُجيز العقودَ لمكان الربح. وهذا تشبيهٌ من طريق اللفظ، مع إضمار خروج التخيّر، في الموضعين عن ضبط القياس. وليس هذا بناءً على التحقيق؛ فإن البناء على التحقيق شرطُه أن يجتمع المبني والمبني عليه في مأخد الكلام، ومسألة الغصب مأخذها ضربٌ من الاستصلاح في تحصيل الأرباح، وقطعُ ذريعة الغاصب، وهو يلتفتُ، على وقف العقود، وما نحن فيه من باب حَيْد المستحِق عن النوع المستحق، مع الاجتماع في الجنس، فكانا متباعدين. 5501 - ولو استأجر أرضاً ليزرعها قمحاً، فغرس فيها غراساً، فقد كان شيخي يقول في هذه الصورة: المذهبُ الرجوع إلى أجرة المثل، لتباين الزرع والغراس، ولا يخرّج فيه قولُ التخيّر، وكان يحكي عن بعض الأصحاب قولَ التخيّر أيضاًً على بُعدٍ، وسبب خروجه أنه بإثباته اليدَ على المستأجَر في حكم المستوفي للمنفعة، وإن مال عن جهة الاستحقاق، ففي المسألة احتمالٌ على حال. فصل قال: " ولو قال: ازرعها ما شئت ... إلى آخره " (1). 5502 - إذا استأجر أرضاً، وذكر في الإجارة أنه يزرعها ما شاء، فالإجارة صحيحة، وكأن المكري رضي بأن يزرعها أكثر أنواع الزرع ضرراً، والأرض (2) تحتمل

_ (1) ر. المختصر: 3/ 98. (2) (د 1): إذ الأرض.

ذلك، وإذا جرت الإجارة على هذه الصيغة، فليس له أن يغرس، فإنَّ اسم الزرع لا ينطلق عليه. 5503 - ولو اكترى دابّةً على أن يحمل عليها ما شاء، لم تصح الإجارة؛ فإنّ الدابة لا تحتمل كل شيء، احتمال الأرض كلَّ زرع، ولو قال: اكتريت هذه الدابةَ على أن أحمل عليها مائة منٍّ من أي جنسٍ شئتُ، فتصح الإجارة؛ لأنها تحتمل مائة منٍّ من أي جنس قُدّر، فالإجارة فيها على هذه الجهة تساوي استئجارَ الأرض على أن يزرع المكتري ما شاء. 5504 - ولو قال: اكتريتُ هذه الأرضَ لأغرسها، فله أن يزرعها؛ فإن الزرع أهون من الغرس. ولو قال: أكريتك هذه الأرض، ولم يذكر زراعةً، ولا غراسةً، بل أطلق الكراء، كما وصفنا، فالكراء فاسد وفاقاً؛ فإنه لم يشتمل على إعلام المقصودِ المعقود عليه، ولا نظر إلى احتمال الأرض كلّ شيء في جهات المنفعة؛ فإن الجهالة يجب اجتنابها في المعاوضات. والإجارة معقودةٌ في الصورة التي ذكرناها على جهالةٍ بيّنة، وليس كما لو قال: أجرتكها لتزرعها ما شئت؛ فإنه أَعْلمَ بلفظه هذا الرضا بأظهر أنواع الزروع ضرراً، فكان كما لو قال: أكريتكها لتزرعها الذرةَ. ولو جرى العقد كذلك، لكان للمستأجر أن يزرعها الذرة، والقمح، إن شاء، فرجع مقتضى التخيير إلى تنزيل العقد على أضرّ الزرع بالأرض، فقد حصل الإعلام إذاً وزال الإبهام. 5505 - ولو قال: أكريتك هذه الأرضَ على أن تزرعها، ولم ينص على نوع الزرع، ولكن ذكر الزراعة مطلقاًً، فقد ذكر العراقيون وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أن الإجارة تصح، كما لو قال: ازرعها ما شئت. والوجه الثاني - أن الإجارة فاسدة للجهالة؛ إذ ليس في صيغتها التفويض إلى خيرة المكتري حتى تنزل الإجارة على أضر الزروع، وليس في صيغتها تعيين نوعٍ، ففسدت الإجارة، فإن أنواع الزروع تتفاوت تفاوتاً بيّناً في قلة الضرر وكثرته. 5506 - ولو اكترى داراً معينة مطلقاًً، ولم يذكر جهة الانتفاع بها، فالإجارة

صحيحة، لم يختلف الأصحاب فيها، وذلك أن العرف يعيّن الانتفاعَ بالدار، ويبيّن أنه لا جهة إلا السكون، والانتفاع بالأرض ينقسم في العادة. 5507 - ولو اكترى دابة ليحمل عليها مائة منٍّ، ولم يبين جنسَ المحمول، فالإجارةُ صحيحةٌ، قطع الأصحاب بصحتها، ولم ينزلوا هذه المسألة منزلة ما لو اكترى أرضاً للزراعة، من غير تعيين نوعٍ، وإن كان الضرر يتفاوت على الدابة باختلاف أجناس المحمول، كما يتفاوت الضرر في أنواع الزرع. وسبب قطع الأصحاب بما ذكرناه في الدابة أن الأمر قريبٌ في أجناس المحمول، ولا يبلغ تفاوتها مبلغ تفاوت الزروع. وكنت أود أن يقال: إن قصُر السفر، لم يظهر تفاوت في الضرر، وإن طال، فقد يُظهر التفاوتُ ضرراً بيّناً، والظهور [إلى] (1) الدواب أسبقُ منه إلى الأراضي، فإذا فرضت المسألة في طول السفر، لم يبعد التخريج على الخلاف المذكور فيه إذا قال: أكريتك هذه الأرضَ لتزرعها. 5508 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو قال المكري: أكريتك هذه الأرضَ لتنتفع بها في أي وجهٍ شئت (2)، فتصح الإجارة، وله أن يغرس، ويبني، وإن أراد الزرعَ، فلا شك في جوازه. 5509 - ولو قال: أكريتك هذه الأرضَ، فإن شئت، فازرعها، وإن شئت، فاغرسها، فما صار إليه الكافةُ تصحيحُ الإجارة، كما ذكرناه الان. قال صاحب التقريب في هذه الصورة الأخيرة: يحتمل أن نقول: لا تصح الإجارة، كما لا يصح أن يقول: بعتك هذا (3) العبد بألفٍ، فإن شئت مكسرة، وإن شئت صحاحاً. وهذا الذي ذكره بعيدٌ، مع اتفاق الأصحاب على أنه لو أجره على ما شاء من

_ (1) في الأصل: لأن. (2) (د 1): من أي نوعٍ شئت. (3) (د 1): بعتك هذه الأرض.

الانتفاع، جاز. وقوله: إن شئت، فازرع، وإن شئت، فاغرس، تنصيصٌ على معنى قوله: أكريتك ًعلى ما شئت من جهات الانتفاع، وليس كما استشهد به من ترديد الألف بين المكسر (1) والصحاح؛ فإنّ ذلك إثباتُ عِوض على الجهالة. 5510 - ولو قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم من أي نقدٍ شئت، لم يصح، وهو يناظر من طريق اللفظ ما لو قال: أجرتك هذه الأرضَ على أن تنتفع بها كيف شئت. 5511 - ولو قال: أكريتك هذه الأرضَ، فازرعها، واغرسها، فقد اختلف أصحابنا في المسألة. فالذي صار إليه الأكثرون أن الإجارة فاسدة؛ فإنها لم تُعقد على صيغة التفويض والتخيير، بل ذكرت الزراعة، والغراسة جميعاً، فاقتضى ذلك أن يزرع المكتري بعضاً، ويغرس بعضاً، ثم البعض الذي يغرس مجهول. ومن أصحابنا من قال: تصح الإجارة وينزل على حكم التنصيف، فيزرع المكتري نصفها، ويغرس نصفها، واحتج هذا القائل بأن الإضافة إلى جهتين على الإرسال مقتضاها التنصيف، كما لو أضيفت عَيْنٌ إلى شخصين في الإقرار لهما بها، فإنه لو قال: الدار التي في يدي لفلان وفلان، كان قوله هذا محمولاً على وقوع الدار نصفين بينهما. 5512 - فإن قلنا بالفساد، فلو قال: ازرع نصفَ الأرض، واغرس نصفَها، فأجرى ذلك في صلب العقد، فهل تصح الإجارة على هذا الوجه، وليس فيها تعيين النصف المزروع، وتعيين النصف المغروس؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح إطلاق النصفين، وتفسد الإجارة، وهو اختيار القفال؛ فإن الغرض يختلف في ذلك اختلافاًً ظاهراً؛ إذ لو وقع (2) الغراس في الجانب الشرقي، يفسد الزرع في الغربي، ولو كان

_ (1) (د 1): ترديد النقد بين المكسور والصحاح. (2) (د 1): ولو وقع.

على العكس (1)، صحّ الزرع والغرس، فلا بد من التمييز والتعيين. ومن أصحابنا من قال: إبهام الأمر في التعيين مقتضاه تفويض الأمر للمكتري، حتى [يزرع] (2) أي نص شاء، ويغرس أيّ نصفٍ شاء. 5513 - ولا خلاف أنه لو قال: أكريتكها على أن تزرع أي نصفٍ شئت، وتغرس أي نص شئت، فالإجارةُ تصح كذلك. وإذا صحت الإجارة على أن يزرع النصف، ويغرس النصف، فلو غرس الكل، لم يجز، ولو زرع الكلّ، جاز، ووجهه بيِّن. ولو قال: ازرعها واغرسها ما شئت، فزاد (3) التفويضَ إلى المشيئة، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب، أن هذا بمثابة ما لو قال: ازرعها، واغرسها. وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في التفريع. وذهب بعض أئمتنا إلى أن التقييد بالمشيئة يقيّد تفويضَ زراعة الكل، وغراسة الكل. وهذا زلل، فاللفظ لا يشعر به. ولو قال: أكريتكها على أن تزرعها، أو تغرسها، فهذا الآن تخيير في الكلّ، فتصح الإجارة، وتحمل على تنزيلها على أضر جهات الانتفاع، ثم الخيرةُ إلى المكتري في الكل، إن شاء غرس الكلَّ، وإن شاء زرع الكلَّ، فإذا انبسطت خِيرَتُه في الكل، فله أن يزرع بعضاًً، ويغرس بعضاً. فصل قال: "وإذا انقضت سنون، لم يكن لرب الأرض أن يقلع غراسه ... إلى آخره " (4). 5514 - إذا اكترى أرضاً للغراس والبناء، وضرب مدَّةً معلومة، فالإجارة تصح،

_ (1) على العكس: أي وقع الغرس في الجانب الغربي، ولك أن تعجب معي من دقة ملاحظة أئمتنا ومعرفتهم بالواقع، وذلك أن الغراسَ -أي زراعة الأشجار- إذا كان في الجانب الشرقي يلقي بظلاله على الجانب الغربي؛ فلا يصح الزرع، إذ يحتاج إلى ضوء الشمس، ولا يصح في الظل. (2) في الأصل: يعين. (3) (د 1): فردّ. (4) ر. المختصر: 3/ 98.

ولو أطلق الإجارة، وأبهم مدتَها بناء على أن المقصود من الغراس أن يؤبد، فينبغي أن تنطبق الإجارة على المقصود في المنفعة المذكورة، فالإجارة تفسد، وليست كالنكاح المؤبد؛ فإن وضع الشرع فيها (1) التأبيد. فإذا ثبت أن التأقيت لا بد منه، فالقول في أن الغراس يقلع مجاناً، أو على شرط الضمان ممّا سنفرد فيه فصلاً -إن شاء الله عز وجل- وإن سبق مقرراً في العاريّة. وغرض هذا الفصل مقصودٌ واحد، ولكن لا وصول إليه إلا بإجراء طرفٍ من الكلام في [القلع] (2) وأنه يقع (3) بعوض، أو مجاناً. 5515 - فنقول: الفصل يتشعب عنه ثلاثُ مسائل: إحداها - أن يشترط على المكتري قلعَ الغراس بعد انقضاء مدة الإجارة، فيصح العقد على هذا الشرط، باتفاق الأصحاب. ولو أجر، وشرط المستأجر أن لا يقلع غراسه مجاناً، صح؛ فإن مطلق العقد يقتضي أن لا يقلع غراسه بعد انقضاء المدة مجاناًً، فإذا ذكر هذا شرطاً، كان مصرِّحاً بمقتضى إطلاق العقد. فخرج مما ذكرناه أن شرط القلع على الوجهين مجاناًً، أو على ضمان النقصان جائز، والمطلق محمولٌ على القلع على شرط الضمان، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى. 5516 - ولو ذكر في الإجارة المدةَ، وشرط أن لا يقلع غراسه أصلاً، بل يبقى من غير أجرة، أو بالأجرة في الزمان المستقبل، فالإجارة تفسد على هذه الصفة (4) باتفاق الأصحاب؛ فإنها تتضمن إلزام المكري تأبيد الغراس، ولو كان لهذا مساغٌ، لجاز شرط التأبيد في صيغة الإجارة. 5517 - ومقصود الفصل الآن حيث انتهى الكلام إليه أن الإجارة إذا عقدت على

_ (1) كذا في النسختين، بتأنيث الضمير، ويصحّ على تأويل العقود مثلاً. (2) في الأصل: القطع. (3) (د 1): يقلع. (4) (د 1): الصيغة.

شرط القلع بعد المدة مجاناًً، فإذا قلع المستأجرُ بعد انقضاء المدة وفاءً بالشرط، فقد قال الأئمة العراقيون وغيرهم: ليس على المستأجر تسويةُ الحفر التي تقع بسبب القلع وراء المدة، وتعليل ذلك بيّن؛ فإن القلع مشروط، وفي إيقاعه وفاء بالشرط، فلا ينبغي أن يتضمن ذلك مَغْرَماً. ولو لم يجْرِ شرطُ القلع، ولكنا حكمنا بأن العقد يقتضي القلعَ، ومنع التبقية، فإذا انقضت المدة، وقلع المستأجر، يلزمه تسويةُ الحفر. وهذا متفق عليه بين الأصحاب. والفرق أنه إذا لم يجْرِ للقلع ذكرٌ، فلا يتعين القلعُ، بل يتجه وجوهٌ في الغراس: أحدها - أن يبقى بأجرة المثل في الاستقبال، والآخر أن يبتاعه المكري بثمن المثل، والآخر أن يُباعَ الأرضُ والغراسُ، ويوزّع الثمن. وسنصف هذه التفاصيل على الاستقصاء، إن شاء الله تعالى. فإذا كان القلع لا يتعين عند الإطلاق، فاختاره المستأجر؛ فإنه يلتزم تسوية الحفر. هذا ما ذكره الأئمة. وللنظر فيما ذكرناه مجال. أما إذا جرى شرط القلع، فالأمر على ما ذكره الأئمة في أنه لا يجب على القالع تسوية الحفر، كما قدمناه؛ فإنه وقع مأذوناً فيه. 5518 - وأما إذا قلع في إطلاق العقد، فيحتمل أن يقال: لا يلزمه تسوية الحفر أيضاًً؛ فإن القلع من مقتضيات العقد، فكان مقتضى العقد فيه كالمشروط. 5519 - ومما (1 يتصل بما 1) نحن فيه أنه لو جرى شرطُ القلع بعد العقد، فلو قلع في أثناء المدة، فلا يلزمه تسوية الحفر، كما لو قلع بعد المدة؛ فإن القلع بعد المدة تصرفٌ في أرضِ الغير عند انقضاء حق المستأجر وزوال يده المستحقة بالإجارة، فإذا كان القلع في الانتهاء [لا يلزمه] (2) تسوية الحفر، فالقلع في أثناء المدة لأن لا يوجب

_ (1) ما بين القوسين سقط من (د 1). (2) في الأصل: لا يؤذن.

ذلك أولى، والأرض تحت يد المستأجر، وتحت تصرّفه. 5520 - ولو لم يجر للقلع ذكر، ووقعت الإجارة على الإطلاق، فقد ذكرنا من قول الأصحاب أن المستأجر، إذا قلع بعد المدة، التزم تسوية الحفر، فقال العراقيون بناء على ذلك: لو قلع في أثناء المدة، فهل يلتزم تسوية الحفر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يلتزمها (1) قياساً على ما إذا قلع بعد المدة. والثاني - لا يلتزمها؛ فإن القلع في أثناء المدة تصرفٌ منه في ملكه، وفي الأرض التي هي تحت يده، فلم يتضمن إلزام التسوية. وهذا فيه ضعفٌ، مع المصير إلى أن التسوية بعد المدة واجبة، كما ذكرنا. نعم هذا الاختلاف لائح في القلع (2) بعد المدة كما ذكرناه، فأما الفرق بين القلع الواقع بعد، المدة وبين القلع الواقع في المدة، فلا اتجاه له. وكنا وعدنا أن نذكر مسائل؛ ثلاثاً، وقد نَجَّزنا غرضنا من واحدة. والثانية، والثالثة نذكرهما رمزاً وفاءً بما وعدنا، واستقصاءُ القول فيهما في فصلٍ معقود بعد ذلك. 5521 - فالمسألة الثانية - أن يقول المستأجر: إذا انقضت المدة، [فلا تقلع غراسي] (3) مجاناً، فالإجارة تصح، وما ذكره ليس تأبيداً للغراس، بل هو (4) نفيٌّ للقلع مجاناً، وهو غير منافٍ لمقتضى العقد. 5522 - والمسألة الثالثة - أن لا يقع للقلع تعرّضٌ، ويذكر في الإجارة مدة، فإذا جرت الإجارة كذلك، وأمر القلع مبهم، فالذي يقتضيه النص أن الغراس لا يُقلع مجاناً، والتأقيت محمول على الوفاء بشرط الإعلام في العقد؛ فإنّ إطلاق الإجارة من غير مدة باطلٌ، وأمر القلع محمولٌ على أن لا يقع مجاناًً. وقال أبو حنيفة: الغراس مقلوعٌ بعد المدة مجاناً، وصار إلى أن ذكر المدة في

_ (1) (د 1): لا يلتزمها. (2) عبارة (د 1): نعم هذا الاحتمال لائق بالاختلاف. (3) في الأصل: لم تقلع بنائي. (4) (د 1): لكنه.

العقد يُشعر بهذا، ويُبيِّن أن استحقاق تبقية إلغراس موقوفٌ على بقاء المدة. وهذا اختيار المزني. وقد مال إلى قياس المزني طائفة من أصحابنا. وفي كلام القاضي رمزٌ إليه. وقد قدمت في بعض مسائل المزارعة ذلك. 5523 - ورأيت لبعض الأئمة أن التأقيت في العاريّة من غير تعرض للقلع يقتضي القلعَ مجاناً، بعد [آخر] (1) المدّة؛ فإن العاريّة تبرّعٌ، ويصح إطلاق العاريّة وتأقيتُها، فإذا أُقتت، اقتضى التأقيت الحملَ على القلع مجاناً، وليس كذلك التأقيت في الإجارة؛ فإن التأقيت مستحقٌّ في الإجارة لإعلام المعقود عليه، فلم يقتض الحملَ على القلع مجاناً بعد انقضاء المدة، وأيضاًً فإن الغراس مستحق في [الإجارة] (2)، وهو مباحٌ في العارية. 5524 - وكل ما ذكرناه غيرُ معتد به في أصل المذهب، والذي عليه التعويل في مذهب الشافعي أن إطلاق المدّة في الإجارة والإعارة لا يتضمن القلع مجاناًً، وما اختاره المزني مذهبٌ له يختص به. فصل قال: " وما اكترى فاسداً فقبضها، ولم يزرع ... إلى آخره " (3). 5525 - إذا اكترى الرجل أرضاً، أو غيرها اكتراءً فاسداً، ثم قبض ما اكتراه على الفساد، وأمسكه المدّة المذكورة، فيلزمه أجر المثل سواء، استوفى المنفعة، أو لم يستوفها. 5526 - وقال أبو حنيفة (4): إن لم يستوفِ المنفعة، لم يلزمه الأجرة بثبوت

_ (1) زيادة من (د 1). (2) في الأصل: الاستئجار. (3) ر. المختصر: 3/ 99. (4) ر. بدائع الصنائع: 4/ 195، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 133 مسألة: 1832.

يده، وإن ضاعت المنفعة، وإن استوفاها، وجب أجر المثل. ثم له خبط في تفصيل المسمَّى وأجرِ المثل إذا كان أحدهما أقلَّ من الثاني. وليست الإجارة الفاسدة كالنكاح الفاسد؛ فإن من نكح امرأة بشبهة وردّها [إلى حالته] (1)، فلا يلتزم مهرَها ما لم يطأها، والسبب فيه أن اليدَ لا تثبت على منافع البُضع، فإذا لم يجْر وطءٌ، ولا يدَ، لم يجب الضمان، وهذا لا ينتفع به أبو حنيفة؛ فإن منافع الدور والأبدان، وغيرِها لا تضمن عنده (2) بالإتلاف على سبيل العدوان، ثم جعل الإتلاف سبباً في ضمان المنافع في العقد الفاسد. 5527 - فإن قيل: إذا اشترى شيئاًً على الفساد، فوضع البائعُ الشيءَ بين يديه، فلا يكون ذلك إقباضاً، ولو جرى مثله في الصحيح (3)، كان إقباضاً، فلقد فرقتم بين [الإقباض في الصحيح والإقباض في الفاسد] (4)، فهل تسلكون هذا المسلك في الإجارة؟ قلنا: نعم، وسبب الفرق في البيع أن الإقباض [مستحق] (5)، فإذا قدّم البائع المبيعَ إلى المشتري، كفى ذلك، فكان خروجاً منه عن الحق المستحق عليه، فإذا خرج عما عليه، [لزم] (6) الحكم بثبوت يد المشتري من طريق الحكم، وإذا لم يكن القبض مستحقاًً في الفاسد، فالإقباض ليس توفيةً لحق مستحق، فلا يتعلّق به حكمٌ، ما لم يوجد قبضٌ في الحقيقة. وهذا الفرق نجريه في الإجارة الصحيحة والفاسدة. فإذا قال المكري في الإجارة الصحيحة للمكتري: دونك الدار، فاقبضها، قد خلّيت بينك وبينها، كان ذلك إقباضاً، وقد يكون من تمامه تسليم المفتاح إليه، وإذا سلم الدار إليه على هذا الوجه

_ (1) في الأصل: إلا حالته. والمثبت من (د 1). والعبارة غير مستقيمة على كلا اللفظين. ويلوح لي أنها بمعنى: وردّها إلى خبائه، والله أعلم. (2) (د 1): عندنا. (3) أي في البيع الصحيح. (4) في الأصل، كما في (د 1): بين الإقباض والإقباض في الصحيح والفاسد. (5) في الأصل: يستحق. (6) في الأصل: لزمه.

في الإجارة الفاسدة، ولم يوجد منه تسلُّمٌ ودخولٌ للدار، فهذا تسليم لا تسلّم معه، فلا يتعلق به وجوب أجرة المثل على المستأجِر على الفساد. فصل 5528 - قد ذكرنا طرفاً من البناء على الأرض المستأجرة، والغراس فيها، في الإجارة التي تقتضي الغراس والبناء، ونحن نستقصي الآن ما يتعلق بأطراف الفصل، إن شاء الله تعالى. وقد تقدم في العارية القواعدُ الممهدة على أحسن مساق، ولم نغادر من أصول المذهب شيئاًً إلا زوائد وفوائد ذكرها الشيخ أبو علي في شرح الفروع في كتاب الإجارة، ونحن ذاكروها، وقد نُحوَج إلى إعادة بعض تلك الأصول لنبني عليها ما زاده الشيخ فنقول: 5529 - إذا انقضت مدة الإجارة، وما كانت قيدت بشرط القلع مجاناً، [أو] (1) كانت قيدت بأن لا يقلع مجاناً؛ فإن رضي صاحب البناء بقلع البناء ونقله، لم يمنع من ذلك، لا شك فيه، فهل عليه تسوية الحُفر التي تحدث بسبب القلع؟ فيه تفصيلٌ قدمناه على أبْين الوجوه. وإن باع البناء من صاحب الأرض، فاشتراه، لم يخْفَ الحكم. وإن رضي بيعَ الأرض مع البناء، فيقسّط الثمن عليهما، وقد سبق القول في كيفية التقسيط، في كتاب التفليس. 5530 - ثم ذكر ابن سريج أن صاحب الأرض مخيّر إن شاء كلّف المستأجر قلْعَ البناء، وغرِم له ما ينقصه القلع، وإن شاء أمره أن يبيع منه البناء قائماً، ويأخذَ ثمنَه، وإن شاء رب الأرض رضي بإمساك البناء وإدامته على صفته، وألزم المستأجر أجر مثل الأرض في المستقبل، فيتخيّر بين هذه الخلال.

_ (1) في الأصل: وإن.

والرجوعُ إلى صاحب الأرض في تخيّر ما شاء من هذه الخلال، فلو قال: بع مني، فليس له أن يقول: بل أُبقّيه بشرط أجرة المثل. ولو قال: بقِّه بشرط الأجرة، فليس لصاحب البناء أن يقول: بل ألزمك قيمته وابتياعه؛ إذ الخيرة إلى المالك. ثم قال ابنُ سريج: إذا اختار صاحب الأرض قسماً من هذه الأقسام، فلم يرض به صاحب البناء، فيقال له: إما أن ترضى به [وإما] (1) أن تقلع بناءك مجاناً. وهذا قد فصّلته على نظائرَ وترتيب يقضي اللبيبُ العجبَ من النظر فيه، في كتاب العواري. وما ذكره ابنُ سريج، هو الذي قطع به معظمُ أئمة المذهب. 5531 - قال الشيخ أبو علي: فيما ذكره ابنُ سُريج نظرٌ عندي، فإني أقول: إذا عيّن صاحبُ الأرض خَصلةً من الخصال الثلاث، فلم يساعده صاحبُ البناء، فله أن يقلع بناءه، ولكنه لا يقلعه مجاناً؛ إذ يستحيل أن يبطُل حقُّه، ويحبَط ملكه، بسبب امتناعه عمَّا له الامتناع منه، حتى يصير في حكم من بنَى على أرضٍ مغصوبة. وبيان ذلك أنه إذا قال مالك الأرض: "بع مني، فامتنع، فلا سبيل إلى أن يباع عليه ملكه قهراً، ولكن، يقال له: إن بعتَ [منه] (2) فلك ذلك، وإلا فاقلع، ولك أرشُ ما ينقصُه القلع، فأما أن يبقى بشرط الأجرة، فليس ذلك دون رضا مالك الأرض. فهذا معنى حمله على اختيار صاحب الأرض. واستدل الشيخ في هذا بأن قال: لو اضطُر رفيقُ الرجل، وكان له طعام لا يحتاج إليه، فعليه أن يسلّمه إلى رفيقه بالقيمة، ولو امتنع من تسليم الطعام، أُخذ منه قهراً، ولكن لا يؤخد منه مجاناًً، وتثبت القيمة له، وإن أُجبر. وحقيقة ما ذكره الشيخ يؤول إلى أن مالك الأرض يخيِّر صاحبَ البناء على القلع، ويغرَم له أرشَ النقص، فأما إذا طلب منه البيعَ، أو التبقية، لم يحمل مالك البناء على ما يطلبه.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) في الأصل: منك.

وهذا الذي ذكره يخالف ما ذكره ابن سريج، واختاره معظم الأئمة، [وإن] (1) كان متجهاً في المعنى. وقد ذكرت في العاريّة ما يتوجه به مذهب ابن سريج والأصحاب. 5532 - ثم ينشأ من هذا المنتهى أمر مبهم، لم يصرح به الأصحاب، ودلت مرامزهم فيه على تردد، فإذا طلب المالك القلعَ، فصاحب البناء محمول على هذا في كل مذهب، وقد ذكرنا أن مالك الأرض يغرَم ما ينقصه القلع. ولكن ربما يحتاج في القلع إلى مؤونة لها قدرٌ، فمؤونة القلع كيف السبيل فيها؟ وعلى من هي؟ ظاهر كلام معظم الأصحاب يشير إلى أن القلعَ على صاحب البناء، ثم إذا قلع، فعليه النقل، ومؤونة تفريغ الأرض، وعلى مالك الأرض أن يغرَم له ما بين قيمة النقض وقيمة البناء القائم. والقلع على هذا التقدير من النقل، ولكنه نقلٌ فيه معاناة ومقاساة مشقة، فلا يجمع على مالك الأرض بين مؤونة القلع، وأرش النقص. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن مؤونةَ القلع على مالك الأرض، كما أن عليه ما ينقصه القلع. وهذا متجهٌ جداً؛ من قِبل أنا لو جعلنا القلعَ نقلاً، لوجب أن لا يغرمَ مالكُ الأرض ما ينقصه القلع، فإن ما هو نقلٌ وتفريغٌ، فهو محتومٌ على المستأجر، فإذا اتفق القلع [منه] (2)، فلا خلاف أن نقلَ النقض، وتفريغ الأرض منه على المستأجر، فلو كان القلع معدوداً منه، لوجب أن لا يلزم مالك الأرض شيء. والمسألة في نهاية الاحتمال، والوجه إلزام مالك الأرض مؤونة القلع لما نبهنا عليه. 5533 - ومما ذكره الشيخ أبو علي أن مالك الأرض إذا طلب من صاحب البناء أن يقلع مجاناً، وأبى صاحبُ البناء، وطلب التبقية مجاناً، وأصرَّا على التناكر وطلب كل واحد منهما محالاً. هذا مما ذكرتُه في العاريّة، ولكن الشيخ ذكر وجهين، وأنا اقتصرت على أحدهما، [وإن كان أظهرَهما] (3) قال رحمه الله: إذا تناكرا، وطلب كلٌّ

_ (1) في الأصل: فإن. (2) ساقطة من الأصل. (3) زيادة من (د 1).

ما ليس (1) له، ودام الخصام، فللأصحاب وجهان: أحدهما - أن الأمر يوقف بينهما إلن أن يستمسكا بما يجوز، وقد ذكرنا ما لكلِّ واحدٍ منهما، وما عليه. والوجه الثاني - أنهما إذا تناكرا، حُملا على القلع، ثم مالك الأرض يغرَم ما ينقصه القلع. وهذا كلام مبهم عندي، جاز عليه الناقلون، ولم يبحثوا عن حقيقته، وأول إشكالٍ فيه عُسر تصوير التناكر؛ فإن المالك إن طلب قلعاً مجاناً، لم يُجب إليه، وإذا طلب صاحبُ البناء تبقيتَه بلا أجرة (2)، لم يجب إليه، فكل واحدٍ طلبَ أمراً هو فيه مبطلٌ، ومقتضى الشرع منعُ المبطلين. وهذا التردد عندي يرجع إلى أن المأمور بالقلع مَن؟ فإذا طلب مالك الأرض القلعَ من صاحب البناء، فلأصحابنا وجهان: أحدهما - أنه لا يُجبر صاحب البناء على القلع، وإذا لم يجبر وُقف الأمر، وقيل لمالك الأرض: مهما (3) أردت أن تقلع، فاقلع، واغرَم. هذا معنى وقف الأمر، لا معنى غيرُه. والوجه الثاني - أن مالك البناء يجبر على القلع، ثم إذا قلع، فعلى مالك الأرض أرشُ النقص، ثم إذا فرّعنا على وجه الوقف، وقد بيناه، وأوضحنا معناه، فالظاهر أن أجرة مثل الأرض تجب في مدة الوقف، على صاحب البناء؛ فإن استحقاقه لمنفعة الأرض قد انقضى، ولو رضي صاحب الأرض بالتبقية على شرط الأجرة، ثبتت الأجرة، لم يختلف فيها أصحابنا، ولا حاجة في إثبات أجرة المثل إلى ذكرٍ وشرطٍ. وفي المسألة احتمال على بُعدٍ إذا قلنا: القلع على مالك الأرض، وقد طلب القلعَ، ثم لم يقلع، والتمس القلع من صاحب البناء، والتفريع على أن القلع على مالك الأرض إذا (4) أراد القلعَ، وهذا لا أعتدّ به، والفقه إيجاب أجر المثل. والله أعلم.

_ (1) (د 1): ماله، وطال الخصام. (2) (د 1): بالإجارة. (3) مهما بمعنى (إذا). (4) (د 1): وإذا.

5534 - فهذه غوائل نبهنا عليها، ولا اختصاص لها بالإجارة، وهي بأعيانها تجري في الإعارة، وفي كل بناء ساغ ابتداؤه، وجاز قلعُه، إذا لم يُشترط فيه القلعُ مجاناً. ومن جملة ذلك لو اشترى رجلٌ أرضاًً بعَرْضٍ، وتسلَّم الأرضَ، وبنى عليها، ثم رُدّ العَرْضُ عليه بالعيب، وفي تكلّف البناء من المشتري في الشِّقص المشفوع عُسرٌ، وقد تناهينا في تصويره في كتاب الشفعة، وجملة هذه المسائل تُخرّج على نسقٍ واحد. ومن ضم ما ذكرناه الآن إلى ما مهدناه في العاريّة، لم يخف عليه خافية، إن شاء الله تعالى. ِ فرع: 5535 - إذا اكترى أرضاً ليبني عليها بناء، فهل يُشترط في صحة الإجارة أن يذكر مبلغ البناء في وزنه وقدْره؟ ذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - وهو الأصح، أن ذلك لا يشترط؛ فإن الأرض لا تتغير بكثرة البناء ولا يتفاوت ما يُقدّر من ضراره بثقل البناء وخفته. ولو استأجر غرفة ليبني عليها بناء، فيجب بيانُ قدر البناء ووزنه؛ فإن الغرفة تتأثر بالكثرة والثقل، والأرضُ لا تتأثر. والوجه الثاني - أنه يُشترط ذكر مقدار البناء ووزنه في استئجار الأرض له، ووجه هذا الوجه أن مالك الأرض ربما يحتاج أن يغرَم قيمة البناء، وما ينقصه القلع، فإذا كان ذلك من مقتضيات العقد، فلا بد من إعلامه للاحتياج إليه آخراً. وكلامُ ابن الحداد يدل على اختيار هذا الوجه الأخير. وفي التوجيه بما ذكرناه نظر؛ فإن التعرض لما تُفضي إليه العواقب لا يشترط في العقود. ويمكن توجيه هذا الوجه بمسلك آخر، [فيقال] (1): إذا بنى المستأجر بناء قريباً،

_ (1) في الأصل، كما في (د 1): ويقال.

قلّ انتفاعه، وإذا عظم البناء، وطال ارتفاعه، كثر انتفاع المستأجر، وسبب انتفاعه البناءُ على هذه الأرض، فيجوز أن يقع التعرض لهذا، والدليل عليه أن الدابة القوية قد لا تتأثر بحمل خمسين منّاً، ولكن إذا كان [المحمول] (1) دون الخمسين، فيجب ذكر مقداره؛ فإن تأثر الدابة وإن كان لا يُحَسّ، فازدياد انتفاع الحامل معلوم. والذي يكشف الغطاء في ذلك أن من استأجر أرضاًً، وقال المالك: ابن عليها ما شئت، فالظاهر صحةُ الإجارة، [فإن ذكر الشيخ أبو علي هاهنا وجهاً، فليس يتوجه إلا بما ذكره] (2) من النظر إلى العاقبة وتوقّع ضمان النقصان عند القلع. ولو أكرى أرضاًً، وقال للمكتري: ازرعها ما شئت، صحت الإجارة بلا خلاف؛ فإن القلع لا يتوقع في الزرع، والتفويض يتضمن تنزيلَ الإجارة على الزرع الأعظم الذي يكثر ضرره، ثم الرضا بما دونه يسوغ. ولو أكرى أرضاًً للبناء مطلقاً، ولم يتعرض لتفويض الأمر إلى المستأجر، فالظاهر صحة الإجارة، وإذا ذكرنا وجهاً في فسادها، أمكن توجيهه بالمعنى الذي نبهنا عليه من كثرة انتفاع المستأجر عند كثرة البناء، ولم يقع تفويضٌ إليه على التصريح. فهذا حاصل القول في ذلك. فرع: 5536 - إذا بنى المستأجر على الأرض المستأجرة استئجاراً صحيحاً، فأراد صاحب الأرض بيعَ الأرض وعليها البناء، نظر: فإن باعها قبل انقضاء مدة الإجارة، خرج ذلك على قولين في بيع المكرَى، فإن منعنا البيعَ، فلو انقضت المدة، فباع الأرضَ مالكُها، والبناء قائم بعدُ، فقد ذكر الشيخُ وجهين في صحة البيع: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإن الأرض مشغولة، ونحن نفرّع على منع بيع الدار المكراة. ومنهم من

_ (1) في الأصل: (القوك) بهذا الرسم تماماً. ولم أدر لها معنى، فلم أجدها في (المصباح) ولا (المعجم)، ولا (الأساس) ولا (الألفاظ الفارسية المعربة)، ولا (المعرب) للجواليقي. فلعلها صحفت على الناسخ من (المحمول). والله أعلم. (2) عبارة الأصل " فإن ذكر الشيخ هاهنا وجهاً، فليس يتوجه إلا بما ذكره الشيخ أبو علي " ومعروف أنه إذا أطلق إمام الحرمين لفظ الشيخ، فنما يقصد به الشيخ أبا علي، ومن هنا استقامت عبارة (د 1) التي أثبتناها دون عبارة الأصل.

صحح البيع، ووجّه ما قال بقدرة البائع على السعي في تفريغ الأرض، فإنه مهما أراد، قلَعَ البناءَ على شرط الضمان، وكلّف المستأجر النقلَ والتفريغَ، فإن هذين الوجهين مفروضان بعد انقضاء مدة الإجارة. 5537 - ولو أراد المستأجر بيعَ البناء القائم على الأرض، فإن باعه من صاحب الأرض، صحّ ذلك منه، وإن باعه من أجنبي، فقد ذكر الشيخ في صحة البيع وجهين: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإن صاحب الأرض متسلّطٌ على قلعه، وإذا كان مستحقَّ القلع، لم يصح بيعه. والوجه الثاني - أنه يصح، وهو الصحيح، كما يصح من المشتري بيعُ الشقص المشفوع، وإن كان بيعه بصدد النقض. وإذا منعنا صحة البيع لتوقع القلع (1)، لم يفرّق بين أن [يبيع] (2) في زمان الإجارة أو يبيع بعد انقضائها؛ فإن البناء يراد للتخليد، وإذا كان القلع ممكناً بعد انقضاء المدة، فهو منافٍ للمقصود. فصل قال: " وإذا اكترى داراً، فغصبها رجلٌ ... إلى آخره " (3). 5538 - قد ذكرنا أن القبض في العين المكراة لا يقتضي نقل الضمان إلى المكتري، فلو تلفت العين التي وردت الإجارة عليها، أو على منافعها، ِ في يد المكتري قبل انقضاء المدة، انفسخت الإجارة في مستقبل الزمان. وهذا الفصل مقصوده الكلامُ في غصب الدار المكراة، وهذا يترتب على القاعدة التي ذكرناها. 5539 - فإذا غصب الغاصبُ الدار، نظر: فإن اتصل الغصبُ بالعقد، ودام إلى آخر المدة، سقط المسمّى عن المكتري، والمالكُ يستحق على الغاصب أجرَ المثل.

_ (1) (د 1): الفرق. (2) في الأصل: يمنع. (3) ر. المختصر: 3/ 100.

5540 - وإن انتزع المالكُ من يده الدارَ في خلال المدة، بعد مضي شطرها مثلاً، فالإجارة قد انفسخت في الشطر. الأول، الذي انقضى في يد الغاصب، وهل تنفسخ في بقية المدة؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وهذا يناظر ما لو اشترى رجل عبدين، وتلف أحدهما قبل القبض، وحكمنا بانفساخ العقد فيه، ففي انفساخ العقد في العبد الثاني قولان. ولا يخفى أن ما ذكرناه في شطر المدة يجري في الزمان [القريب] (1) الذي يُقدّر لمثله أجرة، حتى إذا أمسك الغاصب الدارَ من أول المدة يوماً واحداً، ثم انتزعت من يده [فالإجارة] (2) تنفسخ في اليوم الواحد من أول المدة، وفي انفساخها في بقية المدة قولا تفريق الصفقة: فإن حكمنا بالانفساخ، فحكمه حكم ما لو دام الغصب إلى آخر المدة، وإن لم نحكم به، فللمكتري الخيارُ في الفسخ تخريجاً على قاعدة التفريق، فإن فسخ، فحكمه ما قلنا، وإلا فعليه ما يخص باقي المدة من المسمَّى، ويسقط عنه ما يقابل المدة التي جرت من أول الزمان في يد الغاصب. ثم المالك (3) يتبع الغاصب ويُلزمه أجرَ المثل لزمان الغصب. هذا إذا جرى الغصب في أول المدة. 5541 - فإن قبض [المكتري العينَ] (4) المكتراة، وبقيت تحت يده زماناً، ثم جرى الغصب في خلال المدة، فإن استمر الغصب إلى آخر المدة، انفسخ العقد في زمان الغصب، وسقط (5) قسطُه من الأجرة المسماة، وللمالك على الغاصب أجر مثل تلك المدة. وفي الزمان الماضي الذي انقضى في يد المستأجر طريقان: ذكرناهما مراراً -أن

_ (1) في الأصل: المرتب. (2) في الأصل: الإجارة. (3) في (د 1): للمالك. (4) سقط ما بين المعقفين من الأصل. (5) في (د 1): ويثبت.

الإجارة هل تنفسخ فيها؟ فإن منعنا الانفساخ في تلك المدة، ففي ثبوت الخيار في الفسخ فيها كلامٌ مضى في أحكام التفريق، فإن أثبتنا الخيار للمكتري، ففسخ في الزمان الماضي، سقط المسمى، وغرِم أجرَ مثل ما استوفى من المنفعة، وإن أجاز العقد، ولم يثبت الخيار، استقر عليه من المسمى حصةُ ما استوفى من المنافع. وقد تمهد أنا كيف نقسط المسمّى على ما مضى وبقي. هذا الذي ذكرناه قاعدة المذهب والأصل المعتبر. 5542 - وذكر العراقيون في قاعدة المسألة قولاً: أن العقد لا ينفسخ في زمان الغصب، بل يثبت للمكتري الخيارُ، فإن اختار الفسخ في المدة التي مضت في يد الغاصب، فيعود التفريع إلى ما ذكرناه في قاعدة المذهب في الحكم بالانفساخ. فإن [أجاز العقد] (1)، اتبع المكتري الغاصبَ بأجر المثل (2)، وكانت المنافع تالفة في ملكه، والتزم كمالَ المسمى للمالك المكري، وعللوا هذا القولَ، فقالوا: تلفُ المنافع في يد الغاصب ينزل منزلة تلف المبيع في يد البائع، بإتلاف الأجنبي، وقد ذكرنا أن إتلاف الأجنبي قبل القبض لا يوجب انفساخ البيع، ولكن يُثبت للمشتري الخيارَ. وهذا الذي ذكروه غريبٌ جداً لا يعرفه المراوزة، وإن كان جارياً على ضربٍ. من القياس. ولكن ما يقتضيه النص وقواعدُ المذهب أن المنفعة إذا استوفيت قهراً، [بأن] (3) استوفاها غاصبٌ، فإنها تتلف على ملك مالك الرقبة، وإنما تثبت أجرةُ المثل للمالك، فإذا وقع تلفُ المنافع على ملكهِ، فلا شك أن العقد ينفسخ فيما تلف على ملك المكري. وهذا الذي ذكره المراوزة لا يسلّمه العراقيون، بل يقيسونه على إتلاف الأجنبي

_ (1) عبارة الأصل: فإن أجاز المكتري العقد. (2) (د 1): بأجر المنافع. (3) ساقطة من الأصل.

المبيعَ قبل القبض، إذا قلنا: لا ينفسخ البيع، ثم لم يختر المشتري الفسخ، فإذا لم نحكم بالانفساخ، ولم يختر الفسخ، فتلفُ المبيع واقعٌ على ملك المشتري، وهو يطالب المتلِفَ بالقيمة، كذلك القول في المنافع التي تلفت تحت يد الغاصب. 5543 - وفيما ذكروه فضل نظر: فإن استوفى الغاصب المنفعة، فانتفاعه بالمنافع ينزل في الشرع منزلة الإتلاف، فليقع ذلك بمثابة إتلاف الأجنبي المبيع، وإن تلفت المنافع تحت يد الغاصب، ولم يوجد من الغاصب انتفاعٌ، فهذا يناظر ما لو غصب أجنبي العينَ المبيعة قبل قبض المشتري، ثم تلفت تلك العين في يد الغاصب من غير إتلافه، وهذا فيه تردد ظاهر: يجوز أن يقال: التلف تحت يده (1 بمثابة إتلافه، ويجوز أن يقال: التلف تحت يده 1) يوجب انفساخ العقد، بخلاف (2) التلف بإتلافه. فليتأمل الناظر مواقع الكلام. 5544 - ولا نعرف خلافاًً أن المرأة المنكوحة إذا وطئت بالشبهة، فإنها تستحق مهر المثل على الواطىء، ولا نقضي بأن الزوج يستحق مهر المثل؛ مصيراً إلى أن المنافع تتلف على ملك الزوج. هذا لا يصير إليه أحد من الأئمة، ثم لا نقول: يسقط عن الزوج قسطٌ من المسمّى بسبب ما جرى؛ فإن النكاح معقود على التأبيد، ولا يبين للمنفعة في [اللحظة] (3) التي جرى الوطء فيها قسطٌ من المهر؛ فإن التوزيع من غير مدة مقدّرة غيرُ ممكن وهذا بيّن. وكيف يتوقع هذا والمهر يتقرر على الزوج بوطأة واحدة، والبدل في الإجارة يتوزع. 5545 - ومما يتعلق بتفصيل المذهب، والتفريع على الطريقة المشهورة التي لا يعرف المراوزة غيرها، وهي أن المنفعة تتلف في يد الغاصب على ملك المكري، فإذا غصب الغاصب الدار المكراةَ، فالذي يقتضيه ظاهر النص أن الخصومة إلى

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (د 1). (2) (د 1): بخلاف إتلافه. (3) في الأصل: (الحطه) هكذا بدون نقط.

المكري دون المكتري، نص عليه الشافعي. وعلل في الأم، فقال: " أرأيت لو أقر المكري للغاصب برقبة الدار، أما كنتُ أقبل إقراره؟ أرأيت لو أقر به المكتري أكنت أقبل إقراره؟ ". أشار إلى أن الملك للمكري، وبنى عليه حكمَ الإقرار، ونحن نذكر ما قال الأصحاب في الإقرار في آخر الفصل، بعد انتظام الكلام فيما نريده. 5546 - فمن أصحابنا من قال: لا يثبت حق المخاصمة مع الغاصب إلا لمالك الرقبة؛ فإن الملك في الرقبة له، والمنافع تتلف أيضاًًً على ملكه، فكان حقُّ المخاصمة ثابتاً له. ومن أصحابنا من يُثبت للمكتري حق المخاصمة مع الغاصب لأجل المنفعة في مستقبل الزمان؛ فإنه وإن كان لا يملك الرقبةَ، فحقه ثابت تحقيقاً في المنفعة، وحقٌّ على الغاصب أن يرد الدار المغصوبةَ على المستأجر. وإذا وجب (1) عليه في حكم اليد (2) الردّ على المكتري، فللمكتري أن يطالبه بما هو واجبٌ عليه. وهذا وجهٌ ذكره المراوزة وهو منقاسٌ. [و] (3) ظاهر النص، وما ذهب إليه الجمهور أنه لا يثبت حق المخاصمة للمكتري أصلاً، وإنما يثبت للمكري، مالكِ الرقبة، ومن تمسك بالوجه الذي ذكرناه أوَّلَ النصَّ، و [قال] (4): أثبت الشافعي حقَّ الخصومة في الرقبة للمكري، والمكتري إنما يخاصم في المنفعة. 5547 - فإذا تبين ما ذكرناه من مقصود الفصل في حكم الغصب الواقع أولاً، وفي أثناء المدة، فنذكر الآن تفصيلَ القول في إقرار المكري (5)، وهو الذي أجراه الشافعي في أثناء الكلام، فنقول:

_ (1) (د 1): أوجب. (2) في (د 1): في حكم الله تعالى. (3) في الأصل: فظاهر. (4) سقطت من الأصل. (5) في (د 1): المكتري.

إذا أكرى (1) الرجل الدارَ، وجرى الحكمُ بصحة الإجارة، ثم إن المكري (2) أقر بأن الدار مملوكة لفلان، وأنه أكراها، ولم يكن له أن يكريها، فترتيب المذهب في ذلك أنا إن قلنا: يصح بيع الدار المكراة من المكتَري (3)، فيقبل إقراره في رقبة الدار؛ فإن البيعَ إذا كان ينفذ، فالإقرار أولى بالنفوذ. وإن قلنا: لا يصح بيع الدار المكراة، كما لا يصح بيع المرهون، فإذا أقر المكري برقبة الدار لإنسان، وزعم أنه اعتدى لما أن أكرى ملكَ غيره، ففي قبول إقراره للغير في دوام الإجارة قولان، ذكرهما الأصحاب، كالقولين فيه إذا رهن عيناً وأقبضها، ثم أقر بأنها كانت مغصوبة في يده. وقد سبق التفصيل فيه في كتاب الرهن. ثم قال الأصحاب: إن لم نقبل الإقرار في الرقبة، فلا كلام. وإن قبلنا (4) الإقرار في الرقبة، فهل يُقبل في المنافع حتى (5) يبطل حق المستأجر منها؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها- أنا لا نقبل الإقرار بالمنفعة؛ فإنها مستحقةٌ، ملكاً للمستأجر. والثاني - أنه يقبل في المنافع؛ فإنه إذا قبل في الرقبة، فالمنافع تتبع الرقبة. والوجه الثالث - أن الدار إذا غصبها الغاصب. من يد المكتري، وثبتت يده عليها، فأقر المكري لهذا الذي حسبناه غاصباً، فنقبل إقراره في الرقبة والمنافع؛ فإنه أقر في حالةٍ تحدث المنافع فيها على ملك المكري على الصحيح، بدليل أن أجرة المثل تكون لمالك الأرض، لا لمستأجرها. فإذا جرى الإقرار في حالةٍ لولا الإقرار، لكانت المنافع تحدث على ملك

_ (1) (د 1): اكترىَ. (2) (د 1): المكتري. (3) في (د 1): المكري. (4) (د 1): وإن قلنا: الإقرار في الرقبة يقبل؟ هل يقبل ... (5) في (د 1): التي.

[المكتري] (1)، فالإقرار في مثل هذه الحالة [غير] (2) مقبول، وبمثله: لو أقر المكري بالدار لإنسان، وكانت الدار في يد المكتري، وهو يستوفي ما يراه حقاً له من المنافع، فلا ينفد إقرار المكري في هذه الحالة في المنافع؛ نظراً إلى ثبوت يد المكتري عليها. هذا بيان اختلاف الأصحاب في ذلك. 5548 - وعلينا فضل بحث في الفصول (3)، وذلك أن نقول: وإن منعنا بيع الدار المكراة، فردُّ إقرار المكري في الرقبة محال، لا اتجاه له؛ فإن الرقبة ليست حقاً للمكتري، وليس كذلك ما [إذا] (4) أقر بالرقبة بعد الرهن والإقباض؛ فإن الإقرار وحقَّ المرتهن يزدحمان على الرقبة، والإقرارُ في رقبة الدار المكراة لا يزاحِم (5) حقَّ المكتري؛ فبعُد ردّ الإقرار. نعم، ردُّ الإقرارِ في المنافع جارٍ على قياس الباب، فإنها مستحقة للمكتري؛ فالوجه تنفيد الأقرارِ في الرقبة، وإجراءُ الخلاف في المنفعة. ثم الخلاف في المنفعة يترتب على القولين في قبول إقرار الراهن في الغصب، ووجه الترتيب أن إقرار الراهن بالغصب [أصلاً، يصادم] (6) حقَّ المرتهن، والمنافع تابعةٌ للعين، وقد يثبت على التبعية ما لا يثبت على الابتداء. فليفهم الناظر ترتيبَ الكلام على ما ذكرناه أولاً، ثم رتبناه آخراً. 5549 - ومما فرعه الأصحاب في أطراف الفصل أن قالوا: إذا أكرى الرجل الدارَ مدةً معلومة، ثم إنه لم يسلّم الدارَ إلى المكتري زماناً، من أول المدة، فالإجارة

_ (1) في النسختين: المكري. والمثبت تقدير منا لاستقامة العبارة. (2) زيادة اقتضاها السياق، كما سيتضح من المثال الآتي. والمراد: غير مقبولٍ في المنافع. ولولا هذه الزيادة (غير) لكان في الكلام تناقضاً، ثم لم يكن هناك فرق بين الوجه الثاني والوجه الثالث. وراجع الأوجه الثلاثة عند الرافعي في الشرح الكبير: 6/ 172. (3) (د 1): فضل نظر في الفصل. (4) ساقطة من الأصل. (5) (د 1): يزاحمه. (6) في الأصل: أصل يصادر.

تنفسخ في زمان المنع، وإن كنا نعذر المكري إذا كان يحبس الدارَ لتتوفّر المنفعة بالأجرة عليه (1). ثم إذا انفسخت الإجارة في تلك المدة، فالقول في انفساخها في بقية المدة يخرّج على الترتيب الذي مهدناه. هذا طريقة المراوزة. 5550 - وإذا فرع العراقيون على الوجه الذي انفردوا بحكايته، فإنهم يقولون: لو غصب غاصبٌ الدار مدةً، كان ما فات من المنافع تحت يده بمثابة المبيع إذا أتلفه الأجنبي، فإذا فاتت المنافع في يد البائع، فهو خارج على أن البائع إذا أتلف المبيع، فإتلافه كآفة سماوية، أو هو بمثابة إتلاف الأجنبي المبيع؟ ثم لا يخفى التفريع في ذلك. وهذا قول مهجور لا تفريع عليه. وقد نجز ما طلبناه من تحقيق مضمون الفصل. 5551 - ثم ذكر المزني فصولاً متقرّرة في مواضعها، منها استئجار الأرض من أراضي الخراج. والقولُ في الخراج، وضربِه، وكيفيته مذكور في موضعه، ثم تعرض لأصلٍ ليس من غرضنا في هذا الكتاب، فقال: العشر يجب على مالك الزرع في الأرض الخراجية، وكذلك العشر في الزرع الحاصل [للمكتري] (2) على المكتري (3)، (4 فإنه مالك الغلّة 4) والعشر يتبع الغلّة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في باب العشر من كتاب الزكاة. ثم أعاد المزني فصلاً من الاختلاف بين رب الأرض والمنتفع بها، بأن (5) قال المالك: أكريتكها، وقال الزارع: بل أعرتنيها، وهذا فصل أجرينا تأصيله

_ (1) عبارة (د 1): لتتوفر المنفعة عليه. (2) في الأصل: المكري. (3) من وضع الظاهر موضع الضمير، أي (عليه). وهي في (د 1): المكري، وهو تصحيف ظاهر. (4) ساقط من (د 1). (5) (د 1): فإذا.

وتفصيله، على أبلغ وجهٍ في البيان، في كتاب العاريّة، فليطلبها الناظر من موضعها. وقد نجزت مسائل الكتاب، ونحن نرسم بعدها فروعاً شذت عن ضبط الأصول. فرع لابن الحداد: 5552 - إذا اكترى رجلٌ داراً، ثم اشترى تلك الدارَ في خلال المدة، فلا خلاف في صحة البيع، وإن [منعنا بيع المكرَى] (1) من غير المكتري. ثم إذا اشترى المكتري، فهل تنفسخ الإجارة؟ في المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - وهو الذي اختاره ابن الحداد أن الإجارة تنفسخ؛ فإن ملك الرقبة واستحقاق المنفعة لا يجتمعان، كما لو اشترى الزوج زوجته؛ فإن النكاح ينفسخ، لا خلاف فيه. والثاني - لا تنفسخ الإجارة، وهو الذي صححه معظم الأصحاب. 5553 - فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة، فمن التفريع على ذلك أنه لو اطلع على عيبٍ بالدار يثبت به حقُّ ردّ المبيع، ولا يثبت به حق فسخ الإجارة؛ من جهة أنه يؤثر في نقصان المالية، ولا يؤثر في نقصان المنفعة، فإذا فسخ البيعَ بالرد بالعيب، بقيت الدار في يد المكتري بحكم الإجارة التي حكمنا ببقائها. وإن قلنا: تنفسخ الإجارة، فهل يسترد المشتري قسطاً من الأجرة في مقابلة بقية المدة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يسترد قسطاً من الأجرة، وهو القياس؛ لأن الإجارة إذا انفسخت، فحكم انفساخها ارتداد الأجرة. والوجه الثاني - أنه لا يسترد شيئاًًً وهو اختيار ابن الحداد. ووجهه أنه لما اشترى، فقد تسبب إلى ما يتضمن انفساخَ الإجارة، ومن تسبب إلى رفع عقدٍ، لم (2) يثبت له حق الرجوع إلى عوضه. وهذا ضعيفٌ لا ثبات له، وقد أوضحنا ما يفسده في أول الكتاب. 5554 - ثم إذا حكمنا بانفساخ الإجارة، وقد صح الشراء، فهل تُردّ الدار إلى

_ (1) عبارة الأصل: وإن منعناه بيع المكراة. (2) (د 1): فلا يثبت.

البائع، حتى ينتفع بها، في [بقية] (1) المدة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يردها عليه، والأصح أنه لا يردّها، والمنافع تحدث على ملك المشتري بعد انفساخ الإجارة. 5555 - وهذا الخلاف يناظر ما قدمناه فيه إذا باع المكري الدارَ من غير المكتري، وقلنا بصحة العقد، فلو فُسخت الإجارة بسببٍ من الأسباب، وقد بقيت بقيةٌ من المدة، فالدار تسلم إلى البائع المكري لينتفع بها في بقية المدة، أم تبقى في يد المشتري؟ فعلى وجهين: وحقيقتهما (2) أنّا في وجهٍ نعتقد أن المنافع -بعد انفساخ الإجارة- تحدث على ملك المشتري، وفي وجهٍ نعتقد أن منافع الإجارة مستثناة من استحقاق المشتري، فإذا انفسخت الإجارة، ارتدت المنافع في بقية المدة إلى البائع، وهي خارجة عن استحقاق المشتري. 5556 - ثم ما قدمناه من الوجهين في أن المكتري إذا اشترى الدارَ التي اكتراها، وحكمنا بانفساخ الإجارة هل يسترد شيئاً من الأجرة؟ إذا أردنا جمعه إلى الخلاف في أن المنافع هل ترتد إلى البائع؟ قلنا: سواء حكمنا بأنه يسترد قسطاً من الأجرة، أو قلنا: لا يستردّ، فالخلاف جارٍ في ارتداد المنفعة إلى البائع، ولا تعلّق لأحد الخلافين بالثاني. فليفهم الناظر ذلك؛ فإن سبب الخلاف في ارتداد المنافع إلى البائع أنا نتخيل كونَ منافع الإجارة مستثناة عن استحقاق المشتري في وجهٍ، وأما سقوط الرجوع بقسطه من المسمّى على وجهٍ (3)، فسببه انتساب المشتري إلى جلب الملك، وهو السبب الفاسخ. فليفهم الناظر، ما ذكرناه، وليميز الأصل عن الأصل، حتى يتضح له أن الخلاف في أحدهما لا يتفرع على الخلاف في الثاني.

_ (1) في الأصل: غير مقروءة، فقد رسمت هكذا: (ـينة). والمثبت من (د 1). (2) في (د 1): أحدهما أن في وجهٍ ... (3) (د 1): على وجهه.

5557 - وكان شيخي يقول: إذا حكمنا بارتداد المنافع إلى البائع في بقية المدة، استرد المشتري قسطاً من الأجرة وجهاً واحداً. وإن قلنا: لا ترتد المنافع إلى البائع في بقية المدة، فهل يبسرد المشترفي قسطاً من الأجرة؟ فعلى وجهين. وهذا ليس وراءه تحصيل، والأصل ما قدمناه. 5558 - ثم قال ابن الحداد: إذا ملك المكتري رقبة الدار عن جهة الإرث، فالإجارة تنفسخ، وهذا جوابٌ منه على أحد الوجهين. ثم قال: إذا حكمنا بانفساخها، فالمكتري يرجع بأجرة بقية المدة، وليس كما لو اشترى. وفرّق بأنه إذا اشترى، فقد نُسِبَ (1) إلى تحصيل سبب الفسخ، [وإذا] (2) ورث، فالانفساخ حصل من غير سببٍ (3) من جهته. ولم يرض الأصحابُ هذا الفرقَ، ورأَوْا تنزيلَ الملك الحاصل بالإرث منزلةَ تحصيل الملك الحاصل بالشراء، وقد ذكرت توجيهَ هذا، والردَّ على ابن الحداد، في فرقه في أول الكتاب. 5559 - ثم ذكر ابن الحداد أن من أكرى داراً، ثم إن المالك المكري اكترى من المكتري تلك الدار، فالإجارة، تصح، وهذه المسألة فيها وجهان ذكرهما الأصحاب، كالوجهين في أن المكتري إذا اشترى الدار المكراة هل تنفسخ الإجارة؟ والوجهان جاريان مهما حصل الملك في رقبة الدار للمكتري، فإذا اكترى المكري، فالملك في الرقبة ثابت [له] (4) فإذا أراد الاكتراء، مع ثبوت الملك في الرقبة، اطرد الخلاف، فالذي ذكره ابن الحداد، تناقضٌ بيّنٌ في التفريع؛ من جهة أنه اختار انفساخَ الإجارة إذا ملك المكتري رقبة الدار المكتراة، ثم جوز من المكري أن يكتري من

_ (1) (د 1): تسبب. (2) في الأصل: فإذا. (3) (د 1): تسبب. (4) ساقطة من الأصل.

المكتري وإن كان يتضمن ذلك اجتماعَ الإجارة وملكَ الرقبة في حق شخصٍ واحد، وهذا ظاهر في التناقض. وأراد بعضُ أصحابنا الانتصار لابن الحداد، وتصويبَه في تصحيح الاكتراء من المكتري، مع مصيره إلى أن الإجارة تنفسخ إذا طرأ عليها حصول الملك في الرقبة للمكتري، وهذا (1) لا ينتظم قط. وإن تخيّل متخيلٌ شيئاً، لم يصبر على السبر. فرع: 5560 - قد تمهد أن الرجل إذا اكترى دابة معينة، وعيّن لركوبها عبداً من العبيد، فلو أراد أن يُركب عبداً آخر مثلَه، جاز له ذلك، إذا كان الثاني في مثل حال الأول، وهو كما لو اكترى أرضاً ليزرعها قمحاً، فزرعها شعيراً، ويخرج من ذلك أنه لو تلف ذلك العبد المعيّن والإجارة واردة على عين الدابة، لم تنفسخ الإجارة، ولكن يبدل [المستأجر] (2) بعبد آخر؛ فإن لم يفعل، والدابة (3) في يده، فانقضت المدة التي تسع مقصود الإجارة، فقد استقرت عليه الأجرة، وهو الذي عطل حق نفسه. وبمثله ما لو اكترى دابة في الذمة من غير تعيين، وشرط أن يُركبها عبداً عيّنه، فلو تلف ذلك العبد المعيّن، فهل تنفسخ الإجارة؟ ما صار إليه ابن الحداد أن الإجارة تنفسخ في هذه الصورة؛ فإنه لم يتعيّن في المعاملة إلا العبد المعيّن، فهو متعلَّقُ العقد، فإذا فات (4) مَنْ تعلق به [تعيُّنُ العقد] (5)، انفسخ، ونزل في هذه الصورة منزلةَ تلف الدابة المعيّن في الإجارة الواردة على عين الدابة. 5561 - ونصُّ الشافعي يدلّ على ذلك في كتاب الصداق؛ فإنه قال: " لو أصدق امرأته خياطةَ ثوبٍ معين، ثم تلف ذلك الثوب، فالرجوع إلى مهر المثل"، ولولا أنه

_ (1) (د 1): ولا ينتظم ذلك قط. (2) في الأصل: المستأجرة. (3) في الأصل: والدابة والدار في يده. (4) (د 1): مات، والمعنى واحد. (5) في الأصل نفس العبد.

حكم بانفساخ العقد الوارد على المنافع، وإلا كان يقول: تأتي المرأة بثوبٍ آخر ليخيطه، فالرجوع إلى مهر المثل تصريحٌ بارتفاع (1) استحقاق المنافع. 5562 - ومن أصحابنا من قال: إذا تلف العبد المعين للركوب في الإجارة الواردة على الذمة، لم تنفسخ الإجارة، ويأتي المستأجر بعبدٍ آخر. وهذا متجه في القياس؛ فإن العبد إذا كان لا يتعين في الإجارة الواردة على العين، وجب ألا يتعين في الإجارة الواردة على الذمة. قال الشيخ (2): وهذا القائل يقول في مسألة الصداق: المرأة تأتي بثوبٍ آخر ليخيطه الزوج، ولا رجوع إلى مهر المثل. وقد قدمنا نوعاً من الكلام، وبالغنا في تفصيله، وفرضناه في الإجارة الواردة على العين، وأجرينا فيه الخلاف. وذلك أنا قلنا: لو استأجر رجلاً ليخيط له ثوباً، ولم يرض خياطةَ غيرِ من عيّنه، وعيّن الثوبَ، فلو تلف ذلك الثوب، فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه خلافٌ قدمته، ومستنده أنه لو لم يأت بثوب، وسلّم الأجيرُ نفسَه، فهل تتقرر الأجرة بتسليم الأجير نفسَه، وهو حرّ؟ فيه خلافٌ قدمتُه. فليفصل الفاصل بين النوع الذي أجريت الخلاف (3) فيه قبلُ، وبين ما ذكرناه الآن؛ فإن سبب الخلاف فيما ذكرناه الآن تعلّقُ الإجارة بالذمة، مع ارتباطها بتعيين عينٍ فيها، كتعيين العبد للركوب، وتعيين الثوب للخياطة. فرع: 5563 - ذكر صاحب التقريب وجهين في أن الأب هل يجوز له إجارةُ ابنه الطفل؟ أحدهما - أنه يجوز له ذلك، على شرط النظر، وهو الذي قطع به الأصحاب. والثاني - لا يصح؛ لأن في إجارته امتهانه، وإذلاله. وهذا لا يعادل ما يحصل

_ (1) (د 1): بانتفاء. (2) الشيخ: المراد به الشيخ أبو علي السنجي، وقد أشرنا إلى ذلك في أجزاء سابقة. (3) (د 1): القول.

بإجارته، فإن صححنا الإجارة، فاتفق بلوغه في أثناء المدة، فقد ذكرنا وجهين في أن الإجارة هل تنفسخ في بقية المدة؟ فإن حكمنا بأنها تنفسخ، فلا كلام. وإن حكمنا بأنها لا تنفسخ، فهل يثبت له الخيار إذا بلغ؟ فعلى وجهين. ثم إن حكمنا بأن الإجارة تنفسخ، أو قلنا يثبت الخيار، ولا تنفسخ، فلو أجر الأب عيناً من أعيان ملك الطفل، فبلغ الطفل، فهل تنفسخ الإجارة المعقودة على تلك العين فعلى وجهين. ولو فرعنا على أن الإجارة الواردة على عين الصبي لا تنفسخ، وقلنا: يثبت له الخيار، فهل يثبت الخيار في الإجارة المعقودة على ملكه؟ فعلى وجهين. والإجارة على الملك أبعد من الفسخ والانفساخ، والسبب فيه أنها عقدٌ وردت على قضية المصلحة على مال الطفل، في حال اطراد الولاية، وليس في إدامته حجرٌ على بدن الصبي بعد بلوغه واستقلاله، والمحذور في الإجارة الواردة على عينه أن يبقى بعد استقلاله مصرفاً للمستأجر، وهذا مفقود في الأموال (1). 5564 - وكل ذلك فيه إذا كان البلوغ طارئاً بالاحتلام، فأما إذا كان البلوغ بالسن، فقد وقعت الإجارة بحيث يصادف [بعضُها] (2) ما وراء البلوغ، وقد ذكرنا امتناع ذلك في أول الكتاب، وربطنا به ما يليق به. فرع: 5565 - إذا قال لإنسان: اشتر لي العبدَ الذي لفلان، ولك عليَّ درهم، أو قال: بع عبدي هذا، ولك كذا، فإن كان عملُ ذلك المستعمَلِ مضبوطاً، فالذي جرى إجارةٌ، وإن كان عملُه لا ينضبط، ويحتاج إلى ترددات خارجةٍ عن الضبط، وقد تقل وقد تكثر، فالذي جرى جعالة، وسنذكر أصل الجعالة وتفصيلها في آخر كتاب اللقطة، إن شاء الله عز وجل. ...

_ (1) (د 1): في الإجارة في ماله. (2) زيادة من (د 1).

كتاب إحياء الموات

كتاب إحياء الموات (1) قال الشافعي رحمه الله: " بلاد المسلمين شيئان عَامرٌ وموات ... إلى آخره " (2). 5566 - الأصل في الكتاب السنة والإجماع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضاًً ميتةً، فهي له " (3). وقال صلى الله عليه وسلم: " مَوتان (4) الأرض لله، ولرسوله، ثم هي لكم مني أيها المسلمون " (5). وأجمع المسلمون على الأصل، وإن اختلفوا في التفاصيل. 5567 - ثم ابتدأ الشافعي، فقسم الأراضي، وعبر عنها بالبلاد على دأب العرب، وأراد بالبلاد الأراضي. والتقسيم الجامع فيها أن نقول: الأراضي تنقسم إلى أراضي بلاد الإسلام وإلى أراضي بلاد الكفر، فأما أراضي بلاد الإسلام تنقسم (6) إلى عامر وغامر، فالعامر لأهله، وكذلك حقوق الأراضي، وسأجمع إن شاء الله قولاً شافياً في حقوق الأملاك.

_ (1) من هنا صار العمل يعتمد على ثلاث نسخ، نسخة الأصل (د 2) مع نسخة (د 1) وزاد عليهما نسخة (ت 3). (2) ر. المختصر: 3/ 102. (3) حديث: "من أحيا أرضاً ميتة ... " أخرجه البيهقي: 6/ 147، 148، وهو عند أبي داود بمعناه: باب إقطاع الأرضين، ح 3071، وانظر التلخيص: 3/ 139 ح 1327. (4) موتان: بفتح الميم والواو. (5) حديث: "موتان الأرض لله ورسوله ... " عند الشافعي في الأم: 4/ 54، بلفظ: " عادي الأرض " وعند البيهقي بهذا اللفظ: 6/ 143. وقد نبه الحافظ أن قوله: " أيها المسلمون " مدرج، وليس في شيء من طرق الحديث. انظر التلخيص: 3/ 138 ح1325. (6) جواب (أما) بدون الفاء، كدأب إمام الحرمين في أحيان كثيرة.

وأما الغامر، فقسمان، قسمٌ لم يجرِ عليه ملكٌ في الجاهلية والإسلام، وهو المَوَات الذي يُملك بالإحياء. وغرض الباب بيان أحكامه، إن شاء الله عز وجل. وقسم جرى عليه ملكٌ، وذلك ينقسم: قسمٌ جرى عليه ملك، ثم درست العمارة، فهو ملكٌ لمالكه، والأملاك لا تزول بزوال العمارات. فإن كان مالكه متعيّناً، لم يخف حكمه. وإن تطاول الزمن، وأشكل المالك في فترات [وانجلى لأهل] (1) النواحي، فهو ملك لمسلم غير متعيّن، والأمر فيه مفوّض إلى رأي الإمام، فإن رأى أن يحفظه ليتبيّن مالكه، أو وارثه، فَعَلَ، وإن رأى أن يبيعه، ويحفظ ثمنه على مالكه، فيفعل من ذلك ما يرى النظر فيه. ثم إن أراد أن يستقرض ذلك على بيت المال، فله ذلك. ولعلنا نستقصي ما يتعلّق بالفقه من أحكام الإيالة في موضعٍ نوفق له، إن شاء الله تعالى، وأراه لائقاً بأدب القضاء. هذا إذا كانت الأرض ملكاً للمسلمين، فدرست عمارتها، وغاب ملاكها. 5568 - فأما إذا كان على الأرض عمارة جاهلية، وقد خفي الأمر، ولم يدر كيف جرى استيلاء المسلمين عليها؟ فإذا استبهم كما وصفناه، ففي تملكه بالإحياء قولان منصوصان للشافعي: أحدهما - أنها تملك كما يملك ركازُهم، وإن لم يُدر كيف الاستيلاء، فإن آثارهم القديمة لا معوّل عليها، ولا حُرمة لها. والقول الثاني - لا تملك بالإحياء؛ فإنها ليست مواتاً، بل قد جرى الملك عليها، والموات هو الذي لم يجر عليها (2) ملك قط. وهذا القائل ينفصل عن الركاز، ويقول: هو عرضةُ الضياع، فلو لم يأخذه أول واجدٍ، لأخذه غيره. ونحن نرى تمليك الملتقط اللقطة، وإن علمناها لمسلم، لقربت مما ذكرناه، كما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: في فترات وأهل النواحي. والعبارة على الحالين قلقة. ولعلّ المعنى: "وأشكل معرفة المالك في فترات، وانجلى لأهل النواحي في فترات" والله أعلم. (2) كذا في النسختين بضمير المؤنث، وهو صحيح على تأويل "الأرض" مثلاً.

فأما ا"لأرض، فلا نخشى فواتَها، ولا نتوقع الاستزلال (1) فيها. ثم من لم ير إحياءها (2)، فإن أمكن معرفة كيفية الاستيلاء، أحدثنا الحكمَ على مقتضاه، فإن كان الاستيلاء عَنوة، سُلك بالأرض مسلك المغانم، ثم حصة الغانمين تلتحق بملك المسلم الذي لا يُدرى، وسبيله سبيل الضوالّ. وإن عرفنا أن الاستيلاء من غير إيجاف خيلٍ وركاب، فسبيله سبيل الفيء، وإن أشكل الأمر، لم يخرج عن ملكٍ جُهل مالكه سواء كان من الغانمين أو من المرتزقة. والذي أراه في ذلك أنه إذا كان إدراك كيفية الاستيلاء ممكناً، فلا يلتحق هذا بصورة القولين، وإنما القولان فيه إذا عرفنا أن العمارة جاهلية، وأشكل علينا دخولُها تحت أيدينا. 5569 - وذكر الشيخ أبو علي أن العمارة إذا تقادمت، وانتهت إلى عصر عادٍ وثمود، في الأمم السالفة، فلا حكم لها، وهي ملتحقة بالموات قولاً واحداً، واحتُج عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " عادي (3) الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني أيها المسلمون "، فعلى طريقه (4) لو تفاحش التقدّم والتقادم، فلا حكم له (5)، وقد أوضحتُ أن العمارة الجاهلية إذا قربت، وأمكن استدراك كيفية الاستيلاء من التواريخ، فيتعين الحكم بما يظهر في ذلك. وإن استبهم الأمرُ فيخرّج القولان حينئذٍ، ولعل المرعي في التقدم الذي ذكره الشيخ أن يكون بحيث لا ينتهي إليه ضبطُ ناقلٍ، إلا على إجمال. وما ذكره ليس متفقاً عليه. ومعظم الأصحاب على مخالفته، والمصيرِ إلى طرد القولين، مهما رأينا عمارة جاهلية.

_ (1) الاستزلال: بهذا الرسم تماماً في النسخ الثلاث، ولعلها بمعنى الأخد والاستيلاء. من: زلّ يزلّ من باب ضرب إذا أخذ، أو هي بمعنى الخطأ والانحراف، على نحو قوله سبحانه: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَان} [آل عمران: 155]، أي استدرجهم إلى الزلل. (المعجم، والمصباح). (2) عبارة (د 1)، (ت 3): ثم من أحياها. (3) هذه الرواية بلفظ (عادي الأرض) هي لذات الحديث الذي تقدم آنفاً. (4) (د 1): قوله. (5) "له" الضمير يعود على الإحياء.

وإذا لم نر أثرَ عمارة أصلاً، وقلنا إنه الموات الذي يُملك بالإحياء، فلسنا نشترط فيما ذكرناه في ذلك العِلْمَ والدرْك الحقيقي؛ فإنا لا نبعد أن ذلك الذي نقدّره مواتاً كان مملوكاً قبلُ، ولكن يكفي ألا نرى أثرَ عمارةٍ، ولا نراه من حقوق (1) موضعِ أثرِ عمارة الإسلام، ولا نعلم أنه كان عامراً فدرست عمارته بسبب من الأسباب، وإنما نُجري أحكام الأملاك دواماًً وابتداء على الظواهر، ولا يتصور مُدرَك القطع فيها. هذا بيان أراضي بلاد الإسلام في غرضنا المتعلق بالتقسيم. 5575 - فأما أراضي بلاد الشرك، فإنها تنقسم إلى عَامرٍ، وموات. فأما العامر فملك الكفار، وإن استولينا عليها قهراً، كانت غنيمة، وإن انجلَوْا عنها مرعوبين من غير قتال، فهو فيءٌ إذا ثبتت الأيدي عليها. فأما الموات في دار الحرب، فقسمان: قسم كانوا يذبّون عنه، ويحامون، وقسم لا يذبون عنه. فأما ما كانوا يذبون عنه، فإن استولينا على ديارهم، نُظر: فإن جرى الاستيلاء عَنوة عن قتال واقتهار، فكل من له حقٌّ في المغنم يصير فيه بمثابة المتحجّر، وسنذكر أن من يحجِّر موضعاً ليُحييه، فهو أولى به. وإن كان الاستيلاء من غير قتالٍ، فأهل الفيء في ذلك الموات بمثابة المتحجرين، كما ذكرنا. وسيأتي بيان التحجُّر، ومعناه، وحكمه. وإن كانوا لا يذبّون عن ذلك الموات، فهو مما يشترك فيه كل محيي، فإن أحياه مسلم، ملكه، وإن أحياه كافرٌ ملكه؛ فإنه ليس من بلاد الإسلام، حتى يمتنع إحياؤه على الكفار، كما سنذكره من بعد. 5571 - ومما يتعلق بذلك أنا إذا قررنا طائفةً من الكفار على بلدةٍ لهم صُلحاً، ووضعنا الأمر على ألاَّ نتعرّض لديارهم ويقبلوا الجزية، فإذا كان ببلدتهم مواتٌ، وكانوا يذبّون عنه، كما قدّمنا وصفه، فليس للمسلمين إحياء مواتهم، كما ليس

_ (1) عبارة (د 1)، (ت 3): من حقوق موضعٍ عليه أثر عمارة الإسلام.

للكفار إحياءُ موات بلاد الإسلام؛ فإن موات بلدتهم منسوبٌ إليها، كما أن موات بلاد الإسلام منسوب إلى بلاد الإسلام. وليس هذا الذي ذكرناه على حد التحجّر؛ فإن التحجر لا يُثبت حكماً دائماً، ومن تحجر ثم توانى، بطل حقُّه، والاختصاصُ الذي ذكرناه دائمٌ للكفار في البلدة المختصة بهم، وللمسلمين في موات بلاد الإسلام، ثم الموات الذي يملك بالإحياء في بلاد المسلمين يختص به المسلمون، فلا يملكه أهل الذمة إذا أحْيَوْه، خلافاً لأبي حنيقة (1). 5572 - ولا يتوقف حصول الملك بالإحياء للمسلم على إذن الإمام وإقطاعه، خلافاًً لأبي حنيفة (2). 5573 - ثم قد كثرت غلطات المزني في هذا الكتاب، وبلغت مبلغاً لا يليق بمنصبه، ولا محمل لها عندي إلا شيء واحد، وهو أنه أحاط بفقه المسائل وأتى به على وجهه، وصادف في الكتاب ألفاظاً قليلةَ الجدوى في الفقه، فلعله انتسخها من نسخة، فوقع فيها بعض الزلل، والخللُ يتطرق إلى اعتماد النسخ (3)، فممّا أُخذ عليه أنه قال: " والموات الثاني ما لم يملكه أحد في الإسلام يُعرف، فإذا لم يملكه، فهو الموات الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4). وهذا فيه خلل؛ لأنه جعل قوله: "إذا لم يملك" تكراراً لما سبق من قوله: " والموات الثاني ما لم يملكه " [فجعلهما] (5) شيئاً واحداً. وإنما قال الشافعي: " أو

_ (1) ر. البدائع: 6/ 195، حاشية ابن عابدين 5/ 277، الاختيار 3/ 66، تكملة فتح القدير: 9/ 5. (2) ر. البدائع: 6/ 194، حاشية ابن عابدين: 5/ 278، الاختيار: 3/ 66، تكملة فتح القدير: 9/ 3. (3) (د 1)، (ت 3): والنسخ. (4) عبارة المزني بتمامها: "والموات شيآن: موات ما قد كان عامراً لأهله، معروفاً في الإسلام، ثم ذهبت عمارته، فصار مواتاً، فذلك كالعامر لأهله، لا يملك إلا بإذنهم. والموات الثاني - ما لم يملكه أحد في الإسلام يعرف؛ ولا عمارة ملك في الجاهلية، إذا لم يملك. فذلك الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " المختصر: 3/ 102. (5) في الأصل: وبجعلهما.

لم يُملك، فهو الموات "، فجعل المواتَ الذي يملك بالإحياء قسمين: أحدهما - لم يملكه أحد في الإسلام يعرف، وليس عليه عمارة في الجاهلية، والثاني - ما عليه عمارة في الجاهلية، فجعل المزني القسمين قسماً واحداً. فصل قال: " وسواء كان إلى جنب قرية عامرة، أو نهر ... إلى آخره " (1). 5574 - قصدَ الشافعي بذلك الردَّ على أبي حنيفة (2)، حيث قال: " الموات الذي بقرب العمران [لا يملكه] (3) غير ملاّك العمران بالإحياء، ومالك العمران أحق بقدر صَيْحته (4) منه في كل جانب ". 5575 - فأما عندنا، فالموات القريب من العمران والبعيد سواء، إذا لم يكن من حريم العمران وفِنائه، والحقوق المعدودة من حقوق الأملاك: كمسيل الماء، ومناخ الإبل، ومراح الغنم، ومتحدّث النادي، وملعب الصبيان، وسأجمع حقوقَ الأملاك في فصل -إن شاء الله تعالى- وهو من أهم مقاصد الكتاب. 5576 - والغرض الآن أن ما لا يتعلق بحقوق الأملاك من الموات يملكه من يبتدره بالإحياء. واحتج الشافعي عليه بأنه صلى الله عليه وسلم أقطع ابن مسعود موضعاً يقال له: "دور" وكان بين ظهراني عمارة الأنصار، فجاءه حيٌّ من بني زهرة يقال لهم: بنو عبد بن زهرة، فقالوا: نَكِّب عنَّا ابنَ أم عبد، قال صلى الله عليه وسلم: " فلم ابتعثني اللهُ إذاً، إن الله لا يقدس أمةً لا يؤخد للضعيف فيهم حقُّه" (5). وأراد حقَّ

_ (1) ر. المختصر: 3/ 103. (2) ر. مختصر الطحاوي: 134، البدائع: 6/ 194، تكملة فتح القدير: 9/ 2. (3) في النسخ الثلاث: يملك. (4) (د 1): حصته. وعبارة الإمام في الدرّة " بقدر مدى صوته " مما يؤكد صحة نسخة اصل، ومعها (ت 3). (5) حديث إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رواه الشافعي في الأم: 3/ 268، 273، ومن طريقه البيهقي: 6/ 145، قال الحافظ: وهو مرسل، ووصله الطبراني في الكبير: 10/ 274، ح10534. (التلخيص: 3/ 140 ح1330).

الإكرام والتعظيم، وأبان أنه ضعيف في جسده، حقيقٌ بأن يعظم حقُّه، لمقامه في العلم والدين، والحق نوعان حقٌّ واجب، يُقضى ويقتضى (1)، وحق تقديم وتفضيل. 5577 - وغلط المزني، فقال: فجاء حيٌّ من بني عُذْرة (2)، وهذا غلط؛ لأن عبدَ بن زهرة، لم يكونوا من بني عُذْرة، وإنما هم من قريش، وهم رهط عبد الرحمن بن عوف. وغلط المزني غلطاً آخر، حيث قال: " وإن ذلك لأهل العامر ". والشافعي قال: ليس ذلك لأهل العامر. وغلط بعد هذا غلطاً آخر، فقال: " والموات الذي للسلطان "، واقتصر على هذا، وهذا كلام يستدعي جواباً، والشافعي قال: والموات الذي للسلطان أن يقطعه كذا وكذا (3). فصل قال: " والذي عرفناه نصاً ودليلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حمى النقيع (4)، وهو بلد ليس بالواسع ... إلى آخره " (5). 5578 - مضمون الفصل الحمى، وتصويره: أن يحمي الإمامُ ناحيةً، مرعىً لإبل المصالح، ويَمنع نَعَمَ العامة عنه. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى لخاصته ولمصالح المسلمين من نَعَم الصدقة والجزية، والضوالّ، والخيل المعدّة في سبيل الله، فلا يُنكِر حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) أحدٌ.

_ (1) سقطت من (د 1)، (ت 3). (2) في مختصر المزني المطبوع بين أيدينا: "فجاء حي من بني زهرة" على الرواية التي صححها إمام الحرمين. راجع المختصر: 3/ 103. (3) هذا الغلط الثالث، تراه مصوّباً في نسخة المختصر المطبوعة، راجع: 3/ 103. (4) النقيع: موضع قرب المدينة، وهو بالنون المثقلة المفتوحة، على بعد عشرين فرسخاً من المدينة، وهو من ديار مزينة (معجم البلدان). (5) ر. المختصر: 3/ 104. (6) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب أهل الدار يُبيَّنون فيصاب الوِلدان والذراري، ح3013، وكتاب الشرب والمساقاة، باب لا حمى إلا لله ورسوله، ح 2370.

5579 - وهل يجوز للأئمة بعده أن يحموا؟ أما إن حمَوْا لخاصتهم، لم يجز، وإن جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إذاً معدودٌ من خواصّه، وخصائصه. وهل للأئمة أن يحموا لمصالح المسلمين؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجوز لهم ذلك، كما لا يجوز لآحاد الناس، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حمى إلا لله ورسوله " (1). والثاني - يجوز، والحديث محمول على الحمى للخاصة، بدليل ما روي في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا حمى إلا لله ولرسوله وللأئمة بعده " (2). وصح أن عُمر حمى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الزَّبَذة، وولّى حماه مولاه هُنَيّ، وقال " يا هُنيّ ضمَّ جناحك للناس "، وعنى به تواضع ولا تتكبر، " واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل ربّ الصُرَيْمة والغُنيمة، وإياك ونَعَم ابنِ عوف ونعمَ ابنِ عفان؛ فإنهما إن تهْلِك ماشيتُهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة يأتيني بعياله، ويقول: يا أمير المؤمنين أفتاركُه أنا؟ لا أبالك، فالكلأ أهون عليّ من الدينار والدرهم " (3) وأراد به أنه إن هلكت ماشيته، احْتجتُ إلى الإنفاق عليه من الدنانير والدراهم في بيت المال، والكلأ دونهما. 5580 - ثم قال: " حمى رسول صلى الله عليه وسلم النقيع " ثم فسر النقيع، فقال: " هو بلد ليس بالواسع الذي إذا حُمي ضاقت البلاد على أهل المواشي حوله ". وقال: " وإنه قليل من كثير مجاوزٌ للقدر ". وهذا مختلٌّ؛ فإن الشافعي قال: " فإنه

_ (1) رواه البخاري، وجعله ترجمة للباب بلفظه، فقال: باب لا حمى إلا لله ولرسوله. وهو برقم الحديث السابق نفسه. وانظر التلخيص: 2/ 533 حديث 1106. (2) لم أصل إلى هذه الرواية. (3) حديث عمر ومولاه هني رضي الله عنهما رواه البخاري بهذا السياق، غير أنه لم يذكر الربذة (كتاب الجهاد، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب، ح 3059)، وقد بين ابن سعد أنه كان على حمى الربذة (فتح الباري 6/ 176) ورواه الشافعي في مسنده: ح 434، وعبد الرزاق في المصنف: ح 19751. وننبه هنا إلى أننا اعتمدنا في مراجعة نص الحديث في البخاري طبعة دار السلام للكتب الستة في مجلد واحد، وفيها " ... إن تهلك ماشيتهما يرجعان ... " كذا بإثبات النون؛ مما لفت نظرنا وجعلنا نبحث لها عن وجه في شواهد التوضيح والتصحيح لابن مالك، وأخيراً راجعنا كثيراً من طبعات البخاري فلم نجد في أيٍّ منها إثبات النون، فليتنبّه الباحثون لذلك.

قليل من كثير غيرُ مجاوز للقدر "، وقد يتجه تصويب المزني بأن نجعل (مجاوز) نعتاً لكثير، [فنكسر] (1) الزاي، فيقال: من كثيرٍ مجاوزٍ للقدر. 5581 - ثم قال الشافعي: " وفي حماه -[عنى] (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم- صلاحٌ لعامة المسلمين، وذكر وجهَ الصلاح (3). وكان للعرب في الجاهلية حِمًى، فكان الكبير منهم يحمي لنفسه، إذا انتجع بلداً مخصباً، فكان [يوفي] (4) بكلبٍ على جبل أو نشزٍ، ثم استعوى الكلبَ، ووقف له من يسمع منتهى صوته، فحيث انتهى عواؤه حماه من كل ناحية لنفسه، وهو يرعى مع العامة فيما سواه، ولا شك في فساد مثل هذا. ثم قال المزني: ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يحمي، إن شاء الله تعالى، لصلاح عامة المسلمين. وهذا استثناء (5) في غير موضعه؛ فإنه يتضمن شكّاً، وتردّداً، والشافعي لم يقل هكذا، ولم يذكر الاستثناء في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الاستثناء، فحذف المزني الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع الاستثناء مكانه. 5582 - ثم احتج الشافعي على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحمي إلا لصلاح العامة، وإن جاز له الحمى لخاصته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يملك [مالاً] (6) إلا ما لا غنى به وبعياله عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم ملك خمسَ الفيء والغنيمة، وأربعة أخماس الفيء، وكان يصرف خمس الخمس إلى الكُراع والسلاح عُدّةً في سبيل الله، وينفق على نفسه وعياله من أربعة أخماس الفيء، ويدّخر منها نفقةَ

_ (1) في الأصل: ونكسر. (2) في الأصل: غير. (3) عبارة المختصر: "وفيه صلاحٌ لعامة المسلمين بأن تكون الخيل المعدّة لسبيل الله تبارك وتعالى، وما فضل من سهمان أهل الصدقات، وما فضل من النعم التي تؤخد من الجزية، ترعى جميعها فيه .. " جزء 3/ 104. (4) في الأصل: يؤتى. يوفي بكلب على جبل، أي يعلو به عليه، من أوفى على المكان: أي أشرف عليه. (المعجم. والمصباح). (5) يشير إلى قوله: إن شاء الله تعالى. (6) زيادة من (د 1)، (ت 3).

سنتهم، فما فضل كان يصرفه إلى الكُراع والسلاح، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة " (1). [وأخلّ] (2) المزني بنقل هذا اللفظ (3)، لأنه نقل: " حتى صيّر ما ملّكه الله من خُمس الخُمس قوت سنته " (4)، وهذا يوهم أنه كان ينفق من خمس الخمس، وليس الأمر كذلك. والشافعي قال: " صيّر ما ملّكه الله من خمس الخمس مردوداً في الكراع والسلاح ". 5583 - ثم من بقية الكلام في الحمى أنا إذا جوّزنا للإمام أن يحمي، فحمى على موجب الشرع، فلو أراد إمامٌ بعده أن ينقض حمى الإمام قبله، ففي جواز النقض قولان: أحد القولين- أنه يجوز، ولعله الأصح؛ فإن حمى الإمام اجتهادٌ منه في جهة النظر، وطلبٌ لمصلحة المسلمين، فإذا رأى مَن بعده ردَّ الحمى نظراً، لم يُعترض عليه. والقول الثاني - لا يجوز نقضه؛ فإنه في حكم المُحْرز للجهة المعيّنة، فلا سبيل إلى نقضه، كما إذا جعل بقعةً مسجداً، أو مقبرةً، فلا يجوز تغييره، وإن اقتضت المصلحة التغيير. والقائل الأول ينفصل عن هذا، ويقول: المسجد يترتب على ملك مالك، ثم هو تصرفٌ لازمٌ، فلم يقبل النقضَ، والحمى يرد على الموات، وهو ضربٌ من الحَجْر على حسب المصلحة، فنقضُه، وردُّه إلى ما كان عليه من حكم العموم لا يشابه نقضَ تصرفات الملاك. وأطلق الأئمةُ القولَ بأن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُنقض،

_ (1) حديث: إنا معاشر الأنبياء لا نورث. متفق عليه من حديث أبي بكر رضي الله عنه. بلفظ: " لا نورث ما تركناه صدقة" وبلفظ المؤلف عند النسائي في الكبرى. (البخاري، ح 3093، 3712، 4046، 4241، 6726 ومسلم: الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ... "، ح 1758، 1759، والنسائي، ح 6275 طبعة مؤسسة الرسالة، وانظر التلخيص: 3/ 213 ح 1461). (2) في الأصل، (د 1): وأخذ. (3) (د 1)، (ت 3): الكلام. (4) نص عبارة المختصر: " حتى صير ما ملّكه الله من خمس الخمس، وماله -إذا حبس قوت سنته - مردوداً في مصلحتهم في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله " جزء 3/ 107.

وقالوا: إنه نصٌّ، ونصُّ الشارع لا يتطرق إليه نقضٌ، وحمى الإمام اجتهادٌ، ولا يمتنع نقض الاجتهاد. وقال قائلون فيما ذكره الأئمة، وفيما ذكره الشيخ أبو علي وغيرُه: لو ظهر لنا أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لعلّةٍ، ثم تبيّن زوالُ العلة، ففي ردّ حماه إلى حكم العموم وجهان أيضاًً. ثم من جوّز الردَّ إلى حكم العموم يقول: لا بد من صَدَر ذلك عن رأيٍ متَّبع، من جهة الوالي، ولا نقول: كما (1) زالت العلة، انقطع حكم الحمى، وذلك أن هذا [مختلفٌ] (2) فيه، والهجوم على مخالفة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُخطرٌ (3)، فلا بد عند من يرى جوازَ الرد إلى حكم العموم من نظرِ صاحب الأمر، فينتظم في جواز نقض الحمى قولان في حمى الإمام، ثم وجهان مرتبان في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5584 - ومما يجب التنبه له أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد بين الولاة والقضاة ومن جوّز نقض الحمى جوزه عن اجتهادٍ، وقد يُخيِّل ذلك أنه من باب نقض الاجتهاد بالاجتهاد قلنا: المعنيُّ بقول العلماء لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد أن القاضي إذا أمضى حكمه وقضاءه في واقعةٍ، وكان لقضائه مستندٌ من مذهب العلماء، ومتعلّق بالحجة، فإذا أراد قاضٍ بعده أن ينقض قضاءه، لم يجد إليه سبيلاً. وأما الحمى فمن جوّز نقضَه، فليس يأخذه من هذا المأخذ، ولكنه يقول: حَمْيُ الأول كان لمصلحة، فالمتبع المصلحة في كل عصر. ثم إذا جوزنا للإمام أن ينقض حَمْي إمامٍ قبله، فيجوز للحامي أن ينقض حَمْي نفسه، إذا رأى في ذلك مصلحة، ولا يتوقف جواز النقض على ضرورة مرهقة. فهذا منتهى الكلام ومأخذه في الحمى، وما يتعلق به ابتداءً ونقضاً انتهاءً. ولو ابتدر مبتدر، فأحيا قطعةَ أرضٍ مما حماه، فسنذكر هذا مفصلاً، إن شاء الله تعالى. ...

_ (1) كما: بمعنى (عندما). وهذا جارٍ بكثرة في لسان إمام الحرمين. (2) في الأصل: مجتهد. (3) مخطر: من أخطر المرضُ ونحوه فلاناً: جعله بين السلامة والخطر، وهو مثل: أنجد وأتهم، إذا دخل نجداً وتهامة، فأخطر: دخل في الخطر. (المعجم).

باب ما يكون إحياء

باب ما يكون إحياءً 5585 - قد ذكرنا أن إحياء الموات -على التفصيل المقدّم- سببٌ يُملّكه. وهذا الباب معقود لتفصيله، وكيفيته، وليس يكاد يخفى أن صفة الإحياء تختلف باختلاف المقصود في المُحيا، والمتبع في ذلك العرفُ، وقد مهدنا في (الأساليب) وغيرِها: " أن ما ورد في الشرع غيرَ محدود، وهو ما يختلف تفصيله، فالرجوع فيه إلى العرف، وسبب اقتصار الشرع على الإطلاق الإحالةُ على ما يفهمه أهل العرف في الفن الذي ورد الخطاب فيه " (1). 5586 - فنطلق في صدر الباب أن ما يعد إحياءً عرفاً في الغرض المقصود، فهو سبب تملّك الموات، وما لا فلا. 5587 - فإن أراد أن يتخد من الموات مسكناً فإحياؤها (2) بأن يحُوطَها ويسقُف (3) البعض بأن يتأتى سُكونه (4)، ثم يقع استتمامُ الأبنية والمرافق بعد جريان الملك. 5588 - وإن أراد أن يتخد من الأرض حظيرة تأوي إليها الأغنام، والمواشي، فقد رأيت الأصحاب متفقين في الطرق على أنه لا يكفي أن ينصب حوالي البقعة شوكاً وسعفاً، وجريداً، من غير أن يبني؛ فإنّ الزريبة التي يُقصد تملكها لا يُكتفَى بهذا التحويط فيها، وإنما يعتاد الاقتصارَ على هذا القدر المنتجِعُ (5) المجتاز، وأيضاً فإن

_ (1) نهاية ما ذكره في (الأساليب). (2) تأنيث الضمير على معنى البقعة أو الدار. (3) سقفتُ البيت سقفاً من باب قتل. (المصباح). (4) سكوناً: أي سكناً، وهذا جارٍ في لفظ إمام الحرمين، وتلميذه أبي حامد الغزالي كثيراً. (5) المنتجِع: طالبُ الكلأ، يقصد أخصب بقعةٍ يراها، وانتجع القوم: إذا ذهبوا لطلب الكلأ في موضعه. (المصباح).

ما يفرض من ذلك ليس تغييراً للأرض به مبالاة، وإنما هو بمثابة نصب الأخبية والخيام، ثم لو حوّط على الحظيرة حائطاً مبنياً، فإذاك، ولو أثبت [بناء] (1) في طرفٍ يأوي إليه الراعي والمراقب، وجعل الباقي حظيرةً من سعفٍ أو قصبٍ، فقد ذهب بعضُ أصحابنا إلى أن هذا كافٍ. والمنقولُ عن القاضي وما اقتضاه كلام شيخنا (2) أنه لا يملك صاحبُ هذه الواقعة إلا محلَّ البناء، والباقي يجري على قياس التحويط بالسعف والجريد، وليس كما إذا وُجد البناء ممن يبغي مسكناً بعد التحويط؛ فإنَّا نجعل ذلك إحياءً، تعويلاً على التحويط المعتبر مع إمكان السكون في المبنى، ونصب السَّعَفِ والقصب ليس حائطاً معتبراً. 5589 - فإن أراد أن يتّخد بستاناً، فلا بد من أن يحوِّط ويحفر الجداول ويهيّىء مجرى الماء إلى الأشجار. وذكر الأصحاب أنه لا بد من غرس الأشجار؛ لأن اسمَ البستان لا ينطلق على الأرض البيضاء الخليّة عن الغراس. فإن أراد مزرعةً، لم يحتج إلى التّحويط فوقها؛ فإن معظم المزارع بارزٌ لا تحتوي عليه الحيطان، ولكن لا بد من تمييز البقعة أوّلاً بجمع ترابٍ حولها؛ حتى تتميز عن الغير، وهذا التمييز فيها ينزل منزلة التحويط في غيرها، ثم لا بد من أن يسوق إليها الماء من نهرٍ، أو يُنبط (3) لها عَيْناً، أو يحفر بئراً، لتعتمد الزراعة الشِّرب العِدَّ، وإذا أجرى ماءً من نهرٍ عِدٍّ، كفى. وإن كان يحتاج إلى شراء الماء؛ فإن الشرط أن يتمكن من السقي من الماء العِدّ. 5590 - ثم اختلف الأئمة في أنا هل نشترط في إتمام الإحياء أن تُزرعَ وينبت البذر في الأرض؟ فمن أصحابنا من قال: لا بد منه، وهو ظاهر النص، فإن الشافعي قال: " وتزرع ". ومن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى إيقاع الزراعة؛ فإن الإحياء تهيئةُ البقعةِ للمقصود، وإيقاع الانتفاع ليس شرطاً؛ فإن من يبغي اتّخاد مسكنٍ يكفيه أن يهىء

_ (1) في الأصل: مأوى. وفي ت 3: " ولا يثبت بنا طرفا يأوي " وهو تحريف متفاحش. (2) شيخنا: يعني والده، وقد صرح بذلك الرافعي. (فتح العزيز: 6/ 244). (3) يُنبط: يستخرج. وماضيه أنبط إنباطاً. (المصباح).

البقعة لإمكان السكون فيه، ولا يشترط في تتمة الإحياء أن يسكن. وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أنه إذا أراد اتخاد بستانٍ، فلا بدّ من غرس الفسيل، وهذا القائل يفرق بين البستان والمزرعة، ويقول: اسم البستان لا يُطلق على البقعة قبل الغرس، واسم المزرعة يثبت قبل الزراعة. ومن أصحابنا من أجرى في الغراس والمقصودُ البستانُ خلافاً، وزعم أنه لا يشترط في وجهٍ؛ فتحصّل في الزراعة والغرس ثلاثةُ أوجه. وذكر شيخي تردداً في أنا إذا جرينا على الأصح في اشتراط الغرس في البستان، فهل يشترط أن يَعْلَق الغراس، أم يكفي في جريان المِلْك الغرس؟ فذكر في ذلك خلافاً، والوجه عندنا القطعُ بأن العلوق ليس شرطاً. ولا شك أنه يشترط فى اتخاد المزرعة التسوية والتكريب والتقليب بالثيران والفدان (1)، أو المساحي، هذا لا بد منه، فلو عمد إلى مواتٍ، وحرثه وبذره، معتمداً على القَطْر والمطر، فقد تردد صاحب التقريب في أن هذا هل يكون إحياء مملِّكاً؟ ومال إلى أنه لا يكون مملّكاً؛ فإن هذا لا يعدّ أمراً مؤبداً معتمداً، ولا اعتماد حتى تستند البقعةُ إلى ماءٍ يعتمد، كما قدمناه. قال: ويحتمل أن يحصل الملك؛ فإن المطر من جهاتِ السقي، ويحتمل أن يفصّل الأمر في ذلك رجوعاً إلى العرف، ويقال: إن كان أهل الناحية يعتمدون المطر. ويتّكلون عليه، فيكون ما فعله إحياء، وإن كانوا لا يعتمدون المطر، فمن (2) فعل ما وصفناه عُدَّ طالباً رزقاً على غرر، فهذا محلّ تردد صاحب التقريب. فإن قيل: هلاّ قطعتم في الصورة الأخيرة بأنه لا يملك لما أشرتم إليه، قلنا: لأن المزرعة تنقسم في عرف الزرّاعين، فمنها مزرعةٌ أصلية تعتمد ماءً عِدّاً، ومنها مزارع مهيّأة على الأمطار. 5591 - فهذه جُملٌ من كلام الأصحاب فيما يكون إحياءً وفيما لا يكون إحياءً. ومجاري كلامِ الأصحاب دالّةٌ على اختلاف صفةِ الإحياء باختلاف المقصود في المحيا.

_ (1) الفدان: آلة الحرث، ويطلق على الثورين يحرثُ عليهما في قران. (المصباح). (2) (د 1)، (ت 3): ثم فعل.

5592 - وكنت أود أن نقول: كلُّ ما يحصِّل الملكَ في بُقعةٍ إذا انضم إليه القصد، فإنه يحصِّل الملك، وإن (1) فُرض القصدُ في جهةٍ أخرى. [والذي] (2) أراه في ذلك الاستشهاد بالحائط، فالتحويط يملِّك البقعةَ إذا انضم إليه قصدُ اتخاد الحظيرة، فليكفِ مجردُ التحويط [في كل غرضٍ يفرض] (3). وقد وجدتُ هذا لصاحب التقريب، ولكنه لم يصرح بالقاعدة التي رُمتُها (4)، بل قال (5): لو قلتُ في حق من يبغي مسكناً يكفي التحويط فيه، لكان محتملاً. 5593 - وإنما قلنا ما قلنا؛ لأن ما كان سبباً في تملّك مباح، فليس للقصد فيه وقعٌ، فإنّ من كان يتّبع ظبية وكان يبغي امتحانَ شدة سَعْي نفسه، فأدركها، وضبطها، ملكها، وإن لم يخطُر (6) له قصدُ التملك. ومن احتشّ حشيشاً، وملأ ظرفاً كان معه، فقصد أن يتخد منه مقعداً يجلس عليه إذا ركب، فيملك الحشيشَ، وإن لم يقصد تملّكه، وكذلك القول فيما يداني ذلك، والمتعلَّقُ من جهة النقل فيما ذكرته ما حكيتُه

_ (1) جواب هذا الشرط مفهومٌ مما قبله، تقديره: فإنه يحصّل الملك أيضاً. وكان العبارة: " كل ما لا يفعله إلا المتملّك يحصّل الملك، انضم إليه القصد، أو فرض في جهة أخرى " كما يتضح ذلك من حكاية النووي والرافعي لكلام الإمام في التعليق الآتي قريباً. (2) في الأصل: (فالذي) بالفاء على أنها جواب الشرط. ولكن الواو هنا للاستئناف. (3) في الأصل: من كل غرضٍ يطلب. والإمام بهذا يخالف الأصحاب، في اعتبارهم اختلاف صفة الإحياء باختلاف المقصود في المحيا. (4) القاعدة التي رامها إمام الحرمين هنا هي النظر إلى اعتبار قصد المحيي، وعدم قصده، وحاصل قوله: " أن ما لا يفعله -في العادة- إلا المتملك كبناء الدار، واتخاد البستان يفيد الملك، قصد أو لم يقصد. وما يفعله المتملك وغيرُه، كحفر البئر في الموات، وكزراعة قطعة من الموات اعتماداً على ماء السماء، إن انضم إليه قصد أفاد الملك، وإلا، فوجهان. وما لا يكتفي به المتملك كتسوية موضع النزول، وتنقّيته عن الحجارة، لا يفيد الملك، وإن قصده ". ر. الروضة: 4/ 291، وفتح العزيز: 6/ 246. (5) في الأصل: بل لو قال: لو قلت. (6) يخطُر: من بابي قعد وضرب.

من الاكتفاء بالتحويط في المسكن. والله أعلم، وإن أصرّ الأصحابُ، وهم كذلك يصرّون في تحصيل الإحياء على حسب المقاصد، فلو شبّبَ [مُشبِّبٌ] (1) بالخلاف فيما استشهدتُ به في الاحتواء على الظبية والحشيش، كان بعيداً (2). وقد ظهر اختلاف أصحابنا في صُورةٍ سنذكرها في الصيد والذبائح، وهي أن ظبية لو دخلت داراً فلو قام صاحب الدار إلى الباب وأغلقه، وجرّد قصده إلى أَخْذ الظبية، فهذا يثبت الملك في الظبية، وإن اتّفق منه إغلاق الباب من غير قصدٍ، ففيه اختلافٌ بين الأصحاب، وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى. 5594 - والذي ذكرته يجري في كل سبب يشترك فيه وجهان فصاعداً، وهذا كالتكريب، والتقليب، والتسوية، فهذا القدر يكفي في المزرعة، مع تمييز البقعة، والاعتمادُ على ماءٍ؛ عِدٍّ كما وصفناه، وما ذكرناه مقدمةٌ لاتخاد البستان، فيتجه جداً الحكمُ بحصول الملك. ثم [العَامل] (3) على قصده في استتمام العمارة، والدليل عليه أنه لو كان يبغي بستاناً تَمَثَّلَه في نفسه، وهو على نهاية العمارة، فلا يشترط أن يبلغها، حملاً للعمارة على قصد العامر، وهذا نبنيه على وجهٍ من الرأي مع [تشبّثٍ] (4) بطرفٍ من النقل، مع الاعتراف بأن طريقة الأصحاب في المسلك الظاهر ما قدمناه. 5595 - ومما يدور في الخَلَد أن الحائط له أثر في اتخاد المسكن، والبستان، والحظيرة، كما أطلقه الأصحاب، ثم لم يتعرضوا لتفصيل الحيطان، ولا نشك أنها تختلف باختلاف المقاصد، فحائط المسكن يزيد على حائط الزريبة، والمعتبر في كل مقصود ما يليق به، فالساكن يزداد قصدُه في التحصين بالجدار على قصد صاحب البستان. 5596 - ومما نختتم به هذه الفصول أن من استفتح حائطاً، وأحكم الأساسَ ورفع

_ (1) سقطت من (د 1)، (ت 3)، وحرفت في الأصل إلى (فشبب). (2) كذا. ولعلها: " كان مبعداً " كما هو جارٍ في لفظ الإمام. (3) في الأصل: "العامر" والمثبت من (د 1)، (ت 3). (4) حرفت هذه الكلمة في النسخ، وهذا عجب من العجب، فقد رُسمت في الأصل هكذا: (تنبّث) وفي (د 1): (تثبيت) و (ت 3): (التثبت).

منه مقداراً مثلاً، ولم يكن ذلك المقدار حاجزاً، فلا يحصل الملك به، فإذا لم نجعله مالكاً، جعلناه متحجراً، كما سنصف على أثر ذلك التحجرَ وحكمَه، فإذا أضرب عن استتمام العمارة، وتبين ذلك منه، فأراد إنسان أن يعمر تلك البقعة، واحتاج إلى نقض ما بناه ذلك الأول، فهذا سائغٌ، وأرى ذلك مشروطاً بالتزام الضمان في النقص الذي يُحدثه القلعُ؛ فإن الذي بنى كان له أن يبني، وكلُّ من بنى بناءً مباحاً، ثم تسلّط الشرعُ على نقضه، فعلى الناقض أرشُ ما ينقصه القلع. وتمام البيان في هذا يتضح بفصل التحجر كما سنذكره الآن إن شاء الله. فصل قال: " ومن أُقطع أرضاًً أو تحجّرها، فلم يعمُرها ... إلى آخره " (1). 5597 - اتفق أصحابنا أولاً أن لإقطاع الوالي مساغاً في الأراضي الموات، وليس الإحياء مشروطاً بالإقطاع، كما ذهب إليه أبو حنيفة (2)، فمن ابتدر وأحيا بقعة من الموات، ملكها، وإن لم يراجع الإمامَ، ولا معترضَ للأئمة فيما فعله، ولكن إذا جرى إقطاعُ صاحب الأمر، اختُصّ المقطَع بمحل الإقطاع، حتى لا يزاحمَ فيه اختصاص المتحجر. والتحجُّرُ أن يبتدىء الرجل تحقيقَ قصده في إحياء بقعةٍ، فينصب عليها علامة، بأن يخط حولها خطوطاً بيّنةً، أو يغرز خشباً وقصبات، أو يجمع حولها تراباً، وليس ما يأتي به محسوباً من العمارة، [وإنما يفعله إعلاماً أنه يهمّ بالعمارة] (3) حتى لا يقصد البقعةَ مبادرٌ. هذا هو التحجر. وغرضُه الإعلامُ، فيحصل بما يحصل به الإعلام. 5598 - ثم ليس لغير المتحجّر أن يعمُر الموضعَ المتحجَّر، فإن ابتدره وعمَره مع

_ (1) ر. المختصر: 3/ 108. (2) ر. مختصر الطحاوي: 134، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 518 مسألة 1661. (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وعبارة (د 1)، (ت 3): " وإنما يفعله أن يهم بالعمارة " والمثبت تقدير من المحقق.

كونه ممنوعاً، فهل يملك البقعة بالإحياء المعتبر التام؟ حاصل ما ذكره الأئمة أوجهٌ ثلاثة: أحدُها- أنه لا يملك؛ فإنّه أقدم على إحياءٍ هو ممنوعٌ منه، فكان مقتضى المنع إعدام أثر الإحياء. والوجه الثاني - أنه [يملك] (1)، وهو ظاهر القياس؛ فإنه لم يوجد من المتحجِّر إلا إظهارُ همّه بسبب التملك، وليس ما جاء به محسوباً من السبب، وهذا الذي أكمل الإحياء أتى بسبب التملك، وهذا بمثابة تحريمنا السّوْمَ على السَّوْم والخطبة على الخِطبة، ثم لو سام على سَوْم أخيه، واشتراه، ملَكه، وإن فعل ما لم يكن له أن يفعله. والوجه الثالث- أن التحجر إن لم يتصل بإقطاع الإمام، ملك المحيي، وإن أقطع الإمامُ فتحجر، أو وجد الإقطاع المجرد من غير تحجر، فالمُحيي لا يملك؛ فإن الإقطاع (2) صادر من صاحب الأمر، ولا يليق بتأكيد الشرع طاعةَ الولاة [تجويزُ] (3) الخروج عن مراسمهم. والتحجر الذي ينفرد به المتحجر يجوز أن يُفرض مزاحمتُه. 5599 - ولو تحجر المتحجر، ثم طال الزمان، وامتدت المدة، وأعرض عن العمارة، فللوالي أن يقول: إن أحيَيْتَها، وإلا خلّينا بينها وبين من يُحييها، فإن الموات مُرصدٍّ لعامّة المسلمين، وإنما ثبت حق المتحجِّرِ فيه؛ لأنه ذريعةٌ إلى العمارة، فإذا طال الزمان، بطلت الذريعة. ثم لا يتوقف بُطلانُ التحجر على إبطال الوالي، وإنما نؤثر رفعَ الأمر إلى الوالي لقطع الخصومة، وإلا فالحكمُ أن التحجرَ إذا بطل أثره، فلا حكم له، حتى إذا قلنا: لا يملك المُحْيي البقعةَ المتحجرة، فيُقضَى بأنه يملكها إذا ظهر انقطاعُ أثر التحجّر. ثم لا مرجع في ذلك إلى ضبطٍ محدود، وإنما الرجوع إلى أهل العرف، والذي

_ (1) في الأصل: تمليك. (2) (د 1)، (ت 3): الإقرار. (3) في الأصل: تحريف.

نفهمه منه أن الإنسان لا يؤخر العمارة عن التحجر إلا في زمانٍ يتهيّأ فيه للعمارة، ويهيِّء أسبابَها. والوجه فرض ذلك من متمكن من تهيئة أسباب العمارة، فإذ ذاك [يعتبر] (1) زمان التهيؤ، فأما إذا تحجر فقيرٌ بقعة، وأخد ينتظر أن يُملّكه الله عزّ وجل ما يهيّىء به أسباب العمارة، فهذا لا معوّلَ عليه، وكذلك لو تحجّر المتمكن بقعةً، وزعم أنه سيعمُرُها في السنة القابلة، فلا حكم لتحجّره، والأصلُ ألا ينفصل التحجرُ عن العمارة إلا بمدة التهيُّؤ. وإذا حصل الانقطاع، فلا فرق بين أن يكون هذا عن عذر: مثل أن يغيب أو يُحبس، وبين أن يكون عن [إضرابٍ] (2) وإعراضٍ، والأصل في الباب أن عامة المسلمين مشتركون في الموات، وأثر التحجُّر ما نصصنا عليه. [فإذا زال أثرُ التحجّر] (3) ووقعُه، استمر حكمُ الاشتراك، وهو الأصل، وإذا أقطع الإمام بقعةً فالمُقطَع فيه كالمتحجِّر، فليشتغل بالعمارة، على حدّ اشتغال المتحجّر، فإن لم يفعل، كان القول [فيه] (4) كالقول في المتحجر في جميع ما قدمناه. وبَيْن أئمتنا الخلافُ في أن من ابتدر وأحيا البقعة المتحجَّرة قبل ظهور التقصير من المتحجِّر، فهل يملك بالإحياء؟ على خلاف سيأتي في الصيد، وهو أن ظبيةً لو توحّلت في ملكٍ لإنسان، أو عشَّش طائرٌ في ملكه، فصاحب الوحل والملك الذي فيه العُش لا يملك الظبيةَ والفرخَ، ولكن ليس لغير المالك أن يأخد الصيدَ والفرخَ، فلو أخذه هل يملكه؟ فيه خلافٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى. ووجه التشبيه أن التوحّل والتعشيش في الملك أثبت للمالك على الجملة حقّاً، والاصطيادُ سببٌ للتملك، فإذا ورد على حق التملك، كان مختلفاً فيه، كالتحجُّر مع الإحياء.

_ (1) في الأصل: يغيّر. (2) في الأصل: إضرار. (3) في الأصل: فإذا زاد التحجر. (4) ساقطة من الأصل. (5) في (د 1)، (ت 3) متحققاً. وهو مخالف للسياق.

5605 - ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن المتحجِّر إذا أخد في العمارة، وكان تمهّد الأساس، أو بنى بعضَ الجدار، فقد ذكرنا أن هذا القدرَ لا يُثبت له الملك، ولكن لو ابتدر مبتدر إلى إحياء هذه البقعة، يجب القطع بأنه لا يملكها؛ فإن السابق إلى العمارة أولى، فقد تأكد حقُّ تملكه. والخلاف الذي ذكرناه في الابتدار إلى عمارة البقعة المتحجرة، [فسببه] (1) أن العمارةَ أقوى، وإن كان التحجر أسبق، فرأى بعضُ الأصحاب تقديمَ السبب الأقوى على الأسبق؛ فإن التحجر ليس من العمارة، وإذا ابتدأ العمارة في مسألتنا، فله حقُّ السبق، والتمسكُ بالسبب الأقوى. 5601 - ومما يتعلق بذلك أن الإمام إذا حمى بقعةً، وصححنا الحمى، فلو ابتدر مسلمٌ، وأحيا طرفاً من المكان المحمي، فقد اختلف أصحابنا في أنه هل يملكه؟ وهذا يقرب من الخلاف في إحياء الأرض المتحجِّرة، ولعل الأولى في الحمى ألا يملك؛ فإنه حكمٌ ثابت، وليس في حكم العلامة على ما سيكون، بخلاف التحجر. 5602 - وقد ذكرنا في قاعدة المذهب أن المسلمين إذا استولَوْا على موات بلاد الشِّرك، وكان المشركون يذبُّون عنه كما يذبّون عن عامر البلاد، فالغانمون فيه كالمتحجّرين. وذكر الشيخ أبو علي وجهين آخرين: أحدهما - أنهم يملكون الموات إذا قصدوا تملّكه، كما يملكون المغانم؛ فإن الإحياء إثباتُ يدٍ على الاختصاص على الأرض المشتركة، فإذا ثبتت أيدي الغانمين، وظهر قصدُهم إلى الاستيلاء، كان ذلك بمثابة الإحياء، وليس يبعد أن يملكوا بالاستيلاء ما لم يكن ملكاً قبل استيلائهم، كما يملكون الحرائر، والذراري بالسبي. والوجه الآخر- أنه لا يثبت لهم اختصاص بالموات، وإن اختصوا بالاستيلاء، ولا ينزلون منزلة المتحجِّرين أيضاًًً، بل المسلمون كافة في إحيائها شَرَعٌ (2)؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علق ملكَ الموات بالإحياء، وحقَّ التخصيص بالتحجر، ولم يوجد منهم إحياءٌ، ولا تحجّرٌ.

_ (1) في الأصل: وسببه. والفاء هنا على تقدير: وأما الخلاف. والله أعلم. (2) شَرَع: بفتح الشين والراء، أي متساوون (المعجم).

فقد تحصَّلَ مما ذكرناه، مع ما قدمناه ثلاثة أوجه: أصحُّها -وهو الذي قطع به معظمُ الأئمة- أن المستَوْلين بمثابة المتحجّرين. والثاني - أنهم في الموات بمثابتهم في المغانم. والثالث- أنه لا حقَّ لهم، ولا اختصاص. وهذا فيما كانوا يذبّون عنه، فأما إذا كانوا لا يذبّون عن موات بلادهم، فقد تقدم التفصيل فيه، فلا مزيد عليه. 5603 - ومما ذكره الأئمة أن المتحجِّر لو باع ما تحجَّره، ففي صحة بيعه وجهان: أصحهما - المنعُ؛ فإن البيع يستدعي ملكاً ثابتاً، والتحجّر لا يقتضي ملكاً للمتحجّر. والوجه الثاني - أنه يصح، ومورده حقُّ الاختصاص، وهذا القائل يستشهد ببيع حق البناء على العلوّ، كما قدمناه في كتاب الصلح. وهذا عند هذا القائل بيعُ حق مللكٍ، وليس بيعَ عينٍ مملوكةٍ من العلوّ، وقد قدمنا تفصيلَ القول في ذلك. وتصحيحُ البيع من المتحجِّر في نهاية الضعف. 5604 - ومما أرى ختمَ الباب به أن الجهة التي لا تردد فيها في قصد التملك، لا حاجة إلى فرض القصد فيها، وهذا كبناء الدار، والمساكن، وكاتخاد البساتين، والتحويط عليها، وكل ما يقصده المتملك. 5605 - وقد يقع ممن يطلب انتفاعاً" (3) ثمّ إعراضاً بعده، كالزرع في بقعةٍ من الأرض على القَطْر -وكان أهل البادية يعتادون ذلك- فهذا مما يستدعي قصداً، وكذلك حفر البئر في المفاوز، ومواضع العشب، قد يفعله [المنتجِع] (2) وقد يفعله المتملك، فإذا تردد الأمر، فلا بدّ من القصد. 5606 - وكل ما " لا " (3) يقتصر عليه المتملك أصلاً؛ لم يتضمن ملكاًً، وإن انضم

_ (1) (د 1): انتفاعها. و (ت 3): انتفاعها، ثم أغراضاً بعيدة. (2) في الأصل: المنتهج. (3) ساقطة من (د 1)، (ت 3).

القصدُ إليه، وهذا كتسوية بقعة للنزول فيها، فهذا وإن قصد به المسوِّي تملكاًً، لا يكون تملّكاً. 5607 - وهذه القواعد في النفي والإثبات تضاهي نظائرها في الاصطياد، فمن نصب أحبولة، وهيأ أسبابها على مدارج الصيود، فهذا مما لا يقصد به [إلا] (1) الاصطياد، فلا حاجة إلى تقرير ضمِّ قصدٍ إليه. وإغلاقُ الباب على الصيد إذا اتفق دخولُه الدارَ مما يُقصد على علمٍ، وقد يقع من غيرِ علمٍ، فإن كان على علمٍ وقَصْدٍ، أفاد تملكاًً، وإن لم يجرِ به (2) قصدٌ، ففي الملك وجهان. ونحن نطرد هذه المسالك في الإحياء، فما لا تردد فيه، فلا حاجة إلى القصد فيه، حتى كأنه من قبيل الأفعال يضاهي التَّصريحَ من قبيل الأقوال. وما يتردَّدُ إذا انضم إليه قصدُ التملك، كان تملّكاً، وإن لم ينضم إليه القصدُ، ففي حصول الملك به وجهان. وما لا يقصد به التملك لم يؤثِّر انضمامُ القصد إليه، فيناظر توحّلَ الظبية في الأرض المسقيّة، ويضاهي من الألفاظ ما لا [يحتمل] (3) معنى الطلاق. هذا حاصل القول في قواعد الباب. فرع: 5608 - موات الحرم يُملك بالإحياء؛ فإن جهات التملكاًت جارية عندنا في الحرم، جريانَها في غير الحرم، وما ملكت رِباع مكة إلا على هذه الجهة. ولو أحيا المُحيي بعضَ بقاع عرفة، فقد اضطرب أصحابنا فيه، فذهب القياسون إلى أنه يملك ما أحياه، ولا تضيق عرفةُ وإن اختلت (4) أطرافها عن حجيج الدنيا. ومن أصحابنا من قال: لا يَملك المُحيي من عرفةَ شيئاً، لتعلق حق الوقوف بها؛ وإذا فتحنا بابَ التملك، ارتفع الاختصاص، وقد يُفضي ذلك إلى الاستيعاب، ثم

_ (1) سقطت من الأصل. (2) (د 1)، (ت 3): وإن لم يكن عن قصدٍ. (3) في الأصل: يحصل. (4) (د 1)، (ت 3): أحييت. هذا، واختلت هنا بمعنى انتُقصت (معجم).

لا حجرَ على المحيي لو بنى، أو غرس وهذا يؤدي إلى إبطال حق الوقوف من البقاع المحياة. والوجه الثالث - أن من أحيا مواتاً من عرفة ملكه، ويبقى حقُّ الوقوف للواقفين، ثم اضطرب أصحابنا في تفصيل هذا الوجه، فمنهم من قال: يبقى حقُّ الوقوف، وإن لم يضق الموقف، حتى لو قصد الموضعَ المحيا رهطٌ من الحجيج، لم يُمنعوا. ومنهم من قال: إن كان في الموقف متسعٌ، لم يجز استطراق ما مُلك، وإن ضاق الموقف، استُطرِقت الأملاك. ***

باب ما يجوز أن يقطع وما لا يجوز

باب ما يجوز أن يُقطع وما لا يجوز قال: " ما لا يملكه أحد من الناس يُعرف صنفان ... إلى آخره " (1). 5609 - وقد أتى المزني بألفاظٍ مضطربة في صدر هذا الباب، وجاوزت غلطاتُه في الكتاب حدَّ العثرات، ولو قيست مواضع غلطه بمواقع إصابته، لعادلتها، إن لم تزد. قال: " ما لا يملكه أحدٌ من الناس يُعرف صنفان: أحدهما - ما مضى، ولا يملكه إلا بما يستحدثه فيه، والثاني - ما لا تُطلب المنفعة فيه إلا بشيء يجعل فيه " (2)، عَنَى بالأول المواتَ؛ فإنه غير مملوك قبل الإحياء، وإنما يملكه المحيي بأن يجعل فيه شيئاً، [وعنى] (3) بالثاني المعدن، غيرَ أنه غَلِط، إذ قال: " لا تُطلب المنفعة فيه إلا بشيءٍ يُجعل فيه " وهذا والأول واحدٌ. والشافعي قال: "والثاني - ما تُطلب منفعتُه، لا بشيء يجعل فيه، وهذا صفة المعادن " (4). 5610 - ثم مقصودُ هذا الباب الكلامُ في المعادن الظاهرة، ونحن نقول: المعادن تنقسم، فمنها كامنة، وفيها بابٌ معقودٌ سيأتي، إن شاء الله تعالى، ومنها ظاهرة، والكلام يتعلق بتصوّرها، ثم بيان الحكم فيها. فأما القول في تصويرها: فالمعادن الظاهرة هي التي نيلُها ظاهر بادٍ، لا حاجة إلى عملٍ في إظهار نيلها، ثم قد يسهل أخذُ نيلها على يُسر، وقد يعاني الآخد بعضَ المشقة في الأخذ، لا في إظهار النَّيل، والقسمان جميعاً من المعادن الظاهرة، فمنها معدن

_ (1) ر. المختصر: 3/ 108. (2) السابق نفسه. (3) في الأصل: وعين. (4) عبارة الشافعي في (الأم) بهذا النص: "والثاني - ما تطلب المنفعة منه نفسه ليخلص إليها، لا شيء يجعل فيه من غيره، وذلك المعادنُ" ا. هـ (الأم: 3/ 265).

الملح، وهو ينقسم إلى ما ينعقد من ماءٍ ظاهرٍ، وإلى ما يُلفى في الجبال ظاهراً من غير حاجة إلى إظهاره بتنحية التراب والأحجار عنه، والقِيرُ (1) ظاهر، وكذلك النَّفطُ (2)، والكبريت، والموميا (3). ويلتحق بالمعادن الظاهرة المياه العِدّة، وهي العيون والأودية، ومن المعادن الظاهرة الأحجار ذوات المنافع الخاصة، كأحجار الأرْحية، وأحجار البَرام (4)، فإذا كانت ظاهرةً، فهي من المعادن الظاهرة، وإن كان يتعب آخذها باحتفارها وقلعها، وألحق الأئمة بالظاهر ما لو ظهر في مسيل الماء ذهبٌ أو غيره من الجواهر المطلوبة، مما يجرفه (5) السيل وسال به، وأظهره، فهو الآن بمثابة المعادن الظاهرة. هذا بيان التصوير. 5611 - فأما الحُكم، فالأصل في الباب أن هذه المعادن مشتركة بين الناس لا يتطرق إليها اختصاصٌ بمالكٍ (6) بوجهٍ، ولا يتطرق إليها تخصيصٌ بإقطاعٍ، بل الخلقُ فيها شَرَعٌ، وهي فوضى بينهم لا تحجّر فيها، ولا تملك، ولا إقطاعَ، والأصل في ذلك مع الإجماع ما روي أن أبيض بنَ حمال استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحَ مأرب، فأقطعه إياه، أو أراد، فقيل: يا رسول الله إنه كالماء العِدّ، فقال عليه السلام: " فلا إذاً " (7)، وإنما همَّ عليه السلام بالإقطاع لأنه لم يحسبه

_ (1) القير: هو القار، وهو لغةٌ فيه. (المصباح). (2) النَّفطُ: بالفتح أجود، وقيل الكسر أجود (المصباح). (3) الموميا: مادة شمعية توجد في الجبال، وهي لفظة فارسية. (المعجم الفارسي العربي الجامع، لواضعه حسين مجيب المصري). (4) البَرام: بفتح الباء جمع بُرمة، وهي القدر من الحجارة (المعجم). (5) في (د 1)، (ت 3) جرى. وساغ هنا عطف الماضي على المضارع؛ لأن الشرط اتحاد المعطوف، والمعطوف عليه زماناً، وإن اختلفا في النوع، فالفعل (يجرفه) بمعنى (جرفه)، ومثاله قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّار} [هود: 98] فالفعلان يتحققان في المستقبل، فهما متحدان في الزمن، وإن اختلفا في النوع (ر. النحو الوافي: 3/ 621). (6) (د 1)، (ت 3): تملك. (7) حديث أبيض بن حمال: رواه الشافعي في الأم: 3/ 265، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء، باب في إقطاع الأرضين: 3064، والترمذي: الأحكام، باب ما جاء في القطائع: =

ظاهراً، وقدّره من المعادن الكامنة، فلما تبيّن له ظهوره، أبى من الإقطاع. 5612 - فإذا تمهد ما ذكرناه من حقيقة الاشتراك فيها، [فللسّابق إليها حقٌّ] (1) لا ينكر، وقال الأئمة: من سبق إلى معدنٍ (2) من هذه المعادن، فهو أحق بها حتى يستوفي حقَّه، لا يزاحمه من يلحقه، وهذا لا موقف فيه يقف الفقيه عنده، ولا توقيف من جهة الشرع يُنتهَى إليه، غيرَ أنا نعلم أن السابق لِحَقِّ سبقه مزيّةٌ، فلو قال الذي يلحقه: نشترك في أخْذِ النّيل، فيأخد وآخُذ، قيل: هذا إبطالٌ لِحَقِّ السبق، وقد اتفق العلماء على ثبوته، وهذا بمثابة إثباتهم حقَّ السبق لمن يسبق إلى مجلس القاضي؛ فإنه يُقدّم بحكومته لحق سبقه، وكذلك السابق إلى المفتي، والعالم المعلِّم (3). ولو قال السابق: أُوقر من نيل المعدن أوقاراً كثيرة وأرُدّ الحُمُرَ ذاهبة وجائية، وأنا في ذلك لا أبرح حتى أقضي وطري، قلنا: ليس لك إلا ما يقتضيه العرفُ لأمثالك إذا سبق، فلك ما يعتاده السابق الذي يبغي الرفعَ والانكفافَ، ولا عليك لو [استعنت] (4) على الاعتياد، فأما ترديد الدواب، فمحاولةٌ للاختصاص بالمعدن، ثم لا ضبط في جهة النهاية، وهذا كما أن السابق إلى مجلس القاضي لا يقدّم إلا بحكومةٍ [واحدةٍ] (5)؛ إذ هذا هو المعتاد في المجلس الواحد بلا مزيدٍ. ولو تكلّف السابق إلى المعدِن جمْعَ مائة حمار فصاعداً، وهذا لا يعتاده الرجل السابق إلى المعدن، لم يمكّن من هذا، فليس له إذاً إلا ما يليق به. لا يزاحمُ في

_ =1380، والنسائي في الكبرى: إحياء الموات باب الإقطاع: 5764 - 5768، وابن ماجه الرهون باب إقطاع الأنهار والعيون: 2475، والدارقطني: 4/ 221، والبيهقي: 6/ 149. ر. التلخيص: 3/ 142 ح1337. (1) في الأصل: " فالسبق فيها حكم لا ينكر "، و (د 1): " فللتسبيق إليها حق لا ينكر "، وفي (ت 3): " فلنسق إليها حتى لا تنكر ". والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق والسباق. (2) "المعدن " يستخدم في هذا الباب بمعنى ما يُسمّى (المنجم) عندنا الآن، فهو مكان استخراج المعادن. وما يستخرج من (المعدِن) هو الذي يُسمّيه هنا (النَّيْل). (3) في الأصل: والعالم إلى المعلّم. (4) في الأصل: أسبغت. (5) ساقطة من الأصل.

النَّيْل حتى يستوفيه، وأثر سبقه أن يتخفف ويأخد اللائق بحاله، على قربٍ من غير مزاحمة، فإذا فعل، لم نمنعه من أخد النيل أيضاًًً، ولكنه يزاحمه غيرُه؛ فإنه استوفى حقَّ سبقه، وصار في الزائد عليه كغيره، فلو عكف على المعدن، وكان لا يبرح، ولا يمتنع من أن يزاحَم، ولكن كان يأخد مع الآخذين، فالمذهب أنه لا يُمنع منه. 5613 - وذهب بعضُ الأصحاب إلى أنه يُمنع ويُنحَّى؛ فإنه في عكوفه مجاوزٌ لعادة الآخذين من نيل المعدن، والأصح الأول؛ فإن الازدحام غير منكر في نيل المعادن، ولو كان يبتكر إلى المعدن كلَّ يوم، أو كان يبعث إليه غلمانه [يتناوبون] (1)، فلا منعَ. 5614 - ولو استبق رجلان إلى المعدن، فإن استمْكنا من الاشتراك في أخد النيل، اشتركا فيه، وإن ضاق مدخل المعدن (2)، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يُقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قُدّم، فيستوفي حقَّه على ما فسرناه في حق السابق، والقرعة تُلحقه بالسابق، كما (3) إذا ازدحم رجلان على مجلس القاضي، فإنا نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قدم، كما نُقدِّم السابق. والوجه الثاني - أن الإمام يقدّم بالاجتهاد أحدَهما، من غير قرعة. وذكر أصحابنا مسلكاً ثالثاً، فقالوا: ينصب القاضي من ينوب عنهما، ويأخد قدرَ ما يحتاجان إليه، ويقسم بينهما. وهذه الأوجه تحتاج إلى مزيد بحث. أما وجه القرعة، فبيِّنٌ، وأما تقديم القاضي، فليس يستند إلى تَشَهٍّ (4)، وإلى وفاقٍ في انطلاق اللسان، وإنما يرجع إلى رأي، فإن خفي، مثل أن يرى أحدَهما أفقر وأضيق وقتاً، فيقدمه لهذا، فإن استويا عنده، اضطر إلى القرعة، إذا دام نزاعُهما. ثم ما أشرنا إليه من وجوه الرأي لا يجوز أن يستمسك به المستبقان؛ فإن الرأي يدِق فيه، فهو مفوضٌ إلى من إليه الأمر، وأما ما ذكره بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً من

_ (1) في الأصل: يتناولون. (2) أي فتحةُ المنجم، كما فسرناه في التعليق آنفاً. (3) (د 1)، (ت 3): فلما. (4) (د 1)، (ت 3): تشيه.

استنابة إنسان، فهذا إذا وجدنا متبرعاًً، أو رضيا بأن يستأجرا، فإن لم يرضيا، ولم نجد متبرعاًً، فالقرعةُ، فهي إذاً مآل كل مسلك، وهي [المفتتح] (1) في الوجه الأول. 5615 - ومن تمام البيان في ذلك أنهما إذا استبقا، والنَّيلُ غيرُ عزيزٍ، فلو أخذا يبتدران النيلَ، فقد يأخد أحدهما أكثر، فيُمنع من هذا، فليس الأمر [بالتسالب] (2)، وليس [كتناهب] (3) اللاقطين، [لما يُنثر] (4)؛ فإنّ قصد الناثر أن يبتدره المتناهبون، والشرع يشير إلى الانتصاف، فإذا تنازعا، وقد ضاق النيل (5)، فالتسوية، إلا أن يتسامحا. 5616 - ومما يتصل بذلك أن العين العِدّ لو احتفّ به ناسٌ سبقوا إليه، واتخذوا بساتينَ ومزارعَ، وكان الماء كافياً، وافياً، من غير مزيد، فلو لحق لاحقٌ، واستحدث بستاناً، أو مزرعةً، وأراد أن يَشْركَ السابقين، ولو فعل لضاق الماء، وقَصَر عن البساتين، فالقدماء أولى بحق السبق، ولكن السبق في هذا النوع من الانتفاع لا يُزال، ولا يتصور التناوب فيه، بخلاف السبق إلى النَّيْل الذي يوجد من المعدن، وفي هذا مزيد كشفٍ سأذكره، إن شاء الله عز وجل- في البئر التي تحفر في المفازة؛ إذا فصَّلنا القول في فضل مائها. هذا منتهى الكلام في المعادن الظاهرة، تصويراً، وحكماً. 5617 - ثم قال الأئمة: إذا عمد الرجل إلى أرضٍ على [الساحل] (6)، وسوّاها، واحتفر فيها حفيرةً يدخل الماء إليها، وينعقد الملح، فهذا مما يختص به العامر المحتفر، هكذا قال الأصحاب. والوجه أن نقول: إن كان يبغي بالعمل على الأرض إحياءها لمقصودٍ، فسبق إليها

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل حُرّفت إلى: بالتنالب. (3) في الأصل: كناهب. (4) ساقط من الأصل. (5) (د 1)، (ت 3): البناء. (6) في الأصل: التناحل.

الماء، وانعقد الملح، فلا شك أنه يختص بذلك الملح الحاصل، وسنوضّح أن من أحيا أرضاًً، فظهر فيها معدن من المعادن الكامنة، فمُحيي الأرض مالكه. 5618 - ولو احتفر الأرض على الساحل، وقصد بما يفعله جذبَ الماء لينعقد الملح، فهذا في التحقيق أخذٌ من النَّيْل العام، على جهة الاختصاص. فالوجه فيه أن يقال: إن كان بالقرب من مملحةٍ ينعقد الملح فيه (1)، فإن احتفر حفيرةً، وجرَّ شيئاً من الماء، فهو مزاحَمٌ [فيه إن أراد أن يبقى له دائماً، وقد يُميل إليه جملةَ المملحة، فاحتفاره كأخذه] (2) من النيل، وقد مضى الأخد مفصَّلاً، فالاحتفارُ طريقٌ في الأخْد فدائمُه كدائمه، وما يحصل شيئاً فشيئاً [كالأخذ] (3) المقطّع من المعدن. ولو احتفر الأرضَ على شط البحر، والبحر ليس [مملحة] (4)، ولا ينعقد الملح فيه أبداً، ولكن إذا فتح منه فتحات ضيقة، إلى سَبْحة (5)، انعقد الملح منه على قرب، فإذا فعل الفاعل هذا، اختص، ولم يزاحَم، فكان بما فعله كاسباً منفعةً بجهةٍ في إحياء الأرض، كالزارع والغارس وغيرهما. هذا تفصيل ما أبهمه الأصحاب. ...

_ (1) كذا في النسخ الثلاث، بضمير المذكر، ولها وجهٌ أشرنا إلى مثله كثيراً. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (3) في الأصل: كأخد. (4) في الأصل محرفة إلى: ممكنة. (5) كذا بالأصل، بالحاء المهملة، فقد رسم تحتها (حاءً) صغيرة علامة على إهمالها، وهي بمعنى الحفرة، من سبَحَ فلانٌ في الأرض: حفر. (المعجم). وفي (د 1)، (ت 3): سبْخَة، بالخاء المعجمة، وهي أرضٌ ذات ملحٍ ونزّ، لا تكاد تنبت. (المعجم) وكلا المعنيين يستقيم به الكلام، والله أعلم أيهما أراد المؤلف رضي الله عنه.

باب تفريع القطائع

باب تفريع القطائع 5619 - مقصود الباب الكلام في مقاعد الأسواق وما يتعلق بها ويُدانيها، فالأصل في الشوارع المرورُ والاستطراقُ. وكلُّ ما يضيّق على المارة، فهو ممنوعٌ، فإن الشوارع مقصودُها مضطرَبُ الناس في الذهاب والمجيء. فإن اتسع الشارع، وقلّ الطارقون بالإضافة إليه، فلا يمتنع أن يقعد القاعد في وسط الشارع، أو في جانبٍ إذا وجد الطارقون سبيلاً (1) عن مقعده، على يُسرٍ، وليس للطارق أن يقول: لا أبغي الطروق إلا في مقعدك، وموضِع جلوسك؛ فإنا وإن حكمنا بأن الشارع للإطراق، فلسنا ننكر حقوق الكائنين [وهم] (2) وقوفٌ أو قعود، غيرَ أن الطروق أولى إذا ضاق المسلك. فخرج من ذلك أن من جلس غير مضيِّقٍ على المارة، وتخيَّر مقعداً يبيع فيه ويشتري، فلا منعَ، وإذا سبقَ إليه، لم يزاحمه غيرُه. ولا حاجة إلى استئذان الوالي؛ فإنه من حقوق الطريق، فأشبه المرورَ. 5620 - والاختصاصُ بالبقعة التي يتخيّرها بمثابة اختصاص المحي بالإحياء قطعةً من الموات، بيدَ أَنَّ المُحْيي يملك ما يُحييه، ومن يتخيّر مقعداً لا يملكه؛ فإن الشارع تعلّق به حقوقُ الناس قبل أن تخيَّر القاعدُ مجلسَه، فقيل: لا مطمع في الملك مع العلم بتأكد حق الطروق، وقد يزدحم الناس، ويضيق الشارع، ولكن إن لم يضق، فلا ننكر اختصاص السابق إلى المكان الذي تخيّره، كما سنصفه. 5621 - فنقول: من حقه ألا يُزعَج مادام فيه، ولا يُضيّقَ عليه في مجلسه، فلو

_ (1) (د 1)، (ت 3): مميلاً. (2) في الأصل كلمة غير مقروءة صورتها هكذا: (تؤهم).

جلس جالس أمامه أو بالقرب منه، بحيث يتعذر عليه انبساطُه في الكيل والوزن والإعطاء والأخذ، كان ذلك تزاحماً ممنوعاً، فإنا إذا أثبتنا للسابق إلى المقعد حقّاً، فقد التزمنا توفيرَه عليه، وهذا يُثبت لمقعده حريماً، والمحكَّمُ في مثله العادةُ. وذكر بعضُ من لم يُحط بحقيقة ذلك شيئاً أَشْعَرَ بذهوله، فقال: لو جلس بجنبه من يمنع المساومين معه، لم نتركه (1)، وهذا ليس بشيءٍ؛ فإنه جارٍ في الدكاكين المملوكة، فلا تزيد المقاعد عليها، وإنما المرعي ما نبهنا عليه من الانبساط، مع الرجوع إلى العادة، وقد يختلف بكثرة القاعدين، وضيق المقاعد؛ فإن أصحابها يتضامّون إذا كثروا، ويتوسعون إذا قلّوا، وموجب الشرع الحملُ على أحسن المراشد في العوائد. 5622 - ومن تخيّر بقعةً، وجعلناه أولى بها، فإنه يُزايلها ليلاً، وهو أولى بها، إذا كان ينتابها، ولا يسوغ لسابقٍ أن يسبق إلى مجلسه لتخلّل قيامه، وليس ذلك بمثابة المعادن الظاهرة؛ فإنها لا تتعين لمنتابٍ؛ إذْ مبناها على الاشتراك، وليس فيها حق الاختصاص إلا على قدرٍ ذكرناه في السابق، ومبنى المقاعد على الاختصاص. ثم المتبع فيه الاعتيادُ، ومن يتخيّر مقعداً يبيع فيه ويشتري، أو يحترف، فغرضه الأظهر أن يظهر مكانُه، حتى يعرفَه المعاملون، وهو الركن الأعظم في المكاسب، فإذا كان هذا هو المقصود في تعيين المقاعد، فلا بد من الوفاء به. 5623 - وأنا أقول: لو جلس الجالس في بقعةٍ، ولم يضيِّق على الطارقين، لم يُزعَج، وإذا لم يكن له غرضٌ كما نصصنا عليه، فليس له حقُّ العوْد إلى ذلك المكان، حتى يقالَ لو سبق إليه سابق، لم يكن له ذلك؛ إذ لا غرض للجالس فيه؛ حتى يقالَ: يتعطل غرضه بتفويت مجلسه. 5624 - ثم إذا عيَّنا المقعد لذي الغرض الصحيح، فلو استأخر يوماً ويومين، لم ينقطع حقه عن المقعد، سواء كان معذوراً أو غير معذور، وإن طال الزمان وتمادى

_ (1) المعنى لو جلس بجواره من ينافسه في بضاعته نفسها، فيجذب المساومين والمبتاعين ويمنعهم بجلوسه عن الشراء منه، لم نتركه. ووجه الذهول والخلل في هذا الكلام، أن هذا التنافس بين المتجاورين موجودٌ في الدكاكين المملوكة، والاختصاص بالمقاعد لا يمكن أن يزيد على الدكاكين المملوكة.

الفصل، لم يعطَّل المقعد، وكان للغير السبقُ إليه. وكذلك إذا غاب غيبةً بعيدةً. هذا ما أطلقه الأصحاب، وما ذكروه كلام مرسل [ومقصودنا] (1) ضبطُه، ولم يهتم به أئمةُ المذهب، ولم يُعملوا فيه وفي أمثاله القرائحَ الذكيةَ، واكتفى الناقلون عنهم بظواهر الأمور، وانضم إليه قلة الاعتناء (2) بالبحث، فصار أمثال ذلك عماية عمياء، والموفق من يهتدي إلى المأخد الأعلى (3)؛ فإن مذهب إمامنا الشافعي تَدْواره على الأصول، ومآخد الشريعة. 5624/م- وأنا أقول مستعيناً بالله تعالى: إن أضرب صاحبُ المقعد، وتبيّن إضرابه، بطل حقُّه على قربٍ من الزمان، وذلك بأن يَبْذُل مجلسَه لغيره، أو يتخذ مقعداً آخر، وأخد ينتابه، فيتبين إضرابُه عن الأول. هذا مسلك في بطلان اختصاصه بالمقعد الذي تخيره. وإن لم يفعل ذلك، ولكن وُجد يختلف بعذر أو بغير عذر، فالذي ذكره الأصحاب فيما (4) لا يُبطِل حقَّه اليومَ (5) واليومين، ولو روجعوا في الثلاثة والأربعة، لاسترسلوا عليها، ولا يمكننا أن نقول: المعتبر الزمن الذي يدل مثله على الإضراب، فإن المريض المعذور إذا طال زمانُه غيرُ مضرب، ويبطلُ حقُّه، وكذلك من استفزَّه سفرٌ، لم يجد منه بداً، فحاله يُظهر عدمَ إضرابه، فالوجه أن يقال: لا حقَّ في [تعيُّن] (6) المقعد إلا أن يُعرف فيعامل، وإلا فمقعد كمقعد، فكل زمانٍ يظهر فيه انخرامُ الغرض، ففيه سقوطُ حقه، فإذا طال انقطاعه، انقطع أُلاّفُه، واستفتحوا المعاملةَ مع غيره، فينقطع غرضُه، في تعيّن المقعد (7). ولهذا لم نفصل بين المعذور وغيره، فإذا عاد، كان كمن يتخيّر مقعداً على الابتداء.

_ (1) في الأصل: ومقصوده. (2) (د 1)، (ت 3): قلة الرغبات في البحث. (3) (د 1)، (ت 3): الأصلي. (4) (د 1)، (ت 3): فيها أنه لا يبطل. (5) اليومَ (مفعول ذكره)، وفاعل (يبطل) ضمير مستتر. (6) في الأصل " تعلّق ". وآثرنا هذه لمّا رأيناه في نسخة الأصل في السطور التالية. (7) عبارة (د 1): فينقطع غرضه، فينقطع حقه في تعين المقعد.

ولو كان ينتاب تلك البقعة، فاتفق استئخاره مدة، لا ينقطع بمثلها حقُّه، فلو جلس جالسٌ على مقعده بانياً على أن ينزعج إذا عاد، ويسلِّم له مقعده، فظاهر المذهب أنه لا يُمنع، ويحتمل أن يقال: يمنع؛ لأن هذا يُظهر لأُلاّفه ما يُظهره الزمانُ الطويل في الانقطاع. فأما القعود في غير أوقات المعاملة، فلا بأس، والقعود في أوقات المعاملة لغير المعاملة، فلا بأس به. فهذا هو الممكن في ضبط ذلك. 5625 - وإن طرأت حالة يتقابل فيها الظنان في انقطاع الغرض وبقائه، فلعل الظاهر بقاءُ حقِّه ودوامُه. 5626 - ثم أحدث الأصحاب فنّاً من الكلام، فقالوا: إذا طال عَوْد الرجل إلى مقعدٍ واحد، فهل يُزعج عنه، ويقال له: تنحَّ وتخيّر مقعداً آخر؟ ذكر نقلةُ المذهب وجهين في ذلك، واعتبروهما بالوجهين في العاكف على المعدن العِدّ، إذا طال مقامُه عليه، وهو في ذلك دائبٌ في أخد النَّيْل. 5627 - ونحن نقول: أما الخلاف في تنحية من يُطيل [عكوفه] (1) على المعدن، فمأخود من طلبه الانفرادَ بما يأخذه من النّيْل، وخروجه عن العادة العامة في تقرير المعادن الظاهرة على الاشتراك والتناوب، فأما الخلاف في إزعاج من يتخيّر مقعداً من الشارع فبعيدٌ جدّاً، وهو موضوعُ الباب؛ فإن الغرض الذي يُدار عليه تخيّرُ المقاعد ما أشرنا إليه من ظهور الأُلاَّف، وكثرةِ المعارف في المعاملة، وفي تنحيته، وإزعاجه إبطالُ هذا الغرض، فأَخْذُ النيل على التناوب، وتخيّر المقاعد على نقيض ذلك؛ فإن الناس لو تناوبوا عليها، لبطلت أغراض الجميع فيها. فإذا لاح ما ذكرناه من التنبيه، فالوجه في تنزيل الخلاف المأثور عن الأصحاب في المقاعد أن نقول:

_ (1) في الأصل: وقوفه.

إن اتسعت المقاعد واستوت الأغراض في أعيانها، وتخيّر كلٌّ مجلساً ينتابه، ويأوي إليه، فلا معنى لتنحيته والتبادلِ (1)، والحالةُ هذه؛ فإن ذلك يُبطل أغراضَ الكافَّة. وإن ضاقت المجالس، وكثر المزدحمون، فيظهر إذْ ذاك الخلافُ بعضَ الظهور، ثم وجه التقريب فيه أَنَّ من طال انتيابُه بقعةً، وظهر انتفاعه بسبب جلوسه فيه، وهو مطلوبٌ من غيره في الصورة التي ذكرناها، فقد يقال: مبنى هذه البقاع على الاشتراك، فإذا اكتسبْتَ بسبب الجلوس في بقعةٍ منها مالاً، فسلِّمْها إلى غيرك، وهذا يناظر ما ذكرناه في المعادن، غيرَ أن نيْل المعدن العِدّ عتيدٌ يوجد، والمنفعة المطلوبة من [المقاعد] (2) لا تظهر إلا على طول الزمان، [فالنُّوَبُ] (3) في الأصلين تتفاوت طولاً وقصراً، والمعنَى هو المتبع في كل صنف. ثم لا نظر إلى اتساع المتاجر والمكاسب على أصحاب المقاعد؛ فإن ذلك أرزاقٌ، فمن محظوظٍ فيها، ومن محروم، ولكنّ الاعتبارَ بالزمان الذي يتسع في مثله المتجر والمكسب على المرزوق. وهذا تفصيلٌ لا بد منه. 5628 - وذهب بعضُ الأصحاب في ذكر الخلاف مذهباً آخر، أشار إليه صاحب التقريب، وغيرُه، فزعموا: أن الغرض من تنحية من ينتاب مقعداً إذا طال الزمان أن يخرج عن مضاهاة المتملّكين، فقد يدعي على طول المدى ملكَ البقعة. وهذا ركيك، لا أصل له؛ فإن الشوارع، وإن طال المدى عليها لا يَنسَى حُكمَها المحتفون بها، ولو صح هذا المعنى، لوجب سدُّ طريق لزوم المقاعد جملةً، لما أشار إليه هذا القائل، فلا أصل لهذا إذاً، وإنما التَّدْوار على ما ذكرناه. ثم قدمنا أن الأصل أن العاكف على المعدن العِد لا ينحَّى، والوجه الآخر ضعيفٌ جداً، ثم وقع الخلاف في تنحية من تخيَّر (4) مقعداً أبعد، فتضاعف الضعفُ. ثم إن أردْنا التشوفَ إلى ضبطٍ في الزمان الذي تقع التنحية بعده، لم نجد إليه سبيلاً، مع

_ (1) أي تبادل المقاعد. (2) في الأصل: القاعد. (3) في الأصل: فالأمر. (4) (د 1)، (ت 3): في تنحية أصحاب المقاعد.

اختلاف المكاسب، وأحوال الناس في البلاد، وغايتُنا إن أردنا ذلك تحكيمُ العرف، واتخاذُ الزمان الذي يتسع المكسبُ فيه معتمداً. 5629 - ثم مما يتعين ذكره في هذا المقام أن الذي صار إليه معظم الأصحاب أن الوالي لو أراد أن يُقطع المقاعد، فله ذلك، كما له أن يُقطع المواتَ مَنْ يُحييه. وذكر صاحب التقريب والشيخ أبو علي، ومعظمُ الأئمة وجهاً آخر في أن الإقطاع في المقاعد لا ثبات له، وإنما جريانه فيما يفيد التسببَ إلى التملك؛ فإن الأمر فيه يعظم خطره. 5630 - وللاجتهاد مساغٌ، فالمحل محل التنافس، والأظهر جريانُ الإقطاع لإمكان التنافس في المقاعد، ولكن التنافس المجردَ لا يصلح للاعتماد مع إمكان جريانه في المعادن العِدة الظاهرة، وقد أجمع الأصحابُ، وشهد الخبرُ على أنه لا يجري الإقطاع فيها، [فالتعويل] (1) إذاً على تطرّق الاجتهاد في الأمر المطلوب، وأمر المعادن العِدة ظاهر، فلم يجر فيه الإقطاع، وأما الموات، ففي كونه مواتاً، ثم في كونه خارجاً عن حقوق الأملاك نظرٌ بيّنٌ، والاجتهاد يظهر في المقاعد من جهة أنها هل تُضيِّق على الطارقين، أم كيف السبيل فيها؟ ثم إن أجرينا الإقطاع أوّلاً، فلا كلام، وإن لم نُجْره، تعين مراجعة الوالي في تنحية من نُنحِّي إذا رأينا ذلك مذهباً، حتى لا يُفضي الأمرُ إلى التجاذب، والاجتهاد يدِق مُدركُه في الاكتفاء بالمدة التي استوفاها من يُنحَّى. هذا هو الذي يظهر عندنا. ولا يمتنع طرد الخلاف في ذلك أيضاًً؛ فإن التنافس متوقّع الجريان في الابتداء أيضاً، مع ظهور الخلاف، وغايتنا أن ننبّه على مسالك المعاني، إذا عدمنا النقلَ في التفاصيل. 5631 - ومما يتعلق بمضمون الباب، ويلتحق به السبقُ إلى المواضع المعيّنة في الرباطات المسبّلة على السابلة.

_ (1) في الأصل: والتعويل.

فمن سبق إلى بقعة، لم يزاحم فيها، وإن فرض استباق وازدحام، فالأصل القرعةُ، وقد ينقدح فيه تحكيم صاحب الأمر، إن كان في الرُّفقة، والأصل القرعةُ. ثم من تخيّر لسكونه (1) بيتاً، أو بقعة، فلو زال عنها، لم يُمنع من العوْد إليها؛ فإن الحاجة قد تضطره إلى الانتشار في حوائجه، ولا نظر إلى استخلافه على البقعة بعضَ خدمه وعبيده، أو تركه فيها شيئاً من متاعه، فقد لا يكون الرجل مخدوماً، ثم المنفرد لا يمكنه أن يترك متاعَه، وينتشرَ في مآربه، فيكفي إذاً ما ذكرناه. هذا في رباط السابلة. 5632 - ولو جاوز من تخيّر البقعة الغرضَ الذي بُنيت البقعة له، فأقام، أُزعج، إذا زاحمه نازلٌ يبغي أن ينزل، ويرحل. و [قد،] 2) نقول: إذا ظهر أن البقعة مسبلة على من لا يُعرِّج (3)، فلا تعريج، وإن لم يكن زحمة؛ فإنّ شرط الواقف متبع. 5633 - ولو بنى الرجل رباطاً، وهيأ فيه مساكن، ووقفها على من يبغي السكونَ فيها، فهذا يخالف في وضعه رباط السابلة، فلا يمتنع السكون. ولكن ذكر الأصحاب الخلافَ السابق في أن من يُطيل مدةَ الإقامة، ويجاوز الحدَّ، فهل يزعج؟ وشبهوا هذا بتنحية العاكف على المعدن العِدّ، وهذا لعمري متجهٌ؛ من جهة أن في إطالة مدة الإقامة اختصاصاً بالبقعة، [ومنعاً للأمثال من ذلك النوع من الانتفاع] (4). ولمّا ذكر القفال هذا الخلاف فلفظه في تصويره: أن من أقام سنين هل يزعج أم لا؟ وهذا لا ضبط له على التحقيق، والممكن فيه أن البقعة إن بنيت لغرضٍ يحصّله

_ (1) لسكونه بيتاً: أي لسكنه حجرة من حجرات الرباط. (2) ساقطة من الأصل. (3) عرّج بالمكان أقام به، والمعنى: أنه قد نقول: " لا إقامة، وإن لم يكن زحمة، اتباعاً لشرط الواقف ". وفي (د 1)، (ت 3): مسبلة على ألا يزعج، فلا يزعج. وهو عكس المعنى المقصود. (4) عبارة الأصل: " ومنعاً عن ذلك نوعاً من الانتفاع للأمثال ".

الساكنون فيه، كالمدرسة المنسوبة إلى الطلبة، فإذا حصّل ساكنُها الغرضَ، تنحَّى. وهذا إن ظهر، فهو مشكل فيما لم يربط بغرضٍ. فإن صح المصير إلى أن مدة الإجارة لا تزيد على سنة، فهذا القول حريٌّ بالاستعمال في هذا المقام. وإن لم نصححه -وهو غير صحيح- فليس لنا مأخذٌ في هذا الأصل، ولا مرجعٌ إلا إلى نظر الوالي، وصاحب الأمر. والموقفُ الأعظمُ على العلماء استعمالُ ما يجمعونه [في] (1) آحاد الوقائع (2) إذا بُلوا بها، وكان شيخي يشبّه هذا بجمع الجامع العلومَ المخصوصةَ بفن الطب، وهو هيّن على صاحب القريحة [والجد] (3)، وإذا أراد استعمالَ ما جمعه في معالجة الأشخاص، عظم الأمر عليه فيها. وإنما أحلنا ما انتهينا إليه إلى ذي الأمر لتفاوت الناس في الحاجات، واختلاف البقاع والأصقاع. والظاهر في هذه الأبواب تركُ التنحية والإزعاج. وما نحن فيه مفروضٌ فيه إذا أطلق المحبِّسُ التحبيسَ على من ذُكر (4)، ولولا اتصالُ هذا بالمصالح العامة، لحذفنا الخلاف في هذا المقام؛ إذ لا خلاف أن من سبَّل بقعةً على سكون شخصٍ، لم يُعترض عليه بالتنحية، فذكْر منفعة السكون على الإطلاق بهذه المثابة. 5634 - وألحق الأئمة بما ذكرناه نزولَ المنتجِع قُطراً (5) من الصحراء، وتركَه بهائمه تنتشر في مرابعها، فلا سبيل إلى إزعاج من يسبق إلى مثل هذه البقاع، ولا سبيل إلى مزاحمته بنشر المواشي في محل انتشار [ماشيته] (6) إلا أن تكون الرياض

_ (1) في الأصل: (من). (2) في (د 1)، (ت 3): المسائل. (3) في الأصل: والحر. (وهي بدون نقط). (4) في (د 1)، (ت 3): يسكن. (5) قطراً: ناحيةً. (6) في الأصل: ما يثبته.

أُنُفاً (1) لا يظهر في أمثالها ضرارٌ من زحمة. 5635 - وتكلم الأصحاب في تخيّر الإنسان مجلساً في المسجد، فأجرى بعضهم تخيّره مجرى تخيّر المقاعد في الشوارع، حتى إذا ظهر ذلك من قصد سابقٍ إلى البقعة، لم يزاحم فيها، والمسجد مشترك كالشارع، ومن ضرورة هذا الحكم أنه إذا فارقها، وعاد إليها، كان أولى بها، على القياس الذي قدمناه في مقاعد الشارع. وكان شيخي يأبى هذا على هذا الوجه، ووجدت صاحب التقريب على موافقته، والأمر في ذلك مبتوتٌ عندي على هذا الوجه؛ فليس المسجد في ذلك كالشارع؛ فان ما ذكرناه من تخيّر البقاع في الشوارع محمولٌ على غرضٍ ظاهرٍ في المعاملة، ولا يتحقق مثله في المساجد، فبقاع المسجد تضاهي مجالس المتحدثين في الشوارع. وكان شيخي يثبت أثر التعيين في الصلاة الواحدة، إذا اتفق الخروج والعود، ثم كان يحكي في ذلك وجهين أنه لو رعف بعد الشروع في الصلاة، وخرج ليتهيّأ (2)، فإذا عاد، لم يُزحم. وهذا وجه. والآخر أنه لو شهد المسجدَ قبل إقامة الصلاة في اتساع الوقت، ثم أخرجته حاجةٌ، فإذا عاد، كان أولى بمجلسه. وهذا أمثلُ. ولا نستريب في انقطاع تصرّف الإمام عن [تعيين] (3) البقاع في المسجد وإقطاعها؛ فإن المساجد لله، والسبق فيها لمن سبق، ولا يظهر في لزوم موضعٍ واحدٍ غرضٌ، كما نصصنا عليه. فهذا منتهى الكلام في ضم النشر، وإيضاح المقصود، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قام أحدكم من مجلسه في المسجد، فهو أحق به إذا عاد إليه " (4). ...

_ (1) أنُفاً: بضم الهمزة والنون: أي جديدة، لم تُرعَ من قبل، ويوصف بها المذكر والمؤنث (المعجم) والمعنى المراد هنا: أنها خصبة وافية كافية لا يظهر فيها ازدحام. (2) (د 1)، (ت 3): بسببها. (3) في الأصل: تغيير. (4) حديث: إذا قام أحدكم من مجلسه: رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه دون التقييد=

باب إقطاع المعادن وغيرها

باب إقطاع المعادن وغيرها قال الشافعي رحمه الله: " في إقطاع المعادن قولان: أحدهما - أنه يخالف إقطاع الأرض ... إلى آخره " (1). 5636 - وقد أخل المزني في النقل؛ فإنه نقل: " أحدهما أنه يخالف إقطاع الأرض لا وإنما قال الشافعي: " أحدهما أنه لا يخالف إقطاع الأرض "، فحذف المزني كلمة " لا "، وجعل القولين واحداً، وقد سئمنا تتبع كلامه (2). 5637 - فمقصود الباب القولُ في المعادن الكامنة التي يظهر نيلها بالعمل عليها، ولو جدَّدْنا عهدنا بتراجم القول في محالّ الإقطاع نفياً وإثباتاً، وخلافاًً ووفاقاً، لقلنا: الأراضي وما يتصل بها من المعادن والمقاعد أربعةُ أقسام: أحدها - ما يملك بالعمل فيها، وللإمام أن يُقطع، ويصير المقطَع أحقَّ بمحل الإقطاع كالمتحجر.

_ =بالمسجد. (ر. مسلم: كتاب السلام، باب إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به، ح 2179). قال الحافظ: وقد أورده بالزيادة إمام الحرمين في النهاية وصححه، وأقره في الروضة على ذلك. ر. التلخيص: (3/ 142 ح1335). (1) ر. المختصر: 3/ 110. (2) في طبعة المختصر التي معنا (بهامش الأم) مصداقٌ لكلام إمام الحرمين؛ فقد أسقط المزني فعلاً لفظ (لا) ثم ذكر بعد ذلك القولَ بمخالفة إقطاع المعادن لإقطاع الأرض، وبذلك (فعلاً) جعل القولين قولاً واحداً، وهو مخالفة إقطاع المعادن لإقطاع الأرض. (ر. المختصر: الموضع السابق نفسه). ولكن الذي يستحق أن يذكر هنا هو هذا التعقب من إمام الحرمين للمزني، ووصفه (بالغلط) على حين نجده عند النقل عن كثير من الأئمة يعزو أخطاءهم إلى النقلة عنهم، فيقول مثلاً: "وما أرى هذا إلا من غلط الناقلين عنه ". فلماذا المزني؟؟

والثاني - ما لا مدخل للإقطاع فيه أصلاً، وهو المعادن الظاهرة، ويلتحق بها مقاعد المساجد. والثالث - ما لا يملك، وفي جريان الإقطاع فيه خلاف، [وهو المقاعد في الشوارع، والأظهر جريان الإقطاع. والرابع - ما اختلف القول في جريان الإقطاع فيه] (1) وهو المعادن الكامنة. 5638 - والأولى في ضبط ما يجري فيه الإقطاع، وما لا يجري، وما يختلف فيه المذهبُ أن نقول: إذا كان المطلوب تملك مباحٍ، وهو في محل الاجتهاد، فالإقطاع يجري فيه قولاً واحداً، وهو الموات، كما قدمناه؛ فإن الملك هو الاختصاص الأكبر، فيجوز أن يؤثّر فيه تخصيص الوالي، وما لا يتصور فيه اختصاص الملك، ولا اختصاصُ الانتفاع، فلا معنى للإقطاع فيه وهو المعادن الظاهرة العِدة. وما يجري فيه الاختصاص من غير تملك، ففي جريان الإقطاع فيه خلاف، كما ذكرناه في المقاعد. والمعادنُ [الكامنة] (2) ينبني أمرها في الإقطاع على أن العامل عليها هل يملكها؟ فإن قلنا: يملك العامل رقابها، فيجري الإقطاعُ فيها كالموات، وإن قلنا: لا يملك العامل رقبة المعدن، ولكنه يختص به، كما سنصفه، فهل يجري الإقطاع فيها؟ فعلى الخلاف. فهذا تفصيل القول في الإقطاع. 5639 - ثم نبتدىء فنصف المعادن الكامنةَ، ونذكر أحكامها أولاً، فأولاً. فأما صفتها، فهي المعادن التي ليس يظهر نيلُها إلا بالعمل عليها، ثم النيل [فيها] (3) مكتتم بالطبقات، فيظهر النيل، ثم لا يتواصل النيل على الظهور، كمعادن الذهب والفضة، والفيروز، والبَلْخَش (4)، وما في معانيها.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) في الأصل: الكافية. (3) في الأصل: فمنها، (د 1)، (ت 3): عليها. والمثبت تقدير منا. (4) البلْخش: جوهر يُجلب من بلخشان. والعجم يقولون له: بدخشان. وهو اسم ولاية، ويقال=

وكان شيخي يتردد في الأحجار التي فيها جواهر، وهي باديةٌ على الأحجار كالحديد، فإن أثره يبدو على الحجر، ولكنه لا يستخرج منه إلا بمعاناة، ولا يكون البادي عينَ الحديد المجسّم (1)، وهذا فيه تردد واحتمالٌ ظاهر. 5640 - فإذا تصورت المعادن، فمن سبق إليها، فله العمل عليها؛ فإن الإقطاع حيث يثبت ليس شرطاً في استفادة العامل، بدليل أن الإقطاع متفق عليه في الموات، ولا يتوقف التملك بالإحياء عليه. ومن ابتدر إلى معدنٍ (2) من المعادن الكامنة، وعمل حتى بدا النَّيْل، فهل يتملك المعدنَ بعمله تملكَ الموات بالإحياء؟ لا يخلو: إما ألاّ يكون على المعدن أثر العمارة الجاهلية، وإما أن يكون عليها أثر عمارتها، فإن لم يكن عليها أثر الجاهلية، فابتدر العمل عليه مبتدر، فهل يملك رقبة المعدن (3)؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يملك ملك الموات بالإحياء؛ فإن المعدن قطعة من الأرض المباحة التي لم يظهر عليها أثر تملك سابق، والنيل من طبقاتها معدود من جملتها، فأشبهت الموات يُحيَا. والقول الثاني - أن رقبة المعدن لا تملك بالعمل عليها، بخلاف الموات؛ فإن الموات بالإحياء (4) يتهيّأ للانتفاع الدائم، والمعدن وإن ظهر منه بعضُ النيل، فإظهار ما لم يظهر يستدعي من العمل ما استدعاه النيل الأول، فلم ينته الأمر فيه إلى عمارة تامة تتهيأ البقعة لأجلها لمنفعة دارّة. هذا إذا لم يكن عليها أثر عمارة الجاهلية. 5641 - فإن كان على المعدن أثر عمارة الجاهلية، فلأصحابنا فيه خبطٌ وتخليط، وما استد أحد من الأئمة استداد الشيخ أبي علي، فنذكر ما ذكره الجمهور، ثم نذكر طريقته.

_ =لها: بَدْخش أيضاًً، وهي بين خوزستان وهندستان، فيها معادن الذهب والأحجار الكريمة (معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة). (1) (ت 3): المحتم. (2) المعدن: يراد به ما يعرف الآن (بالمنجم). (3) رقبة المعدن: أي أرض المنجم. (4) بدأ من هنا خرمٌ في نسخة (ت 3)، مقداره نحو صفحة.

قال الأئمة: في المعدن الذي عليه أثر العمارة الجاهلية ثلاثة أقوال: قولان تقدم ذكرهما، والثالث - أنه بمثابة المعادن الظاهرة العِدة، وليس يتوجه هذا إلا بأن يقول قائل: ألفيناه في الإسلام معدناً، فلا يضر اكتتام نَيْله إذا كنا نعلم أن المعدن نيل (1). وهذا بعيدٌ؛ فإن المعدن إذا لم يكن عليه أثر الجاهلية، فأظهر نيلَه مسلم، وقلنا: إنه لا يملكه، ثم أضرب عنه، أو مات، فلا يصير المعدن ملتحقاً بالمعادن الظاهرة، لا نعرف في ذلك خلافاً، ولو صح ما ذكره [موجِّه] (2) القول الثالث، للزم التحاق المعادن التي ظهر نيلُها بعمل المسلمين بالمعادن الظاهرة، وهذا لا سبيل إلى التزامه. 5642 - فأما الطريقة التي ذكرها الشيخ أبو علي، فهي المنقاسة المرضية، وهي أنه قال: إذا عمل أهل الجاهلية على المعدن، وقلنا لا تملك المعادن بالعمل عليها، فوجود عملهم وعدمه بمثابةٍ (3)، وهو كما لو لم يكن عليه أثر عمارة، وإن قلنا: إن المعادن (4) تملك بالعمارة، فإذا عمروها، فكأنهم ملكوها، فإذا تحولت البلاد إلى المسلمين، فالتفصيل فيها كالتفصيل في الموات الذي ملكوه بالعمارة في الجاهلية، وفيه قولان تقدم ذكرهما، وسبب التردد في هذا أنا نحكم لأهل ملتنا بتملك الموات إذا أحْيَوْه، وإسناد هذا الحكم إلى الجاهلية في حكم تقديم الحكم من ملّتنا على أهل الملل السابقة، ولم يتبين من أديانهم حكمُ إحياء الموات، فأما ما نصادفه في أيديهم متموَّلاً متحوَِّلاً، فنحكم فيه بحكم الماليّة. هذا بيان قاعدة الحكم في المعادن الكامنة. 5643 - فإذا أحيا رجل أرضاًً مواتاً، وحكمنا له بالملك فيه، فظهر فيه معدن من المعادن الكامنة، فهو باتفاق الأئمة ملك محيي الأرض؛ فإنه بالإحياء ملك الرقبة إلى

_ (1) أي سبق اكتشافه وإظهارُ نَيْله. (2) في الأصل: فوجه. (3) بمثابةٍ: أي بمثابةٍ واحدة. (4) عبارة (د 1): العمارة تملك بها المعادن.

منتهى التخوم (1)، فإذا استقر الملك بالإحياء، لم ينتقض، ولو ظهر في الموات المملوك بالإحياء (2) معدن ظاهر كالكبريت ونحوه، فهو ملك المحيي إجماعاً، لا يزاحَم فيه، لأن الملك بالإحياء استقر على رقبة الأرض، وكل ما في الأرض فهو حقُّ مالك الأرض. ومن احتفر قناةً، ملك الآبارَ، والأسرابَ، فالماءُ الجاري على صورة المعدن العِد (3). 5644 - فإذا تمهد ذلك، فلو علم الرجل بمعدن، فاتخد عليه داراً أو بستاناً، وقال: إنه موات، وقد قصدتُ إحياءه، فإذا قلنا: لا يملك المعدن، فالظاهر من [المذهب] (4) أنه لا يملك البقعة، وإنما ملكناه بالإحياء حيث يصح قصده في تملك الرقبة للإحياء، وهاهنا لا يصح القصد، والبقعةُ معدنٌ (5)، فإن المعادن في القصود الصحيحة لا تتخد مزارعَ. وقال بعضُ أصحابنا: يُملَكُ المُحيَا بالإحياء، ولا أثر للعلم. وإن (6) قلنا: هذه البقعة لا تملك بهذه الجهة، والمعدن يُملك، فليس بناء الدار مما يملك به هذه البقعة، وسبيل الملك فيها إظهار النيل. 5645 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن من احتفر معدناً، واتسعت الحفيرة، وظهر في طرفٍ منها، أو في وسطها النَّيل، فكيف القول إذا لم يظهر النيل إلا في هذا الجانب؟ أنقول: هو المملوك، أو المملوك جملة الحفيرة؟ لا بد في هذا من نظر،

_ (1) التخوم: جمع تخْم بفتح وسكون، مثل فلس وفلوس، وهو حدّ الأرض، ومن معانيها الأعراق أيضاً، فالمراد: أن ملك محيي الأرض يمتد إلى نهاية حدودها، وإلى أعمق أعماقها (المصباح، والمعجم، والقاموس، حيث ترى لها أكثر من وزن). (2) إلى هنا انتهى الخرم الذي كان في نسخة (ت 3). (3) في (د 1)، (ت 3): "ملك الآبار والأسرابَ، والماءَ الجاري على صورة الماء العدّ". (4) في الأصل: " من المعدن ": وهو سبق قلم من الناسخ. (5) معدن: أي منجم. كما سبق. (6) في الأصل: فإن قلنا.

فلا سبيل إلى الحكم بتخصيص الملك بمحل النيل، وقد يكون كالذَّر وجناح البعوض (1)، ولا سبيل إلى إطلاق القول بملك كل ما يتصل بموقع النَّيل من غير [ضبط] (2) وانتهاءٍ إلى موقف. والوجه فيه أن يقال: إذا وجدنا النَّيل بدداً في أطراف بقعةٍ ووسطها، عُدَّ ذلك معدناً، وعُدّ النيل ظاهراً بالعمل، وإذا بعدت بقعة لم يتواصل النيل إليها، ولم يكن ذلك البعد معتاداً في تضاعيف النَّيْل المتبدِّد، فهو خارج عن حدّ المعدن. ومعظم هذه الأمور والتصويرات آيلة إلى العادات، والمحكَّمُ فيها أهل العادات. 5646 - ثم قال الأئمة: إذا ملك الرجل معدناً من المعادن الكامنة: إما على قولنا: المعدن يملك بالعمل المُظهِر لنيله، وإما إذا وقع الفَرْض في إحياء مواتٍ مُلك، ثم ظهر فيه معدنٌ، فإذا باع الإنسان هذا المعدن، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن البيع مردودٌ، واعتلّوا بأن المقصود من هذا المعدن النيلُ، وهو مجهول، والمعادن لا تُبغى لترابها وحجرها، ومدَرها، والانتفاعِ فيها بالوجوه المعلومة في الأراضي، فإذا صار المقصود مجهولاً، امتنع البيعُ. ورأيت في مرامزِ كلام الأصحاب ما يدل على تصحيح البيع، وهو متّجهٌ في القياس على تقدير إيراد البيع على الرقبة، ثم النيل على موجب الوفاق. والذي يجب القطع بفساد البيع فيه أن يجمع الرجل مقداراً من تراب المعدن وفي حشوه النيلُ، فإذا باعه على علم بأنّ فيه نيلاً، فهذا باطل؛ فإنه لا يبغي من البيع الترابَ، وإنما يبغي النيلَ، وهو مجهول. وقد ذكرنا تردُّدَ الأصحاب في المعاملة على الدراهم المغشوشة إذا كانت جارية في المعاملات، وسبب (3) الاختلاف أن النُّقرة

_ (1) الدَّر وجناح البعوض: مثال للقلة والصغر. (2) في الأصل: وقف. (3) يعلل للخلاف في الدراهم المغشوشة، ويبين سببَه في مقابلة القطع بفساد بيع تراب المعدن المختلط بالنيل، مع أن المحكوم فيه واحد، وهو الخليط المجهول المقدار. وقد بين أن سبب القطع هناك في (التراب الخارج من المنجم) والتردد هنا (في الدراهم المغشوشة) أن الدراهم المغشوشة لا تراد عادة لما فيها من النقرة الخالصة، وإنما تراد لرواجها، أي قدرتها الشرائية،=

ليست مقصودة، وإنما المقصود الجريان. 5647 - ثم قال الشافعي: " ولا ينبغي أن يقطعه من المعادن إلا قدرَ ما يحتمل ... إلى آخره " (1). ما يجري الإقطاع فيه، فلا ينبغي أن يُقطِع الإمامُ الشخصَ إلا مقدارَ ما يستقلّ به، فإن زاد، لم يكن للإقطاع حكمٌ. وكذلك إذا تحجر الإنسان متسعاً من الموات لا يستقل بإحيائه، فلا حكم لتحجره. ثم إذا أبطلنا تحجرَه، لم يثبت له في المتحجر حقُّ الاختصاص في المقدار الذي يتصور أن يستقلّ به؛ فإن ذلك لا يتعين في قُطرٍ (2)، وحق الاختصاص على الشيوع غير معقول، فإن عين شيئاً، فهو تحجّرٌ منه [الآن] (3) والإنسان لا يمنع من ابتداء التحجر. 5648 - ثم قال الشافعي: " وكل ما وصفناه من إحياء الموات، وإقطاع المعادن وغيرها، فإنما عنيتُه في عفو بلاد العرب فإنه الذي عامره عشر، وعفوه مملوك " (4). وهذا مما أخل المزني بنقله خللاً فاحشاً؛ فإنه قال: وعفوه مملوك. والشافعي قال: " وعفوه غيرُ مملوك " (5)، وعنى بالعفو المواتَ، فحذف المزني كلمة " غير " حتى إنها تُزاد في بعض النسخ، وتُثبت على الاستقامة (6)، ومعنى كلام الشافعي ما ذكرته في الغامر والعامر في بلاد العرب، وخصصها بالذكر (7)؛ لأن العرب أسلمت على بلادها، ولم تُملك على القهر، إلا في مواضع مخصوصة، وأراد بقوله عامره عشر، أي ليس على أهل عامره إلا عشرُ الزروع، ولم يضرب عليه خراج.

_ =فكان هذا فرقاً، جعل من نظر إليه يتردّد في القطع بتحريم البيع. (1) ر. المختصر: 3/ 111. (2) قطر: أي ناحية. (3) ساقطة من الأصل. (4) ر. المختصر: 3/ 112. (5) هذا فعلاً ما قاله الشافعي في الأم، ج 4 ص51. (6) على الاستقامة: أي يثبتها قرّاء مختصر المزني إقامةً للنص. (7) (د 1)، (ت 3): بالملك.

وظنَّ الشافعيُّ أن بلاد العجم افتتحت قهراً، وغُنمت عليهم، وفي غامرهم التفصيل المقدّم في الذب والمحاماة، وتنزيل المستولين منزلة المتحجِّرين، فأراد أن يصوّر أراضي عامرُها ليس [خراجياً] (1)، ولم يُقضَ (2) بالاستيلاء على غامرها ومواتها من الغانمين، حتى تتسق المسائل التي أطلقها من غير احتياج إلى تفصيل. فرع: 5649 - إذا عمل العامل على المعدن الكامن، فإن قلنا: إنه يملكه، فلا كلام، وإن قلنا: إنه لا يملكه، فقد ذكر الأئمة وجهين في أن الإمام لو أراد تنحيته بعد طول الزمان لينتفع بالموضع غيره، فهل له ذلك؟ وقد قدمنا مثلَ هذين الوجهين في مقاعد الشارع، وأطلقنا وجهين أيضاً في المعادن العِدة الظاهرة، وما ذكرناه من الوجهين في المعادن الكامنة -حيث انتهى الكلام إليه- يناظر ما ذكرناه من الوجهين في المقاعد المُقْطعة في الأسواق. ثم ذكرنا أن من تخيّر بقعةً على الشرط المقدم، أو اتصل بها إقطاع صاحب الأمر فيمهل فيه زماناً، وقرّبنا القولَ في ضبطه، ثم ذكرنا التنحيةَ وراء ذلك، كذلكَ يمكَّنُ العامل على المعدن زماناً متطاولاً، ثم الخلاف في تنحيته يقع وراء ذلك. وسبيل التقريب اللائق بهذا الموضع في الزمان المتطاول، أن يبلغ مبلغاً يظهر منه فائدةُ العامل إذا اقتصدت الإنالة، فلم يتفق إكداء (3) ولا نيلٌ نادرٌ مجاوزٌ المعتاد، ثم قد يتفق مثل هذا الزمن، والعامل لا يستفيد في ذلك الزمن للحرمان والمجازفة، فالخلاف في تنحيته على ما ذكرناه. ولو استفاد العامل نيلاً نادراً (4) في زمان قريب، ففي إجراء الخلاف في تنحيته احتمالٌ ظاهر. يجوز أن يقال: لا ينحى نظراً إلى الزمان، ويجوز أن يقال: ينحَّى نظراً إلى الفائدة، وإذا طال الزمان في حق المحروم جرى الوجهان في طرده من غير أن ينظر إلى عدم الفائدة، وقد يُنحَّى المحروم ويرزق

_ (1) في الأصل: خراجاً. (2) (د 1)، (ت 3): ولم يتفق الاستيلاء. (3) إكداء: يقال: أكدى العامُ أجدب، والمعدن (المنجم) لم يتكون به جوهر، أي ليس له نَيْل، وهو المراد هنا (المعجم). (4) أي استفادَ نَيْلاً كثيراً مجاوزاً للاعتياد.

غيره، وقد يبقى المعدن حاقداً (1) لا ينيل في عمل شخص، وإذا عمل غيره، ظهرت الأنالة، وأمرُ المعدن وفاق، ونيله [أرزاق] (2). فصل قال: " ومن عمل في معدنٍ في أرضٍ ملكُها لغيره، فما يخرج منها، فلمالكها ... إلى آخره " (3). 5650 - إذا ملك الرجل معدناً من المعادن الكامنة، ثم قال لغيره: اعمل عليه، وما يخرجه من النيل، فهو لك، فما يظهر من النيل، فهو لمالك المعدن؛ فإنه لا يجوز أن يقدَّرَ عوضاً على الجهالة، ولا متبرعاًً به موهوباً، فلا وجه إلا تقريره على ملك مالك المعدن، وهل يستحق العامل أجراً في مقابلة عمله؟ هذه القاعدة يفصّلها يربع مسائل: 5651 - إحداها - أن يقول رب المعدن: أذنت لك في نهارك، أو أسبوعك، ولك ما يظهر من نيلٍ، فهذه الصيغة لا تتضمن استعماله، وإنما هو إطلاق التصرف، وتبرعٌ بما يتوقع من نيل، فإذا جرى الأمر كذلك، فالنيل مردود على المالك، كما قررناه. والذي ذهب إليه الجمهور أنه لا يستحق العامل على مقابلة عمله شيئاً، فإنه كان يعمل لنفسه ابتغاء النَّيل. وحكى القاضي عن ابن سريج أنه أثبت للعامل أجر مثل عمله، لأن النيل انصرف إلى صاحب المعدن. وإن قصده العامل لتحصيل غرض نفسه، ووجّه ابنُ سريج هذا بأن قال: لم يرض العامل بأن يعمل مجاناً، ولم يسلَّم له ما طمع فيه، فينبغي أن يرجع بالأجر على من أوقعه في العمل، وسُلِّم له ما طمع فيه العامل؛ [فإنّ ذلك ثمرةُ عمله وفائدتُه] (4).

_ (1) حاقِداً: أي حابساً، يقال: حقِد المعدِن لم يخرج شيئاً. (المعجم). (2) سقطت من الأصل. (3) ر. المختصر: 3/ 114. (4) ساقط من الأصل.

وقرّب الأئمة هذا من أصل ذكرناه في كتاب الحج، وهو أن المستأجَر على الحج إذا نوى مستأجِره أولاً، ثم صرف الإحرام إلى نفسه ظانّاً أنه ينصرف إلى نفسه، واستمر على عمله على هذا الظن، فالحج ينصرف إلى مستأجِره، وفي استحقاقه الأجرة الخلافُ المشهور. وعندي أن الصورة التي ذكرناها بعيدة عن استحقاق الأجرة؛ إذ لا استعمال فيها، وإنما جرى الإذن إطلاقاً، ورفعاً للحجر، وليس كمسألة الأجير في الحج؛ فإن المستأجِر استعمله أولاً، وانصرف إليه العمل آخراً، فلا يبعد أن يلغو القصد الفاسد اللاغي من الأجير، ثم إذا رأى ابن سريج في هذه الصورة إثباتَ الأجرة للعامل، فليت شعري ماذا يقول إذا عمل، ولم يستفد شيئاً؟ فإن جرى على قياسه في إثبات الأجر، كان في نهاية البعد إذا لم يحصُل نَيْلٌ هو شوفُه، ومتعلّق [طمعه] (1)، حتى يقال: إذا قُطع عنه ما أُطمع فيه، فهو عِوض (2) عنه. وإن سلّم في هذه الصورة أنه لا يستحق الأجرة، فقد وُجد الكدّ، وظاهر العمل، وعلى الجملة هذا محتمل على قياس ابن سريج. وما ذكرناه شرح مسألة واحدة. 5652 - المسألة الثانية - أن يقول: اعمل في بياض هذا النهار، ولك ما تُظهره من النيل، فالقول في النَّيْل كما مضى؛ واستحقاق الأجرة مختلف فيه بين الأصحاب، وهو ظاهرٌ في هذه الصورة؛ من قِبل استعماله العامل بأمره. 5653 - المسألة الثالثة - أن يقول: استأجرتك لتعمل في نهارك وأجرتك النَّيْلُ الذي تصادفه، فالظاهر هاهنا أنه يستحق أجرَ المثل، للتصريح بالاستئجار، وإثبات العوض. وأبعد بعض أصحابنا، فأسقط الأجرة، لتعلق قصد العامل بأخد النيل الذي يُظهره عمله.

_ (1) في الأصل: قلعه. (2) هو عوض: أي الأجر، وفي (د 1)، (ت 3): إذا قطع عنه ما أطمع فيه، عُوّض عنه.

5654 - المسألة الرابعة - أن يقول: استأجرتك لتعمل، ولك نصف النيل الذي تصيبه، فلا شك أنه يستحق نصفَ الأجر على مقابلة النصف الذي شرط لرب المعدن، وهل يستحق النصف الآخر من الأجر؟ فيه التردد الذي ذكرناه في الأجر كله إذا قال: استأجرتك وأجرتك النيل كله. فهذا بيان المسائل المفصِّلةِ للقاعدة. فصل ذكر [الشافعي] (1) الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من منع فضلَ الماء ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة ... إلى آخره " (2). 5655 - قد ذكرنا في كتاب البيع فصلاً في المياه وبيعها، وجريان الملك فيها، وخلاف من خالف من الأصحاب في أن الماء لا يُملك. ونحن نذكر غرضَ هذا الفصل، وما نراه غيرَ مذكور في الفصل المقدم، فإن تكرر شيء غاب عن الذكر، [لم يضر] (3). ومعتمد الفصل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة " (4)، والمراد بالحديث أن من احتفر بئراً في برّيّة، يسقي بمائها ماشيتَه، فإذا لحقت ماشيةٌ لإنسان، وقد فضل من

_ (1) زيادة لمجرد الإيضاح. (2) ر. المختصر: 3/ 114. (3) ساقط من الأصل. (4) حديث منع فضل الماء: رواه بهذا اللفظ الإمام الشافعي في الأم: 3/ 272، ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه البيهقي في الصغرى: 3/ 332 حديث: 2206، وبلفظ مقارب رواه الإمام أحمد: 2/ 179، 221. والحديث متفق عليه بلفظ " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ " (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 147، ح 1009) أما باللفظ الأول فنقل الحافظ عن البيهقي قوله: " هو مما لم يُقرأ على الشافعي، وحمله الربيع على الوهم، ولو قرىء على الشافعي لغيّره إن شاء الله. وانظر التلخيص: (3/ 146 ح 1342).

ماء البئر عن حاجةِ حافرها، فليس له أن يمنع الفاضل من حاجته من الماشية الواردة؛ فإن منعَ فضل الماء يكون سبباً لمنع الكلأ في تلك الناحية؛ إذ الماشيةُ إنما ترعى بقرب الماء، فإذا منع صاحب البئر فضلَ مائه، فكأنه منع الكلأ في تلك البقعة. هذا هو المعنيّ بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليمنع به الكلأ ". 5656 - ثم تفصيل المذهب بعد بيان الحديث أن من احتفر بئراً، لم يخل من ثلاثة أحوال: أحدها - أن يقصد تملك البئر. والآخر - ألا يقصد تملكها، ولكن قصد استعمال مائها في جهة حاجاته. والثالث- أن يحتفر بئراً ولا يقصد شيئاً. 5657 - فإن احتفر وقصد التملك ملك البئر كما (1) ظهر الماء، ولا يتوقف استقرار ملكه على أن يصير الماء غديراً، ثم إذا ملك البئر، صار أوْلى بالماء والتفريع على أن الماء يُملك، فجمَّةُ (2) البئر مملوكةٌ لمالك البئر، وهي بمثابة ما لو أحرز ماءً في قربة، أو آنية، أو انتزح ماءً، وجمعه في حوض. فإذا صار مالكاً للماء، فإذا أدركت ماشيةٌ، لم يلزمه تركُ فضلِ مائه لها، ولي الحديث في هذا القسم. وإن أشرفت الماشية على الهلاك سقاها فضلَ مائه بالقيمة. والجملةُ أن الماء في البئر المملوكة بمثابة الماء المجموع في الحوض، والأواني. 5658 - فأما إذا لم يقصد تملكَ البئر، ولكن قصدَ الانتفاعَ بمائها، فإنه يتقدم في انتفاعه، فإذا فضل الماءُ عن حاجته وحاجة ماشيته، وعن مزرعةٍ هيأها بالقرب من البئر، فيجب بذلُ الماء للمواشي، كما نطق الخبر به، وهو محمول على هذه الحالة. ثم ذلك الفاضل لا يتقوّم؛ فإنه لم يَملك رقبةَ البئر، بل صار أولى بها، كذلك هو أولى بمائها على قدر حاجته، والفاضلُ في حق الماشية كالماء المباح العِدّ.

_ (1) كما ظهر: بمعنى عندما ظهر. (2) جمّةُ البئر: ما يرجع من مائها بعد الأخد منه. والمراد هنا ما هو متجمع في البئر.

ثم قال الأصحاب: لو اتخد متخذٌ بالقرب من البئر مبقلةً، أو مزرعةً، فأراد أن يسقيها من فاضل ماء البئر، فليس له ذلك؛ فإنّ حقَّ السقي إنما ثبت لحرمة أرواح المواشي. وهذا وإن أطلقه الأئمة كذلك في الطرق، يتطرق إليه احتمالٌ -من جهة القياس- ظاهرٌ؛ فإن حافر البئر إذا لم يصر مالكَها، ولم يصر مالكاً لجَمَّتها، وإنما يثبت له حق الاختصاص والتقدم بقدر الحاجة، فالقياس أن الفاضل عن الحاجة بمثابة الماء العِد الذي يشترك الناس كافة فيه. هذا وجه الاحتمال. والذي ذكره الأصحاب ما قدمناه من أنه لا يَمنع فضل مائه الماشيةَ، ويمنعه من المزارع وغيرِها. وفي هذا تفصيلٌ لا بد من التنبّه له. وهو أن الذي لا يقصد تملك البئر إن كان يقصد كونَه أولى بالاستيلاء على البئر والاحتكام في مائه، فهو على موجب قصده أولى، وهذا الحكم يوجب له حق الاختصاص، وإن لم يكن ملكٌ. ولو أجرينا قياسَ الاختصاص على حقِّه، لما أوجبنا عليه بذلَ فضلِ مائه للمواشي من كير ضرورة، ولكن أوجبنا [ذلك] (1) للخبر. وحق الاختصاص مطّرد في غير المواشي. هذا إذا قصد الاختصاص مطلقاً. وإن خطر له في احتفاره أن يتقدم بقدر حاجته من غير مزيد، فهذا موضع الاحتمال، فيجوز أن يقال: لا حكم له في الفاضل، وليس له منعه من أحدٍ من الناس، سواء طلبوا سقي المواشي به، أو سقي المزارع، ويجوز أن يقال: إذا ثبت اختصاصه، لم يتبعض، والبئر بحكم ذلك الاختصاص تحت يده وتصرفه [والاختصاص] (2) لا يتبعض حكمه، حتى يثبت من وجه وينتفي من وجه. وهذا يتضح بذكر الحالة الثالثة. 5659 - وهي أنه إذا احتفر بئراً، ولم يقصد أن يختص بمائها، ولم يظهر منه قصد التملك ولا قصد الاختصاص، فالذي ذهب إليه المحققون أن الحافر مع كافة الناس

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) مزيدة من (د 1)، (ت 3).

في ماء البئر على قضيةِ الاستواء، فلا يتقدم بحاجته وهو في الماء كغيره. ومن أصحابنا من قال: هو متقدم بحاجته. وهذا محتمل حسنٌ، ووجهه أن فعله هذا توصُّلٌ منه إلى الماء، فلا أقل من أن يُفيده الاختصاص، وإن لم يقصده، وهذا في إفادة الاختصاص بمثابة ما لو بنى رجلٌ على مواتٍ داراً، فإنه يملك عَرْصتَها، وإن لم يقصد التملك؛ لأن مثل ذلك لا يقع إلا من متملك، كذلك حفر البئر لا يقع إلا من مختصٍّ، فإن كان كذلك، ظهر على هذا الوجه ما ذكرناه في الحالة الثانية؛ فإنه وإن قصد التقدّم بالحاجة، فحق الاختصاص يثبت له بسبب الاحتفار. هذا منتهى التفصيل في ذلك. 5660 - ولو أوجبنا عليه بذلَ فضل الماء للماشية، ولكن كان الفاضل فاضلاً عن سقيه وماشيته، ولم يفضل عن مزارعه التي هيأها، ومباقله، ظاهرُ كلام الأصحاب أنه لا يلزمه بذلُ فضل مائه، حتى يفضل عن مزارعه، وهذا فيه احتمالٌ على بعدٍ، لحرمة الأرواح. 5661 - ولو لحقت الماشية، فاستحدث حافرُ البئر مزرعة، فيظهر [هاهنا] (1) أنه لا يصرف الماء إلى تلك المزرعة المستحدَثة بعد لحوق الماشية؛ إذ لو جوزناً منعَ الفضل بهذه الجهة، لاستمكن صاحب البئر من طرد الماشية [بالزيادة] (2) في المزارع. 5662 - ثم مما ذكره الأصحاب من جليِّ الكلام في هذا الفصل أن الفضل الذي أوجبنا بذلَه للماشية أردنا ببذله التخليةَ بينه وبين أصحاب المواشي، وعليهم تكلّفُ السقي إن أرادوه، ولا يجب على صاحب البئر إعارة البكرة والدلو، والرِّشا؛ فإنه لا يسوغ الاحتكام على أملاكه إلا في أوقات الضرورات، كما سبق وصفها. 5663 - وإذا كان حافر البئر مالكاً للبئر، لم يُحتكم عليه في الملك، والماءِ الذي فيه، هذا ما قطع به المحققون.

_ (1) زيادة من: (د 1)، (ت 3). (2) في الأصل: لزيادةٍ.

وإنما أعدته لأن شيخي كان يكرر في دروسه وجوبَ بذل فضل الماء للمواشي، وإن كانت البئر مملوكةً؛ تمسكاً بظاهر الخبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين البئر المملوكة لحافرها وبين البئر التي ليست مملوكة لحافرها، لأنه لم يقصد تملّكها. وكلام الصيدلاني في هذا الفصل مطلقٌ ليس فيه تفصيلٌ، وفرقٌ. [ولو كان] (1) الحكم يختلف عنده، لأشبه أن يفصّل. وإنما (2) أخرت ذلك لأني لست أعتمده ولا أعتدّ به، ولا آمن أن يكون إطلاق من أطلقه عن غفلة، ولم يصرح أحدٌ بوجوب صرف فضل الماء إلى المواشي مع التصريح بكون البئر مملوكة إلا شيخي. 5664 - ومما ذكره الأئمة متصلاً بما ذكرناه أن من حاز ماءً، وأحرزه في أوانيه، أو جمعه قصداً في حوضٍ له، وسد المنافذ، فهذا مملوك على الرأي الظاهر، وإن لم نجعله مملوكاً على مذهب المروزي، فمحرزه أوْلى من غيره. والماء الذي يجري في النهر المملوك، كماء القنوات مملوك (3) على الرأي الظاهر لمالك القناة، وكل من تصرف فيه بما ينقُصه، ويُظهر نقصَه، فهو ممنوع منه، ولو استاق أصحاب المواشي مواشيَهم إلى هذه المياه، وكان يظهر النقص منها، فهي مجلاةٌ عن الماء ممنوعةٌ، وما لا يظهر له أثر كالشرب، أو كسقي دوابَّ معدودة، أو كأخد قِربٍ، فقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يسوغ المنع من هذا القدر، واستمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار، والكلأ " (4) وهذا بعينه هو الذي نقلتُه عن شيخي وأنكرته، فإنه انتفاعٌ بفاضل مملوكٍ.

_ (1) في الأصل: وإن الحكم عنده. (2) (ت 3): وما أخرت. (3) في الأصل، (ت 3): مملوكة. (4) حديث " الناس شركاء في ثلاث ": رواه أبو داود: البيوع، باب في منع الماء، ح 3477، وابن ماجه: الرهون، باب المسلمون شركاء في ثلاث، ح 2472، وأحمد: 5/ 364، والبيهقي في الكبر: 6/ 150، والصغرى: 3/ 329 رقم: 2196، وأبو عبيد في الأموال: 728. وكلهم بلفظ (المسلمون) سوى أبي عبيد وحده فإنه قال: الناس.

وذهب القاضي وطبقةُ المحققين إلى إجراء القياس، والمصيرِ إلى أن [للملاّك أن يَمْنعوا] (1) من هذا. 5665 - وما درج عليه الأولون من التسامح فيه محمول على أن الناس لا يضنون بهذا القدر، فصارت قرائن الأحوال بمثابة التصريح بالإباحة. 5666 - وذكر الأئمة تفصيلَ القول في بيع المياه في القنوات، وأنه لا يصح، وقد ذكرت ذلك مفصَّلاً في موضعه. ومما ذكره القاضي أن القناة إذا كانت مشتركة، فالمهايأة لا تصح فيها؛ من جهة أن النُّوب تختلف من وجهين: أحدهما - أن الماء يزيد وينقص، والآخر - أنها تتفاوت في حاجات الدهقنة، فليس ما يقع في النوبة الأولى كما يقع في النوبة الأخيرة، وهذا فيما أظن لم أذكره في كتاب البيع. ويتحصل مما ذكرته قبلُ، ومن هذا ثلاثة أوجه: أحدها - أن المهايأة تصح في نُوب القنوات ولا تلزم. والثاني - أنها تصح وتلزم؛ فإن الانتفاع بنوبها لا يصح إلا كذلك، وهذا لا يخفى على أصحاب البصائر والثالث - وهو الذي جددناه الآن أن المهايأة لا تصح أصلاً. فصل 5667 - قد ذكرنا في الكتب السابقة مسائلَ متفرقة في حريم الأملاك، ونحن نذكر الآن في ذلك قولاً كافياً، إن شاء الله عز وجل، فنقول: من كان له ملكٌ، لم يخل إما أن يتاخم مواتاً لا حق فيه لأحد، وإما أن يتاخم الشارعَ، وفيه الحقوق العامة، وإما أن يتاخم ملكاً. فأما ما يجاور مواتاً، فيثبت له من ذلك الموات حقُّ الحريم، وهو ينقسم عندنا

_ (1) في الأصل: الملاك إذ منعوا.

قسمين: أحدهما - يتعلق بإدامه الملك، وإقامته، وصونه عن الخراب، وعن إمكانه. وبيان ذلك أن من أراد أن يحتفر في الموات الذي بقرب العمران بئراً أو نهراً عميقاً، وكان الملك يتَضرّر على تحقيقٍ، أو يُخاف ضررُه، فيمنع المتصرف في الموات من ذلك، وهذا المنع في حكم الوقاية للملك سمي حريماً. ويظهر الحريم ويتسع في القنوات اتساعاً بيّناً، فإذا احتفر الإنسان قناةً في موات، وتملك آبارها، ورسومَها، وأسرابها، فيحرم على من يريد التصرف في الموات أن يتصرف تصرفاً يضر بالقناة، ويُفضي إلى هدمها أو ينقُص من مائها. ولو أراد مريدٌ أن يجري على معارضة تلك القناة [قناة] (1) أخرى، ولو فعل، لانقلب ماء هذه القناة المتقدّمة إلى المستحدثة، فهذا ممنوع، ويختلف ما ذكرناه باختلاف صفات الأراضي، فإنها تكون حَرّة (2)، وحصبة، وذاتَ رملٍ متخلخل. والجملة ما ذكرناه من المنع من التصرف المنقص. هذا أحد القسمين المذكورين في الحريم. 5668 - والقسم الثاني - لا يتعلق بخيفة الهدم، ولكنه يتعلق بالاتساع، وإثبات المضطرب، وهذا قد يقع عاماً لأهل القرية بالإضافة إلى الموات، فلهم فيه مطرحُ التراب، ومناخُ الإبل، ومجتمعُ النادي، وملعبُ الصبيان، ومركض الخيل إن كان سكان القرية خيّالة. فأما المحتطَب والمرعى الذي ينشر فيه بهائم القرية، فالقول فيه ينقسم، فما يبعد لا يستحقّه أهل القرية، ولو أحياه محيٍ، ملكه، فأما ما يقرب من القرية، فلا يستقل مرعىً ومحتطَباً، ولكن قد تستدير البهائم بالقرب من القرية إذا استشعر أهلُها خوفاً من الإبعاد، فما كان كذلك، فهو مختلف فيه، على ما ذكره الشيخ أبو علي، والرأي الظاهر أنه ليس من حقوق القرية. هذا فيما يتعلق بالقرى على الجملة.

_ (1) ساقطهَ من الأصل. (2) أرض حرّة: ذات حجارة سود كأنها أحرقت. وحصبة: كثيرة الحصباء. (المعجم).

فأما إذا ابتنى الرجل داراً في مواتٍ، وفتح بابها في صوبٍ منه، فلصاحب الدار من الموات حقُّ مطرح التراب، والكُناسات، ومطرح الثلج، والممر في الصوب الذي فتح الباب فيه. ولو أحيا محيٍ وبقَّى له الممرَّ، ولكن كان يحتاج أن [يزورّ] (1) عن قبالة الباب، فليزورّ؛ فإنه لا يستحق الممر في صوب الباب على طول الامتداد في الموات الكائن في تلك الجهة. وقد ذكرت في كتاب الصلح أحكامَ المزاريب والأجنحة إلى الشوارع، وافتتاح المنافد والأبواب إلى الممر العام. 5669 - فأما إذا تضايقت الأملاك، فقد زال المتسعُ والحقُّ الذي سمّيناه المضطربَ والاتساعَ؛ إذ تتقابل الأقوال في ذلك. وهذا إنما يُفرض في أملاكٍ صودفت كذلك، والكلامُ يرجع إلى تصرف الملاك في أملاكهم، فإذا تجاور ملكان، فلصاحب كل ملك أن يتصرف في ملكه بما يُعتاد مثله، وإن كان يُخاف منه اختلال ملك صاحبه، وهذا كتسليط كل مالك على حفر بئر في ملكه على الاقتصاد المعتاد، وكذلك القول في اتخاد مبرز لا يجاوز فيه حدّ ملكه. وقد منعنا مثلَ هذا التصرف إذا خيف منه الضررُ في الموات؛ فإن الموات المطلق هو الذي لم يتعلق به حق. وما تعلق به حقُّ الحريم، فهو واقية الملك، وليس مواتاً مطلقاًً، وهذا لا يتحقق في الأملاك المتجاورة. ثم يتفرع على ما ذكرناه أن احتفار البئر إذا أدى إلى اختلال دار الجار، فلا ضمان على الحافر لأنه متصرفٌ في ملكه، فليعتقد الملاك في الأملاك المتجاورة أنهم بصدد هذا الضرار، فلا بد من احتماله، ولولاه، لتعطلت الأملاك ناجزاً لخيفة الضرار، ولا سبيل إلى قطعِ مرافق الأملاك، وتحصيلِ الضرار، وتعطيلِ المنافع لتوقع ضرارٍ. والذي يجب إنعام النظر فيه أمور العادات، فلو كانت دار الإنسان محفوفةً بالدور

_ (1) في الأصل: يزوي.

والمساكن، فلو [أجلس] (1) فيها قصاراً، أو حداداً، فهذا -والدار كما وصفناها- خارجٌ عن الاعتياد، والظاهر عندنا منعُه؛ فإنه وإن كان ارتفاقاً، فهو مجاوز للعادة، وكذلك إذا اتخد داره حمّاماً، وهي محفوفة بالمساكن، فهذا من القبيل الذي ذكرناه، إلا أن يستمكن من الإبرام والإحكام على حدٍّ لا يزيد ضرره على ضرر المرافق المعتادة. وكان شيخي يتردد في اتخاد الإنسان داره مدبغةً، ويميل إلى التجويز؛ فإن الضرار إذا كان لا يتعلق بالدور فتضرر السكان بالروائح لا يوجب منعَ المالك من التصرف. وهذا محتملٌ على ما كان يتردد فيه رحمه الله. 5670 - والقول المغني عن التفصيل: إذا جاوز في التصرف العادةَ وعُد في حق نفسه مضرّاً بملك نفسه، فهذا لا يحتمل. وإن كان مرتفقاً بملك نفسه، ولكنه جاوز العادةَ في ذلك الفن وجرّ ضراراً ظاهراً، فهذا في ظاهر المذهب لا يحتمل. وإن لم يجرّ ضراراً على المساكن، وارتفق ارتفاقاً لا يعتاد، وجرّ إلى السكان تضرراً، فهذا فيه احتمال ظاهر. فهذا منتهى القول في ذلك والله المستعان. ...

_ (1) في الأصل: فتح.

كتاب العطايا والحبس والصدقات

كِتَابُ العطَايَا (1) والحبس والصدقات قال الشافعي: " فجميع ما يعطي الناسُ من أموالهم ثلاثة وجوه ... إلى آخره " (2). 5671 - صدّر الكتابَ بالتقاسيم في التبرعات، وقال: يقع قسمان منها في الحياة: وهما - الهبات، والصدقات. ثم الصدقات تنقسم إلى صدقات البتات، وهي تصدّق الرجل بطائفة من ماله على من أراد. والثاني - الوقف. ومن التبرعات ما يقع بعد الوفاة. والمقصود من هذه التقاسيم انتزاع الوقف من خَلَلها، وباقي التبرعات تأتي في أبوابها. 5672 - والأصل في الوقف السنة، وإجماع الأمة، أما السنة، فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعد موته، وصدقة جارية " (3) فقال العلماء: الصدقةُ الجارية هي الوقف على وجوه الخير، وقال عمر رضي الله عنه: " أصبت مالاً من خيبر، لم أصب مثله في الإسلام، فراجعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ (1) (د 1)، (ت 3): باب. (2) ر. المختصر: 3/ 115. (3) حديث: " إذا مات ابن آدم ": رواه مسلم: الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 3/ 1255، ح 1631. وأبو داود: الفرائض، باب ما جاء في الصدقة عن الميت، 3/ 117، ح 2880، والترمذي: الأحكام، باب ما جاء في الوقف، 3/ 660، ح 1376 والنسائي: الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت 6/ 251، ح 3681، وأحمد: 2/ 372، والبيهقي في الكبرى: 6/ 278 " كلهم من حديث أبي هريرة "، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 148 ح 1346.

وكان حدائقَ، ونخيلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: حبِّس الأصلَ، وسبّل الثمرَ " (1). وأجمع المسلمون على أصلِ الوقف، وإن اختلفوا في التفصيل. 5673 - ومذهبُ الإمام الشافعي أن الوقف إذا استجمع شرائطَه صحيحٌ لازمٌ، لا يتوقف لزومُه على تسجيلٍ من جهةِ قاضٍ، ويصح مُنَجَّزهُ في الحياة، ومنفَّذُه في الوصية بعد الوفاة. 5674 - ثم هو في التقسيم الأولي متنوع، فمنه ما يقع مضاهياً للتحرير، وهو كجعل بقعة مسجداً، وهذا مما وافق فيه من أنكر لزومَ الوقف والتحبيس. ويتصل بهذا القسم جعْلُ بقعة مقبرةً، على ما سيأتي، إن شاء الله. عز وجل تفصيل الصنفين. والقسم الثاني - ما يتضمن صرفَ منفعته إلى الغير، وهو ينقسم إلى ما يقصر مقصوده على حق السكون، كالمدارس والرباطات. والوقفُ فيهما قريبٌ من جَعْل البقاع مساجدَ ومقابرَ، وإلى ما يفوّض الأمر إلى المستحِق، فإن شاء، انتفع بنفسه، وإن شاء استغلّه، وتملّك ما يحصل من غَلَّته، وهذا يجري على نوعين: أحدهما - ما تصرف الغلّةُ فيه إلى عمارة المساجد، والرباطات، والمدارس، وإلى ما يصرف إلى من يتملكه. ثم الوقف يصح على مخصوصين معيّنين، وإلى جهةٍ عامة كجهة المسكنة والفقر. وفي تصحيح الوقف على أقوام لا ينحصرون، وليس المراد حاجتَهم قولان، كالوقف على بني هاشم وبني المطلب، ونحوهم. 5675 - ومما يتعين تصدير الكتاب به أن الوقفَ إذا كان على معينين، أو على

_ (1) حديث عمر بن الخطاب متفق عليه بلفظ: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " البخاري: الشروط، باب الشروط في الوقف 5/ 418، ح 2737، مسلم: الوصية، باب الوقف 3/ 1255، ح 1632. أما بلفظ إمام الحرمين فقد رواه الشافعي في مسنده: 2/ 138، ح 457 [السندي] والنسائي: الإحباس، باب حبس المشاع 6/ 232، ح 3603، 3604، 3605. وابن ماجه: الصدقات، باب من وقف 2/ 801، ح 2397، وأحمد: 2/ 156، 157، والبيهقي في الكبرى: 6/ 162 والصغرى: 3/ 336، ح 2223، 2224.

جهةٍ، والغرض منه أن يملكوا ما يحصل من غَلّةٍ وثمرة، فللشافعي في هذا الصنف ثلاثة أقوال: أحدها - أن الملك في رقبة الموقوف يبقى للواقف، ويثبت لمن عليه الوقف استحقاقُ الرَّيْع والفائدة. والقول الثاني - أن الملك يزول إلى الموقوف عليه في الرقبة، ولكنه محبَّس، لا يباع، ولا يوهب ولا يورث، فيثبت ملك التصرف في الفوائد، وملك التحبيس في الرقبة. والقول الثالث- أن الملك في الرقبة يزول إلى الله تعالى، والفوائد يستحقها الموقوف عليه. وما يقع مضاهياً للتحرير كجعل البقاع مساجدَ، لا يتجه فيه إلا زوالُ الملك إلى الله تعالى، على تفصيلٍ سيأتي في المسائل، إن شاء الله عز وجل. 5676 - وحقيقة مذهب أبي حنيفة (1) ردُّ الوقف إذا كان المقصود به تمليكَ الفوائد، ومن أصله أنه يلزم بالتسجيل، وهذا يخرّج على اتباع قضاء القاضي في مواقع الخلاف، ونُقل عنه أنه ألزم الوصية بالوقف إذا خرجت من الثلث، وهذا عنده بمثابة الوصية بالمنافع والثمار، فلا يصح الوقف على أصله (2) بنفسه (3)، وسلّم لزومَ جعل البقاع مساجدَ ومقابرَ، ولم ير ذلك وقفاً، وإنما اعتقده تحريراً. 5677 - فإذا تمهد ما ذكرناه ترجمةً، فنذكر بعد ذلك فصلين في مقدمة مسائل الكتاب: أحدهما - في الألفاظ وذكر الصريح منها، والكناية. والثاني - في بيان ما يصح وقفه.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 136، البدائع: 6/ 218، الاختيار لتعليل المختار: 3/ 40. وما ذكره إمامنا هو قول أبي حنيفة وزفر، وأما أبو يوسف ومحمد، فعندهما لا يشترط شيء من هذا، فقد وافقا الشافعية. (2) " على أصله " أي أصل أبي حنيفة وقواعده، فإن من أصله أن الوقف لا يصح، لأنه حبسُ الرقبة، وتصدقٌ بالثمرة، والثمرة معدومة، وعنده لا يجوز التصدق بالمعدوم، ولذا يصح عنده الوقف إذا كان موصىً به، ويكون إذاً وصيةً بالمنافع، وهي تصح عنده. (3) أي بذاته بصفته وقفاً، وانما يصح إذا كان في صورة وصيةٍ بالمنافع، كما وضحناه في التعليق السابق.

5678 - فأما القول في الألفاظ، فلفظ الوقف على انفراده من غير انضمام قرينةٍ إليه صريحٌ في الباب، في الفن الذي يتضمن تمليك المنافع والفوائد. هذا هو الذي يُقطع به. ولفظ التصدق بمجرده غيرُ كافٍ. وتردد الأئمة بين اللفظين في التحبيس والتَّسبيل، والتحريم والتأبيد، فاشتهر خلافُ الأصحاب في التحريم والتأبيد، فإذا قال: جعلتُ هذه البقعةَ محرّمةً [عليَّ] (1) وريعُها للمساكين، أو لفلان وفلان، وبعدهم للمساكين. أو قال: أبّدتُها، أو جعلتُها مؤبَّدةً، وذكر المصرف كما سيأتي، فمن أصحابنا من رأى الاكتفاء بأحد هذين اللفظين، وزعم أنهما جاريان على الشيوع والذيوع في المقصود، وذهب آخرون إلى أنهما لا يستقلاّن؛ فإنهما [يستعملان] (2) تأكيدين للوقف والتحبيس، فإذا ذكرا مفردين، لم يستقلا. فأما لفظ التحبيس والتسبيل، فالذي قطع به الأئمة أنهما كلفظ الوقف. وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى أنهما كنايتان في الباب، حكاه الشيخ أبو علي عنه وزيفه. وذهب بعض الأئمة إلى نقل تفصيلٍ عن أبي سعيد الإصطخري، فقال: من أصله أن التحبيس صريح، والتسبيل ليس كذلك. وهذا القائل [يذكر] (3) للتفصيل والفرق بين التحبيس والتسبيل مسلكين: أحدهما - أن الرسول صلى الله عليه وسلم غايرَ بين اللفظين في قصة عُمر؛ إذ قال: "حبِّس الأصل وسبِّل الثمر" فاستعمل التحبيس في الأصول والرقاب، والتسبيل في الثمار، وقيل: [عنى] (4) صلى الله عليه وسلم بالتسبيل صرفَ الثمار إلى السابلة.

_ (1) في الأصل: غلتها. (2) في الأصل: يستقلان. (3) في الأصل: يرجم. (4) في الأصل: عبر.

والوجه الثاني - أن التسبيل من السبيل، وهو لفظ مبهم، والتحبيس معناه حبس الملك في الرقبة عن التصرفات المزيلة، فكان في معنى الوقف. 5679 - ومما يتعلق بذلك أن الأصحاب ترددوا في لفظ الوقف إذا استُعمل فيما سبيله مضاهاة التحرير، مثل أن يقول مالك البقعة: وقفتها على صلاة المصلين، وهو يبغي بذلك جعلَها مسجداً. ثم من تردد في التحبيس والتسبيل، جعلهما صريحين إذا اقترنا بالقرائن المشهورة في الباب، مثل أن يقول: حبّست على فلان كذا، تحبيساً محرّماً مؤبداً، أو ذكر التسبيل وقرنه بما ذكرناه. 5680 - وقد ذكرنا أن لفظ التصدّق لا يستقل في الباب، إذا تجرّد وفاقاً، وسبب ذلك أنه يستعمل صريحاً في التبرع بالأعيان، فيقول من يصرف طائفةً من ماله إلى محتاج: تصدَّقتُ بهذا عليك، وهو يبغي تمليكه الرقبةَ تقرباً إلى الله تعالى، والمتصدَّقُ عليه يتصرف في الرقبة تصرفَ الملاّك. فلو قال: تصدقت بهذا على فلان وفلان، -وذكر معينين- صدقةً محرَّمةً مؤبدةً، أو قال: تصدقت على المساكين صدقةً محرّمةً مؤبدةً، فللأصحاب اضطرابٌ في لفظ الصدقة مع التقييدات التي ذكرناها. فذهب الأكثرون إلى أن اللفظ إذا [تقيد، التحق] (1) بالصرائح في الباب، وهذا ظاهر المذهب. وامتنع آخرون، وسبب الامتناع أن التصدق صريح في تمليك الرقبة على خلاف الغرض المطلوب في الوقف. وذهب ذاهبون إلى اشتراط التقييد بقطع التصرف عن الرقبة، مثل أن يقول: لا يباع ولا يوهب؛ فإن التحريم والتأبيد مع لفظ الصدقة قد يحملان على تأكيد الملك في الرقبة على معنى أن الملك فيها [مسرمدٌ] (2) لا ينقضه المتصدق.

_ (1) في الأصل: تقيدت الثمن. وهو تحريف ظاهر. (2) كذا في: (د 1)، (ت 3)، وفي الأصل: غير واضحة الحرت الثاني (السين). والسَّرْمد الدائم الذي لا ينقطع. ولم يرد للفعل (سَرْمد) ذكرٌ في المعاجم التي رأيتها (اللسان، والأساس، والقاموس، والمصباح، والمعجم، والزاهر) فقد ذكر من الاسم فقط (السرْمد).

وفصل فاصلون بين أن يستعمل التصدّق في معينين يُتصوّر الهبة منهم، وبين أن يستعمله في جهة لا يتأتى تصوير الهبة فيها كالتصدق على المساكين. 5681 - وحاصل خلاف الأصحاب يؤول أوّلاً إلى وجهين في استعمال لفظ الصدقة، من غير ذكر الوقف والتحبيس والتسبيل، فمنهم من لم ير استعمال لفظ الصدقة دون الألفاظ الثلاثة؛ من جهة إشعاره بتمليك الرقبة [لا] (1) على جهة الوقف، ومنهم من جوز استعمال لفظ الصدقة مع الاقتران بالقرائن التي ذكرناها. ثم اختلف هؤلاء في القرائن، فمنهم من شرط أن يقترن بنفي البيع والهبة، على ما جرى الرسم فيه. ومنهم من اكتفى بأن يُقرنَ بالتحريم والتأبيد، على ما جرى تفصيل الكلام به. ثم إذا شرطنا الاقتران، فجرّد الصدقةَ، فإن خاطب بلفظها قابلاً متعيناً، فالأصح أنه صدقة بتات، مقتضاها تمليك الرقبة؛ فإنها صريحٌ في الباب. فأما إذا أضاف اللفظ إلى المساكين وغيرِهم من الجهات العامة، ونوى الوقف، فالنية هل تنزل منزلة القرائن اللفظية؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من نزّل النية منزلةَ التقييد بالألفاظ، وأقام لفظ الصدقة مقام الكنايات في الطلاق والعتاق، وحكمها أنها تعمل مع النية. ومنهم من لم يكتف بالنية؛ فإن التصدق صريحٌ في تمليك الرقبة، وإنما فرقنا بين إضافة الصدقة إلى الجهات العامة وبين إضافتها إلى معين يتصور منه القبول، لأنها إذا أضيفت إلى معيّن، تحقق كونها صريحاً في تمليك الرقبة. فهذا حاصل الكلام في الألفاظ. وإذا قلنا: التحريم ليس صريحاً، واقترنت النية به، يجب القطع بصحة الوقف؛ لأنه ليس [موضوعاً] (2) لتمليك الرقبة، وقد انتجز غرضنا من الكلام في الألفاظ. 5682 - فأما القول فيما يصح وقفه، فنقول أولاً: يصح وقف العقار، والمنقول،

_ (1) سقطت من الأصل. (2) في الأصل: صريحاً.

ويصح وقف الجماد والحيوان. والمتبع أن يكون الموقوف المحبَّس بحيث يثبت له منفعة مقصودة، أو فائدة مقصودة، كالثمار وما في معانيها. والمنفعة المقصودةُ يضبطها ما يصح استئجارها على شرط ثبوت الملك في الرقبة، فإن الحرّ يؤاجر نفسَه، ولا يصح منه تحبيس نفسه على جهةٍ، أو على أشخاصٍ معينين. ثم على جهةٍ بعدهم. 5683 - واختلف الأصحاب في وقف الدراهم لتزيين الدكاكين، اختلافهم في إجارتها، والأصح منع الوقف والإجارة، والتصحيح أقربُ إلى الإعارة. ويصح أن يحبس حلياً مباحاً ليتحلى به معينون، ثم بعدهم أيتام، على ما يجري الوقف به. ويصح وقف عبدٍ صغير، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال، لأن الوقف معقودٌ على التأبيد، فلا يضر استئخار الانتفاع من الأول لنقصٍ في المعقود عليه مصيره إلى الزوال. وهذا كتصحيح النكاح على الرضيعة، وإن لم يكن منتفعاً بها في الحال. والمعنى ما نبهنا عليه. وألحق الأصحاب بهذا وقفَ الدراهم على أن يصاغ منها حلي، على قولنا بفساد وقف الدراهم على أن تبقى على صفتها، ويكتفى منها بالتزيين، وزعموا أن استئخار صيغة الحلي بمثابة استئخار إمكان الانتفاع والمحبّسُ عبدٌ صغير، أو مُهرٌ صغير. وهذا فيه بعض النظر؛ فإن المُهرَ والعبد الصغير يصيران من طريق الخلقة إلى إمكان الانتفاع، والدراهم والنّقرة ليست كذلك، [واختيار] (1) إنشاء صوغها افتتاح أمرٍ من طريق الإيثار، ويكاد الوقف أن يكون في حكم المعلّق بما سيكون. 5684 - فأما وقف الكلب المنتفع به، فنقول أولاً: تصح الوصية به، وفي صحة هبته خلافٌ قدمتُه في البيع، ولا شك في امتناع بيعه، وفي صحة إجارته خلافٌ مشهور، ذكرناه في كتاب الإجارة.

_ (1) في الأصل: والخيار.

فإذا تجدد العهد بهذه الأصول، فمن أئمتنا من لم يصحح وقفَ الكلب وإن صححنا إجارته؛ لأن رقبته ليست مملوكة، والوقف يستدعي وروداً على رقبةٍ مملوكة، ولهذا يمتنع وقفُ الحرِّ نفسَه، وإن كان يصح منه أن يؤاجر نفسَه. ومن أصحابنا من خرّج صحة وقف الكلب على صحة هبته؛ فإن الوقف إثبات اختصاصٍ في جهةٍ، فكان في معنى الهبة، وليس الكلب فيه كالحر؛ فإنه ليس مملوكاً، وليس في رقبته اختصاص. وبنى الشيخ أبو حامد جواز وقف الكلب على جواز إجارته. هذه مسالك الأصحاب في وقف الكلب. 5685 - وأما وقف أم الولد، فقد اختلف أصحابنا فيه، ورتبوا الخلاف على الوجهين في وقف الكلب، وجعلوا وقف المستولدة أولى بالصحة؛ من جهة أنها مملوكة، ولم يمتنع فيها من أحكام الملك إلا البيع والرهن، وبنَوْا الخلافَ على أن الوقف هل يتضمن نقلَ الملك إلى الموقوف عليه؟ وفيه الاختلاف المقدم. فإن قضينا بأن رقبة الوقف مبقَّاة على ملك الواقف، فلا يمتنع وقف المستولدة، وإن حكمنا بأن الوقف يتضمن نقل الملك في رقبة الموقوف إلى الموقوف عليه، فالوقف باطل؛ فإن الملك في رقبة الموقوف لا يقبل النقل. هذا منتهى القول فيما يصح وقفه وفيما لا يصح وقفه. 5686 - ثم إن صححنا وقف المستولدة فلو عتَقَت بموت مولاها، انفسخ الوقف وزال؛ لأن الوقف يناقض حرية الموقوف. 5687 - وقد ذكرنا أن العبد المستأجر إذا عتَقَ في أثناء المدة، فالظاهر أن الإجارة لا تنفسخ، والفرق ما قدمناه من أن الوقف ينافي الحرية، والإجارة لا تنافيها. وقد جرت من مالكٍ لها، ويعتضد ما ذكرناه بأن الإجارة مؤقتة، والوقف مبناه على التأبيد، فيستحيل بقاؤه بعد زوال الرِّق، ولا حاجة إلى هذا مع العلم بأن النكاح معقود على التأبيد والحرية الطارئة عليه لا توجب انفساخ النكاح، فالتعويل على ما قدمناه من أن الوقف في موضوعه يستدعي ملكاًً تاماً. كما قدمناه.

وكان شيخي يقول: من استحق منفعة عبدٍ على التأبيد بطريق الوصية، لم يملك صرفَ ذلك الاستحقاق إلى غيره بجهة الوقف؛ فإنه لا ملك له في الرقبة، والوقف وإن لم يكن تحريراً، فهو قريب منه؛ من حيث إنه يقتضي قطعَ تصرف المالك عن الرقبة التي حبَّسها. وقد ظهرت مضاهاة التحرير في المساجد والمقابر. فهذا ما أردناه. فصل 5688 - موضوع الوقف على التأبيد ومنافاة التأقيت، وهذا الفصل معقود لبيان مسائلَ يجري الوقف فيها على قضية التأقيت، ومجموعها يدخل تحت نوعين، ثم يلتحق بهما مسائلُ؛ التحاقَ الفروع بالأصول، والنوعان أصلان مقصودان في الكتاب. 5689 - فنقول: الوقف الوارد على التأبيد هو الذي يجد مصرفاً من إنشائه ولا ينتهي إلى منقطعٍ، بل يتصل بمصرفٍ لا يُتوقع انقطاعه، وهذا كما لو وقف على المساكين والمحاويج، وجهات الخير، وكالوقف على معيّنين موجودين على قضية تتضمن تعجيل حقوقهم متصلةً بالعقد، ثم يذكر الواقف انصرافَ الوقف بعد انقراضهم إلى جهةٍ لا تنقطع. 5690 - ثم قد يُفرض الوقف منقطعَ الآخر، وقد يفرض منقطع الأول، ونحن نذكر كل قسم [و] (1) ما يليق به. ونبدأ بالوقف المنقطع الآخر، وهو أن يقول: وقفت هذه الدار على أولادي، ولا يتعرض لمصرفِ الوقف بعد انقراض المذكورين، ففي صحة الوقف قولان مشهوران: أحدهما - أن الوقف لا يصح؛ فإنه مخالف لموضوعه؛ إذ موضوعُه [على] (2)

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) مزيدة من (د 1)، (ت 3).

التأبيد، وبه تميّز عن العواري، ولما رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرَ الوقفَ والتحبيس، قيّد عمرُ رضي الله عنه التحبيسَ بالتأبيد والتحريم. والوقفُ في الحقيقة قربةٌ يبغي [المتقرِّب بها] (1) إدامتها. هذا وضعها ومبناها، والصدقات المملِّكةُ تقطع سلطان المتصدق، وتنتهى نهايتَها بالوصول إلى يد المتصدَّق عليه، والوقف هو الصدقة الجارية، فإذا لم يثبت له مصرف متأبَّد، كان مائلاً عن موضوعه. هذا هو القول الصحيح وبه المنتهى. والقول الثاني - أن الوقف يصح؛ فإنه ليس فيه تأقيت، والموقوف عليه إذا تعلّق الاستحقاق بعمره جانب الوقفُ التأقيتَ، والنكاحُ مع ابتنائه على التأبيد ينتهي بانتهاء عمر أحد الزوجين. وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً: أن الوقف إذا كان في عقارٍ، لم يصح إنشاؤه منقطعَ الآخر، وإن كان الوقف في حيوان، لم يمتنع ألا يتأبد مصرفه، فإن الحيوان المحبَّس إلى الهلاك مصيره، فإذا وقف مالكُ الحيوان الحيوانَ على شخص معين، كان ارتقاب بقاء الموقوف مع وفاة الموقوف عليه متعارضاً في التقدير بارتقاب موت الموقوف، مع بقاء الموقوف عليه. هذا بيان الأقوال في الأصل. وحقيقتها تتبين بالتفريع. 5691 - فإن حكمنا بفساد الوقف، فهو جرى لغواً، والموقوف مقَرٌّ على ملك الواقف، لا يتعلق به استحقاقُ المسمَّيْن، ولا استحقاقُ غيرهم في حياتهم وبعدهم. 5691/م- وإن حكمنا بأن الوقف صحيح، فهو [لازم] (2) في بقاء المسمَّين وريعُه مصروف إليهم ما بقوا؛ وفاءً بشرط الواقف، فإذا تصرّم المذكورون، وانقضَوْا، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الوقف ينتهي بانقضائهم انتهاء النكاح بموت أحد الزوجين، ثم حكم انتهائه أن يرتد ملكاً، كما كان قبل الوقف. والقول الثاني - أن الوقف لا ينقطع بانقراض المسمّين.

_ (1) في الأصل: المتصرّف بها. (2) في الأصل: نازل.

توجيه القولين: من قال بانقضاء الوقف، استدلّ بأن المتبع فيه شرطُ الواقف، ويبعد أن يثبت فيه مصرِفٌ لم يتعرض له المحبِّس، فإذا انقضى مصرفه المسمّى، واستحال تقدير مصرفٍ، وامتنع استقلال الوقف من غير مصرف، فلا يبقى إلا انقلابُه ملكاً. ومن قال بالقول الثاني، احتج بأنا لو حكمنا بانقضاء الوقف، لكان ذلك مفضياً إلى تأقيت الوقف. وهذا تغييرٌ لوضعه، وتبديل لحقيقته. التفريع على القولين: 5692 - إن حكمنا بانقلاب الوقف ملكاًً، فمن ضرورة هذا القول التزام تطرق حكم التأقيت إلى الوقف، وكأن هذا القائل يقول: المرعي في امتناع تأقيت الوقف جانب الموقوف عليه، وهو غير متأقت في حقه، وليس الوقف مما يورث حتى يقال: ليثبت في حق الموقوف عليه ثبوتاً يخلفه فيه وارثه، وليس كالملك في البيع؛ فإن الخلافة ممكنة فيه. ومن منع هذا، فكأنه يرعى التأبيد في الموقوف [المحبَّس] (1)، فإنه المتقرب به. وهذا هو الصحيح. فإذا صححنا الوقف، ثم رددناه ملكاًً، فقد التزمنا نوعاً من التأقيت. 5693 - وبنى بعض الأصحاب على هذا القول مسألةً، وهي أن الرجل إذا وقف داراً سنةً، أو سنتين على شخص، أو على جهةٍ من جهات الخير، فهل يصح الوقف؟ المذهب الذي عليه التعويل أنه لا يصح، وإن صححنا الوقف المنقطع الآخر؛ فإن تصحيح ذلك (2) مقرّب (3) من حكم التأبيد؛ نظراً إلى الموقوف عليه، وتشبيهاً بالنكاح. فأما التصريح بالتأقيت، فلا اتجاه له. 5694 - وأبعد بعض أصحابنا، فصحح الوقف على هذه الصيغة، وقضى بانتهائه

_ (1) في الأصل: للحبس. (2) تصحيح ذلك: الإشارة إلى الوقف منقطع الآخر. (3) (د 1)، (ت 3): يقرب.

إذا انتهت المدة، وهذا لا يحل الاعتداد به، ولا يسوغ إلحاقه بالوجوه الضعيفة؛ فإنه في التحقيق إلزامُ عاريةٍ، والعارية يستحيل الحكمُ بلزومها؛ فإنها تَرِد على ما يوجد شيئاً شيئاً، فلا تستقر فيه اليد، والتبرعات إنما تلزم بالقبوض، والوقف خُصَّ بالتصحيح، ليستمكن المحبِّس من تأبيد قُرَبِه، فإذا ترك الأصل الذي [بنى الشرعُ الوقفَ عليه] (1)، لم يبق فرقٌ بين العاريّة والوقف. 5695 - فأما إذا قلنا (2): لا يرتدُّ الموقوف ملكاًً عند انقراض المسمَّيْن، فلا يستقل الوقف دون مصرف. وقد اختلفت الأقوال في مصرِف هذا الوقف، بعد انقضاء الجهة التي سماها الواقف، فكان شيخي يذكر أوجهاً، وأطلق صاحب التقريب الأقوال، ولعل بعضها من تخريجات ابن سريج. فأحد الأقوال - أن الوقف يُصرف إلى أقرب الناس بالمحبِّس. والقول الثاني - أنه يُصرف إلى المساكين. والقول الثالث - أنه يصرف إلى المصالح العامة، وهي مصرف خمس الخمس من الفيء والغنيمة. وتوجيه الأقوال يستدعي تنبيهاً على مسلكٍ لبعض الأصحاب غيرِ مرضيٍّ، وذلك أن بعض الأصحاب قال: هذه الأقوال تنزل على قصود الناس في أوقافهم [فمن] (3) يصرف إلى أقرب الناس بالمحبِّس يدعي أن هذا هو الغالب في الأوقاف، فكأن الواقف ذكره، وإن لم يصرح به. والقائل الثاني - يبغي القُربة، وهي إلى سدّ الحاجات أقرب. والقائل الثالث - يذكر الجهة العامة الحاويةَ لوجوه الخير. ودوران الطريقة على حمل الوقف على مايظن كلُّ واحد عمومَه عُرفاً في المصارف. وهذا زلل ظاهر، وميلٌ عن المسلك المطلوب.

_ (1) في الأصل: بين الشرع الوقف، لم يبق. (2) عوْدٌ إلى مسألة الوقف منقطع الآخر. (3) في الأصل: ومن.

5696 - ونحن نقول: إذا ثبت بقاء الوقف، فتلقِّي مصرفه من العرف محالٌ؛ فإنه مضطرب، والظاهر أن الواقف لم يرد تأبيد الوقف، فإن كان المتبع في ذلك حَمْل لفظه على موجب العرف، فلفظه ناصٌّ في التخصيص، فلا معنى لترك موجب لفظه لعرفٍ مختلطٍ، لا ثبات له، ولا اطراد فيه، فالطريقُ في توجيه الأقوال أنا إذا اضطررنا إلى إبقاءِ الوقف، والوقف أُثبت قربةً في الشرع متعلقةً بمصرف، ونحن لم نجد مصرفاً من جهة شرط الواقف، ولا من جهة إرادته، ردَّدنا الظنون في أَوْلى القربات، وأثبتناها على الاختلافِ (1) على خلاف مراد الواقف، فرأينا في قولٍ الصرفَ إلى أقرب القرابات أولى؛ فإن أفضل القربات ما يضعها المرء في القرابات، ويستفيد بها مع التقرّب صلةَ الرحم. وفي قولٍ: تُعتبر الحاجة؛ فإن سدّ الحاجات أهمُّ الخيرات. وفي قول: يحمل المصرف على أعم الجهات؛ إذ لا متعلق عندنا في تعيينٍ. فهذا حقيقةُ هذه الأقوال [والتقرير] (2) بعدُ أمامنا. التفريع على هذه الأقوال: 5697 - إن حكمنا بأنه يصرف إلى الأقربين، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: يصرف إلى المحاويج من الأقربين، فإنا إذا كنا نبغي القربة، فالوجه أن نرعى الحاجة، ثم نعتبرها مع القرابة. ومن أصحابنا من قال: لا نرعى الحاجة، ثم هؤلاء يكتفون بصلة الرحم، ويضمون إليه أن الوقف الحق (3) ذخرٌ وعمادٌ للأغنياء إذا افتقروا (4)، فإن الأموال المعرضة [للانتفاع] (5) والتصرفات تبيد بالتبذير والصرف، والأوقاف تبقى لامتناع

_ (1) (د 1)، (ت 3): وأثبتناها على اختلاف مراد الواقف. (2) في الأصل: والتقريب. (3) (د 1)، (ت 3): المحرّم. (4) (د 1)، (ت 3): افترقوا. (5) زيادة من: (د 1)، (ت 3).

بيعها، وهذا ظاهرٌ في قصود الواقفين على أولادهم، وإن خلفوا عليهم أموالاً. 5698 - ومما اختلف أصحابنا فيه في التفريع على هذا القول: أنا إذا صرفنا إلى الأقرب، راعينا أَوْلى القرابة باستحقاق الإرث، أو أقربهم رحماً؟ من أصحابنا من قال: الأقرب هو الأوْلى بالميراث، فابن العم أوْلى بالوقف من ابن البنت. والوجه الثاني -ولعله الأصح على حكم هذا التفريع- أن قرب الرحم أوْلى؛ فإن الغرض صلة الرحم، ولا مزيد على قاعدة الشرع؛ [إذْ] (1) حرم الوارثَ وجوهَ المبارّ الواقعةِ وصيةً، وحمله على الاكتفاء بالإرث. وإن فرعنا على صرف الوقف إلى المساكين، فقد اختلف أصحابنا على ذلك: فمنهم من رأى محاويجَ الجيران أوْلى، ومنهم من لم يفرّق. وتقديم الجيران لا معنى له؛ فإنا إن سلكنا هذا المسلك [وقعنا] (2) في الصرف إلى محاويج القرابة، وهو القول الأول، فلينتبه الناظر لما يمرّ به. وينقدح في هذا القول جواز نقل الرَّيْع من مساكين البلدة، ومنعُ ذلك يجري على اختلاف القولين في نقل الصدقات. وإن فرعنا على الصرف إلى المصالح العامة، لم يتصرف فيه غيرُ الوالي. هذا هو الرأي الظاهر. ولا يبعد عن الاحتمال ردُّ ذلك إلى نظر المتولِّي، إن كان في الوقف متولٍّ. والقول في المتولي في الوقف المنقطع الآخر قد يغمض، على ما سنذكره من بعدُ. 5699 - ومن تمام التفريع أن من رأى الصرف إلى الأقربين، قال: لو انقرضوا، أو لم يكونوا، فالمصرف مردودٌ إلى القولين الآخريْن، وانقراض الأقربين لا يوجب انقطاع الوقف؛ فإنا نفرع على أن الوقف لا ينقطع، وإن انقطعت الجهات التي ذكرها الواقف.

_ (1) في الأصل: إن. (2) في الأصل غير مقروءة.

5700 - ومما نفرعه أيضاًًً أن مَنْ وقف وأقّت، وصرّح بالتأقيت، فقال: وقفت هذا على فلانٍ سنةً، فإذا كنا [لا] (1) نصحح الوقفَ المنقطع الآخر، وكنا نرى أن الوقف يتأبّد وراء انقراض ما ذكره الواقف، فإذا وقع التصريح بالتأقيت، فلا شك أن هذا أحرى بالفساد، ولكن إذا صححنا فنثبت وراء الوقف مصرفاً، والقول فيه يختلف، كما تقدم في الوقف غلى الأولاد من غير تعرضٍ للمصرف بعدهم. 5701 - ومأخد هذا الذي ذكرناه مع التصريح بالتأقيت أصلٌ عظيم في الوقف، يكاد أن يكون قطباً لشطر المسائل، ونحن نقرره، ونذكر ما فيه، ثم نعود إلى التصريح بالتأقيت، فنقول: العتق إذا نُجِّز وأُقِّت، نفذ، وتأبد، وإذا شُرط في العتق شرطٌ فاسد، لا على معرض التعليق، لغا الشرطُ، ونفد العتقُ، فمؤقته منفّذٌ مؤبد، ومذكوره على حكم الفساد صحيح، وكذلك القول في الطلاق. 5702 - فأما الوقف، فإنه ينقسم إلى وقفٍ يضاهي التحرير، وإلى وقفٍ يبعد عن مضاهاة التحرير. فأما الوقف الذي يضاهي التحرير، وهو جعل بقعةٍ مسجداً، فهذا النوع لا يفسد بالشرط، ولا يتأقت بالتأقيت، بل يتأبد على الصحة. هذا هو الظاهر، وما عداه مطَّرحٌ، وسيأتي الشرحُ عليه، إن شاء الله عز وجل. 5703 - فأما ما لا يضاهي التحرير، كالوقف على الأعيان، وجهات الخير، فإذا قرن بشرطٍ فاسد أوْ أقّت، لم يخلُ إما أن يكون مما يشترط القبول فيه، وإما ألا يكون شرطاً فيه، فإن لم يكن القبول شرطاً فيه، ففي نفوذه مع الاقتران بالشرط المفسد. وجهان، وفي تأبده مع تصريحه بالتأقيت وجهان: أحدهما - أنه يُنحى به نحو العتق، فنيفد على موجب الشرع، وينحذف التأقيت، والشرطُ الفاسدُ. والوجه الثاني - أنه يفسد، ولا ينفذ؛ فإن الوقف مداره على اتباع الشرائط في جهة

_ (1) في النسخ الثلاث " نصحح " بدون [لا]. وزيادتها تقدير منا على ضوء عبارة الإمام: " فلا شك أن هذا أحرى بالفساد "، فإن أفعل التفضيل يقتضي اشتراك المسألتين في صفة الفساد وعدم الصحة، والله أعلم.

الصحة، وكل ما اتبع الشرط الصحيح فيه أفسده الشرط الفاسد، والعتق قطعٌ للملك، واستئصالٌ لسلطنة التصرف. فأما الوقف الذي يشترط القبول فيه على رأي [بعض] (1) الأصحاب، فالأصح أنه يفسد بالشرط الفاسد، فسادَ العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول. 5704 - فإذا ثبتت هذه المراتب، عاد بنا الكلامُ إلى التصريح بتأقيت الوقف، فإن أفسدناه، فالملك دائم، والوقف باطلٌ، في [الوقت] (2) ووراءه، وإن صححناه، وأبَّدناه (3)، فهذا الوجه على هذا القول له (4) اتجاه على حال؛ أخذاً مما ذكرناه الآن. فأما تصحيح الوقف مع التأقيت، وردّه إلى الملك بعد الوقف كما ذكرناه في التفريع على القول الأول، فكلام فاحشٌ مشعر بذهول صاحبه عن فقه الكتاب. هذا منتهى الغرض الآن في ذكر الوقف المنقطع الآخر، وهو أحد الصنفين الموعودين. 5705 - فأما الوقف الذي لا ينتجز له مصرف في الأول، فنصوّره، ثم نذكر تفصيل المذهب فيه، ومضطرب المختبطين ونردّ الأمرَ إلى التحقيق. 5706 - فإذا قال القائل: وقفت داري هذه على من سيولد لي، ولا ولد له، أو وقفتُ على المنتظَرين، دون الموجودين منهم، فهذا الوقف لا مصرف له من جهة الأول. وقد قال الأئمة: في صحة هذا الوقف قولان مرتبان على القولين في الوقف المنقطع الآخر، وجعلوا الانقطاع في الأول أولى باقتضاء الفساد؛ من حيث لم يجد الوقف مرتبطاً يثبت عليه، بخلاف ما إذا انقطع آخره.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: الوقف. وعبارة (د 1)، (ت 3): بالوقت. (3) (د 1)، (ت 3): وإن صححناه، أيدناه، وهذا. (4) (د 1)، (ت 3): .. لا اتجاه له على حال.

5707 - والذي أراه عكسُ هذا الترتيب؛ فإن الوقف إذا انقطع آخره، حاد عن وضعه، كما مهدته قبلُ، والوقف إذا لم يستعقب مصرفاً، ومصرفه منتظَر، فليُنتظر إلى أن يقع. وإن دل هذا على الفساد، فالانقطاع في الآخر أدلّ عليه. وتعليق الوقف في الأول -مع التصريح به في هذا القسم- يناظر التصريحَ بالتأقيت في قسم انقطاع الآخر، فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد وقفت داري هذه على المساكين، فالذي ذهب إليه أئمة العراق القطعُ بالفساد، وذكر المراوزةُ خلافاًً في تصحيح تعليق الوقف. وأنا أقول: قد ذكر العراقيون في الوقف المؤقت خلافاًً، فما وجه قطعهم بإفساد التعليق، وقد ذكروا في هذا الوقف على ما سيكون خلافاً، وهو على التحقيق تعليق، والعتق يصح تعليقه، وإن كان يفسد تأقيتُه، وليس بين التعليق وبين [القُرْبة] (1) المؤبدة -إذا وقعت من المنافاة- ما بين التأقيت والتأبيد. نعَمْ، إن كان الوقف لا يشترط القبول فيه، (2 فتصحيح التعليق فيه متجه، وإن كنا نشترط القبول فيه 2)، فالتعليق فيه بعيد، كما ذكرناه في تعليق التوكيل. ولا يتبيّن سرُّ القول إلا بالتفريع، ونحن نفرع على الوقف على من سيكون، ثم نعود إلى التعليق. 5708 - فإذا قال: وقفت على من سيولد لي، فإن أفسدنا الوقف، فالملك مطرد، والوقف لاغٍ، ولا يثبت إذا ولد المنتظر. وإن حكمنا بصحة الوقف، فقد ذكر الأئمة خمسة أوجهٍ في مصرف الوقف، قبل وجود المولود المنتظر، ذكرنا ثلاثة منها في انقطاع الآخر، ولا يضر إعادتها، فأحد الوجوه- أن الوقفَ يصرف إلى الأقربين بالمحبِّس. والثاني - أنه يصرف إلى المساكين. والثالث - أنه يصرف إلى المصالح العامة.

_ (1) في الأصل: القرابة. (2) ما بين القوسين سقط من (د 1)، (ت 3).

وزاد الأصحاب وجهين: أحدهما - يخرج في هذه الصورة والآخر يخرج في نظيره لها. فأما الوجه الخارج، فهو أن الرَّيع مصروف إلى الواقف إلى وجود من يوجد. والوجه الثاني - أن الموقوف عليه إن كان موجوداً، وكان الشرط الذي تعلق الوقف به مفقوداً، فهو مصروف إليه، وبيانه لو قال: وقفت داري هذه على من يفتقر من أولادي، ولا فقير منهم، فهو مصروف إليهم. هذا نقل ما ذكره الأصحاب، والتحقيق عندنا وراء ذلك. 5709 - فنقول: ظهر التفريع على إفساد الوقف، فإن صححناه، فمقتضاه تأخير استحقاق الريع عن وقت إنشاء الوقف، فنقول: أيقع الوقفُ كذلك أم يقع مستعقباً للاستحقاق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقع على حسب ما وضع، كما يتعلق العتق إذا عُلق، وينتجز إذا نجِّز، هذا وجه. والوجه الثاني - أنه يستعقب الاستحقاق على خلاف ما أشعر به لفظُ المحبِّس. توجيه الوجهين: من قال: لا يثبت الاستحقاق عَقِيب الوقف، قال: إذا لم يفسد الوقفُ، ولم يبعد أن يثبت كما أثبته الواقف، لزم الجريان على موجب لفظه، ومقتضاهُ تأخير المصرف. ومن قال بالوجه الثاني، استدل بأنه نجّز الوقفَ إذا قال: " وقفت هذا "، ولم يعلقه، وسنتكلم في التصريح بالتعليق، وإذا انتجز الوقف، لزم ثبوت مصرفٍ له. وقد يقول هذا القائل: الوقف لا يقبل التعليق، فإذا تضمن اللفظُ التعليق، ثم حكمنا بصحة الوقف، فهو على مذهب إلغاء الفاسد، وتنفيد الوقف على موجب الشرع، وهذا يتضمن تنجيز المصرف. التفريع: 5710 - إن حكمنا بأن الاستحقاق يستأخر، فالوقف هل يثبت أم يتأخر ثبوته؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتأخر ثبوته، كما يتأخر العتق إذا أُخر. وقد قال شيخي أبو محمد: وقعت مسألة في الفتاوى في زمان الأستاد أبي إسحاق وهي أن من قال: " وقفتُ داري هذه على المساكين بعد موتي ". فأفتى الأستاذ بأن

الوقف يقع بعد الموت وقوعَ العتق في المدبّر بعد الموت، وساعده أئمة الزمان، وهذا تعليق على التحقيق، بل هو زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرفٍ بعد الموت، وسنتكلم في هذه المسألة في فروع الكتاب، إن شاء الله تعالى. والوجه الثاني - أن الوقف يثبت، وإن استأخر الاستحقاق به، فإنه قال: وقفت هذا على من سيولد، فلفظه تنجيز الوقف مع تأخير الاستحقاق. فإن قلنا: الوقف غير واقع، فالدار ملكه في الحال، والتصرفات فيها نافذةٌ، حَسَب نفوذها في العبد المعلّق عتقُه بصفةٍ. وإن قلنا: الوقف واقعٌ، والاستحقاق [مستأخر] (1) فالريْع مصروفٌ إلى المالك؛ فإن استحقاق الريْع مستأخر. هذا إذا فرعنا على هذا الوجه. وإن قلنا بالوجه الآخر، وهو: إن الوقف ناجز، والاستحقاق ناجزٌ أيضاًًً، فالواقف لم يذكر مصرِفاً قبل وجود المنتظَر، أو قبل تغيّر صفة في الموجود [تجعله متعلقاً] (2) للاستحقاق، فهذا إذاً وقف يقتضي مصرفاً، لم يذكر الواقف مصرفه، فينقدح فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها. ولا يجري في هذا المسلك الصرفُ إلى المالك، فإنا نبغي فى هذا المنتهى مصرفَ قُربةٍ لوقفٍ يستدعي مصرفاً عاجلاً. نعم، إذا قال: وقفت على من يفتقر من أولادي، فذِكْر وجهٍ رابعٍ في الصرف إلى الولد قبل أن يفتقر قد يتّجه على بُعْدٍ، من حيث إنه أولى من أقاربه الذين لم يذكرهم، فالوقف عليه قربة. فهذا تحقيق القول في تنزيل هذه الوجوه. وقد أرسلها الأصحاب وأتينا بها في مظانها مفصلةً.

_ (1) في الأصل: والاستحقاق غير واقع. (2) في الأصل: " جعله منغلقاً " وعبارة (د 1)، (ت 3): " جعله متعلقاً ". والمثبت تصرّف من المحقق، نرجو أن يكون صواباً.

5711 - ونحن نذكر وراء ذلك التصريحَ بتعليق الوقف. فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد وقفت داري هذه، فهذه الصورة رتبها الأئمة المراوزة على ما إذا قال: وقفت على من سيولد لي، أو على من يفتقر من أولادي، ورأَوْا التصريحَ بالتعليق أولى بالفساد، وبنَوْا ذلك على أن قوله: " وقفتُ " تنجيز للوقف. وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا [و] (1) فهم الناظر من كلامنا أن قبول الوقف الذي لا يُشترط القبول فيه- للتعليق ليس بدعاً، سيّما إذا حكمنا بأن الوقف لا يفسده الشرط، كالعتق والطلاق. ثم إن أفسدنا الوقف، فلا كلام، ولا يقع الوقف عند وجود الصفة أيضاً. وإن لم يبطل، عاد الوجهان في أن الوقف ينتجز، أو يتعلق، وانتظم التفريع بعده على حسب ما مضى، حرفاً حرفاً، غيرَ أن ما وجهنا به بعضَ الوجوه من اقتضاء قول الواقف: " وقفت " تنجيزاً لا يتجه في التصريح بالتعليق. 5712 - وعلى الفقيه الآن أن يفهم موقع الوجهين في الصنفين اللذين هما عماد الكلام، ذكرنا وجهاً في انقطاع الآخر يشير إلى أن تأقيت الوقف صحيح، وهذا في نهاية الفساد، وذكرنا الآن وجهاً أن تعليق الوقف صحيح عند بعض أصحابنا، وهذا وإن استبعده العراقيون غيرُ بعيد عندي في القياس. 5713 - وكنت أود أن أجد لبعض الأصحاب وجهاً في جواز تعليق الإبراء؛ فإنه ليس بعيداً عن القياس [إذا] (2) لم يشترط القبول فيه، فإذا وجدت هذا في الوقف، اتجه مثله في الإبراء، وقد قال ابن سريج في تفريعات القول القديم في الضمان: إنه يصح تعليقه، فإذا صح تعليق الالتزام، فلأن يصح تعليق الأبراء أولى. وقد انتهى تأسيس الكلام بانقطاع الوقف في الطرف الآخِر، والطرف الأول.

_ (1) مزيدة من: (د 1)، (ت 3). (2) ساقطة من الأصل.

5714 - ثم إنا نُلحق بما مهدناه مسائل سهلةَ المُدرك على من أحاط بما تقدم. منها- أن من وقف داره على وارثه في مرض موته، ثم بعده على المساكين، فالوقف باطلٌ على الوارث في مرض الموت، فتلتحق هذه المسألة بانقطاع الوقف في الأول، ولكن قال الأصحاب: لا نقطع ببطلان الوقف على الوارث في الحال، وإنما [يتبين] (1) الفساد إذا مات من مرضه، فقد وجد الوقف متشبثاً، فرأى الأصحاب أن يرتبوا هذا على ما إذا عري الوقف عن مصرفٍ من جهة اللفظ والذكر. وهذا الترتيب قليل النَّزَل (2)؛ فإنه إذا تبين انقطاع الوقف أولاً، فالظن السابق لا حكم له، إذا كان التبين على خلافه. 5715 - ومما ذكره الأصحاب ملتحقاً بهذا الأصل: أن من وقف على شخص معيّن، ثم بعده على المساكين، فلم يقبل ذلك المعين، والتفريع على أن قبوله شرط، فالوقف انقطع من هذه الجهة، فيخرّج على الخلاف المتقدم في انقطاع المصرف أولاً، ورأَوْا ترتيب ذلك على ما إذا وقف [على] (3) من سيولد، وزعموا: أنه علق الوقف بحاضرٍ، ثم كان الانقطاع من جهة غيره. وهذا كلام عري عن التحصيل، لا ينبغي أن يقع التشاغل به. نعم، لو قلنا: إن القبول ليس بشرط، فإذا وقف على معيّن، ثم بعده على المساكين، فلو رد الموقوفُ عليه الوقفَ، فينقدح في هذه الصورة ترتيبٌ؛ من حيث إن الوقف ثبت متصلاً مستعقباً ثبوت مصرفٍ، ثم ارتد بالرد، فلا يمتنع أن يرتب هذا [على ما لو لم يثبت للوقف متعلق أصلاً] (4). 5716 - ومما يجري في هذه الفنون، أنه لو قال: وقفت على فلانٍ، ثم بعده على

_ (1) في الأصل: ينشأ. (2) النَّزَل: بفتح النون المشدّدة، والزاي أيضاً، من قولهم: فلان ليس بذي نَزَل، أي ليس له عقل ولا معرفة، وقولهم: طعامٌ كثير النزل (وزان سبب) أي كثير البركة، فالمعنى: ترتيب لا طائل وراءه. (المعجم والمصباح). (3) ساقطة من الأصل. (4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

المساكين، فإذا لم يقبل، أوْ ردَّ على التفصيل الذي ذكرناه، فيتجه هاهنا الصرف إلى المساكين؛ من جهة أنه جعل المصرف صائراً إليهم إذا انقطع استحقاق المسمَّى أولاً، فإذا لم يستقر الاستحقاق عليه، فيتجه تنزيل ذلك منزلة ما لو انقرض المعيّن بعد ثبوت الاستحقاق لهم. هذا بيان تمهيد الأصول وفروعها. 5717 - ومما يجب التنبيه له أن من وقف على بطونٍ، ورتبهم في الاسْتحقاق، فاستحقاق البطن الأول إذا اعتبر بنفسه، كان على حكم التأقيت، واستحقاق البطن الثاني إذا اعتبر بنفسهِ، فهو على حكم [التعليق] (1)، ولا امتناع فيما ذكرناه من التأقيت والتعليق إذا اطرد الوقف، ولم ينقطع أهل المصرف أولاً وآخراً، ووسطاً. ومثل هذا لا يسوغ فرضه في الإجارة، فإن المعتبر فيها أعيان العاقدين، والمعتبر في الوقف وقوعه قربة على وضع الشرع، فلا نظر إلى تناوب المستحقين. فرع: 5718 - إذا أشار إلى عبدين، وقال: وقفت أحدَهما، ولم يعيّن، ففي صحة الوقف على الإبهام وجهان: أحدهما - المنعُ؛ فإن الوقف مبنيٌّ على قضيةٍ معلومة، يقصد الواقف بوقفه التقرّبَ إلى الله تعالى بتحبيسِ معينٍ، أو يقصد تمليك شخصٍ رَيْعَ عينٍ معينة، فإذا فرض على الإبهام، كان كالإبهام في البيع والهبة، والإجارة وغيرها. ومن أصحابنا من قال: يصح الوقف على الإبهام، كما يقع العتق على الإبهام، إذا قال مالك العبدين: " أحدكما حُرّ ". وهذا التردد يضاهي ما قدمناه من تردد الأصحاب في أن الوقف هل يقبل التعليق قبولَ العتق له، ويلتفت على التردد في أن الوقف إذا اقترن بالشرط المفسد، هل يفسد أم ينفد نفوذَ العتق؟ ثم إن لم نحكم بثبوت الوقف على الإبهام، فلا مساغ لتنفيذه على خلاف إيقاعه، وليس كما إذا أُقِّت، فقد يُؤبّد مؤقَّته، والسبب فيه أنا نجد لتأبيد المؤقت مثالاً، ووجهاً، ولا وجه إذا بطل الإبهام (2 غيره.

_ (1) في النسخ الثلاث التعلق. (2) هذا القوس متصل بنظيره في الصفحة التالية.

وإن صححنا الوقف على الإبهام، فهو إذاً على هذا الوجه بمثابة العتق 1). [فلو قال: " وقفت: أحدَهما "، طالبناه بالتعيين، كما نطالب من يُبهم العتقَ، ثم قد يُفضي التفريع إلى الإقراع، فهو إذاً على هذا الوجه بمثابة العتق] (2). 5719 - ولو قال: " وقفت عبدي هذا على أحدكما "، فأبهم الموقوفَ عليه، فقد قال الأصحاب: الوقفُ مردود، لا مساغ له. وكان شيخي يقول: " إن حكمنا بأن الوقف يفتقر إلى القبول، فالإبهام يُبطله، وإن حكمنا بأنه لا يفتقر إلى القبول، لم يبعد ثبوت الوقف على الإبهام، ثم على الواقف البيان، ولا يبعد إجراء القرعة بينهما عند تعذر البيان ". وهذا فرع بعيد على أصلٍ نازحٍ، فيبعد مأخد الكلام فيه. فرع: 5720 - إذا قال الرجل: " وقفت داري هذه "، ولم يتعرض لذكر المصرف أصلاً، فقد ذكر الأئمة أن الأصح بطلان الوقف، وحكَوْا وجهاً بعيداً في صحته، ثم رددوا الأقوال في المصرف، كما تقدم، ورتبوا فساد الوقف في هذه الصورة على فساد الوقف المنقطع من جهة الأوّل، وعلى فساد الوقف المنقطع من جهة الآخر، وزعموا أن إطلاق الوقف مع السكوت عن مصرفٍ أولى بالفساد. وفي هذا فضلُ نظر؛ فنا إذا كنا نثبت مصرفاً حيث نفى المصرفَ في طرفي الوقف، فلا يبعد أن نُثبت مصرفاً حيث لم ينفه، ولم يثبته. ولا شك أن الأظهر الفساد. 5721 - ومن لطيف القول أنه لو وقف على الكنائس والبِيع، وكتبة التوراة، فوقفه باطلٌ، لا خلاف فيه، ولم يصر أحد إلى إبطال المصرف الذي ذكره، وتنزيل الوقف على مصرفٍ صحيح، وهذا يؤكد أن إطلاق الوقف باطل؛ فإنه لو جمع جامع بين إفساد المصرف الذي ذكره بناءً على حذف الفاسد، وبين تنزيل الوقف بعد هذا

_ (1) هذا القوس متصل بما قبله في ذيل الصفحة السابقة. وما بين القوسين ساقط من (د 1)، (ت 3). (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

الحذف على مصرفٍ يصح، لكان قياساً على حسب هذه الأصول. ولكن الذي بلغنا من الأصحاب القطعُ بالبطلان. والذي يتجه فيه أن الوقف ينقسم إلى وقف تمليك، وإلى وقف قُربة، فأما وقف التمليك، فهو بمثابة الوقف على معينين، وهو جائز، وإن لم يكن فيه قُربة، وهو كالوقف على الكفار. والقسم الثاني - الوقف على جهات القربة، فأما الوقف على البِيَع، فليس تمليكاً، ولا قربة، فبطل، والوقف المطلق يحتمل الصرف إلى القربة، فانقدح فيه الخلاف على البعد. وقد نجز تمهيد هذا الأصل على أحسن مساق. فصل معقود في شرائط الوقف، وما يصح منها وما يفسد 5722 - فنقول أوّلاً: موضوع الوقف الإلزام والإبرام، وقطعُ الخِيَرة، كما أن موضوعه التأبيد، كما تفَصّل القولُ فيه في الفصل السابق. فإذا وقف على معيّنين، أو على جهةٍ من جهات القُربة، فالرجوع إلى شرط الواقف في الصفات المرعية في الاستحقاق، وفي الأقدار المستحقَّة، والترتيب والجمع؛ فإن الواقف هو المفيد، وله الخِيَرةُ في كيفية الإفادة وقدرِها. فلو وقف وقدَّر، وأثبت لنفسه الخِيَرةَ في التغيير والتقديم، والتأخير، والأثرة [والتفضيل] (1)، وجعل لنفسه أن يحرم بعد الوقف من شاء، ويزيد من أراد، فهل يصح الشرط على هذا الوجه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإن مبنى الوقف على اللزوم، فإن كان الموقوف عليه عرضةً لأن يُحرم، لم يتحقق اللزوم في مستقر الوقف، وبقيت سلطنةُ الواقف بعد ثبوت الوقف. وهذا محالٌ. ومن أصحابنا من صحح الشرط كذلك، وأوجب الوفاء به، وحكم بأن اللازم

_ (1) في الأصل: التفاصيل.

أصلُ الوقف، فلا مردّ له بعد صحته، فأما تفاصيل المصارف، فلا يمتنع تعلُّقُها باختيار الواقف. 5723 - ولا خلاف أنه لو أطلق ذكرَ المصارف، وأتى بالوقف مستجمعاً لشرط الصحة، ثم رام تغييراً، لم يجد إليه سبيلاً. 5724 - فإن صححنا الشرط الذي وصفناه، فلا كلام، وإن أفسدناه فهل يفسد الوقف بفساده؟ فعلى الخلاف الذي قررناه قبلُ في تشبيه الوقف بالعتق والطلاق، أو قطعِه عنهما، فإن أفسدنا الوقفَ، فالملك مستدامٌ، والوقف لاغٍ. وإن حذفنا الشرطَ، قررنا الوقفَ على المصارف على الإلزام. 5725 - ولو قال الواقف بعد ذكر المصارف: جعلتُ إلى فلان التقديمَ، والأثرةَ، والحرمانَ، فإن لم نصحح من الواقف شرطَ ذلك لنفسه، فلأن لا يصح شرطه ذلك لغيره أولى، وإن صححنا شرطه لنفسه، ففي صحة الشرط للغير وجهان: أصحهما - الفساد، ثم إذا فسد، ففي فساد الوقف الكلامُ المقدم. 5726 - ومسائل الوقف تنتشر من اختلاف ألفاظ الواقفين، وحظ الفقه منها اتباعُ مقتضى الصيغ، وإنما يُحيط بالألفاظ ذَرِبٌ باللغة، وعلمِ اللسان، ماهرٌ فيما يتعلق بمعاني الألفاظ في أصول الفقه (1)، وليس الفقه إلا الإرشادَ إلى ما يصح ويفسد، والدعاءَ إلى اتباع اللفظ. ثمّ يقع في ألفاظ الواقفين العمومُ والخصوص، والاستثناءات، والكنايات، وهي المتاهة الكبرى، ويجب التثبت عندها، [ليتبيّن] (2) انصرافُ الضمائر (3) إلى محالّها. ومما يتكرر مسيس الحاجة إليه الجمعُ والترتيب، (فالواوُ) جامعةٌ، وكلمة (ثُم) مرتِّبةٌ، فإذا قال: " وقفت على فلان وفلان "، اقتضى ذلك اشتراكَهما، [ولو قال:

_ (1) عُني إمام الحرمين بمعاني الألفاظ في كتابه (البرهان) في أصول الفقه (ر. الفقرات: 84 - 114). (2) في الأصل: لبيتني. (3) (د 1)، (ت 3): الضمان.

على فلان، ثم فلان، اقتضى ترتّباً] (1). وفيه دقيقة، وهي أن الواو إذا لم يقترن بها، أو لم يستأخر عنها ما يقتضي ترتيباً محمولةٌ على الجمع، وقد يستأخر عن الواو ما يتضمن ترتيباً، وهذا مثلُ قول المحبِّس: وقفت على أولادي، وأولاد أولادي، وأولادهم، فهذا لو اقتصر عليه، لاشتركوا، ولا يمتنع أن يقول: بطناً بعد بطن؛ [فيترتب] (2)؛ فإن الواو قد تقتضي الاشتراك في أصل الاستحقاق، وقد تقتضي الاشتراكَ في الأصل، والتفصيلَ، وذلك إذا تجرد (3) عما يقتضي الترتيب. 5728 - وأما الاستثناءات، فيتعين تتبعها، فالمسألة المشهورة للشافعي أن الاستثناء الواقع آخراً ينصرف إلى جميع ما تقدم إذا لم يمنع من انصرافه مانع، فكذلك القول في الصفات، وبيان ذلك أنه لو قال: وقفت على أولادي ثم على إخوتي، ثم على أعمامي إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا ينصرف إلى الجميع، ولا يختص به المتأخرون. والمسألة تذكر في الأصول (4)، وعليها بنى الشافعي قوله في قبول شهادة القاذف إذا تاب، تعلقاً بظاهر قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] ومثال الصفة، أن يقول: " وقفت على أولادي، ثم بعدهم، على إخوتي، ثم بعدهم على أعمامي، الفقراء منهم "، فهذه الصفة يُنحى بها نحو الاستثناء، وتنصرف على المذكورين، وهذا الكلام مبهمٌ، يحتاج إلى مزيد تفصيل. والوجه فيه أن نقول: إذا قال: وقفت على أولادي، ثم بعدهم على بني فلان، ثم بعدهم على إخوتي إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا ينصرف إلى المتقدمين، كما ذكرناه، ولا يختص بالمتأخرين، بل يتعلق حكمُه بالجميع.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) سقطت من الأصل. (3) كذا: بحذف (تاء) المضارعة في أوله، أو (تاء) علامة التأنيث في آخره. أو تُنطق بالبناء للمجهول. (4) راجع البرهان: فقرة 287 - 293.

ولو ذكر الذين وقف عليهم، وأطال الكلام، في وصف كل قبيلٍ، ثم كان يستفتح في كل صنف كلاماً مستقلاً بنفسه، فلست أرى الاستثناء والوصفَ الواقعين آخراً منصرفَيْن إلى الجمل المتقدمةِ السابقةِ المذكورةِ على صيغ الاستقلال. وبيان ذلك بالمثال؛ أنه إذا قال: وقفت على أولادي، فمن مات منهم رجع نصيبه إلى أولاده، للذكر مثلُ حظ الأنثيين، ومن لم يعقب رجعت حصتُه إلى الذي في درجته. ثم قال: فإذا انقرضوا، فالريع مصروفٌ إلى إخوتي: فلانٌ، وفلان، وفلان ثم قال: إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا يختص بالإخوة عندي. 5729 - وإن أطلق الأصحابُ صرفَ الاستثناء إلى المتقدمين، فكلامُهم (1) محمول على ذكر البطون على التواصل بعاطفٍ جامع، أو عاطف مرتِّب، من غير تخلل كلامٍ يفصل جملةً عن جملةٍ، ويوجب بين البطون اختلافاًً وتفاوتاً، مثل أن يقول: وقفت على أولادي، ثم بعدهم على إخوتي، ثم على أعمامي إلا أن يفسق منهم أحد، فظاهر مذهب الشافعي رجوعُ ذلك إلى الكافة، وما ذكره في عطف الجمل، بعضِها على بعض بالواو أظهر، فإذا كان العطفُ يقتضي ترتيباً، فالصرف إلى جميع المقدَّمين فيه بعضُ النظر والغموض؛ فإن انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوعٌ به، وانعطافه على جميع السابقين والعطف بالحرف المرتِّب محتملٌ غيرُ مقطوع به، وإذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصاً، ولم يثبت ما يغيره، وجب تقرير الاستحقاق، ولم يجز تغييره بمحتملٍ متردَّدٍ. 5730 - فانتظم مما ذكرناه ثلاث مسائل: إحداها - أن يطول الفصل، ويتخلل بين الصنف والصنف فواصل، كما صورناه، فالاستثناء لا ينصرف إلى الجمل السابقة. وإن كان العطف بثُمَّ، فالذي أراه اختصاص الاستثناء بالمتاخرين. وإن كان العطف بالواو، ولا فاصل، فمذهبُ الشافعي رجوعُ الاستثناء إلى الجميع، وكذلك القول في الصفة.

_ (1) في الأصل: وكلامهم.

والأصحابُ وإن لم يفصِّلوا الكلام، فما أطلقوه محمولٌ على هذا التفصيل لا محالة. فرع: 5731 - إذا قال: وقفتُ على أولادي، فهل يدخل أولاد الأولاد في الاستحقاق؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنهم لا يدخلون. ومن أصحابنا من قال: يدخلون في الاستحقاق، واسم الأولاد يتناول الأدنَيْن والأحفاد، فإن فرعنا على أنهم يندرجون تحت اسم الأولاد، فالأصح أن أولاد البنات لا يدخلون. هذا ما اختاره صاحب التقريب، وتعليله: أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم، وهم أزواج البنات؛ فإن الانتساب إلى الآباء دون الأمهات، وعلى هذا المعنى قال القائل: بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد (1) وذهب ذاهبون إلى أن أولاد البنات على الوجه الذي نفرع عليه يدخلون دخول أولاد البنين، ثم الوجهان في الأصل فيه إذا لم يجر ما يتضمن إخراج الأحفاد. فلو قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرضوا، فلأحفادي ثلث ما سميتُ لهم، والباقي لأخواتي، فهذا، وما في معناه، يخرج الأحفاد عن الاندراج تحت مطلق اسم الأولاد. فرع: 5732 - إذا قال: وقفت على زيد وعمرو، ولم يذكر بعد انقراضهما مصرِفاً، وفرعنا على أن الوقف المنقطع الآخر صحيح، فلو مات أحد الرجلين، ففي نصيبه وجهان: أحدهما - أنه مصروف إلى الباقي منهما، والصرف إليه مع تعرض الواقف له أولى من تقدير مصرِف لم يذكره الواقف. ومن أصحابنا من قال: نصيب من مات منهما بمثابة نصيبهما لو ماتا، وقد تفصل المذهب في مصرف الوقف بعد انقراض المسمَّيْن.

_ (1) هذا البيت من شواهد ابن عقيل. وقد قال عنه العلامة الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد، نسبه جماعة إلى الفرزدق، وقال قوم: لا يعلم قائله. مع شهرته في كتب النحاة، وأهل المعاني والفرضيين. (شرح ابن عقيل: 1/ 233).

فصل في التولية 5733 - وهو من قواعد الكتاب، وفيه أمر يكاد أن يخرج عن القياس بعضَ الخروج. والذي نراه أن نذكر التفصيلَ في الوقف على الجهات، ثم نذكر الوقف على معيّنين. فأما إذا وقف على جهةٍ، كالوقف على المساكين، فإن شرط التولية لنفسه، وصرّح به، فهو القائم بالصدقة لا يزاحَم، سواء قلنا: الملك له في رقبة الوقف، أو قلنا: إنه زائلٌ إلى الله تعالى، ولا يجري في الأوقاف على الجهات إلا قولان؛ فإن إضافة الملك في الرقبة إلى المساكين لا يتجه. هكذا قال الأئمة. وعندي أنه لا يمتنع تقدير إضافة الملك إليهم، كما أنا نضيف الملك في رَيْع الوقف إليهم، والملك في الريع محقق، فإذا لم يمتنع إضافة الملك المحقق، لم يمتنع إضافة الملك المقدّر. وغرض الفصل الآن أن حق التولِّي يثبت للواقف إذا شرط لنفسه، فإن قيل: هلاّ كان حق التولي تابعاً لملك الرقبة؛ حتى يقال: إن أضفنا الملك إلى الواقف، فحق التولِّي له، وإن أضفناه إلى الله تعالى، فحق التولي للسلطان؟ قلنا: حق التولِّي من جملة الحقوق المستفادة من الوقف، والمتَّبع في [حقوق] (1) الوقف شرط الواقف. ثم إذا شرط الواقف لنفسه حقَّ التولِّي، فليس هو بمثابة ما لو أثبت لنفسه في الوقف حظّاً ونصيباً، وكل ذلك متفق عليه. والذي تمهد مذهب العلماء فيه قديماً وحديثاً أن الواقف هو المتقرِّب إلى الله تعالى بصدقته، فكان أولى بالقيام عليها من غيره، فإذا انضم إلى ما ذكرناه تصريح الواقف بشرط التولي لنفسه، لم يبق ريبٌ في اختصاصه بالتولِّي.

_ (1) في الأصل: حكم.

5734 - ولو شرط الواقف حق التولِّي لرجلٍ عينه، فهو المتولِّي، إذا كان مستجمعاً للشرائط المرعية، وسبيل ذكره الأجنبي كسبيل إثباته في الوقف حظاً لمن يريد أن يُثبت له حظاً، فشرط التولِّي للغير كشرط قسط من الريع. وشرطُ الواقف التولِّي لنفسه يؤخد بما تمهد من كون الواقف أولى بتربية صدقته التي تقرب بها؛ فإنا لو حملنا التولِّي في حقه على إثباته حظّاً لنفسه، وقعنا في وقف الرجل الشيء على نفسه، أو صرفه قسطاً من الريع إلى نفسه. وسيأتي هذا متصلاً بهذا الفصل. ويجوز أن يقال: نَصْبُه أجنبياً صادر مما ثبت له من حق القيام، ثم له أن يستنيب غيرَه مناب نفسه. هذا إذا وقع التعرض لذكر من يتولى الوقف. 5735 - فأما إذا كان الوقف على جهة القربة مطلقاًً، من غير تعرضٍ لمن يتولى الوقفَ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: أمر التولِّي يُبنى على الملك، فإن حكمنا بأن الملك فىِ الرقبة للواقف، فله حق التولِّي، وإن قلنا: الملك في الرقبة زائل إلى الله تعالى، فحق التولّي للسلطان. وهذا ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: حق التولِّي للواقف، وإن قلنا: الملك لله تعالى، فإن الوقف تقرب، والقيام عليه تتمة للقربة، فكان مفوَّضاً إلى المتقرِّب. والأصح الطريقة الأولى. 5736 - ثم شرط القائم في الوقف الذي هو قربة أن يكون مستصلحاً للقيام، ولذلك شرطان: أحدهما - الأمانة. والآخر - الكفاية. ولو انخرم أحدهما، تسلط السلطان عليه، حتى لو كان الواقف شرطَ لنفسه التولِّي، ثم اختل فيه الوصفان، أو أحدهما، لم يتركه السلطان، على ما سنصف في آخر الفصل في القول في العزل والانعزال. هذا في الوقف على الجهات، والوقف عليها لا يكون إلا قربةً. فلو وقف على الأغنياء شيئاً، فقد اضطرب أصحابنا فيه: فمنهم من أبطل الوقف، ومنهم من صححه.

والغرض في هذا يتبين بذكر ثلاث مراتب: إحداها - الوقف على جهات القربة، فهو منفّذ. والأخرى - الوقف على الجهات التي يزجر الدين عنها، ولا يقرر عليها، إلا على موادعة ومتاركة، فالوقف على هذه الجهات باطل، وذلك كالوقف على الكنائس والبيع وكتبة [التوراة] (1). والمرتبة الثالثة - في الوقف على جهةٍ لا نهي فيها، ولا يتضح فيها وجهُ القُربة، كالوقف على الأغنياء من غير تعيين أشخاص. وكل ما ذكرناه في أحكام التولية في الوقف على الجهات، فأما إذا كان الوقف على معيّنين، فهذا ليس مبنياً على القربة، حتى يقال: المتقرِّب أولى بتتمة القربة. 5737 - فإذا وقع التنبّه لهذا، قلنا: الواقف لا يخلو إما أن يتعرض لذكر من يتولَّى [الوقفَ، وإما أن يُطلق الوقفَ، فأما إذا أطلق، ولم يتعرض لمن يتولّى] (2)، فإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو المتولِّي بلا مدافعة؛ إذ الريْع له، والملك في الرقبة مضاف إليه. وإن قلنا: الملك مضاف إلى الله تعالى، فظاهر المذهب أن السلطان لا يتولّى الوقفَ؛ فإنه إنما يخوض فيما يتعلق بالجهات العامة، والملك الذي يضاف إليه في هذا النوع من الوقف تقدير. ومن أصحابنا من قال: حق التولِّي يتبع الملك، فإذا أضفناه إلى الله تعالى، فحق التولِّي إلى القائم بحقوق الله تعالى. وإن فرّعنا على أن السلطان لا يتولى، فحق التولِّي للموقوف عليه نظراً إلى استحقاق الريع والمنفعة. وإن قلنا: الملك للواقف في الرقبة، فالأصح أن حق القيام ثابت له؛ فإنه ملك خاص، فيجوز أن يكون القيام بذلك الملك إليه.

_ (1) في الأصل: " الزبور ". واخترنا هذه، لأنها اللفظة التي تكررت مراراً مع الكنائس والبيع. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

وإن قال قائل: حق القيام لمن له حق المنفعة والريع، قيل له: القيام يمكن أن يضاف إلى الملك، ويمكن أن يضاف إلى المنفعة، وإضافته إلى الملك أولى من إضافته إلى المنفعة. فهذا حاصل القول في إطلاق الوقف. 5738 - وتتمة البيان فيه أنا قد نقول: إذا أُتلف الموقوفُ، يستحق الواقف قيمته ملكاً. وإذا قلنا: الملك لله تعالى، فالقيمة في وجهٍ من الوجوه لا تصرف إلى مال الله تعالى، فاتضح بما ذكرناه أن إضافة الملك تقدير في الوقف على الأعيان، وهو تحقيق في حق الواقف، وكما لا يظهر إضافة الملك في رقبة الوقف إلى المساكين، فكذلك لا يظهر إضافة الملك في الوقف على الأعيان إلى الله تعالى، وليس الوقف قربة. 5739 - فأما إذا وقف الواقف، وشرط التولِّي لنفسه، أو لأجنبي أو لبعض من عليه الوقف، فقد قال الأئمة يُتّبع شرطُه، فإن شرط لنفسه التولِّي، فهو له. وإن شرطه للموقوف عليه، فلا شك في ثبوته، وإن شرط لأجنبي، فظاهر المذهب أنه ينتصب ذلك الأجنبي بنصب الواقف. وهذا الآن في حق الأجنبي يُحمل على إثبات حق له، وسلطنةٍ في الوقف بشرطٍ من إنشاء [الواقف] (1). فإن قال قائل: إذا فرعنا على أن الملك للموقوف عليه، والحق في الريع له، فما وجه حق ثبوت التولِّي لغيره؟ قلنا: من أنكر تخصيصات الواقف وتحكماته في شرائطه، فليس على خبرةٍ من الكتاب؛ فإن العلماء متفقون على أنه لو شرط ألا تُكرى الضيعة الموقوفة، بل تُستغل، فلا يجوز أن تكرى، ولو شرط ألا تكرى أكثر من سنة، وجب اتباع شرطه، ومبنى الوقف على اتباع تحكمات الواقف، إذا لم يخالف موجَب الشرع، وليس كهبة الواهب؛ فإنه لا يبقى له تحكم إذا أقبض، ولو تحكم بطلت الهبة بتحكّمه، فللواقف على الأعيان تعيينُ جهات الانتفاع. والأصل الشاهد فيه أنه وإن ملك الموقوفُ عليه الرقبةَ -على قولٍ- والمنفعةَ،

_ (1) في النسخ الثلاث: الوقف. والمثبت تقدير منا.

فالرقبة محبَّسة عليه، [وأصل] (1) تحبيسها [اتِّباع] (2) شرط الواقف. ومن أحاط بوضع الوقف، هان عليه هذا. 5740 - فإن قيل: إذا كان الوقف على الأعيان، فهل يجوز أن يكون المتولِّي فيه فاسقاً، أم ترعَوْن فيه الأمانة والكفاية، على ما ذكرتموه في القسم الأول؟ قلنا: هذا مما تردد الأصحاب فيه. والمذهب أنه يشترط الأمانة والكفاية، فإنا نشترط هاتين الصفقتين في الوصي والقيّم، والمتولِّي في معناهما، وإنما تخيّل من لم يشترط ذلك من جهة أنه حَسِب التولِّي حقّاً للمتولِّي، وهذا كلامٌ عريٌّ عن التحصيل، فلا اعتداد به. ثم من جوز نصب المتولِّي مع العُرُوّ عن الصفتين يقول: لأرباب الوقف أن يُقيموا أَوَدَه، ويحملوه على المراشد، فإن أبى، استعدَوْا عليه. ولا خلاف أنه إذا كان فيهم طفل، فالمتولي يجب أن يكون أميناًً كافياً. 5741 - ثم لو فسق المتولِّي وقد شرطنا عدالته، فتفصيل القول في فسقه الطارىء كتفصيل القول في فسق الوصي، وسيأتي مفصَّلاً في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى. 5742 - ثم إذا نصب الواقف متولِّياً، فإليه القيام بالعمارة، وتحصيل الريع من وجهه وإيصاله إلى مستحقيه، وإليه عقد الإجارة على حكم النظر. ولا يمتنع أن ينصب الواقف متولِّياً في بعض المصالح المتعلِّقة بالوقف، ويفوِّض الباقي إلى أرباب الوقف، فالتولية تصحّ على الخصوص، وعلى العموم، كما يصح الإيصاء على الوجهين. 5743 - ولو نصب متولِّياً، وشرط له من الريع شيئاً، جاز. وإن لم يشرط له شيئاً، فهل يستحق المتولِّي من الريع قدرَ أجرة مثله؟ فعلى خلافٍ بين الأصحاب، وهو خارج على المسائل التي ذكرناها في كتاب الإجارة، إذا استعمل الرجل إنساناً، ولم يذكر لعمله أجرة.

_ (1) في الأصل: " فأصل " وفي (د 1)، (ت 3): والأصل. والمثبت تصرف من المحقق. (2) في النسخ الثلاث: لاتباع.

5744 - فإذا كان الوقف متعلِّقاً بالمتولِّي، فاليد نتُبعُها شرطَ الواقف، فلا يمتنع أن يشترط كون الوقف في يده، أو في يد ثالث. وإن أطلق الوقفَ، فاليد في الوقف تتبع التصرّفَ، فإن أثبتنا حقَّ التصرف للموقوف عليه، وجب تسليم الوقف إليه، وإن أثبتنا حقَّ التصرف للواقف، فيقرر الوقف في يده، والقول الجامع أن اليد تتبع التصرفَ، وقد مضى التفصيل في ذلك، وتولِّيه عند الإطلاق والشرط. 5745 - ومذهبنا أن لزوم الوقف لا يتوقف على إقباضه للموقوف عليه وتسليمه إليه، وليس كالهبات والصدقات، وخالف في هذا أبو يوسف ومحمد (1)، واضطربت مذاهبهم. هذا منتهى القول في التولية، وما يتعلق بها. فصل 5746 - قد ذكرنا في أثناء الكلام مصارفَ الوقف، إذ جرى ذكرها معترضاً، ونحن نجمعها على الإيجاز في هذا الفصل، فنقول: الوقف ينقسم إلى وقف تمليك، وإلى وقف قربة. فأما وقف التمليك، فالضابط فيه أن كل من تصح الوصية له يصح الوقف عليه. وذهب معظم الأئمة إلى أن الوقف على المساكين يلتحق بالقربات، ويُرعى في هذا المسلك طريق القُربة، وآية ذلك أنه لا يجب استيعاب المساكين، بل يسوغ الاقتصار على ثلاثة منهم؛ فعلى هذا لا يلتحق الوقف على المساكين بقسم وقف التمليك، ويترتب على هذا امتناع الوقف على اليهود والنصارى. وحكى شيخي عن القفال أنه كان يُلحق هذا القسمَ بوقف التمليك، ويجوّز الوقف على الكفار، وعلى الفسقة، ومعاقري الخمور، والمُجّان، كما يصح الوقف على معينين من هؤلاء. وهذا قياس حسن، وربما كان لا يذكر شيخي في بعض الدروس غيرَه. والوصية تصح لهؤلاء، كما تصح لمعينين منهم، وإنما ينفصل المذهب في الوصية لأهل الحرب بالسلاح، كما سيأتي في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 137، البدائع: 6/ 219.

5747 - فعلى هذا الوقفُ الذي يستدعي القربة، هو الوقف على الجهات التي لا تستدعي تمليكاً، كالوقف على البِيع، وكتبة التوراة، فهو باطل، والصحيح الوقف على المساجد والرباطات. فحصل من مجموع ما ذكرناه ترددٌ في أن الأجناس الذين لا ينحصرون هل يُرعى في الوقف المضاف إليهم وجهُ القربة أم لا؟ فإن راعينا وجه القربة، ففي الوقف على الأغنياء تفصيلٌ، قدمته فيما مضى. واختلف القول في الوقف على أقوام يعسر حصرهم، ولو قدرنا صحة الوقف، لوجب استيعابهم، وهذا كالوقف على بني هاشم، والعلوية، والطالبية، وسنذكر هذين القولين في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى. وغرضنا الآن منها أنا إن صححنا الوقف، لم نعلِّقه بالقربة؛ فإنه يتضمن تمليكاً واستيعاباً. 5748 - ومما يتصل بهذا الفصل وقف الإنسان على نفسه، وقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه، فذهب القياسون إلى منعه؛ فإن الغرض من الوقف إخراج الواقف ملكَه إلى غيره، ولا حاصل لوقف خالص ملكه على نفسه؛ فإن مقصود الوقف نوعٌ من الاختصاص، والملك الخالص زائد على كل اختصاص. ومن أصحابنا من جوّز وقفَ الإنسان على نفسه، وحمل ذلك على طلبه تحبيسَ الملك، حتى تنحسم عنه التصرفات المزيلة للملك. ثم بنى الأصحاب على هذا أن الرجل إذا وقف على نفسه شيئاً من ملكه، ثم ذكر أنه [بعد موته] (1) وقفٌ على فلان وفلان، ثم بعدهم على المساكين، فإن صححنا وقفه على نفسه، انتظم الأمر واتسق الوقف، وإن حكمنا بأن وقف الإنسان على نفسه باطلٌ، فهذا وقفٌ منقطع الأول، وقد مضى تفريع انقطاع الوقف من الأول. 5749 - ومما فرعوه أنا إذا أبطلنا وقف الإنسان على نفسه، فلو وقف شيئاً على الفقراء والمساكين، ثم افتقر هو في نفسه، فهل يحل له أن يأخد من رَيْع الوقف ما يسد حاجته، لاندراجه تحت اسم المساكين؟ فيه اختلاف بين الأصحاب على قولنا

_ (1) ساقط من الأصل.

يمتنع منه أن يقف على نفسه قصداً، وسبب الخلاف ما أشرنا إليه من أنه لم يقصد نفسَه، وإنما تناوله عموم اسمٍ، وسنذكر نظير هذا في الوصايا، إن شاء الله. 5750 - ومما يتصل بهذا الفصل، وبما تقدم في التولية أن الواقف لو شرط أن يتولى بنفسه الوقف، ثم أثبت لنفسه أجرة من الرَّيْع، فهذا ينبني على أن وقفه على نفسه هل يصح؟ فإن حكمنا بصحته، لم يمتنع هذا الذي ذكرناه، فإن لم نصحح وقفه على نفسه، ففي الأجرة التي يشترطها لنفسه من ريع الوقف وجهان مبنيان على أصلٍ سيأتي في قَسْم الصدقات، وهو أنا إذا حرّمنا الصدقات المفروضات على بني هاشم وبني المطلب، فلو انتصب واحد منهم عاملاً، فهل يحل له أن يأخد من سهم العاملين؟ فيه [خلافٌ] (1) سنذكره، إن شاء الله عز وجل. وهذا إذا كان المأخود قدر أجر المثل، فإن زاد، لم يخرّج جواز أخذه إلا على قولنا بتصحيح وقف الإنسان على نفسه. هذا منتهى قولنا في مصارف الصدقات، وسنلحق بهذا الفصل وبما قدمناه فروعاً في آخر الكتاب نتدارك بها ما لم تحتوِ الفصول عليه، إن شاء الله عز وجل. فصل معقود في جناية العبد الموقوف، والجناية عليه 5751 - فنبدأ بالجناية عليه، فنقول: هي تنقسم إلى الإتلاف، والجنايةِ على الأطراف، مع البقاء. فأما الإتلاف، فلا يخلو إما أن يصدر من أجنبي، وإما أن يصدر من الواقف، أو من الموقوف عليه. 5752 - فإن أتلف الأجنبيُّ العبدَ الموقوفَ، ضمِنَ القيمةَ، لا محالة، والكلامُ في مصرفها على أقوالِ الملك. فإن حكمنا بأن الملك في الرقبة مزالٌ إلى الله تعالى، فالقيمة على المذهب المبتوت الذي عليه التعويل تصرف إلى عبدٍ آخر يُشتَرى ويُحبَّس، فإن وجدنا عبداً

_ (1) في الأصل: اختلافهم.

خالصاً، فإذاك، وإن لم نجده، صرفنا القيمة إلى شقصٍ من عبد، ومصرفه مصرف العبد. وليس هذا كالأضحية؛ فإنها إذا أتلفت، ولم نجد بقيمتها إلا بعضَ شاة، لم نصرفها إلى بعض الشاة، وذلك لأن التضحية ببعض الشاة غيرُ مجزئة، ووقفُ بعض العبد جائز. 5753 - وإن حكمنا بأن الملك في رقبة [العبد] (1) للواقف، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يجب عليه أن يشتري بتلك القيمة عبداً، أو بعض عبد، كما ذكرنا في حق الله تعالى. ومنهم من قال: القيمة تنقلب ملكاًً للواقف، ونحكم بأن الوقف انتهى بفوات العبد، وهو الذي كان مورد الوقف. وهذا غير سديد؛ فإن من أتلف عبداً مرهوناً، والتزم قيمته، لزم جعل قيمته رهناً، مكان العبد، ولم نقل: انتهى الرهن نهايته، فليكن الأمر كذلك هاهنا؛ فإنّ تَعَلُّق الوقف لا ينقص عن تعلق حق المرتهن. 5754 - وإن فرعنا على أن الملك للموقوف عليه، ففي صرف القيمة إليه وجهان، كما ذكرناه الآن على قولنا الملك للواقف: أحد الوجهين - أن القيمة تصرف إلى الموقوف عليه ملكاً، وقد انتهى التحبيس. ومنهم من قال: يجب صرفها إلى عبدٍ. وإذا سلكنا هذا المسلك في هذا القول، وفي قول الواقف (2)، وقد مضى مثله في قولنا: إن الملك لله تعالى، فلا تختلف الأقوال إذاً بالتفريع، ولا يظهر لها أثر، ويطلق القول بصرف القيمة إلى عبد، أو بعضٍ من عبد على الأقوال كلِّها. 5755 - وإنما يظهر [أثر] (3) الأقوال إذا فرعنا (4) على أن الواقف يملك القيمة، أو ملكنا الموقوف عليه.

_ (1) في الأصل: الوقف. (2) أي قول: الملك للواقف. (3) سقطت من الأصل. (4) (د 1)، (ت 3): إذا ملكنا الواقف القيمة، أو ملكنا الموقوف عليه.

فإن قيل: إن حكمنا على قول الواقف بارتداد القيمة إليه ملكاً، فوجهه انقطاع الوقف، وانقلابُ الموقوف قُبَيْل التلف ملكاًً خالصاً، وهذا مفهوم على الجملة، صحَّ أو فسد. فأما إذا قلنا: الملك للموقوف عليه، فما وجه تمليكه القيمة، والواقف ما ملكه مِلْكَ إطلاق، فكيف يملك القيمة مطلقاً؟ وإذا قلنا: يملك القيمة على قول الواقف، فقد أزلنا الوقف، وإذا أزلناه في حق الموقوف، فلا يبقى له عُلقةُ استحقاق؟ قلنا: هذا سؤال مُخيلٌ، ولكنه يجاب عنه بأنا إذا ملَّكنا الموقوفَ عليه رقبةَ الوقف، فكأن الواقف تصدق عليه، وملّكه الرقبة مِلكَ الصدقات، غير أنه حبّس عليه الملك، فإذا انحل الحبس الذي هو نعت ملك الموقوف عليه، بقي الملك المطلق. هذا إذا كان الجاني أجنبياً. 5756 - فأما إذا قتل الواقفُ العبدَ الموقوفَ، فإن حكمنا بأن القيمة التي يلتزمها الأجنبي بقتل العبد تُصرف إلى الواقف ملكاًً، فإذا كان القاتل هو الواقف، لم يلتزم شيئاً؛ فإنه لو التزم القيمة، لالتزمها لنفسه. وهذا محال. وإن قلنا: القيمة التي يلتزمها الأجنبي مصروفةٌ إلى عبدٍ، أو إلى شقص من عبد، فعلى الواقف القيمة لتصرف إلى الجهة التي ذكرناها. وإن قلنا: القيمة التي يلتزمها الأجنبي تُصرف إلى الموقوف عليه ملكاًً، فعلى الواقف القيمة للموقوف عليه إذا كان هو القاتل. 5757 - ولو قتل الموقوفُ عليه العبدَ الموقوف، اتجهت هذه الوجوه في حقه، فإما ألا [نوجب] (1) عليه شيئاً؛ تفريعاً على أن القيمة التي يلتزمها الأجنبي مصروفة إلى الموقوف عليه ملكاًً، وإما أن نقول: على الموقوف عليه القيمةُ لتصرف إلى شراء عبد، وإما أن نقول: على الموقوف عليه القيمةُ للواقف؛ تفريعاً على أن ما يلتزمه الأجنبي مصروفٌ إلى الواقف ملكاً.

_ (1) في الأصل: يتوجه.

هدا بيان التفريع فيه إذا كانت الجناية على العبد الموقوف قتلاً. 5758 - فأما إذا كانت الجناية عليه دون القتل، فإن كانت من جهة الأجنبي، فقد زاد بعضُ أصحابنا وجهاً فيما حكاه صاحب التقريب: أن أروش الأطراف والجنايات الواقعة دون النفس مصروفةٌ إلى الموقوف عليه على الأقوال كلِّها، تنزيلاً لها منزلة المهر الذي يجب بوطء الموقوفة، وسنذكر على أثر ذلك أن المهر مصروف إلى الموقوف عليه. وهذا القائل يحتج بأن أروش الجنايات الواقعة دون النفس فوائدُ تتعلق بإفاتةٍ (1) وتفويتٍ، فضاهت المهرَ. والمذهب الظاهر أن أروش الجنايات تنزل منزلة قيمة الجملة، وقد سبق التفصيل في القيمة إذا وجبت، أو قُدّر وجوبها بالقتل، على حسب تصويرنا القاتل أجنبياً، أو الواقف، أو الموقوف عليه. هدا إذا كانت الجناية على العبد الموقوف عليه. 5759 - فأما إذا صدرت الجناية من العبد الموقوف، فإن كانت موجبةً للقصاص، اقتُصَّ منه، فالقصاص لا يمنعه مانع. 5760 - وإن كانت الجناية تتعلق بالمال، فلا مطمع في بيع العبد الموقوف أصلاً في الجناية؛ فإن الوقف لا يقبل النقض، ولو بعناه، لتضمن بيعُه نقضاً للوقف. وإذا امتنع البيع، تعيّن التعلق بالفداء. والقول فيمن يفديه يتفرع على الأقوال في ملك الرقبة، فإن قلنا: مالك الرقبة الواقف، فعليه أن يفديه؛ فإنه بوقفه تسبَّب إلى منعه من البيع، فكان ذلك موجباً للفداء عليه، وينزل وقفُه إياه منزلةَ استيلاد السيد الجاريةَ، وإذا جنت المستولدة، فعلى المستولد الفداء.

_ (1) كذا في جميع النسخ، والمعنى واضح: أي تتعلق بتفويت منافع الموقوف. وعبارة الرافعي التي نقلها عن صاحب التقريب: " أن أروش الأطراف والجنايات تصرف إلى الموقوف عليه، على كل قول، وتنزل منزلة المهر والأكساب ". ر. فتح العزيز: 6/ 296.

5761 - وإن حكمنا بأن الملك للموقوف عليه، فقد اختلف أصحابنا في وجوب الفداء، فذهب بعضهم إلى أنه يجب على الموقوف عليه الفداء؛ نظراً إلى الملك في الرقبة وتفريعاً على ذلك. ومن أصحابنا من قال: يجب الفداء على الواقف؛ فإنه المتسبّب إلى المنع من البيع، كما قررناه، والتعويل في وجوب الفداء على المنع من البيع. ومن أصحابنا من قال: وجوب الفداء يبنى على القبول، فإن حكمنا بأن الوقف لا يتم إلا بقبول الموقوف عليه، فعليه الفداء، فإنه المتسبب إلى تحقيق الوقف، وانضمّ إليه ما ذكرناه من الملك في الرقبة. وإن قلنا: يثبت الوقف دون قبول الموقوف عليه، فالفداء على الواقف. 5762 - ونحن نقول في القبول وقد انتهى الكلام إليه: إن كان الوقف على جهة من الجهات، أو على جنسٍ لا يضبطون، فلا يتوقف ثبوت الوقف على قبول أحدٍ؛ فإنه لا يمكن تقدير القبول إذا لم يكن الموقوف عليه شخصاً معيَّناً. فأما إذا كان الوقف على متعيّن، ففي اشتراط قبوله وجهان: أحدهما (1) - أنه لا بدّ من قبوله، أو من قبول من ينوب عنه بجهة الولاية، إذا كان طفلاً أو مجنوناً، هذا هو الصحيح؛ فإن تمليك الغير رقبةً، أو منفعةً إلزاماً من غير قبول منه خارجٌ عن قياس القواعد. ومن أصحابنا من لم يشترط القبول، ومال إلى أن الوقف ليس هبة على التحقيق، ولهذا لا يشترط فيه الإقباض الذي هو الركن في الهبات، فينبغي ألا يشترطَ القبول، كما لا يشترط الإقباض. وإن حكمنا بأن القبول لا بد منه، فيشترط اتصاله بالوقف، على حسب اشتراطنا ذلك في كل قبولٍ يتعلق بإيجاب. وإن قلنا: لا يشترط القبول، فلا خلاف أن الوقف يرتد برد الموقوف عليه،

_ (1) (د 1)، (ت 3): أصحهما.

وهذا يناظر (1) قولَنا في الوكالة، وإذا فرّعنا على أن القبول ليس شرطاً فيها، فلا شك أنها ترتد بالرد، وقد فصلنا ذلك في الوكالة. وتصوير الرد في الوكالة على الغرض الذي نريده [عسر] (2) مع أن الوكيل بعد قبول الوكالة لو رد الوكالة، لكان رده لها فسخاً، والوكالة جائزة على أي وجهٍ فرضت. 5763 - وما ذكرناه [من] (3) القبول والرد إنما يجري في البطن الأول. فأما إذا استقر الوقف بقبول من في البطن الأول، ثم انقرض، وانتهى إلى البطن الثاني، فلا يشترط القبول ممن في البطن الثاني، على المسلك الصحيح؛ فإن اشتراط القبول منهم، مع استئخار الاستحقاق في حقهم عن الوقف غيرُ متجه، وشرط القبول الاتصال. وأبعد بعض أصحابنا، فاشترط القبول في كل بطن، وجعل استئخاره عن الوقف بمثابة استئخار قبول الموصَى له الوصية عن وقت الإيصاء. فإن لم يُشترط القبول، فهل يرتد الوقف بردهم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرتد، فإن إلزامهم حقاً لهم في المنفعة والرقبة بعيدٌ عن القياس. والثاني - أنه لا يرتد بردهم؛ فإنهم دخلوا في الوقف تبعاً على وجه البناء، فكانوا بمثابة الورثة الذين يملّكهم الشرع إرثاً، ولو أرادوا دفْعَ الملك عن أنفسهم، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً. وهذا كأنه يلتفت على خلاف الأصحاب في أن البطن الثاني يتلقَّوْن الاستحقاق من البطن الأول تلقِّي الوارث من المورث، أو يتلقَّوْنَه من الواقف؟ وفي ذلك وجهان: فإن نزلناهم منزلة الورثة، لم يبعد أن يلزم الوقفُ في حقهم. وإن حكمنا بأنهم يتلقَّوْن من الواقف، فينبغي أن يرتد الوقف بردّهم. وعلى هذا الأصل أجرى الأصحاب الخلافَ بأن من في البطن الأول إذا أجَّر الوقفَ، ثم مات في أثناء المدة، فالإجارة هل تنفسخ بموته، أو تبقى إلى منتهى المدة؟ وقد ذكرنا هذا في كتاب الإجارة.

_ (1) عبارة (د 1)، (ت 3): وهذا بمثابة قولنا في الوكالة إذا فرعنا ... (2) في الأصل: يحسن. (3) في الأصل: في.

5764 - هذا إذا فرعنا على أن القبول غيرُ معتبر [في البطن الثاني. فإن اعتبرنا قبولهم] (1)، أو قلنا: يرتد الوقف بردهم، فهذا يتضمن انقطاع الوقف في جهة الآخِر، إذا لم يقبلوا أو ردوا. وقد مهدنا أصل انقطاع الوقف في الآخر. ونحن نقول هاهنا: إذا انتقض الوقف في حق البطن الثاني بردّهم، أو لم يثبت بعدم قبولهم، ففي المسألة خلاف بين الأصحاب في أن الوقف هل يبقى على الجملة؟ منهم من قال: لا يبقى، بل ينقطع، وهو ظاهر القياس، ومنهم من قال: إنه يبقى؛ فإن الوقف قد ثبت بقبول من في البطن الأول، وحق الوقف إذا ثبت ألا ينقطع. فإن قلنا: إنه لا ينقطع، فقد اختلف أصحابنا في مصرفه: فمنهم من رأى ردَّ البطن الثاني، أو عدم قبولهم بمثابة الانقراض منهم، حتى ينقل استحقاق الوقف إلى البطن الثالث. ومنهم من لم يجعل ذلك بمثابة انقراضهم، فإن جعلنا ذلك كالانقراض، نظرنا في البطن الثالث إذا كانوا موجودين، وفرعنا قبولهم وردهم، وإن لم نجعل ردّ من في البطن الثاني بمثابة الانقراض، فتعود الأقوال في أن الوقف يصرف إلى أية جهة؟ ففي قولٍ نصرفه إلى الأقربين، وفي قولٍ إلى المساكين، وفي قولٍ إلى المصالح العامة. فإن صرفنا إلى المصالح، أو إلى المساكين، استقر الوقف في الجهة؛ إذ لا قبول في الوقف على الجهات، وإن صرفنا إلى الأقربين، فيعود التفريع في قبولهم وردّهم، فإن قبلوا، فذاك، وإن ردّوا، لم يخرج إلا قولان في الصرف إلى المساكين، أو المصلحة العامة. وهذا كله تفريع على قولنا: إنا نمهّد للوقف المنقطع مصرفاً. فإن قلنا: لا نمهد له مصرفاً، فلا يتبين والحالة هذه بطلان الوقف في حق الأولين، وقد قبلوا. هذا لا سبيل إليه. ولكن يتجه عند فرض الانقطاع انقلابُ الوقف ملكاً، ولا يخرج على ترتيب التفريع غيرُ هذا.

_ (1) عبارة الأصل: غير معتبر، فإن اعتبرنا قبول من في البطن الثاني.

5765 - ولا شك أنه يجري مع ما ذكرناه أن الوقف إذا تعذر صرفه إلى الجهات المضبوطة، وقد ذُكر وراءها جهةٌ لا تنقطع، فهل يصرف الوقف إليها؟ ويظهر هاهنا الصرف إلى الجهة التي لا تنقطع، ثم لا قبول في تلك الجهة، ويخرج أنا لا نفعل ذلك حتى تنقرض البطون المعيّنون؛ اتباعاً لشرط الواقف. وقد كان قال: فإذا انقرضوا فللمساكين. 5766 - ثم الكلام فيما يتجمع من الريع -وقد أبينا إلا اتباعَ الشرط- أن نقول: إنه مصروف إلى الواقف، فيخرج من ذلك أوجه إذا جمعها الإنسان: أحدها- الرجوع إلى المالك، وينضم إليه ثلاثة أوجه ذكرناها، أو ثلاثة أقوال عند انعدام المصرف الذي عينه الواقف، وينضم إلى هذه الوجوه النقل إلى الجهة العامة التي هي مصير الوقف ومرجعه في الآخر، إذا انتهت الجهات المعلومة. وإذا لم يكن ذكر الواقف جهةً عامة بعد انقراض الجهات المضبوطة، عاد الكلام إلى اضطراب الأصحاب والتفّ الخلاف في الباب. وهذا الأصل سيأتي مستقصىً في كتاب الدعاوى عند فرض الحلف والنكول من البطون، وهو فصل منعوتٌ في ذلك الكتاب، ونحن مهدنا نهاية المقصود منه فيما يتعلق بالقبول والرد، وانتجز بما ذكرناه تمامُ الغرض في فصل القبول، وإن انسل عنا وجهٌ لم يذكر، فقد نبهنا عليه. 5767 - والناظر إذا أحكم الأصول، فهو على سعةٍ في أمثال هذه المضطربات، في أن يستدرك ما يزلّ عن الذكر. 5768 - وإنما اتجه هذا الكلام من قولنا: إن القبول إن جعلناه شرطاً، وفرّعنا على أن الملك للموقوف عليه، ففداءُ العبد الموقوف -إذا جنى- عليه (1). 5769 - ومن تحقيق المذهب في ذلك أنا إذا اعتبرنا القبول، والتفريعُ على أن الملك للواقف، فهل يلزم الموقوف عليه الفديةُ، لمكان قبوله، وإن لم نحكم له

_ (1) " عليه " في موضع خبر مبتدؤه: " فداء ".

بالملك في الرقبة؟ الظاهر أنا لا نفعل ذلك، ونحيل الفداء ولزومَه إلى الواقف؛ نظراً إلى ملكه في الرقبة، ثم إلى إنشائه الوقف الذي هو سبب القبول. 5770 - ومن أراد أخد المذهب من حفظ الصور، اضطرب عليه (1) في أمثال هذه الفصول. ومن تلقاه من معرفة الأصول، استهان بدرك أمثال هذه الفصول. وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أن الملك للواقف أو للموقوف عليه. 5771 - فأما إذا قلنا: الملك زائل في الرقبة إلى الله تعالى، فقد ذكر شيخي وصاحب التقريب ثلاثة أوجه في الفداء: أحدها - أن الفداء على الواقف؛ فإنه الأصل في المنع من البيع. والثاني - أن الفداء يتعلّق بمال الله تعالى، وهو السهم المرصد للمصالح، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن المغارم إنما تتوجّه إلى بيت المال من جهةٍ يتوقع توجّه فوائد منها إلى بيت المال، فإنا لمَّا ضربنا العقل على بيت المال عند عدم العاقلة الخاصة، كان ذلك معارَضاً (2) بصرفنا تركة من يموت، ولا وارث له على الخصوص إلى بيت المال، وقد ينقدح في بعض الصور انصرافُ الوقف إلى المصلحة العامة، كما ذكرناه، فيستدّ الوجه (3) عليه، وينتظم إيجاب الفداء من بيت المال. والوجه الثالث - أن الفداء يتعلق بكسب العبد؛ فإنا لم نجد سواه متعلَّقاً، فإذا عدمنا تعلُّقاً في جهة الرقبة، فكأن الموقوف عليه حرٌّ، وإذا جنى الحر، لم يبعد مطالبته. فهذه مضايق يضطر الفقيه إليها. 5772 - ثم القول في أن الموقوف بكم يُفدى، كالقول في المستولدة، وذلك يأتي مستقصىً في آخر كتاب الديات إن شاء الله عز وجل. وقد نجز منتهى الغرض تأصيلاً وتفصيلاً في جناية الموقوف، والجناية عليه.

_ (1) (د 1)، (ت 3): عقله. (2) معارضاً: أي مقابلاً: بمعنى معاوضاً. (3) (د 1)، (ت 3): الوقف.

فصل في وطء الجارية الموقوفة في الجهات التي يجري الوطء فيها، مع ما يُفضي الوطء إليه من العلوق. 5773 - فنقول في مقدمة الفصل: لا خلاف أن الموقوف عليه لا يستبيح وطء الجارية الموقوفة، وإن حكمنا بانه يملك رقبتها، وسنبين أنه مالك منفعة بضعها، من جهة صرفنا المهرَ الواجبَ على الواطىء بالشبهة إليه، فهذا متفق عليه بين الأصحاب. 5774 - ثم اختلفوا في أن الموقوفة هل تزوج؟ فقال بعضهم: يجوز تزويجها، كما يجوز تزويج المستولدة، وإن [امتنع] (1) بيعُها. وقال آخرون: لا يصح تزويجها؛ فإنها قد تلد إذا وطئها الزوج، ثم يُفضي ذلك إلى هلاكها، والوقف لازم، فينبغي أن تحرم الأسباب المؤدية إلى رفعه. وهذا كتحريمنا وطءَ المرهونة على الراهن، وأيضاًً: فإن القول في ملكها مضطرب، ويُشكل بسببه من يزوّجها. فإن حكمنا بأنها لا تزوج، فلا كلام. 5775 - وإن حكمنا بأنها تزوّج، فمن يزوّجها؟ قال الأئمة: هذا يُخرّج على الأقوال في الملك؛ فإن حكمنا بأن الملك زائل إلى الله تعالى، فيزوّجها القاضي. واختلف الأئمة في أنه هل يستشير في تزويجها الواقفَ والموقوفَ عليه؟ فمنهم من قال: لا بد من استشارتهما، ولا يصح النكاح دون رضاهما. ومنهم من قال: ينفرد القاضي بتزويجها على حسب النظر، ولا يستشير. وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه له، لما ذكرناه من إفضاء التزويج إلى العلوق والطلق، ونقصان الوِلاد (2).

_ (1) في الأصل: عسر بيعها. (2) الوِلاد: "الحَمْل. يقال: شاة (والد) أي حامل بينة الولادة، ومنهم من يجعلها بمعنى الوضع" (المصباح).

وإن قلنا: الملك للواقف، فهو المزوِّج، وهل يستشير الموقوفَ عليه؟ فعلى وجهين، ولا خلاف أنه لا يستشير القاضي. وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو المزوِّج ولا يستشير أحداً، وجهاً واحداً؛ لأن الملك له في الرقبة والمنفعة. فإن قيل: [إذا لم يستشر] (1) فلم (2) ذكرتم وجهاً في استشارة القاضي الواقفَ والموقوفَ عليه إذا قلنا: الملكُ زائل إلى الله تعالى؟ فهلاّ اقتصرتم على استشارة الموقوف عليه، لمكان استحقاقه المنفعة، ولرجوع قيمة منفعة البضع إليه؟ فما وجه استشارة الواقف؟ قلنا: استشارته من جهة أنه منشىء الوقف، والقاصدُ إلى تخليده، وتأبيده، على حسب الإمكان في كل موقوف. وما ذكرناه لو قيل به لم يكن بعيداً، وهو الفرق بين الواقف والموقوف عليه في وجوب الاستشارة. وما ذكرناه في الاستشارة له التفات من طريق اللفظ، وعلى نظر قريب في المعنى إلى مسألةٍ في كتاب النكاح، وهي أن السلطان إذا كان يزوّج المجنونة البالغة عند مسيس الحاجة، فقد قال الشافعي: " ويستشير ذا الرأي من أهلها ". وفي هذا الأصل خلاف، وتردّدٌ، سيأتي مشروحاً في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل. 5776 - ومما نذكره في مقدمة الفصل أن الموقوفة لو جاءت بولد من سفاحٍ، أو نكاح -إن صححنا النكاح- فالحكم في ولدها ماذا؟ أوّلاً- اختلف أئمتنا في أن من وقف بهيمةً على إنسانٍ أو جهةٍ، فأتت بولدٍ، فما حكم ولدها؟ منهم من قال: ولدها من فوائدها، فهو بمثابة الصوف، والوبر، واللبن، فيقع ملكاًً للموقوف عليه مطلقاًً، كالثمار المستفادة من الأشجار الموقوفة. ومن أصحابنا من قال: الولد موقوفٌ كالأم؛ فإنه جزء من الأم، فينبغي أن يكون

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (2) (د 1)، (ت 3): فقد.

بمثابته؛ فإن الوقف جهةٌ لازمةٌ، لا يتوقع ارتفاعها، فولد الموقوفة في جهة الوقف كولد الضحيّة في جهة التضحية. هذا قولنا في ولد البهيمة الموقوفة. فأما إذا أتت الجارية الموقوفة بولد من سفاحٍ، أو نكاح، ففيه وجهان مرتبان على الوجهين في ولد البهيمة، وولد الأمة أولى بأن يكون موقوفاً كالأم، بمثابة ولد المستولدة من المستولدة. قال الشافعي: " ولد كل ذات رحم بمثابتها " ووجه الترتيب أن الجارية لا تقتنى لتلد بخلاف البهيمة، فكان عدُّ ولد البهيمة من الفوائد أقربَ. 5777 - ومما نقدمه أن الجارية الموقوفة إذا وطئت وطئاً يتعلق به لزوم المهر، فالمهر مصروف إلى الموقوف عليه، باتفاق الأصحاب، وإن حكمنا بأن الملك في الرقبة للواقف. وهذا فيه إشكالٌ من طريق النظر، والحكمُ متفق عليه من طريق النقل. ووجه الإشكال أن منفعة البضع لا تملك وحدها دون ملك الرقبة، بخلاف منافع البدن، وقد ذكرنا الاتفاق على أن الموقوف عليه لا يستفيد بالوقف استباحة وطء الموقوفة، ولكن لم نجد مصرفاً أولى وأقرب من مصرف المنافع، ولا سبيل إلى تعطيل المهر، ولا إلى صرفه إلى جاريةٍ أو عبد ليوقف، فكان ما ذكره الأصحاب أقربَ الوجوه. فإذا ثبتت هذه المقدمات؛ فإنا نفرض بعد ذلك وطء الموقوفة من الأجنبي، ثم نفرضه من الواقف، والموقوف عليه. 5778 - فأما إذا وطىء الأجنبيُّ الجارية الموقوفة، نُظر: فإن وطئها بشبهة وعري الوطء عن العلوق، وجب عليه مهر مثلها للموقوف عليه، كما ذكرناه. وإن علقت مع الشبهة بولدٍ، فهو حرٌّ، وعلى الواطىء قيمتُه. ثم القول في مصرف قيمة الولد يترتب على ما ذكرناه، فإن جعلنا الولد الرقيق من فوائد الوقف، فالقيمة بمثابته، وهي مصروفة إلى الموقوف عليه. وإن قلنا: ولدها الرقيق موقوف كالأم، فقيمة الولد تصرف إلى عبدٍ، أو شقصٍ، كما تقدم.

وإن وطىء الأجنبي زانياً، نظر: فإن كانت الموقوفة مستكرهة، وجب المهر، وإن كانت مطاوعةً، فعلى وجهين، تقدم ذكرهما في كتاب الغصب. وإن أتت بولد والواطىء زانٍ، فهو رقيق، والخلاف فيه كما تقدم. هذا في وطء الأجنبيّ. 5779 - فأما إذا وطىء الموقوفُ عليه الجاريةَ الموقوفة، فلا يخلو إما أن يتصل بالوطء الإحبال، وإما ألا تعلق، فإن لم تعلق، فلا حدّ للشبهة، ولا مهر؛ إذ لو وجب المهرُ، لوجب له على نفسه، وهذا محال. فأما إذا علقت بمولودٍ، فهذا يتفرع على الملك، فإن قلنا: الملك في الرقبة للموقوف عليه، فينفذ الاستيلادُ بناءً على الملك. وإن قلنا: الملك في الرقبة زائل إلى الله تعالى، أو هو باقٍ للواقف، فلا ينفذ الاستيلاد أصلاً. فإن قيل: هلا أثبتموه لعلقة الملك، كما قضيتم بأن جارية الابن تصير مستولدةً للأب [إذا أولدها] (1)؟ قلنا: ذاك إن قلنا به، ليس جارياً على قياس؛ فإن جارية الابن لا حقَّ فيها للأب، ولو كان للأب في ملكها شبهةٌ، لما حلّت للابن، فإن حِلَّ الوطء لا يصادف إلا ملكاً محضاً، فإذاً ذاك خارجٌ عن القياس، متعلقٌ بحرمة الأبوّة، كما تعلق بها انتفاء القصاص عن الأب، فلا نتخيل قياساً على ذلك الأصل. 5780 - ثم أمر الولد يتفرع على الاستيلاد، فإن حكمنا بأن الاستيلاد يثبت، فالولد يعلق حرّاً. وإن حكمنا بأن الاستيلاد لا يثبت، نظر: فإن وطئها على ظن أنها زوجته، أو مملوكتُه القنّة، فالولد حر، وإن وطئها عالماً بحالها، قاطعاً بأنها محرمةٌ عليه، فالمذهب أن الولد ينعقد حراً أيضاًًً. ومن أصحابنا من لم يحكم بحريته. 5781 - وهذا يضاهي اختلافاً للأئمة في أن من وطىء جاريةَ الغير ظاناً أنها زوجته

_ (1) ساقط من الأصل.

المملوكة، ومن حكم ولد الزوجة المملوكة الرق، فهل نحكم بحرية الولد؟ فيه اختلاف: من أصحابنا من قال: إنه رقيق بناء على ظنه، وهو فيما أظن اختيار القفال، ووجهه أن الوطء اكتسب حرمةً من ظنّ (1) الواطىء، وإن لم يكن الأمر على ما ظن في علم الله تعالى، فلا ينبغي أن تثبت حرمةٌ، لا يقتضيها موجَب الظن، لو تحقق وصدق، وقد ظن الواطىء أنه يطأ زوجته المملوكة وولد الرجل من زوجته المملوكة رقيق. ومن أصحابنا من قال: يعلقُ الولد حراً في الصورة التي ذكرناها؛ فإن الوطء محترم، والرق لا يثبت في الولد المترتب على الوطء المحترم إلا بما يقتضي الرق، والأصل في بني آدم الحرية، وثبوت الرق يستدعي مقتضياً. 5782 - فإذا ثبت ما ذكرناه فوطءُ الموقوفِ عليه إذا كان عالماً بحقيقة الحال -والتفريع على أن الملك ليس له- وطءٌ ليس بساقط الحرمة، ولكن علمه بأنه يطأ جارية الغير، ينافي الشبهة التي تقتضي الحرية للمولود، فتخرج حرمة الولد على الخلاف الذي ذكرناه. فإن قضينا بكون الولد حراً، فالأمر في مصرف القيمة، وفي إثباتها على التفصيل الذي تقدم. وإن حكمنا بأن الولد يكون رقيقاً، يترتب الأمر على الخلاف السابق، في أنه مصروف إلى الموقوف عليه ملكاً مطلقاًً؛ إلحاقاً له بالزوائد وفوائد الريع، أم هو موقوف بمثابة الأم؟ فإن حكمنا بأن الولد ملحق بالريْع والفوائد، لو كان من غير الموقوف عليه، فإذا كان من الموقوف عليه، فهو موقع النظر؛ فإنه لو ثبت الرق، لعتَق عليه؛ فإن الولد منتسب إليه، والنسب (2) صحيح، فالوجه أن يقال: ينعقد الولد رقيقاً، ثم يعتِق، ولا يتوقف نفود العتق فيه على الانفصال.

_ (1) (د 1)، (ت 3): وطء الواطىء. (2) في (د 1): والتسبب، وفي (ت 3): والسبب.

5783 - وقد اختلف أصحابنا في أن الرجل إذا سبى ابنته الكافرة، فهل نقول: إنه يملكها، ثم تعتِق عليه؟ أم نقول: يمتنع جريان الرق؛ لمكان القرابة المقتضية لمنافاة الملك؟ فيجوز أن يقال: يمتنع جريان الرق على الولد على هذا القياس، [وليس] (1) هذا كابتياع الرجل ولده؛ فإن الملك يحصل، ويترتب العتق عليه؛ من جهة أن الابتياع ذريعةٌ في تحصيل العتق، وكذلك القول في الملك الذي يحصل إرثاً؛ فإنه لولاه، لما حصل العتق، وفي مسألتنا لو حصل الرق يحصل في ابتدائه للأب، فينبغي أن يمتنع حصول الملك لمكان الأبوّة والبنوّة، ولا شك أن هذه المسألة لا تنفصل عن مسألة السبي، على ما سيأتي شرحها في موضعها، إن شاء الله عزجل. هذا إذا قلنا ولد الموقوفة ينحى به نحو فوائد الوقف. 5784 - فأما إذا قلنا: ولد الموقوفة موقوف، فولدها من الموقوف عليه موقوفٌ، إذا وقع التفريع على أن الملك في رقبة الوقف ليس للموقوف عليه. ثم هذا الولد لا يعتِق على الموقوف عليه؛ إذ لا ملك له فيه. ولو فرعنا على أن الملك للموقوف عليه في رقبة الوقف، لأثبتنا الاستيلاد. 5785 - ومما يتعلق بمنتهى الكلام أنا أطلقنا القول بنفود استيلاد الموقوف عليه إذا حكمنا بأن الملك له، وفي هذا أدنى نظر، سنشير إليه في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. هذا إذا كان الموقوف عليه هو الواطىء. 5786 - فأما إذا وطىء الواقف، فإنه يلتزم المهر للموقوف عليه، كما ذكرناه. وإن اتصل الوطءُ بالعلوق، فثبوت الاستيلاد، يتفرع على الأقوال في الملك: فإن حكمنا بأن الملك في الجارية الموقوفة لله تعالى، أو للموقوف عليه، فلا ينفذ الاستيلاد. وإن حكمنا بأن الملك للواقف، فقد كان شيخي يقول: القول في نفود استيلاد

_ (1) في الأصل: فليس.

الواقف، كالقول فيه إذا وطىء الراهن الجاريةَ المرهونة، وأعلقها، فمن قضى بنفوذ الاستيلاد بناء على ملك الراهن، قضى في مسألتنا بنفود استيلاد الواقف، ومن أبى ثَمَّ، أبَى هاهنا، والسبب فيه أنا وإن حكمنا للواقف بالملك، فللموقوف عليه حقٌّ متأكد ينقضه العتق إذا طرأ، فكان شيخي يقول: استيلاد الواقف أوْلى بألا ينفذ، فإن الوقف مبناه على ألا يُرَدَّ، وحق المرتهن يقبل الفسخ، والرفع. 5787 - وهاهنا نفي بما وعدناه؛ فنقول: ظاهر كلام الأصحاب يدل على أن استيلاد الموقوف عليه ينفد قولاً واحداً، إذا قلنا: الملك في الجارية له، وفي نفود استيلاد الواقف الخلافُ الذي ذكرناه إذا قلنا: الملك في رقبة الوقف للواقف. والفرق أنا إذا أثبتنا الملك للموقوف عليه في الرقبة، وحق المنفعة له أيضاًًً، فقد اجتمع له ملك الرقبة، واستحقاقُ المنفعة، فالحق كله له إذاً أصلاً وفرعاً، وليس كذلك الواقف، فإنا وإن حكمنا بأن الملك في الرقبة له، فحق المنفعة للموقوف عليه. وهذا الفرق لا بأس به. ولكن يبقى معه أن الموقوف عليه ليس له أن يُبطل الوقفَ، وإن جعلنا الملك في الرقبة والمنفعة له، وكأن (1) الواقف قصد إلى تحبيس الملك على الموقوف عليه، فلو مَلَّكْنا الموقوف عليه أن يُبطل الوقف، لكان ذلك تسليطاً منا إياه على قطع الوقف بعد لزومه، وهذا لا يليق بوضع الوقف، فليس يبعد عن الاحتمال تخريج نفوذ الاستيلاد من الموقوف عليه على الخلاف على قولنا: إن الملك له؛ فإنا لو نفذنا الاستيلاد، لأبطلنا الوقف، على خلاف وضعه، وعلى خلاف مراد الواقف. 5788 - والذي يحقق ذلك أن نفود الاستيلاد في هذه الأبواب بمثابة نفود العتق لو قدر إنشاؤه، ولو أعتق الموقوف عليه العبدَ الموقوفَ، على قولنا: إن الملك للموقوف عليه، فلا سبيل إلى قطع القول بنفود العتق، فإذا كان الأمر في العتق على التردّد، فليكن الاستيلاد بمثابته.

_ (1) " وكأن ": ليست هنا للتشبيه، وإنما للتحقيق.

والذي يحقق ذلك، ويوضّحه أن الملك محبّس على الموقوف عليه، والتحبيس مقتضاه الحجر، فالموقوف إذاً محجور عليه، وإن ثبت له الملك. وينقدح من هذا فرقٌ بين العتق والاستيلاد على بُعدٍ والظاهر التسوية بينهما؛ فإن عتق المحجور عليه لا ينفذ، واستيلاده ينفذ، لأنه فعلٌ، لا سبيل إلى ردّه في ملكه، والمرعيّ في الحجر حق المحجور، والملك خالص له، وملك الموقوف. عليه ليس بخالصٍ؛ إذ لو كان خالصاً، لأفاد إباحة الوطء. هذا منتهى المراد في وطء الجارية الموقوفة، وما يتعلق به. 5789 - ونحن وراء ذلك نبتدىء أصلاً متصلاً بما ذكرناه، فنقول: إن صححنا تزويج الجارية الموقوفة، وقلنا: الملك في الوقف للواقف، أو هو زائل إلى الله تعالى، فيجوز للموقوف عليه، أن يتزوجها. وإذا قلنا: الملك للموقوف عليه، فلا شك أنه لا يتزوجها؛ فإن المالك لا يتزوج مملوكته، ولا فرق بين أن يكون الملك قويّاً، أو ضعيفاً، فإذا حكمنا له بالملك نمنعه من التزوّج (1). ولو كان نكح أمةً، فوقفها سيدُها عليه، والتفريع على أن الملك للموقوف عليه، فإذا تم الوقفُ، انفسخ النكاح على ظاهر المذهب. 5790 - وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن دوام النكاح لا ينفسخ بالملك الذي يحصل بالوقف للموقوف عليه؛ فإن هذا ليس ملكاًً حقيقياً، وإنما هو في حكم تقديرٍ. ثم خرّج هذا على مسائل اختلف الأصحاب فيها: منها- أن الأب لا ينكح أمة ابنه، ولو كان نكح أمةً، فاشتراها ابنُه، ففي انفساخ النكاح بالملك الطارىء للابن وجهان. وكذلك لا ينكح السيد جاريةَ مكاتَبه، ولو نكح أمةً، فاشتراها مكاتَبه، ففي انفساخ النكاح وجهان (2). كذلك لا ينكح الموقوف عليه الجاريةَ الموقوفةَ ابتداءً، ولو كان نكح أمةً، فوُقفت عليه، ففي المسألة وجهان. والتفريع على أن الملك للموقوف عليه.

_ (1) (د 1)، (ت 3): التزويج. (2) (د 1)، (ت 3): قولان.

ولو أرادت المرأة أن تنكح مكاتَبها، لم تجد إليه سبيلاً. ولو زوج الرجل ابنته من مكاتَبه، ثم مات، وورثت الزوجةُ زوجها، انفسخ النكاح، باتفاق الأصحاب، فالملك في المكاتَب [يقطع طارئُه النكاحَ] (1)، كما يمنع ابتداءه. قال صاحب التقريب: " الملك على المكاتب ثابت، وهو بعُرْض (2) أن يَرِق إذا عجز، ولا يتصور أن يتمحّض ملكُ الموقوف عليه في الموقوف، فكان هذا الملك غيرُ محقق ". وهذا مما انفرد به. والأصحاب مجمعون على أن التفريع إذا وقع على أن الملك للموقوف عليه، فهذا الملك كما يمنع الابتداء يقطع الدوام. 5791 - ومن أهم ما نختتم الفصلَ به أن الأئمة قالوا: إذا حكمنا بأن الموقوفة تصيرِ أم ولد للواقف، إذا فرعنا على أن الملك له، وحكمنا بأن حق الوقف لا يمنع نفوذَ الاستيلاد، فهذا الآن يخرّج على أن المستولدة هل يصح وقفها ابتداء؟ فإن حكمنا بأنه يصح وقفُها ابتداء، فيبقى الوقف فيها مع ثبوت الاستيلاد. ثم قال الأصحاب إذا وطىء الموقوف عليه، وأولدَ، وحكمنا بنفوذ الاستيلاد تفريعاً على أن الملك للموقوف عليه، فبقاء الوقف يخرّج على الخلاف الذي ذكرناه. 5792 - وهذا عندي أخْذٌ بالظاهر، وإضرابٌ عن الغوص في الحقائق. وبيان ذلك أنا لا نثبت الاستيلاد في الموقوفة للموقوف عليه، إلا بتقدير نقل الملك إلى الموقوف عليه بالكليّة، مع انبتات (3) الملك الذي أفاده الوقف، ومساق ثبوت الاستيلاد يوجب إحلالها للموقوف عليه. وإذا حلّت له، فليس هذا من جنس الملك الذي كان بسبب الوقف قبلُ، فكيف تكون مملوكة له بالوقف، ومنتقلةً إليه بالاستيلاد، وهذا تناقض لا سبيل إلى التزامه، وليسى هذا كما إذا وقع التفريع على

_ (1) في الأصل: " فالملك في المكاتب ينقطع طارئه بالنكاح ". (2) كذا في النسخ الثلاث، والعُرض بضم العين المهملة: الجانب. (3) (د 1)، (ت 3): إثبات.

أن الملك للواقف وقد استولد؛ فإنه إذا كان يقف مستولدتَه ابتداء، فلا يمتنع بقاء الوقف مع الاستيلاد انتهاءً، وكل واقف إنما يقف خالصَ ملكه، والدليل عليه أن مستولدة الرجل لا توقف عليه، فيلزم من ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه بطلان الوقف، ولا ينقدح غيره، بخلاف ثبوت الاستيلاد في حق الواقف؛ فإن تخريجه على الخلاف في وقف المستولدة غير بعيد. ومن قال من أصحابنا: الوقف يبقى مع ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه، يلزمه ألا يبيح المستولدة للموقوف عليه. وهذا خبطٌ عظيم، ولست أحمل ما ذكره الأصحاب إلا على ترك النظر، وإجراء الأمر على الظاهر. 5793 - ومن وقف مستولدةَ نفسهِ، وجوزنا ذلك، فإنا نحرّم عليه وطأها بعد الوقف، لا من جهة نقصان الملك في المستولدة؛ [فإن الملك في المستولدة لا ينقص] (1) ولكن الواقف لو وطئها بعد الوقف، أمكن أن تعلق بمولود، ثم ذلك قد يُفضي إلى موتها، وهذا تسبب إلى إبطال حق متأكد، فوجب المنع منه. ثم إذا حكمنا ببطلان الوقف بالاستيلاد الثابت في حق الواقف، أوفي حق الموقوف عليه، فيكون الاستيلاد بمثابة استهلاك الوقف، وإتلافه من جهة الواقف، أو من جهة الموقوف عليه. وقد ذكرنا تفصيلَ المذهب في ذلك، وفي تقدير القيمة، وبيان مصرفها، أو سقوطها رأساً، فلا حاجة إلى إعادة هذه الفصول. فصل في بيان نفقة الموقوف 5794 - إذا ذكر الواقف أن نفقة العبد الموقوف في كسبه، فما فضل عن نفقته من منافعه وكسبه، فهو مصروف إلى الجهات التي يذكرها، فشرْطُ الوقف يصح على هذا الوجه.

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

والأولى لكل واقف أن يبدأ بصرف المستفاد من الوقف إلى ما به قوامُ الوقف وبقاؤه. هذا هو العادة المعتادة في شرائط الواقفين. فإن أطلق الوقف على معيّن مثلاً، وبعده على جهة لا تنقطع، ولم يتعرض للنفقة، فلا يخلو العبد إما أن يكون كسوباً، وإما ألا يكون كذلك، أو كان كسوباً ولكن كسبه لا يفي بمؤنته ونفقته، أو يكون كسوباً أوّلاً، ثم يطرأ عليه الزمانة المقعدة من الكسب. فأما إذا كان كسوباً، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أن نفقته تتعلق بكسبه، وإن لم يتعرض الواقف لذلك. وذكر بعض المصنفين أن نفقته تخرّج على أقوالِ الملك، ولا تتعلق بكسبه، كما لو أقعدته زمانة عن الكسب، وهذا وإن كان يمكن توجيهه بأن الوقف تضمَّن صرفَ كسبه إلى الموقوف عليه، فكأنه غير مكتسب، إذا كان مستغرَق الكسب في استحقاق الموقوف عليه، فما أرى ذلك معتداً به، والتعويل على ما ذكره الأئمة في الطرق، وهو أن النفقة تتعلق بالكسب، ووجه ذلك الحملُ على العادة أوَّلاً (1)، والعادة إذا اطردت، كانت بمثابة التصريح بالشرط. وهذا أصلٌ، لا حاجة إلى تقريره بالشواهد. 5795 - فأما إذا لم يف الكسب بالنفقة، أو طرأ مانع يمنع عن الكسب، فالنفقة حينئد تخرّج على أقوال الملك: فإن حكمنا بأن الملك للواقف في الرقبة، فالنفقة عليه. وإن حكمنا بأن الملك للموقوف عليه، فالنفقة تجب عليه. وإن حكمنا بأن الملك لله، فالنفقة في مال الله. وهذا إنما يجري في الإنفاق على ذي الروح لحرمته؛ فإنه لا يجوز تعطيله، وتركه يهلك هَزْلاً.

_ (1) (أوَّلاً): بمعنى الأصل الثابت. ولذا لم يتبعها بـ (ثانياً)، وهذا أسلوب معهود، أن يذكر السبب الأصيل الذي يكفي وحده بلفظ (أولاً)، ولا ثاني له.

5796 - فأما عمارة الوقف إذا كان الموقوف عقاراً، وكان الوقف مطلقاًً، وريْعه لا يفي بالعمارة التي لا بدّ منها في إقامة الوقف وإدامته، فلا خلاف أنها لا تجب على أحدٍ: لا على الموقوف عليه إذا نسبنا الملك إليه، ولا في مال الله تعالى على قول إضافة الملك لله تعالى، ولا على الواقف، على قولنا: إن الملك له. والسبب فيه أن عمارة الأوقاف يُنحى بها نحو عمارة الأملاك، ولا يجب على المالك أن يعمر ملكه. وقد ذكرنا في كتاب الإجارة وجهاً أن المكري يلزمه عمارةُ الدار المكراة، ليتوفر المنافع منها على المكتري، وهذا سببه عهدةُ العقد، والتزامُ المكري توفية المنافع، وتوفيرها على مقابلة استحقاق العوض، وهذا المعنى لا يتحقق في حق الواقف. فصل في خراب الوقف وما يلحقه من التغايير 5797 - فإذا وقف الرجل شجرةً لتصرف ثمرتُها إلى شخص، وبعده إلى جهة، فلو يبست الشجرةُ، وصارت حطباً، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يبطل الوقف في ذلك، وينقلب الحطب ملكاًً للواقف؛ فإن الوقف المضافَ إلى الشجرة إنما يتعلق بالشجرة ما دامت ناضرة؛ فإن اسم الشجرة في التحقيق ينطلق عليها ما دامت كذلك، فإن سمى مسمٍّ حطبها شجرة، كان ذلك على مذهب الاستصحاب، فجفاف الشجرة إذاً، كهلاك العبد الموقوف، غير أنه إذا هلك، لم يفرض ردُّ جثته إلى ملكٍ؛ من جهة أنها ليست مالاً، والحطب مال. 5798 - ومن أصحابنا من قال: لا نحكم بارتداد الحطب إلى ملك الواقف، ولا نقضي بانقطاع أثر الوقف. ثم هؤلاء اختلفوا على وجهين: فذهب بعضهم إلى أن الشجرة تستعمل في جهة إمكان الانتفاع بها، ويقدر كأن الواقف وقف جذعاً على إنسان، فإذا أمكن الانتفاع به، بإجارته وأخد أجرته واستعمال الموقوف عليه إياه في جهةٍ ينتفع به فيها، فهو الواجب.

ومن أصحابنا من قال: إذا انقضت الجهة التي أرادها الواقف من الشجرة، فالحطب أو الشجرة التي تصلح للانتفاع تباع، ويصرف ثمنه إلى ابتياع شجرة أخرى، أو إلى قسطٍ، إن لم يتأت شراء شجرةٍ أخرى كاملة، ثم تحبّس على الجهة التي ذكرها الواقف. ومن أئمتنا من قال: ذلك الحطب يصرف ملكاًً إلى الموقوف عليه. وهذان الوجهان الأخيران يقربان من تردد الأصحاب في قيمة العين الموقوفة إذا أتلفها جانٍ. وقد ذكرنا التفصيل فيها. 5799 - ومما أطلقه الأئمة في الكتب أن حُصُر المساجد إذا بليت، وصارت بحيث لا ينتفع بها، أو انكسر جذع وترضّض في مسجدٍ، وخرج عن إمكان الانتفاع، أو كنا نتعهد خشبة قائمة في المسجد، فاتفق نحتُ شيء منها، فتلك النحاتة ما حكمها؟ قال الأئمة رضي الله عنهم: الوجه بيع هذه الأشياء، وصرفُ ثمنها إلى مصلحة المسجد؛ فإنا لو لم نفعل هذا، لتعطل، ولا يمكن تقدير ارتداد أجزاء المسجد إلى ملك أحد؛ فإنها على التحقيق [ملكٌ لله تعالى] (1)، والقول فيما يتعلق بمصالح المسجد كالفرش بمثابة القول في أعيان المسجد. وذهب بعض أصحابنا إلى أنا لا نتعرض لبيع هذه الأشياء؛ فإنها خرجت عن المالية، إذ صرفت إلى هذه الجهة، فلا تعود أموالاً، فالوجه أن تترك على حالتها. وهذا بعيد، لا اتجاه له. 5800 - نعم اشتهر الخلاف في أنه إذا أشرف جذع في المسجد على الانكسار، وتبيّن أنه إليه يصير، وهو في الحال على بقيةٍ من المنفعة المطلوبة، فهل يجوز للقائم بالمسجد أن يرعى المصلحة ويبيعَه قبل أن ينكسر، أم لا يجوز ذلك حتى يتحقق تعطل منفعته في جهته؟ هذا موضع اشتهار الخلاف. 5801 - ومما يتعلق بهذا الأصل أن من وقف داراً فأشرفت على الخراب، وعرفنا

_ (1) عبارة الأصل: " فإنها في التحقيق له ".

أنها لو انهدمت، عسر ردُّها وإقامتُها، فهل نحكم والحالة هذه بجواز بيعها؟ اختلف الأئمة فيه: فذهب الأكثرون إلى منع البيع. وجوّز المجوّزون البيعَ. فإن منعنا البيع، أدمنا الوقف، وانتظرنا ما يكون. وإن جوّزنا البيع، فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف. ومن أئمتنا من نحا بالثمن نحو القيمة إذا أتلف العينَ الموقوفة متلف. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له في هذا المقام. وإن حكمنا بأن الثمن يصرف إلى ابتياع شيء وتحبيسه على الجهة التي كانت، فهذا حكم منا ببقاء مقتضى الوقف. وإن حكمنا بصرف الثمن إلى الجهة التي ذكرناها في قيمة العين الموقوفة إذا أتلفت، فمن جملة ما قيل في مصرف القيمة: أنها تصرف إلى الموقوف عليه؛ تفريعاً على أن الملك في العين له. 5802 - فلو قال الموقوف عليه: لا تبيعوا هذه الدار المشرفة على الخراب واقلبوها إلى ملكي؛ فإنكم [لو بعتموها، لصرفتم الثمن إليّ] (1)، فلا فائدة في البيع، والوجهُ الحكم بانقلاب هذه العين إلى حقي وملكي على الوجه الذي انتهى التفريع عليه. فالمذهب أنا لا نجيبه إلى ذلك، ولا نقلب عين الوقف ملكاً، بل إذا جوزنا البيع، فبطلان الوقف يتوقف على جريان البيع، وهو باقٍ إلى [اتفاقه] (2). وأبعد بعض الأصحاب، فأسعف الموقوفَ عليه، بما أراد، ثم هذا القائل لا يحوج إلى إنشاء عقدٍ، أو قولٍ في قلب العين إلى الموقوف عليه. ولكنه يقول: إنها تنقلب إليه. وهذا في نهاية الضعف.

_ (1) عبارة الأصل: لو بعتموه ولصرفتم الثمن. (2) في الأصل: العامة. وهو تحريف عجيب.

فصل فيما يتضمن حجراً في الوقف 5803 - قد مهدنا في أصول الكتاب أن شرائط الواقف متبعة في تعيين الجهات وتفصيلها. والمذهب الظاهر الذي قطع به معظم الأئمة أنه لو وقف داراً على معينين، وشرط أن يسكنوها، ولا يؤاجروها، فليس لهم أن يتعدَّوْا موجَب الشرط، وتنزل الدار في نوْبتهم -ما بقوا- منزلة الرباطات والمدارس [المسبّلة] (1) على جهة السكون (2). وقال بعض أصحابنا: الوقف على معينين سبيله سبيلُ التمليك، ولا يُرعى في هذه الجهة وجهُ القربة، ولذلك يجوز التحبيس على جماعة معيّنين من الكفار، والفسقة، وإذا كان محمولاً على التمليك، فالمنع من الاستغلال (3) بجهة الإجارة حجرٌ في الملك، فكان فاسداً مناقضاً للتمليك. ثم إذا فسد الشرط، انقدح فيه وجهان مبنيان على الأصل الممهد فيما تقدم: أحد الوجهين- أن الشرط يفسد، والوقف مقدر دونه على حكم الإطلاق، ولا حجر على الموقوف عليهم. والوجه الثاني - أنه يفسد، ثم لا يخفى [حكم] (4) فساده؛ فتبقى العين على ملك الواقف ويلغو الوقف، ويسقط أثره. 5804 - ولو وقف ضيعةً، أو داراً على معينين، وسوّغ الإجارة، ولكن حجر عليهم في زيادة مدة الإجارة على سنةٍ مثلاً، فالمذهب الذي يجب القطع به أن شرطه متبع؛ فإن هذا الشرط ليس حجراً في التحقيق، بل فيه رعايةُ مصلحة الوقف،

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) السكون: أي السكن. وقد مضت إشارتنا إلى أن هذا الوزن وارد في لسان الحرمين، وتلميذه الغزالي، ولم نره في المعاجم المعروفة لنا. (3) (د 1)، (ت 3): الاستقلال. (4) ساقطة من الأصل.

واستبقائه؛ فإن مدة الإجارة إذا طالت واستولت أيدي المستأجرين فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل الوقف رأساً. فهذا القائل يقول: وإن منعنا الحجر، فلا نمنع ما يتعلق باستصلاح الوقف وتوفير المنفعة. وأبعد بعض أصحابنا فأفسد هذا الشرطَ، ورآه ملحقاً بما يتضمن الحجرَ. وهذا مما لا أعتد به أصلاً. 5805 - ولو جعل بقعةً مسجداً، وأطلق، ثبت حكم المسجد في حق الناس كافة، ولم يتخصص بها قوم. ولو قال: لا يدخل المسجد إلا عصبة خصصهم، فهذا الشرط باطل؛ فإن مبنى الحكم في المساجد التعميم. 5806 - ولو شرط ألا يقام في المسجد إلاّ شعارُ مذهبٍ خصَّصه بالذكر، فالمذهب والقياس أن ذلك التخصيص باطل، لما حققناه من أن أمور المساجد لا تقبل التخصيص. وذهب طائفة من الأصجاب إلى وجوب اتباع شرط الواقف في تعيين ذلك الشعار. وهذا قاله من قاله على جهة المصلحة؛ فإن التنافس بين أهل المذاهب ليس بالخفي، ولو ثبت المسجد عاماً، [يشترك] (1) أصحاب المذاهب في إقامة شعارهم فيها (2) مع الاختلاف، لأدى ذلك إلى الازدحام، والأمرِ الذي لا ينكر في طرد العرف، ثم الوالي لا يمكنه أن يتحكم في تعيين شعار مذهب، فأولى متبع في الباب ما ينص عليه ناصب المسجد وجاعله. 5807 - ولو جعل بقعة مقبرة، اشترك فيها كافة المسلمين، وخرج عن إطلاق الوقف الكفارُ؛ فإن مطلق اللفظ يقتضي القربةَ، وقرينةُ الحال تشهد بذلك، فحمل الوقف عليه. ولو جعل بقعة مقبرة لمخصوصين بالذكر، فقد ظهر اختلاف أصحابنا فيه، فذهب

_ (1) في الأصل: فيشترك. (2) كذا بضمير المؤنث، وهي على تأويل لا يخفى مُدركه.

بعضهم إلى تنزيل المقابر منزلةَ المساجد، حتى لا يسوغ التخصيص فيها. وذهب الأكثرون إلى اتباع الواقف في تعيينه؛ فإن القبور في حق الأموات بمثابة المساكن في حق الأحياء، ثم تعيين المساكن لأقوام سائغٌ صحيح، فليكن تعيين المقابر كذلك. 5808 - ومهما فسد شرط في جعل المسجد، فالمذهب المبتوت أن الشرط يلغى، وينفد المسجد؛ فإن هذه الجهة مشابهة للإعتاق، والشرط الفاسد إذا لم يقع على جهة التعليق لا ينافي نفود العتق. هذا منتهى القول فيما يتضمن حجراً سائغاً، أو ممنوعاً في جهات الوقف. فرع: 5809 - إذا علق الرجل عتق عبده بصفةٍ، ثم حبَّسه فوقفه، فالوقف نافذٌ في الحال، فإذا وُجدت الصفة بعد الوقف، فهذا يخرج على الأقوال في ملك الوقف: فإن حكمنا بأن الملك في الموقوف للموقوف عليه، فالعتق لا ينفذ، وينزل هذا منزلة ما لو علق عتق عبده، ثم باعه، وألزم البيع، ووجودُ الصفة في ملك المشتري لا يتضمن حصولَ العتاقة. وهكذا التفريع على قولنا إن الملك في الموقوف زائلٌ إلى الله تعالى. فأما إذا حكمنا بأن الملك في رقبة الوقف للواقف، فظاهر المذهب أن العتق ينفذ عند وجود الصفة. ومن أصحابنا من قال: القول في نفود العتق في هذه الصورة كالقول في إعتاق الواقف العبدَ الموقوف، ولو أعتقه، لخرج نفود عتقه على أقوال نفود عتق الراهن في المرهون، وهذا يتردد على أحكامٍ، ويجمعها أن الاعتبار بحالة التعليق، أو بحالة تقدير وقوع العتق، وعليه يخرّج أمر (1) من علق عتق عبده في صحته، ثم مرض، فوجدت الصفة في مرض موته، فهذا ملحق بعتق الصحة، أو عتق المرض؟ وهذا الخلاف يجري فيه إذا علّق عتقَ عبده بصفةٍ، ثم رهنه. 5810 - ومما يجري في أثناء ذلك أنه لو علق عتق عبده بمجيء وقتٍ، فهذا

_ (1) (د 1)، (ت 3): يخرّج أن من علّق عتق عبده.

[يأتي] (1) لا محالة، فلو وقفه، احتمل أن يلحق ذلك بالوقف المؤقت إذا كنا نحكم بنفوذ العتق بعد الوقف. وإذا كنا لا نحكم بنفوذ العتق، فلا شك في [صحة الوقف] (2). فرع: 5811 - إذا وقف بهيمةً على إنسان، وجعل له الركوب منها، ولم يُثبت له لبنَها، وصوفَها أو وَبَرها، فمن أصحابنا من قال: حكم الوبر واللبن حكمُ منافعِ وقفٍ انقطع مصرفه، وقد ذكرنا التفصيل في ذلك، فلا نعيده. ومن أصحابنا من قال: تخصيص الوقف ببعض المنافع يُفسده. ومنهم من قال: الشرط يفسد، والوقف يعمّ، ولا خلاف أنه لو جعل الركوب لشخصٍ، واللبن والوبر لآخر، جاز. فأما القول في نتاج البهيمة، فقد ذكرناه مفصلاً على الاستقصاء. فرع: 5812 - سئل ابنُ سُريجٍ عمن وقف شجرةً على رجل، هل يجوز له قطع أغصانها إذا كانت الشجرة تبقى مع القطع؟ فقال: إن أجاز الواقف ذلك في شرط الوقف، جاز، وإن أطلق الوقفَ، لم يجز قطعُ الأغصان. قال الأصحاب: هذا في شجرةٍ لا يعتاد قطع أغصانها، فإن كانت الشجرة بحيث لا تطلب إلا لقطع أغصانها، ثم إنها تخلُف كالخِلاف، فمطلق الوقف فيها محمولٌ على حكم العادة، وأغصان شجرة الخِلاف كثمرات الأشجار المثمرة. فرع: 5813 - لو وقف أرضاً، وشرط أن تصرف غلتُها إلى زكوات تجمعت عليه، أو كفارات لزمته، فحاصل المذهب في هذا أن ما ذكره وقفٌ منه على نفسه، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه. فإن منعنا ذلك، فالوقف باطلٌ؛ فإن الزكوات التي لزمته ديونٌ عليه، وتأديةُ ديونه من حقه، فقد صرف الوقفَ إلى حق نفسه.

_ (1) في الأصل: باقٍ. (2) في الأصل: "فساد الوقف"، وفي هامشها: " صحة الوقف " مع إشارة إلى أنها في نسخة أخرى.

ولو وقف شيئاً على مصارف الزكاة، صح، وحمل ذلك على الصرف إلى الأصناف المذكورين في كتاب الله تعالى، إلا العاملين والمؤلفة، أما العاملون، فلا شك في خروجهم، وأما المؤلفة، ففيهم تفصيل سيأتي مشروحاً في قَسْم الصدقات، إن شاء الله تعالى، فإن رأيناهم من جهات الخير، لم يمتنع صرف الوقف إليهم. فرع: 5814 - إذا قال: وقفت على جهة الثواب، فقد ذهب ذاهبون إلى أن هذا محمول على الوقف على الأقارب، ولو وقف على جهة الخير، صُرف إلى مصارف الزكاة على التفصيل الذي ذكرناه، مع استثناء العاملين، كما سبق، ويصرف إلى قِرى الضيفان، أورده شيخي كذلك، وذكره العراقيون على هذا النحو، ففصلوا بين الثواب والخير. ثم خصصوا كلّ لفظ بما ذكرناه، فالذي نحققه أن الخير رأوا صرفه إلى مصارف القربات الثابتة في الكتاب والسنة، وهي محصورة في مصارف الصدقات، وقِرى الضيفان. ورأيت في بعض التعاليق المعتمدة عن شيخي أنه لا فرق بين لفظ الثواب والخير، وحكى في ذلك نصَّ الشافعي. وذكر بعضُ المصنفين أن الفرق بين الثواب والخير مذهبُ بعض السلف. ولا فرق في ذلك عندنا. وذهب معظم القياسين إلى أن الثواب والخير لا يختصان بجهة من جهات القُرب، ولكنهما يحملان على جميع جهات الخير. وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ولا ينقدح فيه تردد، إلا في شيء. 5815 - وهو أن رَيْع الوقف لو فرض جمعه وبناء رباطٍ به، أو مسجدٍ، فهو من جهات الخير، ويحتمل أن يقال: لا يحمل الوقف على هذا؛ فإن العادةَ ما جرت به، وإنما العرف الجاري في إخراج الريع إلى من ينتفع به، فأما اقتناء عقاراتٍ، وبناء مساجدَ، فليس مما يعتاد، والقول الضابط عندنا في الباب اتباع اللفظ في عمومه وخصوصه، إلا أن يتحقق عرفٌ مطردٌ مقترنٌ باللفظ، فيحكم العرف في اطراده، على تفاصيلَ مضت.

5816 - والذي أراه أن تشعيب المسائل اللفظية ليست من مسائل الوقف؛ فإنها تجري في الوصايا وغيرها، وليس من الرأي الإطناب فيها؛ فإنها بالوصايا أليق. 5817 - ولو وقف على سبيل الله تعالى، كان ذلك محمولاً على الوقف على الغزاة؛ تعلقاً بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]. فرع: 5818 - اسم المولى ينطلق على المعتِق المنعِم، وهو الذي يسمى المولى الأعلى، وينطلق على المعتَق المنعَم عليه، ويسمى المولى الأسفل. فقال أئمة العراق: إذا قال الواقف: وقفتُ هذا على (1) مولاي، وكان له معتِق منعِم، ولم يكن له معتَق، انصرف الوقف إليه. وإن كان له معتَق منعَم عليه، ولم يكن له معتِق أعتقه، ولم يكن عليه ولاء، انصرف إلى المولى الأسفل. وإن كان له على إنسان ولاء، وكان عليه ولاءٌ لغيره (2)، فإذا اجتمع المعتِق والمعتَق، فقد ذكر أئمة العراق ثلاثة أوجه: أحدها - أن الوقف يصرف إلى الصنفين، يستويان فيه. والثاني - أنه يصرف إلى الأعلَيْن؛ فإن المولى إذا أطلق، كان ظاهراً في المنعِم، محتملاً في غيره. والوجه الثالث - أن الوقف يبطل، لتردده بين الأعلى والأسفل. 5819 - وهذا الذي ذكروه يفتقر إلى فضل بيان. فإن كان ذكر الواقف المولى على صيغة التوحيد، لم ينقدح فيه إلا وجهان: أحدهما - الحمل على المولى الأعلى، لما ادعيناه من ظهور اللفظ، والآخر - البطلان؛ فإن اللفظ إذا كان على صيغة الوحدان، لم يصلح للعموم، وكل لفظ مشترك بين معنيين، فهو غير محمول عليهما؛ فإن اللفظ المشترك غيرُ موضوعٍ للاشتمال على المسميات جمعاً، بل هو صالح لآحاد المعاني على البدل، وهذا يجرّ إبهاماً لا محالة.

_ (1) (د 1)، (ت 3): على أعلى موالي. (2) عبارة (د 1)، (ت 3): " وإن كان عليه ولاء، وكان له على غيره ولاء ".

وقد ينقدح حيث انتهى الكلام إليه مراجعة الواقف؛ فإن اللفظ الذي جاء به محتمل، وليس كما لو قال: وقفت على أحد هذين الرجلين؛ فإن ذلك صريح في الإبهام. ولا يتأتى منا المبالغة في كشف ذلك، فهو محال على معرفة الألفاظ. 5820 - وهذا إذا ذكر اللفظ على صيغة الوحدان، فأما إذا قال: وقفت على مواليَّ، وله الصنفان: الأعلَوْن والأسفلون، فينقدح في هذه الصورة الصرفُ إليهم، والصرفُ إلى الأعليْن. وقد يخرّج وجهُ الإبطال من جهة تقدير التردد، وهذا فيه بُعدٌ؛ لصلاح اللفظ للعموم والشمول. ولكن قد ينقدح أن الإنسان لا يطلق هذا إلا وهو يريد أحد الصنفين؛ فإنهما في حكم المختلفين، ويبعد إرادة المختلفين في مثل هذا المقام. وينجرُّ هذا إلى التردد في الموقوف عليه. وهذا إذا كان له جمعٌ من كل صنف، فإن كان لا ينتظم الجمع إلا بالصنفين، فالوجه الحمل عليهما. فرع: 5821 - إذا وقف على عبد إنسان شيئاً، صح، وكان وقفاً على سيده، ولو وقف على بهيمة، اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من أبطله، ومنهم من صحّحه، وحمله على مالكها. ولو وقف على إنسان شيئاً وقال في شرطه: يصرف الرَّيع إلى عبد الموقوف عليهم، فهذا حجرٌ في رَيْع الوقف فاسدٌ باتفاق الأصحاب، ويعود الكلام إلى أن الشرط الفاسد هل يُفسد الوقفَ أم لا؟ فرع: 5822 - قال الشيخ أبو علي: إذا وقف رجل في مرض موته شيئاً على وارثه، وبعده على جهة الخير. فالوقف على الوارث مردود، ولكن هذا وقف منقطع الأول، وفيه من التفصيل ما تقدم في صدر الكتاب. فإذا صححناه، انقدح في [مصرفه] (1) قبل انقراض الوارث الوجوه المذكورة.

_ (1) في الأصل: صرفه.

ولو ذكر جهةً فاسدةً، ثم جهةً صحيحة، وكان لا يتوقع فرض الانقراض في الجهة الفاسدة، مثل أن يقول: وقفت على رجلٍ، ثم على المساكين، فإذا لم يعيِّن رجلاً، لم ينتظم تقدير انقراضه، فإن أفسدنا الوقف، فذاك، وإن صححناه، فلا يتجه فيه إلا الصرف إلى المساكين، وكأن الرجلَ المذكور لا ذكر له. وهذا حسن فقيه، لا ينقدح غيره. فرع: 5823 - إذا أجّر البقعة الموقوفة من يصح منه إجارتُها، ثم طُلبت البقعةُ بأكثرَ من الأجرة المسماة، فالوجه أن نقول: إن كان الوقف على معيّن، وقد تولى الإجارة، فلا أثر لطلب الموضع بزيادة؛ فإن الإجارة متعلقةٌ بحقه الخاص، لا يعدوه، فكان كالمالك يُكري. وإذا كان الأمر على هذا الوجه، ولا حجر على الموقوف عليه، فلو تبرع، وأعار، أو أكرى بدون أجر المثل، فلا [معترض] (1) عليه. ولو استثمر الأشجار المحبسة، وتبرع بجميعها، فإنما يتصرف في ملك نفسه. والغرض مما ذكرناه تنزيل إجارة الموقوف عليه منزلةَ إجارة المالك. 5824 - فأما إذا كان الوقف على جهةٍ من جهات الخير، وإجارتُه مفوّضة إلى متولٍ، فلا شك أنه لا يصح منه التبرع؛ فإنه ناظر محتاطٌ في تحصيل ما هو الأغبط، وطلبِ ما هو الأحوط. فلو أجر البقعة الموقوفة بأجر مثلها مدة، ثم طُلبت بالزيادة، فحاصل المذهب فيه أوجه: أحدها - أن الإجارة إذا لزمت على شرط الاحتياط، يجب الوفاء بها، ولا يغيِّرها بذلُ الزيادة من زائدٍ؛ فإن ارتفاع القيمة كان (2) إلى ملك المستأجر، وإذا ارتفع ملك المستأجر، لم يعترض عليه.

_ (1) في الأصل: يتعرّض. (2) كان إلى ملك المستأجر: أي ارتفع ملكُ المستأجر؛ إذْ هو ملك المنافع بعقد الإجارة، وارتفاع قيمة الإجارة هو في الحقيقة ارتفاع قيمة المنافع، وقد ملكها المستأجر وفي (د 1)، (ت 3): بحال إلى ملك المستأجر.

ومن أصحابنا من قال: مهما (1) ارتفع السعر، وزادت الأجرة، وظهر من يطلب بالزيادة، جاز للمتولي نقضُ الإجارة، بل وجب عليه ذلك؛ فإن الإجارة ترد على المنافع، وهي تؤخد شيئاً شيئاً. وهذا عندي مزيف مجانب لمذهب الشافعي. ولم أر أحداً من أصحابنا يخالف في أن القيِّم إذا آجر ملك الطفل، ثم فرضت زيادة، على ما صورناه أنه لا يجوز نقض الإجارة. فإن شبب صاحب هذا الوجه بطرد الخلاف في ذلك، كان قوله قريباًً من خرق الإجماع إن لم [يكنه] (2). وقال بعض أصحابنا يجب الوفاء بالإجارة فى سنة، فأما إذا زادت المدة، واختلف الأجر، لم يجب الوفاء بالإجارة، وكأن هذا القائل يرى السنة مع ما يفرض فيها من تغايير قريباً (3) محتملاً. ولهذا التفات على أن الإجارة حقها ألا تُزاد على سنة، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى ذلك في الوقف، مع المصير إلى أن إجارة الملك تزاد على السنة، وهذا له اتجاه في الوقف على جهاتِ الخير. 5825 - فإن فرعنا على أن الزائد يغير حكمَ الإجارة، فيحتمل أن يقال: المتولي يفسخ، ويحتمل أن يقال: الإجارة تنفسخ. 5826 - وعندي أن هذا كلّه إذا تغيرت الأجرة بكثرة الطالبين، فأما إذا وجدنا زبوناً يزيد على أجر المثل، فلا [خير فيما يزيد، ولا حكم له] (4). نعم، لو فرض هذا في ابتداء العقد، أسعف الزائد، وعقدت الإجارة معه، والله أعلم.

_ (1) "مهما": بمعنى (إذا). (2) مكان كلمة رسمت في الأصل هكذا: (ـلقه) تماماً. والمثبت من (د 1)، (ت 3). (3) كذا في النسخ الثلاث، ولعل فيها سقطاً تقديره: " زماناً قريباً محتملاً "، أو فيها تحريف. والله أعلم. (4) عبارة الأصل: فلا حكم لما يزيد.

فرع: 5827 - إذا عسر الوصول إلى شرائط الوقف، فإن لم نأيس، وقفنا الأمرَ، وحملنا المستحقين على الطلب، وإن أيسنا من العثور على شرائط الوقف، فقد سمعتُ شيخي يقول: حق هذا أن ينزَّل منزلة الوقف الذي لا مصرف له، إذا صححناه، وهو إذا قال القائل: وقفت داري هذه. وكان يحكي عن القفال في هذا: " أن أصح الوجوه فيه -إذا قال: وقفتُ- الحملُ على الجهة العامة ". ولا يتأتى هذا إذا عدمنا شرطَ الوقف، وأشكل علينا تفصيله، مع العلم بانحصاره في معينين. والوجه [عندي] (1) وقف الريّع إلى أن يصطلحوا؛ فإنا إنما نقدِّر مصرفاً إذا تيقَّنا أن الواقف لم يثبته، وقد صححنا الوقف، فننظر في مصرفٍ، أما إذا ثبت المصرف، فالوجه الوقف على الاصطلاح، ثم يدخل في الوقف من نستيقنه مستحقاًً، فأما من لا نتحققه مستحقاًً، فلا مدخل له في الوقف والاصطلاح. نجز كتاب الوقف بحمد الله ومنِّه، والصلاة على نبيه. ...

_ (1) ساقطة من الأصل.

كتاب الهبات

كتاب الهبات 5828 - الأصل فيها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنها كانت تجري في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطريق ثبوتها التواتر، وإنما ينقُل الآحادُ في تفاصيل أحكامها أخباراً، وهذا سبيل كل أصلٍ من أصول الشريعة. فمما ورد في تفاصيل أحكام الهبات ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " (1)، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لواهبٍ أن يرجع فيما وهب إلا الوالد، فيما وهب لولده " (2). وأصل الهبة مجمعٌ عليه. 5829 - ونحن نصدّر هذا الكتاب بذكر ركني الهبة. ولها ركنان: أحدهما - الإيجاب، والقبول، والثاني - الإقباض. فأما الكلام في لفظ العقد، فقاعدة الباب أن الهبة عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، وقد حكينا عن ابن سريج مذهباً بعيداً مائلاً عن قياس المذهب في أن البيع في المحقرات ينعقد بالمعاطاة، وهذا متروك عليه غيرُ معتد به، ولا شك أن من يصير إليه [يُجريه] (3) في الهبة. ونحن نضرب عن هذا، ونأخد في مسلك آخر ونقول:

_ (1) حديث "العائد في هبته". متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 397 ح 1047). (2) حديث "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد ... " أخرجه الشافعي عن طاووس مرسلاً: المسند ح 174، ومن حديث ابن عباس رواه أبو داود: البيوع والإجارات، باب الرجوع في الهبة: 3539، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة: 1299، والنسائي: الهبة، باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده: 372، وابن ماجه: الهبات، باب من أعطى ولده ثم رجع فيه: 2377، وابن حبان: 7/ 289 رقم: 5101، والحاكم: 2/ 46 ر. التلخيص: 3/ 158 ح 1363. (3) في الأصل: يجزئه. والمثبت من (د 1)، (ت 3).

قد عم في عادات السلف، ومن بعدهم المهاداة والإتحاف بالتحف، من غير فرض إيجابٍ فيها وقبول. وهذا لا ينزل منزلة ما عمت به عادات بني الزمان بعد دروس شعار التقوى في الاكتفاء بالمعاطاة في البياعات؛ فإن هذه العادة لا يمكن دعوى إسنادها إلى الأوّلين، بخلاف ما ذكرناه في التحف. وقد ذهب بعض المصنفين إلى القطع بتصحيح هذا من غير لفظ، وقطع العراقيون باشتراط اللفظ في الإيجاب والقبول، وما ذكروه قياس العقود، ولما أشرنا إليه من أمر العادة وقعٌ في القلب. ثم إنما [يصار] (1) إلى التوجيه المحمول على العادة فيما يمكن دعوى إسناد العرف فيه إلى الأولين، وهذا فيما أراه يتعلق بالمطعومات، فأما ما يضطرب النظر في ادّعاء العادة فيه، فهو غير ملتحق بتنزيل المعاطاة في البيع منزلة اللفظ. 5830 - ومما يتصل بهذا الركن أن الأب إذا وَهَب من طفله وهو وليه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في أن هبته من الطفل هل تصح بمجرد الإيجاب، أو بمجرد القبول، أم لا بد من الإتيان بهما؟ فمنهم من قال: لا بد منهما، ومنهم من قال: يقع الاكتفاء بأحدهما؛ فإن التخاطب يجري بين اثنين، وهما في حكم ابتداء خطاب وجواب، وهذا لا ينتظم من الشخص الواحد، فاللفظ الواحد منه يعطي معنى العقد. ثم رأيت الطرق متفقةً على أنا إذا لم نشترط اللفظين، فالاكتفاء بلفظ القبول جائز. وفي هذا عندي فضل نظر. فأقول: للقبول صيغتان: إحداهما - أن يقول المخاطب بالبيع: اشتريت، إذا قال البائع: بعتُ. والأخرى: أن يقول: قبلت. كذلك يفرض مثل هذا في الهبة، فالمخاطب المتبرَّع عليه يقول: اتَّهبت، ويقول: قبلت. ثم الطالب في البيع يحسن منه أن يبتدىء، فيقول: اشتريت هذا العبدَ بألف، فلو قال: قبلتُ بيع هذا العبدِ بألف، فما أرى ذلك جائزاً؛ فإن هذا صيغة الجواب، والجواب قبل الخطاب لا ينتظم، ولا أشك أنه لو قال: [قبلت] (2) مبتدئاً، كان كلامه لغواً.

_ (1) في الأصل: يضاد. (2) ساقطة من الأصل.

فإذا تمهد لنا ذلك، عدنا إلى الغرض، فنقول: إذا قال الأب: قبلت هبة هذا الطفل، أو قبلت بيع هذا له، فما أرى ذلك صحيحاً، ولا أشك في بطلان اقتصاره على قوله قبلتُ؛ فإنه كلام غير مفهوم. وإن قال: اتّهبت لطفلي، أو اشتريت لطفلي، فهو موضع خلاف، وهو بمثابة قوله: بعت من طفلي، أو وَهَبت من طفلي. وأما اكتفاؤنا بقرائن الأحوال في تقديم الطعام إلى الضيفان في الرأي الأصح، فهو خارج عما نحن فيه؛ فإن سبيله الإباحة، والإباحة ليست تمليكاً، ولم يختلف أصحابنا أنها لا تفتقر إلى القبول، على رأي من يغلو، ويشترط اللفظ. هذا قدْرُ غرضنا الآن، فيما يتعلق باللفظ. 5831 - فأما القول في القبض، فحصول الملك في الموهوب يتوقف على القبض التام، والقبض في الهبة كالقبض الناقل للضمان في البيع، وقد فصلنا القولَ في القبوض والمقبوضات في كتاب البيع. والذي نذكره هاهنا التفصيلُ في هبة الأب من طفله، فيما يتعلق بالقبض، والوجه تجديد العهد بهبة المودَع الوديعةَ من المودِع، وقد ذكرنا هذا في كتاب الرهن، وأثبتنا قولين في أن نفس الهبة والرهن هل يكون إقباضاً؟ فإن قلنا: إنه ليس بإقباضٍ، ففي كيفية الإقباض والعينُ في يد المتهب والمرتهن كلامٌ. فإذا تجدد العهد بذكر هذا، عدنا إلى القول في الأب إذا وهب من طفله. فإن قلنا: الهبة من المودَع تُحوِج إلى إقباض، فهذا في الأب أولى. وإن قلنا: من المودَع إقباض، ففي هبة الأب من طفله طريقان: من أصحابنا من قال: لا حاجة إلى الإقباض في حق الأب، ونفسُ اللفظ كافٍ؛ فإن الموهوب في يد من يكون في يده لو قدّر القبض. ومن أصحابنا من قال: لا بد من الإقباض؛ فإن الموهوب في يد المالك الواهب في مسألة الأب، وهو في يد المتهب في مسألة المودَع. وقد ذكر الخلاف على هذا الوجه الصيدلاني. 5832 - وسلك بعضُ من لا يحيط بحقيقة المذهب مسلكاً آخر، فقال: إن قلنا:

يجوز الاقتصار على أحد شقين لفظاً، فلا حاجة إلى إقباض، وإن قلنا: لا بد من اللفظين، فهو خارج على قياس المودَع. وهذا هَوَسٌ؛ فإن الاقتصار على أحد اللفظين مأخذُه غيرُ مأخد القبض، كما دل عليه التنبيهات الجارية في أثناء الكلام. 5833 - فإذا ثبت القول في القبض، فالقول الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الملك يحصل مع القبض إذا ترتب على الصحة على الهبة المنعقدة. وعنينا بصحة القبض ترتيبه على إقباض الواهب، فلو ابتدر المتّهب، وقبض من غير إقباض، ولا إذنٍ، لم يحصل الملك، خلافاً لأبي حنيفة (1) رحمة الله عليه. وقد قدمنا تفصيل القول فيه إذا ابتدر المشتري، فقبض العين المشتراة في كتاب البيع. ولو أتلف المشتري المبيع، كان إتلافه قبضاً ناقلاً للضمان، ولو أتلف المتَّهب الموهوب، لم يكن ذلك قبضاً، ولزمته القيمة للواهب، والسبب فيه أن إتلاف المشتري صادفَ ملكَه، فبعُد أن يغرَم القيمة لتُحبس في مقابلة الثمن، إن قلنا: بالحبس. وإتلافُ المتّهب صادف ملك الواهب. هذا بيان القول الجديد. وللشافعي قولٌ في القديم: أن الهبة إذا اتصلت بالإقباض، تبيَّنا أن الملك حصل بعقد الهبة للمتهب، وهذا قولٌ ضعيف في حكم المرجوع عنه. 5834 - ثم الترتيب السديد أنا إذا حكمنا بأن الملك يحصل مع القبض، فلو مات الواهب أو المتهب قبل جريان القبض، انفسخت الهبة، ولو أراد وارثُ الواهب الوفاء بها، احتاج إلى إنشاء هبة. وإن حكمنا بأن الملك يستند إلى العقد تبيُّناً إذا جرى القبض، فلو مات [الواهب] (2)، أو المتهب قبل جريان القبض، ففي انفساخ الهبة وجهان، وقد ذكرنا نظيرهما في الرهن. وأطلق بعض المحفقين الوجهين على القولين، ووجّهوهما من غير تعرضٍ للترتيب

_ (1) ر. المبسوط: 12/ 57. (2) في الأصل: الراهن.

على القولين في وقت حصول الملك: من قال بالانفساخ، احتج (1) بأن العقد قبل القبض جائز من الطرفين جوازاً شرعياً فينفسخ، كالجعالة، والوكالة، والقراض. ومن قال: لا ينفسخ، احتج بأن مصير الهبة إلى اللزوم عند فرض جريان القبض، فالموت قبل القبض بمثابة الموت في زمان الخيار في عقد البيع. وقد أجرينا هذا الخلاف في الرهن. هذا منتهى غرضنا في ذكر ركني الهبة: اللفظ، والقبض. فصل مشتملٌ على بيان ما يصح هبته، وما يمتنع هبته 5835 - فكل عينٍ صح بيعُها، صح هبتُها. والشيوع لا يمنع صحةَ الهبة فيما ينقسم، وفيما لا ينقسم، كما لا يمنع صحة البيع والرهن، وخالف أبو حنيفة (2) رحمة الله عليه في الهبة، وقياسه فيها يخالف قياسَه في الرهن، فلا جَرم قال: بيعُ الشائع الذي لا ينقسم أصله جائز، وتعويله في منع هبة الشائع على أن الهبة تبرع، فلو صحت في الشائع، لملك المتَّهب [إلزام] (3) الواهب القسمة، وهذا يؤدي إلى إلزام المتبرع مؤونةً على (4) التبرع في عين ما تبرع به، وهذا قد رددناه عليه في (الأساليب) (5) وغيرها (6). وإنما غرضنا أنهم يستمسكون بالقبض، ويقولون: " إنما يوقف الملك في الهبة

_ (1) في الأصل: واحتج. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 139 مسألة: 1837، والمبسوط: 12/ 64، ومختصر الطحاوي: 139، وإيثار الإنصاف: 280. (3) في الأصل: التزام. (4) (د 1)، (ت 3): في. والمراد إلزام المتهب مؤونةً بسبب هبته، وهي مؤونة القسمة. (5) الأساليب: أحد كتب الإمام في الخلاف، ولما نصل إليه. (6) وغيرها: أي غير الأساليب، ولعله يعني (الدرّة المضيئة)، فقد ردّ فيها على الحنفية هذه المسألة.

على القبض؛ لأن الملك لو حصل بنفس الهبة، لوجب الإقباض، فيؤدي هذا إلى إلزام الشرع (1) للمتبرع شيئاً بسبب تبرّعه، وهذا بعيد ". وهذا الكلام باطل عندنا. 5836 - فإن قيل لنا: فما معتمد المذهب في اشتراط القبض، وقد قال مالك (2): الهبة تملك بنفسها من غير إقباض؟ قلنا: اعتمد الشافعي في اشتراط القبض حديث أبي بكر: فإنه كان منح عائشة رضي الله عنهما جِداد عشرين وَسْقاً، فلما مرض مرضه الذي مات فيه قال لها: " وددت لو حُزتيه قبل هذا، وهو الآن مالُ وارث بينك وبين أخويك وأختيك ". قالت: " عرفت أخويّ محمداً وعبدَ الرحمن، وأختي أسماء، فخطر لي أن خارجةَ كانت حاملاً من أبي بكر، وأنها ستلد أنثى، فولدت أنثى " (3). هذا متعلق الشافعي في اشتراط القبض. 5837 - ثم تردد الأصحاب في أمور نُرسلها، ثم ننبه على حقيقتها: فذكر بعضهم في صحة هبة الكلب خلافاًً، وأورد الشيخ أبو علي هذا، ونَحَوْا بالهبة في الكلب نحو الوصية به، وهذا بعيد جداً، وحق هذا الإنسان أن يطرد هذا الخلاف في المجاهيل وغيرِها، [مما] (4) تصح الوصية به، ويمتنع بيعُه، ولا شك أنهم يُلزَمون طردَ هذا في الجلد قبل الدباغ، والخمر المحترمة، وكل ما يثبت فيه حق الاختصاص إذا صحت الوصية؛ فإن الهبة تبرعٌ ناجز والوصية تبرعٌ مضاف إلى ما بعد الموت.

_ (1) (د 1)، (ت 3): التبرع. ولفظ (الدرة المضية): " الشرع " مثل الأصل. (2) ر. جواهر الإكليل: 2/ 212، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 673 مسألة: 1198. (3) حديث هبة أبي بكر لعائشة، رواه مالك في الموطأ (كتاب الأقضية: باب ما لا يجوز من النحل 2/ 752، ح 40، وفيه أن عائشة سألت أبا بكر: " إنما هي أسماء، فمن الأخرى " فقال لها أبو بكر: " ذو بطن، بنت خارجة، أُراها جارية " رضي الله عنهم أجمعين. (4) ورواه البيهقي (6/ 172) من طريق ابن وهب عن مالك وغيره. تلخيص الحبير: (3/ 72 1328). (4) في الأصل: فما.

وكان شيخي لا يعرف هذا، وينزل الهبة منزلة البيع. وقد أجرى هو وغيره قولين في هبة الغائب، كما أجروْهما في بيع الغائب، وسنذكر في باب العمرى والرقبى أن تعليق الهبة باطل، والوصايا تقبل التعليقات، كما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى. 5838 - وذكر طائفة من أصحابنا في صحة هبة المرهون وجهين: أحدهما - البطلان؛ قياساً على البيع. والثاني - الصحة، ومعناه البناء على الانتظار، فإن بِيع الرهنُ في حق المرتهن، تبيّنا بطلانَ الهبة. وإن انفك الرهن، فالخِيرَةُ إلى الراهن الواهب. فإن أقبض، حصل الملك. وهذا على ضعفه يتجه بشيء، وهو أن الهبة لا تُعقب الملك في وضعها؛ فإن صادفت مرهوناً، لم يبعد الانتظار فيها؛ فإن القبض المملّك منتظَرٌ، وهذا يجرّ خبطاً (1) عظيماً، ويُلزم تصحيحَ الهبة في الآبق، وما لا يقدر عليه في الحال. ويجوز أن ينفصل عن الآبق؛ فإنه غير مقدورٍ عليه، والراهن قادر على فك الرهن بأداء الدين. 5839 - ومما يتصل بما نحن فيه القول في هبة الدين. (2 ونحن نقدم عليه تفصيل القول في بيع الدين، وقد قدّمتُ -فيما أظن- قولين في بيع الدين 2) من غير مَنْ عليه الدين، وغرضنا الآن تفصيل القول في الهبة. فإن حكمنا بصحة بيع الدين، ففي صحة هبته وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يصح هبة الدين، فإن ما يصح بيعه، يصح هبته. والثاني - لا يصح هبته؛ فإن الهبة تفتقر إلى القبض، والدين لا يتصور قبضه وهو دين. فإن قلنا: لا تصح الهبة، فلا كلام.

_ (1) (د 1)، (ت 3): يخرج خبلاً. (2) ما بين القوسين ساقط من (د 1)، (ت 3).

وإن قلنا: تصح، فهل يفتقر انبرامها إلى قبض الدين واستيفائه، حتى تكون الهبة جائزةً (1)، يبطلها الواهب قبل القبض الحسي؟ قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا بد من القبض في الانبرام، وهو قياس الهبات. والوجه الثاني - أنه لا يفتقر إلى القبض المحسوس، بل تنبرم الهبة قبل استيفاء الدين. ثم من أصحابنا من قال: تنبرم بنفس الإيجاب والقبول، ومقصود هذه الهبة أن يصير المتَّهب بعد الهبة كالواهب قبل الهبة، ومعلوم أن الواهب كان يستحق الدين في الذمة من غير قبض، فعلى هذا تنزل هبة الدين منزلة الحوالة، وهذا لا بأس به، وقد ذكره العراقيون على قريبٍ من الوجه الذي ذكرناه حكاية عن صاحب التقريب. ومن أصحابنا من قال: لابد من تسليطٍ بعد الهبة، وهو في حكم الإقباض بالقول، فتنعقد الهبة بالإيجاب والقبول، ثم يقول الواهب بعدهما دونك والدين، فاستوفه، فقد سلطتك عليه، ويضاهي هذا التخلية في الأعيان التي لا تقبل النقلَ. 5840 - وخرّج صاحب التقريب التصدقَ بالدين، حتى يقع عن الصدقة المفروضة إذا نواها- على هذا القياس؛ حتى إذا صحَّحْنا الهبة من غير استيفاء، قلنا على ذلك: لو كان مال الرجل ديناً، فتصدق بشيء منه على مستحقِّي الزكاة، وقع ذلك موقع الاعتداد والاحتساب. ولو كان له على مسكينٍ دينٌ، فوهبه منه عن حساب الزكاة، لم يقع الموقع؛ فإن هذا إبراء، وليس بتمليك على الحقيقة، وتنزيل الإبراء منزلة التمليك من باب الإبدال في الزكوات، ولا مساغ لها عند الشافعي. وقد قيل: إن أبا حنيفة رحمة الله عليه يمنع ذلك، مع توسّعه في إقامة غير المنصوص عليه مقام المنصوص عليه. 5841 - ومما يتصل بذلك رهن الدين، وقد قدمنا في كتاب الرهن منعه، وهو الأصل، ولكن خرّج الأصحاب الرهن على الهبة فقالوا: إن منعنا الهبة، منعنا

_ (1) "جائزة": أي غير لازمة: أي هي حينئذٍ عقدٌ جائز.

الرهن، وإن صححنا الهبة، لم يمتنع تصحيح الرهن. ولكن الوجه الذي ذكرناه في انبرام الهبة قبل الاستيفاء المحسوس لا يخرّج في الرهن، ولا يتجه فيه إلا اشتراط الاستيفاء، فإن المقصود من الرهن التوثق بالعين، وهذا لا يحصل فيما ليس مقبوضاً حسّاً، فصحة الرهن بتأويل انعقاده، ووقوف انبرامه على القبض المحسوس يخرّج على بعد. ***

باب العمرى والرقبى

باب العمرى والرقبى 5842 - هذه اللفظة استعملتها العربُ في الجاهلية قبل المبعث، ونحن نذكر صيغتها ومعناها، ثم نذكر حكمها. فإذا قال الرجل: أعمرتك هذه الدار ووهبت (1) منك عمرك، أو ما بقيت، فهذه صيغ العمرى. ومعناها أن الموهوب يكون للمعْمَر ما بقي، فإذا مات، لم يخلفه الوارث، ولم يقم مقامه. هذا معنى اللفظ، وكانت العرب تعنيه (2) وتريده، وتبني (3) النحلةَ على رجوع الموهوب إلى الواهب إذا مات المتَّهب. فإذا بأن اللفظ ومعناه، عدنا إلى ترتيب حكم الشرع فيه. 5843 - والترتيب القريب أن نقول: إذا قال: أعمرتك، أو وهبت عمرك، أو ما بقيتَ، ولم يتعرض لقطع الملك عن ورثته، ولا استمرار الملك عليهما، ففي المسألة قولان: أصحهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الهبة تصح. وقال الشافعي في القديم: لا تصح الهبة. توجيه القولين: من قال: لا تصح، فوجهه بيّن في القياس؛ فإن الهبة قياسها أن تقتضي ملكاًً يقتضي البيعُ مثلَه، وحكم الملك المستفاد من البيع أن يطّرد على الوارث، واللفظ لا يعطي هذا المعنى في الهبة، فينبغي أن تبطل. ومن نصر القول الجديد، فمعتمده الخبر، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله

_ (1) (د 1)، (ت 3): ووهبتك. (2) تعنيه: أي المعنى. (3) (د 1)، (ت 3): تبغي.

عليه وسلم: جعل العمرى للوارث (1). وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: " لا تُعمروا ولا تُرقبوا، فمن أعمر شيئاً، أو أرقبه، فسبيله الميراث " (2). فإن تعلق ناصر القول القديم بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإعمار والإرقاب، قيل له: هذا محمول على طريق المشورة، وحاصله لا تعمروا، وأنتم تبنون الأمر على أن الموهوب يزجع عليكم، واعلموا أن سبيله الميراث. التفريع على القولين: 5844 - إن حكمنا بفساد الهبة، فلا كلام، وهي لاغية، وملك الواهب باقٍ، وإن اتصل بالإقباض. وإن حكمنا بأن الهبة صحيحة، فالأصح أن ما في اللفظ من التعرض للتخصيص بالعمر باطل، والهبة مؤبدةٌ، والملك مسترسل على الورثة إذا مات المتَّهِب المُعْمَر. وحاصل هذا القول يرجع إلى تصحيح الهبة وإبطال مقتضى اللفظ في تضمين التخصيص والتأقيت، والمعتمد فيه الخبر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " فسبيله الميراث ". 5845 - وللشافعي قولٌ في القديم: إن الهبة تصح، وتقتضي الملك متقيداً بحياة المتَّهب، وإذا مات، رجع إلى الواهب. وهذا وإن كان مشهوراً، فهو مختلٌّ جداً؛ فإن المعتمد الخبرُ، ومقتضاه طرد الملك على الورثة.

_ (1) حديث: " العمرى ميراث لأهلها " رواه مسلم عن جابر وأبي هريرة: الهبات، باب العمرى، 3/ 1248، ح 1625، 1626. وأحمد عن سمرة: 5/ 8، 13، 22. وعنه أيضاًً الترمذي: الأحكام، باب ما جاء في العمرى، 3/ 623، ح 1349. وابن حبان عن زيد بن ثابت بنحوه: 7/ 292 حديث: 5110. وانظر التلخيص: 3/ 156 ح 1358. (2) حديث " لا تعمروا، ولا ترقبوا ... " رواه الشافعي: 2/ 168 (السندي) وأبو داود: البيوع، باب من قال فيه ولعقبه 3/ 293، ح 3556. والنسائي: العمرى، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى 6/ 273، ح 3731. والبيهقي في الكبرى: 6/ 175 ومعرفة السنن والآثار: 9/ 58، ح 12344 (كلهم من حديث جابر). وانظر التلخيص: 3/ 156، ح 1359.

ثم تفريع القديم على الجديد لا يحسن في نظم المذهب، والأحسن أن نقول: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الهبة تصح، ويطّرد الملك على الورثة، ولا مبالاة فيما في اللفظ من معنى الإشعار بتخصيص الملك بعُمر المتهب. والقول الثاني - أن الهبة تفسد. والقول الثالث - أنها تصح، والملك مقصور على عُمر المتهب. وهذان القولان نص عليهما في القديم، وكل ما ذكرناه فيه إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو وهبتك هذه الدار عمرك. 5846 - ووراء هذه الصورة صورتان: إحداهما - أن يقول: أعمرتك ما بقيتَ، فإذا متَّ، فلورثتك. والأخرى - أن يقول: فإذا متَّ، انصرف إليَّ الموهوب ملكاً. فإن قال: وهبتك عمرك، والموهوب [بعدك] (1) لورثتك، فالهبة صحيحة، لا خلاف في صحتها، ويستوي في الحكم بالصحة الجديدُ، والقديمُ؛ فإنه صريح بتأبيد الملك، وتثبيته على حكم الاطراد. فأما إذا قال: وهبتك عمرَك، فإذا متَّ، رجع إليّ الملك في الموهوب، فلا شك أن هذا باطل على المذهب القديم، إذا رأينا إبطال الإعمار المطلَق، فإن رأينا في الترتيب القديم تصحيحَ العُمرى، وتخصيصَ الملك بعمر المتَّهِب، فالهبة صحيحة، على هذه القضية، والملك فيها مقصور على عمر المتَّهِب. وهذا التقييد عند هذا القائل تصريحٌ بما يقتضيه مطلق الإعمار. فأما إذا فرعنا على القول الجديد، وقلنا: الإعمار المطلق صحيحٌ، والملك مسترسل على الورثة، وما في اللفظ من معنى التخصيص باطل. فإذا جرى اللفظ مقيداً بالرجوع إلى الواهب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا يبطل لما فيه من التصريح بالتأقيت. وهذا القائل يقول: الإعمار المطلق

_ (1) زيادة من (د 1)، (ت 3).

لا تأقيت فيه؛ فإنه إذا ذكر الملك في عمر المتهب، فقد تناهى في تأبيد الملك؛ فإن أقصى ما يمتد فيه ملك المالك عمرُه. ثم إذا ثبت هذا، فالإرث بعد انقضاء العمر فرعُ هذا المقتضَى. ولم يجر له ذكرٌ بنفيٍ ولا إثبات. فهذا وجه. والوجه الثاني - أن الهبة لا تفسد؛ فإن ما صرح بهِ من التأقيت هو مقتضى الإعمار المطلق، فإذا ثبت أن الهبة تصح بلفظ الإعمار، فينبغي أن تصح، وإن قُيّدت بالتأقيت، فالشرط إذاً باطل، والهبة صحيحة. 5847 - ومما يتصل بتفصيل المسائل أنه إذا قال: وهبتك عُمْرَ زيدِ، وذكر رجلاً غيرَ المتَّهِب، أو قال: وهبتك عمري، أو ما بقيتُ، والتفريع على الجديد، وقد تبين ميله إلى التصحيح، فالمذهب الظاهر أن الهبة تفسد؛ فإنها ما أضيفت إلى عمر المتَّهب، حتى يقال: تقديرها ملكتك على أقصى ما يتصور ملكك، واللفظ حائد عن اللفظ المعهود [في الباب] (1)، ومعتمد التصحيح الخبرُ، وهو محمولٌ على الصيغة المعروفة. وذكر الشيخ والعراقيون وجهاً آخر: أن الهبة تصح على الجديد، ويفسد التأقيت ولم يصر أحد ممن يُحتفل به إلى الحكم بالصحة، مع الوفاء بموجب الشرط، حتى يقال: يثبت الملك مختصاً بالعمر المذكور، حتى إذا مات زيدٌ، الذي ذكر عمرَه قبل موت المتَّهب يرجع الملك إلى الواهب المُعْمِر، ولكن يتأبد الملك بعد موته للمتهب، ثم لورثته بعده، فيؤول الخلاف إلى أن الشرط الفاسد هل يُفسد الهبةَ أم يُطّرح الشرط، ويحكم بصحة الهبة مؤبدةً على خلاف الشرط؟ 5848 - ولو قال: وهبت منك داري هذه سنةً، أو يوماً، فهذا خارج على الخلاف الذي ذكرناه؛ إذ لا فرق بين تقييد الملك بعمر غير المتهب، وبين تقييده بالوقت الصريح، فيخرَّجُ على الجديد وجهان: أحدهما - أن الهبة فاسدة، وما جاء به إعارةٌ بلفظٍ فاسد.

_ (1) ساقط من الأصل.

والوجه الثاني - أن الشرط محذوف، والهبة في نفسها متبعة على حكم التمليك المؤبد. 5849 - وينشأ من هذا المنتهى جريان الخلاف في تصحيح الهبة، وإبطال الشرط الفاسد، ثم خصص بعض أصحابنا هذا الخلافَ فيما يتعلق بالوقت. وقال قائلون: كل شرطٍ فاسد مذكورٍ في عقد الهبة، فهو خارج على الاختلاف، حتى نقول في وجهٍ: يفسد الشرط، وتصح الهبة على موجب الشرع، حتى لو قال وهبت منك عبدي هذا على [ألا تبيعه] (1) إذا قبضته، ولا تتصرف فيه، أو ما جرى هذا المجرى، فهذه الشرائط منحذفة، والملك حاصلٌ للمتَّهِب. وهذا القائل يفصل بين الهبة وبين البيع، ويقول: الشرائط التي تذكر في البيع تُصيِّر الثمن -الذي هو ركن البيع- مجهولاً، وجهالة الثمن تُفسد البيع، ولا عوض في الهبة. فهذا وإن نقله الأئمةُ حَيْدٌ عظيم، وإبعادٌ ظاهر، وسببه تصحيح الإعمار، وقد حكينا في كتاب البيع قولاً غريباً، عن صاحب التقريب، ردّده مراراً: أن الشرط الفاسد ينحذف في البيع، ونحكم بصحة البيع، (2 وذلك غير معتدٍّ به من أصل المذهب. وليس ما حكيناه في الهبة ذلك القول 2)، وإنما هو محكي مع الفرق بين الهبة والبيع. هذا مجموع القول في العمرى، مع ما يتعلق بأطرافها. 5850 - فأما القول في الرقبى فنذكر لفظها، وما كان يريده من يُطلقه، ثم نذكر حكمَ الشرع على ترتيبنا في العمرى. فلفظ الرُّقبى أن يقول: وهبت داري هذه على أنك إن متّ قبلي، رجعت إليّ، فإن متُّ قبلك، استقر ملكُك. وسُمِّي هذا النوعُ رقبى؛ لأن كلّ واحد منهما يرقب موت صاحبه، فالمتّهِب يرقب

_ (1) في الأصل: أن تبيعه. (2) ما بين القوسين ساقط من (د 1)، (ت 3).

موتَ المُرقِب ليستقر ملكه، والمُرقِب ينتظر موت المتَّهِب ليرجع الملك إليه. هذا بيان اللفظ ومعناه عند أهله. 5851 - والحكم فيه إلحاقُ هذا اللفظ بما إذا قال: أعمرتك، أو وهبتك عمرك، وإذا مت، رجع إليّ، وقد ذكرنا في هذه الصورة طريقين للأصحاب. وقوله: فإن مت، استقر لك الملك لا يتضمن مزيد فساد، ولا يؤثر أصلاً، وإنما النظرُ إلى تصريحه برجوع الملك في الموهوب إليه عند تقدير موت المتّهِب في حياته. فهذا تفصيل القول في العمرى [والرقبى] (1). 5852 - ووراء ما ذكرناه فرعٌ نذكره ينتجز به مقصود الباب. وهو أنه إذا قال: أعمرتك داري هذه، أو وهبتكها عمرك، وقلنا: تصح الهبة، ويثبت الملك متقيداً بعمر المتَّهِب، فلو مات المُعْمِر الواهب قبل موت المتَّهِب، فلو قدرنا رجوع الملك، فكان يرجع إلى ورثة المعمر. وهذا فيه استبعاد؛ من جهة أنه ثبوت ملكٍ للورثة ابتداء فيما لم يملكه الموروث في حياته، ولكن ما يقتضيه قياس هذا القول أنه يرجع إلى ورثته بحكم شرطه، ويكون كما لو نصب شبكة في حياته وتعقَّل بها صيدٌ بعد موته، فالملك يحصل في الصيد للورثة. والصحيح أنه تركة تُقضى منه الديون والوصايا، فإن حمل [حامل] (2) حصولَ الملك للورثة على حصول الملك لهم في الشبكة، كان ذلك غيرَ صحيح؛ إذ لا يمتنع فرضُ تسبب قوي يقصد مثله من غير تقدير ملك، وذلك بأن يحتفر حفيرة على مدارج الصيود، ولا يَقصد تملكها (3)، فالصيد الواقع فيها للورثة، ولا ملك لهم في الحفيرة. وقد يتكلف متكلف فيقول: صار الحافر أولى بالحفيرة من غيره، وهذا الحق

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) تملكها: الضمير يعود إلى الحفيرة، لا إلى الصيود، كما قد يتوهّم، وذكر الحفيرة غير المملوكة مثالاً للسبب، حيث يردّ قول من قال: إن الملك يحصل للورثة لملكهم الشبكة، فأراهم أن الصيود يحصل ملك الورثة فيها بحفيرة غير مملوكة.

ينزل إلى ورثته. والذي عليه التعويل ما قدمناه من كون الصيد من جملة التركة. 5853 - ومما يتعلق باستقصاء الكلام في ذلك أنا إذا أثبتنا الملكَ للمتَّهب، وقيدناه بعمره، فلو باع ما ملكه، ثم مات، والعين مبيعة، فهذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: لا ينفد بيعُه؛ فإن مقتضى البيع -إذا صح- التأبيدُ، وهذا لا يسعه الملك المؤقت، وليس له أن يملّك غيرَه ما لا يملكه في نفسه. فإذن له الانتفاع، وله وطء الجارية التي جرى الإعمار فيها، وليس له أن يبيع. ويجوز أن يقال: بيعه نافد محمول على التأبيد الذي يقتضيه البيع، وهو بمثابة ما لو علَّق عتقَ عبده بمجيء الغد، ثم إنه لم يجر بيعه قبل الوقت الذي هو متعلق العتق، فالبيع ينفذ، ويتعطل العتقُ، وتعليقُه. ولو لم ينفد البيع في مثل الإعمار، لما كنا مثبتين للمتَّهِب ملكاً. 5854 - ولعل الأصح منعُ صحة البيع؛ فإن من علق عتق عبده لا يقال: تأقت ملكه، بل ملكه على التأبد الذي كان. والتعليق مشروط بألا يتقدم على وجود الصفة ما يتضمن دفعَ العتق عند وجود الصفة. والملكُ مؤقت في عمر الإنسان إذا فرّعنا على القول الذي انتهينا إليه. وإذا خرج أصلٌ عن قانون القياس، فكلما كثرت الفروع، ازداد الفرعُ بعداً. ***

[باب عطية الرجل ولده]

[باب عطية الرجل ولده] (1) 5855 - الأصل أن الهبة إذا صحت وأفادت ملكاً عند القبض، فالملك يطرد ولا يتطرق إليه إمكان القبض؛ فإن الملك يتم، ويتسلط المتّهِب على سائر جهات التصرفات، ومبنى الهبة على أنها إذا اقتضت ملكاًً، انقطعت فيها علائق العقود؛ إذ لا يتطرق إليها ردٌّ بعيب، ولا تفاسخٌ على الرضا على موجب الإقالة في البيع، فالذي يقتضيه الأصل ألا يرجع واهبٌ فيما وهب، غير أنا (2) نثبت للأب الرجوع فيما وهبه لولده. والأصل في الباب ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده " (3) وروى الشافعي حديثَ النعمان بن بشير إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام، فقال: " أنَّى لك هذا؟ " فذكر أن أباه بشيراً أنحله إياه، فقال صلى الله عليه وسلم لبشير: " أنحلت سائر ولدك مثل هذا؟ " فقال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: " أيسرُّك أن يكونوا في البر إليك سواء "، فقال: نعم، قال: " فارجعه ". وروي " فاردده " (4). فثبت أن رجوع الواهب فيما وهب لولده في حكم المخصوص بتخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم الكلام يتعلق بثلاثة فصول: أحدها - فيمن يثبت له حق الرجوع. والثاني - في وقت الرجوع. والثالث - فيما يقع الرجوع به.

_ (1) في الأصل: فصل. واخترنا هذا لما سيأتي قريباً من تفصيله هذا الباب إلى ثلاثة فصول. (2) (د 1): لا نثبت. (3) سبق تخريج هذا الحديث آنفاً. (4) حديث النعمان بن بشير متفق عليه بنحو هذا اللفظ (اللؤلؤ والمرجان: 398، ح 1048، 1049).

[الفصل الأول] (1) 5856 - فأما القول فيمن يرجع، فحاصل ما ذكره الأصحاب أربعة أوجه: أحدها - أن الرجوع يختص بالوالد إذا وَهَب من ولد صلبه، ولا يثبت للأم، ولا للأجداد والجدات. ومعتمد هذا الوجهِ، ما مهدناه من خروج الرجوع عن القياس، ووجوب اتباع النص وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لواهبٍ أن يرجع فيما وهب إلا الوالد "، فخصص الرجوع بالوالد، فيجب اختصاصه به. 5857 - والوجه الثاني - أن الأم تَشْرك الأبَ في الرجوع إذا وَهَبت؛ فإنها في معناه، والولد ولدهما، وانتسابه إلى الأب ظاهر، واتصاله بالأم من جهة الولادة مستيقنٌ. ثم هذا القائل يقول: حق الرجوع [لا يعدوهما إلى الأجداد والجدات، ووجه هذا الوجه أن الوالد يثبت حق الرجوع] (2) له بالنص، والتحقت الأم به التحاق الجارية بالعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِرْكاً له في عبد قُوّم عليه " (3). 5858 - والوجه الثالث - أن حق الرجوع يثبت للأصول فيما وهبوا لفصولهم، ولا فرق بين الأبوين وبين الأجداد والجدات، وبين من يلي منهم، وبين من لا يلي، وبين من يرث، وبين من لا يرث. وهذا القائل ينحو بهذا الحق نحو القصاص؛ فإنه لا يجب على أصلٍ بقَتْل من ينتمي إليه بجهة الولادة بدرجة، أو درجات. 5859 - والوجه الرابع - أن حق الرجوع يثبت للأب، ولكل أصلٍ يتصور أن يكون

_ (1) العنوان من عمل المحقق، رعايةً لتقسيم المؤلف. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (3) حديث من أعتق شركاً له في عبد ... متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 364، 412، ح 958، 1082).

له ولاية على الذي وَهَب منه بالقرابة. فهذا إذن يختص بالوالد، والأجداد المتّصلين به إذا كانوا ورثة، وصاحب هذا لا يخصص حقَّ الرجوع بحال قيام الولاية؛ فإن الهبة قد تكون من الابن (1) البالغ الرشيد، وقد يكون الأب أو الجد فاسقين غيرَ صالحين للولاية، فلا نظر إلى ثبوت الولاية وتحققها، وإنما النظر إلى كون الواهب صالحاً للولاية على الموهوب منه على الجملة إذا تجمعت الأسباب التي تقتضي قيامَ الولاية. 5860 - ولا شك أن الأولاد لا يرجعون فيما وَهبوا لأصولهم. ومن يقع على جانبٍ من عمود النسب لا يرجع إذا وَهَب وأقبض. وكذلك القول في الأجنبي إذا وهب وأبرم هبته بالقبض. فهذا تمام المقصود فيمن يملك الرجوع، وفيمن لا يملكه. والفصل الثاني معقود في الأوقات التي يثبت فيها الرجوع. 5861 - فنقول: إن بقي المتهب، وبقيت العين الموهوبة، واستمر الملك المستفاد بالهبة، فيثبت حق الرجوع، ثم إن كانت العين الموهوبة غيرَ متغيرة عن صفتها الثابتة لها حالةَ القبض، فلا كلام. وإن تغيرت صفتها بنقصانٍ وعيب، فللواهب الرجوع فيها، على ما هي عليها من الصفات، ولا رجوع له بأرش النقص؛ فإن العين الموهوبة لو تلفت، لم يجد الواهب رجوعاً بشيء إجماعاً، فنقصان الصفة يؤخد من المأخد الذي يُتلقَّى منه فوات الموصوف. 5862 - وإن زادت العينُ الموهوبة، لم تخل الزيادة إما أن تكون متصلة وإما أن تكون منفصلة، فإن كانت منفصلة، فهي متروكة على المتهب مُبقَّاة على ملكه، لا رجوع فيها، وحق الرجوع ثابت في العين الموهوبة.

_ (1) واضح أن قوله: " من الابن " معناه للابن.

5863 - وإن كانت الزيادة متصلة ككبر الغلام، وإرقال (1) الوديّ، وسِمَنِ الهزيل، وما في معانيها، فهذه الزيادات لا أثر لها، وحق الرجوع قائم في العين على ما هي عليه. ثم إذا رجع في العين تبعتها الزوائد المتصلة، وهذا قياس الأصول. ولا أثر للزيادة [المتصلة] (2) إلا في الصداق عند تطليق الزوج زوجته قبل المسيس، على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الصداق، إن شاء الله عز وجل. 5864 - ولو وهب جارية حبلى، وبقيت، كذلك إلى أن رجع، فالجارية تنقلب إلى الراجع حاملاً، كما خرجت [في] (3) الهبة والإقباض عن ملكه حاملاً. وإن كانت حائلاً عند الإقباض، فعلقت، وولدت قبل الرجوع، فالولد متروك على المتَّهِب، وحق الرجوع مختص بالأم. وإن كانت حاملاً عند القبض، ووضعت قبل الرجوع، أو كانت حائلاً عند القبض، وعلقت بمولود رقيق، واتفق الرجوع قبل وضع الحمل، ففي الطريقين قولان: وقد قدمنا تحقيق ذلك ونظيرَه في الرهون والبياعات، ومسائل التفليس، وكل ما ذكرناه إذا اطرد الشرطان: أحدهما - بقاء المتَّهِب، والآخر - اطراد الملك المستفاد بالهبة. 5865 - فإن مات المتهب، وخلفه ورثته، فلا رجوع بعد موت المتَّهِب إجماعاً؛ فإن الملك تحوّل إلى الورثة، وإنما يثبت الرجوع على الموهوب منه، وهذا يعارضه أن الواهب لو مات، سقط حقه من الرجوع، ولم يخلفه الورثة، ولم يقوموا مقامه. هذا منتهى ما أردناه. 5866 - وأما اطراد الملك المستفاد من الهبة، فالتفصيل فيه أن ملك المتهب لو زال عن رقبة الموهوب، فلا رجوع على المتهب، إذا كان لا يصادف العينَ الموهوبة في

_ (1) إرقال الودي: أرقل النخل طال، والودِيّ والوَدْيُ: صغار الفسيل، فالمعنى: كنموّ الفسائل، حثى تصير نخيلاً (الزاهر، والمعجم). (2) في الأصل: المفصلة. (3) زيادة من (د 1)، (ت 3).

ملكه؛ فإن مما يجب القطع به أن حق الرجوع لا يتعلق إلا بعين الموهوب، [فلو] (1) زال ملك المتهب زوالاً، لا يتحقق عوده مثل أن يَعتِق العبدُ الموهوب، فقد انقطع حق الرجوع بالكلية. ولو استولد الجارية الموهوبة، كان الاستيلاد فيها بمثابة العتق؛ فإن المستولدة في حكم المستهلكة. 5867 - ولو زال ملك المتهب عن الموهوب ببيع أو هبة، ثم عاد، فهل يثبت للواهب الرجوع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع لمصادفة العين الموهوبة ملكاًً، بحيث يتصور التصرف فيه. والثاني - أنه لا يرجع؛ لأن الملك المستفاد بالهبة قد زال، وهذا ملكٌ جديد، وقد ذكرنا استقصاء القول في ذلك في كتاب التفليس. 5868 - ولو كان وهب عصيراً، فاستحال خمراً، ثم عادت الخمر خلاً، فلا خلاف أن الواهب يرجع، وما تخلل من زوال الملك لا اعتبار به، وسبب القطع بما ذكرناه أن ما تخلل في حكم العارض، فإذا زال، قُدّر كأن لم يكن، والملك على الخل هو الملك الذي كان على العصير، وإنما يختلف الأصحاب إذا زال الملك، ثم حدث عن جهةٍ أخرى. 5869 - ولو ارتد المتَّهِب، ثم عاد إلى الإسلام، فإن قلنا: الردة لا تزيل الملك، فلا أثر لها، وإن قلنا: إنها تزيل الملك، فإذا عاد المتّهِب مسلماً، فالمذهب الأصح أن الرجوع يثبت للواهب وجهاً واحداً، قياساً على انقلاب العصير خمراً، ثم انقلابها خلاً. ومن أصحابنا من يُلحق مسألة الردة بصور الخلاف، ويقول: هي بمثابة ما لو زال ملك المتهب، ثم عاد بهبةٍ أو غيرها من الجهات الضرورية، أو الاختيارية. 5870 - ومما يجب الاعتناء بدركه تفصيلُ القول في العوارض التي لا تتضمن زوال

_ (1) في الأصل: ولو.

الملك، ولكنها تتضمّن الحجر، كالرهن المبرم بالقبض، والكتابة (1) الصحيحة، فلا شك أن الراهن يمتنع عليه التصرف في المرهون على حسب ما كان يتصرف من قبل، وكذلك القول في الكتابة، ولكن الملك قائم فيهما. 5871 - فنقول: أما إذا رهن المتّهِب العبدَ الموهوب، وأقبض، فنتكلم في استمرار الرهن. أولاً: قال علماؤنا: قد ذكرنا وجهين في أن هبة المرهون على التقدير الذي أوضحناه من قبلُ هل تصح؟ فإن حكمنا ببطلان هبة المرهون، وهو المذهب والقياس، فلا يصح الرجوع من الواهب مع استمرار الرهن. وإن قلنا: هبة المرهون تصح، فلو رجع الواهب في المرهون، صح رجوعه. ثم ليس المعنيُّ بصحة الرجوع أن الواهب يتسلط على الرهن بالإبطال، فلا سبيل إلى إبطال حق المرتهن، ولكن فائدة تصحيح الرجوع حملُ الأمر على الوقف، فإن مست الحاجة إلى بيع الرهن في دين المرتهن بيعَ فيه، وتبيّن بطلان الرجوع، وإن انفك الرهن، تبيّنا أن الرجوع صح، واكتفينا بما [جرى] (2) من الرجوع حالة استمرار الرهن، ولم نحوج الواهب إلى تجديد الرجوع، هذا فائدة تصحيح الرجوع في استمرار الرهن. 5872 - ولو بيع الرهن، فلا مطمع في إثبات حق الرجوع للواهب [بقيمة] (3) الموهوب على المتهب؛ فإنه برهنه تصرف في ملكه، ولا معترض عليه، فلئن أراد الراجع الرجوع بعد لزوم الرهن، فرجوعه موقوف على إمكان الاسترداد، فإذا لم يتفق التمكن منه، فلا معترض على المتهب، وليس المتهب على عهدة وعلقة ضمانٍ بسبب الرجوع من الواهب. 5873 - وإن قلنا: لا يملك الواهب الرجوع في العين المرهونة، فإذا انفك الرهن، فالذي يجب القطع به أنه يرجع الآن؛ فإن الملك لم يتحول، وليس ملك

_ (1) الكتابة الصحيحة: يريد مكاتبة السيد عبده. (2) في الأصل: جاء. (3) في الأصل: في قيمة الموهوب.

المتهب بعد انفكاك الرهن ملكاًً جديداً، فكان بمثابة انقلاب العصير، وانقلاب الخمر، بل ما ذكرناه في الرهن أوضح؛ لأن ملك المتهب كان [دائباً] (1) دائماً على العين المرهونة، وإنما طرأ حجرٌ، ثم زال، ولو استحال العصير الموهوب خمراً، لم تكن الخمر مملوكة، ثم لما انقلبت خلاً، ثبت الملك، (2 ثم قضينا بثبوت حق الرجوع؛ مَصيراً إلى أن ملك الخمر سببه ملك 2) العصير. وغلط بعضُ الأصحاب فقال: إذا قلنا: لا يرجع الواهب في استمرار الرهن، فلو انفك الرهن، ففي ثبوت حق الرجوع وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا زال الملك [عن] (3) الموهوب وعاد. ولعل هذا القائل يظن فرقاً؛ من جهة أن التصرف بالرهن، ثم السعي في الفك يتعلق بالاختيار، بخلاف الانقلاب الجاري في العصير. وهذا [عري] (4) عن التحصيل، فلا [يقعن] (5) به اعتداد، مع القطع بأن الملك بعد الانفكاك -ملكَ الهبة (6) - لم ينقطع. هذا قولنا في الرهن. 5874 - فإما إذا كاتب المتهبُ العبدَ الموهوب، كتابةً صحيحة، فالمذهب منعُ بيع المكاتب، فعلى هذا يمتنع الرجوع. وليس يخرّج إمكان الرجوع إلا على التردد الذي ذكرناه في أثناء الرجوع في المرهون، على تأويل التوقف والانتظار، حتى إذا عجز المكاتَب، أو عجَّز نفسه، فيتبيّن أن الرجوع صحيح. وهذا على نهاية البعد. وما عندي أن من يجوّز هبة المرهون على انتظار الانفكاك يجوّز هبة المكاتب إذا منعنا بيعه؛ فإن الملك في المرهون غيرُ ناقصٍ، ولكن الراهن محجور عليه، والملك في المكاتب ناقص.

_ (1) دائباً: أي ملازماً مستمراً، وقد حرّفت في الأصل إلى (دابيا) وسقطت من (د 1)، (ت 3). (2) ما بين القوسين سقط من (د 1). (3) في الأصل، بين، وفي (د 1)، (ت 3): على. (4) في الأصل: يجري. (5) في الأصل: يقص. (6) " ملك الهبة " بدل من قوله: "الملك" و" لم ينقطع " خبر لقوله: " بأن الملك "، فالمعنى: مع العلم بأن ملك الهبهَ -بعد انفكاك الرهن عنها- لم ينقطع.

5875 - وإن جوزنا بيع المكاتب على قولٍ بعيد، فالبيع فيه لا يتضمن نقض الكتابة ويؤول [فائدته] (1) إلى نزول المشتري منزلة البائع في قبض نجوم الكتابة واستحقاقِها، فالبيع وارد على الرقبة والفائدة عائدة إلى النجوم، فعلى هذا التأويل لوْ أراد الواهب الرجوع، تطرق الاحتمال إليه، من جهة أنه في التحقيق راجع في النجوم ويمكن أن يقال: يصح رجوعه نظراً إلى مورد [النجوم] (2)، وهو الرقبة. 5876 - ولو عجّز المكاتب نفسه وانقلب رقيقاً، وقد قدرنا صحة القول بالرجوع، وقع الاكتفاء بالرجوع السابق، كما ذكرناه في [المرهون] (3). 5877 - ولو آجر المتهب العبدَ الموهوبَ، فإن قلنا: المستأجَر يباع، فيصح من الواهب الرجوع في عينه، والإجارة باقية إلى منتهى مدتها. ولو قلت: لا يصح بيع المستأجر، وصححنا الرجوع في المرهون، على تقدير التوقف وانتظار ما يكون، فيصح الرجوع في العين المكراة، ولا حاجة إلى تقدير [التوقف] (4) وليس إلا تمكين المستأجِر من استيفاء حقه من المنافع، وملك الراجع مستقر في رقبة المستأجَر، وإن منعنا الرجوع في [المرهون] (5)، أمكن أن نتردد في الرجوع في المستأجَر، لاطراد الملك فيه، واختصاص حق المستأجِر بالمنافع. 5878 - ويخرّج على هذا تردد فيه إذا وهب عبداً وأقبضه، ثم أبق من يد المتهب، فرجع الواهب في دوام الإباق، ففي صحة رجوعه احتمالٌ ظاهر، وإن كنا نقطع على هذا الطريق بإبطال هبة العبد الآبق؛ فإن الهبة تمليك، فيجوز أن تستدعي قدرة [المالك] (6) على التسليم، والرجوعُ وإن كان تملكاًً جديداً، فهو جارٍ على مذهب

_ (1) في الأصل: حرّفت إلى (فالدّية). (2) في الأصل: الرجوع. (3) في الأصل: الرهون. (4) في الأصل: الوقف. (5) في النسخ الثلاث: " الملك " وهذا تقدير منا نرجو أن يكون صواباً. (6) في الأصل: المستأجَر.

البناء، ولا يتوقف عَوْدُ ملك الراجع [على] (1) قبضه ما رجع فيه وحصول الملك في ابتداء الهبة يتوقف على إقباضِ الواهب. فهذا منتهى القول في الأحوال التي تطرأ على الموهوب فيما يتعلق بحق رجوع الواهب. فأما الفصل الثالث فمضمونه ما يقع الرجوع به من الألفاظ والتصرفات. 5879 - فأما الألفاظ، فكل ما يعطي معنى الرجوع، فهو جارٍ صحيحٌ، فإذا قال: رجعت فيما وهبت أو استرجعته، أو نقضتُ ملكك فيه، أو رددته إلى ملكي، فكل ذلك رجوع. 5880 - فأما إذا أقدم الواهب على تصرفٍ يستدعي ملكَ المتصرف فيه، كالبيع والعتق، فحاصل المذهب أوجه: أحدها - أن البيعَ والعتق ينفذان من الراجع، ويتبين انقلابُ الملك إليه قُبَيْل نفود التصرف. ومن أصحابنا من قال: لا ينفد البيعُ والعتقُ. وهو الأصح؛ فإن ملك المتَّهِب تامٌّ، فلا يجوز الهجومُ على التصرف فيه من غير تقديم الرجوع. والوجه الثالث - أن العتق ينفد متضمناً للرجوع، والبيعُ لا ينفذ، والفرق بينهما اختصاص العتق بسلطان النفود عن البيع. 5881 - ولو وطىء الواهب الجارية الموهوبةَ، فلا شك في تحريم الوطء، وإن قصد به الرجوع؛ لاستحالة إباحة وطء الجارية لشخصين. ولا خلاف أن المتهب يستبيح وطأها قبل الرجوع؛ فتجويز الإقدام على الوطء في حق الواهب محال. ولكن إذا جرى الوطء حراماً، فالمذهب أنه لا يصح الرجوع به؛ فإنه تصرفٌ ممنوع، وليس

_ (1) في الأصل: إلى.

كالبيع والعتقِ، إذا جعلناهما رجوعاًً؛ فإنا نسوِّغ الإقدام عليهما. وأبعد بعض أصحابنا فجعل الوطء رجوعاً، كما أنه يقع فسخاً من البائع في زمان الخيار، والأصح أنه لا يكون رجوعاًً. ثم إذا اتصل بالوطء الإعلاق، فالذي يظهر عندنا القطعُ به أن الاستيلاد لا يكون رجوعاً. فإن حكمنا به لأن نفود استيلاد الأب لا يتخصص بالجارية الموهوبة؛ بل هو جارٍ في كل جارية قِنَّةٍ للابن. فإذا كان حصول الملك بهذه الجهة لا يختص بالجارية الموهوبة، وتقدير الرجوع فيها، فلا (1) أثر له في الرجوع. وفيه احتمالٌ على بُعْد. ثم من يقدر الاستيلاد رجوعاً، ففائدته أنه يثبت الاستيلاد، ولا يغرم قيمة الجارية للموهوب منه، وهذا إذا لم نجعل عين الوطء رجوعاً. فإن جعلناه رجوعاً، لم يخف الحكم، ثم إن قلنا: الوطءُ ليس رجوعاًً، وقدرنا الاستيلاد على الاحتمال البعيد رجوعاًً، فالوطء السابق المتقدم [على العلوق] (2) يصادف ملك المتهب، فيتعلق به المهرُ، كما يتعلق بوطء الإنسان جاريةَ غيره. وقد انتهى غرضُ الفصول، وضبط الأصول، ونحن نُتبعها على عادتنا بفروعٍ. فرع: 5882 - إذا وهب من ولده شيئاً، [فوهبه] (3) الولدُ من ولده (4)، وأقبض، فالمذهب الصحيح أن الجدّ لو أراد الرجوعَ، لم يجد إليه سبيلاً، إلا أن يعود الموهوب إلى ملك الواهب، فيجري الخلاف الممهد. وأبعد بعض أصحابنا فجوّز للجد الرجوعَ على الحافد، تفريعاً على الأصح في أن الجد يرجع رجوعَ الأب. وهذا القائل يقول: لو وهب من حافده ابتداءً، لرجع، فليكن الأمر كذلك، وإن لم تصدر الهبة منه في حق الحافد. وهذا ليس بشيءٍ، ولكن أورده العراقيون، وغيرهم، من نقلة المذهب.

_ (1) جواب شرط، لقوله: فإن حكمنا به. (2) ساقط من الأصل. (3) في النسخ الثلاث: فوهب. والمثبت تقدير منا، رعاية لاستقامة المعنى. (4) (د 1)، (ت 3): "والده". وهو سبق قلم من الناسخ.

فرع: 5883 - إذا أفلس المتَّهب، وأحاطت به الديون والعين الموهوبة قائمة، فهل يثبت للواهب الرجوع؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يرجع ويستردها ملكاًً، كما يرجع البائع إذا أفلس المشتري بالثمن، وليس طريان الإفلاس بمثابة طريان الرّهن من الموهوب منه؛ فإن ذلك تصرّفٌ من قبله في ملكه تضمَّن حجراً عليه، وإثباتَ حقٍّ للمرتهن، بخلاف الإفلاس، والدليل عليه أن المشتري لو رهن ما اشتراه، لم يملك البائع الرجوع منه، ولو أفلس، كان البائع أولى بالرجوع في عين المبيع من سائر الغرماء. والوجه الثاني - أنه لا يثبت الرجوع للواهب، لتعلق حق الغرماء بالعين الموهوبة، [وليس رجوع الواهب كرجوع البائع؛ فإن للبائع تعلقاً بالبيع، لمكان الثمن، ولا حق للواهب في العين الموهوبة] (1). ورجوعه ابتداء تملُّكٍ أثبته الشارع على خلاف القياس، وشرطه ألا يتعلق به حق متأكد لغير المتهب. فصل مشتملٌ على الهبة العرية عن الثواب والهبة المشتملة عليه 5884 - فنقول: الهبة تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها - هبةٌ مقيّدة بإسقاط الثواب. والأخرى هبة مطلقة لا تعرّض فيها لثبوت الثواب، ولا بسقوطه. والأخرى هبة مقيدة بشرط الثواب. 5885 - فأما الهبة المقيدة بنفي الثواب، فهي التبرع المحض وفاقاً، ولا ثواب للواهب، مع التصريح بالنفي. 5886 - وأما الهبة المطلقة، فقد أجمعوا على أن هبة الكبير ذي الدرجة ممن هو دونه (2) لا تقتضي ثواباً؛ فإن اللفظ لا يقتضيه، وحكم العرف والعادة لا يقتضيه؛ فإن الكبير لا يستثيب من الصغير.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) واضح أن المقصود إعطاء الكبير لمن هو دونه.

فأما إذا وهب الرجل ممن هو أكبر منه، وأطلق الهبة، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يثبت الثواب في مطلق الهبة؛ لأن لفظ الهبة مصرَّحٌ بالتبرع، وهو مناقض لاقتضاء العوض. والقول الثاني - أنه يثبت الثواب حملاً لذلك على العرف الجاري بين الناس، والعرف نازل منزلة التقييد باللفظ. ولو دارت الهبة بين قرينين متساويين في الدرجة، أو متدانيين، فقد ذكر العراقيون أن الهبة لا تقتضي ثواباً بين الأقران والأمثال، كما لا تقتضيه [إذا كان الواهب] (1) أعلى درجة من المتهب. والذي ذكره المراوزة أن هذا يلتحق بهبة الرجل الصغير القدر من الرفيع الدرجة؛ فإن الأقران يغلب فيهم طلب الثواب إذا تهادَوْا، والذي اختاره المراوزة أمثل. 5887 - ولم يفصل أحدٌ من أصحابنا بين أن يقول الواهب: وهبت [أو] (2) تبرعت، وبين أن يقول: ملكتك هذا. والهبة تصح بلفظ التمليك، وكان لا يبعد الفصل بين اللفظين، وإلحاق لفظ الهبة والتبرع بما يتقيد بنفي الثواب، بخلاف لفظ التمليك، والاحتمالُ في الفصل بين اللفظين ظاهر، وسيتبيّن بالتفريع. فإن قلنا: لا يثبت الثواب في الهبة المطلقة، فلا كلام. 5888 - وإن حكمنا بأن الثواب يثبت، ففي قدره أقوال ذكرها الأئمة بطرقٍ (3) مختلفة: أحدها - أن الثواب ينبغي أن يكون على قدر قيمة الموهوب. وهذا أقصد المذاهب وأقربُها من الضبط، ووجهه بيّن؛ فإنه إذا لم يجر لمقدار الثواب ذكرٌ، ولا بد من ضبطٍ يقف عنده، فأقرب معتبر قيمة الموهوب. والقول الثاني - أنه إن استمسك المتَّهِب بالموهوب، تعين عليه أن يُرضي الواهب، ولا موقف إلا عند رضاه.

_ (1) سقط من الأصل. (2) في الأصل: (و). (3) في الأصل: في طرقٍ.

وقد روي: " أن أعرابياً وَهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً، فأثابه عليه بعيرَيْن، فلم يرض، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرض حتى آذى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: عزمت ألا أقبل الهدية إلا من قرشي " (1). وهذا القائل يقول: بناء ثبوت الثواب على العادة، ولم تجر العادة برضا الواهب بقدر قيمة الموهوب؛ فإنه لو حاول ذلك، تمكن من الوصول إليه بالبيع، ثم لا ضبطَ وراء ذلك إلا طلب رضا الواهب، غير أنه إذا أبى، وكان لا يرضى، فللموهوب منه ردُّ الموهوب، وللواهب الاسترداد قهراً، وهذا يدرأ سؤال من يقول: قد لا يرضى الواهب إلا بمالٍ عظيم القدر، فيقال: وجهُ دفع ذلك ردُّ الموهوب. القول الثالث - أنه يقع (2) الاكتفاء بأدنى ما يتمول؛ إذ لا تقدير، وليس في العادة أيضاًً ضبطٌ، ولا وجه لتعليق الأمر بالرضا، فنجعل كأن الثوابَ مطلق وننزله على أقل الدرجات. والقول الرابع - أنه يُرجع في هذا إلى العادة، فكل ما يعدّ ثواباً، وإن كان أنقصَ قيمةً من الموهوب، وجب على الواهب الاكتفاءُ به. وهذا القائل لا يرضى بالأقل، ولا يتبع رضا الواهب، ولا يعتبر القيمة، بل يقول: كل ما يتساهل الناس في مثله في باب الثواب، تعيّن قبوله، ووجب الاكتفاء به. وهذه الأقوال لا تُلفى منصوصة، وأنا أراها أوجهاً من أجوبة ابن سريج، وليس يخلو كلام الشافعي عن الإشعار بمعظمها. التفريع: 5889 - إن قدرنا الثواب بمبلغ قيمة الموهوب، فلو أراد المتَّهِب أن يرد الموهوبَ في عينه، فهذا فيه احتمال، ويتجه جدّاً أن يقال: يتعين الثواب؛ فإنه

_ (1) حديث: " أن أعرابياً وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ... " رواه أحمد: 1/ 295، وابن حبان في صحيحه: 8/ 100، ح 6349، 6350 كلاهما عن ابن عباس. وهو أيضاًً عن أبي هريرة، عند أبي داود: البيوع، باب في قبول الهدايا، 3/ 290، ح 3537، والترمذي: المناقب، باب في ثقيف وبني حنيفة، 5/ 686، ح 3945، والنسائي: العمرى، باب عطية المرأة يغير زوجها، 6/ 279، ح 3759. وانظر التلخيص: 3/ 158 ح 1365. (2) (د 1): " لا يقع ". وهو وهم من الناسخ.

مضبوط، ويظهر أيضاًً جواز أن يتسلط على الردّ، حتى يقال: لا قرار للهبة إلا بأن يتفق بذلُ الثواب. وإذا رأينا لزوم الهبة، فلو أراد أن يردّ الموهوبَ ثواباًً، فهذا فيه احتمال. والأوجه ألا يجوز؛ فإنّ هذا ليس معتاداً في الثواب، [وتحويمنا] (1) في أصل الثواب، وتفصيلة على العادة، ولا خلاف أنه إذا أراد الثواب، لم يتعين عليه جنسٌ من الأجناس. وإن فرّعنا على طلب الرضا، تخيّر الواهب والموهوب جميعاً؛ فهذه هبةٌ جرى القبض فيها، والخيار ثابتٌ في نقضها من الطرفين، وسبب ذلك تطرّق الثواب إلى الهبة وخروجُها عن حقيقة التبرع المحض. وإن رأينا الاكتفاء بأقل ما يتمول، ففي تخير الواهب احتمال ظاهر، وإذا أثاب بقدر قيمة الموهوب، فلا خيار للواهب على هذا الوجه الذي انتهينا إليه. وإن فرعنا على اتباع العادة في قدر الثواب، ولم نجزم قولَنا بلزوم قدر القيمة، فإن أثاب بقدر القيمة، فلا خيار، وإن أثاب بما ينقص عن قيمة الموهوب، ولكن يُعتاد مثلُه ثواباً، فالظاهر أنه لا خيار، وإن جرى نزاعٌ في حكم العرف، رفع الأمر إلى الحاكم، ورجع إلى أرباب العرف. فهذا منتهى ما أردناه الآن في الهبة المطلقة. 5890 - فأما القسم الثالث - وهو تقييد الهبة بالثواب، فلا يخلو الثواب إما أن يكون مقدراً، وإما أن يكون مبهماً. فإن كان مقدراً، فالأصح الصحةُ. وذكر بعضُ الأصحاب قولاً في الفساد؛ بناءً على أن الهبة المطلقة لا تقتضي الثوابَ، ومصيراً إلى أن الجمع بين الهبة وبين إلزام الثواب تناقضٌ. وهذا وإن كان متجهاً بعض الاتجاه، فهو غريب في الحكاية. وإذا صححنا وأثبتنا الثواب فقد اختلف أصحابنا في أن ذلك: هبةٌ أو بيعٌ؟ فذهب المحققون إلى أنه بيعٌ في جميع أحكامه، ولا يتوقف ثبوت الملك على الإقباض، ويتعلق به عُهَدُ البيع، واستحقاقُ الشفعة.

_ (1) في الأصل: وتحويمها.

ومن أصحابنا من قال: هو على حكم الهبة، حتى لا يلزم إلا بالإقباض، ولا تثبت الشفعة فيه. وهذا بعيدٌ جداً، ذكره بعض المصنفين، ورمز إليه صاحب التقريب وغيره. ولو صح، فلا حيلة في دفع الشفعة أوقعُ (1) منها، فإن معظم الحيل المذكورة في دفع الشفعة تتضمن خطراً على من يتمسك به، كما قررناه في آخر الشفعة. وهذا لا خطر فيه. هذا إذا كان الثواب مُقدَّراً. 5891 - فأما إذا كان الثواب مجهولاً، غير مقدر، فقد اختلف ترتيب الأئمة، فقال قائلون: إن حكمنا بأن مطلق الهبة لا يقتضي ثواباً، فذكر الثواب المجهول يُفسد الهبة، وفي ذكر الثواب المعلوم خلافٌ، كما قدمناه. وإن قلنا: يثبت الثواب في الهبة المطلقة، فإذا ذكر من غير تقدير، صحت الهبة؛ فإنّ ذكره كذلك يضاهي حكمَ الإطلاق، والتصريح بما يقتضيه مطلق العقد غيرُ ضائرٍ. [و] (2) قال العراقيون لو ذكر ثواباًً معلوماً، ففي صحة الهبة خلاف، [ولو] (3) ذكره مجهولاً، صح؛ تفريعاً على أن الهبة المطلقة تقتضي ثواباً. فجعلوا إعلام الثواب حيث انتهى الكلام إليه أولى باقتضاء الفساد، وعللوا ذلك بأن إعلامه إخراجُ الهبة عن حيّز بابها، وإلحاقٌ لها بالبيع المحض، وعقد البيع المحض بلفظ الهبة فاسدٌ. فأما الثواب المبهم، فلا يليق بالمعتاد في الهبة. وقالوا: لما كان التأبيد لائقاً بمقصود النكاح مع الجهل بمنقرض العمر، كان هذا النوع من الجهل شرطاً في صحة النكاح. هذا ترتيبٌ. وقال قائلون: إعلام الثواب أولى بالتصحيح. وإن ذكر الثواب مجهولاً، فهو أولى بالفساد؛ لأنه لو أُطلق احتُمل الجهل في التوقّع، وإذا ذكر، فقد ألحق بالأعواض، فيجب الوفاء بشرط العوض.

_ (1) يشير إلى ما جرى عليه بعض الفقهاء من تقدير صورٍ يفترضونها، تمكِّن المشتري من دفع الشفعة عما اشتراه، حتى يخلص له، ويستقر في يده. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: وفي ذكره.

وهذا له وجه. وما ذكره العراقيون أفقه. فرع: 5892 - قال العراقيون: إذا صحت هبةٌ بثواب وسلم المتّهب الثواب إلى الواهب، فوجد به عيباً. قالوا: له ردّه. فإذا ردّه، استرد الموهوب بعينه، إن كان باقياً، وإن كان تالفاً، ذكروا فيه وجهين: أحدهما - أنه لا يرد العوض، ولا حقَّ له أصلاً؛ فإن الموهوب إذا تلف، بطلت الحقوق فيه، وانقطعت العلائق. والدليل عليه أن الأب إذا وهب لولده شيئاً، وسلمه، فتلف في يده لم يملك الرجوعَ وتغريمَه القيمة. والوجه الثاني - أنه يرد الثوابَ، ويسترد قيمة الموهوب. وهذا الذي ذكروه (1) كلامٌ مختلط؛ فإنهم إن فرضوا هذا في الهبة المطلقة، أو في هبةٍ ذُكر فيها ثواب مطلق مجهول، فلا يقع الثواب معيّناً، بل يقع في ذمة المتهب، وسبيل ما وقع في الذمة إذا صادف القابض به عيباً أن يُستبدل، فأما أن يُردّ وتُسترد العين، فلا معنى له. وهذا بيّن لا خفاء به، ولا اتجاه لما ذكروه إلا في الثواب المعين. ولو فرض تعيين الثواب، خرج هذا على ما قدّمناه من أن الهبة تلتحق بالبيع المحض، فإذا التحقت به، فلا معنى لذكر الخلاف عند تلف الموهوب، بل يجب القطع بالرجوع إلى القيمة عند تلف الموهوب. وما ذكره الأصحاب في المسلك البعيد، من افتقار الهبة إلى القبض في إفادة الملك مع ذكر العوض المقدّر، أو المعيّن بعيدٌ، ثم إنما ذكر الأصحاب الخلاف في هذا الحكم؛ فإن القبض من خصائص الهبة وفي الشفعة (2)، فإنها لا تثبت إلا في المعاوضات المحضة، فإن تعدى متعدٍّ هذين الحكمين، وطرد الخلاف الذي ذكره العراقيون في تلف الموهوب، كان في نهاية البعد؛ فإن من طلب عوضاًً وقدّره، استحال أن يسقط تبعيّةً في أحكام الأعواض، هذا لا سبيل إلى احتماله، ولا مساغ له أصلاً.

_ (1) في (د 1): ذكره. (2) كذا في النسخ الثلاث: " وفي الشفعة " ولعل الأولى: " والشفعة " بدون (في).

5893 - وقد رأيت لبعض الأصحاب تردداً في أن الأب إذا وهب من ابنه بثواب قدّره، فهل يملك الرجوع في الهبة؟ هذا يخرّج على أن المعاملة بيعٌ، أو هبةٌ؟ فإن قلنا: إنها بيعٌ، فلا رجوع. وإن قلنا: فيها معنى الهبة، فالرجوع محتمل، ثم إن رجع في الموهوب، ردّ العوض. وهذا وإن كان بعيداً، فله اتجاه على حال، وأما ما ذكره العراقيون، فلا وجه له أصلاً كيفما فرضنا الهبة. فرع: 5894 - إذا وهب حلياً من ذهب أو فضة، وثبت في الهبة ثواب مطلق، على [ما تقدّم] (1)، فما دام المجلس جامعاً، فله أن يُثيبه (2) نقداً، بحيث لا يؤدي إلى الربا. فإن كان المبذول أقلَّ، أو أكثر، فهذا فيه احتمال ظاهر، خارجٌ على ما ذكرناه، من أن حقيقة الأعواض هل تثبت؟ والذي مال إليه معظم الأصحاب، وقطع به العراقيون: أنه يجب محاذرة صورة الربا؛ فإن الثواب على كل حالٍ عوضُ الموهوب، ويحتمل عندنا على بعدٍ خلافُ ذلك. والظاهر ما ذكروه. ووجه الاحتمال أن باذل الثواب في حكم واهبٍ جديد، وكأنه يقابل هبةً بهبة، ولولا ذلك، لبطلت حقيقة الهبة. 5895 - ولا خلاف أن الثواب إذا لم يجر له ذكر، أو جرى ذكره مطلقاًً مجهولاً، فالملك في الموهوب موقوف على الإقباض، وإنما التردد في الثواب المقدّر، أو المعين. وهذا يتطرق إليه خلل، من أنا لا نشترط في الثواب لفظ [الثواب] (3) وإجراءَ الإيجاب والقبول، وعن هذا لزم ظهور ما ذكر العراقيون (4)، حتى لا يُعتدَّ بغيره من المذهب.

_ (1) (د 1)، (ت 3): تقرر. (2) في النسخ الثلاث: يثبته. وهو تحريف ظاهر. وانظر فتح العزيز: 6/ 332. (3) في الأصل: الهبة. وعبارة الرافعي التي نقلها عن إمامنا: " أنا لا نشترط في الثواب لفظ العقد إيجاباً وقبولاً " (ر. فتح العزيز: 6/ 333). (4) ما ذكر العراقيون: أي آنفاً من وجوب محاذرة صورة الربا.

5896 - ومما ذكروه أنه إن فارق المجلس، فإن أثابه عَرْضاً، أو ثوباً، جاز. وإن أثابه نقداً، لم يجز؛ فإنه يكون صَرْفاً، ومن شرط الصرف تقابض العوضين في المجلس، وهذا الذي ذكروه حسنٌ، وفيه من طريق المباحثة الاحتمال البعيد. والله أعلم. فرع: 5897 - إذا وهب [شيئاً] (1) مطلقاًً، وحكمنا بأن مطلقَها يقتضي الثوابَ، ونزَّلنا الثواب على مقدار القيمة، فعلى هذا لو قبض الموهوب، فزادت في يده زيادة متصلة، أو نقصت، فالاعتبار بأية قيمة؟ ذكر صاحب التقريب تفصيل الزيادة والنقصان. فنبدأ بالزيادة، ونفرض ارتفاع القيمة بسببها، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنا نعتبر قيمة يوم القبض؛ فإن وفى به المتَّهِب، فقد خرج عما عليه. والوجه الثاني - أنا نعتبر قيمة الموهوب يوم بذل الثواب؛ فإن بذلها، خرج عن العهدة، وإلا كان الثواب قائماً، ولا خلاف أن الزيادة بعد بذل القيمة لا حكم لها. هذا حكم الزيادة. أما إذا قبض الموهوب، ونقص في يده بعيبٍ طرأ، ففي المسألة الوجهان في أن الاعتبار بقيمة يوم القبض، أو بقيمة يوم بذل الثواب؟ ولكن إن اعتبرنا قيمةَ يوم بذل الثواب، وهذا أضعف الوجهين هاهنا؛ لأن فيه بخساً، وإجحافاً بالواهب، فلا كلام. وإن اعتبرنا قيمة يوم القبض، فإن بذلها المتَّهب، فلا كلام، وإن امتنع، وَرَدَّ الموهوبَ، فقد ذكرنا في هذا المقام تردّداً في الرَّد، وجرى صاحب التقريب على الرد، فإن رد الموهوب، فهل يغرم أرش النقص؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يغرَم أرش النقص. والثاني - لا يغرم؛ فإن الهبة ليست عقد ضمان، وهذا التفريع يُنبه على حقائق الأصول.

_ (1) ساقطة من الأصل.

فصل (1) 5898 - قد ذكرنا أن للأب الرجوعَ فيما وهب لولده، ونحن نقول: لا يستحب للإنسان أن يخص بعضَ أولاده بنِحلةٍ؛ فإن ذلك قد يكون سبباً لقطيعة الرحم، وقد يحمل المحروم على خلاف البر. وإذا استحسنا التسوية فيهم، فقد ذكر شيخي وجهين في الابن والبنت: أحدهما - أنا نرعى في الاستحباب التسوية بينهما. والثاني - أنا نجعل النحلة على نسبة الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين. وقد ذكر. العراقيون هذين المذهبين عن السلف، ولم يجعلوهما وجهين للأصحاب. والجملة أن المرعيَّ في هذا طلبُ الرضا، والأمر يقرب مأخذه فيما يتعلق بالاستحباب. 5899 - ومما ذكره الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أن ابن سريج ذكر وجهاً أن الأب إنما يملك الرجوع إذا نوى بهبته استجلابَ مزيدٍ في البر، أو دفعَ عقوق، فإذا لم يحصِّل غرضَه؛ فيرجع إذ ذاك، فأما إذا أطلق الهبة، ولم يقصد هذا، فلا رجوع له. وهذا خرمٌ عظيم، وخروج عن المذهب، ولهذا لم أذكره في سياق فصول رجوع الوالد فيما وهب. فرع: 5900 - إذا ملّك الرجل رجلاً شيئاً، وأقبضه إياه، ثم اختلفا، فقال القابض: اتهبتُه، ووهبتنيه، وقال المقبض: قد بعتُه منك بكذا، وسلمته إليك مبيعاً، والثمن عليك؟ ذكر صاحب التقريب قولين: أحدهما - أن القول قول المتَّهِب؛ فإنهما اتفقا على ملكه، والمُقبض يدّعي عليه عوضاً، والأصل براءة ذمته منه، فقد

_ (1) (د 1)، (ت 3): فرع مكان (فصل).

ثبت الملك وفاقاً وآل الخلاف إلى ادعاء شغل الذمة، والأصل براءتها. والقول الثاني - أنه لا يثبت الملك مجاناً؛ فإن القول قول المالك في سبيل إزالة الملك، فيتحالفان، وينفي كل واحدٍ منهما بيمينه ما ادعاه صاحبه. ثم حكم التحالف انتفاء الهبة، وانتفاء العوض المدّعى، ونتيجة ذلك ردُّ العين إلى المقبض. وهذا يلتفت على تعذر (1) عوض العين. واليأس منه في الحال. 5901 - وما أطلقه هذا القائل من التحالف ليس على قياس التحالف المذكور في اختلاف المتبايعين في مقدار الثمن على ما تفصّل [المذهب] (2) فيه؛ فإن كل واحد من المتداعيين في هذه المسألة يحلّف صاحبه على نفي ما يدعيه عليه، فإن حلف المقبض على نفي الهبة، وحلف القابض على نفي الثمن، كان سبيل رد العين على المقبض بعد إقراره بأنه قد ملّك القابضَ العينَ، وسلّمها إليه قريباً من استرداد المبيع ممّن قبضه، تفريعاً على أن البائع مأمور بتسليم المبيع أولاً، إذا امتنع عن تأدية الثمن. وقد ذكرنا نص الشافعي، في ذلك في كتاب البيع، وتصرُّفَ الأصحاب فيه، ولعل الظاهر أنه ينفرد المسترد في مسألتنا بفسخ البيع. وإذا كان كذلك، لم يتعرض له، ولم يقل: افسخ البيع أولاً، إذا كان الفسخ مما ينفرد به، فيؤول ذلك إلى الحكم الواقع بين العبد وبين [ربه] (3). فليتأمل الناظر هذا الموضع. وهذا حُكْمُنا على الظاهر، فإن كان مدعي البيع صادقاً في علم الله تعالى، فالحكم ما ذكرناه ظاهراً وباطناًً، وإن كان مدعي الهبة صادقاً، فمدعي البيع ظالمٌ باسترداد العين، والعين مبقّاة على ملك المتَّهب القابض باطناً. وقد ذكرنا في تحالف المتبايعين قولاً: أن الحالف يجمع بين النفي والإثبات،

_ (1) ساقطة من (د 1)، (ت 3). (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا (دية).

وذكرنا تفصيلاً فيمن نبدأ به، وأوضحنا انفصال التحالف في ذلك الموضع عن غيره، وهاهنا كل واحد يحلف على النفي، والمدعي على الحقيقة ابتداء [هو الذي] (1) يدعي البيع والثمنَ، ثم صاحب اليد بعد ذلك ينتصب مدعياً. هذا منتهى القول في ذلك. ...

_ (1) في الأصل: والذي.

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة 5952 - الأصل في أحكام اللقَطة ما روي عن زيد بن [خالد] (1) الجهني: " أن رجلاً أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن اللقَطة، فقال: اعرف عِفاصها ووِكلاءها، ثم عرّفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها. فقال السائل: ما تقول في ضوالّ الغنم يا رسول الله؟ فقال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب، فقال: ما تقول في ضوالّ الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى احمرَّت وجنتاه، فقال: مالَكَ ولها، معها حذاؤها، وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ ذَرْها، حتى يلقاها ربُّها ". نقل المزني أول الحديث، ثم عطف عليه، وقال: وكذلك البغال، والحمر كالإبل، ولم يَجْر ذكر الإبل (2). 5903 - واتفق المسلمون على قاعدة الكتاب وإن اختلفوا في التفصيل، والأصلُ أن من وجد لقطة في مضيعةٍ في دار الإسلام، وأخذها- عليه أن يعرّفها سنة، فإن جاء صاحبها في سنة التعريف، فذاك، وإلا فهو بالخيار بعدها بين أن يحفظها أمانةً على مالكها، وبين أن يتملكها، على شرط العوض، تملُّك القروض. وذهب داود إلى أنه يتملكها، ويغرَم عوضها. 5904 - ثم إذا رام الملتقط التملكَ، وكان التقاطُه على هذا القصد ابتداءً، فقد اختلف أصحابنا فيما يقع به ملك الملتقط في اللقطة: فذهب بعضهم إلى أن الملك يحصل بنفس مضي السنة. وهذا غريبٌ ضعيف.

_ (1) في نسخة الأصل وغيرها: "زيد بن أسلم" وهو وهمٌ توارد عليه النساخ، وسيذكره الإمام على الصواب بعد ذلك. والحديث متفق عليه. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 433، ح 1123). (2) ولم يجر ذكر الإبل أي في الجزء الذي ذكره المزني من الحديث.

وقال بعضهم: يحصل الملك بانقضاء سنة التعريف، وقصد التملك. وقال بعضهم: لا بد من التلفظ بالتملك. وقال بعضهم: لا بد من مضي السنة، ولفظِ التملك، والتصرفِ الذي يزيل الملك. وهذا يقرب من الخلاف المذكور في أن المستقرض هل يملك القرض بنفس الإقراض والقبض، أم يتوقف حصول ملكه على تصرفٍ منه مزيل للملك، (1 ثم يَبين أن الملك انتقل إليه قبيل التصرف؟ فيه اختلافُ قولٍ، قدّمنا ذكره في أحكام القروض 1). ونحن نوجه هذه الوجوه، ثم نذكر حقائقها، وما ينشأ منها: أما من صار إلى أن مضي السنة يُثبت الملك، فإنه يستدل بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض الروايات: " فإن جاء صاحبها، وإلا فهي لك ". ومن قال: إن الملك يحصل بالقصد، تعلّق بالرواية المشهورة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها " وهذا ظاهر في التخيير بين التملك وتركِه. ومن اعتبر اللفظ، بناه على استبعاد التملك بمجرد النية. ومن اعتبر التصرف، خرّجه على قاعدة القرض؛ فإن اللقطة تملّك ملك القروض. هذا بيان الأوجه، وذِكرُ ما يستند إليه كل وجهٍ. 5905 - ونحن نقول بعد ذلك: من زعم أن الملك يحصل بمضيّ سنة التعريف إنما يقول ذلك إذا لم يقصد الملتقط حفظَ اللقطة على مالكها، فإن التقط على هذا القصد وعرَّف لهذا، فلا شك أن مضيَّ السنة لا يثبت له الملك. وكذلك لو قصد بالالتقاط التملك، ثم تغير قصدُه في آخر السنة، فانقضت وهو على أن يحفظها لمالكها، فالملك لا يحصل بانقضاء السنة.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (د 1)، (ت 3).

ولو التقط ولم يخطر له قصد التملك، ولا قصد الحفظ على حكم الأمانة، وعرّف سنة، فالظاهر عندي أن الملك لا يحصل بانقضاء السنة على هذا الوجه الذي نفرع عليه، وكأن حقيقة هذا الوجه تؤول إلى أن قصد التملك في الابتداء هل يفيد الملك عند انقضاء [سنة] (1) التعريف، وللاحتمال مجال فيه، إذا التقط مطلقاً، ولم يضمر الأمانة، ولا التملك. ويمكن تخريج هذا على أن الغالب على اللقطة الكسبُ، أو الأمانة؟ حتى إن غلَّبنا الكسبَ، حصَّلنا الملك بمضي السنة على هذا الوجه، إذا لم يقصد الأمانة، ويكفي قصد الالتقاط على الإطلاق، على هذا القول. هذا بيان وجهٍ واحدٍ. 5956 - فأما من شرط قصد التملك، واكتفى بالقصد؛ فإنه لا يجعل للقصد المقترن بالالتقاط أثراً في الملك؛ فإن الملتقِط وإن قصد التملك بعد السنة، فاللقطة أمانة في يده إذا لم يتعدَّ، ولو ثبت حكم القصد، لكانت اللقطة مضمونة ضمان [الغصب، والمأخوذ] 2) على سبيل السوم. والذي يحقق ذلك أن القصد هو الذي يتعلق بالمقصود في حاله، وما يرتبط بمنتظرِ عزمٍ، وإذا عزم، فعليه الوفاء به إن أراد تحقيق المعزوم عليه. ومن الوفاء به أن يجزم قصد التملك في وقت إمكانه. 5907 - ومن اعتبر اللفظ فسببه أن تملك ملك الغير من غير لفظ إذا لم يكن استيفاءً [لحقٍّ] (3)، لم ينفرد باللفظ من غير تمليكٍ من مالك اللقطة؛ إذ على هذا ينبني (4) الكتاب، ومصلحة الباب، فإذا شرطنا اللفظ بالتملك، فباع اللقطة، فهل يكفي البيع؟ وهل ينزل منزلة لفظ التملك؟ فيه وجهان مبنيان على الوجهين في أن من يثبت له حق الرجوع في الهبة لو باع الموهوبَ، أو أعتقه، فهل ينزل ذلك منزلة التصريح بالرجوع، وفيه خلافٌ قدمناه.

_ (1) في الأصل: زمن. (2) عبارة الأصل: ضمان العين المأخوذة على سبيل السوم. (3) في الأصل: (بحق) و (د 1)، (ت 3): الحق. والمثبت اختيار منا. (4) (د 1)، (ت 3): مبنى.

وإن كنا نكتفي بقصد التملك، فباع، فإن خطر له قصد التملك، فهو المراد، وإن باع، ولم يخطر له قصد التملك، وقد ينبني الأمر على بيعه مال غيره متعدياً، فهذا أيضاً يخرّج على الوجهين المذكورين الآن، إذا اشترطنا التلفظ بالتملك. 5908 - فأما اشتراط التصرف تخريجاً على أحد القولين في القرض، فإنه يدور على الأوجه الثلاثة التي قدمناها، فكأنا في وجه نقول: مضي السنة كالاستقراض، وفي وجهٍ نقول: قصد التمليك كالاستقراض، وفي الثالث نقول: التلفظ بالتملّك بعد السنة كالاستقراض، ثم في القرض إذا حصل فيه ما يشترط في تحقيق القرض قولان في أن الملك هل يفتقر إلى التصرف أم لا؟ هذا بيان الأوجه التي قدمناها، توجيهاً، وتحقيقاً، وتفريعاً. فصل في أحكام الملتقِط عند اختلاف قصوده، وفي حقيقة التعريف ومدته 5909 - فنقول للملتقط قصودٌ: أحدها - أن يقصد بالالتقاط التعريفَ والتملكَ. على مقتضى الشرع. والثاني - أن يقصد حفظَ اللقطة على ربِّها إلى أن يصادفه. والثالث - أن يقصد تغييبَ اللقطة، واختزالَها (1)، وتَرْكَ تعريفها، وتعجيلَ التبسط فيها. 5910 - فأما إذا قصد تعريفها ليتملكها بعد مدة التعريف، فاللقطة في سنة التعريف أمانة في يده، إذا تلفت، لم يضمنها، ما لم ينتسب إلى عدوان، وهل عليه الابتدار إلى التعريف كما (2) تمكن من التعريف؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - أن الابتدار واجبٌ، والتأخير مع التمكن عدوانٌ، وذلك لأن العثور على

_ (1) اختزالها: خيانتها، أي أخذها خيانة، يقال: اختزل الوديعة: أي خانها (المصباح). (2) "كما": بمعنى عندما.

المالك يغلب على قربِ العهد بالضلال والالتقاط، والتأخير سببٌ في التَّعْمية، والتغييبُ، وكَتْمُ اللقطة عدوان. والوجه الثاني - أن التأخير لا يكون عدواناً إذا لم يقصر في الحفظ، ولم يتعدَّ باستعمال اللقطة، والشرط ألا يطمع في التملك إلا بعد تعريف اللقطة سنةً كاملة، وسنعقد على أثر هذا فصلاً في كيفية التعريف، إن شاء الله عز وجل. 5911 - فأما إذا قصد الملتقط حفظَ اللقطة على مالكها، أمانة حتى يلقاها ربُّها، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يجب أصل التعريف على الملتقط؟ أحد الوجهين - أنه لا يجب؛ فإن التعريف شرطٌ يتقدم على تملك اللقطة، فإذا كان لا يبغي الملتقط التملكَ، فلا معنى لإلزامه التعريفَ. والوجه الثاني - أنه يجب التعريف؛ إذ في تركه كتمانُ اللقطة وسترُها، وهذا تسبب إلى تَغْييبها، للحيلولة بينها وبين مالكها. وهذا الذي ذكره هو الخلاف الذي قدمناه الآن في أن الابتدار إلى التعريف هل يجب؟ فإنا إذا لم نوجب الابتدارَ إليه، لم يكن (1) لذلك منتهىً وموقفاً، ويؤول حاصل الكلام إلى أنه إنما يعرّف ليتملك، فإذا كان الذي يقصد الأمانةَ لا يطلب التملك، فلا تعريف عليه. 5912 - فأما إذا قصد بالالتقاط الاختزالَ، والخيانةَ، وتعجيلَ التبسط، فلا شك أن اللقطة مضمونةٌ عليه؛ فإن الالتقاط أَخْذُ مال الغير من غير إذنٍ، ولا ولاية، فصرفه الشرعُ؛ نظراً لحفظ الضوالّ- إلى جهة الأمانة بالقصد الصحيح، فإذا فسد القصد، رجع أخد مال الغير إلى قاعدة الظلم، فلو خطر له أن يعرّفها سنة، فوفى بما وقع له، وأراد التملك بعد السنة، فالذي قطع به شيخي أنه لا يتملك؛ لأن أخذه الأول لم يكن على موجَب الشرع، وإنما كان غصباً، والغاصب لا يتوصّل إلى ملك المغصوب منفرداً بنفسه.

_ (1) (د 1)، (ت 3): يذكر.

وذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يتملك إذا عرّف، ووفى بشرط التعريف: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه يتملك [لأن] (1) الالتقاط منه على صورة الالتقاط، ممن لا يقصد الخيانة، وقد وفى بالتعريف، فالذي صدر منه مما يقتضي التملك على الجملة، وهو من أهل التملك، فيجب أن يسوغ له التملك. 5913 - ومما يتصل بذلك أنه إذا لم يقصد الاختزالَ عند ابتداء الالتقاط، ويُثبت يدَه على اللقطة على حكم الأمانة أولاً، ثم إنه أضمر بعد حصول اللقطة في يده- الخيانةَ، فقد اختلف أئمتنا في أنه بنفس إضمار الخيانة هل يصير ضامناًً؟ فمنهم من قال: إنه يصير ضامناً، كما لو نوى الخيانة مع الالتقاط، ومنهم من قال: لا يصير ضامناً، كما لو نوى المودَع أن يخون ويعتدي، فإنه لا يصير بمجرد النية ضامناً، وإن أضمر الخيانة. ولو سلم المالكُ الوديعةَ إلى المودَع وائتمنه، فنوى المودَع مع أخد الوديعة الخيانة، ففي وجوب الضمان عليه وجهان، سيأتي ذكرهما، في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل، فالترتيب في المؤتمن عن جهة المالك يجري على الضِّد مما ذكرناه في الملتقط؛ فإنه لو اقترن قصدُ الخيانة بأخذ الملتقط ابتداء، لصار ضامناً وجهاً واحداً، وإذا لم يفسد قصده ابتداء، وخبثت نيته على دوام الإمساك، ففي المسألة وجهان، والقصد الفاسد إذا طرأ على دوام يد المودَع، لم يوجب الضمان، وإذا اقترن بابتداء أخْذه، فوجهان. والفرق استبدادُ (2) الملتقط، وصدورُ يد المودَع عن إذن المالك. 5914 - فإن قلنا: لا يصير الملتقط بالقصد الطارىء ضامناً، فلا كلام. وإن جعلناه ضامناً، فلو استتم التعريف في مدته، فهل يثبت له حق التملك؟ فعلى

_ (1) في الأصل: بأن. (2) (د 1)، (ت 3): استقلال.

وجهين ذكرهما الأمام (1) وغيره، وإن قطع بأن الملك لا يحصل إذا اقترن القصد الفاسد بالأخد الأول. فأمّا الشيخ أبو علي، فإنه طرد -على وجه الضمان- الخلافَ الذي ذكره في الابتداء، وفصل شيخي بين الابتداء والطريان، وكان يستشهد بنص الشافعي في أحكام الرخصة، فإنه قال: " لو اقترن بابتداء السفر قصدُ المعصية به، فلا ترخّص، ولو جرى السفر ابتداء على قصدٍ صحيح لا معصية فيه، ثم طرأ قصدُ المعصية، فالحكم للقصد الأول ". وهذا الذي ذكره من مشكلات المذهب في موضعه، ولأجله اتجه تخريج ابن سريج في التسوية بين المعصية المقارنة، والطارئة. ثم ما ذكره إنما يحسن في الفرق بين الابتداء وبين الطريان في تثبيت الضمان ونفيه، كما ذكرناه. 5915 - ومما يتم به الغرض أنا إذا قلنا: لا تزول الأمانة بالقصد الطارىء، فلو أحدث عدواناً فعلاً، فلا شك أنه يصير ضامناًً، فلو وفى -مع ثبوت الضمان وفاقاً- بحق التعريف، ففي التملك الوجهان، اللذان ذكرناهما. فهذا غاية ما أردناه في ذكر تفاصيل القصود. 5916 - ولو التقط مطلقاً ولم يُضمر خيانة، ولا أمانة، أو أضمر أحدهما، ثم نسي ما أضمره، فلا يثبت الضمان، وإذا عرّف على الشرط، ثبت له حق التملك. وهذا متفق عليه. فصل معقود في معنى التعريف وكيفيته، والقول في ذلك ببيان زمان التعريف ومكانه وكيفيته 5917 - فأما القول في الزمان، فينبغي أن يحصل التعريف على تدانٍ من الأزمنة في ابتداء الأمر، لما أشرنا إليه فيما سبق، من أن طلب من أضل شيئاً يظهر ويكثر، على

_ (1) الإمام: يعني به والده. وقد صرّح بذلك في زكاة الفطر. وهو يعبر عنه غالباً: بـ (شيخي)، كما هو واضح على طول الكتاب.

قرب الزمان، فيجب أن يكون الاعتناء بالتعريف في الزمان القريب أكثرَ، لذلك؛ فإن الغرض من التعريف التسبب إلى إظهار مالك اللقطة. وإذا تمادى الزمان، لم يضر أن يتقاصر قدرُ التعريف، ويتخلل بين النُّوب فيه من الزمان ما يزيد على الابتداء، ثم كذلك على هذا التدريج إلى انقضاء السنة، حتى لو كان يعرّف في الابتداء في كل يومٍ فإذا انقضت أيامٌ، فيعرّف في كل أسبوع، ثم يعرف في كل شهر المرةَ والمرتين. والرجوع في ذلك إلى العادة، والمطلوب منه ألا يتخلل بين [نوب] (1) التعريف ما يُلحق سائرَ النوب فيه بالمنسي (2)، حتى يصير التعريف في كل نَوْبة كالمبتدأ، فإذا غلب على الظن اتصالُ الذِّكر في نُوب التعريف، فهو الغرض، وذلك يختلف بالزمان الأول وما بعده، إلى الانقضاء، فلا بد من تأكيد التعريف بالتكرير على التقارب أولاً، فإذا تأكد ذلك، وشاع، لم يتبين بالتطاول في المدد [المتخلّلة] (3) وهكذا إلى الانتهاء. وإذا لم يكن معنا ضبط شرعي نقف عنده، فهذا أقصى الإمكان في التقريب. وهو القول في الزمان. 5918 - فأما المكان فإن وجد اللقطةَ في مكان عامرٍ، كالبلدة، والقرية، وكان لا يمتنع شهود مالك اللقطة في المكان أو عَوْدُه إليه بعد مفارقته إياه، فينبغي أن يرتاد التعريف في مكان الوجدان، إذا كان مطروقاً. وحسنٌ أن يرتاد التعريفَ على باب الجامع، يومَ الجمعة، فإن ذلك المجمع جامعُ الجماعات، وإذا ظهر الغرض في مثل هذا أغنى عن التطويل. 5919 - ولو وجد اللقطة في برّيّةٍ وهو مارٌّ، في سفره إلى صوب بيته، ولم يكن معه من يقدِّره مالكَ اللقطة، فلو أخد يعرّف في الصحارى والمواضع الخالية، فلا معنى لهذا التعريف، وهو غير معتدٍّ به؛ فإنه لا يفيد الغرضَ المقصودَ من التعريف؛ فإن المقصود منه إظهار المالك، وهذا بعيد توقُّعه مع هذا التعريف.

_ (1) في الأصل: " ثوب " وهكذا في كل موضع وردت فيه. والمثبت من (د 1)، (ت 3). (2) (د 1)، (ت 3): بالمنشىء. (3) في الأصل المنحلة. وهو تحريف ظاهر.

5920 - ثم من وجد لقطةً في طريقه، وهو مسافر، لم نكلفه أن يرجع عن صوب سفره حتى يعرّف اللقطة في مكانه الذي أنشأ السفر [منه] (1)، بل يستتم سفره، طال أم قصر. فإذا انتهى إلى مقصوده، ابتدأ التعريفَ فيه، على ما ذكرناه؛ فإنه لا يبعد مسير صاحب اللقطة إلى تلك البلدة. وإن كان هذا التعريف يبعد بعض البعد في إظهار المالك. فإذا كنا لا نجد طريقاً غيره، اكتفينا به. ولو بدا للمسافر أن يرجع، ويقطع نيّته في منتهى سفره، فليعرّف في المكان الذي ينتهي إليه، وإن بدا له أن يأخد صوباً آخر، فليعرّف حيث ينتهي إليه؛ فإن البقاعَ متساويةٌ في توقّع الظهور على مالك اللقطة. ولو وجد اللقطة في بلدة، ففارقها مسافراً وأخد يعرّف في القرى، والبلاد التي ينتهي إليها، فلا يكون ذلك تعريفاً منه، وحق التعريف في مثل هذه الصورة أن يتخصص بمكان الوجدان. فلو أراد سفراً، لم يسافر باللقطة، واستناب في التعريف في مكان الوجدان نائباً والذي ذكرناه من استواء الأمكنة والبقاع في تعريفه فيه إذا وجد اللقطة في مكانٍ لا يفيد التعريف فيه. 5921 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الموالاة على الحدّ اللائق بمقصود التعريف- مشروطةٌ، حتى لو تقطعت، وغلب على الظن أن النوبة السابقة قد نُسيت، فلا يقع الاعتداد بما تقدم أصلاً. 5922 - ولو أخر التعريف، فقد ذكرنا في أنه هل يكون بتأخيره ضامناًً؟ فعلى وجهين. فلو تمادى التأخير، وأمكن أن يقال: نُسيت اللقطة في طول هذا الزمان، فهل يقع التعريف بعد ذلك- والحالة كما وصفناها؟ فعلى وجهين. والاحتمال فيهما ظاهر، وتوجيههما بيّن. ْومن يصير إلى التعريف يقول: حق المعرّف أن يؤرخ وجدان اللقطة في تعريفه،

_ (1) ساقطة من الأصل.

ويسنده إلى الوقت الذي اتفق فيه، حتى يكون ذلك في معارضة ما جرى من التأخير المُنسي. وقد تساهل بعضُ الأصحاب في اشتراط ذلك، ورآه من باب الأوْلى، وجوّز الاقتصار على التعريف المطلق. هذا بيان ما يتعلق بالمكان والزمان. 5923 - ولا يخفى أن ابتداء مدة التعريف من وقت [إنشائه، لا من وقت] (1) وجدان اللقطة. وما أجريناه في أثناء الكلام من تأخير التعريف، والأمر بالبدار إليه يصرح بهذا. 5924 - وقد بقي علينا الكلام في كيفية التعريف، فحقّ المعرِّف أن يصف اللقطةَ بعضَ الوصف؛ فإن الضوالّ قد تكثر، والغرض القربُ من إظهار المالك، وتنبيهه، وإذا لم يذكر المعرف بعضَ أوصاف اللقطة بعُد التعريف عن فائدته، سيّما إذا كثر المنشدون (2)، وازدحم المعرّفون في الضوالّ، ولا ينبغي أن يتناهى في وصف الضالة؛ فيتخذه الكاذب عمدته، ويصف اللقطة به. واختلف أصحابنا في أنا هل نشترط التعرّض لبعض البيان أم يكفي الإنشاد المطلَق في الضالة؟ فمنهم من جعل بعض البيان مأموراً به ندباً، ولم يشترطوه. ومنهم من شرطه. وتوجيه الخلاف يقرب من مقصود التعريف نفياً وإثباتاً، فالشارط يدّعي سقوط فائدة التعريف، ومن لا يشترط يقول: صاحب اللقطة يحرص على طلبها، فيكفيه الإنشاد المطلق. ومن قال بالوجه الأول يقول: ربَّ شخصِ يضل شيئاً، ولا يدري أنه أضلّه، فإذا ذكر في الإنشاد جنسه أفهمه ذلك الإضلالَ، فيطلب بعد ذلك، ويبحث. ومن شرط من الأصحاب التعرض لبعض البيان أجرى ذكر الجنس.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) المنشدون: جمع منشد، من أنشد الضالة، إذا عرّفها، ودلّ عليها. (المعجم). فالعطف هنا عطف بيان.

وما عندي أن هذا المقدار [من البيان] (1) يختص بذكر الجنس، بل لو وصف العِفاص والوكاء، والظرف، كفى، والحديث دالٌّ عليه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " اعرف عفاصَها ووكاءها، وعرَّفها سنة " وهذا منه صلى الله عليه وسلم إيماءٌ إلى ذكر العِفاص، والوكاء في التعريف. 5925 - فإذا نجز ما يتعلق بالتعريف، فإنا نقول بعده: ليس على الواجد أن يتولى التعريف بنفسه، وله أن يستنيب فيه متبرِّعاً أو مستأجَراً، وإذا مست الحاجة إلى مؤونة في التعريف، فقد أطلق العراقيون أن مؤونة التعريف على الملتقط، واعتلّوا بأن التعريف ذريعةٌ إلى التملك، والسبب الذي به يحصل الملك في اللقطة، فكأنه يسعى لنفسه. وهذا الذي ذكروه ليس على ما أطلقوه، فإن كان الالتقاط على قصد الحفظ للمالك، فهذا يتفرع على ما قدمناه من الوجهين في أن التعريف هل يجب على مثل هذا الملتقط؟ فإن أوجبناه، وقصدُه الأمانة، فيبعد أن نُلزمه مؤونةَ التعريف، والحالة هذه، والوجه أن نطلق له رفع الأمر إلى الحاكم، حتى يقترض على صاحب اللقطة، أو [يأذن للملتقط على تفاصيلَ] (2) قدمناها في هرب الجمال. ثم تكون المؤونة في التعريف محسوبة على رب اللقطة؛ فإن هذا تسبّبٌ إلى إيصالها إليه. وإن لم نوجب على من لا يبغي التملك التعريفَ، فلا تُحسب المؤونة على صاحب اللقطة، ويقدر التعريف تبرعاً منه. وما يتبرعّ به الأمين لا يرجع به. هذا إذا قصد الأمانة. 5926 - فأما إذا قصد التملك بعد التعريف على النظام الشرعي، فما قطع به العراقيون من إيجاب المؤونة على الملتقط فيه متسع لمجال (3) النظر؛ فإن التعريف في حاله تشوفٌ إلى إظهار المالك ليردّ اللقطة عليه، والتملك يقع بعد اليأس المظنون من العثور على مالك اللقطة، فالقول في المؤنة محتملٌ على قياسنا، حيث يبغي التملك.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) عبارة الأصل حرفت هكذا: أو بإذن الملتقط، على تفصيل. (3) (د 1)، (ت 3): في مجال النظر.

ثم إذا تعيّن الفصل بين أن يقصد الأمانةَ والحفظَ على المالك، وبين أن يقصد التملك، فلو قصد الأمانة أولاً، ثم بدا له أن يتملك، فيجب أن يكون النظر إلى العاقبة، وإلى ما يستقر عليه منتهى الأمر. فإن اطردت الأمانةُ والقصدُ إليها، فلا مؤونة على المعرِّف، وإن تملك خرّج في المؤنة مما ذكره العراقيون، مع احتمالٍ ظاهرٍ فيه، كما نبهنا عليه. 5927 - ثم إذا جاء من يدّعي اللقطة ووصفها، وأغرق في الوصف، ولم يغادر مما يُطلب في مقصود الباب شيئاً، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب، وإليه ميل النص أنه لا يجب على الملتقط تسليمُ اللقطة إلى واصفها، فإنه لا يبعد أن يكون مودَعاً فيها، أو مطلعاً عليها، محيطاً بأوصافها من غير أن يكون مالكها، فإذا أمكن ذلك، فلا وجه لإيجاب الرد بناء على مجرد الوصف. 5928 - وذهب طوائف من أئمتنا إلى أنه يجب الرد بالوصف، وهو اختيار الشيخ أبي حامد فيما أظن. والسْاهد لذلك أن الرد جائز تعويلاً على الوصف، وما يجوّز الرد يوجبه؛ إذ (1) لو لم يكن الوصف معتمداً، لبطل التعويل عليه في جواز الرد، وأيضاً فإنّ طلب الشهادة على الضوالّ والأموال الخفية عسر في النهاية، والمطالبةُ بها قطعٌ لحق ملاّك الضوال، فاللائق بمصلحة الباب وجوبُ الرد اعتماداً على الوصف. وفي كل باب مسلك يليق به لا يسوغ قياسه على غيره، وتوصل الملتقط إلى التملك من هذا القبيل؛ فإنه تملكٌ من غير تمليكٍ من جهة المالك، وقيامٌ بالتصرف في الملك من غير إقامة واستنابة من المالك، ولكن اللائق بمصلحة الباب هذا؛ فإنا لو توقفنا على تقدير إنابةٍ، لكان ذلك تعطيلاً لمقصود اللقطة، ولو لم يتسلط الملتقط على التملك مع الضلال، واستبهام الحال، لما رغب في الالتقاط، فلْيَجْرِ الوصف، والاقتصار عليه على حسب مجاري العرف.

_ (1) (د 1)، (ت 3): إذا لم يكن الوصف معتمداً لبطل.

5929 - ثم من اكتفى بالوصف، فلا شك أنه يرعى فيه وصفاً يغلّب على الظن صدقَ الواصف، ولا يكتفي بما يمكن حمله على اتفاق الإطلاق، وندور موافقة الصواب. 5930 - ومن يكلف الواصفَ الشهادة، فالذي أراه لصاحب هذا الوجه ألا يسلم جوازَ الرد؛ فإنه إن سلمه، لم يبق له متعلَّق. وسماعي من شيخي في دروسه جوازُ الرد، وهو ظاهرُ كلام الأصحاب. 5931 - ثم إذا شرط هذا القائل الشهادةَ، فإنه يشترط (1) -لا محالة- الدعوى والارتفاعَ إلى مجلس القاضي وتعيين الشهود، ويجوز أن يقال: يكفي في وجوب الرد إخبار الشاهدين من غير ارتفاعٍ إلى مجلس الحكم، ثم يجوز أن يكتفى بالواحد العدل. والذي أطلقه الأصحاب ما قدمته. والعلم عند الله تعالى. فصل 5932 - اختلف نص الشافعي في وجوب الالتقاط، فالذي دل عليه بعض نصوصه أنه يجب الالتقاط على الأمين الموثوق به، ونص في بعض المواضع على أنه لا يجب، فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من أطلق القولين في وجوب الالتقاط: أحدهما - لا يجب، وهو القياس؛ فإن الالتقاط قبولُ أمانة، أو هو من أبواب الكسب، أو هو متردد بينهما، وعلى أي وجهٍ فُرض، لم يتجه إيجابه. ومن أوجب الالتقاطَ، احتج بأن ذلك من التعاون الذي تمَس الهحاجة إليه، والذي تقتضي المصلحةُ الحملَ عليه. ومن أصحابنا من قطع بنفي الوجوب، [وهو الوجه] (2)، وحمل نصَّ الشافعي على

_ (1) (د 1): لا يشترط. (2) ساقط من الأصل.

التأكّد في الندب والاستحباب، وذلك سائغ في الكلام. ومن أصحابنا من فصّل، وقال: إن كان يغلب ضياع اللقطة لكونها على مطرق الناس والغالب عليهم الاستزلال، والاختزال، فهذا محل الوجوب، أو محل القولين. وإن لم يظهر ذلك، تعيّن القطع بنفي الوجوب. ومن أصحابنا من قال: إن كان لا يأمن الملتقط نفسَه، ولا يثق بها، فلا يجب عليه الالتقاط، قولاً واحداً، والقولان فيمن يغلب على ظنه أنه لا يخون. ومنهم من سوى، ولم يفرق إذا كان الشخص من أهل الالتقاط وأوجب على من يحاذر داعية السوء أن يتقي الله تعالى. 5933 - وكل ذلك خبط، لا معنى للإطناب فيه. والوجه القطع بأنه لا يجب الالتقاط. ثم قال الأصحاب: إذا نفينا الوجوب، وكان الرجل في ظاهر الظن واثقاً بنفسه، فهل يستحب له أن يلتقط؟ فعلى وجهين. وإن كان لا يثق بنفسه، ولكن لم يلتحق بالفسقة حتى يتردد في أنه هل يكون من أهل الالتقاط أم لا؟ فلا نستحبُّ له إذا نفينا الوجوبَ أن يلتقط. وذكر شيخي وجهين حيث انتهى الكلام إليه في أنه هل يجوز له أن يلتقط إذا كان لا يثق بنفسه؟ وهذا يقرب من خلافٍ سنذكره في أن المجتهد الصالح للقضاء إذا كان لا يثق بنفسه، ولا يأمن أن يخون ويرتشي، ويغير الأحكام عن مناصبها، فهل يحل له تقلّد القضاء؟ وفيه خلافٌ، وترتيب سيأتي الذكر عليه في أول أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل. 5934 - والوجه عندنا هاهنا القطع بجواز الالتقاط؛ فإنه لو حرم الالتقاط، لما تعلق به جواز التعريف والتملك، وإذا كان كل ذلك ثابتاً، والملتقط ليس ممن يُحكم بفسقه، وسقوط رشده، فلا وجه لتحريم الالتقاط عليه. هذا منتهى الكلام.

فصل معقودٌ فيمن يكون من أهل الالتقاط ومَن لا يكون من أهله، وهو غمرة الكتاب، وعلى الناظر مزيدُ اعتناءٍ به 5935 - وهذا الفصل يستدعي تقديم أصلٍ في حقيقة اللقطة: وهو أن اللقطة فيها معنى الكسب؛ من جهة أن الملتقط يتملكها إن أراد، وفيها معنى الأمانة؛ من جهة أنها لو تلفت في يد الملتقط في مدة التعريف أو قبل الاشتغال بها، فإنها لا تكون مضمونة على الملتقط، فقد اجتمع فيها معنى الكسب والأمانة، ولا وجه لإنكار اجتماعهما. وذكر الأئمة قولين مأخوذين من معاني كلام الشافعي في أن الغالب على اللقطة حكمُ الأمانة، أو حكمُ الكسب، ففي ذلك قولان إذاً، وعليهما خروج المسائل: أحد القولين - أن الأمانة هي الغالبة؛ لأن الالتقاط يقترن به معنى الأمانة وحكمُها، ثم يتمادى إلى انقضاء التعريف، فهذا ناجز متحقَّق، والتملك منتظَر، قد يكون، وقد لا يكون، فليقع التغليب للحكم الحاضر. والقول الثاني - إن الاكتساب أغلب؛ فإنه مآل الأمر، وعاقبتُه في الغالب، والنظرُ إلى عواقب الأشياء، لا إلى مباديها. وأيضاً، فإن الملتقط ينفرد بالالتقاط. وهذا بعيد -في حق من لا يلي- على قياس الأمانات، فإن الأمين من آحاد الناس من يأتمنه المالك، وهذا هو الأصل، فإذا جاز الانفراد بالالتقاط، كان ذلك حملاً على الانفراد بالاكتساب، ثم حكم الأمانة يثبت ثبوتاً غيرَ غالب. هذا بيان القولين، وظهورهما بتفريع المسائل عليهما. 5936 - ثم فرّع الأصحاب على القولين مسائلَ: منها التقاط الصبي، ومنها التقاط العبد، والمكاتب، والفاسق، والمبذّر، وقد يجري التقاط الذمّي في آخر الفصل. فأما الصبيّ المميز إذا التقط، فهو مخرّجٌ على القولين. فإن قلنا: الغالب على اللقطة معنى الأمانة، فليس الصبي من أهلها؛ فإنه ليس ممن يؤتمن، وكيف يؤتمن

من يتردد بين غباوة يمتنع معها الاستقلالُ بالأمر، وبين فطنةٍ تُطلعه على أنه غير معاقب [أو مُتَّبَع] (1). وإن قلنا: الغالب على الالتقاط معنى الاكتساب، فهو من أهله؛ إذ يتصور منه الاكتساب الذي يتعلق بالأفعال كالاحتشاش والاحتطاب، وما في معناهما. 5937 - فإذا ثبت القولان، فالتفريع عليهما أنا إن قلنا: ليس الصبي من أهل الالتقاط، فلو التقط فيده يدُ ضمانٍ، حتى لو تلفت اللقطة في يده أو أتلفها، وجب الضمان في ماله، ولو علم الولي حصولَ اللقطة في يده، لم يجز له تقريرها تحت يده، بل عليه أن يسعى في انتزاعها من يده. 5938 - ثم ذكر العراقيون وجهين في أن [الولي] (2) لو أراد أخد اللقطة من يد الصبي، والتفريع على أنه ليس من أهل الالتقاط، على نية ابتداء الالتقاط: أحد الوجهين- أن ذلك سائغ؛ فإن اللقطة في يد الطفل ضائعة، وهي بمثابة ما لو صادفها في مضيعة، فله الأخذُ من يده، كما له الالتقاط من قارعة الطريق. والوجه الثاني -وهو قياسنا- أنه لا يصح الالتقاط من يده؛ فإن الالتقاط له صورة في العرف، وعليها يدلّ الشرعُ. والقياس لا جريان له في مفتتح الأمر. والذي يحقق ذلك، أن الصبي يعرض للضمان إذا ثبتت يده على اللقطة، فلو جعلنا الوليَّ ملتقطاً، لتضمَّن إسقاطَ الضمان عن الصبي، وهو في التحقيق إسقاطُ [حق تملّك] (3) اللقطة بعد ثبوته. فإن حكمنا بأن الولي يلتقط من يد الطفل، لم يختص هذا به، فلو صادفه أجنبي من أهل الالتقاط، كان له الأخد من يده، على حكم الالتقاط. وإنما يختص بالولي ما يختص

_ (1) في الأصل: " أو يتبع " هكذا قرأتها بكثيرٍ من التوسّم. وفي (د 1)، (ت 3): " لو توسع " والمثبت اختيار منا على ضوء السياق. والمعنى أنه غير معاقب في الآخرة، وغير مؤاخذٍ في الدنيا، فلا يتبع بالطلب والمؤاخذة. (2) في الأصل: الوالي. (3) في الأصل، (ت 3): حق لمالك اللقطة، وفي (د 1): لحق المالك اللقطة. والمثبت تقدير منا، نرجو صوابه.

بالطفل من مصالحه، ولا نظر إلى سقوط الضمان عن الطفل عند التقاط الأجنبي من يده. ثم يتفرع على ذلك أنا إذا جعلنا الولي ملتقطاً، فيزول الضمان عن الصبي بالكلية، ولا يبقى في ماله تبعة؛ إذ قد التقط اللقطة من هو من أهل التقاطها، وانقلب الصبي عند التقاطه مشبَّهاً بمضيعةٍ بقارعة طريق. هذا ما ذكره الأصحاب. 5939 - وللاحتمال إليه تطرّقٌ من قِبل أن من غصب عيناً، وأضلّها، فالتقطها ملتقط، فقد ثبت حكم اللقطة فيها، ويبعد في هذه الصورة إبراء (1) الغاصب، وإن اتصلت العين بيد ملتقطٍ هو من أهل الالتقاط. وستكون لنا إلى مسألة الغاصب عودة في آخر الفصل، إن شاء الله عز وجل. 5940 - وإن لم نجعل [للولي] (2) مرتبةَ الالتقاط بعد ثبوت يد الطفل، فالكلام وراء ذلك في فصلين: أحدهما - أن العين لو تلفت في يد الصبي، فلا شك في وجوب ضمانها، كما لو غصب عيناً، وكذلك لو أتلفها، فالتلف والإتلاف يضمِّنانه القيمة. وأما (3) الولي، فينبغي أن لا يترك نظرَه للطفل، فإن استمكن من رفع الأمر إلى مجلس القاضي، فعل، وفيه تفصيل ساذكره في فصل العبد، وأرمز إذْ ذاك إلى حظ الصبي منه، إن شاء الله عز وجل. وإن لم يتمكن من رفع الأمر إلى الحاكم، حَفِظ اللقطةَ جهدَه، وأخذها من يد الطفل، ثم لو تلفت، فالضمان ثابت على الطفل، وفائدة الاحتياط صون العين عن التلف، والتضييع. وهذا أيضاًً [ممّا] (4) لا يمكن تقريره إلا بعد تمهيد أصلٍ، نذكره في فصل العبد على أثر ذلك، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) (د 1)، (ت 3): أثر. (2) ساقطة من الأصل. (3) هذا هو الفصل الثاني قسيم (أحدهما) الذي سبق من عدة أسطر. (4) في الأصل: فيما.

5941 - وإن [جعلنا] (1) الصبي من أهل الالتقاط، فلا يترك الولي العينَ في يده، بل يأخذها منه. وإذا ثبتت يد الولي عليها، فهي أمانة، لو تلفت في يد الولي، لم نثبت ضمانها وفاقاً؛ فإنا نفرّع على أن الصبي من أهل الالتقاط، ولو ترك الولي اللقطة في يد الطفل، كان منتسباً إلى التضييع؛ فإنه إذا كان لا يترك في يده خالصَ ملكه، فكيف يترك في يده ملكَ غيره. وإن علم الولي بكون اللقطة في يده، فتركها حتى ضاعت، فسنذكر ما يتعلق بذلك في فصل العبد، إن شاء الله عز وجل. 5942 - ولو لم يشعر الولي بحصول اللقطة في يده، فأتلفها الصبي، تعلق الضمان بماله، وإن تلفت في يده، ففي وجوب الضمان وجهان. والتفريع على أنه من أهل الالتقاط. ولو أودع رجل عند طفلٍ مالاً، فلو تلف في يد الطفل، لم يضمن، وإن كان سبب التلف تضييعه، فإن استحفاظه لم يصح، وانتسب من استحفظه إلى تضييع ماله، وإن أتلف الصبي الوديعةَ، ففي وجوب الضمان وجهان، وإنما اختلف الترتيب؛ من جهة أن المودِع هو الذي ضيع ماله؛ إذ استحفظ الصبيَّ فيه، وإذا التقط الصبي، فلم يوجد من جهة المالك تفريط في استحفاظه، فلذلك جعلنا المسألة على وجهين فيه إذا تلفت اللقطة في يده. فإن قيل: لم ضمّنتموه، والتفريع على أنه من أهل الالتقاط؟ قلنا: معنى كونه من أهله أنه قد يُتملّك له قيمة ما التقط، إذا رأى النظرَ فيه، فأما أن تكون يده صالحة للأمانة في مدة التعريف قبل دخول وقت التملك، فلا. فإن قيل: هلا قطعتم بوجوب الضمان لما ذكرتموه؟ قلنا: صاحب الضالّة على الجملة منتسب إلى التقصير، وإن لم يستحفظ الصبي على التعيين. 5943 - ومما يتعلق بالتقاط الصبي أن القيّم إذا استخرج اللقطة من يده، فعرّفها

_ (1) في الأصل: حملنا.

سنة، فإن كان صلاحُ الطفل في أن يتملكها له فعل، وكان (1) ذلك استقراضاً للطفل. وإن لم يرَ في التملك صلاحاً، أمسك اللقطة أمانةً، أو سلمها إلى القاضي. وقد أحلنا أطرافاً من الكلام في لقطة الصبي على العبد وبيان حكمه. 5944 - فأما العبد إذا التقط، فقد خرّج الأئمةُ التقاطه على القولين في تغليب الأمانة والكسب. فإن حكمنا بتغليب الأمانة، فإن العبدَ ليس من أهل الالتقاط. وإن حكمنا بتغليب الكسب، فهو من أهل الاكتساب. هكذا أطلقه الأئمة المراوزة. وفي هذا فضل تفصيل، سيأتي الشرح عليه، إن شاء الله تعالى. ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في أوساط أمثال هذه الفصول أنه يطّلع على سرّ ما ينتهي إليه، فإن أسرار المسائل المسلسلة تتبيّن عند نجازها. 5945 - قال صاحب التقريب: اختلاف القول فيه إذا التقط العبد ونوى نفسه، فأما إذا نوى سيدَه، بالالتقاط، ففي المسألة احتمالٌ: يجوز أن يقال: يصح ذلك قولاً واحداً، ويجوز طرد القولين في هذه الحالة. وفي هذا الكلام فضلُ نظر؛ فإن السيد لم يأذن لعبده في هذا النوع، فاستبداد العبد به دون إذن سيده لا يختلف حكمه بأن ينوي نفسَه، أو سيدَه، فلا وقع للتردد الذي أبداه. 5946 - ولو أذن السيد لعبده في الالتقاط، وقال: مهما وجدت ضالةً، فارفعها، وائتني بها، فيجب قطعُ القول بوقوع الالتقاط عن جهة السيد، ويتطرق إليه نوعٌ من الاحتمال، لما في اللقطة من معنى الأمانة. فإن قيل: لو أذن السيد لعبده في قبول الوديعة، صح منه قبولها، وكانت يده بمثابة يد السيد؟ قلنا: الأمر كذلك، ولكن الأمانة الثابتة في اللقطة مشوبةٌ (2) بقضية الولاية؛ فإن الملتقط يستبدّ بإثبات اليد على اللقطة من غير إذنٍ من ربّها، والإذن

_ (1) (د 1): " وكل ذلك استقراض "، (ت 3): وإن كان ذلك استقراضاً. (2) (د 1)، (ت 3): مثبوتة.

لا يُلحق العبد بالولاية، وسيتضح هذا المعنى -إن شاء الله عز وجل- في أثناء الفصل. التفريع على القولين: 5947 - فإن قلنا: العبد ليس من أهل الالتقاط، فإذا حصلت اللقطة في يده، فلا يخلو إما أن يشعر السيدُ بها أو لا يعلمها، فإن لم يعلمها، فاللقطة مضمونة في يد العبد؛ فإن تلفت أو أتلفها، تعلّق الضمان برقبته؛ فإن ما يتلف تحت اليد العادية بمثابة ما يتلف بالجناية. ثم تفصيل القول في فداء السيد إياه لا يخفى. وتقريره في آخر كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى. هذا إذا لم يشعر السيد بحصول اللقطة. 5948 - فأما إذا علم حصولها في يد العبد، فأضرب عنها مقصّراً، حتى تلفت أو أتلفها العبد، فالقيمة تتعلق برقبة العبد، كما قدمناه، فإن ضاقت قيمة العبد عن الوفاء بقيمة اللقطة، فالذي نقله المزني عن الشافعي: " أن الفاضل من مقدار قيمة العبد يتعلق بسائر مال السيد، وتتوجه عليه الطَّلبة به، وإن سلّم العبدَ ليباع في الجناية، ولم يؤثر فداءه " ونقل الربيع عن الشافعي قولاً آخر: " أن الغرم ينحصر في رقبة العبد، ولا يتعلق الفاضل بسائر مال السيد ". 5949 - توجيه القولين: من قال: بانحصار الضمان في رقبة العبد، قاس ما نحن فيه على ما إذا أتلف العبدُ شيئاً بإذن سيده؛ فإن الضمان لا يعدو رقبة العبد، ولا أثر لإذن السيد في الإتلاف، فتقريره اللقطة في يد العبد لا تزيد على إذنه في الإتلاف وأمرِه به من غير إكراهٍ. ومن قال: لا ينحصر الضمان في رقبة العبد، احتج بأن يد العبد بمثابة يد السيد، فإذا انضم إلى يد العبد تقصيرُ السيد في تقرير اللقطة في يد العبد، كان ذلك بمثابة ما لو تلفت العين في يد السيد، وهو معتدٍ. وهذا إنما كان يقوى، لو كنا نعلّق الضمان في الفاضل بالسيد، وإن لم يشعر بحصول اللقطة في يد العبد؛ فإن أسباب الضمان

لا تختلف [قضاياها] (1) بالعلم والجهل. 5950 - ومما يتعلق بالتفريع على هذا القول أن السيد لو أخد اللقطة من يد العبد، وقصد بأخذها من يده الالتقاطَ، فقد ذكر العراقيون وجهاً أن ذلك يكون التقاطاً من السيد؛ لأن يدَ العبد على القول الذي عليه نفرع ليست يدَ التقاط واللقطة فيها ضائعة، فكانت بمثابة ما لو صادفها السيد في مضيعة. وهذا الذي ذكروه بعيدٌ غيرُ متَّجهٍ؛ فإن العبد تعرّض للضمان بأخد اللقطة، فلو قلنا: يصح التقاط السيد من يده، لتضمّن ذلك إسقاطَ الضمان وتبرئةَ رقبة العبد، وفيه إبطال حق مالك اللقطة، واستفادة السيد حقَّ التملك في اللقطة. وهذا بعيد، لا اتجاه له، على قياس المراوزة. وما ذكره العراقيون لا يختص بالسيد، بل لو أخذ الأجنبي اللقطة من يد العبد، لبرىء العبدُ، وثبت الأجنبي ملتقطاً على الابتداء، وهذا بعيدٌ، لا اتّجاه له. 5951 - فإن فرعنا على أن السيد لا يصير ملتقطاً، فيتعلق (2) الكلام بعد هذا بأمرٍ يستدعي تفصيل مقدمة. وهي أن نقول: إذا صادف القاضي عيناً مغصوبة في يد الغاصب، فلو أخد القاضي العين المغصوبة من الغاصب ليحفظها على مالكها، فهل يبرأ الغاصب عن الضمان؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يبرأ، وهو ظاهر القياس، لأن يدَ القاضي نائبةٌ عن يد المالك، فرجوع العين المغصوبة إلى يده، بمثابة رجوعها إلى يد المالك. والوجه الثاني - أنه لا يبرأ الغاصب عن عهدة الغصب، ما لم ترجع العين إلى يد المالك؛ فإن مالك العين ليس موليّاً عليه وِلاية قهر، وليس القاضي مستناباً من جهته، ولكنه يرعى المصلحة لتصدّيه للنظر العام، والذي يقتضيه الصلاح إزالة يد الغاصب، مع بقائه على غرر الضمان.

_ (1) في الأصل: " قضاها "، وقد تكون قضاؤها. (2) (د 1)، (ت 3): فنفتتح الكلام.

فإن قلنا: يبقى الغاصب في عهدة الضمان، فالقاضي (1) يأخد العين المغصوبة منه، وإن قلنا: يبرأ الغاصب لو أخد القاضي منه العين المغصوبة، فهل للقاضي أن يأخذها، ويحفظها على مالكها؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك؛ فإن قطع العدوان وحفظَ العين المملوكة للمالك أحوط وأليق بالنظر للغاصب والمغصوب منه. والوجه الثاني - ليس له ذلك؛ فإن إبقاء العين في عُهدة الضمان أولى من تبرئة الغاصب، ورد العين أمانة. وهذا التردد فيه إذا لم تكن العين المغصوبة معرضة للضياع، [فإن كانت معرضة للضياع] (2)، وكان الغاصب بحيث لا يبعد تغييبه وجهَه، فالرأي: للقاضي أخذُ العين، وإن وقع التفريع على أن الغاصب يبرأ. هذا قولنا في القاضي وأخذه العينَ المغصوبة. 5952 - فأما إذا أراد واحدٌ ممن ليس والياً أن يأخد العينَ المغصوبة محتسباً، ويوصِّلَها إلى مستحقها، فهل له ذلك، أم لا؟ ننظر: فإن لم تكن العين عرضةً للضياع، ولم يكن الغاصب ممن يفوت توجيه الطلب عليه، فليس لآحاد الناس أن يتعرضوا لإزالة يده. وإن كانت العين عرضة للضياع، فهل يجوز للأمين من آحاد الناس أن يزيل يدَ ذلك الغاصب، ويحفظ المغصوب على المالك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن هذه الأمور يستفيدها الولاة بالولاية؛ من جهة أن الأمر يُفضي إلى المغالبة، وقد يؤدي إلى القتال، وشهْر السلاح، وكل ما كان كذلك، فهو مفوّض إلى راعي الرعية، والقاضي ينوب عن الغائبين بولايته. والوجه الثاني - أنه يجوز للأمين أن يتولى ذلك احتساباً، ونهياً عن المنكر. وهذا غير مرضيّ. ثم يتصل بذلك أنا إذا لم نجوّز ما ذكرناه، فلو فعله الأمين، صار ضامناًً، وكان بمثابة الغاصب من الغاصب.

_ (1) (د 1)، (ت 3): والقاضي. (2) ساقط من الأصل.

وإن جوزنا ذلك، فلا ضمان على الأمين، وفي براءة الغاصب وجهان مرتبان على الوجهين في براءته إذا أزال القاضي يدَه، وهاهنا أولى بأن يبقى الغاصب في عهدة الضمان. ولو فصل فاصلٌ بين أن يجري ذلك من الواحد من الناس وفي الموضع قاضٍ يمكن رفعُ الأمر إليه، وبين أن تكون البقعة شاغرةً عن الوالي، لكان حسناً خارجاً على الترتيب الذي قدمناه في تفاصيل هرب الجمّال. 5953 - فإذا تمهد ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى العبد إذا التقط، وقلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط، ويده على اللقطة يدُ غصب. فلو أراد السيد أن ينتزع تلك العينَ من يده، ويحفظها لمالكها، فهل له ذلك أو لا؟ نقول: لو استدعى السيد من السلطان أن يفعل ذلك، فهذه الصورة أولى بأن يزيل السلطان فيها يدَ العدوان، وإذا أزالها، فحصول البراءة أولى، والسبب فيه أن البراءة من الضمان ترجع إلى السيد، وهو غير منتسب إلى العدوان، حتى يغلّظ عليه الحكم، وليس كذلك إذا كانت الواقعة مع الغاصب نفسه. 5954 - هذا إذا التمس السيد من السلطان، فأما إذا أراد السيد بنفسه أن يزيل يدَ العبد ويحفظ اللقطةَ على مالكها، فهل له ذلك؟ ولو فعل هذا يسقط الضمان؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا تعرض لإزالة يد الغاصب آحادُ الناس، وهذه الصورة أولى بألا تحصلَ البراءة فيها؛ فإن السيد ساعٍ في حق نفسه ويدُ العبد يدُه، فلا يحصل الانتقال التام، ولا تتحقق الحسبة، والسيد في حكم من يبرىء نفسه بنفسه. فإن قلنا: لا يملك السيد انتزاع العين من يد العبد، ولو فعله، لكان غاصباً بنفسه، والضمان باقياً، كما كان، فلا كلام. وإن قلنا: للسيد أن يزيل يدَ العبد، وإذا أزالها، زال الضمان فلو كان العبد موثوقاً به، والتفريع على الوجه الذي انتهينا إليه، فأراد السيد استحفاظ عبده، وتقرير العين في يده، وإحلال يده على الابتداء محل يده، فهل يسقط الضمان إذا فعل

ذلك؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه لا يسقط؛ فإن اليد، لم تتبدل حسّاً، وقد كانت يدَ ضمان في ابتداء ثبوتها، وهذا هو الأصل. ومن أصحابنا من قال: استحفاظ السيد إيّاه نازلٌ منزلة أخذه العينَ من يده. وهذا بعيد. وكذلك تكون التفاريع إذا كثرت، فإنها تزداد بعداً. 5955 - وقد كنا وعدنا أن نذكر في الصبي إذا لقط، وشعر الوليّ به، وقرره تحت يده، والتفريع على أن الصبي ليس من أهل الالتقاط تفصيلاً، فنقول أولاً: السلطان ينبغي أن يُزيل هذه اليد؛ نظراً للطفل، واحتياطاً له، فإذا فعل، فالأصح أنه يبرأ، ولا يغلَّظ عليه التغليظ الذي ذكرناه في الغاصب. هذا هو الأصل. وقيل لا يزول الضمان بعد ثبوته، ولكنا مع ذلك نزيل يد الطفل. 5956 - والوليُّ هل يأخد من الطفل ما التقطه إذا قلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط؟ هذا يترتب على أخد الأمين من آحاد الناس العينَ المغصوبة من الغاصب عند الإشراف على الضياع، والولي أولى بذلك؛ لأنه منصوبٌ شرعاً للنظر للطفل. وإن قلنا: لا يبرأ الصبي، ولا سلطان في البقعة، تعيّن على الوليّ انتزاعُ المال من يد الطفل، وإن كان لا يستفيد بذلك تبرئة الصبي عن الضمان؛ لأنه إن كان [لا] (1) يحصِّل البراءة، فيصون العينَ عن التلف، وهذه فائدة ظاهرة، فإذا فعل الولي ذلك، فهل يتعلق الضمان به؟ هذا فيه احتمالٌ؛ من جهة أن التفريع على أن البراءة لا تحصل، وليس لآحاد الناس أن يفعلوا ذلك محتسبين، ويجوز أن نجعل الولي كالقاضي في هذا المقام؛ حتى لا يتعلق الضمان به، ووجه الاحتمال بادٍ؛ من جهة أن ولاية الأب لا تتعلق بصاحب المال، وإنما هي مقصورة على رعاية مصلحة الصبي. وإذا قررنا الضمان على الولي، فلو تلفت العين في يده، فيبعد أن يكون القرار عليه، مع أنا جوزنا له، أو أوجبنا عليه أن يأخد العين من يد الصبي، فالوجه أن نجعله كالمودَع من الغاصب، مع الجهل بحقيقة الحال، حتى تتعلق الطّلبة به،

_ (1) ساقطة من الأصل.

ولا يتقرر الضمان عليه. هذا تفصيل المذهب في انتزاع العين من يد الطفل. 5957 - فلو قررناها في يده، تفرع هذا على ما ذكرناه. فإن قلنا: الولي لو انتزع العين، لم يزُل الضمان، فلا يكاد يظهر فائدة. وإن قلنا: لو أزال يدَ الطفل، وأخذ العينَ منه لبرىء، فإذا قرر العين تحت يده، مع العلم بحقيقة الحال، تعلق الضمان بالولي، لا محالة؛ فإنه حيث انتهينا إليه تَرَكَ النظرَ، وورَّطَ الطفل في الضمان، مع التمكن من تبرئته عنه، فيستقر الضمان عليه؛ فإنه لو سلم مالَ الطفل إليه حتى ضاع تحت يده، ضمنه، وما ذكرناه بهذه المثابة. وقد قال الأئمة: لو أركب الولي الطفل دابة صعبة، فأتلفت الدابة بخبطها ورفسها شيئاً، فالضمان على الولي. فهذا منتهى الكلام في ذلك. 5958 - وقد حان أن نفرع على أن العبد من أهل الالتقاط. فإذا التقط وأراد السيد أن يُبقي اللقطةَ في يد العبد ليعرفها، وكان موثوقً به، فله ذلك. وإن أراد أخد اللقطة منه، ومباشرة التعريف بنفسه، فله ذلك، ثم إذا مضت سنة التعريف، فالسيد بالخيار إن شاء تملك، وإن شاء حفظ اللقطة أمانة، واستحفظ العبد فيها، إن كان موثوقاً به. 5959 - ومما يجب التنبه له الآن أنا إذا جعلنا العبد من أهل الالتقاط، فلو التقط، ولم يشعر السيد، وعرّف بنفسه [سنة] (1)، من حيث لم يدر السيد، ثم إنه بعد مضي السنة تملك اللقطة لمولاه، فهل يصح ذلك أم لا؟ هذا يترتب على أن الرجل إذا وهب من عبد إنسان شيئاً، فاتهبه دون إذن مولاه، فهل يصح اتّهابُه، حتى يدخل الموهوب في ملك السيد؟ فيه وجهان: أحدهما - أن الاتّهاب يصح، والموهوب يدخل في ملك السيد، كما يدخل في ملكه ما يصطاده، ويحتطبه.

_ (1) ساقطة من الأصل.

والثاني - لا يصح؛ فإن الهبة عقدٌ متعلِّق بقولٍ، ويبعد أن يصح من العبد عقدٌ يتضمن تمليكَ السيد من غير إذن السيد. ولم يختلف أصحابنا أن العبد إذا خالع زوجته على مالٍ أن الخلع يصح، وعوضه يدخل في ملك سيد العبد قهراً دخول الصيد إذا اصطاد العبدُ؛ فإن العوض في الخلع يتبع الإبانة (1)، وهي حق الزوج، فلم يثبت مقصوداً، وملك الموهوب مقصودُ الهبة. 5960 - فإذا ثبت ذلك، فلو عرّف العبدُ اللقطةَ، وتملكها بعد السنة للسيد، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في صحة ذلك: أصحهما (2) - أنه لا يصح؛ فإنه تملك للسيد بعوضٍ، وليس كالتملك بالهبة. وحق ما ذكره من الوجهين أن يرتبا على الوجهين في انفراد العبد بالاتهاب، وهذا أولى بألا يصح، والفرق لائح. 5961 - ولو اشترى العبدُ شيئاً بثمن في الذمة بغير إذن مولاه، فالأصح بطلان البيع. وقد ذكرنا قولاً بعيداً: إن البيع يصح، وهو ضعيف غير معتد به، ومن صححه، فالثمن عنده في ذمة العبد يطالب به إذا عتَق. 5962 - فإن قلنا: يصح تملك العبد للسيد، فيبعد أن يقال: لا يطالب السيد بعوض اللقطة إذا ظهر مالكها، وليس كما إذا فرعنا على صحة شراء العبد بغير إذن سيده؛ فإن البائع رضي بذمة العبد، ولم يرض مالك اللقطة بذمة العبد في مسألتنا، فيجب القطع بأنا إذا صححنا تملّكَ العبد لسيده، فالعوض في ذمة السيد. فإن قيل: فجوِّزوا أن يستقرض العبد لسيده، ويشغل ذمته بعوض القرض. قلنا: ذلك غير سائغ، والفرق على هذا الوجه الضعيف أنا جعلنا العبد من أهل الالتقاط، وهو السبب الأظهر في التملك، حتى كأنه ملتحق بالأفعال المملّكة، كالاحتشاش ونحوه.

_ (1) (د 1)، (ت 3): الإنابة. (2) (د 1)، (ت 3): أحدهما.

5963 - وإن جرينا على الأصح، وقلنا: لا يتملك العبد اللقطة دون إذن سيده، فمن أصحابنا من قال: لا يصح تعريفه دون إذن سيده أيضاً، وهذا غير سديد؛ فإنا إذا جعلناه من أهل الالتقاط، فالتعريف في معنى الالتقاط. نعم، إن قلنا: انقضاء التعريف يوجب حصولَ الملك، فيجوز أن يقال: لا يصح التعريف؛ فإنه لو صح، لاقتضى الملك. ويجوز أن يقال: يصح، ولا يقتضي الملك في هذه الصورة، كما لو عرف الملتقط، ولم يقصد التملك ابتداءً ودواماً. 5964 - ومما يتم به تفريع التقاط العبد أن مدة التعريف إذا انقضت، ودخل وقت التملك، وليقع الفرض فيه إذا كان أذن السيد لعبده في التملك، فلو تلفت اللقطة في يد العبد أو أتلفها، فكيف الحكم؟ نُقدِّم على ذلك بيانَ هذا الحكم في حق الحر الملتقط الذي هو من أهل الالتقاط. 5965 - فإذا عرّف (1) اللقطة سنة، نُظر: فإن كان قصد بالالتقاط التملك بعد التعريف، ثم انقضت مدة التعريف، وهو على قصد التملك، والتفريعُ على أن مضي السنة لا يفيد التمليك، فإذا تلفت اللقطة قبل التملك، فهي مضمونة على الملتقط، بمثابة العين المأخوذة على سبيل السَّوْم. ولو التقط أوّلاً على قصد الحفظ، ثم لم يغيّر قصده، وعرّف، فتلفت اللقطة بعد انقضاء التعريف، فهي أمانة؛ فإنّ قصد الأمانة اقترن بالابتداء، ولم يطرأ ما يناقضه. ولو التقط، ولم يقصد تملكاً، ولا أمانةً، وعرّف على هذا الإطلاق أيضاً، ثم انقضت السنة، ولم يُحدث قصداً في التملك ولا في نفيه، فلو تلفت اللقطة، فيمكن أن يخرّج الضمان في هذه الحالة على القولين في أن الغالب على اللقطة حكمُ الأمانة أو حكم الكسب، حتى إذا قلنا: الغالب مقتضى الكسب يضمن اللقطةَ إذا تلفت، وإن قلنا: الغالب الأمانة لا يضمن.

_ (1) فإذا عرّف: أي الحر الذي هو من أهل الالتقاط.

هذا بيان حكم الضمان في [حق] (1) الحر، ونقول بعده: 5966 - العبد إذا كان مأذوناً في التملك، فإذا مضت سنةُ التعريف، فتلفت اللقطة في يده قبل أن يتملكها، وهو مأذون من جهة السيد في التملك، فإذا لم يتملك، وتلفت اللقطة، فالضمان يتعلق بذمة السيد، وذمة العبد، وهو كما لو أمر عبده حتى أخد عيناً على سبيل السوم، فتلفت في يد العبد، فالضمان يتعلق بالسيد من جهة صدور سبب الضمان عن إذنه. هذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: إذن السيد في هذا بمثابة إذنه في الغصب، ولو أذن لعبده، فاعتدى وغصب، لم يتعلق الضمان بذمة السيد، كذلك هاهنا. والقائل الأول يقول: لو اشترى بإذن السيد، تعلّق الضمان بكسب العبد، وهو من ملك السيد، ويطالَب السيد بالثمن أيضاً إذا وقع المبيع ملكاًً له. والأقيس أن الضمان في [التالف] (2) المأخود على سبيل السوم لا يتعلق بذمة السيد. فإن قيل: هلا علقتم الضمان بكسب العبد، كالثمن الذي يلتزمه بإذن مولاه؟ قلنا: إذا قال السيد، التزِم، فقد قال: أدِّ. وأقرب مصرف يحمل الأداء عليه مع بقاء العبد على حكم الرق الكسبُ، وإذا قال له: خد شيئاً مستاماً، فليس في هذا إذنٌ بالالتزام. 5967 - ولو لم يصدر من السيد إذنٌ في التملك، وتلفت اللقطة في يد العبد بعد مضيّ زمان التعريف، فالمذهب أن القيمة تتعلق بذمة العبد يتبع بها إذا عتق، ولا يطالب السيد به أصلاً. وأبعد بعض أصحابنا، فقال: تتعلق القيمة برقبة العبد؛ فإنها لزمت من غير معاملة صدرت من مالك العين، فكانت كأرش الجناية. وهذا مزيّفٌ، لا أصل له؛

_ (1) في الأصل: حكم. (2) في الأصل: التلف.

فإن الشرع (1) إذا سلّط على التملك بالعوض (2 في وجهٍ 2) ودخل وقتُه وأوانُه، كان ذلك بمثابة رضا المالك. والدليل عليه أن التملك يسوغ من غير إذن المالك تعويلاً على تسليط الشرع. 5968 - ولو أتلف العبدُ اللقطة قبل التملك، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أن القيمة تتعلق برقبة العبد لمكان الإتلاف، وإذا صادف الإتلاف ملكَ الغير، فموجبه يتعلق بالرقبة إذا كان المتلِف العبدَ. والوجه الثاني - أن القيمة تتعلق بذمة العبد؛ فإن اللقطة وإن لم تتملك، فهي في حكم المتملّكة، وإذا اشترى العبد شيئاً شراءً فاسداً، وأتلفه، فالقيمة تتعلق بذمته؛ لأن البائع [قد سلط المشتري على الإتلاف، وتسليطُ الشرع كتسليط البائع] (3). وقد نجز القول في العبد والتقاطه (4). فرع: 5969 - إذا التقط العبد، وقلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط، فلو أعتقه السيد واللقطة في يده، فعرّفها سنةً، فهل يملكها؟ ردّد الشيخ أبو حامد في هذه المسألة جوابه، ولم يفصّل (5) فيها جواباً، ولكنه قال: المسألة محتملة، فيجوز أن يقال: إنه يملك في الصورة التي ذكرناها، ويجوز أن يقال: لا يملك استدامةً للحكم السابق. وهذا التردد الذي ذكره رضي الله عنه قريبُ المأخد مما ذكرناه فيه إذا التقط الحرّ، ونوى الاختزالَ والخيانة، وقرن النية بالالتقاط، فلو عرّف، وأراد أن يتملك، ففيه خلاف ذكرناه، والعلم عند الله تعالى. 5970 - فأما الفاسق إذا التقط، فطريق المراوزة فيه تخريجه على القولين في أن

_ (1) (د 1)، (ت 3): السيد. (2) ساقط من (د 1)، (ت 3). (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (4) في الأصل هنا العبارة الآتية: " تم الجزء بحمد الله ومنه " وبعدها " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده ". (5) في (د 1)، (ت 3): ينقل.

الغالب على اللقطة الأمانة أو الكسب؟ فإن قلنا: الغالب الأمانةُ، فالفاسق ليس من أهل الالتقاط، والعين التي أخذها مغصوبة في يده، ولو عرّفها لم يتملكها. وهذا فائدة قولنا: إنه ليس من أهل الالتقاط. وإن قلنا: الغالب على اللقطة معنى الكسب، فالفاسق من أهل الالتقاط، وإذا عرّف، تملك. 5971 - ثم ذكر المراوزة وجهين في أن اللقطة هل ينتزعها الوالي من يده، حتى تنقضي مدة التعريف: أحدهما - أنه يفعل ذلك احتياطاً لمالك المال. والثاني - لا ينتزعها من يده، ولكن يضم إليه من يراقبه، حتى إذا مضت المدة، انفرد بنفسه، واستقل بالتملك. فإن قيل: إن لم يكن العبد ممن [يؤتمن] (1) فالفاسق يجوز ائتمانه. ولو أودعه إنسان شيئاً، فتلف في يده، لم يلزمه الضمان. قلنا: يتصور الإيداع عنده، ولكن الشرعَ لا يأتمنه، وحكم الأمانة في اللقطة ثابت شرعاً. وأيضاً الأمانة ممزوجة بحكم الولاية؛ فإن الملتقط يستقل بالالتقاط، من غير ائتمان، والفاسق ليس من أهل الولاية على هذا الوجه. هذا طريق المراوزة. 5972 - وأما العراقيون، فإنهم سلكوا مسلكاً آخر، فقالوا: الفاسق إذا التقط، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يُخرِج القاضي اللقطةَ من يده. والثاني - لا يخرجها من يده. ولكن ينصب من يشارفه (2) حتى لا يضيعها. 5973 - ثم قالوا على القولين: إذا عرّف وتحقق تعريفه؛ فإنه يتملك اللقطة، فقطعوا [القول] (3) بأن الفاسق من أهل تملك اللقطة، وردّدوا القول في إزالة يده.

_ (1) في الأصل: يوثق. (2) يشارفه: يدنو منه ويطلع عليه. (المعجم). (3) ساقطة من الأصل.

وهذا يخالف طريقَ المراوزة. وما ذكروه [منقاس] (1) حسن، فإنه إذا أمكن إجراء الأمانة [دون] (2) الفاسق، مع تبقية حقه في الكسب، فلا وجه لمنعه من الاكتساب. وليس الفاسق في هذا كالعبد؛ فإن العبد ليس من أهل الاكتساب لنفسه، فيبعد أن يكتسب بالعوض لسيده، فكان الكلام في العبد على نسق آخر. 5974 - ويجوز أن يقول من يسلك طريق المراوزة: الفاسق لو تملك اللقطة، لتملكها بالعوض من غير رضا مالك اللقطة، وهو ليس موثوقاً به، ولم يصدر من المالك رضاً بذمته، فيتجه خروجه عن هذا النوع من الاكتساب، مع أن إجراء الأمر في اللقطة مأخود من أوّله، والغالب على أول اللقطة الأمانةُ، وقد أوضحنا أن الفاسق ليس من أهلها. 5975 - فأْما المكاتب، فقد قال أئمتنا: إن غلَّبنا معنى الكسب، فالمكاتب من أهل الالتقاط، ثم يستبد بالتعريف، والتملكِ بعد مدة التعريف، ولا شك أنه يتملك لنفسه. وإن قلنا: الغالب الأمانة، فلا يلتقط المكاتَب، وإذا التقط، كان غاصباً، ولا يتملك في العاقبة. والمكاتب وإن كان موثوقاً به، ويجوز الإيداع عنده. فليس من أهل الولاية، وقد أوضحنا أن الالتقاط فيه شَوْبُ الولاية. وربما كان يقول شيخنا: المكاتب مرتب على القِنّ، وهو أولى بأن يكون من أهل الالتقاط. والعراقيون قطعوا بأن المكاتب إذا التقط؛ فإنه يتملك اللقطة قولاً واحداً. والقولان في أن اللقطة هل تبقى تحت يده أم لا؟ على القياس الذي قدموه في الفاسق.

_ (1) في الأصل رسمت هكذا: " مُد قياس حسن " وهو تصحيف طريف. (2) في الأصل: في حق الفاسق. والمعنى: إذا أمكن مشارفة الفاسق أو حفظها من يده حتى يتم تعريفها -وهذا معنى إجراء الأمانة دونه- فلا معنى لمنعه من الكسب، وهو من أهل الاكتساب بالاتفاق.

وما ذكروه من القطع بأنه يتملك متَّجهٌ، لأنه موثوق به، وهو من أهل الاكتساب. وما ذكروه من القولين في إزالة يده فيه بعدٌ، مع القطع بأنه يتملك، وهو موثوق به، فإن قيل: تزال يده في قولٍ لما ذكرت من شَوْب الولاية، فلا وجه للقول الآخر الذي ذكروه من أن القاضي ينصب عليه من يشارفه، فإن هذا إن اتجه في الفاسق من جهة سقوط الثقة به، فلا اتجاه له في المكاتب الموثوق به، فالوجه أن يقال: تزال يده على قولٍ وتترك اللقطة تحت يده على قولٍ من غير مشارفةٍ ونصب مراقبٍ، فقد تبين من أصل العراقيين أن الفاسق، والمكاتَب من أهل تملك اللقطة قولاً واحداً، لمّا كانا من أهل الاكتساب. والتردد في العبد القِنّ، كما ذكرناه. 5976 - وأما الصبي، فهو من أهل الاكتساب، ولكنه ليس من أهل التملك بنفسه، فيجوز أن يوافق العراقيون فيه المراوزة في تخريج القولين في أن ما التقطه الصبي هل يتملكه؟ 5977 - فأما من نصفه حر، ونصفه عبد، فقد قال أئمتنا: هو بمثابة المكاتب؛ فإن له على الجملة استقلالاً بسبب [حرية نصفه] (1) كالمكاتب. وهذا فيه نظر؛ فإن الرق الذي فيه كامل، وإذا كمل الرق، ضعف التصرف فيما يقابل الرق، وإذا تحقق ذلك في بعض الملتقَط، عم جميعه؛ فإن التقاط البعض الذي يضاف إلى الحرية غيرُ ممكن؛ إذ من ضرورته لقطُ الكل. 5978 - فإن قلنا: إنه من أهل الالتقاط، فلا يخلو إما أن يكون بينه وبين مالك الرق منه مهايأة، وإما ألا يكون بينهما مهايأة، فإن لم تكن مهايأة، فاللقطة إذا ملكت، تقسطت على النصف الحر، والنصف الرقيق. وإن كانت مهايأة فاللقطة من الأكساب النادرة، وقد اختلف الأصحاب في أن الأكساب النادرة هل تدخل تحت المهايأة؟ فإن قلنا: إنها لا تدخل تحت المهايأة، فالملك فيها يقع منقسماً.

_ (1) في الأصل: بسبب حريته كالمكاتب.

وإن قلنا: إنها تدخل تحت المهايأة، فالنظر إلى النوبة، فإن وقع ما هو المعتبر في نوبة السيد، فالملك في اللقطة له، وإن وقع في نوبة من نصفه حر، فالملك له. 5979 - وفحوى كلام الأصحاب يدل على أن الاعتبار فيما ذكرناه بما بعد سنة التعريف، وفي كلام بعض المحققين ما يدل على أن الاعتبار بيوم الالتقاط؛ فإنه المستند، وهذا فقيه حسن. فلو وقع الالتقاطُ في نوبةٍ، وانقضاءُ سنة التعريف في نوبة أخرى، فللتردد في ذلك مجال. والأصل عندي القطع بأن الالتقاط لا يدخل تحت المهايأة؛ فإنه ليس اكتساباً محضاً، وإنما هو في حكم استقراض، وإنما يقع هذا بجملته. هذا منتهى القول فيمن يكون من أهل الالتقاط، وفيمن لا يكون من أهله. فرع: 5980 - ذكر العراقيون وجهين في [أن الذمي هل يكون من أهل الالتقاط في دار الإسلام، والذي قطع به] (1) أئمتنا أنه من أهل الالتقاط؛ فإنه أمينٌ مكتسب. فصل جامع فيما يجوز التقاطه، وما لا يجوز التقاطه 5981 - فنقول: إذا وجد الرجل مالاً ضائعاً، لم يخل إما أن يجده في الصحراء أو يجدَه في العمران. فأما إذا وجد في الصحراء، فلا يخلو: إما أن يكون الموجود حيواناً، أو غير حيوان. فإن لم يكن حيواناً، لم يخل: إما أن يكون مما يتسارع إليه الفساد، أو لا يكون كذلك. فإن كان مما يتسارع إليه الفساد كالطعام، وما في معناه، يأكلْه على مكانه، ولا نكلفه التعريف؛ فإنه غير ممكن في الحال، ولو ترك الطعامَ، ولم يأكله،

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

لضاع، وسبب الأمر بالتعريف فيما لا يفسد التسبب إلى ظهور مالك اللقطة، ليأخذها قبل أن تملك عليه، فإذا كان التعريف يؤدي إلى إفساد المال، استحال اشتراط تقديمه. ثم إذا أكل الطعام، فهل يجب عليه التعريف بعد الاكل؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب عليه، فإنَّ وَضْع التعريف في الشرع أن يقدّم على التصرف في اللقطة، فإذا تقدم التصرف، وفاتت العين، فالتعريف خارج عن وضعه، ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما سئل عن الشاة يجدها الواجد، فقال: " هي لك، أو لأخيك، أو للذئب " ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم لإيجاب التعريف، والطعام في معنى الشاة، وأيضاً التعريف في المضْيعة لا يفيد، والطعام مما لا يطلب في الغالب، فإذا تقدم الأكل ولم يُفد التعريفُ في مكان الوجود، وبَعُد العثور على صاحب الطعام في بلدةٍ سيصل إليها، فاجتماع هذه الأسباب يُسقط التعريف. والوجه الثاني - أنه لا بدّ من التعريف؛ فإنه لو تركه، وقد أكل الطعام، كان في حكم الكاتم المُغَيِّب لملك الغير. وهذا بعيد. 5982 - فأما ما لا يتسارع إليه الفساد، فلا بد من تعريفه سنةً أوّلاً. وسبيل تعريفه ما ذكرناه في فصول التعريف، فيبتدىء التعريف إذا انتهى إلى البلدة التي يقصدها، وقد قدمنا تفصيل ذلك. 5983 - فأما الحيوان إذا وجد في الصحراء، فلا يخلو إما أن يكون مما يمتنع عن صغار السباع كالإبل، والبقر، والخيل، والبغال، والحمير، فلا يجوز التعرض لها. والدليل عليه حديث زيد بن خالد، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله متبعٌ، وفيه مَقْنع، ولعل المعنى أن هذه الحيوانات لا يطرقُها الطارقون في الصحارى إلا على الندور، وهي ممتنعة من صغار السباع، ويندر انتهاءُ كبار السباع إليها، كالأُسْد والنمور، وكأنها ليست ضائعة، وقد يخطر للإنسان أن الحُمر ضعيفة لا تمتنع عن الذئاب، ولكن الأصحاب مجمعون على إلحاق الحُمر بالحيوانات الممتنعة عن صغار السباع.

5984 - وأما الحيوانات التي لا تمتنع عن صغار السباع، كالغنم، والفُصلان، والعجاجيل، وما في معانيها، فواجدها يأخذها. والأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الشاة: " هي لك، أو لأخيك، أو للذئب "، ثم لواجد الشاة الانتفاعُ بها في الحال، والقول في التعريف بعد الانتفاع بها، على ما قدمناه في الطعام الذي يتسارع إليه الفساد، وسيأتي في ذلك فضل بيان في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى. 5985 - فأما ما لا يؤكل من صغار الحيوانات كالجحش، فكيف السبيل فيه؟ وقد وجده من وجده في الصحراء؟ الأصح أنه لا بد من تعريفه سنة، بخلاف الشاة؛ فإنها ملتحقة بالمطعومات، والعاثر على الجحش لو كان يستديمه، فهو مما يبقى، وإن كان يعسر استدامته، فلا طريق إلى الانتفاع به. ومن أصحابنا من ألحقه بالغنم، وجوز تملّكه في الحال، واستدل عليه بأن تعهده بالعلف مما لا تسمح به الأنفس من [غير] (1) تملكه، وفي منع تملكه في الحال تضييعُه وتركُه بالعراء في مضيعة الصحراء، وأصل اللقطة أُثبت محافظةً على الأموال أن تضيع. هذا قولنا فيما يوجد في الصحراء. 5986 - فأما ما يجده الإنسان في العمران؛ فإنه ينقسم على حسب ما ذكرناه في الصحراء، فمنه ما ليس بحيوان، ومنه الحيوان. فأما ما ليس بحيوان، فينقسم إلى ما يتسارع إليه الفساد، وإلى ما لا يتسارع إليه الفساد. 5987 - فأما ما لا يتسارع إليه الفساد، فهو اللقطة التي سبق وصفها، وسبيلها أن تُعرّفَ سنةً، كما تقدم. ثم القول في السبب المملك ما ذكرناه. 5988 - فأما ما يتسارع إليه الفساد كالطعام، فهل يجوز لمن يجده أن يبتدر أكله

_ (1) سقطت من الأصل.

إذا كان بيعه ممكناً؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يأكله، وفي بعض الكتب (1) أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن وجد طعاماً: " أكله، ولم يعرّفه " (2). والقول الثاني - أنه لا يأكله، بل يسعى في بيعه، ثم إن كان في الموضع حاكم، فرفعت القصة إليه، وباع الطعام، فلا كلام. وإن أراد الملتقط أن ينفرد بالبيع مع القدرة على مراجعة الحاكم، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يبيعه؛ فإن التصرف بالبيع في الأموال التي غاب عنها ملاكُها إلى الحكام. والوجه الثاني - أن الملتقط ينفرد ببيعها، كما ينفرد بأخذها وتعريفها وتملكها، والسبب في ذلك أن الشرع أثبت له التصرفَ في اللقطة على الموضوعات المعلومة في الشريعة. التفريع: 5989 - إن حكمنا بأن واجد الطعام يأكله، فالأصح أنه يجب عليه التعريف، بخلاف ما لو وجد الطعام في الصحراء؛ فإن التعريف في المفازة عسرٌ، غيرُ مجدٍ، وإذا استأخر التعريف بَعُد العثور على مستحق الحق، والأمر في العمران على خلاف ذلك. ثم إذا أوجبنا التعريف، فالتعريف يعتمد ذكرَ بعض أوصاف الطعام؛ فإنه المعرَّف، وبذكره يتوقع العثور على مالكه. 5990 - ثم هل يجب على معرِّفه أن يميِّز قيمته من ماله، حتى يقع التعريفُ، والقيمةُ مُمَيَّزَةٌ؟ فعلى وجهين معروفين: أطلقهما الأصحاب: أحد الوجهين - أن ذلك واجب، لتقومَ القيمة مقام المقوَّم، ويصادفَ التعريفُ كائناً موجوداً خلفاً عن العين المستهلكة.

_ (1) في بعض الكتب: يقصد الإمام أبا القاسم الفوراني، وإمامنا شديد الحط عليه، وتضعيفه -وبخاصة- في النقل. (2) نقل الحافظ في التلخيص قول الإمام الرافعي في "التذنيب" عن هذا الحديث: " الأكثرون لم ينقلوا في الطعام حديثاً، بل أخذوا حكم ما يفسد من الطعام من قوله صلى الله عليه وسلم؛ هي لك أو لأخيك أو للذئب ". فافهم أن هذا ليس بحديث. ر. التلخيص: 3/ 75 ح 1336.

والوجه الثاني - أن ذلك لا يجب، ولكن يعرِّف من يعرف، والقيمةُ في ذمة من استهلك الطعام. وقال أئمة العراق: التعيين في القيمة والتمييز من سائر أملاك الملتقط موجَبُه أن القيمة لو تلفت في مدة التعريف، كان تلفها على حكم الأمانة، وكان ينزل منزلة تلف العين المعرَّفة، لو كانت باقية، حتى تلفت في مدة التعريف. 5991 - وهذا فيه بعض الخبط، وسببه شيئان: أحدهما - إطلاق الأصحاب لذكر القيمة وتمييزها، وهذا [يجرّ] (1) إشكالاً في التصوير. والآخر - ضعفُ الوجه. أما التصوير، فوجه الغموض فيه أن الملتقط المستهلك للطعام لو ميز قيمة الطعام في قصده فعيَّنها في تقديره، فهذا ليس بشيء، وليس هو التعيين الذي ذكره الأصحاب؛ فإن القيمة لا تتعين بمثل هذا من غير فرض يدٍ قابضة عن المتلِف الملتزِم، والذي أراده الأصحاب بالتعيين ما ذكره الصيدلاني، وكلُّ واقفٍ على المراد من هذا الفصل، قالوا: حقٌّ على الملتقط أن يسلّم القيمةَ إلى القاضي أو إلى نائبه، ثم يكون القاضي بمثابة يد المستحِق في إفادة التعيين، وتفرض القيمة من طريق التقدير مملوكةً لمالك الطعام، ثم إذا فرضنا تلفَ القيمة في مدة التعريف، فيكون تلفُها بمثابة تلف العين المعرَّفة في مدة التعريف، إذا كانت باقية. هذا بيان ما يتعلق بالتصوير. 5992 - أما ضعف الوجه، فلا شك فيه، فإن التزام القيمة من غير طالبٍ ومطالَبٍ بها في اللقطة (2) بعيد، وليس في تمييزها احتياط لمالك الطعام؛ فإن تبقية [الطعام] (3) في ذمة الملتقط المستهلك للقطة أحوطُ لمالك اللقطة، من تعريض حقه للسقوط بتقدير تلف القيمة. ثم الأصحاب قالوا في التفريع على تمييز القيمة: القيمة قائمة مقام العين، وليست مملوكة في الحقيقة لمالك اللقطة.

_ (1) في الأصل: جرّ. (2) (د 1)، (ت 3): اللغة. (3) في الأصل: الضمان.

والقدر الذي ذُكر في ثبوت حكم التعيين ما صرح به العراقيون، إذ قالوا: لو أفلس الملتقط، وظهر مالكُ الطعام، فهو أولى بالقيمة المميَّزة على الصورة التي ذكرناها، يستبدّ بها ولا يضارب الغرماء. وهذا فيه بُعدٌ، وسببه أنه مفرّعٌ على وجه بعيد. 5993 - ثم الذي أراه في ذلك أن يتملك صاحب الطعام إذا ظهر القيمةَ المميَّزةَ له، ويكون أولى بتملكها بحق التعيين السابق، ولو لم يتملكها، وأعرض عنها، لم يكن إعراضه عنها كإعراض المالك عن ملكه، وتمكّنُه من التملك فيها بمثابة تمكن البائع من الرجوع إلى العين المبيعة بطريق فسخ البيع، ولم يكن المبيع ملكاًً له حالة الإفلاس، ولكنه أوْلى به من الغرماء، كذلك القول في القيمة. 5994 - ولو انقضت السنة على شرط التعريف، والقيمةُ المميَّزةُ متروكةٌ في يد الحاكم، أو في يد من عينه الحاكم مبقَّاةٌ على حق مالك اللقطة، فإن لم يظهر، ولم (1) يظهر المالك، وتلفت القيمة، سقطت العهدة بالكلية عن الملتقط المستهلك. ولو لم يكن في الناحية حاكم، فأراد الملتقط بسلطان الالتقاط أن ينصّب نائباً عن مالك اللقطة، ويسلم [القيمة] (2) إليه، فيُنزله منزلة الحاكم لو كان. هذا فيه احتمالٌ، كما ذكرناه من الاختلاف في أن الملتقط هل يملك بيع الطعام، إذا فرعنا على أنه يباع؟ ثم هذا الاحتمال يجري، وإن كان في الناحية حاكم، غيرَ أن البقعة إذا شغرت عن الوالي، والتفريعُ على وجوب البيع، فالملتقط يبيع وجهاً واحداً. وإذا فرضنا خلوَّ المكان عن الوالي، فلا يجري إنفاقٌ على ملك الملتقط [و] (3) نصب نائبٍ عن مالك اللقطة حتى يقبض القيمة التي يعتمدها التعريف، بل الأمر محتمل مشكل في ذلك؛ فإن ملك بيع مال الغير أمرٌ مفهوم، وتمييز القيمة، ونصب من يقبضها عن مالكٍ مجهول، كلام فيه اضطراب بيّن. [وإنما] (4) يظهر بعض الظهور إذا صدر قبضُ القيمة من والٍ ينوب عن الملاك الغُيَّب، وإن كانوا مجهولين.

_ (1) كذا في النسخ الثلاث، فما وجه هذا التكرار؟. (2) في الأصل: اللقطة. (3) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسخ الثلاث. والله أعلم. (4) في الأصل: فإنما.

هذا منتهى القول في ذلك. 5995 - ولو عين القيمة على الوجه الذي يصح، ثم أراد إبدالها، لم يكن له ذلك، وامتناع الإبدال من أول آثار التعيين الذي يهتدى إليه. فأما إذا قلنا: بأن الطعامَ يباع، وأمكن بيعه فنحصِّل ثمن الطعام أولاً، ثم نفرض ابتداء التعريف، فإذا مضت سَنةُ التعريف، تملَّك الملتقط الثمنَ، ولو تلف الثمن في مدة التعريف، كان أمانةً، ثم الثمن يسلّم إلى الملتقِط إذا كان من أهل الالتقاط، كما تُبقَّى اللقطة في يده لو كانت اللقطة مما لا يتسارع الفساد إليها. هذا كله إذا لم تكن اللقطة حيواناً. 5996 - فأما إذا كانت حيواناً، وصادفها، وأخذها في أثناء العمران، من القرى والبلدان، فقد جمع صاحب التقريب ثلاثة أوجه للأصحاب: أحدها - أنه لا يأخد الحيوان واجدُه، فإنه ظاهر ليس عرضة للضياع. وإنما يثبت حق الالتقاط في متعرَّض للضياع. وهذا القائل لا يفصل بين الكبار من الحيوانات التي منعنا التقاطها في الصحراء، وبين الصغار منها، وأجرى الجميع في منع الالتقاط مجرى الكبار في الصحراء. والوجه الثاني - أن الواجد يلتقط ما يجد من الحيوانات في العمران، من غير فرق بين الكبار وبين الصغار؛ فإن جميعَها عرضةٌ لأخد الآدميين، واحتوائهم، وإذا أمكن اختزالها وتقدير تغييبها، فالكل بمثابةٍ واحدةٍ، وليس كذلك الصحارى؛ فإن طروق الآدميين فيها نادر، والحيوانات منقسمة بالإضافة إلى السباع، كما تقدم، وإمكان التغييب يعمّ في العمران الصغارَ من الحيوانات والكبارَ. والوجه الثالث - أن واجدَ الحيوان يلتقط في العمران ما يلتقطه في الصحراء، ولا يلتقط ما يمتنع عليه التقاطه في الصحراء؛ تمسكاً بظاهر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. 5997 - ثم ذكرنا في صغار الحيوانات إذا صادفها واجدُها تفصيلاً، وقسمناها إلى

المأكول، كالشاة وإلى ما لا يؤكل كالجحش، فالشاة إذاً ملحقة بالطعام، وقد مضى التفصيل في الطعام في العمران. وفي الجحش، وما لا يؤكل التفصيلُ المقدم. ومن سَلَّط على تعجيل التملك فيه، فسببه تعذر العلف. والرأيُ الظاهر أنه لا يتملكه قبل التعريف، فإنا ألحقنا الشاة بالطعام للخبر، ومن رأى تعجيل التملك لضرورة العلف لا يصير إلى هذا المذهب في الحيوان الكبير، إذا فرّعنا على جواز التقاطه في العمران، فإنه يصير إلى ما يصير إليه لمشابهة الصغير الشاةَ في الضعف، وعدمِ الاستقلال. 5998 - ثم إذا التقط حيواناً، فلا خلاف أن مؤنة علفها (1) لا تكون على الملتقط، وإنما هي على مالك اللقطة، ثم الوجه في تحصيلها بيعُ جزءٍ من الحيوان، وصرفُ الثمن إلى العلف، وسائر المؤن، فإن تمكنا من رفع الأمر إلى قاضٍ، فعلناه، ثم إنه يفعل ذلك فعلَه لو كان يريد إمساك بهيمةٍ على مالكها. وإن لم نجد حاكماًً، تولّى الملتقط ذلك بنفسه، ولو أراد أن يتولاه مع وجود الحاكم، ففيه الوجهان اللذان سبق ذكرهما. وكان شيخي يقول: يجوز أن تُلحِق ضرورةُ العلف وتوقعُ مسيس الحاجة إلى أن تأكل الدابةُ [نفسها] (2) - الدابة (3) بالطعام الذي يتسارع الفساد إليه، حتى يباع [ويَعْتُد] (4) ثمنُه، [ثم] (5) يفرض التعريف على حسب ما فرعناه في بيع الطعام، وهذا حسن بالغ.

_ (1) كذا بضمير المؤنث، وتوجيهه ميسور. (2) في الأصل: " تشبيها ". (3) الدابةَ: مفعول لقوله: تُلحق. والمعنى أن ضرورة العلف، والإنفاق على الدابة الملتقطة، قد يستهلك قيمتها، وهذا معنى " تأكل الدابةُ نفسها " وهذا يجعلها تشبه الطعام الذي يتسارع إليه الفساد، فتأخد حكمه، من جواز البيع وغيره. (4) ويعتُد: أي يصير حاضراً معدّاً. يقال: عتُد الشيء (بفتحٍ وضم): أي تهيأ وحضر (المعجم، والمصباح) وهي في نسخة الأصل: بعد. (5) ساقطة من الأصل.

وقد نجزت معاقد الكلام على أصناف اللقطة في البقاع المختلفة. 5999 - ومما يجب إلحاقه بخاتمة الفصل الكلامُ في الفرق بين القليل والكثير، وتصرف الأصحاب فيه، فنقول أولاً: القليلُ الذي لا يتمول لقلته، لا [لخسته] (1) إذا صادفه الواجد، فأخذه، لا يتعلق به حكمٌ في تعريفٍ أو غيره. ولكن الواجد يختص به، وهذا كالزبيبة يجدها، وما في معناها، وقد ذكرتُ في آخر كتاب البيع ما يجب اتباعه فيما يتموّل، وما لا يتمول، ويمكن أن يطرد في ذلك لفظان: أحدهما - الانتفاع، وكل ما يقدّر له أثر في النفع، وموقعٌ في هذه الجهة، فهو متموّل. وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع، فهو لقلته خارج عما يُتموّل. وهذا مما قدمته. ويمكن أن يقال: المتمول (2) هو الذي يفرض له قيمة عند غلاء الأسعار، والخارج عن التموّل هو الذي لا يفرض ذلك فيه. 6000 - ثم ما لا يتموّل لا يصح بيعه، لا بما يتموّل ولا بما لا يتمول. وصاحبه الظاهر أولى به، فلا يزاحَم عليه، وله منع من يزاحمه. ولو وهبه، فيظهر عندي تصحيح الهبة فيه، على معنى إحلال المتَّهِب محلَّ الواهب في الاختصاص. وهذا محتمل لا أقطع به. وإذا كنا نذكر الخلاف في هبة الكلب، تعويلاً على حق الاختصاص، فلا يبعد إجراؤه فيما ذكرناه. ويسوغ أن يقال: الهبة في الكلب تعتمد إمكان الانتفاع به، ولا نفع فيما لا يتمول، فيظهر إبطال الهبة. 6001 - ولو أتلف متلفٌ المقدار الذي لا يتمول، وكان جنسه من ذوات القيم، فلا شيء على المتلف، كسلك من ثوب. وإن كان المتلَف من ذوات الأمثال، فقد ذكر [بعض] (3) الأصحاب خلافاًً في أنه

_ (1) في الأصل: لجنسه. (2) هذا هو اللفظ الثاني الذي يطرده، قسيماً (لأحدهما) الذي ذكره في الأسطر السابقة. (3) ساقطة من الأصل.

هل يضمن له مثلَ ما أتلفه. ويخرّج عليه التردد الذي ذكرناه في الهبة، والأظهر إبطال الهبة، ونفيُ غرامة المثل. 6002 - فإن أخذ الملتقط ما لا يتموّل، استبد به، ولا تبعة في الحال؛ فإن ما يقتضيه سلطانُ الالتقاط [يزيد] (1) على ما ذكرناه. 6003 - فأما إذا كان الشيء المصادف متموَّلاً، ولكن عُدّ يسيراً، فللأصحاب فيه تردد، نأتي به على وجهه، ثم بيان القول فيه يبين آخراً. فإذا وجد الملتقط شيئاً يسيراً متموّلاً، فمن أصحابنا من قال: هو كالكثير في جميع الأحكام، فلا بد من تعريفه سنة؛ فإن أحكام الأموال في هذه المنازل لا تختلف بالقلة والكثرة إذا كان الشيء مما يتمول. ومن أصحابنا من قال: لا يجب تعريف الموجود سنة كاملة. وهذا فيما ذكره الأصحاب ظاهرُ المذهب. ووجهه أن الشيء الخطير لا يبعد توقُّع طلبه في مدة السنة، والشيءُ الحقير قد ينعكس عليه فاقده على قربٍ، فإن لم يجده بَعُد (2) دوامُ الطلب فيه المدةَ الطويلة، هذا حكم العرف. فإن قيل: فلا توجبوا التعريف أصلاً؛ فإن الحقير قد لا يطلب. قلنا: لا يمكن الحكم بهذا على طبقات الخلق، فإن فيهم من يرجع على طلب ما نعتقده حقيراً. فإن قيل: هلا أوجبتم التعريف سنةً؛ إذ في الناس من يطلب ما نراه حقيراً مدة طويلة؟ قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإن طبقات الناس على خلاف المراتب يستوون في ترك إدامة الطلب في الحقير الذي لا يؤثر العاقلُ التعبَ الكثيرَ في طلبه، ثم لهذا السؤال صار صائرون إلى وجوب التعريف سنة على ما قدمناه. 6004 - فإن قيل: إذا لم تُوجبوا التعريف سنة، فما المعتبر عندكم؟ وقد أوجبتم

_ (1) في الأصل: زِيدَ. (2) بَعُد: بفتح وضم. ومن عجبٍ أنها ضبطت في الأصل: بفتح الباء وسكون العين وفتح الدال. والأعجب من العجب أن هذه النسخة نادرة الضبط جداً، وهي مع ذلك من أضبط النسخ وأصحها. ولكن لكل جوادٍ كبوة، ولكل صارمٍ نبوة.

أصل التعريف؟ قلنا: الذي تلقيناه من كلام الأصحاب في ذلك تحصره أوجه: أحدها - أن مدة التعريف ثلاثة أيام. وهذا تقريب لا بأس به. وفي بعض التصانيف (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التقط لقطة يسيرة، فليعرّفها ثلاثة أيام ". وهذا إن صح معتمدٌ ظاهر. ومن (2) أصحابنا من لم يقدّر في ذلك مدة، وقال: تعرف مدة يُظن في مثلها رجوعُ الفاقد على ذلك المفقود، وهذا يختلف باختلاف أقدار ما يندرج تحت اليسير. وهذا وإن كان مستنداً إلى فقه الفصل، فهو كلام مبهم، لا يكاد يتحصل. ثم عبر الأئمة عن هذا، فقالوا: يعرّفه يوماً، أو يومين، ومنهم من قال: وأكثره ثلاثة أيام. ومن (3) أصحابنا من رمز إلى أنه يكفي فيه التعريف مرة واحدة على شرط الإظهار. وهذا في نهاية الحسن؛ فإن هذا القدرَ يكفي في إخراج اللقطة عن حيز ما يُكتم؛ فإنه لا ضبط بعده لمدة تذكر.

_ (1) هنا أمور نبينها على النحو الآتي: أ- قوله: " بعض التصانيف " يقصد أبا القاسم الفوراني، فهكذا يعبّر عنه!! وقد أشرنا إلى ذلك مراراً، ولكن نجدد العهد به هنا؛ لأن الحافظ ابن حجر صرح بذلك في التلخيص، حيث قال تعقيباً على هذا الحديث: " قال إمام الحرمين في النهاية: ذكر بعض المصنفين هذا الحديث، وعنى بذلك الفوراني، فإنه قال: فإن صح، فهو معتمد ظاهر " ا. هـ بنصه. ب- إن إمام الحرمين لم يذكر هذا الحديث قاطعاً به، ولا معتمداً عليه، ولكنه قال عن التحديد بثلاثة أيام: " إنه تقريب لا بأس به " ثم أردف ذلك بذكر الحديث، قائلاً: " إن صح، فهو معتمد". ج- إن إمام الحرمين استخدم في الرمز إلى ضعف الحديث، أداة الشرط (إن) وهي تدل على الشك وعدم التوقع، ولم يستخدم (إذا). د- الحديث رواه أحمد (4/ 173) والطبراني، والبيهقي (6/ 195) عن عمر بن عبد الله بن يعلى عن جدته. وقال عنه الحافظ: "لم يصح، لضعف عمر" ا. هـ. ر. التلخيص: (3/ 162 ح 1371). هـ- قلت: ألا يدرأ هذا عن إمام الحرمين قول القائلين: " إنه كان لا يدري الحديث "؟ (2) هذا هو الوجه الثاني في المسألة. (3) هذا هو الوجه الثالث.

وهذا إنما يتجه لو لم يصح الخبر الذي ذكرناه. 6005 - فإن قيل: لم تذكروا ضبطاً يُتمسك به في الفصل بين الحقير والخطير؟ قلنا: ذكر أولاً بعض المصنفين في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أن الحقير ما دون نصاب السرقة؛ فإن ما دون ذلك تافه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " كانت الأيدي لا تقطع في المال التافه، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) هذا وجه. والوجه الثاني - أن التافه ما دون الدرهم؛ فإن ما ينقص عنه مما يستوي طبقات الخلق في الحكم بتحقيره، والدرهم التام قد لا يكون كذلك، ثم لا ضبط للهمم، فقد يستحقر الرجل المعظمُ المالَ العظيمَ في حق غيره. والوجه الثالث - أن الدينار، فما دونه حقير، وقد روى من ذكر هذه الأوجه: أن علياً رضي الله عنه وجد ديناراً، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يستنفقه، ولم يأمره بتعريفه (2). وهذا لم أره في غير هذا التصنيف، وفيه إشكال وهو إسقاط أصل التعريف، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إسقاط أصل التعريف، وإن قل مقدارُ الملتقَط. وقد يتجه خروج ذلك إن صح الأثر على الاكتفاء بالتعريف مرة واحدة. فإن قيل: لم يجر التعريف مرة واحدة؟ قلنا: ليس للتعريف لفظٌ يجب اتباعه، وإنما الغرض شهر الأمر وإظهار القصة، وهذا يحصل بمراجعة عليّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الواقعة على رؤوس الأشهاد، وحكمه صلى الله عليه وسلم فيها. وكان شيخي أبو محمد لا يضبط اليسير بمقدارٍ ويأبى أن يحتكم في التقدير من غير توقيف، ويقول: الرجوع في ذلك إلى ما يغلب على الظن أن مثله لا يطول من طبقات

_ (1) أثر عائشهَ رضي الله عنها رواه ابن أبي شيبة: 9/ 476، ح 8163. وانظر التلخيص: 2/ 162 ح 1372. (2) حديث علي رواه الشافعي في الأم 4/ 67، وأبو داود: كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة، ح 1714، 1715، وعبد الرزاق 10/ 142، 143، ح 18637، والبيهقي: 6/ 194. وانظر التلخيص: 3/ 163 ح 1373.

الخلق طلبه، وإن فُرِض طلبُ الفاقد له، فلا يتمادى أمدُ طلبه. وهذا الذي ذكره حسن في طريق المعنى، وفَرْضُنا وراءه قائم في التقريب إن أمكن. فرع: 6006 - إذا صادف الإنسان كلباً منتفعاً به، فقد ذكر العراقيون: أنه إذا صادفه في العمران، وقلنا بالتقاط الحيوان فيه، فإنه يعرّفه، ثم يصير أولى من غيره. ولست أرى الأمر كذلك؛ فإنه لا يتصور جريان الملك فيه، وأحكام الالتقاط تثبت فيما يملك، ثم [يعسر] (1) التفريع على ما ذكروه؛ من جهة أن الملتقِط إنما يصير أولى باللقطة بعوضٍ يلتزمه، والكلب لا عوض له. وإن قيل: يعتبر عوضه بمنفعته، فعوض المنفعة لا تتقدّر من غير فرض مُدّة، ثم يلزمهم طرد هذا في الأعيان النجسة المنتفع بها؛ فإنه يثبت فيها حق الاختصاص، والكلب نجس العين، فإن طردوا ما ذكروه في الأعيان النجسة، كان بعيداً. فرع: 6007 - من وجد لقطة في الحرم، فقد ظهر اختلاف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: لا سبيل إلى تملكها، واستدل بظاهر الحديث المشهور المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ ذكر الحرمَ، وتحريمَ الله تعالى له، وقال في أثناء كلامه: " لا يُنَفَّر صيدُها، ولا يُعْضَدُ شجرُها، ولا تَحِلّ لُقَطَتُها إلا لمنشد " (2). ومن أصحابنا من قال: من صادف لقطة في الحرم، عرّفها، وملكها على قياس اللقطة في سائر البلاد، وتأويل هذا الحديث عند هذا القائل [قريب] (3) محتمل؛ فإنه يقول: قطع رسول الله صلى النه عليه وسلم وَهْمَ من يظن أن اللقطة في الحرم لا تعرّف أصلاً، وقد يظن ذلك ظانٌّ فيما يَلقى في المواسم إذا تفرق الحجيج مشرِّقين، ومغرِّبين؛ فإنه يبعد منهم أن ينعطفوا في طلب ما يفقدون، وقد مَدّت المطيُّ

_ (1) في الأصل: يصير. (2) حديث: " لا تحل لقطتها ... " رواه البخاري من حديث ابن عباس: اللقطة، باب كيف تُعَرَّف لقطة أهل مكة، ح 2433، وأطرافه كثيرة، وانظر مواضعها عند الحديث 1349، وعن ابن عباس رواه مسلم: الحج باب تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، ح 1353، وعن أبي هريرة، ح 1355. (3) زيادة من (د 1)، (ت 3).

أعناقها (1)، وأخذت أصوابَها، فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز ترك الإنشاد؛ حملاً على ما نبهنا عليه. ويجوز للقائل الأول أن يقول: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمَ اللقطة في سياق ذكْرِه خصائص الحرم وما يتعلق به من تحريمٍ وتعظيمٍ، وليس في كلامه ما يشعر بالتعرض للمواسم ومزدحم الخلق. ثم هذا لا يختص بالحرم، بل يمكن فرضه في كل بقعة يجتمع عليها سَفْرٌ (2)، ثم ينقلبون. فصل 6008 - قد ذكرنا أصل الالتقاط وأنه واجب، أو مستحب، أو مباح، وقد تردد نص الشافعي في الإشهاد على الالتقاط، فدل بعضُ مجاري كلامه على إيجاب ذلك، وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يجب الإشهاد، وهو مذهب أبي حنيفة (3)، وفي بعض التصانيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التقط لقطة، فليشهد عليها " (4) وهذا إن صح متعلق قوي. ومن أصحابنا من قال: الإشهاد احتياط، وهو غير واجب، وهو مذهب أبي يوسف، وتعليله أن الالتقاط تردد بين الأمانة والكسب، ولا يجب الإشهاد عليهما

_ (1) " مدت المطي أعناقها " كناية عن السرعة في السير. (2) السفْر: بسكون الفاء: المسافر للواحد والجمع. (3) ر. مختصر الطحاوي: 140، المبسوط: 11/ 12، البدائع: 6/ 201، تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي: 3/ 301، 302، الاختيار: 3/ 32. وانظر هنا أيضاً مذهب أبي يوسف الذي سيشير إليه الإمام. (4) حديث الإشهاد على اللقطة رواه أبو داود: اللقطة، التعريف باللقطة، ح 1709، والنسائي في الكبرى: اللقطة، باب الإشهاد على اللقطة، ح 5808، وابن ماجه: اللقطة، باب اللقطة، ح 2505، وابن حبان: 7/ 199 رقم: 4874، والبيهقي في الكبرى: 6/ 193، والطحاوي في معاني الآثار: 136، والطبراني في الكبير: 985، 989، 990، 991. والحديث صحيح كما قال ابن الملقن في البدر المنير: 7/ 153، وانظر التلخيص: 3/ 161 ح 1370.

جميعاً، والخبر إن صبح محمولٌ عند هذا القائل على الاستحباب، كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. 6009 - ثم من أراد الإشهاد، ورآه مستحقاً أو مستحباً، فإنه لا يشترط وصف اللقطة بكمالها للشهود، أو إظهارها لهم؛ من قِبل أنه لو فعل ذلك، لم يأمن أن يجرّ ذلك لَبْساً، وخبلاً، بأن يذكر للشهود الوصفَ ويواطئوا شخصاً حتى يصف اللقطة ويدّعي الملك فيها، وهذا يظهر إذا قلنا: يجب ردّ اللقطة اعتماداً على الوصف، ولا نأمن أن يشهد أولئك له بالملك عن مواطأة؛ فإذاً الوجه الاقتصارُ على بعض الوصف. ومن أصحابنا من قال: يكفي أن يُشهد على أنه وجد لقطةً من غير أن يتعرض لشيءٍ من الأوصاف. وهذا ساقطٌ عديمُ الفائدة. فإن قيل: أتحرّمون ذكرَ تمام الوصف، أم تكرهونه؟ قلنا: ما نرى الأمر ينتهي إلى التحريم في ذلك. فرع: 6010 - إذا التقط لقطة، فجاء إنسان، ووصفها بصفاتها، فإن غلب على الظن صدقُ الواصف، فله أن يسلّمها إليه. وظاهر المذهب أنه لا يلزمه التسليم، حتى يقيم البيّنة. وإن لم يغلب على ظن الملتقط صدقُه، وجوز كذبَه مع الإحاطة بالأوصاف عن قرينةٍ، فلا ينبغي أن يسلمها إلى الواصف، وقد رأيت في هذا تردداً في جواز التسليم. والظاهر عندي أنه لا يسلِّم ما لم يغلب على ظنه صدقُه، فلو سلمه إليه عند الغلبة، ثم ثبت أن المستحِق غيرُه، وأقام المستحِقُّ بينةً، فله أن يطالب من شاء، فإن طالبَ الآخد الواصفَ، وكانت العينُ تالفةً، وغرّمه القيمة، فلا يجد به (1) مرجعاً على الملتقط. ولو غرَّم المستحقُّ الملتقطَ، فلا يخلو إما إن كان أقر ابتداءً بالملك للواصف، أو لم يقر له، ولكن اقتصر على ظاهر الرد، فإن أقر له بالملك، لم يرجع عليه إذا

_ (1) كذا في النسخ الثلاث بضمير المذكر.

غرِم؛ فإنه مُؤاخد بموجب إقراره المتقدم. وإن لم يقر بالملك لمن ردّ عليه، فإذا غرَّمه المستحِقُّ، رجع بما غرِم له؛ على المردود عليه؛ فإن قرار الضمان على من تلفت العين المضمونة في يده. فصل (1) 6011 - إذا انقضت سنةُ التعريف، وتملّك الملتقطُ اللقطةَ، فإذا ظهر مالكها، فهل يكون أوْلى بعين اللقطة؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، ذكرنا مثله في القرض. فمن استقرض شيئاً، ولم يخرجه، ولم يتصرف فيه، فأراد المقرض الرجوعَ في عينه، وقال المستقرض: أردّ بدله، فهل يجاب المقرض إلى مُراده؟ فيه خلاف قدمتُه في موضعه. ومأخذ الملك في اللقطة كمأخذ الملك في القرض، غير أن الاستقراض مبني على الإقراض (2)، والملك يحصل في اللقطة من غير تمليك من مالكها، ثم إذا ظهر المالك، كان كحضور المقرض. 6012 - ثم إذا عابت اللقطة بعد التملك، فإن قلنا: لا يملك الرجوع في عينها، فيطالِب بالبدل. وإن قلنا: يملك الرجوع في العين، فلو كانت عابت بعد التملك، كما ذكرنا، فإنه يسترجع العينَ، ويغرِّم الملتقطَ أرش النقص؛ فإن العين لو تلفت، لكانت مضمونة بقيمتها، فإذا عابت، كانت مضمونة بالأرش. وإذا كنا نفرعّ على أنه أوْلى بعين اللقطة، فلو كانت سليمة، فأراد أن يطلب بدلَها، لم يجبه الملتقط إلى مراده، فإذا عابت، فقال: لست أستردها، وقد عابت، وأرجع إلى البدل، وقال الملتقط: بل أردُّ العينَ، وأغرَم أرش النقص، فقد ذكر الأئمةُ في هذا خلافاً: فمنهم من قال: ليس له إلا الرجوع في العين الناقصة مع أرش النقص. ومنهم من قال: له الرجوع إلى البدل؛ فإن العيب قد لا يقف، ويسري.

_ (1) في (د 1)، (ت 3): (فرع) مكان (فصل). (2) أي أن تملك القرض مبنيٌّ على تسليم المقرِض.

ومن غصب عيناً فعابت في يده عيباً لا سريان له، فليس للمغصوب منه إلا استرداد العين، وتغريم الغاصب أرش النقص، وفي مسألتنا الخلاف الذي ذكرناه يتعلق بنقص يد ثابتةٍ شرعاً متعلقةٍ بحق في الاختصاص، فكان الخلاف لذلك. فرع: 6013 - قال صاحب التلخيص: من وجد بعيراً في الصحراء، فقد ذكرنا أنه لا يحل له أخذها (1). ثم استثنى من هذا مسألة، وهي أن يجد الرجل بعيراً في أيام منى ضالاً في الصحراء، وهو مقلَّد بما يقلّد به الهدايا، فظن الواجد أنه هديٌ شرد عن صاحبه. قال: نص الشافعي على أن له أن يأخذه، فإن خاف فوات أيام النحر، فله أن ينحره (2). قال الشيخ أبو علي وأئمة المذهب: هذا الذي ذكره صاحب التلخيص، فهو مصدق في نقله. ولكن ذكر بعض أصحابنا قولاً آخر: إنه لا يأخذه، ولا يحل له أخذه؛ بناءً على ما ذكرناه من أنه لا يجوز التعرض لكبار البهائم في الصحراء. وكان الشيخ القفال يُخرِّج هذين القولين على أن من وجد بدنة منحورة، ورأى ميسمَها قد غُمس في دمها، وضُرب به غاربها، فهل يحل له الأكلُ بناء على هذه العلامة، وعلى شعار الإشعار؟ والهدي المسوق إذا كاد أن يعطب، يُفعل به هذا؛ دَلالةً على أنه مأكول. ففي جواز الأكل اعتماداً على هذه العلامات قولان مذكوران في كتاب الحج، وله نظائر. كذلك الهدي المقلّد بما يقلد به الهدايا عليه العلامة، والظاهر أنه خُلِّف لانقطاعه عن المسير. 6014 - والضحية المعيّنة لجهة التضحية إذا ذبحها في أيام الذبح من ظفر بها، وقعت مجزئةً، وإن لم يصدر الذبح عن [إذن] (3) صاحبها. وهذا فيه بعض النظر؛ فنا وإن حكمنا بأن التضحية وقعت موقعها ممن ليس مأذوناً فيها، فلا يجوز الإقدام عليها.

_ (1) كذا بضمير المؤنث، فلفظ (البعير) يقع على الذكر والأنثى. (المصباح). (2) ر. التلخيص لابن القاص: 430. (3) ساقطة من الأصل.

وصاحب التلخيص استثنى هذه المسألة وحكم فيها بجواز الأخذ والنّحر، كما وصفناه. وهذا قد لا يشبه المنحور الذي على غاربه العلامة التي وصفناها؛ فإن تلك العلامة تثبتُ مسلّطةً على جواز الأكل منها، ولم يثبت في مسألتنا علامة تسلط على جواز الذبح، مع جواز أن هذه البدنة شردت عن الرفاق، وامتنع عليهم أن يلحقوها، فغاية الإمكان أن تُقدَّر أنها خُلِّفت، ولم تُنحر قصداً لضعفها عن المسير قبل أيام النحر. فهذا منتهى الإمكان في ذلك، مع التنبيه على ما فيه. 6015 - وقد يستثنى عن تحريم أخذ البدنة جواز أخذها على قصد الرد على مالكها. وهذا يخرّج على الوجهين اللذين ذكرناهما فيه، في أن من وجد مالاً ضائعاً، فأراد أن يأخذه محتسباً ليرده على مالكه، فهل له ذلك أم لا؟ وفيه الخلاف الذي مهدناه فيما تقدم. ***

باب يجمع فصولا في الجعالة

باب يجمع فصولاً في الجعالة (1) 6016 - ذكر المزنيُّ فصولاً في آخر هذا الكتاب في أحكام الجعالة، ونحن نضبط قواعدَها، ونبين طريقها وتحقيقها، فنقول أولاً: هذه معاملة أُثبتت، واحتُمل فيها جهالةٌ لمسيس الحاجة إليها، وسميت جِعالة لما فيها من ذكر الجُعل. ووجهُ مسيس الحاجة إليها أن العبد إذا أبِق، والبهيمةَ إذا شردت، ومست الحاجة إلى ردها، فقد (2) لا يستقل به صاحب الواقعة، ولا يسمح به من يتمكن منه. والغالب وقوع هذه الوقائع عند الجهل بمكان العبد الآبق، والجهةِ التي أخذ [فيها] (3)؛ وإذا كنا نحتمل جهالةَ القراض توصّلاً إلى تحصيل الأرباح من غير اضطرار وإرهاق إليها، فجهالة الجعالة أولى بالاحتمال. ثم أثبت الشارع هذه المعاملة جائزةً، على ما سنصف ذلك فيها؛ فإن منتهاها غيرُ معلوم، وكل ما كان كذلك ثبوته على اللزوم بعيد، كما ذكرناه في القراض، بخلاف المساقاة والإجارة فإن المقصود منهما مضبوط، كما تقدم ذكر ذلك. ولا تُحتمل الجَهالة في الجُعل المسمى؛ من جهة أنه لا حاجة إلى احتمالها، كما وصفنا القول في ذلك، فليكن الجُعل في هذه المعاملةِ على قياس الثمن المذكور، والأجرةِ المسماة، ويُحتمل ما وراء ذلك من غررٍ. 6017 - ثم الجعالة تُتصور على وجهين: أحدهما - أن تُعلَّق بمخاطب معيّن. والآخر - أن تُبهَم، ولا يُعيَّنُ فيها عاملٌ مخصوص.

_ (1) الجعالة: بكسر الجيم، وبعضهم يحكي التثليث فيها (المصباح). (2) في جميع النسخ: وقد. (3) في الأصل، (د 1): منها. و"أخذ فيها": أي انطلق، وأوغل ضارباً فيها.

وصورة تعليقها بمعيّن أن يقول قائلٌ لشخصٍ: إن رددتَ عليّ عبدي، فلك دينار. أو يقولَ: رُدّ عليَّ عبدي، ولك دينار؛ فتصبح المعاملةُ كذلك، على صيغة الشرط، وعلى صيغة الأمر. ثم لم يشترط أئمة المذهب القبولَ من المعيَّن للعمل، واكتفَوْا بصدور الشرط من الجاعل. وهذا فيه بعض الاحتمال، وهو بعينه كما ذكرناه فيه، إذا قال (1 لمن يوكِّل: " بع عبدي هذا "، فقد أوضحنا أن الظاهر أن القبول لا يشترط في هذه الصيغة، وإنما التردّد، فيه إذا قال 1): وكلتك بيعَ هذا العبد، فيحتمل أن يقال: إذا قال الجاعل لمن يخاطبه: جعلت لك على رد آبقي ديناراً، فاشتراط القبول هاهنا لا يبعد أن يخرّج على الخلاف الذي ذكرناه في الوكالة. وبالجملة الجعالة المعلّقة بمعيّن لا يمتنع أن تكون كالوكالة في اشتراط القبول، ولا يمتنع مع ما ذكرناه الفرقُ؛ من جهة أن الوكالة لا تحتمل إبهام الوكيل المستعمل، والجعالة تحتمل ذلك؛ فإنه لو قال: أذنت لكل من أراد في بيع عبدي هذا، لم يصح التوكيل على هذا الوجه. ولو قال: من رد عليّ عبدي الآبق، فله كذا، صحت الجعالة على هذا الوجه. فهذا ما أردناه. 6018 - ثم قد أوضحنا أن الجهالة احتملت في الجعالة لمسيس الحاجة، فلو فرضى الجعالة، حيث لا جهالة، مثل أن يقول القائل لمن يخاطبه: إن خطت ثوبي هذا، فلك كذا، أو أبهم، فقال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، ففي صحة الجعالة حيث لا جهالة، ولا حاجة إلى احتمالها وجهان. والضابط لمحل الخلاف أن ما أمكن الاستئجار عليه على الشرائط المذكورة في الإجارة، ففي عقد الجعالة فيه ما ذكرناه، والأصح منعُ الجعالة إذا أمكنت الإجارة. 6019 - ثم من حَكم بالجعالة حيث تصح، قال: إن المجعول له لا يستحق من

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (د 1).

الجُعل شيئاً ما لم يتم العمل. هذا متفق عليه، حتى لو ردّ العبدَ الآبق من مسيرة فراسخ إلى قرب البلدة، ثم سيَّبه، أو تركه على مكانته مقدوراً عليه، ولم يردّه، فلا يستحق مما سمي له شيئاً، ولا يستحق -والحالة هذه- أجرَ المثل أيضاً؛ فإن موضوع هذه المعاملة على تحصيل تمام المقصود من العمل، فإذا لم يحصل، لم يثبت للعامل استحقاقٌ. هذا إذا أضرب العامل قصداً. ويتصل به ما لو عسُر عليه إتمام العمل؛ فإنه لا يستحق الجُعْلَ، وإن لم يقصِّر وفاقاً، وكذلك القول فيه إذا مات العبدُ في الطريق. والجملة أن تمام العمل لا بد منه، ولا يحصل استحقاقُ جزء من الجُعل دونه. 6020 - ولو فسخ الجاعل الجعالة، انفسخت، ولكن إن جرى الفسخُ على علمٍ من المجعول له قبل الخوض في العمل، فقد ارتفعت المعاملة. ولو خاض المجعول له في العمل، أحبطنا عمله. وهذا على قياس فسخ القراض قبل الخوض في العمل. ولو عمل العامل بعض العمل، وكان متمادياً إلى استتمامه، ففسخ الجاعل، نفذ فسخُه، وفائدة نفوذه سقوطُ الجعل المسمى بالكلّيّة، ولكن لا يحبَط عمل العامل، وله أجر مثل عمله. وقد ذكرنا نظير ذلك في القراض. وهذا هو الذي يليق بمصلحة المعاملة. أما سقوط الجعل، فلثبوت الجواز من الجانبين، وأما منعُ إحباط عمله، فسببه أن يثق العامل بالخوض في عمله، ولو لم يكن كذلك، لما حصلت الثقة، ولما رغب العامل في تعريض عمله للإحباط. ولو فسخ الجاعل المعاملة من حيث لم يشعر العامل، فهذا لا يبعد تخريجه على أن الوكالة هل تنفسخ على غيبة من الوكيل قبل أن يبلغه الخبر؟ والظاهر أن الجعالة تنفسخ في مسألتنا؛ فإن مقتضاها ما ذكرناه من الجواز، وقبول الجهالة. والله أعلم. 6021 - فهذه صيغةٌ في الجعالة معلقة بمعيّن مخصوصٍ، ويجوز فرضها مع

شخصٍ واحد، ومع أشخاصٍ معينين، فإذا قال لنفرٍ: إن رددتم عليّ عبدي الآبق، فلكم كذا، فإذا ردّوه، واشتركوا في رده، استحقوا الجُعل. ثم ظاهر كلام الأصحاب أنهم إذا كانوا ثلاثة وردّوا العبدَ، فالجعل مفضوضٌ عليهم، نظراً إلى الرؤوس، دون أقدارِ الأعمال؛ وذلك أن العمل في أصله مجهول، فلا يمكن رعاية مقداره في الفضّ والتفسيط. وليس يبعد عن قاعدة المذهب أن نقول: الجعل إنما يدفع إليهم عند تمام العمل، وإذا تم، فقد انضبط العمل، وتبين ما صدر من كل واحد؛ فيجوز أن يُفضَّ الجُعل على أقدار أُجور أمثالهم. 6022 - ومن حُكم الجعالة أن العمل إذا تم، استقر الجُعل، ولزم لزوماً لا يُدرَأ، وانتهر، بانتهاء العمل مقتضى الجواز، وسلطان الفسخ. 6023 - والأصل المقصود في الجعالة الذي منه ينشأ الإشكال على الناظر ما نصفه، ونبيّن ما فيه على تدريجنا في محاولة البناء. فإذا قال القائل لمن يخاطبه: إن رددت عبدي الآبق، فلك دينار، فهذا في ظاهره يقتضي استدعاءَ العمل من المخاطب دون غيره. وهذا يتأكد في صيغة الشروط؛ فإن المطلق منها ما يقع التعرض له على التعيين، حتى يمتنعَ قيامُ غيره مقامه. ولكن المعاملات تُبنى على مقاصد الخلق، لا على صيغ الألفاظ، لا سيّما إذا عم العرف، في بابٍ، فهو المتبع. ومما نعلمه من مقصود الخلق في هذه المعاملة أن من قال لمعيّن: إن رددت عبدي، فلك كذا، فقد لا يستمكن المعيّنُ من تعاطي ذلك بنفسه على الانفراد، والغالب أن حاجته تمس إلى الاستعانة بغيره، فلا معنى لحمل اللفظ على قصر العمل في المخاطب، ولكن يتعيّن حمله على تحصيل المقصود، والسعي فيه بأي وجهٍ أمكن، حتى لو استعان العامل بمن أراد بأجرة يبذلها، أو بأن يتبرع عليه المستعان بالإعانة، فإذا حصل المقصود، فلا نظر إلى جهات العمل بناءً على مقصود الباب. وقد قال الشافعي: إذا عيّن الجاعل شخصاً في عمل الجعالة، فأعانه آخر، قلنا

للعامل: ماذا أردتَ بعملك، ومن أردته به؟ فإن زعم أنه أراد إعانة العامل متبرعاً، فللعامل تمامُ الجُعل، نظراً إلى ما مهدناه الآن. وإن زعم أنه قصد إعانة الجاعل فنفضُّ الجُعلَ عليهما، ونُسقط منه قدراً، ثم يعترض الفض على الرؤوس أو على أقدار الأعمال؟ والظاهر عندنا في هذا المقام الفض على أقدار الأعمال، والله أعلم. 6024 - ومما يتعلق بالقاعدة التي نحن فيها أنه إذا قال لزيد: رد عبدي الآبق، ولك عشرون درهماً، وقال لرجل ثانٍ: ردّ عبدي، ولك ثلاثون، وقال لثالث: رُدّ عبدي ولك ستون، فإذا اشتركوا في العمل وردوا العبد، فلكل واحدٍ منهم ثلثُ الجعل الذي سمي له، نصَّ الشافعي على ذلك. فإن قال قائل: ينبغي ألا يستحق واحدٌ منهم شيئاً؛ فإنه علق استحقاق كل واحدٍ لما جعله له بأن يُتم العمل، ولم يتم واحدٌ منهم العملَ، ولم يعلق المعاملة بهم، على الاشتراك، ولم يقل: إن رددتم؟ قلنا: هذا خارج على الطريقة التي ذكرناها في اتباع المقصود وتحكيمه في الغرض المطلوب من غير رجوعٍ إلى صيغة اللفظ؛ فهذا مبنى الباب، وهو متفق عليه بين الأصحاب. ولا حكم لبعض العمل فيها، قبل حصول المقصود، كما ذكرناه في ترك العامل عملَه في أثناء الأمر، وإذا حصل المقصود، فهو الأصل، وعليه التعويل. هذا كله إذا علّق المعاملة بمعينين. 6025 - فأما إذا أبهم الشرط، ولم يعيّن، وقال: من رد عليّ عبدي الآبق، فله دينار، فالمعاملة تصح على هذا الوجه اتفاقاً، وسببه ما قررناه من بناء العمل على المقصود؛ فإن الرد قد لا يتمكن منه معيّن، ومن يقدر عليه لا يكون حاضراً، فإذا أشاع في الناس اشتراطَ الجُعل، واستوى فيه من شهد، ومن غاب، ترتب عليه حصول الغرض. وهذا حسنٌ في بابه. ولا يلزم مثله في القراض؛ فإن تعيين العامل ثَمَّ ممكنٌ، والغالب مسيسُ الحاجة إلى إبهام العامل في الجعالة.

ولو قال: من رد عبدي، فله دينار، فتبرع إنسان بردّه، وما كان بلغه ذكرُ الجُعل على الردّ، فلا يستحق الرادُّ المتبرع شيئاً. ولو رد إنسان العبدَ، وبنى عملَه على أنه يستحق الأجرة على كدِّه، وقد يعتقد ذلك كثير من الناس في العادات، ويرَوْن أن حق عملهم ألا يحبَط، فإذا جرى الرد على هذا القصد، وقد سبق من صاحب العبد ذكرُ جُعلٍ على الإبهام في العامل، فهذا مما تردد فيه شيخي، إذ طُرحت عليه المسألةُ، وزعم أن ثبوت الجُعل للرّادّ ممكن؛ فإن لفظ الشرط على الإبهام قد شمله بشيوعه وعمومه، وقد حصل المقصود بالرّد. 6026 - والظاهر عندنا القطعُ بأنه لا يستحق شيئاً؛ فإنه لم يخصَّص بالمعاملة تعييناً. ولم يبلغه لفظُ الجاعل على مقتضى العموم، وإذا انتفى الأمران، تجرد عملُه عن [العوض] (1). وسر الباب أنا إنما احتملنا إثبات الجُعل مع إبهام العامل ليشيع اللفظُ في الناس ويستحثهم الجُعْل على إتمام العمل، وتحصيل المقصود، حتى كأن شيوع الخبر فيهم في دُعائهم إلى تحصيل المقصود ينزل منزلة تعيين العامل وتخصيصه بالمعاملة. فإذا وقع [العمل] (2) من غير تعيينٍ، ولا بلوغِ خبرٍ، كان خارجاً عن الضبط بالكليّة. 6027 - ولا ينبغي أن يعتقد الفقيه في مسائل هذا الباب فرقاً بين أن يذكر الجاعل لفظَ الشرط، فيقول: إن رددتَ، وبين أن يقول: رُدَّ عليّ، ولك دينار؛ فإن الأمر معه معنى الشرط، ولهذا نجزم جوابَه بالعربية جَزْم الجزاء، فنك تقول: ائتني أُكُرمْك، كما تقول: إن أتيتني أكُرمْك. 6028 - ولو أثبت الجاعل جُعلاً مجهولاً، أو أثبت مكان الجُعل خمراً أو خنزيراً، فإذا عمل العامل، استحق أجر المثل. ولو ذكر الجاعل ثوباًً معيناً، وكان مغصوباً، أمكن تخريجه على جَعْل المغصوب صداقاً، أو بدلاً في الخلع حتى يخرّج على قولين في أن الرجوع إلى قيمة ما يقابل

_ (1) في الأصل: التعلق. (2) في الأصل: العامل.

الجُعل، وهو أجر المثل في هذه المعاملة، أو إلى قيمة العوض المسمى. ويمكن أن يقال: نقطع هاهنا بثبوت أجر المثل؛ فإن العوض ركنٌ في المعاملة، بخلاف الصداق، والعلم عند الله تعالى. 6029 - ولو قال الرجل لإنسانٍ: رُدّ علي عبدي الآبق، ولم يسمّ له شيئاً، فإذا ردّه هل يستحق عليه أجرَ المثل؟ هذا يخرّج على ما مهدناه في الإجارة فيه إذا استعمل رجلاً في غسلِ ثوبٍ، أو خياطته، أو ما عنّ له من المقاصد، ولم يذكر له أجراً، وفيه الاختلاف المعروف بين الأصحاب. 6030 - ولو لم يستعمل أحداً، ولكن ردّ العبدَ رادٌّ من غير إذنٍ من المردود عليه، فإنه لا يستحق عندنا شيئاً، خلافاًً لأبي حنيفة (1)، ولا فرق بين أن يكون الرادُّ معروفاً برد الإباق متعرّضاً لهذا الشأن، وبين ألا يكون كذلك، فلا يستحق شيئاً إذا لم يذكر صاحبُ العبد جُعلاً، ولم يستعمل في رد العبد أحداً. ومن يَرُدّ العبد من غير أمرٍ هل يصير ضامناًً للعبد بإثبات اليد عليه؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما في أخْد الرجل المالَ على قصد الرد إلى المالك. ...

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 141، المبسوط: 11/ 17، البدائع: 6/ 203، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 351 مسألة: 2049، الاختيار: 3/ 35.

باب التقاط المنبوذ

باب (1) التقاط المنبوذ 6031 - وصل الشافعي هذا البابَ بمنقرض اللقطة لمّا كان فيها التقاطٌ، والغرض منه الكلامُ في أخذ الصبي الضائع الموضوع في قوارع الطرق، على الاعتياد فيه. وللصبي الضائع اسمان مأخوذان من طرفي حاله، فيسمى المنبوذ؛ أخذاً من نبذه وطرحه، ويسمى اللقيط أخذاً من لقْطه وأخذه. ثم الحكم الكلي فيه أنه إذا وُجد صبي في مضيعة، افتُرض على الكافة كفايتُه، والقيامُ بما يصلحه، ويقيه عن الهلاك، فإن قام بذلك قائم، سقط الفرضُ عن الكافّة بقيامه، وإن لم يقم به أحدٌ حتى ضاع، حَرِجَ أهلُ الناحية، على تفاصيلَ سنذكرها، إن شاء الله تعالى، في فروض الكفايات. وكان يجمعها شيخي في كتاب السِّيَر إلحاقاً لها بالجهاد الذي يقع على الكفاية. وروي: " أن عمر استشار الصحابة رضي الله عنهم في أمر اللقيط، فأجمعوا على أن نفقته في بيت المال " (3). فإذاً لكل من يستقل بأمر هذا الطفل، على ما سنذكر

_ (1) تستمر نسخة (د 2) أصلاً، ويستمر معها (د 1)، (ت 3)، ويضاف إليها (ت 2). (2) أثر عمر رضي الله عنه أنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط فقالوا: " في بيت المال ". هو بهذا السياق غير معروف، فقد قال الحافظ في التلخيص: لم نقف له على أصل. وإنما يعرف من قصة أبي جميلة، ففيها أن عمر قال: " وعلينا نفقته من بيت المال ". وقصة أبي جميلة هي أن أبا جميلة -واسمه سنين- وجد منبوذاً فجاء به إلى عمر، فقال: " ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ " فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال: " اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته ". رواه مالك في الموطأ (2/ 738)، والشافعي (ترتيب المسند برقم 456). وزاد عبد الرزاق في مصنفه (9/ 14 رقم 16182): " وعلينا نفقته من بيت المال ". وعلقه البخاري بمعناه=

الشرائطَ المرعية في اللاقط أن يبتدره فيأخذه، ابتدارَه اللقطةَ التي يجدها، ويثبتُ له حقُّ حضانته، كما يثبت لواجد اللقطة حقُّ الاختصاص بها، ولا حاجةَ إلى مراجعة الوالي في ابتداء الأخذ، ولا في دوامه. هذا مجمع عليه فليعتقده الفقيه كذلك في صدر الباب. 6032 - ثم افتتح الشافعي الباب، وصدّره بذكر الأموال التي يصادفها اللاقط مع اللقيط. ونحن نذكر أولاً- أن اللقيط له يدٌ تثبت على المال كما للبالغ يدٌ؛ فإنا لا نشترط في اليد الاستمكانَ من التصرف، والاستقلالَ بالذات، بل نكتفي في اليد بظهور اختصاص ذي اليد بما تحت يده. ونحن نعلم أن القميص الذي على الطفل في ظهور اختصاصه به، كالقميص الذي على البالغ المتصرف. ومن خلّف أطفالاً وأموالاً، فهم أصحاب الأيدي فيها، ولو فرض ادعاءٌ، فلهم حكم اليد في الأصل المعتبر في الخصومة. 6033 - ثم تكلم الأصحابُ وراء ذلك في يد الطفل، فقالوا: ما تحقق اتصاله به على ما يُعتاد في مثله، فهو تحت يده، ويدخل تحته لباسُه أوْ خِرقةٌ كان لُفَّ فيها، وما فُرش تحته وِطاءً، وما طرح عليه غطاءً، كل ذلك تحت يده، ويتصل بما ذكرناه الدُّرَيْهمات التي تُلفى في جيبه، أو مشدودةً على طرف ثوبه. وكذلك لو صادفنا دُريْهماتٍ تحت الفراش، فهي حكم الفراش، وكذلك لو وجدنا دراهمَ مصبُوبةً على هذا الطفل من فوق، وكذلك لو وجدنا دابَّهً مشدودة بطرف ثوبه، فهي تحت يده. فأما إذا وجدنا دَابّةً ترتع، ولم تكن متصلة به، ووجدنا على البعد منه ثياباً، أو دراهمَ، فهذه الأشياء خارجةٌ عن يده، والمحكّم في هذا كله العرفُ، والعادةُ.

_ = (الشهادات، باب إذا زكى رجل رجلاً كفاه، 50/ 324 فتح) ر. تلخيص الحبير: (3/ 167، 169 ح 1382، 1384).

ومن نبد صبياً، فإنه قد يجمع إليه ثياباً، ونفقةً حتى يتخذها لاقطُه عُدةً في تربيته، ثم في ذلك عادة مضطربة (1). 6034 - والغرض من هذا الفصل يحصلُ بذكر مراتب: المرتبة الأولى - في بيان ما يُعدّ تحت يد المنبود وفاقاً، وهي ما يتصل به لُبساً، أو شداً، أو افتراشاً، فالثياب الملفوفة عليه، أو المخيطة به لا يخفى أمرها، وكذلك الثياب التي هي موضوعةٌ عليه؛ فإنها ملتحقةٌ بالمفروشة، والوطاء الذي هو مفترشه بهذه المثابة. وألحق الأصحاب بالفراش الدراهمَ الموضوعةَ تحت الفراش، والمصبوبةَ فوق الفراش، أو على الطفل. وأما الشدُّ، فبيّنٌ، ومن وجوهه شدُّ دابة به. 6035 - فأما المرتبة الأخرى فنقول فيها: كل ما لا يتصل بالصبي من الوجوه التي ذكرناها، ونراه بعيداً منه، كالدابة تُشد بشجرةٍ أو غيرها، وموضعها بعيدٌ عن موضع الطفل، فليست في يده، وكذلك الثوب [المطروح] (2) بعيداً منه، والدابة المسيّبة وإن قرب مرتعُها منه، فإنها في حكم البعيدة؛ فإنا إنما نتوصل إلى إثبات اليد من الجهة التي ذكرناها في العرف؛ إذ قلنا: [يُنبد الطفل ومعه] (3) ما يظهر للعاثر عليه أنه ماله. وهذا لا يتحقق فيما يبعد (4). 6036 - وأما إذا كان بالقرب منه دراهمُ أو ثيابٌ أو دابة مربوطة، فقد تحقق القرب والاتصال من الوجوه التي ذكرناها، ففي هذه الأشياء وجهان: أحدهما - أنها تحت يد اللقيط. والثاني - أنها ليست تحت يده، وسبب الاختلاف اضطراب القول في العرف،

_ (1) (د 1)، (ت 3): سقط لفظ (عادة) ووصفت بـ (مضبوطة). (2) في الأصل، (د 1)، (ت 3): المطرح. (3) في الأصل: " تمهيد يد الطفل إذا كان معه ... ". (4) هذه هي المرتبة الثالثة.

وكل ما يُتلقى من العرف، فوفاقه من ظهور العرف مع انتفاء الريب. والوفاقُ في نفيه لانتفاء العرف من غير شك، والاختلاف سببه تطرّق الريب إلى العرف وإمكان تقابُل الظنون. وألحقنا الدابة المسيَّبة، وإن صادفناها قريبةً بالمرتبطة البعيدة؛ لأن الدابةَ إذا كانت مسيّبةً، فلا ضبط لها، ويستحيل أن [يُعوِّل] (1) من يبغي ضمَّها إلى الطفل على قربها، ثم يتركها مسيَّبةً. 6036/م- ولو صادفنا تحت الطفل دفيناً في الأرض، فهو بمثابة ما يبعد، وإن كانت مسافة العمق بحيث لو فرضت بين الطفل وبين الثوب المطّرح، لكانت قريبةً داخلةً في الوجهين. والسبب فيما ذكرناه أن الدفن في قصد الضم إلى الطفل مما لا يُعتاد؛ إذ لا يعثر على الدفين لاقط المنبود إلا على وفاق. واضطرب أصحابنا في صورةٍ، وهي أنا إذا وجدنا في أدراج ثوب الطفل رقعةً مضمونُها: أن تحت الطفل دفينٌ، وهو له، فليأخذه لاقطه، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من لم يبالِ بالرقعة، وأجرى القياس في الدفين على ما ذكرناه، ومنهم من ألحق الدفينَ بسبب الرقعة بما هو تحت يده؛ فإن مثل هذا غير منكر في العرف. ثم من عوّل على الرقعة فيما ذكرناه، فليت شعري ما قوله فيه إذا أرشدت الرقعة إلى دفينٍ بعيدٍ، أو إلى دابةٍ ربيطةٍ بالبُعد، وهذا فيه تردّدٌ ظاهر؛ تخريجاً على ما ذكرناه من الخلاف في الدفين تحت الطفل، أو قطعاًً عن تلك الصورة، والعلم عند الله تعالى. 6037 - وممَّا نختم به هذا الفصل أن من لقَطَ المنبوذَ، صارَ أولى به، وأحقَّ بحضانته، إذا كان من أهل الحضانة، ولا يسوغ لأحدٍ مزاحمتُه. أما الأموال التي تكون تحت يده، ففيها وجهان: أحدهما - يكون أولى بحفظها. والثاني - أنه يتعين عليه رفعها إلى القاضي.

_ (1) في الأصل: يقول.

ومن قال: يتعين رفعها، إلى القاضي، احتج بأن اليد لا تثبت على مال الطفل إلا بولايةٍ خاصة، أو عامّة، وهذا اللاقط لا ولاية له على العموم، ولا على الخصوص. ومن تمسك بالوجه الثاني، احتج بأنه إذا صار أولى بحفظ المالك من السلطان، فلا يبعد أن يصير أولى بحفظ ملكه. والقائل الأول يقول: قد ثبتت الحضانة حيث لا تثبت ولايةُ المال؛ فإن الأم لها حق الحضانة، وهي أولى بحضانة الطفل الذي لم يبلغ مبلغ التمييز من الأب، ثم لا ولاية لها في المال. وهذا الذي ذكرناه في ثبوت حق اليد فحسب، فأما التصرف في مال اللقيط من غير مراجعة الوالي، فلا سبيل إليه، كما سنصفه بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل. 6038 - ومما حكاه بعضُ من يوثق به عن القاضي أنا لو صادفنا منبوذاً في دارٍ أو بيتٍ، فتلك البقعة تحت يد المنبوذ. وهذا حسنٌ فقيه. وإن كان يرتاع أولُ الفكر منه؛ فإنّ صورة يد الطفل كصورة يد البالغ، وإن كان البالغ قد يذبُّ عما في يده، والطفلُ لا يذب. 6039 - ولا يبعد عندي أن تُرتَّب يدُ البالغ على المراتب الثلاث، إن فرض نزاعٌ، وأردنا أن نعلّق حكماً بيدٍ، حتى يطرد الوفاق نفياً وإثباتاً، والخلاف على ما رتبناه. وقد جرى ذكر الدفين في الفصل، فذكرنا أمر الركاز وما يميّزه عن اللقطة. وسأعقد فيه فصلاً في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " وإن كان ملتَقِطه غيرَ ثقة، نزعه الحاكم منه ... إلى آخره " (1) 6040 - الفاسق ليس من أهل الالتقاط للمنبوذ؛ فإنه أمانة محضةٌ صادرةٌ عن ائتمان الشرع، والشرع لا يأتمن الفاسق، سيّما في الأمور الخطيرة، وإن كان الملتقِط مما

_ (1) ر. المختصر: 3/ 131.

لا يظهر للناس منه إلا الخير، فهو من أهل الالتقاط ولا يتوقف ثبوت حقِّه في الحضانة إذا التقط، على ظهور عدالته ولكن حق السلطان أن يرعاه، ويبحث عن حاله، فإن اطّلع منه على خيانة خفية، انتزع اللقيط من يده، وإن ظهرت له عدالته، أقر المنبوذ تحت يده. ولا يؤذيه بنصب رقيب عليه يخالطه، ويداخله، ولكن إن فعل هذا، فعل من حيث لا يتأذّى. ثم إذا وثق، انكفّ عنه. 6041 - ونص الشافعي على وجوب الإشهاد على التقاط المنبوذ، وردّد نصه في وجوب الإشهاد على التقاط اللقطة. أمّا القول في اللقطة، فقد تقدّم. وأما الإشهاد على التقاط المنبوذ، فالترتيب الحاوي لما قيل فيه أنا إن أوجبنا الإشهاد على اللقطة؛ فاللقيط بذلك أولى؛ فإن الأمرَ فيه أخطر، والمحذور أعظم وأظهر؛ فإن الملتقط إذا لم يكن موثوقاًً به باطناً، وإن كان يُظهر العدالة- قد يُخفيه، وقد يدعي رِقَّه، وهذا أعظم من تلف الأموال. وإن لم نوجب الإشهاد على اللقطة، ففي وجوب الإشهاد على لقْط المنبود أقوالٌ: أحدها - أنه لا يجب تعويلاً على ظن الخير، فإنه لو قُدّر غيرُه، لم يندفع بالإشهاد شيء، ولم تنحسم الغوائل. والقول الثاني - أنه يجب الإشهاد؛ فإن الملتقط ليس متمسكاً بولاية عامةٍ، ولا بولاية خاصة، وإذا أراد الواجد أن يتصرف تصرُّفَ الولاة عند مسيس الحاجة، فينبغي أن يُسند ما هو فيه إلى الإشهاد، حتى يدنو حاله من حال الولاةِ، ولهذا نظائر مضت، وسيأتي على القرب شيء منها. والقول الثالث - أن الملتقِط إن كان ظاهِر العدالة، لم نكلفه أن يُشهد، وإن كان مستورَ الحال، نكلفه أن يشهد، حتى يصبر الإشهاد قرينةً تُغلب على الظن الثقة كالعدالة إذا ظهرت.

فصل قال: " ويأمره بالإنفاق منه عليه بالمعروف ... إلى آخره " (1). 6042 - مضمون الفصل القول في نفقة اللقيطِ. واللقيطُ لا يخلو إما أن يكون معه مالٌ، أو لا يكون، فإن كان معه مالٌ، فالإنفاق عليه من ماله. ولكن لا خلاف أن الملتقط لا يتولى ذلك بنفسه، مع القدرة على مراجعة الحاكم، بل يرفع الأمر إليه، ليرى فيه رأيه، فإن رأى أن ينزعه من يده، ويدفعه إلى أمين ينفق عليه، جاز، ولو أذن له في أن يصرف ما صادفه للطفل إلى نفقته، جاز ذلك؛ إذ لا فرق بين أن يكون المنصوب أجنبياً، وبين أن يكون المنصوب الملتقط. وذكر العراقيون وجهاً بعيداً: أن القاضي لا يأذَن له في صرف مال الطفل إلى نفقته. وهذا بعيدٌ لا أعرف له وجهاً، ولا آمن أن يكون غلطةً من ناسخ. فإن دفع ماله إلى أمين لينفقه عليه، أنفق ذلك الأمين بالمعروف من غير سرفٍ، ولا تقتير، يجر ضرراً على الطفل. 6043 - ولو أنفق الملتقط مال الطفل عليه، وفي البلد قاضٍ، ضمن إذا لم يراجعه والخلاف الذي ذكرناه في الفصل الأول في ثبوت حق الحفظ له في المال، فأما التصرف، فلا يملك الاستبدادَ به، مع القدرة على مراجعة الحاكم، وإنما له ولاية الحضانة. وإن لم يكن في البلد حاكم، فتولى الملتقطُ الإنفاق بنفسه من مال الطفل، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنه يفعل ذلك، ويملكه. والثاني - لا يملكه. والثالث - إنه يملكه إن أشهد على كل إنفاق، ولا يملكه إذا لم يشهد.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 131.

وهذا الخلاف بمثابة الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا هرب الجمّال، ومَسّت حاجةُ المستأجِر إلى الإنفاق على الجمال. فإذا أنفق من مال نفسه، فهل يملك الرجوع على الجمّال؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه. وذهب بعض الأئمة إلى ترتيب إنفاق الملتقط من مال اللقيط على إنفاق المستأجِر في مسألة هرب الجمّال، وجعل إنفاق الملتقط أولى بالجواز لسببين: أحدهما - أنه ذو حضانة وولاية في اللقيط، فلا يبعد أن يتصرف في ماله إذا عسُرت مراجعةُ الوالي. والآخر - أنه إذا أنفق من ماله على الجمال، فإذا أراد الرجوع، فإنما يرجع بحق نفسه على غيره، فبعُد ذلك بعضَ البعد، وليس كذلك إنفاق الملتقط على اللقيط؛ فإن الذي يرتقبه في عاقبة الأمر أن يصدَّق، وإذا كان مؤتمناً في نفس اللقيط، لم يبعد أن يؤتمن في ماله إذا عسر الرجوع إلى الوالي. هذا كله إذا كان للطفل مالٌ. 6044 - فأما إذا لم يكن له مال، فنفقته في سهم المصالح. أجمع عليه علماء الصحابة رضي الله عنهم، كما حكيناه في أول الباب. ومضمون هذا الكلام الآن يتصل بطرفٍ من الإيالة (1)، وقلّما يخوضُ الفقهاء فيها، فيسلمون عن خبطٍ. ونحن نذكر ما قيل في ذلك، ثم نوضح الحق: 6045 - فإن لم يكن في بيت المال مالٌ، ولم يتمكن الإمام من الاستدانة، فنفقة المنبوذ على أهل اليسار والاقتدار من المسلمين، وهذا ركنٌ عظيم في الإيالة، فلا شك أن السلطان لا يقدر على فضّ نفقته على جملة الموسرين في الصُّقع والناحية، فضلاً عن أهل خِطةِ الإسلام، وليس هذا مما ينفصل الأمر فيه بقرعة؛ فإنها إنما تجري عند انحصار الجهات، أو الأشخاص. فقال العلماء: يضرب السلطان نفقته على من يراه من أهل البلدة، ويكون له رأي في ذلك، حتى لا يهجم من غير تعلق

_ (1) الإيالة: السياسة.

بوجهٍ من النظر، فإن استوت عنده جهات النظر، فليس إلا التخيّر. 6046 - ثم اختلف الفقهاء في أن من أنفق على لقيطٍ لا مال له، أوعلى فقيرٍ مضطر بالغٍ بأمر الإمام، ولم يقصد التبرعَ بما يخرجه فهل يجد مرجعاً، أم لا؟ فذهب طائفة من المحققين، وإليه مَيْلُ القاضي: أنه لا يجد مرجعاً. وذهب آخرون إلى أنه يرجع؛ فإن وجوب الإنفاق لا يُسقط حقَّ الرجوع بالقيمة؛ فإن من كان يملك طعاماً فاضلاً عن حاجته، وصادف مضطراً مشرفاً على الهلاك، فعليه تسليمُ الطعام إليه بالقيمة، فليكن الأمر فيما نحن فيه كذلك. والوجْه في هذا عندنا أن المضطر الذي لا يملك الطعامَ، ولا يقدر على التوصّل إليه إذا كان له مالٌ، فصاحب الطعام يُطعمه بالقيمة، كما أطلقه الأصحاب، فأما من لا يملك شيئاً، وظهر افتقاره، واضطرارُه، فهو عيالٌ على المسلمين، ولكن مرجعه إلى بيت المال إن كان في بيت المال، مالٌ، فإن لم يكن في بيت المال مال، وحَكَمَ الإمامُ مجتهداً، أو على حكم [التخيّر] (1) على من يرى، فأنفق عليه، فلا مرجع للمنفِق على الفقير إذا أيْسر، ووجدَ وفاءً. ولكن هل يثبت له الرجوع على بيت المال إذا وُجد فيه مال في الاستقبال؟ هذا مختلفٌ فيه، ولعلنا نقرر من ذلك طرفاً صالحاً عند ذكرنا أحكام القضاة والولاة، وما لهم وعليهم. 6047 - ثم إذا دفع القاضي مالَ الطفل اللقيط إلى ملتقِطه لينفق عليه، فالقول قول المنفق فيما ادّعى إنفاقَه مع يمينه إن حلّفه اللقيطُ بعد بلوغه. وهذا إذا ادّعى قصداً أو أمراً وسطاً معروفاً في الإنفاق. وإن ادعى مزيداً على المعروف، لم يحلَّف، وكان مُقرّاً على نفسه بالعُدوان، فيلتزم الضمان، ولا معنى لتحليفه إلا أن يقع النزاع في عينٍ من أعيان المال (2)، فالقول قوله: إني أخرجتها، وإن كان يلتزم لأجل السَّرف ضمانَها.

_ (1) في الأصل: (التخيير) والمثبت من (د 1) وحدها. وهو الصواب إن شاء الله. (2) أي فيحلّف على أنه أخرج العين محل النزاع.

وقد قال الشيخ أبو بكر القفال: إذا ادّعى الغاصبُ تلف العين المغصوبة، والتزم قيمتها، فقال المغصوب منه: عين مالي قائمةٌ غيبتَها، وأنت تبغي الاستبدادَ بها، وبذْلَ قيمتها، فالقول قول الغاصب. وهذا لا ريب فيه، ولكنه بدعٌ قد يغفل القيَّاسُ عنه؛ فإن الأصل بقاء العين، وليس الغاصبُ مؤتمناً، فيصدّق، وتغليظ الشرع عليه بيّن، ولكن لو لم نصدقه، وحلفنا المغصوب منه، فحكم ذلك أن يُحبَسَ الغاصبُ، ولو حُبس، فكيف خلاصه لو كان صادقاً؟ وهذا محالٌ، لا سبيل إلى إفضاء الحكم إليه. 6048 - ولو قال الحاكم للملتقط: أنْفق عليه من مالك، لترجعَ به، فقد ذكر الأئمَّة في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز هذا، فإن في تجويزه تسليطُه على أن يتملك على الغير مالاً بنفسه لنفسه بمعاملة يستبد بها، من غير تمسكٍ بالشفقة العظمى. وهي شفقة الأبوّة. وقد ذكرنا نظيرَ ذلك في هرب الجمال، إذا قال القاضي: أنفق وارجع. وهذا الذي ذكره الأصحابُ هاهنا يستدعي مَزيد تفصيلٍ؛ فإن اللقيط إن انتهى إلى حالة الضرورة، فقد قررنا القولَ في أن الإنفاق عليه من بيت المال، وإن لم يكن في بيت المال مالٌ، فالإنفاق هل يُثبت رجوعاًً؟ وإن أثبت فعلى من؟ ولا ينبغي أن يكون ما ذكرناه من الاختلاف هاهنا موضوعاً فيما يسدُّ الضرروة، ولكن الإنفاق على اللقيط ينقسم، فمنه ما يقع سدّاً للضرورة، ومنه ما يقع وراء سدّ الضرورة، وإن كان لا يبلغ السَّرفَ، وذلك هو الذي يتعلق بنظر الوالي وإذنه، ويجوز أن يُفرض الرجوع فيه على اللقيط إذا بلغ، وعلى هذا يتفرع ما ذكرناه. 6049 - ولو استقرض من الملتقط مالاً وقبضه ثم دفعه إليه، وأمره بالإنفاق على الطفل، فهذا جائز وجهاً واحداً، فيقع الاستقراض الأول من الحاكم على الطفل، ثم يصير ما قبضه مالاً للطفل، فيعود التفصيل إلى ائتمانه الملتقطَ على الإنفاق من مال الطفل.

فصل قال: " لو وجده رجلان؛ فتشاحّا فيه، أقرعتُ بينهما ... إلى آخره " (1). 6050 - تعرّض الشافعي لازدحام الملتقِطَيْن، وتنازعهما في حق الحضانة. والقول في تحقيق ذلك يستدعي تقديم صفات من هو من أهل الالتقاط، ومن ليس أهلاً له، ونحن نوضح ذلك، ثم نبني عليه تقدير الاجتماع؛ حتى نبيّن أن من لا يكون من أهل الالتقاط، ليس من أهل الزحمة، وإنما تُفرض الزحمة بين شخصين كل واحد منهما من أهل الالتقاط. فنقول: الحر الأمين المسلم من أهل الالتقاط. وذكْرُنا الحرَّ يُخرج العبدَ، والأمين يخرج الفاسق، والمسلم يخرج الكافر من الضبط الجامع. والمبذرُ -وإن كان عدْلاً في دينه- ليس رشيداً، ولا يأتمن الشرعُ من لا يتصف بالرشد. أما العبد، فليس من أهل الالتقاط؛ فإنه لا يتفرغ إلى حضانة اللقيط، ومنفعتُه مستغرقةٌ بحق مولاه، فإن أَذِن له السيد في التقاط منبوذٍ، فالسيد هو الملتقط، فيعود النظر إلى صفته. وأما الفاسق، فليس من أهل الالتقاط، وإن التقط، وشعر الحاكم به، انتزع اللقيطَ من يده. فأما المستور، فقد قدّمنا فيه قولاً بالغاً، فلا حاجة إلى إعادته. وأما ذكرنا المسلم، فنقول: إن كان اللقيط محكوماً بإسلامه على ما سنذكر تفصيل ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل -إن شاء الله تعالى- فليس الكافر من أهل التقاطه، ولو التقطه انتزع من يده. وإن كان اللقيط كافراً، فالكافر من أهل التقاطه، والمسلم أيضاًً. والمعسر من أهل الالتقاط؛ فإن الحضانة تتأتى منه، والإنفاق سبيله ما قدّمناه في الفصل المقدم. 6051 - ومما نقدمه على الخوض في الازدحام أن نقول: من التقط لقيطاً في

_ (1) ر. المختصر: 3/ 132.

البلد، وأراد أن ينقله إلى البادية، لم يمكّن منه، لمعنيين: أحدهما - أن عيش أصحاب البوادي ضيّق، ويقلّ فيهم الاتساع في المعيشة، والرغد، وقد تمس حاجة الطفل إذا مرض إلى مراجعة الطبيب، وابتغاء دواءٍ وسعيٍ في استصلاحه، وليس ما أشرنا إليه من النوادر في الأحوال، وأسبابه [عَسِرةٌ] (1) في البادية. ومنهم من علل منع نقله بخفاء النسب؛ فإنه لو ترك في البلد، لأوشك أن يظهر له أبٌ، أو أمّ، وإذا نُقل إلى البادية، فقد يتعذر ذلك. وهذا مَنَعَ الإبعادَ. فأما إذا كان الموضع الذي إليه الانتقال قريباً، فسأذكره في التفصيل، إن شاء الله تعالى. ومن نقل لقيطاً من البلد الذي وجده فيه إلى بلدٍ آخر، ففي جواز ذلك وجهان مبنيان على المعنيين اللذين ذكرناهما، فمن راعى في المنع ضيقَ المعيشة في البادية، فهذا المعنى مفقود في النقل إلى بلدة أخرى، ومن راعى توقُّعَ ظهور النسب منع النقل إلى بلدة أخرى، فإنّ توقّع ظهور والدٍ مستلحِقٍ، أو والدةٍ يختص بالبلدة التي فيها العثور على اللقيط. ومن وجد لقيطاً في باديةٍ، فإن كان في مضيعةٍ، ولو تركه، لهلك، فيأخذه، ثم لا ينقلب لأجله، ولكن يأخذ صوبَه وتلقاءَ قصده. 6052 - فأما إذا صادفه، في أثناء قبيلة ضخمةٍ ولقطه، وأراد أن ينقله إلى بلده، فالذي قطع به شيخي، ومعظم الأصحاب أن ذلك جائز، وما يفرض من انقطاع توقع الظهور في النسب لا يعادل أمنَ البلد، وخَيْره، وأصحاب البوادي على أغرارٍ. وذكر القاضي وجهين مبنيّين على المعنيين. وقال: إن راعينا النسب وعوّلنا عليه، ففي نقله إلى البلدة تضييعُ ما يتوقع من ظهور نسبه، وإن راعينا مصلحة اللقيط في نفسه وتهيؤ أسباب المعيشة، فيجوز النقل حينئذ. 6053 - ولو وجد في البلد، ونقل إلى برّية قريبة، لا يتعذر نقل الحوائج من البلدة إليها، ولا يتحقق في الانتقال إليها ضيقٌ في المعيشة معتبر، فمن راعى هذا المعنى، لم يمنع من هذا الانتقال.

_ (1) في الأصل: عشرة. وفي باقي النسخ: (عسر).

ومن راعى النسب، وجب أن يعتبر اختلاط أولئك المنتقلين بأهل البلدة، واختلاط أهل البلدة بهم، فإن كان الأمر كذلك، فلا يخفى النسب، وأهل البريّة في الصورة التي ذكرناها بمثابة محلّةٍ من بلدةٍ في المعنى الذي نطلبه من أمر النسب. وإن كانوا لا يكثرون الاختلاط بأهل البلدة، فيوشك أن يمنع من هذا الانتقال مَنْ يعتبر معنى النسب. والله أعلم. 6054 - ولو وجد لقيطاً في البادية، فأراد أن ينقله إلى قطرٍ آخر من البادية، فللقبائل في البوادي سنّةٌ في [التعارف] (1) والاعتناء بالأنساب، ولا حاجز. ومن راعى عسر المعيشة، فلا عسر، ومن راعى أمر النسب، فلا ضرار عليه. وهذا إذا وقعت القبائل موقعاً لا ينقطع عن بعضها أخبار البعض. فأما إذا نأت المسافاتُ وتقاذفت الديار، فالمسافة البعيدة حائلة، فيتحقق عند ثبوتها ما أشرنا إليه من أمر النسب. فهذا تفصيل القول في النقل الجائز والنقل الممتنع. فإذا ثبتت هذه المقدمات، عدنا بعدها إلى تفصيل القول في اجتماع الملتقطين على لقيطٍ واحد، فنقول: 6055 - إذا اجتمع حرّ وعبد، فليس هذا من الازدحام في شيء؛ فإن العبد ليس من أهل الالتقاط. وهذا إذا انفرد دون إذن مولاه، فإن كان بإذنه، فالنظر في السيد، والملتقط الآخر. وإذا اجتمع مسلم وكافر على لقيطٍ محكوم له بالإسلام، فليس هذا من الازدحام الذي نعنيه؛ فإن الكافر ليس من أهل التقاط المسلم. وكذلك إذا اجتمع عدل وفاسق. فإذا اجتمع فقير وموسر، فالموسر أولى إن كان يغلب على الظن ضيق معيشة الفقير واشتغاله [بجمع] (2) قوته عن القيام بحق الحضانة على كماله.

_ (1) في الأصل: التقارب. (2) في الأصل: بجميع.

ولو كان موسراً متوسعاً في الغنى، ولم يكن الثاني من الفقراء، ولكن كان ضمه إلى المتوسع في يساره أنفع له، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من رأى ضمَّه إلى من الضم إليه أنفع، ومنهم من يقول: إذا استويا في انتفاء الافتقار، فلا نظر إلى الأنفع؛ فإن ذلك غير متناهٍ، ولا منضبط. وإذا كان ظاهرُ أحدهم العدالة، وكان الثاني مستوراً غيرَ ظاهر العدالة، وقد أوضحنا أن المستور من أهل الالتقاط، فقد اختلف أصحابنا في ذلك: فالذي كان يميل إليه شيخي القطع بأنه يضم إلى العدل الذي عدالته ظاهرة. وكان يُنزل ظهور العدالة بمنزلة الغنى وحال المستور منزلةَ الفقر. ومن أصحابنا من ذكر في ذلك خلافاًً؛ من جهة أن المستور لا يُسلِّم لمن ظهرت عدالتُه اختصاصه بالعدالة، ويقول: التقصير ممن لم يبحث عن عدالتي، ولم يطلع على سيرتي، والحضانة حقي؛ فلا أسلمها. وكأن شيخي (1 جعل التفاضل في العدالة كالتفاضل في اليسار والغنى، وقد سبق التفصيل فيه. وكان يقول: البلدي والقروي إذا ازدحما، فالبلدي أولى، والبلدي والبدوي لا يزدحمان؛ فإن البدوي ممنوع عن نقل اللقيط الموجود في البلد إلى البادية، وإنما تظهر أحكام الازدحام إذا كان كل واحد بحيث لو انفرد، كان من أهل الالتقاط. وكان شيخي 1) يقول: المكاتب ليس من أهل التقاط المنبوذ؛ فإنه تحت أسر الرق، واشتغاله بالحضانة يلهيه عن كسبه، ويعطِّل كثيراً من منافعه، فينزل ذلك منزلة التبرع، وحكم التبرع أنه إن انفرد به، لم يصح ذلك منه، وإن كان بإذن مولاه، ففيه اختلاف، ويتأيد ما قاله بالتحاق حق الحضانة بالولايات، والمكاتب ليس من أهلها، وإنما صححنا منه التقاط اللقطة على قولٍ ظاهر لما في التقاط اللقطة من غرض الكسب، والتقاط المنبوذ ائتمان محض من الشارع والشرع لا يأتمن المكاتبَ والعبدَ، فهذا منتهى المراد في هذا الفصل.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.

6056 - ثم إن تحقق استواء المزدحمَيْن على اللقيط، فلا يضم إليهما جميعاً، فإنه لا يتصور قيامهما بحضانته على الاجتماع، ولو جعلنا حفظه مهايأةً بينهما، لظهر تضرر المولود، فإن للإلف وقعاً في النفوس لا ينكر، فلو ضُم الصبي إلى أحدهما، فقد يألفه، ويتخلق بأخلاقه، فإذا قطعناه عن هذا وضممناه إلى صاحبه، تضرر بالانقطاع عمّن ألفه، ثم يكون على نِفارٍ مع الثاني في ابتداء الأمر، فإذا أنس به، احتجنا إلى قطعه ورده إلى الأول؛ فلا يصير إذن صائر إلى ضم اللقيط إلى المتنازعين جميعاً، ولا بد من ضمه إلى أحدهما، ولا طريق إلا أن نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته سلّم الطفل إليه. 6057 - ولو سبق أحدهما إليه واحتضنه، فهو أولى. ولو كان السابق المحتضن فقيراً وطلب الحضانة، أجيب إليها، فإذا احتضن، ثم ظهر موسرٌ لو شاركه عند العثور، لكنا نقدمه، فإذا جاء من بعدُ، فلا حق له في الحضانة؛ فإن الحق المستحَقَّ لا يُنقض بأمثال هذا. 6058 - ولو ازدحم رجلان متساويان، وقلنا: إنه يُقرَع بينهما، فلو طلب أحدهما، وترك الثاني حقه بعد تقدُّم الازدحام، فهل نترك تاركَ حقه، حتى يخلص حقُّ الحضانة للثاني؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط حقه، ويصير الثاني كالمنفرد بالاحتضان والوجدان أول [أمره] (1). وهذا هو الصحيح، كما لو ازدحم شفيعان، ثم عفا أحدهما عن حقه؛ فإن حق الشفعة يخلص للثاني. والوجه الثاني - أنه لا يخرج العافي من البَيْن (2)، فإنه ثبت له حق ناب فيه عن المسلمين، فلا يتأتى إخراجه نفسه من البَيْن. وهذان الوجهان ذكرهما العراقيون، ونقلهما القاضي، ووجه الأول بيّن.

_ (1) في الأصل، (د 1)، (ت 3): مرة. (2) البين: هذا اللفظ نجده عند إمام الحرمين في البرهان، وفي هذا الكتاب، ومعناه واضح من السياق. ولكنه غير منصوص في المعاجم التي وقعت لنا (المصباح، والوسيط، والقاموس المحيط، والأساس، واللسان، والزاهر، وكشاف اصطلاحات الفنون، وكليات أبي البقاء).

وأمّا الوجه الثاني، فلا ينقدح له وجه إلا على التقدير الذي أذكره فأقول: من التقط لقيطاً، واحتضنه، فهو في حكم الخائض في فرض الكفاية، ومن لابَس فرضاً من فروض الكفاية، وكان متمكناً من إتمامه، فأراد الإضراب عنه، فقد نقول: ليس له ذلك، ويصير فرضُ الكفاية بالملابسة متعيّناً. وهذا فيه نظرٌ وتفصيلٌ، وسأذكره في أحكام فروض الكفايات من كتاب السّير، إن شاء الله تعالى. 6059 - وعلى هذا التقدير لو انفرد الرجل بلقط المنبود واختص بحضانته، فلا شك أنه يحرم نبذه وردُّه إلى ما كان عليه أولاً، ولكن هل يجوز له أن يدفعه إلى القاضي حتى يسترده منه، [فيقيمَ] (1) غيرَه مقامه؟ فيه تردد مأخود من كلام الأصحاب والمسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يكن به عجزٌ عن القيام بحق الحضانة. 6060 - والسرّ في ذلك موقوف على المباحثة عن مراتب فروض الكفايات، وذكر ما يتعين منها بالملابسة وما لا يتعين، وما يضطرب الرأي فيه. وهذا الذي نحن فيه مما اضطرب فيه علماؤنا، فإذا ثبت ذلك، بنينا عليه صورة الازدحام، وقلنا: إن رأينا على المنفرد بالالتقاط ألا يترك الحضانة ما وجد إليها سبيلاً، فإذا ازدحم رجلان، ثم أعرض أحدهما، ففي المُعرض وجهان: أحدهما - أنه لا يُترَك [و] (2) الإعراضَ، كما ذكرناه في المختص بالالتقاط. والثاني - له الإعراض؛ فإنه لم يثبت له حقٌّ خالص، بل كانت الحضانة متنازعةً بينه وبين مزاحمه. وقد أوضحنا أنه لا يتصور ثبوت حق الحضانة لهما جميعاً على الاشتراك، فإذا ترك أحدهما حقه، لم يكن تاركاً حقّاً مستقراً. ثم الذي يقتضيه القياس في التفريع على هذا الوجه أن القاضي يقول لهذا التارك: ليس لك إخراجُ نفسك من البين، ولكن يُقرَع بينكما، فإن خرجت القرعة في الحضانة لك، فالتزمها وتمّمها، كما لو كنت منفرداً باللّقْط، وإن خرجت القرعةُ لصاحبك،

_ (1) في الأصل: أو يقيم. (2) الواو للمعية. ثم هي ساقطة من نسخة الأصل وحدها.

خرجت من البين. هذا وجه تفريع هذا الوجه. وقال: بعضُ أصحابنا: إذا ترك أحدهما حقه، وقلنا: إنه لا يُخرج نفسَه من البين، فينصب القاضي أميناً، ويقيمه مقام هذا التارك، ويُقرع بين الباقي من المزدحمَيْن، وبين هذا الأمين الذي نصبه، فإن خرجت القرعة للأمين، سلّمه إليه. وهذا كلام مضطرب، لا مستند له من أصلٍ، ولا طريقَ إلا ما ذكرناه. 6061 - ومما كان يذكره شيخي أنه لو سبق إلى طفلٍ إنسانٌ ووقف عليه ولم يرفعه، فهل يكون وقوفه مثبتاً له حق الاختصاص؛ حتى إذا لحقه إنسان آخر يساويه في الصفات المرعية فيكون السبق له؟ كان يذكر في ذلك وجهين: أحدهما - أنه إنما يصير أولى بحق الحضانة إذا سبق إليه، فرفعه، أو أمر من يرفعه له؛ فإذ ذاك لو لحق لاحقٌ، لم يزاحمه، فأمّا إذا اتصل السابق بمكان اللقيط، واقتصر على الوقوف عليه، فلحقه الثاني، فهما مزدحمان. ففي المسألة احتمال. 6062 - ولو انتهى إلى اللقيط رجل وامرأة، فالأنوثة لا تصيّر المرأة أولى، وإن كنا نقدّم الأم في الحضانة على الأب إذا لم يكن الصبي مميِّزاً، والفرق أن الأم تختصُّ بمزيد شفقة لا يُنكر ذلك منها، ويتأتى منها من [الاحتضان] (1) ما لا يتأتى من الأب نفسه، والأب لا يتمكن من تعاطي الحضانة بنفسه، ولو أقام امرأة أجنبيةً حاضنةً، لكانت حضانة الأم أولى من حضانة الأجنبية المتبرعة، أو المستأجَرة، وفي مسألتنا لو أناب الرجل أجنبية في الحضانة، لكان ذلك ممكناً. وإذا عاد النظر إلى حضانة أجنبيتين: إحداهما التي زاحمت الرجل، والأخرى التي يستنيبها الرجل، فلا يبقى فرقٌ. 6063 - ومن تمام الكلام في ذلك أن الصبي إذا بلغ مبلغ التمييز يخيّر بين أبويه في حكم الحضانة كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى. فلو ازدحم على اللقيط رجل وامرأة، أو رجلان، ولم يتفق انفصال الأمر بينهما حتى ميّز الطفل، فهل نقول: إنه يخير بين المزدحمين، ويُضم إلى من يختاره؟

_ (1) في الأصل: الاختصاص.

هذا محتمل يجوز أن يقال: إنه يُخير، كما ذكرناه، ويجعل اختياره أولى من القرعة، ويجوز أن يقال: لا يخير؛ فإن اختيار المولود أحد الوالدين على سن التمييز محمول على ميله إلى أحدهما، ولا يبعد ذلك في الأبوين، فأما ميل الطفل اللقيط إلى أحد الملتقطَيْن، فليس له [معنى] (1) يعوّل عليه. 6064 - ومما يتعلق بذلك أنا لو صادفنا صبياً بالغاً مبلغ التمييز، وكان في حكم اللقيط، على معنى أنه ليس يتبين له أب ولا أم، فهل يثبت له لمن يَبْتَدِرُه حقُّ الاحتضان، كما يثبت في اللقيط الذي لم يبلغ مبلغ التمييز؟ هذا فيه تردد عندي، واحتمالٌ: يجوز أن يقال: لا يثبت لآحاد الناس فيه حق الاحتضان، وهو مميّز، بل يتولى الحاكم أمره لا غيره، ويختص به منصوبُ القاضي. ويجوز أن يقال: حكمه في الاحتضان حكم الصبي الذي لا يميز؛ فإن تمييزه لم سبت له حقَّ الاستقلال، فلا أثر له. وإنما (2) ورد الشرع في التقاط منبوذ على صورة الضياع، والمميز له حق الاستقلال؛ من جهة تمييزه؛ إذ يمكن مراجعتُه على حالٍ، وهو يشبه من أحكام اللقطة ضالة الإبل. هذا منتهى تفريع الفصل. فصل قال: " فإذا أعرب، فامتنع عن الإسلام، لم يبن لي أن أقتله، ولا أجبره على الإسلام ... إلى آخره " (3). 6065 - هذا الفصل من القواعد، ومضمونه بيان أحكام التبعية في الإسلام. ونحن نجمع فيه ما يتعلق به، ونستوعب الأطراف مستعينين بالله تعالى. 6066 - ونقدم أولاً بيان ما يحصل به الإسلام. ونقول: الناس في الإسلام

_ (1) في الأصل: وجه. (2) هذا الكلام عودٌ إلى نصرة الوجه الأول. (3) ر. المختصر: 3/ 133.

قسمان: مكلف، وغير مكلف، فالمكلف هو العاقل البالغ، حراً كان أو عبداً، ذكراً كان أو أنثى، فيصح إسلامه بنفسه، ولا يُتصوّر أن يَتْبَع في الإسلام غيرَه. 6067 - وأما غير المكلف في الإسلام، فقسمان: الصبيان والمجانين. أما المجانين، فلا شك أنه لا يتصور إسلامهم بأنفسهم؛ إذ لا عبارة لهم، ولا حكم لنطقهم. وأما الصبيان، فإن لم يكونوا مميزين، فهم كالمجانين في أنه لا يصح الإسلام بعبارتهم. وإن كانوا مميزين، فالمذهب المشهور الذي عليه التعويل أنه لا يصح منهم الإسلام بعبارتهم. 6068 - وذكر أصحابنا مع ذلك وجهين أخرين: أحدهما - أن الإسلام يصح من الصبي المميز العاقل، كما يصح من البالغ، وهذا مذهب أبي حنيفة (1). والوجه الثاني - أن الإسلام الذي أعرب عنه في صباه موقوف؛ فإن بلغ وأعرب عن نفسه بالإسلام، أسندنا حكمَ إسلامه إلى وقت تلفظه به في صباه. وإن أعرب عن نفسه بالكفر لما بلغ، تبيّنا أنه لا حكم للفظه السابق في صباه. وهذان الوجهان غيرُ معدودين من متن المذهب، والمنصوص عليه لصاحب المذهب قديماً وجديداً أنه لا اعتبار بلفظ الصبي بالإسلام، ووجودُه وعدمُه بمثابةٍ. 6069 - وقد قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: " إنه إذا نطق صبي مميز من صبيان الكفار بالإسلام، وظهر لنا إضماره الإسلامَ، نحول بينه وبين الكفار ". وهذا الذي ذكره الشافعي مما اختلف أصحابنا فيه تفريعاً على مذهبه الصحيح، فقال بعضهم: هذه الحيلولة محتومة فعلى هذا للفظه بالإسلام حكمٌ، وهو اقتضاء إيقاع الحيلولة.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 260، المبسوط: 10/ 120، رؤوس المسائل: 359 مسألة 238 مختصر اختلاف العلماء: 3/ 490 مسألة: 1640، الاختيار 4/ 148.

ومن أصحابنا من قال: هذا الذي ذكره الشافعي محمول على أنا نتوصل إلى ذلك برفق، ونستعطف فيه والدي الصبي، فإن أبيا، لم نحل بينه وبين والديه؛ فإن لَفْظَ الصبيّ في ذلك لا حكم له. وكان شيخي يحكي عن الأستاد أبي إسحاق أنه قال: " من مات من صبيان الكفار، لم نقطع له بالفوز في الآخرة ". وأمْرُ أطفال الكفار على تردّدٍ بيِّنٍ في الأخبار، وليس الخوض فيه من مناصب الفقه؛ فإن الفقه لا يتعدى أحكام الدنيا. ثم كان يقول: " إذا عقل صبيّ وعلم الإسلام واعتقده، فهو من الفائزين لو مات على عقده هذا صبيّاً، وإن كان لا يتعلق بإسلامه أحكام الدنيا ". وما عندي أن هذا الحبر يخالَف فيما صار إليه، ثم اتباعه يجر إشكالاً في المسألة عظيماً؛ فإن من يُحكم له بالفوز لإسلامه كيف لا يحكم بإسلامه. هذا منتهى القول في حصول الإسلام بالتبعية؛ فإنه يتعلق بالصبيان، والمجانين. 6070 - ونحن نبدأ بالصبيان أولاً، فنقول: التبعية في الإسلام تقع من ثلاثة أوجه: أحدها - تبعية الوالدين. والثاني - استتباعُ السابي الطفل المسبيّ. والجهة الثالثةُ - تبعية الدار. ونحن نذكر -إن شاء الله تعالى- في كل قسم ما يليق به. فأما استتباع الأبوين الولد في الإسلام، فيحصل من وجهين: أحدهما - أن يُفرض إسلامهما أو إسلام أحدهما يوم العلوق، فإذا كانا مسلمين أو كان أحدهما مسلماً، فحصل العلوق، والحالةُ هذه- ثبت للطفل حكم الإسلام على التحقيق، من غير فرض توقفٍ، أو توقع نقضٍ، فينتجز له أحكام الإسلام في صباه. وإذا بلغ، وأعرب عن نفسه بالكفر، كان مرتداً، لا خلاف فيه. والسبب في ذلك أن أحد الأبوين إذا كان مسلماً حالة العلوق، فهو جزء من مسلم، فيتحقق له حكم الإسلام، هذا أحد وجهي التبعية.

والوجه الثاني في التبعية- أن يحصل إسلام الأبوين، أو إسلام أحدهما بعد العلوق، ثم لا فرق بين أن يحصل بعد انفصال المولود على الكفر، وبين أن يحصل والمولود جنين، فإذا تأخر الإسلام عن العلوق، لم يفترق الأمر بين أن يكون بعد الانفصال، أو في حالة الاجتنان والاتصال، ثم الحكم أن الصبي يُقضى له بالإسلام تبعاً إذا أسلم أحد والديه، أو أسلما. 6071 - ثم اتفق الأصحاب على أن هذه التبعية تحصل بإسلام الأم حصولَها بإسلام الأب، وإن لم تكن الأم من أهل الولاية على ظاهر المذهب. ولو أسلم جدّ الصبي أو جدته، فالترتيب المرضي أن ذلك إن كان بعد موت الأبوين، يتضمن إسلام الطفل، وإن كان في حياة [الأبوين] (1)، أو حياة أحدهما، ففي الحكم بإسلام الطفل وجهان، ثم لم يفرِّق الأئمةُ بين من يرث وبين من لا يرث من الأجداد، أو الجدات، والأصل في الباب تغليبُ الإسلام من أي جهة أتى، وإنما انتظم الوجهان في بقاء الأبوين، أو في بقاء أحدهما، من جهة أن الاستتباع من الأجداد، أو الجدات، قد يبعد مع بقاء من هو الأصل في الولادة. وقد ذكرنا ترتيباً فيمن يرجع في الهبة من الأصول، وهذا لا يُنحى به ذلك النحو، لما ذكرناه من أن الأصل تغليبُ الإسلام. والقياسُ منعُ الرجوع في الهبة وإحالةُ ثبوته على قول الشارع. وفي الأئمة من لا يثبت للأم الرجوعَ في الهبة، لاختصاص الخبر بالوالد. 6072 - فإذا ثبت أن الصبي يتبع الأبوين في الإسلام وإن حصل العلوقُ به على الشرك، فترتيب المذهب في أحكام الطفل مضطرب في الطرق، ونحن نأتي إن شاء الله عز وجل بأضبط ترتيبٍ، وأجمعه [لمضمون] (2) الطرق، فنقول أولاً: نفرض لمن يثبت له حكم الإسلام بالتبعية بعد العلوق على الشرك ثلاثَ مراتب: إحداها - في الصِّبا.

_ (1) في الأصل: الابن. (2) في الأصل: لمصير.

والأخرى - بعد البلوغ، وقبل أن يُعرب عن نفسه بكفرٍ أو إسلام. والثالثة - في إعرابه عن نفسه. فأما القول في حال الصبا، فإنا نحكم له ناجزاً بحكم الإسلام من جميع الوجوه، فيُنفَق عليه من بيت المال إذا مست الحاجة إليه، ونقول: لو قتل في صباه، وكان قاتله مسلماً، وجب القصاص عليه، ويرثه المسلمون لو مات، ويرث هو بنفسه المسلم، وحكمه حكم من حصل علوقُه على إسلام أحد أبويه، وهذا حكمُ الحال. ومن الأحكام أنه لو كان رقيقاً، فأعتقه مظاهرٌ عن كفارته (1)، حكمنا ببراءة ذمته عن الكفارة، وجوّزنا له الإقدامَ على وطء التي ظاهر عنها. ولو جرت هذه الأحكام، [ومات] (2) الطفل، فقد استقرت الأحكام. هذا حكم هذه المرتبة. 6073 - ومما يدور في النفس أنا إذا فرعنا على الوجه الضعيفِ نقلاً، القويِّ توجيهاً، وقلنا: يصح من الصبي الاستقلالُ بالإسلام، كما ذهب إليه أبو حنيفة. فهل نقول لو أسلم أحد الأبوين والصبي بمحلّ أن يستقل على هذا الوجه: إنه يتبع المسلمَ من أبويه؟ هذا مما تردد فيه أحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو لعمري محل التردد؛ فإن الجمع بين إمكان الاستقلال، وبين إثبات التبعيّة بعيدٌ. ثم قال أبو حنيفة (3): يصح ردّة الصبي كما يصح إسلامه، ولا شك أنا نقول بذلك إذا فرعنا على هذا الوجه؛ نظراً إلى الاعتقاد ووقوعه. وقد ينقدح لذي نظر أن يصحح ما فيه صلاح الصبيّ ويُحبط نقيضَه، كما ذهب إليه بعض أصحاب أبي حنيفة (4)، والعلم عند الله تعالى.

_ (1) واضح من سياق الكلام أنه يشترط في الرقبة التي يكفر بها المظاهر أن تكون مؤمنة. وهذا من باب حمل المطلق على المقيد، الذي يقول به الشافعية هنا. بخلاف الأحناف الذين لا يشترطون الإيمان في رقبة كفارة الظهار؛ لأنهم لا يحملون المطلق على المقيد هنا. (2) فى الأصل: وفات. (3) ر. مختصر الطحاوي: 260، المبسوط: 10/ 122، مختصر اختلاف العلماء: مسألة 1640، 3/ 490. (4) الذي يعنيه الإمام هو " أبو يوسف " (ر. المراجع السابقة).

6074 - وقد عدنا إلى ترتيب الكلام، فنقول: إذا بلغ من حَكَمْنا له بالإسلام في صباه للتبعية التي وصفناها، فكيف حكمه ما بين البلوغ إلى أن يُعرب عن نفسه بكفرٍ أو إسلام (1)؟ فالرأي أن يقدَّم حكمُ إعرابه عن نفسه، فنقول: إن أعرب عن نفسه بالإسلام، فلا كلام، وقد استقرت الأحكام على موجب التبعية التي وقع القضاء بها. وإن أعرب عن نفسه بالكفر، فللشافعي قولان: أحدهما - أن نجعله مرتداً. والقول الثاني -وهو الذي يميل إليه ظاهر النص الذي ذكره المزني- أنا لا نحكم بكونه مرتداً. توجيه القولين: من حكم بكونه مرتداً، احتج بأن هذا كفرٌ جرى ممّن تقدم له الحكم بالإسلام، فصار كما لو كان حصل العلوق على الإسلام. ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن الصبيّ خلق على الكفر، ثم جرى إسلامُ الوالدين بعد ذلك، فاقتضى تبعيّةً في الإسلام ممزوجةً بالتوقف، فإذا تبينا بإعرابه عن نفسه بالكفر أنه على الكفر الذي فطر عليه، فالنظر إلى إعرابه الآن أولى من النظر إلى تبعيةٍ سبقت، وليس كما لو فطر على الإسلام، فإنه جزءٌ من مسلم، كما قررناه مع قوة الإسلام في العلوق والغلبة. التفريع على القولين: 6075 - إن حكمنا بكونه مرتداً، لم يخف حكمه، ولم يُنْقَض بردته ما أمضيناه من أحكام إسلامه قبلُ. وإن حكمنا بأنه كافر أصلي، فنقول أولاً: إن كان الكفر الأصلي بحيث يُقَرُّ عليه بالجزية، فإذا بدا ذلك من هذا الشخص، فإن قبل الجزية، أقررناه. وإن أبى، ألحقناه بدار الحرب، ولم نر اغتياله. وإذا كان ذلك الكفر مما لا يُقَرُّ عليه بالجزية، لم نقره بها، وألحقناه بدار الحرب.

_ (1) هذه هي المرتبة الثانية، والثالثة معاً.

وإن كان أبواه على كفر ابتداء، وأعرب هو عن نفسه بكفرٍ آخر، مثل إن كانا يهوديين، فأبدى هذا تنصراً، أو على العكس، فالقول الوجيز فيه: أنا نجعله كمن ينتقل من ملة في الكفر إلى ملةٍ، وسيأتي تفصيل الأقوال في أن من فعل ذلك هل يُقر على الكفر الذي انتقل إليه، وموضع استقصائه كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى. 6076 - فإذا تبين هذا، قلنا بعده: الأحكام التي سبقت مترتبة على تبعية الإسلام هل تنتقض؟ وقد أعرب عن نفسه بالكفر؟ إن قلنا: إنه مرتد، فلا شك أنا لا ننقض شيئاً مما تقدم. وإن قلنا: إنه كافر أصلي، فكل حكمٍ قررناه بعد البلوغ قبل الإعراب، فهو منقوض. وكل حكم كُنّا أمضيناه في الصبا، فهل ننقضه الآن؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنا ننقضه، والمعنيّ بنقضه أنا نتبيّن انتقاضَه، فإن كان أعتقه مُكَفِّرٌ تبيناً بالأَخَرة أن ذمته لم تبرأ، وإن كنّا ورَّثناه من مسلم، تبيَّنا ارتداد ذلك الإرث. وإن كنا أنفقنا عليه من بيت المال، استرددناه. ولو حرمناه في صباه الإرث من كافرٍ، نتبين الآن عوْده إلى الاستحقاق. وهذا كله قياس قولنا: إنه كافر أصلي؛ إذ لو كنّا نُبقي تلك الأحكام، لكان هذا الكفر بعد إسلام، والكفرُ بعد الإسلام ردة. ومن أصحابنا من قال: لا ننقض شيئاً من أحكام الإسلام التي أمضيناها في حالة الصبا؛ فإنها جرت والتبعية قائمة، والاستقلالُ بالكفر والإسلامِ غيرُ ممكن [من الصبي] (1)، فلا ننقض ما مضى الحكم به، وإنما تُرد الأحكام الواقبة بعد البلوغ. وهذا وجهٌ ضعيف في القياس، مشهور في الحكاية. وقال صاحب التقريب: إن نقضنا أحكام الصبا، وتتبعناها، لم ننقض النفقة، ولم نستردها؛ فإن السلطان لو صرف شيئاً إلى ذمي من المحاويج، لم يبعد ذلك عن وجه الصلاح.

_ (1) ساقط من الأصل.

فإن قيل: فمن يتوقع تبيّن انتقاض هذه الأحكام هلا توقف فيها، ولم يُمضها؟ قلت: أجمع الأصحاب على إمضائها لتأكد التبعيّة وسقوطِ استقلال الصبي. وهذا يناظر تبرعات المريض؛ فإنها تُنفد في الحال، ولا يُعترض على المتبرَّع عليه بل يتسلط على جميع جهات التصرفات. وإن كنا قد نتتبّعُها بالانتقاض تبيُّناً، إذا مات من مرضه الذي تبرع فيه. هذا منتهى القول في تفريع حكم الكفر إذا بنينا على أنه كافر أصلي، وقد أعرب عن نفسه بالكفر. 6077 - فأما إذا بلغ ولم يعرب بعدُ عن نفسه، فلو أعتقه معتق عن كفارته في هذه الحالة، فكيف السبيل؟ وكذلك كيف توريثه من المسلم والكافر؟ وكيف التوريث منه، وهل [نستديم] (1) الإنفاق عليه من بيت المال مع استمرار حاجته؟ ما كان يقطع به شيخي أبو محمد، وتابعه عليه صاحب التقريب: أنا نخرّج ذلك على القولين في أنه لو أعرب عن نفسه، فهو مرتد، أو كافر أصلي؟ فإن حكمنا بكونه مرتدّاً، فحكم الإسلام ثابتٌ قبل أن يُعرب عن نفسه بالكفر؛ فإنا نقول: إن أعرب بالإسلام، فقد استمر الإسلام وحكمه، وإن أعرب بالكفر، جعلنا الكفر قاطعاًً للإسلام من وقته، وهذا معنى وصفه بكونه ردّة. فعلى هذا كل ما يجري قبل إعرابه مُقَرٌّ على حكم الإسلام، فلو قُتل، وجب القصاص على قاتله، وإذا مات ورثه المسلم، ويرث هو من حميمه المسلم، ولو أُعتق أجزأ، ويُنفَق عليه من مال المسلمين، ثم لا يُتبع شيء من هذه الأحكام بالنقض. 6078 - وإن حكمنا بأنه لو أعرب عن نفسه بالكفر، لكان كافراً أصلياً، ففي حكمه بعد البلوغ، وقبل الإعراب تفصيلٌ نسوقه على أبلغ وجهٍ وأجمعه للمقصود، فنقول: ما أمكن الانعطاف عليه تبيُّناً، فإنا نتبيَّن ارتفاعه وانتقاضه، كإرثٍ قدّرناه لهذا الشخص من حميمٍ له مسلمٍ مات، وكالإعتاق عن الكفارة، فما كان كذلك، فإذا

_ (1) في الأصل: نستثني.

أعرب عن نفسه بالكفر تبيّن ارتفاع ما يقبل الانعطافَ عليه بالنقض، فالميراث مردود، والعتق غير مجزىء. ولصاحب التقريب وقفةٌ في النفقة، واستردادها، تقدّمت الإشارة إليها. وما يجري بعد البلوغ قبل الإعراب، ثم يفوتُ الإعراب بموتٍ أو قتلٍ، ففي الجميع وجهان، وهذا كما لو قُتل أو أُعتق عن كفارة، ثم مات قبل أن يعرب، أو يموت حميم له مسلم، ثم يموت قبل أن يعرب، ففي وجهٍ نقول: هذه الأحكام ممضاة على الإسلام الذي جرى الحكمُ به في الصبا، وفي وجدٍ لا نمضيها؛ فإن سبيل التبعية هو الصغر، وقد انقضى، والكفر الأصلي مرتقب، فإذا فات الإعراب بالكفر أو الإسلام وقد [انقطعت] (1) التبعية من أصلها، فالوجه ردُّ الأمر إلى كفر الفطرة، وينبني على هذا ما هو في الحقيقة عين ما ذكرناه. ولكنا نبدّل صيغةَ الكلام للتهذيب و [تدريب] (2) الناظر، فنقول: إذا مات له حميم مسلم، فنقف الميراث أو نسلمه إليه؟ وإذا أعتقه مظاهر، فَنُحِل قِربانَ التي ظاهر عنها (3)، أو نتوقف؟ فعلى وجهين هذا تحقيق القول فيما [ذكروه] (4). 6079 - ولا بد بعد طول الكلام، وامتداد التفريعات من إعادة ترجمة تحوي ضوابطَ، ونعطف آخر الكلام على أوله فنقول: إن جعلنا إعرابه عن نفسه بالكفر ردةً، فما جرى في الصبا وبعد البلوِغ مُقرٌّ على حكم الإسلام من غير استثناء. وإن قلنا: إعرابه عن نفسه بالكفر يُبيّن كونه كافراً أصلياً، ففيما جرى في الصبا حكمان: أحدهما - التنفيد (5) في الحال، والآخر الانعطاف بالنقض. فأما التنفيذ، فهو ثابت في حالة (6 الصبا، وفي الانعطاف بالنقص وجهان لقيام سبب التبعية، وأما ما يجري بعد 6)

_ (1) (د 1)، (ت 3): انقضت. (2) في الأصل: تقريب، وفي باقي النسخ تدرّب. والمثبت اختيارٌ من المحقق. (3) ظاهر عنها: لا أدري لماذا أجمعت النسخ الأربع على التعبير بلفظ: " ظاهر عنها " مع أن عبارة القرآن الكريم: {يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2]. أقول هذا مع علمنا بما قاله النحاة من أن (عن) تأتي مرادفة لـ (مِن)!! (4) في الأصل: ذكرناه. (5) (د 1)، (ت 3): التقييد. (6) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.

البلوغ وقبل الإعراب إن أمكن الانعطاف عليه، نُقض إذا جرى الإعراب بالكفر. وإن فات الإعراب بالموت، ففي الانعطاف وجهان من غير أن يتحقق إعرابٌ بالكفر. وفي الحكم بالتنفيد وجهان. هذا حاصل المذهب. ولصاحب التقريب ميْلٌ إلى الفرق بين النفقة وغيرها. وإن رأينا التنفيد حيث انتهى الكلام إليه، ولم نر النقضَ إذا فات الإعراب، ففي وجوب القصاص على [قاتله مع] (1) هذا ترددٌ. ونص الشافعي (2) يميلُ إلى سقوط القصاصِ، والسبب فيه تعرّض القصاص للاندفاع بالشبهة (3). ثم نقل المعتمدون أن الشافعي أسقط القصاص وأوجب دية مسلم. وهذا فصلٌْ عظُم (4) فيه اختباط (5) الأصحاب والذي ذكرناه مضبوط -إن شاء الله عز وجل- نقلناه على ثبت وتحقق. 6080 - فإذا انتجز ما نحاوله؛ فإنا نذكر بعد ذلك هفوتين لا نعدّهما من المذهب، ولا نجدُ بداً من نقلهما. قال من يُعتمد نقله: قال القاضي: " إذا قُتل الصبيُّ التابع في الإسلام، وجب القصاص على قاتله. وهذا لا مراء فيه، ولو قتل بعد البلوغ، وقبل الإعراب، فلا قصاص على قاتله، ولو حكمنا بأنّه لو أعرب، كان مرتدّاً "، وأجرى نص الشافعي على القولين. وهذا زلل لا يستريب فيه منصف. ونصُّ الشافعي جرى على القول الآخر. والذي نقله المزني عن الشافعي في المختصر: أنه لو أعرب عن نفسه بالكفر، لم نحكم بردّته، ولم يجبر على الإسلام، ثم استاق التفريع على هذا، وكيف ينتظم قول من

_ (1) ساقط من الأصل. (2) (د 1)، (ت 3): وميل النص. (3) وجه الشبهة هنا أنه لم يعرب عن نفسه، " فسكوته يحتمل الكفر والجحود " على حدّ عبارة الرافعي. (4) (د 1)، (ت 3)، (ت 2): عظيم. (5) في الأصل، (ت 3): احتياط. وغير مقروءة في (د 1)، والمثبت من (ت 2).

يقول: لو أعرب بالكفر، كان مرتداً، ولا يثبت له حكم الإسلام قبله. 6081 - والهفوة الثانية أنه حُكي عن القاضي في المقام الذي نفى القصاص فيه أنه قال: لو مات في هذه الحالة قبل الإعراب، ورثه حميمه، ولو مات له حميمٌ مسلم، فإرثه عنه موقوف. أما التوريث منه، فخارج على أنه إذا أعرب هل يُنقض حكم الإسلام، وأما قوله: فإرثه عنه موقوف؛ فإنه إن عنى به أنه يقال له: أعرب عن نفسك بالإسلام، فهذا قريب؛ فإنا نستفيد به الخلاص من الخلاف، وقد فات ذلك إذا كان هو الميّت. وإن مات حميمه ثم مات هو قبل أن يعرب، فلا يجوز أن يُعْتَقَدَ فرق بين التوريث عنه وبين توريثه. 6082 - ومما يتصل بهذا أنه لو مات صبيّاً، دفن في مقابر المسلمين، وأقيم في تجهيزه ودفنه والصلاة عليه شعار المسلمين. ولو مات بعد البلوغ وقبل الإعراب، فهل يدفن في مقابر المسلمين؟ الذي يظهر عندي أنه يُتساهل في هذا، ويقام فيه شعار الإسلام، ولا يُضن عليه بمدفنٍ في مقابر المسلمين، والذي يقتضيه القياس الترتيبُ على التفصيل الذي ذكرناه. هذا بيان القول في استتباع الأبوين المولودَ في الإسلام بعد العلوق على الشرك. 6083 - فأما المجنون، فإن بلغ على الجنون، فهو كالصغير، وإن بلغ عاقلاً، ثم جن، فيبتني [أمرُه] (1) على ولاية المال. فإن قلنا: تعود ولاية المال إلى الأب، فإذا أسلم يستتبعه في الإسلام، كما لو بلغ مجنوناً. وإن قلنا: لا يليه الأب، ويليه السلطان، فإذا أسلم الأبُ، لم يستتبعه، والسلطان يلي الكافر والمسلم بالولاية العامة. وإن قلنا: تعود الولاية إلى الأب، فلو أسلمت الأم، استتبعته أيضاًًً؛ لأنا مهْما (2) أثبتنا التبعية من جانب الأب؛ فإنا نثبتها من جانب الأم.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) "مهما": بمعنى (إذا).

وكل ما ذكرناه كلام في جهة واحدة في التبعية. 6084 - فأما استتباع السابي المسبيَّ الطفلَ؛ فإنا نقول فيه: إذا سبى المسلمُ طفلاً من أطفال الكفار منفرداً عن الأبوين، فالطفل يتبع السابي في الإسلام؛ لأنه صار من جملته وتحت قهره وولايته، فيتبعه في حكم الدين، وهذا يتم بأن يُعلَم أن السَّبْي يقلبه عما كان عليه قلباً كليّاً؛ فإنه كان محكوماً بحرّيته، متعلقاً بسبب الاستقلال إذا بلغ، والآن قد رُقّ بالسبي، حتى كأنه عُدِمَ عمّا كان عليه، واستُفتح له وجودٌ تحت ولاية السابي. 6085 - ولو كان السّابي ذمّياً توطّن (1) بلاد الإسلام، فقد ذكر أصحابنا وجهين: أحدهما - أنه يحكم له بالإسلام؛ فإن السَّابي من أهل دار الإسلام. وهذا كلام غث، لا أصل له؛ فإن كونه من أهل دار الإسلام لم يخرجه عن حقيقة الكفر، ولم يُخرج أولاده عن تبعيته في الكفر، فيستحيل أن يؤثر ذلك في إسلام مَسْبِيّه. وهذا هو الوجه الثاني الذي يجب القطع به. فإذا فرعنا على الأصح، وهو أنا لا نحكم بإسلام المسبيّ، فلو أسلم السابي بعد السَّبي، فالإسلام الطارىء لا يُثبت للمسبيِّ حكمَ الإسلام وفاقاً؛ فإنا نعتبر حالة السّبي وعندها يتحقق تحول الحال. 6086 - ولو باع الكافر الطفلَ الكافرَ من مسلم، لم يثبت له حكم الإسلام لثبوت ملك المسلم عليه؛ فإن هذا تجدّدُ المالك، والرق مستمر. وقد ذكرنا ما في ابتداء السبي من تحويل الحال، وكذلك يؤثر سبيُ الزوجين في ارتفاع النكاح عندنا، ولا يؤثر تجدّدُ الملك على الزوجين الرقيقين في ارتفاع النكاح. 6087 - وما ذكرناه فيه إذا سبى المسلمُ الطفلَ مفرداً عن الأبوين، فأمَّا إذا سباه مع أبويه أو مع أحدهما، فلا يُحكم بإسلامه تبعاً للسابي، لم يختلف أصحابنا فيه؛ لأن الأبوين أولى بالاستتباع من السابي لمكان البعضيّة.

_ (1) (د 1)، (ت 3): بقُطر.

وهذا فيه بعضُ الغموض، من جهة أن الطفلَ إذا كان ذا أبوين، [ولم] (1) يكونا معه، ثم أتبعناه السَّابي، للرق الطارىء، وحكمنا بأنه في حكم المُقْتَطَع عما كان عليه، فكأنه ولد جديداً، فكان لا يبعد [ألا يبالَى] (2) بكون الأبوين معه. ولكن لم يختلف أصحابنا فيما ذكرناه، وكأن الأمر مبنيّ على ألا نبحث عن أبويه، وعن كفرهما، وبقائهما وموتهما. ولو سُبي الطفلُ مع أبويه، أو مع أحدهما، وامتنعت التبعيّة (3)، فلو مات الأبوان بعد السبي، فلا يُحكم بالإسلام؛ لأن السَّبي في أصله لم ينعقد مُستتبِعاً، فلا استتباع بعده. فإذا ثبت ما ذكرناه، فحكم الطفل التابع للسَّابي حكم الطفل التابع لأبويه في الإسلام، في جميع ما ذكرناه، فلا معنى للإعادة إذا كان لا يفترق البابان. 6088 - فأما الجهة الثالثة - وهي استتباع الدَّار، فإنا نقول: الدار قسمان: دار الإسلام ودار الشرك. فأما دار الإسلام، فقد قسمها المرتّبون ثلاثة أقسام: أحدها - دارٌ يقطنها المسلمون، وهي تحت قبضة الإسلام، فإذا وجد فيها لقيط، واستبهم نسبه، فإنا نحكم بإسلامه ظاهراً سواء كان الغلبة للمسلمين فيها أو للمشركين. والحكم بالإسلام أمرٌ أطلقناه، وتفريع الأحكام نفصله. 6089 - وقسمٌ هو تحت قبضة الإسلام، ولكن كان لا يسكنها إلا المشركون، وهي دار افتتحها المسلمون، واستوْلَوْا عليها، وأقروا أهلَها فيها. فإن كان يساكنهم مسلمون، أو مسلم واحد، فحكم اللقيط الذي لا نسب له- الإسلامُ. وهذا بعينه القسمُ المُتقدِّم؛ فإنا قد ذكرنا أنه لا نظر إلى غلبة أهل الذمة وكثرتهم. وإن كان لا يساكنهم مسلم أصلاً، فاللقيط المنبوذ منهم نحكم له بالكفر، لم يختلف فيه أئمتنا.

_ (1) في جميع النسخ: وإن لم. (2) (د 1)، (ت 3): أن يبالى. (3) وامتنعت التبعية: أي للسابي.

6090 - والقسم الثالث - ما كان من ديار الإسلام تحت قبضة المسلمين، فانجلى عنها المسلمونَ واستولى عليها الكفار، فإن كان لا يساكنهم مسلم أصلاً، فالذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن اللقيط في تلك الدار كافر. وذهب أبو إسحاق المروزي إلى أنا نحكم للّقيط بالإسلام، من جهة أن مثل هذه البلدة قد لا تخلو عن مسلمٍ، لم يَنْجل فيمن انجلى؛ لإلْف الوطن، وهو يُخفي إسلامه، ولقد كانت الدار منسوبةً إلى الإسلام قبلُ. وهذا كلام غير منتظم؛ فإنه إذا فرض استيلاء الكفار، والقطعُ بانجلاء جميع المسلمين، فلا يتحقق ما ذكره، والدار بأن كانت. في الزمن الماضي للمسلمين لا تقتضي استتباعاً. نعم، لو كان يساكنهم مسلمٌ، أو مسلمون، فهذا فيه تردد، يجوز أن يقال: يثبت للقيط حكم الإسلام، ويجوز أن تجري هذه الدار، وقد استولى عليها أهل الحرب مجرى دار الحرب، وسنصف القولَ في دار الحرب الآن، إن شاء الله تعالى. 6091 - ومما يتعلق بتمام البيان فيما نحن فيه أن اللقيط الموجود في دار الإسلام لو استلحقه ذميّ، لحقه نسبه؛ فإن الذمي من أهل الدعوة والاستلحاق، ثم إذا لحقه نسب اللقيط، فيحكم له بالإسلام، أو الكفر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نحكم له بالإسلام نظراً إلى الدار، وتغليباً للإسلام. والثاني - أنا نحكم له بالكفر؛ فإن نسبه ثبت من الذمّي الذي استلحقه، والنسب أولى بالاستتباع من الدار، ولا خلاف أن أولاد أهل الذمة يتبعون أصولهم في الكفر؛ وإذا استلحق الذمي لقيطاً في دار الإسلام، ثم أكد استلحاقه، فأقام بيّنة على نسب اللقيط منه، فلا خلاف أنه يتبعه في الكفر، ولا يتبع الدار في الإسلام، فهذا هو الترتيب المرضي. 6092 - فإذا تمهد ما ذكرناه فيبتني على ذلك غرضنا، ونقول: إذا ثبت للمولود حكمُ الإسلام بتبعية الدار، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من

قال: حكم من يتبع الدار في الإسلام حكم من يتبع أبويه، أو يتبع السابي، وقد مضى ذلك. ومن أصحابنا من قال: هذا المحكوم له بالإسلام تبعاً للدار إذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو كافر أصلي قولاً واحداً؛ فإن تبعيته الدارَ ضعيفة، وهؤلاء يقولون: لا يخرج في المسألة قول: إنه لو أعرب عن نفسه بالكفر بعد البلوغ نحكم بردته. 6093 - ثم من سلك هذه الطريقة [اضطربوا] (1) في أحكامه (2) في الصبا، فقال قائلون: هي مُنفَّذة، وإنَّما التردّدُ فيما ذكرناه من الإعراب بعد البلوغ. ومن أصحابنا من قال: لا يُقطع بتنفيد الأحكام، بل نتوقف إلى أن يبلغ، فيعربَ عن نفسه بالإسلام، فإن مات في صباه، لم نحكم له بشيءٍ من أحكام الإسلام. وإلى هذا مال صاحب التقريب، وخرّج اختياره على أصلٍ سنذكرُه، بعد هذا، وهو أن اللقيط التابع للدار في ظاهر الإسلام لو قتله مسلمٌ، ففي توجّه القصاص عليه قولان. قال صاحب التقربب: إن أوجبنا القصاص، فهذا يخرّج على تنفيد أحكام الإسلام في حالة الصّبا، وإن لم نوجب القصاص، فهذا يخرج على أنا لا ننفد حكمَ الإسلام في الصبي. 6094 - وقد قال بعض أصحابنا في توجيه نفي القصاص: إن علة سقوطه أنه لو ثبت، لاستحقه المسلمون، وفيهم الأطفال والمجانين، وبلوغ الأطفال وإفاقة المجانين من أولياء الدم منتظران عندنا. وهذا غير مرضي عند صاحب التقريب؛ فإن الاستحقاق لا يعزى إلى أعيان المسلمين، وإنما يُعزى إلى جهة الإسلام. ولو كان الاستحقاق ينسب إلى أشخاص المسلمين، لما صح ممن ليس له وارث (3) خاص أن يوصي لطائفةٍ من المسلمين؛ فإن

_ (1) في الأصل: اضطروا. (2) في (د 1)، (ت 3): أحكام. (3) (د 1)، (ت 3): ممن هو وارث خاص.

ذلك على التقدير الذي ذكره هذا القائل وصيةٌ للوارث، فالقول إذاً موجَّهٌ بالتوقف الذي ذكرناه. وسنعود إلى تقرير هذا في فصل القصاص، إن شاء الله تعالى. وإذا انتهى الناظر إلى آخر هذا الفصل، استبان أن ما أطلقناه من الإسلام بتبعيّة الدار قد لا يطلقه بعض الأصحاب، بل يتوقف فيه؛ فإن التوقف في حكم الإسلام توقفٌ في الإسلام. وقد نجز غرضنا من أحكام التبعية في الإسلام، ولم يبق إلا حكم دار الحرب. 6095 - ونحن نقول: كل بلدة مختصة بأهل الحرب لا يساكنهم فيها مسلم، فاللقيط [فيها] (1) كافر، ولا خلاف أنه لا يُنظر إلى من يطرق عابراً من المسلمين إذا كان لا يساكنهم، فإن كان يساكنهم، تجارٌ من المسلمين، ففي اللقيط وجهان: أحدهما - أنه يحكم بإسلامه؛ نظراً إلى المسلمين المساكنين. والثاني - لا يحكم له بالإسلام نظراً إلى الدار، وغلبة الكفر فيها. ونحن لا نجتزىء بالإمكان المجرّد؛ إذ لو اكتفينا به، لحكمنا بالإسلام لطروق المجتازين من المسلمين، هذا والمساكنون تجار. فأما إذا كان في تلك البلدة أسارى من المسلمين، ففي اللقيط وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا كان في البلدة تجار مساكنون، والأسرى أولى بألا يؤثر كونهم (2)؛ لأنهم تحت الضبط، بخلاف التجار. ومن يذكر في الأسارى خلافاً، فلعله يفرض في قوم ينتشرون، وهم ممنوعون من الخروج من البلدة ووراءهم العيون، فأمَّا المحبوسون في المطامير، فلا يتجه لكونهم أثر، وكونهم أخفى أثراً في إمكان الإعلاق من طروق التجار. وهذا منتهى الفصل.

_ (1) في الأصل: فيهم. (2) كونهم: واضح أن (كان) تامة هنا بمعنى وجد.

فصل قال: " ولو أراد الذي التقطه الظَّعْن به ... إلى آخره " (1). 6096 - إذا أراد ملتقط المنبوذ أن يسافر به، قال الشافعي: إن كان أميناًً، وظهرت الثقة به، وعُرفت أمانته، مُكِّن منه، وإلا، فلا يُمكَّن؛ مخافةَ أن يسترقَّه. فإن قيل: ألستم قدّمتم في أول الباب عند ذكركم من هو من أهل الالتقاط، ومن ليس من أهله، إن الفاسق، ومن لا يؤمَن ليس من أهل التقاط المنبوذ، وإذا كان كذلك، فلا معنى للتفضيل الذي ذكره آخراً، ويجب أن يقال: من كان من أهل الالتقاط، فهو من أهل المسافرة؛ فإنه لا يلتقط إلا أمين موثوقٌ به؟ قلنا: فيما قدمناه ما ينبه على الجواب عن هذا، فإنا قلنا: لا يمتنع الالتقاط ممن هو مستور الحال ظاهره الخير، ثم أوضحنا ما يليق بحال من هذا وصفه، فوقع كلامُ الشافعي في التقسيم دائراً بين من بانت عدالته ظاهراً، وخبرنا سريرته باطناً، وبين المستور. والجواب فيهما أن من خبرنا سريرته، وعثرنا على حسن سيرته، لا نمنعه من المسافرة؛ ثقةً بما بيّناه من أمانته. وإن كان مستور الحال، لم نتركه يسافر باللقيط حتى يصير مختبر السيرة والسريرة ظاهراً وباطناً؛ فإنَّا لا نأمن أن يسافر به، فيسترقّه، فهذا محمل كلام الشافعي. 6097 - فإن قيل: هلاَّ حملتم كلامه على التفاصيل التي ذكرتموها في نقل اللقيط من العمران إلى البرية قلنا: ما يمتنع من ذلك، فهو ممتنع على العدل الرضا الذي تثبت عدالته سرّاً وعلناً؛ فإذا كان كذلك، فليس هذا مما يختلف بالأمانة وخفائها، فلا محمل لكلام الشافعي إلا ما ذكرناه.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 133.

فصل قال: " وجنايته خطأ على جميع المسلمين ... إلى آخره " (1). 6098 - مضمون هذا الفصل الكلامُ في جناية اللقيط على غيره، وجناية الغير عليه. فأما إذا جنى، وهو طفل، فلا يخلو: إما أن يجني خطأً أو عمداً في [الحس] (2). 6099 - فإن جنى خطأً، فموجَب جنايته مضروب على بيت المال؛ إذ ليس له عاقلة على الخصوص، فأروش جناياته مضروب على الجهة التي يصرف إليها مالُه لو مات. 6100 - وإن جنى عمداً في الصورة، فهذا يبتني على قولين سيأتي ذكرهما، في أن الصبيّ هل له عمد؟ فإن قلنا: لا عمد له في الحكم، فحكم جنايته، وهو عامد في الصورة، كحكم جنايته وهو مخطىء. 6101 - وإن قلنا لعمده حكمٌ، فموجب جنايته مضروب على ماله إن كان له مال، وإن لم يكن، فهو متعلِّق بذمته إلى أن يجد مالاً، فإن وجده في صباه، أُخرج موجَب الجنايةِ عنه، وإن لم يجده حتى بلغ، تعلّقت الطَّلبة به إن كان له شيء. فالغرض بيان انقطاع الطَّلبة عن بيت المال؛ فإن بيت المال إنما يتحمل أرش جناية يتحمل مثلَها العاقلةُ الخاصة لو كانوا. 6102 - ولو أتلف مالاً، فلا يكاد يخفى أنه لا يُضرب بدلُ ما أتلف على بيت المال؛ فإن هذا الغرم غيرُ معقول ولا محمول. 6103 - فأما الجناية عليه، فلا تخلو إما أن تكون خطأً، أو عمداً. فإن كانت خطأ، فعلى عاقلة الجاني على تفاصيلَ سيأتي ذكرها في كتاب الديات، إن شاء الله تعالى.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 133. (2) في الأصل: الجنين، (ت 2): الجنس، والمثبت من (د 1)، (ت 3).

6104 - وإن كانت عمداً يوجب مثلُه القصاصَ، فلا يخلو إمَّا أن يكون نفساً، أو طرفاً. فإن كانت نفساً، فهل يجب القصاص على قاتله؟ وهل للإمام أن يقتص منه؟ الذي نقله المزني أن للإمام أن يقتص، ونقل البويطى عن الشافعي أنه ليس له أن يقتص؛ فنظم الأئمة قولين: أحدهما - ثبوت القصاص. والثاني - انتفاؤه. ثم اختلفوا في توجيه القولين، ونحن نذكر ما ذكروه، ثم نُفرع على أصل القولين، ومأخذهما ما يتفرع عليهما. 6105 - فقال قائلون: وجه قولنا: القصاصُ واجبٌ بناءُ الأمر على أنه محكوم بإسلامه مَعْصُوم الدم، وحق عصمة الدم إيجاب القصاص على القاتل عمداً. ووجه القول الثاني أن القصاص لا يجب؛ لأنا لو قدرنا وجوبه، نسبنا استحقاقه إلى المسلمين كافة، وفيهم الأطفال والمجانين، فنزل منزلة من قُتل، وفي أوليائه أطفال؛ فإنه لا يجوز استيفاء القصاص دون بلوغهم، وكذلك القول في انتظار إفاقة المجانين. هذه طريقةٌ مشهورة في التوجيه. ووجّه صاحب التقريب القولين بأن بناهما على أن المسلم بتبعية الدار هل تنفد له أحكام الإسلام أم أمره في الحكم بالإسلام موقوف؟ وقد تقدم هذا. 6106 - وكان شيخي يفرّع على اختلاف الطريقين مسائلَ يعددها: إحداها - أن اللقيط لو كان بلغ وأعرب عن نفسه بالإسلام، وقُتل، فكيف سبيل القصاص؟ فمن أخذ القولين من اشتمال المسلمين على الصبية والمجانين، طرد القولين في هذه الصورة. ومن أخذ القولين من التردد في إسلام اللقيط، قطع القول هاهنا بوجوب القصاص. والمسألة الأخرى - أن يُقْتَل رجل نسيب، ولا يخفف وارثاً خاصاً، وكان ماله مصروفاً إلى المصالح، فأمره مخرَّجٌ على ما ذكرناه. والمسألة الأخرى - أن يموت رجل، ويخلف حقَّ قصاصٍ، كان ثبت له في حياته

لم يستوفه، ولا عفا عنه، وورثه المسلمون الآن، فالذي يقتضيه قياسُ كلام معظم الأصحاب تخريجُ ذلك على القولين. والذي يقتضيه قياس صاحب التقريب أن للإمام أن يقتص في هذه الصورة قولاً واحداً. 6107 - ثم إن لم نُثبت القصاصَ في الصورة (1 الأولى، أو في الصورة 1) المذكورة بعدها، فعلى القاتل الدّيةُ، والكفارة، فالديةُ مصروفةٌ إلى سهم المصالح من بيت المال. فإن أوجبنا القصاص، فقد أجمع الأئمة في الطرق على أنه لا يتعين على الإمام أن يقتص، ولكن لو أراد الرجوع إلى المال، ورأى ذلك صلاحاً، فله ذلك، وهذا فيه بعض الميل عن القانون؛ فإن وضع القصاص عند الشافعي على أن الوالي لا يملك إسقاطه، غيرَ أن هذا القصاص ليس على قياس غيره؛ فإنه كما يمتنع عفوُ [الوالي] (2) يمتنع استيفاؤه، غيرَ أن الشرع فوّض هذا إلى رأي الإمام ونظرِه، وقد ذكرنا أن ما نضيفه إلى رأي الإمام لانريد به أن يتخيّر فيه، بل نريد به أنه يرى الأصلح والأولى، والأليق بالحال، ولوْ (3) لم يثبت له العفو إذا رآه، لخرج القصاص عن موضوعه، ولتحتم استيفاؤه، وهذا يُفضي إلى التحاقه بالحدود، التي لا محيد عنها، هذا منتهى القول فيه إذا قُتِل اللقيطُ عمداً وقتل من ليس له وارث خاص. 6108 - فأما القول في القصاص في الأطراف، فإذا قطع جانٍ يدَ اللقيط، فالقصاص ثابت على الجملة. أما على طريقة جماهير الأصحاب، [فعلة] (4) ثبوته أن مستحقّه اللقيطُ، وهو متعيَّن، بخلاف ما إذا قُتل؛ فإنّ القصاص لو ثبت، لاستحقه المسلمون، وفيهم الأطفال والمجانين.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (د 1)، (ت 3). (2) في الأصل: الولي. (3) (د 1)، (ت 3): ولم. (4) في الأصل: فعليه.

وأما على طريقة صاحب التقريب، فالقول في القصاص يضاهي القولَ في الإسلام، فلو بلغ وأعرب عن نفسه بالإسلام، تبيّنا وجوبَ القصاص. ولو بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر والجاني مسلم، تبينا على طريقته أن القصاص، لم يجب؛ فإن الإسلام أطلقناه معلقاً بتبعية الدار، وفي تبعية الدار من الضعف ما وصفناه. 6109 - ثم إذا حكمنا بثبوت القصاص في الطرف، فلو أراد السلطان أن يقتص، لم يكن له ذلك؛ فإن استيفاء القصاص على مذهبنا لا يتعلق بتصرّف الولاة. [وحكى الشيخ أبو بكر (1) عن القفال أنه ذكر وجهاً بعيداً في أن السلطان يستوفي القصاص الواجب في طرف المجنون، وهذا لم أره لأحد من الأصحاب، ولم يورده أحدٌ عن القفال غيرُه، وهو وإن كان يتجه إذا قلنا: يجوز إسقاط القصاص وأخذ الأرش، فهو غير معتدّ به. قال: ولا خلاف أن الأب لا يستوفي القصاص للمجنون، وإنما هذا الوجه في السلطان، ثم زيفه] (2). 6110 - ولو أراد السلطان أن يأخذ أرش الجناية، فهل له ذلك؟ الترتيب المرضي فيه ما ذكره صاحب التقريب. قال: إن كان الصبي مميزاً غنياً، فليس للوالي أن يأخذ المال، بل يتوقف حتى يبلغ الطفل، ويقتص إن أراد. والجاني يحبس، ولا يخلّى؛ فإن في تخليته إحباط القصاص. ولا مبالاة بما عليه من الأذى بسبب الحبس؛ فإنه يعارضه إمهاله في الحياة، وفي سلامة الأطراف. ثم ليس مما ذكرناه بدٌّ، ونحن نحبس من عليه دين إلى أن يتبين إعساره، بأن كنا (3) نجوّز تبيينه. وفي حبسه تنجيز مُعاقَبةٍ.

_ (1) الشيخ أبو بكر: المراد به أبو بكر الصيدلاني. كما نبهنا على ذلك من قبل. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحده. (3) (د 1)، (ت 3)، (ت 2): ونحن نجوّز. والمعنى: أننا نحبس مدّعي الإعسار إذا كنا نتوقع أن له مالاً غيّبه، ونرجو أن يبينه ليخلص من الحبس. فإذا جاز هذا، فحبس من عليه القصاص إلى بلوغ المجني عليه أولى.

ولو كان الصبي مجنوناً فقيراً، وتحقق مسيس الحاجة إلى المال، وبَعُد توقع الإفاقة من المجنون، فالإمام يأخذ الأرش عند اجتماع هذين المعنيين. ولو كان الصبي مجنوناً غنيَّاً، أو كان فقيراً عاقلاً مميزاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يأخذ الأرش نظراً إلى الحاجة الحاقّة في إحدى الصورتين، وإلى اليأس من الإفاقة في الأخرى. والوجه الثاني - أنه لا يأخذ الأرش أصلاً وينتظر ما يكون. والذي ذكره الأئمة من انتظار البلوغ في الصبيّ المميز الفقير متجهٌ. فأما الانتظار إلى إفاقة المجنون، فعظيم، وهو يؤدي إلى تخليد الحبس على الجاني من غير انتظارٍ محقق. ولكن هذا لا بد منه مع التفريع على هذا الوجه، ولسنا نقطع بحصول اليأس من الإفاقة. 6111 - ثم مهما (1) أخذ مَنْ إليه الأمرُ الأرشَ إما في صورة الوفاق، أو في صورة الوجهين، فأخذه الأرشَ هل يتضمن إسقاطَ القصاص والعفوَ عنه حتى لو بلغ الصبيّ مُفيقاً لا يرد الأرشَ ولا يستوفي القصاصَ أم له رد الأرش، وطلبُ القصاص؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين، وعبر عنهما بأنّ أخذ الأرش عدولٌ إليه بالكلية وإسقاطٌ للقصاص أم هو ثابت بسبب الحيلولة؛ من جهة أن القصاص الواجب لا سبيل إلى استيفائه؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. وأخذ الأرش على وجهٍ نازلٌ منزلة أخذ المغصوب منه قيمة العبد الآبق من الغاصب، وهذا يتجه بعضَ الاتجاه، سيّما إذا أفضى الأمرُ إلى إدامة الحبس، ولكن ينخرم بصورةٍ لا خلاف فيها، وهي إذا كان الصبي عاقلاً غنياً؛ فإنا لا نثبت الرجوع إلى الأرش، للحيلولة في هذه الصورة أصلاً، ولعل الجواب عنه أنه إذا كان إلى البلوغ مصيرُه، فلا نجعل لهذه الحيلولة حكماً، غير أنه يلزم على مساق ذلك أن نقطع بامتناع الرجوع إلى الأرش إذا كان الصبي فقيراً مميزاً. هذا منتهى الكلام في ذلك. 6112 - ثم ما قدمناه في السلطان واللقيط يجري مطّرداً في الطفل الذي يليه أبوه،

_ (1) "مهما": بمعنى (إذا).

والكلام في أنه يأخذ الأرش أم لا يأخذه على التفصيل المقدم. وكان شيخي يقول: ليس للوصي في حق الطفل سلطانُ (1 أخذ الأرش، وإنما يثبت هذا لوالٍ، أوْ وَليّ 1). وهذا الذي ذكره حسن، إذا جعلنا أخذ الأرش إسقاطاً للقصاص، وإن حكمنا بأنه مأخود للحيلولة، فيظهر تنزيل الوصي منزلة الولي. على أن المسألة فى أصلها ليست خاليةً عن الاحتمال؛ فإن القصاص ليس داخلاً تحت الولاية استيفاءً وإسقاطاًً حتى يقال: هذا النوع من التصرف من خصائص الولاة. والعلم عند الله تعالى. فصل قال الشافعي: " ولو قذفه قاذف ... إلى آخره " (2). 6113 - أما قذف اللقيط غيرَه في صباه وبعد بلوغه لا يخفى حكمه. وأما إذا قذفه غيرُه، فمقصود الفصل دائر على التردد في حرّيته، فإنه إذا كان مشكل الحال، أمكن أن يقدّرَ رقيقاً، وسنصف بعد هذا تفصيل القول في حرّيته، وما يجري الحكم به، إن شاء الله تعالى. ولكن المختص بمضمون هذا الفصل أن المقذوف إذا كان بالغاً مسلماً، متعففاً عن الزنا، وكانت حريته على ما أشرنا إليه، فقال القاذف: أنت رقيق، فلا حدّ عليّ، وقال المقذوف: بل أنا حُرّ، فالذي نصّ عليه هاهنا أن القول قولُ المقذوف مع يمينه، ونصّ في اللعان على أن القول قول القاذف، فحصل في المسألة قولان. قال الأئمّة: هما من تقابل الأصلين؛ فإنّا إن نفينا الحدّ، بنينا على أصل براءة الذمة، وإن أوجبناه، بنينا على أن الأصل في الناس الحريّة، والرق عارض. 6114 - ثم تخبط الأصحاب في مسائل أجرَوْها مجرىً واحداً، وبعضها ليس من

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (د 1)، (ت 3). (2) ر. المختصر: 3/ 134.

تقابل الأصلين عندنا. ونحن نذكر ما ذكره الأصحاب، ثم نوضّح ما يليق بهذا الفصل من المباحثة. فممّا ذكروه إعتاق العبد الغائب الذي انقطع خبر حياته (1)، قالوا: فيه قولان خارجان على تقابل الأصلين: أحدهما - أنا لا نحكم ببراءة الذمة؛ لأن الأصل اشتغالُها بالكفارة. القولُ الثاني - أنا نحكم ببراءة الذمَّة بناءَ على أن الأصل بقاء العبد. وقالوا أيضاً في العبد الآبق الذي انقطع خبره: هل يجب زكاة فطرِه على سيده؟ فعلى قولين مأخوذين من تقابل الأصلين: أحدهما - لا تجب بناءً على أصل براءة الذمة. والثاني - تجب، بناء على بقاء العبد. وخرّجوا ما نحن فيه من وجوب الحد على القاذف على هذا الأصل، وألحقوا بذلك اجتماعَ غلبة الظن في النجاسة مع أصلٍ مستصحبٍ في الطهارة، والاختلاف في ذلك مشهور على الجملة: فأحد القولين: يجوز الأخذ بالطهارة، بناء على استصحاب الطهارة. والقول الثاني - أن التعلّق بما يغلب على الظن. ولهذا الأصل صور مذكورة في كتاب الطهارة. 6115 - وأول ما نرى استفتاحه والتنبيه عليه أن مسائل القولين في الطهارة ليست من قبيل تقابل الأصلين؛ فإنا إذا رُمْنا طردَهما على التقابل، لم ينتظم الكلام؛ فإن العبارة على القولين في مسائل النجاسة: أنا في قولٍ نستصحب أصل الطهارة، فلا نوجب إزالةً. وفي القول الثاني - نوجب الإزالة تعلقاً بغالب الظن، وتقديماً للاجتهاد على استصحاب الحال. والوجه لو استند غالب الظن إلى اجتهادٍ ظاهرِ- طَرْحُ استصحاب الحال. وما ذكره الأصحاب من أنا لا نترك اليقين بالشك مجازٌ؛ فإن اليقين غير معقول مع

_ (1) إعتاق العبد الغائب: أي إعتاقه عن الكفارة.

الشك، فضلاً عن ثبوت غلبة الظن على خلافه. وقد ذكرنا في مراتب الأدلة في الأصول أن التعلق باستصحاب الحال باطل في معارضة الاجتهاد. وسبب اختلاف الأدلة في القول في النجاسات ضعفُ الاجتهاد؛ من قِبل أن علامة النجاسة خفية، فإذا فرض ظهورها، كانت مستيقنة. فهذا النوع إذاً من قبيل معارضة استصحاب الحال اجتهاداً ضعيفاً. وقد تجرّد الاستصحاب في الحدث والطهارة؛ إذ لا علامة فيهما أصلاً. وإذا عدمنا الاجتهاد بالكلية، استصحبنا ما كنا عليه. فهذا مسلك الكلام في ذلك. 6116 - والذي يلتحق بقاعدة تقابل الأصلين على التحقيق المسألتان المذكورتان في غيبة العبد: إحداهما - في أن إعتاقه هل يبرىء ذمة المعتق؟ والأخرى في أن فطرته هل تجب؟ ففي قولٍ يبنى الأمر على بقائه؛ فنوجب الفطرة ونبرىء الذمة عن الكفارة وفي قولٍ لا نبرىء الذمة، ولا نوجب الفطرة. وبالجملة مستند القولين اجتهادان يَعسُر على غير المدقق ترجيحُ أحدهما على الثاني، فمن لا يبرىء الذمة يقول: الأمر بالكفارة ثابت تحقيقاً، فليكن الخروج عنها في الظهور بمثابة موجِب الكفارة، وهذا اجتهادٌ ونوعٌ من النظر. والقائل الثاني يقول: إذا أعتق، فلسنا نستيقن بقاء الأمر بالكفارة الآن؛ إذ لو تحققنا بقاء العبد، لتبينّا براءة الذمة عن الكفارة، وإذا تبيّن سقوطُ اليقين ببقاء الأمر، فليس إلا التعلّق بنوعٍ من النظر المغلِّب على الظن، والغالب على الظن بقاء العبد. 6117 - ثم قد يظن كثير من الناس أنه لا يترجح في هذا الفن قول على قول، ولو كان كذلك، لانْحسم الفتوى وسقط مسلك الحكم في النفي والإثبات، واعتقاد ذلك محال. ونحن نتخد هذه المسألة معتبراً في طريق الفتوى، فنقول: الظاهر عندنا أن ذمته لا تبرأ عن الكفارة؛ فإنه متعبَّد بعتقٍ ظاهر، وإذا غاب العبد وانقطعت الأخبار عنه مع طروق الطارقين، وتوافر الأخبار وبذل الجد في المباحثة، فهذا قد يدل على الفقد والموت، والأصل في الباب أن اليقين في حصول

العتق ليس مطلوباً؛ إذ لا يستيقن ملكٌ في عبد، بل نجتزىء بإنشاء عتقٍ في ملك ظاهر، وإذا قامت الأدلة على الفقد، لم يظهر العتق، وإذا لم يكن إلى تحصيل اليقين سبيل، فلا بدّ من الظهور، والقولان فيه إذا عميت الأخبار عن الحياة لو كانت، مع اجتماع أسباب ظهورها، حتى لو كان انقطاع الأخبار محالاً على انقطاع الرفاق، واضطراب الطرق، فيجب القطع بحصول البراءة ظاهراً؛ فإن مما ثبت أن كل أصل تقرر، ولم ينتفِ، ولم تنتصب دلالة تُغلِّب على الظن انتفاءه، فهو مُقَر على حكم البقاء. وصورة القولين في انتصاب الأدلة على نقيض البقاء. 6118 - وقد يتطرق إلى هذا سؤال، وهو أن يقال: كما يظهر البقاء مع البحث، فكذلك يظهر الموت، ولعل الدواعي إلى نقل الموت أميل منها إلى نقل الحياة؛ فإن الموت في حكم النادر في حق الحي، والنفوس مجبولة على نقل النّوادر، ولكن قد يُخفى على الإنسان ما يسوءه، وإن كان لا يُكذب له. ثم مثل هذا إذا وقع، فالغالب ظهور خبر الموت وتبيّن الأمر على ما هو عليه، فموقع القولين ما إذا انقطعت أخبار الحياة من غير مانع، ولم يظهر بعدُ الموتُ، فلو صوَّر مصوّرٌ استبهام الموت والحياة مع طول الزمان، كان ذلك على خلاف العادة، وإن شطت المسافة، أمكن حمل الانقطاع على بُعدها، ولا يجري القولان هاهنا. 6119 - ومما يجب التنبّه له أنا إذا لم نحكم ببراءة الذمة عن الكفارة، فلا نحكم بصحة بيع العبد والحالة هذه. وإن حكمنا ببراءة الذمة عن الكفارة ظاهراً، ففي نفود البيع احتمالٌ؛ فإن إعتاق الآبق مُجزىءٌ مع امتناع بيعه. ومما يجب دركه أنا إذا منعنا البيع، فلو تبين بقاء العبد، فالظاهر عندي نفوذ البيع، وإن كان قد يلتفت هذا على الوقف. ولكن إذا بأن الأمر، وكان البيع مستنداً إلى الملك، والتمكن من التسليم، فظنُّ التعذر لا يبقى أثره، مع تبين خلافه. وكأن هذا في المعاملات يضاهي صلاةَ الخائف من سوادٍ يحسبه عَدُوا، ثم تبين خلافه. ولا يخفى أنا إذا تبيّنا بقاء العبد، فنحكم باستناد براءة الذمة عن الكفارة إلى وقت الإعتاق.

6120 - فخرج مما ذكرناه أن تقابل الأصلين لقب أطلقه الفقهاء اصطلاحاً، وإلا فحاصل القولين فيما سماه الفقهاء تقابل الأصلين يرجع إلى تقابل الأمارات الظنية. وعلى هذا يخرّج كلُّ مختلَف فيه من المظنونات. فإن قيل: فما الظاهر في إيجاب الفطرة في مثل العبد الذي ذكرتموه؟ قلنا: هو يخرّج على ما ذكرناه. وبين المسألتين دقيقةٌ، وهي أن الموت ترجّح في المسألة الأولى على الحياة، وخرج العتق عن الظهور، وثبت التعبد بعتقٍ ظاهر، والأمر باقٍ إلى الامتثال. وفي مسألة الفطرة ثبت الملك أولاً، وظهر بالأمارة موتُ العبد، كما ذكرناه، والبقاء غير خارج عن طرق الظنون، ولم يثبت عندنا في وضع الشرع أن ما تحقق وجوده أولاً، ولم نستيقن انقطاعَه، فلا فطرة فيه. وهذا تلويح في الظن، والأصل أن لا فرق بين المسألتين. فقد تحصّل التنبيه على مسلك الأقوال في المواقع التي يسميها الفقهاء تقابل الأصول. 6121 - وألحق العلماء بهذا ما نحن فيه من وجوب الحدّ على القاذف عند إنكار حرية المقذوف، وهو جارٍ على التقرير السابق. والظاهرُ في الحال انتفاء الحد، كما سنقرره بعدُ -إن شاء الله عز وجل- في فصل يحوي أحكامَ حرية اللقيط وتطرّقَ إمكان الرق إليه. 6122 - ومما يتصل بما نحن فيه القصاص عند فرض الجناية على اللقيط. فإذا قال الجاني الحرّ للّقيط بعد بلوغه: أنت عبد. وقال المجني عليه: بل أنا حر، ففي وجوب القصاص طريقان: من أصحابنا من أجرى القصاص مجرى حد القذف، وخرّج وجوبه على القولين. ومنهم من قطع [باستيفاء] (1) القصاص، واعتلّ بأنا لو نفيناه على تقدير الرق،

_ (1) في النسخ الأربع: قطع بانتفاء. ولعل الصواب: " قطع باستيفاء " كما هو واضح من تعليل القطع.

لانتقلنا إلى مشكوك فيه، وهو القيمة، والقصاص ظاهرٌ بناء على الحرية، وهذا يتضمن انتقالاً من ظاهرٍ إلى مشكوك فيه، وإذا (1) درأنا الحد عن القاذف، أوجبنا عليه التعزير، [والتعزير] (2) من طريق الحس بعضٌ من الحد، وهو مستيقن الثبوت، ففي إسقاط الحد، والرجوع إلى التعزير تركٌ للظّاهر، وتعلّق بالمستيقن. وكان شيخي يقول: في القصاص طريقان: أحدهما - تخريج القولين، والآخر - القطع بالوجوب؛ فإن القصاص أبعد عن السقوط بالشبهة من حد القذف. وهذا ضعيف لا مستند له على مذهب الشافعي؛ فإن حد القذف من حقوق الآدميين عنده. ولا يصفو هذا الفصل عن شوائب الإشكال إلا بالفصل الذي نعقده في حرية اللقيط ورقّه، وتمام البيان في جناية اللقيط والجناية عليه موقوف على ذلك الفصل المنتظر. 6123 - ثم إن المزني نقل جملاً من أحكام الدعوى، ولحوق النسب، والقيافة، وقد عقد فيها باباً على أثر كتاب الدعاوى، ونحن التزمنا الجريان على ترتيب مسائِل المختصر، فالوجه أن نبين ما أورده من مسائل الدعوى، ونحيل باقي المسائل على آخر الدعاوى. 6124 - ومما نقله [أيضاًًً] (3) فصلٌ بيّن قصد به الرد على بعض العلماء، وذلك أنه قال: لا ولاء له كما لا أب له، وأراد بقوله: لا ولاء له أي لا ولاء عليه، وقصد بمضمون الفصل الرد على من زعم أن الملتقط يرث اللقيط، فقال رادّاً عليه: ليس بين الملتقط وبين اللقيط سبب مورِّث، ولا نسب، وتعرّض لبيان انتفاء الولاء فيما حاول نفيه. هذا مقصوده.

_ (1) وإذا درأنا الحد: بيان للفرق بين حد القذف والقصاص. (2) ساقطة من الأصل. (3) سقطت من الأصل.

فصل قال: " ولو ادعاه الذي وجده، ألحقته به ... إلى آخره " (1). 6125 - افتتح رضي الله عنه أحكاماً من الدّعوة (2)، والذي ذكره أولاً له اختصاص باللقيط. ومذهبنا أن الملتقِط إذا استلحق اللقيط، وقال: إنه ولدي، لحقه النسب. وهذا من الأصول في الشريعة، وهو في ظاهر وضعه مخالف لأبواب الدعاوى، فمن ادّعى نسب طفل مجهول النسب لحقه نسبه بمجرد الدِّعوة والدِّعوة على صورة الدعوى المجردة. والنسب من الحقوق المطلوبة، ثم لا نقول: يثبت ما على صاحب الدِّعوة من الحقوق، ولا يثبت ما له، بل تثبت أحكام النسب من الجانبين، حتى لو مات الطفل، ورثه مستلحقه، كما يرثه الطفل، لو كان هو الميت. 6126 - وهذا مع كونه مجمعاً عليه مستندٌ إلى طرفٍ من المعنى، وهو أن الإشهاد على النسب وسببه عسر، فلو لم يحصل بالدِّعْوة، لضاعت الأنساب. وإذا فرضنا ثبوت نسب ببينة، فالشهود لا يبنون شهادتهم على [عِيان] (3)، وإنما يبنونه (4) على استلحاق الرجل طفلاً، وتصرفه فيه بوجوه الاستصلاح على حسب تصرف الآباء، ثم إنه يشيع من هذه الجهة حتى ينتهي إلى التسامع الذي هو مستند البينات. 6127 - ثم إذا ثبت النسب بالدِّعْوة، وجرى الحكم به، فلو بلغ الطفل، وأنكر النسب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن النسب لا ينتفي بإنكاره؛ فإنه جرى الحكمُ به في الصبا واستمر، فلا ينقض بعد ثبوته.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 134. (2) الدعوة: بالكسرة: ادّعاء الولد الدعي. (3) في الأصل: علم. (4) كذا في النسخ الأربع (يبنونه) بضمير المذكر. نظراً للمشهود عليه: النسب، أي يبنون النسب. والله أعلم.

والثاني - أنه ينتفي إذا أنكر بعد البلوغ وحلف، فإنه لو ادعى نسبَ بالغٍ، فأنكره، وحلف، لم يثبت النسب، فإذا انفرد المستلحِق بالدِّعوة في زمن الصبا، استحال أن يبطُل أثر الإنكار بعد البلوغ، وسنذكر في ذلك مثالاً في فصل الحرية والرق، إن شاء الله تعالى، ونبيّن قاعدة المذهب في مجموع هذه المسائل. 6128 - والذي نذكره الآن بعد القول فىِ أصل الدِّعوة أن دِعوة الملتقط في اللقيط مقبولةٌ، كما تُقبل دِعوةُ غيرِه فيه. وقال مالك (1): إن اشتهر أن الملتقط لا يعيش له ولد، فدِعوته مسموعة؛ فإن النبد واللَّقْط محمول على عادةٍ في الناس، تتعلّق بالفأل: فإن من لا يعيش له ولد، ينبد ولدَه، ثم يلتقطه، ومن عَقْد العوام أنه إذا فعل ذلك، عاش المنبوذ. فأما [إذا لم يكن الملتقط] (2) ممن لا يعيش له ولد، فلا يُقبل استلحاقه للّقيط؛ من قبل أن الظاهر يكذبه؛ إذ الإنسان لا ينبد ولده هزلاً. وهذا الذي ذكره لا أصل له، والقواعد لا تزول بأمثاله. 6129 - ولو اجتمع على اللقيط الملتقِطُ وغيرُه، وتداعيا نسبه، فلا نرجح الملتقط على غيره لمكان يده، بل هو وصاحبه مستويان في الدِّعوة، وسنذكر في الفصل الذي يلي هذا الفصل اجتماعَ المتداعيين في النسب، وإنما لم نرجح جانب الملتقط؛ لأن يدَ الالتقاط لا تدل على مزية في النسب. وقد قال أئمتنا: إذا صادفنا صبياً تحت تصرّف إنسان، وما عهدناه منبوذاً، فإن كان المتصرِّف فيه بجهات استصلاح الآباء ادّعى نسبه، وجرى له الحكم به، ثم جاء إنسان، وادعى نسبَه، فجانب صاحب اليد مرجح؛ فإن النسب ثبت معتضداً بظاهر اليد، فلا تزحمه دعوى مَنْ لا تصرّف له، ولا يد.

_ (1) ر. منح الجليل لعليش: 8/ 248، التاج والإكليل للمواق - بهامش شرح الحطاب: 6/ 82. (2) في الأصل: إذا كان الرجل. والمثبت من باقي النسخ.

وإن كان تحت يده كما صورنا، ولم يصدر منه إسماعُ الناس استلحاقَه، فجاء إنسان، وادّعى نسبه، وقال صاحب اليد: هو ابني، فهذا مما تردّد الأئمة فيه، وهو في محل التردد، فمنهم من قال: صاحب اليد أولى إلا أن يقيم المدّعي الآخر بيّنةً. ومن أصحابنا من قال: لا فرق، كما لا فرق بين الملتقِط وغيرِه، والجامع أن يد الملتقط ليست علامةَ نسب اللقيط، وقد دلّ النبد والالتقاط عند مالك على مناقضة الدِّعوة في النسب. كذلك من تثبت يده على طفل، فالغالب أن يُشهر ويذكر نسبُه، إن كان ولدَه، فإذا لم يفعل، صارت يده كيد الملتقِط؛ من جهة أنها لا تدلّ على النسب، ويد الملتقط، وإن طال الزمن عليها لا تتضمن ترجيح جانبه؛ فإن مستندها الالتقاطُ الأول، وليس في الالتقاط ترجيحٌ فيما يتعلق بالنسب عند التداعي فيه. 6130 - نعم، لو كان التنازع في الحضانة، فقال أحدهما: أنا الملتقط، وقال الثاني: بل أنا الملتقط، وصادفنا اللقيط في يد أحدهما، فالذي صادفنا اللقيط في يده مقدّمٌ على صاحبه. فلو قال صاحبه: كان الصبي في يدي، فانتزعه مني، ولم يُقم واحدٌ منهما بيّنةً، فالقول قول من يصادَف اللقيط في يده في الحال مع يمينه. والفرق بين النسب وبين الحضانة بيّن؛ فإن حق الحضانة يثبت بالالتقاط واليدُ دلالةٌ عليه، وحق النسب لا يثبت بالالتقاط. فصل قال: " ولو ادعى اللقيط رجلان ... إلى آخره " (1). 6131 - إذا تنازع رجلان نسب مولودٍ، وكان كل واحد منهما من أهل الدِّعوة حالة الانفراد، فإن أقام كل واحدٍ منهما بيّنة على أن الولد ولدُه، والنسب ثابت من جهته،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 134.

فالبيّنتان تتهاتران، وتسقطان، ولا ينتظم استعمالهما (1). والسبب فيه أن في كيفية الاستعمال على القول بالاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها - القرعة. والثاني - القسمة. والثالث - التوقف. والقسمة غيرُ ممكنة، والقرعة لا جريان لها في الأنساب، ولا معنى للتوقف؛ فإن فيه تعطيلَ النسب، وليس فيه زيادة حكم بحالٍ على البيّنتين، فلا يجري إذاً قولٌ من أقوال الاستعمال، ويتعين الحكم بسقوط البيّنتين. 6132 - ثم لو لم يكن معهما بينة، فإنا نُري الولدَ القائفَ، فهذا هو السبيل لا غير، ثم إذا [ألحقه] (2) القائف بأحدهما، ونفاهُ عن الثاني، ألحقناه بالذي ألحقه القائف به. وتفصيل القول في كيفية مراجعة القائف، وفي خطئه لو أخطأ مذكورٌ في كتاب الدعاوى. والقدْرُ الذي لا نخلي عنه هذا الباب أنا إذا أَرَيْنا الولدَ القائفَ مع أحد المتنازعيْن، فألحقه به، فلا نقتصر على هذا، بل نريه مع الآخر، فإن ألحقه به أيضاًً، تبين خطأ القائف، وسقط التمسك بقوله، وكان كما لو لم نجد قائفاً، إذا لم نجد غيره، ولا أثر لتقدم الإلحاق بالأول؛ فإنا نراجعه في حق الثاني، فإذا ألحق بالأول ونفاه عن الثاني؛ فإذ ذاك يحكم بقوله. ولو رأى الولد مع المتنازعَيْن جميعاً، فلا بأس، [فإن ألحق بهما، أو نفى عنهما، فلا قائف] (3)، وإن ألحق بأحدهما، ونفى عن الثاني، ثبت النسب ممن ألحقه.

_ (1) عبارة الأصل، (ت 2) هكذا: " ولا ينتظم استعمالهما، فإن فرعنا على أن البينتين المتعارضتين تستعملان، والسبب فيه أن في كيفية الاستعمال ... ". (2) في جميع النسخ: الحق (بدون هاء الضمير). (3) ساقط من الأصل.

وفي القائف صفات مرعية ليس هذا موضع ذكرها، وستأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى. 6133 - وإذا تعذر الرجوع إلى القائف، وقد تقدم أنه لا تعلّق بيد الالتقاط، فلا وجه إلا التوقف إلى أن يبلغ الغلام فينتسب إلى أحدهما، فإذا بلغ، لم يكن انتسابه إلى أحدهما صادراً عن التشهي والتمني، ولكنا نقول له: راجع جبلَّتك، وانظر، فإن وجدت نفسك أَمْيل إلى أحدهما رقةً وشفقة، فانتسب إليه. ولا ينبغي أن يبني انتسابه على غنى أحدهما، ورغد المعيشة في جنابه، بل حقٌّ عليه أن يتبع الشفقة والرقة الجبلِّيّة في القرابة. 6134 - وهذا الذي نحن فيه يباين تخيير المولود بين الأبوين إذا تنازعا الحضانة من وجهين: أحدهما - أن الصبي كما (1) بلغ مبلغ التمييز خيرناه، ولا نكتفي بهذا السن في التخيير الراجع إلى النسب، والفرقُ أن التخيير في الحضانة ليس قولاً مُلزماً، فإن الصبي لو اختار في الحضانة أحدَ الأبوين، ثم بدا له، فاختار الثاني، اتّبعناه، وضممناه إلى الثاني. وانتسابه إلى أحدهما قول ملزم، والصبي ليس من أهل القول الملزم. فهذا أحد الوجهين في الفرق. والوجه الثاني - أن الصبي المخيَّر لو اختار أحدَهما تشهِّياً، انبنى عليه الحكم ظاهراً وباطناًً، إلى أن يسأم ويؤثر الثاني، وكذلك لو مال إلى أغناهما، ورأى العيش معه أهنأ، فله أن يختاره (2)، وقد ذكرنا أنه لا يجوز التعويل في الانتساب إلى أحدهما إلا على الشفقة والرّقة التي تثيرها القرابة. 6135 - فلو بلغ وانتسب إلى أحدهما، ووجدنا قائفاً وقت انتسابه؛ فإن ألحقه بمن انتسب إليه، فلا كلام، وإن ألحقه بالثاني، فإلحاق القائف هو المتبع؛ فإنه حكم صادرٌ ممن هو حاكم في الباب. وكذلك لو انتسب إلى أحدهما، فأقام الثاني بينةً، فالبينة مقدّمة.

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) كل هذا في جانب الحضانة.

ولو اجتمعت بينة في أحد الجانبين، وإلحاق القائف في الثاني، فالبينة مقدّمةٌ، اتفق عليه الأصحاب؛ فإن مستند البينة أثبت، وقول القائف وإن كان مقبولاً؛ فإنه صادرٌ عن حدسٍ وتخمين، والبيّنة حجة عامة في الخصومات جُمَع. 6136 - ولو كان التنازع في الحضانة لا في النسب، فالسابق في الالتقاط هو الحاضن، لا شك فيه. فلو أقام كل واحد منهما بينةً أنه السابق، وصادفنا اللقيط في يد أحدهما، فبيّنته تُرجَّح ترجيح البينتين بين الداخل والخارج في خصومة الملك، على ما سيأتي في الدعاوى؛ فإن حقيقة الحضانة ترجع إلى اختصاصٍ بيد، فإذا كانت اليد تدلّ على الاختصاص بالملك، فلأن تدل على الاختصاص بالحضانة أولى. وإذا كان المولود بينهما، وهما واقفان عليه، فأقام كل واحد منهما بينة، فإن حكمنا بتهاتر البينتين، فكأن لا بينة (1). وإن حكمنا باستعمال البينتين عند التعارض، فلا يخرّج قول الوقف؛ فإن الحضانة لا تحتمل ذلك، ولا يخرّج قول القسمة. ولو قال قائل ردّدوا اللقيط بينهما على حكم المهايأة، امتنعنا من ذلك، لما فيه من الضرار على الطفل، كما حققناه في الفصول الماضية. فلا يجري على قول الاستعمال إلاّ قولُ القرعة، ولا امتناع في إجرائه في حق الحضانة؛ فإنا إذا كنا نجريه في الملك، فإجراؤه غير ممتنع في الحضانة، وليس كما لو كان المتنازع نسباً؛ فإن القرعة لا جريان لها في النسب، فتنحسم (2) أقوالُ الاستعمال في النسب. 6137 - ومما تنفصل فيه الحضانة عن خصومات الأموال وعن النزاع في النسب أن المتنازعَيْن في الحضانة إذا أقام أحدُهما بينةً أنه التقط هذا الصبي أمس، وأقام الثاني بينة أنه التقطه اليوم، فالبينة الشاهدة بالسبق مقدمة.

_ (1) في النسخ الثلاث -غير الأصل- فكأن لا تهاتر. (2) فتنحسم: أي فتمتنع.

ولو قامت بينتان من المتنازعَيْن في الملك وتقيّدت (1) إحداهما بالسبق، ففي تقديمها قولان سيأتي ذكرهما في الدعاوى، والفرق أن من يثبت له السبق في الحضانة، فلا سبيل إلى إبطال حقه، ويتصور في الملك أن يسبق أحدهما، ثم يزول الملك عنه إلى الثاني، وكذلك في النسب لو سبق أحدهما بالدِّعوة، ثم جاء آخر، ونازع وادّعى النسب، فسبْقُ السابق إلى الدِّعوة لا يُثبت له اختصاصاً في باب النسب، فإن الدِّعوة وإن كانت تقتضي النسب لو تجردت، فهي دَعوى محضة إذا فرضت الدعوى من رجلين. 6138 - ولو قامت في النسب بينتان من الجانبين وتقيدت إحداهما بتصديق القائف، أو باختيار المولود، فلا ينبغي أن نقول: تترجح البينة، ولكن الوجه الحكم بتساقطهما، ثم الحكم بإلحاق القائف بعد اعتقاد سقوطهما، وكذلك القول في الاختيار. فهذه القواعد لا بدّ من الإحاطة بها في النسب والحضانة. فصل قال: " ودِعوة المسلم والذميّ والعبد سواء ... إلى آخره " (2). ومقصود هذا الفصل الكلامُ في دِعوة العبد، ودِعوة الذمي. 6139 - أما دِعوة العبد، فقد نص هاهنا على أن العبد من أهل الدِّعوة، كالحر. ونص في الدعاوى على أن العبد ليس من أهل الدِّعوة، ولو استلحق نسباً، لم يلحقه، فحصل قولان: توجيههما: من قال: إنه من أهل الدِّعوة -وهذا القول هو الأصح- احتج بأن الدِّعوة تعتمد إمكانَ العلوق، وتصوّرَ النسب، فإذا كان العبد في هذا كالحر، فليكن بمثابته في الاستلحاق، وليس هذا كما لو أراد حضانةَ طفلٍ؛ فإن السيد يمنعه؛ من

_ (1) (د 1)، (ت 3): فتقدرت. (2) ر. المختصر: 3/ 135.

جهة كونه مستغرَق المنفعة باستحقاق سيده. ومن قال: العبد ليس من أهل الدِّعوة، احتج بأن العبد لو استلحق نسباً ولحقه، لِتَقَدَّمَ النسبُ على حق الولاء (1) إذا أعتقه مولاه؛ فإنَ الإرث بالبنوة مقدّمٌ على الإرث بالولاء. وهذا عندي في نهاية الضعف؛ فإن النسب ليس أمراً يُنشأ حتى يقدّر مبطلاً، وكيف يتجه ردُّ قولٍ ممكن ممن هو من أهل الإمكان، لأمرٍ سيكون بعد زوال الرق. وكان شيخي أبو محمد يطرد هذين القولين بعد نفود العتق، ويقول: إذا استلحق المعتَق نسباً بعد ثبوت الولاء، ففيه قولان؛ بناءً على قطع حق الولاء. وقد ذكر غيرُه هذا، وردُّ دِعوتِه بعد العتق في نهاية الضعف مع تمكينه من التزوج على سبيل الاستقلال، والتوصل إلى النسب. 6140 - ومما يتعلّق بذلك أن الحر لو استلحق نسب عبدٍ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بثبوت النسب؛ فإن الحر من أهل الدِّعوة على الإطلاق ولا حجر عليه. ومنهم من جعل استلحاق الحر العبدَ، كاستلحاق العبد الحرَّ؛ من جهة أن في استلحاق الحرّ قطعَ الإرث المتوهم بالولاء، كما تقدم. فهذا قولنا في العبد. 6141 - فأما الذمي، فإنه في الدِّعوة كالمسلم لا خلاف فيه، فإذا استلحق ذميٌّ نسبَ لقيط، ثبت النسب، وفي الإسلام الخلاف الذي ذكرناه. وقد ذكر أصحابنا وجهين، ونقلهما شيخي والقاضي قولين؛ فإن الشافعي قال هاهنا: " أحببت أن أجعله مسلماًً "، وقال في كتاب الدعاوى: " جعلته مسلماًً "، فانتظم قولان. 6142 - ثم إن حكمنا بالإسلام تبعاً للدار، حُلْنا بين الذميّ وبينه، مع الحكم بالنسب، وفوَّضنا الحضانة إلى غيره.

_ (1) (د 1)، (ت 3): " في حق الولادة ". وهو خلل بيّن.

وإن لم نحكم بإسلامه، فلا يخلو إما أن كان يصف الصبي الإسلامَ، أو كان لا يصفه، فإن كان لا يصفه، ضممناه إلى الذمي، وإن كان يصف الإسلام قبل سن التمييز، أحببنا ضمه إلى مسلم، ولم نوجبه، ولا بد من استرضاء الذمي؛ فإنا نثبت له حقَّ الحضانة، حيث انتهينا إليه، فلا سبيل إلى إبطاله عليه قهراً. ولو وصف الصبيُّ الإسلامَ على سن التمييز، فقد جزم الشافعي قوله بأنه يُفرَّق بينهما، ويسلّم الصبي إلى مسلم؛ فإن الكافر قد يستزله ويمرّنه على الكفر. ولم أر أحداً من الأصحاب يشير إلى جواز تركه تحت حضانة الكافر، بل صاروا إلى أنه يجب نزعه منه. وإذا قلنا: لا حكم لإسلامه، ولا يتعلق بتلفظه بالإسلام حكم له أو عليه، فلا يبعد في القياس ألا ينزع من يد الكافر، ولكن يستحب نزعه مع استرضاء الأب الكافر؛ فإن في نزعه من يده إلزام أمرٍ، وإبطال حق. ولكني لم أرَ هذا لأحد من الأصحاب. فصل قال: " ولا دِعوَة للمرأة إلا ببيّنة ... إلى آخره " (1). 6143 - المرأة إذا استلحقت مولوداً، وذكرت أنها ولدته، فإن أقامت بيّنةً، ثبت ما تدّعيه بالبينة، والولادة تثبت بشهادة أربع نسوة. ثم إذا ثبتت الولادة، فلا فرق بين أن تكون ذاتَ زوج، وبين أن تكون خليّة، أمَّا الانتساب إليها بالولادة، فلا شك في ثبوته. وأمَّا إلحاقه بالزوج إن كانت ذاتَ زوج، وكان العلوق منه ممكناً، فهو ثابت، ولا ينتفي النسب عن الزوج إلا باللعان. 6144 - فأما إذا اقتصرت المرأة على الدِّعوة، ولم تقم بيّنةً، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه:

_ (1) ر. المختصر: 3/ 136.

أحدها - أن الولادة لا تثبت بدِعوتها أصلاً، بخلاف الرجل. والفرق أن النسب في جانب الرجل مما لا يدرك موجِبه ومقتضيه؛ فمست الحاجة إلى إثباته بمجرد الدِّعوة، كما قررناه فيما تقدم، والمرأة قادرةٌ على إثبات الولادة بالبيّنة، فرُدَّت إلى قاعدة القياسِ، ولم يثبت الانتساب إليها بالولادة لمجرّد دِعوتها. والوجه الثاني - أن المرأة في الدِّعوة كالرجل ووجه القياس بيّن، وقد تلد حيث لا يشهدها نسوة معتمدات من أهل قبول الشهادة. والوجه الثالث - أنها إن كانت خليّةً عن الزوج، تثبت الولادةُ بدِعوتها، وإن كانت ذات زوج، لم تثبت الولادة بدِعوتها؛ فإنا لو أثبتناها، لزمنا أن نلحق الولادةَ بالفراش، وفي المصير إليه إلحاق نسب بالزوج مع إنكاره أصلَ الولادة. 6145 - ومن قال من أصحابنا بقبول دِعوتها سواء كانت خليةً، أو ذاتَ زوج؛ فإنه يقول: إن كانت ذاتَ زوج، يلحقها الولد، ولا يلحق زوجها، فليس في الأصحاب من يستجيز إلحاق الولد بالزوج مع إنكاره ولادتَها. وهذه المسألة منصوصةٌ في كتاب اللعان، فإن الشافعي قال: " إذا ذكرت المرأة أنها ولدت ولداً، وقال الزوج: استعرتيه (1)، وما ولدتيه، فالقول قول الزوج مع يمينه ". فمن فصل بين الخليّة وذاتِ الزوج، استبعد أن يلحقها الولدُ في فراش النكاح، مع امتناع إلحاقه بالزوج. ومن عمم قال في ذات الزوج: يختص الإلحاق بها، وكأنها

_ (1) استعرتيه وما ولدتيه. هكذا بإثبات الياء في جميع النسخ، وقد يتبادر إلى الذهن أنها خطأ أو تحريف وتصحيف من الناسخ، لكن اتفاق النسخ الأربع ينفي هذا الاحتمال. وفعلاً بالبحث والتمحيص وجدنا هذا سائغاً صحيحاً عليه شواهد من النثر والشعر، قال سيبويه: وحدّثني الخليل أن أناساً يقولون: ضربتيه، فيلحقون الياء، وفي خزانة الأدب بتحقيق أستاذنا عبد السلام هارون 5/ 268، 269 الشاهد رقم 382: رميتيهِ فأقصدتِ ... وما أخطاتِ الرَّمْيَهْ بسهمين مليحينِ ... أعارتْكِيهما الظَّبْيَهْ وانظر سيبويه: 4/ 200.

أتت بالولد لزمانٍ لا يحتمل أن يكون العلوق به من الزوج، ثم لا شك أن الخصومة تقوم بين الزوج والزوجة كما ذكرناه فيه إذا قال: استعرتيه، وقالت: بل ولدتُه. 6146 - فإذا فرعنا على أن المرأة من أهل الدِّعوة، إذا ادعت امرأتان ولادة مولود، فالولد نُريه القائفَ معهما، على ترتيبٍ، أو جمعٍ، كما سيأتي في باب القيافة من كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى، فإن لم نجد قائفاً، وقفنا الأمر إلى أن يبلغ المولود على الترتيب الذي ذكرناه في الرجلين إذا تداعيا نسب مولود، ثم إذا كانتا تحت زوجين، أو كانت إحداهما ذات زوج، فبلغ المولود، وانتسب إلى إحداهما، فلا يلتحق النسب بالزوج، كما لا يلتحق بدِعْوتها المجردة إذا لم تُزاحَم في الدِّعوة؛ فإن قول المولود دَعوى كما أن قول المرأة دعوى. ولو ألحق القائفُ الولد بذات الزوج، فقد اختلف أصحابنا في أن الولد هل يلحق الزوج؟ فمنهم (1) من قال: يلحقه؛ فإن قولَ القائف حجة أو حكم، وعلى أي وجه فرض، وجب الجري على موجَبه، فصار إلحاقه بمثابة ما لو أقامت المرأة بيّنةً على الولادة، ولو فعلت ذلك، التحق الولد بالزوج، ولا ينتفي عنه إلا باللعان. والوجه الثاني - أن قولَ القائف لا يُلْحِق الولدَ بالزوج؛ فإن قوله يختص بمن يدّعى، بدليل أن القائف لو ألحق منبوذاً برجلٍ من عُرض الناس، لا يدّعي نسبَه، لم يُلحق به. وسنستقصي ذلك في باب القيافة، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " ولو ادّعى رجلٌ على اللقيط أنه عبده ... إلى آخره " (2). 6147 - هذا الفصل يشتمل على تفصيل القول في حرية اللقيط ورقِّه، وبيان إقراره

_ (1) " فمنهم من قال: يلحقه ". هذا هو الوجه الأول. وسيأتي الوجه الثاني بعد أسطر. (2) ر. المختصر: 3/ 136.

بالرق، وهو مما يجب الاهتمام بفهم مضمونه، وبه تتهذّب أحكامٌ أطلقناها. وهذا الفصل يُطلع الناظرَ على تفاصيلها -إن شاء الله- فنقول أولاً: 6148 - أطلق الأئمة أقوالهم بأن الدار تقتضي للّقيط الحرية الظاهرة، كما أطلقوا القولَ بأنها تقتضي له الإسلام. ووجه ما قالوه أنا حكمنا بظاهر الإسلام؛ لاستيلاء حكم الدار، ولقوّة الإسلام، حتى كأنا نقول: الأصل في هذه الدار الإسلام والمسلمون، والكفر في حكم العارض، والكفار في حكم الدخيل [الذي لا تُربط به] (1) الأحكام الجُملية، وينضم إليه ما تأسّس في الشرع من قوة الإسلام. كذلك الرقُّ عارضٌ، والأرقاء مجلوبون، وليسوا من أهل الدار، والحرية غالبةٌ في بني آدم؛ فإنهم فطرُوا ليملِكوا ويتصرفوا، وسُخِّرت لهم الأشياء؛ فإن ثبت رقٌّ، فهو بالإضافة إلى الحرية كالنادر، فاقتضى ذلك الحكمَ بالحرية لظاهر الدار، كما ذكرناه في الإسلام. 6149 - وقد ذكرتُ لصاحب التقريب وغيرِه تردُّداً في تبعية الدار، وحاصله: أنا لا نجزم القول بحصول الإسلام، وقد أجرى الأصحاب مثل هذا التردد في الحرية، ورأَوْا التردّدَ في الحرية أقربَ من التردد في الإسلام؛ لما ثبت من قوّة الإسلام، واقتضائه الاستتباع في المولود (2 والمسبيّ. وبنى هؤلاء على ما ذكرناه تفاريعَ نصفها 2)، فقالوا: إذا قُتل اللقيط قبل أن يبلغ خطأً، ففي الواجب بقتله وجهان: أحدهما - أن الواجب الدية بناءً على الحرية التي يقتضيها ظاهرُ الدار. والثاني - أن الواجب أقلُّ الأمرين. وليقع الفرضُ فيه إذا كانت القيمةُ أقلَّ، حتى ينتظم لنا تمهيد الغرض. وهذا

_ (1) في الأصل: الذين لا نربط بهم. (2) ما بين القوسين سقط من (د 1)، (ت 3).

القائل يقول: ليست الحرية مستيقنةً، ولا معنى لشغل ذمة الجاني أو ذمة عاقلته بما ليس مستيقناً. وهذا منقدحٌ حسنٌ خارجٌ على ما قدمناه في اختلاف القاذف والمقذوفِ (1) اللقيطِ إذا بلغ، وقد ذكرنا القولين في وجوب الحد على القاذف، أو نفيه عنه. وهذا ذاك بعينه، ومرجعه إلى التردد في جزم الحكم بالحرية، أو ترك الجزم بها. فإن (2) قلنا: لا نوجب الدية، فلا نوجب القصاص وإذا كان القتل عمداً، وكان القاتل حراً. وإن قلنا بإيجاب الدية، ففي وجوب القصاص وجهان. وسبب التردد فيه مع إيجاب الدية تعرضه للسقوط بالشبهة. 6150 - وهذا موقفٌ للناظر نستبين فيه تفصيلَ [مهماتٍ] (3) سبق إطلاقُها، وذلك أنا أرسلنا قولين في أن من قتل اللقيط هل يستوجب القصاص؟ وحكينا عن معظم الأصحاب توجيه نفي القصاص بأن أولياء [المقتول] (4) لو ثبت - المسلمون، وفيهم الأطفالُ، والمجانين. وقد نبهت على مأخذٍ آخر لهذا القول فيما تقدم، وأنا الآن أُنهي القول فيه نهايتَه، فأقول: في اللقيط إذا قُتل وقفتان: إحداهما - في دِينه، والأخرى - في حرّيته. فمن لا يجزم الحكمَ بإسلامه، وحريته، لا يوجب القصاصَ على الحرّ المسلم إذا قتله. ومن جزم الحكم بإسلامه وحريته يذكر قولين في وجوب القصاص على قاتله الحر المسلم، ويوجِّه نفيَ القصاص حينئد بما ذكره الأصحاب. ولو كان قاتله على صفة العمد كافراً عبداً، فينحسم النظر في دينه وحريته،

_ (1) في الأصل رسمت هكذا: والمقذو من اللقيط، وواضح أن (الفاء) حرفت إلى (من). (2) فإن قلنا: " لا نوجب الدية " هذا تفريع على الوجهين اللذين ذكرهما آنفاً في القتل الخطأ. (3) في الأصل: ما سبق إطلاقها. (4) في جميع النسخ: أولياءه. والمثبت من (ت 2) وحدها.

ويرجع مأخذ القولين إلى ما ذكرناه من النظر في أطفال المسلمين ومجانينهم. فهذا هو التنبيه على الغرض في مأخذ الكلام في ذلك. 6151 - وفي بعض التصانيف ما ذكرناه من الترتيب على إيجاز، وفيه أن اللقيط إذا جنى خطأً، تعلّق أرش جنايته ببيت المال وجهاً واحداً. وهذا مما يجب إمعان النظر فيه؛ فإن مال بيت المال مضنون به، لا يبذل إلاّ على ثَبَتٍ. وإذا لم نجزم القولَ بالحرّية، وخرّجنا عليه المسائل التي ذكرناها، فلا سبيل إلى القطع -والحالة هذه- بضرب أروش جناياته على بيت المال، بل يجب التوقف. ويمكن أن يقال: يقطع بضرب موجَب جنايته على بيت المال -وإن ترددنا فيما قدمنا- أخذاً من شيء، وهو أنه لو مات وخلّف مالاً، وكان الموت في حالة الصغر، فماله موضوعٌ في بيت المال من غير توقّفٍ، فلا يبعد أن يتحمل بيتُ المال من غير توقفٍ؛ نظراً إلى صرف ماله إلى بيت المال، وتشبيهاً للمغرم بالمغنم. 6152 - ومما يجب التثبت فيه أنا نحكم للّقيط بالملك فيما نصادفه معه من غير توقف، وهذا من مقتضى حكمنا بحرّيته، فلا ينبغي للناظر أن يسترسل في مثل هذه المضايق، ويتعثر (1) بمشكلات تُقتحم فيها حُرم المذهب. فنقول: 6153 - منخولُ هذه الفصول: أنا نحكم للقيط بالحرّية ما لم ينته إلى إلزام الغير حكماً مبنياً على الحرية، فإذا انتهينا، تردّدنا إذا لم يعترف الملتزم بالحرية. فإن قيل: إذا أتلف المتلف مال اللقيط، فما رأيكم؟ قلنا: يضمن؛ فإن الغرم واجبٌ. وإذا كان الغرم واجباً عليه، فلا أرَبَ له في أن يصرفه إلى الطفل، أو يتوقف فيه (2).

_ (1) (د 1)، (ت 3): ويتعين. (2) عبارة الرافعي عن هذا المعنى الذي حكاه عن الإمام: وإذا أتلف ماله متلف، أخذنا الضمان، وصرفناه إليه، لأن المال المعصوم مضمون على المتلف، فليس أخذ الضمان بسبب الحرية حتى يأتي فيه التردد إذا أخذناه فلا غرض للمتلف في أن يصرفه إلى اللقيط أو لا يصرفه (فتح العزيز: 6/ 420).

6154 - وقد ينتظم من مجموع ما ذكرناه تفريعٌ يُنبّه على مقصود المتوقف في الإسلام والحرية، وهو أن نقول: إذا قُتِل اللقيط أمكن أن يكون رقيقاً، وأمكن أن يكون حرّاً كافراً، ثم إذا كنا نبغي الأقل، تعين الحمل على التمجس، فإذا سئلنا - والتفريع على ابتغاء الأقل- عن الواجب بقتله، فالوجه أن نوجب الأقلَّ من دية مجوسي، أو قيمة عبدٍ. وهذا تفريع لا تنتهي الفتوى إليه، ولا يرتضيه ذو فقه، ولكنه موجَب ما قدمناه. فإذا تمهد هذا الفصل، قلنا بعده: 6155 - ما صار إليه معظم الأصحاب أن من التقط اللقيط وادعى كونه رقيقاً له؛ فإنه لا تقبل دعواه إلا أن يقيم بيّنةً -على ما سنصفها في تفريع الفصل- لأن الظاهر الحرية، وهذه اليد ثبتت للملتقط حديثاً جديداً بالالتقاط. وهذا بيّن متّضح منطبق على مصلحة [الطفل] (1). وقد ذكرنا أن الذمي إذا استلحق نسب منبوذ في دار الإسلام، فالنسب يلحقه لا محالة، وهل يثبت للقيط حكم الكفر؟ فيه اختلافٌ قدمناه، وليس ما ذكرناه الآن من ادعاء الملتقط رقَّ المنبوذ من ذاك بسبيل، فإن نسب المنبوذ متعرِّض للاستلحاق؛ من جهة أن نسبه مجهول، فاستوى في استلحاقه الكافرُ والمسلم، ثم انبنى على الاستلحاق ما ذكرناه من حكم الدين. فإن قيل: فاليد تدل على الملك وقد صار الملتقِط ذا يدٍ؟ قلنا: هذه اليد لا تدل على الملك، وقد أحدثها بمرأى منا. هذا ما ذهب إليه الأصحاب. 6156 - وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أنه تقبل دعوى الرق من الملتقط، ويثبت الرق بمجرد دعواه، إذا لم يمنع منه مانع.

_ (1) في النسخ كلها الفصل. والمثبت من المحقق.

وهذا الوجه لا شك أنه ينبني على أنا لا نحكم للّقيطِ بالحرية حكماً جازماً، واستشهد عليه -مع البناء على ما ذكرناه- بمسألة، وهي أن الرجل لو وجد ثوباً في قارعة الطريق، وقال كما (1) وجده: هذا ملكي، كان ضل مني، فيقبل منه ويحكم له بالملك، حتى يجوز ابتياعه منه، تعويلاً على هذه اليد. وهذا الوجه البعيد منحرفٌ عن قاعدة المذهب بالكلية، ولست أرى [الاعتداد] (2) به، وليس كالثوب؛ فإنه مملوك، فإذا لقطه، وزعم أنه ملكه، فليس دعواه مغيراً صفة الثوب، وإنما [يتضمن] (3) تعيينه لكونه مالكاً له، فتبين أن الملتقط إذا ادّعى رق اللقيط، لم يقبل منه إلا أن يقيم بينةً. هذا هو الذي عليه التعويل. 6157 - ولسنا ننكر دلالة ثبوت اليد على الرق على الجملة إذا لم تكن اليد مستحدثة بالالتقاط، فمن رأينا في يده صبياً، وهو يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه، ولم تستند يدُه إلى الالتقاط، فإذا ادعى كونَه مملوكاً صدَِّق. ولو ادّعى آخرُ رقَّه، فالقول قول صاحب اليد. وإن استمرّ منه ادّعاء الرق، جرى الحكم به ظاهراً، فلو بلغ وأنكر الرق أصْلاً، وادّعى الحرية الأصلية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نستديم الملك المحكوم به، ونجعل هذا الذي بلغ وادعى الحرية مدّعياً، فعليه البينة، فإن لم يجدها، حلف صاحبُ اليد، ثم لا يخفى نظر الخصومة إلى انتهائها. والوجه الثاني - أن القول قول هذا الذي ادعى الحرية، وعلى من كان يدّعي الرق البينةُ. وقد ذكرنا مثل هذين الوجهين في النسب في حق من استلحق نسب صبي، وجرى الحكم به، ثم بلغ، وأنكر النسب، فهل يرتدّ النسب بإنكاره؟ على الخلاف المقدم. [وكل ذلك] (4) متلقىً من اختلاف القول في أن من حكمنا له بالإسلام تبعاً، ثم بلغ

_ (1) كما: بمعنى: عندما. (2) في الأصل: الاعتقاد. (3) في الأصل: يتغير. (4) في الأصل: ولو كان ذلك.

وأعرب عن نفسه بالكفر فهو كافر أصليٌّ أو مرتد؟ فإن قضينا بكونه كافراً أصلياً، فقد عطفنا حكم الكفر تبيُّناً وإسناداً على ما مضى، وكأنا كنا نحكم بالإسلام ظاهراً، وننتظر بعد ذلك ما يكون من إعرابه عن نفسه إذا ملك لسانه، وهذا يجري في النسب، والرق، وهو مضمون الفصل. وهذا إذا كان ثبوتُ اليد غيرَ مستندٍ إلى التقاط، فإن استند إلى الالتقاط، فلا يجوز بناء دعوى الملك عليه، على المذهب الذي عليه الجريان، ولا عود إلى ما ذكره صاحب التقريب. 6158 - فإن أقام الملتقط بيّنةً، قُبلت منه على الجملة، والكلام في تفصيلها. فالذي يدل عليه ظاهر النص أنه لو أقام بينة على كونه ملكاً له مطلقاً، لم تسمع منه البيّنة (1 على هذا الوجه 1) حتى يشهد الشهود على سبب الملك. وذكر أصحابنا قولاً آخر: إن البينة تسمع على الإطلاق قياساً على البينات الشاهدة على الأملاك. والأصح أنها لا تقبل مطلقة؛ فإنا لا نأمن أن تعتمد ظاهر اليد الثابتة للملتقط، وقد أوضحنا أن يد الملتقط لا يجوز أن تُعتقد دَلالة على ملكه، فلا بد من ذكر سببٍ حتى يزول توهّم إسناد الشهادة إلى يد الالتقاط. التفريع: 6159 - إن قبلنا الشهادة على الملك مطلقاًً، فلا كلام. وإن شرطنا تقييد الشهادة بسبب الملك، فلو قالت البينة: هذا ابن أمته أوْ ولدته مملوكتُه، فهل يقع الاكتفاء بهذا المقدار؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع الاكتفاء بهذا القدر؛ فإنا إن كنا نطلب من التقييد بياناً، فلا بيان في هذا، فإن أمته قد تلد حراً إذا كانت مَوْطوءةً بالشبهة، وقد تلد حملاً مملوكاً للغير بأن كان حاصلاً قبل جريان الملك في الأم، ثم تجري الوصية بذلك الحمل لإنسان، وتجري الوصية بالأم لهذا الشخص؛ فإذاً لا بيان في قول الشاهد: هذا ولدته أمته.

_ (1) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ غير الأصل.

ومن أصحابنا من اكتفى بهذا القدر، ووجهه: أن الشهادة على الملك مطلقاً مقبولة في غير مواضع النزاع، وإنما رددنا الإطلاق في اللقيط خشية أن يُسند الشاهد الشهادة على الملك إلى اليد الحاصلة بالالتقاط. فإذا جمع الشاهد إلى الشهادة بالملك أن أمته ولدته، فقد قطع الوهمَ الذي عليه بنينا ردّ الإطلاق، ثم ذِكْرُه الملكَ مع الولادة مصرحٌ بأنها ولدته ملكاً له. التفريع على هذين الوجهين: 6160 - إن اكتفينا بهذا التقييد، فلا كلام. وإن لم نكتف به، فينبغي أن يقول: ولدته أمتُه مملوكاً له في ملكه، ولو قال: ولدته أمتُه في ملكه، لم يكفِ ذلك. والمطلوب عند هذا القائل التصريحُ بسبب الملك، على وجه لا يبقى للاحتمال مساغ. قال صاحب التقريب: ما ذكره الأصحاب، ودلّ عليه ظاهرُ النص من أنه لا يقع الاكتفاء بالشهادة على الملك المطلق، ولا بد من ذكر الولادة على التقييدات التي ذكرناها- ليس تعييناً (1) منهم لهذا السبب؛ حتى [لا] (2) يسوغ غيره؛ فإن أسباب الملك شتى. ولكن اتفق التنصيص على هذا السبب، ثم أغرق الأصحاب في ذكر ما يحتمله هذا السبب من جهات الاحتمال، ورأَوْا قطعها وردّها إلى جهةٍ لا يتقابل فيها احتمالان ويتعين وجه حصول الملك. فلو قال الشاهد؛ هذا رقيقه، ورثه من أبيه ملكاً، أو اشتراه، أو اتهبه من مالكه، فكفي ذكر سبب من هذه الأسباب؛ فإن المحذور في اشتراط التقييد ما كرَّرْناه من ظن الشاهد أن يد الملتقط يدُ ملكٍ، فمهما أسند الملك إلى جهة أخرى، فقد جانب المحذور، ودرأ الشبهة والتهمة. وما عندي أن أحداً من الأصحاب يخالف صاحب التقريب فيما ذكر. ولكن من تأمّل صيغة النص، و [فحوى] (3) كلام الأئمة، فَهِمَ أنهم يشترطون إسناد الشهادة إلى

_ (1) (د 1)، (ت 3): تغليباً. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: تحرى.

الولادة على الملك، ولا تعويل على ذلك؛ فإن تصويرهم ليس عن اعتقاد اشتراط التعيين، ولكنه تصوير وفاقي، ثم تناهَوْا في شرحه، وهذا مقطوعٌ به، لا يجوز أن يُتمارى فيه. 6161 - ومما يتصل بهذا أن المزني لما نقل في صدر الفصل عن الشافعي أنه شرط على الملتقِط تقييد البيّنة كما سبق، حكى بعد نجاز ذلك الكلام عنه نصَّاً آخر، واعتقد أنه مخالف للنص الذي نقله أوّلاً، وذلك أنه قال: إذا التقط الرجل منبوذاً، فجاء آخر، وقال: هذا [اللقيط] (1) ملكي، كان في يدي قبل ذلك، وأقام بينةً على أنه ملكُه، وأطلقت البيّنةُ شهادتَها على الملك، نقل عن الشافعي قبول الشهادة (2)، ثم أخذ ينظم قولين ويختار أحدَهما. وهو مأخود عليه؛ فإن النص الأول في ادعاء الملتقط الملك فيمن التقطه، وهذا النص الذي حكاه آخراً، فيه إذا ادعى الملكَ في اللقيط غيرُ الملتقط، وليس في حق المدعي يد [التقاط] (3)، حتى نحْذَر [استناد] (4) الشهادةِ إليها، [فكانت] (5) الشهادة مقبولة على الملك مطلقاً، من غير تعرض للسبب، قياساً على البينات الشاهدة على الأملاك، في سائر الخصومات. فقد بأن غلط المزني، وأنه عَدّ مسألتين مختلفتين مسألة واحدة، وقدر فيها اختلاف جوابٍ. 6162 - وإذْ نجز الفصل على أحسن مساقٍ وترتيب، فأنا أذكر بعد نجازه طريقةً

_ (1) في نسخة الأصل وحدها: " الملتقط ". وهي صحيحة بفتح القاف، ولكنا آثرنا المثبت، قطعاً للاحتمال، وتفادياً لما يحدث (أحياناً) من خلل في الضبط. (2) ر. المختصر: 3/ 137. ونصُّ العبارة المشار إليها: " (وقال) في موضع آخر: إن أقام بينة أنه كان في يده قبل التقاط الملتقط، أرفقته له. (قال المزني): هذا خلاف قوله الأول، وأولى بالحق عندي من الأول " ا. هـ بنصه من المختصر، وبالتنسيق نفسه. (3) في الأصل: التقاطه. (4) في الأصل: استناده. والمثبت من باقي النسخ. (5) في الأصل: لكانت. وفي باقي النسخ: وكانت. والمثبت تصرف من المحقق.

لشيخي كان يقول: إذا ثبت الملك بإقرار المملوك -حيث يُقبل إقراره- فلا كلام. والتداعي وراء ذلك في تعيين الملك، فلا حاجة -والحالة هذه- إلى تعيين السبب. فأما إذا كان دعوى الملك في معارضة الحرية الأصلية، فلا بد من إسناد البينة شهادتها إلى الولادة على الملك. وهذا الذي ذكره ليس بالبعيد، ويجوز أن يقال: هو معتضدٌ بالنص، وفحوى كلام الأصحاب، وهو مخالف لما ذكره صاحب التقريب. ولكن يدخل عليه شيء، وهو أن ملك الأم الوالدة كيف يطلق، وهل على الشهود أن يقولوا [إنها] (1) أقرت بالملك أم يجب في الأم أيضاً إسناد ملكها إلى ولادة؟ وهذا أمرٌ طويل، ولهذا أخرت ما ذكره الشيخ، والتعويل على الكلام المقدم. فصل قال: " وإذا بلغ اللقيط، فاشترى، وباع ... إلى آخره " (2). 6163 - مضمون هذا الفصل مشتمل على بقيةٍ من أحكام الرق والحرية وهو بالإضافة إلى ما تقدم خفي منسوب [إلى جلي] (3)، فليعتن (4) الناظر به، وليستعن بالله تعالى. ونحن نستفتح الكلام بذكر ثلاث مراتب نترجمها، ثم ننعطف على بيانها: إحداها - أن يبلغ اللقيط ويقرَّ بالرق لإنسانٍ ابتداء، من غير أن يتقدم منه إقرارٌ بالحرية، أو يتقدم منه تصرّفٌ يقتضي الاستبدادُ به الحريةَ. والمرتبة الثانية- أن يبلغ، فيقرَّ بالحرية، ثم يُقرّ بعده بالرق لإنسان. المرتبة الثالثة - مضمونها أن يتصرف تصرفاتٍ لا يستبدّ بها إلا حرٌّ، ثم يُقرّ بعدها بالرق لإنسان.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ر. المختصر: 3/ 137. (3) في الأصل: الرجلين. (4) (د 1)، (ت 3): فليعتبر.

فهذه المراتب قواعدُ الفصل. 6164 - ونحن نرجع إلى أولاها: فإذا بلغ، وأقرَّ بالرق ابتداء لإنسانٍ، من غير أن يتقدم على إقراره هذا دعوى حرية أو تصرف. فالمذكور المشهور في الطرق أن إقراره بالرق (1 مقبولٌ. 6165 - وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: إنه لا يُقبل إقراره بالرق على نفسه 1)؛ فإن الدار حكمت له بالحرية، فلا يُنقض مقتضى الدار إلا ببيّنةٍ، وشبّه صاحب التقريب الحريةَ المحكومَ بها بظاهر الدار مع الإقرار بالرق بعدها، بالإسلام الحاصل بتبعيّة الدار، ثم اللقيط إذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، ففي أصحابنا من نقل قولاً: إنه يحكم بردّته، ولا يُنقض الأصل السابق تبيّناً، فكذلك وجب: ألا تُنقض الحريةُ. غير أن المسلم يُتصور منه أن يرتدّ، والحرّ الأصلي لا يتصور منه أن يُرِقَّ نفسه. 6166 - فإن قلنا: لا يُقبل إقراره بالرق في هذه المرتبة، فلا كلام. وإن قلنا: يقبل إقراره بالرق -وهو الأصح الظاهر- فيتوصّل من هذا المنتهى إلى ذكر المرتبة الثانية-[وهي إذا] (2) زعم أولاً أنه حرٌّ بعد بلوغه، ثم أقرّ بالرق بعد ما سبق منه الاعتراف بالحرية. فالذي قطع به العراقيون أن إقراره بالرق لا يقبل بعد ذلك قولاً واحداً، فإن الحكم الظاهر بحريته في صباه تأيّد، وتأكّد بإعرابه عن نفسه بعد بلوغه بالحرية، فإذا أراد أن يناقض ذلك، كان كما لو بلغ اللقيط، فأعرب عن نفسه بالإسلام، ثم أعرب بعده بالكفر، ولو فعل ذلك، كان مرتداً قولاً واحداً جانياً على الإسلام، والفرقُ بين البابين أن الجناية على الإسلام بالردة ممكنة، وخرمُ الحرية بعد ثبوتها وتأكدها (3) غيرُ ممكن. وهذه الطريقة هي التي صححها القاضي، وذكر أنها المذهب.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 3). (2) في الأصل: فإذا زعم. (3) في غير نسخة الأصل: وتمكنها.

6167 - وقطع الصيدلاني القول بقبول الإقرار بالرق بعد تقدم الاعتراف بالحرية، وشبه هذا بما لو ادّعى الزوج الرجعة وأنكرت المرأة مصادفتها العدة، على صيغةٍ تقتضي تصديقَها، كما سيأتي تفصيل ذلك في كتاب الرجعة -إن شاء الله تعالى- فإذا جعلنا القول قولَها، وحلفت، وانتجزت الخصومة، ثم عادت، فاعترفت بتصديق زوجها، فالرجعة ثبتت. وهذا الوجه الضعيف ذكره القاضي وزيّفه، وزعم أن ناصره يقول: إقراره بالحرية، ثم إقراره بالرق بعدها، بمثابة ما لو أقر بكون الشيء ملكاًً له، وعزاه إلى نفسه وادّعاه، ثم أقر به لإنسانٍ من غير أن يتخلل بين الإقرارين ما يتضمن نقل الملك، فإقراره لذلك الإنسان مقبول. وهذا الاستشهاد ضعيف؛ فإن الحرية إذا ثبتت، فلا سبيل إلى رفعها، ولله في استقرارها حقٌّ، وفي الإقرار بها تعرُّضٌ لالتزام حقوقٍ تقتضيها الحرية ُلله، وللعباد. وأما ما استشهد به الصيدلاني، فلنا في تلك المسألة من الرجعة نظر أولاً [كما] (1) سيأتي، إن شاء الله تعالى. ثم ليست الحرية بمثابتها؛ فإن اللقيط إذا بلغ، وأقر بالحرية، فقد وافق إقرارُه بها حريةً اقتضتها الدار، كما تقدم، فلا سبيل إلى نقضها بعد ثبوتها ظاهراً، وإقراراً. هذا بيان الحكم في هاتين المرتبتين. 6168 - فأمّا بيان المرتبة الثالثة - وهي ألا يصدر من بعد البلوغ إقرارٌ برقٌ، ولا حرية، ولكنه تصرّف تصرفاتٍ يقتضي نفوذُها الحريةَ، فنكح، وأصدق، وباعَ، واشترى، ثم إنه بعدها أقر بالرق، فكيف السبيل؟ الوجه في افتتاح الكلام أن نقول: إن رددنا إقراره في المرتبة الأولى، وصرنا إلى أن الرق لا يثبت أصلاً إلا ببينة، فلا حكم لإقراره بالرق، وهو كلام لاغٍ مطّرح، ولا يرد على هذا إلا مسألة وهي إذا نكح، ثم أقر بالرق فإقراره اعتراف منه بأن التي نكحها محرّمةٌ عليه، فيستحيل أن نحلّها له، وهو يزعم أنها محرمة، وصدقُه في

_ (1) سقطت من الأصل.

الإقرار بالرق ممكن، وهذا يضاهي ما لو أقرّ أحد الابنين الوارثين بنسب بنتٍ، فالمذهب الظاهر أن إقراره مردود ولا يثبت النسب، ولا الإرث ظاهراً وباطناًً، ولكن التي أقر لها بالأخوّة محرمةٌ عليه، وإن كان أصل إقراره مردوداً، فهذه المسألة فيما نحن فيه ملحقةٌ بتلك. 6169 - وإن فرعنا على أنه لو أقرّ بالرق بعد البلوغ، قُبل إقراره -وهذا طريق الأصحاب، والمسلك المشهور- فعليه نخرِّج المرتبة الثالثة، ولا نعود إلى ما ذكره صاحب التقريب في المرتبة الأولى، فنقول: 6170 - إذا أقر بالرق بعد تصرفاتٍ، فأصل إقراره بالرق مقبول، ولكن اختلف قول الشافعي في تفصيل القبول: فأحد القولين - أنه يقبل إقراره عموماً في الماضي، والحال، والمستقبل، وفيما له وعليه، وفيما يتضمن إلحاقَ ضررٍ بغيره. والقول الثاني - أنه لا يقبل إقراره على العموم، بل يقال: هو مقبول فيما عليه. ثم اختلفت الطرق، ففي بعضها أن إقراره يقبل في المستقبل عموماً فيما له وعليه، ويقبل إقراره فيما مضى، وسبق، فيما هو عليه، ولا يقبل إقراره فيما يتضمن إبطال حقٍّ لغيره. ومن أصحابنا من طرد هذا القولَ على هذا التفصيل في المستقبل والماضي، وقال: لا يقبل إقراره فيما يتضمن إلحاق ضررٍ بغيره ويستوي فيه الماضي والمستقبل. وإذا جمعنا الأقوال من غير التفاتٍ إلى ما ذكره صاحب التقريب، كان حاصلها ثلاثة أقوال: 6171 - أحدها - أن إقراره بالرق مقبول عموماً، فيما له وعليه، وفيما يضر بالغير، وفيما لا يضر، من غير فرق بين السَّابق واللاحق، والماضي والمستقبل. والقول الثاني - أن إقراره مقبول فيما عليه، ولا يقبل قوله في إبطال حق غيره، ويستوي فيه الماضي والمستقبل. والقول الثالث - أنه يقبل إقراره عموماً في المستقبل فيما لهُ وعليه، ولا يقبل فيما

سبق ومضى، إذا تضمن إضراراً بغيره، ويقبل إقراره فيما هو عليه إذا لم يضر بغيره فيما مضى. هذا بيان الأقوال. 6172 - توجيهها: من قال بقبول إقراره عموماً، احتج بأن أصل الرق قد ثبت، والمقر غيرُ متهم؛ فإن العاقل لا يورّط نفسه في أسر الرق وضبطه (1) المؤبّد، ليضرّ بغيره، وإذا انتفت التهمة، نفد الإقرارُ، وإن كان يؤدي نفوذُه إلى الإضرار بحق الغير، وهذا بمثابة ما لو أقر العبدُ بجنايةٍ، توجب القصاصَ عليه؛ فإن إقراره مقبول، والقصاصُ واجب. وهذا القول الذي ننصره يضاهي ما لو أقر العبد بسرقة نصاب؛ فإن أصل إقراره مقبول، والقطع متوجه، وفي قبول إقراره بأخذ المال قولان. ووجه قول من يبعّض حكم إقراره عموماً في الماضي والمستقبل أن التعرض لإبطال حق الغير لا وجه له، والعقوبات مستثناة عن هذه القاعدة؛ فإنه لا يهجم على التزامها لقصد الإضرار بالغير عاقل. ومن فصل بين الماضي والمستقبل، قال: إذا قبلنا الإقرار بالرق، فيستحيل تبعيض حكمه في مستقبل الزمان، فأمَّا ما تقدم على الإقرار، فقد يتجه فيه التبعيض والتجزئة تخريجاً على ما مهدناه. وهذه الأقاويل مجملة يفصّلها التفاريع، ونحن نأتي بها، ونفصلها مسألة مسألة، ونخرّج كل واحدة على الأقاويل، إن شاء الله تعالى. فنقول: 6173 - اللقيطة إذا بلغت، ونكحت بناء على الحرية، ثم اعترفت بأنها رقيقةُ فلانٍ، وصدقها المقرُّ له بالرق. فهذا نخرّجه على الأقوال، فإن قلنا: يقبل إقراره عموماً من غير تبعيض، فنحكم برقها، ونتبين أنها نكحت من غير إذن مولاها، ونقضي بأن النكاح فاسد.

_ (1) "وضبطه": بمعنى حبسه.

فإن لم يكن دخل الزوج بها، فلا نصفَ مهرٍ، ولا متعة، و [إن] (1) كان دخل بها، فعليه مهر المثل للسيد المقَرُّ له بالرق. وإن كانت ولدت منه أولاداً، فأولاده منها أحرارٌ؛ فإنها أتت بهم والزوج على اعتقاد الحرية فيها، ويلزمه قيمتُهم للسيّد حين سقطوا وانفصلوا. وأما العدّة، فقد قال الأصحاب: لا يلزمها عدة، ولكنها تستبرىء بقُرء؛ لمكان الوطء. قال القاضي: الصحيح أنها تؤمر بأن تعتد بقرأين؛ فإن عدة الأمة بعد ارتفاع النكاح الصحيح قرءان، ونكاح الشبهة في حُرماته بمثابة النكاح الصحيح، فلتعتدّ بقرأين. وهذا التردد للأصحاب يجب اطراده في كل نكاح بشبهة على أمةٍ، ولكن الذي ذكره القاضي أن هذا من قول الأصحاب يختص بهذه الصورة، والاعتداد بالقرأين متفق عليه في غيرها من الأنكحة الفاسدة المعقودة على الأمة بالشبهة، ولا فرق عندنا. وإن تخيل متخيل في هذه الصورة أن سبب الاكتفاء بالقرء الواحد أنا نقبل إقرارها عموماً، ونستأصل أثر الحرية بالكلية، ولا يبقى لتصرفها أثر، فيلزم على مساق ذلك ألا نحكم بحرية الأولاد، أو [نشبب] (2) بخلاف فيها، وقد أجمع الأصحاب على حرية الأولاد كما ذكرناه. وكان شيخي لا يذكر هذا الاختلاف، ويقطع بأنّها تعتد بقرأين. هذا تفريع على قولنا بقبول الإقرار عموماً. 6174 - وإن قلنا: يُبعَّضُ الإقرار؛ فيقبل فيما عليها دون ما لَها؛ فنحكم على هذا

_ (1) في الأصل: فإن. (2) في الأصل حرّفت إلى: نشبت، وكذلك حرفت في (د 1) إلى نتشبت، و (ت 3)، (ت 2): حرفت أيضاً إلى نحو ذلك. والمثبت تقدير منا على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام في مثل هذا السياق.

القول برقها (1) أولاً، ولا نحكم بانفساخ النكاح في المستقبل، ولا بفساده فيما مضى، وإن (2) فرقنا بين الماضي والمستقبل؛ فإنا إذا التزمنا إلزام النكاح فيما مضى فنلتزم الوفاء بحكم الصحة، ونجعل كأن النكاح في حكم المستوفى المقبوض فيما تقدم، ولهذا نظائر من النكاح لا تخفى على الفقيه، وعلى هذه القاعدة بنينا مذهبنا في أن الحرّ إذا وجد الطَّوْل بعد نكاح الأمة، لم نقض بارتفاع النكاح. هذا حكمنا في أصل النكاح. ثم الكلام بعد ذلك في المهر. قال الأئمة: على الزوج أقلُّ الأمرين من المسمَّى ومهر المثل، فإن كان مهر المثل أقلَّ الأمرين، فالسيّد المقَرُّ له لا يدّعي غيره، وإن كان المسمى أقل، فإلزام الزوج أكثرَ منه إضرارٌ به، وقد ذكرنا أنا لا نضر بالغير للإقرار بالرق. فإن قيل: حطّكم من مهر المثل إضرار بالسيّد المقر له، قلنا: هذا حكم الرق، وإنما نُثبت الرقَّ بالإقرار، ونحن نتوقى الإضرارَ بالغير. فليتثبت الناظر في هذا المقام، فلا شك فيما ذكره الأصحاب. وما يفرض فيه من سؤالٍ (3) خيالٌ لا حاصل له. 6175 - والأولاد الذين أتت بهم قبل الإقرار أحرار، وليس على الزوج قيمتهم للسيّد المقر له؛ فإنا لو ألزمناه ذلك، كنا مضرّين به لإقرارها. ولكن لو استمر على النكاح، فالأولاد الذين تأتي بهم في المستقبل أرقاء [قطع] (4) الأصحاب بهذا أقوالَهم.

_ (1) (د 1)، (ت 3): بإقرارها. (2) قوله: " وإن فرقنا بين الماضي والمستقبل " معناه: سواء فرقنا بين الماضي والمستقبل، أو لم نفرق. وهو واضح بشيء من التأمل. وانظر المسألة بكل تفاصيلها عند الرافعي. (فتح العزيز: 6/ 431، 432). (3) سؤال: أي اعتراض كما هو واضح، فالسائل، ويسمى أيضاً المستدلّ، منصب من مناصب الجدل، وهو المعترض (راجع رسالة الآداب للشيخ محمد محيي الدين عبد الحميدص 63). (4) في الأصل: جمع.

فإن قيل: هلا قلتم: إن الأولاد أحرار، إذا (1) فرعتم على اجتناب الإضرار في الماضي والمستقبل، كما أنكم بقَّيتم النكاح في المستقبل، فقولوا: يبقى النكاح له في المستقبل على حكمه فيما مضى، وإرقاقُ أولاده إضرار به؟ قلنا: ما ذكره الأصحاب ظاهرٌ إذا عممنا قبولَ الإقرار في المستقبل من غير تفصيل. فإن قلنا بالتفصيل في الماضي والمستقبل، والتزمنا اجتناب الإضرار، فالمسألة محتمِلةٌ (2). ظاهرُ كلام الأصحاب ما ذكرناه؛ لأن الأولاد الذين يحدثون في مستقبل الزمان متجددون، وأمرهم يشابه استفتاح تصرف بعد الإقرار بالرق؛ فلا ينتظم مع الحكم بالرق، وعِلْمِ الزوج بأن الرق محكوم به - القضاءُ بحريّة الأولاد، وليس الولد متضمَّن النكاح ولا معقودَه، وإن كان مقصوداً منه على الجملة، وليس هذا كحكمنا بدوام النكاح؛ فإن الحكم بدوامه هو الحكم بصحته أوّلاً، فمن الوفاء بالصحة الإدامةُ، وهي المقصودةُ، والأولاد في المستقبل بخلاف ذلك. ولست أنكر اتجاه احتمالٍ في حرية الأولاد في المستقبل اتباعاً لحق الزوج ومصيراً إلى أن الأولاد من مقاصد النكاح، ولا أُبعد أن الأصحاب فرّعوا ما ذكروه من رق الأولاد في المستقبل، على تعميم قبول الإقرار في المستقبل، وردّ التفصيل إلى ما مضى. وهذا منِّي تنبيه على كل وجه بعد أن ظهر لي من كلام الأصحاب القطعُ برق الأولاد في المستقبل، وقد ذكرت وجهه، والله المستعان. 6176 - فإن أراد الزوج ألا يَرِقّ أولادُها، فليطلّقها، وإذا طلقها، اعتدت بثلاثة أقراء، وهذا يظهر إذا كان الطلاق رجعيّاً، فإنّ الرجعية منكوحة، فإدامة التربص في القرء الثالث من إدامة النكاح، وإن طلقها زوجها البتة، فبانت، فالذي قطع به

_ (1) في جميع النسخ: " إذا ". وهي بمعنى (إذ) وهو واردٌ سائغٌ كعكسه، وقد سبق بيان ذلك. (2) محتملة أي ذات احتمالين. أحدهما:- ظاهر كلام الأصحاب الذي ذكر. والثاني - أيده الإمام بقوله الآتي قريباً: ولست أنكر اتجاه احتمالٍ في حرية الأولاد.

الأصحاب أنها تعتد بثلاثة أقراء؛ فإنّ ذلك من توابع النكاح. وأمرُ العِدد لا يختلف بكون الطلاق رجعياً أو مُبيناً. ولو مات الزوج، فقد قال الشافعي تفريعاً على القول الذي انتهينا إليه: تتربص شهرين، وخمسةَ أيام، ورأى عدة الوفاة، وراء انتهاء (1) النكاح نهايته، ولم يرها من حق الزوج، ومَحَّضها تعبداً بخلاف عدة الطلاق. وهي (2) رقيقةٌ، فلتعتد عدة الإماء عن وفاة زوجها. وهذا حسنٌ. ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أنها تعتد عدة الحرائر أربعةَ أشهر وعشراً. وثار (3) بعض الفقهاء في هذا المقام، فقال: لا يجب عدة الوفاة؛ فإن حظ الزوج قد انقضى، فلا التفات عليه، والرق ثابت، فلتعتد بالقرء (4). ثم ينقدح عندي في هذا أنه إن جرى وطءٌ، فالكلام في القرء الواحد والقرأين على ما مضى في أول هذا التفريع، وإن لم يجر وطء أصلاً، ففي المسألة احتمال: يجوز أن يقال: تستبرىء بقرء، كما إذا اشتُرِيت من امرأة، أو مجبوب. ويجوز أن يقال: لا استبراء؛ فإن السيد ينكر ما كان. وما ذكرناه من الحكم بصحة النكاح ظاهرٌ، وليس أمراً باطناً ولكنَّا [كنا] (5) نرعى حق الزوج في ظاهر الأمر، فإذا انقضى، وانقطعت حقوقه، فالسيّد يقول بعد ذلك: لم يكن نكاح قط، فلا استبراء. فليتأمل الناظر هذه الفصول.

_ (1) وراء انتهاء النكاح: أي أن عدة الوفاة ليست لحق الزوج الحرّ، وإنما تكون بعد وفاته، وهي ليست حقاً للزوج. ولذا تعتد هذه عدة الإماء. (2) " وهي رقيقة ". الواو هنا للاستنئاف. فالمعنى: ثم هي رقيقة. (3) ثار: أي انبعث، وأنشأ من هذا المقام. والتعبير المعهود هو: وعن هذا ثار رأيٌ بكذا، أو فلان بكذا. (4) " فلتعتد بالقرء ": المراد هنا أنها تستبرىء لمكان الوطء؛ فهذه ليست عدة وفاة كما تقرر، وليست عدة طلاق أيضاً، وأصلاً هي تزعم بطلان النكاح بقرارها بالرق. (راجع فتح العزيز: 6/ 433). (5) ساقطة من الأصل.

وأسدُّ الطرق وأقطعُها للشغب ما ذكره الشافعي رضي الله عنه في الشهرين والخمسة الأيام؛ فإن عدة الوفاة من حرمات النكاح، وإن كان لا يعتبر فيها شغل الرحم. فإذا جرى الحكم بالنكاح، لزم إثباتُ عدة الوفاة، ثم لم تثبت العدة الكاملة لما نبهنا عليه. 6177 - ومما أجراه الشافعي أنه قال: يملك الزوج عليها ثلاث طلقات. وظاهر [هذا] (1) الكلام يشير إلى أن ذلك بسبب كونها حرة في حق الزوج. ولا حاصل لهذا على مذهب الشافعي؛ فإن الاعتبار في عدد الطلاق بحرية الزوج ورقّه، والزوج الحر يملك على زوجته الأمة ثلاثَ طلقات، حتى قال الأصحاب: هذا تفريع من الشافعي على مذهب أبي حنيفة، وهذا غير منتظم؛ فإنّ الشافعي لا يفرع على مذهبٍ يُبطله، ولكن الذي ينقدح فيه أمران: أحدهما - أنه غفل عن مذهبه في هذا، وأجرى القياس الذي كان [فيه] (2). والآخر - أنه أراد أن يبيّن مشكلات هذا الفصل [بالتقدير] (3) والتحقيق، حتى كأنه قال: لو كان الطلاق يتغيّر برقها وحريتها، لحكمنا بأن الزوج يملك عليها ثلاث طلقات تحقيقاً لثبوت النكاح، على تمام قضاياه. 6178 - وممّا يتصل بهذا الفصل أنا إذا [أَدَمْنا] (4) النكاحَ في المستقبل كما ذكرناه، فنحكم بأنها تُسلَّم إلى الزوج تسليم الأمة المنكوحة، حتى يقال: يستخدمها السيد نهاراً، ويسلّمها إلى الزوج ليلاً، أم نقول: تسلم إلى زوجها تسليم الحرة، حتى لا نبالي بتعطل منافعها على السيد المقَرِّ له؟ ما يقتضيه قياس قول الأصحاب أنا نسلمها إليه تسليم الحرة، فإنا لو لم نفعل هذا، لعظم الضرر، وظهر النقص في عين مقصود النكاح، ومعقوده.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: منه. (3) في الأصل: التقرير. (4) في الأصل: أثبتنا.

وهذا ينفصل من هذا الوجه عن رقِّ الأولاد في المستقبل؛ فإن العلوق بالولد أمرٌ موهوم، لا يجوز أن يُبنى عليه ما ينتجز من الضرر، ولولا ذلك (1)، لما جوّزنا للحر الفاقد للطَّوْل أن ينكح أمةً؛ فإن السعي في إرقاق الولد لا يجوز لشهوات النفوس، ولكن لما كان ذلك موهوماً، والحاجةُ ناجزةٌ، صححنا النكاح. ويرد على ما ذكرناه أن الزوج يسافر بها الشرق والغرب، وهذا مما ترتاع منه نفسُ الفقيه مع الحكم بالرق وتسليط السيد على البيع وغيره من التصرفات، فليتأمل الناظر ذلك، فهو منتهى تفريع هذه المسألة. ونحن نأخذ الآن في تفريع مسألة أخرى فنقول: 6179 - اللقيط إذا نكح بعد البلوغ، ثم أقر بكونه رقيقاً، فإن قلنا: الإقرار بالرق مقبول عموماً فيما له وعليه، فالنكاح مردود من أصله. فإن لم يكن دخل بها، فلا شيء لها، وإن كان قد دخل بها، فقد قيل: لها مهر المثل. ثم يتعلق بذمة العبد، أو برقبته؟ فيه وجهان، كما لو نكح العبد المعروف بالرق من غير إذن مولاه نكاح شبهة، فوطىء ووجب المهر، ففي تعلّقه بالذمة، أو الرقبة خلاف، وسبب توهم التعلق بالرقبة تنزيلُ العُقر (2) منزلة أُروش الجنايات، وفي هذه المسألة وأمثالها بابٌ معقود في كتاب النكاح. فلو كان المهر المسمّى أقلّ من مهر المثل، فقد يخطر للفقيه أنها لا تطلب إلا المسمى؛ لأنها قنعت به، وليس كما إذا جرى نكاح مشتمل على مسمى؛ ثم تبيّنا فسادَه قبل الدخول؛ فإن الرجوع إلى مهر المثل ثَمَّ. والسبب فيه أنا تحققنا فساد النكاح ظاهراً وباطناًً، وهاهنا نحكم بفساد النكاح لأجل الإقرار حُكماً ظاهراً، فيجوز أن يقال: هي مؤاخذة بحكم رضاها بالمسمى. ويجوز أن يقال: إنما تؤاخد برضاها بالمسمى لو بقي النكاح، والعلم عند الله تعالى.

_ (1) ذلك إشارة إلى أن الولد موهوم. في مقابلة حاجة ناجزة محققة. (2) العُقر: بضم المهملة: مهر المرأة إذا وطئت بشبهة.

6180 - فأما إذا فرّعنا على تبعيض الإقرار، فيقبل إقراره، فيما عليه دون ما لَه، ونحكم بانقطاع النكاح من وقت الإقرار، لا من أصله. ثم إن لم يكن دخل بها، فعليه نصفُ المسمى كما لو طلقها. وإن كان دخل بها، فلها جميع المسمى، وليس لها إلا المسمّى، حتى لو كان مهرُ مثلها أكثرَ، فلا مطمع لها فيه، لأنا على هذا القول لا نُسند ارتفاع النكاح إلى ما مضى. ثم هذا المسمى يتعلق بكسب العبد إن كان له كسب، ونجعل كأن عبداً نكح بإذن مولاه. وإن لم يكن له كسب، فلا تعلق للمهر إلا بذمة العبد، كما لو نكح بإذن المولى، ولم يكن كسوباً، ولا يخفى أن القول القديم في دخول السيد في ضمان المهر والنفقة لا يخرّج هاهنا؛ فإن ذلك القول على ضعفه مبناه على صدور الإذن من السيد تحقيقاً، وهذا المعنى مفقود هاهنا. 6181 - ومما نفرعه على ذلك: البيعُ والشراء فنقول: إذا بلغ اللقيط، وباع، واشترى، ثم أقر بالرق، فإن لم نبعض الإقرار، فالتصرفات كلُّها فاسدة، وأعيان الأموال مستردّة، وما صودف تحت يد اللقيط، فهو ملك المقَرّ له بالرق، وإن تلفت الأعيان في أيدي من قبضها، ضمن قيمتها، وإن حصلت في يده بالشراء أعيانُ أموالِ الناس رُدت على ملاكها، وإن تلف في يده شيء منها، فالضمان متعلق بذمته، فإن عهدة المعاملة الجارية بغير إذن المولى لا تتعلق إلا بذمّة العبد. ولو قال من عامله: حسبته حراً، لم يختلف الحكم بحسبانه بعدما نفد الإقرار عموماً. 6182 - وإن قلنا: يتبعض الإقرار، فلا ينقض شراؤه وبيعه، وما اشتراه يؤدّي ثمنه مما في يديه؛ نص الشافعي عليه، ولا نقول: ما في يده يسلّم إلى المقر له بالرق، وتتعلق الأثمان بذمته، ولكنا نجعله كعبد مأذونٍ له، يشتري وفي يده الأموال هذا هو الذي يقتضيه الإنصاف، فإن لم نصادف في يده شيئاً، فيتعلق الثمن بذمته حينئذ.

6183 - ومما نفرّعه أنه إذا جنى، ثم أقر بالرق، فإن كانت الجناية موجبةً للقود، فعليه القصاص، وإن كانت موجبة للمال، تعلق الأرش بالرقبة؛ فإن العبد المعروفَ بالرق إذا جنى هكذا حُكمُه. وإن جُني عليه، فإن كان الجاني عبداً، فعليه القصاص إن كان عمداً، وإن كان حراً، سقط القصاص، والنظر في الأرش؛ فإن كان قطعَ يدَ اللقيط، ثم أقر بالرق، فإن كان نصفُ اليد ونصفُ القيمة سواء، فذاك، وإن كان نصف القيمة أقل من نصف الدية، فليس على الجاني إلا نصفُ القيمة؛ فإن السيد لا يطلب إلا هذا، وقد استقر الرق له. وإن كان نصفُ الدية أقلَّ من نصف القيمة، فهذا يُبتنى على تبعيض الإقرار، فإن حكمنا بالإقرار عموماً، وجب على الجاني نصفُ القيمة، وإن زاد على نصف الدية. وإن فرعنا على تبعيض الإقرار، ففي الأخذ بنصف القيمة إضرار بالجاني، وفي الأخذ بنصف الدية [نقصٌ من حق الرق، وفيه إضرار بالسيد المقر له] (1)، فما الذي نعتبره؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يغلّظ على الجاني؛ فإن أرش الجناية يبين مقداره بالأَخَرة، وقد بأن أنه جانٍ على رقيق، وثبت الرق قطعاً. ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الجاني إلا نصفُ الدية، وهذا هو الأقيس والأصح؛ فإن الجناية جرت قبل ثبوت الرق، فيبعد أن نعطف من ثبوت الرق مزيد غُرم على الجاني قبل ظهور الرق. فإن قال السيد: نقصتم من حقي؟ قلنا له: هذا بمثابة إدامَتِنا النكاحَ على اللقيطة إذا أقرت بالرق. وقد نجز تمام المراد في التفريع على الأقوال. ونحن نرسم بعد ذلك فروعاً متعلقة بما مضى. فرع: 6184 - ما ذكرناه مفصلاً مفرّعاً فيه إذا أقر اللقيط بالرق لإنسان فصدّقه المقَرُّ له، أو ادّعى إنسان رقَّه، فاعترف.

_ (1) عبارة الأصل وحدها: " إضرارٌ بحق السيد، ونقص من حق الرق فيه ".

فأمّا إذا أقر بالرق لواحدٍ، فكذبه المقرّ له، فلو أقر بالرق لآخر، فهل يُقبل إقراره الثاني؟ قال الشافعي فيما حكاه العراقيون: لا يُقبل إقراره الثاني أصلاً؛ فإنّا حكمنا بعتقه لما رَدّ إقرارَه، وكأن العبد رجع إلى يد نفسه -لو قدرنا الرق- وحكمُ ذلك العتقُ، وليس هذا عتقاً على التحقيق يُعقب ولاء، وإنما هو تقديرٌ أطلقناه. وقال ابن سريج يقبل إقراره للثاني، كما [لو] (1) أقرّ بثوبٍ لواحدٍ، فردّه، ثم أقر به لآخر. وفيما استشهد به ابن سريج نظرٌ، وترددٌ للأصحاب، ذكرناه في كتاب الأقارير. على أن الفرق ظاهرٌ؛ فإن الثوب لا يفرضُ إلا مملوكاً، وأما الحرية، فإنها الأصل في بني آدم، وفي حصولها حقٌّ لله تعالى؛ فإن حقوق الله تعالى تكثر على الأحرار، وفي ردّ الحرية ردُّها. 6185 - ومما يتفرع على هذا المنتهى، أنا إذا ردَدْنا إقراره للثاني، فلو ادّعى مدَّعٍ عليه الرقَّ، [فلا] (2) تُقبل دعواه من غير بينة. [و] (3) هذا على نص الشافعي ظاهر، وليس للمدّعي أن يحلّفه؛ فإن الحلف يفرض لتوقع الإقرار، فإذا كان إقراره مردوداً، فلا معنى للحلف، ولو قدر نكوله، لكانت يمين الرد بمثابة الإقرار، فإذا كان الإقرار مردوداً، فلا معنى لهذا التقدير. فإن ذهب ذاهب إلى أن يمين الرد بمثابة البيّنة، فقد يرى التحليف لتقدير النكول، حتى إذا فرض النكول، أثبتت عليه يمين الرّد. وهذا ضعيف، لما ذكرناه من تعلّق حق الله تعالى بالحرية. والله أعلم. ...

_ (1) سقطت من الأصل. (2) في الأصل وحدها: هل تقبل دعواه من غير بينة. (3) ساقطة من الأصل وحدها.

وقد بان الآن، ومما أجريه في هذا المجموع، ولا شك في تبرم بني الزمان به - أني كثيراً ما أجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تفضي إلى مقر المذهب آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب والنظر. وهذا من أشرف مقاصد الكتاب، فلست أخل به لجهل من لا يدريه. الإمام في نهاية المطلب

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض (1) 6186 - الأصل في الفرائض الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعلم بها مما توافت الأخبار على الترغيب في طلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم، وإنها نصف العلم، وإنها أول علم ينتزع من أمتي، وينسى " (2). وقال صلى الله عليه وسلم: " تعلموا الفرائض، وعلموها الناس، فإنّي امرؤٌ مقبوض، وإن العلم سينزع حتى إن الرجلين من أمتي يختلفان في فريضة لا يجدان من يخبرهما بها " (3). وقيل: سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصفَ العلم؛ لأن الخلق بين طوري الحياة والموت، والشرع ينقسم إلى أحكام الأحياء وأحكام الأموات.

_ (1) يستمر العمل على نسخٍ أربع هي (د 2) وهي الأصل، ومعها (د ا)، (ت 3)، (ت 2). والله المعين. (2) حديث " تعلموا الفرائض، فإنها من دينكم ". رواه ابن ماجة: الفرائض، باب الحث على تعليم الفرائض، ح 2719، والدارقطني (4/ 67)، والحاكم (4/ 332)، والبيهقي (6/ 209) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد ضعفه الحافظ (ر. التلخيص: 3/ 172 ح 1387، وخلاصة البدر المنير: 2/ 128). (3) حديث: " تعلموا الفرائض، وعلموها الناس". رواه من حديث ابن مسعود، النسائي في الكبرى (4/ 63، 64، ح6305، 6306)، والدارمي: ح 221 والدارقطني (4/ 81 - 82) والحاكم (4/ 333)، والبيهقي في الكبرى (6/ 208)، وفي السنن الصغير (3/ 353، ح 2277)، وبنحوه مختصراً الترمذي: الفرائض، باب ما جاء في تعليم الفرائض، ح 2091. وقد ضعف الحافظ الحديث. ر. التلخيص: (3/ 171 ح 1386).

وعن عمر بن الخطاب أنه قال: " إذا تحدثتم، فتحدثوا بالفرائض وإذا لهوتم، فالهوا بالرمي " (1). وكان يجب على المحتضَر في ابتداء الإسلام الوصيةُ للوالدين والأقربين، كما أنبأ عنه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أيْ فرض عليكم إذا حضر أحدَكم علاماتُ الموت إن ترك مالاً، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] معناه لحب المال لبخيل. واختلفوا في المراد بالأقربين المذكورين مع الوالدين، فذهب بعضهم إلى أن الأولاد يندرجون تحت الأقربين. وقال قائلون: كانت الوصية تجب للوالدين، ومن عدا الأولاد من الأقربين، وكان الأولاد يأخذون ما يفضل من الوصايا، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] معناه ليخْش الذين يحضرون المحتضَر من الشهود، ولْينصحوه إذا قصد أن يستغرق المال، ولا يُبقي للأولاد شيئاً، وليتقوا الله في نصيحته، وليقولوا قولاً معروفاً. ثم هدّد الأوصياء وتوعّدَهم على التبديل، فقال تعالى (2): {فمن بدله} من الأوصياء {بعد ما سمعه} من الموصي، {فإنما إثمه} ووباله على المبدّلين، فإن الله سميع بما قال الموصي، عليم بما يفعله. ثم أطلق على الأوصياء التخويفَ إذا علموا من الموصين ميلاً في وصاياهم، فقال عزّ من قائل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} [البقرة: 182]: أي علم منه ميلاً، والخوف يأتي بمعنى العلم، {فلا إثم عليه} هو، في أن يُبدّله، وذلك مثل ألا يُبقي للأولاد شيئاً.

_ (1) أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رواه البيهقي (6/ 209)، والحاكم (4/ 333) وقال:= صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأعله الحافظ بالانقطاع. ر. التلخيص: (3/ 186ح 1409). (2) هذا معنى الآية الكريمة [البقرة: 181]، حيث مزج التفسير بالألفاظ الكريمة.

ثم استقرت الشريعةُ على الفرائض. 6187 - وقال أبو العبّاس بنُ سُريج: كان يجب في ابتداء الإسلام على المحتضَر أن يوصي لكل أحد بما في علم الله من الفرائض، فكان من يوفَّق له مصيباً ومن يتعداه مخطئاً. وهذا زلل من أبي العباس ولا يجوز أن يعتقَد ثبوتُ مثل ذلك في الشرائع؛ فإنه تكليفٌ على عماية، وكان ابن سُريج يقول: كُلّفوا ذلك حسبما كلفوا الاجتهاد في القبلة والأواني. وهذا إن صح عنه مشعر بالخلو عن أركان الاجتهاد؛ فإن الاجتهاد لا بد وأن يتعلق بأدلّةٍ قطعيةٍ، أو علاماتٍ ظنية، وفرضُ ما ذكرناه غيرُ ممكن في الفرائض. وإن كان النظر إلى أقدار الحاجات، فهي تختلف، ولا تنضبط. 6188 - ثم أبان الله سبحانه وتعالى الفرائض في قوله تعالى: {يوصيكم الله} وفي الآية التي تليها، وفي آية الكلالة في مختتم السورة (1). وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى لم يكل قَسْم مواريثكم إلى مَلكٍ مقرَّب، ولا إلى نبي مرسلٍ، ولكن تولى قَسْمها، فقسمها أبْين قَسْم، ألا لا وصية لوارث " (2).

_ (1) يشير إلى آيات الفرائض، وهي الآية: 11، 12، من سورة النساء، ثم الآية الأخيرة من السورة الكريمة نفسها، وهي رقم: 176. (2) حديث: " إن الله تعالى لم يكل قسْم مواريثكم إلى ملك مقرّب ... " لم نجده بهذا السياق الذي ساقه به الإمام، قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: الثابت في هذا المعنى: " أن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ". رواه الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن خارجة وقال: " هذا حديث حسن صحيح. وروي أيضاً من حديث أبي أمامة وأنس بن مالك رضي الله عنهم ". ا. هـ. المشكل:2/ 61أ، 61ب. وروى أحمد والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن خارجة =

6189 - وقيل كانوا يتوارثون في ابتداء الإسلام بالتحالف، والنُّصرة، وكان الواحد يقول لصاحبه: دمي دمُك، ومالي مالك، ترثني وأرثك، وهو بيّن في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]. ثم نسخ الله تعالى ذلك بالإسلام والهجرة، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فكان المهاجر وغير المهاجر لا يتوارثان. ثم نسخ الله تعالى ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]،و [الأحزاب:6] وقيل: كان الرجال يُورَّثون دون النساء، وكان يقال: الرجال يتحملون المؤن ويُقْرون الضيف، ويلقَوْن الحروب، وكان ينفَق على المرأة من مال زوجها بعد موته سنة، وذلك حظُّها من الميراث. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]. ثم نسخ حكمَ هذه قولُه تعالى: {الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. ثم لم تشتمل الآي الثلاث على جميع الوقائع. 6190 - وانقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضوانه واختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم اختلافهم فيما لم يلقَوْه منصوصاً، وسبب ذلك أنهم لم يجدوا قواعد الفرائض مبنيةً على معانٍ معقولة، فاضطربوا في التمسك بالأشباه والتقريبات، فأتوا فيها بالعجائب والآيات.

_ = (واللفظ للنسائي): " إن الله قد قسم لكل إنسان قسمةً من الميراث فلا تجوز لوارث وصية ". (ر. أحمد: 4/ 186، 187 و5/ 267، الترمذي: الوصايا، باب لا صدقة لوارث: 2121،2120، النسائي: الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث:3671، 3672، 3673، ابن ماجة: الوصايا: باب لا صدقة لوارث:2712، 2713، 2714، الدارقطني: 4/ 152، البيهقي: 6/ 264، التلخيص: 3/ 197ح 1421).

وقال العلماء بالفرائض: تحزّب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أحزاب، فتكلم أربعةٌ منهم في جميع الفرائض: علي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس. وتكلم قومٌ في معظم أصول الفرائض مثل: أبي بكر، وعمر، ومعاذ. وتكلّم بعضُهم في مسائلَ نادرةٍ، كعثمان وغيره رضي الله عنهم أجمعين. ثم من بدائع حكم الله تعالى أن الأربعة الذين تكلموا في الجميع لم يُجمِعوا في مسألة إلا أجمعت الأمة على مذهبهم، ولم يتفق في مسألة مصير اثنين منهم إلى مذهب، وذهاب اثنين إلى مذهب الآخر، ولكن إذا اختلفوا وقفوا آحاداً، وصار ثلاثةٌ إلى مذهب، وواحد إلى مذهب واحد. 6191 - ثم نظر الشافعي إلى مواقع الخلاف، ولم يجد مضطرباً في المعنى، فاختار أن يتبع زيد بن ثابت، ولم يضع لأجل هذا كتاباً في الفرائض، لعلمه بعلم الناس بمذهب زيد، وإنما نصّ على مسائلَ متفرقة في الكتب، فجمعها المزني، وضم إليها مذهب زيد في المسائل. ولم يقل: تحرَّيْتُ [فيها] (1) مذهب الشافعي كقوله في أواخر الكتب التي مضت؛ فإن التحرّي اجتهاد، ولا اجتهاد في النقل. وقد تحقق عنده اتباع الشافعي زيداً. وتردد قول الشافعي حيث ترددت الروايات عن زيد، واعتمده فيما رواه من ذلك ما رواه الأثبات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " أفرضكم زيد" (2)، قال المحققون: لو رفعت واقعة إلى مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيها مذاهب لعلماء صحابته، فقال فيها:

_ (1) ساقطة من الأصل فقط. (2) حديث " أفرضكم زيد " رواه أحمد، والترمذي، والنسائي في الكبرى، وابن ماجة من حديث أنس (ر. أحمد: 3/ 184، الترمذي: المناقب، باب مناقب معاذ وزيد، ح 3791، النسائي في الكبرى: 8242، ابن ماجة: المقدمة باب فضائل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ح 154، التلخيص: 3/ 172 ح 1389).

أفرضكم زيد، وزيد منهم وفيهم، لتعين اتباعُ مذهبه (1). فكذلك يجب هذا في جميع القواعد إذا قال: أفرضكم زيد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " أقضاكم علي، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ "، فالقول في القضايا يتسع، ويتعلق بما لا يسوغ التقليد فيه، وكذلك الحرام والحلال. وعندنا أن المذهب لا يستقل بهذا القدر؛ فإن زيداً ما انتحل مذهبه إلا عن أصلٍ يجول الرأي فيه، ولهذا خالفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشافعي لم يُخلِ مسألةً عن احتجاج، وإنما اعتصم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجيحاً، وهذا بيّن. وإذا كان كذلك، فحقٌّ على الناظر أن يتبين مواقع الكلام في كل قاعدة حسبما يفعل ذلك في قواعد الشريعة. 6192 - ثم الذي نراه بعد ذلك أن نذكر جُملاً في صدر الفرائض تتنزل منزلة المعاقد والضوابط، يطلع حافظها بها على الأصول، ثم نعود بعد الإيناس بها إلى ترتيب السواد، ونعتمد شرح مذهب زيد، ولا نخلي أصلاً عن ذكر المشاهير من مذاهب الصحابة رضي الله عنهم، ونشُمِّرُ للتلخيص والتقريب جهدنا، ثم نتعدى قليلاً حدود الفقهاء في تمهيد أصول الحساب، وتسهيل طرقها، وتقريب مأخذها، ثم المهارة فيها موكولة إلى الدُّربة.

_ (1) كذا في جميع النسخ، ويلوح لي أن العبارة في أصلها هكذا: " قال المحققون: قد رفعت واقعة إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها مذاهب لعلماء صحابته، فقال فيها: " أفرضكم زيد، وزيد منهم وفيهم؛ فتعين اتباع مذهبه " هذا مجرد ظن وتوقع ولم نره في أي مصدر.

فصلٌ في معاقد جُمْلية نأتي بها توطئةً وإيناساً 6193 - فنقول: استحقاق الإرث متعلق بالقرابة والسبب. والسبب ينقسم إلى خاص، وعام: والسبب العام التوريث بالإسلام. والسببُ الخاص النكاح والولاء، أما الولاء، فسبيل الإرث به التعصيب لا غير، والزوجية سبيل الإرث بها الفرض. والأصول المورّثةُ بالقرابة الأبوة، والأمومة، والبنوّة، والأخوة، والجدودَة، والعمومة. والورثة من القرابة ينقسمون على أنحاء، ونحن نردد تقاسيمهم في كل غرض، فنقول أولاً: هم ينقسمون إلى الأصول والفروع. أما الأصول، فهم الذين ليس بينهم وبين الميت واسطة بها يُدلون، وهم أربعة: الأب، والأم، والابن، والبنت، وهؤلاء لا يحجبون بالأشخاص حجباً كلّياً. والفروع من الورثة على أربعة أقسام: ذكرٌ يُدلي بذكرٍ، وهم بنو البنين، وبنو الأب، وهم الإخوة وبنوهم. وبنو الجد، وهم الأعمام وبنوهم. وذكر يدلي بأنثى، ولا يُلفى الوارث من هذا القبيل إلا شخص واحد، وهو الأخ للأم؛ فإن إدلاءه إلى الميت بالأم. وأنثى تدلي بذكر، وهو (1) ثلاث: بنت الابن، وبنت الأب: وهي الأخت من الأب، وأم الأب.

_ (1) وهو: ضمير يعود على القسم.

وأنثى تدلي بأنثى، وهو الأخت للأم، والجدة أم الأم. والحجب بالأشخاص يتطرق إلى الفروع، كما سيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى. 6194 - ثم إنا نقسمهم تقسيماً آخر فنقول: كل ذكر يدلي بذكر من القرابة، فهو عصبة، وكل ذكر يُدلي بأنثى، فهو صاحب فرض. وكذلك الأنثى المدلية بالأنثى. فأما الإناث المدليات بالذكور، فلا يرثن بالتعصيب بأنفسهن. وقد ذكرنا أنهن ثلاث: بنت الابن، والأخت من الأب، وأم الأب. أما أم الأب، فلا ترث إلا بالفرض. وبنت الابن، والأخت يعصّبهما غيرهما، وإذا انفردتا عن معصِّب أخذتا بالفرض. 6195 - ونقسم جملة الورثة تقسيماتً آخر، فنقول: منهم من يأخذ بالتعصيب لا غير، وهم البنون، وكل ذكرٍ يُدلي إلى الميت بذكر، والجدُّ مستثنىً من ذلك. والمستحق بالولاء. ومنهم من يرث بالفرض المحض، وهم من القرابة: الأم، وكل مُدْلية بأنثى، والذكر المدْلي بأنثى، وهو الأخ من الأم، والزوج والزوجة. ومنهم من يرث بالفرض والتعصيب، وهؤلاء قسمان: منهم من يرث بأحدهما، ولا يجتمع الوجهان له، ومنهم من يرث بالفرض المحض تارةً، وبالتعصيب أخرى، ويرث بالفرض والتعصيب جميعاَّ. فأما من يرث بالفرض تارة، وبالتعصيب تارة، ولا يجتمعان له، فهم البنات، وبنات الابن، والأخوات من الأب والأم، والأخوات من الأب. وأما من يرث بالفرض وحده، و [بالتعصيب وحده، ويرث بهما جميعاً، فالأب يرث بالفرض مع الابن وابن الابن، ويرث] (1) بالتعصيب المحض إذا لم

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

يكن معه ولد، ولا ولد ابن، ويرث بالفرض والتعصيب جميعاً مع البنات، وبنات الابن، والجد في ذلك كلّه بمثابة الأب عند عدم الأب. فهذه جمل عقدناها. 6196 - ونحن نعقد جملة أخرى فنقول: الوارثون من الرجال على البسط خمسةَ عشرَ: الابن، وابن الابن، وإن سفل، ما أدلى بمحض الذكور، والأب، والجد: أيو الأب، ما لم يدل بأنثى، والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، والأخ من الأم، وابن الأخ من الأب والأم، وإن سفل ما أدلى بمحض الذكور، وابن الأخ من الأب وإن سفل، ما أدلى بمحض الذكور، والعم أخ الأب من أبيه وأمه، والعم أخ الأب من أبيه، وابن العم من الأب والأم، وإن سفل ما أدلى بمحض الذكور، وابن العم من الأب كذلك. وعم أب الميت بمثابة عم الميت، وكذلك عم جدّه الوارث، وبنوهم على قياس بني أعمام الميت، والزوج، والمولى المعتِق. 6197 - والوارثات من النساء على البسط عشر: البنت، وبنت الابن، وإن سفلت ما أدلت بمحض الذكور، والأم، والجدة أم الأم، وإن علت ما أدلت بمحض الإناث، والجدة أم الأب وإن علت، ما لم تدل بذكرٍ مُدلٍ بأنثى، والأخت من الأب والأم، والأخت من الأب، والأخت من الأم، والزوجة، والمولاة المعتقة. وليس في الورثة أنثى تستغرق الميراث إلا المعتِقة. 6198 - وإن أوجزنا قلنا: الوارثون من الرجال: الابنُ، وابنُ الابن، والأبُ، والجد، والأخ، وابنُ الأخ من الأب، والعم من الأب، وابن العم من الأب، والزوجُ، والمولى المعتِق. 6199 - والوارثات من النساء: البنتُ، وبنتُ الابن، والأم، والجدةُ

المدلينَ بوارث، أو وارثة، والأخت، والزوجة والمولاة المعتقة. 6200 - ومن الجمل التي نعقدها أن نقول: التوريث بالتعصيب والفرض: أما التعصيب فالوارث به يستغرق التركة إن لم يزاحم، ويأخذ الفاضل من الفرائض، وإذا استغرقت الفرائض أجزاء التركة، سقط، إلا في مسألة المشتركة على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. 6201 - وأما الفرض، فأصله في اللسان القطع، وسميت الحزَّةُ التي تستقر فيها عروةُ الوتر فُرضة، ثم استعمل الفرض بمعنى التقدير، فإن المقدّرات مقتطعة عن الجمل، فالفرائِض هي المقدرات. والمقدرات التي هي الأصول في المواريث ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. وإن أحببت قلت: النصف ونصفه، ونصفُ نصفه، والثلثان، ونصف الثلثين، ونصف نصفه. ويجمع هذه الستة أصلان: النصف والثلثان. ثم يتشعب من النصف نصفه، وربعه، ويتشعب من الثلثين نصفه وربعه. وما ذكرناه أصول الفرائض، وإذا عالت المسائل، وزادت المقدّرات على أجزاء المال، فلا تتعدى هذه المقدّراتُ في الإطلاق، وإن كان السدس فيها سبعاً، وتسعاً، وعشراً. 6202 - وقد نص الله سبحانه وتعالى على هذه الأجزاء الستة في ثلاثةَ عشر موضعاً في كتابه. فذكر النصف في ثلاثة مواضع: ذكره للزوج إذا لم يكن للمرأة ولد، في قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، وللبنت الواحدة، في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]،

وللأخت الواحدة إذا كانت لأب وأم، أو لأب فقال تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]. وذكر الربع في موضعين: للزوج إذا كان للزوجة ولد، وللزوجة إذا لم يكن للزوج ولد. وذكر الثمن للمرأة إذا كان للزوج ولد، ومواضع الربع والثمن [بينة] (1). وأما الثلثان، فقد ذُكر في موضعين: ذكره للأختين، إذا كانتا لأب وأمٍ، أو لأبٍ، فقال تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء: 176] وللبنات فقال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] ثم للبنتين الثلثان كما للأختين على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. وشرط في الأختين أن يكون الميت كلالة، فمنهم من قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد، وهو قول أكثر الصحابة رضي الله عنهم، وإحدى روايتي ابن عباس، ويعني بالوالد: الآباءَ، والأجدادَ، دون الأمهات، وبالولد الذكورَ والإناثَ، الوارثين منهم، قربُوا أو بعدوا. ومنهم من قال: هو من لا ولد له، وإن كان له والد. وهو الرواية الثانية عن ابن عباس. ثم اختلفوا، فقال بعضهم: الكلالة اسمٌ للميت، وقال بعضهم: الكلالة اسمٌ للورثة، وسنعطف على جميع ذلك في الشرح، إن شاء الله عز وجل. فأما الثلث، فقد ذكره الله تعالى في موضعين: ذكره للأم إذا لم يكن هناك ولد ولا إخوة في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] وذكره للاثنين من أولاد الأم، فقال تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وهو يثبت للجدّ عند بعض منازله.

_ (1) في الأصل: فيه، والمثبت من باقي النسخ الثلاث.

وأما السدس، فقد ذكره في ثلاثة مواضع: ذكر للأبوين السدس في قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11]، وللأم إذا كان للميت ولد، أو اثنان من الإخوة، فصاعداً، وذكره للواحد من أولاد الأم، فقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]، وللسدس مواضع ملحقة بالنص. فهذا بيان الفرائض في نصوص الكتاب. 6203 - ونحن نصوغ عن مستحقيها عبارةً جامعةً تشير إلى الكليات، فنعود، ونقول: النصف فرض خمسة: فرضُ الزوج إذا لم يكن للزوجة ولد، ولا ولد ابن. وفرضُ البنت الواحدة من الصلب، إذا لم يكن معها ابنٌ يعصّبها. وفرضُ بنت الابن الواحدة، إذا لم يكن في الصلب ولد، ولم يكن معها غلام يعصّبها في درجتها. وفرْضُ الأخت الواحدة من الأب والأم، إذا لم يكن معها في الفريضة من يعصبها. وفرض الأخت الواحدة من الأب إذا لم يكن في الفريضة أحدٌ من الإخوة من الأب والأم، لا الذكر، ولا الأنثى، ولم يكن معها معصّبٌ، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكرُ من يعصِّبُ الأخوات. والربع فرض اثنين: فرض الزوج إذا كان للزوجة ولد، أو ولد ابن. وفرض الزوجة إذا لم يكن للزوج ولد، ولا ولد ابن. وكأن الزوجين يتوارثان على نسبة التعصيب بين الذكر والأنثى، حيث يقول: [للذكر] (1) مثل حظ الأنثيين، فللزوج ضعف نصيب الزوجة مع الولد،

_ (1) ساقطة من الأصل.

ودونه، فله النصف حيث يكون لها الربع، وله الربع حيث يكون لها الثمن. ثم الزوجات كالزوجة الواحدة في الربع والثمن، ولولا ذلك، لاستغرقت أربع زوجات الميراثَ، بأربعةِ أرباع. والثمن فرض صنف واحد: وهنَّ الزوجات إذا كان للزوج ولد، أو ولد ابن. والثلثان فرض أربعة أصناف: ولا يثبت إلا بعددٍ: فرض بنتي الصلب، فصاعداً، إذا لم يكن معهن ابنٌ يعصبهنّ. وفرض بنتي الابن فصاعداً إذا لم يكن في الصلب ولد، ولم يكن في درجتهن غلام يعصّبهن. وفرض الأختين من الأب والأم، فصاعداً، إذا لم يكن في الفريضة من يعصّبهن. وفرض الأختين من الأب، فصاعداً إذا لم يكن في الفريضة أحدٌ من أولاد الأب والأم، ولم يكن معهن من يعصّبهن. وأمّا الثلث ففرض الاثنين (1)، فصاعداً من الإخوة والأخوات من الأم (2). وفرض الأم إذا لم يكن للميت ولد، ولا ولد ابن، ولا اثنان من الإخوة والأخوات فصاعداً، فإذا اجتمعت هذه الأوصاف، فلها الثلث. إلا في فريضتين: إحداهما - زوج وأبوان، والأخرى - زوجة وأبوان. للزوج النصف وللأم ثلث ما تبقى، والباقي للأب، وهذا والسدس واحدٌ، ولكنا لا نطلق السدسَ، حذاراً من مخالفة لفظ الكتاب.

_ (1) في غير نسخة الأصل: " صنفين " مكان الاثنين. وهو خطأ كما سيظهر من الشرح. في غير نسخة الأصل زيادة بعد كلمة " من الأم " نصها: " يقسم بينهم بالسوية، لا يفضّل ذكر على أنثى ".

وللزوجة الربع من الفريضة الأخرى، وللأم ثلث ما تبقى، وهو ربعٌ في الحقيقة، ولكنا لا نطلقه. (3 والثلث يثبت لاثنين فصاعداً من أولاد الأم مفضوضاً عليهم بالسوية لا يفضّل ذكر على أنثى 1). والثلث فرض الجدّ في بعض منازله، كما سيأتي في بابه مشروحاً، إن شاء الله تعالى. والسدس فرض سبعةٍ: فرض الأب إذا كان للميت ولد أو ولد ابنٍ. وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو ولد ابن، أو اثنان من الإخوة والأخوات، فصاعداً. وفرض الجدات، فيشتركن فيه، إذا استوين في الدرجة، وتستحقه الواحدة إذا انفردت. وفرض بنت الابن، أو بنات الابن إذا كان في الصّلب بنتٌ واحدة، ولم يكن معهن في درجتهن ذكر يعصّبهن. وهذا السدس يسمى تكملة الثلثين ضمّاً إلى النصف الثابت لبنت الصلب. وهو فرض الأخت الواحدة والأخوات من الأب إذا كان في الفريضة أخت واحدةٌ من الأب والأم، وليس في الفريضة من يعصّب الأخوات فللأخت من الأب والأم النصفُ، وللأخت أو الأخوات من الأب السّدس تكملة الثلثين. وهو فرض الواحد من أولاد الأم ذكراً كان، أو أنثى. وفرض الجد في بعض منازله. فهذه معاقد كلية وقواعدُ جُملية، ذكرناها وأجريناها على مذهب زيدٍ،

_ (1) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ ما عدا الأصل. (وهو في مقابلة الزيادة السابقة).

ونحن نعود بعدها إلى ترتيب المختصر، ونستوعب تفاصيل القواعد، ونعوّل على استقصاء مذهب زيد، ولا نخلي ما نجريه عن حكاية مذاهب غير زيدٍ من الصحابة رضي الله عنهم. ***

باب من لا يرث

باب من لا يرث 6204 - ذكر المزني في صدر هذا الباب أن ذوي الأرحام لا يرثون. والترجمة (1) أوّلاً مأخوذةٌ عليه، فإن قال معترض: من يرث أحق بالضبط ممن لا يرث، فلم صدّر الكتاب بذكر من لا يرث؟ قلت: لعله رأى الكلامَ فيمن يرث باتفاق مضبوطاً قريباً، فرأى تصدير الكتاب بذكر محلّ الخلاف؛ فإنه أهمّ، وكل من عدا المذكورين من الوارثين والوارثات من المتصلين بالقرابة من الأرحام. ومذهب زيد أنهم لا يرثون، وصار إلى توريثهم علي، وابنُ مسعود، وابنُ عباس، وغيرُهم. ولسنا نرى الخوض في ذكرهم الآن، وسنعقد في أمرهم باباً، إن شاء الله عز وجل. وأصناف ذوي الأرحام على التقريب أحد عشر: أولاد البنات، وبنات الإخوة، وأولاد الأخوات، وأولاد الإخوة للأم، وكل جدٍّ وقع بينه وبين الميت أنثى، وكل جدّة وقع بينها وبين الميت ذكر بين أنثيين، والعمة، والخالة، والخال، والعم للأم، وبنات الأعمام. ومن لا يرث من هؤلاء فالمدلي به لا يرث، لأن المدلي لا يزيد على الذي به

_ (1) ترجم المزني في أول (اختصار الفرائض) قائلاً: " باب من لا يرث " ثم ذكر تحت الترجمة ذوي الأرحام. (ر. المختصر: 138).

الإدلاء، وسنفرد في ذوي الأرحام -إن شاء الله عز وجل- باباً نذكر ما يقع به الاستقلال. فصل قال فيمن لا يرث: " والكافرون ... إلى آخره " (1). 6205 - اختلاف الدين إسلاماً وكفراً، يمنع التوارث من الجانبين، فلا يرث الكافرُ المسلمَ، ولا المسلمُ الكافرَ، وهذا مذهب معظم العلماء. وقال معاذ: المسلمُ يرث الكافرَ، والكافر لا يرثه، كما أن المسلمَ ينكح الكافرة، والكافر لا ينكح المسلمة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتوارث أهل ملّتين شتى " (2). والكفار يتوارثون وإن اختلفت مللهم، فاليهودي يرث النصراني والمجوسي والنصراني يرثهما. وقال شريح (3) والأوزاعي: الكفار المختلفون في الدين لا يتوارثون،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 139. (2) حديث " لا يتوارث أهل ملتين ... " حديث حسن، رواه أبو داود (واللفظ له): الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر؟ ح 2911، وابن ماجة: أبواب الفرائض، باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، ح2731، والنسائي في الكبرى، ح 6383، 6384، وأحمد (2 - 178، 195)، والدارقطني (4 - 75 - 76)، والبيهقي (6/ 218) كلهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواه الترمذي من حديث جابر: الفرائض، باب لا يتوارث أهل ملتين، ح 2108، ورواه الدارمي من حديث عمر، ح 2992، 2997، وانظر التلخيص (3/ 183 ح 1405). (3) شريح: شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي. من أشهر القضاة في الإسلام، وأخباره مستفيضة في أخبار القضاة لوكيع، يقال: له صحبة، ولم يصح، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولاه عمر قضاء الكوفة، فقيل: أقام على قضائها ستين سنة، =

واحتجا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يتوارث أهل ملتين شتى ". والحديث محمولٌ على ملة الكفر والإسلام، والكفر في التوارث ملّة واحدة. قال الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] فجعل الكفار في حكم أهل دين واحدٍ. والمرتد لا يرث عندنا، ولا يورث، وله باب مفرد يأتي في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى. فصل قال: " والمملوكون ... إلى آخره " (1). 6206 - العبد لا يرث، ولا يورث، فإنه على الصحيح لا يملك، وإن ملّكناه على القديم، ولا يملك إلا من جهة تمليك السّيد إياه، ثم هو ملكٌ، لا قرار له. والمكاتب في معنى القن. ومن نصفه حر ونصفه عبد لا يرث عندنا، وهل يرثه حميمُه؟ في المسألة قولان: أقيسهما - أنه لا يرثه؛ لأن من لا يرث لا يورث. هذا هو الأصل. والثاني - يرثه لأنه ملك ملكاً تاماً بنصفه الحر، فهو فيه كالشخص الكامل الحرية. فان قلنا: لا يورث، ففيما خلّفه وجهان: أحدهما - يعود إلى مالك الرق في نصفه.

_ = كما قضى بالبصرة أيضاً، ولذا كان يقال له: قاضي المصرين. توفي سنة ثمانين من الهجرة (ر. سير أعلام النبلاء: 4/ 100 - 106) ومصادر ترجمته وفيرة منها: طبقات ابن سعد: 6/ 131، طبقات خليفة بن خياط: 145، وأخبار القضاة لوكيع: 2/ 189 - 202 وطبقات الشيرازي: 80، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 243. (1) ر. المختصر: 3/ 139.

والثاني - يُصرف إلى بيت المال. وإن قلنا: يرثه حميمُه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه [يرث] (1) جميعَ ما يجمع بنصفه الحر. والثاني - يرث نصفَ ذلك، ويعود النصف منه إلى السيّد، لأن سبب الإرث الموت، والموت حلّ جميعَ بدنه، وبدنُه ينقسم إلى الرق والحرية، فيجب انقسام ما يخلِّفه؛ فإن ذلك ليس ملكَ نصفه، وإنما هو ملك كله؛ إذ يستحيل أن يملك نصفُ شخصٍ شيئاً، وكأن النصفَ الحر يُثبت حكم الملك للجملة، والرق ينافي الملك إذا لم تَسْتتبعْه (2) الحرية. وقال علي وابن مسعود: من نصفه حر ونصفه عبد يرث ويورث. وقيل هو مذهب المزني. قال الشافعي: لو ورثناه من حميمه، لأدّى ذلك إلى توريث الأجانب بعضهم من بعض؛ لأن ما يملكه يقع مستحقاً بينه وبين مولاه، كما لو احتش أو احتطب، [أو اتّهب] (3). فصل قال: " والقاتلون ... إلى آخره " (4) 6207 - القتل قسمان: مضمون، وغير مضمون. فالمضمون يوجب الحرمان، سواء كان مضموناً بالقصاص، أو الدية، أو الكفارة. ولا فرق بين أن يكون عمداً أو خطأ، وبين أن يكون القاتل صبياً أو بالغاً، عاقلاً أو مجنوناً،

_ (1) في جميع النسخ: يرثه. (2) في غير نسخة الأصل: نستضعفه. (3) ساقطة من الأصل. (4) ر. المختصر: 3/ 139.

ولا فرق بين أن يقع القتل بسببٍ (1) أو مباشرة، كل ذلك يوجب حرمان الميراث. وقال عثمان البتِّي (2): قتل الخطأ لا يوجب حرمان الميراث. وقال مالك (3): القاتل خطأ لا يرث من ديّة المقتول شيئاً؛ لأن الديّة حصلت بفعله، ويرث من سائر أمواله. ومعتمدنا في الباب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ليس للقاتل من الميراث شيء " (4). وقال أبو حنيفة (5): قَتْلُ الصبي والمجنون لا يتعلق به حرمان الميراث، وكذلك القتل بالسبب. هذا في القتل المضمون. 6208 - فأما إذا لم يكن القتل موجباً للضمان، فإنه ينقسم إلى قتلٍ مستحَق، وإلى قتلٍ لا يوصف بكونه مستحقاً.

_ (1) (د ا)، (ت 2): محضاً، (ت 3): بخطأ. (هكذا) وهو تحريف واضح. (2) عثمان البتي: أبو عمرو، اسم أبيه مسلم، وقيل: أسلم، وقيل سلمان. فقيه البصرة، وأصله من الكوفة، والبتي نسبة إلى بيع البتوت، وهي الأكسية الغليظة. أو الأنسجة (الخام) قبل قصْرها. توفي سنة 143هـ (سير أعلام النبلاء: 6/ 148، وتهذيب التهذيب: 7/ 153 - 154). (3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 1021، مسألة:2098، 2099، حاشية العدوي: 2/ 356، جواهر الإكليل: 2/ 338، الفواكه الدواني: 2/ 181. (4) حديث: " ليس للقاتل من الميراث شيء ". رواه النسائي في الكبرى (6368) وابن ماجة: الديات، باب القاتل لا يرث، ح 2646، ومالك في الموطأ (2/ 867)، والشافعي (ترتيب المسند، 2/ ح 366، وعبد الرزاق (17782، 17783)، الدارقطني (4/ 72، 73، 96)، والبيهقي (6/ 220،219)، وانظر: (التلخيص 3/ 184 ح 1406)، وخلاصة البدر المنير 2/ 136، والإرواء: ح 1671 (وقال: صحيح). (5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 442 مسألة 2132، حاشية ابن عابدين: 5/ 489.

والذي يوصف بكونه مستحقاً، فإنه ينقسم إلى الواجب الذي لا يسعُ تركه، وإلى ما يسعُ تركه. فأما ما لا يسعُ تركه، فالحدّ، فإذا أقامه من إليه الإقامة، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يوجب الحرمان؛ فإن الإمام لا يجد بداً من إقامته. والثاني - يُحْرَمُ، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس للقاتل من الميراث شيء " وإذا استبعد القائل الأول فَهْمَ [حرمان] (1) هذا القاتل من الخبر، لزمه [قَتْلُ] (2) المخطىء، فإنه ليس متهماً؛ فإن قيل: لا نأمن قصده سرّاً، وإبداءه الخطأ ظاهراً، قيل: لو لم يشعر أحد بقتله، فلم يحرم الميراث باطناً بينه وبين الله تعالى؟ وهو في علم الله تعالى مخطىء. والوجه الثالث: أن الحدّ إن ثبت بالإقرار، لم يُحرم القاتل، وإن ثبت بالبينة، حُرم؛ فإن التهمة تتطرق، من جهة احتمال المواطأة في القتل المترتب على البينة. هذا في القتل المستحَق الذي لا محيص عنه. فأما القتل الذي يسع تركه، كالقصاص، فإذا اقتص الرجل من حميمه، فهل يحرم الميراث؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين في الحد، وهو أولى بأن يتضمن الحرمان؛ لأن القاتل [متخيّر] (3) بين القتل والترك، والتركُ مندوبٌ إليه. 6209 - فأمّا القتل الذي لا يوصف بكونه مستحَقاً، ولا يتضمن ضماناً، ولا يتصف بكونه محظوراً، فهو كقتل القاصد دفعاً، وفي تعلق الحرمان به

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: مثل. (3) ساقطة من الأصل.

وجهان مرتبان على الوجهين في القصاص، وهو أولى بأن يتعلق الحرمان به؛ من جهة أنه لا يوصف بكونه مستحقاً، والتهمة تتطرق إلى القاتل الدافع؛ من حيث يُظن أنه زاد على قدر الحاجة. 6210 - ويتصل بما نحن فيه قتلُ العادل الباغيَ، وقتل الباغي العادلَ. أما قتل العادل الباغيَ، فقريب من قتل المقصود القاصد دفعاً. وأما قتل الباغي العادل، فيترتب على أنه هل يضمن أم لا؟ فإن قلنا: إنه يضمن، فيحرم الميراث. وإن قلنا: لا يضمن، ففي حرمان الميراث وجهان مرتبان على الوجهين في العادل، وفي المقصود إذا قتل القاصد دفعاً، والباغي أولى بالحرمان؛ لأن قتل العادل لا يوصف بكونه مباحاً. 6211 - والمكره إذا قتل حميمه، وقلنا: إنه يضمن، فلا شك أنه يحرم. وإن قلنا: لا يضمن، فهل يحرم؟ المذهب أنه يحرم؛ لأنه آثم بالقتل منهي عنه. وفيه وجهٌ بعيدٌ أنه لا يحرم. وهذا مرتب على الباغي، والمكره أولى بالحرمان؛ لأن الباغي على تأويل في قتل العادل. فصل قال: " ومن عمي موتُه ... إلى آخره " (1). 6212 - إذا مات اثنان معاً، لم يتوارثا، وإذا ماتا، ولم يُدْرَ أماتا معاً أم تقدم موتُ أحدهما على موت الثاني، فلا توارث بينهما، وذلك بأن يموتا في غريق، أو حريق، أو تحت هدم، أو يُقتلا في معركة، أو يموتا في بلادِ غُربة، ويستبهم الأمر في موتهما.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 139.

وهذا فيه إذا أيسنا من درك حقيقة الحال، ولو علمنا تقدُّم موت أحدهما، ولكن أشكل علينا المتقدّم على وجهٍ لا يمكن فرضُ الإحاطة به، فالأمر كما وصفناه، في أنا لا نورّث ميتاً من ميت. وقد ذكرنا فيه إذا تيقنا السبق، وأشكل علينا السابقُ في نكاحين على امرأة، وفي جُمعتين في بلدةٍ - قولين، ولا ينتظم في الميراث القولان. والفرق أن فسخ النكاح ممكنٌ إذا تعذر إمضاؤه، وتعارضت الحجج في الخصومات، وأمر الناس بإقامة الظهر لا تعذر فيه، إذا صحت جُمعةٌ، لا بعينها. وإذا أيسنا من درك السابق، وتميزه عن المسبوق في الميتين، فلا سبيل إلى وقف الميراث أبداً. وكان شيخي يتردد في صورة في الموت، وهي إذا سبق أحد الموتين، وتعيّن السابق، ثم أشكل إشكالاً، لا يتوقع دركُه. وهذه صورة يُقْطَع فيها بصحة جمعة، وصحة نكاح. والرأي أن اللَّبس مهما تحقق في الموتين أولاً وآخراً، فلا نورّث ميتاً من ميت، بل نقول في كل ميت: ننظر إلى من خلّفه من الأحياء، ونجعل كأن ذلك الميت الآخر، لم يكن أصلاً. 6213 - وقال عمرُ، وابنُ مسعود، وبعضُ أهل الكوفة: نورث الموتى بعضهم من بعض. ثم إذا عمي موتُ رجلين، فإنما يرث أحدهما من تليد مال صاحبه، دون الطريف، والمراد بالطريف الذي ورث هو منه (1).

_ (1) هذا على قول عمر وابن مسعود.

مثاله: أن يغرق رجل مع زَوْجةٍ، وابنٍ لهما، وخلّف الرجل من الأحياء امرأةً أخرى، وبنتاً، وخلّفت أم الابن -وهي الزوجة- أخاً، وخلّف الابن ابناً. فعلى قول زيد، نقول: مات الرجل عن: بنت، وزوجة، وابن ابن: فللبنت النصف، و [للزوجة] (1) الثمن، والباقي لابن الابن، والفريضة من ثمانية. وماتت [المرأة] (2) عن: أخٍ، وابنِ ابن. فيسقط الأخ، والمال لابن الابن. ومات الابن عن ابن فماله له. 6214 - وعلى قول عمر، وابن مسعود: مات الرجل الغريق عن: امرأتين، وابنٍ، وبنت، وابن ابن. فللمرأتين الثمن، والباقي بين الابن والبنت، للذكر مثل حظ الأنثيين، ويسقط ابن الابن. فينكسر سهمٌ بين المرأتين، وسبعة أسهم بين الابن والبنت، وهما في التقدير ثلاثة؛ فإن الذكر باثنين، ففي المسألة كسران: اثنان، وثلاثة: نضرب اثنين في ثلاثة فتصير ستة، ثم نضرب الستة في أصل المسألة، كما سيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى في أبواب تصحيح الكسُور، فصار المبلغ ثمانية وأربعين، للمرأتين ستة، وللابن ثمانية وعشرون، وللبنت أربعة عشرَ.

_ (1) في الأصل: وللمرأة. (2) في الأصل: الأم.

ثم يقسم نصيب [المرأة] (1) الغريقة، وهو ثلاثة على أحياء ورثتها، دون من غرق معها، ووارثها من الأحياء: ابنُ ابنها، ويسقط أخوها. ونصيب الابن الغريق لابنه. وأمَّا تليد مال الأم، فهو مقسوم بين ورثتها الأحياء والأموات. فنقول: ماتت عن: زوج، وابن، وابن ابن، وأخ. فيسقط ابن الابن، والأخ، فللزوج الربع، والباقي للابن. والفريضة من أربعة، فيقسّم نصيب الأب (2)، وهو سهم على الأحياء من ورثته، وهم: زوجة، وبنت، وابن ابن. وفريضته من ثمانية، ولا ينقسم سهم على ثمانية، فنقدِّر الثمانية كسراً، ونضربها في أصل فريضة الأم وهو أربعة فتصير اثنين وثلاثين، نصيب الأب وهو الزوج منها ثمانية، بين ورثته الأحياء والباقي نصيب الابن، فيصرف ذلك إلى وارثه الحي، وهو ابنه. وأما تليد مال الابن، فبين ورثته الأموات والأحياء، فنقول: خلّف: أبوين، وابناً. فللأبوين السدسان، والباقي للابن، فنصيب [لأب] (3). وهو سهم بين ورثته الأحياء، وهم امرأة، وبنت، وابن ابن، وفريضته من ثمانية، ولا [ينقسم] (4) سهم بين ثمانية، فنضرب ثمانية في فريضة الابن، وهو ستة فتُرد

_ (1) في الأصل: الأم. وهي ساقطة من جميع النسخ. والمثبت اختيار منا. (2) في النسخ الثلاث غير الأصل: الابن. (3) في الأصل: الابن. (4) في الأصل: يستقيم.

ثمانية وأربعين، نصيب الأب ثمانية بين ورثته الأحياء، ونصيب الأم لوارثها الحي، وهو ابن ابنها. قال أصحابنا: توريث الميت من الميت يجرّ محالاً في بعض الصور. فإذا أعتق الرجل عبداً وأعتق رجلٌ آخر أخاً لذلك المعتَق، وعمي موتُ المعتَقَيْن الأخوين، وخلّف أحدهما ألف دينار، ولم يخلّف الثاني، فمن يورّث ميتاً من ميت يورّث الذي لا شيء له من أخيه جميعَ ماله، ثم يصير منه إلى معتقه، فيحصل في يدي من مات معتَقُه عن لا شيء ألفُ دينار (1)، ولا يصل في يد من مات معتِقُه عن ألف دينار شيء. والذي أراه أنه إذا تحقق وقوع الموتين معاً، فيبعد توريث أحدهما من الآخر؛ فإن الميت لا يرث، فلعل الخلاف فيه إذا سبق موتُ أحدهما، وأشكل الأمر. والعلم عند الله تعالى. فصل قال: " كل هؤلاء لا يرثون، ولا يحجبون ... إلى آخره " (2). 6215 - لما ذكر الشافعي الأسباب الثلاثة الحاجبة: اختلافَ الدين، والرقّ، والقتل، قال: من لا يرث بوصفٍ من هذه الأوصاف، لا يَحجُب، ولا أثر له أصلاً، لا في الحجب الكلّي، ولا في الحجب البعضي. وعن ابن مسعود أنه لا يَحْجُبُ حجبَ الحرمان، ويحجب حجب النقصان: فإذا مات رجل عن ابنٍ كافر، وامرأةٍ مسلمة، وابن ابن مسلم، أو عن أبٍ مسلمٍ، فالابن الكافر لا يحجب ابن الابن، ولكن تُحجب المرأة عنده من الربع إلى الثمن. وقال: إنه لا يحجب الأب من العصوبة إلى الفرض.

_ (1) وذلك عندما يرثه بالولاء، كما هو مفهوم. (2) ر. المختصر: 3/ 139.

واختلفت الرواية عنه في أنه هل يحجب أولاد الأم، والإخوةُ الكفار يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. فصل قال الشافعي: " لا ترث الإخوة والأخوات من الأم، لا مع الأب، ولا مع الجد ... إلى آخره " (1). 6216 - افتتح الكلام في طرفٍ من الحجب بالأشخاص، على ترتيب الوارثين، والوارثات، على مذهب زيد، و [نصل] (2) به تقاسيمَ تُفيد الضبطَ، ثم نرجع إلى ترتيب (السَّواد) (3). فنقول: 6217 - الحجب ينقسم إلى الحجب بالأوصاف، وإلى الحجب بالأشخاص. فأما الحجب بالأوصاف، فقد تقدم القول في الأوصاف الحاجبة وبان أنها ثلاثة: اختلاف الدين، إسلاماً وكفراً، والرق، والقتل. 6218 - وأما الحجب بالأشخاص، فينقسم إلى حجب الحرمان، وإلى حجب النقصان. فأما حجب النقصان، فمن فرضٍ إلى فرض، وهو في حق الأم: من الثلث إلى السّدس، وذلك يحصل بالولد، وولد الابن، وباثنين من الإخوة والأخوات، فصاعداً. ثم الإخوة يحجبونها من الثلث إلى السدس، وإن كانوا محجوبين بالأب.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 139. (2) في الأصل: وفصَلَ. (3) السواد: المراد به مختصر المزني، كما أشرنا مراراً.

هذا مذهب زيد، فإذا كان في الفريضة: أبوان، فللأم الثلث، والباقي للأب. ولو كان فيها: أبوان، وأخوان. فالأخوان محجوبان، وهما يردّان الأمَّ من الثلث إلى السدس، فلها السدس والباقي للأب. ومن حَجْبِ النقصان ردُّ الزوج من النصف إلى الربع، وردُّ الزوجة من الربع إلى الثمن، وذلك يحصل بالولد، وولد الابن. وقد يلتحق ردُّ الأب من العصوبة إلى الفرض بقسم النقصان. 6219 - فأما حجب الحرمان، فنذكره على ترتيب الوارثين، والوارثات، فنقول: أما الابن، فلا يحجبه عن الميراث أحد. وابن الابن لا يحجبه إلا الابنُ. والقريبُ من ذكور الأحفاد يحجب البعيدَ. والأب لا يحجبه عن الميراث شخص. والجد أب الأب لا يحجبه أحدٌ إلا الأبُ، وإذا ترتب الأجداد، فالقريب يحجب البعيد. والأخ من الأب والأم يحجبه الابن، وابن الابن، وإن سفل، والأبُ. والأخ من الأب يحجبه الابن، وابن الابن، والأب، والأخ من الأب والأم. والأخ من الأم يحجبه الابن، وابن الابن، والبنت، وبنت الابن، والأب، والجد. وابن الأخ من الأب والأم يحجبه: الابن، وابن الابن، والأب، والجد، والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب.

وابن الأخ من الأب يحجبه هؤلاء، وابنُ الأخ من الأب والأم. والعم من الأب والأم يحجبه هؤلاء وابن الأخ من الأب. والعم من الأب يحجبه هؤلاء والعم من الأب والأم. وابن العم من الأب والأم يحجبه هؤلاء، والعم من الأب. وابن العم من الأب يحجبه هؤلاء وابن العم من الأب والأم. والزوج لا يحجبه عن أصل الميراث أحد. والمولى المعتِق لا يرث مع عصبة نسب، ولا يرث إن [استغرقت] (1) الفرائض التركة. فإن لم تكن عصبة من نسب، ولا ذو فريضة، استغرق التركة. فإن أفضلت الفرائض، استحق الفاضل. وسيأتي بابٌ في المولى والإرثِ بالولاء. 6220 - فأما الوارثات، فالبنت لا تحجب عن أصل الميراث. وبنت الابن يحجبها الابن، وبنتان في الصلب، إذا لم يكن معها في درجتها أو أسفل منها غلام يعصبها. والأم لا يحجبها عن أصل الميراث شخص. والجدة أم الأم لا يحجبها إلاّ الأم. والجدّة أم الأب يحجبها الأم، والأب. والقول في القربى والبعدى من الجدات يأتي، إن شاء الله تعالى. والأخت من الأب والأم يحجبها الابن، وابن الابن، والأب. والأخت من الأب يحجبها الابن، وابن الابن، والأب، والأخ من الأب والأم، وأختان من الأب والأم، إذا لم يكن معها أخ [من الأب] (2) يعصبها.

_ (1) في الأصل: استغرق. (2) زيادة من غير نسخة الأصل.

والأخت من الأم يحجبها من يحجب الأخ من الأم. والزوجة لا تحجب عن أصل الميراث. والمولاةُ المعتِقة كالمولى المعتِق. فهذه جملٌ في الحجب على رأي زيد بن ثابت. وفي بعض ما ذكرناه خلاف سنشرحه في مسائل الكتاب، إن شاء الله عز وجل. 6221 - فنعود إلى ما ذكره الشافعي قال رضي الله عنه: " لا يرث الإخوة والأخوات من قبل الأم، مع الجد، وإن علا، ولا مع الأب ". وقد قدمنا أن ولد الأم يحجبه الابنُ، وابنُ الابن، والبنتُ، وبنتُ الابن، والأبُ والجدّ. وقال عبد الله بن عباس: أولاد الأم يرثون مع الأب والجد، وإنما يسقطون بالولد وولد الابن. 6222 - وإنّما نشأ هذا الخلاف من الاختلاف في الكلالة، فإنه عز من قائل، قال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فما ذهب إليه زيدٌ وجماهير العلماء: أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، وذهب ابن عباس أنّ الكلالة من لا ولد له، وإن كان له والد. واختلف في اشتقاق الكلالة، وفي المسمى بها، فقيل: المسمى بها الميت، وقيل المسمّى بها الورثة. وأمَّا الاشتقاق، فمنهم من قال: هو من قولهم: كَلَّ [سيف] (1) فلان، إذا ذهب طرفاه، وبقي الجوانب، والحواشي، وهذا يظهر إذا حملنا الكلالة على الميت، الذي لا أب له، ولا ولد.

_ (1) في الأصل: نسب.

وقيل الكلالة الورثةُ، سموا بذلك لأنهم كالإكليل للميت، والإكليل يحيط بجوانب الرأس وأعلاهُ مقوّر، فإذا كان الورثة كالإكليل، سمُّوا كلالة. وتعلق ابن عباس بقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} [النساء: 176] فأوضح الله تعالى معنى الكلالة، وفسرها بمن لا ولد له. وقد قال معظم الصحابة رضي الله عنهم: المراد بقوله تعالى {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 76]، ليس له ولد ولا والد، فوقع الاقتصار على أحد الطرفين، والدليل عليه أنه تعالى أثبت للأخت النصف، والإجماع منعقدٌ على أن الأخت لا ترث النصف مع الأب. وكان عمر متوقفاً في تفسير الكلالة، ولما راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها قال صلى الله عليه وسلم: "يكفيك آية الصّيف"، أراد قولة تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]. وهذه الآية نزلت في الصيف. وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء: 12] نزلت في الشتاء. وكان عمر لا يتبين حتى قد قرأ هذه الآية، وفيها {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] فقال عمر: هذا لمن بيَّنَتْ له، فأما عمر، فلم يتبين. فصل قال الشافعي:" لا يرث مع الأب أبواه، ولا مع الأم جدة ... إلى اَخره " (1). 6223 - أما قوله: لا يرث مع الأب أبواه، ولا مع الأم جدة، فالمراد أن أب الميت يحجب أب نفسه، وهو جد الميت، ويحجب أم نفسه وهي جدة الميت؛

_ (1) ر. المختصر: 3/ 139.

من جهة الأب. وإذا حجب الجدَّ الأدنى، حجب من فوقه، وكدلك القولُ في الجدات البعيدة المدليات به. وقال ابن مسعود: أمُّ الأب ترث مع الأب، ووافق أن أب الأب لا يرث، وتعلق ابن مسعود بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ورّث جدّة وابنها حي " وفي رواية " ورّث أمّ حسكة، وابنها حي " (1) وهي أول جدّة ورثت في الإسلام. وحمل علماؤنا ما رواه على العم. وقالوا: ورّث الجدة، وابنها الذي هو عم الميت حي. والله أعلم. 6224 - وأمّا قول الشافعي، ولا مع الأم جدة، فالمراد أن الأم تحجب الجدة المدلية بها، والجدة المدلية بالأب. وسنذكر هذا في فصول الجدات. ولو كان في المسألة: أم أب، وأم أم، وأب. فلو لم يكن الأب، لكان السدس بين الجدتين، والأب حجب الجدة التي هي أمُّه، وفي الجدة التي هي أم الأم وجهان لأصحابنا: أحدهما - أنها تستحق السدس بكماله؛ فإنها منفردة بالاستحقاق. والثاني - أنها لا تستحق إلا نصف السدس، والجدة من الأب وإن سقطت،

_ (1) حديث توريث الجدة وابنها حي، وفي بعض الروايات أم حسكة، وأنها أول جدة ورثت في الإسلام أخرجه من عدة طرق سعيد بن منصور في سننه (حديث رقم 99، 102، 103، 104، 105 - 110) وابن أبي شيبة (حديث رقم 11351) وانظر المحلى (9/ 279 وما بعدها)، حسكة هو: حسكة الحنظلي، صحابي، لم نجد له ترجمة إلا في الإصابة، قال الحافظ: " كان من عمال خالد بن الوليد على بعض نواحي الحيرة في خلافة أبي بكر، وتقدم غير مرة أنهم كانوا لا يؤمرون إذ ذاك إلا الصحابة " (ر. الإصابة 1/ 328). أمّا أم حسكة فلم نصل لترجمتها في أي من المصادر التي رجعنا إليها.

فبقي أثر مزاحمتها؛ فإنها لم تسقط بالجدة من قبل الأم. وهذا بمثابة حجب الإخوة المحجوبين بالأب الأمَّ من الثلث إلى السدس. وسيأتي مجموع ذلك في فصول الجدات، إن شاء الله تعالى. ***

باب المورايث

باب المورايث 6225 - ذكر الشافعي في هذا الباب الفرائض الست، وأبان مستحِقَّ كل فريضة، ونحن ذكرنا فيما تقدم الجُمَل والمعاقد، والآن نتبع النصوص، وترتيب (السواد) (1)، ونذكر ما فيها من مشاهير الخلاف. وقد ذكر الشافعي في أول الباب فرضَ الزوجين، وليس فيهما خلاف، ولا حاجة إلى مزيد بيان، مع نص القرآن. فصل. قال: " وللأم الثلث ... إلى آخره " (2). 6226 - فنقول: إن كان للميت ولدٌ أو ولد ابن، فللأم السدس، بلا خلاف، وكذلك إذا كان للميت ثلاثة من الإخوة، والأخوات، فللأم السدس. وإن كان للميت اثنان من الإخوة والأخوات فمذهب زيد وجماهير الصحابة رضي الله عنهم أن للأم السدس. [وقال] (3) ابن عباس: لا ترجع الأم إلى السدس باثنين من الإخوة، وقيل: ناظَر ابنُ عباس عثمانَ، وتمسك بظاهر قوله

_ (1) في الأصل: الشواذ. وهو تحريف عجيب مع أن الكلمة مرت آنفاً. (2) المختصر: 3/ 140. (3) في الأصل: فقال.

تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقال محتجاً: ليس الأخوان إخوة في لسان قومك. فقال عثمان: " إن قومك حجبوها يا غلام " (1)، وأشار بهذا إلى مخالفته ما كان العلماء عليه قبل إظهار مذهبه. ثم مقتضى اللسان التساهل في إطلاق لفظ الجمع على الاثنين، وصحّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الاثنان فما فوقهما جماعة " (2)، وتبيّن في أصول الفرائض نزول الاثنين منزلة الجماعة من ذلك الجنس، كالأخوات يستحققن الثلثين، وللأختين الثلثان أيضاً، ولثلاثة فصاعداً من أولاد الأم الثلث، ولاثنين منهم الثلث. 6227 - ومما خالف فيه ابن عباس ما استثناه من الفريضتين، وهما: زوج وأبوان. وزوجة وأبوان. قد ذكرنا أن للأم فيهما ثلث ما تبقى بعد فرض الزوج، وخالف ابن عباسٍ

_ (1) أثر ابن عباس في مناظرة عثمان رضي الله عنهما، رواه البيهقي (6/ 227)، والحاكم (4/ 335) وصححه، ووافقه الذهبي. قال الحافظ: " وفيه نظر، فإن فيه شعبة مولى ابن عباس، وقد ضعفه النسائي " ر. التلخيص (3/ 186ح 1410). هذا وليس في الحديث العبارة التي ذكرها الإمام عن عثمان وإنما فيه قول عثمان رضي الله عنه: " لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس ". (2) حديث: " الاثنان فما فوقهما جماعة " رواه ابن ماجة: كتاب الصلوات، باب الاثنان جماعة، ح 972، وابن أبي شيبة (2/ 531)، والدارقطني (1/ 280)، والحاكم (4/ 334)، والبيهقي (3/ 69) كلهم من حديث أبي موسى الأشعري. وله طرق أخرى عن أنس وأبي أمامة والحكم بن عمير وعبد الله بن عمرو، وكلها ضعيفة كما في التلخيص وخلاصة البدر المنير والإرواء، لكن يشهد لمعناه حديث مالك بن الحويرث " فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما " الذي أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأذان، باب اثنان فما فوقهما جماعة، ح 658، ر. التلخيصص: (3/ 177 ح 1395)، الخلاصة: (2/ 131 ح1734)، الإرواء: (2/ 248 ح 489).

فيهما، فأثبت للأم في الفريضتين الثلثَ الكاملَ. ومعتمدُ المذهب أن أصل الفرائض أنه إذا اجتمع ذكرٌ وأنثى في درجةٍ واحدة، فالذكر يفضل الأنثى، وإدْلاءُ الأبوين جميعاً بالميت من جهة الأبوّة، وقد ثبت أنهما إذا اجتمعا، فللأم الثلث، والباقي للأب، وتبين ما اختص الأب به من البسطة والقوة في الميراث؛ فإنه يجتمع له الفرض والتعصيب في الفريضة الواحدة، ويثبت له حق الإرث بكل واحدةٍ من الجهتين، فلو قلنا في مسألة: زوج وأبوين: للأم ثلث جميع المال، لكانت آخذةً مثلَيْ ما يأخذ الأب. وهذا خلاف موضوع الفرائض. وكذلك إذا ثبت أن الأب ينبغي أن يفضل الأمَّ، فيلزم منه أن يفضلها على النسبة التي ذكرناها، وذلك يحصل بقولنا: للأم بعد الربع ثلث ما تبقَّى، والباقي للأب، وإذا قلنا: للأم ثلث جميع المال، والباقي للأب، ففيه تفضيلٌ للأب، ولكن ليس التفضيل على النسبة المطلوبة. وهذا الذي ذكرناه من تفضيل الذكر على الأنثى يدخل عليه تسويتُنا بين الذكر والأنثى في الأخ والأخت من الأم. ويدخل عليه تسويتنا بين الأب والأم إذا كانا يأخذان بالفرض، حيث يكون في الفريضة معهما ابن، فإنا نقول: للأبوين السّدسان، والباقي للابن. فهذا منتهى ما ذكر في ذلك. 6228 - والأَوْلى في المسائل التي انفرد فيها ابن عباس بالخلاف التمسكُ بما ذكره عثمان في المسألة الأولى من هذا الفصل؛ فإن ابن عباس أظهر الخلاف بعد سبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم إلى الاتفاق، ومفرداته مأخوذة من مسألةٍ في الأصول وهي أن الإجماع هل يشترط فيه انقراض أهل

العصر، حتى يقال: لا يقع الحكم بالإجماع إذا نشأ في العصر مخالفٌ قبل انقراض أهله؟ وقد ذكرنا أن المختار ألا يشترط انقراض أهل العصر (1). فصل قال: " وللابنة الو احدة النصف ... إلى آخره " (2). 6229 - نستفتح الكلامَ في ميراث الأولاد والبنين. ونحن نقول أولاً: انعقد الإجماع على أن الابن الواحد يحوز المال إذا انفرد، وليس لهذا ذكر في الكتاب والسنّة. وقال بعض أصحابنا: الإجماع انعقد عن شرع من قبلنا، وقد نقول (3): إن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ووجه التمسّك بشرع من قبلنا أن الله تعالى أخبر عنه، فقال: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]. وهذا مدخولٌ من وجهين: أحدهما - أنا نقطع في مسالك الأصول بأنا لا نتمسك بشرع من قبلنا (4)، والآخر أن قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] كلام مستعار، والمراد به أنه قام مقامه في الملك، والنبوّة، ويشهد له قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ... } الآيات [النمل: 16 وما بعدها]. وتكلف بعض الأصحاب في هذا وجهاً آخر، فقالوا: قد ثبت أن الابن والبنت إذا اجتمعا، فالمال عند اجتماعهما مصروف إليهما على نسبة من التفاضل، فللابن ضعف ما للبنت حالة الاجتماع، فليكن للابن حالة الانفراد

_ (1) راجع هذه المسألة في كتاب (البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين: فقرة 640، 641). (2) ر. المختصر: 3/ 140. (3) (ت 2): " وقد تقرر في الأصول أن شرع من قبلنا شرع لنا ". وراجع رأي الإمام في هذه القضية في كتابه (البرهان) الفقرات: 411 - 416. (4) (ت 2): أنا لا نقطع في مسالك الأصول بأنا نتمسك.

ضعف ما للبنت [المفردة] (1) ثم للبنت المنفردة النصف، فليكن للابن المنفرد الجميع. وهذا تكلف مستغنىً عنه؛ فإن من القواعد [المستفيضة] (2) أن الأخذ بالتعصيب يستغرق المال إن لم يزاحَم. وعلى هذا القياس يجري العصبات أجمعون، والابن أقوى العصبات، فإذا انفرد ولم يكن ذو فرض، ولا وجه إلا أن يستغرق المال، فإن الابن الواحد يستغرق، والابنان يشتركان في الاستحقاق، وكذلك البنون. فصل قال: " وللبنت النصف، وللبنتين فصاعداً الثلثان ... إلى آخره " (3) 6230 - أما الواحدة من البنات، فلها النصف بنصّ القرآن، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]. وللبنتين فصاعداً الثلثان عندنا، وهو مذهب عامة الفقهاء، وادّعى بعض الفرضيين الإجماعَ فيه، وحكَوْا موافقةَ ابن عباس. ورُوي عنه أنه كان يقول: للبنتين النصف، وللثلاث فصاعداً الثلثان، محتجاً بظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]. ونحن نقول: قد حصل الوفاق على أن للأختين الثلثان، قال عزّ من قائل: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] فإذا ثبت ذلك في الأختين مع

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) ر. المختصر: 3/ 140.

بُعد درجة الأخوات، فالبنات مع قرب الدرجات بذلك أولى، [ثم] (1) قد روي أن عثمان ابن مظعون (2) مات وخلف زوجةً، وبنتين، وأخاه قدامةَ بنَ مظعون، فرفع قدامةُ جميع المال، فجاءت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أخاك عثمان مات، وخلفني وبنتين، وأخاه قدامة، وإنه رفع جميعَ المال، فقال صلى الله عليه وسلم: " لك الثمن ولبنتيك الثلثان، والباقي للاخ " (3). فصل قال: " فإذا استكمل البنات الثلثين ... إلى آخره " (4). 6231 - إذا خلّف الرجل بنتاً، وبنت ابن، فللبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين. ولو كان في المسألة بنتٌ واحدة في الصلب، وجماعةٌ من بنات الابن، فللابنة النصف ولبنات الابن السّدس، يشتركن فيه إذا لم يكن في الفريضة معصِّب. وعن هزيل بن شرحبيل أنه قال: أتيت سليمان بن ربيعة، وأبا موسى الأشعري، وسألتهما عن:

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) المشهور والمروي فيما رأيناه من كتب السنة أن الواقعة كانت مع زوجة سعد بن الربيع وليس عثمان بن مظعون وفي رواية عند أبي داود أنها في ابنتي ثابت بن قيس، وقال أبو داود: وهو خطأ. (ر. أبو داود، ح 2891، التلخيص: ح 1399). (3) حديث: " لك الثمن ولبنتيك الثلثان والباقي للأخ " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وهو في ابنتي سعد بن الربيع كما أشرنا آنفاً (ر. أبو داود: الفرائض باب ما جاء في ميراث الصلب ح 2891، الترمذي: الفرائض باب ما جاء في ميراث البنات، ح2092، ابن ماجة: الفرائض باب فرائض الصلب، ح2720، أحمد: 3/ 352، الحاكم: 4/ 332، 333، التلخيص: 3/ 181 ح1399). (4) ر. المختصر: 3/ 140.

بنت، وبنت ابن، وأخت. فقال: للبنت النصف، والباقي للأخت، ثم قال أبو موسى: ائت عبدَ الله بنَ مسعود، فاسأله؛ فإنه سيتابعُنا، فأتيته وسألته، وأخبرته بما قال أبو موسى، فقال عبد الله: قد ضللت إذاً، وما أنا من المهتدين، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للأخت " (1). قال هزيل: فرجعت إليهما، فأخبرتهما بما قال ابنُ مسعود، فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء، وهذا الحبر بين أظهركم. وقد تمسك الأصحاب بهذه الصورة على ابن عباس فيه إذا كان في الفريضة بنتان، فقالوا: إذا كنا نصرف إلى بنت واحدة فى الصلب، وإلى بنت ابن واحدة الثلثين (2)، فالبنتان في الصلب بالثلثين أولى. ولو كان في المسألة: بنت واحدة، في الصلب، وبنت ابن، أو بناتُ ابن، وغلامٌ من الأحفاد دونهن في الدرجة.

_ (1) هزيل بن شرحبيل الأزدي الكوفي، مختلف في صحبته، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين، وذكره ابن حجر في الإصابة في القسم الثالث، وذكره أبو موسى في الذيل (ر. الإصابة، تهذيب التهذيب). وحديثه رواه البخاري مختصراً: الفرائض، باب ميراث ابنة ابنٍ مع ابنةٍ، ح 6736، وأبو داود: الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب، ح 2890، والترمذي: الفرائض، باب ما جاء في ميراث بنت الابن مع بنت الصلب، ح 2093، وابن ماجة: الفرائض، باب فرائض الصلب، ح 2721، والدارمي: ح2890، وأحمد (1/ 389، 440،428، 463)، والبيهقي في الكبرى (6/ 229)، وفي الصغير (2/ 363 ح 2293). (ر. التلخيص: 3/ 181ح 1400). (2) المراد مجموع المصروف إليهما (بنت صلبية مع بنت ابن). والمعنى أنهم يحتجون بهذه الصورة على ابن عباس رضي الله عنه في قوله: إن للثنتين من البنات النصف.

فللبنت النصف، ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للغلام المستقل. ثم قال: " فإذا استكمل البنات الثلثين ... إلى آخره " (1). 6232 - الوجهُ أن نذكر مذهب زيد ومذهب الجمهور مجموعاً في الأولاد وأولاد الابن، حتى ينتظم الكلام، ثم نذكر خلاف من يخالف في آحاد المسائل، فنقول: أولاد الصلب إذا تمحّضوا، نُظر: فإن كانوا ذكوراً، أوْ لم يوجد منهم إلا ذكرٌ واحد، فسبيل الاستحقاق استغراق التركة. وإن كانوا ذكوراً، وإناثاً فللذكر مثل حظ الأنثيين. وإن لم يكن في المسألة ذكورٌ، وكان فيها بنات الصلب، فللبنت الواحدة النصف، وللبناتِ إذا زدن على اثنتين الثلثان، و (2 للبنتين الثلثان 2) أيضاً. ولا يصح عن ابن عباس الخلاف في ذلك، وروى بعضُ الفرضيين عنه الخلافَ كما قدمناه. هذا في أولاد الصلب إذا تمحضوا ذكوراً، أو إناثاً، أو اختلطوا ذكوراً وإناثاً. 6233 - فإذا لم يكن في الفريضة أحدٌ من أولاد الصلب، وكان فيها أولاد الابن، فيفصّل القول فيهم كتفصيل القول في أولاد الصلب إذا تمحضوا في الأحوال الثلاثة: ذكوراً أو إناثاً، أو مختلطين، فإنّ ابنَ الابن كالابن، وابن الابن مع بنت الابن، كالابن مع البنت.

_ (1) كرر هذا القول للشافعي هنا مع أنه صدر به الفصل، وذلك تجدّيداً للعهد به، حيث طال الحديث عن حالات البنت الواحدة في الصلب، مع بنات الابن. (2) ما بين القوسين ساقط من (د ا)، (ت 3).

وإذا انفردت بنت ابن واحدة، فهي كبنتٍ واحدة في الصلب، وبنتا الابن فصاعداً، لا ذكر معهن، كبنتي الصلب فصاعداً. 6234 - وإذا اجتمع في الفريضة أولاد الصلب، وأولاد الابن، نظر: فإن كان في الصلب ذكر، فأولاد الابن محجوبون به. وإن لم يكن في الصلب ذكر، نُظر: فإن كان في الصلب بنت واحدة، فلها النصف. ثم ينظر في أولاد الابن، فإن كانوا ذكوراً، أو كانوا ذكوراً وإناثاً، فالباقي بعد النصف لأولاد الابن. وإن كان في الصلب بنتٌ واحدة، ومعها بنت ابن أو بنات ابن، لا ذكر معهن في درجتهن، فالسدس لبنت الابن، أو بنات الابن تكملة الثلثين. ولو كان في الصلب بنتان فصاعداً، فلهن الثلثان، ثم ينظر في أولاد الابن، فإن لم يكن فيهن ذكر، سقطن بعد استغراق الثلثين. وإن كان أولاد الابن ذكوراً، فالباقي لهم، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً، فالباقي [بينهم] (1) للذكر مثل حظ الأنثيين. والذكر مع الأنثى في هذه المنزلة يسمى الأخَ المبارك؛ فإن بنت الابن، كانت تسقط لولاه. وإنما ورثت بسببه. ثم قال الأئمة: إذا كان في المسألة بنتا صلبٍ، وبنت ابن، وابن ابن [ابن] (2) فللبنتين الثلثان، والباقي بين بنت الابن، [وابن] (3) ابن الابن المتسفِّل في الدرجة: للذكر مثل حظ الأنثيين، فالذكر في درجتها يعصبها، والذكر المتسفِّل عنها يعصبها.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: وبين.

ولو كان في الفريضة بنت واحدة في الصلب، وبنت ابن، وابن ابن ابن، فلبنت الصلب النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي لابن ابن الابن. ولو كان الغلام في درجة بنت الابن، فكان في الفريضة بنت وبنت ابنٍ وابن ابن، فللبنت النصف، والباقي بين بنت الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين. 6235 - والضابط في ذلك لمذهب زيد والجمهور: أنه إذا كان في الفريضة بنتا صلب، واستغرقتا الثلثين، فبنات الابن يسقطن إذا لم يكن معهن ذكر، ولا يستحققن إذا انفردن شيئاً، وإذا كان غلام معصِّب، ورثن بسبب تعصيبه، فحيث يرثن، [يرثن] (1) بسبب الغلام، ولولاه لسقطن، فالغلام يعصبهن إذا كان في درجتهن، ويُثبت إرثَهن، وكذلك لو تسفّل عنهن، عصّبهن. ولو كانت بنات الابن يرثن دون غلام -وإنما يكون ذلك إذا كان في الصلب بنت واحدة- فإن كان الغلام في درجتهن عصّبهن، وإن كان أسفل منهن، لم يعصبهن، وثبت لهن فرضُهن، وهو السدس، المكمِّل للثلثين. ثم الباقي للغلام المتسفل، والسبب في ذلك أن الغلام إذا كان سببَ توريث بنات الابن، عصّبهن، وهو في درجتهن، فإذا كان أسفل منهن، فلا يمكن إسقاط الغلام؛ فإنه عصبة ذكر، ثم إذا لم يسقط الغلام، كيف تسقط بنت الابن القريبة، وقد ثبت أن الغلام يشاركها إذا كان مساوياً لها في الدرجة، فيستحيل أن ينفرد بالإرث إذا بعُدت درجتُه. فأمَّا إذا كان لبنت الابن فرض السدس، فالغلام في درجتها يعصّبها، كما يعصب الابنُ البنتَ، فإذا تسفل درجة الغلام، رددنا الأمرَ إلى القياس، فلبنت

_ (1) زيادة من المحقق. إخالها سقطت من جميع النسخ.

الابن فرضُها، والفاضل من الفرض للغلام المتسفّل. 6236 - وإذا لم يكن في المسألة أولاد الصلب، وكان فيها درجات من أولاد البنين، فالدرجة العليا منهم بالإضافة إلى الدرجة التي تليها كدرجة أولاد الصلب مع أولاد الابن في كل تفصيل: فلو كان في المسألة بنتا ابن، وبنت ابن ابن، فلبنتي الابن الثلثان، وتسقط بنت ابن الابن، فإن الثلثين صار مستغرقاً في الدرجة الأولى. فإن كان مع المتسفلة، أو أسفل منها غلام، عصّبها حينئذ. ولو كان في المسألة بنتٌ وبنت ابن، وبنت ابن ابن، فلبنت الصلب النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وتسقط المتسفلة عن هذه الدرجة، إذا لم يكن معها معصب؛ فإن الثلثين صار مستغرقاً بالنصف والسدس. هذا بيان القواعد. ومهما سفلت واحدة من أولاد البنين بعد الثلثين، فلو تقدم عليها بالدرجة ذكر أسقطها، لا محالة، ولو قاربها أو تسفل عنها عصبها. 6237 - وقال عبد الله بن مسعود: " إذا استكملت بناتُ الصلب الثلثين، فلا شيء لبنات الابن " (1)؛ فإن كان معهن ذكر في درجتهن، أو أسفل منهن، فالباقي مصروفٌ إلى الذكر، وليس لبنات الابن شيء. قال: لأنهن لا يستحققن دون الغلام، فالغلام لا يُثبت لهن ميراثاً. وعبّر عن هذا فقال: " ليس لإناث أولاد البنين [بعد الثلثين] (2) شيء ". وقال عبد الله أيضاً: إذا كان في الصلب بنت واحدة، فلها النصف، ولبنات الابن لو انفردن السدس، فلو كان معهن ذكر يعصبهن، فلهن [الأضرُّ من السدس

_ (1) أثر عبد الله بن مسعود رواه ابن أبي شيبة: 11/ 286، 287 ح 11446. (2) ساقط من الأصل.

أو المقاسمة، فإن كان السدس أضرَّ بهن، فالسدس لهن] (1) والباقي لابن الابن، وإلا فالمقاسمة. 6238 - وطريق (2) إيضاح مذهبه أن نقول: إن لم يكن في الفريضة صاحب فرضٍ غيرُ الأولاد والأحفاد، اطرد في معرفة الأضر مسلك واحد، وهو أن نقول: إن كان عدد الذكور والإناث سواء بالرؤوس، لا بتقدير ذكر أنثيين [عدداً] (3)، فالسدس، والمقاسمة سواء، وإن كان عدد الإناث أكثر، فالسدسُ شِرْكُهن (4) وأضرٌّ بهن، وإن كان عدد الذكور أكثر، فالمقاسمة شِركُهن. وبيانه: بنت صلب، وبنت ابن، وابن ابن، فالاستواء محقق، فيستوي السدس والمقاسمة. والمسألة في تقدير المقاسمة من اثنين: لبنت الصلب النصف سهم واحد من اثنين والباقي لهما وهو سهم منكسر على ثلاثة؛ فإنا نقسمه للذكر مثل حظ الأنثيين، فنضرب ثلاثة في اثنين، فتصير ستة: لبنت الصلب منها ثلاثة، ولبنت الابن مما بقي الثلث وهو سهم واحد من ستة، وهو السدس بعينه. ولو كان في المسألة ابنا ابن وبنت ابن، فالسدس خير لها. بيانه: بنت صلب، وابنا ابن، وبنت ابن. المسألة من اثنين في المقاسمة، وينكسر سهمٌ على خمسة، فنضرب الخمسة في اثنين [فتصير عشرة] (5)، للبنت من العشرة خمسة، ولبنت الابن سهم واحد، فقد خصها بالمقاسمة عشر المال.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) " طريق إيضاح مذهبه ": بمعنى الضابط أو المعيار. (3) مزيدة من غير الأصل. (4) شِرْكهن: بكسر المعجمة في أوله، وإسكان ثانيه: النصيب. (5) زيادة من المحقق، حيث سقطت من جميع النسخ، وسوَّغَها لنا أن في الكلام حذفاً يحتاج إلى إيضاح، فقد يخفى على بعض الشداة (المبتدئين) من أين جاءت (العَشَرة).

وإن كان في المسألة مع بنت الصلب بنتا ابن، وابن ابن فالمسألة من اثنين، فينكسر بينهم على أربعة، فنضرب أربعة في اثنين فترد ثمانية. للبنت منها أربعة، ولبنتي الابن سهمان، فقد خصهما بالمقاسمة ربعُ جميع المال، فهو خير لهما من السدس (1). 6239 - وهذا الاعتبار (2) كافٍ إذا لم يكن في المسألة صاحبُ فرضٍ غيرُهن، فإن كان في المسألة صاحبُ فرض، فلا يستقيم هذا الاعتبار. وبيان اضطرابه أنه لو كان في المسالة زوج، وبنت صلب، وابن ابن، وبنت ابن، فالمسألة من أربعة: للزوج الربع سهمٌ، ولبنت الصلب سهمان. يبقى سهمٌ واحد لا ينقسم عليهما، فنضرب ثلاثة في أربعة، فللزوج ثلاثة من اثني عشر، والبنتُ ستة، يبقى ثلاثة: لبنت الابن سهم واحد؛ فقد خصها بالمقاسمة نصف السدس، مع الاستواء في [العدد] (3)، فينبغي أن نأخذ في اعتبارٍ آخر. 6240 - وقد أكثر الفرضيون في ذلك. ونحن نرتاد من جملة ما ذكروه طريقين: إحداهما - أن نقول: إذا أردت أن تعرف هل في المسألة خلاف مع عبد الله رضي الله عنه، فأعط بنتَ الصلب ومن معها من ذوي الفروض فروضَهم، ثم انظر: فإن كان الباقي من المال سدساً، أو أقلَّ، فلا خلاف ولا وجه إلا المقاسمة. وإن كان الباقي أكثر من السدس، فاعزل منه السدس، وخذ نصف الباقي، وانسبه إلى السدس، وانسب عددَ بني الابن إلى عدد بنات الابن، فإن كانت نسبة

_ (1) هنا أيضاً إيجازٌ في الكلام، بيانه أن يزاد هنا: " ولكن لهما الأضرُّ، ولذا لا يصرف لهما الربع الذي حصل بالمقاسمة، بل يردّان إلى السدس ". (2) " هذا الاعتبار " إشارة إلى ضابط مذهب ابن مسعود الذي فرغ من شرحه توّاً. والذي بدأه بقوله آنفاً: " وطريق إيضاح مذهبه أن نقول ... ". (3) في الأصل: " القدر ".

عدد بني الابن بالرؤوس إلى عدد بنات الابن مثل نسبة نصف الباقي إلى السدس، أو أكثر فلا خلاف، ولا وجه إلا المقاسمة. وإن كانت نسبة الذكور إلى الإناث أقل من تلك النسبة، فهي مسألة الخلاف مع ابن مسعود، فإنه يثبت السدس للإناث، وغيرُه يثبتون المقاسمة. ونُوضح الطريقةَ بثلانة أمثلة: المثال الأول - بنت، وابنا ابن، وبنتا ابن، وجدة. فللجدة السدس، وللبنت النصف، ويبقى من المال الثلث، فنعزل منه السدس، فيبقى منه السدس، فننسب نصفه إلى السدس، ثم ننسب عدد الذكور إلى الإناث باعتبار الرؤوس، فنرى الذكور مثل الإناث، فهذه النسبة أكثر من نسبة نصف السدس إلى السدس، فلا خلاف إذاً، والمقاسمة أضرُّ. ولو فرضنا بنتاً وجدة، وابن ابن، وبنتي ابن، فنحط النصف والسدس، كما تقدم، فيبقى الثلث، ونعزل منه السدس، وننسب نصفَ ما بقي إلى السدس، فيقع نصفَه، ثم ننسب الذكر إلى الإناث، فيقعُ نصفَ الإناث، فقد استوت النسبتان، فلا خلاف. وإن كان في المسألة ثلاثُ بنات ابن، وابن ابن، و [طردنا] (1) الطريقة، على النسق الذي ذكرناه، فتقع نسبة الذكر إلى الإناث أقلَّ من نسبة [نصف] (2) الباقي إلى السدس المعزول، فهو صورة الخلاف؛ فإن السدسَ أضرُّ بالإناث من المقاسمة. والطريقة كما تجري مع الفرض تجري من غير فرض، غيرَ أنها من غير فرض تطّرد على استواء. ويختلف عدد الذكور والإناث، فإذا كان في المسألة بنت وابنا ابن وبنتا ابن فنعطي البنت نصفها، ونعزل من النصف الباقي السدس، ثم ننسب نصف ما بقي بعد السدس إلى السدس، والباقي بعد السدس ثلث ونصفه

_ (1) في الأصل: واطرد. (2) ساقطة من الأصل.

سدس، فهو مثل السدس المعزول، ونسبة رؤوس الذكور إلى الإناث بالمثل أيضاً، فقد استوت النسبتان، فلا خلاف. ولا يعسر طرد الطريقة في الصور كلِّها مع فرضٍ، ومن غير فرضٍ. 6241 - الطريقة الثانية في استخراج الأضرّ، والتنصيص على صورة الخلاف والوفاق - فنقول: إن كان في الصلب بنتان فصاعداً، واجتمع في أولاد الابن ذكورٌ وإناث، فهي مسألة خلاف، لا محالة. وكذلك إذا استُغرِق الثلثان بالنصف والسدس تكملة الثلثين، ووقع الكلام في درجة متسفِّلة، وفيها ذكور وإناث، فهي صورة الخلاف. وإن كان في الصلب بنتٌ واحدة وفي الدرجة الأولى من أولاد الابن ذكور وإناث، فابن مسعودٍ يعتبر الأضرَّ، وسبيل طلبه سواء كان في المسألة صاحب فرض سوى الأولاد، أو لم يكن أن نقول: يُدفع إلى البنت وذوي الفروض فروضهم، إن كانوا، ثم [نضرب] (1) ما تبقى من سهام المسألة في عدد بنات الابن، ونحفظ مبلغه، ثم نضرب سدس جميع المال في عدد الإناث، وضعف عدد الذكور من أولاد الابن، فما بلغ نقابله بالمبلغ الأول، فإن كان مثله، فالقسمة والسدس سواء، وإن اختلفا، فانظر: فإن كان مضروب باقي السهام في عدد الإناث أقلَّ، فالقسمة أضرّ بهن، فلا خلاف في المسألة. وإن كان مضروب السدس في عدد الإناث، وضعف عدد الذكور أقلّ، فالسدس أضرُّ بهن، وفيها خلاف. ومثاله: امرأة (2)، وبنت، وأربعة بني ابن، وثمان بنات ابن. المسألة من أربعة وعشرين، للمرأة الثمن ثلاثة، وللبنت النصف اثنا عشر، والباقي تسعةُ أسهم، نضربها في عدد بنات الابن، وهم ثمان، فتبلغ اثنين وسبعين،

_ (1) في الأصل: " يصرف " وهو تصحيف واضح. (2) امرأة: أي زوجة.

فنحفظها، ثم نضرب سدس أصل المسألة وهي أربعة في عدد الإناث، وضعف عدد الذكور وذلك ستة عشر، فيبلغ أربعة وستين، وهو أقل من اثنين وسبعين، فالسدس أضر، فالمسألة خلافية. فعلى أصل الجمهور للمرأة الثمن، وللبنت النصف، والباقي بين أولاد الابن للذكر مثل حظ الأنثيين. وعلى أصل ابن مسعود للمرأة الثمن، وللبنت النصف، ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي لبني الابن. ولو كان عدد بني الابن خمسة، فباقي المسألة على ما ذكرنا، فنضرب سدس المسألة، وهو أربعة في عدد الإناث، وضعف عدد الذكور، وذلك ثمانية عشر، فصار المبلغ اثنين وسبعين، مثل المبلغ الأول. واستوى السدس والقسمة، وزال موضع الخلاف. ولو كان عدد بني الابن فيها ستة، وضربنا سدس أصل المسالة في عدد الإناث، وضعف عدد الذكور، وذلك عشرون، صار المبلغ ثمانين، وهي أكثر من المبلغ الأول الذي هو اثنان وسبعون، فالقسمة أضر، وزال الخلاف. 6242 - وذكر القفال طريقةً أخرى في استخراج الأضر، وبيان صور الوفاق والخلاف، وهي مطردة مع الفروض ومن غير فرض، فقال: نصحح الفريضة، ثم ننظر فيما يخص بنات الابن في المقاسمة، ونقرب ذلك في مخرج السدس، ثم نقابل بين ذلك المبلغ، وبين المبلغ الذي صحت الفريضة منه، فإن استوى المبلغان، استوت المقاسمة والسدس، وزال الخلاف، وإن كان مبلغُ الضرب في مخرج السدس أقلَّ من الفريضة المصححة، فالسدس خير، والقسمة أضرُّ، ولا خلاف. وإن كان مبلغ الضرب في مخرج السدس أكثرَ من الفريضة المصححة، فالسدس شرٌّ لهن، ويقوم الخلاف. والطريقة ممتحنة مُطردة.

ونحن نضرب لها مثالاً، ونردّده، فنقول: زوج، وبنت صلب، وبنت ابن، وابن ابن. فالمسألة من أربعة: للزوج الربع سهمٌ، ولبنت الصلب النصفُ سهمان. والباقي وهو سهم ينكسر على ثلاثة، فنضرب ثلاثة في أربعة [تصير] (1) اثني عشر. للبنت ستة، وللزوج ثلاثة. ومن الباقي للبنت سهم واحد فنضربه في مخرج السدس فتصير ستة، فنقابل بين هذا المبلغ وبين الفريضة المصححة، فإذاً الفريضة اثنا عشر فالمقاسمة شرٌّ من السدس، ولا خلاف. ولا يعسر ترديد الصور بالزيادة في عدد الذكور والإناث. فصل 6243 - اعلم أن الناظر في علم الفرائض يحتاج إلى العلم بالفتاوى، والأحكام، وإلى العلم بالأنساب، وإلى المهارة في الحساب، وإلى اتباع ألفاظ الفرضيين. أما الفتاوى؛ فهي الأصل، وأما الأنساب، فقد تشتبه في صور الوقائع ويجرّ الزلل فيها خبطاً عظيماً، وينشأ من الأنساب المتشابهة مسائلُ من المعاياة (2). وأما الحساب، فهو ركن لا ينكر مسيس الحاجة إليه في القسمة، وتصحيح المسائل. وأما الألفاظ، فلا بد منها، فإذا كان في الفريضة زوج [وعم] (3) فمن خُرْق المفتي أن يقول: للزوج النصف وللعم النصف -وإن كان هذا سديداً في

_ (1) غير مقروءة في الأصل. (2) المعاياة: مفاعلة من الجانبين، من عايا فلانٌ صاحبَه ألقى عليه كلاماً، لا يهتدي لوجهه (المعجم) والمعني الإلغاز بالمسائل، وتبادل مُعْوِصاتها، وشائع على ألسنة الفقهاء: " إياك، ومسائل المعاياة فإنها صعبة المعاناة ". (3) في جميع النسخ: (عصبة).

المعنى- لأن العصبة لا يعبّر عن حصته بمقدارٍ، والسبب فيه أن السامع قد يعتقده مُقَدّراً كفرض الزوج. ثم ذاك لا ثبات له، وهو يتغير بتغير الصور، فالعصبة الذي يأخذ نصفاً، يأخذ في صورة أخرى ثلثاً، أو ثلثين على ما نفصل من الفرائض. وقيل: سأل الحجاجُ الشعبيَّ عمّن خلّف بنتاً، وأباً، فقال الشعبي للبنت النصف والباقي للأب، فقال الحجاج: أصبت في المعنى وأخطأت في العبارة، هلا قلت: للأب السدس، والباقي له بالتعصيب. والغرضُ من هذا أن الأنساب قد تشتبه في أولاد الابن، فلا بدّ من التعرّض لهُ. 6244 - ونحن نذكر منشأ الاشتباه، وطريقَ التفصيل. وإن تعدينا حدّ الاختصار في مثل ذلك، فالعذر واضح. ومثل هذا المجموع لا يختص بالأذكياء، بل حقه أن يشترك فيه المبتدىء والمنتهي. 6245 - فإن قيل: ثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض، فنقول: هن بنت ابن، وبنت ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن. فالفتوى أن نقول: لبنت الابن النصف، ولبنت ابن الابن السدس تكملة الثلثين، ولا شيء لبنت ابن ابن الابن، إلا أن يكون معها في درجتها، أو أسفل منها غلام فيعصّبها. هذا مذهب الجمهور. والتصحيح بالحساب بيّن. وأما النّسب، فنقول: يحتمل أن تكون العليا عمة الوسطى، ويحتمل أن تكون بنت عم أبيها. أمّا تصوير كونها عمة الوسطى، فنقول: كان لرجل ابن، ولابنه [ابن] (1) وبنت، ولابن ابنه بنت. فالعليا وهي بنت الابن أخت أب الوسطى؛ فتكون عمةٌ لها.

_ (1) سقطت من الأصل.

وأمّا قولنا: يحتمل أن تكون العليا ابنة عم أبيها، فتصوير ذلك أن يكون لرجل ابنان: زيد وعمرو، ولزيد بنتٌ، ولعمرو ابن، ولابنه بنت، فبنت زيد تكون بنت عم أبي الوسطى، لأن زيداً عمُّ أبيها، فهذه بنت عم أبيها. والسبب الذي يوجب الاختلاف في القرابات بين الدرجات أنا قد نصوّر للميت ابناً واحداً، ونصوّر لذلك الابن أحفاداً، ونرتب منهم: عليا، ووسطى، وسفلى. والأبُ واحدٌ جامع، فيتضمن هذا الجنس الأول من القرابة. ويتصوّر للميت [ابنان] (1)، ثم لأحدهما بنتٌ هي العُليا، وللآخر ابن، وله بنت، وهي الوسطى، فتقع القرابة على وجهٍ آخر لا محالة. 6246 - وإذا قيل لنا: ما القرابة بين السفلى، والوسطى؟ قلنا: يحتمل أن تكون عمة السفلى، بأن كان لرجل ابن ابن، وله بنت وابنٌ، ولذلك الابن ابنة، فبنت ابن الابن تكون أخت أبيه. ويحتمل أن تكون ابنة عم أب السفلى: بأن كان [رجل يسمى زيداً] (2)، وله بنت ابن ابن تسمى فاطمة، بنت خالد، بن بكر، بن زيد. ولزيد ابن آخر يسمى [عمراً] (3)، ولعمرو بنت تسمى عائشة، فعائشة بنت ابنه، وفاطمة بنت ابن ابنه، فتكون عائشة بنت عم أب فاطمة؛ لأن عمراً عمُّ خالد، وهو أب فاطمة. ويحتمل أن تكون الوسطى بنت ابن عم جد السفلى، بأن كان لرجل يسمى محمداً ابنٌ يسمى زيداً، وله بنت ابن ابن، تسمى فاطمة، بنت خالد، بن بكر، بن زيد، بن محمد. ولمحمد ابن آخر يسمى عمراً، ولعمرو بنت ابنٍ، تسمى عائشة، بنت جعفر، بن عمرو، بن محمد، فعائشة بنت ابن عم جد

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل، (ت 3)، (د ا): " لرجل ابن يسمى زيداً " والمثبت من (ت 2). ولا فرق في المعنى، ولكن في هذه اختصار درجة لسهولة التصور. (3) سقط من الأصل.

فاطمة، لأن عمراً عم جدّها، وعائشة بنت ابن عمرو. 6247 - وأما العليا من السفلى، يحتمل أن تكون عمة أب السفلى، وذلك بأن يكون لرجلٍ ابنٌ هو زيد، وله [ابن يقال له: بكر و] (1) بنت تسمى عائشة، ولابن ابنه بنتُ ابن تسمى فاطمة، بنت خالد، بن بكر، بن زيد، وعائشة أخت بكر، فتكون عمة خالد. ويحتمل أن تكون العليا بنت عم جد السفلى، بأن كان للميت سوى ابنه زيد ابنٌ آخر يسمى جعفراً، ولجعفر بنتٌ هي العليا، فبنت جعفر تقع من السفلى التي صورناها من زيد بنت عم جدّها. وهذا التفاوت سببه ما ذكرناه من تصوير ابنٍ واحد، وتشعيب أحفاده تارةً، ومن تصوير ابنين، وأخذ العليا من أحدهما، وتصوير الدرجة الأخرى من الآخر. ومن تنبه لما ذكرناه، هان عليه الدَرْك بالفكر. 6248 - وإذْ (2) قلنا: بنتا الابن في الدرجة العليا، فإن كانتا من ابن واحد للميت، [فهما أختان من أبٍ لا محالة] (3)، فإن كانت أمُّهما واحدة، فأختان من أبٍ وأم، فإذا كان أحدهما غلاماً، فنقول: إنه يعصب أخته. 6249 - ولو فرضنا بنتي ابنين للميت، فهما في الميراث كبنتي ابن واحد للميت، ويكون كل واحد منهما بنت عم الأخرى. فإذا كان أحد الحفيدين ذكراً، والدّرجة واحدة يقال: عصب بنت عمه. وإذا فرضنا تعصيب الغلام المتسفّل لمن فوقه، فيتصوّر تعصيبٌ مع قرابة أبْعد

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (2) في باقي النسخ: وإذا. (3) عبارة الأصل: فهما أختان وكانتا من أب لا محالة.

مما ذكرنا، فإذا نظر الناظر إلى ما بين الغلام المعصّب، والجارية المعصَّبة، فقد يكون أحدهما من ذوات الأرحام إذا نسب إلى الآخر، ولكن التعصيب ليس يقع بما بينهما من القرابة، وإنما يقع بانتسابهما جميعاً إلى الميت بالبنوة، وهي شاملة لهما. 6250 - وإذا قلنا: أخُ الميت يعصب أخته، فليس التعصيب لما بينهما من الأخوة، إنما يعصب أحدهما الآخر، لأنهما ولدا أب الميت، غيرَ أن الدرجة إذا انحطت فصورنا ابن أخٍ، وبنت أخ، فلا تعصيب؛ لأن بنت الاخ في نفسها من أرحام الميت، فلم ترثه، وإذا لم ترثه، لم تعصَّب، فإن قيل: ثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض، وثلاث بنات ابن [آخر] (1) بعضهن أسفل من بعض، فنقول: حصلت ابنتانِ في الدرجة العليا، ووسطيان، وسفليان، فللبنتين في الدرجة العليا الثلثان، ويسقط من دونهما، إلا أن نفرض غلاماً دون الدرجة العليا، فإن فرضناه في الدرجة الوسطى، فالباقي بعد الثلثين مصروف إلى أهل الدرجة الوسطى، للذكر مثل حظ الأنثيين، ويسقط من في الدرجة السفلى. وإن كان الغلام [في الدرجة السفلى] (2)، فما بقي بعد الثلثين للوُسْطيَيْن، وللسفليَيْن، وللغلام: للذكر مثل حظ الأنثيين. وأصل المسألة من ثلاثة، وتصح من ثمانية عشر. وعلى هذا البابُ وقياسه. 6251 - فإن قيل ثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض، مع كل واحدة أختُها، قلنا: إن كانت الأخت في الدرجة الأولى: لأب وأم، أو لأب، فهما بنتا ابنِ الميت، فنقول حصَل بنتا ابن، وكذلك القول في الوُسْطيين، والسفليين. وإن كانت الأخت للأم، فليست بوَارثة؛ لأنها ربيبة ابن الميت.

_ (1) ساقطة من الأصل وحدها. (2) في الأصل: " مع السفليين ". والمؤدى واحد.

فإن قيل: بنت ابن معها بنت عمها، فنقول: إن كانت بنت عمها لأب وأم، أو لأبٍ، فهما بنتا ابن الميت، ولكن من ابنين. وإن كانت بنت عمها لأم، فلا ترث، وتقع بنت [ربيب] (1) الميت لا محالة. فإن قيل: ثلاث بنات ابن، بعضهن أسفل من بعض، مع كل واحدة منهن عمتها، فنقول: عمةُ العليا بنت الميت، وعمة الوسطى بنت ابن الميت، وكذلك القول فيمن بعدها. ولا معنى للتطويل. والمراد بما ذكرناه العماتُ من قبل الأب. ومن أحاط بالمسالك التي ذكرناها، وتدرّب في الفكر قليلاً، صار من المهرة في مضمون الفصل. 6252 - وإن قيل: بنت ابن معها جدتها، فنستفسر، ونقول: هل هي أم الأب، أم هي أم الأم؟ فإن قالوا: أم الأم، فهي أمُّ زوجة ابن الميت. وإن قالوا: هي أم الأب استفسرنا، وقلنا: الميت رجل أو امرأة، فإن قالوا: رجل، فقد تكون زوجة الميت. وإن قالوا: امرأة، فلا تتصور هذه المسألة لأن الجدة هي الميتة بنفسها. وفي القدر الذي ذكرناه مقنعٌ، ومزيد كشفٍ في التنبيه على المآخذ. وطرقُ الأصحاب قد تحوي صوراً مرسلة من غير تنبيه على المآخذ. 6253 - ولو قيل: ثلاث بنات ابن، بعضُهن أسفلُ من بعض، (2 وثلاث بنات ابن ابن، بعضهن أسفل من البعض، وثلاث بنات ابن ابن ابن، بعضهن أسفل من البعض 2)، فنقول: هي بنت ابن، وبنتا ابن ابن، ثلاث بنات ابن ابن

_ (1) في الأصل: (ابنت) بهذا الرسم. وهو تحريف واضح، حيث صارت (الراء) ألفاً. (2) ما بين القوسين ساقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.

ابن [وبنتا ابن ابن ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن ابن ابن، (1)، بعضهن أسفل من البعض، فإنهن درجات مترتبات، وفي كل درجة بناتُ ابن مترتبات، فيقع في الدّرجة العليا واحدة، ويقع في الدرجة الأخرى الوسطى من العليا، والعليا من الوسطى، ويقع في الدرجة الأخرى السفلى من العليا والوسطى من الوسطى، والعليا من السفلى، ويقع في درجة أخرى السفلى [من الوسطى، والوسطى من السفلى، ويقع في درجة أخرى السفلى] (2) من السفلى. ولا يخفى بيان المواريث والفتاوى فيها. فصل قال: " وبنو الإخوة لا يحجبون الأمَّ عن الثلث ... إلى آخره " (3). 6254 - بنُو الإخوة يفارقون الإخوة في أمور: منها - أن الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، وبنوهم لا يحجبونها. ومنها - أن الإخوة يقاسمون الجدّ عند زيد ومعظم الصحابة، وبنوهم يسقطون بالجد. والإخوة يعصبون أخواتهم إذا كانوا من أبٍ وأم، أو من أب. وبنُو الإخوة لا يعصبون أخواتهم؛ لأن بنات الأخ لا يرثن. والإخوة للأب والأم مشاركون الإخوة من الأم في المشرّكة، كما سياتي [في باب المشتركة] (4) -إن شاء الله تعالى-. وبنو الإخوة لا يشاركون أولاد الأم. ولا خفاء بشيء مما ذكرناه.

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (2) سقط من الأصل ما بين المعقفين. (3) ر. المختصر: 3/ 142. (3) ساقط من الأصل.

ولكن لا بُدّ من إقامة مواسم الفرضيين، واتباع عباراتهم. ثم قال (1): " ولو أخذ الإخوة والأخوات من قبل الأم السدسَ، وهذا لا إشكال فيه، ولا خلاف، فللواحد من أولاد الأم السدس، ذكراً كان أو أنثى. وللبنتين فصاعداً الثلث، يستوي فيه الذّكور والإناث ". وهذا غريب في الفرائض فإنا كما نفضل الذكر على الأنثى في التعصيب، نفضل الذكر على الأنثى في الفرض، عند الاستواء في الجهة، وطريق الإدلاء، فالأب يَفْضُل الأم إذا كان عصبة، والزوج يفضل الزوجة، ولكن لا يتصور اجتماعهما، والأم والأب يستويان مع الابن. فإن كان معهما بنت استويا في الفرض، وانفرد الأب بالعصوبة بعد الفرض، والأخ والأخت من الأم يستويان أبداً. فصل قال: " فإذا استوفى الأخوات للأبِ والأم الثلثين ... إلى آخره " (2). 6255 - الأخوات من الأب والأم مع الأخوات للأب، بمثابة بنات الصلب مع بنات الابن، في التفاصيل التي قدمناها، فلو كان في المسألة أخ من أب وأم، وأختٌ من أبٍ، سقطت الأخت بالأخ، كما تسقط بنت الابن بالابن. ولو كان في المسالة أختان من أب وأم، وأختٌ من أبٍ، فللأختين من الأب والأم الثلثان، وتسقط الأخت من الأب، إلا أن يكون معها أخ من أبٍ يعصبها، وهو منها بمثابة ابن الابن مع بنت الابن، وفي المسألة بنتان من الصلب. ولو كان في المسالة أخت واحدة من الأب والأم، وأخت، أو أخواتٌ من

_ (1) " ثم قال ": القائل هو الشافعي في المختصر. نفس الموضع السابق. (2) ر. المختصر: 3/ 142.

الأب، فللأخت من الأب والأم النصفُ، وللأخت أو الأخوات من الأب السدس، تكملةَ الثلثين، وهن ينزلن مع الأخت للأب والأم منزلة بنات الابن مع بنت الصلب. ولو كان معهن أخٌ من أبٍ، فالباقي بعد نصيب الأخت من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين. 6256 - ولا فرق بين هذا الباب وبين بنات الصلب وبنات الابن، إلا في أمرين يرجعان إلى الصورة، فبنات الابن وإن سفلن يرثن؛ فإنهن لا يخرجن عن حكم الأولاد، وقد ثبت توريثهن أحفاداً، ولا فرق بين مرتبة ومرتبة، والأخوات من الأب لا يتصوّر فرض تسفّلهن، ولو أردنا إقامة الأولاد (1) مقام الأصُولِ، كان ذلك ممتنعاً؛ فإنّ الأولاد ليسُوا إخوة، ففي فرض التسفل الخروجُ عن الجنس. [والأمر] (2) الثاني: أنه لا يعصّب أولاد الأب إلا الأخ من أب، أو البنات (3) على تفاصيل ستأتي فيهن -إن شاء الله عز وجل- وأولاد البنين قد يجري فيهم تعصيب العمات وبنات الأعمام، وكل ذلك يجري على [افتراق] (4) البابين في التصوير. (5 وابن مسعود يخالف في أولاد الأب، في محالّ مخالفته في أولاد الابن، فيسقط أولاد الأب بعد استغراق الثلثين، ويعطيهنّ الأضرَّ. كما تقدم 5).

_ (1) المراد أولاد الإخوة. (2) في الأصل: والوجه. (3) سيأتي أن الأخوات الشقيقات أو لأب، يعصبهن الفرع الوارث المؤنث: البنت، بنت الابن. (4) في الأصل: انفراق. (5) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ، ما عدا الأصل.

ثم قال: " والإخوة والأخوات للأب بمنزلة الإخوة والأخوات للأب والأم ... إلى آخره " (1). 6257 - الإخوة والأخوات للأب إذا ورثوا، وخلت الفريضة من أولاد الأب والأم، بمنزلة أولاد الأب والأم؛ فإنهم يقاسمون الجدّ، ويردون الأم إلى السدس، ويحوز الذكر منهم جميعَ المال، وللأنثى النصف، وللأختين فصاعداً الثلثان، وإذا اجتمعوا، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فهم بمثابة أولاد الابن إذا لم يكن في الفريضة أولاد الصلب. والأخ من الأب يفارق الأخَ من الأب والأم، في مسألةِ المشتركة، فإن الأخ من الأب والأم يشارك أولاد الأم في فرضهم، لمشاركته إياهم في قرابتهم. والأخ من الأب لا يشاركهم؛ لأنه ليس يشاركهم في قرابتهم على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى (2). فصل قال: " وللأخوات مع البنات ما بقي ... إلى آخره " (3). 6258 - الأخوات من الأب والأم، والأخوات من الأب مع البنات، وبنات الابن عصبة، عند الجمهور، فتُنزل الأختَ من الأب والأم، والأختَ من الأب، مع البنت منزلة الأخ على قرابتها. فإذا كان في الفريضة بنتان وأخت من أب وأم، فللبنتين الثلثان، والباقي للأخت.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 143. (2) زادت هنا جميع النسخ -ما عدا الأصل- ما سبق أن سقط منها عن مذهب ابن مسعود، فقد استدركته هنا، وجعلته بنصه السابق ختام الفصل، (انظر التعليق الذي سبق آنفاً). (3) ر. المختصر: 3/ 143.

وكذلك لو كانت أختاًَ من أب. ولو كان مع البنت أخت من أب وأم، وأخت من أب، فللبنت النصف، والباقي للأخت من الأب والأم، وتسقط الأخت من الأب؛ فإنّ الأُخوّة إذا ورَّثت بالعصوبة لم يشارك صاحبُ الأخوّة الواحدة (1) صاحبَ التعلّق بالأخوّتين. والأختان فيما ذكرناه كالأخوين (2). ثم الأخ من الأب والأم يُسقط الأخ من الأب، فكذلك تَسقُطُ الأختُ من الأب بعصوبة الأخت من الأب والأم. ولو كان في الفريضة بنت، وأخوات على أخوّة (3) واحدة، فللبنت فرضُها، والباقي للأخوات على رؤوسهن، كما لو كن إخوة. والسبب فيما ذكرناه أنّه إذا كان في الفريضة بنتان فصاعداً، أو بنتا ابن وأخذن الثلثين، فلو كان معهن أخت، أو أختان، فإن أعطينا الأخوات بالفرض، وأعَلْنا المسألة، كان ذلك مؤدياً إلى حطِّ نصيب البنتين بالأخوات، والأخوات يرثن ببنوّة الأب، فبعُد على الصحابة رضي الله عنهم أن يزحموا الأولادَ بأولاد الأب، ولم يمكنهم أن يُسقطوا الأخوات، فرأَوْا أن يثبتوهن عصبات؛ حتى يدخل النقص عليهن دون البنات. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل: عمن مات، وخلف بنتاً، وبنت ابن، وأختاً، فقال صلى الله عليه وسلم: " للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخت " (4). 6259 - وقال عبد الله بن عباس: ليست الأخت مع البنت، وبنت الابن

_ (1) صاحب الأخوّة الواحدة: المراد به الأخوة من الأب. (2) والأختان فيما ذكرناه كالأخوين، أي صار لكل منهما حكم الأخ، فالأخت من الأب والأم صارت في حكم الأخ الشقيق. وكذلك الأخت لأب صارت في حكم الأخ لأب. (3) أخوّة واحدة: المراد درجة واحدة، بمعنى كلهن شقيقات، أو كلهن لأب. (4) ورد هذا في حديث هزيل بن شرحبيل، وقد سبق تخريجه.

عصبة. ثم مذهبه أن الفاضل من الأولاد وأولاد الابن، يُصرف إلى العصبة، وتسقط الأخت. هكذا نقله الفرضيون، والشيغ أبو بكر، ولم أر أثبت منه في نقل كل ما ينقل سيّما في كتاب الفرائض. واحتج ابن عباس بقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ} [النساء: 176]، قال: ورثها الله تعالى بشرط ألا يكون للميت ولد. وهذا الذي ذكره غير سديد؛ فإنّ توريثها النصف مشروط بألا يكون في الفريضة ولدٌ، ونحن لا نورّثها النصف، وإنما نورثها بالعصوبة المقدارَ الذي يفضل من الفرائض. وإذا تطرق احتمالٌ إلى ظاهر القرآن، ووجدنا سنةً ناصة، تعيّن اتباعُها. وقد رُوِّينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في فريضة فيها بنت، وبنت ابن، وأخت: " الباقي للأخت " [رواه] (1) هزيل بن شرحبيل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومما يتعيّن التنبيه له أن ابن عباسٍ لا يقول بالعول، [وَبَعُد] (2) عليه تعصيب الأخت، ولم يرَ إدخالَ النقص على البنات، فلم يتجه إلا إسقاط الأخت. 6260 - ومما نذكره على مذهب الجمهور أنا إذا جعلنا الأخت عصبة، طردنا حكمَ تعصّبها، وأسقطنا الأخت للأب بالأخت الواحدة من الأب والأم، وهذا يتضمن تنزيلَها منزلة الأخ. ثم نقول: لو كان في الفريضة بنت، وأخ، وأخت، من أب وأم، أو من أب فالفاضل عن الفرائض بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا نقول: هي مع [الأخ] (3) بمثابة الأخ؛ لمعنيين: أحدُهما - أن الأخ أولى بتعصيبها من البنت؛

_ (1) في الأصل: رواية. وحديث هزيل سبق تخريجه (انظر ص 44). (2) في الأصل وحدها: تعسر. (3) في الأصل: الأخت.

فإنّ تعصيب البنت للأخت [أتى] (1) عن ضرورةٍ، لأنا لم نتمكن من حطِّ نصيب الأولاد بالإعالة بسبب فرض الأخت، وعسر إسقاطها، ولا حاجة، فجرى ذلك مجرى الاضطرار، وتعصيب الأخ الأخت أصلٌ لا يناقضُ فيه في باب التعصيب، فهذا معنى. والمعنى الثاني - أنّا لم نثبت التعصيب بين الذّكر والأنثى إلا لنُفضل الذكورَ على الإناث، حتى اتخذنا هذا مسلكاً في الفرائض، وقلنا في مسألة: زوج، وأبوين، وزوجة، وأبوين: لا نفضل الأم على الأب، ولا نعطيها الثلث الكامل، وطلبنا أن يكون الأب -وإن كان عصبة في الفريضتين- مفضلاً عليها بالضِّعف. وإذا كان كذلك، فلا بد من تفضيل الأخ على الأخت إذا كان في الفريضة بنت أو بنت ابن. 6261 - ومما نطردُه في حقيقة تعصيب الأخت مع البنت: أن الفرائض لو عالت، وفيها: بنتٌ، وأخت، فالأخت تسقط سقوط الأخ، فنقول في فريضة فيها: زوج، وأم، وبنتان، وأختٌ: الأختُ ساقطة؛ لأنها بمثابة الأخ مع البنات. والأخت تقع عصبة مع الجد، ثم تستغرق الفرائض في الأكدرية (2)، والقياس يقتضي سقوطَ الأخت، ولا يسقطها زيد رضي الله عنه، وستأتي تلك المسألة في باب الجد، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) زيادة من (ت 2) وحدها. (2) الأكدرية: هذه مسألة من المسائل الملقبات. وستأتي بعدُ.

6262 - ومما يُطلقه الفرضيون في الإخوة والأخوات عبارات يتداولونها، وينوطون بها أحكاماًً، ونحن نذكرها اتباعاً، ومعظم تعويل الكتاب. على الاتباع. فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقات، قلنا: هن أخت لأب وأم، وأختٌ لأب، وأختٌ لأم. فللأخت للأب والأم النصف، وللأخت للأب السدس، تكملة الثلثين، وللأخت للأم السدس. والباقي للعصبة. وإن قيل: ثلاثة إخوة متفرقين، قلنا: هم: أخ لأب وأم، وأخ لأب، وأخ لأم. فللأخ لأم السدس، والباقي للأخ للأب والأم. فإن قيل: ثلاثة إخوة متفرقين، وثلاث أخوات متفرقات، قلنا: هم أخ، وأخت لأب وأم، وأخ وأخت لأب، وأخ وأخت لأم. فللأخ والأخت من الأم الثلث، بينهما بالسّوية، والباقي للأخ والأخت من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين. المسألة من ثلاثة وتصح من ثمانية عشر. فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقات، مع كل واحدة أختها لأبيها وأمها. قلنا: هنّ أختان لأب وأم، وأختان لأب، وأختان لأم بالنسبة إلى المتوفى الموروث. فإن قيل: مع كل واحدة أختها لأبيها. قلنا: هن أخت لأب وأمّ، وثلاث أخوات لأبٍ. واحدة هي الأصليّة في الذِّكْر الأول، وواحدةٌ هي التي معها، وواحدة هي التي مع الأخت من الأب والأم، وأختٌ لأم.

فأمّا أخت الأخت للأم من الأب، فليست بوارثةٍ؛ لأنها ربيبة [أبيها] (1). فإن قيل: ثلاث أخواتٍ متفرقاتٍ، مع كل واحدة أختها لأمها. قلنا: هن أخت لأب وأم، وثلاث أخوات لأم، وأخت لأب. فأمّا أخت الأخت للأب من الأم، فليست بوارثة، لأنها ربيبة أبيها. فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقات مع كل واحدة ثلاث أخوات متفرقات قلنا: هنّ أختان لأبٍ وأمٍّ، وأربع أخوات لأبٍ، وأربع أخواتٍ لأمّ. وعددهن ثنتا عشرة، والوارثات منهن هذه العشر؛ لأن أخت الأخت للأم من الأب لا تكون وارثة، وكذلك أخت الأخت للأبِ من الأم، لا تكون وارثة من الميت. ثم لا ترث العشر أيضاً؛ فإنّ أخوات الأب يسقطن لاستغراق أولاد الأبِ والأم الثلثين. ولكن ذلك حجبٌ، والغرض أن العَشْرَ من قبيل الوارثات. فإن قيل: أختان لأبٍ، مع كل واحدةٍ منهما أختٌ لأبٍ وأم، قلنا: هن أربع أخوات لأبٍ في حق الموروث. فإن قيل: مع كل واحدة منهما أختان لأبٍ، وأختان لأبٍ وأم، قلنا: هن ست أخوات لأب. وعلى هذا البابُ وقياسُه.

_ (1) في الأصل: ربيبة أم المتوفى، (ت 2): ربيبة أمها، والمثبت من (د 1)، (ت 3). والمعاني الثلاثة صحيحة، يظهر ذلك عند التأمل.

فصل قال: " وللأب مع الابن وولد الابن السدس ... إلى آخره " (1). 6263 - الأب يستغرق التركة إذا انفرد. ويأخذ بالتعصيب المحض إذا لم يكن في الفريضة ولد، أو ولد ابن. فإن كان فيها ولد أو ولد ابن، وإن سفل، فإن كان ذكراً، فللأب السدس لا غير، وإن كان أنثى، فلها فرضها، وللأب السدس بالفرض، والباقي بالتعصيب. 6264 - وقد يجمع الشخص الواحد بين الفرض والتعصيب لسببين، كالذي يعتق جاريةً، ثم ينكحها، فإذا ماتت، ورثها بالزوجية بالفرض، وبالولاء بالتعصيب. وكذلك إذا أعتقت عبداً، ونكحته. وكذلك ابنُ عمٍّ إذا كان أخاً لأمّ؛ فإنه يأخذ بالفرض والتعصيب على ما سنذكر ذلك في آخر باب العصبات، إن شاء الله تعالى. 6265 - ولكن كل ما ذكرناهُ توريثٌ بسببين، وجهتين لا امتزاج بينهما. والأب يُجمع له بين الفرض والتعصيب بسببٍ واحدٍ، وهو الأبوّة. وهذا حكمٌ بِدْعٌ، صار الأب به متميزاً عن جميع الورثة. 6266 - فأما الجدّ، فله السدس مع الابن، وابن الابن، كما ذكرناه في الأب، وهذا متفق عليه. ولو كان مع الجدّ بنت، أو بنت ابن، فمن يرى تنزيلَ الجد منزلةَ الأب في

_ (1) ر. المختصر: 3/ 143.

إسقاطِ الإخوة، يطلق لهُ اجتماعَ الفرض والتعصيب، كما ذكرناه في حق الأب. ومن لا يسقط الإخوة بالجد من علماء الفرائض اختلفوا في أنا هل نثبت للجد الفرضَ والتعصيب تنزيلاً له منزلة الأب، فذهب طوائف من أصحابنا إلى أنه كالأب فيما ذكرناهُ، وهو الذي كان يقطع به شيخي. وذهب طوائف من حذّاق الفرضيين إلى أنا لا نطلق ذلك في حق الجدّ، إذا لم يرد فيه ثَبَثٌ، وهو شُهر بكونه خاصية الأب، والجدُّ قصُر عن الأب في أمور سنصفها في باب الجد -إن شاء الله عز وجل- فينبغي أن يقصر عنه في خاصيته. وهذا القائل يقول: في بنت، وجد، للبنت النصف، والباقي للجد، وإن ضاقت الفرائض، فلا بدّ من رد الجدّ إلى السدس، وإن كان عائلاً، وذلك مثل: زوج، وبنت، وأم، وجدة. فالمسألة من اثني عشر، وهي عائلة بنصف سدسها إلى ثلاثة عشر، وسيأتي الجلي والخفي من أحكام الجد في بابه، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " وللجدة والجدتين السدس ... إلى آخره " (1). 6267 - الأصل في الجدات السنة والإجماع، وليس للجدات فرضٌ في كتاب الله عز وجل. وروي: أن أم الأم جاءت إلى أبي بكرٍ تطلب الميراث، فقال لها: لا أجدكِ في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أشاور الناس، فجمع الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم في أمرها، فقام المغيرةُ بن شعبة، فقال: " أشهدُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) ر. المختصر: 3/ 143.

أطعم الجدّةَ السدس ". وفي روايةٍ: " ورّث الجدةَ السدس ". فقال له الصديق: ومن يشهد معك؟ فقام محمد بن مسلمة وقال: " أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك "، فورثها السدس (1). وهذا الاستشهاد جرى من أبي بكرٍ؛ لأنه رأى ذلك أصلاً في الشريعة برأسه، ولم ير له (2) أصلاً ليقدّر ما كان [يشتور فيه] (3) فرعه. وقد روي أن أبا موسى الأشعري أتى بابَ عمرَ، واستأذن، فدخل حَاجبُه يرفأ، واستأذن له، فلم يأذن لأنه كان مشغولاً بأمرٍ من أمور بيت المالِ، ثم استأذن ثانياً، فدخل (4)، فلم يأذن له، ثم ثالثاً، فلم يأذن له، فانصرف، فلما فرغ ممّا كان فيه، طلبه، فقيل له: انصرف، فقال: عليَّ به، فرُدَّ عليه فقال: ما الذي حملك على الانصراف، فقال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الاستئذان ثلاثة، فإن أُذن لك، وإلا، فانصرف " فقال عمر: ائتني بمن يشهد لك، وإلا أوجعتُ ظهرك، فجعل أبو موسى الأشعري يطوف على الأنصار، ويطلب من يشهد له، فقالوا له: لا يشهد لك إلا أصغرنا، وإنما عَنَوْا به أبا سعيدٍ الخدريّ، فجاء إلى عمر، وشهد بذلك، فقال له عمر: " ألا

_ (1) حديث قَبيصة بن ذؤيب في خبر الجدة مع أبي بكر رواه مالك في الموطأ (2/ 513)، وأحمد (4/ 225، 226)، وأبو داود: الفرائض، باب في الجدة، ح 2894، والترمذي: الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، ح 2100، والنسائي في الكبرى: الفرائض، باب ذكر الجدات، ح 6339 - 6345، وابن ماجة: الفرائض، باب ميراث الجدة، ح2724، وابن حبان (5999)، والحاكم (4/ 338)، والبيهقي (6/ 234)، قال الحافظ: وإسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق (ر. التلخيص:3/ 178 ح 1396، الخلاصة: 2/ 132، والإرواء: 6/ 124، ح1680). (2) كذا. والمعنى أنه رأى ميراث الجدة أصلاً قائماً برأسه، ولم يجد له نصاً يعتمده، ولا رآه فرعاً عن أصلٍ فيه نص. (3) في الأصل: فمستور منه. (4) أي الحاجب. ففي الكلام حذف تقديره: فدخل (الحاجب واستأذن)، فلم يأذن له.

إني لم أتهمك فيما رويت، لكني خشيتُ أني كلما راجعتُ أحداً في شيء يروي لي خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1). 6268 - وروي أن أم الأب جاءت إلى عمر بعد ذلك، وطلبت الميراث، فقال لها عمر: " لا أجدك في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في قضاء أبي بكرٍ [شيء] (2) 0 السدُس لكما إن اجتمعتما، ولإحداكما إذا انفردت " (3). ثم الكلام في الجدات يتعلق بستة فصول: أحدها - في صفة الجدّة الوارثة، وصفة الجدة الساقطة. والثاني - في تنزيل الجدّات وترتيبهنّ مع الساقطات. والثالث - في مقدار ميراثهن، وكمّيته. والرابع - في حجب الجدّات، بعضهن بالبعض. والخامس- في حجبهن بغيرهن. والسادس- في بيان توريثهن من الوُجوه المختلفة. الفصل الأول في بيان الجدة الوارثة 6269 - ذهب علي، وزيدٌ إلى أن كل جدة يدخل في نسبها إلى الميت ذكر بين أنثيين، فهي ساقطة، وكل جدّة لا يدخل في نسبها ذكر بين أنثيين، فهي ممن يرث.

_ (1) حديث استئذان أبي موسى الأشعري على عمر رواه مسلم (الآداب، باب الاستئذان، ح 2153، والترمذي: أبواب الاستئذان والآداب، باب ما جاء في الاستئذان ثلاثاً، ح 2690). ووجه إيراد الإمام لقصة أبي موسى مع عمر لائحٌ، فهو وما روي من طلب أبي بكر شاهداً من المغيرة من باب واحد، رضي الله عنهم أجمعين. (2) في الأصل: هي. (3) حديث الجدة أم الأب مع عمر، جزء من حديث قبيصة بن ذؤيب في خبر الجدة مع أبي بكرفي الصفحة السابقة.

وذهب ابن عباس إلى توريث الجدّات كلِّهن بالفرض، ولم يجعل فيهن جدة ساقطة. هذا مذهبه المشهور. وقال مالك (1): لا يرث إلا جدّتان، وهما: أم الأم، وأم الأب، وأمهاتهما. واختلف قولُ الشافعي، فأصح قوليه ما حكيناه عن علي وزيد، وضبط هذا القول أنَّ كلَّ جدة أدْلت بوارث، فهي وارثة، والمدلية بها وارثة. والقولُ الثاني للشافعي - مثل مذهب مالك، وضبط هذا القول أن كل جدة تدلي بمحض الإناث، فهي وارثة، وكل جدة تدلي بذكَر فهي ساقطة، إلا أمّ الأب. فأما الفصل الثاني في تنزيل الجدات الوارثات، وبيان ما بان أنهن من الساقطات، وذِكْر عددهن في كُلّ مرتبة 6270 - والتفريعُ على مذهب علي وزيد، وعلى القول الصحيح للشافعي: فإذا سئلنا عن عدد من الجدات، نزلناهن على أقرب الرتب، وعلى هذا يجري [ترتيب] (2) السؤال، فإذا قيل: جدتان متحاذيتان في درجة، فقل: هما أم الأم، وأم الأب. وإذا سئلت عن عدد من الجدّاتِ أكثر من اثنتين كلّهن يشتركن في الميراث، فخذ لفظ السائل، وتلفظ بعدد ما ذكر السائل إناثاً من جانب الأم. وقل: العليا منهن هي الجدة الأولى، ولا يتصور من جانب الأم إلا وارثة واحدة؛ فإن القربى من جهتها تحجب البعدى. ثم عُد وتلفظ بمثل ذلك العدد إناثاً من جانب الأب

_ (1) ر. جواهر الإكليل: 2/ 330، حاشية العدوي: 2/ 357، الفتح الرباني: 3/ 45. (2) في الأصل: تقدير.

إلا الأب، ثم اجعل العليا الجدة الثانية، ثم أبدل كل أنثى بذكر، حتى تستوعب العدد المسئول عنه. 6271 - وبيان ذلك أنك إذا سئلت عن خمس جدّات وارثاتٍ على قول علي وزيدٍ، على أقرب ما يمكن، فتقول: هي من جانب الأم: أم أم أم أم الأم. ومن جانب الأب: أم أم أم أم الأب. والثالثة - أم أم أم أب الأب. والرابعة - أم أم أب أب الأب. والخامسة - أم أب أب أب الأب. وإذا أردت تصويرهن برقوم فاجعل كل أنثى دائرة وبدل كل ذكر خطاً مثلَ الألف بهذه الصورة. 5 5 5 5 5 5 5 5 5 1 5 5 5 1 1 5 5 1 1 1 5 1 1 1 1 وعلى هذا، فقس ما تسأل عنه. من أعدَادِ الجدات المحاذيات على المذهب الذي ذكرناه. 6272 - فإذا عرفت الوارثاتِ، ثم أردت أن تعرف من بإزاء الوارثاتِ من الساقطات، فانظر، فإن وقع السؤال عن جدتين وارثتين، فليس بإزائهما ساقطة (1).

_ (1) انظر الشكل الموضّح رقم (2) في آخر المجلد لتتبيّن هذه الصور، وغيرها من قضايا هذا الفصل.

وإن وقع عن أكثر من جدتين، فخذ عددَ ما وقع السؤال عنهن من الوارثات، وألقِ من جملتهن اثنتين أبداً، وضعّف الاثنين بقدر ما بقي من عدد الجداتِ الوارثاتِ بعد [إسقاطِ] (1) الاثنين، فما بلغ بعد التضعيف، فهو عدد ما في تلك الدرجة من الجدات الساقطات والوارثات، فأسقط منهن عدد الوارثاتِ، فما بقي منهن، فهن ساقطات، بإزاء الوارثات. ثم نصف العدد يقع من جانب الأم، ونصفه من جانب الأب. والوارثة من جانب الأم واحدة، وما بقي من عدد الوارثاتِ، فهن من قبل الأب. ومثال ذلك في الخمس جدّات اللاتي ذكرناهن: [أن نلقي] (2) اثنتين من هذا العدد ونُبقي ثلاثة، فنضعف الاثنين ثلاث مرّاتٍ فنقول أربعة، وهو تضعيف، ثم تقول ثمانية، ثم تقول ستة عشر، هذا معنى تعديد التضعيف. فنقول: الدرجة التي فيها خمس وارثاتٍ تشمل ستَّ عشرةَ جدة: الوارثات خمس، وإحدى عشرة ساقطة. ونَصِّف الستةَ عشرَ. فنقول: من جانب الأم ثمان جدات: الوارثة واحدة، وسبعٌ ساقطات. ومن جانب الأب ثمانية: أربع وارثات، وأربع ساقطات. وإذا سئلت عن ثلاث جدات وارثاتٍ، فاعزل من الثلاث اثثين، فتبقى واحدة، وضعّف الاثنتين مرة، وقل: الجدات المتحاذيات أربع: واحدة ساقطة وثلاث وارثات. والساقطة من جانب الأم. وإذا سئلت عن جدتين وارثتين، علمت أن لا ساقطة؛ فإنك لو عزلت اثنتين، لم تُبق عدداً تضعّف الاثنين به، ولا تضعيف، ولا مزيد على المسؤول.

_ (1) في نسخة الأصل وحدها: حذف. (2) في الأصل: فنلقي.

وإن أردت أن تعرف الوارثات اللائي وقع السؤال عنهن، في أية درجة يقعن من الجداتِ؟ فخذ العدد المسؤول عنه، وانقص منه واحداً، واقض بأنهنّ في الدرجة التي هي سمَّى العددُ الباقي. فإذا قيل: خمس وارثات في أي درجة يقعن على أقرب ما يمكن؟ حططنا من الخمسة واحدة، فتبقى أربع، فالخمس الوارثات في الدرجة الرابعة وإذا سئلت عن وارثتين، فأسقط من العدد واحداً، وقل: هما في الدرجة الأولى. فهذا بيان ما أردناهُ في هذا الفصل. الفصل الثالث في مقدار ميراث الجداتِ 6273 - أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على أن فرضَ الجدة السدس، وشهد الحديثُ الذي ذكرناه في أصل ميراث الجدّات بذلك. ثم اتفقوا على أن الجدّات يشتركن في السدس بالغاً ما بلغن. وروي عن ابن عباسٍ في روايةٍ شاذة أنه قال: الجدة من قبل الأم إذا انفردت بالإرث، كانت كالأم: حتى تأخذ الثلث تارةً، والسدس أخرى، كالأم، وهذا لا يعتدّ به، والرواية عنه مرسلة رواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن رجل عن ابن عباسٍ (1).

_ (1) رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن رجل مذهب ابن عباس في ميراث الجدات، رواها ابن عبد البر في التمهيد والرواية هذه شاذة كما ذكر ابن عبد البر (الترتيب الفقهي للتمهيد 12/ 590)، وابن المنذر في الإجماع، والقاضي عبد الوهاب في عيون المجالس (4/ 1924)، وابن قدامة في المغني (7/ 52).

الفصل الرابع في بيان حجب الجدات بعضهن ببعض 6274 - أجمعوا على أن الجدتين المتحاذيتين لا تحجب إحداهما الأخرى، بل السدس بينهما. وأجمعوا على أن القربى تحجب البعدى إذا دخلت القريبة [في جهة إدلاء] (1) البعيدة، فالبعيدة تسقط بالقريبة؛ فإن إدلاءها بها. فأما إذا اختلفن في الدرج (2)، ولم يدخل بعضهن في طريق البعض، فقد اختلف علماء الصحابة، فذهب علي، وابن عباسٍ، إلى أن القريبة تحجب البعيدة، سواء كانت القريبة من قبل الأم والبعيدة من جهة [الأب] (3) أو كانت القريبة من قبل الأب، والبعيدة من جهة الأم (4). وكذلك روى الشعبي (5) بطريقه عن زيد بن ثابت. وروى عطاء وقتادة عن زيد أنه قال: " القريبة من جهة الأم تحجب البعيدة من قبل الأب، والقريبة من قبل الأب لا تحجبُ البعيدة من جهة الأم " (6) وقيل: هذه الرواية أصحُّ عن زيد.

_ (1) سقط من الأصل. (2) كذا. وهي صحيحة. (3) في الأصل: الأم. (4) انظر الشكل رقم (3) في أخر هذا المجلد. (5) رواية الشعبي عن زيد بن ثابت أخرجها سعيد بن منصور في سننه، ح 92، وعبد الرزاق في مصنفه، ح19090،19089، والبيهقي في الكبرى (6/ 237). رواية قتادة أخرجها البيهقي في الكبرى (6/ 237)، وعبد الرزاق في مصنفه، ح 19087، وأخرج البيهقي (6/ 237)، وعبد الرزاق (19086،19085)، وسعيد بن منصور، ح 93، الأثر من طريق خارجة بن زيد أيضاً، أما رواية عطاء فلم نجدها.

وكان شيخي يذكر للشافعي قولين في ذلك. ونقول في ضبط محل الخلاف والوفاق: القُربى من كل جهة تحجب البعدى من تلك الجهة، والقربى من جهة الأم تحجب البعدى من جهة الأب. والقربى من جهة الأب هل تحجب البعدى من جهة الأم؟ فعلى قولين. الفصل الخامس في بيان حجب الجدات بغيرهن 6275 - اتفق العلماء على أن الأم تحجب جميع الجدات، سواء كن من قبلها أم من قبل الأب، وأجمعوا أيضاً على أن الأب لا يحجب جدَّةً من قبل الأم، واختلفوا في حجب الجدات اللائي هن من قبله. فذهب علي، وزيد، وابن عباس، إلى أنه يحجبهن؛ فإن إدلاءهن به. وهذا مذهب الشافعي. وعن عمر وابن مسعود أن الأب لا يحجب جدّةً بحال، وذهب إليه جماعةٌ من الفرضيين: سليمان بن يسار، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. الفصل السادس في توريث الجدة من وجوهٍ كثيرة 6276 - اعلم أن الجدّة قد تكون جدّة من وجهين، ومن ثلاثة أوجهٍ، وأكثر منها، غير أنها لا تصير جدّة من وجهين إلا بعد حصُولها جدة قبل ذلك من وجه واحدٍ، [ولا يتصور حصولها] (1) جدّة من ثلاثة أوجه إلا بعد حصولها قبل ذلك

_ (1) في الأصل: لا تصير جدة ....

جدّة من وجهين. وعلى هذا القياس تزيد الوجوه. مثاله [امرأة] (1) تزوج ابنُ ابنها، بنتَ ولدها (2)، فأولدها ولداً صارت المرأة جدة لذلك الولد من وجهين. فإن تزوج هذا الولد سبطاً آخر لهذه الجدة، وأولدها ولداً، صارت الجدة العليا جدّة لهذا الولد الآخر من ثلاثة أوجُه. ثم هكذا تتعدد الوجوه. وقد تكون بعض الوجوه أقربَ من بعض، وقد تكون بعض الوجوه مورّثاً وبعضه غير مورث. فإذا خلّف الميت جدّةً تُنسب إليه من وجوه مورِّثة؛ فإن كانت منفردة، فالسدس لها ولا تزيد. وإن كان معها جدَّةٌ أخرى من وجهٍ واحد، أو من وجوه، فإن حجبت إحداهما الأخرى ببعض الوجوه، فالسدس للحاجبة. وإن صحت الوجوه، فمذهب الشافعي ومالك والثوري أنه لا نظر إلى الوجوه، والنظرُ إلى رؤوس الجدّات، والسدس يقسم على الجدّتين، وإن كانت إحداهما متعلقة بجهة واحدة، والأخرى متعلقة بجهات. وعن ابن مسعود أن المدلية بجهتين مع المدلية بجهةٍ تأخذ حصة جدّتين، وكذلك إذا زادت الجهاتُ المورّثةُ، فالسدس يقسّم عنده على الجهات، لا على الرؤوس (3). هذا بيان ما يتعلق بالجدّات، والله أعلم. ...

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في غير نسخة الأصل: بنت ابنةٍ لها. (3) انظر الشكل رقم (4) في آخر هذا المجلد.

باب العصبات

باب العصبات 6277 - الأصل في الباب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى عصبةٍ ذكر " (1). قيل: أراد بالأولى الأقرب، وهو من الوَلْي، والوَلْيُ القربُ. ومن يأخذ بالتعصيب ينقسم إلى من هو عصبة في نفسه وإلى من [يعصِّبه] (2) غيرُه. فأما من يعصبه غيرُه، فالبنات، وبنات الابن، والأخوات من الأب والأم، والأخوات من الأب. ومقصود الباب بيانُ الغصبات الذين يرثون بالتعصيب بأنفسهم، وذكر الأقرب منهم، فالأقرب وبيان ترتيبهم. 6278 - ثم ذكر المزني أن أَوْلى العصبات البنون.

_ (1) حديث " ألحقوا الفرائض " متفق عليه من رواية ابن عباس بلفظ " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكَرٍ " (اللؤلؤ والمرجان 2/ 159 ح1041). وعلق ابن الصلاح على لفظ (عصبة) في رواية الإمام قائلاً: " فيها بُعد عن الصحة من حيث اللغة، فضلاً عن الرواية، فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد " وقال الحافظ في التلخيص نقلاً عن ابن الجوزي، والمنذري: " إن هذه اللفظة لا تحفظ " (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 4/ 346، التلخيص: 3/ 177 ح1394). (2) في الأصل: يعصب.

ومن الفرضيين من لا يسمي الابن عصبة، ويقولون: العصبات هم الذين يقعون على حاشية عمود النسب. ولا معنى للتناقش في هذا. وغرضنا بذكر العصبات بيان من يستغرق التركة إذا انفرد، وله ما أبقت الفرائض، والابن بهذه المثابة، وهو كما قال المزني أَوْلَى العصبات؛ إذ لا يتصور معه عصبة، فإن فرض معه غيرُه من العصبات، فالابن يسقطه، ويحجبه، أو يردّه إلى الفرض. فأمّا من يرده إلى الفرض، فالأب والجد، وأما من يحجبه، فباقي العصبات، فهو الأوْلى إذاً. وبعده ابنُ الابن كيف تسفّلوا. والمقدّم الأقرب منهم، فالأقرب، ولا عصبة مع البنين، وذكور الأحفاد، وإن تسفلوا. 6279 - ثم أولى العصبات بعدهم الأبُ، ولا يتصور معه عصبة بعد الذين ذكرناهم. ثم الجدّ عصبة بعد الأبِ، إذا لم يكن معه إخوة، فإن كان مع الجدّ إخوة من أبٍ وأمٍ، أو أبٍ، قاسمهم، مادامت المقاسمة خيراً له من ثلث المال على مذهب زيد. والقول في الجدّ والإخوة سيأتي على إثر هذا في بابٍ، إن شاء الله تعالى. ثم الجد يُسقط بني الإخوة، لأنهم أبعد منه بدرجة؛ فإن الجد الأدنى أب الأب يدلي إلى الميت بواسطة الأب، وبين ابن الأخ وبين الميت [واسطتان] (1)؛ فإنه ابن الأخ، والأخ ابن أب الميت. ولو اجتمع أبُ الجدّ، وابن الأخ، فالمذهب الظاهر أنه يَسقُط ابنُ الأخ، كما يسقط بالجد الأدنى.

_ (1) في الأصل: اثنان.

ومن أصحابنا من قال: إن أبَ الجدِّ يقاسم ابنَ الأخ، كما يقاسم الأخُ الجدّ. وهذا ضعيف مردود؛ فإن ابن الأخ بالنزول عن الأخ يخرج عن اسم الأخ، والجدّ بالعلوّ لا يخرج عن اسم الجدودة. ومن أصول الباب تقديمُ النوع على النوع؛ فإنا لمّا قدمنا ابنَ الأخ على العم، لم نفرق بين القريب والبعيد؛ فإن ابن الأخ مقدّم على العم، وابن ابن ابن الأخ مقدم على العم أيضاً، فهذا هو الأصل في [أب] (1) الجد، وجدّ الجد، مع ابن الأخ. وما سواه غير معتد به. فأما أبُ الجد مع الأخ إذا اجتمعا، فالأخ أقرب، وأبُ الجد أبعد، فالذي رأيته في ذلك، أن أبَ الجدِّ لا يسقط بالأخ، ولكن لا يقاسمه الأخُ، بل له السدس. والباقي للأخ، وهو مع الأخ بمثابة الجد مع ابن الميت. وفي القلب من هذا شيء، ولا يمتنع أن نَعتبرَ الجدودة وقوتَها، وكونَها على عمود النسب، ثم نقول: أب الجد مع الأخ كالجد مع الأخ، على ما سيأتي تفصيل الجد مع الإخوة، إن شاء الله عز وجل. 6280 - ثم إن لم يكن جد، فالأخ من الأب والأم، ثم الأخ للأب، ثم ابن الأخ للأب والأم، ثم ابن الأخ للأب. وهاهنا موقفٌ هو مزِلّة الباب، فليتثبت النّاظر عنده. فلو اجتمع ابنُ ابن أخٍ من الأب والأم، وابنُ أخٍ من الأب، ففي أحدهما قوةُ القرابة، وفي الثاني قرب الإدلاء وقد يبتدر الفقيه، فيقدم ابن ابن الأخ من الأب والأم على ابن الأخ من الأب تعويلاً على قوة القرابة، كما نقدم ابن ابن الأخ على العمّ، وإن كان العم أقربَ من ابن الأخ المتسفِّل.

_ (1) في الأصل: باب.

وهذا خطأ، لم يصر إليه أحد من الأئمة، والمذهب المبتوت أن ابن الأخ من الأب مقدم على ابن ابن الأخ من الأب والأم لقربه. وإذا اجتمع ابنا أخوين: أحدهما مُدْلٍ بالأخ من الأب والأم، والثاني مُدْلٍ بالأخ من الأب، فإن استويا في القرب، قدمنا صاحب القوة في القرابة، وهو ابن الأخ من الأب والأم، فإن اختلفا في القرب، نُظر: فإن كان الأقرب صاحب القوة، فلا شك في تقدّمه. وإن كان الأقرب ابنَ الأخ من الأب، قدمناهُ بقرب الدرجة على ابن ابن الأخ من الأب والأم، كما يقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأب والأم. هكذا أورده الصيدلاني والقاضي، وهو منصوص عليه في آخر باب العصبة بيِّنٌ لمن يتأمله. ثم ابن ابن الأخ للأب وإن تسفَّل، مقدّمٌ على العم للأب والأم. 6281 - ثم العم من الأب والأم، ثم العمّ من الأب، ثم ابن العم للأب والأم، ثم ابن العم للأب. والقول في بني الأعمام، كالقول في بني الإخوة، [فابن] (1) العم من الأب وإن تسفَّل مقدّم على عم الأب من الأب والأم. والعم الذي أطلقناه أولاً هو عم الميت، وهذا عمُّ أبيه، وهو عصبة، غير أن بني عم الميت وإن بعُدُوا مقدّمون على عم أبيه. ثم الترتيب فيهم كما تقدم، فعم الأب من الأب والأم، ثم عمّه من الأب، ثم بنوهما، على الترتيب السابق. ثم عم الجد. وهكذا إلى حيث ننتهي. 6282 - فإن لم نجد أحداً من عصبات النسب، فالمعتِق، ثم عصبات المعتِق، وترتيبُ عصبات المعتِق كترتيب عصبات الميت، إلا في مسائلَ نذكرها، فنقول أولاً:

_ (1) في الأصل: ثم ابن العم.

عصبات المعتِق هم الورثة إذا انتهى الترتيب إليهم، ولا يتصور أن يرث المعتَقَ المنعَمَ عليه أحدٌ من ذوي الفروض المتصلين بالمعتِق المنعِم، فالسبيل أن نقول: إن كان للمعتَق عصبةُ نسب، لم ينته الإرث إلى المعتِق، وكذلك إن كان له أصحاب فرائض يستغرقون ميراثه، فإن لم يكونوا، [أو أفضلت] (1) الفرائض شيئاً، فالمعتِق هو المستحِق، فإن لم يكن، فعصباته المتعلقون بالعصوبة بأنفسهم، لا بتعصيب معصِّب إياهم؛ فإن الذين يتعصّبون بغيرهم لا يرثون بالولاء إجماعاً؛ فابن المعتِق وبنتُ المعتِق إذا اجتمعا، فالميراث لابن المعتِق لا حظّ فيه للبنت. وإن كنا نقضي بكونها عصبة مع الابن. ولا ترثُ أنثى قط بالولاء إلا المعتِقةُ نفسُها، أومعتِقَةُ المعتِق. ولو اجتمع ابن المعتِق وأبوه، فميراث المعتَق المنعم عليهِ لابن المعتِق، لا حظّ للأب فيه؛ فإن الأب صاحب فرض مع الابن، ولا حظ لأصحاب الفرائض في الميراث بالولاء. ولو اجتمع جد المولى وأخُ المولى، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن أخ المولى أولى من الجد؛ لأنه يُدْلي بالبنوة، والعصُوبة المحضة، وهو يقول: أنا ابن أب المولى، والجد يقول: أنا أب أب المولى، والابن بالعصوبة أولى. والقول الثاني أن الأخ والجدّ يرثان؛ لاستوائهما في القرب، ولكن الجد كأخٍ أبداً. والقولان جميعاً يخالفان [قياسَ] (2) الأخ والجد في النسب، فإنا في القول الأول نحجب الجدَّ بالأخ، وفي القول الثاني نُثبت المقاسمة بينهما من غير أن نردّ الجد إلى الثلث، كما نردّه في النسب؛ فإن الفرض لا مطمع فيه في باب الولاء.

_ (1) في الأصل: إذا فضلت. (2) ساقطة من الأصل.

ويتفرع على هذين القولين الجدُّ، وابنُ الأخ، فإن راعينا قوة البنوة [قدمنا] (1) ابن الأخ وإن بعد وتسفل. وإن راعينا استواء الجدّ والأخ في القربِ والبعد، قدّمنا الجدّ على ابن الأخ؛ فإنه أقرب. وفي أب الجدّ مع ابن الأخ ما في الجدّ والأخ من الخلاف؛ فإنهما مستويان في الدرجة، ولأحدهما قوة البنوة، كما ذكرناهُ في الجدّ والأخ. 6283 - ثم ممَّا نذكره في هذا أن الأخ من الأب والأم مقدم على الأخ من الأب في الولاء، فأخُ المعتِق من أبيه وأمه مقدّمٌ على أخيه من أبيه، وإن كانت الأخؤة من الأم لا يثبت بها استحقاقٌ في الولاء، [إلا] (2) أنها تقوي العصوبة وتعضّدُها، وإن كانت لو [استقلت] (3) لم تُفد إرثاً. هذا هو المذهبُ. ومن أصحابنا من نزّل الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب في عصبات المولى بمثابة الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب في ولاية النكاح. وفيها قولان: أحدهما - أنهما يستويان؛ فإن الإدلاء بالأم لا أثر له في الولاية. والثاني - أن الأخ من الأب والأم أولى بولاية النكاح من الأخ من الأب. والقولان مشهوران في النكاح، وذكرهما في التوريث بعصوبة المولى بعيدٌ في النقل غيرُ معتدٍّ به. والوجه القطعُ بتقديم أخ المعتِق من أبيه وأمّه. ثم ليحتج بهذا ناصر أحد القولين في ولاية النكاح. ثم ترتيب عصباتِ المعتِق بعد ذلك على ما ذكرناهُ، في عصبات النسب.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في جميع النسخ: لأنها. والمثبت تقدير منا على ضوء المعنى. (3) في الأصل: تسفلت.

6284 - فإن لم نجد أحداًَ منهم، فالميراث لمعتِق المعتِق. ثم إن لم نجد، فلعصباتِ معتِق المعتِق من النسب، فإن لم نجدهم، فلمعتِق معتِق المعتِق وهكذا إلى حيث نرقى. فإن لم نجد أحداً من هؤلاء، أو كان الميت الأول [لا ولاء له عَلَيْهِ، أو كان المعتَق] (1) لا ولاء عليه. فإذا عدمنا الفرض والتعصيب بالجهات الخاصة، فالميراث مصروف إلى الجهة العامة وهي جهة الإسلام، ثم مصرف التركة إلى المصالح العامة على ما سنُوضحُ التفصيلَ في السهام المرصدة للمصالح في كتاب القَسْم، إن شاء الله تعالى. ولو لم نجد المعتِق وعصباته، (2 ومعتق المعتق 2)، ووجدنا معتِقَ عصبةِ المعتق، فإنا لا نورث من المعتَق المنعم عليه إلا معتِق أب المعتِق؛ فإنه يرث. وهذا الفصل يستدعي بيان استحقاق الولاء مباشرة وجرّاً. ومن جملة ارتباط الولاء ما ذكرناه من إعتاق الأب، والقول في هذا يطول، وهو كتاب برأسه نذكره في العتق، ويتعلق به طرفٌ غامض من أحكام المواريث، وفيه دَوْرُ الولاء، ولا سبيل إلى الخوض في شيء منه هاهنا. فالوجه أن نذكره ثَمّ. فصل 6285 - إذا مات الرجل وخلّف ابني عمّ، أحدهما أخ لأمّ، فللذي هو أخ لأم السدس بأخوة الأم، والباقي مقسوم بينهما بالعصوبة. وقال ابن مسعود: ابن العم، الذي هو أخ لأم يتقدم على ابن العمّ الذي ليس أخاً لأم، كما يتقدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب.

_ (1) في الأصل مكان ما بين المعقفين: " صلبياً ولاء عليه، أو كان المعتق صلبياً ". (2) ساقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.

ومذهب زيد والجمهور ما ذكرناه، من إفراد أخوة الأم بالفرض، ورد الباقي إليهما بالعصوبة. ولو كان في المسألة ابنا عم: أحدهما - ابن العم من الأب والأم، والآخر ابن العم من الأب، ثم كان ابن العم من الأب أخاً لأم، فله السدس والباقي لابن العم من الأب والأم؛ فإنه يحجب ابنُ العم من الأب والأم ابنَ العمِ من الأب في العصوبة. 6286 - ولو كان في المسألة: بنتٌ، وابنا عم، أحدهما أخ لأم. قال ابن الحدّاد: المال نصفه للبنت، والباقي لابن العم الذي هو أخ لأمّ، ولا شيء للآخر؛ لأن الإدلاء بالأم ممّا يقع الترجيح به، ولا يمكن أن يناط به استحقاق فرضٍ في هذا المحل؛ فإن الأخ من الأم لا يرث مع البنت، فصارت الأخوة من الأم في هذا المقام كالأخوة من الأم في ترتيب عصبات الولاء. وقد ذكرنا أن الأخ من الأب والأم مقدم في الولاء على الأخ من الأب، لمّا سقط اعتبارُ أخوة الأم في الولاء، فاستعملناها ترجيحاَّ. ولو اجتمع في الولاء ابنا عم: أحدهما أخ لأم، فليت شعري ما يقول ابنُ الحداد فيه، وقد سقطت أخوة الأم؟ وإن طرد قياسه، وقدّم الأخ من الأم على الآخر، فقد أبعد، وإن سلم هذا، فقد ناقض ما عوّل عليه. وقد خالف معظمُ الأصحاب ابنَ الحدّاد فيما قال، وصاروا إلى أن الفريضة التي فيها بنتٌ وابنا عمّ أحدهما أخ لأمٍ، تسقط فيها أخوة الأم، والباقي بعد الفرض لابني العم. وليس كما إذا كان في المسألة بنت وأخ من أب وأم وأخ لأب، فإن الأخ من الأب والأم يحجب الأخ من الأب، ولا نقول: البنت تحجب أخوة الأم، ويستوي الأخوان بعد سقوطها في أخذ الفاضل من الفرائض بالتعصيب؛ فإن

الأخوة من الأم لا تُفرد عن الأخوة من الأبِ؛ إذ لو أفردت عنها، لقيل في أخوين أحدهما من أبٍ وأم، والآخر من أبٍ: للذي هو أخ من أبٍ وأمَّ السدس بأخوة الأم، والباقي بينهما بأخوة الأب. كما تقول في ابني عم أحدهما أخٌ لأم، فللذي ينفرد منهما بأخوة الأم السدس، والباقي بينهما بالعصوبة، والسبب فيه أن القرابتين مختلفتان في ابن العم الذي هو أخ لأم؛ فلم تمتزجا على رأي زيد والجمهور، والأخوة من الأم تمتزج بالأخوة من الأب، فإن الولدين من أبوين لا يعدّان مختلفي القرابة. هذا بيان القاعدة. 6287 - وابن مسعود قدم ابن العم الذي هو أخ من أم على ابن العم الذي ليس أخاً لأم، كما تقدم. ومن مذهبه أنه لو كان في المسألة ابنا عم: أحدهما ابنُ عم من أب، وهو أخٌ من أم. والثاني ابن عم من أبٍ وأمٍ، فالذي هو أخ لأمٍ مقدم على ابن العم من الأب والأم. ومذهب زيد والجمهور أن للذي هو أخ لأم السدس، والباقي لابن العم من الأب والأم. 6288 - ثم ذكر الفرضيون جملاً في تشابه القرابات، ونحن نذكر عيونها، وأصولها التي ترشد الفطن إلى ما عداها. فمما يتعلق بما كنا فيه الآن: أنه إذا قيل: خلّف: ابني عمّ، أحدهما أخٌ لأم، وأخوين لأمٍ أحدهما ابن عم. فأهل الفرائض مختلفون في السؤالِ المطلق في مثل ذلك إذا كان يحتمل عددين أقلَّ وأكثر: فمنهم من يحمل السؤال المطلق على أقل العددين، ومنهم من قال: يُؤخذ بالأكثر: فمن قال: يُؤخذ بالأكثر يقول: العدد أربعة ابنا عمٍ

أحدهما أخ لأم، وأخوان لأم أحدهما ابن عم، وفي هؤلاء الأربعة من طريق القرابة ثلاثةُ إخوة لأم، وثلاثة بني أعمامٍ، فللإخوة من الأم الثلث، والباقي لبني الأعمام، والمسألة في وضعها من ثلاثة، وهي تصح من تسعة، فيحصل لكل من هو ابن عم وأخ ثلاثة أسهم: سهم بأخوة الأم، وسهمان بالعصوبة، ويحصل للمنفرد بأخوة الأم سهم، وللمنفرد بالعصوبة سهمان. هذا مسلك. ومن يأخُذ بالعدد الأقل يقول: لما قال: ابنا عم أحدهما أخ لأمٍ، فهمنا شخصين، ولما قال: أخوان من أم: أحدهما ابن عم، جوزنا أنه زاد أخاً لأم، وأعاد أحد الشخصين المفهومين أولاً، وهو الأخ من الأم الذي كان ابن عم، فتحصَّل معنا ثلاثة أشخاص: أخوان لأم وابنا عم، فللأخوين من الأم الثلث، والباقي لابني العم، والمسألة من ثلاثة وتصح من ستة. وهذا الذي ذكرناه ليس خلافاً على الحقيقة؛ فإن المستفتي لو أطلق لفظةً مبهمةً تتردد بين عدد كبير وقليل، فلا تحل الفتوى من غير استفصال، وإذا كان كذلك، فلا حاصل لما ذكرناه، إلا أن الفرضيين في تصانيفهم مختلفون في تصوير المسائل، ووضعها بالعبارات؛ فمنهم من يعتاد في وضع المسائل حمل العبارة على الأكثر، ومنهم من يعتاد حملها على الأقل. 6289 - وعلى هذا النسق ترددوا في ذكر القرابة إذا ترددت بين القرب والبعد، فمنهم من يحمل على أقرب الوجوه، ومنهم من لا يحمل عليه. 6290 - ولو قيل: خلّف: ثلاثة بني أعمام: أحدهم زوج، وآخر أخ لأم، وثلاثة إخوة متفرقين، [وأما] (1).

_ (1) في الأصل: "أم"

فهذه مسألة المشركة تُلقَى كذلك أغلوطة، فاطّرح الأخ من الأب، وأعط الزوج النصف، والأم السدس، والأخوين للأم الثلث، ويشاركهما الأخ من الأب والأم، ولا شيء لأحد بأنه ابن عم. 6291 - فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقاتٍ، مع كل واحدةٍ عمّها لأب وأم، فعمّ الأخت من الأب والأم عمّ الميت لأب وأم، وعم الأخت للأب عمُّ الميت لأب وأمٍ لا محالة، وعم الأخت من الأم أجنبي من الميت، ففي المسألة ثلاث أخوَّاَت متفرقاتٍ، وعمَّان، فللأخت من الأب والأم النصف، وللأخت من الأب السدس، تكملة الثلثين، وللأخت للأم السدس، والباقي للعمّين. والمسألة تصح من اثني عشر. فإن قيل: ثلاث أخواتٍ متفرقاتٍ مع كل واحدة أمها، فالمسألة مستحيلة؛ لأن الأخت للأب والأم، والأخت للأم أمهما واحدة فلا يُتصوّر لهما أمّان. وأمّا الأخت من الأب، فأمها أجنبية، فقد ترك الميت أماً وثلاث أخواتٍ متفرقاتٍ. فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقاتٍ، مع كل واحدة ابن أخيها لأب وأمٍ، فإن لم يغالط السائل، ولم [يَعْنِ بالذي] (1) مع الأخت من الأب والأم ابنَ الميت وقال: أردت ابنَ أخٍ غيرِه، ولم أعْن الميت، فقرابة ابن أخ كل واحدة من الميت كقرابتها نفسها، من الميت. وكأنّه خلّف ثلاث أخواتٍ متفرقاتٍ، وثلاث بني إخوة متفرقين. فإن زاد وقال: مع كل ابن أخ جدتاه من أقرب ما يكون، فاعلم أن جدات هؤلاء من جهة الأم أجنبيات من الميت، لأن كل واحدة منهن أم زوجة أخ الميت: فأمّا جدة ابن الأخ للأب من جهة الأب، فهي أجنبية من الميت، لأنها زوجة أبيه، فأما جدة الآخرَيْن، فهي واحدة، وهي أم الميت، والمسألة

_ (1) في الأصل: ولم يعين، فالذي.

مستحيلة من حيث إنه لا يتصور لكل واحدة جدة، بل جدتهما واحدة، فكأنه خلّف أمّاً وثلاث أخوات متفرقات، وابن أخ لأب وأمّ، وابن أخ لأب، وابن أخ لأم. 6292 - فإن قيل: ثلاث بنات ابن بعضهن أسفلُ من بعض، مع كل واحدة أخوها. فإن أبهم، أمكن أن يريد الأخ من الأم، فيقع أجنبياً من الميت. فإن قال السائل: مع كل واحدة أخوها لأب، أو لأب وأم، فقرابته من الميت كقرابتها، فكأنه خلف بنت ابن وابن ابن، فالمال بينهما، ويسقط الآخرون. فإن قيل: مع كل واحدة أختها من أبيها، فقد ترك ابنتي ابن، وابنتي ابن ابن وابنتي ابن ابن ابن، ولا يخفى الحكم. فإن قيل: مع كل واحدة ابن أخيها، فابن أخ العليا في درجة الوسطى، وابن أخ الوسطى في درجة السفلى، وابن أخ السفلى أسفل منها بدرجة. فلبنت الابن النصف، والباقي بين الوسطى والغلام الذي في درجتها. 6293 - فإن قيل: مع كل واحدةٍ أبُوها، فأبُو العليا ابن الميت، رجلاً كان الميت أو امرأة، وأب الوسطى ابن ابنهِ، وأب السفلى ابن ابن ابنه، فالمال للابن. فإن قيل: مع كل واحدةٍ أمها، فهن أجنبيات من الميت. فإن قيل: مع كل واحدةٍ عمُّها، فأمّا عم الوسطى والسفلى إن كان عماً لأم، فهو أجنبي من الميت. وإن كان عماً لأب وأم، أو لأب، فعمُّ الوسطى ابنُ ابنِ الميت، وعم السفلى ابن ابن ابن الميت، رجلاً كان الميت أو امرأة. وأمَّا عم العليا، فإن كان عماً (1 لأم، والميت رجل، أو كان عمّاً 1) لأبٍ والميت

_ (1) ما بين القوسين ساقط من غير الأصل.

امرأة، فهو أجنبي من الميت، وإن كان عماً لأمٍّ، والميت امرأة، أو عمّاً لأبٍ، والميت رجل، أو عماً لأب وأم، والميت رجل أو امرأة، فهو ابن الميت. والفرضيون يحملون المطلق على جهة الوراثة. وهذا كالتواضع بينهم. فإن قيل: مع كل واحدة جدها أبو أبيها، فإن كان الميت رجُلاً، فالمسألة محال، لأن الميت جدّ العليا. وإن كان امرأة، فالمسألة متصورة، فجد العليا ربما يكون زوج الميتة، فيبحث عن الزوجية، فالفرضيون يبحثون هاهنا؛ فإن الزوجية عارضة، فأمَّا جدُّ الوسطى، فهو ابن الميت بكل حالٍ، رجُلاً كان أو امرأة، وجدُّ السفلى هو ابن ابن الميت، فالمال للابن. فإن قيل: مع كل واحدة جدتُها، فجدة السفلى والوسطى أجنبيتان من الميت، وأما جدة العليا فإن كان الميت امرأة، فالمسالة محال؛ لأنها جدة العليا، وإن كان الميتُ رجُلاً فالمسالة متصورة ولعلها زوجة الميت، فإن ذكر السائل [الزوجة، أجبنا] (1). ولا تحمل على الجدّاتِ من قبل الأم؛ فإنهن ساقطاتٌ، أجنبيات من الميت. 6294 - فإن قيل مع كل واحدةٍ عمتُها، أما عمة العليا، فهي بنت الميت إذا كانت لأبٍ وأمٍ، أو لأب، والميت رجُل، أو كانت عمة لأم، والميت امرأة، فإن كانت عمة لأم، والميت رجل، أو كانت لأبٍ والميت امرأة، فهي أجنبية من الميت. وأمّا عمة الوسطى، وعمّة السفلى للأم فأجنبيتان من الميت، كيف كان الميت. وأمّا عمتاهما لأبٍ وأم، أو لأبٍ، فلهما قرابة، فأمّا عمّة الوسطى ففي درجة العُليا، وأما عمة السفلى، ففي درجة الوسطى، فالميت خلّفَ بنتاً، وابنتي ابن، وابنتي ابن ابن.

_ (1) في الأصل: الزوجية اختار.

فإن زاد في السؤال فقال: مع كل عمة [ثلاث] (1) عمات متفرقات، فالمسألة فيه إذا كانت عمة ذات قرابة من الميت. فأمّا عمات عمة العليا، [فهنّ] (2) ثلاث أخواتٍ متفرقات للميت إن كان رجلاً، وإن كان امرأةً فهنّ أجنبيات منها. وأمّا عمات عمة الوسطى، فاثنتان منهن بنتان للميت، ثم ننظر: فإن كان الميت رجلاً، فبنتاه هي العمة للأب والأم، والعمة للأب، (3 فأما العمة للأم فهي 3) أجنبية. [وإن كان الميت امرأة، فابنتاها هما العمةُ للأب والأم والعمة للأم. فأمّا العمة للأب فأجنبية] (4). وأما عمات عمة السفلى، فاثنتان منهن ابنتا ابن الميت وهما العمة للأب والأم، والعمة للأب، فأما العمة للأم فأجنبية من الميت بكل حال، فقد خلف الميت ثلاثَ أخواتٍ متفرقاتٍ، وثلاث بناتٍ، وأربع بناتِ ابن، وابنتا ابن ابن وبنت ابن ابن ابن. فللبنات الثلثان، والباقي، للأخت من الأب والأم. فهذه جُملٌ في تشابه القرابات، يمكن أن يقاس بها غيرها، وربما نذكر طرفاً منها في باب الأرحام، والمعنَّى (5) بطلب الفقه قد يتبرم بمثل هذا، ولكنا لا نجد بداً في هذا المجموع من ذكر ما يقع به الاستقلال في كل فن. ...

_ (1) في الأصل: بنت. (2) في جميع النسخ: فهي. (3) ما بين القوسين سقط من (د 1). (4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (5) في غير الأصل: والمعتني.

باب ميراث الجد

باب ميراث الجد قال الشافعي: " الجد لا يرث مع الأب ... إلى آخره " (1). 6295 - الأب يحجب أبا نفسه، وهو جد الميت (2)، والجد القريب يحجب الجدَّ البعيد، وهذا متفق عليه، وإن حكينا خلافاً في أن الأب هل يحجب أمه، وهي جدة الميت، فمن خالف ثَمَّ من الصحابة رضي الله عنهم، لم يخالف هاهنا. 6296 - فإن لم يكن في المسألة أب، فالجد أب الأب بمثابة الأب. واستثنى الأئمة أخذاً من معنى الشافعي، ومن نصِّه أربعَ مسائل: إحداها - أن الأب يحجب الإخوة، والجد لا يحجب الإخوة والأخوات من الأب والأم، ومن الأب، على رأي زيدٍ وغيره من جلَّة الصحابة رضي الله عنهم. والثانية - أن الجد لا يُسقط أمهاتِ الأب، والأب يُسقط أمهات نفسه. والمسألتان الباقيتان هما الفريضتان المعروفتان: زوج وأبوان وزوجة وأبوان. وقد ذكرنا أن للأم فيهما مع الأب ثلث ما يبقى والباقي للأب، فلو كان بدل الأب جدٌّ، فللأم ثلث المال كاملاً، على رأي معظم الصحابة. وعن عمر أنه نزل الجد في الفريضتين منزلة الأب، وقضى بأن للأم ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج، والزوجة، والباقي للجد، كما ذكرناه في الأب.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 146. (2) لم يبين الإمام الجد الصحيح الوارث، وهو: الجد الذي لا تتوسط بينه وبين الميت أنثى، وانظر الشكل رقم (5) في آخر هذا المجلد.

وذهب ابن سيرين (1) إلى الفرق بين الفريضتين مع الأب، فقال في زوج وأبوين: للأم ثُلث ما يبقى، فإنا لو أعطيناها ثلث الجميع، بعد النصف، لكان ما أخذته أكثر ممّا يأخذه الأب. وقال في زوجةٍ وأبوين: للأم ثلث جميع المال؛ فإنه ليس في إكمال الثلث لها تفضيلها على الأب. وهذا مذهبٌ متروكٌ. ومن قال من أصحابنا لا يأخذ الجد بالفرض والتعصيب، فيقع ذلك فرقاً بين الأب والجد أيضاً. ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه أن كل جدٍّ وإن علا، فكالجد الأدنى، إذا لم يكن دونه جدّ. وهذا ممّا قدمنا القولَ فيه، وذكرنا خلاف الأصحاب في أب الجدّ مع الأخ، وفي أب الجد، مع ابن الأخ. فهذا ذكر جُمل من ميراث الجد. 6297 - ومقصود الباب بيانُ ميراثه مع الإخوة من الأب والأم، والإخوة من الأب إذا لم يكن معهم صاحب فرض، وما اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بابٍ اختلافَهم في هذا الباب، وروي أن عمر رضي الله عنه قضى في الجد بمائة قضيةٍ مختلفة (2). ثم لما طعنه أبو لؤلؤة، وأشرف على الموت،

_ (1) ابن سيرين: محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء ت 110 هـ. (2) الرواية عن قضاء عمر في الجد مائة قضية مختلفة أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي، وذكر الحافظ أن الخطابي رواها في الغريب بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن الجد، فذكره، ثم قال الحافظ: " أنكر الخطابي هذا إنكاراً شديداً بما لا محصل له، وسبقه إلى ذلك ابن قتيبة في مقدمة مختلف الحديث، وما المانع أن يكون قول عبيدة مائة قضية على سبيل المبالغة ... " (ر. مصنف عبد الرزاق، ح 19043، البيهقي 6/ 245، التلخيص 3/ 189).

قال: " احفظوا عني ثلاثاً: لا أقول في الكلالةِ شيئاً، ولا أقول في الجدِّ شيئاً، ولا أستخلف عليكم أحداً " (1). وعن علي أنه قال: " من سرّه أن يتقحّم جراثيمَ جهنّمَ بحُرّ وجهه، فليقْضِ في الجدّ والإخوة " (2). وقال ابن مسعود: " سلوني عما شئتم من عَضْلكم ولا تسألوني عن الجد لا حياه الله ولا بيّاه " (3). وعن عمر أنه قال: " أجرؤكم على مسائل الجد أجرؤكم على النّار " (4) وما رتب أحد من الفرضيين هذا الباب ترتيب الأستاذ أبي منصور البغدادي (5) (4 ونحن نتخذ ترتيبه أسوة في الباب، ثم نذكر فيه ما ينبغي، إن شاء الله 6). 6298 - فنقول: أولاً أمّا الإخوة من الأم، فلا شك في سقوطهم بالجد،

_ (1) أثر عمر رضي الله عنه: " احفظوا عني ثلاثاً ... " أخرجه ابن سعد في الطبقات: 3/ 1، ح 256. قال الألباني: صحيح دون ذكر الجد (ر. الإرواء: 6/ 129 ح 1686، فيض القدير: 1/ 158). (2) أثر علي رضي الله عنه: "من سرّه أن يتقحم جراثيم جهنم " رواه ابن أبي شيبة، ح 11318،11314، وعبد الرزاق، ح19047، وسعيد بن منصور، ح 56، 57، والدارمي، ح 2902، والبهيقي (6/ 245)، قال في إرواء الغليل: ضعيف (6/ 128 ح 1684). (3) أثر ابن مسعود " سلوني عما شئتم ": لم نصل إليه. (4) أثر عمر رضي الله عنه: " أجرؤكم على مسائل الجد " رواه عبد الرزاق في مصنفه، ح 19047، ولفظه: " أجرؤكم على جراثيم جهنم أجرؤكم على الجد ". ورواه سعيد بن منصور في سننه عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ح 55. وانظر إرواء الغليل 6/ 129، فيض القدير: 1/ 158. (5) الأستاذ أبو منصور البغددي: عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي البغدادي نشأة، ثم استقر في نيسابور. شيخ إمام الحرمين في الفرائض، علامة العالم في الحساب والمقدَّرات والكلام والفرائض والفقه وأصول الفقه، تكرر ذكره في الروضة في الوصايا وغيرها، وذكره في الوسيط أيضاً في الوصايا في أواخر الباب الثاني. وهو صاحب (الفَرق بين الفِرق) ت 429 هـ (تهذيب الأسماء واللغات:2/ 268، طبقات السبكي: 5/ 136، وأعلام الزركلي). (6) ما بين القوسين ساقط من غير الأصل.

وأما الإخوة من الأب والأم، والإخوة من الأب، فقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؛ فمنهم من نزّل الجدّ منزلة الأب وأسقط به جميعَ الإخوة والأخواتِ، كما يسقطهم الأب. وإليه ذهب أبو بكرٍ الصديق، ومعاذ بنُ جبل، وعبد الله بن عباس، وجابر، وعُبَادة بنُ الصامت. وأُبي بن كعب، وأبو الدرداء، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين، وعائشة، وبه أخذ طائفة من العلماء: الحسن (1)، وطاووس، والزهري، وعطاء، وأبو حنيفة، وأبو ثورٍ، والمزني في اختياره الظاهر، ونسَبَ هذا إلى ابن عباس ابنُ سريج، ومحمد بن (2) نصر المروزي من أئمة أصحاب الشافعي. ومنهم من شرك بين الجدِّ والإخوة والأخوات من الأب والأم، ومن الأب. وهو مذهب علي، وزيد، وابن عباسٍ، وابن مسعود، وبه قال مالك، والشافعي، والأوزاعي، والثوري، وابنُ أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد (3). واختلف الرواية في ذلك عن عمر وعثمان فروي عنهما القولان معاً. ثم اختلف المشرّكون في تفصيل التشريك على مذاهبَ مختلفة، وأصولٍ متباينة، ونحن نذكر مذهب علي أولاً في جميع قواعد الباب، ثم نذكر [مذهب

_ (1) الحسن، وطاووس، والزهري، وعطاء كلهم من فقهاء التابعين. والحسن هو الحسن البصري، فحيثما تجد الحسن مطلقاً، فهو الحسن بن يسار البصري الإمام في كل فن، توفي110هـ. وطاووس هو طاووس بن كيسان توفي سنة 106 هـ. والزهري هو محمد بن مسلم، المشهور بابن شهاب. توفي سنة 124 هـ. وعطاء هو عطاء بن أبي رباح، وهو المعني في الفقه إذا أُطلق، توفي سنة115هـ على الأرجح. (2) محمد بن نصر المروزي، من أصحاب الوجوه في المذهب، توفي 294 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 94 ترجمة رقم: 94). (3) لم يذكر مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وهو ثالث المذاهب المتبوعة التي تقول بتشريك الجد مع الإخوة.

زيد] (1) ثم نذكر مذهبَ ابن مسعود، ثم نذكر مذهبَ عمر على رواية التشريك، ثم نذكر مذهب عثمان، فإذا بانت مذاهبهم نفتتح فرضَ المسائل، ونذكر في كل مسألة مذاهب الصحابة رضي الله عنهم. الفصل الأول في بيان قول علي ومن تبعه 6299 - قال رضي الله عنه: ننظر في الإخوة والأخوات، هل هم من جهةٍ واحدة، أو هم من جهتين؟ فإن كانوا من جهةٍ واحدة، مثل أن يكونوا جميعاً لأب وأم، أو لأب، نَظَر: فإن كانوا إخوة، أو إخوة وأخوات، فالجدُّ كواحد منهم، وقَسَّمَ المالَ بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. والأمر كذلك مادامت القسمة خيراً له من السدس. فإن كان نصيبه بالقسمة سدس المال أو أكثر، فالقسمة صحيحة. وإن أصابه بالقسمة أقلُّ من السدس، فَرَض له السدس، والباقي للإخوة والأخوات. وإن كن أخوات لا أخ معهن، فَرَضَ لهن: للواحدة النصف، وللاثنتين فما فوقهما الثلثان، والباقي للجد. 6300 - وإن كانوا من جهتين: بعضهم لأبٍ وأم، وبعضهم لأبٍ، نَظَرَ: فإن كان [في] (2) الذين من قبل الأب والأم أخ، سقط الذين من قبل الأب، وكان المال مقسوماً بين الجد والذين من قبل الأب والأم، مع اعتبار السدس، كما تقدم.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) ساقطة من الأصل.

وإن لم يكن في الذين من قبل الأب والأم أخ، وكانت أختٌ أو أخواتٌ، فرض لهن للواحدة النصف، وللاثنتين فصاعداً الثلثان. ثم نَظَرَ فيمن هو من جهة الأب، فإن كان فيهم أخ، [صار] (1) الجدّ كأخ لأبٍ، وقسم الباقي بين الجد والذين هم من قبل الأب، واعتبر خير الأمرين من القسمة والسدس. وإن لم يكن في الذين هم من قبل الأب أخ، نظر: فإن كان في أولاد الأب والأم أخت واحدة، فلها النصف، وللأخت أو الأخوات من الأب السدس تكملة الثلثين، والباقي للجدِّ، وإن كان في أولاد الأب والأم أختان، فلهما الثلثان، والباقي للجدّ، وتسقط الأخوات من الأب. 6301 - وهذا كله إذا لم يكن مع الجدّ والإخوة ذو فرض: مسمَّى سوى الأخوات، فإن كان معهم ذُو سهمٍ مفروضٍ، نَظر: فإن كانت بنت، أو بنت ابن (2)، فرض لهما، وفرض للجدّ معهما السدس وإن زادت الفرائض، أعال المسألة، فإن بقي بعد الفروض شيء، كان للإخوة والأخوات على حسب استحقاقهم في سائر المسائل. والأخوات على رأي علي عصبة مع البنات، وبنات الابن. وإن كان معهم ذو فرض آخر سوى البنت، وبنت الابن، ولم يكن في المسألة بنت ولا بنت ابن، أعطى كلَّ ذي فرض فرضَه، ونَظَر: فإن كانوا أخوات لا أخ معهن، فرض لهنّ أيضاً، وكان الباقي للجدّ إن كان سدساً، أو

_ (1) في الأصل: فقال. (2) كانت بنت أو بنت ابن ... : كان هنا تامة بمعنى وجد، والمعنى إن كان في أصحاب الفروض مع الجد والإخوة بنات أو بنات ابن، وذلك ليرتب عليه قول علي بتعصيب الأخوات بالبنات، ثم ليستقيم الكلام عن زيادة الفروض وإعالة المسألة، وإلا فلو كان أصحاب الفروض بنت فقط أو بنت ابن، لا تعول المسالة.

أكثر، وإن كان الباقي أقلَّ من السدس، أو لم يكن بقي من المال شيء، فرض للجد السدس، وأعال المسألة. وإن كانوا إخوة أو إخوة وأخواتٍ، نَظَرَ: فإن كانوا من جهةٍ واحدةٍ، قسم الباقي بينهم وبين الجدّ، واعتبَرَ في حق الجد القسمةَ والسدسَ. وإن كانوا من جهتين، نظر: فإن كان في الذين من جهة الأب والأم أخٌ، سقط أولاد الأب، والباقي مقسومٌ بين الجدّ والذين من قبل الأب والأم، مع اعتبار السدس. وإن لم يكن في أولاد الأب والأم ذكر، فرض لمن هن من قبل الأب والأم، وقسّم الباقي بين الجد والذين من قبل الأب، واعتبر السدس: فإن كان الباقي أقلَّ من السدس، أو لم يبقَ شيء، فرض للجدّ السدس، وأعال المسألة. هذا إذا كان في أولاد الأب ذكر، فإن لم يكن في الذين من قبل الأبِ ذكر، فرض لهن [السُدس] (1) إن كان في أولاد الأب والأم أخت واحدة، وفرض للجد السدس إن كان الباقي من المال أقلّ من السدس، أو لم يبق منه شيء، وأعال المسألة. فهذا مذهب علي في هذا الباب. وهو الرواية المشهورة عنه. 6302 - ورويت عنه روايات شاذة، لا عمل بها، فروي عن سعيد (2) ابن المسيب عن علي أنه جعل الجدَّ أباً وأسقط به الإخوة والأخوات. وروى الشعبي أن ابنَ عباسٍ كتب إلى علي في ستّة إخوة وجد، فكتب إليه

_ (1) ساقطة من الأصل والسدس هنا المراد به تكملة الثلثين ضمّاً إلى النصف للأخت الواحدة من الأب والأم. (2) رواية سعيد ابن المسيب أن علياً جعل الجد أباً لم نجدها، وروى عبد الرزاق، والبيهقي عن عطاء " أن علياً كان يجعل الجد أباً، فأنكر قولَ عطاء ذلك عن علي بعضُ أهل العراق " (ر. مصنف عبد الرزاق، حديث رقم 19057، البيهقي في الكبرى 6/ 246).

بقسمة المال بينهم بالسويّة، وأمره بأن يمحو كتابه (1) ولا تصح هذه الرّواية. فهذا مذهب علي رضي الله عنه. [الفصل الثاني] (2) في بيان مذهب زيدٍ 6303 - والوجه أن نذكر مذهبه في الجد والإخوة من غير أن يكون معهم صاحبُ فرض، ثم نذكر الجدّ والإخوة مع أصحاب الفروض. فإن لم يكن معهم صاحب فرضٍ، فالجد يقاسم الإخوة والأخوات المنفردات، والإخوة والأخوات المجتمعين، ويكون الجدّ في جميع ذلك كأحد الإخوة، ثم إنه يقول: يقاسمهم مادامت المقاسمة ثلثاً أو أكثر من الثلث، فإن كان الثلث خيراً له من المقاسمة، فرض له الثلث. وإذا أخذ الجد نصيبه، نظر في الإخوة والأخوات: فإن كانوا من جهةٍ واحدةٍ أخذوا حقوقهم، فإن كانوا ذكوراً وإناثاً، فالمال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن كانوا ذكوراً متمحّضين أو إناثاً متمحّضات، فالمال بينهم بالسوية. وإن كانوا من جهتين، نَظرَ في الذين من قبل الأب والأم، فإن كان فيهم ذكر، استرجع ما في يد ولد الأب، وإن لم يكن فيهم ذكر، استرجع ممّا في يد ولد الأب ما يكمل به فرض ولد الأب (3) والأم.

_ (1) رواية الشعبي عن ابن عباس أن علياً قضى في جد وستة إخوة بالمقاسمة. أخرجها الدارمي: = الفرائض، باب قول علي في الجد، ح 2917، وابن أبي شيبة (11/ 293 ح 11269) والبيهقي في الكبرى (6/ 249). (2) في الأصل: الثالث. وهو سبق قلم واضح. (3) معنى هذا أن التقسيم يشمل الإخوة من الجهتين جميعاً: لأب وأم ولأبٍ فقط، ثم بعد =

وهذا كله إذا لم يكن معهم ذو سهم مفروض. وأصل زيدٍ في المعادَّة لا يتأتى ذكره إلا في فصلٍ مفرد، سنذكره، إن شاء الله عز وجل. 6304 - فإن كان معهم ذو فرض مثل، ابنة أو ابنة ابن، أو زوج، أو زوجة، أو أم، أو جدّة، أعطى كلَّ ذي فرض فرضَه، ونَظر: فإن بقي في المال سدس، فهو للجدّ خاصّة، وإن بقي أقل من السدس، أو لم يبق منه شيء، فَرَضَ له السدس، وأعال المسألة. وإن بقي بعد الفرض أكثر من السدس، قُسّم بين الجد والأخوات، كيف كانوا، ولا يَعْتَبر مع القسمة ثلثَ جميع المال في حق الجدّ، ولكنه يقول: للجدّ الخير من أحد ثلاثة أشياء: إما السدس، وإمّا ثلث ما بقي، وإما القسمة، فأي هذه الثلاثة، كان خيراً للجد خُصّ به، وكان الباقي للإخوة والأخوات. 6305 - وكان لا يفرض للأخت مع الجدّ إلا في مسألة واحدة تعرف بالأكدرية، وصورتها: زوجٌ، وأم، وجد، وأخت لأب وأم، (أو أخت لأب). للزوج النصف، وللأم الثلث، فلم يبق إلا السدس. قال زيدٌ: للأخت النصفُ، وللجدّ السدس، وأعال المسالة من ستة إلى تسعة، ثم جمع بين نصيب الأخت والجد، فكان أربعة، فقسمها بين الجدّ والأخت للذكر مثلُ حظ الأنثيين، وينكسر أربعة على ثلاثة، فنضرب ثلاثة في أصل المسألة بعولها، فتبلغ سبعة وعشرين. للزوج منها تسعة، وللأم ستة،

_ = ذلك يسترجع الذكر من أولاد الأب والأم (إن وجد) نصيب أولاد الأب، لأنهم محجوبون أصلاً بأولاد الأب والأم. وسيأتي مزيد شرح وتفصيل في مسائل (المعادة)، كما وعد الإمام.

وللأخت تسعة، وللجد ثلاثة، ثم يجمع بين نصيب الجد والأخت فتقسم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين: للجد ثمانية، وللأخت أربعة. هذا أصل زيدٍ المشهور في مسائل الجدّ، وهذا مذهبُه المعرُوف في هذه المسألة الملقّبة بالأكدرية. وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل. 6306 - وعن زيد رواية شاذّة في الأكدرية، سئل قَبِيصةُ بنُ ذؤيب (1) عن قضاء زيد في الأكدرية، وذكر له الرواية المشهورة، فقال: والله ما فعل هذا زيد قط، ولكن قاس الفرضيون على قوله. ثم قال المحققون: إن صح ما قاله قَبِيصةُ، فالذي يقتضيه أصل زيد وقياسه في الأكدرية أن يقول: للزوج النصف، وللأم، الثلث، وللجدّ السُدس، وتسقط الأخت، لأنها عصبة مع الجدّ عند زيدٍ، كالأخ، ولو كان بدلها أخ في هذه المسألة، لسقط، فكذلك الأخت. ولكن الرواية المشهورة ما تقدم، فلا تعويل على قول قَبِيصة (2).

_ (1) قبيصة بن ذؤيب: أبو سعيد، ويقال: أبو إسحاق قبيصة بن ذؤيب بن حَلْحَلة الخزاعي المدني. إمام من كبار فقهاء التابعين، كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. ولد عام الفتح سنة ثمان، وتوفي في خلافة عبد الملك بن مروان سنه ست أو سبع وثمانين. (تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 56، سير أعلام النبلاء: 4/ 282). (2) رواية قَبيصة بن ذؤيب في إنكار قضاء زيد في الأكدرية، لم نصل إلى هذه الرواية. وقد تبع الرافَعي إمام الحرمين في رواية أثر قبيصة هذا. وعلّق الحافظ في التلخيص على كلام الرافعي قائلاً: " بوّب عليه البيهقي وأورد أقوال الصحابة فيها ". وقد وجدنا البيهقي (6/ 251) بوّب قائلاً: " باب الاختلاف في مسألة الأكدرية " ولكن لم يورد فيه أثر قبيصة. ثم وجدنا هذا الأثر عند ابن حزم في المحلى حيث قال: وروينا من طريق سفيان بن عيينة فال: حدثوني عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: حدثني راوية زيد بن ثابت -يعني قَبيصةَ بنَ ذؤيب- أنه لم يقل في الاكدرية شيئاً- يعني زيد بن ثابت. (ر. المحَلى: 9/ 290 مسألة رقم: 1732، والتلخيص: 3/ 191).

الفصل الثالث في قول ابن مسعود 6307 - اعلم أن ابن مسعود في هذا الباب وافق علياً في بعض مذهبه، ووافق زيداً في بعض أصله، وانفرد عنهما في بعض مسائل الباب. فأما ما وافق فيه علياً، فشيئان: أحدهما - أنه فرض للأخوات مع الجد إذا لم يكن معهن أخ. والثاني - أنه كان لا يجمع بين ولد الأب والأم، وولد الأب في مقاسمة الجد معادّة، كما سنذكر ذلك مشروحاً من مذهب زيد. وأمّا ما وافق فيه زيداً فشيئان: أحدهما - أنه اعتبر في المقاسمة بين الجد والإخوة والأخوات خيرَ الأمرين من المقاسمة، وثلث المال، إذا لم يكن معهم ذو فرض. وإن كان معهم ذو فرض اعتبر ما اعتبره زيد من الأشياء الثلاثة: القسمة، وثلث ما تبقى، وسدس جميع المال، كما ذكرناه عن زيد. 6308 - وأما ما انفرد به في الباب فثلاثة أشياء: أحدها - أنه قال: متى ما كان في المسألة مع الجد أخت، أو أخوات من الأب والأم، وأخ من أب، كان للأخوات فرضهن، والباقي للجد، ويسقط الأخ من الأب. فإن كان في المسألة أخت من أب، وأختٌ من أبٍ وأم، وأخ من أب، قال: للأخت من الأب والأم النصف، والباقي للجد، ويسقط الأخ من الأب، ويسقط بسببه الأخت من الأب. ولو لم يكن أخ من الأب، لقيل للأخت من الأب والأم النصف، وللأخت من الأب السدس تكملة الثلثين، والباقي للجد، فإذا كان معها أخ، سقطت بسقوطه، وسمي الأخُ الأخَ المشؤوم.

والثاني - أنه كان [لا] (1) يفضل أُمّاً على جدٍ، والخلاف يتبين في كل مسألة لا يكون فيها من يحجب الأم من الثلث إلى السدس، وإذا دفعنا إليها الثلث، كان الباقي للجد أقلّ من ذلك، فإذا كانت المسألة متصورة بهذه الصورة، فعنه روايتان: إحداهما - أن للأم ثلث ما بقي بعد الفرض، وهو في معنى السدس. والباقي للجد. كذلك رواه الشعبي عنه، وهو الرواية المشهورة. والرواية الثانية - أن الباقي بعد الفرض يكون بين الأم والجد نصفين، وعلى هذه الرواية تصير المسالة إحدى مربعاته، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى. والثالث - أنه كان يقول في بنت، وأخت، وجد: للبنت النصف، والباقي بين الأخت والجد نصفان، وهذه المسألة إحدى مربعاته. هذا هو المشهور من أصل ابن مسعود. وقد رويت عنه رواية شاذة في مسألة من الباب عن الأعمش والمغيرة: أنهما قالا في أم، وأخٍ، وجد: للأم السدس، والباقي بين الأخ، والجد: نصفان، في قول عبد الله. قال الفرضيون: هذا ساقط غيرُ معتمد، والإجماع منعقد على أن للأم الثلث، فلا نخرم الإجماع بالرواية الشاذّة. الفصل الرابع في بيان قول عمر 6309 - اختلف الرواية عنه رضي الله عنه، فروي مثلُ قول زيد، إلا مذهبُه في الأكدرية، وكان لا (2) يفضل الأم على الجدّ.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في غير نسخة الأصل: "يفضل". وهو لا يتفق مع ما أجمعت عليه النسخ في آخر الفصل، وما رأيناه في مذهب زيد، وأكد ذلك ما رواه سعيد بن منصور: ح 69، والبيهقي (6/ 252) من طريق إبراهيم النخعي قال: " كان عمر وعبد الله لا يفضلان أماً على جد".

وروي عنه مثلُ قول علي في النظر إلى السدس، والمقاسمة، إذا لم يكن مع الجدّ والإخوة أحدٌ من أصحاب الفرائض. وروي عنه مثلُ قول أبي بكر في أن الجد كالأب. وروي عنه التوقفُ في ذلك كله. وروي عنه النظر إلى ثلث المال والمقاسمة، كما صار إليه زيد. وروي عنه القول بالمعادّة أيضاً (1). وإنما أفردنا الثلث، والمعادّة بالذكر، لأنهما من خصائص مذهب زيدٍ. وروي أنه خطب في الناس، وقال: هل منكم أحد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرُ الجدّ؟ فقام رجلٌ، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض له السدسَ، فقال عمر: " من كان معه من الورثة "؟ فقال: لا أدري، فقال: " لا دريت ". ثم خطبهم مرة أخرى، فسألهم؛ فقال رجل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه الثلث، فقال: من معه من الورثة؟ فقال: لا أدري. قال: " لا دَرَيْتَ " (2). ثم جعل عمر عند تلك الرواية للجدّ مع الإخوة المقاسمةَ أو الثلث. وبالجملة الروايات عنه مختلفة، وأصحها عنه مُوافقة زيد في هذا الباب إلا في ثلاثة مواضع: أحدها - الأكدرية.

_ (1) الروايات المختلفة عن عمر في الجد أخرجها البيهقي في الكبرى: (6/ 246) وما بعدها، وعبد الرزاق في مصنفه (10/ 265 وما بعدها)، وسعيد بن منصور في سننه: باب قول عمر في الجد (1/ 47). (2) روى هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه سعيد بن منصور وعبد الرزاق والبيهقي، وهو خطبة واحدة تعددت فيها إجابة سؤال عمر وأخرجه أبو داود مختصراً (ر. سنن سعيد بن منصور:= ح 39، مصنف عبد الرزاق: ح 19058، البيهقي في الكبرى6/ 248، والمعرفة 9/ 139 - 140، أبو داود: الفرائض باب ما جاء في ميراث الجد، ح 2896).

والثاني - أنه كان لا يفضّل الأم على الجدّ وقد يفضلها (1) زيد. والثالث - أن عمر فرض للأخت مع الجدّ النصف، وروي ذلك عنه [نصاً] (2) في مسألة الخرقاء (3)، وما فرض زيد للأخت مع الجدِّ قط إلا في الأكدرية، وذلك تقدير وليس بتحقيق. الفصل الخامس في بيان أصل عثمان، والروايات مختلفة عنه رضي الله عنه 6310 - فروي عن طاووس أن عثمان جعل الجد أباً (4). وروي أن معاوية كتب إلى زيد بن ثابت يسأله عن الجدّ والأخ، فكتب إليه: حضرتُ الخليفتين عمرَ وعثمانَ يقضيان للجدِّ مع الأخ النصف، ومع الاثنين الثلث، وكانا لا ينقصان من الثلث شيئاً (5). وأصح الروايات عن عثمانَ، أنه قال: بمذهب زيد. إلا في مسألة الخرقاء، وصورتها: أم، وأخت، وجد.

_ (1) فيما عدا الأصل: فضلها. (2) في الأصل: أيضاً. (3) الخرقاء من المسائل الملقبات في علم الفرائض، وصورتها: أم جد أخت وسميت (خرقاء) لكثرة أقوال الصحابة فيها. وستأتي في الفصول التالية. (4) أثر أن عثمان جعل الجد أباً، رواه عبد الرزاق في مصنفه، عن الزهري (11/ 263 ح 19050)، ورواه سعيد بن منصور عن عطاء: ح 46، أما رواية طاووس فقد أشار إليها العظيم أبادي في التعليق المغني على الدارقطني (4/ 92)، وذكر أن يزيد بن هارون أخرجها من طريق ليث عن طاووس. (5) رواه عبد الرزاق: ح 19062، وسعيد بن منصور: ح 63، والبيهقي (6/ 249).

6311 - فإن عثمان قسم المال فيها بينهم بالسويّة، وسميَّت المسألة مثلثة عثمان. وقال زيد: للأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، أصلها من ثلاثة، وتصح من تسعة. وقال علي: للأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس. وقال عمر: للأخت النصف، وللأم ثلث ما بقي، والباقي للجدِّ. وهذه رواية عن ابن مسعود. وروي عن ابن مسعود رواية أخرى، أنه قال: للأخت النصف، والباقي يقسم بين الأم والجدّ نصفين، ولذلك تصير المسألة من مربعاته. ومن جعل الجدّ أباً يقول: للأم الثلث، والباقي للجدّ. وسميت المسألة الخرقاء لتخرّق المذاهب فيها (1). هذا بيان مذاهب الأئمة على الجملة. 6312 - ونحن نذكر بعد ذلك ما يقع الاستقلال به في تعليل المذهب على الإيجاز، ثم نخوضُ في المسائل، ونخرّجها على الأصول. فأمَّا الكلام في أن الجد لا يُسقط الإخوة، أو يسقطهم، فمستقصىً مع أبي حنيفة في مسائل الخلاف. وإنما نتعرّض للتفاصيل مع القول بأن الجد لا يحجب الإخوة. 6313 - فأما القول في الثلث والسدس على مذهب علي وزيد. فأما السدس، فتعليله بيّن.

_ (1) انظر الروايات في مسألة الخرقاء في مصنف عبد الرزاق (10/ 269، 270 ح 19069، 19070)، وسنن سعيد بن منصور (ح 70 - 71)، والبيهقي (6/ 252)، (ر. التلخيص 3/ 190).

والقياس أن يقاسم الجدُّ الإخوةَ أبداً، إلا أن علياً رضي الله عنه قال: إذا كان الجدّ يأخذ السدس مع الابن، فلأن يأخذه مع الإخوة -وهم بنو الأب- أولى. وأما زيد، فمذهبه في اعتبار الثلث يعتضد بالحديث الذي رويناه في أثناء المذاهب في الفصل الذي ذكرنا فيه مذهب عمر، وروينا أنه وافقه عليه الخليفتان عمر وعثمان. ثم لزيد أن يقول: إذا اقتسم الأبوان، فالقسمة تقع أثلاثاً بينهما: للأم الثلث، وللأب الثلثان، وهما في الدرجة الأولى. [والجدّ] (1) والجدة يقعان في الرتبة الثانية، ثم للجدة السدس، وهو نصف ما للأم، فوجب أيضاً ألا ينقص الجد مع الإخوة عن الثلث، الذي هو نصف ما للأب. 6314 - وأما الكلام في الفرض للأخوات مع الجد، فتعليله بيِّن؛ فإنه لا معصِّب معهن، وليس في الفرائض ذكر يعصّب أنثى وهم من قرابتين مختلفتين. ومن عصّب الأخت بالجد قال: أقمنا الجدَّ مقام أخٍ، فقلنا: في جد، وأخ، وأخت: المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فليكن الأمر كذلك. في جدٍّ وأخت؛ فإنه لم يحدث ما يردّ الجدّ إلى الفرض، وكان الجد عصبة معصِّباً. وهذا ضعيف؛ فإن تعصيبه يمكن إبقاؤه مع فرض الأخت، بأن يقال: للأخت النصف، وللأختين الثلثان، والباقي للجد. وقد يقول زيد: الجد مع الأخت والأخ يفضل الأخت: فإذا كان في المسألة: أختان، وجدّ، فينبغي أن يفضُلَ الجدُّ كلَّ واحدةٍ منهما. أو (2) إذا كان

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) (د 1)، (ت 3)، (ت 2): وإذا كان.

في المسألة أخت واحدة، فينبغي أن يفضلها، مع كونه عصبة، ولا طريق مع ذلك إلا إحلال الجد محل أخٍ. وهذا مع ما ذكرناه مدخول؛ إلا أن يعضد بتقرير قوة الجد؛ فإنه عصبة من صلب النسب، ولأجل هذا ذهب شطر الأُمة إلى إسقاط الإخوة بالجدّ، فهذا منتهى الاضطراب في ذلك. 6315 - فأمّا القول في الجد، والبنت، وبنت الابن، مع الإخوة، فمن يرى للجد السدس، يعتلّ بأن البنت وبنت الابن يردان الأبَ إلى السدس، فيجب ذلك في الجد، ثم إذا ثبت، فلا يُجمع له بين السدس ومزيدٍ؛ إذْ معه في الفريضة من يرث، وإنّما يأخذ الأب بالفرض والتعصيب إذا انفرد عن مزاحمٍ بعد البنت، وبنت الابن. فأمّا زيد؛ فإنه يقول: في الجدّ قوة الأبوة، ولكنه لا يُسقط الأخَ والأختَ، فَقَصْرُه على السدس، وتفضيل الأخ والأخت عليه، لا سبيل إليه، ولو اقتصر حقُّه على السدس، لكانت البنت سبباً في تكثير نصيب الأخ، وتقليل نصيب الجد، وهذا بعيد. وأمّا قول زيد في المعادّة عند تقديره القسمةَ بين الجد، والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، فمعلّلٌ بأن الأخ من الأب والأم يقول للجدّ: أنت لا تحجب الأخ من الأب، وإنما أنا الحاجب؛ فأعدّه عليك، لأزحمك، ثم أسترد منه، على ما سيأتي تفصيل ذلك. وهذا كما أن الإخوة يحجبهم الأب، وهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، وإن سقطوا بالأب، وهو على التحقيق بمثابة تلك المسالة، غيرَ أن ذلك حَجْبٌ من فرض إلى فرض، وهذا حَجْبٌ بالزحمة. 6316 - هذا منتهى ما أردناه في تعليل المذاهب، ولولا شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بالتقدّم في الفرائض وإلا لاقتضى الإنصاف اتباعَ عليٍّ في

باب الجد؛ فإنه أنقى المذاهب وأضبطها، وليس فيه خرم أصل، ولا استحداث شيءٍ بدع. ونحن بعد ذلك نستفتح المسائل، ونخرّجُها على المذاهب. ومسائل الباب أصناف، فالذي يقتضيه الترتيب إيرادها مفصلةً صنفاً صنفاً. 6317 - قال الأستاذُ أبو منصور: مسائل الباب يحصرها ستة أقسام: القسمُ الأول- أن يكون فيها مع الجد عصبة من الإخوة والأخوات، ويكون الإخوة من صنف واحد، فإنهم إن كانوا أولاد أب وأم، وأولاد أبٍ، وقعت المسائل في المعادّة، ومسائلها تقع في القسم السادس. فإذاً هذا الصنف في جدٍ مع إخوة، أو إخوة وأخواتٍ من أب وأمٍ، أو من أب، وليس معهم ذو فرض. فعليٌّ رضي الله عنه يقول: يقاسم الجدُّ إلاّ (1) أن يكون السدس خيراً له من المقاسمة، وزيد وابن مسعود يقولان يقاسمهم، إلا أن يكون الثلث خيراً من المقاسمة. ومسائله: أخ وجد. فالمال بينهما نصفان. أخوان، وجد. المال بينهما أثلاث. ثلاثة إخوة، وجد. في قول علي: المال بينهم أرباع. وفي قول زيد وابن مسعود: للجد الثلث، والباقي للإخوة: أصلها من ثلاثة، وتصح من تسعة.

_ (1) (د 1)، (ت 3)، (ت 2): إلى أن.

خمسة إخوة، وجد. في قول علي: المال أسداس. وفي قول زيد، وابن مسعود: [للجدّ] (1) الثلث، والباقي [للإخوة]: أصلها من ثلاثة وتصح من خمسةَ عشرَ. ستة إخوة، وجَد. في قول علي: للجد السدس، والباقي للإخوة: أصلها من ستة، وتصح من ستة وثلاثين. وفي قول زيد، وابن مسعود: [للجد] الثلث، والباقي [للإخوة]: أصلها من ثلاثة، وتصح من تسعة. أخ، وأخت، وجدّ. للذكر مثل حظ الأنثيين على خمسة في قولهم. أخ وأختان وجدّ. المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين على ستة. أخٌ، وثلاث أخوات، وجدّ. في قول علي: المالُ بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين على سبعة. وفي قول زيد وابن مسعود: للجد الثلث، والباقي بين الأخ والأخواتِ للذكر مثل حظ الأنثيين: أصلها من ثلاثة وتصح من خمسةَ عشرَ. وعلى هذا البابُ وقياسه. 6318 - القسم الثاني من مسائل هذا الباب - أن يكون مع الجد عصبة من الإخوة (2) مع اتحاد الصنف، وذو فرضٍ مسمّىً، فإن كان معهم من فرضُه

_ (1) هذه الكلمة بين المعقفين، وثلاث بعدها حذفت اختصاراً، ورأينا إثباتها لمزيد الإيضاح. والله من وراء القصد. (2) من الإخوة: أي ومعهم الأخوات، كما هو مفهوم، ثم مذكور صراحة في آخر المسألة.

السدس، فالاعتبار بالمقاسمة في قول علي إلى عشرة أسهم، فإن زادت السهام على ذلك، فُرض له السدس، وكان الباقي للإخوة والأخواتِ. وفي قول زيد وابن مسعود يكون الاعتبار بالمقاسمة إلى ستة، فإن زادت السهام على ذلك، فرض للجد ثلث الباقي بعد السدس، وتصير المسألة حينئذ من ثمانية عشر. وهي من ضرب ثلاثة في ستة. وإن كان معهم من فرضه الربع، فالمقاسمة في قول علي إلى تسعة (1)، فإن زادت على ذلك، فرض له السدس. وفي قول زيد وابن مسعود إلى الستة، وإن زادت، فرض له ثلث الباقي بعد الربع، وصار أصلها من أربعة. وإن كان معهم من فرضه النصف، فالاعتبار بالمقاسمة إلى ستة في مذهب الجميع، فإن زادت على الستة، جعل أصل المسألة من ستة. وإن كان الفرض أكثر من النصف، فرض له السدس، وكان الباقي بعد الفروض للإخوة والأخوات. مسائله: جدّ، وجدة، وأخ، وأختان. للجدة السدس، والباقي بين الجد والأخ والأختين على ستة أسهم للذكر مثل حظ الأنثيين، أصلها من ستة، وتصح من ستة وثلاثين. جدّة، وجد، وأخوان، وأخت. في قول علي: للجدة السدس، والباقي بين الأخوين، والأخت، والجد،

_ (1) يتضح ذلك بفرض مسألة من: زوجة، وجد، وأخوين، وثلاث أخوات من أب. فالمسألة من أربعة، وتصح من اثني عشر، للزوجة ثلاثة. ويبقى تسعة للجد اثنان، وهذا ما يساوي السدس، الذي لا يقل الجد عنه في مذهب علي. فلو زادت السهام بعد (الربع) على تسعة، لا تصح المقاسمة لأنها ستعطي الجد أقل من السدس.

على سبعة. أصلها من ستة وتصح من اثنين وأربعين. وفي قول زيد وابن مسعود: للجدّة السدس، وللجد ثلث ما يبقى، والباقي للأخوين، والأخت على خمسة، أصلها من ثمانية عشر. ومنها تصح. جدّة، وجد، وثلاث أخوات، وثلاثة إخوة. في قول علي: للجدّة السدس، وللجد السدس، والباقي بين الإخوة، والأخوات، على تسعة: أصلها من ستة، وتصح من أربعة وخمسين. وفي قول زيد وابن مسعود: للجدة السدس وللجد ثلث الباقي، والباقي بين الإخوة، والأخوات على تسعة. أصلها من ثمانية عشر، وتصح من مائة واثنين وستين. زوجة، وجد، وأخ، وأخت. للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأخ والأخت على خمسة. أصلها من أربعة، وتصح من عشرين. زوجة، وجد، وأخ، وأختان. للمرأة الربع والباقي بين الجد، والأخ، والأختين على ستة. أصلها من أربعة وتصح من ثمانية. امرأة، وجد، وأخوان، وثلاث أخوات. في قول علي: للمرأة الربع، والباقي بين الجدّ والأخوين والأخوات على تسعة. وفي قول زيدٍ وابن مسعود: للمرأة الربع، وللجد ثلث ما يبقى، والباقي بين الأخوين والأخوات، على سبعة. أصلها من أربعة، وتصح من ثمانية وعشرين.

زوج، وأخت، وأخ، وجد. للزوج النصف، والباقي بين الجد والأخ والأخت على خمسة. أصلها من اثنين وتصح من عشرة (1). زوج، وجد، وأخ، وأختان. للزوج النصف، والباقي بين الجد، والأخ، والأختين، على ستة. أصلها من اثنين، وتصح من اثنا عشر (2). زوج، وجد، وأخوان، وأخت. للزوج النصف، وللجد السدس، وهو مثل ثلث الباقي، والباقي بين الأخوين والأخت، على خمسة. أصلها من ستة، وتصح من ثلاثين (3). جد، وجدة، وزوج، وأخ. للجدّة السدس، وللزوج النصف، والباقي بين الجدّ والأخ (4). جد، وجدّة، وزوج، وأخوان. للجدة السدس، وللزوج النصف، وللجد السدس، والباقي للأخوين، أصلها من ستة، وتصح من اثني عشر. 6319 - القسم الثالث - أن يكون مع الجد أخوات من صنفٍ واحد، فعلى قول علي وابن مسعود يفرض للأخوات، والباقي للجد، إلا أن يكون غيرهن صاحب فرض معهن. فإن كان الفاضل سدساً، فهو للجد، وإن كان أقلَّ، فرض له السدس، وعالت المسألة.

_ (1) المقاسمة أحظُّ للجد هنا؛ فقد أعطته 2/ 10 وذلك أكثر من سدس الكل، وأكثر من ثلث الباقي بعد الزوج. (2) هنا استوت المقاسمة وثلث الباقي وسدس الكل؛ حيث أعطته 2/ 12. (3) فرض للجد السدس هنا؛ لأن المقاسمة -لوكانت- ستنقصه عن سدس الكل، وعن ثلث الباقي، حيث ستعطيه 2/ 14. (4) أعطته المقاسمة سدس الكل، وأكثر من ثلث الباقي.

وفي قول زيد يقسم المال بين الجدّ والأخوات إلى ستة للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن زادت سهام القسمة على ستة، فرض له ثلث جميع المال. وإن كان معهم ذو فرض، وزادت السهام، فرض له ثلث الباقي بعد الفروض إلا أن يكون السدس أكثر من ثلث ما بقي، ويكون الباقي للأخوات، ولا فرض للأخوات مع الجد إلا في الأكدرية. مسائله: جدّ، وأخت. في قول علي، وعبد الله بن مسعود: للأخت النصف، والباقي للجد، وتصح من اثنين. وفي قول زيد: المال بينهما: للذكر مثل حظ الأنثيين، على ثلاثة. جد، وأختان. في قول علي وعبد الله: للأختين الثلثان، والباقي للجد. من ثلاثة. وفي قول زيد: المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، على أربعة. جدّ، وخمس أخوات. في قول علي وعبد اللهِ: للأخوات الثلثان، والباقي للجدّ. وفي قول زيدٍ: للجدّ الثلث، والباقي للأخوات. والقولان يرجعان إلى معنىً واحد، ويختلفان في التقدير. جد، وجدة، وأخت. في قول علي وعبد الله: للجدة السدس، وللأخت النصف، والباقي للجدّ. وفي قول زيد: للجدة السدس، والباقى بين الجدّ والأخت على ثلاثة. أصلها من ستة، وتصح من ثمانية عشر.

جد، وجدة، وخمس أخوات. في قول علي وعبد الله: الجدة السدس، وللأخوات الثلثان، والباقي للجد. وفي قول زيد: للجدة السدس، وللجد ثلث الباقي، والباقي للأخوات. أصلها من ثمانية عشر ومنها تصح. امرأة، وجد، وأختان. في قول علي وعبد الله: للمرأة الربع، وللأختين الثلثان، وللجد السدس. أصلها من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر. وفي قول زيد: للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأختين على أربعة. أصلها من أربعة وتصح من ستة عشر. زوج، وأختان، وجد. في قول علي وعبد الله: للزوج النصف وللأختين الثلثان، وللجد السدس. أصلها من ستة، وتعول إلى ثمانية. وفي قول زيد: للزوج النصف، والباقي بين الجدّ والأختين، على أربعة. أصلها من اثنين، وتصح من ثمانية. القسم الرابع من مسائل الباب 6320 - أن يكون مع الجدّ، والإخوة، والأخوات، بنت، أو بنت ابن. كان علي يفرض للجدّ السدس، فلا يزيده عليه، ويجعل الباقي بعد الفروض للإخوة والأخوات [وبنت أو بنت ابن] (1). وكان زيد يقسم الباقي بعد الفرض، بين الجدّ والإخوة والأخوات إلا أن

_ (1) ساقط من الأصل.

تكون القسمة أقلّ من السدس، أو ثلث ما بقي. وكذلك كان يفعل ابن مسعود إلا في مسألةٍ واحدة، وهي: بنت، وأخت، وجد. فإنه قسّم الفاضل عن فرض البنت بين الأخت والجد نصفين. مسائله: بنت، وأخ، وجد. في قول علي: للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخ. وفي قول زيد وابن مسعود: للبنت النصف، والباقي بين الجد والأخ نصفين، وتصح من أربعة. بنت، وأخوان، وجد. في قول علي: للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي بين الأخوين. وفي قول زيد وابن مسعود: للبنت النصف والباقي بين الجد والأخوين أثلاثاً. بنت، وثلاثة إخوة، وجد. في قول الثلاثة علي وابن مسعود وزيد: للبنت النصف، وللجد السدس، وهو مثل ثلث الباقي، وما بقي للإخوة. أصلها من ستة، وتصح من ثمانية عشر. بنت، وأخ، وأخت، وجد. في قول علي: للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي بين الأخ والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. وفي قول زيد وابن مسعود: للبنت النصف، والباقي بين الجد والأخ، والأخت، على خمسة. أصلها من اثنين وتصح من عشرة.

بنت، وأخت، وجد. في قول علي: للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخت، وتصح من ستة. وفي قول زيد: للبنت النصف والباقي بين الجدّ والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. وفي قول ابن مسعود: للبنت النصف، والباقي بين الجد والأخت نصفين. وهذه إحدى مربعاته. وإنما وقع له هذا، لأنه لا يعصّب الأخت بالجد، ولا يمكنه أن يعطيها الفرض، لمكان البنت، فربَّع المسألة لذلك، وجعل الأخت أخاً؛ لأنها عصبة مع البنت، كما أن الجد عصبة. بنت أو بنت ابن، وخمس أخوات، وجد. في قول الثلاثة: للبنت النصف وللجد السدس، وهو مثل ثلث الباقي، والباقي للأخوات. امرأة، وبنت، وأخ، وأخت، وجدّ. في قول الثلاثة: للمرأة الثمن، وللبنت النصف، وللجد السدس، والباقي بين الأخ والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن أسقطت الأخت منها، ففي قول علي: للمرأة الثمن، وللبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخ. وفي قول زيد، وابن مسعود: للمرأة الثمن وللبنت النصف، والباقي بين الأخ، والجد، نصفين، أصلها من ثمانية وتصح من ستة عشر. جدّة، وبنتان، وجد، وأخ. للجدة السدس، وللبنتين الثلثان، وللجد السدس، ويسقط الأخ في قول الجميع.

زوج، وبنت، وأخت، وجد. للزوج الربع، وللبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخت في قول الثلاثة. زوج، وأم، وبنتان، وأخت، وجد. للزوج الربع، وللأم السدس، وللبنتين الثلثان، وللجد السدس، تعول المسألة من اثني عشر إلى خمسةَ عشرَ، وتسقط الأخت في قول الثلاثة. زوجة، وأم، وبنتان، وأخت، وجد. للزوجة الثمن، وللأم السدس، وللبنتين الثلثان، وللجد السدس، والمسألة تعول من أربعة وعشرين إلى سبعة وعشرين، وتسقط الأخت في قول الجميع. القسم الخامس في ميراث الأم مع الجد وبعض الإخوة 6321 - كان عمر لا يفضل الأمَّ على الجد، ويُنزل الجدَّ منزلة الأب في الفريضة، ويقول: زوج، وأم، وجد. بمثابة زوج وأبوين. وزوجة، وأم، وجد. بمثابة زوجة وأبوين. وهو رواية عن ابن مسعود. وروي عن ابن مسعود التسويةُ بينهما. ولا يخفى مذهب زيد في تفضيل الأم على الجد، وهو مذهب علي.

مسائله: زوج، وأم، وأخ، وجد. في قول علي وزيد: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، ويسقط الأخ. وفي قول عمر وعبد الله: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي وهو السدس، والباقي بين الأخ والجد نصفين. زوج، وأم، وأخت وجد. وهي مسألة الأكدرية. في قول ابن مسعود: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وهو السدس، وللأخت النصف، وللجد السدس، تعول من ستة إلى ثمانية. وفي قول علي: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، تعول من ستة إلى تسعة. وهذا مذهب زيد في وضع المسألة، في الرواية المشهورة رواها خارجة (1) بن زيد إلا أنه يجمع بين نصيب الجد والأخت، فيقسم بينهما على ثلاثة، وتصبح من سبعة وعشرين. وعلى رواية قَبيصة، للزوج النصف وللأم الثلث، وللجد السدس، وتسقط الأخت. امرأة، وأم، وأخت، وجد. في قول عمر وعبد الله: للمرأة الربع، وللأم السدس وللأخت النصف، وللجد السدس. تعول المسألة من اثني عشر إلى ثلاثةَ عشرَ. في قول علي للمرأة الربع، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس. تعول من اثني عشر إلى خمسةَ عشرَ.

_ (1) خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري- تابعي. أحد فقهاء المدينة السبعة ت 99 هـ.

وفي قول زيد: للمرأة الربع، وللأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين. أصلها من اثني عشر، وتصح من ستة وثلاثين. أم، وأخت، وجد. هذه مسألة الخرقاء، وقد بيّنا الخلافَ فيها قبل هذا. امرأة، وأم، وجد، وأخ. في قول علي وزيد: للمرأة الربع، وللأم ثلث المال، والباقي بين الأخ والجد نصفين. وفي قول عمر وعبد الله: للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، والباقي بين الجدّ والأخ نصفين، وهذه إحدى مربعات ابن مسعود، وله أربعُ مربعات نجمعها: إحداها - مسألة الخرقاء، وصورتها: أخت، وجدّ، وأمّ. للأخت النصف، والباقي بين الأم والجد نصفين، فكانت الفريضة مربعة عنده. والثانية: زوج، وأخت، وجد. فعند ابن مسعود: للزوج النصف، وللأخت الربع، وللجد الربع، فهذه مربعته الثانية. والثالثة: بنت، وأخت، وجد. للبنت عنده النصف، وللأخت الرّبع، وللجد الربع.

الرابعة: زوج، وأم، وأخت، وجد. فعند ابن مسعود: للزوجة الربع، وللأم ثلث ما تبقّى، وهو ربع المال، وللأخت الربع، وللجدّ الربع. فهذه مربعاته. ومذهبه مختلطٌ فيها. القسم السادس - في المعادَّة 6322 - جملة المعادة على أربعة أضرب. الأول - أن يكون ولد الأب والأم عصبة وولد الأب عصبة، على قول علي وعبد الله: لا يكون بولد الأب اعتبار، وتكون القسمة بين الجدّ، وولد الأب والأم. وفي قول زيد القسمة بين الجميع، مع اعتبار الثلث للجد، ثم يَرُدّ ولدُ الأب ما في يده على ولد الأب والأم. فإن كان معهم ذو فرض اعتبر بعد الفرض للجدّ القسمةُ، أو ثلثُ ما بقي، أو سدس المال، على ما تقدم أصله. مسائله: جدّ، وأخ من أبٍ وأم، وأخ من أب. في قول علي وعبد الله: المال بين الأخ من الأب والأم، وبين الجد نصفين. وفي قول زيد: المال بين الجدّ والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب على ثلاثة، ثم يرُدّ الأخ من الأب ما في يده على الأخ من الأب والأم، فيصير للأخ من الأب والأم ثلثا المال، وللجد الثلث.

جدٌّ، وأخٌ وأخت لأب وأم، وأخ لأبٍ. في قول علي وعبد الله: المال بين الجد والأخ والأخت من الأب والأم على خمسة. وفي قول زيد: للجدّ الثلث، والباقي بين الأخ والأخت من الأبوين على ثلاثة. أصلها من ثلاثة وتصح من تسعة. زوجٌ، وجد، وأخ من أبٍ وأمٍ، وأخ من أب. في قول علي وعبد الله: للزوج النصف، والباقي بين الجد والأخ من الأب والأم نصفين. وفي قول زيد: للزوج النصف، والباقي بين الجد، والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، على ثلاثة، وتستوي فيها القسمة والسدس، وثلث الباقي، ثم يردُّ الأخُ من الأب سهمَه على الأخ من الأب والأم. امرأة، وجد، وأخ من أبٍ وأم، وأخ من أب. في قول علي وعبد الله: للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأخ من الأب والأم. وفي قول زيد: للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأخ من الأب والأم والأخ من الأب، على ثلاثة. ثم يردُّ الأخ من الأب ما في يده على الأخ من الأب والأم، فيكمل للأخ من الأب والأم نصف المال. وللجد الربع، وتصير من أربعة. 6323 - والضرب الثاني: من مسائل المعادّة: أن يكون ولد الأب والأم عصبة، وولد الأب أخوات، فلا اعتبار بولد الأب في قول علي وعبد الله. وفي قول زيد: يدخُلن في القسمة ثم يدفعن ما أصابهنّ إلى ولد الأب والأم.

مسائله: جدّ، وأخ لأبٍ وأمٍ، وأخت لأبٍ. في قول علي وعبد الله: المال بين الجدّ والأخ نصفين. وفي قول زيد: المال بين الجميع على خمسة، ثم تَردُّ الأختُ سهمَها على الأخ من الأب والأم، فيصير للجدّ سهمان، وللأخ ثلاثة. جدّ، وأخ لأبٍ وأم، وأختان لأب. في قول علي وعبد الله: المال بين الجد والأخ نصفين. وفي قول زيد: المال بينهم على ستة، ثم تَردُّ الأختان سهمَهما على الأخ من الأب والأم، فيصير للجد سهمان، وللأخ أربعة. جد، وأخ وأخت لأبٍ وأمٍ، وأخت لأبٍ. في قول علي وعبد الله: المال بين الجد والأخ والأخت من الأب والأم، على خمسة. وفي قول زيد: المال بين الجميع على ستة، ثم ترد الأخت من الأب سهمَها على الأخ من الأبِ والأم، بينهما على ثلاثة. أصلها من ستة وتصحُّ من ثمانيةَ عشرَ. امرأة، وجد، وأخ من أبٍ وأمٍ، وأخت من أب. في قول علي وعبد الله: للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأخ من الأب والأم نصفين، أصلها من أربعة، وتصحّ من ثمانية. وفي قول زيدٍ: للمرأة الربع، والباقي بين الجد، والأخ والأخت على خمسة أصلها من أربعة، وتصحّ من عشرين. ثم تَردّ الأختُ ما في يدها على الأخ من الأب والأم.

6324 - الضرب الثالث من مسائل المعادة: أن يكون ولد الأب والأم أخوات، وولد الأب عصبة. على قول علي: نفرض لولد الأب والأم ونقسم الباقي بين ولد الأب والجد، [ونعتبر] (1) القسمةَ والسدس. وفي قول عبد الله: يُفرض لولد الأب والأم، ويكون الباقي للجد، ويسقط ولد الأب؛ فإن كان الباقي أقلَّ من السدس، فرض للجد السدس. وفي قول زيد: يقسم المال بين الجميع: للذكر مثل حظ الأنثيين ما لم تجاوز القسمة ستة أسهم، وما حصل في يد ولد الأب ردّوا منه على ولد الأب والأم مقدارَ ما يكمل به فرضهن، أوْ جميع ما في أيديهم إلى تكملة الفرض. مسائله: جد، وأخت لأبٍ وأمٍ، وأخ لأب. في قول علي: للأخت النصف، والباقي بين الجد والأخ نصفين. وفي قول ابن مسعود: للأخت النصف، والباقي للجدّ. وفي قول زيد: المال بين الجميع، على خمسة، ثم يرد الأخُ من الأب على الأخت تمامَ النصف، فتصحّ من عشرة، للجدّ من أول القسمة أربعة، وللأخ من الأب أربعة، وللأخت من الأب والأم سهمان، ثم يردُّ الأخ من الأب على الأخت من الأب والأم ثلاثة؛ تكملة النصف، فيفضل له سهمٌ واحد. أخت لأبٍ وأم، وأخوان لأب، وجدّ. في قول علي: للأخت النصف، والباقي بين الجد والأخوين على ثلاثة، وتصح من ستة. وفي قول عبد الله: للأخت النصف، والباقي للجد.

_ (1) في الأصل: فنعتبر.

وفي قول زيد للجدّ الثلث، [ونجعل] (1) للأخت النصف، والباقي للأخوين، وتصح من اثني عشر. أخت لأبٍ وأمٍ، وأخ، وأخت لأبٍ، وجد. في قول علي: للأخت من الأب والأم النصف، والباقي بين الجد، والأخ، والأخت من الأب: على خمسة، وتصح من عشرة. وفي قول عبد الله: للأخت من الأب والأم النصفُ، والباقي للجد، وصار الأخ مشؤوماً على الأخت من الأب. وفي قول زيد: المال بينهم على ستة، ثم يرد ولد [الأب] (2) على الأختِ من الأبِ والأم تمامَ النصف، فيبقى مع ولد الأب سهمٌ بينهما: على ثلاثة. أصلها من ستة، وتصح من ثمانية عشر. جدّ، وجدة، وأخت لأبٍ وأمٍ، وأخ لأب. في قول علي: للجدة السدس، وللأخت من الأب والأم النصف، والباقي بين الجد والأخ نصفين. وفي قول عبد الله: للجدة السدس، وللأخت من الأب والأم النصف، والباقي للجدّ خاصة. وفي قول زيد: للجدة السدس، والباقي بين الجد، والأخ، والأخت على خمسة، ثم يردّ الأخُ من الأب على الأخت من الأبِ والأم ما في يده ليكمل لها النصف، وتصحّ من ستة. أم، وجد، وأخت لأبٍ وأمٍ، وأخ، وأخت لأب. في قول علي: للأم السدس، وللأخت النصف، وللجد السدس، والباقي

_ (1) في الأصل: ويحصل. (2) في الأصل: الابن.

بين الأخ والأخت من الأب على ثلاثة، وتصح من ثمانية عشر. وفي قول عبد الله: للأم السدس، وللأخت من الأبِ والأمِ النصف، والباقي للجد. وفي قول زيدٍ: للأم السدس، والباقي بين الجد، والأخت من الأب والأم، والأخ والأخت من الأب على ستة، يستوي فيها القسمة، وثلثُ ما تبقّى، وهما خير من السدس، ويرد فيها ولدُ الأب على الأخت من الأب والأم تمام النصف، فيبقى في يد ولد الأب سهم، بينهما على ثلاثة، وتصح المسألة من أربعة وخمسين. امرأة، وجد، وأخت من أبٍ وأمٍ، وأخ لأب. في قول علي: للمرأة الربع، وللأخت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخ. وفي قول عبد الله: للمرأة الربع، وللأخت النصف، والباقي للجد. وفي قول زيد: للمرأة الربع، والباقي بين الجد، والأخ، والأخت، على خمسة، ثم يردّ الأخ ما في يده على الأخت من الأبِ والأمِّ، وتصح من عشرين. أختان لأبٍ وأم، وأخ لأب، وجد. في قول علي: للأختين الثلثان، والباقي بين الجد والأخ [من الأب] (1) نصفين. وفي قول عبد الله: للأختين الثلثان، والباقي للجد. وفي قول زيد المال بينهم على ستة، ثم يرد الأخ من الأب جميعَ ما في يده على الأختين من الأبوين ليكْمَل لهما الثلثان.

_ (1) زيادة من النسخ الثلاث غير الأصل.

6325 - الضرب الرابع من مسائل المعادّة: أن يكون ولد الأب والأم وولد الأب كلاهما أخوات، فعلى قول علي، وابن مسعود: يفرض لهن على القياس فيهن، ويكون الباقي للجد، إلا أن يكون أقل من السدس. وفي قول زيد: يقسّم المال، أو الباقي منه بعد فرض ذوي الفروض، بين الجد والأخوات. إلا أن يكون السدسُ، أو ثلثُ الباقي خيراً له من القسمة. ثم يَردُّ ولدُ الأب على ولد الأب والأم ما يتم به فرضُهم، أو جميعَ ما في أيديهم إن لم يتم الفرض. مسائله: جد، وأخت لأب وأم، وأخت لأب. في قول علي وعبد الله: للأخت من الأب والأم النصفُ، وللأخت من الأب السدس، والباقي للجد. وتصحّ من ستة. وفي قول زيد: المال بين الجد والأختين على أربعة، ثم تردّ الأخت من الأب على الأخت من الأب والأم [ما في يدها] (1) لتكمل لها النصف، فيصير المال بين الجد والأخت من الأب والأم نصفين. أختٌ لأبٍ وأمٍّ، وأختان لأبٍ، وجد. في قول علي وعبد الله: للأخت من الأب والأم النصف، وللأختين من الأب السدس، والباقي للجد. وفي قول زيد: المال بينهم: للذكر مثلُ حظ الأنثيين، على خمسة، ثم يرد الأختان من الأب، على الأخت من الأب والأم مقدارَ سهمٍ ونصفٍ ليكمل لها النصف، ويبقى للأختين [من الأب] (2) نصفُ سهم بينهما، فنضرب أربعةً في خمسة، فتردّ عشرين، فمنها تصح.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) زيادة من غير الأصل.

أخت لأبٍ وأمٍ، وأربع أخوات لأبٍ، وجد. في قول علي وعبد الله: للأخت من الأبِ والأم النصف، وللأخوات من الأب السدس، والباقي للجد. وفي قول زيد: للجدِّ الثلث، وللأخت من الأب والأمَّ النصف، والباقي للأخواتِ من الأبِ. جد، وأختان لأبٍ وأم، وأخت لأب. في قول علي وعبد الله: للأختين من الأب والأم الثلثان، والباقي للجد. وفي قول زيد: المال بينهم على خمسة ثم ترد الأخت من الأب، ما في يدها على الأختين من الأب والأم. جد، وأم، وأخت من أبٍ وأمٍّ، وثلاث أخوات لأب. في قول علي وعبد الله: للأم السدس، وللأخت من الأب والأم النصف، وللأخوات من الأب السدس، والباقي للجد. وفي قول زيدٍ: للأم السدس، والباقي بين الجد والأخوات على ستة، تستوي المقاسمة وثلث ما يبقى، وهما خيرٌ من السدس، ثم يرد ولد الأب على الأخت من الأب والأم تمامَ النصف. جد وجدّة، وأخت لأب وأم، وأربع أخوات لأب. في قول علي وعبد الله: للجدة السدس، وللأخت من الأب والأم النصف، وللأخوات من الأب السدس، والباقي للجد، وهو السدس. وفي قول زيد: للجدة السدس، وللجد ثلث الباقي، وللأخت من الأب والأم النصف، والباقي للأخواتِ من الأب: أصلها من ثمانيةَ عشر، وتصح من اثنين وسبعين.

زوج، وجد، وأخت لأبٍ وأمٍّ، وأخت لأب. في قول علي وعبد الله: للزوج النصف، وللأخت من الأب والأم النصف، وللأخت من الأب السدس، وللجد السدس، وتعول المسألة من ستة إلى ثمانية. وفي قول زيد: للزوج النصف، والباقي بين الجد والأختين على أربعة، ثم تردُّ الأختُ من الأب ما في يدها على الأخت من الأب والأم، فيكون الباقي بعد نصيب الزوج بين الجد والأخت من الأب والأم نصفين. زوج، وأختان لأبٍ وأمً، وأختان لأبٍ، وجد. في قول علي وعبد الله: للزوج النصف، وللأختين من الأب والأم الثلثان، وللجد السدس، وتعول من ستة إلى ثمانية. وفي قول زيد: للزوج النصف، والباقي بين الجد والأخوات على ستة، ثم تردّ الأختان من الأب ما في أيديهما على الأختين من الأب والأم. وعلى هذا فقِسْ جميعَ مسائل الباب. ولم نذكر في المسائل مذهبَ من يجعل الجد أباً لظهوره. القول في العول وبيان المذاهب فيه 6326 - ذكر الشافعي العول، ومصيرَ جمهور الصحابة رضي الله عنهم إليه، فنذكر أولاً الأصول التي تنشأ مسائل الفرائض منها، ثم نعطفُ عليها العولَ ومسائلَه. فنقول: المسالة الواقعة في المواريث لا تخلو إمّا أن تشتمل على صاحب فرضٍ أو أكثر، وإما أن تخلو عن أصحاب الفروض. وتشتمل على العصبات. 6327 - فإن تجرد فيها العصبات، فالعدد الذي تصحّ المسألة منه يؤخذ من

أعدادِ الرؤوس: فإن تمحّضوا ذكوراً، فالمسألة تقام من عدد رؤوسهم، كما إذا قيل: مات رجل، وخلف عشرةً من البنين، فالمسألة من عشرة. وإن كانوا ذكوراً وإناثاً، أخذنا عددَ رؤوس الإناث، وحسبنا كلَّ ذكرٍ برأسين؛ فإن حصةَ الذكر في التعصيب حصة الاثنين، ونقيم المسألة من عدد الإناث، وضعف عدد الذكور؛ فإن قيل: في المسألة سبع بنات، وسبعةٌ بنون، فنأخذ عدد الإناث ونضعِّف عددَ الذكور، فنقول: المسألة تصح من أحد وعشرين. وهذا قياس لا خفاء به. 6328 - فإن اشتملت المسألة على ذي فرضٍ مقدّر، فالأصول التي تنشأ منها مسائل الفرائض على قول المتقدمين سبعة: اثنان، وثلاثة، وأربعة، وستة، وثمانية، واثنا عشر، وأربعة وعشرون. وزاد المتأخرون على رأي زيد أصلين آخرين: ثمانيةَ عشرَ، وستةً وثلاثين. وهما ينشآن من مسائل الجد. فأما الاثنان، فكل مسألة اشتملت على النصف، والنصف، وذلك أن يكون في المسألة زوج وأخت، [أو] (1) على النصف وما بقي. والثلاثة أصل كل مسألة فيها، ثلث وثلثان، أو ثلث وما بقي، أو ثلثان وما بقي. والصور: (أم، وأخ) (بنتان، وعم) (أختان لأب وأم، أو لأب، واثنان من أولاد الأم) والأربعة أصل كل فريضة فيها ربع، وما بقي. وهي: زوج، وابن. أو زوجة، وأخ.

_ (1) في الأصل: " له " مكان " أو "، وهو تحريف واضح.

أو: ربعٌ، ونصفٌ، وما بقي، وهي: زوج، وبنت، وأخ. أو: زوجة، وأخت، وابن أخ. أو ربع، وثلث ما يبقى، وما يبقى وهي: زوجة، وأبوان. أو زوجة، وجد، وثلاثة إخوة. والستة أصل كل فريضة فيها سدس، وما بقي، أو سدس، وثلث، وما بقي، أو: سدس، وثلثان، وما بقي. أو: نصفٌ، وثلث، وما بقي. ولا يخفى وضع الصور على من انتهى إلى هذا المنتهى. والثمانية أصل كل فريضة فيها ثمن، وما بقي، أو: ثمن، ونصفٌَ، وما بقي. وليس في الفرائض ربعٌ وثمنٌ. ولو كانا لخرجا من ثمانية. وأما اثنا عشر، فأصل كل فريضة فيها: ربع، وسدس، وما بقي. أو: ربع، وثلثٌ، وما بقي، أو: ربعٌ، وثلثان، وما بقي. والأربعة والعشرون أصل كل فريضة فيها: ثمنٌ، وسدس، وما بقي، أو: ثمن وثلثان، وما بقي. ولا يتصور اجتماع الثمن والثلث في الفريضة، ولو تصور [لخرجا] (1) من أربعةٍ وعشرين. 6329 - وأما ثمانية عشر على طريقة المتأخرين، أصل كل فريضة فيها: سدس، وثلث ما بقي، وما بقي، وصورتها (جدة، وجد، [وإخوة] (2)) أو: أم، وجد، وإخوة. للجدة السدس ثلاثة، وللجد ثلث ما يبقى خمسة، والباقي بين الإخوة.

_ (1) في الأصل: تخرجا. (2) زيادة من المحقق لبيان صورة المسألتين اللتين أرادهما المؤلف.

فأما الستة والثلاثون، أصل كل فريضة فيها ربع، وسدس، وثلث ما بقي، وما بقي. وهي: زوجة، وأم، وجد، وإخوة. للزوجة الربع: تسعة، وللأم، أو الجدة السدس: ستة، وللجد ثلث ما تبقى، وهو سبعة، والباقي للإخوة. ولم يضع المتقدمون هذين الأصلين، وقالوا: إنما نضع الأصول التي تخرج منها الفرائض، المذكورة في الكتاب؛ فإن اعترض شيء لم نزد، ولم نتعدَّ، وصححنا ما يقع من المسائل بالضَّرْب. وهؤلاء يقولون: المسألة الأولى من ستة، ثم بالضرب تصير ثمانيةَ عشرَ: للجدة سهمٌ من ستة، فيبقى خمسة، ونحن نحتاج إلى ثلث ما تبقى، وليس للخمسة ثلثٌ صحيح، فنضرب مخرج الثلث، وهو ثلاثة في أصل المسألة، فتصير ثمانية عشرَ. ووضعوا المسألة الثانيةَ على اثني عشر، ثم بالضرب تصير ستةً وثلاثين، وبيانه: للجدة السدس: سهمان من اثني عشر، وللزوجة الربع: ثلاثة. وللجد ثلث ما يبقى، وليس للسبعة (1) ثلثٌ صحيح، فنضرب مخرج الثلث في أصل المسألة فترد ستة وثلاثين. وهذا الذي نذكره الآن مراسمُ. وسنذكر قدراً صالحاً في الضرب والقسمة، ووضع الأعداد المشتملة على الأجزاء الصحيحة التي يعبّر عنها بالكسور، ووضع هذه الأصول قدمناه لمسيس الحاجة إليه ناجزاً في ذكر أصول العَوْل. 6330 - والغرض من وضع الأصول تأسيسُ أعدادٍ تخرج منها مقدّرات الفرائض، ثم لا نلتزم ضبطَ أعداد المستحقين، فربما يكونوا (2) على عدّةٍ يصح

_ (1) السبعة: أي الباقية بعد سهمي الجد، والزوجة (12 - 5) =7. (2) " فربما يكونوا " هكذا في النسخ الأربع بحذف النون، نون الرفع، وهي لغة صحيحة =

قسمةُ مواريثهم من أصل مسألتهم، وربما يكونُوا على عدّة لا تصح قسمةُ مواريثهم بسبب العدد، وما كان كذلك فطريقه تصحيحُ الكسور بالضرب، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله. وإنا لم نلتزم وضعَ المسائل على الصحة؛ فإن الأعداد لا نهاية لها. 6331 - والأصول التي ذكرناها تنقسم: فمنها ما يقوم (1) بأفراد الفرائض، ومنها ما لا يقوم إلا بتعدد الفرض، فأما ما يقوم بأفرادِ الفرائض فالاثنان، والثلاثة، والأربعة، والستة، والثمانية. وأمّا ما لا يقوم إلا بتعدد الفرض، فالاثنا عشر، والأربعةُ والعشرون. فأما ما يقوم بأفراد الفرائض، فإنه قد يشمل على فرضين، ولكن ليس الفرضان من ضرورة قيامه، والاثنا عشر والأربعة والعشرون من ضرورة قيامهما تعدُّدُ الفرض. ثم طريق إقامتهما أن نقول: إذا احتجنا إلى الربع والثلث أخذنا مخرج الربع أربعة ومخرج الثلث ثلاثة، وضربنا أحد المخرجين في الثاني، وقلنا: العدد الذي له ثلث وربع صحيحان: اثنا عشر. وإذا احتجنا إلى الربع، والسدس أخذنا مخرج الربع أربعة، ومخرج السدس ستة، ثم نجد بينهما موافقة بالنصف، فنضرب نصفَ أحدهما في كل الثاني. وإذا احتجنا إلى الثمن والثلثين، أخذنا مخرج الثمن ثمانية، ومخرج

_ = وعليها في حديث مسلم، عن أصحاب القليب، يوم بدر: " كيف يسمعوا، وأنى يجيبوا " قال النووي في شرح مسلم: " وهي لغة صحيحة، وإن كانت قليلة الاستعمال، وسبق بيانها مرات، ومنها الحديث السابق في كتاب الإيمان: " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا " (رقم 54) (النووي على مسلم: 18/ 206: كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه ح 2874). (1) يقوم: أي يكون ويوجد.

الثلث، ثلاثة، وضربنا أحدهما في الثاني، فيبلغ أربعة وعشرين، وقلنا: أقل عدد يخرج منه الثمن والثلثان صحيحين أربعة وعشرون. فإذا احتجنا إلى الثمن والسدس، أخذنا الثمانية، والستة، ثم نجد بينهما موافقةً بالنصف، فنضرب نصف أحدهما في كل الثاني فيرد أربعة وعشرون. 6332 - ومسألتا باب الجد، وهما ثمانية عشر، وستة وثلاثون صحيحتان على قاعدة التركيب، ولكن لم يُفردها المتقدمون لأمرين: أحدهما - أن الأصول موضوعة على المقدّراتِ المنصوصة في الكتاب، وهي المجمع عليها، وثلث ما يبقى في المسألتين ليس منصوصاً، ولا متفقاً عليه، والأمر في ذلك قريب. 6333 - ثم الأصول السبعة منقسمة إلى عائلةٍ، وغير عائلةٍ، فغيرُ العائلة منها: الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والثمانية: هذه الأصول لا يتطرق إليها العولُ، وهي منقسمة إلى عادلةٍ، وناقصة، فالعادلة: الاثنان، والثلاثة، ونعني بالعادلة أن سهامها التي تخرج عنها تستغرقها. فإذا كان الاثنان عادلة، فهو إذا اجتمع نصفان. والثلاثة إذا كانت عادلة، فهي إذا اجتمع الثلث والثلثان، فتستغرقان الثلاثة. والناقصة: أربعة، وثمانية، والمعني بالناقصة أن سهام المسألة التي عليها وضع المسألة لا تستغرقها؛ فإن الذي يخرج من الأربعة: الربع، والنصف، وهما لا يستغرقان الأربعة. والذي يخرج من الثمانية: الثمن، والنصف، وهما لا يستغرقان الثمانية. 6334 - والعائلة من الأصول: الستةُ وضعفُها، وضعفُ ضعفها. فهذه الأصول هي التي يتطرق العول إليها على رأي الجمهور، لا غير.

أما الستة، فإنها تعول بأفرادها (1) وأشفاعها، ومنتهى عولها عشرة. ْفتعول بسدسها إلى سبعة، وبثلثها إلى ثمانية، وبنصفها إلى تسعة، وبثلثيها إلى عشرة. على ما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى. وأما الاثنا عشر، فتعول بالأوتار دون الأشفاع، تعول بنصف سدسها إلى ثلاثة عشر، وبربعها إلى خمسة عشر، وبربعها وسدسها إلى سبعة عشر. وأما الأربعة والعشرون فتعول عولةً واحدة بثمنها إلى سبعة وعشرين، لا غير. وهذا إذا كان في المسألة زوجة وبنتان وأبوان. وهي الملقبة بالمنبرية، وقد قيل: سئل علي عنها وهو على المنبر، فقال على الارتجال: صار ثمنها تسعاً (2). فنذكر فصلين أحدهما في معنى العول، وبيان المذاهب فيه على الأصل. والثاني في تفصيل مذهب القائلين بالعول، وضرب الأمثلة، وتصوير المسائل. فأمّا الفصل الأول 6335 - فنقول: كلّ مسألة اجتمع فيها أهل السهام، وكان مجموع سهامهم زائداً على أصل الفريضة، فهي من مسائل العول. والذي ذهب إليه الجمهور، والجلّة: عمرُ، وعلي، وزيد، والعباس، ومعاذ بنُ جبل، وابنُ مسعود، وأكثر الصحابة رضي الله عنهم: قسمةُ المال بين أهل السهام، على مبلغ سهامهم، وإن زادت على الفريضة، فنجعل مبلغ السهام أخذاً من أجزاء أصل المسألة أصلَ القسمة، ونقسم التركة بها، وهذا مذهب مالك والشافعي

_ (1) أفرادها وأشفاعها: أي تكون شفعاً، فتعول إلى ثمانية، وإلى عشرة، وتكون وتراً (فرداً)، فتعول إلى سبعة وتسعة. وهي لغة صحيحة. (2) خبر (المنبرية) رواه أبو عبيد، والبيهقي (6/ 253) قال الحافظ: " وليس عندهما أن ذلك كان على المنبر، وقد ذكره الطحاوي من رواية الحارث عن علي فذكر فيه المنبر ". (ر. التلخيص 3/ 192).

والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، ومن تدور عليه فتاوى الأمصار. وذهب ابن عباس إلى إبطال العول، وإذا ازدحمت السهام، ولم يرَ فيها حاجباً ولا محجوباً، فأصل مذهبه إدخالُ النقص على أربعة أصنافٍ، إذا ضاقت المسألة عن سهامها، وهم: البناتُ، وبنات الابن، والأخوات من الأب والأم، والأخوات من الأب. تابعه على مذهبه محمدُ بنُ الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين، وعطاء، وأهلُ الظاهر. واختلفت الرواية عن ابن عباس في إدخال النقص على الإخوة والأخوات من الأم، فالمشهور من طريق الرواية أنه لا يدخل الضرر عليهم. وروي عنه من طريق شاذ: إدخال النقص عليهم. وهذه الرواية وإن كانت غريبة، فهي اللائقة بقياس أصله. فإنا نقول في مسألة [فيها] (1). زوج، وأم، واثنان من أولادِ الأم: لا بد لابن عباس من أحد أقوالٍ ثلاثة: إمّا أن يقول فيها: للزوج النصف، وللأم (2) الثلث، ولولدي الأم الثلث، فيكون أعال المسالة من ستة إلى سبعة، وهذا خلاف أصله. وإما أن يقول: للزوج النصف وللأم السدس ولولدي الأم الثلث، فيكون قد حجب الأم من الثلث إلى السدس بالاثنين من الإخوة، وذلك خلاف أصله؛ فإنه لا يحجبها بأقل من ثلاثة. وإما أن يقول: للزوج النصف، وللأم الثلث، والباقي لولدي الأم، وهو السدس، فيكون قد أدخل النقص على أولاد الأم. وهذا هو الأشبه بأصله.

_ (1) زيادة من جميع النسخ غير الأصل. (2) للأم الثلث: لأن ابن عباس لا يحجبها من الثلث إلى السدس إلا بثلاثة من الإخوة على الأقل. كما تقدم، وسيأتي قريباً جداً.

6336 - واختلف الفرضيون على قياس قول ابن عباس في البنت وبنت الابن إذا اجتمعتا، مع ذوي الفروض. وفي الأخت من الأب والأم، والأخت من الأب، إذا اجتمعتا مع ذوي الفروض، وكان الباقي من المال بعد الفروض- أقلَّ من النصف. فمنهم من قال: قياس قوله يقتضي أن يكون الباقي كلُّه للبنت خاصّة، وتسقط بنت الابن. أو الأخت من الأب والأم خاصة، وتسقط الأخت من [الأب] (1). وقيل: هذه رواية يحيى بن آدم. وروى الباقون عنه: أن الباقي من المال بعد الفروض التي وصفناها، يقسم بين البنت، وبنت الابن. وبين الأخت من الأب والأم، والأخت من الأب على أربعة أسهم: للبنت منها ثلاثة، وكذلك للأخت من الأبِ والأم. ولبنت الابن سهمٌ، وكذلك للأخت من الأب. 6337 - وأجمع الفرضيون في نقل مذهبه على أن الباقي من المال إذا كان نصف المال، أو أكثر، أنه يجب توفير النصف على البنت، أو الأخت من الأب والأم، وتخصيص بنت الابن، والأخت من الأب بالنقص، والإسقاط. مثال ذلك: زوج، وأبوان، وبنت، وبنت ابن. فعلى رواية يحى بن آدم (2): للزوج الربع، وللأبوين السدسان، والباقي للبنت. وعلى الرواية الثانية: الباقي بين البنت، وبنت الابن، على أربعة أسهم:

_ (1) في الأصل: الأم، وهو سبق قلم لا شك. (2) يحيى بن آدم بن سليمان، أبو زكريا الأموي، مولاهم، الكوفي. صاحب كتاب الخراج. ت 203 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 150، سير أعلام النبلاء: 9/ 522).

ثلاثةُ أرباعه للبنت، وربعُه لبنت الابن. والمثال في الأختين أن يكون الميت خلّف: امرأته، وأماً، وأختاً لأب وأم، وأختاً لأبٍ. فعلى رواية يحيى: للمرأة الربع، وللأم الثلث (1)، والباقي للأخت من الأب والأم، وتسقط الأخت من الأب. [و] (2) على رواية غيره: الباقي بعد الربع، والثلث، على أربعة أسهم: للأخت من الأب والأم منها ثلاثة، وللأخت من الأب سهم. وبالجملة لا يجد ابن عباس بداً من إدخال النقص على بعض أصحاب السهام. ثم إنه يدخل النقص في رواية على صنفٍ، وفي روايةٍ على صنفين، وسنذكر علّة مذهبه بعد الفراغ عن تمهيد المذهب، إن شاء الله عز وجل. 6338 - واختلف الفرضيون على قياس مذهبه في مسألةٍ: زوج وثلاث أخوات متفرقات. فروى يحيى عنه: للزوج النصف، وللأخت من الأم السدس، والباقي للأخت من الأب والأم. وروى غيره: للزوج النصف، وللأخت من الأم السدس، والباقي بين الأخت من الأب والأم، والأخت من الأب، على أربعة أسهم: ثلاثة للأخت من الأب والأم، وواحد للأخت من الأب. وروى أيوبُ بنُ سليمان الفرضي (3) مذهباً ثالثاً عن ابن عباس في هذه

_ (1) تذكر أن الكلام في مذهب ابن عباس، فلا تظن أن الثلث للأم هنا خطأ. (2) في الأصل: " على " بدون الواو. (3) أيوب بن سليمان الفرضي، لم نجد ترجمة له في طبقات الفقهاء، وإنما وجدنا في طبقات الحفاظ: أيوب بن سليمان بن بلال، أبو يحيى المدني، إمام ثقة روى عنه البخاري وأصحاب السنن. ت 224 هـ. فلعله هو (تهذيب التهذيب: 1/ 404).

المسألة، وهو أنه قال: للزوج النصفُ، والباقي بين الأخوات على خمسة أسهم: ثلاثة أخماسه للأخت من الأب والأم، وخمسُه للأخت من الأب، وخمسُه للأخت من الأم. وقيل هذا قياسٌ، وليس بنقلٍ. 6339 - ومما اختلف الفرضيون في قياسه على مذهب ابن عباس. زوج، وأم، وأختان لأب وأم، وأختان لأم. قال يحيى ابنُ آدم: قياسُه، للزوج النصف، وللأم السدس، وللأختين من الأم الثلث، وتسقط الأختان من الأب والأم. وقيل: قياسه أن يقال: للزوج النصف وللأم السدس، والباقي بين الأختين من الأم، والأختين من الأب والأم بالسوية، لاستوائهن في قرابة الأم. وهذا يناظر التشريكَ في مسألة المشركة. 6340 - أما تفصيل مذهب القائلين بالعول، فسيأتي في رسم المسائل. ومن قال بالعول استمسك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم قبل أن أظهر ابنُ عباسٍ خلافَه، لما قال ابن عباس: " إن الذي أحصى رمل عالج عدداً، لم يجعل في مالٍ نصفاً، وثلثين " قيل له: " هلا ذكرت ذلك لعمر "، فقال: " كان رجلاً مهيباً، فهبته " (1)، ولا تخرج مفرداتُ ابن عباس في الفرائض إلا على مذهب من يشترط في الإجماع انقراضَ عصر المجمعين. وعلةُ القولِ بالعول بيّنةٌ؛ فإن أصحاب الفروض إذا ازدحموا، ولم يكن بعضهم حاجباً، وبعضهم محجوباً، وضاقت أجزاء المال عن مبالغ الفروض، فالتحكّم بإسقاط بعضهم لا معنى له، وتخصيص البعض بإدخال النقص عليه لا حاصل وراءه، فلا وجه إلا أن نجعل القسمة من مبالغ الفروض، ونجعل

_ (1) أثر ابن عباس: " إن الذي أحصى رملَ عالج " قطعة من حديث طويل، رواه البيهقي (6/ 253)، ورواه الحاكم مختصراً دون ما ذكره الإمام (4/ 340)، وعبد الرزاق (19022) (ر. التلخيص: 3/ 192، إرواء الغليل: 6/ 145).

أصحابها كمزدحمين بالديون على تركة تضيق عن الوفاء بها، فكلٌّ يضرب في التركة بمقدار حقّه. فأما ابن عباس، فإنه خصّص بالنقص طوائفَ يتطرق إليهم التعصيبُ، وهم البنات، وبناتُ الابن، الأخوات من الأب والأم، والأخوات من الأب، فإن الذكور يعصبونهم، فإذا عُصّبن، نقصت حقوقُهن عن المفروض. ثم اضطرب رأيه في أولاد الأم؛ من حيث إنهن لا يعصَّبْن، ولكنهن أخوات كأولاد الأب والأم، وأولاد الأب. فهذا متعلَّقُ كل فريق. وقد غلّظ ابنُ عباسٍ في هذه المسألة قولَه على مخالفيه، فروي أن عطاء قال له: لا يُغني عني وعنك ما تقول شيئاً ولو متَّ ومتُّ، لقُسِّم ميراثُنا على ما عليه القوم من خلاف [رأيك] (1) فقال ابن عباس: إن شاؤوا، فلندْع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا، ونساءهم، وأنفسنا، وأنفسهم، ثم نبتهل، فنجعل لعنةَ الله على الكاذبين (2). ولهذه القصة سمّيت هذه المسألة (3) مسألة المباهلة. الفصل الثاني في ذكر الأصول العائلة، ومنتهى عول كل أصل، وضرب الأمثلة، وبيان الأجوبة فيها 6341 - فنقول على سبيل التمهيد: الأصول العائلة على قول أصحاب العول ثلاثة: الستة، والاثنا عشر، والأربعة والعشرون. وما سوى هذه الأصول

_ (1) في الأصل: ذلك. (2) أثر عطاء عن مباهلة ابن عباس رواه سعيد بن منصور في سننه: ح 37، وأخرج عبد الرزاق نحوه من حديث طاووس، ح 19024. (3) المسألة: المراد بها قضية العول.

لا تعول على مذهب عمر، وعلي، وزيد، وابن مسعود، وغيرهم. وعلى قول معاذ قد تعول مسألة أصلها من ثلاثة؛ لأصلٍ قدمناه في عدد من يحجب الأم من الإخوة والأخوات. والثلاثةُ تعول عنده إلى أربعة. وأما الستة، فإنها تعول إلى عشرة، في قول الجمهور، وفي قول معاذ قد يبلغ عولُها إلى أحدَ عشرَ، على ما سنذكر أمثلةَ ذلك. وأما الاثنا عشر، فإنها تعول على قول الجمهور بالأفراد إلى سبعة عشر، فتعول إلى ثلاثةَ عشرَ، وإلى خمسةَ عشرَ، وإلى سبعة عشر، ولا تعول إلى أربعةَ عشرَ، ولا إلى ستة عشرَ. وعلى قول معاذ: تعول إلى تسعة عشر. وأمّا الأربعة والعشرون، فقد قال الجمهور منتهى عولها سبعةٌ وعشرون. وقال عبد الله بن مسعود: إنها قد تعول إلى أحدٍ وثلاثين. وألْجأه إلى ذلك أنه كان يحجب الأم إلى السدس، والزوجَ إلى الربع، والزوجة إلى الثمن بمن لا يرث: من كافرٍ، أو قاتل، أو مملوكٍ. واختلفت الرواية عنه في حجب الإسقاط بهؤلاء، فروي أنه كان يحجب بهم الإخوةَ، والأخوات من الأم، وروي أنه كان يحجب بهم حجب النقصان، ولم يحجب بهم حجبَ الإسقاط. ولم تختلف الرواية عنه في أن الأب الكافرَ لا يحجب الجدَّ، وإنما اختلفت الرواية عنه في حجب الفروع بالأصول. ثم قال الفرضيون: متى عالت المسألة من ستة إلى عشرة وإلى تسعة وإلى ثمانية وإلى سبعة (1)، كان الميت فيها امرأة، لا محالة.

_ (1) في الأصل: من ستة إلى عشرة، إلى سبعة، وإلى ثمانية. وفي باقي النسخ: من ستة إلى عشرة، وإلى تسعة، وإلى ثمانية. والمثبت تصرف من المحقق، حيث جمع بين السبعة والتسعة، وقد فرقت بينهما النسخ. مع أنهما في معنىً واحد.

وإذا عالت اثنا عشر إلى سبعة عشر، كان الميت رجلاً لا محالة، ومتى عالت إلى خمسةَ عشرَ، أو إلى ثلاثة عشر، فربما كان الميت رجلاً، وربما كان امرأة. والأربعةُ والعشرون، فلا بدّ وأن يكون الميت فيه رجلاً لمكان الثمن، عالت، أو لم تعل. 6342 - مسائل الباب: زوج، وأختان لأبٍ. في قول أصحاب العول: للزوج النصف، وللأختين الثلثان، والفرضان عائلان. أصلها من ستة، وتعول إلى سبعة. وعلى قول ابن عباس: للزوج النصف، والباقي للأختين. أصلها من اثنين، وتصح من أربعة. زوج، وأخت لأب وأم، وأخت لأب. للزوج النصف عائلاً، وللأخت من الأب والأم النصفُ، وللأخت من الأب السدسُ: تكملةَ الثلثين، والنقص داخلٌ على الفرائض. المسألة من ستة، وتعول إلى سبعة. وعلى قول ابن عباس: للزوج النصف، وكذلك للأخت من الأب والأم، وتسقط الأخت من الأب. أم، وأختان لأم، وأختان لأبٍ وأمٍ. في قول علي وزيد وابن مسعود، ومن تبعهم: للأم السدس، وللأختين من الأم الثلثُ، وللأختين من الأب والأم الثلثان. أصلها من ستة، وتعول إلى سبعة.

وفي قول معاذ بن جبل: للأم الثلث، ولولدي الأب والأم الثلثان، ولولدي الأم الثلث. المسألة عنده من ثلاثة، وتعول إلى أربعة. فإنه لا يرى الحجب بالأخوات، وإن كثرن، ما لم يكن فيهن ذكر. وفي قول ابن عباسٍ: للأم السدس، وللأختين من الأم الثلث، والباقي للأختين من الأب والأم، أصلها من ستة، وتصح من اثني عشر. زوج، وأم، وأختان لأبٍ وأمٍ. في قول علي، وزيد، وابن مسعود: تعول من ستة إلى ثمانية. وفي قول معاذ تعول إلى تسعة. وفي قول ابن عباس: للأم الثلث، وللزوج النصف، والباقي للأختين. زوج، وأم، وثلاث أخوات مفترقات. في قول علي وزيد وابن مسعود تعول من ستة إلى تسعة. وفي قول معاذ: تعول إلى عشرة. وفي قول ابن عباس: للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخت من الأم السدس وفي الباقي عنه روايتان: إحداهما - أنه للأخت من الأب والأم خاصة. والثانية - أن الباقي بين الأخت من الأب والأم، والأخت من الأب، على أربعة أسهم: ثلاثة منها للأخت من الأب والأم، وواحدٌ للأخت من الأب. زوج، وأم، وأختان لأب، وأختان لأم، في قول علي، وزيد، وابن مسعود: للزوج النصف، وللأم السدس، وللأختين من الأب الثلثان، وللأختين من الأم الثلث. المسألة من ستة، وتعول إلى عشرة. وفي قول معاذ: للأم الثلث، فتعول إلى أحد عشرة. فهذه الأمثلة في عول الستة. وليس في الأصول أكثر عولاً منها؛ فإنها تعول عند الجمهور بثلثيها وعند معاذ بخمسة أسداسها.

6343 - وأمّا أمثلة عول الاثني عشر، فمنها: امرأة، وجدة، وأختان لأب وأم. فللمرأة الربع، وللجدة السدس، وللأختين الثلثان. أصلها من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر. وفي قول ابن عباس: الباقي بعد الربع، والسدس، للأختين. امرأة، وأم، وأختان لأب. فعلى قول علي، وزيد، وابن مسعود: جوابها كالجواب في التي قبل هذه؛ لأن نصيب الأم كنصيب الجدة في تلك. وفي قول معاذ: تعول إلى خمسة عشر؛ لأنه يفرض للأم فيها الثلث. وفي قول ابن عباس: للمرأة الربع، وللأم الثلث، والباقي للأختين. امرأة، وأختان لأم، وأختان لأبٍ. في قول أهل العول تعُول المسألة من اثني عشر إلى خمسةَ عشرَ. وفي قول ابن عباسٍ: للمرأة الربع، وللأختين من الأم الثلث، والباقي للأختين من الأب. ولو كان فيهما بدل الأختين من الأب أخت لأب وأم، وأخت لأب، وباقي المسألة على حالها، فلا يخفى جواب من يُعيلُ. وفي الباقي روايتان عن ابن عباس: إحداهما - أن الباقي بعد الربع، والثلث، للأخت من الأب والأم، والرواية الثانية - أن الباقي بين الأخت من الأب والأم، والأخت من الأب، على أربعة أسهم. كما تكرّر. امرأة، وأم، وأختان لأم، وأختان لأب: في قول علي وزيد وابن مسعود: للمرأة الربع وللأم السدس، وللأختين من الأم الثلث، وللأختين من الأب الثلثان، وتعول إلى سبعة عشر.

وفي قول معاذٍ: للأم الثلث، فتعول إلى تسعة عشر، وفي قول ابن عباس: للمرأة الربع، وللأم السدس، وللأختين من الأم الثلث، والباقي للأختين من الأب. ولو فرضنا بدل الأختين من الأب أختاً من أب وأم، وأختاً من أب، لكان الجواب على ما مضى إلا أن الرواية تختلف عن ابن عباس فيما يبقى بين الأخت من الأب والأم، والأخت من الأب، كما تكرر. 6344 - وأما أمثلة الأربعة والعشرين: امرأة، وأبوان، وبنتان. في قول أهل العول: للمرأة الثمن، وللأبوين السدسان، وللبنتين الثلثان. أصل المسألة من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعةٍ وعشرين. وكذلك لو كان بدل الأبوين فيها أب، وجدة. وكذلك لو كان بدل الأبوين أم، وجدّ. وكذلك لو كان بدل الابنتين بنتا ابن. وفي قول ابن عباس: يكون الباقي بعد الثمن والسدسين للبنتين. فإن كان بدلهما بنت وبنت ابن، لكان للبنت النصف كاملاً، والباقي لبنت الابن، وهو أقل من السدس. وأما مثال العول إلى أحدٍ وثلاثين في قول ابن مسعود، فهو فريضة فيها. امرأة، وأم، وأختان لأم، وأختان لأب وأم. وولدٌ كافر، أو قاتل، أو رقيق. والتفريع على أن المحجوب بهذه الأسباب يحجب حجب النقصان، ولا يحجب حجب الإسقاط، فيحجب الابن المرأة من الربع إلى الثمن، ولا يحجب الأخوات، فإنه لا يحجب حجب الحرمان، على هذه الرواية التي عليها التفريع.

فللأم السدس: أربعة، وللزوجة الثمن؛ ثلاثة، وللأختين من الأم والأب الثلثان: ستة عشر، وللأختين من الأم الثلث: ثمانية فتبلغ المسألة إحدى وثلاثين. وقد نجزتْ مسائل العول. وقواعده. ***

باب ميراث المرتد

باب ميراث المرتد 6345 - لم يختلفوا في أن المرتد لا يرثُ المسلمَ، والخلافُ في أن المسلمَ هل يرثُه؟ فمذهب الشافعي أن المسلمَ لا يرثه، ولا فرق بين ما اكتسبه في الإسلام، وبين ما اكتسبه في الردة. وقال أبو حنيفة (1): يرثه المسلم ما اكتسبه في الإسلام، ولا يرثه ما اكتسبه في الردة، وعبر عما اكتسبه في الإسلام بالتليد، وعما اكتسبه في الردة بالطريف. وفي العلماء (2) من قال: يرثه التليدَ والطريفَ جميعاً. والكفار عندنا يتوارثون، وإن اختلفت مللهم، واختلف قول الشافعي في أن الذمي هل يرث الحربيَّ؟ والحربيُّ هل يرث الذميّ؟ فأحد القولين - أنهما يتوارثان؛ لأن الكفر يجمعهما، والثاني - لا يتوارثان لانقطاع الموالاة بينهما. والمرتد لا يرث مرتداً عندنا، كما لا يرث مسلماً.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 261، وشرح معاني الآثار: 3/ 268. وما أشار إليه إمامنا هو قول أبي حنيفة، وقد خالفه أبو يوسف ومحمد، فأثبتا الإرث في الكل. (2) العلماء: منهم أبو يوسف ومحمد، كما أشرنا آنفاً، وكذا الأوزاعي، وإسحاق، والحسن البصري، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، وروي عن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وهو رواية عن أحمد (ر. معالم السنن: 3/ 327، والمغني: 7/ 174).

والأصل المعتبر أن المرتد فيه عُلقةُ الإسلام، والأمر مغلّظٌ فيه. فإذا طالب المرتد ميراث مرتدٍ، قلنا: لا نورثك منه، كما لا نورثك من مسلم. وهذا كما أن المرتد لا ينكح مرتدة ابتداءً، وإن كانا متساويين في الردة. وسيأتي في كتاب المرتد [قولٌ: إن ولد المرتد من المرتدة مرتدٌّ، فكان لا يبعد على هذا أن نورث المرتدَّ من المرتد] (1). والقول الظاهر أن ولد المرتد من المرتدة مسلم، فعلى هذا يتجه قطعُ ميراث المرتد عن المرتد. وسنذكر في كتاب الجراح [قولاً أنّ] (2) المرتد يستوجب القصاص بقتل المرتد، وهذا يتضمن الحُكم بتساويهما. ولا يدفع ما ذكرناه من الاحتمال قولُ القائل: مال المرتد مستحَقٌّ بجهة الفيء، فإن ذاك الاستحقاق إنما يسلّم إذا لم توجد جهةٌ خاصة في الوراثة. نعم، إن قلنا: ملكُ المرتد يزول بالردّة إلى أهل الفيء، وإذا مات مرتداً نتبيّن أن ملكه زال إلى أهل الفيء من وقت ردّته، فلا وجه للتوريث منه؛ فإن ملكه زال قبل الموت [تحقُّقاً، وتبيُّناً] (3) فأمّا إذا قلنا: يزول ملكه (4) بالموت، ففيه التردد الذي ذكرته. والذي رأيته للأصحاب أن المرتدَّيْن لا يتوارثان. 6346 - ثم أجرى الشافعي في الاحتجاج على أبي حنيفة كلاماً، وقال: المرتد لا يرث المسلم، فلا يرثه المسلم. وهذا قد يرد عليه في القرابات

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (2) في الأصل: " قولان ". وهو تحريف ظاهر. (3) في الأصل: تحقيقاً أو تبيناً. (4) (ت 2): لا يزول بالموت.

مسائلُ، منها: ابن الأخ مع العمة، فإنه يرثها، ولا ترثه، ولكن إذا قُرّر طريانُ الردة، واعتراضُه وأبينَ أن اختلاف المسلم والمرتد في الدّين الحق والباطل أمرٌ شملهما على قضيةٍ واحدة، فإذا تضمن قطعَ الميراث من جانب، وجب أن يتضمن قطعَه من الجانب الثاني، فهذا يتقرّر. ويخرّجُ عليه. انقطاعُ ميراث المبتوتة في مرض الموت (1)؛ فإن الزوج لا يرثها لو ماتت، فلا ترثه؛ فإن البينونة شملتهما. 6347 - ولما أشار الشافعي (2) إلى هذا الكلام ولم يحرره، تعلق [المزني (3) به فيمن] بعضه حرّ وبعضه عبد، ومذهبه أنه يرث ويورث، والكلام في توريثه والتوريث منه عند الفرضيين قطبٌ من أقطاب هذا العلم. فلو أردت الاقتصارَ على مذهب الشافعي، لاكتفيت بما تقدَّم، فإني أوضحت من أصله أنه لا يرث، وهل يورث؟ فعلى قولين. ثم فرعت على القولين بما فيه بيان كافٍ، ولكن لستُ أوثر أن أخلي هذا المجموع عن ذكر هذا الأصل على مذهب الغير، مع أنه من الأركان، ونحن نعقد في ذلك باباً نوضح فيه مذهبَ من يقول بتوريث من بعضه حر وبعضه عبد، ونجعل مضمون الباب في فصول تحوي الغرض، ونطرح المكررات وتكثيرَ المسائل.

_ (1) ميراث المبتوتة في مرض الموت: المراد بهذا أن أصل الشافعي: (أن الناس يرثون من حيث يورثون) فإذا قلنا: المرتدّ لا يرث، فينبني عليه أنه لا يورث، وعلى هذا أيضاً أن من طلق زوجته في مرض الموت، وبت طلاقها، فلا ترثه (بحجة أنه طلقها فراراً من ميراثها إياه) حيث الإجماع على أنه لا يرثها. وقد روي عن الشافعي قولان، وقياس أصله أنها لا ترثه. (ر. المختصر: 3/ 150 - 151). (2) حكى المزني في المختصر، هذا الذي أشار إليه الشافعي، فقال: " قد زعم الشافعي أن نصف العبد إذا كان حرّاً يرثه أبوه إذا مات، ولا يرث هذا النصفُ من أبيه إذا مات أبوه، فلم يورّثه من حيث ورّث منه. والقياس على قوله: أنه يرث من حيث يورث. (ر. المختصر: 3/ 150). (3) في الأصل: المرتد به في.

القول فيمن بعضه حر وبعضه مملوك

القول فيمن بعضه حر وبعضه مملوك 6348 - وهذا موضوعٌ على من يسلِّم تبعُّضَ الرق والحرية؛ فإن في العلماء من يكمل الحرية في كل صورة، فإذا صورنا شخصاً بعضه رقيق، وبعضه حر، فمذهب زيد: أنه لا يرث ولا يورث. وافقه الشافعي في أنه لا يرث، وردَّد قوله في أنه هل يورث كما تقدم (1) شرحه. وقال عليٌّ بن أبى طالب: إنه يرث ويورث، وبه قال الشعبي، وعطاء والمزني، وأبو ثور. واختلفت الرواية عن ابن مسعود، فروي عنه مثلُ قول علي، وروي عنه مثل قول زيد. وغرضنا الآن تفريع مذهب علي في توريثه. وقد اختلف العلماء في قياس مذهبه، ونحن نذكر أصناف الورثة في فصولٍ، ونذكر الطرق في كل فصلٍ، إن شاء الله عزوجل. فصل في ميراث البنات اللائي بعضهن حر 6349 - إذا مات الرجل، وخلّف بنتاً نصفُها حر، أو ثلثها، أو ربعها، فلا اضطراب، ولا إشكال في مذهب علي إذا كانت البنت واحدة، فنقول: لو كانت حرة كاملة، لأخذت نصفَ المال، فإذا كان نصفها حراً، تأخذ نصف النصف، وإن كان ربعها حراً، فلها ربع النصف، وكذلك القول في جميع الأجزاء. فإن ترك بنتين نصفُ كل واحدةٍ منهما حر، فقد اختلف الفرضيون في قياس

_ (1) كما تقدم شرحه: المراد شرح توريث من بعضه حر، وبعضه عبد، وقد سبق في باب (من لا يرث).

قول علي، فقال أبو يوسف، ومحمد، واللؤلؤي (1)، وابن أبي ليلى، ويحيى ابن آدم: قياس قوله: أن يجمع ما فيهما من الحرية، فتكون حريةَ بنت كاملة الحرية، فنقول: لهما بذلك النصف، وهو بينهما، لكل واحدة منهما الربع. وهذه الطريقة ليست مرضية عند الفرضيين. وقال سفيان الثوري: قياس قوله أن يقسم المال بينهما وبين العصبة، على تقدير كمال الحرية، فتصيب كلُّ واحدةٍ منهما ثلثَ المال لو كانتا حرتين، فنقول بعد هذا التقدير: لكل واحدة من الثلث بقدر حريتها، وهو نصف الثلث، فلكل واحدة السدس إذاً، والباقي مصروف إلى العصبات. وعبّر البصريون عن هذا المذهب بعينه بعبارة أخرى، تؤدي إليه، فقالوا: ننظر إلى جزء الحرية، ونأخذ مثلَ ذلك الجزء من المال، فيقسم بينهما وبين العصبة على ثلاثة: الثلثان لهما، والباقي من النصف مع النصف الآخر للعصبة، وجزء الحرية النصف، فينقسم على النسبة التي ذكرناها: النصفُ، ثم يضم الفاضل من النصف إلى النصف الباقي، ونسلمه إلى العصبة. وهذا وإن كان غيرَ مذهب سفيان، فهذا يؤدي إليه بالحساب، ومذهب سفيان مشتمل على الفتوى. وطريقة سفيان عند الفرضيين مرضية، وسنبيّن أثرَهَا. 6350 - صورة أخرى: أربع بنات نصف كل واحدة حر فعلى طريقة أبي يوسف، ومحمد، ومن تبعهما: نجمع أجزاء الحرية فتكون حرية بنتين كاملتين، فلهن الثلثان، والباقي للعصبة.

_ (1) اللؤلؤي، الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي، أبو علي، قاضٍ، فقيه من أصحاب أبي حنيفة، له كتب منها: الفرائض، والوصايا، والنفقات، والخراج ت 204 هـ (الأنساب للسمعاني، وأعلام الزركلي).

وهذا فيه خبطٌ؛ من جهة أنهن لو كن حرائر، لما ورثن أكثر من الثلثين، فإذاً الرق لم ينقصهن شيئاً، وقد يتجه لهم أن يقولوا: الثلثان يكملان لبنتين حرتين، ثم لا يزيد بزيادتهن، فلو كن أربع حرائر، فلا حاجة إلى عدّتهن لاستحقاق الثلثين. وأما على طريقة سفيان، فنقول: لو كن حرائر، لكان لهن الثلثان، لكل واحدة منهن السدس. فنقول: لكل واحدة السدس لو كانت حرة، فإذا كان النصف منهما رقيقاً، نقصها الرقُّ نصفَ ما كانت تستحق لو كانت حرة، فلهن إذاً ثلثُ المال، لكل واحدةٍ منهن نصفُ السدس، والباقي للعصبة. وعبر البصريون فقالوا: جزء الحرية نصفٌ، فنقسم النصف بينهن وبين العصبة، ثلثين وثلثاً، فلهن ثلثا النصف، وهو ثلث المال، وباقي النصف مع النصف الآخر مصروفٌ إلى العصبات. 6351 - صورة أخرى: ثلاث بناتٍ ثلثُ كل واحدة حرّ. فعلى طريق أبي يوسف ومحمد: نجمع الحريةَ فتكون حريةً كاملة (1)، لهن بذلك النصف، لكل واحدة ثلث النصف. وعلى طريقة سفيان لو كن حرائر، لكان لهن الثلثان، وإذا قسمنا على ثلاثة، تقع القسمة بالأتْساع لكل واحدة منهن تسعان لو كانت حرة، فلكل واحدة منهن ثلث التسعَين، والباقي للعصبة. والبصريون يقولون: جزء الحرية ثلث، فنأخذ ثلث المال ونقسمه بينهن وبين العصبة على تسعة، لهن ثلثاها، وهو ستة أسهم، والباقي من الثلث مع ثلثي المال للعصبة. وهذا مذهب سفيان.

_ (1) المراد حرية بنت كاملة.

6352 - صورة أخرى بنتان نصف إحداهما، وثلث الأخرى حر. فعلى طريقة أبي يوسف، ومحمد: نجمع حريتَهما فتبلغ خمسة أسداس حرية، لهما بذلك خمسة أسداس النصف، يقسمانها على نسبة الحريتين. 6353 - وعلى طريقة سفيان دقيقةٌ لا بد من التنبه لها، وهي حسنةٌ مستقيمة. فإن استويا في ثلث الحرية، فلكل منهما من هذا الحساب ثلث الثلث، وهو التّسع. ثم التي نصفها حر لها زيادة حرّية وراء الثلث، وهو السدس، فلها سدس النصف. والذي يجب مراعاته في ذلك أنا لا ننسبها في حصة هذه الزيادة إلى صاحبتها؛ إذْ لَوْ نسبناها إلى صاحبتها، لقلنا: للتي نصفها حر في أصل الوضع نصف الثلث، ولا سبيل إلى ذلك؛ فإن التثنية تتحقق في الجزء الذي استويا فيه، ففي ذلك [يعتبر] (1) حساب التثنية، فإذا انفردت بجزء اعتبر في ذلك الجزء حسابُ الانفراد، وهو النصف، فيجتمع لها من حساب التثنية والانفراد ما ذكرنا. وعبّر البصريون فقالوا: نقسم ثلثَ المال بينهما، وبين العصبة على ثلاثة، لاستوائهما في ثلث الحرية، فيكون لكل واحدةٍ منهما ثلث الثلث، وهو التسع، ثم نأخذ سدس المال لأجل السدس الزائد في حرية إحداهما فيقسم بين التي نصفها حر وبين العصبة نصفين؛ فيحصل لها نصف سدس المال ضماً إلى التسع، وهو سدس النصف. 6354 - صورة أخرى: بنت نصفها حر، وأخرى ثلثها حر، وثالثة ربعها حر. فعلى قول أبي يوسف، ومحمد: نجمع أجزاء الحرية فتكون حرية ونصف

_ (1) في الأصل: بغير.

سدس حرية، فلهن بالحرية الكاملة نصف المال، وبنصف السدس الزائد نصف سدس السدس؛ فإن هذا يعتبر من حساب العدد، فيجمع ذلك إلى النصف، فيكون سبعة وثلاثين جزءاً من اثنين وسبعين جزءاً من المال، وهذا يقسم على ثلاثةَ عشرَ [للتي] (1) نصفها حر ستة، وللتي ثلثها حر أربعة، وللتي ربعها حرّ ثلاثة، والباقي للعصبة. وعلى طريقة سفيان قد استوين في ربع الحريّة، فلكل واحدة منهنّ ربع التسعَيْن، ثم نُخرج التي ربعها حر، فلا حساب معها. ثم التي ثلثها حر والتي نصفها حر اشتراك (2) في نصف سدس، فلكل واحدة منهما نصف سدس الثلث، وحسابهما من اثنين، فنخرج التي ثلثها حر، ثم يكون للتي نصفها حرّ سدس النصف، وما بقي للعصبة. قال البصريون: يؤخذ ربع المال، فيقسم بينهن وبين العصبة على تسعة، لهن ستة، ثم يؤخذ نصف سدس المال، فيقسم بين التي نصفها حر، وبين التي ثلثها حر، وبين العصبة على ثلاثة: لهما سهمان منها، ثم يؤخذ سدسُ المال، فيقسم بين التي نصفها حر وبين العصبة نصفين. فصل في ميراث البنين 6355 - اثنان نصف كل واحد منهما حُرّ، فعلى قياس أبي يوسف ومحمد: المال بينهما نصفين؛ لأنه قد اجتمع فيهما حريةُ ابنٍ كامل، ويلزم على طريقتهم ألا يكون للرق أثر، وجوابه ما ذكرناه في الباب الأول.

_ (1) في الأصل: إلى. (2) كذا. وهي سائغة، والمعنى واضح.

وعلى طريقة سفيان نقدِّر قسمةَ المال بينهما نصفين، ثم نسترد من كل واحدٍ منهما نصفَ حصته، ونسلّمُهُ إلى العصبة. صورةٌ أخرى: ابنان ثلث كل واحدٍ منهما حرّ على قياس من جَمَعَ الحريةَ: لكل واحدٍ منهما ثلث المال. وعلى قياس سفيان لكل واحد منهما ثلث النصف. وعبارة البصريين تؤدي أبداً إلى مذهب سفيان. صورة أخرى: ثلاثة بنين نصفُ كلِّ واحدٍ منهم حُرّ فعلى رواية من جمع الحرية: المال بينهم أثلاثاً. وعلى رواية سفيان: لكل واحد منهم نصف الثلث، وهو السدس. وعلى هذا البابُ وقياسُه. صورة أخرى: ثلاثة بنين: نصف أحدهم، وثلث الثاني، وربع الثالث حرّ فعلى قياس أبي يوسف ومحمد: لهم جميع المال، على ثلاثة عشر سهماً، لصاحب النصف ستة، ولصاحب الثلث أربعة ولصاحب الربع ثلاثة. وعلى رواية سفيان: نقسم المال بينهم بالسويّة، فيصيب كل واحد منهم الثلث، فيأخذ كلُّ واحد منهم ربعَ الثلث، فإنهم اشتركوا في حرية الربع، وربع الثلث نصف سدس المال، ونخرج الذي ربعه حر، ثم نقسم المال بين الباقيين نصفين: فيأخذ كل واحد منهما نصف سدس النصف، وهو ربع السدس، ونخرج صاحب الثلث. ثم يأخذ صاحب النصف سدس المال، فيحصل لصاحب الربع نصف سدس المال، ولصاحب الثلث ثمن المال، ولصاحب

النصف سدس المال، وثمنه. والباقي للعصبة. وعلى عبارة البصريين: نقسم ربع المال بينهم أثلاثاً، ثم نقسم نصف سدس المال بين الآخرين نصفين، ثم يكون لصاحب النصف سدس المال. فصل في ميراث البنين والبنات إذا تبعضت الحرية فيهما 6356 - فنقول: ابن وبنت، نصف كل واحد منهما حر على رواية أبي يوسف ومحمد: نضم نصفَ حرية البنت إلى حرية الابن، وإنما يفعلون ذلك، لأن بنتين بابن، فنجعل ثلاثة أرباع حرية، فلهم بذلك ثلاثة أرباع المال، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. 6357 - وانفرد عنهما يحى بن آدم في هذا الباب بمذهبٍ آخر، فقال: معنا نصف حرية ابن، ونصف حرية بنت، وحرية الابن لو كانت كاملةً مع رق البنت، لتعلق بها استحقاق جميع المال، ومع حريتها يتعلق بها (1) استحقاق ثلثي المال، فحرية البنت تحجبه عن ثلث المال، فنصف حريتها يحجبه عن نصف الثلث، وهو السدس، فللابن على هذا التقدير خمسة أسداس المال لو كان حراً كاملاً، والبنت نصفها حر. فإذا كان نصف الابن حراً، فله نصف ذلك وهو ربعٌ وسدسٌ. ثم قال: البنت تستحق بحريتها الكاملة مع كمال رق الابن نصفَ المال، وتستحق مع حريته ثلثَ المال، فحرية الابن تحجبها عن سدس المال، فنصف حريته يَحجبها عن نصف السدس، فيبقى لها ثلث، ونصف سدس، لو كانت

_ (1) بها: أي بحرية الابن.

حرة، والابن مبعَّضاً. فإذا كان نصفها حراً، كان لها نصف ذلك، وهو سدس، وربع سدس. 6358 - وحكى عنه الفرضيون عبارةً أخرى تؤدي إلى هذا المذهب، وهي أنه قال: نقسم حرية الابن على حرية البنت ورقها، فما أصاب [رقُّها من حريته، ورث به من جميع المال بقسطه، وما أصاب حريتُها] (1) من حريته ورث به بقسطه من ثلثي المال؛ لأنه يرث مع رقها جميع المال، ومع حريتها ثلثي المال. فإذا قسمنا على هذا الاعتبار حريةَ الابن على رق البنت وحريتها، أصاب حريةُ البنت ربع حرية الابن، فله بذلك ربع الثلثين وهو السدس. وأصابَ رقُّ البنت ربعَ حرية الابن، فله بذلك ربعُ (2) جميع المال، فيحصل له ربع وسدس. وكذلك البنت ترث مع حرية الابن ثلثَ المال، ومع رقِّه نصفَ المال، فنقسم حريتها على حرّية الابن ورقِّه، فتصيب حريتُه ربعَ حريتها، لها بذلك ربع الثلث، ونصفُ رقه ربعُ حريتها، لها بذلك ربعُ النصف، وجملتها: سدس وربع سدس، وهو ربع النصف، وربع الثلث، وربع النصف ثُمُن الكل، فيخرج ذلك من أربعة وعشرين، فثمنه ثلاثة، ونصف سدسه اثنان: الجملة خمسة، والخمسة سدس، وهو أربعة، وربع سدس، وهو واحد. فقد أدّت هذه العبارة إلى ما أدى إليه الاعتبار الأول. واستحسن الحُسَّاب هذه العبارة الثانية من يحيى. 6359 - فأما سفيان؛ فإنه يقسّم المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين: للابن الثلثان، وللبنت الثلث، ثم نقول يأخذ كل واحد منهما نصفَ ما أصابه، فيكون

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) عبارة (د 1): فله بذلك ربع السدس، وكذلك البنت ... وعبارة (ت 3): فله بذلك ربع جميع المال، فيحصل له ربع السدس.

ثلث المال للابن، والسدس للبنت والباقي للعصبة. وعلى عبارة البصريين يقسم نصف المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، فيؤدّي إلى مذهب سفيان. فصل في ميراث البنات وبنات الابن اللائي بعضهن حُرُّ 6360 - هذا الفصل تقطعت فيه مذاهب العلماء كما نصفه في المثال: بنت وبنت ابن نصف كل واحدة منهما حُرّ قال أبو يوسف: يدفع إلى البنت الربع، ويقال لبنت الابن: لو كانت بنت الصلب مملوكة، وأنت حرة، لكان لك النصف، ولو كنتما حرتين، لكان لك السدس، فحريتها تحجبك عن الثلث، فنصف حريتها يحجبك عن نصف الثلث، فيحصل لك الثلث: السدس باعتبار كمال حرية البنت، والسدس الآخر باعتبار حرية نصفها. ثم أنت في نفسك مبعَّضة: نصفك حُر، ونصفك رقيق، فلك مما [تجمع] (1) نصفه، وهو السدس. [فيخرج من هذا] (2) الاعتبار أن للبنت الربع، ولبنت الابن السدس، لأن البنت أخذت بحساب انفرادها؛ فإن للبنت الواحدة النصف، سواء كان معها بنت الابن، أو لم يكن. وبنت الابن أخذت بحسابين أحدهما بحساب الانفراد، ولها فيه النصف، والآخر بحساب الاجتماع مع بنت الصلب، فخرج من الاعتبارين السدس. 6361 - وقال محمد بن الحسن في قياسه: تضافُ حرية بنت الابن إلى حرية بنت الصلب، فيحصل في المسألة بنتٌ كاملة، فيكون لهما النصف بينهما

_ (1) في الأصل: يخرج. (2) عبارة الأصل: فيخرج منه أن ...

بالسوية، لكل واحدة منهما الربع، فأدى اعتباره إلى التسوية بين بنت الصلب، وبنت الابن، والسبب فيه أن بنت الابن تقول لبنت الصلب: ليس لك إلا الربع، فخذي ربعَك، واتركيني مع العصبة، ولي لو انفردت مع العصبة النصف، كما لك لو انفردت النصف. فآخذ بعد نصيبك بحساب الانفراد. وإذا قيل لمحمّد بن الحسن: قد أبطلت أثر حجب بنت الصلب لبنت الابن [قال: لو كانتا حرتين، لقيل: الثلثان بينهما لبنت الصلب النصف منها، فكانت بنت الابن] (1) مزحومة في بعض نصيبها لو انفردت ببنت الصلب، والآن هي تقول: ليس لكِ لو انفردت إلا الربع، وقد أخذتِ الربعَ، فلا زحمة بيني وبينك، فآخذ بحساب الانفراد كما أخذتِ. فهذا مذهب محمد. وذكر بعض الكوفيين أن قياس محمد أن نأخذ النصف ونقسمه بين البنت وبنت الابن على أربعة: ثلاثة أرباعها لبنت الصلب، وربعها لبنت الابن على نسبه قسمة الثلثين بينهما لو كانتا حرتين. 6362 - وأما يحيى بن آدم، فإنه وقع في مذهب أبي يوسف، فإن ما ذكرناه من اعتبار أبي يوسف، هو بعينه اعتبارُ يحيى في الفصل الذي قبل هذا، وهو النوع الذي سمّاه الفرضيون المخاطبةَ والدعوى. 6363 - وأما سفيان، فإنه يقسم المال بينهما وبين العصبة على تقدير كمال الحرية، فللبنت النصف، ولبنت الابن السُّدُسُ، ثم تردُّ كلُّ واحدة نصفَ حصتها لو كانت حرة: فلبنت الصلب الربع، ولبنت الابن نصفُ السدس. وإذا ضمت حصتها إلى حصة البنت، فالحصتان ثلث المال، وهو مقسوم

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

بين البنت وبنت الابن على نسبة الأرباع: سدس ونصف سُدسٍ، لبنت الصلب وهو ربع. ونصف سدس لبنت الابن. فهذا بيان المذاهب في هذا الصنف، والمثال الذي ذكرناه كافٍ في غيره من الأمثلة. فصل في ميراث البنين وبني البنين مع تبعّض الرق والحرية 6364 - وخاصّية هذا الفصل أن الابن لو كان حراً، حجب ابنَ الابن حَجْب حرمان، لا حجبَ نقصان، فإذا تبعَّضت الحريةُ والرق، فنذكر مثالاً، فنقول: ابنٌ نصفه حر، وابن ابن ثلثاهُ حر قال أبو يوسف: نبدأ بالابن الأعلى، فندفع إليه ما يستحقه لو انفرد، فإن ابن الابن لا يُزاحمه، فنسلِّم له نصفَ المال، ونقول: لابن الابن الثلث؛ فإن الابن الأعلى يحجبه عن الجميع، بكمال الحرية لو كانا حرَّين، فيحجبه عن النصف بنصف الحرّية، فله من النصف ثلثاه؛ فإن ثلثيه حُرّ، وهو ثلث جميع المال. 6365 - وعلى رواية محمد بن الحسن: نضم حرية الأسفل إلى حرية الأعلى، فيحصل معنا حرية وسدس، فسدس الحرية ساقط لا حاجة إليه؛ فإنا نستوعبُ المالَ بحريةٍ، فالمال إذاً [بينهما] (1) نصفان، وتعليل ذلك أن الحجب الذي يقع بين الأشخاص يرجع حقيقةً إلى الزحمة: فلو كانا حرّين، فالابن الأعلى يزحَم بجميع المال، فيقدّمُ به، وينتج هذا سقوطَ ابن الابن. فإذا أخذ الابن الأعلى النصفَ، فقد سقطت منه زحمتُه؛ فإنه لا يستحق إلا هذا القدر لو

_ (1) في الأصل: فيها.

انفرد. فيقول ابن الابن: اخرج أنت من [البين] (1)، واتركني مع العصبة، ولو انفردت معهم لأخذتُ النّصف، فإن قيل: ثلثاه حرّ؟ قلنا: نعم. ولكنا أبطلنا سدسَ الحرية في وضع المسألة. 6366 - وعلى طريقة سفيان: للابن الأعلى النصف، ثم بين الابن وابن الابن لو كانا حرين حجْبُ الحرمان، فإذا كان الابن يحجب ابن الابن، فنصفه يحجب نصفَه، فيسقط بهذا السبب أثر الحرية في نصف ابن الابن؛ فإن أثر الحرية في نصف الابن الأعلى يعارض النصف في الأسفل، فيسقط النصفُ بالنصفِ، ويبقى في الأسفل سدس الحرية، لا يعارضه حريةُ الأعلى، ففيه سدس حرية لا يعارضه حجبٌ، فله سدس المال بذلك السبب. ولو كان في المسألة ابنُ صلب، وابن ابنٍ نصف كلِّ واحدٍ منهما حرٌّ، فللابن نصف المال، ويسقط ابن الابن على رأي سفيان؛ فإن الحرية بنصف الأعلى تعارض كمال الحرية في نصف الأسفل، فيسقط كما تسقط كل حرية لو كملت ابنَ الابن. وإنّما فرضنا المال في ابن ابن ثلثاه حر، وابنٍ نصفه حُرّ، حتى لا يسقطَ ابنُ الابن على رأي سفيان. فحاصل الأجوبة في المال الذي ذكرناه أن لابن الصلب النصف في كل مذهب، وفي ابن الابن ثلاثة أجوبة: أحدها - له النصف، والثاني - له الثلث، والثالث - له السدس.

_ (1) في الأصل: البنين، وهو تحريف. والبين من ألفاظ إمام الحرمين، في هذا الكتاب وفي غيره، وهو يستعمله -كما ترى- في معانٍ، لم أر لها ذكراً في المعاجم.

فصل في ميراث البنت وابن الابن 6367 - فنقول: بنتٌ، وابن ابن، نصف كل واحدٍ منهما حر فأبو يوسف يرى أن يدفع إلى البنت بقدر حرّيتها، ثم نورث ابن الابن على المخاطبة والدعوى. وقاعدته في ذلك أنه إذا اجتمع شخصان وتبعَّضت الحرية فيهما، وكان أحدهما لا يؤثر في الثاني، فالذي لا يتأثر منهما بالاجتماع والانفراد، فيعطَى بقدر حريته. والذي يتأثّر منهما بسبب صاحبه، فتكونُ حاله عند الانفراد على وجه، وعند المزاحمة على وجه، فحصَّته تبين بالمخاطبة والدعوى، عند أبي يوسف. ومحمد: يبدأ بالبنت فيدفع إليها بقدر حريتها، كما ذكرنا، ويدفع إلى ابن الابن بقدر حرَّيته من جميع المال. فإن كان قدر ما فيه من الحرية يزيد على ما بقي من المال، دفع إليه ما بقي. وسفيان يقسم المال بينهما على كمال الحرية فيهما، ثم يأخذ كلُّ واحد منهما ممّا أصابه بقدر حريته. وبيان ذلك بالمثال، صوّرنا: بنتاً، وابنَ ابن نصف كل واحد منهما حر فعلى رواية أبي يوسف: للبنت الربع، ثم يقال لابن الابن: أنت تستحق مع رق البنت جميعَ المال، ومع حريتها النصف، فهي تحجبك عن نصف النصف، فيبقى لك ثلاثة أرباع المال، ولكن نصفك حر ونصفك عبدٌ، فلك نصف هذا

المبلغ وهو ثلاثة أثمان، ويدخل عليه نوعان من النقص: أحدهما - من رقّه، والآخر - من الحرية في بعض البنت. وعلى رواية محمد: للبنت ربع المال، ولابن الابن نصف المال، والباقي للعصبة. وعلى طريقة سفيان: يقسم المال بينهما على تقدير كمال الحرية نصفين، ثم يأخذ كلُّ واحدٍ مقدارَ حريته، وهو نصف النصف، فيخرج من ذلك أن النصف بينهما مقسوم نصفين، فلكل واحدٍ ربعُ جميع المال. فصل في ميراث البنين وبنات الابن 6368 - والمثال: ابنٌ وبنت ابن نصف كل واحدٍ منهما حر فعلى رواية أبي يوسف: للابن نصف المال، ثم يقال لبنت الابن: أنت تستحقين مع رقّ الابن نصف المال، ولا تستحقين مع حريته شيئاً، فهو يحجبك عن النصف، فنصفه يحجبك عن نصف النصف، فحصل لك الربع. ولكن نصفك رقيق، فلك بهذا السبب نصفُ الربع، وهو الثمن. وعلى رواية محمد: للابن نصف المال، وحق بنت الابن في نصفٍ من الباقي لتبعض الرق والحرية، وهو الربع. ثم الذي وجدناه في الكتاب (1) أن الابن بنصف حريته يحجبها عن نصف

_ (1) الكتاب: لعله (الأصل) لمحمد بن الحسن، وقد وجدنا ابن المنذر (في الأوسط) يشير في أكثر من مسألة إلى (كتاب محمد بن الحسن) ثم نجدها في (الأصل)، انظر -مثلاً- (1/ 456) (3/ 219) (4/ 225). كما وجدنا في (المبسوط) للسرخسي مثل هذا =

الربع، فترجع إلى الثمن. وهذا يخالفُ قياسَ محمد. والذي لا يجوز غيره أن يقال: لا يحجب الابن (1) بنتَ الابن؛ فإنه فاز بنصفه، ولا يثبت له إلا هذا، وإن لم يكن بنتُ ابن، فقياسه في المسائل المقدمة أن تستحق بنت الابن الربع من غير نقصان، وقد حكينا عنه: أنه إذا كان في المسألة ابنٌ وابنُ ابن نصف كل منهما حر: للابن النصف، ولابن الابن النصف. وهذا يقتضي لا محالة أن يكون للابن النصف، ولبنت الابن نصفُ النصف. وأما سفيان، فإنه يقول: للابن النصف كما ذكرناه، وتسقط بنت الابن؛ فإنّ نصفها حر، فيسقط بالحرية في نصف الابن، فإن الكل إذا أَسقطَ الكلَّ أسقطَ النصفُ النصفَ. فصل في ميراث الإخوة والأخوات 6369 - أصل الباب أن الأخوات متى كنّ لأبٍ وأمٍّ، أو لأبٍ، فميراثهن كميراث البنات، وإذا تمحّض الإخوة ذكوراً من أب وأم، أو من أبٍ، فهم كالبنين. وإذا كانوا ذكوراً وإناثاً من أبٍ وأم، أو من أبٍ، فهم كالبنين مع البنات. والأخت من الأب والأم، مع الأخت من الأب، كالبنت وبنت الابن. والأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب، كابن الصلب مع ابن الابن. والأخت من الأب والأم مع الأخ من الأب، كبنت الصلب مع ابن الابن.

_ = (3/ 11). وفي نتائج الأفكار تكملة فتح القدير قال في (8/ 37): " وإطلاق محمد رحمه الله في الكتاب يدل عليه ... ". (1) في (د 1)، (ت 3): ابن الابن.

والأخ من الأب والأم مع الأخت من الأب، كابن الصلب مع بنت الابن. ولا يختلف القياس في ذلك كله. 6370 - ومقصود الفصل بعد هذا التنبيه الكلامُ في الإخوة من الأم، والأخوات من الأم، إذا تبعض الرقُّ والحريةُ فيهم. فعلى رواية أبي يوسف ومحمد، ومن تابعهما: نجمع أجزاء الحرية، فإن بلغت حرّيةً كاملة، فلهم السدس بينهم على قدر أجزائهم. وإن نقص عن حرّيةٍ، كان لهم بقدر ذلك من السدس. وإن زاد على حريةٍ كاملة، فللحرية الكاملة سدس المال، ولما زاد عليها بقدره من السدس. وعلى رواية سفيان يقسم المال بينهم، وبين العصبة على كمال الحرية، فما أصاب كلّ واحدٍ منهم أخذ بقدر حريته منه. ومثاله: أخ، وأخت من أم، نصف كل واحدٍ منهما حر فمن جمع أجزاء الحرية، دفع إليهما سدسَ المال بينهما نصفين. وعلى رواية سفيان: نقول: لو كانا حرّين، لكان لكل واحدٍ منهما السدس، فلكل واحد منهما نصف السدس. وقد اتفقت الأجوبة في هذه المسألة. فإن كانُوا ثلاثة نصف كل واحد منهم حر، فمن جمع أجزاء الحرية دفع إليهم سدساً، ونصفَ سدس. وسفيان يقول: الثلث بينهم أثلاثاً، لكل واحد منهم التُّسع، فلكل واحدٍ نصف التسع بسبب تبعُّض الحرية فيهم. فإن كانوا أربعة نصف كل واحد حر

فمن جمع أجزاء العتق، دفع إليهم الثلث، لكل واحدٍ منهم نصفُ السدس، والباقي للعصبة. وعلى قول سفيان: لكل واحدٍ نصف نصف السدس، وهو ربع السدس، والباقي للعصبة؛ فإنه [يَفُضُّ]، (1) الثلثَ عليهم، فيخصُّ كلَّ واحد نصفُ سدس، ثم نسترد نصف حصته. صورة أخرى: أخ من أم كُلّه حر، وآخر ثلثاه حر فمن جمع أجزاء العتق، دفع إليهما سدساً وثلثي سدس، وقسمه بينهما على خمسة: للكامل ثلاثة، وللناقص سهمان. وعلى طريقه سفيان: يأخذ كل واحد منهما ثلثي السدس؛ لأنهما اشتركا في هذا القدر من الحرية، ويخرج الناقص، ثم ياخذ الآخرُ ثلثَ السدس أيضاً. والباقي للعصبة. فصل في ميراث الأم مع الولد 6371 - والولد قد يكون عصبة، وقد يكون ذا سهمٍ، ونحن نضرب مثالين في الجنسين: أحدهما - أم، وبنت، نصفُ كل واحد منهما حر. فعلى رواية أبي يوسف للبنت ربع المال، ثم يقال للأم: أنت ترثين مع رقِّ البنت الثلث، ومع حريتها السدس، فحريتها الكاملة تحجبك عن السدس، فنصف حريتها يحجبك عن نصف السدس، ويحصل لك الربع (2) 2/ 12، ولكن نصفك حر، فلك بهذا السبب نصف الربع، وهو الثمن.

_ (1) في الأصل: نقص. (2) اجتمع لها الربع من نصف الثلث، ونصف السدس، هكذا (1/ 3 × 1/ 2) + (1/ 6 × 1/ 2) = 1/ 6 + 1/ 12 = 2/ 12 + 1/ 12 = 3/ 12 =1/ 4.

وهذا مذهب محمد أيضاً، (1 لأنه يقول: لها السدس مع حرية البنت، والثلث مع رق البنت، فتأخذ نصف الثلث، ونصف السدس، وهو ربعٌ، فلها نصف الربع 1). وعلى طريقة سفيان: لو كملت حريتهما، لكان للبنت النصف، وللأم السدس، فلكل واحدةٍ منهما نصف ما كان يصيبها. ومثال الجنس الثاني: ابنٌ، وأم، نصف كل واحدٍ منهما حر فعلى رواية أبي يوسف يقال للأم: أنت ترثين مع رق الابن الثلث، ومع حريته السدس، فهو يحجبك عن السدس فنصفه يحجبك عن نصف السدس، فيحصل لك الربع (2)، فلك نصف ذلك، وهو الثمن. ثم يقال للابن: أنت ترث مع رقِّ الأم جميعَ المال، ومع حريتها خمسة أسداس المال، فهي تحجبك عن السدس فنصفها يحجبك عن نصف السدس، فيحصل لك خمسة أسداس المال، ونصف سدس، فإذا كان نصفك حراً، فلك نصف ذلك، وهو ثلثٌ وثمنٌ. وعلى رواية محمد: للأم نصف نصف الثلث، ونصف نصف السدس، وذلك ثمن المال. وللابن نصف المال كاملاً، والباقي للعصبة. وعلى رواية سفيان: يقسم المال بينهما على ستة، فيكون للأم السدس، والباقي للابن، فيأخذ كل واحد منهما نصفَ ما أصابه، والباقي للعصبة.

_ (1) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ عدا الأصل. (2) حصل لها الربع -مثل الحالة الأولى- من نصف الثلث، ونصف السدس.

فصل في ميراث الأب مع الابن على رواية أبي يوسف. يورّث كل واحدٍ منهما على المخاطبة والدّعوى. ومذهب محمد في الأب يأتي في التفصيل. [ويختلفان في العبارة] (1). المثال: أب، وابن، نصف كل واحدٍ منهما حر. فعلى رواية أبي يوسف: يقال للأب: أنت ترث مع رق الابن جميعَ المال، ومع حريته السدس، فحريته تحجبك عن خمسة أسداس المال، فنصفها يحجبك عن نصفه، فيحصل لك ثلث، وربع (2). فإذا كان نصفك حراً، وجب لك نصف ذلك وهو سدس وثمن. ثم يقال للابن: أنت ترث مع رق الأب جميع المال، ومع حريته خمسةَ أسداس المال، فهو يحجبك عن السدس، فنصفه يحجبك عن نصف السدس، فيحصل لك خمسة أسداس، ونصف سدس، فإذا كان نصفك حراً، وجب لك نصف ذلك، وهو ثلث وثمن. وأمّا محمد؛ فإنه يقول: الأب عصبة إذا انفرد، والابن عصبة؛ فتضاف حرية الأب إلى حرية الابن، فيحصل ابن كامل، فيكون المال بينهما نصفين. ولو كان ثلثا الابن حراً، فضممنا الحرية، فيحصل ابن وسدس، فيستحقان جميع المال. للابن ثلثاه، والباقي للأب.

_ (1) زيادة من النسخ الثلاث غير الأصل. (2) حصل له الثلث والربع؛ لأن نصف حرية الابن حجبته عن نصف الخمسة أسداس، فكأنه حصل على 1/ 6 + نصف الـ 5/ 6، أي 1/ 6 + 5/ 12 = 2/ 12 + 5/ 12 = 7/ 12 = 14/ 24 أي 8/ 24، 6/ 24 أي 1/ 3، 1/ 4.

ثم قال: لو كان ثلثا الأب حراً، ونصف الابن حرّاً، فيكون لهما المال: للابن النصف، وللأب النصف. ولا نجعل لزيادة الحرية في الأب أثراً. ولعله راعى فيه قوة عصوبة الابن. وعلى الجملة ليس لقوله في هذا الباب ثَبَتٌ. إلا أن يقال: ليس من مذهبه الحجب إذا كان الوارثان عصبتين، وإن كان أحدهما يحجب الثاني عند كمال الحرية، كما ذكرناه في الابن، وابن الابن. ثم إذا كانت حرية الأب أكثر، لم نبالِ بها، لاستحالة أن يتقدم الأبُ في العصوبة على الابن. فصرف إلى الابن النصف -وإن كان ثلثا الأب حراً- ثم صَرَف الباقي إلى الأب. فهذا منهاجه. وعلى قول سفيان: المال بينهما على كمال الحرية للأب السدس، والباقي للابن، فلكل واحد منهما نصف ما أصابه. فصل في ميراث الأبوين مع الولد 6372 - من أحاط بما مهدناه من الأصول في ميراث أحد الوالدين مع الولد، هان عليه مُدرك القياس في اجتماعهما. فنقول: أب نصفه حر، وأم ثلثها حر، وبنت ربعها حر فعلى رواية أبي يوسف: للبنت ربع النصف، وهو الثمن. ثم يقال للأم: أنت ترثين مع حرية البنت السدس، ومع رقِّها الثلث، فهي تحجبكِ عن السدس، فربعها يحجبك عن ربع السدس، فالحاصل لكِ سدسٌ، وثمن. فإذا كان ثلثكِ حراً، وجب لكِ ثلثُ ذلك. ثم يقال للأب: أنت ترث مع حرّيّة الأم والبنت ثلث المال، ومع رقِّهما جميع المال، فهما يحجبانك عن ثلثي المال أما البنت، فتحجبك عن نصف

المال، والأم تحجبك عن السدس، فإذا كان ربع البنت حراً، حجبتك عن ربع نصف المال، وإذا كان ثلث الأم حراً، حجبتك عن ثلث السدس، (1 فيحصل لك ما بقي من المال بعد أن ينقص منه ربع النصف، وثلث السدس 1). فإذا عرفت ذلك، وكان نصفك حراً، وجب لك نصف ذلك. وتصح القسمة من اثنين وسبعين سهماً، للأم سبعة، وللبنت منها تسعة، وللأب [تسعة وعشرون ونصف] (2)، والباقي للعصبة. وعلى رواية محمّد للبنت ربع النصف. وللأم عنده ما لها عند أبي يوسف، ولكنهما يختلفان في العبارة. ويكون للأب عند محمد نصف المال كاملاً، والباقي للعصبة. وعلى رواية سفيان يقسم المال بينهم على أنهم أحرار، فيكون للأب الثلث، وللأم السدس، وللبنت النصف، فيأخذ كل واحد ربعَ نصيبه وهو القدر الذي اشتركوا به في الحرية، فتأخذ البنت ربعَ النصف، والأم ربع السدس، والأب ربع الثلث، ثم نقسم نصف سدس المال بين الأم والأب على ثلاثة، ثم للأب بعد ذلك سدس جميع المال ضمّاً إلى ما تقدم. 6373 - ولأصل سفيانَ معتبر نرمز إليه هاهنا، ونحققه بعد ذلك: [فمن] (3) أصله أنه إذا كان في المسألة تقدير حجبٍ، لو كملت الحرية، فإذا كانت الحرية في الأجزاء، وشابه جزءُ حريةِ الحاجب جزءَ حرية المحجوب في المقدار، حصل الحجب به، فإذا كان الحجب كلياً، سقط من يسقط لو كملت الحرية في الحاجب والمحجوب.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من غير الأصل. أما (ت 2)، ففيها اضطراب وتكرار لا داعي لتسويد الأوراق بذكره. (2) في الأصل: ثمانية وعشرون. (3) في الأصل: من.

وإن كان الحجب بعضاً واستوى جزءُ الحريتين في الحاجب والمحجوب، أخذ المحجوبُ من الفرض الأدنى بحصته من الحرية. وإن كان المحجوب ذا فرضَيْن، كما ذكرناه، وكان جزء حرية المحجوب أكثرَ، فالقدر الذي يساوي فيه جزءُ الحاجبِ جزءَ المحجوب يعتبر فيه الفرضُ الأدنى، ويثبت بزيادة الحرية من الحساب الذي لا حجب فيه. وهذه المسألة (1) فيها اختلافٌ في الحرية؛ فإن نصف الأب حرٌّ، وربع البنت حر، فجرى بين الثلث والربع ما ذكرناه، وانفرد الأب بسدس الحرية، فكان له بذلك السدس سدسُ جميع المال؛ ضمّاً إلى ما تجمع له. وسنوضح هذا بعد ذلك. فصل في ميراث أحد الزوجين مع الولد 6374 - الولد يفرض أنثى، وذكراً. ونحن نضرب المثال أوّلاً في الأنثى، فنقول: زوجة ثلاثة أرباعها حرة، وبنت نصفها حر فللبنت الربع على قول الجميع. وأمّا الزوجة، فيقال لها على رواية أبي يوسف: لك مع حرية البنت الثمن، ومع رقها الربع، فهي تحجبك عن الثمن، فنصفها يحجبك عن نصف الثمن، فيحصل لك ثمن، ونصف ثمن، فلك ثلاثة أرباع ذلك، وهي تسعة أجزاء من أربعة وستين جزءاً. وهذا مذهب محمد في الزوجة كذلك.

_ (1) المسألة: المراد بها المثال الذي كان موضع التفصيل آنفاً.

6375 - وعلى رواية سفيان يقسم بينهما وبين العصبة على ثمانية ثم يكون للبنت نصف النصف، وللزوجة نصف الثمن. ثم يكون للزوجة مع ذلك أيضاً ربع الربع وتصح القسمة من ستةَ عشرَ. وتحقيق هذا أن البنت ساوت [الزوجة] (1) بنصف الحرية، فردّتها في هذا المقدار إلى اعتبار الثمن، وثبت للزوجة ربع آخر من الحرية، فأخذت بذلك الربع من حساب الفرض الأكمل. فهذا بابُه وقياسه. وعلى مذهبه لو كان نصف الزوجة حرّاً، ونصف البنت حراً، فليس للزوجة إلا نصف الثمن، وصارت محجوبة عن الربع بالكلية. ولو كانت الزوجة حرّةً بكمالها، ومعها بنت نصفها حرٌ، فللبنت الربع، وقد ساوت الزّوجة في نصف الحرية، فتأخذ الزوجة من هذه الجهة نصف الثمن، وقد انفردت بنصف آخر في الحرية، فتأخذ نصف الربع، والمجموع ثمن ونصف ثمن. ومذاهب العلماء متفقة في هذه الصورة وقياسهم فيها لائحٌ. ولو كانت البنتُ حرةً بكمالها، وكان معها زوجة نصفها حر: للبنت النصف، وللزوجة نصف الثمن باتفاق علماء الباب. 6376 - صورةٌ أخرى: زوجة ثلثاها حر، وابنٌ نصفه حر فعلى رواية أبي يوسف يقال للزوجة: أنت ترثين مع حرية الابن الثمن، ومع رقه الربع، فهو يحجبك عن ثمن، فنصفه يحجبك عن نصف الثمن، فيحصل ثمنٌ ونصف ثمن، فلك ثلثا ذلك. ويقال للابن: أنت ترث مع حرّية الزوجة سبعة أثمان المال، ومع رقِّها جميعَ

_ (1) في الأصل: الزوجية.

المال، فهي تحجبك عن الثمن، وثلثاها يحجبك عن ثلثي الثمن، فتصير لك سبعة (1) أثمان المال، و [ثلث] (2) ثمنه، فلك نصف ذلك. وعلى رواية محمد: للزوجة مثل ما ذكره أبو يوسف وبينهما اختلاف العبارة. وللابن نصف جميع المال، والباقي للعصبة. وعلى رواية سفيان: يقسم المال بينهم على ثمانية، ثم يأخذ كل واحدٍ منهما نصف ما أصابه، ثم للزوجة بعد ذلك سدسُ الربع، لمكان زيادة الحرية، فإن ثلثيها حر، فحريتها زائدة على حرية الابن بسدس، فتأخذ به من أكمل الفرضين، وهو سدس الربع. ولو كان بدل الزوجة في هذه المسائل كلِّها زوجٌ، فهو مقيس عليها، غيرَ أن للزوج الربع، في محل ثمن الزوجة، والنصف في محل ربعها، وباقي القياس كما مضى. فصل في ميراث الزوجين مع الأبوين 6377 - فنقول: زوجة، وأبوان نصف كل واحد منهم حر فللزوجة الثمن، باتفاقهم، وهو نصف الربع؛ إذ ليس في المسألة من يحجبها، غيرَ أن نصفها رقيق، فسقط نصف الربع، وبقي نصفه، وهو الثمن الذي ذكرناه.

_ (1) في غير نسخة الأصل: خمسة أسداس المال، ونصف سدسه. (2) في الأصل: وثمن ثمن.

ثم أبو يوسف يقول للأم: أنت ترثين مع رق الزوجة في هذه المسألة الثلث الكامل، ومع حريتها الربع، وهو ثلث ما يبقى، فهي تحجبك [عن] (1) نصف السدس، فنصفها يحجبك عن نصف ذلك، فيحصل لك سدس وثمن، فلك نصف ذلك. ويقال للأب: أنت ترث مع رقهما جميعاً جميعَ المال، ومع حريتهما نصفَ المال، فهما يحجبانك عن النصف، كل واحدةٍ عن الرّبع، فنصف كلّ واحدةٍ يحجبك عن نصفه، يبقى لك ثلاثة أرباع المال، فلك نصف ذلك لمكان الرق وهو ثلاثة أثمان المال. وعلى رواية محمد: فرض الزوجة كفرضها على رواية أبي يوسف، ولا خلاف في فرضها عند علماء الباب. وللأم عند محمد ما لها عند أبي يوسف، غيرَ أنه يخالفه في العبارة، فيقول: للأم نصفُ نصفِ الثلث، ونصف نصف الربع، وهذا هو الذي يسلم للأم على رأي أبي يوسف؛ فإن أبا يوسف قدّر للأم السدس والثمن، ثم أسقط نصفَ ذلك. ونصف السدس، والثمن هو نصفُ نصف الثلث، ونصف نصف الربع؛ فإن نصف الثلث سدس، ونصفُ نصفه نصف السدس، ونصف الربع ثمن، ونصف نصفه نصفُ الثمن. وللأب (2) عند محمد نصف جميع المال. وعلى رواية سفيان يقسم المال بينهم على أربعة: للزوجة الربع، وللأم ثلث ما يبقى، والباقي للأب. ثم يأخذ كل واحد نصفَ ما أصابه.

_ (1) في الأصل: غير. (2) (د 1)، (ت 3): الأم.

فصل في ميراث الأم مع الإخوة والأخوات 6378 - والغرض منه القول في حرية الإخوة والأخوات، والنظرُ في حجب الأم من الثلث إلى السدس. وقياس مذهب أبي يوسف، ومحمد ومن تابعهما في جمع الحرية في هذا الباب كقياسهم في أبواب البنات وغيرهن. فنقول: أخوان، وأم نصف كل واحدٍ منهم حر فمن يجمع الحرية، يقول: نجمع نصفي الأخوين، فيكون بمثابة أخٍ، فلا يحجب الأم، فللأم بحساب الثلث نصفُه، وهو السدس. وفي قول سفيان: للأم نصف السدس، فإنه يرى حجب نصفٍ بنصفين، كما يرى حجب شخص بشخصين. ثم قال أبو يوسف: للأم نصف الثلث والباقي للأخوين. وعبارة سفيان، بعد العلم بما ذكرناه من أصله: إن الفريضة تقسم من ستة: يقدر للأم السدس وللأخوين خمسة الأسداس، ثم تردُّ الأمُّ نصفَ السدس، وكلُّ أخٍ نصفَ ما أخذه، ويصرف إلى العصبة. 6379 - صورة أخرى: ثلاثة إخوة، وأم، نصف كل واحد حرُّ فالذين جمعوا الحرية، وجدوا في هذه المسألة أخاً ونصفاً، ثم لهم مذهبان في هذا الباب: منهم من يقول: لم تُحجب الأم من حساب الثلث إلى السدس

بنصفي أخوين في الصورة الأولى، ولكن دخلها النقص، من جهة رقها، فاستحقت السدس، وهو نصف الثلث. وفي هذه المسألة زادت الحرية، فمعنا حريةُ أخٍ ونصف، فهذا النصف الزائد يقع الحجبُ به، ولا يقع بغيره، فللأم السدس من غير (1) حجب، ولها من السدس الآخر الذي هو تكملة الثلث نصفه لمكان النصف الزائد؛ إذ معنا ثلاثة أنصاف إخوة، فيحصل لها سدس، ونصف سدسٍ. ثم إنها تستحق نصفَ ذلك، وهو الثمن. هذا مذهب. ومنهم من قال: إذا زادت الحرية على أخٍ كامل، فإنا نجعل جميع الحرية مؤثراً في الحجب، فإن الأخ إذا لم يحجب، فلو فرض أخٌ آخر، فالحاجب الأخوان، لا الأخ الزائد، فإذاً تُحجب الأم بثلاثة أنصاف إخوة، فالسدس لا حجب فيه، وإنما الحجب في السدس الثاني الذي هو تكملة الثلث، فتحجب الأم عن ثلاثة أرباع هذا السدس، فيبقى سدس وربع سدس، فللأم نصف ذلك، وهو نصف سدس، وثمن سدس. وعلى رواية سفيان: يقسم المال بينهم من ستة، ثم للأم نصف السدس وللإخوة نصف خمسة أسداس.

_ (1) من غير حجب: أي لا تحجب عنه، والعبارة قد يبدو فيها شيء من الغموض للنظرة العجلى، ولكن عند التأمل نجدها صحيحة واضحة. فالمعنى أن الأم بغير حجب لها الثلث، وهذا الثلث: سدس، وسدس، فتستحق السدس كاملاً أولاً، ثم يدخل الحجب بنصف الاخ على السدس الثاني، فتستحق منه نصف سدس، فتجمع لها سدس ونصف. ثم هي أصلاً ترث بنصف حرّيتها، فترث نصفَ هذا الذي تجمع لها (سدس ونصف سدس) فيصير لها: ثمن. ولو وضحنا ذلك بالحساب نجعل المسألة من 24 لها 1/ 6= 4 و 1/ 2 سدس= 2 المجموع: 4+2=6 لها النصف من هذا= 6/ 2=3. والثلاثة= 3/ 24= 1/ 8.

6380 - صورة أخرى أربعة إخوة، وأم، نصف كل واحد منهم حر فمن جمع الحرية ردّ الأم إلى السدس ثم إلى نصف السدس، والباقي للإخوة عنده. وعلى رواية سفيان: للأم نصف السدس، وللإخوة نصف خمسة أسداس؛ فإنه لا يرى جمع أجزاء الحرية، كما تمهّد أصله. 6381 - صورة أخرى: أختان، وأم، نصف كل واحدة منهن حر فللأم مع الأختين ما لها مع الأخوين عند الجميع، وقد بان ما لها مع الأخوين، وذكرنا الاختلاف فيه بين سفيان وغيرِه. فأمّا الأختان، فمن جمع الحرية، قال: لهما النصف لكل واحدةٍ الربع، وسفيان يقول: لهما نصف الثلثين. فصل في ميراث الإخوة والأخوات مع الأولاد 6382 - فنقول: ابنٌ وأخٌ نصفُ [كلِّ] (1) واحد منهما حرٌّ. فعلى رواية أبي يوسفَ بالمخاطبة والدّعوى، يكون للابن النصف، وللأخ الربع. وعلى رواية محمد لكل واحد منهما النصف. وعلى قول سفيان: للابن النصف ويسقط الأخ.

_ (1) سقطت من الأصل.

صورةٌ أخرى: ابنٌ نصفه حرّ، وأخٌ كله حر المال بينهما نصفان باتفاق علماء الباب، وقياسهم لائح. صورةٌ أخرى: ابنٌ، وأخت لأب، نصف كل واحد منهم حر للابن النصفُ، وللأخت الثمن، على رواية أبي يوسف بالمخاطبة والدّعوى. وعلى رواية محمد: للأخت مثل ما لها على رواية أبي يوسف. وعلى قول سفيان: للابن النّصف، وتسقط الأخت، والباقي للعصبة الأحرار. فإن كانت الأخت كلّها حرة، والابن نصفه حر، فللأخت الربع على رواية أبي يوسف ومحمد، وعلى رواية سفيان كذلك أيضاً، وقياسه بيِّن. صورة أخرى: ابنٌ نصفُه حر، وأخ (1) لأم كلّه حر فللابن النصف، ولولد الأم نصف السدس، في قول الجميع على الأصول المختلفة. صورةٌ أخرى: بنت، وأخت لأبٍ، نصف كل واحدة منهما حر فالبنت مع الأخت من الأب كالبنت مع ابن الابن؛ فإن الأخوات مع البنات عصبة. وقد مضى ذلك.

_ (1) في غير نسخة الأصل: أخت لأم كلها حر.

فصل في ميراث الجدّات إذا تبعض فيهن الرق 6383 - فأمّا أبو يوسف ومحمد، ومن تابعهما؛ فإنهم يجمعون الحرية، فإن بلغت حريةً كاملة، أو زادت، فليس إلا السدس، وهو مقسومٌ بينهن على أجزاء حريتهن. وإن لم يبلغ حريةً كاملة، ورثن بقدر ذلك من السدس، مقسوماً بينهن على قدر أجزاء الحرية فيهن. وعلى رواية سفيان: السدس بينهن كيفما كن، زادت الحرية، أو نقصت، فما أصاب كلّ واحدةٍ، أخذت منه بقدر حريتها، والباقي للعصبة. وإن اتفقت: أم، وجدة فالأم حاجبة، والجدة محجوبة، وتعود التفاصيل على المذاهب. وقد نجزت مسائل الباب على أوجز وجهٍ وأبينها (1). ومن أحاط بها، لم يخف عليه القياس فيما لم نورده. وقد اختار الفرضيون طريقةَ سفيان؛ فإنه [منقاس] (2) حسن مُطرد، لا يخلو في قياسه صورة عن أثر نقص الرّق بخلاف سائر المذاهب، ولعل المزني يختار طريقه. 6384 - ثم مما يجب التنبُّه له أن من منع توريثَ مَنْ بعضُه حر يحتج بأنا لو ورّثناه، لصرفنا ما يرثه إلى جهة الرق والحرية، ويلزم منه صرفُ حصةٍ إلى مالك رقِّه، وهذا توريث أجنبي من حميمه، من غير نسب ولا سبب.

_ (1) كذا في جميع النسخ، فالضمير يعود على المسائل. (2) في الأصل: مقياس.

وهو ليس بشيءٍ؛ فإن من يورث الشخص إنما يُورِّث الجزءَ الحرَّ منه، ويحصر الاستحقاقَ فيه، ويقطع بأنه لا حظ لمالك الرق فيه. وليس كما إذا احتش، أو احتطب أو اتّهب؛ فإن اكتساب الرقيق بهذه الجهات غيرُ ممتنعٍ، والإرث بالرق ممتنعٌ محالٌ، وما طردنا على مذهب المورثين مسألةً إلا حططنا حظ الرق فيها، والله المستعان. ***

باب المشركة

باب المشرّكة 6385 - صورة المشرّكة: زوجٌ، وأمٌّ، واثنان من أولاد الأم، وأخٌ، أو إخوة من أبٍ وأم فللزوج النصف، وللأم السدس، ولأولاد الأم الثلث، ثم الإخوة من الأب والأم يشرَكون أولادَ الأم في الثلث، وينزلون معهم منزلتهم، لأجل مشاركتهم إياهم في قرابة الأم، ويجعل كأنهم ليسوا مدلين بالأب. ثم لا تفضيل لهم على أولاد الأم الذين لا يدلون بغير قرابتها، ولا تفضيل لذكرٍ على أنثى. والقول الوجيز ما ذكرناه من تنزيلهم منزلة أولاد الأم، فالثلث إذن مفضوضٌ على كافتهم بالسويّة. وهذا مذهب زيد، ومعظم الصحابة رضي الله عنهم. 6386 - واختلفت الرواية عن علي: فأظهر الروايتين عنه أن أولاد الأب والأم يسقطون؛ فإنهم عصبة، وقد استغرقت الفرائض أجزاء المال. وهذا مذهب أبي حنيفة. ورويت روايةٌ عن زيد مثل ذلك، وهي شاذة، ولم يمِل الشافعيُّ إليها، وقطع جوابه بالتوريث والتشريك. واختلف قضاء عمر فيها، فروي أنّه قضى بالتشريك أوَّلاً، ثم قضى بالإسقاط بعد ذلك، فقيل له: قضيت بالتشريك في العام الأول، فقال: ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي. وقيل: إنما شرك في العام الأول لما شرك

بسبب كلامٍ صدر من أولاد الأب والأمّ، وذلك أنه لما هم بإسقاطهم، قالوا: يا أمير المؤمنين هَبْ أن أبانا كان حِمَاراً، ألسنا بني أمٍّ واحدة. والمسألة تلقب بالمشرّكة لما ذكرنا فيها من التشريك، وتلقب بالحِمارية لما نقلناه من قول أولاد الأبِ والأمَ. 6387 - ثم المشركة لها أركان: أحدها - أن يكون فيها زوج، ولا تتصور المسألة دونه. وإذا نظر النّاظر في أصحاب النصف، تبين له هذا. ومن أركان المسألة - أن يكون فيها أمٌّ أو جدة، لمكان السدس. ومن أركانها - أن يكون فيها اثنان من أولاد الأم، فصاعداً حتى يحصل الاستغراق بالفرائض. فلو كان في المسألة: زوج، وأم، وأخت من أم، وإخوة من أب وأم فللزوج النصف، وللأم السدس [وللأخت] (1) من الأم السدس، والباقي لأولاد الأب والأم، على قياس العصوبة، وإن كان ما يخص كل واحدٍ منهم أقلَّ مما أخذه ولدُ الأم. ومن أركان المسألة - أن يكون فيها ذكرٌ من أولاد الأب والأم؛ إذ لو كان فيها أختٌ من أبٍ وأمٍّ، فرضنا لها النصف، وأعلنا المسألة، ولو كن أخواتٍ، فرضنا لهن الثلثين، وأعلنا. ولو كان بدل الإخوة من الأب والأم، إخوة من أبٍ، سقطوا؛ فإنهم لا يشاركون أولاد الأم في قرابتهم. هذا بيان المسألة تصويراً، وحُكماً، وتعليل المذهب مذكور في كتاب الأساليب ومسائل الخلاف.

_ (1) في الأصل: وللإخوة.

ولو كان في المسألة أخت أو أختان من أبٍ، فرضنا لهن فرضهن، وأعلنا المسألة، ولو كان معهن أخ من أبٍ، يسقطن بسقوطه، وكان مشؤوماً (1) عليهن. ...

_ (1) مشؤوماً: أي شؤماً: غير مبارك، بل هو مصدر شر. (المعجم والمصباح).

باب ميراث ولد الملاعنة

باب ميراث ولد الملاعنة 6388 - ولد الزنا لا يرث الزاني [ولا يرثه الزاني] (1)، إذ لا نسب بينهما، وهو يرث أمَّه، لم يختلف العلماء فيه، وترثه الأم. والقول في ولدها من الزنا في حقها كالقول في ولدها من النكاح، فلا يختلف جانبها بوقوع العلوق عن حِلٍّ، أو تحريم، أو شبهة، أو نكاحٍ، أو سفاحٍ. وإذا تعرّض [نسبٌ] (2) للثبوت لوقوع الولادة على فراشٍ، وكان لا يَنْتَفي إلا باللعان، فإذا لاعَنَ الزوجُ، ونفى النسبَ، انتفى، وانقطع الميراث بينه وبين المنفي، حسَب انقطاعه بين الزاني وولد الزنا، ثم لو عاد، فاستلحقه، لحقه، ويعود الميراث. وتفصيل ذلك يُستقصى في اللعان، إن شاء الله عز وجل. 6389 - ثم إذا انقطع الميراث بين النافي والمنفي، فكل من يدلي بالنافي، فلا يرث المنفي كبنيه وإخوته وأبيه، فإنه الأصل، فاذا انقطع، انقطع بانقطاعه إرث الفروع. ثم أمه ترثه بالفرض، كما ترثه به لو لم يُنفَ باللعان. وكل من يدلي بالأم، فإنه يرثه إذا كان الإدلاء بجهة الوراثة، فالإخوة من الأم يرثون المنفيَّ باللعان، وولد الزنا، وكذلك أمُّ الأم على الترتيب المبيّن في الورثة.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) في الأصل: سبب.

والسبب فيه أنها إذا ورثت، وثبت أصل الإرث فيها، ترتب على توريثها توريثُ المدلين بها. ثم إذا ثبت أنها ليست ترث بالعصوبة، فعصباتها لا يرثون المنفيَّ، وولدَ الزنا، ولا يرثه أبوها (1)، وهو أقرب مُدْلي بها، فما الظن بمن سواه؟ نعم. قد يرث المنفيَّ وولد الزنا مولى الأم إذا ثبت الولاء؛ فإن ولاء أولاد المعتَقة [لمولاها] (2)، وليس له أبٌ حتى ينجرّ الولاء إليه، على ما سنفصل في باب الولاء، إن شاء الله عز وجل. فيخرج ممّا ذكرناه أن الأم ترثه الثلث، ويرثه أولادها؛ فإنهم إخوته من الأم، والاثنان منهم يحجبان الأمَّ من الثلث إلى السدس، وإن كان إدلاؤهم إلى الميت بالأم. ويرثه مولى الأم إن كان عليها ولاء، ولا يورث بالتعصيب إلا من جهة الولاء، والقول في تفصيله محالٌ على باب الولاء. وهذا فيما يتعلق بالأم، وهو في نفسه إذا خلّف أولاداً، ورثوه على القواعد البينة. 6390 - وقال ابن مسعود: أمّ الولد الذي لا ينسب إلى أبٍ عصبةٌ له تستغرق ميراثَه، وهذا مذهب أبي حنيفة (3) في روايةٍ، ولم تختلف الروايةُ عنه في أن عصبات الأم عصبةٌ له. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أم ولد الملاعَنه عصبتُه، وعصبتُها عصبتُه " (4). وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال:

_ (1) ولا يرثه أبوها: لا يقال: إنه لا يرثه ولو كان ثابت النسب، فإنه جدٌ لأم. لا يقال هذا؛ فإنه ذكر تمثيلاً للإدلاء بغير جهة الوراثة، لا تمثيلاً بخصوص ولد الزنا والملاعنة. (2) في الأصل: لمواليها. (3) ر. المبسوط: 29/ 198، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 479 مسألة رقم 2148. (4) حديث " أم ولد الملاعنة عصبته ... " رواه سعيد بن منصور، والدارمي، والحاكم، =

" تحوز المرأة ثلاثة مواويث: ميراث عتقها، ولقيطها، والذي لاعنت عنه " (1)، ولم يصحح الشافعيُّ الحديثين (2). 6391 - ومما يتعلق بالباب أن الرجل إذا لاعن، ونفى ولدين عن امرأةٍ واحدةٍ، فهما يتوارثان بكونهما أخوين من أم، وهل يتوارثان بأخوة الأب؟ ظاهرُ المذهب أنهما لا يتوارثان بها؛ فإن الأبوة غيرُ ثابتة، والأخوة من جهة الأب مفرّعة على ثبوت الأبوّة. ومن أصحابنا من قال: يتوارثان في أنفسهما بالأخوة من الأب والأم؛ فإن الزنا لم يثبت عند التلاعن بدليل تصوّر الاستلحاق بعد النفي، فليتوارثا بأخوة الأب على الإبهام، إذا لم يثبت زنا الأم. ولا خلاف أن المرأة لو علقت بتوأمين من وطء شبهة، ثم جُهل ذلك الواطىء، فهما يتوارثان بأخوة الأب. وهذا الخلاف يقرب من تردد الأصحاب في أن من نفى نسباً متعرضاً للثبوت باللعان، فهل يحل لابن الملاعن أن ينكح تلك المنفية، وإنما فرضنا فيه؛ لأن الملاعِن نفسَه لا ينكحها؛ إذ هي ربيبتُه، ولا يتوارث ولدَا زنا بأخوة الأب باتفاق الأصحاب، والله أعلم. ...

_ = والبيهقي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما (ر. سنن سعيد بن منصور، ح 117 - 120، الدارمي: الفرائض، باب ميراث الملاعنة، ح 2961، 2962، 2963، الحاكم: 4/ 341، البيهقي في الكبرى 6/ 258، والمعرفة: 5/ 74، 75). (1) حديث: " تحوز المرأة ثلاثة مواريث " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، من حديث واثلة بن الأسقع (المسند 3/ 495، أبو داود: الفرائض، باب ميراث ابن الملاعنة، ح 2906، الترمذي: الفرائض، باب ما يرث النساء من الولاء، ح 2115، ابن ماجه الفرائض باب تحوز المرأة ثلاثة مواريث، ح 2742، الدارقطني 4/ 89، الحاكم 4/ 340، البيهقي 6/ 259). (2) ر. الأم 4/ 82، وتفصيل ذلك في معرفة السنن والآثار 5/ 74، 75.

باب ميراث المجوس

باب ميراث المجوس 6392 - إذا اجتمع في الشخص جهتا قرابة لا يجوز التسبب إلى تحصيلهما، فلا يقع التوريث بهما جميعاً عند الشافعي، وإنما يقع التوريث بإحداهما على ما سنفصِّل المذهبَ، إن شاء الله تعالى. وذهب علي، وابنُ مسعود إلى التوريث بالقرابتين، والقراباتِ إذا اجتمعت إذا كان لا يحجب بعضُ الوجوه بعضاً. وإنما نفرض البابَ في المجوس؛ فإنهم قد ينكحون الأمهات والبنات، ومن هذه الجهات تتركب القرابات التي لا يحلّ التسبب إلى تحصيلها. وقد يتأتى فرضها من المسلم على سبيل وطء الشبهة. والرواية الصحيحة عن زيد توافق مذهب الشافعي. 6393 - ثم إذا لم يرَ الشافعيُّ التوريثَ بالقرابتين والقرابات؛ فإنه يورّث بأقواها. فإن كان بعض الوجوه يحجب بعضاً لو فرضت الوجوه في أشخاص، فلا شك، ولا إشكال، وإن كان بعضها لا يحجب بعضاً، فالتوريث يقع بأثبتها، ولا نظر إلى كثرة الفرض وقلّتِه، والمعنيُّ بالثبوت أن يكون سقوط إحدى الجهتين أقلَّ من سقوط الأخرى: فإذا كانت المرأة أمّاً وأختاً، ورثت بالأمومة؛ فإن الأم لا تسقط أصلاً بخلاف الأخت، وإذا كانت بنتاً وأختاً، ورثت بالبنوة، وإذا كانت جدة وأختاً، ورثت بالجدودة.

وصورة الأم التي هي أخت: أن يستولد المجوسي أو الواطىء بالشبهة ابنته، فإذا ولدت، فالوالدة أخت المولود، وأمُّه، والمولود ابنتها وأختها. وإذا استولد بنت بنته، فالعليا جدة المولود، وأخته. وإذا استولد أمَّه فهي جدة المولود وأمه، والمولود ابنتها وحفيدتها، والمستولد أبُ المولود، وأخوه لأمه. وقد وافق أبو يوسف، ومحمد، الشافعيَّ، واتفق على مذهبه عُلماءُ المدينة. 6394 - واختلفت الروايةُ عمّن يورث بالقرابتين فيه إذا كان في الفريضة أم هي أخت، وأخت أخرى، فهي مع الأخت الأخرى هل تحجب نفسها من الثلث إلى السدس، ومذهب أبي حنيفة أنها لا تحجب. 6395 - وقد انتهى القول في الأبواب التي مقصود مسائلها فتاوى الفرائض، وأحكامها، ولم يبق منها إلا ميراث الخناثى، والحمل، والقول في الردّ، وتوريث الأرحام، ونحن نرى أن نقدم القول في توريث الأرحام والرد، ثم نذكر بعد نجاز الغرض منه [فنَّ] (1) الحساب، وما يتعلق بتصحيح المسائل، بالضرب، والقسمة، ثم نذكر ميراث الخناثى، والحمل، ثم نختم الكتاب بمسائل من المعاياة، والملقبات. والله المستعان.

_ (1) في الأصل: في.

القول في التوريث بالرحم مضمون هذا الأصل يحويه بابان: أحدهما - في الرد، والثاني - في توريث الأرحام، فلتقع البداية بالرّدّ (1). ...

_ (1) إلى هنا انتهت نسخة (د 1). وجاء في خاتمتها ما نصه: يتلوه في الثامن بحمد الله وعونه وحسن توفيقه باب الرد، وبيان الخلاف فيه. كتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى عبد الله بن جبريل بن أرسلان، بالمدرسة الفاضلية ( ... ) غفر الله لنا وله، ولمستنسخها وللناظر فيها. ولجميع المسلمين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد ( ...... ).

باب الرد وبيان الخلاف فيه

باب الرّدّ وبيانُ الخلاف فيه 6396 - قال الفرضيون: مسائل الفرائض ثلاثة أقسام: مسالة عادلة، ومسألة عائلة، ومسالة ناقصةٌ غيرُ كاملة. فالعادلة: هي التي تستوعب فيها الفرائض الأجزاءَ، أو تشتمل على عصبة خاص، أو على فرائضَ وعصبة. والفريضة العائلة: هي التي تزيد فيها مبالغُ المقدَّرات على أجزاء المال. وقد شرحنا هذا، وما فيه من الخلاف. وأما الفريضة الناقصة: فهي المشتملة على فرائضَ تنقص عن أجزاء المال، وليس فيها عصبة [خاص] (1)، وفيها يقع الكلام في الرد. 6397 - وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الباقي من المال إذا لم يكن في المسالة عصبة، فقال زيد بن ثابت: إذا لم تكن عصبةُ نسب ولا مولى، فالباقي مصروفٌ إلى مصالح المسلمين. وقيل: ذهب إلى ذلك أبو بكر الصديق، وعبدُ الله بنُ الزبير، وهو مذهبُ مالكٍ، والشافعي، وأبي ثور، وداود، وأهل الظاهر، وعُلماء المدينة. وقال عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود بالرد على ذوي السهام، كما سنفصل مذهبَهم، إن شاء الله تعالى، وبه قال سفيان الثوري

_ (1) ساقطة من الأصل.

وشَريك (1)، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، وأصحابُه، وكل من قال بتوريث ذوي الأرحام قال بالرد. ثم اختلفوا في كيفية الرد. 6398 - فقال جماهيرُ الأئمة القائلين بالرد: التوريثُ بالولاء مقدّم على الرد، فإن كان في المسألة فرضٌ مِمن يُردّ عليه -كما سنذكره، إن شاء الله عز وجل- ومولى، فلصاحب الفرض فرضه، والباقي للمولى، ولا رَدَّ. وعن عبد الله بن مسعود: إن صاحب الفرض إذا كان ممن يرد عليه، فالباقي بعد الفرض مردود عليه، غيرُ مصروف إلى صاحب الولاء. 6399 - ثم الذين صاروا إليه قالوا: إنه لا يرد على الزوج بالزوجيّة، وإنما الرد على ذوي الفروض من أهل القرابة، وروى جابرُ بن زيد (2) أن عثمان رضي الله عنهم أجمعين كان يرى الردَّ على الزوج والزوجة، وهذه رواية غريبة، لم يعوِّل عليها الفرضيون. 6400 - فإذا تبيّن ذلك، فمذهبُ علي أن الباقي بعد المقدّرات إذا لم يكن في المسألة مولىً، ولا عصبةُ المولى، مردود على ذوي السهام على أقدار سهامهم، إلا على الزوج والزوجة. قال ابن عباس: يرد على جميع ذوي الفروض إذا لم يكن في المسألة مولىً، ولا عصبة، ولا عصبةُ مولى، إلا الزوج والزوجة، فلا ردّ عليهما قط، وزاد، فقال: الجدة لا يرد عليها مع كل ذي فرضٍ يرث بالرحم، فإن انفردت، أو كانت مع أحد الزوجين، يرد عليها حينئذ.

_ (1) شَرِيك النَّخَعي، شريك بن عبد الله بن الحارث، محدث، فقيه قاضٍ، اشتهر بالذكاء وسرعة البديهة. ت 177 هـ (ر. تاريخ بغداد: 9/ 279، والأعلام للزركلي). (2) جابر بن زيد الأزدي البصري أبو الشعثاء. تابعي، فقيه من الأئمة، من بحور العلم، ت 93 هـ (الأعلام للزركلي، البداية والنهاية: 9/ 93 - 95).

وقال ابن مسعود: الرد مقدّم على المولى وعصباته، كما تقدم، ولم ير الردَّ على الزوج والزوجة بحالٍ، وكان لا يرد على أربعة مع أربعة، ويرد عليهم دونهم، وكان لا يرد على بنات الابن مع بنت الصلب، ولا يرد على الأخوات من الأب مع الأخت من الأب والأم، ولا يرد على الأخت من الأم مع الأم، وكان لا يرد على الجدة وفي المسألة أحد من ذوي الفروض المتعلقين بالرحم، كما حكيناه عن ابن عباس. فهذا بيان قواعد المذهب. 6401 - ونحن نفصّلها بالمسائل، ونذكرها صنفاً صنفاً. فإذا خلّف الميت صنفاً واحداً من أصحاب السهام المتعلّقين بالرحم، و [لا] (1) عصبة، كما فصّلنا، فله فرضه، والباقي مردودٌ عليه. فأما إذا كان في المسألة جدّة مفردة، أو مع أحد الزوجين، فلها فرضها إذا انفردت، والباقي مردود عليها. وإن كانت مع أحد الزوجين، فلكل واحد منهما فرضُه، والباقي مردود على الجدة، على الرواية التي عليها العمل. ثم ما ذكرناه يجري في جميع أصناف ذوي الفروض المتعلّقين بالرحم. 6402 - ولو كان في المسألة: أم، وبنت فالمال بينهما على أربعة أسهم: للأم الربع فرضاً وردَّاً، وللبنت ثلاثة أرباع فرضاً وردّاً. وكذلك الأم وبنت الابن.

_ (1) ساقطة من الأصل.

أخٌ لأمٍ، وأخت لأب وأم المال بينهما على أربعة، على مذاهبهم: للأخ من الأم سهم، وللأخت من الأب والأم ثلاثة أسهم. بنت وبنت ابن في قول علي، وابن عباس: المال مقسوم بينهما على أربعة، كما ذكرنا رُبْعُه لبنت الابن، وثلاثة أرباعه لبنت الصلب. وفي قول ابن مسعود: لبنت الصلب النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي لبنت الصلب خاصّة. وإن اختصرت، قلت: لبنت الابن السدس، والباقي للبنت فرضاً ورداً. زوج (1)، وجدة، وبنت في قول علي للزّوج الربع، وللجدة السدس، وللبنت النصف، والباقي مردود على الجدة والبنت: بينهما على أربعة أسهم. وإن اختصرت قلت: للزوج الربع والباقي بين الجدة والبنت على أربعة: رُبْعُه للجدة وثلاثة أرباعه للبنت، وتصح القسمة من ستة عشر. وعن ابن مسعود: للزوج الربع، وللجدة السدس، والباقي للبنت فرضاً ورداً. جدة، وبنت، وبنت ابن في قول علي: المال بينهم على خمسة بالفرض والردّ، للجدة سهم، وللبنت ثلاثة أسهم، ولبنت الابن سهم. وفي قول ابن عباسٍ: للجدة السدس، والباقي بين البنت وبنت الابن على أربعة.

_ (1) (ت 3)، (ت 2): " الزوجة " ومن ثمَّ تغير الفرض، كما تغير الأصل الذي تصح منه المسألة. فلا حاجة إلى التنبيه على هذه الفروق.

وفي قول ابن مسعود: للجدة السدس ولبنت الابن سدس، والباقي لبنت الصلب فرضاً ورداً. أم، وبنت، وبنت ابن في قول علي وابن عباسٍ المال بينهن على خمسة، للأم سهم، ولبنت الابن سهم، ولبنت الصلب ثلاثةُ أسهم. وفي قول ابن مسعود (1): لبنت الابن السدس، والباقي بين الأم والبنت على أربعة. ولا يصح الرد قط عند ابن مسعود على ثلاثة أصناف، وإنما يصح ذلك على أصل علي وابن عباس (2). أم، وأخت لأم، وأخت لأب في قول علي: المال بينهن على خمسةٍ فرضاً ورداً: للأم سهم، وللأخت من الأم سهم، وللأخت من الأب ثلاثة (3) أسهم. وفي قول ابن عباس: للأم الثلث، وللأخت من [لأم] (4) السدس، وللأخت من الأب النصف. وليست من مسائل الردّ. وفي قول ابن مسعود: للأخت من الأم السدس، والباقي بين الأم، والأخت من الأب على أربعة. زوجة، وجدة، وبنت، وبنت ابن في قول علي للزوجة الثمن، وللجدة السدس وللبنت النصف، ولبنت الابن

_ (1) (ت 3): ابن عباس. وهو سبق قلم واضح. (2) (ت 3)، (ت 2): " عبد الله " والمراد عبد الله بن مسعود، وهو مبني على الخطأ المشار إليه في التعليق السابق. (3) (ت 3): " النصف ". وهو خطأ واضح، فقد صار النصف منسوبا إلى أصل المسألة، وهو يساوي 3/ 5 من هذا الأصل. (4) في الأصل: " الأب ". وهو تكرار بيّن الخطأ.

السدس، والباقي مردود على الجدة، والبنت، وبنت الابن، على خمسة، فإن اختصرت قلتَ للزوجة الثمن، والباقي بعد الثمن بين الجدة والبنت، وبنت الابن على خمسة. وتصح من أربعين. وفي قول ابن عباس: للزوجة الثمن، وللجدة السدس، والباقي بين البنت وبنت الابن على أربعة. وفي قول ابن مسعود: للزوجة الثمن، وللجدة السدس، ولبنت الابن السدس، والباقي للبنت. وإن أردنا استيعاب المذاهب قلنا في قول زيد ومن تبعه: الباقي بعد الفروض لبيت المال. فقد وقع الرد على ثلاثة أجناس في المسألة على مذهب علي. وعلى جنسين على مذهب ابن عباس. وعلى صنفٍ واحد على مذهب ابن مسعود. 6403 - وفيما قدمناهُ من تمهيد المذاهب أولاً استقلال، وكفاية، ولكنا أوضحناه: بالمسائل التي ذكرناها. ولم نفرعّ على الرواية الشاذة عن عثمان (1)؛ فإنها لم تصح عند الفرضيين، وهي مردودة من جهة المعنى؛ فإنَّ تَعلُّقَ أصحابِ الرد بأن صاحب الفرض بعد استيفاء فرضه يتعلق بالرحم، وهو سبب الرد عليه، وهذا لا يتحقق في الزوجين. ونحن نستعين بالله تعالى ونخوض في التوريث بالرحم، إن شاء الله تعالى. ...

_ (1) الرواية الشاذة عن عثمان: يعني بها: الرد على الزوجين بالزوجية.

باب في توريث ذوي الأرحام

بابٌ في توريث ذوي الأرحام 6404 - اختلف أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في توريثهم: فذهب أبو بكر الصديق، وعثمان بنُ عفان، وزيدُ بنُ ثابت، وعبدُ الله بنُ الزبير إلى أن ذوي الأرحام لا يرثون بالرحم شيئاً، وجعلوا مالَ من لم يخلِّف غيرَهم لبيت المال، وبه قال سعيد بنُ المسيب، والزهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وعلماء المدينة، وداود، وأهل الظاهر. وذهب علي، وابنُ عباس، وابن مسعود، ومُعَاذ بنُ جبلٍ، وأبو عبيدة، وأبو الدرداء، وعائشة إلى توريث ذوي الأرحام، وإليه ذهب أحمد، وإسحاق (1) بن راهْوَيْه، وأبو حنيفة، وأصحابُه، ويحى بنُ آدم، وطائفة. واختلفت الرواية في ذلك عن عمرَ، فروى عاصمُ عن زِرِّ بن حُبَيش، أنه قال: " كان عمر بن الخطاب يورّث العمةَ والخالة " (2). وروى الأعمش: " أن عُمرَ ورّث الخالَ المالَ كفَه " (3).

_ (1) إسحاق بن رَاهْوَيْه، يأتي غالباً مطلقاً (إسحاق) بغير وصفٍ ولا إضافة، فحيثما وجدتَ (إسحاق)، فإياه يعنون. وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي، اجتمع له الحديث والفقه، وعنه ينقل الإمام أحمد كثيراً. ت 238 هـ (الأعلام للزركلي، وتاريخ بغداد: 6/ 345). (2) رواية عاصم عن زِرّ بن حبيش أخرجها ابن أبي شيبة (11/ 259 ح 11160) وسندها صحيح متصل كما قال ابن التركماني في الجوهر النقي (6/ 217). (3) رواية الأعمش عن عمر أخرجها سعيد بن منصور في سننه (1/ 69 ح 159).

وعن مالك بن أنس عن محمد بن أبي بكر بن حزم، أنه سمع أباه يقول: " كان عمر لا يورث بالرحم "، وكان يقول عمر: " عجباً للعمة تورَثُ ولا ترث " (1) وقال للعمة: " لو رضيك الله، لذكرك " (2). فهذا بيان أقاويلهم على الجملة. ومذهب من لا يورث بالرحم مضبوطٌ لا حاجة إلى تفصيله. 6405 - وأما المورِّثون بالرحم، فلهم في كيفية توريثهم اختلافٌ عظيم، وقد اختلفت أجوبتُهم في فروع ذوي الأرحام، لاختلافهم في أصولها، ولا يتأتى ذكرُ ضابطٍ لمذهب كل واحد من المورّثين يعمُّ جميعَ الباب، فلا بد من ذكر تفاصيلهم في أبوابٍ يشتمل كل باب على تفصيلِ مضمونه، وذكرِ ما يليق به. 6406 - وممَّا اتفق عليه المعتبرون المورثون لذوي الأرحام، أن قالوا: لا يرث من يتعلق بالرحم المحض، مع ذي فرض يرث بالفرض والقرابة، فالرد عندهم مقدّم على التوريث بالرحم المحض. وروي على شذوذٍ عن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز أنهما ورّثا الخالَ مع البنت. وقيل: إنما فعلا ذلك؛ لأنهما صادفَا الخالَ عصبةً بالولاء. أوْ من جهةٍ أخرى على ما سنبينه؛ فلا تعويل إذاً على هذه الرواية، ولا تفريع عليها. 6407 - واختلفوا في توريثهم مع مولى النعمة وعصبته، فذهب ابنُ عباس، ومعاذ ابنُ جبل، وأبو عبيدة إلى تقديم مولى النِّعمة وعصبته على ذوي الأرحام،

_ (1) أثر عمر " عجباً للعمة تورث ولا ترث " رواه مالك في الموطأ: الفرائض، باب ما جاء في العمة (2/ 517)، وابن أبي شيبة (11/ 262 ح 11171)، والبيهقي في الكبرى (6/ 213)، والصغير (3/ 266 ح 2303)، والمعر فة (5/ 84 ح3900). (2) أثر عمر " لو رضيك الله لذكرك " رواه مالك في الموطأ: الفرائض، باب ما جاء في العمة (2/ 516)، والبيهقي في الكبرى (6/ 213)، والمعرفة (5/ 84 ح 3899).

وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وإليه صار أكثر من يورِّث بالرحم. وذهب ابنُ مسعود إلى أن ذوي الأرحام أولى بالميراث من المعتِق وعصبتِه، وهو مذهب شريح وعطاء وإسحاق بن رَاهْوَيْه، وجماعة من البصريين. 6408 - ثم أصنافُ المورِّثين اختلفوا في كيفية التوريث، ولقَّبهم الفرضيون بثلاثة ألقاب، فقالوا: فرقة منهم تُعرَف بأهل القرابة منهم أبو حنيفة، وأبُو يوسف، ومحمد، وعيسى ابن أبان. وإنما سمُّوا أهلَ القرابة، لأنهم رتَّبوا ذوي الأرحام قريباً من ترتيب العصبات، فورّثوا الأقرب، فالأقرب. والفرقة الثانية تعرف بأهل التنزيل، وهم الشعبي، وشَرِيك، وابن أبي ليلى، والثوري، والقاسم (1) بن سلاّم، ومحمد بن سالم (2)، وأبو نُعَيْم ضرار بنُ صُرَد (3)، ونُعَيم بن حمّاد (4)، ويحى بنُ آدم، والحسن بن زياد اللؤلؤي. وقد صح عند هؤلاء من مذهب عليّ وابن مسعود المصيرُ إلى التنزيل، وسُمّي هؤلاء منزِّلين؛ لأنهم نزّلوا كلَّ واحدٍ من ذوي الأرحام بمنزلة الوراث الذي يُدلي به. وكان أحمدُ بنُ حنبل يقول بقول المنزِّلين إلا في موضعٍ

_ (1) القاسم بن سلاّم الهروي الأزدي الخزاعي بالولاء، أحد الأئمة الكبار في علومٍ شتى، وبخاصة: الحديث، والفقه. ت 224 هـ (ر. الأْعلام للزركلي، تاريخ بغداد: 12/ 403). (2) محمد بن سالم الهمداني، أبو سهل، الكوفي، مختلف في توثيقه، كان معروفاً بالفرائض، وله كتاب فيها، والذين ضعفوه قالوا: إنه كان في الفرائض أحسن حالاً (تهذيب التهذيب: 9/ 176، وميزان الاعتدال: 3/ 556) ولم أصل إلى تاريخ وفاته. (3) ضرار بن صُرد التيمي أبو نعيم الطحان الكوفي، قال أبو حاتم: صدوق، صاحب قرآن وفرائض، ت 229 هـ (تهذيب التهذيب: 4/ 456). (4) نعيم بن حماد المروزي، نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي المروزي، كان من أعلم الناس بالفرائض. ت 228 هـ (الأعلام للزركلي، تاريخ بغداد: 13/ 306).

واحدٍ، وهو أنّه كان يقدّم الخال على جميع [ذوي] (1) الأرحام. فإن لم يكن خالٌ، فقوله كقول أهل التنزيل في كل تفصيل. والفرقة الثالثة ذهبوا إلى التوريث بالرحم من غير ترتيب، ولا تنزيلٍ، وقسموا المال بينهم بالسوية سواء اختلفوا في القرابة، أو استوَوْا فيها، وبه قال نوحُ بنُ درّاج (2)، وحُبيش (3)، وشرذمة قليلة. 6409 - وأصحاب الشافعي وإن كانوا لا يرَوْن التوريث بالرحم؛ فإنهم اليومَ قد يميلون إلى صرف المال إلى ذوي الأرحام لاضطراب أمر بيت المال، ثم ميلُهم إلى قول المنزِّلين؛ لأنه أقيس على الأصولِ، وآثارُ المورِّثين من الصحابة رضي الله عنهم تشهد لأهل التنزيل. 6410 - والقول في توريث الأرحام في حكم افتتاح قسمةٍ أخرى، وتأسيس ورثةٍ سوى الذين استقر الشرع فيهم، وهم ينقسمون إلى من ثبت له فرض بالتقريب القياسي، وإلى من يقام مقام العصبات، ولا ذكر لهم في أبواب العصبات، ولا في أبواب ذوي السهام. فإذا مست الحاجة إلى النظر فيهم، اقتضى ذلك اهتماماً بالغاً بعد الاستعانة بالله تعالى، وقد كثر فيه خبط العُلماء واختلافهم، وقد رأيت أن أذكر في كل صنفٍ منهم باباً مشتملاً على ذكر أصول العُلماء المورِّثين، ثم على تَبْيين الأصول بالمسائل بتخريجها على الأصول، فإذا نجز القول في أفراد أصنافهم، ذكرنا بعد

_ (1) سقطت من الأصل. (2) نوح بن دراج النخعي مولاهم أبو محمد الكوفي القاضي محدث فقيه، مختلف في توثيقه، والأكثرون على تضعيفه. ت 182 هـ (تهذيب التهذيب: 10 - 482). (3) حبيش: أرجِّح أنه: حبيش بن مبشر بن أحمد بن محمد الثقفي، أبو عبد الله الفقيه الطوسي نزيل بغداد ت 258 هـ (ر. تهذيب الكمال: 5/ 415، تهذيب التهذيب: 2/ 195، وتاريخ بغداد: 8/ 272).

ذلك كلاماً بالغاً في اجتماعهم، وفيمن يقدّم منهم، ومن يؤخر، وإذا انتهى هذان النوعان، اختتمنا الكلام بجوامع في مذاهب العلماء تحل محل التراجم، ولو ذكرتُ الجملَ، كانت مبهمة على من يبتدىء النظر فيها، وقد يعتريه ملالٌ من استبهامها، فبندأ بأبواب الأفراد من الأصناف الوارثين بالرّحم. ***

باب في توريث أولاد البنات

باب في توريث أولاد البنات 6411 - أصل هذا الباب على قول أهل القرابة أن تنظر في أولاد البنات، فإن اختلفت درجاتُهم، وكان فيهم من هو أقرب، وفيهم من هو أبعد -وهذا هو المراد باختلاف الدرجات- فيقدم من هو أقرب في الدرجة، وإن كان الأبعد يتصل إلى الوارث من غير واسطة، [كالأقرب] (1) مثل: بنت بنت، وبنت بنت ابن فكل واحدة منهما مُدلية بوارث، ولو كان في المسألة بنت، وبنت ابن، لورثتا، ولكن بنت البنت مقدمة عند أهل القرابة على بنت بنت الابن؛ فإنها اختصت بقوة القرب. وهذا قاعدة اعتبار القرابة. وإن استوت الدرجتان، نظر: فإن سبق أحدهما إلى الوارث قبل اتصال الثاني بالوارث، قدِّم من سبق إلى الوارث. وهذا كبنت بنت ابن، بنت بنت بنت فبنت بنت الابن أولى؛ لأنها سبقت إلى الوارث في الدرجة الأولى، وبنت بنت بنت الصلب تتصل بالوارثة بدرجتين. وإن شئت قلت: إذا استوت الدّرجتان في القرب، فإن كان الأصل بنتين، فلا يتصور التفاوت في السبق إلى الوارث.

_ (1) في الأصل: كالأبعد.

وإن كان أصل إحدى الدرجتين ابناً، وأصل الدرجة الأخرى بنتاً، فمن هو على درجة الابن أسبقُ إلى الوارث لا محالة. وإن كان السابق إلى الوارث أبعد بالدرجة والقريبُ بالدرجة أبعد عن الوارث، مثل أن يكون في المسألة: بنت بنت بنت الابن ومعها بنت بنت البنت، فالبعيدة بالدرجة تتصل بالوارثة بنفسها، والقريبة بالدرجة تتصل بالوارثة وهي بنت الصلب بدرجة، فقد وُجد في إحدى الدرجتين بُعدٌ وسبْقٌ، وفي الدرجة الثانية قربٌ مع واسطةٍ. وقد ثبت أن المقرِّبين يقدّمون القربَ على السبق، والمنزِّلون يقدمون السبقَ على القُرب، فإن تحقق الاستواء في الدّرجة قرباً وبعداً، ووجد الاستواء في السبق إلى الوارث، ورثوا جميعاً. 6412 - ثم اختلف أبو يوسف، ومحمد في كيفية القسمة: فاعتبر أبو يوسف أبدان ذوي الأرحام عدداً وصفةً، فإن كانوا إناثاً سوّى بينهن، ولم ينظر إلى الأصول؛ وإن كانوا ذكوراً، فكذلك، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً، فالقسمة للذكر مثل حظ الأنثيين، فلا يلتفت أبو يوسف إلى ما تقدم من الدرج والوسائط أصلاً، وإنما نظره إلى الوارثين بالرحم في أنفسهم. وأمّا محمد؛ فإنه ينظر إلى أول درجة وأعلى بطنٍ وقع فيه الخلاف، من آباء هؤلاء الذين يورّثهم وأجدادِهم، وأمهاتهم، وجدّاتهم، فيجعل كلَّ ذكرٍ في ذلك البطن بعدد أولاده الأحياء الذين تقع القسمةُ عليهم، فيثبت ذلك العدد في الدرجة العليا، ويقدِّرُهم ذكوراً، وكل أنثى في الدرجة العليا يجعلها بعدد أولادها الأحياء إناثاً؛ سواء كان الأولاد الأحياء ذكوراً أو إناثاً، أو ذكوراً وإناثاً، فالعدد مأخوذ من الأولاد الأحياء، والذكورة والأنوثة مأخوذتان من الدرجة العليا. وإذا فعل ذلك، قسّم المالَ في الدرجة العليا للذكر مثلُ حظ الأنثيين، إن

كانوا ذكوراً وإناثاً. وإن كانوا ذكوراً، فالقسمة على الذّكور، وإن كانوا إناثاً، فالقسمة عليهن. ثم يُفرد نصيبَ الذكور على حدة، ونصيبَ الإناث على حدة، وينظر إلى كل واحدٍ من الصنفين. فإن لم يقع في أولاده الذين بينه وبين أولاده الأحياء اختلاف، قسّم ما أصابه بين أولاده الأحياء على اعتبار أبدانهم. وإن وقع فيهم اختلافٌ، قسم ما أصابه في البطن الذي وقع فيه الاختلاف، واعتبر في ذلك ما اعتبره في البطن الأول، ثم لا يزال يفعل ذلك حتى تنتهي القسمة إلى الأولاد الأحياء، فإذا انتهت القسمة إليهم، قسم ما أصابهم بينهم على اختلاف أبدانهم. هذا قولُ محمد. وأكثر أهل الرأي يقولون: هو قول أبي حنيفة، ولا يتّضح هذا الأصلُ إلا بضرب الأمثلة وإيراد المسائل. 6413 - فأما المنزّلون، فإنهم ينزّلون كلَّ واحدٍ من أولاد البنات منزلة آبائه، وأمهاته، ويرفعونه بطناً بطناً، فأيّهم سبق إلى وارثٍ، كان أولى. وإن استوَوْا في السبق، قُسِّم المالُ بين الورثة الذين صاروا إليهم، ثم يقسّم ما يصيب كلّ واحد من الورثة تقديراً بين من يدلي به على حسب ما يستحقون فيه لو كان الميت ذلك الوارث. ثم إن كانوا في أنفسهم ذكوراً، أو إناثاً، قسم بينهم بالسوية، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً فللذكر مثل حظ الأنثيين؛ فإن استحقاقَهم كذلك يقع، وهذا سبيل التوريث بالبنوة. هذا مذهب جمهور المنزّلين. 6414 - فأما أبو عبيد القاسم بن سلاّم وإسحاق بن رَاهْوَيْه، وغيرُهما ممن تابعهما قالوا: إذا كان فيهما ذكور وإناث، فالحصة مقسومة عليهم بالسوية لا يفضُل ذكرٌ أنثى؛ فإنهم لا يرثون بالعصوبة، وإنما يرثون بالرحم.

وهذا فاسد؛ فإن المنزّلين يُحلّون ذوي الأرحام محلَّ أصولهم، وهذا حقيقةُ التنزيل. والتوريث بالرحم المطلق يرفع اعتبارَ القُرب والبعد، والنظرَ إلى الأصول. فهذا تمهيد قاعدة الباب. مسائله: بنت بنت، وثلاث بنات بنت أخرى بهذه الصورة: (1) ° ...... ° ° ... ° ° ° على قول أهل القرابة: يقسم المال بينهم أرباعاً، لا غير. ولو قدّر محمد هذا العدد في الأصلين، لكان الجواب هكذا. وعلى قول أهل التنزيل: نقسم المال بين بنتي الصلب تقديراً نصفين فرضاً وردّاً، ثم نجعل نصيب كل بنت لولدها، فيخص بنت البنت الفردة نصفٌ ويخصّ بنات البنت الأخرى نصف. ابن بنت مع أخته وبنت بنتٍ بهذه الصورة: ° ... ° |° ... ° فعلى قول أهل القرابة المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين على أربعة،

_ (1) بهامش الأصل شرح لهذه الرسوم هذا نصه: الدائرة علامة الإناث، والألف علامة الذكور. وإذا اتصلت الألف بدائرة فوف الألف، فذلك علامة ذكر يتصل بأنثى. وإذا اتصلت الألف بدائرة تحت الألف فعلامة أنثى تتصل بذكر.

فيعتبرون ذوي الأرحام بأنفسهم في هذه الصورة. ومحمد يوافق أصحابه لأن أصولهم ورثة، وهو إنما يعتبر تعديدَ الأصول بعدد الأولاد إذا كانوا أرحاماً، ولهذا [قيدنا] (1) الكلامَ، وقلنا: ننظر إلى البطن الأعلى الذي فيه الخلاف، وأردنا البطنَ الأول من الأرحام. ومذهب جمهور المنزِّلين أن النصف لبنت البنت المفردة، والنصف لولدي البنت الأخرى: بينهما للذكر مثل حظ الأثثيين. وعلى قول أبي عبيد وإسحاق: النصف الذي لولدي البنت بينهما بالسوية. ابن بنت، وبنت بنت أخرى، وثلاث بنات بنت ثالثةٍ: ° ... ° ....... ° | ... ° ... ° ° ° على قول أهل القرابة: المال بينهم: للذكر مثل حظ الأنثيين، كما تقدم. وعلى قول المنزِّلين: لولد كل بنتٍ الثلث، ويقسم الثلث الذي يصيب البنت الثالثة بينهن على ثلاثة. بنت بنت وبنت بنت ابن بهذه الصورة ° ... | ° ... ° ..... ° أهل القرابة يقولون: المال لبنت البنت لقربها في الدرجة. وفي التنزيل: المال بينهما على أربعة بالفرض والرد، كما يكون كذلك بين بنت الصلب وبنت الابن.

_ (1) في الأصل: مهدنا.

بنت ابن بنت وبنت بنت ابن بهذه الصورة ° ... | | ... ° ° ... ° ْفالمال لبنت بنت الابن عند الفريقين؛ لأنها أسبق إلى الوارث، مع استواء الدرجتين؛ فإن المنزّلين يعتبرون السبق إلى الوارث، ولا يعتبرون الدرجة قربت، أو بعدت، وأهل القرابة يعتبرون السبق إلى الوارث عند استواء الدرجتين، فلا خلاف بين الفريقين إذاً: نعني أهل التنزيل وأهل القرابة. وأما نوح وحُبَيش ومن تابعهما من المورثين بالرحم المطلق، يسوّون بين القريب والبعيد، والسابق إلى الوارث والمسبوق، ويقولون: المال بينهما نصفين. وهذا المذهب يجري في كل صورة، ولكنا نذكره عند اتفاق الفريقين، حتى يتبين خلافهم لهما، ويحصل بتكرير ذكرهم إبانة مذهبهم. بنت ابن بنت، وبنت بنت بنت بهذه الصورة ° ... ° | ... ° ° ... ° فعلى قول المنزِّلين المال بينهما بالسوية، وتعليله بيّن؛ فإنهم يقسمون المال نصفين، بين بنتي الصلب، ثم يحطّون النصفين إلى الواسطة، ثم منهما إلى الدرجة التي نتكلم فيها، وهذا مذهب أبي يوسف من أصحاب القرابة؛ فإنه ينظر إلى صفة من يقسم عليه. وعلى قول محمد: يقسّم المال في الدرجة الوسطى التي فيها الخلاف؛ فإن أهل الدرجة الوسطى أرحام، فللذكر مثل حظ الأنثيين على ثلاثة، فإن ما أصاب الذكر، وهو الثلثان يسلّم إلى ولده، وهي بنت ابن البنت، وما أصاب بنت

البنت في الواسطة، وهو الثلث يسلّم إلى ولدها، وهي بنت بنت البنت. بنتا بنت بنت، وثلاث بنات ابن بنت أخرى بهذه الصورة . ° ...... ° . ° ...... | ° ° ... ° ° ° فعلى التنزيل: النصف بين بنتي بنت البنت بالسويّة، والنصف الآخر بين بنات ابن البنت الأخرى على ثلاثة بالسوية. وعلى قول أبي يوسف: المال بينهن على خمسة بالسوية، فإنه ينظر إلى أعداد من يقسم عليهم وصفاتهم، وهي خمسة. وعلى قول محمد: نجعل الذكر الذي في الوسط ثلاثة ذكور بعدد أولاده ونجعل الأنثى التي في الدرجة الوسطى اثنتين بعدد أولادها فنقسم المال في الدرجة الوسطى بين ثلاثة ذكور وأنثيين على ثمانية، فنصيب الذكر ستة، فتدفع إلى أولاده، لكل واحدة منهن سهمان. ونصيب الأنثى سهمان يكون ذلك لولديها لكل واحدةٍ منهما سهم. وقد اتضح الآن مذهب محمد بن الحسن للناظر، وسيزداد وضوحاً، إن شاء الله عز وجل. بنتا بنت بنت، وابن، وثلاث بنات ابن بنت بهذه الصورة . ° ........ ° . ° ........ | ° ° ... | ° ° ° فعلى قول المنزلين نسلّم نصفاً إلى أولاد ابن البنت، وهم أربعة ثلاثة إناث، وواحد ذكر، والنصف مقسوم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والنصف الآخر لبنتي بنت البنت بينهما بالسوية.

وعند أبي يوسف من المقرِّبين: المال مقسومٌ بين الذين نورّثهم للذكر مثل حظ الأنثيين على سبعة أسهم، ولا نظر إلى من قبله. وعلى قول محمد نجعل الذكر الذي في الوسط بمنزلة أربعة ذكور، والأنثى التي في الوسط بمنزلة الأنثيين، ويقسم المال في الدرجة الوسطى، بين أربعة ذكور وأنثيين: على عشرة، فيصيب الذكر ثمانية، والأنثى اثنان، والنصيبان [يتفقان] (1) بالنصف (2)، فنرد كلَّ واحدٍ منهما إلى نصفه اختصاراً، فتعود المسألة على خمسة للذكر أربعة، وللأنثى سهم، فالأربعة التي هي نصيب الذكر بين أولاده: للذكر مثل حظ الأنثيين، على خمسة والأربعة لا تصح عليها، ولا توافق الواحد الذي هو نصيب الأنثى بين ولديها: ينكسر على اثنين، ولا يصح، ولا يوافق، وليس بين الاثنين والخمسة موافقة، فنضرب اثنين في خمسة يكون عشرة، ثم نضرب العشرة في الخمسة التي أردنا قسمتها فيكون خمسين منه تصح المسألة وهذا تمامُ بيان مذهب محمد في هذا الباب. ...

_ (1) في الأصل: ينقصان. (2) بالنصف: المراد هنا نصف الثمانية والاثنين، وليس نصف التركة، فتنبه.

باب في كيفية توريث بنات الإخوة وأولاد الإخوة والأخوات

باب في كيفية توريث بنات الإخوة وأولاد الإخوة والأخوات 6415 - أصل هذا الباب على مذهب المنزِّلين أن يُنزَّل كلُّ واحد منهم بمنزلة أبيه أو أمه، وإذا تسفّلوا، رُفِّعوا كذلك بطناً بطناً، فإن سبق بعضُهم إلى وارث، كان أولى بالميراث، وإن استوَوْا في السبق، قدّرنا قسمة المال بين الورثة الأصليين، فما أصاب كلُّ واحدٍ منهم، قُسّم بين أولاده، ورُوعيت صفتهم في الذكورة والأنوثة في الاختلاف والاتفاق. 6416 - ثم مما يجب التنبه له في قاعدة الباب من مذهب المنزِّلين أنا نقسم حصة أولاد الأخت من الأب والأم، وحصة أولاد الأخت من الأب بينهم بعد التنزيل الذي ذكرناه مع مراعاة صفاتهم في الذكورة والأنوثة، فإن كانوا ذكوراً [قسم عليهم بالسوية، وكذلك الإناث الممحّضات، وإن كانوا ذكوراً] (1) وإناثاً، فالمذهب الذي عليه التعويل أن حصتهم مقسومةٌ عليهم: للذكر مثل حظ الأنثيين، هذا فيما أصاب أولاد الأخت من الأب والأم، والأخت من الأب. فأما أولاد الأخ والأخت من الأم، فحصتهم مقسومة عليهم بالسويّة، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً: لا يفضَّل ذكرٌ على أنثى، كما لا يفضل الأخ من الأم على الأخت. وهذا فيه مجال للفكر، من طريق العلة، وإن كان الحكم متفقاً عليه؛ فإن

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

قياس المنزّلين يقتضي أن تقسم حصةُ أولاد الوارث على نسبة قسمة تركة ذلك الوارث لو مات، وسيأتي مصداق ذلك في الأبواب والمسائل، إن شاء الله عز وجل. وهذا يقتضي أن يقال: لو مات الأخ من الأم، وله ابنٌ، وبنت، فما يخلّفه بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ولكن لم يصر إلى ذلك أحد من المنزِّلين، في هذا المقام. وقطعوا بأن أولاد الأخ من الأم يستوون، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً. 6417 - وأصل الباب على قول أهل القرابة أن ننظر: فإن كان في أولاد الأخوات وبنات [الإخوة] (1) من هو أقرب بالدرجة، فهو أولى من أي جهةٍ كان، سواء كان من أولاد الأب، أو من أولاد الأم. وإن استوت الدرجات، فأيّهم سبق إلى الوارث، فهو أولى من أي جهة كان السابق. وإن [استوَوْا] (2) في الدرجة والسبق، فقد اختلف فيه أهل القرابة، فأمّا أبو حنيفة، وأبو يوسف، فإنهما جعلا من كان من قِبل الأب والأم أولى، ثم من كان من قبل الأب، ثم من كان من قِبل الأم، وراعى هؤلاء قوة القرابة، ولم يلتفتوا إلى الأصول، وإلى من يسقط منهم أو يبقى. ثم قال هؤلاء: أولاد من كان من قبل الأب والأم، أو من قبل الأب يتفاضلون إذا كانوا ذكوراً وإناثاً: للذكر مثل حظ الأنثيين. فأما إن كانوا من أولاد الأخ من الأم، أو الأخت من الأم، فلا يفضّل الذكر منهم على الأنثى، على حسب ما ذكرناه على مذهب المنزِّلين. فأما محمد بن الحسن، فإنه يأخذ حكمَ كل فريق من آبائهم، ويأخذ العدد من

_ (1) في الأصل: الأخ. (2) في الأصل، (ت 3): استوت.

الأولاد، كما ذكرناه في أولاد البنات [وسيتضح مذهبه بالمثال، فلينظر الناظر حتى ينتهي إليه، وإذ ذاك نبينه بياناً] (1) شافياً. 6418 - مسائل الباب: بنت أخت، وابنا أختٍ أخرى. في قول المنزّلين: لولد كلّ أختٍ النصفُ، ثم أحد النصفين بين ابني الأخت نصفين، والنصف الآخر لبنت الأخت الأخرى. وعلى قول أهل القرابة المال بين بنت الأخت وابني الأخت الأخرى: للذكر مثل حظ الأنثيين على خمسة. والأختان من جهة واحدة: إما من أبٍ وأم، أو من أب. ثلاث بنات ثلاثة إخوة مفترقين على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف: السدس (2) لبنت الأخ من الأم، وهو نصيب أبيها لو كان هو الوارث، والباقي لبنت الأخ من الأب والأم؛ وذلك أن الأخ من الأب يَسقُط بالأخ من الأب والأم، فكذلك يسقط ولدُه. هذا حكم التنزيل، وهذا بعينه مذهبُ محمد بن الحسن. ثلاث بنات ثلاث أخوات متفرقات في قول أبي حنيفة وأبي يوسف: المال لبنت الأخت من الأب والأم. وفي قول المنزِّلين وقول محمد بن الحسن: المال بينهن على خمسة، كما يكون بين أمهاتهن كذلك، بالفرض والرّد. وكذلك الجواب في ثلاثة بني ثلاث أخوات مفترقات عند الفريقين.

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (2) (ت 3): المال. وسقطت من (ت 2).

ثلاثة بنين، وثلاث بنات ثلاث أخواتٍ مفترقات مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف: أن المال بين ولدي الأخت من الأب والأم: للذكر مثل حظ الأنثيين. وفي قول محمد نجعل كأنه خلَّف ست أخوات مفترقات، فأخذ العدد من الأولاد، والحكم من الأصول. وهذا موضع التنبيه الموعود؛ فإنا [ذكرنا] (1) من أصله في باب أولاد البنات أنه يأخذ في هذا الاعتبار من الدرجة الأولى التي فيها الخلاف، وهي أعلى الدرجات من الأرحام، ولا يعتبر هذا في الأصول الوارثين. وفي هذا الباب اعتبر في العدد الأصول في الصفة، وأقام كلَّ أصل على عدد أولاده، حيث قال: نجعل كأنّ في المسألة ست أخواتٍ مفترقات، فإذاً للأخت من الأم الثلث بتقديرها أختين، وللأخت من الأب والأم الثلثان؛ لأنها بمنزلة الأختين لأب وأم، ثم الثلث الذي أضيف إلى الأخت من الأم يكون بين ولديها نصفين، والثلثان الذي قدرناه للأخت من الأب والأم بين ولديها: للذكر مثل حظ الأنثيين على ثلاثة. ومذهب المنزلين: أن المال يقدّر بين أمهاتهن على خمسة، فما أصاب الأختَ من الأم، وهو سهمٌ من خمسة، فهو بين ولديها: بالسوية لما مهدناه من التسوية بين أولاد الأخ من الأم، والسهم الذي يصيب الأخت من الأب بين ولديها: للذكر مثل حظ الأنثيين. والثلاثة التي للأخت من الأب والأم بين ولديها: للذكر مثل حظ الأنثيين. ولا يكاد يخفى طريق التصحيح. وعلى قول أبي عبيد وإسحاق: نقسم المال بين الأمهات، كما ذكرناه على خمسة، وما أصاب كلّ واحدة منهن بين ولديها: نصفين من غير تفضيل ذكر على أنثى.

_ (1) في الأصل: نذكر.

ابن أخت لأم معه أخته، وابن ابن أخت لأبٍ وأم فالمال لولدي الأخت من الأم بينهما نصفين على قول الفريقين. وفي قول نوح وحُبيش (1): المال بين الثلاثة بالسويّه. بنتا أخٍ، وخمس بنات أخٍ آخر عند أهل القرابة: المال بينهن على سبعة، وهذا مذهب محمد أيضاً؛ فإنه إذا نقل عددَ الأولاد إلى الأخوين، وقعت القسمة كذلك. وعند المنزِّلين يقدّر لكل أخٍ نصف المال، ثم يقسم نصفٌ على اثنين، ونصفٌ على خمسة، ولا يخفى التصحيح. ابنا أخٍ لأمٍ، وبنتُ أخت لأبٍ: في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف: المال لبنت الأخ من الأب. وقال محمد بن الحسن: المال بينهم على خمسة، فإنه يقدر الأخ من الأم على عدد الأولاد، ففي المسالة على هذا التقدير: أخت لأبٍ، وأخوان لأم، فتقع القسمة من خمسة. وعلى قول المنزلين: يقسم المال بينهم على أربعة، ويقدر في المسألة أخٌ لأم، وأخت لأبٍ. ولو كانا، لقسمنا المال بينهما بالفرض والرد على هذه النسبة. ثم الربع الذي يقع لولدي الأخ من الأم بينهما نصفين. ابنا أختٍ لأبٍ، وبنت أخت لأبٍ وأم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف المال لبنت الأخت من الأب والأم. وفي قول محمد كانه خلف أختاً لأبٍ وأم، وأختاً لأبٍ، فالمال على هذا

_ (1) نوح وحبيش: يورثان بالرحم مطلقاً، من غير نظر إلى قرابة ولا إلى تنزيل، فيسوون بينهم (انظر ما سلف ص 201).

التقدير بينهن على أربعة بالفرض والرد، فما أصاب الأختَ من الأب -وهو سهم- لولديها نصفين. وهذا مذهبُ المنزِّلين. وقد أجرينا بعضَ الصور المقدمة على قول علي في الرد؛ فإنه رضي الله عنه يرد المال على الأخت من الأب والأم، والأخت من الأب على آربعة. ومن قال بقول ابن مسعود، فإنه يجعل السدس لولدي الأخت من الأب، والباقي لولد الأخت من الأب والأم؛ فإنه لا يرى الردَّ على الأخت من الأب [مع الأخت من الأب] (1) والأم. فهذا اعتبار الباب، وبيان أصول العلماء بالمسائل، وضرب الأمثلة. ...

_ (1) ساقط من الأصل.

باب في كيفية توريث الأخوال والخالات والأعمام والعمات من الأم

باب في كيفية توريث الأخوال والخالات والأعمام والعمات من الأم 6419 - قاعدة الباب على رأي أهل القرابة أن الخالات لو كن منفردات، ننظر: فإن كان جميعهن من جهةٍ واحدة، بأن كن أخوات الأم من أبٍ وأم، أو أبٍ، أو أمٍ، فالمال بينهن بالسوية، وإن اختلفت جهاتهن: بأن كنّ ثلاث أخوات مفترقات لأم الميت، فأَوْلاهن من كان من قبل الأب والأم، ثم من كان من قبل الأب، ثم من كان من قبل الأم. وحكم الأخوال إذا انفردوا، كحكم الخالات المنفردات؛ فإن اجتمع الأخوال والخالات، وكانوا من جهةٍ واحدةٍ، فالمال بينهن: للذكر مثل حظ الأنثيين، سواء كانوا من قبل الأب والأم، أو من قبل الأب، أو من قبل الأم. ولم يفصّلوا في تفضيل الذكر على الأنثى بين جهةٍ وجهةٍ، ولم يقولوا إخوة الأم من جهة الأم، وهم أخوال الميت: لا يفضل ذكرهم على أنثاهم. وقد مهدنا في باب أولاد الأخوات أن أولاد الأخت والأخ من [الأم] (1) يستوون، وإن كان بعضهم ذكوراً وبعضهم إناثاً، فليعلم الناظر هذا فصلاً بين البابين. هذا قول المُقرِّبين في الأخوال والخالات. فأمّا العمات المنفردات على رأيهم، فحكمهن حكم الخالات، فإن اجتمع

_ (1) في الأصل: الأب.

مع العمات من الأم أعمام من الأم، ولم يكن في المسألة غيرهم، قسم المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. 6420 - وإذا اجتمع الخالات والعمات جميعاً، فالمذهب المشهور من قول أصحاب أبي حنيفة أنه يُدفع إلى الخالات الثلث، وإلى العمات الثلثان، ثم يعتبر في ثلث الخالات والثلثين للعمات ما كان يعتبر في جميع المال لو صرف إلى أحد الصنفين عند انفراده. وروى ابنُ سماعة (1) عن أبي يوسف أنه قال: إنما نجعل المال ثلثاً، وثلثين بين العمات والخالات، إذا استوت جهة العمات، والخالات، فأمّا إذا اختلفت الجهتان، فالمال كلّه لأقواهما، خالاتٍ كنّ أو عمات. وكان بشر (2) يقول: المال مصروفٌ إلى العمات على أية جهة كُنَّ، دون الخالات. وهذا مذهب شاذ، ولا يعدّ خلاف بشر. 6421 - فأما أهل التنزيل فقد قالوا: إذا كانت الخالات منفردات، قسّم المال بينهم على حسب ما يرثن من الأم لو كانت هي الميتة، وكذلك الأخوال المنفردون، والأخوال والخالات إذا اجتمعوا قسّم المال بينهم على حسب استحقاقهم من أم الميت لو كانت هي الميتة. فأمَّا العمات المنفردات، فلأهل التنزيل في العمة مذاهبٌ: منهم من قال: العمة بمنزلة الأب؛ فإنها تدلي إلى الميت بالأب؛ إذ هي أخت أب الميت.

_ (1) ابن سماعة، محمد بن سماعة بن عبد الله التميمي، أبو عبد الله، ولى القضاء لهارون الرشيد، وكان يقول بالرأي على مذهب أبي حنيفة، وله كتاب (النوادر) عن أبي يوسف ت 233 هـ. (ر. الأعلام للزركلي، وتاريخ بغداد: 5/ 341). (2) بشر: أبو الوليد بشر بن الوليد بن خالد بن الوليد الكندي، أخذ العلم عن أبي يوسف خاصة، وولي القضاء ت 238 هـ (طبقات الفقهاء: 138، الجواهر المضية 1/ 452).

ومنهم من قال: هي بمنزلة العم من الأب والأم، سواء كانت عمة من أب، أو عمة من أم، أو عمة من أبٍ وأم. فهذا القائل ينزلها منزلة العم من الأب والأم. وهذه روايةٌ عن علي. ومن المنزّلين من نزّل العمات المفترقات منزلةَ الأعمام المفترقين. ومن المُنَزِّلين من نزلهن منزلة الجد؛ من جهة أنها تدلي بالجد أب الأب. وهذا إنما يستقيم في العمة من الأب والأم، والعمة من الأب، فأمَّا العمة من الأم، فينبغي أن تكون كالجدة أم الأب؛ فإنها على هذا الطريق تدلي بالجدّة. ونحن نعود إلى شرح هذه المذاهب في آخر توريث الأرحام عند نجاز الأبواب المعقودة في أفراد أصناف ذوي الأرحام، إن شاء الله تعالى. 6422 - فمن نزل العمةَ منزلة الأب، أو منزلة العم من الأب والأم؛ فإنه يقول في العمات المفترقات: إنهن يستحققن الميراث على حسب استحقاقهن من الأب لو كان هو الميت. وهذا موضع تدبر؛ فإن العمة لو انفردت جعلناها كالأب من أي جهةٍ كانت، فقد يخطر للناظر أن يجعلهن وإن اختلفت جهاتهن كالمستويات، ولكن ليس الأمر كذلك عند المنزِّلين؛ فإنهم يعتبرون تقدير ميراثهن من الأب، كما اعتبروا في الخالات المفترقات تقدير ميراثهن من الأم. ومن نزل العمات المفترقات منزلة الأعمام المفترقين، قدم العمة من الأب والأم، ثم العمة من الأب، فإن لم تكونا، فإذ ذاك ترث العمة من الأم. ومن نزلهن منزلة الجدّ، فإنه يُسقط من كان من قبل الأم؛ فإنها ليست مدلية بالجد. ويقسم ما أصاب بين العمة من الأب والأم، والعمة من الأب بالسوية،

ولا يعتبر غيرَ ذلك؛ فإن المتبع عنده الإدلاء بالجد، وقرابة الأم غير معتبرة. وهاهنا موقف للناظر؛ إذْ كان يحتمل أن يقال: العمة من الأم كالجدة أم الأب، كما ذكرناه، والجدة أم الأب ترث مع أب الأب. ولكن لم يفعل المنزّلون ذلك، وغلّبوا العمةَ المدلية بالجد، وأسقطوا بها العمة المدليةَ بالجدة وزادوا، فلم يرجحوا العمة من الأب والأم على العمة من الأب. 6423 - وكان أحمد بن حنبل يجعل الخال أولى من جميع ذوي الأرحام لخبرٍ فيه، سنذكره بعد نجاز الأبواب، إن شاء الله تعالى. فإن لم يكن خال، فمذهبه مذهب المنزّلين في كل معنىً. وهذه الأصول تُهذَّب بالمسائل. مسائل الباب ثلاث خالات مفترقاتٍ في قول أهل القرابة: المال للخالة من الأب والأم. ومذهب المنزّلين أن المال بينهن على حسب استحقاقهن من أم الميت، لو كانت هي الميتة، ثم الصحيح مذهبُ عليّ في الرّد، فالمال إذن بين الخالات على خمسة كما لو ورثن أمَّ الميت بالفرض والرد. وعلى أصل ابن مسعود في الرد: السدس للخالة من الأم، والباقي بين الخالة من الأب والأم، والخالة من الأب على أربعة. ثلاثة أخوال مفترقين. عند أهل القرابة: المال للخال من الأب والأمّ. وعلى رأي المُنَزِّلين: المالُ بين الخال من الأم، والخال من الأب والأم على ستة: للذي هو من الأم السدس، والباقي للخال من الأب والأم، على قياس توريثهم من أم الميت.

ثلاثة أخوال مفترقين، وثلاث خالات مفترقات مذهب المُقَرِّبين: أن المال بين الخال والخالة من الأب والأم: للذكر مثل حظ الأنثيين. [وعند المُنَزِّلين: الثلث بين الخال والخالة من الأم للذكر مثل حظ الأنثيين] (1). 6424 - وهذا مشكل بالإضافة إلى ما قدمناه في أولاد الأخوات؛ فإنّا جعلنا المال بين أولاد الأخ من الأم مقسوماً بالسوية على الذكور والإناث، وهاهنا فضلنا الذكر على الأنثى في أُخُوَّة الأم من قبل أمهما، وإن كانوا يرثونها لو ماتت بالسوية؛ ومبنى التنزيل في هذه الأبواب على اعتبار الإرث من الأم لو كانت هي الميتة، والذي يحقق ذلك أنا قدرنا الثلث للخال والخالة من الأم، وما ذلك إلا لاعتبار التوريث من الأم، فيجب اعتبار قياس التوريث منها. وقال المُنَزِّلون: الباقي بعد هذا الثلث للخال والخالة من الأب والأم: للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا سديد في إخوة الأم من أبيها وأمها؛ فإنهم على هذا القياس يرثونها لو ماتت. وعند أبي عبيدٍ ومن تابعه: الثلث بين الخال والخالة من الأم نصفين، والثلثان بين الخال والخالة من الأب والأم نصفين، وهذا أصله المطّرد في التسوية بين الذكور والإناث. 6425 - ثلاث عماتٍ مفترقات عند أهل القرابة: المال بين العمة من الأب والأم وعند المنزلين: تختلف المسالك، فمن نزل العمات منزلة الأعمام، جعل

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، (ت 3)، وأثبتناه من (ت 2).

العمة من الأب والأم أولى، كما ذهب إليه المقربون. ومَنْ نزلهن منزلة الأب، قسم المال بينهن، كما يرثن من الأب لو كان هو الميت، فعلى أصل عليٍّ في الرّدّ: المال مقسوم على خمسة، وعلى أصل ابن مسعود في الرد (1) السدس للعمة من الأب، والباقي بين العمة من الأب والأم، والعمة من الأم على أربعة. خالة لأم، وعمة لأب على مذهب القرابة في الرواية المشهورة: الثلث للخالة، والثلثان للعمة. وعلى رواية ابن سماعة عن أبي يوسف: المال كله للعمة من الأب، فإن الجهتين قد اختلفتا، وروايته أن الجهتين إذا اختلفتا، قدمت [أقواهما] (2). وعلى مذهب المنزلين: الثلث للخالة، والثلثان للعمة، وتنزلان منزلة الأم والأب. خالة لأب وأم، وعمة لأب فمذهب الجمهور من المقرّبين: أن المال بينهما على ثلاثة، كما ذكرنا: [الثلث للخالة من الأب والأم، والثلثان للعمة. وعلى رواية ابن سماعة المال للخالة. ثلاثة أخوال مفترقين، وثلاث عمات مفترقات عند أهل القرابة] (3) الثلث للخال من الأب والأم، والثلثان للعمة من الأب والأم.

_ (1) نذكّر بأن أصل عليٍّ في الرد الرّدُّ على جميع أصحاب الفروض ما عدا الزوجين. وأما ابن مسعود، فلا يرد على بنت الابن إذا كان معها صلبية، ولا على الأخت لأب إذا كان معها شقيقة، ولا على أخت لأم إذا كان معها أم، ولا على الجدة إذا كان معها صاحب فرضٍ متعلقه الرحم. وأما الزوجان فلا يرد عليهما أصلاً، وعلى أية حال. (2) في الأصل: أبوهما. وهو من غرائب التصحيف. (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

وعلى قول المنزِّلين: الثلث، بين الخال من الأم، والخال من الأب والأم، على ستة: للخال من الأم سهم، وللخال من الأب والأم [خمسة] (1)، والثلثان الذي للعمات يخرّج على اختلاف المنزّلين في تنزيل العمات، فمن نزل العمات منزلةَ الأعمام جعل الثلثين للعمة من الأب والأم. ومن نزلهن منزلة الأب، قسم الثلثين بين العمات على خمسة في قول علي، كما يرثن الأب كذلك، لو كان هو الميت، فأمَّا على أصل ابن مسعود في الردّ، فسدس الثلثين للعمة من الأب، والباقي بين العمة من الأب والأم، والعمة من الأم، على أربعة: رُبْعُه للعمة من الأم، وثلاثة أرباعه للعمة من الأب والأم (2). عمتان من أبٍ، وعمّ وعمّةٌ من أم، وخالة من أب وخالة من أم في قول أهل القرابة: الثلث للخالة من الأب، والثلثان للعمتين من الأب. وعلى قول المنزلين: الثلث بين الخالة من الأم، والخالة من الأب على أربعة أسهم للخالة من الأم الربع، وللخالة من الأب ثلاثة أرباع المال. وللعمتين من الأب ثلثا الثلثين، وللعمّ والعمة من الأم الثلث من الثلثين بينهما نصفين. وهذا الآن يخالف ما قدمناه، من قسمة المال، والحصة بين الخال والخالة من الأم للذكر مثل حظ الأنثيين، كما نبهنا عليه في أثناء الباب. فإن صح ذلك الذي تقدم نقلاً، فيجب هاهنا قسمة ثلث الثلثين بين العم والعمة من الأم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن صح قسمة ثلث الثلثين بين العم والعمة نصفين، وهذا

_ (1) في الأصل: سهمان. (2) لأن العمة من الأب هنا لا يرد عليها مع وجود العمة لأب وأم، فهي أختٌ لأبٍ مع أختٍ شقيقة، ولو عبرنا عن المسألة بعبارة أوضح، لقلنا: الثلث للخال من الأب والأمً، والخال من الأم ......... والثلثان للعمات: للعمة للأب والأم النصف، وللعمة من الأب السدس، وللعمة من الأم السدس، والباقي -من الثلثين- يُردُّ على العمة من الأب والأم، والعمة من الأم، دون العمة من الأب؛ فليس لها هنا إلا سدسها.

هو القياس المنطبق على أصل التنزيل، وجب على مقتضاه لا محالة قسمة المال والحصة بين الخال والخالة من الأم نصفين بالسوية. ومن نزّل العمات بمنزلة الأعمام، جعل الثلثين كلَّه للعمتين من الأب. فهذا ما نقلناه على ثَبَتٍ من كتاب الأستاذ أبي منصور رحمه الله. ***

باب في توريثهم لأولاد الأخوال والخالات والعمات

باب في توريثهم لأولاد الأخوال والخالات والعمّات 6426 - أصل هذا الباب على قول أهل القرابة أن أولاد الأخوال والخالات، إذا كانوا منفردين، يُنظر فيهم: فإن استَوَوْا في الدرج وكانوا من جههٍ واحدة، ورثوا جميعَ المال. ثم أبو يوسف يعتبر أبدانهم عدداً، وصفةً، ويقسم بينهم على اختلافهم في أنفسهم، ولا ينظر إلى أصولهم في الذكورة والأنوثة. ومحمد يعتبرهم بأصولهم في الذكورة، ثم يعدّد الأصول بعدد الأولاد، كما تمهّد ذلك من أصله في أولاد الأخوات، وبنات الإخوة. فإن اختلفت جهاتهم، فكان بعضهم أولاد الخال أو الخالة من الأب والأم، وبعضهم أولاد الخال أو الخالة من الأب، وبعضهم من الأم. فإن كان فيهم قريبٌ بالدّرجة، فهو أولى على رأي المقرِّبين. وإن استوَوْا في القرب يقدم أسبقهم إلى الوارث، وليس ذلك لاختيار التنزيل، وإنّما هو لقوة القرابة المدانية لقرب الدرجة، فإن استوَوْا في السبق إلى الوارث، اعتُبر بعد ذلك قوةُ القرابة، فقرب الدرجة، مقدّم على السبق، وقوة القرابة، والسبقُ بعده، مقدَّم على [قوة] (1) القرابة. فإن حصل الاستواء في قرب الدرجة، والسبقِ إلى الوارث، اعتبر بعدهما قوةُ القرابة، فإن استوَوْا في القرب، والسبق، وقوة القرابة، اشتركوا. والمعتبر أبدانُهم على رأي أبي يوسف.

_ (1) في الأصل: قرب.

وأمّا محمد يعتبر آباءهم، كما تقدم. والآباء في هذا الباب الأخوالُ، والخالات، وهم مختلف فيهم. وقد ذكرنا أنّه يعتبر صفات الآباء إذا كانوا أرحاماً في الدرجة الأولى، ويعتبر الأعدادُ من الأولاد. وقد تكرر ذلك. ونحن نُفرد (1) في صدر هذا الباب أولادَ الأخوال والخالات، ثم نذكر بنات الأعمام وأولاد العمات، ثم نذكر اجتماع بنات الأعمام وأولادَ العمات، وأولادَ الأخوال والخالات. فأمَّا الفصل الأول، فقد مهدنا فيه أصلَ المقرِّبين. فأما أهلُ التنزيل، فأصلهم يطرد في الأبواب، ولا يكاد يختلف، فيُنزِّلون أولادَ الأخوال والخالات درجةً درجة: إذا نزّلوا واحداً درجةً، نزّلوا الآخر؛ فإن سبق أحدهم إلى وارثٍ للميت، كان أولى من غيره، ولا نظر عندهم إلى قرب الدرجة. وإن استوَوْا في السبق إلى الورثة، قسّم بين الورثة الذين صاروا إليهم، وانتهَوْا إلى وراثتهم، على حسب استحقاقهم من الميت، فإذا بانت حصةُ كل واحدٍ من ورثة الميت، فُضَّت حصتُه على من انتهى إليه بالتنزيل، على حسب استحقاقهم منه، لو كان هو الميت. وهذا الأصل لاطراده يذكر في صدر كل باب، فيستقيم أصلاً فيه. مسائل هذا النوع: 6427 - ثلاث بنات أخوال مفترقين في قول أهل القرابة: المال لبنت الخال من الأب والأم؛ لقوة القرابة. وعند المنزِّلين السدسُ لبنت الخال من الأم، والباقي لبنت الخال من الأب والأم.

_ (1) (ت 3): نقرر.

وكذلك الجواب في ثلاثة بني أخوال مفترقين. ثلاث بنات خالات مفترقات على أصل أهل القرابة: الميراث لبنت الخال من الأب والأم، وعند المنزِّلين على رأي عليٍّ في الردّ المالُ بينهن على خمسة: لبنت الخالة من الأم سهم، ولبنت الخالة من الأب سهم، ولبنت الخالة من الأب والأم ثلاثة أسهم. [ومن قال بقول ابن مسعود في الردّ، وكان من المنزّلين] (1)، قال: لبنت الخالة من الأب السدسُ، والباقي بين بنت الخالة من الأم، وبنت الخالة من الأب والأم على أربعة. ثلاث بنات أخوال مفترقين، وثلاثة بني (2) خالات مفترقات في قول أبي يوسف: المال بين ولدي الخال والخالة من الأب والأم: للذكر مثل حظ الأنثيين. وفي قول محمد: يقسم المال بين الخال والخالة من الأب والأم: للذكر مثل حظ الأنثيين، فما أصاب كلّ واحد منهما، دفع إلى ولده، فيكون سهمان لبنت الخال من الأب والأم وسهمٌ لابن الخالة من الأب والأم. وأما على مذهب المنزلين، فالأخوال والخالات إخوةٌ لأم، فيقسم المال بينهم، فيخص الخالَ والخالةَ من الأم ثلثُ المال، ويكون الباقي للخال والخالة من الأب والأم، ويسقط الخالة والخالُ من الأب. فأمّا ما خص الخال والخالة من الأم، فيقسم بين ولديهما بالسوية، كما ذكرناه في أولاد الأخ من الأم في بابه.

_ (1) عبارة الأصل: " وعلى قول ابن مسعود في الرد، ومن يقول بالتنزيل ". (2) (ت 3): بنات.

وأما ما يخص الخالَ والخالةَ من الأب، فمسلمٌ إلى أولادهما للذكر مثلُ حظ الأنثيين إلا في قول أبي عُبيد من المنزِّلين، فإنه لا يفضل الذكر على الأنثى. 6428 - فأما بنات الأعمام وأولاد العمات، فأصل المقرِّبين على ما تمهّد. والمبتدىء في هذا العلم ينتفع بالتكرير ويألف المذاهبَ به. فإن اختلفت الدرجات، فالأقرب أولى، وإن استوت، فالأسبق إلى الوارث أولى، وإن لم يكن فيهم أسبق، فالأقوى أولى. وبيان ذلك قبل المسائل أنه إذا كان في المسألة: ابنة ابن عمٍّ لأبٍ وأم، وبنت عمة من أم، فالمال لبنت العمة عند المقرِّبين، لأنها أقرب، فإنْ ترك بنتَ بنت عمّة، وبنت ابن عم لأب وأم، فالمال لبنت ابن العم؛ لأنها أسبق، فإن ترك بنت عمة لأب وأم، وبنت عمة لأب أو لأم، فالمال لبنت العمة من الأب والأم؛ لأنها أقوى، فإن ترك بنت عمّة، وبنتَ عم لأبٍ وأم، أو لأبٍ، فبنت العم أولى؛ لأن أباها عصبة، فهذا أصل المقربين، وأصل المنزِّلين ما سبق. - مسائله 6429 - ثلاث بنات عمّات مفترقات عند أهل القرابة: المال لبنت العمّة من الأب والأم. وأما المنزِّلون: فمن نزل العمات منزلة الأعمام، قدم بنتَ العم من الأب والأم، ومن نزل العمات منزلة الأب قسّم المالَ بينهن على خمسة، على قول عليٍّ في الرد: لبنت العمة من الأم سهم، ولبنت العمة من الأب سهم، ولبنت العمة من الأب والأم ثلاثة أسهم.

ومن فرّع على رأي ابن مسعود جعل السدس [لبنت] (1) العمة من الأب، والباقي بين بنت العمة من الأم، وبنت العمة من الأب والأم على أربعة أسهم. ثلاث بنات أعمام مفترقين المال لبنت العم من الأب والأم عند الجميع، إلا على قول نوح وحُبيش، فإن المال بينهن أثلاثاً. ثلاث بنات أعمام مفترقين، وثلاثة بني عمات مفترقات فالمال لبنت العم من الأب والأم عند الفريقين. فأما إذا اجتمع بنات الأعمام، وأولادُ العمات، وأولادُ الأخوال والخالات، فمذهب المقرِّبين أن من كان أقرب منهم بالدرجة، فهو أولى، وإن استوَوْا في الدرجة، فالأسبق إلى الوارث أولى. وإن استوَوْا في السبق إلى الوارث، فالثلثان لجهة بنات الأعمام وأولاد العمات. ثم النظر فيه على ما قدمناه في أفرادهم (2). والثلثان في حقهم كجملة المال لو انفردوا، والثلث لجهة أولاد الأخوال والخالات، ثم يعتبر في الثلث ما يعتبر في جميع المال لو انفردوا. وأهل التنزيل ينزِّلون الأخوال كما قدمنا في انفرادهم، ويختلفون في تنزيل العمَّات، وأولادهم على ما نبين في المسائل. ثلاث بنات أخوال مفترقين، وثلاث بنات أعمام مفترقين، وثلاثة بني عمات مفترقات، وثلاث [بني] (3) خالات مفترقات، فبنت العم من الأب والأم أوْلى

_ (1) في الأصل: لابن. (2) (ت 3)، (ت 2): أولادهم. (3) في الأصل: بنات.

على رأي الفريقين [إلا نوح وحُبيش] (1)، لأنها أسبق إلى الوارث، مع الاستواء في الدرجة. ثلاث بنات أخوال مفترقين، وثلاث بنات عماتٍ مفترقات عند أهل القرابة الثلث لبنت الخال من الأب والأم، والثلثان لبنت العمة من الأب والأم. وعند المنزّلين: الثلث بين بنت الخال من الأم، وبنت الخال من الأب والأم، على ستة أسهم: سهمٌ لبنت الخال من الأم، وخمسة أسهم لبنت الخال من الأب والأم، وتسقط بنت الخال من الأب. وأمَّا بنات العمات، فمن نزل العمات منزلة الأعمام، جعل الثلثين لبنت العمة من الأب والأم، ومن نزّلهن، منزلة الأب أو نزّلهن منزلة العم من الأب والأم، وإن اختلفت قراباتهن، تصدّى له مذهب عليٍّ وابنِ مسعود في الرد، فإن قال بقول عليٍّ، قسمَ الثلثين بينهن على خمسة: سهم لبنت العمة من الأم، وسهمٌ لبنت العمة من الأب، وثلاثة أسهم لبنت العمة من الأب والأم. ومن فرع على مذهب ابن مسعود في الرد، جعل لبنت العمة من الأب سدسَ الثلثين، وقسم خمسة أسداس الثلثين بين بنت العمة من الأم، وبنت العمّة من الأب والأم، على أربعة أسهم. كما تكرر ذكره مراراً. بنت ابن خال من الأب والأم، وبنت ابن عمة من الأب والأم، وبنت بنت عم لأب المال لبنت بنت العم عند الفريقين. وعند نوح وحبيش هو بين الثلاث بالسوية.

_ (1) ساقط من الأصل.

بنت عمة من أم، وبنت ابن عم من أب، وبنت خالٍ من أب وأم عند المنزلين: المال لبنت ابن العم، فإنها أسبق إلى الوارث. وعند أهل القرابة: الثلث لبنت الخال، والثلثان لبنت العمة، وتسقط بنت ابن العم، فإنها وإن كانت أسبق إلى الوارث، فبنت العمة أقرب، والقرب على مذهب القرابة، مقدم على السبق إلى الوارث. ***

باب في كيفية توريث قرابات الأبوين: مثل أخوالهما وخالاتهما وأعمامهما وعماتهما

باب في كيفية توريث قرابات الأبوين: مثل أخوالهما وخالاتهما وأعمامهما وعماتهما 6430 - فنذكر قرابات الأم، ثم نذكر قرابات الأب، ثم نذكر اجتماعهم. فأما أخوال الأم وخالاتها على رأي المقرِّبين، فهم بمنزلة أخوال الميت، وخالاته يعتبر فيهم ما يعتبر فيهم. وعمّاتها إذا انفردن، وأعمامها، يعتبر فيهم ما يعتبر في عمات الميت وأعمامه من الأم. فإن اجتمعت عمةُ الأم، وخالُها، فقد اختلفت الرواية عن المقرِّبين، فروى أبو سليمان الجوزجاني (1) أن الثلث للخالة والثلثين للعمة. وإن تعددت، فالثلث للخالات، والثلثان للعمات، والأخوال كالخالات، على قياس خالات الميت وعماته. وروى عيسى بن أبان أن المال كلَّه للعمّة. وذكر بعض الفرضيين أن هذا مرويٌّ عن أبي يوسف، وقيل: هو مذهب أبي حنيفة، ومحمد. فإن اجتمع أعمام أم الميت، وعماتها، فالرواية المشهورة أن المال بينهم: للذكر مثل حظ الأنثيين.

_ (1) أبو سليمان الجوزجاني: أبو سليمان موسى بن سليمان، أخذ عن أبي يوسف ومحمد وروى كتبهما، فقيه محدث. ت بعد المائتين (طبقات الفقهاء: 137).

وروى بعض الفرضيين عنهم أن المال كلَّه للعم إن كان من أبٍ وأمٍّ، أو أبٍ. فإن كان لأم، وكانت العمة كذلك لأم، فالمال بينهم: للذكر مثل حظ الأنثيين. 6431 - وهذا مضيقٌ اضطروا إليه؛ فإنهم يعتبرون القرابةَ والقربَ، وقد اطّرد لهم في عمة الميت وخالة الميت الثلث والثلثان، وهو في التحقيق قُربٌ من مذهب التنزيل؛ فإنهم نزّلوا الخالة منزلةَ الأم، والعمة منزلة الأب، ثم ذلك إن احتُمل، فلا اطراد له في عمّة الأم، وخالة الأم، فإنهما جميعاً من جهة الأم، وعظم عليهم الكلامُ في ذلك. والأقيس اعتبارُ الثلث والثلثين؛ فإن عمة الأب كأبيها، وخالةَ الأم كأمها. والمذهب على الجملة مضطرب في الباب على أصحاب القرابة. 6432 - وأما أهل التنزيل، فإنهم نزّلوا أخوال الأم وخالاتها بمنزلة (1 الجدة أم الأم، ونزلوا أعمامها وعمّاتها 1) بمنزلة الجد أب الأم (2)، ثم جرَوْا على قياسهم في التوريث، كما نبين في المسائل. 6433 - مسائله: ثلاث خالات الأم مفترقات عند أهل القرابة: المال لخالة الأم من الأب والأم. وعند المنزّلين: كأن الجدّة أم الأم ماتت عن ثلاث أخواتٍ مفترقات، فالمال بينهن على خمسة، بالفرض والرد، على مذهب عليٍّ، ولا يخفى مذهبُ ابن مسعود في الرد.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 3). (2) (ت 3): بمنزلة الجدات للأب، (ت 2): بمنزلة الجد أب الأب. وكلاهما خطأ واضح.

ثلاثة أخوال الأم مفترقين. في قول أهل القرابة: المال للخال من الأب والأم. والمنزلون يقولون: كأنّ أم الأم ماتت عن ثلاثة إخوة مفترقين، فسقط الذي للأب، ويكون المال بين الآخرين على ستة: سدُسُه للخال من الأم، والباقي للخال من الأب والأم. ثلاث عمات الأم مفترقات عند أهل القرابة: المال لعمتها من الأب والأم. والمنزلون قالوا: نجعل كأن أب الأم مات عن ثلاث أخواتٍ مفترقاتٍ، ولا يخفى التفريع على المذهبين في الردّ. ثلاثة أعمامٍ الأم مفترقين عند أهل القرابة: المال لعمها من الأب والأم. وعند المنزلين: نجعل كأنّ أب الأم مات، وخلف ثلاثة إخوة مفترقين. ثلاثة أعمام الأم، وثلاث عماتها مفترقين المذهب المشهور لأهل القرابة أن المال بين عمها وعمتها لأب وأم: للذكر مثل حظ الأنثيين، وعلى رواية لهم غريبة: المال لعمتها من الأب والأم، رواها حمدان الجنابي (1).

_ (1) حمدان الجنابي: لم نجد له ذكراً في تهذيب التهذيب، ولا لسان الميزان، ولا ميزان الذهبي، ولا سيره، ولا الشيرازي، ولا السبكي، ولا الإسنوي ولا ابن الملقن في طبقاتهم، ولا الخطيب البغدادي في تاريخه ولا في موضح الأوهام، ولا الوافي للصفدي، ولا توضيح المشتبه لابن ناصر الدين الدمشقي، ولا الأنساب ولا في كتب تراجم الأحناف، الجواهر، التاج، أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري، الفوائد البهية، طبقات الفقهاء لطاش كبري زاده، الطبقات السنية، ولا في الإكمال لابن ماكولا، ولا الأعلام للزركلي. هذا مع تقديرنا لتصحيف الاسم، فبحثنا في كل الصور الممكنة بالإعجام أو =

وعند المنزلين: كأن الجد أب الأم خلّف ثلاثة إخوة، وثلاث أخواتٍ مفترقين، فالثلث بين الذين لأم بالسوية، والثلثان بين الذين لأب وأم: للذكر مثل حظ الأنثيين، إلا على قول أبي عبيد ومن تابعه، فالمال بينهما بالسوية؛ فإن هؤلاء لا يفضلون الذّكر على الأنثى. أما خالة الأم وعمة الأم إذا اجتمعتا، فسنذكر مذهب المنزلين في ذلك آخر الباب، إن شاء الله عز وجل؛ فإن إيضاح الغرض يستدعي تقديم مسائل. 6434 - فاما أخوال الأب، وعماته، فمسائله: ثلاثة أخوال الأب مفترقين [عند أهل القرابة: المال لخال الأب من الأب والأم. وعند المنزلين: كأن أم الأب ماتت عن ثلاث أخوات مفترقاتٍ] (1) ولا يخفى التفريع. ثلاث خالات الأب مفترقات عند أهل القرابة: المال للخالة من الأب والأم. وعند المنزلين: كأنّ أم الأب ماتت عن ثلاث أخواتٍ مفترقاتٍ، ولا يخفى حكمُ التفريع على مذهبي الردّ. ثلاثة أخوال الأب، وثلاث خالاته مفترقين المال على مذهب القرابة للخال والخالة من الأب والأمّ: للذكر مثل حظ الأنثيين. وفي التنزيل على القاعدة الممهدة: ثلث المال بين الخال والخالة من الأم

_ = الإهمال، على سبيل المثال: الجناني، الحناني، الحنائي، الجبائي ... إلخ الصور. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

بالسوية، والثلثان بين اللّذَيْن لأب وأم: للذكر مثل حظ الأنثيين، إلا على مذهب أبي عبيدٍ ومتابعيه. ولا يخفى [تفصيل] (1) العمات من جانب الأب، ولا يتأتى مزجهن بالأعمام، فإن عمَّ الأب من الأب والأم، ومن الأب عصبة، يحجب الأرحام. ولا يخفى تخريج العم من الأم. 6435 - فأما ذكر قرابات الأبوين من الجانبين خالة أم، وخالة أب في القرابة: لخالة الأم الثلث، ولخالة الأب الثلثان. وفي التنزيل خالة الأم بمنزلة أم الأم، وخالة الأب بمنزلة أم (2) الأب، فهما كجدتين لهما السدس، والباقي ردٌّ عليهما، فالمال بينهما نصفين. عمة أم، وعمة أب في القرابة لعمة الأم الثلث، ولعمة الأب الثلثان. وفي التنزيل العمة على الرأي الظاهر بمنزلة الأب (3)، كما أن الخالة بمنزلة الأم، فعمة الأب بمنزلة أب الأب، وعمة الأم بمنزلة أب الأم، فالمال لعمة الأب، وتسقط عمة الأم؛ فإن أب الأب وارثٌ، وأب الأم من الأرحام. خالة الأم، وعمة الأب في القرابة: لخالة الأم الثلث، ولعمة الأب الثلثان. وفي التنزيل: لخالة الأم السدس؛ لأنها بمنزلة أم الأم، والباقي لعمة

_ (1) في الأصل، (ت 2): تفضيل. (2) (ت 3)، (ت 2): أب الأب. وهو خطأ واضح. (3) (ت 3)، (ت 2): بمنزلة أب الأب. وهو وهم أيضاً.

الأب؛ لأنها بمنزلة أب الأب، أو عم الأب، وكيفما قدّرنا، فالأمر كذلك. ثلاث عمات الأب، وثلاث خالاته، كلّهن مفترقات، وثلاثة أعمام الأم، وثلاث عماتها مفترقات، وثلاث خالاتها مفترقات فعلى الرواية المشهورة لأهل القرابة: ثلث الثلث لخالة الأم من الأب والأم، وثلثا الثلث لعمها وعمتها من الأب والأم: للذكر مثل حظ الأنثيين. وثلث الثلثين لخالة الأب من الأب والأم وثلثا الثلثين لعمته من الأب والأم. وعلى رواية عيسى (1): الثلثُ لعم الأم وعمتها من قبل الأب والأم، والثلثان لعمة الأب من الأب والأم. وعند المنزلين: نصف السدس بين خالات الأم على مذهبي الردّ لعلي وابن مسعود، والنصف الآخر من السدس يقسم بين خالات الأب على هذين القياسين في الرد، فأما خمسة الأسداس، فهي لعمّات الأب خاصّة يدار عليهن على قياس الردّ لعلي وابن مسعود. وعلى قول نوح وحُبَيش المال بين الكل بالسوية. 6436 - وقد تبيّن من مذهب المنزلين أن خالة الأم تقدم على عمة الأم؛ لأن خالة الأم كأم الأم، وهي وارثة، وعمة الأم كأب الأم، وهو جدّ فاسد من الأرحام. وإذا تمهد هذا، لم يخف تخريج أخوال الأبوين، وخالاتهما، وأعمامهما، وعماتهما. وأخوالُ الأجداد، وخالاتهم، وعماتُهم، تخرج على القياس المقدّم. وأصل التنزيل أن ينزّل كل خال وخالة بمنزلة الجدّة التي هي أختها.

_ (1) عيسى: أي ابن أبان.

وينزل كل عم وعمة بمنزلة الجد الذي هو أخوها، ثم نجري على قياس هذا التقدير. وأصل أهل القرابة على القانون المقدم لا يختلف منه شيء مع اعتبار القرب، ثم السبق، ثم القوة، وبعد ذلك اختلافُ الروايات في العمات والخالات، من جانب الأب، ومن جانب الأم. ***

باب في كيفية توريث الأجداد والجدات الذين هم من ذوي الأرحام

بابٌ في كيفية توريث الأجداد والجدات الذين هم من ذوي الأرحام 6437 - هؤلاء سماهم المورثون بالرحم الأجداد الفاسدة، والجدات الفاسدة، وراموا بإطلاق هذا اللفظ الفصلَ بين الجد الوارث بالجدودة، وبين الجد الوارث بالرحم، وكذلك القول في الجدتين. 6438 - فأصل الباب على قول أهل التنزيل: أن ينزل كل واحد من الأجداد والجدات بطناً بطناً، وننظر؛ فإن سبق بعضُهم إلى وارث، فله المال كله، وإن استوَوْا في السبق، قسم المال بين الورثة الذين صاروا إليهم، فما أصاب كلُّ وارث، قُسم بين من يدلي به، على حسب الاستحقاق. 6439 - وأما أهل القرابة، فلهم خبطٌ عظيم في هذا الباب، ونحن نصفه، ونذكر اختلافهم فيه، ونشير إلى أقيس (1) المذاهب على طريق القرابة، إن شاء الله عزوجل. فإن كان فيهم من هو أقرب، قُدّم من أي جهةٍ كان، وهذا أصل لا يناقضون فيه، وإن استوَوْا في القرب، واختلفوا في السبق، فنذكر صورةً، ونخرّج عليها خبطَهم نقلاً، ونوضِّح وجه القياس، وهي: أب أب الأم، وأب أم الأم قال عيسى بن أبان، ومعظم المعتَبرين: المال لأب أب الأم، ولا شيء لأب

_ (1) (ت 3)، (ت 2): أقيسة.

أم الأم. هذا هو الذي قطع به القاضي أبو محمد (1) في تصنيفه. وقال بعض المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة كأبي الفضل (2) الخفاف، وأبي سهل الفرائض (3) وعلي بن عيسى البصري (4): المال كله لأب أم الأم، ولا شيء لأب أب الأم.

_ (1) القاضي أبو محمد، لم نستطع القطع بمن هو القاضي أبو محمد، أي اجتمع فيه لقب القاضي= والكنية بأبي محمد، ولعله: أبو محمد سهل بن إبراهيم القاضي، ذكره القرشي في الجواهر (ترجمة رقم 629) ولم يذكر له كتاباً، ولم يؤرخ لوفاته. ثم وجدنا الصيمري في أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص 167) يذكره مع أبي عمرو الطبري (أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة 340) أي أنه من رجال القرن الرابع. (2) أبو الفضل الخفاف، ذكره القرشي في الجواهر ولم يزد على ذكر كنيته ولقبه ولم يذكر من أخباره شيئاً، إلا أنه مذكور في نص سراج الدين الفرضي في مختصره كما في الجواهر (2/ 585): " قال الإمام سراج الدين الفرضي في مختصره في فصل في الصنف الثاني، أولاهم بالميراث أقربهم إلى الميت من أي جهة كان، وعند الاستواء، فمن كان يُدلي بوارث فهو أولى عند أبي سهل الفرائضي، وأبي الفضل الخفاف، وعلي بن عيسى البصري ". ولم نجد مزيداً في ترجمة أبي الفضل الخفاف مع بحثنا في باقي كتب تراجم الأحناف كالتاج والفوائد البهية وأخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري، وطبقات الفقهاء لطاش كبري زاده، وكذا في المراجع المذكورة آنفاً عند البحث عن ترجمة حمدان الجناني، وقد ذكر محقق الجواهر عبد الفتاح الحلو رحمه الله أن للخفاف ترجمة في الطبقات السنية برقم 2897، لكن لم يتسنّ الاطلاع عليها، لأن الجزء الذي فيه هذه الترجمة لم يطبع بعد. (ر. الجواهر المضية: 4/ 75 ترجمة 1963، 2/ 285، 4/ 71). (3) أبو سهل الفرائضي، ويذكر تارةً بالغزالي، وتارة بالزُّجاجي، من تلاميذ أبي الحسن الكرخي، ومن شيوخ الجصاص، تفقه به أهل نيسابور، وبها توفي، ولم تذكر المصادر سنة وفاته أو ولادته، كما لم تذكر اسمه. وأخباره في: أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري: 165، طبقات الشيرازي: 144، الجواهر 4/ 51 - 52 وقال إنه وجد ضبط الزجاجي بضم الزاي في نسخة عتيقة من طبقات الشيرازي، التاج: 335، الفوائد البهية: 81، طبقات الفقهاء لطاش كبري زاده: 68. (4) علي بن عيسى البصري، ذكره القرشي في الجواهر (2/ 585 ترجمة 988) و (4/ 71) ولم يزد على ذكر اسمه، وما ذكرناه في التعليق قبل السابق في ترجمة أبي الفضل الخفاف يعود هنا، غير أنه لم يشر محقق الجواهر أن لعلي بن عيسى البصري ترجمة في الطبقات السنية.

وقال أبو سليمان الجُوْزجَاني: المال بينهما على التفاضل ثلثاه لأب أب الأم، وثلثُه لأب أم الأمّ. وقال أبو علي محمد بن موسى البُسْتي (1): إذا استوَوْا في الدرجات، فالمال بينهم بالسوية. فهذا بيان اضطرابهم. 6440 - ونحن نذكر لكل مذهبٍ من هذه المذاهب وجهاً، ثم نوضّح القياس: فأمّا ما رواه عيسى بنُ أبان، فوجهه أن أب أب الأم قرابته قوية من الأم؛ فإنه عصبتها، وصاحب فرضها. وهي بنت ابنه، فإذا قويت القرابة بين هذا الجد وبين الأم، اقتضى دْلك تقديمَه، وأب أم الأم ليس يرثها بالجدودة، وهو جدّ فاسد في حقها، وهي منه بنت بنته، فكانت هذه القرابة ضعيفة، واعتبار السبق إلى الوارث بعيدٌ على رأي أهل القرابة، وتأويله -حيث تعتبر [آثاره] (2) - قوة في القرابة، وليس مأخذه مأخذ مذهب المنزلين. فإذا وجدنا قوةً في القرابة أولى من اعتبار السبق، لم يُعتبر السبق. وأما من راعى الثلث والثلثين، فهو بناءٌ منه على قرابة الأم والأب، كما ذكرنا التفصيل في قرابات الأبوين. ومن راعى التسوية، التفت على مذهب أبي يوسف في القسمة على الأبدان، وتَرْكِ النظر إلى الأصول.

_ (1) أبو علي محمد بن موسى البستي، ذكره القرشي في الجواهر (4/ 71 ترجمة 1957) مثلما ذكر أبا الفضل الخفاف تماماً، غير أن أبا علي البستي يمتاز بأن إمام الحرمين ذكر اسمه (محمد بن موسى)، على حين لم يذكر صاحب الجواهر إلا لقبه وكنيته، وقد ذكر محقق الجواهر رحمه الله أن له ترجمة في الطبقات السنية برقم 2897 وهي في الجزء الذي لم يطبع من الكتاب. (2) في الأصل، (ت 2): إثارته.

ومن قدم أب أم الأم على أب أب الأم، اعتبر السبقَ إلى الوارث، فأم الأم جدة صحيحة ترث بالجدودة. والأقيس عندنا هذا المذهب، فإن قوة القرابة ينبغي أن تُرعى بين الوارث والميت، ومن يسبق إلى وارث الميت أقرب إليه ممن يتأخر عن السبق. وأهل التنزيل يستغنون عن هذا التطويل. ولو اجتمع في المسألة: أب أم الأب، وأب أم الأم فهما يستويان في السبق والقرب، ولا يتأتى فيها الاختلاف الذي تقدم، وإنما تنقدح روايةُ الجوزجاني في صرف ثلث المال إلى الجد من جانب الأم، وصرف ثلثيه إلى الجد الذي من جانب الأب، ويجري فيه رواية البستي في التسوية. هذا بيان قاعدة الباب. 6441 - مسائله أب أب أم، وأب أم أب عند المنزلين: المال لأب أم الأب، لأنه أسبق إلى الوارث. وقد ذكرنا خبط أصحاب القرابة في ذلك. أب أم الأم، وأب أم الأب عند المنزلين المال بينهما نصفين؛ فإن أب أم الأم بمثابة أم الأم، وأب أم الأب بمثابة أم الأب ولو كانتا موجودتين، لاقتسمتا المال بينهما فرضاً ورداً. والمذهب المشهور الذي به يُفتي أصحابُ أبي حنيفة، أن الثلث لأب أم الأم والثلثان لأب أم الأب.

جدَّا أم الأم وجدَّا أم الأب عند المنزلين يختلف جدَّا أم الأم؛ فإن أحدهما أب أم [أم] (1) الأم. والثاني أب أب أم الأم. وأب أم أم الأم أسبق إلى الوارث، فهو الوارث. ومن جانب الأب الوارثُ أب أم أم الأب؛ فإنه أسبق من أب أب أم الأب إلى الوارث، فإذاً المال بين أب أم أم الأم وبين أب أم أم الأب نصفين، على رأي التنزيل، ونجعلهما كجدتين. وعلى رواية الجوزجاني من أهل القرابة: الثلث بين جدي أم الأم ثُلثُه للذي هو من قبل الأم، وثلثاه للذي هو من قبل الأب. والثلثان بين جدي أم الأب ثلثُهُ للذي من قبل الأم، وثلثاه للذي هو من قبل الأب. وعلى رواية عيسى: الثلث لأب أب أم الأم والثلثان لأب أب أم الأب. وعلى مذهب المتأخرين: الثلث لأب أم أم الأم، والثلثان لأب أم أم الأب تعويلاً على توريث الأسبق. 6442 - ومما يتعلق بهذا الباب ويليق به بيان توريث الأجداد، والجدات، من ذوي الأرحام مع الأخوال، والخالات، والعمات، وأولادهم. أصل الباب على قول أهل التنزيل: أن ننزلهم بطناً بطناً، فمن سبق إلى وارث، فهو أولى، فلا يبعد أن نُورِّث عمّةً قريبةً، ونُسقط جداً بعيداً. وكذلك القول في الخالات، والجدات.

_ (1) في الأصل: أب، وهو خطأ كما يظهر من الشرح، والمثبت الموافق للمعنى من (ت 2) وفي (ت 3) خطأٌ وسقطٌ، لا فائدة في تسويد الصحائف بذكره.

وإن لم يسبق بعضهم، قُسم المال بين الورثة الذين انتهَوْا إليهم، فما أصاب كلُّ وارثٍ، قُسّم بين من يدلي به، على ما يقتضيه الشرع. وأما أصحاب القرابة: فمذهب أبي حنيفة أن الأجداد، والجدات أولى، وإن بعدوا، فأصل الباب على قول أبي يوسف ومحمد: أن ننظر إلى الخالات، والعمات، فإن كُنّ مِنْ وَلَدِ جدٍّ أو جدة في طبقة الجدِّ والجدّة المذكورين في المسألة، فالجد والجدة المذكورون في المسألة أولى بالمال. وإذا كان كذلك، فما الظن إذا كان أصول الخالات والعمات أبعد. وإن كنّ من ولد جدٍّ أو جدة [هما] (1) أقرب من الجد أو الجدة المذكورين في المسألة، فالخالات والعمات أولى بالمال. ومتى جُعلت الخالاتُ والعماتُ أولى من الأجداد والجدات، كان أولادهم، وإن سفلوا أولى منهم على ترتيب العصبات، فإنا إذا قدمنا ابنَ الأخ على العم، قدمنا بنيه، وإن سفلوا على العم. 6443 - المسائل: أب أم، وخال عند الجميع المال لأب الأم، إلا عند نوحٍ وحُبَيش. أب أب أم، وخالة، وعمة عند أبي حنيفة: المال لأب أب الأم. وعند أبي يوسف ومحمد: الثلث للخالة، والثلثان للعمة، وكذلك عند المنزّلين، لأنهما أسبق إلى الوارث. أب أب أم، وخال أم عند أهل القرابة: المال لأب الأم.

_ (1) في الأصل: هذا.

وعند المنزلين: المال لخال الأم، فإنه أخ أم الأم. أب أب أم، وخال أم، وعمة أم، وخال أب، وعمة أب عند أهل القرابة المال لأب [أب] (1) الأم. وعند المنزلين السدس بين خال الأم، وخال الأب نصفين، والباقي لعمة الأب. وقد أوضحنا هذا الأصلَ فيما مضى. أم أب الأم، وخالة عند أبي حنيفة: المال للجدة. وعند أبي يوسف ومحمد: المال للخالة. وعند المنزِّلين: يقول: ماتت الأم، وخلفت أم أب، وأختاً، فالمال بينهما أرباعاً: بالفرض، والرد: لأم الأب الربع، وللخالة ثلاثة الأرباع. 6444 - وهذا فيه نظر؛ لأن الخالة أخت الأم، فتنتهي إلى الأم، وهي وارثة الميت. وأمّ أب الأم ينزل إلى أب الأم، وليس وارثاً للميت الذي يقسم ميراثه، والمنزِّلون حقهم أن يعتبروا السبقَ إلى من يرث الميت، وهذا القياس يقتضي أن يصرف المال إلى الخالة، ولا يصرف إلى أم أب الأم شيئاً، ولكن أخت الأم هي الخالة بعينها، فتوريثها بأخوة الأم، وتوريثها بالخؤولة واحد. وإنما معنى توريث الخالة أن نُميتَ الأمَّ تقديراً، وننظر من يرثها، فعلى هذا يرثها أم أبيها، كما يرثها [أختها] (2) وذلك التنزيل إنما هو تنزيل الولادة، بأن تنزل أصلاً إلى فرع، أو فرعاً إلى أصل، وتنظر كيف السبق إلى الوارث. وهذا موقف لا يحيط بمذهب التنزيل من لم يحط به. والذي يُظهر ذلك، ويوضّحه أن أخ الأم ابن أبيها، وجدتها أم أبيها، فاتصالهما جميعاً بها بواسطة، ونحن نجري التنزيل

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: أخوها.

على معنيين نذكره ونريد [حط] (1) البطون، كما ذكرناه في (2) حط (3) الأصول والفروع، ونذكره ونريد به قيام شخص، كقولنا الخالة تنزل منزلة الأم. 6445 - أب أم، وعمة في القرابة: المال للجدّ. وفي التنزيل للجد الثلث، وللعمة الثلثان. أم أب الأم، وخالة، وعمة عند أبي حنيفة الجدة أولى، وعند أبي يوسف ومحمد الثلث للخالة، والثلثان للعمة. وعند المنزلين للعمة الثلثان، والباقي بين الجدة والخالة على أربعة: للجدة ربعه وللخالة ثلاثة أرباعه، على قياس توريثنا الخالة وأم أب الأم لو انفردتا. ولو كان في المسألة بدل الخالة خال، فللعمة الثلثان كما ذكرناه، وللجدة سدس ما بقي، والباقي للخال. ونميت الأم، ونقول: خلّفت أم أب، وأخاً، وليقع الكلام في خالٍ من أبٍ وأمٍ، أو من أبٍ. فهذا بيان المذاهب في تقديم الأجداد والجدات، والعمات والأخوال، والخالات، ذكرته هاهنا لشدة اتصاله بالباب، وسأذكر بعد ذلك جمل المذاهب في تقديم الأصناف، بعضَهم على بعضٍ، إن شاء الله تعالى. ...

_ (1) (ت 3)، (ت 2): حق. (2) (ت 3)، (ت 2): من. (3) (ت 3): حظ.

باب في كيفية توريث من يدلي من ذوي الأرحام بقرابتين

باب في كيفية توريث من يُدلي من ذوي الأرحام بقرابتين 6446 - اجتماع القرابتين والقرابات تتفق في أولاد البنات، وأولاد الإخوة والأخوات، والعمات، والخالات، والأجداد والجدات. فأمَّا وجه اتفاقه في أولاد البنات أن يزوّج الرجل بنت بنته من ابن ابنته فيولد لهما ولد، فهو ولد بنت بنته، وولد ابن بنته. وكذلك يفرض في أولاد الأخوات، وبنات الإخوة. 6447 - أمّا أهل التنزيل، فإنهم نزّلوا وجوهَ القرابة، فإن سبق بعضُ الوجوه إلى وارث، فصاحب ذلك الوجه أولى من غيره، وإن استوت الوجوه في السبق، قدّروا الوجوه أشخاصاً، وورثوا بها على ما يقتضيه الحال. وأما أهل القرابة: فقد قال أبو يوسف: إن اتفق ذلك في أولاد الإخوة والأخوات، فنورّث بالأقوى. ومن أصل محمد أنه يورث بالوجهين، على قياس التقريب والترتيب فيه. وإن اتفق ذلك في أولاد البنات، أو في الجدّات، فعند أبي يوسف يجعل الوجوه كلها كوجهٍ واحد، وعند محمّد يورث بالوجوه. 6448 - مسائله: ابنا أخ لأم أحدهما ابن أخت من أب عند المنزّلين: المال في الأصل بين الأخ من الأم، والأخت من الأب على

أربعة بالفرض والرد، ثم نصيب الأخ، وهو سهم واحد بين ابنيه، ونصيب الأخت، وهو ثلاثة أسهم لابنها، فيحصل للذي هو ابن أخت ثلاثة أسهم من أمه، ونصف سهم من أبيه. ولأخيهِ نصفُ سهم من أبيه. وتصح المسألة من ثمانية: لصاحب القرابة الواحدة سهم، ولصاحب القرابتين سبعة أسهم. وعند أبي يوسف المال كله للذي هو ابن أختٍ. وعند محمد يجعل ولد الأخ أخوين لأم، وولد الأخت أختاً، فيكون كأختٍ لأب، وأخوين لأم، فالمال بينهم على خمسة بالفرض والردّ، فيصير في يد كلِّ واحد منهما سهم بقرابة الأب، وفي يد أحدهم ثلاثة أسهم بقرابة الأم فيحصل لصاحب القرابة الواحدة سهم واحد، ولصاحب القرابتين أربعة أسهم. بنتا أختٍ من أم إحداهما بنت أخ من أبٍ، وابن أختٍ من أب وأم في قول المنزّلين: تصح من اثني عشر سهماً، لأن للأخت من الأب والأم النصف ستة، فهو لابنها، ولبنت الأخت من الأم التي هي بنت أخٍ لأبٍ أربعة أسهم بقرابة أبيها، وسهم آخر بقرابة أمها، ولأختها سهم واحد. وفي قول محمد: لابن الأخت من الأب والأم النصف ستة، وللتي هي بنت أخ لأب سدس بأمها وسدس بأبيها ولأختها سدس. وفي قول أبي يوسف: المال لابن الأخت من الأب والأم. بنتا ابن خالة إحداهما بنت بنت خال عند المنزلين: للتي هي بنت بنت خال الثلثان بأمها، وسدس بأبيها، ولأختها السدس. وعند محمد للتي هي بنت بنت خال [النصف بأمها، والربع بأبيها] (1)، ولأختها الربع.

_ (1) في الأصل: النصف بأبيها، والربع بأمها.

وعند أبي يوسف للتي هي بنت بنت خال ثلثٌ بأبيها، وثلث بأمها، ولأختها الثلث. 6449 - هكذا أورده الأستاذ (1)، وهو مصرِّح بأنه يورّث بالقرابتين، ولكنه يجعل القرابات الثلاث في هذه المسألة ثلاث بناتٍ، ولا ينظر إلى صفة الأصل، فيقسم المال على القرابات الثلاث، كما يقسم على ثلاثة أشخاص مستوين. وقد أورد القاضي أبو محمد (2) في كتابه أن أبا يوسف لا يورّث بقرابتين، ونحن نقول: الرجوعُ إلى ما نقله الأستاذ أولى؛ فإنه إمام الصناعة مُطلقاً، وكل الصّيد في جوف الفَرَا (3). وقد قال الأستاذ في أول الكتاب: إن أبا يوسف يورّث بأقوى القرابتين، ثم حقق أصله في الصورة التي تقدمت، على هذه، وهي: ابنا أخٍ من أم، أحدهما ابن أختٍ من أبٍ. فقدّم الذي هو ابن أختٍ، لأن قرابة الأخت من الأب أقوى في الأرحام عند أبي يوسف، فرأى التقديمَ بالأقوى، وإذا لم تكن إحدى القرابتين أقوى من الأخرى، فلا وجه للتقديم بالقوة، والقرابتان ليستا ممتزجتين حتى يكون اجتماعهما قوة، بل هما بمثابة قولنا في ابني عم أحدهما أخ لأم. وأبو يوسف ومحمدّ وإن [وافقا الشافعيَّ في مواريث المجوس: في أنه] (4) لا يجمع بين القرابتين، فالسبب فيهما أنهما قرابتان لا يقصد جمعهما في

_ (1) الأستاذ: المراد هنا الأستاذ أبو منصور البغدادي، وليس الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني، الذي يلقبه في (البرهان) بالأستاذ مطلقاً. (2) القاضي أبو محمد وكتابه انظر تعليقاً بشأنه مضى قريباً (ص:240). (3) مثلٌ سائر: مجمع الأمثال للميداني: 3/ 11. (4) عبارة الأصل: وإن كان سواء، فقال الشافعي رضي الله عنه في مواريث المجوس في أنا لا نجمع ...

الإسلام، وهذه القرابات في الأرحام تجتمع في الإسلام، فليس لما أطلقه القاضي أبو محمد من أن أبا يوسف لا يورث بالجهتين وجه، ولكن لا يترجح قرابة الخال على قرابة الخالة، حتى يقال: تقوى إحدى القرابتين، فلا وجه إلا تقدير القرابات الثلاث أشخاصاً في الخؤولة. ثم أبو يوسف لا ينظر إلى الأصول ويقسم المال أثلاثاً، على القرابات للتي هي بنت ابن خالة ثلثٌ بأبيها، وثلثٌ بأمها، ولأختها الثلث. 6450 - بنتا بنت خال إحداهما بنت ابن خالة ففي التنزيل، وقولِ أبي يوسف: للتي هي بنت ابن خالة ثلث بأبيها، وثلث بأمها، ولأختها الثلث. وفي قول محمد بن الحسن: للتي هي بنت ابن خالة خمسان بأمها، وخمس بأبيها، ولأختها خمسان؛ فانه يقدِّر الخال خالَيْن بعدد بنتيه، والخالة واحدة، فتقع القسمة كذلك، ثم يسلَّم إلى الولدين على هذا الترتيب. عمتان من أبٍ إحداهما خالة من أم، وخالة من أب وأم عند المنزِّلين تصح المسألة من اثني عشر: للعمتين الثلثان بكونهما عمتي الميت، وهو ثمانية، والثلث للخالتين مقسوم بين الخالة من الأم، والخالة من الأب والأم، على أربعة للتي هي من الأم سهم، والتي هي من الأب والأم ثلاثة، فإذاً للعمة التي هي خالة من أم خمسة أسهم: أربعة بأنها عمة، وسهم بأنها خالة وللخالة من الأب والأم ثلاثة أسهم. وفي قول المقرِّبين: للخالة من الأب والأم الثلث، وللعمتين الثلثان بينهما نصفين. خالتان من أم إحداهما عمة من أب، وعم من أم وهو خال من أب في قول أهل التنزيل المسألة من ثمانيةَ عشرَ: للخالة التي هي عمة من الأب

تسعة أسهم بالعمومة، وسهم بأنها خالة، ولأختها سهم، وللعم ثلاثة أسهم، بأنه عم من أمٍ، وله أربعة أسهم بأنه خال من أبٍ. وعند أهل القرابة للخال الثلث، والباقي للعمة. ***

باب كيفية توريث ذوي الأرحام مع أحد الزوجين

باب كيفية توريث ذوي الأرحام مع أحد الزوجين 6451 - لا شك أن ذوي الأرحام لا يحجبون الزوجين، ولا ينقصون نصيبَهما بالعول، والمذهب الذي عليه التعويل لأهل القرابة والتنزيل أنا نبتدىء فنخرج نصيب أحد الزوجين نصفاً كاملاً، أو ربعاً كاملاً، ولا يعتد ذلك من التركة، ويقسم الباقي بين ذوي الأرحام على القواعد التي مهدناها، ويقدر كأن نصيب الزوج مأخوذٌ من رأس التركة، كما يؤخذ الدّين. والسبب فيه أن الأرحام لا يعادلونهم، فلا ردّ على الزوجين؛ إذ لا رحم لهما، فلا وجه إلا ما ذكرناه. مسائله: زوج، وبنت بنت، وخالة، وبنت عم للزوج النصف ستة، ولبنت البنت نصف ما بقي: ثلاثة، وللخالة سدس ما بقي (1): سهم، ولبنت العم سهمان. هذا هو المشهور من مذهب الجمهور. والصائرون إليه يسمَّوْن أصحاب اعتبار ما بقي. 6452 - وذهب يحيى بنُ آدم وضرار بن صُرد، ومن تبعهما من أهل التنزيل إلى أنا ننزّل كلَّ واحدٍ من ذوي الأرحام بمنزلة الوارث الذي يدلي به، ونقسّم المال بينهم، وبين الزوج، أو الزوجة على حسب استحقاقهم، فإن كان منهم

_ (1) ما بقي: أي بعد الزوج.

من يحجب الزوج أو الزوجة، حُجِبا، ثم تقام سهام الفريضة على ذلك، ويحفظ مبلغ السهام، ثم يسقط من ذلك نصيبُ الزوج، أو الزوجة، فما بقي من السهام يُحفظ. ثم يدفع إلى الزوج أو الزوجة نصيبهما [كَمَلاً] (1) من أصل المال، ونقسم ما بقي من المال بين ذوي الأرحام على ما بقي من السهام المحفوظة. والعبارة الوجيزة عن هذا: أن يقال: يقسم باقي المال عن فرض الزوج والزوجة على مقادير سهام من يدلون به مع الزوج والزوجة. وهذه الفرقةُ تعرف بأصحاب اعتبار الأصل، فقالوا في زوجٍ، وبنت بنت، وخالة، وبنت عم يقسم المال بين زوج، وبنت، وأم، وعم، فللزوج الربع، وللبنت النصف، وللأم السدس، وللعم ما بقي المسألة من اثني عشر، فاجمع سهام من في المسألة غير الزوج، تكون تسعة، فاجعل للزوج نصف المال، واقسم الباقي بين ذوي الأرحام في هذه المسألة على تسعة، وتصحّ من ثمانية عشر: للزوج منها تسعة، والتسعة الباقية تقسم على مقادير سهام الورثة الذين يُدلي هؤلاء بهم، مع الزوج، أو الزوجة، فإذاً لبنت البنت من التسعة الباقية ستة، وللخالة سهمان، وللعم ما بقي، وهو سهم. فنصيب الزوج لا ينتقص على مذهب الفريقين، ولكن يُغَيِّر الزوج حصصَ ذوي الأرحام. والذي يُظهر ذلك أن الفرقة الأولى، جعلوا لبنت البنت ثلاثة من اثني عشر،

_ (1) في الأصل: " على التمام " وأثبتنا (كملاً) كما في (ت 3)، (ت 2) مؤئرين إياها، لأنها من ألفاظ الإمام المعهودة، وما أظن (على التمام) إلا تصرفاً من الناسخ.

وهي ربع المال، وهؤلاء جعلوا لها ستة من ثمانية عشر، وهي ثلث المال، فتختلف الحصص على هذا النسق. قال الأستاذ: إنما يختلف اعتبار ما بقي في هذا الباب، متى كان ذوو الأرحام يرثون المال بينهم على مثال الفرض والتعصيب، فأمّا إذا ورثوه على مثال الفرض والردّ، أو على طريق العَوْل، أَوْ ورث الكل عن طريق التعصيب، فيستوي الاعتباران. ***

باب في تشابه النسب في ذوي الأرحام

باب في تشابه النسب في ذوي الأرحام 6453 - الخالة إذا كانت من قبل الأم والأب، فخالتها خالة الأم، وإذا كانت الخالة من قبل الأم، فخالتها خالة الأم أيضاً، وإن كانت الخالة من قبل الأب، فخالتها ساقطة، وعمة الخالة من الأب والأم عمة الأم، وعمة الخالة من الأب عمة الأم، وعمة الخالة من الأم ساقطة؛ والعمة إذا كانت من قبل الأب والأم، فعمتها عمةُ الأب، وإن كانت من قبل الأب، فعمتها عمّة الأب، وإن كانت من قبل الأم، فعمّتها ساقطة. وخالة [العمة] (1) من قبل الأب والأم خالةُ الأب، وخالة العمة من قبل الأم خالة الأب، وخالة العمة من الأب ساقطة. ولعلنا نذكر طرفاً من ذلك في فصول المعاياة، وإن كانت قليلةَ الفائدة. 6454 - وقد نجز أحد النوعين من الكلام في توريث الأرحام، وهو ذكر تفاصيل مذاهب المورّثين في أفراد ذوي الأرحام، ونحن نذكر الآن تفاصيلَ المذاهب في اجتماع ذوي الأرحام وتقديم من يُقدم منهم إذا اجتمعوا، ودركُ المذاهب في هذه الجمل سهلٌ على من أحاط بالتفاصيل. ولو صدَّرنا توريثَ ذوي الأرحام بهذه الجمل قبل الإحاطة بالتفاصيل، لكانت مبهمة لا تتبين للمنتهي إليها في مفتتح هذا الفن.

_ (1) في الأصل: العم.

القول في ترتيب ذوي الأرحام على قول الفريقين: أهل القرابة، وأهل التنزيل 6455 - أما أهل القرابة، فقد اختلفوا، فالظاهر من مذهب أبي حنيفة أن أَوْلى ذوي الأرحام أولادُ البنات، ثم الأجداد والجدات، الذين هم من ذوي الأرحام، ثم بنات الإخوة، وأولاد الأخوات، ثم الخالات، والعمات. وروى محمد بنُ الحسن، والحسنُ بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة أن الجدات من جانب الأم أولى من أولاد البنات، وألحق أهل هذه الروايةِ، جميعَ الأجداد والجدات، فقالوا: هؤلاء أولى، ثم أولاد البنات، ثم أولاد الأخوات وبنات الإخوة، ثم الخالات والعمات. وقال أبو يوسف ومحمد: أَوْلى ذوي الأرحام بالميراث أولادُ البنات، ثم بنات الإخوة وأولاد الأخواتِ، ثم الجدات، ثم الخالات والعمات. ولهم تفصيلٌ في الخالات، والعمات، والجدّات، قد قدمنا ذكرَه موضَّحاً في آخر باب الأجداد والجدات. ومن حقيقة مذهب المقرّبين، أن الجهة إذا قُدّمت على الجهة، كتقديم بنات البنت على بنات الإخوة، وأولاد الأخوات [فأولاد] (1) البنات، وإن بعدوا وتسفّلوا مقدّمون على بنات الإخوة وإن قَرُبْن؛ على قياس ترتيب العصبات؛ فإنّ ابن الأخ من الأب لما قُدِّم على العم، قدّم حافده وإن بعد في تسفّله على العم. وكذلك بنات الإخوة، وأولاد الأخوات لمّا قدموا على الخالات والعمات، فأولادهنّ وإن تسفلوا مقدّمون على الخالات والعمات وإن قربن.

_ (1) في جميع النسخ: وأولاد. (بالواو). وهذا تصرف من المحقق، نرجو أن يكون صواباً.

وإنما تردّد المقرِّبون في الأجداد والجدات، والخالات والعمات، إذا قرب البعض، وبعُد البعض، على ما قدمنا إيضاح مذهبهم. 6456 - وأما أهل التنزيل؛ فإنهم ينزِّلون كلَّ واحدٍ منزلةَ الوارث الذي يُدلي به، ثم يُنظر في الورثة لو قدر اجتماعُهم، فإن كانوا يرثون، ورث المدلي بهم؛ وإن كانوا لا يرثون، ويحجب البعض منهم البعضَ، جرى الأمرُ كذلك في ذوي الأرحام المدلين بهم. واعتماد المنزِّلين بعد هذا الاعتبار على السبق إلى الوارث، كما مهدناه في أبواب التفاصيل. واعتماد المقرِّبين إذا اتحدت الجهة على ثلاثة أشياء: أولها - القرب، وهو مقدّم على كل شيء، فإن فرض الاستواء في القرب، فالاعتبار بعده بالسبق إلى الوارث، فإن استَوَوْا في ذلك، فالاعتبار بقوة القرابة، وقد تقدم ذلك. فأولاد البنات عند المنزّلين بمنزلة البنات، وأولاد الأخوات بمنزلة الأخوات، وبنات الإخوة عند الجمهور المعتبرين بمنزلة الإخوة، فيكون ثلاث بنات إخوة مفترقين، كثلاثة إخوة مفترقين. وذهب ضرار بنُ صُرَد إلى أن بنات الإخوة كبني الإخوة. وهذا المذهب شاذّ، لا فتوى به، ولا عبرة به. وروي عنه روايةٌ أخرى مفصّلة، لسنا لها. والخالة والخال عند الجمهور بمنزلة الأم، في التقدير الأول، وإذا اجتمع الأخوال والخالات، صرفنا إلى الخؤولة ميراث أمٍّ، إذا كان معهم من الأرحام من يرث، ثم حصّةُ الأم تقسم على الأخوال والخالات، بأن نُقدِّرَها ميّتةً، وقد خلّفت هؤلاء.

واختلف الرواية عن مسروق (1)، فروي عنه أنه نزّل الخالَ والخالة منزلةَ الجدة أم الأم، وروي أنه نزَّلها منزلةَ الأم، كمذهب الجمهور، وهو الذي عليه التعويل. وأما العمةُ، فقد قدمنا اختلافَ المنزّلين في تنزيلها، وفرّعنا على الطرق مفصّلةً. 6457 - وأما نوح وحُبيش، فإنهم لا ينزّلون، ولا يقرّبون، ويسوّون بين القريب والبعيد، ولا يفضّلون أحداً من ذوي الأرحام على أحدٍ. ونُقل في المبسوطات مذاهبُ شاذّة، لا تفريعَ عليها، فلم نذكرها. 6458 - ونحن نذكر الآن مسائل تهذّب هذه الجملَ، ضمّاً إلى تهذيب التفاصيل، التي تقدمت في الأبواب المشتملةِ على الأفراد. بنت بنت، وبنت أختٍ لأبٍ عند أهل القرابة: المال لبنت البنت. وعند المنزّلين المال بينهما نصفين. خمسة بني بنت، وبنت أخت عند أهل القرابة: المال بين بني البنت: على خمسة. وعلى مذهب التنزيل: النصف بين بني البنت على خمسة، والنصف لبنت الأخت. ابني بنتين، وبنت أخت لأب عند المقرّبين: المالُ بين ابني البنتين: نصفين.

_ (1) مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، تابعي، ثقة، فقيه، مفتٍ. ت 63 هـ. (الأعلام للزركلي، وتهذيب التهذيب: 10/ 109، والإصابة: ترجمة رقم 8408).

وعند المنزِّلين: لابني البنتين الثلثان، ولبنت الأخت الثلث. بنت بنت، وثلاث بنات أخوات مفترقات في القرابة: المال لبنت البنت. وفي التنزيل: لبنت البنت النصف، والباقي لبنت الأخت من الأب والأم، على قياس الأخوات مع البنت. بنت بنت بنت، وثلاث بنات أخوات مفترقاتٍ ففي القرابة المال لبنت بنت البنت. وفي التنزيل: المال بين بنات الأخوات على خمسة؛ فإنهن أسبق من بنت بنت البنت [إلى الوارث] (1). ثم يختلف مذهب علي وابن مسعود في الردّ كما تقرّر. بنت بنت ابن، وبنت أخ في القرابة: المال لبنت بنت الابن. وفي التنزيل: بينهما نصفين؛ فإنهما بمثابة بنت ابن، وأخ. بنت بنتٍ وثلاث بنات أخوات مفترقاتٍ، وثلاث بنات إخوة مفترقين في القرابة: المال لبنت البنت. وفي التنزيل: النصف لبنت البنت، والباقي بين بنت الأخ من الأب والأم، وبنت الأخت من الأب والأم، على ثلاثة. بنت بنت، وابن أخٍ، أو أختٍ من أم المال لبنت البنت عند الفريقين؛ فإن الأخَ من الأم محجوب بالبنت.

_ (1) ساقط من الأصل.

بنت بنت، وخالة في القرابة: المال لبنت البنت. وفي التنزيل: المال بينهما، على أربعة للخالة الربع، ولبنت البنت ثلاثة أرباع، بالفرض والرد. بنت بنت ابن، وخالٌ، وخمالة في القرابة: المال لبنت بنت الابن. وفي التنزيل: الربع بين الخال والخالة على ثلاثة، والباقي لبنت بنت الابن [بالفرض والردّ] (1). بنت بنتٍ، وعمةٌ في القرابة: لبنت البنت. وفي التنزيل: بينهما نصفين. بنت بنت، وبنت عمة المال عند الفريقين لبنت البنت. بنت بنتٍ، وخالة لأم، وخالة لأب، وعمة لأم، وعمة لأب في القرابة: المال لبنت البنت. وفي التنزيل: لبنت البنت النصف، وللخالتين السدس بينهما على أربعة، الربع للخالة من الأم، وثلاثة الأرباع للخالة من الأب. وللعمّتين الثلث بينهما على أربعة، كما ذكرناه في الخالتين. بنت أختٍ، وخالة عند المقرِّبين: المال لبنت الأخت.

_ (1) سقط من الأصل ما بين المعقفين، وبدون قوله: " بالفرض والردّ " قد تغمض المسالة، فإن سدس الأم صار بالردّ (ربعاً) وهو ما قسم بين الخال والخالة. والباقي مفهوم.

وفي التنزيل: المال بينهما على خمسة: للخالة خمسان، ولبنت البنت ثلاثة الأخماس، كأنهما أخت وأمّ. بنتا أختين، وخال، وخالة في القرابة: المال لبنتي الأختين. وعند المنزلين: لبنتي الأختين أربعة أخماس المال، وللخال والخالة خمس المال بينهما: للذكر مثل حظ الأنثيين [بالفرض والردّ] (1). بنت بنت، وبنت أخت، وعمة في القرابة: المال لبنت البنت. وعند المنزلين: في العمة خلافٌ، فمن نزّلها منزلة الأب، قال: النصف لبنت البنت، والنصف للعمة. وكأن في المسألة بنتاً، وأختاً، وأباً. ومن نزلها منزلة العم، قال: النصف لبنت البنت، والنصف لبنت الأخت. بنت أختٍ وجدّ هو أب أم عند أبي حنيفةَ: الجد أولى، وعند أبي يوسف ومحمد: بنت الأخت أولى. وعند المنزِّلين: المال بينهما على خمسة: للجد خمساه، ولبنت الأخت ثلاثة أخماسه. وعلى هذا البابُ وقياسُه. وقد نجزت مسائل ذوي الأرحام، معللةً، موضَّحة، على أحسن وجهٍ، وحذفنا منها رواياتٍ شاذّة لا مبالاة بها، وقد حان أن نفتتح القولَ في الحساب، وتصحيحِ المسائل.

_ (1) زيادة في النسختين غير الأصل.

القول في حساب مسائل الفرائض 6459 - علم الحساب فنٌّ برأسه، يشد الطلبةُ الرحالَ في تحصيل المهارة فيه، ولو أثبتنا ما حصّلناه في هذا المجموع، لطال الكتاب. والاقتصارُ على مراسم الفقهاء لا يُفيد الاستقلالَ، ونحن نسلك مسلكاً وسطاً ننبه على القواعد الحسابية التي تَمَسُّ الحاجة إليها في تصحيح مسائل الفرائض، ثم نتُبعها بالأبواب، ونذكر تصحيح الكسور، وكيفيةَ القسمة، وتقريبَ الطرق، وتسهيل المسالك. ومن أحاط بها، لم يخف عليه مُدرك، ولم يبق عليه إلا طلبُ المهارة بالدُّرْبة واعتياد العمل. وقد رأيت الحاجةَ تمس إلى تبيين ثلاثة أصول: أحدها - باب الضرب، وما يتعلق به. والثاني - باب القسمة. والثالث - استخراج الكسور، ووضعُ الأعداد الصحيحة المشتملة عليها، فنبدأ بباب الضرب. ***

باب في أقسام الضرب

باب في أقسام الضرب 6460 - الضرب ينقسم إلى ضربٍ لا كسر فيه، وإلى ضربٍ يشتمل على الكسر. [الفصل الأول] فأما ضربُ الأعداد الصحيحة، بعضِها في بعض، فمعنى الضرب أولاً أن تعُدّ العددَ المضروبَ فيه بآحاد عدد المضروب، وتجمعها، فما اجتمع فهو الخارج بالضرب، ثم كلُّ عددين أردتَ ضرْبَ أحدهما في الثاني فسواء ضربت الأقلَّ في الأكثر، أو الأكثر في الأقل، فالمردود واحد، فضرب الثلاثة في الأربعة، كضرب الأربعة في الثلاثة. ثم ضرب العدد في العدد، مأخوذٌ من ضرب أحد ضلعي المربع في الضلع الثاني، والضلعان محيطان بزاوية قائمةٍ، فإذا تقدر الضّلعان بالدُّرْعان، فرُمْتَ أن تعرف تكسير السطح، فاضرب أحد الضلعين في الثاني، كما وصفناهما، فالمردود تكسير السطح. فإذا كان أحد الضلعين أربعة، والثاني ثلاثة، فمعنى الضرب أن ترسُم خطوطاً على الضلع الذي هو [أربعة على الدُّرعان، ثم ترسم خطوطاً على الضلع الذي] (1) هو ثلاثة، وتصل الخطوطَ إلى الضّلعين الباقيين الموازيين للضلعين المقدّمين، فيتشكل السطح على عِدَّة المردود من ضرب أحد الضِّلْعين في الثاني. 6461 - ثم مما يجب الإحاطة به أن المراتب التي هي الأصول للأعداد أربعة: الآحاد، وهي من الواحد إلى منقرض التسعة.

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

والمرتبة الثانية - العشرات إلى مائة. والمرتبة الثالثة - المئات إلى الألف. والمرتبة الرابعة - الألوف. ثم تتكرر المراتب بعد ذلك، وتنقسم إلى آحاد الألوف، وعشراتها، ومئات الألوف، وألوف الألوف، ثم هكذا إلى غير نهاية. ثم إذا ضربت الآحاد في الآحاد، فواحد المردود واحد، وعشرته عشرة، وهذا هو المعنيُّ بقول الحُسّاب: ضربُ الآحاد في الآحاد آحاد. والمراد بذلك أن المردود من الضرب ليس مقدَّراَّ، ولا معتبراً بغيره، وإنما هو آحاد من غير مزيدٍ، أو آحاد وعشرات. وضرب الآحاد في العشرات عشرات، وواحدها عشرة، وعشرتها مائة. وبيان ذلك أنك إذا ضربت ثلاثة في ثلاثين، فإنما أنت ضاربٌ ثلاثة في ثلاث عشرات، فالمردود تسعة، وكل واحد منهما عشرة. وضرب الآحاد في المئات مئات واحدها مائة، وعشرتها ألف. وضرْب الآحاد في الألوف ألوف، واحدها ألف، وعشرتها عشرة آلاف. وضرب العشرات في العشرات مئات، واحدها مائة وعشرتها ألفٌ. فإذا أردت ضرب خمسين في خمسين، فاضرب خمسة في خمسة، واحسب كلَّ واحد [مائة] (1) فالمردود ألفان ومائتان وخمسون. وضربُ العشرات في المئات ألوفٌ، واحدها ألف، وعشرتها عشرة آلاف. وضرب العشرات في الألوف عشرات ألوف، وواحدها عشرة آلاف، وعشرتها مائة ألف، وضرب المئات في المئات عشرات ألوف، واحدها عشرة

_ (1) في الأصل: عشرة.

آلاف، وعشرتها مائة ألف. وضرب المئات في الألوف مئات ألوف، واحدها مائة ألفٍ، وعشرتها ألف ألف. وضرب الألوف في الألوف ألوف الألوف، واحدها ألف ألف، وعشرتها عشرة آلاف ألف. وعلى هذا القياس، فاعتبر المراتب بعدها. 6462 - فإذا سئلت عن ضرب جنس من هذه المراتب في جنسٍ، وأردت أن تعرف أن المضروب في أي مرتبة يقع، فخذ سميّ الجنسين من الآحاد، واجمعهما، وانقص مما بلغ واحداً أبداً، فما بقي فمنتهاه مرتبة المردود من الضرب. مثاله: إذا أردت أن تعرف ضربَ المئات في الألوف، فالمائة في المرتبة الثالثة، فخذ لها ثلاثة، والألوف من المرتبة الرابعة، فخذ لها أربعة، ثم اجمع الثلاثة والأربعة، تكون سبعة، فانقص منها واحداً، يبقى ستة، فتعلم أن مبلغ ضرب المئات في الألوف يكون من المرتبة السادسة، وهي مئات الألوف، فيكون واحدها مائة ألف، وعشرتها ألف ألف. وليعلم الطالب أن الشرط الأول على من يبغي المهارة أن يحفظ ضربات الآحاد بحيث لا يحتاج إلى الفكر فيها، [وهي طريحة ساعده] (1). 6463 - ثم ذكر الحُسَّابُ طُرقاً في علم الضرب يتعلق بعضها بتسهيل الضرب والاختصار، وبعضها يتعلق بخواص الضرب. ونحن نذكر من كل فن ما نراه كافياً.

_ (1) عبارة الأصل: وهو طريحة ساعة. وعبارة (ت 2): وهي صريحة ساعده، والمثبت من (ت 3). وطريحة ساعده. كناية عن قربها ويسرها على من يريدها.

فمن طرق الاختصارات والتسهيلات أنك إذا أردت أن تضرب عدداً في عدد، فانظر إلى نسبة أحد العددين من العقد الذي يليه، فما كان، فخذ مثل تلك النسبة من العدد الآخر، فما كان فابْسُطْه من جنس ذلك العدد الذي نسبت إليه، فيكون كل واحد منه واحداً من جنس ذلك العقد، وكسر الواحد منه يكون كسراً مضافاً إلى ذلك العقد. مثاله إذا أردت أن تضرب ثمانين في خمسة وعشرين، فانظر إلى نسبة الخمسة والعشرين إلى المائة، فنجدها ربعَ المائة، فخذ ربع الثمانين، وذلك عشرون، وخذ لكل واحدٍ من العشرين مائة، فيكون المبلغ ألفين. وإن أردت أن تضرب خمسين في أحد وأربعين، فنجد الخمسين نصف المائة، فخذ نصف أحد وأربعين، وذلك عشرون ونصف، فابسطها مئاتٍ، فيكون للعشرين ألفين، وللنصف نصف المائة وهو خمسون، فالمبلغ ألفان وخمسون. 6464 - واختار الحسّاب للاختصار مسلكين: أحدهما - النسبة، والآخر القسمة، وهما جاريان طرداً في ضرب العدد في العدد، سواء كان العدد من مرتبة واحدة، أو من مراتب. ونحن نذكرهما، ونوصي الطالب بالاعتناء بهما، فإنهما متلقيان من النسبة التي منها تلقِّي أصل الباب. فإذا أردت أن تضرب مائة وخمسة وعشرين في أربعة وثمانين، نسبت المائة والخمسة والعشرين، إلى العقد الذي [يليه] (1) وهو الألف، فتصادفه ثمن الألف، فخذ ثمن الأربعة والثمانين، تكن عشرة ونصف: ثمن الثمانين عشرة، وثمن الأربعة النصف، فخذ لكل واحدٍ ألفاً، وللنصف نصف الألف، وهو المردود.

_ (1) في الأصل: ثلثة. وهو تصحيف عجيب.

هذه طريقة النسبة. 6465 - وإن أردت القسمة، فاقسم المائة والخمسة والعشرين على مائة فيخصّ كلَّ واحد درهمٌ وربع، فاضرب الدرهم والربع في الأربعة والثمانين، فدرهم في أربعة وثمانين، أربعة وثمانون، والربع في هذا المبلغ أحد وعشرون، فضمه إلى الأربعة والثمانين، فالمجموع مائة وخمسة، فاحسب لكل واحدٍ عقداً عليه قسمتَ، وهو المائة، فالمبلغ عشرة آلاف وخمسمائة. وهذا يطّرد في كل عددٍ يُضرب في عدد إذا كان يشتمل على مراتب. والمرتبة الواحدة لا يُشكل إدراكها. والطريقان جاريان فيها. وإذا أردت أن تضرب مائة وثلاثة وعشرين في الأربعة والثمانين، فاضرب مائة وخمسة وعشرين على النسبة التي ذكرناها، واضبط المبلغ، ثم اضرب ما زدت، وهو اثنان في أربعة وثمانين، وحُطّ هذا المبلغ مما معك، والباقي بعد الحطّ مردودك. وإن أردت أن تضرب مائة وسبعة وعشرين في الأربعة والثمانين، أو فيما أردت، فاضرب مائة وخمسة وعشرين، واضبط المبلغ، ثم اضرب الزائد، وهو اثنان في الأربعة والثمانين، وضمّه إلى ما معك، والمبلغان مطلوبك، والقسمةُ تُساوق النسبةَ أبداً. ثم قد يكون أحد الطرفين أسهلَ على الناظر، فليختر الأسهل عليه. 6466 - ثم أصل الضرب أنك إن أردت ضربَ مرتبة في مرتبة، كفتك ضربة واحدة، ثم تأخذ مقصودَك من المراتب التي قدمناها، فإن ضربت الآحاد في الآحاد، لم يخف، وإن أردت ضرب العشرات في العشرات، فاضرب عدد العشرات، في عدد العشرات، وخذ لكل واحدٍ من المردود مائة، مثل أن تضرب تسعين في تسعين، فاضرب التسعة في التسعة، فيخرج من الضرب أحدٌ

وثمانون، فخذ لكل واحد مائة، فالمبلغ ثمانية آلاف ومائة. وإن أردت ضرب مرتبتين في مرتبتين، فاضرب اثنين في اثنين تردُّ عليك أربعة، واعتقد أن عليك أربع ضربات في الأصل إلا أن تستعمل طريقة في الاختصار. وبيان ذلك أنك إذا أردت ضربَ خمسة عشر في ستة عشر، فإنما تطلب ضرب مرتبتين في مرتبتين، فتحتاج إلى أربع ضربات، فتضرب العشرة في العشرة، والخمسة في العشرة، ثم تضرب العشرة في الستة، ثم تضرب الخمسة في الستة، وتجمع مردودَ الضربات، والمبلغ مطلوبك. وإن أردت ضرب مائة وخمسة وعشرين، في مثله فأنت تبغي ضرب ثلاث مراتب في ثلاث مراتب؛ فتحتاج إلى تسع ضربات. وإن أردت ضرب مائة وخمسة وعشرين في أربعة وثمانين، فأنت تطلب ضربَ ثلاث مراتب في مرتبتين، فنحتاج إلى ست ضربات. هذا هو الأصل في التفصيل. وإذا أردت امتحان طريقة في الاختصار أتصدق أم تكذب، فاعتبرها بهذا الأصل. 6467 - ومما ذكره الحُسّاب في ضرب أعدادٍ من جنسين، كضرب الآحاد والعشرات في الآحاد والعشرات وهذا يكثر الابتلاء به، فضم الآحاد من أحد الجانبين إلى جميع العدد الثاني، واحسب الكل عشراتٍ، ثم اضرب الآحاد من أحد الجانبين في الآحاد من الجانب الثاني، والمجموع مطلوبك. مثاله: إذا أردت أن تضرب خمسة عشر، في سبعةَ عشرَ، فضم الخمسة إلى السبعة عشر، فيكون المجموع اثنين وعشرين، فاحسب بكل واحد عشرة، ثم اضرب الخمسة في السبعة فيردّ عليك خمسة وثلاثين، فاضممه إلى المائتين والعشرين، والمجموع مطلوبك.

6468 - ومن خواص الضرب أنك إذا أردت ضربَ عددٍ في عددٍ، وهما مختلفان، فضمَّ أحدهما إلى الثاني، ثم خذ نصفَ المبلغ، واضربه في نفسه، واحفظ المردودَ، ثم خذ نصفَ فَضْل ما بين العددين، فاضربه في نفسه، فما كان، فانقصه من المبلغ المحفوظ، فما بقي، فهو المراد. مثاله: إذا أردت أن تضرب عشرين في أربعة عشر، فاجمع بينهما فتكون أربعة وثلاثين، فخذ نصفها، وهو سبعةَ عشرَ، فاضربها في مثلها بالطريقة التي ذكرناها قبل هذا، فيردّ عليك مائتين وتسعة وثمانين، فاحفظها، ثم خذ نصفَ فضل ما بين العشرين والأربعة عشر، والفضل ستة، ونصفها ثلاثة، فاضرب الثلاثة في نفسها، فتردُّ عليك تسعة، فانقصها من المحفوظ، وهو مائتان وتسعة وثمانون، فيبقى مائتان وثمانون، وهو مبلغ ضرب العشرين في أربعةَ عشرَ. 6469 - مسلك آخر من الخواصّ إذا أردت أن تضرب عدداً في عدد، فخذ بُعْدَ أحد العددين من العقد الذي يليه، [فألقه من العدد الآخر] (1)، فما بقي، فاضربه في ذلك العقد، واحفظ المبلغ، ثم اضرب بُعد أحد العددين من ذلك العقد في بُعد العدد الآخر من ذلك العقد، فما بلغ فتردّه على المبلغ المحفوظ معك، والمجموع مطلوبك. مثاله: إذا أردت ضربَ أربعةَ عشرَ في ستةَ عشرَ، فألق من الأربعةَ عشرَ البُعْد الذي بين ستةَ عشرَ وبين العشرين، فيرجع إلى عشرة، فاضربها في عشرين، فتبلغ مائتين، ثم اضرب أحدَ البُعدين وهو أربعة في البعد الثاني، وهو ستة فيبلغ أربعة وعشرين، فردّها على المائتين، وهو مطلوبك. هذا القدر كاف فيما نريده من ضرب الأعداد في الأعداد.

_ (1) ساقط من الأصل.

الفصل الثاني في ضرب الكسور في الكسور، وضرب الصحاح في الكسور

الفصل الثاني في ضرب الكسور في الكسور، وضرب الصحاح في الكسور 6470 - فنبدأ بضرب الكسور في الكسور، فنقول: هي ثلاثة أقسام: كسر مفردٌ له اسم فرد - كالنصف، والثلث، والربع. وكسور معطوفة - مثل نصفٍ وثلثٍ وربعٍ. وكسور منسوبة - مثل نصف ثلث ربع، وما زاد، إذا نسب بعضها إلى بعض. فأمَّا الكسور المفردة، فقد تقسم إلى كسر له اسم، وإلى كسر ليس له اسم. وإنما تبين [بالنسبة] (1) بالجزئية إلى عددٍ، فأما الكسر الذي له اسم مختص مشعرٌ بمخرجه، ويدخل تحته ما يسمّيه الحُسَّابُ الكسورَ الطبيعية، وهي ناشئة من الاثنين إلى العشرة، وهي تسعة: النصف، والثلث، والربع، والخمس، والسدس، والسبع، والثمن، والتسع، والعشر. والكسر الذي ليس له اسم، وإن كان مفرداً، فهو كجزءٍ من أحدَ عشر جزءاً من درهم، إذا كسَّرتَ الدرهمَ على هذه النسبة. 6471 - فإذا أردت أن تضربَ كسراً مفرداً من غير عطفٍ، ولا نسبة في كسر مفرد، ولهما جميعاً اسمان، فأضف (2) أحد الكسرين إلى الآخر، فما كان، فهو المبلغ. مثاله: إذا أردت أن تضرب نصفاً في ثلث، فقل: مبلغه نصف الثلث، وإن شئت قلت: ثلث النصف.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) المراد هنا الإضافة النحوية، وليست الإضافة الحسابية، كما يظهر من عبارته في المثال الذي ضربه.

وإذا جمعت من جنس واحد كسرين أو أكثر، فالجواب كذلك، فضرب ثلثي درهم في ثلاثة أرباع درهم، ثلثي ثلاثة أرباع درهم، وهو نصف درهم وإن شئت قلت: ثلاثة أرباع ثلثي درهم، وهو نصف درهم، وإن ضربت كسراً من هذا في عددٍ صحيح، فأضف الكسر إلى العدد، وهو المراد. وقد يتعجب المبتدىء من حكم ضرب الكسور؛ فإنه إلى انتقاصٍ، وضربُ العدد في العددِ تضعيفُ أحد العددين بآحاد العدد الثاني، وقد ذكرنا أن ضرب العدد في العدد مأخوذ من تكسير السطح بضرب أحد الضلعين المحيطين بزاوية قائمة في الضلع الثاني. وضربُ الكسر مبرهن بتكسير السطح أيضاً، فنفرض سطحاً مربعاًَ كل ضلع من أضلاعه ذراعٌ، ثم نعمد إلى ضلع، ونأخذ منه نصفَ ذراع، ونعلم عليه، ثم نأخذ من الضلع الآخر الذي يحيط بتلك الزاوية نصف ذراع، ونخط من موضعي العلامتين خطين موازيين للضلعين المحيطين بالزاوية، ونصل الخطوط، فيكسر السطح أربع مربعات يحيط بكل مربع أربعة أضلاع متوازية كل ضلع نصف ذراع بهذه الصورة ........ 1/ 2 1/ 2 × 1/ 2 = 1/ 4 ... ذراع نصف ذراع ـ 1/ 2 ذراع كامل × ذراع كامل = ذراع فيستبين أن النصف في النصف ربع. 6472 - وإن أردت أن تضرب جزءاً، هو كسرٌ، لا اسمَ له إلا الجزئية في كسرٍ، له اسم مخصوص، أو في جزءٍ لا اسمَ له، فطريقه أن تضرب أجزاء أحدهما في أجزاء الثاني، إن لم يكن لهما اسمان، فتحفظ المبلغ، ثم تضرب مخرج أحد الكسرين في مخرج الكسر الآخر، ثم أضف مبلغ الكسور إلى مبالغ المخارج. مثاله: إذا أردت أن تضرب ثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم في أربعة

أجزاء من ثلاثة عشر جزءاً من درهم، فاضرب أحد الكسرين في عدد الكسر الآخر، وقل ثلاثة في أربعة تكون اثني عشر، فاحفظ ذلك، ثم اضرب أحد المخرجين في الآخر، وذلك أحد عشر في ثلاثةَ عشرَ، فيكون مائة وثلاثة وأربعين، فأضف (1) إليها الاثني عشر، فالمردود اثنا عشر جزءاً من مائة وثلاثة وأربعين جزءاً من درهم. 6473 - وأما ضرب الكسر المعطوف في الكسر، فلا بد فيه من جمع كل واحد منهم، ثم ضرب مجموع أحدهما في مجموع الآخر. مثاله: إذا أردت أن تضرب نصفاً وثلثاً في ربع وثلث، فتجمع النصف والثلث، فيكون خمسة أجزاء من ستة أجزاء من درهم، وذلك خمسة أسداس درهم، وتجمع الربع والسدس من مخرجهما، فتكون خمسة أجزاء من اثني عشر جزءاً من درهم. وقد رجع الأمر إلى قول القائل: اضرب خمسة أجزاء من ستة أجزاء، في خمسة من اثني عشر جزءاً من واحد، فتضرب الأجزاء في الأجزاء، فتقول: خمسة في خمسة، فالمبلغ خمسة وعشرون، ثم تضرب أحدَ المخرجين، وذلك ستة في اثني عشر، فيبلغ اثنين وسبعين، فتضيف إليها الخمسة والعشرين فتكون خمسة وعشرين جزءاً من اثنين وسبعين جزءاً من واحد، وهو المطلوب. 6474 - وأما ضرب الكسور المنسوبة في أمثالها، فمثل ضرب ثلث ربع في خُمس سدس، فيجب في هذا أن ينسب كل واحد منهما إلى المخرج الذي يخرج منه؛ فنقول: ثلث الربع جزء من اثني عشر؛ لأن أقلَّ عدد ربعه ثلاث اثنا عشر، ثم نقول: خمس السدس جزء من ثلاثين جزءاً من واحد؛ لأن أقل عدد له سدس، ولسدسه خُمسٌ ثلاثون، وقد رجع الأمر إلى قول القائل: اضرب

_ (1) الإضافة هنا هي الإضافة النحوية، فتنبه.

جزءاً من اثني عشر جزءاً في جزء من ثلاثين جزءاً من واحد، فنضرب الجزء في الجزء، فيكون واحداً، ثم نضرب أحد المخرجين في الآخر، فيبلغ ثلثمائة وستين، فنضيف إليها الجزء الواحد، فالمردود جزء من ثلثمائة وستين جزءاً من واحد. فإن قيل: كم يكون ضرب نصفٍ في ثلثٍ، في ربع، في خمسٍ؟ فمبلغه جزءٌ من مائة وعشرين جزءاً من درهم. ووجه العمل أن تضرب النصف، وهو واحد في الثلث، وهو واحد، فيكون واحداً، ثم تضرب ذلك في الربع، وهو واحد، فيكون واحداً، ثم تضرب ذلك في الخمس، وهو واحد، فاحفظه، ثم اضرب مخرج النصف، وهو اثنان في مخرج الثلث، وهو ثلاثة، فيكون ستة، فتضربها في مخرج الربع، وهو أربعة فيكون أربعة وعشرين، فتضربها في مخرج الخمس، وهو خمسة، فتبلغ مائة وعشرين، فتضيف إليها الواحد المحفوظ، فيكون جزءاً من مائة وعشرين جزءاً من واحد. فإن قيل: كم يكون ضرب ثلثين في ثلاثة أرباع، في خمسة أسداس؟ فقل: تكون ثلاثين جزءاً من اثنين وسبعين جزءاً من واحد. ووجه العمل أن تضرب الثلثين وهو جزءان في عدد الأرباع، وهو ثلاثة، فتكون ستة، فتضربها في عدد الأسداس، وهو خمسة فتكون ثلاثين، فتحفظها، ثم تضرب مخرج الثلثين، وهو ثلاثة في مخرج الأرباع، وهو أربعة، فيكون اثني عشر، فتضربها في مخرج الأسداس وهو ستة، فالمبلغ اثنان وسبعون، فتضيف إليها الثلاثين المحفوظة، فتكون ثلاثين جزءاً من اثنين وسبعين جزءاً. وقد يتأتى اختصاره، فيقال: هو خمسة أجزاء من اثني عشر جزءاً من واحد، وهو المطلوب.

وسر الباب أن تبسط غاية البسط، و [لا] (1) تنظر في طلب المخارج إلى الأوفاق، كما سنصف ذلك في بيان المخارج. 6475 - وإذا أردت أن تضرب صحيحاً معه كسر في صحيح، أو في كسر، فاضرب الصحيح الذي مع الكسر في مخرج كسره، ورد عليه كسره، فيؤول الأمر إلى ضرب كسرٍ في صحيح، أو في كسر. وإن أردت أن تضرب صحيحاً معه كسر في صحيح معه كسر، فاضرب كلَّ واحدٍ من الصحيحين في مخرج كسره، ورد عليه كسره، فيؤول الأمر إلى ضرب كسر في كسرٍ. ونذكر مثالاً جامعاً، فنقول: إذا قيل: كم يكون درهم ونصف، في درهم وثلث، في درهم وربع، في درهم وخمس، في درهم وسدس، في درهم وسبع، في درهم وثمن، في درهم وتسع، في درهم وعشر، في درهم؟ فقل: جملة ذلك خمسة دراهم ونصف، ووجه حسابه أن نبسط الواحد والنصف، فيكون ثلاثة، فاضربها في واحد وثلث، فما اجتمع في واحد وربع، إلى آخر المسألة، فتجعل الدرهم والنصف ثلاثة بأن نجعل الدرهم نصفين ونزيد عليهما النصف ونزيد على الثلاثة ثلثها لذكر الثلث، فتكون أربعة، وتزيد على الأربعة ربعها لذكر الربع. فتكون خمسة، ثم تزيد على الخمسة خمسها. فتكون ستة، ثم تزيد على الستة سدسها، فتكون سبعة، ثم تزيد عليها سبعها، فتكون ثمانية، ثم تزيد ثمنها، فتصير تسعة، فتزيد تسعها فتكون عشرة، فتزيد عليها عشرها فيكون الجميع أحد عشر، فاقسم ذلك على مخرج الأنصاف وهو اثنان، لأن أصل بسطك كان بالأنصاف فيخرج من القسمة خمسة ونصف، وهذا بابه وحسابه. مثال آخر إذا قيل: درهم وثلثان في درهم وخمسين، في درهم وسبعين،

_ (1) مزيدة من (ت 3).

في درهم وتسعين، فقل جملته ثلاثة دراهم وثلثا درهم. ووجه العمل أن تبسط الدرهم والثلثين أثلاثاً فيكون خمسة، فتزيد عليها خمسيها لذكر الخمسين، فتكون سبعة، فتزيد عليها سبعين، فتكون تسعة، فتزيد عليها تسعيها، فتكون أحد عشر، فتقسمها على مخرج الأثلاث فتخرج ثلاثة دراهم وثلثان. وعلى هذا فقس، فهذه جملٌ مرشدةٌ كافية في قاعدة الضرب. ***

[باب القسمة]

[باب القسمة] (1) 6476 - فأما القول في القسمة، فمقصود القسمة ومعناها بيان نصيب الواحد، فإن وقعت القسمة بين عددين، فحاصلها تفريق أحد العددين بقدر آحاد العدد الآخر المقسوم عليه، ثم الكلام يقع في فصلين: أحدهما - في قسمة العدد على العدد. والثاني - في قسمة الكسور على الكسور. [الفصل الأول] 6477 - فأما قسمة العدد على العدد، فهي تنقسم ثلاثة أقسام: أحدهما - قسمة الشيء على مثله في الكمية. والثاني - قسمة الشيء على ما هو أكثر منه. والثالث - قسمة الشيء على ما هو أقل منه. فإن أردت قسمةَ العدد على مثله فيصيب الواحدُ واحداً أبداً. وإذا أردت أن تقسم العدد على عدد أكثر منه، فانسب القليل إلى الكثير، فما كان، فهو نصيب الواحد. مثاله إذا أردنا أن نقسم سبعة دراهم على ثلاثين رجلاً، نسبنا السبعة إلى الثلاثين، فكان [السهم] (2) سبعة أجزاء من ثلاثين جزءاً من درهم، فهو نصيب الواحد.

_ (1) العنوان من عمل المحقق، أخذاً من كلام الإمام قبلاً حيث قال: إنه سيعقد باباً للقسمة. (2) ساقطة من الأصل. وهي في (ت 2)، (ت 3): سهم.

وإذا أردت أن تقسم على عدد أقل منه، فأسقط من العدد المقسوم ما فيه من أمثال العدد المقسوم عليه، وخذ لكل مرة تسقط واحداً، فما اجتمع، فاحفظه، فإن أفنيت العددَ الكثير بذلك، فالمحفوظ نصيب الواحد. 6478 - وفي ذلك طريقة في النسبة اختصارية، فمهما قسمت عدداً كثيراً على عددٍ قليل، فانسب الواحد إلى العدد القليل المقسوم عليه، وقل: نصيب كل واحد مثل تلك النسبة من العدد المقسوم، وبيانه: أنك إذا أردت قسمة مائة على سبعة، فالواحد سبع السبعة، فلكل واحد من السبعة سُبُع مائةٍ. وإن كنت تُسقط من الكثير مثلَ العدد القليل المقسوم عليه، ففضل شيء هو أقل من العدد المقسوم، فهو منسوب إلى المقسوم عليه، فذلك الجزء جزء من واحدٍ، فاضممه إلى ما معك، والكل نصيب واحدٍ. مثاله: إذا أردنا أن نقسم ثمانية وعشرين على سبعة، فأسقطنا من الثمانية والعشرين ما فيه من أمثال السبعة أربع مرات، وأخذنا لكل مرة واحداً فاجتمع معنا من الآحاد أربعة، ولم يبق من الثمانية والعشرين شيء، فعلمنا أن نصيب الواحد أربعة. وإذا أردنا أن نقسم ثلاثين على سبعة، فعلنا بالثمانية والعشرين ما ذكرناه، فيبقى اثنان ننسبهما إلى السبعة، ونقول: حصّة كل واحد أربعة وسبعان. 6479 - وقد نجد مسلكاً آخر في الاختصار في الضرب والقسمة مأخوذاً من التناسب، يغني عن الضرب والقسمة: فإذا قيل: اضرب خمسين في ستين، واقسم هذا المبلغ على خمسة عشر، لتعلم كم نصيب الواحد، فينبغي أن تعلم أي نسبةٍ بين ما تضرب فيه، وبين ما يقسم عليه، فتجد الخمسة عشر ربع الستين، فتقول: الخمسين ربع العدد المطلوب، وهو مائتان، فنعلم بذلك أن نصيب الواحد مبلغُ رُبعه خمسون، وهو مائتان. وهذا باب نافع في قسمة التركات والمعاملات.

الفصل الثاني من القسمة في قسمة الكسور على الكسور والصحاح ونحوهما 6480 - فإن أردت أن تقسم كسراً على كسرٍ، فاضرب كلّ واحد من الكسرين في مخرج الكسر الآخر، ثم اقسم مبلغ الكسر المقسوم على مبلغ الكسر المقسوم عليه، فما خرج من القسمة فهو نصيب الواحد. وهذا هو الغرض من هذا الباب أيضاً. مثاله: أردنا أن نقسم ثلاثة أرباع درهم على ثلثي درهم، فنضرب عدد الأرباع وهو ثلاثة في مخرج الأثلاث، وهو ثلاثة فبلغ تسعة، ثم نضرب عدد الأثلاث وهو اثنان في مخرج الأرباع، وهو أربعة فبلغ ثمانية، ثم نقسم التسعة على الثمانية فيخرج من القسمة واحدٌ وثمن، فذلك نصيب الواحد. فالغرض أن يعلم أنه إذا أصاب ثلاثة أرباع ثلثين، فنصيب الواحد واحد وثمن. ولو قيل: أردنا أن نقسم الثلثين على ثلاثة أرباع، لقسمت الثمانية على التسعة على القياس المقدم. ويخرج من القسمة أن نصيب الواحد ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من درهم، وهو ثمانية أتساع درهم. 6481 - فإذا أردت قسمة عدد صحيح على كسرٍ، فاضرب الصحيح في مخرج الكسر، فما بلغ، فاقسمه على الكسر، فما خرج فهو المراد. مثاله: قسمة عشرة دراهم على ثلثين. فاضرب العشرة في مخرج الأثلاث،

فيكون ثلاثين، فاقسمها على عدد أجزاء الكسر، وهو اثنان، فيخرج من القسمة خمسةَ عشرَ، فهو نصيب الواحد. 6482 - فإذا أردتَ قسمة الكسور على عدد صحيح، فاضرب الصحيح في مخرج الكسر، فما بلغ، فاقسم عليه أجزاء الكسر. مثاله: قسمة أربعة أخماس درهم على ثلاثة أنفس، فاضرب الثلاثة الصحيحة في مخرج الأخماس، وهو خمسة فيبلغ خمسة عشر، فاقسم عليها عدد الأخماس، وهو أربعة، فيكون الخارج من القسمة أربعة أجزاء من خمسة عشر جزءاً من درهم، فذلك نصيب الواحد. 6483 - وإذا أردت قسمة عدد صحيح على صحيح مع كسر، فابسط الصحيح الذي معه الكسر من جنس كسره، وذلك بأن تضربه في مخرج كسره، وتزيد على ما بلغ من مثل كسره فيؤول الأمر إلى قسمةٍ صحيحة على كسر. وقد سبق العمل فيه. وإذا أردت قسمة صحيح مع كسر على صحيح معه كسر، فابسط كل واحد منهما من جنس كسره، وذلك بأن تضربه في مخرج كسره، وتزيد على ما بلغ مثلَ كسره فيؤول الأمر إلى قسمة كسور على كسور. وقد يقع في بعض هذه الأبواب اختصار من جهة التناسب. مثال ذلك: أنا إذا أردنا أن نقسم ثلاثة دراهم وثلث على ثلثين، وأردنا أن نعلم نصيب الواحد، فقد علمنا أنا إذا زدنا على ثلثي الواحد مثلَ نصفه، تمَّ واحداً، فكذلك نزيد على الثلاثة والثلث نصفَه، فيصير خمسة دراهم، فهي نصيب الواحد. وإذا أردنا أن نقسم ثلاثة أرباع درهم على ربع سهم، نسبنا المقسوم، فيزيد على الربع ما يكمله درهماً، وهو يُكمَّل درهماً بثلاثة أمثاله، فنزيد على

المقسوم، وهو ثلاثة أرباع ثلاثة أمثاله، فيصير المجموع ثلاثة دراهم، فهو نصيب الواحد. ويستعان بما ذكرناه في كثير من المسائل. فهذا مقدار غرضنا في القسمة. ***

[باب في استخراج الكسور]

[باب في استخراج الكسور] (1) 6484 - فأما معرفة استخراج الأجزاء المفروضة وبيان مخارج الكسور، فهو قطب حساب الفرائض، وعليه يدور تصحيح الكسور، والضربُ والقسمة وسيلتان إلى هذا. وهو المقصود. فاعلم أن كل جزءٍ مفرد مخرجه العدد الذي هو مشتق منه. وهذا جارٍ في الكسور التسعة، فمخرج النصف اثنان، ومخرج الثلث ثلاثة، ومخرج الربع أربعة، وهكذا إلى العشرة، ومخرج جزء من أحدَ عشرَ جزءاً، فهو أحدَ عشرَ، وعلى هذا القياس. وإذا أردت إخراج عدد يخرج منه جزءان مفروضان، فخذ مخرج الجزأين، وانظر فإن كانا متساويين، فاضرب أحدهما في الآخر، فما بلغ، فهو العدد الذي يخرج منه الجزءان المطلوبان. وإن كان المخرجان متفقين، فاضرب وَفْقَ أحدهما في جهة الآخر، فما بلغ، فهو مخرج الجزأين. المثال: أردنا إخراج عدد له سبع وسدس، فنأخذ مخرجيهما، فهما سبعة وستة، فكانا متباينين، فضربنا أحدهما في الآخر، فبلغ اثنين وأربعين، فعلمنا أن أقل عدد له سبع وسدس اثنان وأربعون. وإن أردنا عدداً يخرج منه ثمن وسدس، [فنأخذ مخرجيهما] (2) فأحدهما ستة والأخرى ثمانية، فنجدهما متوافقين بالنصف، فنضرب نصفَ أحدهما في جميع الثاني، فبلغ أربعة وعشرين، وهو العدد المطلوب.

_ (1) هذا العنوان وضعه المحقق بناء على تقسيم المؤلف نفسه في أول الكلام على الحساب. (2) ساقط من الأصل.

وإن أردنا أقل عدد له نصف، وثلث، وربع، وخمس، وسدس، وسبع، وثمن، وتسع، وعشر، أخذنا مخارج هذه الأجزاء، وهي اثنان وثلاثة وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة، وثمانية، وتسعة، وعشرة، ثم طرحنا الاثنين لدخولها في الأربعة، وطرحنا الثلاثة لدخولها في الستة، وطرحنا الأربعة لدخولها في الثمانية، وطرحنا الخمسة لدخولها في العشرة، تبقى ستة، وسبعة، وثمانية، وتسعة، وعشرة، ثم نظرنا فوجدنا الستة مباينة للسبعة، وضربنا الستة في السبعة تبلغ اثنين وأربعين، ثم هذه الاثنان والأربعون مشاركة للثمانية بالنصف، فضربنا نصف أحدهما في جميع الآخر، فيبلغ مائة وثمانية وستين، ثم وجدنا هذا المبلغ مشاركاً للتسعة بالثلث، فضربنا ثلث أحدهما في جميع الآخر، فيبلغ خمسمائة وأربعة، ثم وجدنا هذا المبلغ مشاركاً للتسعة بالثلث، فضربنا ثلث أحدهما في جميع الآخر، فيبلغ خمسمائة وأربعة، ثم وجدنا هذا المبلغ مشاركاً للعشرة بالنصف، فضربنا نصفَ أحدهما في جميع الآخر، فيبلغ ألفين وخمسمائة وعشرين، فهذا المبلغ أقل عدد تخرج منه الكسور المفروضة التي ذكرناها. وعلى هذا يقاس استخراج مخارج جميع الأجزاء. 6485 - وإذا أردت أن تجد عدداً يكون مخرجاً لجزء أو أجزاء معلومة، ويكون جزء منها مخرجاً لأجزاء معلومة، فخذ مخرج الأجزاء الأولى وسمّه الأول، ثم اجمع أجزاءه التي تريد أن تكون مخرجاً لأجزاء سواها، وسمّها الثاني، ثم خذ مخرج أجزاء الأجزاء وسمّه الثالث، ثم انظر، فإن كان الثالث مبايناً للثاني، فاضرب الثالث في الأول، فما بلغ، فهو أقل عددٍ يكون مخرجاً لما أردت. وإن كان الثالث موافقاً للثاني، فاضرب وَفْقه في جملة الأول، فما بلغ، فهو أقل مخرج لما أردت. مثاله: أردنا أن نجد أقلَّ عددٍ يكون له ثلث وربع، ويكون لثلثه وربعه

نصف وثلث، فأخذنا مخرج الثلث والربع، فكان اثني عشر سميناه الأول، ثم جمعنا ثلثه وربعه، فكان سبعة، فسميناها الثاني، ثم أخذنا مخرج الأجزاء وهو نصف وثلث فكان ستة، فسميناها الثالث، ثم وجدنا الثالث مبايناً للثاني، فضربنا الثالث في الأول، فبلغ اثنين وسبعين، فهذا أقل عدد له ثلث وربع، ولثلثه وربعه نصف وثلث. مثال آخر: أردنا أن نجد أقل عددٍ له ثلث وخمس، ويكون لثلثه وخمسه سدس وثمن، أخذنا مخرج الثلث والخمس، وهو خمسة عشر، فسميناه الأول، ثم أخذنا ثلثه وخمسه، فكان ثمانية، فسميناه الثاني، ثم أخذنا مخرج السدس والثمن، فكان أربعة وعشرين، فسميناه الثالث، ثم نظرنا، فكان الثالث مشاركاً للثاني بالثمن، فضربنا ثمن الثالث وهو ثلاثة في جميع الأول، وهو خمسة عشر فيصير خمسة وأربعين [فنضربها في أربعة وعشرين، فيردّ ألفا وثمانين] (1)، فهو أقل عدد يكون مخرجاً لما أردناه. مثال آخر: أردنا أن نجد أقل عدد له ثلث وربع، ويكون لثلثه خمس وربع، ولربعه نصف وخمس، أخذنا مخرج الثلث والربع، وذلك اثنا عشر، ثم أخذنا ثلثه، وهو أربعة وهو الثاني، ثم أخذنا مخرج أجزاء الثاني وهو ربع وخمس، وذلك عشرون فسميناه الثالث، ثم وجدنا الثالث مشاركاً للثاني في الربع، فضربنا ربع الثالث، وهو خمسة في جميع الأول، وهو اثنا عشر، فبلغ ستين، ومن أجل ما بقي من العمل سمينا هذا الستين أولاً، وأخذنا ربعه خمسة عشر، وهو الثاني، ثم أخذنا مخرج أجزائه وهو نصف وخمس، وذلك عشرة، وهي الثالث، ووجدنا الثالث مشاركاً للثاني بالخمس، فضربنا خمس الثالث، وهو اثنان في الأول، وهو ستون فيبلغ مائة وعشرين، وذلك أقلّ عددٍ يكون مخرجاً لما ذكرناه.

_ (1) زيادة من المحقق، لا يصح المثال بدونها.

وعلى هذا النسق نستخرج نظائر ما ذكرناه. وقد نجز القول في الأصول الثلاثة التي قدّمناها على تصحيح مسائل الفرائض. ***

باب تصحيح حساب مسائل الفرائض وبيان مبلغ السهام التي عليها تقسم التركة

باب تصحيح حساب مسائل الفرائض وبيان مبلغ السهام التي عليها تقسم التركة 6486 - وهذا يستدعي تقديمَ أمر قريبٍ في النظر إلى العددين فصاعداً، فكل عددين لا يخلوان إمّا أن يكونا متماثلين، أو يكون أحدهما أقل. فإن كانا متماثلين: وكان آحاد أحدهما كآحاد الثاني، فالاكتفاء يقع بأحدهما إذا تعدد الكسر على هذا النسق. فإن كان أحدهما أقلَّ من الثاني، لم يخل الأقل بالإضافة إلى الأكثر إمّا أن يفنيه إذا سُلِّط عليه لقطاً أو لا يفنيه ويُبقي منه شيئاً. فإن أفناه سمّي الأقل داخلاً في الأكثر، ويسمّيان متداخلين، ومعنى اللفظ أن أحدهما داخلٌ والثاني مدخول فيه. وإن كان الأقل لا يُفني الأكثر بل يُبقي منه بعد اللقط أقلَّ من [نفسه] (1)، سلّطنا ما يُفضله العددُ [الأقل] (2) من العدد الكثير على العدد القليل، فإن أفناه، فبين العدد القليل في الأصل، وبين العدد الكثير موافقة بأقلّ أجزاء المُفني. ويقال عند ذلك: العددان متوافقان. وإن لم يفن ما فضل من العدد الكثير العددَ القليل، وأفضل منه شيئاً، سلطنا ما أفضله على المسلَّط الثاني، فإن أفناه فبين العدد القليل الأول وبين العدد الكثير موافقة بأقل أجزاء المُفني.

_ (1) في الأصل: تسعة. (2) في الأصل: الأول.

وإن انتهى المسلك الذي ذكرناه إلى أن يفضل واحد، فلا موافقة بين العددين بجزء وهما متباينان. 6487 - وقد يعبر عمَّا ذكرناه في كتب المهرة من الحسّاب والمهندسين، فيقال: كل عددين أقل وأكثر لا يعدُّهما إلا واحد، فهما متباينان، وكل عددين يعدُّهما سوى الواحد عددان، فبينهما موافقة بجزأين. وكذلك القياس إن زاد. والعددان المسميان متداخلين راجعان إلى التوافق بأقل الأجزاء، فالثلاثة توافق التسعة بأقلِّ أجزائها، وهو الثلث، فلو ضربنا ثلثَ الثلاثة في التسعة، لم يردّ إلا التسعة. فقيل فيما كان كذلك يُكتفى بالعدد الكثير (1) في العمل. وكذلك القول في المثلين، فإن كل واحدٍ منهما يوافق الثاني بأقل أجزائه، ولا نستفيد بضرب وَفق (2) أحدهما في الثاني شيئاً، فنوجز ونقول: نكتفي بأحدهما. 6488 - ومما لا بد منه وقد قدمنا ذكره أصول المسائل، وقد ذكرنا أنها سبعة على رأي [العلماء] (3) القدماء، وتسعة على رأي المتأخرين، وهو الصواب، فنبتدىء الآن ونقول: إن كان جميع الورثة عصبة، فالمسألة تقام من عدد رؤوسهم، فإن كانوا ذكوراً راعينا عددهم، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً، تعرّفنا عددَ الإناث، وضعّفنا عدد الذكور، وقلنا: المسألة تصح من المبلغ، وهو عدد الإناث، وضعفُ عدد الذكور. هذا إذا لم يكن في المسألة صاحب فرض، فإن كان فيها صاحب فرض أو أصحاب فروض، فنستخرج أصل المسألة من الأعداد التسعة، ونعطي من

_ (1) (ت 3): في العدد القليل. (2) ساقطة من (ت 2)، (ت 3). (3) مزيدة من (ت 2)، (ت 3).

الأصل كلَّ صنف حقهم، فإن انقسمت سهام المسألة على أصناف الورثة، فقد صحت المسألة من أصلها، وقد تكون عائلة، وقد لا تكون. 6489 - وإن وقع في قسمة السهام على مستحقيها كسر، وذلك يقع من عدد كل صنفٍ، وإلا فالمسألة صحيحة في نفسها، وافيةٌ بأجزائها، ولكن عددَ الورثة لا ينضبطون، وقد يقع الكسر على صنفٍ واحدٍ، وعلى صنفين [وعلى ثلاثة أصنافٍ] (1)، وعلى أربعة أصناف، ولا مزيد على ذلك؛ فإن الورثة لا يزيدون على خمسة أصناف في مسألة، ولا بد إذا اجتمعوا أن يصح نصيب صنفٍ، فإن وقع الكسر على صنفٍ واحدٍ، وذلك بألا تنقسم سهام ذلك الصنف من أصل المسألة على رؤوسهم، فإن لم يكن بين سهامهم وبين عدد الرؤوس موافقة بجزء، فنضرب عدد الرؤوس في أصل المسألة، أو في أصل المسألة وعولها، إن كانت عائلة، فما بلغ، فمنه تصح المسألة. وإن كان بين سهامهم وبين عددهم موافقة بجزء، فنضرب وفقَ عدد الرؤوس في أصل المسألة أو في أصلها بعولها إن كانت عائلة. 6490 - وإن وقع الكسر على صنفين أو ثلاثة أصناف، أو أربعة أصناف، لم يخل ذلك من أقسام: إما أن تكون سهام كل صنفٍ موافقةً لعدد رؤوسهم، أو مباينة لها، أو بعضها مباين وبعضها موافق. فإن كانت موافقة، ردت أعداد رؤوس الأصناف إلى أوفاقها، ثم نرجع إلى ما حصل من أعداد الرؤوس، فإن كانت متماثلة، فاكتف بواحدة منها، فاضربه في أصل المسألة، ومن المبلغ تصح لا محالة. وإن كان فيها عددان متماثلان، اكتفينا بأحدهما، وإن كان فيها عددان متداخلان، طرحنا الأقل، واكتفينا بالأكثر.

_ (1) ساقط من الأصل.

وإن لم تكن متماثلة ولا متداخلة، نظرنا: فإن كانت متباينة، ضربنا أحد الكسور في الثاني، ثم ضربنا المبلغ في الثالث، ثم ضربنا المبلغ في الرابع، ثم ضربنا المبلغ في أصل المسألة، أو في أصلها وعولها إن كانت عائلة. وإذا تباينت الكسور، فمضروب الأول في الثاني يباين الثالث لا محالة، وهذا المبلغ يباين الرابع لا محالة. وإن وجدنا توافقاً في الأعداد التي [هي] (1) الكسور، أخذنا وَفْق أحد الكسور، وضربناه في الثاني، ثم ننظر هل بين المبلغ وبين الثالث موافقة، فإن لم يكن، ضربنا الكلَّ في الكل، وإن كانت موافقة، ضربنا وَفْقَ أحد المبلغين في جميع الثاني، ثم ناخذ هذا المبلغ، ونعتبره بالكسر الرابع، ونضرب الكلَّ في الكل، أو الوفقين في الكل. وإن كانت السهام لا توافق أعداد رؤوس الأصناف في الأصل، [بقّينا] (2) تلك الأعداد، ونظرنا في بعضها مع بعض، وعرفنا تباينها وتوافقها، وأجرينا ما قدمناه من طريق الحساب، وإن توافق اثنان، وتباين اثنان، أجرينا في المتوافقين طريق التوافق، وضربنا وفق أحدهما في كل الثاني، ثم نجري في الباقيين طريقَ التباين. ولا يخفى تصحيحُ المسائل على من أحكم ما قدمناه، ولكنا نضرب في كل باب أمثلةً لإيناس المبتدئين. 6491 - مسائل الكسر على جنسٍ واحدٍ بنت، وبنتا ابن، وعم للبنت النصف: ثلاثة، ولولدي الابن سهم لا يصح عليهما، ولا يوافق

_ (1) في الأصل: بين. (2) في الأصل: نفينا، (ت 2): أبقينا.

واحد عدداً؛ فنضرب عددهما، وهو اثنان في أصل المسألة؛ فيصير اثني عشر، فمنها تصح المسألة، ثم إذا أردنا القسمة من هذا المبلغ، فكل من كانت له حصة من أصل المسالة قبل البسط والتصحيح، فنضرب حصته في المضروب في المسألة، والمردود حصته من المبلغ المبسوط: كان للبنت ثلاثة، فنضربها في الاثنين، وهو نصيبها. وكان لولدي الابن سهم، فنضربه في المضروب في المسألة، وهو اثنان، فتصح الاثنان عليهما. وإن لم تكن في المسألة عصبة، وقلنا بالرد، وفرعنا على مذهب علي (1)، فالمال بين البنت وبنتي الابن مقسوم على أربعة: الربع واحد، لا ينقسم على اثنين، ولا يوافق؛ فنضرب اثنين في أربعة: للبنت منها ستة، ولبنتي الابن سهمان. وعلى قول ابن مسعود (2): أصلها من ستة لولدي الابن السدس، والباقي للبنت فرضاً ورداً. ولا يصح سهم على اثنين، فنضرب اثنين في أصل المسألة، فيبلغ اثني عشر: للبنت منها خمسة أسداسها عشرة ولولدي الابن سهمان: لكل واحد منهم سهم. زوج، وجدتان، وثلاث بنات أصل المسألة من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر: للزوج الربع ثلاثة، وللجدّتين السدس سهمان، لكل واحدةٍ منهما سهم، وللبنات الثلثان: ثمانية، لا تصح على ثلاثة، ولا توافقها فنضرب ثلاثة في أصل المسألة وعولها، تبلغ تسعة وثلاثين، كان للزوج ثلاثة، فنضربها في ثلاثة، فيكون له تسعة، وكان للجدتين سهمان مضروبان في ثلاثة، فلهما ستة، وكان للبنات ثمانية مضروبة في ثلاثة، فتكون أربعة وعشرين: لكل واحدةٍ ثمانية.

_ (1) بالرد على بنت الابن في هذه الحالة. (2) بعدم الرد على بنت الابن في حالة ما إذا كان نصيبها السدس تكملة الثلثين.

وهذه الطريقة التي تبيّن حصصَ الأصناف بعد البسط تسمى طريق العطاء، وهي مسهلة في المسائل التي لا عول فيها، واستعمالها محتومة في مسائل العول؛ فإن أقدار الفرائض عائلة عن مبالغها، فليس ما يسمى نصفاً فيها نصفاً؛ فيتعين اتخاذ طريقة العطاء أصلاً في تبيين الحصص. أم، وأربعة أعمام أصلها من ثلاثة: للأم الثلث سهم. والباقي للأعمام، وهو سهمان من ثلاثة، وبين الاثنين والأربعة موافقة بالنصف، فنأخذ النصف من عدد الرؤوس، ونضربه في أصل المسألة فيبلغ ستة، وتصح المسألة منها. 6492 - مسائل الكسر على جنسين من غير موافقةٍ بينهما أخوان لأم، وثلاثة إخوة لأب المسألة من ثلاثة، ولا تصح سهام المسألة على الجنسين، ولا موافقة بين الكسرين، فنضرب أحدهما في الآخر، فيصير ستة، ثم نضرب هذا المبلغ في أصل المسألة، وهو ثلاثة فيبلغ ثمانية عشر، ومنه تصح المسألة. ثلاث زوجات، وثلاث جداتٍ، وأربع بناتٍ، وأخوان لأبٍ أصلها من أربعة وعشرين: للزوجات ثلاثة، وللجدات أربعة، لا تصح عليهن، وللبنات ستة عشر صحيحة عليهن، والباقي للأخوين، وهو سهم واحد، ينكسر عليهما، فقد وقع الكسر على ثلاثة واثنين، ولا موافقة بينهما، فنضرب أحدهما في الآخر، فيبلغ ستة، فنضربها في أصل المسألة، فيبلغ مائة وأربعة وأربعين، منها تصح المسألة. كان للزوجات ثلاثة مضروبة في ستة، فتكون ثمانية عشر، لكل واحدة ستة. وكان للجدات أربعة نضربها في ستة، فلهن أربعة وعشرون. وهكذا إلى آخر المسألة.

ثلاثة إخوة لأم، وأخوان، وأختان لأب المسألة من ثلاثة أسهم: لولد الأم الثلث: سهم على ثلاثة لا تصح ولا توافق. والباقي وهو سهمان لولد الأب على ستة لا تصح، ولكن توافق بالنصف، فنأخذ نصف عددهم وهو ثلاثة وهي مساوية لعدد أولاد الأم، فاكتفينا بأحدهما، وضربنا في أصل المسألة، فيبلغ تسعة، منها تصح المسألة. جدة، وأربعة إخوة لأم، وأخوان، وأختان لأب المسألة من ستة للجدّة سهم، ولولد الأم سهمان لا يصح على أربعة، ويوافقها بالنصف، فنرد عددهم إلى اثنين، والباقي وهو ثلاثة أسهم بين ولد الأب، على ستة لا تصح، ولكن يوافق بالثلث فرجع عددهم إلى اثنين، واستوى وفق الجنسين، فاكتفينا بأحدهما وضربناه في أصل المسألة، فبلغ اثني عشر، ومنه تصح القسمة. 6493 - مسائل الكسر على ثلاثة أجناس وأربعة أجناس، من غير موافقة بين السهام والأجناس. جدتان، وثلاثة إخوة لأم، وخمسة إخوة لأب أصلها من ستة، وسهام كل جنس لا تصح على عدد المستحقين، ولا موافقة بين الأجناس، فنضرب اثنين في ثلاثة، تبلغ ستة، فنضربها في خمسة تبلغ ثلاثين، فنضرب ذلك في أصل المسألة، فتبلغ مائة وثمانين، فمنها تصح المسألة. أربع زوجات، وثلاث جدات، وخمس أخوات لأم، وسبع أخوات لأب أصل المسألة من اثني عشر، وتعول إلى سبعةَ عشرَ، وسهام كل جنس غير صحيحة، ولا موافقة لأصحابها، والأجناس متباينة في نفسها، فنضرب أربعة في ثلاثة، ثم ما بلغ في خمسة، ثم ما بلغ في سبعة، فبلغ أربعمائة وعشرين،

فضربناها في أصل المسألة بعولها، فتبلغ سبعة آلاف ومائة وأربعين، منها تصح المسألة. كان للزوجات من أصل المسألة ثلاثة في أربعمائة وعشرين، فلهن ألف ومائتان وستون: لكل واحدة منهن ثلثمائة وخمسة عشر. وكان للجدات سهمان مضروبان في أربعمائة وعشرين يكون لهن ثمانمائة وأربعون، لكل واحدة منهن مائتان وثمانون، وكان لولد الأم أربعة مضروبة في أربعمائة وعشرين فلهن، ألف، وستمائة وثمانون: لكل واحدة منهن ثلثمائة وستة وثلاثون، وكان لولد الأب ثمانية، مضروبة في أربعمائة وعشرين، فيخرج الباقي. والقسمة صحيحة. 6494 - مسائل الكسر على ثلاثة أجناس أو أربعة أجناس على موافقةٍ تقع بينهما جدتان، وثلاثة إخوة لأم، وخمسة إخوة وخمس أخواتٍ لأبٍ أصل المسألة من ستة: للجدتين السدس: سهم واحد، وللأولاد الأم الثلث: سهمان ولا يوافق عددَهم. والباقي وهو ثلاثة لأولاد الأب وهم خمسةَ عشرَ بالتقدير، وسهامهم توافقهم بالثلث، فنردهم إلى خمسة، فمعنا اثنان، وثلاثة، وخمسة، فنضرب اثنين في ثلاثة، ثم المبلغ في خمسة، تكون ثلاثين، فنضربها في أصل المسألة تكون مائة وثمانين، منها تصح القسمة. أربع زوجات، وثمان جدّاتٍ، وستة عشر أخاً لأم، وعشرين أختاً لأب أصلها من اثني عشر، وتعول إلى سبعةَ عشر: للزوجات الربع: ثلاثة، لا يصح عليهن، ولا يوافق، وللجدات سهمان، يوافقهن بالنصف، فيرجع إلى أربعة، ولولد الأم أربعة يوافق عددهم بالربع، فيرجع عددهم إلى أربعة وللأخوات ثمانية لا تصح عليهن، وتوافق بالربع فرجع إلى خمسة، فمعنا أعداد متماثلة، أربعة أربعة، نكتفي منها بواحد، ولا موافقة بين الأربعة والخمسة،

فنضرب أربعة في خمسة، فتكون عشرين، نضربها في أصل المسألة بعولها، فتبلغ ثلثمائة وأربعين، فمنها تصح المسألة. ومهما اجتمع في المسألة خمسة أجناس وهي أكثر ما يكون من أصناف الورثة، فلا بد أن تصح سهام صنفٍ والباقون قد تصح سهامهم عليهم، وقد تصح على بعضهم، وقد لا تصح على جميعهم، ومتى لم تصح سهام الأصناف عليهم ولم توافق، ولم يكن بين الأصناف موافقة ولا مماثلة، ولا مداخلة، فالمسألة تعرف بين الفرضيين بالصمّاء. هذه أصول أبواب التصحيح، فقس عليها موفِّقاً، إن شاء الله. ***

باب استخراج نصيب كل واحد من الورثة على التفصيل

باب استخراج نصيب كل واحد من الورثة على التفصيل 6495 - إذا صححتَ المسألة، وأردت أن تعرف نصيبَ كل واحد من الورثة، فقد ذكر الفرضيون في ذلك طرقاً: أشهرها - أن تنظر إلى كل جنس كان له من أصل الفريضة شيء، فتضرب سهامهم في العدد الذي ضربناه في أصل المسألة، فما بلغ، فهو نصيب ذلك الجنس، فتقسمه على عدد رؤوسهم، على حسب الاستحقاق، فما خرج بالقسمة، فهو نصيب كل واحد منهم. المثال: أربع زوجات، وثلاث جدات، وست أخوات (1) أصلها من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر: للزوجات الربع: ثلاثة لا تصح عليهن، ولا توافقهن، وللجدات السدس: سهمان، لا تصح، ولا توافق، وللأخوات الثلثان: ثمانية، لا تصح، وتوافق بالنصف، فرجع عددهن إلى ثلاثة، وحصل معنا أربعة وثلاثة، وثلاثة، إحدى الثلاثتين تُجزىء عن الأخرى، فيبقى أربعة وثلاثة، فنضرب إحداهما في الأخرى، تكون اثني عشر، فهذا العدد الذي يسميه الفرضيون عددَ المنكسرين، فاضربه في أصل المسألة بعولها، وهي ثلاثة عشر، فتبلغ مائة وستة وخمسين، فمنها تصح المسألة.

_ (1) كذا في النسخ الثلاث: " ست أخوات " بدون قيد. وهي صحيحة؛ فإن الأخت عند الإطلاق تنصرف إلى الشقيقة. وقد علق أحد العلماء المطالعين لنسخة (ت 2) بأن الأولى التقييد بأنهن (أخوات لأب)، وقطعاً للوهم أن يسبق أنهن أخوات (لأم) فلا تصح المسألة مثالاً.

فإذا أردت إفرادَ نصيب كل جنس من الورثة، فقد كان للزوجات من أصل المسألة ثلاثة مضروبة في المضروب في المسألة، وهو اثنا عشر، فصار ستة وثلاثين، مقسومة بينهن على أربعة: لكل واحدةٍ منهن تسعة، إلى الآخر، فهذه الطريقة تعرفُ بها حصّة الصنف، ثم تعرف حصة كل واحدٍ منهم بالقسمة. وذكر الفرضيون طرقاً يُعرفُ بها نصيب الواحد من كل صنف. 6496 - طريقة أخرى: نقسم عدد المنكسرين على الصنف الذي نُريد أن نعرف نصيبَ كل واحد منهم، فما خرج نضربه في جملة سهام ذلك الصنف من أصل المسألة، إن كانت سهامهم مباينة لعددهم، وإن كانت موافقة ضربنا في وَفْق سهامهم، فما بلغ فهو نصيب كل واحدٍ من ذلك الصنف. مثاله في المسألة التي ذكرناها: إنك قد علمت أن عدد المنكسرين اثنا عشر، فإذا أردت معرفة نصيب كل واحد من الزوجات، فاقسم الاثني عشر على عددهن، فيخرج ثلاثة، فاضربها في جملة ما كان لهن من أصل المسألة، وهو ثلاثة فتبلغ تسعة، فهو نصيب كل واحدةٍ. ثم اقسم الاثني عشر على عدد الجدات، وهن ثلاث، فتخرج أربعة، فاضربها فيما كان لهن من أصل المسألة، وهو سهمان فتبلغ ثمانية، وهو نصيب كلّ واحدة منهن. ثم انظر إلى الاثني عشر، وإلى الأخوات، وقد رددن إلى ثلاثة؛ لأن سهامهن وافقتهن، فاقسم اثني عشر عليهن، فتخرج أربعة، فاضربها في وَفْق ما كان لهن من أصل المسألة، وذلك أربعة، فتبلغ ستة عشر، فهو نصيب كل واحدة منهن. 6497 - طريقة ثالثة: نقول: إن كان المنكسر على جنسٍ واحدٍ، ولم توافق سهامهم عددهم، فنصيب كل واحد منهم مثل عدد سهام جماعتهم من أصل المسألة.

وإن وافقت سهامُهم عددَهم، فنصيبُ كل واحد منهم مثلُ وَفْق سهام جماعتهم من أصل المسألة. وإن كان الكسر على عددين، ولا موافقة بين السهام والعددين، فإن وافق أحدُ العددين الآخر، فخذ وفقَ أحدهما، واضربه في سهام العدد الآخر من أصل المسألة، فما بلغ، فهو نصيب كل واحد من الذين ضربت سهامهم، ثم خذ [وفق العدد الآخر] (1) واضربه في سهام العدد الأول من أصل المسألة، فما بلغ فهو نصيب كل واحدٍ من المضروب في سهامهم. وإن كان العددان قد وافقا سهامهما من أصل المسألة فوافِق بين وفق عدد كل واحد، وخذ ذلك الوفق، واضربه في وفق سهام العدد الآخر من أصل المسألة، فما بلغ، فهو نصيب كل واحدٍ من المضروب في وفق سهامهم. ومثاله في المسألة التي ذكرناها: أنّك إذا أردت معرفة نصيب الواحدة من الزوجات، قلتَ: عددهن أربعة، وقستَ عليها عددَ الجدات، وهن ثلاثة (2)، فهما متباينان، ثم نظرت إلى عدد الجدّات، ووَفْق عدد الأخوات، فكانا متماثلين، فاجتزأت بأحدهما، وضربت ثلاثة في جميع ما كان للزوجات من أصل المسألة، وهو ثلاثة، فصار تسعة، فهو نصيب كل واحدة منهن، فإذا أردت نصيبَ كل جدّة، فتقفهن وتقيس إليهن عددَ الزوجات، فيكون مبايناً لهن، وتقيس إليهن وفقَ عدد الأخوات، فيكون مثلها فاجتزأت بأحدهما، وحصل معك أربعة، فضربتها في جميع ما كان للجدات من أصل المسألة، وهو اثنان، فتكون ثمانية، فهو نصيب كل جدّةٍ. وإن أردت نصيب كل أختٍ، وقد رددت إلى الوفق، وهو ثلاثة، فقس إليهن الجدات، فالعدد مثل العدد، فأسقطت أحدهما، وقست إليها الأربعة،

_ (1) في الأصل: عدد الوفق الآخر. (2) كذا بالتأنيث في النسخ الثلاث. وهي صحيحة لغوياً، فمن المعروف أن المعدود إذا تقدم لا تجب المخالفة، بل يجوز الموافقة في التذكير والتأنيث.

فكان مبايناً لهن، فاضرب الأربعة في وفق نصيبهن من أصل المسألة، وهو أربعة، فيكون ستة عشر، فهو نصيب كل واحدة منهن. 6498 - طريقة أخرى: تقسم سهام الصنف الذين تريد معرفةَ نصيب كل واحدٍ منهم، من أصل المسألة على عدد رؤوسهم، فما خرج بالقسمة ضربته في عدد المنكسرين، فما بلغ فهو نصيب كل واحد منهم. مثاله في المسألة التي ذكرناها: أن نصيب الزوجات من أصل المسألة ثلاثة، فنقسمها عليهن، فتصيب كلُّ واحدة منهن ثلاثة أرباع سهم، فتضربه في اثني عشر، فيرد ثلاثة أرباع اثني عشر، وهو تسعة، فهو نصيب كل واحدة منهن، ثم قسمنا نصيب الجدات، وهو سهمان عليهن وهن ثلاثة، فخرج نصيب كل واحدة ثُلثا واحدٍ، فضربناه في عدد المنكسرين، فبلغ ثمانية، [وهو نصيب الواحدة منهن] (1) وقسمنا نصيب الأخوات من الأصل وهو ثمانية على عددهن، وهو ستّة، فخرج من القسمة نصيب الواحدة واحد وثلث، فضربناه في عدد المنكسرين وهو اثني عشر، فبلغ ستة عشر، فهو نصيب كل أختٍ (2). ...

_ (1) زيادة من المحقق لإيضاح المسألة. (2) إلى هنا انتهت نسخة (ت 2)، وجاء في خاتمتها ما نصه: " تم الجزء الخامس عشر بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله، وصحبه وسلم، وشرّف وكرّم. يتلوه في الجزء السادس عشر إن شاء الله باب في تصحيح حساب مسائل المناسخة ".

باب في تصحيح حساب مسائل المناسخة

باب في تصحيح حساب مسائل المناسخة 6499 - صورة هذا الباب أن يموت إنسان فلا يقسم ميراثه حتى يموت بعضُ ورثته، وربما حتى يموت ثالث ورابع وخامس. ومطلوب الباب تصحيح مسألة الميت الأول من عددٍ ينقسم نصيب كل ميت بعده منه على مسألته. ولو أفرد مفردٌ كلَّ مسألة بحسابها، لم يكن وافياً بمقصود السائل؛ فإن غرضه قسمةُ المسائل على حسابٍ واحد؛ من جهة أن التركة واحدة في غرض السائل. 6500 - والأصل في حساب الباب أن تنظر، فإن كان ورثة الثاني، والثالث، ومن بعدهم هم ورثة الميت الأول، وكان ميراثهم من كل واحدٍ منهم على سبيل ميراثهم من الميت الأول، وذلك بأن يكونوا عصبة لكل واحد منهم، فاقسم مال الميت الأول بين الباقين من ورثة الموتى، كأنه ما خلف غيرَهم، إن كانوا ذكوراً بالسوية، فإن كانوا ذكوراً وإناثاً، فللذكر مثل حظ الأنثيين. مثاله: رجل مات وخلف: ثلاثة بنين، وثلاث بنات فلم يقسم ماله حتى مات ابن، ثم ماتت بنت، ثم مات ابن آخر. فاقسم مال الميت الأول بين من بقي، وهم: ابن، وبنتان للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن كان في جملة الورثة من يرث سهماً من الميت الأول، ولا يرث من مال

الميت الثاني، والثالث، ومن بعده شيئاً، فأفرده بسهمه، واقسم ما بقي بين الباقين من الورثة، على ما تقدم. مثاله: امرأة ماتت، ثم خلفت: زوجاً، وثلاثة بنين، وثلاث بنات من غير هذا الزوج. فلم تقسم تركتها حتى مات ابنان، وبنتان. فادفع إلى الزوج ربعَ مالها، واقسم الباقي بين الابن والبنت: للذكر مثل حظ الأنثيين. والمسألة من أربعة. 6501 - وإن كان ميراثهم من الميت الثاني أو الثالث أو الرابع، ومن بعدهم على خلاف ميراثهم من الميت الأول، لو كان لكل واحد من الموتى وارث غير وارث الميت الذي قبله، واختلفت مقادير مواريثهم، فطريق الحساب في الباب أن تصحح مسألة الميت الأول، واعرف نصيب الميت الثاني منها، ثم صحح مسألة الميت الثاني، ثم اقسم نصيبه من مسألة الميت الأول على مسألته في نفسه، فإن انقسم عليها، فقد صحت المسألتان جميعاً فيما صحت منه المسألة الأولى. وإن لم ينقسم نصيبه من الأولى على مسألته، فانظر، فإن لم يكن بين نصيبه وبين مسألته موافقة، فاضرب ما صحت منه مسألته فيما صحت منه المسألة الأولى، فمنه تصح المسألتان. وإن كان بين نصيب الميت الثاني، وبين ما صحت منه مسألته موافقة، فخذ الوفقَ من مسألته لا من نصيبه، واضربه في المسألة الأولى، وتصح القسمة من المبلغ في المسألتين. وإن كان في المسألة ميت ثالث، فصحح مسألته مفرداً، ثم خذ نصيبه مما صحت منه المسألتان الأوليان، وانظر: فإن انقسم نصيبه على مسألته، فقد

صحت المسائل الثلاث مما صحت منه المسألتان الأوليان، فإن لم ينقسم نصيبه على مسألته، فانظر، فإن لم يكن بينهما موافقة، فاضرب مسألته فيما يصح منه المسألتان الأوليان، وإن كان بينهما موافقة، فاضرب وفق مسألته -لا وفق حصته - فيما صحت المسألتان الأوليان، فما بلغ، فمنه تصح المسائل الثلاثة. وهذا طريق العمل، لو كان في المسألة ميت رابع وخامس وأكثر، فصحح مسألة كل واحد منهم على الانفراد، وخذ نصيبه من مسائل المتوفيين قبله كما تقدم. 6502 - والمطلوب في هذا الباب إذا طال الحساب أن تعرف حصة كل واحد في البطون المتناسخة، فنقول: كل من ورث من مسألة الميت الأول شيئاً إذا كثر الضرب، أو جرى مرة واحدة، فخذ حصة من تريد في المسألة الأولى، واضربه في المضروب في مسألة الميت الأول إن جرى ضرب واحد، وإن [جرت ضربات] (1)، فيكثر بها العدد المبسوط في كل حصة. فإذا تبينتَ الحصة في الضرب الأول، ثم ضربت ضرباً ثانياً بسبب بطن ثالث، فاضرب حصة الوارث من المسألة الأولى بعد الضرب الأول، واضربها في المضروب الثاني، وهكذا. كلما تناسخت البطون. وكل من ورث من مسألة الميت الثاني، فاضرب نصيبه في المسألة الثانية فيما مات عنه الميت الثاني من السهام إن لم تكن سهامه منقسمة على مسألته، ولا موافقة لها. وإن كانت سهامه موافقة لمسألته، فاضرب حصة الوارث الثاني من المسألة الثانية في وفق سهام ذلك الميت. وإن كانت سهامه قد انقسمت على مسألته من غير كسر، فاضرب فيما يخرج

_ (1) في الأصل: ضرب ضربان.

من قسمة سهامه على مسألته، ثم اضرب ما اجتمع من ذلك في مسائل المتوفين بعده، مسألة بعد مسألة، كما ذكرنا في المسألة الأولى مع الثانية. وكذلك تفعل في معرفة نصيب ورثة الميت الثالث والرابع، وما زاد. ثم انظر، فإن كان بعض الورثة قد ورث من المسألتين، فاعرف نصيبه من كل واحدة بالضرب، ثم اجمع جميع ما ورثه من المسائل، فما كان فهو نصيبه مما تصح منه جميع تلك المسائل. 6503 - فهذا أصل الباب وحسابه ولا بد من ذكر مثال في كل نوع من هذه الأنواع: زوج، وأختان لأبٍ وأم ماتت إحدى الأختين قبل قسمة الميراث، وخلفت بنتاً وأختها. فالمسألة الأولى من سبعة (1) وللأخت الميتة منها سهمان، ومسألتها من اثنين. فالمسألتان تصحان من سبعة: للزوج منها ثلاثة، ولبنت الميت الثانية سهم وللأخت الباقية ثلاثة أسهم: سهمان عن الأول، وسهم عن الثاني. ابنان، وبنتان. المسألة من ستة. مات أحد الابنين، وخلف ابناً وبنتاً. المسألة من ثلاثة ونصيبه من الأولى سهمان لا تنقسم على مسألته، ولا توافق، فتضرب مسألته في المسألة الأولى. فتبلغ ثمانية عشر، فمنها تصح المسألتان. فمن كان له شيء من المسألة الأولى أخذه مضروباً في المضروب في تلك المسألة، وهي ثلاثة. ومن له شيء من المسألة الثانية أخذه مضروباً فيما مات عنه الميت الثاني، وهو سهمان.

_ (1) المراد أنها من سبعة بعد عولها. وإلا فهي من ستة أصلاً، والسبعة ليست من أصول المسائل كما هو معروف.

ابنان، وبنتان مات أحد الابنين، وخلف امرأة، وبنتاً، وثلاثة بني ابن المسألة الأولى من ستة، ونصيب الميت الثاني منها سهمان، ومسألته من ثمانية، ولا يصح نصيبه على مسألته، ولكن يوافقها بالنصف، فاضرب نصف مسألته في المسألة الأولى: أربعة في ستة، المردود أربعة وعشرون. منها تصح المسألتان. من له شيء من المسألة الأولى، أخذه مضروباً في نصف المسألة الثانية، وهو المضروب في المسألة الأولى. ومن له شيء من المسألة الثانية أخذه مضروباً في نصف ما مات عنه، وهو واحد. امرأة، وأم، وثلاث أخوات مفترقات (1) المسألة من خمسة عشر، عائلة. ماتت الأم عن: زوج، وعم، ومن خلفت من ورثة الميت الأول، وهما بنتان فمسألتها من اثني عشر. وقد ماتت عن سهمين توافق مسألتها بالنصف، فاضرب نصف مسألتها. في المسألة الأولى يكون تسعين، ثم ماتت الأخت للأب، وخلفت زوجاً، وأماً، وبنتاً، ومن خلفت في هذه المسألة الأولى، وهي أخت لأب. ومسألتها من اثني عشر، ولها من المسألة الأولى سهمان مضروبان في وفق الثانية، وهو ستة، يكون اثني عشر، وذلك ينقسم على مسألتها، فصحت المسائل الثلاث من تسعين: للمرأة من الأولى ثلاثة، مضروبة في ستة يكون ثمانية عشر. وللأخت لأم من الأولى سهمان في ستة يكون اثني عشر، ولها أيضاً من الثانية أربعة في واحد، فجميع مالها ستة عشر.

_ (1) ثلاث أخوات مفترقات: أي واحدة لأبٍ وأم، وواحدة لأب، والثالثة لأم.

وللأخت للأب والأم من الأولى ستة مضروبة في ستة، ومن الثانية أربعة في واحد، ومن الثالثة واحد، وهو ما خرج من قسمة سهام الثالثة على مسألتها، فجميع ما لها أحد وأربعون سهماً. ولزوج الثانية ثلاثة في واحد. ولعمها سهم في واحد. ولزوج الثالثة ثلاثة في واحد. ولبنتها ستة في واحد. ولأمها سهمان في واحد. امرأة، وابن، وبنت، وأخ من أب فمات الابن، وخلف من خلف، وهم: أمه، وأخته، وعمه. ثم ماتت البنت، وخلفت: زوجاً، وبنتاً، ومن خلفت. ثم ماتت المرأة، وخلفت زوجاً، وأماً، وست أخوات مفترقات. فالمسائل الأربع كلها تصح من مائة وأربعة وأربعين. على ما ذكرنا في مراسم الحساب. وقد نجز مقصود الباب، وتم بنجازه أبواب الحساب في الفرائض. وكنا قد وعدنا أن نذكر بعد نجازها بابين: أحدهما في ميراث الخناثى، والثاني في ميراث الحمل، ونذكر في كل بابٍ ما يتعلق بالفقه والفتوى، وما يتعلق بالحساب. ***

باب الخناثى وكيفية ميراثهم

باب الخناثى وكيفية ميراثهم (1) 6504 - اعلم أن الخنثى على ضربين: أحدهما - أن يكون له آلة الرجال وآلة النساء. والثاني - أن تكون آلته التي منها يبول بخلاف آلات الرجال والنساء، فلا يكون له ذكر كذكر الرجل، ولا يكون له قُبل، كقبل المرأة. فإن كان الخنثى على هذا الوصف، فهو مشكل إلى أن يبلغ، فيختار، ويُعرب عن نفسه. فإن كان على الوصف الأول، اعتبر أمره أولاً بالبول. فإن بال من الذكر، فهو رجل، فإن بال من فرج النساء، فهو أنثى، وإن بال بهما، فهو مشكل. وقيل: أولُ من حكم بهذا الحكم عامرٌ العدواني (2) في الجاهلية. وكان حَكَمَ العرب، فأتَوْه في خنثى وميراثها، فأقاموا عنده أربعين يوماً، وهو يذبح لهم كلَّ يوم، وكانت له أمَةٌ يقال لها: خصيلة، فقالت له: إن مُقام هؤلاء عندك قد أسرع في غنمك، فقال: ويحك، لم يُشكل عليّ حُكومة قط، غيرُ هذه. قالت: " أتبع الحُكمَ المبالَ. فقال: فرَّجتِها يا خصيلة " (3)، فأُرسل ذلك مثلاً، فاستقر الأمرُ عليه في الإسلام.

_ (1) من هنا اقتصر العمل على نسختين (د 2) أصلاً، و (ت 3) نسخة مساعدة. (2) عامر بن الظَّرب بن عمرو العدواني، من حكماء العرب في الجاهلية، كان يقال له: ذو الحِلْم، وهو أول من قرعت له العصا. (الأعلام)، ومعنى " قرعت له العصا " أي وُكِّل به من ينبهه بقرع العصا بعدما كبر وصار يخطىء في حكمه. (اللسان). (3) راجع القصة في مجمع الأمثال للميداني عند (إن العصا قُرعت لذي الحِلْم).

وسئل معاويةُ في خنثى ولد بالشام، له ما للرجال، وله ما للنساء، فكتب معاوية إلى عليٍّ يسأله عن ميراثه، فقال: " يورّث من قِبل مباله ". ثم قال: " الحمد لله الذي جعل عدوَّنا يفزع إلينا في أمر دينه " (1). وسأذكر ما يتعلّق بعلامات الخناثى في كتاب الجراح. وقد ذكرنا طرفاً صالحاً منه في كتاب الطهارة. والباب معقود لبيان الحكم مع دوام الإشكال في التوريث منه قبل ظهور أمره؛ إذ ليس في ورثته زوج، ولا زوجة، ولا ولد؛ إذ لو كان له زوج أو زوجة، أو ولد، لكان قد ظهر أمره قبل موته. 6505 - وإن مات له موروث قبل ظهور أمره، فقد لا يختلف الميراث بالذكورة والأنوثة، وذلك بأن يكون الخنثى من أولاد الأم، أو كان ممن يرث بولاية على الميت من جهة العتق. وإن كان ميراثه يختلف بكونه ذكراً أو أنثى، فقد اختلف العلماء حينئذ في كيفية توريثه على أقوال مختلفة: فقال الشافعي ومتبعوه: ينظر فيه، فإن ورث في حالٍ، ولم يرث في أخرى يوقف نصيبُه، ولم يدفع إليه شيء. وإن كان يرث في الحالين، إلا أنه كان ميراثه في إحداهما أقلَّ من ميراثه في الأخرى، دُفع إليه أقلُّ النصيبين، وهو المقدار المستيقن. ووُقف الفضل. هذا حكمه في نفسه. 6506 - فأما حكم غيره من الورثة معه، فإنه ينظر فيه، فكل من لا يتغير ميراثه بكون الخثى ذكراً أو أنثى، دفع إليه ميراثه كَمَلاً.

_ (1) خبر علي " يورث من قبل مباله " رواه سعيد بن منصور في سننه، باب ما جاء في الخنثى حديث رقم 125، ورواه الدارمي: الفرائض، باب في ميراث الخنثى، ح 2970، والبيهقي: (6/ 261) دون ذكر سؤال معاوية.

ومن كان يتغير ميراثه بذلك، نُظر: فإن كان يرث مع الخنثى في إحدى حاليه، ولا يرث معه في الأخرى، وُقف نصيبه. وإن ورث معه في حاليه جميعاً؛ إلا أنه كان ميراثه في إحدى الحالتين أقلَّ من ميراثه في الأخرى، دُفع إليه أقلُّ النصيبين، ووُقف الفضلُ بينهما إلى أن نتبين أمر الخنثى. هذا مذهب الشافعي وأصحابه. 6507 - وذكر الأستاذ أبو منصور أن من أصحاب الشافعي من يدفع إلى الخنثى أقلَّ ما يصيبه، ويدفع الباقي إلى شركائه؛ لأنه لا إشكال فيهم، وسببُ استحقاقهم ثابت، وحجبهم مشكل، فلا ندفع أصلَ استحقاقهم بإشكالٍ. وهذا لم أره لأحد من أئمتنا، وإنما وجدته في كتاب الأستاذ أبي منصور. وفي كتابه عن أبي ثور عن الشافعي أنه قال: الوقف إلى موت الخنثى؛ فإذا مات على إشكاله، رُدَّ الموقوف على ورثة الميت الأول، وهذا لم أره أيضاً. وقال رضي الله عنه بعد ما نقل هذين المذهبين: " لا اعتبار بهذين التخريجين، ومذهب الشافعي، وما عليه أصحابه ما قدمناه ". 6508 - وقال أبو حنيفة (1): يورث الخنثى بأقل حاليه، فإن كان أقلُّ حاليه أن يكون ذكراً، دفع إليه ميراث ذكر، وإن كان أقلُّ حاليه أن يكون أنثى، دفع إليه ميراث أنثى؛ فإن بقي من المال شيء كان للعصبة، إن كان في الورثة عصبة، ولا يوقف شيء. 6509 - وقال إسماعيل بن إسحاق: " لا أحفظ عن مالك في ميراث الخنثى شيئاً ". وحُكي عنه أنه جعله ذكراً، وليس بثابت عنه (2).

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 154، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 456 مسألة: 2141. (2) ر. شرح الحطاب: 6/ 424، 426. وإسماعيل بن إسحاق: هو القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي، البغدادي إمام المالكية في عصره، ولد سنة 199 وتوفي سنة 282. وبفضله =

6510 - وقال قوم من البصريين إذا اجتمع فيه علامات الرجال والنساء، فهذا خلْقٌ، لا ذكر، ولا أنثى، وإنما فرضَ الله تعالى للذكور والإناث، ولم يفرض لهذا الشخص شيئاً، فلا شيء له إلا ألا يخلِّف القريبُ أحداً سواه، فيكون أحقَّ بماله من الأجانب. 6511 - وقال ضرار، وجماعة من البصريين: يقسم المال بين الخنثى وشركائه على أكثر دعاويهم، فيضرب فيه كلُّ واحد منهم بأكثر ما يدّعيه، وقاسوه على عول الفرائض، والتضارب في ثلث المال عند ازدحام الوصايا وزيادتها على الثلث. 6512 - وقال الشعبي: يُدفع إلى الخنثى نصف ميراث ذكر، ونصف ميراث أنثى، وبه قال الأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وشَرِيك، ونعيم (1)، ويحى ابن آدم، والعنبري (2)، وجماعة من الكوفيين. وحُكي مثل هذا عن ابن عباس.

_ = أصبح لمذهب مالك من الانتشار في بغداد ما لم يكن في وقت من الأوقات. (ر. طبقات الفقهاء للشيرازي: 167، ترتيب المدارك: 2/ 179، تاريخ بغداد: 6/ 284، الديباج: 1/ 282، سير أعلام النبلاء: 13/ 339). (1) هو نعيم بن حماد بن معاوية، أبو عبد الله الخزاعي المروزي الإمام العلامة الحافظ الفرضي. كان من أعلم الناس بالفرائض، توفي سنة 228 هـ. (ر. تاريخ بغداد: 13/ 306، سير أعلام النبلاء: 10/ 595). (2) العنبري: هو عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري، قاضي البصرة وخطيبها، ولد سنة 100 وتوفي سنة 168 هـ. من العلماء الذين يعتد بخلافهم، حيث يتكرر ذكره في كتب الخلاف، كالأوسط لابن المنذر، واختلاف الفقهاء للطحاوي ومختصره للجصاص، والحلية للقفال، وكتاب الساجي في الفقه والخلاف -كما ذكر السبكي في طبقاته: 3/ 300 - والانتصار للكلوذاني، والاستيعاب لابن عبد البر، (ر. تاريخ بغداد: 10/ 306، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 311، الوافي: 19/ 368، تهذيب التهذيب: 7/ 7).

6513 - ثم اختلف الفرضيون في تأويل قول ابن عباس والشعبى ومن تبعهما: فقال أبو حنيفة: أرادوا بذلك نصفَ الميراثين على طريق الدعوى. وقال أبو يوسف: أرادوا بذلك نصفَ الميراثين فى حالين فحسب، وبه قال أبو يوسف في آخر عمره، ولم ينزلهم أكثر من حالين. وقال ابن أبي ليلى في روايةٍ وجماعة من الكوفيين: أرادوا بذلك نصف الميراثين على تنزيل الأحوال كلها. وقيل: رجع محمد بن الحسن في آخر عمره إلى طريقة أصحاب الأحوال. ثم اختلف أصحاب الأحوال في كيفية تخريج المسألة على الأحوال على حسب ما نبيّنه في جوابات الأمثلة، إن شاء الله عز وجل. قال الأستاذ: هذا ما حفظنا من أقاويل العلماء، وأوضحُها وأقربها ما صار إليه الشافعي وأصحابه؛ فإنه مستند إلى اليقين، وما لا يقين فيه، فلا شيء فيه أحسنُ من الوقف. 6514 - مسائل الباب: رجل مات وخلّف أخاً لأبٍ وأمٍّ، وولداً خنثى ففي قول الشافعي للخنثى نصف المال، ويوقف الباقي حتى يتبين أمر الخنثى، وسأذكر في آخر الباب مسلكاً في القدر الموقوف. وفي قول أبي حنيفة ومحمد: له النصف، والباقي للأخ. ومن جعله ذكراً، أعطاه المالَ كلَّه. ومن قال لا ميراث له: دفع المال كلَّه إلى الأخ. ومن اعتبر قسمة المال بين الورثة على معظم دعاويهم، كما ذهب إليه ضرار، قال: إن الخنثى يدّعي جميعَ المال، والأخ يدعي النصف، فيقسَّم المال بينهما على ثلاثة أسهم: للخنثى سهمان، وللأخ سهم.

ومن أوجب له نصف ميراث ذكر، ونصف ميراث أنثى أعطاه ثلاثة أرباع المال، على جميع الروايات عنه. أما على رواية أبي حنيفة في اعتبار الدعوى، فإنه يقول: له النصف باليقين، والنصف الباقي يدّعيه هو، ويدعيه الأخ، فيقسم بينهما نصفين، فيخرج منه ثلاثة أرباع. وأما على اعتبار الأحوال، فلأن الخنثى له حالان: يرث في إحداهما جميع المال، وفي الأخرى نصفَ المال، فنجمع بينهما، يكون مالٌ ونصف، فله نصفهما، وهو ثلاثة أرباع. والأخ يرث في أحد الحالين نصفَ المال، فله نصف النصف، وهو الربع. فإن ترك ولدين خنثيين، وعماً لأب وأم ففي قول الشافعي لهما الثلثان، والباقي موقوف. وفي قول أبي حنيفة لهما الثلثان والباقي للعم. ومن جعل الخنثى ذكراً، قسم المال بينهما نصفين. ومن قال: لا ميراث له جعل المال كلّه للعم. ومن اعتبر قسمة المال بينهم على معظم دعاويهم، قال: إن كل واحد من الخنثيين يدعي لنفسه ثلثي المال، لأنه يقول: أنا ذكر، وصاحبي أنثى، والعم يدّعي ثلث المال، فنجمع دعاويهم، فيحصل مال وثلثا مال، فنبسطه أثلاثاً، فيكون خمسة، فنقسم المال بينهم على خمسة أسهم: لكل واحد من الخنثيين سهمان من خمسة وللعم سهم. ومن اعتبر له نصفَ الميراثين، فقد اختلفوا فيما بينهم، فمن اعتبر طريقةَ الدعوى، كما رواه أبو حنيفة عنهم، قال: لهما الثلثان بيقين، والثلث الباقي يدعيانه، ويدعيه العم، فيكون بينهم نصفين: خمسة أسداس المال بينهما

نصفين، وللعم السدس: أصلها من ستة، وتصحّ القسمة من اثني عشر سهماً. ومن اعتبر تنزيل المسألة على حالين فحسب، كما ذهب إليه أبو يوسف، فقوله في هذه المسألة كقول من اعتبر الدعوى؛ لأنه يقول: لهما حالان: إما أن يكونا ذكرين، فيستحقان جميع المال، وإما أن يكونا أنثيين، فيكون لهما الثلثان، فجملة النصيبين، مال وثلثان، لهما نصف ذلك، وهو خمسة أسداس المال، وللعم السدس. وأما من اعتبر تنزيل المسألة على جميع الأحوال، فلهم طرق مختلفة ترجع إلى معنىً واحد، فمنهم من يقول: للخنثيين أربعة أحوال: إما أن يكونا ذكرين، وإما أن يكونا أنثيين، وإما أن يكون الأكبر ذكراً والأصغر أنثى، وإما أن يكون الأصغر ذكراً والأكبر أنثى. وهؤلاء يجعلون لثلاث خناثى ثمانية أحوال، ولأربعة ستةَ عشرَ حالاً، وللخمسة اثنين وثلاثين حالاً، وعلى هذا القياس: كلما زاد في عدد الخناثى واحدٌ، تضاعف عدد أحوالهم. فإذا كان للاثنين أربعة أحوال، ففي ثلاث منها يستحقان جميع المال. وفي حالةٍ واحدة يستحقان ثلثي المال، فجملةُ ذلك ثلاثة أموال وثلثا مالٍ، لهما ربع ذلك؛ لأن لهما حالاً من أربعة أحوال: فيكون لهما ربع المبلغ، وهو خمسة أسداس المال ونصف سدسه، ويكون ما بقي للعم، وهو نصف سدس المال. ومنهم من يقول: لهما أربعة أحوال: يزاحمهم العم في واحدة منها، وإذا زاحمهم، أخذ ربع الثلث، فله ربع الثلث، وهو نصف سدس المال. ومنهم من اعتبر طريقةً في الحساب، نذكرها في آخر الباب. وطرق أصحاب الأحوال ترجع إلى معنىً واحد. ثلاثة أولاد خناثى، وعم لأب. ففي قول الشافعي: يدفع إليهم ثلاثة أخماس المال: لكل واحد الخمس،

وهو الأقل المستيقن، [لجواز] (1) أن يكون أنثى وصاحباه ذكرين، ونوقف ما بين ثلاثة أخماس [المال] (2) إلى تمام الثلثين بين الخناثى، لا حظَّ للعم فيه؛ فإنه لهم، أو لأحدهم، أو لاثنين منهم، ويوقَف ثلث المال الباقي بين العم والخناثى. وفي قول أبي حنيفة: لهما الثلثان، والباقي للعم. ومن جعل الخنثى ذكراً، قسم المال بينهم على ثلاثة أسهم، لكل واحد منهم سهم. ومن [أسقطهم] (3)، جعل المال كلّه للعم، ومن اعتبر معظمَ [الدعاوى] (4)، قال: كل واحد من الخناثى يدعي نصف المال، لأنه يقول: أنا ذكر، وصاحباي أنثيان. والعم يدعي ثلث المال، وجملة دعاويهم مالٌ وخمسةُ أسداس مال، فنبسطه أسداساً، فيكون أحدَ عشرَ، فنقسم المال بينهم على أحدَ عشرَ سهماً، لكل خنثى ثلاثة أسهم، وللعم سهمان. وعلى رواية أبي حنيفة على أصل الدعاوى يقال: لهم الثلثان بيقين، والثلث يدّعونه ويدّعيه العم، فهو بينهم نصفين، فيكون لهم خمسة أسداس المال، وللعم السدس، والقسمة من ثمانية عشر. وإلى هذا يؤدي مذهب أبي يوسف واختياره، حيث يقول: إما أن يكونوا ذكوراً، فلهم المال، وإما أن يكونوا إناثاً، فلهن الثلثان، فقال: مال وثلثان، لهم نصفه، وهو (5) خمسة أسداس المال، وللعم السدس.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) زيادة من (ت 3). (3) في الأصل: أسقطه. (4) في الأصل: الدعوى. (5) عبارة الأصل: لهم نصف وخمسة أسداس المال.

ومن اعتبر تنزيل الأحوال، فمنهم من يعبّر، ويقول: لهم ثمانية أحوال في سبعةٍ منها يرثون المالَ كلَّه، وفي واحدٍ يرثون ثلثي المال، فجملة ذلك سبعة أموال وثلثان، لهم ثمن ذلك؛ لأنهم إنما يرثون بحالٍ من ثمانية أحوال، وذلك خمسة أسداس المال وثمنه، وهو ثلاثة وعشرون سهماً من أربعة وعشرين سهماً من المال، والباقي للعم. ومنهم من يعبّر ويقول: لهم ثمانية أحوال، في واحدٍ منها يزاحمهم العم [في الثلث] (1)؛ فللعم ثمن الثلث (2) وهو جزءٌ من أربعةٍ وعشرين جزءاً من المال. والباقي للخناثى وسيأتي طريقُ الحساب. ترك ابناً، وولداً خنثى ففي قول الشافعي: للابن النصف، وللخنثى الثلث، والباقي وهو سدس المال موقوف بين الابن والخنثى. وفي قول أبي حنيفة: يكون المال بينهما على ثلاثة أسهم: للابن سهمان، وللخنثى سهم، وأبو حنيفة في هذه الرواية يجعل للخنثى المستيقن، والباقي للعصبة، فلا تنقص درجة الابن عن عمِّ أو أخ. ومن اعتبر معظم الدعاوى قال: الابن يدعي ثلثي المال، والخنثى تدعي النصف، وجملة ذلك مال وسدس، فنبسطه أسداساً، فيكون سبعة أسهم، فيقسم المال بينهم على سبعة أسهم: للابن أربعة، وللخنثى ثلاثة. ومن اعتبر نصف الميراثين، فعلى رواية أصحاب الدعاوى نقول: النصف للابن بيقين، والثلث للخنثى بيقين، وبقي سدس يدعيانه، فهو بينهما نصفين، فيحصل للابن ثلث المال وربعه، وللخنثى ربع المال وسدسه.1

_ (1) في الأصل: بالثلث. (2) (ت 3): الثلثين.

وعلى رواية أصحاب الأحوال: يكون للابن في حالٍ النصفُ، وفي حالٍ الثلثان، وجملتهما مالٌ وسدس، فله نصف ذلك، وهو ثلثٌ وربع. وللخنثى في حالٍ نصفُ المال، وفي حالٍ الثلث، وجملة ذلك خمسة أسداس المال، وله نصف ذلك، وهو ربع وسدس، كما ذكرناه. بنت، وولد خنثى، وعم لأب ففي قول الشافعي: للولدين الثلثان بينهما نصفين، ويوقف الباقي بين العم والخنثى؛ لأنه لأحدهما، ولا حق فيه للبنت. وفي قول أبي حنيفة: لهما الثلثان، والباقي للعم. ولسنا نعود إلى التفريع على أنه ذكر، أو هو ساقط لا يرث. ومن اعتبر معظمَ الدعاوى، قال: الخنثى يدعي الثلثين، والعم يدعي الثلث، والبنت تدعي الثلث، وجملة ذلك مالٌ وثلث، وهو أربعة أثلاث، فنقسم المالَ بينهم على أربعة: للخنثى سهمان، وللبنت سهم، وللعم سهم. قال الأستاذ أبو منصور: هكذا يُحكى عنهم، وأنا أظن الحكايةَ غلطاً، والذي يقتضيه قياس قول هذه الطائفة ألا تنقص البنت عن الثلث، بل يُدفع إليها ثلث المال كاملاً، ثم يقال: الخنثى يدّعي جميعَ الباقي، والعم يدعي نصفَ الباقي، فيقسم الباقي بينهما على ثلاثة، فتصح القسمة من تسعة أسهم للبنت ثلاثة، والباقي -وهو ستة- بين الخنثى وبين العم على ثلاثة، فللخنثى أربعة، وللعم سهمان. ومن قال بنصف الميراثين، فعلى اعتبار الدعوى يقال: للبنت الثلث بيقين، ولا دعوى لها، وللخنثى الثلث بيقين، بقي ثلث المال يدّعيه الخنثى، ويدّعيه العم، فهو بينهما نصفين، فيحصل للخنثى نصف المال، وللبنت الثلث، وللعم السدس.

وعلى طريقة أهل الأحوال: يقال: للخنثى حالان في إحداهما يرث الثلث، وفي الثانية ثلثين، فنجمعهما، فيكون مالاً كاملاً، فله نصفه، وللبنت في كل واحدةٍ من الحالتين ثُلثه، وجملتها الثلثان، فلها نصف ذلك، وهو الثلث. [فالعم إما أن يكون له الثلث، أو لاشيء له، فله نصف ذلك، وهو السدس] (1). 6515 - واعلم أن ولد الأب والأم، وولد الأب إذا كانوا خناثى، أو كان بعضهم خناثى، فالعمل فيهم كالعمل في أولاد الميت سواء. فإن ترك ولداً، وولد ابنٍ خنثيين، وعماً لأب ففي قول الشافعي: يدفع إلى الولد النصف، ويوقف السدس بين الخنثيين، لأنه لأحدهما، ويوقف الثلث بين العم والخنثيين. وفي قول أبي حنيفة: للولد النصف، ولولد الابن السدس، والباقي للعم. ومن اعتبر معظم الدعاوى قال: ولد الصلب يدعي المال، وولد الابن يدعي النصف، والعم يدعي الثلث، وجملة ذلك مالٌ وخمسة أسداس، فنبسطه أسداساً، فيكون أحدَ عشرَ، فيقسم المال بينهم على أحدَ عشرَ سهماً: للولد منها ستة أسهم، ولولد الابن ثلاثة أسهم، وللعم سهمان. ومن جعل له نصفَ الميراثين، فعلى اعتبار الدعاوى يقال: للأعلى منهما النصف، والسدس يدّعيه الأعلى والأسفل، فهو بينهما نصفين، وبقي ثلث المال يدّعيه الخنثيان، ويدعيه العم، فهو بينهما أثلاثاً. وتصح المسألة من ستة وثلاثين سهماً: للأعلى من الخنثيين خمسة وعشرون، والأسفل سبعة أسهم، وللعم أربعة أسهم.

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

فأما على قول أصحاب الأحوال، فمنهم من يقول: لهما أربعة أحوال: إما أن يكونا ذكرين، أو أنثيين، أو يكون الأعلى ذكراً، والأسفل أنثى، أو يكون الأسفل ذكراً، والأعلى أنثى، فنجمع ما يصيب الأعلى في الأحوال، فيكون ثلاثة أموال، وله ربعها، وذلك ثلاثة أرباع المال. ونجمع ما يصيب الأسفل في هذه الأحوال، [فيكون ثلثي مال، فله ربع ذلك، وهو السدس. ونصيب العم في بعض هذه الأحوال] (1) الثلث، فله ربع الثلث، وهو نصف السدس. ومنهم من يعبّر فيقول: لهما أربعة أحوال، والعم يدخل في واحدة منها في الثلث، فله ربع الثلث، وللأعلى ثلاثة أرباع المال، والباقي للأسفل، وهو السدس. قال الأستاذ (2): حكى أصحاب الرأي عن أصحاب الأحوال في هذه المسألة أقوالاً سوى ما ذكرتها، وهي غير صحيحة على أصل القوم، فحكى بعضُهم عنهم أنهم قالوا: للأعلى ثلاثة أرباع المال، وللأسفل نصف ما بقي، وهو الثمن، والباقي للعم. وحكى بعضُهم أنهم قالوا: للأعلى ثلاثة أرباع المال، وللأسفل ثلاثة أرباع ما بقي، والباقي للعصبة، وحكى بعضهم أنهم قالوا: للأعلى ثلاثة أرباع المال، وللأسفل نصف سدس المال والباقي للعم. وحكى بعضهم عن القوم أنهم قالوا: للأعلى ثلاثة أرباع المال، والباقي موقوف بين هذا الأسفل، وبين العم.

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 3). (2) الأستاذ: المراد به أبو منصور البغدادي.

وكل هذه الحكايات قد غلط فيها ناقلوها. والصحيح على قول أهل الأحوال ما حكيناه عنهم أوّلاً. فإن كان الأعلى ابناً على التحقيق، والأسفل خنثى، فالمال كله للأعلى، ولا إشكال في المسألة. فإن كان الأعلى بنتاً، والأسفل خنثى ففي قول الشافعي: للبنت النصف، وللخنثى السدس، والباقي [موقوفٌ بين الخنثى، والعم؛ لأنه لأحدهما. وفي قول أبي حنيفة: للبنت النصف، وللخنثى السدس والباقي] (1) للعم من غير وقف. ومن اعتبر معظم الدعاوى، قال: البنت لها النصف بيقين، والخنثى يدّعي النصف، والعم يدعي الثلث، فنقسم الباقي بعد النصف بين الخنثى والعم، على خمسة أسهم. وللعم سهمان. ومن اعتبر نصف الميراثين. فعلى رواية أهل الدعاوى: للبنت النصف، لا شك فيه، ولولد الابن السدس بلا شك، وبقي الثلث يدعيه ولد الابن، والعم، فهو بينهما نصفين. وعلى طريقة أهل الأحوال: ولد الابن يستحق في حالٍ النصفَ، وفي حالٍ السدسَ، وجملة ذلك ثلثا المال، فله نصف ذلك، وهو الثلث. والعم يستحق في إحدى الحالين الثلث، فله نصف ذلك وهو السدس. ونصيب البنت معلوم، لا يتغير. 6516 - وولد الأب والأم مع ولد الأب إذا كانوا خناثى، فالعمل فيهم كالعمل في ولد الميت، وولد الابن إذا كانوا خناثى، فإن ترك:

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

أُمّاً، وولداً خنثى. ففي قول الشافعي: للأم السدس، وللولد النصف، والباقي موقوف بينه وبين العصبة. وفي قول أبي حنيفة: يكون الباقي للعصبة. ومن اعتبر معظمَ الدعاوى قال: الخنثى يدَّعي خمسةَ أسداس المال، والعصبة تدعي الثلث، فللأم السدس، ويقسم الباقي بين الخنثى والعصبة على سبعة أسهم: للخنثى خمسة أسهم، وللعصبة سهمان. ومن اعتبر نصف الميراثين، فعلى طريقة أهل الدعوى، يقال: للأم السدس لا شك فيه، وللولد النصف، لا شك فيه. وبقي ثك المال، يدّعيه الخنثى والعم، فهو بينهما نصفين. وعلى طريقة أهل الأحوال يقال: الخنثى يرث في حالٍ النصفَ، وفي حال خمسةَ أسداس المال، فجملة ذلك مالٌ وثلث، له نصف ذلك، وهو ثلثا المال. وللعصبة في إحدى الحالين الثلث، فله نصف ذلك، وهو السدس، ونصيب الأم لا يتغير. فإن ترك أبوين، وولداً خنثى ففي قول الشافعي: للأبوين السدسان، وللولد النصف، ويوقف السدس بين الخنثى والأب، لأنه لأحدهما. وفي قول أبي حنيفة: للأبوين السدسان، وللولد النصف، والباقي للأب. ومن اعتبر معظمَ الدعاوى، أعطى الأم السدس، وقسم الباقي بين الأب والخنثى على ثلاثة أسهم: للأب سهم، وللخنثى سهمان.

ومن جعل له نصف الميراثين، فعلى طريقة الدعوى، يقال: للأبوين السدسان، وللخنثى النصف، وسدس المال يدعيه الأب والخنثى، فهو بينهما نصفين. وعلى طريقة أهل الأحوال، يقال: للخنثى في حالٍ النصفُ، وفي حالٍ ثلثا المال، وجملة ذلك مالٌ وسدسٌ، فله نصف ذلك، وهو ثلثٌ وربع. وللأب في حالٍ الثلث، وفي حالٍ السدس، وجملة ذلك نصف المال، فله نصف النصف وهو الربع. ونصيب الأم لا يتغير. فإن تركت زوجاً، وأماً، وولد أبٍ خنثى. ففي قول الشافعي: للزوج النصف عائلاً، وذلك ثلاثة أسهم من ثمانية أسهم، وللأم الثلث عائلاً، وهو في التحقيق الربعُ سهمان [من ثمانية] (1) ويدفع إلى الخنثى مثل السدس؛ لأنه يقين. وتصح القسمةُ من أربعة وعشرين: للزوج تسعة، وللأم ستة، وللخنثى أربعة أسهم. ويوقف خمسة أسهم. وفي قول أبي حنيفةَ للزوج النصفُ الكامل، وللأم الثلث الكامل، والباقي للخنثى، وهو السدس. ومن اعتبر معظم الدعاوى، قسم المال بينهم على ثمانية أسهم. ومن اعتبر نصف الميراثين، قال: للزوج في حالٍ النصف، وفي حالٍ ثلاثة أثمان المال، وجملة ذلك سبعة أثمان المال، فله نصف ذلك.

_ (1) ساقط من الأصل.

وللأم في حالٍ الثلث، وفي حالٍ الربع، وجملة ذلك ثلثٌ وربعٌ، فلها نصف ذلك، وهو سدس وثمن. وللخنثى في حالٍ النصف عائلاً، وهو ثلاثة أثمان المال وفي حالٍ السدس، فله نصف كل واحد منهما. وتصح القسمةُ من ثمانية وأربعين سهماً. فهذا بيان أصول العلماء في الخناثى. 6517 - وقد تمس الحاجة إلى ذكر طرفٍ من الحساب في الباب يسهل به درك المقصود، فنضرب مثالاً واحداً، ونذكر فيه [مسلك] (1) الحُسّاب، فنقول: خلّف الميت ثلاثة أولاد خناثى، وعصبة فلهم ثمانية أحوال، فإن كانوا ذكوراً، فالمسألة تصح من ثلاثة. وإن كانوا إناثاً، فالمسألة تصح من تسعة. وإن كانوا ذكرين وأنثى، فالمسألة تصح من خمسة، وهذا التقدير يجري في ثلاثة أحوال على البدل. وإن كانوا ذكراً وأنثيين، فالمسألة تصح من أربعة. ولهذا التقدير أيضاً ثلاثة أحوال على البدل. فقد حصل معنا ثلاثة، وتسعة، وخمسة ثلاث مرات، وأربعة ثلاث مرات. فنجتزىء بواحدةٍ من الخمسات، وبأربعة، ثم الثلاثة داخلة في التسعة، فتطرح؛ فيبقى معنا أربعة، وخمسة، وتسعة، وهي متباينة، فنضرب بعضها في بعض، فتبلغ مائة وثمانين، فمنها تصح القسمة على جميع أحوال المسألة.

_ (1) في الأصل: مسألة.

وقد علمنا أن أهل الوقف يقسمونها على اعتبار أضرّ الأحوال بكل واحدٍ منهم، وأضرُّها بكل واحد أن يكون هو أنثى، وصاحباه ذكرين، فيكون نصيب الخنثى خمسَ (1) المال، فندفع إلى كل واحدٍ منهم الخمس، وذلك ستة وثلاثين سهماً، ويكون الباقي موقوفاً، وذلك اثنان وسبعون سهماً. ثم ننظر بعد ذلك: فإن ظهر [أمر] (2) الأكبر، وبان أنه ذكر، أعطي أقلَّ أحواله، وهو أن يكون صاحباه -أيضاً- ذكرين، فندفع إليه إلى تمام الثلث، وهو أربعة وعشرون سهماً. وإن ظهر الأوسط ذكراً، فالأمر كذلك. وإن ظهر أمرُ الثالث، دفع إليه مثلُ ذلك. وإن بان أن الثالث أنثى، فقد استوفى حقه، ورُد الموقوف على الأكبر والأوسط نصفين، وإن ظهر أن الأوسط أنثى، وقد ظهر الأكبر ذكراً، أعطي الأوسط أقلَّ حاليه، وهو أن يكون الثالث ذكراً. فيستحق الأوسط خمس المال، وفي يده الخمس، فلا يدفع إليه مزيد. وإن بان الثالث ذكراً، دفع إلى كل واحدٍ من الذكرين تمامُ خمسي المال، وهو ستة وثلاثون، ليكمل لكل واحد اثنان وسبعون. وإن ظهر الأول ذكراً، والأوسط والأصغر أنثيين، دفع إلى كل أنثى تمام الربع، ضمّاً إلى الخمس، وهو تسعة، والباقي للذكر، وهو تمام النصف. فإن ظهر الأكبر أنثى أوّلاً، لم يدفع إليها أكثر مما في يدها؛ لأنه يجوز أن يكون صاحباه ذكرين. وإن ظهر بعد ذلك أن الأوسط أنثى أيضاً، دفع إليها أربعة، وإلى الأنثى الأولى أربعة؛ لاحتمال أن يكون الثالث أيضاً أنثى.

_ (1) (ت 3): ثلث. (2) ساقطة من الأصل.

فإن ظهر بعد ذلك أن الثالث ذكرٌ، دفع إليه تمام التسعين، ودفع إلى كل واحدة من الأنثيين خمسة خمسة، ليتم لكل واحدةٍ خمسة وأربعون. وعلى هذا فقس. 6518 - وأما على قول أصحاب الأحوال، فإنك تُجري الحساب على النسق الذي تقدم، حتى ينتهي إلى المائة والثمانين، فإذا انتهيت إليها، فاضربها في عدد أحوال المسألة، وهي ثمانية، فيبلغ ألفاً وأربعمائة وأربعين، فمنها تصح القسمة. ثم نرجع، فنقول: كان لهم أربعة ثلاث مرات، فنضربها في خمسة، ثم في تسعة ثلاث مرات، فتبلغ خمسمائة وأربعين، فمنها تصح القسمة. وكان لهم خمسة ثلاث مرات فنضربها في أربعة، ثم في تسعة ثلاث مرات، فتكون أيضاً خمسمائة وأربعين، وكان لهم من التسعة ستة مضروبة في خمسة، ثم في أربعة مرة واحدة، فتبلغ مائة وعشرين، وكان لهم ثلاثة مرة واحدة، وهي داخلة في التسعة مداخلة الأثلاث، ومباينة الأربعة والخمسة، فنضرب الثلاثة في ثلاثة، ثم في أربعة، ثم في خمسة، فتبلغ مائة وثمانين. ثم نجمع ما حصل لهم في هذه الأحوال كلِّها، فتبلغ ألفاً وثلثمائة وثمانين، فهو ما يصيبهم من أجزاء المال. وكان للعصبة من التسعة وحدها ثلاثة، فنضربها في أربعة، ثم في خمسة، فيكون له ستون سهماً، ثم إذا قسمت ما أصاب الخناثى، وهو ألف وثلثمائة وثمانون سهماً، أصاب كلَّ واحد منهم أربعمائة وستون. وهذه الأنصباء كلها متفقة بنصف العشر، فيرد كلُّ واحدٍ منهم إلى نصف عشره، ونقطع الفريضة من نصف عشرها، فترجع الفريضة إلى اثنين وسبعين، فيرجع نصيب كل خنثى إلى ثلاثة وعشرين ويرجع نصيب العصبة إلى ثلاثة. وعلى هذا فقس مسائل الخنثى، على هذين المذهبين.

6519 - وكنا وعدنا ذكرَ شيء على مذهب الشافعي يتعلق بفقه مذهبه؛ وذلك أنا إذا صرفنا المستيقنَ إلى كل واحدٍ، ووقفنا مقداراً، ففي هذا الموقوف نوعان من الكلام: أحدهما - أن نفرض المسألة فيه إذا اعترف الورثة بالإشكال، وفي ذلك إجراء مسائل الباب. وما أطلقناه من لفظ التداعي على مذهب القائلين به تقديراً، وليس المعنيُّ به أن يدّعي الخنثى كونَه ذكراً؛ فإنه لو ادّعى ذلك، فسنذكر حكمه. وهو الفصل الثاني. وإنما تيك ألفاظٌ تقديرية على فرض أحوال. 6520 - فإذا بان ذلك، فالمال الموقوف كيف السبيل فيه؟ وإلى متى الوقف؟ وفيه قطعُ الموقوف عمّن ينتفع به، وقطع المنتفع به عنه. ويجتمع فيه تعطيل المال وهلاكُه. وهذا الآن يستدعي ذكرَ مسألة من النكاح ستأتي مشروحة، إن شاء الله عز وجل، وهي أن الكافر إذا أسلم على ثمان نسوة وأسلمن معه، ومات المسلم على مكانته، ولم يختر، فتعلق طرف من أحكام هذه المسألة بالميراث. وقد قال الشافعي: يوقف بينهن ميراث زوجة، وهو الربع، أو الثمن، على ما تقتضيه الفريضة، فهذا مصيرٌ منه إلى الوقف، حيث لا يتوقع فيه بيان؛ فإن الفرض وقع فيه إذا أسلموا، ومات الزوج على فوره، وتحققنا [انتفاء] (1) الاختيار منه. وهذا يتطرق إليه نوعٌ من الاحتمال بسبب اطراد الإشكال ووقوع المسألة على صورة لا يتأتى أن يقال فيها: الوارثات أربعٌ منهن ملتبسات بأربع؛ فإن هذا إنما

_ (1) في الأصل: وتحققنا عدم ابتداء الاختيار.

يجري عند تعين [أربع] (1) في علم الله تعالى، مع التباسهن علينا، وليس الأمر كذلك. وكان يليق بالقياس أن يقال: الربع والثمن الموقوف بينهن لا يعدوهن، وهن مستويات في علم الله تعالى، فليستوين في الحكم، وليقتسمن الموقوف بينهن على السوية [فليكن] (2) ذلك حكماً مبتوتاً. وهذا يناقض الوقف. وقد صار إلى هذا الذي ذكرناه صاحبُ التقريب، في جوابٍ له، وهو محتمل واقعٌ، والنص على مخالفته. فإذا تبين هذا، عدنا إلى القول في الخنثى. 6521 - إن مات الخنثى، وانقطع توقع البيان، فيجوز أن يلتحق ذلك بما ضربناه مثلاً في نكاح المشركات، وهذا بعينه هو الذي حكى الأستاذ أبو منصور فيه قولاً [غريباً] (3) عن الشافعي في صدر باب الخناثى، ونسبه إلى نقل أبي ثور (4). وإن كان الخنثى بعدُ حيّاً، فلا يأس [من البيان] (5)، فإنّ العلامات وإن تعارضت، فقد ذكرنا أنا نرجع إلى الخنثى، وإلى إعرابه عن نفسه، فإذا كان البيان ممكناً، فلا يتجه إلا التوقف. ثم إن الشافعي وأصحابَه قالوا في مواضع التوقف: لو اصطلح الذين وُقف المال بينهم، جاز ذلك؛ فإن الحق لا يعدوهم، وهذا لم يختلف فيه الأصحاب.

_ (1) في الأصل: وقع. (2) في الأصل: ولكن كان. (3) زيادة من (ت 3). (4) القول الغريب المشار إليه هو: الوقف إلى موت الخنثى، ثم يرد الموقوف على ورثة الميت الأول. (5) ساقط من الأصل.

وينشأ منه إشكال؛ من جهة أن المصطلحين لا يتواهبون، ولا يتهادَوْن، ولو فرض منهم تواهب، لكان مبناه على جهالة من الملك، وكل ذلك مشكل. 6522 - والذي يقتضيه الفقه عندي أنهم إذا اصطلحوا، فلا بد وأن يتهادَوْا ويتواهبوا؛ فإنهم إن لم يفعلوا ذلك، بقي ما في يد كل واحد على حكم الوقف وصورتِه. فإن قيل: إذا تواهبوا، فصَدَرُ (1) ذلك عن جهالة؟ قلنا: نعم. الأمر كذلك، ولكن الجهالة محتملة عند الضرورة، وإفضاءِ الأمر إلى التعطيل. وعلى هذا بنى الشرعُ عدمَ اشتراط الاطّلاع على ما يعسر الاطلاع عليه في المبيع، مع أنا نشترط أكمل الإعلام فيه، وكلياتُ الشريعة دالّةٌ على أن الأحكام لا تبقى مشكلة (2)، لا فيصل (3) فيها، فكان الصلح فَصْلاً للإشكال الواقع. وإذا لم يكن صلحٌ، فالوقف إلى انتظار البيان غيرُ بعيد، وإن لم يكن انتظار بيان، فهذا الذي أشرت إليه في نكاح المشركات، وفيما يناظره في هذا الباب. 6523 - ثم يخرج من مجموع ما ذكرناه: أنهم إذا اصطلحوا على استواءٍ وتفاوتٍ، فلا حجر؛ فالمال مالهم، والحق حقهم، وقد ذكرتُ أنه لا بد من التواهب، ويخرج منه أن واحداً منهم لو أخرج نفسه من البَيْن، وسمح بحقه على أصحابه، فلا بأس بذلك؛ بناء على ما تمهد، ولا بد للمخرج نفسَه من الهبة، كما قدمناه. وليس كالواحد من الغانمين يُعرض عن حقه من المغنم؛ فإن تعلّقه ينقطع بذلك؛ من جهة أنه لا يثبت للغانم ملكٌ محقق؛ فيسقط حقه بالإعراض،

_ (2) (ت 3): يصدر. وهو تحريف من الناسخ، فإن المعهود في استعمال إمام الحرمين لهذا المصدر أن يأتي به على صيغة (فعل) بفتحتين، فهو في موضع صدور. (2) (ت 3): لا تبقى ناسية مشكلة. (3) (ت 3): تفصيل .. تفصيلاً.

والملك ثابت في الموقوف تحقيقاً، والمالك مشكلٌ. فهذا بقية هذا الفصل. 6524 - فأما الفصل الثاني (1) فمقصوده أن الخنثى في أثناء الأمر لو قال: تبيّن لي أنني رجل، فقد أوضحنا أن الرجوعَ إلى قوله، عند تعارض العلامات، فيجب القضاء بموجب قوله في المواريث، حتى نقضي له بميراث ذكر، وإن كان يؤدي هذا إلى حرمان العصبات. فإن قيل: " إنه متهم فيما يذكره "، فلا معول على التهمة إذا كان يخبر عن نفسه، فيما لا يُطّلع عليه إلا من جهته. وإذا كنا نقبل قولَه مع تعارض العلامات، ولا يقدح تعارضها في قبول قوله، فلا نجعل للتهمة موضعاً. وكيف يبعد هذا، وقد قال الشافعي: إذا استلحق الإنسان نسب منبوذٍ بعد موته وتخليفه المالَ الجمَّ، قُبل استلحاقُه ويورَّث منه. وقال في الزوج: إذا لاعن، ونفى نسب مولودٍ، وهو إذ ذاك فقير، ثم تجمعت له أموالٌ، ومات: فإذا أكذبَ الزوجُ نفسه، واستلحقه، لحقه، وهو يرثه. وخالف مالك (2) في هذا، لمكان ظهور التهمة. وابن العَشر إذا زعم أنه بلغ بالحُلُم، صُدّق، وانقطعت عنه سَلْطنةُ الولي. والسبب في ذلك كلِّه أنه لا مُطَّلع على هذه الصفات إلا من جهة المعربين عن أنفسهم فيها؛ فيتعين تصديقُهم.

_ (2) (ت 3): النوع الثاني. (2) ر. عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب:3/ 1323 مسألة 926، الكافي لابن عبد البر: ص 290.

ثم قال الأئمة: إذا ادّعى ابنُ العشر البلوغ، لم يُحَلّف؛ إذ في تحليفه ما يؤدي إلى الدَّوْر الحكمي؛ إذ الغرض من التحليف جلب غلبة الظن في صدق المحلَّف وإحلاله محلَّ التهمة، فيما هو مختلفٌ فيه. فإن كان المحلَّف على البلوغ طفلاً، فلا معنى لتحليفه، وإن كان بالغاً، فلا حاجة إلى تحليفه. وقد قدمنا ذكرَ هذا في كتاب الحجر عند ذكرنا أسباب البلوغ. فاذا أعرب الخنثى عن نفسه، وزعم أنه ذكر، فقد ذكرنا أن القول قولُه، ولكنه يحلَّف؛ إذ لا يمنع من تحليفه مانع، ويتعلق بتصديقه قطعُ استحقاقٍ، وإثبات استحقاق، يتعلق بحقوق الآدميين. فهذا تمام البيان. ومضمون الباب. ***

باب ميراث الحمل

باب ميراث الحمل 6525 - إذا مات الإنسان، وكان في بطن الأم جنينٌ، لو كان منفصلاً حالة موته، لورث، فإذا كان حَمْلاً يوم الموت، فتوريثه ثابت، وليس بين العلماء في هذا الأصل خلاف. وإنما التردد في التفصيل. 6526 - وإنما يثبت الميراث بشرطين: أحدهما - أن يكون موجوداً حالة موت المورث. والثاني - أن ينفصل حياً. وبيان الشرطين: أما الوجود، فإذا انفصل الحمل حياً لدون ستة أشهر، فقد تيقَّنا أنه كان موجوداً حالةَ موت الموروث. ولو أتت به المرأة لأكثر من أربع سنين من وقت الموت، حكمنا بانتفاء وجوده حالة الموت، فلا ميراث له. وأكثر مدة الحمل على رأي الشافعي أربع سنين. وهذا يذكر في اللعان، إن شاء الله عزوجل. ولو أتت المرأة بالحمل لأكثرَ من ستة أشهر، ولأقلَّ من أربع سنين، فلسنا نقطع بوجوده حالة الموت، ولكنا نحكم بوجوده؛ فإن الشرع يُلحق النسبَ، وتثبت القرابة مع الاحتمال الذي أشرنا إليه، والإرث تبع القرابة، فإذا اقتضى وضعُ الشرع إثباتَ القرابة أتبعنا ثبوتَها حكمَ الإرث، وليس يناقض هذا

ما [قدمنا]، (1) من طلب اليقين في المواريث، فإن ذاك حيث لا نجد مستنداً شرعياً، كما ذكرناه في ميراث الخناثى، حيث لم تُعيَّن ذكورة ولا أنوثة. وكيف ننكر البناء على الشرع مع ظهور الظن، والأصلُ في الأنساب الإمكانُ والاحتمال، فخرج مما ذكرناه أنا وإن أطلقنا اشتراط وجود الحمل، فمعناه ما وصفناه. 6527 - فأما اشتراط الحياة حالة الانفصال، فمتفق عليه، فلو انفصل الحمل الذي كنا نتوقعه ميتاً، لم نورِّثه، وفاقاً. وإذا انفصل حياً، تبيَّنا أنه ورث، ولم نذهب إلى مسالك الظنون في تقدير انسلاك (2) الروح بعد الموت (3). ولكل حكمٍ في الشرع موقفٌ ومنتهى، لا سبيل إلى مجاوزته. ثم إن صرخ الجنين واستهل، فهو حي، وكذلك إن طرف، وفتح عينه وتثاوب (4)، أو امتص الثديَ، فكل ذلك علامات الحياة. وفي العلماء من يأبى الحكمَ بالحياة إن لم يصرخ الصبيُّ، حتى لو انفصل، وطرف، ومات، لم نورثه، ويُعزى هذا إلى ابن عباس وطائفةٍ من الصحابة، رضي الله عنهم. ولم يُصحح الأئمةُ النقلَ في ذلك. وليس ما ذكرناه من العلامات الظنيّة؛ فإنا على اضطرارٍ نعلم أن الصبي إذا صدر منه ما ذكرناه، فهو حيٌّ، وليس هذا مما ينساغُ الخلاف فيه، ولا يجري مجرى علامات الذكورة والأنوثة في الخناثى. نعم، اختلف قول الشافعي فيه إذا انفصل واختلج، فهل يكون مجرد الحركة والاختلاج دالاًّ على الحياة، حتى نحكم بها، ونقضي بثبوت الإرث، وغيرِه من الأحكام المشروطة بالحياة، فقال

_ (1) في الأصل: مهدناه. (2) في (ت 3): انسلال. (3) " بعد الموت ": المراد موت المورّث. (4) تثاوب: تثاءب. قال في المصباح: " تثاوب عامّي ".

في قول: الحركة بمثابة الاستهلال، وتقليبِ الطرفِ وغيره. وقال في قولٍ: لا تثبت الحياة بالحركة المجردة. وفي هذا مزيدُ نظرٍ وتأمل، فلو انفصل واختلجت عضلةٌ من عضلاته، بحيث يفرض مثله من تقلص عصبٍ، فليس هذا فيما أظن محلَّ القولين. ولو قبض بدّاً (1)، أو ضمه إلى نفسه وبسطه، فهذا مما يجب القطع بكونه دلالة [على] (2) الحياة؛ فإن القبض والبسط في الأعصاب لا يقعان على هذا الحد، فمحل القولين بين الحركتين اللتين وصفناهما. فكأن حاصل القول في هذا يرجع إلى أن الحياة هل تثبت بغلبات الظنون، أم لا بد في ثبوتها من قاطعٍ؟ فيه القولان والاختلافُ. 6528 - ولو انفصل بعضٌ من الجنين، ثم خمد، وانفصل الباقي منه، فالذي إليه صَغْوُ الأصحاب أثه لا يثبت له حكم الحياة، وسبيله كسبيل جنين ينفصل ميتاً. وذهب طوائف من المحققين منهم القفال إلى أنا نحكم بالحياة، ويثبت الإرثُ؛ لأنا استيقنَّا الحياة، ولا نظر إلى وقوع ذلك قبل تمام الانفصال. 6529 - ومما يليق بما انتهينا إليه أن جانياً لو جنى على الحامل، فأَجْهَضَت، والتزم الجاني الغرّةَ، فهي موروثة، وهذا يُشعر بتقدير الحياة في الجنين، [وطريان] (3) الموت بعدها. فلو قال قائل: هل تورثون الجنين المنفصل

_ (1) بدّاً، مثلثة الباء: النصيب من كل شيء. وهو هنا بمعنى الجزء والعضو. (القاموس، والمعجم، والأساس). وكان من الممكن أن تقرأ (يداً) بالياء، لكن منع من ذلك وضوح صورة الباء ونقطها بالواحدة في النسختين، والأهم من ذلك عود الضمير عليه مذكراً. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: فطريان.

بالجناية؟ قلنا: لا نورثه؛ فإنا لم نتحقق حياتَه، وتوريثُه موقوف على تحقق حياته عند الانفصال، فأما إيجاب الغرّة على الجاني، فليس يتعين له تقدير حياة الجنين؛ فإنا لو قدرناها، لأوجبنا الدية الكاملة، وقد أطلق الفقهاء أقوالهم بأن الغرة تجب بسبب منع ثبوت الحياة، مع تهيؤ الجنين لها، في كلامٍ، لسنا نخوض فيه الآن. ومبنى الباب الذي افتتحناه على تحقق الحياة عند الانفصال، وهذا غير ثابت في الجنين المنفصل بسبب الجناية. فإن قيل: ألستم قدرتموه موروثاً، فقدِّروه وارثاً؟ قلنا: هذا تلبيسٌ، وسبب صرف الغرة إلى جهة الإرث أنا لم نجد مصرفاً أوْلى من الإرث، وقاعدة الإرث مبنية على هذا؛ فإن الشخص إذا انقطع ملكه، ولا سبيل إلى تضييع ما خلّفه، صرف الشرعُ تركتَه إلى جهة [يراها] (1). وإذا ثبت أصل الباب في توريث الحمل، فلا يكاد يخفى الحكم إذا انفصل. ولكن قال العلماء: نتوقف ولا نبُتّ (2) الرأي قبل انفصال [الحمل] (3)، ونبني الأمرَ في توريث الورثة القائمين قبل انفصال الحمل على المأخذ الذي بنينا عليه قاعدةَ باب الخناثى، وهو طلب اليقين، على ما سنفصل ذلك، إن شاء الله عز وجل. 6530 - ومما يتعيّن الابتداء به أن الرحم يشتمل على ولدٍ واحد، وأولاد، وقد يختلف التوريث باختلاف العدد، فكيف السبيل؟ وما وجه الضبط؟ هذا يستدعي بيانَ أمرين: أحدهما - في عدد الأجنة، والثاني - في صفتهم. فأما القول في العدد، فقد ذهب الليث بن سعد إلى أنه لا يوقف إلا ميراثٌ واحد يقدّر ذكراً أو أنثى، ونقسم الباقي بين الورثة.

_ (1) في الأصل: رآها. (2) (ت 3): ينبت. (3) في الأصل: الأمر.

وقال أبو يوسف: يوقف للحمل نصيب ذكرين، ويقسم الباقي بين الورثة. وقال بعض أهل الرأي: قياس قول محمد يقتضي أن يوقف له نصيب ثلاثة من الذكور، ويقسم الباقي بين الورثة. وحكى عبد الله بنُ المبارك عن أبي حنيفة أنه قال: يوقف لأجل الحمل نصيب أربعة أولاد. وبه قال شريك، وعبدُ الله بنُ المبارك، وكان شيخي يقول: هذا مذهب الشافعي. وذكر الأستاذ أبو منصور أن الفرضيين قالوا: هذا قياس قول الشافعي، وإنما قالوا ذلك؛ من جهة أن الشافعي تتبع في هذه الأشياء الوجودَ، وعليه بنى أبوابَ الأدوار في الحيض، كما قدمناه. وقد ثبت النقل في اشتمال الرحم على أربعة، ولم يثبت عن الأثبات مزيدٌ على هذا العدد. قال يحيى بنُ آدم: سألت شريكاً عن ذلك، فقال: رأيت أربعةً وُلدوا في بطن واحد، محمد، وعلي، وعمر، وإسماعيل. وذكر القفال، والناقلون عنه سوى شيخنا أن مذهب الشافعي أن لا ضبط لعدد الحمل يوقف عنده، وننتهي إليه. وعلى هذا الوجه نقله الصيدلاني، والقاضي. فهذا قولنا في العدد على الجملة. 6531 - وأما الصفة، فقد عنينا بها الذكورة والأنوثة، ولا ضبط فيها، ولا اطلاع عليها، وكل ما يختلف بالذكورة والأنوثة، فلا بد من الوقف فيه، كما نفصله. وأما ما يتعلق بالعدد، فإن كانت الحامل مشتملة على أولاد الميت، وكان للميت ولد وارث (1)، فلا بد من التوقف في جميع الميراث إن لم نجعل للولد

_ (1) (ت 3): واحد.

ضبطاً؛ فإنا لا ندري أن ما يخص هذا الولد كم؟ فلا بد من التوقف إلى الانفصال. وإن فرعنا على أن أكثر الأولاد في الرحم الواحد أربعة، فنأخذ بهذا العدد، ثم نقدرهم ذكوراً، ونصرف حصّةَ الولد الثابت إليه؛ بناءً على المستيقن، فيخصه خمس المال، ونقف الباقي. ونحن الآن في عقد الحمل والتفصيل بين أيدينا (1). ثم من رأى مذهب الشافعي محمولاً على أن أكثر العدد في الأجنة أربعة، فإذا صرف إلى الولد الثابت ما ذكرناه، فهل نأخذ منه ضميناً؟ تردد الأئمة فيه، وظاهر ما ذهب إليه هؤلاء أنه لا يطالب بضمين؛ فإن ما بني على الوجود يُحكم فيه بحسبه فنلحق الحكمَ فيه بالقضاء الثابت في الشريعة. وإن تطرق إليها إمكانٌ من طريق الخلقة، ولهذا ورّثنا الولد الذي تأتي المرأة به لأكثر من ستة أشهر بعد موت الموروث؛ فإن الشرع حاكم (2) بإثبات القرابة من الميت، وهذا يتضمن القضاء بإثبات وجوده عند الموت، فاتبعنا هذا الحكم؛ ولم نلتفت على خلافه، وإن كان ممكناً من طريق الخلقة، إذ لا بُعد في حصول العلوق بعد موت الميت من أجنبي، ولكن لا معوّل على هذا التقدير. 6532 - ومما نذكره في قاعدة الباب أن الحامل إذا كانت حاملاً بجنين، أو بأجنة، لو انفصلوا أحياءً، لكانوا أصحاب فرض، ولا يختلف فرضهم بمزيد العدد، مثل أن يكونوا أولاد أم الميت، وكانت الأم هي الحامل، فللابنَيْن الثلث، ثم لا مزيد في الفرض، وإن زادوا، فإذا كان الأمر كذلك، فالذي ذهب إليه الأصحاب أجمعون أنا نقف للحمل ثلثَ المال إن لم يكن عوْلٌ،

_ (1) بين أيدينا: أي سيأتي. (1) (ت 3): يحكم.

ونصرف الباقي إلى الورثة؛ فإنا نستيقن استحقاقهم الثلثين. وإنما تردُّدنا في الثلث، وقد وقفنا محل التردد. 6533 - وحكى الصيدلاني عن القفال أنه كان يقف جميع التركة إلى انفصال الجنين، ويذهب في ذلك مذهباً بِدعاً، ويقول: إذا سلطنا الورثةَ على أعيانٍ من التركة، ووقفنا للحمل ما وقفناه، فقد تعرض آفة في هذا الموقوف، ولو وقعت، لكان حق الحمل ثابتاً في المصروف إلى الورثة، فلا وجه لتسليطهم على شيءٍ من التركة، ونحن نجوّز من طريق الإمكان استرداده منهم، والوالي وإن كان يلي الطفل، فإنه لا يلي الحمل، حتى يحمل ما ذكرناه من إقرار مقدار الوقف على القسمة، بدليل أن الوالي لا يتصرف في الموقوف للحمل، فلا معنى لتسليطهم على التصرف من غير انفصال الجنين، هذا وللحمل أمد معلوم لا يفرض تعديه ومجاوزته. وهذا الذي ذكره القفال مأخوذ عليه؛ فإن الوالي إن التُمِس منه تسليط الوارثين على القدر المستيقن، فلا وجه للتوقف في ذلك، مع استيقان الاستحقاق. وللإمام أن يقسم مالاً مشتركاً بين حُضَّر وغُيَّبٍ. وإن كان لا يلي أموال الغُيّب ولايته أموال الأطفال الذين لا أبا لهم، ولا أجداد. نحم، ما ذكره من التوقف يليق بالحمل، على أن عدد الأجنة لا ضبط فيه. فإذا كان الأولاد لو انفصلوا عصباتٍ لو كانوا ذكوراً، أو بعضهم، فالوجه ألا يصرف إلى من يشاركهم شيئاً إذا كان عصبة مثلهم، وكان في درجتهم، وأما بناء الوقف على ما حكاه الصيدلاني عن القفال، فضعيفٌ لا أصل له، ولست أعده من المذهب. 6534 - فإذا تمهدت الأصول، فالذي أراه ملتحقاً بها؛ وهو دائر في الخَلَد أن التوقف لأجل الحمل على الحد الذي ارتضيناه مذهباً، يثبت إذا بدت مخايل الحمل.

وإن لم تبد مخايله، ولم تدّعه المرأة، وكان من الممكن أن يظهر حمل لأجل قرب عهدها بالوطء الذي يتوقع منه العلوق، فهذا فيه تردد عندي. وكذلك إذا ادعت المرأة العلوق، ولا علامة، وقد يظهر التعويل على قولها: إنها قد تجد من نفسها علامات تختص هي بدركها، وقد يجوز أن يقال: لا تعويل على تلك العلامات، فإنها فيما يقال: غثيانٌ، وسدد، وخُبْث نفس، ولا تعويل على مثل هذا، وليس معنا في ذلك نقل نعزيه (1) إلى المذهب. 6535 - فإذا ثبتت هذه المقدمات، خضنا بعدها في تفصيل طلب اليقين، وطريقُه ضرب (2) 1لأمثلة، وتخريج الأجو بة منها، فنقول. إذا أردنا أن نعزل للحمل شيئاً، نظرنا، فإن كان نصيب الذكور أكثر من نصيب الإناث، وقفنا نصيبَ الذكور. وإن كان نصيب الإناث أكثرَ من نصيب الذكور، وقفنا نصيبَ الإناث. فأما الموجودون الذين نقدرهم ورثة، فإن كان فيهم من لا يرث لو انفصل الجنين حياً، أو لا يرث إن كان الحمل ذكراً، فلا نصرف إليه شيئاً، ونوقف نصيبه إلى أن يتبين أمر الحمل، وإن كان فيهم من يرث كيف فرض الحمل، ولا يختلف مقدار ميراثه باختلاف صفات الحمل، فندفع إليه تمامَ نصيبه، وإن كان فيهم من يرث على جميع الأحوال، لكن يقل نصيبه على تقدير، ويكثر على تقدير، فنصرف إليه الأقل المستيقن، ونوقف الباقي. 6536 - مثاله: ميت خلف: ابناً وامرأةً حاملاً والتفريع على حمل أكثر العدد على أربعة، فللمرأة الثمن، وللابن خمس الباقي، على القياس الذي ذكرناه للشافعي، وهو مذهب أبي حنيفة، فنقدر كأن الأجنة أربعةُ ذكور.

_ (1) نعزيه، بالياء، وفعلها (عزى) بالياء، وبالواو أيضاً. (2) في النسختين: " وضرب " وحذف الواو تصرف من المحقق.

وعلى قول الليث: ندفع إلى المرأة الثمن، وللابن نصف الباقي، ويؤخذ منه ضمين. وفي قول أبي يوسف: للمرأة الثمن، وللابن ثلث ما بقي، ويؤخذ منه ضمين، وفي قياس قول محمد: للمرأة الثمن، وللابن ربع ما بقي، والباقي موقوف. امرأة ماتت، وتركت زوجاً، وعماً، وأماً حاملاً من أبيها. فندفع إلى الزوج ثلاثة أثمان المال، وهو النصف عائلاً، وإلى الأم الثمن، وهو السدس العائل، ونوقف الباقي، لجواز أن تلد بنتين، هما أختا المتوفاة من [الأب والأم] (1)، فتعول المسألة. وإن كانت الأم حاملاً من غير الأب، فللزوج النصف، وللأم السدس، ونوقف ثلث المال لانتظار أولاد الأم؛ فإن ولدت ولدين أو أكثر، فلهم الموقوف، وإن ولدت واحداً، فله السدس، ونرد السدس على الأم، ليكمل لها ثلث المال. وإن أسقطته ميِّتاً، رُدَّ السدس على الأم، وكمُل ثلثُها، ودفع السدس الآخر إلى العم. وعلى قول من لا يقدر إلا ولداً واحداً يدفع إلى الأم الثلث كاملاً، ويؤخذ منها ضمين بالسدس، ونوقف سدس المال إلى أن نتبين أمرَ الحمل. ومن وقف للحمل نصيب ولدين أو ثلاثة، فمذهبه مثل المذهب الذي نسبناه إلى الشافعي. خلّف الميت بنتاً، وبنت ابن، وأخاً، وأمةً حاملاً منه، وكانت امرأة لابن الميت حاملاً من الابن فالبنت تعطى تسع المال، ويوقف الباقي لجواز أن تأتي الأمة الحامل بأربعة

_ (1) في الأصل: من الأب، (ت 3): من الأم. والصواب ما أثبتناه.

بنين، وهذا تفريعٌ، على أنا لا نقدّر أكثر من أربعة. فإن ولدت إحدى الحاملين ابناً والأخرى بنتاً في ليلةٍ، فأشكل، ولم يعلم أيهما ولدت الابن، كمّلنا للبنت ثلث المال، ودفعنا إلى الابن تسعي المال (1)، وكان الباقي موقوفاً حتى يصطلح عليه المولود وبنت الابن، ولا حاجة إلى تخريج وجه الاحتمال. وقد انتهينا إلى هذا الموضع. فإن مات الذكر، ثم ماتت الأنثى قبل أن يصطلحوا، أعطينا البنت تمام سبعة وعشرين سهماً من أربعة وخمسين، وذلك نصف المال، وأعطينا الأخ خمسة أسهم، وأعطينا أم الولد ستة أسهم، وكان الباقي موقوفاً، وهو ستة عشر سهما، حتى يصطلحوا عليه، فالبنت تدّعي منه تسعة أسهم: تمامَ الثلثين (2)، وأمُّ الولد تدعي منها ستة أسهم، والأخ يدعي سهماً واحداً، وبنت الابن تدعي اثني عشر سهماً، وامرأة الابن تدعي أربعة أسهم. وإن كانت الأنثى هي التي ماتت أولاً، ثم مات الذكر بعدها، قبل أن

_ (1) المراد طبعاً الابن المولود، الذي لم يُدْر أيتهما ولدته، ووجه إكمال الثلث للبنت الصلبية لأنه لا يتغير الحكم بكون الابن من الجارية أو من زوجة الابن، فإذا كان من الجارية، فهو ابن صُلبي للميت، فالمال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، فحظها الثلث، وإن كان الابن المولود من زوجة الابن، فتكون البنت من الجارية، أي بنت صلبية، فلها معها الثلث أيضاً. أما وجه تُسْعَي المال للابن، فهو على تقدير أنه من زوجة الابن -فهذا هو الأقل المستيقن بالنسبة له- فيرث الثلث الباقي بعد الصلبيتين تعصيباً مع بنت البنت، فيحصل له ثلثا الثلث، وهو تُسْعا المال. (2) الأسهم التسعة التي تدَّعيها البنت هي نصف ميراثها بصفتها أختاً للابن الذي مات، واتفق أنها مع نصيبها الـ 27 سهماً تكمل الثلثين، فلا يسبق الوهم إلى أنها تطلب تكملة نصيبها إلى الثلثين، كما توهم العبارة ذلك؛ فإن البنت لا ترث الثلثين بحال من الأحوال.

يصطلحوا دفعنا إلى البنت أربعة وخمسين سهماً من مائة وثمانية أسهم، وهو النصف؛ وأعطينا أم الولد اثني عشر سهماً، وهو [التسع] (1)، وأعطينا الأخ خمسة أسهم، وكان الباقي موقوفاً، وهو سبعة وثلاثون سهماً، البنت تدعي منها ثمانية عشر سهماً، تمام الثلاثين، وأم الولد تدعي اثني عشر سهماً، وبنت الابن تدعي سبعة وعشرين سهماً، وامرأة الابن تدعي عشرة أسهم، والأخ يدّعي سبعة أسهم، والمبلغ موقوف حتى يصطلحوا. وسنذكر وجه الحساب في آخر الباب. عبد له ابن حر، وتحته امرأة حرة، فمات ابن العبد فإن أتت زوجة العبد بولد لأقلَّ من ستة أشهر من وقت موت ابن العبد ورث أخاه؛ إذ الأب رقيق لا يرث ولا يحجب. وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت موته، لم يرثه؛ لاحتمال أن تكون علقت من زوجها العبد بعد موت ابن العبد. فإن تصادق الورثة على أنها كانت حاملاً به يوم مات أخوه، أثبتنا الميراث بسبب التصادق. (2 وإذا كان الأمر كذلك، فالوجه أن يمسك العبد عن وطئها حتى يتأدى فرض التصادق 2)؛ فإنه إذا كان يطؤها فيظهر حمل الولد على علوق جديد، ويعسر التصادق. فإن قيل: أتوجبون الإمساك، وتحرّمون الوطءَ حتى لا يؤدي إلى اللبس، وإسقاطِ حقٍّ ثابت؟ قلنا: لسنا [نوجب] (3) هذا، ولا نحرم الوطء لأمرٍ موهومٍ؛ فإنها لو أتت بالولد لسبعة أشهر فصاعداً من غير وطء جديد، فالولد ينسب إلى الزوج، وليس يتضمن انفصالُ الولد بعد هذه المدة قطعاً بأن الولد

_ (1) في الأصل: السبع. وهو خطأ واضح. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 3). (3) في الأصل: نوجبها.

حصل العلوقُ به من بعدُ، فلا سبيل إلى تحريم الوطء على العبد، بسبب تعذر تصادقٍ من غيره. 6537 - ونحن نذكر الآن طريقَ الحساب في مسائل الحمل وبها يتبيّن مسلكُ الفتاوى. ومسائل الباب في قياس الشافعي على أن أكثر عدد الأجنة أربعة، وللحساب مقدمة لا بد من معرفتها، وهي أن الحمل إن كان واحداً، فله حالان: إما أن يكون ذكراً أو أنثى، وإن كان الحمل ابنين، فله أربعة أحوال إما أن يكونا ذكرين، أو أنثيين، أو الذي يخرج أولاً ذكراً، والثاني أنثى، أو على العكس من ذلك. وإن كان الحمل ثلاثة، فلهم ثمانية أحوال، وإن كانوا أربعة فلهم ستة عشر حالاً، على ما قدمناه في الخناثى. 6538 - فإذا طلب الورثةُ المعلومون ميراثهم، وكانوا بحيث يرثون مع الحمل لا محالة، وأردت أن تدفع إليهم نصيبهم المستيقن، فأخرج فريضة كلِّ حالٍ من أحوال الحمل، ثم انظر في تلك الفرائض، فما يتماثل منها، فاكتف بواحدةٍ، وما دخل منها في غيرها فاطرحها، وما وافق غيرَها، فخذ وَفْقَها، واترك العددين المتباينين على حالهما، ثم اضرب الحاصل من الأعداد بعضَها في بعض، فما بلغ فمنها تصح القسمة، ثم ادفع إلى الوارث المعلوم ما يصيبه في أضرّ الأحوال به، مضروباً في جميع ما يقابلها من مسائل الأحوال الأخرى وفي وفقها، ويكون الباقي موقوفاً إلى أن يظهر أمر الحمل؛ فإذا ظهر على بعض الأحوال، فارجع إلى مسألة تلك الحالة، فكُلّ من كان له في تلك الحالة شيء أخذه، مضروباً فيما يقابلها من مسائل الأحوال الأخرى وفي وَفْقِها. فإن كان قد استوفى نصيبه، فهو المراد، وإلا فأعطه ما بقي له إلى تمام نصيبه من الموقوف.

مثاله: رجل مات عن أخ، وأمةٍ حامل فلا ندفع إلى الأخ شيئاً، بل نقف المال لجواز أن يكون الحمل ذكراً، يحجب الأخ. فإن ترك ابناً، وأمة حاملاً منه قلنا: إن كان الحمل واحداً، فله حالان: تكون المسألة في إحداهما من اثنين، وفي الأخرى من ثلاثة. وإن كان اثنين فأربعة أحوال، تكون المسألة في حالين من خمسة، وفي حال من أربعة، وفي حالٍ من ثلاثة. وإن كان الحمل ثلاثة، فلهم ثمانية أحوال، ففي حال تكون المسألة من أربعة، وفي حالٍ من خمسة، وفي ثلاثة أحوالٍ من سبعة، وفي ثلاثة أحوال من ستة. وإن كان الحمل أربعة، فلهم ستةَ عشرَ حالاً: في واحدة منها تكون المسألة من خمسة، وفي واحدةٍ من ستة، وفي أربعة أحوال من تسعة، وفي أربعةٍ من سبعة، وفي ستة أحوال من ثمانية. فنطرح المتماثلات إلا واحدةً منها، فيحصل معنا، اثنان، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة، وثمانية، وتسعة، [فنطرح الاثنين والثلاثة والأربعة، لأنها داخلة في غيرها] (1)، وما بقي ضربنا (2) بعضها في بعض بعد أخذ الموافقة، على قياس أجزاء المخارج، فيبلغ ألفين وخمسمائة وعشرين، فمنها تصح القسمة على جميع أحوال المسألة.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) عبارة الأصل: ... وثمانية وتسعة، وهي متباينة، فضربنا بعضها في بعض.

فإذا أردت القسمة على قول من وقف للحمل نصيبَ أربعة أولاد، فقد علمنا أن أقل أحوال الابن الظاهر المعلوم أن يكون الحمل أربعة أولاد ذكور، فيكون له الخمس، فادفع إليه خمسَ مبلغ السهام، وهو خمسمائة وأربعة أسهم. ثم انظر بعد ذلك، فإن أسقطت الأمةُ سقطاً ميتاً، وخَلَت عن الحمل، أخذ الابن ما بقي، وإن وضعته على بعض تلك الأحوال، فارجع إلى تلك الفريضة، وانظر كم نصيب الابن الظاهر منها، فإن كان قد بقي له شيء إلى تمام حقه، فادفعه إليه. وعلى قول من يقف للحمل نصيبَ ثلاثة يُدفع إلى هذا الابن الظاهر ربعُ المال، ثم ننظر. وعلى قول من يقف نصيب ولدين ندفع إليه ثلث المال. وعلى قول من يقف نصيب ولد يدفع إليه نصف المال. وكيف ظهر الأمر، فالمسألة تصح من المبلغ الذي ذكرناه في جميع الأحوال. فإن خلف الرجل ابناً، وامرأة حرة هي حامل منه فإن كان الحمل واحداً، فله حالان: في إحداهما تصح المسألة من ستة عشر، وفي الأخرى من أربعة وعشرين. وإن كان الحمل ولدين فأربعة أحوال: في إحداها تصح المسألة من أربعة وعشرين، وفي حالة من اثنين وثلاثين، وفي حالين من أربعين. وإن كان الحمل ثلاثة أولاد، فثمانية أحوال: في واحدة تصح المسألة من اثنين وثلاثين، وفي واحدةٍ من أربعين، وفي ثلاثة أحوال من ثمانية، وفي ثلاثة من ثمانية وأربعين. [وإن كان الحمل أربعة، فلهم ستة عشر حالاً في واحدة منها تصح المسألة من

أربعين، وفي حالة من ثمانية وأربعين] (1) وفي أربعة أحوال من اثثين وسبعين وفي بعض أحوالها من أربعة وستين. فيكتفى من المتماثلات بواحدة، ونطرح ما دخل في غيرها، فيحصل معنا بعد ذلك، وبعد أخذ الموافقة فيما بقي خمسة، وثمانية، واثنان وسبعون، فنضرب فيبلغ ألفين وثمانمائة وثمانين، فمنها تصح المسألة على جميع أحوالها، ونعلم أن نصيب الزوجة لا يتغير، فلها ثمن المبلغ، وهو ثلثمائة وستون سهماً، وعلمنا أيضاً أن أقل أحوال الابن المعروف أن يكون الحمل أربعة أولاد ذكور، فله خمس ما بقي بعد الثمن، فندفع إليه خمس سبعة أثمان المبلغ، وهي خمسمائة وأربعون، ويكون الباقي موقوفاً إلى أن يبين أمرُ الحمل. وعلى هذا فقس مسائل الحمل. مسائل تعرف بمسائل الاستهلال: 6539 - ويقع فيها الإشكال من وجوهٍ نذكرها على الجملة، ونذكر عقدَ الباب، ثم نضرب المثال. فإذا ترك الميت حوامل يرثه حملُهن، فولدن في حال واحدة، واستهل بعضُهم، وأشكل عينه، ثم وُجِدوا بعد ذلك موتى، وقد يتكرر الاستهلال، فلا يُدرَى أكان من واحدٍ، أو من اثنين، وقد تلد بعضهن قبل بعض، ويسمع الاستهلال، فلا يُدرى مَن الأول، ومن المستهل، وقد تلد امرأةٌ ولدين، يستهلّ أحدهما، ونجدهما ميتين. والأصل في حساب مسائل الباب أن نصحح الفريضةَ على جميع وجوهها، ثم نجعل تلك المسائل عدداً واحداً، على الرسم الذي ذكرناه في حساب مسائل

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

الحمل الآن، ثم نجعل لكل واحد من الورثة المعلومين الأقلَّ المستيقن له، ونقف الباقي. هذا قول أكثر الفرضيين، والوقفُ إلى أن يصطلحوا أو تقوم بينةٌ إن أمكن. 6540 - وقال قوم يعرفون بأصحاب الدعاوى: يدفع إلى كل واحد منهم ما ينفرد بدعواه، وما اشتركوا في دعواه قُسّم بينهم على قدر دعاويهم. ْ6541 - وقال آخرون، يعرفون بأصحاب الأحوال: يدفع إلى كل واحد منهم من جميع ما يصيبه في جميع الأحوال بقدر حالٍ من تلك الأحوال. وسنوضح ذلك بالأمثلة. رجل مات عن ابنٍ، وامرأةٍ حامل، فولدت ابناً وبنتاً، واستهل أحدهما، ولم ندر من المستهل، وصادفناهما ميتين. ففريضة الابن لو كان هو المستهل تصح من ستة عشر: للمرأة سهمان، ولكل ابن سبعة. ثم مات الابن المستهل عن أم، وأخ فللأم الثلث، والباقي للأخ، وفي يده سبعة، وهي لا تصح على ثلاثة، ولا توافق، فنضرب ثلاثة في أصل الفريضة الأولى، فتبلغ ثمانية وأربعين للمرأة الثمن ستة، ولكل ابن أحدٌ وعشرون. مات أحدهما عن أم، وأخ فلأمه ثلث ما في يده، وهو سبعة، والباقي لأخيه، وهو أربعة عشر، فاجتمع للأم ثلاثة عشر، وللأخ خمسة وثلاثون، فنحفظ ذلك.

ثم نقول: إن كانت البنت هي التي استهلت، ففريضة الميت الأول -وهو الأب- تصح من أربعةٍ وعشرين: للمرأة الثمن: ثلاثة، وللابن أربعة عشر، وللبنت سبعة. وقد ماتت عن أم وأخ ومسألتها من ثلاثة، وفي يدها سبعة، وهي لا تصح على ثلاثة، ولا توافق، فنضرب مسألتها وهي ثلاثة في المسألة الأولى، وهي أربعة وعشرون، فتبلغ اثنين وسبعين، فمنها تصح المسألة الأولى والثانية للمرأة الثمن: تسعة، وللابن اثنان وأربعون، وللبنت أحد وعشرون. وقد ماتت عن أم، وأخ فللأم ثلث ما في يدها وهو سبعة، ولأخيها أربعة عشر فيجتمع للأم ستة عشر، وللأخ ستة وخمسون، والنصيبان يتفقان بالثمن، فيرد كلُّ واحدٍ منهما إلى ثمانية، ونقطع الفريضة في ثمنها، وهو تسعة: للأم منها سهمان وللأخ سبعة أسهم. فمسألة استهلال الابن تصح من ثمانية وأربعين. ومسألة استهلال البنت تصح من تسعة، وهما متفقان بالثلث، فنضرب ثلث أحدهما في جميع الآخر، فتبلغ مائة وأربعة وأربعين، فمنها تصح المسألة في جميع أحوالها على جميع المذاهب. 6542 - فأما على قول أهل الوقف، فإنا نقول: للأم في حال استهلال البنت اثنان وثلاثون سهماً من مائة وأربعة وأربعين، ولها في حال استهلال الابن تسعة وثلاثون سهماً، فندفع إليها اثنين وثلاثين سهماً؛ لأنه يقين، ونقف سبعة أسهم. فأما الابن، فله في حال استهلال الابن مائة وخمسة، وفي حال استهلال البنت مائة واثنا عشر، فندفع الأقلَّ إليه، ويكون الباقي موقوفاً، وهو سبعة بينه

وبين الأم حتى يصطلحا، أو تقوم البيّنة على المستهِلّ. 6543 - وأما على طريقة أصحاب الدعوى، فالأم لها اثنان وثلاثون سهماً بيقين، وللابن مائة وخمسة أسهم بيقين، والسبعة الباقية يدعيان فيه، فتقسم بينهما نصفين، لكل واحد منهما ثلاثة ونصف. فإن أردت أن يزول الكسر، فاضرب اثنين في أصل المسألة، واستأنف القسمة. 6544 - فأما على قول أصحاب الأحوال، فإنا نقول: كان للأم من مسألةٍ اثنان وثلاثون، ومن مسألة تسعة وثلاثون، فنجمع النصيبين، فيكون أحداً وسبعين، فلها نصف ذلك، وهو خمسة وثلاثون ونصف، وللابن من مسألةٍ مائةٌ واثنا عشر، ومن مسألة مائة وخمسة، فنجمع بينهما، فيكون مائتين وسبعة عشر، فله نصفها، وهو مائة وثمانية ونصف، أخذاً بإحدى الحالين. فإن أردت أن يزول الكسر، فاضرب ما صحت منه القسمة في اثنين، واستأنف القسمة. 6545 - فإن كانت هذه المرأة قد ولدت ولدين: ابناً، وبنتاً، واستهلاّ جميعاً، ثم ماتا، وشككنا في تعيين من مات أولاً منها. فمسألة الأب وهي الأولى تصح من أربعين للمرأة الثمن، خمسة، والباقي بين الابنين والبنت: لكل ابن أربعة عشر، وللبنت سبعة. فإن كان الابن هو الذي مات أولاً، فقد مات عن أمٍّ، وأخٍ، وأخت وتصح فريضته من ثمانية عشر: لأمه منها ثلاثة، ولأخيه عشرة ولأخته خمسة، وفي يده أربعةَ عشرَ، وهي لا تصح على ثمانيةَ عشرَ، ولكن توافقها بالنصف، فنضرب نصف فريضته، وهي تسعة في فريضة الأب وهي أربعون، فتبلغ ثلثمائة وستين: للمرأة منها الثمن خمسة وأربعون، ولكل ابن مائة وستة وعشرون، وللبنت ثلاثة وستون.

فمات أحد الابنين عن أم، وأخ، وأخت فلأمه سدس ما في يده، وهو أحدٌ وعشرون، ولأخيه سبعون، ولأخته خمسة وثلاثون، فيحصل في يد البنت من فريضتي أخيها وأبيها ثمانية [وتسعون] (1). فماتت عن أم، وأخ فيكون ما في يدها بينهما على ثلاثة، وليس لثمانية وتسعين ثلث، فنضرب ثلاثة في أصل فريضة الأب وهو ثلثمائة وستون، فيبلغ ألفاً وثمانين، فكل من كان في يده شيء من المسألة الأولى أخذه مضروباً في ثلاثة، وقد كان في يد الأم ستة وستون مضروبة في ثلاثة، فيكون لها مائة وثمانية وتسعون. وكان في يد الابن من جميع التركتين مائة وستة وتسعون. مضروبة في ثلاثة، فيصير معه خمسمائة وثمانية وثمانون، وكان في يد البنت ثمانية وتسعون، نضربها في ثلاثة، فيكون معها مائتان وأربعة وتسعون، فنقسم ذلك بين أمها وأخيها: لأمها من ذلك ثمانية وتسعون، ولأخيها مائة وستة وتسعون، فحصل في يد الأم من الفرائض الثلاث مائتان وستة وتسعون، وحصل للابن من الجميع سبعمائة وأربعة وثمانون، والنصيبان يتفقان بالثمن، فنردهما إلى ثمنهما، ونختصر الفريضة، ونقطعها من ثمنها، فنرجع بالفريضة إلى مائة وخمسة وثلاثين: للأم منها سبعة وثلاثون، وللابن ثمانية وتسعون فنحفظ ذلك، ثم نقول: إن كانت البنت هي التي ماتت بعد الأب، ثم مات بعدها الابن، فالفريضة أولاً تصح من أربعين: للمرأة خمسة، ولكل ابنٍ أربعةَ عشرَ، وللبنت سبعة. وقد ماتت عن:

_ (1) في النسختين: " وسبعون " وهو تصحيف واضح؛ إذ هو حاصل جمع ثلاثة وستين، وخمسة وثلاثين.

أم وأخوين وفريضتها تصح من اثني عشر سهماً، والسبعة التي في يدها لا تصح على اثني عشر، ولا توافقه، فنضرب اثني عشر في أربعين، فتبلغ أربعمائة وثمانين، فنقسم منها فريضة الأب، للمرأة الثمن: ستون سهماً، ولكل ابنٍ مائة وثمانية وستون سهماً، وللبنت أربعة وثمانون. وقد ماتت عن: أم وأخوين فلأمها سدس ما في يدها أربعة عشر. ولكل أخ خمسة وثلاثون، فحصل مع الأم من المسألتين أربعة وسبعون، وفي يد كل ابن مائتان وثلاثة، ثم مات أحدهما عن أم وأخ، وما في يده لا ينقسم على مسألته؛ فإنه لا ثلث لما في يده، فنضرب ثلاثة في فريضة الأب، وهي أربعمائة وثمانون، فتبلغ ألفاً وأربعمائة وأربعين، فنقسم منها مال الأب، فكل مَنْ كان في يده من المسألة الأولى شيء، أخذه مضروباً في ثلاثة، فيحصل في يد الأم من الفرائض الثلاث أربعمائة [وخمسة وعشرون] (1) والباقي في يد الابن وهو ألف وخمسةَ عشرَ، والنصيبان يتفقان بالأخماس، فيرجع نصيب الأم إلى خمسة وثمانين، ونصيب الابن إلى مائتين وثلاثة، وتصح فريضة الأب على هذه الحالة من مائتين وثمانية وثمانين. وقد كانت فريضته في الحالة الأولى تصح من مائة وخمسة وثلاثين، والفريضتان متفقتان بالأتساع، فنضرب تُسع أحدهما في جميع الآخر، فيبلغ أربعة آلاف وثلثمائة وعشرين، فمنها تصح المسألة على جميع أحوالها. فنقول على قول أهل الوقف: كان [للأم] (2) من المائة والخمسة والثلاثين سبعة وثلاثون سهماً مضروبة في تُسع الفريضة الأخرى، وهو اثنان وثلاثون،

_ (1) في الأصل: " وخمسة عشر ". وهو خطأ ظاهر. (2) في الأصل: الأب.

فلها ألف ومائة وأربعة وثمانون، فكان لها من مائتين وثمانية وثمانين خمسة [وثمانون] (1) سهماً مضروبة في تسع الفريضة الأولى، وذلك خمسة عشر، فتكون ألفاً ومائتين وخمسة وسبعين. فيدفع إليها أقل النصيبين، ويكون الفضل الذي بينهما موقوفاً، وهو أحدٌ وتسعون. ويعتبر أقل نصيبي الابن على هذا النسق، ونقف ما بينهما، وتخرّج المسألة على قول أهل الدعوى وأصحاب الأحوال على الترتيب المقدّم. 6546 - والغرض تمهيد الأصول وتبيين الطرق، والاعتمادُ بعدها على [الدُّرْبة] (2)، واعتياد العمل. وهذه المسألة وضعها الأستاذ أبو منصور، وسبب وضعه لها ما فيها من تكرار قطع المسألة وردّها إلى أجزاء التوافق بين الفرضين. وفي المسألة إشكال؛ فإن الولدين عمي موتُهما، فلم ندر من المتقدم. وأصلنا ألا نورث ميتاً من ميت، وقد قدَّر في ترتيب الأخوات (3) موتَ الابن، وورّثَ البنت منه، ثم قدَّر موتَ البنت، وورّث الابنَ منها، وهذا غير مستقيم، فلعله فرض تعيُّنَ موت أحدهما، ثم فرض الالتباس بعده، وفرّع على أن الأمر إذا كان كذلك، لم يكن هذا من ميراث الغرقى، ومن عمي موتُه. فهذا مما يجب التنبّه له، حتى إذا لم نر توريث أحدهما من الثاني، نقدر موت كل واحد منهما، ونورّث الأحياء منه. فأما أن نورث أحدهما من الثاني حيث التبس تاريخ الموت، فلا. 6547 - ثم ذكر الأصحاب في آخر باب الحمل صوراً من المعاياة ليست عرية

_ (1) في الأصل: " وسبعون " وهو خطأ واضح. (2) في الأصل: الورثة. (3) (ت 3): الأحوال.

عن فوائد وفيها تدرب (1) في استخراج المعضلات، ونحن نأتي منها بما نراه مفيداً. فلو قالت امرأة لورثةٍ: لا تعجلوا بالقسمة، فإني حامل؛ فإن ولدتُ ذكراً ورث، أو ذكراً وأنثى، ورثا. وإن ولدت أنثى لم ترث. فهذا رجل خلف بنتين، وامرأة ابنٍ حامل فللبنتين الثلثان. فإن كان الحمل أنثى، لم ترث، وإن كان الحمل ذكراً، فله الباقي، وإن كان ذكراً وأنثى، فالباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. 6548 - وكذا لو خلّف الميت أختين لأب وأمٍّ، وامرأةَ أبٍ حاملاً فالحمل هكذا. 6549 - فإن قالت: إن ولدت أنثى، ورثت، وإن ولدت ذكراً، أو ذكراً وأنثى، لم يرثا. فهذه امرأة خلَّفت زوجاً، وأبوين، وبنتاً فللزوج الربع ثلاثة من اثني عشر، وللبنت النصف ستة، وللأبوين السدسان أربعة والمسألة عائلة من اثني عشر إلى ثلاثة عشر. وهذه الحامل امرأة ابنها، فإن جاءت بأنثى، فرض لها السدس تكملة الثلثين، وتعول إلى خمسة عشر. وإن جاءت بذكر، أو ذكرٍ وأنثى فلا شيء لهما.

_ (1) (ت 3): ترتيب.

6550 - وقد تفرض هذه المسألة في امرأة خلّفت زوجاً، وأختاً لأبٍ وأمٍّ فالمال نصفان بينهما. ولا نظير لهذه المسألة، فتأتي امرأة الأب فتقول ما ذكرناه، والجواب كما مضى. 6551 - فإن قالت: لا تعجلوا؛ فإني حامل إن ولدت ذكراً، ورث، وإن ولدت أنثى لم ترث، وإن ولدت ذكراً وأنثى، ورث الذكر دون الأنثى. فهذا رجل خلف عماً أو ابن عم والقائلة امرأة أخ الميت، فابن الأخ يرث، ولا شيء لبنت الأخ بحال. وقد تقول في هذه المسألة: إن ولدت ذكراً ورث، ولم ترث يا عمُّ (1). وهو كذلك. 6552 - فإن قالت: إن ولدت ذكراً، لم يرث، وإن ولدت أنثى، لم ترث، وإن ولدت ذكراً وأنثى، ورثا. فهذا رجل خلف جداً، وجدة، وأختاً لأب وأم، والحامل امرأة الأب فإن جاءت بابنٍ، فللجدة السدس، والباقي وهو خمسة بين الجد والأخ والأخت، وهي من مسائل المعادّة. ولا يخفى تخريجها على من أحكم ما قدمناه. 6553 - فإن قالت: إن ولدت أنثى، لم ترث، ولا أنا. وإن ولدت ذكراً. ورث، وورثتُ.

_ (1) هكذا تخاطب امرأةُ الأخ العمَّ.

وإن ولدت ذكراً وأنثى ورث وورثتُ. فهذا رجل خلف ابنتين، وبنت ابن ابن ابن حاملاً من ابن ابن ابن آخر فيكون ولدها في درجتها، أو من ابن ابن ابن ابن آخر ليكون ولدها أسفلَ منها. فإن كان ولدها ذكراً، أو ذكراً وأنثى عصبها الذكر، وكان باقي المال بينهما. والتنبيه كافٍ في هذه الأجناس. 6554 - وإن قالت: إن ولدت ذكراً، لم يرث ولم أرث، وكذا إن ولدت ذكراً وأنثى، وإن ولدت أنثى ورثتْ وورثتُ. فهذه امرأة خلفت زوجاً، وبنتاً، وأبوين، كما ذكرنا، والحامل بنت ابن ابن ابن كانت حاملاً من ابن ابن ابن آخر. فإن ولدت ذكراً فهو عصبة ولا شيء له، ولا لمن في درجته. وإن ولدت ذكراً وأنثى فكذلك. وإن ولدت أنثى، فهما ابنتان (1) يفرض لهما السدس. وتعول الفريضة إلى خمسةَ عشرَ. 6555 - وإن قالت: إن ولدت ذكراً، ورث دوني، وإن ولدت أنثى ورثتُ دونها، فصورتها أن تُعتق امرأةٌ عبداً، ثم تزوج بها أخُ المعتَق أو عمه، وتحمل

_ (1) واضحٌ أنهما ابنتان مجازاً، فهما في الواقع ابنتا ابن ابن ابن في درجة واحدة.

منه، ثم يموت المعتَق بعد ما مات زوج المعتِقة، فإن جاءت بذكر، فالمال له، لأنه ابن أخ المعتَق أو ابن عمه. فإن جاءت بأنثى، فلاشيء لها (1). ...

_ (1) أي لا شيء للحمل إذا كان أنثى، فهو بنت أخ، أو بنت عم، وحينئذٍ ترث الحامل المعتقة بالولاء.

باب في قسمة التركات

باب في قسمة التركات 6556 - هذا الباب خاتمة الحساب، بل نجاز الكتاب، ولا يقع بعده إلا فنونٌ لا يضرُّ تركها، ونحن نأتي بعيونها، إن شاء الله تعالى. ومضمون هذا الباب قسمة التركة إذا كانت التركة مقدرةً بكيلٍ أو وزنٍ. وإن لم تكن التركة كذلك، فما نحاوله في الباب يجري في تقدير قسمة (1) التركة. وهذا الباب كثير الفائدة، ولو قلنا: هو ثمرة الحساب في الفرائض ونتيجتُها، لم يكن ذلك بعيداً؛ فإن المفتي يُبلى بصور الوقائع. فإذا أخذ يصحح الفرائض من آلافٍ، والتركةُ مقدارٌ نَزرٌ، لم يكن كلامه مفيداً. ونحن نذكر صورتين في قَسْم التركات: إحداهما فيه إذا لم يكن في التركة وهي من المقدَّرات كسرٌ. والأخرى - أن يكون في المقدَّر المخلَّف كسرٌ. 6557 - فإن لم يكن فيه كسر، فالوجه أن نقسمَ سهام الفريضة أولاً، ونعرف العددَ الذي تصح منه المسألة، كما تمهد ذلك فيما سبق. ثم ننظر إلى التركة، ونأخذ سهام كل واحد من الورثة من جملة العدد الذي تصح منه المسألة، ونضربها في التركة، فما بلغ قسمناه على العدد الذي تصح

_ (1) (ت 3): قيمة.

منه المسألة، فما خرج، فهو نصيب ذلك الوارث. ولا فرق بين أن يكون في المسألة عولٌ، وبين ألا يكون فيها عول. مثال ذلك: أربع زوجات، وثلاث جدات، وست أخوات لأبٍ والتركة خمسة وستون ديناراً. وأصل المسألة من اثني عشر وتعول إلى ثلاثة عشرَ، وتصح من مائة وستة وخمسين. فنقول: حصة كل زوجة من العدد الذي صحت المسألة منه تسعة، فاضرب تسعة في التركة، وهي خمسة وستون، فبلغ خمسمائة وخمسة وثمانين، فنقسمها على الأصل الذي تصح المسألة منه وهو مائة وستة وخمسون، فنخرج ثلاثة دنانير وثلاثة أرباع دينار، [فهو نصيب كل واحدة من الزوجات من جملة هذه التركة] (1). وكان نصيب كل جدة من الأصل ثمانية، فاضربها في التركة، فما بلغ فاقسمه على الأصل، فيخرج لكل واحدة منهن ثلاثة دنانير وثلث، فهو نصيب كل جدة. وكان لكل أخت من الأصل ستة عشر، فاضربها في التركة، واقسم ما بلغ على الأصل، فيخرج لكل واحدة منهن ستة دنانير، وثلثان. وهذه الطريقة كافية في الباب. 6558 - هذا إذا لم يكن في التركة كسر، فإن كان فيها كسر، فنبسطها حتى تصير من جنس كسرها، وذلك بأن تضرب الصحيح في مخرج كسره، وتزيد عليه مثل كسره، فما بلغ فكأنه هو التركة صحاحاً، فنقسمه كما بيناه فيما تقدم،

_ (1) عبارة الأصل: وهو الخارج بالضرب من جملة هذه التركة.

فما خرج لكل واحد منهم من القسمة والضرب نقسمه على مخرج ذلك الكسر الذي جعلنا التركة (1) من جنسه، فما خرج فهو نصيبه. مثاله: في الصورة التي ذكرناها كان التركة خمسة وستين ديناراً وثلث، فابسطها أثلاثاً تكون مائة وستة وتسعين، فكأن التركة مائة وستة وتسعون ديناراً، فاقسمها بين أربع زوجات، وثلاث جدات، وست أخوات. فأخرج لكل واحدة من الورثة من العدد المبسوط، فاقسمه على ثلاثة، فما خرج [نصيباً للواحد، فهو] (2) نصيب الواحد من الجنس الذي تريده. وهذا تمام الفرض. 6559 - ولم يبق علينا بعد ذلك إلا ثلاثة أبواب: باب نجمع فيه المذاهب الغريبة في الفرائض عن الأئمة، وباب نذكر فيه المسائل الملقبات، وباب نذكر فيه وجوهاً من المعاياة وينتجز الكتاب بنجاز هذه الأبواب. ...

_ (1) (ت 3): الصحيح. (2) ساقط من الأصل.

باب في الأقاويل الشاذة

باب في الأقاويل الشاذة 6560 - قال العلماء: كل قول شاذ عن إمام، ففي نقله خلل، ونحن نذكر جملاً من الأقاويل الشاذة، وننبه على الخلل في النقل، ونحن نذكر إماماً إماماً من الصحابة رضي الله عنهم، وما يعزى إليه من المذاهب الغريبة. 6561 - أما عليُّ بنُ أبي طالب فمما نقل عنه أنه كان لا يحجب بني الإخوة بالجد وينزلهم منزلة الإخوة. وهذا رواه إسماعيلُ بن أبي خالد عن الشعبي، عن علي. وفي إسماعيل كلام. والرواية المشهورة عن علي وابن مسعود أنهما كانا لا يورثان بني الإخوة مع الجد، وهذا هو الذي رواه أبو بكر بنُ عياش عن المغيرة، والأعمش عن إبراهيم. ومن الغرائب ما روي أنه قاسم الجد بالإخوة إلى سبعة وإلى ثمانية فصاعداً، والصحيح أنه يقاسمه إياهم إلى خمسة، فإن زادوا، ردّه إلى السدس. ومنها ما روي أنه جعل الفاضل عن فرض البنت بين الجد والأخت نصفين، كقول ابن مسعود. والمشهور عنه أن للبنت النصف وللجد السدس، والباقي للأخت. ومنها أنه كان يورث الزوجَ جميعَ المال: فرضاً ورداً، وهذا غريب جداً، وهو فيما يقال عن عثمان رضي الله عنه، وقيل: إنما فعله عثمان في زوج كان ابن عم.

ومنها ما روي أنه لم يجعل الديةَ من التركة التي يشترك فيها ورثة القتيل، وإنما جعلها لعصبة الميت فقط، قيل: رواه الحسن (1) عنه، وهو اختيار [الحسن] (2). والصحيح عن علي ما رواه عمرو بنُ دينار عن محمد بن علي أن عليّاً قال: " لقد ظلم من لم يورِّث الإخوة من الأم من الدية ". ومنها ما روي أنه ورث المجوسي بنكاح ذوي الأرحام (3)، وهذا حمله العلماء على إعراضه عنه. ومنها ما روي عنه أن المسلم يرث معتقه الكافر، وهذا غريب، لا أصل له. ومنها ما روي أنه قال: إذا كان في التركة عبدٌ هو قريب للمتوفى، وكان يرثه لو كان حرّاً، قال: يشترى من التركة، فيعتَق، وتحسب قيمته من نصيبه، ثم يرث باقي النصيب. 6562 - وأما ابن عباس، فقد رويت عنه روايات شاذة، منها: أنه جعل للبنتين النصف. ومنها: أنه قسم الثلث بين ولد الأم للذكر مثل حظ الأنثيين. وأنه جعل للإخوة من الأبوين السدس الذي حجبوا الأم عنه. ولعله خصصهم به ثم يورثهم على قياس التوريث في الباقي. ومنها: أنه قال: في أبوين وأخوين من أم: هي من تسعة: للأم ثلاثة، وللأب أربعة، ولكل أخ سهم.

_ (1) الحسن: المراد به الحسن البصري. (2) في الأصل: الحسين. (3) (ت 3): القرابات.

ومنها: أنه قال في زوج، وأبوين، وبنت، وبنت ابن: للزوج الربع، وللأبوين السدسان، والباقي بين البنت وبنت الابن على أربعة أسهم. والصحيح عنه أنه قال: إن الباقي للبنت خاصة. وروي عنه أن الكلالة من لا ولد له، ولا والد. وروي عنه أنه قال في الجدة من قبل الأم: إنها ترث كما ترث الأم. 6563 - وأما ابن مسعود فمما روي عنه شاذاً أنه ورّث [أم الأب] (1) مع وجود الأب. وروي أنه قسم الفاضل من البنت بين الأخت والجد نصفين. وهذا ليس على حد الشذوذ. والغريب عنه أنه جعل الفاضل عن الجد بين البنت والأخت نصفين. 6564 - وأما عمر، فقد روي عنه أنه ورث المولى من أسفل. وروي عنه في توريث من أسلم على يد إنسان. 6565 - وعن زيد بن ثابت أن العبد إذا أعتق، لم يجرّ ولاء أولاده (2) ومن بعدهم. (3 ومدار الرواية على جابر الجعفي. هذا ذكر جُملٍ من غرائب مذاهب الصحابة رضي الله عنهم. وأما مذاهب التابعين ومن بعدهم، فلسنا لها 3). ...

_ (1) في الأصل: أم أب الأم. (2) (ت 3): الأولاد. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 3).

باب المسائل الملقبة

باب المسائل الملقبة 6566 - وهي منقسمة، فمنها ما اختص بلقب واحد، ومنها ما اجتمع له ألقاب. 6567 - فمنها المنبرية، وصورتها: زوجة، وأبوان، وبنتان سئل عنها علي وهو على المنبر، فقال على الفور: صار ثمنها تسعاً. 6568 - ومنها الملقبة بالغراء، وبالمروانية، وصورتها: زوج، وست أخوات مفترقات وقعت في زمن مروان وسميت غراء، لاشتهارها. 6569 - ومنها أم الفروخ، وهي زوج، وأم، وأختان لأم، وأختان لأبٍ وأمٍ وسميت أم الفروخ. لكثرة عولها؛ فإنها عائلة بثلثيها من ستة إلى عشرة. 6570 - ومنها: أم الأرامل، وهي ثلاث زوجات، وجدتان، وأربع أخوات لأم، وثمان أخوات لأب سميت بذلك لأن جميع الورثة إناث لا ذكر فيهن. 6571 - ومنها الدينارية، وصورتها أن يقال: رجل مات وخلف ورثة ذكوراً

وإناثاً، وترك ستمائة دينار، فأصاب أحد ورثته ديناراً واحداً. وذلك مثل أن يخلّف. زوجة وجدة، وبنتين، واثنا عشر أخاً، وأختاً واحدة أصلها من أربعة وعشرين، وينتهي التصحيح إلى ستمائة، للأخت منها سهم واحد. 6572 - ومنها مسألة الامتحان، وهي أن يقال: رجل مات، وخلف ورثة عدد كل جنس منهم دون العشرة، لم تصح المسألة إلا من ثلاثين ألفاً فصاعداً. ولا يكون ذلك إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون قد خلف أربع زوجات، وخمس جدات، وسبع بنات، وتسعة إخوة لأب أصلها من أربعة وعشرين. سهام كل صنف لا تصح ولا توافق، فنضرب بعضَ الكسور في البعض، ثم نضرب المبلغ في أصل المسألة، فيكون ثلاثين ألفاً ومائتين وأربعين. 6573 - ومنها الأكدرية وهي زوج، وأم، وأخت، وجد والمذاهب فيها مشهورة. 6574 - ومنها المعادّة وصورتها بينة. 6575 - ومنها مختصرة زيد: أم، وجد، وأخت لأبٍ وأمٍ، وأخ، وأخت لأبٍ والأقوال فيها معروفة. وسميت مختصرة زيد، لأنها تعمل على البسط والاختصار، فأما البسط، فوجهه أن نقول: أصلها من ستة: للأم السدس سهم، والباقي وهو خمسة بين الأخ والأختين والجد على ستة.

وتصح من ستة وثلاثين، ويردّ فيها الأخ والأخت من الأب على الأخت من الأب والأم تمامَ النصف، يبقى معها سهمان بينهما على ثلاثة فنضرب ثلاثة في ستة وثلاثين فتبلغ مائة وثمانية. وأما بالاختصار فنقول: للأم السدس، وللجد ثلث ما بقي، وللأخت تمام النصف، والمسألة من ثمانية عشر، فيبقى سهم بين الأخ والأخت من الأب على ثلاثة فنضرب ثلاثة في ثمانية عشر فتبلغ أربعة وخمسين. 6576 - ومنها تسعينية زيد، وهي أم، وجد، وأخت لأبٍ وأم، وأخوان وأخت لأبٍ سميت تسعينية، لأنها تصح من تسعين. 6577 - ومنها الصماء وهي كل مسألة وقع الكسر فيها على جميع أصناف الورثة من غير موافقة. 6578 - ومنها المشتركة وهي معروفة. 6579 - ومربعات ابن مسعود معروفة. 6580 - ومسائل العول تسمى مسائل المباهلة. وقد أكثر الفرضيون في التلقيبات، ولا نهايةَ لها، ولا حسم لأبوابها (1).

_ (1) في نهاية نسخة الأصل بعد هذا ما صورته: " باب " " في المعاياة، ومسائل الامتحان، والأغلوطات. وصلى الله على محمد وآله أجمعين " " لم يكن في النسخة مكتوباً، فترك البياض " " يتلوه كتاب الوصايا " =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وفي خاتمة نسخة (ت 3) ما صورته: " باب في المعاياة ومسائل الامتحان، والأغلوطات " " هذا الباب بيض الناسخون موضعه، ولعل المصنف أخر جمعه، ثم لم يتيسر إتمامه، والله أعلم ". ا. هـ بنصه. وبعد هذا ترك باقي الصفحة بياضاً، ثم كتب في ذيلها: "آخر الجزء السابع من نهاية المطلب في دراية المذهب. يتلوه في الذييليه إن شاء الله كتاب الوصايا. والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد نبينا وآله وصحبه وسلم تسليماً. ... قلت: والمرجح أن الإمام رضي الله عنه لم (يجمع) هذا الباب الذي بيض له الناسخون، ولم يكتبوه. يشهد لذلك أمران: ا- أنه قال في أول باب قسمة التركات الذي مضى قريباً: " ولا يقع بعد هذا الباب إلا فنون، لا يضر تركها، ونحن نأتي بعيونها ". 2 - أنه ذكر مسائل من المعاياة في آخر باب الحمل، فلعله اكتفى بهذا. والذي نجزم به صواباً- إن شاء الله- أنه ليس في هذا الموضع خرمٌ ولا سقط. والله أعلم.

شكل رقم (1) - شكل يبين ذوي الأرحام كما ذكرهم الإمام. - القريب داخل المستطيل يعتبر ميتاً، وبدون مستطيل هم ذوو الأرحام. - الرقم داخل الدائرة يبين الترتيب الذي ذكره الإمام لهم. - يسهل عليك إذا تأملت الرسم كيف تمد الخطوط لترى أولاد الأخوال والخالات وأعمام أب الميت وعماته، وأخواله وخالاته، وكذا أعمام الأم وعماتها، وأخوالها وخالاتها. (قابل ص 20، ص 198، ص 211)

شكل رقم (2) وقابل (ص 74) شكل يبين تعدد الأجداد والجدات وتحاذيهن ومن يرث ومن لا يرث يلاحظ أن الطبقة الأولى يرث فيها جدتان صحيحتان: واحدة من جهة الأب والأخرى من جهة الأم. وفي الطبقة الثانية يرث ثلاث جدات. وفي الطبقة الثالثة يرث أربع جدات. وفي الطبقة الرابعة يرث خمس جدات. وهذا كلما علون درجة زدن واحدة. ودائمًا الزيادة من جهة الأب. أما الأجداد فالوارث واحد دائمًا.

شكل (3) بالنظر إلى الرسم يظهر كيف تتعدد الجدات وتتحاذى. (قابل ص 77)

شكل (4) يبين تعدد القرابة للجدة الواحدة. وفيه نرى: - (سعاد) جدة ذات قرابتين؛ فهي أم أم الأم، وفي نفس الوقت أم أب الأب. - (سعيدة) جدة ذات قرابة واحدة؛ فهي أم أم الأب. - (آمنة) جدة ذات قرابة من ثلاث جهات؛ فهي أم أم أم الأم، وفي نفس الوقت أم أم أب الأب، وفي نفس الوقت أم أم أم الأب. (قابل ص 79)

شكل رقم (5) يبين الصحيح والفاسد من الأجداد والجدات، وكيف تتعدد القرابات - تميز الدائرة الصحيح من الأجداد والجدات. - في الطبقة الثالثة يوسف جد ذو قرابتين يرث بإحداهما. وحسن وسليمان كل منهما ذو قرابتين لا يرث بواحدة منهما. - في الطبقة الرابعة عبد الله جد ذو قرابات ثلاث لا يرث بواحدة منهما. ومريم جدة ذات قرابات ثلاث ترث بواحدة منها فقط. (قابل ص 94)

ومعظم العمايات في مسائل الفقه من ترك الأولين تفصيل أمور كانت بينة عندهم. ونحن نحرص جهدنا في التفصيل، ولا نبالي بتبرم الناظر. الإمام في نهاية المطلب

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا (1) 6581 - كانت الوصية واجبةً بجميع المال للأقربين في ابتداء الإسلام، ثم نسخ وجوبها بآية المواريث، وبقي جواز الوصية لمن لا يرث. والأصل في ذلك حديث سعد بن أبي وقاص، وهو ما روي أنه مرض بمكة، وثقل مرضه، فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عائداً، فقال سعد: " وأُخلّف هاهنا يا رسول الله، إني أموت، فيبطل ثواب هجرتي "، وكان المهاجرون يتحرزون من الإقامة بمكة، ولا يؤثرون الموت بها، ولا يُلفى بالحرم قبرُ صحابي، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنك ستعيش حتى ينتفع بك أقوام، ويتضرر بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولة ". قال سعدُ بنُ أبي وقاص: " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرثيه، ويرق له: أن مات بمكة "، قال سعد: يا رسول الله، لا يرثني إلا بنت، وهي مني بخير، أفأوصي بجميع مالي، فقال: " لا ". فقال: أفأوصي بثلثي مالي، فقال: " لا ". فقال: أو أوصي بشطر مالي، فقال: " لا ". فقال: أو أوصي بثلث مالي، فقال صلى الله عليه وسلم: " الثلثُ. والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتكَ أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس " (2). فمحل الوصايا في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله أعطاكم في آخر أعماركم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم " (3).

_ (1) يبدأ العمل من هنا بالاعتماد على نسخة وحيدة، وهي على جودتها كثر فيها تصحيف الأعداد الحسابية، وبخاصة بين (سبع) و (تسع). (2) حديث سعد بن أبي وقاص، متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان: 399 ح 1053. (3) حديث: " إن الله أعطاكم في آخر أعماركم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم " رواه الدارقطني =

وحديث عمران بن حصين معروف في الأنصاري الذي أعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم (1). 6582 - ثم قال علماؤنا: المستحب أن ينقص الموصي من الثلث قليلاً؛ فإنه صلى الله عليه وسلم استكثر الثلث، حيث قال: " والثلث كثير ". وعن علي: " لأن أوصي بخُمس مالي أحب إليّ من أن أوصي بربع مالي، ولأن أوصي بربع مالي أحب إليّ من أوصي بثلث مالي " (2). ومن أوصى بثلث ماله لم يترك شيئاً. فالوصية إذاً ثبت جوازُها، وبان محلُّها. 6583 - وعن عطاء أنه قال: " وجوب الوصية باقٍ في الثلث، ثم الواجب عنده أن يوصي بثلث الثلث للأجانب، وبثلثي الثلث للأقارب الذين لا يرثونه، ولو أوصى بجميع الثلث للأجانب، لم ينفذ في أكثر من ثلث الثلث " (3). واحتج الشافعي عليه بحديث عمران بن حصين في عتق العبيد، [فإن] (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم نفَّذ العتق في الثلث منهم. ووجه الدليل بيّن.

_ = عن معاذ، وأحمد عن أبي الدرداء، وابن ماجة والبزار عن أبي هريرة، وعنه البيهقي أيضاً. وقال الحافظ: طرقه كلها ضعيفة ولكن يقوي بعضها بعضاً. وعند الألباني أنه ارتقى إلى الحسن بمجموع طرقه. (ر. مسند أحمد: 6/ 440، ابن ماجة: الوصايا، الوصية بالثلث، ح 2709، الدارقطني: 4/ 150، البيهقي: 6/ 269، وانظر إرواء الغليل: 6/ 77، والتلخيص: 3/ 194ح 1415). (1) حديث عمران بن حصين رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي. (ر. مسلم: الأيمان، باب من أعتق شركاً له في عبد، ح 1668، وأبو داود: كتاب العتق، باب فيمن أعتق عبيداً له، ح 3960، والنسائي: الجنائز، باب الصلاة على من يحيف في وصيته، ح 1958، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 200 ح 1423) ومحل الشاهد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفذ العتق في الثلث أي في عبدين، وردّه في أربعة. (2) أثر علي رضي الله عنه (رواه البيهقي: 6/ 270، وانظر التلخيص: 3/ 205 ح 1439). (3) أثر عطاء، لم نقف عليه. (4) في الأصل: قال.

6584 - ثم إن الشافعي صدّر الكتاب بما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما حق امرىء مسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " (1)، وذكر للحديث تأويلين: أحدهما - أنه قال: يحتمل: من الحزم والاحتياط للمسلم ألا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه، قال: ويحتمل أنه أراد بهذا أمراً بالمعروف على طريق الأولى، وهذا قريب من الأول. ثم ظاهر الحديث قد يوهم أنه لو كتب كتاب الوصية يكتفى بكتابته، ويعوّل على كتابه، وليس الأمر كذلك عند عامة العلماء، فلا بد وأن يشهد شاهدين عدلين ولا يكفي أن يشهدهما على ما في الكتاب من غير أن يطلعا عليه. ومما شهر من هفوات بعض الأئمة، وهم من المنتمين إلى أصحابنا ما حكي أن الأمير نصرَ بنَ أحمد (2)، من أمراء خراسان، أراد أن يوصي بوصايا فيكتبها، فيُعمل بكتابه، فاستشار العلماء، فلم يفتوا له بذلك، فاستشار محمدَ بنَ نصر المروزي (3)، فأفتى له بالتعويل على كتابه إذا استوثق فيه، ووضعه على يد مأمون بمشهد أُمناء، واحتج بظاهر الحديث، فحظي عنده، وارتفع قدره. وأجمع علماء الزمان على تخطئته. ولا ينبغي أن يجيل الإنسان فكره في هذا الفصل؛ فإنه من أعظم أركان الشهادات وسيأتي القول فيه مستقصىً في موضعه، إن شاء الله تعالى. 6585 - ثم قال الأئمة: الوصايا على ثلاثة أقسام: وصية بعينٍ من الأعيان كالوصية بعبد، أو دابة، أو دار، أو نحوها. ووصية بجزء شائع مضافٍ إلى المال، كالوصية بالثلث أو الربع، ونحوهما.

_ (1) حديث: " ما حق امرىء مسلم ... " متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 399 ح 1052). (2) الأمير نصر بن أحمد بن أسد بن سامان، مؤسس الإمارة السامانية، أصله من خراسان، كان عاقلاً، ديّناً، أديباً، يقول الشعر، ت 279 هـ. (ر. الأعلام للزركلي: 8/ 21، واللباب: 1/ 523). (3) محمد بن نصر المروزي، من أصحاب الوجوه في المذهب، ت 294 هـ (سبقت ترجمته).

ووصية بمقدارٍ مقدر من غير ذكر جزئية منسوبة إلى المال، مثل الوصية بالألف، والألفين، ونحوهما. وهذا القسم يسمى الوصايا المرسلة. ثم يلتحق بكل قسم من هذه الأقسام ألفاظ مبهمة تؤول إلى مقصود القسم، وهذا بمثابة الوصية بمثل نصيب الابن؛ فإنها ترجع إلى الوصية بجزء، كما سيأتي بيان ذلك. 6586 - والوصايا في الأقسام الثلاثة متساوية في اعتبارها من الثلث، فإن زادت على الثلث، وللموصي ورثة متعينون مختصون، فردُّوا الزيادة على الثلث، ارتدت. وإن أجازوها، فقد اختلف قول الشافعي في الوصية بالزائد على الثلث؛ فقال في قولٍ: الوصية باطلة، لا سبيل إلى تنفيذها. فإن أرادوا (1) الورثة تحقيقَ قصد الموصي، احتاجوا إلى ابتداء هبة على شرطها، ولا يكون ما يبتدئونه محمولاً على الوصية، ولا مبنياً عليها، وسبيل الوارث فيه كسبيله لو ابتدأ هبةً من غير تقديم وصية. والقول الثاني - أن الوصية بالزائد على الثلث منعقدة على الصحة، ولكن لزومها ونفوذها موقوف على رضا الورثة، فإن أجازوها، نفذت، ولزمت. وإن ردوها، ارتدت بعد الانعقاد. وهذان القولان على هذا النظم ليسا منصوصين للشافعي، ولكنه أجرى القولين في الأحكام المتفرعة، فتحصل منها على القطع ترديد القول، على حسب ما ذكرناه. التوجيه: من قال بانعقاد الوصية، قال: إنه تصرف في ملكه، فيجب انعقاد تصرفه، غيرَ أن حق الغير متعلق به، فوقف النفوذ على رضاه. ومن قال بعدم انعقاد الوصية قال: تعلُّقُ حق الغير يمنع انعقادها، كما منع تصرُّفَ الراهن في المرهون. 6587 - التفريع على القولين: إن قلنا: إجازة الورثة تنفيذ وصية الموصي، فلا حاجة في الإلزام إلى إقباض الوارث؛ فإن ثبوت الملك في الوصية لا يستدعي القبض.

_ (1) كذا، وهي على اللغة المعروفة " أكلوني البراغيث ".

وإن كان الوصيةُ عتقاً، فالولاء للموروث في الجميع: ما يحتمله الثلث، وما يزيد. ويصح التنفيذ بلفظ الإجازة. 6588 - وإن قلنا: الإجازةُ ابتداء عطية، وليست تنفيذَ وصية، فلا بد من إقباضٍ، كما لا بد منه في الهبات؛ فإن ما يصدر من الوارث عين الهبة على هذا القول، وليس مشبهاً بها. وإذا أوصى بعتق عبدٍ لا مال له غيره، فأجاز الوارث، فالولاء في الثلثين للوارث، والولاء في الثلث للموروث؛ فإنا نجعل الوارث معتقاً للثلثين على الابتداء. وهل تتم العطية في الزائد على الثلث بلفظ الإجازة؟ فعلى وجهين على هذا القول: أحدهما - لا تصح العطية؛ فإنها مبتدأة حكماً، والإجازة تشعر بتنفيذ الوصية المتقدمة. والوجه الثاني - أنها تصح؛ فإن العطية وإن كانت مبتدأة، فلها تعلقٌ بما تقدم، والعبارة صالحة لتحصيل الغرض. وهذا الخلاف مأخوذ من أصلٍ قررناه مراراً، وهو الاعتبار بالمعنى أم باللفظ في أمثال ذلك. وفي نص الشافعي ما يدل في كتاب الصداق على أن الزوج إذا طلق زوجته قبل المسيس، ثم أراد ألا يسترد منها شيئاً، فقال: عفوت عن النصف الذي يرتد إليّ، كان هذا تمليكاً. وإن كان في عينٍ. وسنذكر هذا مستقصىً في موضعه؛ فإن لفظ الشافعي متأوّل عند معظم الأصحاب. فإن قيل: إذا أوصى بعتق عبدٍ، لا مال له غيره، أو أعتقه تنجيزاً في مرض موته، وكان لا يرثه إلا ابن واحد، فإذا نفّذ الوصية، فهل لإضافة الولاء إلى الميت مزيد فائدة، والغرض من الولاء، التوريث به، ولا وارث للميت إلا هذا الشخص الواحد؟ قلنا: تظهر فائدة ما قلناه فيه إذا كان الميت معتقاً لرجل، والوارث معتِقاً لرجل

آخر، فإذا جرى التنفيذ على ما ذكرناه، فإذا مات الوارث، ثم مات المعتَق الذي نفّذ الوارث العتق فيه، وكان معتَق الموروث الأول ومعتَق هذا الوارث حيين باقيين، فإن قلنا: الولاء كله للموروث الأول، فمالُ المعتَق الموصَى بعتقه مصروف إلى معتَق الموصي، وإلا فالثلث له والثلثان لمعتَق الوارث. 6589 - ثم من مات وليس له وارث خاص، فالمسلمون ورثته، فلو أوصى وزادت وصيته على الثلث، فالوصية بالزائد على الثلث غير منفذة، كما إذا أوصى وزاد وله ورثة متعينون مخلَصون، خلافاً لأبي حنيفة (1)؛ فإنه قال: إذا أوصى بجميع ماله، لزمت وصيتُه، ونفذت، ولا مردّ لشيء منها. وحقيقة هذه المسألة تستند عندنا إلى أن الصرف إلى المصالح سبيله سبيل التوريث، وقد قررنا هذا في الأساليب. فلو أوصى من ليس له وارث خاص، وزاد، فلو أراد الإمام أن يجيز وصيته في الزائد، فإن جعلنا الإجازةَ من الوارث الخاص ابتداءَ عطية، فلا معنى له من الوارث، فما الظن بالإمام؟ ولكن الإمام إن أراد على حكم النظر والمصلحة أن يبتدىء صرف الزائد إلى تلك المصارف، لم يمنع ذلك. وإن قلنا: الإجازة من الوارث تنفيذ للوصية، فقد اختلف جواب القاضي في هذا فقال مرة: إن وافق التنفيذ المصلحة، لم يبعد أن يجوز للإمام التنفيذ، ويكون شرط المصلحة في هذا المقام بمثابة الرضا من الوارث، وقال مرة: لا يجيز الإمام ولا يتصور الإجازة في هذه المنزلة. وإن قلنا: الإجازة من الوارث الخاص تنفيذ، فإن وجوه المصالح لا تنضبط، فالوجه حسم الباب، وقطعُ أثر الوصية بالزائد بالكلية؛ فإن التنفيذ من الوارث موقوف على إرادته وهذا هو المعهود في إجازة العقود الموقوفة على رضا المجيزين، فأما ما يتوقف على المصلحة ولا ضبط لها، فلا يتجه فيها التنفيذ. والمسألة محتملة. 6590 - ولعل الظاهر تجويز التنفيذ على حسب المصلحة.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 35 مسألة 2188.

ثم إذا جرينا على جواز التنفيذ، فيتصور حالتان: إحداهما - ألا تتصور مصلحة أولى مما اشتملت الوصية عليه، فإن كان كذلك، فلا حاجة إلى التنفيذ، ولكن لا بد وأن يظهر للإمام ذلك، وهذا كإظهار القضاء عند قيام ما يوجبه؛ إذ ليس القضاء عندنا موجباً أمراً على سبيل الابتداء. والحالة الثانية - أن يتصور مصلحة تماثل ما أوصى به، وكان الإمام لولا الوصية يتخير عند تماثل الجهات في صرف هذا المال إلى أيتها شاء، فإذا تصور من المسألة كذلك، فهل يتعين على الإمام التنفيذ؟ أم له نقض تلك الوصية، ثم هو على نظره في تعيين الجهات؟ هذا فيه تردد يسبق إلى الفهم. والوجه: القطع برد الأمر إلى رأي الإمام. والعلم عند الله تعالى. 6591 - ومما نذكره في تصدير الكتاب، الوصية للوارث وفيها طريقان للأئمة: منهم من قطع ببطلانها، ومنهم من نزّل الوصيةَ للوراث منزلة الوصية للأجنبي بالزائد على الثلث، وقد مضى اختلاف القول فيه، وستأتي الوصية للوارث مفصلة في أثناء الكتاب، إن شاء الله عز وجل. فصل قال الشافعي: " ولو أوصى بمثل نصيب ابنه ... إلى آخره " (1). 6592 - ذكر الشافعي الوصية بمثل نصيب الورثة، ثم ذكر الوصية بجزءٍ شائع من المال، ونحن نرى في تقريب التفهيم أن نذكر الوصية بالجزءِ الشائع أولاً، ثم نذكر الوصية بالنصيب. فإذا انتجز القول في هذين الفصلين مفردين، فننتهي بعد ذلك إلى الجمع بين الوصية بالنصيب وبين الوصية بالجزءِ، وعند ذلك نقف، وننكف عن الخوض في فقه الكتاب، ونذكر قاعدةَ الجبر والمقابلة، على مراسم علماء الحساب، ونتعدى قليلاً حدودَ الفقهاء، ونتشوف بعون الله تعالى وحسن توفيقه إلى تسهيل الطريق على الناظر في جميع المسائل الحسابية المتعلقة بالوصايا والدَّوْر، والمعاملات،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 159.

والعين، والدين، ولا نغادر مسألة تتعلق بالحساب إلا نأتي بها في أبوابٍ مرتبةٍ، وفصولٍ مفصلة، فتقع مسائل الوصايا جزءاً مما نحاول. ونحن في ذلك كله نبرأ إلى الله تعالى من حولنا وقوتنا، ونستعين به. فنبدأ بالوصية بالجزء؛ فإن العمل فيها يداني العمل في مسائل الفرائض، ولا يحتاج المستخرج إلى أصلٍ، لم نمهده في حساب الفرائض. 6593 - فإذا أوصى بجزءٍ شائع، وله ورثة، فالطريقة المثلى أن نصحح فريضة الميراث بطريق تصحيحها، [أَحْوَجَتْ] (1) إلى التصحيح، أو صحت من أصلها، عالت أوْ لم تَعُل، ثم نجعل جزءَ الوصية فريضةً برأسها، ونخرج الوصية، وننظر إلى ما بقي من فريضة الوصية. فإن كانت تلك البقية تنقسم على فريضة الورثة، فبها ونعمت. وإن لم تنقسم تلك البقية على فريضة الورثة، فإن لم توافق تلك البقية فريضة الورثة، ضربنا فريضة الميراث في فريضة الوصية، فما بلغ، فمنه يصح حساب الوصية والميراث جميعاً. وإن وافقت تلك البقية فريضة الورثة بجزءٍ، أخذنا جزءَ الموافقة من فريضة الميراث، وضربناه في فريضة الوصية، فمنه يصح الحساب كله. 6594 - والجملةُ أنا نجعل فريضة الوصية مع فريضة الميراث بمثابة فريضتين في مسائل المناسخات، وفريضة الوصية أولاهما؛ فإن حق الوصية أن تُقدم في محلها، والباقي من جزء الوصية بمثابة سهام لبعض الورثة يموت عنها ويخلِّف ورثة. وهذا القدر كاف، ولكنا نقيم مراسمَ الأصحاب في البيان والتمثيل. مثاله: أوصى لواحدٍ بربع ماله، وله ثلاثة من البنين. فمسألة الوصية من أربعة، فتبقى ثلاثة أسهم من ثلاثة، فقد صحت الفريضتان من مسألة الوصية. ولو أوصى بثلث ماله، ومات عن أبوين، وبنتين.

_ (1) في الأصل: أخرجت.

ففريضة الوصية من ثلاثة، وفريضة الميراث من ستة، فنخرج الوصية من فريضة الوصية، وهو سهم من ثلاثة، بقي سهمان لا ينقسمان على ستة، وبينهما موافقة بالنصف، فاضرب نصف الستة في فريضة الوصية، فتصير تسعة، فللموصى له ثلث المبلغ ولأهل الفرائض ستة. 6595 - وذكر بعضُ الحُسَّاب طريقة ثانية يسمونها طريقة النسبة، وهي حسنة جارية، وأمُّ الحساب النسبة، وهي التي تُخرج المجاهيل، وكل طريقة حُررت في تقريب الحساب، فهي متلقاة من نوع النسبة. وإذا جهلت النسبة، لم يخرج مجهول أصلاً. وبيان الطريقة هاهنا: أن نصحح فريضة الميراث، كما ذكرناه، ونصحح فريضة الوصية، ثم نعطي من فريضة الوصيةِ الوصيةَ، ثم ننظر كيف نسبة هذا الذي أعطيتَ إلى ما بقّيت من فريضة الوصية، فبتلك النسبة زِدْ على فريضة الميراث إذا كانت فريضته لا تصح من بقية الوصية، فنقول في هذه المسألة: فريضة الميراث من ستة، وفريضة الوصية من ثلاثة أعط منها الثلث، وهو سهم، ثم انسب ذلك السهم إلى ما بقي وهو سهمان، فإذا هو نصفه، فزد على فريضة الميراث مثلَ نصفه فتصير تسعة، فمنه تصح. 6596 - فلو خلّف أبوين، وابنين، وأوصى بربع ماله لواحد، وسدس ماله لآخر، فنذكر إجازة الوصية الزائدة على الثلث، ثم نذكر الرد. فإن أجاز الورثة الوصية بالزائد، فعلى الطريقة الأولى تصحح فريضة الميراث من ستة وفريضة الوصية من اثني عشر، فنعطي الوصيتين: لصاحب الربع ثلاثة ولصاحب السدس سهمان بقي سبعة، لا تنقسم على فريضة الميراث، ولا توافقها، فنضرب ستة في اثني عشر، فيرد اثنين وسبعين، فأعط صاحبَ الربع ثلاثة مضروبة في ستة، وهي ثمانية عشر، وصاحب السدس اثنين في ستة، وهو اثنا عشر. بقي اثنان وأربعون سهماً، تنقسم على فريضة الميراث لا محالة. وعلى طريقة النسبة نخرج للوصيتين خمسة، فبقي سبعة، فتنسب الخمسة إلى السبعة، فإذا هي خمسة الأسباع، فرد على فريضة الميراث خمسة أسباعها، وخمسةُ

أسباعِ ستةٍ (1) ثلاثون سُبعاً، فنبسط الكل أسباعاً؛ تبلغ اثنين وسبعين، وتلتقي الطريقتان. هذا إذا أجاز الورثةُ الوصيةَ بالزائد على الثلث. 6597 - فإن لم يجيزوا إلا الثلثَ، فاقسم الثلث بين صاحبي الوصيتين على قدر حقهما أخماساً، لأن الربع والسُدس خمسة من اثني عشر، فيضرِب صاحبُ الربع بثلاثة أسهم، وصاحب السدس بسهمين. وإن كان الثلث خمسة، فجميع المسألة خمسة عشر، وإذا أخرجنا الثلث بقي عشرة، لا تنقسم على فريضة الميراث وبينهما موافقة بالنصف، فاضرب نصف الستة، وهو ثلاثة في خمسة عشر، فتردّ خمسةً وأربعين للموصى له بالربع تسعة، وللموصى له بالسدس ستة، ويبقى للورثة ثلاثون، تنقسم على ستة. وعلى طريقة النسبة عند الرد زِدْ على فريضة الميراث، وهي ستة مثلَ نصفها؛ لتكون الزيادة ثلث الجميع، وذلك تسعة، فاقسم تلك الزيادة بين صاحبي الوصيتين أخماساً، فثلاثةُ أخماس (ثلاثةٍ) تسعةُ أخماس، وهي واحد وأربعة أخماس، فهذا للموصى له بالربع، والباقي وهو ستة أخماس، وهي واحد وخُمس للموصى له بالسدس. ثم ابسط الجميع وهو تسعة على مخرج الخُمس، فتصير خمسة وأربعين. 6598 - صورة أخرى: أوصى لواحدٍ بالربع، ولآخر بالثلث، وفريضة الميراث، كما ذكرنا، فمسألة الوصية من اثني عشر، فنقول: قصارى الحساب يؤول إلى ستة في اثني عشر، فإنك إذا أخرجت الثلث من اثني عشر، وهو أربعة، وأخرجت الربع، وهو ثلاثة، فتبقى خمسة لا تستقيم على فريضة الميراث، ولا توافق، فنضرب ستة في اثني عشر، فيردّ اثنين وسبعين، فتصح الفريضتان. وعلى الطريقة الثانية: أخرجنا من اثني عشر عند الإجازة أربعة وثلاثة، فالمجموع سبعة، والباقي خمسة، فننسب ما أعطينا إلى ما بقَّينا، فإذاً المخرَج مثلُ الباقي، ومثلُ خُمْسَيه، فزد على فريضة الميراث وهي ستة مثلَها، ومثل خمسيها، فمثلها

_ (1) في الأصل: ستة وثلاثون.

ستة، ومثل خمسيها اثنان وخمسان، فذلك أربعةَ عشرَ وخمسان، فابسط ذلك على مخرج الخمس، فيبلغ اثنين وسبعين، فتلتقي الطريقتان. وإن فرضنا الرد، لم يخفَ طردُ الطريقتين، وتقريرُهما على القياس الذي مهدناه، وهذا هيّن على من أحكم ما قدمناه من أصول الحساب في الفرائض. هذا بيان الوصية بالجزءِ والجزأين والأجزاء، في صورة الانحصار في الثلث، والزيادة عليه، وفي حالتي الإجازة والرد إذا زادت الوصية. 6599 - فأما القول في الوصية بمثل نصيب وارث، فنقول: إذا أوصى بمثل نصيب ابنه لواحد، وله ابن واحد، لا وارث له غيره، فهذه وصية بنصف المال. إن أجازها الوارث، فإن ردّها، فالزيادة على الثلث مردودة، والوصية قارّةٌ في الثلث، ومخرج ذلك أن الابن يستحق كلَّ المال إذا لم تكن وصية، فإذا قال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ابني، فقد أوصى له في الحقيقة بكل المال على وجهٍ لا يتضمن حرمان الابن وإخراجه من الوراثة، فإذا قال: أوصيتُ لفلان بمثل نصيب ابني، فكأنه نزّلهما منزلةً واحدة، وموجبُ قوله يتضمن استواءهما. وكان الموصى له في تقدير ابنٍ ثانٍ، وهذا مذهب أبي حنيفة (1). وعبر بعضُ الأصحاب عن قاعدة المذهب، فقالوا: حق الابن من غير تقدير وصية الاستغراق، فإذا أحل الموصى له محلّه، فكأنه أثبت له كلَّ المال، مع الكل الثابت بالإرث لولا الوصية، وإذا عال مبلغٌ بمثله، كان الزائد مثلَ المزيد عليه، وموجب ذلك الاشتراك لا محالة على الاستواء. 6600 - ولو قال الموصي: أوصيت لفلانٍ بنصيب ابني، وله ابن واحد، فالذي نقله الأئمة المعتبرون من أصحاب الشافعي أن الوصية بنصيب الابن بمثابة الوصية بمثل نصيب الابن، وهذا هو الذي نقله الفرضيون المتظاهرون بعلم الحساب، منهم الأستاذ أبو منصور وغيرُه، وحكَوْا عن أبي حنيفة (1) أنه أبطل الوصية إذا قال الموصي: أوصيت لفلانٍ بنصيب ابني، وزعم أن هذه الصيغة فاسدة؛ من جهة أنها تقتضي وصية

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 23 مسألة 2164، تبيين الحقائق: 6/ 188.

بمستحق، فإن نصيب الابن مستحَق له، والوصية بالمستحق باطلة، بمثابة الوصية بمال الغير. هذا مذهب أبي حنيفة، وليس كما لو قال: أوصيت [بمثل] (1) نصيب ابني، فإن لفظ الوصية يشعر بكون الموصَى به مغايراً للنصيب المعتبر زائداً عليه؛ فإن مثل الشيء غيرُه لا محالة. وأقام الأئمة مسألة خلافية مع أبي حنيفة وأجرَوْا في أثناء الاحتجاج مسألة مستفادة من مسائل المعاملات، وهي أن الرجل إذا قال لمن يعامله: بعتك داري هذه بما باع به فلان عبده، وكانا عالمين بالمبلغ الذي باع به فلان عبده، فالبيع يصح، وإن كان لفظه مضافاً إلى ما باع به فلان عبده، وهو مستحق في بيع ذلك الإنسان، ولكن المقصود من العبارة البيع بمثل ما باع به فلان عبده، فإن سلم أبو حنيفة هذا، قامت الحجة عليه مع ترجيح ظاهر؛ فإنا قد نحتمل في الوصايا ما لا نحتمله في البيع، كما سيأتي ذلك مشروحاً في المسائل، إن شاء الله تعالى. فإن منع أبو حنيفة المسألة، لم يضرنا منعُه إياها، مع علمنا بجريان هذه العبارة واطرادها، والمراد البيع بمثل ما باع به فلان، وهذا له مزيد اتجاه على رأي أبي حنيفة، فإنه يحمل العقود على الصحة، إذا وجد لها محملاً. هذا هو المنقول عن أئمة المذهب. 6601 - وذكر العراقيون في طريقهم أن الوصية بالنصيب باطلة، كما صار إليه أبو حنيفة، وذكروا هذا ذِكْر من بلغه في نقل المذهب غيرُه، ولكنهم زينوه (2)، وقطعوا بما ذكروه، ولم يصححوا إلا الوصيةَ بمثل النصيب، وسلكوا في تعليل ما ذهبوا إليه مسلك أبي حنيفة بعينه. ثم قالوا: لا يُلفى للشافعي في المختصر وفي غيره من الكتب التعرضُ للوصية

_ (1) في الأصل: " بنصيب ابن "، والمثبت تقدير من المحقق رعاية للسياق. (2) أي زَيَّنوا هذا الغير الذي نقلوه.

بالنصيب، لكنه [يُقَيّدٍ] (1) كلامَه، رضي الله عنه في جميع مسائل هذا الأصل بالوصية بمثل النصيب. وزعموا أن [من] (2) ألحق الوصية بالنصيب بالوصية بمثل النصيب، فليس ناقلاً مذهبَ الشافعي عن نص، وإنما هو مُتقوِّل عليه عن قياسٍ، ولا شك أنهم على هذه الطريقة لا يصححون بيعَ الرجل بما باع به فلان عبده، ويشترطون في البيع بهذه الجهة أن يقول: بعتك داري هذه بمثل ما باع به فلانٌ عبده؛ فإن الفساد إلى البيع أسرع في هذه المعاني منه إلى الوصية؛ ولذلك لا يصح البيع مع إبهام المبيع، مثل أن يقول البائع: بعتك عبداً من عبيدي، والوصية تصح على هذه الصيغة مع إبهام الموصى به. هذا كلامهم، وهو مباين لما عرفه علماؤنا من مذهب الشافعي. ولست أرى الاعتداد بما قالوه، بل الوجه القطع في مذهب الشافعي بأن الوصية بالنصيب، كالوصية بمثل النصيب. 6602 - فإذا انتجز الفراغ من هذا، عدنا إلى ترتيب المذهب مع نقل المشاهير من مذهب العلماء. قال مالك (3): من أوصى لرجل بنصيب ابنه، أو بمثل نصيب ابنه، وله ابن واحد، فمقتضى الوصية الاستغراق، وكأنه أوصى له بجميع ماله، فإن أجيزت، نفذت على هذا الوجه. وغيره من العلماء قالوا: الوصية بمثل نصيب الابن ليست مستغرِقة، وإنما هي مشتركة على الاستواء، كما قدمناه. وعبر المعبرون عن مذهب الإمامين مالك والشافعي، فقالوا: مالك يعتبر النصيب بنصيب الابن قبل الوصية، ثم حق الابن الاستغراق إذا لم تكن وصية. والشافعي يعتبر الوصية مع ثبوت الابن، ومقتضى ذلك التشريك. وقال شَريك، والحسنُ بن زياد اللؤلؤي: إن أوصى بمثل نصيب الابن، فهو

_ (1) في الأصل: يفيد. (بالفاء). (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 1006، 1007 مسألة 2053، 2054.

وصية بالنصف، كما قال الشافعي وإن أوصى بنصيب الابن، فهو وصية بجميع المال، كما صار إليه مالك. 6603 - ثم إنا نمهد بعد ذلك قاعدة المذهب، ونطرده على وجهه، وننعطف على (1) التمهيد على ذكر مسائلَ ذكرها الأستاذ أبو منصور، ونقل في بعضها تخريجات لابن سريج، ليس يعرفها فقهاء المذهب. فنقول: إذا كان للرجل ابنان، فأوصى لإنسان بمثل نصيب أحد الابنين، فمذهب الشافعي وأبي حنيفة أن هذه وصية بثلث المال؛ فإن ذلك تقرير الابنين على أصل الاستحقاق، وتنزيل الموصى له منزلة ابن ثالث، حتى يشتركوا على استواء، ومن فهم التنصيف [والابنُ] (2) واحد، لم يخف عليه التثليث وفي المسألة ابنان، إذا وقعت الوصية بنصيب أحدهما. فالوجه على مذهب الشافعي وغيرِه من العلماء أن نقيم فريضة الميراث بين الابنين، ثم نزيد في الفريضة مثلَ نصيب أحدهما، ونعود فنقسم التركة على هذه النسبة بين جهة الوصية والميراث. فإذا كان في المسألة ابنان، فالميراث دون الوصية يقام من سهمين، فتمسك نسبَهما (3) وتزيد سهماً. وقال مالك: الوصية بنصيب أحد الابنين وصية بالنصف، وهذا بناه على أصله في أن الوصية معتبرة بنصيب من ذكر نصيبه قبل الوصية، ونصيب أحد الابنين النصف، إذا لم تكن وصية. والشافعي يعتبر تقدير الابنين والتشريك معهما، وتنزيل الموصى له منزلة ابن ثالث.

_ (1) كذا. ولعلها: بعد التمهيد. (2) وفي الأصل: فالابن. والمثبت تقدير من المحقق. (3) تُمْسك نسبَهم: المراد تعرف نسبة السهمين وقسمة التركة عليهما، ثم تزيد ثالثاً، لتقسم على ثلاثة.

فإن كان له ثلاثة بنين، فأوصى لإنسان بمثل نصيب أحد البنين، فالوصية بالربع عند الشافعي، والموصى له بمثابة ابن رابع. وعند مالك الوصية بالثلث. ولو كان له بنت وعصبة، وأوصى لواحد بمثل نصيب البنت، فللموصى له الثلث، فإنا نقيمه مقام بنت أخرى لو كانت. ولو كان في المسألة بنتان وعصبة، لكنا (1) نصرف إلى البنتين الثلثين والباقي إلى العصبة. 6604 - وقد تقع فرائض فيها مقدَّرات، ونفرض الوصية بمثل نصيب بعض الورثة، فأصل مذهبنا وقياسه أن نقيم فريضة الميراث، ونصححها، عائلة وغير عائلة، من غير وصية، ثم نتبين نصيب من أضيفت الوصية إلى نصيبه، ونزيد في المسألة مثل ذلك، ونعيد القسمة. فإذا كان له ثلاث بنات، وعصبة، فأوصى لواحد بمثل نصيب إحدى بناته، ففريضة الميراث من غير وصية من تسعة، لكل واحدة من البنات سهمان، فتزيد على التسعة سهمين للموصى له، فتصير الفريضة الجامعة للنصيب والميراث من إحدى عشر. ولو كان له بنت وثلاثة بنين، فأوصى لواحدٍ بمثل نصيب البنت، ففريضة الميراث من سبعة، للبنت سهم واحد، فنزيد للوصية سهماً آخر، فتقع الوصية من ثمانٍ، ونعيد القسمة من ثمانية: للوصية سهم، والباقي بين البنين والبنات للذكر مثل حظ الأنثيين. 6605 - ولو أوصى لإنسان بمثل نصيب أحد الورثة، والفريضة مشتملة على أصناف من الورثة وحصصهم مختلفة، فالوصية منزّلة على أقل الأنصباء، وهذا من أقطاب كتاب الوصية، وسيأتي مشروحاً في المسائل. فلو أوصى لإنسان بمثل نصيب أحد الورثة، وكان في المسألة: بنت، وعشر أخوات، فإنا نقيم فريضة الميراث من اثنين، ثم نصححها من عشرين، فنتبين أن

_ (1) في الأصل: ولكنا.

نصيب كل أخت سهم من عشرين سهماً، فنقيم الفريضة الجامعة من أحد وعشرين. ولو كانت له عشر بنات، وأخت، فأوصى لإنسان بنصيب إحدى بناته، ففريضة الميراث من ثلاثة، ثم بالتصحيح تبلغ خمسة عشر، لكل بنت منها سهم، فنزيد للوصية فيها سهماً آخر، ونجعل الفريضة الجامعة من ستة عشر، للوصية واحد، ولكل بنت واحد، وللأخت خمسة. ولو كان للرجل أربع زوجات، وأولاد، فأوصى بمثل نصيب زوجة، فنقيم فريضة الميراث ونفُضّ الثمنَ فيها على أربع زوجات، ثم نزيد للوصية بمثل نصيب زوجة، ولا مبالاة بتقدير زوجة خامسة، وإن كان ذلك غيرَ سائغ تحقيقاً؛ فإن الوصايا تنزل على الأقدار، لا على حقائق الوقائع، وهذا بمثابة الوصية بمثل نصيب الأم، فالوجه تقدير أم مع الأم، وهذا لا يقع وجوداً، والوصية منزلة على تقديره. 6606 - ومما يتعلق بصور الفصل أنه لو كان للرجل ابن، فأوصى لرجل بنصيب ابنٍ ثانٍ لو كان، فهذا بمثابة ما لو كان له ابنان، فأوصى لرجل بنصيب أحدهما فتقع الوصية بالملثلث. ولو كان له ابنان، فقال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ابنٍ ثالث لو كان، فهذه وصية بالربع والابن المقدر في حكم الوصية كالابن الموجود. وهذا القياس يطرد في جميع الورثة على اختلاف أصنافهم لو قُدّروا. ولو كان لرجلٍ ثلاثُ بنين وبنت، فقال: أوصيتُ لفلان بمثل نصيب بنت ثانية لو كانت، فالوجه أن نقيم فريضة الميراث على ثلاثة بنين وبنتين، ولو كانت، لصحت المسألة من ثمانية لكل ابن اثنان، ولكل بنت واحد، فنزيد الوصية سهماً تاسعاً، ونستبين أن الوصية وقعت بالتسع. فهذا بيان الوصية بمثل نصيب وارث مقدر لو كان. 6607 - وحكى شيخي عن الأستاذ أبي إسحاق أنه كان يقول: إذا أوصى من له ابن بمثل نصيب ابن ثان لو كان، فهذا بمثابة الوصية بالنصف، وكأنه في الوصية أقام الموصى له مقام ابنٍ ثان، وعلى هذا لو كان له ابنان، فأوصى لرجل بمثل نصيب ابنٍ

ثالث لو كان، فالوصية بالثلث، وهي متضمنةٌ قيامَه مقام ابن ثالث، وليس كما لو قال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ابني، فهذا يتضمن تشريكاً ومزاحمة، وسبيله (1) من ذِكْره. وهذا الذي حكاه عن الأستاذ متجه من طريق المعنى مُخيل أخذاً من صيغة اللفظ، ولكنه ليس معدوداً من مذهب الشافعي، والأستاذ مسبوق فيه باتفاق الأصحاب على مخالفته. فإن صار إلى مذهبه بعضُ المتقدمين، فهو مذهب من المذاهب، وليس معدوداً من مذهب الشافعي، وإن لم يوافق ما نقل عنه من مذهب المتقدمين، فلا نظن به على علو قدره مخالفةً للإجماع. ولعله ذكر ما ذكره إظهاراً لوجهٍ في الاحتمال من غير أن يعتقده مذهباً. 6608 - ولو خلّف الرجل بنتاً، وبنت ابن، وعصبة، وكان أوصى لرجل بنصيب أحد ولديه، فهذه الصيغة تتضمن إدراج ولد الابن في قضية لفظ الولدين، وقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن اسم الولد على الإطلاق هل يتناول ولد الولد؟ وهذا قد قدمنا ذكره في الوقف، وسنعيده في مسائل الوصايا، إن شاء الله عز وجل. وهذا في الإطلاق، فإذا وقع التصريح بإدراج ولد الولد في التثنية المشتملة على ولد الصلب وولد الابن، لم يكن إطلاق ذلك ممتنعاً على هذا الوجه. فإذا تبين هذا، فالوصية بمثل نصيب أحدهما منزلةٌ على أقل النصيبين، ونصيب بنت الابن أقلُّ، فنزّلت الوصية عليه. وصارت المسألة مع ما فيها من الترديد بمثابة ما لو صرح بالتوصية بمثل نصيب بنت الابن في المسألة التي فرضناها، ولو صرح، لكنا نقيم فريضة الميراث أولاً، ونقول: للبنت النصف، وهو ثلاثة من ستة، ولبنت الابن السدس، وهو سهم من ستة، والباقي وهو سهمان للعصبة. فقد قامت فريضة الميراث من ستة، وبان أن لبنت الابن سهماً منها، فنزيد لمكان الوصية سهماً ونضمه إلى الستة، فالفريضة الجامعة للوصية والميراث من سبعة للموصى لهم سهم، والستة

_ (1) كذا. ولعل المعنى: وسبيل التشريك من ذِكْر هذا اللفظ، أو لعل فيها تصحيفاً، وصوابها: " وسبيله ما ذكره ".

الباقية مقسومة على فرائض الله تعالى. والوصية تتضمن إدخال النقص على حصص أصناف الورثة. والشافعي ذكر هذه المسألة في المختصر، وأجرى لفظةً أشكلت على بعض الأكابر، وذلك أنه قال للمسألة (1) التي نحن فيها: " للموصى له بمثل نصيب ثلث [البنت] (2) سدس المال ". وظاهر هذا أنه يفوز بالسدس، ثم خمسة الأسداس تقسم على فرائض الله تعالى. ولو كان كذلك، لكان نصيب بنت الابن أقلَّ من مال الوصية على القاعدة التي ذكرها الموصِي؛ فإنه جعل مال الوصية مثلَ نصيب من شبهت الوصية بنصيبه. وهذا لو قيل به يفسد قياس الباب بالكلية. وقد نص الشافعي في سياق هذا الكلام على أن الوصية تدخل على فريضة الميراث كما مهدناه، فالسدس الذي أطلقه أراد به سدساً عائلاً. وهذا لا يسوغ التماري فيه أصلاً، ومن عرّضنا باسمه -وهو الأستاذ أبو منصور (3) - ذكر في بعض مجموعاته أن الشافعي يثبت للوصية في المسألة التي ذكرناها سدسَ جميع المال، ونقل لفظ الشافعي في المختصر، فقال: قال الشافعي في هذه المسألة: " أعطيته السدس " (4)، واعتقدَ هذا مذهباً للشافعي، وحكى عن ابن سُريج ما جعلناه أصلَ المذهب، وقال: للوصية السبع، وهو في التحقيق السدس العائل، وذكْرُه مذهبَ ابن سريج في معرض الاستدراك على الشافعي يصرّح بأنه اعتقد للشافعي مذهباً يخالف مذهب ابن سريج. وهذا محال. ومن ظن بالشافعي هذا الظن، فقد سها سهواً بيناً. وما ذكرت هذا لأعده من المذهب؛ فإن المذهب المبتوت الذي لا مراء فيه ما عزاه إلى ابن سُريج، ونصُّ السدس في لفظ الشافعي محمول على السدس العائل. والعجب أنه نقل نصَّ الشافعي في جميع المسائل على قياس إدخال الوصية على

_ (1) للمسألة: أي في المسألة. (2) في الأصل: الابن. (3) يشير إلى التعريض الذي جاء في قوله: " وأجرى لفظةً أشكلت على بعض الأكابر ". (4) ر. المختصر: 3/ 159.

فريضة الميراث عَوْلاً، ثم ظن في هذه المسألة على الخصوص أن الشافعي ترك قياس الباب. 6609 - ولو ترك ابنين، وكان أوصى لزيد بمثل نصيب أحدهما، ولعمرو بمثل نصيب الثاني، فإن أجازا الوصية بالزائد على الثلث، فالمال يقع بينهم أرباعاً، وإن لم يجيزا وردّا الوصية بالزائد، انحصرت الوصيتان في الثلث، وأُشرك فيه زيدٌ وعمرٌو بالسوية، فلكل واحد منهما نصف الثلث، وهو السدس. 6610 - ومن الأصول التي تدار عليها مسائل الوصايا اعتبار نسبة القسمة في فريضة الرد بالقسمة في فريضة الإجازة [إذا] (1) استويا حالة الرد. 6611 - ولو أجازا الوصية لأحدهما، ولم يُجَز للآخر، فمذهب الشافعي، ومذهب الأئمة المعتبرين أن يقال: يفوز كل واحد منهما بالسدس من المال، استحقاقاً من غير حاجةٍ إلى إجازة، ولو أجازا الوصيتين لأثّرت إجازتهما في تثبيت نصف السدس لكل واحد منهما، مضموماً إلى السدس الذي استحقه من غير إجازة، فإذا رُدَّ الزيادة في حق أحدهما، لم يستحق ذلك الشخص إلا السدسَ، ويبقى الزائد في حق من أجاز الوصية في حقه. والمسألة تصح من أربعة وعشرين، لمن أجاز له ستة أسهم، وهو ربع المال المقدر الذي يستحقه لو أجاز الوصيتين، ولمن رد الزائد في حقه أربعة، وهو سدس المال، ولكل ابنٍ سبعة أسهم - وإنما ذلك لأنهما لما ردا الزائد في حق أحدهما، والزائد سهمان، اقتسماها بينهما، وهذا هو الذي لم يعرف الأصحابُ غيرَه، وهو الذي عزاه الأستاذ إلى قياس مذهب الشافعي. 6612 - وحكى عن ابن سُرَيج مذهباً آخر، في نهاية الركاكة والضعف، ولم يحكه أحد من الأصحاب، ونحن نذكره، ونذكر المسلك الذي ذكره الأستاذ حكايةً عنه، ثم نذكر بعد ذلك مثالين أو ثلاثة للإيناس، ونذكر ما حكاه عن ابن سُريج فيها، أو في بعضها، ونبيّن أن التعويل على القياس الذي مهدناه.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

قال ابن سريج فيما حكاه في المسألة التي نحن فيها: إذا أجاز لأحدهما، فنضم السدسَ الذي في يد من أجاز له إلى ما في يد الاثنين، وللمردود السدس فحسب، ثم إذا ضممنا جميعَ ما في يد من أجاز له، اقتسموا بالسوية أثلاثاً، فتصح القسمة من ثمانيةَ عشرَ، فإنها قُدِّرت من ستة، السدس منها المردود وصية، والخمسة الأسداس مقسومة على الابنين، وعلى من [أجيزت] (1) وصيته، فتنكسر الخمسة على الثلاثة، ولا توافق، فنضرب ثلاثة في ستة، ونُجري القسمة على ما ذكرناه. وهذا زلل عظيم، وحَيْدٌ عن مسلك الحق إلى تعقيدٍ، لا خير فيه، وأعظم غلط فيما ذُكر أنه أدخل السدس في حق من أجيزت وصيته في حساب الإجازة، وهذا خطأ؛ من قِبَل أن السدس مستحَقٌّ، لا أثر للإجازة فيه، وإنما تؤثر الإجازة في الزائد على السدس المحسوب من الثلث، وذلك الزائد نصف السدس، فما يردُّ من نصيب المردود عليه يرجع إلى الورثة، لا إلى الموصى له الآخر. المسألة بحالها (2)، فإن أجاز أحد الابنين لأحدهما، ولم يُجِز للآخر، ورد الابنُ الثاني الوصية بالزيادة في حقهما، فالمذهب المبتوت أن نقول: المسألة من أربعة وعشرين: لمن لم يُجز له أربعة، ومن أجاز له أحدُهما يأخذ أربعة بلا إجازة؛ فإن هذا القدرَ مستحق له، والباقي إلى تمام حقه، وهو الربع سهمان، وثبوتهما له موقوف على إجازة الابنين، وقد أجاز أحدُهما، وردَّ الثاني، فيصير في يده خمسة، ومع المجيز سبعة، ومع الابن الآخر ثمانية. وقال ابنُ سريج: فيما حكاه الأستاذ عنه: المسألة من ثمانيةَ عشرَ: للموصى لهما ستة بغير إجازة، لكل واحد منهما ثلاثة، فيبقى في يد كل ابن ستة، فيدفع المجيزُ منهما مما في يده سهما واحداً إلى من أجاز له؛ لأنهما لو أجازا له، كان لكل واحد منهم خمسة، فإذا أجاز له أحدهما، أعطاه نصف ما بقي له، وهو سهم، فللابن المجيز خمسة، ولمن أجاز له أربعة، وللابن الآخر ستة وللموصى له الآخر ثلاثة. وهذا غلطٌ صريح؛ فإنه قَدّر له خمسة من ثمانيةَ عشرَ، وهو أكثر من الربع، ثم

_ (1) في الأصل: أجريت. (2) المسألة بحالها: أي يُفرض تصورآخر للمسألة ذاتها.

نصَّف الزيادة وجرى فيه على قياسه الأول. 6613 - فإن ترك ابناً وبنتاً، وأوصى بمثل نصيب الابن، فأجاز الابن دون البنت، فلو أجازا، لكانت الفريضة الجامعة خمسة: للموصى له سهمان، وللابن سهمان، وللبنت سهم. ولو ردّا، لصحت الفريضة الجامعة من تسعة؛ فإنا كنا نقول: للموصى له الثلث، والباقي وهو سهمان بين الابن والبنت على ثلاثة، فنضرب ثلاثة في ثلاثة، فللموصى له من التسعة ثلاثة، وللابن أربعة، وللبنت سهمان. ففريضة الإجازة خمسة، وفريضة الرد تسعة، ولا موافقة، فنضرب إحدى الفريضتين في الآخر: خمسة في تسعة، فيرُدُّ خمسةً وأربعين، فإذا أجاز الابن، ولم تُجز البنت، فللبنت سهامها من فريضة الرد، وهو اثنان، مضروبة في فريضة الإجازة وهي خمسة، فلها عشرة. وندفع إلى الابن سهامه من فريضة الإجازة، وهو سهمان مضروبان في فريضة الرد وهي تسعة، فله ثمانيةَ عشرَ، والباقي للموصى له وهو تسعةَ عشرَ. وإن شئت قلت: لو لم يجيزا، لكان للموصى له الثلث: خمسةَ عشرَ، وللابن عشرون، وللبنت عشرة. ولو أجازا، لكان للابن ثمانية عشر، وللبنت تسعة، وللموصى له ثمانيةَ عشرَ، وقد أخذ خمسة عشر بغير إجازة، وبقي له إلى تمام حقه ثلاثة، يأخذ ثلثيها من يد الابن، وثلثها من البنت، فإذا ردت البنتُ، استردت سهماً ضمته إلى تسعتها، وإذا أجاز الابن فرد في يده سهمين مضمومين إلى الخمسةَ عشرَ. 6614 - ولو أوصى لرجل بمثل نصيب الابن، وللآخر بمثل نصيب البنت. فإن أجازا، فالفريضة من ستة، للموصى له بمثل نصيب الابن سهمان، وللموصى له بمثل نصيب البنت سهم، وللابن سهمان، وللبنت سهم. وإن لم يجيزا، فالفريضة من تسعة: ثلثها وهو ثلاثة للموصى لهما: لصاحب الابن سهمان، ولصاحب البنت سهم. والباقي من المال وهو ستة أسهم بين الولدين: للابن منها أربعة وللبنت سهمان.

وإن أجاز لهما الابن دون البنت، فالذي لا يسوغ غيره أن نقول: للموصى لهما الثلث بلا إجازة، وهو بينهما أثلاثاً، كما قدمنا، فقاعدة الفرض من تسعة، ثم لو أجازا جميعاً، فالفريضة من ستة، ولو ردا، فالفريضة من تسعة: للابن أربعة، وللبنت سهمان، ولصاحب الابن سهمان، ولصاحب البنت سهم. فالآن إذا أجاز الابن، فله ثلث المال، كما كان له الثلث، لو أجازا، وثلث التسعة ثلاثة، فنردّ سهماً إلى الوصية، فللوصية أربعة أتساع، وهي مقسومة على صاحب الابن والبنت على ثلاثة أسهم، والأربعة تنكسر على الثلاثة، ولا توافق، فنضرب ثلاثة في تسعة [فتصير سبعة] (1) وعشرين: للابن ثلاثة مضروبة في ثلاثة، فهو تسعة. وللبنت من فريضة الرد سهمان، مضروبان في ثلاثة تكون ستة، والوصية أربعة مضروبة في ثلاثة، فهو اثنا عشر: لصاحب الابن منها ثمانية، ولصاحب البنت منها أربعة. وحكى الأستاذ عن ابن سريج أنه لما انتهى إلى قسمة الأتساع الأربعة قال: إنها تقسم بين صاحب الابن، وصاحب البنت على خمسة لصاحب الابن ثلاثة، ولصاحب البنت سهمان، وتخيّل من هذا أن يكون المال بين الصاحبين على نسبة المال بين الابن المجيز، والبنت الرادّة، وللابن ثلاثة من تسعة وللبنت سهمان، والوصية تتضمن أن يكون صاحب الابن كالابن، وصاحب البنت كالبنت، وهذا مبلغ في الضعف والركاكة يقصر منه (2) الوصف؛ فإن مقصود الموصي هو الذي يراعى، ونسبة الإجازة هي الأصل، ولو فرضت الإجازة منهما، لكان المال بين الصاحبين أثلاثاً، ولو ردّا، لكان الثلث بينهما أثلاثاً، فالقدر الذي تعلقت الإجازة به، وهو زائد على الثلث ينبغي أن يُفضَّ على نسبة الرد، أو على نسبة الإجازة، وإنما وقع المال أخماساً بين الابن والبنت، لردها وإجازته، فاعتبار النسبة مائل عن التحقيق. 6615 - وقد تمهد في القدر الذي ذكرناه ما هو المذهب المقطوع به، ولم يعرف الأصحابُ غيرَه، وأشرنا إلى الخيال الذي حكاه عن ابن سريج، فلا مزيد. وقد انتهى الغرض.

_ (1) زيادة من المحقق، اقتضاها إصلاح العبارة. وهي سقطت من الناسخ. (2) تأتي (من) مرادفة لـ (عن).

القول في بيان ما لا بد من معرفته في أصول الجبر والمقابلة

فهذا كله في الوصية بالأجزاء مفردةً، وفي الوصية بالأنصباء مفردة. 6616 - ونحن الآن انتهينا إلى محاولة الجمع بين الوصية بالنصيب، وبين الوصية بجزءٍ من المال. ومسائل هذا القسم تنقسم: فمنها ما يخرج على قربٍ بالطرق التي قدمناها، ومنها ما يُحوج إلى الجبر، أو إلى طرق مستخرجة منه، مبنية على النِّسب. وإذا أفضى الكلام إلى ذلك، فالأولى قطعُه، واستفتاحُ مقالةٍ في بيان الأصول التي لابد منها، ولا غنى عن الإحاطة بها في معرفة الجبر والمقابلة، وقد قدمنا في الفرائض طرفاً صالحاً في الضرب والقسمة، وأخْذ مخارج الكسور، فلا حاجة إلى إعادته، وإنما غرضنا ذكرُ أصول الجبر والمقابلة على صيغٍ وجيزة واضحة، لا يخفى دركُها على الفطِن، حتى إذا تمهدت، ولاح مأخذُ الجبر، عدنا بعدها إلى تخريج المسائل، واستفتحنا القول في مسائل النصيب والجزء، ثم نأتي بعدها بكل مسألة مشتملة على مجاهيل لا يخرّجها على السبر إلا الجبرُ، ونحرص على ألا نغادر أصلاً ينسلك فيه الحساب من قواعد الشريعة حتى يوافيها الناظر مجموعةً، وإذا أتاح الله نجازَها، عدنا بعدها إلى ترتيب المختصر، إن شاء الله عز وجل. القول في بيان ما لا بد من معرفته في أصول الجبر والمقابلة ذكر الأستاذ أبو منصور سبعةَ فصولٍ، وفصّلها أحسن تفصيل، فأبان افتقار الجبر والمقابلة إليها، ونحن نأتي بها، ولا نألو جهداً في البيان والتقريب، بالزيادة على ألفاظه، وإكثار الأمثلة، إن شاء الله عز وجل. الأصل الأول في معرفة ألقابٍ وألفاظٍ متداولة بين الحسّاب ونحن نذكرها ونمزجها بما هو القطب والمدار من أمر النِّسب، فنقول، والله المستعان: 6617 - أطلق جملة علماء هذه الصناعة ألفاظاً منها: العدد، والجذر، والمال، والمكَعّب، ومال المال، ومال المكعب، ومكعب المكعب: فالعدد ما تركب من

الواحد، [فالواحد] (1) أمُّ العدد، علته وأصلُه، وليس عدداً في نفسه. والجذر: كل مضروبٍ في نفسه، ويقال للمبلغ الذي يردُّه ضربُ الشيء في نفسه: المالُ. فنبدأ من أول الأمر ونأخذ في التمثيل، حتى لا تُستصعبَ هذه العبارات على من لم يألفها، ونأخذ أول العدد، وهو اثنان، ونقدّره جذراً، بأن نفرض ضربه في نفسه، فهو جذر، وما يردّه ضربُ الاثنين في نفسه مالٌ، وهو أربعة. فإذا ضربت جذرَ المال في المال، كان المبلغ مكعَّباً. وإن ضربت المال في المال، كان المبلغ مال المال بالإضافة إلى الجذر الأول. وإنما قيدنا الكلامَ بهذا لأنك لو ابتدأت وقدرت الأربعة جذراً بتقدير ضربه في نفسه، وبنيت عليه المراتب بعد ذلك، فهو مستقيم، لا معترض عليه. ولا شيء في عالم الله تعالى هو عدد، أو واحد، أو كسرٌ إلا ويجوز تقديره جذراً، بأن نفرض ضربَه في نفسه. وبعد مال المال مالُ المكعب، وهو بأن نضرب الجذر الأول في مال المال، فيردّ اثنين وثلاثين، وبعد ذلك مكعب المكعب، وهو مردود الجذر الأول في مال المكعب، وذلك أربعة وستون. وإذا حذفت العدد من المراتب فإن العمل [بما] (2) بعده، وإنما ذكر العدد لاستيفاء الألقاب، فنقول: المراتب ست: الجذر، والمال، والمكعب، ومال المال، ومال المكعب، ومكعب المكعب. ثم لا انتهاء في المرتبة الأخيرة، فإن تناسب الأعداد لا نهاية لها، فبعد مكعب المكعب، مال مكعب المكعب، ومكعب مكعب المكعب، وهكذا إلى غير نهاية. ولكن اكتفينا بالمراتب التي ذكرناها من جهة ارتفاع الأغراض في مراتب الجبر والمقابلة بها.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) فى الأصل: لما.

ثم اعلم أن الجذر الأول المفروض يناسب الواحد، ويناسبه الواحد بجهة، فالمراتب المتوالية تتناسب بتلك الجهة، وهذا هو السرّ الأعظم الذي يجب اتباعه، وعنه صار معظم المقاصد. 6618 - وبيان ذلك أنا إذا فرضنا الاثنين جذراً، فالواحد يناسبه بالنصف، والجذر يناسب الواحد بالضعف، فنسبة الجذر من المرتبة التي تليه كنسبة الواحد من الجذر، ونسبة المرتبة التي تلي الجذر من الجذر كنسبة الجذر من الواحد، وعلى هذا النسق تتوالى النسب، فالجذر نصف المال، كما الواحد نصف الجذر، والمال ضعف الجذر، كما الجذر ضعف الواحد. والمال نصف المكعب، والمكعب ضعفُ المال. والمكعب نصف مال المال، ومال المال ضعف المكعب ومال المال نصف مال المكعب. وهكذا إلى الآخر. وينشأ من هذا توليد المراتب بطرق الضرب، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى. أما الجذر كان (1) جذر الضرب في نفسه، فإذا أردت المال، فلا يولده إلا ضرب الجذر في نفسه، وإذا أردت المرتبة الثالثة، فلا يولدها إلا ضرب الجذر في المال، وقد تحصلت ثلاث مراتب: الجذر، والمال، والمكعب. فإن أردت المرتبة الرابعة، [فلك] (2) مسلكان: أحدهما - أن تضرب الطرف في الطرف، وذلك بضرب الجذر [في المكعب، فيردّ مال المال. والثاني - أن تضرب المال في نفسه، فيرد مال المال. فإن أردت المرتبة الخامسة، فلك أيضاً مسلكان: أحدهما - أن تضرب الطرف في الطرف، وذلك بضرب الجذر في] (3) مال المال، فيرد مال المكعب. هذا مسلك.

_ (1) (كان) بدون فاء في جواب (أما). وهي لغة كوفية، جرى عليها كثيراً إمام الحرمين، في هذا الكتاب، وفي غيره. (2) في الأصل: (فكل). وهو سبق قلم واضح. (3) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، على ضوء المعنى المفهوم من تسلسل المسألة.

والثاني - أن تضرب إحدى الواسطتين في الأخرى، فإن معك أربع مراتب: الجذر، والمال، والمكعب، ومال المال. والطرفان: الجذر ومال المال، والواسطتان: المال، والمكعب. فإن ضربت الجذر في مال المال، كان كما لو ضربت المال في المكعب، فكلا الضربين يرد مالَ المكعب، وهو اثنان وثلاثون، وقد حصلنا على خمس مراتب، أولاهن الجذر. فإن أردت المرتبة السادسة، اتجه لك في توليدها ثلاث جهات في الضرب: إحداها - أن تضرب الطرف في الطرف، وهو الجذر في مال المكعب، فيرد مكعب المكعب. وإذا كنت على مراتب خمسة، وأنت تبغي السادسة، فبين طرفي الخمسة ثلاث مراتب: الأولى منها المال، والثالثة مال المال، والمتوسطة منها المكعب. فإن ضربت طرف هذه الثلاثة في الطرف، رد ذلك المرتبةَ السادسة، فتضرب المال في مال المال، أو تضرب الواسطة في نفسها، وهو ضربك المكعب في نفسه، كل ذلك يرد المرتبةَ السادسةَ التي أولاها الجذر الأول. فلينظر الطالب إلى تناسب المراتب، وليعلم أنه إذا بنى المرتبة الأولى على نسبة التنصيف، تضعفت المراتب، كذلك إلى الأخيرة، وإذا انعكس من الأخيرة، تضعفت المراتب إلى الأولى. وهذا لوضعك الجذر الأول عدداً يناسب الواحد، ويناسبه الواحد بالتنصيف، والتضعيف. 6619 - فإن قدرت الجذر في المرتبة الأولى ثلاثة، فالواحد ثلثها، والثلاثة ثلاثة أمثال الواحد، فتتّسق المراتب على نسبة التثليث كذلك، إلى حيث ينتهي العامل، فمال هذا الجذر تسعة، والجذر ثلاثة، والمال ثلاثة أمثال الجذر، والمكعب سبعة وعشرون، وهو ثلاثة أمثال المال، والمال ثلثه، وهكذا إلى منتهى الاعتبار (1). 6620 - وإذا اتخذت الواحد جذراً، فضربته في نفسه، فهو في التحقيق جذر ومالٌ، فإن ضربت الجذر في المال رد الواحدَ أيضاً، وهكذا إلى غير نهاية، فالواحد

_ (1) الاعتبار: أي القياس. والمراد قياس هذا المثال برقم (3) على المثال السابق برقم (2).

جذرٌ، ومالٌ، ومكعب، ومال مال، ومال مكعب، ومكعب مكعب. 6621 - وإن أردت الجذر كسراً كالنصف، فالمال الربع، والمكعب الثمن، ومال المال جزء من ستةَ عشرَ جزءاً، ومال المكعب جزء من اثنين وثلاثين جزءاً، ومكعب المكعب جزء من أربعة وستين جزءاً، فتنعكس المراتب على نسبة تقدمها، إذا كان الجذر عدداً. وهذا مأخوذ من نسبة الواحد أيضاً، غير أن النسبة على العكس، فالجذر نصف الواحد، والمال نصف الجذر، والمكعب نصف المال، وهكذا إلى المنتهى. فهذا بيان هذه المراتب، وألقابها، وتناسبها. 6622 - وإن أردت معاني الألفاظ تقريباً من الاشتقاق، وفيه معنى مطلوبٌ أيضاً، فالجذر معناه الأصل، يسمى جذراً لكونه أصلاً للمال، حتى كأنه مُقيمه (1) وكاسبُه، ثم تخيل الحسّاب المال بسيطاً، لا سمك له، وتخيلوا المكعب مالاً على مال، وسمكه الجذر، وهو اثنان فيما رسمناه، أو ما تريد، فالمكعب مرتفع، وهذا يبين في الأشكال المجسمة، ومال المال يُقيمه المالُ، فهو من المال، كالمال من الجذر. فهذا ما ينتهي إليه الإرشاد إلى معاني الألفاظ، وقد انتهى الكلام في أصلٍ من الأصول السبعة الموعودة في مقدمة الجبر والمقابلة. الأصل الثاني في بيان ضرب هذه المراتب بعضِها في بعض، وقسمةِ بعضها على بعض 6623 - وهذا الأصل يشتمل على ألفاظٍ اصطلاحية للحسّاب، ماتوا ضعوا عليها هَزْلاً، وإنما أصدورها عن حقائق أحاطوا بها، وليس على من يبغي العلمَ بالجبر والمقابلة [إلا] (2) الإحاطة بالأصول؛ فإن [في] (3) الإحاطة بها والعلم ببرهانها الاحتواءُ على طرف صالح من الهندسة؛ فإن البرهان يقوم على العدديات من الهندسة؛

_ (1) مقيمه: بمعنى منشئه وموجده. (2) ساقطة من الأصل. (3) مزيدة من المحقق.

قيامَه في باب الضرب والقسمة، فلما طال مُدرَك أصل الجبر والمقابلة، وضع الحُسّاب المحققون عباراتٍ يتلقفها المبتدىء، ويديرها في المجاهيل، فتُفضي به إلى سرّ الطلب مع حمله (1) بالعلل والبراهين، والعالم بالباب من يحيط بكيفية استعمال مراسم الحساب، ويفهم الطرف الذي نبهنا عليه، وسنزيد في التناسب. فإن أراد أن يعرف لقب الشكل الذي نشأ منه الجبر والمقابلة، فهو في المقابلة الثانية من الاستقصات (2) لإقليدس، والشكل يعرف (بذات الوسط والطرفين). فنخوض في ذكر مراسم هذا الأصل على أقرب مسلك نقتدر عليه، فنقول: 6624 - مضمون هذا الأصل الضربُ والقسمة، فإذا أردنا أن نضرب نوعاً من هذه الأنواع في نوعٍ، فنردُّ العددَ أوّلاً إلى المراتب، ونضعه مثلاً مقدماً على الجذر، ونحصل على سبع مراتب، فإذا رمت [فالمراتب سبع] (3) أن تضرب مرتبة في مرتبة، فخذ سميَّ تلك المرتبة من المراتب السبع، والعدد أولاها، وخذ سميَّ المضروب فيه، واجمع بينهما، وانقص من المبلغ واحداً، وما بقي فمنتهاه سَمِيُّ مرتبة مبلغ الضرب. ومثال ذلك إذا أردنا أن نضرب مرتبة المال في المكعب، وقد علمنا أن المال في المرتبة الثالثة من العدد، فنأخذ سميَّها ثلاثة، والمكعب في المرتبة الرابعة من العدد، فنأخذ سميَّها أربعة، ثم نجمع الثلاثة والأربعة، ونحط واحداً أبداً، فيبقى معنا ستة، فنعلم مبلغ الضرب من جنس المرتبة السادسة من العدد، وهي مال المكعب. فإذا قيل: اضرب خمسة أموال في ستة مكاعيب تردُّ ثلاثين من جنس المرتبة السادسة وهو ثلاثون مال مكعب. وإن أردت امتحانه بالرد إلى العدد المصرح، فالمال أربعة وخمسة، منها عشرون، والمكعب على ما قدرنا ثمانية وستة منها ثمانية وأربعون، فإذا ضربت

_ (1) كذا. ولعلها: مع عمله. (2) الاستقصات: العناصر، والعناصر جمع عنصر ومعناه الأصل. وتسمى العناصر أيضاً بالأمهات، والمواد، والأركان. والعنصر جسم بسيط، أي لا يتركب من أجسام. (انظر كشاف اصطلاحات الفنون: 4/ 960، ففيه بيان وافٍ عن العناصر وخصائصها). (3) ما بين المعقفين مقحمٌ يستقيم الكلام بدونه.

عشرين وخمسة أموال في ثمانية وأربعين، فقد ضربت خمسة أموال في ستة مكاعيب، فترد تسعمائة وستين، وهذا المبلغ ثلاثون مرة اثنان وثلاثون. فهذا معنى قولنا خمسة أموال في ستة مكاعيب ثلاثون مال مكعب. ولو بلّغت المال ما بلّغت، وكذلك المكاعيب، فلا يخرج مبلغ الضرب من رتبة مال المكعب، ولكن تكثر أعدادها ونحن نعلم أن مردود المال في المكعب يزيد على مكعب المكعب، ولكن تيك زيادة لو اعتبرناها وارتقينا بها إلى مكعب المكعب، أو إلى درجة وفقها، لخرجنا عن النسبة المعتبرة في المراتب، وهي رباط حساب الباب. فهذا سبب انحصارها في المرتبة التي منها مبلغ الضرب. 6625 - وكذلك إذا ضربت كسور هذه المراتب فنشتق الأسماء من صحاحها، ونجري على الرسم المقدم، فإذا ضربت نصف مالٍ في نصف مكعب، فالمبلغ ربعُ مال مكعب. وامتحانه بالعدد الظاهر أن نقول: نصف المال اثنان، ونصف المكعب أربعة، فإذا ضربت اثنين في أربعة ردّ ثمانية، وهو ربع مال المكعب، فهذا بيان ضرب هذه المراتب، بعضها في البعض. 6626 - وأما القسمة فإذا أردت أن تقسم نوعاً من المراتب على نوع، والمراتب سبع، والعدد أولاها، فإنا نقول: إذا أردنا قسمةَ العدد على نوع من المراتب بعدها، أو على كسر من نوع، فإنا نقسم العدد كم كان على عدد مقداره ذلك النوع أو كسره، إن كان كسراً، وقد علمنا أن المقصود من القسمة بيان نصيب الواحد. فإذا بان لنا نصيب الواحد فيما نحن فيه، فحصة الواحد قيمة الواحد، هذه عبارات الحُساب. والمراد بقولهم قيمة الواحد أن تلك الحصة هي بعينها واحد من النوع المقسوم عليه. مثال ذلك: أردنا أن نقسم ثمانين على عشرين جذراً، فقسمنا ثمانين على عشرين تخرج أربعة، فهي قيمة جذر واحد، والمراد من هذا أن الجذور إذا أطلقها الحيسوب، فهي متساوية في وضعهم، فاعْلَمْه وثِق به، فإذا قيل: اقسم ثمانين على عشرين جذراً، فكأنه قال: الجذور التي هي عشرون، وتنقسم الثمانون عليها كم يكون كل جذر؟ فنقول: كل جذر أربعة.

6627 - وإنما فرضنا في الجذور لأن كل شيء مفروضٍ يجوز أن يكون جذراً. فلو قلنا: اقسم ثمانين على عشرين مكعباً، لم يف بهذا؛ فإنا لا ندري كعباً هو أربعة على التناسب الذي ذكرناه. ولا مزيد على هذا البيان في هذه الصور إن استدَّ الفهمُ وصدق الطلب. 6628 - وإن قيل: نريد أن نقسم ثمانين على خمسة أموال، فقيمة كل مال ستةَ عشرَ، وهذا يخرج مستقيماً، ولكن بعد أن نضع العددَ على نحوِ يخرج نصيب الواحدِ منه مرتبة من المراتب المتناسبة، وهذا يستدعي أن يتقدم فهمك للمراتب، وتضع العدد بحسبها، وليس كذلك الجذر؛ فإن كل عدد قوبل بأعلى من الجذر استقام الغرض (1) فيه بما ذكرناه من أن كل شيء جذر؛ فإن معنى الجذر ما نضربه في نفسه، وهذا يتأتى في الواحد والعدد والكسْر. وبيان ذلك أنه لو قيل لك: اقسم عشرة على خمسة جذور، فكل جذر اثنان. وإن قيل: اقسم عشرة على خمسة أموال، فسنقول: كل مال اثنان، والمال في مراد القوم مالَهُ جذر ينطبق بضربٍ في نفسه فيردّه، والاثنان ليس مجذوراً، فافهم ذلك ترشُد. ولو قسمنا ثمانين عدد على مكعب وربع، تخرج قيمة المكعب الواحد أربعة وستين، وهذا المبلغ يجوز تقديره مكعباً، بأن نجعل الجذرَ أربعة، والمالَ ستة عشر، والمكعب أربعة وستين، ثم يستدعي هذا أن نضع المكعب وكسرَه وضعاً يخرج قيمة الواحد مكعباً مناسباً للمال قبله، وللجذر قبل المال، ولمال المال بعده إلى حيث ينتهي. وإن أردت قسمة عددٍ على أموال مجذورة، فينبغي أن تفرض عدد الأموال على وجهٍ إذا قسمت العدد عليها، كان كلُّ واحد مجذوراً، فنقول: نريد أن نقسم ثمانين على خمسة أموال، فكل مالٍ ستة عشرَ، وهو مجذور، وجذره أربعة، فلتتقدم

_ (1) كذا. ولعلها: الفرض (بالفاء).

معرفتك بذلك؛ حتى يكون وضعك العددَ في مقابلة عدد من المال يقع كلُّ واحد منه مجذوراً، وكذلك إذا أردت وضع عدد على مقابلة مكاعيب أو أموال، فلا بد من تقديم المعرفة، والوضع على القدر الذي ذكرناه؛ فإنه لو لم يكن كذلك، لانقسمت أعداد على أعداد، وتكون صماء، ولا انتفاع بفرض مثل هذه المقابلات؛ فإن معتمد الجذر النسبة بين المراتب، وبها استخراج المجاهيل. 6629 - وإذا أردنا أن نقسم مرتبة على مرتبة ابتداء من الجذر إلى حيث ينتهي، فهذه الأنواع إذا رُمنا قسمة أعداد منها على أعداد، فقد ذكر أصحاب الجذر عبارة اصطلاحية تروع المبتدىء، وليس فيها كبير نَزَل (1). ونحن نقول: إذا أردنا قسمة أعدادٍ من مرتبةٍ ليست من العدد، على أعداد من مرتبةٍ أخرى من المراتب الست، [فإما] (2) أن يكون بين المقسوم والمقسوم عليه واسطة، وإما ألا يكون بينهما واسطة، فإن كان بينهما واسطة واحدة أو أكثر، فنذكر مراسم الحسّاب، ثم ننبه على الغرض. قالوا: نريد أن نقسم عشرين مالاً على مال مال وربع مال مال، فنبسط مال المال مع الربع الزائد أرباعاً، ونقسم العشرين عليها، فيخص الواحد ستةَ عشرَ من العشرين، فنقول: المال الأول ستة عشر، وهذا الكلام في وضعه مخالف للقسمة المألوفة، فمن يقسم عدداً على عدد فغرضه أن يبيّن حصة الواحد من المقسوم عليه، كالذي يقسم عشرين على خمسة، فمقصوده أن حصة الواحد أربعة، وهذه القسمة موضوعة بين أعداد من الأموال ومال مال وكسر مال مال، فالغرض أن نبيّن مالاً واحداً من الأموال التي ذكرناها كم، ثم أثبتوا في ذلك نسبة، فقالوا: ننظر إلى مرتبة المقسوم ونرجع القهقرى إلى واحد، ويخرج العدد من البَيْن، ثم ننظر إلى مرتبة المقسوم عليه وهي المرتبة العالية، كفرضنا قسمة أموال على مال مال وكسر مال مال، فإن كان بين المقسوم عليه وبين المقسوم من الواسطة ما بين المقسوم والواحد، وكان

_ (1) كبير نَزَل: يقال: رجل ذو نَزَل، كثير الفضل والعطاء، وله عقل ومعرفة (المعجم) فالمعنى أن العبارة ليس وراءها كبير طائل. (2) في الأصل: فلا إما.

بعد المقسوم من المقسوم عليه [رُقيّاً] (1) وتصعّداً كبعده من الواحد انحداراً، فننظر إلى حصة الواحد من المقسوم عليه، ونأخذ ذلك العددَ، ونجعله واحداً من المقسوم. وقد يقال: هو قيمة المقسوم، أو هو مثله ومعادله، وحقيقته أنه هو، فإذاً الغرض من لفظ القسمة بيان مبلغ الواحد من الأعداد المقسومة. وإذا كان المال الواحد ستة عشر، فكأنا نقول: عشرون مالاً كل مال ستة عشر، إذا قسمت على مال مال وربع مال مال، فيخص مال المال من أعداد الأموال ما هو آحاد مال واحد، والسبب فيه أن مال المال إنما هو من ضرب المال في نفسه وإذاً عشرون يعدل مال مال وربع مال مال، فمال المال يقابل ستة عشر في نفسه، فتبيّن أن مالاً واحداً ستة عشر. وهذا لا يجري في كل قسمة يضعها الإنسان؛ فإن قائلاً لو قال: أريد أن نقسم عشرة أموال على مال مال وثلث مال مال، فعلى تقديره يخص مال مال تسعة أموال ونصف مال، ويستحيل أن يتركب مال مال من هذا؛ فإن مال المال هو الذي ماله مجذور، والتسعة والنصف ليس مجذوراً، فليقع الوضع على وجه إذا عرفنا مال المال، والمال الذي أقام مال المال، فيكون ذلك المال بحيث يُقِيمُه جذرٌ. وإن لم يكن كذلك، صار ما نسميه مالاً، جذراً، وما نسميه مال مال، مالاً. 6630 - وإن أردنا أن نقسم عشرين مكعباً على مال مكعب وربع مال مكعب، فبين المكعب والواحد إذا انحدرتَ واسطتان: المال والجذر، وإن أحببتَ قلت بين الواحد والمكعب المقسوم واسطتان: الجذر والمال، فننظر بعد ذلك إلى المقسوم عليه، وهو مال المكعب، ثم ننحدر، ونخلّف واسطتين في الانحدار، ونقول: دون مال المكعب مال المال والمكعب، ووراءهما المال، فالقسمة تبين مبلغ المال، فإذا كان حصة مال مكعب من عشرين مكعباً، قسمناها على مال مكعب وربع مال مكعب ستة عشر مكعباً، تبيّنا أن المال ستة عشر. ولو قسمنا ثلاثين مكعباً على مال مكعب وسبعة أثمان مال المكعب، فحصة مال المكعب من الثلاثين ستة عشر، فيكون الأمر على ما ذكرناه. والغرض من استعمال لفظ القسمة تبيين المبلغ الذي ينحدر إليه المقسوم عليه على

_ (1) في الأصل: رقيقاً. والمثبت تصرّف من المحقق على ضوء المعنى.

عدد الوسائط المشابه لعدد الوسائط من الواحد إلى حيث انحدر إليه المقسوم عليه. وهذا يفيد معرفة التناسب على هذه الجهات، ولا يُبيّن مسلكاً مطرداً في كل عدد يقسم على كل عدد. وإذا وضعت المال في نفسك أربعة، ثم قلت: نقسم خمسة أموال على مال مال وربع مال مال (1)، فيخص مال المال أربعة، فنعلم أن المال أربعة. هذا إذا أردت أن تستنبط ما ذكرناه من قسمة نوع على نوع وبينهما واسطة أو أكثر، فالسبيل فيه ما ذكرناه، وسرّه أن نفهم أن هذه العبارات وضعت لتبيين النسب، لا لتفيد طريقة مطردة في كل عدد. 6631 - وإن أردنا أن نقسم مرتبة على مرتبة، وكانتا متلازقتين لا واسطة بينهما، فنقول في ذلك: إذا أردنا أن نقسم ثلاثة جذور على مالٍ ونصف مال، فيخص المال جذران، فنقول: الجذر اثنان أخذاً من هذا اللفظ. فإن قلنا: نقسم أربعة جذور على مال وثلث المال فحصة المال ثلاثة جذور فالجذر ثلاثة. وإذا قلنا: نقسم خمسة جذور على مال وربع مال، فيخص المال أربعة، والجذر أربعة. وإذا أردنا أن نقسم ثلاثة أموال على مكعب ونصف، فيخص المكعب مالان. وهاهنا وقفة للناظر؛ فإن المال لا يقيم المكعب، وإنما يقيم المكعبَ ضربُ الجذر في المال، فإذا قسمنا ثلاثة أموال على مكعب ونصف مكعب، وخص المكعب مالان، فخذ لفظ التثنية وقل: مكعب المكعب اثنان، والمكعب هو الجذر بنفسه، فجذر المال اثنان، والمال أربعة. وإذا أردنا أن نقسم خمسة أسباع جذر على أربعة أتساع مال، فقد قدمنا في

_ (1) صورتها هكذا 5 أموال ÷ 1/ 4 1 مال مال = 5 ÷ 5/ 4 = 5/ 1 × 4/ 5 = 20/ 5 = 4 أي أن مال المال (4) وبعبارة أخرى إذا قسمنا خمسة أموال، مال مال وربع مال مال، فيقع مال المال أربعة أجزاء من خمسة أي أنه أربعة أموال من خمسة.

الفرائض سبيل قسمة الكسر على الكسر: قلنا: نضرب الخمسة وهو أجزاء الأسباع في مخرج التسع وهو تسعة، فيرد خمسة وأربعين، هذا هو المقسوم ثم نضرب أجزاء الأتساع [في سبعة] (1) وهو مخرج السبع، فيردّ ثمانية وعشرين، وهذا هو المقسوم عليه، ثم نقسم خمسة وأربعين على ثمانية وعشرين. والمقصود من القسمة بيان حصة الواحد، وحصة الواحد واحدٌ وسبعةَ عشرَ جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً، فتبينا أن هذا هو الجذر. وكل ما ذكرناه في ضرب المراتب وقسمة المراتب على المراتب من غير جمع. 6632 - وإن أردنا أن نضرب نوعين في نوعين أو أنواعاً في أنواع، فهذا مما يجب الاهتمام به، وعليه تدور أقطابٌ وأصول من الجبر والمقابلة. وقد أجرى الحُسّاب ألفاظاً لا بد من اتباعهم فيها، ثم نذكر حقائقها على ما يليق بهذا المجموع. والوجه أن نذكر اصطلاحاتهم أولاً في أشياء، ثم نذكر طريق عملهم في استعمال تلك الألفاظ. ثم نذكر تحقيقها. فمما أطلقوه: الشيء وعَنَوا به الجذر، وإذا ضربوا شيئاً في شيءٍ سمَّوا المردودَ مالاً، بحملهم الشيءَ على الجذر، وقالوا: إذا ضربنا ثابتاً (2) في ثابتٍ، فالمبلغ ثابت. وإذا ضربنا ثابتاً في ناقص، فالمبلغ ناقص، وإذا ضربنا ناقصاً في ناقص، فالمبلغ ثابت زائد، وأرادوا بالناقص الاستثناء من ثابت، كقولك عشرة إلا شيئاً في عشرة إلا شيئاً فـ (إلا شيء) نفيٌ في الحقيقة؛ فإنه استثناء من ثابت، والاستثناء من الثابت نفي. ثم إذا انتهَوْا في تقاسيم الضرب إلى الاستثناء قالوا: إلا شيء [في] (3) إلا شيء مال زائد، وهذا هو المعني بقولهم الناقص في الناقص ثابت زائد. فإذا ثبتت عباراتهم. قالوا في طريق العمل: إذا أردنا أن نضرب عشرة دراهم إلا

_ (1) زيادة من المحقق، لاستقامة العبارة. (2) واضحٌ أن المرادبـ (الثابت) الموجب، والمراد بـ (الناقص) السالب. (3) في الأصل: وإلا شيء.

شيئاً في شيء، فالعشرة في الشيء عشرة أشياء، وإلا شيء في شيء مال ناقص. [فحصل] (1) معنا عشرة أشياء إلا مال. وقالوا: عشرة دراهم إلا شيئاً في عشرة دراهم إلا شيئاً مائة من العدد، ومالٌ إلا عشرين شيئاً، وفصلوا ذلك، فضربوا أربع ضربات، وقالوا عشرة في عشرة مائة، وإلا شيء في عشرة إلا شيء عشر مرات، فيفيد هذا الضرب تعديد الاستثناء عشراً، ثم نضرب عشرة في إلا شيئاً فترد إلا شيئاً عشرَ مرات، كما ذكرنا، ثم نضرب إلا شيئاً في إلا شيئاً فتردُّ [مالاً زائداً] (2)، ثم نجمع ونقول: عشرة إلا شيئاً في عشرة إلا شيئاً مائة من العدد، ومال زائد إلا عشرين شيئاً. فهذه عباراتهم وعملهم، ومن لم يعرف حقائقها، كان على عماية. 6633 - ونحن نذكر تحقيق هذه الألفاظ، وردَّها إلى أمثلة عديدة حتى يزول اللبس عن المعنى ولا يبقى قَصْرٌ (3) في التقليد، ثم يعسر بعد ذلك اتباع القول على عباراتهم. فنبدأ بضرب عشرة إلا شيئاً في عشرة إلا شيئاً، فنقول: الشيء هو الجذر، فإذا قلنا: عشرة إلا شيئاً، فكأنا نقول: عشرة إلا اثنين، فإذا حملنا الشيء على هذا في أحد العددين، حملنا الشيءَ عليه من العدد الثاني في أصل ضرب عشرةٍ إلا شيئاً في عشرةٍ إلا شيئاً، [فصار] (4) ضَرْبَ ثمانية في ثمانية، وذلك يردُّ أربعة وستين، والشيء اثنان على ما فرضنا، وضرب الثمانية في الثمانية مائة إلا عشرين شيئاً (5)، والشيء اثنان، وجعلناه مالاً زائداً، وهو الأربعة الحاصلة من ضرب إلا شيء في إلا شيء

_ (1) في الأصل: فجعل. (2) في الأصل: مالان أبداً. (3) القَصْر: التقصير، وهو أيضاً الغاية (المعجم)، فكأن المعنى: لا يبقى تقصير في التقليد. أي اتباع الحُسّاب، أو لا تبقى غاية وكفاية في التقليد، بل يكون العمل عن فهم وعلم بحقيقة المصطلحات. (4) زيادة من المحقق. (5) وصورة المعادلة بالأرقام هكذا: (10 - 2) × (10 - 2) = 100 - (20×2) + 2×2 فالنتيجة هكذا: 8×8= 100 - 40+4 أي 64= 60+4

الزائدة على شيئين، وإنما سماه الحُسّابُ مالاً زائداً؛ فإنه لا يتعلق بالمستثنى والاستثناء منه، فقد تبين أن ضرب عشرة إلا شيئاً في عشرة إلا شيئاً مائةٌ إلا عشرين شيئاً ومالٌ زائد، جذره شيء. ولو قدرنا الجذر الناقص ثلاثة، قلنا: التقدير عشرة إلا ثلاثة في عشرة إلا ثلاثة، والحاصل مردود ضرب سبعة في سبعة، وهو تسعة وأربعون، فنقول: [السبعة في السبعة] (1) مائة إلا عشرين شيئاً، وكل شيء ثلاثة. ومعنا مال زائد جذره ثلاثة، وهذا تسعة وأربعون. فهذا تحقيق ما أرادوه، وحاصل ما اصطلحوا عليه من العبارات. ومما نضربه في ذلك مثلاًً أنا إذا قدرنا الجذر واحداً، وقلنا عشرة إلا واحد في عشرة إلا واحد، فحاصل ذلك ضرب تسعة، في تسعة، والمردود واحد وثمانون، فتسعة في تسعة مائة إلا عشرين شيئاً أو جذراً، وكل جذر واحد، ومعنا مال زائد، وهو واحد، وهو مردود في واحد. وهذا قياس الباب. 6634 - ومما نذكره في بيان ما قالوه: الناقص في الثابت ناقص، وقالوا على ذلك: إذا أردنا أن نضرب عشرةَ دراهم إلا شيئاً في شيء، فالعشرة في الشيء عشرة أشياء، وإلا شيء في شيء مال ناقص. وبيان ذلك أنا نقول: معنى قولهم: عشرة إلا شيئاً في عشرة إلا جذراً، وليكن ذلك الجذر اثنين، والشيء من الجانب الآخر اثنان أيضاً، فنضرب ثمانية في اثنين، فيردّ ستة عشر، وقولهم: إلا شيء في شيء مال ناقص، أرادوا به أن عشرة إلا شيء في شيء عشرةُ أشياء إلا أن نحطَّ من هذا مالاً بضَرْب اثنين في نفسه، فالمبلغ عشرون إلا مالاً ننقُصُه، فالمعنيّ بالمال الناقص أنه ينقص من المبلغ مال. فإن قيل: اضرب عشرة دراهم وشيء في عشرة دراهم إلا شيئاً، فمعناه عند التحقيق ضرب عشرة وجذر، وليكن الجذر اثنين في عشرة إلا جذراً، وهو ثمانية،

_ (1) في الأصل: التسعة في التسعة. والتصويب من المحقق حيث واقع المسألة هكذا: عشرة إلا شيء، والشيء هنا (ثلاثة) في عشرة إلا شيء تردّ مائة إلا عشرين شيئاً، زائد مال زائد جذره ثلاثة. وصورتها بالأرقام هكذا: (10 - 3) × (10 - 3) = 100 - (20×3) +3×3.

والمقصود ضرب اثني عشر في ثمانية، والمردود ستة وتسعون. ومراسم الحسّاب فيه أن يقال: نضرب عشرة في عشرة، فتكون مائة، ويُضرب شيء في عشرة فتكون عشرة أشياء، ثم نضرب عشرة في إلا شيء عشر مرات، ومعنا عشرة أشياء ثابتة (1)، فيعارضها استثناء عشرة أشياء، فيقع النفي بالإثبات قصاصاً، فلا استثناء ولا إثبات، ونفي ضرب شيء في إلا شيء وشيء في إلا شيء مالٌ ناقص، فيخرج منه أن عشرة وشيئاً في عشرة إلا شيئاً مائة تنقص منها مالاً. وقد بينا أن المردود ستة وتسعون وهذا المبلغ ناقص عن المائة بأربعة، والأربعة مال جذره اثنان، فقد نقصنا عن المائة مالاً. فإن قيل: عشرة دراهم وشيء في شيء إلا عشرة دراهم. قلنا: طريقة الحُسّاب أن نضرب عشرة دراهم في شيء، فتصير عشرة أشياء، ويُضرب شيءٌ في شيء فتصير شيئاً، ثم نضرب عشرة دراهم في إلا عشرة، فتكون إلا عشرة مائة مرة، ثم نضرب الشيء في إلا عشرة، فيرد عشرة أشياء ناقصة، فنعارضها بالأشياء التي كانت معنا، فنسقط الإثبات بالنفي، ولم نتحصل على طائل إلا ضرب شيء في شيء مع الاستثناء وضرب الشيء في الشيء مال، فالمبلغ مالٌ واحد إلا مائة درهم. هذا رسمهم، وردّه إلى التحقيق أن الغرض ضرب عشرة وجذر في جذر إلا عشرة، وليكن هذا الجذر الزائد على العشرة أكثر من العشرة؛ فإنا لو جعلنا الجذر عشرة مثلاً، فسنجعل الجذر في الجانب الآخر عشرة أيضاً، ولا يتأتى استثناء العشرة من العشرة، فنقول: عشرة وأحد عشر، ومن الجانب الآخر الجذر أحد عشر، والعشرة استثناء منه فبقي واحد، فكأنا نريد أن نضرب العشرة والجذر في بقية الجذر بعد استثناء العشرة، فيردّ ضربُ أحدٍ (2) وعشرين في واحدٍ أحداً وعشرين، والجبري يقول: نضرب أحدَ عشرَ في أحدَ عشرَ، ونستثني منه مائة، فيبقى أحد وعشرون، فيستوي الجبران، ولكن ينتظم للجبري ضرب جذر في جذر. ونحن إذا حققنا بالتمثيل، لم نفعل ذلك؛ فإنا طولبنا برد عشرة بضرب عشرة

_ (1) ثابتة: أي موجبة ليست مستثناة، أي ليست بناقصة. (2) في الأصل: أحد عشرين (بدون واو العطف).

وشيء في بقية جذر، وضرب الجذر وعدد في بقية جذر لا يكون مالاً. فهذا كشف الغطاء في معنى هذه الألفاظ، مع طرد مراسم الحسّاب. 6635 - ومما بقي من الباب جمعُ أنواعٍ من الضرب، وهو سهل، فإذا قال قائل: اضرب الشيء في شيء وعشرة دراهم، فقد استدعى ضرب شيء في نوعين: شيء وعشرة، والعشرة عدد، فنقول: الشيء في الشيء مال، والشيء في العشرة عشرة أشياء، فمبلغ الضرب مال وعشرة أشياء. فإن قيل: اضرب ثلاثة أشياء في أربعة من العدد، وستة أشياء، وخمسة أموال، فنضرب ثلاثة أشياء في أربعة من العدد، فتكون اثني عشر شيئاً، وتضرب ثلاثة أشياء في خمسة أموال، فتكون خمسة عشر مكعباً، فنضرب ثلاثة لأن ضرب الجذر في المال مكعب، ونضرب ثلاثة أشياء في ستة أشياء، فتكون ثمانيةَ عشرَ مالاً، فمبلغ الضرب خمسة عشرَ مكعباً، وثمانيةَ عشرَ مالاً، واثنا عشر شيئاً. فإن قيل: اضرب عشرة أعداد وشيئين في خمسة أعداد وثلاثة أشياء، فنضرب العشرة في الخمسة، فتكون خمسين من العدد، ونضرب العشرة في ثلاثة أشياء، فترد ثلاثين شيئاً، ثم نضرب شيئين في خمسة، فتكون عشرة أشياء، ونضرب شيئين أيضاً في ثلاثة أشياء، فتكون ستة أموال، فمبلغ الضرب ستة أموال وأربعون شيئاً وخمسون عدد. الأصل الثالث في ضرب الجذور والأعداد في الجذور والأعداد، وقسمة بعضها على بعض، ثم ضرب الكعاب والأعداد في الكعاب والأعداد، وقسمة بعضها على بعض 6636 - فنقول: إذا أردت أن تضرب جذر عددٍ في جذر عددٍ، فاضرب المجذور في المجذور، فجذر ما بلغ هو المبلغ المطلوب. مثاله: [إذا] (1) أردنا أن نضرب جذر أربعة في جذر تسعة، ضربنا الأربعة في التسعة تردّ علينا ستة وثلاثين، فنأخذ جذره وهو ستة، وهذا مردود ضرب جذر

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

الأربعة في جذر التسعة، وضرب جذر الأربعة في جذر التسعة قريب لا عسر فيه، ولكن غرض الحسّاب أن يثبتوا أولاً أن ضرب المجذور في المجذور إذا أجذر مبلغه، كان كضرب الجذر في الجذر. ثم إذا ثبت لهم هذا، توصلوا به إلى تقريبٍ في الأعداد [الصُّم] (1)، فنقول: الخمسة أصم جذره غير مُنْطق، وإن كانا مُهَنْدَسا (2)، وكذلك السبعة ليست مجذورة مُنْطقة الجذر، فنقول: ضرب جذر الخمسة في جذر السبعة كجذر المبلغ الذي يردّه ضربُ الخمسة في السبعة، وهو خمسة وثلاثون، وهذا الجذر أصم أيضاً. واعلم أنك إذا ضربت عدداً جذره مُنطق في عدد جذره منطق، فالمبلغ يكون مجذوراً على جذر منطق، وإذا ضربت عدداً جذره منطق في عدد جذره أصم، فالمبلغ يكون أصمّ لا محالة، وإذا ضربت عدداً جذره أصم في عدد جذره أصم، فالمبلغ [ربما] (3) كان جذره أصم، وربما كان جذره منطقاً، فإن ضربت اثنين في ثمانية، فهما أصمّان، ومبلغ ضرب أحدهما في الثاني ستة عشر، وهو منطق الجذر وجذره أربعة، فإذا ضربت خمسة في سبعة، فالمردود خمسة وثلاثون، وهو أصم. فإذا أردت أن تضرب جذر عدد في عدد آخر، فاجعل العدد الذي تريد الضربَ فيه مجذوراً بأن تضربه في نفسه، فيئول إلى ضرب جذر عدد في جذر عدد. مثاله: أردنا أن نضرب جذر تسعة في خمسة، فضربنا الخمسة في نفسها، فبلغ خمسة وعشرين، أردنا أن نضرب جذر تسعة في جذر خمسة وعشرين، فنضرب التسعة في خمسة وعشرين، فبلغ مائتين وخمسة وعشرين، فأخذنا جذرها، وذلك خمسة عشر، فهو مبلغ ضرب جذر تسعة في جذر خمسة وعشرين. وإذا أردنا ضرب جذر عدد أصم في عدد معلوم، نحو جذر ثمانية في خمسة فنجعل الخمسة مجذورة بأن نضربها في نفسها فتكون خمسة وعشرين، ثم نضرب خمسة

_ (1) في الأصل: انضم. وهو تحريف واضح، والعدد (الأصم) هو العدد الذي لا جذرَ له، مثل 5، 7؛ فلا يوجد عدد صحيح يمكن أن يكون مردود ضربه في نفسه 5 أو 7. (2) كذا. والمعنى: أن هذا الرقم الذي جذره أصم له جذر مُهنْدَسٌ، أي يُعرف بالهندسة. (3) في الأصل: كلما.

وعشرين في ثمانية فترد مائتين، فالمبلغ أصم، ولكنا نعلم أن جذر المائتين كضرب جذر الثمانية في جذر الخمسة والعشرين. وإذا أردت أن تضرب كعب عدد في كعب عددٍ آخر، فاضرب أحد الكعبين في الثاني، وخذ كعب المبلغ، [فهو] (1) المبلغ المطلوب. مثاله: أردنا أن نضرب كعب ثمانية في كعب سبعة وعشرين، فضربنا الثمانية في السبعة وعشرين، فبلغ مائتين وستة عشر، وأخذ كعبها، وكان ستة، وهو المبلغ؛ لأن كعب ثمانية اثنان وكعب سبعة وعشرين ثلاثة، فإذا ضربنا اثنين في ثلاثة، رَدَّ ستة. وكذلك القول في الأعداد الصم، كقول القائل: كم يكون كعب عشرة في كعب خمسة، فنضرب العشرة في الخمسة، فتكون خمسين مكعب، هذا المبلغ أصم، ولكنا نعلم أن كعبه كمبلغ كعب العشرة في كعب الخمسة. وإذا ضربنا عدداً له كعب [منطق] (2) في عدد له كعب [منطق]، فالمبلغ كعب [مُنطق]، وإذا ضربنا عدداً له كعب [منطق] في عدد كعبه أصم، فإن المبلغ يكون كعبه أصم، لا محالة، على القياس الذي ذكرناه في الجذور الصم، والمنطقة. وإذا ضربت عدداً كعبه أصم في عدد كعبه أصم، فربما كان المبلغ كعب [منطق]، وربما كان كعب المبلغ أصم. فهذا ما أردناه في ضرب جذر عدد في جذر عدد، وفي ضرب جذر عدد في عدد، وفي ضرب كعب في كعب، وفي ضرب كعب في عدد.

_ (1) في الأصل: فما. (2) في الأصل: " مطلق " ولعل الصواب ما اخترناه، فهو المقابل للأصم، وقد حدث هذا التصحيف أيضاً في كتاب (مفاتيح العلوم، للخوارزمي)، فقال: " الجذر المطلق " مع أنه يعرفه بقوله: " هو المنطوق به، وهو ما يعرف به حفيقه مقداره، ويمكن أن ينطق به "؛ فكل هذا يوحي بأن الصواب (المُنْطَق) لا (المطلق). (مفاتيح العلوم، بيروت، دار الكتاب العربي، 1401هـ - 1984 م، ص: 221).

[القول في القسمة]

[القول في القسمة] 6637 - فأما القول في القسمة، فإذا أردنا قسمة جذر الأربعة على جذر التسعة، قسمنا الأربعة على التسعة، فخرج أربعة أتساع، فأخذنا جذرها، وذلك ثلثا واحدٍ، فهو نصيب الواحد، إذا قسمت الجذر على الجذر. وبيان ذلك أن الأربعة الأتساع جذرها ثلثا واحد؛ فإنك إذا ضربت ثُلُثيْن في ثُلثيْن ردّ أربعة أتساع [فجذر] (1) الأربعة الأتساع هذا القدر، وإذا قسمت جذر الأربعة، وهو اثنان على جذر التسعة، وهو ثلاثة، فنصيب الواحد الثلثان، وهو جذر أربعة أتساع. فإن أردنا أن نقسم جذر عددٍ على عدد، أو أردنا أن نقسم عدداً على جذر عدد، فنجعل العدد مجذوراً، فيؤول الأمر فيه إلى قسمة جذر عدد على جذر عدد، وقد وضح الرسم فيه، فمتى قسمنا عدداً له جذر [منطق] على عددٍ له جذر [منطق]، فالخارج من القسمة، وهو نصيب الواحد جذر [منطق]، فإذا قسمنا مالاً جذره [منطق] على مالٍ جذره أصم، فالخارج من القسمة أصم، ومتى قسمنا مالاً جذره أصم [على مالٍ جذره أصم] (2)، فقد يكون الخارج من القسمة مجذوراً [منطق] الجذر، وقد يكون الخارج من القسمة أصمّ. فإذا أردنا أن نقسم كعب عددٍ، على كعب عددٍ، قسمنا المكعب على المكعب، فما خرج من القسمة فكعبه نصيب الواحد إذا قسمت الكعب على الكعب. مثاله: أردنا أن نقسم كعبَ سبعة وعشرين على كعب ثمانية، فقسمنا سبعة وعشرين على ثمانية، فالخارج من القسمة ثلاثة وثلاثة أثمان، أخذنا كعبها، وهو واحد ونصف، فهو نصيب الواحد، إذا قسمت كعب السبعة والعشرين، وهو ثلاثة على كعب ثمانية وهو اثنان. 6638 - وإذا أردنا أن نقسم عدداً على كعب عدد، وأردنا أن نقسم كعب عدد على

_ (1) في الأصل: مجذر. (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، حيث سقطت قطعاً من الناسخ.

عدد، فنجعل العدد مكعباً، فيؤول الأمر فيه إلى قسمة كعب عددٍ على كعب عدد، وقد سبق طريقه. ومتى قُسم عدد له كعب [منطق] (1) على عدد له كعب [منطق]، فالخارج من القسمة له كعب منطلق. ومتى قُسم مال كعبه [منطق] على مالٍ كعبه أصم، فمبلغ الخارج من القسمة أصم. ومتى قسم عدد كعبه أصم على عدد كعبه أصم، فالخارج من القسمة كان كعبه منطَق، وربما كان كعبه أصم. 6639 - وإذا أردنا تضعيف جذر عدد معلوم، فاضرب اثنين في اثنين، فما بلغ، فاضربه في العدد المعلوم، فجذر هذا المبلغ ضعف جذر العدد المعلوم. مثاله: أردنا تضعيف جذر ستة عشر، فضربنا اثنين في اثنين، فبلغ أربعة فضربناها في ستة عشر، فبلغ أربعة وستين، فجذرها ثمانية، وهو ضعف جذر ستة عشر. 6640 - فإذا أردنا أن نعرف عدّة أجذار معلومة، ضربنا تلك العدّة في مثلها، ثم ضربنا مبلغها في العدد المعلوم، وقلنا: جذر ما بلغ هو عدة أجذار ذلك العدد المعلوم. مثاله: أردنا أن نعرف ثلاثة أجذار خمسة وعشرين، فنضرب ثلاثة في ثلاثة، ثم نضرب المبلغ في خمسة وعشرين، فجذرها خمسةَ عشرَ، وهو ثلاثة أجذار خمسة وعشرين. 6641 - فإن أردنا تنصيف جذرها، ضربنا نصفاً في نصف، فما بلغ ضربناه في ذلك العدد، فجذر المبلغ، هو نصف جذر ذلك العدد الأول. مثاله: أردنا تنصيف جذر أربعة وستين، فضربنا نصفاً في نصف، فبلغ ربعاً، فضربنا الربع في الأربعة وستين، فجذرها أربعة، وهو نصف جذر أربعة وستين. فإن أردنا ثلث جذر تسعمائة، ضربنا ثلثاً في ثلث، فيرد علينا تسعاً، فضربناه في تسعمائة فكان المبلغ مائة، فجذره عشرة، وهو ثلث جذر تسعمائة.

_ (1) في الأصل: " منطلق ".

6642 - فإذا عرفت ذلك، وأحطت به، ثم أردت أن تضرب عدّة أجذار عدد معلوم في [عدّة] (1) أجذار عددٍ آخرَ معلوم، فاعرف عدة أجذار كل واحد من العددين. [مثاله: إذا أردنا أن نضرب] (2) ثلاثة أجذار خمسة في أربعة أجذار ستة، فوجدنا العمل الذي قلناه قبلُ: ثلاثة أجذار خمسة جذر خمسة وأربعين، ووجدنا أربعة أجذار ستة جذر ستة وتسعين، فكأنا نريد أن نضرب جذر خمسة وأربعين في جذر ستة وتسعين. وقد تقدم الرسم فيه. فأما الأصل الرابع 6643 - فالمقصود منه جمع الجذور وتفريقُها ونقصانُ بعضها من بعض، إذا أردنا أن نضم جذر عدد إلى جذر عدد آخر، لنعلم أن المبلغ جذر أيّ عدد يكون، فهذا ممكن في عددين مجذورين، جذر كل واحد منهما منطَّق، فإن لم يكونا مجذورين، ولكن كانا بحيث لو ضرب أحدهما في الآخر، فإن المبلغ جذر منطّق، أو إذا قسم أحدهما على الآخر كان [ما] (3) يخرج من القسمة جذر صحيح، وإن لم يكن كذلك، لم يتأت جمعُ جذريهما ليكون مجموعهما جذر العدد الآخر. وكذلك القول في نقصان جذر أحد العددين من جذر [العدد] (4) الآخر إن كان العددان مجذورين، أو كان مبلغ ضرب أحدهما في الآخر مجذوراً، أو كان الخارج من قسمة أحدهما على الآخر مجذوراً، فإن الباقي من جذر أحدهما بعد نقصان الجذر الآخر منه يقدر جذراً لعدد معلوم، وإن لم يتحقق [مما] (5) ذكرناه شيء، لم يكن الباقي جذراً لعدد معلوم؛ فإنه لا يكون معلوماً لا تقديراً ولا تحقيقاً. المثال: [إذا] (6) أردنا أن نجمع جذر تسعة، وجذر أربعة، فنضم التسعة إلى

_ (1) في الأصل: عشرة: والمثبت تقدير من المحقق. (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (3) في الأصل: كما. (4) في الأصل: عدد. (5) في الأصل: ما. (6) زيادة من المحقق.

الأربعة، فتكون ثلاثة عشر، [فنحفظ] (1) ذلك، ثم نضرب التسعة في الأربعة، فتكون ستة وثلاثين، فإن شئنا أخذنا جذره [وضربناه في اثنين، فيردّ اثني عشر] (2)، وإن شئنا ضربنا الستة والثلاثين في أربعة، ثم نأخذ جذر المبلغ، فيكون (3) اثنا عشر. والمسلكان مؤديان إلى مقصود واحد، فنزيد الاثني عشر على ثلاثة عشر، التي كانت معنا، فتكون خمسة وعشرين، وجذرها جذرُ تسعة، مع جذر أربعة مجموعين، فإن جذر الخمسة والعشرين خمسة، وهي تشمل على جذر الأربعة، وهي اثنان، وجذر التسعة وهو ثلاثة. 6644 - ولا ينبغي أن يستطيل الناظر مثلَ ذلك قائلاً: إن جمع الاثنين إلى الثلاثة لا غموض فيه، والطرق الحسابية تصاغ لإخراج المشكلات، [فإنّ] (4) ما ذكرناه تمهيد لمسلك الباب في الجليات، وسنجري في الغوامض [والمعوصات] (5). فإذا أردنا أن نجمع جذر اثنين وجذر ثمانية، وهما أصمان، فنضم الاثنين إلى [الثمانية] (6)، ونحفظ المبلغ، وهو عشرة، ثم نضرب اثنين في ثمانية، ثم ما بلغ في أربعة، وأخذنا جذر المبلغ، وزدناه على العشرة المحفوظة، فتكون ثمانية عشر. وهذا المبلغ وإن كان أصم، فجذره الأصم هو جذر ثمانية، وجذر اثنين مجموعين. وإنما تأتّى لنا هذا، لأن ضرب الاثنين في الثمانية يرد عدداً مجذوراً، ولو قسمت [الاثنين على الثمانية] (7)، كان الخارج من القسمة مجذوراً أيضاً؛ فإنه ربع، والربع جذره النصف، فتأتى ما ذكرناه، وإن كان قولاً [بيّناً] (8)، ولكنه عظيم المنفعة في الأشكال الهندسية. وقد يطلقها الجبريون إذا لم يجدوا غيره.

_ (1) في الأصل: فنحط. (2) زيادة من المحقق. (3) كان تامة. (4) في الأصل: " فأما " والمثبت تصرف من المحقق. (5) في الأصل: والمعصومات. (6) في الأصل: الثلاثة. والمثبت تصرف من المحقق اقتضاه السياق. (7) في الأصل: الثمانية على الاثنين، والمثبت تصرّف منا. (8) في الأصل: " بينهما " والمثبث تقدير من المحقق.

وإن أردت أن تنقص جذر أربعة من جذر خمسة وعشرين، فاجمع الأربعة والخمسة وعشرين، تكون تسعة وعشرين، فاحفظها. ثم اضرب الأربعة في الخمسة والعشرين، فما بلغ، فاضربه في أربعة، فيكون أربعمائة، فخذ جذرها، وهو عشرون، فانقصها من تسعة وعشرين المحفوظة، فالباقي منها تسعة، فجذرها هو الباقي من جذر خمسة وعشرين، بعد نقصان جذر الأربعة منه وذلك ثلاثة. وإن أردت أن تنقص جذر خمسة من جذر خمسة وأربعين، فاجمع بينهما يكون خمسين، ثم اضرب خمسة في خمسة وأربعين، فيكون مائتين وخمسة وعشرين، فخذ [جذريها] (1) وهو ثلاثون. وإن شئت، فاضربها في أربعة فتكون [تسعمائة] (2)، فخذ جذرها، وهو ثلاثون، وانقصها من الخمسين المحفوظة عندك، والباقي عشرون، وجذرها أصم، إلا أن جذره هو الباقي من [جذر] (3) خمسة وأربعين بعد نقصان [جذر] (4) خمسة منه. هذا قياس الباب فيما ذكرناه. وأما الأصل الخامس 6645 - فالمقصود منه بيان الاستثناء، ومقابلة الناقص بالكامل، والثابت بالمنتفي، وإذا تقابلت جملتان، فإن كان مع أحدهما أو مع كلّ واحد منهما استثناء من جنسه في الجانب الآخر ثابت، فيسقط من الثابت مقدار الاستثناء من جنسه، ثم نجمع ما بقي. فإن كان الاستثناء من غير جنس الثابت، ولم يكن معهما استثناء، فنجمعهما كما هما، فأما النقصان والتفريق، فنجبر فيه الاستثناء من كل واحدٍ منهما بزيادته على الآخر، ثم ننقص أحدهما من الآخر.

_ (1) في الأصل: جذريهما. (2) في الأصل: سبعمائة. (3) زيادة من المحقق. (4) ساقطة من الأصل.

مثال الجمع: أردنا أن نجمع بين جذر ثمانين إلا خمسة، وبين عشرة إلا جذر [ثمانين] (1)، فيسقط الزائد بالناقص من المتجانسين مِثْلاً بمثلِ، فيحصل معنا خمسة، وهي المجموع الذي أردناه. وبيان ذلك أنا أردنا الجمع بين جذر ثمانين إلا خمسة فقد ذكرنا إثبات الجذر واستثناء خمسة، فكان ذلك نفياً وإثباتاً، وقلنا في الجانب الثاني عشرة إلا جذر ثمانين. فأثبتنا العشرة، ونفينا الجذر الثابت في الجانب الذي قدمناه بالجذر الذي نفيناه في الجانب الثاني، فكأنه لم يجر للجذر ذكر، وذكرنا في جانبٍ عشرة، ونفينا خمسة، فنُسقط خمسة من العشرة؛ مقابلة للإثبات بالنفي، فسلم من جميع الجملة خمسة. ومثال النقصان: نريد أن نَنقُصَ جذر مائتين إلا عشرة، من عشرين إلا جذر مائتين، فالسبيل فيه أن نجبر أولاً جذر المائتين بالعشرة، ونزيد على عديله عشرة، فصار ثلاثين إلا جذر مائتين، فننقص الآن منها جذر مائتين، فبقي معنا ثلاثون إلا جذري مائتين، وذلك هو الباقي من عشرين إلا جذر مائتين بعد نقصان جذر مائتين إلا عشرة منه، وقس على ما ذكرناه أمثاله. وأما الأصل السادس 6646 - فمقصوده معرفة مناسبة الجذور والكعبات واشتراكها وتباينها، فنقول: نسبة الجذر إلى الجذر تكون أبداً مثل نسبة المجذور إلى المجذور مثنَّى بالتكرير. مثاله: نسبة جذر الأربعة إلى جذر التسعة كنسبة الأربعة إلى التسعة مثنى بالتكرير. وبيانه أن الاثنين، وهو جذر الأربعة إذا نسبناه إلى ثلاثة، وهي جذر التسعة، فتكون الاثنان ثلثي الثلاثة، والأربعة ثلثا ثلثي التسعة، فإنها ثلثا الستة، والستة ثلثا التسعة، فقد وجد التكرير في نسبة المجذور إلى المجذور، ولم يوجد التكرير في نسبة الجذر إلى الجذر. ونسبة الكعب إلى الكعب كنسبة المكعب إلى المكعب مثلثاً بالتكرير: مثاله - كعب

_ (1) في الأصل: ثمانية.

الثمانية [اثنان] (1)، وكعب السبعة والعشرين ثلاثة، والاثنان ثلثا الثلاثة من غير تكرير، والثمانية التي هي مكعب الاثنين هي ثلثا ثلثي ثلثي سبعة وعشرين التي هي مكعب الثلاثة، لأن الثمانية ثلثا اثني عشر، والاثنا عشر ثلثا ثمانية عشر، وثمانية عشر ثلثا سبعة وعشرين، فبان أن نسبة الكعب إلى الكعب كنسبة المكعب إلى المكعب مثلثاً بالتكرير. 6647 - والمقادير الصم ذواتُ الجذور الصم جذورها مباينةٌ لجذور المقادير المنطقة بلا تلاقي، ولا تناسب، ولو ناسب المنطقُ الأصمَّ، لكان مجهولاً، ولو ناسب الأصمُّ المنطق، لكان معلوماً، وليس الأصم في معنى المنطق، وقد ننسب عدداً أصم الجذر إلى عددٍ أصمَّ الجذر ويكون جذراهما يشتركان في القوة اشتراكاً أصم لا يتأتى النطق به، كما لا يتأتى النطق بالجذر الأصم، وذلك مثل: جذر عشرة، وجذر خمسة بينهما اشتراك بالقوة، لأنا إذا ربّعنا كلَّ واحد من العددين وضربناه في نفسه، وجدنا بين المبلغين تناسباً؛ فإن الخمسة والعشرين وهو مربع الخمسة يناسب المائة، وهو مربع العشرة، فنعلم أن جذريهما الأصمين مشتركان بالقوة، وإن لم يكن ذلك الاشتراك منطوقاً به، ولا يتأتى النطق بجزئيته، لأنا إذا ضربنا الخمسة في العشرة، لم يكن المبلغ مجذوراً، وإذا قسمنا العشرة على الخمسة، لم يكن الخارج من القسمة مجذوراً، وهو اثنان. وكذلك إذا قسمنا الخمسة على العشرة، فالخارج من القسمة نصفٌ، وليس بمجذور. وإذا لم يتحقق شيء مما ذكرناه، فلا تتأتى العبارة عن جزئية في الاشتراك. ولكن إذا كان مربع أحد العددين يناسب مربّعَ الثاني، فنعلم أن بين جذريهما وإن كانا أصمين مناسبةً بالقوة والإمكان، وإن لم يكن وجه الاشتراك منطوقاً به. وإن كان الأصمان بحيث لو ضرب أحدهما في الثاني، كان المبلغ مجذوراً، وكان أحدهما لو قسم على الثاني، لكان الخارج من القسمة مجذوراً، تَأَتَّى التعبير عن الجزئية، وإن كان العددان أصمّين.

_ (1) ساقطة من الأصل.

ومثال ذلك: الاثنان والثمانية، فنقول: جذر الاثنين نصف جذر الثمانية؛ فإن الاثنين لو ضربا في الثمانية، لكان المبلغ مجذوراً. ولو قسم كل واحد منهما على الثاني، لكان الخارج من القسمة مجذوراً، فنعلم أن [جذر] (1) الاثنين نصفُ جذر الثمانية؛ لأن الاثنين نصف نصف الثمانية، وقد ذكرنا أن نسبة الجذر إلى الجذر كنسبة المجذور إلى المجذور مثنًّى بالتكرير. وإنما هذه الأصول نطلقها عن تقليد، وإنما يبرهن عليها الهندسةُ، ولكنا نأخذها عن ظنون مستندة إلى مراسم مطردة، ولو حاولت البرهان عليها من الاستقصات (2)، لم [نُعنَّ] (3)، ولكن القول فيه مجاوزٌ لحد الفقهاء وسردت، فاقتصرنا على المراسم، وذكرنا وجوهاً من المراسم تجري مجرى المذكِّرات. 6648 - وخرج مما ذكرناه أن الأصم والمجذور متباينان، لا اشتراك بينهما بوجهٍ، والأصمان إذا تناسب مربعاهما، ولكن لم يكن مبلغ ضرب أحدهما في الثاني مجذوراً، ولم يكن الخارج من القسمة مجذوراً إذا قسمنا أحدهما على الثاني، فنحكم من تناسب المربّعين بتناسب الجذرين الأصمين بالقوة، من غير جزئية. وإن كان الأصمان بحيث يؤدي ضرب أحدهما في الثاني إلى مبلغٍ مجذورٍ، أو كانت قسمة أحدهما على الثاني تُفضي إلى كون الخارج من القسمة مجذوراً، فالجذران متناسبان، ويتأتى التعبير عن جزئية تناسبهما على قياس تناسب الجذرين المنطقين، ولكنا نطلق الجزئية والجذران مجهولان. وكذلك إن كان المكعب الأصم إذا ضرب في مكعب أصم بلغ مكعباً منطقاً، فإذا قسم أحدهما على الآخر، خرج من القسمة مكعب [منطق] (4)، فنعلم أن كعبيهما يشتركان على القياس الذي مهدناه في الجذر.

_ (1) في الأصل: عدد. (2) الاستقصات: جمع استُقص، وهي كلمة يونانية، معناها العنصر. (3) لم نُعن. أي لم يشق علينا ويرهقنا. وهي غير واضحة بالأصل، وقدرناها على ضوء السياق. (4) في الأصل: " مطلق ".

ومعظم اعتناء الجبريِّين بالجذور والأموال والأعداد، ولا تترقى المسائل الحسابية في الفقه والمعاملات منها (1)، وإذا انتهت مسألة إلى مال مال، ومكعب المكعب، ردّوها إلى الجذر، وجعلوا المال جذراً، ومال المال مالاً. وإن لم يتأت لهم ذلك في مسألة نتكلف في تصويرها، وقفَ (2) الجبر والمقابلة. وأما الأصل السابع 6649 - فمضمونه بيان المعادلات ومأخذها، وقيم المتعادلات، وعلى هذا الأصل مدار الجبر والمقابلة، وبه يتوصل إلى استخراج الغوامض، وما قدمناه من الأصول الستة ذريعةٌ إلى هذا الأصل، جاريةٌ مجرى التوطئة والإيناس. وقد ذكرنا أن المعادلات في الشرعيات والمعاملات تقع في ثلاثة أنواع: الجذور، والأموال، والعدد. وينشأ من تعادل هذه الأنواع ستُّ مسائل: ثلاث مفردات، وثلاث مُقرنات. وهي المسائل المست المعروفة، فأما المفردات، فإنها لا تتصور تركب على الأفراد من وجهٍ رابع. وهذا إذا ذكرناه يتبينه الفاهم، فإحدى المسائل أموال تعدل جذوراً، والأخرى أموالٌ تعدل عدداً، والأخرى جذورٌ تعدل عدداً. ولا مزيد؛ فإن قلت: جذور تعدل أموالاً، فقد اندرج تحت قولنا: أموال تعدل جذوراً. وإن قلت: عددٌ يعدل أموالاً، فقد اندرج هذا تحت قولنا: أموال تعدل عدداً، فلا مزيد إذاً في المفردات المفروضة في الجذور والأموال والعدد، على هذه المسائل الثلاث. ونحن نبتديها، ونذكرها بطرقها، فإذا نجزت، خضنا في المقترنات.

_ (1) كذا في الأصل: منها، وهي بمعنى (عن)؛ حيث تأتي مرادفةً لها. (2) وقفَ أي عجز، والجملة جواب الشرط، وجملة: نتكلف في تصويرها واقعة في محل جرّ، صفة لـ (مسألة).

6650 - فأما المسألة الأولى من المفردات، فنقول: أموال تعدل جذوراً. فالوجه قسمة الجذور على الأموال، فما خرج من القسمة، فهو جذر مال واحد، وإن كان مال واحد يعدل جذوراً، فعدّة الجذور نأخذها لفظاً، ونقول هي جذر المال، مثال ذلك: مال يعدل خمسة أجذار، فمعنى هذا الكلام أن المال يساوي خمسة أجذار نفسه، هذا معناه لا غير. ولو ظن الظان أن المراد خمسةُ أجذار مبهمةٍ، وليست أجذار المال، فلا يتأتى الوفاء ببيانها قط، فليعلم الناظر أن المعنيَّ بقول الجبري: مالٌ يعدل خمسة أجذار المال، أنه يعدل خمسة أجذار نفسه. ثم يترتب عليه أن المجيب إذا أجاب بمالٍ يعدل خمسة أجذاره، فقد أجاب السائل إلى مال يعدل خمسةَ أجذار، والدليل عليه أن الأجذار لو كانت مطلقة على حسب الاتفاق (1)، لكان كل (2) مال في الدنيا يعدل خمسة أجذار، فالعشرة تعدل خمسة أجذار كل جذر اثنان، ثم (3) تدخل فيه الكسور؛ فإنها جذور، فيخرج الكلام إلى حكم الهزل، وما لا يفيد. فإذا تُصوّرت المسألة، فالوجه فيها أن نأخذ لفظَ [السائل] (4) سَمِيَّ عدّة الجذور، فإذا قال: مالٌ يعدل خمسة أجذار، قلنا: فجذره خمسة، والمال خمسة وعشرون، وهو يعدل خمسة أجذاره. وإن قال: نصف مالٍ يعدل خمسةَ أجذار، فمعنى الكلام نصفُ مالٍ يعدل خمسة أجذار المال الكامل؛ فإن كلَّ مجذورٍ في الدنيا لا يكون نصفه مجذوراً. فإن أتَوْا إلى المجذورات نسبة طبيعية، ونحن نذكر طريقها في الأعداد دون الكسور، فالمجذور الأول أربعة، فماذا ضممت إليه جذرَ الأربعة، وما بعد ذلك الجذر في رتبة العدد، انتهيتَ إلى [المجذور] (5) الثاني.

_ (1) أي كيفما اتفق. (2) في الأصل: لكل. (3) في الأصل: وثم. (4) في الأصل: المسائل. (5) في الأصل: الجذر.

وبيانه أن جذر الأربعة اثنان، وبعد الاثنين في تركّب العدد ثلاثة، فنضم اثنين إلى ثلاثة، ونجمعها إلى الأربعة، فينتهي إلى المجذور الثاني في الأعداد. ثم نأخذ جذر التسعة، وهو ثلاثة، ونضمُّ إليه ما بعد الثلاثة في العدد وهو أربعة، ونجمعها إلى التسعة، فينتهي إلى ستةَ عشرَ، وهو المجذور الثالث. ثم نأخذ جذر الستة عشرَ، وهو أربعة، ونضم إليه ما بعد الأربعة، وهو خمسة، ونجمعها إلى الستةَ عشر فينتهي إلى المجذور الرابع، وهو خمسة وعشرون، فكذا ترتيب المجذورات، إلى غير نهاية. ومن خواصها أن تَرتُّبَها أن بين كل مجذورين جذر الأول والثاني، فبين الأربعة والتسعة خمسة، وهو جذر الأربعة والتسعة. وبين التسعة والستة عشر [سبعة، وهي] (1) جذر التسعة والستة عشر، وهكذا إلى غير نهاية. ويخرج منه أن كل عدد كان مجذوراً لم يكن نصفه مجذوراً، [ ..... ]، (2)، فإذا قيل: نصف مال يعدل خمسة أجذار، فمعناه أنه يعدل خمسة أجذار المال الكامل، فإذا وضح ذلك، قلنا: نُكمل النصف مالاً، فنزيد عليه مثله، ونزيد على الأجذار مثلَها، فيكون كقول القائل: مال يعدل عشرة أجذار، فجذر المال عشرة، والمال [مائة] (3)، ونصفها خمسون، وهو مثل خمسة أجذار المال. وإذا قيل: ثلثا المال يعدل عشرة أجذار، فنكمل المال، ونزيد عليه مثل نصفه، فيكمل، ونزيد على عدّة الأجذار مثلَ نصفها. ويقال: مال يعدل خمسة عشر جذراً، فالجذر خمسة عشر، والمال مائتان وخمسة وعشرون. فإن قال: خمسة أموال تعدل عشرين جذراً، فالوجه في هذا النوع أن نقسم عدد الجذور على عدد الأموال، فنقول: إذا قابلت خمسةُ أموالٍ عشرين جذراً، فكل مال

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (2) في المكان الخالي بين المعقفين كلامٌ مقحم نصه: " وكل عدد كان نصفه مجذوراً ". وهو خلل واضح. (3) ساقطة من الأصل.

يعدل أربعة أجذار، فيكون ذلك كقول القائل: مال يعدل أربعة أجذار، فجذر المال أربعة، والمال ستة عشر. وإن قال: خمسة أموال تعدل خمسة عشر جذراً، فالوجه قسمة الخمسة عشر على الخمسة، كل واحد من الأموال ثلاثة، فيؤول غرض السؤال إلى قول القائل: مال يعدل ثلاثة أجذار، فجذر كل مال ثلاثة والمال تسعة. فإن ذكر السائل في صيغة سؤاله عدداً من الجذور في مقابلة عدد من الأموال، وكان بحيث لو قسمنا الجذورَ على الأموال، لقابل كلَّ مالٍ جذرٌ وجزءٌ، مثل أن يقول: خمسة أموال تعدل سبعة جذور ونصف، فإذا قسمنا [السبعة] (1) والنصف على الخمسة، قابل كلَّ مالٍ جذرٌ ونصفٌ، فالمسألة مستحيلة في الوضع؛ فإن المال لا يكون مجذوراً على هذا النسق، ولا يتصور مالٌ يعدل مثلَ جذر نفسه، ومثلَ نصف جذره، نعم، يتصور أن يكون الواحد والنصف جذراً، فيكون المال حينئذ اثنين وربعاً، ولكن الواحد والنصف جذرٌ واحد، فلا بد في هذا النوع من ذكر المقابلة على وجه يقع في مقابلة كل مال عند القسمة عدد صحيح، أو واحدٌ، لا كسر معه. فإن قال: عشرة أموال تعدل عشرين جذراً، فيقابل كلُّ مال [جذرين] (2)، فكل مال أربعة، وجذره اثنان. فإن قال: عشرة أموال تعدل عشرة جذور، فكل مال واحد، وجذره واحد. فأما إذا نقصت [عدّة] (3) الجذور عن عدد الأموال، فالعبارة مستحيلة، وكذلك إذا كانت القسمة تقتضي كسراً. فهذا بيان مسألة واحدة من المفردات، وهي معادلة [الأموال للجذور] (4). 6651 - فأما الثانية، فهي أن تعدل الأموالٌ عدداً، كقول القائل: مالٌ يعدل ستة

_ (1) في الأصل: سبعة. (2) في الأصل: جذراً. (3) في الأصل: عدد. (4) في الأصل: للأموال المجذورة.

عشرَ، فهذا النوع سهل في الوضع، والمراد أن المال ستةَ عشرَ، وجذره جذر ستةَ عشرَ، وهو أربعة. فإن قال: خمسة أموال تعدل خمسة وأربعين، فرُدَّ الأموالَ إلى خمسها، والعددَ إلى خمسه، فيكون كقول القائل: [مالٌ] (1) يعدل تسعة، فالتسعة مجذورة، وجذرها ثلاثة. ثم هذا النوع ينبغي أن يوضع وضعاً يكون العدد مجذوراً في نفسه. وإذا وضع على وجهٍ لا يكون العدد مجذوراً، فالمال الذي يقابله لا يكون مجذوراً، كقول القائل: مال يعدل سبعة، فنقول المال سبعة، وليس له جذر منطق، والغالب على عادات الحسّاب إذا أطلقوا ذكر المال أن يريدوا به المجذورَ؛ فإن المال الذي هو إقامة ضرب جذره في نفسه. وإذا لم يكن الجذر منطقاً، فلا يتأتى منّا وضع مالٍ بطريق ضرب جذره في نفسه. فإن كنت تعني بالمال المجذورَ الذي جذره منطق، فينبغي أن يوضع العدد في مقابلة المال مجذوراً، وإذا وُضعت أموالٌ في مقابلة عددٍ، فينبغي أن يوضع العدد وضعاً لو قسم على الأموال، لكان الخارج من القسمة مجذوراً، فإن لم تُرد بالمال المجذورَ، فلا استحالة في تسمية الأصم مالاً؛ فإن له جذراً في علم الله تعالى، لا يطلع على مقداره غير الله، والهندسة تبين جذرَ الأصم عياناً، ولكن لا تنتظم عبارةٌ غيرُ (2) مبلغه ومقداره. فإذا كان المراد هذا، وقال السائل: مالٌ يعدل خمسة، فالمال خمسة، ولكن الغالب في الوضع في مراسم الحُسّاب ما ذكرناه من طلب كوْن المال مجذوراً في وضع المسائل. فإن قال السائل: ثلث مالٍ يعدل سبعةً وعشرين، فَنكمل جزء المال، ونُبْلغه مالاً بأن نزيد عليه مثليه، وإن أردنا قلنا: بأن نزيد عليه ضعفه، ثم نزيد على العدد أيضاً ضعفه، فحصل معنا مالٌ يعدل أحداً وثمانين، فالمال هذا المبلغ وجذره

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) المعنى: الهندسةُ تبين جذر الأصم عياناً، بغير عبارة وألفاظ، فقط يظهر مبلغه ومقداره.

تسعة، وقد وضعنا المسألة وضعاً إذا كمل المال نزيد على العدد [مثليه] (1)، كان المبلغ مجذوراً على حسب ما ذكرناه الآن. 6652 - المسألة الثالثة من المفردات - جذورٌ تعدل عدداً، فالوجه أن نقسم العدد على الجذور، فما خرج من القسمة، فهو قيمة جذرٍ واحد. مثاله: خمسة أجذار تعدل عشرين من العدد، فالجذر أربعة، وهو جذر ستةَ عشرَ، ولا حاجة في هذا القسم إلى تكلفٍ في الوضع؛ فإنه إذا قوبل عددٌ بجذرٍ، فكل عدد في عالم الله يجوز أن يكون جذراً، ولو أخرجت القسمةُ كسوراً، فلا استحالة؛ إذ لا كسر إلا ويجوز أن يكون جذراً، وإذا قال السائل: عشرة من العدد تعدل عشرين جذراً، [فكل] (2) جذر نصف، وماله ربع، وهذا لا إشكال فيه. وإن قال: نصف جذر يعدل العشرة، والجذر التام يعدل عشرين، فالمال أربعمائة. وقد نجز القول في وضع المسائل الثلاث في المعادلات المفردة. 6653 - فأما إذا فرضت المعادلات مقترنةً، فينتظر مع الاقتران ثلاث مسائل في الوضع بلا مزيد، ولا يُتصوّر غيرُها إذا كان [سائغاً] (3) من الأنواع الثلاثة: المال، والجذر، والعدد. فيركب الاقتران منها، ثم يقع نوعان في صورة الاقتران في جانب، ونوعٌ واحدٌ في مقابلهما. ولا يتأتى تركيب الاقتران من الثلاثة إلا كذلك، فيتصور إذاً ثلاث مسائل: أموال وجذور تعدل عدداً، وأموال وعدد يعدل جذوراً، وجذور وعدد يعدلان أموالاً. 6654 - المسألة الأولى: مال وجذر يعدلان عدداً. فإذا قال القائل: مال وعشرة أجذار يعدلان تسعة وثلاثين من العدد، فمعنى الكلام: أيّ مالٍ إذا زيد عليه عشرة أجذاره، بلغ تسعة وثلاثين.

_ (1) في الأصل: مثله. (2) في الأصل: وكل. (3) في الأصل: شائعاً.

هذا وضع السؤال، ومن ضرورة هذا النوع إضافة الجذور إلى المال، والتقدير مالٌ وعشرة [أجذاره] (1) تعدل عدداً، وحق ذلك أن يوضع وضعاً ينتظم فيه التقدير إذا أردناه، حتى لو قال السائل: مال وعشرة أجذار تعدل ثلاثين من العدد، لم يكن الكلام مستقيماً؛ فإنك لا تجد مالاً مجذوراً تزيد عليه عشرةَ أجذار، فيبلغ ثلاثين، فالرسم المعهود من الحُسّاب له مسلكان في هذا المعنى: أحدهما - يؤدي إلى إدراك الجذر، والثاني - يؤدي إلى المال نفسه. فأما السبيل الذي يؤدي إلى الجذر، فالرسم فيه أن ننصفَ عدد الأجذار، ونضرب نصف العدد في نفسه، ونزيدَ مبلغه على العدد المذكور في مقابلة المال والجذور، وتأخذ جذر ما بلغ، وتنقص منه نصفَ هذه الأجذار، فما بقي فهو جذر المال، فنقول في هذه المسألة التي وضعناها: نأخذ نصفَ الجذور خمسة، ونضربها في نفسها، ونزيد المبلغ على العدد المذكور في المسألة، وهو تسعة وثلاثون، فيبلغ أربعة وستين، فنأخذ جذرها ثمانية وننقص منها نصف الأجذار، وهو خمسة، فيكون الباقي ثلاثة، وهو جذر المال، والمال تسعة، فإذا زدنا عليها عشرة أجذارها، بلغ تسعة وثلاثين. وأما الطريق التي تؤدي إلى مبلغ المال أن نضرب عدد الأجذار وهي في هذه المسألة عشرة في مثلها، فتكون مائة، فنضرب هذه المائة في العدد المذكور، وهو في هذه المسألة تسعة وثلاثون، فيبلغ ثلاثة آلاف وتسعمائة، فنحفظ هذا المبلغ، ثم ننصف المائة ونأخذ نصفها، خمسين، ونضربه في مثله، فيكون ألفين وخمسمائة فنزيدها على ثلاثة آلاف وتسعمائة، فيصير المبلغ ستة آلاف وأربعمائة، فنأخذ جذرها، وهو ثمانون. ونضم خمسين إلى العدد المذكور في المسألة، فتصير تسعة [وثمانين] (2)، ثم نحط من هذا المبلغ المجموع الثمانين، التي هي جذر ستة آلاف وأربعمائة، وننظر إلى الباقي، وهو المال. وحقيقة هذا الفن لا يطلع عليها إلا من يعلم أنه لا يجري في كل عدد كما قدمناه،

_ (1) في الأصل: أجذار. (2) في الأصل: ومائتين.

فليوضع العدد وضعاً إذا زاد على المال أعداد أجذاره المذكورة، لكان مقابلاً للعدد الموضوع في سؤال السائل، هذا لا بد منه، فيحتاج الحاسب أن يتطلع على ما يمكن أن يقابل المالَ وجذره من العدد، ثم نضع المسألة لإرشاد الطالب في عدد يستقيم، كما ذكرناه. 6655 - المسألة الثانية من المقترنات: أموالٌ وعددٌ يعدل جذوراً، كقول القائل: مالٌ، وأحدٌ وعشرون من العدد يعدلان عشرة أجذار، فمعنى السؤال: أي مالٍ إذا زدت عليه أحداً وعشرين درهماً، كان المبلغ مثل عشرة أجذار ذلك المال؟ وفي هذا النوع المعادلة طريقان كل واحد منهما يؤدي إلى الزيادة مرة، وإلى النقصان أخرى، وقد يؤدي إلى أحدهما دون الآخر، ثم يجري مسلكان: أحدهما - يؤدي إلى جذر المال. والثاني - يؤدي إلى معرفة المال بعينه. [فأما] (1) الذي يؤدي إلى الجذر، فالرسم فيه أن ننصف الأجذار، ونضرب نصفها في مثلها، وننقص العدد المذكور في المسألة من مبلغها، ونأخذ جذر ما بقي وننقصه من نصف الأجذار، ونزيده عليه، فما بقي بعد النقصان، أو بلغ بعد الزيادة، فهو جذر المال، فربما خرجت المسألة بالزيادة والنقصان، وربما خرجت بالنقصان دون الزيادة، وربما خرجت بالزيادة دون النقصان. ففي هذه المسألة نضرب نصف الأجذار وهو خمسة في مثلها، فتبلغ خمسة وعشرين، فننقص منها العدد وهو أحد وعشرون، فيكون الباقي أربعة، فنأخذ جذرها، وذلك اثنان، [فإذا زدناه] (2) على نصف الأجذار، فيكون سبعاً، وهو جذر المال: تسعة وأربعون، فإذا زدنا عليها أحداً وعشرين من العدد، بلغ سبعين، وهي مثل عشرة أجذار المال.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: " فأي شيء زدنا " والمثبت تصرف من المحقق على ضوء حقائق المسألة ومعطياتها الحسابية.

[وإن شئنا] (1) نقصنا الاثنين من نصف [الجذور] (2)، فيكون الباقي ثلاثة، وهو جذر المال تسعة، وإذا زدنا عليه أحداً وعشرين، بلغ ثلاثين، وهي مثل عشرة أجذار تسعة، التي هي المال. وقد خرجت المسألة بالزيادة والنقصان. ومعنى ذلك أن المسألة موضوعة وضعاً يتأتى فيه الجواب بطريق الزيادة، ويكون سديداً، ويتأتى فيها الجواب بطريق النقصان، ويكون سديداً. ويحتاج هذا الفن إلى وضع العدد المضموم إلى المال على وجهٍ ينتظم فيه معادلة المال، والعدد الموضوع معه بعدد جذوره، وهذا إنما يتأتى بأن يفرض الواضعُ مالاً في نفسه مجذوراً، ويقدر له جذوراً، ونعرف مبلغها، ثم يضم إلى المال عدداً يقابل ذلك المبلغ، ثم يذكر الطريق. وقد يتأتى له الوضع مع الزيادة، وقد يتأتى الوضع مع النقصان، وقد يتأتى [معهما] (3). وإن وضع السائل عدداً إذا ضربنا نصف الأجذار في مثله، كان مبلغه أقلّ من العدد المذكور في المسألة مع المال، فالمسألة مستحيلة. فإن كان المبلغ مثلَ العدد الذي معك في المسألة، فخذ الجذر مثلَ نصف عدد الأجذار، ولا تحمل عدداً أكثر من هذا. ومثاله: مالٌ، وخمسة وعشرون من العدد تعدل عشرة أجذار المال. فنضرب نصف العشرة في نفسه فيصير خمسة وعشرين، فجذره خمسة، وهو جذر المال، فالمال خمسة وعشرون، والمضموم إليه خمسة وعشرون، والجملة تعدل عشرة أجذار خمسة وعشرين. فإن كان ما يرده ضربُ نصف الأجذار أكثرَ من العدد المضموم إلى المال، فينبغي أن يكون بحيث لو نقص منه العدد، لكان الباقي مجذوراً، حتى لو قيل مالٌ وعشرةٌ من

_ (1) في الأصل: " وأي شيء "، وهو تصحيف تكرر آنفاً. (2) في الأصل: " الجذر " والمراد نصف عدد الجذور المفروضة في المسألة. (3) في الأصل: معها.

العدد تعدل عشرة أجذاره، فالعشرة لو حُطّت من مبلغ ضرب نصف الأجذار في نفسه، لبقي خمسة [عشر] (1)، وليست خمسةَ عشرَ مجذوراً، فلا ينتظم الكلام على الجذور المنطقة. فهذا وجه التنبيه على حقيقة هذا النوع وأقسامه. وقد ذكرنا في المسألة التي وضعناها ما يؤدي إلى معرفة الجذر. فأما الطريق التي تؤدي إلى معرفة المال، فالرسم في هذه المسألة أن نضرب عدد الجذور في نفسه فتبلغ مائة، ثم نضرب هذه المائة في العدد الذي في المسألة، وهو أحدٌ وعشرون فيبلغ ألفين ومائة، ثم نأخذ نصفَ المائة، ونضربها في مثلها، فيكون ألفين وخمسمائة، فنُسقط منه المبلغَ الأول وهو ألفان ومائة، فيكون الباقي أربعمائة، فتأخذ جذرها، وذلك عشرون، فإن شئت، فأسقطها من الخمسين التي هي نصف المائة، فيكون الباقي ثلاثين، فأسقط منها الواحد والعشرين، التي كانت مع المال، فيكون الباقي تسعة، فهي المال. وإن شئت فرُدَّ العشرين إلى الخمسين، فيكون سبعين، ثم أسقط منها الواحد والعشرين التي مع المال، فيكون الباقي [تسعة] (2) وأربعين، وهو المال، فخرجت الزيادة والنقصان في المال، كما خرجا في السبيل المؤدي إلى الجذر، وهكذا يكون لا محالة. 6656 - المسألة الثالثة من المقترنات: جذورٌ وعدد تعدل أموالاً. مثل قولك: ثلاثة أجذار، وأربعة من العدد يعدلان مالاً. وفي هذا النوع [سببان يُفضي] (3) أحدهما إلى مبلغ الجذر، والثاني إلى مبلغ المال. فأما ما يؤدي إلى الجذر، فالرسم فيه أن نضرب نصفَ الأجذار في مثله، ونزيد المبلغ على العدد، ونأخذ جذر ما بلغ، [ونزيده] (4) على نصف الأجذار، فما بلغ،

_ (1) زيادة من المحقق، لا تصح المسألة إلا بها. (2) في الأصل: سبعة. (3) في الأصل: سبب لأن يقتضي. (4) في الأصل: نزيد.

فهو جذر المال، ففي هذه المسألة نضرب نصف الأجذار، وهو واحد ونصف في مثله، فيردّ اثنين وربعاً، فنزيدها على العدد وهو أربعة، فيبلغ ستةً وربعاً، فنأخذ جذره، وهو اثنان ونصف، ونزيد ذلك على نصف الأجذار، وهي واحد ونصف، فيبلغ أربعة، وهو جذر المال، فالمال ستة عشر. فإذا أخذنا ثلاثة أجذاره، وزدنا عليه أربعةً من العدد، كان المبلغ ستةَ عشرَ، مثلَ المال. وليس يخفى على الفطن -وقد ذكرنا الغرض مراراً- أن هذه المسائل لا بد من وضعها على التقدير الذي يصح، وليس ما يسترسل على كل عدد في كل جذر. والسبيل الذي يؤدي إلى المال في المسألة التي ذكرناها أن نضرب الأجذار، وهي ثلاثة في نفسها، فتصير تسعة، ثم نضرب هذه التسعة في العدد الذي معنا، وهو أربعة، فيبلغ ستة وثلاثين، فنحفظ هذا، ثم نأخذ نصفَ التسعة وهو أربعة ونصف، فنضربها، في مثلها، فيكون عشرين وربعاً، فنزيدها على الستة والثلاثين، فتبلغ ستة وخمسين وربعاً، فنأخذ جذرها، وهو سبعة ونصف، ومعنا نصف التسعة، والأربعة الموضوعة في العد المذكور في المسألة، والجملتان ثمانية ونصف، فنزيد عليها سبعة ونصف، فيبلغ ستة عشر، وهي المال، فيخرج كما خرج بالعمل الأول. وإذا ذكرت عدداً من المال في المعادلات، فالوجه أن ترده إلى مالٍ واحد، ورُدَّ كل نوع من النوعين الآخرين إلى مثل ما رددت إليه المال، ثم استعمل فيه الرسوم التي ذكرناها. وإن كان جنس المال جزءاً من المال، أو أجزاء دون التمام، فكمّل المال، ثم زد على واحدٍ من النوعين الآخرين، وهما الجذور والعدد مثل ما زدته في جنس المال بالنسبة، ثم تستعمل فيه الرسوم. فهذه قواعد الجبر في المفردات، والمقترنات، وستزداد تهذّباً إذا خرجنا عليهما مسائل الكتاب، إن شاء الله عز وجل. ونحن نبتدىء بعد ذلك بالقول في الوصية بالجزء والنصيب ونستعين بالله، وهو خير معين.

القول في الوصية بالأنصباء، والأجزاء الشائعة

القول في الوصية بالأنصباء، والأجزاء الشائعة 6657 - قد تقدم كلامٌ بالغٌ في الوصية بأنصباء الورثة، وسبق تفصيل القول في الوصية بأجزاء المال، وأوضحنا في كل نوع ما يليق به، ويُفيد الناظر استقلالاً فيه، حملاً وحساباً. ونحن الآن نبتدىء القولَ في الوصية بنصيب بعض الورثة، مع الوصية بجزءٍ من المال. وأول ما يقتضي الترتيبُ ابتداءه أن نقسّم، فنقول: إذا أوصى بنصيب وجزءٍ شائع، لم يخل، إما أن يكون الجزء الشائع مضافاً إلى كل المال، وإما أن يكون مضافاً إلى ما يتبقى بعد النصيب. فإن كان مضافاً إلى كل المال، [فلا] (1) حاجة في إيضاح الجزءِ، والنصيب إلى الطرق الجبرية، والمسالك المستنبطة منها. ولكن سبيل إيضاح ذلك وتصحيحه، كسبيل تصحيح مسائل الفرائض. وإن وقعت الوصية بالنصيب، ثم بجزءٍ مما بقي بعد النصيب، أو بجزءٍ من جزءٍ يعدل النصيبَ، فمسائل هذا النوع تتعقّد، ولا يمكن استخراجها بحساب الفرائض، فإذ ذاك نستعمل الطرق الجبرية، وما استخرجه الحُسّاب منها، وسبب الاحتياج إليها، أن الجزء إذا أضيف إلى ما تبقى بعد النصيب، والنصيبُ في وضع المسألة مجهول، والباقي مجهول، وتكثر الأنصباء بقلة الجزءِ، وتقل بكثرة الجزءِ، ثم تنعطف قلّة أنصباء البنين على قلة [النصيب] (2) الموصى به، وإذا [قلّ] (3) ذلك، كثر الباقي، فلا بد لمن يحاول الإفهام والتقريب من ذكر مراسم الحُسّاب. وإذا كان الجزء مضافاً إلى جزءٍ مما يبقى بعد النصيب، فيتضمن ذلك الجهالة المُحْوِجَة إلى الجبر والمقابلة، وهو كالوصية بثلث ما بقي من الثلث بعد النصيب.

_ (1) في الأصل: ولا. (2) في الأصل: نصيب. (3) في الأصل: قال.

وكذلك الوصيةُ بالنصيب مع استثناء جزءٍ مما تبقى، يفتقر إلى الجبر والمقابلة، وهو كما لو أوصى بنصيب أحد البنين إلا عُشر ما بقي من المال، أو من جزءٍ. ونحن نأتي بهذه الفصول مفصلةً، ونأتي في كل فصلٍ منها بطرق مطردةٍ، أصل جميعها الجبر والمقابلة، أصل (1) الجبر أسرار النسبة. ولو اطلع مطّلع على سرّ النسبة، لم يحتج إلى شيء من مراسم الحسّاب، ولكن الوصول إلى حقائق النسب ليس بالهين، وتقع الهندسة، وخواصُّ العدد المسمى ريماطيقي جزءاً منها، وأشبه شيء بالنسب، [والطرقِ] (2) الموضوعة في الحساب الذوقُ في الشعر مع العروض، فمن استدّ ذوقه، قال الشعر، ومن لا يترقى ذوقه، نظم، [و] (3) قام له العروض مقام الذوق، إذا أحكم مراسمها. كذلك طرق الحُسّاب إذا تمرن المرء عليها، أهدته إلى إخراج المجاهيل، وقد تطول دُرْبته فيها، فيتطلع إذ ذاك إلى النسب. 6658 - ونحن نبدأ بالقسم الأول: وهو ما لا يحوج إلى الجبر، ويقع الاكتفاء فيه بحساب الفرائض. فنقول: إذا أوصى بنصيب أحد البنين، وأوصى بجزءٍ من جميع المال، فإن كانت الوصيتان جميعاً تخرجان من الثلث، أو زادتا عليه، وأجاز الورثة الزائدَ على الثلث، فالوجه أن [يُجعلَ] (4) الموصَى له بالنصيب [كأحد] (5) البنين، ونلقيه في جانبهم، ونقيم لفريضة الوصية بجزء من المال مسألة، ثم نقسم ما يفضل من ذلك الجزء على البنين، وعلى الموصَى له بالنصيب. وإن كان الباقي من فريضة الجزء ينقسم على فريضة البنين، وقع الاكتفاء بها.

_ (1) كذا: " أصل الجبر .. " بدون واو. وهو أسلوبٌ سائغ. (2) في الأصل: فالطرق. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: يحصل. (5) في الأصل: لأحد.

وإن كان الباقي لا ينقسم على فريضة البنين، ضربنا فريضتهم، أو وَفْقَها -إن كان وفقٌ- في فريضة الوصية بالجزء، وأعدنا القسمة. وإن زادت الوصيتان على الثلث، [وردّ] (1) الورثةُ الزيادة، [نحصر] (2) الوصيتين في الثلث، ونقسم الثلث بينهما على نسبة القسمة في الإجازة. وبيان ذلك بالأمثلة: أوصى لواحد بثلث ماله، ولآخرَ بمثل نصيب أحد الأولاد، وله خمسة من البنين، فنجعل الموصى له بالنصيب ابناً سادساً، ونقيم فريضتهم من ستة، وفيهم الموصى له بالنصيب، ثم نقيم فريضة الوصية بالجزء. فإن كان أوصى بثلث ماله، ففريضة الوصية من ثلاثة: يسلم إلى الوصية سهم، فيبقى سهمان يوافقان فريضة الورثة والموصى له بالنصيب بالنصف، فنضرب نصف ستة في فريضة الوصية، فتصير تسعة: للموصى له بالثلث ثلاثة، والباقي ستة بين البنين وبين الموصَى له بالنصيب على استواء؛ لكل واحدٍ منهم سهم، والوصيتان زائدتان على الثلث؛ فإن الأربعة من التسعة أكثر من ثلث المال. فإن أجاز الوارثون، فذاك. والأمر على ما بيّناه. فإن ردّ الورثةُ الزيادة، نحصر الوصيتين في الثلث، ونقسمه بين الموصى له بالثُلث، وبين الموصى له بالنصيب أرباعاً، فنجعل الثُلثَ أربعةً: للموصى له بالثلث منها ثلاثة، وللموصَى له بالنصيب سهم. وطريق تصحيح المسألة أن نجعل الفريضتين: فريضة الوصية، وفريضة الميراث من ثلاثة، ثم نُقيم فريضة الوصية من أربعة، وفريضة البنين من خمسة، فإن الموصى له بالنصيب وقع في الثلث، ثم سهم من الثلاثة ينكسر على فريضة الوصية، وهي أربعة، وسهمان ينكسران على فريضة البنين، وهي خمسة، وليس بين الأربعة والخمسة موافقة بجزء صحيح، فنضرب خمسة في أربعة فتصير عشرين، ثم نضربها في أصل المسألة، وهي ثلاثة، فتصير ستين.

_ (1) في الأصل: عدّ. (2) في الأصل: ويحصره.

ولو قلت في الابتداء: نحتاج إلى عددٍ [يخرج منه] (1) ثلث وربع وخمس: الثلث [لنميّز] (2) محلّ الوصية، والربع لانقسام الثلث أرباعاً، والخمس لعدد البنين، فنطلب عدداً هو مخرج هذه الكسور، والطريق فيه أن نضرب الثلاثة في الأربعة، ثم المبلغ في الخمسة، فيردّ ستين. وإذا انقسم المال على هذا البسط أثلاثاً وأرباعاً وأخماساً، ينقسم كل جزء من أجزاء المال على هذه النسب، والوصية عشرون، وهو الثلث، نصرف ثلاثة أرباعه، وهو خمسةَ عشرَ إلى الموصى له بالثلث، ونصرف خمسة إلى الموصى له بالنصيب، ونقسم الباقي وهو أربعون على البنين الخمسة، لكل واحد منهم ثمانية [ونقص] (3) نصيبُ الموصى له بالنصيب عن نصيب واحد من البنين بسبب الرد والحصر في الثلث. وهذا قياس هذا الباب. ومن أحكم ما قدمناه، هان عليه ما ذكرناه الآن، وما في معناه، فلسنا نرى لتكثير الصور في هذا القسم معنىً. 6659 - فأما إذا أوصى لإنسانٍ بنصيب أحد البنين، وأوصى لآخر بجزءٍ بعد النصيب، فهذا يقع على صورٍ، ونحن نُفرد لكل نوع فصلاً، ونذكر ما فيه من الطرق والتقريبات. فصل في الوصية بنصيب أحد البنين مع الوصية بجزءً من الباقي بعد النصيب 6660 - رجل ترك ثلاثة بنين، وأوصى بمثل نصيب أحدهم، وأوصى لآخر بعشر ما بقي من ماله بعد النصيب. فنبدأ بطريقة الجبر فنقول: نأخذ مالاً، فنعطي منه نصيباً، فيبقى مالٌ إلا نصيب، فيخرج من هذا الباقي عُشرُه بسبب الوصية بالعشر بعد النصيب، فيبقى تسعةُ أعشار

_ (1) زيادة من المحقق. (2) فنميز. (3) في الأصل: ونفض.

مالٍ، إلا تسعة أعشار نصيب. وهذا يعدل أنصباء الورثة، وهم ثلاثة، فنجبر تسعة أعشار المال بتسعة أعشار نصيب، ونزيد على عديلها مثلَها، وعديلُها ثلاثة أيضاً، فصارت الآن ثلاثة أنصباء، وتسعة أعشار نصيب. ثم هاهنا مسلكان: أحدهما - مسلك الإكمال، والثاني - مسلك البسط. فأما مسلك الإكمال، وهو أوجز، فالوجه فيه أن نقول: معنا تسعة أعشار مالٍ، لا نقص فيها، تعدل ثلاثة أنصباء، وتسعة أعشار نصيب، فنُكمل هذا المال، بأن نزيد عليه مثلَ تُسعه، فيصير مالاً كاملاً، ثم نزيد على الأنصباء، وما معها من كسر مثلَ تسعها، وفاءً بالتعديل، فتصير الأنصباء بهذه الزيادة أربعة وثلثاً، فنبسطها أثلاثاً، فتصير ثلاثةَ عشرَ، ونبسط المال أيضاً على هذه النسبة، فيصير ثلاثة، فإذا انتهينا إلى هذا المنتهى، قلبنا الاسم والعبارة، وجعلنا النصيب ثلاثة والمال ثلاثة عشر، فيخرج من هذا المبلغ [النصيب] (1) للموصى له بالنصيب، وهو ثلاثة، فيبقى عشرة: للموصى له بعُشر الباقي سهمٌ واحد، والباقي وهو تسعة بين البنين، لكل واحد منهم ثلاثة. هذه طريقة الإكمال. 6661 - الطريقة الثانية - طريقة البسط من غير إكمال، فنقول: إن كان معك تسعة أعشار مال تعدل ثلاثة أنصباء، [و] (2) تسعة أعشار نصيب، فنبسط الأنصباء أعشاراً، فتصير الأنصباء تسعة وثلاثين، فنقلب الاسم فيهما، فيكون المال تسعة وثلاثين، والنصيب تسعة. ثم المبلغان متوافقان بالثلث، فيرد كل واحد إلى ثلاثة بطريق القطع والاختصار، فيصير المال ثلاثة عشر، وللنصيب ثلاثة ويؤول الأمر إلى ما ذكرناه في طريق الإكمال. 6662 - وذكر بعض الحُسّاب قياساً آخر في طريق الجبر، فقال: نأخذ مالاً، ونلقي منه نصيباً، فيبقى منه مال إلا نصيب، فنعطي منه لكل ابن نصيباً أيضاً، [و] (3)

_ (1) في الأصل: للنصيب. (2) في الأصل: أو. (3) الواو زيادة من المحقق.

الأنصباء متساوية، فيبقى مال إلا أربعة أنصباء، فنعلم أن هذا الباقي هو حق الموصى له بالجزء بعد النصيب. ولكنا قد علمنا أن الجزء الموصى به عُشرُ [ما] (1) بعد النصيب الأول، فنضرب هذا [المال] (2) الناقصَ بأربعة أنصباء، [في عشرة] (3)، فيردّ عشرة أموال إلا أربعين نصيباً، وهذا يعدل مالاً [إلا نصيبا] (4). وهاهنا تأمل قبل أن نجبر ونقابل، وذلك أنه حط الأنصباء الأربعة أولاً على جهالة، ثم لما ضرب في مخرج العشر ردّ الأنصباء الثلاثة إلى الأعشار، وأجرى الجبر والمقابلة بين ما بقي بعد النصيب وبين الأموال التي بسطها. والسبب فيه أن الجهالة تعتري هذه المسألة؛ من جهة أنا نُحْوَج إلى إسقاط نصيب، ثم ذلك النصيب الذي يسقط بنسب الأنصباء الباقية، فالأنصباء بجملتها تُحَطّ، ثم نبسط المالَ على تقدير حطها، ثم إذا آل الأمر إلى المقابلة دون الأنصباء الثلاثة، فإن الأموال بعد النصيب الأول تقابل الجزءَ وأنصباءَ البنين. فإذا ثبت هذا، قلنا: معنا عشرة أموال ناقصة أربعين نصيباً، تعدل مالاً ناقصاً بنصيب، فنجبر الأموال أربعين نصيباً، ونزيد على عديلها أربعين نصيباً، فينجبر المال الناقص بنصيبٍ واحد، فتبقى عشرة أموال كاملة، تعدل مالاً كاملاً وتسعة وثلاثين نصيباً، فنسقط المثل بالمثل، كما ذكرناه في مراسم الجبر، فنقول: المال من ذلك الجانب يقابل مالاً من الجانب الآخر، فيتساقطان، فيبقى [تسعة] (5) أموال في مقابلة تسعة وثلاثين نصيباً، فنقلب الاسم والعبارة، فنجعل النصيب تسعة والمال تسعة وثلاثين، ثم نرد بالاختصار إلى الثلث، كما تقدم، فيصير المال ثلاثة عشر، والنصيب ثلاثة (6)، فتلتقي الطرق.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "وعشرة" والتصويب من المحقق. وصورة المسألة هكذا: (مال - 4 أنصباء) ×10= 10 مال - 40 نصيباً. (3) في الأصل: وعشرة. (4) في الأصل: " مالا للأنصبا ". (5) في الأصل: سبعة. (6) صورة المعادلة حسابياً هكذا: =

فهذا طريق الجبر والمقابلة. 6663 - وعلينا على إثر ذلك أن نبين شيئين: أحدهما - أن نلحق ذلك النوع بمسألة من المسائل الست، فنقول: هي من المفردات، وهي من قبيل مقابلة أعدادٍ بأشياء مجهولة، حتى يتبين حصة كل شيء، ثم أجرينا مراسم الجبر والمقابلة والتكميل، وإسقاط المتماثلين. والثاني - أن الجبريين استعملوا قلب العبارة والاسم، وهذا في ظاهره كالتحكم، وهو لائحٌ؛ فإن المال إذا قسم على الأشياء المجهولة، انبسطت انبساطها، فصارت مالاً، وثبت لهم بمناسبة الجبر أن عدد المال قبل البسط كعدد النصيب، فقالوا: كذلك نقلب العبارة، ونجعل المقسومَ المنبسط على الأنصباء مالاً، والمناسبَ للنصيب على ما أخرجه الجبر نصيباً. يحققه أنك إذا قسمت، قلبت المال وجذر كل نصيب، كما قلبت العبارة إليه، غير أنهم وجدوا النصيب المخرج مجهولاً، وامتحنوا القسمة المخرجة للقلب، فأطلقوا عبارة القلب ليسهل حطّ النصيب وإخراجُه، وقسمة الباقي. 6664 - طريقة الخطأين (1)، وهي طريقة قدماء الحكماء، وهي تذكر على

_ = 10 أموال - 40 نصيبا= مال - نصيب. فنجبرها بالزيادة والنقص هكذا: 10 أموال - 40 نصيباً+40 نصيباً - مال= مال - نصيب+40 نصيباً - مال. فنُسقط الزائد بالنافص، فيبقى معنا: 9 أموال= 39 نصيباً فنقلب الاسم والعبارة، فيكون: النصيب 9، والمال 39. والباقي لا يخفى. (1) حساب الخطأين عند المحاسبين: اسم عمل يعلم به العدد المجهول بعد الخطأين. (ر. كشاف اصطلاحات الفنون: 2/ 402) وفيه مزيد شرح وتمثيل لهذا النوع من الحساب. بصورة أوضح مما عرضها إمامنا. وانظر الموسوعة العربية العالمية مجلد 16 ص 524 مادة (العلوم عند المسلمين) فقد جاء فيها: "استخرج رياضيو العرب والمسلمين المجاهيل العددية عن طريق التحليل بطريقين أخريين، قلّما يعرفهما شخص في العصر الحديث سوى المتخصصين في الرياضيات، وهاتان =

وجهين: يسمى أحدهما - الخطأ [الأصغر] (1) ويسمى الثاني - وهو مبني على الأول - الخطأ [الأكبر] (2). فأما الخطأ الأكبر، فهو أن يخطىء خطأين، ثم يخرج الصواب من بينهما، والخطأ الأصغر هو الذي يخرج الصواب بخطأٍ واحد. فأما [الأصغر] (3) فتأخذ عشرة لاحتياجك إلى العُشر، وتزيد عليه واحداً لعلمك بالاحتياج إلى إخراج نصيب، وهذا الواحد تزيده لذلك، ثم تأتي بعده بعَشْر، وانظر ما يكون، وامتحن، فتدفع إلى الموصى له بمثل نصيبٍ واحداً؛ فيبقى عَشرة، وتدفع عشرها إلى الموصى له بالعشر بعد النصيب؛ فيبقى تسعة، يأخذ منها كلُّ ابن واحداً؛ فإنك قدَّرت النصيب واحداً؛ فيفضل ستة أسهم، فهذا هو الخطأ الأول، وقد زاد المال على ما قدرناه من الأنصباء. فنزيد النصيب سهماً آخر، ونجعل المال اثني عشر، والنصيبَ اثنين، فندفع إلى الموصَى له بمثل النصيب اثنين، فيبقى عَشرة، فندفع عشرها إلى الموصَى له الثاني، تبقى تسعة، يأخذ كل ابن منها اثنين، يبقى ثلاثة، وهي الخطأ الأصغر. نكتفي بهذا، ونقول تبيّنتَ أن المال ثلاثة عشر، وهو الغرض الأعظم، فأخرج ثلاثة إلى النصيب، وواحداً إلى الموصى له بالعشر بعد النصيب، واقسم التسعة على ثلاثة بنين، فنصيب كل واحد منهم ثلاثة، وتنتظم المسألة. هذا تمام بيان الخطأ الأصغر. وصاحب الخطأ الأكبر يجاري صاحبَ الخطأ الأصغر إلى رجوع الخطأ إلى ثلاثة،

_ = الطريقتان هما: حساب الخطأين، والتحليل والتعاكس. وكانت لهم مؤلفات في ذلك منها: كتاب الخطأين لأبي كامل الحاسب المصري، وكتاب حساب الخطأين ليعقوب بن محمد الرازي، وغيرهما، وكانت هاتان الطريقتان شائعتين عند العرب، وأكثر استخداماً من غيرهما". ا. هـ. واقرأ بعد هذا -إن شئت- نماذج وشرحاً لهذا النوع من الحساب. (1) في الأصل: الأكبر. (2) في الأصل: الأصغر. (3) في الأصل: الأكبر.

ثم يقول في هذا المنتهى: هذه الثلاثة التي تبيّنتْ تحفظُها، فهي الأصل، وعليها القسمة، وبها استخراج المال والنصيب. فنقول: الخطأ الأول ستة، والخطأ الثاني ثلاثة، فنضرب المال الأول الذي قدرناه وهو أحد عشر في الخطأ الثاني وهو ثلاثة، فيردّ ثلاثة وثلاثين، ثم نضرب المال الثاني وهو اثنا عشر في الخطأ الأول وهو ستة، فيرد اثنين وسبعين، فنحط الأقل من الأكثر، وإذا حططنا ثلاثة وثلاثين من اثنين وسبعين، بقي المال تسعة وثلاثين. فهذا هو المال المبسوط. ثم نقسم هذا المبلغ على ما أعددناه للقسمة، وهو الخطأ الثاني، وذلك ثلاثة، وإذا قسمنا تسعة وثلاثين على ثلاثة، فالخارج من القسمة ثلاثة عشر، وهو المال بعد الاختصار. وإذا أردنا أن نعرف النصيبب، ضربنا النصيب الأول، وهو سهم واحد كما زدناه على العَشر في الخطأ الثاني، وهو ثلاثة، فيرد ثلاثة، ثم نضرب النصيب الثاني وهو اثنان، كما زدناهما على العشرة في الخطأ الأول، وهو ستة، فيرد علينا اثنا عشر، فننقص الأقل من الأكثر: ثلاثة من اثني عشر، فتبقى تسعة، فنقسمها على الثلاثة التي أعددناها للقسمة عليها، فيخرج من القسمة ثلاثة، وهي النصيب؛ فالمال إذن بعد القسمة ثلاثة عشر والنصيب بعد القسمة ثلاثة. فهذا بيان الخطأ الأكبر. وصاحب الأصغر إذا تبين له الغرض، اكتفى، وانكف عن العمل. وصاحب الخطأ الأكبر مُتذكّر بعِدّة الخطأ الأصغر، ثم امتزج الكلام، وبان المسلكان جميعاً على النسق الذي ذكرناه. 6665 - طريقة ثالثة تعرف بطريق الندب، وهو أن نقسم سهام الفريضة على البنين وهي ثلاثة، ثم نطلب عدداً له عُشر، وهو عشرة، لاحتياجنا إلى العشر، فيبقى من كل سهم عُشرُه، بسبب الوصية بعشر ما تبقى، فيصير نصيب كل ابن تسعة أعشار، فيتبين أن النصيب الموصى به تسعةُ أعشار، ثم نضم العشرَ إلى أنصباء البنين؛ [إذ] (1)

_ (1) في الأصل: إذا.

كان غرضنا بما قلنا أن نبيِّن النصيب وقد بيّناه، فالمال كله ثلاثة أنصباء (1). وإن أحببت، قلت: ثلاثة سهام وتسعة أعشار سهم، فنبسطها بالضرب في مخرج العشر أعشاراً، فنبسط كلَّ سهم بالأعشار والمجموع تسعة وثلاثون، فهذا هو المال المبسوط الذي منه القسمة، والنصيب تسعة. فإذا أردنا الاختصار، رددنا كل شيء إلى ثلثه، فإنه [مشترك] (2) بجزء الثلث، فنرد المال إلى ثُلثه وهو ثلاثة عشر، ونرد النصيب إلى ثلاثة. 6666 - طريقة أخرى تعرف بطريقة الحشو، وسبيلها أن نقيم سهامَ الفريضة على البنين، وهي ثلاثة، ثم نطلب عدداً له عُشر، فنأخذ عُشره، وهو واحد، فنضربه في سهام البنين وسهم الموصى له، فيبلغ أربعة، فنضربها في العشرة، فتبلغ أربعين، فنلقي منها سهماً أبداً، وهذا سمي سهم الحشو، والطريقة تلقب بالحشو لذلك، فتبقى تسعة وثلاثون. وهو المال. ثم نرجع إلى الثلاثة التي [هي] (3) سهام الفريضة، فنأخذ نصيب الوارث الموصى بمثل نصيبه من أصل المسألة قبل الضرب الذي ذكرناه، وهو سهم واحد، فنضربه في عشرة، فيرد عشرة، فنلقي من العدد سهمَ الحشو، وهو واحد، فتبقى تسعة، فهي النصيب وآل الأمر إلى اختصار المال والنصيب كما قدمناه. وقيل: إن محمدَ بنَ الحسن كان يعوِّل على هذا في الدور والوصايا. 6667 - طريقة أخرى تعرف بالمقادير: وهي أن نعطي الموصى [له] (4) بمثل النصيب نصيباً، فيبقى من المال مقدار، فندفع عُشره إلى الموصى له الثاني، فتبقى تسعة أعشار مقدار، نقسمها بين ثلاثة بنين: لكل ابن ثلاثة أعشار مقدار، فنعلم بذلك أن النصيب الذي أخذه الموصى له بمثل النصيب كان ثلاثة أعشار مقدار، [فابسطها] (5)

_ (1) كذا. ولعلها: فالمال كله ثلاثة أنصباء، وتسعة أعشار نصيب. (2) في الأصل: " متركه " وهو تصحيف واضح. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: فأسقطها.

أعشاراً، فتصير ثلاثة عشر، والنصيب منها ثلاثة. 6668 - طريقة أخرى تعرف بطريق القياس: وهو أن نُقيم سهام الفريضة على البنين، وهي ثلاثة، ونزيد على كل سهم مثلَ تسعه من أصل الوصية بالعشر من الباقي؛ لأن عشر كل شيء مثل تسع الباقي منه بعد إسقاط عشره، فصار ما قدمناه للبنين ثلاثة أسهم وثلاثة أتساع، وهي في التحقيق ثلاثة وثلث، فتزيد النصيب منها، ولا تزيد عليه شيئاً، إنما زدنا على نصيب البنين لمكان تقديم العشر بعد النصيب، فإنا نقدر في هذه الطريقة ضمَّ الوصية الثانية إلى نصيب البنين، فحصل معنا إذاً سهام البنين والوصيتين أربعة وثلث، فنبسطها أثلاثاً، فتصير ثلاثة عشر، وهو المال. وقد بان النصيب. 6669 - طريقة أخرى تشهر بطريق الدينار [والدرهم] (1): فنقول: المال كله دينار وعشرة دراهم، لذكره العشرة، فنصرف الدينارَ إلى الموصى له بالنصيب، ونصرف درهماً إلى الموصى له بعشر ما بقي فتبقى تسعة دراهم، نقسمها على البنين، فيحصل كل واحد على ثلاثة دراهم، فتعلم أن قيمة الدينار ثلاثة دراهم، فنعود ونقول: المال ثلاثة عشر درهماً، ويتسق العمل على نحو ما ذكرنا. واستعمل عثمان بن أبي ربيعة الباهلي هذه الطريقة وسمى الدينار شيئاً، فقال: المال شيء وعشرة دراهم، فأقام الشيء مقام الدينار، وسميت الطريقة العثمانية، وهي بعينها طريقة الدينار والدراهم. 6670 - وذكر بعضُ الحذاق طريقةً قريبةً من طريقة المقادير والقياس، وهي حسنةٌ، قريبة المأخذ، فنقول: إذا أوصى بنصيب وبالعُشر بعد النصيب، فننظر إلى عدد البنين، فنعطي أولاً الموصى له بالجزء بعد النصيب سهاماً على عدد البنين، وهم ثلاثة في المسألة، ثم نضرب هذه السهام في مخرج العشر ونسلم منها ثلاثة إلى الموصَى له بعشر الباقي، ويقسم السبعة والعشرين على ثلاثة من البنين، فيخص كلَّ واحد تسعه، فنستبين أن النصيب تسعة، فنزيد تسعة على ثلاثين، وقد بان المال المبسوط والنصيب المبسوط. ولا يخفى طريق الاختصار، وهذا حسن.

_ (1) زيادة من المحقق؛ فذلك اسمها الكامل، وسيتكرر فيما بعد.

وإنما أُخذ نصيب الموصى له بالجزء بعد النصيب من عدد البنين، من جهة أن ذلك لا بد وأن يتضعّف بضرب عدد البنين في المخرج، ثم يكون الجزء متضعفاً بعدد رؤوس البنين. ونمتحن الطريقة بالزيادة في عدد البنين، وتغيير الجزء، حتى يستبين للمسترشد اطرادُ الطريقة، فلو أوصى لرجل بنصيب أحد البنين، وهم خمسة، وأوصى لآخر بربع ما تبقى من المال بعد النصيب، فنقدِّر للموصى له بالجزء خمسةَ دراهم أخذاً من عدد البنين، ثم نضربه في أربعة، فيردّ عشرين، فنحط منه خمسة، فتبقى خمسةَ عشرَ، بين خمسة من البنين، ويخص كل واحد منهم ثلاثة، وقد بان أن النصيب ثلاثة، فنضم ثلاثة إلى العشرين، وتطّرد القسمة، والمسألة لا تحتمل الاختصار، لأن فيها ثلاثة وخمسة، ولا اشتراك بينهما. 6671 - ويجري في هذا الباب نوع من مسائلَ كثيرة على نهاية الإيجاز والاختصار، فنذكرها حتى يستعملها الطالب إذا اتفقت. فإذا أوصى بنصيبٍ، وأوصى بجزءٍ بعد النصيب، وكان بين مخرج الجزء وبين عدد البنين سهم، فنقيم الفريضة من مخرج الجزء، ونرد عليها واحداً للنصيب الموصى به. مثاله: أوصى بنصيب أحد البنين، وهم ثلاثة، وأوصى بربع ما تبقى بعد النصيب، فبين مخرج الربع وبين عدد البنين سهم واحد، فنزيد على مخرج الربع سهماً، وقد صحّت المسألة: للموصى له بالنصيب سهم، وللموصَى له بربع الباقي سهم، ولكل ابن سهم. ولو أوصى بنصيب أحد البنين وهم ثمانية، وأوصى بتسع ما تبقى بعد النصيب، فبين التسعة وعدد البنين واحد، فنقيم تسعة، ونزيد واحداً، وقد صحت المسألة من عشرة. فهذا بيان مسائل الباب. 6672 - فنذكر صورةً أخرى ونستعمل فيها طريقةً من الطرق المقدمة، ونتخذ ذلك

دأبنا في الأبواب، فنذكر في كل باب صورتين، نستعمل الطرق في الأولى منهما ونستعمل طريقة واحدة في الأخرى على ما يتفق. صورة: فإن ترك امرأة، وأبوين، وبنتين وأوصى بنصيب أحد الأبوين، وأوصى لآخر بربع ما تبقى بعد النصيب، فحساب المسألة على طريقة القياس أن نقول: سهام الفريضة سبعة وعشرون، فإنها عائلة، وهي المنبرية، ونحن نحتاج إلى ربع الباقي، فنزيد على الفريضة مثل ثلثها. هكذا تقتضي النسبة، فتبلغ ستة وثلاثين، فنزيد عليها مثل نصيب أحد الأبوين أربعة فتصح المسألة من أربعين: للموصى له بالمثل أربعة، وللموصى له بربع الباقي تسعة، والباقي سبعة وعشرون بين الورثة على فرائض الله تعالى. المسألة بحالها إلا أنه أوصى بنصيب إحدى البنتين، فنصيب إحدى البنتين ثمانية، فتعمل عملك، وتزيد [ثمانية، فتبلغ أربعة وأربعين] (1)، فمنها تصح المسألة. ولو أوصى والمسألة بحالها بمثل نصيب المرأة، لزدت على الستة والثلاثين ثلاثة، فتبلغ تسعة وثلاثين فمنها تصح المسألة، والطرق كلها تجري في هذه المسألة، ولكنا آثرنا الاختصار؛ فاقتصرنا على طريقة واحدة. فصل في الوصية بالنصيب مع الوصية بجزء مما بقي من جزءٍ من المال. 6673 - ثلاثة بنين. وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم، وأوصى لآخر بثلث ما يبقى من الثلث بعد النصيب. فطريق الجبر أن نقول: نأخذ ثلثَ مال، ونلقي منه نصيبَ الموصَى له الأول، فيبقى ثلثُ مالي إلا نصيب، ندفع ثُلثَه إلى الموصَى له الثاني، وهو تُسعُ مالٍ إلا ثلث نصيب، فيبقى من الثلث تسعا مال إلا ثلثي نصيب، فنضمّه إلى ثلثي المال، فيصير المجموع ثمانية أتساع مالٍ إلا ثلثي نصيب، يعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة، فنجبر

_ (1) في الأصل: " ستة فتبلغ اثنين وأربعين " وهو خطأ.

الثمانية أتساع بثلثي نصيب، ونزيد على عديله مثلَه، فتكون ثمانية أتساع مال، تعدل ثلاثة أنصباء وثلثي نصيب. ثم إن شئت أكملت، وإن شئت، بسطت، فإن بسطت، فالمال ثمانية أتساع، وهي مبسوطة، فنبسط الأنصباء وثلثي نصيب أتساعاً، فتصير ثلاثة وثلاثين، فنقلب الاسمَ والعبارة، فيصير النصيب ثمانية، والمال ثلاثة وثلاثون، فثلث المال أحد عشر، فنلقي بالوصية الأولى نصيباً، وهو [ثمانية، ويبقى] (1) ثلاثة، نُلقي منها ثلثها سهماً واحداً؛ فيبقى اثنان، نزيدها على ثلثي المال؛ فيبلغ المجموع أربعةً وعشرين، بين ثلاثة بنين، لكل واحد منهم ثمانية، مثل ما أخذ الموصَى له بمثل النصيب. وهذه طريقة [البسط] (2). فإن أردت طريقةَ الإكمال، فقل: ثمانية أتساع مال، فردّ عليه مثلَ ثُمنه، فيصير مالاً [كاملاً] (3)، وإذا زدنا على المال مثلَ ثُمنه، كذلك نزيد على الأنصباء مثل ثمنها، فتصير ثلاثة أنصباء وثلثي نصيب ثلاثةً وثلاثين، فإنا نبسطها أثماناًَ، ونزيد على كل نصيب مثلَ ثمنه، وعلى الكسر كذلك، فيصير كل نصيب تسعة، ويصير ثلثا النصيب ستة، ثم نقول: معنا مالٌ كامل، يعدل ثلاثة وثلاثين، فنقلب العبارة، ونبدل الاسم ونجعل المال ثلاثة وثلاثين، والنصيبَ ثمانية. وفي هذا دقيقة وهي أنا عرفنا أن النصيب ثمانية، قبل تكميل المال بالزيادة عليه، وأيضاً فإنا لما بسطنا كلَّ نصيب أثماناً، فالنصيب ثمانية، وإنما زدنا عليه وفاءً بأركان الجبر والمقابلة. فهذا بيان التكميل والبسط. 6674 - فأما العمل بالخطأ الأكبر، فنجعل [ثلث] (4) المال عدداً، إذا أنقصت منه نصيباً على ما تريد، كان الباقي ثلثاً صحيحاً، فنجعل الثلث عن اتفاقٍ ثمانيةً، ونجعل

_ (1) زيادة من المحقق. (2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (3) في الأصل: قليلاً. (4) في الأصل: ثلثا.

النصيب خمسة، فندفعه إلى الموصى له الأول، وندفع سهماً من السهام الثلاثة إلى الموصى له الثاني، يبقى اثنان نزيده على ثلثي المال، وهو ستة عشر، فبلغ ثمانية عشر، فندفع منها إلى كل ابن مثلَ النصيب الذي دفعناه إلى الموصى له بالنصيب الأول، فيفضل ثلاثة، وهو الخطأ الأول، والخطأ في الزيادة، فاحفظ هذا. ثم ارجع واجعل ثلث المال إن شئت عشرة، والنصيب سبعة، فادفعها إلى الموصى له الأول؛ تبقى ثلاثة، فادفع منها واحداً إلى الموصى له الثاني؛ يبقى اثنان، نزيده على ثلثي المال؛ فيبلغ اثنين وعشرين، ندفع إلى كل ابن سبعة: مثلَ النصيب، يبقى واحد، وهو الخطأ الثاني، فهو زائد، فكان الخطأ الأول ثلاثة، وهذا الخطأ واحد، فنطرح الأقلَّ من الأكثر، وهو المقسوم عليه، فاحفظه، ثم اضرب المال الأول نعني الثلث، وهو ثمانية التي قدرتها أولاً في الخطأ الثاني، وهو واحد، [فترتد] (1) ثمانية، واضرب المال الثاني، وهو عشرة في الخطأ الأول، وهو ثلاثة، فيصير ثلاثين، وانقص الأقل من الأكثر، فيبقى اثنان وعشرون، فاقسمها على ما أعددته للقسمة، وهو اثنان، فيخرج من القسمة أحدَ عشرَ، وهو ثلث المال؛ فالمال ثلاثة وثلاثون. وإن أردت النصيب، فاضرب النصيب الأول، وهو خمسة في الخطأ الثاني وهو واحد، فيردّ خمسة، واضرب النصيب [الثاني] (2)، وهو سبعة في الخطأ الأول وهو ثلاثة فيرد واحداً وعشرين، وانقص الأقل من الأكثر، فيبقى ستة عشر، فاقسمها على الاثنين المحفوظ، فيخرج ثمانية، وهي النصيب. هذا بيان الخطأ الأكبر. فأما العمل بالخطأ الأصغر، فإذا علمت أنك لما جعلت الثلث ثمانية، كان الخطأ ثلاثة، فما زدت سهمين في الثلث، أو ستة في كل المال، عاد الخطأ إلى واحد، ونقص من الخطأ اثنان، والواحد نصف الاثنين، فتزيد في الثلث واحداً، فيصير أحد عشر. وقد تم العمل.

_ (1) في الأصل: فتزيد. (2) في الأصل: الباقي.

وصاحب الخطأ الأصغر لا يعمل بهذا البيان شيئاً. 6675 - وأما الحساب بطريق [الندب] (1)، فنأخذ عدداً له ثلث، ونعتقده مثالاً للثلث، ونجعل التسعة مثالاً لجميع المال، هذا لا بد منه مع الحاجة إلى ثلث الثلث، فنأخذ ثلث التسعة، وهو ثلاثة، ونلقي منها [ثلثها] (2) ولا نلتفت بعد النصيب (3)، فتبقى اثنان من الثلث [فنزيدها] (4) على ثلثي المال وهو ستة، فيبلغ ثمانية، فهذا يعدل كل سهم من سهام الفريضة، فنحفظ هذا، ثم نقسم سهام الفريضة، وهي ثلاثة، ومعنا في المسألة ثلث، ولا ينظر صاحب المال إلى أنه ثلث الثلث أو الثلث، وهذا كما أننا في الفصل الأول نقصنا من كل نصيب عُشراً، وما كانت الوصية بالعشر بعد النصيب، فنجري على ذلك المنهاج، ونقول: ننقص من كل سهم ثلثاً، فيبين أن الموصى له بالنصيب ثلثا سهم، ثم نحن نجبر سهمَ الورثة إذا تبيّنا مقدار النصيب، ويبقى النصيب الموصى به على نقصانه، فيخرج منه أنا إذا ضممنا النصيب الموصى به إلى سهام الفريضة بعد إكمالها، فتبلغ الجملة ثلاثة أسهم وثلثي سهم، فنضربها في التسعة التي جعلناها للمال، فيبلغ ثلاثاً وثلاثين، فهي المال. وإذا أردت معرفة النصيب، فقد قدمنا أن كل سهم ثمانية، فالنصيب إذاً ثمانية. فهذا رسم طريق [الندب] (1). وفيها مجاوزات في الابتداء، ولكن العمل يستدركها في الأثناء، وأضبط الطرق [ما] (5) يجري ابتداؤه وأثناؤه على سمت التحقيق. وأمُّ الطرق الجبر. 6676 - فأما حساب المسألة بطريق الحشو، فاعلم أن معرفة الحشو بأن تأخذ في كل مسألة مخرج الكسر الذي معك، ومخرج الكسر ثلاثة، خُذ واحداً منها وهو

_ (1) في الأصل: الباب، وقد سماه في المسألة السابقة (الندب). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) المعنى: ولا نلتفت إلى أن إلقاء ثلث الثلث يكون بعد أَخْذ النصيب من الثلث. (4) في الأصل: فنزيد. (5) في الأصل: فما.

الثلث، واعتقد أنه ينتظم منه الحشو، ورسمُ العمل فيه أن تضرب ذلك السهم في نصيب من نسبة نصيب الموصى له بنصيبه، وهو واحد، فيرد واحداً، فاحفظه، ثم ترجع إلى سهام الفريضة، وهي ثلاثة، وتزيد عليها نصيب وارث مساوٍ لهم، فتبلغ أربعة، فتضربها في الثلاثة مخرج الكسر، فتبلغ اثني عشر، فتُسقط منه سهم الحشو، وهو واحد، فيبقى أحد عشر، وهو ثلث المال. وإن أردت معرفة النصيب، فخذ نصيب الوارث الموصى بمثل نصيبه، وهو واحد، فاضربه في مخرج الثلث، وهو ثلاثة، فتكون ثلاثة، فاضربها في مخرج الجزء المذكور ثانياً، فيبلغ تسعة، فأسقط منها سهمَ الحشو، وهو واحد، فيبقى ثمانية، وهو النصيب. 6677 - وأما الحساب بطريق الدينار والدرهم، فنجعل الثلث ديناراً وثلاثة دراهم، ونجعل الثلثين [دينارين] (1) وستة دراهم، ثم نخرج الدينار إلى الوصية بالنصيب، وهو على التحقيق عبارة عن شيء مجهول، ونعطي من الدراهم الثلاثة إلى الموصى له بثلث ما تبقى من الثلث بعد النصيب درهماً، فيبقى درهمان، فنضمها إلى الثلثين، فيصير ما نقسم على الورثة دينارين [وثمانية] (2) دراهم، ومعنا ثلاثة بنين، فندفع دينارين إلى اثنين، وندفع الثمانية دراهم إلى الثالث، فنعلم أن الدينار ثمانية، فنعود، ونقول: بان لنا أن ثلث المال ثمانية وثلاثة، فالمجموع أحد عشر، وهو ثلث المال. 6678 - طريقة المقادير: فنقول: نأخذ ثلث المال، ونلقي منه للموصى له الأول نصيباً، يبقى من الثلث مقدار، وقد بقي من المال ثلثاه، فندفع من كل ثلث نصيباً إلى اثنين، فيبقى من كل ثلث مقدار، وقد علمت أن الموصى له الثاني يستحق ثلث مقدار، وجميع الباقي من المال مقداران، وثلثا مقدار، فهي للابن الثالث الذي لم يأخذ شيئاً، وقد علمت أن ذلك مثل ما أخذه صاحب النصيب، فجميع الثلث إذاً ثلاثة

_ (1) في الأصل: ديناراً. (2) في الأصل: وثلاثة.

مقادير وثلثا مقدار، والنصيب منها مقداران وثلثا مقدار. وإذا بسطت الثلثَ، وهو ثلاثة مقادير وثلثا مقدار أثلاثاً، كان أحدَ عشرَ، والنصيب منها مقداران، وثلثا مقدار، وهو ثمانية. وقد تم العمل. 6679 - وأما العمل بطريق القياس، فنقول: قد علمنا أن الموصى له بالجزء من الجزء يأخذ سهماً [من الثلث بعد الموصى له بالنصيب] (1)، والوصيتان مضافتان إلى الثلث، فنقدر كأن الثلث تسعة، لمكان ثلث الثلث، فنعطي من التسعة نصيباً، ونعلم أنا نصرف من الباقي سهماً إلى الموصى له بجزء الجزء، فنقدّر من طريق القياس الثلثين الباقيين على المقدار الذي ذكرناه في الثلث الحاوي للوصيتين، فيخرج من كل ثلث من الثلثين الباقيين نصيب، ولا يخرج منه وصية بجزء. فيفضُل من كل ثلث ثلاثة، ومن ثلث الوصيتين اثنان، والمجموع ثمانية: فندفعها إلى الابن الثالث، ونتبين أن النصيب ثمانية، فنعود ونقول: النصيب ثمانية، وبعدها ثلاثة لمكان الوصية، فمجموع الثلث أحدَ عشرَ، ويعود الأمر إلى ما ذكرناه. 6680 - وذكر بعض الحذّاق طريقة مقتضبةً من الطرق التي ذكرناها، وهي قريبة من طريق القياس، ولكنها أبقى وأسهل، فنقول في المسألة التي ذكرناها: نقيم مخرج الثلث ثلاثة، ثم نضربها في الثلاثة، لاحتياجنا إلى ثلث الثلث، فيردّ تسعة، فنحط من المبلغ سهماً واحداً أبداً، ثم ننظر إلى عدد البنين، فنحط من عددهم اثنين أبداً في كل مسألة، ونقسم ما معنا، وهو العدد الذي حططنا منه الواحد على من بقي بعد حط الاثنين، فما يخص ابناً تبينا أنه النصيب الذي نطلبه، فنقول في هذه المسألة: نحط من التسعة واحداً، ومن البنين اثنين فتبقى ثمانية للابن الثالث، فنرجع ونقول: ثلث المال ثمانية، وثلثاه ضعف ذلك، والجملة ثلاثة وثلاثون (2). وهذا بعينه هو الذي ذكرناه في القياس إذا أعطينا للاثنين من البنين النصيبين، ثم

_ (1) عبارة الأصل: " يأخذ سهما وثلثه بعد، والوصيتان ... ". (2) وذلك بإضافة (الواحد) الذي حَطَطْناه أولاً من التسعة التي قدرناها.

جمعنا الأعداد المقدرة في الثلثين، والفاضلَ من الثلث بعد الوصيتين، وصرفناه إلى الابن الثالث. ونقول على هذه الطريقة: لو كان البنون أربعة، والوصيتان كما ذكرنا، فنقول: نقدر تسعة لمكان ثلث الثلث، ونسقط منه واحداً، فيبقى ثمانية فَنُسقِط ابنين، ونقسم الثمانية على الابنين الباقيين، فيصيب كل واحد منهما أربعة، فالنصيب أربعة، فنعود ونقول: الثلث أربعة وثلاثة، والثلثان أربعة عشر، لصاحب النصيب أربعة، ولصاحب الوصية بالجزء سهم من ثلاثة، والاثنان الباقيان مضمومان إلى الثلثين، فيصير المجموع ستةَ عشرَ، نقسمها على البنين الأربعة؛ فيخص كل واحد أربعة. وقد يؤدي العمل إلى كسر فصحِّحه بطريق البسط، فالطريقة في بابها مطردة. 6681 - ولو أوصى بنصيب أحد البنين وبربع ما تبقى من الثلث، وله ثلاثة من البنين، فنقسم مخرج الربع مضروباً في ثلاثة؛ فإنا نحتاج إلى ربع الثلث، فيردّ علينا اثنا عشر، فنحط منه واحداً، ونحط من البنين اثنين، فنعلم أن نصيب الواحد أحد عشر، فنرجع ونقول الثلث أحد عشر وأربعة، والثلثان ثلاثون؛ فتستقيم المسألة. 6682 - مسألة أخرى ترك أبوين وبنتين وأوصى بمثل نصيب إحدى البنتين، ولآخر بثلاثة أرباع ما بقي من الثلث بعد النصيب. فحساب المسألة بالدينار والدرهم أن نصحح الفريضة وهي من ستة: لكل بنت سهمان، ولكل واحد من الأبوين سهم، فنحسب كلَّ سهم ديناراً إذا أردنا ترتيبَ الثلث؛ فإن الأنصباء مختلفة: لو قدرنا نصيب البنت ديناراً، لزمنا أن نقول: لو أوصى بمثل نصيب أحد الأبوين نصف دينار يصح، ولكن لم يحسن وضع الطريقة كذلك، فإذا وقعت الوصية بنصيب إحدى البنتين، فنقول ثلث المال ديناران وأربعة دراهم، فنسلم الدينارين إلى الموصى له بنصيب إحدى البنتين، وندفع بالوصية الثانية ثلاثة أرباع ما بقي، وهو ثلاثة دراهم، يبقى واحد نزيده على ثلثي المال، فيبلغ أربعة دنانير وتسعة دراهم، هذا يعدل أنصباء الورثة، وأنصباؤهم ستة دنانير، فأربعة دنانير بمثلها قصاص، يبقى ديناران، يعدلان تسعة دراهم، فقيمة الدينار أربعة دراهم

ونصف، وثلث المال ديناران وأربعة دراهم، فهو إذاً ثلاثة عشر درهماً، والنصيب أربعة ونصف، فإن أردت إزالة الكسر، فاضربه في اثنين، يكون ثلث المال ستة وعشرين، والنصيب (1) تسعة، وتصح المسألة. وسبيل الامتحان أن نأخذ ثلث المال، فنلقى منه بالوصية الأولى نصيبين (2)، وذلك ثمانية عشر تبقى ثمانية، نلقي منها بالوصية الثانية ثلاثة أرباعها: ستة، فيبقى اثنان نزيده على ثلثي المال، وهو اثنان وخمسون، فتبلغ أربعةً وخمسين، للأبوين سدساها: ثمانية عشر، لكل واحد تسعة، وللبنتين الثلثان: ستة وثلاثون، لكل واحدة منهما ثمانيةَ عشرَ، مثل ما أخذ الموصى له بمثل نصيب إحدى البنتين. وجميع الطرق تعود في هذه المسألة. 6683 - ونعيد من جملتها طريقَ الحشو، والغرضُ تمهيد القاعدة فيها، فنقول: الفريضة من ستة، فنزيد عليها مثل نصيب إحدى البنتين وهو اثنان لمكان الوصية، فيبلغ ثمانية، فنضربها في مخرج الربع: أربعة؛ فترد اثنين وثلاثين، ثم نضرب الأجزاء التي أوصى بها بعد النصيب، وهي ثلاثة أرباع في النصيب الموصى به، وهو اثنان، فيردّ ضرب ثلاثة في اثنين ستة، فنحطه، وهو الحشو من اثنين وثلاثين، فيبقى ستة وعشرون، وهو ثلث المال. وإذا أردت معرفة النصيب الموصى به، فاضرب النصيبَ في مخرج الربع، لذكر الأرباع، ثم اضربها يعني الثمانية في مخرج الثلث وهو ثلاثة، فتكون أربعة وعشرين، فنسقط الحشو، وهو الستة التي أسقطها من الأول، فتبقى ثمانية عشر، وهو النصيب. وقد خرجت المسألة. 6684 - والذي نريد التنبيه عليه من هذه الطريقة أن سهم الحشو عددُ أجزاء من

_ (1) المراد بالنصيب هنا السهم، وإلا، فنصيب البنت ثمانية عشر، تساوي سهمين، أي ليس تسعة. (2) الملقى نصيبان، أي سهمان، وإلا فالموصى به نصيب واحد، من نصيبي البنتين.

مخرجٍ موصى به، نضربه في النصيب الموصى به، قد يكون واحداً، وقد يكون عدداً، وعدد الأجزاء الثلاثة في هذه المسألة؛ فإنه أوصى فيها بثلاثة أرباع مما بقي من الثلث، ضربناها في النصيب، وهو اثنان، فهو سهم الحشو. ثم إذا أردنا طلبَ المال، والمطلوب في هذا طلبُ جنس الثلث، وهو الذي نسميه مالاً، فنجمع الأنصباء ونضم إليها النصيب الموصى به، ونضربه في مخرج الجزء، ولا نكرر، حتى إن كان ثلث الثلث، اكتفينا بالضرب في مخرج الثلث، وإن كان ربع الثلث، ضربنا في مخرج الكسر الأقل: في الأربعة في هذه المسألة، واكتفينا بذلك، ولا نضرب في مخرج له ثلث وربع، ثم نحط الحشو، كما قدمناه. وإن أردنا طلب النصيب، ضربنا مبلغ الموضوع عندنا من سهام المسألة على الجملة في مخرج يخرج منه الكسران بالربع والثلث، فإنا إذا كنا نطلب النصيب الأقصى، احتجنا إلى الضرب في المخرج الأقصى، فكذلك نضرب النصيب في هذه المسألة في الأربعة، ثم المبلغ في الثلاثة وعلة إسقاط الحشو في هذا المقام بينة، لأن النصيب هو المطلوب، وهو جزءٌ من الثلث. فإذا وقع ضرب النصيب في مخرج الثلث والربع، فلا بد من حط مضروب عدد الأجزاء في النصيب. فهذا بيان طريقة الحشو. 6685 - مسألة أخرى: رجل له ثلاث بنات وعصبة أوصى بمثل نصيب إحداهن لإنسان ولآخر بثلثي ما تبقى من الثلث بعد النصيب، فالفريضة أولاً من تسعة: للبنات ثلثان ستة، لكل واحدة اثنان. فحساب الدينار والدرهم أن نقول: ثلث المال ديناران وثلاثة دراهم، وسبب الدينارين أن لكل بنت سهمان. نعطي منه بالنصيب دينارين، وبالوصية الثانية درهمين، فيبقى درهم، نزيده على ثلثي المال، فيصير المجموع أربعة دنانير وسبعة دراهم، وذلك يعدل تسعة دنانير (1)، وهي سهام المسألة، فنسقط الدنانير بالدنانير قصاصاً، فيبقى خمسة

_ (1) لكي تعرف من أين جاءت هذه (التسعة) تذكَّر أن الباقي بعد الوصيتين هو نصيب الورثة، =

دنانير في مقابلة سبعة دراهم، فقيمة كل دينار درهم وخمسان، هذا مقتضى القسمة. فنعود ونقول: الثلث درهمان وأربعة أخماس، وثلاثة دراهم فالمجموع خمسة وأربعة أخماس، فنبسطها أخماساً، فيكون الثلث تسعة وعشرين، والنصيب أربعة عشر، فإن الدرهمين والأربعة الأخماس إذا بسطتها أخماساً تبلغ هذا المبلغ، والامتحان أن نلقي النصيب من الثلث، يبقى منه خمسة عشر، فنلقي ثلثيها عشرة للوصية الثانية، فيبقى خمسة، نزيدها على ثلثي المال وهو ثمانية وخمسون، فيبلغ ثلاثة وستين: للبنات ثلثاها وهو اثنان وأربعون، لكل واحدة أربعة عشر، مثلما أخذه الموصى له بالنصيب، والباقي للعصبة. وحساب المسألة بطريق الحشو أن نقول: سهام الفريضة تسعة، فنضم إليها نصيب بنت، فتصير أحد عشر، فنضربه في مخرج الثلث ثلاثة، فيكون ثلاثة وثلاثين، ثم قد أوصى بجزأين من ثلاثة، فنضربه في النصيب، وهو اثنان، وذلك أربعة، فنحط ذلك -وهو الحشو- من [ثلاثة وثلاثين] (1) والباقي [تسعة وعشرون، وهو] (2) ثلث المال. وإذا أردنا النصيب، أخذنا اثنين، وهو النصيب في الأصل وضربناه في مخرج الثلث، فيرد ستة، ثم نضرب الستة في شيء له ثلث صحيح؛ لأن الوصية بثلثين من ثلث، فيبلغ ثمانية عشر، فنُسقط منه الحشو أربعة، فيبقى أربعة عشر وهو النصيب. وحساب هذه المسألة بالجبر أن نأخذ ثلث مال، فنلقى منه بالوصية الأولى نصيبين؛ لمكان السهمين؛ فإنا بينا أن كل سهم من سهام المسألة بمثابة نصيب، فيبقى ثلث مال إلا نصيبين، نطرح ثلثيه بالوصية الثانية، يبقى تسع ناقص بثلثي نصيب، نزيده على ثلثي المال فيكون سبعة أتساع إلا ثلثي نصيب، يعدل [تسعة] (3) أنصباء، وهي سهام المسألة، فنجبر السبعة بثلثي نصيب، [ونزيد] (4) على عديلها ثلثي نصيب، ثم نبسط الأنصباء على أقل الكسور في المسألة، وأقل الكسور [التسع، فنبسط تسعه

_ = ومسألتهم صحيحة من (9)، فقوله: إن ثلثي المال -الذي هو: 4 دنانير+7 دراهم- يعدل تسعة دنانير، معناه تسعة أسهم فالدينار هنا رمز للسهم. (1) في الأصل: " من سبعة وعشرين ". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: سبعة. وهو تحريف سيتكرر كثيراً من (سبعة) إلى (تسعة) وبالعكس. (4) في الأصل: " ونزيده ".

وثُلُثَيْن أتساعاً بالضرب في التسعة، فتصير سبعة وثمانين، ثم نقلب العبارة فالمال سبعة وثمانون] (1) والنصيب سبعة، وإذا كان النصيب سبعة، فالنصيبان أربعة عشر، وهي الوصية الأولى. وعلى هذا البابُ وقياسُه. فصل بالوصية بالنصيب، مع الوصية بجزءٍ من المال، والوصية، بجزءٍ مما بقي 6686 - فمن صور المسألة: ميتٌ خلف تسعة بنين، فأوصى لرجلٍ بثُمن [ماله] (2) ولآخرَ بمثل نصيب أحد بنيه، ولثالثٍ بعشر ما بقي من المال. فحسابه بالجبر أن نأخذَ مالاً، فنلقي منه ثمنَه بالوصية، يبقى معنا سبعة أثمان مالٍ، ندفع منه بالوصية الثانية نصيباً يبقى سبعة أثمان مال إلا نصيبا، ندفع بالوصية الثالثة عشرها. فنعلم أنا نحتاج إلى ضرب مخرج الثمن في مخرج العشر، فيكون ثمانين، ونعيد إخراج الوصايا من هذا المبلغ: الثمن منها عشرة، فيبقى سبعون، ثم نخرج منها نصيباً للوصية بالنصيب، فيبقى معنا سبعون من ثمانين إلا نصيب، ثم نخرج عُشرَه، وهو سبعة ناقصة بعُشر نصيب، فيبقى ثلاثة وستون جزءاً من ثمانين جزءاً، من مالٍ ناقص [تسعة] (3) أعشار نصيب، وهذا يعدل أنصباء الورثة، وهي [تسعة]، فنجبر بتسعة أعشار نصيب، ونزيد مثلها، ثم نبسط الأنصباء، فتصير سبعمائة واثنان

_ (1) في عبارة الأصل خطأ وعدة تصحيفات، حيث جاءت هكذا: " وأقل الكسور السبع، فنبسط تسعة وثلثين أسباعاً بالضرب في السبعة، فتصير ثلاثة وستين، ثم نقلب العبارة، فالمال ثلاثة وستون ... إلخ ". والخطأ في العبارة نشأ من التصحيف؛ حيث استخدم الناسخ الرقم المصحف، فضرب سبعة في تسعة، فردّت ثلاثة وستين، وهو مردود صحيح، لكن المسألة لا تستقيم به، ولو امتحنها الناسخ، لرأى أن من الثلث بعد أخذ النصيب لا يخرج منه الثلثان؛ إذ هو = 21 - 14 = 7. (2) في الأصل: مال. (3) في الأصل: " سبعة ".

[وتسعون] (1)، وسبب ذلك أن البسط في طريق الجبر يقع بأقل الأجزاء وأدقها، وقد رسمنا المسألة أولاً من ثمانين، فليقع البسط بنسبة ثمانين. والامتحان أن نلقي من المال [ثمنه] (2)، وهو [تسعة] (3) وتسعون بالوصية الأولى، يبقى ستمائة وثلاثة وتسعون، نلقي منها النصيب، وهو ثلاثة وستون بالوصية الثانية، يبقى ستمائة وثلاثون، نلقي عشرها بالوصية الثالثة وهو ثلاثة وستون، يبقى خمسمائة [وسبعة وستون] (4) بين الورثة على تسعة: لكل ابن ثلاثة وستون، فكل نصيب ثلاثة وستون. والأنصباء والوصايا متفقة بالأتساع، فنردّها إلى أتساعها، فيكون المال ثمانية وثمانين، والنصيب سبعة: للموصى له بالثمن أحدَ عشرَ، ولصاحب النصيب سبعة، تبقى سبعون، للموصى له الثالث عشرها: سبعة، والباقي ثلاثة وستون بين الورثة: لكل ابن سبعة. 6687 - حساب المسألة بالخطأ الأكبر أن تجعل المال إن شئت ستة عشر، فتدفع ثمنها اثنين بالوصية الأولى؛ تبقى أربعة عشر، فندفع النصيب أربعة، تبقى عشرة، ندفع عشرها إلى الثالث، تبقى تسعة للبنين، وكل واحد منهم يستحق أربعة وجملة ما يستحقون ستة وثلاثون، والباقي معنا تسعة فينقص من الواجب سبعة وعشرون، فهو الخطأ الأول، وهو ناقص، فاحفظه. ثم اجعل المال إن شئت أربعة وعشرين، فادفع ثمنها بالوصية الأولى ثلاثة، فتبقى أحدٌ وعشرون، فاجعل النصيب واحداً، تبقى عشرون، فألق عشرها اثنين، وادفعه للموصى له الثالث، تبقى ثمانية عشر، ندفع منها إلى كل ابن واحداً، مثلَ النصيب، تبقى تسعة زائدة، وهو الخطأ الثاني، وهو زائدٌ الآن، وكان ناقصاً قبلُ، فاجمع بين الخطأين، لأن أحدهما زائد، والآخر ناقص، فيكون ستة وثلاثين، فهي المقسوم

_ (1) في الأصل: " وسبعون ". (2) في الأصل: ثمانية، وهو خطأ. (3) في الأصل: سبعة، وهو خطأ حسابياً. (4) في الأصل: خمسمائة وسبعون. وهو خطأ واضح، أجهدنا تصحيحه.

عليها، فاحفظها، ثم اضرب المال الأول وهو ستة عشر، في الخطأ الثاني، وهو تسعة، تكون مائة وأربعة وأربعين، ثم اضرب المال الثاني وهو أربعة وعشرون، في الخطأ الأول وهو سبعة وعشرون، فيكون ستمائة وثمانية وأربعين، فزد عليها المائة والأربعة والأربعين، فتبلغ سبع مائة واثنين [وتسعين] (1)، على الستة والثلاثين المحفوظة، فيخرج اثنان وعشرون، وهو المال (2). فإن أردت النصيب، فاضرب النصيب الأول، وهو أربعة في الخطأ الثاني، وهو تسعة، فيكون ستة وثلاثين، واضرب النصيب الثاني، وهو واحد في الخطأ الأول، وهو سبعة وعشرون، فيكون سبعة وعشرين، واجمع هذين المبلغين، فيكون ثلاثة وستين، فاقسمها على الستة والثلاثين، فيخرج واحد وثلاثة أرباع، فهو النصيب، فابسطها أرباعاً، يكون المال ثمانية وثمانين، والنصيب [سبعة] (3). 6688 - وحسابها بالخطأ الأصغر أنك إذا جعلت المال ستة عشرَ، حصل الخطأ سبعة وعشرون، والخطأ ناقصاً، فلما زدت في المال ثمانية، زال هذا الخطأ في النقصان، وزاد خطأً بتسعة، وإذا زدت التسعة على سبعة وعشرين، صار ستة وثلاثين، والتسعة ربع ستة وثلاثين، فانقص من الثمانية التي زدتها ربعاً، تبقى ستة، فزدها على المال الأول، يكون المال اثنين وعشرين، وأخرج بالخطأ الأكبر، فابسطها أرباعاً، فتكون ثمانية وثمانين. وطريق الباب أن نطلب أولاً مالاً إذا أسقطت منه [ثمنه] (4)، كان للباقي عشرٌ صحيح، وهو ثمانون، فنلقي ثمنها عشرة، فيبقى سبعون، فنلقي عشرها، سبعة، يبقى ثلاثة وستون، فهي تعدل كلَّ سهم من سهام الفريضة، ثم نقيم سهامَ الفريضة، وهي تسعة، ونصيب الابن الموصى بمثل نصيبه واحد، [فنلقيه من عشرة] (5)، تبقى

_ (1) في الأصل: وسبعين. (2) بعد بسطه أرباعاً؛ ليصير ثمانية وثمانين، كما سيأتي. (3) في الأصل: " تسعة ". (4) في الأصل: ثمانية. (5) في الأصل: فنلقي عشرة.

تسعة، فنضربها (1) في الثمانين التي جعلتها مثالاً للمال، فيبلغ سبعمائة واثنين وتسعين، وهو المال. فإن أردت النصيبَ، فخذ نصيبَ الابن الموصى بمثل نصيبه من سهام الفريضة وهو واحد، فاضربه فيما كان يعدل كلَّ سهمٍ من سهام الفريضة، وهو ثلاثة وستون (2)، فتكون ثلاثة وستون، فهو النصيب، ثم اختصر المسألة، وردّ المال والنصيب إلى التسع، فيرجع المال إلى ثمانية وثمانين، والنصيب إلى سبعة. 6689 - وأما طريق الحشو، فاطلب أولاً مالاً له ثمن، وإذا ألقي منه الثمن، كان [للباقي] (3) عشر، وهو ثمانون، ثم طريق طلب (4) سهم الحشو أن ننظر إلى الجزء المذكور بعد النصيب، ونقدّر كأنه جزء من المال، وقد ذكر بعد النصيب عشر المال، فخذ عشر الثمانين، ولا تنظر إلى أن المذكور عشر الباقي، اتخذ هذا أصلك في سهم الحشو أبداً، وهو السهم الذي نسقطه من المال إذا كنت تطلب المال، فقل: عشر الثمانين ثمانية، فنضربها في نصيب (5) الابن من أصل الفريضة، فيكون ثمانية، فهذا حشو، فاحفظه حتى لو ذكر بعد النصيب خمس الباقي، أو سدس الباقي، أو ما كان، فنحن نعتبر خمس جميع المال، أو سدس جميع المال، ونضربه في نصيب الوارث الموصى بمثل نصيبه، فاعلم ذلك، وثق به، واعتقده الحشوَ المحطوط من المال، ثم عُدْ إلى المال، وهو ثمانون، فألق منها ثمنها، يبقى سبعون، فخذ عشرَ الباقي الآن بحق، فيكون سبعة، واضربها في نصيب الابن الموصى بمثل نصيبه، وهو واحد، فيكون سبعة، فهو الحشو الثاني، واشتملت المسألة على حشوين، لاشتمالها على جزأين، فاحفظ السبعة والثمانية، ثم اقسم سهام الفريضة من تسعة، وزد عليها مثلَ النصيب الموصى به، فتبلغ عشرة، فاحفظها، فاضربها في الثمانين

_ (1) أي التسعة الصحيحة وتسعة الأعشار الباقيهَ، هكذا: 9,9×80= 792. (2) في الأصل: وهو واحد ثلاثة وستون. (3) في الأصل: الباقي. (4) في الأصل: ثم طريق مال طلب سهم الحشو. (5) نصيب هنا بمعنى سهم، وأصل الفريضة تسعة (عدد الرؤوس).

التي هي المال الممثل فيبلغ ثمانمائة، فألق منها الحشوَ الأول، وهو ثمانية، تبقى سبع مائة واثنان وتسعون، فهي المال. وإذا أردت النصيب، فخذ نصيبَ الابن الموصى بمثل نصيبه، فاضربها في مخرج الجزء الأول، فما بلغ، فاضربها في مخرج الجزء الثاني ومخرج الجزء الأول -وهو الثمن- ثمانية، ومخرج الجزء الثاني -وهو العشر- عشرة، وإذا ضربنا ثمانية في عشرة ردّ ثمانين، فنسقط منه الحشوين جميعاً، وهو خمسةَ عشرَ، فتبقى ثلاثة وستون فهي النصيب، وطريق الاختصار ما تقدم. 6695 - وحساب المسألة بالمقادير أنك إذا ألقيت من المال ثمنه، ومن الباقي نصيباً، بقي منه مقدار، فندفع عُشْره بالوصية الثالثة، فتبقى تسعة أعشار مقدار. وهاهنا تأمُّل على الناظر؛ فإنا ألقينا الثمن والنصيب، وقلنا: بقي مقدار، ولم نلق العشرَ؛ لأن العشر جزء من هذا المقدار، فقلنا بعد الثمن والنصيب: بقي مقدار، وحططنا عُشرَه؛ فبقي تسعة أعشار مقدار، فهي للورثة لكل واحد عشر مقدار؛ فعلمنا بذلك أن الذي أخذه الموصى له بالنصيب عُشْر مقدار، فنعود ونقول: الباقي بعد الثمن مقدارٌ وعشر مقدار، وهذا سبعة أثمان المال، فإذا زدت عليه سُبعه، كان جميعَ المال، ويخرج منه أن المقدارَ عددٌ له عُشر، ولعُشره سُبع، وهو سبعون، فقل: المقدار سبعون، فنزيد عليه عُشره، فيكون سبعةً وسبعين، ثم زد على الجملة سبعها، وهو أحدَ عشرَ، فيصير ثمانية وثمانين، فهي المال. والنصيب سبعة. 6691 - وتخرج المسألةُ بطريق القياس: إنك تعلم أن الأول أخذ ثمن المال، وأخذ الثاني نصيباً، يجب أن يكون الباقي عَشْرٌ، فليكن عُشره للموصى له الثالث، عُشْرها واحد، تبقى تسعة، لكل ابن واحد، فليعلم أن النصيب الذي أخذه صاحب النصيب واحد، والباقي بعد الثمن أحدَ عشرَ، وهو سبعة أثمان المال، فزد على الواحد عشرَ (1) سُبعه، وهو واحد وأربعة أسباع، فيبلغ اثني عشر، وأربعة أسباع فابسطها أسباعاً، فيكون المال ثمانية وثمانين، والنصيب سبعة.

_ (1) الواحد عشر: المراد الأحد عشر.

6692 - وطريق الدينار والدرهم أن تجعل المال ديناراً وسُبعَ دينار، وأحد عشر درهماً وثلاثة أسباع درهم، حتى إذا دفعت منه إلى الموصَى الأول ثمن المال، ودفعت الدينار بالنصيب إلى الموصى له الثاني، بقي من المال شيء له عشر صحيح. وإذا كان كذلك، فادفع إلى الموصى له الأول ثمنَ جميع ذلك، وهو سبع دينار، ودرهم وثلاثةُ أسباع درهم، يبقى دينار وعشرة دراهم، وادفع الدينار بالنصيب إلى الثاني، تبقى عشرة دراهم: للموصى له الثالث منها درهمٌ. الباقي تسعةُ دراهم، تعدل تسعة دنانير، وهي أنصباء البنين؛ فإن كلَّ سهم ممثل بدينار، فبان أن الدينار قيمته درهم واحد، وكنت جعلت المال ديناراً وسبعاً، وأحد عشر درهماً وثلاثة أسباع درهم، فبان الآن أن المال اثنا عشر درهماً وأربعة أسباع درهم، والنصيب درهم، فابسطها أسباعاً يكون المال ثمانيةً وثمانين، والنصيب سبعة. 6693 - ومن مسائل هذا النوع أن يكون الجزءان المذكوران مع النصيب أحدهما بعد الآخر، مثاله: ترك ثلاثة بنين، وأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بثلث الباقي، ولآخر بثلث الباقي بعدُ. ذلك كلُّه من الثلث. فطريق الجبر أن نأخذ ثلث مالٍ، فنلقي منه نصيباً، فيبقى ثلثُ مال إلا نصيب، فنلقي بالوصية الثانية ثُلثَه، وذلك تسع مال إلا ثلث نصيب، فيبقى تسعا مال إلا ثلثي نصيب، فنلقي بالوصية الثالثة: ثلثها. ونحتاج الآن أن نأخذ تُسعي عدد يكون له ثلث، وإنما يصح ذلك من سبعة وعشرين. وتسعاها ستة، فيبقى معنا بعد الوصيتين الأوليين ستة أجزاء من سبعة وعشرين جزءاً من مال، إلا ثلثي نصيب، فنلقي ثلثَها بالوصية الثالثة، فيبقى أربعة أجزاء من سبعة وعشرين جزءاً من المال، إلا أربعة أتساع نصيب، فنزيدها على ثلثي المال، وهو ثمانيةَ عشرَ؛ فإنا قدرنا جميع المال سبعةً وعشرين، فيبلغ الآن الثلثان مع ما زدنا عليهما اثنين وعشرين جزءاً من سبعةٍ وعشرين جزءاً من المال إلا أربعة أتساع نصيب، وذلك يعدل ثلاثة أنصباء، فنجبرها بأربعة [أتساع] (1) نصيب، ونزيد على

_ (1) في الأصل: أربعة أسباع.

عديلها مثلها؛ فيكون اثنان وعشرون جزءاً من سبعة وعشرين جزءاً من المال تعدل ثلاثةَ أنصباء، وأربعة أتساع نصيب، فنبسطها بأجزاء سبعة وعشرين، فتبلغ ثلاثة وتسعين، ثم نقلب العبارة: فالمال ثلاثة وتسعون، والنصيب اثنان وعشرون. للامتحان: ثلث المال أحدٌ وثلاثون، فنلقي منه بالوصية الأولى نصيباً، وهو اثنان وعشرون، تبقى منه تسعة، نلقي منها بالوصية الثانية ثلثها ثلاثة، تبقى ستة، نلقي بالوصية ثلثها، تبقى أربعة، نزيدها على ثلثي المال، وهو اثنان وستون، فيبلغ ستة وستين، نقسمها على البنين لكل ابن اثنان وعشرون، كما أخذ الموصى له بمثل النصيب. 6694 - وطريق الدينار والدرهم أن نجعل ثلث المال ديناراً وعدداً من الدراهم له ثلث، ولثلثه ثلث، وهو تسعة، فأعطِ بالنصيب ديناراً، فتبقى تسعة دراهم، فادفع ثلثها بالوصية الثانية، يبقى ستة، وادفع ثلثها بالوصية الثالثة، تبقى أربعة دراهم، فزدها على ثلثي المال، وهو ديناران، وثمانية عشر درهماً، فيصير المجموع دينارين واثنين وعشرين درهماً، تعدل ثلاثة دنانير، فنلقي دينارين، فيبقى دينار يعدل اثنين وعشرين درهماً، وكنا جعلنا الثلث ديناراً وتسعةَ دراهم، فالثلث الآن أحدٌ وثلاثون درهماً، والثلثان ضعف ذلك (1)، والنصيب اثنان وعشرون. 6695 - وطريق القياس أن نقول: قد علمنا أن الباقي من الثلث بعد النصيب، وبعد ثلث الباقي يجب أن يكون عدداً له ثلث صحيح؛ لأنه قد أوصى بثلثه، فنجعله [ثلاثة] (2) وندفع ثلثها بالوصية الثالثة، يبقى سهمان. وإذا زدنا على الثلاثة نصفها، بلغ أربعة ونصف، فهي الباقي من الثلث بعد النصيب، فادفع من كل ثلث نصيباً إلا أربعة ونصف، فيحصل من كل ثلث أربعة ونصف، والثلث الذي فيه الوصايا نُخرج بعد النصيب واحداً ونصفاً، ثم واحداً، فيبقى اثنان، فنضمهما إلى التسعة الفاضلة من الثلثين الباقيين، فيصير أحد عشر، وهو النصيب، فنعود ونقول: جعلنا الثلث نصيباً وأربعة ونصفاً، والآن نجعله خمسة عشر ونصفاً، وكذلك كل ثلث، ثم نبسطها أنصافاً، فيصير المال ثلاثة وتسعين.

_ (1) يزاد على الثلثين الأربعة التي بقيت من الثلث الذي أخرجنا منه الوصايا، فيصح إخراج الأنصبة منها. (2) ساقطة من الأصل.

وإذا أردت قلت في طريق القياس: نجعل الثلث نصيباً وتسعة، ثم نقول نعطي من الثلثين الباقيين نصيبين، ويفضل منهما ثمانية عشر، ونضم إلى ذلك ما يفضل من الثلث الذي فيه الوصايا، وهو أربعة، فيصير اثنين وعشرين، فهو نصيب الابن الثالث، ونتبين منه أن كل نصيب اثنان وعشرون، فنعود ونقول: الثلث اثنان، وعشرون وتسعة، والمجموع أحدٌ وثلاثون. 6696 - وجاءت المسألة بالمقادير: أن نقول أخرجنا من الثلث نصيباً، فبقي من الثلث مقدار، فندفع ثلثه بالوصية الباقية، يبقى ثلثا مقدار، ندفع ثلثه بالوصية الثالثة، يبقى أربعة أتساع مقدار، ثم ندفع من كل ثلث من الثلثين الباقيين نصيباً إلى ابن، فيبقى من كل ثلث من الثلثين مقدار، فيبقى من المال كله: مقداران من الثلثين الباقيين، وأربعة أتساع مقدار من الثلث الذي فيه الوصايا. فهذا الذي يستحقه الابن الثالث، فابسطه أتساعاً، فيبلغ اثنين وعشرين. وكنا جعلنا ثلث المال نصيباً وتسعة، فالثلث إذاً أحدٌ وثلاثون كما تقدم. 6697 - فطريق الخطأين بيّن: فإن أردناها (1)، قلنا: لا بد من اعتبار التسعة في الثلث، فنزيد على التسعة لأجل النصيب مما يتفق، فليكن ذلك الزائد واحداً، فنخرجه، وتبقى التسعة، فنخرج منها ثلاثة بالوصية الثانية، واثنين بالوصية الثالثة. وإذا كان الثلث عشرة، فالثلثان عشرون، فنضم إلى الثلثين الأربعة الفاضلة، فحصل معنا أربعةٌ وعشرون، فندفع منها إلى كل ابن واحداً: مثل ما قدرناه نصيباً، فيفضل أحدٌ وعشرون. وهذا هو الخطأ الأول، فنزيد على التسعة ستة، فنجعل الثلث خمسة عشر، يخرج منها النصيب ستة، والثلثان ثلاثون، ونضم إلى الثلثين ما يفضل من التسعة عن الوصيتين، وهو أربعة، فنسلم إلى كل ابن ستة، فيفضل ستةَ عشرَ، وهو الخطأ الثاني. والخطآن جميعاً من نقصان الأنصباء، فنحط الأقل من الأكثر والخطأ الأول أحدٌ وعشرون، فإذا حططنا عنه الستةَ عشرَ، بقي خمسة، وهي المقسوم عليها، فنحفظها.

_ (1) أردناها أي طريق الخطأين. فالطريق يؤنث ويذكر.

فإن طلبنا المال، ضربنا المال الأول في الخطأ الثاني وهو عشرة في ستة عشر، يكون مائة وستين، ثم ضربنا المال الثاني، وهو خمسة عشر في الخطأ الأول، وهو أحد وعشرون، فيبلغ ثلاثمائة وخمسة عشر، فنحط عنه، مائة وستين، فيبقى مائة وخمسة وخمسون، فنقسمها على الخمسة المحفوظة فيخص كل واحد أحدٌ وثلاثون وهو ثلث المال. وإذا أردنا طلبَ النصيب، ضربنا النصيبَ الأول، وهو واحدٌ في الخطأ الثاني وهو ستةَ عشرَ، وضربنا النصيبَ الثاني، وهو ستة في الخطأ الأول، وهو واحد وعشرون، فيصير مائة وستة وعشرين، فنحط منها ستة عشر، فيبقى منه مائة وعشرة، فنقسمها على الخمسة، فيخرج نصيب الواحد اثنان وعشرون، وهو النصيب. 6698 - والأصل المعتبر في طريق الخطأين إذا أردت استخراج مسألة من الدور، أو الوصايا، أو من العين والدين، أو من المساحة، أو غيرها من المعاملات الحسابية، فافرض عدداً كما شئت أو كسراً، وامتحن المسألة التي تريد استخراجها، فإن خرجت بأول فرضٍ، فهو المطلوب، وقد كُفيت. وإن وقع خطأٌ، فاحفظ العدد المفروض ومقدار الخطأ فيه، واعرف الخطأ هل هو زائد على المطلوب أو ناقص؟ ثم افرض عدداً آخر، أو كسراً غيرَ الأول، وامتحن به المسألة، فإن خرجت، فقد حصل المطلوب، وإن وقع فيه خطأ، فاحفظ هذا العددَ الثاني المفروضَ، واحفظ خطأه، واعرف هل هو زائد أو ناقص؟ ثم انظر، فإن كان الخطآن زائدين أو ناقصين، فاطرح أقلهما من أكثرهما، فما بقي فهو المقسوم عليه، فاحفظه. وإن كان أحد الخطأين زائداً، والآخر ناقصاً، فاجمع بينهما، ولا تنقص شيئاً، فما بلغ، فهو المقسوم عليه. وقد عرفت أنك إذا أردت طلبَ المال، ضربت العددَ الذي فرضتَه أولاً في الخطأ الثاني، وحفظت مبلغه، ثم ضربت العدد الذي فرضتَه ثانياً في الخطأ الأول، واحفظ المبلغ.

ثم انظر إن كنت جمعت بين الخطأين، فاجمع بين هذين المبلغين ولا تنقص أحدهما عن الثاني، وإن كنت نقصت أحدهما من الآخر، فانقص أيضاً أحد هذين المبلغين من الآخر، ثم ما بلغ بعد الجمع أو بعد النقصان، فاقسمه على المحفوظ الذي سميناه المقسوم عليه، فما خرج من القسمة، فهو المطلوب. وطريق طلب النصيب بما ذكرناه. وهذه طريقة استعملها الحذّاق، وهي تجري على هذا النسق في كل مسألة، لا تقع فيها جذور، ولا كعاب. فإن وقع فيها شيء من ذلك أو من الضرب والقسمة احتيج فيها إلى زيادة في العمل، ولا يحتاج إليها الفقيه. 6699 - من أسرار الطريقة أنك قد تصادف الصواب من أول فرض من غير قصد، وقد تصادفه في المرة الثانية، فإن أخطأت مرتين، فلا تزد، فإن الصواب يخرج بخطأين بالطريق الذي ذكرناه. وهذا أصل القول في طريق الخطأين، قدمه الأستاذ أبو منصور. ورأينا تأخيره حتى يحصل الإيناس بصورة الطريقة في المسائل، فإذ ذاك يُحيط الفهم بما ذكرناه. 6700 - وقد يقع من مسائل هذا الباب أغلوطة (1)، إذا حذَقتَها، خرجت المسألة هينة من غير جبر. فمنها أن يقول القائل: ترك الرجل بنتاً، وامرأة، وأماً، وأخاً (2)، وأوصى لرجل بمثل نصيب المرأة، ولآخر بمثل نصيب الأم، ولآخر بسدس جميع المال، ولرابع بثلث ما تبقى من الثلث. فسهام الفريضة أربعة وعشرون: للبنت اثني عشر، وللأم أربعة، وللمرأة ثلاثة، وللأخ خمسة، فتزيد على الأربعة والعشرين مثلَ نصفها، لاعتباره الثلث؛ فإن قوله يتضمن حصر الوصايا في الثلث، وإذا فعلنا ذلك، فالجملة ستة وثلاثون، فإذا عزلتَ

_ (1) الأغلوطة: بمعنى اللغز، فهي ما يغالَطُ به من الكلام المبهم (كليات أبي البقاء والمعجم). (2) في الأصل: أختاً. والمثبت رعاية لما سيقوله عن المسألة بعد ذلك. والمسألة -على أية حال- لا تتغير بذكورة الأخ أو أنوثته.

منها للموصى له بمثل نصيب الأم أربعة، وللموصى بمثل نصيب المرأة ثلاثة، وللموصى له بسدس جميع المال ستة، فمجموع ذلك ثلاثةَ عشرَ، وهو أكثر من ثلث المال، فنعلم بذلك أن الموصى له بثلث الباقي من الثلث لا وصية له، والوصايا زائدة على الثلث، فيكون الثلث بين أصحاب الوصايا الثلاثة على ثلاثةَ عشرَ سهماً، وثلثا المال ستة وعشرون بين الورثة، فينكسر ستة وعشرون على أربعة وعشرين، ولكن توافقها بالنصف، فاضرب نصف الفريضة في مخرج الوصايا، وصحح العمل بطريق الفرائض من غير جبر؛ فإن الجبر إنما يقع إذا اشتملت المسألة على نصيب وجزء بعده؛ فإن النصيب يصير مجهولاً بالجزء الذي يقع بعده. وقد سقط في هذه المسألة الجزء بعد الأنصباء، فاستمرت المسألة على حساب الفرائض. فصل في الوصية بنصيبين مع الوصية بعد كل نصيب بجزءً 6701 - من مسائله أن يقال: ترك ابنين وبنتين، وأوصى لإنسان بنصيب بنتٍ، ولآخر بخُمس ما تبقى من الثلث بعد هذا النصيب، وأوصى لثالث بمثل نصيب البنت الأخرى، ولرابع بثلث ما بقي من الربع بعد هذا النصيب. فالحساب بالجبر أن نأخذ ثلث مالٍ، ونلقي منه نصيباً، يبقى ثلث مال إلا نصيبا، فنلقي خمسَ ذلك، فتبقى أربعة أخماس الثلث إلا أربعة أخماس نصيب، فاحفظ ذلك. ثم خذ ربع مالٍ، فألقِ منه نصيباً، يبقى ربعُ مالٍ إلا نصيباً، فنلقي منه ثلث ذلك بالوصية الرابعة، يبقى ثلثا ربع إلا ثلثي نصيب. فنحتاج أن نزيد ذلك على ما كان قد بقي من الثلث من قبل، وهو أربعة أخماس الثلث إلا أربعة أخماس النصيب، فنحتاج إلى عددٍ له ثلث، ولثلثه خمس، وله ربع ولربعه ثلث، وهو ستون. وإذا جمعت ثلثي ربع الستين إلى أربعة أخماس ثلثه، كان ستةً وعشرين؛ فإن ثلث الستين عشرون، وأربعة أخماسه ستةَ عشرَ، وربعه خمسةَ

عشرَ، [وثلثاه] (1) عشرة، والجملة ستة وعشرون. وهذا هو العدد، ولا بد من استثناء النصيب، فمعنا أربعة أخماس الثلث إلا أربعة أخماس نصيب، وثلثا الربع إلا ثلثي نصيب. والأوْلى أن نقسم النصيب في هذه المسألة قسمة المال على ستين، ومعنا استثناء أربعة أخماس من نصيب، والاستثناء ثلثي [نصيب] (2)، فنكمل الأربعة الأخماس بالثلثين ضمّاً، فيصير نصيباً كاملاً، وثمانية وعشرين جزءاً من ستين جزءاً من نصيب. فإذاً معنا ستةٌ وعشرون جزءاً من ستين جزءاً من المال، ناقصة بنصيبٍ وثمانيةٍ وعشرين جزءاً من ستين جزءاً من نصيب، ومخرج أجزاء النصيب خلاف أجزاء المال، ولكنهما متفقان بالخمس، وإذا ضربت خمس أحدهما في الثاني، كان ستين، فنضم الستة والعشرين إلى ما لم نتصرف فيه من المال، فإنا إنما تصرفنا في ثلث المال. وربعه، وفضل منه ما ذكرنا، وبقي ربع المال وسدسه لم نتصرف فيهما، وربع الستين خمسةَ عشرَ وسدسه عشرة، وإذا ضممنا الستة والعشرين إلى ذلك، كان أحداً وخمسين، فنقول: هذا مع النقصان الذي ذكرناه يعدل أنصباء الورثة، والأنصباء ستة، وهي فريضة الميراث، فنجبر الأحد والخمسين بنصيبٍ وثمانية وعشرين جزءاً من ستة وعشرين جزءاً من ستين جزءاً من نصيب، ونزيد مثلَ ذلك على عديله، فيصير سبعة أنصباء وثمانية وعشرين جزءاً من ستين جزءاً من نصيب، ونبسط الأنصباء من أجزاء الستين، فتصير أربعمائة وثمانية وأربعين. ونقلب العبارة، فنقول: النصيب أحدٌ وخمسون، والمال أربعمائة وثمانية وأربعون، ثم يمتحن، فيقع في بعض الوصايا كسر. ولكن قد لا يُبالي الحيسوب به إذا انقسم الباقي على فرائض الورثة. الامتحان: نأخذ ثلث المال، وهو مائة وتسعة وأربعون وثلث، فنلقي منها بالوصية الأولى نصيباً، وهو أحدٌ وخمسون، فيبقى ثمانية وتسعون سهماً وثلث، فنلقي بالوصية الثانية خُمسها، وهو تسعةَ عشرَ وثلثان. ثم نأخذ ربع المال، وهو مائة واثنا عشر، فنلقي منها بالوصية بالنصيب نصيباً،

_ (1) في الأصل: وثلثه. (2) ساقطة من الأصل.

وهو أحدٌ وخمسون، يبقى منها أحدٌ وستون سهماً، فنلقي منها بالوصية الرابعة ثلثها، وذلك عشرون وثلث، وجملة الوصايا مائة واثنان وأربعون، فنلقيها من أصل المال وذلك أربعمائة وثمانية وأربعون، فيبقى للورثة ثلاثمائة وستة، نقسمها على ستة أسهم لكل ابن مائة واثنان، ولكل بنت أحد وخمسون، كما أخذ الموصَى له بمثل نصيب البنت. فإن أردت إزالة الكسر، فاضرب جميع ذلك في ثلاثة واستأنف القسمة. القول في الوصية بالنصيب مع استثناء جزءٍ من النصيب الموصى به 6702 - هذه المقالة تدور على فصلين: أحدهما - يشتمل على الوصية بالنصيب مع استثناء جزءٍ من جملة المال، والفصل الثاني - يشتمل على الوصية بالنصيب مع استثناء جزءٍ مما بقي، وكل فصلٍ يتنوع أنواعاً، كما سيأتي الشرح عليها، إن شاء الله عز وجل. الفصل الأول في استثناء جزءٍ من جملة المال عن النصيب الموصى به 6703 - فمن مسائل ذلك أن يترك خمسة بنين، وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ثمن المال. فطريق الجبر أن نأخذ مالاً، ونلقي منه نصيباً، يبقى مال إلا نصيب، ويستثنى من النصيب الذي أخرجته ثمن المال، فنزيده على المال، فيبقى مال وثمن مال إلا نصيباً. والثمن الذي استرددته لا نقصان فيه؛ فإنك استرددته كاملاً، فمعك مال وثمن مال ناقص بنصيب، يعدل أنصباء الورثة، وهي خمسة، فاجبر المال بالنصيب، وزد مثله على عديله، فيكون مال وثمن يعدل ستة أنصباء، فابسطها أثماناً، فيصير المال تسعة والأنصباء ثمانية وأربعين، فاقلب الاسم، فالمال ثمانية وأربعون، والنصيب تسعة. الامتحان: أن ندفع إلى الموصى له بمثل النصيب تسعة. ونسترجع منه ثمن المال وهو ستة، يبقى في يد الموصى له ثلاثة أسهم وهي الوصية، فاطرحها من المال،

فيبقى خمسة وأربعون سهماً بين خمسة بنين، لكل واحد سهم: تسعة، مثل النصيب الخارج بالعمل. 6704 - طريقة الخطأين: أن نجعل المال ثمانية، والنصيب أربعة، ونستثني منه مثل ثمن المال، يبقى خمسة، فنحتاج أن ندفع منها إلى كل ابن مثل نصيب، فكان يجب أن يكون الباقي عشرين، فلما بقي خمسة نقص عما نحتاج إليه خمسة عشرَ، فهي الخطأ الأول، والخطأ في النقصان، فاحفظ. ثم اجعل المال ستةَ عشرَ، والنصيب منها خمسة، واستثنِ منها ثمن المال، وهو اثنان يبقى من المال ثلاثة عشر، وكان الواجب أن يبقى منها خمسة وعشرون ليكون لكل ابن خمسة، مثل النصيب المفروض، فقد خرج عن الحاجة اثنا عشر، وهو الخطأ الثاني، وذلك ناقص أيضاً، فانقص أحدَ الخطأين عن الآخر، فيبقى ثلاثة، وهو المقسوم عليه، فاحفظه. ثم اضرب المال الأول وهو ثمانية في الخطأ الثاني، وهو اثنا عشر، فيبلغ ستة وتسعين، ونضرب المال الثاني وهو ستة عشر في الخطأ الأول، وهو خمسةَ عشرَ، فيبلغ مائتين وأربعين، فانقص المبلغ الأول، وهو ستة وتسعون [من] (1) ذلك؛ فيبقى مائة وأربعة وأربعون، فاقسمها على الثلاثة المحفوظة، فيخرج من القسمة ثمانية وأربعون سهماً، فهي المال. وإن أردت النصيب، فاضرب النصيب الأول وهو أربعة في الخطأ [الثاني] (2)، وهو اثنا عشر، فيبلغ ثمانية وأربعين، واضرب النصيب الثاني وهو خمسة في الخطأ الأول وهو خمسة عشر، فيبلغ خمسة وسبعين، فانقص أحد المبلغين وهو ثمانية وأربعون، من خمسة وسبعين فيبقى سبعة وعشرون، فاقسمها على الثلاثة. فيخرج تسعة. وهو الذي خرج بالجبر. 6705 - وحساب المسألة بطريق المقادير أن نقول: قد علمنا أنا إذا دفعنا إلى الموصى له من المال نصيباً، بقي منه مقدار، فنسترجع من الموصى له ثمن المال،

_ (1) في الأصل: في. (2) في الأصل: مساغ.

وذلك ثمن مقدار، وثمن نصيب، وهاهنا تأمّلٌ على الناظر يقطع به على حقيقةٍ عليها تدور الطرق، سنذكرها، إن شاء الله تعالى. وذلك أنا نقول: المال مقدار ونصيب، فإذا كنا نسترد ثُمنَ جملة المال، شاع ذلك في المقدار والنصيب، فينتظم أن نقول: نسترد من الوصية ثمنَ مقدارٍ، وثمنَ نصيب، فيحصل معنا مقدار [وثمن مقدار] (1) وثمن نصيب، وذلك كلُّه يعدل خمسةَ أنصباء، فنلقي ثمنَ نصيب بثمن نصيب قصاصاً، يبقى مقدارٌ وثمن مقدار، يعدل أربعة أنصباء، وسبعة أثمان نصيب، فنبسطها أثماناً، فيصير المقدار [تسعة] (2)، والأنصباء تسعة وثلاثين. [فنقلب] (3) الاسمَ ونقول: المقدار تسعة وثلاثون، والنصيب تسعة، وكان معنا مقدار ونصيب، فنضم أحدهما إلى الثاني، فيصير المجموع ثمانية وأربعين، فهو المال، فقد بان النصيب. فإن وقع الكلام في بعض الطرق من مراسم الجبر ولا غرو؛ فإنّ الجبر هو الأصل، وما عداه من تِبَاعه (4). وطريق القياس يقرب ممّا ذكرناه الآن، فنقول: علمنا أنه إذا دُفع إلى الموصى له بالنصيب ما يجب أنه يبقى من المال عدد له ثمن، فاجعله ثمانية، واسترجع من الموصى له مثل ثمن جميع المال، وجميع المال ثمانية ونصيب، فإذا استرجعنا ثمن المال من الوصية، كان سهماً واحداً وثمنَ نصيب، فيحصل معك تسعة أسهم، وثمن نصيب، وذلك يعدل خمسة أنصباء، فألق ثمن نصيب بثمن نصيب، تبقى تسعة أسهم تعدل أربعة أنصباء وسبعة أثمان نصيب، فاقسم السهام على الأنصباء، وتلتقي الطريقتان قلباً وبسطاً. 6706 - وطريق الدينار والدرهم يقرُب مما ذكرناه، فنجعل المال ديناراً وثمانية

_ (1) زيادة من المحقق لا تستقيم المسألة بدونها. (2) في الأصل: سبعة. (3) في الأصل: فنطلب. (4) تِباعه: أي من آثاره ونتائجه (المعجم).

دراهم، وندفع الدينار بالنصيب، ونسترجع من الدينار ثمنَ جميع المال، وذلك درهم وثمن دينار، فيبقى من المال [تسعة] (1) دراهم، وثمن دينار، وذلك يعدل خمسة دنانير، فنلقي ثمن دينار بثمن دينار، يبقى [تسعة] (2) دراهم تعدل أربعة دنانير وسبعة أثمان دينار، ثم نبسط الدنانير، وقد بان أن الدينار يساوي [تسعة] (3)، وتعود الطريق إلى ما مضى. 6707 - صورة أخرى: ترك ابناً، وأوصى بمثل نصيبه لرجل إلا نصف جميع المال، فالمسألة صحيحة، وفي تصويرها إبهام على من لا يحيط بحقيقة المسألة. وإذا خرجناها بالحساب، بان الغرض، فنأخذ مالاً، وننقص منه نصيباً إلا نصف مال، فتبقى معنا مال ونصف إلا نصيب يعدل نصيباً واحداً، فاجبر المال، وزد على عديله مثله، فيكون مال ونصف مال، يعدل نصيبين، فابسطها أنصافاً، واقلب الاسم، فيكون المال أربعة والنصيب ثلاثة، فادفع إلى الموصى له ثلاثة، واسترجع منه نصف المال وهو اثنان، يبقى معه سهم واحد وهو الوصية، فاطرحها من المال تبقى ثلاثة، وهي نصيب الابن. وقد أخذ الموصى له مثل هذا النصيب إلا نصف المال. فإن قيل: إذا لم يكن في المسألة إلا ابن فالوصية بنصيبه، أو بمثل نصيبه وصية بالنصف، واستثناء النصف منه في ظاهر الأمر مستغرق للوصية، [فهذا] (4) غير سديد؛ فإنه إذا أوصى لإنسان بنصيب ابن إلا نصف المال، فتقديره أوصيت لك بمقدار إذا استرد منه نصف المال، وضم إلى الباقي وجمع، كان المجموع المصروف إلى الابن مثل ما قُدِّر صرفه إلى الموصى له، ثم استرد منه النصف، فهذا هو التقدير. فإذا كان يبقى على هذا التقدير شيء، فذلك المقدار موصى به. فلو كان ابنان، فاوصى لإنسان بنصيب أحدهما إلا نصف جميع المال، فالوصية باطلة.

_ (1) في الأصل: سبعة. (2) في الأصل: سبعة. (3) في الأصل: سبعة. (4) في الأصل: " وهذا " وهي واقعة في جواب الشرط.

وامتحان بطلانها أنا نقول: نأخذ مالاً ونلقي منه نصيباً، ونسترد نصف المال تقديراً من الوصية، فيحصل في أيدينا مال ونصفٌ ناقص بنصيب، يعدل نصيبين، فنجبر المال والنصف، ونزيد على العديل نصيباً، ونبسط الأنصباء والمال أنصافاً، فتصير الأنصباء ستة، والمال ثلاثة، ثم نقلب العبارة، فالنصيب ثلاثة، والمال ستة ونعطي من الستة ثلاثة [ونستردّ] (1) نصف المال، وهو ثلاثة، فلا يبقى شيء، فتبطل. 6708 - صورة أخرى: رجل ترك ثمان أخوات، وامرأة، وأماً، فأوصى لرجل بمثل نصيب المرأة، وبمثل نصيب الأم إلا ثمن وعشر جميع المال. فالفريضة من ثلاثةَ عشرَ وهي عائلة بنصف سدسها، فنأخذ مالاً وننقص منه خمسة، نصرفها إلى الموصى له بالنصيبين، للأم سهمان، وللمرأة ثلاثة أسهم، ونسترجع ثمن المال وعشر المال، ونزيد هذا على ما بقي من المال، فيبقى مال وثمن مال وعشر مال إلا خمسة أنصباء، فإنا نجعل كلَّ سهم من سهام الفريضة نصيباً؛ فإذاً مال، وثمن مال، وعشر مال إلا خمسة أنصباء تعدل ثلاثة عشر، فنجبر المال والعشر والثمن بخمسة أنصباء ونزيد على العديل مثلَه، فيكون مال وثمن وعشر، يعدل ثمانية عشر نصيباً، فاضرب الجميع في مخرج الثمن والعشر، وهو أربعون فيكون تسعة وأربعين. والأنصباء سبعمائة وعشرون، فنقلب الاسم، ونقول: المال سبعمائة وعشرون، والنصيب تسعة وأربعون، فندفع إلى الموصى له خمسة أنصباء كل نصيب منها تسعة وأربعون سهماً، وجملة ذلك مائتان وخمسة وأربعون سهماً، واسترجع منه مثل ثمن المال وعشره، وذلك مائة واثنان وستون سهماً، تبقى للموصى له ثلاثة وثمانون سهماً هي الوصية فاطرحها من المال فتبقى ستمائة وسبعة وثلاثون سهماً، فاقسمها بين الورثة على ثلاثة عشر نصيباً، فيخرج كل نصيب تسعة وأربعون سهماً، كما خرج الحساب، وقد نجز [ما .. ] (2) مضمون هذا الفصل.

_ (1) في الأصل: نستزيد. (2) كلمة غير مقروءة. لعلها: " ما يمهد ".

الفصل الثاني في الوصية بالنصيب مع استثناء جزءٍ مما تبقى 6709 - وهذا يتنوع نوعين: أحدهما - أن يكون الاستثناء من التام. والثاني - أن يكون الاستثناء من جزءٍ مما تبقى. ونحن نذكر في كل نوع ما يليق به. فأما الاستثناء بجزءٍ من باقي المال، فهذا يفرض على ثلاثة أوجه يتعين الاعتناء بفهمها؛ فإنها فقه الباب، ومن لم يُحط بها مفصَّلةً، فليس على علم بالمقصود. والاستثناء في هذا النوع الذي نحن فيه يفرض على ثلاثة أوجه: أحدها - أن يقع الاستثناء بجزء من الباقي بعد الوصية، وهو المقدار الذي يستحقه الموصى له بعد حط الحساب، وبسطه وقبضه، ويختلف الأمر؛ فإنّ الجزء إذا صرف إلى ما بعد الوصية، كان الباقي أكثر، وكان الجزء المضاف إلى الباقي أكثر، فإذا صرف الجزء إلى ما بعد النصيب التام تقديراً، فالباقي بعد تقدير النصيب التام أقل وجزؤه أقل. فهذا تفاوتٌ نعقله قبل الخوض في تفصيل العمل. وإذا كان الجزء مضافاً إلى الباقي بعد الوصية، فمعنى الكلام أن يقدّر للموصى له نصيبٌ تام، ويستثنى منه [جزءُ] (1) ما يبقى بعد الوصية. وفي الوجه الثاني بعد النصيب التام. فإذا تقيَّد الاستثناء بأحد هذين الوجهين صريحاً، فموجب ذلك الاستثناء متَّبعٌ بلا خلاف، وسنذكر في كل وجه من الوجهين مثالاً أو أمثلةً، ونطرد طرق الحساب. والوجه الثالث - أن يقول الموصي: أوصيت لفلان بنصيب فلان إلا ثلث الباقي، أو جزءاً آخر، ولا يتعرض للنصيب، ولا للوصية، فهذا مردَّدٌ محتمل الوجهين المقدَّمين. وقد حكى الأستاذ أبو منصور في هذا الوجه خلافاً بين أصحابنا، وهو محتمل،

_ (1) ساقطة من الأصل.

ولم أره محكياً من جهة غيره، وكيف يُطمَع في حكاية غيره، ولم يتعرض لهذا التفصيل أحد، ولا بد منه. قال الأستاذ: ذهب معظم أصحابنا إلى أن الاستثناء المطلق في هذا الوجه الثالث مصروفٌ إلى استثناء جزءٍ من الباقي بعد الوصية، وبهذا قال محمد بن الحسن، وهذا يتضمن تقليلَ الوصية، وتكثير الاستثناء، وذهب بعضُ أصحابنا إلى أن الاستثناء يُحمل على ما بعد النصيب. توجيه الوجهين: من حمل على الأقل خرّج ذلك على أصلٍ ممهَّدٍ في الوصايا والأقارير، وهو أنها منزّلةٌ على الأقل المتيقَّن، وإذا فرض ترددٌ بين القليل والكثير، فالوجه حمله على القليل. ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الموصي ذكر النصيبَ وأضاف الاستثناء إلى الباقي فلينصرف الاستثناء إلى الباقي بعد المذكور، والمذكور هو النصيب. وهذا متجه تلقّياً من اللفظ. فإن قيل: لم تذكروا هذه الوجوهَ الثلاثةَ فيه إذا كان الاستثناء بجزءٍ من المال. قلنا: ذلك الاستثناء مضاف إلى ما بعد الوصية، لا (1) إلى ما بعد النصيب، ولا معنى لتقسيم الكلام فيه. وهذا بينٌ لا خفاء به، ونحن نذكر الوجهين الأولين المقيّدين بما بعد النصيب، وما بعد الوصية. ثم لا يخفى حكم الإطلاق تخريجاً على المذهبين. 6710 - فأما الاستثناء بجزءٍ مما بقي من المال بعد النصيب، فمثاله: رجل ترك ثلاثة بنين وأوصى لرجلٍ بمثل نصيب أحدهم إلا عشر الباقي من المال بعد النصيب. فطريق الجبر أن نأخذ مالاً، ونلقي منه نصيباً، فيبقى مال إلا نصيب، فنزيد على المال عُشره، وهو مسترجع من النصيب، فمعنا مال، وعشر مال، ناقص بنصيب، وعشر نصيب. فإنّ المال إذا كان ناقصاً بنصيب، فعشره ناقص بعشر نصيب، وإذا كان الاستثناء من الباقي فأجزاء الباقي تتصف بما يتصف به الباقي، وليس كما تقدم من استثناء جزءٍ من المال كما سبق ذكره.

_ (1) في الأصل: ولا إلى.

فمعنا إذاً مال وعُشر مال ناقص بنصيب وعشر نصيب، يعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة، فتجبر وتقابل، فيكون مال وعشر مال يعدل أربعة أنصباء، وعشر نصيب. فابسطها جميعاً أعشاراً، واقلب العبارة، فيكون المال أحداً وأربعين، والنصيب أحد عشر. الامتحان: ندفع النصيب إلى الموصى له، وهو أحد عشر، فيبقى ثلاثون، فنسترجع عشر الثلثين وهو ثلاثة من ذلك النصيب، تبقى ثلاثة وثلاثون بين ثلاثة بنين لكل واحد أحد عشر، وهو النصيب الخارج. 6711 - طريقة الخطأين: أن نجعل المال إن شئنا - اثني عشر، والنصيب منها اثنين، فندفعه إلى الموصى له؛ فيبقى عَشْرٌ، فنسترجع من اثنين عُشر ما بقي، وهو واحد، ونزيده على العشرة، فيبلغ أحد عشر، فندفع منها إلى كل ابن مثل النصيب المقدر اثنين، وذلك ستة، فيبقى منه خمسة، هذا هو الخطأ الأول وهو زائد، فنحفظه. ثم نجعل المال ثلاثة عشر، والنصيب منها ثلاثة، فنخرج الثلاثة نصيباً، ونسترد منها عُشرَ الباقي، وهو سهم، ونقسم الأحد عشر، فندفع إلى كل ابن ثلاثة، مثل ما قدرناه للموصى له قبل الاستثناء، فيفضل اثنان، وهو الخطأ الثاني، وهو زائد أيضاً، فنسقط أحد الخطأين من الآخر تبقى ثلاثة، فنحفظها، فهي المقسوم عليها. ثم نضرب المال الأول في الخطأ الثاني، فيبلغ أربعة وعشرين، ونضرب المال الثاني في الخطأ الأول، فيبلغ خمسة وستين، ونسقط أقل المتلقيين من أكثرهما، فيبقى أحد وأربعون، فنقسمها على المحفوظ فيخرج ثلاثةَ عشرَ وثلثان، فهو المال. ثم نضرب النصيب الأول في الخطأ الثاني، فيبلغ أربعة، ونضرب النصيب الثاني في الخطأ الأول فيبلغ خمسة عشر، ونسقط الأقلَّ من أكثر، فيبقى أحد عشر، فنقسمها على المحفوظ فيخرج ثلاثة وثلثان، فهي النصيب، والمال ثلاثةَ عشرَ وثلثان، فنبسطها أثلاثاً ليزول الكسر، فيكون المال أحداً وأربعين، والنصيب أحد عشر، كما أفضى إليه الجبر.

6712 - وأما طريقة المقادير، فنعطي نصيباً من المال، يبقى منه مقدار، نسترجع عُشرَه من ذلك النصيب، ونزيده على المقدار، فيكون مقداراً وعشرَ مقدار، وذلك مثل ثلاثة أنصباء، فنقسمها على ثلاثة، فيكون كلُّ نصيب منها ثُلثَ مقدار وثلثَ عُشر مقدار. فهذا مقدار النصيب. فنرجع ونقول: المال مقدار وثلث مقدار وثلث عشر مقدار، فذلك هو المال، فنضربه في عدد له ثلث وعشر، ولعشره ثلث، فيبلغ أحداً وأربعين، وهو المال. وقد ظهر أن [النصيب] (1) ثلثُ مقدار، وثلثُ عشر مقدار، فخذ ثلثَ الثلاثين، وثلثَ عشرها، وذلك أحد عشر. وطريقة القياس قريبة مما ذكرنا. فنقول: علمنا أن الباقي من المال بعد النصيب عدد له عشر، فنجعله عشرة، وقد استثنى عشرها فيصير أحد عشر، فهذه الأحد عشر يستحقها البنون، وهم ثلاثة: لكل واحد منهم ثلاثة وثلثان، فعلمنا بذلك أن النصيب الذي أخذه الموصى له قبل الاستثناء كان ثلاثة وثلثين، فنزيدها على العشرة الباقية بعد النصيب، فيكون ثلاثةَ عشرَ وثلثين، فنبسطها أثلاثاً، فتكون [أحدا وأربعين، وهي المال، وقد فرضنا النصيب ثلاثة وثُلثين، فنبسطها أثلاثاً فتكون] (2) أحد عشر، فهي النصيب. 6713 - وطريق الدينار والدرهم أن نجعل المال ديناراً وعشرةَ دراهم، فنجعل الدينار نصيباً، ونخرجه إلى الموصَى له، ونسترجع منه مثلَ عشر الباقي، وهو درهم، ونزيده على الباقي، فيكون أحد عشر درهماً، تعدل ثلاثة دنانير، وقيمة كل دينار ثلاثة دراهم، وثلثان، فنزيدها على العشرة بدل الدينار، فتبلغ ثلاثةَ عشرَ درهماً وثلثين، فهي المال، فنبسطها أثلاثاً، كما تقدم وقد التقت الطرق.

_ (1) في الأصل: " المال " والمثبت من تصرف المحقق؛ أخذاً من معطيات المسألة. (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

6714 - صورة أخرى: ترك رجل. امرأة، وأبوين، وابنين، وأوصى بمثل نصيب أحد الابنين إلا خمس ما تبقى من المال بعد النصيب. فسهام الفريضة ثمانية وأربعون، فطريق خروج المسألة على إيجازٍ بالجبر والمقابلة أن نقول: الوصية بالنصيب تتضمن ضمّه مثلَ نصيب الموصى بنصيبه إلى سهام الفريضة، وما تضمه إلى سهام الفريضة مجهولٌ؛ لمكان الاستثناء عنه مما بقي، فنقول: نضم [إلى] (1) الثمانية والأربعين شيئاً مجهولاً، وهو الذي نستخرج بيانه، ثم نأخذ نصيب أحد الابنين، وهو ثلاثةَ عشرَ سهماً، فيبقى خمسةٌ وثلاثون، والذي ضممناه، فنستثني من الثلاثة عشر خُمسَ ما بقي، وهو سبعة وخُمس شيء، فتبقى ستة إلا خُمس شيء، تعدل الشيء الذي ضمَمْناه إلى الفريضة، فنجبر الستة الباقية بخمس شيء، ونزيد على عديله وهو الشيء خمسَ شيء، فتبقى ستة أسهم كاملة في مقابلة شيء وخمسِ شيء، فنعلم أن الشيء يساوي خمسة أسهم، إذا (2) كان الشيء وخمس شيء يساوي ستة أسهم. فنرجع ونقول: الذي ضممناه إلى الفريضة خمسة أسهم، وإذا ضممنا خمسةً إلى ثمانية وأربعين، كان المجموع ثلاثة وخمسين، فنسقط منها الوصية خمسة أسهم، فتبقى سهام الفريضة ثمانية وأربعون سهماً، وتصح القسمة، وقد وفَّيْنا بموجب الوصية.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) " إذا كان الشيء ... " واضحٌ أن المعنى (إذْ)، وقد يسبق إلى ذهن بعض المحققين أن هذا تصحيف، وسهو من الناسخ، فما أكثر هذا!! ولكن يجب على من يتعامل مع النصوص التراثية ألا يحملها على مألوفه ومعهوده من النحو واللغة، بل يجب عليه أن يبحث وينقّر على أي وجهٍ يمكن أن يحمل الاستعمال الذي أمامه، ولا يسارع إلى التخطئة، والحمل على التصحيف والتحريف. وفي عبارتنا هذه رأينا أن استعمال (إذا) مكان (إذ) سائغ صحيح، غفل عن التنبيه عليه أكثر النحويين، كما قال ابن مالك، وشاهده من القرآن الكريم: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) [الجمعة: 11] (ر. شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح: 62).

الامتحان: نُخرج من الثلاثة والخمسين، وهي الفريضة الجامعة للوصية وسهام المسألة ثلاثةَ عشرَ، فتبقى أربعون، فيستثنى من النصيب خمس الأربعين، وهو ثمانية فيبقى خمسة للوصية، وتعود سهام الفريضة إلى ثمانية وأربعين، وقد خرجت المسألة. 6715 - فطريق (1) الدينار والدرهم قريبة مما ذكرناه. فنقول: نزيد على سهام المسألة -وهي ثمانية وأربعون- ديناراً. ونُخرج نصيب أحد الابنين ثلاثةَ عشرَ، فيبقى خمسة وثلاثون ودينار، فنطرد في الدينار ما ذكرناه في المسألة، فتخرج المسألة بقيمة الدينار، كما تقدم. هذا كلام في أحد الوجهين المقيّدين وهو أن يُقيّد لفظُ الموصي الاستثناءَ بجزءٍ مما بقي بعد النصيب. 6716 - فأما الاستثناء مما بقي بعد الوصية، فقد ذكرنا أن الاستثناء أكثر، والجزءُ المذكور، وإن شابه الجزء المذكور في النوع الأول، فهو في التحقيق أكثر منه. ومما يجب الإحاطة به -وبناء مسائل هذا النوع عليه- أن نعلم أن عُشر الباقي من المال بعد الوصية، يكون مثل تسع الباقي منه بعد النصيب، وتسع الباقي بعد الوصية مثل ثمن الباقي منه بعد النصيب، وثمن الباقي بعد الوصية مثل سبع الباقي منه بعد النصيب، وسبع الباقي من المال بعد الوصية يكون مثل سدس الباقي منه بعد النصيب، وسدس الباقي بعد الوصية مثل خمس الباقي بعد النصيب، وخمس الباقي بعد الوصية مثل ربع الباقي بعد النصيب، وربع الباقي بعد الوصية مثل ثلث الباقي بعد النصيب، وثلث الباقي بعد الوصية مثل نصف الباقي بعد النصيب. فإذا ثبت هذا الاعتبار، رجعنا إلى المسألة وقلنا: رجل ترك ثلاثة بنين، وأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم إلا عشر ما تبقى من المال بعد الوصية، فهذا في معنى ما لو أوصى لرجلٍ بمثل نصيب أحد بنيه إلا تسع ما تبقى من المال بعد النصيب.

_ (1) كذا بالفاء، وهو استعمال معهود أيضاً في تفصيل المجمل، وعدّ آحاده.

6717 - فطريقة الجبر على قياس المسألة الأولى مما تقدم أن نأخذ مالاً، وننقص منه نصيباً، يبقى مال إلا نصيب، فنزيد عليه مثلَ تُسعه، وهو الذي استرجعناه بالاستثناء من النصيب، فيكون الباقي مالاً وتسعَ مال إلا نصيباً وتسع نصيب، وذلك يعدل ثلاثة أنصباء، فنجبر ونقابل، صار مال وتسع مال يعدل أربعة أنصباء وتسع نصيب، فإذا بسطناها أتساعاً صار المال عشرة والنصيب سبعة وثلاثين، وإذا قلبنا العبارة، كان المال سبعة وثلاثين، والنصيب عشرة. الامتحان: ندفع إلى الموصى له عشرة، تبقى سبعة وعشرون، فنسترجع منها تُسعَ ما بقي، وهو ثلاثة، نضمه إلى السبعة والعشرين، فيبقى للوصية سبعة، وقد حصل في أيدينا ثلاثون، نقسمها على ثلاثة بنين، لكل واحد عشرة. 6718 - وخروج المسألة بالخطأين، والمقادير، والقياس، والدينار والدرهم، على قياس خروجها في الوجه الأول المقيّد بما بعد النصيب، إلا أنك تجعل بدل عشر الباقي بعد الوصية تسع الباقي بعد النصيب. والقياس بعد ذلك على ما مضى، فلا معنى لإعادة الطرق. 6719 - صورةٌ أخرى: رجل ترك ثلاثة بنين، فأوصى بمثل نصيب أحدهم إلا سدسَ ما تبقى بعد الوصية من المال، فقد علمنا أن سدسَ الباقي بعد الوصية مثلُ خُمس الباقي بعد النصيب، فنأخذ مالاً، ونلقي منه نصيباً، يبقى مالٌ إلا نصيب، ونزيد عليه الاستثناءَ: خُمسَه، فيردّ من النصيب، فيكون مال وخمس مالٍ إلا نصيباً، وخمسَ نصيب، يعدل ثلاثة أنصباء، فإذا جبرنا، وقابلنا، وعدلنا، صار مال وخُمس يعدل [أربعةَ] (1) أنصباء وخُمسَ نصيب، فإذا بسطناه أخماساً، وقلبنا الاسمَ، صار المال أحداً وعشرين، والنصيب ستةً، وهما متفقان بالثلث، فرددنا كل واحد منهما إلى الثلث، فالمال سبعة والنصيب اثنان. وإذا دفعنا إلى الموصى له نصيباً، وهو اثنان، واسترجعنا منه خمسَ

_ (1) في الأصل: خمسة.

الباقي، بقي سهم واحد لجهة الوصية، وللورثة ستة أسهم لكل واحدٍ منهم سهمان. وربما نقرّب العبارةَ في بعض المسائل عن الجبر، فنقول: معلومٌ أن الباقي من المال بعد الوصية أنصباء البنين، وذلك ثلاثة أنصباء، وسدس ذلك نصفُ نصيب، وهو المستثنى من نصيب أحد البنين، فإذا استرجعناه من النصيب، بقي نصف نصيب، وهو الوصية، فنزيده على أنصباء البنين، فيكون ثلاثة أنصباء ونصف نصيب، للموصى له من ذلك نصف سهم، ولكل ابن سهم، فنضعّف ذلك ليزول الكسر، فيصير المال سبعة، والوصية منها سهم واحد. وقد بان بهذه المسألة أن سدسَ الباقي بعد الوصية، مثلُ خُمس الباقي بعد النصيب، وإنما كان كذلك لأنك إذا أسقطت من المال سدسه، بقي خمسةُ أسداسه، وكان السدس الذي أسقطته مثل خمس الباقي، وكذلك إذا أسقطت من المال خُمسه: ذلك الخُمس مثلُ رُبع الباقي بعد إسقاط خمسه، فهذا قياس الباب. وقد نجز أحد النوعين الموعودين بما يتعلق به في أقسامه، ومسائله. 6720 - فأما النوع الثاني فمضمونه الوصية بالنصيب، مع استثناء جزءٍ من جزءِ: هذا النوع ينقسم إلى الأقسام والوجوه الثلاثة، كما تقدم، فقد يقع الاستثناء بجزءٍ من جزء بعد النصيب، وقد يقع الاستثناء بعد الوصية، وقد [يجري] (1) الاستثناء مطلقاً، من غير إضافةٍ إلى النصيب، أو إلى الوصية، وقد تقدم فقه الفصل. ونحن نذكر بعدُ التقييدَ بما بعدَ النصيب، ثم نذكر بعده التقييدَ بما بعد الوصية، ثم المطلق فيه مذهبان، تقدم ذكرهما، وقياس المذهبين على قياس خروج المذهبين المقدّمين. 6721 - فأما الاستثناء بعد النصيب، فرجل خلف ثلاثةَ بنين، وأوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ثلث ما تبقى من الثلث بعد النصيب.

_ (1) في الأصل: جرى.

فحساب المسألة بالجبر والمقابلة أن نأخذ ثلثَ مال، ونسقطَ منه نصيباً، يبقى ثلثُ مال إلا نصيب (1)، فنزيد عليه ثلثه، وثُلثُ الثلث تسعُ المال، فنسترجع ذلك من النصيب، فيحصل معنا ثلث مال وتسعُ مال إلا نصيب وثلث نصيب، والجملة أربعة أتساع مال إلا نصيباً وإلا ثلث نصيب، فنزيده على ثلثي المال، وهو ستة [أتساع] (2)، ونعبّر عن الجملة بعد الضم بالأتساع، فيحصل معنا مال وتسع مال إلا نصيباً وثلثَ نصيب، يعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاث، وإذا جبرنا، وقابلنا، وعدلنا، فيكون مال وتسع مال في مقابلة أربعة أنصباء وثلث نصيب، فإذا بسطناهما بأقل الأجزاء وهي الأتساع وقلبنا الاسم، صار المال تسعة وثلاثين، والنصيب عشرة. وقد خرجت المسألة. الامتحان: نأخذ ثلث المال وهو ثلاثةَ عشرَ، فنلقي منه نصيباً، وهي عشرة تبقى ثلاثة، فنسترجع ثلثها، وهو واحد من النصيب، فتبقى تسعة للوصية، فنعود فنلقي تسعة من تسعة وثلاثين، تبقى ثلاثون بين البنين. 6722 - وحساب المسألة بالخطأين أن نقدر ثُلث المال خمسة، والنصيب منها درهمين، فنخرج الدرهمين ونسترد درهماً، وهو مثل ثلث الثلاثة الباقية، ونزيد ذلك على ثلثي المال، وهو عشرة فتبلغ أربعة عشر، فندفع منها إلى كل ابن اثنين، فلهم ستة وتَفضل ثمانية، فهي الخطأ الأول، وهو زائد، فنحفظه. ثم نجعل ثلث المال ستة، والنصيب منها ثلاثة، ونقلبها (3) من الثلث، تبقى ثلاثة، فنسترجع من النصيب ثلثها، وهو واحد، فنضمه إلى الثلاثة، فتصير أربعة، فنزيدها على ثلثي المال، وهي اثني عشر فتبلغ ستة عشر، فندفع منها إلى كل ابن ثلاثة: مثل النصيب، فيبقى سبعة، وهي الخطأ الثاني، وهو زائد، فنطرحه من

_ (1) نُذكّر بما أشرنا إليه من قبل من أن رفع المستثنى (بإلا) من كلام تام موجب له وجه في الصحة وعليه روي الحديث الشريف: " كل أمتي ناجٍ إلا المجاهرون " بالرفع، وأكثر ما جاء في هذا الكتاب في الأعداد والمقادير. (2) زيادة من المحقق، لا تصح المسألة إلا بها. (3) نقلبها أي نرجعها ونردّها ونسقطها.

الخطأ الأول وهو ثمانية، يبقى واحد وهو الجزء المقسوم عليه، فنحفظه. ثم نضرب المال الأول، وهو خمسة عشر في الخطأ الثاني، وهو سبعة، فيكون مائة وخمسة، ونضرب المال الثاني، وهو ثمانية عشر في الخطأ الأول وهو ثمانية فيكون مائة وأربعة وأربعين، فنلقي منها المبلغ الأول وهو مائة وخمسة، فيبقى تسعة وثلاثون، فنقسمها على الجزء المحفوظ، وهو واحد، فيخرج تسعة وثلاثون، فهي المال. وإذا طلبنا النصيبَ، ضربنا النصيبَ الأول في الخطأ الثاني وهو سبعة، فيبلغ أربعةَ عشرَ، ونضرب النصيب الثاني، وهو ثلاثة في الخطأ الأول، وهو ثمانية، فيصير أربعة وعشرين، فنلقي الأقل من الأكثر، فتبقى عشرة، فنقسمها على الجزء المحفوظ، وهو واحد، فيخرج عشرة، وهي النصيب، كما خرج بالعمل الأول. 6723 - وطريق المقادير أن نأخذ ثلث مالٍ، ونلقي منه نصيباً يبقى منه مقدار، نزيد عليه ثلثه، وهو ثلث مقدار، وهذا هو المستردّ من النصيب، فمعنا مقدار وثلث مقدار، وندفع من كل ثلث نصيباً إلى ابنٍ، فيبقى من كل ثلث مقدار، ولا حاجة في كل ثلث إلى ردّ واسترداد؛ فإن ما ذكرناه يختص بالثلث الذي فيه الوصايا، فيصح معنا ثلاثة مقادير وثلث مقدار. فهذا نصيب الابن الذي لم يأخذ شيئاً، فعلمنا أن نصيب كل ابن ثلاثة مقادير وثلث، وقد كنا جعلنا الباقي من الثلث بعد النصيب مقداراً، فيكون الثلث على هذا التقدير أربعة مقادير وثلث مقدار؛ فإنا أخرجنا من الثلث نصيباً، وبان آخراً أن النصيب ثلاثة مقادير وثلث، فالمجموع أربعة مقادير وثلث مقدار، وهو الباقي بعد النصيب، والنصيب ثلاثة مقادير وثلث مقدار، فنبسط أربعة مقادير وثلث أثلاثاً، فتصير ثلاثةَ عشرَ، وإذا كان الثلث ثلاثةَ عشرَ، فالمال تسعة وثلاثون، والنصيب ثلاثة مقادير وثلث، وإذا بسطتها أثلاثاً، كان عشرة. 6724 - فالحساب بالقياس أن نجعل الباقي من الثلث بعد إسقاط النصيب منه عدداً له ثلث، وهو ثلاثة، فنسترجع من ذلك النصيب ثُلثه فيصير أربعة، ثم نلقي من كل ثلث من الثلثين الباقيين نصيباً لابن، فيبقى من كل ثلث ثلاثة فنزيدها على الأربعة

الباقية من الثلث الأول، فتكون عشرة، فهو النصيب، وقد علمنا أن الباقي من الثلث بعد إسقاط النصيب ثلاثة، فالثلث نصيب وثلاثة، والنصيب عشرة، فبان أن الثلث ثلاثة عشر، والمال تسعة وثلاثون. 6725 - وطريق الدينار والدرهم أن نجعل الثلث ديناراً، وثلاثة دراهم، وندفع الدينار بالنصيب، ونسترجع منه ثلث الباقي وهو درهم، يبقى من هذا الثلث أربعة دراهم، نزيدها على ثلثي المال، وهو ديناران وستة دراهم، فتصير دينارين، وعشرة دراهم، ندفع منها إلى كل ابن دينار، فيبقى الابن الثالث، وعشرة دراهم؛ فالدينار إذاً عشرةُ دراهم، كما تقدم، وتلتقي الطرق. 6726 - فإن كان قد أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا نصف ما تبقى من الثلث بعد النصيب، فخذ ثلث المال، وانقص منه نصيباً، يبقى ثلث مال إلا نصيب، فردّ عليه من أجل الاستثناء مثلَ نصفه، ونصفُ الثلث سدس، وهذا هو المستردّ من النصيب، فيحصل في أيدينا نصف مال (1) إلا نصيباً ونصفاً، فنرده على ثلثي المال يصير مالاً، وسدس مال إلا نصيباً ونصف نصيب، يعدل ثلاثة أنصباء، فاجبر وقابل، فيكون مال وسدس مال، يعدل أربعة أنصباء ونصف نصيب، فابسطها أسداساً، واقلب الاسم، فيصير المال [سبعة وعشرين] (2) والنصيب سبعة. الامتحان: ثلث المال تسعة، الوصية نصيب، وهو سبعة، يبقى اثنان، استرجع نصفه من النصيب، فيبقى مع الموصى له ستة أسهم، هي للوصية، فاطرحها من المال يبقى أحدٌ وعشرون بين البنين، لكل واحد سبعة، وقد أخذ الموصى له ستة أسهم، وهو مثل النصيب إلا نصف ما تبقى من الثلث بعد النصيب. 6727 - فإن ترك خمسةَ بنين، وأوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ربع ما تبقى من الثلث بعد النصيب. فالعمل بالجبر أن نأخذ ثلث مالٍ وننقص منه نصيباً، يبقى ثلث مال إلا نصيباً، فردّ

_ (1) نُنَبِّه، جاء هذا النصف من حاصل جمع الثلث مع السدس. (2) في الأصل: " تسعة وعشرين ".

عليه ربعه من [أجل] (1) الاستثناء، فيحصل معك ربع مال وسدس مال إلا نصيباً، وربع نصيب؛ فإن ربع الثلث نصف سدس، فالمجموع سدس وربع (2)، فزده على ثلثي المال فيكون مال ونصف سدس مال إلا نصيباً وربع نصيب، يعدل خمسة أنصباء، فاجبر وقابل، فيصير مال (3) ونصف سدس مال يعدل ستة أنصباء وربع نصيب، فابسطها أجزاء الاثني عشر، لأن نصف سدس جزءٍ من اثني عشر، وذلك بأن تضرب كلّ واحد في اثني عشر. ثم اقلب الاسم فيكون المال خمسة وسبعين، والنصيب ثلاثةَ عشرَ. الامتحان: ثلث هذا المال خمسة وعشرون فانقص منها النصيب وهو ثلاثة عشر، يبقى اثنا عشر نسترجع منها ربعها، وهي ثلاثة من ذلك النصيب يبقى مع الموصى له عشرة، وهي الوصية فعُد وأسقطها من المال وهو خمسة وسبعون، يبقى خمسة وستون، بين البنين على خمسة لكل واحد منهم ثلاثة عشر. وعلى هذا فقس. وقد نجز الاستثناء من النصيب بعد النصيب، وبقي في هذا النوع الاستثناء من النصيب بعد الوصية. المثال: رجل ترك ثلاثة بنين، وأوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ثلث ما تبقى من الثلث بعد الوصية. فجميع وجوه الحساب كما ذكرنا. غير أنا نستعمل في هذه الصورة بدل استثناء الثلث استثناءَ النصف، كما نبهنا عليه، من الفرق بين صرف الاستثناء إلى الباقي بعد النصيب، وبين صرف الاستثناء إلى الباقي بعد الوصية، وبينهما تفاوتٌ بجزءٍ، كما ذكرناه، فما يقع ثلث الثلث في القسم الأول يقع نصف الثلث في القسم الثاني.

_ (1) في الأصل: أخذ. (2) جاء هذا من جمع 1/ 3 + نصف 1/ 6 أي 1/ 12. هكذا: 1/ 3 + 1/ 12 = 5/ 12 وهي عبارة عن، فهما ربع وسدس. (3) كذا: برفع (مال) وله وجه على اعتبار (صار) تامّة، بمعنى: فيحصل مال، ومثلها (فيكون) في السطر الذي قبلها.

وطريق الجبر بعد هذا التنبيه: أن نأخذ ثلث مال، ونلقي منه نصيباً، فيبقى ثلث مال إلا نصيباً، ثم نسترجع من ذلك النصيب مثل نصف هذا الباقي، ونزيده عليه، فيصير نصف مال إلا نصيباً ونصف، ونزيده على ثلثي المال، فيكون مال وسدس مال إلا نصيب ونصف نصيب يعدل ثلاثة أنصباء. فإذا جبرنا وقابلنا، ثم بسطناهما أسداساً، وقلبنا الاسمَ، صار المال سبعة وعشرين، والنصيب سبعة. وامتحانه أن نأخذ ثلث المال وهو تسعة، ونلقي منه نصيباً وهو سبعة، تبقى اثنان نسترجع من السبعة مثل [نصف الاثنين] (1): واحد، يبقى مع الموصى له ستة، وهي الوصية، فاطرحها من المال، يبقى أحدٌ وعشرون، بين ثلاثة بنين، لكل واحد منهم سبعة. والطرق كلها تجري؛ فلم نُعدها. 6728 - وذكر الصيدلاني في هذه المسألة الأخيرة طريقةً قريبة من طريقة الجبر، فنذكرها، وذلك أنه قال: نجعل ثلث المال نصيباً ناقصاً، وثلاثة أسهم، فجميع المال ثلاثة أنصباء و [تسعة] (2) أسهم، ثم نكمل نصيبين من الأنصباء بسهمين من هذه السهام؛ إذ لا نقصان في نصيبين [لابنين] (3)، وإنما النقصان في نصيب الموصى به، فتراجعت السهام [التسعة] (4) إلى السبعة، وصرفنا نصيبين كاملين إلى ابنين، فبقيت سبعة أسهم، تقابل نصيب الابن الثالث، وتعدل نصيباً كاملاً، فعرفنا أن النصيب الناقص ستة أسهم، لأنا كمّلنا للنصيب سهماً، فالثلث إذاً نصيب ناقص، وهو ستة، وثلاثة أسهم، وذلك تسعة أسهم، والمال سبعة وعشرون، فنعطي الموصى له ستة، ونعطى كلَّ ابن سبعة. وهذه الطريقة مقتضبة من الجبر والقياس. ولم يتعرض الصيدلاني ولا غيره من الأصحاب للوجوه الثلاثة التي ذكرناها، وهي

_ (1) في الأصل: نصيب الابنين. (2) في الأصل: وسبعة. (3) في الأصل: لأنها تبين. (4) في الأصل: للسبعة. (وهو تحريف واضح).

التصريح بالاستثناء بما بعد النصيب، أو بما بعد الوصية، أو الإطلاق من غير تقييد بأحد الوجهين. والذي ذكره مفروض [في] (1) الإطلاق. ومن لم ينتبه للوجوه الثلاثة، لم يكن على علم في المسألة. ثم ما ذكرناه في الإطلاق أشهر الوجهين، وفيه وجه آخر كما ذكرناه، وهو الحمل على ما بعد النصيب، والذي ذكره حملٌ على ما بعد الوصية. فصل من الاستثناء مشتملٌ على الوصية بجزءٍ من المال وبالنصيب مع استثناء جزء من الباقي 6729 - والاستثناءُ ينقسم كما تقدم، فيقيّد بما بعد النصيب، وبما بعد الوصية، ويُفرضُ مطلقاً. ونحن نذكر صرف الاستثناء إلى ما بعد النصيب. المثال: رجل له [تسعة] (2) بنين. أوصى لرجل بثُمن ماله، ولآخر بمثل نصيب أحد بنيه إلا عشر ما بقي من المال بعد النصيب. 6730 - فطريقة الجبر أن نأخذ مالاً، وندفع منه إلى الموصى له الأول ثمنه، يبقى سبعة أثمان مال، ندفع منها نصيباً إلى الموصى له الثاني، يبقى سبعة أثمان مال إلا نصيب، فنسترجع من ذلك النصيب عُشر هذا الباقي، ونزيده على الباقي، وإذا انتهينا إلى اختلاف المخارج، فلا بد من ذلك المخرج الشامل، والمخرج الشامل في المسألة ثمانون، وقد أخرجنا ثمنها، فبقي سبعون، وهو سبعة أثمان المال، ثم أخرجنا النصيب، واسترددنا من النصيب مثلَ عُشر الباقي، وهو سبعة، فيحصل معنا سبعةٌ وسبعون جزءاً من ثمانين جزءاً من مال إلا نصيباً وعُشرَ نصيب، وذلك يعدل [تسعة] (3) أنصباء.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: سبعة. (3) في الأصل: سبعة.

فنجبر، ونقابل، فيكون سبعة وسبعون جزءاً من ثمانين جزءاً من مال يعدل عشرة أنصباء وعشر نصيب، فنبسطها بأجزاء الثمانين، ونقلب الاسم فيكون المال ثمانمائة وثمانية، [والنصيب] (1) سبعة وسبعين. الامتحان: نلقي من المال ثمنه وهو مائة وواحد، فبقي من المال سبعُمائة وسبعة، فندفع منها نصيباً، وهو سبعةٌ وسبعون، يبقى ستمائة وثلاثون، فنسترجع من النصيب مثل عشر هذا الباقي، وهو ثلاثة وستون، بقي مع الموصى له بالنصيب أربعةَ عشرَ، فهي الوصية، ووصية الموصى له الأول، مائة وواحد، فنلقي الوصيتين جميعاً من المال وهو مائة وخمسة عشرَ، يبقى من المال ستمائة وثلاثة وتسعون بين تسعة بنين لكل واحد سبعة وسبعون. 6731 - وحساب المسألة بالخطأين أن نجعل المال إن أردنا ستة عشر، وندفع ثمنها إلى الموصى له الأول، وهو اثنان، تبقى أربعةَ عشرَ، فنجعل النصيبَ أربعة، وندفعها إلى الموصى له الثاني، تبقى عشرة، فنسترجع من النصيب مثلَ عُشر هذا الباقي، وهو واحد، فيكون أحدَ عشر، ندفع منها إلى كل ابن أربعة وهم يحتاجون إلى ستة وثلاثين، والذي معنا أحد عشر وهو ناقص عن الواجب، ومقدار النقصان خمسة وعشرون، وهو الخطأ الأول في النقصان. ثم نجعل المال أربعةً وعشرين، ندفع ثمنها وهو ثلاثة إلى الموصى له الأول، تبقى أحدٌ وعشرون، فنجعل النصيبَ أحدَ عشرَ، وندفعها إلى الموصى له الثاني، ونسترجع منه مثل عشر الباقي، وهو واحد، فيكون الباقي أحد عشر، فنحتاج أن ندفع إلى كل ابن أحد عشر، فكان الواجب أن يبقى لهم تسعة وتسعون، وقد بقي لهم أحد عشر، فنقص ثمانيةٌ وثمانون، وهي الخطأ الثاني، وهو ناقص أيضاً، فننقص الخطأ الأول عن الثاني، فتبقى ثلاثة وستون، فهي المقسوم عليها، فاحفظها ثم نضرب المال الأول في الخطأ الثاني، والمالَ الثاني في الخطأ الأول، ونطرح أقلَّهما من أكثرهما، فيبقى ثمانمائة وثمانية، فنقسمها على الجزء المحفوظ وهو ثلاثة وستون

_ (1) في الأصل: المال.

فيخرج اثنا عشر صحيحة واثنان وخمسون جزءاً من ثلاثة وستين جزءاً من واحد، هذا هو المال. فنبسطه بأجزاء ثلاثة وستين، فيبلغ ثمانمائة وثمانية. وإذا أردنا طلب النصيب، ضربنا النصيب الأول في الخطأ الثاني، والنصيب الثاني في الخطأ الأول، ونقصنا أقل المبلغين من أكثرهما، وقسمنا الباقي على الجزء المحفوظ، وبسطنا كما يجب، خرج النصيب سبعة وسبعين، كما خرج بالعمل الأول. 6732 - وأما طريق المقادير، نقول (1): إذا أسقطنا من المال ثُمنه، وألقينا من الباقي نصيباً، بقي منه مقدارٌ، فنسترجع من هذا النصيب مثلَ عُشْر هذا المقدار، ونزيده عليه، [فالباقي] (2) مقدارٌ وعشرُ مقدار، وهذا يعدل أنصباء البنين، فنصيب كل واحد منهم تُسعُ مقدارٍ وتُسع عشر مقدار، فذلك هو [النصيب] (3)، فنزيده على المقدار، فيكون معنا مقدار وتسع مقدار وتسع عشر مقدار في الوضع الأول، وذلك سبعة أثمان المال، ونحتاج أن نزيد عليه سُبعه ليكملَ المال، فالوجه أن نجعل المقدار عدداً له سُبع، وتُسع، وعشر، وذلك بأن نضرب تِسعةً في سَبعةٍ، ثم المبلغ في عشرة، فيبلغ ستمائة وثلاثين. وهذا هو المقدار، فنزيد عليه النصيب، وذلك مثلُ تُسعه وتُسع عشره وهو سبعةٌ وسبعون، فيبلغ سَبْعَمائة وسبعة، وهو سبعةُ أثمان المال، فنزيد عليه سُبعَه وذلك مائة وواحد، فيبلغ ثمانمائة وثمانية، وهي المال. وقد ظهر أن النصيب سبعة وسبعون. 6733 - وطريق القياس أن يحصل الباقي من المال بعد الثمن والنصيب عددٌ له عشر، حتى نسترجع عشرَه من النصيب، فليكن عشرة، فنسترجع عُشرَها من النصيب، وهو واحد ونضمه إلى العشرة فيكون أحد عشر، نقسمها بين تسعة بنين:

_ (1) كذا بدون فاء في جواب (أما) كدأب إمامنا. وهي لغة فصيحة. (2) في الأصل: " والباقي ". (3) في الأصل: المقدار.

لكل واحد منهم واحد وتسعان، فذلك مقدار النصيب، فنعود ونزيد النصيب على العشرة، فتصير الجملة أحدَ عشرَ وتُسْعَيْن، فهذا سبعة أثمان المال، فنزيد عليها سُبْعَها، ليكمل المال. والوجه فيه أن نضرب الأحدَ عشر والتُسْعَيْن في مخرج الأتساع أولاً، وهو تِسعة، فترد مائةً وواحداً، فنضرب ذلك في مخرج الأثمان، وهو ثمانية، فيكون ثمانمائة وثمانية، فهي المال. ونضرب النصيبَ، وهو واحد [وتُسعان] (1) في مخرج الأسباع والأتساع، وذلك ثلاثة وستون، فيبلغ سبعة وسبعين. 6734 - طريق الدينار والدرهم: أن نجعل المال كلَّه أحد عشر درهماً، وثلاثة أسباع درهم وديناراً وسُبْعاً؛ حتى إذا ألقينا ثُمنه، وجعلنا الدينار نصيباً، كان لما بقي عُشر، فنلقي سبعَ دينار، وهو ثمن دينار وسبع، ونلقي درهماً وثلاثة أسباع درهم، وهو ثمن الدراهم وكسرها التي قدرناها، فيبقى دينارٌ وعشرةُ [دراهم] (2)، فندفع الدينار بالنصيب، ونسترجع منه عُشر الباقي، ونزيده على الباقي، فيكون الباقي أحد عشر درهماً تعدل [تسعة] (3) دنانير، فالدينار يعدل درهماً و [تُسعي] (4) درهم، وقد كنا جعلنا المالَ كلَّه ديناراً وسُبعَ دينار، وأحد عشر درهماً وثلاثة أسباع درهم، فنضرب ذلك في مخرج له سبع وتسع وذلك ثلاثة وستون، فيكون المال ثمانمائة وثمانية، والنصيب سبعة وسبعين، كما تقدم. هذا. والاستثناء مما بعد النصيب. 6734/م- فإن كانت المسألة بحالها إلا أن الاسثثناء مما بعد الوصية، كأن ترك تسعة بنين، وأوصى لرجل بثُمن ماله، ولآخر بمثل نصيب أحد البنين إلا عُشر ما بقي من المال بعد الوصية. فالعمل فيه على ما مضى إلا أنا نجعل بدل اسثثناء [العشر] (5) بعد الوصية استثناء

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: سبعة. (4) في الأصل: سبعي. (5) في الأصل: العشرة.

التُّسع بعد النصيب، كما تمهد فيما تقدم. طريق الجبر: نأخذ مالاً، ونلقي منه ثمنه، تبقى سبعةُ أثمان مال، فنلقي منه نصيباً، يبقى سبعة أثمان مالٍ إلا نصيباً، فنزيد عليه تُسعه، وهو الذي نسترجعه من النصيب، وعند ذلك نبسط بالمبلغ الأقصى الذي إليه الحاجة، فيبلغ سبعين جزءاً من اثنين وسبعين جزءاً من مال إلا نصيباً وتُسع نصيب، وذلك يعدل تسعة أنصباء، فنجبر، ونقابل، فيكون سبعين جزءاً من اثنين وسبعين جزءاً من المال تعدل عشرةَ أنصباء وتُسعَ نصيب، فنبسطها بأجزاء اثنين وسبعين، ونقلب الاسمَ فيهما. فيكون المال سَبعمائةٍ وثمانية وعشرين، والنصيب سبعين. والامتحان: نطرح من المال ثمنه وهو أحدٌ وتسعون، وتُدفع إلى الموصى له الأول، تبقى ستمائة وسبعة وثلاثون، نُلقي منها نصيباً للموصى له الثاني، وهو سبعون، تبقى خَمسمائة وسبعٌ وستون، نسترجع مثل تسعها، وهو ثلاثة وستون من النصيب، يبقى مع الموصى له الثاني سبعة: هي وصيتُه، فنطرح الوصيتين من المال يبقى ستمائةٍ وثلاثون من (1) تسعة بنين لكل واحد منهم سبعون سهماً. وسائر طرق الحساب تجري، وإنما المَيْز بين الوجهين ما ذكرناه من أن العُشر في الوجه الأول تسعٌ في الوجه الثاني، وليس من الممكن بيان زائد على هذا، في تمهيد الطرق. والجريانُ فيها مُحَصِّله (2) الدُّربةُ وكثرةُ العمل. فصل في الوصية بجزءٍ شائعٍ من المال، وبالنصيب مع استثناء جزءٍ من المال 6735 - وهذا ينقسم إلى ما يقع الاستثناء فيه بعد النصيب وإلى ما يقع الاستثناء فيه بعد الوصية، كما تقدم.

_ (1) من تسعة بنين، أي على تسعة بنين، وهو استعمال صحيح؛ فإن (مِنْ) تأتي مرادفة لـ (على)، قاله ابن هشام في المغني، واستشهد له بقوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 77] أي على القوم الذين كذبوا بآياتنا (المغني: 424). (2) محصِّلُه: أي الذي يُحصِّله.

فنبدأ بانصراف الاستثناء إلى ما بعد النصيب. المثال: تسعة بنين وقد أوصى لرجل بعشر ماله، ولآخر بمثل نصيب أحد بنيه إلا ثلث ما تبقى من الثلث بعد النصيب. 6736 - طريقة الجبر أن نأخذ ثلث مال، ونلقي منه عشر جميع المال، يبقى سبعةُ أسهم من ثلاثين سهماً إذا بُسطتا من المال، فنلقي منه نصيباً، تبقى سبعة أسهم من ثلاثين سهماً من المال إلا نصيباً، فنسترجع مثل ثلث ذلك من النصيب الذي أخرجناه، وليس لسبعةٍ ثلثٌ صحيح، فنضرب المال والأجزاء في ثلاثة، فيكون معنا أحدٌ وعشرون جزءاً من [تسعين] (1) جزءاً من المال إلا نصيباً، فنسترد ثلث ذلك من النصيب، فيحصل لنا سبعة من تسعين إلا ثلث نصيب، فنضمها إلى ما بقي من الثلث فيكون ثمنها ثمانية وعشرون من تسعين جزءاً إلا نصيباً وثلثَ نصيب، فنزيده على ثلثي المال، وهو ستون جزءاً من [تسعين] (1) جزءاً فيكون المبلغ ثمانية وثمانين جزءاً من [تسعين] (1) جزءاً من المال إلا نصيباً وثلث نصيب، يعدل تسعة أنصباء، فنجبر ونقابل، فيكون ثمانية وثمانون جزءاً من [تسعين] (1) جزءاً من المال، تعدل عشرة أنصباء وثلثَ نصيب، فنضرب كلَّ واحد منهما في [تسعين] (1) وهذا معنى بسطهما، ونقلب الاسم فيهما، فيكون المال بعد القلب تِسعمائةٍ وثلاثين، والنصيب ثمانية وثمانين. الامتحان: أن نأخذ ثلث المال وهو ثلاثمائة وعشرة، ونطرح منها عُشر المال، وهو ثلاثة وتسعون، تبقى مائتان وسبعةَ عشرَ، فنلقي منها نصيباً، وهو ثمانية وثمانون، تبقى مائة [وتسعة] (2) وعشرون، فنسترجع من النصيب مثلَ ثلث ما بقي، وهو ثلاثة وأربعون، ونزيدها على الباقي، فتبلغ مائة واثنين وسبعين ونزيدها على ثلثي المال، وهو ست مائة وعشرين، فيبلغ سبعَمائة واثنين وتسعين، بين تسعة بنين، لكل واحد ثمانية وثمانون. ووصية صاحب العُشر ثلاثة وتسعون، ووصية الآخر خمسة وأربعون.

_ (1) في الأصل: سبعين. (2) في الأصل: سبعة.

فهذا طريق الجبر. ولو حططت أولاً من المال عُشراً ثم أجريت طريق الجبر في التسعة الأعشار، لأفضى إلى الصواب؛ ولكنا نذكر في كل مسألة العبارة التي هي أقرب وأدنى إلى الغرض. طريقة الخطأين: أن نجعل ثلث المال عشرة، ونلقي منها عشر جميع المال ثلاثة، تبقى سبعة، فنجعل النصيب منها أربعة، فيبقى ثلاثة، فنسترجع منها ثلثها من النصيب، ونزيده على الباقي أربعة نزيدها على ثلثي المال، وهو عشرون فيبلغ أربعة وعشرين، ونحتاج أن ندفع إلى كل ابن أربعة مثل النصيب وهم تسعة، ويحتاجون إلى ستة وثلاثين، ومعنا أربعة وعشرون، فنقصَ اثنا عشر، وهو الخطأ الأول، وهو ناقص، فاحفظه. ثم نعود فنجعل ثلث المال عشرين، ونلقي منها عشر جميع المال، وذلك ستة، تبقى أربعة عشر، فنجعل النصيب منها خمسة، تبقى [تسعة] (1)، فنسترجع من الخمسة مثل ثلث التسعة، ونزيدها على التسعة فتكون اثني عشر سهماً، فنزيدها على ثلثي المال وهو أربعون، فيبلغ اثنين وخمسين، ندفع منها إلى كل ابن خمسة مثل النصيب المقدر، [وهم] (2) تسعة؛ يحتاجون إلى خمسة وأربعين، ومعنا اثنان وخمسون، فزاد سبعة وهي الخطأ الثاني، ولكنه زائد، فنجمع بين الخطأين، فيكون [تسعة] (1) عشرَ، فهي المقسوم عليها، فاحفظها، ثم نضرب المال الأول في الخطأ الثاني، والمال الثاني في الخطأ الأول، ونجمع بين المبلغين، ولا نسقط كما جمعنا بين الخطأين؛ لأن أحدهما زائد، والآخر ناقص، فيكون المبلغ تسعمائة وثلاثين، فنقسمها على تسعة عشرَ، فيخرج ثمانية وأربعون وثمانية عشرَ جزءاً من تسعة عشر جزءاً من واحد، فهو المال، ونضرب النصيب الأول في الخطأ الثاني، والنصيب الثاني في الخطأ الأول، ونجمع المبلغين، كدأبنا فيما تقدم، ونقسم المجموعَ على الجزء المحفوظ للقسمة وهي [تسعة] (1) عشر، فتخرج أربعة أسهم،

_ (1) في الأصل: سبعة. (2) في الأصل: وهو.

واثني عشر جزءاً من تسعة عشرَ جزءاً من واحد، فهي النصيب. ثم نبسط المال والنصيب بأجزاء [تسعة] (1) عشر، وذلك بأن نضرب كلَّ واحدٍ من المال والنصيب في تسعةَ عشرَ ليزول الكسر، فيكون المال تِسعَمائة وثلاثين، والنصيب ثمانيةً وثمانين، كما خرج بالجبر. وكل ما ذكرناه فيه إذا صرف الاستثناء إلى ما بقي بعد النصيب. 6737 - فأما إذا كان الاستثناء منصرفاً إلى ما بقي من الجزء بعد الوصية، فالعمل كما بينا في هذه المسألة التي ذكرناها، غيرَ أنا جعلنا في المسألة الأولى المسترد ثلث ثلث الباقي من الثلث بعد النصيب، فإذا قال: بعد الوصية، فالمسترد نصف الباقي من الثلث بعد النصيب. 6738 - طريقة الجبر: أن نأخذ ثلث مالٍ، فنلقي منه عشرَ جميع المال، فتبقى سبعة أجزاء من ثلاثين جزءاً من المال، فنلقي منه نصيباً، ونسترجع من النصيب نصفَ الباقي، فتبقى عشرة أجزاء ونصف جزء من ثلاثين جزءاً من المال إلا نصيب ونصف نصيب. وهو بالبسط أحد وعشرون جزءاً من ستين جزءاً من المال إلا نصيباً ونصف (2) نصيب، فنزيده على ثلثي المال وهو أربعون جزءاً من ستين، فيبلغ مالاً وجزءاً من ستين جزءاً من المال إلا نصيباً، ونصف نصيب. وذلك يعدل تسعة أنصباء، فنجبرها ونقابل، فيكون مال وجزء من ستين جزءاً من المال، يعدل عشرة أنصباء ونصف نصيب، فنضرب كلَّ واحد منهما في ستين، وهو طريق البسط، ونقلب العبارة فيهما، فيكون المالُ ستمائة وثلاثين، والنصيب أحداً وستين. والامتحان: أن نأخذ ثلث المال وهو مائتان وعشرة، ونلقي منها عشر جميع المال وهو ثلاثة وستون، تبقى مائة [وسبعة] (3) وأربعون، نلقي منها نصيباً وهو أحدٌ

_ (1) في الأصل: سبعة. (2) في الأصل: إلا نصيب أو نصف نصيب. (3) في الأصل: وستة وأربعون.

وستون، تبقى ستةٌ وثمانون، فنسترجع مثل نصفها وهو ثلاثة وأربعون من ذلك النصيب، فيبقى مع الموصى له ثمانيةَ عشرَ، وهي وصيته، ونضم الثلاثة والأربعين، التي هي نصف الباقي من الثلث، وقد أسقطنا عشر المال، ونزيد ما حصل معنا، وهو مائة وتسعة وعشرون على ثلثي المال وهو أربع مائة وعشرون، فيبلغ خمسَمائةٍ وتسعة وأربعين، بين تسعة بنين، لكل واحد منهم أحدٌ وستون، مثل النصيب. وعلى هذا فقِسْ. وكذلك تخرج جميع الطرق. فصل في الوصية بنصيب مع استثناء نصيب وارث آخر منه 6739 - وهذا المقدار لا يخرج إلى الجبر إذا لم يكن فيه تعرضٌ لجزءٍ مما بقي، أو من جزءٍ مما بقي. ومسائل هذا النوع تنقسم: فمنها أن يوصي بمثل نصيب بعض ورثته، ويستثني منه نصيبَ وارثٍ، ووجهُ العمل فيه أن نُقيم سهامَ الفريضة، ثم نأخذ سهامَ الوارث الموصَى بمثل نصيبه، فنسقط منها سهام الوارث المستثنى نصيبُه، فما بقي نزيده على ما صحت منه الفريضة، فما بلغ منه تصح المسألة. مثاله: رجل ترك امرأة وثلاث أخوات مفترقات، فأوصى لرجل بمثل نصيب المرأة إلا مثل نصيب الأخت من الأم، أو من الأب. فنقيم سهام الفريضة ثلاثة عشر، ونأخذ منها سهام المرأة وهي ثلاثة، فنلقي منها نصيب الأخت من الأم مثلاً، وذلك سهمان، يبقى سهم واحد، فنعود ونزيد سهماً واحداً على ثلاثةَ عشرَ، فيبلغ أربعةَ عشرَ، فمنها تصح المسألة، فيكون للموصى له سهم، والباقي ثلاثة عشر بين الورثة، على مقادير سهامهم. 6740 - فلو كانت بحالها إلا أنه أوصى بمثل نصيب الأخت من الأب والأم إلا مثل نصيب الزوجة، فنأخذ سهام الأخت من الأب والأم وهي ستة، وننقص منها سهام

المرأة وهي ثلاثة، تبقى ثلاثة، فنزيدها على سهام الفريضة وهي ثلاثة عشر، فتبلغ ستةَ عشرَ، فمنها تصح المسألة. للموصى له ثلاثة، والباقي بين الورثة على سهامهم. فلو كانت المسألة كما وصفناها، وقد أوصى مع ذلك بمثل نصيب المرأة إلا مثل نصيب الأخت من الأم، فخذ نصيبَ المرأة وهي ثلاثة، وانقص منها مثلَ نصيب الأخت من الأم، وهو سهمان، يبقى سهم واحد، فزد عليه الستة عشر، فيبلغ بالوصيتين سبعةَ عشرَ، فللموصى له بمثل نصيب المرأة إلا مثل نصيب الأخت من الأم سهم، وللموصى له بمثل نصيب الأخت من الأب والأم إلا مثل نصيب المرأة ثلاثة أسهم، والباقي ثلاثةَ عشرَ سهماً، بين الورثة، على مقادير سهامهم. 6741 - فإن أوصى بمثل نصيب بعض الورثة إلا مثل نصيب وارث لو كان، فسبيل الحساب أن تقيم سهام الفريضة من عددٍ يستقيم بينهم على انفرادهم، ويستقيم أيضاً عليهم لو كان معهم ذلك المقدّر، ثم تأخذ نصيبَ الوارث الذي أوصى بمثل نصيبه، فتلقي منه نصيب الوارث المعدوم المقدّر، فما بقي من ذلك تزيده على العدد الذي أقمته، وتصح المسألة من هذا المبلغ. مثاله: خمسة [بنين] (1) وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا مثل نصيب ابنٍ [سابع] (2) لو كان. فنقيم سهام الفريضة من عدد يستقيم بين خمسة ويستقيم بين سبعة، وهو خمسة وثلاثون، فنأخذ منها نصيب أحدهم، وهو سبعة، فنلقي منها نصيب ابن [سابع] (3) لو كان، وهو خمسة تبقى اثنان فنزيده على الخمسة والثلاثين فيبلغ سبعة وثلاثين، فمنها تصح، للموصى له سهمان، ولكل ابنٍ سبعة. 6742 - ولو أوصى بمثل نصيب جماعة من الورثة، واستثنى منه نصيب بعضهم، أو نصيب طائفةٍ منهم، فطريقه ما تقدم.

_ (1) مزيدة لاستقامة المعنى. (2) في الأصل: شائع. وهو تصحيف عجيب، أرهقنا تصويبه كثيراً والحمد لله الملهم للصواب. (3) في الأصل: شائع.

مثاله: أن يكون في المسألة خمسة بنين، وقد أوصى لرجل بمثل نصيبهم جميعاً، إلا مثل نصيب ثلاثةٍ منهم، فنقيم سهام الفريضة، وهي خمسة، ونلقي منها نصيبَ ثلاثة منهم، وهو ثلاثة أسهم، تبقى اثنان نزيده على الخمسة، فيبلغ سبعة، فمنها تصح المسألة: فللموصى له سهمان، ولكل ابن سهم. هذا قياس هذا النوع إذا لم يكن في المسألة تعرض للوصية بجزءٍ شائع من المال، أو بجزء مما تبقى بجزءٍ من المال. 6743 - فأما إذا اشتملت المسألة على التعرض لجزءٍ مع ما ذكرناه من الوصية بالنصيب واستثناء نصيب آخر منه، فنأتي بالمسائل ونستوعب بها ما يجب. أم وعشرة بنين، وقد أوصى لرجل بعُشر ماله، ولآخر بمثل نصيب الأم إلا مثل نصيب أحد البنين. فوجه الحساب أن نقيم سهام الفريضة، فإذا هي اثنا عشر، ونلقي عُشره بالوصية الأولى، بأن نأخذ مالاً، ونلقي منه عُشره، فيبقى تسعةُ أعشار مال، فنلقي منها مثلَ نصيب الأم، ونسترجع نصيباً واحداً، مثلَ نصيب أحد البنين، يبقى مع الموصى له الثاني نصيبٌ (1) واحد، ويبقى من المال تسعة أعشار مال إلا نصيباً، تعدل اثني عشر نصيباً، فنجبر، فيكون تسعة أعشار مال بعد الجبر والمقابلة تعدل ثلاثةَ عشرَ نصيباً، فنبسطها أعشاراً، ونقلب الاسم، فيصير المال مائة وثلاثين، والنصيب [تسعة] (2). وامتحانه أن نلقي بالوصية الأولى عُشر المال، وهو ثلاثةَ عشرَ، تبقى مائة وسبعةَ عشرَ، نُلقي مثل نصيب الأم، وهو ثمانيةَ عشرَ، ونسترجع منها نصيب الابن وهو [تسعة] (3)، يبقى مع الموصى له الثاني [تسعة] (4)، وهي وصيته، ووصية الأول ثلاثةَ عشرَ، فنلقي الوصيتين من المال، تبقى مائة وثمانية، بين الورثة: للأم منها ثمانيةَ عشرَ، ولكل ابن تسعة، مثل النصيب.

_ (1) نصيب: أي سهم. (2) في الأصل: سبعة. (3) في الأصل: سبعة. (4) في الأصل: سبعة

6744 - فلو ترك أماً وعشرة بنين، وأوصى لرجل بمثل نصيب الأم إلا مثل نصيب أحد البنين، ولآخر بعُشر ما تبقى من المال. فطريق الحساب بالجبر أن نأخذ مالاً، ونلقي منه مثلَ نصيب الأم، وهو نصيبان، يبقى مال إلا نصيبين، فنستثني من النصيبين (1) مثل نصيب ابن، ونزيده على الباقي، فيبقى معنا مال إلا نصيباً، فندفع عشره إلى الموصى له الثاني، يبقى تسعةُ أعشار مال، إلا تسعة أعشار نصيب، تعدل اثني عشر نصيباً، فنجبر، ونقابل فتعدل تسعةُ أعشار لا استثناء فيه اثني عشر نصيباً، وتسعة أعشار نصيب، فنبسطها أعشاراً ونقلب العبارة فيهما، فيكون المال مائة وتسعة وعشرين، وكل نصيب تسعة، فنلقي من المال مثلَ نصيب الأم، ولها نصيبان وذلك ثمانيةَ عشرَ، تبقى مائة وأحد عشر فنستثني من نصيب الأم الذي أخرجناه مثلَ نصيب أحد البنين وهو تسعة، نزيدها على الباقي (2) من المال، فيبقى مائة وعشرون، فندفع عشرها إلى الموصى له، وهو اثنا عشرَ، تبقى مائة وثمانية بين الورثة: للأم منها ثمانيةَ عشرَ، ولكل ابن تسعة. 6745 - طريقة المقادير: أن نجعل الباقي من المال بعد الوصية الأولى مقداراً، وندفع عُشره إلى الموصى له الثاني، تبقى تسعةُ أعشار مقدارٍ، نقسمه بين الأم والبنين، فيكون للأم سدسه، وهو عُشر المقدار، ونصف عُشره، تبقى سبعة أعشار ونصف عشر، بين عشرة بنين، لكل واحد منهم ثلاثة أرباع عشر مقدار. فقد تبين نصيبُ كل واحد منهم، فنستثني نصيب أحد البنين من نصيب الأم، فيبقى نصيب الموصى له الأول ثلاثة أرباع عُشر مقدار، فنعلم أن المال كله مقدار وثلاثة أرباع عشر مقدار، فنبسطه بأجزاء [الأربعين] (3)، فيكون ثلاثة وأربعين، وهو ثلث ما أدى إليه العمل الأول، ونصيب الأم ستة، وهو ثلث نصيبها في العمل الأول.

_ (1) النصيبين: يعني السهمين. (2) في الأصل: نزيد المال. (3) في الأصل مكان ما بين المعقفين [إن تعين] كذا تماماً. ولا معنى لها. والمثبت تقدير منا على ضوء المعنى، ولا يصح غيره.

وامتحانه: أن نلقي من المال ستة، ونستثني منه مثل نصيب أحد البنين، وذلك ثلاثة إلا مثل نصيب الأم، فتبقى مع الموصى له الأول ثلاثة، وهي وصيته، ويبقى من المال أربعون: للموصى له الثاني عُشرها أربعة، تبقى ستة وثلاثون، بين الورثة: للأم سدسها: ستة، فيبقى ثلاثون بين عشرة بنين لكل واحد منهم ثلاثة. وفي طريق الجبر يردّ المبلغ الكثير بالاختصار إلى هذا. 6746 - طريق القياس: إن الباقي من المال بعد الوصية الأولى يجب أن يكون عدداً له عُشر، فنجعله عشرة وندفع عُشرَها إلى الموصى له الثاني، تبقى تسعة، للأم سدسها، وهو سهم ونصف، تبقى سبعة أسهم ونصف بين عشرة بنين، لكل واحد منهم ثلاثة أرباع سهم، فنستثني نصيب أحد البنين من نصيب الأم، وذلك سهم ونصف، تبقى ثلاثة أرباع سهم، فهي الوصية الأولى، ونزيدها على العشرة، ونبسطها أرباعاً، فيكون المال ثلاثة وأربعين، وطريقةُ القياس وطريقة المقادير متواخيتان. 6747 - طريقة الدينار والدرهم: أن [نجعل] (1) جميع المال ديناراً ودرهماً، ونجعل الدرهمَ نصيبَ الأم، وندفعه إلى الموصى له [الأول] (2)، ونسترجع منه مثلَ نصيب الابن، وهو نصف درهم، فيكون معك دينارٌ ونصف درهم، فإنما فعلنا ذلك، لأن نصيب الأم معلوم من الفريضة، وإنما يقع الاستبهام على حال في العشر بعد النصيب، والاستثناء منه، فيبقى معنا دينار ونصف درهم، وندفع عشرَ ذلك إلى الموصى له الثاني، تبقى تسعة أعشار دينار، وتسعة أجزاء من عشرين جزءاً من درهم، وذلك يعدل ستة دراهم، من قِبل أن المال كله كان مثل ستة أمثال نصيب الأم، وهو درهمٌ من ستة، فنلقي الجنس بالجنس، فيبقى خمسةُ دراهم وأحدَ عشر جزءاً من عشرين جزءاً من درهم تعدل تسعة أعشار دينار، فنأخذ طريق الجبر من هذا الموضع، ونقلب الاسم فيهما، فيصير الدرهم تسعة أعشار سهم، والدينار خمسة أسهم ونصف سهم ونصف عشر سهم، ومجموعها هو المال، فنجمع بينهما، فيكون

_ (1) في الأصل: نجمع. والمثبت تقديرٌ منا، رعاية للمعنى، وكما هو متبع في المسائل من قبل. (2) زيادة من المحقق.

ستة وأربعة أعشار ونصف عشر، فنبسطه أنصاف أعشار، فيكون مائة [وتسعة] (1) وعشرين، كما خرج بالعمل المبسوط في طريق الجبر. ويمكن أن تصاغ عبارةٌ أخرى في طريق الدينار والدرهم ولكنا مزجناها بطريق الجبر ليتصرف المتصرف ويستبين أنها مأخوذة من الجبر. 6748 - صورة أخرى مع تعيين أصلٍ فيها: أم وعشرون ابناً، أوصى بمثل نصيب الأم إلا مثلَ نصيب أحد البنين، وإلا عُشر ما تبقى من المال بعد ذلك. فطريق الحساب أن نأخذ مالاً، ونُلقي منه مثل نصيب الأم، وذلك أربعة؛ لأنه أربعة أمثال نصيب كل ابن كان، لكل ابن نصيب، فللأم أربعة أنصباء، يبقى مال إلا أربعة أنصباء، فنسترجع مما ألقيته نصيب ابن، ونزيده على الباقي من المال، فيكون مال إلا ثلاثة أنصباء، [فنسترجع عشره، وهو عشر مال إلا ثلاثة أعشار نصيب، فنزيده على الباقي فيكون مال، وعشر مال إلا ثلاثة أنصباء] (2) وثلاثة أعشار نصيب، وذلك يعدل أربعة وعشرين نصيباً، فاجبُر وقابل، فيكون مال وعُشر مال، يعدل سبعةً وعشرين نصيباً، وثلاثةَ أعشار نصيب، فابسطها أعشاراً، واقلب الاسم بينهما فيكون المال مائتين وثلاثة وسبعين، والنصيب أحدَ عشرَ، فيخرج نصيب الأم أربعة وأربعين، لأنه مثل نصيب الابن أربع مرات. الامتحان: نلقي من المال مثلَ نصيب الأم، وهو أربعة وأربعون، ونسترجع منها مثل نصيب أحد البنين وذلك أحد عشر، ونزيدها على الباقي بعد النصيب، فيكون الباقي مائتين وأربعين، ومع الموصى له الأول ثلاثة وثلاثون نسترجع منها أيضاً عُشر مائتين وأربعين، وذلك أربعة وعشرون، فيبقى معه تسعة، هي وصيته الباقية، نلقيها من المال وهو مائتان وثلاثة وسبعون يبقى مائتان وأربعة وستون. للأم منها نصيبها أربعة وأربعون، تبقى مائتان وعشرون، بين البنين، وهم عشرون، لكل واحد منهم أحدَ عشرَ، وهو النصيب الذي أخرجناه.

_ (1) في الأصل: وسبعة. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزاده المحقق استكمالاً للمسألة، وانظر رعاك الله أيَّ جهدِ، ووقتٍ استغرقه ذلك التصويب، ولا تنسنا من دعوةٍ بخير.

6749 - طريقة المقادير: إنا نعلم أن الباقي من المال بعد نصيب الأم إذا زدت عليه مثلَ نصيب الابن بالاستثناء، يكون مقداراً، فيجب أن نزيد عليه مثل عُشره من أجل الاستثناء الثاني، فيكون الباقي من المال مقداراً وعُشرَ مقدار، فادفع إلى الأم سدسَ ذلك، وهو سدس مقدار، وسدس عشر مقدار، فنعلم أن نصيب الأم هذا، ويجب أن يكون نصيبُ كلِّ ابن ربعَ ذلك، وهو ربع سدس مقدار وربع سدس [عشر] (1) مقدار، ونستثني ذلك من نصيبَ الأم، فيبقى ثمن مقدار وثلاثة أرباع سُدس عُشر مقدار. فهذه في الوصية التي هي نصيب الأم إلا نصيب الابن، وذلك قبل دخول الاستثناء [الثاني] (2)، فنزيدها على المقدار، فيكون مقداراً وثمنَ مقدار وثلاثة أرباع سدس عشر مقدار. وهذا هو المال كله. فنبسطه من أجزاء عدد له عُشر ولعُشره سدس، ولسدس عشره ربع، وذلك مائتان وأربعون، فهي المقدار، نزيد عليها ثمنها، وذلك ثلاثون، ونزيد عليها ثلاثة أرباع سدس عُشرها، وذلك ثلاثة، فيبلغ مائتين وثلاثة وسبعين، فهي المال. ونصيب الأم سدس مقدار، وسدس عشر مقدار، فخذ سدس مائتين وأربعين، وسدس عشرها، فيكون أربعة وأربعين، وهي نصيب الأم، كما خرج بالعمل الأول. 6750 - وحساب المسألة بطريق القياس: إنا نعلم أن الموصى له إذا أخذ مثل نصيب الأم إلا مثل نصيب الابن، وجب أن يبقى من المال عددٌ له عشر، فاجعله عشرة، وزد عليها من أجل الاستثناء الثاني عشرها، وهو واحد، فيبلغ أحد عشر، فهي للورثة: للأم سدسها، وذلك سهم وخمسة أسداس سهم، ولكل ابن ربع ذلك، وهو ثلث سهم، وثمن سهم، فانقص نصيب الابن من نصيب الأم، فيبقى سهم، وثلاثة أثمان سهم، فزده على العشرة المفروضة أولاً، فيكون أحدَ عشرَ سهماً، وثلاثة أثمان سهم. وهو المال. فابسطه أثمانا؛ فيكون المال أحداً وتسعين سهماً، وهو ثلث ما خرج بالعمل

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) سقطت من الأصل، ولا تتضح المسألة إلا بها.

الأول، فاضربه في ثلاثة، فيكون مائتين وثلاثة [وسبعين] (1)، كما خرج بالعمل الأول، وإنما لم نكتف بالثلث لأنه ينكسر [عند الإعمال] (2). 6751 - طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل المال ديناراً ودرهماً، ثم نجعل الدرهم نصيب الأم، وندفعه إلى الموصى له، ونسترجع منه مثل ربعه وهو ربع درهم، فنزيده على الدينار فيكون دينار وربع درهم، [فنسترجع عشرها، ونزيده على ما بقي، وهو دينار وربع درهم] (3)، فيحصل معك، دينار وعشر دينار وأحدَ عشرَ جزءاً من أربعين جزءاً من درهم، تعدل ستة دراهم، لأن جملة المال بعد الوصية مثل نصيب الأم ست مرات، فنلقي الجنس بالجنس، يبقى دينار وعُشر دينار، تعدل خمسة دراهم وتسعة وعشرين جزءاً من أربعين جزءاً من درهم، فتبسط جميع ما معك بأجزاء الأربعين، فيكون الدينار أربعة وأربعين، والدرهم مائتين وتسعة وعشرين، فنقلب الاسم، فيكون الدرهم أربعة وأربعين، وهو نصيب الأم، والدينار مائتين وتسعة وعشرين، ثم نجمعهما (4)، فتكون مائتين وثلاثة وسبعين. 6752 - وحساب المسألة بطريق الخطأين: أن تجعل المال إن شئت عشرين، وتجعل نصيب الأم تقديراً منها أربعة، وتلقيها بالوصية، ونسترجع منها مثل ربعها وهو واحد، ونزيده على الباقي وهي ستة عشر، فيبلغ سبعة عشر، فنزيد عليها مثلَ عُشرها، وهو درهم وسبعة أعشار درهم، فندفع منها إلى الأم أربعة، وإلى كل ابن مثل ربعها: واحد، فينقص عن الواجب خمسة دراهم وثلاثة أعشار درهم. وهي الخطأ الأول، وهو ناقص. وإنما قدرنا نصيبَ الأم أربعة بناء على أن نصيب كل ابن مثل ربعها، ولم ننظر إلى

_ (1) في الأصل: وتسعين. (2) في الأصل: " عنه الاحتمال ". ولعل ما أثبتناه هو الصواب؛ بمعنى أنه ينكسر عند توزيع الأنصباء. (3) زيادة من عمل المحقق، وبدونها لا يستقيم الحساب. (4) سببُ الجمع هنا أننا جعلنا المال ديناراً (229) ودرهماً، وهو نصيب الأم (44) فبجمعهما نحصل على المال كاملاً (273).

كون نصيبها سدساً. فإذا كنا نتصرف بالخطأين لم نأنف من الخطأ، فنزيد على المال ونجعله ثلاثين، ونصيبَ الأم أيضاً أربعة، فندفعها بالوصية، ونسترجع ربعها واحداً، ونزيده على الباقي فيبلغ سبعة وعشرين، نزيد عليها عشرها وهو درهمان وسبعة أعشار درهم، فندفع منها إلى الأم نصيبها: أربعة، وإلى كل ابن ربعها: واحداً، فيفضل عن الواجب خمسة وسبعة أعشار وهو الخطأ الثاني، وذلك زائد، واجمع بين الخطأين؛ لأن أحدهما زائد، والآخر ناقص، فيبلغ أحد عشر، فهو المقسوم عليه، فاحفظه. ثم اضرب المال الأول في الخطأ الثاني، والمال الثاني في الخطأ الأول، واجمع المبلغين، فيكون [مائتين] (1) وثلاثة وسبعين، فاقسمها على أحد عشر، فيخرج [أربعة] (2) وعشرون درهماً و [تسعة] (3) أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم. واضرب النصيب الأول في الخطأ الثاني، والنصيب الثاني في الخطأ الأول، واجمع بينهما، واقسمه على الأحد عشر، فما خرج، فهو النصيب. فإن أردت ألا يكون في الحساب كسر، فاضرب الجميع في أحد عشر، فيكون المال مائتين وثلاثة وسبعين، ونصيب الأم أربعة وأربعين. كما خرج أربعة. 6753 - صورة أخرى، تغيير في الوضع: ترك خمسة بنين، وأوصى بمثل نصيب أحدهم إلا عُشر جميع المال، وإلا نصف عشر ما بقي من المال بعدما يحصل له. فحسابه بالجبر أن نأخذ مالاً، ونلقي منه نصيباً، يبقى مال إلا نصيباً، ونزيد عليه عُشر جميع المال، فيكون مال وعشر إلا نصيباً، فنزيد عليه نصف عُشر هذا الحاصل، وذلك نصف عشر مال، إلا نصف عشر نصيب، فيبلغ مالاً وعشراً، ونصف عشر مال ونصف عشر عشر إلا نصيباً ونصف عشر نصيب.

_ (1) في الأصل: مائة. (2) في الأصل: أحدٌ. (3) ساقطة من الأصل، والتصرف في كل ذلك من المحقق؛ فالنسخة وحيدة، والتصرف بناء على صحة العمل الحسابي.

وننبه في هذا المقام [إلى أن ما] (1) نزيده من جزء المال كله لا يعتبر فيه نقصان النصيب؛ فإن جزء كل المال لا نقصان فيه، واعتبر نقصان النصيب في الجزء الذي نذكره بعد النصيب؛ فقد حصل معنا مال وعشر ونصفُ عشر مال ونصف عشر عشر إلا نصيباً ونصف عشر نصيب. وذلك يعدل خمسة أنصباء، فنجبرهما ونبسطهما من أجزاء المائتين؛ فإنها المَخرج لهذه الكسور، ونقلب العبارة فيهما، فيصير المال ألفاً ومائتين وعشرة، والنصيب مائتين وأحداً وثلاثين. الامتحان: أن نلقي من المال نصيباً وهو مائتان وأحد وثلاثون، ونسترجع منه مثل عشر جميع المال وهو مائة وأحدٌ وعشرون، تبقى مع الموصى له مائة وعشرة، ويبقى من المال ألف ومائة نسترجع نصف عشرها أيضاً، وهو خمسة وخمسون، يسترد هذا المقدار من المائة والعشرة الباقية، فيبقى مع الموصى له خمسة وخمسون سهماً هي الوصية، فنلقيها من المال، يبقى ألفٌ ومائة وخمسةُ وخمسون، بين خمسة بنين، لكل واحد منهم مائتان وأحدٌ وثلاثون. مثل نصيب الأخ أولاً. 6754 - وحساب المسألة بالمقادير أنك قد علمت أن الباقي من المال بعد إلقاء النصيب منه يجب أن يكون مقداراً، فنزيد (2) عليه عشرَ جميع المال، وهو عشر مقدار [و] (3) عشر نصيب؛ فإن جميع المال نصيب ومقدار؛ فعشره عشرُ مقدار وعشرُ نصيب، كما تقدمت نظائر ذلك. ثم يزاد عليه نصفُ عشر هذا الحاصل، فيحصل مقدار وأحدٌ وثلاثون جزءاً من مائتي جزءٍ من مقدار، وأحدٌ وعشرون جزءاً من مائتي جزءٍ من نصيب، وذلك يعدل خمسة أنصباء، فنسقط الجنس بالجنس، يبقى معنا أربعة أنصباء ومائة وتسعة وسبعين جزءاً من مائتي جزء من نصيب، تعدل مقداراً وأحداً وثلاثين جزءاً من مائتي

_ (1) في الأصل: مما نزيده. (2) في الأصل: فنزيده. (3) زيادة من المحقق.

مسائل من نوادر الاستثناء في الوصية

جزء من مقدار، فنبسطها من أجزاء المائتين، فتصير الأنصباء تسعمائة وتسعة وسبعين، والمقدار مائتين وواحداً وثلاثين، فنقلب الاسم ونجمعهما (1) جميعاً، كما تقدم ذلك، في النظائر، فيصير المبلغ ألفاً ومائتين وعشرة كما تقدم. 6755 - وطريق القياس: أن الباقي من المال بعد النصيب يجب أن يكون عدداً له عشر، وإذا زيد عليه عشره كان لِما بلغ نصفُ عشر، وذلك مائتان. فزد عليهما عُشر جميع المال، فيبلغ مائتين وعشرين، وعشر نصيب، كما ذكرنا في طريق المقادير، فزد على هذه الجملة نصفَ عُشرها، فيبلغ مائتين وأحداً وثلاثين سهماً [وواحد وعشرين جزءاً من مائتي جزء] (2) من نصيب، تعدل خمسة أنصباء، فأسقط الجنس من الجنس، إذ معك أجزاء من النصيب، فتسقطها من الأنصباء. ثم تبسط أجزاء المائتين، وتقلب [العبارة] (3) كما تقدم. 6756 - وطريقة الدينار والدرهم تقرب مما تقدم، فنجعل جميع المال ديناراً ودرهماً، ونجعل النصيب درهماً، ونلقيه يبقى دينار، فنزيد عليه عشرَ جميع المال، فيبلغ ديناراً وعشر دينار، وعشر درهم؛ فإن المال في الأصل دينار ودرهم. ثم نزيد عليه نصف عشره، فيكون ديناراً وأحداً وثلاثين جزءاً من مائتي جزءٍ من دينار، وثلاثة أجزاء من عشرين جزءاً من درهم. واجعل أنصباء البنين درهماً كما قدرت النصيب درهماً، ثم قل: ما معنا يعدل خمسة دراهم، فأسقط الجنس بالجنس، واستعمل البسط والقلب، كما ذكرناه، فتلتقي الطرق. مسائل من نوادر الاستثناء في الوصية 6757 - هذه المسائل نجمع فيها وجوهاً من التعقيدات، وهي بقية أصل الاستثناء.

_ (1) وجه الجمع أننا فرضنا المال مقداراً ونصيباً، فالمقدار 979، والنصيب 231= 1210. (2) في الأصل: وثلاثة أجزاء من عشرين جزءاً. (3) في الأصل: العمارة.

مسألة: أربعة بنين، وبنت، وقد أوصى بمثل نصيب أحد البنين إلا ثلث ما تبقى من ربعه بعد النصيب. وأوصى لآخر بثلث ما تبقى من ثلثه بعد الوصية الأولى. فنأخذ ربع مالٍ ونلقي منه للموصى له الأول نصيبين؛ إذ نصيب كل ابن سهمان من تسعة -وقد ذكرنا أن كل سهم من سهام الفريضة نعبّر عنه بنصيب- فيبقى ربع مالٍ إلا نصيبين، فنزيد عليه ثلثه للاستثناء، فيبلغ ثلث مال إلا نصيبين وثلثي نصيب؛ وذلك أنا قدرنا ربعاً واستثنينا النصيب، ثم زدنا عليه على الربع ثلثه؛ وإذا زدت على الربع [ثُلثه] (1)، صار ثلثاً؛ فجرت العبارة أجزاء بالثلث مع استثناء النصيب، وما يخص الجزء الزائد من النصيب، فصار ثلث مال إلا نصيبين وثلثي نصيب، وهما ثلث نصيبين. فهذا هو الباقي من الربع بعد الوصية الأولى. فنترك هذا، ونحن نريد [ثلث] (2) الباقي من الثلث بعد الوصية الأولى لندفعه إلى الموصَى له الثاني، فالوجه أن نزيد ما بين الثلث والربع على [الربع] (3)، وذلك نصف سدس المال، فيكون معنا ربع مال، و [نصف] (4) سدس مال إلا نصيبين وثلثي نصيب، وهذا هو الباقي من الثلث بعد الوصية الأولى، فندفع ثلث ذلك إلى الموصى له الثاني، تبقى عشرة أجزاء من ستة وثلاثين جزءاً من المال إلا نصيباً وسبعة أتساع نصيب، ونزيد ذلك على ثلثي المال، فيبلغ أربعة وثلاثين جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً، وذلك يعدل أنصباء الورثة، وهي تسعة، فنجبر ونقابل، فيكون أربعة وثلاثين جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من المال يعدل عشرة أنصباء وسبعة أتساع نصيب، فنضرب الجميع في ستة وثلاثين. ونقلب الاسم منهما، فيصير المال ثلاثمائة وثمانية وثمانين، والنصيب أربعة وثلاثين.

_ (1) في الأصل: ثلاثة. (2) في الأصل: الثلث. (3) ساقطة من الأصل. (4) زيادة لاستقامة الكلام.

إلا أنه ليس له ثلث صحيح؛ فنضرب المبلغ في ثلاثة، فيكون [ألفاً] (1) ومائة وأربعة وستين، ويكون النصيب مائة وسهمين. وامتحانه: أن نأخذ ربع المال وهو مائتان وأحدٌ وتسعون، فنلقي منه نصيبين، وهما مائتان وأربعة أسهم، يبقى سبعة وثمانون سهما، نأخذ ثلثها، وهو تسعة وعشرون، فنلقيه من المائتين والأربعة يبقى مائة وخمسة وسبعون سهماً، وهي الوصية الأولى. فنلقيها من ثلث المال، وهو ثلاثمائة وثمانية وثمانون، تبقى مائتان وثلاثة عشر، فنعطي ثلثها، وهو أحد وسبعون للموصى له الثاني، تبقى مائة واثنان وأربعون، نزيدها على ثلثي المال فيصير تِسعُمائة وثمانية عشر سهماً، بين أربعة بنين وبنت للبنت مائة وسهمان وهي نصيب واحد، ولكل ابن مائتان وأربعة. 6758 - مسألة: ترك ثلاثة بنين وأوصى بمثل نصيب أحدهم إلا سدس ما تبقى من المال بعد الوصية، وثلث ما تبقى من ثلثه بعد الوصية، فقد استثنى عن النصيب جزءاً مما بقي من المال بعد الوصية، واستثنى أيضاً جزءاً من جزء بعد الوصية أيضاً. وقد اختار الحسّاب عبارة عن الجبر في هذه المسألة وهي أقرب العبارات في استخراج المجاهيل بطريق الجبر. فنقول: نجعل الوصية شيئاً، والباقي أنصباء الورثة، فالمال إذاً شيء، وثلاثة أنصباء، فنلقي الوصية، وهي الشيء الذي أبهمناه، ثم نأخذ سدس الباقي، والباقي ثلاثة أنصباء، وسدسُها نصف نصيب، فنحفظ ذلك. ثم نأخذ ثلث المال، وهو نصيب وثلث شيء؛ فإنا قدرنا المال شيئاً وثلاثة أنصباء، فثلثه نصيب وثلث شيء، فنعود ونلقي الوصية من هذا الثلث؛ حتى نبيّن الباقي منها، ونظهر جزء الاستثناء الثاني، ومعنا ثلث شيء من ذلك، فنعمد إلى ثلث شيء فنسقطه لأجل الوصية، فتبقى من الوصية ثلثا شيء، فنسقطه من النصيب، فيبقى من الثلث الذي ذكرناه نصيب إلا ثلثي شيء، فنأخذ ثلث ذلك، وهو ثلث نصيب إلا تسعي شيء؛ فإن

_ (1) في الأصل: ألفان.

ثلث الثلثين تسعان، فنضيف ذلك إلى النصف (1) المحفوظ أولاً، وهو سدس الباقي، وسبب الإضافة أنا نحتاج إلى إسقاط هذين المبلغين من النصيب المذكور في الوصية، وإذا ضممنا ثلثي نصيب إلا تسعي شيء إلا نصف نصيب، وهو المحفوظ معنا، فيصير خمسة أسداس نصيب، إلا تسعي شيء، فهو المستثنى من النصيب. ثم نبتدىء ونقول: إذا كان النصيب ناقصاً بخمسة أسداس نصيب إلا تسعي شيء، فلو ضممنا خمسةَ أسداس نصيب إلا تُسعي شيء إلى الوصية المقدّرة في أصل المسألة، وهي شيء، لكمل النصيب، [فنضُمّ] (2) ما استثنيناه من الوجهين وجمعناه إلى الوصية، وهي شيء، ونكمل النصيب، فيصير معنا خمسة أسداس نصيب، وسبعة أتساع شيء، وهذا يعدل نصيباً. وشرحُ ذلك أن ما معنا من استثناءين خمسة أسداس نصيب، إلا أنها ناقصة بتسعي شيء، فإذا أردنا ضمها إلى الوصية، وهي الشيء، أخذنا من الشيء تُسعيه، وجبرنا نقصان خمسة الأسداس، وهذا معنى الضم، فتكمل خمسة أسداس نصيب، ويبقى من الشيء سبعة أتساعه، فالحاصل إذاً خمسة أسداس نصيب، وسبعة أتساع شيء، [وهذا] (3) المجموع، يعدل نصيباً، فإنا رُمْنا بضم الاستثناءين إلى الوصية تكميل النصيب، فنقول إذاً: خمسة أسداس نصيب لا نقصان فيها، وسبعة أتساع شيء تعدل نصيباً، فالخمسة الأسداس بالخمسة الأسداس، فيبقى سدس نصيب في مقابلة سبعة أتساع شيء، فنعلم أن كل سدس من النصيب يقابل سبعة أتساع شيء، فيكون النصيب على ذلك معادلاً لأربعة أشياء وثلثي شيء، فنبسط الجميع أثلاثاً، فيصير النصيب أربعة عشر، والشيء ثلاثة، وقد بان أن المال خمسة وأربعون؛ فإنا قدرناه ثلاثة أنصباء وشيء، ثم كل نصيب أربعة عشر، والشيء ثلاثة. فإذا ألقينا الوصية وهي ثلاثة من المال، بقي اثنان وأربعون، أخذنا سدسها، وهو سبعة وحفظناها، ثم ألقينا الاستثناء الثاني بأن نأخذ ثلث المال وهو خمسة عشر،

_ (1) النصف: المراد نصف النصيب. (2) في الأصل: " فنصف ". (3) في الأصل: وهو.

ونلقي منها [الوصية] (1) ثلاثة، بقي اثنا عشر، فأخذنا ثلثها أربعة، فضممناها إلى السبعة المحفوظة، فصار [أحد] (2) عشر، فألقينا أحد عشر من النصيب، وهو أربعة عشر، بقي ثلاثة، وهي الوصية. وإذا ألقيناها من المال، بقي بعده اثنان وأربعون بين البنين الثلاثة لكل واحد منهم أربعة عشر. 6759 - مسألة: رجل له ثلاثة بنين، فأوصى بمثل نصيب أحدهم إلا سدس ما تبقى من المال بعد الوصية، على أن ينقص من سدس الباقي ثلث ما تبقى من ثلث المال بعد الوصية، فكأنه استثنى عن النصيب سدس الباقي منقوصاً بثلث الثلث بعد الوصية. فنقول: المال وصية وثلاثة أنصباء، وضعنا الوصية موضع الشيء المبهم، والخِيَرة إلى الحاسب فيما يُبهم، فالمال إذاً وصية، وثلاثة أنصباء. فخذ سدس الباقي بعد الوصية، وهو نصف نصيب، فاحفظه، ثم خذ ثلثَ المال، وهو نصيب وثلث وصية، فاطرح من هذا الثلث الوصية، ومعك ثلث وصية في الثلث الذي قدرته، فاسقطه، فيبقى ثلثا وصية، فأسقطه من النصيب الذي ذكرته في الثلث، فيبقى معك نصيب إلا ثلثا وصية، فخذ ثلث ذلك وهو ثلث نصيب إلا تسعي وصية، وأنت تحتاج الآن أن تنقص هذا المبلغ عن الاستثناء الأول، وبهذا يحصل مقصود المسألة. والاستثناء الأول المحفوظ نصف نصيب، فينقص منه ثلث نصيب إلا تُسعي وصية، تبقى سدس نصيب وتسعا وصية، وهذا هو المستثنى من النصيب، ولا بد من تكميل النصيب بهذا الاستثناء، وبه نُخرج المجاهيل، فنضم ذلك إلى الوصية ليكمل النصيب، فيحصل معنا سدس نصيب ووصية وتسعا وصية. وهذا يعدل نصيباً. فما معنا من سدس نصيب في مقابلة سدس النصيب، فتبقى خمسة أسداس نصيب في مقابلة وصية، وتسعي وصية. ونحن نريد أن نخرج ما يقابل النصيب التام من الوصية، ليخرج ما نريد، فنقول: إذا كان خمسة أسداس نصيب تعدلِ وصيةً وتسعي وصية، فالنصيب بكماله يعدل وصية

_ (1) في الأصل: الثلث. وهو خطأ حسابي واضح. (2) في الأصل: أربعة عشر.

وسبعة أجزاء من خمسة عشر جزءاً من وصية. وبيان ذلك أن تبسُطَ الوصيةَ والتُّسعَيْن التي في مقابلة الأسداس بالأتساع، فيكون أحد عشر، فنزيد عليها مثل خمسها لمكان السدس الباقي من النصيب، ومثل خمس أحد عشر سهمان وخمس، فالجملة ثلاثة عشر وخُمس. وإذا بسطناها أخماساً، بلغت الجملة ستة وستين، والوصية منها خمسة وأربعون، فيبقى أحدٌ وعشرون، فنرد الوصية إلى ثلثها؛ [فإن للزائد عليها ثلثاً ولمبلغ الوصية ثلثاً] (1): فثلث الوصية خمسة عشر وثلث أحد وعشرين سبعة. فينتظم بذلك ما ذكرناه من أن النصيب التام يعدل وصية وسبعة أجزاء من خمسة عشر جزءاً من وصية. وإذا أردنا معرفة ذلك بالتكسير، انتظمت النسبة فيه؛ فإنا لما بسطنا الوصية بالأتساع، وزدنا عليها مثلَ خمسيها، بلغت ثلاثةَ عشرَ وخُمس، ومقدار الوصية منها تسعة، وأربعة [وخمس] (2) من التسعة، [كالسبعة] (3) من الخمسة عشر، وإذا أردنا رفعَ الكسر، وقعت العبارة عن أجزاء الخمسة عشر، وهذا شرحٌ لا يحتاج إليه الحاسب. ولكنا ذكرناه لإيناس المبتدىء، وأيضاً، فإنه يتكرر من هذا الجنس في المسائل بعد هذا، فنبهنا الناظر المبتدىء. ونعود فنقول: النصيب يعدل وصية وسبعة أجزاء من خمسة عشر جزءاً من وصية، فنبسط الكل بأجزاء خمسة عشر، فتكون الوصية خمسة عشر سهماً، والنصيب اثنين وعشرين، والمال كله أحدٌ وثمانون سهماً. وإذا أخذت ثلث المال وهو سبعة وعشرون، وألقيت منها الوصية، وهي خمسة عشر، بقي اثنا عشر سهماً، فإذا أخذت ثلثها، وهو أربعة، فنقصتها من سدس الباقي من المال بعد الوصية، وذلك أحد عشر، بقي سبعة أسهم، فإذا ألقيتها من النصيب، وهو اثنان وعشرون، بقي خمسة عشر سهماً، فهي الوصية، وإذا ألقيتها من المال،

_ (1) في الأصل: فإن الزائد عليها ثلث، ولمبلغ الوصية ثلث. (2) في الأصل: وخمسة. (3) في الأصل: كالتسعة.

بقي ستة وستون سهماً، بين ثلاثة بنين، لكل واحد منهم اثنان وعشرون سهماً. 6760 - مسألة: خمسة بنين وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ثلث ما تبقى بعد الوصية من ربع ما تبقى بعد الوصية. فنجعل المالَ وصية وخمسة أنصباء، ونأخذ ربع الباقي بعد الوصية، وذلك نصيب وربع نصيب، إلا وصية، فخذ ثلث ذلك، وهو ربع وسدس نصيب إلا ثلث وصية، وذلك هو المستثنى من النصيب، فضمّه إلى الوصية نقصاً للاستثناء، الذي معنا من الوصية، فيجتمع ربع وسدس نصيب، وثلثا وصية، وذلك يعدل نصيباً، فإذا قابلت بينهما، خرج النصيب ثمانية، والوصية سبعة، والمال سبعة وأربعين. وبيانه أن الربع والسدس من النصيب بالربع والسدس من النصيب الذي نقابله، فيبقى ثلث نصيب وربع نصيب، في مقابلة ثلثي وصية، فنأخذ عدداً له ثلث وربع، وهو اثنا عشر، والسبعة منها، إذا كانت تقابل ثلثي وصية، فلو زدنا مثل نصف السبعة وهو ثلاثة ونصف، لكملت قيمة الوصية. وتبقى من اثني عشر سهمٌ ونصفُ سهم. وهو مثل سبع الوصية، والوصية عشرة ونصف، وبان لنا أن النصيب وصية وسبع وصية. فجعلنا النصيب ثمانية أسهم، والوصية سبعة منها، وإذا جمعنا خمسة أنصباء وهي أربعون، إلى الوصية، كان المال سبعة وأربعين، فإذا أخذت الوصية، ثم أخذتَ ربع الباقي بعد الوصية، فهو عشرة، وطرحت منها الوصية، بقي ثلاثة، فإذا أخذت ثلثها وهو واحد، فطرحته من النصيب بقي سبعة، وإذا ألقيت الوصية من المال بقي أربعون، بين خمسة بنين، لكل واحد منهم ثمانية. فقد أوصى له بثمانية من سبعة وأربعين إلا ثلث ربع ما تبقى بعد الوصية، وهي سبعة، كما أعرب عنها الجبر. 6761 - مسألة: أربعة بنين، وأوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ما انتقص أحدهم بالوصايا، وأوصى لآخر بثلث ما تبقى من ثلثه. فلو لم تكن وصية، لكان لكل واحد من البنين ربع المال، وبعد الوصايا لكل واحد منهم نصيبٌ، وهو أقل من ربع المال، فإذا انتقص نصيب كل واحد منهم،

[صار] (1) على عبارة الجبر ربع مال إلا نصيب. وبيان ذلك أن كل واحد كان يأخذ ربعاً لولا الوصايا، والآن لا يأخذ كل واحد منهم ربعاً وإنما يأخذ نصيباً من ربع. فنعبر عن هذا، ونقول: نأخذ من كل واحد ربعَ المال، ونردّ إليه نصيباً، فينتظم قولنا: انتقص من نصيب كل واحد من البنين ربع المال إلا نصيباً، فإذا فُهم ذلك، قلنا: خذ ثلث مال، واطرح منه نصيباً، يبقى ثلث مال إلا نصيباً، فزد عليه لأجل الاستثناء ما انتقص من نصيب أحدهم بالوصايا، وذلك ربع مال إلا نصيباً، فيبلغ ثلث وربع مال إلا نصيبين، فندفع ثلث ذلك إلى الموصى له الثاني، تبقى سبعة أجزاء من ثمانية عشر جزءاً من مال إلا نصيب وثلث نصيب. وبيان ذلك أنا نتخير عدداً له ثلث وربع، وإذا جمعنا ثلثه وربعه وأخذنا من المجموع ثلثاً، كان الباقي صحيحاً، ولا نبالي بأن يكون المأخوذ للوصية على كسر؛ فإن الغرض يتبين بما تبقى، فنقدر ثمانية عشر، ونأخذ ثلثه، وهو ستة، وربعه وهو أربعة ونصف، فالجملة عشرة ونصف، فنصرف ثلث هذا المبلغ، إلى الوصية، وهو ثلاثة ونصف، فتبقى سبعة أجزاء من ثمانية عشر جزءاً من مال إلا نصيباً وثلثاً؛ فإن الذي أخذ ثلث الباقي أخذه ناقصاً لحصته من الاستثناء، وقد كان معنا ثلث وربم إلا نصيباً، فأخرجنا إلى الوصية ثلث ما معنا، ورددنا الباقي على ثلثي المال، فصار معنا مال وجزء من ثمانية عشر جزءاً من مالٍ إلا نصيباً وثلث نصيب، يعدل أربعة أنصباء. وبيانه أن سبعة أجزاء من ثمانية عشر ثلثٌ وسهمٌ من ثمانيةَ عشرَ، فإذا ضممنا هذا إلى الثلثين، صار المبلغ مالاً وجزءاً من ثمانية عشر جزءاً من مال إلا نصيباً وثلث نصيب، وهذا يعدل أربعة أنصباء، فنجبر ما معنا بنصيب وثلث، ونزيد على عديله مثله، فتصير الأنصباء خمسة وثلث، في مقابلة مالٍ وجزء من ثمانية عشر جزءاً من مال، فنبسطهما بأجزاء ثمانية عشر، ونقلب الاسم فيهما، فيكون المال ستة وتسعين، والنصيب تسعة عشر. فلو لم تكن وصية، لكان لكل واحد من البنين ربع هذا المبلغ، وهو أربعةٌ وعشرون، ومع الوصية يكون له تسعة عشر، فالذي تنقُصُه

_ (1) زيادة من المحقق.

خمسة أسهم، فالوصية إذا أربعة عشر سهماً، فإنها مثل نصيب وهو تسعةَ عشرَ إلا مقدار نقصان، وهو خمسة، فترجع إلى أربعةَ عشرَ، فاطرحها من ثلث المال، وهو اثنان وثلاثون، تبقى ثمانيةَ عشرَ، فادفع ثلثها إلى الموصى له الثاني، وذلك ستة، تبقى من الثلث اثنا عشر سهماً، زدها على ثلثي المال، فيصير ستة وسبعين، بين أربعة بنين لكل واحد منهم تسعة عشر. 6762 - مسألة: رجل له ستة بنين، وأوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ما انتقص من نصيبه بالوصايا، وأوصى لآخر بثلث ما تبقى من الثلث إلا ما انتقص [نصيب] (1) أحدهم بالوصايا. فالطريق أن نجعل النقص في حق كل ابن بالوصايا شيئاً، فيكون نصيب كل واحد منهم سدس مال إلا شيئاً. وللموصى له الأول، وهو صاحب النصيب سدس مال إلا شيئين، وسبب ذلك أنه لما أوصى له بالنصيب، فلو اقتصر على هذا، لكان الموصى له كأحد البنين، فمن هذا الوجه له سدس إلا شيء، وقد استثنى الموصي عن الوصية له بالنصيب شيئاً آخر، فصار ما يخصه سدس مال إلا شيئين. فنأخذ ثلث مال وننقص منه للموصى له الأول سدس مال إلا شيئين، يبقى من الثلث سدس مال وشيئان، فندفع ثلث ذلك إلى الموصى له الثاني، فيبقى تسع مال وشيء وثلث؛ فإنه كان سدساً وشيئين فإذا أخذ من السدس ثلثه بقي التسع، وكان مع السدس شيئان، فيأخذ الموصى له الثاني ثلثهما وهو ثلثا شيء، فيبقى تُسع مال وشيء وثلث شيء، فنزيد عليه الاستثناء من الوصية الثانية شيئاً، فإن الثاني أوصى له بثلث ما بقي إلا ما انتقص به نصيب الواحد، فنزيد سبب هذا الاستثناء، فإنا جعلنا ما انتقص شيئاً، فحصل معنا من هذه الجهة [تسع] (2) مال وشيئان وثلث شيء، فنزيده على ثلثي المال، فيصير سبعة أتساع مال وشيئان وثلث. وهذا يعدل أنصباء الورثة، ونجعل أنصباءهم مالاً إلا ستة أشياء، ثم نجبره بستة أشياء، ونزيد على عديله ستة أشياء، فتقابل مالاً كاملاً بسبعة أتساع وثمانية أشياء وثلث، فنسقط الجنس

_ (1) الزيادة من عمل المحقق. (2) في الأصل: تسعي.

بالجنس، ومعنا سبعة أتساع مال، فنسقطه من المال الذي في الجانب الثاني، فيبقى تسعا مال في مقابلة ثمانية أشياء وثلث، فنبسط الأشياء وثلث شيء أتساعاً، فتصير خمسة وسبعين فهذه قيمةُ تُسعي مال، ويصير تسعا مال بهذه النسبة اثنين، فإنّ ضرب التُّسْعَيْن في التسعة يردّ سهمين؛ فإذا كان قيمة التسعين خمسة وسبعين، فقد قال الحساب: هذا المبلغ له ثلث، وليس له سدس، فإن أردت أن يصير له سدس ضعّفته بالضرب في اثنين، فإن كان مثلثاً، ضربته في اثنين صار له سدس، فيصير مائة وخمسين. ثم قالوا: نقلب العبارة، فنجعل المال مائة وخمسين، والشيء أربعة؛ لأنه كما نضعّف أحد المتقابلين [نُضعّف] (1) الثاني، ففي هذا الموقف تأمُّل؛ فإن المائة والخمسين بعد البسط قيمة تسعي مال، والذي يقتضيه قياس الجبر في مثل ذلك أن تقوّم جميع المال، ولكنك إذا قوّمت جميع المال بهذه النسبة، وجدت موافقة تقتضي الردّ إلى المائة والخمسين، فَتَخيَّلْ تقويمَ الكل، ثم ارجع بنسبة التسع إلى المائة والخمسين المبسوطة بالضرب في مخرج سدس هذا المال إلا أربعة أسهم، وسدس المائة والخمسين خمسة وعشرون، وإذا حططت منها أربعة وهي الشيء، خص كلَّ واحد [واحدٌ] (2) وعشرون سهماً، وللموصى له الأول سبعة عشر سهماً؛ فإنا نقدر له خمسة وعشرين، ثم نحط عنها شيئين وهما ثمانية، فبقي له سبعة عشر، ثم نطرح سبعةَ عشر من ثلث المال وهو خمسون، فيبقى من الثلث ثلاثة وثلاثون، فنأخذ ثلث هذا الباقي وهو أحد عشر، فننقص منها شيئاً وهو أربعة أسهم، وهو مثل ما انتقص به نصيب أحدهم بالوصايا، فيبقى للموصى له الثاني سبعة أسهم، هي وصيته؛ فالوصيتان جميعاً أربعة وعشرون، فننقُصها من سهام المال فيبقى مائة وستة وعشرون سهماً بين ستة بنين: لكل واحد منهم أحدٌ وعشرون سهماً، وهو سدس ناقصٌ بشيء، كما اقتضته الوصية. وقد نجز القول في الاستثناء عن الوصايا بالأنصباء وغيرها.

_ (1) مكان هذا في الأصل عبارة غير مستقيمة هكذا: " ـصف على خمسه " (بدون نقط الحرف الأول). (2) ساقطة من الأصل.

القول في الوصية بالتكلمة وأحكامها وفروعها

القول في الوصية بالتكلمة وأحكامها وفروعها ومضمون هذه المقالة تقع في فصولٍ نأتي بها فصلاً، فصلاً، إن شاء الله عز وجل. فصل في الوصية بالتكملة وحدها دون غيرها 6763 - المثال: رجل له خمسة بنين، فأوصى لرجل بتكملة ربع ماله بنصيب أحدهم. فمعنى الوصية أولاً أن نأخذ نصيب أحدهم وننظر ما بينه وبين الربع، فإن نصيب الواحد منهم في الصورة التي ذكرناها لا يقع ربعاً، وإذا أردنا تكميله ربعاً، احتجنا إلى الزيادة على مبلغ النصيب، فالوصية تلك الزيادة التي تكمل الجزء. هذا معنى الوصية بالتكملة. وحسابها بالجبر أن نأخذ مالاً، وندفع منه ربعه إلى الموصى له، ونسترجع منه نصيباً فيحصل معك ثلاثة أرباع مال كاملة ونصيب مسترجع من ربعٍ. وهذا يعدل خمسة أنصباء. فنلقي النصيب الذي معنا بنصيب قصاصاً، فتبقى ثلاثة أرباع مال، تعدل أربعة أنصباء، فنبسطها جميعاً أرباعاً، بأن نضرب كل واحد منهما في أربعة، فتصير الأنصباء ستة عشر، وتصير ثلاثة الأرباع [المال] (1) ثلاثة، فنقلب العبارة، ونقول: المال ستة عشر، والنصيب ثلاثة. ثم نأخذ ربع المال وهو أربعة، فنطرح منه نصيباً، وهو ثلاثة، فيبقى سهم واحد، وهذا هو التكملة، وهي الموصى به. فادفع هذا السهم الواحد إلى الموصى له، فيبقى خمسة عشر بين خمسة بنين، لكل واحد منهم ثلاثة. وهي النصيب الخارج. وإذا جمعت بين النصيب، وبين الوصية، كمل ربع المال.

_ (1) زيادة من المحقق.

6764 - طريقة المقادير: أن نقول: علمنا أن التكملة هي ما بين النصيب والربع، فنأخذ ربعَ مالٍ، ونلقي منه نصيب أحد البنين، فيبقى من الربع مقدار، وهو التكملة، ومعنا ثلاثة أرباع مال، وإذا أعطينا من كل ربعٍ نصيبَ ابنٍ، فَضَل منه مثل ما فَضَل من الربع الأول، فيحصل من الأرباع الباقية ثلاثة مقادير، ومعنا مقدار من الربع الأول، وقد أخرجنا منه نصيباً أيضاً وقد توفرت أيضاً أربعة [أنصباء] (1) بنين، وفَضَل أربعة مقادير، فيسلّم مقدار إلى الموصى له بالتكملة، فيبقى نصيب ابن لم يأخذ شيئاً، فنسلم إليه المقادير الثلاثة الباقية، وعلمنا أن كل نصيب ثلاثة [مقادير] (2)، وكنا جعلنا ربع المال نصيباً ومقداراً، فيخرج من ذلك أن ربع المال أربعة، والمال ستة عشر، والنصيب ثلاثة والتكملة سهم واحد. 6765 - طريقة القياس: أن نقول الموصى له بالتكملة إذا أخذ وصيته، كان الباقي من المال مقسوماً على خمسة بين الورثة، فنجعل الباقي بعد الوصية عدداً له خُمس، وأقله خمسة، وإذا قسمنا الخمسة بين البنين، كان لكل واحد منهم سهم. وقد علمنا أن هذا السهم إذا ضم إلى التكملة، كان المبلغ مثل ربع المال، وربعُ سهمٍ وربعُ تكملة. وبيان ذلك أن نجعل المال وصية وخمسة، وتلك الوصية تكملة، فالمال إذاً كله تكملة وخمسة أسهم. وقد تمهد ذلك في الأبواب السابقة، وإذا كان المال تكملةً وخمسة أسهم، فربعهُ سهمٌ وربع سهم وربعُ تكملة، فنعلم أن سهماً وتكملةً تامة تعدل سهماً وربعَ سهم، وربع تكملة؛ فإن السهم والتكملة ربع، وقد بينا أن ربع المال سهم وربع سهم وربع تكملة، وإذا تقابلا أسقطنا الجنس بالجنس، فنقول سهم وتكملة تعدل سهماً وربعَ سهم وربعَ تكملة، فنسقط السهم بالسهم، ونسقط ربع التكملة فيحصل معنا ربع سهم من جانب يعدل ثلاثة أرباع التكملة، وإذا عادل ربعٌ ثلاثة أرباع، فيعدل ثلث سهم تكملةً تامة، فعلمنا بذلك أن السهم ثلاثة أمثال التكملة، فإذا

_ (1) زيادة من المحقق؛ رعاية للسياق. (2) سقطت من الأصل.

جعلت التكملة سهماً واحداً، وجب أن يكون السهم الذي هو النصيب ثلاثة، ووجب أن يكونا جميعاً ربع المال، فربع المال إذاً أربعة، والمال ستة عشر، والنصيب ثلاثة. 6766 - طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل ربع المال ديناراً ودرهماً، ونجعل الدينار نصيباً والتكملة درهماً، فندفع الدرهمَ إلى الموصى له بالتكملة، فيبقى معنا من أرباع المال أربعة دنانير وثلائة دراهم، فنأخذ [أربعة دنانير، بين أربعة أبناء] (1)، يبقى ثلاثة دراهم في يد الابن الخامس، وهي قيمة الدينار، فنجعل كأن ربع [المال] (2) أربعة دراهم ثلاثة للنصيب، وواحد للتكملة، كما تقدم. 6767 - فحساب المسألة بطريقة الخطأين: أن نجعل ربع المال اثنين والتكملة واحد، وجملة المال على ذلك ثمانية، فندفع إلى الموصى له سهماً، فالباقي من هذا الربع واحد، وهو الذي قدرناه نصيباً، فنضمه إلى ثلاثة الأرباع، فيصير سبعة، وكان يجب أن يكون خمسة ليأخذ كل ابن سهماً، كما قدرناه في الربع الأول، فقد فضل عن الواجب اثنان، فهو الخطأ الأول، وهو زائد، فاحفظه. ثم نجعل المال إن شئنا اثني عشر، وربعه ثلاثة، والتكملةُ منها واحد، والنصيب ائنان، فندفع التكملة إلى الموصى له، يبقى من المال أحدَ عشرَ، وكان يجب أن يبقى عشرة ليأخذ [كلُّ ابن] (3) سهمين، مثلَ النصيب المفروض من الربع، وقد زاد على الواجب سهم واحد، وهو الخطأ الثاني وهو زائد أيضاً، فنحط الخطأ الثاني من الخطأ الأول؛ فإنهما تجانسا في الزيادة، فيبقى واحدٌ، وهو المقسوم عليه، فاحفظه، ثم اضرب المال الأول، وهو ثمانية في الخطأ الثاني وهو واحد، فيرد ثمانية، فاضرب المال الثاني وهو اثنا عشر في الخطأ الأول، وهو اثنان، فيرد أربعة وعشرين. فنحط الأقلَّ من الأكثر تبقى ستة عشر، فاقسمها على الواحد المحفوظ، فيخرج ستة عشرَ، فهو المال. فإن أردت النصيب فاضرب النصيب الأول وهو واحد في الخطأ الثاني وهو واحد،

_ (1) عبارة الأصل مضطربة هكذا: فنأخذ أربعة بين أربعة دنانير. (2) ساقطة من الأصل. (3) ساقط من الأصل.

فيكون واحداً، واضرب النصيب الثاني وهو اثنان في الخطأ الأول وهو اثنان، فيكون أربعة، فانقص الأقل من الأكثر، فتبقى ثلاثة، فاقسمها على الواحد المحفوظ، فيخرج ثلاثة، فهو النصيب. كما خرج بالأعمال المتقدمة. 6768 - صورة أخرى. ترك رجل أربعة بنين وبنتاً، وكان أوصى لإنسان بتكملة ربع ماله بنصيب أحد البنين. فخذ ربع المال وألق منه نصيبين؛ فإن لكل ابن سهمان، وردّ النصيبين على ثلاثة أرباع، فيحصل معك ثلاثة أرباع مال ونصيبان. وذلك يعدل [تسعة أنصباء، فاجبر وقابل، فتصير ثلاثة أرباع مال تعدل] (1) سبعة أنصباء، فابسطهما أرباعاً، واقلب الاسم فيهما، فيكون المال ثمانية وعشرين، والنصيب ثلاثة، وربع المال سبعة، فندفع سبعة إلى الموصى له، ونسترجع منه نصيبين، وذلك ستة، فيبقى معه سهم واحد، هو التكملة، وهو الوصية، والباقي من المال بعد الوصية سبعة وعشرون سهماً بين أربعة بنين وبنت، على تسعة، لكل ابن ستة، وللبنت ثلاثة. وإذا جمعت بين التكملة وبين نصيب أحد البنين، كان سبعة، وهو ربع المال. وعلى هذا فقس [و] (2) مضمون هذا الفصل سهلُ المُدرك. فصل في الوصية بالتكملة مع الوصية بجزءٍَ شائع من المال 6769 - المثال: ترك خمسة بنين، وأوصى بعشر ماله لإنسان، وأوصى لآخر بتكملة الربع بنصيب أحد بنيه. فطريق الجبر أن نأخذ مالاً، ونطرح منه عُشره، ثم نطرح ربع المال، ونسترجع منه نصيباً فيبقى معنا ثلاثة عشر جزءاً من عشرين جزءاً من المال ونصيب، وهو الذي

_ (1) زيادة من المحقق، لا تصح المسألة إلا بها. (2) سقطت من الأصل.

استرجعناه من الربع، ووصفنا التقدير من عشرين لأن لها عشراً وربعاً، فإذا أخرجت ربعه وهو خمسة، وعُشره وهو اثنان، وأسترجعت من الخمسة نصيباً، كان الباقي ثلاثة عشر جزءاً من عشرين جزءاً من المال مع النصيب المسترجع، وذلك يعدل خمسة أنصباء، فنلقي نصيباً [بنصيب] (1) قصاصاً، فيبقى ثلاثة عشراً جزءاً من عشرين جزءاً من المال تعدل أربعة أنصباء، فنبسطهما بأجزاء العشرين، ونقول بعد قلب الاسم والعبارة فيهما: المال ثمانون، والنصيب ثلاثةَ عشرَ، فنلقي من المال بالوصية الأولى عُشره، وهو ثمانية، ثم نأخذ ربع المال وهو عشرون، فنلقي منه النصيب تقديراً وهو ثلاثةَ عشرَ، تبقى سبعة وهي التكملة فندفعها إلى الموصى له بالتكملة، والوصيتان خمسة عشرَ سهماً: ثمانية وسبعة، فنلقي الوصيتين من المال فيبقى خمسة وستون بين خمسة بنين: لكل واحد منهم ثلاثةَ عشرَ. 6770 - وحساب المسألة بالخطأين: أن نجعل المال عشرين، لأنه أقل عدد له ربع وعشر، ونخرج عُشرَه بالوصية الأولى، ونأخذ ربع المال، وهو خمسة، ونجعل النصيب إن شئنا ثلاثة، وندفع اثنين إلى صاحب التكملة، تبقى من جملة المال ستة عشر، وكان الواجب أن يبقى خمسة [عشر] (2) ليأخذ كل ابن ثلاثة مثل النصيب الذي قدرناه، فزاد واحد وهو الخطأ الأول، والخطأ زائد، فاحفظه. ثم اجعل المال أربعين، وادفع عُشرَها، وهو أربعة، وخذ ربع المال وهو عشرة، فاجعل النصيب منها خمسة، والتكملة الخمسة الباقية من الربع، والوصيتان تسعة وألقها من المال يبقى أحدٌ وثلاثون سهماً، وكان الواجب أن يبقى خمسة وعشرون، ليأخذ كل ابن خمسة، مثلَ النصيب المفروض، فزاد ستة، وهو الخطأ الثاني، وهو زائد أيضاً، فألق منه الخطأ الأول [وهو واحد، يبقى خمسة، وهو المقسوم عليه، فاحفظه. ثم اضرب المالَ الأول] (3) في الخطأ الثاني، والمال الثاني في الخطأ الأول،

_ (1) في الأصل: نصيب. (2) ساقطة من الأصل. (3) ساقط من الأصل.

وانقص أقلَّ المبلغين من أكثرهما فيبقى ثمانون، فاقسمها على الخمسة المحفوظة؛ فيخرج ستة [عشر، فقل] (1): هي المال. وإن أردت النصيب، ضربت النصيب الأول [وهو ثلاثة في الخطأ الثاني وهو ستة، وضربت النصيب الثاني وهو خمسة] (2) في الخطأ الأول وهو واحد، ونقصت الأقل من الأكثر، تبقى ثلاثةَ عشرَ، فاقسمها على الخمسة، فيخرج اثنان وثلاثة أخماس، وذلك هو النصيب. فإن أردت إسقاطَ [الكسر] (3) بسطتَ المال والنصيب أخماساً، فيصير المال ثمانين والنصيب ثمانية عشر. 6771 - طريقة الدينار والدرهم: الوجه فيها أن نفرض الدراهم والدنانير أولاً، ثم نحط العشر، أو كما أردنا، ولا ينتظم طريق الدينار والدرهم إلا كذلك، فنقول: نجعل ربع المال ديناراً ودرهماً، وتدفع منه درهماً بالتكملة، فيبقى من المال أربعة [دنانير] (4) وثلاثة دراهم، نطرح منها بالوصية الأخرى عشر المال، ونقدر المال كاملاً، فنخرج منه عشراً كاملاً، فالعشر أربعة أعشار دينار، وأربعة أعشار درهم؛ فإنا نأخذ من كل دينار عشراً، ومن كل درهم عشراً، فالمال الكامل أربعة دنانير وأربعة دراهم، فيبقى معنا ثلاثة دنانير وثلاثة أخماس دينار، وإن أحببت قلت: ستة أعشار دينار، ويبقى كذلك ثلاثة دراهم وثلاثة أخماس درهم، غيرَ أنا أخرجنا إلى التكملة درهماً، فالباقي الآن ثلاثة دنانير وثلاثة أخماس دينار، ودرهمان وثلاثة أخماس درهم، وذلك يعدل خمسة أنصباء البنين، فنسقط الجنسَ من الجنس، فتبقى من الأنصباء دينار وخمسان، يعدل درهمين وثلاثة أخماس درهم، فنبسطها أخماساً، ونقلب الاسم فيها، فيصير الدينار ثلاثة عشر، وهو النصيب، والدرهم سبعة، وهي التكملة، وهما ربع المال، وذلك عشرون، والمال ثمانون. 6772 - طريقة المقادير: أن نأخذ ربعَ مال، فنلقي منه [نصيباً] (5)، يبقى مقدار

_ (1) في الأصل: ستة، فقال. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (3) في الأصل: الكثير. (4) في الأصل: وثمانين. (5) في الأصل: نصيبان.

فندفعه إلى الموصى له بالتكملة، فيبقى ثلاثة أرباع المال، فندفع إلى كل ابنٍ من كل ربع نصيباً، فيبقى منها ثلاثة مقادير، فنلقي من هذه المقادير عشرَ المال، وقد كان ربع المال نصيباً ومقداراً، فالمال على هذا أربعة أنصباء وأربعة مقادير. وعشر جميع المال أربعة أعشار نصيب، وأربعة أعشار مقدار، فنلقي ذلك من ثلاثة مقادير، ونسقط الجنس من الجنس، فيبقى معنا مقداران وثلاثة أخماس مقدار، إلا خمسي نصيب، وهو أوجز من أن نقول: إلا أربعة أعشار نصيب، وذلك يعدل نصيباً واحداً، وهو نصيب الابن الخامس، الذي لم نقدّر له شيئاً، فنجبر المقدارين وثلاثة أخماس مقدار بخمسي نصيب، وهو المستثنى، ونزيد على عديله مثلَه، فيصير نصيب وخمسان في مقابلة مقدارين وثلاثة أخماس مقدار، فنبسطه أخماساً، ونقلب الاسم، فيصير النصيب ثلاثة عشر، والمقدار سبعة، وبقي التكملة. وإذا ضممنا التكملة وهي سبعة إلى النصيب، وهو ثلاثةَ عشرَ، فهما ربع المال، وإذا كان ربع المال عشرين، فالمال ثمانون. 6773 - وطريق القياس أن نقول: علمنا أن ربع المال وعشره يستحقهما ثلاثة الموصى له بالعشر، وأحدُ البنين، والموصى له بالتكملة، فهؤلاء يستحقون بالوصية والميراث العشرَ والربع. وما تبقى بعد ذلك يستحقه أربعة بنين؛ فإنا حسبنا نصيب ابن في الربع مع التكملة. فنأخذ مالاً له ربع وعشر، وذلك عشرون، فنلقي ربعه وعشره: سبعة، تبقى ثلاثةَ عشرَ، نقسمها بين أربعة بنين، لكل واحد منهم ثلاثة وربع، نعلم بذلك أن النصيب ثلاثة وربع. فنعود ونقول: لصاحب العشر سهمان من [السبعة] (1) التي ألقيناها من المال، وهو عشر العشرين، فتبقى خمسة: للابن الذي ضممناه إلى الوصايا منها ثلاثة [وربع] (2) وهو نصيب ابنٍ، يبقى من الخمسة واحد وثلاثة أرباع، وهو التكملة،

_ (1) في الأصل: التسعة. (2) في الأصل: " ثلاثة وثلاثة أرباع ".

فنبسط جميع ذلك أرباعاً، فيصير النصيب ثلاثةَ عشرَ، والتكملة سبعة، والمال ثمانون. فصل في الوصية بالتكملة مع الوصية بجزءٍ مما تبقى من المال 6774 - المثال: رجل خلف سبعة بنين وأوصى لرجل بتكملة ربع مال بنصيب أحدهم وأوصى لآخر بعشر ما بقي من المال. فحسابه بطريق الجبر أن نأخذ مالاً، وندفع ربعه إلى الموصى له بالتكملة، ونسترجع نصيباً، ونزيده على الباقي من المال، فيصير ثلاثة أرباع مال ونصيب، فنخرج من هذا عشراً، وهو الوصية الثانية، فإن الموصي اعتبر عشراً بعد تقديم التكملة، فمقتضاه أن نسترجع من الربع نصيباً ونضمه إلى ثلاثة أرباع المال، ثم نخرج العشر من ذلك. وإذا احتجت إلى مالٍ له ربعٌ، وللباقي (1) بعد الربع عشرٌ، فأقله أربعون، فنخرج رُبْعَه عَشَرة، ونسترجع منها نصيباً ونضمه إلى الثلاثين الباقية، وندفع عُشْرَ الثلاثين والنصيبَ المضموم إليه إلى الموصى له بعشر الباقي، فتبقى [سبعة] (2) وعشرون جزءاً من أربعين جزءاً من المال، وتسعة أعشار نصيب. وذلك يعدل سبعة أنصباء البنين السبعة، فألق الجنس بمقداره من جنسه، ومعنا تسعة أعشار نصيب، فنلقيها من الأنصباء السبعة، فيبقى ستة أنصباء وعشر نصيب، في مقابلة سبعة وعشرين جزءاً من أربعين جزءاً، فنبسط الجميع بأجزاء الأربعين، ونقلب العبارة فيهما، فيصير المال مائتين [وأربعة] (3) وأربعين والنصيب سبعة وعشرين. الامتحان: نأخذ ربعَ المال، وهو أحد وستون فنلقي منها النصيب، وهو سبعة وعشرون، تبقى أربعة وثلاثون، وهي التكملة، فنلقيها من المال للموصى له بالتكملة، تبقى مائتان وعشرة، وقد ضممنا النصيب من الربع إلى ثلاثة أرباع

_ (1) في الأصل: والباقي بعد الربع عشره. (2) في الأصل: تسعة. (3) زيادة من المحقق.

[المال] (1)، ندفع عشرها إلى الموصى له الثاني، وهو أحدٌ وعشرون، تبقى مائة وتسعة وثمانون، بين سبعة بنين لكل واحد منهم سبعة وعشرون، وهو النصيب الذي أخرجناه من الربع. 6775 - طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل ربع المال ديناراً ودرهماً، ونجعل الدينار نصيباً، والدرهمَ تكملةً، وندفع الدرهمَ بالتكملة إلى صاحب التكملة، ونضم الدينار إلى الباقي من الأرباع، فيبقى من المال أربعة دنانير وثلاثة دراهم، فنخرجْ عُشْرَ هذا المقدار؟ فإن الوصية الثانية بعُشر الباقي بعد التكملة، وعشر الباقي أربعة أعشار دينار، وثلاثة أعشار درهم، فتبقى ثلاثة دنانير وستة أعشار دينار، وإن أحببت، قلت: وثلاثة أخماس دينار، ويبقى درهمان وسبعة أعشار درهم، ونختار عبارة الأعشار في هذه المسألة؛ فإنه إن انتظم رد ستة أعشار إلى ثلاثة أخماس، فلو بسطنا ذلك في سبعة أعشار الدرهم، لقلنا: ثلاثة أخماس ونصف خمس، أو وعُشْر، وهذا كسر كسر، فالوجه التعبير بالأعشار. وهذا الباقي يعدل سبعة دنانير لسبعة بنين، فنلقي الجنس بالجنس، مقدار المقدار، فتبقى ثلاثة دنانير وأربعة أعشار دينار من أنصباء البنين، وذلك يعدل درهمين وسبعة أعشار درهم، فنبسطهما أعشاراً، ونقلب الاسم فيصير الدينار سبعة وعشرين، وذلك مثل النصيب ويصير الدرهم أربعة وثلاثين وهي التكملة، ومجموعهما ربعُ المال، وهو أحدٌ وستون، فالمال كله مائتان وأربعة وأربعون. طريقة الخطأين: أن نجعل المال أحد عشر إن شئنا، ونجعل التكملةَ واحداً، وندفعها إلى الموصى له بها، تبقى عشرة، ندفع عُشرَها إلى الموصى [له] (2) الثاني تبقى تسعة، بين البنين، لكل واحد منهم واحد [وسبعان] (3)، فذلك هو النصيب، فنزيد عليه التكملة، وهو واحد، فيصير المجموع سهمين وسبعين، وذلك يجب أن يكون اثنين وثلاثة أرباع؛ فإن هذا رُبع المال الذي قدّرناه، وهو أحدَ عشر، فقد _______ (1) سقطت من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: وتسعان.

نقص ثلاثة عشر جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً من واحد، ولا يخفى ذلك إذا بسطت. فهذا هو الخطأ الأول، وهو ناقص؛ فإن ما قدّرناه أنقصُ مما يجب. فنعود ونجعل المال اثني عشر، والتكملةَ اثنين منها، ونلقيها من المال، فيبقى عَشَرة، نُلقي عُشْرَها، يبقى تسعة، بين البنين السبعة، واحد وسبعان [لكل واحد منهم] (1)، فنضم ذلك إلى التكملة، فيصير المجموع ثلاثة وسُبعين، وكان يجب أن يكون المجموع ثلاثة: مثل ربع المال، فزاد سبعان، وهو الخطأ الثاني، وهذا الخطأ زائد، فإن ما معنا أكثر مما يجب، فنجمع بين الخطأين؛ فإن أحدهما زائد والآخر ناقصٌ، وإذا جمعت، صار مبلغ الخطأين ثلاثة أرباع واحد؛ فإن الخطأ الأول الناقص كان ثلاثةَ عَشَرَ جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً، وربعُ هذا المبلغ سبعةٌ، وثلاثةُ أرباعه أحدٌ وعشرون. والخطأ الثاني الزائد سبعان، وإذا ضممت سُبعي ثمانية وعشرين، وهو ثمانية إلى الخطأ الأول وهو ثلاثة عشر، صار المجموع واحداً وعشرين، وهو ثلاثة أرباع ثمانية وعشرين، فانتظم من ذلك أنا إذا ضممنا الخطأ الثاني الزائد إلى الخطأ الأول الناقص، كان المجموع ثلاثة أرباع واحد. وهذا هو المقسوم عليه، فنحفظه. ثم نضرب المال الأول في الخطأ الثاني، والمال الثاني في الخطأ الأول، ونجمع بينهما، ولا نحط، لاختلاف الخطأين، فيصير المجموع ثمانية أسهم وخمسة أسباع سهم، فنبسطها أسباعاً، فيصير أحداً وستين، وليس لها ربعٌ صحيح، فنضربها في أربعة، فتكون مائتين وأربعة وأربعين، وهو المال، كما خرج بالعمل الأول. ولا يكاد يخفى استخراج النصيب مع البسط، وإذا بان ركنٌ من المسألة، انبنى عليه باقي الأركان. فصل في الوصية بالتكملة مع الوصية بجزءٍ مما بقي من جزءٍ من المال 6776 - المثال: ثلاثة بنين وقد أوصى بتكملة ثلث مال بنصيب أحدهم، وأوصى لآخر بثلث ما تبقَّى من الثلث.

_ (1) زيادة من المحقق.

طريقة الجبر: أن نأخذ ثلث مال، ونلقي منه نصيباً، يبقى ثلث مال إلا نصيباً، وهو التكملة، فنلقي التكملة، ونضمُّ النصيب إلى الباقي معنا، وإذا قدّرنا الثلثَ نصيباً وتكملةً، ثم أخرجنا التكملة، بقي من الثلث نصيبٌ، فندفع ثلث هذا النصيب إلى الموصى له بثلث ما تبقى من الثلث، فيقع لهذا الموصى له ثلث نصيب، فنضم الفاضل من الوصيتين، وهو ثلثا نصيب إلى ثلثي المال، فنجعل معنا ثلثا مال وثلثا نصيب، تعدل ثلاثة أنصباء لثلاثة بنين، فنلقي ثلثي نصيب بمثله من الأنصباء قصاصاً، تبقى ثلثا مال يعدل نصيبين وثلث نصيب، فإذا كان ثلثا مال يعدل نصيبين وثلث نصيب، فالمال كله يعدل ثلاثة أنصباء ونصف نصيب، فنضعف ذلك ليذهب الكسر، فالضرب في مخرج الاثنين، ونقلب العبارة فيصير المال سبعة أسهم، والنصيب سهمين، إلا أنه ليس له ثلث صحيح، فنضرب ذلك في ثلاثة، فيكون المال أحدٌ وعشرون، والنصيب ستة. الامتحان: أن نأخذ ثلث المال، وهو سبعة ونلقي منها نصيباً، وهو ستة، يبقى سهم واحد وهو التكملة، فندفعه إلى الموصى له بالتكملة، والباقي من الثلث نصيبٌ وهو ستة، ندفع ثلثها سهمين إلى الموصى له الثاني، يبقى أربعة، فنزيدها على ثلثي المال، وهو أربعة عشر، فيبلغ ثمانية عشر سهماً، بين ثلاثة بنين، لكل واحد منهم ستة، وهي النصيب الخارج بالحساب. 6777 - وفي هذه المسألة تأملٌ على الناظر، وذلك أن البنين ثلاثة، ولو لم تكن وصية وقسمنا المالَ بينهم، يخص كل واحد منهم ثلث المال، وإذا كان كذلك، فلا معنى للوصية بالتكملة من الثلث، ونصيب كل ابن مستغرِقٌ للثلث، والوصية بتكملة الثلث إنما تُعقَل وتصح، إذا كان بين النصيب وبين الثلث شيء، فإذا استغرق النصيب الثلثَ، فلا تكملة، وليس نسبُ الصحة [لهذه] (1) المسألة وخروجها بالحساب كما تقدم أنه أوصى بالتكملة، وأوصى بثلث ما تبقى من الثلث، فقدرنا الثلث نصيباً مبهماً وتكملةً، ثم صرفنا التكملة إلى صاحبها [وقسطاً] (2) من النصيب إلى الوصية الثانية،

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: وقسطنا.

فنقص بذلك أنصباء البنين، كما أخرجه الحُسَّاب، فصار كل نصيب غيرَ مستغرِقٍ للثلث، فانتظم منه الوصيةُ بالتكملة. هذا وجه تعديل المسألة على طريقة الحساب. وفي النفس بعدُ شيءٌ من طريق الفقه، سأنبِّه عليه بعد ذكر شيءٍ. فأقول: كان له ثلاثةُ بنين وأوصى لإنسان بتكملة ثلث ماله بنصيب، فهذه الوصية باطلة؛ فإنّ نصيب كلَِّ ابنٍ في هذه الصورة مستغرِقٌ للثلث، فلا معنى للوصية بتكملة الثلث. فطريق الجَبر إذا استعملناها على مراسمها، أعربت عن استحالة المسألة. فنستعملها، ونقول: ثلث المال نصرفه إلى الموصى له بالتكملة، ونستردّ منه نصيباً، فيبقى معنا نصيبٌ وثلثا مال (1)، في مقابلة ثلاثة أنصباء لثلاثة بنين، فنقابل نصيباً بنصيب، فيبقى [ثلثا] (2) المال، وهو سهمان، فنصرفهما إلى ابنين، وقد بان أن النصيب واحدٌ، وثلث المال واحد. فإذا سلمنا ثلث المال وهو واحد إلى الموصى له بالتكملة واسترددنا منه نصيباً وهو واحد، لم يبق بيده شيء، وبان أن الوصية لم تصادف محلاً. فإذا وضح ذلك أولاً ببديهة [العقل] (3) فقهاً، وبان بطريق الحساب أيضاً، فنعود إلى المسألة الأولى، ونقول: فيها وصيةُ تكملة، ووصيةٌ بثلث ما تبقى من الثلث بعد التكملة، فالظاهر أن نقول: الوصية بالتكملة باطلة لما بيناه، وإذا بطلت الوصية بالتكملة، بطلت الوصية بما تبقى بعدها؛ فإن الوصية بما تبقى تُفرَّع على صحة الوصية الأولى وتقديرها، هذا وجهٌ ظاهر في إبطال الوصيتين. ووجه ما ذكره الحُسَّاب أن هذه الوصية إن كان في صيغتها وصية بتكملة، فمعناها: أوصيت لك بمقدارٍ إذا اعتبر معه تنقيص النصيب بالوصية الثانية، لكانت تكملةً منتظمة. ويجب أن نطرد في هذه المسألة مسلكين ووجهين، ثم نُخرّجهما في أمثال هذه المسألة، ونخرّجهما على أن العبارة إذا فسدت، فأمكن تصحيح المعنى

_ (1) عبارة الأصل: " فيبقى معنا نصيب، وثلثا مال، (نصرفه إلى الموصى له بالتكملة)، في مقابلة ثلاثة أنصباء ... " فالعبارة بين القوسين مقحمة. كما ترى. (2) في الأصل: ثلث. (3) في الأصل: العقد.

على تقديرٍ، فالاعتبار بالمعنى ليصح، أو باللفظ ليفسد. وهذا أصل مهدناه في مسالك الفقه، وأوضحنا الخلافَ فيه. ومن صوره أن يقول الإنسان لمن يخاطبه: بعت منك عبدي هذا بلا ثمن. فإذا قال المخاطَب: قبلتُ، فهل نجعل هذا هبةً صحيحة أم نقول: لا تصح الهبة، والجاري بيعٌ فاسد؟ في المسألة وجهان ذكرناهما. فهذه المسألة الحسابية تُخرّج على هذا الأصل لا محالة. فإذا وضح ما ذكرناه، فإنا نعود إلى مراسم الكتاب، وقد نجز فقه الجبر. 6778 - وحساب المسألة بطريق الدينار والدرهم أن نجعل ثلث المال ديناراً ودرهماً، ونجعل الدرهم التكملة [ونصرفه] (1) إلى الموصى له بالتكملة، فيبقى من الثلث دينار، فنقدره نصيباً، وندفع ثلثه إلى الموصى له بثلث ما بقي من الثلث، فتبقى ثلثا دينار، فنزيده على ثلثي المال، وذلك ديناران ودرهمان، فيبلغ المجموع دينارين وثلثي دينار، ودرهمين، وذلك يعدل ثلاثة دنانير أنصباء البنين، فنلقي دينارين وثلثي دينار قصاصاً بمثلها، فيبقى ثلث دينار، يعدل درهمين، فالدينار الواحد يعدل ستة دراهم، وكنا جعلنا ثلث المال ديناراً ودرهماً، وقيمة الدينار وهو النصيب في الحقيقة ستة، فثلث المال إذاً سبعة دراهم، والتكملة منها درهم، والنصيب ستة، كما خرج بالحساب الأول. 6779 - صورةٌ أخرى نذكرها لتمهيد الفصل: إذا خلف الرجل أربعة بنين، وأوصى بتكملة ربع ماله بنصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما تبقَّى من الثلث. فخذ ربع المال وادفعه إلى الموصى له بالتكملة، واسترجع منه نصيباً، فيبقى من الربع نصيب، فأسقط التكملة وهي ربع مال إلا نصيباً من ثلث المال، يبقى نصف سدس مال ونصيب، فادفع ثلثه إلى الموصى له الآخر، يبقى نصف تسع مال [وثلثا] (2) نصيب، فزد ذلك على ثلثي المال، فيبلغ المجموع ثلاثة عشر جزءاً من

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: وثلث.

ثمانية عشر جزءاً من المال، ولا يخفى اعتبار هذا المبلغ ونسبته، وقد كررنا هذا مراراً، وقد بقي إذاً ثلاثة عشر من ثمانية عشر جزءاً من المال وثلثا نصيب، وذلك يعدل أربعة أنصباء. فثلثا نصيب قصاصاً بمثله، تبقى ثلاثة أنصباء وثلث نصيب، تعدل ثلاثة عشر جزءاً من ثمانية عشر جزءاً من المال، فاضرب الجميع في مخرج المال، وهو ثمانية عشر، واقلب العبارة، فيكون المال ستين والنصيب ثلاثة عشر. الامتحان: نأخذ ربعَ المال وهو خمسةَ عشرَ، ونلقي منها النصيب، وهو ثلاثة عشر، فيبقى سهمان هما للموصى له بالتكملة، فنلقيهما من ثلث المال، وهو عشرون تبقى ثمانية عشر، ندفع ثلثها إلى الموصى له الآخر، ونزيد الباقي وهو اثنا عشر على ثلثي المال فيبلغ اثنين وخمسين سهماً، بين أربعة بنين، لكل واحد منهم ثلاثة عشر سهماً. وهذه الصورة خارجة على الحساب، وفيها التردّد الفقهي الذي ذكرناه؛ فإن ذكر التكملة بالربع فاسدٌ في صيغته، والوصية الثانية فرعٌ على الأولى. وقد نجز الغرض. فصل في الوصية بالتكملة مع الوصية بالنصيب 6780 - خمسة بنين، وقد أوصى بتكملة ثلث ماله بنصيب أحدهم ولآخر بنصيب أحدهم. فوجهه من طريق الجبر أن نأخذ ثلث مال فنسقط منه نصيباً للموصى له بالنصيب. وندفع الباقي من الثلث إلى الموصى له بالتكملة، فيبقى مع الورثة ثلثا المال، وقد خرجت الوصيتان واستغرقتا الثلث، فبقي ثلثا مال يعدل خمسة أنصباء فنبسط الجميع أثلاثاً، ونقلب العبارة، فيصير المال خمسةَ عشرَ، والنصيب سهمين. وامتحانه أن نأخذ ثلث المال وهو خمسة، وندفع منها إلى الموصى له بالنصيب سهمين يبقى ثلاثة، وهي التكملة، فنسلمها إلى الموصى له بها، فيبقى ثلثا المال عشرة، فنقسمها بين خمسة بنين، لكل ابنٍ سهمان.

6781 - طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل ثلث المال ديناراً ودرهماً، وندفع الدينار بالنصيب، والدرهم بالتكملة، فيبقى ثلثا المال ديناران ودرهمان في مقابلة خمسة أنصباء للبنين الخمسة، فنُسقط الدينارين بالدينارين، ونقسم الدرهمين على ثلاثة بنين، فيخص كلَّ واحد ثلثا درهم، فنتبيّن أن الدينار ثلثا درهم، فنعود ونقول: ثلث المال ثلثا درهم ودرهم، والثلثان ثلاثة دراهم وثلث، فالمجموع خمسة دراهم، نضربها في مخرج الثلث فيبلغ خمسة عشرَ، الثلث منها خمسة، وحصة الدينار درهمان منها، والباقي تكملة إلى تمام الثلث، فتبقى عشرة بين خمسة بنين. ولا حاجة إلى استعمال الطرق المختلفة في هذا الفصل مع وضوح المقصود. فصل في الوصية بالتكملة إلا جزءاً مما بقي من المال 6782 - المثال: رجل له سبعة بنين وأوصى بتكملة ربع ماله بنصيب أحدهم إلا عشرَ الباقي من المال. فطريق الجبر أن نأخذ ربعَ المال ونسلِّمه إلى الموصى له بالتكملة ونسترجع منه نصيباً يبقى ربعُ مال إلا نصيب وهو التكملة، فندفعها إلى الموصى له بالتكملة، ونزيد النصيب الذي استرجعناه على ثلاثة أرباع المال فمعنا ثلاثة أرباع مال ونصيب، فنسترجع من التكملة عشرَ مثل ذلك ونزيده، على هذا الباقي. وهذا ينتظم من أربعين، لمكان الربع والعشر، وثلاثة الأرباع مع النصيب المسترجع من صاحب التكملة ثلاثون ونصيب، وعُشر ذلك ثلاثة وعُشر نصيب، فنسترد من صاحب التكملة ثلاثة وعُشر نصيب. فتبقى ثلاثة وثلاثون جزءاً من أربعين جزءاً ونصيب وعشر نصيب، تعدل سبعة أنصباء فنُسقط النصيب والعشر بمثله قصاصاً، فتبقى ثلاثة وثلاثون جزءاً في مقابلة خمسة أنصباء وتسعة أعشار نصيب، فنضرب الجميع في مخرج أجزاء المال، وهو أربعون فيصير المال مائتين وستة وثلاثين والنصيب ثلاثة وثلاثين.

الامتحان: نأخذ ربع المال وهو تسعة وخمسون، فنسقط منها نصيباً وهو ثلاثة وثلاثون، تبقى ستة وعشرون، وهي التكملة، نسقطها من المال تقديراً، تبقى مائتان وعشرة، فنسقط عشرها، وهو أحدٌ وعشرون من التكملة، تبقى منها خمسة، فهي الوصية، ندفعها إلى الموصى له، تبقى من المال مائتان وأحدٌ وثلاثون بين سبعة بنين، لكل واحد منهم ثلاثة وثلاثون. 6783 - وحساب المسألة بطريق الدينار والدرهم: أن نجعل ربع المال ديناراً ودرهماً، فنجعل الدينار نصيباً، والتكملة درهماً فتدفع الدرهم بالتكملة، يبقى من المال أربعة دنانير وثلاثة دراهم، نسترجع عشرَها من التكملة، ونزيد المسترجع على الباقي من المال، فيبلغ أربعة دنانير وأربعة أعشار دينار، وثلاثة دراهم وثلاثة أعشار درهم. هذا المبلغ يعدل سبعة دنانير أنصباء البنين، فنسقط الجنس بالجنس، فتبقى ديناران وستة أعشار دينار، تعدل ثلاثة دراهم وثلاثة أعشار درهم، فنبسطها أعشاراً فيصير الديناران وستة الأعشار ستة وعشرين، والدراهم ثلاثة وثلاثين، فنقلب الاسم فيهما، فيكون الدينار ثلاثة وثلاثين وهي النصيب، والدرهم ستة وعشرين وهي التكملة. وهاهنا تأمل على الناظر في الدينار والدرهم، فإنا جعلنا دينارين وستة أعشار ستة وعشرين، [وثلاثة دراهم] (1) وثلاثة أعشار ثلاثة وثلاثين، ثم قلبنا العبارة، ولم ننظر إلى قيمة درهم واحد، ولا إلى قيمة دينارٍ واحد، بل جعلنا ما خرج من العدد في مقابلة بسط الدرهم قيمة دينار واحد، وجعلنا ما خرج من بسط دينارين وستة أعشار دينار قيمة درهم واحد. وهكذا يقع الكلام في طريق الدينار والدرهم، إذا انتهى إلى مثل هذا المنتهى، وإنما نُجري هذا عند انقلاب العبارة، فيرجع الكلام إلى تقويم الجنسين، فما يقع عند قلب العبارة قيمة الدينار نجعله قيمة دينارٍ، وما يقع قيمة الدراهم نجعله قيمة درهمٍ، فطريق الدينار والدرهم قد تجري من غير احتياج إلى قلب العبارة، فحيث يقع كذلك، فنعتبر قيمة كلِّ دينارٍ على حياله، وإذا احتاجت طريقة الدينار والدرهم إلى العبارة، فقد وقعت في الجبر، وصارت عبارة الدينار والدرهم

_ (1) عبارة الأصل: " ودرهم وثلاثة أعشار ".

مستعارة من حكم الجبر إذا قلبنا الاسم أن نجعل النصيب أجزاء والعددَ مالاً، والمالَ نصيباً. وإذا وضح هذا، عدنا إلى مراسم الطريقة، قلنا: بأن الدينار ثلاثة وثلاثون، وهي النصيب والدرهم ستة وعشرون وهي التكملة وهما ربع المال، ومجموعهما تسعة وخمسون كما خرج بالعمل الأول. 6784 - طريقة القياس: إن الموصى له بالتكملة إذا أخذ وصيته ينبغي أن يبقى من المال عدد له عشر، وأقله عشرة، ثم نسترجع عشرَها من التكملة ونزيده على العشرة الباقية، فيبلغ أحدَ عشرَ، فنقسمها بين سبعة بنين، لكل واحدٍ منهم سهم وأربعة أسباع سهم، هذا هو النصيب، ونضيف التكملة فيصير المجموع سهمان ونصف وربعُ تكملة؛ فإنا نقدر المال تكملة وعَشَرة، هكذا وضعنا المسألة، إذا (1) قلنا: وصية هي التكملة وبعدها عشرة، فربع المال إذاً سهمان ونصف وربع التكملة، فنقابل ذلك بالتكملة، فبلغ تكملة بربع تكملة، ونقول عند ذلك: كنا ذكرنا أن الربع نصيب وتكملة، ثم بان أن النصيب سهم وأربعة أسباع سهم، فالآن سهمان ونصف وربع تكملة في مقابلة تكملة وسهم وأربعة أسباع سهم، فنلقي ربعَ تكملة بربع تكملة، ونلقي سهماً وأربعة أسباع بمثلها، فيبقى ثلاثة أرباع تكملة تعدل ثلاثة عشر جزءاً من أربعة عشر جزءاً من سهم واحد. وقد ذكرنا تخريج أمثال هذا فيما تقدم، فحصل مخرج كل واحد منهما عدداً له ربع وسبع، وذلك ثمانية وعشرون جزءاً فيكون ثلاثة أرباع التكملة [أحداً وعشرين] (2) جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً من واحد، وذلك يعدل ستة وعشرين جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً من سهم، فنجعل الستة والعشرين قيمة التكملة، كما خرج بالعمل الأول.

_ (1) إذا: يجوز استعمالها مكان إذ. (2) في الأصل: " أحد عشر " وهو خطأ حسابي واضح.

فصل في الوصية بالتكملة إلا جزءاً مما يبقى من جزء من المال 6785 - المثال: ترك رجل عشرة بنين وأوصى بتكملة ربع ماله بنصيب أحدهم إلا ثلث ما تبقى من الثلث. فطريقة [الجبر] (1) أن نأخذ ربع مال، ونلقي منه نصيباً، يبقى ربعُ مال إلا نصيباً، وهي التكملة، فنلقيها من الثلث، والثلث إذا ألقي منه الربع، يبقى منه نصفُ سدس، ولكنا لم نُلق من الثلث ربعاً مطلقاً، بل ألقينا منه ربعاً إلا [نصيباً] (2) فيبقى [نصفُ] (3) سدس ونصيب من الثلث، فنلقى [ثلث] (4) ذلك من التكملة، ولا بد من بسط العدد إلى ستة وثلاثين حتى نجد فيه ثُلثَ نصف سدس، فنلقي من التكملة جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من مال وثلث نصيب، وإنما كان كذلك لأن ثلث هذا المبلغ اثنا عشر، وربع المبلغ تسعة، وإذا حططنا التسعة بقي ثلاثة، فنستثني مثل ثلث هذا الباقي من التكملة، فتبقى التكملة ثمانية أجزاء من ستة وثلاثين جزءاً من المال إلا نصيباً وثلثَ نصيب، هذا هو الوصية، فنلقيها من المال، يبقى (5) ثمانيةٌ وعشرون جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من المال، ونصيب وثلث نصيب، وذلك يعدل عشرة أنصباء، نُسقط النصيب والثلث بمثله فتبقى ثمانية أنصباء وثلثا نصيب، ونبسط الجميع بأجزاء ستة وثلاثين، ونقلب الاسم فيهما، فنجعل المال ثلاثمائة واثني عشر، والنصيب ثمانية وعشرين. والامتحان نأخذ ربع المال، وهو ثمانية وسبعون، فنلقي منها النصيب وهو

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: نصف. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: مثل. وهو تصحيف مضلل أرهقنا ساعات، والله المعين. (5) في الأصل: يبقى المال ثمانية وعشرون جزءاً.

ثمانية وعشرون، فيبقى خمسون، فنلقيها من ثلث المال والثلث مائة وأربعة، تبقى أربعةٌ وخمسون وثلثها ثمانيةَ عشر، فنسترجع ثمانية عشر من التكملة يبقى منها اثنان وثلاثون سهماً هي الوصية، فنسقطها من المال، يبقى مائتان وثمانون بين عشرة بنين لكل واحد منهم ثمانية وعشرون. 6786 - طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل ربع المال ديناراً ودرهماً، النصيب دينار والتكملة درهم، فالمال أربعة دنانير وأربعة دراهم، فنأخذ ثلثَ (1) المال، وهو دينار وثلث دينار ودرهمٌ وثلثُ درهم، فنلقي منه التكملة يبقى دينار وثلث دينار، وثلث درهم، فنزيد عليه مثل الاستثناء (2) من التكملة، وذلك [تُسعُ درهم] (3)، وأربعة أتساع دينار، [ونزيد ذلك على ثلثي المال] (4) فيحصل معنا [أربعة دنانير] (5) وأربعة أتساع دينار وثلاثة دراهم وتُسع درهم، وذلك يعدل عشرة دنانير أنصباء البنين، فنلقي الجنس بالجنس، تبقى خمسة دنانير وخمسة أتساع دينار، تعدل ثلاثة فى دراهم وتُسع درهم، فنبسط الجميع أتساعاً، فيكون الدينار خمسين، والدرهم ثمانية وعشرين، فنقلب الاسم فيهما، فيكون الدينار ثمانيةً وعشرين، وهو النصيب، والدرهم خمسين وهو التكملة، كما خرج بالعمل الأول.

_ (1) في الأصل: فنأخذ ربعَ ثلث (بإقحام كلمة: ربع). (2) في الأصل: مثل ثلث الاستثناء (بإقحام كلمة: ثلث). (3) في الأصل: تسعة دراهم. (4) ساقط من الأصل. (5) في الأصل: فيحصل معنا دينار وأربعة أتساع. وعبارة الأصل كانت هكذا: "فنزيد عليه مثل ثلث الاستثناء من التكملة، وذلك تسعة دراهم وأربعة أتساع دينار، فيحصل معنا دينار وأربعة أتساع دينار، وثلاثة دراهم وثلث درهم، وذلك يعدل ... إلخ" وفيها خرم، وإقحام، وخطأ. أجهدنا وأضنانا كشف ذلك، ولولا عون الله سبحانه ما أصبنا من ذلك شيئاً.

فصل في الوصية بالتكملة وبالنصيب وبجزءٍ مما بقي من المال 6787 - المثال: ترك رجل عشرة بنين، فأوصى لرجل بتكملة الثمن بنصيب أحدهم، وأوصى لآخر بمثل نصيب أحدهم، وأوصى لثالث بثلث ما تبقى من المال بعد ذلك. فطريقة الجبر: أن نأخذ ثُمن مال، ونلقي منه نصيباً، يبقى ثمن مال إلا نصيب، وذلك هو التكملة. فندفع النصيب من الثمن، فإنا علمنا أن الثمن يجمع النصيبَ والتكملة، وقد أوصى بالنصيب والتكملة، فنصرف الثمن كله إلى الوصيتين، تبقى سبعة أثمان المال، فندفع ثلثَه إلى الموصى له الثالث، فيبقى [أربعةَ] (1) عشرَ جزءاً من أربعة وعشرين جزءاً من المال، واعتبرنا هذا المبلغ لاحتياجنا إلى الثمن، وإذا حُطّ ثمن الأربعة والعشرين وهو ثلاثة، وألقي من بعد ذلك ثُلثُ ما بقي، وهو أحدٌ وعشرون، فيبقى أربعةَ عشرَ، [تعدل أنصباء عشرة بنين] (2)، ثم نقلب العبارة، في الجانبين، فيصير المال مائتين وأربعين، والنصيب أربعة عشر. الامتحان: نأخذ ثُمنَ المال، وهو ثلاثون، فندفع إلى الموصى له بالنصيب أربعة عشر سهماً، يبقى ستة عشر ندفعها بالتكملة إلى صاحب التكملة، فيذهب الثمن بها بين الوصيتين، يبقى من المال مائتان وعشرة، ندفع ثلثَها، وهو سبعون إلى الموصى له الثالث، يبقى من المال مائة وأربعون سهماً، بين البنين، لكل واحد منهم أربعة عشر سهماً. ويتطرق إلى المسألة اختصارٌ من قبل أن الأنصباء مع الوصايا متفقة بالأنصاف، فيرد كل واحدة منهما إلى نصفها، فنرد المال إلى نصفه، فيكون المال مائة

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ما بين المعقفين زيادة من المحقق.

وعشرون، والنصيب سبعة، والتكملة ثمانية، ووصية صاحب الثلث من الباقي خمسة وثلاثون. فالوصايا بجملتها زائدة على الثلث، فإن أجازها الورثة، فالجواب ما ذكرناه، وإن لم يجيزوا الزائد على الثلث، جمعنا سهام الوصايا في طريق الاختصار عند تقدير الإجازة، وإذا هي خمسون سهماً، فنقسم الثلث بين أهل الوصايا على خمسين سهماً، لصاحب التكملة منها ثمانية ولصاحب النصيب منها سبعة ولصاحب ثلث الباقي منها خمسة وثلاثون، ويبقى ثلثا المال وهو مائة بين البنين على عشرة أسهم، فنزيد نصيب كل ابن لا محالة على ما أخرجناه إلى النصيب الموصى به. وسبب ذلك ما دخل في الوصايا من النقصان بسبب الرد. ومهما اتفقت مسألةٌ مثل ذلك، فالوجه تخريجها على تقدير الإجازة، ثم إذا فرض ردٌّ، قسم الثلث بين الوصايا على نسبة الإجازة، ونجعل سهام الإجازة ثلثاً، وضعفها الثلثين، فإن انقسم الثلثان على الورثة من غير كسر، فذاك، وإن اتفق كسرٌ أزلناه بضرب الجميع في مخرج ذلك الكسر. 6788 - وحساب المسألة بطريق الخطأين: أن نجعل المال إن أردنا ستة عشر، ونأخذ ثُمنها سهمين، ونقدر النصيب واحداً، والتكملة واحداً، والباقي بعد النصيب والتكملة أربعة عشر، ندفع ثلثها إلى الموصى له الثالث، فيبقى تسعة وثلث، وكان من الواجب أن يكون الباقي عشرة ليأخذ كل ابن واحد مثل النصيب الذي قدرناه، فنقص ثُلثا سهم وهو الخطأ الأول وهو ناقص. ثم نجعل المال أربعة وعشرين، ونأخذ ثمنها ثلاثة ونقدر النصيب اثنين، والتكملة واحداً، والباقي من المال أحدٌ وعشرون، ندفع ثلثها إلى الموصى له الثالث، يبقى أربعة عشر، وكان الواجب أن تبقى عشرون ليأخذ كلُّ ابن سهمين، مثلَ النصيب المفروض، فنقص ستة وهو الخطأ الثاني، وهو ناقص أيضاً، فنلقي من هذا الخطأ الأول [فيبقى خمسة وثلث، وهو المقسوم عليه، ونضرب المال الأول] (1) في الخطأ

_ (1) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.

الثاني، والمال الثاني في الخطأ الأول، ونُلقي الأقلَّ من الأكثر، يبقى ثمانون نقسمها على خمسة وثلث، فيخرج خمسةَ عشرَ، فقل هو المال، ثم نضرب النصيب الأول في الخطأ الثاني والنصيب الثاني في الخطأ الأول، وتلقي الأقل من الأكثر، ونقسم الباقي على خمسة وثلث، فيخرج نصيب الواحد سبعة أثمان، فهي النصيب، ثم نبسط الجميع أثماناً، فيكون المال مائة وعشرين، والنصيب سبعة، كما خرج بالعمل الأول. 6789 - وطريق الدينار والدرهم: أن نجعل ثمن المال ديناراً ودرهماً، ونقول: النصيب دينار، والتكملة درهم، ونخرجهما بالوصيتين، فيبقى من المال سبعة دنانير وسبعة دراهم، فندفع ثلثها إلى الموصى له الثالث، يبقى أربعة دنانير وثلثا دينار، وأربعة دراهم، وثلثا درهم، تعدل عشرة دنانير، فنطرح الجنس بالجنس، فيبقى خمسة دنانير وثلث، تعدل أربعة دراهم وثلثي درهم، فنبسط الجميع أثلاثاً، ونقلب الاسم، كما تقدم ذلك في نظائر هذا، فيكون الدينار أربعة عشر، وهي النصيب، والدرهم ستة عشر، وهي التكملة، فقد كان المال ثمانية دنانير، وثمانية دراهم وهو إذن مائتان [وأربعون] (1) فاقتصر كما ذكرنا في طريق الجبر إذا تبينت التوافق بالأنصاف. 6790 - طريقة القياس: أن نقول: الباقي من المال بعد الوصايا كلِّها ينبغي أن يكون عدداً له عُشر؛ حتى ينقسم بين عشرة، وأقل ذلك عشرة؛ فنجعل الباقي من المال بعد الوصايا عَشرةَ أسهم، وقد علمنا أن الموصى له بثلث الباقي من المال بعد النصيب والتكملة يأخذ مثلَ نصف العشرة، فيجب أن يكون الباقي من المال بعد التكملة والنصيب خمس عشرَ سهماً، وعلمنا أيضاً أن نصيب كل ابن سهم واحد، على التقدير الذي ذكرناه. وقد أخذ الموصَى له بالنصيب سهماً، فنقول: يجب أن يكون المال مع النصيب الموصى به ستةَ عشرَ سهماً من غير أن نحسب التكملة، ثم نعود، فنقول: المال ستةَ عشرَ وتكملة؛ فإنا لم نحسب التكملة بالعدد في حساب، وثمن

_ (1) سقطت من الأصل.

ذلك سهمان وثمن تكملة. وهذا يعدل سهماً وتكملة؛ فإنا قدّرنا النصيب سهماً، فنلقي الجنس بالجنس، يبقى سهم يعدل سبعة أثمان التكملة، فنقلب الاسم فيهما بعد أن نبسطهما أثماناً، فتكون التكملة ثمانية، والنصيب سبعة، وقد كان المال ستةَ عشرَ سهماً وتكملة، وبان بالتكسير أن التكملة سهم وسُبع، فردّ على الستة عشرَ واحداً وسبعاً، فيصير المال سبعة عشر [وسبعاً] (1)، فابسطها أسباعاً، فيصير المال مائة وعشرين، كما خرج بالطرق الأولى. وبيان ما ذكرناه من التكسير أن أثمان التكملة إذا كانت تعدل سهماً، فالتكملة التامة تعدل سهماً وسبعاً لا محالة، ومضمون هذا الفصل سهل، ولكنا أردنا [أن] (2) نخرج الطرق لتدريب الناظر، فإن لم يتدرب في الجليات، لم ينتفع بالطرق في المشكلات. فصل في الوصية بالتكملة وبالنصيب وبجزءٍ مما بقي من جزءً من المال 6791 - المثال: رجل له عشرة بنين وأوصى بتكملة ثمن ماله بنصيب أحدهم، وأوصى لآخر بمثل نصيب أحدهم؛ وأوصى لثالث بثلث ما تبقى من الثلث. فحساب المسألة بالجبر أن نُلقي ثمنَ المال بالنصيب والتكملة، تبقى سبعة أثمان المال فنطلب أولاً عدداً له ثمن وثلث، فإذا ألقي ثمنه من ثلثه، كان للباقي من الثلث ثلث، وذلك اثنان وسبعون، فنأخذ ثلثها أربعةً وعشرين، ونلقي منها الثمنَ بالتكملة والنصيب وثمن الاثنين والسبعين تسعة، وإذا ألقيناها من أربعة وعشرين، بقي خمسة عشر، فنلقي ثلثها بالوصية الثالثة فيبقى عشرة، نزيدها على ثلثي المال، فيبلغ ثمانية وخمسين جزءاً من اثنين وسبعين جزءاً من المال، وذلك يعدل عشرة أنصباء، فنبسط الجميع، بأجزاء اثنين وسبعين، فنقلب الاسم، فيكون المال سبعمائة وعشرين، والنصيب ثمانية وخمسين.

_ (1) في الأصل: وتسعاً. (2) زيادة من المحقق.

الامتحان: أن نأخد ثلث المال، وهو مائتان وأربعون، فنلقي منها بالتكملة والنصيب تسعين: النصيب منها ثمانية وخمسون، والتكملة اثنان وثلاثون، يبقى من الثلث مائة وخمسون، نلقي ثلثها خمسين بالوصية، تبقى منها مائة، نزيدها على ثلثي المال، فيبلغ خَمْسَمائة وثمانين، بين عشرة بنين، لكل واحد منهم ثمانية وخمسون، مثل النصيب. وهذه الأنصباء مع أصل المال متفقة بالأنصاف، فنرد المسألة إلى نصفها في كل جهةٍ اختصاراً، فيكون المال ثَلاثُمائة وستين، والنصيب تسعة وعشرين، والتكملة ستةَ عشرَ، والوصية الثالثة خمسة وعشرون. 6792 - وحساب المسألة بطريق [الندب] (1)، وقد بعد العهد بها: أن نطلب عدداً له ثمن وثلث، فإذا ألقي ثمنه من ثُلثه، كان الباقي منه ثلثاً صحيحاً (2)، وذلك اثنان وسبعون كما ذكرنا، فنلقي الثمن من ثلثه بالنصيب وبالتكملة، ونلقي ثلثَ الباقي منه، فيبقى عشرة نزيدها على ثلثي المال، فيكون ثمانية وخمسين، فهي تعدل كل سهم من سهام الفريضة، فنحفظها، ثم نرجع إلى أصل سهام الفريضة، وهي [عشرة] (3)، فنضربها في الاثنين والسبعين الذي جعلناه مثالاً، فيبلغ سبعَمائة وعشرين، فهي المال، ثم نضرب النصيب وهو ثمانية وخمسون في نصيب أحد البنين من أصل الفريضة وهو واحد، فيكون ثمانية وخمسين، فهي النصيب. وطريق الاختصار تجيء في كل طريق أدَّت إلى البسط إذا أمكن الاختصار. 6793 - طريق الدينار والدرهم: أن نجعل المال ثمانية دنانير وثمانية دراهم، فنجعل النصيب ديناراً والتكملة درهماً، ثم نأخذ ثلث المال، وهو ديناران وثلثان ودرهمان وثلثان (4)، فنلقي منه الدينار والدرهم، يبقى دينار وثلثان، ودرهم وثلثان، فنلقي ثلث ذلك بالوصية الثالثة، وذلك خمسة أتساع دينار، وخمسة أتساع

_ (1) في الأصل: " الباب " وسبق أن سماها طريقة (الندب)، فأي اللفظين هو الصحيح وأيهما المحرف؟؟ لم أجد مصدراً في هذا الفن نرجع إليه. (2) في الأصل: ثلث صحيح. (3) في الأصل: عُشرها. (4) عبارة الأصل: وهو دينار وثلثان، فنلقي منه ... إلخ. والزيادة والتصويب من المحقق.

درهم، يبقى دينار وتسع ودرهم وتسع، نزيده على ثلثي المال وهو خمسة دنانير وثلث وخمسة دراهم وثلث، فيبلغ ستة دنانير وأربعة أتساع، وستة دراهم وأربعة أتساع، وذلك كله يعدل عشرة دنانير، فنلقي الجنس بالجنس يبقى ثلاثة دنانير وخمسةُ أتساع دينار تعدل ستةَ دراهم وأربعةَ أتساع درهم، فابسطها أتساعاً تكون الدنانير اثنين وثلاثين والدراهم ثمانية وخمسين، فاقلب الاسم فيهما، فيكون الدينار وهو النصيب ثمانية وخمسين، فالدرهم وهو التكملة اثنين وثلاثين، ومجموعهما ثمن المال، فهما إذاً [تسعون] (1)، والمال سَبعُمائة وعشرون. فصل في الوصية بالتكملة وبالنصيب إلا جزءاً مما بقي من المال 6794 - مضمون الفصل الجمع بين الوصية بالتكملة وبالنصيب مع استثناء جزءٍ من النصيب، والجزء مما تبقى من المال. المثال: عشرة بنين وقد أوصى بتكملة الثمن بنصيب أحدهم، ولآخر بمثل نصيب أحدهم إلا عشرَ ما بقي من المال. الحساب بالجبر: أن ندفع ثمن المال بالنصيب والتكملة، ونسترجع بالنصيب (2) مثل عشر الباقي، ونقدر المال ثمانين، حتى إذا أخرجنا الثمنَ، كان [للباقي عُشرٌ] (3) فنُخرج عُشرَه، ونسترجع الباقي. وهو سبعون وعُشرُها سبعة، فمجموع المال بعد إخراج النصيب والاسترجاع منه سبعة وسبعون جزءاً من ثمانين جزءاً من المال، وذلك يعدل عشرة أنصباء، فنبسطهما بأجزاء الثمانين، ونقلب الاسم فيهما، فيكون المال ثمانمائة، والنصيب سبعة وسبعين. الامتحان: نأخذ ثمن المال وهو مائة، ونلقي منها النصيب، يبقى ثلاثةٌ وعشرون، وهي التكملة، فندفع التكملة إلى صاحبها، وندفع النصيب إلى الموصى

_ (1) في الأصل: سبعون. (2) كذا. والمعنى: من النصيب. (3) في الأصل: كان الباقي عشرة.

له، ونسترجع عشر الباقي والباقي سَبعُ مائة، وعُشرها سبعون، يتبقى لصاحب النصيب سبعة أسهم هي وصيته، فالوصيتان إذاً ثلاثون سهماً، نُسقطها من المال وهو ثَمانمائة، يبقى سَبعُمائة وسبعون بين عشرة بنين، فلكل واحد منهم سبعة وسبعون. 6795 - طريقة الدينار والدرهم: نجعل ثمنَ المال ديناراً ودرهماً، للنصيب دينار، والتكملة درهم، ونسترجع من الدينار مثلَ عُشر الباقي، ونزيده على الباقي من المال، والمسترجع من الدينار المخرج بالنصيب سبعة أعشار دينار وسبعة أعشار درهم، وذلك يعدل عشرة دنانير، فنلقي الجنس بالجنس، يتبقى ديناران وثلاثة أعشار دينار، تعدل سبعة دراهم وسبعة أعشار درهم، فنبسطها أعشاراً، ثم نقلب الاسم فيهما، فيصير الدينار سبعة وسبعين، وهي النصيب، والدرهم [ثلاثة وعشرون] (1) وهي التكملة، وهما جميعاً ثمن المال، وذلك مائة، والمال ثَمانُمائة كما تقدم. 6796 - طريقة الباب: أن نطلب عدداً له ثمن، وللباقي منه بعد الثمن عُشر، وذلك ثمانون، فندفع ثمنَها للنصيب والتكملة، ونسترجع من النصيب عُشر الباقي، وهو سَبعة، [فنضمها إلى ما بقي بعد الثمن] (2)، فيبلغ سبعة وسبعين، فذاك يعدل كلَّ سهم من سهام الفريضة، ثم نقيم سهام الفريضة وهي عشرة، فنضربها فيما جعلناه مثالاً للمال، وهو ثمانون، فيبلغ ثَمانمائة، فهي المال، ثم نضرب نصيب كلِّ ابن من العشرة، وهو واحد فيما كان يعدل كل سهم من سهام الفريضة، فيردّ ضرب الواحد في [السبعة] (3) والسبعين سبعة وسبعين. 6797 - وحساب المسألة بطريق القياس: أن نقدِّر المالَ في وضع المسألة ثمانين على القياس المقدم في الطرق، فإنا نقول: إذا ذهب الثمن بالنصيب والتكملة، وجب أن يكون الباقي عدداً له سبع صحيح وعشر، فنجعله سبعين، وزد عليها عُشرَها فيصير سبعة وسبعين، وهي بين عشرة بنين لكل واحد منهم سهم وسبعة أعشار سهم، هذا

_ (1) في الأصل: ثلاثة عشر. (2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (3) في الأصل: الستة. وهو خطأ واضح.

هو النصيب، فنعود ونجعل النصيب سبعة أسهم وسبعة أعشار سهم، والباقي إلى تمام العشرة [سهمان] (1) وثلاثة أعشار سهم، هي التكملة فنبسطها أعشاراً فيكون النصيب سبعة وسبعين والتكملة ثلاثة [وعشرون] (2) كما تقدم. فصل في الوصية بالتكملة وبالنصيب إلا جزءاً مما تبقى من جزء من المال 6798 - المثال: عشرة بنين وقد أوصى بتكملة الثمن بنصيب أحدهم، وأوصى لآخر بمثل نصيب إلاثلث ما تبقى من الثلث. فحساب المسألة بطريق الجبر: أن نأخذ ثمن المال للتكملة [و] (3) النصيب، ثم نأخذ ثلث المال بعد ذلك ونلقي منه الثمن، ونسترجع من النصيب مثل ثلث الباقي من الثلث بعد إلقاء الثمن. [فنأخذ] (4) عدداً إذا ألقي منه الثمن، كان [للباقي] (5) منه ثلث، فعلى هذا التقدير المال اثنان وسبعون والثلث أربعة وعشرون، وإذا ألقينا منه ثمنَ المال وهو تسعة، بقي خمسةَ عشرَ، فزد عليها ثلثها لأجل الاستثناء، تبلغ عشرين، فنزيده على ثلثي المال، فيصير المجموع ثمانية وستين جزءاً من اثنين وسبعين جزءاً من المال يعدل عشرة أنصباء، فاضرب الجميع في اثنين وسبعين، فاقلب العبارة والاسم فيهما، فيصير المال سَبع مائة وعشرين، والنصيب ثمانية وستين. الامتحان: نأخذ ثمن المال وهو تسعون، ندفع منها نصيباً، وهو ثمانية وستون، الباقي اثنان وعشرون، وهي التكملة، ثم نلقي هذا الثمن من ثلث المال وثلث المال

_ (1) في الأصل: سهم. (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: أو. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: الباقي. وقد تكرر هذا في مسائل كثيرة، هو خللٌ يسير في الشكل ولكنه بعيد الأثر والخطر.

مائتان وأربعون، فإذا حططنا منها الثمن، وهو تسعون، تبقى مائة وخمسون، نسترجع منها ثلثها وهو خمسون، [ونطرحه] (1) من النصيب، يبقى لصاحب النصيب ثمانية عشر سهماً وهي وصيته، فالوصيتان جميعاً أربعون سهماً، نلقيها من المال يبقى ستمائة وثمانون بين عشرة بنين، لكل واحد منهم ثمانية وستون. وهذه الأنصباء مع الوصيتين متفقة بالأنصاف، فنرد كلَّ واحد منهما إلى نصفها اختصاراً، وتصح المسألة من ثَلاثمائة وستين. النصيب أربعة وثلاثون، والتكملة [أحدَ] (2) عشر، ووصية صاحب النصيب بعد الاسترجاع منه تسعة أسهم. 6799 - طريقة الباب: أن نطلب عدداً له ثمن وثلث، وإذا ألقي ثمنه من ثلثه، كان للباقي من الثلث ثلث، وذلك اثنان وسبعون، فنأخذ ثلثه: أربعة وعشرين، ونلقي منه ثمن المال، وهو تسعة تبقى خمسة عشر، فنزيد عليها مثل ثلثها؛ من جهة الاستثناء، فيبلغ عشرين، فنزيدها على ثلثي المال وهو ثمانية وأربعون، فيبلغ ثمانية وستين، وهي تعدل كل سهم من سهام الفريضة، ثم نقول: أصل فريضة البنين عشرة، فنضربه فيما جعلناه مثالاً للمال، وهو اثنان وسبعون، فيصير المال سَبع مائة وعشرين، ونضرب نصيب كل ابن فيما يعدل كلَّ سهم، وذلك ثمانية وستون، فيرد هذا المبلغ؛ فإن نصيب كل ابن واحدٌ، [وتلتقي] (3) الطرقُ بعد هذا في الامتحان، وطريق الاختصار. 6800 - وحساب المسألة بطريق القياس: أن نقول: ثمن المال نصيب وتكملة في وضع المسألة، والباقي سبعة أثمان المال يجب أن يزاد عليها لأجل الاستثناء ثلث ما بين الثلث والثمن، وذلك خمسة أجزاء من اثنين وسبعين جزءاً من المال، فيكون الباقي من المال بعد الوصيتين ثمانية وستين جزءاً من اثنين وسبعين، فنقسم الثمانية والستين على عشرة بنين، لكل واحد منهم ستة وثمانية أعشار، فهذا هو النصيب،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: أربعة. (3) في الأصل: ونلقي.

والباقي إلى تمام التسعة، وهي ثمن المال اثنان [وعُشْران] (1) وهي التكملة، فنبسطها أعشاراً فيكون النصيب ثمانية وستين والتكملة اثنين وعشرين، والمجموع تسعون، وهي ثمن المال، فالمال إذاً سَبعُمائة وعشرون. 6801 - ونقول في طريق الدينار والدرهم: ثمن المال دينار ودرهم: النصيب دينار، والتكملة درهم، ثم نأخذ ثلث المال، وهو ديناران وثلثا دينار ودرهمان وثلثا درهم، فنلقي منه النصيب والتكملة، يبقى دينار وثلثا دينار ودرهم وثلثا درهم، فنزيد عليه مثلَ ثلثه استثناء من النصيب، وذلك خمسة أتساع دينار وخمسة أتساع درهم، فيبلغ دينارين وتسعي دينار، ودرهمين وتسعي درهم، فنزيده على ثلثي المال، فيبلغ سبعة دنانير وخمسة أتساع دينار، وسبعة دراهم وخمسة أتساع درهم، وذلك يعدل عشرة دنانير، فنلقي الجنس بالجنس يبقى ديناران وأربعة أتساع دينار تعدل سبعة دراهم وخمسة أتساع درهم، فنبسطها أتساعاً ونقلب الاسم فيهما، فيكون الدينار ثمانية وستين، والدرهم اثنين وعشرين، وتلتقي الطرق بعد ذلك. فصل في الوصية بالنصيب إلا التكملة 6802 - المثال: رجل له خمسة بنين، فأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم إلا تكملة الثلث بنصيب أحدهم. فحساب المسألة بطريق الجبر: أن ندفع إلى الموصى له نصيباً، ونسترجع من النصيب تكملة [الثلث] (2)، والعبارة عن تكملة الثلث أن نقول: نُخرج نصيباً، ونسترجع ثلث مال إلا نصيباً. هذا هو العبارة عن التكملة، ثم العبارة في مراسم الجبر فيها أدنى تفرع من هذه المسألة، ولكنها جارية على قواعد الجبر، ثم هي خارجة على التحقيق، مُفضية إلى الصواب.

_ (1) في الأصل: وعِشرون. وهو خطأ كبير. (2) في الأصل: الثلثين.

فنقول إذاً: [نقدّر] (1) نصيباً ونستثني منه ثلثَ مال إلا نصيباً، فيحصل للوصية نصيبان إلا ثلث مال، وقد يقول المبتدىء: كان الوصيةُ نصيباً، فاستثنيا منه، والاستثناء إسقاط، فكيف صار بعد الإسقاط نصيب، فنقول: هذا أولاً خارجٌ على عبارات الجبر؛ فإنا استثنينا من النصيب ثلثاً إلا نصيباً، فالنصيب مستثنىً من الثلث، فإذا أضفنا ذلك إلى النصيب المخرج، كان النصيب المنفي عن الثلث مثبتاً في جانب الوصية، فالذي يقتضيه هذا اللفظ أن نثبت في جانب الوصية نصيباً، ثم نتلفظ به أولاً. هذا حكم اللفظ في مسالك الجبر، وإذا رُدَّ الأمرُ إلى التحقيق، يستبين عند نجاز الطريقة أن نصيباً واحداً الاستثناء منه أكثرُ (2) من نصيبين مع استثناء ثلث المال منهما. فنعود بعد هذا التنبيه، ونقول: نخرج نصيباً ونستثني منه ثلثاً إلا نصيباً، فيحصل معنا نصيبان إلا ثلث مال، وهو الوصية، ونسقطه من المال، [وإذا] (3) أسقطنا نصيبين إلا ثلث مال من مال، فيبقى معنا مال وثلث مال إلا نصيبين؛ فإن كل مذكور فيه استثناء إذا أضيف إلى غيره، يصير المنفي في المضاف إليه إثباتاً (4)، فإذاً معنا مال وثلث مال إلا نصيبين، وذلك يعدل خمسة أنصباء، فنجبر المال بالنصيبين، فيكون مال وثلث مال [يعدل سبعة] (5) أنصباء؛ فإن الأنصباء كانت خمسة، فلما جبرنا المال بنصيبين، زدنا على الأنصباء نصيبين، وابسط الجميع أثلاثاً، واقلب الاسم فيهما، فيكون المال أحداً وعشرين، والنصيب أربعة. الامتحان: أن نأخذ ثلث المال وهو سبعة، فندفع منها نصيباً، وهو أربعة أسهم

_ (1) في الأصل: تقرر. (2) كذا والعبارة فيها اضطراب، والمعنى -فيما نقدّر- أن استثناء التكملة من نصيب واحد يساوي استثناء الثلث من نصيبين، كما ظهر في نتيجة المسألة، فالنصيبان ثمانية، والثلث سبعة، فإذا استثنيناه من الثمانية بقي واحدٌ وهو الوصية، وهكذا الحال إذا استثنينا التكملة وهي (ثلاثة) من النصيب الواحد يبقى (واحدٌ) أيضاً. (3) في الأصل: وإلا. (4) كذا. ولعلها: مثبتاً. (5) في الأصل: معاً ولا تسعة.

إلى الموصى له بالنصيب، ونسترجع منه فَضْلَ ما بين الثلث والنصيب، وذلك ثلاثةُ أسهم، يبقى منه سهم واحد، وهو وصيته، نُسقطه من المال، يبقى عشرون بين البنين، على خمسة: لكل واحدٍ منهم أربعة، وهو النصيب الذي خرج. 6803 - حساب المسألة بطريق الدينار والدرهم: أن نجعل ثلثَ المال ديناراً ودرهماً، ونجعل النصيب ديناراً، فندفعه إلى الموصى له، ونسترجع منه درهماً؛ لأن التكملة درهم، يبقى من الثلث درهمان: درهم قدرناه مع الدينار، ودرهم استرجعناه من الدينار، فنزيدهما على ثلثي المال، فيبلغ دينارين وأربعة دراهم، وذلك يعدل أنصباء الورثة، وهي خمسة دنانير، فنلقي الجنس بالجنس، تبقى ثلاثة دنانير تعدل أربعة دراهم، فنقلب الاسم في الجنسين، فنجعل الدينار أربعة، وهي النصيب، والدرهم ثلاثة وهي التكملة، فالثلث سبعة، والمال أحدٌ وعشرون، كما خرج بطريق الجبر. فصل في الوصية بالتكملتين 6804 - رجل له خمسة بنين وبنت، فأوصى لرجل بتكملة ثلث مال بنصيب ابن، وأوصى لآخر بتكملة سدس مال بنصيب البنت. فنأخذ في مسلك الجبر مالاً، وننقص منه الوصيتين، وإحدى الوصيتين ثلث مال إلا [نصيبين] (1)، لأن لكل ابن في فريضة الميراث سهمان، وكل سهم نصيبٌ في العبارة؛ فإذاً هذه الوصية ثلث مال إلا نصيبين، والوصيةُ الثانية سدس مال إلا نصيب؛ لأن حصة البنت سهم واحد، وإذا استثنينا الوصيتين كذلك من المال، بقي معنا نصف مال، وثلاثة أنصباء؛ فإن [ما ننفيه] (2) في الاستثناء إثبات في المستثنى [منه] (3)، وما نثبته في

_ (1) في الأصل: وصيتين. (2) في الأصل " ما نبقيه ". (3) زيادة من المحقق.

الاستثناء نفيٌ عن المستثنى عنه، وقد أثبتنا ثلثاً وسدساً في الاستثناء، ومجموعهما نصف المال، فنفيناه في العبارة عن المستثنى عنه، وذكرنا في الاستثناء نَفْيَ ثلاثة أنصباء، فأثبتناها في المستثنى عنه، فبقي إذاً معنا نصف مال وثلاثة أنصباء تعدل أنصباء الورثة، وهي أحدَ عشر نصيباً، هذه فريضة الميراث، فنسقط الجنس بالجنس، يبقى نصف مال يعدل ثمانية أنصباء، فالمال كله يعدل ستة عشر سهماً، ولكن لا سدس [لها] (1) ولا ثلث ولها نصف، وإذا ضربنا ذلك في ثلاثة، فيكون لمبلغها ثلث وسدس، فيبلغ ثمانيةً وأربعين، فهي المال، فيصير كل نصيب ثلاثة بالضرب في مخرج الثلث. الامتحان: نأخذ ثلث المال، وهو ستة عشر، ونسقط منه نصيبين يبقى عشرة، فهي وصية الأول؛ فإن العشرة تكملة الثلث، ثم نأخذ سدس المال ثمانية، ونلقي منها نصيبَ البنت، وهو ثلاثة، يبقى خمسة، وهي وصية الثاني، فإنها تكملة السدس، والوصيتين جميعاً خمسةَ عشرَ، فأسقطهما من المال، تبقى ثلاثة وثلاثون سهماً، بين خمسة بنين وبنت، للذكر مثل حظ الأنثيين: لكل ابن ستة وللبنت ثلاثة. ولو كانت المسألة بحالها، فأوصى معهما لآخر بثمن ما تبقى من ثلثه، فخذ ثلث المال، وانقص منه تكملة الثلث، وهي ثلث مال إلا نصيب ابن، وهو في الحقيقة نصيبان، كما ذكرنا، وانقص منه أيضاً تكملة السدس، وهي سدس مال إلا نصيب البنت، وهو سهم واحد، تبقى ثلاثة أنصباء إلا سدس مال، هذا هو الباقي من الثلث، فادفع ثمنه إلى الموصى له الثالث، وذلك ثلاثة أثمان نصيب إلا ثمن سدس مال، يبقى نصيبان وخمسة أثمان نصيب إلا سبعة [أثمان] (2) سدس مال، فنزيده على ثلثي المال، فيكون خمسة وعشرين (3) جزءاً من ثمانية وأربعين جزءاً من مال ونصيبين

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) ساقطة من الأصل. (3) جاءت الـ (خمسة وعشرين) من جَبْر المسألة، حيث كانت هكذا: 5/ 8 2 نصيب - 7/ 8 سدس مال. ومعلوم أن سبعة أثمان السدس تساوي 7/ 48، ومعلومٌ كذلك أن 2/ 3 المال يساوي 32/ 48، فتصبح المسألة هكذا 5/ 8 2 نصيب - 7/ 48 + 32/ 48 فبعد إسقاط الناقص من الزائد تصير: 5/ 8 2 نصيب + 25/ 48 = 11 نصيباً.

وخمسة أثمان نصيب، تعدل أحدَ عشرَ نصيباً، فنسقط الجنس بالجنس، ونضرب الجميع في مخرج أجزاء المال، وهي ثمانية وأربعون، ونقلب الاسم فيهما، يصير المال أربع مائة واثنين، والنصيب خمسة وعشرين، ولم نبسط القول في البيان؛ فإن من انتهى إلى هذا الموضع وتكررت عليه المسائل، لم يخف عليه هذا. والامتحان: نأخذ ثلث المال وهو مائة وأربعة وثلاثون، ونلقي منها نصيب الابن وهو خمسون، وله سهمان كل سهم خمسة وعشرون، فتبقى أربعة وثمانون: هي وصية صاحب تكملة الثلث. ثم نأخذ سدس المال، وهو سبعة وستون، ونلقي منها نصيبَ البنت، وهو خمسة وعشرون، يبقى اثنان وأربعون هي وصية صاحب تكملة السدس، فالوصيتان جميعاً تبلغ مائة وستة وعشرين، أسقطها من ثلث المال، وهي مائة وأربعة وثلاثون تبقى من الثلث ثمانية أسهم، فندفع ثمنها وهو سهم واحد إلى الموصى له الثالث، تبقى سبعة أسهم، فنزيدها على ثلثي المال، وهو مائتان وثمانية وستون، فيصير مائتين وخمسة وسبعين، بين خمسة بنين وبنت، لكل ابن خمسون، وللبنت خمسة وعشرون. فصل في الوصية بالتكملة واستثناء تكملة أخرى منها. 6805 - المثال: أربعة بنين وقد أوصى بتكملة ثلث مال بنصيب أحدهم إلا تكملة ربع ماله بالنصيب. فنأخذ ثلث مال وننقص منه نصيباً، يبقى ثلث مال إلا نصيباً، وهذا تكملة الثلث، فاحفظها ثم خذ ربعَ مال، وانقص منه نصيباً، يبقى ربعُ مال إلا نصيباً، هذه تكملة الربع، فانقصها من تكملة الثلث، وهو ثلث مال إلا نصيب، فيبقى نصف سدس مال، ونسقط الاستثناء جرياً على ما مهدناه، من أن النفي إذا أضيف إلى المستثنى عنه صار إثباتاً، فيثبت نصيب بسبب إضافة ربع مال إلا نصيب إلى ثلث مال إلا نصيب، فنجبر ما في ثلث المال من استثناء النصيب بما اقتضته الإضافة من إثبات

النصيب، فيبقى نصف سدس مال، فنسقطه من المال، فيبقى أحد عشر جزءاً من اثني عشر جزءاً من مال يعدل أربعة أنصباء، فاضرب الجميع في مخرج أجزاء المال، وهي اثني عشر واقلب الاسم فيهما، فيصير المال ثمانية وأربعين، والنصيب أحد عشر. وامتحانه: أن نأخذ ثلث المال وهو ستةَ عشرَ، ونلقي منها النصيبَ، وهو أحد عشر يبقى خمسة، فاحفظها، ثم نأخذ ربع المال، وهو اثنا عشر ونلقي منها النصيبَ، وهو أحد عشرَ، يبقى واحد، وهو تكملة الربع، فأسقط هذه التكملة من التكملة المحفوظة، تبقى أربعة، وهي الوصية وهي مثل نصف سدس المال، فأسقطها من المال، وهو ثمانية وأربعون، تبقى أربعة وأربعون بين أربعة بنين، لكل واحد منهم أحدَ عشرَ. وإن كانت المسألة بحالها، فانضمَّ إليها أنه أوصى أيضاً لآخر بثلث ما تبقّى من ثُلثه، فخذ ثلث المال وانقص منه نصيباً تبقى ثلث مال إلا نصيباً هذه تكملة الثلث، وانقص منه تكملة الربع، وهو ربع مال إلا نصيباً يبقى نصف سدس مال، فانقصه من الثلث، يبقى ربع مال، فادفع ثلثه إلى الموصى له الثاني، يبقى من الثلث سدس مال، وكل واحدة من الوصيتين، نصف سدس، والوصيتان سدس مال، والباقي من المال بعدهما خمسة أسداس مال يعدل أربعة أنصباء، فابسطها أسداساً، واقلب الاسم فيهما فيكون المال أربعةً وعشرين، والنصيب خمسة. ثم نأخذ الثلث ثمانية ونلقي منها النصيب، يبقى ثلاثة، فهي تكملة الثلث بالنصيب، فنسقط منها تكملةَ الربع، والربع ستةٌ، والنصيب منها خمسة، وتكملة الربع سهم، فأسقط تكملة الربع من تكملة الثلث يبقى اثنان، وهو وصية الأول، فأسقطها من ثلث (1) المال وهو ثمانية، تبقى ستة، فادفع ثلثَها، وهو أيضاً سهمان إلى الموصى له الثاني، تبقى أربعة فردها على ثلثي المال، وهو ستة عشر فيبلغ عشرين، فهو بين أربعة لكل واحد منهم خمسة، وهي النصيب الخارج.

_ (1) في الأصل: ثلثي.

القول في الوصايا المشتملة على الجذور والكعاب

وقد أطلقنا [القول] (1) في هذه الأبواب تعويلاً [على] (2) فهم الفاهم، فأما ذكرنا أجزاءَ بعد وصايا، وذكرنا استثناءً بعد وصايا، ولم (3) نتعرض للنصيب والوصية، وفرّعنا على المذهب الظاهر في أن المطلق محمول على الوصية، فليتبين الناظر ذلك. وقد نجز القول في فصول التكملة [وما] (4) يتعلق بها. القول في الوصايا المشتملة على الجذور والكعاب 6806 - جمع الحُسّاب في هذه المقالة فصولاً وضعيّة (5)، وخرّجوها على طريق الحساب، وطلبوا في بعضها تصحيحَ المسألة من عددٍ صحيح، يشمل الوصايا وفرائض الورثة، وقد يخرجوها (6) إذا دقّ الحساب من الكسور اكتفاءً بها، ولم يتعرضوا لحظ الفقه منها، وطردوها طردَ من لا يبغي إلا الحساب، وقد قضّيت العجب في مجاريها من الأستاذ أبي منصور؛ فإنه كان جمع إلى الإمامة في الحساب حُظوة صالحة في نقل مذاهب الفقهاء، وقد تفطن لدقائق فقهية في خَلَلِ الطرق الحسابية، وقدمنا بعضها فيما سبق من الأبواب، حتى إنه فصّل ما لم يتعرض الفقهاء لتفصيله، ولا بد من تفصيله، وهو كفَرْقه بين الوصية بجزءٍ بعد النصيب، وبين الوصية بجزء بعد الوصية، وبين الإطلاق، وقد ذكرتُ ذلك، وأوضحتُ أنه لا يطلع على حقيقة [هذه] (7) الأبواب من لم يحط بها. ثم إنه مع قدره العليّ [عمي] (8) عن أصلٍ عظيم في فقه الوصايا، وأخذ يتتبع وضع

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: في. (3) جواب (أما) بدون الفاء، وهي لغة كوفيّة، كما أشرنا مراراً. (4) في الأصل: "ومما". (5) وضعية: أي تقديرية افتراضية. (6) كذا بحذف نون الرفع تخفيفاً، وهو ثابتٌ في الكلام الفصيح نثره ونظمه، وعليه شواهد من صحيح البخاري. (ر. شواهد التوضيح والتصحيح: 228). (7) زيادة من المحقق. (8) في الأصل: عمل.

الحُسَّاب اتّباعَ من لا يكترث بالفقه، ولا يجعله من باله، والظن به وكل من يرجعُ إلى حاصلٍ في الفقه حملُ فصول هذه المقالة على وضعٍ وتقديرٍ من جهة السائل، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى. 6807 - ونحن لا نجد بداً من ذكر قاعدة في الفقه نُصدِّر المقالةَ بها، ثم نرجع إلى مسالك الحساب، ونبيّن وضعَها في الوضع، وما يفتقر إليها [الجري] (1) على المسائل الفقهية، ونخرج عما [يتفاوض] (2) به الحُسَّاب. 6808 - فنقول: الخائض في هذه المقالة ينبغي أن يكون على ذُكره أصلان من فقه الوصايا: أحدهما - أنه إذا أوصى [رجل] (3) بوصية، وكانت متردِّدة بين الصحة والفساد، فهي محمولةٌ على الصحة، ومن شواهد ذلك أن من أوصى بطبلٍ من طبوله، وكانت له طبول تجري مجرى المعازف [كالكوبة] (4)، فلا تصح الوصية بها، كما لا تصح الوصية بالمعازف، ولو قيل الوصية بطبل الحرب، لصحت. فإذا أطلق الوصيةَ، فهي مترددةٌ من جهة اللفظ واللسان بين الفساد والصحة، فهي محمولة على الصحة، وهذا متعلق [أصحاب] (5) أبي حنيفة في مسألة مُدّ عجوة، ومعتمدنا ومرجوعنا في ذلك أن الوصية تصح مع التردد في جهات الصحة، والبيع لا يصح مع الترديد في جهات الصحة، فكيف يصح الترديد في جهة الصحة والفساد؟ فهذا هو الذي قطعنا به البيع عن الوصايا. وإلا، فلسنا ننكر أن ما يقبل الترديد في وضعه إذا تردد بين الصحة والفساد، حُمل على الصحة؛ فإن من يُطلق عقداً يبغي تصحيحَه، فلا يُحمل لفظُ ذي جِدّ مُطْلِقٍ عقداً شرعياً على غير الصحة، إذا أمكنت الصحة.

_ (1) في الأصل: التجري. (2) في الأصل: يتعاوض (بالعين). (3) في الأصل: لرجل. (ولا معنى لزيادة اللام هذه). (4) " الكوبة " الطبل الصغير المخصَّر. (المصباح). (5) في الأصل: بأصحاب.

6809 - واختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أصلٍ، نشير إليه، ونستقصيه في موضعه، إن شاء الله تعالى، وهو أن من أوصى بثلثٍ من دارٍ، ولم يقل: أوصيت بالثلث الذي لي منها، وكان لا يملك من الدار إلا ثلثَها، فهل تنزل الوصية على جميع ثلثِه، أم تُقدّر مضافةً إلى الثلث الشائع مما يملك ومما لا يملك؟ حتى لا تصح الوصية إلا في ثلث الثلث؛ فإن له من كل ثلث من الدار ثلثاً. هذا فيه اختلافُ قولٍ. وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في [مثله] (1) لو عَرَضَ في البيع، فمن يرى تنزيل الوصية على الثلث المملوك، يعتمد ما مهدناه من حمل الوصية على الصحة إذا ترددت بين جهة الصحة، وبين الفساد. ومن أشاع الثلث، تمسك بموجب اللفظ، واكتفى باكتفاء الوصية بالثلث؛ فإنها تصح في ذلك الجزء ولا تبطل رأساً. هذا قولنا في أصل الوصية، وهو أحد الأمرين اللذين رأينا إجراءهما في الذكر في فصول هذه المقالة؛ حتى لا [يبتدر] (2) الناظر إلى إبطال الوصية إذا عنّت له مسألة مردّدةٌ بين الصحة والفساد. 6810 - والأصل الثاني: إذا جرى في لفظ الموصي (3) لفظ يتردد بين القليل والكثير، فهو محمول عند الشافعي رضي الله عنه على الأقل، ومن أصله في ذلك، تركُ المبالاة بما يُجريه الفقهاء من ألفاظهم، ولا يحمل عليه الألفاظَ المطلقةَ في الوصايا. 6811 - وبيان ذلك أن الوصية بالسهم المطلق لا تحمل على سهمٍ من سهام فريضة ميراث الموصي، وإن ساغ هذا اللفظ في تفاوض الفقهاء.

_ (1) في الأصل: في مثل. (2) في الأصل: يتبدل. (3) في الأصل: الموصى له.

وكذلك إذا أوصى لإنسان بنصيبٍ، فقد يَسيغ (1) في ألفاظ الفقهاء ذكر النصيب على إرادة حظِّ بعض الورثة، ولكن لا مبالاة بذلك عند الشافعي، كالوصية بالسهم والنصيب، كالوصية بالشيء المطلق، أو كالوصية بمال. والوصايا في ألفاظها في هذا المساق تجري مجرى الأقارير، وقد مهدنا أصلَ المذهب في الألفاظ التي يُطلقها المقرون، وبيّنا أنها محمولةٌ على الأقل. 6812 - فقد خرج من هذا الضبط أنا لا نعطِّل لفظَ الموصي، ولكنا لا نحكم بحمله على مقدارٍ مع صلاحه لما دونه. 6813 - وهذا الذي ذكرناه يأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل، فقد انقضى [غرضُ] (2) الكتاب [ولم ينقض] (3) الحساب، ولكنا ذكرنا مقدار الحاجة؛ حتى نُخرّج عليه ما أطلقه الحُسّاب في مسائل هذه المقالة. والوجه أن نَجري على المراسم المقدّمة في الحساب، فنذكر المقاصد في فصولٍ، ثم نصدّر كلَّ فصلٍ بمسلكِ الفقه، ثم نذكر طريقَ الحُسَّاب، ونبين وجه ضعفها على موافقة الفقه. فصل في الوصية بجذور الأموال 6814 - الجذور عبارةٌ استعملها الحُسَّاب، فقد ذكرنا مرادَهم بها، و [هي] (4) تنزل في الحساب منزلةَ الألفاظ الاصطلاحية بين كل فريق، فإن أطلقه حاسب، وتحققنا أنه أراد به مذهب الحُسَّاب، أو صرح بأني أردت ذلك، فهذا مما يتعين التأمل فيه، فإذا

_ (1) الفعل واوي، ويائي. (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (3) لا يستقيم الكلام بغير هذه الزيادة. ونرجو أن تكون قريبة من لفظ المؤلف. وهذا من العناء الذي يتحمله من يحقق النص عن نسخة وحيدة. (4) في الأصل: وهو.

قال الموصي: أوصيت لفلان بجذر مالي، [لاح] (1) أنه أراد به المبلغ الذي إذا ضرب في نفسه، ردّ المال على قياس تضعيف الضرب. وإن كان ماله دراهم أو دنانير، [وقد] (2) تبين أنه أراد التعرض لزنتها، ولتعدد الدراهم أو الدنانير في الموازين، فلا إشكال مع ظهور الغرض. 6815 - ويبقى وراء ذلك النظرُ في كَوْن المبلغ ذا جِذرٍ مُنطق، وهو الذي يسمى المجذور، وفي كونه أصمَّ، وهو الذي ليس له جذر منطق، فإن كان مجذوراً، فالوصية -مع التقييدات التي ذكرناها- محمولةٌ على المبلغ الذي إذا ضرب في نفسه رَدّ المال. وإن كان المال أصم كالعشرة، وما في معناها، فإذا قال: أوصيت لفلان بجذر مالي وأراد مذهب الحسّاب، فلا ينبغي أن يصير صائرٌ إلى إبطال الوصية ذهاباً إلى أن المال غيرُ مجذور [به لا جذر المال المجلف] (3)؛ فإن لكل مبلغ جذراً، وإن كان يعسر النطق به، وجذر الأشكال الصُّمّ يبين بالهندسة وبراهينها، فأصل الجذر لا يُنكر وإنما العسر في النطق بمقداره، فيجب حمل الوصية على الصحة؛ بناء على ما ذكرناه من أن الوصية إذا ترددت بين الصحة والفساد، فهي محمولة على الصحة. هذا حيث يتقابل وجهُ الصحة ووجه الفساد، كما ذكرناه في الوصية بالطبل. 6816 - فأما الجذر فليس من هذا القبيل؛ فإن [المبالغ] (4) في التحقيق كلها مجذور، وإنما تنقسم في كونها صُمَّاً، أو منطقة، فإذا وجب حملُ وصيةٍ على جذرٍ أصم، أو صرح الموصي بذلك، [فالمقدار] (5) المستيقن الذي يتأتى النطق به ثابت

_ (1) في الأصل: ولاح. (2) في الأصل: " فقد ". (3) العبارة بين المعقفين هكذا رسمت. والسياق واضح بدونها، ولعلها: " فإنه لا جذر للمال المخفف ". (4) في الأصل: " المبلغ ". (5) في الأصل: " والمقدار ".

لا شك فيه، وهذا كالثلاثة والموصى به جذر العشرة؛ فإنها ثابتة لا مراء في ثبوتها، وكذلك يَثبت الكسر المستيقن بعد الثلاثة. والوجه في ذلك مراجعةُ حسوب؛ حتى يذكر على أقصى الإمكان في التقريب مبلغاً، إذا ضرب في نفسه رد العشرة، إلا مقداراً نزراً، فإذا قل ما بقي من الكسور فجذره أكثر منه بنسبة تضعيف الإضافة، حتى إذا بقي من الكسور عُشر درهم، فجذره أكثر منه بنسبة تضعيف الإضافة. هكذا تقع جذور الكسور. وإذا قربنا جهدنا، لم نُبقِ إلا مقداراً لا ينضبط، ولا ينفصل الأمر فيه إلا بالتراضي والاصطلاح. والقول فيه كالقول في الوصية بمالٍ في مذهب الفقه؛ فإنه منزل على أقل ما يتموّل، وقد ذكرنا ذلك في الأقارير، وأوضحنا فيما يتمول وما لا يتمول ما فيه مقنع. هذا كله إذا كان المالُ ذا عددٍ في الوزن أو الكيل يقدّر مجذوراً [أو] (1) أصم. 6817 - فأما إذا أوصى بجذر ماله، وكان ماله مشكَّلاً بتشكل هندسي بأن كان براحاً (2)، من أرضٍ. ولاح أنه قصد بالجذر [الجذرَ] (3) الهندسي، فاستخراج الجذر بالمساحة ممكن مبرهنٌ، ولا يبقى منه شيءٌ مشكل، ولا معنى للخوض فيه. و [إذا] (4) كان ماله عبداً أو جوهرةً، فإذا قال: أوصيت بجذر مالي، فلا ينقدح إلا تنزيل وصيته على جذر قيمة ماله، ثم القيمة ترجع إلى أحد النقدين، وهما مقداران (5).

_ (1) في الأصل: (و). (2) البراح: المتسع من الأرض، لا زرع فيه ولا شجر. (معجم). (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: وإنما. (5) كذا. والمعنى أن القيمة ترجع إلى مقدارٍ: أَيْ عددٍ من الدنانير، أو عددٍ من الدراهم، " فهما مقداران " أي عددان.

وينقسم القول، وراء ذلك إلى المجذور والأصم. فإن قال قائل: هلا حملتم ذلك على تجزئة المال قدراً؛ إذ لا شيء إلا ويمكن تقدير تجزئته على وجوه مفروضة، فلكل شيء مما يكون مالاً -وهو مقصودنا- ثلثٌ وربعٌ وخمسٌ، وجزء من مائة جزء، وجزء من ألف جزء إلى غير نهاية، وقد يقسم الفَرَضي في البطون المتناسخة جوهرةً على ألف ألف سهم أو أكثر، وإذا أمكن ذلك، فهلا حُملت الوصية المطلقة على هذا القبيل؟. ثم الأمر في هذا الفن يختلف، فإن نزلنا ما خلّفه على أربعة، فجذرها اثنان، فتقع الوصية بالنصف، وإن جزَّأناها تسعة أجزاء، فجذرها ثلثها، وإن جزأناها ستة عشر جزءاً، فجذرها رُبعها، وإن قدرناها مائة جزءٍاً، فجذرها عشرها، وهكذا إلى غير نهاية في جهة الصعود والترقي؟ قلنا: هذا التقدير بعيدٌ، لسنا نرى حملَ الوصية عليه إذا كانت مطلقةً، إلا أن يصرح الموصي به على الإبهام؛ فإذ ذاك نحمل الوصية عليه، فأما إذا لم يتعرض له، وأطلق المال وجذرَه فتحريره الجوهرة (1)، ولا حاصل لها، وما يذكر من جذر الأجزاء جذرُ عدد مفروض، وليس جذرَ المال المطلق، وليس العددُ المذكور في تجزئة الجوهرة مخصوصاً بها. فهذا ما أراه؛ فإن قوله جذر مالي يشعر باختصاصه بماله، وتخصيص الأجزاء جارٍ في كل شيء، وإنّ فرض التجزئة يعم القليل والكثير، والأجناس كلَّها. وإذا بعُد التقدير لم يجز التفسير به. وهذا يضاهي من قواعد الإقرار ما لو قال: عليّ شيء، ثم [قال] (2): أردت به أن له علي جوابُ تسليمه (3)، فهذا غير مقبول. 6818 - ومما يتعلق بذلك أن فريضة الموصي لو كانت تقسم من عدد، وكان لذلك العدد جذرٌ منطقٌ، أو أصم، فإذا قال الموصي: أوصيت لفلان بجذر مالي، وماله

_ (1) كذا. ولعل المعنى: فتفسيره والعمل فيه كالعمل في قسمة الجوهرة. (2) زيادة من المحقق. (3) المراد، جواب قوله: السلام عليكم.

مقسوم على فريضته المعدَّلة، فلست أرى حمل الجذر على هذا العدد الذي منه تعديل الفريضة؛ فإنه أضاف الجذر إلى ماله، لا إلى العدد الذي تصح منه تركته، فالوجه إذاً ما قدمناه لا غير. 6819 - فإذا بان حظ الفقيه في ذلك، فإنا نذكر بعد هذا طريقةَ الحُسَّاب على وجهها، وإذا انتهت، أوضحنا أنها قد تخرج على مراسمهم موافقةً للفقه. قالوا: إذا أوصى بجذر ماله، فإنا نفرض المسألة عدداً مجذوراً إذا أسقط منه جذره، انقسم المال منه على سهام الورثة بلا كسر. مثاله: ثلاثة بنين، وقد أوصى لرجل بجذر ماله. قالوا: إذا جعلت المال تسعة، فللموصى له جذرُها: ثلاثة، والباقي بين البنين لكل واحد منهم سهمان. وإن جعلت المالَ ستة عشر، فللموصى له جذرها أربعة، والباقي اثنا عشر بين البنين، لكل واحد منهم أربعة. هذا كلامهم، ولم يقيدوه بشرط. وهو بعيد عن مأخذ الفقه، ولو لم يكن فيه إلا فرضُ التسعة [مرة] (1) والستةَ عشر [أخرى] (2)، وفي فرض التسعة للموصى (3) له الثلث، وفي فرض الستةَ عشرَ للموصى له الربع، لكان في ذلك أصدقُ شاهد على فساد ما قال. ثم الخِيَرةُ لا تقف على عددين، ولا نهاية في جهة الترقي في الأعداد التي إذا أُخذ جذرها، بقي الباقي منقسماً على الورثة، والأقدار تختلف، فكلما كثر العدد المجذور، قلّ الجذر بتجزئة النسبة، ولا وجه لما قالوه قطعاً. وإن أراد الفقيه استعمال طريقهم، فلا بد من تقييد الوصية بقدرٍ يقتضي ما ذكروه. وبيانه أن يقول الموصي: افرضوا مالي على عدد أجزاء وأعدادٍ مجذورة إذا خرج

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) مكان كلمة تعذر قراءتها، وقدرناها على ضوء ما بقي من الحروف بمعونة السياق، وتوفيق الله من قبل. (3) في الأصل: في الموصى له.

جذره، انقسم الباقي صحيحاً على ورثتي، وخذوا ذلك من أول عددٍ ممكنٍ، فإذا قال ذلك، أخذناه من تسعة، وإن عين مرتبةً أخرى، تعينت. وإن تفاوض الحسّاب فيما بينهم، ولم يجعلوا أجوبتهم فتاوى الفقه، فليقولوا من هذا ما شاؤوا، ولتستعمل طرقهم للدُّربة في الحساب حينئذٍ. 6820 - وإذا بان هذا، فنأتي بباقي المسائل، فلتقع [الوصية] (1) مشروطة بما قدمناه؛ حتى يتميز الفقه عما يحيد عنه. إذا تركت المرأة زوجاً، وأماً، وثلاث أخوات مفترقات، وأوصت لرجل بجذر مالها، فقد علمنا أن الفريضة تصح عائلةً من [تسعة] (2)، فاجعل المال عدداً مجذوراً إذا أنقصت منه جذرَه، ينقسم الباقي منه على تسعة قسمة صحيحة، وأقل ذلك واحد وثمانون: جذرها تسعة، فهي للموصى له، والباقي بعد الجذر اثنان وسبعون، بين الورثة على [تسعة] (3) للأم منها ثمانية، وكذلك للأخت من الأب، وكذلك الأخت من الأم، وللزوج منها أربعةٌ وعشرون، وكذلك الأخت لأبٍ ولأمٍّ. لا يجوز أن يفرض المال مائة وجذرها عشرة، والباقي تسعون بين الورثة، وقد قدمنا أن هذا لا يطابق الفقه. ولو أوصى بكعب [ماله] (4)، فاجعل المال عدداً مكعَّباً، إذا أسقط منه كعبه، انقسم الباقي على سهام الورثة بلا كسر. مثاله: ثلاثة بنين، وقد أوصى بكعب ماله. فإن فرضتَ المال ثمانيةً، فكعبها اثنان للموصى له، والباقي ستة بين الورثة. وإن فرضت المكعبَ سبعة وعشرين، فكعبها ثلاثة، والباقي بين الورثة، أربعة وعشرون، لكل واحد منهم ثمانية.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: تسعة عشر. (3) في الأصل: سبعة. (4) في الأصل: مائة.

وإن أوصى بجذر ماله لرجلٍ، ولآخر بكعب ماله، وخلّف ثلاثةَ بنين، فاجعل المال عدداً يكون له جذرٌ صحيح، وكعب صحيح، ويكون بحيث إذا أُسقط منه جذرُه وكعبُه، انقسم الباقي بين الورثة بلا كسرٍ، وأقل ذلك في هذه المسألة سَبعُمائة وتسعة وعشرين، فللموصى له [بكعبها] (1) كعبُها، وهو تسعة وللموصى له بجذرها جذرُها، وهو سبعة وعشرون، والوصيتان ستةٌ وثلاثون إذا أسقطتها من المال، بقي سِتمائة وثلاثةٌ وتسعون، بين الورثة: لكل واحد منهم مائتان وأحدٌ وثلاثون. فإن أجاز السائل أن يكون الكسر واقعاً في أنصباء الورثة بعد أن يكون كعب المال وجذره صحيحين، أمكن خروج المسألة من أربعة وستين، [فهي عددٌ مكعّبٌ مجذور] (2): كعبها أربعة للموصى له بالكعب، وجذرها ثمانية للموصى له بالجذر، والوصيتان اثنا عشر، والباقي من المال اثنان وخمسون، بين الورثة وهو (3) ثلاثة، لكل واحد منهم سبعةَ عشرَ وثلث. وقد تبين أن هذه المسائل كلَّها وضعيّة (4)، ولا بد من فرض تقييدٍ، كما نبهنا عليه، لتوافق المسائل الفقهية. فصل في الوصية بجذر الأنصباء 6821 - إذا ترك ثلاثة بنين، وأوصى لرجل بجذر نصيب أحدهم، قال الحُسّاب: حسابُ المسألة أن نجعل نصيب كلِّ ابن عدداً مجذوراً، ثم نجمع أنصباء البنين، ونزيد عليها جذرَ نصيب أحدهم، فما بلغ، صحّت المسألة منه. ثم قالوا: إذا جعلتَ كلَّ ابن واحداً فأنصباؤهم ثلاثة، فإذا زدت عليها واحداً،

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل مكان ما بين المعقفين: في كعب مجذور. (3) الضمير بالمفرد المذكر على معنى العدد. (4) وضعيّة أي تقديرية، افتراضية.

وهو جذر النصيب؛ فإن الواحد جذرُ الواحد، فالمسألة من أربعة للموصَى له سهم، ولكل ابن سهم. فإن فرضت نصيب كل ابنٍ أربعة وأنصباؤهم اثنا عشر، فزد عليها [جذرَ] (1) الأربعةَ، وهو اثنان، فيبلغ أربعةَ عشرَ، فللموصى له اثنان، ولكل ابن أربعة. 6822 - وكذلك إذا أوصى بكعب نصيب أحدهم، فاجعل النصيب عدداً مكعباً، ثم اجمع الأنصباء، وزد عليها كعبَ نصيب، فما بلغ، فمنه تصح المسألة، فإذا خلف ثلاثة بنين، وأوصى لرجلٍ بكعب نصيب أحدهم، فإن فرضتَ المكعبَ الذي هو النصيب ثمانية، فأنصباؤهم أربعة وعشرون، فزد عليها كعب الثمانية وهو اثنان، فالمبلغ ستة وعشرون، للموصى له سهمان، ولكل ابن ثمانية. وإن فرضت النصيب سبعة وعشرين، فإنها مكعب إذا جذرت المال المجذور تسعة، فأنصباؤهم أحدٌ وثمانون، فزد عليها كعبَ النصيب، وهو ثلاثة، فيبلغ أربعةً وثمانين، فللموصى له ثلاثة، وهو كعب سبعةٍ وعشرين، ولكل ابنٍ سبعةٌ وعشرون. 6823 - فإن ترك خمسةَ بنين، وأوصى بثلاثة أجذار نصيب أحدهم، فإن فرضت نصيب كل ابن أربعةً، فأنصباؤهم عشرون، فزد عليها ثلاثة أجذار أربعة، وذلك ستة، فالمبلغ ستة وعشرون، فللموصى له ستة، ولكل ابن أربعة. وهكذا إذا أوصى بعدة كِعاب نصيب، فنجعل نصيب كلِّ واحد من البنين مكعباً، ونضم إلى الأنصباء أعداد الكعاب الموصى بها. 6824 - فهذا طريق الباب عند الحُسّاب، ولا يخفى على الفقيه أن ما ذكروه لو فرض في إطلاق الوصايا، لوقع جانباً عن العقد، بعيداً عن مسالكه، ولكن الحُسّاب فرضوا طرق الحساب عند [عدم] (2) تقييد الوصايا، [وما] (3) قدمناه قبل مساق الكلام يدل على أنهم فرضوها مُنطبقةً على سؤال السائل، إذا قال: كيف السبيل الحسابي إلى

_ (1) سقطت من الأصل. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: كما. والمثبت تصرُّف من المحقق.

تمهيد عدد في فريضة الميراث والوصية يكون لحصة كل ابن جذر، ويكون لحصة كل ابن كعب؟ فيقولون في جوابه: وجهُ تصوير ما سألت عنه كذا وكذا، ويمهدون عليه وجوهاً من الإمكان، وإلا فلا يستجيز ذو عقلٍ أن يذكر في الوصية المتعلقة مبلغين، أو مبالغ تقلّ الوصايا في بعضها وتكثر في بعضها، فتبين أنهم وضعوا كلامهم أجوبة المسائل عن الإمكان. وإذا أردنا ردها إلى وقائعِ الفقه، فلا بد من تقييد الوصايا، كما وصفناه فيما تقدم. 6825 - فإن قيل: فما الجواب الفقهي فيه إذا قال: أوصيت لفلانٍ بجذر نصيب أحد أولادي، وقد خلف بنين، ولم يقيّد وصيته، وإنما اقتصر على ما ذكرناه؟ قلنا: هذه اللفظة مشكلة، وليست كالوصية بجذر المال مطلقاً؛ فإنا ذكرنا أنه لا يتجه في الوصية بجذر المال إذا لم يكن جنسه مقدّراً بكيل، أو وزن، أو عدد، إلا الرجوعُ إلى قيمة المال، فإذا قال: أوصيت لفلان بجذر نصيب أحد البنين، فهذا ظاهرٌ في ردّ الأمر إلى نسبة قسمة التركة؛ فإن من أوصى بنصيب أحد البنين، وكانوا ثلاثة مثلاًً، فالوصية بالنصيب تُنزل الموصى له منزلةَ ابنٍ زائد، كما تمهد في الكتاب. فيحتمل أن يقال: يُردّ ذلك إلى العدد الذي تنقسم منه الفريضة، فإن كان حصة كل ابن من ذلك العدد الذي تقع القسمة منه مجذورة، زدنا جذرها، على ما فعله الحساب، وإن لم تكن تلك الحصة مجذورة، فالوصية تقع بجذرٍ أصم، وقد وقع شرح جَذْرِ ذلك. فأما أن نقدّر القسمةَ من عددٍ تقع حصةُ كل ابن مجذورة ليستقيم قول الموصي: أوصيت لفلانٍ بجذر النصيب، فما أرى الفقيه يسمح بذلك، مع ما أوضحناه من بناء الوصية المطلقة على الأقل. هذا وجهٌ في الاحتمال. ويجوز أن يقال: إذا أوصى [بجذر نصيب] (1) أحد البنين، فإنا ننظر إلى ما يخص كلّ واحد من التركة، ونعتبر جذر ذلك الحاصل -منطَّقاً كان أو أصم- ونضمُّه إلى

_ (1) في الأصل: " بنصيب ".

ما منه القسمة، وهذا يوافق أَخْذَ جذرِ العدد الذي يقع حصة لكل ابن. فأما إذا اعتبرنا القسمة من عددٍ، فالتركة تقسم على ذلك العدد، ثم يكثر الحظ بكثرة التركة، ويقلّ بقلتها، والعدد الذي عدّلت منه الفريضة لا يختلف، ولكن ما يقتضيه تعديل القسمة بين البنين أن نقسم الفريضة على رؤوسهم، فتقع حصةُ كل ابنٍ سهماً واحداً، وجذره سهمٌ، فيكون هذا بمثابة الوصية بنصيب ابنٍ، والحمل على هذا المحمل بعيدٌ؛ فإن ظاهر إضافة الجذر يتضمن كونَ الموصى به جزءاً من النصيب، فإذا فرضنا وراء الواحد عدداً مجذوراً، ونزّلنا على أقل عدد مجذور، كان ذلك تحكُّماً. فالذي أراه أن الوصية المطلقة بجذر النصيب محمولةٌ على الوصية بجذر حصة كل ابن من المال، ولا ننظر إلى سهام المسألة. هذا هو الذي لا ينقدح غيرُه في مسلك الفقه. فصل في الوصية بجذر النصيب وجذر المال 6826 - المثال: ترك الرجل ثلاثة بنين، وأوصى لعمِّه بجذر نصيب ابن، ولخاله بجذر جميع المال. فطريق الحُسَّاب أن نجعل وصيته [لعمه] (1) جذراً، فيكون نصيبُ كلِّ ابن مالاً؛ فإن الجذر عبارةٌ عما إذا ضرب في نفسه رَدَّ مالاً. وأما وصية الخال، ففيها أمرٌ اصطلاحي وضعيّ للحُسَّاب، ننبه عليه، وذلك أنهم قالوا: إذا أوصى لخاله بجذر المال، وأوصى لعمه بجذر نصيب، فنجعل وصية الخال جذرين، فيكون المال كله على هذا التقدير أربعة أموال، [والا حرـ] من

_ (1) زيادة من المحقق. (2) هكذا تماماً في الأصل، بهذا الرسم وبدون نقط (انظر صورتها).

لفظ المطلق، فإذا قيل لك: أربعة، فنأخذ الجذر من [لفظ] (1) الأربعة، وجذر الأربعة اثنان، فقل: جذر أربعة أموال جذران، ومعظم عبارات الجذريين تقع كذلك، ولا يتم الغرض الآن في تقدير جذرين في مقابلة وصية الخال، فليأخذ الناظر ما ألقيناه إليه باتفاق [و] (2) سنبيّن في أثناء الفصل الغرضَ، بياناً يليق بظاهر ألفاظ الحساب، ولا مطمع في ذلك [إلا على] (3) الجبر؛ فإنها تستند إلى قاعدة مشكلة في الهندسة. فنقول: إذا [كان] (4) المال كله أربعة أموال، والوصيتان ثلاثة أجذار، فانقصها من المال، فتبقى أربعة أموال إلا ثلاثة جذور، وذلك يعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة أموال إلا نصيب كل ابن، فنجبر الأموال الأربعة بثلاثة جذور، ونزيد على عديلها مثلها، ثم نُسقط الجنس بالجنس، فيبقى مال في مقابلة [ثلاثة] (5) جذور. وإذا قيل: مال يعدل ثلاثة أجذار، فهذا في قاعدة الجذر والمقابلة بتسعة؛ إذ تقدير الكلام: مالٌ يعدل ثلاثة أجذاره، فالمال تسعة وجذره ثلاثة. فنعود ونقول: قدرنا أربعة أموال، كل مال تسعة، فمجموعها ستة وثلاثون، فنسقط من المال وصية العم، وهي جذر مال من الأموال التي ذكرناها، فالجذر ثلاثة، ونسقط وصية الخال وهي جذران، وذلك ستة، والستة جذر الستة والثلاثين، يبقى من المال سبعة وعشرون بين البنين، لكل واحد تسعة، وقد أخذ العم جذرَ نصيب واحد، وأخذ الخال مثل جذر المال. 6827 - فإن أوصى لعمه بجذر نصيب ابن، ولخاله بجذر ما تبقى من مال، فنقول: إذا كان وصية العم جذراً، فنصيب كلِّ ابنٍ مال، فأنصباؤهم ثلاثة أموال، فاحفظ ذلك. فإذا عرفت ذلك، فاجعل الباقي من المال بعد جذر نصيبٍ أموالاً لها جذور، فإن

_ (1) في الأصل: جذر. (2) مزيدة من المحقق. (3) عبارة الأصل: " ولا مطمع في علة الجبر " والتصرف بالزيادة والتصويب من المحقق. (4) ساقطة من الأصل. (5) زيادة من المحقق.

شئت قلت: تسعة أموال، فتكون جملة التركة تسعة أموال، وجذراً، فنسقط وصية العم، وهي جذر، ووصية الخال وهي ثلاثة أجذار؛ لأن الباقي من المال بعد وصية العم تسعة أموال، فقل جذرها ثلاثة أجذار. وليقف الناظر متأملاً، وليعلم أن مبنى هذا الباب، وما في معناه، على اتباع اللفظ. وإذا قيل لك: كم جذر التسعة؟ فإنك تقول: جذرها ثلاثة. وإذا قيل لك: كم [جذر] (1) تسعة أموال؟ فاتبع لفظ التسعة، كما تفصّل في العدد، وقل: الجذر ثلاثة، ولكن إذا كان العدد أموالاً تسعة، فنقول: نأخذ ثلاثة جذور كما نقول: جذر التسعة من العدد ثلاثة، وعلى هذا القياس تخرج المسألة الأولى؛ فإنا قدرنا فيها أربعة أموال، فقلنا: جذرها على قياس اللفظ الذي ذكرناه اثنان؛ لأن جذر الأربعة من العدد اثنان، فجذر أربعة أموال جذران. فنعود إلى المسألة الأخيرة ونقول: قدرنا التركة تسعة أموال وجذراً، فأسقطنا الجذر للموصى له بجذر نصيب، وأسقطنا ثلاثة جذور للوصية الثانية، فتبقى تسعة أموال إلا ثلاثة أجذار، تعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة أموال، فنجبر ونقابل، ونُسقط المثلَ بالمثل، تبقى ستة أموال، تعدل ثلاثة أجذار، فالمال يعدل نصف جذر، فخذ هذا اللفظ، وقل: الجذر نصف درهم، وإذا كان الجذر نصفاً، فالمال ربعٌ، وقد كانت التركة تسعة أموال وجذر، وكل مال ربع، والجذر نصف، فالجملة درهمان وثلاثة أرباع درهم، فندفع منها إلى العم جذرَ النصيب، وهو نصف درهم، يبقى درهمان وربع، فجذرها وصية الخال، وذلك درهم ونصف، فالوصيتان درهمان، والباقي من المال بعدهما ثلاثة أرباع درهم، بين البنين: لكل واحد منهم ربعُ درهم، وقد زادت الوصيتان. 6828 - وهذه المسائل كلها وضعيّة، كما مهدنا ذلك. وإن أردنا استعمالها في الفقه، فيجب تقييد الوصية بما يقتضيها، وإلا يجب وضع

_ (1) زيادة من المحقق.

هذه المسائل على التدريب في الحساب والتفاوض في أصله، وإلا فمتى يسمح الفقيه ومأخذُه إذا كانت الوصية بجذر نصيب أن يصرف إلى الوصية نصف درهم وإلى النصيب ربع درهم!! 6829 - ثم قال الحسّاب: في هذه المسألة التي نحن فيها: إن شئت جعلتَ وصيةَ العم جذراً، وجعلت الباقي من المال بعد هذه الوصية أربعة أموال، فتكون وصيةُ الخال جذرين على القاعدة التي ذكرناها في اتباع العبارة، فالتركة أربعةُ أموالٍ وجذرٌ، فنسقط جذراً للعم، ثم جذرين للخال، فيبقى أربعة أموال إلا جذرين، تعدل ثلاثة أموال، وهي أنصباء البنين، فنجبر الأموال الأربعة بجذرين، ونزيد على عديلها جذرين، تصير أربعة أموال، في مقابلة ثلاثة أموال وجذرين، ونسقط المثل بالمثل، فيبقى مال يعدل جذرين، فالجذر اثنان، والمال أربعة. وقد كانت التركةُ [أربعة] (1) أموال وجذراً، فهي ثمانية عشر، وصيةُ العم منها اثنان، ووصية الخال أربعة، وهي جذر ستة عشر الباقية بعد وصية العم، فالوصيتان ستة، وهي ثلث المال، والباقي بعدها اثنا عشر، بين البنين: لكل واحد منهم أربعة، وقد أخذ العم مثل جذر نصيب أحدهم، وأخذ الخال جذر الباقي. فصل في الوصية بالنصيب والجذور 6830 - ثلاثة بنين، وقد أوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بجذر المال. فاجعل المسألة تقديراً كأن البنين فيها أربعة، وكأنه (2) أوصى بجذر المال وحده، وافرض المسألة من عدد مجذور إذا أسقطت جذره، انقسم الباقي على أربعة. قال الحسّاب: إن شئت فرضته من ستة عشر، فادفع جذرها وهو أربعة إلى الموصى له بجذر المال، يبقى اثنا عشر بين البنين والموصى له بالنصيب بالسويّة: لكل واحد منهم ثلاثة.

_ (1) زيادة من عمل المحقق. (2) في الأصل: وقد كأنه.

وإن فرضت المسألة من خمسة وعشرين، فجذرها للموصى له بالجذر، وهو خمسة، والباقي عشرون، بين البنين والموصى له بالنصيب على أربعة، لكل واحد منهم خمسة، والوصيتان في التقديرين زائدتان على الثلث. وإن فرضت المسألة من أحدٍ وثمانين، فادفع جذرها إلى الموصى له بالجذر، وذلك تسعة، يبقى اثنان وسبعون بين الموصى له والبنين على أربعة، لكل واحد منهم ثمانية عشر، فالوصيتان [سبعة] (1) وعشرون، وهي ثلث المال في هذا التقدير. وغرض الحاسب أن يذكر جهاتِ الإمكان تسفُّلاً، وترقّياً، وتوسطاً، وإلا، فيستحيل حملُ مطلق هذه الوصايا على ما ذكره الحساب. فهذا مضمون هذا الفصل. فصل في الوصية بالنصيب وبجزءٍ مشاع وبجذر مفروض 6831 - وهذا الفصل يشتمل على أمثلة تختلف قيودها وشروطها، ونحن نأتي بها في تصوير الأمثلة. ثلاثة بنين، وقد أوصى لرجل بجذر المال. ولآخر بمثل نصيب أحدهم، ولثالث بثلث ما تبقى من الثلث. فنأخذ ثلثَ مالٍ لاشتمال المسألة على ثلث ما تبقى من الثلث، ونطرح منه جذراً ونصيباً، يبقى ثلث مال إلا جذراً وإلا نصيباً، فنطرح ثلثه بالوصية الثالثة، فيبقى من الثلث تسعا مال إلا ثلثي جذر، وإلا ثلثي نصيب، [فنضمها إلى ثلثي المال، فيصير ثمانية أتساع مال، إلا ثلثي جذر، وإلا ثلثي نصيب، تعدل ثلاثة] (2) أنصباء، فنجبر ثمانية الأتساع بالاستثناء الذي فيه، ونزيد على عديله مثله، فيكون ثمانية أتساع مال

_ (1) في الأصل: تسعة. (2) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، فعبارة الأصل كانت هكذا: " فيبقى من الثلث تسعا مال إلا ثلثي جذر، وإلا ثلثي نصيب تعدل ثمانية أنصباء، فنجبر ونقابل ... إلخ ".

تعدل ثلاثة أنصباء وثلثي جذر وثلثي نصيب. فاجعل الآن كلّ نصيب أيَّ عددٍ شئت، بعد أن يكون أكثر من ضعف الجذر، فإن كان النصيب ضعفَ الجذر أو أقل من الضعف، لم تخرج المسألة كلها من الثلث، ولم تستقم المسألة؛ فإنك تحتاج فيها إلى ثلث ما تبقى من الثلث. ونحن نذكر زيادة النصيب على ضعف الجذر، ونوضِّح استقامةَ المسألة، ثم نذكر كَوْنَ النصيب مثلَ ضعف الجذر، ونبيّن استحالةَ المسألة. فنجعل النصيبَ مثل ثلاثة أجذار، والأنصباء تسعة أجذار، ومعنا نسبة الجبر والمقابلة ثلثا نصيب، فإذا جعلنا النصيب ثلاثة أجذار، فثلثا نصيب جذران، ومعنا أيضاً ثلثا جذر، فالجميع إذاً أحدَ عشرَ جذراً وثلثا جذر، في مقابلة ثمانية أتساع مال، فيكمل المال بأن نزيد عليه مثل ثُمنه، ونزيد على ما يقابله مثلَ ثمنه، وإذا زيد على أحد عشر وثُلثين مثل ثمنه، صار ثلاثة عشر وثمن، وإن أردت التثبت منه، فخذ ذلك من أربعة وعشرين فثمنه ثلاثة، فإذا زدت على أحدَ عشرَ وثلثين، ثمنها زدت واحداً لمكان الثمانية في هذا العدد، ويصير اثني عشر وثُلثين، ونزيد ثمن ثلاثة وثُلثين فيكون ثلاثة أثمان وثلثين لمن قدّر كلَّ ثمن ثلاثة من أربعة وعشرين من واحد، فيجتمع أحدَ عشرَ، فنكمل الثُّلثين معنا بثلث أربعة وعشرين، وهي ثمانية، فيصير ثلاثة عشر جذراً، ومعنا ثلاثة من أحد عشر من أربعة وعشرين، فيقع ثمناً، من هذا المبلغ، فالمجموع ثلاثة عشر وثمن، فنجعل الثلاثة عشر والثمن جذرَ المال، ونضربه في نفسه، فيبلغ مائة واثنين وسبعين درهماً وسبعة عشر جزءاً من أربعة [وستين] (1) جزءاً من درهم، وهذا نصف المال، فخذ ثلث ذلك وهو سبعة وخمسون درهماً وسبعة وعشرون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، فأسقط جذر المال للموصى له بالجذر، وأسقط منها نصيباً، وقد فرضت النصيب ثلاثة أمثال الجذر، [فكأننا] (2) نريد أن نسقط منها أربعة أجذار المال، وهي إذا جُمعت اثنان وخمسون درهماً ونصف؛ لأن كل جذر ثلاثةَ عشرَ وثمن، وإذا أسقطت أربعة أجذار من ثلث

_ (1) في الأصل: وخمسين. وهو خطأ أجهدنا تداركه. (2) في الأصل: فكذلك.

المال، بقي منه أربعة دراهم وتسعة وخمسون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، فادفع ثلثها، وهو درهم وأحدٌ وأربعون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم إلى الموصى له بثلث الباقي من الثلث، وجملة الوصايا الثلاث أربعة وخمسون درهماً وتسعة أجزاء من أربعة وستين جزءاً من درهم، فأسقطها من المال، وهو مائة واثنان وسبعون درهماً وسبعة عشر جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، تبقى بعد الوصايا مائة وثمانية عشر درهماً، وثمانية أجزاء من أربعة وستين جزءاً من درهم، وهي ثمن درهم، فإن الثمانية من الأربعة والستين ثمنها، وإنما لم نطول ذكر الأجزاء من الأربعة والستين لبيانها، واعتبر هذا المأخذ لمسيس الحاجة إلى ثلث الأثمان ضمّاً وتفريقاً، وإلى أجزاء منها، فخرجت من أربعة وستين، فنقسم الباقي إذاً بين ثلاثة بنين لكل واحد منهم تسعة وثلاثين درهماً وثلاثة أثمان، [و] (1) ذلك ثلاثة أمثال جذر المال، كما فرضنا. 6832 - ولو جعلنا كلَّ نصيب أربعة أجذار وأكثر خرجت المسألة، ولكن كان الحساب أدق وأطول. 6833 - ونحن نذكر الآن فرض النصيب عند المعادلة ضعف الجذر لنبيّن استحالة المسألة، فنقول: إذا كان كل [نصيب] (2) جذرين، فالأنصباء ستة، وقد ضممنا إليها ثلثي نصيب، وثلثي جذر للمقابلة، فإذا كان النصيب جذرين، فثلثا نصيب جذر وثلث، ومعنا ثلثا جذر أيضاً، فيصير المجموع ثمانية أجذار تعدل ثمانية أتساع مال، فيكمل المال بزيادة ثمنه، ونزيد على الأجذار ثمنها، فقد صار مال يعدل تسعة أجذار، فيكون الجذر تسعة، فنضرب التسعة في نفسها فيرد أحداً وثمانين، فإذا أخذت ثلثها، وهو سبعة وعشرون، وطرحت منها جذر المال تسعة، بقي ثمانية عشر، وهي مثل النصيب؛ لأن النصيب ضعف الجذر، فإذا أخرجت النصيب، لم يبق من الثلث شيء، واستحالت المسألة التي تريدها.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ساقطة من الأصل.

6834 - فإن أوصى بمثل نصيب أحدهم، وبجذر نصيب أحدهم لآخر، وأوصى لثالث بثلث ما بقي من الثلث، فاجعل النصيب عدداً مجذوراً؛ لمكان الوصية بجذر النصيب، بعد أن يكون النصيب وجذر النصيب أقلَّ من ثلث المال، فإن جعلت النصيب تسعة مثلاً، فنقول: معنا ثلث مال ننقص منه النصيب تسعة، وننقص منه الوصية بجذر النصيب ثلاثة، فالمجموع اثنا عشر، فيبقى معنا ثلث مال إلا اثني عشر سهماً، فادفع ثلثه إلى الموصى له الثالث، فيبقى تسعا مالٍ إلا ثمانية دراهم؛ فإن الوصية الثالثة تذهب بثلث الاستثناء، يبقى من الاستثناء ثمانية، فنضم ما بقي إلى ثلثي المال، وقد تصرفنا في [ثلث] (1) المال، وهو ثلاثة أتساع، فإذا ضممنا [الباقي من الثلث] (2) إلى الثلثين، فتكون ثمانية أتساع مال إلا ثمانية أسهم، تعدل سهام البنين، وهم ثلاثة، وسهامهم سبعة وعشرون، لأن كل نصيب تسعة، فإذا جبرت، وقابلت، وأكملت بعد ذلك على القياس المقدّم، صار مال يعدل تسعة وثلاثين سهماً وثلاثة أثمان سهم، فمنها تصح المسألة. فخذ ثلث المال، وذلك ثلاثةَ عشرَ درهماً وثمن، فانقص منه نصيباً وجذراً، وهما اثنا عشر يبقى درهم وثمن، فانقص منه ثلثه بالوصية، وهو ثلاثة أثمان درهم، تبقى ثلاثة أرباع درهم، فزدها على ثلثي المال، وهو ستة وعشرون وربع، فيبقى سبعة وعشرون بين ثلاثة بنين، لكل واحد منهم تسعة. 6835 - فإن أوصى بجذر نصيب أحدهم لإنسان، وأوصى لآخر بثلث ما تبقى من الثلث، فاجعل النصيب عدداً مجذوراً، فإن جعلته أربعة، فنقول نأخذ ثلث مال، وننقص منه جذر الأربعة، وهو اثنان يبقى ثلث مال إلا اثنين، فانقص منه ثُلثه بالوصية الأخرى، تبقى تسعا مال إلا درهم وثلث درهم؛ فإن الوصية بثلث الباقي تذهب بثلث الاستثناء، فزد ما بقي على ثلثي المال، فيكون ثمانية أتساع مال إلا درهماً وثلثَ درهم تعدل أنصباء البنين، وهي اثنا عشر، فإذا جبرت وقابلت وأكملت، صار المال

_ (1) في الأصل: ثلثي. (2) في الأصل: الثلث الباقي.

يعدل خمسة عشر درهماً. ومنها تصح المسألة، ولا نقدر الخمسة عشرَ جذر المال؛ فإن المسألة ليس فيها جذر مال، فقل المال خمسة عشر، فتأخذ ثلثها خمسة، ونسقط منها جذر النصيب، وهو اثنان، تبقى ثلاثة فانقص ثلثها واحد، يبقى اثنان فزدهما على ثلثي المال، وهو عشرة، فيبلغ اثنا عشر سهماً، بين ثلاثة بنين، لكل واحد منهم أربعة. وإن شئت فاجعل النصيب تسعة والعمل فيه على ما ذكرنا، فيخرج المال كله اثنين وثلاثين درهماً وخمسة أثمان درهم، ويكون الجذر ثلاثة. 6836 - فإن أوصى بجذر مال لرجل ولآخر بثلث ما تبقى من الثلث، فخذ ثلث مال وانقص منه جذراً، يبقى ثلث مال إلا جذر، فانقص منه ثلثه، يبقى تسعا مال إلا ثلثي جذر، فزده على ثلثي المال، يكون ثمانية أتساع مال إلا ثلثي جذر، تعدل ثلاثة أنصباء، وإذا جبرت وقابلت، صار ثمانية أتساع مال تعدل ثلاثة أنصباء وثلثي جذر، واجعل النصيب أيَّ عدد شئت، إن شئت جعلته مثل الجذر أو أكثر منه أو أقل، فإن جعلت النصيب مثلَ الجذر، فالأنصباء مع ما انضم إليها بسبب المقابلة والجبر ثلاثة أجذار وثلثا جذر، تعدل ثمانية أتساع مال، فزد على كل واحد منهما مثل ثُمنه، فيصير مالاً كاملاً يعدل أربعة أجذار وثمن جذر، فنضرب أربعة وثمناً، في نفسها وهو جذر المال، فيصير سبعةَ عشر درهماً، وثمن الثمن. فخذ ثلث ذلك وهو خمسة دراهم، وثلاثة وأربعون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، فانقص منه الجذرَ، وهو أربعة دراهم وثمن يبقى درهمٌ وخمسة وثلاثون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، فانقص منه ثلثه للوصية الثانية وهي ثلاثة وثلاثون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، يبقى من الثلث درهم وجزءان من أربعة وستين جزءاً من درهم، فزده على ثلثي المال، وهو أحد عشر درهماً، واثنان وعشرون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، فيصير المبلغ اثنا عشر درهماً وأربعة وعشرون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، فيصير بين البنين لكل واحد منهم أربعة دراهم، وثمانية أجزاء من أربعة وستين جزءاً من درهم، وهي ثمن درهم، وذلك مثل جذر المال.

وعلى هذا، فقس، إن جعلت النصيب جذرين أو أكثر أو أقل من جذر واحد. 6837 - فإن أوصى بمثل نصيب أحدهم، وأوصى لآخر بجذر ما بقي من الثلث. فاجعل ثلثَ المال نصيباً وعدداً مجذوراً، فإن جعلته نصيباً وأربعة أسهم، فانقص النصيب وجذر الأربعة بالوصيتين، تبقى اثنان فزده على ثلثي المال. وإذا كان الثلث نصيباً وأربعة، فالثلثان نصيبان وثمانية، فإذا ضممنا الباقي إلى الثلثين، صار نصيبين وعشرة تعدل ثلاثة أنصباء، فالنصيبان بالنصيبين، فيبقى عشرة تعدل نصيباً. فنعود ونقول: ثلث المال أربعة عشر، فانقص منها نصيباً تبقى أربعة، فانقص جذرها وهو اثنان، وزِد الباقي على ثلثي المال، وهو ثمانية وعشرون، فيبلغ ثلاثين، بين البنين، لكل واحدٍ منهم عشرة. 6838 - فإن أوصى لعمه بجذر نصيب أحدهم، ولخاله بجذر ما تبقى من الثلث، ولأجنبي بثلث ما تبقى. فنقول: ثلث المال نجعله جذراً ومالاً، فندفع إلى العم الجذر، فيبقى مال، كان مجذوراً، فإنه عبارة عن ضرب الشيء في نفسه، فندفع جذر المال إلى الخال، يبقى مال إلا جذر، ندفع ثلثه إلى الأجنبي، يبقى ثلثا مال إلا ثلثي جذر، فنزيده على ثلثي المال. وإذا كان الثلث مالاً وجذراً، فالثلثان مالان وجذران، فإذا ضممنا الفاضل إلى الثلثين، فيصير المبلغ مالين وثلثي مال وجذراً [وثلث] (1) جذر. وهكذا يقع إذا جبرت النقصان، فإذاً مالان وثلثا مال وجذرٌ وثلثُ جذر يعدل أنصباء البنين، وهي ثلاثة أموال؛ لأنا جعلنا وصية العم جذر نصيب، فالنصيب مال، والأنصباء ثلاثة أموال، فإذا جبرنا وقابلنا وأكملنا، صار المال معادلاً لأربعة أجذار. فالجذر أربعة، والمال ستةَ عشرَ، وكان ثلث المال مالاً وجذراً، فهو عشرون، نسقط منها الوصية الأولى للعم، وهي جذر [النصيب] (2)، وذلك أربعة، تبقى ستةَ عشرَ، فنسقط للخال

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) زيادة من المحقق.

جذرها أربعة، يبقى اثنا عشر، فنسقط للأجنبي ثلثها وهو أربعة، يبقى من الثلث ثمانية، نزيدها على ثلثي المال وهو أربعون، فيصير ثمانية وأربعين بين البنين لكل واحد منهم ستةَ عشرَ. فصل في الوصية بالنصيب والجزءِ المفروض مع استثناء الجذور منها واستثنائها من الجذور 6839 - مثال: ثلاثة بنين، وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا جذرَ نصيب أحدهم. فاجعل نصيب كل ابن عدداً مجذوراً، أيَّ عددٍ شئت، بعد أن يكون له جذر صحيح أقل منه، فإن جعلته أربعة، فالوصية اثنان، والأنصباء اثنا عشر، فزد عليها الوصية تكون أربعة عشر، وادفع إلى الوصية اثنان وهو مثل نصيب أحدهم إلا جذر نصيب أحدهم. 6840 - فإن أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا جذرَ جميع المال، فخذ مالاً وانقُص منه نصيباً، واسترجع من النصيب جذرَ مالٍ، يبقى مال وجذر إلا نصيب (1) يعدل ثلاثة أنصباء واجبر المال بنصيب، وزد على عديله نصيباً، فيصير مال وجذر يعدل أربعة أنصباء. فاجعل المال عدداً مجذوراً إذا زدت عليه جذره انقسم على أربعة، وذلك ستةَ عشرَ، وإذا زدت عليها جذرها، صار عشرين، فاقسمها على أربعة، فالنصيب إذاً خمسة، فإذا أنقصت من النصيب وهو خمسة جذر المال، وهو أربعة بقي واحد، وهي الوصية، فانقصه من المال تبقى خمسةَ عشرَ بين البنين لكل واحد منهم خمسة، وقد أخذ الموصى له خمسة إلا جذرَ المال.

_ (1) نُذكر أننا نُبقي على مثل هذه؛ لاحتمال أنها جرت من المؤلف مجرى رواية الحديث الشريف: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون".

6841 - فإن أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا جذرَ المال، وأوصى لآخر بجذر ما بقي من الثلث. فإن شئت جعلتَ التركة تسعة أموال، وقلت: جذورها ثلاثة [أجذار] (1)، من لفظ التسعة، وتجعل نصيبَ كلِّ ابن مالَيْن، وثلاثةَ أجدار، وتجعل الوصيةَ بالنصيب مالَيْن وثلاثة أجذار، على مقدار نصيب كل ابن. وإنما وضعنا المسألة كذلك، حتى ينتظم [لنا] (2) استثناء جذر التركة من النصيب الموصى به. فقدَّرنا كلَّ نصيب مالَيْن وثلاثةَ أجذار، حتى تكون [الوصية] (3) كذلك، والمجموع ستة أموال وتسعة جذور. وإذا كان المال تسعة والتصرف بالوصايا في الثلث، فالثلثان ستة أموال، فهذا هو الذي راعيناه في تقريب وضع الأموال من أنصباء البنين، وألحقنا بكل نصيب ثلاثة جذور ليلحق منها في الوصية بالنصيب؛ حتى يتسق الاستثناء. ثم نبتدىء فنقول: نأخذ من الثلث للوصية بالنصيب مالَيْن وثلاثةَ أجذار، والباقي من ثلث التركة بعد الوصية الأولى، مال، وإنما قدرناه مالاً، لنخرج جذره إلى الوصية الثانية، فيخرج الوصيتان، وهما مالان وجذر من المال الذي كان بقي من الثلث، والثلاثة الأجذار التي ضممناها إلى المالَيْن لسنا نحسبهما من الثلث، وإنما هي تقدير لفظي من اصطلاحات الجبريين، والمقدار المفهوم ما نبهنا عليه من إمكان الاستثناء، ثم إذا كانت التركة تسعة أموال، وقد أخرجنا مالَيْن [للوصية] (4) الأولى، [وأخرجنا] (5) جذر مال [للوصية الثانية] (6)، فيبقى من الثلث مالٌ غيرَ جذر، فنضمه إلى الثّلثين، فتصير سبعة أموال إلا جذراً واحداً يعدل أنصباء البنين، وهي ستة

_ (1) كأن هذه اللفظة مقحمة لا معنى لها. (2) في الأصل: لما. (3) في الأصل: النصيب. (4) في الأصل: من الوصية. (5) في الأصل: فأخرجنا. (6) زيادة من المحقق.

أموال، وتسعة أجذار، فإذا جبرتَ وقابلت، صار مال واحد يعدل عشرة أجذار؛ فإنا نسقط ستة أموال بستة أموال، فبقي مال في مقابلة عشرة أجذار: تسعة وضعناها في المسألة، وجذر عاشر زدناه للمقابلة. وإذا كان المال يقابل عشرة أجذار، والجذر عشرة، والمال مائة، وقد قدرنا التركة تسعةَ أموال، فهي تِسعُمائة، والنصيب مالان وثلاثة أجذار، فهو إذاً مائتان وثلاثون، ووصية الأول نقدرها مائتين وثلاثين، ونسترجع جذر المال، وهو ثلاثة جذور، فنردّها إلى الثلث: ثَلاثمائة، فيبقى للوصية الأولى بعد الاسترجاع مائتان، ويبقى من الثلث مائة، [فنصرف] (1) جذرَها إلى الوصية الثانية، وهو عشرة، والوصيتان جميعاً مائتان وعشرة، فإذا ألقيتهما بقي ستمائة وتسعون، لكل واحد مائتان وثلاثون. وفي هذه المسألة عبارةٌ اصطلاحية لا [يستد] (2) فيها قياس يعدل في الثلث والثلثين، فإنا أخرجنا من الثلث مالَيْن، وثلاثة أجذار، واسترجعنا ثلاثة أجذار، فقياس هذا التعديل أن يقول القائل: "الثلث ثلاثة أموال وثلاثة أجذار، والثلثان ستة أموال وستة أجذار". ولم نضع المسألة كذلك، والسبب فيه أن الجذور التي نستردها نجبر بها بقية الثلث، وبها تصير بقية الثلث مالاً، وكانت تلك الأجذار الثلاثة مقدّرة غيرَ محققةٍ. وهذا بيّنٌ في الامتحان؛ فإنا جعلنا ثلث المال ثَلاثمائة، وقدرنا النصيب مائتين وثلاثين، وانتقص باقي الثلث عن مال؛ فإنّ كل مال مائة، ثم استرجعنا الثلاثين وضممناه إلى [السبعين] (3)، فتم الباقي مائة، وهي المال. [فلكوْن] (4) هذه الجذور الثلاث تقديرية لم نلتزم إثباتَ ضعفها في الثلثين، والثلث في الحقيقة ثلاثة أموال. فحسب. فهذا بيان هذه المسألة. ومما يجب التنبه له أن هذه المسائل المدارة على الأجذار إلى وضع الواضع،

_ (1) في الأصل: فنضرب. (2) في الأصل: يستند، ويستدُّ بمعنى يستقيم، وقد سبقت مراراً. (3) في الأصل: التسعين. (4) في الأصل: فلو كانت.

والمسائل الحسابية يُحمل مطلقها على أقل الإمكان، والجذور لا أقل لها ولا نهاية لها في طرق الكثرة، فلهذا قيدنا كل وضع بالمشيئة؛ قلنا: إن شئت. ولو قدرت الأموال أقل أو أكثر، [لاستقام] (1) الكلام، ولكن قد تدق مخارج الكسور، ومُدرَك مخارجها سهل، وإنما [يعسر] (2) على المبتدىء ضمُّ الأجزاء من المخارج المختلفة، وردُّها إلى الكسور المعتادة التي ينتظم منها الأجزاء المألوفة، فوضع الحذاق مسائل الجذور على وجوه يقرب تناولها. ومن مهرَ في الحساب وتدرّب في العمل، وضع اعتبارها وحط ما مضى؛ فإن هذه المسائل لا يقع بها الفتوى في المقدار إلا إذا شرطت. فهذا منتهى الإمكان في البيان. 6842 - فإن أوصى لرجل بثلث ماله إلا جذراً. فنقدّر المالَ مجذوراً [له ثلث صحيح] (3)، [و] (4) ندفع إلى الموصى له ثلث المال ونسترجع منه جذراً، ونردّه على ثلثي المال، فيكون ثلثا مال وجذر، يعدل ثلاثة أنصباء. وقد جعلنا المال عدداً مجذوراً له ثلث صحيح. وإذا أردنا التقريب، جعلنا ثلثيه بحيث إذا زيد عليه جذرُه، انقسم المبلغ على ثلاثة، وأقل ذلك ستة وثلاثون، فندفع ثلثَها، وهو اثنا عشر إلى الموصى له، ونسترجع منه جذرَ المال، وهو ستة يبقى معه ستة، وهي وصيته، ونزيد ما استرجعناه على ثلثي المال، وهو أربعةٌ وعشرون فيبلغ ثلاثين بين ثلاثة بنين، لكل واحد منهم عشرة. وإن شئت فرضت المال أحداً وثمانين، ودفعت ثُلثَه وهو سبعة وعشرون إلى الموصى له، واسترجعت منه جذر المال وهو تسعٌ، وزدته على ثلثي المال؛ فيبلغ ثلاثة وستين، بين ثلاثة بنين.

_ (1) في الأصل: لاستقامة. (2) في الأصل: العسر. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: أو.

وقد ذكرنا أن هذا التخيير [في] (1) مجاري الحساب في إلقاء المسائل والإجابة عنها، فأما الفقه، فإنه لا يحتمل هذا، ومسلكه ما قدمناه غيرَ مرة. وقد أعدت هذا الكلام عمداً مراراً؛ حتى يستبين الناظر ما يجب. فصل في الوصية بالجذور المضافة إلى الجذور وما يجري مجراها 6843 - ثلاثة بنين، وقد أوصى لأخيه بمثل نصيب أحدهم، ولخاله بجذر وصية الاخ، ولعمه بجذر الوصيتين جميعاً. فنجعل نصيبَ كلِّ ابن مالاً مجذوراً؛ لأنه قدّر [للوصية] (2) بالنصيب جذراً، والوصيةُ بالنصيب مقدارها مقدار نصيب كل ابن، فإذاً وصية الأخ نجعلها مالاً، ونجعل وصية الخال جذراً، وهاهنا موقف يتعين تأمله، فنجعل الوصية بالنصيب مالاً، وهو وصية الأخ، ونجعل وصية الخال جذراً، ولا يتأتى لنا عبارة في الوصية الثالثة على هذا النسق؛ فإنه لا [نملك] (3) أن نقول: اجعلها [مالاً، ولا جذراً] (4)، ولو قلت: اجعلها جذرين، كان خطأ؛ فإنها جذر مالَيْن مجموعين، وليس جذريْ مالَيْن، وهما مختلفان أيضاً؛ فإن أحدهما جذرٌ والآخر مال. فلنُضف (5) الحُسّاب في ذلك، وقالوا: اجعل الوصية للعم أيَّ محدد شئت إلا جذراً، وسننبه على ذلك، إذا اطردت المسألة، فإن جعلتها ثلاثة إلا جذراً، فاضربها في مثلها، وقل: ثلاثة إلا جذراً في ثلاثةٍ إلا جذراً. وقد ذكرنا في أصول الجبر

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: الوصية. (3) في الأصل: تمليك. (4) عبارة الأصل: اجعلها مالاً جذر. (5) كذا، بالنون والضاد، والفاء. ولعلها من أضافه أي أنزله ضيفاً عنده، والمعنى نستعير عبارتهم. أو من أضاف إليه بمعنى استأنس به، أو أضافه بمعنى ضمه إليه. وكل ذلك صالح لأن يُراد هنا (المعجم الوسيط).

والمقابلة معنى الضرب في مثل هذا، فإذا ضربت [ثلاثة] (1) إلا جذراً في ثلاثة إلا جذراً، فالمردود تسعة أعداد، ومال إلا ستة أجذار، فإنك تحتاج إلى أربع ضربات، فنضرب ثلاثة في ثلاثة فترد تسعة، وتضرب إلا جذراً في ثلاثة، فترد ثلاث مرات إلا جذراً، وتضرب الثلاثة في إلا جذراً، فترد ثلاثة أخرى إلا جذراً، فيجتمع ست مرات إلا جذراً. وبقيت ضربةٌ واحدةٌ وهي ضربة إلا جذراً في إلا جذراً، وهذا يردّ مالاً زائداً، فالمجموع تسعة أعداد ومال إلا ستة أجذار، وهذا يعدل وصية الأخ [والخال] (2) وهما مال وجذر. وهذا موضع التنبيه، كما ذكرناه. فنقول: أخذنا عدداً على حسب المشيئة، واستثنينا منه جذراً، ثم ضربناه في نفسه حتى يصيرَ مجذوراً، فيصير المبلغ بعد الضرب معادلاً لما نطلبه؛ فإنا [نَبغي] (3) المالَ والجذرَ (4) مجموعين، وهما في [الوضع] (5) مجهولان، وإنما نتسلق بهذه الطريقة عليها حتى نضعَها وضعاً يستقيم فيه ما نريد، وإنما استثنينا جذراً من العدد الذي اخترناه حتى إذا ضرب في نفسه بطرف (6) استثناء الجذر، ثم ينتهي الكلام بالجبر والمقابلة إلى معرفة قيمة الجذور أيضاً، ففي ضرب عدد إلا جذراً في مثله ردُّ مالٍ زائد، ومعنا مال وجذر، فنجعل الفرضان في المعادلة، [فنعدّل] (7) ونقول: تسعة أعداد ومال إلا ستة أجذار، تعدل مالاً وجذراً، فنجبر الأعداد بستة أجذار، ونزيد على عديلها مثلها، فيحصل معنا تسعة أعداد ومال في مقابلة مال وسبعة أجذار، فالمال بالمال، تبقى سبعة أجذار في مقابلة تسعة أعداد، فقيمة كل جذر واحدٌ وسبعان، فنضربها في مثلها، فيكون أحداً وثمانين جزءاً من أجزاء التسعة وأربعين

_ (1) زيادة من المحقق. (2) مزيدة من المحقق. (3) في الأصل: نُبقي. وهو تحريف خفي يدق مدركه. (4) عبارة الأصل: جذر المال والجذر. (5) في الأصل: الموضع .. والمراد بالوضع هنا: الفرض والتقدير. (6) كذا. (7) في الأصل: فنعول.

جزءاً من درهم؛ فإن الدرهم إذا سبّعناه، وضممنا إليه [السُّبعَيْن] (1)، ثم ضربنا تسعة في تسعة، فترد أحداً وثمانين، وليس هذا البسط بالأَتساع الذي نعهد، إنما هو ضربٌ؛ فإن الجذر يضرب في نفسه، ولكنا قلنا: أحداً وثمانين جزءاً من أجزاءِ تسعة وأربعين، لأن كل حصة الدرهم من أحدٍ وثمانين تسعة وأربعين، فقل: هذا هو المال، وهو نصيب كل ابن، وكذلك وصية الأخ، ووصية الخال مثل جذر هذا المال، وذلك درهم وسبعان، وصيّرنا الأجزاء ثلاثة [وستين] (2) من أجزاء تسعة وأربعين من درهم، وجملة وصيَّتَيْ الأخ والخال مائة وأربعة وأربعون جزءاً من أجزاء تسعة وأربعين، وجذرها درهم وخمسةُ أسباع، فهي وصية العم. والوصايا كلها مائتان وثمانية وعشرون من أجزاء تسعة وأربعين. وإذا [جُعلت دراهم] (3) وقُرّب القول في الكسر، [فهو] (4) أربعة دراهم واثنان وثلاثون جزءاً من تسعة وأربعين جزءاً من درهم، وجملة المال ثمانية دراهم وثلاثة وعشرون جزءاً من تسعة وأربعين جزءاً من درهم، والوصايا زائدة على ثلث المال. 6844 - فإن أوصى لأخيه بجذر نصيب أحدهم، ولعمه بجذر باقي النصيب، فاجعل النصيب مالاً مجذوراً، ووصية الأخ جذرَه، وأما الوصية بجذر باقي النصيب، فأمر لا يهتدى إليه وَضعاً، كما ذكرناه في الوصية الثالثة في المسألة الأولى. والوجه أن نجعل وصيةَ العم أي عدد شئت إلا جذراً، فإن جعلته ثلاثةً إلا جذراً، فاضربها في مثلها، فتكون تسعة أعداد ومال إلا ستة أجذار، وهذا يعدل مالاً إلا جذراً، وهو الباقي من نصيب الابن بعد إخراج وصية الأخ، فإذا جبرت وقابلت، فنقول نجبر ما في هذا الجانب بستة أجذار، ونزيد مثلها على الجانب الآخر، وفي الجانب الآخر مال إلا جذر، فإذا زدت عليه [ستة] (5) أجذار، صار مالاً وخمسة

_ (1) في الأصل: التسعين. (2) في الأصل: وثلاثون. (3) في الأصل: "وإذا جمعت درهم". (4) في الأصل: "وهو". (5) في الأصل: ثلاثة.

أجذار في مقابلة تسعة [أعداد] (1) ومال، فالمال بالمال تبقى تسعة أعداد في مقابلة خمسة أجذار، فقيمة الجذر، درهم وأربعة أخماس درهم، فاضربه في مثله، فيكون أحداً وثمانين جزءاً من أجزاء خمسة وعشرين، وهي ثلاثة دراهم وستة أجزاء من خمسة وعشرين جزءاً من درهم، وذلك هو النصيب، فانقُص منه وصية الأخ [جذرها] (2): درهم وأربعة أخماس، تبقى ستة وثلاثون جزءاً من أجزاء خمسة وعشرين، فانقص منها وصية العم، وهي جذر هذه الستة والثلاثين جزءاً من أجزاء خمسة وعشرين، وجذر هذا المبلغ درهم وخمس، فالوصيتان جميعاً ثلاثة دراهم، والتركة كلها اثنا عشر درهماً وثمانية عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درهم. 6845 - ثلاثة بنين وقد أوصى لخاله بجذر نصيب ابن، ولعمه بجذر وصية الخال، ولأجنبي بجذر وصية العم. فاجعل وصيةَ الأجنبي أيّ عدد شئت، بعد أن يكون أكثر من واحد، وإن جعلته اثنين، فوصية العم أربعة، ووصية الخال ستة عشر، ونصيب كل ابن مائتان وستة وخمسون درهماً، وجذرها ستة عشر، وجملة المال سبعمائة [وتسعون] (3). وإنما كان كذلك لأن وصية الأجنبي جذر وصية العم، فإذا كانت وصية الأجنبي اثنين، فوصية العم أربعة، ووصية العم جذر وصية الخال، وهذا التناسب يقتضي أن يكون وصية الخال ستةَ عشرَ، ووصية الخال جذر النصيب، فلذلك صار نصيب كل ابن مائتين وستة وخمسين. فصل في الجمع بين التكملات والجذور 6846 - ثلاثة بنين وقد أوصى لرجل بتكملة ثلث ماله بجذر نصيب أحدهم. فالوجه أن تجعل ثُلثَ المال مالاً وجذراً. وادفع المال إلى الموصى له، يبقى

_ (1) في الأصل: أجذار. (2) في الأصل: جذر. (3) في الأصل: وسبعون.

جذر، فردّه على ثلثي المال، فيكون الثلثان مالَيْن وثلاثةَ أجذار، وذلك يعدل ثلاثةَ أموال؛ لأن نصيب كل ابن مال، فنسقط مالين، بقي مال واحد يعدل ثلاثةَ أجذار، فجذر المال ثلاثة، والمال تسعة، وقد كان ثلث المال مالاً وجذراً، فالثلث اثني عشر، والتركة ستة وثلاثون، والوصية تسعة، نسقطها من المال يبقى سبعة وعشرون، بين ثلاثة بنين، لكل واحد تسعة، وللوصية تسعة، وقد أخذ الموصى له تكملة الثلث بجذر نصيب أحدهم، وذلك مثل ثلث المال إلا جذر نصيب أحدهم. 6847 - فإن أوصى بتكملة ربع ماله بجذر نصيب أحدهم، وأوصى لآخر بجذر ما تبقى من [ثُلثه] (1). فالوجهُ أن نجعل النصيب مالاً، لمسيس الحاجة إلى الجذر، ثم نقول: ثلث التركة مالٌ، ووصيةُ الرجل الأول، وهو ربع التركة إلا جذراً -وهذا معنى التكملة بالجذر- ثم نُسقط التكملة من الثلث، فيبقى من الثلث مال؛ فإنا جعلنا الثلث تكملة على حسب الوصية مالاً، ثم كما حططنا التكملة من الثلث تقديراً، فكذلك ننقصُ من المال الباقي من الثلث الوصيةَ الثانيةَ، وهي جذرُ المال، يبقى من الثلث، مالٌ إلا جذراً، فالثلثان مالان ونصف التركة إلا جذرين، وقد ضممنا إلى الثلثين ما كان بقي من الثلث بعد الوصيتين،. وهو مال إلا جذر، فيجتمع معنا ثلاثة أموال، ونصف التركة إلا ثلاثة أجذار. وهذا المجموع يعدل أنصباء البنين، وهي ثلاثة أموال، فنجبر ما معنا بثلاثة أجذار، ونزيد على الأنصباء مثلها، فتصير ثلاثة أموال ونصف تركة معادلة لثلاثة أنصباء، وثلاثة أجذار، فنسقط الأموال بالأموال، فيتبقى نصف تركة في مقابلة ثلاثة أجذار، فالتركة إذاً ستة أجذار. وثلثها جذران، وقد كان ثلث التركة مالاً وربع تركة إلا جذراً، فربع التركة إذاً جذر ونصف، فإذا استثنيت منه الجذرَ، بقي نصفُ جذرٍ، وهو تكملة الربع، وذلك وصية الأول، فانقصها من ثلث التركة، وهو جذران، يبقى جذر ونصف، يعدل مالاً؛ من أجل أنا جعلنا باقي الثلث مالاً، فالمال درهمان وربع، وهو نصيب كلِّ ابن، وجذره درهم ونصف، والتركة ستة أجذار، فهي تسعة

_ (1) في الأصل: ثلاثة.

دراهم، فخذ ثلثها: ثلاثة، وانقص منها تكملة الربع، وذلك ربع [الستة] (1) إلا جذرَ النصيب، وهو ثلاثة أرباع درهم، فإن ربع التسعة درهمان وربع، فإذا حططت منه جذر النصيب وهو درهم ونصف، بقي ثلاثة أرباع درهم، فهذه الوصية الأولى، فيبقى من الثلث درهمان وربع، فادفع جذرها إلى الموصى له الثاني، وذلك درهم ونصف، يبقى من الثلث ثلاثة أرباع درهم، فردّها على ثلثي المال، وهو ستة، فيبلغ ستة وثلاثة أرباع بين ثلاثة بنين لكل واحد منهم درهمان وربع. وقد نجز غرضنا من القول في الجذور، وما يتعلق بها. القول في الوصايا المقيدة بالدراهم والدنانير وما في معناها. فصل في الوصية بالنصيب وبدراهم مقيدة 6848 - مضمون هذه المقالة قريبٌ، وإنما يكتسب بعض الغموض إذا ضُمّ إليه مقتضى الأبواب المتقدّمة؛ فإذا تركبت المسائل أحوجت إلى بعض الفكر. فنقول: إذا كان ثلاثة بنين، وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم ودرهمٍ. فاجعل التركة أيَّ عدد شئت بعد أن تكون بحيث إذا عزلت منها درهماً، وقسمت الباقي بين ثلاثة بنين والموصى له على أربعة، كان النصيب المفروض للواحد مع الدرهم الذي عزلت مثلَ ثلث التركة أو أقل منه. فإن جعلنا التركة عشرة دراهم، فانقص منها درهماً أولاً، تبقى تسعة فاقسمها على أربعة بنين؛ فيكون النصيب الخارج من القسمة درهمين وربعاً، فَزِدْ عليه الدرهم الذي نقصته، فيكون ثلاثة وربعاً، فهي الوصية. ولكل ابن درهمان وربع. فإن أردت أن يزول الكسر وتخرج الأنصباء صحيحة، فاطرح الدرهم من العشرة أولاً، فتبقى تسعة فاضربها في أربعة، فتبلغ ستة وثلاثين، فزد عليها الدرهم الذي

_ (1) في الأصل: " ربع السبعة الأجذار النصيب " وهو تصحيف نشأ من تداخل كلمتين في كلمة مع تحريف الستة إلى السبعة.

أسقطت، فيبلغ سبعة وثلاثين، فهي التركة ونصيب كل ابن تسعة لأنه كان لكل ابن في الأصل درهمين وربع، وإذا ضربت ذلك في أربعة، فإن ذلك تسعة، وللموصى له ربعها وزيادة درهم، فذلك عشرة. فإن جعلت التركة ثلاثة عشر درهماً، فانقص منها درهماً، تبقى اثنا عشر بين أربعة لكل واحد منهم ثلاثة، فزد الدرهم على الثلاثة يكون أربعة، فهي وصية الموصى له، وقد خرجت السهام كلها صحيحة بلا كسر. والقسمة التي ذكرها الحُسّاب تتفاوت بتفاوت الأعداد المفروضة تفاوتاً بيّناً، فإذا فرضنا المال عشرة، ونزلنا القسمة عليها، خرج للموصى له ثلاثة وربع، وهو أقل من الثلث. ولو فرضنا القسمة من أحدٍ وعشرين، وعزلنا درهماً، وقسمنا عشرين بين أربعة خمسة خمسة، وزدنا الدرهم المعزول على القسمة، فالوصية تصح من هذا العدد، والنسبة من أحدٍ وعشرين أقل من ثلاثة وربع من عشرة، وكلما ارتقينا في العدد، وفرضنا عدداً منقسماً على أربعة وزيادة درهم، قلّت الوصية، والأربعةُ من الثلاثة عشر أقل من ثلاثة وربع من عشرة. ولو فرضنا القسمة من تسعة، فنعزل درهماً منها، ونقسم الثمانية على أربعة، فنصيب كل واحد درهمان، فإذا ضممنا الدرهم المعزول إلى الوصية كانت الوصية ثُلثاً من غير نقصان. وإن جعلنا المال خمسة وعزلنا درهماً، وقسمنا الأربعة على الأربعة، وضممنا الدرهم المعزول إلى الوصية، زادت الوصية على الثلث. فإذا تبين ما ذكرناه من نقصان الوصية بالجزئية إذا كثر العدد، وثبت زيادة الوصية بالجزئية إذا قل العدد، فما وجه الفقه والفتوى؟ وكيف ننزله، والفقه لا يحتمل التخيّر بين القليل والكثير؟ فالذي يجب القطعُ به عندي أن الوصية إذا كانت مطلقة، يجب تنزيلها على ما يصادَف في التركة، فنعزل درهماً، ونقسم الباقي على أربعة، ثم نرد الدرهمَ إلى الوصية، ثم ننظر: فإن كانت الوصية منحصرة في الثلث، جازت ونفذت، وإن

زادت على الثلث، افتقرت الزيادة على إجازة الورثة. وهذا بمثابة [تنزيلنا] (1) الوصيةَ بجذر المال قدراً وجنساً، [فإن كان] (2) المال القائم مما يُطلَبُ جذره في جنسه، لكونه مقدّراً، نزلنا الوصية عليه، وإن كان متقوّماً نزلناها على قيمته. فهذا حظ الفقه. وما ذكره الحساب تقديراتٌ، لا ينزل الفقه عليها، إلا بشرط الموصي، كما ذكرناه في باب الجذر، وذلك بأن يقول: تركتي عشرة دراهم، فقسموها أحداً وعشرين عدداً، وزيدوا للوصية واحداً من العدد، فإذْ ذاك ظهر التفاوت. ومما يجب التنبّه له على وضوحه: أنه إذا أوصى لرجل بنصيب أحد البنين وقال زيدوه درهماً، فقد يتخيل المتخيل أنا نقسم المال [أقساماً] (3) من غير تقدير عزل الدرهم، ونسلّم إلى الموصى له ربعاً من هذه الجهة، ونزيده درهماً مسترجعاً من أنصباء البنين، وهذا زلل، لا سبيل إلى المصير إليه، ومقتضى الوصية عزلُ الدرهم، وقسمةُ الباقي أرباعاً، ثم ردُّ الدرهم. وعلى هذا الوجه ينتظم زيادة الوصية على ما حصل لكل ابن بدرهم، ولو صرفنا إليه ربعاً قبل عزل الدرهم، ثم ضممنا إليه درهماً، لكانت زيادة الدرهم على كل (4) نصيب أكثر من درهم. وإنما نبهنا على مسلك الفقه، وذكرنا مفارقة طرق الحُسّاب لمسلك الفقه، وحملناها على تقريبات [للدربة] (5)، فلا نعود إلى هذا التفصيل فيما نذكر من الفصول بعد ذلك، ونقتصر على طرق الحُسّاب، فإن سنحت طريقة في الفقه سوى ما نبهنا عليه، لم نغفل عنها، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: تنزيلها. (2) في الأصل: "فكان". (3) مكان كلمة مكشوطة في الأصل، وقدرناها على ضوء السياق. (4) على كل نصيب: المعنى على النصيب، أي جنس النصيب. وأمرُ الحساب واضح لمن له شيء من الإلمام به. (5) في الأصل: كلمة غير مقروءة.

فصل في الوصية بالنصيب مع استثناء [دراهم مقيدة] (1) منه 6849 - ثلاثة بنين، وقد أوصى بنصيب أحدهم لإنسان إلا درهماً. فالطريق فيه إن قدرنا التركة عشرة دراهم مثلاً، أن نزيد عليها درهماً مقدّراً، فتكون أحدَ عشرَ درهماً، فنقسمها بين أربعة، فيخرج من القسمة اثنان، وثلاثة أرباع، فذلك نصيب كل ابن، وننقُص من الوصية درهماً، فيبقى للموصى له درهم وثلاثة أرباع، هي الوصية، ونقدِّر التركة في الأصل عشرة، وننقص منها للوصية درهماً وثلاثة أرباع، تبقى ثمانية دراهم وربع بين ثلاثة بنين، لكل واحد منهم درهمان، وثلاثة أرباع. وهذا سهل المُدرك. وإن أردت إخراج المسألة من عددٍ صحيح، فقدّر للموصى له أيَّ عدد شئت، وأثبت لكل ابنٍ مثله مع زيادة درهم، فإن شئت قلت: للموصى له درهمان، ولكل ابن ثلاثة، والمجموع أحد عشر، فنقدِّر التركة أحد عشر، وإن شئت قلت: للموصى له ثلاثة، ولكل ابن أربعة، وهكذا إلى حيث تزيد. وهذا وفصولٌ بعده من الجليّات التي لا حاجة إلى استعمال طريقة [مقيَّدة] (2) لاستخراج المجاهيل فيها. 6850 - وذكر بعضُ المتكلفين طريقةً، وجرُّوا إلى أنفسهم وجوهاً من التعقد، حيث لا حاجة إليها، ولسنا لأمثالها، فمما ذكروه: ما إذا أوصى لرجلٍ بسدس ماله، وبدرهم، وله ثلاثة من البنين، فالوجه إخراجُ السدس الكامل، وإخراجُ درهم غيرِه، وقسمةُ الباقي على البنين، وهو بمثابة ما لو أوصى لرجلٍ بسدس ماله، وأوصى لآخر بدرهم، فنقيّد الوصيتين، ونقسم التركة بعدها على الورثة [كما] (3) كانوا.

_ (1) في الأصل: درهم نقيده. (2) في الأصل: مفيدة. (3) في الأصل: ثم.

وإن أردت أن تتكلف تصحيح فريضة الميراث من عددٍ صحيح [وهذا] (1) من اقتراحات الحسّاب، التي ليس لها كبير فائدة، ولكن سبيلها أن نقول: نأخذ مالاً ونسقط منه سدسه ودرهماً، تبقى خمسة أسداس إلا درهماً تعدل (2) ثلاثة أنصباء، فنجبر خمسة أسداس المال بالدرهم، ونزيد على الأنصباء درهماً، فييلغ ثلاثة أنصباء ودرهم، تعدل خمسة أسداس المال، فنكمل المال بأن نزيد عليه مثلَ خُمسه، فيصير مالاً كاملاً، ونزيد على ما يعادله أيضاً خُمسه، فيكون مالاً يعدل ثلاثةَ أنصباء وثلاثةَ أخماس نصيب ودرهماً وخمس درهم، فنضرب الأنصباء الثلاثة وثلاثة أخماس نصيب، في عدد يصير به المبلغ مقداراً إذا زدت عليه الدرهم والخمس، صار الجميع عدداً صحيحاً، وذلك بأن نضربها في ثلاثة، فيبلغ عشرة دراهم، وأربعة أخماس درهم، وإذا زدت عليها الدرهم والخمس، صار اثني عشر درهماً، والفرض فيه إذا كان سهمٌ مما معك درهماً، فلصاحب السدس والدرهم ثلاثة دراهم، يبقى تسعة دراهم، بين ثلاثة بنين لكل واحد منهم ثلاثة. 6851 - ومما يظهر مُدركه أيضاً أن يوصي لرجل بسدس ماله إلا درهماً، فالوجه فيه أن نعمد إلى سدس التركة، ثم نحط منه درهماً، ونسلّمه إلى الموصى له، ونقسم خمسة أسداس المال والدرهم الزائد بين الورثة، على فرائض الله تعالى. فإن أردت فرض عدد صحيح، فوجهه أن نقول: نأخذ مالاً، ونُلقي سدسه، ونسترجع منه درهماً، ونزيده على خمسة أسداس المال، فيكون الباقي خمسةَ أسداس مال ودرهماً تعدل ثلاثة أنصباء فتكمل أجزاء المال، وسبيل تكميله أن نزيد عليها مثل خُمسها، وإذا أردنا ذلك، زدنا على كل ما في المسألة مثل خمسه، حتى يعدّل الأمر ويتناسب، فنقول: مال ودرهم وخمس درهم، يعدل ثلاثة أنصباء وثلاثة أخماس، فاضرب الأنصباء والأخماس في عدد إذا أنقصت من مبلغه درهماً وخُمسَ درهم، كان الباقي عدداً صحيحاً، وذلك سبعة، واستخراجُ مثل هذا العدد بالدُّربة والامتحان، ولولا سهولته، لاستخرج الحساب مسلكاً يسهل العبور فيه من العدد الذي نطلبه في

_ (1) قدرناها مكان كلمة مكشوطة من الأصل. (2) عبارة الأصل: تعدل منه ثلاثة أنصباء.

هذه المسألة سبعة، فاضرب فيها ثلاثة وثلاثة أخماس، فيبلغ خمسة وعشرين وخُمساً، فإذا أسقطت منها الدرهم والخمس، بقي أربعةٌ وعشرون، فمنها تصح المسألة، فادفع سدسها، وهو أربعة إلى الموصى له، واسترجع منه درهماً، تبقى ثلاثة، وهو مثل سدس المال إلا درهماً، والباقي من المال بعد هذه الوصية أَحدٌ وعشرون بين البنين، لكل واحد منهم سبعة، وقس على هذا ما في مبناه. فصل في الوصية بالنصيب وبجزءٍ مفروض ودرهم أو دراهم معينة هذا النوع [يُحوج] (1) إلى استعمال الطرق المرشدة إلى الكشف من غير ذكر درهم، فإذا ذكر الدرهم [زادت] (2) تعقيداً، فنقول فيها: إذا خلّف خمسةَ بنين، وقد أوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم ودرهم، وأوصى لآخر بثلث ما تبقى من ثلثه ودرهم. فخذ ثلثَ مال، واطرح منه نصيباً ودرهماً، يبقى ثلثُ مال إلا نصيباً، وإلا درهماً، فاطرح منه للموصى له الثاني ثلث هذا الباقي ودرهماً آخر، وهكذا وصيته. فيبقى تسعا مال إلا ثلثي نصيب وإلا درهماً وثلثي درهم. أما استثناء ثلثي النصيب فبيّن، وأما استثناء الدرهم، فلنسلّمها إلى الوصية الثانية الدرهم، وأما ثلثا الدرهم، فقد كان الباقي من الثلث بعد الوصية [الأولى] (3) ناقصاً بدرهم، فلما أخذ الموصى له الثاني ثلثه أخذه مع نقصان ثلث درهم، فبقي نقصان ثلثي درهم، فالباقي إذاً تسعا مال إلا ثلثي نصيب، وإلا درهم، وثلثي درهم، فزد ذلك على ثلثي المال، فيصير المجموع ثمانية أتساع مال، إلا ثلثي نصيب، وإلا درهماً وثلثي درهم تعدل خمسة أنصباء، ونجبر الثمانية الأتساع بما فيها من الاستثناء، فتعدل بعد المقابلة ثمانيةُ أتساع

_ (1) في الأصل: يخرج. (2) في الأصل: زدت. (3) في الأصل: الثانية.

مال خمسةَ أنصباء وثلثي نصيب ودرهماً، وثلثي درهم، فكمّل أجزاء المال بأن تزيد عليها ثمنها، ونزيد على ما يعادلها أيضاً ثمنها، فيكون مال يعدل ستةَ أنصباء، وثلاثة أثمان نصيب، ودرهماً وسبعة أثمان درهم. هكذا تخرج إذا تأملتَ، فلم نطل الكلام بذكره، فاطلب عدداً إذا ضرب فيه ستة أنصباء وثلاثة أثمان نصيب، بلغ مبلغاً إذا زدت عليه الدرهم والسبعة الأثمان، كان جميع ذلك عدداً صحيحاً، وذلك العدد ثلاثة، فاضربها في ستة وثلاثة أثمان، فيكون تسعةَ عشرَ وثمناً، فإذا زدت عليه الدرهم والسبعة الأثمان، كان المبلغ أحداً وعشرين. ومن ذلك تصح القسمة، والنصيب ثلاثة، فإنك بسطت الأنصباء بالضرب في ثلاثة. والامتحان: أن نأخذ ثلثَ المبلغ سبعة، وتدفع إلى الموصى له بالنصيب والدرهم أربعة: ثلاثة عن جهة النصيب، والرابع هو الدرهم الزائد، يبقى ثلاثة، فادفع منها [ثلثها] (1) ودرهماً إلى الموصى له الثاني، يبقى درهم نزيده على ثلثي المال، وهو أربعة عشر، فيبلغ خمسة عشرَ، بين خمسة بنين لكل واحد منهم ثلاثة مثل النصيب. فصل في الوصية بالنصيب وبالجزءِ مع زيادة درهم واستثناء درهم. 6852 - والمثال: خمسة بنين، وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا درهماً، ولآخر بثلث ما تبقى من ثُلثه ودرهم. فالوجه أن نأخذ ثلثَ مال، ونلقي منه نصيباً إلا درهماً، يبقى ثلثٌ ودرهم إلا نصيب، فادفع ثلثَ ذلك ودرهماً إلى الموصى له الثاني، يبقى [تُسعا مالٍ] (2) إلا ثلث درهم، وثلثي نصيب.

_ (1) في الأصل: ثمنها. (2) في الأصل: تسعة أثمان. ويا بُعد ما بين العبارتين. ويا للْجهد والوقت المبذول لإدراك الصواب من الخطأ.

وبيان ذلك أنه بقى بعد الوصية الأولى ثلث [مال] (1) ودرهم إلا نصيب، وأخذ [الثاني] (2): ثلثَ الثلث والدرهم، فكان مأخوذه من الدرهم والثلث جميعاً، فبقي من الدرهم ثلثاه، فصرفنا درهماً إلى الوصية الثانية، وذلك بإكمال ثلثي الدرهم بثلث درهم، فبقي في التُّسعين نقصان ثلث درهم، مع نقصان ثلثي نصيب، فنزيده على ثلثي المال، فيكون ثمانية أتساع مال إلا ثلث درهم، وثلثي نصيب تعدل خمسة أنصباء، فنجبر ونقابل، فيصير ثمانية أتساع مال معادلاً خمسة أنصباء وثلثي نصيب وثلث درهم. نكمل أجزاء المال بأن نزيد عليها ثُمْنها، وزِدْ على مقابلها مثلَها، فيصير مال في مقابلة ستة أنصباء وثلاثة أثمان نصيب، وثلاثة أثمان درهم، وإذا نظرت إلى المخارج وبسطتها، ثم [عر ـت] (3) ضمَّ بعضها إلى بعض، استبنت أن الزيادة على جانب النصيب يبلغها هذا المبلغ، فلم نُطوّل ذكرَها لوضوحها، فقد صار مالٌ في مقابلة ستة أنصباء وثلاثة أثمان نصيب وثلاثة أثمان درهم تعدل المال. فاطلب عدداً إذا ضربته في الستة والثلاثة الأثمان بلغ مبلغاً إذا زدت عليه ثلاثة أثمان درهم، صار الجميع عدداً صحيحاً، وذلك العدد سبعة، فاضرب سبعة في ستة وثلاثة أثمان، فيبلغ أربعة وأربعين وخمسة أثمان، فإذا زدت عليها ثلاثة أثمان، بلغ خمسة وأربعين، [تصح] (4) منها القسمة، والنصيب سبعة؛ لأنك ضربت الأنصباء في سبعة. والامتحان: أن نأخذ ثلث المال وهو خمسة عشر [ندفع منها الوصية الأولى ستة، فهي نصيب إلا درهماً، يبقى تسعة] (5) فندفع منها إلى الموصى له الثاني [وصيته] (6)

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل الباقي. وهو تصحيف قريب شكلاً، مرهقٌ مضلِّلٌ معنى. (3) كذا وبدون نقط. ولما أدْر لها وجهاً، والسياق واضح على أية حال (انظر صورتها). (4) زيادة من المحقق. (5) زدناها تكملة للعمل الحسابي. (6) لا يتم الكلام بدون هذه اللفظة.

وذلك أربعة [أي ثلث الباقي مع درهم] (1) تبقى خمسة، نزيدها على ثلثي المال، فبلغ خمسة وثلاثين بين خمسة بنين: لكل واحد منهم سبعة، مثل النصيب الخارج. فصل في الوصية بالتكملة والجزء مع ذكر الدرهم إثباتاً واستثناءً 6853 - أربعة بنين. وقد أوصى بتكملة ثلث ماله بنصيب أحدهم ودرهمٍ، ولآخرَ بثلث ما تبقى من ربعه إلا درهم. ومعنى الوصية الأولى أن نأخذ نصيباً ودرهماً، يثبت للموصى له بالتكملة ما وراء ذلك، إلى تمام ثلث المال، فالدرهم مع النصيب وليس موصىً به مع التكملة، فاحفظ ذلك. وعُد إلى المسألة وقل: نأخذ ثلثَ ماله، وندفعه إلى الموصى له الأول ونسترجع منه نصيباً ودرهماً، فنُبقي من الثلث نصيباً ودرهماً. والآن نحتاج إلى تقدير الوصية الثانية؛ فإنه أوصى بثلث ما تبقى من ربعه إلا درهماً. فالوجه أن ننقص مما بقي من الثلث ما بين الثلث والربع؛ فإنه تعرض في الوصية الثانية للربع، وبين الثلث والربع نصف سدس، فنلقي مما معنا نصفَ سدس مال، ليكون الباقي باقي الربع عن الوصية الأولى، فإذا ألقيت مما معك من الثلث نصفَ سدس المال، ليكون الباقي باقي الربع عن الوصية الأولى، بقي نصيب ودرهم، إلا نصفَ سدس، فادفع إلى الوصية الثانية ثلثَ ذلك إلا درهماً؛ إذ هكذا الوصية، يبقى ثلثا نصيب ودرهم، وثلثا درهم إلا نصف [سدس] (2) مال. وبيان ذلك أنه كان معنا نصيبٌ ودرهم، إلا نصف سدس مال، فأخرجنا ثلث ذلك [فخرج] (3) ثلث هذا النصيب الناقص بنصف سدس المال، وخرج ثلث الدرهم

_ (1) تفصيل للوصية الثانية ومقدارها. (2) في الأصل: تسع. (3) صحفت في الأصل إلى: مخرج.

الذي معه، وتبقّى الثلث الخارج من النصيب الناقص حصته من النقصان وهو ثلث نصف سدس المال، فبقي النقصان ثلثي نصف السدس، وهو نصف [تسع] (1) المال. وإن أردت مزيد بيان، فاعتبر ذلك بثمانيةَ عشرَ؛ فإن سدسها ثلاثة وتسعها اثنان، ونصف سدسها واحد ونصف، وثلثا ذلك واحد، وهو نصف [التسع] (2). ثم أخرجنا الوصية الباقية من النصيب الناقص والدرهم، واسترددنا درهماً، فبقي معنا ثلثا نصيب ودرهم وثلثا درهم إلا نصف تسع مال، فنزيده على ثلاثة أرباع المال، فيكون خمسة وعشرين جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من مال، وثلثا نصيب درهم، وثلثا درهم. وبيان ذلك أنا أخذنا المبلغ من ستة وثلاثين للحاجة إلى السدس، وسدس السدس، والتسع، والربع، والثلث، فنأخذ ثلاثة أرباع هذا المبلغ، فيكون سبعة وعشرين، فلما ضممنا ما كان فَضَل من الوصيتين إلى هذا المبلغ، وكان معنا نصفُ تسع، ونصف تسع الستة والثلاثين سهمان، فحططناه مما معنا - بقي (3) خمسة وعشرون جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من مال، وسقط نقصان نصف التسع مما كان بقي من النصيب؛ فانتظم قولنا: إن الباقي خمسة وعشرون جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من مال، وثلثا نصيب ودرهم، وثلثا درهم. وهذه الجملة تعدل أربعةَ أنصباء، فأسقط ثلثي نصيب من الأنصباء، فيبقى ثلاثة أنصباء وثلث، وأسقط الدرهم وثلثي درهم، من الأنصباء، فيبقى ثلاثة أنصباء وثلث نصيب إلا درهماً وثلثي درهم، تعدل خمسة وعشرين جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من المال، فكمِّل أجزاء المال، وبلّغها ستةً وثلاثين، وبين الخمسة والعشرين إلى الستة والثلاثين من طريق العدد أحدَ عشرَ، وهي من طريق النسبة خُمسا خمسةٍ وعشرين وخمسُ خمسها، فالعشرةُ خمساها وأحدٌ خُمسُ خُمسها، فقلنا: كمَّلنا الخمسة

_ (1) في الأصل: وربع. (2) في الأصل: السبع. (3) جواب فلمّا ضممنا.

والعشرين بأن زدنا عليها مثلَ خُمسيها وخمسَ خمسها، فنزيد على الأنصباء والكسر، مع ما فيها من الاستثناء مثلَ خُمسيها وخمسَ خمسها، فيصير أربعة أنصباء، وأربعة أخماس نصيب إلا درهمين وخُمسين. وبيان ذلك أنا زدنا ستة أخماس نصيب لمكان ثلاثة أنصباء؛ فإنا نَبْغي زيادةَ خُمسين، فنطلب ذلك من خَمسين؛ لاحتياجنا إلى ثلث الخمس لمكان ثلث النصيب الذي معنا، ثم نقول: خمسا ذلك عشرين، وخمس خمسها اثنان، فنزيد هذا المبلغ على الخَمْسين، فيصير اثنين وسبعين، وقد قدرنا كل نصيب في الأصل خمسة عشر، فالثلث خمسة، ثم زدنا خُمسي هذا المبلغ وخُمس خُمسه، فزاد اثنان وعشرون، وهو نصيب وسبعة، فإذا جمعت الجميع، وعبّرت، انتظم ما ذكرناه من أن المجموع أربعة أنصباء، وأربعة أخماس نصيب، ثم يزداد الاستثثاء على حسب زيادة المال على هذه النسبة، وقد كان الاستثناء الأول درهماً وثلثي درهم، فبلغ درهمين، وبيانه هيّن مع ما ذكرناه من التنبيه. فاطلب عدداً إذا ضربته في أربعة وأربعة أخماس يكون مبلغه عدداً إذا نقصت منه الدرهمين والخُمْسين بقي عددٌ صحيح، فإن معنا في هذه المسألة استثناء الدرهم، وفي المسائل المتقدمة زيادة الدرهم، فاعتبرنا الضمّ في تلك المسائل، والنقصانَ في هذه المسألة، فامتحن، واضرب في هذا المبلغ ثلاثة، وإذا ضربت ثلاثة في أربعة وأربعة أخماس، بلغ أربعةَ عشرَ وخُمسَيْن، وإذا نقصت منه درهمين وخُمسَيْن، بقي اثنا عشر. ولكن لا تصح القسمة منها؛ فإن كل نصيب ثلاثة لأجل الضرب في ثلاثة، وإذا قسمت اثني عشر على البنين، وهم أربعة: ثلاثة ثلاثة، لم يبق للوصية شيء، فاطلب عدداً تصح منه الوصية وحقُّ الورثة، مع حط الدرهمين والخُمسين. فنقول: ليكن ذلك العدد ثمانية، فاضربها في أربعة وأربعة أخماس، فيبلغ ثمانيةً وثلاثين درهماً وخُمسين، فإذا نقصت منها درهمين وخُمسين، بقي ستة وثلاثون درهماً، فمنها [تصح] (1) القسمة، وقد بان أن النصيب ثمانية، فإنا ضربنا الأنصباء في ثمانية.

_ (1) ساقطة من الأصل.

الامتحان: أن نأخذ ثلث هذا المال، وهو اثنا عشر، فنلقي منه نصيباً ودرهماً تبقى، ثلاثة، فننظر إلى ربع المال، وهو تسعة، فنلقي هذه الثلاثة منها، وهذه الثلاثة هي الوصية الأولى؛ فإنها التكملة بعد النصيب والدرهم، فإن حططناها من الربع وهو تسعة، تبقَّى ستة من الربع، فندفع إلى الموصى له الثاني ثلثها إلا درهماً، فله درهم. إذاً تبقى من الربع خمسة نزيدها على ثلاثة أرباع المال، وهو سبعة وعشرون، فيبلغ اثنين وثلاثين، بين أربعة بنين، لكل واحد منهم ثمانية. فصل في الوصية بالنصيب والجزء والدرهم مع تعيين التركة 6854 - وهذا الفصل يُظهر باقي العلامات، فإنا [نعمل] (1) فيه عن مقدارٍ معيَّن خلّفه الموصي، ويطلب منا [النصيب] (2) فيه، وما عدا ذلك من الفصول والمسائل فَرْضُ أعدادها إلى وضع المجيب، وذلك بالنسبة إلى مضمون هذا الفصل أهونُ. 6855 - المثال: ثلاثة بنين وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم، وأوصى لآخر بثلث ما تبقى من الثلث وبدرهم، وخلف ثلاثين درهماً. فالوجه أن تأخذ ثلثَ المال، وهو عشرة دراهم، فألق منها بالوصية الأولى نصيباً، يبقى ثلث مال إلا نصيب، فألق منها بالوصية الثانية: ثلثها ودرهماً. وثلث العشرة ثلاثة وثلث، فإذا ضممت إليه درهماً كان أربعة دراهم وثلث، فألق منها هذا المقدار للوصية الثانية إلا ثلث نصيب؛ فإن نقصان النصيب يتسلط على العشرة، يبقى من الثلث خمسةُ دراهم وثلثا درهم إلا ثلثي نصيب، وزده على ثلثي المال، وهو عشرون درهماً، فيبلغ خمسةً وعشرين درهماً وثلثي درهم إلا ثلثي نصيب، يعدل ثلاثة أنصباء، فنجبر أجزاء المال بثلثي نصيب، ونزيد على عديلها مثلَها، ثم نبسطها

_ (1) هكذا قدرناها مكان كلمة غير مقروءة. (2) في الأصل: النصف.

أثلاثاً، [فتصير] (1) الأنصباء أحدَ عشرَ، والمال سبعة وسبعين، فنقسم أجزاء المال على أجزاء النصيب، فيخرج للواحد من الأنصباء المبسوطة سبعة، فنتبيّن أن النصيب الذي أطلقناه سبعة. فنرجع ونقول: ثلث المال عشرة، فنلقي منها بالوصية الأولى نصيباً وهو [سبعة] (2)، يبقى من الثلث ثلاثة، فندفع ثلثها ودرهماً إلى الموصى له الثاني، وذلك درهمان يبقى فى درهم، نزيده على ثلثي المال، فيبلغ أحداً وعشرين، نقسمها بين البنين لكل ابن سبعة. وعلى هذا فقس. وقد فرضنا التركة مبلغاً تصح القسمة منه، فإن عيّن السائلُ مبلغاً لا تصح القسمةُ منه، اضطررنا إلى تنزيل القسمة على المبلغ المعيّن، فإن انكسر اتبعناه ضرورةً، ولكن طريق إخراج النصيب ما ذكرناه. 6856 - خلف ابنين وأوصى بمثل نصيب أحدهما إلا ثلث جميع المال، وأوصى لآخر بثلث ما تبقى من الثلث وبدرهم، وخلف ثلاثين درهماً. ذكرنا هذه الصورة لما في ظاهرها من إحالة الاستحالة؛ فإن الوصية بنصيب أحد الابنين لو انفردت، لكانت ثلثاً، واستثناء الثلث منها استثناء مستغرق، ولكن لما جمع إلى ذلك الوصية بثلث ما تبقى من الثلث، تغير وضعُ المسألة، وقد قدمت تردُّداً في تصحيح هذه الوصية من طريق الفقه، والجريانُ على مسلك الحُسّاب في تصحيح هذه الوصية، وله وجة في الفقه قدمته. فالطريق أن نقول: نأخذ ثلث المال، وهو عشرة، ونحط منه نصيباً، ونسترجع من النصيب ثلثَ المال، وهو عشرة، فيصير الثلث في وضع الجبر عشرين درهماً إلا نصيباً، فإنا قدرنا الثلث عشرة، وأخرجنا نصيباً، واسترددنا عشرة، فمعنا إذاً في حساب الثلث عشرون إلا عشرة، فندفع إلى الموصى له الثاني ثلثَ ذلك

_ (1) في الأصل: فنصيب. (2) في الأصل: تسعة.

[ودرهماً] (1) زائداً هكذا الوصية. وثلث العشرين ستة وثلثان، فإذا ضممت إليها درهماً، كان سبعة وثُلثين، ولكنها ناقصة بثلث نصيب، والدرهم في هذه المسائل لا يخصه نقصان، فإنه درهم كامل وليس جزئياً حتى يتسلط عليه نقصان النصيب، فإذاً بقي من الثلث الذي قدرناه بالعمل الحسابي عشرين اثنا عشر درهماً وثُلثٌ إلا ثلثي نصيب، فزده على ثلثي المال، وهو عشرون درهماً في أصل الوضع، فتصير الجملة اثنين وثلاثين درهماً وثلث درهم إلا ثلثي نصيب، وذلك يعدل نصيبين وثلثي نصيب، فابسطهما أثلاثاً، فيكون الدرهم [سبعة وتسعين] (2)، والنصيب ثمانية، فاقسم أجزاء المال على أجزاء النصيب، فيخرج الواحد اثنا عشر درهماً وثمن درهم، فذلك كل مقدار النصيب. الامتحان: أن ندفع إلى الموصى له الأول اثني عشر درهماً وثمن درهم، ونسترجع منه ثلث المال وهو عشرة، يبقى معه درهمان وثمن، وهي وصيتُه، فنطرحها من ثلث المال، وهو عشرة دراهم، فيبقى منها [سبعة] (3) دراهم وسبعة أثمان درهم، فادفع ثلثَها مع درهم إلى الموصى له الثاني، وذلك ثلاثة دراهم وخمسة أثمان درهم، تبقى أربعة دراهم وربع، فزده على ثلثي المال وهو عشرون، فيبلغ أربعةً وعشرين درهماً وربع درهم، بين الابنين لكل واحد منهما اثني عشر درهماً [وثمن درهم] (4)، وهو مثل النصيب الذي خرج بالعمل، وقس على هذا ما في معناه. 6857 - خمسة بنين، وقد أوصى بتكملة ثلث ماله بنصيب أحدهم إلا تكملة خمس ماله بنصيب أحدهم. وأوصى لآخر بثلث ما بقي من الثلث وبدرهم. وخلف ثلاثين درهماً. فخذ ثلث المال، وهو عشرة دراهم، فأسقط منها نصيباً، تبقى عشرة دراهم إلا

_ (1) في الأصل: ثلث ذلك درهمان. (2) في الأصل: تسعة وتسعين. (3) في الأصل: تسعة. (4) ساقطة من الأصل.

نصيباً، وننظر بعد ذلك إلى خمس المال وهو ستة، وسبب النظر في الخمس استثناء تكملة خُمس المال بالنصيب من تكملة ثلث المال بالنصيب، فنأخذ ستة دراهم [من] (1) العشرة التي هي الثلث، ونستثني من الستة نصيباً، كما استثنينا من العشرة نصيباً، وإذا أسقطت ستة دراهم إلا نصيباً من عشرة دراهم إلا نصيباً، بقي أربعة دراهم. ويُخرَّج ذلك على مراسم الجبر: إنه كان معنا عشرة إلا نصيباً، فالآن أخرجنا ستة، واسترددنا نصيباً، فنجبر بما استرددناه نقصان النصيب، ويبقى بعد الستة أربعة دراهم بلا نقصان، فهي الوصية الأولى. فنعود ونقول: نسقط الوصية الأولى وهي أربعة دراهم [من الثلث] (2)، تبقى ستة دراهم، فادفع منها إلى الموصى له الثاني ثلثها ودرهماً، وذلك ثلاثة دراهم، تبقى ثلاثة دراهم، نردّها على ثلثي المال، فيبلغ ثلاثة وعشرين درهماً بين خمسة بنين، لكل واحد منهم أربعة دراهم وثلاثة أخماس درهم. الامتحان: نأخذ الثلث وهو عشرة، ونسقط منها النصيب، وهو أربعة وثلاثة أخماس، يبقى خمسة دراهم وخمسا درهم، وهي التكملة، فاحفظها. ثم خذ خمس المال، وهو ستة دراهم، فأسقط منها النصيب وهو أربعة وثلاثة أخماس، يبقى درهم وخمسا درهم، وذلك تكملة الخمس، فأسقطها من تكملة الثلث وهو خمسة دراهم وخمسا درهم، فتبقى أربعة دراهم، هي وصية الأول، فأسقطها من الثلث، وهو عشرة، تبقى ستة، فللموصى له الثاني منها ثلثها ودرهم، وذلك ثلاثة دراهم [يبقي من الثلث ثلاثة] (3) فزدها على ثلثي المال، وهو عشرون درهماً، فصار ثلاثة وعشرين، بين خمسة بنين، لكل واحد منهم أربعة دراهم، وثلاثة أخماس درهم، مثل النصيب الخارج بالعمل، وعلى هذا البابِ، وقياسِه خروجُ المسائل.

_ (1) في الأصل: ثمن. (2) زيادة من المحقق. (3) زيادة لاستقامة الكلام.

مقال يجمع نوادر المسائل في أبواب مختلفة

مقال يجمع نوادر المسائل في أبواب مختلفة ونحن نأتي بمضمون هذه المقالة مسائلَ. 6858 - مسألة: رجل له أربعة بنين، فأوصى لعمه بمثل نصيب أحدهم وثلث ما أوصى لخاله، وأوصى لخاله بسدس جميع المال وربع ما أوصى به لعمه. فنبتدىء ونقول (والله الموفق): نجعل [وصية] (1) العم أربعة أشياء، ليكون لها ربع؛ إذ المسألة مشتملة على أخذ الخال رُبعاً من وصية العم، ونجعل وصية الخال ثلاثة دنانير ليكون لها ثلث صحيح؛ فإن العم يأخذ مثلَ ثلث وصية الخال، فوصيّة العم إذاً أربعة أشياء، ووصية الخال ثلاثة دنانير، وإذا جعلنا وصيةَ العم أربعةَ أشياء، ووصيتُه نصيبٌ وثلث وصية الخال، فنعلم أنا [إذا] (2) أسقطنا عن وصيته ثلثَ مال الخال، كان الباقي مِثلاً للنصيب؛ فإن وصيته نصيب وثلث وصية الخال، وقد قدّرنا للخال ثلاثة دنانير، فنُسقط ديناراً من أربعة أشياء، وتبقى أربعة أشياء إلا ديناراً، فنعلم من ذلك أن أربعة أشياء إلا ديناراً نصيبُ ابنٍ، ونحفظ هذا الذي عملناه. ثم نعود ونقول: وصية الخال سدس المال وربع وصية العم، وقد جعلنا جميع وصيتِه ثلاثةَ دنانير، وهي سدس المال وربع وصية العم، فتعلم أنا لو حططنا عن وصية الخال ربعَ وصية العم، لكان الباقي سدس المال، فنحط عن ثلاثة دنانير شيئاً وهو [ربع] (3) وصية العم، فتبقى ثلاثةُ دنانير إلا شيئاً، ونعلم أنها مع هذا الاستثناء [سدس] (4) المال، [فنضرب] (5) ثلاثة دنانير إلا شيئاً في مخرج السدس، وهو ستة، فيبلغ ثمانيةَ عشرَ ديناراً إلا ستة أشياء؛ فإنّ ضَرْبَ الثلاثة في الستة ثمانية عشرَ،

_ (1) في الأصل: " نصيب ". (2) ساقطة من الأصل. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: ثلث. (5) في الأصل: فنصرف.

وضَرْبَ [الثلاثة] (1) في الستة [إلا شيئاً] (2) ستُّ مراتٍ إلا شيء، فالخارج من الضرب ثمانية عشر ديناراً [إلا ستةَ أشياء] (3)، وإذا ضعَّفنا ما جعلناه سدس المال بالضرب في الستة، كان المجموع جميع المال، فالمال كله ثمانيةَ عشرَ ديناراً إلا ستةَ أشياء، فنسقط الوصيتين من المال، يعني الوصيتين الكاملتين، قبل تقدير الحط من كل واحد منهما، وإذا أسقطنا ثلاثة دنانير، بقيت خمسةَ عشرَ ديناراً إلا ستة أشياء، فإذا أسقطنا أربعة أشياء وليست الأشياء من جنس الدنانير، فلا ننقص عدد الدنانير، ولكن يزيد الاستثناء، فيبقى خمسةَ عشرَ ديناراً إلا عشرة أشياء؛ ضمَّاً لأربعة الأشياء إلى الستة الأشياء، فإذا فعلنا ذلك، علمنا أن هذا الباقي حصةُ البنين خاصّة -[فإنا] (4) أسقطنا الوصيتين- فاقسمها عليهم، وهم أربعة، فيخرج حصةٌ للواحد ثلاثة دنانير وثلاثة أرباع دينار، إلا شيئين ونصف شيء، فإنا كما نقسم الدنانير نقسم [الأشياء] (5)؛ فإذاً مقدار النصيب ثلاثةُ دنانير وثلاثة أرباع دينار إلا شيئين ونصف شيء. وقد كان في ابتداء الوضع أن أربعة أشياء إلا ديناراً تعدل نصيباً، فنقابل بين ما تقدم وبين ما ظهر آخراً، فيكون أربعة أشياء إلا ديناراً، تعدل ثلاثة دنانير، وثلاثة أرباع إلا شيئين ونصف شيء، فنجبر المبلغين، ونقابل، فنزيد على التقدير الأول في وضع المسألة ديناراً، فتصير أربعة أشياء كاملة، ونزيد على عديلها ديناراً للمقابلة، فيصير أربعة دنانير وثلاثة أرباع، وفي الدنانير استثناء شيئين ونصف، فنجبرها بالاستثناء وهو شيئين ونصف، فتكمل أربعة دنانير وثلاثة أرباع، ونزيد على عديلها شيئين ونصف للمقابلة في المعادلة، فيخرج لنا بعد الجبر والمقابلة ستة أشياء ونصف شيء من غير استثناء في مقابلة أربعة دنانير وثلاثة أرباع، فنبسطها أرباعاً، وتصير الدنانير تسعة عشر، والأشياءُ ستةً وعشرين، فنجعل كلّ عدد عبارة عن واحد من الجنس -على

_ (1) في الأصل: الاثنين. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: إلا ستة عشر شيئاً. (4) في الأصل: فإذا. (5) حرفت في الأصل إلى: الاستثناء.

عادتنا المستمرة في الجبر والمقابلة- فنعبّر ونقول: الدينار تسعة عشرَ، والشيء، ستةٌ وعشرون، ثم نقلب العبارة، فنجعل الشيء تسعةَ عشرَ والدينارَ ستةً وعشرين، وقد كانت وصية العم أربعة أشياء، فنجعل كلَّ شيء تسعةَ عشرَ، فمجموع الأشياء الأربعة إذاً ستةٌ وسبعون. وإذا انتهينا إلى هذا المنتهى، لم نعتبر ما ذكرناه على الجبر والمقابلة، بل نرد الأمرَ إلى ما هو الوصية حقيقةً في وضع المسألة، وقد كانت وصية العم أربعةَ أشياء، وبان أن كل شيء تسعة عشر؛ فهي إذاً ستةٌ وسبعون، ونسقط أيضاً من الدنانير ما كنا زدناه للمقابلة، ونقول: كانت وصية الخال في أصل الوضع ثلاثة دنانير، وقد بان أن كل دينار ستة وعشرون، فهي إذاً ثمانية وسبعون. وكانت وصية العم مثلَ النصيب ومثلَ ثلث وصية الخال، فخذ ثلث وصية الخال وهو ستة وعشرون، فاطرحها من وصية العم وهي ستة وسبعون، تبقى منها خمسون، فهي النصيب، وكانت وصية الخال سدسَ المال وربعَ وصية العم، فخذ ربع وصية العم، وهو تسعة عشر، فاطرحها من وصية الخال، وهي ثمانية وسبعون تبقى تسعة وخمسون، فهي سدس المال، فالمال إذاً ثلاثمائة وأربعةٌ وخمسون، والنصيب خمسون. الامتحان: نجمع الوصيتين التامتين وهما مائة وأربعة وخمسون من المال وهو ثلاثمائة وأربعة وخمسون تبقى مائتان بين أربعة بنين لكل واحد منهم خمسون، مثل النصيب الخارج بالعمل. وقد أخذ العمّ مثلَ النصيب ومثل ثلث وصية الخال، وأخذ الخال سُدسَ المال، ومثلَ ربع وصية العم. وبيان ذلك أنك إذا زدت على النصيب وهو خمسون، ثلث وصية الخال وهو ستةٌ وعشرون، بلغ ستةً وسبعين، وهي وصية العم، وإذا زدت على سدس المال وهي تسعة وخمسون. ربع وصية العم، وهو تسعةَ عشر، بلغ ثمانية وسبعين، وهي وصية الخال، ومجموع الوصيتين أكبر من الثلث، وإنما أجرينا الحساب على تقدير الإجازة. فإن فرض ردٌّ، فالثلث يقسّم على هذه النسبة بين الوصيتين، ونزيد في الثلثين إذا قدّرنا الثلث هذا المبلغ.

6859 - مسألة: خمسة بنين وبنت، وقد أوصى لعمه بمثل نصيب البنت وربع ما أوصى لخاله. وأوصى لخاله بمثل نصيب أحد البنين وخمس ما أوصى لعمه. فنجعل وصيةَ العم عدداً له خمس، فليكن خمسة دنانير، ونجعل وصية الخال عدداً له ربع، فليكن أربعة دراهم، ثم نعلم أنا إذا نقصنا من وصية العم ربعَ وصية الخال، وهو درهم، بقي خمسةُ دنانير، إلا درهم، وذلك مثل نصيب البنت؛ فإن وصية العم مثلُ نصيب البنت، ومثلُ ربع وصية الخال، فإذا حططت ربعَ مال الخال، بقي الباقي نصيب البنت، فقد بان أن نصيب البنت خمسة دنانير إلا درهماً. وإذا نقصت على هذا القياس من وصية الخال وهو أربعة دراهم خُمسَ وصيةِ ْالعم، وهو دينار، فتبقى أربعة دراهم إلا ديناراً، فنعلم أن هذا نصيبُ الابن؛ فإن وصية الخال نصيبُ ابنٍ وخمسُ وصية العم، فإذا سقط خمسُ وصيةِ العم، كان الباقي مثلَ نصيب ابنٍ، فقد خرج لنا أن نصيب البنت خمسة دنانير إلا درهماً، ونصيب الابن أربعة دراهم إلا ديناراً. فنقابل بين الجملتين، ومن ضرورة المقابلة أن تضعِّفَ نصيبَ البنت حتى يعادل نصيب الابن، فنضعّف نصيب البنت، وقرّب نصيب الابن حتى يعتدلا، وقل: نصيب [الابن] (1) عشرة دنانير إلا درهمين، فإن الخمسة كانت مع استثناء درهم، فالعشرة مع استثناء درهمين، فإذاً عشرة دنانير إلا درهمين تعدل أربعة دراهم إلا ديناراً. ولكن لا بد من جبر الاستثناء والمقابلة، فنجبر العشرة بدرهمين، ونزيد [على] (2) نصيب الابن درهمين، ونجبر نصيب الابن بدينار، ونزيد على عديله ديناراً، فيخرج بعد الجبر والمقابلة ستة دراهم تعدل أحد عشر ديناراً، فاجعل الدينارَ بقلب العبارة ستة أسهم، والدرهم أحد عشر سهماً، وكانت وصية العم في الأصل قبل الحط خمسةَ دنانير، فارجع إليها وقل كل دينار ستة، فالمجموع ثلاثون، وكانت وصية الخال

_ (1) في الأصل: البنت. (2) في الأصل: عليها.

أربعة دراهم في الأصل، كل درهم أحد عشرة فالمجموع أربعةٌ وأربعون، وجملة المال على الامتحان الذي تقدم مائتان وثلاثة وثمانون، ونصيب كل ابن ثمانية وثلاثون، ونصيب البنت تسعةَ عشرَ، وقس على هذا نظائره. 6860 - مسألة: رجل له أربعة بنين وقد أوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم إلا ما انتقص نصيب أحدهم بالوصية. فقد ذكرنا من هذا طرفاً من نوادر مسائل الاستثناء، ولكنا ذكرناه مع الوصية بجزءٍ، ونحن نذكر المسألة مع إفراد ذلك، ونبين طريقها، فنقول: المال مقسومٌ أرباعاً بين البنين لولا الوصية، فإذا فرضنا الوصيةَ مثلَ نصيب ابنٍ، فقد دخل [النقص] (1) في نصيب كل ابن بسبب الوصية، فمعنى المسألة: الوصية بمثل نصيب ابنٍ مع استثناء قدر النقصان في نصيبٍ من الوصية. فنأخذ مالاً، ونسقط منه نصيباً فيبقى مالٌ إلا نصيباً، ونسترد من النصيب مقدار النقصان. وعبارة الجبر في ذلك أن نقول: كان لكل ابن ربعٌ لولا الوصية، والآن ليس لواحد منهم ربع، فينتظم أن نقول: الناقص من كل نصيب ربع إلا نصيب، فإذا أخرجنا الوصيةَ من المال، وقدرنا الوصية نصيباً، وقلنا: الباقي مالٌ إلا نصيباً، فنسترجع من ذلك النصيب مقدارَ النقصان، وهو ربع مال إلا نصيب، على التقدير الذي ذكرناه، فيحصل مالٌ وربع مال إلا نصيبان، فإنه كان معنا استثناء نصيب أولاً، وإذا استرجعنا ربعاً إلا نصيباً، انضم استثناء إلى استثناءٍ، وليس للناظر أن يقول ليس النصيبان مثلين؛ فإن النصيب الثاني استثناء من النصيب الأول، ولكن ليس في عبارة الجبر هذه المحاقة، فإذاً معنا مالٌ وربع مال، إلا نصيبين تعدل أنصباء الورثة، وهي أربعة، فاجبر وقابل، وقل: نجبر المال والربع، فيكون مال وربع من غير استثناء ونزيد على عديله نصيباً، فصار مال وربع في مقابلة ستة أنصباء، فنرد ما معنا في جانب المال إلى مال واحد، وذلك بأن نُسقط خُمسه، وهو الربع الزائد، فإن مالاً

_ (1) زيادة من المحقق.

وربعَ مالٍ خمسةُ أرباع، فإذا أسقطت من جانب المال خُمسه، فأسقط من جانب الأنصباء خُمسها، وهو خمس ستة: نصيبٌ وخمس، فيبقى أربعة أنصباء وأربعة أخماس نصيب، فابسطهما أخماساً، فيصير المال خمسة، والأنصباء وما معها من كسر أربعة وعشرين، فاقلب العبارة، واجعل المال أربعة وعشرين، والنصيب خَمسةً، وقد خرجت المسألة. الامتحان: نأخذ نصيباً وهو خمسة أسهم، وننقص منه ما انتقص أحدهم بالوصية وهو سهم؛ لأن الوصية لو لم تكن، لكان لكل ابن ستة من أربعة وعشرين، فالناقص إذاً سهم، فأخرج النصيبَ خمسة، واسترجع ما نقص من نصيب، وهو سهم واحد، فيبقى أربعة أسهم، وهي الوصية، فألقها من المال، وهو أربعةٌ وعشرون، تبقى عشرون بين البنين، لكل ابنٍ خمسةٌ وقد أخذ الموصى له مثلَ نصيب أحدهم إلا ما انتقص من نصيب أحدهم بالوصية، وذكر الحذاق في هذه المسألة وأمثالها [طريقةً أخرى] (1). 6861 - طريقة أخرى في الحساب فقالوا: لو لم يكن وصية، كان لكل ابن ربع المال، وقد انتقص منه بالوصية شيء، فربع المال إذاً نصيبٌ وشيء من غير تقدير وصية، على عبارة الجبر، والمال كله أربعة أنصباء وأربعة أشياء. فأعط الموصى له منها نصيباً إلا شيئاً، يبقى ثلاثة أنصباء وخمسة أشياء، والشيء مقدار النقصان، فاسترجعناه من النصيب المخرَج، فحصل معنا ثلاثةُ أنصباء وخمسةُ أشياء، تعدل أربعة أنصباء، فأسقط الثلاثة أنصباء بمثلها، يبقى نصيب يعدل خمسة أشياء، فالنصيب خمسةُ أسهم، والشيء سهم، وقد كانت التركة أربعة أنصباء وأربعة أشياء، وهي أربعةٌ وعشرون سهماً، والوصية نصيب إلا شيء، وقد خرجت المسألة. 6862 - مسألة: أربعة بنين، وقد أوصى بسدس ماله، إلا ما انتُقِصَ أحدهم بالوصية. فخذ مالاً، وألق منه سُدسَه، يبقى خمسةُ أسداس مال، فنزيد عليه ما انتُقص

_ (1) زيادة من المحقق.

أحدُهم بالوصية، وهو ربع مال إلا نصيباً، فيكون الحاصل مالاً ونصف سدس مال إلا نصيباً؛ فإنك إذا ضممتَ ربعاً إلى خمسة أسداس، كان المجموع مالاً ونصفَ سُدس، وهذا الذي زدناه مسترجَعٌ من الوصية، وهي السدس، كان المجموع مالاً ونصف سدس إلا نصيباً، يعدل أربعة أنصباء، فنجبر ونقابل، فيصير مال ونصف سدس مال -من غير استثناء- يعدل خمسة أنصباء، فردّ المال ونصف سدس مال إلى مال بإسقاط الزائد، وعبّر عما تسقطه بعبارة تفيدك مناسبة، وهذا يتأتى بأن نبسط المال أنصاف أسداس، فيصير المال مع نصف سدس ثلاثةَ عشرَ، فالذي أسقطت في جانب المال جزء من ثلاثةَ عشرَ، وانقص بهذه النسبة من الأنصباء الخمسة، فبقي منها أربعة أنصباء، وثمانية أجزاء من ثلاثةَ عشرَ جزءاً من نصيب، فابسطها بأجزاء ثلاثةَ عشرَ، وقل بعد القلب: المال ستون، والنصيب ثلاثة عشر، والذي انتُقص من كل ابنٍ بالوصية سهمان؛ فإن الوصية لو لم تكن، لخصّ كلَّ ابن خمسةَ عشرَ: ربعُ الستين، والآن بان النصيبُ ثلاثة عشر، والناقص سهمان، فادفع إلى الموصى له سدسَ المال، وهو عشرة، واسترجع منه السهمين، وهو مقدار النقصان، فيبقى مع الموصى له ثمانية، فألقها من رأس المال؛ فإنها الوصية، يبقى اثنان وخمسون، بين البنين، لكل واحد منهم ثلاثة عشر. وقد أخذ الموصى له سدسَ المال إلا ما انتقص أحدهم بالوصية. فإن جُعل ربعُ المال نصيباً وشيئاً، فيكون المال كله أربعةَ أنصباء وأربعةَ أشياء، كما تقدم في المسألة السابقة، ثم خذ سُدُسَها، وذلك ثلثا نصيب، وثلثا شيء وألق منه ما انتُقص أحدُ البنين بالوصية، وذلك شيء، فيبقى ثلثا نصيب إلا ثلثَ شيء فإنا نأخذ من الوصية ثلث شيء، ونستتم الشيء من ثلثي النصيب، فنأخذ من ثلثي نصيب ثلثَ شيء، فيبقى ثلثا نصيب إلا ثلثَ شيء، نلقي ذلك للموصى له من جملة المال، وهو أربعة أنصباء وأربعة أشياء، فيبقى ثلاثة أنصباء وثلث نصيب، وأربعة أشياء وثلث شيء، وهو ما استرجعته من الوصية، وهذا يعدل أربعةَ أنصباء، وأربعة أشياء، [وثلث شيء] (1)، فإذا ألقيت الثلاثة الأنصباء، وثلثَ نصيب بمثلها، بقي ثلثا

_ (1) زيادة من المحقق.

نصيب، يعدل أربعة أشياء وثلثَ شيء، فالنصيب الكامل يعدل ستة أشياء ونصفَ شيء، فابسط الجميع أنصافاً، فيكون الشيء سهمين، والنصيب ثلاثةَ عشرَ بعد القلب، والتركة ستين سهماً، كما خرج بالعمل الأول، ولم نبسط القول فيه لوضوحه. 6863 - مسألة: أربعة بنين، وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا سدس ما يبقى من ماله بعد دفع جميع الوصايا، وأوصى لآخر بمثل نصيب ابن آخر إلا خمسَ ما تبقى من ماله بعد دفع جميع الوصايا، وأوصى لثالث بمثل نصيب ابن آخر إلا ثُمن ما تبقى من ماله بعد دفع جميع الوصايا. فنعلم أن الوصايا بجملتها إذا أخرجت، فالباقي يعدل أربعة أنصباء، فاحفظ ذلك. وقل بعده: الوصية الأولى وصيةٌ بنصيب إلا سدس أربعة أنصباء، وذلك ثلثا نصيب، فإذا ألقيت من النصيب ثلثي نصيب، بقي ثلث نصيب. والوصية الثانية بنصيب إلا خمس الباقي، فخذ خُمس أربعة أنصباء واستثنها من الوصية الثانية؛ فيبقى خمس النصيب. والوصية الثالثة بالنصيب واستثن منها ثمنَ أربعة أنصباء، وذلك نصف نصيب، فتبقى من هذه الوصية نصف نصيب، فاجمع الوصايا، يعني ما بقي منها بعد الاستثناءات، وهي ثلث نصيب وخمس نصيب ونصف نصيب، فخذ هذه الأجزاء من ثلاثين، وخذ نصف الثلاثين خمسةَ عشرَ، وخُمسه ستةً، وثُلثَه عشرةً، فالمجموع أحدٌ وثلاثون، فقل: مجموع هذه الوصايا نصيب وجزءٌ من ثلاثين جزءاً من نصيب، فألق ذلك من المال، فيبقى مال إلا نصيباً وجزءاً من ثلاثين جزءاً من نصيب، وذلك يعدل أربعة أنصباء، فاجبر الاستثناء، وقابل، فيكون مالٌ يعدل خمسة أنصباء وجزءاً من ثلاثين جزءاً من نصيب، فابسطها بأجزاء الثلاثين، واقلب العبارة والاسم فيهما، فيكون المال مائة وأحدٌ وخمسون، والنصيب ثلاثون. والوصايا كلها أحدٌ وثلاثون، وألقها من المال يبقى مائةٌ وعشرون [بين أربعة بنين] (1) لكل واحد منهم ثلاثون،

_ (1) ساقط من الأصل.

وللموصى له الأول -إذا امتحنت- نصيبٌ إلا سدس الباقي بعد الوصايا وسدس الباقي عشرون، فوصيته عشرة، وللموصى له الثاني نصيب إلا خمس الباقي بعد الوصايا، وخمس الباقي أربعة وعشرون، فوصيته ستة أسهم، وللموصى له الثالث نصيب إلا ثمن الباقي بعد الوصايا وثمن الباقي خمسة عشر، فوصيته خمسة عشر، وإذا جمعت الوصايا كانت أحداً وثلاثين. 6864 - مسألة: أربعة بنين، وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا سدس ما تبقى من ماله بعد النصيب، وأوصى لآخر بمثل نصيب ابنٍ آخر إلا سدسَ ما تبقى من ماله بعد الوصايا كلها. فالمستثنى من النصيب الموصى به الثاني ثلثا نصيب؛ فإن الأنصباء أربعة، فسدسها ثلثا نصيب، والمستثنى من النصيب للموصى به الأول سدس مال إلا سدس نصيب؛ لأن الباقي من المال بعد النصيب مال إلا نصيب، فنزيد عليه الاستثناء بسدس مال إلا سدس نصيب، وهذا مسترجع من النصيب الموصى به الأول، فيبقى معنا مال وسدس إلا نصيباً وسدسَ نصيب، فنلقي منه بالوصية الثانية ثلث نصيب؛ فإنا ذكرنا أن الوصيةَ الثانية واقعةٌ بنصيب إلا سدس أربعة أنصباء وسدسُ أربعة أنصباء ثلثا نصيب، فتكون تلك الوصية ثلثَ نصيب، فنلقي هذا من المال، فيحصل معنا بعد ضم هذا الثلث إلى الاستثناء الذي في المال والسدس مالٌ وسدس إلا نصيباً ونصفَ نصيب؛ فإن الاستثناء كان نصيباً وسدساً، فإذا ضممنا إليه ثلثا، صار نصيباً ونصفاً، وهذا يعدل أربعة أنصباء، فنجبر المال والسدس لما فيه من الاستثناء، ونزيد على عديله مثله، فيكون مال وسدس يعدل خمسةَ أنصباء ونصف نصيب، فنبسطهما أسداساً، ونقلب العبارة، فيصير المال ثلاثة وثلاثين، والنصيب [سبعة] (1)، فنضرب الجميع في ثلاثة لأن وصية الموصى له الثاني ثلث نصيب، وليس للسبعة ثلث صحيح، وإذا ضربنا الجميع في ثلاثة، فتصير سهام التركة تسعة وتسعين، والنصيب [أحدٌ وعشرون] (2). الامتحان: أن نلقي من المال نصيباً يبقى ثمانية وسبعون، فنسترجع سدسها، وذلك

_ (1) في الأصل: تسعة. (2) زيادة من المحقق.

ثلاثةَ عشرَ، فنسترد هذا من النصيب الذي أخرجناه، فيبقى وصيةُ الأول [ثمانية] (1) أسهم، فنلقيها من المال يبقى أحدٌ وتسعون، فنلقي الوصية الثانية وهي ثلث نصيب، وذلك سبعة أسهم، فإذا ألقيناها بقي أربعةٌ وثمانون، وسدسها [أربعة] (2) عشرَ، وهذا المبلغ هو المستثنى من النصيب الموصى به للثاني، فصارت وصية الثاني سبعة، وإذا قسمنا أربعة وثمانين على أربعة بنين، حصل لكل واحد منهم أحدٌ وعشرون. 6865 - مسألة: رجل له خمسة بنين وأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم إلا ثلث ما تبقى من الثلث بعد النصيب، وأوصى لآخر بثلث ما يبقى من الربع بعد الوصية الأولى. فالاستثناء الأول وقع مما بعد النصيب، والاستثناء الثاني وقع مما بعد الوصية الباقية (3) بعد الاستثناء. فالوجه أن نأخذ ثلثَ مال، ونطرح منه نصيباً، يبقى ثلث مال إلا نصيباً، فنرد عليه ثلثه للاستثناء، فيصير أربعة أتساع مال إلا نصيباً وثلث نصيب. وبيان ذلك [أنا نزيد على] (4) الثلث ثلثه للاستثناء، فيصير أربعةَ أتساع مال إلا نصيباً وثلث نصيب، وقد حططنا منه نصيباً، ثم زدنا عليه مثل ثلثه. وهذا الذي زدناه مسترجع من النصيب. وإذا كان النصيب ناقصاً بالاستثناء فالنقص ينبسط على أجزائه، فحصل معنا إذاً أربعة أتساع مال إلا نصيباً وثلث نصيب. ثم إنا نلقي من هذا المبلغ نصفَ سدس المال؛ لأنا نُريد الباقي من الربع لأجل الوصية الثانية، وإذا حططنا نصفَ سدس المال من الأتساع الأربعة، [بقي] (5) معنا ثلاثة أتساع المال وربع تسع المال إلا نصيباً وثلثَ نصيب.

_ (1) في الأصل: ثمن. (2) زيادة من المحقق. (3) المقصود أن الاستثناء الثاني وقع مما بقي بعد الوصية الأولى. (4) عبارة الأصل: وبيان ذلك أن الثلث ثلثه للاستثناء. (5) في الأصل: في.

وبيان ذلك أنا إذا زدنا على التكسير سدس التسعة، كان سهماً [ونصفاً] (1)، هذا هو السدس [ونصفه] (2) ثلاثة أرباع، وقد كان معنا أربعة أتساع، وقد حططنا نصفَ سدس المال، وهو ثلاثة أرباع التسع، فيبقى معنا ثلاثة أتساع وربع تسع، وهذا الذي نُسقطه كامل لا يتبعه شيء من الاستثناء؛ فإنا نُريد ردَّ الحساب إلى الربع، لنقيم منه الوصية الثانية على شرطها، فبقي الاستثناء الكامل في ثلاثة أتساع وربع تسع، فنقول: معنا ثلاثة أتساع وربع تسع إلا نصيباً وثلث نصيب. وهذا الآن بقية الربع، فندفع ثُلثَه إلى الموصى له الثاني، وذلك تسعٌ ونصف سدس تسع: أما التسع، فثلث ثلاثة الأتساع، وأما نصف سدس التسع، فهو ثلث ربع التسع، ويتبع هذا إذا أخرجناه حصته من الاستثناء لا محالة، فيبقى معنا تُسعان وسدس [تُسع] (3) إلا ثمانية أتساع نصيب، وذلك أن الاستثناء، كان نصيباً وثلثاً، فنبسطها أتساعاً، ونتبع ما أخرجنا أجزاء من الأتساع الباقية: ثلث ذلك، وهو أربعة من اثني عشر، فبقي ثمانية أتساع نصيب، فنزيد هذا الباقي على ثلاثة أرباع مال؛ فإنّ ما أسقطناه من نصف السدس لرد الحساب إلى الربع قد انضم إلى المال، فنقيم حساب الأرباع الآن، وإذا نسبنا على التكسير من [تسعة] (4)، كان ثلاثة أرباع [التسعة] (5) ستة أتساع وثلاثة أرباع تسع، وقد ضممنا إليها مما بقي معنا [تُسعَيْن وسدس تُسع] (6)، فيصير ثمانية أتساع وثلثي تسع وربع تسع ثمانية أتساع نصيب، وهذا يعدل خمسة أنصباء، فنجبر ما معنا من مال الاستثناء، ونزيد على عديله مثله، فيصير ما ذكرناه من غير استثناء معادلاً لخمسة أنصباء وثمانية أتساع نصيب، فنضرب كل واحد منهما في عدد يكون له تُسع ولتسعه ربعٌ وثلث، وذلك مائة وثمانية، فنقلب بعد ذلك العبارة في الجانبين، فيكون المال ستمائة وستة وثلاثين سهماً، والنصيب مائة وسبعة أسهم.

_ (1) في الأصل: "وسدساً". وهو خطأ حسابي. (2) في الأصل: ونصف. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصلة: سبعة. (5) في الأصل: السبعة. ونسأله سبحانه أن يشد أزرنا ويلهمنا الصواب. (6) في الأصل: سبعين وسدس سبع.

الامتحان: أن نأخذ ثلث المال وهو مائتان واثنا عشر، فنلقي منه النصيب وهو مائة وسبعة، يبقى مائة وخمسة، نأخذ ثلثها وهو خمسة وثلاثون من النصيب ونسترده منه، فبقي اثنان وسبعون وهي الوصية الأولى، فنلقي ذلك من ربع المال، وهو مائة وتسعة وخمسون، فيبقى سبعة وثمانون، فادفع ثلثها إلى الموصى له الثاني، وذلك تسعة وعشرون، يبقى ثمانية وخمسون نزيدها على ثلاثة أرباع المال فيبلغ خَمسَمائة وخمسة وثلاثين، بين خمسة بنين لكل واحد منهم مائة وسبعة وهو النصيب الخارج بالعمل. 6866 - مسألة: ثلاثة بنين وبنت، وقد أوصى (1) لعمه بمثل نصيب البنت إلا ثلث ما أوصى لخاله، وأوصى لخاله بمثل نصيب أحد البنين إلا ربع ما أوصى لعمه. فالوجه أن نجعل وصية الخال ثلاثة أشياء، ووصيةَ العم أربعةَ دنانير، ثم تعلم أنك إذا أخذت ثلث وصية الخال، فضممته إلى وصية العم وهي أربعة دنانير، كان ذلك أربعة دنانير وشيء، وهو مثل نصيب البنت. والغرض من هذا الضم والجمع بيانُ نصيب البنت، وإذا بان نصيبها، فنصيب كل ابن ضعف ذلك، وهو ثمانية دنانير وشيئان، فإذا أسقطت من ذلك ربع وصية العم، وذلك دينار، بقي سبعة دنانير وشيئان وهذه وصية الخال، فالآن نقابل ما حصل معنا في وصية الخال بما قدّرناه وصيةً للخال في الابتداء، وإذا قابلت سبعة دنانير وشيئين بالأشياء الثلاثة التي قدرناها في وضع (2) المسألة، وأسقطنا شيئين بشيئين يبقى سبعةُ دنانير تعدل شيئاً واحداً، فالثلاثة الموضوعة ابتداء أحدٌ وعشرون سهماً، وهي وصية الخال. ووصية العم كان في الأصل أربعة دنانير، وقد ذكرنا أنك إذا ضممت إليها ثلث وصية الخال، كان المجموع مثل نصيب البنت، وقد بان أن نصيب البنت أربعة دنانير وشيء، وقيمة الشيء [سبعة] (3)، وكل دينار سهم، فالمجموع أحدَ عشرَ سهماً،

_ (1) عبارة الأصل: وقد أوصى واحد منهم لعمه. (2) وضع: أي فرض. (3) في الأصل: تسعة.

وإذا كان نصيب البنت أحدَ عشرَ سهماً، فنصيب الابن اثنان وعشرون، والشيء ثلث وصية الخال، وهو مستثنى من وصية العم، فيبقى للعم أربعة أسهم هي وصيته، فمتى أسقطت من نصيب الابن ربعَ وصية العم، وهو سهم واحد، بقي أحدٌ وعشرون، وهو وصية الخال، ومتى أسقطت من نصيب البنت ثلث وصية الخال وهو سبعة، ونصيب البنت أحد عشر بقي أربعة وهو وصية العم، فالوصيتان جميعاً خمسة وعشرون، وجميع التركة مائة واثنان. 6867 - مسألة: أربعة بنين، وقد أوصى لعمّه بمثل نصيب أحدهم، وثلث ما أوصى به لخاله، وأوصى لخاله بسدس جميع المال إلا ربع ما أوصى لعمه. فهذه المسألة اشتملت على ضم جزءٍ إلى النصيب، وعلى استثناء جزءٍ من وصية، وقد تقدم في المسائل جمعُ جزئين من وصيتين متداخلتين، كالوصية بالنصيب للعم، مع ثلث وصية الخال، ووصيةُ الخال مقدارٌ أو نصيب مع جزءٍ من وصية العم، وتقدم ذكر وصيتين مع استثنائين. وهذه الوصية التي نحن فيها تجمع الزيادةَ في وصية والاستثناء من وصية، فإذا قال -والبنون أربعة-: أوصيت لعمي بمثل نصيب أحدهم وثلث ما أُوصي لخالي، وأوصيت بسدس جميع المال إلا ربعَ ما أوصيت لعمي، فنجعل وصية العم أربعة أشياء، ووصية الخال ثلاثة دنانير، وإذا زدت على وصية الخال ربعَ وصية العم، فهي تصير ثلاثة دنانير وشيئاً، وذلك سدس المال، فنضرب هذا المبلغ في ستة، ونعلم أن الضرب يردّ المالَ، فإنا إذا علمنا السدسَ وضعّفناه ستَّ مرات، كان المجموع تمامَ المال، لا محالةَ. وإذا ضربنا ثلاثةَ دنانير وشيئاً في ستة، فيكون المجموع ثمانيةَ عشرَ ديناراً وستةَ أشياء. فإذا نقصت من وصية العم ثُلث [ما أوصى به لخاله] (1) ووصية الخال في أصل الوضع ثلاثة دنانير، ووصية العم أربعةُ أشياء، وإذا نقصت ديناراً من أربعةِ أشياء، بقيت أربعةُ الأشياء إلا ديناراً، وذلك نصيب كلّ ابنٍ لا محالة، فإن وصيته نصيبٌ

_ (1) زيادة من المحقق.

كامل وثلثُ وصية الخال، فإذا حططت ثلثَ وصية الخال من وصيته، كان الباقي نصيبَ ابن، فنسقط من التركة وهي ثمانيةَ عشرَ ديناراً وستةُ أشياء الوصيتين الموضوعتين في أصل المسألة، وهما أربعة أشياء وثلاثة دنانير، فتبقى [خمسةَ عشر ديناراً] (1) وشيئان، وذلك يعدل أنصباءَ أربعة بنين، وقد صح أن نصيب كلّ واحد منهم أربعةُ أشياء إلا ديناراً، وجميع ذلك ستةَ عشرَ شيئاً إلا أربعةَ دنانير، فنجبر الاستثناء من الأنصباء بأن نزيد عليها أربعة دنانير، ونزيد على عديلها مثلها، فتصير الأنصباء ستةَ عشر شيئاً، والمالُ [تسعةَ] (2) عشرَ ديناراً، وشيئان، فنسقط الشيئين بالشيئين تبقى أربعةَ عشرَ شيئاً تعدل تسعةَ عشرَ ديناراً، فنقلب الاسمَ، فيكون الدينارُ أربعة عشر سهماً والشيءُ تسعة عشرَ سهماً، وقد كانت التركة ثمانية عشر ديناراً وستة أشياء، فهي إذاً ثلاثمائة [وستة] (3) وستون، وكانت وصيةُ العم أربعةَ أشياء، فهي ستةٌ وسبعون، ووصيةُ الخال ثلاثةُ دنانير، فهي اثنان وأربعون، وكان نصيب كل ابن أربعةَ أشياء إلا ديناراً، فهو اثنان وستون، وسدس المال أحد وستون. فإذا أردت الامتحان، قلت: إذا نقصنا من وصية العم وهو ستة وسبعون ثلث وصية الخال، وهو أربعة عشر، بقي اثنان وستون، وذلك مثلُ نصيب كل ابن، وإذا نقصت من سدس المال، وهو أحدٌ وستون ربعَ وصية العم، وذلك تسعة عشر، بقي اثنان وأربعون، وذلك وصية الخال، وإذا نقصت الوصيتان وهما [مائة] (4) وثمانية عشر من جملة التركة وهي ثلاثمائة وستة وستون، بقي [مائتان] (5) وثمانية وأربعون، بين أربعة بنين، لكل واحد منهم اثنان وستون. 6868 - مسألة: خمسة بنين وبنت، ولد أوصى لعمه بمثل نصيب أحد البنين إلا نصف ما أوصى به لخاله، وأوصى لخاله بمثل نصيب البنت إلا ثلث ما أوصى به لابن

_ (1) في الأصل: " خمسة دنانير ". وهو خطأ ظاهر. (2) في الأصل: سبعة عشر. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: وهما ثمانية عشر. (5) في الأصل: بقي مائة وثمانية وأربعون.

أخيه، وأوصى لابن أخيه بسدس المال إلا ربع ما أوصى به لعمه، وأوصى لأجنبي بثلث ما يبقى من الثلث. فاجعل وصية الخال في وضع المسألة شيئين؛ لاحتياجك إلى استثناء النصف من نصيبه، ونجعل وصية ابن الأخ ثلاثة دنانير، لاستثناء السدس من وصيته، ونعلم أنك إذا زدت ثلث وصية ابن الأخ، -وهو دينار- على وصية الخال -وهي شيئان- فصار [شيئين] (1) ودينار، فذلك نصيب البنت، ونعلم أن نصيب الابن ضعف ذلك، وهو أربعة أشياء وديناران، وإذا نقصت من نصيب الابن نصف وصية الخال في أصل الوضع، وهو شيء بقي ثلاثة أشياء وديناران وذلك وصية العم، ومتى أخذت ربعَ وصية العم وهي ثلاثة أرباع شيء ونصف دينار، فزدته على وصية ابن الأخ، وصيرته ثلاثة دنانير ونصف دينار وثلاثة أرباع شيء، فهذا المجموع سدسُ المال. واستمسك بالسدس لإبانة المال، فاضربه في ستة، وقل: ثلاثة دنانير ونصف دينار في ستة، تكون أحداً وعشرين ديناراً. وثلاثةُ أرباع شيء في ستة، تكون أربعة أشياء ونصف، فالمال إذاً أحدٌ وعشرون ديناراً وأربعة أشياء ونصف. وقد تبين على الجملة مبلغ المال، وإن لم يتقوّم بعدُ، وبان بحسب ذلك وصيةُ العم، والخال، وابن الأخ، وبقيت وصية أخرى وهي ثلث ما تبقى من الثلث، فالوجه أن نأخذ ثلثَ المال، وهي سبعة دنانير، وشيء ونصف، فأسقط منه وصيةَ العم وهي ثلاثة أشياء وديناران، ووصية الخال وهي شيئان، ووصية ابن الأخ وهي ثلاثة دنانير وجميعها خمسة أشياء وخمسة دنانير، يبقى من الثلث ديناران إلا ثلاثةَ أشياء ونصف؛ فإنا نأخذ المثل بالمثل، ونجعل الخلاف استثناء من الخلاف، وقد كان معنا في الثلث شيءٌ ونصف، ونحن احتجنا في الوصية إلى خمسة أشياء، فأسقطنا شيئاً ونصفاً، وجعلنا ثلاثةَ أشياء ونصف شيء استثناء مما تبقى من الدنانير، وأسقطنا دنانير الوصايا من دنانير الثلث، فبقي ديناران إلا ثلاثةَ أشياء ونصفَ شيء، فندفع الثلث من هذا الباقي إلى الموصى له بثلث ما بقي من الثلث، فيبقى دينار وثلث إلا

_ (1) في الأصل: استثناء.

شيئين وثلث؛ فإن ثلث ما بقي يذهب بحصةٍ من الاستثناء، فيبقى ما ذكرناه، فنزيد ذلك على ثلثي المال، وإذا كان ثلثُ المال سبعةَ دنانير وشيئاً ونصفاً، فالثلثان أربعةَ عشرَ ديناراً وثلاثةُ أشياء، وإذا زدنا ما بقي من الثلث، وهو دينار وثلث إلا شيئين وثلث شيء فيصير المجموع خمسة عشر ديناراً وثلث دينار [وثلثا] (1) شيء، وسبب ذلك أن معنا استثناء شيئين وثلث شيء في بقية الثلث، فنحط الاستثناء من [الأشياء] (2) التي كانت في الثلثين، وكان في الثلثين ثلاثةُ أشياء وإذا حططت منها شيئين وثلث شيء بقي ثلثا شيء، فالمجموع إذاً خمسةَ عشرَ ديناراً وثلث دينار وثلثا شيء، وذلك يعدل أنصباء الورثة. وقد بان أن أنصباءهم اثنان وعشرون شيئاً وأحدَ عشرَ ديناراً؛ فإنّ نصيب كلِّ ابن أربعةُ أشياء وديناران، والبنون خمسة، ومعهم بنت، ونصيبها على النصف، فيخرج المجموع ما ذكرناه، فنسقط المثلَ بالمثل، فيبقى من دنانير المال أربعة دنانير وثلث، ويسقط من الأشياء في جانب النصيب ثلثا شيء، فيبقى أحدٌ وعشرون شيئاً وثلث في معادلة أربعة دنانير وثلث، فابسط الجميع أثلاثاً فيصير الأشياء أربعةً وستين، والدنانير ثلاثة عشر، فاقلب الاسم فيهما، فيكون الدينار أربعةً وستين والشيء ثلاثةَ عشرَ. ثم عُد وقل: كان المال كله أحداً وعشرين ديناراً وأربعة أشياء ونصف شيء، وقيمتها على ما خرج بالعمل الأول ألف وأربع مائة واثنان ونصف، فضعّف جميع ما معك بالضرب في مخرج النصف ليذهب الكسر، فيكون المال ألفين وثمانمائة وخمسة أسهم، ويتضعف الدينار بحسب ذلك؛ فيصير مائة وثمانية وعشرين، والشيء ستةً وعشرين، ونصيب كل ابن أربعة أشياء وديناران، وقيمتها ثلاثمائة وستون. ونصيب البنت نصف ذلك، مائة وثمانون. ووصية العم، وهي ثلاثة أشياء، وديناران، وقيمتها ثلاثمائة وأربعة وثلاثون.

_ (1) في الأصل: وثلث. (2) في الأصل: من الاستثناء.

مسائل من نوادر التكميلات

ووصية الخال وهي شيئان، اثنان وخمسون سهماً. ووصية ابن الأخ وهي ثلاثة دنانير، ثلاث مائة وأربعة وثمانون سهماً. وإذا أخذت ثلث المال، وهو تِسع مائة وخمسة وثلاثون، وأسقطت منه وصية العم، والخال، وابن الأخ، وهي سبعمائة وسبعون، بقي مائة وخمسة وستون يكون ثلثها للموصى له بثلث الباقي من الثلث، وذلك خمسة وخمسون، تبقى مائة وعشرة نزيدها على ثلثي المال، فيصير المجموع ألفاً وتسعمائة وثمانين، بين خمسة بنين وبنت لكل ابن ثلاثمائة وستون وللبنت مائة وثمانون. مسائل من نوادر التكميلات 6869 - مسألة: إذا مات عن امرأة، وأبوين، وابنين، وأوصى بتكملة ثلث ماله بنصيب أحد الابنين لإنسان، وأوصى لآخر بتكملة ربع الباقي من ماله بنصيب الأم، وأوصى لثالث بتكملة خمس الباقي بعد الوصيتين بنصيب الزوجة. فمسألة الميراث من أربعة وعشرين وتبلغ بالتصحيح ثمانية وأربعين سهماً فنقول: نجعل الوصايا بجملتها ديناراً واحداً، ونضم ذلك الدينار إلى فريضة الميراث، ولا نثُبت في ذلك الدينار حظاً للورثة؛ فإنه مقدّر ليكون وسيلةً إلى إخراج الوصايا، وكلّ ما قدرناه من الأشياء والدنانير في المسائل، ففي تقديرات تُفضي إلى بيان، فليكن هذا الدينار الواحد جملةَ الوصايا. ثم نأخذ ثلثَ الفريضة وثلثَ الدينار، وهو ستة عشر سهماً، وثلثَ دينار، فنعزل منها نصيب الابن، وهو ثلاثةَ عشرَ، تبقى [ثلاثة] (1) أسهم وثلث دينار، فهي الوصية الأولى الواقعة بتكملة الثلث بنصيب الابن، فاحفظ ذلك واعزلها عن جميع المال، فتبقى خمسةٌ وأربعون سهماً وثلثا دينار، ونحن نحتاج إلى جزءٍ مما تبقى، فخذ ربع ذلك الباقي، وهو أحد عشر سهماً وربع سهم وسدس دينار، فألق منها نصيب الأم، وهي ثمانية أسهم، تبقى ثلاثة أسهم وربع سهم وسدس دينار، فهي الوصية الثانية، فاحفظها، واجمعها إلى الوصية الأولى، وهي ثلاثة أسهم وثلث دينار، فيكون

_ (1) في الأصل: ستة.

المجموع ستة أسهم وربع سهم ونصف دينار، فألق ذلك من المال، تبقى أحدٌ وأربعون سهماً وثلاثة أرباع سهم ونصف دينار، فحُطّ خُمسَ ذلك، فإن تصرفك في الباقي، وخمس هذا الباقي ثمانية أسهم وربع وعشر سهم وعشر دينار، فاعزل عنها نصيب الزوجة وهو ستة أسهم، يبقى سهمان وربع وعشر سهم وعشر دينار، فهي الوصية الثالثة، فضُمَّها إلى الوصيتين الأُوليين، وهما ستة أسهم وربع سهم ونصف دينار، فتبلغ ثمانية أسهم وثلاثة أخماس سهم وثلاثة أخماس دينار، فذلك مجموع الوصايا، [وذلك يعدل ديناراً، كما قدرنا الوصايا في أصل الوضع] (1) فأسقط المثل بالمثل، فنسقط ثلاثة أخماس دينار من الجانبين قصاصاً، تبقى خمسا دينار يعدل ثمانية أسهم، وثلاثة أخماس سهم، فابسطها أخماساً، فتصير الأسهم والأخماس ثلاثة وأربعين سهماً، ويصير خمسا الدينار دينارين، فتقع ثلاثة وأربعون سهماً في مقابلة دينارين، والدينار يعدل أحداً وعشرين [سهماً] (2) ونصف، فزد ذلك على ثمانية وأربعين، والتي وضعناها في فريضة الميراث، فيكون المجموع تسعة وستين سهماً ونصف، فهي الجملة الجامعة للوصايا والميراث. وقد كانت الوصية الأولى ثلاثة أسهم وثلث دينار، فهي إذاً عشرةُ أسهم وسدس سهم، هكذا تكون على التقويم الذي ذكرناه للدينار. والوصية الثانية كانت ثلاثة أسهم وربع سهم وسدس دينار، فهي إذاً ستة أسهم وخمسة أسداس سهم. والوصية الثالثة سهمان وربع وعشر سهم وعشر دينار، فهي إذاً أربعة أسهم ونصف، وجملة الوصايا مع تقويم أجزاء الدينار [المضمومة] (3) إلى السهام أحدٌ وعشرون سهماً ونصف. فإذا ألقيتها من المال وهو تسعة وستون ونصف، تبقّى ثمانية وأربعون سهماً، وهي مقسومة بين الورثة على فرائضهم.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: درهماً. (3) في الأصل: المضمونة.

6870 - مسألة: ثلاثة بنين وقد أوصى لإنسان بتكملة ثلث الباقي من ماله بعد الوصية بنصيب أحد البنين، وأوصى لآخر بثلث ما تبقى من ثلث جميع ماله. فالوجه أن نجعل ثلث الباقي من المال بعد الوصية وصيةً ونصيباً، فيكون المال الباقي بعد الوصية ثلاثة أنصباء وثلاث وصايا، وصية محقَّقة، ووصيتان مقدرتان؛ لتعديل الحساب، ومعنا وصية أخرى، وهي الوصية بثلث ما تبقى من ثلث جميع المال، فإذاً المال كله ثلاثة أنصباء، وهي أنصباء الورثة وأربع وصايا: وصيتان محقَّقتان ووصيتان مقدرتان، لتصحيح العمل. فنأخذ ثلث ذلك، وقد قدرنا ثلاثة أنصباء وأربع وصايا، فثلثها نصيبٌ ووصية وثلث وصية، فنلقي بالوصية الأولى وصيةً، يبقى نصيب وثلث وصية، فألق ثلث ذلك للموصى له الثاني، يبقى ثلثا نصيب وتسعا وصية، فنزيد هذا الباقي على ثلثي المال، وهو نصيبان ووصيتان وثلثا وصية، فيجتمع نصيبان وثلثا نصيب ووصيتان وثمانية أتساع وصية؛ فإنه كان معنا وصيتان وثلثا وصية في جانب الثلثين، فإذا زدنا التُّسعين الباقيين من الثلث على ثلثي وصية، صار ثمانية أتساع وصية، وهذا المبلغ يعدل ثلاثة أنصباء، فنسقط المثل بالمثل وما معنا في جانب المال نصيبان وثلثا نصيب، فنسقطهما، ونسقط عن مقابلة مثلها، فبقي من أنصباء الورثة ثلث نصيب، يعدل وصيتين وثمانية أتساع وصية، فنبسط الجميع أتساعاً، ونقلب العبارة في الجانبين، فيصير النصيب ستة وعشرين، والوصية ثلاثة أسهم، والمال ثلاثة أنصباء وأربع وصايا، ومجموعها بعد البيان الذي ذكرناه تسعون سهماً، فنلقي الوصية وهي ثلاثة من جملة المال، وهي تسعون، بقي سبعة وثمانون، فإذا أخذت ثلث ذلك، وهو تسعة وعشرون، وألقيت منها النصيب، وهو ستة وعشرون، بقيت الوصية، وهي ثلاثة أسهم، وهي تكملة ثلث الباقي من المال بعد الوصية بنصيب أحدهم. وإذا أخذت ثلث جميع المال، وهو ثلاثون وألقيت منها هذه الوصية، وهي ثلاثة، بقي سبعة وعشرون، فألق ثلثها للموصى له بثلث ما تبقى من الثلث بعد الوصية، وهي تسعة، تبقى ثمانيةَ عشرَ سهماً، فزدها على ثلثي المال وهو ستون سهماً، فيبلغ ثمانيةً وسبعين سهماً، بين ثلاثة بنين، لكل واحد منهم ستةٌ وعشرون.

ومما يجب التنبه له في هذه المسألة وأمثالها، أنا قدرنا فيها ثلاث وصايا في ثلاثة أثلاث الباقي بعد الوصية، ووضعناها متماثلة، ثم قدرنا الوصية بثلث ما تبقى من الثلث وصية رابعة، وهذه الوصية في الامتحان خرجت تسعة، والوصية الأخرى خرجت ثلاثة، فهي متفاوتة، وقد جرت في مراسم الجبر على نسوق أحد (1)، وهذا بديعٌ؛ فإن القياس يقتضي أن تَسَاوى الأنصباء المجراة في مراسم الجبر، ولا مطمع في دَرْك حقيقة ذلك، إلا من جهة البرهان الهندسي. ولو نظر ناظر على ظنَّ وقال: قدّرنا وصيتين، وأثبتنا وصية محققة، وكل وصية من الوصايا الثلاثة ثلاثة، والوصية بثلث ما تبقى من الثلث تسعة، وهي ثلاثة أمثال الوصية الواحدة من الوصايا الثلاثة، فمجموعها أربعة وصايا إذا حُسبت كل وصية ثلاثة، كان هذا نظراً عن بعدٍ، ولا تعويل عليهِ. والأصل اتباع الألفاظ التي وضعها حذاق الحُسّاب. وهذا تنبيه لم نجد بداً من ذكره. 6871 - مسألة: خمسة بنين، وأوصى بتكملة ثلث الباقي من المال بعد الوصية بنصيب أحد البنين، إلا ثلثَ الباقي من ذلك الثلث بعد التكملة. فنجعل النصيب ثلاثةَ أشياء، لأنه هو الباقي المستثنى ثُلُثه بعد التكملة. وبيان ذلك، وبه يتضح تصوير المسألة: أنه أوصى بتكملة ثلث الباقي من المال بعد الوصية بنصيب أحد البنين، واستثنى عن الوصية بهذه التكملة ثلثَ ما تبقى من هذا الثلث بعد التكملة، وإذا أخرجنا التكملة من الثلث، فالباقي من ذلك الثلث بعد إخراج التكملة النصيبُ؛ فإن [الثلث] (2) تكملة ونصيب، فيرجع حقيقةُ التصوير إلى الوصية بالتكملة من الثلث الباقي بعد الوصية [إلى الوصية] (3) بالنصيب إلا ثلثاً من النصيب الذي به التكملة؛ فنجعل ذلك النصيبَ ثلاثةَ أشياء للاحتياج إلى الاستثناء. ونقول أيضاً: إذا كنا نحتاج إلى الاستثناء من التكملة، فنزيد في [وضع] (4)

_ (1) كذا. وواضحٌ أن المقصود " على نسق واحد ". (2) في الأصل: الثلاثة. وقد أرهقنا هذا التصحيف يوماً كاملاً، حتى استبان وجهه. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: وضح. والمراد بالوضع هنا: الفرض.

المسألة ذلك الذي نستثنيه، ونقول: التكملةُ وصيةٌ وشيء، والوصيةُ هي التي تبقى بعد الاستثناء، والشيء هو الذي نستثنيه من التكملة، فينتظم منه أن الثلث كلَّه وصية وأربعة أشياء، والتكملة وصية وشيء، فإذا ألقيت من التكملة ثلث الباقي من النصيب الذي به التكملة، بقيت الوصية. هذا تمهيد التصوير، وفيه بقيةٌ ستَبِينُ في مساق المسألة، فنضرب الوصية والأربعة الأشياء في ثلاثة ليرد المال الباقي بعد الوصية، فيرد ثلاث وصايا واثنا عشر شيئاً، وليس هذا جميع المال، بل هذا جميع أثلاث ما تبقى بعد الوصية. فإذا زدت على هذا وصيةً، صار جميعُ المال إذاً أربعَ وصايا واثنا عشر شيئاً، فألق منها الوصية، فالباقي ثلاث وصايا واثنا عشر شيئاً. فنقابل أنصباء البنين، وأنصباؤهم خمسة، وكل نصيب ثلاثة أشياء، فهي إذاً خمسةَ عشرَ شيئاً، فنُسقط المثل بالمثل، فيبقى من الأنصباء ثلاثة أشياء، فنتبيّن أن الوصية تعدل شيئاً. فنعود ونقول: النصيب ثلاثةُ أسهم، والمال كلُّه -وهو أربع وصايا واثنا عشر شيئاً- ستة عشرَ سهماً، فإذا ألقيت الوصية -وهي سهم من المال- بقي خمسةَ عشرَ، وإذا أخذت ثُلثَها -وهو خمسة- وألقيت منها النصيب وهو ثلاثة بقي سهمان، وذلك هو التكملة، فإذا ألقينا منها ثلث الباقي بعدها، والباقي بعد التكملة هو النصيب [وثُلثُه سهمٌ واحدٌ] (1)، بقي سهم واحد، وهو الوصية، فألقها من المال، وهو ستةَ عشرَ، فتبقى خمسة عشر بين البنين لكل واحد منهم ثلاثة. 6872 - مسألة: ستة بنين، قد أوصى بتكملة ثلث ماله بنصيب أحدهم [إلا] (2) تكملة ربع ما تبقى من مال بعد الوصية بنصيب أحدهم. فحساب المسألة أن نجعل الوصية شيئاً، وننقصه من المال، فيبقى مالٌ إلا شيء، فنأخذ ربعَ ذلك، وهو ربعُ مال إلا ربع شيء، وهذا الربع هو الذي نطلب تكملته،

_ (1) عبارة الأصل: وثلاثة أسهم وأخذ. (2) في الأصل: إلى.

[لنستبقيها] (1) من تكملة ثلث جميع المال، وهذا الربع واقع بعد تقدير الوصية، والتكملةُ الموصى بها لو لم يكن استثناءٌ، [لكانت] (2) تكملة [ثلث] (3) جميع المال، فنعلم أن هذا الربع الناقصَ نصيبٌ كامل لأحد البنين، وتكملةُ ربعٍ ناقص، فإن نَقَصْتَ من هذا الربع الناقص نصيباً كاملاً، فالباقي إلى تمام الربع هو المستثنى من تكملة ثلث جميع المال، فهذه التكملة من هذا الربع الناقص مع الوصية التي ثبتت بعد الاستثناء تكملةُ ثلث جميع المال، ولو لم نُسقط من هذا الربع الناقص شيئاً، لكان هذا الربع الناقص -وهو نصيب واستثناء- مثل ما بقي من ثلث جميع المال إذا أخرجت الوصية الثابتة منه؛ لأن الثلث نصيب ووصية واستثناء، وهذا الربع الناقص نصيب واستثناء، فهو مثل الباقي من ثلث جميع المال بعد الوصية، فخرج منه أن ربع مال إلا ربع شيء يعدل ثلث مال إلا شيئاً؛ فإن الوصية شيء في وضع المسألة، فنقابل بين ربع مال إلا ربع شيء وبين ثلث مال إلا شيء، فنجبر الثلث الناقص بالشيء، فإنه أكثر النقصين، وإذا جبرنا الثلث [الناقص] (4) بشيء، زدنا على عديله شيئاً، فنجبر بهذا الشيء نقصان ربع شيء، ونزيد على الربع ثلاثة أرباع شيء، فيبقى ثلثٌ كاملٌ في مقابلة ربع كامل وثلاثة أرباع شيء، فنسقط الربع بالربع، فيبقى من الثلث نصفُ سدس مال تعدل ثلاثة أرباع شيء، وإذا كان نصف السدس يعدل ثلاثة أرباع، فجملة المال تعدل [تسعة] (5) أشياء؛ فإنا إذا [بسطنا] (6) المال أنصاف أسداس، كان (7) اثنا عشر، فكل سدس يقابل شيئاً ونصفاً، فالمجموع يقابل تسعة أشياء، فخرج منه أن الشيء تُسعُ مال، وبان أن الوصية تُسع مال، وللبنين ثمانية أتساع مال بينهم على ستة لا تنقسم، ولكن توافق بالنصف، فاضرب نصف عدد البنين في مخرج التُّسع، وهي تسعة، فترد

_ (1) في الأصل: لنستبينها. (2) زيادة من المحقق. (3) ناقصة من الأصل. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: سبعة. (6) في الأصل: أسقطنا. (7) كان هنا تامة، والمعنى حصل أو نحوها.

سبعةً وعشرين، والنصيب أربعة، وإنما نتبين أن النصيب أربعة بالقسمة بعد الضرب؛ فإنّ أنصباء البنين قبل الضرب، كان ثمانية، فلما انكسرت، ضربنا التسعة في ثلاثة، فصار كل سهم من الثمانية ثلاثة، فالمجموع أربعة وعشرون، وإذا قسمناها على ستة بنين خصَّ كل واحد أربعة، فاستبان من هذا أن النصيب أربعة. فنعود ونمتحن ونقول: ثلث المال تسعة؛ فإن المال سبعة وعشرون، فننقص منه نصيباً، وهو أربعة، يبقى خمسة أسهم، فهي تكملة ثلث المال، ثم نعود وننقص الوصية وهي ثلاثة من المال، يبقى أربعة وعشرون فنأخذ ربعها، وهذا هو الربع الناقص الذي أبهمناه قبلُ، وهو ستة، فننقص منه نصيباً كاملاً، يبقى سهمان، فهذا هو تكملة ربع ما تبقى من المال بعد الوصية بنصيب أحدهم، فننقص تكملة الربع وهو سهمان من تكملة ثلث المال، وهو خمسة، فيبقى ثلاثة أسهم، وهي الوصية الخارجة بالعمل، فننقصها من المال، فيبقى أربعة وعشرون، بين ستة بنين، لكل واحد منهم أربعة. 6873 - مسألة: ستة بنين، وقد أوصى بتكملة ثلث الباقي من ماله بعد الوصية بنصيب أحدهم، إلا تكملة سدس ماله بنصيب أحدهم. فالوجه أن نجعل الوصية شيئاً وننقصه من المال، يبقى مال إلا شيئاً، فخذ ثلثَه وهو ثلث مال [إلا ثلث شيء] (1)، فلو نقصت من هذا الثلث الناقص نصيباً كاملاً، لبقي تكملة ثلث الباقي من المال بنصيب أحدهم، ولكن نحتاج إلى استثناء من هذه التكملة من هذا الثلث الناقص أكثر من الوصية بمقدار الاستثناء، فاحفظ هذا. ومتى نقصت من سدس المال نصيباً، بقي سدس مال إلا نصيب، وهو تكملة سدس المال بنصيب أحدهم، وهذا هو المستثنى من تكملة الثلث بعد الوصية، ولا شك أن سدس جميع المال هو نصيبٌ والاستثناءُ الذي نطلبه، فمتى زدت على سدس المال الوصيةَ وإلا شيء، اجتمع نصيبٌ والوصيةُ والمستثنى، وذلك يعدل ثلث مال إلا ثلث شيء؛ لأن ذلك الثلث الناقص اشتمل على نصيبٍ كاملٍ ووصيةٍ واستثناء، فقل: ثلث مال إلا ثلث شيء يعدل سدس مال وشيء، وإذا كان كذلك، فقابل واجبر الثلث الناقص بثلث

_ (1) زيادة لتصحيح المسألة.

مسائل في النوادر من الوصايا المفروضة، التي فيها ذكر الجذور

شيء، فنردّ على عديله ثلث شيء، فيصير ثلث كامل في مقابلة سدس وشيء وثلث شيء، فنسقط السدس بالسدس فيبقى سدس في مقابلة شيء وثلث شيء، فجميع المال في مقابلة ثمانية أشياء، وقد بان أن الشيء إذا أطلقناه ثُمنُ مالٍ، وهو الوصية، فإذا أخرجتها من المال، بقي سبعةُ أثمان المال لا تنقسم على عدد البنين، ولا توافق، فاضرب عددهم في ثمانية، وهو مخرج الثمن، فترد ثمانية وأربعين، ومنها تصح المسألة والنصيب سبعة؛ فإنا ضربنا كل نصيب في سبعة. الامتحان: نحط من ثمانية وأربعين ثمنها وهو ستة أسهم، يبقى اثنان وأربعون، فخذ ثلثها، أربعة عشر، وانقص منها نصيباً، فيبقى سبعة، فهي تكملة الباقي من [ثلث] (1) المال بعد الوصية بنصيب أحدهم، ثم خذ سدس المال، وهو ثمانية أسهم، وانقص منه نصيباً، يبقى سهم واحد، وهو تكملة سدس المال، فانقصه من تكملة ثلث الباقي من المال بعد الوصية، وهو سبعة، تبقى ستة، فهي الوصية. فعد وانقصها من المال، وهو ثمانية وأربعون، يبقى اثنان وأربعون بين البنين، لكل واحد منهم سبعة أسهم. فإن كانت المسألة بحالها، وقد أوصى فيها لآخر بثلث ما تبقى من الثلث، فمعلوم أن وصية الأول ثمنُ المال، على ما بيّنا، فكأنه أوصى لرجل بثمن ماله، ولآخر بثلث ما تبقى من الثلث، وقد بان نظائر هذا فيما تقدم، فالوصيتان بالطرق المقدمة، والوصايا بالأجزاء أربعة عشر جزءاً من اثنين وسبعين جزءاً من المال، فانقصها من المال، واقسم الباقي بين البنين على أمثال ما تقدم شرح ذلك في أمثال هذا. مسائل في النوادر من الوصايا المفروضة، التي فيها ذكر الجذور 6874 - فنقول أولاً: المسائل التي يجري فيها تصوير الجذور، لا تمس (2) الحاجة إليها في الأحكام والفتاوى ولا تُخرّج على موجَب الحكم، إنما يوردها الحُسّاب للرياضة في الحساب، وإلا فالجذر لا ضبط له في طرفي القلة والكثرة.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " ولا تمس ".

وقد ذكرنا أن من أوصى بجذر ماله، فهذا محمول على جذر ما خلّفه، على ما تقدم شرحه: منطَّقاً كان الجذر أو أصمَّ، وكنا فيما تقدم رأينا هذا، ولم يتعرض له الأستاذ أبو منصور في مسائل الجذور، ولكنه استرسل في طريق الحساب استرساله في مسائل سائر الأبواب، وقد نص هاهنا على ما ذكرناه، وأبان أن المسائل التي تُفرض فيها الجذور والمجذور فرضياتٌ، [يُبغى] (1) بها الرياضة والتدرّب. وما عدا ذلك من مسائل الأبواب ينطبق على الفتاوى والأحكام؛ فإن المقصود منها بيانُ أجذار الوصايا، وإيضاح جزئها من حصص الورثة، وتلك الجزئية لا تختلف بأن نفرض عدداً قليلاً أو كثيراً، وكذلك لا تختلف بأن نخرج المسألة مع كسرٍ، أو نخرجَها مع التصحيح، فكأن نخرجها في أقلِّ عدد تصح القسمةُ منه موافقاً للحكم، ولا حرج على من يكسّر ولا من يبسط؛ فإن الجزئية لا تختلف، وأما الجذور، فإنها تختلف بالجزئية إذا خالفت في الوضع (2) تقليلاً وتكثيراً، ولو لم يكن فيها [إلا أنّ] (3) جذرَ الأموال التي [تكون] (4) أعداداً أقلُّ منها، وجذرُ الكسر أكثر من الكسر (5)، لكان في هذا أكمل بيان في أن مسائل الجذور رياضةٌ وضعيّة، لا حاجة إليها في الأحكام إلا أن يتكلف متكلفٌ، فيشترطَ شرطاً يدنو من بيان المسألة. 6875 - ولكنا لم نُحب أن نُخلي هذا المجموع (6) من بعض ما ذكره الحُسّاب في هذا الباب؛ حتى يكون مشتملاً على كلِّ نوع يجري الرسمُ بذكره، فنذكر إذاً مسائل. منها - أن قائلاً لو قال: خلف رجل ابناً وبنتاً، وأوصى بوصية إن نقصها من نصيب البنت، كان باقي نصيبها مجذوراً، وإن نقصها من نصيب الابن، كان باقي نصيبه مجذوراً، كم الوصية؟ والتركة؟ والنصيب؟

_ (1) في الأصل. ويبغى. (2) المراد بالوضع الفرضُ والتقدير. (3) عبارة الأصل: ولو لم يكن فيها الآن جذر ... (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) مثاله: جذر التسعة ثلاثة، وجذرُ الربع نصف. (6) هذا المجموع المراد به: هذا الكتاب (نهاية المطلب).

فالوجه في استخراج هذه المسألة في أوضاعهم، أن نقول: نجعل نصيب البنت مالاً ووصية، ونجعل نصيب الابن أربعة أموال ووصية، وإذا أسقطنا الوصية من نصيب البنت بقي مال، وهو مجذور، وإذا أسقطنا الوصية من نصيب الابن، بقيت أربعة أموال، وجذر الأربعة من طريق اللفظ ثابت، ثم نضعِّف نصيبَ البنت، فيكون مالَيْن ووصيتين، وسبب تضعيف المال أن نثبت لها مالين على نصف ما أثبتنا للابن، فإذاً نصيبها مالان ووصيتان، ونصيب الابن أربعة أموال ووصية، وليس هذا تعديلاً محقَّقاً؛ وسبب ذلك أنا إذا أردنا أن يكون الباقي من نصيب البنت مجذوراً، فينبغي أن يكون نسبة الوصية إلى باقي نصيبها بخلاف نسبة الوصية إلى باقي نصيب الابن، ولو لم نقدّر ذلك، لما خرج الباقي من كل نصيب مجذوراً. وليعلم الناظر أن المسائل الجذرية وضعيةٌ كلُّها، توصّل الحُسّاب إلى أوضاعٍ فيها ولا تتبعوها (1) وأوردوها، ويعسر طلبُ طرقٍ منقاسةٍ في استخراجها، ولا شك أن لها طرقاً غائصة متلقّاةً من أسرار الهندسة، ولكن لا مطمع في بيانها، فليكتف الناظر بالمراسم التي تُلقى إليه. فنعود ونقول: نصيب البنت مالان ووصيتان، نقابل به نصيب الابن، وهو أربعة أموال ووصية، فأسقط مالين بمالين، ووصية بوصية، فيبقى وصية تعدل مالين، فاجعل كل واحد من المالين أيَّ عدد شئت، بعد أن يكون مجذوراً، فقل: كل مال أربعةٌ، فالوصية إذاً ثمانية؛ فإن الوصية صارت تعدل مالَيْن. ونصيب البنت في أصل المسألة قبل التضعيف مالٌ ووصية، فالمجموع اثنا عشر؛ فإن المال أربعةٌ، والوصيةُ ثمانية. ونصيب الابن أربعةُ أموال ووصبة، فهو إذاً أربعة وعشرون، ستة عشر منها أموال، وثمانية وصية، وجملة المال أربعة وأربعون، اثنا عشر، وأربعةٌ وعشرون، وثمانية للوصية. ومتى نقصت الوصية من نصيب البنت بقي أربعة، وهي مجذورة، فإن نقصتها من

_ (1) كذا، ويمكن أن تقرأ: ولاتّبعوها.

نصيب الابن، بقي ستة عشر، وهي مجذورة. 6876 - فإن كانت المسألة بحالها إلا أن السائل قال: الوصية إن زادت على نصيب كل واحد من الابن والبنت، كان النصيب مع الوصية مبلغاً مجذوراً. فالطريق المذكورة في ذلك أن نجعل نصيب البنت أربعة أموال إلا وصية، ونجعلَ نصيب الابن ستة أموال وربع مال إلا وصية. وهذا كما ذكرناه وضعُ امتحان لا يُهتدَى إلى طريقٍ منقاسةٍ فيه، ثم نضعّف نصيب البنت -وهذا يطرد في أمثال هذه المسائل- فتكون ثمانية أموالٍ إلا وصيتين، ثم نقابل ذلك بنصيب الابن، وهو ستة أموال وربع إلا وصية، فنجبر نصيبها بوصيتين، ونزيد على نصيب الابن وصيتين، فنجبر بأحدهما الاستثناء، فيصير ثمانية أموال في مقابلة ستة أموال وربع ووصية، فنسقط من نصيب البنت ستة أموال وربع مال، ونسقط ما كان معنا من الأموال والكسر من جانب الابن، فيبقى وصيته تعدل مالاً وثلاثة أرباع مال، فاجعل المال عدداً مجذوراً، أيَّ عدد شئت، فإن جعلتَه أربعة، فالوصية سبعة؛ فإنها قابلت مالاً وثلاثة أرباع مال. ونصيب البنت في أول وضع المسألة قبل التضعيف أربعةُ أموال إلا وصية، وأربعة أموال ستة عشر، فإذا استثنيت منها الوصية -وهي سبعة- بقيت تسعة. ونصيب الابن وهو ستة أموال وربع مال -وكل مال أربعةٌ- خمسةٌ وعشرون، ولكن معها استثناء وصية، وإذا استثنيت الوصية وهي سبعة من خمسةٍ وعشرين، بقي ثمانيةَ عشرَ، وهي ضعف التسعة، ولو زدت [السبعة] (1) على ثمانيةَ عشرَ، بلغ خمسةً وعشرين، وهي مجذورة، وإذا زدت الوصية وهي سبعة على نصيب البنت، وهو تسعة بلغ ستةَ عشرَ، وهي مجذورة، والنصيبان مع الوصية أربعة وثلاثون، وهي التركة الجامعة للوصية والنصيبين. 6877 - فإن ترك ابنين، وقد أوصى لأخيه وعمه وخاله بوصايا كل وصية منها على عدد مجذور، وجميعهن مثلُ نصيب أحد الابنين، وإذا زدت على كل واحدة منهن

_ (1) في الأصل: التسعة.

ستة عشر سهماً، كان المبلغ مجذوراً، فكم التركة؟ وما مقدار كل واحدة من الوصايا؟ الوجه أن نجعل الستة عشرَ جذري وصية الأخ، وواحداً من العدد، يعني نحسب كلَّ (1) واحدٍ من العدد، فبقي خمسة [عشر] (2) فهي جذران، وإذا كان كذلك، فالجذر الواحد لوصية الأخ سبعة ونصف، والوصية ستة وخمسون وربع. [ثم] (3) نجعل الستةَ عشرَ أربعة أجذار وصية العم، وأربعة من العدد، وإذا حططت من الستةَ عشرَ أربعة لأجل العدد، بقي اثنا عشر، وإذا قطعتها أربعة أجذار، فالجذر الواحد ثلاثة، فوصية العم تسعة. ثم نجعل الستة عشر ستة أجذار وصية الخال وتسعة من العدد، فنخرج الجذر الواحد من الستة عشر بعد حط التسعة، واحداً وسدساً، فيكون وصية الخال واحداً وثلاثةَ عشرَ جزءاً من ستةٍ وثلاثين جزءاً من واحد. فمتى زدت الستةَ عشرَ على وصية الخال، صار المبلغ سبعةَ عشرَ من العدد وثلاثةَ عشرَ جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من واحد، وذلك مجذور وجذره أربعة وسدس. وإن زدت الستةَ عشرَ على وصية الأخ وهو ستة وخمسون وربع، بلغ اثنين وسبعين وربعاً، وهو مجذور، وجذره ثمانية ونصف. وجميع الوصايا إذا جمعتها ستة وستون عدداً، واثنان وعشرون جزءاً من أجزاءٍ ستةٍ وثلاثين، ونصيب الابنين مِثْلا ذلك، فجميع التركة إذا ألَّفت الكسور [مائة وتسعة وتسعون] (4) سهماً وخمسة أسداس سهم. وهذه المسألة وضعيّة (5)، وحاصلها أن نضع عدداً يوافق الجوابُ فيه مقصودَ

_ (1) كذا. ولعلها: " أي واحدٍ "، والمعنى واضح من السياق: أي نفرض الـ (16 = 2جذر+1) أو (16 - 1 = 2 جذر). (2) عبارة الأصل: فبقي خمسة. (3) في الأصل: لم. (4) عبارة الأصلِ: مائة وسبعون. (5) وضعية أي فرْضية تقديرية.

السائل، وإلا فما ذكرناه من تقاسيم الوصايا تحكّمات، ولو أقمت الخال مقام الأخ، والعمَّ مقام الخال، والوصايا المذكورة في السؤال مرسلة، لا ضبط فيها (1)، ولكن لا تخرج الوصايا الثلاث إلا بأن ترتب كذلك، ونسبة الوصايا إلى تقدير الجاعل. ولا معنى للإكثار من هذا الفن إذا كان الحاجة لا تَمس إليها في الأحكام، وإنما هي رياضٌ (2). ...

_ (1) جواب لو مفهوم الكلام. (2) أي رياضة.

باب مسائل في الوصايا المقيدة بالدراهم والدنانير والمقصود استخراج أعداد سهمها للسائل في سؤاله

باب مسائل في الوصايا المقيدة بالدراهم والدنانير والمقصود استخراج أعداد سهمها للسائل في سؤاله 6878 - مسألة: ابن وبنت، وقال السائل: أوصى بوصية كانت الوصية إذا زدت عليها ثلاثة دنانير - مثلَ نصيب البنت، وإذا زدت عليها عشرةَ دنانير، كانت مثلَ نصيب الابن. كم الوصية؟ وكم التركة؟ والوجه أن نقول: نجعل نصيب البنت شيئاً وثلاثة دنانير، ونجعل نصيب الابن شيئاً، وعشرةَ دنانير، ثم نضعّف نصيب البنت، فيكون شيئين وستة دنانير، فنقابل بين نصيب الابن، وهو شيءٌ وعشرةُ دنانير، فيبقى بعد المقابلة وإسقاط المثل بالمثل شيءٌ، يعدل أربعةَ دنانير، وهي الوصية. فعد وقل: الوصية أربعة، ولو زدت عليها ثلاثة دنانير، كانت سبعة، وهي نصيب البنت، وإذا زدت عليها عشرة دنانير، كانت أربعةَ عشرَ ديناراً، وهو مثل نصيب الابن. والتركةُ كلُّها خمسةٌ وعشرين ديناراً. حصة الابن والبنت منها أحدٌ وعشرون، والوصية أربعةٌ. وهذه المسألة في وضعها أدنى إشكال؛ من جهة أنا بالتضعيف آخراً، قدرنا نصيب البنت شيئين وستة دنانير، فكان الوضع يقتضي أن يكون نصيب الابن شيئين ونصيب البنت شيئاً واحداً، وستأتي مسائل على النظم الذي ذكرناه، ولكن الحُسَّاب لم يخرجوا على تقدير ثلاثة أشياء، واحتاجوا إلى تضعيف الدنانير الثلاثة، وانتظم لهم اللفظ الذي ذكرناه، ولا يختلف الغرض بذلك التقدير.

6879 - مسألة: ابن وبنت وقد أوصى بوصية إن زدتها على نصيب البنت بلغ المجموع ثلاثين ديناراً، وإذا زدتها على نصيب الابن، بلغ المجموع خمسين ديناراً، فكم الوصية؟ وكم التركة؟ الوجه أن نجعل الوصية شيئاً، فإذا ألقيته من الخمسين ديناراً، بقي خمسون ديناراً إلا شيء، وذلك نصيب الابن. وإذا ألقيته من ثلاثين ديناراً، بقي ثلاثون ديناراً إلا شيئاً، وذلك نصيب البنت، فضعّف نصيبَ البنت أبداً في قياس الباب، فيصير ستين ديناراً إلا شيئين، فنقابل الآن بينها وبين نصيب الابن، وهو خمسون دينار إلا شيئاً، ونجبر الشيئين بشيئين، ونزيد على الخمسين شيئين، فتصير شيئين، في مقابلة خمسين وشيئاً، فنسقط المثل بالمثل، فيبقى شيء في مقابلة عشرة دنانير. فنقول: الوصية عشرةُ دنانير، ونصيب الابن أربعون، ونصيب البنت عشرون. وإذا زدت العشرة على الأربعين صار المبلغ خمسين، وإذا زدتها على عشرين، صار المبلغ ثلاثين. والتركة سبعون ديناراً للوصية عشرة، وللابن أربعون، وللبنت عشرون. 6880 - مسألة: ثلاثة بنين وبنت وقد أوصى لكل واحد من عمه وخاله بوصية، إذا زدت على وصية الخال أربعة دنانير، كان مثل نصيب البنت، وإذا زدت على وصية العم ستة دنانير، كان المبلغ مثلَ نصيب الابن، والوصيتان جميعاً ثلاثون ديناراً؟ كم التركة؟ وكم مبلغ كلِّ واحد من الوصيتين؟ والوجه أن نقول: نصيب البنت شيء، ونصيب كل ابن شيئان، على القياس الذي يجب، وتكون وصية الخال شيئاً إلا أربعة دنانير؛ [فإن] (1) نصيب البنت في الوضع شيءٌ، ووصية الخال ناقصة عنه بأربعة دنانير. ووصية العم شيئان إلا ستة دنانير. والوصيتان إذاً ثلاثة أشياء إلا عشرة دنانير [وذلك يعدل ثلاثين ديناراً] (2)، فنجبر

_ (1) في الأصل: وإن. (2) زيادة من المحقق، لا يتم الكلام إلا بها.

الأشياء بعشرة دنانير، ونزيد على عديلها عشرة، فيبقى ثلاثة أشياء كاملة في مقابلة أربعين ديناراً، فتبين أن قيمة الشيء ثلاثة عشر ديناراً وثلث، فذلك نصيب البنت، فنصيب الابن إذاً ستةٌ وعشرون وثلثان، وإذا نقصت من الثلاثةَ عشرَ والثلثِ أربعةَ دنانير، بقي تسعةٌ وثلث. وهذا وصية الخال من ثلاثين، وإذا نقصت من الستة والعشرين والثُّلثَيْن ستة دنانير، بقي عشرون ديناراً وثُلثَيْن، وهي وصية العم، والوصيتان جميعاً ثلاثون ديناراً، تسعة وثُلثٌ واحدٌ، وعشرون وثلثان فإذا جمعت أنصباء البنين على ما قدرنا ونصيب البنت، وضممت إليها الوصيتين، كان المبلغ مائةً وثلاثةً وعشرين ديناراً وثلث، وهي التركة الجامعة للوصية والميراث. 6881 - مسألة: ثلاثة بنين وبنت، وأوصى لكل واحد من عمه وخاله بوصية، وكانت وصية الخال إذا نقصت من عشرين درهماً بقي مثلُ نصيب البنت، وإذا نقصت وصية العم من ستين درهماً، بقي مثلُ نصيب أحد البنين، والوصيتان جميعاً ثلاثون درهماً، كم التركة؟ وكم كل نصيب؟ وما مبلغ كلِّ وصية؟ فنجعل نصيبَ البنت شيئاً، ونصيبَ كلِّ ابن شيئين، على القياس الواجب، وننقص نصيب البنت من عشرين درهماً، تبقى عشرون درهماً إلا شيئاً، فنعلم أن هذا وصيةُ الخال، وننقص نصيب الابن وهو شيئان من ستين درهماً، بقي ستون درهماً إلا شيئين، وهو وصية العم. فالوصيتان ثمانون درهماً، إلا ثلاثة أشياء، وذلك يعدل ثلاثين درهماً، فنجبر ونقابل، ونقول: نجبر الثمانين بثلاثة أشياء، ونزيد على عديلها ثلاثةَ أشياء، فيبقى ثمانون كاملة في مقابلة ثلاثين وثلاثة أشياء، فنُسقط الثلاثين من الثمانين، فيبقى ثلاثة أشياء في مقابلة خمسين، فقسِّمه [يخرج] (1) كل شيء إذاً ستةَ عشرَ درهماً وثلثا درهم، وهو نصيب البنت. ونصيب الابن ثلاثة وثلاثون درهماً وثلث. فإذا ألقيت نصيبَ [البنت] (2) من عشرين، بقي ثلاثة وثلث، هي وصية الخال.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: الابن.

وإذا ألقيت نصيب الابن وهو ثلاثة وثلاثون وثلث، من [الستين] (1) بقي ستة وعشرون وثلثان، وهو وصية العم، فالوصيتان جميعاً ثلاثون درهماً، والتركة الجامعة للوصية والأنصباء مائة وستة وأربعون درهماً وثلثان. 6882 - مسألة: ابنان، وقد أوصى لكل واحد من عمه وخاله وأخيه بوصية، فكانت وصاياهم جميعاً مثل نصيب أحد البنين، وإذا جمعت وصية العم والخال، كانت أكثرَ من وصية الأخ بستة دراهم، وإذا جمعت وصية الخال والأخ، كانت أكثر من وصية العم بتسعة دراهم، وإذا جمعت وصية العم والأخ، كانت أكثر من وصية الخال بخمسةَ عشرَ درهماً. كم التركة؟ وكم كل وصية؟ الوجه أن نجعل [نصيب] (2) كلِّ ابن شيئاً، فيكون جميع الوصايا شيئاً؛ فإنا ذكرنا أن جميع الوصايا مثلُ نصيب ابنٍ. فأسقط من الشيء الذي هو جميع الوصايا الفضلَ الذي في وصية العم والخال على وصية الأخ، وهو ستة دراهم، يبقى شيء إلا ستة، فخذ نصفَها، وهو نصف شيء إلا ثلاثة، وقل هذا وصية الأخ. ثم ارجع، واطرح من جميع الوصايا، وهو شيء الفضل الذي في وصية الخال والأخ على وصية العم وهو تسعة، يبقى شيء إلا تسعة، فخذ نصفها وهو نصف شيء إلا أربعة دراهم ونصف، فقل هذا وصية العم. ثم ارجع، وقل: نطرح من جميع الوصايا -وهو شيء- الفضلَ الذي في وصية الأخ والعم على وصية الخال، وهو خمسةَ عشرَ درهماً، يبقى شيء إلا خمسةَ عشرَ، فخذ نصفها، وذلك نصف شيء إلا سبعةَ دراهم ونصف [درهم] (3)، فذلك وصية الخال. ثم اجمع الوصايا، فتكون شيئاً ونصفاً إلا خمسة عشر درهماً، وذلك يعدل شيئاً واحداً، فاجبر وقابل، فيبقى بعد الجبر والمقابلة وإسقاط المثل بالمثل نصفُ شيء في

_ (1) في الأصل: الشيئين. (2) في الأصل: " وصية " وهو سبق قلم واضح. (3) في الأصل: شيء.

مقابلة خمسةَ عشرَ، والشيء إذاً ثلاثون، وبان بهذا المقدار من العمل أن الوصايا ثلاثون درهماً، فإنها في الوضع شيء واحد. فإن أردت أن تعرف مقدار كل وصية بعد معرفة جملتها، فالوجه أن تسقط من الجملة المعلومة الفضلَ الذي في وصية العمّ والخال على وصية الأخ، وهو ستة تبقى أربعة وعشرون، فخذ نصف الباقي وهو اثنا عشر، وقل هي وصية الأخ، ثم نسقط من الشيء الفضلَ الذي في وصية الخال والأخ على وصية العم، وذلك تسعة تبقى أحدٌ وعشرون، فخذ نصفها، وقل: هو وصية العم وذلك عشرة ونصف، ثم نسقط من الثلاثين الفضلَ الذي في وصية العم والأخ على وصية الخال، وهو خمسةَ عشرَ، تبقى خمسة عشر، فنصفها وهي سبعة ونصف وصيةُ الخالي، وإذا خرجت الوصايا ثلاثين، فنعلم أن نصيب كلِّ ابن ثلاثون، وجملةُ التركة تسعون. 6883 - واعلم أن الوصايا إن كانت أربعة، وكل ثلاثة منها تفضل الرابعة بعدد، فإن الوصايا كلَّها ثلث [ما ذُكر من الفواضل] (1). فإن كانت الوصايا خمساً، وكل أربعةٍ منها تفضل الخامسة بعدد، فإنها كلها ربع [ما ذكر من الفواضل] (1)، وكلّما زدت وصيةً ازداد نقصانُ جزءٍ، على القياس الذي ذكرناه، وهكذا الترقِّي من أربع وصايا إلى حيث ننتهي (2).

_ (1) في الأصل: " فاذكر من الفواضل " وهو تصحيف يبدو هيّناً، ولكنه جعل الكلام مضطرباً غير مفهوم، ولولا فضل الله ما أدركنا سرّه. (2) هذا القانون يُعْلمُ صدقه بالنظر في المسألة التي انتهينا منها الآن، فمعنا ثلاث وصايا كل اثنين منها يفضل الثالثة بعدد، وقد رأينا أن مجموع الوصايا نصف ما ذكر من الفواضل، وبيان ذلك أن الفاضل بعد طرح الزيادة في وصية العم والخال على وصية الأخ يساوي أربعة وعشرين، والفاضل بعد الزيادة في وصية الخال والأخ على وصية العم يساوي أحداً وعشرين، والفاضل بعد الزيادة في وصية العم والأخ على وصية الخال يساوي خمسة عشر ومجموعها (24+21+15 = 60) وقد رأينا أن مجموع الوصايا نصف هذا المبلغ (ثلاثون). فلو كانت الوصايا أربعاً، لخرجت جملتها (ثلث) الفواصل، ولو كانت خمساً، لخرجت ربع الفواضل.

6884 - مسألة: ثلاثة بنين أوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما تبقى من الثلث، فكانت الوصيتان عشرة دراهم، كم المال كلُّه؟ وكم كل واحد من الوصيتين؟ فمعلوم أن الباقي من المال بعد الوصيتين أنصباء الورثة، وذلك ثلاثة أنصباء، فزد عليها الوصيتين، فيكون ثلاثة أنصباء، وعشرة دراهم، فخذ ثُلثَه، وذلك نصيبٌ وثلاثةُ دراهم وثلث درهم، فأسقط منه نصيباً للموصى له بالنصيب، وأسقط ثلثَ الباقي للموصى له بثلث الباقي من الثلث، يبقى درهمان وتسعا درهم، فزدها على ثلثي المال، وهو نصيبان وستة دراهم وثلثا درهم، فيبلغ نصيبين وثمانية أتساع درهم، يعدل ثلاثة أنصباء، فالنصيبان بالنصيبين، وبان أن النصيب يعدل ثمانيةَ دراهم وثمانيةَ أتساع، فتضرب ذلك في عدد البنين، فيكون ستةً وعشرين درهماً وثلثي درهم، وهي الأنصباء، وهذا معنى الضرب في ثلاثة، فزد عليها العشرة التي هي مجموع الوصيتين، فيبلغ ستةً وثلاثين درهماً، وثلثي درهم، فذلك جميع التركة. ولا يخفى الامتحان بعد ذلك. 6885 - مسألة: ثلاثة بنين: وقد أوصى لرجلٍ بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما يبقى من الثلث، فكانت وصية الموصى بثلث ما تبقى من الثلث ستة دراهم. كم المال؟ فنقول: معلومٌ أن المال أنصباء البنين ووصيتان، إحداهما بنصيب، والأخرى بستة دراهم، فجميع المال أربعة أنصباء، وستة دراهم، فخذ ثلث ذلك، وهو نصيبٌ وثلث نصيب ودرهمان، فأسقط منه نصيباً، يبقى ثلثُ نصيب، ودرهمان، فخذ ثلث ذلك للموصى له الثاني، وذلك تسع نصيب وثلثا درهم، وهو يعدل ستة دراهم، فإذا أسقطت ثلثي درهم، بقي خمسةُ دراهم وثلثٌ، تعدل تُسعَ نصيب، فالنصيب الكامل يعدل ثمانيةً وأربعين درهماً، فاضربه في أربعة، وهي عدد الأنصباء، وزد عليه ستةَ دراهم تكون مائةً وثمانيةً وتسعين درهماً، فهو المال كله، وثلثُه ستةٌ وستون، فنطرح منها النصيب ثمانية وأربعين درهماً، فيبقى ثمانيةَ عشرَ، وثلثه ستة.

مسائل فيها عروض وأعيان

ومن هذه النسبة [تأتي الأنصباء] (1) وجملة المال. مسائل فيها عروض وأعيان 6886 - مسألة: إذا خلّف ثلاثة بنين وأوصى من ثلث ماله بنصيب أحدهم، [وأوصى لآخر] (2) بثلث ما تبقى من الثلث ودرهم. [و] (3) حصرَ هذه الوصايا في الثلث، وتركته عشرةُ دراهم وثوبٌ واحد، فأخذ الموصى له بمثل نصيب أحدهم الثوبَ بحقه. فكم قيمةُ الثوب؟ الوجهُ أن نجعل الثوبَ من طريق التقدير ديناراً، فتكون التركة عشرةَ دراهم وديناراً، فنأخذ ثلثَ التركة، وهو ثلاثةُ دراهم وثلثُ درهم وثلثُ دينار، ثم نطرح منه بالنصيب ديناراً، فنصرف إليه الثلثَ دينار [الذي] (4) وقع في الثلث، ونأخذ بقية الدينار من قيمة ما معنا في الثلث المفروض، فيبقى ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا ثلثي دينار، فنلقي من ذلك [درهماً وتسع درهم إلا تسعي دينار] (5) وهي تمام الوصايا، فيبقى معنا تسعان ودرهمٌ فإنا أخذنا درهماً وثلث ثلث درهم، وهو تُسع للوصية بثلث ما تبقى، وأخذنا درهماً للوصية بالدرهم، فيبقى معنا ما ذكرناه. ولكن كان في الثلاثة الدراهم والثلث استثناء بثلثي دينار، فنسقط ثلث هذا الاستثناء تابعاً لما أخذه الموصى له بثلث ما يبقى من الثلث، فإذا سقط من ثلثي دينار ثلثه، بقي أربعة أتساع دينار، وأما الدرهم الموصى به، فإنا نخرجه كاملاً؛ فإن الوصية به وقعت على كماله، فقد بقي معنا إذاً درهم وتسعا درهم إلا أربعة أتساع دينار، فنزيده على ثلثي [التركة] (6)، والثلثان قبل ضم هذه الزيادة ستة دراهم وثلثا

_ (1) في الأصل: ثانياً لأنصباء. (2) ما بين المعقفين زيادة من المحقق. (3) الواو زيادة من المحقق. (4) عبارة الأصل: الثلث ديناراً إن وقع في الثلث. (5) عبارة الأصل: فنلقي من ذلك ثلثا ودرهم وهي تمام الوصايا. (6) في الأصل: " دينار ".

درهم وثلثا دينار، فيصير بهذا الضم سبعةَ دراهم وثمانيةَ أتساع درهم [وتسعا] (1) دينار، فإنّ فيما ضممناه استثناء أربعة أتساع دينار، وإذا نقصنا أربعة أتساع دينار من بين ثلثي دينار، بقي تسعا دينار، فالمجموع إذاً سبعةُ دراهم وثمانيةُ أتساع درهم وتسعا دينار، وذلك كله يعدل أنصباء الورثة، وهو ثلاثة دنانير، فنسقط تُسعي دينار بتسعي دينار، فيبقى سبعةُ دراهم وثمانيةُ أتساع درهم في مقابلة دينارين وسبعة أتساع دينار، فابسطهما جميعاً أتساعاً، فيصير ما بقي [من] (2) الدنانير في جانب الأنصباء خمسة وعشرين ديناراً، ويصير الدراهم أحداً وسبعين درهماً، فالدينار الواحد يعدل درهمين وأحداً وعشرين جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درهم، فذاك قيمة الثوب الذي قدرناه ديناراً في وضع المسألة، وهي مقدار النصيب إذا حسبت وامتحنت. ولا حاجة إلى البسط بعد البيان. 6887 - مسألة: خلف ابنين، فأوصى بمثل نصيب أحدهما إلا ثلثَ جميع المال، وأوصى لآخر بثلث ما تبقى من الثلث (3)، وخلّف ثلاثين درهماً وثوباً، وأخذ الموصى له بثلث ما تبقى من الثلث الثوبَ بمقدار حصته، فكم قيمة الثوب؟ المسألة: أولاً ردَّدنا [الكلام] (4) مراراً في أنواع [في] (5) ظاهرها استثناء مستغرق؛ فإنه لو لم يخلّف إلا ابنين وأوصى بمثل نصيب أحدهما، لكانت الوصية بثلث المال، وإذا استثنى ثلثَ المال من هذه الوصية، كان الاستثناء مستغرقاً، ولكن المسألة اشتملت على وصية أخرى، فاقتضت تلك الوصية تخريجَ المسألة من طريق الحساب، وفي المسألة تردُّدٌ من طريق الفقه، سبق ذكره، وجرياننُا الآن على طريق الحساب.

_ (1) في الأصل: وسبعا. (2) في الأصل: ثمن. (3) عبارة الأصل: " بثلث ما تبقى من الثلث ودرهم ". وكلمة درهم لا أثر لها في تفاصيل المسألة. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "وفي" بزيادة (واو).

فنعود ونقول: نجعل الثوب الذي أخذه الموصى له بثلث ما تبقى من الثلث ديناراً، فيكون مالُ الميت ثلاثين درهماً وديناراً، ثم إنا نعلم أن الثوب مأخوذٌ بثلث ما تبقى من الثلث، فإذا قدرناه ديناراً، احتجنا إلى فرض ثلاثة دنانير بعد الوصية بالنصيب. فالوجه أن نقول: نأخذ ثلثَ المال، وهو عشرة دراهم وثلث دينار، ونلقي منه الاعتبار ثلاثة دنانير بما تبقى من الثلث بعد الوصية بالنصيب، فيبقى معنا عشرة دراهم إلا دينارين وثلثي دينار؛ فإنا [صرفنا] (1) في الدنانير الثلاثة ما كان معنا من ثلث دينار، فيبقى استثناء دينارين وثلثين؛ بناء على حط ثلاثة دنانير من الثلث، فنزيد ذلك على الثلث الكامل، وهذا عشرة دراهم إلا دينارين وثلثي دينار، والثلث عشرة دراهم وثلث دينار، فإذا زدنا ما معنا على الثلث الكامل، صار المجموع عشرين درهماً إلا دينارين وثلث دينار؛ فإنا حسبنا من الاستثناء ما كان مع الثلث الكامل من ثلث دينار، فرجع استثناء الثلثين إلى ثلث. ثم نقول: هذا المجموع نصيب أحد الابنين، والسبب فيه أن في الوصية استثناءَ ثلث كامل، وحق الوصية بالنصيب إذا كانت كاملةً، لا استثناء فيها، أن تكون كنصيب أحد الابنين، فلا بد من تقدير هذا المبلغ الذي ذكرناه، حتى إذا استثنينا منه الثلث الكامل، بقي للوصية بالنصيب مقدار، ونصيب الابن لا استثناء فيه، فيصير هذا المجموع نصيب ابن؛ فنصيب الابنين إذاً أربعون درهماً إلا أربعة دنانير وثلثي دينار، فاحفظ ذلك. وارجع، وقل: ثلثُ المال عشرةُ دراهم وثلث دينار، فنلقي منه عشرة دراهم إلا [دينارين وثلثي دينار] (2)، تبقى الدنانير الثلاثة التي قدرناها لمكان الوصية بثلث ما يبقى، فاطرح منها ثلثها للوصية بثلث ما تبقى، فيبقى ديناران، فاطرح منها درهماً، فيبقى ديناران إلا درهماً، فزد ذلك على ثلثي المال، وهو عشرون درهماً وثلثا دينار، فيبلغ المجموع تسعةَ عشر درهماً ودينارين وثلثي دينار، وسبب نقصان

_ (1) في الأصل: ضربنا. (2) في الأصل: "دينار وثلثي دينار".

الدرهم أن فيما ضممناه إلى الثلثين استثناء درهم، فحسبناه مما معنا ليكمل (1)، فالذي معنا إذاً [تسعة] (2) عشر درهماً وديناران وثلثا دينار، وذلك يعدل نصيب [الابنين] (3)، وهو أربعون درهماً إلا أربعة دنانير وثلثي دينار، فنجبر نصيب الابنين بما فيه من الاستثناء وهو أربعة دنانير وثلثي دينار، ونزيد على عديله مثلَه، فيصير تسعةَ عشرَ درهماً [وسبعة] (4) دنانير وثلث دينار، [تعدل أربعين درهماً] (5) فنسقط المثل بالمثل، فيبقى في جانب النصيب أحدٌ وعشرون درهماً، وفي جانب المال سبعةُ دنانير وثلث، فابسطهما أثلاثاً، فيصير الدنانير اثنين وعشرين ديناراً، والدرهم في الجانب الآخر ثلاثة وستين درهماً، فالدينار الواحد يعدل درهمين وتسعةَ عشرَ جزءاً من اثنين وعشرين جزءاً من درهم، فقد تخرَّج لنا بهذا العمل قيمةُ الثوب الذي أخذه الموصى له بثلث ما تبقى من الثلث. وقد تمت المسألة، ثم إذا بان أن ثلث ما تبقى من الثلث هذا المقدار، لم يخف على الفطن استخراج النصيب، وإجراء المسألة على الامتحان المعهود (6).

_ (1) كذا. والمعنى ليكمل أي بدون استثناء. (2) في الأصل: سبعة عشر. (3) في الأصل: الابن. (4) في الأصل: وتسعة. (5) زيادة اقتضاها سياق العمل الحسابي، وسقطت من الأصل. (6) وبيان ذلك الامتحان كالآتي: نقول: الثوب 19/ 22 2 درهماً، والتركة ثلاثون درهماً وثوب. إذاً التركة = 19/ 22 32 = الوصية الثانية بثلث ما تبقى من الثلث، وظهر أنها تساوي الثوب أي 19/ 22 2 إذاً مجموع ما بقي من الثلث بعد الوصية الأولى = 19/ 22 2 × 3 = 13/ 22 8 نطرح هذا من الثلث تبقى الوصية الأولى، هكذا: 1/ 3 التركة = 19/ 22 32 ÷ 3 = 21/ 22 10 فالوصية الأولى = 21/ 22 10 - 13/ 22 8 = 8/ 22 2 مجموع الوصيتين = 8/ 22 2 + 19/ 22 2 = 5/ 22 5 نخرج هذا من التركة يبقى نصيب الابنين هكذا 19/ 22 32 - 5/ 22 5 = 14/ 22 27 =

6888 - مسألة: ترك أربعة بنين وأوصى بتكملة الثلث بنصيب أحدهم، وبثلث ما تبقّى من الثلث وبدرهم، وخلف ثلاثين درهماً وثوباً فأخذ الموصى له بتكملة الثلث بنصيب أحدهم [و] (1) بثلث ما تبقى من الثلث الثوبَ، [سواءٌ] (2) كانت الوصيتان لشخص واحد أو لشخصين، فالفرض أخذ الثوب بالوصيتين. فإذا قيل لنا: كم قيمةُ الثوب؟ فالوجه أن نطرح من الثلاثين درهماً الدرهم (3) الموصى به، يبقى تسعة وعشرون درهماً، فاقسم ذلك بين أربعة بنين، فيكون نصيب الواحد [سبعة] (4) دراهم وربع، فهذا هو النصيب من الدراهم، ثم ارجع وقل: نجعل قيمةَ الثوب ديناراً، فيكون المال ثلاثين درهماً وديناراً، فخذ ثلثها، وهو [عشرة دراهم] (5) وثلث دينار، فاطرح منه نصيب ابن من الدراهم وذلك سبعة دراهم وربع، فتبقى درهمان وثلاثة أرباع درهم وثلث دينار، فهذا هو تكملة الثلث. ثم عد فخذ ثلثَ سبعةٍ وربع، والسبب فيه أن الثلث إذا أسقطت منه التكملة، فالباقي منه مقدار النصيب، وقد وقعت الوصية بثلث الباقي بعد التكملة، وثلث سبعة وربع درهمان وربع وسدس، فزده على التكملة وهو درهمان وثلاثة أرباع درهم وثلث

_ = إذاً النصيب = 14/ 22 27 ÷ 2 = 18/ 22 13 فإذا طرحت من هذا النصيب ثلث المال خرجت الوصية الأولى هكذا 18/ 22 13 - 21/ 22 10 = 19/ 22 2 ولو جمعت الوصيتين والنصيبين كان المجموع 8/ 22 33 وهو التركة. وهنا خطأ في شيئين حيث خرجت الوصية الأولى بطرح الثلث من النصيب 19/ 22 2 وصوابها 8/ 22 2 كما خرجت أولاً بطرح ما تبقى من الثلث. ونشأ من هذا خطأ آخر حيث زاد مجموع التركة إلى 8/ 22 33. وبذلك يكون الامتحان أثبت خللاً في الطريقة، لا ندري أين هو، فمن اهتدى إليه، فليعلمنا به، وله دعوة منا بخير. (1) (الواو) زيادة من المحقق. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) عبارة الأصل: والدرهم الموصى به. (4) في الأصل: تسعة. (5) في الأصل: عشرون درهماً.

مسائل من فنون مختلفة

دينار، فيكون المجموع خمسة دراهم وسدس درهم وثلث دينار، فذلك يعدل ديناراً، والدينار قيمة الثوب، فنُسقط المثلَ بالمثل، فتبقى خمسة دراهم وسدس في مقابلة ثلثي دينار، وإذا كان خمسة دراهم وسدس تعدل ثلثي دينار، فالدينار الكامل يعدل سبعة دراهم وثلاثة أرباع درهم، فقد خرجت قيمة الثوب، ولا يخفى ما بعدها (1). مسائل من فنون مختلفة 6889 - مسألة: ثلاثة بنين وقد أوصى بوصية إذا نقصها من نصيب أحد البنين، بقي من ذلك النصيب مثل الوصية وسدس (2) جميع المال. فكم الوصية والتركة؟ وكم نصيب كل حساب؟ المسألة: أن نجعل سدس المال شيئاً، فإذا أضفت إليه وصية، كان السدسُ والوصية مثلَ نصيب أحد البنين إلا وصية، فنصيب أحد البنين إذاً شيء ووصيتان، وإذا كان نصيب ابنٍ شيئاً ووصيتين، فقل: المال ستة أشياء، فإن السدس ممثل بشيء، وإذا كان السدس شيئاً، فالمال ستة أشياء، فاطرح منها الوصية، تبقى ستة أشياء إلا وصية، وذلك أنصباء الورثة، وهو ثلاثة أشياء وست وصايا؛ فإن كلّ نصيب شيء ووصيتان، فنجبر المال بوصية ونزيد على عديله وصية، فيصير مال كامل في مقابله ثلاثة أشياء وسبع وصايا، فحصل سبع وصايا وثلاثة أشياء، فاقلب العبارة، واجعل الشيء سبعة والوصية ثلاثة، فالمال إذاً اثنان وأربعون، فإنه ستة أشياء كل شيء سبعة، والمجموع ما ذكرناه. ونصيب كل ابن شيء ووصيتان، فهو إذاً ثلاثة عشر: الشيء سبعة والوصيتان ستة، فإذا نقصت الوصية من النصيب، بقي عشرة، وهي مثل الوصية، وهي ثلاثةٌ ومثل سدس جميع المال وهو سبعة. والذي يجب التنبه له في هذه المسألة أنا لما كمّلنا المالَ بالجبر، لم نصادف في

_ (1) ولو قُمت بالامتحان، لوجدتها صحيحة. ولم نشأ الإطالة بتسجيل الامتحان وقد أجريناه وجاء صحيحاً. (2) في الأصل: "بسدس" وهو خطأ مضلل أرهقنا كثيراً الوصول إلى تصويبه.

المسألة كسراً نبسط ما في المسألة به، وكنا ذكرنا في جانب الأنصباء تقدير الشيء والنصيب، ثم انتهت المسألة إلى تبليغ الوصايا سبعة، والأشياء ثلاثة، كما فرضناها، وأخذنا القلبَ من ذلك الجانب. فاتخذ هذه الصورة إمامك في كل مسألة تناظر هذه. 6890 - مسألة: أربعة بنين وقد أوصى لكل واحد من عمه وعمته بوصية إذا جُمعتا، كانتا مثل نصيب أحد البنين، وأوصى لخاله وخالته بوصيتين إذا جمعتا، كانتا مثل نصيب أحد البنين أيضاً، وكانت وصية العمة مثل نصف وصية الخال ووصية الخالة مثل ثلث وصية العم. فاجعل وصية العمة شيئاً، فيكون وصية الخال شيئين لا محالة؛ فإن وصية العمة نصفُ وصية الخال، فألق وصية الخال من نصيب أحد البنين، يبقى نصيب إلا شيئين، فذلك وصية الخالة؛ فإنا ذكرنا أن وصية الخال والخالة مثلُ نصيب ابنٍ، فإذا حططنا وصية الخال من نصيب، فالباقي وصية الخالة لا محالة. ونلقي وصية العمة من نصيب أحد البنين وهي شيء، فيبقى نصيب إلا شيء، فذلك وصية العم، لا محالة؛ فإنا ذكرنا أن وصية العم والعمة مثلُ نصيب ابن. ثم نعلم أن وصية العم ثلاثة أمثال وصية الخالة؛ فإنا ذكرنا في الوصية أن وصية الخالة ثلث وصية العم. فقابل وصية العم بثلاثة أمثال وصية الخالة، وقد ذكرنا أن وصية الخالة نصيب إلا شيئين، فثلاثة أمثالها ثلاثة أنصباء إلا ستةَ أشياء، وهي مقابلة وصية العم، وهو نصيب إلا شيئاً، فنجبر ونقابل، ونقول: نجبر الأنصباء الثلاثة بستة أشياء، ونزيد على العديل ستة أشياء، فيصير نصيباً وخمسة [أشياء] (1) فإذاً نصيب وخمسة أشياء تعدل ثلاثة أنصباء، فنسقط النصيب بالنصيب، فيبقى نصيبان في مقابلة خمسة أشياء، فاقلب العبارة من هذا الموضع، وقل النصيب خمسة والشيء اثنان. ثم عد وقل: وصية العم اثنان؛ فإنها كانت شيئاً ووصية الخال أربعة؛ فإنها كانت شيئين، والنصيب خمسة. وإذا نقصت وصية الخال وهي أربعة من النصيب، وهو

_ (1) زيادة من المحقق.

خمسة، بقي واحد، فهو الوصية للخالة، وإذا ألقيت وصية العمة وهو اثنان من النصيب، بقي ثلاثة، وهي وصية العم، وذلك ثلاثة أمثال وصية الخالة. والتركة كلها ثلاثون سهماً: للعمة سهمان، وللعم ثلاثة أسهم، وللخال أربعة أسهم، وللخالة سهم، والباقي وهو عشرون بين أربعة بنين، لكل واحد منهم خمسة. 6891 - مسألة: ثلاثة بنين، وبنت، وقد أوصى لكل واحد من عمه وخاله وأخيه بوصية، فكان إذا جُمعت وصية العم والخال، كان مجموعهما مثلَ نصيب أحد البنين، وإذا جمعت وصية الخال والأخ، كان مجموعهما مثلَ نصيب البنت، وإذا جمعت وصية العم والأخ، كان ربع التركة. فاجعل وصية الخال شيئاً، وألقه من نصيب ابن، وللابن نصيبان، لمكان البنت في المسألة -وقد مهدنا هذا في المسائل- فيبقى نصيبان إلا شيئاً، فذلك وصية العم؛ [فإن وصية العم] (1) والخال مثلُ حصة ابن. ثم عُد وقل: قدَّرنا وصية الخال شيئاً، فنلقيه من نصيب البنت أيضاً -ولها نصيب واحد- يبقى نصيبٌ إلا شيئاً، فهو وصية الأخ، فيكون [وصية العم والأخ] (2) ثلاثةَ أنصباء إلا شيئين، وإذا كان هذا ربع المال، فالمال كله اثنا عشر نصيباً إلا ثمانية أشياء. فألق منه الوصايا كلها، وجدد العهد بتفصيلها، ثم اجمعها، فوصية الخال شيء، ووصية العم نصيبان إلا شيئاً، فهما إذاً نصيبان ووصية الأخ نصيب إلا شيئاً، فالمجموع ثلاثة أنصباء إلا شيء، فنحط ذلك مما قدرناه جميع المال، فيبقى تسعة أنصباء إلا سبعة [أشياء] (3)، فإن في الوصايا استثناء شيء. وهذا الباقي وهو تسعة أنصباء، إلا سبعة أشياء يعدل أنصباء الورثة وهي سبعة -فإن في المسألة ثلاثةَ بنين وبنت- فنجبر الأنصباء السبعة بسبعة أشياء، ونزيد على عديلها مثلَها، فتصير تسعة أنصباء في مقابلة سبعة أنصباء وسبعة أشياء، ونسقط

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) مزيدة من عمل المحقق. (3) في الأصل: أنصباء.

الأنصباء بالأنصباء، فيبقى نصيبان يعدلان سبعةَ أشياء. فاقلب العبارة فيهما، فيصير النصيب سبعةً، والشيءُ اثنين، فوصية الخال إذاً اثنان؛ فإنها كانت شيئاً، ونصيب البنت سبعة، ونصيب الابن أربعة عشر، ووصية العم -وهي نصيبان إلا شيئاً- اثنا عشر سهماً، ووصية الأخ -وهو نصيب إلا شيئاً- خمسة أسهم. والتركة كلها ثمانيةٌ [وستون] (1) سهماً: للعم اثنا عشر، وللأخ خمسة، وللخال اثنان، والمجموع تسعة عشرَ سهماً، فيبقى تسعةٌ وأربعون بين ثلاثة بنين وبنت، لكل ابن أربعة عشر، وللبنت سبعة. 6892 - مسألة: خمسة بنين وبنت. أوصى لكل واحد من عمه وخاله بوصيةٍ لو ضرب إحداهما في الأخرى، ثم أسقط من المبلغ وصية العم قبل الضرب، وقسم الباقي على وصية الخال قبل الضرب، خرج نصيب الواحد (2) مثلَ نصيب أحد البنين. وإذا أسقط منه [وصية] (3) الخال، وقسم الباقي على وصية العم، خرج نصيب الواحد مثل نصيب البنت. فحساب المسألة أن نجعل وصية الخال شيئاً، ووصيةَ العم ثلاثةَ أشياء؛ فإنا بيّنا أن وصية العم أكثرُ؛ من جهة أن المقسوم -بعد حط وصية الخال- على [وصية العم] (4)، يُخرج نصيبَ البنت، وهو لكثرة سهامه (5)، وإذا كانت القسمة المقدرة على هذا الوجه في جانب مخرج نصيب الابن، وهو لقلة سهامه، وبين الابن والبنت تفاضل الضعف، ينضم إليه تقابل الوصيتين في وضعهما، فوصية الخال شيء ووصية العم ثلاثة أشياء. ويستخرج الامتحانُ حقيقةَ ذلك.

_ (1) في الأصل: وثمانون. (2) المراد خارج القسمة يساوي نصيب أحد البنين. (3) زيادة من المحقق. (4) عبارة الأصل: "بعد حط وصية الخال على الخال على الباقي يخرج نصيب البنت". (5) والمعنى لكثرة سهام العم المقسوم عليها يقل خارج القسمة.

فاضرب وصيةَ الخال في وصية العم، وقل شيءٌ في ثلاثة أشياء، فترد ثلاثة أموال؛ فإنا مهدنا في أصول الجذر أن ضرب الشيء في الشيء مال، ولفظ الشيء قد لا نعني به الجذرَ، وإنما يراد به شيء مجهول، ولهذا [نمثل] (1) بالدينار، فإذ مست الحاجة إلى ضرب الشيء في الشيء، فالشيء في هذا المقام جذرٌ في مسالك [الحُسّاب] (2)، فإذاً معنا ثلاثةُ أموال، فأسقط منها وصية العم، وهي ثلاثة أشياء، تبقى ثلاثة أموال إلا ثلاثة أشياء، فاقسمها على وصية الخال، وهي [شيء] (3)، فيخرج من القسمة ثلاثة أشياء إلا ثلاثة دراهم. وبيان ذلك أن الشيء إذا أردنا القسمة عليه، فهو محمول على ثلاثة من العدد في هذه المسألة، وإذا خرج لنا من الضرب ثلاثة أموال، أخذنا من هذا اللفظ الجذرَ المسمى شيئاً، وقدرناه ثلاثة من العدد، فليكن ثلاثة دراهم، فإذا حططنا من ثلاثة أموال شيئاً، ثم أردنا قسمةَ الباقي على وصية الخال، فنفصل الشيء، ونقول: هو ثلاثة دراهم، وإذا قسمنا ثلاثةَ أموالٍ جذرُ كل مالٍِ ثلاثة إلا ثلاثة أشياء، كل شيء ثلاثة دراهم على وصية الخال، وهي شيء واحد، تفصيله ثلاثة دراهم، فيخص كل درهم ثلاثة أشياء إلا ثلاثة دراهم؛ فإن الأموال ثلاثة، وفي كل مال استثناء شيء، وهو ثلاثة دراهم، وكل مال ثلاثة أشياء، فالخارج من القسمة، وهو حصة درهم من الدراهم الثلاثة التي مجموعها شيء ثلاثةُ (4) أشياء إلا ثلاثة دراهم، ولم نقل مال إلا ثلاثة دراهم؛ لأنا أخذنا من كل مالٍ قسطاً، وتركنا الأمر مفصَّلاً، ولم [نضم] (5) منها مالاً. فإذا بان الخارج من هذه القسمة، فذاك نصيب أحد البنين، على ما ذكرناه في وضع المسألة. ثم نعود، فنطرح ثلاثة أموال وصية الخال، وهي شيء وتفصيله ثلاثة دراهم،

_ (1) في الأصل: نميل. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: ستة. (4) خبر لقوله: فالخارج. (5) في الأصل: ينضم.

فتبقى ثلاثة أموال إلا شيئاً، ونقصُ الاستثناء مفضوض (1) على الأموال الثلاثة، فنَقْسم هذه الأموال مع ما فيها من الاستثناء على وصية العم، وهي ثلاثة أشياء، وتفصيلها تسعة دراهم، فإذا قسمنا ثلاثة أموال إلا شيئاً، وهي في التحقيق ثلاثة أموال إلا ثلاثة دراهم، فيخص كل درهم من الدراهم التسعة التي هي تفصيل وصية العم شيء إلا ثلاثة دراهم، فإن كل مال ثلاثةُ أشياء، وفيه نقصان درهم. ومما يجب التنبه له في ذلك أنا لا نجمع الأشياء في وصية العم، حتى نقول: إنها مال، [ولكننا] (2) نتركها على تفصيلها، ولا نقتصر على تفصيلها أشياء [بل] (3) نفصّل كلَّ شيء دراهم، وإنما تصير الأشياء مالاً في منزلة الضرب، فالخارج من القسمة على وصية العم بعد حطّ وصية الخال شيء إلا ثلث درهم، وهو نصيب البنت في وضع المسألة، فإذا انتهينا إلى هذا الموضع، فأضعف نصيب البنت؛ لأنك تحتاج إلى معادلته بنصيب الابن، فيكون شيئين إلا ثلثي درهم، نقابل بهذا نصيب الابن، وهو ثلاثة أشياء إلا ثلاثة دراهم، فاجبره، وقابل، وقل: نجبر نصيب الابن بثلاثة دراهم، ونزيد على نصيب البنت ثلاثة دراهم، فتصير ثلاثةَ أشياء في مقابلة شيئين ودرهمين وثلث؛ فإنا جبرنا بزيادة ثلاثة دراهم ما كان في نصيب البنت من الاستثناء وهو ثلثا درهم، فيكمل الشيئان، ويبقى بعد كمالهما درهمان وثلث، فنسقط شيئين بشيئين، فيبقى شيء في مقابلة درهمين وثلث، فهو قيمة الشيء الذي أبهمناه ابتداء، وهو وصية الخال، ووصية العم ثلاثة أمثالها، فهي إذاً سبعة دراهم. ومما يجب الاعتناء به في هذا المقام أنا وضعنا العمل في المسألة على تقويم الشيء ثلاثة دراهم، وعلى هذا خرّجنا القسمة التي تقدم ذكرها، ثم عدنا في آخر المسألة، وقوّمنا الشيء درهمين وثلثاً، وهذا شأن الجبر، فما يجري في تقادير العمل ليس بياناً لشيء مطلوب، إذ لو كان بياناً، لاقتصر عليه، ووقف عنده، ولكن ذاك بسط وتقدير يُفضي إلى بيان الأمر المطلوب عند الجبر والمقابلة، وإسقاط المثل بالمثل،

_ (1) مفضوضٌ: أي مقسوم. (2) في الأصل: ولكنها. (3) زيادة من المحقق.

فإذاً بان وصية الخال -وهي الشيء الكامل- درهمان وثلث، ووصية العم سبعة دراهم، فيخرج منه أن نصيب الابن أربعة دراهم؛ فإن نصيبه ثلاثة أشياء إلا ثلاثة دراهم، فكأنا قلنا: نصيبه سبعة دراهم إلا ثلاثة، ونصيب البنت درهمان؛ فإنه شيء إلا ثلث درهم. قلنا: نصيب [الابن] (1) سبعة دراهم إلا ثلاثة، ونصيب البنت درهمان؛ فإنه شيء إلا ثلث درهم، والشيء درهمان وثلث، وقد بان ما نريد، ولا يخفى طريق الامتحان. 6893 - مسألة: ابن وبنت، وقد أوصى لكل واحد من عمه وخاله بوصية، وفضل العمَّ على الخال، وكانت الوصيتان إذا جُمعا [سدس] (2) المال، وإذا ضربت كل واحدة منهما في نفسها -وإن أردت، قلت في مثلها- وأسقط أقل المبلغين بعد الضرب من الأكثر فالباقي مثل نصيب البنت. هذا وضع المسألة: وحسابها أن نجعل وصية الخال شيئاً، وجعلنا وصية العم شيئين، فمجموعهما سدس المال، وإن كان سدس المال ثلاثة أشياء، فالمال كله ثمانيةَ عشرَ شيئاً، فنحفظ هذا. ثم نعود فنضرب كل وصية في نفسها، فنقول: وصية الخال شيء، وإذا ضربناه في نفسه، صار مالاً، ونضرب نصيب العم في نفسه، وإذا ضربت شيئين في شيئين ردّ أربعة أموال. ثم إنا نحط الأقل من الأكثر، فيبقى ثلاثة أموال، فهي نصيب البنت. فإذا كان نصيبها ثلاثة أموال، فنصيب الابن ستة أموال، ومجموع الحصتين تسعة أموال، فزد الوصيتين الموضوعتين في المسألة قبل الضرب على تسعة أموال؛ فإن الفريضة الجامعة للوصية والميراث هكذا تكون، فإذاً معنا تسعة أموال، وثلاثة أشياء تعدل المال المحفوظ عندنا، وهو ثمانية عشر شيئاً، فنُسقط ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء، فيبقى تسعة أموال في مقابلة خمسةَ عشرَ شيئاً، فالمال الواحد يعدل شيئاً وثلثي شيء، فنقلب العبارة، ونجعل الشيء واحداً وثُلثين، ونرد العبارة إلى العدد،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: كلّ.

كدأبنا في أمثال هذه المسائل، فوصية الخال واحد وثلثان ووصية العم ضعفه، وهو ثلاثة وثلث، والوصيتان خمسة دراهم، وهو سدس التركة فالتركة ثلاثون درهماً. وإذا أردت امتحانَ ما ذكرناه في وضع المسألة ضربنا درهماً وثلثين في درهم وثُلثين، وضربت ثلاثة دراهم وثلث، في ثلاثة دراهم وثلث، وحططنا أقل المبلغين بعد الضرب من الأكثر، كان الباقي حصة البنت من خمسة وعشرين. وهذا ما ذكرناه في وضع المسألة. 6894 - مسألة: ابن وبنت، وقد أوصى لكل واحد من عمه وخاله بوصية، وفضّل العم في وصيته على الخال، وإذا جُمعتا، كانتا مثلَ نصيب البنت، وإذا ضربت كل واحدة منهما في مثلها، كان الباقي ستة [أمثال] (1) ما بين الوصيتين قبل الضرب، والمراد أن الباقي بعد حط الأقل من الأكثر مثل [فضل] (2) إحدى الوصيتين على الأخرى ست مرات. فنجعل وصية الخال شيئاً، ووصية العم شيئين، ومجموعهما ثلاثة أشياء، وهو مثل نصيب البنت في وضع المسألة، فنصيب الابن إذاً ستةُ أشياء، ومجموع الحصتين تسعة أشياء، فنضرب كلَّ وصيةٍ في نفسها، فتصير وصية الخال مالاً، ووصية العم أربعة أموال، ثم إنا ننقص الأقلَّ من الأكثر، فيبقى معنا ثلاثة أموال، وهي تعدل ستة أشياء. وبيانه أنا قدرنا في وضع المسألة وصيةَ الخال شيئاً ووصيةَ العم شيئين، والفضل بين الوصيتين شيء، وقد ذكرنا أنا إذا ضربنا كلَّ وصيةٍ في نفسها، وحططنا أقل المبلغين من الأكثر، كان الباقي مثلَ الفضل بين الوصيتين ست مرات، والباقي معنا بعد الحط ثلاثة أموال، فهي تعدل ستة أشياء، فالمال الواحد يعدل شيئين، فنرد العبارة إلى العدد، ونقلب الاسم، ونقول: الشيء الواحد اثنان، ونعود، فنقول: وصية الخال اثنان، ووصية العم أربعة، ونصيب البنت مثل الوصيتين، وهو ستة،

_ (1) في الأصل: أموال. (2) في الأصل: فرض.

ونصيب الابن اثنا عشر، وإذا ضممنا الوصيتين إلى المبلغ وهي ستة، صارت الفريضة الجامعة للوصية والميراث أربعة وعشرين. وإذا أردت امتحان ما ذكرناه من الضرب، فاضرب اثنين في اثنين، وأربعة في أربعة، فيصير أحد المبلغين أربعة، والثاني ستةَ عشرَ، ثم حط الأربعة من ستة عشرَ، فيبقى اثنا عشر، وهذا الباقي مثل فضل وصية العم في أصل الوضع قبل الضرب على وصية الخال ست مرات، فإن الفضل بين الوصيتين سهمان، وذلك ما أردنا أن يبين. مسائل في نوادر الوصايا التي تكون بفض (1) الوصايا على بعض الورثة دون بعض واللقب [الشائع] (2) في الباب الضيم وهو الظلم، فالظلم والضيم يرجعان إلى النقصان. 6895 - مسألة: إذا خلّف الرجل امرأةً وأماً وأخاً، وأوصى من ثلث ماله بمثل نصيب المرأة، وأوصى لآخر بعُشر ما بقي من الثلث، وقال في وصيته لا تضامُ الأم بالوصية، وأراد أن نصيبها يكمل كمالَه (3) لو لم تكن وصية، وهذا معنى المسألة في وضعها. وحساب المسألة: نقول: فريضة الميراث من اثني عشر سهماً: للمرأة ثلاثة أسهم، وللأم أربعة أسهم، والباقي للأخ، وهو خمسة أسهم، فنقول: نجعل ثلث المال ثلاثة دنانير وعشرة دراهم؛ لذكر الموصي عُشر ما تبقى، فأما ثلاثة دنانير، [فإنّا] (4) وضعناها على عدد نصيب المرأة؛ إذ هي الموصى بمثل نصيبها، فندفع إذاً بالنصيب ثلاثةَ دنانير، يبقى عشرةُ دراهم، فندفع بالوصية التامة عشرها، وهو درهم يبقى، تسعة دراهم، فنزيده على ثلثي المال، وثلثا المال عشرون وستة دنانير،

_ (1) بفضّ: أي بقسمة. (2) في الأصل: السابع. (3) " يكمل كمالَه ": أي يكون بنفس كماله وتمامه عند عدم الوصية. (4) في الأصل: فإن.

فيكون بعد الضم تسعة وعشرين درهماً وستة دنانير، فنقول: هذا يعدل ثلث جميع المال وثمانية دنانير. وبيان ذلك أن الأم لا يداخلها من الوصية نقص؛ فلها ثلث جميع المال وللمرأة والأخ ثمانية دنانير؛ فإن الأنصباء ممثلةٌ بالدنانير. فنضع الثلث الكامل في مقابلة نصيب الأم، وهو ثلاثة [دنانير] (1) وعشرة دراهم، وسنقيم ما ذكرناه في المعادلة من أن ما معنا، وهو تسعةٌ وعشرون درهماً وستة دنانير تعدل ثلثَ المال وثمانيةَ دنانير، وثلثُ [المال] (2) وثمانيةُ دنانير أحدَ عشرَ ديناراً وعشرة دراهم، فنسقط المثلَ بالمثل، فترجع الدنانير إلى خمسة، والدراهم إلى تسعةَ عشرَ، فنقول خمسة دنانير تعدل تسعةَ عشرَ درهماً، ونرد العبارة إلى العدد، ونقلب الاسم، فيكون كل دينار تسعةَ عشرَ سهماً، وكل درهم خمسة أسهم. وقد كان ثلث المال في الوضع الأول ثلاثة دنانير وعشرة دراهم، فهو الآن بعد التقويم الذي ذكرناه مائةٌ وسبعةُ أسهم، فنعزل منها نصيبَ المرأة، وكان نصيبها ثلاثة دنانير وذلك سبعة وخمسون سهماً، [فيبقى خمسون سهماً] (3) فاعزل منها عشرها بالوصية الثانية وهو خمسة، تبقى خمسةٌ وأربعون سهماً، زدها على ثلثي المال، وهو مائتا سهم وأربعةَ عشرَ سهم، فيبلغ مائتين وتسعةً وخمسين سهماً: للأم من ذلك ثلثُ جميع المال كاملاً، وهو مائة سهم وسبعة أسهم، لأنه ليس عليها من الضيم شيء، يبقى مائة واثنان وخمسون درهماً، للمرأة منها سبعة وخمسون سهماً، وهو قيمة ثلاثة دنانير، وللأخ خمسة وتسعون سهماً، وهو قيمة خمسة دنانير. وهذه المسألة وأمثالها تستدعي لا محالة إجازة من الورثة الذين عليهم الضيم، فإن الأم إذا فازت بالثلث الكامل، ففيما أخذت وصيةٌ لها لا محالة، والوصية للوارث وإن وقعت من ثلث المال (4) بمثابة الوصية للأجنبي لما زاد على الثلث. وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: دراهم. (2) في الأصل: الخال. (3) زيادة لاستقامة الكلام. (4) عبارة الأصل: "والوصية للوارث وإن ثلث بمثابة الوصية". وإعادة الصياغة من المحقق.

6896 - مسألة: ترك أربعة بنين، وأوصى من ربع ماله بمثل نصيب أحدهم إلا خمس ما تبقى من الربع وإلا درهماً، وأوصى ألا يكون الضيم على واحدٍ عيَّنه من بنيه، وهو زيد مثلاً، وخلف ثلاثين درهماً. فالوجه أن نقول: الوصيةُ دينار، فنطرحه من الثلاثين درهماً، تبقى ثلاثون درهماً إلا ديناراً، فنقسم ذلك بين أربعة بنين، لكل واحد منهم سبعةٌ ونصف إلا ربعَ دينار. نقول ربع المال على الحقيقة سبعةُ دراهم ونصفٌ، فنسقط نصيب ابن بعد حط الوصية من الثلاثين وهو سبعةٌ ونصف إلا ربع دينار، وإذا أسقطت سبعةً ونصفَ إلا ربعَ دينار من سبعةٍ ونصفٍ، لا استثناء فيها، فيبقى ربعُ دينار، وهو قدر الاستثناء، فنأخذ خُمسَ ذلك ودرهماً، وخمس الربع نصف عشر، فنأخذ نصف عشر دينارٍ ودرهماً، ونطرح ذلك من النصيب، وهو سبعة دراهم ونصف إلا ربع دينار، يبقى ستة دراهم ونصف إلا ثلاثة أعشار دينار. وبيان ذلك [أن] (1) النصيبَ كان سبعةً ونصفاً إلا ربع دينار، فإذا أسقطنا منه درهماً؛ لأن في الاستثناء ذكرَ درهم، فبقي ستة دراهم ونصف، وكان في النصيب استثناء ربع دينار، فنضم إليه نصفَ عشر دينار استثناءً وإذا ضممت نصف العشر إلى الربع، كان المجموع ثلاثةَ أعشار؛ إذ ربع العشرة درهمان ونصف، ونصف عُشْره (2) نصف درهم، فالمجموع ثلاثةُ دراهم، وهي ثلاثة أعشار العشرة، فاستقام ما ذكرناه من أن الباقي ستةُ دراهم ونصف إلا ثلاثة أعشار دينار، فنزيد على هذا المبلغ ربعَ دينار، فيصير ستة دراهم ونصف درهم إلا نصف عشر دينار، وذلك أنه كان معنا ستةُ دراهم ونصف درهم إلا ثلاثة أعشار دينار، فالآن إذا زدنا ربعاً، رجع الاستثناء إلى نصف عشر دينار، ثم نقول: هذا المبلغ يعدل ديناراً، وإنما زدنا في آخر الأمر ربعَ دينار، فإنا أردنا أن نعادل ما معنا بالوصية، وقد جعلنا الوصية ديناراً في ابتداء الأمر، فنجبر ونقابل، ونقول: نجبر المال بنصف عشر، ونزيد على الدينار نصف عشر، فيكون دينار ونصف عشر دينار يعدل ستّةَ دراهم ونصف درهم، فنبسط ما في

_ (1) زيادة من المحقق. (2) الضمير يعود مذكراً إلى العدد.

الجانبين بأنصاف الأعشار، فيصير الدينار والكسر الذي معه أحداً وعشرين ديناراً، والدرهم والكسر الذي معها مائة وثلاثون درهماً، فيخرج منه أن الدينار الواحد يعدل ستة دراهم وأربعة أجزاء من أحدٍ وعشرين جزءاً من درهم، فذلك مقدار الوصية، فامتحنها وأجْرِ فيها المراسم المقدّمة، تجد المسألة صحيحة، إن شاء الله عز وجل. 6897 - مسألة أوردها الأستاذ أبو منصور رحمه الله وحكاها عن الخصاف (1) في الحساب والعمل به، وصحح مسلكَه في الحساب، ثم [نَقَم] (2) عليه لفظةً في آخر المسألة، ونحن نذكر صورةَ المسألةِ ومسلكَ الخصَّاف فيها، حتى إذا انتهى كلامُه، بينا بعده اعتراضَ الأستاذ، إن شاء الله عز وجل. 6898 - أما صورة المسألة: إذا ترك رجل خمسةَ بنين، وأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم، وأوصى لآخر بثلث ما بقي من الثلث، وقال في وصيته: لا تُدخلوا نقصاً على ابني زيد بسبب الوصية بثُلث ما بقي، وأدخلوا عليه النقص بالوصيّة بالنصيب [ولا تدخلوا] (3) نقصاً على ابني عمرو بسبب الوصية بالنصيب، وأدخلوا عليه النقص بالوصية بثلث ما يبقى، فَبَرَأَ كلُّ واحد من الاثنين المسمَّيْن عن نقصان واحدةٍ، على ما عيّن وفصّل، وأجاز البنون ذلك؛ يعني أنهم أجازوا الوصيتين لزيد وعمرو، [فيما] (4) يختصان به من مزيد وصية في حقوقهما، على ما سيأتي الشرح عليه. هذا بيان صورة المسألة. قال الخصّاف: حسابه أن نأخذ مالاً، ونُخرج منه نصيباً لصاحب النصيب، يبقى مالٌ إلا نصيب، فندفع إلى زيد -[لما] (5) قال الموصي: لا تدخلوا على [زيد] (6) نقصان الوصية بثلث ما يبقى من الثلث- خمسَ (7) الباقي من

_ (1) الخصاف: أحمد بن عمر بن مهير الشيباني أبو بكر، فرضي، حاسب، فقيه، من أعلام المذهب الحنفي، له العديد من المصنفات. (الأعلام للزركلي). (2) في الأصل: نقيم. (3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق. (4) في الأصل: فإنما. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) عبارة الأصل: قال الموصي: لا تدخلوا على نقصان الوصية بالنصيب وبثلث ... (7) مفعول لقوله: ندفع إلى زيد.

المال، وكان بقي معنا مالٌ إلا نصيب، فخمسه خُمس مال إلا خُمس نصيب، فذاك نصيب زيد، وإنما فعل ذلك لأنه أدخل النقص على زيد بسبب النصيب، ولم يدخل عليه النقص بسبب الوصية بثلث ما يبقى من الثلث، وإذا كان كذلك، حَطَّ النصيب ليناله نقصان، وأعطاه خُمس الباقي، ولم يتعرض للوصية الأخرى في حقه، حتى كأنْ لا وصية إلا النصيب، ثم قال (1): إذا كان [هذا] (2) نصيبَ زيد، فاعرف هذا واحفظه. وعُد إلى ثلث المال كلِّه، فانقصْ منه نصيباً، يبقى ثلث مال إلا نصيب، فألق ثلث ذلك للموصى له بثلث ما بقي من الثلث، وهو تُسع مالٍ إلا ثلث نصيب، وهذا وصية الثاني، فألقها من رأس المال، فيبقى ثمانية أتساع مال وثلث نصيب؛ فإنا قدرنا المالَ كلَّه تسعةً، فالثلث ثلاثة أتساع. ثم عدنا، فقدّرنا إسقاط النصيب ليتعين الوصية الثانية، ونسترد النصيب في حق الابن الثاني وهو عمرو، فإذا سلمت تسعاً إلى الموصى له بثلث ما تبقى بعد النصيب، كان ذلك التسع ناقصاً بثلث نصيب، ولا نقدّر في [التُسعين] (3) الباقيين من الثلث الآن نقصاناً؛ فإنا لا نحتاج إلى نقصان النصيب في حق عمرو، وإنما قدّرنا النصيب لبيان مقدار الوصية الثانية، فنضم إذاً [تُسعين] (4) كاملين إلى ثلثي المال، ونسترد من التسع ثلثَ نصيب، [فنضمه أيضاً] (5)، فيجتمع معنا ثمانية أتساع كاملة وثلث نصيب، وقد حططنا الوصية الثانية من رأس المال، ولم نحط النصيب، حتى كأنه لا وصية بالنصيب في حق عمرو، وأدخلنا عليه النقص بالوصية الثانية، فندفع إذاً إلى عمرو خُمسَ هذا الباقي المجموع. ونضرب المال والنصيب في مخرج الخمس والتسع، فيصير المال كلُّه خمسةً وأربعين، ويصير النصيب أيضاً خمسة وأربعين، فهي ثمانية أتساع خمسة وأربعين،

_ (1) قال: أي الخصاف. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: السبعين. (4) في الأصل: السبعين. (5) زيادة من المحقق.

وهي أربعون، وخذ ثلث النصيب وهو خمسةَ عشرَ، وادفع إلى عمرو خُمسَ المبلغين وهو ثمانية من خمسة وأربعين، وثلاثة من خمسة وأربعين من النصيب، هذا خمس ثلث النصيب، وخمس ثمانية أتساع المال. فإذا تبين ذلك، وبان طريق العمل، فخذ مالاً له خُمس وتسع، وذلك خمسةٌ وأربعون، خذ ثلث ذلك، وهو خمسة عشر، واحفظ ثلثي المال وهو ثلاثون، ثم ادفع من الثلث نصيباً إلى الموصى له بالنصيب، يبقى ثلث مال إلا نصيباً، فألق ثلث ذلك إلى الموصى له بثلث ما تبقى من الثلث، يبقى من الثلث تسعا مال إلا ثلثي نصيب، وذلك عشرةُ أسهم من خمسة وأربعين سهماً من مال إلا ثلاثين سهماً من خمسة وأربعين سهماً من نصيب، وزده على ثلثي المال، فيصير أربعين سهماً من خمسة وأربعين سهماً من مال إلا ثلاثين سهماً من خمسة وأربعين سهماً من نصيب، فألق منه نصيبَ زيد، وهو خُمس مال إلا خُمس نصيب، وخمس المال تسعة أسهم من خمسةٍ وأربعين سهماً من المال، وخمس النصيب تسعة أسهم من خمسةٍ وأربعين سهماً من نصيب، فله تسعة أسهم من المال الذي هو خمسةٌ وأربعون إلا تسعةَ أسهم من النصيب الذي [هو] (1) خمسة وأربعون، يبقى من المال أحدٌ وثلاثون سهماً من خمسةٍ وأربعين سهماً من المال إلا أحداً وعشرين من خمسةٍ وأربعين سهماً من نصيب، وانقص منه أيضاً نصيبَ عمرو، وهو ثمانية أسهم من خمسة وأربعين من المال، وثلاثة أسهم من خمسة وأربعين سهماً من النصيب، يبقى من المال ثلاثة وعشرون سهماً من خمسةٍ وأربعين سهماً من المال إلا أربعة وعشرين سهماً من خمسةٍ وأربعين سهماً من النصيب؛ فإنه كان معنا استثناء أحد وعشرين من النصيب المبسوط، والآن زدنا ثلاثة أخرى، فصار الاستثناء أربعة وعشرين، فإذاً الباقي معنا ثلاثة وعشرون سهماً من خمسةٍ وأربعين سهماً من المال إلا أربعة وعشرين سهماً من خمسةٍ وأربعين سهماً من النصيب، وذلك يعدل أنصباء الباقين من البنين، وهي ثلاثة أنصباء، فنجبر ما بقي من المال بأربعةٍ وعشرين سهماً [من النصيب] (2)، ونزيد على الأنصباء الثلاث

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ساقطة من الأصل.

مثلها، ونضرب الكل في مخرج المال، فنقول: الأنصباء الثلاثة نضربها في خمسة وأربعين، فيصير مائة وخمسة وثلاثين، فنضم إليها أربعةً وعشرين؛ فإنها أجزاء والأجزاء إذا ضربت، صارت سهاماً كاملة، فالمبلغ مائة [وتسعة] (1) وخمسون، ومعنا في جانب المال ثلاثةٌ وعشرون، وهي أجزاء، فنجعلها سهاماً، ثم نقلب الاسم، فنجعل النصيب [ثلاثة] (2) وعشرين، والمال مائة وتسعة وخمسين، فمنها تصح المسألة. الامتحان: نأخذ ثلث المال، وهو ثلاثة وخمسون، نلقي منه نصيباً يبقى من الثلث ثلاثون، فألق ثلثها عشرة، تبقى عشرون، فنزيدها على ثلثي المال، فيصير مائة وستة وعشرين، ثم نعود إلى المال، فنلقي منه نصيباً لنعطي زيداً حصته، وإذا حططت من أصل المال -وهو مائة وتسعةٌ وخمسون- نصيباً، وهو ثلاثة وعشرون، بقي مائة وستة وثلاثون، ولزيد الذي عليه الضيم والنقصان من النصيب خُمس ذلك، وهو سبعة وعشرون سهماً وخمس سهم. هذا نصيب زيد: ثلاثة وعشرون بإرثه، وأربعة [وخُمس] (3) وصية له؛ من حيث لم ينله النقص من الوصية الأخرى. ثم نرجع إلى المال فننقصُ منه ثلث ما تبقى من الثلث، وذلك عشرةُ أسهم، تبقى مائة وتسعة وأربعون، فلعمرٍو الذي عليه الضيمُ والنقصُ من الوصية بثلث ما تبقى من الثلث، خُمس ذلك، وهو [تسعة] (4) وعشرون سهماً وأربعة أخماس سهم، وذلك جميع ما لَه، منها ثلاثة وعشرون بالإرث، وستة أسهم وأربعة أخماس سهم وصية له، إذا (5) لم ينله النقص من الوصية بالنصيب. هذا مسلك الخصاف في الحساب، ثم قال: وصية الابنين أحدَ عشرَ سهماً، فنلقيها من المائة والستة والعشرين وهذا هو الباقي بعد الوصيتين، إذ إحداهما ثلاثة

_ (1) في الأصل: وسبعة. (2) في الأصل: أربعة وعشرون. (3) في الأصل: وخمسين. (4) في الأصل: سبعة. (5) استخدام (إذا) مكان (إذ) استعمال صحيح (ر. شواهد التوضيح والتصحيح: 62).

وعشرون، والأخرى عشرة، وإذا ألقينا من المائة والستة والعشرين وصية الابنين -وهي أحدَ عشرَ سهماً- تبقى مائة وخمسةَ عشرَ بين خمسةِ بنين، لكل واحد منهم ثلاثة وعشرون سهماً. هذا ترتيب الخصاف في الحساب ولا مَعَاب عليه في القسمة والطريق، غير أنه [غَلِطَ] (1) غلطة فاحشة، لما قال: الوصية للابنين زيد وعمرو أحد عشر سهماً. قال الأستاذ أبو منصور وَهِم الخصاف في قوله: إن الأحدَ عشرَ كلَّها وصيةٌ للابنين؛ لأنه جعل ما زاد في نصيبهما وصيةً لهما، وليس كذلك [لأن لهما] (2) في تلك الزيادة ميراثاً، والوصية ما زاد على الميراث. والدليل على ذلك أن رجلاً لو ترك خمسة بنين، وأوصى لأحدهم بمثل نصيب ابن، لكان المال بينهم على ستة للموصى له منها سهمان، وهو ثلث المال، ولكل ابن سهم، وهو سدس المال، ولا نقول السدس الزائد في حق الموصى له وصية؛ فإنه يستحق بالميراث خمسَ المال، فالوصية ما زاد على الخُمس، وهو أربعة أخماس سهم، ولا يقال لما أخذ كلُّ ابن سدسَ المال، وأخذ الموصى له ثلثَ المال إن وصيته من ذلك فضل ما بينهما، وهو السدس الزائد على ما أخذه كل ابن. فإذا ثبت ما قلناه، فالوجه أن نخرج وصية الأجنبيين في مسألة الخصاف، وهي، ثلاثة وثلاثون سهماً، يبقى من المال مائة وستة وعشرون بين خمسة بنين لكل واحد منهم خمسة وعشرون سهماً، وخُمس سهم، فهذا ميراث كل ابن، وقد أخذ زيدٌ سبعة وعشرين سهماً وخمسَ سهم، فوصيته من ذلك سهمان، وأخذ عمرو [تسعةً] (3) وعشرين سهماً وأربعة أخماس سهم، فوصيته من ذلك أربعة أسهم وثلاثة أخماس سهم، ووصية الابنين إذاً ستة أسهم وثلاثة أخماس سهم. هذا بيان مسألة الخصاف وما فيها من الاستدراك.

_ (1) في الأصل: غلطه. (2) في الأصل: لأنهما. (3) في الأصل: سبعة.

مقالة في العين والدين 6899 - مسائل هذه المقالة تدور على أن يخلّف الميت عيناً، ويخلّف ديناً على بعض الورثة، أو على أجنبي، فإن كان على وارث، وقع الكلام فيما سقط عنه من الدين، وفيما يستحقه من العين، وإن كان الدين على أجنبي غيرِ وارث، فقد نفرض وصيةً لذلك الأجنبي بمقدارٍ، ثم يقع الكلام فيما يسقط عنه من الدين بسبب الوصية لمن عليه الدين، وقد تقع الوصية لأجنبيٍّ لا دين عليه، والدين على بعض الورثة، فيقع الكلام فيما يستحقه الموصى له من الدين والعين، وفيما يستحقه الوارث الذي لا دين عليه. وهذه المسألة لها وقعٌ عند أصحاب الرأي، ولا يغمُض مأخذها على مذهب الشافعي، ولا يدِق الحساب على طريق الشافعي فيها، إلا أن يُتكلّف وضعُ أصلٍ كما سيأتي الشرح عليه، حتى يُستعمَل على طريق الحُسّاب، ولا نُخلي هذا الكتاب عن شيءٍ مستفادٍ، إن شاء الله عز وجل. ويتعين [تقديم] (1) المقالة بفصولٍ فقهيةٍ، لم يوضحها الأستاذ أبو منصور على ما ينبغي، وأطلق ألفاظاً لا نؤثرها، وإن كنا نظن به إصابةَ المعنى، فنقول: الدَّين قد يكون على الوارث وحده، وقد يكون على الأجنبي وحده، وقد يكون الدين على الوارث وعلى الأجنبي، وسيأتي في كل قسم من ذلك [ما] (2) يليق به من الفقه والحساب إن شاء الله عز وجل. فمما نرى تقديمَه أن من مات وخلّف ابنين، وترك عشرةَ دراهم عيناً، وكان له على أحد الابنين عشرةُ دراهم ديناً، وما خلّفه من العين من جنس ماله من الدين، فالمذهب المبتوت الذي لا يجوز تقدير الخلاف فيه أن الابنين يشتركان في ميراث العين والدين، فالعشرة المخلّفة بينهما نصفان، والعشرة الدينُ بينهما. هذا مقتضى توريثهما، فالإرث يثبت شائعاً في العين والدين جميعاً، ثم إن كان من عليه الدين مليئاً وفيّاً، لم

_ (1) في الأصل: تقدير. (2) في الأصل: مما.

يكن لمن لا دين عليه أن يستبدَّ بالعشرة التي هي عينٌ على تقدير أخْذ الخمسة بالميراث، والخمسة الأخرى قصاصاً عما يستحقه من الدين. فإن وقع تراضٍ، فلا بد من إنشاء عقدٍ وارد على ما يوجب الشرع. وإن كان من عليه الدين مُعسراً، أو أنكر الدينَ، فأردنا ثبات الحكم باطناً، فالذي لا دين عليه يستحق نصف العين إرثاً، وله خمسةُ دراهمَ في ذمة أخيه، وقد عسر عليه استيفاؤه منه، إما بإعساره وإما بإنكاره ولا بينةَ، ومن ظفر بجنس حقِّه من مالِ مَنْ عليه الحقُّ، فله أن يأخذه عند تحقق العذر، ولا يملكه ما لم يأخذه على قصد التملك. هذا بيان هذا الأصل، وهو من جليات الفقه، ولفظ الأستاذ فيه بعدٌ عن المسلك الذي يعرفه الفقهاء؛ فإنه قال: يأخذ من لا دين عليه العينَ، في الصورة التي ذكرناها إرثاً وقصاصاً، فسمى أخذه الخمسةَ قصاصاً، ثم رمز إلى خلاف الأصحاب في أن التقاصّ كيف يقع، وهذا بعيدٌ؛ فإن الأقوال المعروفة في التقاصّ إنما تقع في الدينين، على ما سنشرحها، ولا يجري التقاصّ بين الدين والعين، ثم فحوى كلامه مصرحةٌ بوقوع ما سماه قصاصاً من غير فرق بين أن يكون مَن عليه الدين مفلساً، أو يكون مليئاً وفيّاً، وهذا لا سبيل عليه، ولا يسوغ أن يعتقد ذلك من مذهب الشافعي. ومن بديع ما جاء به محكيّاً عن ابن سريج أنه قال: إذا كان على الابن الذي عليه الدين دينٌ: عشرةٌ لأجنبي، وعليه عشرةٌ للمتوفى، ومعلوم أن الذي عليه الدين يستحق من العشرة التي هي عينٌ نصفَها وهو خمسة، فحكى عن ابن سريج وجهين: أحدهما - أن الابن الذي لا دين عليه أولى بتلك الخمسة، حتى كأن هذا القائل يعتقد أن [حق] (1) من عليه الدين في العين لا أصل له، ولا ثبات. هذا [وجه حكاه كذلك] (2). والوجه الثاني - أن تلك الخمسة بين الابن الذي لا دين عليه وبين الأجنبي الذي

_ (1) زيادة من المحقق. (2) عبارة الأصل: هذا وجهاً حكاه لذلك.

يستحق العشرة على مقدار دينهما، فيضاربان فيها، فيضرب الابن بخمسة، ويضرب الذي استحق العشرة بعشرة، وهذا الوجه الأخير مستقيم. والوجه الأول لا أصل له، ولا يحل عدُّه من المذهب، ولولا علمنا بأن الأستاذ موثوق في حكايته، وقد أسند الحكاية إلى متن مذهب أبي العباس (1)، لما استجزت إثباته، فكأن الأستاذ يعتقد أن حق من لا دين عليه ينحصر في العين، إذا لم يكن على من عليه الدين دينٌ آخر لأجنبي، فإن كان عليه دينٌ لأجنبي؛ فالمسألة مختلف فيها عنده. ومما تجب الإحاطة به أن الميت لو لم يخلِّف عيناً، وترك ابنين وعشرةَ دراهم ديناً على أحدهما، فالذي عليه الدين يبرأ عن حصته، ولا تتوقف براءته على أن ينقُد لصاحبه حصتَه من الدين، والسبب فيه أنه ملك نصفَ الدين قطعاً، كما ملك أخوه نصفَه، والملك المستفاد بالإرث لا يستأخر عن الموت، وإذا ثبت ملكه في النصف، استحال أن يصير مستحِقاً للدين على نفسه، فلا بد من [اعتقاد براءة ذمته] (2) عن حصته، ولو لم نقل بهذا، لزمنا ألا يملك من الميراث حصةً، أو يلزمُ أن نملّكه ونقضي بأنه يستحق على نفسه ديناً، والأمران جميعاً مستحيلان. 6900 - ومما نذكره في مقدمة المسائل أنه لو ترك عيناً وديناً أو مالاً غائباً، وأوصى بالدين أو بالمال الغائب، وهو قدر الثلث أو أقلُّ، فحق الموصى له ينحصر في الدين، أو في المال الغائب الذي عيّنه في الوصية، ولا شيء له في العين الحاضرة، فلو تلف ذلك المال الغائب، فالتَّوى (3) على الموصى له، ولا رجوع له إلى العين. وإذا تبيّنا استحقاقَه في المال الغائب، ولزمت الوصية، فقد ملك المالَ، فلو تلفت العين بعد ذلك في يد الورثة، فلا أثر لتلفها؛ فإن الملك قد استقر في العين الفائتة، وهذا بيّنٌ لا خفاء به. ولو كانت المسألة بحالها إلا أنه أوصى بثلث الدين، أو ثلثِ المال الغائب، فلو

_ (1) أبو العباس: أي ابن سريج. (2) عبارة الأصل: فلا بد من ألفاظ ببراءة حصته عن حصته. (3) التوى: الهلاك.

نضَّ من الدين ثُلثُه مثلاً، فهل نقول: إنه يسلّم للموصى له ثلث [ذلك] (1)؟ أم كيف السبيل؟ فعلى وجهين مشهورين في المذهب: فمن أصحابنا من قال: إن كان في يد الورثة من العين ما يكون ضعفاً لما نضَّ من الدين، فهو مصروف إلى الوصية؛ فإنه ثلثٌ، والوصيةُ بثلث الدين، وفي يد الورثة ضعف ذلك. ومن أصحابنا من قال: كلما نضَّ من الدين [شيء] (2)، فللورثة ثلثاه، وللموصى له ثلثه، وإن كان في أيدي الورثة أضعافُ ما نضّ. وهذا القائل يستمسك بلفظ الموصي، وذلك أنه أوصى له بثلث الدَّين، وهذا يقتضي الشيوع؛ فإذا نضَّ من الدين ثلثُه، فليس للموصى له إلا ثلثُ ما نضَّ. هذا هو الصحيح. ولما ذكرناه من الخلاف التفاتٌ على مسألةٍ ستأتي في فقه الوصايا، إن شاء الله تعالى، وهي أن الرجل إذا أوصى لرجل بثلث دارٍ، وكنا نقدّر أن جميع الدار له، فبان أنه لا يستحق منها إلا ثلثَها، فللشافعي قولان في أن الثلث الذي يملكه هل يصرف إلى [الوصية] (3)، أم لا يصرف إليها إلا ثلث الثلث؟ وسيأتي ذكر القولين والتفريع عليهما، إن شاء الله تعالى. والخلاف في هذه المسألة أمثلُ؛ [فإن] (4) من رأى صرفَ ثلث الدار إلى الوصية حَمَل وصيتَه على التصرف في ملكه، وهذه عادةٌ غالبةٌ، لا تُنكرُ، [و] (5) لغلبة العادات سلطنةٌ على الألفاظ تفسِّر مجملَها وتقيّد مطلقَها، وتخصص [عامها] (6)، وليس يتأتى مثل ذلك في مسألة الوصية بثلث الدين؛ فإن اللفظ مقتضاه الإشاعة، وليس في معارضِه هذا ما يمنع الإشاعة، [والدليل] (7) عليه أن الموصى له استحق ثلث الدين شائعاً، ولم يتوقف استحقاقُه على النضوض، وإذا كان كذلك، فما ينضّ

_ (1) في الأصل: ثلث ابن. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: الورثة. (4) في الأصل: قال. (5) الواو زيادة من المحقق. (6) في الأصل: عاملها. (7) في الأصل: والدين.

مسائل في العين والدين

لا ينحصر حق الوصية فيه، نعم، إذا ثبت استحقاقه في ثلث الدين، فأراد من عليه الدين أن يقدّمه بحقه كدأب من عليه دينٌ لرجلين، فلا امتناع. وهذا إذا كان في يد الورثة ضعف ما نضَّ، ولا يجوز أن يكون في هذه الصورة خلاف. وإن جاء من عليه الدين بثلث ما عليه، وألقاه في التركة، وتشبث الموصى له به، فهذا هو الموضع الذي ذُكر الخلاف فيه، ولا وجه للخلاف أيضاً؛ فإن من عليه الدين إن جاء بما يقدِّر ملك الورثة والموصى له، ووقع القبض كذلك، فوجب الرجوع إلى هذا. ولكن صاحب الوجه الضعيف يقول: إذا جاء من عليه الدين بمقدار حقه، [فللموصى له أن يقول] (1): ليس للورثة أن يأخذوا منه شيئاً، حتى يتوفر عليَّ حقي كَمَلاً؛ فإن في أيديهم ضعفُ هذا. [و] (2) وجه الخبط سببُه ما يراعى من قصد المؤدِّي، فإن فرضت المسألة في الوصية بثلث المال الغائب إذا حضر ثلثُه، كان الوجه البعيد أوجه في هذه الصورة وأقرب إلى الفهم منه في صورة الدين. والقياس المقطوع به في المسألتين الجريانُ على حكم الإشاعة. فهذا ما رأينا تقديمَه على المسائل التي تتعلق بالحساب، وإذا خضنا فيها، ذكرنا في كل مسألة حظَّها من الفقه القويم، ووجهَ استعمال الحساب على جهة مستقيمة في الفقه. مسائل في العين والدين 6901 - إذا كان الدين على وارث، ولم يكن في المسائل وصية، وجملة الصورة مفروضة فيه إذا كان [العين] (3) من جنس الدين ونوعه. فنقول: إذا ترك ابنين وخلّف دراهم معيّنة ودَيْناً على أحد الابنين، فلا يخلو إما أن

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) (الواو) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "الدين".

يكون نصيبُ مَنْ عليه الدين من التركة عيِنها وديِنها بحق الإرث [مثلَ مقدار الذي] (1) عليه من الدين. وإما أن يكون نصيبه من التركة أقلَّ مما عليه من الدين، وإما أن يكون نصيبه من التركة أكثرَ مما عليه من الدين؛ فإن كان نصيبه من التركة مثلَ ما عليه من الدين، فنذكر مسلك الحُسَّاب طرداً إلى آخره، ثم نذكر تقويمَه على موجب الفقه، إن شاء الله تعالى. 6902 - فإن ترك ابنين وبنتاً، وخلف ثمانيةَ عشرَ درهماً عيناً، واثني عشر درهماً ديناً على أحد الابنين، فالتركة كلُّها ثلاثون درهماً. وإذا قُسمت الثلاثون بين ابنين وبنت، أصاب كلَّ ابن اثنا عشرَ وأصاب البنتَ ستةٌ، فنصيب [الذي] (2) عليه الدين مثلُ الدين، فإذا كان كذلك، [فطريق] (3) الحساب عند أهله أن نقيم المسألة من فريضتها في الميراث، ونقول: مسألة الابنين والبنت من خمسة: لكل ابنٍ سهمان، وللبنت سهم، فنسقط ما يخص الابن الذي عليه الدين من سهام الفريضة، فيبقى بعد إسقاطه ثلاثة أسهم، فنقسم العينَ وهي ثمانيةَ عشرَ درهماً على الأسهم الثلاثة، فيخص كلَّ سهم ستةٌ، فهي نصيب البنت، ونصيب الابن اثنا عشر درهماً، فيأخذها. وإذا قسمنا العين كذلك، بقي الدينُ اثنا عشرَ درهماً على ما (4) عليه الدين، فيبرأ عنها، ولا حظَّ له في العين. هذا طريق الحُسّاب. وسبيل تقويمها على موجب الفقه أن نقول: [إذا كان] (5) من كان عليه الدين معسراً فحقُّه ثابت في العين والدين ملكاً، ولكن للابن الذي لا دين عليه وللبنت من الحق والدين مثلُ ما لمن عليه الدين في العين، وإذا استوى المبلغان واتحد الجنس والنوع،

_ (1) عبارة الأصل: من مقدار الدين. (2) في الأصل: الدين. (3) في الأصل: طريق. (4) استعمل (ما) للعاقل، وهو جائزٌ، على ندور. (5) زيادة من المحقق.

واستيفاء الحق متعذر ممن عليه الدين إلا من جهة حصته من الميراث، والابن والبنت اللذان لا دين عليهما قد ظفرا بجنس حقهما، فيأخذانه إن أرادا. هذا هو المسلك الفقهي، ثم مقدار ما يأخذانه هو الذي أخرجه الحساب، فلا بد من فرض ما ذكرناه [ليستمر] (1) الحساب سديداً موافقاً للفتوى، فإن كان من عليه الدين موسراً، فلا سبيل إلى ذلك إلا أن يُفرضَ الرضا من جهته، فإذا أطلقنا أخْذَ العين ومقدار [الدين] (2) في هذه المسألة وأمثالِها عَنَيْنا بأخذ العين ما ذكرناه من الظفر بجنس الحق، إن كان من عليه الدين مفلساً، أو أردنا الرضا، وإلا، فلا يخفى أن الحق يثبت في العين والدين شائعاً من الجانبين. 6903 - ولو كان نصيب من عليه الدين من التركة أكثرَ من مقدار الدين الذي عليه، فسبيل الحساب أن نقسم جميع المال، عينَه ودينَه بينهما، فما أصاب الذي عليه الدين، سقط مقدارُ ما عليه، وأخذ الباقي من العين. ومثال ذلك: أن يخلّف الميت ابنين وعشرةَ دراهم، وخمسةً ديناً على أحد الابنين، فنصيب من عليه الدين من التركة -وهي خمسة [عشر] (3) - سبعةٌ ونصفٌ، والدين الذي عليه خمسة، فالوجه أن يُحطَّ الدين من حصته، فيبرَأ عن الخمسة، ونعطيه من العشرة العينِ درهمين ونصفاً تكملةً لحصته من العين، بعد حط جميع الدين [عنه] (4) وهذا محمولٌ على ما إذا كان مَنْ عليه الدين مفلساً، كما ذكرنا، وحضر حقُّ من لا دين عليه؛ من جهة (5) ظفره بجنس حقه، فإذا أطلقنا [المقاصة عنينا] (6) ذلك، فلا نعود إليه بعد هذا في أمثال هذه المسائل. 6904 - فأما إذا كان نصيب من عليه الدين من التركة أقلَّ مما عليه من الدين، فقد

_ (1) في الأصل: يستمر. (2) فى الأصل: الذي. (3) سقطت من الأصل. (4) في الأصل: عنده. (5) أي بسبب ظفره. (6) في الأصل: المعاصة عيناً.

يقع في هذا القسم حسابٌ سهلُ المأخذ، كما سيتضح في أثناء المسألة. المثال: أن يخلف امرأةً وابنين، وعشرةً عيناً وعشرةً ديناً على أحد الابنين، فالتركة عشرون، ونصيب من عليه الدين أقلُّ من الذي عليه، فنقيم فريضةَ الميراث من ستةَ عشرَ؛ فإن أصلها من ثمانية للزوجة الثمن، والسبعةُ الباقيةُ منكسرةٌ على الابنين، فنضرب اثنين في ثمانية، فيبلغ ستةَ عشرَ، ومنها تصح المسألة، وإذا أردنا قسمة العشرين عيناً وديناً على الورثة، أصاب كلَّ ابن ثمانيةٌ وثلاثةُ أرباع، فنصيب من عليه الدين أقلُّ إذاً، فنقول فريضة الميراث من ستةَ عشرَ، لكل ابنٍ منها سبعةٌ، وللزوجة سهمان، فنحط سهام من عليه الدين من فريضة الميراث، وهي سبعة، فيبقى من فريضة الميراث تسعةُ أسهم: سهمان للزوجة، وسبعةٌ لمن لا دين عليه، فنقسم العين على هذه السهام بعد حط سهام من عليه الدين، فإذا قسمنا العشرة العينَ على هذه التسعة أصاب كلُّ سهم درهماً وتسعاً، فتأخذ المرأة من هذه العشرة درهمين وتسعين، ويأخذ الابن الذي لا دين له سبعة دراهم وسبعةَ أتساع درهم، على تأويل [المقاصّة] (1)، ويصير الذي عليه الدين كأنه استوفى سبعةً وسبعةَ أتساع درهم. قال الحُسّاب [في] (2) هذه المقالة: " هو الذي جُني من الدين " وهذه اللفظة مُدارةٌ في مسائل الدين والعين، والمعنيُّ بها أن المقدار الذي يقع في مقابلة العين من الدين عن جهة [المقاصّة] (3) هو الذي يقال: جُني من الدين هذا المقدارُ، ومعنى اللفظة أنه صار مستوفىً بالمقاصّة، فقد جُني، ولولا العين [والمقاصّة] (4) منها، لكان الدين على المفلس في حكم الميت الفائت. فإن أردت أن تعرف مقدار ما [يُجْنَى] (5) من الدين في أمثال هذه المسألة، فسبيل الحساب أن تُقسِّط العينَ على السهام، سهام من عليه الدين من فريضة الميراث، حتى

_ (1) في الأصل: المقاصد. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: المفاضة. (4) في الأصل: المفاضة. (5) في الأصل: يجي.

مسائل في العين والدين على بعض الورثة مع فرض وصية لغير الوارث

إذا ضبطتَ حصةَ كلِّ سهم من سهام الفريضة من العين، ضربت ما يخص سهماً واحداً فيما حططت من سهام مَن عليه الدين، فما يرده الضرب، فهو الذي يُجْنَى من الدين، فحصة كل سهم درهم وتسع، فنضرب الدرهمَ والتسعَ في حصة من عليه الدين من فريضة الميراث وهي سبعة، فيرد الضربُ سبعةً وسبعةَ أتساع، وهذا هو الذي جُني من الدين، وقد بقي من الدين درهمان وتسعان. فإذا أردت أن تعرف كم تُسقط من هذا الباقي وكم تُبقي، فالوجه أن نعود إلى التركة ونقسمها عيناً وديناً، ونضبط حصة من عليه الدين من جملة التركة، وحصته منها في هذه المسألة ثمانيةٌ وثلاثة أرباع، وقد جُني من الدين ما ذكرناه، فنُسقط إلى قيمة الدين تتمةَ ثمانية وثلاثة أرباع، ويبقى عليه [من] (1) الدين درهم وربع، ولسنا نجد من العين ما نأخذه [مقاصّةً] (2)، فهذا الباقي من الدين حق للزوجة والابن الذي لا دين عليه، [وإذا ما] (3) تمكنا منه واستوفيناه، فهو مقسوم على تسعة أسهم، وهي النسبة التي قسم عليها العين، فما يخص سهمين مصروف إلى الزوجة، وما يخص سبعةَ أسهم مصروفٌ إلى الابن الذي لا دين عليه. هذا تعديل القسمة بالحساب، وقد بان مجملها وتأويلها في الفقه. مسائل في العين والدين على بعض الورثة مع فرض وصيةٍ لغير الوارث 6905 - مسألة: إذا ترك ابنين وعشرةَ دراهم عيناً وعشرة ديناً على أحد الابنين، وأوصى لرجل آخر بثلث ماله. فقد ذكر الأستاذ مسلكين، ونسب أحدَهما إلى ابن سُريج وجمهورِ الأصحاب، وحكى المسلك الثاني عن أبي ثور، ونسبه إلى بعض الأصحاب، ومال إلى اختياره،

_ (1) عبارة الأصل: ويبقى من عليه الدين. (2) في الأصل: مفاضة. (3) في الأصل: وإنما.

ونحن نذكر المسلكين على مساقه، ثم نذكر بعد نجازهما ما يهذِّبُ الغرضَ، ونبين الحق. فأما ما نسبه إلى ابن سريج والجمهور، فطريق الحساب فيه -وبه نبُيّن الفقهَ والفتوى- أن نقول: الفريضة الجامعةُ للوصية والميراث ثلاثة: للموصى له سهم، ولكل ابن سهم، فيأخذ الغريم سهماً، ممّا عليه، ويَقْسِم الموصى له والابنُ الذي لا دين عليه العينَ نصفين، لكل واحدٍ منهما خَمْسة، وقد جُني من الدين خمسةٌ، وبقي من الدين خمسة، لمن عليه الدين ثلثُها، وهو درهم وثلثان، فيبقى عليه ثلاثةٌ وثلث، إذا أداها، اقتسمها الموصى له والابنُ الذي لا دين عليه بينهما نصفين، على نسبة قسمتهما للعين؛ فإن هذا مذهب الجمهور وابن سريج، وأصحاب الرأي. وبيان ذلك أن الوصية وحق الابنين بنيا على الشيوع، فالعين أثلاثاً بين الموصى له والابنين، والدين كذلك أثلاثاً، فيأخذ من لا دين عليه ثلثَ العين ميراثاً، ويأخذ الموصى له ثلثها بالوصية، فيبقى من العين ثلثٌ للابن الذي عليه الدين، وللموصى له عليه (1) ثلث الدين، وللابن الذي لا دين عليه ثلث الدين، وقد وجَدا الثلثَ من العين فيقسمانه بينهما نصفين، هذا معنى اقتسام العين نصفين. ومن عليه الدين يبرأ عن ثلث الدين بحكم إرثه، وقد أدى من العين ثُلثَها إلى جهة الوصية، وإلى أخيه الذي لا دين عليه، فيبرأ بهذا السبب عن ثلثٍ آخر، وقد استوفَى تمامَ حقه إرثاً وقصاصاً، فيبقى عليه ثلث الدين، وهو بين الموصى له والابن الذي لا دين عليه نصفين. هذا بيان ما حكاه عن ابن سريج، والجمهور، وأصحاب الرأي. وحكى عن أبي ثورٍ مسلكاً آخر، وذلك أنه قال فيما حكاه عنه: للموصى له ثلثُ العين من غير مزيد، ولا يأخذ من العين غيرَها (2)، والابن الذي لا دين عليه يأخذ ثلثي العين، أما الدين، فيسقط ثلثاه عمن عليه الدين ميراثاً وقصاصاً، وهو الذي جرى

_ (1) أي على من عليه الدين، (2) كذا. أعاد الضمير المؤنث على الثلث وهو مذكر. ولا يبعد تأويله بالدراهم أو الحصة ونحوها.

بينه وبين [الابن] (1) ويبقى عليه ثلث الدين هو حق الموصى له يستوفيه منه خالصاً. قال الأستاذ هذا الوجه أقيس على مذهب الشافعي مما ذكره ابنُ سريج، واعتلّ في توجيه ذلك بأن قال: لو كانت المسألة بحالها، وفي التركة عشرةٌ عين وعشرةٌ دين على أجنبي، وقد خلف ابنين، فأوصى بثلث ماله لأجنبي لا دين عليه، فليس للموصى له في هذه المسألة إلا ثلث العين وثلث الدين، فكذلك إذا كان الدين على أحد الابنين، فإن الجزئية في الدين والعين لا تختلف باختلاف من عليه الدين. وهذا الذي ذكره عن أبي ثور واختاره نُبَيّن معناه أولاً لنفهم وجهه، ثم نُتبع ما ذكره بالحق. فمعنى قول أبي ثور إن الموصى له يأخذ ثلث العين بحكم الجزئية، وله ثلث الدين على الابن الآخر، وللابن الذي عليه الدين ثلث العين بحكم الإرث الشائع، وللابن الذي لا دين عليه على أخيه ثلث (2) الدين، وقد [ظفر] (3) بثلث العين، فجعل أبو ثور الأخَ أولى بالثلث الذي ظفر به، ولم يُثبت للموصى له فيه شركة. هذا معنى كلامه وهو عندنا غلطٌ صريح، فإنا حملنا [المقاصَّة] (4) على أخذ ما [يظفر] (5) مستحق الدين به من مال من عليه الدين، وللموصى له عليه ثلث الدين كما للابن الذي لا دين عليه ثلث الدين، وقد استويا في استحقاق الدين عليه، فلا وجه لاختصاص الابن بأخذ ما ظفر به دون الموصى له. فإن قيل: إنما أوصى له بالثلث، فالابن الذي لا دين عليه إنما يرث الثلث أيضاً من الدين والعين، وإنما يأخذ ما يظفر به لأخذ [المقاصّة] (6) كما بيناه، فليأخذ الموصى له كذلك بالمقاصّة حصته مما وقع الظفر به، كما لو وجد يوماً من الدهر درهماً لمن عليه الدين، فخرج منه أن الذي رآه الأستاذ أصحَّ وأقيس والذي ذكره عن أبي ثور لا

_ (1) في الأصل: الله. (2) في الأصل: ثلث ثلث الدين. (3) في الأصل: ظهر. (4) في الأصل: المفاضة. (5) في الأصل: يظهر. (6) في الأصل: المقاصد.

أصل له، وليس هو مما يُلحَق بالوجوه البعيدة أيضاً، والذي حكاه عن ابن سريج هو الصواب على شرط حمل المقاصّة على ما ذكرناه وهو لا يجري إلا في المعسر ظاهراً وباطناً، أو المنكر باطناً، وأما ما استشهد به في توجيه مذهب أبي ثور من كون الدين على أجنبي ظاهر (1) السقوط؛ من جهة أن الابن لا يأخذ منه إلا الثلث أيضاً، والسبب فيه أنه لو لم يظفر له بمال حتى يفرض التضارب فيه فأين يقع هذا مما نحن فيه. 6906 - مسألة: إذا ترك ابنين وعشرةً عيناً، وعشرةً ديناً على أحدهما، وأوصى لأجنبي بربع ماله. فالذي حكاه (2) عن الجمهور وابنِ سريج أن الفريضة الجامعة تصح من ثمانية بعد التصحيح، للموصى له سهمان ولكل ابنٍ ثلاثة، فنُسقط منها سهامَ الابن الذي عليه [الدين] (3)، وهو ثلاثة [يبقى] (4) خمسةُ أسهم، سهمان منها للموصى له وثلاثة أسهم للابن الذي لا دين عليه، فنقسم العين وهو عشرة على هذه السهام الخمسة، فيخرج حصةُ كل سهمٍ اثنان، وللموصى له إذاً أربعةُ دراهم وللابن ستة [دراهم] (5)، والسبب فيه أن الموصى له يستحق بحكم الوصية ربعَ العين، وهو درهمان ونصف، ويستحق ربعَ الدين وهو درهمان ونصف، والابن الذي لا دين عليه يستحق بحكم الإرث ثلاثةَ أثمان العشرة التي هي عينٌ، ويستحق ثلاثة أثمان الدين، والابن الذي عليه الدين يستحق ثلاثةَ أثمان العين، والموصى له يستحق عليه ثُمني الدين، وهو الربع، وقد ظفر هو والابن الذي لا دين عليه بثلاثة أثمان العشرة التي هي عين مال من عليه الدين، فيضربُ فيه صاحب الوصية بثمنين ويضرب الابن الذي لا دين عليه بثلاثة أثمان. وإذا اعتبرنا هذه النسبة في هذه الأثمان التي ظفرا بها، وهذه النسبة بعينها جارية فيما يأخذه الموصى له بالوصية، وفيما يأخذه الابن الذي لا دين عليه بالإرث،

_ (1) "ظاهر السقوط" هكذا بدون الفاء في جواب (أما) كدأب الإمام في كثيرٍ من المواضع. (2) حكاه: أي الأستاذ أبو منصور. (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: في خمسة. (5) في الأصل: أسهم.

فيقتضي ذلك أن يقتسما العشرة أخماساً والابن الذي عليه الدين يسقط عنه من الدين مثلُ ما أخذه أخوه من العين، وهو ستة، وعند ذلك نقول جُني من الدين ستة، وبقي عليه أربعة تقديراً، فنحط عنه من الأربعة درهماً ونصف درهم، ونقسم درهمين ونصف درهم بين الموصى له والابنِ الذي لا دين عليه على خمسة، كما قسمنا العشرة على خمسة، فيحصل لكل ابن سبعة ونصف، ويحصل للموصى له خمسة. هذه طريقةُ ابن سريج، وهي الحقُّ، على شرط حمل المقاصّة على حالة الإفلاس والتعذّر. وحكى طريقة أبي ثور فقال حاكياً عنه: للموصى له بالربع من العين درهمان ونصف، والباقي من العين للابن الذي لا دين عليه، ونُسقط عن الغريم ثلاثة أرباع ما عليه، وهو سبعة دراهم ونصف، ويبقى للموصى له على الغريم ربعُ الدين على الخلوص، وذلك درهمان ونصف. وهذا هو القياس الذي تقدم. وقد أوضحنا أنه غلطٌ صريح، لا اتجاه له على قربٍ، ولا على بعدٍِ، وهو يحكم بتقديم الابن بحق المقاصّة على الموصى له، ولا سبيل إلى ذلك. 6907 - ولو كانت المسألة بحالها إلا أنه أوصى بنصف ماله، وأجاز الابنان ذلك، فعلى قول الجمهور يملك الموصى له نصفَ العين ونصفَ الدين، ويملك كلُّ ابن ربعَ العين وربعَ الدين، وتصحيحُ الفريضة من أربعة لصاحب الوصية سهمان، ولكل ابن سهم، ثم نحط سهمَ الغريم ونقسم العين على ثلاثة أسهم: سهمين للوصية، وسهمٍ للذي لا دين عليه، فيكون للموصى له ثلثا العشرة، وللابن ثلثُ العشرة، ويبرأُ الابن الذي عليه الدين عن ربع الدين بحق الإرث، وعن ربع آخر بحكم القصاص؛ فإنه كان له في العين ربعُها، فيسقط عنه إذاً إرثاً وقصاصاً نصفُ العشرة، وبقي عليه نصفُ الدين، نقسمه (1) إذا أداه بين الموصى له وبين الابن الذي لا دين عليه: [ثلث للابن وثلثان للموصى له] (2)؛ فيحصل للموصى له بعد التوفية عشرةٌ، وللابن الذي لا دين

_ (1) في الأصل: لا نقسمه. (2) عبارة الأصل: ثلثه وثلثين، فيحصل.

عليه خمسةٌ وقد برىء مَنْ عليه الدين عن خمسة. وعلى قول أبي ثور، للموصى له نصفُ العين خمسة، وله على الغريم نصفُ الدين خمسة، ونأخذ للابن الذي لا دين عليه الخمسةَ الباقية من العين، يأخذ نصفها بالميراث، ونصفَها قصاصاً بميراثه من الدين الذي على أخيه، وسقط عن الغريم نصفُ ما عليه، وبقي عليه للموصى له وحده نصفُ الدين، وهو خمسة، وهو القياس المقدّم، وقد تكرر بيانُ فساده. 6908 - ولو كانت المسألة بحالها: الوصية بالنصف والتركة عشرةٌ عيناً وعشرةٌ ديناً على أحد الابنين، فقد ذكرنا التفصيل فيه إذا أجازا الوصيةَ الزائدةَ على الثلث، ونحن نذكر ثلاثة أحوالٍ سوى ما تقدم. فلو ردّا الزيادةَ على الثلث، كان كما لو أوصى بالثلث وقد قدمنا التفصيل فيه، واخترنا مذهب ابن سريج، ورددنا قولَ أبي ثور، وهذا بتلك المثابة. 6909 - والحالة الثانية أن يجيز الوصيةَ الزائدةَ على الثلث من لا دين عليه، ويردُّ من عليه الدين، فالزيادة على الثلث سدس المال؛ فإن الوصية بالنصف، فإذا أجاز من لا دين عليه، نفذ بإجازته نصفُ الزيادة، وارتد برد الآخر نصف الزائد، ولو كانت الوصيةُ بالثلث، والتفريعُ على مذهب ابن سريج والجمهور، لأخذ الموصى له من العين نصفَها، وإذا كانت الوصية بالنصف وأجازاها، فإنه يأخذ ثلثي العين، والآن بين الثلثين والنصف، وهو خمسة دراهم وثلثان فننصِّفُها بسبب بعض الإجازة والرد، ونقول على مذهب الجمهور: يأخذ الموصى له من العين خمسة بحق الثلث، وخمسة أسداس درهم، [وهو (1) نصف ما بين النصف والثلثين] (2)، والباقي للابن الذي

_ (1) وهو: "أي خمسة أسداس درهم". (2) في الأصل: وهو نصف قيمة الثلثين، وهو كلام مضطرب غير مستقيم. وفي العبارة بعد تصويبها إيجاز، والمعنيُّ بها أنه -كما سبق شرحه- يأخذ عند الوصية بالثلث خمسة من العشرة العين، وعند الوصية بالنصف يأخذ ثلثي العشرة ستة وثُلثين، في هذه الحالة عنده وصية بالنصف أجيز نصف الزيادة، فيأخذ خمسة بالثلث (الذي لا يحتاج إلى إجازة) ويأخذ خمسة أسداس فوقها، وهي نصف الفرق بين ما يأخذه بالثلث وما يأخذه بالنصف، فهو يأخذ خمسة =

لا دين عليه وهو أربعةٌ وسدس إرثاً وقصاصاً. وهذا بيان هذه الحالة في غرضنا. 6910 - فأما إذا أجاز من عليه [الدين] (1) الزيادة في حصته، ولم يجز من لا دين عليه فلا يأخذ الموصى له من العين إلا خمسةً، وهي المقدار الذي يأخذه لو كانت الوصية بالثلث، وسبب ذلك أن المسألة مبنيةٌ على المقاصّة، وهي عندنا مخصوصةٌ بحالة [الإفلاس] (2)، وليس للمفلس أن يبطلَ حقَّ مستحق الدين بسبب تبرعه مبتدئاً كان، أو مُجيزاً؛ فإن قيل: ألستم أبنتم لردِّه أثراً؟ قلنا: نعم ردُّ المفلس في استيفاء ملكه صحيح، وإنما المردود إبطاله حقَّ الغرماء المتعلقين بماله، وهذا متجةٌ حسنٌ، وقد ذكره الأستاذ كذلك، وهو لا يتعرض لتفصيل الإفلاس، بل معتقده أن القصاص واقع لإدراكه، وذاك وإن لم نقل به، فالفتوى صحيحة خروجاً على ما ذكرناه. والذي يختلج في النفس منه أنا نجوّز أخذ مال المفلس عند الظفر به، ولكن قبل التملك وقبل ضرب الحجر على المفلس يجب تنفيذ إجازته؛ فإنه مطلَق وتصرف المطلَق المفلس في ملكه نافذٌ، فعلى هذا تنفُذ إجازتُه في هذا المقدار الذي تنفذ إجازة من لا دين عليه، وإن صورنا إجازته بعد أخذ الغرماء، فهي باطلة وكذلك إن صورنا إجازته بعد الحجر، فهذا حقيقة المسألة. ولم نتعرض لأبي ثور؛ فإنه قد بان قياسُه، فلا معنى لإعادة مذهبه في كل مسألة. 6911 - مسألة: إذا خلّف ابنين، وعشرةً عيناً، وعشرةً ديناً على أحدهما، وأوصى لإنسان بخمسة دراهم من ماله، قال الأستاذ حاكياً عن الجمهور: يدفع إلى الموصى له خمسةُ دراهم من العين، ويأخذ الابن الذي لا دين عليه الخمسةَ الباقية، النصفَ منها بالميراث، والنصفَ منها بالقصاص مما له على أخيه، ويَبْرَأ من عليه الدين من نصف

_ = بالثلث، وستة وثلثين بالنصف، فالفرق واحد وثلثين، نصفها خمسة أسداس، تضم إلى الخمسة التي أخذها بحق الثلث. (1) سقطت من الأصل. (2) في الأصل: الإقلال.

الدين، بميراثه منه، ويبرَأ أيضاً من رُبعه، فالقصاصُ يُبقي عليه لأخيه ربعَ الدين. وهذا فيه نظرٌ؛ من جهة أن التركة عشرون، والخمسة ربعُها، ولو أوصى لإنسان بربع ماله من هذه المسألة لم يأخذ نصفَ العين، وإنما يأخذ خُمسيها، على قول الجمهور، كما تقدم. ومن أصل الشافعي رضي الله عنه أن الاعتبار في الوصايا بمآلها. ولو أوصى بالخمسة، ولم يتعرض لذكر جزء، وكنا [لا نعلم] (1) بأن الخمسةَ ربعٌ أو خمس، فإذا بان آخراً أن الخمسة وقعت ربعاً، فليقع الحكم فيها على حسب الحكم في الربع، والدراهم التي أطلقها لم يُخصِّصْها بالعين، بل أطلق الوصيةَ بها، ولو كانت تركتُه كلُّها ديناً، لصحت الوصية بخمسة دراهم، على معنى الاستيفاء ممن عليه [الدين] (2)، وقد نقَم أصحابنا على أبي حنيفةَ فصله بين الوصية المرسلة بدرهم، وقد بانت أنها زائدة على الثلث آخراً، وبين الوصية بجزءٍ زائد على الثلث، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، مع نظائره في مقالةٍ جامعةٍ، إن شاء الله. 6912 - ولو كانت المسألة بحالها، وأوصى له بنصف العشرة التي هي عينٌ، قال الأستاذ: يأخذ خمسةً، ولا حاجةَ إلى الإجازة، ولا غروَ أن يقول هذا. وقد قال بهذا في الوصية بالخمسة المرسلة، فإذا كان يحصرها في العين وهي مرسلة، فلا شك أنه يقول بحصرها وقد قُيّدت بالعين. وهذا فيه نظر، [فإن كنا لا نحمل الخمسة على الحصر في العين، فالتخصيص العين وصية، سيّما إذا كان الدين على مفلس. نعم، لو نفذ من عليه الدين الذي نفذت الوصية من العين المذكورة] (3) وعلى هذا تجرى الوصايا بالأعيان. وهذا الذي نذكره مرامزُ، وفقهُ الوصايا بين أيدينا (4).

_ (1) في الأصل: لا نحكم. (2) سقطت من الأصل. (3) هذه السطور بين المعقفين، كذا تماماً، ولما نعرف لها إقامة بعدُ. (4) بين أيدينا: أي سيأتي بعدُ.

6913 - مسألة: لو ترك ثلاثة بنين وعشرين درهماً عيناً، وعشرةً ديناً على أحد البنين، وأوصى لرجل بثلث ماله. أما مذهب ابن سريج، فالسبيل فيه أن نصحح الفريضة الجامعة من [تسعة] (1) نضعها من ثلاثة، ثم نبلّغها بالتصحيح تسعة، فنلقي منها نصيبَ [الابن] (2) الذي عليه الدين وهو سهمان، يبقى من سهام الفريضة سبعة، فنقسم عليه العشرين التي هي عين، فيخرج على مقابلة كل سهم درهمان وستة أسباع درهم، فإذا أردنا أن نعبِّر عما جُني من الدين، ضربنا [حصة] (3) سهمٍ فيما عزلناه من الفريضة حصةً لمن عليه الدين، وإذا ضربنا اثنين وستةَ أسباع في نصيب من عليه الدين من الفريضة، وهو سهمان، خرج خمسةُ دراهم وخمسةُ أسباع درهم، هذا مقدار ما جني من الدين. ثم يحسن في مسلك الحساب أن نضم ما جُني من الدين إلى العين وهي عشرون، فيبلغ المجموع خمسةً وعشرين وخمسةَ أسباع درهم، فنقول: كان جميع المال هذا، مثلاً، للموصى له ثلثها، وهي ثمانية دراهم وأربعة أسباع درهم، والباقي بين البنين، وذلك سبعةَ عشرَ درهماً وسُبعُ درهم، لكل واحد منهم خمسةُ دراهم وخمسة أسباع، فيأخذ الموصى له ثمانيةَ دراهم وأربعةَ أسباع درهم، وقد أصاب الذي عليه الدين مثلَ ما أخذه كلُّ ابن من الابنين، ولكن ما يصيبه يُحسب من الدين الذي عليه إذا أمكن، فإذا أردت أن تعرف كم يؤدي من عليه الدين، فارجع أبداً إلى أصل المال، وقل: في هذه المسألة جملة الدين والعين ثلاثون، فنميز ثلثها للموصى له، وهو عشرة، يبقى عشرون، نقسمها بين البنين الثلاثة نصيب كل واحد منهم ستةٌ وثلثان، فإذاً تبقى على الابن الذي عليه الدين ثلاثة وثلث، فإذا أداها اقتسمها الابنان الآخران والموصى له، على سبعة أسهم، للموصى له منها ثلاثة أسهم، ولكل ابن سهمان، على النسبة التي قسمنا العين عليها. وعلى قول أبي ثور للموصى له من العين ثلثها، وهو ستة دراهم وثلثان، ولكل

_ (1) في الأصل: سبعة. (2) في الأصل: نصيب الأول من. والمثبت تقدير منا. (3) في الأصل: حقه.

واحد من الابنين الذين لا دين عليه مثل ذلك، ويسقط مثل هذا عن [الابن الذي عليه] (1) الدين، ويبقى للموصى له وحده ثلاثة دراهم وثلث، وهو تتمة الثلث. 6914 - مسألة: لو ترك ابنين وعشرةً عيناً وعشرةً ديناً على أحد الابنين، وأوصى لرجل بثلثي الدين. فحكم هذه اللفظة على طريقة الجمهور، ورأي ابن سريج أن يملك كلُّ واحد من الابنين نصفَ العين، وسدسَ الدين؛ فإنه حصر الوصية في الدين؛ فإذاً يبرأ الغريم من سدس الدين بميراثه، ويبقى للموصى له والأخ -في ذلك- النصفُ (2) على نسبة الأخماس، للموصى له أربعة أخماسه، وأربعة أخماس النصف أربعة دراهم، وللأخ خُمُسه، وهو درهم، ولا شك أن ذلك يقع بين الثلثين والسدس، وقد كان أخذ الابن الذي لا دين عليه خمسة دراهم من العين، فحصل معه ستة، وبرىء الغريم من نصف الدين قصاصاً، ومن سدسه ميراثاً، وبقي لهما عليه ثلث الدين، فإذا أداه، اقتسمه الموصى له والابن الذي لا دين عليه على خمسةٍ، كما مضى: أربعة أخماسه للموصى له وخُمسه للأخ. وعلى قول أبي ثور للابن الذي لا دين عليه من العين ستة دراهم وثلثان، وهذا أقصى ما يستحقه إرثاً وقصاصاً مع الوصية بثلثي الدين وثلثا الدين، ثلثُ التركة، وقد توفر عليه الثلث من العين، فنصرف ثلث العين نحو القصاص إلى الموصى له بثلثي الدين؛ فإن هذا الثلث الباقي محض حق من عليه الدين. 6915 - ولو كانت المسألة بحالها وأوصى لرجل بثلث العين، وأوصى لآخرَ بثلث الدين، فعلى المذهب المعتمد يأخذ صاحبُ العين ثلثَ العين، وملكَ كلُّ ابن ثلثَ العين، ويملكُ صاحب الدين ثلثَ الدين، وهو الموصى له بثلث الدين، ويملك كل ابنٍ ثلثَ الدين، فيبرأ الغريم من ثلث الدين لحق الإرث، ويبقى عليه لأخيه ثلث

_ (1) زيادة من المحقق. والمعنى أن الابن الذي عليه الدين يجني من الدين ستة وثلثين، مثل نصيب كل ابن لا دير عليه. (2) النصف: المراد نصفُ العين الذي يملكه من عليه الدين. ومعنى العبارة: يبقى -في ذلك التقسيم- النصف ...

مسائل إذا كان الدين على الموصى له

الدين، ولصاحب الوصية ثلثُ الدين، فيأخذ صاحب الوصية والابن الذي لا دين عليه حقَّه من العين قصاصاً، وهو ثلاثة [وثلث] (1) فيقسمانه، نصفين، ويخرج منه أن الغريم يبرأ عن ثلث الدين إرثاً، ويبرأ من ثلثه قصاصاً، ويجتمع للأخ من العين خمسةُ دراهم، وهو نصف العين، وقد فاز صاحب الوصية بثلث العين بحقه، وبقي لصاحب الوصية بثلث الدين، وللابن الذي لا دين عليه ثلث الدين، فكلما أدَّى منه شيئاً، فحكمه أن يقسماه نصفين. فهذا بيان قياس هذه المسألة. مسائل إذا كان الدين على الموصى له 6916 - مسألة: إذا ترك ثلاثين درهماً عيناً، وثلاثين درهماً ديناً على رجل، فأوصى بثلث العين لرجل، وأوصى للغريم بما عليه، وهو معسر. فالوصيتان مجموعهما زائدتان على الثلث، فإن رُدّ الزائد، فالثلث بينهما على أربعة: ثلاثة أرباعه للغريم، ولصاحب العين ربع الثلث، والفريضة الجامعة من اثني عشر، للوصيتين أربعة، وللورثة ثمانية، ثم يقسم الورثةُ وصاحبُ العين الثلاثين درهماً التي هي عين على قدر سهامهم، وقد ذكرنا أن لصاحب الوصية بجزءٍ من العين سهم، وللورثة ثمانية؛ فيقتسمان الثلاثين على [تسعة] (2) أسهم: لصاحب الوصية تُسع الثلاثين، وهو ثلاثة دراهم وثلث، وللورثة ثمانية أتساعها: ستةٌ وعشرون درهماً وثلثان، ويبرأ الغريم عن ثلاثة أرباع الثلث ممّا عليه، والثلث عشرون، ثلاثة أرباعه خمسةَ عشرَ، فبرىء عن خمسةَ عشرَ درهماً؛ لأن وصيته في ذمته، فيبقي عليه خمسةَ عشرَ درهماً؛ فإذا أداها، اقتسمها الورثةُ وصاحبُ الوصية [كجزء] (3) من العين على تسعةٍ: لصاحب الوصية تُسعُها، وهو درهم وثلثان، فنضمُّه إلى ما أخذ من العين أولاً

_ (1) زيادة من المحقق، لا تصح المسألة بدونها. (2) في الأصل: سبعة. (3) في الأصل: بجزء. والمعنى: أن القسمة كجزئية العين.

فيتمّ له ربعُ الثلث وهو خمسة دراهم، والباقي، وهو ثلاثةَ عشرَ درهماً [وثلث درهم] (1) للورثة، فيحصل للورثة ثلثا المال. وفي هذه المسألة أدنى تأملٍ على الناظر، والمسألة سديدة، ووجه التأمل فيها أنا لو أكملنا لصاحب الوصية بالعين حقَّه من العين، وهو خمسة دراهم، لكنا نفّذنا الوصيةَ في عشرين [عيناً] (2)، والحاصل في يد الورثة خمسةٌ وعشرون، والباقي دين، وهذا لا سبيل إليه، فنفذنا من وصيته العين ثلاثة وثلثاً على النسبة الحسابية التي ذكرناها. وتعليل ذلك أنا إذا رددنا الوصيتين إلى الثلث، وعرفنا أن الثلث أرباعٌ بين الوصيتين، فلا يثبت لصاحب الوصية بالعين إلا الربع من مبلغٍ لو ضم إلى ما بقي في يد الورثة، لكان [ثلثي] (3) الجميع: الحاصلَ والمقدرَ، وهذا إنما ينتظم بأن نجمع ثلاثةً وثلثاً أربع مرات، فيبلغ ثلاثةَ عشرَ وثلثاً، ثم إذا ضممنا هذا إلى الستة والعشرين والثلثين، كان المبلغ أربعين، وثلثا الأربعين ستةٌ وعشرون وثلثان، فلم ننفذ وصية العين إلا على هذه النسبة، ولم نحسب لأجل العين الدينَ على الورثة؛ فإنه غيبٌ بعدُ، [ثم] (4) اضطررنا في حق صاحب الدين إلى توفية حقه بالإسقاط عنه، كما أشرنا، ونفذنا الوصية بالعين على قياس النسبة، فهذا تعليل المسألة، وهي حسنة بالغة الحسن على رأي ابن سريج والجمهور من أصحابنا. وقال أبو ثور: لصاحب العين ربع الثلث وهو خمسة دراهم من العين، والباقي وهو خمسة وعشرون [بين الورثة] (5)، وبين صاحب الدين كما ذكرنا، ويستوفي الورثة بقيةَ الدين خالصةً لهم، وهذا الذي ذكره ذَهاب عن سر النسبة والتفاوت الواقع بين قياس العين وقياس الدين، كما أوضحناه.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) زيادة من المحقق، وبدونها لا يستقيم الكلام، والمعنى: أننا إذا أعطينا الموصى له خمسة كاملة عيناً، نكون اعتبرنا الثلث كله عيناً. (3) في الأصل: ثلث. (4) في الأصل: يضم. (5) عبارة الأصل: وهو خمسة وعشرون للورثة وبين صاحب الدين.

6917 - مسألة أخرى توضّح ما ذكرناه الآن: ترك ابنين وعشرة دراهم عيناً وعشرين درهماً ديناً على رجلين، على كل واحد منهما عشرة، وهما معسران، وسبب فرض الإعسار أن يختلف حكم العين والدين اختلافاً بيناً، فلو أوصى لكل واحد من الرجلين بما عليه من الدين، وأوصى بثلث ماله لرجل، والوصايا زائدة على الثلث، فإذا رُدّت إلى الثلث، فقد قال ابن سُريج: يضربُ كل واحد من الغريمين بما عليه، وهو عشرة، ويضرب صاحب الثلث بالثلث وهو عشرة، فيتضاربون بالسوية في ثلث المال أثلاثاً، ثم لكل واحد من الغريمين ما يخلص له من الثلث، يأخذه مما عليه. والفريضة الجامعة للوصايا والميراث تسعة، فتشتمل على الثلث ويشتمل الثلث على الانقسام أثلاثاً. ثم سبيل الحساب في المسألة، وبه تظهر النسبة المطلوبة في حق الموصى له بالثلث أن نقول: إذا أسقطنا من التسعة سهمين للغريمين، وصرفنا كلّ سهم إلى دين كل غريم، فيبقى من سهام الفريضة سبعة أسهم، فنقسم العين عليها بين الورثة وبين الموصى له بالثلث، وهكذا يقع إذا فُضَّتْ عشرة على سبعة أسهم، وهذه هي النسبة التي ذكرناها في المسألة المتقدمة على هذه، فإنا نُقدِّر جميعَ ثلثه مقاديرَ، كلُّ مقدار درهم وثلاثة أسباع، وللورثة ثمانية دراهم وأربعة أسباع، وإذا نحن قدرنا ذلك، صار المجموع اثني عشر درهماً وستة أسباع، للابنين منها ثمانية وأربعة أسباع، فقد سلمنا إلى صاحب الثلث ثلثاً من ثلثٍ قدرناه، لو حضر، لكان كما ذكرناه، وقد برىء كل غريم عن ثلث ما عليه، وهو ثلاثة وثلث، ولو جمعنا ما برئا منه إلى ما سلمناه إلى الموصى له بالثلث، لزاد ذلك على ما قدرنا، ولكن تلك الزيادة لمكان الدين، كما قدرناه في المسألة الأولى، والغرض أن التسليم من العين يقع بحساب العين كما سبق، فإن حصلت زيادةٌ في الدينين على خلاف نسبة العين، فسببه ما اضطررنا إليه في أمر الدين. وكشف الغطاء فيه أن سقوط الدين عن معسرٍ لجواز أن يحسب في خروجه من ثلث الدين الباقي على المعسر في حق الورثة، وأما تسليم العين، فلا يجوز أن نعتبر فيه

مسائل في العين والدين إذا كان الدين على أجنبي والوصية لغيره

نسبة بقاء الدين، ثم النسبة القويمة ما ذكرناها. هذا هو الغرض من إعادة هذه المسألة. وباقي الكلام بيّنٌ لا إشكال فيه. مسائل في العين والدين إذا كان الدين على أجنبي والوصية لغيره 6918 - مسألة: إذا خلف ثلاثين درهماً عيناً وثلاثين درهماً ديناً على أجنبي، وأوصى بثلث ماله لرجل. فإنا نعطي الموصى له في الحال ثُلثَ العين، ولا نزيده بسبب الدين؛ فإنه مُغَيَّبٌ بعدُ، ويُصرف باقي العين إلى الورثة من غير حجرٍ عليهم، ثم كلما حضر من الدين شيء، سلمنا إلى الموصى له ثُلثَه، والباقي للورثة. هكذا إلى استيفاء الدين بكماله. ولا فرق بين أن يكون الدين على معسرٍ، وبين أن يكون على مليء وفيٍّ؛ فإن الدين على كل حال مغيّب، وهذا القياس بعينه نطرده في المال الحاضر والغائب. 6919 - ولو أوصى له بثلث الدين، لم يكن له في العين شيء، واقتسم الورثةُ العينَ، فإن حضر من الدين خمسةَ عشرَ درهماً، فله ثلثُها على المذهب الظاهر، والقياس البيِّن، والباقي للورثة، وهذا قدمناه في أول المقالة، وذكرنا أنه القياس. وأبعد بعضُ أصحابنا -على ما حكاه الأستاذ- وقال: يسلّم مما يحضر من الدين ما يقع ثلثاً لو أضفناه إلى ما هو عين في التركة، وهذا لا أصل له، ولا أعتد مثلَه من المذهب. 6920 - ولو كان قد أوصى في هذه المسألة لرجل بثلث العين، وأوصى لآخر بثلث الدين، والدينُ على معسر، فلصاحب العين ثلثُ العين، وباقيها للورثة، ولا حق لصاحب الدين في العين، فإن حضر من الدين خمسةَ عشرَ درهماً، فللموصى له بثلث الدين ثلثُها: خمسةُ دراهم، وباقيها للورثة. هذا هو المذهب الظاهر، وهو رأي من جعل الوصية شائعةً في الدين.

ومن جعل الموصى له [بالجزء أحقَّ] (1) بما يُجنى من الدين، أعطاه من الخمسةَ عشرَ، [عشرةً] (2)، وهو تمام حقه، إن أجاز الورثة، فإن لم يجيزوا، لم يعطَ تمامَ العشرة؛ فإن صاحب الوصية بالعين، قد أخذ ثلث العين، فإذا أخذ هذا عشرة، فيصرف إلى الوصية عشرون، والحاصل في يد الورثة خمسة وعشرون: [عشرون] (3) من العين، وخمسةٌ مما حضر من الدين، وهذا لا سبيل إليه، ولا وجه لحبس الدين عليهم، وتنفيذِ الوصية من العين الحاضرة، وليس كما إذا أوصى لمن عليه الدين، فإنا نضطر إلى إبراء ذمته، كما قدمنا تقريره، وسيزداد هذا وضوحاً من بعدُ، إن شاء الله تعالى. وإذا تُصوّرت المسألة بالصورة التي ذكرناها وحضر من الدين خمسةَ عشرَ، والوصية بعشرةٍ من الدين، وهي [ثُلثُه] (4)، والوصية الأخرى بعشرة من العين، وهي ثلث العين، والحاصل الآن خمسة وأربعون درهماً، إذا قدرنا ضمَّ ما حضر من الدين إلى الثلاثين التي كانت عيناً، فإذا لم يجز الورثة إلا ما يقتضي الشرعُ إجازتَه من الثلث، [فقد] (5) ذكر الأستاذ منهاجاً في الفقه والحساب لا نجد بداً من ذكره، حتى إذا نجز، [نذكر] (6) الحقَّ المبين عندنا. قال رضي الله عنه: ذهب أبو ثور في هذه المسألة إلى أن الموصى له بثلث العين يأخذ العشرة المسماة من العين، فإذا حضر من الدين خمسةَ عشرَ، أخذ الموصى له بثلث الدين خمسةَ دراهم من الخمسةَ عشرَ الحاضرة من الدين، وسلمنا العشرةَ منها إلى الورثة، فيكون المجموع خمسةً وأربعين، والمخرج للوصية خمسةَ عشرَ، وهذا ثلث المجموع، والباقي في يد الورثة، من بقية العين، ومما حضر من الدين ثلاثون.

_ (1) في الأصل: بالحر وأحق. (2) ساقطة من الأصل. (3) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام بدونها. (4) في الأصل: ثلاثة. (5) في الأصل: وقد. (6) في الأصل: ذكر.

قال الأستاذ: هذا كلامٌ معتدل مستقيم على الفتوى والحساب. وأما ابن سريج، فإنه فرع على إشاعة الوصية، وقضى بأن كلَّ ما يحصل من الدين، فليس للموصى له بجزء من الدين إلا جزءاً مما حضر على قدره، حتى إذا كان الموصى به ثلث الدين، والحاضر خمسةَ عشرَ، فللموصى له بجزءٍ من الدين ثلثُ ما حضر وهو خمسة، فينطبق هذا الجواب على مذهب أبي ثور، ويكون سديداً. وإن فرع ابن سريج على أن الوصية بكمالها تنحصر فيما يحصل ويحضر، فموجب هذا أن يستوفي الموصى له بجزءٍ من الدين تمامَ العشرة مما حصل من الدين، ولكن لو استوفى ذلك، وقد استوفى الموصى له بثلث العين العشرة، فتزيد الوصيتان على ثلث المال الحاصل؛ فإنه تبقَّى في يد الورثة خمسةٌ وعشرون، والوصية نافذةٌ في عشرين، وهذا خطأٌ لا سبيل إليه. وإنما تنفذ الوصية في عشرين إذا كان في يد الورثة أربعون؛ فإنه امتنع هذا على وجه الحصر، فصاحب الوصية بجزء من الدين يقول (1): ثبت حقي في عشرة على قول الحصر، ولكن امتنع عليّ أخذُها لضيق الثلث، فأنا أضارب بعشرة، وأنت [يا صاحب] (2) الوصية بالعين ضارب بعشرة، وهذا القياس يقتضي أن يكون الثلث بيننا نصفين، وثلث المال الحاصل خمسة عشر، ونصفها سبعة ونصف. قال الأستاذ هاهنا: أما العشرة، فقد فاز بها صاحب الوصية بالعين، فقياس [مذهبه] (3) على ذلك أن ندفع إلى الموصى له بجزءٍ من الدين سبعةً ونصفاً؛ إذ التفريع على وجه الحصر، فيكون المجموع سبعةَ عشرَ درهماً ونصفاً، وليس في يد الورثة ضعفٌ. قال: وبهذا تبين أن الصحيح ما ذكره أبو ثور؛ فإن مسلك ابن سريج أدى تفريعه إلى هذا الفساد.

_ (1) عبارة الأصل: يكون يقول. (2) في الأصل: ناصب. (3) في الأصل: مذهب.

6921 - هذا كلامه. وهو مضطرب يشتمل على خبطٍ ظاهر، فنقول أولاً: أما وجه الحصر، فقد أطلقنا فيما تقدم، وأوضحنا أنه غير معتد به، ولا اتجاه له، وقد ذكر استقامةَ وجه الشيوع، فلنحمل ما أدى التفريع إليه على فساد وجه الحصر، لا على فساد مذهب ابن سريج. هذا وجهٌ. ثم لم يتصور في التفريع على وجه الحصر مع فساده، وقياسُ ذلك الوجه لو قيل به أن يقول: الثلث خمسةَ عشرَ، وهما يتضاربان في الثلث بجزأين متساويين، أما صاحب العين فوصيته عشرة، وصاحب الدين ضاربٌ بعشرة لقياس الحصر، ولا سبيل إلى خرم حساب الثلث والثلثين، فالوجه جعل الثلث بينهما نصفين ثم السبعة والنصف التي هي حصة صاحب العين إذا بان مقدارها، أخذها من العين. وقد يعترض على ما ذكرنا أن صاحب العشرة يفوز بالعشرة، وإن لم يحصل من الدين شيء، فلِمَ يُنتقص حقُّه بأن يحصل من الدين شيء؟ وهذا مدفوع؛ فإنه إذا لم يحصل من الدين شيء فلا مزاحم له، فقدرُ وصيتِه ثلثُ العين، فإذا حصل من الدين شيء امّحق ما حصل بالتركة، وصار صاحب الدين ضارباً بالعشرة لقياس الحصر، فأنتج مجموعُ ذلك زحمة ونقصاً. وكل ما ذكرناه وإن كان يعترض عليه الفقيه، فهو مؤذنٌ بفساد الحصر، وليس يرد إلينا عن جهة أخرى فسادٌ، ونحن معترفون بأن الحصر لا أصل له. 6922 - ونحن نذكر صورةً أخرى أوردها الأستاذ، وفيها بيان لما قدمناه، واشتمالٌ على مزيد إشكال، سيأتي التفريع عليه إن شاء الله عز وجل. فنقول: إذا خلف ثلاثين درهماً عيناً، وثلاثين درهماً على أجنبي، ثم أوصى للغريم بجميع ما عليه، وأوصى لآخر بثلث العين، وهو عشرة، فإذا كان الدين على مليء، [فالوصيتان] (1) بالغتان ثلثي المال، وتبيّن [بالأخرة] (2) أن نسبة الوصيتين بالأرباع: للموصى له بالدين ثلاثةُ أرباع، وللموصى له بالعشرة الربعُ.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: بالإجازة.

فلو رد الورثة ما زاد على الثلث، وانحصرت الوصيتان في الثلث، فقد قال الأستاذ: الثلث مقسوم بينهما أرباعاً، لأحدهما وهو الموصى له بالدين ثلاثةُ أرباع الثلث، وللموصى له بالعين ربُع الثلث، وهذا مستقيم. فلو حضر الدين كلُّه، فثلث المال عشرون، ثلاثة أرباعها للموصى له بالدين، وهو خمسةَ عشرَ، وربعُه، وهو خمسةٌ للموصى له بجزءٍ من العين. غيرَ أن هذه [الخمسة] (1) مستحقة من الثلاثين التي كانت عيناً، والخمسةَ عشرَ مؤداة مما حصل من الدين، وفاءً لمحلّ الوصيتين. فلو حصل من الدين خمسةَ عشرَ، وتلف باقي الدين وتحقق التّوى (2) فيه، والذي ذكره الأستاذ في هذه الصورة أنا نأخذ ثلثَ المال الحاصل، وهو خمسة وأربعون، وثلثها خمسةَ عشرَ، فنعمد إلى الثلث ونجعله على أربعة أسهم: لصاحب العشرة منها ربعُها، وهو ثلاثة وثلاثة أرباع درهم، ولصاحب الوصية الأخرى باقي الخمسةَ عشرَ، وهو أحدَ عشرَ وربعُ درهم، وذلك ثلاثة أرباع الثلث. هذا كلامه، وقد صححه، وعبَّر (3) عليه، واختتم الباب به، وندب إلى العمل بقياسه. وهذا كلام مختلط، والسبب فيه أن الوصية مضافةٌ إلى الدين، ولو ورد التّوى على جميع الدين، [سقطت] (4) الوصية سقوطاً لا يبقى بجزءٍ منها ضربٌ، فإذا تلف بعضها، وجب أن يسقط [من] (5) الوصية بمقدار ما تلف، فإذا عادت الوصية [إلى الثلث] (6) لا بردّ الورثة، ولكن بالتّوى الوارد على خمسةَ عشرَ، فكأن الوصية بخمسةَ عشرَ.

_ (1) في الأصل: المسألة. فانظر -رعاك الله- أي عناء وأي مكابدة، حتى وصلنا إلى الصواب. (2) التوى: الهلاك. (3) كذا، ولعلها مصحَّفة وصوابها: " اعتبر " أي قاس. (4) في الأصل: أسقطت، وغيرناها لمكان المفعول المطلق بعدها. (5) زيادة من المحقق. (6) زيادة اقثضاها السياق.

ولو فرضنا وصيتين إحداهما بعشرة، والأخرى بخمسةَ عشرَ، ثم فرضنا [عود] (1) الثلث إلى خمسةَ عشرَ، وحصر الوصيتين في الثلث، لكان أحدهما ضاربٌ بخمسة عشرَ، والآخر ضاربٌ بعشرة، والتضارب على هذا الوجه يقع بالنسبة إلى الأخماس. فيجب من ذلك أن نقول: لصاحب العشرة في مسألتنا خمسا الخمسةَ عشرَ، وهو ستة، ولصاحب الخمسةَ عشرَ ثلاثةُ الأخماس، وهو تسعة. وهذا ما يقتضيه الحساب والفتوى. فإن قيل: قد سبق قصدُ الموصي إلى تفضيل أحدهما على الثاني بنسبة الأرباع؟ قلنا: نعم، كانت الوصية كذلك، ولكن يقتضي سقوط الوصية بسقوط المحل، ونقصانها بنقصان المحل، ولم تجر الوصية بثلاثين مرسلة. فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه. 6923 - مسألة: إذا ترك الرجل ابنين، وألفَيْ درهم عيناً وألفاً ديناً على أجنبي، وأوصى للغريم بما عليه، وأوصى لرجل آخر بألفٍ من العين، وردّ الورثةُ ما زاد على الثلث من الوصايا. فالمذهب المبتوت أن الغريم يبرأ عن خَمْسمائة، ويستحق الموصى له بالألف أربعَمائة، وتسلّم للورثة من العين ألفاً وستمائة، ولهم استيفاء بقية الدين ممن عليه الدين، كلما استوفَوْا منه قدراً سلّموا بحسابه، كما تمهد الحساب إلى الموصى له بالألف العين، حتى يكمل له خَمسُمائة. وتعليل ذلك وتمهيد حسابه ما قدمناه قبلُ في المسائل، ونحن الآن نُعيده لغرضٍ، فنقول: لو سلمنا خَمسَمائة إلى الموصى له بالعين، وقد برىء الغريم عن خمسمائة، لقال الورثة: تقديم الوصية في ألف -براءً وتمليكاً، وليس في أيدينا [ضعف الألفِ- غير ممكن فلا يُسلّم للموصى له بالعين] (2) إلا مقدراً لو ضم إليه مثلُه، لكان المبلغان

_ (1) في الأصل: عدد. (2) عبارة الأصل: "ضعف الألفين ألا نسلم للموصى" وتغييرها بالزيادة والتعديل من عمل المحقق.

ثلثاً، وما في يد الورثة ضعفاً، وذلك ثَمانمائة، فنحسب على صاحب العين هذا الحساب، ثم يبرأ الغريم عن خمسمائة للضرورة التي قدرناها في براءة الذمة. وقد مضى لهذا أمثلةٌ، وأسدُّ ما فيها هذا الجواب. ولم يتعرض الأستاذ لما يخالفه. وذكر في هذه المسألة وجها ثانياً غريباً نحكيه ونبطله؛ حتى لا يعتد به الناظر، ونقطع بما سبق القطع به. قال رضي الله عنه: من أصحابنا من قال: يسلّم إلى الموصى له بالألف من الألفين خَمسمائة، واحتج هذا القائل -فيما حكى- أن العين المأخوذة أقل من ثلث العين والباقي من العين أكثر من الضعف بالإضافة إلى الخَمسمائة، والدين الباقي مضموم إلى العين الحاصلة في أيدي الورثة، فيكون في أيديهم ألفٌ وخمسُمائة، ولهم من الدَّيْن خَمسُمائة، والمجموع ألفان والوصيتان ألفٌ. وهذا القائل يزعم: أنا أقمنا الدين مقام العين؛ لمكان الوصية بالدين. وهذا ساقط عريٌّ عن التحصيل، فلسنا للإطناب في إبطاله مع وضوحه، وفيما قدمناه اكملُ مَقْنع، وليس يخفى على الفطن قياسُ هذا الوجه الضعيف في الأمثلة المتقدمة، ولكن لا معنى للتفريع على ما لا أصل له. وقد نجز والحمد لله القولُ في العين والدين، لم نغادر من لُبابه شيئاً، بل أوضحنا مشكلَه، وبيَّنا [معضله] (1)، وذكرنا مسلك الحُسّاب ومجمله، ونفضنا عن أدراج الحُسّاب ما جرى فيها من زلل في الفتوى، وتعرضنا لكثيرٍ من الأجوبة، كما يتنبّه لها الموفق إذا انتهى إليها. والآن حان أن نبتدي مقالةً شاملة في أنواع المسائِل الدائرة الحسابية، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: معطله.

مقالة في دور الضرب الحسابي في المسائل الشرعية

مقالة في دور الضرب الحسابي في المسائل الشرعية 6924 - هذه المقالة تشمل أنواعاً، وكل نوع يشتمل على أبواب محتويةٍ على مسائل، ونحن نأتي بالأنواع مفصلةً، ونرسم في كل نوع تراجم المسائل، ثم نذكر المسائل موضحةً بالحساب، مقومةً بالفقه، إن شاء الله تعالى. 6925 - النوع الأول - فيما يقع من الدور في العتق. مسائل في المريض يعتق عبداً، فيكتسب مالاً بعد توجيه العتق. فنقول: فقهُ العتق وما لا يتعلق بالدَّوْر منه يأتي في كتاب العتق، وإنما نذكر هاهنا ما يتعلق بالدَّوْر، ولا يتوصل إلى تلخيص العَقْد فيه إلا بطريق الحساب، ثم نلقط المسائل الحسابية من كتاب [الوصايا] (1) ونأتي بها مجموعةً؛ حتى تُلْفَى قواعدُ الحساب منتظمةً في مكانٍ واحد، ونترك فقه كل كتاب إلى موضعه، إن شاء الله تعالى. مسألة: إذا أعتق. المريض عبداً قيمته مائةُ دينارٍ، لا مال له غيره، فاكتسب العبدُ بعدَ الإعتاق، وقبل موت السيد مثلاً مثلَ قيمته، ومات المريض، فهذا يتطرق الدور إليه؛ لأنه إذا أُعتق من العبد شيءٌ، فعتقه يقع تبيُّناً، وإذا تبينا حصول العتق في جزءٍ، فنتبع ذلك الجزءَ مقدارَه من الكسب بالجزئية، ولا نحسب ذلك من التبرع؛ فإن تبعيتَه للجزئية مستحقّة؛ إذ كسب الجزء غيرُ محسوب عليه، ولا على مُعتقِه، فالكسب الذي تبقى للورثة، وهو محسوب على الورثة، والعتق يقلّ بقلّته، ويكثر بكثرته. ثم إذا قل العتقُ، قلّ الجزء التابع (2) من الكسب، وكثر ما تبقى للورثة، وإذا كثر حظُّهم لزم أن يكثر العتق، وإذا كثر العتق، كثر التابع من الكسب، وقل ما تبقى للورثة، وإذا قل ما في أيديهم، قل العتق، فيدور مقدار العتق بين القلّة والكثرة.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: والتابع.

هذا معنى الدور، فقلّتُه توجب كثرتَه، وكثرتُه، توجب قلّته، فينفصل الأمر بالحساب، وقد ذكر الحسّاب طرقاً ارتضَوْها في الدائِرات، أصلها الجبر، وطريقُه أن نقول: يعتق من العبد شيء ويتبعه من الكسب شيء؛ إذا [كسب] (1) مثله في القيمة، يبقى في يد الورثة عبدٌ إلا شيء، ويبقى في أيديهم من كسبه مقدار عبدٍ إلا شيئاً؛ فإن الكسب مقداره مقدار العبد، ففي أيديهم من طريق المثل عبدان إلا شيئين، والعبد شيء واحد، وما تبقى للورثة يجب أن يعدل ضعفَ العتق، فإن العتق يعتبر من الثلث، فإذاً عبدان إلا شيئين يعدل شيئين إذا كان العتق شيئاً، وقد ضعّفناه للمعادلة. وأما ما يتبع العتق، فلا يحسب في حساب [الجبر] (2)، فنجبر العبدين بشيئين، ونزيد على عديله شيئين، فيصير عبدان كاملان في مقابلة أربعة أشياء، فنقلب الاسم، ونجعل العبد أربعة والشيءَ اثنين، وإذا كان العبد أربعة، والشيءُ الذي أطلقناه اثنان، واثنان من أربعة نصفها، فقد بان أنه عَتَق من العبد نصفُه، ويتبعه نصفُ كسبه، فيبقى للورثة نصفُ رقبته، ونصف كسبه، وقد عَتَق مقدارُ خَمسين، والباقي في يد الورثة مقدار مائة، وما يتبع العتقَ من الكسب غير محسوب. 6926 - وذكر بعضُ الحسّاب مسلكاً آخر في الجبر، وقال: لو لم يكسب العبد، ولم يملك المريض غيرَه، لكان يعتِق ثلثُ العبد، ويرِق ثلثاه، وإذا كان له كسب كما صورناه، زاد العتق على الثلث، فنقول: نجعل تلك الزيادة شيئاً، ونطلق، فنقول: عَتَق من العبد ثلثُه وشيءٌ، ويتبعه من الكسب مثلُ ذلك، وهو ثلث عبد وشيء؛ لأن الكسب مثل الرقبة، فيبقى للورثة من الرقبة ثلثا عبد إلا شيئاً ومن الكسب مثل ذلك، وهو مثل ثلثي عبد إلا شيئاً، وإذا جمعنا ما في يد الورثة، كان مقدارَ عبدٍ وثلث إلا شيئاً، وعلمنا أن الذي حصل من الحرية مع ما يتبعه من الكسب مثلُ ما حصل للورثة، وإنما كان كذلك لأن العتق يقع ثلثاً من التركة، وإذا زدنا عليه مثلَه، كان مثل الباقي في يد الورثة، وقد يتبع العتقَ مثلُه من الكسب، فالعتق وما يتبعه من الكسب مثلُ ما في يد الورثة، فنجمع الجميع، ونقول: العتق وما يتبعه، وما بقي في يد الورثة مقدارُ

_ (1) في الأصل: كسبه. (2) زيادة من المحقق.

عبدين وثلثي عبد إلا أربعة أشياء، وذلك يعدل قيمة العبد والكسب، وهما عبدان، فنجبر ونقابل، ونقول: نجبر العبدين والثلثين بأربعة أشياء، ونزيد على عديلها أربعةَ أشياء، فيصير عبدان وثلثا عبد في مقابلة عبدين وأربعة أشياء، فنُسقط العبدين بالعبدين، فيبقى ثلثا عبد في مقابلة أربعة أشياء، فنعلم أن الشيء يقابل السدس، فنرجع، ونقول: عتق من العبد ثلثُه وشيء، وذلك الشيء سدس، وقد عتق من العبد [نصفه] (1)، ويتبعه من الكسب نصفه، وعاد الأمر إلى ما تقدم. 6927 - طريقة أخرى: تعرف بطريقة السهام، وهي أن نقول: نأخذ للحرية سهماً، ولما يتبعه من الكسب سهماً؛ لأن الكسب مثل قيمة الرقبة، ونأخذ للورثة ضعفَ ما أخذناه للحرية، وذلك سهمان، فيجتمع معنا أربعة أسهم، ثم قيمة العبد مائة، وقيمة الكسب مائة، فنقسمها على أربعة أسهم المأخوذة، فيخرج من القسمة خمسون، فهو قيمة ما عتق من العبد، وذلك نصفه. وباقي العمل كما ذكرنا. 6928 - طريق الدينار والدرهم: نجعل قيمةَ العبد ديناراً ودرهماً، فيكون كسبه أيضاً ديناراً ودرهماً؛ لأنه مثلُ الرقبة، ثم نُجيزُ العتقَ في درهم من الرقبة، ونُتبعه درهماً من الكسب، يبقى للورثة من الرقبة دينار، ومن الكسب دينار، فمعهم ديناران يعدلان درهمين؛ فإن العتق درهمٌ، وضعفهُ درهمان، وقيمة الدينار درهم، وكنا جعلنا العبد ديناراً ودرهماً، فالآن نجعله درهمين، ونجعل الكسب درهمين، فإذا أعتقنا من العبد درهماً، فقد أعتقنا من العبد نصفَه. وانتظم العمل كما مضى. وإن أحببتَ، قلتَ: عَتَق من العبد دينار، ويتبعه من الكسب دينار، فيبقى [من العبد] (2) والكسب درهمان يعدلان دينارين، فهو ضعف العتق، فقيمة كل دينار درهم، وعاد الأمر إلى ما مضى.

_ (1) في الأصل: " الكسب ". (2) ساقطة من الأصل.

6929 - وحساب المسألة بطريق الخطأين أن نجعل العبد ثلاثةَ أسهم والكسبَ كذلك، ونُجيز العتق في سهم من العبد، ويتبعه سهم من الكسب، يبقى للورثة سهمان من العبد وسهمان من الكسب، فيجتمع معهم أربعة أسهم، والعتق سهم واحد، وكان الواجب أن يكون معهم من جميع الوجوه سهمان، ضعف الذي عَتَق، فحصل الخطأ زائداً بسهمين، ثم نعود ونجعل العبد أربعة أسهم، والكسبَ كذلك، فنجبرُ العتق في سهم ونُتبعه من الكسب سهماً، يبقى مع الورثة ثلاثة أسهم من العبد، وثلاثة أسهم من الكسب، وكان الواجب أن يكون معهم سهمان؛ إذ العتق سهم واحد، وتابعه غير محسوب، فقد أخطأنا خطأً زائداً بأربعة أسهم، والخطآن زائدان، فيسقط أقلهما من أكثرهما يبقى سهمان، فاحفظهما، فالقسمة عليهما، ثم نضرب سهام العبد في المرة الأولى وهي ثلاثة في الخطأ الثاني، وهو أربعة، فيبلغ اثني عشر. ونضرب سهامَ العبد في المرة الثانية، وهي أربعة في الخطأ الأول وهو اثنان، فيبلغ ثمانية، فأسقط الثمانية من اثني عشر، فيبقى أربعة، فاقسمها على الاثنين المحفوظين معك، فيخرج من القسمة اثنان، فنعلم أنك يجب (1) أن تقسم على اثنين. ثم نعود، ونقول: قدرنا العتق سهماً في المرة الأولى، فنضربه في الخطأ الثاني، وهي أربعة، وقدرنا العتق سهماً أيضاً في المرة الثانية، فاضربه في الخطأ الأول، وهو اثنان، فأسقط أقل المبلغين من أكثرهما، يبقى سهمان، فاقسمهما. على السهمين المحفوظين معك في القسمة، فيخرج سهم واحد، فتعلم بذلك أن الوصية سهم واحد والرقبة سهمان، والواحد من الاثنين نصفها (2). 6930 - مسألة: إذا أعتق المريض عبداً قيمته مائة، فاكتسب مائتين بعد العتق، كما تقدم التصوير، فالحساب بطريق الجبر أن نقول: يعتِق من العبد شيء، ويتبعه من

_ (1) في الأصل: " فنعلم أنك والعبد يجب أن تقسم على اثنين ". (2) في الأصل: نصفه.

الكسب شيئان؛ لأن الكسب ضعف القيمة، يبقى [مع] (1) الورثة من الرقبة عبدٌ إلا شيء، ومن الكسب مقدارُ عبدين إلا شيئين، فيحصل معهم ثلاثة أعبد إلا ثلاثةَ أشياء، تعدل ضعف ما عتق من العبد وهو شيآن، فنجبر ما في يد الورثة [بثلاثة] (2) أشياء، ونزيد على العديل ثلاثة أشياء فيكون بعد الجبر والمقابلة ثلاثة أعبد تعدل خمسة، فاقلب العبارة في الجانبين، واجعل العبد خمسةَ أشياء، ِ والشيءَ ثلاثة، والثلاثة من الخمسة ثلاثة أخماسها، فقل: يعتق من العبد ثلاثةُ أخماسه، وتصح المسألة على الامتحان والسبر. ْطريقة الامتحان بالسهام: نأخذ للحرية سهماً واحداً، وللعتق من الكسب سهمين، وتأخذ للورثة ضعفَ ما أخذت للعتق، وضعفُ العتق سهمان، فتجتمع خمسةُ أسهم، فاحفظها، ثم اجمع العبد والكسب، فيكون [ثَلاثَ مائة] (3)، فاقسمها على الخمسة المحفوظة، فيخرج ستون سهماً، وهو قيمة ما يعتق من العبد، والستون من المائة ثلاثة أخماسها، فقد عتق من العبد ثلاثة أخماسه. 6931 - وطريقة الدينار والدرهم أن نجعل العبدَ ديناراً ودرهماً، ونجعل كسبه دينارين ودرهمين، ونجيز العتق من العبد بدرهم، ونتبعه من الكسب درهمين، فيبقى مع الورثة دينار من الرقبة، ودينار من الكسب، وما في أيديهم يعدل ضعف العتق، وضعفُ العتق درهمان، فثلاثة دنانير تعدل درهمين، فاجعل كلَّ دينار اثنين، وكلَّ درهم ثلاثة، بطريق قلب العبارة، ومجموع الرقبة دينار ودرهم، فهي إذاً خمسةُ أسهم، ولما قلنا: عَتَق منه [درهمٌ] (4)، فقد بان أنه عتق منه ثلاثة أسهم من خمسة أسهم، وهي ثلاثة أخماس العبد، كما تقدم. وإن أحببتَ، قلت: العبدُ دينار ودرهم، والكسب ديناران ودرهمان، فيعتِق من العبد دينار، ونُتبعه من الكسب دينارين؛ فإن الكسب ضعف الرقبة، فيبقى في يد

_ (1) في الأصل: من. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: ثمانية. (4) في الأصل: درهمين.

الورثة درهم من العبد ودرهمان من الكسب، وهذه الدراهم الثلاثة [تعدل] (1) ضعفَ العتق، وضعفُ العتق ديناران، فقيمة العبد [درهمان] (2) ونصف، فنعود ونقول: كنا جعلنا العبد ديناراً ودرهماً، ونحن نقول الآن: العبد درهمان ونصف، فنعتق منه قيمة الدينار، وهو درهم ونصف والدرهم والنصف من الدرهمين والنصف ثلاثةُ أخماس، فيعود العمل إلى ما تقدم من إعتاق ثلاثة أخماس العبد، ولا تخفى طريقة الخطأين. 6932 - مسألة: لو كسب العبد مثلَ نصف قيمته، فحساب المسألة بالجبر أن نقول: يعتِق من العبد شيء، ويتبعه من الكسب نصفُ شيء، يبقى من الرقبة للورثة عبدٌ إلا شيئاً، ومن الكسب نصفُ عبدٍ إلا نصفَ شيء، فالحاصل معهم عبد ونصف عبد إلا شيئاً [ونصف شيء] (3)، وذلك يعدل ضعف العتق، وهو شيئان، فنجبر ونقابل على الرسم المعروف، فيكون عبدٌ ونصف عبد يعدل ثلاثة أشياء ونصفَ شيء، فابسطهما أنصافاً، لتصير الأشياء سبعة، والعبد والنصف ثلاثة، ثم تقلب الاسم والعبارة، وقل: العبد سبعةٌ والشيء ثلاثة، والثلاثة من السبعة أشياء ثلاثة أسباعها، فيعتق منه ثلاثةُ أسباعه، ويستقيم علي العمل والامتحان. 6933 - طريقة السهام أن نأخذ للعتق سهماً، وللكسب نصفَ سهم، ونأخذَ للورثة سهمين ضعفَ العتق، فالمجموع ثلاثةُ أسهم ونصفٌ، وقيمةُ العبد والكسب، مائة وخمسون، فنبسط [الأسهم والقيمة أيضاً بالضرب في مخرج] (4) النصف، فتصير الرقبةُ [والكسب] (5) ثلاثمائة، والسهام سبعة، فإذا قسمنا الثلاثمائة على السبعة، خرج اثنان وأربعون سهماً وستةُ أسباع سهم، فذلك قيمة ما يعتق، وهو قيمة ثلاثة أسباعه.

_ (1) في الأصل: بعد. (2) في الأصل: درهم. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: فنبسط للاسم والنصف أيضاً فإنا نضرب في مخرج ... إلخ. (5) زيادة اقتضاها صحةُ الحساب.

6934 - وحساب المسألة بطريق الدينار والدرهم أن نجعل الرقبة ديناراً [ودرهماً، والكسب نصف دينار] (1) ونصف درهم، فإن أحببنا، قلنا: نعتِق من العبد ديناراً، ويتبعه من الكسب نصفُ دينار، فيبقى في يد الورثة من العبد درهم، ومن الكسب نصفُ درهم، وذلك يعدل ضعف العتق، وهو ديناران، فقيمة الدينار ثلاثة أرباع درهم. فنعود ونقول: كنا جعلنا العبد ديناراً ودرهماً، وهو الآن درهم وثلاثة أرباع درهم، فإذا بسطناها أرباعاً، صارت سبعة، فقيمة الدينار منها ثلاثة، فقد عتق من العبد ثلاثة أسباعه. وإن أردت، قلت: عتَق من العبد درهمٌ، ويتبعه من الكسب نصفُ درهم، يبقى للورثة من الرقبة دينار، ومن الكسب نصف دينار، وذلك يعدل ضعفَ ما عتق، وهو درهمان، فأضعف الدينار والنصف، فيكون ثلاثة دنانير، تعدل أربعة دراهم. هذا طريق البسط بالأنصاف، فاقلب الاسم فيكون الدينار أربعة والدراهم ثلاثة، وقد كانت الرقبة ديناراً ودرهماً، فهي سبعة وقد عتق ما يقابل الدرهم من السهام، وهو ثلاثة، وعاد إلى أنه عتَق منه ثلاثة أسباعه. 6935 - مسألة: قيمة العبد مائة وعشرة، والكسب مائتان وثلاثون، فالوجه أن نجعل العبد أحد عشر سهماً، كل عشرةٍ سهماً، فيكون الكسب ثلاثةً وعشرين سهماً، ثم اطلب النسبة، وهي أمُّ الحساب، فيكون الكسب مثلي الرقبة، ومثلَ جزءٍ من أحد عشر جزءاً منها. فنقول بعد ذلك: حساب العتق شيء (2)، ويتبعه من الكسب شيآن وجزءٌ من أحدَ عشرَ جزءاً من شيء، وبقي للورثة من الرقبة عبدٌ إلا شيء، ومن الكسب عبدان وجزء من أحدَ عشرَ جزءاً من عبد إلا شيئين وجزءاً من أحد عشر جزءاً من شيء، فجميع ذلك ثلاثةُ أعبد وجزءٌ من أحدَ عشرَ جزءاً من عبد إلا ثلاثةَ أشياء وجزءاً من أحدَ عشر جزءاً

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: حساب للعتق في شيء.

مسائل فيه إذا كان مع العتق والكسب تركة للسيد

من شيء، وذلك يعدل ضعفَ العتق وهو شيئان، فنجبر ونقابل، فيكون ثلاثةُ أعبد وجزءٌ من أحدَ عشرَ جزءاً من عبد، يعدل خمسة أشياء وجزءاً من أحدَ عشرَ جزءاً من شيء، فابسط جميع ذلك بأجزاء الأحدَ عشرَ، فيكون العبد أربعة وثلاثين، والشيء ستة وخمسين، فاقلب الاسم، فيكون العبد ستة وخمسين، والشيء أربعة وثلاثين، وإن أردت الاختصار أمكنك الرد إلى النصف، فالعبد ثمانية وعشرون والشيء سبعة عشرَ، فينفذ العتق في [سبعةَ عشر] (1) جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً من العبد. وإن أردت جمع الأجزاء، فقل عتَق من العبد أربعة أسباعه، وربع سبعه، وبيان ذلك واضح. وإن أردت الامتحان، قلت عتق من العبد سبعةَ عشرَ جزءاً، وبقي للورثة من رقبته أحدَ عشرَ جزءاً، [و] (2) من الكسب مثلاه ومثلُ جزء من أحدَ عشر جزءاً، وذلك ثلاثةٌ وعشرون جزءاً، فنزيده على الأحد عشر جزءاً من الرقبة، فيجتمع معهم أربعة وثلاثون جزءاً، وهو ضعف سبعةَ عشرَ جزءاً. مسائل فيه إذا كان مع العتق والكسب تركة للسيد 6936 - فنقول: إن كانت التركة ضعفَ قيمة العبد، استحقّ (3) جميعَ كسبه؛ فإنّ في يد الورثة ضعفُ القيمة، فإن كان التركةُ أقلَّ من ضعف [العبد] (4) دارت المسألة والمثال أن يكون قيمةُ العبد مائة دينار، وكسبه مائة، وخلّف السيد مائة دينار سوى العبد والكسب، فطريق الجبر أن نقول: يعتِق منه شيء ويتبعه من الكسب شيء، يبقى من رقبته للورثة عبد إلا شيئاً، ومن الكسب مثله، ومعهم من التركة مثل قيمة العبد،

_ (1) في الأصل: سبعة أجزاء. (2) (الواو) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: واستحق. (4) زيادة من المحقق.

فجميع ما معهم ثلاثة أعبد إلا شيئين، وذلك يعدل ضعفَ العتق، وهو شيئان، فنجبر ونقابل، فيكون ثلاثة أعبد تعدل أربعة أشياء، فنقلب العبارة في الجانبين، فيكون العبد أربعةً، والشيء ثلاثة، والثلاثة من الأربعة ثلاثة أرباعها. فهذا ما يعتق من العبد وتستمر [المسألة] (1) على سدادها. 6937 - طريقة السهام أن نأخذ للعتق سهماً، ولما يتبع العتقَ سهماً؛ فإن الكسب مثلُ القيمة، ونأخذ للورثة ضعفَ ما أُخذ للعتق، وذلك سهمان، فيجتمع ذلك كله، فيكون أربعة أسهم. فاحفظها. ثم اجمع الكسب، والتركة، وقيمة العبد، فيكون ثلاثمائة، فاقسمها على الأربعة المحفوظة، فتخرج حصةُ كل سهم خمسةً وسبعين، فهو قيمة ما يعتِق من العبد، وذلك ثلاثة أرباعه. 6938 - طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل العبد ديناراً ودرهماً، ونجعل كسبه ديناراً ودرهماً، ونجعل التركة كذلك ديناراً ودرهماً، نجبر العتق في درهم من العبد، ويتبعه درهمٌ من الكسب، يبقى للورثة من الرقبة دينار، ومن الكسب دينار، ومن التركة دينار ودرهم، فجميع ذلك ثلاثة دنانير ودرهم، تعدل ضعفَ ما عتق، وهو درهمان، فنطرح درهماً بدرهم، قصاصاً، تبقى ثلاثة دنانير، تعدل درهماً. فنقلب الاسم فيكون الدرهم ثلاثة والدينار واحد، ومجموعها أربعة، والثلاثة من الأربعة ثلاثة أرباعها، فعلمنا أنه يعتِق من العبد ثلاثة أرباعه. وإن أردنا، قلنا: يعتق من العبد دينار، ويتبعه من كسبه دينار، فيبقى في يد الورثة من العبد وكسبه درهمان، والتركة في أيديهم درهم ودينار، [فيكون جميع ما معهم دينار] (2) وثلاثة دراهم تعدل ضعفَ العتق، وهو ديناران، فنحطّ ديناراً بدينار، فيبقى ثلاثة دراهم في مقابلة دينار، فنعلم أن الدينار ثلاثة دراهم، ولما جعلنا العبد ديناراً ودرهماً، كان أربعةَ دراهم، فنعتق منه قيمةَ الدينار، وهو ثلاثة من أربعة.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ساقط من الأصل.

6939 - طريقة الخطأين: نجعل العبد ثلاثةَ أسهم، ونقول: نفذ العتق في سهم منه، وتبعه سهم من الكسب، يبقى للورثة من الرقبة سهمان، ومن الكسب سهمان، والتركة ثلاثة أسهم، فجميع ذلك سبعة أسهم والعتق سهم واحد، وكان يجب أن يبقى في يد الورثة سهمان ليكون ضعفَ العتق، فقد أخطأنا بخمسة أسهم زائدة. ثم اجعل سهام العبد إن شئت خمسةً، والعتق منها سهمين، إن أردت؛ فإن الخطأ لا ضبط فيه ويتبع العتقَ سهمان من الكسب، يبقى من الرقبة للورثة ثلاثة أسهم، ومن الكسب ثلاثة أسهم، والتركة خمسة أسهم، وجميع ذلك أحدَ عشرَ سهماً، [وكان] (1) الواجب أن يبقى مع الورثة أربعةُ أسهم، ضعف العتق، فوقع الخطأ سبعة أسهم زائدة، والخطآن زائدان، فاطرح أقلَّهما من أكثرهما، وكان الخطأ الأول خمسة، فإذا طُرحت من سبعة، بقي اثنان. ثم احفظها. ثم اضرب سهام العبد في المرة الأولى، وهي ثلاثة في الخطأ الثاني وهو سبعة، فيبلغ أحداً وعشرين، واضرب سهام العبد في المرة الثانية، وهي خمسة، في الخطأ الأول، وهو خمسة، فيكون خمسة وعشرين، فانقص أحداً وعشرين، يبقى أربعة، فاقسمها على الاثنين المحفوظين، فيخرج اثنان، فذلك سهام العبد، ثم اضرب سهم العتق في المرة الأولى، وهو واحد في الخطأ الثاني، وهو سبعة، فيكون سبعة، واضرب سهمَ العتق في المرة الثانية، وهو اثنان في الخطأ الأول، وهو خمسة، فيكون عشرة، ثم اطرح السبعة من العشرة، يبقى ثلاثة، فاقسمها على الاثنين المحفوظين، فيخرج واحد ونصف، فنقول: العبد اثنان، وقد عتق منه واحد ونصف، والواحد والنصف من الاثنين ثلاثة أرباعه، فقد عتق من العبد ثلاثة أرباعه. 6940 - مسألة: أعتق المريض عبداً قيمته مائة، واكتسب العبد ستين، وخلّف السيد عشرين. فهذه السهام كلها متفقة بنصف العُشْر، فردّ كل جنس منها إلى نصف عُشره؛ فيصير العبد خمسةً، والكسب ثلاثةً، والتركة واحداً، ثم نقول من طريق الجبر: عَتَق

_ (1) في الأصل: وكذلك.

مسائل في العتق مع الكسب وعلى السيد المعتق دين

من العبد شيء، وتبعه من الكسب ثلاثة أخماس شيء؛ فإن الكسب ثلاثة أخماس العبد. يبقى من الرقبة للورثة عبدٌ إلا شيئاً، ومن الكسب ثلاثة أخماس عبد إلا ثلاثة أخماس شيء، ومن التركة خمس عبد، وإذا جمعنا ذلك كله، كان عبداً وأربعة أخماس عبد إلا شيئاً، وثلاثة أخماس شيء. وذلك يعدل ضعف ما نفذ العتقُ فيه، وهو شيئان، فنجبر ما في يد الورثة بشيء [وثلاثة] (1) أخماس شيء، ونزيد على عديله مثله، فيصير عبد وأربعة أخماس عبد يعدل ثلاثة أشياء، وثلاثة أخماس. فنبسط الجميعَ أخماساً، فيصير ما في يد الورثة تسعة، وتصير الأشياء ثمانيةَ عشرَ شيئاً، فنقلب الاسمَ، ونجعل العبد ثمانيةَ عشرَ، والشيء تسعة، والشيء من العبد نصفه، إذا كان التسعة من الثمانيةَ عشرَ نصفُها. فيعتِق نصفُ العبد، وقيمتُه خمسون، ويأخذ نصف كسبه، وهو ثلاثون، يبقى للورثة خمسون من الرقبة وثلاثون من الكسب، وعشرون من التركة، فجميع ذلك مائة، والعتق خمسون. مسائل في العتق مع الكسب وعلى السيد المعتِق دينٌ 6941 - إذا أعتق في مرضه عبداً قيمته مائة دينار، لا مال له غيرُه، فاكتسب مائةَ دينار بعد الإعتاق، ثم مات السيد، وعليه مائتا دينار دينٌ، وطالب الغرماء بالدين، فلا ينفذ من العتق شيء؛ فإن الدين مقدمٌ على التبرع، وهو مستغرق لقيمة العبد والكسب، فيباع العبد، ويصرف ثمنه وكسبه إلى الدين. وإن أبرأه الغرماء عن الدين نفذ من العتق ما كان ينفذ لو لم يكن دين أصلاً. 6942 - وإن كان الدين على السيد مائة دينار، وقيمة العبد مائة والكسب مائة،

_ (1) في الأصل: وأربعة أخماس.

فطريق الجبر أن نقول: نفذ العتق في شيء من العبد، وتبعه من الكسب شيء، فبقي في يد الورثة عبدٌ إلا شيئاً، وبقي من كسبه مقدارُ عبد إلا شيئاً، فالمجموع عبدان إلا شيئان، فينقص بسبب الدين عبدٌ كامل؛ فإن الدين مائة، فيبقى في أيديهم عبد إلا شيئين يعدل ضعف العتق وهو شيآن، فنجبر ونقابل، فيبقى عبدٌ كامل، يعدل أربعةَ أشياء، فالعبد واحد، والأشياء أربعة، فنقلب العبارة، ونقول: العبد أربعة أسهم، والشيء واحد، فنعلم أن الذي عتق سهم من أربعة، وهو ربعُ العبد. والمسألة سديدة على الامتحان. 6943 - وطريق السهام: نأخذ للعتق سهماً، ولما يتبعه من الكسب سهماً ويأخذ الورثةُ ضعفَ ما أخذنا للعتق، وهو سهمان، فيكون الجميع أربعة أسهم، فنحفظها. ثم نجمع قيمة العبد والكسب، فيكون مائتين، فنطرح مقدار الدين، وهو مائة، يبقى منها مائة، نقسمها على السهام الأربعة، فيخص كل سهم ربعُ المائة، فنعلم أن السهم الذي أعتقناه ربعُ العبد، كما خرج بالعمل المقدّم. 6944 - طريق الدينار والدرهم: أن نجعل العبد ديناراً ودرهماً، والكسب ديناراً ودرهماً، ثم إن أحببنا، قلنا: عتَق من العبد درهمٌ وتبعه من الكسب درهم، فيبقى في يد الورثة ديناران، فنحط منه الدين، والدين دينار ودرهم؛ فإنه مثل الكسب، فنسقط ديناراً، ونُسقط من الدينار الآخر درهماً، فيبقى دينار إلا درهماً يَعدل ضعفَ العتق، وهو درهمان، فنجبر الدينار بدرهم، ونزيد على عديله درهماً، فيصير دينار يعدل ثلاثة دراهم، فالعبد أربعة، وقد أعتقنا منه واحداً، وهو ربعه، كما تقدم، وخرج بالعمل الأول. فإن أردنا قلنا: عتق من العبد دينار وتبعه من الكسب دينار، فيبقى في يد الورثة درهمان [فنحط منه الدين] (1) والدينُ دينار ودرهم، نُسقط درهماً للدين وديناراً من الدرهم الثاني، فيبقى درهم إلا ديناراً يعدل ضعفَ العتق، وهو ديناران، فنجبر ونقابل، فيصير درهم يعدل ثلاثة دنانير، فالدرهم واحدٌ والدينار ثلاثة، فنقلب الاسم

_ (1) زيادة من المحقق.

ونجعل الدينار واحداً والدرهم ثلاثة والعبد أربعة، والدينار الذي عتق منه ربعه. فتأمل. فقد نحتاج إلى قلب العبارة، وقد نستغني عنه، ولا يخفى دَرْكُ ذلك على الفطِن. 6945 - وحساب المسألة بطريق الخطأين أن نقدّر العبد ثلاثة أسهم [والكسب ثلاثة أسهم] (1)، ونجيز العتق في سهم، ويتبعه من الكسب سهمٌ لا محالة، فيبقى لا محالة من الرقبة والكسب أربعة أسهم، فنقضي الدينَ منها وهي ثلاثة أسهم، فيبقى سهمٌ واحد، وكان الواجب أن يبقى سهمان، فوقع الخطأ سهم واحد، وهو ناقص. ثم نعود فنجعل سهام العبد خمسة، [والكسب خمسة] (2)، فنعتِق سهمين منه، ونُتبعه من الكسب سهمين، فيبقى ستةُ أسهم في يد الورثة من الرقبة والكسب، فنقضي الدين منها خمسة أسهم، فيبقى سهم واحد، وكان الواجب أن يبقى أربعة أسهم ضعفَ العتق؛ فإن العتق قدرناه في سهمين، فوقع الخطأ بثلاثة أسهم، والخطأ ناقص أيضاً، وإذا كان الخطآن ناقصين، فنطرح الأقل من الأكثر، والخطأ الأقل واحد، فنطرحه من الثلاثة، فيبقى سهمان، فاحفظها، فالقسمة عليهما. ثم اضرب سهام العبد في المرة الأولى في الخطأ الثاني تصير تسعة، فاضرب سهامَ العبد في المرة الثانية في الخطأ الأول، فيرد خمسة، فألق أقل الجملتين من الأكثر، فيبقي من التسعة أربعة، فاقسمها على الاثنين المحفوظين فيخرج من القسمة سهمان، فهما سهام العبد. ثم عد واضرب سهام العتق في المرة الأولى وهو واحد في الخطأ الثاني وهو ثلاثة، فيكون ثلاثة. واضرب سهم العتق في المرة الثانية، وهو سهمان في الخطأ الأول وهو واحد، فيرد اثنين، فأسقط الأقل من الأكثر، فيبقى سهم واحد، فاقسمه على الاثنين، فيخرج نصف سهم، [فبان أنه يعتق منه نصف سهم] (3)، وهو ربع العبد كما خرج بالأعمال المقدمة.

_ (1) ساقط من الأصل. (2) زيادة من عمل المحقق. (3) في الأصل: تعتق منه سهمين ونصف سهم.

6946 - مسألة: قيمة العبد مائة، والكسب مائة وخمسون، وعلى السيد المعتق من الدين ستون. فنقول: يعتِق من العبد شيء، ويتبعه من الكسب شيءٌ ونصف؛ لأن الكسب مثلُ الرقبة ومثل نصفها، فيبقى في يد الورثة عبدٌ إلا شيء، ومن الكسب عبد ونصف إلا شيئاً ونصف شيء، فالمجموع عبدان ونصف إلا شيئين ونصفاً، فنقضي منه الدين وهو ستة أعشار عبد، يبقى عبد وتسعة أعشار عبد إلا شيئين ونصف، وذلك يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيكون عبد وتسعة أعشار عبد يعدل أربعة أشياء ونصف. فابسط الجميع أعشاراً، فيصير ما في يد الورثة [تسعةَ عشرَ] (1)، ويصير الأشياء خمسة وأربعين، فنقلب العبارة، فيصير العبد خمسة وأربعين، والشيء تسعة عشر، فنقول: عتق من العبد تسعةَ عشرَ جزءاً من خمسة وأربعين جزءاً من العبد، [فيبقى للورثة من العبد ستة وعشرون جزءاً من خمسة وأربعين] (2)، ويبقى لهم من الكسب مثلُها ومثل نصفها، وهو تسعة وثلاثون، والجميع خمسة وستون جزءاً وتكوِّنُ كلُّ خمسة وأربعين منها واحداً، فأسقط منها الدين، وذلك مثل ثلاثة أخماس الرقبة، وقد بان أن الرقبة خمسةٌ وأربعون، فثلاثة أخماسها [سبعة وعشرون] (3)، فنسقط ذلك من الخمسة والستين، تبقى ثمانية وثلاثون جزءاً من خمسة وأربعين جزءاً من واحد، وذلك ضعف التسعةَ عشرَ جزءاً. فهذا قياس الباب. 6947 - ومما يتعلق بذلك أنه إذا اجتمع العتق والكسب والتركة والدين على السيد، فالجواب سهلُ المُدرك، والوجه مقابلةُ التركة بالدين، فإن كانت التركة الزائدة على العبد والكسب مثلَ الدين في المقدار، فكأنه لا دين عليه ولا تركة، وإنما أعتق عبداً لا مالَ له غيره فاكتسب، وقد ذكرنا العمل في ذلك.

_ (1) في الأصل: تسعة أعشار. (2) ساقط من الأصل. (3) في الأصل: عشرون.

فإن كانت التركة أكثر من الدين فنُسقط من التركة مقدار الدين، ونجعل كأن في المسألة مع الكسب والعبد مقدارَ ما بقي من التركة، فنلحق ذلك بما إذا كان في المسألة تركة. وإن كانت التركة أقلّ من الدين، فنسقط من الدين [مثلَها] (1) ونجعل كأن المسألة فيها من الدين المقدارَ الباقي من الدين، وقد تقدم الطريق فيه. ولو لم يكن في المسألة كسب، ولكن جُني على العبد بعد العتق فأرش الجناية بمثابة الكسب. ولو لم يعتق العبدَ، ولكن وهبه من إنسانٍ، فأقبضه إياه، فاكتسب في يد المتّهب، فالكسب يبعض كما يبعض في العتق، فطريق العمل والبيان ما تقدّم؛ فإن المقدار الذي تصح الهبة فيه يتبعه من الكسب ما يتبع المقدار الذي يعتِق في مسألة العتق، ولا يكون ذلك المقدار محسوباً، ولكنه ملك الموهوب له، وما يتبع العتق ملك الشخص الذي يبعض العتق، والحساب في جميع ذلك على نسقٍ واحد. 6948 - مسألة في إعتاق العبد وكسبه بعد العتق، مع استقراض السيد منه: أعتق المريضُ عبداً قيمته مائة، واكتسب العبد بعد العتق وقبل الموت مائة، فاستقرض السيد منه المائة التي اكتسبها، وأتلفه (2) السيد. فالوجه أن نهجم على الحساب، ونذكر ما تقتضيه الفتوى، فنقول في طريق الجبر: عتَق من العبد شيء، واستحق من كسبه شيئاً، هو دينٌ على السيد، فيبقى مع الورثة عبدٌ إلا شيء، فنقضي منه الدين، وهو شيء، يبقى عبدٌ ناقصٌ شيئين، وذلك يعدل ضعفَ العتق، وهو شيئان، فنجبر ونقابل، فيبقى عبدٌ كاملٌ، يعدل أربعة أشياء. فنقلب الاسمَ، ونقول: العبد أربعة، والشيء واحد، وقد بان أنه عتَق منه على كل حالٍ ربعُه.

_ (1) زيادة من عمل المحقق. (2) أتلفه: أي القرض.

وتمام الفتوى يذكر بعد نجاز [المسألة] (1). 6949 - طريقة السهام: أن نقول: نأخذ [للعتق] (2) سهماً، ولما يتبعه من الكسب سهم، ونأخذ للورثة ضعفَ العتق سهمين، فالمجموع أربعة أسهم، [فنحفظ] (3) ذلك، ثم نأخذ العبدَ وحده؛ فإن كسبه قد أتلفه السيد، فنقسمه على الأربعة المحفوظة، فيعتق من العبد سهم من أربعة أسهم، وهو رُبعُه. 6950 - طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل العبدَ ديناراً ودرهماً، والكسبَ مثلَه ديناراً ودرهماً، ثم نُجيز العتق في درهم، يبقى مع الورثة من الرقبة دينار واحد، وعليهم دينٌ درهم، فاطرح الدرهم من الدينار، يبقى دينار إلا درهماً، [يعدل] (4) ضعف ما عتق منه، وذلك درهمان، فبعد الجبر والمقابلة يكون الدينار يعدل ثلاثة دراهم، فنقلب الاسم فيهما، فيكون الدينار ثلاثة، والدراهم واحداً، ومجموعهما أربعة، والواحد من أربعة رُبعُها، فيعتق ربعُه، كما خرج بالأعمال المتقدمة. هذا بيان الحساب. وبيان الفقه فيه أنا إذا حكمنا بعتق رُبعه، فله رُبع كسبه ديناً على السيد، ولم يخلّف هو شيئاً غيرَ الرقبة، فإن أدى الورثةُ الدينَ من سائر أموالهم، استمرّ لهم الرقُّ على ثلاثة أرباعه، وملك هو بربعه الحر ما سلّموه إليه، فإن أَبَوْا أن يؤدوا الدين من أموالهم، فلا بد من أداء دينه من التركة، ولا تركة إلا ثلاثة أرباع العبد، فإن لم يجدوا من يشتري منه شيئاً، وطلب العبد أن يسلموا إليه ربعَه بدينه، تعين عليهم ذلك. ثم إذا فعلوا هذا، عَتَق على العبد ربعٌ آخر. وإن وجدوا من يشتريه، وطلب هو أن يشتري نفسَه، فظاهر ما أورده الأستاذ أنه يتعين عليهم أن يبيعوا رُبعَه من نفسه؛ فإنه أولى بنفسه من غيره به، ولا غرض لهم في بيع ربعه من غيره.

_ (1) في الأصل: إكساب. (2) في الأصل: للمعتق. (3) في الأصل: فنحط. (4) في الأصل: "بعد".

وهذا إن ذكره في معرض الاستحباب، فهو قريب قليل [النَّزَل] (1)، فإن اعتقده واجباً، فخطأ؛ لأن الورثة مسلطون على أعيان التركة. وهذا بمثابة ما لو كان في التركة أبٌ، أو ابنٌ لبعض مستحق الدين، فلا يتعين على الورثة أن يصرفوا إليه [جزءاً] (2) بدينه، وإن كان طالبه راغباً فيه. هذا تمام الغرض فقهاً وحساباً. 6951 - مسألة: قيمة العبد مائة [وقد] (3) اكتسب بعد الإعتاق ثلاثمائة، فأتلف السيد من كسبه مائة، وبقي مع العبد مائتان، وخلّف السيد أيضاً مائتي دينار. فسبيل الحساب أن نقول: يعتق منه شيء، ويتبعه ثلاثة أمثاله، وهو ثلاثة أشياء، وللورثة باقي الرقبة وباقي الكسب مع المائتين التي خلفها السيد، وذلك خَمسُمائة إلا أربعة أشياء، تعدل شيئين، فإذا جبرنا وقابلنا، فتكون خَمسُمائة معادلةً لستة أشياء، فنقلب الاسم، فالشيء سدس الخَمسمائة، وذلك خمسة أسداس العبد، فقد عَتَق منه خمسةُ أسداسه، وتبعه خمسةُ أسداس [الكسب] (4) والباقي من كسبه مائتان، وخمسة أسداسه (5) مائة وستة وستون وثلثان، فنضم الباقي [من الكسب] (6) إلى التركة، وهو ثلاثة وثلاثون وثلث، والتركة مائتان، فتصير مائتين وثلاثة وثلاثين، فالمجموع مائتان وثلاثة وثلاثون وثلث، فنحط عنها خمسة أسداس المائة التي أتلفها السيد، وذلك ثلاثة وثمانون وثلث، فيبقى مائة وخمسون، ولهم من الرقبة سدسها، وذلك ستةَ عشرَ وثلثان، والمجموع مع هذا السدس مائة وستة وستون وثلثان، وذلك ضعف ما عتق من العبد. ولو أبرأ العبدُ سيده عن الدين، لعتق واستتبع جميع ما معه، ولكان العتق مائة

_ (1) في الأصل: الترك. ومعنى النزل: أي الفائدة. (المعجم). (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: وقت. (4) في الأصل: العبد. (5) أسداسه: أي الباقي. (6) زيادة للإيضاح من المحقق.

والتركة مائتين، فإذاً العبد بالخيار إن لم يبرىء، عتق خمسةُ أسداسه، وله خمسةُ أسداس الكسب، وهو مائتان وخمسون ديناراً، وإن أبرأ، عتق كلُّه، وله المائتان من كسبه. 6952 - مسألة في العتق والكسب وموت العبد المعتَق قبل موت السيد: فنقول: إذا أعتق المريض في مرضه عبداً، لا مال له غيره، فمات العبد بعد الإعتاق، ثم مات السيد، وما كان اكتسب العبد شيئاً، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم: مات ذلك المعتَق رقيقاً؛ لأن عطايا المريض من ثُلثه، وإنما ينفذ التبرع في الثلث إذا سَلِم للورثة الثلثان، ولم يسلم للورثة من الرقبة شي، فلا ينفذ من الوصية شيء. ومن أصحابنا من قال: مات المعتَق [حُرّاً] (1) والأمر [مثلُ] (2) الوصية، ولكن لما مات العبد، فقد بطل حقُّ الإرث فيه، ولم يُتلف المريضُ شيئاً هو محل حق الورثة، فصار كتبرعه في صحته. وأبعد بعضُ أصحابنا، فقال: مات وثلثه حر، وثلثاه رقيق. وهذا بعيدٌ لا أصل له. 6953 - فإن خلّف العبدُ مائتي درهم، وقيمته مائةُ درهم، ولم يخلّف إلا مولاه، مات حراً، وورثه السيد بالولاء، وحصل ذلك للورثة وهو مِثلا قيمته، فإنا إذا فرعنا على أنه يموت حراً، وإن لم يخلّف شيئاً، فلا كلام. وإن فرعنا على الوجه الثاني، فإنا نحكم بموته رقيقاً؛ لأن السيد لم يخلِّف شيئاً، فإذا خلف مثلي قيمته، فالعتق خارجٌ من ثُلثه. فإن ترك المعتِق مائةَ درهم، فإن قلنا: لو مات المعتَق، ولم يخلّف شيئاً، لمات عتيقاً، فلا إشكال أنه يموت حراً في هذه الصورة، ويرث مولاه المائة، فالمسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يكن له وارث.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: " قبل ".

فأما إذا فرعنا على أنه لو مات ولم يخلِّف شيئاً يموت رقيقاً، فإذا خلف مائة، فهذه المائة لا بد وأن يكون فيها للسيد حق على كل مذهب، وليس كالمقدار الذي يخلص لمن بعضه حر بالمهايأة والقسمة على الرق والحرية؛ فإنا قد نقول في قولٍ: إنه مصروف إلى بيت المال، وهذه المائة اكتسبها هذا المعتَق مطلقاً، وما خلصت له بقسمة ولا مهايأة، والتفريع على أنه لا يموت عتيقاً لو لم يخلّف شيئاً، والمائة ليست وافيةً في مقابلة عتق جميع [الرقبة] (1). فإن قلنا: من نصفه حر يرثه معتِقه، فالمائةُ ترجع إلى المولى، ويعتِق في مقابلها نصف العبد في هذا المنتهى الذي انتهينا إليه، ويكون نصفه على الرق في الموت. وإن قلنا: من نصفه حر لا يورث، فسبيل الحساب فيه أن نقول: عَتَق منه شيء، وتبعه من المائة شيء، والذي تبعه مصروفٌ إلى بيت المال، فيبقى مائةٌ ناقصةٌ شيئاً يَعدل ضعف العتق، وهو شيآن، وإذا جبرنا وقابلنا، صارت مائة تعدل ثلاثة أشياء، فالشيء ثلث المائة. وخرج منه أنه عَتَق منه ثلثُه ورقَّ منه ثلثاه، وبقي للسيد بحق الملك ثلثا كسبه، والباقي ضعف العتق. 6954 - فإن ترك العبد المعتَق مائتي درهم وترك بنتاً حرة ومولاه، فإن قلنا: إنه لو لم يخلّف شيئاً، لمات حرّاً، فلا شك أنه يموت هاهنا حرّاً والمائتان ميراثٌ بين البنت والمولى، للبنت النصف، والباقي للمولى. فإن قلنا: لو لم يخلّف شيئاً، لمات رقيقاً، فإذا خلف مائتين والبنتَ والمولى، فهذا نفرعه الآن على أن من بعضه حر هل يورث؟ فإن قلنا: إنه لا يورث، فالوجه أن نقول: عَتَق منه شيء، وتبعه من كسبه شيئان؛ فإن الكسب مثلا القيمة، ثم البنت ترث نصفَ الشيئين، وهو شيء، ويعود شيء إلى المولى بالإرث، وإذا رجع إلى المولى، رجع إلى الورثة، فنقول: إذاً لورثة السيد مائتا درهم إلا شيء يعدل شيئين، وهو ضعف العتق، فبعد الجبر والمقابلة يكون مائتي درهم تعدل ثلاثة أشياء،

_ (1) زيادة من المحقق.

فالشيء ثلث المائتين، فيقع [ثلثين للعبد] (1) لا محالة، وهو الذي عتق منه، وملك ثلثي كسبه، وذلك مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، فورثت البنت نصفها، وللمولى الباقي وهو ستة وستون وثلثان، ومات ثلثُه رقيقاً، فاستحق ثلث الكسب بحق الملك، فحصل مع ورثة السيد ثلثا كسبه، وهو ضعف ما عتق. هذا تفريع على أن من بعضه حر موروث. فأما إذا قلنا: لا يورث مَنْ بعضُه حر، فالجواب على هذا القول أن كلّه يموت حراً، وماله لمولاه لجهة الإرث، ولا ترثه البنت؛ فإنها لو ورثته، لنقصت حصةُ السيد من التركة، فلا يخرج العبد حينئذ من ثلثه، وإذا لم يخرج من ثلثه رَقّ بعضه، وإذا رق بعضُه، لم يورث، ولا ترثه البنت، ففي توريثها إبطال توريثها، وهذا من الدور الفقهي، وستأتي قواعدها ومسائِلها في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل. فإن قيل: صرفتم المائتين إلى المولى بأية جهة؟ قلنا: صرفناها إليه إرثاً، لا وجه غيره. فإن قيل: [لماذا] (2) ورثتم المولى، ولم تورثوا البنت، قلنا: [لأن] (3) في توريثها الدور المانع من التوريث، وليس في توريث المولى دورٌ، ومن حجبه الدور، فكأنه معدوم، وإن كان فيه معنى حاجباً. ولو ترك العبدُ أربعَمائة درهم، وخلف بنتاً والمولى، كما صورنا، فقد مات العبد حراً بكل حساب، والبنت ترثه مائتين؛ إذ ليس في توريثها تبعيض الرق والحرية، والمولى يأخذ مائتين ويخلفهما على ورثته، فيقع ضعفاً لقيمة العبد. 6955 - ولو ترك العبد مائتي درهم، وترك ابناً، فإن قلنا: إنه كان يموت حراً لو لم يخلّف شيئاً، فقد مات حراً، وما خلّفه لابنه. وإن قلنا: كان يموت رقيقاً لو لم يخلف شيئاً، فهذا نفرعه على أن مَنْ بعضُه حر

_ (1) في الأصل: ثلثي العبد. (2) في الأصل: إذا. (3) في الأصل: لا.

هل يورث؟ فإن قلنا: إنه يورث، فالوجه أن نقول: عتق من العبد شيء وتبعه شيئان يكونان لابنه، ولورثة السيد باقي كسبه إذا مات السيد، وهو مائتا درهم إلا شيئين، وذلك يعدل شيئين، وهو ضعف العتق، وبعد الجبر والمقابلة يعدل مائتان أربعةَ أشياء، فالشيء ربع المائتين، وهو خمسون، وهو نصف قيمة العبد، فقد عَتَق منه نصفُه، واستحق نصفَ كسبه، وهو مائة، نصرفها إلى ابنه، ولورثة السيد نصف كسبه بحق الملك، وهو مائة، والمائة ضعف العتق. وإن قلنا: مَنْ بعضُه رقيق لا يورث، فعلى هذا القول مات حراً، وكسبه كلُّه للسيد، ولا يرثه ابنه؛ لأنه لو ورثه، لم يخرج من الثلث، وإذا لم يخرج من الثلث، لم يرثه الابن، ففي توريثه إبطال توريثه، والمولى يأخذ كسبَه إرثاً، كما قررناه في مسألة البنت. 6956 - فإن كانت المسألة بحالها، فمات العبد، وخلّف ابناً كما صورنا، ثم مات الابن بعد العبد، ثم مات السيد ولا مال لهم غير المائتين التي اكتسبها العبد. فنقول: عتق العبدُ وورث ابنُه كسبَه كلَّه، ثم ورث السيد ذلك عن ابن العبد، فتحصل لورثة السيد مائتا درهم، ضعف قيمة العبد، ولا جرم؛ فإن المائتين في العاقبة إلى تبعيض الحرية، وإنما ينشأ الدور من أداء التوريث إلى التبعيض، مع التفريع على [أن] (1) المبعض لا يورث. ولو لم يخلّف العبد شيئاً وفرعنا على أنه يموت رقيقاً، فإن مات ولم يخلف [شيئاً] (2)، ثم مات ابنٌ له، وخلّف مائتي درهم، وترك مولَى أمِّه، ومولى أبيه، وهو معتِق العبد، فنقول: مات العبد حُرّاً، وورث السيد العبدَ، وحصل مع ورثته ضعف العتق من ميراث الابن، والغرض أن يخلف تركةً هي ضعف العتق، والأصل فيه أن العتق جرى، ونحن نُبقيه ما وجدنا إلى تبقيته سبيلاً، فنفوذه إذا وجدنا شيئاً مستمر، وإنما يندفع بمانعٍ، ومولى الأم محجوبٌ إذا أمكننا أن نورِّث مولى الأب؛ فإنه الذي يجر الولاء.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) سقطت من الأصل.

6957 - فلو كانت المسألة بحالها، ولكن لم يمت المعتَق، بل مات ابنُه، وخلّف ألف درهم وأكثر. أما هذا المعتَق، فلا يرث ابنَه، فإنه لو ورثه، لاستغرق ميراثَه، ولا يخلص إلى السيد شيء، ولم [يحصُل] (1) للسيد تركة، ولا لهذا المعتَق كسبٌ من تلقاء نفسه، وإذا لم يحصل لورثة المعتِق شيء، فلا يعتِق تمامُ العبد، وإذا لم يعتِق، لم يرث، فيؤدي إذاً توريثُه إلى إبطال توريثه، وإذا لم يرث هو ابنَه، ورثه السيد. ثم نحكم بأنه إذا خلّف ما ورثه لورثته، أو خلف منه مقدار ضعف قيمة العبد، فرجع الحكم بحرية العبد؛ فإنه قد بقي لورثة المعتِق ضعفُ ما نفذ العتقُ فيه، أو أضعافُه، فقد قطعنا ميراث الأب للدور الحكمي، وإفضائه إلى قطع الميراث من حيث يورث، ثم ورثنا السيد؛ فإنه أحق بميراثه بعد ما حجبنا المعتَقَ بالدور. ومن ضرورة توريثنا منه السيدَ المال الجمَّ الذي ذكرناه أن يقع الحكمُ بتمام حريته. فلو أن ابن العبد ترك مائة درهم مثلاً -والغرضُ تصوير تركته أقلَّ من ضعف قيمة العبد- والمسألة مفروضة فيه إذا لم يمت المعتَق قبل موت السيد، حتى لا يقع في الخلاف الذي تقدم في أنه لو مات ولم يخلف شيئاً، هل نحكم بحريته؟ فنقول في هذه المسألة: يعتِق من العبد شيء، وينجرّ من ولاءِ ولده بقدر ما عتَقَ منه، نورث السيد من المائة التي تركها ابنُ العبد شيئاً، وحصل لورثته باقي العبد، فنقول: إذا عتَقَ من العبد شيءٌ، لم (2) يرث ابنه بمقدار العتق، فإن من بعضه حر [لا يورث] (3)، وقد ذكرنا أن الابن لو خلف مالاً كثيراً، لم يرث العبدُ المعتَق، للدور الفقهي، فيخرج من ذلك أنه يعتِق من العبد شيء، وينجرّ مقدار من الولاءِ يرث السيد من مال الابن بقدره، فإن الابن حرٌّ كله، والولاء يورث بكماله وببعضه، ولذلك نورِّث شريكين في جرّ الولاء، فيبقى إذاً لورثته من العبد مائةٌ إلا شيء، ولهم الشيء الذي ورثه السيد من ابن العبد، فإذا ورثوا مائةً كاملةً، فإن الشيء العائد بالميراث،

_ (1) في الأصل: يصف. (2) في الأصل: ولم. (3) في الأصل: لا يرث.

مثلُ الشيء الناقص بالميراث؛ لأجل أنا صورنا قيمةَ العبد مائة، فالمائة تعدل ضعفَ العتق، وهو شيئان، والشيء نصف المائة، وهو خمسون درهماً، وذلك نصف قيمة العبد، فيعتق نصفه، وينجرّ نصفُ ولاء ولده، فيرث السيد نصفَ المائة التي تركها ابنُ العبد، فيحصل للورثة نصفُ العبد، ونصف المائة، وذلك ضعف ما عتَق من العبد. ولو ترك ابنُ العبد خمسين درهماً، عتَق من العبد [خُمساه، وجرّ خُمسي] (1) ولاء ولده إلى مولاه، فورث السيد خُمسي ما خلّفه ابنُ العبد وهو عشرون درهماً، فلورثة السيد ثلاثة أخماس العبد، وقيمتها ستون ولهم عشرون من التركة وهي خمساها، فيجتمع لهم ثمانون، وقد عتَقَ من العبد خمساه، وقيمة ما عتق أربعون. هذا مسلك هذه المسائل في الدور الحسابي والحكمي. مسائل في عتق العبيد والكسب منهم أو من بعضهم 6958 - إذا أعتق المريضُ عبيدَه أو عبيدَه وإماءه، لا مال له غيرهم، ثم مات من مرضه. فإن كان أعتقهم في كلمةٍ واحدة مثل أن يقول: أنتم أحرار، أو كل مملوك لي حر، فإنا نُقرع بينهم، حتى إذا كانوا ثلاثة والقِيَمُ متساوية، فإنا نُعتق بالقرعة واحداً، ونرِق اثنين، فإن عتق واحدٌ، وهو مقدار [ثُلُثه] (2) أو أعتق اثنين، وكانا مقدار [ثلثه] (2)، ثم أعتق من بقي، فإنا نبدأ بالأول؛ فإن بدايته أولى من خروج القرعة. وإن كان الذي أعتقه أكثر من ثُلثه عَتِق منه مقدارُ ثُلث المعتِق، ونفذ العتق من قيمته فيما يخرج من الثلث، ورق باقيه، ورق من سواه. وإن فضل من الثلث شيء، وكان أعتقهم ترتيباً، عتَق السابق، وعتق من الذي

_ (1) في الأصل: خمساً وجزء خمس. (2) في الأصل: ثلاثة.

يليه [باقي] (1) قيمة الثلث، ولا دور في هذه المسائل؛ فإنها مدارةٌ على الإقراع، أو على التقديم، وليس فيها تصوير كسبٍ، أو تصوير زيادةٍ في القيمة، أو نقصان. 6959 - فلو كان له عبدان قيمةُ كلِّ واحد منهما مائة، فأعتق أحدَهما واكتسب مائة، ثم أعتق الثاني، وقع الدَّورُ، لمكان الكسب. وحساب المسألة أن نقول: يعتِق من الأول شيء؛ فإنه بدأ به، ويتبعه من كسبه شيء غيرُ محسوب، وللورثة باقي التركة، وهو عبدان ومائة [إلا شيئين] (2). وإذا عبرنا عن الجميع قلنا: للورثة ثلاثة أعبد، أو ثلاثمائة إلا شيئين، فنجبر ونقابل، فتصير ثلاثمائة معادلة لأربعة أشياء، فالشيء ربعُ الثلاثمائة، وذلك مثل ثلاثة أرباع [العبد] (3)، وله ثلاثة أرباع كسبه، وللورثة ربعُه وربعُ كسبه مع العبد الآخر، وقد (4) عتَق ثلاثةُ أرباعه، فالباقي في يد الورثة ضعف [العِتق] (5). 6960 - فإن اكتسب الأول مائتي درهم، فطريق الجبر واضحة، فنقول: عتق منه شيء، وتبعه من كسبه شيآن، وللورثة باقي التركة وهو أربعمائة درهم، إلا ثلاثة أشياء، تعدل شيئين: ضعفَ العتق، فبعد الجبر تعدل أربعمائة كاملة خمسةَ أشياء، فالشيء خُمسُ الأربعمائة، وذلك أربعة أخماس العبد. 6961 - وإن لم يكتسب العبد الأول، ولكن اكتسب الثاني مائة، عتَق الأول وحده، والثاني مع كسبه للورثة. وإن اكتسب الثاني مائتين عتق الأول، وعتق من الثاني شيء، وتبعه من كسبه شيآن، يبقى [للورثة] (6) الثاني وكسبه: ثلاثة أعبد إلا ثلاثة أشياء، وذلك يعدل

_ (1) زيادة من المحقق. (2) سقط من الأصل، ولا يستقيم الكلام بدونه. (3) زيادة من المحقق. (4) عبارة الأصل: " مع العبد الآخر ونصف وقد عتق ... ". (5) في الأصل: العين. (6) في الأصل: لورثة.

ضعف العتق، والعتق عبدٌ وشيء، فما في يد الورثة يعدل [عبدين] (1) وشيئين، وإذا جبرنا الأعبد الثلاثة في يد الورثة [بالأشياء] (2)، وهي ثلاثة أشياء، وزدنا على عديلها مثلها، فيعدل ثلاثة أعبد عبدين وخمسة أشياء، ونلقي عبدين بعبدين قصاصاً، [يبقى] (3) عبدٌ واحد يعدل خمسة أشياء، فالشيء خُمسُ العبد، فيعتق من الثاني خُمسُه، وله خُمس كسبه، وجملة ما عتق، عبدٌ وخُمس، وقيمةُ ذلك مائة وعشرون، فللورثة أربعة أخماس العبد الثاني، وأربعة أخماس كسبه، وجميع ذلك مائتان وأربعون، وهو ضعف [ما عتق] (4). 6962 - فإن اكتسب كل واحد من العبدين مثلَ قيمته، وقد أعتق الأول، ثم الثاني، فنقول: عتق الأول، وتبعه كسبه، غيرَ محسوب عليه، وللورثة العبد الثاني وكسبُه، وهما ضعف قيمة الذي عتق. وإن اكتسب كلّ واحد منهما مائتين، عتق الأول، وله كسبه كلُّه، وعتَق من الثاني شيء، وله من كسبه شيآن، وللورثة الباقي من العبد الثاني والباقي من كسبه، وهو ثلاثمائة إلا ثلاثة أشياء، تعدل ضعفَ قيمةِ الأول وضعفَ ما عتق من الثاني، وذلك مائتا درهم وشيئان، وإن أحببت، قلت: مائتان وشيئان [تعدل ثلاثمائة إلا ثلاثة أشياء] (5)، وبعد الجبر والمقابلة وإسقاط المثل بالمثل تبقى مائة تعدل خمسة أشياء، فالشيء خُمس المائة، وهو الذي عتَق من العبد الثاني، وللورثة أربعة أخماسه وأربعة أخماس كسبه. 6963 - وكل ما ذكرناه فيه إذا قدم عتقَ البعض على البعض. فأما إذا قال لهم: أنتم أحرار، فإنه يقرع بينهم؛ فأيُّهم خرجت قرعتُه بالعتق، كأن المولى بدأ بإعتاقه، فيجري الحساب على ما تقدم.

_ (1) في الأصل: عشرين. (2) في الأصل: بالاستثناء. (3) في الأصل: بعد. (4) في الأصل: ما خرج. (5) زيادة من المحقق.

6964 - ولو أعتق في مرضه ثلاثة أعبد، واحداً بعد واحد، وقيمة كل واحد مائة، ولا كسب ولا مال غيرهم، عتَق الأولُ، ورقَّ الآخران. [فإن] (1) ترك مائةَ درهم، عتَق الأول، وثلثُ الثاني. وإن ترك مائتي درهم، عتَقَ الأول وثلثا الثاني، وإن ترك ثلاثمائة درهم، عَتَقَ الأول والثاني، وإن ترك أربعمائة، عَتَق الأول والثاني وثلثُ الثالث. وإن لم يخلّف شيئاً، ولكن اكتسب كل واحد منهم مائة عتق الأول، وله كسبه، وعتق نصف الثاني وله نصف كسبه، وللورثة نصفُه ونصف كسبه مع العبد الثالث وكسبه، وذلك ثلاثمائة وهي ضعف المائة والخمسين الخارجة بالعتق، وسبيل الحساب ما مضى. 6965 - وإذا أعتق أربعة أعبد في مرضه قيمةُ أحدهم مائة، وقيمة الثاني مائتان، وقيمة الثالث ثَلاثمائة، وقيمة الرابع أربعمائة، أعتقهم بكلمةٍ واحدة: من غير ترتيب، واكتسب كلُّ واحد منهم مثلَ قيمته في مرضه بعد العتق، قبل موت السيد، أُقرع بينهم، فإن خرجت القرعة على الذي قيمته أربعمائة، عتق، وله كسبه، واعتمدت القرعة بين الباقين، فإن خرجت القرعة على الذي قيمته مائة، عتق أيضاً وله كسبه، وقيمة هذين العبدين خَمسُمائة، فبقي للورثة الذي قيمته ثلاثمائة، والذي قيمته مائتان وكسبهما، وذلك كله ألف، وهو ضعف ما عتق. وإن خرجت القرعة الثانية على الذي قيمته مائتان عَتَق الأول، ونصفُ الثاني. وحسابه أن نقول: جاز العتق في شيء من الذي قيمته مائتان، وتبعه من كسبه مثلُه، وعتق الأول وقيمته ضعفُ قيمة هذا العبد الثاني، فكأن العتق جاز في عبدين [إلا شيئاً] (2)، ومع الورثة باقي الثاني وباقي كسبه، وعبدان آخران مع كسبهما، وجميع ذلك بالإضافة إلى العبد الذي قيمته مائتان مثل ستة أعبد إلا شيئين، وذلك يعدل ضعف ما جاز العتق فيه، وهو أربعة أعبد وأربعة أشياء، فبعد الجبر والمقابلة

_ (1) في الأصل: قال. (2) في الأصل: وشيء.

وإسقاط المثل بالمثل، يعدل عبدان أربعة أشياء، فاقلب الاسم فيهما، فيكون العبد أربعة والشيء اثنين، والاثنان من الأربعة نصفها، فهو الذي يعتق من الذي قيمته مائتان. وإن خرجت القرعة الثانية على الذي قيمته ثَلاثمائة، فحسابه أن نقول جاز العتق في شيء منه ومن الأول، فقد جاز العتق في أربعمائة وشيء، وبقي للورثة عبدٌ قيمته مائتان وكسبه مائتان، وعبد قيمته مائة وكسبه مائة، ومن الذي خرجت له القرعة الثانية ومن كسبه ستُّمائة إلا شيئين، وجميع ذلك ألف ومائتان إلا شيئين، يعدل ضعفَ ما جاز العتق فيه، وهو ثمانمائة وشيئان، فبعد الجبر والمقابلة، يكون أربعمائة تعدل أربعة أشياء، فالشيء رُبع الأربعمائة، وهو مائة، وبقي ثُلث العبد الذي قيمته ثَلاثمائة، فقد عتق منه ثُلثه. وإن أبدلت القرعة الأولى والثانية، لم يخف حسابها؛ فلم نذكره. ولو كان مكان العبيد في هذه المسائل إماء فحملن بعد العتق من نكاحٍ أو سفاح، وولدن قبل موت السيد أولاداً قيمتهم مثل اكتساب هؤلاء، كان حكم أولادهن حكمُ اكتساب العبيد. فإذا عتَقَت أمةٌ منهن، تبعها ولدُها، كما يتبعُ الكسبُ غيرَ محسوبٍ؛ فإنّ حَمْل الحرة حرٌّ، كما أن كسب الحرّ له. 6966 - مسألة: لو أعتق في مرضه عبدين، قيمة كلِّ واحد منهما مائة بكلمةٍ واحدةٍ، واكتسب كلّ واحد منهما مائة، فأتلف السيد كسبهما، ثم مات، أُقرع بينهما، فأيّهما خرجت له قرعةُ العتق عَتق نصفُه، واستحق نصفَ كسبه دَيْناً على السيد، فإن قضى الورثةُ له ذلك من أموالهم سَلِمَ لهم عبدٌ ونصفٌ، وإن لم يقضوا ذلك من مالهم، [بيع نصفُ] (1) هذا العبد المعتَقِ نصفُه، أو نصفُ العبد الآخر، وقُضي به [الدين] (2). وإن اختار هذا العبد أن يستوفي حقه من رقبته، قال الأستاذ: هو أحق به من المشتري، فيعتِق نصفُه الآخر.

_ (1) في الأصل: "تبع هذا العبد". والتصويب والزيادة من المحقق. (2) في الأصل: " ديناً ".

وهذا إن رآه [مستحباً، فهو قريب، وإن اعتقده واجباً، فهو] (1) غلط، كما تقدم نظيره؛ إذ لا حجر على الورثة في عين ما يبيعون، ولا احتكام عليهم في تعيين من يبيعون منه. وحساب المسألة أن نقول: عتَق منه شيء، وله مثل ذلك دينٌ على السيد، وبقي مع الورثة عبدان إلا شيء، نقضي منه الشيء الذي هو دين عليه، يبقى معهم عبدان إلا شيئين، وذلك يعدل شيئين، وبعد الجبر والمقابلة والعمل المعروف، يكون عبدان يعدلان أربعة [أشياء] (2)، فنقلب الاسم فيهما، فيكون العبد أربعة، والشيء اثنان، والاثنان من الأربعة نصفها، فقد عتق من العبد الذي خرجت قرعته نصفٌ. وإن أعتق أحدهما قبل الآخر، وأتلف كسبهما كما صورنا، عتق من الأول نصفه بلا قرعة، وكان كما لو خرجت القرعة عليه حيث يكون العتق بينهما. وعلى هذا فقس. مسائل في عتق الجواري ووطئهن وإحبالهن في المرض 6967 - إذا أعتق المريض جاريةً قيمتُها مائة، فوطئها رجل بشبهة، ومهرُ مثلها خمسون، فإن خرجت قيمتُها من الثلث عتَقَت، ولها مهرها، كما يكون لها كسبها، والمهر من كسبها. 6968 - وإن لم يكن للسيد غيرُها، نُظر، فإن كان الوطء بعد موت السيد، عتَق ثلثُها، ولها ثلث مهرها، وللورثة [ثلثاها] (3) وثلثا مهرها، ولا دور في ذلك؛ لأن المهر وجب وهي في غير ملك الميت، وكذلك يكون الكسب بعد الموت، وذلك أن الموت يقرِّر الوصيةَ في ثلث الرقبة، ولا مُستدرك، فلا تبيّن على خلاف ذلك.

_ (1) عبارة الأصل: وهذا إن رآه إنما غلط. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: ثلثها.

6969 - وإن كان الوطء قبل موت السيد وبعد عتقها، فسبيل الحساب أن نقول: عَتَق منها شيء، ولها من عُقرها نصف شيء من غير احتسابٍ عليها، وللورثة باقي الرقبة وباقي المهر، وذلك مائةٌ وخمسون درهماً إلا شيئاً ونصفَ شيء يعدل شيئين، فنجبر بالشيء والنصف ونزيد على العديل شيئاً ونصف شيء، ونبسط الجانبين أنصافاً فتصير المائة والخمسون ثلاثة، والأشياء سبعة، ثم نقلب الاسم، فالأمَةُ سبعة والشيء ثلاثة، فالثلاثة من السبعة ثلاثة أسباعها، فقد عَتَق منها ثلاثة أسباعها، ولها ثلاثة أسباع مهرها، وللورثة أربعة أسباعها، وأربعة أسباع مهرها، وهي مثل [سبعي] (1) رقبتها؛ فإن المهر مثلُ نصف القيمة، وستة أسباع الرقبة تقديراً ضعفُ ما عتق. فإن كان قد حبلت من الوطء، وولدت قبل موت السيد ولداً قيمته يوم سقط خمسون درهماً، فعلى الواطىء عُقرها، وعليه من قيمة الولد بقدر ما رق منها؛ فإن الواطىء بالشبهة إنما يغرَم ما يفوِّته من ملك الولد بسبب الشبهة، والقدر الذي يعتق منها [يكون ولدها، في ذلك القدر حرّاً] (2) من غير تقدير تفويت فيه. 6970 - ووجه الحساب أن نقول: عتق منها شيء، ومن ولدها نصفُ شيء غيرُ محسوب، ولها نصف شيء من عُقرها، وللورثة باقي الأمة وباقي المهر وباقي الولد، وجملة ذلك مائتان إلا شيئين، تعدل ضعف العتق وهو شيئان، فبعد الجبر، وقلب الاسم يكون الشيء نصفَ الأمة، فيعتق نصفُها ويتبعها نصفُ الولد حرّاً أصلياً، ولها نصف عُقرها على الواطىء، وللورثة نصفها، ونصف عُقرها، ونصف قيمة الولد يأخذونه من الواطىء؛ لأنه قد كان ينبغي أن يملكوا من ولد الأمة بقدر ملكهم فيها، فلما حكمنا بحرية الولد لأجل الشبهة، لزم ذلك المقدار من القيمة، فيجتمع للورثة مائة، وهي ضعف قيمة ما عتق. وإن قيل: هلا جعلتم قيمةَ الولد كالكسب حتى تُثبتوا للأمة قسطاً من القيمة التي

_ (1) في الأصل: سبع. (2) في الأصل: " يكون ولدها فذلك القدر جزءًا " وهو تصحيف.

التزمها الواطىء بالشبهة قياساً على العُقر والكسب؟ قلنا: قيمة الولد إنما يجب منها ما يجب لوقوع ذلك المقدار في مقدار الرق، وما يقع في مقابلة الرق، فهو حق مالك الرق لا حق فيه للحرية. 6971 - وهذا الذي ذكرناه فيه إذا أتت بالولد بعد العتق قبل موت السيد. فأما إذا أتت بالولد بعد موت المولى لزمانٍ يُعلم أن العلوق به وقع بعد الموت، فالوطء جرى بعد الموت؛ إذاً فما يغرَمه الواطىء من العُقر وقيمة الولد لا يحتسب من التركة، فإن التركة ما جرى فيها ملكُ الميت وخلّفه، وإذا لم نحسبه من التركة، لم يُنظر إلى العُقر وإلى قيمة بعض الولد في الحساب الذي نحسبه، بل نقول: أعتق المريض أمةً، لا مال له غيرُها، فيعتِق ثلثُها ويرق ثلثاها، ثم يقسم العُقر بعد الموت على الحرية والعتق، فكذلك القول في الولد، فالثلث منه حر لمكان حرية الثلث، وليس فيه تفويتُ رقٍّ، ويجب قيمة ثلثي الولد للورثة في مقابلة حقهم في ثلثيها. وإن أتت بالولد بعد الموت لزمانٍ يُعلم أن العلوق به كان في حياة المولى، فهو كما لو أتت بالولد في حياة المولى؛ فإن حكم الولد يستند إلى حالة العلوق. وإن أتت بالولد لزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به في حياة المولى، ويحتمل أن يكون العلوق به بعد موته، فللأصحاب تردّد في مثل ذلك، لسنا نوضحه الآن، وسيأتي ذكره مشروحاً في الوصية للحمل والوصية بالحمل، إن شاء الله عز وجل. وقد ذكر الأستاذ طرفاً من هذا مثبّجاً (1) مختلطاً، ونحن أتينا بما أتينا به تنبيهاً على هذا الأصل، وأحلنا شرحه على فقه الوصايا. 6972 - ومما يتعلق بفقه الباب أن الواطىء لو كان معسراً، فلم يجد وفاءً بالعُقر ولا ما يلزم من قيمة الولد، فلا يُنجَّزُ من عتق الجارية إلا الثلث، كما لو ورد التَّوى على ما [قدّمه] (2) الواطىء بالشبهة، فنجعل كأنه لم يكن، ولا نحسب على الورثة عُقراً ولا قيمة.

_ (1) مثبّجاً: أي مختلطاً معمّىً، يقال: ثبج الرجل الكلام والخط ثبجاً إذا عماهما ولم يبينهما. (المعجم). (2) مكان كلمة غير مقروءة. (انظر صورتها).

فإذا حملنا الأمر على ذلك، وأعتقنا ثلث الجارية، وأوقفنا ثلثيها، وتمادى على ذلك زمنٌ، والمهايأةُ في العمل بنسبة الثلث والثلثين، فلو أيسر الواطىء، وأدى ما عليه، فنزيد في العتق على الحساب الذي تقتضيه الزيادة؛ فإنّ ما يؤدّيه الواطىء إلى الورثة يزيد في التركة، والزيادة في التركة تقتضي الزيادة في العتق. ثم إذا زدنا في العتق، فليس ذلك إنشاءً، وإنما هو تبيّنٌ، وعلى التبين تبتني [المسائل] (1) الدائرة في العتق، وإذا نفذ العتق في الزيادة، تبيُّناً، فالذي نص عليه الشافعي، وقطع به الأصحاب أن الجارية تسترد بمقدار ما زاد في العتق من كسبها؛ فإنا تبيّنا أن الورثة أخذوا من كسب الحرية شيئاً، ويلزمهم ردّه. وحكى الأستاذ عن ابن سريج وجهاً أن حكم ذلك الظاهر لا ينقض. وهذا لا يعدُّه فقيهٌ من المذهب، وإنما [جرّدتُ] (2) الغرض لذكره لأني تصفحت مسائل كتابه في الوصايا، واعتمدت طرقَه الحسابية، فأردت التنبيه على مواقع الخلل في الفقه. مسائل في العتق مع النقصان من القيمة أو مع الزيادة 6973 - فلتقع البداية بالزيادة، فإذا أعتق الرجل عبداً، فزادت قيمته، وبقيت الزيادة حتى مات المولى، فالزيادة محسوبة على الورثة من التركة، وليست زيادة القيمة [معتداً] (3) بها في المقدار الذي يعتِق من العبد؛ فإن العتق يستند إلى يوم الإعتاق، وما يفرض من زيادة لا أثر لها فيما يعتق؛ فإن الحر ليس بذي قيمة فيرتفع أو ينخفض، ويرتفع العمل والحساب في القيمة الزائدة على المناسبة المتقدمة في الكسب، ولكنا نفرد هذا الباب بمسائِله حتى لا يخلو الكتاب عن صنف من الأصناف.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: معتمداً.

6974 - مسألة: إذا أعتق عبداً قيمته [مائة] (1) دينار، فبلغت قيمته قبل الموت مائتي دينار، وبقيت القيمة زائدة إلى موت المولى. فطريق الحساب، بعد التنبيه على الفقه والفتوى أن نقول: عتق من العبد شيء وتبعه من زيادة القيمة مثلُه -على النسق الذي ذكرناه في الكسب- فبقي في يد الورثة مائتا دينار إلا شيئين يعدل ضعفَ العتق، وهو شيئان، فنجبر ونقابل، فيصير مائتان في مقابلة أربعة أشياء، فنعلم أن قيمة كل شيءٍ خمسون، فنرجع ونقول: عتق من رقبة العبد ما قيمته خمسون، وهو نصف العبد؛ فإن الاعتبار في العتق بقيمة يوم العتق، وإذا عتق نصفه، فقد سقط من القيمة مائة دينار، على حساب المائتين، غيرَ أن المحسوب منها خمسون، والزيادة غيرُ معتدٍّ بها، والباقي في يد الورثة مائة، والعتق خمسون. وحساب المسألة بطريق السهام أن نأخذ للحرية سهماً، ولما يتبعه من الزيادة سهماً، وللورثة ضعفُ ما للحرية، فالمجموع أربعة أسهم، فنقسم عليها قيمةَ يوم الموت، وهو مائتان، فسهم العتق إذاً خمسون. وطريق الدينار والدرهم تجري في هذه المسألة جريانها في مسألة الكسب من غير مزيد. 6975 - فإن كانت قيمة العبد يومَ العتق ثلاثمائة، فزادت قيمته، فكان يوم موت المولى يساوي سبعَمائة، فنقول: عَتَق منه شيء، وهو محسوب عليه بثلاثة أسباع شيء، وبقي مع الورثة عبدٌ إلا شيء يعدل ضعفَ المحسوب على العبد، وذلك ستة أسباع شيء، فنجبر ما في يد الورثة بشيء ونزيد على عديله مثلَه، فالعبد التام يعدل شيئاً وستة أسباع شيء، فنبسط الجميع أسباعاً فيصير العبد سبعة والشيء والستة الأسباع ثلاثةَ عشرَ، ثم نقلب الاسم، فنجعل العبد ثلاثةَ عشرَ، والشيء سبعة، فنعتق منه سبعة أجزاء من ثلاثةَ عشرَ جزءاً منه، وهي محسوبة عليه بثلاثة أسباعها. والفاضل من ذلك غيرُ محسوبٍ على العتق.

_ (1) زيادة من المحقق.

وإذا كان المحسوب ثلاثة أجزاء، [فقد] (1) بقي مع الورثة ستة أجزاء من ثلاثةَ عشرَ جزءاً من الرقبة وهو ضعف الثلاثة الأجزاء المحسوبة من العبد. الحساب في المسألة بطريق السهام: أن نأخذ للحرية سهماً ويتبعه (2) من الزيادة مثله ومثل ثلثه، وذلك سهمٌ وثلث سهم، وللورثة ضعف ما للحرية، وذلك سهمان فالجميع أربعة أسهم وثلث، فاقسم عليها قيمة يوم الموت، وهو سبعمائة. ووجه القسمة أن نبسط السهام أثلاثاً، فتكون ثلاثةَ عشرَ، ونبسط السبعَمائة أثلاثاً بالضرب في مخرج الثلث فيبلغ ألفين ومائة، نقسمها على ثلاثة عشر، فما يخرج من القسمة نصيباً للواحد فهو قيمة ما يعتق من العبد. طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل قيمته في الأصل ديناراً ودرهماً، وقد زاد في القيمة مثلُها ومثلُ ثلثها، فبلغت القيمة يوم الموت دينارين وثلثَ دينار ودرهمين وثلث (3) درهم، وقد نفذ العتق في درهم ويتبعه درهمٌ وثلث، ومع الورثة ديناران وثلث دينار يعدل ضعفَ ما جاز العتق فيه، وهو درهمان، ولا يحسب ما تبع العتق. فنبسطهما أثلاثاً فيكون الديناران [والثلث] (4) سبعة، والدرهمان [ستة] (5)، فنقلب الاسم فيهما، فيكون الدينار ستة والدرهم سبعة، ومجموعهما ثلاثة عشر، وهي سهام العبد؛ لأنا جعلناه ديناراً ودرهماً، والدرهم منها سبعة أجزاء من ثلاثةَ عشرَ، وهي مقدار ما عَتَقَ. هذا قياس الباب. 6976 - مسألة: في نقصان القيمة بعد العتق. أعتق المريض عبداً قيمته مائة، فنقص من قيمته قبل موت السيد خمسون، وبقي نقصان [القيمة] (6) إلى الموت.

_ (1) في الأصل: وقد. (2) في الأصل: ولا يتبعه. (3) في الأصل: ودرهمين من ثلث درهم. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: سبعة. (6) زيادة من المحقق.

فنذكر الحسابَ، ونبدأ بالجبر، ونقول: نفذ العتق في شيء من العبد، وهو محسوب عليه بشيئين، وبطل في باقيه، فهو عبد إلا شيء يعدل ضعف ما حُسب على العبد، وهو أربعة أشياء، فنجبر العبد بشيء، ونزيد على عديله مثلَه، فالأشياء خمسة والعبد واحد، فنقلب الاسمَ، ونقول: العبد خمسة، والشيء واحد، وقد تبيّن أنه عَتَق من العبد خُمسه، وقيمته يوم العتق عشرون، وبقي للورثة أربعة أخماسه، وقيمتها يوم الموت أربعون، وهي ضعف العشرين المحسوبة على العبد، ووجه ذلك أنا لا نحسب على الورثة إلا التركة، والاعتبار في التركة بيوم الموت، فتعين هذا الاعتبار في حقوقهم. ثم نرجع إلى العتق، ونقول: نعتبر ما فات بالعتق يوم العتق؛ فإن ما يفرض من التغايير بعد العتق لا يؤثر فيما عتَقَ، والذي يحقق ذلك أن القيمة لو زادت، لم يحسب على المعتَق، وهو المقدار الذي نُتبعه العتق، فكذلك النقصان لا يوجب حطّاً من العتق، وهو المقدار الذي نُتبعه العتق، فكذلك النقصان لا يوجب حطّاً من العتق، وكان هذا في التقدير بمثابة استيفاء مقدارٍ من العتق، وما وقع مستوفىً يحسب لا محالة، وهذا هيّن على المتأمل. وحساب المسألة بطريق السهام أن نأخذ للعتق سهماً محسوباً على العبد بسهمين، ونأخذ للورثة ضعفَ ما حسب على العبد، وذلك أربعة أسهم، فالجملة خمسة أسهم، فنقسم عليها قيمةَ يوم الموت، وهو خمسون، فيخرج من القسمة عشرة، وهي قيمة يوم الموت، فنقول: يعتق منه خُمسه، كما خرج بالعمل الأول. وحساب المسألة بالدينار والدرهم: أن نجعل قيمة يوم الموت ديناراً ودرهماً، ونجيز العتق في درهم منه محسوب على العبد بدرهمين، يبقى للورثة دينار [يعدل] (1) ضعفَ المحسوب على العبد، وهو أربعة دراهم، فالدينار يعدل أربعة دراهم وأحداً، ومجموعها خمسة، ولا حاجة إلى القلب في هذا المقام، وقد بان أن الدرهم من الخمسة خُمسها، فنقول: يعتِق من العبد خُمسُه، فإن كانت قيمته مائتي

_ (1) في الأصل: بعد.

دينار يوم العتق (1)، فرجعت بالنقصان إلى مائةٍ وعشرين، فنقول: عتق منه شيء محسوب عليه بمثله، ومثل ثلثيه، فإن الناقص من [المائتين] (2) ثمانون، والثمانون ثلثا مائةٍ وعشرين، فالشيء إذاً محسوب بشيء وثلثي شيء، ونطلق فنقول: بقي مع الورثة عبدٌ إلا شيء يعدل ضعف المحسوب، وهو ثلاثة أشياء وثلث، وإذا جبرنا، وقابلنا، فالعبد يعدل أربعة أشياء وثلث، فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الإسم فيهما فيكون العبد ثلاثةَ عشرَ والشيء ثلاثة، فيعتق منه ثلاثة أجزاء من ثلاثة عشر جزءاً، وهي محسوبة عليه بمثلها ومثل ثلثيها، وذلك خمسة أجزاء، وبقي مع الورثة عشرة أجزاء من ثلاثةَ عشرَ جزءاً من الرقبة، وهي ضعف الخمسة الأجزاء المحسوبة. هذا قياس الباب. 6977 - مسألة: إذا وقع مع العتق زيادةٌ من وجهٍ ونقصانٌ من وجه، وذلك مثل أن يعتِق عبداً قيمته مائتان، فينقص من قيمته مائة بالسوق، ثم تعلّم صنعة زادت بها قيمته بخمسين، فالوجه أن يُقابَل النقصانُ بمقدار الزيادة، فيعود الأمر إلى أنه نقص من قيمته خمسون، وتحسب المسألة على قياس نقصان الخمسين، فنقول: جاز العتق في شيء محسوب على العبد بشيءٍ وثلث، وبطل في باقيه، فهو عبدٌ إلا شيء يعدل ضعف ما حسب على العبد وهو شيئان وثلثا شيء، فنجبر ونقابل، ونقلب الاسم ونبسط الجانبين أثلاثاً، فيكون العبد أحدَ عشرَ، والشيء ثلاثة؛ فيعتِق منه ثلاثةُ أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من العبد، وهي محسوبة عليه بأربعة أجزاء، وبقي مع الورثة ثمانية أجزاء، وهي ضعف الأربعة الأجزاء المحسوبة على العبد. 6978 - مسألة: في العتق مع الزيادة على القيمة والكسب. سبيل هذا الباب أن نجعل الزيادة في القيمة جزءاً من الكسب، وتزاد على الكسب المستفاد، ونضع الحساب على ذلك المبلغ، فإذا أعتق المريض عبداً قيمته مائة، فزادت قيمته حتى بلغت مائتين، واكتسب مائة، فتصير الزيادة مع الكسب، كأنه اكتسب مائتين.

_ (1) عبارة الأصل: فإن كانت قيمته مائتي دينار بعد العتق يوم العتق ... إلخ. (2) في الأصل: "الثمانين".

والعمل فيه أن نقول: عتَقَ منه شيء وتبعه من الكسب والزيادة شيئان، وبقي مع الورثة من أصل الرقبة زيادتُها وكسبها: ثلاثة أعبد إلا ثلاثة أشياء تعدل شيئين ضعفَ العتق، فبعد الجبر وقلب الاسم يكون العبد خمسةً، والشيء ثلاثة، فيعتق ثلاثة أخماسه، ثم المسألة تجرى سدادها في طريق الحساب. 6979 - مسألة: في العتق مع النقصان والكسب. فإذا أعتق في مرضه عبداً قيمته مائة، واكتسب مائة، ونقصت من قيمته خمسون، فنحط النقصان من الزيادة، فيعود الأمر كأنه اكتسب خمسين، ولم ينقص شيء، فيكون الكسب مثل نصف القيمة، والعمل فيه أن يقول: عتق منه شيء، وتبعه من كسبه نصفُ شيء، وقد ذكرنا هذا في المسالك المتقدمة، فلا معنى للإعادة. 6980 - مسألة: مشتملة على العتق والنقص والتركة والكسب والدين. الأصل في هذه المسألة أن نقابل التركة بالدين، فإن استويا، فكأنه لا دين ولا تركة [وإن زاد أحدهما] (1) على الآخر، فمقدار الفضل كأنه هو الحاصل من غير مقابلة، وكذلك نقابل الزيادة بالنقصان، فإن استويا، فكأنه لا زيادة ولا نقصان، وإن زاد أحدهما على الثاني، اعتبرنا ذلك المقدار الفاضل، وبنينا المسألة عليه. المثال: مريض أعتق عبداً قيمته مائة، واكتسب مائة، ونقصت قيمته إلى خمسين، وتعلّم صنعة، زادت في قيمته خمسين، وترك السيد مائة، وعليه دين خمسين، فالسبيل فيه ما قدمنا من التقابل بين النفي والإثبات والزيادة والنقصان، وننظر إلى ما بقي من كل نوع، ونخرّج المسألة عليه، وما أراها تغمض بعد ما كررنا الطرق وأوضحنا سبيل إجرائها في المختلفات. وقد نجز ما حاولنا مبسوطاً مشروحاً في دَوْر المسائل المتعلقة بالعتق، ولا يخفى على من أحاط بما ذكرناه، واستعان بالدُّربة (2) ما يورد عليه من صور المسائل.

_ (1) عبارة الأصل: وإنهما زاد على الآخر. (2) عبارة الأصل: "واستعان بالدربة على ما يورد عليه من صور المسائل".

القول في المسائل الدائرة في الهبات وما يتعلق بها

القول في المسائل الدائرة في الهبات وما يتعلق بها 6981 - مسائل فيه إذا وهب المريض عيناً، فعادت إليه تلك العين. مسألة: إذا وهب المريض عبداً من مريض وأقبضه إياه، فوهبه الموهوب له من الواهب الأول، وسلمه إليه، فماتا وما كان لواحد منهما مال إلا ذلك العبد، فلا شك أن المسألة تدور؛ من جهة أن الموهوب إذا رجع كلّه أو بعضه إلى الأول، زاد ثلثه؛ فتزيد هبته، ثم تدور هكذا، حتى يقطعه مسلك الحساب. فطريق الجبر أن نقول: صحَّت الهبة من الأول في شيء من العبد، فبقي عبد إلا شيء، وصحت هبة الثاني في ثلث ذلك الشيء، فيرجع إلى الأول إذاً ثُلث شيء، فيحصل معه عبد إلا ثلثي شيء، وذلك ضعف ما صحت الهبة الأولى منه، وهي شيء، [وضعفه شيئان، فنقول: معنا في الآخر عبد إلا ثلثي شيء] (1)، يعدل شيئين، فنجبر العبد بثلثي شيء ونزيد على عديله ثلثي شيء، فيصير عبد كامل في معادلة شيئين وثلثي شيء، فنبسطهما أثلاثاً ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد ثمانية والشيء ثلاثة، فقد صحت الهبة في ثلاثة أثمان العبد أولاً، وبطلت في خمسة أثمان. وتصح الهبة الثانية في ثلث ثلاثة أثمان، وهو ثمنٌ واحد، فيجتمع مع ورثة الأول ستة أثمان، وهو ضعف ما صحت هبته فيه، ويستقر في يد المريض الثاني ثمنان، وقد صحت هبته في ثمن، [فاعتدلت] (2) التبرعات ثلثاً وثلثين. طريقة السهام: أن نطلب عدداً له ثلث ولثلثه ثلث؛ لوقوع الوصيتين على هذه النسبة، وأقل ذلك تسعة، فنقول: صحت الهبة في ثلاثة منها، ويرجع من الثلاثة سهم إلى الواهب الأول، وهذا سهم الدور، فنقطعه ونُسقطه من البين، ونرد التسعة إلى ثمانية، ونقول: صحت هبة الأول في ثلاثة من ثمانية، ورجع منها سهم، واستمر العمل الأول.

_ (1) عبارة الأصل: "وضعفه، فنقول: شيئان ومعنا من الآخر عبد إلا ثلثي شيء" والتعديل بالتقديم والتأخير والحذف من عمل المحقق. (2) في الأصل: "فاعدل".

طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل العبد ديناراً ودرهماً، ونجيز الهبة في درهم منه، يبقى دينار، ويرجع بهبة الثاني ثلثُ درهم، فيحصل مع الأول دينار وثلث درهم، وهذا يعدل درهمين، فنطرح ثلث درهم بثلث درهم قصاصاً، يبقى دينار يعدل درهماً وثلثي درهم، فابسطهما أثلاثاً فيصير الدينار ثلاثة، والدرهم والثلثان خمسة، فنقلب الاسم ونجعل الدينار خمسة، والدرهم في الوضع الأول ثُلُثة (1)، وقد صحت الهبة في درهم وهو ثلاثة من ثمانية، ويعود العمل إلى ما تقدم. والسرّ المرعيُّ في الباب أنا لا نعبر عما صحت الهبة الأولى فيه إلا بالشيء المبهم، ونعبر عما تصح الهبة الثانية فيه بالثلث، والسبب فيه أنه يدور إلى الواهب شيء بعد هبته، فاستبهم لذلك مقدار تبرعه إلى أن يُثبته الجبر، وليس يرجع إلى الواهب الثاني شيء، فاستمر فيه لفظ الجزءِ، وخرجت المسألة على النظم الذي تقدم. 6982 - مسألة: ما قدمناه فيه إذا كان الواهب الأول والثاني مريضين. فأما إذا كان الواهب الثاني وهو المتهب من الأول صحيحاً، والمسألة تدور على الأول من جهة العود إليه، والمال يريد بالعود بعد النقصان بالهبة، فالوجه أن نقول: صحت هبة الأول في شيء من العبد، فبقي عبدٌ إلا شيئاً، وبطلت الهبة في عبدٍ إلا شيئاً، ثم رجع ذلك الشيء الموهوب كلُّه بهبة الثاني؛ فحصل مع ورثة الأول عبدٌ كاملٌ يعدل شيئين ضعفَ ما صحت الهبة فيه، فنقلب الاسم ونجعل العبد شيئين والشيءَ واحداً، والواحد من الاثنين نصفُه، فقد صحت هبتُه في نصف العبد، ورجع ذلك إليه، فحصل عبد كامل يعدل ضعف ما وهب. 6983 - ولو أن الصحيح المتَّهب من المريض لم يهبه الأولَ، ولكن وهبه لصحيحٍ آخر، وأقبضه، فوهبه الموهوب له الثاني من الواهب الأول، وأقبضه إياه، ثم مات الأول ولا مال له غير العبد. فهذه المسألة عندنا كالمسألة التي قبلها، فلا فرق بين أن يعود الموهوب إلى

_ (1) المعنى أن الدرهم في الفرض الأول -في طريقة الدينار والدرهم- وقع ثُلُث ما يملكه المريض، ولذا صحت الهبة فيه.

المريض من جهةَ الموهوب له الصحيح من غير واسطة وبين أن يعود إليه بواسطة، فطريق العمل ما تقدم. 6984 - ولو وهب الأول، وهو مريض من مريض، فوهب الثاني وهو مريض من مريض ثالث ثم عاد من جهة الثالث إلى الأول، فالحساب بالجبر أن نقول: صحت هبة الأول في شيء، وبطلت في عبد إلا شيئاً، وصحت هبةُ الثاني في ثلث شيء، وصحت هبة الثالث للأول في ثلث ذلك الثلث، وهو تُسع شيء، فقد رجع إلى الأول إذاً تُسعُ شيء، فحصل في يد الورثة عبد إلا ثمانية أتساع شيء يعدل شيئين ضعفَ ما أطلقنا الهبة فيه، فنجبر ونقابل، فيعدل عبد كامل شيئين وثمانية أتساع شيء، فنبسطهما أتساعاً، ونقلب الاسم، فيكون العبد ستة وعشرين والشيء تسعة، فتصح الهبة في تسعة أجزاء من ستةٍ وعشرين جزءاً من العبد، وتبطل في سبعةَ عشرَ جزءاً، فصحت هبة الثاني في ثلاثة أجزاء من جملة التسعة الأجزاء، وبقي مع ورثته ضعفها، وهي ستة أجزاء، وصحت هبة الثالث في جزءٍ من الثلاثة، وبقي مع ورثته ضعف ذلك، وهو جزءان، ورجع إلى الأول جزء واحد، فصار معه ثمانية عشر جزءاً، وهو ضعف التسعة الأجزاء التي وهبها، فاعتدلت المسألة على الحساب. طريقة السهام: أن تطلب عدداً له ثلث ولثلثه ثلث (1) ولثلث ثلثه ثلث، لأن الهبات ثلاث، وأقل ذلك سبعة وعشرون، فنجيز الهبة الأولى في ثلثها، وهو تسعة، وقد علمت أنه يرجع من التسعة سهمٌ إلى الواهب الأول، وهو سهم الدور، فأسقطه من البين، وحُطَّه من العدد المفروض وهو سبعة وعشرون فيبقى ستةٌ وعشرون، فهي سهام العبد، وتصح الهبةُ في تسعة من ستة وعشرين، كما خرج بالعمل الأول. طريق الدينار والدرهم: أن نجعل العبد ديناراً ودرهماً ونجيز هبة الأول في درهم، وهبةَ الثاني في ثلث ذلك الدرهم، وهبة الثالث في ثلث ذلك الثلث، وهو تسع درهم، فيرجع إلى الأول تُسعٌ، فيحصل معه دينار وتسعُ درهم، يعدل درهمين، فأسقط تسعَ درهم بمثله قصاصاً، فيبقى دينار يعدل درهماً وثمانيةَ أتساع درهم،

_ (1) عبارة الأصل: لثلثه ثلث لوقوع ولثلث ثلثه ثلث.

فابسطهما جميعاً أتساعاً، واقلب الاسم، فيصير الدينار سبعةَ عشرَ، والدرهمَ تسعة، ومجموعهما ستةٌ وعشرون، وعادت الهبة إلى [تسعة] (1) من ستةٍ وعشرين، كما خرج بالعمل الأول. 6985 - فإن كان قد وهب المريض الأول من المريض الثاني العبدَ، فوهب المريض الثاني ما صح له من مريض ثالث، ومن المريض الأول جميعاً، ثم وهب الثالث ما صح له بالهبة من المريض الأول، فطريق الحساب أن نقول: جازت هبة الأول في شيء من العبد، وبطلت تقديراً في عبدٍ إلا شيئاً، وصحّت هبة الثاني في ثلث شيء يكون بين الأول والثالث نصفين، لكل واحد منهما سدس شيء، فيحصل مع الأول عبدٌ إلا خمسة أسداس شيء، ويحصل للثالث سدس شيء، وهبتُه تصح في ثلث ذلك، وهو ثلث سدس، وذلك جزء من ثمانية عشر جزءاً من شيء، فيرجع إلى الأول من الثالث ثلث سدس شيء، وقد رجع إليه من الثالث سدس شيء، فيحصل معه عبدٌ إلا أربعة عشرَ جزءاً من ثمانيةَ عشرَ جزءاً من شيء، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، ونبسط بأجزاءِ الثمانيةَ عشرَ، ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد خمسين، والشيء ثمانية عشر. فتصح هبة الأول في ثمانيةَ عشرَ جزءاً من خمسين جزءاً من العبد وتبطل في اثنين وثلاثين جزءاً منها، وتصح هبة الثاني في ثلث الثمانيةَ عشرَ، وهو ستة، نصفها للأول، ونصفها للثالث، وهو ثلاثة، وتصح هبة الثالث في جزء من الثلاثة، فيرجع إلى الأول من الثاني ثلاثة، ومن الثالث جزء، فيحصل معه ستة وثلاثون جزءاً من خمسين جزءاً من العبد، وهي ضعف الثمانيةَ عشرَ جزءاً التي وهبها. هذا قياس الباب. 6986 - مسألة: في رجوع الموهوب إلى الواهب، وله شيء من التركة سوى الموهوب. وهب المريض عبداً يساوي ألف درهم من مريضٍ وأقبضه إياه، فوهبه الموهوب له

_ (1) في الأصل: " سبعة ".

من الواهب الأول وأقبضه وماتا جميعاً من مرضهما، وخلّف الواهب الأول ألف درهم سوى العبد الموهوب. فنقول: نفذ بالهبة الأولى شيء من العبد، وبطلت الهبة في عبد إلا شيئاً، ورجع إلى الواهب ثلثُ شيء، بالهبة الثانية، وبقي معه عبد إلا ثلثي شيء، ومعه ألف درهم هي مثلُ قيمة العبد. فنقول: كان معه في التقدير عبدان إلا ثلثي شيء، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيكون عبدان يعدلان شيئين وثلثي شيء، فنبسطهما أثلاثاً، ونقلب الاسم، فيكون العبد ثمانية والشيء ستة، وهو ثلاثة أرباع الثمانية، فتصح هبةُ الأول في ثلاثة أرباع العبد، ويبطل في ربعه، ويرجع إليه بهبة الثاني ربعه ومعه من التركة مثلُ قيمة العبد، فقد حصل معه عبدٌ ونصفٌ: ضعفُ ما وهب. طريقة السهام: أن نأخذ عدداً له ثلث، ولثلثه ثلث، وأقله تسعة، وقد علمت أنه يرجع إليه ثلث ما تصح هبته فيه، وذلك سهمٌ من الثلاثة، هو واحدٌ، فذلك سهمُ الدور، فأسقطه من التسعة، تبقى ثمانية، وهي سهام العبد، ثم خذ الثلاثة التي عزلتها للهبة، وزد عليها مثلَها؛ لأن التركة مثلُ قيمة العبد، فتكون ستة، فانسب الستة إلى الثمانية، تكون ثلاثة أرباعها، فتصح هبته في ثلاثة أرباع العبد، وبيان ذلك أنا عزلنا من العبد الأول ثلاثة، فيجب أن نزيد بسبب التركة ثلاثة أخرى؛ فإن التركة الزائِدة مثلُ العبد، فقد اجتمع ستة أسهم [فننسبها] (1) إلى عدد سهام العبد وهو ثمانية فتقع ثلاثة أرباع العبد. طريقة الدينار والدرهم: أن نجعل العبد ديناراً ودرهماً، ونُجيز الهبة في درهم منه، يبقى [من] (2) العبد دينار، فيرجع إليه بالهبة الثانية ثلث درهم، ومعه من [التركة] (3) مثلُ قيمة العبد، فيجتمع معه ديناران ودرهم، وثلث درهم، وذلك يعدل درهمين، فنسقط درهماً وثلثاً قصاصاً، يبقى ديناران يعدلان ثلثي درهم، فنبسطهما

_ (1) في الأصل: فنبسطها. (2) في الأصل: مع. (3) في الأصل: من الدرهم.

أثلاثاً، فيكون الدينار [ستة] (1)، والدرهم اثنين، فنقلب الاسم فيهما، فيكون الدينار اثنين، والدرهم ستة، ومجموعهما ثمانية، والستة من الثمانية ثلاثة أرباعها. 6987 - ولو كانت التركة الزائدة مثلَ نصف قيمة العبد، لقلنا جازت هبته في شيء من العبد، ورجع إليه ثلث شيء، فمعه عبد إلا ثلثي شيء، ومعه مثل نصف عبد، فجميع ذلك عبدٌ ونصف عبد إلا ثلثي شيء يعدل شيئين، فنجبر ونقابل فيكون عبد ونصفٌ يعدل شيئين وثلثي شيء، فمعنا كسرُ النصف والثلث، فنضرب الجانبين في مخرج النصف والثلث، وهو ستة، فيكون العبد تسعة، والشيء ست عشرة، فنقلب الاسم، فيكون العبد ستة عشر، والشيء تسعة، فتصح هبةُ الأول في تسعة أجزاء من ستةَ عشرَ جزءاً من العبد، وتبطل في سبعة أجزاء منه، ويرجع إليه بالهبة الثانية ثلاثةُ أجزاء، فيجتمع من العبد عشرةٌ، ومعه مثلُ نصف العبد، وذلك ثمانية أجزاء، فالمجموع معه ثمانية عشر جزءاً، وهو ضعف التسعة الأجزاء التي نفذت الهبة فيها. 6988 - مسألة: في عَوْد الموهوب إلى الواهب، وعلى الواهب الأول دينٌ، فنقول: إن كان الدين على الواهب الأول مثل قيمة العبد أو أكثر منها، بطلت الهبة أصلاً. وإن كان الدينُ أقلَّ من قيمة العبد، فتصح الهبة في البعض، فنقول: قيمة العبد ألفٌ، فوهبه من مريضٍ ثانٍ، وأقبضه إياه، ثم وهبه المريض الثاني من الأول، وعلى الأول دينٌ، خَمسُ مائة، فالطريق أن نقول: صحت هبة الأول في شيء من العبد، وبطلت في عبدٍ إلا شيئاً [ورجع] (2) إليه بالهبة الثانية ثلثُ شيء، فبقي معه عبد إلا ثلثي شيء، يقضي منه الدين، وهو مقدار نصف عبد، فبقي مع الورثة نصفُ عبد إلا ثلثي شيء يعدل شيئين، فنجبر نصف العبد بثلثي شيء، ونزيد على عديله مثلَه، فيكون نصف عبد يعدل شيئين وثلثي شيء، فنبسطهما بمخرج النصف والثلث، فنضربهما في ستة، فيكون العبد ثلاثة والشيء ستة عشر، فنقلب الاسم، فيكون العبد ستةَ عشرَ، والشيء ثلاثة.

_ (1) في الأصل: درهم. (2) في الأصل: وربع.

ولا ننظر [في] (1) منزلة القلب [لكون] (2) ما في يد الورثة نصف عبد، فإنا نجعل عبداً في تقدير عبد قائم، والذي (3) نذكره في قلب الاسم واقعٌ بين الجنسين من غير التفات إلى الجزء والعدد. فخرج منه أن هبة الأول، صحّت في ثلاثة أجزاء من ستةَ عشرَ جزءاً من العبد، وتبطل في ثلاثةَ عشر جزءاً منه، فيرجع إليه بالهبة الثانية جزءٌ من الثلاثة، فيحصل أربعة عشر جزءاً، فنقضي منه الدين، وهو ثمانية أجزاء مثلُ نصف العبد، يبقى مع الورثة ستةُ أجزاء من ستةَ عشر جزءاً من العبد، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه. 6989 - مسألة: في رجوع الهبة إلى الواهب الأول، وللواهب الثاني تركة. مريض وهب عبداً قيمته ألف من مريض آخر، ووهبه المريض الثاني من الأول، وليس للأول مالٌ غيرُ العبد، وللمريض الثاني ألفُ درهم، مثلُ قيمة العبد، فنقول: جازت هبةُ الأول في شيء من العبد، فصار مع الثاني ألفٌ وشيء، صحّت هبتُه في ثلث ذلك، وهو كثلث عبدٍ وثلث شيء، فيرجع ذلك إلى الأول، فيجتمع مع ورثة الأول عبدٌ وثلث عبد إلا ثلثي شيء، وذلك أن مع الواهب الثاني عبدٌ وشيء، فإذا صححنا هبته في ثلث ما في يده، كان عبداً وثلثَ شيء. فقد رجع إلى الأول ثلثُ عبد، وثلثُ شيء، وكان معه عبدٌ ناقص شيئاً، فنسقط منه جزء الشيء، وهو ثلث شيء، ونضم إلى العبد ثلثَ عبدٍ، فيحصل عبدٌ وثلثُ عبد إلا ثلثي شيء، وذلك يعدل شيئين، ضعفَ التبرع، فبعد الجبر والمقابلة، يكون عبد وثلث عبد يعدل شيئين وثلثي شيء، فنبسطهما أثلاثاً، فيكون العبد أربعة، والشيء ثمانية، فنقلب الاسم، ونقول: العبد ثمانية، والشيء أربعة، فقد صحت الهبة في نصف العبد، وتصح هبة الثاني في جميع ذلك النصف، لأنه يبقى لورثته الألفُ التي هي قيمة هذا الضعف، فيحصل مع ورثة الأول عبد كامل، وهو ضعف الذي صحت الهبة، وخرجت المسألة مقوَّمة.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: ليكون. (3) الواو زيادة من المحقق.

6995 - مسألة: في رجوع الهبة إلى الواهب الأول بالهبة من الثاني، وعلى الواهب الثاني دين. وهب في مرضه عبداً قيمته ألفٌ من مريضٍ، وأقبضه إياه، ثم إن المريض الثاني وهبه من المريض الأول وأقبضه، وماتا، ولا مال لهم غيرُ العبد، وعلى الواهب الثاني ديْنٌ مائتا درهم. فنقول: صحت هبة الأول في شيء من العبد، وبطلت في عبد إلا شيئاً، نقضي من الشيء دينَ الواهب الثاني، وهو مثل خُمس عبد، يبقى شيء إلا خُمسَ عبد، فتصح هبةُ الثاني في ثُلثه، وهو ثُلث شيء إلا ثلث خُمس عبد، فيرجع ذلك إلى الواهب الأول، وفي يده عبد إلا شيء، فيصير الآن بعد رجوع ما رجع إليه في يده أربعةَ عشرَ جزءاً من خمسةَ عشرَ جزءاً من عبد إلا ثلثي شيء، تعدل شيئين، فإذا جبرنا وقابلنا، تكون أربعةَ عشرَ جزءاً من خمسةَ عشرَ جزءاً من عبد، تعدل شيئين، وثلثي شيء، فنبسط الجميع بالضرب في خمسةَ عشرَ، فيكون العبد أربعةَ عشرَ، والشيءُ أربعين، فنقلب الاسم، فيكون العبد أربعين، والشيء أربعة عشر، فتصح هبة الأول في أربعة عشرَ جزءاً من أربعين جزءاً من العبد، وبطل في ستةٍ وعشرين جزءاً منه، وحصل في يد الموهوب له أربعة عشر جزءاً يقضي منه دينَه، وهو مثل خمس العبد، وذلك ثمانية أجزاء من أربعين، يبقى معه ستة أجزاء تصح هبتُه في ثلثها، وهو جزءان، فيرجع إلى الواهب الأول جزءان ويحصل في يده ثمانيةٌ وعشرون جزءاً من أربعين جزءاً من العبد، وذلك ضعف الأربعةَ عشر جزءاً التي خرجت بالهبة. فإن كان الدين على الواهب الثاني مثل ثلاثة أثمان قيمة العبد أو أكثر، صحت هبة الأول في ثلث العبد، وقُضي به دينُ الواهب الثاني، وبطلت هبةُ الثاني بالكلية، ولم يكن في المسألة دور؛ إذا لم يكن لهما مال إلا العبد. 6991 - مسألة: إذا وهب المريض عبداً قيمتُه ألفٌ من مريض وأقبضه إياه، ثم وهبه المريض الثاني من الواهب الأول وأقبضه، ثم ماتا، وخلّف كلُّ واحد منهما ألفاً أخرى سوى العبد.

فنقول: صحت هبةُ الأول في شيء من العبد، وبطلت في عبد إلا شيئاً، فحصل مع الموهوب له الأول ألفٌ وشيء، والألفُ مثلُ العبد، فنقول: معه عبدٌ وشيء، وتصح هبته في ثلث ذلك، وهو ثلث عبدٍ وثلث شيء، فيرجع ذلك إلى الواهب الأول ومعه عبدٌ إلا شيء، وألفٌ هي مثل قيمة العبد، فيحصل معه عبدان إلا شيئاً، فنزيد عليه ثلثَ عبد، وثلث شيء، فيحصل معه عبدان وثلث عبد إلا [ثلثي] (1) شيء، يعدل شيئين. وإذا جبرنا وقابلنا، فعبدان وثلث يعدلان شيئين وثلثي شيء، فنبسطهما أثلاثاً، ونقلب الاسم، فيكون العبد ثمانية، والشيء سبعة، وتصح هبة الأول في سبعة أثمان العبد، وتبطل في ثُمنه، ويحصل في يد الموهوب له سبعة أثمان العبد ومعه ألفٌ كقيمة العبد، فهي ثمانية أجزاء، فقد حصل معه خمسةَ عشرَ جزءاً، تماثل ثمانيةٌ منها عبداً، فتصح هبته في ثلثها، يدفعها من جملة سبعة الأجزاء من العبد، فيرجع إلى الواهب الأول هذه الأجزاء الخمسة، وكان (2) معه جزءٌ من العبد، وهو ثمنه، ومعه ألفٌ، هي ثمانية أجزاء، فاجتمع معه أربعة عشرَ جزءاً، وهو ضعف السبعة التي جازت الهبة فيها أولاً. هذا إذا كان لكل واحد منهما تركة زائدة. 6992 - فلو كان على كل واحد منهما دين خَمسُ مائة درهم، فنقول: الفتوى أن هبة الأول تصح في سدس العبد، وبطلت هبة الثاني؛ لأن دينه يستغرق ما صحّ له بالهبة. وامتحان ذلك أن نقول: صحت هبة الأول في سدس العبد، وبطلت في خمسة أسداسه، ولم يرجع إليه شيء؛ لأن السدس الذي صحت الهبة فيه يذهب في دين الموهوب له، فنقضي دين الواهب، وهو نصف عبد من خمسة أسداس عبد، يبقى مع ورثته ثلثُ عبد، وهو ضعف السدس التي صحت فيه الهبة.

_ (1) في الأصل: ثلث. (2) في الأصل: وكان معه جزء من جزءٍ من العبد.

فإن كان الدين على أحدهما دون الآخر، فقد أوضحنا حكمَ ذلك من قبل. وإن اجتمع الدين والتركة في شق أحدهما دون الآخر، فقد أوضحنا حكمَ ذلك من قبلُ. وإن اجتمع الدين والتركة في شق أحدهما، أو في الجانبين، نقابل الدين والتركة؛ فإن استويا، فكأن لا دينَ ولا تركة ولا مال سوى العبد، فإن زاد الدين، سقطت التركة، ووقع الكلام في مقدار (1) الدين الفاضل من التركة. وإن كانت التركة أكثر، أسقطنا عنها بمقدار الدين، ورددنا الكلام إلى التركة الفاضلة من الدين، ولا يخفى الحكم. 6993 - مسألة: في الزيادة والنقصان بعد الهبة. فنقول: حكم الزيادة في الهبة كحمكها في أبواب العتق، وكذلك حكم النقصانِ في الهبة كحكم النقصان في العتق، إلا أن ما كان منهما محسوباً للعبد وعليه، فيكون مقداره إذا كان زيادة محسوباً للعبد وعليه، فيكون مقداره إذا كان زيادة محسوباً للموهوب له، وما حسب على العبد، فهو محسوب على الموهوب له، وما حسب في العتق على ورثة المعتِق، فهو محسوب على ورثة الواهب. 6994 - فإذا وهب مريض عبداً من غيره، فأقبضه، فزاد في قيمته مثلُها، فتصح هبتُه في نصف العبد، وقيمة هذا النصف يوم الموت مائة مثلاً، وكانت يوم الهبة خمسون، فهي محسوبة على الموهوب له بخمسين، ويبقى لورثة الواهب نصفُه، وقيمتُه يوم الموت مائة، وهي ضعف الخمسين المحسوبة على الموهوب له. وإن كانت قيمته يوم الهبة مائة، فنقصت، ورجعت إلى خمسين، ومات الواهب، ولا مال له غيره، وصحت (2) الهبة في خُمس العبد، وقيمته يوم الهبة عشرون، ويوم الموت عشرة. فتلك الزيادة محسوبة على الموهوب له، فالعشرة محسوبة بعشرين اعتباراً بوقت الهبة.

_ (1) عبارة الأصل: في مقدار الدين المخمس الفاضل ... (2) الواو زيادة من المحقق.

وما أطلقناه من وقت الهبة عَنَينا به وقتَ الإقباض؛ إذ به تتم الهبة، والتعويل عليه. 6995 - فإن اجتمع في الموهوب زيادةٌ من وجه ونقصانٌ من وجه، قوبل بينهما، كما تقدم في أبواب الدور في العتق. فلو وهب المريض عبداً قيمته مائة، لا مال له غيره، فأقبضه إياه، فزادت قيمته في يد الموهوب له، فبلغت مائتين، ثم وهب الموهوب له [العبدَ] (1) من الواهب في مرضه، وأقبضه إياه، ثم ماتا، لا مال لهما غيره، ولا دين عليه، فنقول: صحت هبة الأول في شيء من العبد محسوبٍ على الموهوب له بنصف شيء، وبقي مع الواهب الأول عبدٌ إلا شيء، وصحت هبةُ الثاني في ثلث الشيء الحاصل معه، فصار مع الأول عبد إلا ثلثي شيء يعدل ضعف المحسوب على الموهوب له، والمحسوب عليه نصف شيء، وضعفه شيء، فيكون عبد إلا ثلثي شيء يعدل شيئاً، فبعد الجبر والمقابلة يعدل عبدٌ كامل شيئاً وثلثي شيء، فنبسطهما أثلاثاً، ونقلب العبارة في الجانبين، فيكون العبد خمسة، والشيء ثلاثة، فتصح الهبة أولاً في ثلاثة أخماس العبد، قيمتها يوم الهبة ستون درهماً، وبهذا الحساب تُحسب على الموهوب له، وقيمتها يوم الموت مائة وعشرون، وتصح هبة الثاني في ثلثها، وهو أربعون، وبقي مع ورثته ثمانون، ورجع أربعون إلى الواهب الأول، وكان (2) معه خُمسا العبد، وقيمته يوم الموت ثمانون، فإذا زدنا عليها الأربعين، صار مائةً وعشرين، وهي ضعف الستين المحسوبة على الموهوب له الأول. 6996 - ولو وهب المريض من مريض وقيمة العبد مائة، فنقصت قيمته في يد الموهوب حتى نقصت إلى خمسين، ثم وهبه الثاني من الأول، قلنا: صحت هبة الأول في شيء من العبد، وهو محسوب على الموهوب له بشيئين، بقي مع الواهب الأول عبدٌ إلا شيء، ورجع إليه بالهبة الثانية ثلث شيء، فحصل معه عبد إلا ثلثي

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: فكان.

شيء، يعدل ضعفَ المحسوب على الموهوب له الأول، وهو أربعة أشياء، فبعد الجبر يكون عبدٌ كامل يعدل أربعة أشياء، وثلثي شيء، فنبسطهما أثلاثاً، ونقلب العبارة فيكون العبد أربعةَ عشرَ، والشيء ثلاثة، فتصح الهبة في ثلاثة أجزاء من أربعةَ عشرَ جزءاً من العبد، وهي محسوبة على الموهوب له بستة أجزاء، فبقي مع الواهب الأول أحد عشر جزءاً، ورجع إليه بالهبة الثانية جزء من الأجزاء الثلاثة، فاجتمع معه اثني عشر، وهي ضعف الأجزاء المحسوبة. هذا قياس الباب. 6997 - مسألة: تقدم نظيرها فنجدد العهد بها في هذا النوع. لو وهب المريض عبداً قيمته مائة، فمات في يد الموهوب له، ثم مات الواهب. فهذا يخرج على القياس بخلاف المقدم المذكور في موت المعتَق قبل موت المولى، ففي وجهٍ نقول: الهبة جائزة منفذة في جميع العبد؛ لأنه لم يبق حتى يجري فيه الميراث، وهو كهبة الصحيح. والثاني - أن الهبة باطلة في الجميع؛ لأنها في معنى الوصية، ولا يثبت من الوصية جزءٌ ما لم يثبت الإرث في جزأين. فإن قلنا: الهبة صحيحة في الجميع، فلا كلام. وإن قلنا: الهبة باطلة، فقد ذكر الأستاذ تردداً في أن الضمان هل يجب؟ قال: من أصحابنا من قال: لا يجب الضمان؛ فإن يد المتهب ليست يدَ ضمان، فلتكن يدَ أمانة. ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان؛ لأنه قبض لنفسه، فكانت يده كيد المستعير، والأولى أن نقول [عن يد] (1) المستعير: إنها تضمن؛ لأنه قبض ليردّ، وما كان مضمون الرد، كان مضمون القيمة، والمتهب ما قبض ليرد ما اتهب، وليست الهبات من عقود العهد والبياعات. وهذا الخلاف يجري في كل هبة تجري على الفساد، وقد ذكرنا أصل ذلك في

_ (1) زيادة من المحقق.

الغصوب عند ذكرنا الخلاف في أن المتّهب من الغاصب على جهلٍ هل يستقر الضمان [عليه] (1)، فإن قلنا: يستقر الضمان عليه، فقد جعلناه يدَ ضمان، وإن قلنا: لا يستقر الضمان عليه، فقد جعلناه يدَ أمانة. 6998 - فلو اكتسب العبد ألفاً في يد المتهب، ثم مات العبد ومات الواهب بعده، فنقول: صحت الهبة في شيء منه، وللموهب له عشرة أشياء من كسبه، وليست محسوبةً عليه من الوصية، وللورثة باقي الكسب، وهو ألف درهم إلا عشرة أشياء، وذلك يعدل شيئين، فالألف اثنا عشر شيئاً، فإنا إذا قلنا: ألفٌ إلا عشرة أشياء تعدل [شيئين] (2) فكأنا قلنا: ألفٌ إلا عشرة أشياء شيئان، فالألف اثنا عشرَ شيئاً؛ فإن معنى تمام الألف رد عشرة أشياء، فالشيء إذاً نصفُ سدس المال وهو ثلاثة وثمانون درهماً وثلث، وهذا المقدار خمسةُ أسداس العبد، فنقول: صحت الهبة في خمسة أسداسه، وبطلت في سدسه، فلورثة الواهب سدس كسبه، وهو مائة وستة وستون وثلثان، وهو ضعف ما جازت الهبة فيه، ولا يحسب سدس العبد إلا على ورثة الواهب؛ فإنه مات قبل موت الواهب، فلم يبق للورثة؛ فلهذا لم يدخل العبد في حساب ما تبقى للورثة، ويحسب على الموهوب له بما تلف من وصيته، لأنه تلف في يده. ومن قال من أصحابنا: تتم الهبة فيه إذا مات قبل موت الواهب، فتكون جميع الأكساب على هذا الوجه للموهوب له، لا حظ فيه لورثة الواهب. 6999 - وهذه المسألة بيّنة، ولكنا نزيدها وضوحاً، فنقول: أما الوجه الأخير، فقياسه لائح، فإنا إذا صححنا الهبة في الجميع، لم نحسب من الكسب شيئاً على الموهوب له. وإن فرعنا على الوجه الثاني، وهو الأصح الذي قدمنا التفريع عليه، فإن لم يكن كسبٌ، حكمنا ببطلان الهبة في الجميع؛ من جهة أنه لم يَجْرِ في شيء إرثٌ. فإذا كان

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقط من الأصل.

كسبٌ كما صورنا، فبقي للواهب تركةٌ، فيجب لأجل بقاء شيء من التركة تصحيحُ شيء من الهبة على ما يقتضيه الحساب، ولا يتبعه فيما تبقى تركة، ولا نظر إلى فوات العين بعد بقاء التركة وماليتها. وهذا واضح. ولكنا أحببنا التنبيه عليه، ليميز الناظر بين الوجهين. والذي يجب القطع به في هذا المقام الوجهُ الذي قدمناه، وذكرنا حسابه؛ فإنا إنما نتبع الكسب من غير احتساب به إذا صحح حساب نسبة التركة ملكاً في أصلٍ، وهاهنا إذا صححنا الهبة حيث لا كسب فسببه عدمُ التركة، فضعف هذا الوجه جداً في هذا المقام. 7000 - مسألة: في رجوع الهبة إلى الوارث بالميراث: مريض وهب من أخيه ألف درهم، لا مال له غيره، فمات أخوه قبله، وخلّف بنتاً وأخاه الواهب، ثم مات الواهب. فنقول: صحت الهبة في شيء من الألف، وبطلت في الألف إلا شيئاً، ورجع إليه الميراثُ نصفَ الشيء الذي صحت الهبة فيه، فبقي معه ألفٌ إلا نصفَ شيء، وذلك يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيكون ألف يعدل شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا الألف، فتصح هبته في خمسي الألف، وهو أربعمائة، وبطلت في ستمائة، ورجع إليه بالميراث نصف الأربعمائة، فيحصل مع ورثته ثمانمائة، وذلك ضعف الأربعمائة التي صحت فيها الهبة. 7001 - ولو وهب المريض من أخيه عبداً قيمتُه ألفُ درهم وسلّم، ثم مات الموهوب له قبل الواهب، وخلف بنتين وأخاه الواهب، ثم مات الواهب ولا مال لهما غيرُ العبد. فنقول: صحت الهبة في شيء من العبد، وبطلت في عبد إلا شيئاً، ورجع إليه بالميراث ثلث ذلك الشيء، فبقي معه عبدٌ إلا ثلثي شيء يعدل شيئين. وإذا جبرنا وقابلنا، فعبدٌ كامل يعدل شيئين وثلثي شيء، فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسمَ فيهما، فيكون العبدُ ثمانية والشيء ثلاثة، وهي ثلاثة أثمانه، فصحت الهبة في ثلاثة أثمان

العبد، وبطلت في خمسة أثمانه، ورجع إليه ثلث ما صحت فيه الهبة، فيجتمع معه ستة أثمان العبد، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه. فإن مات الموهوب له قبل الواهب، وخلف امرأة وبنتاً وأخاه، صحت الهبة في شيء، وبطلت في شيئين، وبعد الجبر والمقابلة يعدل عبدٌ شيئين، وخمسة أثمان شيء، نبسطها أثماناً، ونقلب الاسم، فيكون العبد أحداً وعشرين، والشيء ثمانية، وتصح الهبة في ثمانية أجزاء من أحد وعشرين جزءاً من عبد، وبطلت في ثلاثةَ عشرَ جزءاً منه، ورجع إليه بالميراث ثلاثة أجزاء، فحصل معه ستةَ عشرَ جزءاً، وهي ضعف الثمانية. هذا قياس الباب. 7002 - مسألة: مريض وهب عبداً من أخيه قيمته ألفٌ، فمات أخوه قبله، وخلّف بنتاً واحدة وأخاه الواهب، ثم مات الواهب، وخلف مائتي درهم سوى العبد. قلنا: صحت هبته في شيء من العبد، وبطلت في عبد إلا شيئاً، ورجع إليه بالميراث نصفُ شيء، ومعه من التركة مثلُ خمس عبد، فالحاصل معه عبدٌ وخمس عبد إلا نصف شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة عبد وخمس عبد يعدل شيئين ونصف شيء، فنضرب كل واحد منهما في مخرج النصف والخُمس، وهو عشرة، فيكون العبد والخمس اثني عشر، والشيء خمسةً وعشرين، فنقلب الاسم فيهما، فيكون العبد والخُمس خمسةً وعشرين، [والشيء] (1) اثنا عشر، فتصح هبته في اثني عشر جزءاً من خمسةِ وعشرين جزءاً من العبد وتبطل في ثلاثةَ عشر جزءاً منه، وترجع إليه بالميراث ستةُ أجزاء، ومعه من التركة مثلُ خُمس العبد، وذلك خمسة. فيجتمع معه أربعةٌ وعشرون جزءاً، وهي ضعف الاثني عشر الذي صحت الهبة فيه. 7003 - فإن لم يكن له تركة، وكان عليه دينٌ مائتين، قلنا: صحت الهبة في شيء من العبد وبطلت في عبد إلا شيئاً، ورجع إليه بالميراث نصف شيء، فبقي معه عبدٌ

_ (1) في الأصل: والثلثي.

إلا نصفَ شيء، نقضي منه دينَه، وهو مثلُ خمس عبد، يبقى أربعة أخماس عبد إلا نصفَ شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون أربعة أخماس عبد تعدل شيئين ونصفاً، فنضرب كل واحد منهما في مخرج النصف والخمس، وهو عشرة، ونقلب الاسمَ فيهما بعد البسط، فيكون العبد خمسةً وعشرين، والشيء ثمانيةً، فتصح هبته في ثمانية أجزاء من خمسةٍ وعشرين جزءاً من العبد، وتبطل في سبعة عشرَ جزءاً منه، ويرجع إليه بالميراث نصف الثمانية، فيصير معه أحدٌ وعشرون جزءاً، نقضي منه دينه وهو مثل خمس العبد، [وهو خمسة أجزاء، يبقى ستة عشر] (1)، وهو ضعف الثمانية الأجزاء التي صحت الهبة فيها. 7004 - مسألة: وهب المريض عبداً قيمته ألفُ درهم من أخيه، فمات أخوه قبله، وخلّف بنتاً وألفاً سوى العبد، فنقول: صحت في شيء من العبد، وبطلت في عبدٍ إلا شيئاً، وحصل مع الموهوب له شيء، وألفُ درهم، يرجع نصف ذلك إلى الواهب بالميراث، وهو نصف شيء ونصف عبد؛ فإن العبد قيمته ألف، فحصل مع ورثة الواهب عبدٌ ونصفٌ إلا نصفَ شيء، تعدل شيئين، وإذا جبرنا وقابلنا، فعبد [ونصفٌ] (2) يعدل شيئين ونصفاً فنبسطها [أنصافاً] (3) ونقلب العبارة، فيكون العبد خمسة والشيء ثلاثة. فإذا صحت الهبةُ في ثلاثة أخماس العبد وقيمته ستُّمائة، يبقى [مع] (4) الواهب خمساه، والقيمة أربعمائة، ويحصل مع الموهوب له ألفٌ وستمائة، يرجع نصفها إلى الواهب بالميراث، فيحصل مع الواهب ألفٌ ومائتان، وهي ضعف الستمائة التي جازت الهبة فيها. 7005 - فإن لم يكن للموهوب له تركة، وكان عليه دين مائتي درهم، فنقول: صحت الهبة في شيء من العبد، وبطل في عبدٍ إلا شيئاً، فحصل مع الموهوب له شيء، يقضي منه دينه، وهو مثلُ خُمس العبد، يبقى شيء إلا خُمس عبد، يرجع

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: أيضاً. (4) في الأصل: من.

نصفه بالميراث إلى الواهب، وهو نصف شيء إلا عُشر عبد، فتحصل معه تسعة أعشار عبد إلا نصفَ شيء، يعدل شيئين. وبعد الجبر والمقابلة يكون تسعة أعشار عبد في معادلة شيئين ونصف، فنضرب كل واحد منهما في مخرج يكون له نصف وعشر، وهو عشرة، ثم نقلب الاسم بعد البسط، فيكون العبد خمسة وعشرين، والشيء تسعة، فتصح هبته في تسعة أجزاء من خمسة وعشرين جزءاً من العبد، وتبطل في ستة عشر جزءاً، ويحصل مع الموهوب له تسعة أجزاء يقضي منها دينَه، وهو خمسة أجزاء، تبقى معه أربعة أجزاء، يرجع منها جزءان إلى الواهب بالميراث، فتحصّل معه ثمانيةَ عشرَ جزءاً، وهي ضعف التسعة الأجزاء التي صحت الهبة فيها. 7006 - وإن خلف كُّل واحدٍ منهما خَمسمائة درهم سوى العبد، قلنا: صحت الهبة في شيء، وبطلت في عبدٍ إلا شيئاً، وحصل مع الموهوب له شيءٌ ونصف عبد، لأن الخمسَمائة نصف عبد، ويرجع نصف ذلك إلى الواهب، وهو ربع عبد، ونصفُ شيء، وكان مع الواهب عبدٌ إلا شيء ومقدارُ نصف عبد، وهو خَمسُمائة، ويرجع إليه ربع عبد ونصفُ شيء، فمعه عبدٌ وثلاثة أرباع عبد إلا نصفَ [شيء] (1)، وذلك يعدل شيئين. وإذا جبرنا وقابلنا يكون عبدٌ وثلاثة أرباع عبد تعدل شيئين ونصف شيء، فنبسطهما أرباعاً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد عشرة والشيء سبعة، وقد صحت الهبة في سبعة أعشار العبد، وقيمتها سبعُمائة، وحصل مع الموهوب له هذه السبعُمائة، ومعه من التركة خَمسُمائة، فذلك ألفٌ ومائتان، يرجع نصفها، وهو ستُّمائة إلى الواهب، وكان معه من العبد ثَلاثُمائة، ومن التركة خَمسُمائة فيجتمع معه ألفٌ وأربعُمائة، وهي ضعف السبعمائة التي صحت الهبة فيها. 7007 - مسألة: إذا كان الزوجان مريضين، ولكل واحد منهما مائة درهم، فوهب كل واحد منهما مائةَ لصاحبه، وأقبضه ثم ماتا، وخلف كل واحد منهم أخاً، نظر،

_ (1) في الأصل: عبد.

فإن ماتت المرأة أولاً، بطلت هبتها للزوج؛ لأنه وارثها، وتنفذ الهبة للمرأة من جهة الزوج. فنقول: نفذت هبة الزوج في شيء من المائة التي كانت له، وورث الزوج عنها نصفَ ذلك الشيء، مع نصف المائة التي كانت لها، فيجتمع لورثة الزوج مائةٌ وخمسون درهماً، إلا نصف شيء تعدل شيئين، فبعد الجبر يكون مائة وخمسون درهماً، تعدل شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا المائة والخمسين، وذلك ستون درهماً، فتصح هبة الزوج في ستين، وتبطل في أربعين، وتحصّل في يد المرأة مائة وستون درهماً يرجع نصفها، وهو ثمانون درهماً، [للزوج، فيجتمع له مائةٌ وعشرون] (1) وهو ضعف ما جازت الهبة فيه. 7008 - وإن كان الزوج قد مات أولاً، بطلت هبته للمرأة؛ لأنها وارثةٌ له، وتصح هبة المرأة للزوج في شيء من المائة. فنقول: صحت هبتها في شيء من المائة التي لها، وبطلت الهبة في مائة إلا شيئاً، وورثت المرأة عنه ربع ذلك الشيء، وربع مائةٍ (2)، واجتمع مع ورثتها مائة وخمسة وعشرون درهماً إلا ثلاثة أرباع شيء، يعدل شيئين بعد الجبر والمقابلة يكون مائة وخمسة وعشرون درهماً تعدل شيئين وثلاثة أرباع شيء. وإذا أردنا أن نعرف حصة الشيء الواحد من شيئين وثلاثة أرباع من جملة مائة وخمسة وعشرين، [قسمناها] (3) على أحد عشر، وذلك بأن نبسط الشيئين والثلاثة الأرباع أرباعاً، ثم نقسم مائة وخمسة وعشرين على أحد عشر، فيخص كلَّ واحدٍ أحدَ عشر درهماً وأربعةَ أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم، هذا حصة [ربع] (4) شيء مما معنا من مائة وخمسة وعشرين، [وحصة الشيء خمسة وأربعون، وخمسة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم] (5) فقد صحت هبتها في هذا المقدار، وبقي معها أربعة

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: ربع مائة إلا شيئاً. (3) زيادة من المحقق. (4) سقط من الأصل. (5) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.

وخمسون درهماً وستةُ أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم، [فاجتمع مع الزوج مائة وخمسة وأربعون وخمسة أجزاء من أحد عشر جزءاً] (1) يكون ربعها للمرأة، وذلك ستة وثلاثون درهماً وأربعة أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم، فنزيد ذلك على ما كان قد بقي معها، فيجتمع مع ورثتها تسعون درهماً وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، وذلك ضعف ما وهبت. 7009 - وإن كانا قد غرقا معاً وعَمِيَ موتُهما، فلا يرث أحدهما الآخر، وينفذ التبرع من الجانبين إذا انقطع التوارث، فإن التبرع منجّزٌ في المرض. فسبيل الحساب أن نقول: نفذ للمرأة بهبة الزوج شيءٌ نضمه إلى المائة التي لها، فيكون معها مائة وشيء، فينفذ للزوج من هبتها ثلثُ ذلك، وذلك ثلث شيء، وثلاثةٌ ثلاثون درهماً وثلاثة دراهم وثلث، فنضمه إلى ما في يد الزوج، مما بطلت فيه هبتُه، وذلك مائة درهم إلا شيئاً، فيصير معه مائة وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم إلا ثلثي شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر، يكون مائة وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم يعدل [شيئين] (2) وثلثي شيء، فالشيء ثلاثة أثمان ذلك، وهو خمسون درهماً، فهذا هو الجائز بهبة المرأة، فتصح هبة كل واحد منهما في نصف المائة التي له، ولا يتفاضلان. ولكن لم نجد بداً من تصحيح الهبة، إذ لا مبطل لها في المقدار الذي ذكرناه. 7010 - مسألة: مريض وهب عبداً لا مال له غيرُه من مريض، فأقبضه إياه، ثم وهبه المريض الثاني من المريض الأول وأقبضه، ولا مال له غيره، ثم إن الواهب الأول بعد هبة الثاني أعتق العبد. قد حكى الأستاذ عن ابن سريج أنه قال في هذه المسألة: إنها تصح من أربعة وعشرين، لورثة الواهب الثاني ربعُ العبد ستة أسهم، ويعتِق من العبد تمامُ الثلث، وهو سهمان، وذلك نصف سدس العبد.

_ (1) زيادة من عمل المحقق. (2) في الأصل: شيء.

ولورثة الواهب الأول ثلثاه. قال الأستاذ: ذهب حُذاق الأصحاب إلى أن هذا الجواب خطأ، والعتق باطلٌ؛ لأنه بدأ بالهبة قبل العتق؛ فهي مقدمة عليه، والثلث يستغرق الهبة، فكيف ينفذ العتق في شيء من العبد قبل تمام الثلث للموهوب له، وإذا بطل العتق، صحت الهبة في ثلاثة أثمان العبد، ورجع إليه بالهبة الثانية ثمنٌ واحد، فيجتمع مع الورثة ستة أثمانه، وهي ضعف [ما صحت فيه الهبة] (1). وإن كان قد أعتقه أولاً، ثم وهبه عَتَقَ ثلثُه، ورق ثلثه للورثة، وبطلت الهبة. وكذلك لو وهبه في مرضه، ثم أوصى به لآخر بعد الإقباض وإتمام الهبة، صحت الهبة من ثلاثة أثمانه، ورجع الثمن إليه بالهبة الثانية، وبطلت الوصية. وهذه المسألة في وضعها على [هذه الصورة خطأ] (2). وما أراها من وضع الأستاذ. ونحن ننبه على وجه الخطأ، ونوضح وجه الصواب، ونقول: قد وضعنا المسألة فيه أولاً إذا وُهب العبد وسُلِّم، ثم الموهوب له وَهبَ من الواهب الأول وسلَّم، ثم أعتق الواهب الأول، وإذا تُصوِّرت المسألة بهذه الصورة؛ فلا وجهَ إلا ما قاله ابنُ سريج؛ فإنا نُقدّر كأن العتق لم يكن، فيقتضي الحساب إذا جرت الهبة من الثاني من غير عتق أن تصح هبةُ الأول في ثلاثة أثمان العبد، هذا مقتضى الهبة إن تجردت، فإذا فرضنا عتقاً بعد الهبة [الثانية] (3)، لم ينقص به حق الموهوب له، ولم ينقص من الثلثين الذي هو حق الورثة، فلا معنى لرد ما يكمل الثلث. وهذا ممَّا لا يتمارى فيه، فليقع فرضُ المسألة في أربعة وعشرين حتى يجتمع فيها حساب الأثمان، وإمكان تعديل الثلث والثلثين، وذلك بضرب ثمانية في ثلاثة، فيخرج في هذا المبلغ ثلاثة أثمانه في الهبة الأولى، وهي تسعةٌ، ثم يرجع بالهبة الثانية

_ (1) زيادة من المحقق. (2) زيادة قدرناها مكان بياضٍ بالأصل. (3) في الأصل: الثالثة.

ثمنٌ، وهو ثلثُ ما صحت [فيه] (1) الهبة الأولى؛ فيحصل في يد الواهب [الأول] (2) ثمانيةَ عشرَ، وقد انفصل نصيب الهبتين، فإذا أعتق، لم يكن له إلا استكمال الثلث، بما [قدّم] (3) وأخر من التبرع، والثلث يكمّل [بسهمين] (4). فهذا حظُّ العتق، وقد وفّينا على الهبة حقَّ تقدّمها، فيبقى لورثة الواهب الأول ستةَ عشرَ، وهي الثلثان وقد انحصر التبرعُ هبةً وعتقاً في الثلث. والسببُ فيه أن الموهوب له وهب مما اتهب، فلم يكن له التنقيص من قبلنا. فإذاً لا وجه لتخطئة ابن سريج في هذه المسألة؛ فالذي قاله الحقُّ إن كانت المسألة مصورة على هذا الوجه. وسنذكر مسألة أخرى وننقل فيها الجوابَ وتخطئةَ الأصحاب له، ونوضح فيها أن الصواب التخطئة، وننعطف إذ ذاك على هذه المسألة ونضع لها صورةً تضاهي الصورةَ الثانية، فعند ذلك يعلم الناظر أن الخطأ في هذه المسألة محمول على واضعها. 7011 - مسألة: إذا وهب المريض لامرأته مائةَ درهمٍ، لا مال له غيرُها، وأقبضها إياها، وأوصى بثلث ماله لرجل، فماتت المرأة قبل الزوج، ثم مات الزوج. حكى الأستاذ عن ابن سريج أنه قال: الهبة مبدأةٌ مقدمة على الوصية، والحساب يقتضي أن نصحح الهبة في أربعين، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى. ثم إذا صحت الهبةُ في أربعين وماتت، رجع نصفُ الأربعين ميراثاً إلى الزوج، وإنما صحت الوصية لها؛ لأنها خرجت عن كونها وارثةً لمّا ماتت قبل الزوج، ثم تحصل في يد الزوج ثمانون درهماً، قال ابن سريج: يصرف من هذه الثمانين قيمةُ ثلث المائة إلى الوصية، وذلك ثلاثة عشر درهماً وثلث؛ فإنها مع العشرين الباقية لورثة الزوجة بعد نصيب الزوج ثلث المائة.

_ (1) في الأصل: منه. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: تقدم. (4) في الأصل: سهمين.

قال الأستاذ وغيره من الحذَّاق: هذا الجواب غلط على أصل الشافعي؛ لأن الهبة المقبوضة مقدمة على الوصية، ومحل الوصية الثلث، والهبة قد استغرقت الثلث، وزادت [على] (1) ما يقتضيه الحساب، فوضع الوصية بعد استغراق الثلث باطل، فلتبطل الوصية إذاً، وإذا بطلت قدّرنا كأنها لم تكن، ولو لم تكن الوصية، لكان الحساب للهبة مع جريان الموت أن نقول: صحت الهبة في شيء من المائة، ورجع إلى الزوج نصف ذلك الشيء، فبقي معه مائة إلا نصف شيء يعدل شيئين، فنجبر ونقابل فيكون مائة تعدل شيئين ونصف، فالشيء خمسا المائة، وهو أربعون، فيرجع نصفها إلى الزوج بالميراث، وذلك عشرون، فيصير مع ورثته ثمانون، وهي ضعف الأربعين. هذا ما ذكره الأستاذ حاكياً عن ابن سريج ومستدركاً عليه، وللاستدراك على ابن سريج وجهٌ بيّن في هذه المسألة؛ فإنه وهب وأقبض، وعرفنا أن الهبة نافذة في الثلث لا محالة إن لم تزد، فالوصية بعد استغراق محل الوصية مختلفة (2)، وقول ابن سريج في هذه المسألة ليس ساقطاً إن كان يتحرى الاستدراك عليه؛ فإنه أوصى بثلثٍ مرسل، والاعتبار في الوصايا بمآلها، وقد جرت حالةٌ وهي الموت والتوريث غيرت نسبةَ المال به لبداية بقي معه أربعة أخماسه، فرأى ابن سريج أن نقول: الوصية لا تنزل مزاحمةَ الهبة، ولكنها تتشبث ببقية الثلث اعتماداً على مآل الأمر، فكان هذا كما لو أوصى لرجلٍ بألف درهم، وهو لا يملك شيئاً، أو أوصى بثلث ماله ولا مال له، فإذا استفاد مالاً، نفذت وصيته على المذهب الظاهر، وسنذكر الخلاف [فيه] (3)، إن شاء الله تعالى. فإذا وضحت هذه المسألة، وما قيل فيها، فنظير المسألة السابقة فيها أن تهب العبدَ وتسلّمه، ثم تعتقه قبل هبة الثاني، ثم يهب الثاني، فهذا عتقٌ لا يصادف محلاً، إلا أن يُحمل على وقف العتق في بعض الصور، [ولا] (4) يجوز إلا على وجهٍ

_ (1) عبارة الأصل: وزادت ويقتضيه الحساب. (2) كذا. والمعنى أن الوصية باطلة بعد فوات محلّها. (3) في الأصل: الخلاف في قيمة. (4) في الأصل: "لا يجوز".

ضعيفٍ، لا يجوز الاعتداد به، ولا نظن أن ابن سريج في هذا المحل يخالف؛ فإن العتق لا يقع على معنىً، ولا يقبل الإرسال. فهذا تمام الكلام في هذا الفصل. 7012 - نعود إلى مسألة الزوجين، وقد وهب الزوج المائة منها، وسلمها إليها، ثم إن المرأة أوصت بثلث مالها لرجل، فنقول: صحت هبة الرجل في شيء من المائة، وحصل في يد المرأة شيء؛ فصحت وصيتها في ثلث ذلك الشيء، ثم لما ماتت قبل زوجها، رجع إلى الزوج بالميراثِ نصفُ الباقي، فحصل معه مائة إلا ثلثي شيء تعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة تعدل مائةٌ شيئين وثلثي شيء، فالشيء ثلاثة أثمان المائة، والوصيةُ تصح في ثمنٍ واحد، ويرجع إلى الزوج بالميراث نصفُ الباقي، وهو ثمن، فتحصل مع ورثته ستةُ أثمان، وهي ضعف الهبة. وهذه المسألة معتدلةٌ خارجة عن كلام ابن سريج. 7013 - مسألة: إذا وهب المريض عبداً له من أخيه قيمته ألف درهم، وأقبضه واكتسب خَمسمائة، ثم مات الموهوب له وخلف بنتاً وأخاه الواهب، ثم مات الواهب، فحساب المسألة أن نقول: جازت الهبة في شيء من العبد، وبطلت في عبدٍ إلا شيئاً، ونُتبعه من الكسب مثلَ نصفه، وذلك نصفُ شيء، يبقى لورثة الواهب من العبد عبدٌ إلا شيء، ومن كسبه مثلُ نصف ذلك، وهو نصف عبدٍ إلا نصفُ شيء، ويرجع إليهم بالميراث نصف ما حصل للموهوب له، وكان حصل له شيء ونصفٌ من العبد والكسب، فنصفه ثلاثة أرباع شيء، فيجتمع مع ورثة الواهب [عبدٌ ونصف] (1) إلا ثلاثة أرباع شيء، فإنه كان قبل الميراث في أيديهم عبد ونصف إلا شيئاً ونصفاً، فإذا رجع إليه نصف الشيء، [والنصف] (2) بالميراث، نقص الاستثناء وعاد إلى نصفه؛ فصار الحاصل بعد الميراث عبدٌ ونصفُ عبد إلا ثلاثة أرباع شيء، وذلك يعدل

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " فالنصف".

ضعف التبرع، وهو شيئان، فإذا جبرنا وقابلنا، فعبدٌ ونصف عبد يعدل شيئين وثلاثة أرباع شيء، فنبسطهما أرباعاً، ونقلب الاسمَ فيهما، فيكون العبد أحدَ عشرَ والشيء ستةٌ، فتصحّ الهبة في ستة أجزاء من أحدَ عشر جزءاً من العبد، ويتبعها من كسبه مثلُ نصفها، ثلاثة أجزاء غيرُ محسوبة على الموهوب له، فيجتمع له تسعة أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من عبد، وينبغي أن يكون لورثة الواهب اثنا عشر جزءاً ضعف ما يُعدّ من الهبة أولاً، وقد بقي خمسة أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من العبد بطلت الهبة فيها، ويبقى ما يتبعها من الكسب وهو مثل نصفها، ثم يُرجع الميراثُ نصفَ ما فضل في يد الموهوب له من الرقبة والكسب، والحاصل كان في يده تسعة، ونصفها أربعة ونصف، فإذا ضممناها إلى السبعة والنصف، كان المجموع اثني عشر، وهي ضعف الستة التي نفذت الهبة فيها. 7014 - مسألة: وهب المريض من أخيه ألفين، ثم وهب أخوه منه أحدَ الألفين على الشيوع، وهو صحيح، ثم مات قبله -نعني هذا الصحيحَ- ثم خلّف بنتاً وأخاه الواهبَ الأول، فللشافعي قولان في الحصر والشيوع: أحدهما - أن هبة الثاني تصح في جميع ما ملكه بالهبة الأولى، وتنحصر هبتُه فيما ملكه. على هذا القول تصح هبة الأول في الألف من الألفين، فترجع تلك الألف كلُّها؛ فيصير مع ورثته ألفان، وهما ضعف الألف الموهوبة. فطريق الحساب أن نقول: جازت هبته في شيء من الألفين، ورجع ذلك الشيء كله إليه؛ لأن الواهب الثاني صحيح، فيكون معه ألفان يعدلان شيئين فالشيء نصف الألفين، وهو ألف. وعلى هذا القول لا يكون في المسألة ميراث؛ فإن المسألة مفروضة إذا لم يكن للموهوب له مال سوى ما اتّهب، ووهبه. هذا أحد القولين. والقول الثاني أن هبة الثاني تصح في نصف ما ملكه بالهبة الأولى؛ فإنه قبض الألفين، فشاعت هبته فيهما، وصادفت ما ملك، وما لم يملك، وهو قد وهب

نصفَ الألفين، وطريق الحساب على هذا القول أن نقول: صحت هبة الوارث في شيء، ورجع إليه نصفُ ذلك الشيء بالهبة الثانية، ونصف الباقي بالميراث، فجميع ما يرجع إليه ثلاثة أرباع شيء، فيبقى معه ألفان إلا ربع شيء وذلك يعدل شيئين على القانون المعروف في المعادلة مع الضِّعف. فبعد الجبر والمقابلة يكون ألفان في معادلة شيئين وربع، فنبسطهما أرباعاً، فيصير الألف أربعةً والشيءُ تسعةً، فنقلب الاسم، فيصير الألفان تسعة والشيء أربعة، فتصح الهبة في أربعة أتساع الألفين، وتبطل في خمسة أتساعها، ويرجع إليه بالهبة تسعان، وبالميراث تُسعٌ واحد، فيحصل مع ورثته ثمانية أتساع الألفين، وهو ضعف الأربعة الأتساع التي نفذت الهبة فيها. 7015 - والذي يجب التنبيه له في هذه المسألة وأمثالها: أنا إذا وجدنا في أحد الجانبين كسراً، ولم نجد في الجانب الثاني كسراً، وقلنا: نبسط الجانبين ليخرج الكسر، بسطنا جانب الكسر على حق البسط، ونظرنا في الجانب الآخر في الجنس كصنيعنا في الألفين، وتحقيق هذا أنك لو لم تبسط، لقلت: العبارة في معادلة ألفين وربع، والشيء من الشيء يقع أربعة أتساعها، والقلب في مثل هذا المقام عادةٌ لا حقيقة له، فإنك إذا قلت: ألفان في معادلة شيئين وربع، كأنك قلت: هي شيئان وربع. 7016 - مسائل: في الهبة مع جريان الوطء من واطىء بشبهة، أو من الواهب الأول، أو من الموهوب له، أو منهما عَوْداً وبدءاً. فنقول إذا وهب أحدٌ أمةً، ثم وطئها أجنبي بشبهة قبل موت الواهب، كان المهر كالكسب مقسوماًعلى ما صحت منه الهبة، وعلى ما بطلت الهبة منه، فما يلاقي منه محلَّ صحةِ الهبة لا يكون محسوباً على الموهوب له، وما يلاقي منه ما بطلت الهبةُ فيه يكون محسوباً على ورثة الواهب. والحساب في المهر كالحساب في الكسب. ونحن نرسم المسائل فيه إذا كان الواطىء هو الواهب، أو الموهوب له، أو صدر الوطء منهما.

7017 - مسألة: إذا وهب أمةً وسلّمها، والواهب مريض، ثم إن الواهب وطئها في يد الموهوب له، [فتستحق المهر، فإن كان مهرها مثلَ قيمتها] (1)، فيسقط منها شيء آخر، فتبقى أمة إلا شيئين، وذلك يعدل شيئين، ضعفَ الهبة، فنجبر ونقابل، فتعدل الأمة أربعةَ أشياء، فنقلب الاسمَ، فتكون [الأمةُ] (2) أربعةً، والشيء واحداً، والواحد من الأربعة ربعها. وهذا من القلب الذي لا حاجة إليه؛ فإن الأمة إذا قابلت أربعة أشياء، فالشيء ربعها. وإذا صحت الهبة في ربع الأمة وبطلت في ثلاثة أرباعها، يسقط (3) عن الواطىء ثلاثةُ أرباع مهرها؛ لأن ذلك قسطُ ملكه، وعليه للموهوب له ربعُ مهرها، يُقضى من الأمة؛ إذ لا مال غيرُها، فيبقى مع ورثة الواهب نصف الأمة، وذلك ضعف الربع الموهوب. فإن كان مهرها مثلُ نصف قيمتها، قلتَ: صحت الهبةُ في شيء منها وتبعه من المهر نصف شيء يبقى له، إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة تعدل أمةٌ ثلاثةَ أشياء ونصف، فنبسطهما أنصافاً، ثم نقلب الاسمَ فتكون الأمة سبعة، والشيءُ اثنين، فتصح الهبة في [سُبعي] (4) الأمة. وحقيقة هذا القلب أن الأمة إذا قابلت ثلاثة أشياء ونصف، فالشيء يقابل سبعيها لا محالة، ثم يستحق الموهوب له بالمهر مثلَ سبعها، ويبقى لورثة الواهب أربعة أسباعها، وهو ضعف ما صحت الهبة فيه. فإن كان مهرُها ضعفَ قيمتها، قلنا: صحت الهبةُ في شيء منها، فاستحق الموهوب له بسبب المهر شيئين، فتبقى منها أمةٌ إلا ثلاثة أشياء تعدل شيئين ضعف الهبة، فبعد الجبر والمقابلة تعدل أمةٌ خمسةَ أشياء، فنقلب الاسم فيهما، فتكون الأمة خمسة، والشيء واحداً، وذلك خمسها.

_ (1) عبارة الأصل: " في يد الموهوب له على الواهب قبله فيسقط " والمثبت تقديرٌ منا. (2) في الأصل: الأربعة. (3) في الأصل: ويسقط. (4) في الأصل: سبع.

وقد ذكرنا أن هذا القلب لا حاجة إليه، فتصح الهبة في خمسها، ويستحق الموهوب له مثلَ خمسها، يبقى مع ورثة الواهب خمساها، فذلك ضعف الخمس الموهوب. 7018 - مسألة: مريضٌ وهب أَمةً لا مال له غيرُها، وأقبضها، [فوطئها] (1) الموهوب له، ومهر مثلها مثلُ قيمتها. فنقول: صحت الهبة في شيء، ووجب على الموهوب له مثلُه؛ فينتظم أن نقول: صحت الهبةُ من نصفها، ورجع إلى الواهب [مثل نصفها] (2)، عند ذلك صارت بكمالها مع ورثة الواهب وهي ضعف نصفها. وإن كان مهرُها مثلُ نصف قيمتها، قلنا: صحت هبة المريض في شيء، وبطلت في أمة إلا شيئاً، ويستحق الواهب بسبب المهر على الموهوب له مثلَ نصف ما بطلت فيه الهبة، وذلك نصفُ أمةٍ إلا نصفَ شيء؛ فإن الهبة بطلت في أمةٍ إلا شيئاً، ونصفُ ذلك نصفُ أمةٍ إلا نصفَ شيء، ووجود المهر يوجد من مصادفة الوطء، فأبطلت الهبة فيه، وقد ذكرنا أن الوطء لمهر نصف القيمة، فإذاً الجميع مع الواهب أمةٌ ونصفٌ إلا شيئاً ونصفَ شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر، تكون أمةٌ ونصفٌ يعدل ثلاثةَ أشياء ونصفاً، فنبسطهما أنصافاً، فنقلب الاسم فتكون الأمة سبعة، والشيء ثلاثة، فتصح الهبة في ثلاثة أسباع الأمة، وتبطل في أربعة أسباعها، ويغرَم الموهوب له من مهرها. مثلَ سُبعي قيمتها، فيجتمع مع ورثة الواهب ستةُ أسباعها، وهو ضعف الثلاثة الأسباع التي صحت الهبة فيه. 7019 - مسألة: إذا وهب المريض في مرضه جاريةً، قيمتُها مائة، وعُقرها خمسون، وأقبضها، فوطئها الموهوب له، ثم وهبها للواهب الأول في مرضه، ثم ماتا في مرضهما، ولا مال لهما غيرُها. فنقول: صحت هبة الأول في شيء من الجارية، وهي مائة ويؤدي الموهوب له

_ (1) في الأصل: فوطىء. (2) زيادة من المحقق.

من ذلك الشيء، مهرَ ما بطلت الهبةُ فيه، وذلك خمسون درهماً إلا نصفَ شيء؛ فإن الهبة الأولى بطلت في جاريةٍ إلا شيئاً، والمهر على مناسبة النصف، فإذا كان الباقي للواهب جاريةً إلا شيئاً، فنسبة المهر على حكم النصف خمسون إلا نصفَ شيء، فيبقى مع الموهوب له شيء ونصف شيء إلا خمسين درهماً. وتحقيق ذلك أنه كان معه شيء كامل، فأخرج منه خمسين إلا نصفَ شيء، فكأنه أخرج خمسين واسترجع نصفَ شيء، فصار ذلك الاستثناء مضموماً إلى الشيء، فنقول في يد الموهوب له شيء ونصف، ولكن نستثني من الشيء والنصف خمسين كاملة، ورأى الحسابُ هذه العبارة أمثل من أن نقول: في يده شيء إلا خمسين إلا نصفَ شيء. فهذا تحقيق هذه العبارة. فنعود ونقول: في يده شيء ونصف إلا خمسين درهماً، وقد وهب ما في يده، فصحت هبته في ثلث ذلك، وهو نصف شيء إلا ستة عشر درهماً وثلثي درهم، وهو ثلث الخمسين، فحصل لورثة الأول مائة درهم، وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم إلا شيئاً. وبيان ذلك أنه إذا رجع بسبب المهر ثلاثة وثلاثون درهماً وثلثُ درهم، فإنا على عبارة الجبر قلنا: في يد الموهوب له شيءٌ ونصفٌ لكن نقصانه الخمسين مثبوت عليه، ثم صححنا الهبة في نصف شيء مع ما فيه من الاستثناء، فيبقى على الموهوب له غُرم ثلثي الخمسين، فقد بقي في يده شيء وعليه في ذلك الشيء غُرم ثلاثة وثلاثون وثلث، فاستقام لنا أنه حصل في يد الواهب الأول مائة وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم إلا شيئاً، وهذه الجملة تعدل شيئين ضعفَ ما صحت الهبة الأولى منه، فبعد الجبر والمقابلة تكون مائة وثلاثة وثلاثون وثلث تعدل ثلاثة أشياء، فالشيء يعدل أربعةً وأربعين درهماً وأربعة أتساع درهم، وذلك مثل أربعة أتساع الجارية، فصحت الهبة في أربعة أتساعها، وبطلت الهبة في خمسة أتساعها، وعلى الثاني خمسة أتساع عُقرها، وذلك مقدار تسعي ونصف تسعها، فيصير مع الواهب الأول سبعةُ أتساع ونصفُ تسع، ويبقى مع الثاني تسعٌ ونصفُ تسع، تصح

هبته في ثلث ذلك، وهو نصفُ تسع. ويبقى مع ورثته ضعفُ ذلك، وهو [تُسع] (1) الجارية، ورجع إلى الواهب الأول بالهبة الثانية نصفُ تسع، فيجتمع مع ورثة الواهب الأول ثمانية أتساع الجارية، وهو ضعف ما صحت منه الهبة الأولى. 7020 - فإن وطئها (2) الواهب وهي في يد الموهوب له، ثم وطئها الثاني في مرضه (3)، فنقول: صحت هبة الأول في شيء منها، فلما وطئها الواهب، وجب عليه نصفُ شيء، فصار مع الثاني شيءٌ ونصفُ شيء، ثم صحت هبته في ثلث ذلك، وهو نصف شيء، وبقي لورثته شيء، وحصل لورثة الأول مائةٌ إلا شيئاً تعدل شيئين. فبعد الجبر يعدل مائةُ درهم ثلاثة أشياء فالشيء ثلثُ المائة، وتصح الهبة الأولى في ثلث الأمة، ويجب على الواهب ثلثُ عُقرها، وذلك مثلُ سدس الرقبة، فيبقى مع ورثة الثاني ثلثُها، وذلك ضعف السدس، فيبقى مع ورثة الأول ثلثاها، وذلك ضعفُ الثلث الموهوب أولاً. 7021 - فإن وطئها الواهب الأول بعد الهبة الثانية، فنقول: صحت الهبة الأولى في شيء، فلما وهب الثاني الشيء الأول، لنا أن نقول: صحت هبةُ الثاني في الثلث من الشيء الذي صحت الهبةُ الأولى فيه، وذلك لمكان رجوع شيء من الهبة إليه بسبب وطء الواهب بعد الهبة، فالوجه أن نقول: صحت هبة الأول في شيء، فلما وهب الثاني الأول، صحت وصيته في الشيء، وبقي مع الواهب الثاني شيء إلا وصية، (وإنما أطلقه الوصية الألفاظ) (4). فلو وطئها الأول، وجب عليه شيء من مهرها، وهو حصة ما في يد الثاني بعد تقدير الهبة منها، فنقول: المهر نصف القيمة، وقد بقي في يد الواهب الثاني شيء إلا وصية، فيجب على الواهب الأول الواطىء من المهر [للثاني] (5) نصفُ شيء إلا نصفَ

_ (1) في الأصل: تسعي. (2) في الأصل: فإن وطئها إلى الواهب، وهي في يد الموهوب له. (3) عبارة الأصل: ثم وطئها الثاني في مرضه من الأول، فنقول ... (4) كذا (انظر صورتها). (5) في الأصل: الثاني.

وصية، فيحصل مع الثاني شيءٌ ونصفٌ إلا وصيةً ونصفَ وصية. وبيانه أنه بقي في يد الثاني شيء إلا وصية، ورجع إليه نصف شيء إلا نصفَ وصية، فالمجموع في يده شيءٌ ونصفُ شيء إلا وصية ونصفَ وصية، تعدل وصيتين، ضعفَ ما تبرع الثاني فيه، وكأن تبرعه وصية، فضعفها وصيتان، فنجبر هذا الجانب ونقابل، فيكون شيء ونصف يعدل ثلاث وصايا ونصف وصية، فنبسطها أنصافاً، ونقلب الاسم فيهما فيكون الشيء سبعة والوصية ثلاثة؛ إذ قد وجد التنصيف من الجانبين: جانب شيء ونصف، ومن جانب ثلاث وصايا ونصف، فقلنا: جانب الشيء أولاً ثلاثة، وجانب الوصية سبعة، ثم قلبنا العبارة والاسم، وقلنا الشيء في جنسه سبعة، والوصية ثلاثة أسباعه، فتصح هبة الثاني في ثلاثة أسباع الشيء، ويجب على الأول عُقرُ أربعة أسباع شيء وهو سبعا شيء؛ فإن العُقرَ نصف القيمة، فيحصل لورثة الثاني ستة أتساع شيء من الأمة وعقرها، وبقي لورثة الأول مائة درهم إلا ستة أسباع شيء، وذلك يعدل شيئين ضعفَ الهبة الأولى. فنجبر ونقابل، فتكون جارية تعدل شيئين وستة أسباع شيء، فنبسطها أسباعاً، ونقلب العبارة فيهما، فتكون الجارية عشرين، والشيءُ سبعةً فتصير هبةُ الأول سبعةَ أجزاء من عشرين جزءاً من الجارية، فبقي مع الأول ثلاثةَ عشرَ جزءاً منها، ويرجع إليه بهبة الثاني ثلاثة أجزاء، فيجتمع معه ستةَ عشرَ جزءاً، ويبقى مع الثاني أربعة أجزاء، فيغرَم الأول [من] (1) عُقرها جزأين، فيحصل لورثة الثاني ستة أجزاء: أربعةٌ من رقبتها وجزءان من العُقر [ويحصل لورثة الأول أربعة عشر جزءاً] (2) وهي ضعف السبعة الأجزاء التي صحت هبته فيها. 7022 - فإن وطئها الثاني بعد الهبة الثانية، [نقول:] (3) صحت هبة الأول في شيء من الجارية، ثم وهب الثاني الشيءَ، فلا يجوز أن نقول: صحت هبتُه في ثلث شيء؛ لأنه سيلتزم بالوطء شيئاً، فنقول: صحت هبة الأول في شيء، وصحت بهبة

_ (1) زيادة من المحقق. (2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها. (3) زيادة من عمل المحقق.

الثاني وصية في شيء، بقي في يد الثاني شيء إلا وصية؛ فيجتمع للأول مائةُ درهم، ووصية إلا شيئاً، فلما وطئها الثاني، وجب عليه من العُقر ما يصادف ملك الغير، والعبارة عما يلزم أن نقول: يجب عليه خمسون درهماً ونصفُ وصية إلا نصفَ شيء. وبيان ذلك أنه حصل في يد الأول مائة ووصية إلا شيئاً، فيجب على الثاني نصفُ ذلك من حساب العُقر. ونصفُ مائة ووصية إلا شيئاً - خمسون (1) ونصفُ وصية إلا نصفَ شيء. فيأخذ ذلك [مما] (2) في يد الثاني، وهو شيء إلا وصية، فيبقى في يده شيء ونصفُ شيء إلا وصية ونصفُ وصية إلا خمسون درهماً. وبيان ذلك أنه كان في يده شيء إلا وصية، فأخرجها من خمسين ونصف وصية إلا نصفَ شيء، فكأنا أخرجنا خمسين ووصية، واسترجعنا نصف شيء مما استثنياه في هذا الجانب، على القياس الذي مهدناه؛ فيحصل إذاً شيء ونصفُ شيء إلا وصيةً ونصفَ وصية إلا خمسين درهماً، وهذا يعدل وصيتين ضعفَ ما تبرع به، فإذا جبرنا وقابلنا، صار شيءٌ ونصفٌ إلا خمسين درهماً، يعدل ثلاث وصايا ونصف وصية، فالوصية سُبعا ذلك، وهي ثلاثةُ أسباع شيء إلا أربعة عشر درهماً وسبعي درهم، فاجمع ما في يد الأول، وكان معه مائة درهم إلا شيئاً بسبب بطلان الهبة الأولى فيها، ومعه وصية بسبب هبة الثاني ومعه من العُقر نصفُ وصية وخمسون درهماً إلا نصفَ شيء، فجميع ما في يده مائةٌ وخمسون درهماً ووصيةُ (3) ونصفُ وصية إلا شيئاً ونصفَ شيء، فاجعل مكان الوصية والنصف قيمتَها، وذلك أربعةُ أسباع شيء ونصفُ سبع شيء إلا أحداً وعشرين درهماً وثلاثة أسباع درهم، فيصير معه مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم إلا ستة أسباع شيء، وهذه الجملة تعدل شيئين ضعفَ الهبة الأولى، فبعد الجبر والمقابلة تكون مائة وثمانية وعشرون وأربعة أسباع درهم تعدل شيئين وستة أسباع شيء، وإن أحببنا، قلنا: مائة وسبعا مائة تعدل شيئين وستةَ

_ (1) خمسون خبر للمبتدأ "ونصف مائة ... ". (2) في الأصل: ما. (3) في الأصل: وصية (بدون الواو).

أسباع؛ فإن ثمانية وعشرين وأربعة أسباع سُبعا مائة؛ فإن سبع المائة أربعة عشر وسبعان، فهي في معنى قول القائل جارية وسبعا جارية تعدل شيئين وستة أسباع، فنبسطها أسباعاً، ونقلب الاسم فيهما، فتكون الجارية عشرين سهماً، والشيءُ تسعة، فتصح هبة الأول في [تسعة] (1) أجزاء من عشرين جزءاً من الجارية، هي ربعها وخمسها. فنعود ونقول: صحت الهبة في ربع الجارية وخُمسها، وذلك خمسةٌ وأربعون من مائة، وصحت هبة الثاني من الأول في ثلاثة أسباع ذلك إلا أربعة عشر درهماً وسبعي درهم، وثلاثة أسباع خمسة وأربعين تكون تسعة عشرَ درهماً وسبعي درهم، فأسقط منها أربعةَ عشرَ درهماً وسُبعين، تبقى خمسةُ دراهم، هي هبة الثاني، وذلك [تسع] (2) ما ملكه بالهبة، وكانت الهبة تسعة أجزاء من عشرين جزءاً من الجارية، وصحت هبته في تسعٍ، وذلك جزء واحد، فبقي معه ثمانية أجزاء، وحصل مع الأول اثنا عشر جزءاً، فلما وطئها الثاني وجب عليه مثلُ نصف الحاصل مع الأول، وذلك ستةُ أجزاء، يبقى مع الثاني جزءان، هي ضعفُ هبته؛ لأن هبته جزء واحد، ويحصل مع ورثة الأول ثمانيةَ عشر جزءاً، وهي ضعف التسعة الموهوبة. 7023 - ومن لطيف ما جرى في هذه المسألة أن حقنا في الجبران لا يغادر من الاستثناء شيئاً لا نجبره، وقد جبرنا وقابلنا، وأبقينا الاستثناء دراهم، وسبب ذلك أن الدراهم معلومة ونحن إنما [ ... ] (3) نجبر استثناء لجبرها في المجاهيل، كالأشياء التي نقدّرها، ونضعّفها للمعادلات، وهي تقديرات غايتُنا أن تصير إلى معلوم، فإذا وجدنا معلوماً، لم نغيّره، فإنّ ذلك المعلوم مستثنى كذلك، وإن كان [مثبتاً] (4) أجريناه [مثبتاً] (5) كذلك.

_ (1) في الأصل: سبعة. (2) في الأصل: سبع. (3) مكان بياض بالأصل قدر كلمة. (والعبارة فيها شيء من القلق). (4) في الأصل: مبنياً. (5) في الأصل: مبنياً.

7024 - فإن وهبها، فأقبضها، فوطئها الموهوب له، ثم وهبها الأولَ في مرضه، وأقبضه إياها، فوطئها الأول، ولا مال لهما غيرُها، وقيمتها ثلاثمائة درهم، وعُقرها مائة. فنقول: صحت هبة الأول [في شيء] (1) وبطلت في جارية إلا شيئاً، [فلما] (2) وطئها الثاني، وجب عليه للواهب [عُقرُ ما بطلت] (3) الهبةُ فيه، وذلك مائةٌ إلا ثلث شيء؛ فإن العُقرَ ثلثُ القيمة، وإذا أضيف استثناءٌ إلى جملةٍ توزّع الاستثناء على أجزائه، فإذا قلنا: ثَلاثمائة إلا شيئاً، فنقول في العُقر: مائة إلا ثلثَ شيء؛ فإن العُقر ثُلثُ القيمة، وإذا أضيف استثناءٌ إلى جملة تَوزّع الاستثناء على أجزائه، فإذا قلنا: ثَلاثمائة إلا شيئاً، فنقول في العقر: مائة إلا ثلث شيء، ثم لما وهبه الثاني الشيء، لم نُطلق فيه الثلث لمكان [العِلم] (4) كما تقدم، بل تعيّن. ونقول: لما وهب الثاني الشيء، نفذت وصيتُه بسبب هبته، وهي في يده شيء إلا وصية، فلما وطئها الأول، وجب عليه عُقرُ ما بقي في يد الثاني، وذلك ثلث شيء إلا ثلثَ وصية، فإن نسبتَ العُقرَ تبع (5) التثليثَ في كل طرف. فإذا كان في يد الثاني شيء إلا وصية، فحصته من العُقر ثُلثُ شيء إلا ثلث وصية، فنجمع الآن ما مع الأول: في يده ممّا بطلت الهبة فيه ثَلاثمائة إلا شيئاً، ويرجع إليه بوطء الثاني مائةُ درهم إلا شيئاً وثلثَ شيء، ومعه أيضاً بسبب هبة الثاني [وصية] (6) فهذا ما معه. وقد غرِم الثاني ثلثَ شيء إلا ثلثَ وصية، فيبقى في يده بعد حط هذا الغرم وصية وثلث وصية، وهذا الثلث هو الذي استرجعناه مما غرِمه من العُقر؛ فإنه غرِم ثلثَ شيء إلا ثلثَ وصية، فكأنه غرِم ثلث شيء، واسترجع ثلثَ وصية، وفي يده أربعُمائة درهم إلا شيئاً وثلثي شيء، وكان شيئاً وثلثاً أولاً، فازْداد ثلثَ شيء بسبب غُرمه.

_ (1) سقط من الأصل. (2) في الأصل: وإنما. (3) عبارة الأصل: عقرها فأبطلت. (4) في الأصل: العدم. (5) في الأصل: "بيع على التثليث". (6) في الأصل: وطئية.

ثم ننظر إلى ما في يد الثاني، وقد كان معه الشيء الموهوب له، وغرِم له الأول بسبب العُقر ثلثيَ شيء إلا ثلثَ وصية، ووهب هو وصية، وغرِم هو مائةً إلا ثلثَ شيء بسبب العُقر، فبقي معه شيء وثلثا شيء إلا وصية وثلث وصية وإلا مائة درهم. وسبيل استرجاع الاستثناءين وضم الجنس إلى الجنس ما قدمنا. وهذا الذي مع الثاني يعدل وصيتين، فبعد الجبر والمقابلة يكون ثلاث وصايا وثلث وصية تعدل شيئاً وثلثي شيء إلا مائة درهم. فالوصية الواحدة تعدل ثلاثة أعشار ذلك إذا بسطت الوصايا أثلاثاً، وذلك نصف شيء إلا ثلاثين درهماً. هذا قيمة الوصية. وبيانه أن الوصية من ثلاث وصايا وثلث، فإذا كانت ثلاثةَ أعشار شيء وثلثي شيء إلا مائة، فهي تقع مثلَ نصف شيء إلا ثلاثين درهماً، فإنا نبسط الشيء والثُّلُثَين أثلاثاً، فتقع خمسة، ثم نأخذ ثلاثة أعشار الخمسة فتكون واحداً ونصفاً، والواحد والنصف، يقع نصف الشيء، فإن الشيء ثلاثة، ثم نعود، فنبسط المائة على هذه الخمسة، فيقابل الشيء والنصفَ ثلاثين. فهذا حاصل قوله قيمةُ الوصية نصفُ شيء إلا ثلاثين درهماً. ثم نعود إلى الذي مع الأول، ومعه أربعُ مائة درهم ووصية وثلث وصية إلا شيئاً وثلثي شيء، فاجعل بدل الوصية والثلث قيمتها، وهو ثلثا شيء إلا أربعين درهماً على التقويم الذي ذكرناه، فيحصل في يده ثلاثمائة وستون درهماً إلا شيئاً تعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون ثَلاثُ مائة وستون درهماً تعدل ثلاثة أشياء، فالشيء ثُلثُ ذلك وهو مائة وعشرون، وذلك خمسا الجارية، فنقول: صحت هبة الأول في خمسيها وبطلت في ثلاثة أخماسها، وعلى الثاني ثلاثة أخماس عُقرها وذلك ستون درهماً. وصحت هبةُ الثاني في وصيته، وهي نصف شيء إلا ثلاثون درهماً، وذلك ثلاثون درهماً، وهو ربع الشيء، فبطلت هبة الثاني في ثلاثة أرباع شيء، ووجب على الأول عُقر ثلاثة أرباع شيء، وهو ثلاثة أعشار الجارية، و [مقداره] (1) من العُقر ثلاثون

_ (1) في الأصل: مقدار.

درهماً، فنجعل ذلك قصاصاً مما استحقه من الوصية من الثاني، يبقى له على الثاني ستون درهماً، نخرجها مما في يد الثاني، وهو مائة وعشرون، يبقى في يد ورثة الثاني خمسُ الجارية، وقيمتها ستون درهماً، وهي ضعف وصيته. ويحصل لورثة الأول من الجارية وعُقرها مقدارٌ وأربعون درهماً، وذلك أربعة أخماس الجارية، وهي ضعف هبة الأول. وقد نجز القول في المسائل الدائرة في الهبات وما يتعلق بها من تصاريف الأحوال. القول في المسائل الدائرة في المحاباة في البيع والسلَم والإقالة والضمان والكفالة والإقرار والكتابة وعتق المدبر [ ... ] (1). 7025 - المحاباة في البيع هي بيع الشيء بأقلَّ مما يساوي، وقدْرُ المحاباة تبرعٌ [فإن وفَّى] (2) الثلثُ بمقدار المحاباة، نفذ البيع كما وقع، وإن ضاق الثلثُ عن مقدار المحاباة وأجاز الورثةُ، نفذ البيع [بإجازتهم] (3)؛ تفريعاً على أن إجازتهم تنفيذٌ للوصية، وليس بابتداء عطية. وعلى هذا القول مسائل الهبة. وإذا جعلنا إجازةَ الورثة ابتداء عطية، فلا بدّ من فرض هبة، ويخرج الكلام على النظم في أن ردّ الورثة الزائدَ من المحاباة على الثلث [فسخٌ] (4). فيتصل بذلك طرفٌ من تفريق الصفقة؛ فإنا قد [نردّ] (5) البيع في بعض المبيع، وإذا ارتدّ المبيع في هذا الحكم، فقد اختلف أصحابنا على طريقين، فمنهم من قال: يخرج أصله على قولين في انفساخ البيع أصلاً، وهذا يبتني على ما سبق تمهيده في كتاب البيع. ومن أصحابنا من قطع القول بأن البيع لا ينفسخ في المقدار الذي لا يضيق الثلث (6)

_ (1) كلمة تعذر قراءتُها. (2) في الأصل: كان وفا. (3) في الأصل: وإجازتهم. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: تردد. (6) في الأصل: لا يضيق عن الثلث عن احتمال.

عن احتمال المحاباة فيه، واستدلّ بأن البيع نفذ على الظاهر، وردُّ بعضه في حكم التدارك. وهذه الطريقةُ ركيكة؛ فإن البيع في البعض بين أن يبين أنه لم يصح، وبين أن نفرض صحةَ البيع، ثم نقدر انفساخه، وعلى أي وجهٍ قُدِّر، اتجه فيه القولان في تفريق الصفقة، وحُكمنا بالانعقاد ظاهراً لا يزيد على تحققه الحكمُ بانعقاد البيع على عبدين، فإنه إذا تلف أحدُهما قبل القبض [وانفسخ] (1) البيع فيه، خرج قولان في انفساخ العقد في [العبد] (2) القائم. نعم، لو قيل: إن المختار أن البيع لا ينفسخ فيما يحتمل الثلث محاباته، لكان ذلك قريباً. فليقع التفريع على أن البيع لا ينفسخ [وحكمه] (3) التفريق، فإذا (4) ضاق الثلث عن احتمال جميع المحاباة، واقتضى الأمرُ التبعيض، ففي كيفية ذلك قولان. ذكرهما الشيخ أبو علي وغيره من نقلة المذهب، وما أراهما منصوصين، ولكنهما مستخرجان من معاني كلام الشافعي، وأوردهما ابن سريج: أحدهما - أن الثَّمنَ المذكور يقابَل بما يساويه من أجزاء العبد من غير تقدير محاباة، ثم يقابَل في القدر الذي يحتمله الثلث من المحاباة، فنجعل ذلك هبةً وراء المقدار المبيع، ولا يسقط من الثمن شيء، ولكنه على مقابلة ما يساويه من البيع، ونضم إليه القدرَ المحتمل من المحاباة هبةً بلا عوض من البيع، حتى إذا باع عبداً يساوي مائتين بمائة -لا مال له غيره- فالمائة تقف في مقابلة نصف العبد. وقد سلم [للورثة] (5) نصف العبد إذا (6) سلم لهم ثمنه، ثم نقول للورثة: قدّروا

_ (1) في الأصل: فالفسخ. (2) في الأصل: في البيع القائم. (3) في الأصل: لا ينفسخ حكم التفريق ... (4) في الأصل: إذا. (5) في الأصل: "الورثة". (6) (إذا) بمعنى (إذ). وهي لغة صحيحة فصيحة.

كأنه تبرع بنصف العبد، فأجيزوا تبرعه فيما يحتمله الثلث، فيسلّم للمشتري خمسة أسداس العبد بمائةٍ: المبيعُ فيها نصف العبد وثلثُه موهوب، ويبقى للورثة سدس العبد، والثَّمن. والمحاباة مما أخذه المشتري ستة وستون وثلثا درهم، فقد سلم للورثة من الثمن والرقبة [مائة] (1) وثلاثة وثلاثون وثلث، وهو ضعف المحاباة. هذا قولٌ، وهو ضعيفٌ جداً؛ فإنه يعتبر بوضع البيع وإزالة المقابلة حتى التي تضمنها البيع؛ فإن [الثمن] (2) مقابل في [وضع] (3) البيع بجملة المثمن، فرد جملة الثمن إلى مقابلة بعض المثمّن إنشاء تصرفٍ لم يقتضه البيع، وهذا يضاهي القول المزيّف المذكور في تفريع تفريق الصفقة أجزاءً إذا انفسخ العقد في أحد العبدين؛ فإنه قد قيل: يجيز المشتري البيع إن أراد في العبد القائم بجميع الثمن. والقول المذكور ها هنا أظهر فساداً من ذاك؛ فإنه يشتمل على تقدير هبةٍ لم تجرِ، ضمّاً إلى تغيير البيع عن قضية المقابلة المذكورة فيه، فلا وجه لهذا القول إذاً، ولا عَوْدَ إليه، ولا تفريع عليه. والقول الثاني -وهو المختار- أنا إذا ردَدْنا من المحاباة شيئاً، فنرد البيعَ في بعض المبيع، ونُسقط قسطاً من الثمن، ويبقى البيعُ في بعض المبيع ببعض الثمن مع المحاباة التي يحتملها الثلث، على ما يخرج من الحساب. ثم مما يتصل بهذا الأصل أنا إذا رددنا المبيع في مقدارٍ يُخيّر المشتري لا محالة، فإن فسخ العقد، [فلا كلام] (4) وإن أجاز العقدَ، وقد تبعض البيعُ دارت المسألة، فإنه يخرج من المبيع شيء ويعود من الثمن مقدارٌ، فينقص المال بالخروج، وينجبر بعضُ النقصان [بعَوْد] (5) قسط من الثمن. فهذا مأخذ الفقه. ثم ذكر صاحب التلخيص مسائلَ من المحاباة متصلةً بأموال الربا حتى يجتمع فيها

_ (1) مزيدة من عمل المحقق. (2) فى الأصل: البيع. (3) في الأصل: صنع. (4) في الأصل: بالكلام. (5) في الأصل: تعد. والمثبت من هامش الأصل.

تعقيدُ الدّور وغموضُ الحكم في محاورة (1). ونحن نرسم ما ذكره الأئمة مسائل، ونذكر في كل مسألة طرق الحساب مدونة على الفقه - إن شاء الله تعالى. 7026 - مسألة: إذا باع المريض قفيزاً من البر الجيّد يساوي عشرين درهماً بقفيزٍ من الرديء يساوي عشرةَ دراهم لا مال له سواه، ورد الورثةُ ما يزيد على الثلث، والتفريعُ على صحة العقد. فإن فرّعنا على القول الضعيف في أنه لا يسقط من الثمن شيء بأن نقف جملةَ الثمن في مقابلة ما يساويه من [المثمن] (2)، فمقتضى هذا القول أن يقع القفيز الرديء في مقابلة نصف القفيز الجيد، ويقع ثلثُ الجيد [موهوباً] (3). وهذا هو الربا بعينه، فلا يخرّج هذا القول [في] (4) الربويات أصلاً، ويجب القطع بفساد هذه المعاملة. ثم إذا لم يصح البيعُ، فلا هبة؛ فإن الهبة إنما تقدر على تقدير نفوذ البيع، حتى كأنها في ضمن البيع. ومن يُفرّع على هذا القول الضعيف يقول: لو قال المشتري: رددتُ البيعَ، فسلّموا لي مقدار المحاباة هبةً من البيع، فلا يسلّم إليه شيء بالتفريع على القول الصحيح الذي ارتضاه ابن سريج، وهو أن البيع لا يصير موضوعه في انبساط الثمن على المثمن، ويتقدّر البيع على موجب الشيوع ما يشتمل على المقدار الذي يحتمله الثلث من المحاباة. وعلى هذا لا يؤدي تصحيح البيع إلى الربا، وتفاضل الجيد [و] (5) الرديء في المقدار.

_ (1) كذا. (2) في الأصل: الثمن. (3) في الأصل: مرهوناً. (4) زيادة من المحقق. (5) زيادة لاستقامة الكلام.

وحساب المسألة بطريق الجبر أن نقول: جاز البيع في شيء من القفيز الجيد، وبقي مع البائع قفيز إلا شيئاً، ورجع إليه بالعوض شيءٌ قيمته نصف شيء؛ فصار الباقي معه قفيزاً إلا نصفَ شيء، وذلك يعدل ضعفَ المحاباة، والمحاباةُ (1) هو الذي لم يرجع، وهو شيء. نجبر ونقابل، فيصير القفيز الجيد في معادلة شيء ونصف، فالشيء الذي صح البيع فيه ثلثا القفيز. وإن أحببنا قلنا: نبسط الشيء والنصفَ والقفيز أنصافاً، فالشيء ثلاثة، والقفيز اثنان، فنقلب الاسم ونقول: القفيز ثلاثة والشيء اثنان، فقد صح البيع في اثنين [من] (2) ثلاثة وهو القفيز. وتطَّرِد المسألة [بعد ذلك بطريقة] (3) التقدير والنسبة، وهي أن ننظر كم قدر الثلث من [قدر] (4) المحاباة؟ فإن [كان] (4) الثلث مثلَ المحاباة، فلا شك في نفوذ البيع في الجميع [وكذا] (4) إن كان الثلث أكبر من المحاباة، وإن كان الثلث أقلّ من مقدار المحاباة، فننسب الثلث إلى المحاباة، ونأخذ من النسبة، ونقول: صح البيع من ذلك الجزء من المبيع. فإن كان الثلث نصفَ المحاباة، صح البيع في نصف المبيع، وإن كان ثلث المحاباة، صح البيع في ثلث المبيع. وهذا يطرد في جميع النسب في مسائل المحاباة. فنقول في هذه المسألة: القفيز الجيد عشرون، فثلث المال ستةٌ وثلثان، والمحاباة عشرة، فالثلث إذا نسب إلى المحاباة، وقع [ثلثيها] (5)، فنقول: صح البيع في ثلثي القفيز الجيد.

_ (1) عبارة الأصل فيها زيادة وحشوٌ وكلامٌ مقحم -فيما أقدّر- ونصها كالآتي: والمحاباة هو الذي لم يرجع، وهو شيء، وضعفه شيء بالقفيز إلا نصفَ شيء، يعدل ضعف المحاباة وهو شيء. نجبر ونقابل ... إلخ. (2) في الأصل: "وثلاثة". (3) في الأصل: تعدلت طريقة التقدير. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "ثلثها".

7027 - طريقة الدينار والدرهم: فنقول: القفيز الجيد دينار ودرهم، فنقول: نجيزُ البيع في درهم، ويرجع بالعوض درهمٌ قيمتُه نصفُ درهم، فحصل معه دينار ونصفُ درهم من جهة المالية والقيمة، حصلت المحاباة نصفُ درهم، ومع ورثة البائع المريض دينار ونصف درهم، يعدل درهماً، وهو ضعف المحاباة، فنلقي نصفَ درهم بنصف درهم قصاصاً، يبقى دينار يعدل نصف درهم، فالدرهم يعدل دينارين، وبان الدرهم ضعفَ الدينار في وضع المسألة، فإنا لما أجزنا البيع في درهم، فقد أجزناه في ثلثي المبيع. وإن أحببتَ قلتَ: القفيز دينار ودرهم فنجيز البيع، في دينار من الجيد، ورجع نصف دينار من جهة القيمة، فيبقى في يد ورثة البائع نصف دينار ودرهم، وذلك يعدل ضعف المحاباة وهي نصف دينار، وضعفها دينار. فإذاً نصف دينار ودرهم (1) يعدل ضعف المحاباة وهي نصف دينار [أي] (2) يعدل ديناراً، فنسقط نصف دينار بنصف دينار قصاصاً، فيبقى درهم في معادلة نصف دينار، فالدينار في معادلة درهمين. فنعود ونقول: القفيز الجيد كان ديناراً ودرهماً، وقد بان أن قيمة الدينار درهمان، فقد نفذ البيع في ثلثي القفيز. وذكر الشيخ أبو علي طريقة الخطأين وأطنب في إيرادها، ومن أحاط بما مهدناه، [لم] (3) يحتج إلى الإطناب [بذكرها] (4). ثم امتحان المسألة على الطرق لائح، فنقول: صح البيع في ثلثي القفيز الجيد، وقيمته ثلاثةَ عشرَ وثلث، ورجع [ثلثا] (5) القفيز الرديء، وقيمته ستة وثلثان، وبقي

_ (1) عبارة الأصل: فإذا نصف دينار ودرهم وذلك يعدل ضعف المحاباة. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: فلم. (4) فنذكرها. (5) في الأصل: ثلث.

في يد الورثة من القفيز الجيد ثُلثُه، وقيمته ستة وثلثان، والمحاباة ستة وثلثان. والمال في يد الورثة من القفيز الجيد ومما رجع ثمناً ثلاثةَ عشرَ وثلث، وهي ضعف المحاباة. 7028 - ثم ذكر صاحب التقريب هذه المسألة وأفتى فيها بما ذكرنا، وذكر بعد ذلك أن المشتري بالخيار في ردّ البيع، وذكر أن ورثة البائع بالخيار في رد أصل البيع، واعتمد بأن الصفقة قد تبعضت من الجانبين حكماً، فكما [تبعَّض] (1) القفيز الجيد على المشتري تبعّض القفيز الرديء على ورثة البائع، فيثبت الخيار من الجانبين جميعاً. قال: ويجوز أن يقال: لا يثبت الخيار للمشتري؛ فإن المسألة مفروضة في تبعيض القفيز من الحنطة، وتبعض البر لا يتضمن [تنقيصاً] (2) وإنما [ينتقص] (3) بالتبعض المتقومات، [ومن ثَمَّ لم يثبت الخيار لورثة البائع] (4). هذا منتهى كلامه في ذلك. وقد أجمع أئمة المذهب على تخطئته في الجانبين: أما قولُ ورثة البائع فغلطٌ، لا شك فيه؛ فإنا لو أثبتنا لهم الخيار، لتوصلوا إلى إبطال المحاباة رأساً؛ فإنهم لو فسخوا البيع؛ اندفعت المحاباة بارتفاع البيع، ولا سبيل إلى قلب المحاباة إلى الهبة. والثلث محل تصرّف المريض وموطن حقه، فلا سبيل إلى إبطال حقه. هذا وجه تغليطه في هذا الشق. وأما ما ذكره من أن المشتري لا يتخير لأن البُرّ لا ينقصه التبعيض، [فهذا غلطٌ] (5)؛ فإن تبعيض الصفقة من موجبات الخيار في جانب المشتري، سواء تضمّن نقصانَ القيمة أو لم يتضمنه؛ فإن من اشترى عبداً، واطلع على عيبه، يثبت له حق

_ (1) في الأصل: ينقص. (2) في الأصل: تبعيضاً. (3) في الأصل: يتبعض. (4) عبارة الأصل: "ثم إذا لم يثبت الخيار لورثة البائع. هذا منتهى كلامه". (5) عبارة الأصل: "فيها غلط كافة".

الرد، [وإن] (1) كان العبد معيباً يساوي أضعاف ثمنه المسمّى، فلا حاصل لما ذكره صاحب [التقريب] (2) وليس ما جاء به معدوداً من المذهب. 7029 - مسألة أخرى من جنس ما تقدم: باع المريض قفيزاً قيمته ثلاثون بقفيزٍ قيمته عشرة، فحساب المسألة بطريق الجبر أن نقول: نفذ البيع في شيء من القفيز الجيد [بما] (3) قيمته ثلث شيء، فحصل في يد ورثة البائع قفيز إلا ثلثي شيء وذلك يعدل ضعف المحاباة، وهي ثلثا شيء، وضعفُها شيء وثلث، فنجبر ونقابل، فيكون قفيزٌ كامل في معادلة شيئين، فالشيء الذي أطلقناه نصفُ القفيز. فنقول: صح البيع في نصف القفيز الجيد، وتستمر المسألة سديدة على الامتحان. طريقة التقدير والنسبة: نقول: [لصاحب] (4) القفيز الجيد قَبْل تنفيذ البيع ثلاثون، وثُلثُه عشرة، والمحاباة في البيع عشرون، والثلث نصف المحاباة، فنطلق البيع في نصف القفيز الجيد، ولا خفاء بإجراء الدينار والدرهم والخطأين. 7030 - مسألة: باع المريض كُرّاً جيداً قيمته أربعُمائةٍ وعشرة بكُرٍّ رديء قيمته مائةٌ وعشرة، [وللبائع سوى الكُرِّ خمسون درهماً] (5). فحساب المسألة بالجبر أن نقول: نفذ البيع في شيء من الكُرّ إلا ربع، وبطل البيع في كُرِّ إلا شيئاً، ورجع من العوض ما قيمته أحدَ عشرَ جزءاً من أحدٍ وأربعين جزءاً من شيء. وبيان ذلك أن قيمة الكُر الجيد بالعشرات أحدٌ وأربعون من العشرات، وقيمة الرديء أحدَ عشرَ من العشرات، فتقع النسبة بينهما على هذه النسبة. فهذا معنى قولنا

_ (1) في الأصل: فإن. (2) في الأصل: صاحب التلخيص. وهو سبق قلم؛ فلم يسبق له ذكرٌ. (3) في الأصل: "ما" (4) في الأصل: "فإن صاحب". (5) عبارة الأصل فيها تصحيف وتحريف أجهدنا تصويبه ونص عبارته: "والبائع شرى الكر خمسين درهماً". (تأمل كيف حصل التصحيف).

[ينفذ] (1) البيع في شيء من الجيد، ورجع في [عوضه] (2) ما قيمته أحدَ عشرَ جزءاً من أحدٍ وأربعين جزءاً من شيء، فبقي في يد ورثة البائع مما لم يصح البيع فيه ومما رجع عوضاً: الكُرّ الجيد إلا [ثلاثين جزءاً] (3) من أحدٍ وأربعين جزءاً من الكُر الجيد؛ [فالنسبة] (4) بالعشرات أحدٌ وأربعون والخمسون [خمسة] (5)، فنجمع ونقول: في أيديهم كُرٌّ جيد وخمسةُ أجزاء من أحدٍ وأربعين جزءاً من الكر الجيد -باعتبار القيمة- إلا ثلاثين جزءاً من أحدٍ وأربعين جزءاً من [شيء] (6). وهذا الحاصل ضعفُ المحاباة. وإذ كان مقدار المحاباة ثلاثين جزءاً من أحدٍ وأربعين جزءاً من شيء، فضعفه شيء وتسعةَ عشرَ جزءاً من أحدٍ وأربعين جزءاً من شيء. فنجبر ونقابل، فيصير كُرٌّ جيد وخمسةُ أجزاء من أحدٍ وأربعين من كُر تعدل شيئين وثمانيةَ أجزاء من أحدٍ وأربعين جزءاً من شيء، فنبسطهما بأجزاء أحدٍ وأربعين، ونقلب الاسم والعبارة، فيصير [الكرّ] (7) تسعين، والشيء ستةً وأربعين جزءاً من [تسعين] (8) جزءاً من [الكُر] (9)، وتستمر المسألة قويمة على الامتحان. وإن اختصرنا، قلنا: يصح البيع في ثلاثةٍ وعشرين جزءاً من خمسةٍ وأربعين جزءاً من الكُر؛ فإن ثلاثة وعشرين من خمسة [وأربعين] (10) مثل ستة وأربعين من تسعين. ولا حاجة إلى التطويل بالامتحان؛ فإن المسلك واضحٌ.

_ (1) في الأصل: "يفسد". (2) في الأصل: "عوض". (3) في الأصل: "ثلث جزء". (4) مكان بياض قدر كلمة. (5) في الأصل: خمسين. (6) في الأصل: ستين. (7) في الأصل: الكل. (8) في الأصل: سبعين. (9) في الأصل: الكل. (10) في الأصل: وعشرين.

7031 - فإن كانت قيمةُ كُرِّ البائع خمسين درهماً، وقيمةُ كرّ المشتري ثلاثون درهماً، وتركة البائع سوى الكر عشرة، فالبيع صحيحٌ في جميع الكُرّ؛ فإن البيع إذا نفذ في الكر الجيد وقيمته خمسون، فيرجع العوض وقيمته ثلاثون، والتركة سوى ذلك عشرة، فالمحاباة عشرون، والمال الحاصل في يد الورثة أربعون، وهو ضعف المحاباة. وتخريجه على طريقة التقدير والنسبة أن كر البائع خمسون، وله [سواه] (1) عشرة، فالمجموع ستون، وثلثها عشرون، والمحاباة عشرون، فالثلث مثل جميع المحاباة عشرون، فيصح البيعُ في جميع الكُرّ، كما تقدم. 7032 - فإن [كان] (2) قيمة كُرّ البائع خمسين، وقيمةُ كرّ المشتري خمسةَ عشرَ، والتركة سوى الكر عشرة، فنقول: صح بيع البائع [في] (3) شيء من الكر، ورجع إليه بالقصاص ما قيمته ثلاثة أعشار شيء، فإن الخمسةَ عشرَ ثلاثةُ أعشار الخمسين، فتقع النسبة على هذا الوجه في جميع أطراف المسألة. فإذا كان العوض ثلاثةَ أعشار [المبيع] (4)، فالمحاباة تقع [بسبعة] (5) أعشار شيء، ويبقى مع الورثة كُرٌّ إلا [سبعة] (6) أعشار شيء، ومعهم من التركة عشرة وهي [عشرا الخمسين] (7) فالحاصل في يد الورثة كُرٌّ وعشران إلا [سبعة] (8) أعشار شيء، وهذا يعدل ضعف المحاباة. وإذا كانت المحاباة سبعةَ أعشار شيء، فضعفها شيء وأربعة أعشار شيء، فنجبر

_ (1) في الأصل: شراه. (2) زيادة. لولا فضل الله علينا ما أدركناها. (3) في الأصل: " وشيء ". (4) في الأصل: البيع. (5) في الأصل: تسعة. (6) في الأصل: تسعة. (7) زيادة مكان بياض في الأصل. (8) في الأصل: تسعة أعشار.

ونقابل، فيكون كر وعشرا كرّ يعدل شيئين وعشرَ شيء، فنبسطهما أعشاراً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون الكر أحداً وعشرين، والشيء اثنا عشر، فيصح البيع في اثني عشر جزءاً من أحدٍ وعشرين جزءاً من الكُرّ، وذلك [يعدل] (1) أربعةَ أسباع الكُرّ؛ فإن سُبع الأحدَ والعشرين ثلاثة، [فالاثنا عشر] (2) أربعةُ أسباعه؛ فقد نفذ البيع في أربعة أسباع الكر [إلا ربع بأربعة أسباع الكر إلا دور وقيمتها ثلاثة أعشار المبيع من الكر إلا ربع] (3)، فاجعل الكُرّ عدداً له سُبع وعُشر، وأقله سبعون، فيصح البيع في أربعة أسباع الأجود، وهو أربعون جزءاً من سبعين، ورجع بالعوض ثلاثة أعشار أربعين، وذلك اثنا عشر، فصار قيمة المحاباة ثمانية وعشرين جزءاً، ومع ورثة البائع مما بطل البيع فيه ثلاثون جزءاً، وما رجع من العوض اثنا عشر جزءاً، ومعهم من التركة مثلُ خُمس الكُرّ، وذلك بأجزاء السبعين أربعةَ عشرَ، والحاصل من الجهات كلّها مع الورثة ستة وخمسون جزءاً من سبعين، وذلك كضعف المحاباة إذ المحاباة ثمانيةٌ وعشرون جزءاً. وتخريج المسألة على طريق التقدير والنسبة أن الثلث من الكُرّ والتركة عشرون، والمحاباة من الكر خمسة وثلاثون؛ فإنه باع الكرّ وقيمتُه خمسون بخمسة عشرَ، فقدر الثلث وهو عشرون من المحاباة أربعة أسباعها، فيصحّ البيع في أربعة أسباع الكُر، كما تقدم من وجه [الجبر] (4) وامتحانه [لائح] (5). هذا قياس مسائل الباب. 7033 - مسألة: باع المريض كُرّاً من البُرّ، قيمته مائةٌ، بكُرٍّ رديء، قيمتُه خمسون، ومات البائع، وعليه دين عشرون.

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) مكان بياض بالأصل. (3) ما بين المعقفين كلام واضح رسماً ونقطاً، ولكنه كما ترى. والمسألة -على أية حال- صحيحةٌ واضحة بدون الوقوف أمام هذا الذي بين المعقفين. (4) زيادة من المحقق. (5) زيادة من المحقق.

فنقول: صح البيع في شيء من الكُرّ الجيّد، ورجع بالعوض شيء قيمتُه نصف شيء، فصارت المحاباة نصفَ شيء، و [في يد] (1) ورثة البائع كُرٌّ إلا نصفَ شيء، فنَفُضُّ [ ..... ] (2) ما هو مع الورثة، والدين عشرون، وهي مثل خُمس كُرٍّ، فَنَحُطُّه مما في أيديهم، فتبقى أربعة أخماس كُرّ إلا نصفَ شيء، يعدل ضعف المحاباة، وهو شيء، فنجبر ونقابل، فيكون أربعةَ أخماس كُرّ يعدل شيئاً ونصفَ شيء، وقد حصل معنا كُرٌّ وخمسٌ ونصف، فنضرب ما في الجانبين في مخرجٍ له نصف وخمس، وذلك عشرة، فيصير الكرّ [ثمانية] (3)؛ فإن ضرب أربعة أخماس في عشرة [يردّ ثمانية] (4)، ويصير الشيء [خمسةَ عشرَ] (5)، فنقلب الاسم فيهما جميعاً، فيكون الكُرّ خمسةَ عشرَ والشيءُ ثمانية، فنقول: صح البيع في ثمانية أجزاء من خمسةَ عشرَ جزءاً من كُرّ البائع، [والعوضُ] (6) الراجع من جهة القيمة أربعةُ أجزاء من خمسةَ عشرَ جزءاً، فالمحاباة (7) أربعةُ أجزاء، وبقي [مع] (8) ورثة البائع سبعة أجزاء، [مما] (9) بطل البيع فيه من الكُرّ، وانضم إليه من العوض الراجع أربعة، فالمجموع أحدَ عشرَ، وأنقص منه الدين، وهو ثلاثة أجزاء من خمسةَ عشرَ جزءاً، فبقي مع الورثة ثمانية هي ضعف المحاباة؛ فإن المحاباة كانت أربعة. 7034 - فإن كان للمريض تركة وكان عليه دين، فنقابل التركةَ بالدين، فإن كانا سواء، فكأنه لا تركة ولا دين، وإن كانت التركة أكثرَ من الدين، فنحط مقدار الدين من التركة، ونجعل كأن في المسألة من التركة مقدارَ ما بقي بعد حط الدين ولا دين،

_ (1) مكانها بياض بالأصل. (2) بياض بالأصل قدر كلمتين. (3) في الأصل: ثمنه. (4) زيادة اقتضاها السياق، مكان بياض بالأصل. (5) في الأصل: فيصير الشيء اثنا عشر. (6) في الأصل: والغرض. (7) في الأصل: بالمحاباة. (8) في الأصل: من. (9) في الأصل: "فما بطل البيع فيه من الكر إلا ربع، وانضم إليه ... ".

وإن كان مقدارُ الدين أكثرَ، فنحط التركة منه، ونجعل كأن في المسألة من الدين ما بقي، وكأنه لا تركة أصلاً. 7035 - مسألة: باع المريض عبداً قيمته [مائة] (1) درهم بخمسين درهماً، فزادت قيمةُ العبد، وبلغت مائتي درهم، ثم مات المريض، [وخلّف] (2) البائع من التركة خمسين درهماً سوى العبدِ وثَمنِه. فنقول: نفذ البيع في جميع العبد بالخمسين. وفقه المسألة أن المقدار الذي يصح البيعُ فيه [يقع] (3) في جزء البائع بقيمته يومَ البيع، والزيادة تكون للمشتري غير محسوبة عليه، فنقول على هذه القاعدة: [صح] (4) البيع في عبدٍ قيمته [مائة] (5) بخمسين، فالمحاباة خمسون، وفي يد الورثة خمسون من التركة، [فالعوض] (6) الراجع والتركة مائة، ومقدار المحاباة خمسون، فتقع [المحاباة] (7) ثلثاً من المال، وينفذ البيع لذلك في جميع العبد. 7036 - وإن كانت المسألة بحالها، ولم يكن في يد الورثة تركة زائدة سوى العبد وعوضِه، فينفذ البيع في بعضه، ويبطل في بعضه، ثم المقدار الذي ينفذ البيع فيه تُعتبر قيمته بيوم البيع، والزيادة تقع للمشتري غيرَ محسوبة عليه، والمقدار الذي [لا] (8) ينفذ البيع فيه يبقى لورثة البائع، والاعتبار في قيمة الباقي بيوم الموت؛ فإن العبرة في التركة ومقدارِها بيوم الموت؛ إذ التركة ما يتركه المتوفى. فإذا وضح ذلك، فنقول على القول الصحيح: يصح البيع في شيء من العبد،

_ (1) في الأصل: مائتا. والمثبت تصويب منا على ضوء شرح المسألة الآتي. (2) زيادة من المحقق، مكان بياض بالأصل، قدر كلمة. (3) مكان بياض بالأصل، قدر كلمة. (4) في الأصل بياض قدر كلمة. (5) بياض قدر كلمة. (6) في الأصل: بالعوض. (7) زيادة من المحقق لاستقامة المعنى. (8) ساقطة من الأصل.

ويبطل في عبدٍ إلا شيئاً، ويرجع من الثمن نصفُ الشيء، فالمحاباة نصف شيء، وقيمة العبد يوم الموت مائتا درهم إلا شيئين؛ فإن الاستثناء يزيد على حسب زيادة المستثنى [منه، و] (1) عليه بقي في يد الورثة عبدٌ يساوي مائتي درهم، وقد نفذ البيع في شيئين منه ورجع من الثمن نصف شيء، فالباقي مائتان إلا شيئاً ونصفاً، وذلك يعدل ضعفَ المحاباة وهي شيء، فنجبر ونقابل، فتصير مائتان في معادلة شيئين ونصف، فالشيء خمسا المائتين، وذلك ثمانون درهماً، وهو أربعة أخماس العبد يوم البيع، فنقول: نفذ البيع في أربعة أخماس العبد، وكانت قيمته مائة، فالبيع بهذه النسبة ثمانون، ورجع من [الثمن] (2) أربعون، فالمحاباة أربعون، وبقي في يد الورثة خُمس العبد، وقيمته يوم الموت أربعون، والتركة محسوبة يوم الموت، فالحاصل في أيديهم ثمانون، والمحاباة أربعون، وما حصل من الزيادة في يد المشتري بعد الشراء غيرُ محسوب عليه؛ فإنها زيادة حصلت على ملكه. هذا تفريعٌ على القول الصحيح، وهو أن الثمن [مفضوض] (3) على المبيع سقط قسطٌ وبقي قسط. 7037 - ويتأتّى في هذه الصورة التي فرضناها التفريعُ على القول الضعيف؛ فإنها مُصوَّرةٌ في بيع العبد بالدراهم، فلا [يؤدي إلى] (4) التفريع على الربا، فإذا قلنا: البيع صحيح فيما يصح فيه بجميع الثمن المسمى، فنقول: للمشتري نصفُ العبد بخمسين اعتباراً بقيمة يوم الشراء، يبقى نصف العبد وقيمته مائة يوم الموت، فنضمها إلى الثمن، فيكون مائة وخمسين، فللمشتري من ذلك شيء بالمحاباة وثبت شيءٌ في مقابلة فَضْل القيمة؛ فإن ذلك الشيء يتبع ما نفذ من التبرع غيرَ محسوب، فقد نفذ التبرع في شيء وتبعه من زيادة القيمة شيء، فبقي مائةٌ وخمسون درهماً إلا شيئين يعدل ضعف التبرع وهو شيئان، فبعد الجبر والمقابلة يكون مائة وخمسون في معادلة أربعة

_ (1) زيادة من المحقق. (2) فى الأصل: الدين. (3) مكان بياض بالأصل قدر كلمة. (4) مكانها بياض بالأصل.

أشياء، فالشيء إذاً ربع المائة [والخمسين] (1)، وذلك سبعةٌ وثلاثون درهماً ونصفُ درهم. وهذا هو النافذ من المتبرع، نأخذها من [قيمة] (2) العبد، وهو ثلاثة أثمان العبد يوم اشتراه، وله النصف، [بالثمن] (3) فيحصل (4) له بالثَّمن والمحاباة جميعاً سبعةُ أثمان العبد، ولورثة البائع ثمنُ العبد مع الثَّمن الذي أَجَره (5) ومبلغها يوم الموت خمسةٌ وسبعون درهماً، وهو ضعف المحاباة والتبرع، وهو سبعةٌ وثلاثون درهماً ونصف. وهذه الزيادة التي فرضناها لا فرق بين أن تكون الزيادة في البدن تُثبت مزيدَ القيمة، وبين أن تكون زيادة في سعر السوق، من غير مزيدٍ في البدن، فالتفريع لا يختلف والزيادة مفروضةٌ قبل موت [البائع] (6) مع بقائها يوم الموت. 7038 - [فإن] (7) حدثت الزيادة بعد موت البائع، فهي حادثة في ملك الورثة، وملك المشتري، ولا تزيد بسبب تلك الزيادة التركة [و] (8) ما استحقه المتوفى وخلّفه على ورثته، فنجعل كأن الزيادة لم تكن، ولا يُعتد بها لا في حصة المشتري، ولا فيما يبقى للورثة. وجرى الترتيب كما تقدم فيه إذا لم يحدث زيادةٌ ولا نقصان، فعلى قولٍ نسلم خمسة أسداس العبد بتمام الثمن [والمحاباة] (9) للمشتري. وعلى القول الصحيح البيعُ في ثلثي العبد بثلثي الثمن، كما تقدم ذكره. 7039 - ولو لم تزد القيمة بل نقصت وهو في يد المشتري، فكانت القيمة مائة، ورجعت إلى خمسين، ومات المريض البائع والقيمةُ ناقصة، كما ذكرناها، فالحساب

_ (1) زيادة من المحقق. (2) زيادة مكان بياض بالأصل. (3) في الأصل: فالثمن. (4) في الأصل: يحصل. (5) أجره: أي أثابه، فهي بمعنى أدّاه. (6) في الأصل: البيع. (7) تقدير من المحقق، مكان بياض بالأصل. (8) زيادة من المحقق. (9) إضافة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

على قولنا: أن البيع ينفذ بجميع الثمن أن نقول (1): كان للمشتري نصف العبد بالخمسين درهماً ونحن نضم نصفه الآخر إلى الثمن الحاصل في يد البائع، ونصفه بعد النقصان خمسةٌ وعشرون، فالثمن والنصف يوم الموت خمسةٌ وسبعون درهماً، فللمشتري من ذلك بسبب المحاباة شيء محسوب عليه بشيئين، وهذا مبني على القاعدة التي ذكرناها من كون النقصان محسوباً على المتبرع عليه، تبقى لورثة البائع خمسةٌ وسبعون درهماً إلا شيئاً، تعدل ضعف المحسوب عليه، والمحسوب عليه شيئان، وضعفهما أربعة أشياء، فنجبر ونقابل، فتصير خمسة وسبعون في معادلة خمسة أشياء، فالشيء يعدل خمسةَ عشرَ درهماً، وهي ثلاثة أعشار العبد يوم الموت؛ فإن قيمة العبد خمسون درهماً، وعُشْره خمسة. هذا هو المسلم للمشتري بسبب المحاباة، فإذا ضممنا المحاباة إلى ما قابل تمام الثمن، كان المبلغ أربعة أخماس العبد؛ فإن النصف سلّم بالثمن، وهو يوم الموت خمسةٌ وعشرون، وانضم إليه خمسةَ عشرَ، فالمجموع أربعة أخماس العبد، فقد قام ما يساوي أربعين يوم الموت عليه بخمسين، وهذا خسران. وإن كان البيع في وضعٍ على المحاباة. وهذا احتساب النقص على المشتري. 7040 - وإذا فرعنا على القول الثاني وهو أن البيع يصح في مقدارٍ [من] (2) العبد بقسطٍ من الثمن، فسبيل الحساب فيه أن نقول: يصح البيع في شيء من العبد بنصف شي؛ من الثمن أولاً، ويبطل في عبدٍ إلا شيئاً، وقيمته يوم الموت خمسون درهماً إلا نصف شيء، قيمةُ ما بقي وبطل البيع فيه. وإنما كان كذلك، لأنه كان الباقي مائة إلا شيئاً، ولما نقص نصفه، كان الاستثناء على نسبة النقصان، فبقي خمسون إلا نصفَ شيء، فنضم إلى الثاني ما كان حصل من الثمن، وهو نصف شيء، فنجبر بهذا الثمن ما كان في الخمسين من الاستثناء، وقد كان خمسين إلا نصفَ شيء، فإذا ضممنا إليه الثمنَ، وهو نصفُ شيء، صارت

_ (1) في الأصل: أن لم نقول. (2) في الأصل: في.

خمسين كاملة، وهي تعدل ضعف المحاباة وهي شيء، فالشيء إذاً خمسون درهماً، وهو نصف العبد يوم الشراء، وهو الذي [بيع] (1). فنقول: صح البيع في نصف العبد بنصف الثمن، وهو خمسة وعشرون، فالمحاباة خمسة وعشرون، وللورثة نصف العبد ونصف الثمن، ومبلغها يوم الموت خمسون، وهي ضعف المحاباة. فهذا بيان نقصان القيمة في يد المشتري قبل موت المريض البائع. 7041 - فأما إذا [حصل] (2) النقصان بعد موت السيد، فنحن [نبين] (3) في مقدمته قاعدةً، وهي أن العبد إذا نقص قبل موت البائع، فالنقص في المقدار المبيع محسوبٌ عليه، كما ذكرناه، [وأوضحنا حسابه والنقص الذي يخص الجزء] (4) الذي بطل البيع فيه لا يكون مضموناً على المشتري. هكذا ذكره الأستاذ وغيره من الأصحاب؛ فإن ذلك الجزء ليس مبيعاً في حقه، وليس هو قابضه على سبيل العدوان أيضاً، وليس قابضه لمنفعة نفسه أيضاً، فهو أمانة في يده: لو تلف العبد في يده، لم [يلزمه] (5) ضمان في مقابلة [ما بطل] (6) البيع فيه. وهذا الذي ذكر ظاهر، ولكن فيه احتمالٌ؛ من جهة أن من يشتري شيئاً من مريض فقد قبضه مبيعاً، ولو برأ المريض [واستبلّ] (7)، لكان البيع لازماً في جميع العبد، فقبض جميعه على اعتقاد كونه مبيعاً، فلا يمتنع أن يقال: يدُه يدُ ضمان فيما ليس بمبيع. والدليل عليه أن من اشترى شراءً فاسداً وقبضه، فيده يدُ ضمان؛ لأنه قبضه معتقداً

_ (1) في الأصل: البيع. (2) مكان بياض بالأصل. (3) زيادة من المحقق مكان بياضٍ قدر كلمة. (4) عبارة الأصل هكذا: "وأوضحنا حساب فالنقص الذي نحو الجزء" فانظر أيَّ عناءٍ لقيناه، كي نقيم العبارة. (5) في الأصل: يلزم. (6) في الأصل: فأبطل. (7) في الأصل: واستقلّ، ولا معنى لها. واستبلّ بمعنى برأ وعوفي من مرضه. وهذا اللفظ (استبلَّ) واردٌ مستعمل في كلام إمام الحرمين في غير هذا الكتاب.

كونه مبيعاً، وهذا المعنى يتحقق في جميع ما اشتراه وقبضه، فالقبض في الموضعين بإذن المالك، ولا عدوان، بل هذا في المقبوض على الفساد أوضح؛ فإن التسليم في البيع الفاسد جرى في مطلق التصرف، والمريض ليس مطلقاً في حقوق الورثة. فإن قلنا: يد المشتري يد أمانة في المقدار الذي ليس مبيعاً، فطريق الحساب ما تقدم. وإن قلنا: إنه يضمن النقصان، فيختلف مسلك الحساب، ويصير المشتري غارماً لمقداره مع الثمن. وهذا [في] (1) نقصانٍ يتعلق [ببدن] (2) العبد. فأما نقصان السوق، فهو محسوب على المشتري، كما ذكرناه، ولا يكون نقصان السوق مضموناً باليد؛ إذ لو كانت العين باقيةً قائمةً، [لا يسقط الخيار] (3)، فليقع الفرض في نقصان السوق حتى سموه (4) الحساب كما قدمناه من غير تخيل خلاف. فهذا ما لم نجد بُداً من ذكره. 7042 - ومما نذكره أن الأستاذ قال: إذا نقص المبيع في يد المشتري، فإن كان نقصان عينٍ، بطريان (5) عيبٍ، فلا يبقى له خيارٌ بسبب تبعّض الصفقة عليه. وهذا ينزله منزلة ما لو اشترى عبداً، واطّلع على عيبٍ قديمٍ، وقد حدث في يده عيبٌ حادث، فالعيب الحادث يمنعه من الرد بالعيب القديم، ولو كان ذلك النقصان بسبب السوق، لم يمتنع بسببه الردُّ عليه بعلة تفرّق الصفقة؛ فإن نقصان السوق غيرُ مضمون في عهد (6) البيع، وإن [حدث] (7) نقصان السوق والعيب، فإنهما جميعاً محسوبان على المشتري فيما يتعلق بحساب المبيع ومقداره، وما ذكره في إثبات الخيار عند

_ (1) في الأصل: من. (2) في الأصل: ببدل. (3) زيادة من المحقق، نرجو أن تكون صواباً. (4) كذا. (5) في الأصل: فطريان. (6) كذا. ولعلها: عُهْدة. (7) في الأصل: اشترى.

نقصان السوق صحيحٌ لا شك فيه، وما ذكره من أن العيب الحادث يمنع الرد ببعض الصفقة، فالقول فيه كالقول في العيب القديم مع العيب الحادث، وقد ذكرتُ تفصيلَ المذهب فيه في كتاب البيع. 7043 - ثم ظاهر كلام الأستاذ (1) أن العيب والنقصان بعد الموت في يد المشتري بمثابة النقصان قبل موت البائع، وهذا يتضمن أن يكون مقدار المبيع في هذه الصورة كمقدار المبيع إذا [كان] (2) النقصان قبل الموت. وهذا إن أراده وقصده خطأٌ؛ فإن القيمة إذا كانت تامة يوم الموت، فقد حصلت التركة على القيمة التامة، وقرار التبرع وحساب الثلث والثلثين يكون يوم الموت؛ فينبغي أن ينفذ البيع على القول الصحيح في ثلثي العبد نظراً إلى قيمة يوم الموت، وليس كما لو نقصت القيمة قبل الموت؛ فإن الاعتبار في مقدار التركة بيوم الموت وكانت القيمة ناقصةً يوم الموت، فنقص مقدار المبيع بسبب نقصان التركة يوم الموت. وإذا كانت القيمة كاملة يوم الموت، فالنقصان بعد ذلك لا يؤثر في تنقيص مقدار المبيع، سيّما إذا كان النقصان [بسعر السوق] (3)، ولم يفترض في المسألة إمكان تضمين المشتري نقصانَ ما لم يصح البيع فيه. هذا تمام القول في ذلك. 7044 - ومما يتعلق بالغرض فيه أنه لو باع عبداً قيمتُه مائة بخمسين، ثم لم يسلّمه إلى المشتري حتى رجعت القيمة إلى الخمسين، فالبيع [نافذٌ] (4) في الجميع، والمحاباة [زائلة] (5) وقد بان آخراً أنه باع الشيء بثمن مثله؛ فإنه لم يسلّمه حتى تحقق النقصان في يده، وإنما يتم التبرع بالتسليم. هكذا ذكره الأستاذ. وقال في استتمام الكلام: لو [رَجَعت] (6) قيمة العبد إلى

_ (1) تذكّر أن المراد بالأستاذ هنا أبو منصور البغدادي. (2) ساقطة من الأصل. (3) مكان كلمة غير مقروءة (أنظر صورتها في القائمة في آخر الكتاب). (4) في الأصل: فاسد. (5) في الأصل: قابلة. (6) في الأصل: جمعت.

خمسة وسبعين، فالبيع نافذ في الجميع أيضاً؛ فإن التبرع خمسةٌ وعشرون، [وذلك هو الثلث الذي للمريض التبرع به] (1). والذي ذكره فيه نظر على الفقيه؛ فإن التبرع [الواقع] (2) بالمحاباة لا يتوقف تمامه [ونفوذه] (3) على التسليم؛ فلا ينبغي أن يكون بين حدوث النقصان في يد البائع المريض، وبين حدوثه في يد المشتري فرق، وما يقع من نقصان يجب أن يكون محسوباً على المشتري، ويجب [أن] (4) يكون الاعتبار في القاعدة التي نبني عليها خروجُ مقدار المبيع على يوم زوال الملك إلى المشتري، وذلك لا يختلف بالقبض وعدمه [فليتأمل] (5) الناظر ما نجريه في ذلك؛ فإنه محل النظر، ولا وجه لما ذكره الأستاذ عندنا، والله أعلم. 7045 - مسألة: إذا اشترى المريض عبداً قيمته عشرة بثلاثين، لا مال له غيرَ الثلاثين، فالمحاباة في جانب الشراء بمثابة المحاباة في جانب البيع. وتقريب القول فيه أن المشتري مزيلٌ ملكه عن الثمن، كما أن البائع مزيلٌ ملكه عن المبيع، والكلامُ في الجانبين جميعاً على وتيرةٍ واحدةٍ. والذي [نذكرهُ] (6) أنه إذا اشترى عبداً قيمته عشرة بثلاثين، فزادت قيمة العبد في يده، وصارت قيمته عشرون، فالعشرة الزائدة قبل موت المشتري في قيمة العبد زائدةٌ في تركة المشتري، [ويزيد ثُلثه وينزعه] (7)، فنضم العشرة الزائدة إلى الثلاثين، فتصير التركةُ أربعين، وثلثها ثلاثةَ عشرَ وثلث. فنقول: للبائع ثلث هذا المقدار، فنجيز قدرها من المحاباة على ما يقتضيه

_ (1) مكان بياض بالأصل. (وانظر صورة الكلمة قبل البياض وبعده). (2) في الأصل: الواقف. (3) في الأصل: "منفوذه". (4) في الأصل: ألا يكون. وهو عكس المعنى المقصود. والله أعلم. (5) في الأصل: فيتأمل. (6) في الأصل: نذكر. (7) كذا ما بين المعقفين. والكلام مستقيم بدونه.

الحساب، فإن رضي البائع بهذا، ردّ من الثمن ستةً وثُلثين؛ فإن المحاباة لهما تجوز على قدر الثلث. فإن أراد الفسخ لتبعيض الصفقة، فله ذلك، ويسترد العبد زائداً. وإن صارت قيمةُ العبد ثلاثين درهماً، ضممنا ما زاد، وهو عشرون إلى الثلاثين الذي جعله ثمناً، وأخرجنا ثُلثَه، فيكون ستةَ عشرَ وثُلثي درهم، فعلى هذا القدر [تجوز] (1) المحاباة، فإن رضي البائع به، فذاك، ويردّ ثلاثةَ دراهم وثلثاً [من] (2) قيمة العشرين، فالمحاباة [الواقعة] (3) عشرون. وإن (4) [شاء] (5) فسخ العقدَ، فاسترد العبد زائداً، وهذا [خيرٌ] (6) له وأولى به. وإن صارت قيمة العبد أربعين، فقد زاد ثلاثون، فنضمها إلى الثلاثين الذي كان [في ملكه] (7) وثلث المبلغ عشرون، والمحاباة عشرون، فينفذ البيع في جميع العبد بجميع الثمن؛ نظراً إلى مقدار التركة حالة موت المشتري. ثم لا فرق بين أن تحدث الزيادة في يد المشتري أو في يد البائع، فهي حادثة في ملك المشتري، والأمر على ما ذكرناه. 7046 - ولو اشترى عبداً قيمته عشرة كما تقدم بثلاثين درهماً، لا مال له غيره، ثم نقصت قيمةُ العبد [سِتةً] (8)، ورجع [ما في] (9) يد المشتري إلى أربعة، فقد كانت تركته ثلاثين، والآن نقصت تركته ستة دراهم، فكأنه خلّف أربعةً وعشرين، وثلثُها ثمانية، فيقال للبائع: تتقيد المحاباة؛ فتقع على قدر الثلث، وهو ثمانية. فإن رضي

_ (1) في الأصل: "فعلى هذا القدر لما .... المحاباة" مع بياض قدر كلمة مكان النقط. (2) زيادة من المحقق. (3) الواقعة: أي الكائنة في عقد هذا البيع. وهي ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: فإن. (5) مكان بياض قدر كلمتين. (6) في الأصل: ضبط. (7) مكان بياضٍ بالأصل. (8) ساقطة من الأصل. (9) زيادة اقتضاها السياق.

البائع بذلك، فلا كلام. وإن أبى، فله فسخ البيع ويُرَدُّ العبد ناقصاً، وَيرُدّ تمامَ الثمن، ولا ضمان على المشتري؛ فإن البائع كان بالخيار، وليس يخفى ذلك، وهو مما تناهينا في [تقريره] (1) في كتاب البيع. 7047 - وإن أحببنا، اعتبرنا طريقَ الحساب تذكيراً وتجديداً للعهد وإن [كان] (2) مسلكه واضحاً، فنذكر الحساب في الزيادة والنقصان، فنقول: إذا اشترى عبداً قيمته عشرة بثلاثين، فزادت قيمته وبلغت عشرين، والتفريع على أن البيع يصح في البعض ببعض من الثمن، فيصح البيع في شيء من العبد بثلاثة أشياء من الثمن، فيكون المحاباة شيئين، ويبقى من الثمن ثلاثون درهماً إلا ثلاثةَ أشياء، فنضم إليه المشترَى من العبد، وقد كان شيئاً، فصار شيئين، وإذا ضممنا ذلك إلى الثمن، جبرنا ما كان فيه من استثناء، وقد كان [فيه] (3) استثناء ثلاثة أشياء، فإذا ضممنا إليه شيئين، رجع إلى واحد، فمعنا ثلاثون درهماً ناقصٌ شيئاً، وذلك يعدل ضعفَ، المحاباة، وكان المحاباة شيئين، وضعفها أربعة أشياء، فنجبر ونقابل، فتصير ثلاثون في معادلة خمسة أشياء، فالشيء ستة دراهم، وهي خُمس الثلاثين، وهي ثلاثة أخماس العبد، فنقول: صح البيع في ثلاثة أخماس العبد، بثلاثة أخماس الثمن، وهي ثمانية عشر درهماً، فيكون المحاباة اثني عشر درهماً، ولورثة المشتري ثلاثة أخماس العبد، وقيمتها يوم الموت اثنا عشر درهماً، مع [خمسي] (4) الثمن، وقيمتها اثنا عشر درهماً، فالمبلغ أربعة وعشرون، وهو ضعف المحاباة. هذا مسلك الحساب في الزيادة إذا وقع التفريع على قول انبساط الثمن. 7048 - ونذكر صورةً على هذا القول في النقصان، فنقول: اشترى عبداً قيمته عشرة بثلاثين درهماً وهو مريضٌ، لا مال له سوى الثلاثين، فنقص العبد في يد المريض، ورجع إلى خمسةٍ، فالنقصان مضمون على المشتري، كما تقدم ذكره.

_ (1) في الأصل: تقديره. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: منه. (4) في الأصل: خمس.

فنقول: جاز البيع في شيء من العبد بثلاثة أشياء من الثمن، وبطل العقد في عبد إلا شيئاً، فقد نقصت قيمته، فكأنا نقول: عشرة إلا شيئاً، والآن هو خمسة إلا نصف شيء، فننقص النقصان من التركة؛ لأنه إذا كان محسوباً على المشتري، فهو كدينٍ يُقضى، فيبقى مع الورثة خمسة وعشرون درهماً إلا شيئين ونصفاً. وبيان ذلك على هذه القاعدة أنه كان معهم ثلاثون إلا ثلاثة أشياء، فالآن نحطُ منها خمسة إلا نصفَ شيء، فيكون الباقي خمسة وعشرين درهماً إلا شيئين ونصفَ شيء، فنضم ذلك إلى المشترَى من العبد، وقد كان المشترَى شيئاً من العبد، ورجع إلى نصف شيء، فحصل للورثة خمسةٌ وعشرون درهماً إلا شيئين في معادلة ضعف المحاباة، فكانت المحاباة شيئين، وضعف المحاباة أربعة أشياء، فبعد الجبر والمقابلة تكون خمسة وعشرين درهماً في معادلة ستة أشياء، فالشيء سُدُس خمسة وعشرين، وذلك ربع العبد وسدس العبد؛ فإن سدس الخمسة والعشرين أربعة وسدس، والأربعة والسدس، ربع العشرة التي كانت قيمة العبد وسدسها؛ فإن ربعها درهمان ونصف، وسدسها درهمٌ وثلثان، وذلك خمسة أجزاء من اثني عشر جزءاً من العبد، فقد نفذ البيع في هذا القدر منه. 7049 - وإذا كنا نحتاج إلى أن نبين مقدار الثمن وعَوْد الثمن مع التفاوت في القلة والكثرة على نسبة الجزء الذي نفذ البيع فيه من العبد، فالوجه أن نقول: العبد عشرة قسمناها اثني عشر جزءاً لننسبَ إليها خمسةَ أجزاء، فالثمن ثلاثون، فنجعل كل عشرة اثني عشر جزءاً، ومجرى التبيين على هذه النسبة، فيصير الثلاثون ستة وثلاثين جزءاً، فينفذ البيع في خمسة أجزاء من اثني عشر جزءاً من عشرة من العبد بخمسةَ عشرَ جزءاً من (1) ستة وثلاثين جزءاً من ثلاثين درهماً من الثمن. ويبقى أحدٌ وعشرون جزءاً، وقد بطل البيع في سبعة أجزاء من العبد، ورجعت قيمتها إلى ثلاثة أجزاء ونصف جزء، فأخرج ما نقص من أحدٍ وعشرين جزءاً، فيبقى من الدراهم سبعةَ عشر جزءاً ونصف، فنزيد عليها الشيء المشترى وهو خمسة أجزاء، وقد رجعت قيمتها إلى

_ (1) عبارة الأصل: بخمسة عشر جزءاً من العبد من ستة وثلاثين جزءاً من ثلاثين درهماً.

جزأين ونصف، فيجتمع لهم عشرون جزءاً، ضعف المحاباة. هذا سياق الحساب. 7050 - والمسألة معدّلةٌ على الفقه والفتوى، وقد استرسل الأستاذ فيها، وطرد الحساب، كما ذكرناه، وقوله في هذه المسألة مناقض لما قدمنا ذكره حكاية عنه، وذلك أنه قال في هذه المسألة: العبد المبيع إذا صح البيع في شيء منه، بطل (1) في عبدٍ إلا شيئاً، ثم قال: إذا نقص العبد، ورجعت قيمته إلى خمسة، فهذا النقصان مضمون على المشتري؛ فإن البيع لم يصح فيه، وقد تقدم أن النقصان فيما لا يصح البيع فيه غير مضمون على المشتري، وهو أمانة في يده، وقد أوضحنا الردَّ عليه في ذلك، ثم جاء بنقيض ما قدّمه في هذه المسألة، وضمَّن المشتري النقصان فيما لا يصح البيع فيه. ولفظه في هذه المسألة: "أنه كالدين يُقضى مما في يده". وهذا سديد لكن في المسألة خلل من وجهٍ آخر، وهو أنه لم يفرق بين نقصان السوق ونقصان العين، ونحن على قطعٍ نعلم أن نقصان السوق غيرُ مضمون؛ فإن الغاصب لا يضمن نقصان القيمة مع بقاء العين، فلا تستقيم هذه المسألة حتى نفرض النقصان بسبب يرجع إلى [ذات وعين] (2) العبد لا إلى السوق. 7051 - مسألة أوردها صاحب التلخيص [للمبتدىء] (3) في نظره، وهي مقومة على قاعدة الفقه والحساب، قال الشيخ أبو علي: المسائل المتقدمة كالتوطئة [و] (4) التمهيد لقاعدةٍ، وغرضُ المسألة نذكره مرسلاً، ثم نفصّله، ونبين حسابه، وقد ذكرنا أن المريض إذا باع كُرّاً يساوي عشرين بكُرٍّ يساوي عشرة، والتفريع على قول التقسيط؛ إذ لا يصح البيع في الربويات إلا على هذا القول، فالبيع يصح في ثلثي الكُر الأرفع، فإذا باع كُرّاً يساوي ثلاثين بكُرٍّ يساوي عشرة، فالبيع يصح في نصف الكُرّ الأرفع،

_ (1) في الأصل: "وبطل". (2) مكان بياضٍ وطرف الكلمة الأولى. هكذا [دا ... ]. (3) في الأصل: "المبتدىء". (4) زيادة اقتضاها السياق.

فيختلف ما ينفذ البيع فيه باختلاف قيمة الأرفع والأَدْونِ، وهذا معلوم يبتدره الفهم ابتداراً كلياً، إلى أن نطّلع على تفصيله. فلو باع المريض كراً جيداً بكرّ رديء، واستوفى الرديء، وأكله، أو أتلفه، وردّ الورثةُ التبرعَ الزائد على الثلث، فالبيع يصح في ثلث الكُرّ [الجيد] (1)، ولا فرق بين أن تكون قيمة الكُرّ الأرفع ضعف قيمة الأدون، وبين أن تكون ثلاثة أمثالِه، أو أكثر فصاعداً، فلا ينفذ البيع إذا أتلف صاحبُ الأجود الثمنَ الأدْون [إلا] (2) في ثلث الكر الجيد. هكذا قال صاحب التلخيص. واتفق الفقهاء والحُسّاب على مطابقته، وهو بدعٌ قبل تدبُّره؛ فإن الجزء الذي ينفذ البيع فيه لا يختلف مع اختلاف القيم، وهو ثلث زائد. وقد ذكر الأستاذ ذلك، وأوضحه باعتبارٍ لا يخرج إلى الجبر، ولا إلى طريق [يتفصَّى عنه] (3)، وأوضح ما أراده في مسألتين ليقيس القايس على قياسه فيهما. فإذا باع كُرَّاً قيمته عشرون بكُرٍّ قيمته عشرة، واستوفى الكُرَّ الرديء، وأتلفه، فنطلق ونقول: صح البيع في ثلث الكرّ الجيد، وقيمته ستة وثلثان، بثلث الكر الرديء، وقيمته ثلاثة وثلث، فالمحاباة ثلاثةٌ وثلث، وفي يد صاحب الكر الجيد ثلثا الكر الجيد، فيؤدي منه عِوَض ثلثي الكُرّ الرديء، فإنا أذهبنا ثلثاً من الكر الجيد بثلث من الكرّ الرديء، وقيمة ثلثي الكر الجيد ثلاثةَ عشرَ درهماً وثلثٌ، وقيمة ثلثي الكر الردي ستةٌ وثلثان، فنحط ستةً وثُلثين من ثلاثةَ عشرَ وثلثٍ، فيبقى ستة وثلثان في يد ورثة بائع الكر الجيد.، وهذا ضعف المحاباة. والشرط أن يبقى في يد الورثة ضعفُ المحاباة بعد قضاء الدين. فهذا تقويم المسألة إذا كان الكُرّ الجيد بعشرين والكُرّ الرديء بعَشَرة.

_ (1) في الأصل: الكُرّ الذي يجيد. (2) زيادة من المحقق، لا يستقيم المعنى بدونها. (3) في الأصل: يقتضي منه. والمثبت تقدير منا. والمعنى ينفصل عنه، ويتخلص منه (معجم).

7052 - فأما إذا كان الكُرّ الجيد قيمتُه ثلاثون والكُر الرديء قيمته عَشَرة، فنقول: إذا استوفى صاحبُ الجيد الرديءَ، وأتلفه، فالبيع يصح في ثلث الكُرّ الجيد، كما قدمناه في المسألة، وطريق الاعتبار فيها أن نقول: قيمةُ ثلث الكُرّ الجيد عَشَرة، فإذا نفذ البيع فيه ورجع ثلث الكُرّ الرديء عِوضاً وقيمته ثلاثة وثلث، فالمحاباة من ستة وثُلثَيْن، وقد بقي في يد ورثة بائع الكر الجيد ما يساوى عشرين وهو ثلث الكر الجيد، لكن البائع أتلف الكُرّ الرديء، فذهب ثلثه عوضاً بالثلث وبقي عليه قيمةُ الثُلُثَيْن، وقيمة ثلثي الكر الرديء ستة وثلثان، فنحط ذلك من العشرين، فيبقي في يد ورثة بائع الجيد ثلاثةَ عشرَ وثلثُ، وهي ضعف المحاباة في الثلث: ستةٌ وثلثان. وهذا يجري على الطرد، مع اختلاف الأقدار، إذا كان المبيع يتبعض ولا يخرج جيمعه. واكتفى الأستاذ بالاعتبار (1) الذي ذكره. 7053 - وأجرى الشيخ أبو علي طريقَ الحساب في المسألة، فنشير إلى أصولها، فنقول: إذا باع كُرّاً جيّداً قيمتُه عشرون بكُرٍّ رديء قيمته عشرة، واستوفى بائعُ الجيد الرديءَ وأتلفه. [فطريقة] (2) التقدير والنسبة أن نقول: أخذ عشرة فننقصها مما معه، وهو الكُرّ الجيد، فيبقى عشرة، وإنما نقصنا العشرة لأنه استحقَّ بعضَها، وأتلف بعضَها، فنقول: العشرة بالعشرة، فيبقى عشرة، وقد جاء بالعشرة، فنجعل كأن كلّ ماله عشرة، ومن تبرع بكل ماله، نفذ تبرعه في الثلث، فثلث العشرة ثلث ماله، وهو بالإضافة إلى المحاباة ثلث المحاباة، فنقول: نفذ البيع في ثلث العشرة على قاعدة التقدير والنسبة. 7054 - طريقة الجبر: أن نقول: كُرٌّ قيمته عشرون، صح البيع في شيء منه،

_ (1) في الأصل: باعتبار. والمعنى: بالتقدير الذي ذكره. (2) في الأصل: وطريقة.

ورجع نصف شيء، فيبقى عشرون درهماً ناقصةً نصفَ (1) شيء، وعلى المريض عشرة استحق بعضها، وأتلف بعضَها، والعشرةُ محسوبةٌ عليه، فنحط ذلك مما معه، فيبقى عشرة غيرَ نصف شيء يَعدل شيئاً مثلي المحاباة، فنجبر ونقابل، ونقول بعد الجبر والمقابلة: عشرة تعدل شيئاً ونصفاً، وإذا كانت العشرة تعدل شيئاً ونصفاً، فالعشرون تعدل ثلاثة أشياء، وقد قلنا؛ نفذ البيع من العشرين في شيء، فليكن ذلك الشيء ثلث العشرين، [واستدّ] (2) قولنا: البيع ينفذ في ثلث الكر الجيد. 7055 - طريقة الدينار والدرهم: أن نقول: القفيز (3) الجيد دينار ودرهم، فنقول: صح البيع في الدينار، ورجع نصفه، وإذا جعلنا الكر الجيد ديناراً ودرهماً، فالرديء نصف دينار ونصف درهم، بقي من الجيد درهم ونصف دينار، وهو ما عاد من العوض، وقد فوّت العشرة، كما قدمنا، والعشرة نصف دينار ونصف درهم، ننقُصها مما في يد الورثة فيبقى في يدهم نصفُ درهم يعدل مثلي المحاباة، وهو دينار؛ فإن المحاباة نصفُ دينار، فنقول: إذا كان نصف درهم يعدل ديناراً، ودرهم كامل يعدل دينارين، فعرفنا أن الدينار الذي أطلقناه كان نصف درهم، وهو على التحقيق ثلثُ القفيز. 7056 - طريقة الخطأين: نقدّر القفيزَ الجيد خمسةَ أسهم إن أردنا، ويجب (4) البيع في سهم من الخمسة ويرجع نصفُ سهمٍ، فيبقى في يد الورثة أربعةُ أسهم ونصفٌ، فيقضي منها العشرة تقديراً، وهي سهمان ونصف، فإنها نصف الجيد، فيبقى في يد الورثة سهمان، وحاجتنا إلى سهم واحد؛ فإن المحاباة نصف سهم، والخطأ في زيادة سهم، فنحفظ هذا. ثم نرجع ونجيزُ البيع في سهمٍ وثلث، فيرجع مثل نصفه، وهو ثلثا سهم، فيبقى

_ (1) في الأصل: ونصف شيء. (2) في الأصل: "واستمرّ" والمثبت تقدير منا؛ بناء على المعهود من ألفاظ الإمام، (واستدّ أي استقام) كما سبق تفسيره مراراً من قبل. (3) القفيز: بمعنى الكُرّ. (4) يجب: أي يتمّ ويصح.

في يد الورثة سهمٌ وخمسةُ أسداس سهم والحاجة إلى سهم وثلث، والخطأ بزيادة نصف، وكان الخطأ الأول سهماً، فلما زدنا ثلثَ سهم، ذهب نصف الخطأ، فلعلنا أنا لو زدنا ثلثاً آخر [وأجيز] (1) البيع في سهم وثُلُثَين، لذهب كل الخطأ، والسهم والثلثان ثلث الخمسة، وقد بان الغرض بهذا القدر. ولكنا نسلك طرق الحساب؛ فإن الضرورة قد تُحوج [إليها] (2) في المضايق، فنقول: المال الأول وهو خمسةٌ مضروبٌ في الخطأ الثاني، وهو نصف سهم، فيرد سهمين ونصفاً، ونضرب المال الثاني، وهو خمسة في الخطأ الأول وهو سهمٌ، فيرد خمسةً، فنطرح الأقل من الأكثر؛ فإن الخطأين زائدان، يبقى سهمان ونصف، ونحن نحتاج إلى النصف والثلث جميعاً، فنبسطه على مخرج السدس، لنجد فيه النصف والثلث، فيبلغ خمسة عشر، فهو الكُرّ الجيد، وهذا من ضرب اثنين ونصف في ستة. وإذا أردنا أن نعرف النصيب الذي ينفذ البيع فيه، فنأخذ النصيب الأول، وهو سهم، فنضربه في الخطأ الثاني وهو نصف سهم، فيرد نصفَ سهم، ونأخذ النصيب الثاني وهو سهم وثلث، ونضربه في الخطأ الأول وهو واحد، فيرد سهماً وثلثاً، فنطرح الأقلَّ من الأكثر، فيبقى خمسةُ أسداس، فنبسطها أسداساً، كما بسطنا أصل المال، فيصير خمسةَ آحادٍ، فالبيع ينفذ في خمسةٍ من خمسةَ عشرَ، وهو الثلث، ولو اردتَ ألا نبسط ونبقي لذكر اثنين ونصف، لكان النصف الخارج وهو خمسة أسداس ثلثها، ولكنا بسطنا للإيضاح. وقد يقول بعضُ الحُساب: الخطأ الأول سهمٌ والمال خمسة، فنحفظهما، ثم نضعّف المالَ فيصير عشرة، [ونجيز البيعَ] (3) في سهم، ويرجع نصفُ سهم، ويحصل في أيديهم تسعةُ أسهم ونصفٌ، ثم نقضي منه الكُرَّ الرديء، وهو خمسة؛

_ (1) في الأصل: كلمة غير ذات معنى رسمت هكذا: واوحروا. (انظر صورتها في قائمة الكلمات المصورة). (2) في الأصل: إلينا. (3) في الأصل: ونجبر المبيع.

فإن الجيد إذا كان عشرة، [كان] (1) التفاضُل بالضعف، فيكون كذلك، فتبقى أربعةٌ ونصفٌ، وحاجتنا إلى سهم واحد، فقد غلطنا بثلاثة ونصف، فنضرب المال الأول في الخطأ الثاني، وهو ثلاثة ونصف، فيردّ علينا سبعةَ عشرَ ونصفاً، ونضرب المال الثاني وهو عشرة في الخطأ الأول، وهو سهم فيردّ عشرة، فنطرح الأقل من الأكثر فتبقى سبعة ونصف، فنضربها في مخرج النصف، فيصير خمسةَ عشرَ. وهو المال. ثم الأَوْلى أن نقول: نحطّ الخطأ الأول من الثاني فيبقى سهمان ونصف، فنضربه في مخرج النصف، فيرد خمسةً، فهو النصيب. وللحُسّاب طرق في البسط والقبض، والطريقة المرضية في الخطأين إن أردت البسط أن تسلك المسلك الذي ذكرناه في الدور والوصايا، ولا تزيد على قواعد الحُسّاب، وكلما اختصرتَ وقربتَ، كان أولى. 7057 - ولو طردت الطرق في بيع كُرٍّ جيد قيمته ثلاثون بكُرٍّ رديء قيمته عشرة، وقد استوفى صاحب الجيد الرديءَ وأتلفه [فذلك] (2) على المنهاج المقدم، فلا معنى لإعادتها على البسط. ونذكر على الإيجاز طريق التقدير والنسبة، وطريق الجبر. أما طريقة التقدير، فنقول: القفيز الجيد يساوي ثلاثين، وقد أتلف الرديء، وقيمته عشرة، فنحطه من الجيد، فيبقى من الجيد عشرون، وكان لا مال له غيره، وقد حابا بالعشرين، فنأخذ ثلثَ العشرين، فإن المال المُثلَّث ما بعد الدين، والأثلاث (3)، وثلثُ العشرين ستة وثلثان. هذا ثلث المال، وهو ثلث المحاباة، فنسبة الثلث من المحاباة بالثلث، فالبيع نافذ في ثلث القفيز الجيد. طريقة الجبر: أن نقول: نفذ البيع في شيء من الكُرّ الجيد، ورجع ثلث شيء عوضاً، فالحاصل (4) ثلاثون إلا ثلثي شيء، فنحط من هذا المبلغ قيمةَ الرديء؛

_ (1) في الأصل: إذا كان عشرة تفاضل الضعف. (2) في الأصل: "كذلك". (3) كذا. مقحمةٌ يستقيم الكلام بدونها. (4) في الأصل: والحاصل.

فإنها مستهلكة، فتبقى عشرون إلا ثلثي شيء [تعدل مثلي] (1) المحاباة وهو شيءٌ وثلث، فنجبر ونقابل، فيصير عشرون في معادلة [شيئين] (2)، فالشيء عشرة، فنرجع ونقول: الشيء الذي صح البيع فيه عشرة من ثلاثين، فيقع ثلثَها. وعلى هذا النسق تخرج الطرق المستعملة. 7058 - وكل ما ذكرناه فيه إذا استوفى صاحبُ الجيد الرديء، وأكله، وأتلفه. فأما إذا استوفى صاحب الرديء الكُرَّ الجيد وأكله وأتلفه، ومات ولا مال له سوى الكُرّ الرديء، فقد قال الأستاذ: يجوز البيع في نصف الكُرّ في الحال. ونذكر صورتين: إحداهما - أن تكون قيمة الكُرّ الجيد عشرون، والثانية أن تكون قيمته ثلاثون، وقيمة الرديء في المسألتين عشرة. فإن كانت قيمة الكُر الجيد عشرين، فقد قال الأستاذ: نحكم بنفوذ البيع في نصف الجيد في الحال بنصف الكُرّ الرديء، والوجهُ فيه أن البيع ينفذ في نصفٍ قيمتُه عشرة، ويرجع في [ ... ] (3) نصفٍ من الكر الرديء، وقيمته خمسة، فتقع المحاباة في خمسة، والنصف الآخر من الكُر الرديء في يد بائع الكر الجيد يأخذه من الدَّين الذي له على مُتلف الكُرّ الجيد، فيحصل في أيدي [ورثة البائع] (4) عشرة، والمحاباة خمسة، فتقع التركة ضعف المحاباة. فإن نجّز متلفُ الكر الجيد شيئاً مما عليه، نفذ البيع على النسبة التي ذكرناها، فلا تجوز المحاباة في شيء حتى يحصل في يد الورثة ضعفُه. وهذا الجواب مستقيم، والأمر يجري على [النسبة] (5). فالذي نحققه تنفيذ البيع في نصف الكر الجيد، كما ذكرنا بيان هذه الصورة.

_ (1) في الأصل: بعد ثلثي المحاباة. (2) في الأصل: شيء. (3) بياض قدر كلمة بالأصل. (4) قدرناها مكان بياضٍ بالأصل. (5) بياض بالأصل.

7059 - أما الصورة الثانية، وهي إذا كان قيمة الكر الجيد ثلاثين وقيمة الرديء عشرة، فقد قال الأستاذ: [ينفذ] (1) البيع من الكر الذي قيمته ثلاثون في نصفه، والمحاباة ثُلُثه، وهو خمسةُ دراهم، وقد حصل لورثة بائع الكر الجيد الكرُّ الرديء وقيمته عشرة، وهي ضعفُ الخمسة التي قدرناها محاباة، وبقي في ذمة المشتري خمسةَ عشرَ درهماً، كلما حصل منها شيء، جازت المحاباة في مثل ثُلُثة. هذا كلامه، وليس فيه غلطٌ من ناسخٍ؛ فإنا تصفحنا [نُسخاً] (2) صحيحةً، فألفيناه كذلك، والذي ذكره في المسألة الثانية غلطٌ صريح لا يُشك فيه، والوجه أن نوضّح ما ذكره ليُفهم وجهُه، ثم نتبعه [بذكر ما نراه] (3). قال رحمه الله: يصح البيع في نصف الكر الجيد وقيمته خمسةَ عشرَ، وتبقى على المتلف خمسةَ عشرَ، وفي يد ورثة صاحب الكُر الجيد الكرُّ الرديء، وقيمته عشرة، والمحاباة في جميع الكر الجيد بعشرين، وهذه النسبة تقتضي أن تكون المحاباة في النصف الذي نفذ البيع فيه بعشرة، فقال الأستاذ: نقدر المحاباة في هذا النصف بخمسة، لتكون قيمة الكُرّ الرديء ضعفها، وتحتسب بقدر المحاباة في الباقي. 7060 - وهذا قول مَنْ لا اهتمام له بالفقه، وإنما يحتكم بالحساب على [ما ... ] (4). وتحقيق هذا أن المسألة مفروضة في كُر يقابله كُر، وهما مالان سواء، فلا يتصور الحكم بنفوذ البيع في نصفه من الكُرّ الجيد إلا بنصفٍ من الكر الرديء؛ فإن الكل إذا قابل الكل، قابل النصفُ النصفَ، وإذا وقع النصف من الكر الرديء، في مقابلة النصف من الكر الجيد، وقيمةُ النصف الرديء خمسة، فيقع بيع نصف الجيد بخمسة، فتكون العشرة محاباة لامحالة، فكيف يمكن تغيير هذا التقدير،

_ (1) ساقطة من الأصل (2) تقديرٌ منا مكان بياض بالأصل. (3) زيادة من المحقق. (4) كذا بالأصل. ولعلها: على ما يثبته الفقه.

والمقابلات في الربويات محتومة، لا محيص عنها، ولهذا لا يجري منها إلا قول التقسيط والانبساط، فإذاً الحكم بتصحيح البيع في النصف زللٌ، لا يتمارى فيه، والدليل عليه أنه لو لم يَجْرِ إتلافُ الجيّد، لكان لا ينفذ البيع إلا في نصف الكر الجيد، إذا كانت قيمته ثلاثة أمثال الكر الرديء، فكيف يسوغ أن ينفذ البيع مع إتلاف الكرّ الجيد في مقابلة المقدار الذي ينفذ فيه البيع لو كان الكر الجيد قائماً، وأمكن استرداد ما يقع البيع فيه؟ والذي يوضح ذلك إيضاحاً جُمليّاً أن الكر الجيد إذا [كان] (1) ضعف الكر الرديء، ولا إتلاف، فالبيع ينفذ في ثلثي الكر الجيد. ثم إذا جرى الإتلاف، لم ينفذ إلا في نصفه، فلمَ اختلف المقداران في الكر الذي قيمته عشرون ولم يختلفا في الكر الذي قيمته ثلاثون؟ فالوجه أن نقول: ننظر إلى ما في يد بائع الكر الجيد، وينفذ من البيع في الكر الجيد مقدارُ ما تقع المحاباة فيه على النسبة الصحيحة، مثل نصف ما في يد صاحب الكر الجيد، وقد وقع الأمر كذلك في المسألة الأولى، وليس في يد صاحب الكر الجيد أو في يد ورثته في المسألة الثانية إلا الكر الرديء، وقيمته عشرة، ولو نفذ البيع في نصف الكر الجيد، لكانت المحاباة في الصفقة عشرة، فنعلم أنا لو نفذنا البيع في ربع الكر الجيد، لكانت المحاباة خمسة، فينفذ البيع في هذا المقدار. ونقول: صح البيع في ربع الكر الجيد، وقيمته سبعةٌ ونصفٌ، بربع الكر الرديء، وقيمته درهمان ونصف، فالمحاباة خمسة، وفي يد ورثة صاحب الكر الجيد عشرة، وهي ضعف المحاباة، ونحن في جميع ما نجريه لا ننفِّذ بيعاً ناجزاً تعويلاً على دَيْنٍ في [الذمة] (2)، وإنما نعوّل على المال العتيد الحاضر. 7061 - ثم ذكر صاحب التلخيص مسائلَ متصلة بإتلاف الكرّ الرديء، وقد ذكرنا أن صاحب الكر الجيد إذا أتلف الكر الرديء، فالبيع ينفذ في الثلث من الجيد، كيف فرضت المقادير، وقد فرض المسائل في إتلاف تغيير (3) الكر الرديء، [إذا

_ (1) زيادة من المحقق. (2) تقديرٌ منا مكان بياض بالأصل. (3) كذا. والكلام مستقيم بدونها.

كان] (1) صاحبُ الكر الجيد البائعَ [وصاحب الكرّ] (3) الآخر المشتري، فإذا [أتلف] (3) البائع نصفَ القفيز الرديء، فالفتوى أن البيع يصح في ربع الكر الجيد وسدسه، ويبطل في الباقي. وبيانه بطريق التقدير والنسبة: أنا فرضنا هذه المسألة فيه إذا كان قيمة الجيد ثلاثين، وقد أتلف نصفَ الكر الرديء، وقيمته خمسة، فذلك مضمون عليه، لا بد وأن يُقضى من ماله، فنحطه من الكُر الجيد، فيبقى منه خمسةٌ وعشرون، وثلثُ ذلك ثمانيةٌ وثلث، وهو حابى في البيع بعشرين درهماً، وثمانيةٌ وثلثٌ، من جملة العشرين ربعها وسدسها، فيجوز البيع في ذلك القدر من القفيز. وإن أردت مزيدَ بسطٍ، فاجعل القفيز اثني عشر، ليكون له ربع وسدس، وجوّز البيعَ في خمسةٍ منها (2) بمثل ثلثها من الثمن، ولا ثلث للخمسة، فاضرب اثني عشر في مخرج الثلث، فيصير ستة وثلاثين، فيجوز البيع في خمسةَ عشرَ [بمثل] (3) ثلثها، وهو خمسة، فتكون العَشَرة محاباة، [واقضِ] (4) قيمة ما أتلف، وذلك مثل سدس هذا الجيد، تبقى عشرون، وهو مثلا المحاباة. 7062 - طريقة الجبر أن تُجِيز البيع من القفيز الجيد في شيء، واجعل الكُرَّ الجيد ثلاثة أسهم إلا ثلثي شيء، فنقضي منه الدين، وهو نصف سهم؛ فإن الكر الرديء كان سهماً بالنسبة إلى الكر الجيد، وقد أتلف البائع نصفَ الكر الرديء، فتبقى سهمان ونصفُ سهم إلا ثلثي شيء، وذلك يعدل ضعف المحاباة، والمحاباة ثلثي شيء، وضعفها شيءٌ وثُلث. ثم نجبر ونقابل، فيصير سهمان ونصف في معادلة شيئين، فنبسط ما في الجانبين على مخرج النصف في الثلث؛ لأنه دخل في حسابنا النصف والثلث، وذلك ستة، فإذا بسطت ما في الجانبين على مخرج السدس، يصير السهمان والنصف خمسةَ عشرَ، والشيئان اثني عشر، فنقلب الاسم على البسط، فيصير كل

_ (1) الكلمات بين المعقفين في المواضع الثلاثة تقديرٌ منا، مكان بياض بالأصل. (2) الخمسة هنا ربعٌ وسدس (3+2). (3) في الأصل: مثل. (4) في الأصل: وأقصى.

[سهم] (1) اثني عشر، والشيء [خمسةَ عشرَ] (2)، وقد [قدّرْنا] (3) الكُرَّ الجيد ثلاثة أسهم، فصارت ستة وثلاثين والشيءَ الذي جوزنا البيع فيه خمسةَ عشرَ، فقد جاز البيعُ في خمسةَ عشرَ من ستةٍ وثلاثين من الكر الجيد، وهذا يقع ربعاً وسدساً، فإن ربع الستة والثلاثين تسعةٌ، وسدسها ستة. 7063 - طريقة الدينار والدرهم أن نجعل الكر الجيد ديناراً ودرهماً، ونجوّز البيعَ في الدينار بمثل ثُلُثه، فيخرج دينار، ويعود ثُلث دينار (4)، فيبقى درهم وثلث دينار، نقضي منه الدين، وهو سدس دينار وسدس درهم؛ فإن الكر الجيد إذا كان ديناراً ودرهماً، فالكر الرديء ثُلُث دينار وثُلُث درهم، [ونصفه] (5) سدس دينار وسدس درهم، فبقي مع ورثة بائع الكر الجيد سدس دينار وخمسة أسداس درهم، تعدل ضعفَ المحاباة، والمحاباة ثلثا دينار، وضعفه دينار وثلث، فنجعل [سُدس دينار] (6) قصاصاً بمثله، تبقى خمسة أسداس درهم تعدل ديناراً وسُدسَ دينار، فنبسط الدينار والدرهم أسداساً، فيصير الدينار والسدس سبعة وخمسة أسداس درهم، فنقلب العبارة ونجعل الدينار خمسة والدرهمَ سبعة، فنعلم أن البيع جاز في خمسةٍ من اثني عشر من القفيز، وبطل في الباقي وهو سبعة. 7064 - ولو أتلف صاحبُ الكر الجيد ثُلثَ الكر الرديء أو ربعه أو ما يتفق، فتخرج المسائل مختلفةُ الأعداد بالطرق القويمة التي ذكرناها، فلم نُطوّل بذكرها. 7065 - مسألة: في المحاباة بالبيع والإقالة، ونفرضها في الربويات، حتى لا يجري فيها إلا القولُ الصحيح، وهو قول التقسيط. فنقول: إذا باع مريضٌ قفيزاً من البُرّ الجيد من مريضٍ بقفيزٍ من البر الرديء، ثم

_ (1) في الأصل: كل اسم. (2) في الأصل: خمسة وعشرون. (3) مكان بياض بالأصل. (4) عبارة الأصل: فيخرج دينار، ويعود ثلثه، ويعود ثلث دينار. (5) في الأصل: ونصف. (6) عبارة الأصل: "فنجعل ثلث سدس قصاصاً". والمثبت تقدير منا.

استقال البيعَ، فأقاله البائع [ ... ] (1) يتبعه، والمشتري لما أقاله، فقد حاباه بإقالته (2)، فإنه يردّ الكر الجيد، ويسترد الكر الرديء، ثم المحاباة تدور على البائع المقيل (3). والمسألة سهلةُ المُدرك على من أحكم الأصول، ولكن قد يرتاع منها المبتدىء لاستدارة المحاباة من كل جانب على الجانب الآخر. 7066 - فنقول: إذا باع المريض كُراً يساوي عشرين بكُر رديء يساوي عشرة، والمشتري مريض، [فأقاله] (4) في مرضه، فإن أبطلنا البيع بالتفريق، ولا مال [لهما] (5) غير الكرّين، وقد ردّ الورثةُ الزائد على الثلث، فلا بيع ولا إقالة. وإن صححنا البيع، فحساب المسألة بطريق الجبر أن نقول: [قيمة] (6) الكر الجيد درهمان؛ حتى تنتظم لنا عبارة في [تفاضل] (7) الكُرّين، ونضع الكرَّ الرديء درهماً، و [نفرض] (8) صاحب الجيد بائعاً، وصاحب الرديء مشترياً. فنقول: نُجيز البيع من الكُرّ الجيد في شيء بمثل نصفه من الرديء، يبقى في يد ورثة البائع درهمان إلا نصفَ شيء؛ فإنه ذهب في بيعٍ شيءٌ، وعاد بالعوض نصفُ شيء. وفي يد ورثة المشتري درهم ونصف شيء، فإنهم أخذوا شيئاً [بمثل] (9) نصفه، فلما أقال المشتري، [فنُجِيز] (10) إقالته مما في يده وصيةً، فنعبر عنها بالوصية، حتى

_ (1) بياضٌ قدر كلمة. (2) بإقالته: اي بطلبه الإقالة، وإلا فالذي أقال هو البائع. (3) في الأصل: والمقيل. (4) في الأصل: فأقال. (5) في الأصل: له. (6) تقديرٌ من المحقق مكان بياضٍ بالأصل. (7) في الأصل: تفاصيل. (8) من وضع المحقق مكان بياضٍ بالأصل. (9) اختيار منا مكان بياضٍ بالأصل. (10) في الأصل: فنجبر.

لا [ ... ] (1) البيع بما نطلقه في الإقالة، فإذا نفذت وصيةٌ مما في يد المشتري وفي يده درهمٌ ونصفُ شيء، فخرجت منه وصية: وعاد نصفُ وصية، فبقي في يد المشتري درهمٌ ونصفُ شيء إلا نصفَ وصية، وذلك يعدل ضعفَ المحاباة، والمحاباة نصف وصية، وضعفه وصية، فنجبر ونقابل فيصير درهمٌ ونصفُ شيء في معادلة وصيةٍ ونصفِ وصية، فالوصية الواحدة تعدل ثلثي درهم وثلثَ شيء، وكنا جوزنا الإقالة فيها بمثل نصفها، فيعود بالإقالة إلى ورثة البائع عَوْد استقرار نصفُ ذلك، وهو ثلث درهم وسدس شيء، وهذا هو العائد بغير عوض، وكان مع ورثة البائع درهمان إلا نصفَ شيء، فالآن معهم درهمان وثلث درهم إلا [ثلث] (2) شيء، وذلك يعدل مثل المحاباة في البيع، والمحاباة نصفُ شيء، ومثلاه شيء، فنجبر ونقابل، فيعدل درهمان وثلث شيئاً وثلثَ شيء، فنبسط أثلاثاً، ونقلب العبارة، فيصير الدرهم أربعة، والشيء سبعة، وكان الكُر درهمين، فصار ثمانية، والشيء الذي أجزنا البيع فيه سبعة، فيصح البيع في سبعة أثمان القفيز الجيد بمثل نصفه من الثَّمن، وليس للسبعة نصفٌ صحيح، فاضرب الكلَّ في مخرج النصف، فالكُرّ الجيد ثمانية، نضربها في اثنين فتصير ستةَ عشرَ، والسبعة صارت أربعةَ عشرَ، فنُجيز البيع في أربعةَ عشرَ من ستةَ عشرَ من الكُرّ الجيد، وهو سبعة أثمانه بمثل نصفه، وذلك سبعة، ويبطل البيع في الثُّمُن، وهو درهمان من ستةَ عشرَ. 7067 - ونعود إلى الإقالة، فنقول: ذكرنا أن الإقالة صحت في وصية، وقد ظهر لنا قبل ذلك أن الوصية ثلثا درهم وثلث شيء، وظهر آخراً أن الدرهم ثمانية (3) من الكر الجيد، [فيكون ثلثاه اثنين وثُلُثين] (4) وثلث الشيء يكون اثنين وثلث؛ لأن الشيء التام صار سبعة، فالجميع يكون خمسة، وقد صحت الإقالة في خمسة أثمان بمثل نصفها، فإن شئت ضربت في مخرج النصف، فيصير عشرة، فالعشرة من جملة ستة عشر التي

_ (1) بياضٌ لما نستطع بعدُ تقدير ما سقط منه. (2) في الأصل: ثلثي. وهو خطأ. (3) في الأصل: الدرهم أربعة وثمانية. (4) عبارة الأصل: وثلثاه فيكون اثنان وثلثان.

هي القفيز الجيد [خمسة أثمان] (1)، وبطل في ثُمُنين؛ لأن البيع إنما صح في سبعة أثمان، وهو أربعةَ عشرَ من ستةَ عشرَ. فإذا بسطنا الإقالة، صحت في عشرة منها وبطلت في أربعة وهي ثمنان. 7068 - فإن أردت أن تعرف كم جاز لكل واحد منهما بالمحاباة، وكم حصل لورثة كل واحد منهما، فنقول: قد علمنا أن البيع لما جاز في أربعةَ عشرَ من الكُر الجيد، كان نصفه وهو سبعة محاباةً للمشتري، وقد بقي في يد ورثة البائع سهمان من ستةَ عشرَ بطل البيع [فيهما] (2) فذلك تسعة، وعاد إليهم بالمحاباة في الإقالة خمسة من عشرة؛ لأن نصف ما جازت الإقالة فيه محاباةٌ، فالجميع أربعة عشرَ، وهو ضعف المحاباة [ ... ] (3) في البيع. وأما (4) ورثة المشتري كان (5) بقي في يدهم من درهمٍ (6) ثُمنٌ واحد، وهو درهم؛ لأن كلَّ ثُمن من القفيز الجيد درهمان، وكل ثمُنٍ من الرديء مثلُ نصفه. وصح البيع في أربعةَ عشرَ من الكُر الجيد بسبعةٍ من الرديء، فاجتمع [في يدهم خمسة عشر] (7) وقد دفعوا بالإقالة ما دفعوا واستردوا نصفه، فيحصل في أيديهم عشرة: تسعة من البيع وعِوض الإقالة، وواحدٌ من الكر الرديء [فبلغ] (8) إلى عشرة [وهو] (9) مثلا ما [جاز] (10)

_ (1) اختيار من المحقق مكان بياض بالأصل. (2) تقدير منا مكان بياض بالأصل. (3) ما بين المعقفين بياض قدر كلمتين، لا نعرف له سبباً، فالكلام مستقيم على حالته. وأتوقع أن يكون الناسخ بيّض لكلمتين مضروبٍ عليهما، وبسبب الضرب لم يستطع قراءتهما. (4) في الأصل: وما ورثه. (5) سقطت الفاء في جواب (أما) وقد أشرنا مراراً أنها لغة كوفية جرى عليها إمامنا غالباً. (6) ذلك أنا قدرنا الكر الرديء بدرهم. (7) تقدير منا مكان بياض بالأصل، على ضوء حساب المسألة، فقد حصل لهم أربعة عشر بالبيع، وبقي في أيديهم واحد. (8) مزيدة لاستقامة المعنى (على ركاكتها). (9) زيادة من المحقق. (10) في الأصل: جازت.

من المحاباة [بالإقالة] (1) فاعتدلت المسألة على جواب صاحب التلخيص حيث قال: صح البيع في سبعةِ أثمان القفيز الجيد وصحت الإقالة في خمسة أثمان. هذا طريق الجبر. 7069 - وهذه المسألة من غوامض المحاباة على من لم [يألف] (2) طُرقَ الدور. وقد عرضتها على من كان فريد عصره (3) في الحساب، فمهّد فيها، وفي أشباهها طريقةً قريبة حسنةً بالغةً تُغني عن معادلات الجبر، وعكَسَ البعضَ فيها على البعض، وهي تنبني على أصولٍٍ سهلة: منها أن تعلم أن القفيز الجيد وما في معناه من أمثال هذه المسائل يقدّر بالأثمان، فنقدِّره ثمانية أسهم، والقفيز الرديء ينسب إلى كسر القيمة باعتبار الأثمان، ثم نعلم أن المحاباة من صاحب القفيز الجيد لا تبلغ أربعةَ أثمانٍ قط، ولا تنقص عن ثلاثة أثمان بل تزيد عليها، ثم إذا أردت أن تعرف قدر الزيادة، فالسبيل فيه أن تنظر إلى قدر القفيزين، وتنسب إلى الأجود، وتأخذ تلك النسبة، فتزيد مثلَ تلك النسبة من ثُمن، فيصير التبرع ثلاثةَ أثمان، ومثلَ تلك النسبة من ثُمنٍ رابع. وبيان ذلك في مسألة صاحب التلخيص: أن نقدّر القفيزَ ثمانية نعني الجيد، ونقدر القفيز الرديء أربعة، ثم نقول: يصح تبرع البائع في ثلاثة أثمان ونصف ثمن؛ فإن نسبة الرديء إلى الجيد بالنصف، فإذا أردت أن تعرف أن البيع في كم يصح، فانسب القفيز الرديء إلى المحاباة، ورُدَّ مثلَ تلك النسبة على التبرع. وبيان ذلك: أن التبرع ثلاثة أثمان ونصف، والمحاباةُ في وضع البيع عشرة من

_ (1) مكان بياض بالأصل قدر أربع كلمات. لا ندري ما هي. (2) في الأصل: يلف. (3) لم يصرح إمام الحرمين باسم "فريد عصره". فهل هو الإمام عبد الرحيم القشيري بن الإمام عبد الكريم. فقد قال السبكي في ترجمته: "وأعظمُ ما عظم به الإمامُ عبد الرحيم أن إمام الحرمين نقل عنه في كتاب الوصية، وهذه منزلة رفيعة" ا. هـ بنصه من الطبقات: (7/ 165). هذا، وقد صرح إمام الحرمين بكنيته ولقبه ونسبته، فقال عنه: "الشيخ أبو نصر القشيري" وذلك سيأتي في أواخر كتاب الوصية.

عشرين، فإذا نسبت القفيز الرديء إلى المحاباة، كان مثل المحاباة؛ فإن القفيز الرديء عشرة، ورُدّ على التبرع النافذ مثلَه، وقل: ينفذ البيع فيه والتبرع النافذ [ثلاثة] (1) ونصف، فقد صح البيع في سبعة أثمان القفيز والتبرع مثل نصفه. وإذا أردت أن تعرف أن تبرع المُقيل في كم يصح، فطريقه أن تنظر إلى تبرع البائع، فإذا [كان] (2) هو ثلاثة أثمان ونصف، فاضربها في ثلاثة أبداً، فتردّ عليك عشرةً ونصفاً [وهي تزيد] (3) على الثمانية باثنين ونصف، فقل: يصح تبرع المقيل في [اثنين] (4) ونصف. وإن أردت أن تعرف القدر الذي صحت فيه الإقالة، فزد على قدر التبرع بمثل نسبة زيادتك على تبرع البائع، وقد زدت على تبرع البائع مثلَه، فزد على تبرع المقيل مثله [فيردّ] (5) خمسة. 7070 - وهذه المناسبات جارية في كل مسألة، ونحن نمتحنها في صُورٍ: فلو باع قفيزاً قيمته ثلاثون بقفيزٍ قيمته عشرة، ثم أقاله المشتري وهما مريضان لا مال لهما غير القفيزين، فنقول: القفيز [الجيد] (6) ثمانية، والرديء [ثُلُثه] (7) وهو [اثنان] (8) وثلثا ثمن. فنقول: صح تبرع البائع في ثلاثة أثمان وشيء. وإن أردت معرفةَ ذلك الشيء، فانسب القفيزَ الرديء إلى الجيد؛ فإن الرديء ثلثُ الجيد، وقد صح تبرع البائع في ثلاثة أثمان وثلث ثمن، ثم انسب القفيز الرديء إلى المحاباة، فالرديء عشرة من جهة القيمة والمحاباة عشرون، والرديء مثل نصف المحاباة، فزد على التبرع مثلَ نصفه، والتبرع ثلاثة وثلث، ونصفها واحد وثلثان، فإذا ضممته إلى التبرع،

_ (1) في الأصل: مثله. (2) في الأصل: قال. (3) ساقط من الأصل. (4) في الأصل: ثمانية. وهو خطأ حسابياً. (5) تقدير منا مكان البياض بالأصل. (6) ساقطة من الأصل. (7) في الأصل: ثلث. (8) في الأصل: ثمان.

صار خمسة، فقل: يصح البيع في خمسة أثمان، ثم اضرب التبرع وهو ثلاثة وثلث في ثلاثة فتردّ عشرة، فقابلها بالثمانية، فإذا هي زائدة عليها سهمين، فقُل: يصح تبرع المقيل في سهمين من الخمسة التي صح البيع فيها. فإذا أردت أن تعرف القدر الذي تصح فيه الإقالة، فزد على تبرع المقيل بمثل نسبة زيادتك على تبرع البائع، وقد زدت على تبرع البائع مثلَ نصفه، فزد على تبرع المقيل مثلَ نصفه، فيصير ثلاثة، فقل: يصح البيع أولاً في خمسة، وصحت الإقالة آخراً في ثلاثة من الخمسة، وامتحن المسألة، تجدها صحيحة. 7071 - صورة أخرى: باع قفيزاً يساوي أربعين بقفيز يساوي عشرة، ثم جرت الإقالة. قد سبق التصوير، [فقل] (1): يصح تبرع البائع في ثلاثة أثمان وشيء، وقفيزه [ثمانية] (2) أبداً، والقفيز الرديء منسوب إليها، فهو [اثنان] (3)، وإذا كانت النسبة بالربع، فتقول: التبرع صحيح في ثلاثة أثمان وربع، ثم انسب الرديء إلى المحاباة، والمحاباةُ ثلاثون، والرديء مثلُ [ثلثها] (4)، فزد على التبرع مثلَ ثمنه، وثلثَ ثُلُثه وربعَ سهم ونصفَ سدس (5)، فإذا ضممته إلى التبرع، صارت الجملة أربعةً وثلثاً. وقد صح البيع في أربعة وثلث، والتبرع ثلاثة وربع، ثم اضرب ثلاثة وربع في مخرج [الثلث] (6) فيردّ تسعة وثلاثةَ أرباع، فإذا قابلتها بالثمانية زادت على الثمانية بسهم وثلاثة أرباع، فقل تبرع المقيل سهم وثلاثة أرباع، فإن أردت أن تعرف القدر الذي

_ (1) في الأصل: فهل. (2) في الأصل: ثمنه. (3) في الأصل: "ثمان". (4) في الأصل: ثلثه. (5) هذه القيم الحسابية (الثمن، وثلث الثلث، وربع السهم، ونصف سدسه) لم تردّ المبلغ الذي قاله بعد زيادتها على التبرع بالدِّقّة، بل زادت عن 1/ 3 4 زيادة يسيرة: 5/ 288!!، فهل في الكلام تصحيف؟ أم أنه لا اعتداد بهذه الزيادة (من باب التقريب الحسابي). (6) في الأصل: الثلاثة.

صحت فيه الإقالة، فزد على تبرع المقيل بنسبة [زيادتك] (1) على تبرع البائع، وقد زدت على تبرع البائع مثل ثُلثه، فزد على تبرع المقيل مثل ثلثه، فيكون ثلثَ سهم وربعَ سهم، فإذا ضممت، صار الكل سهمين وثلثاً، فقد صحت إقالته في سهمين وثلث، والتبرع منه سهم وثلاثة أرباع، فجرت الطريقة في أمثال هذه المسائل على الطرد. فصل نخرّج [فيه] (2) مسائل فرقها الحُسَّاب في أثناء الأبواب، وهي من قواعد الفقه، ونحن نذكرها إن شاء الله تعالى: من أهمها - القولُ في بيع الأعيان في مرض الموت بالأعواض المؤجلة، وهذا ينقسم إلى بيع عينٍ بثمن مؤجل وإلى إسلام أعيانٍ في عروض موصوفة مؤجلة، ثم [التأجيل] (3) في الديون ينقسم إلى تأجيلٍ لا زيادة فيه ولا نقصان في المالية، وإلى تأجيلٍ مع [حطٍّ] (4) من المالية، فإذا صرفَ الأعيان إلى الديون المؤجلة من غير حطيطة في المالية ونقصانٍ من القيمة [مثل] (5) أن يبيع المريض عبداً قيمته ألف بألفٍ وخمسِمائة إلى أجل سنة من مليء وفيّ، وقال أهل الخبرة: هذا وإن كان بألفٍ نقداً، فبائعه بالألف والخمسمائة إلى سنةٍ مغبوطٌ وليس بمغبون. وقد يجوز بيع مال الطفل على شرط [الغبطة] (6) بالرهن على هذا الوجه. فإذا جرى بيعٌ من المريض كذلك، ومات، فللورثة ألا يجيزوا البيع مع ظهور الغبطة؛ فإن [شيئاً لم يصل إلى] (7) أيديهم [و] (8) لم يتحصلوا في الحال على عَرْض، فلهم حق الاستدراك، على ما سنفصله.

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) زيادة من المحقق. (3) تقدير منا؛ مكان بياض قدر كلمتين، وبعد البياض كلمة "الاعتياد" انظر صورتها. (4) في الأصل: حظ. (5) في الأصل: قبل. (6) تقديرٌ من المحقق مكان بياضٍ بالأصل. (7) البياض قدر كلمة واحدة لم نصل إلى مثلها، فكانت هذه الصيغة التي قدرناها. (8) (الواو) زيادة من المحقق.

فهذا فنٌّ أصَّلْنا القولَ فيه، وسنفصله في المسائل. فأما إذا انضم إلى التأجيل في العوض غَبينة، فهذا يتصور على وجهين: أحدهما - أن يبيع المريض عبداً يساوي ألفاً نقداً، بخمسمائة إلى أجلٍ. والثاني - أن يبيع ما يساوي ألفاً نقداً بألفٍ إلى أجلٍ، فهذا يُعدّ حطيطةً في المالية. ونحن نذكر الصورَ واحدةً واحدة، ونذكر في كل صورة ما يليق بها، إن شاء الله عز وجل. 7072 - فلو أسلم المريض عشرة دراهم في مقدارٍ من الحنطة تساوي العشرة، مع التأجيل، وإنما يتضح هذا بأن لا يوجد ذلك المقدار بعشرة نقداً. فإذا جرى السلم كما وصفناه، فإن انقضى الأجل، وحلّ قبل موت المريض، فإذا مات أدى المسلَمُ إليه الكُرَّ. وإن مات المريض المسلِمُ قبل أن يحِل الأجل، فإن أجاز الورثةُ، فالسلم جائز إلى أجله، ولا يكون للمسلَم إليه خيار؛ فإن الخيار إنما يثبت له من جهة تبعيض الصفقة عليه، على ما سنشرحه، إن شاء الله عز وجل. فإذا رضي الورثةُ تنفيذَ العقد وانتظارَ حلول الأجل، وقد خلَفُوا الميت وحلّوا محله، ثم إذا أجازوا العقدَ، فقد أُلزموه، فلا يجدون رجوعاً عن الإلزام. وإن سكتوا، فسكوتهم لا يبطل حقَّهم في الاستدراك [إن] (1) أرادوه. وهكذا القولُ في كل وصية تتعلق بإجازة الورثة. وإن [قالوا] (2) لا نرضى بالأجل في محل حقنا، وهو الثلثان، وإن لم يكن في العقد حطيطة [ونقصان] (3) مالية، [فلهم ذلك] (4)، والسبب فيه أن زوال الملك عن

_ (1) في الأصل: من. (2) في الأصل: قال. (3) مكان بياض بالأصل. (4) ساقطة من الأصل.

الأيدي منجّز بعقدٍ أنشأه المريض، [والعَرْضُ] (1) الرابع (2) في الذمة مستأخَر، فلهم أن يرضَوْا بتأخر حقوقهم، إن كان [مَن عليه العشرة الدين] (3) ملياً وفياً. ثم إذا لم يرض الورثة، فالمسلم إليه بالخيار إن شاء نقض السلم وردَّ رأس المال كَمَلاً، وإن شاء [عجَّل] (4) المسلم فيه، فإذا [عجّله] (5)، بطل حقُّ الورثة في فسخ العقد، وليس لهم أن يمتنعوا عن قبول [ما يعجله] (6) إذا كانوا يبغون [فسخاً] (7) بسبب الأجل. وإن لم يريدوا [فسخاً] (7)، ورغبوا بالتأجيل، [فعجل] (8) المسلَم إليه ما عليه، ففي إلزام الورثة قبول ما عجله قولان معروفان. وإن عجل المسلَم إليه ثلثي الطعام المسلَم فيه، كفاه ذلك، وبقي الثلث إلى أجله في ذمته؛ فإنه يقول: نأخذ الثلث على ألا يزيد على هبة الثلث مع حضور الثلثين. ولو ردَّ المسلَمُ إليه ثلثي رأسِ المال، و [فسخ العقد في] (9) ثلثي المسلم [فيه] (10) على أن (11) يبقى الثلث عليه مؤجلاً، كان الأمر على ما أراد. فإذاً المسلَم إليه مخير بين أن يعجل الثلثين من المسلَم فيه، أو ينقض السلم أصلاً إذا كان الورثة ينقضون عليه وأن (12) يرد ثلثي رأس المال.

_ (1) في الأصل: الغرض. (2) كذا. وهل هي (الراتع)؟ أو (الرابغ)؟ على أية حال هي كلمة بمعنى الثابت في الذمة. (3) عبارة الأصل: "وإن كان من العشرة عليه الدين". ففيها تقديم وتأخير. (4) في الأصل: عمله. (5) في الأصل: فعله. (6) في الأصل: ما يعمله. (7) في الأصل: قسما. (8) في الأصل: فعمل. (9) مكان بياضٍ بالأصل. (10) زيادة اقتضاها السياق. (11) في الأصل: ألاّ يبقى. (12) في الأصل: أن (بدون واو).

فهذه جهاتُ [تخيره] (1)، فإن لم يفعل شيئاً منها، فللورثة أن يفسخوا السلم في [ثلثيه] (2) لا غير، وليس لهم أن يقولوا هذا التبعيض تسليط على فسخ العقد رأساً؛ فإنه لا حق لهم في غير الثلثين. هذا منتهى الغرض في ذلك. 7073 - وحكى الأستاذ عن ابن سريج وجهاً بعيداً، لم أره لغيره: أن المسلَمَ إليه إذا عجّلَ ثلثي المسلَم فيه، أو ردَّ ثلثي رأس المال، وفسخ السلم في الثلثين، فله أن يحبس الثلث [أمداً] (3) زائداً على الأجل المضروب في السلم، حتى لو كان أمدُ السلم شهراً، فإنه يحبس الثلث ثلاثة أشهر، ليكون ذلك بمثابة استمرار الأجل في جميع [المسلَم] (4) فيه شهراً. وهذا كلام ركيك لا أصل له، [ولا معوّل] (5) على مثله. 7074 - صورة أخرى: إذا أسلم عشرةً في كُرٍّ يساوي ثلاثين، ومات قبل أن يحِلّ الأجل، فإن رضي الورثة وأجازوا، [استمرّ] (6) العقد على وضع الإجبار، ولا معترض. فإن أرادوا ألا يرضَوْا بتأجيل العوض بكماله، فلهم ذلك، مع ظهور الغبطة في تقدير العقد، وانتظار انقضاء الأجل، فإن أرادوا تبعيض العقد على المسلم إليه، فللمسلَم إليه فسخُ العقد [ ... ] (7) من أصله. ولو [عجل] (8) جميعَ المسلم فيه، فقد تقدم القول فيه، فلا نعيد ما تقدم. فالذي نجرده في هذه الصورة أن المسلَمَ إليه لو قال: مالُكم الذي نتعلّق به

_ (1) في الأصل: مخيرة. (2) في الأصل: ثلثه. (3) في الأصل: أبداً. (4) في الأصل: السلم. (5) تقدير منا مكان البياض بالأصل. (6) مكان بياض بالأصل. (7) بياض قدر كلمتين. يستقيم الكلام بدونهما. (8) في الأصل: عجلوا.

عشرةٌ، وأنا [أؤدي لكم] (1) من الحنطة التي عليَّ مقدارَ ثلثي العشَرة، وهو ستةٌ وثلثان -ومقدارها في البر المسلم فيه تُسعاه؛ فإن البر يساوي ثلاثين (2) - انقطع حق الورثة؛ فإنه يقول: قدِّروا كأنه وهب العشرة مني ورَددتُم تبرعَه في ثلثي العشرة، وقد أحضرتُ ما رددتموه. هذا هو الذي قطع به الأئمة رضي الله عنهم. وإن قال الورثة: "حقنا ثابت في ذمتكم"، فلا حاصل لهذا مع قدرة المسلم إليه على الفسخ مع تعرض الورثة له. 7075 - صورة أخرى: لو أسلم المريض ثلاثين درهماً لا يملك غيرَها في كُرٍّ قيمته عشرون، فنقول: لو حل الأجل قبل موت المسلِم، ثم مات وقد حل الأجل، [يؤدي] (3) المسلَمُ إليه الكرَّ، ولا معترض عليه، فالمحاباة، وإن كانت جاريةً، فهي على قدر الثلث. فلو باع الرجل المريض عبداً يساوي ثلاثين بعشرين، نفذ [ ... ] (4) تبرعه، وصح محاباته، لوفاء الثلث. [و] (5) إن لم يكن حل الأجل، ومات المريض المسلِمُ، فإن أجاز الورثةُ، فلا كلام، وإن لم يجز الورثة [العقد] (6)، فلهم ذلك المقدار [مع] (7) المحاباة. ولكن التأجيل واستئخار العوض، وبه أثبتنا لهم الخيار مع الغبطة وعدم المحاباة في المال، فإذا أراد الورثة التعوّض، فالمسلم إليه بالخيار، فإن نقض السلمَ ورد

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) عبارة الأصل: يساوي ثلاثين ذلك انقطع .. إلخ. (3) زيادة من المحقق. (4) كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (5) الواو ساقطة من الأصل. (6) مكان بياض بالأصل. (7) زيادة من المحقق.

العوضَ، فلا كلام، وإن عجّل الكُرَّ، زال الاعتراض عنه، وآل الأمر إلى محاباة [يفي] (1) الثلث بها. ولو رد ثلثي الثمن ونقض البيع في ثلثي المبيع، جاز، ورجع إلى الورثة عشرون درهماً، وبقي الثلث مؤجلاً. وإن كان الثلث مرهوناً بالنقد وا [ ... ] (2) بهذا. ولو قال المسلَمُ إليه: أعجل ثلثي الكُرّ، لم نقنع منه بهذا؛ فإن ثلثي الكر يساوي ثلاثةَ عشرَ وثُلثاً، فلا يقع هذا الثلثان من الثلثين، فلا بد وأن يَسْلَمَ لهم عشرون، فلا طريق في ذلك إلا بتعجيل الكل أو بردّ ثلثي رأس المال، مع فسخ السلم في الثلثين. 7076 - صورة أخرى: لو أسلم ثلاثين درهماً في كُرٍّ قيمتُه عشرة، فقد اجتمع في هذه الصورة التأجل والمحاباة. [وقصور] (3) الثلث عن احتمال جميع المحاباة. فإن حل الأجل قبل موت المسلِم، فقد زال أثر الأجل، وهذا مثلُ من اشترى ما يساوي [عشرة] (4) بثلاثين، لا مال له غيرها. وإن لم يحل الأجل حتى مات المريض، فللورثة اعتراضان: أحدهما - من قِبل الأجل، والثاني - من قِبل المحاباة الزائدة على الثلث. والذي [تقتضيه] (5) هذه الصورة وبان به أن المسلَمَ إليه لو [عجل] (6) الكرَّ [لم يكفِ، وما] (7) انقطعت عنه الطَّلِبة، حتى يرد على الورثة ما يعدِّل به الثلث والثلثان، وذلك بأن يعجل نصفَ الكُرّ، ويردّ نصفَ رأس المال، ويبقى للمسلَم إليه خمسةَ عشرَ، من رأس المال، والمحاباة منها عشرة.

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) بياض بالأصل قدر ثلاث كلمات. (3) في الأصل: وصورة. (4) ساقطة من الأصل. (5) في الأصل: تقتضي. (6) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (7) مكان بياض بالأصل.

هذا وجهٌ. والوجه الثاني في التعديل - أن يفسخ العقد في ثلثي الكُر، ويردّ ثلثي رأس المال. هذا بيان التأجيل، وما يجري معه من محاباة أو غبطة [ولم يبق] (1) مما ذكرناه مقصود يتعلق بهذه القاعدة. 7077 - وذكر الأستاذ صورةً متعلقةً بما ذكرناه [نذكرها] (2) لزيادةٍ فيها: فإذا باع عبداً يساوي ألفاً بثلاثة آلاف إلى أجل سنة، وعدَّ ذلك غبطةً مثلاً، وأوصى بثلث ماله لإنسان، فالمحاباة مقدمةٌ على الوصية؛ فإنها منجّزةٌ في الحياة، وما ينجز من التبرعات مقدم على الوصايا. فلو رضي الورثة حتى حلّ الأجل، فإذْ ذاك نصرف ألفاً إلى الموصى له بالثلث. ولو تعرض الورثة للفسخ والتبعيض، ففسخ المسلَمُ إليه البيعَ، وارتد العبد إلى الورثة، فللموصى له بالثلث ثلث العبد. قال الأستاذ أبو منصور: يحتمل أن نقول: ليس للموصى له بالثلث شيء، لأنه أوصى له بثلث ماله بعد بيع العبد، فلم يكن [في ملكه] (3) [حين] (4) أوصى بالثلث، وإنما ارتد العبد بالفسخ بعد الموت. وهذا الذي ذكره عريٌّ عن التحصيل؛ فإن العبد وإن ارتد بعد موته، فهو معدود من ماله وتركته، تُقضى منه ديونه، وتنفذ منه وصاياه في هذه الصورة التي ذكرناها. وقد كان العبد مرتبطاً بعوضه، فإذا فسخ العقد، [صار كأنه كان] (5) كائناً حالة الموت. فهذه جمل فقهية أوردناها لا غناء بالفقه عنها.

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: نذكر. (3) مكان بياض بالأصل. (4) في الأصل: حتى. (5) مكان بياض بالأصل.

7078 - [ومما] (1) ذكره الأستاذ في أثناء مسائل المحاباة، أن من باع عبداً بيعَ محاباة، واقتضت الحالةُ تسليطَ الورثة على فسخ العقد في البعض من العبد لضيق الثلث [عن التصرف] (2) بالمحاباة، فلو اكتسب العبدُ في يد المشتري شيئاً، فنذكر لذلك صورة ونبني عليها غرضنا. 7079 - فإذا باع عبداً قيمته مائة وخمسون [بمائة] (3)، واكتسب في يد المشتري مثلَ قيمته، [فإن] (4) كان للبائع سوى العبد وثمنه تركةٌ زائدةٌ، وهي خمسون، فالبيع نافذ في جميع العبد، [وفاز] (5) المشتري بالكسب بالغاً ما بلغ؛ فإنا [تبيّنا] (6) وقوعَه في ملكه. ولو لم يكن لبائع العبد في مرضه مالٌ سواه، فقد ذكرنا أن البيع لو لم يكن كسبٌ ينفذ في [ثلث] (7) العبد على التفاصيل المقدمة. فقال الأستاذ (8): إذا اقتصر حساب التعديل فسخ العقد في بعض العبد، والكسبُ بكماله للمشتري؛ فإنه جرى في [ملكه] (9)، والفسخ طارىءٌ بعد حصوله، ونسبةُ هذا كما لو اشترى الرجل عبداً واكتسب في يده، ثم اطلع على عيب قديم به، فالكسب يبقى له، والعبد يرتد إلى البائع، ويرجع الثمن إلى المشتري. وهذا الذي ذكره زلل عظيم، والردّ القطعُ بأن الكسب يتبعض تبعُّض العبد على

_ (1) في الأصل: وما. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (4) في الأصل: فإنه. (5) في الأصل: فإن المشتري. (6) في الأصل: تبين. (7) في الأصل: "ثلثي". (8) قال الرافعي: إن الأستاذ غير مبتدىء بهذا الكلام، وإنما رواه من أجوبة ابن سريج وأكثر الأصحاب، ثم حكى عن بعضهم أن الكسب كالزيادة الحادثة في قيمته. (الشرح الكبير: 7/ 214). (9) مكان بياضٍ بالأصل.

ما يقتضيه الحساب [ ... ] (1) والعجب أنه ذكر [ ... ] (2) تبعُّض الكسب في العتق المتبعض، وفرق بين تبعّض البيع، وبين تبعض العتق وهذا أتاه من جهة ظنّه بأن البيع ينفذ ويملك، ثم يرد بعضَه. وهذا غلطٌ؛ فإنا وإن فرّعنا على أن الورثة يجيزون وصيةً ولا يبتدئون عطيةً، فالملك يقف على إجازتهم في محل الحاجة إلى الإجازة. وإذا ردّوا الوصية الزائدة على الثلث، لم يقل أحد إن الملك حصل في الزائد ثم أُزيل، [بل إن ما جرى] (3) فيه من الرد والإجازة يضاهي وقف العقود على رأي أبي حنيفة ومَن يوافقه من أصحابنا. والجملة الكافية في ذلك: أنا لا نفسخ العقد في بعض العبد، بل [نتبيّن] (4) أن الملك لم يحصل في مقدارٍ، وحصل في مقدار، كدأبنا في العتق المتبعض. ثم بنى على هذا المهرَ وقاسه، وقال: لو باع جاريةً [بيعَ] (5) محاباة، فوطئها المشتري، ولم (6) ينقص الملك فيها على مقتضى الحساب، فلا مهر على المشتري؛ فإن وطأه صادف ملكه، وهذا [ذهولٌ] (7) كاملٌ عن فقه الباب، ظانٌّ أن الرد يتضمن رفعَ ملكٍ ورفعَ عقدٍ مملِّك، وليس الأمر كذلك. وقد نجز مضمون الفصل. 7080 - مسألة: إذا باع المريض من أخيه كُرَّ طعامٍ قيمتُه ألفٌ وخَمسمائة، بكُرٍّ رديء من جنسه قيمتُه خمسمائة، فمات أخوه (8): المشتري قبل موته، وخلّف بنتاً وأخاه البائع، ثم مات البائع، ولم يكن له مال غيره، فإنا بعاقبةٍ (9).

_ (1) بياض تعذر تقدير مكانه. (2) بياض تعذر تقدير مكانه. (3) مكان بياض بالأصل. (4) في الأصل: نبين. (5) في الأصل: باع. (6) في الأصل: (لم) بدون الواو. (7) في الأصل: قولٌ. (8) في الأصل أخو المشتري. (9) بعاقبة: أي أخيراً، وفي الكلام سقطٌ، ولكنه لا يمنع من استقامة الفهم.

فحساب المسألة أن نقول: جاز البيع في شيء من الكر الأرفع، وقابله من العوض شيء قيمته ثلثُ شيء، فصار الباقي كُرّاً إلا ثلثي شيء، فالمحاباة ثلثا شيء، وحصل مع المشتري شيء، قد أخذه من البائع، ومعه من كره كُرٌّ إلا شيئاً قيمتُه ثلث شيء، فنزيد الشيء الذي أخذه على ما معه، وكان معه من طريق القيمة كُرٌّ إلا ثلثَ شيء، فيضم إليه، فيحصل معه كُرٌّ وثلثا شيء، غيرَ أن الكرّ الرديء بالإضافة إلى الجيد ثلثُ كُرٍّ، فنرده إلى تلك النسبة حتى يعتدل الكلام، فمعه إذاً ثلثُ كرّ، وثلثا شيء. يرجع نصفه بالميراث إلى أخيه وهو سدس كر وثلث شيء، فنزيده على الذي كان بقي في يد البائع، وذلك كر إلا ثلثي شيء، فنجبر بالاستثناء، فيصير في يده كرٌّ وسدسٌ إلا ثُلثَ شيء. وهذا يعدل ضعف المحاباة، وكان المحاباة ثلثي شيء وضعفها شيء وثلث. فنجبر ونقابل، فيحصل [معنا كُرُّ و] (1) سدسٌ في معادلة شيء وثلثي شيء، ومعنا الكسر بالثلث ونَلقَى فيهما مخرج السدس، فابسطهما أسداساً، واقلب الاسم فيهما، فيكون الكُرّ عشرة والشيء سبعة، فيصح البيع في سبعة أعشار الكرّ الأرفع بسبعة أعشار الكرّ الرديء. فإن أردت الامتحان، قلت: جاز البيع في سبعة أعشار الألف والخَمسِ مائة، وهي ألفٌ وخمسون، وأخذنا بالعوض سبعة أعشار خَمسِمائة، وهي ثلاثُمائة وخمسون، فحصلت المحاباة سَبعُمائة، وبقي مع البائع من كره أربعُمائة وخمسون، وأخذ بالثمن ثَلاثمائة وخمسين، فذلك ثَمانمائة، فاجتمع مع المشتري من كره مائةٌ وخمسون، ومن كُر البائع [ألفٌ] (2) وخمسون. فذلك ألفُ ومائتان، رجع نصفها بالميراث إلى البائع وهو سِتمائة، فيجتمع مع ورثة البائع ألف وأربعمائة، وهي ضعف المحاباة؛ إذ هي سبعمائة. فإن كان للبائع أو للمشتري تركة أخذَ عليها [و] (3) أحدهما، أو اجتمع في

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) في الأصل: مائة. (3) بياض بالأصل، لم نتكلف تقديره؛ حيث السياق مفهوم بدونه.

المسألة دين وتركة، لم يخف طريق العمل قياساً على ما تقدم في المسائل. 7081 - مسألة: دائرةٌ في الضمان أوردها صاحب التلخيص (1)، وعظُم في أطرافها [الخبطُ] (2)، ونحن نأتي بها منقَّحةً مصححةً بعون الله تعالى. أما قواعد الضمان، فقد أوضحناها في كتابها، فلسنا لإعادتها، وإنما نعتمد التنصيص على المسائل الحسابية اعتماداً [على العلم] (3) بأصول الضمان. فإذا كان لرجلٍ على رجلٍ تسعون درهماً ديناً، فجاء مريض وضمن التسعين لمستحق الدين ضماناً يُثبت الرجوعَ على المضمون عنه، ثم مات من عليه الدين، وخلّف خمسة وأربعين، ومات الضامن، وخلّف تسعين درهماً. هذه الصورةُ الأولى التي أتى بها صاحب التلخيص. والمسألة محتملةٌ متقيِّدةٌ بشرط الرجوع. فنقدّم على المسألة ما لا بد منه، ونقول: المريض إذا ضمن ديناً ومات، وكان يشتَرِط في ضمانه الرجوعَ، والمضمونُ عليه موسرٌ، تحقق (4) الرجوع عليه. والضمانُ على هذا الوجه لا يكون تبرُّعاً أصلاً، ولا يحتسب من الثلث؛ فإنّ ورثته إذا غرِموا، رجعوا على [المضمون عنه الموسر] (5)، وسبيل الضمان في هذه الصورة كسبيله (مع الشيء (6) بثلث قيمته). 7082 - ثم في ذلك دقيقة لا بد من مراعاتها، وهي أنهم لو قالوا: لا نغرَم حتى يتحقق الرجوع؛ فإنا لو غرمنا، فربما يضيع حقنا، ولا نجد مرجعاً، فيكلِّفون المضمونَ عنه بذلَ مالِ الضمان وتسليمَه إلى موثوق به. وقد قال بعض علمائنا:

_ (1) انظر التلخيص ص 366. (2) في الأصل: خبط. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: فتحقق. (5) مكان بياضٍ بالأصل. (6) كذا. ولعل صوابها: "مع شراء الشيء بمثل قيمته".

للضامن أن يطالب المضمون عنه بما [عليه] (1) قبل أن يطالبه [المضمون له] (2). والذي يتجه عندنا أنه إذا طولب ورثةُ الضامن في هذه الصورة، [فلهم] (3) مطالبةُ المضمون عنه قبل أن يغرَموا، فإن أرادوا مطالبة المضمون عنه قبل أن يطالَبوا، ففيه الخلاف [المذكور] (4). والضامن في صحته إذا كان ثبت له الرجوع إذا غرِم، فلو طولب، فهل يُغرِّم المضمونَ عنه قبل أن يغرَم؟ فيه خلاف، والظاهر أنه يغرّمه. وإن [أراد] (5) الرجوعَ عليه قبل أن يطالَب، ففيه الخلاف (6). [أمّا] (7) ورثة الضامن، [فلهم الرجوع قبل أن يطالَبوا] (8). وإذا طولبوا، فإذا قلنا: لا يملكون مطالبة المضمون [عنه] (9) يجرُّ ذلك ما لا يسوغ؛ فإن الوارث لا دين عليه، ولا يتوجه الطَّلِبةُ عليه على التحقيق، وإنما ترتبط الطَّلِبة بالتركة، والضمان في الصورة التي ذكرناها مفروض من المريض، وضمانه في حكم التبرع المحسوب من الثلث، فلو أخذنا من التركة ما ضمنه، ولم يثبت الرجوع قبل اليوم (10)، لكان ذلك صرفَ قسط من التركة إلى جهة التبرع، قبل أن يَسْلَم للوارث مثلاه، فيلزم من هذا أن نقطع بثبوت حق الرجوع على المضمون عنه قبل الغُرم. فإن قيل: هل يطالَب الوارث بإخراج مقدار الثلث؟ قلنا: نعم، فإن هذا المقدار لو كان متبرعاً به لأُخرج، فنقدّر كأن الضمان تبرعٌ، وغرضنا الآن أن المضمون عنه إذا كان موسراً، أو كان مات وتركته

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) تقدير منا مكان بياضٍ بالاْصل. (5) في الأصل: أرادوا. (6) الوجه الأصح أنه ليس له أن يطالبه قبلَ أن يطالَب؛ لأنه لم يغرَم شيئاً، ولم يطالَب. (ر. فتح العزيز (بهامش المجموع): 10/ 386). (7) في الأصل: إن ورثة الضامن. (8) مكان بياضٍ بالأصل. (9) مكان بياض بالأصل. (10) قبل اليوم: أي قبل الأخذ من التركة.

وافية، فالأصحاب لم [يعدُّوا الضمان] (1) تبرعاً، وهو كما قالوه، على معنى أن الضمان لا [يقتصر] (2) على مقدار الثلث، ولكن إن [عجّل] (3) المضمون عنه أو ورثتُه جميعَ المال المضمون، فلا إشكال، وإن لم يتفق التعجيل بعدُ، فالضمان في وضعه ليس تبرعاً، ولكن للأصحاب خبطٌ في أن وارث الضامن هل يطالَب بإخراج المال المضمون من التركة قبل أن يتفق من المضمون عنه أو من [ورثته التعجيلُ] (4) والغرم؟ فقال قائلون: لا يكلف وارثُ الضامن من أن يُخرج في الحال إلا مقدارَ الثلث؛ فإنا لو كلفنا [] (5) وأكثر من ذلك، والعوائق غير [مأمونة] (6)، فربما يؤدي من التركة المالَ، ثم يتفق عسرٌ في الرجوع. أما قدر الثلث، فلا شك [في إخراجه] (7)، وهؤلاء لا يأبَوْن خلاف ذلك إلى أن يغرَم من عليه الرجوع. ومن أصحابنا من قال: إذا ميّز من عليه الرجوع المالَ، وسلّمه إلى موثوق به، كفى ذلك. وهو عريُّ عن الفقه؛ فإن ما يسلمه لا يخرج عن ملكه بالتسليم، فليس له. ومن أصحابنا من قال: [ننظر إلى] (8) كون من عليه الرجوع مليئاً، مع تمكن الغارم من الرجوع، فإن سدّ هذا المال نَفِد عتيداً (9)، والضمان في وضعه ليس تبرّعاً في هذه الصورة. وهذا عنى بعده [ ... ] (10) من التميز ووضع المميز على [ ... ] (3)؛ فإن ذلك لا وقع له في قواعد الفقه. [ ... ] (3) وقيمته، فهذا فيه احتمال.

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) تقديرٌ منا مكان بياض بالأصل. (3) في الأصل: عمل. (4) تقديرٌ منا مكان بياضٍ بالأصل. والعبارة هنا قلقة غير مرضية. (5) بياض قدر كلمة، ولعله مكان كلمة مضروب عليها، والصواب: "لو كلفناه أكثر من ذلك". (6) في الأصل: "غير مأموره". (7) زيادة من المحقق. (8) مكان بياضٍ بالأصل. (9) نَفِد عتيداً: أي هلك على الضامن، مع أن الضمان ليس تبرعاً في هذه الصورة. (10) مكان بياضٍ بالأصل، لما يتبين لنا وجه في تقديره.

وهذا الذي ذكرناه [ليس] (1) من غرضنا، ولكن اتصل الكلام به، فأوضحنا ما فيه. ولو ضمن المريض، ولم يشترط الرجوع، فقلنا: لا يرجع لو ضمن بغير إذن المضمون عنه، فهذا [تبرع] (2) محضٌ محسوب من الثلث من غير عمل ولا حساب، وكذلك لو كان المضمون عنه معسراً، ومات على إعساره، وقد ضمن الضامن في مرضه، فسبيل ما ضمنه كسبيل [التبرع] (3) وما يوصي به، وهو محسوب من ثلثه [ ... ] (4) فأما إذا ضمن في مرضه ديناً، وكان الضمان بالإذن، وشرْط الرجوع، ولكن خلّف المضمون عنه أقل من الدين، فإن كان ثلث الضامن وافياً بالدين كله، فلا [كلام] (5). وإن كان الدين يزيد على ثلث الضامن، [أو] (6) كان يستغرق مال الضامن، وما تركه المضمون عنه غيرُ وافٍ بقيام الدين معه، يؤدي (7) إلى الدور. 7083 - وإذا ذكرنا سبيله، ثبتت الصورة الدائرة والتي لا تدور. فنقول: إذا مات الضامن وخلّف تسعين درهماً، ومات المضمون عنه وخلف خمسةً وأربعين، [فمستحق] (8) الدين بالخيار: إن شاء طلب مقدار ما يجب من تركة المديون عليه، فيأخذ الخمسة والأربعين، فبقي له نصف دينه، فإذا طلبه من تركة الضامن، فلا دور في هذه المسألة؛ فإن ورثة الضامن لا يجدون مرجعاً، إذ قد استوعب مستحقُّ الدين [تركة] (9) المضمون عنه، فنجعل الخمسة والأربعين الذي هو بقية الدين في تركة الضامن بمثابة تبرعٍ محض، ومن تبرع بنصف ماله، فتبرعه يُجاز

_ (1) في الأصل: لشيء. (2) في الأصل: التبرع. (3) مكان بياضٍ الأصل. (4) بياض قدر كلمة. لم نتكلف تقديرها، فالكلام مستقيم بدونها. (5) تقدير منا مكان بياضٍ الأصل. (6) في الأصل: إن. (7) جواب: وإن كان الدين يزيد ... (8) في الأصل: يستحق. (9) في الأصل: ترك.

في مقدار ثُلُثه، فلا نطالب ورثة الضامن إلا بمقدار ثلاثين. هذا إذا بدأ مستحق الدين بتركة المضمون عنه [واستوعبها] (1). 7084 - فأما إذا طالب ابتداءً ورثة الضامن، فتدور المسألة في هذه الصورة، فإن ما يغرموه يرجع إليهم بعضُه، وتزداد التركة مهما رجع إليهم شيء، ثم إذا تعذر من دين مستحق الدين شيء، ثبت له حق [التعلق بتركة] (2) المضمون عنه، وتخرج هذه المقادير بطرق الحساب. طريقة الجبر: [سبيلها] (3) أن نقول: أخذ من التسعين التي هي تركةُ الضامن شيئاً، ويرجع إلى الورثة نصف شيء؛ فإن تركة المضمون عنه نصف تركة الضامن، فتبقى في أيديهم تسعون ناقصةً نصف شيء، وهي ضعف ما أخرجناه في الضمان الخارج من تركة الضامن من غير مقابلة، [وهو] (4) نصف شيء وضعفه شيء، فإذاً يعدل [تسعون] (5) غيرَ نصف شيء شيئاً، فنجبر التسعين بنصف شيء ونزيد على عديله نصفَ شيء، فيكون تسعون في مقابله شيء ونصف، فنعلم أن الشيء الذي أطلقناه ثلثا التسعين. فنقول: نُخرج من تركة الضامن ثلثي التسعين، وهو ستون، فيرجع ورثتُه بنصفه، وهو ثلاثون، ويأخذ مستحق الدين بقية تركة المضمون، وهو خمسةَ عشرَ. والمسألة مستقيمةٌ على الحساب والفقه؛ فإنه يبقى في يد ورثة الضامن ثلاثون، ويعود إليهم من تركة المضمون عنه ثلاثون، فلا يجدون مرجعاً في ثلاثين، وهو ثلث التسعين، وقد انحصر التبرّع في الثلث. ثم مستحق الدين يأخذ بقية تركة المضمون عنه، فهي خمسةَ عشرَ [ ... ] (6)،

_ (1) في الأصل: واستوهبها. (2) في الأصل: التعليق تركة. (3) في الأصل: فسبيلها. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: سبعون. (6) بياض بالأصل، والكلام مستقيم بدون تقديره.

فيصل إلى خمسة وسبعين من جملة التسعين، ويتعطل من ماله خمسةَ عشرَ. وإن قيل: هلا رجع ورثة الضامن بالخمسة والأربعين بكمالها؟ قلنا: هذا لا وجه له؛ فإنه ثبت لوارث الضامن من الرجوع بمقدار التبرع، وقد بقي لمستحق الدين بعد الستين ثلاثون درهماً، فيتضاربون في تركة المضمون عنه، فيقتضي تعديل [النسبة] (1) قسمة تركه المضمون عنه بين وارث الضامن وبين مستحق الدين [بالثلث] (2) وثُلُثين. 7085 - طريقة الدينار والدرهم: نقول: تركة الضامن دينار ودرهم. أخرجنا الدينار في جهة الضمان، ورجع نصف دينار، فالتركة إذاً نصف دينار ودرهم، وذلك ضعف التبرع، وضعف التبرع دينار كامل، فنجعل نصف دينار قصاصاً بنصف دينار، فيبقى من التركة درهم ويبقى من الجانب الثاني نصف دينار، وقد بان أن الدينار درهمان، والذي أخرجناه في جهة الضمان [ثلث] (3) التركة، كما خرج بالعمل الأول. هذا بيان هذه المسألة. 7086 - ثم ذكر صاحب التلخيص بعد هذه الصورة صورةً أخرى [ناشبةً] (4) فيها، فقال: إذا ضمن المريض تسعين درهماً كما صورناه، وضمن عن هذا الضامن ضامن آخر، وكان الثاني مريضاً أيضاً، ومات الضامنان، ومات من عليه الدين، وخلّف خمسةً وأربعين، وخلف كلُّ واحد من الضامنين تسعين درهماً، فصاحب الحق بالخيار: إن [شاء] (5) وجّه الطَّلِبةَ على تركة المديون [واستغرقها] (6)، ثم طلب بقية حقه من الضامنَيْن أو من أحدهما، على ما يقتضيه الحساب.

_ (1) في الأصل: الستة. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) في الأصل: ثلثا. (4) تقرأ هكذا بصعوبة. (انظر صورتها). (5) في الأصل: فصاحب الحق بالخيار إن ما وجه. (6) في الأصل: وليستغرقها.

وهذه الصورة ليست [ ... ] (1). فإن أراد أن يطالب الضامن الأول، كان الجواب في هذه المسألة كما قدمناه في الصورة الأولى. هكذا قال صاحب التلخيص، وقال: لا يختلف الجواب ألبتة، فيُخرج من تركة الضامن الأول [ستين] (2)، ويرجع ورثتُه بثلاثين على تركة المديون عليه. هذا جوابه في هذا الطرف. وعلى الناظر في هذه المسألة أن يفهم ما ينتهي إليه أولاً [ثم] (3) يعلم أن تمام الشفاء في مجاري المسألة. قال صاحب التلخيص: إذا أراد مستحق الدين مطالبةَ ورثة الضامن الثاني؛ فإنه يأخذ من تركته سبعين درهماً، ومن ورثة المديون عليه خمسةَ عشرَ درهماً، ويرجع ورثة الضامن الثاني على تركة الضامن الأول بأربعين درهماً، ويرجع الضامن الأول في تركة المديون عليه بثلاثين درهماً. هذا جواب صاحب التلخيص وفتواه. 7087 - قال الشيخ أبو علي: سمعت شيوخي يقطعون أجوبتهم بأن ما ذكره صاحب التلخيص خطأ على أصل الشافعي، وقطع الأستاذ أبو منصور في مجموعه في الدور والوصايا بتخطئته أيضاً، وعلى خطئه بيّنة. فنذكرها ونذكر بعد وضوحها كلاماً في وجه الصواب. أما علّةُ خطئه، فإنه أوجب على ورثة الضامن الثاني إخراج السبعين، ثم لم يُثبت له (4) رجوعاً في ثلاثين منها، بل أثبت له الرجوع إلى الضامن الأول بأربعين [و] (5) تبقى مع ورثة الضامن الثاني عشرون، وصار إليهم من العوض أربعون، فذلك ستون، فهي ضعف الثلاثين التي رجعت بلا عوض.

_ (1) بياض بالأصل. (2) في الأصل: شيئين. (3) مكان بياض بالأصل قدر كلمتين. (4) له: أي الضامن الثاني. (5) ساقطة من الأصل.

هذا ما تخيله صاحب [التلخيص] (1) وهو حائد عن الصواب؛ لأن الضامن الثاني ضمن تسعين ضمانَ رجوع، [وللمرجوع] (2) عليه وهو الضامن الأول تسعون. وإنما تدور المسألة إذا قصرت تركةُ المرجوع عليه عن مقدار الدين. أيضاً فإنه أثبت لورثة الضامن الأول الرجوعَ على تركة من عليه الدين بثلاثين درهماً، فلم يخرج إذاً من تركته إلا عشرة، وفي [يد] (3) ورثته ثمانون، فالذي ذكره كلامٌ [عري عن الصواب] (4)، وهذا وجه تخطئته (5). 7088 - فأما وجه الصواب، فالذي حكاه الشيخ أبو علي عن شيوخه أن مستحق الدين إذا أراد الرجوع على الضامن الثاني، فله أن يطالبه بالدَّيْن كَمَلاً وهو تسعون، فيستغرق تركتَه، ثم ورثة الضامن الثاني يرجعون على تركة الضامن الأول [بخمسة وسبعين] (6)، ثم يرجع ورثة الضامن الأول على المضمون عنه الأصيل بكمال تركته، وهو خمسةٌ وأربعون، وإذا انضم ذلك إلى ما بقي في أيدي ورثة الضامن الأول، كان المجموع ستين. فيستوي ثلث مال الضامن الأول، وثلث المال محل التبرع ولايَتْوَى (7) من مال الضامن الأول إلا خمسة عشر (8). وإنما لم يرجع ورثةُ الضامن الثاني وقد غرِموا تسعين بجميع التسعين على تركة

_ (1) في الأصل: صاحب التقريب. وهو سبق قلم. (2) في الأصل: والرجوع. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) ساقط من الأصل. (5) وقد عبر الرافعي في الفتح عن هذا الخطأ بأن قال: "غلطه الأصحاب؛ من جهة أنه أتلف من مال الثاني ثلاثين، لأنه أخذ منهم سبعين، وأثبت لهم الرجوع بأربعين، وكان الباقي عندهم عشرين، فالمجموع ستون، ولم يتلف من مال الأول إلا عشرة، لأنه أخذ منهم أربعين، وأثبت لهم الرجوع بثلاثين. ومعلوم أن الضامن الثاني إنما ضمن تسعين عمن يملك تسعين، والأول ضمن تسعين عمن يملك خمسة وأربعين، وكيف يؤخذ من الثاني أكثر مما يؤخذ من الأول" (فتح العزيز: 10/ 402 بهامش المجموع). (6) في الأصل: بخمسة وخمسين. (7) يَتْوَى: يهلك. (المعجم). (8) عبارة الأصل: ولا يتوى عن مال الضامن الأول وثلث المال محل التبرع إلا خمسة عشر.

الضامن الأول، لأنهم لو رجعوا بالتسعين، ثم رجع ورثةُ الضامن الأول على تركة الأصيل بالخمسة والأربعين، فيكون التالف من تركة الضامن الأول أكثر من ثلث ماله، ولا سبيل إلى ذلك؛ فإنه متبرعٌ بالضمان، ولا تزول حقيقة تبرعه بأن (1) يضمن عنه ضامن وإن كان ضمان الثاني بإذنه؛ فإن المرعيَّ حقُّ ورثته. فخرج من ذلك أن مستحق الدين يصل إلى كمال حقه، ويتوى من تركة الضامن الأول مقدار ثلثها ومن تركة الضامن الثاني مقدار سدسها. 7089 - ولو اختار صاحب الدين أن يرجع أولاً على تركة المضمون عنه، فله ذلك، فيأخذ الخمسة والأربعين، ويبرأ الضامنان جميعاً من نصف الدين لا شك فيه، ويبقى النصف الباقي، ومستحق الدين بالخيار. فإن طالب ورثةَ الضامن الأول، فلا يأخذ منهم إلا ثلاثين؛ لأنها ثلث ماله؛ فإن أخذ أكثر من ذلك، [ولا] (2) رجوع لهم على أحدٍ، لكان هذا أَخْذَ تبرعٍ زائدٍ على الثلث، من غير رضا الورثة، [ويبقى] (3) من الدين خمسةَ عشرَ، فيأخذها من الضامن الثاني، فينتظم له تمام حقه في هذا السبيل. ولو أن مستحقَّ الدين بعد استيفاء الخمسة والأربعين من تركة الأصيل أراد مطالبة الضامن الثاني، فله مطالبته بتمام البقية، وهو خمسةٌ وأربعون، ثم إنهم يرجعون على تركة الضامن الأول بثلاثين من غير مزيدٍ؛ للقاعدة التي أوضحناها، فهذا ما حكاه الشيخ أبو علي عن شيوخه. وذكر الأستاذ أبو منصور تخطئة صاحب التلخيص، كما ذكرنا. ثم لما أراد ذِكْرَ الوجه الصحيح، [جعل] (4) لمستحق الدين مطالبة ورثة الضامن [الثاني] (5) بخمسةٍ

_ (1) في الأصل: أن. (2) في الأصل: فلا. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: سقط، ولما أعرف لها وجهاً بعدُ. (5) في الأصل: الأول. والتصويب من سياق المسألة، وقد رأيناها كذلك فيما حكاه الإمام الرافعي عن الأستاذ أبي منصور (فتح العزيز: (10/ 402) بهامش المجموع).

وسبعين درهماً من غير مزيدٍ، ثم إنهم يرجعون على ورثة الضامن الأول بما غرِموا، ويرجع ورثة الضامن الأول على تركة من عليه الدين بكمال التركة، وهو خمسةٌ وأربعون، وكان بقي في أيدي ورثة الضامن الأول خمسةَ عشرَ، فيضم ذلك إلى الخمسة والأربعين، ويكون المجموع ثلثي تركة (1) الضامن الأول. هذا (2) كلام الأستاذ، وفيه تصريحٌ بأن مستحق الدين لو أراد مطالبة ورثة الضامن الثاني بكمال الدين، لم يكن له ذلك. وهذا خلاف بيِّن. 7090 - والوجه عندنا ما حكاه الشيخ أبو علي عن شيوخه، وذلك لأن الضامن الثاني ليس متبرعاً، إذا كانت تركة الضامن الأول وافيةً بالدَّين كلِّه، وقد قدمنا تقريرَه، وليس ينقدح لما ذكره الأستاذ وجهٌ إلا أن يقول قائل: الضمان في حق الأول غير ثابت في جميع الدين؛ فإن الضمان في حقه إذا كان تبرعاً، فالتبرع لا يستوعب التركةَ، وإنما ينفذ على وجه يختص في الثلث، وإذا لم يصح الضمان بكماله (3) من الأول، لم يصح ضمانُ الثاني عنه في كمال الدين؛ فإنّ شرطَ صحة ضمان الثاني [أن يصح] (4) ضمان الأول. فكأنَّ الأستاذ أبا منصور اعتقد أن ضمان الأول لم يصح إلا في مقدارٍ لو رجع معه في تركة المديون عليه، لما زاد ما تلف من تركته على ثلثها. والأصحاب قالوا: ضمان الأول صحيح في الجميع، وإنما لا يستوعب تركتَه، لحقِّ ورثته، والذي لا يخرجه من تركته، فهو [باقٍ في ذمته] (5). ولو ضمن [من] (6) لا يملك شيئاً دَيْناً في مرضه، ومات، وضمن ضامنٌ عنه، فضمان الثاني صحيح، فإنا كنا لا نضمّن الضامن (7) الأولَ شيئاً. وهذا القبيل فيه

_ (1) في الأصل: التركة للضامن. (2) في الأصل: وهذا. (3) في الأصل: بكمال. (4) في الأصل: بأن صح. (5) في الأصل: باقي من نصه (انظر صورتها). (6) مكان بياضٍ بالأصل. (7) في الأصل: للضامن.

تركيب (1)؛ فإن الضمان في وضع الشرع البراءة، ولكن لما أنشأه في مرض الموت، لم يعترض على حقوق الورثة بالتأدية من جميع التركة، والذمةُ لا حقَّ [فيها] (2) للورثة، فثبت اللزوم، وإذا ثبت اللزوم، فضمان الضامن الثاني يُفيد ما لزم ذمتَه، لا ما يسهل أداؤه، ومَنْ ضمن ديناً على معسر، لزمه الدين على أصل الشافعي. فهذا وجه قول المشايخ. ووجه قول الأستاذ أنه (3) لو لزمه الدين بكماله، لقُدّم الدين على حق الورثة. ومهما قدمنا جواباً عن هذا، فليعلَم المحصِّل أن هذا الذي أنشأه المريض التزمه (4)، وحكم التبرع في هذا الدين على الخصوص أنه لا يتعدى الثلث إذاً، فأما التعلّق بالذمة، فلا امتناع معه، وليس هذا كما لو أتلف في مرضه شيئاً؛ فإنّ قيمة المتلَف تتعلق بالتركة بالغةً ما بلغت؛ فإن القيمة عوضٌ، والضمانُ التزامٌ على الابتداء من غير عوض، فليتأمل الناظر هذا المنتهى. وهو أقصى الإمكان. 7091 - ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن صاحب التلخيص قال في ابتداء المسألة بعد ما فرض ضامناً عن ضامن: لو أراد مستحق الدين أن يوجّه الطلبَ ابتداء [على] (5) الضامن الأول، فالجواب في هذه المسألة كالجواب في المسألة الأولى، وهي إذا لم يكن إلا ضامن واحد. وهذا الكلام فيه نوعُ استبهام لم يتعرض الأصحاب له لوضوحه عندهم. ونحن نقول: [قوله] (6) هذا كالمسألة الأولى أراد به أنه لا يطلب [من] (7) الضامن الأول إلا ستين درهماً، كما لا يطالَب إلا بهذا المقدار في المسألة الأولى، وله أَخْذُ

_ (1) تركيب: التركيب مصطلح جدلي، سبق بيانه. (2) في الأصل: منها. (3) أن مع اسمها وخبرها في محل خبر (وجه). وليست مقول القول. (4) في الأصل: التزامه. (5) في الأصل: عن. (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) زيادة من المحقق.

خمسةَ عشرَ من تركة المديون عليه في المسألة الأولى، وهذه المسألة تختص بمزيدٍ، وهو أنه يطالِب الضامنَ الثاني بخمسةَ عشرَ، وهي تتمة التسعين، ولولا الضامن الثاني، لما وصل إلى كمال حقه؛ فإذاً جواب المشايخ أنه يصل إلى كمال حقه [ولا فرق بين أن يطالب المضمون عنه] (1) وبين أن يطالب الضامن الأول أو الثاني أو يستغرق في ابتداء الأمر تركةَ المديون عليه، فهو في الجهات كلّها يصل إلى التسعين، والضامن الثاني تلف له خمسةَ عشرَ في كل حساب. فهذا منتهى المسألة وفيها من دقائق الفقه، ما صحح به الفقه. 7092 - مسألة في دور المحاباة مع ثبوت الشفعة: إذا باع مريض في مرض موته شقصاً يساوي ألفي درهم بألف درهم، لا مال له غيره، ولم يُجز الورثةُ الزائد على الثلث من المحاباة، والتفريع على أن بطلان البيع في البعض لا يوجب بطلانَه في الكل. وإذا صححنا البيع في البعض، ففي كيفية التصحيح القولان المقدمان، ونحن نعيدهما في هذه المسألة حساباً وفقهاً لغرض صحيح، فإن قلنا: يصح البيع فيما يصح البيع فيه بجميع الثمن، فوجه الحساب فيه أن نقول: جاز البيع في شيء من الشقص بألف درهم، وبقي مع ورثة البائع من قيمة الشقص ألفان إلا شيئاً ومن الثمن ألفُ درهم وذلك ثلاثة آلاف إلا شيئاً، وهي تعدل ضعفَ المحاباة، والمحاباة شيء إلا ألفاً، وضعفها شيئان إلا ألفين، فمعنا إذاً ثلاثة آلاف إلا شيئاً، تعدل شيئين إلا ألفين. فنجبرهما من الجانبين، ونقول: نجبر شيئين بألفين؛ فإنهما ألفان مقدران في مدارج الحساب ومراسم الجبر، و [نحن] (2) نجبر ونقابل. وإذا جبرنا شيئين بألفين، زدنا على عديلهما ألفين، فيصير خمسة آلاف درهم تعدل ثلاثة أشياء؛ فإنه نجبر جانب الآلاف بشيء، ونزيد على عديله مثله، فينتظم بعد الجبر والمقابلة قولُنا: خمسة اَلاف درهم تعدل ثلاثة أشياء، فنقسم القدْرَ على الأشياء، فيخرج ألف وستمائة وستة

_ (1) تقدير منا مكان بياضٍ بالأصل. (2) مكان بياضٍ بالأصل.

وستون درهماً وثلثان، فهي قيمة الشيء الذي جاز فيه البيع، وعلى الحقيقة خمسة أسداس الشقص. والامتحانُ أن البيع إذا نفذ في هذا المقدار، وقد أخذ ورثةُ البائع بها ألف درهم، فصارت المحاباة ستمائة وستة وستون وثُلثين، وحصل معهم سدُسُ شقصٍ قيمته ثَلاثمائةٍ وثلاثة وثلاثون وثلث ومن الثمن ألف درهم، فالمجموع ألفٌ وثَلاثُمائةٍ وثلاثة وثلاثون وثلث. وهي ضعف المحاباة. 7093 - وإذا فرّعنا على القول الثاني الذي عليه تفريع الفقهاء، وقلنا: البيع يصح في مقدارٍ بقسطٍ من الثمن، ووجه الحساب أن نقول: إن البيع جاز في شيء من الشقص قيمته نصف شيء، فيبقى مع ورثة البائع ألفان إلا نصف شيء تعدل شيئاً، فنجبر الألفين بنصف شيء، ونزيد مثلَه على عديله، فيكون ألفان يعدلان شيئاً ونصفَ شيء، فالشيء من الشيء ونصف ثلثاه، فنقول: صح البيع في ثلثي الشقص وقيمته ألفٌ وثَلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، بثلثي الثمن وذلك سِتُّمائة وستة وستون وثلثان، فالمحاباة إذاً ستمائة وستٌّ وستون وثلثان، وبقي مع ورثة البائع ثلث شقص قيمته ستُّمائة وستة وستون وثلثان، وثلثا الثمن، وهو أيضاً ستّمائة وستة وستون وثلثان، وذلك ألفٌ وثَلاثُمائة وثلاثة وثلاثون، فهو ضعف المحاباة. وإذا أخذ المشتري ما ذكرنا في التفريع على هذا القول فالشفيع يخلفه، ويأخذه، وينزل منزله. وإن فرعنا على القول الأول، وهو أن المشتري يأخذ خمسة أسداس الشقص بالألف، فالشفيع يأخذها بالألف. 7094 - [و] (1) غرضُ هذا الفصل أنا لا نحكم بأن النصفَ مبيعٌ بالألف والثلث هبة، بل الخمسة الأسداس مبيعةٌ بالألف. فإن قدّر مُقدّرٌ تمييز التبرع عما يقابل الثمن، فهو تقديرٌ حسابي، وليس بتحقيقٍ، والدليل عليه أنه لو ردّ البيعَ، وطلب الهبة في الثلث، لم يُجب، وعلى حالٍ

_ (1) (الواو) زيادة من المحقق.

لا [هبة] (1) في المحاباة أصلاً، بدليل أنا لا نشترط القبض في مقدارٍ منه، ولولا هذا الغرض، لما ذكرنا هذه المسألة؛ فإن سبيل الحساب في أمثالها قد بان. ويتصل بهذه المسألة أن المشتري لو اختار فسخَ العقد وطلب الشفيعُ الأخذ بالشفعة، ففي المسألة قولان، ذكرناهما في نظائر هذا في كتاب الشفعة، فإن نفذنا فَسْخ المشتري، بطلت الشفعة، وإن لم ننفذها، انقطعت عهدة العقد على (2) المشتري في حق البائع، وخلفه الشفيع، حتى كأنه المشتري. مسائل دائرة في ألفاظ [المقرّ] (3) 7095 - إذا ادّعى رجل على رجلين مالاً، فقال كل واحد منهما للمدعي: عليّ عشرة إلا نصفَ ما لَه على صاحبي، وجرى منهما اللفظان على هذا النسق، فالمسألة تدور؛ فإنا متى أسقطنا عن المقر الأول شيئاً من العشرة، نقص ما يسقط عن المقر الثاني، وإذا نقص ما يسقط عن الثاني، زاد ما نسقطه عن الأول، وإذا زاد ما نسقطه من الأول، نقص ما نسقطه عن الثاني. وحساب المسألة بطريق الجبر أن نجعل على كل واحد منهما عشرة إلا شيئاً، ثم نأخذ نصفَ أحد المبلغين؛ فإن كلّ واحد منهما مالٌ إلا نصفَ ما على الثاني، فنصف أحد المبلغين خمسةُ دراهم إلا نصفَ شيء، فذلك يعدل الشيء الناقص من العشرة، وقد قلنا في وضع المسألة: على كل واحد منهما، عشرة إلا شيئاً، ثم استخرجنا بعد هذا الوضع النصفَ مما على كل واحد منهما، فتحقَّق أن الشيء الذي استثنياه خمسةُ دراهم إلا نصفَ شيء. فنعود إلى المعادلة ونقول: خمسةٌ إلا نصفَ شيء يعدل شيئاً، فنجبر ونقابل، ونزيد على خمسةٍ إلا نصفَ شيء [نصفَ شيء] (4) ونزيد على عديله مثله، فيكون

_ (1) تقدير منا مكان بياض بالأصل. (2) تأتي (على) مرادفة لـ (عن). (3) في الأصل: المقدر. (4) ساقط من الأصل.

خمسة معادلة لشيء ونصف، فالشيء ثلثا الخمسة، وهو ثلاثة وثلث، فنُسقط من العشرة ثلاثة وثلث، تبقى منه ستة وثلثان، فهي مقدار ما على كل واحدٍ منهما، فإذاً على كل [واحد] (1) عشرة إلا نصفَ ما على صاحبه. 7096 - فإن قال كل واحدٍ منهما: عليّ عشرةٌ إلا ثلثَ ما على صاحبي، فسبيل الحساب أن نجعل على كل واحد منهما عشرةً إلا شيئاً، ثم نأخذ ثلثَ ما على كل واحد منهما، وذلك ثلاثة دراهم وثلث إلا ثلثَ شيء، وهو يعدل الشيء الذي أسقطناه من العشرة، فنجبر الثلاثة والثلث [وثلث شيء] (2) بثلث شيء، ونزيد على عديله مثلَه، فتصير ثلاثة دراهم وثلث في معادلة شيءٍ وثلث، فالشيء ثلاثة أرباع ذلك، وهو درهمان ونصف، فنُسقط ذلك المقدار من العشرة في حق كل واحد منهما، فيبقى على كل واحدٍ سبعةُ دراهم ونصف، ولو زدتَ على هذا المقدار ثلثَ المقدار الآخر، لكان عشرة. وعلى هذا فقس. 7097 - فإن قال أحدهما: له عليّ عشرة إلا نصفَ ما على الآخر، وقال الآخر: له عليّ عشرة إلا ثُلثَ ما على الآخر، فاجعل على أحدهما ثلاثة أشياء لذكر الثلث، وقل على الآخر عشرة إلا شيئاً، فخذ نصفَ ذلك، وهو خمسة إلا نصفَ شيء فزدها على الذي على الآخر، وهو ثلاثة أشياء، فيكون خمسة دراهم وشيئين ونصف، فإنه كان ثلاثة أشياء والخمسة المضمومة فيها استثناء ونصف شيء فنزيل الاستثناء، ونُسقط نصفَ شيء، وهذه الجملة تعدل عشرة دراهم، فنسقط الخمسة بالخمسة، فيبقى شيئان ونصف في مقابلة خمسة، فنخرج قيمة الشيء الواحد درهمين، والذي قررناه على أحدهما ثلاثة أشياء، فهي ستة دراهم، وكان على الآخر عشرة إلا شيئاً، فذلك ثمانية، ومتى زيد ثلث الستة على الثمانية، صارت عشرة، ومتى زيد نصف الثمانية على الستة، صارت عشرة. 7098 - مسألة: إذا قال كل واحد منهما: له عليّ عشرة ونصف ما على الآخر،

_ (1) في الأصل: واحدة. (2) زيادة اقتضاها السياق.

فوضْعُ هذه المسألة يخالف ما تقدم؛ فإن الذي قدمناه فيه إذا اعترف كلُّ واحد منهما بعشرة، واستثنى منها [جزءاً] (1) مما على الآخر، وهذا (2) النوع الذي [افتتحناه] (3) فيه إذا اعترف كل واحد منهما بعشرةٍ ومقدارِ جزئها على الآخر، فلا شك أن المقَرَّ به في حق كل واحد منهما أكثرُ من العشرة. وقد ذكر الحُسّاب مسلكاً في هذا الفن مطرداً، ونحن نذكر سبيل خروجه بمثابة (4). [قالوا] (5) إذا ضم كلُّ واحد منهما إلى العدد الذي أقرّ به جزءاً مما أقر به الآخر واستوى [المقَرُّ به] (6) والجزءان من الجانبين، نظرنا في المَخْرج الذي يخرج منه الجزء المذكور، وجعلنا الجزء مما [يلي] (7) ذلك المَخْرج؛ نظراً إلى [الانتقال إلى] (8) العدد في المخارج على وِلائها. فإن قال كل واحد منهما: لهذا المدعي عليّ عشرة ورُبع ما على صاحبي، وقال صاحبه مثلَ ذلك، فنقول: يتقدم على الربع [نصفٌ] (9) وثلث، فعلى كل واحد منهما عشرةٌ وثلثُ عشرة، والمجموع ثلاثةَ عشرَ وثلث، ثم الحساب في الإضافة منتظمٌ؛ فإنّ على كل واحدٍ منهما عشرة وربع ما على الآخر؛ لأن على كل واحد ثلاثة عشر وثلث والثلاثة والثلث ربع ما في جانب [صاحبه] (10).

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل قدر ثلاث كلمات. (2) في الأصل: هذا (بدون الواو). (3) في الأصل: امتحناه. (4) بمثابة: أي بمثابة واحدة. (5) في الأصل: ما لَوْ. (6) مكان بياضٍ بالأصل قدر كلمتين. (7) مكان بياضٍ قدر كلمة. (8) مكان بياض بالأصل: نرجو أن يكون صحيحاً. والسياق مفهوم على كل حال. (9) مكان بياضٍ بالأصل. (10) زيادة اقتضاها السياق.

7099 - وإذا قال كل واحد منهما: عليّ عشرة وثلث ما على صاحبي، [ننتقل] (1) من الثلث إلى ما قبله على الاتصال وهو النصف، ونقول: على كل واحد منهما خمسةَ عشرَ، وإذا زدنا هذا إلى الإضافة المذكورة، خرج الكلام معتدلاً؛ فإن على كل واحد منهما عشرة وثلث ما على صاحبه؛ فإن الخمسة من الخمسةَ عشرَ ثلثها. 7100 - وإذا قال كل واحد منهما: عليّ عشرة ونصف ما على صاحبي، فعلى كل واحد منهما عشرون؛ فإن وراء النصف الكلُّ إذا جَريْتَ على [التنزل في] (2) العدد، ولم تكسِّر، ثم خروجه على الامتحان بيِّنٌ. فهذا قياسٌ طردَه الحُسّاب. وبيان الحساب في هذا الفن أن نقول: إن (3) كل واحد منهما إذا قال: لفلان عليَّ عشرة وثلثُ ما على الآخر، إن ذلك يحمل على ثُلث العشرة، وقلنا: له على كل واحد منهما أكثر من العشرة، [أي له] (4) أن يأخذ الثلث من العشرة والزيادة، فإذا تنتهي لذلك، فسبيل الحساب أن نقول: إذا قال كل واحد منهما: له عليَّ عشرة وثلث ما على الآخر، فنقول: [لا شيء] (5) غير الثلث مجهول؛ فنجعله (6) شيئاً، فنجعل على كل واحد منهما عشرةً وشيئاً، ثم نأخذ الثلث من أحد الجانبين، على هذا الوضع، فيقع ثلاثة [وثلثاً] (7)، وثلث شيء وهذا يعدل الشيء الزائد على العشرة، فنُسقط ثلثَ شيء بثلث شيء، فيبقى ثلاثة دراهم وثلثٌ، في مقابلة ثلثي شيء؛ فالشيء يعدل خمسةَ دراهم.

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) مكان بياضٍ في الأصل. (3) عبارة الأصل هكذا: أن نقول: إن فلاناً [ .... ] إن كل واحد منهما ... إلخ. (4) تقدير منا مكان بياضٍ بالأصل. (5) هكذا قدرناها على شيء من الاستكراه. ولكن المعنى مفهوم على كل حال. (6) في الأصل: فنجعل. (7) ساقطة من الأصل.

وعلى هذا البابُ وقياسُه، فاعتبروا (1). 7101 - وإذا قال كل واحد منهما: لفلان علي عشرةٌ ونصفُ ما على صاحبي، فقد قلنا: على كل واحد منهما عشرون [وطريق الحساب] (2) أن نقول: على كل واحد منهما عشرة وشيء، ثم نأخذ النصف [من] (3) أحد الجانبين، فيكون خمسةً ونصفَ شيء، وهي تعدل الشيء الزائد على العشرة، فنُسقط نصفَ شيء بنصف شيء قصاصاً، فيبقى خمسةٌ في مقابلة نصف شيء، فالشيء إذاً عشرة، ولما قلنا: على كل واحدٍ منهما عشرةٌ وشيء، فالمراد أن على كل واحدٍ عشرةٌ وعشرة. 7102 - مسألة: إن قال أحدهما: له علي عشرة إلا نصفَ ما على الآخر، وقال الآخر: له على عشرة وثُلث ما على الآخر، فاستثنى أحدُهما لينقص، وزاد الثاني جزءاً ليزيد. وطريق الحساب في المسألة أن الأول لما استثنى من العشرة، علمنا أن عليه عشرة إلا شيئاً، وهذا الشيء هو نصف ما على الثاني، فنقول: على الثاني شيئان، وقد قال ذلك الثاني: علي عشرة وثلث ما على الآخر. وثلث الدين على الآخر ثلاثة دراهم وثلث إلا ثلث شيء، فزد ذلك على العشرة في جانب الزيادة، فتكون ثلاثةَ عشرَ درهماً وثلث درهم إلا ثلثَ شيء؛ وذلك يعدل شيئين؛ فإنا قدّرنا جانبه شيئين. نأخذ الاستثناء ونقابل، فيكون ثلاثة عشر درهماً وثلث درهم تعدل شيئين وثلث شيء (4)، فالشيء الواحد يعدل خمسة دراهم وخمسة أسباع درهم، وكان على أحدهما شيئان، فذلك أحد عشر درهماً وثلث وثلاثة أسباع. وكان على الآخر عشرةٌ إلا شيئاً، فذلك أربعة وسبعان، فعلى المقر المستثني أربعةُ دراهم وسبعا درهم، وعلى [المقر] (5) الآخر أحدَ عشرَ درهماً وثلاثةَ أسباع درهم،

_ (1) فاعتبروا: أي فقيسوا، (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) في الأصل: في. (4) عبارة الأصل: يعدل شيئين وثلث شيئين، وثلث شيء، فالشيء الواحد ... إلخ. (5) مكان بياضٍ بالأصل.

وإذا زيد نصفها وهي خمسة وخمسة أسباع على الآخر، وهو أربعة دراهم وسبعان [كان] (1) عشرة. وإذا أخذنا ثُلثَ أربعة وسُبْعَيْن، وذلك درهمٌ وثلاثةُ أسباع، ونزيده على العشرة، تبلغ أحدَ عشرَ درهماً وثلاثةَ أسباع درهم. فهذا مأخذ مسائل الباب. 7103 - مسائل: في دَوْر الكتاب (2): إنما أورد الحُسّاب [هذه] (3) المسائل هاهنا لتعلقها بالعتق وطرفٍ من حكم المعاوضة. وقد تمهد فيما تقدم حكمُ العتق الواقع تبرعاً، وحكمُ المحاباة في البيع، ومسائلُ الكتابة [متركّبةٌ] (4) منها، [فحسن] (5) وضعها على أنه كان [كالأصلين] (6) المتمحّضَيْن. ومسائلها تتعلق بصنفين: أحدهما - في وقوع الكتابة تبرعاً، وذلك بأن يكاتِب المريضُ أو يوصي بالكتابة. والصنف الثاني - يتعلق بإعتاق مكاتَب [صارت] (7) مكاتبته في صحة مولاه، وطلاق (8) الحجر عنه، ثم يفرض إعتاقه في مرض المولى، أو تفرض الوصية بإعتاقه.

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) الكتاب: أي الكتابة والمكاتبة، تقول: كاتبت العبد مكاتبة وكتاباً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. انظر المصباح، وتفسير الطبري. (3) في الأصل: من. (4) في الأصل: فتركته. (5) في الأصل: يحسن. (6) في الأصل: الأصلين. والعبارة ما زال فيها نوع قلق واضطراب. (7) في الأصل: صيرت. (8) طلاق الحجر عنه: انفكاك الحجر عنه، فالإنسان قبل مرض الموت، لا حجر عليه، ولو تصرف في ماله كله، فلا حرج عليه.

7104 - فأما الصنف الأول - فإذا كاتب المريضُ عبداً في مرض موته لا يملك غيرَه، فهذا لا يتفضَّل على ما يؤثره المنتهي إلى هذا المحل إلا بأن نحكي منه النصّ، وما ذكره الأئمةُ على الإطلاق، ثم نُتْبعه التفصيلَ الموصّل إلى الاطلاع على الحقائق. نقل الأئمة عن نص الشافعي أنه قال: إذا كاتب عبدَه في مرضه، لم تثبت الكتابة إلا في الثلث، وأطلق رضي الله عنه إن الكتابة تثبت في الثلث، [فإذا أدى نجوم الثلث عتق] (1) ثلث العبد، ولا نظر إلى مقدار النجوم (2)، وكأنه جعل الكتابة كالإعتاق المنجّز الموجّه على العبد في المرض، وأول ما يجب التنبّه له في إتمام نقل هذا القول -إلى أن نفضل خبايا التفريع عليه- أن الشافعي نصّ في مواضع من كتبه على يسار (3) مكاتبة بعض العبد، وسيأتي ترتيبٌ في ذلك في مواضعه، إن شاء الله تعالى. والمقدار الذي لا نجد بُدّاً من ذكره أن الشافعي قطع قولَه بأن مالك العبد في الصحة والإطلاق (4)، لو كاتب بعضَ عبده، لم يجز، ولو فرض عبدٌ نصفه حر ونصفُه عبد، فكاتَب مالكُ نصفه النصفَ منه، فالكتابة صحيحة قولاً واحداً. وإن كان العبد مشتركاً بين شريكين، فكاتب أحدهما نصيبه [بغير إذن] (5) الشريك، لم يجز في ظاهر المذهب، وإن كاتب نصيبه [بإذن] (6) الشريك، ففيه قولان (7). وستأتي هذه الصورة وما فيها من تخريجاتٍ وأقوال في بعض ما أطلقنا فيه قولاً واحداً.

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. وانظر روضة الطالبين: 6/ 296. (2) أي لا نظر لمقدار النجوم، ونسبتها لقيمة العبد، وحصولها في يد الورثة. (3) كذا بوضوح تام (يسار): وعندي أن صواب العبارة: "على اشتراط يسار مكاتِب بعض العبد". وذلك أن الشريك إذا كاتب شقصه من العبد المشترك، فعتق، قوّم شقص شريكه عليه وسرى العتق إليه. ومن هنا جاء شرط اليسار لصحة مكاتبة بعض العبد. والله أعلم. (4) الإطلاق: أي الإطلاق عن الحجر عليه فيما زاد على الثلث. (5) مكان بياض بالأصل. (6) مكان بياض بالأصل. (7) أظهرهما لا يصح (ر. روضة الطالبين: 12/ 228).

وقد ذكرنا أن المريض إذا كاتب عبده، وقلنا: لا تصح الكتابة في جميع الرقبة، فإن أجرينا هذا مجرى مكاتبة الصحيح المطلَق بعضاً من عبده الخالص، فيجب أن نحكم بفساد الكتابة لورودها على بعض العبد الخالص للسيد. [وإن] (1) نزلنا هذا منزلة العبد المشترك، لانحصار حق المريض في مقدار الثلث، فينبغي ألا (2) نقطع القول بصحة الكتابة في الثلث. وقد قال بعض الأصحاب: إذا أفسدنا الكتابة في بعض العبد من أجزاء شركاء فتفسد الكتابة رأساً من المريض، وهؤلاء نزّلوا ذلك منزلة مكاتبة بعض الشركاء حصةً من العبد المشترك. والذي ذهب إليه الجمهور من الأئمة أن الكتابة تصح من المريض في بعض العبد، وإن منعنا صحة الكتابة من أحد الشريكين، وهؤلاء يحملون مسألة المريض على قاعدة العبد المشترك أيضاً، ولكنهم يفرقون بين مكاتبة المريض وبين مكاتبة الصحيح قسطاً من عبدٍ مشترك، ويقولون: إذا [كاتب] (3) أحدُ الشريكين نصيبه، فمِلْك شريكه ثابتٌ في شركته، [والمكاتبة] (4) تتضمن إضراراً به، لو وفّرنا عليها موجبَها، ولمّا كاتب المريضُ، لم يكن حقُّ الورثة في الثلثين منجّزاً، و [لما] (5) لم يثبت حقُّهم (6) استقرت الكتابة مع حقهم، [ولذا] (7) لم نجعل كتابةَ المريض ككتابة صحيحٍ بعضَ عبده؛ فإنه ليس مطلق التصرف في جميع العبد. هذا ما ذكره هؤلاء واحتمال المسألة لائح، وذلك نقلُ النص مع ما فيه من خلاف الأصحاب.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في صحة الكتابة قولان، كما مرّ آنفاً. (3) في الأصل: كان. (4) في الأصل: والمكاتب. (5) زيادة من المحقق، والسياق في هذه الجملة مضطربٌ قلق. ولكن ماذا نملك؟!!! (6) أي لم يثبت عند الكتابة. (7) زيادة من المحقق.

7105 - وذكر الحُسّابُ من فقهاء الأصحاب مسلكاً آخر، فقالوا: الكتابة لا تنحصر على الثلث وهذا تخريجٌ، وإن كان مشهوراً مذكوراً في الطرق مفرّعاً عليه، فالرأي أَنْ [نوجه] (1) النصَّ والتخريجَ على الجملة أولاً: أما وجهُ النص، فهو (2) أن الكتابة عقد تبرّع، وإن فُرض كسبٌ (3) فذاك ليس مستفاداً بالكتابة؛ فإنه لو بقي رقيقاً واكتسب، لكان كسبه لماللث رقبته، [فعوض] (4) الكتابة في التحقيق ليس عوضاً مستفاداً في مقابلة الرق، ولأجل هذا قال الفقهاء: المكاتِبُ يقابِل ملكَه بملكه. فهذا وجه النص على الجملة. وأما وجه. التخريج، فهو أن العبد لا يكون مطالباً بالكسب في اطراد الرق عليه، ولا حق للمولى عليه، والكتابةُ توجب للمولى عليه حقاً، وهذا الوجوب يستحيل [أن يكون] (5) مع استمرار الرق، فليست الكتابة [كالإعتاق] (6) المحض، وفيه (7) على [الجملة] (8) تحصيل [نوع عوض] (9). هذا بيان التوجيه على الإطلاق. فمن خرّج على النص، لم يكن عليه في هذا المقام بعدُ تفصيل، والقدر الذي يجب التنبه له ماذكره من صحة الكتابة في بعض العبد، فلا فرق إذاً بين أن [يكاتِب] (10) المريض على مقدار قيمته وبين أن يكاتبه على أقلَّ من قيمته أو أكثر منها، فالكتابة لا تتعدى ثلث العبد.

_ (1) في الأصل: الوجه. (2) في الأصل: وهو. (3) "وإن فرض كسب ... " المراد نجوم الكتابة. (4) في الأصل: ففرض. (5) مكان بياض بالأصل. (6) في الأصل: والإعتاق. (7) وفيه أي عقد الكتابة. (8) مكان بياض بالأصل. (9) تقدير منا بدل بياض في الأصل. (10) في الأصل: مكاتبة.

ومن زعم أن الكتابة تتعدى ثلثَ العبد فقد اضطربوا فيه، فذكر الصيدلاني في مجموعه في المذهب أن المريض إذا كاتب عبداً قيمته مائة بمائة، ومات، فأدى العبد ثُلثَ النجوم، قال: يعتق الثلث منه على القول المخرّج، ويصير ثلثٌ آخرُ منه مكاتباً بحضور النجوم التي قابلت الثلث الأول في يد الورثة، فيكون في أيديهم الآن ثلثُ النجوم، وهو مثل ثلث القيمة، وثلث [عبدٍ وثلثٌ] (1) مكاتب، فإذا أدى نجومَ هذا الثلث الثاني عَتق هذا الثلث، وصار الثلث الآخر مكاتباً [لأجل] (2) حصول ثلثي النجوم في أيدي الورثة، فإذا أدى تمامَ النجوم عَتَق كلُّه. هذا تمام مسلكه في التفريع على القول المخرّج. وذهب (3) معظم المفرعين على القول المخرّج إلى أن الكتابة وإن تعدّت الثلثَ لا تستغرق الرقبة، وإنما تثبت في مقدار يقتضيه الحساب، كما سنوضحه في التفريع، ونعملُ القدر الذي يتعلق الفهمُ به إلى كمال البيان. إنه إذا كاتب عبداً قيمته مائةٌ بمائةٍ، فهؤلاء يقولون في هذه الصورة: تثبت الكتابة في تصوير لا يتعدى [العتقُ] (4) النصفَ، وتوجيه ذلك يَبِينُ عند الانتهاء إلى التفريع. هذا نقلُ ما قيل على الإطلاق. 7106 - [ونحن] (5) بعد هذا [نأتي] (6) بفصولٍ: أحدها - في تفصيلٍ [لا نبتديه] (7) وبه يَبين محلُّ الأقوال. والآخر - في تصحيح ما يصح [وبيان] (8) ما يفسد.

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) في الأصل: لأصل. (3) في الأصل: فذهب. (4) مكان بياض بالأصل. (5) مكان بياض بالأصل. (6) عبارة الأصل: بعد هذا أنه بفصول. (7) لا نبتديه: أي لا نبتدعه. وهي تقرأ هكذا بصعوبة بل بتوسُّم. (8) كذا قدرنا مكان بياض بالأصل.

والثالث - في التفريع التام المشتمل على الحساب في محل [الأقوال والتخريج] (1). 7107 - فأما الأول، فليعلم الناظر إلى محل الأقوال [أنه] (2) إذا كاتب المريض [عبدَه] (3) في مرض موته، ثم لم يؤدِّ في حياة المكاتِب شيئاً، وإنما ابتدأ الأداءَ بعد الموت، فإنه لو أدى النجوم، وحصَّلها في حياة المولى، فتلك النجوم زيدت في التركة، ولو فرضنا حصولها في استمرار الرق، ثم قدرنا الكتابة بعد حصولها، زادت الكتابة على ثلث الرقبة، بحضور تلك الأكْساب، فإذاً نصُّ الشافعي فيه إذا لم يحصُل أداءُ النجوم في الحياة، وفي [كلام] (4) الأئمة تصريحٌ بهذا، وهو مما لا يشك الفقيه فيه. ومما تجب الإحاطة به في تعيين محل الأقوال أن الأئمة أطلقوا ذِكْر الاكْساب، ولم يفصّلوا بين ما يحصل في يد المكاتَب من الصدقات وبين ما يكتسبه من جهات الكسب. وليست [كذلك. فإنهم ما] (5) أجْرَوْا ما يحصل كسباً مجرى ما يحصل من الصدقات؛ فإن الاكساب إن فرضت ملكاً لمالك الرق، فليست الصدقات كذلك؛ فإنه لا يتصور حصول الصدقات في يد الرقيق. والذي يجب ضبطه في ذلك أن المكاتب لو اجتمعت في يده أكسابٌ، ثم رقَّ وعجّزَ نفسَه، فتلك الأكساب تكون ملكاً لمولاه، ولو كان قد اجتمع في يده شيء من الصدقات، ثم رقّ، وعجّز نفسه، فتلك الصدقات مردودٌ على أصحابها، فما ذكره الأئمة مخصوصٌ بالأكساب (6) دون الصدقات.

_ (1) هذا تقدير منا مكان بياض بالأصل. (2) في الأصل: منه. (3) زيادة من المحقق. (4) مكان بياض بالأصل. (5) تقدير منا مكان بياض بالأصل وعبارة مضطربة هكذا: "من جهات الكسب. وليست اخروا ما تحصيل كسباً ... إلخ". (6) في الأصل: الأكساب (بدون الباء).

7108 - فإذا تمهد هذا، فالقول بعده في التصحيح [وبيان ما يصح ويفسد] (1): نقول: إذا كانت الأقوال تجري في تحصيل الكسب بعد الموت، فلا يتجه على قاعدة الفقه إلا نصُّ الشافعي؛ فإن ما يكسبه العبد لا يقع في ملك المولى، حتى يُعدَّ من تركته، فما (2) استثناه الشرع له، وهو الثلث محسوب من حقه، فأما الزائد عليه، فبعيد عن قاعدة الفقه إثباتُ الكتابة فيه. ثم إذا ظهر ما يخالف النصّ، فيبقى بعد هذا النظرُ في طريق الأصحاب في القول المخرج. وأما من صار إلى استيعاب جملة الرقبة، فقد تباعد عن مأخذ الفقه بالكلّيّة، وكأنه وقع له أن الكتابة [معاوضةٌ] (3) فيها حيلولة (4)، والدليل عليه أنه حصّل العتق في تمام الرقبة عند أداء النجوم التي هي مقدار القيمة. وهذا مع ما قدمناه من بيانِ محل الأقوال في نهاية الضعف؛ فإن الاكساب تقع بعد الموت، وإذا مات الموروث ثبتت حقوق الورثة، فالمكاتب إذاً مكتسب بملك الورثة، وهم لم يكاتبوه، ومن سلك المسلك الآخر، لم ينته إلى هذا الإبعاد، وكأنه يجعل عتقَ الرقبة تبرعاً، ويجعل ما يحصل من النجوم تركةً، ويحصّل العتق في الرقبة بمقدارٍ يقع ثلثاً بالإضافة إلى ما يحصل في يد الورثة من النجم، وبعض الرقبة. ومما يتم به البيان أن المكاتب لو حصّل الكسبَ في حياة السيد [ولم يؤدِّه] (5)، فالذي أراه أنه بمثابة ما أداه؛ فإنه حاصلٌ [في حياته. هذا تمام] (6) ما أردناه في ذلك. 7109 - والغرض الثالث - التفريع: فإن فرّعنا على النص، فلا مزيد على

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) في الأصل: مما. (3) في الأصل: مفاوضة. (4) كذا. ويبدو أن في الكلام سقطاً تقديره: "فيها حيلولة بين الورثة وبين الرقبة" وهذا يفهم من كلامه في الصفحات التالية. (5) في الأصل: ولم يؤد. (6) عبارة الأصل: "حاصلٌ فيه إتمام ما أردناه في ذلك".

ما ذكرناه. فإذا كاتب المريض -وقد بان محل الأقوال- عبداً لا يملك غيرَه، فالمكاتبة ثابتةٌ في ثُلُثه، سواء كانت النجوم مثلَ قيمة الرقبة أو أقلَّ منها أو أكثر، فإنا نجعل الكتابة تبرعاً بمثابة الإعتاق، والكسبَ في الثلثين بحق الورثة، وليس محسوباً عليهم من التركة، غيرَ أن العتق لا يثبت في الثلث إلا على الوجه الذي [يوقعه] (1) السيد. [وإن فرعنا] (2) على التخريج، [فقد يقع] (3) استيعاب العتق في الرقبة بطريق الكتابة على التدريج الذي حكيناه عن الصيدلاني، فإنه يقول: لو كانت الكتابة واقعةً بثلثي قيمة العبد، يقع العتق في العبد كله فيعتِق ثلثاه بالمعاوضة، وثلثُه يعتِق تبرعاً واقعاً في الثلث. ومن اقتصر في التفريع على التخريج، وقع في أدراج [] (4). فإن كاتب العبدَ بمثل قيمته، فلا دور، والأمر قريب، وتقريب العبارة فيه أن نُفتي أولاً ونقول: يعتِق نصفُه بطريق الكتابة إذا أدى نصفَ (5) النجوم ويرِق نصفه، فيكون الحاصل في يد الورثة نصفُ النجوم، وهو خمسون، ونصف [رقبته] (6) وقيمته خمسون، وذلك ضعف العتق، وإنما يحصل العتق إذا أدى نصفَ النجوم. فإن قيل: كيف يحصل العتق في البعض، وقد حصلت الكتابة في الكل؟ [قلنا: قد] (7) بينا أن كتابته محمولةٌ على كتابة الشريك نصيبَه، وإذا كاتب الشريك نصيبَه وصححنا الكتابةَ، فالعتق يحصل بأداء النجوم في ذلك المقدار لا محالة. 7110 - فإن أردت أن تعبر عن ذلك بمسلك الجبر أمكنك [أن] (8) تقول: صحت

_ (1) في الأصل: يوصيه. (2) مكان بياض بالأصل. (3) مكان بياض بالأصل. (4) لم يتيسر لنا تقدير مكان هذا البياض، ولعل صحة العبارة هكذا: "في التفريع الذي وقع في أدراج الكلام" والله أعلم. (5) في الأصل: نصف بعض النجوم. (6) في الأصل: لرقبته. (7) في الأصل: ثلثا فقد. (8) زيادة من المحقق.

الكتابة في شيء من العبد، وبطلت في عبدٍ إلا شيئاً، وقد أدى عما جازت الكتابة فيه شيئاً؛ لأن الكتابة مثلُ القيمة، فيحصل للورثة من الرقبة والكتابة مائة درهم؛ لأن العبد مائة، ولما قلنا: نفذت الكتابة في شيء، بقي عبدٌ إلا شيئاً، فلما أدى المكاتب شيئاً، انجبر ذلك الاستثناء، فصار في أيدهم مائةٌ كاملةٌ وهذه المائةُ، تعدل ضعفَ ما صحت الكتابة فيه، وهو شيئان، فالشيء نصف المائة، وهو نصف الرقبة. وهذا فيه إذا عجّل نصفَ النجوم. فإن لم يعجِّل ما عليه، جازت الكتابة في الحال في ثُلثه، وللورثة ثلثا رقبته، فإذا أدى -بعد ذلك- النصفَ، حكمنا بمائة [للورثة] (1) وعلى الورثة أن يؤدوا أَخَرةً (2) سدسه في الذي لم نُطلق القولَ في الكتابة فيه؛ فإنا [تبيّنا] (3) أن ذلك السدس كان [مكاتباً عنه] (4). فإن كاتبه على مائةٍ وخمسين، فالتفريع على النص كما تقدم: [فالكتابة] (5) تجوز في ثُلثه بخمسين، ويأخذ الورثة ثلثي الرقبة، وثلثَ النجوم، وذلك أكثر من ضعف الوصية، ولكن ذلك الكسب بعد الموت غيرُ محسوب من التركة. فليفهم الناظر هذا الموضع. ومن فرعّ على التخريج مع الاقتصار [على ما وصفناه] (6) فطريق الحساب أن يقول: إذا أدّى ما عليه، [جازت الكتابة في شيء يساوي] (7) ما عليه، فلما جازت الكتابة في شيء وهو يؤدي عنه شيئاً ونصفَ شيء؛ فإن النجوم على هذه النسبة من القيمة، فيحصل للورثة من الرقبة والكتابة مائةُ درهم [ونصف شيء] (8)، يخرج من

_ (1) تقدير منا مكان بياض بالأصل. (2) أَخَرة: أي أخيراً (معجم). (3) في الأصل: بيّنا. (4) مكان بياض بالأصل لا نقطع به. (5) في الأصل: بالكتابة. (6) زيادة على ضوء ألفاظ الإمام في الصفحات التالية. (7) مكان بياض بالأصل. وليس مستقيماً تماماً. (8) في الأصل: ونصف درهم.

المائة أولاً شيء ويعود من النجوم شيء ونصفُ شيء، وتبقى مائة درهم ونصف شيء، وذلك يعدل شيئين، فنطرح نصفَ شيء بنصف شيء قصاصاً، فيبقى مائةُ درهم تعدل شيئاً ونصفَ شيء، والشيء من شيءٍ ونصف ثلثاه، فتصح الكتابة من ثلثي المائة، وهو ثلثا العبد، وللورثة ثلث الرقبة وثلثا النجوم، ومبلغهما جميعاً مائةٌ وثلاثةٌ وثلاثون وثُلُث، وذلك ضعف ما جازت الكتابة فيه، وهو ثلثا الرقبة. وإن لم يعجّل ما عليه، جازت الكتابة في ثُلُثه في الحال، فإذا أدى بعد ذلك الثلثين، فالتفصيل على ما ذكرناه، وتبيّن بهذا منتهى ما يؤديه [وكذا] (1) ما تثبت الكتابة فيه. فإن أدى ثُلثَ الكتابة، زاد في الكتابة مثلَ نصف ما أدى؛ لأنه إذا أدى خمسين، فقد حصل في يد الورثة من النجوم هذا القدرُ، فإذا قلنا: الكتابة واقعةٌ على الثلث [و] (2) تعديل الكلام على قياس القول المخرّج، فإنه يحصل في يد الورثة ستةٌ وستون وثلثان من الرقبة، وخمسون من النجوم، والحاصل من التبرع في ثلث العبد، فإذا أثبتنا الكتابة في النصف وقيمتُه خمسون، فقد حصل في يد الورثة خمسون من النجوم وقيمة النصف الباقي خمسون، فهذا المجموع ضعف نصف الرقبة. 7111 - ثم [الذي] (3) يجب القطع به أنه إذا أدى ثلثَ الكتابة، لم يعتِق منه شيء؛ فإن الكتابة بطريق التبيّن محلُّها الثلثان، وإذا كان كذلك، لم يعتق منه شيءٌ ما بقي عليه [شيء من] (4) الكتابة. وإذا أدى الثلثين، عتق منه الثلثان حينئذٍ؛ فإنه استوفى محلَّ الكتابة بكماله. وقد أطلقنا في حكاية ما أورده الصيدلاني أنه إذا أدى ثُلثَ الكتابة هل تتعدّى الكتابة إلى ثلثٍ آخر؟ وحاصل ما ذكره ابن سُرَيج وجهان: أحدهما - أنا لا نتعدى ثلثاً، ورددنا الكتابة في الثلثين، وهذا ظاهر النص، وهو القياس؛ لأن الكتابة وإن كانت

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) زيادة اقضاها السياق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) عبارة الأصل: "ما بقي عليه في ... الكتابة".

في صورة [المعاوضة] (1)، فهي كالتبرع المحض بلا عوض؛ فإنها مقابلة الملك بالملك. والوجه الثاني - أنه إذا أدى كتابة الثلث، فإنا نثبت الكتابة في ثلثٍ ثانٍ، وإذا أدى كتابةَ الثلث الثاني، أثبتنا الكتابة في الثلث الثالث، ثم لا نحكم بعتق شيء من الأثلاث، حتى يؤدي [آخر] (2) ما عليه في الثلث الثالث؛ فإنه يستحيل في الكتابة -وهي واحدةٌ- أن ينفذ العتقُ في جزءٍ مع بقاء شيءٍ من النجوم. 7112 - وعلينا بقيةٌ صالحةٌ [من] (3) فقه هذا الفصل في الكتابة، وإنما ذكرنا هاهنا ما مست الحاجة إليه في الحساب. ولو كاتب المريض العبدَ وقيمتُه مائةٌ بمائتين، فالنص على ما قدمناه؛ فإنه لا يختلف بالزيادة والنقصان في النجم. وأما التفريع على التخريج مع الاقتصار على ما وصفناه، فسبيل الحساب فيه أن نقول: ثبتت الكتابةُ في شيء من العبد، وبقي عبد إلا شيئاً، فإذا أدى جميعَ ما عليه، فنقول: [نجم الكتابة] (4) شيئان، فتحصّل في يد الورثة عبد وشيء، وذلك ضعف ما صحت الكتابة فيه في جميع العبد، وإذا عجل المائتين، حصل العتق، ولا حاجة إلى هذا العمل؛ فإنا نعلم أن دور ذلك أن المائتين ضعفُ الرقبة، ولا يضرّ إجراء مراسم الحساب في الجليّات. هذا تمام المراد فيه إذا كاتب المريض عبداً. ولو أوصى بأن يكاتَب العبد، كان كما لو أنشأ الكتابة في مرضه. 7113 - مسألة: إذا كاتب عبده و [قيمتُه مائة على ثلاث] (5) مائة، وأوصى بثلث ماله لرجل، فعلى النص يجوز الكتابة في ثلثه بمائة، ويحصل مع الورثة ثلثا الرقبة

_ (1) في الأصل: المفاوضة. (2) في الأصل: أجر. (3) في الأصل: في. (4) زيادة من المحقق. (5) مكان بياض بالأصل.

وثلث (1) الكتابة، وذلك مائة وستةٌ وستون وثلثان، يدفعون منهما (2) إلى الموصى له قيمة الثلث، وهو ثلاثة وثلاثون وثلث، ويبقى معهم مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وهي ضعف ما خرج بالكتابة والوصية، وقدمنا الكتابة؛ فإنها منجّزة في المرض، والمنجز في المرض مقدّم على الوصية. وعلى التخريج يجوز الكتابة في جميعه، فإن عجلها، عتَق، وكان للموصى له قيمة الثلث وهو ثلاثة وثلاثون وثلث، يبقى مع الورثة مائتان وستة وستون وثلثان، وذلك ضعف العتق والوصية. هذا قياس الباب. وهو كلام في صنفٍ واحد. 7114 - فأما الكلام في الصنف الثاني، وهو إذا كاتب عبداً في حالة الصحة والإطلاق، ثم أعتقه في مرض الموت، وما كان أدى شيئاً من الكتابة، ويقع التصوير فيه إذا كان كاتبه على [مائة] (3) وقيمته مائة، فظاهر المذهب أنه يعتِق ثلثُه، كالعبد القِنّ يُعتقه المريض، ثم إذا عَتَق ثلثُه، بقيت الكتابة في ثلثيه، فإذا أدى ما عليه إلى الورثة، عَتَق [كاملاً] (4): الثلث بالإعتاق والثلثان على حكم الكتابة. فإن قيل: إذا نجزّتم العتق في الثلث، والحيلولة واقعة بين الورثة وبين ثلثي الرقبة لثبوت الكتابة فيهما؛ إذ الكتابة جارية في حالة الصحة، فلا ردّ لها إلا بطريق [تعجيز نفسه] (5) والنجوم في [الذمة] (6) ليس مالاً حاصلاً؛ فهذا تنجيز الوصية وتأخير حق الورثة. قلنا: ذهب بعض الأصحاب أنا لا نحصّل من العتق شيئاً حتى يؤدي المكاتَب

_ (1) وثلث الكتابة: أي نجوم الثلث، وهي مائة. (2) كذا. والمعنى لائح، فالتثنية على مراعاة قيمة الثلثين وقيمة النجوم. (3) في الأصل: كاتبه على ثلاثة وقيمته مائة. (4) مزيدة من المحقق. (5) تقدير منا مكان بياضٍ بالأصل. (6) في الأصل: الدية. ثم معنى العبارة: أن تعجيل العتق في الثلث، والحيلولة حاصلة بين الورثة والثلثين بالكتابة، يؤدي إلى تحقق التبرع بالثلث، ولما يحصل في يد الورثة مثلاه بعد.

[مثليه] (1)، ومهما أدى شيئاً، حصل العتق في مثل نصفه، وعلى هذه النسبة يعتدل الثلث والثلثان. ولو عجّز المكاتَب نفسه، عَتَق إذ ذاك ثلثُه؛ فإنا عرفنا ثبوت أيديهم الآن على ثلثي الرقبة من غير حيلولة. هذا مذهبُ بعض الأصحاب، وعليه فرع الأستاذ أبو منصور، ولم يذكر غيرَه، وهو غيرُ مرضيٍّ عند الفقهاء؛ فإن العبد ضُرب الكتابةُ فيه في حالة الصحة، فلو لم يعتقه المريض، لكان جميعه مكاتباً، ولكانت الحيلولة التي تقتضيها الكتابة قائمة، فإذا أورد العتقَ عليه [وَرَدَ] (2) على [محلٍّ فيه] (3) حيلولة، فلينفذ العتق في [الثلث، وليبق للورثة الباقي على حسب ما تكون الكتابة لو لم يعتق] (4). 7115 - التفريع على هذين المسلكين: إن فرعنا على طريق التوقف، فإذا مات المكاتِب، وقد أعتق المكاتَبَ في مرضه، فإن عجَّز نفسَه، ولم [يؤدِّ] (5) شيئاً، [عَتَقَ] (6) ثلثُه [وانتهى التوقف] (7)؛ فإنه سَلِم ثُلثا الرقبة على حقيقة الرق، وزالت الحيلولة التي كانت عليه [بالوقف] (8). وإن اختار المكاتب المضيَّ في الكتابة، فقد قال الحُسّاب: ما يؤديه من النجوم يُحكَم بعتق مثل نصفِه من الرقبة؛ فإن ما يحصل في أيدي الورثة ينبغي أن ينفذ من التبرع مثلُ نصفه، حتى يكون التبرع مع الحاصل في أيدي الورثة على نسب الثلث

_ (1) في الأصل: مثله. (2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (3) تقدير منا مكان بياضٍ بالأصل. (4) عبارة الأصل فيها اضطراب وخلل واضح هكذا: "فلينفذ العتق في الورثة ما يبقى لهم على حسب ما يكون المكاتب للورثة لو لم يعتق" والمثبت تقدير منا بالاستعانة بعبارة الإمام الرافعي في الشرح الكبير: 7/ 244. (5) في الأصل: ولم يزد. (6) في الأصل: عن. (7) مكان بياضٍ بالأصل. (8) في الأصل: الوقف، (وبعدها بياض قدر كلمة).

والثلثين. فإذا أدى ثلثَ النجوم، والنجوم على قدر القيمة، عَتَق فيه سدسُه، فإذا أدى نصفَ النجوم، عَتق منه بقدرها، كذا، إلى أن يؤدي [ثُلثَي] (1) النجوم، فنحكم بأنه يعتِق منه [ثلُثاه] (2) بحكم الإنشاء و [الثلث] (3) وصية، فقد عتَق ثلثُه بالوصية، وإذا عتَق الثلثُ منه، برىء عن ثلث النجوم لا محالة، فإنه لا يتصور أن ينفذ العتق في جزءٍ من [المكاتب] (4) حتى يبرأ عن مثل نسبته من النجوم. نعم، يجوز أن يَبرأ عن جزءٍ لا يعتق [مُقابله] (5) شيء، فإن الإبراء كالأداء، فإذا برىء عن ثلث النجوم، وأدّى ئلثي النجوم، عتِق كلُّه لا محالة؛ لأنه لم يُعجِّز نفسَه، ولم يبق عليه من النجوم شيء، [وكلّ] (6) مكاتَبٍ سقط النجم عنه من غير تعجيز، فهو جزء النسبة، لا يمكن طردها فيما نحن فيه؛ فإنه إذا أدى النصفَ، لم يعتِق منه إلا الربع. فإذا زاد سُدساً تكملةَ الثلثين عَتَق كلُّه، والسبب فيه أنه بتأدية السدس يَبْرأ عن جميع النجوم، وهو قبله مشغولُ الذمّة ببقيّةٍ من النجم، فلا نحكم بعتق كله، فلا طريق إلا رعاية النسبة التي ذكرناها، وهي أنه يعتِق منه مثلُ نصف ما يؤدي. وما ذكرناه فيه إذا كانت النجومُ مثلَ قيمة الرقبة. 7116 - فإن كانت النجوم ضعف القيمة مثلاً، [كأنْ] (7) كانت قيمةُ العبد مائة، وكاتبه على مائتين في الصحة، ثم أعتقه، والتفريع على قول التوقف: فإن اختار العبدُ تَعْجيز نفسه، سقطت النجوم، وعتَقَ من الرقبة ثُلثها على جهة اليقين. وإن اختار المضيَّ في الكتابة، فلو أدى نصفَ الكتابة وهو مائة، عَتَق كلُّه بجهة الوصية والأداء، والسبب فيه أنه يحصل في يد الورثة مائة، فيجب أن يعتِق من

_ (1) في الأصل: ثلث. (2) في الأصل: ثلثه، وبحكم الإنشاء: أي بحكم الكتابة. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: المكاتبة. (5) في الأصل: منه. (6) في الأصل: وكان. (7) زيادة من المحقق.

العبد خمسون، وإذا عَتِق منه خمسون وهو نصفه، سقط نصف الكتابة، ولا يبقى من النجوم إلا نصفُها، يبرأُ عن مائةٍ، تبعاً لعتق النصف، ويعتق النصفُ الثاني بأداء النصف. وعند ذلك تنتظم عبارة مراسم الجبر، فنقول: عَتَقَ من العبد شيء، وتبعه من الكتابة مثلاه، فبقي في يد الورثة مائتان إلا شيئين، وهما ضعف التبرع، فنجبر ونقابل فتصير المائتان في مقابلة [أربعة أشياء، فالشيء ربع المائتين، وهو نصف العبد، فعلمنا أن الذي يعتِق نصفُ العبد، وأنه يسقط نصف النجوم] (1) ولا حاجة إلى هذا. ولو أدى أقلَّ من مائةٍ، مثل أن يؤدي ستةً وستين وثلثي [درهم] (2)، فإنا نحكم بعتق ثلث المكاتَب؛ لأنه مثلُ نصف ما حصل في أيديهم. ولو فرض من العبد تعجيز نفسه، لم يفتهم مقدارُ الثلثين؛ فإنه يحصل لهم ثلثا الرقبة، ويدهم الآن مبسوطة في مثل ثلثي الرقبة من النجوم. 7117 - وهذا المنتهى فيه غائلةٌ؛ فإن قائلاً لو قال: ثبّتم الحكمَ فيه إذا أدى المائة، وذكرتم نسبةً جاريةً فيه إذا أدى مثلَ ثلثي الرقبة، أرأيتم لو أدى أكثر من هذا أو (3) من النصف؟ قلنا: هاهنا وقفة لا بد من تأملها، وذلك أنا لو قلنا: يعتِق من العبد من نصف ما أداه، وقد أدى تسعين مثلاً، فلا نأمن أن يعجِّز العبدُ نفسَه، فتسقط النجوم، وتخرج عن كونها نجوماً، وتصير كسبَ عبدٍ رقيقٍ، وإذا كان كذلك، لم نُجِز الهَجْمَ (4) على اعتبار النسبة فيه، بل الوجه أن يقال: إن كان حصّل العبدُ المكاتَبُ

_ (1) عبارة الأصل فيها خطأ حسابي، ونوع اضطراب، ونصها: "فيصير المائتان في مقابلة شيئين، فكل شيء مائة، ونصفه نصف المائهَ، وقد أعتقنا نصف شيء، فكان نصف العبد، ولا حاجة ... إلخ". والمثبت تصويب منا، مع عبارة الشرح الكبير: 7/ 245. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: وأقل. (4) الهَجْم مصدر هَجَم المكان هجماً اقتحمه وهو يتعدى ويلزم (المعجم والمصباح، والقاموس، والمختار).

ما أداه في حياة مكاتِبه، فحكم ما أداه -وإن رَقّ- حكمُ التركة، فنقول: إذا أدى تسعين من كسبٍ حصّله في حياة السيد، فيعتِق من الرقبة خمسةٌ وأربعون لا محالة؛ فإن ما حصَل في أيديهم تركة، ولا [تُنزع] (1) من أيديهم بتعجيز المكاتَب نفسَه. ولو اكتسب المكاتَب في استمرار الكتابة بعد موت المولى هذه التسعين وأداها، فلو عجّز المكاتَب نفسَه، فالذي يظهر في القياس [ ... ] (2) أن ما أداه يخرج عن كونه تركة بتعجيزه نفسَه؛ [فإنه] (3) استفاده ورقبتُه مملوكة للورثة. ثم [لم] (4) يستمر على الكتابة حتى تستتبع أكسابَه حالة الاكتساب وكانت رقبته للورثة، فالمؤدَّى إذاً لا يحتسب على الورثة؛ فإنه ليس من التركة، ولا يبقى إلا الرجوع إلى الرقبة نفسِها، حتى يقال: يعتِق ثلثُها ويرِق ثلثاها. وإن قال قائل: لو عتَق المكاتَب، لكان الولاء للمولى [إشارةً] (5) إلى ما تقدم، حتى كأنه عتَقَ في حال حياته، فإذا رقَّ بعد وفاته، ينبغي أن ينقلب ما حصله بعد وفاته إلى تركة المولى، حتى تُؤدَّى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه بناء على [الرق] (6). وإذا انتظم هذا، انبنى عليه أنه محسوبٌ على الورثة؛ من جهة كونه محسوباً من التركة. قلنا: هذا وإن كان يُخيل (7) عن بُعد، فالكسب حصل في ملك الورثة، فلا معنى لتقدم [الرق] (8)، والوجه إخراجه من التركة كما تقدم، فإنا لا ننكر كون المكاتَب مملوكاًَ للوارث، وأما الولاء فمن [ ... ] (9) المذهب، وسنذكر ترتيب الولاء

_ (1) في الأصل: تبرع. (2) بياض في الأصل لم نتكلف تقديره لاستقامة الكلام بدونه. (3) في الأصل: فإن. (4) في الأصل: "لو". (5) في الأصل: أشار. (6) في الأصل: الدين. والمعنى بناءً على تقدم الرق. (7) يخيل: أي يصلح ويناسب أن يكون علة يربط بها الحكم. فالإخالة عند الأصوليين: هي المناسبة، وتسمى تخريج المناط أيضاً. (8) في الأصل: الرقبة. (9) بياض بالأصل ويبدو أن في الكلام خرماً.

وما يدّعى فيه، وليس بنا ضرورةٌ إلى الإسناد (1) في الكسب، بل كل كسبه لمن كان المكتسِب له إذا [عجّز] (2) المكاتب نفسه. هذا تمام البيان في ذلك. وكل ذلك تفريعٌ على التوقف. 7118 - ولا امتناع من الإعتاق في شيء قبل الأداء؛ فإنا إذا قلنا: [بتنجيز] (3) العتق في مقدارٍ، فلا شك في انتجازه في الثلث، وإذا انتجز العتق في الثلث، سقطت الكتابة لا محالة (4). فإن كانت النجوم مثلَ القيمة، فلو أدى الثلثين، عَتَق كلُّه، كما قدمناه في التفريع على القول الأول، فإن أدى نصف النجوم، أما الثلث، فقد نجز العتق فيه، وأما الزائد عليه، فحكمه يُتلقى من الغائلة التي ذكرناها في تعجيز المكاتَب نفسَه وفي تفصيل القول في وقت كسبه، فإن كان الكسب في حياة السيد، فهو تركة، فيجب إتمام العتق في مثل نصفه كما ذكرنا، وإن كان الكسب بعد موت المولى فلا [يُعتد] (5) بالزائد المؤدى مع [حكمنا] (6) أنه يخرج عن كونه تركة، ولا يحصل العتق بجهة الأداء، ما دام تبقى من وظيفة الكتابة شيء. هذا موضع التنبيه في المسألة. 7119 - ومما يتعلق بتمامها أن النجومَ إذا كانت أقلّ من قيمة [العبد، كأن] (7) كانت قيمةُ العبد مائةً، وقد كاتَبه على خمسين، فأعتقه في المرض، فحق الورثة أقل الأمرين؛ فإنهم إن تعلقوا بالرقبة، قيل لهم: للمكاتب أن يؤدي الخمسين، وإذا أدى

_ (1) الإسناد: أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر، ويرجع القهقهرى، حتى يحكم بثبوته في الزمان المتفدم، كالمغصوب فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان مستنداً إلى وقت الغصب (ر. كشاف اصطلاحات الفنون: مادة سند). (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) في الأصل: تنجيز. (4) اي سقطت في هذا الثلث. (5) في الأصل: ثقة بالزائد. (6) مكان بياضٍ بالأصل. (7) زيادة اقتضاها السياق.

عَتَق، وهذا [يعارض] (1) ما إذا كانت النجوم أكثر، فلا تعلق لهم بالنجوم؛ فإنّ للمكاتَب أن يعجِّز نفسه، وإذا فعل ذلك، سقطت النجوم، ولم يبق للورثة إلا [الثلثان] (2). فنقول: لو أدّى المكاتبُ على خمسين ثلثي الخمسين، عَتَق كلُّه على المسلكين جميعاً، أما على قول الوقف، فيعتق مثلُ ثلث (3) العبد [فيبرأ عن ثلث النجوم، ثم إنه أدَّى ثلثي النجوم] (4)، وإذا بَرَأ عن ثلثٍ وأدى ثلثين، عَتَق كلُّه، ولا نظر إلى قيمة العبد لما ذكرناه من أنا لا نحتسب للورثة إلا أقل الأمرين. وأما [عن] (5) قيمة العتق، فعَتَق ثُلُثُه في كل حساب، ويبرأ عن ثلث النجوم، فلا يبقى إلا الثلثان، فإذا أداها، عَتَق الكل، ثم كان ما يعتق عن جهة الوصية، فهو مستند إلى حالة الإعتاق، وكل ما يعتق بأداء النجوم، فهو حاصل مع أداء التمام. وقد نجزت المسألة بما فيها. ولو أوصى سيد المكاتَب بعتق مكاتَبه، وكانت الكتابة جاريةً في الصحة، فالوصية بالعتق بمثابة إنشاء العتق في مرض الموت في القواعد التي ذكرناها.

_ (1) يعارض: أي يناظر ويساوي فالمعنى أنه كما لا يمكن للورثة أن يتعلقوا بالرقبة لأنها أكثر من النجوم هنا، فكذلك هناك لا يمكن لهم أن يتعلقوا بالنجوم لأنها أكثر من الرقبة. (2) في الأصل: خمسون. والمراد بالثلثين ثلثا الرقبة أو ثلثا القيمة ستة وستون وثلثان. (3) هنا اضطراب في السياق، وقد قدّرنا أن سببه تشويش في ترتيب نسخة الأصل، وهي نسخة وحيدة، فأخذنا في البحث والتتبع وقراءة النص حتى هدانا الله إلى مكان الخلل في ترتيب الأوراق، فينتقل السياق من هنا إلى ص177 ش، وليس إلى ص168 ش كما كان مستمراً. (4) عبارة الأصل: "فيعتق مثل ثلث العبد، فإنه أدى ثلثي النجوم، فيبرأ عن ثلث النجوم، وإذا برأ ... إلخ" ففيها اضطراب بالتقديم والتأخير، والمثبت من عمل المحقق. (5) في الأصل: على.

القول في المسائل الدائرة في النكاح والصداق والخلع والطلاق

القول في المسائل الدائرة في النكاح والصداق والخلع والطلاق 7120 - مسائل في صداق الحرة [والزوج مريض] (1). نقول في مقدمة المسائل: للمريض أن ينكح أربعاً وما دونهن، وله أن يتسرّى من شاء من جواريه، وله أن يشتريهنّ بأثمان أمثالهن، ويستولدهن. فإذا نكح امرأةً أو نسوةً، ولم يزد في حق واحدةٍ على مهر مثلها، ثبت الصداق من رأس [ماله] (2) كالديون جُمع (3). وإن نكح المريض امرأةً وزاد على صداق مثلها، فالزيادةُ محاباةٌ، فإن استبلّ من مرضه، نفذت الزيادة، فإن مات من ذلك المرض، ورثته المرأةُ وبطلت (4) الزيادة؛ فإنها وصيةٌ لوارث، ولها ميراثُها ومهرُ مثلها. ولو استمر المرض بالزوج وماتت المرأة، فقد خرجت عن كونها وارثة، والمحاباة وصية [لمن] (5) لا ترث، وكذلك لو كانت المنكوحة ممن لا ترث، كالذّمية تحت المسلم، [إذا] (6) أصدقها في مرض موته أكثر من مهر مثلها، وماتت المرأة قبله. مثاله: إذا تزوجها في مرضه على صداق مائة درهم، ومهرُ مثلها خمسون درهماً، ولم يكن للزوج مال غيرُ المائة، فإن مات الزوج قبلها، فلها مهر مثلها خمسون درهماً من رأس المال، والباقي وصية، ولا وصية لوارث. وإن لم ترثه كما قدمنا التصوير، فلها بالوصية ثلث الباقي ستةَ عشرَ درهماً وثلثان، والباقي لورثته.

_ (1) عبارة الأصل: "في صداق الحرة الزوج المريض". (2) في الأصل: مال. (3) في الأصل: جميع. (4) في الأصل: بطلت (بدون الواو). (5) في الأصل: أن لا ترث. (6) في الأصل: فإذا.

وإن كانت [تركة] (1) الزوج سوى الصداق مائة درهم [فتخرج] (2) المحاباةُ لها بزوجها (3) من الثلث. وإن لم يكن خلّف شيئاً سوى المائة التي جعلها صداقاً، وكان عليه عشرون ديناً: خمسون [لمهر] (4) المثل لا دفاع له، ويدفع عشرين من الخمسين الباقية إلى الدين، فيبقى ثلاثون درهماً، للمرأة ثُلثُها بالوصية، وذلك عشرة، والباقي لورثته. فإن ماتت المرأة قبله، [ثم مات] (5) بعدها فالزوج (6) وارث لها، ولا مال لهما سوى الصداق ولا دين عليهما، دارت المسألة؛ لأن الزوج يرث منها ويزيد ماله بالميراث، وإذا زاد ماله، زادت وصيتها، فإذا زادت وصيتها، زاد ما يرجع إليه بالميراث منها. وحساب المسألة أن نقول: لها صداق مثلها خمسون درهماً من رأس المال، ولها شيء بالمحاباة، فيبقى مع الزوج خمسون درهماً إلا شيئاً، ويحصل مع المرأة خمسون درهماً وشيءٌ، ويرجع نصف ذلك إلى الزوج بالميراث، فيحصل مع ورثة الزوج خمسة وسبعون درهماً إلا نصفَ شيء، وذلك يعدل شيئين: ضعفَ المحاباة، فنجبر ونقابل، فيكون خمسة وسبعون درهماً في معادلة شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا [الخمسة والسبعين] (7) وذلك ثلاثون درهماً، وهي مقدار ما جاز من المحاباة، فيكون [لها] (8) عن مهر المثل وعن المحاباة ثمانون درهماً، ويبقى مع الزوج عشرون،

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) كذا. ولعلها: من زوجها. ثم سبب صحة المحاباة واضح؛ فإنها خمسون، والباقي بعد مهر المثل مائة وخمسون، فلم تزد على الثلث. (4) مكان بياضٍ بالأصل. (5) مكان بياضٍ بالأصل. (6) في الأصل: والزوج. (7) في الأصل: الخمسة والتسعين. (8) في الأصل: لهما.

ويرجع إليه بالميراث أربعون درهماً، فيجتمع مع ورثته ستون درهماً، وهي ضعف المحاباة. فإن خلّفت المرأة ولداً أَوْ ولد ابنٍ، قلنا: لها مهر مثلها خمسون درهماً من رأس المال، ولها من المحاباة شيء، يقع مع الزوج خمسون درهماً إلا شيئاً، ومع المرأة خمسون درهماً وشيء، يرجع رُبعه إلى الزوج، وذلك اثنا عشر درهماً ونصفُ درهم وربع شيء، فيجتمع مع ورثة الزوج اثنان وستون درهماً ونصف إلا ثلاثة أرباع شيء؛ وذلك يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيكون اثنان وستون درهماً ونصف تعدل شيئين وثلاثة أرباع شيء، فنبسطهما أرباعاً، يصير الدرهم مائتين وخمسين، والأشياء أحد عشر، فنقسم العدد على الأشياء، فتخرج اثنان وعشرون درهماً وثمانية أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، وهذا مقدار المحاباة. فيجتمع لها بالمهر والمحاباة اثنان وسبعون درهماً وثمانية أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم، ورجع إلى الزوج بالميراث ربع الذي حصل للمرأة، وذلك ثمانية عشر درهماً وجزءان من أحد عشر جزءاً من درهم، فيجتمع مع ورثته خمسةٌ وأربعون درهماً وخمسة أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم، وهي ضعف المحاباة. 7121 - مسألة: إذا أصدق امرأته في مرضه مائة درهم ومهر مثلها خمسون درهماً، فماتت المرأة قبله، ثم مات الزوج وخلف مائةً سوى الصداق [جازت] (1) المحاباة [كاملة] (2) لأنها تخرج من الثلث. وإن ترك (3) الزوج خمسين درهماً سوى الصداق، وتم لها أيضاً المحاباة، فتملك مهرها مائة، ويرجع نصفُها إلى الزوج، وهو خمسون بالميراث، فيجتمع مع ورثة الزوج مائة درهم، وهي ضعف الخمسين التي هي المحاباة.

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) نرجع هنا ثانية إلى ص169 ش، جرياً مع السياق بصرف النظر عن تشويش الترتيب في أرقام الصفحات.

7122 - فإن كان لها ولد والتركة الزائدة خمسون كما ذكر، فطريق الحساب أن نقول: لها مهر المثل خمسون درهماً، ولها بالمحاباة شيء، فذلك خمسون وشيء، وبقي مع الزوج من الصداق خمسون إلا شيئاً، ورجع إليه من ميراث المرأة ربعُ خمسين وربع شيء، وهو اثنا عشر درهماً ونصفُ درهم وربعُ شيء، ومع ورثة الزوج خمسون درهماً تركة؛ فحصل مع ورثة الزوج مائة واثنا عشر درهماً ونصف درهم إلا ثلاثة أرباع شيء، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيكون مائة واثني عشر درهماً ونصف تعدل شيئين وثلاثة أرباع شيء، فنبسطهما أرباعاً، فيكون الدرهم أربعُ مائة وخمسون درهماً والأشياء أحدَ عشرَ، فنقسم الدراهم على الأشياء، فيخرج من القسمة نصيب الواحد أربعون درهماً وعشرة أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم. هذا قيمة الشيء، وهو المحاباة، فجميع ما صح لها من مهر المثل والمحاباة تسعون درهماً وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، وبقي مع الزوج من المائة تسعة دراهم وجزءٌ من أحد عشر جزءاً من درهم، ومن التركة خمسون، ورجع إليه بالميراث ربع ما حصل للمرأة، وذلك اثنان وعشرون درهماً وثمانية (1) أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، فيجتمع مع ورثة الزوج أحدٌ وثمانون درهماً، [وتسعة] (2) أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم، وذلك ضعف المحاباة. 7123 - وإن لم يكن للزوج تركة، وكان عليه دين عشرون درهماً، كان للمرأة خمسون درهماً لمهر المثل، ولها بالمحاباة شيء، وبقي مع الزوج خمسون درهماً إلا شيئاً، ورجع إليه بالميراث من المرأة -إن لم يكن لها ولد ولا ولد ابن- خمسة وعشرون درهماً ونصف شيء، فاجتمع معه خمسة وسبعون درهماً إلا نصفَ شيء، فيقضي منها دينَه، وهو عشرون درهماً، تبقى خمسة وخمسون درهماً إلا نصفَ شيء، تعدل شيئين: ضعفَ المحاباة، وبعد الجبر والمقابلة يكون خمسة وخمسون درهماً في معادلة شيئين ونصف، والشيء خمسا الخمسة والخمسين، وذلك اثنان

_ (1) في الأصل: من ثمانية أجزاء ... إلخ. (2) في الأصل: "وسبعة".

وعشرون درهماً، وهي المحاباة، فجميع ما صح لها بالمهر [والمحاباة] (1) اثنان وسبعون درهماً، وبقي مع الزوج ثمانية وعشرون، ورجع إليه بالميراث نصف ما حصل للمرأة، وهو ستة وثلاثون درهماً، فاجتمع مع ورثة الزوج أربعة وستون قضينا منها دين الزوج، وهو عشرون درهماً، يبقى لهم أربعة وأربعون درهماً، وهو ضعف محاباة الزوج. 7124 - فإن كان للمرأة ولد، فلها مهر المثل خمسون درهماً وبالمحاباة شيء، وبقي مع الزوج خمسون إلا شيئاً، ورجع إليه بالميراث ربع ما حصل للمرأة، وذلك اثنا عشر درهماً ونصف درهم وربعُ شيء، فاجتمع له اثنان وستون درهماً ونصف إلا ثلاثة أرباع شيء، [نقضي منها الدين، عشرين، فيبقى اثنان وأربعون درهماً ونصف درهم إلا ثلاثة أرباع شيء] (2)، تعدل شيئين، فنجبر ونقابل ونبسط، فتكون الدراهم مائة وسبعين والأشياء أحدَ عشرَ، فنقسم العدد على الأشياء، فيخرج من القسمة نصيب الواحد خمسةَ عشرَ درهماً وخمسةُ أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم، فذلك مقدار المحاباة النافذة، وجميع ما صح لها مهراً ومحاباةً خمسةٌ وستون درهماً وخمسة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، وبقي مع الزوج أربعة وثلاثون درهماً وستة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، ورجع إليه بالميراث ربع ما حصل للمرأة، وذلك ستةَ عشرَ درهماً وأربعةُ أجزاء من أحد عشرَ جزءاً من درهم، يقضي منها دينه، وهو عشرون درهماً، يبقى مع ورثته ثلاثون درهماً وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، وذلك ضعف محاباة الزوج. 7125 - فإن كان للزوج تركة وعليه دين قوبل أحدُهما بالآخر، فإن استويا فكأنْ لا تركة ولا دين، فإن اختلفا في المقدار، أسقطنا الأقل منهما من الأكثر، فما فضل بالاعتبار (3) على ما تقدمت نظائره في الأبواب السابقة. 7126 - مسألة: إذا أصدق في مرضه امرأةً مائةَ درهم، ومهرُ مثلها خمسون

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة من المحقق لن يستقيم الكلام إلا بها. (3) بالاعتبار: أي بالقياس.

درهماً، وماتت المرأة وخلفت مائة درهم سوى الصداق، ثم مات الزوج، ولم يترك سوى ما ذكرناه، ثبتت المحاباة، فنقول ملكت بالصداق [مائة] (1) ولها مائةٌ سواها، فذلك مائتان، ورجع نصفُها إلى الزوج بالميراث، وذلك مائة، فيحصل لورثة الزوج مائة، وهي ضعف المحاباة؛ إذ المحاباة خمسون. 7127 - فإن ترك الزوج سوى الصداق عشرين درهماً، وتركت المرأة سوى الصداق ثلاثين درهماً، فنقول: لها مهر مثلها خمسون، ولها بالمحاباة شيء، ولها من التركة ثلاثون، فذلك ثمانون درهماً وشيء، يرجع نصفُها إلى الزوج بالميراث، وذلك أربعون درهماً ونصفُ شيء، وكان الباقي معه من الصداق خمسون إلا شيئاً ومن التركة عشرون درهماً، فزِد على ذلك ميراثَه من المرأة، فيجتمع مع ورثته مائةٌ وعشرة دراهم إلا نصف شيء، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فتصير مائة وعشرة دراهم تعدل شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا المائة والعشرة، وذلك أربعة وأربعون درهماً، فهي المحاباة الجائزة، تأخذها المرأة مع مهر مثلها [تضمها] (2) إلى تركتها، فيجتمع لها مائة وأربعة وعشرون درهماً، ويرث الزوج نصفها، وذلك اثنان وستون درهماً، وكان الباقي معه ستة ومن التركة عشرون، فيجتمع للزوج ثمانية وثمانون درهماً، وهي ضعف المحاباة النافذة. وإن كان على كل واحد منهما عشرون درهماً دَيْناً، ولا مال لهما سوى المائة الدائرة بينهما، فنقول: لها مهر المثل خمسون درهماً من رأس المال، وهو مقدم على الدين؛ لأنه صداق لازم، لا دفاع له، ولها بالمحاباة شيء، فتركتُها خمسون درهماً وشيء، ويخرج منها دينها، وهو عشرون درهماً، فيبقى ثلاثون درهماً وشيء، يرجع نصفها بالميراث إلى الزوج، وذلك خمسةَ عشرَ درهماً ونصفُ شيء، ونزيده على الباقي مع الزوج، وهو خمسون إلا شيئاً، فيبلغ خمسة وستين درهماً إلا نصفَ شيء، يخرج منها دينه وهو عشرون درهماً، يبقى منها خمسةٌ وأربعون درهماً إلا

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) مكان بياضٍ بالأصل.

نصفَ شيء، وذلك يعدل شيئين، فنجبرهما بنصف شيء، فيبقى خمسة وأربعون درهماً في معادلة شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا الدراهم، وذلك ثمانيةَ عشرَ درهماً [وهي] (1) المحاباة النافذة، فتأخذها المرأة مع مهر مثلها، وهو خمسون، فذلك ثمانيةٌ وستون درهماً، يخرج منها دينها، وهو عشرون، يبقى ثمانيةٌ وأربعون درهماً، يرجع إلى الزوج نصفُها بالميراث، وذلك أربعةٌ وعشرون، وكان الباقي معه من المائة اثنان وثلاثون، فاجتمع معه ستة وخمسون، يخرج منها دينه، وذلك عشرون، يبقى لورثته ستةٌ وثلاثون، فهي ضعف المحاباة الخارجة. 7128 - مسألة: إذا أعتق رجلٌ جاريةً له في مرض موته، لا مال له غيرُها، وقيمتُها ألف درهم، ثم تزوجها ووطئها، ومهر مثلها خَمسُمائة درهم، قال الشافعي: "هذه المسألة يدخلها الدور"، ولم يزد على هذا، فقال الأصحاب: العتق جائز في مقدار ما يحتمله الثلث، على ما سنشرحه، ونسقط من المهر مقدارَ ما يبطل [فيه] (2) العتق، والنكاح فاسدٌ في الأصل؛ لأنه مالكٌ لبعضها. وحساب المسألة أن نقول: جاز العتق في شيء من الأمة، وبطل في أمة إلا شيئاً، فيسقط منها للمهر نصفُ ما جاز العتق فيه، فإن المهر نصف القيمة، فإذاً [هو] (3) نصف شيء، يبقى أمةٌ إلا شيئاً ونصف، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فتكون أمة تعدل ثلاثة أشياء ونصف، فنبسطها أنصافاً، ونقلب الاسم، فتكون الأمة سبعة والشيء اثنين، فنقول: صح العتق في اثنين من سبعة، وهو سبعاها. وسبيل الامتحان بيّن. وفرض الحُسّابُ أن يكون مهرُها أكثرَ من قيمتها، وهو بعيدٌ في التصوير، ولكن نذكره؛ [فإن الغرض] (4) التدرّبُ في كل فن. فإن كان مهرها ألفين وقيمتها ألف، فحساب المسألة أن نقول: جاز العتق في شيء

_ (1) في الأصل: وفي. (2) في الأصل: منه. (3) في الأصل: هي. والضمير يعود على المهر. (4) مكان بياضٍ في الأصل.

منها، ولزم شيئان من المهر، فبقي مع الورثة أمةٌ إلا ثلاثةَ أشياء؛ فإنا نحسب ما لزم من المهر منها، [فبقي أمة إلا] (1) ثلاثة أشياء تعدل شيئين، فنجبر ونقابل؛ فتصير الأمة في معادلة خمسة أشياء، فنقلب الاسم، فنقول: الأمة خمسة، والشيء واحد، وهو خمسها، فيعتق خمسها، والمسألة سديدة على الامتحان. 7129 - مسألة: للرجل أن يخالع امرأته في مرض الموت على أقلّ من مهر مثلها؛ إذْ له أن يطلقها بلا عوض، وهل للمرأة أن تتزوج في مرض موتها بأقلّ من مهر مثلها؟ فيه اختلاف مشهور، والذي نرى التفريعَ عليه الآن [أن] (2) للمرأة في مرضها ذلك (3)؛ فإن البُضع لا يبقى للورثة بعد الموت، فليس [موروثاً، ولكن] (4) ليس للمريض أن يزيد المرأةَ على مهر مثلها، وليس للمرأة أن تخالع نفسَها بأكثرَ من مهر المثل، وأيهما زاد على مهر المثل، كانت الزيادة منه محاباة. 7130 - فإذا ثبتت هذه المقدمة فلو اختلعت المرأة نفسها في مرض موتها بمائة درهم، ومهرُ مثلها خمسون، ولا مال لهما غيرُه، ولم يُجز الورثة، فللزوج مهرُ مثلها خمسون درهماً من رأس المال، وله ثلث الباقي: ستة عشر درهماً وثلثان، [بالمحاباة] (5)، ولورثتها ثلاثة وثلاثون وثلث، فإن كان عليها عشرون درهماً ديناً، أخرجنا مهرَ المثل، وأخرجنا الدين يبقى للزوج ثُلثُ ما بقي بالمحاباة، ولا دورَ. 7131 - فإن اختلعت نفسها على مائةٍ ومهرُ مثلها أربعون، ثم إن الزوج عاد فتزوجها في مرضه على تلك المائة بعينها، ثم ماتا في مرضيهما، وتركت المرأة عشرةً غيرَ الصداق، ولم يترك الزوج شيئاً، فإن كان الزوج مات أولاً، بطلت محاباته للمرأة؛ لأنها ورثته، والوصية لمن يرث مردودةٌ، ويكون للزوج مهر المثل أربعون

_ (1) في الأصل: وأمثالاً ثلاثة أشياء. والمثبت تصرف منا. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) قيد الرافعي والنووي ذلك بما إذا كان الزوج ليس وارثاً (ر. فتح العزيز: 7/ 231، والروضة: 6/ 284). (4) مكان بياضٍ بالأصل. (5) في الأصل: فالمحاباة.

درهماً من رأس المال، وله شيء بالمحاباة، [فجملة] (1) تركته أربعون درهماً [وشيء، و] (2) للمرأة من ذلك بالنكاح الثاني أربعون درهماً مهر المثل من رأس المال، ولها ربع الباقي، وهو ربع شيء بالميراث، فيجتمع مع ورثتها مائة وعشرة دراهم إلا ثلاثة أرباع شيء، [تعدل شيئين] (3)، فنجبر ونقابل، فمائة وعشرة تعدل [شيئين وثلاثة أرباع] (4)، فالشيء أربعة أجزاء من أحدَ عشر جزءاً من [الدراهم] (5)، وذلك أربعون درهماً، وهو ما جازت المحاباة فيه، فيأخذ الزوج مهرَ المثل أربعين درهماً من رأس المال، وأربعين بالمحاباة، فذلك ثمانون درهماً، للمرأة من ذلك أربعون درهماً بمهر المثل في العقد الثاني، ولها ربع الباقي بالميراث، فيجتمع مع ورثتها ثمانون (6) درهماً ضعف محاباتها، ومع ورثة الزوج ثلاثون، ولم يكن من قِبله محاباةٌ صحيحة. فإن ماتت المرأة قبل الزوج، ولم يترك غير المائة، بطلت محاباتها للزوج، وبطلت محاباة الزوج أيضاً؛ لأنه إنما أصدقها المائة بعينها، ولم يكن يملك منها إلا قدرَ مهر مثلها، فكأنه أصدقها ما يملك وما لا يملك. فقد نقول: في قولٍ يبطل المهر المسمّى ويرجع [الحكم] (7) إلى مهر المثل، فيجب لكل واحد منهما على صاحبه مهرُ المثل، ويتقاصان ذلك، ثم يرث الزوج نصف المائة عنها، فتكون لورثته. 7132 - وإن كان أصدقها في ذمته، فإنه يصح لها المحاباة، وحسابه أن المبلغ يصح في مهر المثل وهو أربعون درهماً، ولا [محاباة] (8) للزوج، ويرجع إلى المرأة

_ (1) في الأصل: بجملة. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: شيء وثلاثة أرباع. (5) في الأصل: "الدرهم". (6) ثمانون درهماً: ثلاثون كانت بأيديهم بعد استحقاق الزوج، وأربعون مهر العقد الثاني، وعشرة ربع الباقي ميراثاً. (7) في الأصل: الحاكم. (8) في الأصل: ولا محالة.

بصداقها [أربعون] (1)، ولها شيء بالمحاباة في ذمة الزوج، فتكون تركتها مائة درهم وشيء، يرث الزوج نصفها، وهو خمسون درهماً ونصفُ شيء، يخرج من ذلك ما عليه للمرأة بالمحاباة، وذلك شيء، يبقى لورثة الزوج خمسون درهماً إلا نصفَ شيء، يعدل شيئين. فإذا جبرنا وقابلنا، فالشيء خُمسا الخمسين، وهو [عشرون] (2) فهي [المحاباة] (3) الجائزة، فلها بالمحاباة [عشرون] (4)، ويجب للزوج عليها مهر مثلها، ولها أيضاً عليه مهر مثلها بالنكاح [الثاني] (5) فيتقاصان، ويفضل لها عليه عشرون درهماً، وهي المحاباة، فتكون تركتها مع العشرين التي على الزوج مائة وعشرين، يرث الزوج نصفها [ستين] (6)، فيسقط عن الزوج ما عليه للمرأة وهو عشرون احتساباً من حصته على ما تقدم في العين والدين، فيبقى لورثته أربعون درهماً، ضعفُ محاباته. 7133 - ولو تزوجها في مرضه على [مائة] (7) ومهر مثلها خمسون، ودخل بها، ثم اختلعت نفسها في المرض على مائة، ولا مال لها غيره ولا نأمن من مرضيهما، ولم يُجز الورثة. فحساب المسألة أن نقول: للمرأة خمسون وشيء، للزوج منها خمسون درهماً مهر المثل من رأس المال، وله ثلث الشيء بالمحاباة، ولورثتها ثلثا شيء، ولورثة الزوج باقي المائة، وهو مائة إلا ثلثي شيء، تعدل شيئين، فبعد الجبر [والمقابلة] (8) يكون مائة تعدل شيئين وثلثي شيء، فالشيء ثلاثة أثمان المائة، وهو [المحاباة الجائزة] (9) للمرأة تأخذها مع مهر المثل، ومبلغ الجميع سبعة وثمانون درهماً

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: العشرون. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة من المحقق. (5) زيادة لتوضيح المعنى. (6) في الأصل: شيئين. (7) مكان بياض بالأصل. (8) سقطت من الأصل. (9) في الأصل: الجائزة للمحاباة.

ونصف، ثم يأخذ الزوج من ذلك مهرَ المثل: خمسين درهماً، ويأخذ ثلثَ الباقي بالمحاباة، وذلك اثنا عشر درهماً ونصف، ويبقى للورثة خمسة وعشرون درهماً، ولورثة الزوج خمسة وسبعون. والدور في هذه المسألة إنما يقع في فريضة الزوج؛ لأنه خرج منه شيء ورجع إليه بعضُه، فزادت تركتُه، وزاد لأجل ذلك ما استحق عليه، ولا دور في فريضة المرأة؛ لأنه لم يعد إليها شيء مما خرج منها. فإن تركت المرأة شيئاً غيرَ الصداق، فقد يتجه من طريق التقدير مسلكٌ يُغني عن الجبر، فنقول: يضم ثلث تركتها إلى المائة التي تركها الزوج، ثم نأخذ ثلاثة أثمان ذلك، كما ذكرنا في المسألة، فما كان، فهو مقدار المحاباة. ولا فرق في هذه المسألة بين أن يموت الزوج قبل المرأة، أو المرأة قبل الزوج، لأنهما لا يتوارثان، وأيهما صحّ من مرضه، صحت محاباته كلها. 7134 - مسألة: إذا أصدق الرجل امرأته صداقاً صحيحاً، ثم إنها اختلعت نفسها بالصداق قبل المسيس، فهذه مسألة منعوتة في كتاب الخلع، [وتتعلّق بأصولٍ] (1) منها أقوال [تفريق] (2) الصفقة، والحصر والشيوع، والقول في أن ما يفسد من الصداق يرجع إلى بدله أو إلى مهر المثل، ونحن نريد أن نفرّع هذه المسألة في [فرضٍ] (3) حسابي، فالوجه تفريعها على أصح الأقوال وأظهر الأصول و [الأليق] (4) بما نحن فيه. فالأصح قول الشيوع، وأن الرجوع إلى مهر المثل في القدر الفاسد من الصداق، واللائق بالأصل الذي نفرعه أن لا يبطل بالتفريق؛ فإن دوائر المحاباة مفرعة على أن التفريق لا يُبطل التصرف فيما صح إفراده. هذا القدر كافٍ في فقه هذه المسألة، ومن أرادها مشروحةً في فقهها، فسيراها مشروحة في كتاب الخلع، إن شاء الله عز وجل، فنقول:

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل، قدرناه على ضوء السياق والمعنى. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: غرض. (4) تقدير منا مكان بياضٍ بالأصل.

7135 - إذا أصدق الرجل امرأةً مائة درهم، ومهرُ مثلها خمسون، وقد جرى العقد في المرض، ثم إنها اختلعت نفسَها بالصداق قبل المسيس والدخول، فالخلع قبل المسيس يتضمن [تشطير] (1) الصداق، فنعلم على الجملة أن المحاباة يخرج تمامها [من] (2) الأصل، بسبب أنا إذا قدرنا ثبوت المائة صداقاً، ثم يرجع نصف المائة [بالتشطير، فيقع نصفها] (3) عوضاً، فيحصل لورثة الزوج مائة لا محالة، والمحاباة خمسون (4). 7136 - ولو كان مهر مثلها اثنا عشر درهماً، وقد أصدقها الزوج المريض مائة درهم، ثم إنها اختلعت نفسها في المرض بصداقها، وذلك قبل المسيس، فحساب المسألة بالجبر أن نقول: للمرأة نصفُ مهر مثلها من رأس مال الزوج، وهو ستةُ دراهم، ولها شيء بالمحاباة، وإنما أثبتنا النصفَ لأنه لا فائدة في إثبات تمام المهر أولاً وإسقاطِ نصفه آخراً، فيثبت لها النصف في العمل، وإذا لم نقدم كمال المهر، عبَّرنا عما يسلم لها بالمحاباة بشيء؛ إذ لو قدرنا المهر كاملاً، لقلنا: لها اثنا عشر، والمحاباة شيء، ثم نُسقط نصفَ شيء، وهذا مزيد عملٍ، لا يُحتاج إليه، وشرط العمل بالجبر أن نفتتحه من موضعِ الخاجة. وإن قدرتَ اثني عشر درهماً وشيئاً، ثم شطّرته، لم تخرج المسألةُ سديدةً. فخذ نصف المهر، وعبّر عما يسلم لها بالمحاباة بشيء، وصاحب الجبر يعبّر عن المجهول الأول بالشيء، وإن كان نقصاً في حساب من يقدّره، ولهذا قلنا في مسائل الإقرار: إذا [أقرّ رجلان] (5) وقال كل واحد منهما: لفلان عليّ عشرة وربع ما على صاحبه. فإذا افتتحنا العمل، قلنا: على أحدهما عشرة وشيء، كذلك هاهنا نقول: للمرأة نصف مهر المثل ستة من رأس المال، ولها شيء بالمحاباة، فجميع تركتها ستةُ

_ (1) في الأصل: شطر. (2) في الأصل: في. (3) عبارة الأصل: "بالشطر يرق نصفها". (4) خالف في حساب هذه المسألة الأستاذ أبو منصور (راجع إن شئت، فتح العزيز: 7/ 232). (5) في الأصل: إذا أشهد رجل.

دراهم وشيء، للزوج من ذلك مهرُ المثل اثنا عشر درهماً، نعني مقدارَ مهر المثل؛ فإنا لم نفسد المخالعة، وإنما ذكرنا هذا حتى لا يظن ظانٌّ أنا نفرع على إفساد بدل الخلع، والرجوع إلى مهر المثل؛ فإنا لو فعلنا هذا، لسقطت المحاباة في المخالعة، وليست ساقطةً، كما ذكرنا أنه سيأتي، إن شاء الله تعالى. لكنا ذكرنا مهرَ المثل لأن هذا المقدار مستحقٌّ لا محاباة فيه، فهو محسوب من رأس تركتها، فإذا أخذنا اثني عشر درهماً من ستةٍ وشيء، فقد أخذنا الستة وستة من الشيء، يبقى معها شيء إلا ستةَ دراهم. ثم نقول: للزوج من ذلك ثُلثُه؛ فإن المحاباة في ثلث ما بقي بعد الدين صحيحة، وذلك إذاً ثُلثُ شيءٍ إلا درهمين؛ فإن جزء الشيء يأخذ حصته من الاستثناء، وإنما [أخرجنا حصتها ولم] (1) نصحح من الاستثناء؛ فإنه لا دور في جانبها؛ إذْ لا يعود إليها شيء، والدور إنما يأتي إذا كان يعود شيء إلى جنب تخريج (2) ووقع [الدور] (3) في جانب الرجوع عن المحاباة شيء لأن جا [نب الزوج] (4) يعود إليه بالخلع ما يخرج [بالإصداق] (5)، فإذاً لورثة المرأة ثلثا شيء إلا أربعة دراهم، ويحصل لورثة الزوج باقي المائة، وهو مائة وأربعة دراهم إلا ثلثي شيء. هكذا يخرج الحساب إذا جمعت ووافقت (6) الدراهم والاستثناء، والشيء الحاصل في [يد] (7) ورثة الزوج يعدل ضعف المحاباة، وهو شيئان، فإذا جبرناهما من الجانبين، صارت مائة وأربعة تعدل شيئين [وثلثي] (8) شيء؛ فالشيء ثلاثة أثمان مائة وأربعة، وهو تسعة وثلاثون درهماً، وهي الجائزة بالمحاباة لها في الإصداق.

_ (1) في الأصل: خرجنا ثم نصحح. (2) كذا. ولعل في الكلام سقطاً تقديره: إلى جنب تخريج المستحق. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) مكان بياضٍ بالأصل. (5) في الأصل: الإصداق. (6) الواو زيادة من المحقق. (7) زيادة من المحقق. (8) في الأصل: وثلث.

فإذا امتحنت المسألة، صحت على الامتحان، فإنك تقول: المسمى صداقاً [قد سلم للمرأة منه] (1) ستة دراهم وشيء، وبان أن الشيء تسعةٌ وثلاثون، فالمجموع خمسة وأربعون، ثم لما اختلعت سلّمت إلى الزوج مما معها اثني عشر، فيبقى ثلاثةٌ وثلاثون، فنسلّم إلى الزوج ثُلثَ هذا الباقي وهو أحدَ عشرَ، فمجموع المأخوذ من [المرأة] (2) ثلاثة وعشرون، فنضمها إلى ما كان بقي للزوج من المائة، وهو خمسة وخمسون، فيصير المجموع [ثمانية وسبعين] (3) وهذا ضعف المحاباة؛ إذ كانت المحاباة تسعةً وثلاثين. ونقول في جانب المرأة: أخذنا من الباقي وهو ثلاثة وثلاثون [الثلث] (4)، فاستمر حساب التثليث والمحاباة. هذا ما ذكره الأستاذ [أبو منصور] (5) [وهذا] (6) طريقه في تقدير النسبة؛ وذلك أنه قال: ننظر إلى مهر المثل، فإذا هو اثنا عشر درهماً، فنأخذ ثلثه، ونضمه إلى المائة، فيكون المجموع مائة وأربعة، فنأخذ ثلاثة أثمان هذا المبلغ، وهي تسعة وثلاثون، فهي المحاباة المنفذة للمرأة في رأس المال، [فلها] (7) نصف مهر المثل وتسعةٌ وثلاثون درهماً بالمحاباة، وذلك خمسة وأربعون، فما بلغ خرج بالجبر. هذا منتهى كلام الأستاذ أبي منصور رضي الله عنه. 7137 - وفي وضع المسألة زَلَلٌ واضح، وافتتاح القول وبيانه أن حق [مسلك الجبر في] (8) مثل هذه المسألة أن نبيّن بالمعادلات [مبلغَ المحاباة] (9) الأولى،

_ (1) عبارة الأصل: وقد سلم منها. (2) في الأصل: المراد. (3) في الأصل: ثمانية وتسعين. (4) في الأصل: وثلث. (5) مكان بياضٍ بالأصل. (6) في الأصل: في هذا طريقه. (7) زيادة اقتضاها السياق. (8) في الأصل: "المسلك الجبر وفي". (9) في الأصل: تبلغ بالمحاباة.

[ونفرِّعها] (1) نصفاً مما تبقى في يد الورثة، ثم يقع التصرفُ بعدُ، [وهذا] (2) المسلك الذي ذكرته [يؤدي] (3) إلى هذا؛ فإنه أبان فيما زعم مقدار ما يسلّم للمرأة بعد تقدير التشطّر. والقول الجامع في هذا تقسيمٌ لا دفع له، وهو أن نقول: إن كان الشيء الذي أبهمه في وضع المسألة جميع المحاباة في عقد الإصداق، فينبغي أن يرجع نصفُه بحق الشطر إلى الزوج، وليس في عملنا ذلك، فإن كان ما سلم لها شطر المحاباة، فينبغي أن يكون ضعفُ هذا القدر كلَّ المحاباة، ثم يجب أن ينتظم على حسب هذا تعديلُ الثلث والثلثين، فإذا كانت المحاباة ثمانيةً وسبعين، لم يتسق في حسابٍ [تقرير] (4) ضعف ذلك في يد الورثة، فالمسألة محتملة فاسدة الوضع. 7138 - والوجه في افتتاح عملنا أن نقول: لما أصدقها المائة، ومهرُ مثلها اثنا عشر، فلها مهر مثلها بعد الإصداق، ولها شيء بالمحاباة، فيبقى في يد الزوج ثمانية وثمانون [إلا] (5) شيئاً، ثم يرجع نصفُ الصداق [بالخلع] (6) أو بالطلاق قبل المسيس إلى الزوج، وذلك ستة دراهم ونصفُ شيء، فيجتمع للزوج أربعةٌ وتسعون إلا نصفَ شيء، فإنه كان معنا استثناء الشيء، فلما ضممنا إليه نصفَ شيء، عاد الاستثناءإلى نصف شيء. ثم نقول: يأخذ الزوج بحق العوض مما في يدها مهرَ مثلها، وفي يدها ستةٌ ونصف شيء، فيأخذ الستة وستةً أخرى من نصف شيء، فيبقى في يدها نصف شيء إلا ستة دراهم، وللزوج مما في يدها بعد أداء الدين ثُلُثُه، وهو سدس شيء إلا درهمين، فنضم الاثني عشر وثلثَ المحاباة إلى ما كان تجمع في يد الزوج، فتبلغ الدراهم أولاً مائةً وستة، ثم نضم سدس شيء فيه استثناء درهمين، فينقص درهمين من

_ (1) في الأصل: وفرعها. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: تقدير. (5) زيادة لا يستقيم الحساب إلا بها. (6) زيادة من المحقق.

الدراهم [ومن نصف] (1) شيء سدس، فيضم الآن إلى حساب الشيء، وقد كان معنا استثناء نصف شيء، فيعود الاستثناء إلى ثلث شيء، فالحاصل مائة وأربعةٌ إلا ثلثَ شيء. وهذا الآن يعدل ضعف المحاباة الأولى، وهي شيء، [وضعفها] (2) شيئان، فنجبر ونقابل، فتصير مائة وأربعة في معادلة شيئين وثلثَ [شيء] (3)، فنبسط الأشياء أثلاثاً، فتصير سبعة، ونكتفي بهذا القدر من البسط، فنعلم أن الشيء ثلاثة أسباع المائة والأربعة [وثلاثة] (4) أسباعها أربعةٌ وأربعون وأربعةُ أسباع. هذا قيمة الشيء. ونعود فنقول: تأخذ المرأة أولاً من المائة اثني عشر: مهرَ مثلها من رأس المال، وتأخذ بالمحاباة أربعةً وأربعين وأربعةَ أسباع، والمجموع ستةٌ وخمسون وأربعةُ أسباع، ثم يسقط نصف ذلك بالتشطير، وهو ثمانية وعشرون وسبعان، فنضمه إلى ما كان بقي مع الزوج، ونقول بعده: يأخذ الزوج مما بقي في يد الزوجة اثني عشر: مهرَ مثلها من رأس المال، فيبقى ستةَ عشرَ وسبعان، ويأخذ أيضاً ثُلثَ ذلك، وهو خمسة وثلاثة أسباع، ومجموع هذا سبعةَ عشرَ وثلاثة أسباع، فنضم هذا أيضاً مع الشطر الذي قدمناه إلى ما كان بقي من المسألة، فيصير المبلغ [تسعةً وثمانين] (5) وسُبع، وقد صحت المسألة معدّلةً. والامتحان فيها أن الشيء الذي كان فيها محاباة خرج بالعمل أنه أربعةٌ وأربعون وأربعةُ أسباع، وهذا مثل نصف التسعة والثمانين [والسبع] (6) الذي سلم لورثة الزوج بحساب الشطر، والعوض [المؤلف من] (7) مهر المثل وثلث المحاباة بعده. ولا يكاد يخفى أن مقدار التبرع من عوض الخلع مثلُ نصف ما تبقى في يدها وذاك (8) لا عوض منه؛ فإنا أخذنا ثلثاً، ولا دور في جانبها، فلاح بمجموع ما ذكرناه

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة هكذا: فبكل. (انظر صورتها). (2) في الأصل: وضعف. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: وثلث. (5) في الأصل: سبعة وثمانين. (6) في الأصل: والتسع. (7) مكان كلمتين، الأولى غير مقروءة، والثانية (أن). (انظر صورتها). (8) في الأصل: بدون الواو.

الحقُّ الذي لا إشكال فيه، واتضح وجهُ الخطأ فيما ذكره الأستاذ. وإن أراد الناظر أن يُبيّن تفاوتَ ما أدى إليه المسلكان، قلنا له: الذي سلمه الأستاذ إليها من المحاباة تسعة وثلاثون، والذي سلم لها بما رأيناه اثنان وعشرون وسبعان. 7139 - مسألة: إذا تزوج المريض امرأة على صداق مائة درهم، ومهرُ مثلها عشرةُ دراهم، ثم ماتت المرأة قبله، وخلّفت عشرةَ دراهم سوى الصداق، فأوصت بثلث مالها، ثم مات الرجل. فحساب المسألة أن نقول: جاز للمرأة عشرةُ دراهم بمهر مثلها، ولها بالمحاباة في المهر شيء، ومعها من التركة عشرة دراهم، فجميع ما لَها عشرون درهماً وشيء، للموصى له ثُلثُها، وذلك ستة دراهم وثلثان وثلث شيء، وكان الباقي معه تسعون درهماً إلا شيئاً، ثم إنه [يرجع إليه بالميراث] (1) نصفُ ما بقي معها بعد الوصية، وهو ستة وثلثان وثلث شيء، فالجميع ستة وتسعون درهماً وثلثان إلا ثلثَ شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون ستة وتسعون درهماً وثلثان يعدل شيئين وثلثَ شيء، فنبسطهما أثلاثاً، فيصير العدد مائتين وتسعين والأشياءُ ثمانيةً، نقسم العدد على الأشياء، فتخرج ستةٌ وثلاثون درهماً وربع، فهذا قدر المحاباة، ولها عشرةُ دراهم بمهر المئل، فجميع [ما لَها] (2) ستة وأربعون درهماً وربع، وبقي مع الزوج ثلاثة وخمسون درهماً وثلاثةُ أرباع درهم، وقد أخذت المرأة ستةً وأربعين درهماً وربعَ درهم، وكان معها عشرةُ دراهم، فجميع مالِها ستةٌ وخمسون وربع، للموصى له ثلثها، وهو ثمانيةَ عشرَ وثلاثة أرباع درهم يبقى معها سبعة وثلاثون درهماً [ونصف] (3)، للزوج بالميراث نصفها، وهو ثمانيةُ عشرَ وثلاثةُ أرباع، فنزيدها على ما كان قد بقي معه، وذلك ثلاثةٌ وخمسون وثلاثةُ أرباع، فيجتمع مع ورثة الزوج اثنان وسبعون درهماً ونصف، وذلك ضعف محاباته التي هي ستة وثلاثون وربع. ...

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: "مهرها". (3) زيادة من المحقق، لا يستقيم الحساب بدونها.

القول في مسائل دائرة في الجنايات والعفو وما يتعلق بها

القول في مسائل دائرة في الجنايات والعفو وما يتعلق بها 7140 - مسألة: إذا جنى عبدٌ قيمته خمسةُ آلافٍ على حرٍّ، ورأينا تقويم [الأروش] (1)، فبلغت قيمتُها عشرةَ آلاف، وكانت الجناية خطأً، وانتهى المجروح إلى مرض الموت، فعفا المجنيُّ عليه عن العبد، وكان لا يملك شيئاً، فالعفو ينصرف إلى السيد وهو المعنيُّ به، فلا (2) يدخل في الوصية للقاتل. ثم إن للسيد تسليم العبد، فلا دور، فيصح العفو عن الثلث. فإن قيل: هلاّ قلتم: نزل العفو على ثلث الدية، ثم إذا سلّم العبد، فرقبته تتعلّق بثلثي الدية، فلا يستفيد السيد بالعفو على [هذا] (3) التقدير شيئاً؟ قلنا: الغرض من هذا ومن تحقيق المسألة يستدعي تقديم أصلٍ، وهو أن العبد إذا جنى جنايةً، فإنه يتعلق أرشها بالرقبة -وكان الأرش مثلَ قيمة الرقبة، حتى لا نقع في اختلاف الأقوال فيما [يُفتدَى] (4) العبد به- فلو أبرأ المجنيُّ عليه [العبدَ] (5) عن ثلث حقّه، فظاهر المذهب وما أشعر به كلام الأئمة أنه تنفك ثلث الرقبة عن تعلّق الأرش، وليس ذلك كتعلق الدين بالرهن؛ فإن مستحق الدين لو استوفى معظمَ الدين إذا برأ عنه [المدين] (6)، فالمرهون يبقى موثقاً ببقية الدين، لا ينفك من ذلك شيء، والفرق أن وثيقةَ الرهن أُثبتت في الشرع لتوثيق كلِّ جزء من الدين بجميع الرهن، وتعلّقُ الأرش بالرقبة ليس في معنى وثيقةٍ على الحقيقة، وإنما حق مالية في رقبة العبد، وآية ذلك أنه ليس في ذمة السيد من الأرش شيء، فكان تعلّق الحق بملكه انبساطَ حق مالية

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: ولا. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: يتعدى. (5) زيادة من المحقق. (6) زيادة لإيضاح المعنى.

على الرقبة، وهذا يقتضي التقسيطَ، وعلى هذا لو أبرأ السيدَ [عن] (1) بعض الأرش، لزم منه انفكاكُ قدرٍ من الرقبة عن التعلّق به، صرح الأستاذ -فيما حكاه- بهذا. وغالب ظنِّي أن من جعل تعلّق الأرش بالرقبة بمثابة تعلق الدين بالرهن. وهذا -إن كان، فخروجه- على قولنا: إن الأرش يتعلق بذمة العبد [ولا يتعلق] (2) برقبته، فقد يضاهي من هذا الوجه المرهونَ، وتعلّق الدين (3) به. 7141 - فإذا تمهد ما ذكرناه، قلنا: إذا سلّم مالك العبد العبدَ وقد ثبت إبراؤه، فالذي رأيناه للأصحاب وأهل الحساب أن إبراء المبرىء ينزل على ثلث الرقبة، ويسقط ارتباطُ حق الجناية به، وكذلك إذا أراد السيد أن يفديَه، وقلنا: إنه يفديه بأقلّ الأمرين، وكانت القيمة أقلَّ أو كانت مثل الأرش، فلا دور، والعفو نازلٌ على تخليص ثلث الرقبة، والسبب فيه أنه لا تعلّق لورثة المجني عليه المتوفَّى إلا هذا العبد، فلو لم يكن عفوٌ، لم نجد متعلَّقاً غيره، فإذا جرى العفو، [نزل] (4) على ثلث [العبد] (5). يخرج ممّا ذكرناه أنه إذا سلّم العبدَ ليباع، لم تَدُر المسألة، وحُكم بسقوط الحق عن ثلث رقبته. فإن أراد أن يفديَه، وقلنا: إنه يفديه بالأقل، فهو كما لو سلّمه، فلا تدور المسألة. وإن فرعنا على أن السيد يفدي عبده بالأرش بالغاً ما بلغ، والأرش عشرة [آلاف] (6) وقيمة العبد خمسة آلاف، والتفريع على الوجه المشهور، المعتد به، وهو

_ (1) زيادة من المحقق. (2) مكان بياض قدر كلمتين. (3) الصحيح في المذهب الوجه الأول. (ر. فتح العزيز: 7/ 233، والروضة: 6/ 286). (4) في الأصل: يدل. (5) في الأصل: التعلق. (6) في الأصل: ألف.

أنا نفك عن الرقبة بقسط [الأرش] (1)، فالمسألة تدور. 7142 - وحسابها أن نقول: صح [العفو] (2) في شيء من العبد، وبطل في عبدٍ إلا شيئاً، يفديه صاحبه، فضعِّفه؛ لأن الدية ضعف القيمة، فنقول يفديه بعبدين إلا [شيئين] (3)، فيحصل مع [ورثة] (4) العافي عبدان إلا [شيئين] (5) يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيثبت عبدان في معادلة أربعة أشياء، ونقلب الاسم، فنقول: العبد أربعة، والشيء اثنان، والاثنان من الأربعة نصفها، فصحّ [العفو] (6) في نصف العبد وانفك، ويأخذ ورثة المقتول نصفَ الدية وهو خمسة آلاف (7)، والمنفك من العبد ألفان وخَمسُمائة، [فاعتدل] (8) الثلث والثلثان. ولو فككْنا العبدَ وغرّمنا السيدَ ثلثي الدية، لكان ما تبقى لورثة العافي أكثرَ مما جرى العفو فيه. فهذا بيان الدور وسبيله. 7143 - ولو كانت قيمة العبد ألف درهم والدية عشرة آلاف وقد جرى العفو كما صورنا، فالوجه أن نقول: صح [العفو] (9) في شيء وبطل في عبد إلا شيئاً، وفدى السيدُ باقيَه، وهو عبدٌ إلا شيئاً بعشرة أمثاله؛ لأن الدية عشرةُ أمثال القيمة، فيكون عشرة أعبد إلا عشرة أشياء تعدل شيئين، فبعد الجبر وقلب الاسم يصير العبد اثني عشر، والشيء عشرة، وهو خمسة أسداس الاثني عشر، فيصح العفو في خمسة أسداس العبد، ويفدي السيد سدسه بسدس الدية، وهو ألف وستُّمائة وستة وستون

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: العقد. (3) في الأصل: شيء. (4) في الأصل: الورثة. (5) في الأصل: شيء. (6) في الأصل: العبد. (7) في الأصل: ألف. والمنصوص عليه فيما رأيناه من كتب النحو أن الأعداد من 3 - 10 لا تضاف إلا إلى جمع. (انظر ابن عقيل). (8) في الأصل: فاعدل. (9) في الأصل: العبد.

وثلثان، وهي ضعف الأسداس التي يصحّ فيها العفو. وإن قلنا: إن الفداء يقع بأقلِّ الأمرين برىء ثلث العبد، وفدى [ثلثيه] (1) بثلثي قيمته، ولم يكن في المسألة دَورٌ. 7144 - ولو كانت قيمة العبد عشرة آلاف والدية [ثلاثة] (2) آلاف، [فإن] (3) اختار تسليمَ العبد، سلّم ثلثي العبد ليباع، وصح العفو في ثلثه. وإن اختار الفداء، فإن قلنا: يلزمه أن يفديه بأقل الأمرين، لزمه أن يفديَ ثلثيه بثلثي قيمته. وإن قلنا: الفداء يقع بالدية بكمالها، فحساب المسألة أن نقول: صح العفو في شيء من العبد، والسيد يفدي الباقي، وهو عبدٌ إلا شيئاَّ بَثلاثة أمثاله ومثلِ ثُلثه؛ فإن نسبة الدية كذلك تقع. ولكن لا بد من الاستثناء ليقع التضعيف، فيفدي عبداً إلا شيئاً بثلاثة أعبد إلا ثلاثة أشياء وثلث شيء، وذلك يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يعدل ثلاثة أعبد وثلثُ عبدٍ خمسةَ أشياء وثلثَ شيء، فنبسطهما أثلاثاً، ونقلب الاسم؛ فيكون العبد ستةَ عشرَ، والشيءُ عشرةً، وهو خمسة أثمانها، فيصح العفو في خمسة أثمان العبد، ويفدي ثلاثةَ أثمانه بثلاثة أثمان الدية، فما يبذله في الفداء مثل ثلاثة أثمان قيمة [الدية] (4)، وهو ضعف خمسة أثمان [العبد] (5). 7145 - ولو كانت قيمة العبد ستةَ آلاف واختار الفداء [وقلنا] (6) الفداء يقع بالدية؛

_ (1) في الأصل: ثلث. (2) في الأصل: عشرة آلاف. وقد أرهقنا هذا الخطأ الإرهاق كله، فظللنا نقلب امتحان المسألة على الأَوْجه الحسابية يوماً كاملاً ليل نهار، ولم تصح. فأخذنا نراجع العمل في إجراء المسألهَ، فنجده سليماً صحيحاً، وأخيراً هدانا الله إلى أن الخلل في وضع المسألة. وهذا نموذج واحد من آلاف النماذج لمعاناة التصحيح عن نسخةٍ وحيدة. والله وحده المستعان الموفق. (3) في الأصل: وإن. (4) في الأصل: قيمة ثلث وثلث. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: أو قله (انظر صورتها).

فإن العفو يصح في شيء منه، ويفدي باقيه، وهو عبد إلا شيئاً بمثله ومثل [ثلثيه] (1) لأن الديةَ مثلُ القيمة، ومثلُ ثلثيها، فيحصل مع ورثة العافي عبدٌ وثلثا عبدٍ إلا شيئاً وثلثي شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر [والمقابلة يكون] (2) عبد وثلثا عبد يعدل ثلاثة أشياء وثلثي شيء، فنبسطهما أثلاثاً، ونقلب الاسم، فيكون العبدُ أحدَ عشرَ والشيء خمسةً، فيصح العفو في خمسة أجزاء من أحد عشر جزءاً من العبد، ويبطل في ستة أجزاء [منه] (3)، ويفدي السيد الأجزاء بمثلها، ومثل ثلثيها، وذلك عشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً [من العبد] (4)، وهي ضعف ما جاز العفو فيه. وإن كانت قيمة العبد أحد عشر ألفاً والدية عشرة، فلا دَوْرَ، فإن المسألة إنما تدور إذا زاد الأرش على مبلغ القيمة، على قولنا يقع الفداء بالأرش بالغاً ما بلغ، فإن اختار سيدُ العبد الفداء، [فدى] (5) ثلثيه بثلثي الدية، وصح العفو في ثلث الرقبة. وإن اختار البيع، [سَلّمَ ثُلثيه فيباع منه] (6) بقدر ثلثي الدية. 7146 - مسألة: إذا جرت جنايةُ العبد والعفُو عنه، كما صورنا، وكان للعافي تركة، وكانت القيمة أقلَّ من الدية، فترك السيد ضعفَ القيمة، جاز العفو في جميعه، لأن السيد لو اختار التسليم، لم يكن للورثة غيرُ قيمته. وإن ترك أقلَّ من ضعف قيمته، ضممنا تركتَه إلى قيمة العبد، [وحصل لسيد] (7) العبد ثُلث هذه الجملة، [فبرأ ذلك المقدار من العبد] (8). 7147 - وإن كانت القيمةُ أكثرَ من الدية، فاجمع الدية والتركة وقل: للسيد ثلثُ ذلك من العبد.

_ (1) في الأصل: ثلثه. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: فيه. (4) زيادة من المحقق. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: "وإن اختار البيع (فيباع سلم ثلثه أسباع فيه) بقدر ثلثي الدية". (7) في الأصل: وجعل السيد العبد. (8) عبارة الأصل: من العبد فبرأ ذلك المقدار.

المثال: إذا كانت قيمة العبد ثلاثين ألفاً، وتركةُ المقتول خمسة آلاف درهم، وقد عفا عنه، ضممنا تركتَه إلى ديته، والدّية كانت عشرة آلاف، [بقدر] (1) تقويم الإبل، فنضم التركة وهي خمسةُ آلاف إلى الدية وهي عشرة آلاف، فيكون خمسةَ عشرَ ألفاً، وإنما قدرنا هذا التقديرَ لأنه لا يستحق في رقبة العبد أكثر من الدية، [فيحصل لسيد] (2) العبدِ ثلث ذلك، وهو خمسة آلاف، وذلك نصف الدية [فيبرأ] (3) نصف العبد من نصف الدية، ويفدي السيد نصفَه بنصف الدية، أو يسلِّم نصفَه ليباع منه بمقدار نصف الدية، فيجتمع مع ورثة العافي عشرةُ آلاف، وهو ضعف ما جاز العفو فيه. 7148 - وإن ترك العافي عشرين ألفاً وقيمة ديته عشرة آلاف، جاز العفو في جميعه؛ لأنه خلّف لورثته ضعف ديته، وليس له في رقبته إلا مقدار الدية، فإذا عفا من الرقبة، فقد خلّف [مثلي] (4) الدية، وخرج (5) التبرع. 7149 - وإن كانت قيمته عشرة آلاف والدية مثلها، وترك العافي ألفَ درهم، فنضم الألف إلى عشرة الآلاف، فيكون المجموع أحدَ عشرَ ألفاً للسيد ثلثُها، وذلك ثلاثة آلاف وثلثا ألف، وهو ثلث العبد وثُلثُ عُشْرِ عبد، فيأخذ ورثة العافي الباقي من العبد، فيضيفونه إلى التركة، فيكون ضعفَ ما جاز العفو فيه. 7150 - فإن كانت قيمتُه [ألفاً] (6) والتركةُ ألفٌ، والديةُ عشرة آلاف، فإن اختار السيدُ التسليم، ضممنا التركة إلى القيمة، فيكون ألفي درهم، لسيد العبد ثلثها، وهو ستمائة وستة وستون وثلثان، فذلك مثل ثلثي العبد، فصح العفو في ثلثيه، ويسلّم ثُلثَه ليباع، فيحصل معهم ألفٌ وثلثُ ألف، وذلك ضعف ما جاز العفو فيه.

_ (1) في الأصل: فنقدر. (2) في الأصل: فيجعل السيد. (3) في الأصل: فذلك. (4) في الأصل: مثل. (5) في الأصل: خرج (بدون واو). (6) ساقطة من الأصل. وأثبتناها أخذاً من سياق المسألة.

وكذلك إن اختار الفداء، وقلنا: الفداء يقع بأقل الأمرين من الدية والقيمة. وإن قلنا: الفداء يكون بالدية، فإنا نقول: صح العفو في شيء من العبد، ويفدي السيد باقيه بعشرة أمثاله، وذلك عشرة آلاف إلا عشرةَ أشياء، فنضمها إلى التركة، فيكون أحد عشر ألفاً إلا عشرةَ أشياء؛ فإن ألف التركة لا استثناء فيه، ويعدل شيئين، فبعد الجبر وقلب الاسم يكون الفداء اثني عشر والشيء أحد عشر، فيصح العفو في أحدَ عشرَ جزءاً من اثني عشر جزءاَّ مَنه، ويفدي جزءاً واحداً بعشرة أمثاله، ومع ورثته ألف درهم، وهي بالسهام اثني عشر جزءاً، فيحصل في يد ورثة العافي اثنان وعشرون جزءاً ضعف ما جاز فيه العفو. 7151 - وإن كانت قيمته خمسة آلاف والدية عشرةُ آلاف، وترك خمسة آلاف (1)، واختار سيدُ العبد التسليمَ أو الفداء، وقلنا: الفداءُ بالأقل، فلا دور. وطريق المسألة: أن نضم التركة إلى القيمة يكون عشرة آلاف، لسيد العبد منها ثلثها وذلك ثلاثة آلاف، وثلث ألف، يأخذها من عبده، وهي ثلثا العبد، ويدفع ثلثَ العبد ليباع في الجناية، أو يفديه بثلث القيمة. وإن قلنا: الفداء يقع بالدية، واختار الفداءَ، وقع الدّور، ويصح العفُو في شيء من العبد، وبطل في عبد إلا شيئاً، ويفدي الباقي [بضعفه] (2)، فيكون عبدين إلا شيئين، ومعه في التركة عبد، فيكون ثلاثة أعبد إلا شيئين، إذ لا استثناء في التركة، فإذا جبرنا وقابلنا وقلبنا الاسم، كان العبد أربعةً، والشيء ثلاثة، وهي ثلاثة أرباعها؛ فيصح العفو في ثلاثة أرباع العبد، [ويفدي] (3) ربعَه، وذلك ألفٌ ومائتان وخمسون، يفديها بضعفها، وهو ألفان وخَمسُمائة، ثم نزيد عليها تركة العافي، وهي خمسة آلاف، فيكون مع الفداء سبعة آلاف وخَمسُمائة، وهي ضعف ما جاز العفو فيه؛ لأن العفو جاز في ثلاثة أرباع العبد، قيمتها ثلاثةُ آلاف وسَبعُمائة

_ (1) في الأصل: وترك ألفاً في خمسة ألف. (2) في الأصل: لضعفه. (3) في الأصل: وتقدير.

وخمسون، وقد حصل مع ورثة العافي ضعفها. فإن كانت قيمة العبد خمسة آلاف وترك العافي عشرةَ آلاف، صح العفو في جميع العبد، لأن قيمة العبد إذا ضمت إلى التركة، صارت ثُلثاً، فهو قدرٌ مقدّر. [وإن] (1) اختار التسليم [لم] (2) يلزمه التسليم مع وفاء التركة، وإذا لم يلزم التسليم، لم يلزم الفداء؛ فإن لزوم الفداء إنما يجري إذا لزم التسليم، واختار (3) الفداء. 7152 - فإذا [لزم] (4) الفداء، فإن فرعنا على أنه حيث يفدي، يفدي بالأكثر، وهذا [تدور مسائله إن كانت القيمة أقلَّ من الدية أو أكثر منها، مثاله:] (5) فإن كانت قيمته ثلاثين ألفاً، ولم يكن للعافي تركة، ولكن كان عليه دينٌ أربعةُ آلاف درهم، فأسقط الدين من الدية وهي عشرة آلاف، يبقى منها ستة آلاف، يصح العفو في ثلثها، وهو ألفان، وذلك خُمسُ الدية، فَبَرأَ خُمس العبد من الجناية، ويفدي السيد أربعة أخماسه بأربعة أخماس الدية، وهي ثمانية آلاف، فيُقضى منها الدينُ، وهو أربعة آلاف ويبقى مع ورثة العافي أربعةُ آلاف: ضعفُ ما جاز العفو فيه. وإن اختار السيد التسليم سلّم أربعة أخماسه ليباع منها بمقدار أربعة أخماس الدية، لا دور أصلاً؛ فإنه إنما يتوقع الدور حيث يدور [عند] (6) اختيار الفداء شرطَ أن يكون الفداء أكثرَ من مقدار قيمة المفدي، والقيمة في هذه المسألة أكثر. والذي زدناه في هذه المسألة أنا حططنا مقدار الدين عن الدية أولاً، وإنما فعلنا ذلك، لأن العفو لا يجري في المستحق بالدين، وهو مقدم على الوصية، فرددنا الوصيةَ إلى ثلث ما تبقى [بعد] (7) مقدار الدين.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: ثم. (3) في الأصل: فاختار. (4) في الأصل: لم يلزم. (5) زيادة اضطررنا إليها. (6) في الأصل: عنه. (7) في الأصل: بغير.

وإن كانت القيمةُ كما ذكرنا، والدين عشرة آلاف، فصاعداً، بطل العفو أصلاً، وفداه السيد بالدية، أو سلّمه ليباع [منه] (1) بمقدار الدية، فإن الدية مستغرقةٌ بالدين، فلا يبقى للعفو والوصية محل. 7153 - فإن كانت قيمته خمسة آلاف وعليه من الدين ألفان، واختار التسليم أو الفداء -وقلنا: الفداء يقع بأقل الأمرين- فأسقط الدينَ من قيمته، تبقى ثلاثة آلاف، للسيد ثلثها بالوصية، وهو ألف، وذلك خُمس العبد، فيصح العفو في خُمسه، ويسلم أربعةَ أخماسه [للبيع] (2) أو يفديَه بأربعة أخماس قيمته، [وهي] (3) أربعة آلاف، يُقضى منها الدين وهو ألفان، يبقى لورثة العافي ألفان، وهي ضعف ما جاز فيه العفو. وإنما حطَطْنا الدينَ من مقدار القيمة، لأن الدين حقُّ الورثة لا يتعلق إلا بمقدار القيمة. وإن قلنا: الفداء يقع بالدية، دارت المسألة؛ فإن الأرش أكثرُ من القيمة، فنقول: صح العفو في شيء منه، وبقي عبدٌ إلا شيئاً، فيفدي الباقي منه بضعفه، وهو عبدان إلا شيئين يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون عبد وثلاثة أخماس عبد يعدل أربعةَ أشياء. وبيان ذلك أنا إذا انتهينا إلى معادلة عبدين إلا شيئين، نحط مقدار الدين [مما] (4) في جانب الورثة، فيبقى عبدٌ وثلاثة أخماس عبد إلا شيئين، تعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يعدل عبدٌ وثلاثة أخماسِ عبدٍ أربعةَ أشياء، فنبسطهما أخماساً ونقلب الاسم، فيكون العبد عشرين، والشيء ثمانية، فيصح العفو في [خمسي] (5) العبد،

_ (1) في الأصل: فيه. (2) في الأصل: بالبيع. (3) في الأصل: وبقي. (4) في الأصل: ما في. (5) في الأصل: خمس.

وفدى السيد باقيه وهو ثلاثة [أخماسه بضعفها] (1)، وهو ستة آلاف، فيُقضى منها الدين، وهو ألفان، يبقى مع الورثة أربعةُ آلاف. ضعفُ العفو. 7154 - مسألة: عبدٌ قيمته ألف درهم جرحَ رجلاً خطأً، فعفا عن الجناية وما يحدث منها، وأوصى لرجل بثلث ماله، ولا مال له غيرُ ما استحق من الدية. فإن كان أرشُ الجناية قدرُ الدية، كقطع [اليدين مثلاً] (2)، بطلت الوصية بالثلث؛ لأن العفو يستغرق الثلث، وهو منجَّزٌ متقدِّم. وإن كان أرشها أقلَّ من الدية كالموضحة (3) باليد [يُقدّم العفو عن] (4) الجاني في مقدار الأرش؛ فإنه منجّز، والعفو عطية في المرض ناجزة، فإن فضل من الثلث شيء، كان لصاحب الثلث. وأما العفو عما (5) يحدث، ففي إجازته خلاف مشهور، سيأتي مستقصىً في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى. 7155 - وإن كان أرشُ الجناية ربعَ الدية، فعفا عنه، وعفا عما يحدث من جنايته، وأوصى لآخر بثلث ماله، فالسيد مقدَّمٌ بربع الدية، وقد بقي نصف سدس إلى قيمة الثلث، فنقول الآن: إذا صححنا العفو عما سيحدث، وفرضنا وصيةً، ففي تقديم العفو عما سيحدث احتمالٌ ظاهر، يجوز أن يقال: العفو عما سيحدث [مقدم] (6) على الوصية، فإنّا إذا صححناه، فقد نجزناه، حتى لو أراد مُطلِقه أن يستدركه، لم يجد إلى استدراكه سبيلاً، كالهبات المنجزة في الحياة، والرجوع عن الوصية ممكن بعد الوصية، وإذا دبّر عبدَه، فحكم لفظه تنْجيزُ العتق مع الموت، ولكن لما كان ملحقاً

_ (1) في الأصل: ثلاثة ألف. (2) زيادة من المحقق. (3) الموضحة: هي الجرح الذي يبدي وَضَح العظم، وبهذا سميت موضحة. وفيها خمسٌ من الإبل (ر. روضة الطالبين: 9/ 262، وحلية الفقهاء: 196). (4) زيادة مكان بياضٍ بالأصل. (5) من أثر التشويش في ترتيب الصفحات الذي أشرنا إليه من قبل نعود إلى 168 ش. (6) في الأصل: مقدمه.

بالوصايا يقبل الرجوعَ قبل حدوث ما يحدث، فلما لم [يمكن الرجوع عن العفو عما يحدث] (1)، دلّ ذلك على التحاقه بالمنجَّز من التبرعات. ويجوز أن يقال: هو ملتحق بالوصايا، من جهة أن العفو وإن جرى لفظاً، فإنما يقع عند تقدير الموت؛ فإنّ من جوّز الإبراء [عما لم يحدث] (2) يستحيل [أن يقول بمنع الرجوع] (3)؛ فإن هذا خلاف الإبراء في معناه وصيغته، فمن هذا الوجه يقع الإبراء مع الموت، وتقع الوصية مع الموت، فيظهر التحاق الإبراء عما سيكون بالوصية. وفي النفس شيء من الرجوع عن الإبراء المُنشأ في المرض عما سيكون؛ فإن المريض الواهب المقبض لا يرجع؛ لأنه لم يَبْنِ الهبةَ على الموت، والعفو عن الدية مبني [على] (4) الموت في وضعه كعتق [المدبَّر] (5)، فلا يبعد أن يثبت الرجوع فيه، فإن ثبت، لم يبق إشكال في التحاقه بالوصية، وإن لم يثبت الرجوع، فالتردد على ما وصفناه. وإنما تصفو هذه المسألة إذا لم نفرض حدوث شيء قبل الموت؛ فإن ذلك لو فُرض، لكان واقعاً في الحياة، فيقدّم قطعاً على الوصية، فليقع الفرض فيه إذا عفا عما سيحدث، ثم لم [ينجّز] (6) [العفوَ مع] (7) أنه لها أرش، ولكنه مات. وليقع التفريع بعد هذا التنبيه على ما ذكره الأستاذ من التحاق [العفو] (8) عما سيحدث بالوصايا. 7156 - فنقول: أما الربع، وهو أرش الجناية الواقعة، فالسيد مقدّمٌ، والعفو [منه] (9) صحيح عنه، ثم إذا صححنا العفو عما سيحدث، فقد عفا المجروح بهذه

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: من جوز الإبراء عالم نجز. (3) في الأصل: أن يقال بمنع الوجوب. (4) في الأصل: عن. (5) في الأصل: الدين. (6) في الأصل: يجز. (7) مكان بياضٍ بالأصل. (8) مكان بياضٍ بالأصل. (9) منه: الضمير يعود على المجني عليه. وفي نسخة الأصل: (فيه) بدلاً منه.

الجملة عن [ربع] (1) الدية، واستوفى السيد الربعَ، فتبقى له ثلاثة أرباع، والموصى له بالثلث يضرب بالثلث؛ فإذا ردَّ الورثةُ الزيادةَ على الثلث، وقد استوفى السيد الربعَ بحق التقديم، [فالباقي من الدية] (2) إلى الثلث نصفُ سدس، فيضرب فيه السيد بثلاثة أرباع، ويضرب الموصى له بثلث [والأجزاء] (3) تعول من اثني عشرَ إلى ثلاثةَ عشرَ، فيأخذ السيد من نصف السدس تسعةً من ثلاثةَ عشرَ، ويأخذ الموصى له بالثلث أربعةً من ثلاثةَ عشرَ. ولو لم يعفُ المجروح [منجَّزاً] (4)، ولكن أوصى بأن يُعفى عنه، وأوصى لإنسان بثلث ماله، فالوصيتان عند ردّ الورثة الزائدَ تنحصران في الثلث؛ فالسيد يضرب بكل [التركة] (5) وصاحب الثلث يضرب بثلثه؛ فإن السيد أُوصي له بكل التركة، وأوصى لآخر بثلث التركة، فيقع الثلث عائلاً، وتكون الأقسام في الثلث على هذه النسبة: للسيد ثلاثة أرباع الثلث، وهو ربع العبد، وربعه للموصى له بالثلث، ويسلّم السيد ثلاثة أرباع العبد ليباع في الجناية، أو يفديَه بثلاثة أرباع قيمته على قولٍ، ولا مال غيره، فيأخذ صاحبُ الثلث من ذلك ربعَ الثلث، ويبقى لورثة العافي ثلثا قيمة العبد. ومن رأى الفداء بالدية، فقد تقع المسألة في تفاصيل أقدار القيمة والدية في المعادلات المقدّمة. وسنعيد هذه الصورة وأمثالَها في نوادر أبواب الدور، إن شاء الله عز وجل. 7157 - مسألة: إذا قتل عبدان لرجلين رجلاً خطأً، وقيمةُ كل واحد منهما ألف درهم، [ودية] (6) المقتول عشرةُ آلاف، ولم يكن له مال غيرُ ديته، وعفا المجروح قبل زهوق النفس عن العبدين جميعاً، ورد الورثةُ الزيادة على محلّ الوصية، نُظر:

_ (1) في الأصل: بيع الدية. (2) تقديرٌ من المحقق مكان بياضٍ بالأصل. (3) في الأصل: والآخر. (4) في الأصل: متخيراً. (5) في الأصل: الثلث. (6) في الأصل: ورثة.

فإن اختار السيدان تسليم العبدين للبيع، دفع لكل واحد منهما ثلثي عبدِه، وصح العفو في ثلث كل عبدٍ؛ فإنه لا [تعلّق إلا بالعبدين] (1)، وكأنهما التركة، فإذا سُلّما، انتظم تسلُّم العفو في ثلث كل واحد منهما. وإن [اختارا] (2) الفداء، ورأينا التفريع على أن [الفداء] (3) ببذل الأرش، فالوجه أن نقول: ينفذ العفو في شيء من كل واحد من العبدين، وسيدُه يفديه بخمسة أمثاله، يعني بخمسة أمثال الباقي بعد تنفيذ التبرع، وإنما راعينا هذه النسبة؛ فإن الدية مقسومةٌ في التعلق على العبدين، فيخص كلّ واحد منهما خمسةُ آلاف، وقيمة كل عبد ألفٌ، فنقول: يسقط بالعفو من كل عبد شيء، فيبقى عبدان إلا شيئين، ثم كل واحد من السيدين يفدي عبده بخمسة أعبد تقديراً إلا خمسة أشياء؛ فإن المفدي فيه استثناء، وإذا تضعف الفداء، كان تضعّفه على هذه النسبة أيضاً، فيحصل لورثة العافي من السيدين عشرة أعبد إلا عشرة أشياء، وذلك يعدل ضعفَ ما نفذ العفو فيه منهما، وقد نفذ العفو في شيئين منهما، فضعفهما أربعة أشياء، فنجبر ونقابل، ونقول: الأعبد العشرة المقدّرة نجبرها بعشرة أشياء، ونؤيد على عديلها مثلها، فتعدل عشرةُ أعبد أربعةَ عشرَ شيئاً، ثم نقلب الاسم، فيكون العبد أربعة عشر والشيء عشرة، وخرج منه أن كل عبد يُفرض أربعةَ عشر، وينفذُ العتقُ في عشرةٍ منه، والعشرة من الأربعة عشر خمسةُ أسباعها، فقد صح العفو في خمسة أسباع كل واحد منهما، ويفدي كلُّ سيّدٍ سُبعَيْ عبدِه بخمسة أمثالها، وهي عشرة أسباع، وذلك ضعفُ الخمسة الأسباع التي صح العفو فيها. وإن اختار أحدهما [البيع] (4)، والآخر الفداء، والتفريع كله على الفداء بالأرش، فالمسألة تدور منها. وإن كانا لو سلّما عبديهما، لم تدُرْ؛ من قِبل أن التصرف في تسليم [العبدين

_ (1) في الأصل: يتعلق إلا العبد. (2) في الأصل: اختار. (3) فى الأصل: العادي. (4) في الأصل: الربع.

يقع] (1) في القيمتين، ويتعين تقسيمهما ثلثاً وثلثين. وإن اختارا الفداء بالأرش، وقد اختلف مقدار المبذول فداءً ومقدار قيمة العبدين [إذ] (2) زاد الفداء على القيمة، فالمسألة تدور. 7158 - وإذا فدى أحدُهما وسلّم الثاني، فمقدار التركة يختلف بفداء أحدهما، فتدور المسألة في حق المسلِّم، كما تدور في حق الفادي، والطريق أن نقول: نفذ العفو في شيء من عبد مَنْ سلّم العبدَ، وفي [شيء من] (3) عبد من فدى، فنقول: نفذ العفو في شيء من العبد المسلّم، ونفذ في شيء من المفدي، وفدى مولاه باقيه بخمسة أعبد إلا خمسة أشياء، فيجتمع لورثة العافي ستةُ أعبد إلا ستةَ أشياء: خمسةٌ أخذوها [فداءً، وأحدٌ] (4) هو العبد المسلّم، والأعبدُ الستة مع ما فيها من الاستثناء تعدل ضعفَ العفو، وهو أربعة أشياء، وبعد الجبر والمقابلة وقلب الاسم من الجانبين يكون العبد عشرة والشيء ستة، [فبان] (5) أن العفو نفذ في ثلاثة أخماسِ كلِّ واحدٍ منهما، ودفع المسلِّم [خُمسي عبده للبيع] (6)، وفدى الآخر [خُمسي عبده بخمسي] (7) نصف الدية، وخمسا نصف الدية ألفان، وخمسا العبد المسلّم أربعُمائة، [فيجتمع] (8) لورثة العافي ألفان وأربعُ مائة، وهي ضعف ما نفذ من العفو في العبدين. 7159 - وإن كانت قيمة أحدهما ألفاً، وقيمة الآخر ألفين وباقي المسألة كما تقدم. فإن اختارا الدفع، دفع كلُّ واحد منهما ثلثي عبده، ونفذ العفو في ثُلثه؛ إذ

_ (1) في الأصل: العبد يرتفع. (2) في الأصل: "إن". (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: فداه وأخذ. (5) في الأصل: فبين. (6) في الأصل: خمس هذه البيع. (7) في الأصل: خمس عبده بخمس. (8) في الأصل: يجتمع.

لا متعلق إلا العبدان، ولا نظر في التسليم إلى [القيمة] (1)، فينفذ لا محالةَ العفو في ثلث كل واحد منهما. وإن اختارا الفداء، والتفريع على أن الفداء بالأرش، فنقول: نفذ لسيد العبد الأَدْوَن [العفوُ في] (2) شيء، وفدى باقيه بخمسة أمثاله، وذلك خمسةُ أعبد إلا خمسةَ أشياء، وجاز [لمولى] (3) العبد الأرفع العفوُ في شيئين؛ فإن عبده ضعفُ العبد الأدون، وفدى باقيه بخمسة أعبد إلا خمسةَ أشياء، فاجتمع لورثة العافي عشرةُ أعبد إلا عشرة أشياء تعدل ضعف [العفو] (4)، وهو ستة أشياء؛ [فإنا] (5) قدَّرنا العفوَ ثلاثةَ أشياء: شيئاً من الأدون [وشيئين] (6) من الأرفع، فنجبر ونقابل، فتصير عشرةُ أعبد في معادلة ستةَ عشرَ، فنقلب الاسم ونجعل العبد ستَّةَ عشرَ والشيءَ عشرة، فينفذ العفو في عشرة من ستةَ عشرَ من كل عبد، فهو خمسةُ أثمان كل عبد، ويفدي مولى الأدْون ثلاثةَ أثمان عبده بثلاثة أثمان نصف الدية. ويفدي مولى العبد الأرفع ثلاثة أثمان عبده بثلاثة أثمان نصف الدية. 7160 - وفي هذه المسألة لطيفة بديعة، تُخيِّل إلى الناظر خبلاً وإشكالاً، ونحن نذكر وجه التخيل، ثم نبيّن تقويمَ المسألة، فنقول: قد ذكرنا في ابتداء وضع المسألة أن العفو ينفذ في شيء من العبد الأدْون، ثم قلنا: إنه ينفذ [في] (7) شيئين من الأرفع، وعلّلنا ذلك بتضعيف قيمة الأرفع، ثم قلنا: في منزلة الفداء: يفدي مولى الأدْون ما بقي من عبده بخمسة أعبدٍ إلا خمسةَ أشياء، ويفدي صاحبُ العبد الأرفع ما بقي من عبده بخمسة أعبد إلا خمسة أشياء، وكان [النظر إلى] (8) العبارات الجبرية يقتضي أن

_ (1) في الأصل: بالدية. (2) في الأصل: بالعبد شيء، وفدى ... إلخ. (3) في الأصل: المولى. (4) في الأصل: العبد. (5) في الأصل: فإذا. (6) في الأصل: وشيئاً. (7) في الأصل: من. (8) مكان بياضٍ بالأصل.

نقول: صاحب العبد الأرفع يفدي ما بقي من عبده بخمسة أعبد إلا عشرةَ أشياء؛ فإن كلَّ واحد من المالكين حقه أن يفدي ما بقي من عبده مع رعاية حساب التضعيف، وقد بقي من العبد الأدْون عبدٌ إلا شيئاً [وخمسة أثمانه خمسة] (1) أعبد إلا خمسة أشياء. وقياس هذا أن العبدَ الأرفع إذا [بقي منه] (2) عبدٌ إلا شيئين، [فخمسة أثمانه] (3) خمسة أعبد إلا عشرةَ أشياء، ولو قدرتَ نقصان عشرة أشياء [من] (4) هذا العبد الأرفع، لم ينتظم الحساب، ولم تعتدل الأقسام أجزاءً، وسر الفصل أن العفو ينبسط على العبدين على نسبةٍ واحدةٍ في الجزئية، وكل واحدٍ منهما يتعلق به نصف الدية، ومهما نفذ العفو في العبد، نزل على رقبته، فإذا نزل على رقبتي العبدين استويا في الجزئية قطعاً كما لو [سُلِّما] (5) في البيع؛ فإن العفو ينزل على [ثلث] (6) رقبة [كلٍّ] (7) منهما، ثم تتفاوت القيمة؛ فإن ذلك ينقص من التركة. ولو لم نتعرض له، لم يصح حساب التعديل في الأجزاء، ولمّا انتهى إلى الفداء، فالفداء يقع على الأجزاء، وأجزاء الدية على العبدين على وتيرةٍ واحدة، فاضطر في مسلك الجبر إلى التفاوت (8) فيما ينفذ التبرع [فيه] (9)، ولما آل إلى الفداء والفداء منزل على العبدين وأجزائهما على قدر واحد، فكان الفداء في العبد الأرفع كالفداء في العبد الأَدْون. هذا ما ذكره الأستاذ. وقد أنهينا نهايته، وذكرنا أقصى الإمكان في تقدير ما تخيّله. وفيه غلطٌ ظاهر لايليق بمنصبه أن يعتمده، وهو محمول على هفواته.

_ (1) مكان خللٍ في الأصل هكذا [وخُمسه أشياء وخمسة أعبد ... ]. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) في الأصل: وخمسة أضعاف خمسة أعبد إلا عشرة أشياء ... (4) في الأصل: في. (5) في الأصل: سلمنا. (6) في الأصل: ثلاثة. (7) ساقطة من الأصل. (8) في الأصل: إلى كل التفاوت. (9) في الأصل: منه.

7161 - وبيانه على الجملة أن [فرض المسألة أن] (1) العبدين مختلفان: قيمةُ أحدهما ألف، وقيمةُ الثاني ألفان، وإذا اختلفت القيمتان، اختلفت النسبة، بحسب اختلافهما، فالذي [يصرفه] (2) مالك العبد القليل القيمة بعد تقدير العفو في بعضه يناسب ما بقي من قيمة العبد على قدر تنبيه الحساب. [والذي يصرفه] (3) مالك العبد الكثير [القيمة] (4) من الأرش يناسب ما بقي على وجهٍ آخر، كما سنوضحه في ذكر وجه الصواب. وبالجملة لا ينبغي أن يشك ذو عقل في أن عبداً قيمته ألف لو جنى وفُرض العفو والفداءُ تفريعاً على الأرش، فاقتضى تعديل الحساب فيه نسبةً، فلو فُرض عبدٌ آخر أرفع أو أدون وجنى، فتلك الجناية لا تغيّر حساب الفداء الأول، بل وجه الصواب أن يفرد كلُّ عبدٍ بحسابه، ويُجعلَ كأنه الجاني، ونطرد بطريق الحساب في القدر الذي يلزمه من الدية، ثم كل حسابٍ في عبدٍ إذا عُدِّل، استقام على الثلث والثلثين، وإذا كان كذلك، فالمجموع يعدَّل على هذا. ولكن تختلف نسبة الأجزاء في كل عبد، وهذا لا يقدح في حق الورثة. فنقول: إذا جنى العبد الذي قيمته ألف، فالأرش المتعلق به خمسةُ أمثاله، فنفتتح الجبر، ونقول: صح العفو في شيء منه، وبطل في عبد إلا شيئاً، فإذا فداه مولاه، قلنا له: الأرش عليه خمسةُ أمثاله، فافد باقيه بخمسة أمثاله، فيفديه بخمسة أعبد إلا خمسةَ أشياء، وهي تعدل شيئين ضعف العبد، فنجبر ونقابل، فيعادل خمسة أعبد سبعةَ أشياء، فنقلب الاسمَ، ونجعل العبد سبعةً، والشيء خمسة، ونقول: جرى العفو صحيحاً في خمسة أسباع هذا العبد، وفدى السيد سبعيه بخمسة أمثالها من الدية؛ إذ النسبة كذلك بين الأرش وبين القيمة، وخمسة أمثال السبعين عشرة أسباع وهي ضعف خمشة أسباع، فاعتدل هذا الحساب.

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: يعرفه. (3) في الأصل: الذي يعرفه مالك العبد ... (4) زيادة اقتضاها السياق.

ثم نعود ونقول العبد الكثير القيمة، وهو الذي قيمته ألفان تعلق برقبته خمسة آلاف، ونسبتها من قيمته أنها مثلا القيمة ومثلُ نصفها، أو ضعفُ القيمة ومثلِ نصفها. ونبتدىء الجبر، ونقول: صح العفو في شيء، وبطل في عبد إلا شيئاً وعلى السيد على قول الفداء بالأرش أن يفدي ما بقي بالنسبة التي وضعناها بين الأرش التام والقيمة الكاملة، والنسبة [بينهما] (1) ما تقدم ذكره، فنفدي عبداً إلا شيئاً بعبدين ونصف عبدٍ إلا شيئين ونصف شيء، وهذا يعدل ضعف العفو، وهو شيئان، فنجبر ونقابل، فيقع عبدان ونصفُ عبد، في مقابلة أربعة أشياء ونصف شيء، ونبسط ما في الجانبين أنصافاً، فتصير الأشياء تسعة والعبد خمسة، ثم نقلب العبارة، فيصير العبد تسعة والشيء خمسة، ونقول: [نفذَ] (2) العفو على خمسة أتساع العبد، وفدى السيد أربعة أتساعٍ بمثله ومثلِ نصفه. ومثلا الأربعة ومثل نصفها عشرة، والعشرة تقع ضعفَ الخمسة، فقد اعتدل هذا الحساب على نسبة الأتساع. وهذا التفاوت لا بدّ منه لتفاوت القيمتين، وأبان هذا التفاوت تفاوتاً بين الأرش والقيمة؛ إذ نسبة الأجزاء كنسبة الكل. فإذا كان الأرش على نسبةٍ من القيمة، وكل جزء من الأرش على مثل تلك النسبة من الجزء الذي يماثله من القيمة، فهذا وجه الصواب، لا شك فيه. 7162 - مسألة: إذا جنى عبدان على حُرٍّ خطأً قيمةُ كلِّ واحد منهما ألفٌ، والدية قيمتها عشرة آلاف، كما صورناها في المسائل، فعفا المجروح في مرضه عنهما، ثم مات أحد العبدين، وقد بقي العبد الثاني، فقد ذكر الأستاذ جوابين عن الأصحاب في هذه المسألة: فقال في أحدهما: - إنه لا يحتسب بالميت وما جرى فيه من عفو، ولا يحتسب في حساب الورثة، [ويقدَّر] (3) كأنه لم يكن، وكأن العبدَ القائم انفرد [بالتزام] (4) أرشها خمسة آلاف، وقيمته ألف، ثم حكى ذلك إذا جرى العفو ولا تركة

_ (1) في الأصل: عنهما. (2) في الأصل: بذل. (3) في الأصل: ويفدى. (4) مكان كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: كتابه. (انظر صورتها).

إلا خمسة الآلاف المتعلقة بالرقبة، وأن (1) السيد [إن] (2) اختار تسليمَ العبد، [فقد صح] (3) العفو في ثلثه، وسلّم ثلثيه للبيع. وإن اختار الفداء بالأرش، ففداء [ثلثيه بثلثي] (4) نصف الدية. هذا مقتضى الحساب إذا انفرد العبد بالتزام هذا القدر من الأرش، ثم جرى العفو عن جميع ما التزمه. هذا جوابٌ. والجواب الثاني: أنه يُحتسب بما خص العبدَ الذي مات من العفو، وإذا احتسبنا بذاك، اقتصر حسابُه [على] (5) تبعيض العفو في حق العبد الحيّ، فإنا نقول: يجوز العفو في شيئين من العبدين، ثم قد فات تحصيل التركة من العبد الذي مات، فيحصّل من العبد الباقي ما يقع ضعفاً [لما نفذ من الميت والحي] (6)، سواءٌ سُلّم الحي [للبيع] (7) أو فداه مولاه. فإن سلّمه مولاه، قلنا: هذا العبد الحيّ [إلا شيئاً معادل] (8) لأربعة أشياء، ضعفِ العفو في العبدين، ثم بعد الجبر وقلب الاسم يكون الشيء خُمس العبد، ويصحّ العفو في خمس كلِّ واحدٍ منهما، ويدفع صاحب العبد الحيّ أربعة أخماس عبده، وهو ضعف الخُمسين اللَذيْن صح العفو فيهما من العبدين. هذا معنى هذا الجواب إذا أراد مالك العبد الحي [تسليمه للبيع] (9). وإن اختار مالك [العبد] (10) الفداء فدى باقيه وهو عبد إلا شيئاً بخمسة أمثاله،

_ (1) في الأصل: "أن" بدون واو. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: سبعيه بسبعي نصف الدية. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: لما فقدم الميت والحي سواء ... إلخ (انظر صورتها). (7) في الأصل: السبع. (8) مكان كلمة لما نستطع قراءتها كاملة، رسمت هكذا: (لانتسبابه) انظر صورتها. (9) في الأصل: تسليم البيع. (10) زيادة من المحقق.

وذلك خمسة أعبدٍ إلا خمسةَ أشياء، تعدل أربعة أشياء، فبعد الجبر وقلب الاسم، يكون الشيء خمسة [أتساع] (1) العبد، فيصح العفو في خمسة أتساع كل واحد منهما، ويفدي مولى العبد الثاني أربعة أتساعه بأربعة أتساع نصف الدية، فيقع ذلك ضعفَ الخمسة أتساع كل واحد من العبدين؛ فإنا نقدر كل ألف من الآلاف الخمسة تسعة، فمجموعها خمسة وأربعون، ثم نأخذ أربعة أتساعها، وهو عشرون، والعشرون من الأتساع إذا أُلِّفت، كانت ألفين وتُسْعَين، وقد صححنا العفو في خمسة أتساعٍ من كل عبد، ومجموعها عشرة أتساع، وهي [تساوي أربعة أتساع نصف الدية] (2) وما قدمناه: ألفان وتُسعان. هذا بيان الوجهين. توجيههما: من قال بالوجه الأخير، احتج بأن عفوه قد جرى في العبد، ثم لم يحصل الورثةُ إلا على ما حصل من جهة العبد الحيّ [تسليماً] (3) أو فداء، فينبغي أن يبقى للورثة ضعف [العفو] (4) النافذ في العبدين. ومن لم يدخل العفو عن العبد [الذي مات] (5) في الحساب، احتج بأن فائدة [العفو] (6) ترجع إلى السيد، وهو [المعفو] (7) عنه في الحقيقة، ولذلك قلنا: العفو صحيح وإن كنا نمنع للوصية للقاتل، والعبد قاتل، وإذا مات العبد قبل الفداء، وقبل استقراره بالامتناع عن بيعه، فلا يجب على السيد شيء، ونتبيّن بالأََخرة أن ذلك العفو لم يصح في أصله، فلا معنى للاعتداد وإدخاله في الحساب. هذا بيان الجوابين وتوجيههما. 7163 - مسألة: إذا جنى عبدان خطأً على حُرٍّ، وقيمة أحدهما ألفٌ وقيمة الآخر

_ (1) في الأصل: أسباع. (2) مكان بياضٍ بلأصل. (3) في الأصل: سليماً. (4) في الأصل: "العبد"0 (5) مكان بياضٍ بالأصل. (6) في الأصل: العبد. (7) في الأصل: العفو.

عشرة آلاف، فلو عفا عن الأدْون دون الأرفع، فصاحب العبد الأرفع إن اختار التسليم، باع نصفَ عبده، وصرف الثمن إلى الأرش، ثم العفو في الأدون، فإنا نُصيِّر قيمةَ الأَدْون [عفواً كلَّها] (1)، والذي حصل للورثة من العبد الأرفع أكثر من ضعف قيمة الأدون. فإن عفا عن الأرفع دون الأدْون، فصاحب العبد الأدْون إن اختار تسليمه، سلّمه إلى البيع، فإن العفو لم يتناوله، وصاحب العبد الأرفع يدفع ثلاثة أعشار عبده، [إن] (2) اختار التسليم؛ فإن ثلاثة أعشار الأرفع ثلاثة آلاف، فإذا ضممنا إليها العبدَ الأدْون الذي لم ينله العفو، صار أربعة آلاف، وقد صح العفو عن ألفين من الأرش المتعلق بالأرفع، فإنه كان تعلق به خمسةُ آلاف، وسقط عنه الآن [تعلّق قيمة الأدْون] (3)، والحاصل في يد الورثة من ثلاثة أعشار العبد الأرفع، وكل قيمة الأدون ضعفُ ما سقط من الأرش. فإن اختار صاحب الأرفع الفداء، فداه بثلاثة أخماس نصف الدية، وهو ثلاثة آلاف، وينتظم الحساب كما ذكرناه. والطريق فيه أن نضم قيمةَ الأدون إلى نصف الدية الواجبة على مولى الأرفع، فيكون ستة آلاف، ويسقط عن مولى الأرفع ثلث ذلك، وهو ألفا درهم، ويؤدي ثلاثة آلاف، لتنضم إلى قيمة الأدْون. 7164 - مسألة: لو قتل عبدٌ رجلين خطأً، فلكل واحد منهما في رقبته الدية، فإن اختار السيد التسليم والدفعَ، بيع العبد وتوزعت قيمته على الديتين نصفين. وإن اختار الفداء، وقلنا: [الفداء] (4) بالقيمة، أُلزم قيمةً واحدة. وإن فرعنا على الفداء بالأرش [أُلزم] (5) ديتين كاملتين. فإن عفا أحدهما عنه في مرضه، فقد حُكي عن ابن سريج أنه قال: يدفع إلى ورثة

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: فإن. (3) في الأصل: تعليق القيمة. (4) في الأصل: العبد. (5) مكان بياضٍ بالأصل.

العافي ثلثا نصفه، وإلى الآخر الذي لم يعفُ نصفَه كاملاً؛ كأنه رأى نصفَ العبد متعلّقاً بأحدهما والنصف متعلقاً بالثاني. ثم ينبني على ذلك تنفيذُ عفو العافي في ثلث محل حقه وبقاء [أثلثي] (1) حقِّه لورثته. قال الأستاذ: هذا غير مستقيم على مذهب الشافعي، ومذهبه أن دية كل واحد من القتيلين تتعلق بجميع العبد [مع] (2) الآخر، وإذا كان كذلك، فعفو أحدهما استفاد منه [السيد ثلثَ] (3) الدية، فيبقى للورثة المزاحمة بثلثي الدية، ولورثة الذي لم يعف المزاحمة بتمام الدية، فيقع التضارب على هذه النسبة: يضرب ورثةُ من لم يعف بديةٍ تامة، ويضرب ورثة من عفا بثلثي الدية، فينقسم العبد على خمسة أسهم، لورثة العافي منها الخمسان، ولورثة الآخر ثلاثة أخماس. مسائل دائرة تتركب من العفو عن الجناية والعتق في العبد وما يتصل بذلك 7165 - مسألة: إذا أعتق عبداً لا مال له غيرُه في مرضه، ثم قتله، ومات ذلك العبد المعتَق، ومات [بعده] (4) مولاه. ففي هذه المسألة وأمثالها خلاف تبعناه: [من أصحابنا] (5) منْ قال: لا يعتِق شيء من العبد، فإنا لو حكما بعتقه في المرض، أو بعتق شيء منه، أُلزمنا أن يبقى للورثة ضعفُ ما ينفذ العتق فيه؛ فإذا كان لا يبقى للورثة شيء، فيستحيل أن ينفذ [عتق] (6) المريض في شيء. ومن أصحابنا من قال: نحكم بنفوذ العتق في جميعه؛ فإنه إذا كان لا يبقى للورثة

_ (1) في الأصل: وبقاء ثلثاً في حقه لورثته. (2) مكان كلمة تعذر قراءتها (انظر صورتها). (3) عبارة الأصل: استفاد منه لثلث الدية. (4) في الأصل: بعد. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: عبد.

في علم الله، فليس تركة، وإنما يثبت حق الورثة في التركة. ونحن نُجري مسائلَ مفرعةً على أنه لا يعتِق منه شيء إذا مات قبل موت مولاه، وما ذكرناه فيه إذا لم يخلِّف السيدُ المعتِق شيئاً. فإن كان السيد ترك مالاً إذا قضى منه ديةَ العبد، بقي للورثة ضعفُ قيمته، صار حراً. وإن ترك من المال ما لا يبلغ ذلك [فقد] (1) يعتق بعضُه ويرق بعضُه، وذلك إذا خلَّف ما إذا أديت الدية منه، بقي [ما] (2) يقصُر عن ضعف قيمة العبد. ثم إن كان يعتق كلُّه، فسيده لا يرثه؛ فإنه قاتله، فإن كان [للعبد] (3) وارث بسببٍ ورثناه، وإن لم يكن، فميراثه لأقرب عصبة السيد من الذكور. 7166 - المثال: إذا أعتق عبداً قيمتُه مائة دينار، وقيمة ديته لو كان حراً خَمسُمائة دينار، فقتله السيد بعد الإعتاق، وخلّف السيد سَبْعَمائة دينار، فالعبد حر، ويخرج من تركة السيد خَمسُمائة دينار، تكون لورثة العبد، ويبقى لورثة السيد مائتا دينار، وهي ضعف قيمة العبد. 7167 - فإن كان جميعُ ما خلّف السيد خَمسَمائة دينار، تبعّض العتق والرق، وحسابه من طريق الجبر أن نقول: قد عتَق منه شيء، ووجب به من الدية على السيد خمسةُ أمثاله، وذلك خمسة أشياء؛ لأن الدية خمسةُ أمثال القيمة، وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وقد تلف ذلك بالقتل، ولم يبق للورثة، وإنما بقي مع ورثة السيد من التركة خَمسُمائة، وهي خمسةُ أعبد، فيخرج منها ما لزم من الدية وهو خمسة أشياء، فيكون الباقي معهم من التركة مثلَ خمسة أعبد إلا خمسةَ أشياء، وذلك يعدل شيئين: ضعفَ ما عتق من العبد، فنجبر ونقابل، فيعدل خمسةُ أعبد سبعةَ أشياء، فنقلب الاسمَ، فيصير العبد سبعة، والشيء خمسة، وهي خمسة أسباع العبد، وقد عتق خمسةُ أسباعه، ورَقَّ سُبعاه، وتلف بالقتل، واستحق ورثةُ العبد خمسةَ أمثال

_ (1) في الأصل: وقد. (2) في الأصل: مما. (3) في الأصل: العبد.

ما عتق، وذلك [ثَلاثُمائةٍ] (1) وسبعةٌ وخمسون ديناراً وسُبع دينار، وبقي للورثة من التركة سبعاها، وهو [مائة واثنان وأربعون] (2) ديناراً وستة أسباع، وهي ضعف ما عتق من العبد؛ لأن الذي عتق منه خمسة أسباعه، وقيمتها أحدٌ وسبعون ديناراً وثلاثة أسباع دينار. وحساب المسألة بطريق الدينار والدرهم: أن نجعل العبد ديناراً ودرهماً، ونُجيز العتق في درهم، ويستحق ورثةُ العبد خمسةَ أمثاله بالدية، وذلك خمسةُ دراهم، وبطل العتق من الرقبة في دينار، وقد تلف ذلك الدينار، وبقي لهم من التركة خمسةُ أمثاله، وهي خمسة دنانير، فمعهم من التركة خمسة دنانير، تعدل ما عتق، وذلك درهمان، فنقلب الاسم، فيكون الدرهم خمسةً والدينار اثنين، ومجموعهما سبعة، والخمسة من السبعة خمسةُ أسباعها. وحساب المسألة بطريق السهام: أن نأخذ [من] (3) العبد بالحرية سهماً، ويتبعه [بالدية] (4) خمسة أسهم، ولورثة السيد سهمان ضعف سهم الحرية، فذلك ثلاثة أسهم، فنُسقط منها سهماً، وهو الذي تلف من العبد، يبقى منها سبعةُ أسهم، وذلك سهام العبد، [وعَتَقَ] (5) منه مقدار سهام الدية. وفيما قدمناه مَقْنَع. 7168 - فإن كانت قيمة العبد مائتي دينار، وقيمة الإبل في دية الحر أربعمائة دينار، وترك السيد سِتَّ مائة دينار، وقلنا: عتَقَ منه شيء واستحق من الدية ضعفه وهو شيئان، وذلك لورثة العبد، ورَقَّ منه عبدٌ إلا شيئاً، وقد تلف ما رق، وبقي مع ورثة السيد من التركة ثلاثة أعبد إلا شيئين: ضعفُ ما عتق منه، فبعد الجبر وقلب الاسم، يصير العبد أربعةً والشيء ثلاثةً وهي ثلاثة أرباعها، فيعتق ثلاثة أرباعه، وهي مائة وخمسون ديناراً، للورثة ضعفها من الدية وهو ثَلاثمائة. ورق منه ربعه، وقد

_ (1) في الأصل: ثلثاه. (2) في الأصل: مائتان واثنان وأربعون. (3) سقطت من الأصل. (4) في الأصل: بالحرية. (5) في الأصل: وأعتق.

تلف، وبقي للورثة من التركة ثَلاثُمائة دينار، وهي ضعف ما عتق منه. 7169 - مسألة: إذا أعتق عبدَه في مرضه وقيمته مائة دينار، ثم قطع إحدى يديه، فنقص من قيمته أربعون ديناراً، وقيمة ديته لو كان حراً مائتا دينار، وترك السيد مائتي دينار. فحساب المسألة بالجبر: أن نقول: يعتق منه شيء، ويستحق العبد من أجله شيئاً بالدية؛ لأن ديته ضعفُ قيمته، وفي إحدى اليدين نصفُ ديته، فإن كان الواجب في نفسه شيئين، فالواجب في يده شيٌ وواحد، وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وبه نقصٌ من قيمته بالجناية مثل [خُمسيْه] (1)؛ فإنا قلنا: نقصَ من قيمته أربعون، فصار الباقي منه بعد النقصان ثلاثةُ أخماس عبد إلا ثلاثةَ أخماس شيء، فنزيد عليه التركة، وهي ضعفُ قيمة العبد، ونخرج مما اجتمع من الدية [والتركة] (2) شيئاً، فيبقى مع الورثة عبدان وثلاثة أخماس عبد إلا شيئاً وثلاثة أخماس شيء، وذلك يعدل شيئين، ضعف ما عتق، فبعد الجبر يكون عبدان، وثلاثة أخماس، تعدل ثلاثة أشياء وثلاثة أخماس شيء، فنبسطهما أخماساً، ثم نقلب الاسم فيهما، فيكون العبد ثمانيةَ عشرَ، والشيء ثلاثةَ عشرَ، فيصح العتق في ثلاثةَ عشرَ جزءاً من ثمانيةَ عشرَ جزءاَّ مَن العبد، وقيمتها بالدنانير اثنان وسبعون ديناراً وأربعة أجزاء من ثمانيةَ عشرَ جزءاً من دينار؛ لأن الذي عتق منه نصفه وتسعاه؛ فإن الثلاثة عشر من الثمانية عشر هكذا تكون: التسعة نصف الثمانيةَ عشرَ، والأربعة التي هي [تتمّةُ] (3) الثلاثةَ عشرَ تسعان من ثمانية عشرَ. وبقي من رقبة العبد خمسةُ أجزاء من [ثمانيةَ عشرَ] (4) جزءاً، هذا هو الرقيق، وقيمتها بالدنانير سبعة وعشرون ديناراً وأربعة عشر جزءاً من ثمانية عشر جزءاً من دينار، فلما نقص خمساه بالجناية، نقص من هذا الباقي أيضاً خمساه، وذلك أحد عشر ديناراً وجزءان من ثمانيةَ عشرَ جزءاً من دينار، وبقي لورثة السيد من رقبته بعد

_ (1) في الأصل: خمسه. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: قيمة. (4) في الأصل: "من ثلاثة عشر".

العتق والنقصان بالجناية ستةَ عشرَ ديناراً واثني عشر جزءاً من ثمانيةَ عشرَ جزءاً من دينار. ومعهم من التركة في الأصل مائتا دينار، يُقضى منها ما استحقه العبد من الدية، وهو مثلُ ما عتق منه، وذلك اثنان وسبعون ديناراً وأربعةُ أجزاء من ثمانيةَ عشرَ من دينار، فيبقى للورثة من الدنانير مائةٌ وسبعة وعشرون ديناراً وأربعةَ عشرَ جزءاً من ثمانيةَ عشرَ، ومن الرقبة ستةَ عشرَ ديناراً واثنا عشر جزءاً [من ثمانية عشر] (1)، وجميع ذلك مائة وأربعةٌ وأربعون ديناراً، وثمانيةَ أجزاء من ثمانية عشر جزءاً من دينار، وذلك ضعف قيمة ما عتق منه يوم العتق. ثم مما يجب التنبه له أن النقصان لا يؤثر في العتق؛ لأن العتق وصية مستوفاة تبيُّناً، والنقص معتبر في قيمة العبد؛ لأنه من التركة، والاعتبار في مقدار التركة يوم الموت. 7170 - فإن أعتق في مرضه عبداً قيمته ثلاثون، ثم أجافته جائفة نَقصته عشرين (2) ديناراً، وقيمة ديته لو كان حراً تسعون ديناراً، وخلّف السيد ستين ديناراً؛ فإنه يعتق منه ثلاثة أخماسه، ونصف خُمسه. وحساب ذلك أن نقول: عتق منه شيء، واستحق من الدية مثله؛ لأن الواجب في الجائفة ثلثُ الدية، وثلث ديته لو كان حراً مثلُ قيمته، فحصل مع ورثة السيد من رقبته عبد إلا شيئاً، وقد نقص ثلثاه بالجناية، فالباقي ثلث عبد إلا ثلث شيء، ومعهم من التركة [عبدان] (3)، فالمجموع عبدان وثلث عبد إلا ثلثَ شيء، يقضى منها الدية، وهي شيء، فيبقى معهم عبدان وثلث عبد إلا شيئاً وثلث شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون عبدان وثلث عبد يعدل ثلاثة أشياء وثلث شيء، فنبسطهما ونقلب الاسم، فيكون العبد عشرة، والشيء سبعة، فنعتق سبعة أعشار، وهي ثلاثة أخماسه ونصف خمسه، وقيمتها يوم العتق أحدٌ وعشرون ديناراً، وبقي لورثة السيد

_ (1) زيادة من المحقق. (2) عبارة الأصل: "نقصته بها عشرين ديناراً" والفعل متعدِّ مفعوله ضمير في محل نصب، فلا حاجة لتعديته بحرف الجر. (3) في الأصل: ثلث عبدين.

من رقبته تسعةُ دنانير، وقد نقص بالجناية ثلثاها، وبقي منها ثلاثة دنانير، ومعهم من التركة ستون ديناراً، فذلك ثلاثة وستون ديناراً يقضى منها ما وجب بالجناية، وهو مثل ما عتق منه، وذلك أحدٌ وعشرون ديناراً، يبقى معهم اثنان وأربعون ديناراً، وهو ضعف ما عتق. ولا اعتبار في مقدار العتق بما نقص بعده؛ لأن العبد قد استوفى العتق قبل النقصان. 7171 - مسألة: إذا أعتق في مرضه عبداً قيمته عشرون ديناراً، ثم قطع أجنبي إحدى يديه، وقيمة ديته لو كان حراً مائة دينار، وقد نقص من قيمته عشرة، ولا مال للسيد غيرُه. فحساب المسألة أن نقول: يعتِق منه شيء يجب به [للعبد] (1) من الدية شيئان ونصف؛ لأنه لو كان حراً، لكانت ديته خمسةَ أمثال قيمته، فالواجب في إحدى [اليدين] (2) نصف الواجب في [النفس] (3)، فإذا استحق بالعتق شيئاً، استحق به [من] (4) الدية شيئين ونصفاً، (وهذا العبد [ ..... ] (5) تركة السيد، ولا وصية)؛ فإن الأجنبيّ يغرَمه له، وبقي مع السيد من رقبته عبد إلا شيئاً، يستحق به ما نقص من قيمته [بالجناية] (6)، والناقص منه مثلُ نصف العبد؛ فإن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته، وقد أقر نقصان السوق على نسبة التنصيف، فاستحق السيد نصفَ عبد، ونقصَ نصف عبد، فيجتمع مما نقص واستحق عبدٌ إلا شيئاً، يعدل [شيئين، فنجبر، ونقابل، فيكون عبد يعدل] (7) ثلاثة أشياء، فنقلب الاسم فيهما، فيكون

_ (1) في الأصل: العبد. (2) في الأصل: المقولين. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: يضيق. (5) الجملة بين القوسين غير مستقيمة بسبب كلمة غير مقروءة مكان النقط بين المعقفين. (انظر صورتها) ولعل فيها تصحيفاً وصوابها: وهذا القدر لا يزيد من تركة السيد، فإن الأجنبي يغرَمه للعبد. والله أعلم. (6) في الأصل: بالخيار. (7) زيادة من المحقق.

العبد ثلاثةً، والشيء واحداً، فعلمنا أنه [يعتِق] (1) منه الثلث، ويبقى للسيد [ثلثاه] (2) وقد نقص نصفه، فبقي [السدس] (3) منه، فاستحق على الجاني مثلَ ما نقص، وقد نقص نصفُ قيمته، فيجتمع مع ورثته مما بقي واستحق ثلثان، وذلك ضعف الثلث الذي عتق [منه] (4). 7172 - وإن أعتق عبداً في مرضه، لا مال له غيرُه، وقيمته عشرون ديناراً، وقتله أجنبي، وقيمة ديته مائةُ دينار، وخفف ابناً. فحساب المسألة أن نقول: عتَق منه شيء، وبطل العتق في عبدٍ إلا شيئاً، وقد تلف، إلا أن السيد يستحق مثل ما تلف على الجاني، فنجعل ما استحقه عبداً إلا شيئاً، وهذا يعدل ضعفَ ما عتق، وهو شيئان، فبعد الجبر وقلب الاسم يكون العبد ثلاثة والشيء واحداً، فقد عتَق منه ثلثُه، واستحق ثلثَ الدية على القاتل، تصرف إلى [ابنه] (5) إن قلنا: من بعضه حر يورث، أو إلى بيت المال في [قولٍ] (6) آخر، ويرق ثلثا العبد، وللسيد قيمة الثلثين على القاتل، وهو ضعف الثلث الذي عتق. 7173 - مسألة: إذا أعتق عبداً قيمته ثلاثون ديناراً وقتله أجنبي، وقيمة ديته إن كان حراً أربعون ديناراً، وذلك بأن يفرضَ كافراً، ونقدّر السيد وارثاً، تفريعاً على أن من بعضه حر موروث، ولا وارث له سوى السيد، ونقدِّره وارثاً بغير جهة الولاء، فإنه لو لم يكن إلا الولاء، وهو مستحقٌ بعض الولاء [لا يرث إلا] (7) بعض الميراث، فنفرضه أخاً أو ابنَ عم.

_ (1) في الأصل: يضيق. (2) في الأصل: ثلثه. (3) في الأصل: الثلث. (4) في الأصل: فيه. (5) في الأصل: إلى أبيه. (6) زيادة من المحقق. (7) مكان بياضٍ بالأصل.

هذه صورة المسألة، وحسابها أن نقول: عتق منه شيء، ونوجب به من الدية مثلَه ومثلَ ثلثه؛ فإن الدية مثلُ القيمة ومثلُ ثلثها، وبطل العتق في عبدٍ إلا شيئاً، وقد تلف ذلك، واستحق به السيد مثلَه، فيجتمع ذلك إلى ما ورثه عن العبد بالدية؛ لأنه لا وارث له غيره، وقد حصل له بالقيمة عبد إلا شيئاً، وصرفنا إليه من الميراث شيئاً وثلثَ شيء؛ فإنه إذا عتق شيء، وجب مثله ومثل ثلثه، فنجبر الاستثناء الذي في [الرقبة] (1) فيبقى معه عبد وثلث شيء، يعدل شيئين ضعفَ ما عتق، فنقابل ثلث شيء بمثله قصاصاً، فيبقى عبد يعدل شيئاً وثلثي شيء، فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم فيكون العبد خمسة، والشيء ثلاثة، فقد عتَق ثلاثة أخماسه، واستحق بذلك ثلاثة أخماس الدية، وهي أربعةٌ وعشرون ديناراً، ورقّ خمساه، وهو اثنا عشر ديناراً، واستحق السيد مثلها، كما (2) هلك، فيجتمع مع ورثته ستة وثلاثون ديناراً، وذلك ضعف ثلاثة أخماسه التي عتَقَت، لأن قيمة ثلاثة أخماسه [ثمانيةَ عشرَ] (3) ديناراً، وقد حصل مع ورثة السيد ضعفها. 7174 - مسألة: إذا أعتق عبده في مرضه، وقيمته خمسون ديناراً، وقيمة دية الحر مائة دينار، فقُتل العبد وترك بنتاً وسيدَه، وكان السيد عصبتَه، فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، ووجب من الدية شيئان؛ فإن الدية ضعف القيمة، ورق منه عبدٌ إلا شيئاً، وقد تلف، واستحق به السيدُ مثلَه على القاتل، وذلك عبد إلا شيئاً، وله أيضاً نصف ما وجب من الدية ميراثاً، وذلك شيء، فإن الدية [مِثلا] (4) العتق، والعتق شيءٌ، ونصف الدية شيء، فنضم ما ورثه إلى العبد الناقص باستثناء شيء، فيكمل العبد، فنقول: عبد كامل يعدل شيئين، فالشيء نصف العبد، وهو ما عتق منه، وقيمته خمسون ديناراً، [فنصفه] (5) خمسةٌ وعشرون، ووجب من الدية

_ (1) في الأصل: الرقيق. (2) كما: بمعنى (عندما). (3) في الأصل: ثلاثة عشر. (4) في الأصل: مثل. (5) مكان بياضٍ بالأصل.

خمسون، ورجع إلى السيد بالميراث نصفها وهو خمسة وعشرون، وله على الجاني قيمة ما رق من العبد، وهو خمسةٌ وعشرون ديناراً، فالحاصل في يد الورثة خمسون ديناراً، وهو ضعف ما عتق من العبد. 7175 - فإن كانت قيمة العبد ثلاثون ديناراً، وديته لو كان حراً خمسون ديناراً، وترك العبد امرأةً، وكان السيد عصبة، فنقول: صح العتق في شيء من العبد، ويجب من الدية مثله ومثل ثلثيه؛ لأن هكذا نسبة الخَمْسين من الثلاثين، فنقول: عتق شيء، ووجب شيء وثلثا شيء، وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وقد تلف ذلك إلا أن السيد استحق به مثلَه من القيمة، واستحق ثلاثة أرباع المأخوذ من الدية، وهو شيء وربعُ شيء، فنزيده على عبدٍ إلا شيئاً، فيجتمع مع ورثة السيد عبد وربع شيء، يعدل شيئين، فنلقي ربع شيء وربع شيء قصاصاً، فيبقى عبد يعدل شيئاً وثلاثة أرباع شيء، فنبسطهما أرباعاً، ثم نقلب الاسم فيهما، فيكون العبد سبعة والشيء أربعة، وهو أربعة أسباعها، فنعتق أربعة أسباع العبد، ويجب أربعة أسباع ديته، وهو ثمانيةٌ وعشرون ديناراً وأربعةُ أسباع دينار، للمرأة منها ربعها، وذلك سبعةُ دنانير وسبع دينار، ويرجع الباقي إلى السيد بالميراث، وهو أحدٌ وعشرون ديناراً وثلاثة أسباع دينار. وله قيمة ما بطل فيه العتق وذلك ثلاثة أسباع العبد، وقيمتها بالدنانير اثنا عشر ديناراً وستة أسباع دينار، فيجتمع مع ورثته أربعةٌ وثلاثون ديناراً وسبعا دينار، وهي ضعف ما عتق من العبد، لأن العتقَ وقع في أربعة أسباعه، وقيمة أربعة أسباعه سبعةَ عشرَ ديناراً وسبعَ دينار. 7176 - فإن كانت قيمته عشرون ديناراً وقيمة ديته لو كان حراً عشرة دنانير، وخلّف العبدُ امرأةً وبنتاً. فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، واستحق به من الدية مثلُ نصفه، وذلك نصف شيء، وبقي للسيد عبد إلا شيئاً، وقد تلف، [ووجب له] (1) القيمة، وله بالميراث ثلاثة أثمان نصف [شيء] (2)، وذلك ثُمن شيء [ونصف ثمن

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: الدية.

شيء] (1)، يعدل شيئين، فبعد الجبر يكون عبد يعدل شيئين وستة أثمان شيء ونصف ثمن شيء، فنبسطهما أثماناً، ومخرج نصف الثمن ستةَ عشرَ، ثم نقلب الاسم، فيكون العبد خمسة وأربعين والشيء ستةَ عشرَ، فيعتق منه ستةَ عشرَ جزءاً من خمسة وأربعين جزءاً، وذلك ثُلثُه وخمس تُسْعه، [وله] (2) من الدية مثل نصفها، وذلك [ثمانية] (3)، للسيد منها ثلاثة أثمانها، وهي ثلاثة، وبطل العتق في تسعةٍ وعشرين جزءاً من العبد، والسيد يستحق قيمتها، وقد ورث ثلاثة أجزاء، فاجتمع مع ورثته اثنان وثلاثون جزءاً من خمسةٍ وأربعين جزءاً من العبد، وهي ضعف ما عتق. 7177 - مسألة: إذا أعتق عبده في مرضه، فجنى العبد على أجنبي، فقطع يده، وقيمة العبد مائةُ دينار، وقيمة دية المجني عليه مائتا دينار، فلا يعتق من العبد شيء؛ لأن الجناية أرشُها مائة، وقيمة الرقبة مائة، فأرش الجناية محيطٌ بالرقبة، والدَّيْن مقدم على الوصية. 7178 - ولو كانت المسألة بحالها غيرَ أن دية المجني عليه مائة دينار، ففي المسألة دَوْر؛ من قِبل أنا لو قدرنا نفوذ العتق في بعضه، لتوزع الأرش على الحرية والرق، وتعلّق بعضه بذمته في حصة الحرية، فينقص لذلك ما يتعلق [بالرقبة] (4). فنقول في المسألة التي فرضناها: عتق منه شيء ووجب على العبد في ذمته نصفُ شيء من الدية؛ فإن الجناية قطع يد، [ومن قطع يداً] (5) فأرشها نصف الدية، وبطل العتق في عبدٍ إلا شيئاً، ويلزمه أن يدفع نصفَه في الجناية إن أراد التسليم؛ لأن الدية مثل القيمة، وفي اليد الواحدة نصف الدية، فيلزمه أن يسلِّم نصفَ ما بطل العتق فيه، فيبقى معه نصف عبد إلا نصف شيء، يعدل شيئين ضعفَ العتق. فبعد الجبر والمقابلة، يكون نصف عبد في معادلة شيئين ونصف، فنبسطهما

_ (1) زيادة لا يصح الكلام إلا بها. (2) في الأصل: وثلثه. (3) في الأصل: ثمانية عشر. (4) في الأصل: الرق. (5) مكان بياضٍ بالأصل.

أنصافاً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد خمسة، والشيء واحد، والواحد من الخمسة خُمسها، فيعتق خمس العبد، وقيمته عشرون ديناراً، ويرق أربعةُ أخماسه، وقيمته ثمانون ديناراً، ووجب من الدية خمسون ديناراً، على العبد منها خُمسها، عشرةُ دنانير في ذمته، والباقي على السيد وهو أربعون ديناراً، فإذا سلّم هذا القدرَ للبيع، بيع خمسان [قيمتها أربعون ديناراً، ويبقى خمسان] (1) مع ورثته قيمتها أربعون ديناراً، وهي ضعف قيمة ما عتق. 7179 - فإن كانت قيمة العبد خمسين ديناراً، وقد أعتقه مولاه في المرض، فقتل بعد العتق [عبداً] (2) قيمته أربعون ديناراً، فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، ورق عبدٌ إلا شيئاً، ويجب على السيد تسليمُ أربعة أخماسه؛ لأن الدية أربعة أخماس القيمة، فيسلِّم للبيع أربعةَ أخماس عبدٍ إلا أربعةَ أخماس شيء، فإنه إنما يسلِّم مما رق، ويعود العتق في شيء يلحق استثناء بما بقي، فيكون الأمر على ما نظمناه. فإذا سلَّم أربعةَ أخماس العبد إلا أربعةَ أخماس شيء، بقي مع ورثته خُمس عبد [إلا خمس شيء] (3)، وذلك يعدل شيئين، بعد الجبر يعادل [خمس عبد شيئين وخمساً] (4) فنبسطهما أخماساً، ثم نقلب العبارة فيكون العبد أحد عشر، والشيء واحداً، وهو جزء من أحد عشر جزءاً، فيعتق جزء من أحدَ عشرَ، ويرق منه عشرةُ أجزاء، فيسلِّم في الجناية أربعة أخماسها، وهي ثمانية أجزاء يبقى مع ورثته جزءان، ضعفُ ما عتق منه. 7180 - فإن أعتق في مرضه عبداً قيمته أربعون ديناراً، فقتل العبدُ عبداً قيمته عشرة دنانير، فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، ورق باقيه، وهو عبدٌ إلا شيئاً، ويجب على السيد تسليم ربعه [نعني] (5) ربعَ ما يرق منه، وإنما يسلم ربعه؛ لأن قيمةَ

_ (1) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (2) في الأصل: رجلاً. (3) في الأصل: إلا شيئاً. (4) في الأصل: يعادل خمس شيء وخمساً. (5) مكان بياضٍ في الأصل.

المقتول ربعُ قيمة القاتل، وذلك ربع عبد إلا ربعَ شيء، فيبقى منه ثلاثة أرباع عبدٍ إلا ثلاثة أرباع شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة، تعدل ثلاثة أرباع عبدٍ شيئين وثلاثةَ أرباع شيء، فنبسطهما أرباعاً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد أحدَ عشرَ، والشيء ثلاثة، فيعتق منه ثلاثةُ أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً، ويرق منه ثمانية أجزاء، ويسلّم منه جزءان، وهما ربع الثمانية، ويبقى معه ستة أجزاء من أحد عشر جزءاً من العبد، وهي ضعف ما عتق. فإن اعترض [معترضٌ] (1) أن الأرش إذا كان ربعاً كاملاً، فلِمَ يُسلّمُ ربعٌ ناقص بربعِ شيء؟ فالجواب عنه أن المقدار الذي يعتِق يتعلق به قسطٌ من الأرش، ويرد على [ذمّة] (2) الشخص الذي تبعض العتق فيه، فهذا ما ذكرناه. 7181 - مسألة: إذا أعتق في مرضه أمةً قيمتها خمسون ديناراً، وهي حبلى، فجنى عليها أجنبي فأسقطت جنيناً ميتاً، ثم مات السيد، ونقص من قيمة الأمة عشرةُ دنانير، وكان الجنين رقيقاً [لولا] (3) طريان العتق، وله ورثة يحوزون ميراثه دون السيد. فحساب المسألة بعد الوقوف على تصويرها. أن نقول: عتق منها شيء، وبطل العتق في أمةٍ إلا شيئاً، واستحق السيد على الجاني من [دية] (4) الجنين مثلَ عشر ما رق، فإن الواجب في الجنين الرقيق عُشرُ قيمة أُمِّه، فإذا تبعّض الحكم في الجنين، كان مقتضاه ما ذكرناه، فيجب على الجاني أن يغرَم للسيد مثلَ عُشر ما رَقَّ، وقد رقت أَمةٌ إلا شيئاً، فعشرها عُشر أمةٍ إلا عشرَ شيء، وقد نقص من قيمتها بعد هذا مثلُ خمس قيمتها، فاردده إلى العشرة، وذلك عُشْران، نقص مما معه عُشْران إلا عُشْري شيء؛ فإن النقصان وقع بعد العتق، فيبقى مع ورثة السيد تسعةُ أعشار أمةٍ إلا تسعةَ أعشار شيء؛ فإنها كانت أمةً إلا شيئاً، فضممنا إليها بسبب الجنين عُشرَ أمة، فكان المجموع أمةً وعُشرَ أمَةٍ إلا شيئاً وعُشرَ شيء، فحططنا لأجل النقصان عُشري أمة إلا عُشري شيء، فيبقى في أيدي ورثة السيد تسعةُ أعشار أمةٍ، تعدل شيئين وتسعة

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: دية. (3) في الأصل: لو. (4) مكان بياضٍ بالأصل.

أعشار شيء، فابسطهما أعشاراً واقلب الاسم فيهما، فيكون الأمة تسعةً وعشرين، والشيءَ تسعةً، فيعتِق منها تسعةَ أجزاء من تسعةٍ وعشرين جزءاً، فيرق منها عشرون جزءاً، ويستحق السيد من أجل الجنين مثلَ عُشرها، وذلك جزءان، فالمبلغ اثنان وعشرون جزءاً، وقد نقص من قيمتها الخُمس، فنحسب الخُمسَ من رقِّ الأمة، لا من ضمان الجناية، وقيمة الرقيق منها عشرون، وحصة هذه العشرين من النقصان أربعة أجزاء، وبقي مع الورثة ثمانيةَ عشرَ جزءاً من سبعةٍ وعشرين جزءاً، وهي ضعف ما عتق منها. وعلى الجاني عُشر ديةِ ما عتق من الأم لأجل الجنين، فإن [الحرّ منه] (1) مضمون بعشر دية ذلك القدر من الحرية في الأم، كما أن الرقيق منه مضمون بعشر قيمة ما يرق من الأم، ثم ذاك (2) لورثة الجنين، [ولا ينقص بذلك مال السيد] (3). 7182 - هذا كلام الأستاذ وفيه زلل ظاهر في الفقه، فإنه صوّر نقصان قيمة الجارية بسبب [الجناية وإسقاط الجنين] (4) ثم بنى المسألة حكماً وحساباً (5) على حطّ ذلك النقصان من الرِّق، ولم يتعرض لإيجاب أرش النقصان على الجاني، ولو أحاط علماً بوجوبه عليه، لما [أسقط] (6) ذلك النقصانَ؛ فإن الجاني يغرَمه، فإذا عُدم الجَبْر، [كان عدم تضمينٍ للجاني] (7) ما فرض من نقصٍ. وإن تكلف متكلفٌ الذبَّ عنه، وقال: لعل النقصان الذي ذكره ليس نقصانَ عين الجارية، ولكن كانت الجارية لمكان الحمل تُشترى بخمسين، وإذا فارقها الحمل

_ (1) في الأصل: العدد. (2) إشارة إلى ضمان الجزء الحر من الجنين (تذكر تصوير المسألة، والتأكيد على أن للجنين ورثة. (3) عبارة الأصل مقلوبة، فيها تقديم وتأخير واضطراب، هكذا "ولأنه بذلك مال السيد ولاينقص". (4) مكان بياضٍ بالأصل مع تصرف في جزء كلمة في أول هذا البياض. (5) في الأصل: حساباً (بدون واو). (6) في الأصل: "أفسد". (7) مكان بياض بالأصل.

تُشترى بأربعين، وهي في ذاتها لم تنقص، وإنما زايلها الحمل، ثم الحمل قد ضُمن بما يضمن به، فلا يُنظر إلى النقصان؛ فإن الجميع بين بدل الجنين وبين أرش النقصان الحاصل [فيه تكرار] (1) الغُرم. هذا وجهٌ، وسيأتي تفصيله مقوَّماً على أحسن نظم في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل. 7183 - وفيما ذكرته غوائل ولكن ليس هذا موضع استقصائها. وما ذكرناه تكلفٌ؛ فإن الأستاذ صرح بنقصان الأمَة، وهي [أيضاً محل الجناية] (2)، فإذا ظهر ما ذكره من الاشتراك، فالوجه جبر النقصان بالغرم وطرد المسألة على هذا النحو ولا حاجة إلى إعادتها. 7184 - مسألة: إذا أعتق في مرضه أمةً حاملاً، فجنى عليها أجنبي، فألقت جنيناً لا وارث له غيرُ السيد، فالواجب في الجنين عُشر قيمة ما رق من الأم، وعشرُ دية ما عتَقَ منها، وكل ذاك للسيد بحق الملك والإرث. فإن كانت قيمةُ الأمة خمسين ديناراً، وقيمة ديتها -إن كانت حرة (3) - مائةُ دينار [ونقص] (4)، بالإسقاط عشرةُ دنانير. فحساب المسألة أن نقول: عتق منها شيء ورقت الأمةُ إلا شيئاً، ونقص من قيمة هذا الباقي منها خُمسها، وذلك خمُس أمةٍ إلا خمس شيء، فصار الباقي أربعةَ أخماس أمةٍ إلا أربعة أخماس شيء، واستحق السيد بسبب الرق لأجل الجنين عُشرَ أمةٍ إلا عُشرَ شيء، فصار معه تسعةَ أعشار أمةٍ إلا تسعةَ أعشار شيء، واستحق أيضاً [من دية الجنين بنسبة] (5) [ما] (6) عتق منها وهو [عُشري] (7) شيء؛ لأن الدية ضعفُ

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) مكان بياض بالأصل. (3) في الأصل: كانت في حرة. (4) في الأصل: ونقصت. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: مما. (7) في الأصل: عشر.

القيمة، فنزيد عُشري شيء على [تسعة أعشار] (1) الأمة [إلا تسعةَ أعشار] (2) شيء، فيكون تسعةَ أعشار أمة إلا سبعةَ أعشار شيء، فإنا لما ضممنا عُشري شيء، نقصنا بهما الاستثناء، وكان معنا استثناء تسعة أعشار شيء، فيعود الاستثناء إلى سبعة أعشار شيء، فإذاً تسعةُ أعشار أَمةٍ إلا سبعةَ أعشار شيء يعدل شيئين، فإذا جبرنا وقابلنا، [فتسعة] (3) أعشار أمة تعدل شيئين وسبعةَ أعشار شيء، فابسطهما أعشاراً واقلب الاسم فيهما، فيكون الأمة سبعةً وعشرين والشيء تسعةً، وهو ثلثها، فنعتق منها الثلث وقيمته ستةَ عشرَ ديناراً وثلثان، ويرق منها [ثلثاها] (4) وذلك ثلاثة وثلاثون ديناراً وثلث، ويستحق السيد مثلَ عشر ما رق منها، وذلك ثلاثة دنانير وثلث، ويستحق أيضاً من الدية ضعفَ عشر ما عتق، وهو مثل خمس ما عتق منها، وذلك ثلاثة دنانير وثلث، فجميع ما استحق السيد في الجنين (5) ستةُ دنانير وثلثان، ونقص من قيمة ما رق منها بعد نفوذ العتق الخُمس، فبقي من الجارية ستةٌ وعشرون ديناراً وثلثان، وانضم إلى ذلك بسبب الجبر (6) ستة دنانير وثلثان، فالمجموع ثلاثة وثلاثون، وهي ضعف قيمة الثلث منها يوم العتق؛ لأن ثلثها يوم العتق كان ستةَ عشرَ ديناراً وثلثي دينار. وهذه المسألة جاريةٌ على نظامها إلا ما أعاده من فصل النقصان، فإنه [نظر إلى] (7) النقصان، ولم ينته لنقصانه بتغريم الجاني، ولا يخفى طرد وجه الصواب، والطريق ذكر المسألة من غير نقصان. 7185 - مسألة: إذا أعتق عبدين في مرضه قيمة أحدهما خمسون ديناراً، وقيمة الآخر مائة دينار، ثم قتل السيدُ العبدَ الذي قيمته مائة دينار، وقيمة ديته لو كان حراً

_ (1) في الأصل: سبعة أعشار. (2) في الأصل: سبعة أعشار. (3) في الأصل: بتسعة. (4) ساقطة من الأصل. (5) في الجنين: أي ما رق منه وما عتق. (6) أي جبر الجنين. (7) مكان بياض بالأصل.

مائتان، فإنا نُقْرع بين العبد الحي وبين العبد المقتول، فإن خرجت قرعةُ الحرية للعبد الحي منهما، عتَق ثلثه ورق ثلثاه، ومات المقتول على المذهب الظاهر رقيقاً، وليس الخوض فيه من غرضنا الآن. وإن خرج سهم [المقتول] (1)، فنقول: دارت المسألة. وحسابها أن نقول: عتق منه شيء، ورق وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وقد تلف ما رق وما عتق، وبقي مع السيد عبدٌ آخر، قيمته نصف عبد، نقضي منه ديةَ ما عتق من المقتول، وهي ضعف ما عتق، فإذا قلنا: عتق شيء، فضعفه شيئان، فيبقى مع ورثته نصفُ عبد إلا شيئين، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيكون نصفُ عبدٍ يعدل أربعةَ أشياء، فنبسطهما أنصافاً، ونقلب الاسم منهما، فيكون العبد ثمانية، والشيء واحداً، فإذاً عتق منه [ثُمنُه] (2)، وقيمته اثنا عشر ديناراً ونصف، ويجب نسبتها من الدية ضعفها، وذلك خمسةٌ وعمثمرون ديناراً، فتُقضَى من العبد الآخر الذي هو حيٌّ، فيبقى منه خمسة وعشرون ديناراً، وهي ضعف ما عتق. والذي وجب عليه من الدية يكون لورثة المقتول إن كان له وارث، أو لبيت المال، ولا يرجع شيء منه إلى السيد، لأنه قاتل. 7186 - ولو أعتق ثلاثة أعبد قيمة أحدهم ثلاثون ديناراً، [وقتله] (3)، وقيمة الثاني ستون ديناراً، وقيمة الثالث تسعون ديناراً، [وقد خرجت عليه القرعة] (4)، ثم قطع [يدَ] (5) الذي قيمته تسعون [وديته] (6) لو كان حراً مائة دينار، ونقص -بسبب الجناية من قيمته- عشرون ديناراً. فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وقد

_ (1) في الأصل: المعتق. (2) في الأصل: ثمانية. (3) زيادة على ضوء ما سيأتي من عرض المسألة. (4) زيادة من المحقق اقتضاها سياق حساب المسألة. (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: وقيمته.

نقص من قيمته تسعاه، وصار الباقي منه سبعة أتساع عبد إلا سبعةَ أتساع شيء، ومعه العبد الذي قيمته ستون، وهو مثل ثلثي عبد، فصار جميع ما حصل عبدٌ وأربعة أتساع عبد إلا سبعةَ أتساع شيء، فيجب أن يقضي منه ديةَ يده، وهي خمسة أتساع شيء، لأن دية يده مثلُ خمسة أتساع قيمته، فيبقى معه عبدٌ وأربعة أتساع عبد إلا شيئاً [وثلاثة أتساع شيء، تعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون عبد وأربعة أتساع عبد] (1) تعدل ثلاثة أشياء وثلاثة أتساع شيء، فنبسطهما أتساعاً، فيكون العبد [ثلاثين] (2)، والشيء [ثلاثة عشر] (3) وهي ثلثها وعشرها. وقد [فات] (4) الذي قيمته ثلاثون، ورق الذي قيمته ستون. الامتحان: أن نقول: إذا عتق منه ثُلثُه وعُشره، [فذلك] (5) تسعةٌ وثلاثون فى يناراً، وقد بقي منه أحدٌ وخمسون ديناراً، وقد نقص منها مثلُ [تسعيها] (6) وذلك أحدَ عشرَ ديناراً وثلث، لأن الناقص من قيمة العبد بالجناية تسعاه، فبقي منه [تسعةٌ وثلاثون ديناراً وثلثان] (7) ومعهم عبد قيمته ستون ديناراً، وذلك تسعةٌ وتسعون ديناراً وثلثان، فقضى منها ديةَ ما عتق منه، وذلك مثل خمسة أتساع ما عتق منه، وهي أحدٌ وعشرون ديناراً وثلثا دينار، وتبقّى لورثته ثمانيةٌ وسبعون ديناراً، وهي ضعف ما عتق منه. 7187 - وإن خرجت قرعة العتق للعبد الذي قيمته ستون ديناراً، عتق ثلثاه، ونصفُ تسعه. وحساب المسألة أن نقول: عتَقَ منه شيء ورق منه عبدٌ إلا شيئاً، وقد رجع قيمةُ العبد المقطوعة يده إلى سبعين ديناراً، وهي مثل عبد [وسدس] (8)، فيبقى معه عبدان

_ (1) زيادة من المحقق، لا يستقيم الحساب إلا بها. (2) في الأصل: ثلاثة. (3) في الأصل: ثمانية عشر. (4) في الأصل: بان. (5) في الأصل: وعشره وتسعة وثلاثون. (6) في الأصل: تسعها. (7) في الأصل: "تسعة وأربعون ديناراً وثلثان". وهو خطأ في الحساب واضح. (8) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام بدونها.

وسدس عبد إلا شيئاً، يعدل شيئين، فبعد الجبر يكون عبدان وسدس في معادلة ثلاثة أشياء، فنبسطهما أسداساً ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد ثمانيةَ عشرَ، والشيء ثلاثة عشر، وهي ثلثاها ونصف تُسعها، وقلنا: يعتق منه ثلثاه ونصفُ تسعه ورقَّ منه خمسةُ أجزاء من ثمانيةَ عشرَ جزءاً، ومعهم من العبد المقطوع يده مثل عبد وسدس عبد، بعد النقصان، فيكون الجميع عبداً وأربعة (1) أتساع عبد. وذلك ضعف ما عتق منه. 7188 - فإن خرجت قرعةُ عِتْق العبد المقتول وقيمته ثلاثون، وقيمة ديته مائة دينار، عتق منه ثلاثة أرباعه ونصفُ ثُمنه. وحسابه أن نقول: عتق منه شيء ورق باقيه، وهو عبد إلا شيئاً، وقد تلف هذا الباقي منه بالإتلاف، ومع ورثة السيد الذي قيمته ستون، وهو كعبدين بالنسبة إلى المقتول الذي خرجت القرعةُ عليه، والذي [نقصت] (2) قيمته بالقطع باقي قيمته بالنسبة إلى المقتول مثل عبدين وثلث عبد، فذلك أربعة أعبد وثلثا عبد، نقضي منها ما لزمه من الدية، وهو ثلاثة أمثال ما عتق من المقتول، [ومثل ثلثه] (3) فإذا كان المعتَق شيئاً وقع التمثيل بالأشياء، فعلى السيد لأجل الدية ثلاثة أشياء وثلثُ شيء، فيبقى مع ورثته أربعة أعبد وثلث عبد إلا ثلاثة أشياء وثلث شيء، وذلك يعدل شيئين: ضعفَ العتق، فبعد الجبر، يكون أربعة أعبد وثلث عبد يعدل خمسة أشياء وثلث شيء، فنبسطهما ونقلب الاسم فيهما فيكون العبد ستة عشر، والشيء ثلاثة عشر، فنعتق ثلاثة عشر جزءا من ستةَ عشرَ جزءاَّ مَنه، وهو ثلاثة أرباعه ونصف ثمنه، وقيمتها أربعة وعشرون ديناراً وثلاثة أثمان دينار، وجميع تركة السيد مائة وثلاثون ديناراً (4)، فالواجب عليه من الدية ثلاثةُ أمثال ما عتَق ومثلُ ثلثه، وذلك أحدٌ وثمانون ديناراً وربعٌ (5)، فنحط

_ (1) عبارة الأصل: "فيكون الجميع عبداً وثلاثة أجزاء وأربعة أتساع" وهو حشوٌ وخلل. (2) في الأصل: تقتضيه. (3) في الأصل: وقيل مثليه. (4) مائة وثلاثون ديناراً، أي قيمة العبد الثاني وهي 60، وقيمة العبد الذي نقص بالقطع، وهي 70 بعد النقص. أما العبد الثالث الذي قيمته 30 فقد تلف بالقتل. (5) أحد وثمانون ديناراً وربع: وذلك لأن الدية (100) والقيمة (30) فهي ثلاثة أمثال القيمة وثلثها. وقد عتق منه 3/ 4 الثلاثين ونصف ثمنها (1/ 16) من 30، وذلك يساوي =

ذلك من التركة، فيبقى من التركة ثمانيةٌ وأربعون ديناراً، وثلاثة أرباع دينار، وهي ضعف الأربعة والعشرين والثلاثة الأثمان. 7189 - مسألة: إذا أعتق في مرضه عبدين قيمة أحدهما عشرون ديناراً، وقيمة الآخر أربعون ديناراً، فقطع مَن قيمتُه عشرون يدَ مَنْ قيمتُه أربعون، ونقص بسبب الجناية من قيمته عشرة دنانير، وقيمة ديته لو كان حراً ثمانون ديناراً، ولم يكن للسيد مال غيرُهم، فإنا نقرع بينهما، فإن خرجت قرعة العتق على المقطوع يده عتق ثُلثُه، والحساب أن نقول: عتق منه شيء واستحق من الدية مثل القيمة؛ لأن دية المجني عليه ثمانون، وهي ضعف القيمة، وأرش الجناية مثل القيمة، فإن أرش [اليد] (1) نصفُ بدل الجملة، فالواجب في الأرش وقع مثلَ العتق لا محالة، وبقي [من] (2) العبد عبد إلا شيئاً، وقد نقص منه ربعه، فيبقى منه ثلاثة أرباع عبد إلا ثلاثة أرباع شيء، ومعه عبد آخر: قيمةُ نصفه، فذلك عبد وربع إلا ثلاثة أرباع شيء، نقضي منها الدية، وهو شيء، يبقى عبدٌ وربعُ عبد إلا شيئاً وثلاثة أرباع شيء، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيكون عبد وربع عبد، يعدل ثلاثة أشياء وثلاثة أرباع شيء، فنبسطهما أرباعاً ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد خمسةَ عشرَ، والشيء خمسة: هي ثلثها، فقلنا: إنه عتق منه الثلث، وقيمته يوم العتق ثلاثةَ عشرَ ديناراً وثلثُ دينار نعني قيمةَ الثلث، وبقي منه ستةٌ وعشرون ديناراً وثلثان، نقص منها بالجناية رُبعها، وذلك ستةُ دنانير وثلثان، فيبقى من الرقبة عشرون ديناراً، ومعه رقبةٌ أخرى قيمتها عشرون ديناراً، فيسلِّم منها في [المتبع] (3) مقدارَ الواجب في الدية، وذلك ثلاثةَ عشرَ ديناراً وثلثَ دينار، فيبقى من هذه الرقبة الجانية ستةٌ وثلثان، ومن المجني عليه عشرون ديناراً، والمجموع ستة وعشرون ديناراً وثلثا دينار، وذلك ضعف ما عتق من المجني عليه.

_ = 1/ 2 22+ 7/ 8 1= 3/ 8 24 هذا قيمة ما عتق، فإذا ضرب في 1/ 3 3 (التي هي نسبة الدية من القيمة) كان المردود 1/ 4 81 ديناراً. (1) مكان بياض بالأصل. (2) في الأصل: ثمن العبد. (3) كذا: "المتبع". انظر صورتها.

7190 - وإن خرجت قرعةُ العتق على الذي قيمتُه عشرون، عتَق خمسةُ أسداس ذلك العبد. وحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، ورق منه عبد إلا شيئاً، ومعه العبد المجني عليه، وقيمته [بعد] (1) النقصان عبدٌ ونصف عبدٍ بالإضافة إلى العبد الذي العتق منه، فالمجموع عبدان ونصف عبد إلا شيئاً، وذلك يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة [يكون] (2) عبدان ونصف عبد في معادلة ثلاثة أشياء، فنبسطهما أنصافاً، ونقلب الاسم، فيكون العبد ستةً والشيء خمسة، فقد عتق منه خمسةُ أسداسه، وقيمته ستةَ عشرَ ديناراً وثلثا دينار، وتبقى سدسه وقيمته ثلاثة دنانير وثلث دينار، ومع الورثة العبد المجني عليه، وقيمته بعد النقصان ثلاثون ديناراً، فالحاصل في أيدي الورثة ثلاثة وثلاثون ديناراً وثلث دينار، وهي ضعف الستةَ عشرَ وثلثي دينار، التي هي قيمة ماعتق منه. وهذا الجواب إنما يصح إذا لم يكن في يد هذا المعتَق الجاني ما يغرَم به لسيده أرشَ الجناية، فلو كان، لزادت التركة، واختلف الحساب. مسائل في الهبة وجناية الموهوب على الواهب 7191 - إذا وهب في مرضه عبداً، وأقبضه، لا مال له غيرُه، فقتل العبدُ الموهوبُ الواهبَ خطأً. فإن كانت قيمته مثلَ الدية، صحت الهبة في نصفه، وسُلِّم ذلك النصف في الجناية، وكذلك لو فداه الموهوب له، فالجواب يخرج كذلك، سواء قلنا: الفداء [بالأقل] (3) أو بالدية، فإن المقدارين [متساويان] (4)، فيبقى نصف العبد لورثة الواهب، ويعود إليهم مثلُ نصفه بالفداء، أو بالتسليم (5) للبيع، فيكون الحاصل في

_ (1) في الأصل: يعدل. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "بالأول". (4) في الأصل: المتساويين. (5) في الأصل: وبالتسليم.

يد ورثة الواهب ضعفُ ما صحت الهبةُ فيه، وتُهدر الجنايةُ في نصفها؛ فإنها تكون واقعةً من النصف الذي بطلت الهبةُ فيه تبيُّناً، وجناية المملوك على مالكه مهدرة. 7192 - وإن كانت قيمة العبد أقلَّ، وفرعنا على الأصح، وهو أن [الفداء] (1) يقع بالأقل، فيرجع الفداء إلى اعتبار القيمة، وتصح الهبة في النصف، ويبقى النصف، ويعود مثل نصفه بالفداء أو بالتسليم للبيع. فإن قلنا: الفداء بالأرش، وكان الأرش ضعفَ القيمة أو أكثر، واختار الموهوب له الفداء، صحت الهبة في الجميع. وقد تدور المسألة. 7193 - ونحن نذكر صوراً في الدور: منها: إن قيمة العبد لو كانت عشرين ألفاً، وقيمةُ دية الواهب عشرةُ آلاف، فنقول: صحت الهبةُ في شيء من العبد، وبطلت في عبد إلا شيئاً، ورجع إلى ورثة الواهب بالجناية نصفُ شيء؛ فإن الدية نصف القيمة، يبقى معهم عبد إلا نصفَ شيء يعدل شيئين، وهو يعدل بعد الجبر والمقابلة شيئين ونصفَ شيء، فالشيء من شيئين ونصفٍ خمساه، فصحت الهبة في [خمسي] (2) العبد، وقيمته ثمانية آلاف، ويسلّم إلى ورثة الواهب مقدار [خُمسي] (3) الدية، وذلك مثل خمس الرقبة، فيحصل مع ورثة الواهب من الرقبة ومن الدية مثلُ أربعة أخماس الرقبة، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه. فإن كانت قيمته ثلاثين ألفاً، وقيمة الدية عشرة آلاف، فتصح الهبة في ثلاثة أثمانه، وتبطل في خمسة أثمانه، ويرجع إلى ورثة الواهب بالتسليم أو بالفداء مثل ثلث ما صحت الهبة منه، وذلك ثمن واحد، فاجتمع معهم ستةُ أثمان، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه. وطريق الحساب كما تقدم. فإن كان قيمته ألفاً، واختار الموهوب له الفداء، وقلنا: إن الفداء يقع بالدية،

_ (1) في الأصل: المقدار. (2) في الأصل: خمس. (3) في الأصل: خمس.

تمت الهبة في جميعه، وفداه بالدية الكاملة. وكذلك إذا كانت قيمته مثلَ نصف الدية أو أقلَّ. فإن كانت قيمته ستة آلاف والدية عشرة آلاف، صحت الهبة في شيء منه، وفداه بمثله ومثل ثُلثيه؛ إذ العشرة من [الستة] (1) على هذه النسبة تقع، وبطلت الهبة في عبد إلا شيئاً، ورجع بالفداء شيء وثلثا شيء، فاجتمع معهم عبد وثلثا شيء، يعدل شيئين، فنطرح ثلثي شيء بثلثي شيء قصاصاً، فيبقى عبد يعدل شيئاً وثلث شيء، فنبسطه أثلاثاً، ونقلب الاسم، فيكون العبد أربعة والشيء ثلاثة، وهي ثلاثة أرباعها، فقد صحت الهبة في ثلاثة أرباع العبد، وبقي مع ورثة العبد من الرقبة ربع عبد، ومن الفداء عبد وربع، فذلك عبد ونصف وهو ضعف ما صحت الهبة منه. 7194 - مسألة: إذا وهب في مرضه عبداً لا مال له غيرُه، وأقبضه، فقتل العبدُ الواهبَ، فعفا عن الجناية الواهبُ، وأوصى بأرشها، فالهبة مقدمة على [العفو] (2)، لتقدمها عليه بالوجود. فإن كانت قيمته نصفَ الدية أو أكثر، بطل العفو؛ لأن الهبة تستغرق الثلث، فكأنه لم يعف، وجوابه على ما مضى إذا لم يكن عفو. فإن كانت القيمة أقلَّ من نصف الدية، نظر: فإن اختار الموهوب له التسليم أو اختار الفداء، وقلنا: إن الفداء يقع بالقيمة، بطل العفو أيضاً، وكان حكمه على ما مضى، وإن اختار الفداء وقلنا: إن الفداء يقع بالدية، صرف الفاضل من الثلث عن الهبة في العفو، فإن كانت القيمة ألف درهم والدية عشرة آلاف، صحت الهبة في جميعه، وصح العفو في شيءٍ منه، وفدى باقيه وهو عبد إلا شيئاً بعشرة أمثاله، وذلك عشرةُ أعبد إلا عشرةَ أشياء، وذلك يعدل ضعف ما يصح بالهبة والعفو، وقد صح بالهبة عبدٌ، والعفو شيء، فضعفهما عبدان وشيئان، فإذا جبرنا وقابلنا بعشرة أعبد في معادلة عبدين واثني عشر شيئاً، فنسقط عبدين بعبدين، فيعدل [ثمانية] (3) أعبد اثني

_ (1) في الأصل: الستة عشر. (2) في الأصل: الواهب. (3) في الأصل: ثلاثة أعبد. وهو خطأ.

عشر شيئاً، فنقلب الاسم فيكون العبد اثني عشر، والشيء ثمانية، وهي ثلثاه، فنقول صح العفو في ثُلثيه. والامتحان أن الهبة صحت في جميعه وهو ألفُ درهم، وصح العفو في ثلثيه، وذلك ثلثا ألف، والوصيتان ألف وثلثا ألف، وبطل العتق في ثلث العبد، يفديه الموهوب له بثلث الدية، وذلك ثلاثة آلاف، وثلث ألف، وذلك ضعف ما صح بالهبة والعفو. فإن كانت قيمته ألفين والدية عشرة آلاف، صحت الهبةُ في جميعه، وصح العفو في شيء منه، وفدى باقيه، وهو عبدٌ إلا شيئاً بخمسة أمثاله، وذلك خمسة أعبد إلا خمسة أشياء تعدل عبدين وشيئين، كما تقدم، فبعد الجبر والمقابلة وقلب الاسم، وإلغاء المثل بالمثل، يكون العبد سبعة والشيء ثلاثة، فيصح العفو في ثلاثة أسباع ألف، فالوصيتان (1) ألفٌ وثلاثة أسباع ألف، وبطل العفو في أربعة أسباع العبد وفداها الموهوب له بخمسة أمثالها، وذلك عشرون سبعاً، فبالاختصار والتأليف (2) يكون ألفين وستة أسباع ألف، وذلك ضعف ما صحت الهبة والعفو منه. 7195 - مسألة: إذا وهب عبداً في مرضه وسلّمه، ثم إنه قتل الواهب قَتْلَ قصاصٍ، فالتفصيل في أن العفو إذا قُرن بالمال [أوْ جاء مطلقاً جائزٌ] (3) من غير رضا الجاني، فإن عفا مطلقاً [فهل] (4) يوجب المال؟ [يأتي] (5) مستقصىً في [كتاب] (6) الجراح، ولسنا نطوّل بذكره الآن. ونقتصر على ذكر ما يختص بغرضنا. فنقول: إذا عفا السيد الواهبُ عن القصاص [مطلقاً] (7)، سقط القصاص، فإن عفا على مالٍ، كان

_ (1) الوصيتان: أي الهبة والعفو. (2) التأليف: أي تحويل الأسباع إلى آلاف. فكل سبعة أسباع تساوي ألفاً. (3) مكان بياض بالأصل. (4) في الأصل: فلا. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) زيادة لاستقامة العبارة. (7) مكان بياض بالأصل.

كما لو كان قتله العبد خطأً، واستمرت المسألة في [حكمها] (1) وحسابها على ما تقدم. وإن عفا على غير مالٍ، فتفصيل القول [في] (2) عفو المريض عن الدية في الجناية الموجبة للقصاص كتفصيل القول في المفلس، واستقصاء الكلام في [عفو] (3) المفلس عن الجناية الموجبة للقصاص وعن أرشها من أصول المذهب في كتاب الجراح. وكذلك القول في العفو مطلقاً من غير تعرض للمال نفياً وإثباتاً. فإذا قتل العبدُ الموهوبُ الواهبَ خطأً وخلّف ورثةً فأبرءوا عن الدية، فقد قال الأستاذ: الإبراء منهم بمثابة استيفاء الحق. ثم لو فرضنا استيفاء الحق، لم يتغير من مقتضى المسألة على ما يوضحه الحساب شيء، فإنه إنما يستوفي ما يجب له، فإن زاد كانت الزيادة مردودةً، وكذلك الإبراء النازل منزلة الأداء لا يغيّر من حكم المسألة شيئاً، ووضوح ذلك يغني عن بسط القول فيه. 7196 - فإذا كانت الجناية موجبةً للقصاص ثم فُرض العفو عن القود على وجهٍ لا يثبت المالُ معه من المطلق، فهذا يفرَّع على أن العفو في [العمد] (4) هل يقتضي المال مطلقاً؟ فإن قلنا: إنه لا يقتضي المال، [فهذا يتفرع] (5) على أن موجَب العمد القودُ المحض، والعفوُ المطلق لا يوجب المال. فعلى هذا إذا جرى العفو مطلقاً، وكان المال لم يثبت في أصله، [لم] (6) يؤثر العفو في إسقاطه، فإذا لم يثبت المال، تجردت الهبة، وجُعل الجناية كأن لم تكن، ولو تجردت، لكان الحكم [فيها] (7) إذا جرت من المريض -ولا مال له غيرُ الموهوب - أن تحتسب الهبةُ من الثلث.

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: عفة. (4) في الأصل: العهد. (5) في الأصل: وهذا لا يتفرع. (6) في الأصل: ولم. (7) في الأصل: منها.

وإن قلنا: [الجنايةُ] (1) توجب المالَ، والعفوُ المطلَقُ لا يسقطه، فإسقاطه القصاصَ يُقرِّر المالَ إذا لم يتعرض له، ويعود التفصيل: إن الجناية الموجبةَ للمال الواقعةُ خطأً، وإن عفا العافي عن القود والمال، فالعفو عن المال بعد ما حكمنا بثبوته بمثابة الإبراء عن دية الخطأ، وقد ذكرنا أن الإبراء عن دية الخطأ [كاستيفائها] (2) وسبيلهما جميعاً: ألا يغيرَ حسابُ المسألة وفقهُها. 7197 - فإن قتل العبدُ الواهبَ قَتْلَ قصاصٍ، وخلّف ابنين، فإن عفا الابنان جميعاً، تفرع على ما ذكرناه، وأن المال هل يجب بالقتل أم كيف السبيل فيه؟ فإن غلّبنا القصاصَ، فإن عفَوَا [على] (3) مال، التحقت المسألة بما إذا كانت الجناية خطأ؛ فإن المال إذا ثبت، استند إلى القتل عندنا. وإنما يظهر اختلاف القول فيه إذا جرى العفو على غير مال، فلو جرى العفو منهما على وجه لا يُثبت المال، فهو كما تقدم. وإن قلنا: لا يثبت أصلاً، فهبةٌ مجردةٌ من مريضٍ. وإن قلنا: يثبت المال، ويسقط بالإسقاط، فالإسقاط كالاستيفاء، والمسألة مشتملةٌ على هبةٍ وجنايةٍ مثبتةٍ للمال. فإن عفا أحد الورثة على غير مال دون الثاني، فلا شك أن القصاص يسقط، ويثبت المال في حق من لم يعفُ، فالذي عفا يفرَّع أمرُه على ما ذكرنا. فإن قلنا: يثبت المال في حقه، ويسقط بإسقاطه، فهو بمثابة الإبراء عن المال إذا وقع القتل خطأً، وإن قلنا: المال لم يثبت بالقتل أصلاً في حق العافي، فوجه الجواب في المسألة أن نقول: [النصف] (4) الذي يتعلق حكمه [بالعافي] (5) حكمه في حقه كحكم هبةٍ مجردةٍ

(1) في الأصل: لا جناية. (2) في الأصل: واستيفائها. (3) في الأصل: عن. (4) في الأصل: النص. (5) في الأصل: فالعافي.

لا جناية فيها، وحكم النصف في حق من لم يعف كحكم هبةٍ مع جريان الجناية الموجبة للمال. وليقع الفرض فيه إذا كانت القيمةُ مثلَ الدية، فنقول: أما العافي من الابنين، فالنصف في حقه كعبدٍ [تجردت] (1) فيه الهبة على الأوصاف المقدمة، فينفذ التبرع في ثلثه ويرتدُّ في ثلثيه، وثلثُ النصف سدس الجميع. وأما الذي لم يعف، فالمال ثابت في حقه، فحكم نصفه كحكم عبدٍ فرضت فيه الهبة مع الجناية، وكان الأرش كالقيمة مثلاًً؛ حتى [لا يتفرعّ] (2) الحكم في التقاسيم وحكم مثل نصف ذلك أن ينفذ التبرع في النصف، ليكون نصف الباقي مع المال الذي يحصل بسبب الجناية ضعفاً لما يصح التبرع فيه. فخرج من ذلك أن الموهوبَ له يرد الثلثَ: ثلثَ العبد إلى العافي بسبب انتقاض الهبة، ويسلِّم إلى الآخر الربعَ بسبب انتقاض الهبة، ويسلِّم الربع الآخر إلى من [لم] (3) يعف إن اختار التسليمَ في الجناية أو يفدي، فيحصل في يد من لم يعفُ نصفُ العبد أو مقدارُه، ويحصل في يد من عفا ثلثُ العبد، ويَسْلَم للموهوب له سدُسُ العبد بلا مال يبذله في مقابله؛ لمكان العفو. هذا بيان فقه هذه المسائل. 7198 - مسألة: لو وهب في مرضه عبداً وأقبضه، ثم إن العبد قتل أجنبياً خطأ، ثم قتل سيدَه، فإن اختار الموهوب له الدفعَ والتسليمَ [وكانت] (4) قيمةُ العبد قدرَ الدية أو أقلَّ، بطلت الهبة من أصلها، وكأنها لم تكن. ثم من حُكم ذلك [إهدار] (5) الجناية على السيد؛ [إذ] (6) تبيّن أن العبد جنى على مالكه. ونقول للورثة: إن سلمتم

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل، وفي أوله جزء كلمة هكذا (بحر). مع وضع علامة (ح) تحت الحرف الأول. (2) في الأصل: يتورع. (3) زيادة من المحقق. (4) فى الأصل: فكانت. (5) في الأصل: إهداء. (6) زيادة من المحقق.

العبد بالجناية، فسلموه ليباع في دية الأجنبي، وإن أردتم الفداء، فافعلوا ما بدا لكم، ولا زيادة على ما قدمناه، من أن الهبة باطلةٌ من أصلها، وهذا عبد جانٍ، والورثة في تسليمه وفدائه بالخيار. هذا فتوى المسألة وحكمُها، وعليه ما ذكرناه أن القيمة إذا كانت مثل الدية. 7199 - فلو فرضنا [نفاذ] (1) الهبة في [جميعه] (2) مثلاَّ، فموجبُه توجُّه الطَّلِبة بحكم الجناية على الموهوب له؛ [فإنه] (3) مالك الرقبة على تقدير صحة الهبة، فلو سلَّم العبدَ، [فإنه] (4) يكون بين الأجنبي والواهب نصفين؛ فإنّ تقدّم الجناية لا يثبت للمجني عليه أولاً حقَّ التقدم، وإذا سلّم الموهوبُ له نصفَ العبد إلى الواهب، فليس يسلَّم لورثته إلا النصف على هذا التقدير، ويستحيل أن يصحّ التبرّعُ في جملةٍ، ويسلم الورثةُ مثلَ نصفها، [بل] (5) موجَبُ الشرع أن يصح التبرع في [شيء] (6) ويسلم الورثة ضعفَه. فلو قلنا: يرجع النصف إلى الورثة، وتصح الهبة في الربع، بطلت الثلاثة الأرباع. ثم إذا جنى على الأجنبي وعلى السيد الواهب، فتهدر الجناية على السيد ممَّا لم تصح الهبةُ منه، ويسلّم إلي ورثة الأجنبي المقتول كلُّه، فلا يبقى لورثة الواهب شيء، ولا نقدر الهبة في مقدارٍ [إلا] (7) وتهدر جنايةُ العبد على مولاه فيما بطلت الهبة فيه، ويسلم جميع ما بطلت الهبة فيه [إلى] (8) الأجنبي، فلا يتسق تصحيح الهبة في شيء أصلاً؛ فإن جميع قيمته مستوعَبةٌ [بدية] (9) الأجنبي. والمسألة فيه إذا كان العبد يسلم

_ (1) في الأصل: بفساد. (2) في الأصل: جميعها. (3) في الأصل: فأما. (4) في الأصل: مايه. (5) في الأصل: إلى. (6) مكان بياضٍ في الأصل. (7) زيادة اقتضاها السياق. (8) في الأصل: إلا. (9) في الأصل: بفقه.

[في] (1) الجناية، ولا يتصور أن يسلم شيء من العبد في الجناية على الواهب؛ فإنه إنما يسلم (2) ما تصح الهبة فيه، ولا يبقى وراء ما نقدّر فيه صحةَ الهبة لورثة الواهب (3). وهذا ظاهر، ولكن على المنتهي أن يعتني بفهمه؛ فإنه فنٌّ من الدور، ولا انقطاع له، وسنبني عليه مسائل، فقد صح ما قدمناه في فتوى المسألة. وهذا فيه إذا كانت القيمة قدر الدية أو أقلَّ، واختار الموهوبُ له تسليمَ العبد. وإن اختار الموهوبُ له الفداء في قول من رأى الفداء بالقيمة، فالجواب كما مضى؛ لأن الفادي بالقيمة لا يزيد على قيمة واحدةٍ في حق [الدّيتين] (4) فيقتضي الحساب ما ذكرناه. فأما من رأى الفداء بالدية، نُظر: فإن كانت قيمتُه مثلَ نصف الدية أو أقل من [الدية] (5) في الجميع، فإن الفادي بالدية يفدي بديتين؛ [إذ] (6) شَرْط أن يفدي بأرش الجنايات بالغةً ما بلغت، وإذا فدى كلَّ قتيل بديته، فيقع العبد شطرَ الفداء أو أقلَّ من الشطر. 7200 - وإن كانت قيمة العبد أكثرَ من [نصف] (7) الفداء إلى تمام الدية من غير مزيد، [كأن تكون ستة آلاف، والدية عشرة آلاف مثلاً] (8)، فالحكم أن نقول: إذا زادت على النصف، ولم تزد على مقدار الدية، والتفريع على أن الفداء بالدية، بطلت

_ (1) في الأصل: إلى. (2) عبارة الأصل: "فإنه إنما ما يسلّم ما تصح الهبة فيه" وهي على ركاكتها خطأ. فالمعنى المقصود هو: أن المقدار الذي تصح الهبة فيه هو الذي يسلّم إلى ورثة الواهب، فإنه المقدار الذي صار بلهبة ملكاً للغير، لكن الذي لم تصح فيه الهبة، فهو على ملك سيده، فجنايته مهدرة، فلا يسلّم في الجناية، وإنما تتعلق برقبته دية الأجنبي المقتول في مسألتنا هذه. (3) أي يسلم لورثة الأجنبي، وهذا ظاهر من التعليق السابق. (4) في الأصل: الفئتين. (5) في الأصل: الهبة. (6) في الأصل: إن. (7) ساقطة من الأصل. (8) زيادة اقتضاها السياق.

الهبة في الجميع، وتعليل ذلك أنا لو صححنا الهبة في الجميع [مثلاً] (1)، وقلنا: الموهوب له يفدي العبدَ، فيسلِّم على هذا التقدير لورثة الواهب عشرةَ آلاف، وقيمة العبد ستة آلاف، فلا يكون ما سلم لهم ضعفَ الهبة. ولو قلنا: تصح الهبة في نصف العبد مثلاً، فالموهوب له على هذا [التقدير] (2) يفديه بنصف الدية، فلا يحصل للورثة ضعفُ التبرع؛ فإن التبرع ثلاثة آلاف، ونصف الدية على ما قدرنا خمسةُ آلاف، فلا يكون الحاصل ضعفَ التبرع. فإن قيل: قد بطلت الهبة في نصف العبد على هذا التقدير الذي نحن فيه، فينبغي أن نضم هذا النصف إلى نصف الدية، فيزيد المجموع على ضعف ما قدرنا التبرع فيه. قلنا: إذا كان الموهوب له يفدي على نسبة ما ملكه من العبد، وقد قدرنا له الملك في نصف العبد؛ فإنه لا يفدي في حق الأجنبي إلا بنصف الدية أيضاً، فيبقى له من حقه نصف الدية، والنصف الباقي من العبد [جنايته] (3) هدر على الواهب؛ فإنها جناية على المالك، فيتعين صرفُ ذلك النصف إلى الأجنبي. وإن نقصنا مقدار الموهوب، لم يتخلص عن هذه النسبة، ولم ينتظم لنا اعتدال الثلث والثلثين، فلا يزال ينقص، ومنتهى ذلك الحكم بإبطال الهبة رأساً، وهذا الملك يجري من زيادة القيمة على نصف الدية إلى أن يزيد على تمام الدية، والتفريع على الفداء بالأرش. 7201 - فإن كانت قيمته أكثرَ من الدية مثل أن كانت قيمته عشرين ألفاً والدية عشرة آلاف، فتصح الهبة في شيءٍ لا محالة، وتعليل صحتها على الجملة إلى أن نحسب أنا إذا قدرنا الصحة في جزءٍ على ما يقتضيه الحساب وأبطلنا الهبة في بقية العبد، وقدَّرنا تسليم البقية في الجناية، فلا حاجة إلى تسليم الكل، فيبقى للورثة شيء؛ فإن جرى الفداء بالأرش، فإن القيمة زائدة على الدية، وإن كان تبقى لهم شيء، فلا بد من نفوذ التبرع في شيء.

_ (1) في الأصل: مالاً. (2) في الأصل: التقدم. (3) في الأصل: جناية.

وسبيل الحساب أن نقول: صحت الهبة في شيء ورجع نصف ذلك الشيء إلى الواهب بسبب الجناية؛ فإن الهبة إذا صحت في شيء، وثبت الملك فيه، ثم فرضت الجناية على الواهب، فاختار من حصل له الملك الفداءَ (1) بالدية، والدية نصف القيمة، فلا بد وأن يرجع بالجناية نصفُ ما يخرج بالهبة، فقد استقام قولنا: صحت الهبة في شيء ورجع نصف ذلك الشيء [إلى ورثة الواهب] (2)، ورجع نصفه أيضاً إلى ورثة الأجنبي، وبطلت الهبة في عبد إلا شيئاً، وورثة الواهب يلزمهم تسليمُ نصفهم إلى ورثة الأجنبي؛ فإنه إذا ثبت ملكٌ فيما بطلت الهبةُ فيه، تعلق ضمان الأجنبي بذلك القدر، فيبقى مع ورثة الواهب نصف عبدٍ إلا نصفَ شيءٍ [مضمومٌ] (3) إليه ما رجع إليهم بالجناية، وهو نصف شيء، فيبقى لهم نصف عبدٍ [لا استثناء منه] (4)، وذلك يعدل شيئين: ضعفَ التبرع، فالشيء ربعُ العبد، وهو الذي نفذت الهبة فيه، وقيمته خمسة آلاف، وبطلت الهبة في ثلاثة أرباع العبد، وورثة السيد يفدونها بثلاثة أرباع الدية، أو يسلمون ذلك القدرَ: ثلاثة [أرباع العبد] (5)، فيبقى معهم مقدارُ سبعة آلاف وخَمسُ (6) مائة، والموهوب له يدفع الربع الذي صحت الهبة فيه إلى ورثة الواهب، وورثة الأجنبي نصفين، أو يفديه من كل واحد منهما بربع الدية، فيجتمع لورثة الواهب عشرة آلاف (7)، وهي ضعف ما نفذت الهبة فيه، ونهدِر (8) الجناية على ثلاثة أرباع السيد؛ لأنها جناية على المالك. 7202 - فإن [كان] (9) العبد قتل السيدَ أولاً، ثم قتل الأجنبيَّ بعده، وقيمته ألف

_ (1) في الأصل: في الفداء. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: مضمون. (4) في الأصل: إلا استثناء. (5) زيادة من المحقق. (6) يبقى 7500 لأن الباقي الذي بطلت الهبة فيه من العبد (15000) خمسة عشر ألفاً، فإذا أخذ منها 3/ 4 الدية التي هي 3/ 4 × 10000=7500، بقي 7500. (7) يجتمع لهم (10000) عشرة آلاف، لأن الموهوب له سيدفع الربع الذي صحت الهبة، وهو خمسة آلاف، نصفين بينهم وبين ورثة الأجنبي، فيكون 2500 + 7500 = عشرة آلاف. (8) نهدر من باب ضرب وقتل. (9) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

درهم مثلاًً، فإن لم يُجز الورثةُ الهبةَ [فما] (1) تصح فيه الهبةُ على ما ذكرنا، [جنى] (2) أو لم [يجن] (3) على الأجنبي، والسبب فيه [أنه بقتل] (4) السيد [فاتت] (5) التركة، وانتقل الحق إلى الورثة، وإذا [فاتت] (5) التركة، [فات] (6) [ ... ] (7) ما صحت الهبة فيه ولا يتغير هذا بجنايةٍ أخرى من العبد بعد انتقال الحق إلى الورثة، ثم يفدي ورثةُ السيد [ما بطل] (8) فيه الهبة من الأجنبي، ويفدي الموهوب له ما صح فيه الهبة من ورثة كلِّ واحدٍ منهما؛ لأنه [جنى] (9) على الأجنبي وهو في ملك الورثةِ، والموهوبِ له. وحسابه أن الهبة صحت (10) في شيء منه، ثم إن الموهوبَ له دفع نصفَ الشيء إلى ورثة الواهب، ونصفَه إلى ورثة الأجنبي، فحصل لورثة الواهب عبد إلا نصفَ شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة بالبسط يكون الشيء خمسَي العبد، وهو الجاني بالهبة ويدفع الموهوبُ له الخمسين بالجناية، فيحصل لورثة الواهب أربعةُ أخماس العبد بقاءً وعوداً إليهم، وهي ضعف الهبة، ثم يدفعون ثلاثة الأخماس التي بطلت فيها الهبة إلى ورثة الأجنبي؛ لأنه جنى عليه، وهو في ملكهم. فإن اختار الموهوبُ له الفداء، فمن رأى الفداء بالقيمة، فجوابه كذلك، ومن فدى بالدية، فإنه يقول: تمت الهبة في العبد؛ فإن الموهوب له يفديه من [كل] (11) واحد بالدية الثابتة، فيحصل في يد ورثة الواهب أكثرُ من الضعف. فإن كانت قيمته ستةَ آلاف والدية عشرة آلاف، صحت الهبة في شيء، وفداه بشيءٍ

_ (1) في الأصل: فيما. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: تجر. (4) عبارة الأصل: والسبب فيه مثل السيد. (5) في الأصل: بانت. (6) في الأصل: بان. (7) كلمة غير مقروءة. (8) في الأصل: فابطل. (9) في الأصل: جرى. (10) عبارة الأصل: أن الهبة إن صحت في شيء منه. (11) زيادة من المحقق.

وثلثي شيء، من كل واحد منهما؛ فإن التفريع على الفداء بالأرش والدية زائدة على القيمة [بثلثيها] (1)، فيحصل لورثة الواهب عبدٌ وثلثا شيء يعدل شيئين، فنطرح [ثلثي شيء] (2) بثلثي شيء قصاصاً، فيبقى عبدٌ في معادلة شيء وثلث شيء، فنبسط ونقلب الاسم، فيكون الشيء ثلاثة أرباع العبد، وهي التي تصح الهبة فيه. ثم الموهوب له يفدي من كل واحد منهما ما صحت الهبة فيه بثلاثة أرباع الدية، فيحصل لورثة السيد ثلاثة أرباع الدية وربع العبد وذلك تسعة آلاف، وهي ضعف الهبة، يفدي ورثة الواهب ربعَ العبد، أو يسلمونه في حق فدية الأجنبي؛ فإن الجناية على الأجنبي وقعت بعد قتل الواهب في هذه المسائل، وبعد استقرار الملك للورثة. 7203 - فإن كانت قيمته والمسألة بحالها عشرين ألفاً والدية عشرة آلاف، صحت الهبة في شيء من العبد، وفداه الموهوب له من كل واحد منهما بنصف شيء، فيحصل لورثة الواهب عبدٌ إلا نصفَ شيء يعدل شيئين، [فبعد] (3) الجبر والبسط وقلب الاسم يكون الشيء [خُمسا] (4) العبد، فنقول: تصح الهبة في [خمسيه] (5)، ويرجع أحد الخمسين إلى ورثة الواهب بالجناية، وهو نصف ما صحت الهبة فيه، فيحصل لهم قدر أربعة أخماسه، وذلك ضعف ما صحت الهبة فيه، وجناية ثلاثة أخماسه على الواهب هدر، ثم يفدي ورثة الواهب ثلاثة أخماسه من الأجنبي بثلاثة أخماس الدية. 7204 - مسألة: إذا وهب عبداً في مرضه، وسلّمه، فجنى العبد مع أجنبي، فقتلا الواهبَ خطأ. فإن كانت قيمته نصفَ الدية أو أقل، تمت الهبة، وفداه الموهوب له بنصف الدية، أو سلمه، وأخذ من الأجنبي نصف الدية، فيكون الحاصل في أيدي ورثة الواهب أكثرَ من ضعف الموهوب، وهو العبد.

_ (1) في الأصل: بثلثها. (2) في الأصل: ثلث شيء. (3) في الأصل: فمقدار. (4) في الأصل: خمس. (5) في الأصل: خمسه.

وإن كانت قيمته مثل الدية، فنقول: صحت الهبة في شيء، وفداه الموهوب له بنصف شيء؛ فإن الأرش يتعلق بالجانبين، فيخص المقدارَ الموهوبَ نصفٌ، فإن القيمة كالأرش، فنقول: إذا صحت الهبة في شيء ورجع من جهة الموهوب له نصفُ شيء، ويأخذ ورثة الواهب من الأجنبي نصف الدية وهو خمسة آلاف، فيجتمع معهم خمسةَ عشرَ ألفاً إلا نصفَ شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر والبسط يكون الشيء [خمسي] (1) خمسة عشرَ ألفاً وذلك ستةُ الاف، وهو المقدار الذي صحت الهبة فيه من العبد، وذلك ثلاثة أخماس العبد، فيفديه الموهوب له بثلاثة أخماس نصف الدية، وذلك ثلاثة آلاف، ويأخذون من الأجنبي نصف الدية، فيجتمع مع ورثة الواهب اثنا عشر ألفاً، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه. 7205 - مسألة: إذا وهب في مرضه عبداً، وأقبضه، فقتل العبد الموهوبَ له خطأً، وقيمته مثلُ الدية أو أقلَّ، ثم مات الواهب. قلنا للورثة: إن [أجزتم] (2) الهبة، نفذت، وبطلت الجناية؛ لأنها على مالك الجاني، وإن لم تجيزوها بطلت الهبة جملةً؛ فإن الهبة لو صحت [في] (3) مقدارٍ، فالذي لا تصح الهبة فيه يجب تسليمه إلى الموهوب [له] (4) بحكم الجناية أو الدية، مثل القيمة، أو أكثر، فلا يبقى للورثة شيء. فإذا لم يبق لهم شيء، لم تنفذ الهبة في شيء، وإذا بطلت الهبة في جميعه، عند رد الورثة قُبل منهم تسليم العبد أو الفداء لورثة الموهوب له بسبب الجناية، فإن كانت قيمته عشرون ألفاً والدية عشرة آلاف، قلنا: جازت الهبة في شيء، وفدى الورثةُ باقي العبد بقدر نصفه؛ فإن الديةَ نصفُ القيمة، فيبقى معهم عبد إلا نصفَ شيء، كان عبداً إلا شيئاً بسبب الهبة، ثم جبره مما بقي نصفه، فبقي نصف عبد إلا نصف شيء، وهذا يعدل شيئين، فبعد الجبر

_ (1) في الأصل: خمس. (2) في الأصل: أخرتم. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة من المحقق.

والمقابلة وقلب الاسم يكون [الشيء] (1) [خمسي] (2) نصف العبد، وهو بالإضافة إلى العبد خُمسه. فنقول: صحت الهبة في خُمسه، والجناية هدَرٌ في هذا الخمس؛ فإنها جناية المِلْك على المالك، ويفدي ورثة الواهب أربعة أخماسه بأربعة أخماس الدية، وهو مثل [خمسي] (3) الرقبة، فبقي معهم خمساها، وهي ضعف ما صحت الهبة منه. 7206 - فإن قتل العبدُ الواهبَ، ثم قتل الموهوبَ له، نظر: فإن اختار ورثةُ الواهب الهبةَ، صارت [جنايته] (4) على الموهوب له [هدراً] (5) وفداه ورثة الموهوب له، وفداه ورثة الواهب. وإن لم يجيزوا الهبة، نُظر: فإن اختار ورثةُ الموهوب له الدفعَ، وقيمتُه قدرُ الدية أو أقل، قلنا: صحت الهبة في شيء منه، وسلم ورثةُ الموهوب له ذلك الشيء إلى ورثة الواهب بالجناية، فيحصل لهم عبد كاملٌ بقاءً وعوداً يعدل شيئين، فالشيء نصفُ العبد، وهو المقدار الذي صحت الهبة فيه، وتبطل الهبة في نصفه، ويهدر نصفُ دم كل واحد منهما، من جهة أن كل واحد منهم [كان مالكاً] (6) لنصفه في حال جنايته عليه، ويجب على ورثة كل واحد منهما تسليم نصف العبد بجنايته، فيصير ذلك قصاصاً. وإن اختار ورثةُ الموهوب له الفداء، وقيمته نصفُ الدية أو أقلُّ، تمت الهبة، وصار دم الموهوب له هدَراً، وفدَوْه من ورثة الواهب بالدية. وإن كانت قيمته عشرين ألفاً [والدية عشرة آلاف] (7)، جازت الهبة في شيء، ورجع إليه بالجناية نصفُ شيء، فيحصل لورثة الواهب عبدٌ إلا نصفَ شيء، يعدل

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: خمس. (3) في الأصل: خمس. (4) في الأصل: جناية. (5) في الأصل. هذا. (6) مكان بياضٍ بالأصل. (7) زيادة من المحقق.

شيئين فبعد الجبر والمقابلة والبسط، يقع الشيء [خمسي] (1) العبد، وتصح الهبة في خمسيه، والموهوب له يفديه من ورثة الواهب [بخمسي] (2) الدية، وهو مثلُ خمس الرقبة، فيحصل لهم أربعة أخماس الرقبة، وهو مثل الهبة، ويهدر ثلاثة أخماس دم الواهب. ويفدي ورثةُ الواهب ما بطلت فيه الهبة، وهو ثلاثة أخماس بثلاثة أخماس الدية من ورثة الموهوب له. فإن تقاصّوْا، بقي لورثة الموهوب على ورثة الواهب خُمسُ الدية. 7207 - وإن قتل العبدُ الموهوبَ له، ثم قتل الواهبَ، وقيمته الديةُ أو أقل، بطلت الهبة، وهدر دم الواهب، وسلموه إلى ورثة الموهوب له بالجناية. وإن كانت قيمته عشرين ألفاً، قلنا: جازت الهبة في شيء، وسلموا نصف الباقي بالجناية، يبقى معهم [نصف] (3) عبد إلا نصفَ شيء، فيأخذون من ورثة الموهوب [له] (4) نصف الشيء الذي تجب فيه الهبة بالجناية على الواهب، فيجتمع لهم نصف عبد لا استثناء فيه يعدل شيئين، فنعلم أن الشيء ربعُ العبد، وهو الجائز بالهبة، ونفدي ثلاثة أرباعه بثلاثة أرباع الدية من ورثة الموهوب له، ويفدي ورثةُ الموهوب له الربعَ الذي صحت الهبة فيه من ورثة الواهب بربع الدية، فإن تقاصا بقي لورثة الموهوب له على ورثة الواهب نصفُ الدية، يعطونه من ثلاثة أرباع العبد، فيبقى معهم نصف العبد، وهو ضعف الهبة، ويُهدر ربع دم الموهوب له، وثلاثة أرباع دم الواهب. 7208 - مسألة: إذا وهب في مرضه عبداً وأقبضه، ثم وهبه الثاني في مرضه لثالثٍ وأقبضه، ثم قتل العبدُ الواهبَ الأول وهو في يد الثالث، ثم مات المريض الثاني ولا مال للواهبين غيرُه، نظر: فإن لم يجز ورثة الأول جميع الهبة، ولم يجز

_ (1) في الأصل: خمس. (2) في الأصل: بخمس. (3) زيادة لا يستقيم الحساب بدونها. (4) ساقطة من الأصل.

[ورثة] (1) الثاني أيضاً، فإن كانت قيمته قدرَ الدية أو أقلَّ، بطلت هبة الثاني، وصحت هبة الأول في نصف العبد، وسُلّم بالجناية، فيجتمع لورثة المقتول نصف العبد [الذي بطلت فيه] (2) الهبة، ونصفه بالجناية، ولا يبقى لورثة الثاني شيء ينفذ فيه وصية. وبيان هذا على وضوحه: أنا إذا قدّرنا قيمة العبد قدْر الدية مثلاً، وصححنا هبة الأول في نصف العبد، فالذي تبطل الهبة فيه نُبقيه لورثة الأول؛ إذ لا مجنيّ عليه غيرُ الأول، ثم يرجع إلى ورثة الأول بالتسليم ما صحت الهبة فيه من العبد. والذي يقتضيه التعديل منه التنصيف، حتى يثبت لورثة الأول نصف العبد من جهة التنفيذ (3)، ونصفه من جهة القود بالجناية، ويكون العبد ضعفاً للذي نفذ التبرع فيه. ولا يُتصور مع هذا أن يبقى لورثة الثاني شيء، فلا جرم لم ينفذ تبرعه. وإذا لاح هذا وقيمةُ العبد مثلُ الدية، فكذلك (4) إذا كانت قيمته أقلَّ من الدية. وكل ذلك إذا لم يُجز ورثةُ الأول، ولم يجز ورثةُ الثاني. فإن لم يجز ورثةُ الأول [وأجاز] (5) ورثة الثاني هبةَ الثاني كاملةً، فسبيل الجواب أن نقول: الهبة تنفذ للثالث، ثم يقوم الثالث مقام الثاني. في الفداء والدفع، فما جاز للموهوب له الأول بالهبة، كان ذلك [للموهوب له الثاني] (6). وبيان ذلك أن الهبة من الثاني جرت قبل قَتْل العبدِ الواهبَ الأول، وإنما أبطلنا هبة الثاني عند رد ورثته؛ لأنا لو قدرناها، لم نُبق لورثة الثاني شيئاً على القياس الذي تقدم، وشرطُ تنفيذ التبرع مع رد الورثة ما يزيد على الثلث أن يبقى للورثة ضعفُ ما ينفذ [التبرّع] (7) فيه، وهذا لم يتأت مع [ردّهم] (8)، فإذا أجاز الورثة، سقط

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) التنفيذ: أي تنفيذ الهبة. (4) في الأصل: "وكذلك". (5) في الأصل: اختار. (6) مكان بياضٍ بالأصل. (7) في الأصل: البلوغ. (8) في الأصل: مع درهم.

حقهم، ولم نحتج إلى إبقاء شيء لهم، وقد صحت هبة الثاني في مقدارٍ من العبد، وجرت الجنايةُ بعد الهبة والإقباض، وليس في تنفيذ هبةِ الثاني منعُ حقِّ ورثة الأول؛ فإن ذلك القدر يعود من الثالث إليهم، كما كان يعود من الثاني في الصورة الأولى، فلا منع من تنفيذ الهبة من الأول والثاني. 7209 - وإن كانت قيمة العبد عشرين ألفاً، ولم يُجز [ورثة الأول، وكذلك ورثة الثاني لم يجيزوا] (1). فنقول: صحت هبة الأول في شيء من العبد، وصحت هبة الثاني من ذلك الشيء في وصيته، وإنما غايرنا في العبارة بين محل [تبرّعهما] (2)؛ لأن تبرع الثاني يقع جزءاً من محل تبرع الأول، وقد يلتبس الكلام إذا قلنا: ينفذ تبرع الثاني في شيء من الشيء الأول؛ فعبّرنا عن تبرع الثاني بالوصية، ثم [بعد ذلك] (3) يبقى مع ورثة الثاني شيء إلا وصية، وهم يدفعون نصفَه بالفداء إلى ورثة الأول، فبقي معهم نصفُ شيء إلا نصفَ وصية؛ وإنما يدفعون نصفَ ما بقي معهم؛ لأن الدية نصف القيمة، فيقع الفداء على هذه النسبة، فإذا بقي مع ورثة الثاني نصف شيء إلا نصفَ وصية، قلنا: هذا يعدل وصيتين ضعف ما تبرع الثاني، فبعد الجبر والمقابلة يعدل نصفُ شيء وصيتين ونصف، فنبسطهما أنصافاً ونقلب الاسم فيهما، فتكون الوصية خمس الشيء، فإنا قابلنا نصفَ [شيء] (4) بوصيتين ونصفٍ، فتقع الوصية الواحدة خُمسي نصفِ شيء، وخمسا النصف خُمس الكل، فانتظم قولنا: الوصية خمس الشيء، فإذا صحت هبة الثاني في خمس ما ملكه بالهبة، فنرجع بعد ذلك ونقول: صحت هبة الأول في شيء من العبد، فيبقى مع ورثته عبد إلا شيئاً، وهم يأخذون من الثالث ومن [ورثة الثاني] (5) نصفَ ما حصل في أيديهم بالجناية، وذلك ضعفُ نصف شيء، هذه النسبة

_ (1) عبارة الأصل: "ولم يجز الورثة إلى ورثة الأول لم يجيزوا، وكذلك ورثة الثاني لم يجيزوا". (2) في الأصل: ترفيعهما. (3) في الأصل: ثم يعدل يبقى. (4) ساقط من الأصل. (5) في الأصل: ومن ورثته.

لا بد منها، لما قدّرنا من [وقوع] (1) الدية نصفاً للقيمة، فيجتمع مع ورثة الأول عبدٌ إلا نصفَ شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر والبسط وقلب الاسم يكون الشيء خمسي العبد، فنقول: صحت هبة الأول في خمس العبد، وصحت هبة الثاني في خمس هذين الخمسين، والمسألة مُقامةٌ من خمسةٍ وعشرين سهماً، فنقول: العبد خمسةٌ وعشرون، وصحت هبة الأول في عشرة أسهم، وهي خُمسا هذا المبلغ، وتصح هبة الثاني في خُمس العشرة، وهو سهمان، يبقى مع ورثة الثاني ثمانية أسهم، يدفعون نصفها بالجناية، فتُدفع إلى ورثة الأول، فبقي معهم أربعة أسهم، وهي ضعف هبة الثاني، ثم الثالث يدفع [نصفَ] (2) ما حصل في يده، وهو سهم واحد بالجناية إلى ورثة الأول، فيجتمع مع ورثة الأول عشرون سهماً من الرقبة؛ فإنه بقيت في أيديهم خمسة عشرَ أولاً، ورجعت إليهم أربعةٌ من الثاني وواحدٌ من الثالث، وكان ذلك عشرين، وهي ضعف ما صحت فيه هبة الأول. فإن أجاز ورثة الأول هبته، نفذت في جميع العبد لا محالة، فإذا رد ورثةُ الثاني ما يزيد على محل التبرع، صحت هبة الثاني في خُمس العبد، وبطل أربعةُ أخماسه، ودفع ورثةُ الثاني نصف ما في أيديهم بالجناية إلى ورثة الأول، وهو خمسا العبد. وهذه [نسبة] (3) التنصيف، فيقع خمسا العبد أربعة أخماس الدية، ويدفع الثالث نصفَ الخمس إلى ورثة الأول، فيبقى مع ورثة الثاني خمساه، وهو ضعف هبته، فيجتمع لورثة الأول خمسا العبد ونصفُ خُمسه، وهو تمام [الدية] (4) ولا نحتاج إلى تعديل في حق الأول: الثلث والثلثين؛ فإن ورثته قد أجازوا تبرعه، ولكن يحصل لهم موجَبُ الجناية كَمَلاً؛ فإنهم لم ينزلوا عنه. 7210 - فإن قتل العبدُ الموهوبَ له الأولَ، وهو الواهب الثاني ولم يقتل الواهبَ الأول، ثم مات الواهب الأول في مرضه.

_ (1) في الأصل: رجوع. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: النسبة. (4) في الأصل: الورثة.

فإن أجاز ورثةُ الأول الهبةَ، نفذت الهبة في تمام العبد، وقيل [للثالث: أَرجعه] (1) إلى ورثة الثاني، أو افده منهم، كما ذكرناه قبلُ في العبد الموهوب إذا قتل الواهب. فإن اختار الدفعَ، كان كلُّ العبد لورثة الثاني. فإن أجرينا هذه المسألةَ على [الترتيب] (2) الأول، فهي مفروضة [فيه] (3) إذا كانت قيمةُ العبد مثلَ الدية أو أقلَّ. فإذا اختار الثالث الدفعَ، فالجواب ما ذكرناه. فنقول: صحت هبة الثاني في نصف العبد، ثم رجع ذلك النصف بالجناية، فكان تمامُ العبد ضعفاً لنصفه الذي صححنا الهبةَ فيه، وخرج الواهب الأول من [المسألة] (4)؛ فإنّ ورثته قد أجازوا، [ولا] (5) جنايةَ على الأول؛ فكان الثاني مع الثالث في هذه المسألة كالأول مع الثاني في المسألة الأولى. وما ذكرناه يجري إذا كانت قيمةُ العبد أقلّ من الدية، كما جرى وقيمتُه مثلُ الدية. وإن اختار الثالث الفداء على قولِ الأرش، وقيمة العبد نصفُ الدية، أو أقلُّ، فإنه يفديه بالدية، وتمت الهبة من الثاني في جميع العبد؛ فإن الدية تقع ضعفاً للعبد إن كانت القيمة نصفاً أو [أقلَّ] (6) من النصف. 7211 - وإن لم يُجز ورثةُ الأول والثاني، والكلامُ في الصورة التي انتهينا [إليها] (7)، بطلت الهبتان؛ والسبب (8) فيه أنا لو صححنا هبة الأول في جزءٍ من العبد، لاحتجنا إلى تسليم باقيه إلى الموهوب له الأول بالجناية، فلا يُسلَّم لورثة

_ (1) في الأصل: لثالث: ارجع. (2) في الأصل: ترتيب. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) مكان بياضٍ بالأصل. (5) في الأصل: بلا. (6) في الأصل: أكثر. (7) زيادة من المحقق. (8) في الأصل: فالسبب.

الأول شيء، فإذا كانوا على [عدم الإجازة] (1) يُشترط أن يبقى لهم ضعفُ [ما تقرر] (2) التبرع [فيه] (3)، وإذا بطلت الهبةُ الأولى لما ذكرناه، عاد الكلام إلى أن عبدَ الواهب الأول قتل الثاني في حياة الأول، فيسلّم بالجناية لا بالقيمة. وهذا الذي ذكرناه [إذا] (4) ردّ ورثة الأول، وقيمة العبد نصفٌ أو أقلُّ من النصف، فجرى على هذا النسق إذا كانت قيمةُ العبد مثلُ الدية أو أقل منه (5) وأكثر من النصف؛ وذلك أن القيمة إذا كانت مثلَ الدية، فلو صححنا [الهبة] (6) في بعض [العبد] (7)، سلمنا الباقي بالجناية، وإنما نحتاج [في] (8) باقي العبد إلى قيمة الدية، فلا يسلّم لورثة الأول شيء، كما سبق تقريره. 7212 - فإن كانت قيمته عشرين ألفاً، وقد رد ورثةُ الأول، فتصح هبته في شيء لا محالة؛ فإنا إذا صححنا الهبةَ في شيء، [وسلمناه] (9) بالجناية، فلا نسلم تمام الباقي؛ فإنه يقع الاكتفاء بل ننقص لزيادة القيمة، فيبقى للورثة شيء من الرقبة، فيجب تنفيذ الهبة بذلك القدر. وحساب المسألة أن نقول: صحت الهبة في شيء من العبد، وسلموا نصف ما بطلت الهبة فيه بالجناية، وعليه نسبة التنصيف (10)، ما قررناه مراراً، ونصف الباقي نصفُ عبدٍ إلا نصفَ شيء، فيبقى في يد الورثة بعد الهبة والتسليم بالجناية، نصفُ عبدٍ إلا نصفَ شيء، وذلك يعدل شيئين: ضعفَ الهبة، فإذا جبرنا وقابلنا،

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: تقدّر. (3) في الأصل: منه. (4) زيادة من المحقق. (5) منه: أي المثل. (6) في الأصل: الدية. (7) مكان بياضٍ بالأصل. (8) في الأصل: إلى. (9) في الأصل: وسلمنا. (10) نسبة التنصيف أي مراعاة أن الدية نصف القيمة. والعبارة فيها نوع قلق. وإن كان لا يمنع فهم السياق.

كان الشيء [خمسي النصف] (1) وخُمسا النصف خُمس الكل، فقد نفذت الهبة في خمس العبد، وبطلت في أربعة أخماسه، ثم ورثة الأول يدفعون خمسين من الرقبة بالجناية، [إن] (2) فدَوْه بالأرش، فهو أربعة أخماس الدية، ولا [يصح هذا] (3) الجواب والمقدار إذا كانت أكثر، فيبقى معهم خمسا العبد، وهو ضعف ما نفذت الهبة فيه. ويجتمع لورثة المقتول ثلاثة أخماس العبد بالهبة والجناية، فتتم هبة الثاني في الشيء الذي صحت فيه هبة الأول، لأنه يخرج من الثلث، ثم يفديه الثالث من ورثة الثاني بنصف الشيء، وذلك نصف خمس العبد. هذا لا بد منه لمكان الجناية. 7213 - فإن قتل العبدُ الواهبَ الأول، ثم قتل الموهوبَ له الأول، وهو في يد الثالث، وقيمته نصف الدية أو أقلُّ، نظرنا، فإن اختار الثالث الفداء على قول الأرش، تمت الهبتان؛ فإنه يبذل [للأول] (4) الديةَ الكاملة، ويبذل للثاني أيضاً الدية، فيخرج التبرعان. [وإن] (5) اختار الدفعَ، وكانت قيمة العبد قدر الدية أو أقلّ، صحت هبة الثاني في جميع ما وهب له الأول، وصحت هبة الأول في شيء من العبد، وهو صحيح للثالث، ثم يدفع الثالث نصف الشيء إلى ورثة الأول، ونصفَه إلى ورثة الثاني، فيجتمع لورثة الأول عبد إلا نصفَ شيء، إذ كان معهم عبد إلا شيئاً، فانضم إليه نصف شيء، فالجملة عبد إلا نصفَ شيء، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيصير الشيء خمسي العبد، وهو الذي نفذت هبة الأول فيه، وهبة الثاني تتم أيضاً فيه، ثم يدفع الثالث إلى ورثة كل واحد منهما خمساً واحداً، فيجتمع لورثة الأول أربعة

_ (1) في الأصل: نصف الخمس. (2) في الأصل: وإن. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: الأول. (5) في الأصل: إن (بدون واو).

[أخماس العبد] (1): ضعف هبته؛ إذ هبتُه خمسان. ثم ورثةُ الأول يدفعون إلى ورثة الثاني ما بطلت فيه هبةُ الأول، وهو ثلاثة أخماس العبد، فيجتمع لورثة الثاني أربعةُ أخماس العبد: ثلاثةٌ من ورثة الأول يسلمونها (2) بالجناية، وخمسٌ من الثالث، وهو ضعف هبة الثاني. 7214 - فإن كانت قيمة العبد ستة آلاف، واختار الثالث أن يفدي من ورثة الأول، ويسلّم أو يدفع إلى ورثة الثاني -والتفريع على أن من يفدي يفدي بالأرش- فقد أراد أن يجمع بين حسابين مختلفين: أحدهما - حساب الفداء، والآخر- حساب التسليم والدفع. فنقول: صحت هبة [الأول] (3) في شيء من العبد، وجازت (4) هبة الثاني في وصية من الشيء، وهذه الوصية هي التي يتعلق بها الفداء والتسليم، فهذا الثالث يفدي الوصية من الأول بمثلها ومثل [ثلثيها] (5)؛ فإن القيمة ستة آلاف والدية عشرة، ونسبة العشرة من الستة هكذا تكون، ونعبّر عما يبذله في الفداء، فنقول: يفدي من الأول الوصيةَ بوصيةٍ وثلثي وصية، ويدفع ورثةُ الثاني إلى ورثة الأول ما بطل [فيه] (6) هبةُ الثاني، وقد كانت هبةُ الثاني شيئاً، فخرجت منه وصية، فيبقى في يد ورثة الثاني شيء إلا وصية، فحصل لورثة الأول عبد وثلثا وصية، وذلك أنهم كان لهم عبد إلا شيئاً بعد تنفيذ الهبة الأولى، وسلم الثالث إليهم وصيةً وثلثي وصية، ورد الثاني شيئاً إلا وصية، فقد انضم الشيء المستثنى إلى العبد، ولكن كان في ذلك الشيء الراجع استثناء وصية، وبه غَرِم الثالثُ من الدية مثلَ وصية وثُلثي وصية، فانجبر نقصان الشيء بالوصية الواحدة، فكمل العبد وفضل ثلثا وصية، فحصل لورثة الأول عبدٌ وثلثا

_ (1) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام إلا بها. (2) يسلّمونها: أي ورثة الأول. فهم يملكون ثلاثة الأخماس التي بطلت الهبة فيها، فعليهم مثلها من الجناية، وقد اختاروا التسليم. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: جازت. (بدون الواو). (5) في الأصل: ثلثها. (6) في الأصل: منه.

وصية، وهذا يعدل شيئين ضعفَ الهبة الأولى، فالشيء الواحد نصفُ عبد وثلثُ وصية، وهو الذي نفذت فيه هبة الأول، وبطلت هبة الأول في نصف عبد إلا ثلثَ وصية. وبيان ذلك أنا جمعنا ما يتحصّل في أيدي ورثة الأول من العبد والفداء، فوجدناه عبداً وثلثي وصية، ثم بان لنا لما وقف هذا في مقابلة الشيئين أن الشيء الواحدَ نصفُ هذا المبلغ، ونصفه [نصف] (1) عبد وثلثُ وصية. والآن بعد ما بانت قيمة الشيء، [فنردّ] (2) نظرنا إلى عبدٍ بلا زيادة؛ فإنا نريد أن نبين مقدار الهبة من عبد، فنقول: صحت الهبة من العبد الفرد في نصف عبد وثلث وصية، فيبقى من العبد الفردِ نصفُ عبد إلا ثلثَ وصية، فإذا بان أن الشيء نصفُ عبد وثلثُ وصية، فتخرج وصية الثالث من هذا، فيبقى منه نصف عبد إلا ثلثي وصية؛ فإن الشيء كان [نصف] (3) عبدٍ وثلثَ وصية، فنأخذ ثلث وصية، ثم ثلثي وصية من النصف، فيبقى نصفٌ إلا ثلثي وصية. ثم ورثة الثاني يدفعون هذا الباقي، وهو نصف عبد إلا ثلثي وصية إلى ورثة الأول بالجناية (4)، ثم هم يأخذون من ورثة الأول ما بطلت فيه هبةُ (5) الأول، وهو نصفٌ إلا ثلثَ وصية، ويأخذون أيضاً من الثالث الوصية كاملةً (6) بالجناية؛ لأنه قد فدى هذه الوصية من الأول بالدية، وإذا وقع التفريع على هذا، فالمطالبة لا محالة [بالتسليم] (7).

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: فرد. (3) زيادة من المحقق. (4) يدفع ورثة الثاني هذا المقدار إلى ورثة الأول بالجناية، لأنهم يملكون هذا القدر من العبد الجاني على ورثة الأول، فلزمهم تسليمه. (5) يأخذونه من ورثة الأول لنفس المعنى المذكور في التعليق السابق. (6) هنا يرد الثالث الوصية كاملة فقط إلى ورثة الثاني، على حين ردّ لورثة الأول وصية وثلثي وصية؛ لأنه اختار الفداء من ورثة الأول بالأرش، وهو مثل القيمة وثلثيها. واختار في جانب ورثة الثاني الردّ والتسليم. (7) زيادة اقتضاها السياق. والمراد تسليم الوصية.

وإن فدى من الأ [ول بالدية] (1) وبقي قدر الوصية في (2) يده وا [لتفريع على اختياره الجمعَ بين الفداء و] (3) التسليم، كما وضعنا المسألة (4)، فيسلِّم جميعَ الوصية إلى ورثة الثاني، فيجتمع لورثة الثاني نصف عبد وثلثا وصية؛ فإنهم أخذوا من الأول نصف عبد [إلا ثُلثَ وصية] (5)، وأخذوا من الثالث وصية؛ فاجتمع لهم نصف عبد وثلثا وصية، وهذا الحاصل يعدل وصيتين. والوصية الواحدة تعدل ثلاثة أثمان العبد. 7215 - وبيان ذلك أنا نقول: نصف عبد وثلثا وصية تعدل وصيتين، فنُقسط ثُلثي وصية من الوصيتين قصاصاً بثلثي وصية، [فيبقى وصية] (6) وثلث وصية في مقابلة نصف [عبد] (7) بلا زيادة ولا استثناء. فنبسط الوصية والثلث أثلاثاً، فتصير أربعة، وكل نصفٍ من [العبد أربعة أثلاث وصية، فتكون] (8) وصية من وصيةٍ وثلث ثلاثةَ أثمان العبد. وهذه هي النافذة بالهبة الثانية. وكان قد بان أن الشيءَ نصفُ عبدٍ وثلثُ وصية، فزد ثلثَ وصية على نصف عبد، فيصير خمسةَ أثمان عبد. وبيانه أن الوصية إذا عَدَلت ثلاثةَ أثمان، فثلث وصية يعدل ثمناً، والنصف أربعةُ أثمان، فنصفٌ وثلثُ وصيةٍ خمسةُ أثمان. [وهي الخمسةُ] (9) التي نفذت الهبة الأولى فيها، وصحت هبةُ الثاني من هذه الأثمان الخمسة في ثلاثة أثمان، يبقى مع ورثة الأول ثلاثة أثمان العبد، وهو ما بطلت فيه الهبة الأولى، ومع ورثة الثاني ثمنان،

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: وفي (بزيادة واو). (3) تقدير منا مكان بياضٍ بالأصل. (4) فقد فرضنا أنه اختار أن يفدي من ورثة الأول بالأرش، ومن الثاني بالتسليم. (5) في الأصل: وثلث وصية. (6) زيادة من المحفق. (7) زيادة لا يصح الحساب إلا بها. (8) عبارة الأصل: "وكل نصفٍ من أربعة أثمان فتبقى وصية من وصية وثلث". (9) في الأصل: الخمسة هي التي نفذت الهبة الأولى.

ومع الثالث ثلاثة أثمان. هكذا انقسم العبد أثماناً عليهم. ثم [فدى] (1) الثالث من ورثة الأول بثلاثة أثمان الدية، وهي مثل خمسة أثمان العبد؛ لأن الدية مثل القيمة، ومثلُ ثلثيها. فإذا كان المفدي ثلاثةَ أثمان، فمثلها ومثل ثلثيها خمسةُ أثمان، فقد حصل في يد ورثة الأول من الرقبة ثلاثةُ أثمان، ومن الفداء خمسة أثمان، ويأخذ أيضاً ورثةُ الأول من ورثة الثاني ما بطل فيه هبة الثاني، وهو ثمنان، فيجتمع لورثة الأول مما بقي من الهبة الأولى ومن الفداء، ومما بطلت فيه هبةُ الثاني عشرةُ أثمان: وهي عبدٌ وثمنان، وهو عبد وربع، وقيمة ذلك [سبعة آلاف وخَمسُمائة] (2)، وهذه الجملة ضعف الهبة الأولى، وهي خمسة أثمان [العبد] (3) [والعشرة ضعف الخمسة] (4)، ثم ورثة الأول يدفعون إلى ورثة الثاني ما بطل فيه الهبة الأولى، وهو ثلاثة أثمان العبد، وقد سلّم إليهم الثالثُ ما كان صح له بالهبة الثانية، وهو ثلاثة أثمان العبد، فيجتمع لهم من هاتين الخمسين ستةُ أثمان، وهي ثلاثة أرباع العبد، وهي ضعف الهبة الثانية؛ فإن الهبة الثانية كانت ثلاثة أثمان. فهذا إيضاح المسألة وبيان قياسها، وعلى ما ذكرناه فقس ما إذا [اختار] (5) الثالث الدفعَ إلى ورثة الأول والفداء من ورثة الثاني. 7216 - فإن كانت قيمته عشرين ألفاً، فنقول: صحت هبة الأول في شيء، وصحت هبة الثاني في وصيةٍ من الشيء، ويدفع الثاني والثالث، ما في أيديهما إلى ورثة الأول بالجناية؛ فإن القيمة إذا كانت أكبر، استوى الدفع والفداء في مثل هذه الصورة. فيحصل لورثة الأول عبدٌ إلا نصفَ شيء، وبيانه أنه صحت هبته في شيء ثم رجع

_ (1) في الأصل: قضى. (2) في الأصل: تسعة آلاف وخَمسمائة. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: العشرة ضعفا الخمسة. (5) في الأصل: "أجاز". والمثبت اختيار منا مراعاة لاستعمال اللفظ ذاته في الحالة السابقة المقابلة لهذه.

نصفُ الشيء مما صحت فيه الهبة الثانية، وهو المسمى الوصية، ومما بقي في يد الواهب الثاني نصفه إلى ورثة الأول. هذا حكم التسليم وموجَب النسبة إذا كانت [القيمة] (1) ضعفَ الدية، والدية نصف القيمة؛ فانتظم قولنا: حصل في يد ورثة الأول [عبدٌ] (2) إلا نصفَ شيء، ثم هذا يعدل شيئين، فيخرج من العمل وقد تكرر قياسه مراراً أن الشيء [خمسا] (3) العبد، وهو الذي نفذت الهبة الأولى فيه، ثم جازت هبة الثاني في وصية، فنقول: يبقى خمسا عبد إلا وصية، فيخرج نصف ذلك بالجناية، فيبقى مع ورثة الثاني خمسٌ إلا نصفَ وصية، وقد أخذوا بالجناية نصف ما بطلت فيه الهبة الأولى، وذلك خُمسُ عبدٍ ونصفُ خُمسه، وأخذوا أيضاً من الثالث نصفَ الوصية، فاجتمع نصفُ عبدٍ. وبيانه أنه حصل في أيديهم خمسٌ ونصف خمسٍ من الأوليين بسبب الجناية، وكان قد بقي في أيديهم مما صحت فيه الهبة الأولى ونفذت فيه الوصية الثانية خمس عبد ونصف وصية، فإنهم سلموا نصف ما كان بقي بالجناية الأولى، فيبقى في أيديهم خمسا عبد ونصف خمس عبد إلا نصفَ وصية، فلما [ضمُّوا] (4) نصفَ وصية، وهو ما أخذوه بالجناية من الثالث، [كمل] (5) في أيديهم نصفُ عبد، وهذا يعدل وصيتين، فالوصيةُ إذاً ربعُ العبد الذي صحت فيه الهبةُ الثانية، فنجعل قيمةَ العبد عشرين سهماً ليكون [للسهام] (6) خمسٌ ولخمسها ربعٌ. ثم نعود فنقول: تصح هبة الأول في خمسيه، وهو ثمانية أسهم، وتبطل هبته في اثني عشر سهماً، وقد بان أن هبة الثاني ربع العبد وهو خمسة أسهم؛ يبقى في يد الثاني ثلاثة أسهم.

_ (1) في الأصل: "قيمة" وهذه وأمثالٌ لها تشهد بعجمةٍ أصيلة قديمة لدى الناسخ. (2) في الأصل: عشر. (3) في الأصل: خمس خمسا. (4) في الأصل: ضمنوا. (5) في الأصل: كما. (6) في الأصل: السهام.

فيدفع ورثةُ الثاني إلى ورثة الأول نصفَ ما في أيديهم وهو أربعة أسهم (1)، فيجتمع لورثة الأول ستةَ عشرَ سهماً، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه، ويبقى مع ورثة الثاني سهم ونصف، ويأخذون من ورثة الأول نصفَ ما بطلت فيه الهبة الأولى، وذلك ستة. ويأخذون من الثالث نصفَ ما في يده وهو سهمان ونصف، فيجتمع لهم عشرةُ أسهم، وذلك ضعف هبة الثاني. فإن فرضنا تقاصّاً بين ورثة الأول وورثة الثاني، بقي لورثة الثاني على ورثة الأول أربعة أسهم ونصف من العبد فيما يتراجعان فيه بحكم الجنايتين. وبيان ذلك أن حق ورثة الثاني نصف ما في يده، وفي يده ثلاثة أسهم، وهي بقية الثمانية التي صحت الهبة الأولى [فيها] (2)، فأخرجنا إلى الوصية خمسة، فإذا [هما تراجعا] (3) بحكم الجناية في هذا القدر، فإذا حَطّ (4) عن الستة أسهم ونصف، بقي لورثة الثاني على ورثة الأول أربعة أسهم ونصف سهم من عشرين سهماً. وعلى هذا فقس كلما طوّلتَ المسائل. والذي نوصي الناظرَ به أن يتخيّل بُعْدَ المسألة أولاً، وما فيها من الراجع بحكم الجناية، وأن يعدّل الثلث والثلثين، بعد أن يحصّل أقصى ما يمكن من الجهات، فينتظم له تمام المراد. وقد نجز هذا القول، والحمد لله وحده.

_ (1) هذا بحساب أنهم حصلوا من ورثة الثالث على نصف ما معهم وهو سهمان ونصف، فإذا ضموا إليها نصف الثلاثة 1/ 2 1 يكون المردود أربعة. وإلا فلم يبق معهم بعد الوصية إلا ثلاثة، فكيف يكون نصفها أربعة؟ (2) في الأصل: منها. (3) في الأصل: فإذا سهما تراجع. (4) حَط: نزل.

مقالة تجمع نوادر في المسائل الدائرة من الفنون المختلفة

مقالة تجمع نوادر في المسائل الدائرة من الفنون المختلفة مسائل في استخراج المجاهيل في الدوائر المشتملة على العتق والكسب 7217 - مسألة: إذا سأل سائلٌ، فقال: مريضٌ أعتق عبداً، فاكتسب ذلك العبدُ بعد العتق، وقبل موت السيد كسباً، فكان الذي عتَق منه النصفُ، كم كان كسبه؟ فنقول: كسبه مثل قيمته، وطريق استخراجه بالجبر أن نقول: إذا أعتق نصفَه، تبعه نصفُ كسبه، غيرَ محسوب عليه، ويلزم أن يبقى في يد الورثة ضعفُ العتق، وفي أيديهم نصف الرقبة، فيلزم لا محالة أن يبقى من كسبه مثلُ ما بقي من رقبته، وإذا كان الباقي من الكسب مثلُ نصف الرقبة، فكل الكسب ككل الرقبة. وإن قيل: اكتسب العبد كما صورناه، واقتضى الحسابُ أن يعتِق ثلثاه، فكم مقدارُ كسبه؟ قلنا: إذا عَتَق ثلثاه، تبعه من كسبه ثلثاه غيرَ محسوب ولا معتدٍّ به، وبقي ثلث الرقبة، فيجب أن يبقى من الكسب مثلُ [ثلث الرقبة وضعفُ ثلث] (1) الرقبة، وذلك أن يكون باقي الكسب مثلَ الرقبة، لتكون رقبة وثلث ضعفاً للثلثين. وإذا [دقَّقتَ] (2)، [قلتَ] (3): وقع في مقابلة ثلث الرقبة من الكسب مثلُ الرقبة، فينتظم هذا في مقابلة كل ثلث، ويكون الكسب ثلاثة أمثال الرقبة. 7218 - وقد تقع أسئلةٌ مستحيلة لا تكاد تخفى على النظر، منها: أن يقول السائل: مريض أعتق عبداً، فاكتسب العبدُ بعد العتق، وقبل موت السيد كسباً، فكان الذي عتَق منه ربعُه، ولا دَيْنَ.

_ (1) في الأصل: ثلث الرقبة ضعفي ثلثي الرقبة. (2) في الأصل: وقفت. (3) زيادة من المحقق.

فالمسألة مستحيلة؛ فإنه لو لم يكتسب شيئاً، لعَتَقَ ثلثه، وبالكسب يزيد العتق ولا ينقص. وكذلك إن قال -والتصوير على نحو ما سبق-: عَتقَ جميع العبد، كان ذلك محالاً؛ فإنه لو عتق جميعه، لتبعه جميعُ الكسب، وذلك محالٌ، فالعتق إذا زيد على الثلث إذا وقع كسب على ما صورناه، لا يتصور (1) أن يستغرق الرقبة. 7219 - مسألة: إذا قيل: مريض أعتق عبداً، فكسب مثلَ قيمته، وانتقص من قيمة الرقبة وعتَقَ منه الخمسان، كم الذي نقص منه؟ قلنا: نقص من قيمته الثلثان. وحساب المسألة أن نقول: عتق منه خمساه، واستحق خمسي كسبه، ورق للورثة ثلاثة أخماسه، ولهم ثلاثة أخماس [كسبه] (2) وثلاثة أخماس الكسب باقية لهم بلا نقيصة. فنحصر النقص في الرقبة، وقد علمنا أنه لو جُمع خمس واحد إلى الكسب السالم للورثة، لكفى وكان المجموع ضعفَ الخمسين، وقد بقي من الرقبة ثلاثة أخماسها، فعرفنا أن قيمتَها قيمةُ خمسٍ واحد، ونحكم بهذه النسبة على جميع الأجزاء، فقد رجع كلُّ جزء إلى ثُلثه. ومما يجب التنبه له أن العتق النافذ في الخمسين بإعتاق القيمة التامة لا يزيد فيه بسبب نقصان القيمة؛ فإن النقصان لا يؤثر فيما نفذ العتق فيه. وهذا قد مهدناه في المسائِل الدائرة في العتق. 7220 - فإن قيل: أعتق عبده في مرضه، فاكتسب ضعفَ قيمته، وزادت القيمةُ حتى عتِق ثلثاه، فكم الزيادة؟ قلنا: زاد على القيمة مثلُها. وسبيل استخراج القيمة أن نقول: إذا عتق ثلثاه، تبعه من الكسب ثلثاه، فتبقَّى ثلث الرقبة وثلث الكسب، ويجب أن يكون الحاصل في يد الورثة قدرَ عبدٍ وثلث، والكسب مع ثلث الرقبة [قدر] (3) عبدٍ، فيجب أن نفرض في القيمة زيادة مثلها، ثم نُجري ذلك على طردٍ في

_ (1) في الأصل: "ولا يتصور". ولا محل (للواو) فهي في جواب إذا. (2) في الأصل: نسبه. (3) مكان بياضٍ بالأصل.

الأجزاء، وقد ذكرنا أن زيادة القيمة تجري مجرى الكسب، وأوضحنا في المسائل أن الكسب إذا كان ثلاثة أمثال الرقبة، فيعتِق من العبد ثلثاه. فإذا كان الكسب مثلَ الرقبة، فيجب أن يزيد مثل القيمة، حتى تصير الزيادة في القيمة مع الكسب ثلاثة أمثال الرقبة. 7221 - وإن قيل: مريض أعتق عبداً، فكسب مثلَ قيمته، ونقصت القيمةُ، وكان الذي عتَق منه ربعُ العبد، قلنا: السؤال محال؛ لأنه لو تلف، لكان ثُلثه حراً، وتبعه ثُلث كسبه، وللورثة ثلثا كسبه، وهو ضعف ما عتق منه، فإذا كان حياً، فكيف [يقع العتق على رُبعه] (1) والكسبُ مماثل للقيمة الباقية. فصل جمع الأستاذ مذاهب رآها [غريبة] (3) من أجوبة ابن سريج في المسائل التي تتعلق أطرافها بالحساب، فلم نؤثر تركَها؛ فإنها مستفادة في الفقه. وقد ذكرنا من قبلُ أن الجارية إذا أعتقها سيدها في المرض، فحملت بعد العتق من زناً أو زوجٍ، وولدت [ولداً] (4) أن حكمَ ولدها حكمُ كسبها إن أتت به وولدته بعد العتق وقبل موت السيد. فإن علقت قبل موت السيد وولدت بعد موته، ولا مال له غيرُها، فالظاهر من قول الشافعي أن ذلك بمثابة كسبها بعد موت المولى. هكذا نقل الأستاذ. فلا يكون ذلك [الولد من] (5) التركة؛ لأنه (6) حدث في ملك الورثة، والاعتبار في الولد بيوم الانفصال؛ فإنه لا قيمة له ما دام حملاً، بل هو تابعٌ لأُمه. هكذا [نقل] (7) الأستاذ.

_ (1) في الأصل: فكيف يقتضى العتق على أربعة. (2) من هنا -والحمد لله- بدأ الاعتماد على نسخة أخرى مساعدة هي التي رمزنا لهابـ (ح). (3) في الأصل: عريّة. (4) زيادة من (ح). (5) في الأصل: لوارث التركة. (6) في الأصل: ولأنه. (7) في الأصل: ذكر.

ثم قال: قال ابن سريج: يحتمل أن نجعل قيمة الولد عند خروجه من التركة؛ [لأن] (1) العلوق بالحمل حصل في حياة المولى، فالوجه إسناد الحمل يوم الانفصال إلى حياة المولى، حتى نقول: كأنه مات عنه، والولد منفصل (2) على [ما عهدناه] (3) (4 عليه وقت الانفصال. واحتج ابن سريج لهذا الوجه بأن قال: لو أوصى بحمل جاريةٍ 4)، فالوصية صحيحةٌ على ظاهر المذهب، وإن كان ينفصل بعد الموت، [ولو كان حكم ما ينفصل بعد الموت] (5) كحكم ما يحدث حقاً بعد الموت على [ملك] (6) الورثة، لكانت الوصية بالحمل وصيةً بما يحدث ملكاً للورثة. والمسألة محتملةٌ، وما نسبه ابن سريج إلى [نصّ] (7) الشافعي [متجه بالغ] (8) وفيه تفصيل [لا بد] (9) من التنبه له. فإن كانت الجارية حاملاً على قيمةٍ، فلم تزد قيمتها بالحمل على قيمتها عند [الحيال] (10)، فما ذكره الشافعي ظاهر، وتفصيل الغرض (11) فيه بسؤال وجواب. فإن قيل: إذا زادت قيمةُ التركة بالسوق، أو زادت أعيانُها زياداتٍ متصلةً، فالزيادات الحاصلة من هذه الجهات محسوبةٌ من التركة، وتتعلق بها الديون، ولقد كان الحمل في البطن مملوكاً، فإن زادت بالانفصال، وجب أن تكون تلك الزيادة من التركة.

_ (1) في الأصل: أن. (2) (ح): ينفصل. (3) في الأصل: عقدناه. و (ح): مهدناه. والمثبت من عندنا ليتسق مع حرف الجر بعده. (4) ما بين القوسين ساقط من (ح). (5) زيادة من (ح). (6) في النسختين: (مالك). والتصويب من المحقق. (7) زيادة من (ح). (8) بياض في الأصل، والمثبت من (ح). (9) في الأصل: لأن. (10) في الأصل: الحساب. والحيال بالمثناة عدم الحمل (مصباح). (11) (ح) وينفصل الغرض فيه سؤال ...

قلنا: حكم الزيادات المتصلة، والتي ترجع إلى غلاء الأسعار في الديون كما ذكره السائل، فأما ما يتعلق [بتقدير الثلث والثلثين] (1)، فالاعتبار فيه بحالة الموت، حتى إذا فرض مزيدٌ في القيمة بعد الموت، لم [يعتبر] (2) بذلك المزيدِ تعديلُ الثلث والثلثين، وإنما أورد ابنُ سريج ما أورده فيما يتعلق بالثلث والثلثين والزيادة بالعتق والنقصان [منه] (3)، فلو مات وقيمة الجارية يوم الموت زائدةٌ لأجل الحمل، فهذه الزيادة لا بد من اعتبارها، نظراً إلى حالة [الموت] (4) في مقدار التركة، وليس هذا موضع النص وتخريجِ ابن سريج. فهذا منتهى فقه المسألة. 7222 - ونحن (5) [نقول بعده] (6): إذا ملك جاريةً حاملاً بولد رقيق، فأعتقها في المرض، ثم ولدت بعد موته [] (7)، قال الأستاذ؛ فيما حكاه من أجوبة ابن سريج: هذا يخرّج على الجوابين: أما على الوجه الأول - فانه عتَق ثلُثها، وعَتَقَ ثلثُ الولد لا محالة، فإنّ عِتْق [الأم يستتبع] (8) عتق الولد، وللورثة ثلثاها وثلثا ولدها، ولا [دور] (9)؛ فإن الولادة [وقعت] (10) بعد الموت، وليس المقدار الرقيق من الولد محسوباً من التركة. وعلى تخريج ابن سُريج يصير كما لو ولدته قبل موته، [فيعتبر] (11) الرقيق من

_ (1) عبارة الأصل: بيعه بالثلث والثلثين. (2) في الأصل: لم يغير. (3) في الأصل: فيه. (4) ساقطة من الأصل. (5) (ح): والحق. (6) في الأصل: نعدل بعد. (7) في الأصل بياض قدر كلمتين، وفي (ح) الكلام متصل ولا زيادة، ولا بياض. (8) في الأصل: الأمة يسيغ. (9) في الأصل: ورد. (10) في الأصل: رجعت. (11) في الأصل، فيعسر.

الولد في مقدار التركة، وهذا يقتضي مزيدَ العتق، وتدور المسألة، فإذا كان قيمة الولد مثلُ قيمة الأم، والتفريع على التخريج، فيعتق نصفُ الأم، ويتبعها نصف الولد، ويبقى للورثة نصف الأم ونصف الولد، وهما ضعف العتق (1)، وما تبع الحرية من الولد غيرُ محسوب. وقد تقدم هذا. 7223 - ومما حكاه من المذاهب الغريبة (2) أن قال: من أعتق في مرضه جاريةً، ثم وطئها، ومهرُ مثلها مثلُ نصف قيمتها، ولم يكن له مال غيرها، [قال] (3): قياس الشافعي أنه (4) يعتق منها [سبعاها] (5)، [فرقَّ] (6) خمسة أسباعها، ولها سبعا عُقرِها، وهو مثل سبعها؛ فإن عُقرَها نصفُ قيمتها. قال (7): ثم يقال للورثة: إن [بعتم] (8) سُبع رقبتها، وأعطيتموها [ثمنه] (9) بما استحقت من العُقر، فيبقى معكم أربعة أسباعها، ضعفُ ما عتَقَ، وإن أعطيتموها سُبعي مهرها من سائر أموالكم (10)، ملكتم خمسةَ أسباعها، ثم ذكر أن الأمة إن اختارت أن تأخذ سُبع رقبة نفسها بديتها وما لَها من العُقر، [كانت أحقَّ من الأجنبي. وظاهر ما ذكره أنه يجب على الورثة أن يسلموا السُّبعَ إليها، ولا يبيعوه من الأجنبي، ولا خلاف أنهم لو أمسكوا السبع وبذلوا حقها من العقر] (11)، كان لهم ذلك، وإنما ذكر ما ذكره فيه إذا أرادوا بيع سُبعٍ من أجنبي.

_ (1) ذلك لأن العتق كان على الأم وحدها. (2) (ح): القريبة. (3) في الأصل: فإن. (4) (ح): لأنه. (5) في الأصل: سبعها. (6) زيادة من (ح). (7) (ح): فإن. (8) مكان بياضٍ بالأصل. (9) ساقطة من الأصل. (10) في (ح): أقوالكم. (11) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من (ح).

وهذا ليس على [وجهه] (1) لو أراد بما قال إيجاباً، فإنه لا حجرَ على الورثة في بيع ملكهم، ولا سبيل إلى تعيين المشتري عليهم، وقد سبق إيضاح هذا. وقدر الغرض الآن أنها تستحق مقداراً من العُقر ولا يكون ما تستحقه من الثلث، بل هو دَيْنٌ محقق محسوبٌ من رأس المال، ولا يحتسب ما يستحقه عليها. 7224 - وذكر ابن سريج وجهين آخرين شاذّين سوى ذلك: أحدهما - أنه قال: يحتمل أن نجعل ما [غرِمه] (2) السيد من عُقرها من الثلث؛ لأنه وجب بسبب العتق، فينبغي أن يكون بمثابة العتق، حتى يحتسب من الثلث. والحساب على هذا القول -إذا كان عُقرها مثلَ نصف قيمتها- أن نقول: عتَقَ منها شيء، وله بعُقرها نصفُ شيء محسوبٍ على التبرع، يبقى للورثة أمةٌ إلا شيئاً ونصفَ شيء، وذلك يعدل ضعفَ ما عتَق منها وضعفَ ما أخذت من مهرها، وذلك ثلاثةُ أشياء، ثم نجبر بعد ذلك ونقابل، فيصير [أمة] (3) تعدل أربعة أشياء ونصفَ شيء، فنبسطها أنصافاً، ونقلب الاسم فيهما، ونقول: صارت الأمة تسعةً (4)، والشيء اثنين، وهو تسعاها، فيعتِق تسعاها ويرق سبعةُ أتساعها، ونأخذ تسعي عُقرها، وذلك مثلُ تسع رقبتها، فيبقى للورثة ثلثاها، وهو ضعف ما عتق منها، وضعفُ ما أخذت من المهر، وقد وقع العتق والعقر ثلثاً، وكان العُقر محسوباً عليها. هذا وجهٌ ذكره ابن سريج. وذكر مسلكاً آخر يؤدي في هذه المسألة إلى ما أدى إليه الوجه الأول في اعتبار [الثلث والثلثين] (5)، وذلك أنه قال: يحتمل أن يسقط مهرها ونُهدره، ولا نوجب منه شيئاً، ويُجعل كأنه وطىء أولاً ثم أعتق، لأنه لو لم يطأها، لعتق ثلثاها، فلا يجوز أن ينقص عتقها [عن] (6) الثلث بسبب شيء تستحقه على المولى. وعلى هذا

_ (1) في الأصل: وجه. (2) في الأصل: ما عسر فيه. (3) في الأصل: إذ. (4) (ح): نسبة. (5) في الأصل: التقييد الثلثين. (6) في الأصل: من.

الجواب [يعتق ثلثها] (1) ويرق للورثة (2) ثلثاها، ولا دور. وهذان (3) الجوابان ضعيفان، لا اعتداد بهما، والمذهب الذي عليه التعويل ما قدمناه في ابتداء المسألة. ومن عادة ابن سريج أن يذكر وجوهاً من الأجوبة يعدد بها طرقَ الاحتمال، كالذي يستفتح نظراً، [ولا يبغي بشيء منها تعيينَ مذهب فيظن الناظر] (4) أن ما [أبداه] (5) من الاحتمالات وجوهٌ، وليست وجوهاً. 7225 - فإن كانت قيمتها مائة وعقرها خمسين (6)، وترك السيد مائةَ درهم، وقد أعتقها في المرض ثم وطئها، فالتفريع على [ما هو المذهب] (7) المعتد أن نقول: عتَقَ منها شيء بالوصية من يوم العتق، ولها نصف شيء بالعُقر تأخذه من المائة، فيبقى للورثة مائة درهم (8) إلا نصفَ شيء، يعدل ضعف ما عتق منها، وهو شيئان، فبعد الجبر والمقابلة يعدل مائةُ درهمٍ شيئين (9) ونصف شيء، فالشيء خُمسا المائة، فيعتِق خمساها، ولها خمسا مهرها، وذلك عشرون، ويعتق باقيها بالإحبال والاستيلاد من رأس المال، وقد عتق منها الخمسان، عتقاً محسوباً من التبرع، وأخذت [خمسي] (10) مهرها، وهو خمس المائة، ويبقى للورثة أربعة أخماس المائة، وهي ضعف ما عتَقَ منها بالإعتاق [المتبرع] (11) به المعدود من الثلث، وباقي العتق محمول على

_ (1) زيادة من (ح). (2) عبارة الأصل: ويرق من المورثة، والمثبت عبارة (ح). (3) (ح): هذان. (بدون واو). (4) في الأصل: ولا يبقى شيء منها يعتبر مذهب فنظر الناظر. (5) في الأصل وفي (ح): أداه. (6) (ح): خمسي. (7) زيادة من (ح). (8) (ح) مائة: ويريد. (9) (ح): شيء. (10) في الأصل: خمسا خمس مهرها. (11) في الأصل: والتبرع، (ح): التبرع (بدون واو).

الاستيلاد، وما يحصل بالاستيلاد محسوب من رأس المال. ومن جعل عُقرها من الثلث، قال: تأخذ من المائة نصفَ شيء للعُقر كما ذكرناه، فتعدل المائة إلا نصفَ شيء ضعفَ ما عتَقَ منها بالوصية، وضعفَ ما استُحِق بالعُقر، وقد عتق منها شيء والعقر نصفُ شيء، وضعفهما ثلاثة أشياء، فبعد الجبر والمقابلة تعدل مائةٌ ثلاثة أشياء ونصفَ شيء، فإذا بسطناهما أنصافاً وقلبنا الاسم فيهما، صار الشيء (1) سُبعين، فنقول: يعتق (2) سبعاها يوم العتق قبل الاستيلاد، وتأخذ من المائة سُبعي مهرها، وذلك مثل سبع المائة، ويعتِق باقيها عند الموت بالاستيلاد، ويبقى للورثة ستةُ أسباع (3) المائة، وهي ضعف ما عتق منها بالإعتاق، وضعفُ ما استحقت من عُقرها. ومن جعل الوطء هدراً، ولم يوجب مهراً، أعتق نصفها بالوصية يوم الإعتاق، ونصفها بالإحبال من رأس المال عند الموت، وللورثة المائةُ كلُّها، وهي ضعف ما عتق منها. والمذهب المسلك الأول (4) الذي ذكرناه. مسائل في الوطء والإحبال من الشريكين، أو من الواهب، أو من الموهوب له 7226 - إذا وهب جارية لا مال له غيرُها من رجلٍ وأقبضه إياها، ثم وطئها الواهب في مرضه وأحبلها، وقيمة ولدها يوم السقوط خمسون درهماً: مثلُ نصف قيمة الأمة، وأسقطته في حياة الواهب. فنقول: بطلت الهبة أصلاً؛ لأنه لا ينتظم للورثة ثلثان [ويتعلق ضعفاً للتبرع] (5) الذي تقرر، فإنه إذا نفذت الهبة في مقدارٍ منها، فيصير باقي الأمة مستهلكاً

_ (1) (ح): التي. (2) سقطت من (ح). (3) (ح): أتساع. (4) ساقطة من (ح). (5) في الأصل: فتعلق ضعفا التبرع.

بالاستيلاد، ولا يبقى في أيدي الورثة من الرقبة عند الموت، وما يثبتُ الاستيلاد [فيه يثبت فيه] (1) عتقُ الولد لا محالة، [فإذا] (2) لم ينتظم الثلث والثلثان، فالوجه [إبطال] (3) الهبة رأساً، والحكم بنفوذ الاستيلاد من الواهب في جميع الجارية. فإن ترك الواهب مائتي درهم سوى الجارية، فنقول: نفذت الهبة في شيء منها، وعليه نصفُ شيء من عُقرها؛ إذا قدرنا عقرَها مثل نصف قيمتها، وعليه من قيمة الولد قدرُ ما جازت الهبة فيه، وهو مثل نصف شيء، ويعتق باقي الأمة بالإحبال من رأس المال، فيبقى للورثة مائتا درهم إلا شيئاً؛ فإنّا أخذنا من المائتين شيئاً من حساب العُقر [وقيمة الولد، فما يبقى من المائتين يعدل شيئين ضعف العتق، فبعد الجبر والمقابلة يكون] (4) مائتا درهم في معادلة ثلاثة أشياء، فيقع الشيء ثلث المائتين، وذلك مثل ثلثي الأمة، فتصح الهبة في ثلثيها، وتبطل الهبة في ثلثها، [وعليه] (5) ثلثا مهرها وثلثا قيمة الولد يوم السقوط، ومجموعهما ستة وستون وثلثان، وهي مأخوذة من المائتين ويعتِق ثلثها من رأس المال، ويبقى للورثة مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وهي ضعف ما جازت الهبة فيه. وما [أخذناه] (6) في حساب المهر، وقيمةُ الولد غيرُ محسوب، لما تقرر في هذه الأصول من وجوب الإتباع (7) والمقابلة والتعديل بين ما يبقى في يد الورثة من المائتين وبين ما تصح الهبة فيه، والاستيلاد ينفذ فيما بطلت الهبة فيه من رأس المال، ولا سريان للاستيلاد؛ فإنه يقع فيمن هو معسر؛ [إذ] (8) لا مالَ للميت إلا الثلث، وهو مستغرق بتبرعه.

_ (1) عبارة الأصل مضطربة. هكذا: وما يثبت الاستيلاد ويثبت رقبة عتق الولد لا محالة. (2) في الأصل: فإنه. (3) في الأصل: أن نبطل. (4) ما بين المعقفين زيادة من (ح). وننبه أنه كان في العبارة تصحيف أصلحناه، وذلك قوله: "فما يبقى من المائتين" فقد كانت (الجانبين). (5) في الأصل: وعليها. (6) في الأصل: أجزناه. ولاحظ أن (الواو) هنا للاستئناف وليس العطف، وإلا لن يستقيم الحساب. (7) المراد وجوب إتباع الكسب العتق. (8) في الأصل: أو.

مسائل في إعتاق المريض أمة [وتزوجه] بها أو إعتاق المرأة عبدها [وتزوجها] به

فإن ترك ثلاثمائة والمسألة بحالها، تمت الهبة في جميعها، ولم تصر أمَّ ولد، وعليه عُقرها تاماً وقيمة الولد، ومجموعهما مائة درهم تأخذها من الثلاثمائة، ويبقى للورثة مائتان: ضعفُ ما صحت الهبة فيه، [فلست أفرّع] (1) على تخريج ابن سريج في احتسابه الغرامة مع الهبة من الثلث، ولا شك أنا لو فعلنا (2)، لم ينفذ تمامُ الهبة؛ فإن الثلث يضيق عن قيمةِ الجارية وعُقرِها وقيمةِ ولدها؛ وتتبعّض الهبة. ولكن إذا نبهنا على مسلكٍ ضعيف في مسألةٍ أومسائل، وجب الاكتفاء به. مسائل في إعتاق المريض أمةً [وتزوجه] (3) بها أو إعتاق المرأة عبدها [وتزوّجها] (4) به 7227 - مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الوصايا الذي وضعه بخطه، لم يسمع منه: لو أعتق أمةً في مرضه، ثم نكحها وأصدقها صداقاً ملتزماً في الذمة، وكان لا يملك غيرَها. قال رضي الله عنه: لم يجز عتقُه في جميعها، وعتَق بعضُها ورقَّ بعضُها، فإذا رق بعضها، بطل النكاح وبطل الصداق المسمى، فإن وطئها وبعضها حر، كان عليه بقدر ما عتق منها من مهر مثلها. وقال: فإن كانت قيمتها مائةً ومهرُ مثلها خمسون، عتق سبعاها ورق خمسةُ أسباعها، وعليه سبعا مهرها، وهو مثل سبع رقبتها. فإذا بيع ذلك منها في مهرها، بقي للورثة [أربعةُ] (5) أسباعها، وهي ضعف ما عتق منها. هذا كلام الشافعي. وقد ذكرنا هذا الجواب وفصلناه، ولكنا [تيمَّنا] (6) بنقل جواب الشافعي. ثم قال الشافعي: هذا إذا [ردّ] (7) الورثةُ ما يزيد على الثلث، فإن أجاز الورثةُ

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل، والمثبت من (ح). (2) (ح): جعلنا. (3) في الأصل: وتزويجه. (4) في الأصل: وتزويجها. (5) في الأصل: خمسة. (6) في الأصل: نبهنا. (7) في النسختين: أراد.

عتقها، صح النكاح وعتَقت يومَ أعتقها تبيُّناً، [وصادف النكاح] (1) حرة، وكان مهرها ديناً في ذمة المعتِق، وقد فرع الشافعى المسألة على القول الأصح في أن إجازة الورثة تنفيذُ وصية، وليس ابتداءَ عطية منهم، وإذا كان ذلك تنفيذاً، فالجواب على ما ذكره، فيقع العتق التام متقدماً على النكاح. فإن جعلنا إجازة الورثة ابتداءً منهم، فلا يستند العتق التام إلى ما تقدم، ولا بدَّ من إنشائهم العتقَ في مقدار حقوقهم، [ويقع] (2) ذلك بعد الموت لا محالة والنكاح فاسد. 7228 - فإن خلّف سيدها ضعفَ قيمتها، وقد (3) جرى الإعتاقُ على [المذهب] (4) الذي ذكرناه، فنقول [لها: إن أبرأته من مهرك، تم] (5) عتقك، وصح نكاحك وعليك [عدة] (6) [الوفاة] (7)، ولا ميراث لك؛ لأنا لو ورثناك، لرجع العتق في المرض وصية، ولا وصية لوارث، فيلزم من التوريث ردُّ العتق، وإذا ارتد العتق، بطل التوريث، والمسألة من الدوائر الفقهية، وسنجمع منها مسائل في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: إبطال الميراث أولى من إبطال الوصية؛ لأن في إبطال الوصية إبطالَ الميراث أيضاً، وإبطال الميراث لا يؤدي إلى إبطال الوصية، فالمائتان إذاً للورثة، والعفو نافذ، والنكاح صحيح. هذا موجَب النص، والميراث منقطع. وما ذكرناه إذا أبرأت من المهر، فإن أبت أن تبرئه، فلا يتم العتق، ولا يصح النكاح؛ فإن المائتين لو قدر أخذُ المهر منها، لما وفت التركة بالقيمة.

_ (1) في الأصل: وصارت بالنكاح. (2) في الأصل: وبيع. (3) في (ح): فقد. (4) في (ح): الترتيب. (5) هذه الجملة مصحفة في النسختين، فهي في الأصل: هكذا: فنقول له: إن من مهرك تم ... إلخ. وفي (ح) هكذا: فنقول لها: أين امراته من مهرك ثم عتقك ... إلخ. والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق. (6) في الأصل: هذه. (7) مكان بياضٍ بالأصل. والمثبت من (ح).

ثم إن كان وطئها وهي غير مبرئة، فسبيل المسألة أن نقول: عتق منها شيء ولها بالمهر نصفُ شيء، وللورثة من المائتين والرقبة ثَلاثُمائة إلا شيئاً ونصفَ شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون الشيء سُبعين للثلاثمائة، وذلك ستةُ أسباع (1) الأمة، وهو الذي يعتق منها، ولها ستة أسباع مهرها، فبقي للورثة مائة وأحدٌ وسبعون وثلاثة أسباع، وهي ضعف ما عتق منها. 7229 - مسألة: إذا أعتقت امرأةٌ عبداً في مرضها قيمته مائة، ثم تزوجته على مائة، ومهرُ مثلها خمسون، وماتت في مرضها، ولا مال لها غيرُه. فإن أجاز الورثةُ العتق، صح نكاحها، وعليه المهر المسمى، سواء جرى الوطء، أو لم يجر، ولم يرثها؛ لأن توريثه يؤدي (2) إلى إبطال توريثه. هذا إذا أجاز الورثةُ، والتفريع على أن إجازتهم تنفيذٌ وإمضاءٌ للوصية وليس ابتداءَ عطية. وإن لم يُجز الورثة، رق (3) بعضُ العبد لا محالة، وإذا رق بعضُه، بطل النكاح، وسقط المهر المسمّى، فان لم يكن وطئها، فلا شيء عليه، وإن كان وطئها، فعليه من العُقر بقدر ما عتق منه، ولا شيء عليه في مقابلة ما رق؛ لأنها لا تستحق في رقبة رقيقها مالاً، فإن كان معه ما [يؤدي به ما يلزمه] (4) من عقرها، عتق خمساه، وعليه خمسا عُقرها خمسون درهماً، ويرق ثلاثة أخماسه. وبيانه أنه إذا عَتَقَ خمساه ورق ثلاثة أخماسه، [وغرِم خُمسا العُقر] (5)، وخمسا العقر مثلُ خمس الرقبة، فيحصل للورثة من الرقبة والعُقر أربعةُ أخماس، وهي ضعف ما جرى العتق فيه.

_ (1) في (ح): أتساع. (2) في الأصل: لا يؤدي. (3) عبارة (ح): تبعض العبد. (4) مكان بياضٍ بالأصل. (5) الكلام غير مستقيم في النسختين؛ في الأصل: وعشر من خمس العقر، وخمسا العقر ... إلخ، وفي (ح) وغرم للعقر وخمسا العقر مثل .. والمثبت من (ح) بعد إكمال السقط.

هذا إذا كان معه ما يؤدي منه ما يلزمه من المهر. وإن لم يكن معه ما يؤدي به [ما يلزمه من] (1) المهر، كان ذلك ديناً عليه، ولا مال غيرُ العبد، ولا دَوْرَ. والوجه الحكم بعتق ثُلثه، وإرقاق [ثلثيه] (2). هذا حكم الحال، فإن ملك ما يؤدي منه ما عليه من المهر، عتق خمساه ولا [مزيد] (3). ثم إذا ترقَّى العتق إلى الخمسين، كان ذلك [تبيّناً] (4)، ويحصل منه أن ما بين الثلث إلى قيمة الخمسين موقوفٌ. فإن كان قد اكتسب بعد العتق وقبل موت السيد مثلَ قيمته، وهو مائة، عتق منه شيء، وله من كسبه شيء يؤدي منه [المهرَ] (5): نصفَ شيء، يبقى للورثة من الرقبة والكسب مائتان إلا شيئاً ونصفَ شيء يعدل شيئين، فالشيء سبعا المائتين، وذلك أربعة أسباع العبد، فيعتِق أربعةُ أسباعه، وله أربعة أسباع كسبه، فيبقى للورثة ثلاثة أسباع العبد، وثلاثة أسباع الكسب، ثم العبد يؤدي من الكسب الذي حصل له أربعة أسباع العُقر وهي قدر سبعي الرقبة، فيحصل في يد الورثة ثلاثة أسباع الرقبة وخمسة أسباع الكسب، وجملته عبد وسبع، أو ثمانية [أسباع] (6)، وهي ضعف ما حصل العتق فيه. مسائل من نوادر المحاباة في البيع والوصية 7230 - مسألة: إذا أوصى الرجل بأن يباع كُرّ حنطة -وهو مالكه- قيمتُه ألفُ درهم من رجلٍ عينه، بكرٍّ قيمته خَمسمائة، وأوصى لآخر بثلثٍ من كُرِّه، فليس في ________ (1) زيادة من (ح). (2) في النسختين: ثلثه. (3) في الأصل: كلمة غير مقروءة، وفي (ح): مزية. (4) في الأصل: شيئاً. والمثبت من (ح). (5) في الأصل: والمهر. وفي (ح): بالمهر. (6) في الأصل: أتساع.

[التبرعين] (1) تقديمٌ، وهما على ازدحامٍ (2)، فإذا لم يُجز الورثةُ الزائدَ على الثلث، وجب قسمةُ الثلث بين صاحب المحاباة وبين صاحب الوصية، ولا بد (3) من إجراء بيعٍ على صفة المحاباة، إذ لا سبيل إلى تسليم قدر المحاباة إليه من غير بيع، ولو فرض ذلك، لم يكن [تنفيذاً للوصية] (4) على مقتضاها. وسبيل الحساب أن نقول: ثلث ماله ثَلاثُمائةٍ وثلاثةٌ وثلاثون وثلث. والمحاباة خَمسُمائة، فهو مثل الثلث، ومثل نصف الثلث، والثلث يقع سهمين، والمحاباة تقع ثلاثة أسهم، فالمجموع خمسة أسهم، فيجب لذلك قسمة الثلث [بينهما] (5) على خمسة. ثم [وجه] (6) العمل أن [نقول] (7): جاز البيع في شيء من الكُرّ، ورجع بالفرض شيءٌ قيمته نصفُ شيء، فيبقى من جهة التقدير بالقيمة كُرٌّ إلا نصفَ شيء، والمحاباة نصفُ شيء، وقد علمنا أن لصاحب الهبة بالوصية [مثل] (8) ثلثي وصية صاحب المحاباة، فإذا كانت المحاباة نصفَ شيء، فنزيد عليه [ثلثيه] (9) وثلثا النصف ثلثُ شيء، فمجموعهما خمسةُ أسداس شيء، فنُسقط ذلك من الكر الأرفع، فيبقى كرٌّ إلا خمسة أسداس شيء، وذلك يعدل ضعفَ المحاباة والهبة، وهو شيء وثلثا شيء، هذا ضعف خمسة أسداس شيء، فنجبر ونقابل، فيكون كُرٌّ في معادلة شيئين ونصف شيء، فنبسطها أنصافاً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون [الكر] (1) خمسةً، والشيء اثنين، فنعلم أن البيع صح في خُمسي الكر الأرفع، وبطل في ثلاثة أخماسه، ورجع

_ (1) في الأصل: المتبرعين. (2) (ح): شيئان على ازدحام. (3) (ح): لا بد. (بدون واو). (4) في الأصل: تنفيذ الوصية. (5) في الأصل: منهما. (6) في الأصل: وجب. (7) ساقطة من الأصل. (8) في الأصل: قبل. (9) في النسختين: ثلثه. (10) ساقطة من الأصل.

[بالثمن] (1) خمسا كر قيمتُه خمس كر، فالمحاباة إذاً خُمسُ كر، ولصاحب [الوصية] (2) مثلُ ثلثي المحاباة، وهي ثلثا خمس كر. فنسقط ذلك من الأربعة الأخماس الباقية، فبقي مع ورثة البائع ثلاثة أخماس كر وثلث خمس كر، وذلك ضعف ما جاز فيه المحاباة [والوصية] (3). فهذه المسألة التي أجريناها على السداد، وقعت في كتاب الأستاذ [مختلَّةً] (4)؛ فإنه قال في تصويرها: إذا باع مريض كُرّاً قيمتُه ألفُ درهم بكُرٍّ قيمتُه خَمسُمائة درهم، ووهب لاخر من كره بمقدار ثلثه، ثم استمر على المنهاج الذي ذكرناه. وهذا [مختلٌ] (5)؛ فإن المحاباة إن (6) تقدمت على الهبة، قُدِّمت، فإن لم يف الثلث بها، استوعبنا الثلث منها. هذا موجب التقديم. فإن قدم الهبةَ، [فهي] (7) مقدمة على المحاباة إذا تمت بالقبض، على ما سيأتي ذلك في فقه الوصايا، إن شاء الله عز وجل، وفرض إنشائهما يتناقض، فالوجه في تصويرهما ردهما (8) إلى الوصية، وما ذكره الأستاذ على التسامح في التصوير [والثقة بفهم] (9) من يتفطن. 7231 - مسألة: إذا باع كُرَّي طعامٍ قيمةُ كل واحد منهما ألفُ درهم من رجلين بكُرين قيمةُ أحدهما خَمسُمائة، وقيمة الآخر ستمائة. فحق تصوير هذه المسألة أن نفرض إنشاء البيعين من وكيلين دفعةً واحدة، حتى لا تتقدم إحدى الصفقتين على الأخرى، فنعلم أولاً النسبة بين المحاباتين، فمحاباة

_ (1) في النسختين بالهبة. (2) في الأصل: الهبة، و (ح): الكر. والمثبت اختيار منا. (3) في النسختين: الهبة. (4) في الأصل: مختلفة. (5) في الأصل: محتمل. (6) (ح): وإن. (7) في الأصل: في. (8) (ح): وردهما. (9) هذا تقدير منا مكان بياضٍ قدر كلمة بالأصل مع الكلمة الثانية. وفي (ح): كلمة غير مقروءة مع كلمة (بينهم).

أحدهما خَمسُمائة، ومحاباة الآخر أربعُمائة، فيجب قسمة الثلث بينهما على تسعة: لصاحب [الأربعمائة] (1) أربعةُ أتساع الثلث، ولصاحب الخَمسمائة خمسةُ أتساع الثلث. وسبيل العمل (2) أن نقول: جاز البيع من كل واحدٍ من الكُرين في شيء، ورجع من أحدهما ما يساوي نصفَ الشيء، ومن الآخر ما يساوي ثلاثة أخماس شيء، وجملتهما شيءٌ ونصفُ خُمس شيء، فيبقى في يده كُرّان إلا أربعةَ أخماس شيء ونصف خمس شيء. وذلك أنا أجرينا البيع في شيئين، ثم رجع في عوض الصفقتين شيءٌ ونصفُ خمس شيء. فبقي الاستثناء بالشيئين في أربعة أخماس شيء ونصف خمس شيء، وذلك ضعف ما جرت فيه الوصيتان. وقد علمنا أن وصية أحدهما نصف شيء، ووصية الآخر خمسا شيء وجملتهما تسعة (3) أعشار شيء، وضعفهما شيء وأربعة أخماس شيء. وإذا جبرنا وقابلنا، صار كران يعدلان شيئين وسبعة أعشار شيء، فنبسطهما أعشاراً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون الكر سبعةً وعشرين، والشيء عشرين، فيصح البيع من كل واحد من الكرين في عشرين جزءاً من سبعةٍ وعشرين، المثل بالمثل [من] (4) الكر الأدْون كيلاً، فتخرج المسألة معدّلة. والامتحان: أن البيع إذا جاز لصاحب الستمائة في عِشرين، كانت محاباته خُمسي عِشرين، وذلك ثمانية. ومحاباةُ صاحبِ الخَمسمائة عشرة، فالمحاباتان ثمانية عشر، وقد قسمنا الثلث بينهما على تسعة، فيجب أن يكون لورثة البائع ستة وثلاثون، ومعهم من الكرين ما بطل البيع فيه، وهو أربعة عشرَ؛ إذ فضل من كل كرٍّ سبعة [أجزاء] (5) ورجع بالعوض من أحدهما ما يساوي اثني عشر، ومن الآخر ما يساوي عشرة وجميع ذلك ستة وثلاثون، وهي ضعف المحاباتين، ومبلغ المحاباتين ثمانيةَ

_ (1) في النسختين: الأربعة. (2) العمل: يقصد به الحساب. (3) (ح): سبعة أعشار. (4) في الأصل: بين. (5) زيادة من المحقق.

عشرَ، فليقسّم بين المشتريين على نسبة الأتساع: خمسةُ أتساع لصاحب الخَمسمائة، وأربعةُ أتساع لصاحب الأربعمائة. 7232 - مسألة: إذا سأل سائل عن مريضٍ أعتق عبداً لا مال له غيرُه، واكتسب العبدُ مثلَ قيمته، [فكان] (1) ما عتق منه مثلُ خمسة أجذار قيمته. كم كانت قيمته؟ وكم كان كسبه؟ وكم عتق منه؟ فحسابه أن نجعل قيمتَه مالاً، ليكون ذا جذرٍ، ويكون كسبه أيضاً مالاً مماثلاً له، وقد علمنا أنه عتَقَ منه خمسة أجذاره: [يتبعه] (2) من كسبه [خمسة أجذاره] (3)؛ لأن الكسب مثلُ الرقبة، فيبقى لورثة السيد من الرقبة والكسب مالان إلا عشرةَ أجذار، وذلك يعدل ضعفَ ما عتق منه، وهو عشرةُ أجذار، فنجبر ونقابل، فيكون [مالان يعدل عشرين] (4) جذراً، والمال الواحد يعدل عشرة أجذار. فإن قيل: مال يعدل عشرة أجذار، فمعناه يعدل عشرة أجذاره، فالجذر عشرة أجزاء من [اللفظ] (5)، والمال مائة، وهو قيمة العبد، والكسبُ مثله، فيعتق من العبد، نصفه، وهو مقدار خمسة أجذاره. 7233 - مسألة: فإن سأل سائل عن مريض وهب لأخيه في مرضه مالاً، فقبضه الموهوب له، ثم مات الموهوب له قبل الواهب، وخلّف بنتاً وأخاه الواهب، ولم يكن لهما مال غير ذلك الموهوب، فحصل في يدي بنت الموهوب له مثلُ جذري المال الذي صحت الهبة فيه. فكم مقدار المال؟ حساب المسألة أن نقول: ما تناوله (6) لفظُ الهبة مال، وقد علمنا أنه حصل في يدي بنت الموهوب له جذران، فقد رجع مثلُ ذلك إلى الواهب بالميراث، ونعلم أن حصة البنت نصف ما صحت الهبةُ فيه، فالهبة إذا صحت في أربعة أجذار المال وبطلت

_ (1) في الأصل: لمكان. (2) في الأصل: تسعة. (3) ساقطة من الأصل. (4) في النسختين: فيكون مالاً وعثرين جذراً. والمثبت تقدير من المحقق. (5) في الأصل: الملفظ. (6) هكذا قرأنا بصعوبة.

في مالٍ إلا أربعة أجذار، ويرجع إلى الواهب بالميراث جذران، فيجتمع لورثته مالٌ إلا جذرين، وذلك يعدل ضعف ما صحت الهبة فيه، وهو ثمانية أجذار، فإذا جبرنا وقابلنا، كان مالٌ واحد يعدل عشرةَ أجذار، فجذر (1) المال عشرة، والمال كله مائة، وقد صحت الهبة في أربعة أجذاره، وهي [أربعون] (2)، ورجع إليه نصفها بالميراث، وهو عشرون، فاجتمع مع ورثته ثمانون، وهي ضعف هبته، وصار في يدي بنت (3) الموهوب له عشرون، وهي مثلُ جذري المال. وقس على هذا ما تريد (4) من أمثاله. فصل في المسائل الخارجة بالمعادلات المقترنة 7234 - قد ذكرنا ما وجدنا في كتاب الأستاذ، [وفي شروح التلخيص] (5) ومسائل ابن الحداد (6) الجبرية، ولم نألُ جهداً في تعليلها فقهاً وحساباً، وقد قدمنا ما وجدناه حائداً من مسائل الأستاذ عن قانون الفقه، وتداركنا بتوفيق الله تعالى خلَلَ النسخ (7)، فجرت المسائل على حقها (8)، إن شاء الله عز وجل. وكل ما قدمناه لم يعْدُ المفردات ومعظمها خرج بأطراف الجبر، وجرى في كل مسألةٍ ما مست الحاجةُ إليه.

_ (1) (ح): فجرى. (2) في الأصل: أربعة. (3) (ح): ثلث. (4) (ح): ما يزيد. ولعل الصواب: ما يرد. (5) زيادة من (ح). (6) (ح): ومسائل ابن الحداد من المسائل الجبرية. (7) يبدو أن خلل النسخ وأوهام النساخ داءٌ قديم، فانظر -رحمنا الله وإياك- إلى هذا الكلام من الإمام، وكم عانى لتدارك الخلل في نسخٍ بينه وبين أصولها نحو مائة عام. فكم نعاني نحن وبيننا وبين هذه النصوص أكثر من ألف عام! مع فرق آخر -وهو الأهم- أعني عجزنا وقصورنا أمام علم أئمتنا الذين كانت صدورهم بحق خزائن العلم ومستودع أسراره، وكما قيل: كانت عقولهم من ذهب. نسأل الله العون والتوفيق. (8) (ح): في.

والمعادلاتُ المقترنة (1) لا تقع في المعاملات المعتادة، وليست مما تمس إليها الحاجة في المسائل الشرعية، إلا أن يتصنع متصنع فيضع مسألةً شاذة، وإنما تعم الحاجة إلى المقترنة (2) في الهندسيّات (3) [أما في] (4) معانيها، [ونحن نرسم] (5) مسائل تخرج بالمعادلات المقترنة أوردها الأستاذ [مفرقةً] (6) في كتابه، ونحن [نأتيها] (7) مجموعة. 7235 - مسألة دائرة في الجنايات تخرج بالمعادلات المقترنة. لو أن عبداً قيمتُه ألفا درهم قتل رجلاً خطأً، فأوصى له المجني عليه بالأرش، وأوصى لرجلٍ بثلث ماله، ووقع الفرض في [الإيصاء] (8) بالأرش؛ فإن تنجيز العفو مقدم (9) على الوصية، وإذا وقع العفو موصىً به (10)، زاحم الوصية. تمامُ التصوير [أن] (11) سيد العبد اختار الفداء بالدية، والديةُ عشرةُ آلاف، ولا مال للمجني عليه الموصي بالعفو والثلث غيرُ العبد. فحساب المسألة أن نجعل قيمة العبد درهمين: بفرض كل [ألفٍ] (12) درهماً، حتى لا نحتاج إلى ذكر الآلاف. فنقول: يجوز العفو في شيء من العبد، ويفدي المولَى باقيه، وهو درهمان إلا شيئاً بخمسة أمثاله، وهو عشرةُ دراهم إلا خمسةَ

_ (1) (ح): المقترفة. (2) (ح): المقترنات. (3) (ح): الهبة سيات. (4) مكان بياضٍ بالأصل. وأثبتناها من (ح). (5) في الأصل: "ونجريه قسم مسائل" وهو تحريف غريب. (6) في الأصل: معرّفة. (7) في الأصل: نأتها. ولعل الصواب: ناتي بها. (8) في الأصل: الأنصباء. (9) (ح): متقدم. (10) ساقطة من (ح). (11) في الأصل: لأن. (12) في الأصل: العبد.

أشياء؛ فإن الدية على هذا الوجه تناسب القيمة، فقد حصل للمجني عليه عشرة دراهم إلا خمسةَ أشياء هذا (1) ماله، ونضم إليه ما جوزنا العفو فيه، حتى يتصرف في جميع ماله، فيصير ماله عشرة دراهم إلا أربعة أشياء، فننقص استثناء شيء [بردّنا الشيء الذي نفذ العفو فيه] (2)، فيصير في يد ورثة المجني [عليه] (3) عشرة [دراهم إلا أربعة أشياء] (4)، فخذ ثلث ذلك، وهي ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً [وثلث شيء] (5). هذا ثلث المال، والوصيتان محصورتان في الثلث؛ فإن المسألة مفروضةٌ في رد ورثة المجني عليه ما يزيد على الثلث. فإذا بان الثلث، وهو ثلاثة دراهم، وثلث درهم إلا شيئاً وثلث شيء، فسيد العبد يضرب في هذا الثلث بقيمة العبد، وهي درهمان، ويضرب فيه صاحب الثلث بثلث المال، وهو ثلاثة دراهم وثلث إلا شيئاً وثلثَ شيء؛ فإن اقتسام الوصايا بالثلث عند الازدحام يقع على نسبة إجازة الوصيتين بكمالهما، فإذا تضاربا على هذا النسق، أصاب السيد شيء؛ فإنا قلنا: العفو شيء من درهمين، [فألق] (6) هذا الشيء من ثلث ماله، يبقى ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئين وثلث [شيء] (7). هذا لصاحب الثلث؛ فإذاً للسيد شيء من الثلث، وللموصى له بالثلث ثلاثة دراهم وثلت درهم إلا شيئين وثلثَ شيء. فنقول بعد هذا: قدرُ ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئين وثلثَ شيء من ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلث شيء، كقدر شيء من درهمين. وبيانه أن الوصية للسيد بدرهمين، والوصيةُ لصاحب الثلث بالثلث كَمَلاً، والثلث

_ (1) (ح): هما ماله. (2) عبارة الأصل: يرد بالشيء الذي يعد العفو فيه. (3) ساقطة من الأصل. (4) اتفقت النسختان على الخطأ، ففي الأصل: عشرة دراهم إلا عشرة. وفي (ح): عشرة دراهم إلا عشرة دراهم. والصواب الذي يتفق مع الحساب ما ذكرناه. (عشرة دراهم إلا أربعة أشياء). (5) ساقطة من النسختين. (6) مكان بياضٍ بالأصل. (7) ساقط من الأصل.

ثلاثة فى راهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلث شيء، فإذا ردّ الورثةُ الزائد على الثلث من الوصيتين، نقصت كل وصيةٍ على نسبةٍ واحدةٍ، وذلك أنه لو اجتمعت وصايا إحداها (1) ألفان والأخرى ثلاثة آلاف، والأخرى ألفٌ، ورد الورثةُ الزائد على الثلث واقتضى الردّ رجوع [وصيته] (2) إلى نصفها، فكل وصيةٍ ترجع إلى نصفها، وتبقى الوصايا بعد نقصانها على التفاوت التي كانت عليه لو نفذت، فيخرج منه أن الوصايا إذا انتقصت عن أقدارها الكاملة برد الورثة الزائدَ على الثلث، فنسبة نقصان كل وصيةٍ منها في الكمال كنسبة سائر الوصايا، لا تختلف. هذا معنى قولنا: نسبة الشيء من الدرهمين كنسبة ما نفذ وجاز للموصى له بالثلث من الثلث الكامل. فإن كان الشيء من الدرهمين نصفها، فالذي سلّم للموصى له من الثلث نصف الثلث الكامل. وقد بان أن النافذ من الدرهمين شيء، وبان أن [النافذ] (3) للموصى له بالثلث ثلاثة دراهم وثلث إلا شيئين وثلثَ شيء، والثلث ثلاثة دراهم وثلث إلا شيئاً وثلثَ شيء. وقد بان أن قدر الشيء من الدرهمين كقدر ثلاثة دراهم وثلثِ درهم إلا شيئين وثلثَ شيء من ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلثَ شيء. 7236 - فنقول بعد ذلك: إذا ضربت ما أصاب صاحب الثلث ونَفَذ له في الوصية الثانية للسيد، وهو درهمان، كان ذلك كضربك ما أصاب المولى وصح له، وهو شيء في وصية صاحب الثلث وهي [تامة] (4) كاملة، ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلثَ شيء، وحق الناظر أن يفهم هذا أولاً، ثم نبين وجهه، فنعبر [مرة] (5) أخرى ونقول: ما يستقر في إحدى الوصيتين بعد الرد والنقصان إذا ضرب في كمال

_ (1) (ح): أجراها. (2) في الأصل: الوصية. (3) زيادة من (ح). (4) في الأصل: باقية. (5) في الأصل: فنعبر عنه في أخرى.

الوصية الأخرى [من غير نقصان] (1) فإنه يردّ ما [يردّه] (2) ضربُ ما يستقر من الوصية الأخرى بعد الرد في تمام الوصية الأولى قبل الرد. هذا معنى الكلام، وهو مقطوع به عند من أَلِف الحسابَ. وبيانه إذا فرضنا عددين مختلفين، وفرضنا انتقاصهما على نسبةٍ واحدة، فضرب ما تبقى من أحد المبلغين في كل المبلغ الثاني كضرب ما يبقى من المبلغ الثاني في كل المبلغ الأول. وبيان ذلك بالمثال: أنا إذا فرضنا عشرة وعشرين، ونقصنا من كل واحد من المبلغين نصفه، فضرب نصف العشرين في العشرة كضرب نصف العشرة في العشرين. وإذا فرضت عشرة وسبعة رددت كل واحدٍ منهما إلى النصف، فضرب خمسة في سبعة خمسة وثلاثون وضرب نصف السبعة في عشرة خمسة وثلاثون. فإذا ثبت بما قدمنا أن الشيء من الدرهمين كثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئين (3) وثلثَ شيء من ثلاثة دراهم وثلث إلا شيئاً وثلث شيء، فضربُ شيء، وهو المستقر بعد الردّ في الوصية الكاملة من الجانب الآخر، وهي ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلثَ شيء كضرب ثلاثة دراهم وثلثِ درهم إلا شيئين وثلث شيء، وهو المستقر بعد الرد في تمام الوصية الأخرى، وهي درهمان. هذا نعرفه قطعاً، ثم نبتدىء الضربَ على عبارات الجبريين، ثم لا يتبيّن استواء المردودين إلا بطريق الجبر، وبهذا يخرج المجهول الذي نبغي إخراجه. فنقول: نضرب ثلاثةَ دراهم وثلثَ درهم إلا شيئين وثلثَ شيء في درهمين، فيردُّ الضربُ ستةَ دراهم وثلثي درهم إلا أربعة أشياء وثلثي شيء، وهذا بيّن لمن تأمل وأحكم ما ذكرناه في أصول الجبر في المسائل المقدمة. ثم نعود فنضرب الشيء الذي جاز للمولى في الوصية [التامة] (4) من الجانب

_ (1) في الأصل: حتى نفضل. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) (ح): شيء. (4) في الأصل: الثانية.

الآخر، وهي ثلاثةُ دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلث شيء، فيردّ [ثلاثة أشياء وثلث شيء إلا مالاً وثلثَ مال] (1). والمبلغان متعادلان. هذا الذي ذكره آخراً يعدل ستة دراهم [وثلثي] (2) درهم إلا أربعة أشياء وثلثي شيء، فنجبر الاستثناء من [الجانبين] (3) ونقابل، فيبقى مال وثلثُ مالٍ وستة دراهم وثلثا درهم في معادلة ثمانية أشياء. ولسنا نُطوّل بإيضاح كل ضربٍ؛ فإنه بيِّنٌ. ثم إن الجبريين إذا انتهَوْا إلى مثل هذا المنتهى، ردوا حسابهم إلى مالٍ واحد، وإذا [فعلنا] (4) هذا، فقد نقصنا [ثلث مالٍ، وإذا نقصنا من مالٍ وثلثٍ ثلثَ مالٍ، فقد نقصنا] (5) ربعه، فننقص من كل ما معنا على هذه النسبة، فيكون مالٌ واحد وخمسة دراهم يعدل ستة أشياء. فقد انتهينا الآن إلى مسألةٍ من المقترنات (6)، وهي مال (7) وعدد يعدل جذوراً. وقد ذكرت في تمهيد قواعد الجبر [السبيل] (8) في ذلك. والوجه أن نعمد إلى الأشياء وهي الجذور فننصفها، ونصف الستة ثلاثة، فنضربها في نفسها، فيكون تسعة، فنسقط منها [العدد] (9) الذي مع المال، وهو خمسة، فيبقى أربعة من التسعة،

_ (1) في الأصل: ثلاثة أشياء وثلث من إلا مالاً وثلث مال. والمثبت من (ح). ونذكّر هنا بما فصله إمامنا من قواعد الجبر ومصطلحاته في أول كتاب الوصايا، حيث قال: "إنهم يعنون بالشيء الجذر، وأن الجذر إذا ضرب في نفسه ردَّ مالاً". فهنا لما ضربنا الشيء في (إلا شيئاً وثلث شيء) كان المردود مالاً وثلث شيء. (2) في الأصل: وثلاثون. (3) في الأصل: كلمة غير مقروءة والمثبت من (ح). ثم المراد بالجانبين مردود الضرب في الحالتين، فتكون المعادلة هكذا: (1/ 3 6 دراهم وثلث إلا 1/ 3 4 شيء = 1/ 3 3 شيء إلا 1/ 3 1 مال). وإجراء جبرها ومقابلتها سهلٌ ميسور. (4) في الأصل: جعل. وفي (ح): جعلنا. والمثبث اختيار منا. (5) زيادة من (ح). (6) (ح): المعنويات. (7) حرفت في (ح) إلى: ما لو عده. (8) حرفت في الأصل إلى: للسيد. (9) في الأصل: القدر.

فنأخذ جذرها وهو اثنان، فنلقيها من نصف الأجذار، وهو الثلاثة الباقية منها. فيبقى واحد، فنقول: بان لنا أن الشيء الذي أضفناه (1) إلى الدرهمين إن قدرنا العبد درهمين واحدٌ من اثنين، فقد صح [العفو] (2) في نصف العبد، وقيمته ألفٌ، وفدى سيدُه نصفَه بنصف الدية، وهو خمسة آلاف، فنضمُّها إلى النصف الباقي من العبد وهو ألفٌ، فالمجموع ستةُ آلاف وثلثها ألفان، وصاحب [العبد] (3) يضرب في الثلث بألفين، وصاحب الثلث يضرب بألفين، فاقتضى قسمةَ الثلث بينهما نصفين، فيأخذ كل واحد منهما ألفاً، ويبقى للورثة أربعةُ آلاف وهي ضعف ما جاز بالوصيتين. 7237 - مسألة: إذا أعتق الرجل في مرضه عبداً قيمته ألفُ درهم لا مال له غيرُه، فقتله عبدٌ لرجل آخر قيمتُه ألف درهم، وللعبد المقتول بنتٌ حرة، والتفريع على أن المعتَق بعضُه يورث. فإن اختار سيد العبد القاتل فداء العبد بالدية، فنحكم على هذا الجواب أن العبد المقتول [مات] (4) حراً والدية نصفها لبنته، ونصفها لعصبة المعتِق؛ فإن ما يستحقه [عصبة] (5) المعتِق يزيد على ضعف قيمة [العبد] (6)، ويقع الفرض فيه إذا كان لا يخلّف المعتِق إلا العصبةَ، حتى ينتظم الكلام. فلو كانت قيمة العبد المقتول أكثر مما ذكرناه، فنقول: ما دامت قيمته مثل ربع الدية، فيعتق كله إذا كنا [نرى الفداء بالدية] (7)؛ فإن نصف الدية يصرف إلى بنته والنصف الآخر يصرف إلى ورثة المعتِق على ما وصفنا الورثة، فيكون نصفُ الدية ضعفَ القيمة، إذا كانت القيمة ربع الدية.

_ (1) أضفناه: المعنى نسبناه إلى الاثنين، وليس جمعناه. (2) في الأصل: العتق. (3) (ح): الهبة. (4) في الأصل: كلمة غير مقروءة. (5) في الأصل: لعصبة. (6) في الأصل: المعتق. ثم معنى العبارة أن حصول ورثة المعتِق على نصف الدية، وهو أكثر من ضعف ما صح العتق فيه (وهو العبد كاملاً) يجعل العتق نافداً. (7) في الأصل: نرد الفداء فالدية.

ولا يخفى نُفُوذ العتق إذا كانت القيمة أقلَّ من الربع. فإن كانت قيمة العبد [أكثر] (1) من الربع، مثل أن كانت نصفَ الدية، فلا ينفذ العتق في جميعه، بل نقول: عتق منه شيء واستحق [به من] (2) الدية شيئين؛ فإن الدية ضعفُ القيمة، ثم السيد المعتِق يرث منهما شيئاً واحداً (3)، ويأخذ قيمة ما رق منه، وهو خمسة آلاف [إلا شيئاً] (4)، وإذا ضممنا ذلك إلى ذلك الشيء الذي رجع إليه بالإرث من العتق، كملت خمسة آلاف، وزال الاستثناء، فإذاً خمسة آلاف تعدل شيئين، والشيء ألفان وخَمسُمائة. فنقول عتق من العبد نصفُه، ويغرَم سيد القاتل لورثة المعتِق نصفَ قيمته وذلك ألفان وخَمسُمائة ويغرَم أيضاً نصفَ الدية على مقابلة ما عتق، وهو خمسة آلاف، للسيد منها ألفان وخَمسُمائة فيجتمع لورثته خمسةُ آلاف، فهي ضعف ما عتق من العبد. وهذا الطرف من المسألة يخرج بالمعادلة المفردة. 7238 - وإن اختار سيد الجاني التسليم والدفع، ولم [يختر] (5) الفداء، وخلف العبدُ المقتول ابناً، فمعلوم أن قيمة القاتل لا تحتمل ديةَ ما عتق وقيمةَ ما رقَّ (6) [فحساب المسألة أن يضرب السيد منها بقيمة ما رقَّ] (7) ويضرب ابن العبد منها [بدية] (8) ما عتق، فيقتسمان قيمة العبد على ذلك، ولو كان المقدار الذي يعتِق معلوماً، لما احتجنا إلى الحساب المستخرج بطريق الجبر، وإنما [أُبهمت] (9)

_ (1) في الأصل: أقل. (2) عبارة الأصل: واستحق في الدية شيئين. (3) شيئاً واحداً: لأن بنت المعتق ترث النصف فرضاً. (4) في الأصل: إلا شيئين. (5) في الأصل: ولم يجز. (6) لا تحتمل دية ما عتق وقيمة ما رق: وذلك لأن القيمة أقل من الدية، فأي جزء عتق مهما كان ستكون ديته أكثر من قيمته. وهذا معلوم بداهة. (7) زيادة من (ح). (8) في الأصل: يوم ما عتق. (9) في الأصل: أتممتُ.

المسألة؛ من جهة أنا لا ندري قبل العمل مقدارَ العتق ومقدار الرق. فإذا كانت قيمةُ العبد المقتول ألفاً، وقيمة العبد القاتل ألفاً. وافتتحنا الحساب، وجعلنا كل عبد درهماً، وقلنا (1): العبد القاتل درهمٌ، فيضرب ابن العبد المقتول في قيمته، وهو درهم، بدية [الشيء] (2)؛ فإن العتق شيء و [ديته] (3) عشرةُ أشياء، ويضرِب ورثةُ السيد بقيمة ما رق، وهو درهم إلا شيئاً، ونعلم أن نصيبهم من قيمة القاتل ضعفُ العتق وهو شيئان، ونصيب ورثة المقتول الباقي، وهو درهم إلا شيئين (4)؛ فقد ضرب ابن العبد بعشرة أشياء، فأصابه درهم إلا شيئين (5)، وضرب ورثة السيد بدرهم إلا شيئاً، فأصابهم شيئان. فنقول: قدرُ (6) درهم إلا شيئاً من شيئين كقدر عشرة أشياء من درهم إلا شيئين. وهذا على القياس الذي قدمناه في المسألة الأولى؛ فإن انتقاص المالين يقع على وتيرة واحدةٍ ونسبةٍ واحدة، فنضرب ما أصاب ابن العبد واستقرّ له، وهو درهم إلا شيئين في أصل ما يضرِب به ورثةُ السيد، وهو درهم إلا شيئاً، فيخرج من الضرب درهمٌ ومالان إلا ثلاثة أشياء، وسبب هذا أنك إذا ضربت إلا شيئاً في [إلا شيء] (7) ردّ مالاً زائداً، كما قدمناه في قاعدة الجبر، وقد ضربنا إلا شيئاً في إلا شيئين، زدنا (8) في حكم الضرب شيئاً، فإذاً الخارج من الضرب درهمٌ ومالان إلا ثلاثة أشياء. ثم نعود فنضرب ما استقر لورثة السيد، وهو شيئان في أصل ما يضرب به [ابن] (9)

_ (1) (ح): وثلثا. (2) في الأصل: المقتول. (3) بياضٍ بالأصل، وفي (ح): "فدية". (4) (ح): إلا شيء. (5) (ح): إلا شيء. (6) قدر: المراد هنا نسبة درهم إلا شيئاً إلى شيئين. وأنها كنسبة: عشرة أشياء إلى درهم إلا شيئين. (7) في الأصل: شيء (بدون استثناء). (8) عبارة (ح): وقد ضربنا الاثنين في إلا شيئين وما في حكم الضرب بين ... (9) ساقطة من الأصل.

العبد، وهو عشرة أشياء، فيكون المردود عشرين مالاً، وهي [تعدل] (1) درهماً [ومالين] (2) إلا ثلاثة أشياء، فإنا قررنا استواء [المبلغين] (3) الخارجين من الضربين، فنجبرهما بالاستثناء ونلقي مالين من عشرين مالاً قصاصاً، فيكون ثمانيةَ عشرَ مالاً وثلاثة أشياء تعدل درهماً واحداً، فنرد الأموال إلى مال واحد، فإذا فعلنا هذا، رددناها (4) إلى نصف التسع؛ فإن الواحد من الثمانيةَ عشرَ نصفُ تُسعها، نرد كلَّ ما معنا من [الأجناس] (5) إلى هذه النسبة، والأشياء [الثلاثة] (6) التي كانت مع الأموال نصفُ تُسعها سُدسُ شيء؛ فإنها ثمانيةَ عشرَ سدساً، فنقول: مال واحد وسدس شيء، يعدل نصفَ تسع درهم. وقد انتهت المسألة إلى مسألةٍ من المقترنات، وهي مال وجذر يعدل عدداً؛ [فإن الجزء من الجذر جذرٌ، والجزءُ من الواحد من جنس العدد] (7)، وقد مهدنا في المقترنات أن سبيل هذا القسم منها أن نضرب الجذور في أنفسها، ونزيدَ مبلَغها على العدد، كما تمهد. ثم (8) إذا استكملنا الطريق هاهنا، نذكِّر الفطن ما قدمناه، فنقول: [معنا] (9) مال وسدسُ شيء يعدل نصفَ تسع درهم، فنضرب سدس الشيء في مثله، على قياس ضرب الأعداد، لا على قياس ضرب الجذر في الجذر، ونزيد المردودَ على نصف تُسع درهم، فنبسط [المجموع من مائة وأربعة وأربعين جزءاً،

_ (1) في الأصل: بعشرين. (2) في الأصل: وشيء. (3) في الأصل هكذا: الملبغين. (4) (ح): فقد رددنا. (5) في الأصل: الأخماس. (6) مزيدة من (ح). (7) عبارة الأصل: "فإن الجبر من الجذر والجذر والجبر من الواحد من جنس العدد". وعبارة (ح): "فإن الجبر من الجذر، والجبر من الواحد من جنس العدد". والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. (8) عبارة (ح): كما تمهد ثمَّ، وإذا استكملنا ... (9) في الأصل: معه. و (ح): منعنا.

فيقع] (1) المبلغ إذا [ألَّفت] (2) تسعة أجزاء (3) من مائة وأربعةٍ وأربعين جزءاً من درهم، فخذ جذره (4)، وذلك ثلاثةُ أجزاء من اثني عشر جزءاً من درهم، وإذا [ألفت] (5)، قلتَ: ربع درهم، فانقص منه نصف الجذر المضروب في مثله قبل الضرب، وذلك نصف سدس، وإذا نقصت نصف سدس من ربع، بقي سدس الواحد، وهو الشيء المطلوب، فقد عتق من العبد سدسُه، ورق خمسةُ أسداسه، ثم [ابنُ] (6) المعتَق سدسه يضرب بسدس الدية، وهو ألفٌ وثلثا ألفٍ، فتكون قيمة القاتل بينه وبين ورثة السيد على ثلاثة أسهم ثلثاها لابن العبد، وهو سِتُّمائة وستةٌ وستون درهماً وثلثا درهم، وثلثها لورثة المعتِق وهو ثَلاثُمائة وثلاثةٌ وثلاثون وثلث، وهو ضعف السدس الذي عَتَق. مسألة دائرة في العتق يخرج حسابها بالمعادلة المقترنة: 7239 - إذا أعتق في مرضه عبداً قيمتُه تسعةُ دراهم، لا مال له غيرُه، فاكتسب العبد بعد العتق وقبل موت السيد اثني عشر درهماً، ثم مات العبدُ وخلف ابناً حراً، ثم مات الابن وخلف مولى أبيه ومولى أمه، ولم يكن له مال إلا ما ورثه عن أبيه، ثم مات المولى المعتِق. فنذكر فتوى المسألة الخارجة آخراً (7) على التعديل المطلوب [قياساً] (8) وتقريباً، ثم نذكر طريق الحساب. فنقول: العبد حين (9) مات كان نصفه حراً، ولما عتق نصفه الحرّ نُصّف ولاء ولده

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. ولم ترد في النسختين. (2) بياضٍ بالأصل. وعبارة (ح): على نصف تسع درهم، فالمبلغ إذا ألفت ... (3) لما أستطع بعدُ معرفة لماذا كانت 9/ 144، مع أن نتائج الحساب تقول: إنها 12/ 144، برغم الاستعانة بأهل هذا الفن وجهابذته. وإن كانت النتيجة النهائية للمسألة صحيحة (الشيء = 1/ 6). فهل في الكلام سقط أو تحريف؟ الله أعلم. (4) في الأصل: فخذ من جذره. (5) بياضٍ بالأصل. (6) ساقطة من الأصل. (7) في (ح): إجراء. (8) مكان كلمة لا تكاد تقرأ في النسختين. (9) ح: حتى.

إلى مولاه المعتق، وبقي نصف [الولاء لموالي أم الابن] (1)، وملك العبد الذي عتق نصفه نصفَ كسبه ستةَ دراهم، وورث منه ابنُه ذلك على القول الجديد في التوريث فيمن مات وبعضه حر، ثم مات الابن، فورث السيد نصف ذلك، وهو ثلاثة، والنصف الباقي لمولى أمه، ومات نصف العبد رقيقاً، فلم يبق لورثة المولى من رقبته شيء، ولكن لهم نصف الكسب بسبب الرق في نصف العبد، وهو ستة، ويرجع إليهم نصف الباقي بالميراث عن ابن العبد؛ لأن لهم نصفَ ولاء الابن، فاجتمع لهم تسعةُ دراهم، وهي ضعف ما عتق من العبد؛ فإن العبد تسعة، وقد عتَقَ نصفُه. 7240 - وحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، واستحق من كسبه شيئاً وثلث شيء؛ لأن الكسب مثلُ قيمته، ومثلُ ثلثها، هكذا [يجب أن] (2) تُناسبَ الاثنا عشر التسعةَ، وتطّرد هذه النسبة في الأجزاء، فإذا استحق من كسبه شيئاً وثلثَ شيء، لأن الكسب مثلَ قيمته ومثل ثلثها، ويكون ذلك لابنه بالميراث، ثم مات الابن، ولا مال له غيرُ هذا الشيء وثلث الشيء، ورث (3) السيد من ذلك بقدر ما عتق من العبد، وهو بعدُ مجهولٌ إلى تمام العمل؛ فإنا لو علمنا قدرَ العتق، لم يبق إشكال. فسبيل العمل أن نقول: يرث السيد من ذلك بقدر ما عتق من العبد، [وهو شيء] (4)، ويرث مولى الأم منه بقدر ما رقّ من العبد؛ وهو عبدٌ إلا شيئاً؛ فيضرب السيد في تركة الابن بشيء، ويضرب مولى الأم فيه بتسعة دراهم إلا شيئاً، وهي الرقبة مع الاستثناء. ونقول بعد ذلك: كان حصل في يد السيد من الكسب مقدارٌ، فنعلم أنه يأخذ من تركة الابن حصةً إذا ضمها إلى ما في يده من الكسب، كان ذلك شيئين ضعفَ العتق،

_ (1) عبارة الأصل: " ... نصف المولى لمولى أم ... الابن" هكذا بترك بياض قدر كلمة. والمثبت عبارة (ح). (2) مكان بياض بالأصل. وهذا تقدير منا، حيث أضربت عنه (ح) ووصلت الكلام بدونه. (3) جواب (إذا) في قوله: فإذا استحق من كسبه. (4) ساقط من الأصل.

وكان في يده من الكسب اثنا عشر درهماً إلا شيئاً وثلثَ شي، فالمسألةُ (1) على إبهام الجبر، وذكر الشيء مع الاستثناء، فإذا ضممته إلى ما في يده من الكسب، كان ذلك شيئين على [العبارات] (2) المستعملة في مسالك [الجبر] (3) فنقول: كان معه اثنا عشر درهماً إلا شيئاً وثلثَ شيء، فالذي يجعله شيئين على مراسم الجبر ثلاثةُ أشياء وثلث شيء إلا اثني عشر درهماً .. وبيان ذلك أنه كان في يده اثنا عشر درهماً إلا شيئاً وثلثَ شيء، فضممتَ إلى ذلك ثلاثةَ أشياء وثلثَ شيء، فنُسقط استثناء الشيء وثلثَ الشيء، ويبقى اثنا عشر درهماً وشيئان، ولكن هذه الأشياء الثلاثة وثلثَ شيء لو جرد إثباتها، لزاد المال على ما نريد، فنصل بثلاثة أشياء وثلث الشيء استثناء اثني عشر، وإذا سقط اثنا عشر، بقي شيئان، وهو الذي نطلبه. فإذا بان ذلك، فنلقي من تركة الابن المقدارَ الذي ضممناه إلى ما كان من الكسب في يد السيد، والتركةُ شيء وثلثُ شيء، فإذا ألقيتَ منه ثلاثةَ أشياء وثلثَ شيء إلا اثني عشر درهماً، تبقّى من تركة الابن اثنا عشر درهماً إلا شيئين. وبيان ذلك أن التركة شيء وثلثُ شيء بلا استثناء، والأشياء الثلاثة وثلث شيء فيها استثناء اثني عشر، فإذا أسقطنا شيئاً وثلثَ شيء، وهي إثباتٌ [لا استثناء] (4) منه بشيء وثلث شيء مع الاستثناء، لم يستقم (5)، بل يبقى من التركة اثنا عشر درهماً إلا شيئين. فنعود بعد وضوح ذلك ونقول: السيد يضرب في التركة بحصة العتق، والعتقُ

_ (1) (ح): فاطلب. (2) في الأصل: المسائل. (3) زيادة من (ح). (4) في الأصل: إثبات الاستثناء فيه. (5) لم يستقم: أي لم يستقم الحساب. وفي الكلام إيجازٌ بالحذف مفهومٌ من الشرح الحسابي السابق والمسألة حسابياً واضحة، وصورتها هكذا: 1/ 3 1 شيء - (1/ 3 3 شيء - 12 درهماً) وإذا جبرنا، كانت هكذا: 1/ 3 1 شيء - 1/ 3 3 + 12 درهماً ثم تصير هكذا: 12 درهماً - شيئين.

شيء، فيضرب بشيءٍ من الولاء في التركة، [ويناله] (1): ثلاثة أشياء وثلث شيء إلا اثني عشر درهماً، ومولى الأم يضرب بما يقابل [العبد إلاشيئاً، وإن أردنا، قلنا: يضرب] (2) بتسعة دراهم إلا شيئاً، والذي يقابل هذا هو الباقي من التركة، فقد أخذ السيد من التركة ما أخذ، وقد أخذ من التركة ثلاثة أشياء وثلثَ شيء إلا اثني عشر درهماً، وذكرنا أنه بقي من التركة اثنا عشر درهماً إلا شيئين، فقد بان السبب الذي به يضرب السيد بشيء، والذي يصيبه [ثلاثة أشياء وثلث شيء إلا اثني عشر درهماً. والسبب الذي يضرب به موالي الأم بتسعة دراهم إلا شيئاً، والذي يصيبه] (3) اثنا عشر درهماً إلا شيئاً، فقد حصلت معنا أربعة أعداد متناسبة. وبيان ذلك أن السيد يستحق من التركة حصةً، ومولى الأم يستحق حصةً مثلَ حصة السيد من الولاء الذي ثبت له كسبه، وإذا وجدنا أربعة أعداد، وكانت نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع، فضربُ الأول في الرابع كضرب الثاني في الثالث. وإيضاح ذلك بالمثال: أنا إذا قدّرنا اثنين وأربعة وخمسة وعشرة، وقدرنا الأول الاثنين، والثاني الأربعة، والثالث الخمسة، والرابع عشرة، فنسبة الأول إلى الثاني بالنصف، ونسبة الثالث إلى الرابع بالنصف، ثم ضَرْبُ اثنين في عشرة بدل (4) ما يرده ضَرْبُ [أربعة] (5) في خمسة، وهذا مطرد لا شك فيه. ونعود إلى مسألتنا، ونقول: نسبة ولاء السيد مما يستحق من التركة كنسبة ولاء مولى الأم مما يستحق من التركة، فإذا ضربتَ اثني عشر درهماً إلا شيئين، وهو الذي نقدره رابعاً، وهو مستحَق مولى الأم في قدر ولاء السيد، وهو شيء، ردّ الضربُ اثني

_ (1) في النسختين: (ومثاله) وهو تصحيف أرهقنا استدراكه، لاتفاق النسختين عليه أولاً، ولخفاء الخلل الذي يقع بسببه ثانياً. والمثبت اختيار منا، هدانا إليه المولى سبحانه الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً. (2) زيادة من (ح). (3) سقط من الأصل، والمثبت من (ح). (4) بدل: المراد مثل وقدر. (5) في النسختين عشرة مكان الأربعة، (وهو خطأ حسابي اتفقت عليه النسختان).

عشر شيئاً (1) إلا مالين، وإذا ضربت ثلاثة أشياء وثلث شيء إلا اثني عشر درهماً، وهو الثاني في تسعة دراهم إلا شيئاً، وهو الثالث، اجتمع منه اثنان وأربعون شيئاً إلا ثلاثة أموال وثلث مال، وإلا مائة درهم وثمانية دراهم (2)، وهذا المجموع يعدل المجموع الأول، وهو اثنا عشر شيئاً إلا مالين، فنجبر كل واحد منهما بما فيه من الاستثناء ونقابل، ونلقي المتماثلات منهما بأمثالها قصاصاً، فيبقى مال وثلث مال ومائة درهم وثمانية دراهم تعدل [ثلاثين] (3) شيئاً، فنرد الجميع إلى معادلة مال واحد، بأن ننقص من كل جنس منها ربعها، فيبقى مال واحد، وأحدٌ (4) وثمانون درهماً يعدل اثنين وعشرين شيئاً ونصفَ شيء. وقد انتهت المسألة إلى معادلة مالٍ وعددِ جذور، وقد سبق لهذا نظير. وطريق العمل الآن (5): أن نأخذ نصف الأشياء ونحسبها عدداً، فنضربه في مثله، وهو أحد عشر وربع، والمردود بالضرب مائةٌ وستةٌ وعشرون ونصف وثمن، فننقص منها العدد الذي معنا في جانب المال، وهو الواحد والثمانون، يبقى منها خمسة وأربعون درهماً ونصف وثمن درهم، فنأخذ جذرها وذلك ستةٌ وثلاثة أرباع، فنسقطها من نصف الأشياء الباقية، وهو أحدَ عشرَ وربع، فيبقى منها أربعةٌ ونصف، فهي قيمة الشيء المطلوب، وأربعة ونصف من عبد قيمته تسعة نصفه، وقد عتق نصفه، واستمر ما ذكرناه من الفتوى قبل العمل.

_ (1) (ح): سهماً. (2) وصورة هذه المعادلة بالأرقام هكذا: (1/ 3 3 شيء - 12 درهماً) (9 دراهم- شيء) فإذا ضربنا وجبرنا تصير هكذا: 30 شيء - 1/ 3 3 مال-108 درهماً + 12 شيء ثم تصير 42 شيء - 1/ 3 3 مال- 108 درهماً ثم تنتهي إلى صورة المعادلة: 1/ 3 1 مال+ 108 درهم= 30 شيء. (3) في الأصل: ثمانين. (4) (ح): مال واحد وثمان. (5) (ح): من الآن.

ولست للإطناب في مثل هذا، فإني لا أنتهض إلا لحل المشكلات وأرى الاجتزاء بالمرامز في الجليات. الإمام في نهاية المطلب

مقالة تجمع فصولا في الحساب تمس الحاجة إليها في المعاملات، والأرباح والجرايات، وتعديل الأثمان والمثمنات والغلات في الإجارات واجتماع الزكوات، وما في معانيها

مقالة تجمع فصولاً في الحساب تمس الحاجةُ إليها في المعاملات، والأرباح والجرايات، وتعديل الأثمان والمثمنات والغلاّت في الإجارات واجتماع الزكوات، وما في معانيها 7241 - ليعلم الناظر [في مجموعنا هذا] (1) أنا بعد نجاز القول في الدور والوصايا والأبواب الحسابيّة التي تخرجُ المجاهيلُ منها بالجبر والمقابلة ووجوه المعادلة رأينا ألا نخلي كتابنا هذا عن فصولٍ تتعلق بالمعاملات، [والغرضُ منها] (2) لا يُحوِج إلى الجبر والطريق المستنبطة منه [ويقع] (3) الاكتفاء في معظمها بالضرب والقسمة. ورأيت الحاجة [أمسَّ] ُ (4) إليها منها إلى الدائرات الشاذّة من المفردات والمقترنات (5)، ثم وجدت كلام الأستاذ أبي منصور البغدادي في كتابه المترجم بالتكملة في الحساب أحوى، (6) مجموع هذه الأبواب، فرأيت نقلَ ما أريد من كتابه، مع مزيد بسط في مواضع [إيجازه] (7)، والله المستعان. فصل في بيان وجوه الحساب في توزيع الأثمان والمثمنات 7242 - هذا مما يحتاج الفقيه إليه إذا حاول تقسيط الأعواض على المعوَّضات في تفريق الصفقة [أو الأجزاء] (8).

_ (1) بياض بالأصل. و (ح) وصلت الكلام بدون بياض فيها. وما إخاله إلا من تصرّف الناسخ. (2) في الأصل: الفرض فيها. (3) في الأصل: ووقع. (4) في الأصل: تمس. (5) (ح): والمعبرات. (6) مزيدة من (ح). (7) زيادة من (ح). (8) في النسختين: أولاً وآخراً. والمثبت اختيار منا. يظهر صوابه من مطالعة مسائل الفصل.

فنقول: إذا قال القائل: إذا كان عشرة أَمْناء بثلاثة دراهم، فسبعة أَمْناء بكم؟ فقد ذكر السائل الثمن والمثمّن [معلومين] (1) في مقدارين، ثم ذكر مقداراً من المثمن، وسأل عما يخصّه من الثمن على النسبة التي ذكرها في المبلغين المعلومين. فالوجه في هذا أن نأخذ جنسَ المثمَّن الذي وقع السؤال عن حصته من الثمن، ونضربه في الذي هو [من] (2) خلاف جنسه، وهو الثمن المعلوم الذي سأل السائل عنه، فسبعةُ أَمْناء مثمن وثلاثة دراهم ثمن، فنضرب السبعة في الثلاثة، فيبلغ أحداً وعشرين، فنقسم هذا المبلغ على المثمّن المعلوم المقابَل بالثمن المعلوم، وهو العشرة، التي هي من جنس المثمَّن، فيخرج من القسمة نصيبُ الواحد اثنان وعُشْر، فهذا ثمن سبعة أمناء. وإن قال السائل: عشرة أمناء بثلاثة دراهم، كم يكون بخمسة دراهم؟ فاضرب الخمسة، وهي من جنس الثمن، في العشرة التي هي خلاف جنسها، فيردّ الضربُ خمسين، فاقسمها على الثلاثة التي هي من جنس الثمن، فيخرج نصيبُ الواحد ستةَ عشرَ وثلثان، فهذا مقدار ما يُشترى بخمسة دراهم. والأصل أن نضرب اللفظ الثالث (3) الذي عنه السؤال فيما يخالفه في الجنس الذي تقدم ذكره، ونقسم المبلغ على ما يوافقه في الجنس، وقد تقدم ذكره، فما خرج، فهو المطلوب. ومسائل هذا الفن كلها دائرةٌ على [أربعة أعداد معنا، نسبة] (4) الأول منها إلى الثاني

_ (1) زيادة من (ح). (2) في الأصل: في. (3) عبارة الأصل: والأصل الثالث أن نضرب اللفظ الذي عنه السؤال ... وعبارة (ح): والأصل في الثالث أن نضرب اللفظ الثالث الذي. وهذه الصياغة اختيار منا؛ فلا معنى لوصف الأصل بأنه ثالث، فلم يسبق أولٌ وثانٍ، كما لا معنى لإسقاط وصف اللفظ بأنه (الثالث) مع أن الكلام في الأعداد الأربعة. كما لا معنى لعبارة (ح): (في الثالث). ثم المراد باللفظ الثالث ذلك الذي يذكر ثالثاً في صياغة المسألة. (4) عبارة الأصل: أربعة أعداد، ومعنا ستة نسبة ... إلخ.

كنسبة الثالث إلى الرابع، وإذا كان واحد منها مجهولاً [أمكن] (1) إخراجه بالمعلومات التي يعطيها السائل. وبيان ذلك أن السؤال يجري في المسائل التي ذكرناها وأمثالها في عددين معلومين، لا إشكال على السائل فيهما (2)، ثم يذكر السائل عدداً من أحد الجنسين، ويسأل (3) عما يقابل عدده من الجنس (4) [الثاني] (5)، فإنه يقول: إذا كانت العشرة بثلاثة، فالخمسة بكم، فالعشرة معلومة والثلاثة [الواقعة] (6) بمثالها معلومة، والخمسة مذكورة، والمطلوب عددٌ رابع يناسبها مناسبة الثلاثة من العشرة. فهذا أصل هذه المسائل، وبيانُ استخراجها بالضرب والقسمة. 7243 - وقد تقع قسمةٌ مؤلفةٌ من نسب، وذلك مثل أن يقول السائل: إذا كان خمسة وثمانون درهماً محمودية بمائة مسعودية، ومائة وثلاثون درهماً ملكية بمائة وعشرة مسعودية، فكم يقع من الملكية بثلاثةَ عشرَ درهماً محمودية؟ فهذه صورة المسألة. فانظر كم نصيب ثلاثةَ عشرَ محمودية من الدراهم المسعودية، وهو أن تضرب ثلاثةَ عشرَ في مائة، وتقسم ما بلغ على خمسة وثمانين (7)، فيخرج خمسةَ عشرَ وخمسةُ أجزاء من سبعةَ عشرَ جزءاً من المسعودية. فاضرب الآن ذلك في مائة وثلاثين، واقسم ما بلغ على مائة وعشرة، فما خرج فهو ما يصيب [من] (8) الملكية [بثلاثةَ عشرَ درهماً] (9) محمودية.

_ (1) في الأصل: لأمكن. (2) (ح): منهما. (3) (ح): ويسأل عليها باقدر من الجنس الثاني. (4) في الأصل: الجنسين. (5) مكان بياضٍ بالأصل. (6) في الأصل: الرابعة. (7) (ح): وثلاثين. (8) مزيدة من المحقق. (9) في الأصل: بثلاثين درهماً محمودية.

7244 - فإن قال قائل: ثلاثةَ عشر [ذراعاً وشبرٌ] (1) في عرض أربعة أشبار بعشرة دراهم، كم ثمن ثلاثةِ أشبارٍ في أربعة أشبار؟ فحساب [الباب] (2) أن نجعل الثلاثة عشر [ذراعاً والشبرَ] (3) أشباراً، فتكون سبعة وعشرين شبراً، لأن [كل] (4) ذراع شبران (5)، ثم نضرب هذا المبلغ في العرض وهو أربعة، فيبلغ مائةً وثمانيةً، [ثم نضرب ثلاثة أشبار التي عنها السؤال في عرضها، وهو أربعة، فتكون اثني عشر، ورجع الأمر إلى قول القائل: إذا كان مائة وثمانية] (6) بعشرة دراهم، فكم ثمن اثني عشر منها؟ فنضرب الاثني عشر في العشرة؛ فإن الاثني عشر المسؤول (7) عنها، مثمَّن والعشرة ثمن، [ونحن] (8) في الضرب [نضرب المسؤول] (9) عنه فيما يخالفه، ونقسم ما بلغ على مائة وثمانية، فيخرج درهم وتسع درهم، فهذا هو الثمن المطلوب. 7245 - فإن قال [قائل] (10): مائةُ شاةٍ خمسون منها كل ثلاث منها بدرهمين، وخمسون منها كل اثنين منها بثلاثة دراهم. كم ثمن كل خمسين؟ فاضرب خمسين في اثنين، واقسم المبلغ على ثلاثة، فيخرج ثلاثة وثلاثون وثلث، فهذا ثمن الخمسين التي كل ثلاثة منها بدرهمين. ثم اضرب الخمسين في ثلاثة، واقسم المبلغ على اثنين، فيخرج خمسة وسبعون، فهذا ثمن الخمسين (11) التي كل اثنين منها بثلاثة دراهم.

_ (1) في الأصل: ثلاثة عثر درهماً وشيئين. (2) الأصل: المال. (3) ساقط من الأصل. و (ح): نجعل الثلاثة والشبر. (4) ساقط من الأصل. (5) ساقط من (ح). (6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (7) في الأصل: هي المسئول عنها. (8) مكان بياضٍ بالأصل. (9) ترك مكانها بياضاً ناسخ الأصل. وعبارة (ح): ونحن في الابتداء نضرب المسؤول عنه. (10) ساقطة من الأصل. (11) عبارة الأصل فيها كلام مقحم هنا، هكذا: فهذا ثمن الخمسين واقسم المبلغ على التي كل اثنين منها بثلاثة دراهم.

فاجمع المبلغين فيكون مائةً وثمانيةً وثلثَ درهم، هي ثمن المائة شاة، على اختلاف الثمنين. 7246 - فإن قيل: ثلاثةٌ اشتروا شاةً بتسعة دراهم، على أن تكون الشاة بينهم على سبعة عشر سهماً: لواحدٍ منها تسعة، وللثاني منها ستة أجزاء، وللثالث منها جزآن، كم على كل واحدٍ من ثمنها؟ [فاحفظ] (1) مخرج الأجزاء منها، وهو سبعةَ عشرَ، فتأخذ التسعة وتضربها في الثمن، وهو تسعة، وتقسم ما بلغ على السبعةَ عشرَ، فيخرج أربعةُ دراهم وثلاثةَ عشرَ جزءاً من درهم. فهذا مقدار الواجب من الثمن للذي له تسعةُ أجزاء من الشاة، وتضرب الستة أجزاء في الثمن، وهو تسعة وتقسم المبلغ على سبعةَ عشرَ، فيخرج ثلاثة دراهم وثلاثة أجزاء من سبعةَ عشرَ جزءاً من درهم. (2 هذا على من له منها ستة. وتضرب الجزأين في الثمن، فيكون ثمانيةَ عشرَ، وتقسمها على سبعة عشر، فيخرج درهم وجزءٌ من سبعة عشر جزءاً من درهم 2)، وهذا ما يجب من الثمن على من له جزءان من سبعةَ عشر من الشاة. 7247 - ولو قال القائل: كيف تقسم عشرة دراهم بين ثلاثة أنفس (3) على شرط أن يكون لواحدٍ النصفُ، ولآخر الثلثان وللثالث ثلاثة أرباع على قياس العول في الفرائض؟ فاطلب عدداً له نصف وثلث وربع، وأقلُّه اثنا عشر، فخذ نصفَه وثلثيه وثلاثة أرباع منه، وذلك ثلاثة وعشرون، فاحفظها؛ فإنها المقسوم عليها. ثم خذ نصف الأصل وهو ستة، فاضربها في العشرة، واقسم المبلغ على ثلاثةٍ وعشرين، فيخرج درهمان وأربعةَ عشر جزءاً من ثلاثة وعشرين جزءاً من درهم، فهذا نصيب صاحب النصف من العشرة.

_ (1) في الأصل: فاضرب، وفي (ح): تحفظ. (2) ما بين القوسين ساقط من (ح). (3) (ح): ألفين.

ثم خذ ثلثي الأصل وهو ثمانية، واضربها في العشرة، واقسم المبلغ على الثلاثة والعشرين، فيخرج ثلاثة دراهم وأحدَ عشر جزءاً من ثلاثةٍ وعشرين جزءاً من درهم، فهذا نصيب صاحب الثلثين. ثم خذ ثلاثة أرباع الأصل وهو تسعة، فاضربها في العشرة، واقسم المبلغ، وهو تسعون على الثلاثة والعشرين، فيخرج ثلاثة دراهم وأحدٌ وعشرون جزءاً من ثلاثةٍ وعشرين جزءاً من درهم، فهذا نصيب صاحب الثلاثة أرباع. 7248 - فإن قال القائل: بعت مائة شاةٍ: أوّلها بدرهم، والثانية بدرهمين، والثالثة بثلاثة، وكذلك ثمن كل شاةٍ زائدٌ على ثمن الذي قبلها بدرهم، كم ثمن المائة؟ فهذا كقول القائل: كم يبلغ العدد من واحد إلى مائة إذا جمع على التوالي، وذلك خمسة آلاف وخمسون. ووجه ذلك إذا سئلنا عن مبلغ عدد من مبتدأ إلى منتهى على الوِلاء، مثل: أن يقول القائل: اجمعوا الأعدادَ المتواليةَ من واحد إلى عشرة، على الوِلاء. معناه واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة هكذا إلى العشرة. والمعتبر الصحيح في ذلك أن نجمع الطرفين منهما، و (1) نضرب مجموعهما في نصف عدّة (2) عدد الأعداد التي عنها السؤال، فما بلغ فهو المراد. فإذا كان السؤال عن [الجمع] (3) من واحد إلى عشرة، فإنا نجمع بين الطرفين، فكان أحدَ عشر؛ فنصفه في نصف عدّة (4) الأعداد من واحد إلى عشرة، وذلك خمسة، فصارت خمسة وخمسين. فذلك هو المبلغ. 7249 - فإن قال السائل: اجمع من الخمسة إلى العشرة، جمعنا الطرفين، وهما

_ (1) (الواو) مزيدة من (ح). (2) (ح): عشرة. (3) في الأصل: الجميع. (4) (ح): هذه.

الخمسة والعشرة، فصار خمسة عشرَ، فضربناها في ثلاثة؛ لأنها نصف عدد الأعداد من خمسة إلى عشرة، فإنها ستةُ أعداد، ونصفها ثلاثة، فصارت خمسة وأربعين، فهي المبلغ المطلوب. 7250 - فإن قال السائل: مائة شاةٍ بعتُ [أولاها] (1) بدرهم والثانية بثلاثة، والثالثة بخمسة، ثم كذلك على قياس الأفراد المتوالية من الواحد إلى أي فردٍ شئت، فهذا من باب جمع الأفراد المتوالية من الواحد إلى أي فردٍ شئت. والطريق فيه أن نأخذ نصف الفرد الذي هو الغاية، ونزيد عليه نصف درهم، ونضرب ما يبلغ في نفسه، فما بلغ فهو المقصود. مثاله: أردنا أن نجمع الأفراد من واحد إلى تسعة، فنأخذ نصف التسعة، وذلك أربعةٌ ونصف، زدنا عليه نصف درهم، فكان خمسة، فضربناه في مثله، فصارت خمسةً وعشرين، فهو مجموع الأفراد، من واحد إلى تسعة. 7251 - وإن قال السائل: بعت أولها باثنين، والثانية بأربعة، والثالثة بستة، وهكذا على توالي الأزواج، فطريقها طريقُ جمع الأزواج المتوالية، من اثنين إلى أي زوج شئت، فخذ نصف الزوج الذي هو الغاية، واضربه في مثله، فما بلغ فزد عليه نصف ذلك الزوج، فما كان، فهو المبلغ. مثاله: أردنا جمعَ الأزواج من اثنين إلى عشرة فنأخذ نصف العشرة وهو خمسة، فنضربها في مثلها خمسة وعشرين، فزدنا عليها الخمسة، فصارت ثلاثين، فهي مبلغ الأزواج من اثنين إلى عشرة. وقد تركت من جميع الأعداد مسائِلَ لسنا نطوّل بذكرها، وقد [يُفرض] (2) جميعها في الأثمان، وقد ذكرنا مقداراً يليق بهذا الباب.

_ (1) في النسختين: أولا، والمثبت تقديرٌ منا. واجتماع النسختين على هذا الخطأ من علامات أنهما من أم واحدة. (2) في النسختين: نفرض. والمثبت تقدير منا.

فصل في حساب الصرف في الدراهم والدنانير 7252 - المثقال وزن درهم وثلاثة أسباع درهم بوزن [مكة] (1)، فإذا أردت تحويل الدراهم إلى المثاقيل، فأسقط من أعداد الدراهم ثلاثة أعشارها، فما بقي فهو وزن الدراهم بالمثاقيل. وإن أردت تحويل المثاقيل إلى الدراهم، فزد على عدد المثاقيل ثلاثة أسباعها، فما بلغ فهو وزنه بأوزان الدراهم المعروفة بوزن مكة. مثاله: أردنا أن نعرف أن خمسة [دراهم] (2) كم مثقالاً هي؟ فأسقطنا من الخمسة ثلاثة أعشارها، وذلك بأن ضربناها في ثلاثة، وهو عدد الأعشار، فبلغت خمسةَ عشرَ، فقسمناها على مخرج الأعشار وهو عشرة، فخرج درهم ونصف، فأسقطناه من الخمسة، فبقي ثلاثةٌ ونصف، فهي وزن خمسة دراهم بالمثاقيل. وإن أردنا أن نعرف أن خمسة مثاقيل كم هي بوزن الدراهم؟ زدنا على الخمسة ثلاثة [أسباعها] (3) وذلك بأن نضرب الخمسة [في] (4) عدد الأسباع، وهو ثلاثة، ونقسم المبلغ على مخرج الأسباع، وهو سبعة، فيخرج اثنان وسبع، فنزيد ذلك على الخمسة، فيبلغ سبعةَ دراهم وسبعَ درهم، فهو وزن خمسة مثاقيل بوزن الدرهم. واعلم أن الذي يقابل أجزاء المثقال من أجزاء الدرهم مثلُ ما يقابل المثقال الواحد من الدرهم في العدد؛ وذلك أنه إذا كان الدينار بعشرين درهماً، فدانق (5) من الذهب بعشرين دانق من الفضة، وربع دينارٍ بعشرين ربع درهم، والحبة من الذهب بعشرين حبة من الفضة، وكذلك الباب كيف قدّر سعر الدينار.

_ (1) في الأصل: ماله. (2) سقطت من النسختين. (3) في الأصل: أرباعها. (4) ساقطة من الأصل. (5) الدانق: سدس درهم.

فإذا قيل الدينار بثلاثةٍ وعشرين [درهماً] (1)، [قلت] (2) الحبة من الدينار على هذا الصرف بثلاثةٍ وعشرين حبة من الفضة، فكل ست حبات دانق، وكل ستة دوانق درهم، فيكون ثمنُ الحبة من الذهب على هذا الصرف نصفَ درهم وخمسَ حبات. وعلى هذا القياس يكون [أثمان] (3) أجزاء الدينار من الدرهم. إلا أن يقع السؤال [عن وزن] (4) شعيرة من الذهب؛ فإنه لا يقابله من الفضة مثلُ [ما يقابل] (5) الدينار من الدرهم؛ لأن [الحبة] (6) من الفضة في بعض المواضع شعيرتان. [وليست الحبة من الذهب شعيرتين، ولا ثلاث شعيرات، بل هي شعيرتان] (7) وكسر، فلا يستقيم في الشعيرات حساب سائر الأجزاء. 7253 - وفي هذا الباب طرق من البسط بالضرب والقسمة، فنذكر على الاختصار ما يكفي منها: إذا قيل: مثقالُ ذهبٍ بعشرين درهماً، كم ثمن دانقين ونصفٍ من الذهب؟ [فالمسلك] (8) المتقدم جارٍ (9) هاهنا. وإن أردت غيره، فاضرب دانقين ونصفاً، وهي خمسة أجزاء من اثني عشر جزءاً من دينار (10)، إذا بُسطت بأنصاف الأسداس، فنضرب خمسة أجزاء من اثني عشر جزءاً من واحد في الثمن، وهو عشرون، فيبلغ [ثمانية] (11) وثلثا، فاقسمها على

_ (1) سقطت من النسختين. (2) في النسختين: وقلت. (3) ساقطة من الأصل. (4) حرفت في الأصل إلى: عشرون. (5) في الأصل: ما يقابله من الدينار من الدرهم. (6) في الأصل: الجزء. (7) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (8) في النسختين: بالمسلك. (9) (ح): المقدم جاري. (10) تنبه هنا إلى أنه يستخدم لفظ الدينار مكان المثقال. فالمثقال هو الدينار، جرى على هذا هنا، (وانظر المصباح) كما جرى على الدينار = 6 دوانق. (11) في الأصل: ثلاثة.

الواحد وهو مقدار دينار (1)، فتخرج ثمانية دراهم وثلث؛ فإن معنى (2) القسمة بيان نصيب الواحد، فذلك ثمنُ دانقين ونصفٍ من الذهب. فإن أردت أن تحسب على طريق النسبة، قلت -و [قد] (3) علمنا أن دانقين ونصفاً من الدينار ربعه وسدسه-: [خُذ] (4) ربع الثمن وسدسه، فربع العشرين خَمسة وسدسها ثلاثة وثلث، فالمجموع ثمانية وثلث، وهي الثمن المطلوب. وإن قيل: دينار بعشرين [درهماً] (5) [فأربعة] (6) دراهم [بكم] (7) تكون من الذهب؟ فاضرب الأربعة فيما يخالفه في الجنس وهو الدينار الواحد، فيكون أربعة فاقسمها على العشرين التي هي من جنسها، فيخرج خمساً واحداً، فبان أنه يقابل أربعةُ دنانير خمسَ دينار. وهذا على قياس فضّ الأثمان على المثمنات في الباب الأول. 7254 - [و] (8) إذا اختلفت الأوزان بين الدراهم والدنانير، وأردنا أن نتكلم في [الصرف] (9) بأن يقول القائل: مثقال ذهب بعشرين درهماً كم ثمن دانقين ونصفٍ من الذهب بوزن الفضة من الدراهم (10)؟ فاضرب سبعةً أبداً في الثمن في هذا الباب وهو عشرون، تكون مائةً وأربعين، فأخرج من كل عشرة منها دانقين ونصفاً، يكون خمسة دراهم وخمسة دوانيق، فهذا ثمن دانقين ونصفٍ بوزن الفضة من الذهب.

_ (1) (ح): الدينار. (2) (ح): بقى. (3) ساقطة من الأصل. (4) في النسختين: فخذ. وهي مقول القول. (5) ساقط من النسختين. (6) في النسختين: بأربعة. (7) في النسختين: كم. (8) الواو ساقطة من النسختين. (9) عبارة الأصل: في ذلك. (10) (ح): من مبلغ الدرهم.

فإن قيل: كم ثمن وزن درهم من الذهب بوزن الدراهم، والصرفُ أربعة عشر، فقد علمت أن المثقال يزيد على الدراهم بثلاثة أسباعه، فذلك عشرة أسباع الدرهم، فيصير الدرهم أسباعاً يكون [سبعة] (1) [فاضربها] (2) في الثمن [يردّ] (3) ثمانيةً وتسعين فاقسمها على العشرة، فتخرج تسعة دراهم وأربعة أخماس درهم، فهي ثمن وزن درهم من الذهب. وإذا قال القائل: الدينار بعشرين درهماً، كم ثمن قطعة من الذهب مجهول وزنها بزنة الفضة؟ فاضرب العشرين في سبعة (4) يكون مائة وأربعين، واقسمها على العشرة (5)، وهي الأسباع التي ذكرناها، تخرج أربعة عشر (6)، [فهي تقابل وزن جزء واحدٍ من الدينار: أي الذهب،] (7) فتقابل تلك القطعة من الذهب بمثل وزنها من الفضة أربع عشرة مرة. فإن كان صرفُ الدينار بخمسةٍ وعشرين، [فاضرب الخمسة والعشرين في السبعة] (8)، تكون مائة وخمسة وسبعين، فاقسمها على العشرة، فيخرج سبعةَ عشرَ ونصف، فخذ مثلَ وزن القطعة سبعةَ عشرَ مرة ونصف مرة. والأصل في هذا أن نضرب الثمن في سبعة، ونقسم المبلغ على العشرة

_ (1) في الأصل: سبعها. (2) بياض بالأصل. وعبارة الأصل بعد هذا مضطربة خاطئة، هكذا: يكون سبعها، فاضربها إذاً الثمن يبقى ثمانية وسبعون، فاقسمها ... إلخ. (3) في النسختين: يبقى. (4) سبعة: التي هي أجزاء الدرهم. (5) العشرة: التي هي أجزاء الدينار بالنسبة للدرهم، فالدينار: 3/ 7 1 وزن الدرهم. (6) تخرج أربعة عشر: أي أن وزن الجزء من الدينار (الذهب) ثمنه 14 جزءاً بنفس الوزن من الدرهم (الفضة) فيكون ثمن قطعة الذهب المسؤول عنها من الفضة هو وزنها 14 مرة. (7) زيادة من المحقق. (8) عبارة الأصل فيها خطأ وتغيير: فإن كان صرف الدينار بخمسةِ وعشرين، فالتسعة تكون مائة وخمسة وسبعين ...

[الأسباع] (1)، لأن كل سبعة مثاقيل (2) وزن عشرة دراهم، وقس على هذا نظائره. فإن كان مع المشتري من الفضة قطعةٌ لا نعرف وزنها، وأراد أن يأخذ بها من الذهب، فاعلم أن مستحَقه (3) من الذهب مثلُ نصف سبع وزن الفضة، إذا كان الصرفُ خمسةً وعشرين. ومن أحاط بنسبة الأسباع، هان عليه استعمال هذه [المسالك] (4). فإن قيل: إذا كان [لك] (5) على رجل ثَلاثمائة درهم، ممّا (6) يكون في كل عشرة منها سبعة ونصف فضة، فأعطاك من دراهم في كل عشرة منها ستة دراهم فضة، كم تأخذ منه لتستوفي (7) الفضة؟ فاقسم السبعة والنصف على الستة (8)، فيكون في كل عشرة من ا [لفضل] (9) واحدٌ وربع، فاضرب ثَلاثمائة في واحد وربع، فيكون ثَلاثَمائة وخمسة وسبعين درهماً، فهذا مقدار ما يأخذه. وهذا حساب تراضٍ، وإلا [فأقوال الفقهاء] (10) لا تخفى في بيع المغشوشة بالمغشوشة، مع اختلاف [العيار] (11). وإن كان الحق الواجب ثَلاثَمائة درهم من الدراهم التي في كل عشرة منها ستة فضة، فأراد أن [يردّ] (12) من الدراهم التي في كل عشرة منها سبعة ونصف فضة، فاقسم الستة على السبعة والنصف، فيكون أربعةَ أخماسها، فخذ أربعة أخماس

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل، وهو تقدير منا، فلم تحسن (ح) تقديره، فجاءت هكذا: " ... على العشرة أنه الآن كل سبعة". (2) مثاقيل: أي دنانير. (3) (ح): الذي يستحقه. (4) في الأصل: المسائل. (5) في الأصل: ذلك. (6) (ح): ما يكون. (7) (ح): استوفى. (8) (ح): السيد. (9) مكان بياضٍ بالأصل، وهو كذلك في (ح). (10) بياض بالأصل، وفي (ح): وإلا قرار الفقهاء لا يخفى. (11) في الأصل: المعتاد. والمثبت من (ح). (12) بياض بالأصل.

ثلاثمائة، وهي مائتان وأربعون، فهذا مقدار ما يدفع منها. 7255 - مسألة: إن سئلت عن رجل دفع إلى الصائغ خمسين مثقالاً ذهباً، وألقى عليه عشرين مثقالاً شَبَهاً (1)، ثم قطع من الجملة قطعةً، وزنها عشرون [مثقالاً. كم فيها من الذهب؟ وكم فيها من الشبه؟ فاضرب المقطوع وهو عشرون] (2) في [الشبه الملقى عليه] (3) وهو عشرون، فبلغ أربعمائة، فاقسمها على مجموع الذهب والشبه، وذلك سبعون، فيبلغ خمسةً وخمسةَ أسباع، وذلك مقدار ما في القطعة [من الشبه. ثم اضرب الذهب في الأصل، وهو خمسون في المقطوع وهو عشرون، فبلغ ألفاً، فاقسمها على السبعين، فيخرج أربعة عشر مثقالاً وسبعي مثقال، وذلك مقدار ما في القطعة] (4) من الذهب. وإن أردت [أخذته] (5) من الشبه، فنقول: الجملة المخلوطة سبعون سبعاها شبه وخمسة أسباعها ذهب، فكل قطعة تُقطع فسبعاها شبهٌ وخمسة أسباعها ذهب. فإن قيل: إناءٌ فيه من الذهب خمسةُ مثاقيل، ومن الفضة تسعةُ مثاقيل، ومن الرصاص خمسةُ مثاقيل، ومن النحاس سبعةُ مثاقيل، ومن الصُّفْر عشرة، ومن جوهر آخر ثلاثةَ عشرَ مثقالاً، ومن الشبه أحدَ عشرَ، فقطعت منها قطعة وزنُها ثمانيةُ مثاقيل، كم [فيها] (6) من كل جوهر؟ فاجمع عدد مثاقيل الإناء وهي ستون، وهي المقسومة عليها، ثم اضرب مثاقيل كل جنسٍ في الثمانية التي هي وزن القطعة، فما بلغ فاقسمه على الستين، فما خرج فهو مقدار ما في تلك القطعة من ذلك الجنس.

_ (1) الشبه: بفتحتين من المعادن ما يشبه الذهب في لونه، وهو أرفع الصُّفر (النحاس) (المصباح). (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (3) مكان بياض بالأصل، وفي (ح) " في الحملان، وهو عشرون ... ". (4) ما بين المعقفين سقط كله من الأصل. (5) بياض بالأصل، وأثبتناه من (ح). (6) في الأصل: منها.

ونظير ما في هذه المسألة قول القائل: قارورة ملئت بالأدهان، فكان فيها عشرون رطلاً: منها ثمانية أرطال دهن الزئبق، وسبعةُ أرطال دُهن البنفسج، وخمسةُ أرطال دهن الورد، ملئت منها قارورة أخرى، فوسعت تسعةَ أرطال، كم فيها من الزئبق والبنفسج والورد؟ فاجمع الأدهان في الأصل، فتكون عشرين رطلاً، فهي المقسوم عليها، ثم اضرب أرطال الزئبق، وهي ثمانية في التسعة المفروزة، فتبلغ اثنين وسبعين، فاقسمها على العشرين، فيخرج ثلاثة أرطال وثلاثة أخماس رطل، فهي مقدار ما فيها من الزئبق، وهذا قياس غيره. 7256 - مسألة: إذا قيل: دينار بأربعةَ عشرَ ونصفٍ [و] (1) دينارٌ بسبعةَ عشرَ ونصفٍ، وقد أخذت بدينار واحد من الصرفين ستةَ عشرَ درهماً، فبكم أخذت من الدينار الرخيص؟ وبكم أخذت من الغالي؟ فأسقط الضرب (2) الأقلَّ وهو أربعة عشر ونصفٌ من الضرب (3) الأكثر، وهو سبعةَ عشرَ ونصفٌ تبقى ثلاثة، فهي المقسوم عليها، فاحفظها. ثم أسقط أربعةَ عشر ونصفاً من الستةَ عشرَ، يبقى واحدٌ ونصف، فاقسمه على الثلاثة المحفوظة، فيكون نصفها، فتأخذ نصف دينار من الضرب الغالي، ويبقى للصرف الرخيص نصفُ دينارٍ. فإن قيل: دينارٌ بثمانيةَ عشرَ درهماً مكسّرة، ودينار بأربعةَ عشرَ صحاح أردت أن تأخذ من الصرفين خمسةَ عشرَ درهماً بدينار واحد، فأسقط الصرف الأقلّ من الصرف الأكثر، يبقى أربعةٌ، فهي المقسوم عليها، فاحفظها، ثم انقص الأربعةَ عشرَ من المأخوذ، وهي خمسةَ عشرَ، يبقى واحدٌ، فاقسمه على الأربعة المحفوظة، فيخرج ربعٌ واحدٌ، فخذ من الدينار الغالي الربعَ، ومن الرخيص ثلاثة أرباع (4).

_ (1) الواو مزيدة من (ح). (2) (ح): الصرف. (3) (ح): الصرف. (4) في (ح) عقب نهاية المسألة: " بيع (كذا) ثمانية عشر، وثلاثة أرباع أربعة عشر " وصوابها (ربع).

7257 - مسألة: إن قيل: [مثقال] (1) بعشرة ومثقال بثمانية ومثقال بعشرة كيف نشتري من الجميع مثقالاً بثمانية؟ فبابه أن نجمع الستة والثمانية والعشرة، فيكون أربعةً وعشرين، فاحفظها، ثم انظر الستة من الأربعة والعشرين كم هي؟ [فنجدها ربعها، فنقول: إذا كان المثقال بثمانية، فربعه بكم؟] (2) فيكون بدرهمين. وانظر إلى الثمانية وهي من أربعةٍ وعشرين فتجدها ثلثها فنقول: المثقال بثمانية فثُلثه بكم (3)؟ فيكون بدرهمين وثلثي درهم. وانظر إلى العشرة كم هي من الأربعة والعشرين؟ فتجدها ربعها وسدسها، فنقول: المثقال بثمانية فبكم ربعه وسدسه؟ فيكون [بثلاثة وثلث] (4) وقد حصل المقصود؛ فإنك إذا [ألّفت] (5) أجزاء الدينار بلغت ديناراً، وإذا ألفت أجزاء الدرهم بلغت ثمانية. 7258 - مسألة: إذا قيل: دينارٌ بثلاثة دراهم وديناران بدرهم كيف نشتري منهما (6) ديناراً واحداً بدرهم؟ أو (7) قال: منٌّ بثلاثة دراهم، ومنوان بدرهم. كيف يُشترى منهما منٌّ واحد بدرهم؟ فاضرب ثلاثة دراهم في دينارين أو في المنوين، تكون ستة، فانقص منها واحداً أبداً، تبقى خمسة، فهي المقسوم عليها، فاحفظها. ثم انقص من المنوان واحداً أو من الدينارين، يبقى واحد، فاقسمه على الخمسة فيخرج [خُمس دينار] (8) فنشتري خمساً من الغالي، ونشتري بدرهم أربعة أخماس من الرخيص.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. حيث كررت بعض الجمل مكانه. (3) (ح): فكم يكون بدرهمين. (4) في الأصل: بثلاثة ذهب. (5) في الأصل: ألقيت. (6) (ح): فيهما. (7) في الأصل: وقال. (8) في النسختين: ثلاثة أخماس درهم.

فصل في بيان [حساب] (1) الإجارات والغلات 7259 - ومضمونه بيان معرفة مقادير الأجرة الموزعة على المعقود عليه من منافع دارٍ، أو عمل عاملٍ، ثم يلتحق بهذا المقصود نوادرُ في الحساب [تفيد] (2) الدُّرْبة (3) وا [لمرون] (4). فنقول: إذا كانت الأجرة في الشهر أو في السنة معلومةَ المقدار، وكانت لا تختلف باختلاف الأزمان، فأجزاء الأجرة تتوزع على أجزاء الزمان. (5) [والذي به الاستدلال أن نقول: إذا كانت الأجرة في الشهر [ثلاثين] (6)، فأجرة خمسة أيام [سدس] (7) الثلاثين؛ لأن الخمسة سدس الثلاثين، وهذا إذا كان الشهر ثلاثين يوماً. ثم هو على قياس ما ذكرنا في الأثمان والمثمنات. 7260 - مسألة: أجيرٌ يكتسب في الشهر عشرة، وإن تعطل غرِم خمسة [فعمل وعَطَل] (8) وخرج رأسأ برأس، كم عمل؟ وكم بَطَل؟ نجمع الغرم والغنم: خمسةَ عشرَ، فهو قدر عمله [وغُرمه، ثم نضرب الخمسة في أيام الشهر، ونقسم على خمسةَ عشرَ، فيخرج عشرة أيامٍ، هي أيام عمله] (9)، وأجرته فيها ثلاثة وثلث.

_ (1) زيادة من (ح). (2) في الأصل: تنفيذ. (3) (ح): الذرية. (4) بياض بالأصل. (5) من هنا بدأ سقط من الأصل، وأكملناه من (ح). (6) في الأصل الذي هو (ح): "شيئا". والمثبت تصرف من المحقق. (7) في الأصل، الذي هو (ح) هنا: " في من " هكذا حرفت كلمة (سدس). (8) في الأصل، الذي هو (ح): يعمل عطل. والمثبت من عمل المحقق. (9) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، الذي هو (ح)، أي أنه ساقط من السقط الذي نكمله من (ح). وانظر كم أجهدنا استنباط هذا الساقط وتقديره. ولله الفضل والمنة.

ثم نضرب عشرة في أيام الشهر، ونقسم على خمسة [عشرة] (1) فيخرج (2) عشرون يوماً لبطالته، وغُرْمه فيها ثلاثة وثلث، فاستوى ماله و [ما] (3) عليه. وإن كانت المسألة بحالها، يعمل ويعطل، وأخذ درهماً، جُمع عمله وغُرمه [فهي] (4) خمسة عشرَ، ثم نزيد الدرهمَ الذي أخذه على ما عليه؛ فيكون ستة، فنضربها في أيام الشهر، ونقسم على خمسةَ عشرَ] (5)، فيخرج اثنا عشر يوماً، فهي أيام عمله، والباقي إلى تمام الشهر أيام العطلة. وإن قيل: في هذه المسألة: [عمل و] (6) بطل، وردَّ الأجير درهماً، [فالقسمة] (7) على خمسةَ عشرَ، كما مضى. [فانقص] (8) ما عليه درهماً، يبقى منه أربعة، فاضربه في أيام الشهر، واقسم المبلغ على خمسةَ عشرَ، فيخرج ثمانية أيامٍ لعمله، وما بقي إلى تمام الشهر عَطَلُه. 7261 - مسألة: إذا قيل: أجير أجرته في الشهر اثنا عشر درهماً وخاتم، عمل ثمانية أيام، فأخذ باجرته الخاتَم، كم قيمته؟ فانقص أيام عمله من أيام الشهر تبقى اثنان وعشرون يوماً، أجرة العمل فيها اثنا عشر، فاضرب الاثني عشر في أيام العمل، وهي ثمانية، واقسم المبلغ على الاثنين والعشرين الباقية، فتخرج أربعة دراهم وثمانية أجزاء من اثنين وعشرين جزءاً من درهم، فذلك قيمة الخاتم.

_ (1) ساقطة أيضاً. (2) في الأصل: ثم يخرج. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: في. (5) إلى هنا انتهى السقط الذي كان من نسخة الأصل (ت 3). (6) سقط من الأصل. (7) في النسختين: بالقسمة. (8) في النسختين: ثم انقص.

7262 - مسألة: أجير عمل [ثمانية] (1) أيام من الشهر وأخذ خُمسَ كرائه ودرهماً، كم أصل كرائه؟ خذ خمس الشهر، وهو ستة، فانظر كم بينه وبين [ .... ] (2) ثمانية وهو اثنان، فذاك هو المقسوم عليه، فاحفظه. ثم اضرب الدرهم في الثلاثين واقسم المبلغ على اثنين، فيخرج خمسةَ عشرَ درهماً، وهي كراه، ويستحق في ثمانية أيام أربعة دراهم، وهي مثل خمس كراه وزيادةُ درهم. فإن قيل: عمل ثلاثةَ أيام، فأخذ خُمس كراه إلا درهماً واحداً، فخذ خمس الشهر وهو ستة، فانظر كم بينها وبين الثلاثة التي عمل فيها، فخذ الفضل وهو ثلاثة، فهو المقسوم عليها، ثم اضرب الدرهم في الثلاثين، واقسم المبلغ على الثلاثة، فيخرج عشرة، فهو كراه في الشهر، يستحق في ثلاثة أيام عُشر الكراء وهو درهم، وذلك مثل خمس كرائه [إلا درهماً] (3). 7263 - مسألة: إن قيل: أجيرٌ أجره في الشهر شيء مقدر، عمل من الأيام مثل عدد ثلاثة أمثال أجره، فأصاب من الأجر فيما عمل أربعين درهماً، كم أجرته في الشهر؟ فاقسم ما أصاب من أجره وهو أربعون على ثلاثة؛ لأنه عمل مثل عدد ثلاثة أمثال أجره، فيخرج ثلاثةَ عشرَ درهماً وثلثَ درهم، فاضربها في عدد أيام الشهر وهي ثلاثون، فيبلغ أربعَمائة، فخذ جذرها، وهو عشرون درهماً، وذلك مقدار أَجْره في الشهر، فإذا عمل مثل ثلاثة أمثال أجرته وهي ستون يوماً، استحق أربعين درهماً. 7264 - مسألة: أجير أجرته في كل يوم خَمسُ دراهم، وهو ينفق سُبعَ درهم، كم يجتمع له في الشهر؟ فاطلب مخرجاً له خُمس وسُبعٌ، وذلك خمسة وثلاثون، فخذ خُمسها، وهو سبعة وسبعها، وهو خمسة، فاطرح الأقل من الأكثر يبقى [اثنان] (4) فنضربه في أيام الشهر، يكون ستين، فاقسمها على الخمسة والثلاثين، فيخرج درهم

_ (1) في الأصل: ثلاثة. (2) بياض في الأصل، قدر كلمتين. والكلام مستقيم بدون تقديره، كما في (ح). (3) في النسختين خلل هكذا: مثل خمس كرائه في الشهر عشر دراهم. (4) في الأصل: دينار.

وخمسة أسباع درهم، فهذا ما يجتمع له في الشهر الواحد بعد النفقة. فإن قيل: أجير أجره في كل يوم ثلثُ درهم فينفق سُبعَ درهم، في كم يجتمع له درهم؟ فخذ مخرجاً له ثلث وسبع، وأقله أحدٌ وعشرون، ثم خذ ثُلثَه: سَبعة لأجل ما يأخذ، وخذ سُبعَه: ثلاثة لأجل ما ينفق، فألق الثلاثة من السبعة، تبقى أربعة، فهي المقسوم عليها. ثم اضرب الدرهم الواحد في الأحد والعشرين، واقسم ما بلغ على الأربعة، فتخرج خمسة وربع، ففي خمسة أيام وربع يجتمع له درهم. فإن قيل: أجير أجره في كل خمسة أيام درهم، فينفق في كل سبعة أيام درهماً، في كم يوم يستفضل درهماً واحداً؟ وقد علمت أنه يستفضل في كل سبعة أيام خمسي درهم، فاضرب السبعة في اثنين ونصف يكون سبعةَ عشرَ يوماً ونصفَ يوم، ففي مقدارها يستفضل درهماً واحداً. وإن شئت فاضرب الخمسة في السبعة، واقسم المبلغ على فَضْل ما بينهما، فيخرج سبعةَ عشرَ ونصفٌ، ففيها يستفضل درهماً واحداً. فصل في حساب الأرباح [والخسرانات] (1) 7265 - ومضمون الفصل حساب الأرباح [والخسرانات] (2) ومقادير رأس المال مع الربح أو مقداره بعد الخسران. هذا هو الأصل المقصود، ثم نلحق به نوادرَ، إن شاء الله عز وجل. فنقول: الوجه أن نقدم صوراً هيِّنةً قريبةَ المأخذ، ليتمهد فيها أصل الباب، فإذا تمهد، ترقّينا إلى ما يكاد يخفى على من [لا يحسن] (3) قياسَ الباب.

_ (1) في الأصل: الجرايات. (2) في الأصل: الجرايات. (3) في الأصل: لا يجيز.

فإذا قيل: ربح على رأس المال نصف مرة واحدة، فاضرب رأس المال في ثلاثة، واقسم المبلغ على اثنين، فما خرج فهو رأس المال مع الربح. وإن ربح على رأس المال مثل ثلثه، فاضرب رأس المال في أربعة، واقسمه على ثلاثة، فما خرج فهو المال والربح. وإنما ضربناه في أربعةٍ لأن المال إذا زدت عليه ثلثه، كان المبلغ أربعة أثلاث، فهذا هو القياس، والضرب يقع في مخرج الجزء الزائد. وإن ربح على المال ربعه، [فاضرب المال في خمسة؛ فإن المال إذا زيد عليه رُبعه، كان] (1) مع الزائد خمسة أرباع، والقسمةُ على مخرج الربع. وبيان ما ذكرناه بالمثال: أن نقول: رأس المال عشرة، وقد ربح مثل ثلثها، فضربنا العشرة في أربعة فردّ أربعين، فنقسمها على ثلاثة، فيخرج نصيب الواحد ثلاثةَ عشرَ وثلث. وإن ربح على العشرة مثل ربعها، ضربنا العشرة في خمسة، فيرد خمسين، فقسمناها على أربعة، فيخرج نصيب الواحد اثني عشر ونصفاً، وهو رأس المال والربح. وإن قيل: ربح على رأس المال ثلاثة أرباعه، فاضرب رأس المال في سبعة، فإن رأس المال مع ثلاثة أرباعه سبعةُ أرباع، فقل عشرة في سبعة، فالمردود سبعون، فاقسم المبلغ على أربعة، فالخارج [نصيب الواحد] (2)، وهو رأس المال والربح. وإن قال: ربح على المال سبعةَ أعشاره، فاضرب المال في سبعةَ عشرَ، واقسم المبلغ على العشرة، فما خرج من القسمة، فهو المبلغ المطلوب. وإن خسر مثل ثلث المال، فاضرب المال في اثنين؛ فإن معنى خسران الثلث أنه لم يبق إلا الثلثان، فاقسم المبلغ على ثلاثة. وإن خسر مثلَ ربع المال، فاضرب المال في ثلاثة، واقسم المبلغ على أربعة.

_ (1) زيادة من (ح). (2) في النسختين: نصيباً للواحد.

وإن خسر ثلاثة أسباع المال، فاضرب المال في أربعة، واقسم المبلغ على السبعة. وعلّةُ ذلك أن المال [قبل] (1) الخسران سبعة أسباع، فإذا نقص بالخسران ثلاثة، بقي أربعةُ أسباع، فلهذا يقع الضرب في الأربعة، [ثم القسمةُ] (2) أبداً على مخرج الجزء. 7266 - فإن ربح صاحب المال على المال مراراً كثيرة ربحاً واحداً على نسبةٍ واحدة في كل مرة، مثل: ده يازده، أَوْ دو ازده (3)، أو أكثر من ذلك، وأردت أن تعلم المبلغ بعد آخر ربح، فاضرب العشرة (4) في مثلها، أو (5) ما بلغ في العشرة، ثم كذلك بعدد مرات الربح إلا مرةً واحدة، واحفظ المبلغ، ثم اضرب العشرة مع ربحها أولاً في مثله، ثم ما بلغ في العشرة مع ربحها كذلك بعدد مرات الربح إلا مرةً واحدة، واحفظ المبلغ، ثم اضرب رأس المال في المبلغ الأكثر، واقسم ما بلغ على المبلغ الأقل، فما خرج، فهو رأس المال بعد الأرباح. 7267 - مثاله: رأس المال خمسة وعشرون درهماً، ربح عليها ده دو ازده (6) ثلاث مرات، فنضرب العشرة في العشرة، فما بلغ في العشرة أقل من عدد الأرباح مرة، فبلغ ألفاً، فحفظناها. ثم ضربنا العشرة مع ربحها، وذلك اثنا عشر في الاثني عشر [مرتين] (7)، فبلغ [ألفاً] (8) وسَبعمائة وثمانيةً وعشرين، فضربنا الآن رأس المال، وهو خمسة وعشرون في هذا المبلغ أكثر، وقسمنا المبلغ على الألف التي هي المبلغ

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: بما نقسمه. (3) ده يازده أو دو يازدة: مصطلح فارسي مستخدم في لغة التجارة، ومعناه: تربح العشرة فتصير أحدَ عشرَ أو اثني عشر، وهذا يقابل قولنا الآن: عشرة في المائة أو عشرين في المائة، أو المائة مائة وعشرة أو مائة وعشرون. (4) العشرة: رمز لرأس المال. (5) (ح): في ما بلغ. (6) ده دوازده: أي العشرة اثنا عشر. (7) زيادة من (ح). (8) في الأصل: ألفان.

الأقل، فخرج ثلاثة وأربعون درهماً وخُمسُ درهم، فذلك مبلغ المال بعد الأرباح الثلاث. ومما يجب التنبه له أنا نضرب العشرة في العمل الأول في نفسها، ولا ننظر إلى رأس المال، ثم نضرب العشرة وربحَها على الترتيب الذي قدرناه، ولا نتعرض لمقدار رأس المال، وإنما نتعرض لنسبة ده يازده وده دوازده [ثم] (1) نضرب بعد هذين العملين رأسَ المال بالغاً ما بلغ في المبلغ الأكثر، ولو كانت نسبة الربح غير مأخوذة من العشرة، فيجب أن يكون العمل من النسبة المذكورة، فافهم. 7268 - وإن كان العمل في الخسران، فاضرب العشرة في مثلها، إذا كان [الخسران] (2) ده يازده أو ده دوازده، وتكرر مراراً، فإذا ضربت العشرة في مثلها، [فما بلغ في العشرة، ثم اضرب الثمانية -إذا كان الخسران ده دوازده- في مثلها] (3) ثم ما بلغ في الثمانية؛ لأن الثمانية هي الباقية من العشرة. ثم اضرب رأسَ المال في المبلغ الأقل، واقسم ما بلغ على المبلغ الأكثر، فما خرج، فهو الباقي من المال بعد [الخسرانات] (4). وبيانه في الخمسة والعشرين إذا [خسر] (5) عليها ده دوازده ثلاث مرات: ضربنا العشرة في العشرة [مرتين] (6)، كما ذكرناه في الأرباح، فبلغ ألفاً، فحفظناها، ثم ضربنا الثمانية وهي الباقي من العشرة بعد نقصان [الخسران] (7) منها في مثلها مرتين فيبلغ خمسَمائة واثني عشر، ثم ضربنا رأس المال، هو خمسةٌ وعشرون في المبلغ الأقل، وهو خَمسُمائة واثنا عشر، وقسمنا ما بلغ على المبلغ الأكثر، وهو ألف،

_ (1) زيادة من (ح). (2) في الأصل: الجبران. (3) زيادة من (ح). (4) في الأصل: الجبرانات. (5) مكان بياضٍ بالأصل. (6) بياض بالأصل. (7) في الأصل: الجبران.

يخرج من القسمة اثنا عشر درهماً وأربعةُ أخماس درهم، فهذا هو الباقي من الخمسة والعشرين، بعد أن خسر فيها ثلاث مرات ده دوازده، فقس على هذا نظائره. وفيما يجري على الاعتبار في الأرباح، ده يازده، وده دوازده. أما ده يازده، فهو العشرة واحد، فردّه على المبلغ عشرة، وإن كان رأس المال درهماً بلغ درهماً وعُشْراً، وإن كان رأس المال عشرة، بلغ أحدَ عشرَ. وإن كان المال أحد عشرَ بلغ اثني عشر درهماً وعشرَ درهم. فأما خسران ده يازده، فالحسّاب (1) ينقصون العشرة واحداً كما يزيدون لربحِ ده يازده واحداً، فالربح زيادة عُشْر [والخسران] (2) نقصان عُشر. وللفقهاء ترددٌ في الخسران يظهر [أثره في عقدٍ] (3) استعمل فيه لفظ خسران ده يازده. وذلك مثل أن يشتري عبداً بعشرة، فإن باعه على ربح ده يازده، فهذا بيعٌ بأحدَ عشرَ. وإن باعه بخسران ده يازده، فالذي ذهب إليه جمهور الفقهاء أن العشرة تجري أحدَ عشرَ، ونحط منها جزءاً. والذي رآه الحُسّاب أن لفظ خسران ده يازده معناه نقصان عُشْرٍ تامّ، وهو نقيصة درهمٍ من عشرة. وما ذكره جماهير الفقهاء متجهٌ في اللفظ، ولا دفع (4) لهذا في الباب الذي نحن فيه؛ فإن هذا البابَ ليس مُداراً على الألفاظ ومعانيها، وإنما [هو مُدارٌ] (5) على ما يقع (6). فإذا فرضوا نقصان العُشر، حسبوا هذا الحساب، وعلى هذا مجاري

_ (1) (ح): بالحساب. (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: أمره في لفظ. (4) كذا في النسختين، ولعلها: (ولا وقع) أي لا مجال ولا أثر. (5) في النسختين: " وإنما هي مدارةٌ " ولا توجيه لها إلا بالتعسف والاستكراه، وإعادتها إلى الألفاظ. (6) أي على واقع الحال والاتفاق.

مسائل من نوادر الأرباح والخسرانات مقصودة في أنفسها، وهي تهذب الأصول

الخسران، والربحُ على ما وصفناه (1)، مع [التباس في النقائص] (2) التي ذكرناها (3). مسائل من نوادر الأرباح والخسرانات مقصودة في أنفسها، وهي تهذب الأصول 7269 - فإن قيل: رجل ربح على رأس ماله ده دوازده للعشرة اثنين، وكان رأس ماله ثمانيةً ونصفاً، فكم المبلغ؟ وكم حصل معه؟ فاضرب ثمانية ونصفاً باثني عشر، واقسم ما بلغ على العشرة، فتخرج عشرةُ دراهم وخُمس درهم، فهي المبلغ المطلوب. وإن قيل: خسر على رأس ماله ده دوازده، وكان رأس ماله ثمانية ونصفاً إلى كم يرجع رأس ماله؟ فاضرب الثمانيةَ والنصفَ في ثمانيةٍ؛ لأنها الباقي من العشرة على قاعدة الحساب بعد نقصان ده دوازده، فيبلغ ثمانيةً وستين، فاقسمها على العشرة فتخرج ستةُ دراهم وأربعةُ أخماس درهم، فهذا هو الباقي المطلوب. فإن قيل: اشترى متاعاً وباعه فربح ده سيزده (4)، فبلغ ثمنُه أحدَ عشرَ درهماً، كم (5) كان رأس المال؟ فاضرب الأحد عشر في عشرة، واقسم ما بلغ على ثلاثةَ عثرَ، فتخرج ثمانية دراهم وستة أجزاء من ثلاثةَ عشرَ جزءاً من درهم. فهذا كان رأسَ ماله، [فإن قيل: اشترى متاعاً، وباعه بخسران سيزده، فرجع ماله إلى تسعة. كم كان رأس ماله] (6)؟ فاضرب التسعة في ثلاثةَ عشرَ، واقسم المبلغ على العشرة، فيخرج أحدَ عشرَ

_ (1) على ما وصفناه: أي ليس محل خلاف. (2) في الأصل: التباين في النقائص. والنقائص: هي الخسرانات. (3) راجع هذا الخلاف بصورة أكثر تفصيلاً في باب بيع المرابحة من كتابنا هذا. (4) ده سيزده: أي العشرة ثلاثة عشرة. (5) ساقطة من (ح). (6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

درهماً، وسبعة أعشار درهم، فهذا كان رأسَ المال. 7270 - مسألة: إن قيل: رجل اشترى من اللؤلؤ خمسةً بدرهم، وباع ثلاثةً بدرهم (1)، وربح ثلاثين درهماً، كم كان رأس ماله؟ فاضرب الربح وهو ثلاثون في عدد ما باع عليه اللؤلؤ وهو ثلاثة، فيبلغ تسعين، فاقسمها على ما فضل ما بين الذي باع والذي اشترى، وهو اثنان، فيخرج خمسة وأربعون، فهذا رأس ماله. وفيه طريق آخر، وهو أن تعلم أن الذي اشتراه بدرهم باعه بمثل ما اشتراه به، وبمثل ثلثي ثمنه، فكأنه اشترى خمسةً بدرهم وباع الخمسة بدرهمٍ وثلثي درهم، فربح على كل درهم [مثلَ] (2) [ثلثيه] (3) فكأنه ربح على رأس المال مثلَ ثلثيه، فإذا كان الربح ثلثين، فهي مثل ثلثي رأس المال، فزد على الثلثين نصفَها، تكون خمسةً وأربعين، فهي رأس ماله. فإن قيل: اشترى خمسةً بدرهم، وباع [سبعةً] (4) بدرهم، وخسر ثلاثين درهماً، كم رأس ماله؟ فاضرب مقدار الخسران، وهو ثلاثون فيما باع، وهو سبعة، يكون مائتين وعشرة، فاقسمها على فضل ما بين السعرين، وهو اثنان، فيخرج مائة وخمسة، فهي رأس المال قبل الخسران. ثم يتجه فيه قياس آخر، وهو أن نقول: إذا اشترى خمسة بدرهم، وباع سبعةً بدرهم، فقد باع ما شراه بدرهم بخمسةِ أسباع درهم، فخسر على كل درهم مثل سبعيه، وعلم أنه خسر رأس ماله على هذه النسبة، فهذا مالٌ سبعاه ثلاثون، فسُبعه إذاً خمسة عشرَ، فاضرب الخمسة عشرَ في سبعة يكون مائة وخمسة، فهي رأس المال. 7271 - مسألة: إن قيل: ثلاثةٌ اشترَوْا سلعةً باثني عشرَ درهماً، فأعطى أحدهم

_ (1) المعنى: أنه اشترى مقداراً كل خمسةٍ منه بدرهم، وباعه كل ثلاثة بدرهم، لا أنه اشترى خمسةً واحدة. (2) زيادة من (ح). (3) في الأصل: مثله. (4) في الأصل: تسعة.

ثلاثةَ دراهم، والثاني أربعةً، والثالث خمسة، ثم باعوا، فربحوا عليها سبعة دراهم، كم نصيب كل واحد منهم من الربح؟ فالطريق أن نضرب نصيبَ كل واحد منهم من رأس المال [في السبعة التي هي الربح، ونقسم المبلغ على الاثني عشر، التي هي مجموع الأنصباء من رأس المال] (1)، فما خرج، فهو نصيب صاحب النصيب من الربح؛ لأن كلّ شريك نصيبه من الربح على قدر نصيبه من رأس المال. وبيان ذلك أن نضرب ثلاثة من رأس المال، وهي نصيب صاحب الثلاثة في السبعة التي هي الربح، فيردّ الضربُ أحداً وعشرين، ونقسم المبلغ على اثني عشر، فيخرج من القسمة نصيب الواحد: درهم وثلاثة أرباع، فنقول: هذا نصيب صاحب الثلاثة من الربح. ثم نضرب أربعة في السبعة، فترد ثمانيةً وعشرين، ونقسم المبلغ على اثني عشر، فيخرج نصيبُ الواحد درهمين وثلث، فهذا نصيب صاحب الأربعة من الربح. ثم نضرب الخمسة في السبعة، فترد خمسةً (2) وثلاثين، فنقسمها على اثني عشر، فيخرج من القسمة ثلاثة غير نصف سدس، فهذا نصيب صاحب الخمسة من الربح، ومجموع ما يخرج من القسمة سبعة. وقد تتجه [طريقة] (3) أقرب (4) مما ذكرنا، وهي أن صاحب الثلاثة له ربع رأس المال، فله ربع الربح، وذلك درهم وثلاثة أرباع درهم، وصاحب الأربعة له ثلث رأس المال، فله من الربح ثُلثه، وهو درهمان وثلث، وصاحب الخمسة له من رأس المال [ربعه وسدسه] (5)، فله من الربح ربعه وسدسه، وذلك درهمان وخمسة دوانيق ونصف. 7272 - مسألة: إن قيل: رجل ربح على ماله الدرهم درهماً، وتصدق [بدرهم،

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (ح). (2) (ح): سبعة وثلاثين. (3) زيادة من المحقق. (4) (ح): أربعة. (5) في الأصل: أربعة وسدس.

ثم ربح الدرهم درهماً، وتصدّق] (1) بدرهمين، ثم الدرهم درهماً، وتصدق بثلاثة دراهم [يعني رأسَ ماله، كم كان رأس ماله] (2)؟ فخذ واحداً وأضعِفْه ثلاث مرّات، لأنه ربح ثلاث مرات، تكون ثمانية، فهي المقسوم عليها، فاحفظها، ثم خذ الصدقة الأولى، وهي درهم فأضعفه، وزد عليه الصدقة الثانية، وهي درهمان، تصير أربعة، فأضعفها، وزد عليها الصدقة الثالثة وهي ثلاثة، فتكون أحدَ عشر، فاقسمها على الثمانية المحفوظة، فيخرج درهم وثلاثة أثمان درهم، وهو رأس المال. فإن قال: ربح للدرهم درهمين، وتصدق بخمسة، ثم ربح للدرهم درهماً وتصدق بعشرة دراهم، ثم ربح للدرهم درهماً، وتصدق بتسعة دراهم، فبقي معه درهمان، كم كان رأس المال؟ وقد ذكر الأستاذ في التكملة طريقةً في التضعيف [والجمع] (3) قد تطول على الناظر، ورأيت طريقة الجبر أقربَ منها وأحرى (4) وهي أولى، فكل مسألة مقصودها استخراج مجهولٍ، فنقول: نجعل رأس المال شيئاً، فلما ربح للدرهم درهمين، صار ثلاثة أشياء، فتصدق بخمسة دراهم، فبقي ثلاثةُ أشياء ناقصةً بخمسة دراهم، ثم لما ربح للدرهم درهماً، كان معنى ذلك أن ما بقي معه بعد خمسة دراهم تضعّف، فنقول: الآن معنا ستة أشياء ناقصةً بعشرة دراهم، فيكون الزائد مثل المزيد عليه، فتصدق بعشرة دراهم، فحصل معنا ستة أشياء ناقصةً بعشرين درهماً، فلما لربح للدرهم درهماً تضعّفت الأشياء الستة [بما] (5) فيها من الاستثناء، وكان معنا ستة أشياء ناقصةً بعشرين درهماً، فالآن إذا ضعفناها صارت اثنا عشر شيئا ناقصةً [بأربعين درهماً، فتصدق منها بتسعة دراهم، فحصل معنا اثنا عشر شيئاً ناقصةً] (6) بتسعةٍ

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (2) عبارة الأصل: وتصدق بثلاثة دراهم من رأس ماله. وكأن المعنى أنه تصدق بكل الربح مع رأس المال. (3) في الأصل: والجملة. (4) (ح): وأجرى. (5) في النسختين: معها فيها، والمثبت تقدير منا. (6) ساقط من الأصل.

وأربعين درهماً. فهذه الأشياء مع الاستثناء تعدل درهمين؛ فإن السائل قال: [بقي معه] (1) درهمان، فنجبر الأشياء بتسعةٍ وأربعين، ونزيد على الدرهمين تسعةً وأربعين، فتصير اثني عشر شيئاً كاملةً في معادلة أَحدٍ وخمسين، فنقسم الدراهم على الاثني عشر [شيئاً لمعرفة قيمة] (2) كل شيء، فيخرج من القسمة أربعةٌ وربع فانضمَّ إليه مثلاه، فصار المجموع اثنا عشر وثلاثة أرباع، فتصدق منها بخمسة، فبقي سبعة وثلاثة أرباع، ثم تضعف هذا المبلغ، فصار المجموع خمسةَ عشرَ ونصفاً، فتصدق منها بعشرة، فبقي خمسةٌ ونصف، ثم تضعف هذا، فصار أحدَ عشرَ، ثم يتصدق بتسعة، فبقي درهمان، فهذا قياس الباب. وقد ذكر الأستاذ [صوراً جميعها تخرج على] (3) هذا المسلك. فصل في بيان حساب الزكوات 7273 - هذا الفصل يشتمل على مقصودين: أحدهما - في تعجيل الزكاة قبل وجوبها بحولٍ أو أحوال. والثاني - في إخراج الزكاة عن المال لسنين ماضيةٍ. فأما تعجيل الزكاة، ففيه باب يحوي فقهه، وهو من أغمض أبواب كتاب الزكاة، وقدمناه على أحسن مساق، والقدر المطلوب هاهنا من ذلك الباب يترتب على مسألةٍ نذكرها: فإذا ملك الرجل أربعين من الغنم، وانعقد الحول عليها، فأراد أن يعجّل زكاتَها، جاز ذلك، عند الشافعي، وإذا انقضى الحولُ، وفي يد المعجِّل تسعةٌ وثلاثون، فالشاة المعجلة وقعت محتومةً واجبةً عن الزكاة المفروضة، وتحقيق مذهب الشافعي

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل، قدر كلمتين، وعبارة (ح): قال: بقي درهمين. (كذا). (2) في الأصل بياض قدر ثلاث كلمات. وعبارة (ح): على الاثني عشر شيء (كذا) قيمة كل شيء. (3) عبارة الأصل: ذكر الأستاذ تخريج هذا المسلك.

أن الزكاة المعجلةَ في حساب النصاب كالمبقّاة في يد المعجِّل. فإذا [حال] (1) الحول، فالتقدير أن الشاة أخرجت الآن. وأبو حنيفة لا يجوِّز تعجيل الزكاة عن نصاب، ويعتد بأن الشاة إذا قدّر إخراجها من الأربعين، وانقضى باقي الحول على تسعةٍ وثلاثين، فلا يصادف [منقرضُ] (2) الحول نصاباً، ولا تجب الزكاةُ، وإذا لم تجب [، لم يقع] (3) الاعتداد بما قُدّم على [قصد] (4) التعجيل. وعلى هذا الخلاف تجري مسائِل التعجيل. فلو ملك مائة وعشرين شاة، [فعجل زكاتها شاة] (5)، ثم نُتجت منها شاة قبل الحول، فحال الحول، وفي يده مائة وعشرون شاة، فعليه عند الشافعي شاةٌ ثانية؛ فإن غنمه لو كانت مائة وأحداً وعشرين، لكان واجبُها شاتين، والمخرَج المعجل في حكم الباقي على ملك المعجِّل فيما يتعلق ببيان مقادير [النصب] (6)، وإذا نحن قدّرنا ضمَّ الشاة المعجّلة إلى المال، وقد زادت واحدة، لكان يجب فيها شاتان. وأبو حنيفة يقول: إذا عجل شاةً عن مائةٍ وعشرين ونتجت (7) شاة، وحال الحول والغنم مائةٌ وعشرون، لم تجب شاةٌ أخرى؛ نظراً إلى ما انقرض الحول عليه، وهو مائةٌ وعشرون، والمخرَج المعجَّلُ لا يقدّر ضمُّه إلى المال الباقي في يد (8) المالك. فهذا القدر الذي أردنا التنبيه عليه من فقه باب التعجيل. 7274 - ونفرض الآن قولنا في الدراهم والدنانير، فإن زكاتها تجب بالجزئية على نسبةٍ واحدةٍ. فمهما (9) ملك الرجل نصاباً من أحد التبرين، عجّل زكاته -عندنا- إن أراد، ولم يعجلها عند أبي حنيفة؛ فإن النصاب ينقص بالمخرَج، فيحول الحول على

_ (1) في الأصل: جاز. (2) في الأصل: منصوص. (3) في الأصل: ما يقع. (4) في الأصل: نصب. (5) زيادة من: (ح). (6) في الأصل: النصيب. (7) (ح): وتجب. (8) (ح): فيزيد المالك. (9) "فمهما": بمعنى: فإذا.

مالٍ ناقصٍ عن النصاب، فليقع الفرض فيه إذا ملك أكثر من النصاب، وأراد [التعجيل، فيبين] (1) تفاوتٌ في النسبة بين مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وذلك التفاوت بين الحساب [هو] (2) مقصود الفصل، فنقول: على مذهب الشافعي: مهما أراد تعجيلَ زكاةِ الذهب والورِق، أخرج ربعَ عشره، وعلى قولِ أهل الرأي يقسم ماله على أحدٍ وأربعين، فما خرج من القسمة بسهم واحد، فهو زكاته المعجَّلة، وذلك [أنه] (3) لا يرى ضم المخرَج إلى الباقي، فينبغي أن يكون المخرج زائداً على الباقي بناء على الأصل الذي مهدناه وبيّناه بالمسألتين المذكورتين في الماشية. فإن أراد تعجيل نصفِ زكاته، فمذهب الشافعي أنه يخرج جزءاً من ثمانين جزءاً من ماله، فيقع ذلك ثُمن عُشر ماله، وهو نصف الزكاة. وعلى مذهب أبي حنيفةَ إذا أراد تعجيلَ نصف الزكاة، أخرج من أحدٍ وثمانين جزءاً من ماله جزءاً. وإن أراد تعجيل ثلث زكاته، فمذهب الشافعي أن ما عنده يقسم على مائةٍ وعشرين سهماً، فما خرج قسمةً لسهم واحد يخرجه، وقد عجل ثلث زكاته. وعند أبي حنيفة يقسم ماله على مائةٍ وأحدٍ وعشرين جزءاً، فما خرج نصيب الواحد، عجّله، فهو يزيد أبداً جزءاً على ما يقدره الشافعي. وإن أراد تعجيل ثلثي زكاته، قسم ما عنده من ورِقٍ على مائةٍ وعشرين في قول الشافعي، فما خرج عن القسمة نصيباً لواحد أخرج [ضعفه] (4)؛ فإن نصيب الواحد من مائةٍ وعشرين ثلث، فإن أراد الثلثين، ضعّف. وفي قول أهل العراق يقسّم مالَه على مائةٍ واثنين وعشرين، فما خرج لسهمين عجله، فتعتدل النسبةُ على رأيه.

_ (1) في النسختين اضطراب، ففي الأصل: وأراد بالتعجيل تبيين تفاوت ... إلخ. وفي (ح): وأراد التعجيل فإذا تبين تفاوت ... إلخ. والمثبت تقدير منا، نرجو أن يكون هو الصواب. (2) في الأصل: وهو. (3) في النسختين: إذ. (4) ساقطة من الأصل.

هذا بيان هذا المقصود. 7275 - فأما المقصود الثاني وهو بيان إخراج الزكاة لسنين ماضيةٍ ما كان اتفق الإخراج فيها، والتفريع على أن تعلّق الزكاة بالعين [يخرجه] (1) عن إمكان تعلق الزكاة [به] (2) في السنة الأخرى على ما تمهد ذلك في فقه الفصل. فإذا أردت تدارك زكوات المال في السنين [المنقضية] (3) والمال دراهمُ أو دنانيرُ، فانظر إلى عدد السنين، ثم ارجع، فاضرب الأربعين في مثله، فما بلغ فاضربه في الأربعين (4)، وليكن عددُ الضرب على هذا النسق مثلَ عدد سني الزكاة إلا مرةً واحدة، فما بلغ، فاحفظه. ثم اضرب تسعةً وثلاثين في مثلها، فما بلغ في تسعة وثلاثين بعدد سني الزكاة إلا مرةً واحدة، ثم اضرب المالَ الذي [تريد] (5) إخراجَ زكاتِه في الأقل، فما بلغ فاقسمه على المبلغ الأكثر، فما (6) خرج من القسمة نصيب الواحد، فهو مقدار الباقي من المال الذي أردت إخراج الزكاة منه لتلك السنين بعد إخراج الزكوات. فإن أردت مقدار ما أخرجت، فقدّر (7) ما يبقى بعد المال الذي وصفناه (8) إلى قيمة (9) القدر قبل إخراج الزكاة. وهذا حساب الخسران؛ فإن الزكاة تنقصُ المال على نسبةٍ واحدةٍ، كما فرضنا في [الخسرانات وقوعها] (10) على نسبةٍ واحدةٍ، فتشابه مسلك (11)

_ (1) في الأصل: مخرجة. (2) مزيدة من (ح). (3) في الأصل: المنفصلة، وفي (ح): النقضية. والمثبت تقدير منا. (4) (ح): فما بلغ فاضربه في الأربعين (كررتها مرتين). (5) مكان بياضٍ بالأصل. (6) (ح): فأخرج. (7) (ح): يقدره ما تبقى. (8) (ح): وصفته. (9) (ح): تتمة. (10) في الأصل: الجبرانات وفرعها. (11) (ح): ملكا الحساب.

الحساب، غير أن وجه النسبة في الأربعين هاهنا ووجه النسبة ثَمَّ يَجري في رأس مالٍ بقدره [وينسب] (1) الربح إليه كتقديرنا العشرة والربح ده يازده، والخسران ده يازده، واقتضى قولنا: ده يازده رعايةَ نسبة العشرة. فصل في حساب الجزية 7276 - إذا قيل: ثلاثةٌ من العلوج جزية أحدهم ثمانية دنانير، وجزية الآخر عشرة دنانير، وجزية الثالث أربعةَ عشرَ ديناراً، فزيدت عشرة على [جزيتهم] (2)، فكم نصيب كل واحد منهم من تلك الزيادة؟ فقياس الباب أن تجمع الثمانية، والعشرة، والأربعة عشر، فتكون اثنين وثلاثين، وهي المقسوم عليها، فاحفظها. ثم اضرب نصيبَ كل واحد منهم من الاثنين والثلاثين في العشرة المزيدة (3)، ثم اقسم المبلغ على الاثنين والثلاثين المحفوظة، فما خرج من القسمة هو نصيبه من الزيادة، وعلى هذا القياس يخرج نصيب صاحب الثمانية من الزيادة [ديناران] (4) ونصف، فنزيده على الثمانية التي هي أصل جزيته، (5 فتبلغ عشرة ونصفاً، ونصيب صاحب العشرة من الزيادة ثلاثةٌ وثمن، فتبلغ جزيتُه 5) ثلاثةَ عشرَ ديناراً وثمن دينار، ونصيب صاحب الأربعةَ عشرَ يجري منه على الترتيب المقدم في الضرب والقسمة، فيخرج نصيبه أربعة دنانير وثلاثة أثمان دينار، فتبلغ جزيته سبعةَ عشرَ ديناراً، وثلاثةَ أثمان دينار. وهذا الحساب [بعينه هو الحساب] (6) الذي ذكرناه في زيادة ربحٍ على رؤوس

_ (1) في الأصل: وسبب. (2) في الأصل: جزء سهم. (3) في النسختين: المزيد. (4) في الأصل: دينار. (5) ما بين القوسين ساقط من (ح). (6) زيادة من (ح).

[أموال] (1) مختلفة الأقدار؛ فإن الجزية زيادةٌ نأخذها. فإن كانت المسألة بحالها، ونقصت من جزية الجميع عشرةَ دنانير، فانقص من أصل جزية كل علج ما كنت تزيده عليه لو كانت الزيادة بدلاً عن النقصان، فما بقي، فهو جزيته الباقية، وهذه الجملة تجري في [الأخرجة] (2) على أصل من يراها إذا فرضت زيادة عليها أو نقصان منها. 7277 - مسألة: فإن قيل: إذا مرّ حربي بعشّار يأخذ من كل أربعين درهماً درهماً، ومع من مرّ به عشرةُ أثواب، فأخذ العشار على هذا الحساب ثوباً، ورد عليه درهماً، كم ثمن كل ثوب؟ فطريق الباب أن نضرب الدرهمين في أربعين، فترد ثمانين، فاحفظها، ثم اقسم عددَ الأثواب، وهو عشرة على ما أخذه العشار، وهو واحد، فتكون عشرة، فانقصها من الأربعين يبقى منها ثلاثون، فاقسم عليها الثمانين (3) المحفوظة، فيخرج درهمان وثلثان، فذلك قيمة كل ثوب. وإن أردت تقريباً بطريق النسبة، [قلت] (4) المسألة مفروضةٌ فيه إذا كانت الأثواب متساويةَ القيم لا محالة، فكل ثوب عُشر الجملة، فإذا اقتضى التعديل ردَّ درهمين، والمستحق ربعُ العشر، وكل ثوب عشر البضاعة، والدرهمان المردودان ثلاثة أرباع الثوب، فإذا [تقدّر] (5) ثلاثةُ الأرباع بدرهمين، فقيمة الربع ثُلثُ الدرهمين، وهو ثلثا درهم، فكل ثوب قيمته درهمان وثلثان، وقيمة الثياب ستة وعشرون درهماً وثلثان، وعشر هذا المبلغ درهمان وثلثان، وربع الدرهمين والثلثين ثلثا درهم، فقد أخذ الثوبَ، وهو يستحق منه مقدار ثلثي درهم، فيرد لذلك درهمين.

_ (1) في الأصل: المال. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) (ح): الثنى. (4) تقدير منا مكان بياضٍ بالأصل. وفي (ح): ثلث. (5) في النسختين: تقدم.

7278 - فإن أخذ منه العشّار ثوبين وردَّ عليه عشرين درهماً، كم ثمن كل ثوب؟ فاضرب العشرين في الأربعين، فالمردود في هذه المسألة ثمانمائة، فاحفظها ثم اقسم الأثواب، وهي عشرة على العدد الذي أخذه العشار من الأثواب، [وهو اثنان] (1)، فيخرج خمسة، فانقصها من الأربعين، يبقى منها خمسةٌ وثلاثون، فاقسم عليها الثمانمائة المحفوظة، فيخرج اثنان وعشرون درهماً وستُّ أسباع درهمٍ، فذلك قيمة الثوبين المأخوذين، ويكون قيمة كل ثوب أحدَ عشرَ درهماً وثلاثةُ أسباع درهم. وطريقة النسبة أن كل ثوب عُشر البضاعة، والثوبان خُمُسها. وإن كان يأخذ من العشرة ربعها، فيأخذ من الخمس ثمناً، فالمستحق من الثوبين ثمنها، والعشرون درهماً في مقابلة سبعة أثمانها، فإذا كانت سبعة أثمان تساوي عشرين، فأردنا قيمة الثمن الآخر، زدنا على العشرين سُبعها، وهي اثنان وستة أسباع، فيخرج قيمةُ الثوبين، كما خرج بالضرب والقسمة. ثم قيمةُ كل ثوب نصفُ ذلك أحدَ عشرَ وثلاثة أسباع. فإن أخذ من عشرة أثواب [ثوباً، ورد عليه] (2) مثل جذر ما أخذ، كم ثمن كل ثوب؟ فقد علمت أن العشار إنما يطلب من عشرة أثوابٍ رُبعَ ثوب، فإذا أخذ ثوباً، لزمه أن يرد ثلاثة أرباع ثوب، فاقسم واحداً على ثلاثة أرباع، فيخرج واحد وثلث، فهذا جذر ما أخذ، فاضربه في مثله يكون واحداً وسبعةَ أتساع، فهذا قيمة كل ثوب. والحساب يعتدل (3) إذا امتحنت. وإن شئت فاقسم العشرة على [العدد] (4) الذي أخذه، وهو واحد، فتكون عشرة، فانقصها (5) من الأربعين، تبقى ثلاثون، واقسم الأربعين على هذه الثلاثين، فيخرج واحد وثلث، وهو جذر ثمن كل ثوب.

_ (1) في الأصل: وهذا بيانه. (2) عبارة الأصل: ثمن ما ورد علينا. والمثبت من (ح). (3) (ح): معدل. (4) في الأصل: القدر. (5) (ح): فابعضها.

فإن أخذ منه ثوبين وردّ عليه جذرَ ما أخذ، فانقص ربعَ ثوبٍ من ثوبين؛ لأن له من عشرة أثواب ربعَ ثوب، [يبقى ثوبٌ] (1) وثلاثة أرباع، وهو الذي يلزمه رده، فاقسم الثوبين على واحدٍ وثلاثة أرباع، فيخرج واحدٌ وسبع، فهذا (2) جذر ثمن الثوبين. وإن شئت، فاقسم العشرة الأثواب على الثوبين، فيخرج خمسة، فانقص الخمسة من الأربعين، تبقى خمسةٌ وثلاثون، فاقسم الأربعين على الخمسة والثلاثين، فيخرج واحد وسبع، فهو جذر ثمن الثوبين. فصل 7279 - مسألة: في حساب الأرزاق والجرايات تمس إليها حاجةُ الأمراء في إدرار الرزق على الجند المعقود. إن قيل: قائدٌ أعطى جنده أرزاقهم، فأعطى أول رجل منهم درهماً، والثاني درهمين، والثالث ثلاثة، وعلى هذا وقع التفاضل بدرهم درهم، فلم يرضَوْا بذلك، فاسترجع منهم الدراهمَ، وقسمها بينهم بالسوية، فأصاب كلَّ واحد منهم ثلاثون درهماً. كم عدد الرجال وعددُ الدراهم؟ فأضعف نصيبَ الواحد منهم عند التسوية، وهو (3) ثلاثون، فيبلغ ستين، فانقص منه واحداً أبداً، يبقى تسعةٌ وخمسون، وهي عدد الرجال، فاضربها في ثلاثين، فما بلغ فهو عدد الدراهم. ونظير هذه المسألة من طرائف الحساب أن يقال: جواري دخلن بستاناً فتناولت الأولى رمانة، والثانية اثنتين، والثالثة ثلاثة، وتفاوتن واحدةً واحدةً، ثم [اقتسمن] (4) بالسويّة، فأصاب كلّ واحدة سبعُ رمانات، فأضعف السبعة، وانقص من

_ (1) ساقط من الأصل. (2) (ح): هذا. (3) (ح): وهم. (4) في الأصل: اقسم.

الضعف واحداً، تبقى ثلاثةَ عشرَ، وهي عددهن، ثم اضرب ذلك في سبعة، فما بلغ، فهو عدد الرمان. فإن قيل: جيش خرج ربعه من مدينة أصاب أولُهم درهماً، والثاني درهمين والثالث ثلاثة دراهم، ثم تفاضلوا (1) بدرهم [درهمٍ]، (2)، فاقتسم (3) الجيشُ كلّه فيما (4) أصاب الربع منهم بينهم بالسوية، فأصاب كل رجل منهم خمسة دراهم، كم الجيش كلّه؟ وكم الدراهم؟ قياس الباب أن نضرب (5) أربعة -لقوله ربع الجند (6) - في اثنين أبداً، وإذا (7) كان التفاضل بدرهم درهم، فيكون ثمانية، ثم اضربها في الخمسة التي هي حصة كل واحد، يكون أربعين، أسقط منها واحداً أبداً تبقى تسعة وثلاثون، فذلك ربع الجند، وجميع الجند أربعة أمثاله، وهو مائة وستة وخمسون، فاضربها في خمسة، فما بلغ، فهو عدد الدراهم. 7280 - فإن قيل والمسألة بحالها: أصاب الأولُ درهماً والثاني ثلاثة، والثالث خمسة، ثم تفاضلوا كذلك بدرهمين درهمين، ثم اقتسم كلُّ الجند ما حصَّل [ربع الجند] (8) فأصاب كل واحد منهم خمسة، فاضرب أربعة لقوله ربع الجند في خمسة، لقوله أصاب كل واحد منهم خمسة، فيكون عشرين، ولا حاجة إلى التضعيف في هذه المسألة؛ فإن التفاضل وقع بدرهمين درهمين، [فرُبع] (9) الجند عشرون، ولا يخفى العمل بعدّة [الضربات] (10).

_ (1) (ح): فاضلوا. (2) مزيدة من (ح). (3) (ح): فانقسم. (4) (ح): فلما أصاب. (5) (ح): يصرف. (6) (ح): الجذر. (7) (ح): إذا. (بدون واو). (8) في الأصل: له مع الجند. (9) في الأصل: فدفع. (10) في الأصل: بعده والصواب. (وهذا من طرائف التصحيف، وما أكثرها).

فلو قال: أصاب كل واحد ثلاثة، فضربت الأربعة في ثلاثة، ولو [تفاضلوا] (1) بثلاثة ثلاثة، أو بأكثر، لضربت الأربعة فيما تفاضلوا به، وطردت المسائل على العمل المتقدم. 7281 - فإن قيل: مائة درهم [وقفيز] (2) حنطة، [وقفيز] (2) شعير، [وقفيز] (2) ذرة تقسم على عشرين مسكيناً بالسويّة، والمرعيُّ الاستواء في [الماليّة] (3)، فأصاب خمسة منهم الحنطة، وأربعة منهم الشعير، وثلاثة منهم الذرة (4). كم ثمن كل قفيزٍ؟ وكم حصةُ كلِّ مسكينٍ؟ قياس الباب أن نجمع [عِدَّة] (5) القوم الذين أخذوا الأصناف وهم اثنا عشر، فنقسم المائة على الثمانية (6)، وتعلم حصة كل واحد من الدراهم، فتعلم أن حصة كلِّ مَن أخذ صنفاً من الأصناف مثلُ ذلك المقدار، ثم نجمع تلك الحصص [ونستخرج] (7) [قيمة] (8) كل صنف. فإن أردت مسلك الحسّاب، قلت (9): نقسم المائة على ثمانية، فيخص كل واحد منهم اثنا عشر ونصفٌ، فإذا أردت معرفة ثمن الحنطة، فاضرب الاثني عشر والنصف في عدد الذين أخذوا الحنطة، وهم خمسة، فيكون اثنين وستين ونصفاً، واضربها أيضاً في عدد الذين أخذوا الشعير، وهم أربعة، فيكون خمسين، المبلغ الأول قيمة الحنطة، وهذا قيمة الشعير، فاضربه (10) في عدد أصحاب الذرة، وهم [ثلاثة] (11) فيكون سبعة وثلاثين ونصفاً، فذلك ثمن الذرة.

_ (1) في النسختين: غلط. (2) في الأصل: وقفة. (3) في الأصل: المسألة. (4) وأخذ الثمانية الباقون المائة درهم. (5) في الأصل: هذه، (ح): عنده. (6) الثمانية: أي الذين أخذوا المائة درهم. (7) في النسختين: ونستثني. (8) في الأصل: فيه. (9) (ح): ثلث. (10) فاضربه: المراد الاثنا عشر، وليس قيمة الشعير. (11) في الأصل: ثلاثون.

فصل في حساب البرد والفيوج (1)، تمس الحاجة إليه في جواسيس الجنود 7282 - إذا قيل: بَرِيدان أرسلتهما إلى موضع وأمرت أحدَهما أن يسير كلّ يوم عشرين فرسخاً، وأمرت الآخر أن يسير اليوم الأول فرسخاً، واليوم الثاني فرسخين، والثالث ثلاثةً، ثم يزيد سيرَه في كل يوم فرسخاً، ففي كم يوم يلحق الأول؟ قياس الباب أن نأخذ نصف الفضل الواقع في سير الثاني، وذلك نصفٌ؛ فإن سيره في كل يوم يفضل سيره في أمسه بواحدٍ، فخذ نصفه، وانقصه من مقدار [سيره] (2) في اليوم الأول، فيبقى نصفه، فنلقيه من العشرين، التي هي سير صاحب العشرين في كل يوم، يبقى تسعةَ عشرَ ونصف، فاقسمه على نصف التفاضل وهو نصف، فيخرج تسعة وثلاثون؛ فإن القسمة على الكسور معناها بيان حصة الواحد، فإذا كان النصف تسعة عشر ونصف، فالواحد تسعة وثلاثون، [فنقول] (3) يلحقه في تسعة وثلاثين يوماً. فإن كان الأول يسير كل يوم عشرين فرسخاً، ويسير الآخر في اليوم الأول فرسخين، وفي الثاني ثمانية، وفي الثالث أربعة عشر فرسخاً، فكان يزيد كل يوم ستة فراسخ، فنصف التفاضل أكثر مقدار مسيره في اليوم الأول. فإذا [اتفق] (4) ذلك، فانقُص سيرَه في اليوم الأول، وهو اثنان من نصف التفاضل وهو ثلاثة، يبقى واحد، فزده على العشرين، واقسم المبلغ على نصف التفاضل وهو ثلاثة، فيخرج سبعة أيام، ففي مقدارها يلحقه. 7283 - فإن قيل: بريد أرسله بشرط أن يسير كل يوم خمسة فراسخ، فسار عشرين

_ (1) البُرد والفيوج: البرد جمع بريد، وهو هنا بمعنى الرسول، ومثله الفَيْج مفرد فيوج (معجم ومصباح). (2) في النسختين: نصيبه. (3) في النسختين: فقد. (4) في الأصل: ابين.

يوماً، ثم أرسلت آخر بعد العشرين، وأمرته أن يسير كل يوم ثمانية فراسخ في كم يومٍ يلحق الأول؟ فانقُص الخمسة التي هي سير الأول من الثمانية التي يسيرها الثاني، يبقى ثلاثة، وهي المقسوم عليها. ثم اضرب أيام [المسير] (1) وهي عشرون في مقدار مسير السابق في كل يوم، وهو خمسة، فيبلغ مائةً، فاقسمها على الثلاثة المحفوظة، فيخرج ثلاثة وثلاثون وثلث، ففي مقدارها من الأيام يلحقه. 7284 - فإن قيل: بريدان خرج أحدهما من بغداد إلى الكوفة يسير كلَّ يوم ثلث الطريق، وخرج الآخر في تلك الساعة من الكوفة إلى بغداد يسير كل يوم ربع الطريق، في كم من الزمان يلتقيان؟ خذ مخرج الثلث والربع، وهو اثنا عشر، فاجمع ثلثها وربعها، فتكون سبعة، فهي أجزاء اليوم، فاقسم الاثني عشر على السبعة، فيخرج واحدٌ وخمسةُ أسباع يوم، فيلتقيان في مقدار يوم وخمسة أسباع يوم. فإن أردت أن تعرف ما قطعه كلُّ واحدٍ منهما، فاضرب السبعةَ في الاثني عشر، فيبلغ أربعةً وثمانين، [فهي أجزاء الطريق] (2) ثم أنت تعلم أن الذي يسير في كل يوم ثلثَ الطريق يسير في كل يوم وخمسة أسباع يوم ثمانيةً وأربعين جزءاً من أربعةٍ وثمانين. والذي يسير في اليوم ربع الطريق يسير في يوم وخمسه أسباع يوم ستةً وثلاثين جزءاً من أربعةٍ وثمانين جزءاً، فهذا مقدار مسيرهما، ويلتقيان على أربعة أسباع الطريق مما يلي بغداد، وثلاثة أسباعه مما يلي الكوفة. 7285 - فإن قيل: بريد وجهتَه من بغداد إلى الرَّي وأمرته أن يسير إليها في خمسة أيام، وأمرت بريداً آخر أن يسير من الري إلى بغداد في سبعة أيام، فخرجا في ساعةٍ واحدة [يؤمّان مقصديهما] (3) في كم يلتقيان؟ الطريقُ أن نجمع الخمسة والسبعة، فالمجموع اثنا عشر، وهي المقسوم عليها،

_ (1) (ح): السبق. (2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام إلا بها. وقد سقطت من النسختين. (3) مكان بياضٍ بالأصل.

ثم اضرب الخمسةَ في السبعة، فتبلغ خمسةً وثلاثين، فاقسمها على اثني عشر، فيخرج يومان وأحدَ عشرَ جزءاً من اثني عشر جزءاً من يوم، ففي (1) مقدار ذلك يلتقيان. 7286 - فإن قيل: بريدٌ وجهته إلى موضعٍ، وأمرته أن يسير كلّ يوم في قصده ثمانيةَ عشرَ فرسخاً، وفي انصرافه كلَّ يوم اثني عشر فرسخاً، فانطلق [وعاد] (2) في أربعين يوماً. في كم ذهب؟ وفي كم انصرف؟ فاجمع سيرَ الذهاب في كل يوم، وسيرَ الانصراف في كل يوم، فيبلغ [ثلاثين] (3) فهي المقسوم عليها، ثم اضرب سير الانصراف، وهو اثنا عشر في الأربعين التي هي المدة، فيبلغ أربعمائة وثمانين، فاقسمها على ثلاثين، فيخرج ستة عشرَ، فذلك زمان انطلاقه، [ومن ستةَ عشرَ] (4) إلى تمام الأربعين زمان انصرافه. فإن أردت عدد الفراسخ، فاضرب أيام الانطلاق في ثمانيةَ عشرَ، وزمانَ الانصراف في اثني عشرَ، فما بلغ فهو عدد الفراسخ. 7287 - فإن قيل: بريد سار من بلدٍ إلى مقصدٍ، فكان يسير كلّ يوم خُمس الطريق، ويرجع سُبع الطريق، في كم [يومٍ] (5) يقطع المسافة؟ فهذا يناظر مسألة من طرائف الحساب، وهو قول القائل حيّةٌ يخرج كل يوم خُمسها من جحرها ويدخل سُبعُها، في كم يوم يتم خروجها؟ فاطلب مخرج الخُمس والسبع، وهو خمسة وثلاثون، فخذ التفاضل بين الخمسة والسبعة، وذلك اثنان، فاقسم عليها الخمسة والثلاثين، فيخرج سبعةَ عشرَ ونصف، ففي مقدارها يتم قطعُ المسافة، وخروج الحية. وكذلك إذا قيل: رجل اكتسب كلَّ يوم خُمسَ درهم، وأنفق سبع درهم، في كم يوم اجتمع له درهمٌ؟ فجوابه ما مضى.

_ (1) (ح): يبقى. (2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين. (3) في الأصل: ثمانين. (4) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين. (5) زيادة من (ح).

فصل في بيان حساب العصير المطبوخ 7288 - يحتاج إليه [من ينتجون] (1) المثلث (2) ويحتاج إليه من يحاول تثليث العصير في إصلاح العصر من غير أن يتخذ منه مسكراً. وينبغي أن يكون القِدرُ الذي يُطبخ فيه قِدراً قاعدتها مسطحة [لا تقعُّرَ فيها] (3) والجدار المحيط مستديراً في ارتفاعها على الاستقامة والاستواء من غير تخريط (4) وعلى [داخل] (5) القدر خطوطٌ تقسّمها ثلاثةَ أقسام، ثم يطبخ العصير حتى ينتهي في [سكونه] (6) إلى العلامة الأخيرة. وهذا صناعةٌ. وحظُّ الحساب من الفصل في مسائلَ منها، أن يقول القائل: قدرٌ فيها (7) ثلاثون دورقاً من العصير، وذهب منها بالطبخ خمسةُ دواريق، وعُرف ذلك بعلاماتٍ وخطوط، كانت على جدار القِدْر، ثم رفع من الباقي، وهو خمسةٌ وعشرون دورقاً ثلاثةُ دواريق، إلى (8) كم يُردّ الباقي، حتى يكون مثلثاً؟ قياس الباب أن [العدد] (9) الحلال -على رأي من يُحله (10) -[مِن] (11) اثنين وعشرين دورقاً كقدر عشرة دواريق -

_ (1) مكان بياضِ بالأصل، وأثبتناها من (ح) على صعوبة في قراءتها. (2) المثلّث: هو الشراب أو العصير يُطبخ حتى يذهب ثلثاه، فيصير حلالاً، ويكون من العنب خاصة. (حاشية ابن عابدين: 5/ 292) وهو لا يحلّ عندهم إلا بذهاب ثلثيه. (3) في الأصل: لا يتغير منها، (ح) لا تقعر منها. (4) أي ضيق من أعلى، لتكون مخروطية الشكل. (5) في الأصل: واصل. (6) في الأصل: سائرها. (7) (ح): صب فيها. (8) (ح): كم يردّ. (بدون إلى). (9) زيادة من (ح). (10) في النسختين: يحل. (11) زيادة من (ح).

وهي الثلث (1) - من خمسةٍ وعشرين، وهي خمساها، فخذ [خمسي] (2) الباقي الذي هو اثنان وعشرون وذلك ثمانية دواريق وأربعة أخماس دورق، فإذا رجع الباقي إلى هذا المقدار، حلّ عندهم. وبيان ذلك أنه لما رجع العصير إلى خمسةٍ وعشرين، كان [يحل] (3) بأن يذهب منه خمسةَ عشرَ دورقاً، وخمسةَ عشرَ ثلاثةُ أخماس الخمسة والعشرين، فلما [رفع] (4) من الخمسة والعشرين ثلاثةُ دواريق، فيجب رعاية نسبة الأخماس في الاثنين والعشرين، فليذهب منها ثلاثةُ أخماسها. وإذا أسقطت ثلاثةَ أخماس اثنين وعشرين، بقي ثمانيةُ دواريق وأربعةُ أخماس دورق كما ذكرنا. ولو رفعت من الخمسة والعشرين عشرة أو عشرين (5)، لرددت الباقي إلى [خُمسيه] (6) ليحل. هذا وجه رعاية النسبة. ولو ذهب بالطبخ عشرةُ دواريق، ورفعت من الباقي خمسةَ دواريق، فالطريق أن نقول: لما [رجع] (7) بالطبخ إلى عشرين دورقاً، فكان يحل لو ذهب من الباقي عشرةٌ أخرى بالطبخ، وهو مثل نصف الباقي، فإذا رفعت خمسةً من العشرين، فلا نبالي بما ارتفع، واعتبرْ نسبةَ النصف من الباقي. فإذا ذهب من الخمسةَ عشرَ الباقية سبعةٌ ونصف [يحلّ] (8) الباقي -على رأي من يُحله-. وقس على هذا ما في معناه.

_ (1) الثلث: أي ثلث الكل. فالعشرة هي التي تحلّ من الثلاثين، بعد ذهاب الثلثين. (2) في النسختين: خمس. (3) في الأصل: حل. (4) في الأصل: رجع. (5) عشرة أو عشرين: هذا تمثيل، يعني أياً كان المرفوع، كثيراً أو قليلاً، فيحل من الباقي خمساه. (6) في الأصل: خمسه، وفي (ح): خمسته. (7) في النسختين: رفع. وهو خطأ واضح. (8) في الأصل: على.

7289 - إن قيل: ثلاثون دورقاً ذهب بالطبخ منها خمسةُ دواريق، ثم رفع منها شيء مجهول، لا ندري مقدارَه، وكان حلال الباقي ثمانية دواريق، كم كان المرفوع منها؟ فالطريق أن نقول: لما رجع (1) بالطبخ إلى [خمسةٍ وعشرين] (2)، كان يحل الباقي لو رجع إلى عشرة، وذهب منها خمسةَ عشرَ، فالخمسةَ عشرَ ثلاثة أخماس الخمسة والعشرين، ونسبة الأخماس تقتضي أن يذهب من كل خمسة ثلاثة، ويتحصل من كل خمسة دورقان، فإذا كان الحلالُ ثمانيةً، فنعلم أنها من عشرين دورقاً، فالمرفوع إذاً خمسة. ولو [بقيت] (3)، لتحصّل (4) منها دورقان، وتمت العشرة، فإذا أنقصت العشرة (5) بدورقين، تبين أن المرفوع خمسة. [قال] (6) الحُسّاب في هذه المسألة: قدرُ المرفوع من خمسةٍ وعشرين كقدر النقصان الذي في الباقي الحلال من ثلث جميع العصير. وبيانه أن الثمانية نقصت عن ثلث العصير بخُمس العشرة، فبان أن المرفوع من خمسة وعشرين خمسُها. فصل في مسائل تتعلق بالسؤالات عند التلاقي 7290 - رجلان اجتمعا على ثوبٍ ينادَى عليه، فقال أحدهما للآخر: إن أعطيتني ثلث ما معك فزدتُه على ما معي، تَمَّ لي ثَمَنُ هذا. وقال الآخر للأول: إن أعطيتني رُبع ما معك وزدتُه على ما معي تمَّ لي ثَمنُ الثوبِ. كم الثمن؟ وكم مع كل واحد منهما؟

_ (1) (ح): رفع. (2) في النسختين: ثمانية وعشرين. (3) غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها). (4) في الأصل: فيحصل. (5) (ح): العدّة. (6) في الأصل: فإن.

فنقول: نضرب مخرج الثلث وهو ثلاثة في مخرج الربع وهو أربعة، فيبلغ اثني عشر، فننقص منها واحداً أبداً، يبقى أحدَ عشرَ، فهو ثمنُ الثوب. ثم نرجع إلى الاثني عشر، ثم نعزل منه ثُلثَه، وهو أربعة، يبقى ثمانية، فهي [مع] (1) الأوّل، ثم نعزل منه (2) ربعَه، يبقى تسعة، فهي مع الثاني، والمسألة صحيحةٌ على الامتحان، [ولكنها] (3) قليلة الفائدة؛ فإن [أقل] (4) عدد صحيح يُفرض [منه] (5) هذا الذي ذكرنا [فقد] (6) يتصور تضاعف الثمن على هذه النسبة، وكأن الحُسَّاب [نبهوا] (7) بأقلّ عددٍ صحيح يصح فيه السؤال. 7291 - فإن كانوا ثلاثة، فطلب الأول من الثاني ثُلثَ ما معه، وطلب الثاني من الثالث ربعَ ما معه، وطلب الثالث من الأول خُمس ما معه، ليتم لكل واحد منهم ثَمنَ الثوب، فاضرب مخرجَ [الثلث] (8)، وهو ثلاثة في مخرج الربع، وهو أربعة، ثم ما اجتمع في مخرج الخمس، وهو خمسة. فبلغ ستين، فزد (9) عليه واحداً أبداً، إذا كان عددُ القوم فرداً، وإن كان عدد القوم زوجاً، فانقص من المبلغ واحداً، فالمبلغ في هذه المسألة أحدٌ وستون، فهذا ثمن الثوب، فإن أردت أن تعلم الذي (10) مع الأول، فخذ مخرج الثلث وألقِ منه واحداً، يبقى اثنان، فاضربه في مخرج الربع، فيبلغ ثمانية، فزد عليها واحداً أبداً، فيبلغ تسعةً، فاضربها في مخرج الخُمس، فيصير خمسةً وأربعين، فهي مع الأول.

_ (1) ساقطة من الأصل. وفي (ح): ربع. والمثبت تقدير منا. (2) منه: أي الاثني عشر. (3) غير مقروءة في الأصل. (4) في الأصل: كان. (5) في النسختين: منها. (6) في الأصل: قد. (7) ساقطة من الأصل. (8) في الأصل: الثوب. (9) ساقطة من (ح). (10) في (ح): التي.

وإن أردت أن تعلم ما مع الثاني، فاطرح ذلك من أحدٍ وستين، يبقى ستةَ عشرَ، فاضربها في ثلاثة، تكون ثمانيةً وأربعين، فهي ما مع الثاني. ثم اطرح هذا المبلغ من أحدٍ وستين، فيبقى ثلاثةَ عشرَ، فاضربها في أربعةٍ، فتصير اثنين وخمسين، وهي ما مع الثالث. والواحد الذي زدته على الستين إنما [هو] (1) مضروب الثلث في الربع، ثم في الخمس؛ فإنك إذا ضربتَ الثلث في الربع كان نصف سدس، وهو جزء من اثني عشر جزءاً، فإذا ضربته في الخمس، كان جزءاً من ستين جزءاً. وهذا غامض لا يحيط به إلا [ماهرٌ] (2) في الحساب. فعلى هذا إذا قال الأول للثاني: إن أعطيتني ثلاثةَ أخماس ما معك، صار معي ثَمنُ هذا الثوب، وطلب الثاني من الثالث أربعة أسباع ما معه، وطلب الثالث من الأول خمسةَ أثمان ما معه. فاضرب المخارجَ بعضها في بعض، فتكون مائتين وثمانين، فنزيد عليها عدد الأخماس مضروباً في عدد الأسباع، ثم ما بلغ في عدد الأثمان، وذلك ستون، فيبلغ ثَلاثمائة وأربعين (3)، فهي ثمن الثوب. ثم خذ مخرج الخُمس: خمسة، فاعزل منها ثلاثةَ أخماسها، يبقى اثنان، فاضربهما في مخرج السبع، فيبلغ أربعةَ عشرَ، فزد عليها عددَ الأخماس مضروباً في عدد الأسباع، وذلك اثنا عشر، فيبلغ ستةً وعشرين، فاضربها في مخرج الثمن، فيكون مائتان وثمانية. فهذا رأس مال الأول. فنلقيه من ثمن الثوب، فما بقي، فهو ثلاثة أخماس مال الثاني، فزد عليه [ثلثيه] (4)، فما بلغ، فهو مال الثاني، فنلقيه من ثمن الثوب كلِّه، فما بقي، فهو أربعة أسباع مال الثالث، فنضرب [رُبعه] (5) في سَبعةٍ، فما [بلغ] (6)، فهو ماله.

_ (1) في الأصل: بقي، وفي (ح): هي. (2) في النسختين: ما هو. (3) فيبلغ ثلاثمائة وأربعين: أي بإضافته إلى ما خرج من ضرب المخارج. (4) في النسختين: ثلثه. (5) في الأصل: أربعة. (6) في النسختين: بقي.

7292 - رجلان قال أحدهما لصاحبه: إن أعطيتني ثلث ما معك صار معي خمسةُ دراهم، وقال الآخر للأول: إن أعطيتني ربع ما معك، صار معي سبعةٌ. بيانه أن نلقي من [ضرب] (1) مخرج الثلث [في مخرج] (1) الربع واحداً، فيبقى أحدَ عشرَ، فهي المقسوم عليها، فاحفظها؛ لأنها مخرج أجزاء الدرهم [الواحد] (2) في هذه المسألة، ثم نلقي من الخمسة ثُلثَ السبعة، يبقى اثنان وثلثان، فاضربها في مخرج الثلث والربع، فيبلغ اثنين وثلاثين، فاقسمها على الأحد عشر، فيخرج اثنان وعشرةُ أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم، وهو الذي مع الأول. ثم ألقِ من السبعة ربعَ الخمسة، يبقى خمسة وثلاثة أرباع، فاضربها في مخرج الثلث والربع وهو اثنا عشر، فيبلغ تسعةً وستين، فاقسمها على الأحدَ عشرَ، فيخرج ستةٌ وثلاثةُ أجزاء من أحد عشر. فهذا الذي مع الثاني. 7293 - رجلان وجدا كيساً فيه دراهم، فقال أحدهما: إن أخذته وضممته إلى ما معي، صار معي خمسة أمثال ما معك. وقال الآخر: إن زدته على ما معي، صار سبعةَ أمثال ما معك. كم في الكيس؟ وكم مع كل واحد منهما؟ فاضرب عدد الأمثال في عدد الأمثال: خمسة في سبعة، وانقص من المبلغ واحداً، يبقى أربعةٌ وثلاثون، فهي التي في الكيس. ثم زد على الخمسة واحداً، فتبلغ ستة، فهي التي مع الأول. وزد على السبعة واحداً، فما بلغ، فهو الذي مع الثاني. فإن كانوا ثلاثة ووجدوا الكيس، فقال الأول للثاني: إن أخذتُه أنا، صار معي ثلاثة أمثال ما معك، وقال الثاني للثالث: إن أخذته أنا، صار معي أربعة أمثال ما معك، وقال الثالث للأول: إن أخذته أنا، صار معي خمسة أمثال ما معك، فاضرب مخرج الثلث في مخرج الربع، ثم في مخرج الخمس، فيبلغ ستين. فانقص

_ (1) عبارة النسختين: أن نلقي من مخرج الثلث والربع. والمثبت تقدير منا، رعاية للسياق. (2) زيادة من (ح).

منه واحداً، يبقى تسعةٌ وخمسون، فهي التي في الكيس. فإن أردت معرفة ما مع الأول، فخذ مخرج الأمثال التي ذكرناها، وهو ثلاثة، فزد عليها واحداً، واضرب ما بلغ في مثله، فيكون ستة [عشر] (1) فهي ما مع الأول، فزد ذلك على تسعة وخمسين، فيبلغ خمسةً وسبعين، فخذ ثلثَها: خمسةً وعشرين، فذلك مع الثاني، فزدها على تسعة وخمسين، فيبلغ أربعةً وثمانين، فخذ [ربعه: أحداً] (2) وعشرين، فهو ما مع الثالث. 7294 - رجل معه كيس فيه دراهم، فسأله رجل عن مقدارها، فقال: ليتها لي، ومثلَها ومثلَ نصفها، ومثلَ ربعها، حتى أزيدَها على درهم لي [في بيتي] (3) فيتمَّ لي مائةُ درهم. كم في الكيس؟ خذ مخرج النصف والربع، لذكر النصف والربع، وهو أربعة، فخذها ومثلَها، لقوله: ليتها لي ومثلها، فيكون ثمانية، فزد عليهما نصفَ الأربعة وربعها، لذكره النصفَ والربعَ، فيكون أحدَ عشرَ، فهو المقسوم عليه، فاحفظه، ثم ألق من المائةِ واحداً، يبقى تسعةٌ وتسعون، فاضربها في مخرج النصف والربع، وهو أربعة، فيبلغ ثَلاثمائة وستةً وتسعين، فاقسمها على الأحد عشر المحفوظة فيخرج ستة وثلاثون، وهي عدد الدراهم التي في الكيس. 7295 - فإن قيل: مالٌ عزلت منه ثُلثَه وربعَه، فبقي [منه] (4) ثلاثةُ دراهم؟ فمأخذ هذا الفن أن نعلم أنَّ مخرج الثلث والربع إذا عزلا، فالباقي ربع وسدس، فإذا كان الربع والسدس ثلاثة، لم يخف إخراج الباقي؛ فإنه إذا بانت قيمةُ جزء؛ [بان] (5) قيمة جميع الأجزاء، والسبيل المعروف أن نأخذ شيئاً له ثلث وربع، وذلك اثنا عشر، فنلقي منه ثلثه وربعه، تبقى منه خمسة، فهي المقسوم عليها، ثم اضرب الباقي، وهو

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: فخذ أربعة وعشرين. (3) زيادة من (ح). (4) زيادة من (ح). (5) في الأصل، وفي (ح): فإن.

ثلاثة في مخرج الثلث والربع، وهو اثنا عشر، وقسم المبلغ على الخمسة المحفوظة، فيخرج سبعة وخمس، فهو أصل المال. ومن هذا القبيل أن يقول القائل: قصبة ثلثها في الطين، وربعها في الماء، والخارج منها ثلاثة أذرع، أو سمكة رأسها ربُعها، وذنبها ثُلثُها، والباقي منها ثلاثة أمناء. كم وزن السمكة؟ أو كيسٌ (1) عزلت منه ثُلثَه وربعَه، فبقي منه ثلاثة أقفزة. كم مقدارُ الكيس؟ وهذا الفن من الجليات، لما ذكرناه في ابتدائه. 7296 - فإن قيل: حوض له ثلاثة أنهار، ويملؤه واحد في ثلاثة أيام، والثاني في أربعة أيام، والثالث في خمسة أيام، فُتحت الأنهار إليه وأخذت في الانصباب في ساعةٍ واحدةٍ، في كم يمتلىء (2)؟ فخذ عدداً له ثلثٌ وربعٌ وخمسٌ، لجريان (3) الثلاثة والأربعة والخمسة، وذلك ستون. فخذ ثلثها وربعها وخمسها، وذلك سبعةٌ وأربعون، فهي المقسوم عليها، ثم اقسم المخرج وهو ستون عليها، فيخرج واحد وثلاثةَ عشرَ جزءاً من يوم، ففي هذا المقدار يمتلىء الحوض. فإن قيل: نهر [يملؤه] (4) في يوم، والثاني في يومين، والثالث في ثلاثة أيام، أُرسلت كلُّها إليه [في ساعة واحدة، ففي كم يمتلىء] (5)؟ فخذ عدداً له نصفٌ وثلث، لذكره يومين وثلاثة، وذلك ستةٌ. ثم خذ لليوم الواحد ستة، و (6) لليومين نصف ذلك، وهو ثلاثة، ولثلاثة أيام ثلث ذلك، وهو اثنان، فاجمع ذلك كلَّه، فيكون أحدَ عشرَ، ثم اقسم المبلغ عليها، فيخرج ستة أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من يوم، ففي مقدارها يمتلىء الحوض. 7297 - فإن قيل: حوض طوله أربعون ذراعاً، وعرضه عشرون ذراعاً، وعمقه

_ (1) (ح): كرسي. (2) (ح): على. (3) (ح): عبارتها هنا مصحفة محرفة مضطربة، هكذا: فخذنا في الثلث والأربعة والخمسة، وذلك ستون. (4) زيادة من (ح). (5) زيادة من المحقق. (6) في (ح) كلمة مقحمة هنا لا معنى لها: لليوم الواحد ستة وليس لليومين ...

ثلاثة أذرع، حفرنا إلى جنبه بئراً طولها ثلاثة أذرع في عرض ذراعين، كم يجب أن يكون عمقها حتى يسع البئرُ ماءَ الحوض؟ فاضرب طول الحوض في عرضه، ثم ما بلغ في عمقه، فيبلغ ألفين وأربعمائة، فاحفظها، ثم اضرب عرض البئر في طولها، يكون ستة، فاقسم عليها الألفين والأربعمائة، فتخرج أربعمائة ذراع، فهي عمق البئر. 7298 - إن قيل: ثمانية أرغفة بين رجلين: لأحدهما ثلاثة، وللآخر خمسة، أتاهما ضيف، فجعلوا الأرغفة أثلاثاً متساوية، وأكلوها أكلاً متساويا، ولم يأكل أحد الرجلين صاحبي الأرغفة من أرغفة صاحبه، فأعطاهما الضيف ثمانية دنانير عوضاً عما أكله من رغفانهما، كيف يقتسمان الدنانير؟ فالجواب أن لصاحب الثلاثة الأرغفة ديناراً واحداً، والباقي، وهو سبعة لصاحب الأرغفة الخمسة. وذلك لأن الأرغفة لما جُعلت أثلاثاً، صارت الخمسةُ منها خمسَ عشرةَ قطعة، وصارت الثلاثةُ تسعَ قطع، فذلك أربعٌ وعشرون قطعة، فقد أكل كل واحد منهما ثمانِ قطع، فصاحب الخمسة له خمسةَ عشرَ أكل منها ثمانية، وأكل الضيف من نصيبه سبعة، وصاحب الثلاثة له تسعُ قطع، أكل منها ثمانية، وأكل الضيفُ من نصيبه قطعةً، فلذلك كان لصاحب الثلاثة دينارٌ، ولصاحب الخمس سبعة دنانير. 7299 - إن سئلتَ عن عددٍ إذا قسم على اثنين زاد واحداً، وإن قسم على ثلاثة زاد واحداً، وكذلك إذا قسم على أربعة، وعلى خمسة، وعلى ستة. وإن قسم على سبعة، خرج سواء، فبيانه أن نطلب أقل عدد يكون له هذه الأجزاء ما خلا السبع، فنجده ستين، فنزيد عليه واحداً، يكون أحداً وستين، فهذا إذا قسم على اثنين، أو ثلاثة، أو خمسة، أو ستة، يفضل واحدٌ، وإن قسم على سبعة، يفضل خمسة، وإن قسمت ستين على سبعة يفضل أربعة، فانظر في عدد [نضربه في الستين] (1) ونزيد على مبلغه واحداً، فنقسم ما بلغ على سبعة، فنجده خمسةً، فاضرب الخمسة في الستين، وزد على المبلغ واحداً، فيكون ثَلاثَمائةٍ وواحداً، فهو المطلوب.

_ (1) في النسختين: يضرب الستين.

فهذه جملٌ ترشد إلن قواعد الحساب في المعاملات [لم نحب تخلية] (1) الكتاب عنها. 7300 - ونحن (2) نذكر الآن فصلاً في قواعد النِّسب يستغني به الحاسب ويتخذه أصلاً مرجوعاً إليه؛ فإن أمَّ الحساب النسبة، وجملة الطرق ملتقاة منها، والنِّسب شيء لا تمس الحاجة إلى جميعها في المعاملات، كالنسب التأليفية التي يستعملها أصحاب الألحان، والنسب النَّظمية التي يستعملها أهل الهندسة في أضلاع المجسمات، وهي مثل قول القائل: زيادة الستة على الاثنين كزيادة التسعة على الستة، وكزيادة الأربعةَ عشرَ على العشرة. والنسبة التي تمس حاجتنا إليها، وعليها تدور المعاملات في البيع والإجارة، والأرباح، والخسرانات، وبها يخرج ما غمض من مسائل الدور، والعين والدين، والوصايا، ومساحة الأشكال، فنعتني بذكر هذه النسبة في فصل نعقده (3). فصل (4) 7301 - النسبة المطلوبة في هذه الأبواب على ضربين نسبة متوالية، ونسبة غير متوالية، فالمتوالية أن تكون نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثاني إلى الثالث، وكنسبة الثالث إلى الرابع، وكنسبة الرابع إلى الخامس، وكذلك ما زاد عليه من الأعداد المتناسبة على التوالي.

_ (1) بياض بالأصل، والمثبت من (ح). (2) ح: فالحق نذكر الآن. (3) إلى هنا انتهى هذا الجزء من نسخة ت 3، وجاء في خاتمته ما نصه: آخر الجزء الثامن من نهاية المطلب في دراية المذهب. والحمد لله أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. يتلوه في التاسع -إن شاء الله تعالى- فصل النسبة المطلوبة في هذه الأبواب على ضربين. (4) من هنا بدأ اعتماد نسخة (ح) أصلاً (منتصف الورقة 23 ش). وهي نسخة وحيدة إلى (الورقة 51 ش) حيث تجتمع معها نسخة (س) إن شاء الله.

فأما النسبة التي هي غير متوالية، فهي التي يكون نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع، ولا تكون نسبة الثاني منها إلى الثالث كنسبة الأول إلى الثاني. ونقول: متى كان عدد الأعداد المتناسبة فرداً، [كانت] (1) نسبتها متوالية لا محالة، ومتى كانت عِدّة الأعداد المناسبة زوجاً، فربما كانت نسبتها متوالية، وربما كانت غير متوالية، فمثال المتوالية في أربعة أعداد أن يكون أولها اثنين، [والثاني] (2) أربعة، والثالث ثمانية، والرابع ستة عشر. ومثال غير المتوالية في أربعة أعداد أن يكون أولها اثنين، والثاني أربعة، والثالث ثلاثة، والرابع ستة، ومعاملات [المتعاملين] (3) في الشراء والبيع والإجارات تدور على النسبة التي ليست بمتوالية، والنسبة المتوالية عليها تدور معظم أصول المساحة، ومعظم أبواب المعادلات في الجبر والمقابلة، وكذلك أبواب الربح والخسران، وتعجيل الزكوات. وكل ثلاثة أعداد متناسبة يقال فيها: نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثاني إلى الثالث، فإن نسبة الأول إلى الثالث كنسبته إلى الثاني، [ .... ] (4) بالتكرير، وهذا كالاثنين والأربعة والثمانية، فالأول نصف الثاني، والثاني نصف الثالث، والأول إلى الثالث كالأول إلى الثاني [على] (5) معنى التكرير؛ فإن الأول إلى الثاني نصفه، والأول إلى الثالث [نصف] (6) نصفه. 7302 - وإذا كانت ثلاثةُ أعداد متناسبة وعلم اثنان منها، أمكن استخراج الثالث، فإن كان الأول مجهولاً، ضرب الثاني في مثله، وقسم المبلغ على الثالث، فما خرج فهو الأول المجهول. وبيانه أبداً.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: والثالث. (3) في الأصل: الثلثين. (4) ما بين المعقفين مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (5) زيادة من المحقق. (6) زيادة اقتضاها السياق والبيان.

ويمثّل كنسبة عددٍ إلى الأربعة كنسبة الأربعة إلى الثمانية، ولم يذكر لك العدد الأول، فاضرب الأربعة في نفسها، واقسمها على الثمانية، فالخارج من القسمة هو العدد الأول، كأنه قيل: نسبة الاثنين إلى الأربعة كنسبة الأربعة إلى الثمانية. فإن كان الثالث مجهولاً ضُرب الثاني في مثله، وقسم المبلغ على الأول، فما خرج فهو الثالث. وإن كان الثاني مجهولاً، ضرب الأول في الثالث وأُخذ جذرُ ما بلغ، فما كان فهو الثاني، كقول القائل نسبة الاثنين إلى عددٍ كنسبة ذلك العدد إلى الثمانية، فنضرب الاثنين في الثمانية، فيخرج ستةَ عشرَ، فنأخذ جذرها أربعة، فهي العدد الثاني (1). والعلةُ (2) في ذلك أن ضرب الأول في الثالث يكون مثلَ ضرب الثاني في مثله أبداً متى كانت متناسبة على التوالي، وكل أربعة أعداد متناسبة متوالية أو غير متوالية، فإن ضرب الأول في الرابع كضرب الثاني في الثالث، ومتى ضرب الأول في الرابع وقسم المبلغ على الثاني، خرج الثالث، وإن قسم المبلغ على الثالث، خرج الثاني. ومتى ضرب الثاني في الثالث، وقسم المبلغ على الأول، خرج الرابع. وإن قسم المبلغ على الرابع، خرج الأول. وبذلك نستخرج المجهول منها. ومتى كانت أربعة أعداد متناسبة نسبةً متوالية، وعلم اثنان منها أمكن أن يُعلم المجهولان، فإن كانت الواسطتان مجهولتين، ضربنا العدد الأول في مثله، فما بلغ ضربناه في العدد الرابع، وأخذنا كعب ما بلغ، فما كان فهو العدد الثاني. وإن ضربنا العدد الرابع في [مثله] (3)، ضربنا مبلغه في العدد الأول، وأخذنا كعب المبلغ؛ فإن ذلك العددُ الثالث (4).

_ (1) في الأصل: والثاني. (2) عبارة الأصل مضطربة، هكذا: " والثلثه في العلة في ذلك ". فتصرفنا فيها بالحذف، وإضافة الواو. (3) في الأصل: مثلهم. (4) مثال ذلك، هذه الأعداد الأربعة المتوالية: 2 - 4 - 8 - 16 حاول أن تمتحن القاعدة، وستجدها إن شاء الله صحيحة.

وإن كان الطرفان مجهولين، ضربنا الواسطةَ الأولى في مثلها، وقسّمنا المبلغ على الواسطة الثانية، فما خرج فهو الأول، وإن ضربنا الواسطة الثانية في مثلها، وقسمنا المبلغ على الواسطة الأولى، كان الخارج من القسمة مثلَ الطرف الرابع. هذا إذا كانت نسبة الأعداد متوالية. فإن كانت غيرَ متوالية، لم يكن منها ما ذكرناه الآن. وكل خمسة أعداد متناسبة، فإنَّ ضرب الأول في الخامس مثلُ ضرب الثاني في الرابع، ومثل ضرب الثالث في مثله. فإن كان الثالث مجهولاً، ضربنا الأول في الخامس، وأخذنا جذر المبلغ، فهو الثالث. وكذلك إن ضربنا الثاني في الرابع، وأخذنا جذر ما بلغ، كان ذلك الجذرُ مثلَ الثالث. فإن كان الأول مجهولاً، ضربنا الثالث في مثله، وقسمنا المبلغ على الخامس، فما خرج فهو الأول، وكذلك إن ضربنا الثالث في مثله، وقسمنا المبلغ على الخامس، فما خرج فهو الأول، وكذلك إن ضربنا الثالث في مثله وقسمنا مبلغه على الأول [خرج] (1) الخامس، وكذلك إن ضربنا الثالث في مثله وقسمنا المبلغ على الرابع، خرج الثاني. وإن قسمناه على الثاني خرج الرابع. وعلى هذا فقس. 7303 - واعلم أن أم الطرق المُخرِجة [للمجاهيل] (2) الجبرُ، وما عداه فقبضةٌ منه، وكل مسألة تطرّق إليها تعادلٌ على الإفراد من غير اقتران، فسلِّط الجبر عليها، وأخرج المقصود منها، ومستنده التناسب الذي ذكرناه. ومن اطلع على سرّ النسبة، لم يحتج إلى الجبر، وإنما يتأتى النفوذ في النسبة بطول المرون والدُّرْبة، والجبرُ من

_ (1) في الأصل: فخرج. (2) في الأصل: " بالمجاهيل ".

النسبة كعلم العروض (1) مع الذوق، فمن تطيعت (2) له النسبة في مجاريها، أغنته عما عداها، ومن تبلّد فيها، اتخذ مدارج الجبر ذريعة إليها، وإن نزّل المسألة واقتَرنت فيها المعادلات، فلا يُتصور إجراء المسألة إلى المسائل الثلاث المقترنة إلا بالنسبة، وهو أن يعرف تناسب نقصانين أو زيادتين، فيقول: نقصان كذا من كذا كنقصان كذا من كذا، وزيادة كذا على كذا كزيادة كذا على كذا، ثم لا بد في معظم المقترنات من الضرب بعد تحصيل النسبة، ويقع التردد بين أربعة متقابلات، فيضرب الجزء من أحد الجانبين في الكل من الجانب الثاني، ويفعل مثلَ ذلك في الطرف الآخر، ثم يأخذ [في] (3) الجبر والمقابلة، فيقع لا محالة في أحد الطرفين نوعان، وفي الطرف الثاني نوع واحد، ثم يجري على المراسم التي ذكرناها، وقد ينغلق الجواب فلا يتأتى فتحه؛ فإنك قد تحتاج إلى إخراج جذر، فتلقى ما يخرج جذره أصمّ، فلا يتبقَّى طريقٌ في فتح الجواب. وأقصى ما نقدر عليه أن نقول: ننقُص من كذا جذرَ كذا، ولا يتأتى منك البَوحُ به. فهذا منتهى القول في غوامض حساب الكتاب. والآن نعود بتوفيق الله تعالى إلى ترتيب المختصر إن شاء الله عز وجل، فقد يشتمل بعضُ فصول (السواد) (4) على ما يخرج إلى طرفٍ من [الحساب] (5) هينِ المأخذ، سهلِ المُدرك مستندٍ إلى حساب الفرائض وتصحح الكسور والضرب والقسمة. ومن أحكم ما قدمناه، استقلَّ بإخراج ما ينيبه (6). والله الموفق للصواب.

_ (1) يريد أن يقول: إن صاحب الذوق الشعري، لا يحتاج إلى علم العروض ليخرج شعره موزوناً، فكذلك النسبة والجبر. (2) في الأصل: "يطيعه" وهو تصحيف جعل تاء المضارعة ياء، والتاء المفتوحة هاءَ. والمعنى: فمن لانَتْ له النسبة في مواضعها أغنته عما عداها. (3) في الأصل: مِن. (4) السواد: نذكر بما قلناه في تفسيره من قبل. وأنه يعني به مختصر المزني، وهذا المعنى لم تورده المعاجم المعروفة، فيما وصلنا إليه. (5) في الأصل: أكساب. (6) الفعل (ناب) واوي ويائي.

فصل قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو قال: ضعف ما يُصيب أحد ولدي، أعطيته مثلَه مرتين ... إلى آخره " (1). قد تقدم من (2) صدر الكتاب القول في معنى الوصية بنصيب أحد الأولاد، أو أحد الورثة، وأوضحنا الفرقَ بين أن يقول: أوصيت لفلان بنصيب ولدي وبين أن يقول: أوصيت لفلان بمثل نصيب ولدي، وبيّنا أن معظم أئمتنا لم يفصل بين اللفظين، وإنما فصل بينهما مالك، وذكرنا [مذهباً] (3) شاذاً عن بعض المتأخرين لم نعتدّ به مذهباً، وهذا الفصل يشتمل على بيان الوصية بالضعف. فإذا كان له ابنان، فقال: أوصيتُ لفلان بمثل نصيب أحدهما، زدنا على فريضة الميراث سهماً، وقسمنا المال بين الموصَى له وبين الابنين أثلاثاً. فلو قال: أوصيت لفلان بضعف نصيب أحد ابني، قدّرنا للوصية سهمين، ولكل ابن سهماً، إن أجازا ما زاد على الثلث، وكان معنى الضعف المثلين، وكأنه أوصى [بمثلي] (4) نصيب أحد الابنين، وهذا ظاهر. ولو أوصى بضعفي نصيب أحد ولديه، قال الشافعي: للموصى له ثلاثة أمثال نصيب الولد، فأثبت الضعف الأول مثلين، ولم يثبت لمكان الضعف الثاني إلا مثلاً. وقال على هذا القياس: لو أوصى لإنسان بثلاثة أضعاف النصيب، كانت الوصية بأربعة أمثال النصيب، ولو أوصى بأربعة أضعاف النصيب، كانت وصيةً بخمسة أمثال النصيب، فأثبت [مثلين] (5)، [للضعف الأول] (6)، وجعل أعداد الأضعاف بعده

_ (1) ر. المختصر: 3/ 160. وعبارة الشافعي غير مقروءة تماماً في الأصل. (2) كذا، وهي بمعنى (في) كما قال ابن هشام في (المغني). (3) في الأصل: مذهبها. (4) في الأصل: مثل. (5) في الأصل: مثلا. (6) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

أمثالاً، وهذا لم أحط به، ولم أعقل معناه، وقد [تلقيتُه] (1)، وهو رضي الله عنه [منفرد] (2) بمذهبه فيه. قال الأستاذ أبو منصور: القياس أن يثبت للضعف الواحد مثلين ويثبت لكل ضعف مثلين؛ فإنه إذا ثبت أن الضعف مثلان، فالضعفان مثلان مرتين، وحكى الأستاذ أن الموصي لو قال: ضعفوا لفلان ضعفَ نصيب أحد ولدي، فالضعفان أربعة أمثال بلا خلاف، وإنما قال الشافعي ما قال: إذا قال الموصي: أوصيت لفلان بضعفي نصيب [ولدي] (3) أو أضعافِه. فإذا صرح بتضعيف [الضعف] (4)، كان كلُّ ضعفٍ مثلين. وهذا الذي قاله سديد، لا يجوز غيرُه. 7304 - [وإطلاق] (5) الشافعي لفظه قد [يحوج] (6) المبتدىء إلى التأول، والشافعي رضي الله عنه أطلقها للبيان والتمثيل، وذلك أنه قال: إذا أوصى، وقال أوصيت لفلان بضعفي ما يصيب أحد ولدِي، فله ثلاثة أمثال ما لأحد أولاده؛ فإن كان نصيب أحدهم [درهماً] (7)، فله ثلاثة، وإن كان نصيب الولد الذي عينه مائة أعطيته، ثَلاثَمائة، ولم يُرد رضي الله عنه أن حصة أحد البنين إن كان مائة درهم، زدنا للوصية ثَلاثمائة؛ لأن هذا يوجب أن يكون كل [الزحام] (8) داخلاً على الورثة دون الوصية، وليس كذلك، بل [العول] (9) يدخل عليهم كلِّهم، والذي أطلقه الشافعي عبارةٌ عن

_ (1) في الأصل: (ـلقـ ـه) هكذا بدون نقط الأول والرابع. (2) في الأصل: فتفرد. (3) في الأصل: الذي. (4) في الأصل: الضعيف. (5) في الأصل: وأطلق. (6) في الأصل: "يخرج". (7) عبارة الأصل: فإن كان نصيب منهما، فله ثلاثة. (8) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل: (انظر صورتها). (9) في الأصل: القول.

السهام: أي إن كان نصيبُ أحدهم مائةَ سهم، زدنا للموصى له ثَلاثمَائة سهم، وقسمنا المال على ذلك، فهذا هو المراد. فصل قال: "ولو قال: أوصيت لفلان بنصيب أو حظ أو قليل أو كثير ... إلى آخره" (1). 7305 - إذا قال: أوصيت لفلانٍ بسهمٍ، أو نصيبٍ، أو شيءٍ، فهذه الألفاظ كلّها مبهمةٌ، والرجوع في تفسيرها إلى الموصي. فإن مات قبل أن نتبين، فالرجوع بعد موته إلى ورثته. ثم مذهب الشافعي أنه لو فسَّر هذه الألفاظ مَنْ إليه التفسير بأقلِّ القليل، قُبل، وعلةُ المذهب أن هذه الألفاظ تضاف إلى أشياء مختلفة المبالغ، فسهمٌ من العشرة ينتظم إطلاقه، كما ينتظم إطلاقه من ألف، فإذا كان كذلك، ولا منتهى للمضاف إليه، فلا تقدير لهذه الألفاظ. وأبو حنيفة (2) وافقنا في جميع هذه الألفاظ، خلا السهم؛ فإنه حمل مطلَقَه على السدس، وهذه الألفاظ في الوصايا بمثابتها إذا استعملت في الأقارير غيرَ أن الأقارير أخبارٌ، والإيصاء إنشاءُ عطية يتنجز بالموت، على الشرائط المرتبة في الوصايا. 7306 - وأورد الأستاذ أبو منصور ألفاظاً في بعضها غموض وإشكال على ما يأتي الشرح عليها، إن شاء الله عز وجل. [فمما] (3) ذكره أن الموصي لو قال: أوصيت لفلان بثلث مالي إلا شيئاً، قال: هو وصية بنصف الثلث وزيادة؛ فان المستحَق لو كان أكثر من هذا، لكان يقول: أوصيت لفلان بشيء أو بأقلَّ من نصف الثلث، [فلما] (4) ذكر الثلث والشيء، [بان] (5)

_ (1) ر. المختصر: 3/ 160. وعبارته: " لفلان نصيب أو حظ أو قليل أو كثير ... إلخ ". (2) لر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 25، مسألة: 2165. (3) في الأصل: فهما. (4) في الأصل: فيما. (5) زيادة من المحقق.

أنها تستعمل مستثنىً، إذا كان الباقي أكثرَ من النصف. وهذا لم أره لأئمة المذهب في كتبهم، ولم أسمعه ممن تلقيتُ منه، والذي يقتضيه المذهب عندي على قطعٍ، أنه لو فسَّر ما يبقى من الثلث بعد الاستثناء بأقل القليل، قُبل منه؛ فإن لفظَ الشيء مبهمٌ صالحٌ للقليل والكثير، واستثناءُ المعظم غيرُ ممتنع؛ فإنه لو قال: أوصيت لفلان بعشرةٍ إلا تسعةً، كان الموصى به درهماً، [ولو] (1) أقرّ كذلك، صح استثناؤه؛ فاللفظ المطلق في الوصية والإقرار محمولٌ على الأقل. فإن اتبع متبعٌ العرفَ، لم يستقم له هذا على قياس الشافعي رضي الله عنه، مع مصيره إلى أن الإقرار بالمال العظيم يجوز أن يحمل على الحبة والقيراط، فما دونهما. 7307 - وقد رأيت لصاحب التقريب مسألةً حكاها في كتابه من (2) جواب الشافعي مسائلَ، وذلك أنه قال: قيل للشافعي: إذا أوصى رجل لرجل بأقلَّ من مائة دينار، فالموصى به كم؛ فقال الشافعي -فيما حكاه عنه- الموصى به تسعةٌ وتسعون ديناراً. وهذا مما لا أحيط به، ولست أدري مأخذه من أصل الشافعي، ولا اغترار بأن يقول قائل: ذكر المائةَ فيُلزمها ونطرح لقوله: أقلّ من مائةٍ ديناراً واحداً؛ لأنه ذكر الدنانير، فأقلُّ محطوطٍ مع لزوم الدنانير دينارٌ. والذي يقتضيه قياس الشافعي القطعُ بأنه موصٍ بأقلّ ما يتموّل؛ فإنه يجوز أن يقال: القيراط [أقلُّ] (3) من مائة دينار، ولا يعارض هذا إلا قولُ القائل: هذا غيرُ مستعمل في العرف؛ فقد أوضحنا أن العرف لا مبالاة به [في] (4) هذا المقام. هذا هو الذي [يجب] (5) القطع به.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) مرادفة لـ (عن). (3) زيادة من المحقق. ومعنى العبارة: أن من قال: أوصيت بأقلَّ من مائة، يجوز أن يحمل قوله على الوصية بقيراطٍ، فالقيراط يجوز أن يطلق عليه أنه أقلُّ من مائة دينار. (4) في الأصل: من. (5) في الأصل: معنى القطع به.

ويتطرق إلى وضع الكلام فسادٌ آخر، وهو حمل الموصى به على ما يقل عن مائة وينحط عنها بقيراط؛ إذ [هو] (1) أقلّ [من مائة] (2)، والمصير إلى حط الدينار تحكُّمٌ لا أصل له. 7308 - وفيما ذكره الأستاذ أنه لو قال: أوصيت لفلان بثلث مالي إلا كَسْراً أو إلا شيئاً كثيراً، وأراد حمل ذلك على ما يزيد على نصف الثلث، جاز؛ لذكره الكثير، ثم لا وقوف بعد مجاوزة النصف في الاستثناء، ولا وجه إلا تجويزُ حمل الموصى [به] (3) على أقل ما يتمول، وهذا جارٍ على القياس لا نزاع فيه. وقال: لو قال: أوصيت لفلان بأكثرِ مالي، فالوصية محمولة على ما يزيد على شَطر المال بأقل القليل؛ فإن الأكثر يَقتضي الزيادة على النصف لا محالة، ثم الزائد على الثلث موقوف على الإجازة. وقال: لو قال: أوصيت لفلان بأكثرِ مالي، وبمثل نصفه، كان ذلك محمولاً على الوصية بثلاثة أرباعٍ وزيادة، وإن قلّ قدرُها. وإذا ثبت حملُ الأكثر على ما يزيد على النصف، فلا شك أن الجمع بينه وبين النصف يقتضي ما ذكره. ولو قال: أوصيت لفلان بأكثرَ من مالي، فهذه وصية منه بجملة المال، ووصية بما يزيد عليه، ووصيته في الزائد على ماله ملغاة، فيبقى الوصية بالمال. ولو قال: لفلان علي أكثر من ألف درهم، فيكون مقراً بألف وزيادة على هذا الموجب، وليس لقائلٍ أن يقول: إذا كنا نحمل المالَ العظيم في الإقرار على أقل القليل، ولا نُثبت بسبب الوصف بالعظم مزيداً، فيجب أن [يكون] (4) الوصف بالكثرة بمثابة الوصف [بالعظم] (5)؛ فإن الوصف بالكثرة يعرض لتزايد القدر، وذكر العظيم مشعر بعظم المرتبة، كما تقدم تقريره في كتاب الأقارير.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: منه. (3) في الأصل: له. (4) في الأصل: يكبر. (5) في الأصل: العظيم.

وهذا وإن كان [لائحاً] (1) فقد يعترض عليه تجويز حمل الكثرة على العِظم في المرتبة، ولكن لا يعوّل على هذا الذي يخطر، فالأصل ما ذكرناه. فإن قيل: لو قال: لفلان عليَّ مال كثير، فالمقر به كم؟ قلنا: هو كقوله: لفلان عليّ مال عظيم أو كثير؛ إذ لا ضبط للكثير، وليس كما لو أضاف [الكثرة] (2) إلى مقدار، فيحمل على الزيادة عليه، مثل أن يقول: لفلان علي أكثر من ألف درهم، وهذا يجر [اختباطاً] (3) في الفكر. ولو قال: لفلان عليّ أعظمُ من ألف، فالوجه القطع بجواز حمل هذا على أقل القليل؛ فإن العظم ليس ناصاً على التعرض للمقدار والتفاوت به. فهذا ما وجدناه وألفيناه مَعْرِضاً لنظر الفطن، فليتأمله المتأمل مستعيناً بالله جل وعز. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بربع ماله ... إلى آخره " (4). 7309 - مضمون هذا الفصل يتعلق بثلاثة أشياء: أحدها - الوصايا بأجزاء بحيث لا تزيد كل وصية على ثلث المال. والآخر - بيان الوصايا بأجزاء، وبعضها يزيد على الثلث. وهذان النوعان منه إذا لم تزد الوصايا على أجزاء المال. ومن متضمنات الفصل وهو الثالث - ذكر الوصايا الزائدة على مقدار المال. فأما إذا لم تزد الوصايا على المال، ولم تزد واحدةٌ منها على الثلث، ولكنها بجملتها زائدة على الثلث، فالوجه أن نذكر في مفتتح الكلام إجازةَ الوصايا بجملتها من

_ (1) في الأصل: لائماً. (2) في الأصل: الكثيرة. (3) في الأصل: احتياطاً. (4) ر. المختصر: 3/ 60.

جملة الورثة، ثم نذكر ردّ الزائد من جميعها على الثلث من جملة الورثة، ثم نخوض بعد ذلك في رد البعض للبعض مع إجازة البعض، والقول في التبعيض ينقسم أقساماً، سنشرحها إذا انتهينا إليها، إن شاء الله عز وجل. فإن أجازوا الوصايا كلَّها، فالعمل (1) [فيها] (2) على ما تقدم في صدر الكتاب. 7310 - وهذا الذي ابتدأنا ينقسم إلى ما يستغرق المال، وإلى ما ينقص عن الاستغراق، ويزيد على الثلث، فإن استغرق الوصايا المالَ، وقد أجيزت، فليس على الحاسب إلا أن يطلب مخرج أجزاء الوصايا، ويقيم سهامها. وإن قصُرت أجزاء الوصايا عن استغراق المال، فالوجه -وقد أجاز الورثة- أن نطلب مخرج أجزاء الوصايا، ونقيم سهامَ فريضة الورثة، ونسلِّم إلى الموصى لهم وصاياهم، ثم ننظر، فإن انقسم ما فضل من فريضة الوصايا على فريضة الميراث، قسمناه، واكتفينا به، وإن انكسر، نُظر، فإن لم يكن بين ما فضل من فريضة الوصايا، وبين فريضة المواريث موافقة، ضربنا مخرج الوصية في سهام الفريضة، أو سهام الفريضة في سهام الوصية، وصحت القسمة من هذا المبلغ لا محالة. فإن وافقت (3) البقية سهام الميراث بجزء، أخذنا جزء الموافقة من سهام الميراث، وضربناه في مخرج الوصايا، وصحت القسمة. 7311 - وإن لم يُجز الورثة ما زاد على الثلث، وردّوا بأجمعهم مقدارَ الزيادة من

_ (1) العمل: يقصد به الحساب. (2) في الأصل: منها. (3) مثال الأرقام التي لا توافق بينها: 2، 5، 7، 9 ... إلخ وضابطها: كل رقمين لا يوجد بينهما رقم يقبلان القسمة عليه بدون باقٍ، غير الواحد الصحيح. فالخمسة والسبعة لا يقسمان معاً على 2، ولا على 3 وهكذا. أما الأرقام المتوافقة فمثالها، 4 مع 6، 8 مع 12، فيوجد بين كل رقمين رقم آخر يقبلان القسمة عليه، وهو (2)، فماذا ضربت ما خرج من قسمة أحدهما على (2)، ردّ الرقم الذي تخرج منه الأسهم بدون باقٍ، مثل: 6/ 2 3 و3 × 4 = 12، والعكس صحيح، والمردود في الحالين (12).

جميع الوصايا ردّاً شائعاً، فالوجه أن نقسم الثلث بين أهل الوصايا، على نسب أقدار وصاياهم لو أجيزت، وأصل الحساب حينئذ أن نقيم سهام الميراث، ثم نطلب عدداً يخرج منه أجزاء الوصية، ثم نجمع أجزاء الوصية من ذلك العدد ونسميها سهام الوصية، ثم نأخذ ثُلثَه أبداً للاحتياج إلى الثلث والثلثين، ونقسم سهماً من الثلاثة على سهام الوصية، وسهمين منها على سهام الميراث، فتكون سهام الوصية في المعنى [كصنف] (1) انكسر عليهم سهمٌ، وكذلك تكون سهام الميراث كصنفٍ آخر انكسر عليهم سهمان، فان كان السهمان يوافقان سهام الميراث، بأن تكون سهام الميراث [نصفاً -ولا] (2) يتصور الوَفْق مع الاثنين إلا بهذا الجزء- ضربنا وفق سهام الميراث في سهام الوصية، فما بلغ فاضرب مبلغه في ثلاثة، وتصح القسمتان من هذا المبلغ. وإن لم يكن بين السهمين وبين سهام الفريضة موافقة، فإن لم يكن لسهام الميراث نصف، ضربت جميع سهام الفريضة -يعني الميراث- في سهام الوصية، فما بلغ ضربته في ثلاثة، فما بلغ فمنه تصح القسمة. فإذا أردت -وقد فرغت من الضرب- أن تُبيّن ما يثبت لكل واحد من الموصى لهم، أخذت العدَدَ الذي ضربته في ثلاثة، فقسمته على سهام الوصية، فما خرج نصيباً للواحد فهذا أصل الضرب فيه نصيب كل واحد من سهام الوصية، فما بلغ فهو نصيبه. فإن أردت أن تبيّن ما لكل واحدٍ من الورثة، أخذت العددَ الذي ضربته في ثلاثة، فضاعفته أبداً لمكان الثلثين، وانحصار الوصايا في الثلث، فما بلغ قسمته على سهام الورثة، فما خرج [نصيباً للسهم] (3)، فهو أصلٌ نضرب فيه نصيبَ كل واحد من الورثة، فما بلغ، فهو نصيبه (4).

_ (1) كذا قدرناها على ضوء السياق، فهي غير مقروءة في الأصل. (2) في الأصل: تكون سهام الميراث نصف أو لا يتصور ... إلخ. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق. (3) في الأصل: نصيب السهم. (4) سيظهر هذا بوضوح في الصفحات التالية عند ذكر الأمثلة.

وهذا الذي ذكرناه في تعيين أقدار أنصباء الورثة هو الذي سميناه في الفرائض طريقَ العطاء، هذا الذي ذكرناه هو الأصل في الحساب. وقد أجرى الأستاذ طرقاً مقتضبة من هذا الأصل، لو وصفناها وصفاً كلياً، لم تسلم عن [إبطالٍ] (1) أو إبهام، فرأينا تأخير ذكرها إلى الأمثلة، وعندها يتضح مجموع الكلام. 7312 - مثال: ميت خلَّف ثلاثةَ بنين، وأوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بربع ماله، فإن أجاز الورثةُ الوصيتين، فسهام الورثة ثلاثة، ومخرج الوصية اثنا عشر، نُسقط منها الوصيتين، فهما سبعة، فالباقي خمسة لا ينقسم على سهام الورثة، ولا يوافقها، فنضرب سهام الورثة في مخرج الوصية، فتبلغ ستةً وثلاثين، منها تصح القسمة: كان للموصى له بالثلث أربعة، وهي الآن مضروبة في ثلاثة يكون له اثنا عشر، وكان للموصى له بالربع ثلاثة، وهي مضروبة في ثلاثة، فالمبلغ تسعة، وقد ذهب بالوصيتين إحدى وعشرون سهماً، يبقى خمسةَ عشرَ سهماً بين ثلاثة بنين، كان لكل واحد منهم سهم، وهو الآن مضروب في خمسة (2). فإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث، فسهام الوصية ثلاثة، وتخرج الوصية [من] (3) اثني عشر، نجمع الوصيتين منها فتكون سبعة، فنسميها سهام الوصية، ثم نأخذ ثلاثة، ونقسم منها سهماً واحداً على سهام الوصية، فهي هذه السبعة، فلا تصح

_ (1) في الأصل: إبطاله. (2) صورة المسألة بالأرقام: . . . . . . . . . . موصى له ... موصى له ... 3 أبناء ... وأجاز الورثة . . . . . . . . . . . . 1/ 3 ........ 1/ 4 ........ الباقي مخرج الوصايا 12 ...... 4 .......... 3 ........... 5 تنكسر أسهم الورثة على عدد الرؤوس . . . . . . . . 36 ...... 12 .......... 9 ........ 15 فنضرب عدد الرؤوس من مخرج الوصايا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لكل ابن 5 (3) زيادة من المحقق.

ولا توافق، ونقسم منها سهمين على سهام الورثة، وهي ثلاثة، فلا تصح ولا توافق، فنضرب سهام الورثة في سهام الوصية، فتبلغ أحداً وعشرين، فنضربها في الثلاثة التي هي الأصل، فتبلغ ثلاثة وستين (1)، منها تصح القسمة، فإذا أردنا أن نعرف نصيب كل موصىً له، أخذنا العدد الذي ضربناه في ثلاثة، وهو أحدٌ وعشرون، فقسمناه على سهام الوصية، وهي سبعة، يخرج ثلاثة، فضربنا كلّ وصية فيها، وصاحب الثلث سهامه أربعة من الأصل، فنضربها في هذه الثلاثة، فتبلغ اثني عشر، فهو نصيبه، وضربنا نصيب الموصى له بالربع من سهام الوصية، وهو ثلاثة في هذه الثلاثة الخارجة من القسمة، فبلغ تسعة، فهي نصيبه. وإن أردنا أن نبيّن حصة كل وارث أضعفنا العدد المضروب في ثلاثة، وهو أحدٌ وعشرون، فبلغ اثنين وأربعين، فقسمناها على سهام الورثة، وهي ثلاثة، خرج أربعةَ عشرَ، فهي الأصل الذي نضرب فيه نصيب كل واحد من الورثة، ولكل ابن سهم، وهو مضروب في أربعةَ عشرَ، والمردود أربعةَ عشرَ، فهو حصة كل ابن. هذا مسلك الكلام على الأصل الذي إليه الرجوع وبه الامتحان. 7313 - صورة أخرى: إن ترك ثلاثةَ بنين وأوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بسدسه. فإن أجاز الورثة، فسهام الورثة ثلاثة ومخرج الوصية ستة، يسقط منها ثلثها وسدسها بالوصية، فيبقى ثلاثة منقسمة على سهام الورثة.

_ (1) صورة المسألة بالأرقام: موصى له ... موصى له ... 3 أبناء (ولم يجز الورثة) 1/ 3 ........... 1/ 4 ....... الباقي 12 4 .......... 3 .......... 5 نرد المسألة إلى (3) لنخرج الثلث والثلثين 3 .............. 1 ........... 2 لا يوجد توافق في الصنفين. فتضرب سهام 63 ........... 21 ......... 42 الورثة (3) × (7) التي هي سهام الوصية ..... 12 ......... 9 ... 14 - 14 - 14 فيخرج 21 فنضربها في الأصل 3 × 21 = 63 ومنها يصح إخراج كل الأنصباء.

وإن لم يجيزوا، أقمنا سهام الفريضة، وهي ثلاثة، ونأخذ سهام الوصيتين من ستة، فنجمع ثلثها وسدسها، فيكون ثلاثة، فهي سهام الوصية، ثم نأخذ ثلاثة، فنقسم سَهْماً منها على سهام الوصية، فلا يصحّ ولا يوافق، ونقسم سهمين منها على الورثة، فلا تصح ولا توافق، ولا نحتاج أن نضرب سهام الورثة في سهام الوصية؛ لأنهما متماثلتان، فاكتفينا بإحداهما وضربناها في الثلاثة التي جعلناها أصلاً للوصية والميراث [جميعاً] (1) فبلغ تسعة، ومنها تصح القسمة: ثلثها ثلاثة [للموصى لهما] (2): لصاحب الثلث سهمان، ولصاحب السدس سهم، والباقي ستة للورثة: لكل واحد منهم سهمان. 7314 - فإن ترك ثلاثةَ بنين وأوصى لرجل بربع ماله ولآخر بخُمس ماله؛ فإن أجاز الورثة، فسهام الورثة ثلاثة، ومخرج الوصية عشرون، فنسقط منها الوصية وهي تسعة، والباقي أحدَ عشرَ لا ينقسم على سهام الورثة، ولا يوافقها، فنضرب سهام الورثة في مخرج الوصية، وهو عشرون، فيبلغ ستين، فمنها تصح القسمة، ولا حاجة إلى اعتبار السهام الثلاثة؛ فإن الوصايا زائدة على الثلث وقد أجازها الورثة، فلا حاجة إلى نسبة الثلث والثلثين. ثم كان للموصى له بالربع خمسة أسهم من عشرين، فنضربها في سهام الورثة وهي ثلاثة، فيبلغ نصيبه خمسةَ عشرَ، وكان للموصى له بالربع أربعة مضروبة في ثلاثة يكون اثني عشر. هذا طريق العطاء في الإجازة؛ لأنه يتضعف كل قسط بضرب سهام الورثة في العشرين، وذهب بالوصيتين سبعةٌ وعشرون، وبقي ثلاثةٌ وثلاثون، وقد كان لكل ابن في سهام الفريضة سهم، فاضربه فيما بقي من العشرين، وهو أحدَ عشرَ، فلكل ابن أحد عشر سهماً. وإن لم يجيزوا، فسهام الوصية كما ذكرنا تسعة، وسهام الورثة ثلاثة، ثم نعمد إلى ثلاثة للاحتياج إلى نسبة الثلث والثلثين، فلا ينقسم سهمٌ على السبعة، ولا سهمان

_ (1) في الأصل: جمعاً. (2) في الأصل: من الموصى لهما.

على الثلاثة، والثلاثة داخلة في التسعة، فنضرب التسعة في ثلاثة، فيرد سبعة وعشرين [نميز] (1) ثلثها تسعة: للموصى له بالربع خمسة من تسعة، وللموصى له [بالخمس] (2) أربعة، والباقي وهو ثمانيةَ عشرَ بين ثلاثة بنين: لكل واحد منهم ستة. [فإن] (3) ترك ثلاثة بنين، وأوصى لرجل. بربع ماله، ولآخر بخُمسه، ولآخر بسدسه، فإن أجاز الورثة، فسهام الفريضة ثلاثة، ونطلب [عدداً تخرج] (4) منه أجزاء الوصية وهو ستون، فنأخذ منها أجزاء الوصية، ومجموعها سبعةٌ وثلاثون، والباقي منها ثلاثة وعشرون، ولا تصح على سهام الفريضة، ولا توافقها، فنضرب سهام الفريضة في مخرج الوصية، فتبلغ مائة وثمانين، فمنها تصح المسألة، ثم نقول: كان للموصى له بالربع خمسةَ عشرَ، نضربها في سهام الورثة، فيكون له خمسة وأربعون، وكان للموصى له بالخُمس اثنا عشر، نضربها في ثلاثة، [فتردّ] (5) ستةً وثلاثين، وكان للموصى له بالسدس عشرة، نضربها في ثلاثة، فيكون له ثلاثون. وقد ذهب مائةٌ وأحدَ عشرَ بالوصايا، وبقي من المال تسعة وستون للورثة، وقد كان لكل واحد منهم سهم، وهو مضروب في ثلاثة وعشرين الباقية من مخرج الوصية بعد إسقاط الوصايا، فلكل واحد منهم ثلاثة وعشرون. فإن لم يجيزوا، فأجزاء الوصية سبعةٌ وثلاثون، كما قد ذكرنا، وأجزاء الميراث ثلاثة، فالوجه ما ذكرناه من قسمة ثلاثة على المبلغين، فنقسم [سهماً] (6) على سهام الوصايا، فلا ينقسم ولا يوافق، وكذلك القول في السهمين وسهام الورثة، وليس بين الثلاثة [: سهام الورثة وسهام الوصية] (7) وهي السبعة والثلاثون موافقة، فنضرب ثلاثة في سبعة وثلاثين، فتبلغ مائة وأحدَ عشرَ، ثم نضرب هذا المبلغَ في ثلاثة التي

_ (1) في الأصل: نميزه. (2) في الأصل: بالخمسة. (3) في الأصل: بأن. (4) في الأصل: عدد الجرح. (5) مزيدة من المحقق. (6) في الأصل: بينهما. (7) زيادة من المحقق.

بها تعديل الثلث والثلثين، فيبلغ ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين، فمنها تصح القسمة، ولا حاجة إلى الامتحان (1). هذا فيه إذا زادت الوصايا على الثلث، فأجازها الورثة أو [ردّوها] (2)، ولم يكن في آحاد الوصايا ما تزيد على الثلث. 7315 - فإن كان في آحاد الوصايا ما يزيد على الثلث، مثل أن يوصى بنصفٍ [وثلثٍ] (3)، فالنصف زائد على الثلث، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن سبيل تخريج هذا النوع من المسائل كسبيل تخريج ما تقدم، فنفرض الإجازة من الورثة، ونجري قياسَ حساب الإجازة، ثم نفرض الردّ، ونقسم الثلث بين أهل الوصايا على النسبة التي اقتسموا [بها] (4) ما نالهم من المال عند الإجازة. وأبو حنيفة (5) يقول: إذا ردّ الورثة، فالموصى له بالنصف لا يضرب إلا بالثلث، وإنما يتفاوت أصحاب الوصايا إذا كانت أجزاء وصاياهم متفاوتة بالثلث [فما] (6) دونه، ولم نُعد حساب هذا القسم لمّا وجدناه على الطَّرْز الأول من غير تفاوت. هذا كله إذا أجاز الورثة جميعَ الوصايا، أو ردوا بأجمعهم ما زاد على الثلث.

_ (1) نضع صورة هذه المسألة بالأرقام مثالاً آخر للإيضاح: . . . . . . . .3 أبناء ... موصى له ... موصى له .... موصى له ... لم يجز الورثة ولذا نردّ مخرج الوصية .............. 1/ 4 ...... 1/ 5 ........ 1/ 6 .......... المسألة إلى (3) لنخرج من 60 ........ 23 ........ 15 ...... 12 ........ 10 الثلث والثلثين. 3 .............. 2 ..................... 1 .................... نضرب سهام الورثة 3 333 ......... 222 ................. 111 .................... في 37 سهام الوصية = ......... 74 - 74 - 74 .......... 45 - 36 - 30 ............. 3 ×37 - 111 ثم نضرب هذا ....................................................... في 3 = 3 × 111 = 333 ومنها تصح ....................................................... القسمة وبهذا ظهر نصيب كل وارث. (2) في الأصل: أو زادوها. (3) في الأصل: وثلثه. (4) زيادة من المحقق. (5) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 428. (6) في الأصل: فيما.

7316 - فأما إن أجاز [البعضُ] (1) بعض الوصايا، ورد البعض، أو أجاز بعضهم جميعَ الوصايا، أو أجاز بعضهم بعضَ الوصايا، وأجاز غيره غير تلك [الوصايا] (2)، فالقياس فيه أن نصحح المسألتين إحداهما على تقدير الإجازة من الجميع للوصايا كلها، والثانية على تقدير الرد من الجميع، ثم ننظر إلى المسألتين. فإن كانتا متباينتين، ضربنا إحداهما في الأخرى، وإن كانتا متوافقتين، ضربنا وَفْق إحداهما في جميع الأخرى، فما بلغ فمنه تصح القسمة. وإن كانتا متداخلتين، صحت القسمة من أكثرهما، ولا يتصور أن يكونا متماثلتين. ثم كيفية القسمة على تقدير الإجازة والرد تنكشف [مقترنة] (3) بضرب الأمثلة. 7317 - مثال: ثلاثة بنين، وقد أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر [بخُمسي] (4) ماله. فإن أجازت الورثة، فسهام الميراث ثلاثة، ومخرج الوصية خمسةَ عشرَ، فنلقي ثلثَها وخمسها، وذلك أحدَ عشرَ، والباقي أربعة، لا يصح على سهام الميراث، ولا يوافق، فنضرب سهامَ الفريضة في مخرج الوصية، فبلغ خمسةً وأربعين، وكان للموصى له بالثلث خمسة مضروبة في ثلاثة، فله خمسة عشر، وكان للموصى له بالخُمسين ستة، فهي له مضروبة في ثلاثة تكون ثمانيةَ عشرَ، وقد ذهب بالوصيتين ثلاثة وثلاثون سهماً، وبقي منه (5) اثنا عشر، وكان لكل ابن من سهام الفريضة سهم، مضروب في الأربعة الباقية من مخرج الوصية، فيأخذ كلُّ واحد منهم أربعة من اثني عشر. وإن لم يجيزوا، فالشافعي رضي الله عنه يقول: سهام الفريضة ثلاثة، ومخرج الوصية خمسةَ عشرَ، وسهام الوصية منها أحد عشر، فإذا جرينا على العمل الذي

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: الوصية. (3) في الأصل: مقترناً. (4) في الأصل: بخمس. (5) منه: أي الأصل.

رسمناه، فقد: بلغ العدد تسعة وتسعين، فمنها تصح [القسمة] (1)، وبها يعتدل الثلث والثلثان، هذا في إجازتهم جميعاً للجميع، أو في ردهم جميعاً للزيادة في الجميع. ونحن نذكر صوراً في رد البعض وإجازة البعض، وإنما ذكرنا ما قدمناه الآن اخر (2)، ومذهب الشافعي رضي الله عنه على مخالفة مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه. 7318 - صورةٌ: رجل أوصى لرجل بالثلث ولآخر بالربع، وخلّف ابنين، فإن [أجازا، فمخرج] (3) الوصية من اثني عشر، نلقي ربعها وثلثها، وذلك سبعة والباقي خمسة للابنين، لا ينقسم ولا يوافق، فنضرب اثنين في اثني عشر، فيصير أربعة وعشرين، يصح لصاحب الثلث ثمانية ولصاحب الربع ستة، ولكل ابن خمسة. وإن لم يجيزوا، [فطريق] (4) العمل في الرد أن نقول: سهام الوصية سبعة، وسهام الورثة اثنان، فنقسم الثلاثة على صنفين، ينكسر سهم على سهام الوصية، ولا يوافق، وينقسم [السهمان] (5) على سهام الورثة، فيعود الكلام إلى كسرٍ واحد، وهو سبعة، فنضربها في الثلاثة التي بها التعديل، فيرد واحداً وعشرين، فمنها تصح القسمة. وإن أجازا لصاحب الثلث جميع وصيته ولم يجيزا الزائد من وصيّة الربع، فالربع ثلاثة أسباع الثلث، ولصاحب الثلث تمام الثلث. [فطريق] (6) الكلام في هذه المسألة، وفي المسائل التي تترتب عليها مشتملة على جهات التبعيضات في الرد والإجازة أن يعدّ الإنسان العددَ الأقصى الذي يخرج منه جملة التبعيضات المفروضة أولاً، ثم نعلم أن المسائل تنقسم، فمنها ما لا يصح إلا من العدد الأقصى، ومنها ما يصح دونه، بعدد قريب، وليس من الوجه تخريج المسألة بعددٍ كثيرٍ، مع صحتها بعددٍ دونه.

_ (1) في الأصل: القيمة. (2) كذا. (3) في الأصل: أجاز المخرج. (4) في الأصل: بطريق. (5) في الأصل: السهام. (6) في الأصل: بطريق.

والعدد الأقصى في هذه المسألة وأمثالها أن ننظر إلى الفريضة الجامعة للوصية والميراث في الرد العام من جميع الورثة في جميع الوصايا، وتلك الفريضة في هذه المسألة أحدٌ وعشرون، وننظر إلى فريضة الإجازة العامة من الجميع في الجميع، وهي أربعة وعشرون في هذه المسألة، فإن كان المبلغان متباينين، ضربنا أحدَهما في الثاني كدأبنا في كَسْرين، فإن كانا متوافقين، ضربنا وَفْق أحدهما في جميع الثاني، فهذا هو [العدد] (1) الأقصى، والمسائل كيف تصرفت في التبعيضات، تخرج منه على الوجوه التي سنذكرها، إن شاء الله. ولكن إذا جوزنا أن يخرج بعض المسائل بعددٍ أقل من العدد الأقصى، فالوجه أن نتخذ فريضةَ الرد العام معتبراً ونقول: لو قسم الرد بالفريضة من أحدٍ وعشرين، [لكان] (2) لكل ابن سبعة وللوصايا سبعة: لصاحب الثلث أربعة منها، ولصاحب الربع ثلاثة. 7319 - فإذا أجازا الزائدَ في الوصية بالثلث، ولم يجيزوا الزائد في الوصية بالربع، أقررنا الوصية بالربع على ثلاثة أسباع الثلث، وقد أخذ صاحب الثلث أربعة أسباع الثلث، وله بحكم إجازتها ثلاثة أسباع إلى قيمة الثلث، فنأخذ سُبعاً ونصفاً من كل ابن، فيحصل له ثلثٌ كامل، ولكن يبقى في يد كل ابن خمسةٌ ونصف، فإذا أردنا إزالة الكسر، ضربنا فريضة الرد في مخرج النصف، فردَّ اثنين وأربعين، ثم نعود فنقول: لصاحب الربع ثلاثة أسباع الثلث من هذا المبلغ، فهو ستة، ولصاحب الثلث تمام الثلث لمكان الإجازة، وهو [أربعة عشر] (3)، فيبقى اثنان وعشرون، لكل ابن أحدَ عشرَ. 7320 - وإن أجاز الابنان لصاحب الربع جميع وصيته، ولم يجيزا لصاحب الثلث، [ما زاد] (4) على حقه من الثلث، فالرجوع إلى فريضة الرد، وهي أحدٌ وعشرون، فلصاحب الثلث أربعة أسباع الثلث؛ إذ لا إجازة في حقه، ولصاحب الربع

_ (1) في الأصل: العدو. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: أربعة. (4) في الأصل: فازاد.

ثلاثة أسباع الثلث من غير حاجة إلى إجازة وله بحق إجازة الابنين تمامُ الربع، وربع أحدٍ وعشرين خمسةٌ وربع؛ وقد أخذ منها ثلاثة، فيبقى سهمان وربع، نأخذ نصفها من كل ابن، وهو سهم وثمن، فيبقى في يد كل ابن خمسة أسهم وسبعة أثمان، فإذا أردنا رفع الكسر، ضربنا فريضة الرد في مخرج (1) الثمن وهو ثمانية، فيرد مائةً وثمانيةً وستين، وهذا هو العدد الأقصى، فإنك إذا ضربت سبعة وهي [الوَفق] (2) [لفريضة] (3) الرد في تمام لفريضة الإجازة، [ردّ هذا المبلغ] (4) [وهو] (5) مائة وثمانية وستون. فنقول: لصاحب الثلث أربعة أسباع الثلث من هذا المبلغ، وهو اثنان وثلاثون، ولصاحب الربع الربعُ الكامل: اثنان وأربعون، ولكل ابن سبعة وأربعون. 7321 - فإن أجاز أحد الابنين الوصيتين جميعاً، ولم يجز الآخر واحدةً [منهما] (6)، فنرجع إلى فريضة الرد، ونقول: الثلث للوصيتين على سبعة أسهم من غير حاجة إلى فرض إجازة، فإذا أجاز أحدهما، فصاحب الثلث [يأخذ] (7) من المجيز بعد [أربعة] (8) الأسباع نصفَ [تتمّة] (9) الثلث، وهو سهم ونصف، ويأخذ صاحبُ الربع من المجيز نصف تتمّة الربع، وهو سهم وثمن، فيكون الكسر بالنصف والثمن، فنضرب فريضة الرد في مخرج الثمن، فيرد العدد الأقصى [مائة وثمانية وستين] (10)،

_ (1) هنا عدة سطور مكررة من المسألة السابقة. (2) في الأصل: الرفق. والمراد بالوفق العدد الذي يخرج من قسمة أحد الفريضتين على العدد الذي يتوافقان في القسمة عليه، والفريضتان عندنا في هذه المسألة 24 فريضة الإجازة، 21 فريضة الرد، وهما يتوافقان في القسمة على 3، والخارج يسمى الوفق، وإذا ضربت وفق أحدهما في كامل الآخر، كانت النتيجة واحدة 168 هكذا: 7×24= 168، 8×21= 168. (3) في الأصل: في فريضة الرد. (4) في الأصل: وهذا المبلغ. (5) في الأصل: وهي. (6) في الأصل: لها. (7) في الأصل: نافذ. (8) زيادة من المحقق. (9) في الأصل: قيمة. (10) زيادة من المحقق.

ثم نقول: ندفع إلى الذي أجاز سهامه من فريضة الإجازة، فهي خمسة، فنضربه في ثلث فريضة الرد (1)، يكون خمسة وثلاثين، فندفع إلى الذي لم يجز سهامه من فريضة الرد، وهي سبعة مضروبة في ثلث فريضة الإجازة، فيكون له ستة وخمسون، وهي الثلث، والباقي وهو سبعة وسبعون للموصى لهما، لصاحب الثلث أربعة أسباعها أربعةٌ وأربعون، ولصاحب [الربع] (1) ثلاثة أسباعها. وإذا عرفت أن الفريضة تصح من المبلغ الأقصى، فالمسلك [الأيسر] (2) أن نقول: نُثلث هذا المبلغ، ونصرف إلى كل ابن ثلثاً، وهو ستةٌ وخمسون، ونصرف إلى الوصية ثلثاً، ثم نأخذ من المجيز من الابنين ما كان يخصه [لو] (3) أجاز الابنان جميعاً، وهو نصف تمام الثلث في حق صاحب الثلث، ونصف تمام الربع في حق صاحب الربع، فيبقى في يده خمسةٌ وثلاثون، ولو أجاز صاحبُه، لكان لا يبقى له إلا خمسة وثلاثون.

_ (1) تكررت وستتكرر الإحالة إلى فريضة الإجازة وإلى فريضة الرد، فأحببنا أن نضع صورة الفريضتين على هيئة الأرقام أمام الناظرين تسهيلاً وتيسيراً لتصور المسائل: . . . . . . . . . . . . فريضة الأجازة . . . . . . . . . . . . موصى له بـ 1/ 3 موصى له بـ 1/ 4 ابنان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 1/ 3 ............... 1/ 4 ...... الباقي تصح المسألة من (12) ............... 4 ............... 3 ............ 5 تنكسر الـ 5 على 2 تصحيحاً من (24) .................. 8 .............. 6 ......... 5، 5 فنضربها في 12 = 24 فريضة الرد . . . . . . . . . موصى له بـ 1/ 3 ... موصى له بـ 1/ 4 ... ابنان تصح من (3) .......................................... 1 ...... 2 يقسم الواحد بين الموصى لهما بنسبة 4: 3 ولا يتوافقان، فنضرب مجموعهما (7) في الأصل: 7 × 3 = 21، ومنه تصح المسألة . . . . . . موصى له 1/ 3 ... موصى له 1/ 4 ... ابنان 21 ................. 4 ............... 3 ...... 7، 7 (2) الأيسر: هكذا قرأناها بصعوبة. (3) في الأصل: ولو.

وإذا بان [الغرض] (1) واتضح مسلك التصحيح، فلا حرج على من يغير ويقدر. وإن شئت قلت: [هذه] (2) المسألة [تخرج من] (3) فريضة الإجازة: أربعة وعشرين، فنقسمها بين الاثنين ونقدر كأن لا وصية، فلكل ابن اثنا عشر، فخذ من الذي لم يُجز ثلثَ ما في يده أربعةَ أسهم؛ لأن الثلث جائز (4) عليه، [و] (5) هذا القدر في حقه مصروف إلى الوصيتين، فيبقى معه ثمانية، وخذ من الذي أجاز ثلث ما في يده وربع ما في يده؛ فإنه أجاز الوصيتين، وذلك سبعة، فيبقى في يده خمسةُ أسهم. فيجتمع للموصى لهما أحدَ عشرَ سهماً، يقسمانها على سبعة أسهم، فلا تصح ولا توافق، فاضرب أصل الفريضة، وهو أربعة وعشرون في سبعة، تكون مائة وثمانية وستين، ثم سبيل تعيين الحصص أن تقول: للذي لم يُجز ثمانيةٌ من أصل الفريضة مضروبة في سبعة، وذلك ستةٌ وخمسون، وللذي أجاز خمسةٌ في سبعة، وذلك خمسةٌ وثلاثون، وكان للموصى لهما أحدَ عشرَ في سبعة، والمردود سبعةٌ وسبعون، أربعةُ أسباعها لصاحب الثلث، وهو أربعة وأربعون، وثلاثة أسباعها لصاحب الربع، وهي ثلاثة وثلاثون. 7322 - فإن أجاز أحدهما لصاحب الثلث، وأجاز الآخر لهما، فإن أحببتَ، رجعت إلى فريضة الرد، وقلت: للوصيتين سبعةٌ من أحدٍ وعشرين، من غير حاجة إلى إجازة، ثم يأخذ صاحب الثلث ممّن أجاز الوصيتين نصفَ تمام الثلث، ويأخذ صاحب الربع منه نصفَ تمام الربع، فيحصل لصاحب الثلث من جهته سهم ونصف، ويحصل لصاحب الربع سهم وثمن، فيبقى في يده أربعة وثلاثة أثمان، ويأخذ صاحب الثلث ممّن أجاز الوصية بالثلث نصفَ [تتمّة] (6) الثلث، وهو سهم ونصف، ولا يرجع إليه

_ (1) في الأصل: الفرض. (2) في الأصل: وهذه. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) جائز عليه: أي لا يحتاج إلى إجازة الورثة. (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: قيمة.

صاحب الربع بمزيد، فيكمل الثلث لاجتماع الإجازتين في حقه. ويحصل لصاحب الربع [أربعٌ] (1) وثمن، وإذا كان الكسر بالثمن، ضربنا فريضة الرد في ثمانية، فرد المبلغَ الأقصى، فهو مائة وثمانيةٌ وستون. وقد يؤدي إلى ذلك أن نأخذ العمل من فريضة الإجازة، وهي أربعةٌ وعشرون، فنقول: لو لم يكن وصية لأخذ كل ابن اثني عشر، فخذ من الذي أجاز لهما ثلث ما في يده، وربع ما في يده، وذلك سبعة يبقى معه خمسة. وخذ من الذي أجاز لصاحب الثلث ثلث ما في يده: أربعةً، وثلاثة أسباعها: سهمٌ وخمسةُ أسباع، والكسر سبعةٌ، فاضرب سبعةً في أربعة وعشرين، فيردّ المبلغَ الأقصى مائة وثمانية وستين. [لمن] (2) أجاز لهما من أصل الفريضة خمسة مضروبة في سبعة، وذلك خمسة وثلاثون، وللذي أجاز لصاحب الثلث هذه أربعةٌ وأربعون؛ فإنه كان له بعد إخراج الثلث وثلاثة أسباع الثلث مما في يده ستة وسبعان، فنضربها في السبعة، فيردّ أربعة وأربعين. 7323 - وإن أجاز أحدهما لصاحب الربع وحده، وأجاز الآخر لهما، فالفريضة من مائة وثمانية وستين، على الترتيب الذي ذكرناه. وأن ينظر المتصرف لطريق العمل أخذ المبلغ الأقصى، وهو مائة وثمانية وستون، وقَسْمها بين الاثنين، كأنْ لا وصية، فلكل ابن أربعةٌ وثمانون، ثم يأخذ من الذي أجاز لهما ثلثَ ما في يده، وربع ما في يده، وذلك تسعة وأربعون، يبقى معه خمسةٌ وثلاثون. وخذ من الذي أجاز لصاحب الربع ثلث ما في يده أولاً؛ فإن هذا جائز من غير حاجة إلى الإجازة، وهذا مصروف إلى الوصيتين على نسبة الأسباع، فيبقى في يد هذا الابن ستة وخمسون؛ فإن الثلث المأخوذ ثمانية وعشرون، فيجتمع للموصى لهما سبعة وسبعون، فيقسم هذا المبلغ بينهما أسباعاً: أربعةُ أسباعها وهي أربعة وأربعون، لصاحب الثلث.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: لما.

وثلاثة أسباعها لصاحب الربع، وهو ثلاثة وثلاثون، وقد بقي لصاحب الربع إلى تمام الربع سبعةُ أسهم، يأخذها من الذي أجاز له وحده، فيبقى مع الذي أجاز له وحده سبعةٌ وأربعون. 7324 - فإن أجاز أحدهما لصاحب الثلث وحده، ولم يجز الآخر لهما ما زاد على الثلث، فإن أحببت اتخذت فريضة الرد مرجوعَك، والثلث (1) بينهما على سبعةٍ من غير حاجةٍ إلى إجازة: لصاحب الربع ثلاثة أسباع الثلث، ولصاحب الثلث أربعة، ولكل ابن سبعة، ثم يأخذ صاحب الثلث من المجيز منهما نصفَ [تتمّة] (2) الثلث، فهو سهم ونصف، فيتطرق إلى المسألة الكسر بالنصف، فاضرب فريضة الرد، وهي أحدٌ وعشرون في اثنين، فتردّ اثنين وأربعين، فتصح القسمة من هذا المبلغ، فتصح منها المسألة. وإن أجاز أحدهما لصاحب الربع وحده، ولم يجز الآخر لهما، فنرجع إن أردنا إلى فريضة الرد، فالثلث بينهما على سبعة من غير حاجة إلى إجازة، على النسبة التي ذكرناها، وقد بقي لصاحب الربع إلى تمام الربع درهمان وربع، يأخذ نصفها من الذي أجاز له، وذلك واحدٌ وثمن، فاضرب أحداً وعشرين في ثمانية، فترد العدَدَ الأقصى. ووجه العمل بيّن. 7325 - وإن أجاز أحدهما لصاحب الثلث وحده، وأجاز الآخر لصاحب الربع وحده، فالثلث بينهما على سبعة، ولكل ابنٍ سبعة، ثم يأخذ صاحب الثلث من المجيز نصفَ تتمّة الثلث، وهو سهم ونصف. ويأخذ صاحب الربع من المجيز نصفَ قيمة الربع، وهو سهم وثمن، فإذا انتهى الكسر إلى الثمن، فالمسألة تصح من العدد الأقصى بعدُ، وصحّ التصرف في عموم الرد وعموم الإجازة [وجهات] (3) التبعيض. 7326 - إذا ماتت امرأة، وخلّفت زوجاً، وأماً، وأختاً من أب، فاوصت لرجل

_ (1) عبارة الأصل: وثلث الثلث بينهما. (1) في الأصل: قيمة. (3) في الأصل: وجهاً من.

بثلثي مالها، فأجازت الأم الثلثين، وأجاز الزوج النصفَ، وردّ ما جاوز النصف، ولم تُجز الأخت أكثر من الثلث. ففريضة الميراث من ثمانية أسهم، أصلها ستة، وقد عالت بثلثها: للزوج ثلاثة، وقد أجاز النصف، فخذ نصف ما في يده، فيبقى معه سهم ونصف، وللأم سهمان، وقد أجازت الثُّلثين، فخذ ثلثي ما في يدها، وهو سهم وثلث، بقي معها ثلثا سهم، وللأخت ثلاثة، فخذ ثلثَ ما في يدها، وهو سهم، بقي معها سهمان، واجتمع للموصى له ثلاثة أسهم وخمسة أسداس سهم، فاضرب الفريضة في ستة، فترد ثمانية وأربعين: للموصى له ثلاثة وخمسة أسداس مضروبة في ستة، فيجتمع له ثلاثة وعشرون سهماً، وللزوج سهم ونصف في ستة، وهو [تسعة] (1)، وللأم ثلثا سهم في ستة يكون لها أربعة أسهم، وللأخت سهمان في ستة، فلها اثنا عشر. ومن أحاط بما ذكرناه وصورناه، لم يخف عليه طريق القياس، واتسعت عليه المسالك في اعتبار طريق الرد والإجازة. 7327 - [وقد] (2) بقي علينا من التراجم التي ذكرناها نوع واحد، وهو الوصية بجملة [التركة] (3) مع الوصية بجزءٍ منها. والذي قدمناه في الوصية بأجزاء لا تزيد على الثلث أو تزيد على الثلث ولا تستغرق المال، ثم قسمنا هذا القسم إلى أقسام سبقت. فلو أوصى بجميع ماله لإنسان، وأوصى بثُلثه لآخر، وأجاز الورثة الوصيتين، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن المال يقسم بين الوصيّتين على حساب العول، فجملة المال مستغرقة بصفة الوصية بالكل، والموصى له بالثلث يزحم بالثلث، فنأخذ مخرج الثلث، وهو ثلاثة ونُعِيلُها بثلثها، ونقسم المال كلَّه بين الموصى له بالجميع وبين الموصى له بالثلث أرباعاً. هذا قياس الشافعي رضي الله عنه في الباب. ولو أوصى لرجلٍ بجميع ماله، وأوصى لآخر بربع ماله، جعلنا المال أربعة

_ (1) في الأصل: سبعة. (2) حرفت في الأصل إلى: دور. (3) زيادة من المحقق على ضوء السياق.

أسهم، وأَعَلْناها بربعها، فيصير المال خمسة أسهم، للموصى له بالجميع أربعة أخماسها، وللموصى له بالربع خمسها؛ ولا يخفى طريق [العوْل] (1). ولو ردَّ [الورثة] (2) الوصيتين جميعاً، قسمنا الثلث بينهما على نسبة قسمة الإجازة، فإن كان أوصى بكل المال لإنسان وبثلثه لآخر، فردّ الورثةُ الزائد [فالثلث] (3) مقسوم بينهما أرباعاً: ثلاثة أرباعه للموصى له بالكل، وربعه للموصى له بالثلث. واعتبر أبو حنيفة (4) في هذا النوع القيمة على الدعاوى، فقال: إذا كانت إحدى الوصيتين بالكل والأخرى بالثلث، فصاحب الكل يقول لصاحب الثلث: لا دعوى لك في الثلثين؛ فأستبدُّ بهما، والثلث الشائع بيننا أنت تدّعيه، وأنا أدّعيه، فنقسِّمه نصفين، ويخلص لصاحب الوصية بالكل خمسة أسداس المال، ولصاحب الوصية بالثلث سدسه، وقال: إذا رد الورثة الزائد، فالثلث مقسوم بينهما نصفين، وهذا خارج على أصله المشهور في ردّ ما يزيد على الثلث، فمن [ردّ] (5) الوصيّةَ الزائدةَ على الثلث في مقدارها إذا فرضت، رد [مثل هذه] (6) الوصايا. فإذا تمهد هذا الأصل، بنينا عليه فصلاً مهمّاً متصلاً. فصل 7328 - إذا أوصى لرجل بعبد قيمته مائة، ولآخر بثلث ذلك العبد، أو بثلث ماله، ولا مال له غيرُ العبد، فإن أجاز الورثةُ، فالعبد بينهما على أربعةٍ: للموصى له بجميعه ثلاثة أرباعه، ولصاحب الثلث رُبعُه. وإن لم يجز الورثة، فلهما ثلث العبد بينهما على أربعة: لصاحب الكل ثلاثة أرباع الثلث، ولصاحب الثلث ربع الثلث.

_ (1) في الأصل: القول. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: بالثلث. (4) ر. مختصر اختلات العلماء: 5/ 9 مسألة رقم 2153. (5) في الأصل: جزء. (6) زيادة من المحقق.

وإن أجازوا نصفَ الوصيتين فسلِّم نصفَ العبد إليهما، فيقسمانه على أربعة أسهم: لصاحب [الكل] (1) ثلاثة أرباع النصف، فهي ثلاثة أثمان العبد، ولصاحب الثلث ربع النصف، وهو ثمن العبد. ولا يكاد يخفى ما لم نذكره قياساً على ما ذكرناه. 7329 - ولو ترك [مائتي] (2) درهم والعبدَ، وقيمته مائة، وكان أوصى بجميع العبد لرجلٍ، وأوصى بثلث ماله لرجل آخر، وأجاز الورثةُ [الوصيتين، فللموصى] (3) له بالعبد ثلاثة أرباعه، ولصاحب الثلث ربعُ العبد [و] (4) ثلث الدراهم وذلك ستة وستون درهماً وثلثان. ومما يجب التنبيه له أن الوصية بالعبد وصيةٌ بمقدار الثلث، والوصية الأخرى واقعةٌ بالثلث، فظاهر الأمر [يشعر أن الوصيتين وصية بالثلثين، وليس كذلك] (5) فإن الموصى له [بالثلث] (6) يشيع حقه في العبد، فيصير [مزاحماً] (7) للموصى له، فينقص حق الموصى له بالعبد بسبب زحمته، ولا تزاحم للموصى له بالثلث في الدراهم، فيأخذ ثلث الدراهم كَملاً عند فرض الإجازة، فيأخذ من العبد ثلثاً عائلاً وهو ربع، فيُجمَع للموصى له بالثلث من الدراهم ستة وستون وثلثان، ومن رقبة العبد خمسةٌ وعشرون، فالمجموع عنده أحدٌ وتسعون وثلثان. وينقص من حقه بسبب الزحمة ثمانية وثلث. والموصى له بالعبد يأخذ ثلاثة أرباع العبد، وقيمتها خمسةٌ وسبعون، فينقص من حقه خمسة وعشرون، وهو مائة درهم [قيمته] (8). والسبب فيه أن حقه ينحصر في

_ (1) في الأصل: الملك. (2) كذا قدرناها على ضوء ما سيأتي في تفصيل المسألة، وإلا فهي غير مقروءة. (3) في الأصل: بالوصيتين، فالوصي. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: يشعر بثلثي الوصيتين بالثلثي، فليس كذلك. (6) في الأصل: بالثلثين. (7) في الأصل: متزاحماً. (8) في الأصل: فيه.

العبد، وهو مزحوم فيه، ويثبت للموصى له بالثلث ثلثُ الدراهم بلا زحمة، والمزاحمة في العبد. 7330 - فإن لم يُجز الورثة ما زاد على الثلث، رددنا الوصيتين إلى الثلث لا محالة، والنظرُ الدقيق في كيفية قسمة الثلث بينهما، وهذا مقصود الفصل، وفيه وجوه من الإشكال: أحدها - أن إحدى الوصيتين لا تعدو غيرَ العبد ولا تعترض للورثة في [شتى] (1) الأعيان، وإنما حقهم [في الفوز بثلثي المال] (2)، فكيف يعتبر الثلث؟ وما الوجه؟ قال الفقهاء الحسّاب، ومنهم شيخنا أبو بكر الصيدلاني: نتأمل فريضة الإجازة، فنعلم أنا نحتاج إلى تربيع العبد، والعبد ثلث، فإذا جعلنا ثلثا أربعة، جعلنا كلّ ثلث أربعة، ثم إذا أردنا استكمال الحساب، وجعلنا كل ثلث مربعاً مثلَّثاً، لإمكان تعرّض الرد إلى الثلث، [فنضع] (3) المسألة من اثني عشر أوّلاً، نضربها في ثلاثة، فترد علينا ستة وثلاثين، العبدُ منها اثنا عشر، فإذا أجاز الورثة الوصيتين، قلنا: للموصى له بالعبد تسعةُ أسهم، وهو ثلاثة أرباع العبد، وللموصى له بالثلث ثلاثةُ أسهم من العبد، وثلثٌ من المائتين، وقد جعلنا كلَّ مائة اثني عشر أيضاً، فتجمَّع لصاحب الثلث أحدَ عشرَ سهماً: ثلاثة من رقبة العبد، وثمانية (4) من المائتين، فإذاً [حصل] (5) لهما عشرون سهماً: تسعةٌ منها [لصاحب] (6) العبد، وأحدَ عشرَ سهماً لصاحب الثلث. 7331 - فإذا فرضنا ردّ الوصيتين إلى الثلث، فالوجه أن نجعل الثلث عشرين (7)،

_ (1) في الأصل: نفس. والمثبت من اختيار المحقق. (2) في الأصل: القدر ثلثي المال. (3) في الأصل: فتضيع. (4) ثمانية من المائتين: لأن كل مائة جعلناها اثني عشر، فالثلث من كل مائة أربعة. (5) في الأصل: جعل. (6) في الأصل: فصاحب. (7) نجعل الثلث عشرين: لأن القسمة بين الموصى لهما تكون على هذه النسبة (11:9) (9) للموصى له بالعبد، (11) للموصى له بالثلث.

وإذا جعلنا الثلث عشرين، جعلنا المال كلّه ستين، فالعبد منها عشرون، لصاحب الوصية بالعبد تسعةٌ منه لا غير، وللآخر ثلاثة منه، وبقي للورثة من العبد ثمانيةُ أسهم، وللموصى له بالثلث ثمانية (1) أسهم من أربعين سهماً من المائتين، والباقي وهو اثنان وثلاثون سهماً من المائتين للورثة، فيجتمع للورثة من المائتين والعبد أربعون سهماً، وهي ضعف الوصيتين. وهذا هو المسلك الحق المستند إلى القانون المعتبر المتفق عليه، وهو قسمة الوصايا حالةَ الرد على نسبة قسمتها حالة الإجازة. وقد لاح وجهُ حصر صاحب حق العبد في العبد؛ فإنا قدرنا سهامه من الثلث، وهي تسعة من عشرين، فحصرناها في العبد، ثم أثبتنا حق صاحب الثلث، على القياس الواضح. 7332 - وذكر الأستاذ أبو منصور هذه المسألة، وجرى في حالة الإجازة على ما قدمنا، فلا خلاف فيها، فلما انتهى إلى الردّ [مال مسلكُه] (2) عن مسالك فقهائنا، ونحن نذكر ما ذكره على وجهه، ونبيِّن ما تخيله. قال رضي الله عنه: إذا رُدّت الوصيتان إلى الثلث، [فالثلث بين] (3) صاحب العبد وبين صاحب الثلث (4) [يقتسمانه] (5) بالسوية، يضرب صاحب العبد بخمسين

_ (1) ثمانية أسهم: فإنه قد حصل على ثلاثة أسهم من العبد، فلم يبق له إلا ثمانية، ليكمل حقه، وهو أحد عشر سهماً. (2) في الأصل: "فقال ملكه". فانظر إلى أي حد وصل التحريف والتصحيف بالعبارة. والمثبت تقديرٌ منا، ما كنا لنصل إليه إلا بعون الله وإلهامه. (3) في الأصل: بالثلث من. (4) المراد بالثلث الذي بين صاحب العبد وصاحب الثلث هو ثلث المال كله، وليس ثلث العبد، ثم إن العبد يمثل كل ثلث التركة بالنسبة لصاحب العبد؛ حيث انحصرت وصيته في العبد، ولذا نراه يأخذ من العبد خمسين درهماً باعتبارها نصف الثلث، على حين ثبت حق الموصى له بالثلث شائعاً في العبد والدراهم، أي كل التركة، ولذا نراه يأخذ نصف السدس من كلٍّ منها. (5) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها).

درهماً [ويأخذها] (1) من العبد (2)، ولصاحب الثلث خمسون درهماً يأخذ مقدار ثلثها من العبد، وهو ستةَ عشرَ درهماً وثلثان، هذا ثلث الخمسين، وهو قيمة سدس العبد، ويأخذ ثلثي وصيته، وهو ثلاثة وثلاثون درهماً وثلثٌ من الدراهم (3)، ويبقى للورثة ثلث العبد وثلثا الدراهم، وهي مائة وستة وستون درهماً وثلثا درهم، وجملة ذلك مائتا درهم، وهي ضعف الوصيتين؛ لأن الوصيتين جميعاً مائة درهم. قال رضي الله عنه: إن شئت نسبتَ الثلث إلى الوصيتين، وخرّجت الجواب على النسبة، [ومبلغ] (4) الوصيتين مائتا درهم، ومبلغ الثلث مائة، فالثلث نصف الوصايا، فنأخذ هذه النسبة ونقول: لكل واحد منهما نصفُ وصية، فيكون لصاحب العبد نصف العبد؛ فإنه أوصى له بالعبد، ولصاحب الثلث نصف ثلث العبد؛ فإنه أوصى له بثلث العبد، ونصف الثلث سدس، وله أيضاً نصف ثلث الدراهم، وذلك سدس الدراهم، [فيجتمع] (5) له سدس العبد وسدس الدراهم، وهذه النسبة تجري مطردة، بلا مناقضة. هذا كلام الأستاذ، ولا يخفى على الناظر. أنه خالف فيه المسلك الذي حكيناه عن الفقهاء؛ فإن الفقهاء نظروا إلى القسمة حالة الإجازة، فوجدوا الوصيتين قاصرتين عن الثلثين عند إجازة [الورثة] (6) على تفاوتٍ، فإنا قدرناها من عشرين، ورأينا صاحب العبد يأخذ من العشرين تسعة، وصاحب الثلث يأخذ أحدَ عشرَ، فإذا كان اقتسامهما على التفاوت حالة الإجازة، وجب أن يكون اقتسامهما الثلثَ على نسبة اقتسامهما حالة الإجازة. والأستاذ رحمةُ الله عليه لم يرْعَ التفاوتَ حالة الرد، وذهب إلى أن صاحب العبد يضرب مثل ما يضرب به صاحب الثلث، وليس الأستاذ -على علو قدره في دقائق

_ (1) عبارة الأصل: ويأخذه هذا من العبد. (2) ويأخذها (الخمسين التي هي نصف الثلث) من العبد؛ لأن حقه محصور في العبد، لا يتعداه. (3) من الدراهم: أي المائتين، فإن التركة مائتا درهم مع عبد قيمته مائة. (4) عبارة الأصل: وثلث مبلغ الوصيتين. (5) في الأصل: ومجتمع. (6) زيادة من المحقق.

الحساب- ممّن يخفى عليه أن قسمة الرد على نسبة قسمة الإجازة، وقد ذكر هو تفاوتَ حالِ الإجازة، فلا بد وأن يكون لما ذكره غورٌ (1) في مقتضى الحساب. والذي يلوح لنا منه أنه نقَصَ في حالة الإجازة حظَّ صاحب العبد؛ من جهة كونه مزحوماً فيه؛ إذ حقه منحصرٌ في العبد لا يتعداه، وقد صادفه فيه مزاحم، وانبسطت الزحمة على محل حقه بالثلث، واستبد صاحب الثلث بأكثرِ حقه من غير مزاحمة، والمزحوم عن حقه ليس بساقط (2) الحق. وبيان ذلك بالمثال أن من قتل جماعة [ترتيباً] (3)، فحق [الاقتصاص] (4) لأولياء القتيل الأول، وهذا حق تقديم، وإلا فحق القصاص ثابت لأولياء القتيل [الثاني] (5)، وآية ذلك أن ولي القتيل الأول لو عفا، [انتقل] (6) لولي القتيل [الثاني] (7) حق (8) القصاص، ونظائر ذلك كثيرة في الشريعة، فالعبد إذاً موصى به لصاحب العبد، وآية ذلك أن صاحب الثلث لو ردّ الوصية [بجملتها، سُلِّم العبد إلى الموصى له به] (9)، ولو رد الموصى له بالعبد الوصية، فالثلث من العبد ملكٌ للموصى له بالثلث، فليست الوصية بالثلث رجوعاً عن الوصية بالعبد، وإنما بينهما ازدحام، فكان التفاوت حالة الإجازة لقيام الازدحام، فإذا ردت الوصيتان إلى الثلث، ففي

_ (1) في الأصل بدون نَقْط (الغين). ولعل معناها: من غار الرجل في الأمر: دقق النظر فيه. (معجم). (2) المزحوم عن حقه ليس بساقط: المعنى أن صاحب العبد إنما أخذ نصيباً أقل من صاحب الثلث (عند الإجازة) لأنه كان مزحوماً، أما عند الرد وقسمة الثلث بينه وبين الموصى له بالثلث، فليس هناك زحمة، فقيمة العبد تسمح له بأن يأخذ نصف الثلث كاملاً، فلماذا ينقص عن صاحبه؟ (3) في الأصل مصحفة هكذا: تونننا. (4) في الأصل: الاختصاص. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) ساقطة من الأصل. (7) في الأصل: الباقي. (8) عبارة الأصل: على حق القصاص. (9) في الأصل: لو رد الوصية بالعبد بجملته سلّم إلى الموصى له به.

العبد مضطرب، ويبقى منه للورثة مع توفية حق الوصيتين حسماً من الثلث. وإذا زالت الزحمة، فالوصية بالعبد وصية بمائة، والوصية بالثلث وصية بمائة، ثم كما رُدّ صاحب العبد إلى نصف العبد، ولم نردّه إلى نصف ثلاثة (1) أرباعه، كذلك رُد الموصى له بالثلث إلى نصف الثلث كاملاً وهو السدس. فهذا المعنى [أوجب] (2) الفرقان بين حالة الرد والإجازة؛ فإن علة التفاوت حالة الإجازة زالت بالرد، فصار كل واحد منهما ضارباً بما أُوصي له به [لا بما] (3) يسلم له بالإجازة، والذي قدمته [عن] (4) الفقهاء، وإن كان جليّاً، فهذا [أغوص] (5). ولو قلت: هو الصحيح، لم أكن مبعداً. 7333 - ثم ذكر الأستاذ مسائل وأجرى فيها مسلكه هذا، ونحن نأتي بها ونجريها مرسلة حتى ننتهي إلى محل خلاف الفقهاء، فننبه حينئذ على وجه الخلاف. ولو أوصى لرجل بعبدٍ بعينه، ولآخر بثلثه، ولثالث بسدسه، ولم يترك [غيرَ] (6) العبد، فإن أجاز الورثة، جعلنا العبد ستة أسهم؛ أخذاً من المخرَج الأقصى، ثم [نُعيل] (7) الستة بثلثها وسدسها. فإن أردنا، قلنا: نعيلها بنصفها (8)، فنقسم العبد تسعة أسهم: للموصى له بجميعه ستة أسهم، وللموصى له بثُلثه سهمان، وللموصى بالسدس سهم؛ فيرجع حق الموصى له بالعبد إلى ثلثيه، ويرجع حق الموصى له بالثلث إلى تسعي العبد، ويرجع حق الموصى له بالسدس إلى [تسع] (9)

_ (1) ثلاثة أرباعه: أي حظه من العبد عند الإجازة. (2) في الأصل: أوجبت. (3) في الأصل: لأنهما، وهو تصحيف بجعل الكلمتين كلمة واحدة. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: أعرض. ومعنى أغوص: أدق وأبعد، من قولهم: غاص على المعاني، كأنه بلغ أقصاها حتى استخرج ما بعد منها. (مصباح ومعجم). (6) في الأصل: عن. (7) في الأصل: تفيد. (8) بنصفها: لأن 1/ 3 + 1/ 6 = 1/ 2. (9) في الأصل: نسعي.

العبد، وترجع الحقوق على نسبةٍ واحدة. ْفإذا كان الموصى له بالكل راجعاً إلى ثلثي حقه، والموصى له بالثلث أيضاً راجع إلى ثلثي الثلث؛ فإن [التسعين] (1) ثلثا الثلث، فنعلم أن التسع الثابت لصاحب السدس ثلثا السدس. هذا إذا أجاز الورثةُ الوصايا. فإن لم يجيزوا [فالثلث] (2) بينهم على تسعة: لصاحب العبد ثلثا ثلثه، ويُجعل العبد سبعة وعشرين؛ ليكون ثلثُه تسعةً (3)، ولصاحب الثلث تُسعا الثلث سهمان من تسعة، أو سهمان من سبعةٍ وعشرين إذا نسبت إلى جميع المال، ولصاحب السدس تُسعُ الثلث، وهو سهم واحد من سبعةٍ وعشرين، ولا خلاف بين الأصحاب في هذا المقام؛ فإن الزحمة في ثلث العبد على نحو الزحمة في كله. وإن أحببت قلت: مبلغ وصاياهم مرسلة من غير زحمة مائة وخمسون؛ فإن العبد مائة، وقد عالت الوصايا في الإجازة بمثل نصفها، والثلث ثلاثة وثلاثون وثلث، وإذا نسبت الثلث إلى الوصايا، كان مثلَ تُسعي الوصايا كلِّها (4). فإذا ردت إلى الثلث، فقل لكل واحد منهم تسعا وصيته (5)، ولا تقل لكل واحد تُسعَا ما عُلم له في الإجازة، [فنقول: كان لصاحب] (6) العبد العبدُ كلُّه بالوصية المرسلة، وله الآن تسعاه، وإذا ردت الوصايا إلى الثلث، فلصاحب (7) الثلث ثلثا

_ (1) في الأصل: السعي. (2) في الأصل: بالثلث. (3) فيكون لصاحب العبد 2/ 3 من 9 أي 6 يعني 6/ 27 ولصاحب الثلث 2/ 27، ولصاحب السدس 1/ 27 فالمجموع 9/ 27 أي ثلث العبد. (4) وبيان أن الثلث بالنسبة إلى الوصايا = 2/ 9 هكذا 1/ 3 33 ÷ 150 = 100/ 450 (بعد تصحيح البسط) 100/ 450 = 2/ 9 (5) لكل واحد تسعا وصيته، بيانها هكذا = لصاحب العبد 6/ 27 = 2/ 9 من العبد، وصاحب الثلث 2/ 27 = 2/ 9 من ثلث العبد، وصاحب السدس 1/ 27 = 2/ 9 من سدس العبد. (6) في الأصل: فنزل فاصاحب العبد. (7) في الأصل: ولصاحب.

وصيته، ووصيتُه ثلثُ العبد، وثلثاه تسعا ثلث العبد، فانسب كل جزء حالة الرد إلى الوصية المرسلة، فصاحب العبد وصيته العبد، فله تسعا العبد، وصاحب الثلث له ثلث العبد بالوصية، فله تسعا ثلثه عند الرد، وصاحب السدس له بالوصية سدسه الكامل أخذاً من لفظة الوصية لا بما يسلّم عند الإجازة مع الزحمة، فإذا كان له السدس بالوصية، فله تسعا سدس العبد. 7334 - فإن ترك مائتي درهم سوى العبد، وأوصى لرجل بالعبد، وقيمتُه مائة، وأوصى لآخر بثلث ماله، وأوصى لآخر بسدس ماله. فإن أجاز الورثةُ الوصايا، فالعبد بين أهل الوصايا على تسعة أسهم: لصاحب العبد ثلثاه ستة، ولصاحب الثلث تسعاه سهمان، وله ثلث الدراهم أيضاً، ولصاحب السدس تُسع العبد وسدس الدراهم. وهذه القسمة متفق عليها حالة الإجازة. وإن لم يُجز الورثة، تضاربوا في الثلث بوصاياهم. وعند ذلك يخالف جوابُ الأستاذ مسلكَ الفقهاء؛ فإن الفقهاء يقسّمون الثلث على التفاوت الذي وقعت عليه قسمة الإجازة، والأستاذ يقول: ذلك التفاوت كان نتيجة الزحمة، وقد زالت؛ فيضرب صاحب العبد في الثلث بكمال قيمته، وهو مائة، ويضرب صاحب الثلث بكمال ثلث المال، وهو مائة، ويضرب صاحب السدس بسدس المال على الكمال وهو خمسون، فيصير الثلث بينهم على خمسة أسهم: لصاحب العبد خمسا الثلث، ومبلغه أربعون درهماً، يأخذها من العبد؛ فإن حقه محصور فيه، وذلك خمسا العبد. ولصاحب الثلث خمسا الثلث، وهو أربعون درهماً، يأخذ [ثلث] (1) ذلك من العبد وهو ثلاثةَ عشرَ درهماً وثلث، ويأخذ ثلثي وصيته، وهو ستة وعشرون درهماً وثلثا درهم، من الدراهم.

_ (1) في الأصل: ثلثا من ذلك من العبد.

ولصاحب السدس خُمس الثلث، وهو عشرون درهماً، يأخذ ثلث ذلك، وهو ستةُ دراهم وثلثا درهم من العبد، ويأخذ ثلثي العشرين من الدراهم؛ لأن العبد ثلث مال الميت، فكل من جرت له الوصية بجزءٍ شائع من المال فإنه يأخذ عند الرد ثلثَ ذلك الجزء من كل ثلث، والعبد ثلث. وإن شئت قلت: مبلغ وصاياهم مائتان وخمسون، والثلث مائة وهي قدر خمسي الوصايا، فلكل واحد منهم خمسا ما أُوصي له [به] (1)، فلصاحب العبد خمسا العبد، ولصاحب الثلث خمسا ثلث العبد وخمسا ثلث الدراهم، ولصاحب السدس خمسا سدس العبد وخمسا سدس الدراهم. هذا طريقه المنقاس. ومن اعتبر من فقهائنا حالة الرد بحالة الإجازة، أو مع القسمة على [التقاسم] (2) المعلوم حالة الإجازة قال في هذه الصورة: نجعل كل ثلث تسعة، ثم لصاحب العبد ستة من تسعة، [ولصاحب الثلث سهمان من تسعة العبد، وستة أسهم من المائتين،] (3) فيحصل له ثمانية أسهم، وللموصى له بالسدس سهم من تسعة من العبد، وثلاثة من المائتين، فلصاحب العبد ستة، ولصاحب الثلث ثمانية، ولصاحب السدس أربعة، والمجموع ثمانيةَ عشرَ، والمال سبعة وعشرون، فإذا أردنا القسمة حال الرد، نجعل الثلث ثمانية عشر، فنجعل المالَ أربعةً وخمسين، ونقسّم الثلث على التفاوت الذي ذكرناه في الإجازة. 7335 - ولو أوصى بعتق عبدٍ لا مال له غيره، وأوصى لآخر بالثلث، فأجاز الورثة، ففي أئمتنا من يرى تقديم العتق على غيره من الوصايا، على ما سيأتي ذلك -إن شاء الله عز وجل- مشروحاً في موضعه، والأصح أنه لا يقدم؛ فإن المسألة مفروضةٌ في الوصية بالعتق، والوصايا لا يتفاوت ترتبها إذا لم يذكر الموصي تقديم بعضها.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (3) من المائتين: أي الدراهم. وعبارة الأصل هكذا: ولصاحب الثلث سهمان من العبد، فالعبد تسعة، وستة أسهم من المائتين.

فإذا فرّعنا على هذا، وهو ظاهر المذهب، فالعبد من جهة الوصية بالعتق، ومن الموصى له بثلث العبد على حساب العَوْل ينعتق ثلاثة أرباعه (1)، ويرِق ربعه: لصاحب الثلث. فإن لم يُجز الورثةُ الزائد على الثلث، أوقفنا ثلثي العبد لهم، وقسّمنا ثُلثه بين جهة العتق وبين الموصى له بالثلث أرباعاً، فيعتِق ثلاثةُ أرباع ثُلثه، وذلك ربع العبد، ويصرف إلى صاحب الثلث ربعُ ثُلثه، وهو نصف السدس. ولو ترك عبدين قيمةُ كل واحد منهما مائة، وأوصى بعتق أحدهما، وأوصى لآخر بثلث ماله، فأجاز الورثة، والتفريع على أنا لا نقدم الوصية بالعتق، ينعتق ثلاثةُ أرباع العبد المعني [بالعتق] (2)، ويرق ربعُه للموصى له بالثلث، ويأخذ هو أيضاً ثلثَ العبد الآخر. وإن رأينا تقديم العتق، أعتقنا العبد المعيّن بكماله وأبطلنا فيه حقَّ الموصى له بالثلث، وللموصى له بالثلث ثلثُ العبد الآخر. وإن لم يجز الورثة، فمبلغ الوصيتين مائة وستةٌ وستون درهماً وثلثان، وقيمة الثلث ستة وستون وثلثان، فالثلث مثل خمسي الوصيتين، فلكل واحد منهما خمسا ما أوصى له به، فيعتق خمسا العبد، وذلك أربعون، ولصاحب الثلث خمسا ثلث كل عبد، وقيمة ذلك ستة وعشرون وثلثان. وهذا أجراه الأستاذ على طريقته، وليس يخفى التفريع على مذهب الفقهاء. 7336 - ولو ترك ثلاثة أعبد، قيمةُ كل واحد مائة، وأوصى بعتق أحدهم، وأوصى لآخر بثلث ماله، فأجاز الورثة، فمن لم يقدِّم العتقَ [فقد] (3) عتق ثلاثة أرباع العبد الذي أوصى بعتقه، [ورقَّ] (4) ربعُه لصاحب الثلث، وأخذ ذلك الإنسان أيضاً ثلث العبدين الآخرين.

_ (1) ثلاثة أرباعه، بحساب العبد كله ثلاثة أسهم، والوصية بالثلث سهم، فيصير أربعة أسهم. (2) في الأصل: للعتق. (3) في الأصل: في. (4) في الأصل: وأرق.

وإن لم يُجيزوا، [فمبلغ] (1) الوصايا مائتان، والمعنى موجَب الوصايا، [لا أنّا] (2) نسلِّم [ذلك] (3) حالة الإجازة، على ما نبهنا عليه فيما تقدم، فمبلغ الوصيتين مائتان: عبدٌ قيمته مائة، وثلث ثلاثة أعبد قيمة كلِّ واحد منهم مائة، فالمجموع مائتان، والثلث مائة، وهي قدر نصف الوصايا؛ فلكل واحد نصفُ وصيته، يعتق نصفُ العبد، ولصاحب الثلث نصف ثلث كل عبد، على طريقة الأستاذ. ومسلك الفقهاء واضح في تنزيل حالة الرد على التفاوت الذي ثبت حالة الإجازة. 7337 - ولو أوصى لرجل بثوبٍ قيمته [مائة] (4)، وأوصى لآخر بنصف ماله، ولآخر بسدس ماله، وترك الثوبَ وخمسمائة درهم. فإن أجاز الورثةُ، قسَّمنا الثوب على عشرة أسهم على قياس [العبد: بأن] (5) نجعلَ الثوبَ ستةً، ونزيد عليها مثلَ نصفها، وسدسها، فيصير عشرةَ أسهم، يضرب منه صاحب الثوب بجميع الثوب، وهو ستة، ويضرب منه صاحب النصف بنصف الثوب [وهو] (6) ثلاثة، يضرب منه صاحب السدس بالسدس وهو سهم، فيكون [الثوب بينهم] (7) على عشرة أسهم: لصاحب [الثوب] (8) من الثوب ستةُ أعشاره، ولصاحب النصف ثلاثة أعشاره، ولصاحب السدس عُشرُه، ثم يأخذ صاحب النصف نصفَ الدراهم، ويأخذ صاحب السدس سدسَ الدراهم. وإن لم يجيزوا، تضاربوا في الثلث بوصاياهم، لا بأقدار حصصهم حالة

_ (1) في الأصل: المبلغ. (2) في الأصل: لأنا. (3) زيادة من المحقق. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: على قياس العدل ثمان. وهو تصحيف بالغ. ثم المراد بالعبد، العبد الموصى به في المسألة السابقة. (6) في الأصل: بنصف الثوب وثلاثة. (7) في الأصل: فيكون الثلث فيهم. (8) ساقطة من الأصل.

الإجازة، على طريقة الأستاذ [فيضرب] (1) صاحب الثوب بقيمته، وهو مائة، ويضرب فيه صاحب النصف بنصف المال وهو ثَلاثُمائة. ويضرب فيه صاحب السدس بسدس المال وهو مائة؛ فيكون الثلث بينهم على خمسة: لصاحب الثوب خُمس الثلث، وهو أربعون درهماً، يأخذه من الثوب، وهو [خمساه] (2)، ولصاحب النصف ثلاثة أخماس الثلث، وهو مائةٌ وعشرون؛ فإن الثلث مائتان، فأخذ سدس ذلك من الثوب، وذلك عشرون درهماً، وهو خُمس الثوب، ويأخذ خمسةَ أسداس وصية من الدراهم، وذلك مائةُ درهم، فيكون قد أخذ من كل مائة خمسها، فيجتمع له مائةٌ وعشرون، وهي ثلاثة أخماس الثلث. ولصاحب السدس خُمس الثلث وهو أربعون درهماً، بفضِّها (3) على المائتين، والمالُ مع [الثوب] (4) ستمائة، فنأخذ سدس ذلك، وهو ستة دراهم وثلثان من الثوب، وذلك ثلثُ خمس الثوب، ويأخذ خمسةَ أسداس وصيّة من الدراهم؛ لأن الميت جعل وصية صاحب النصف وصاحب السدس مشاعاً في جميع التركة، والثوبُ من التركة سدسها، يأخذ كل واحد منهما سدسَ وصيته من الثوب، وخمسةَ أسداسها من الدراهم؛ لأن الدراهم خمسةُ أسداس التركة، فنجعل الثوب خمسة عشر سهماً للموصى له به خمساه ستة أسهم، ولصاحب النصف خُمس الثوب ثلاثة أسهم ومائة درهم، ولصاحب السدس ثلث خمس الثوب سهم واحد، وثلاث وثمانون درهماً وثلث درهم. وللورثة خمسة أسهم من الثوب، وهو ثلث الثوب، ولهم أيضاً ثلاثمائة وستة وستون درهماً وثلثا درهم.

_ (1) في الأصل: مضروب. (2) في الأصل: خمسه. (3) فضّ الشيء: أي قسَّمه، والمعنى بتقسيم الأربعين درهماً وأخذها من المائتين، التي هي ثلث المال. (4) في الأصل: مع العبد.

7338 - وإن شئت قلت على سبيل النسبة: مبلغ الوصايا خمسمائة: [الثوب] (1) وقيمته مائةٌ، ونصف المال، وهو ثَلاثُمائة، وسدسه، وهو مائة، والثلث مائتان وهي خمسا الوصايا، فإذا رُدت الوصايا، فلكل واحد خمسا وصية: لصاحب الثوب خمسا الثوب، ولصاحب النصف خمسا النصف، وهو مائة وعشرون؛ [فله خمس الثوب] (2) ثم له من كل مائة [خمسها] (3)، [أو] (4) خمسا نصف الثوب، وخمسا نصف الدراهم. ولصاحب السدس خمسا سدس الثوب، وخمسا سدس الدراهم. 7339 - ولو أوصى لرجل بعبدٍ قيمته مائة، ولآخر بدارٍ [قيمتها] (5) مائتان، ولآخر بعَرْضٍ قيمته ثَلاثُمائة، ولم يترك غير ذلك، ولم يجز الورثة، فلكل واحد منهم ثلث العين التي أوصى له بها، ويدخل على كل واحد منهم من النقص بقدر ثلثي وصيته، وهذا واضح. ولو ترك معها ستمائة درهم، فبلغ الثلث أربعمائة، وهي ثلثا الوصايا، فيأخذ كل واحد منهم ثلثي العين التي أوصى له بها. وعلى هذه الطرق استخراج أمثال هذه المسائل، والله الموفق للصواب. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "فإذا أوصى لوارث وأجنبي، فلم يجيزوا ... إلى آخره" (6). 7340 - نذكر في مقدمة هذا الفصل تفصيلَ القول في الوصية للوارث على

_ (1) في الأصل: العبد. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: خمساها. (4) في الأصل: وخمسا. (5) في الأصل: "قيمته" بتذكير الضمير العائد على الدار. (6) ر. المختصر: 3/ 161.

الكمال، ونبين طريقه، [ونصل] (1) به فرعاً لابن الحداد، ثم نعود إلى مضمون هذا الفصل -إن شاء الله تعالى- فنقول أولاً: إذا أوصى الرجل لأجنبي بأكثرَ من ثُلثه، فالزائد على الثلث منوطٌ برأي الورثة، فإن ردّوه، ارتد، وإن أجازوه، نفذ. ثم إجازتهم تنفيذ الوصية، أم هي منهم ابتداء عطية؟ فيه قولان، ذكرناهما في صدر الوصايا. هذا إذا كانت الوصية للأجنبي وهي زائدة على الثلث. 7341 - فأما إذا أوصى لأحد ورثته، فالقول في ذلك ينقسم أقساماً قد يكون له وارث واحد، فيوصي له، أو يكون له ورثة، فيوصي لواحد منهم، أو يكون له ورثة فيوصي لجميعهم. فإن كان له وارثان، فأوصى لأحدهما بشيء، فلا يخلو الوارث الثاني إما أن يجيز أو يرد، فإن ردّ، فلا شك في بطلان الوصية، سواء كان الثلث يحمل تلك الوصية، أو كان يضيق عليها. فأما إذا أجاز الوارث الذي لم يوصَ له الوصيةَ، فهذا ينبني (2) على أن الإجازة ابتداء عطية أو تنفيذ وصية، وفيه القولان. فإن قلنا: الإجازة ابتداء عطية، يصح ذلك، كأنَّ الوارث وهب لصاحبه، فتُراعى شرائطُ الهبات. وإن قلنا: إن الإجازة للوصية تنفيذ لها، وليس بابتداء عطية، فعلى هذا اختلف أصحابنا في الوصية للوارث: فمنهم من قال: تنفذ الوصية له؛ فإن الوصية للوارث قلّت أو كثرت كالوصية الزائدة على الثلث في حق الأجنبي، فالمرعيُّ [حق] (3) الورثة. فإذا رضي من له الحق، وجب التنفيذ. ومن أصحابنا من قال: لا تصح الوصية. للوارث، وإن أجازها الورثة. وهذا القائل يتمسك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لوارث" (4). وهذا

_ (1) في الأصل: ويتصل. (2) في الأصل: ينبني يُحمل على. (3) في الأصل: أحق. (4) حديث "لا وصية لوارث" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي أمامة، =

القائل يزعم أن الوصية للوارث كالوصية للقاتل، على قولنا بإبطال الوصية للقاتل، وتلك المسألةُ (1) عند إجازة الورثة مختلف فيها أيضاً، ولكن الأصح أنه لا تنفذ بالإجازة؛ فإنها مردودة شرعاً نازلةً منزلة [أخذ] (2) القاتل الميراث، وسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل. وهذا القائل يحتج من طريق المعنى بأن يقول: لو كانت الوصية للوارث تنفذ لجهة الإجازة، لوجب الحكم بثبوتها في مقدار الثلث من غير حاجة إلى الإجازة؛ فإن مقدار الثلث مستحقٌّ للميت، يصرفه بالحق إلى الجهات التي يبغيها من التبرعات. هذا كله إذا كان له وارثان، أو ورثة، فأوصى لبعضهم. 7342 - فأما إذا كان له وارث واحد مستغرِق لجميع ماله، كالابن مثلاً، فأوصى له، فالقول في ذلك ينقسم: فإن أوصى له بملك شيء، فهو لغوٌ، لا معنى له؛ فإنه يستحق للكل إرثاً، فكيف يوصي له به. وإنما يظهر أثر ذلك في الوقف، فلو وقف وله ابنٌ واحد داراً عليه، وكانت مقدار الثلث، فإن قلنا: لو كان له ابنان وأوصى لأحدهما بشيء، وأجاز الثاني، فالوصية مردود غيرُ [نافذة] (3)، فعلى هذا يكون الوقف في الدار مردوداً إذا أوصى به، أو أنشأه في مرض موته، ولا معنى لإجازة الابن ذلك؛ فإنه لا يجوز وصيةً، تفريعاً على أن الوصية باطلة، لا تنفذ [بالإجازة] (4)، وإن جعلنا التنفيذ ابتداء أمرٍ (5)، فالوقف باطل

_ = وكذا رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن خارجة. (أحمد: 5/ 267، 4/ 186، 187. وأبو داود: البيوع، باب في تضمين العارية، ح 3565، الترمذي: الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، ح 2120 وقال: حسن. وح 2121 وقال: حسن صحيح. النسائي: الوصايا. باب إبطال الوصية للوارث، ح 1641 - 1643. ابن ماجه: الوصايا، باب لا صدقة لوارث ح 2713، 2712). (1) أي إجازة الوصية للقاتل. (2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها). (3) في الأصل: غيرنا هذه. (4) في الأصل: فالتنفيذ. (5) ابتداء أمرٍ: المراد ابتداء عطية.

أيضاً؛ فإن الإنسان لا يقف على نفسه، على المذهب [المعتبر] (1)، كما سبق تقريره في كتاب الوقف. وإن قلنا: إذا أوصى لأحد الابنين، [فأجاز] (2) الثاني، تجوز الوصيةُ، وتنفذ وصيتهُ، فعلى هذا إذا وقف على ابنه الدارَ، وهي قدر الثلث، لزمت الوصية في حقه، ولا حاجة إلى تنفيذه، وإجازته، ولو أراد ردّ الوقف، لم يجد إليه سبيلاً، فإن قيل: ألسنا في الوارثين [نعتبر] (3) الرضا في قدر الثلث أيضاً، فهلاّ اعتبرنا ذلك في حق الوارث الواحد، [حتى] (4) نقول: ما لم [يرض] (5) لا ينفذ الوقف؛ إذ في تنفيذ الوقف إزالة ملكه عن رقبة الدار؟ قال الشيخ أبو علي: إنّا اعتبرنا الرضا في الوارثَيْن من الذي لم يوصَ له؛ لأنه يقول: قد [فضَّله] (6) عليّ بالوصية، [فله ردُّ التفضيل] (7) وإن كان في قدر الثلث، وليس كذلك إذا كان الوارث واحداً؛ [فالوصية] (8) غير زائدةٍ على الثلث، [وليس فيها] (9) معنى التفضيل، [فالثلث] (10) مستحق للمورِّث (11)، والتفريع على أن الوصية جائزة على الجملة للوارث، فاقتضت هذه الأصول تنفيذَ الوصية على اللزوم في قدر الثلث. هذا ما ذكره الشيخ. ولم أر في الطرق ما يخالفه، وليس يخلو ما ذكره من احتمال؛ فإنا إذا كنا نجوِّز عند تعدد الورثة ردَّ التصرف في الثلث [للتفضيل] (12)، فلا يبعد أن نثبت للابن الواحد

_ (1) في الأصل: فالمعتبر. (2) في الأصل: فإجازة. (3) في الأصل: تعيين (4) في الأصل: خمسي. (5) في الأصل: يوصي. (6) في الأصل: فعله. (7) في الأصل: فلو ردّ له لتفضيل. (8) في الأصل: بالوصية. (9) في الأصل: فليس له. (10) في الأصل: بالثلث. (11) للمورّث: أي من حق المورّث أن يوجهه تبرعاً كما يشاء. (12) في الأصل: التفضيل.

ردّ الوصية بالوقف لتبقى الدار مملوكةً له، وقد ظهر من قول الأصحاب أن الوصية للوارث بالثلث كالوصية للأجنبي بالزائد على الثلث، فيظهر في وجه القياس أن يقال: لا ينفُذ الوقف في حق الابن [الواحد] (1) وصيةً ما لم يرض به، وهذا ذكرناه احتمالاً. 7343 - والذي صح عندنا النقل فيه ما رويناه عن الشيخ، فليقع التفريع على ما ذكره، ثم تصوير هذه المسألة فيه إذا نجَّز الوقف في مرض موته، وكان الابن إذ ذاك طفلاً، فقبله [له] (2)، ثم مات، فحاول الابن الرد أو الإجازة (3). وإن كانت الدار زائدةً على قدر الثلث، والابن واحدٌ، فلا شك أن له ردَّ الوصية في الزائد على الثلث، يعني الوقف، فأما قدر الثلث، فالكلام فيه على التفصيل الذي ذكرناه. فأما إذا كان له وارثان، فأوصى لهما جميعاً، ولم تزد الوصايا على الثلث، فإن لم يفضِّل أحدَهما على الثاني، فلا معنى لهذه الوصية إذا كانت تمليكاً؛ فإنها عبارة عن استحقاقها على نسبةٍ يقتضيها الإرث. وإن فضّل أحدَهما في الثلث على الثاني، [فذلك] (4) الفضل هو الوصية في الحقيقة، وهو كما [لو] (5) أوصى لأحدهما بزيادةٍ دون الثاني، وقد سبق الكلام فيه. ولو وقف داراً عليهما، والدار قدرُ الثلث، فإن لم يفضّل أحدَهما على الثاني في قدر استحقاق الميراث، فإن قلنا: لا وصية لوارث، وهي مردودة شرعاً، لم يصح الوقف وصيةً، وإن صححنا الوصية، والتفريع على ما ذكره الشيخ، فيصح الوقف، ويلزم؛ [فإنه] (6) في قدر الثلث ولا تفضيل فيه.

_ (1) في الأصل: الواصف. (2) في الأصل: عليه. ثم المعنى أن الأب قبل الوقف عن الطفل، فهو وليه الطبيعي. (3) يرى الرافعي أنه لا حاجة إلى التقيد بهذه الصورة؛ لأنه لو كان بالغاً وقبل بنفسه لنفسه، لم يمتنع عليه بعد الموت؛ إذ الإجازة المعتبرة هي الواقعة بعد الموت. (ر. فتح العزيز: 7/ 31، 32، والروضة: 6/ 114). (4) في الأصل: بذلك. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: مائة.

7344 - ولو خلّف ابناً وبنتاً، ووقف في مرض الموت عليهما داراً، وهي قدر الثلث، وجعل الدار وقفاً عليهما نصفين، فقد فضّل؛ إذ من حق الابن أن يكون على ضعف البنت في الاستحقاق، فإن فرعنا على ما انتهى إليه كلامُ الشيخ أبي علي آخراً، فالابن لا يخلو إما أن يجيز الوصية على وجهها، فتجوز وينفذ الوقف، وإما ألا يجيزها: [ويردّ الوقف، فإن ردّ] (1) ذلك، قال أصحابنا: للابن أن يقول: إذا كان النصف وقفاً عليّ، فليكن الربع وقفاً على البنت، فأرد الوقف في ربع الدار، فيصير نصفها وقفاً عليّ، وربعها وقفاً على البنت، والربع الذي عاد ملكاً يقسم بيننا: للذكر مثل حظ الأنثيين. قال الشيخ أبو علي: هذا هو الذي رأيته لمشايخ المذهب، والذي عندي (2) في ذلك أن الابن يقول: نصف الدار وقف عليّ على حكم شرط الواقف، والنصف على حكم شرطه وقفٌ على البنت، فأردّ الوقف في السدس، وأضمُّه إلى نصف الدار، فيحصل في يدي الثلثان: وقفاً وملكاً، نصفها وقفط عليَّ، وسدسها ملكٌ لي، ولا ينتظم في تعليل الحساب غيره (3)؛ فإنه لو أبطل الوقفَ في الربع كما ذكره الأصحاب، فالربع مع النصف ثلاثة أرباع الدار، وهذا زائد على حساب التضعيف. فإن قيل: الربع الذي رد الوقف فيه يقسم بينهما (4)، فيقع مقدار الوقف [ثلاثة أرباع] (5)، وإن كان كذلك، فاحتكام الابن في نقض الوقف في الربع هو المستنكر؛ فإنه يستبد بالوقف بالنصف، ويحتكم في الربع، فليقتصر استبداده [و] (6) تحكمه على مقدار الثلثين، وهذا يوجب أن ينقض الوقفَ في سدسٍ، ويضمَّه إلى الوقف في النصف.

_ (1) في الأصل: أرد الوقف بأن أراد ذلك. (2) والذي عندي .. " الكلام للشيخ أبي علي، كما صرح بذلك النووي في الروضة: 6/ 114 ". (3) قال النووي: " قول أبي علي هو الأصح أو الصحيح أو الصواب " (ر. الروضة: 6/ 115). (4) يقسم بينهما: أي يقسم بينهما ملكاً لا وقفاً، للذكر مثل حظ الأنثيين. (5) في الأصل: فيقع مقدار الوقف ثلثاً. (6) زيادة من المحقق.

وهذا الذي ذكره الشيخ [منقدحٌ] (1) حسن، ولا يمكنه أن يقول: لا أنقض الوقف، ولكن أردّ السدس إلى نصفي وقفاً، حتى يكون ثلثا الدار وقفاً عليّ، فإنه لو فعل ذلك، كان مخالفاً لشرط الواقف، والوقفُ وإن كان يُنقضُ بحقٍّ، فلا سبيل إلى تبقيته مع مخالفة شرط الواقف، والواقف لم يقف عليه إلا نصف الدار. ثم قال الشيخ أبو علي: إذا كان السدس المضموم إلى نصفه ملكاً، فربع ما في يده ملكٌ؛ [إذاً، فللبنت أن تقول: أنا أجعل ربع ما في يدي ملكاً أيضاً، حتى أساوي الابن] (2)، وهذا حسن بالغ؛ فإنا لو منعنا البنت من هذا، لكُنَّا مفضلين الابن عليها؛ فإن الملك أكملُ من الوقف، وقد ذكرنا أن الوصية للوارث إذا اقتضت تفضيلاً، فيجوز لغير الموصَى له من الورثة ردُّها، فإن كانت الوصيةُ في قدر الثلث، فيخرج من ذلك أن للمرأة أن ترد الوقف في نصف سدس، وللابن أن يرد الوقف في سدس، فيعود الأمر إلى رد الوقف في الربع مع قسمة ذلك الربع بينهما: ثلثاً وثلثين، ولكن لا يتم هذا إلا بهما. والذي ذكره المشايخ مقتضاهُ -على ما نقله الشيخ أبو علي- انفرادُ الابن بنقض الوقف في الربع، وهذا لا وجه له، وغالب ظني أن الأئمة أرادوا بنقض الوقف في الربع نقضَه إذا رضيا به، وإن أرادوا نقضه فيه على معنى أن الابن يستبد به، فهذا خطأ صريح؛ فإن نقض الوقف عليها (3) محال، لا يصير إليه من يُعدّ من الفقهاء. هذا بيان المقدمة في الوصية للوارث، ووجه الخلاف فيما يصح [وينفذ] (4). 7345 - ونحن الآن نعود إلى مقصود الفصل مستعينين بالله عز وجل. فنقول: مضمون الفصل يدور على بيان وصية الأجنبي ووارث، مع تقدير الرد والإجازة، وهذا يستدعي مع ما قدمناه تمهيدَ أصلٍ آخر، وهو أن الوصية للأجنبي إذا وقعت

_ (1) في الأصل: ينقدح. (2) في الأصل اضطراب وتكرار وخطأ في العبارة هكذا: " إذا فلا فللبنت أن تقول: إنما أجعل أيضاً ربع ما في يدي ملكاً أيضاً، حتى أساوي الابنين ". (3) عليها: أي على صورة نقض الربع مستبداً. (4) في الأصل: ونفذ.

على قدر الثلث من غير مزيد، فهي منفذةٌ له، [وتصرف وصية الوارث بمقدار] (1)، فالوارث لا يزاحم الأجنبي في قدر الثلث، ومقدار الثلث مسلَّم للأجنبي لا يزحمه الوارث فيه. هكذا ذكره الأستاذ أبو منصور حكايةً عن ابن سريج. فنقول على مساق ذلك: لو أوصى للأجنبي بثلث ماله، وأوصى لواحد من الورثة بجميع ماله، فأجاز الورثة الذين لم يوص لهم الوصية، فالأجنبي يفوز بالثلث الكامل لا يزاحِم الموصى له من الورثة فيه، وللوارث الموصى له الثلثان، وتفريع هذا الفصل على تصحيح الوصية للوارث، كما تفصَّل المذهب فيه. وإن لم يُجز الورثة ما جاوز الثلث، فللأجنبي الثلث الكامل، ولا شيء للوارث الموصى له، من جهة الوصية، وله حقه في الميراث. 7346 - ولو أوصى لأجنبي بنصف [ماله] (2)، ولوارثٍ بجميع ماله، فأجاز الورثةُ، فللأجنبي الثلث، لا يزاحَم فيه، [ويبقى له من] (3) وصيته السدس إلى تكملة النصف، فالكلام في الثلثين (4)، والوارث الموصى له يضرب فيهما بالجميع،

_ (1) في الأصل: ولتصرف وصية الإرث بمقدار. (2) في الأصل: مال. (3) في الأصل: كلمة غير ذات معنى، رسمت هكذا: (وَيومر). (4) فالكلام في الثلثين: المعنى أن الثلث للأجنبي أولاً بلا كلام، ولكن الكلام في توزيع الثلثين الباقيين، بين الأجنبي، وقد بقي له من وصيته 1/ 6، وبين الوارث الموصى له بالكل. وسنرى أنه سيجعل الثلثين في حكم ماله كله، ويقسمها بين الوارث والأجنبي بنسبة 6 إلى 1، فالوارث له الكل ستة أسداس، والأجنبي له سدسٌ واحد، فالمسألة من 7، وتصح من 21 وصورتها هكذا: أجنبي موصى له بالنصف .............. وارث موصى له بالكل 21 7 (ثلث المال من غير مزاحم) .... ـ يبقى 14 بينهما على سبعة أسهم 2 ..................................... 12 وبذلك يحصل الأجنبي على 9 أسهم من 21، ويلاحظ أنه لم يزاحم في الثك (7) فأخذه كاملاً، ولكنه زوحم في السدس (الذي بقي له بعد الثلث ليصل إلى النصف) - فلم يأخذه كاملاً، وإنما عال، فأصبح 2/ 21 بعد أن كان سدس المال كله.

والأجنبي يضرب فيهما بسدس، فنجمل الثلثين، ونُثبت السدس للأجنبي عائلاً، فنقسم الثلثين على سبعة أسهم، للوارث ستة أسباعه وللأجنبي سبعُه. وتصح الفريضة من أحدٍ وعشرين سهماً، للأجنبي الثلث أولاً، وهو سبعة [وله] (1) سبع الباقي وهو سهمان، فيجتمع له تسعة أسهم، وهي ثلاثة أسباع المال، وللوارث الموصى له ستة أسباع الثلثين، وهو أربعة أسباع المال، وذلك اثنا عشر سهماً. 7347 - ولو أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، وأوصى لأجنبي بنصف ماله، وأجاز الابنُ الذي لم يوص له الوصيتين، ورضي الابن الموصى له بحكم الحال، وموجَبِ القضية. فهذه مسألة سئل القفال رضي الله عنه عنها ببخارى، فابتدرها مجيباً، وقال: للابن الموصى له النصف، وللأجنبي النصف، فروجع في المسألة، وقيل له: المذهب خلاف ما ذكرته، قال القفال يجيب عن المسألة: فوجدت جواب ابن سريج (2) فيها مخالفاً لما [أفتيت] (3) به؛ فإن ابن سريج قال: للأجنبي النصف، وللابن الموصى له السدس والربع، وللابن المجيز نصفُ سدس يفوز به إرثاً. ثم قال القفال: أطلت [كلامي] (4) في المسألة [عن] (5) جواب ابن سريج، وعنّ لي أن أخرّج المسألة على وجهين ذكرهما، [وبناهما] (6) على أصله. 7348 - ونحن نمهد ذلك الأصلَ، ونقدمه، ثم نبين تصرّفَ القفال فيه، ونختتم المسألة بما عندنا. فنقول: إذا كان لرجل ابنان، فأوصى لأحدهما بنصف ماله -وكل هذه المسائل

_ (1) في الأصل: أو له. (2) نقل الرافعي عن الأستاذ أبي منصور أنه حكى جواب القفال هذا عن ابن سريج، فقال في الفتح مستدركاً على إمامنا: " ونسب الإمام وغيره الوجه الأول إلى جواب القفال، والثاني إلى ابن سريج، ورأيت الأستاذ أبا منصور حكى الأول عن ابن سريج " ا. هـ (ر. فتح العزيز: 7/ 30). (3) في الأصل: أفيدت. (4) كلامي: كذا قرأناها بصعوبة. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: ونفاهما.

خارجةٌ على تصحيح الوصية للوارث، وعلى أن الإجازة [تنفيذ] (1) - فإذا طال الكلام ورُمت [مأخذه] (2)، فالوجه الاكتفاء بأصح الأقوال في الأصول، فإذا وقعت الوصية بالنصف لأحد الابنين، وأجاز الثاني [فعند] (3) جميع أصحابنا في المنتهى الذي عليه نفرِّع أن النصف يفوز به الموصى له، ويقسمان النصف الثاني شطرين، وكأن النصفَ الموصى به مُخرجٌ من التركة غيرُ معتد به. ولو أوصى لأحد الابنين بمقدار زائد على النصف، فقال: أوصيت لابني هذا بثلثَيْ مالي، فالذي ذهب إليه المحققون الجريانُ على القياس الذي قدمناه، وهو أنا نقدر الثلثين ونراهما وصيةً للموصى له، ثم إنهما يقسمان الثلثَ الثاني شطرين. ومن أصحابنا من قال: إذا كان الموصى به أكثرَ من النصف، فليس للموصى له إلا ذلك المقدار، ويستبد الابن الذي لم يوص له بباقي المال، لا يزاحمه فيه الموصى له. توجيه [الوجهين] (4): من قال: يفوز الموصى له بالموصى به ويشاطر أخاه في الباقي، احتج بصيغة اللفظ أولاً؛ فإن الموصي عبر عن الثلثين بالوصية، فليقعا موصىً بهما، فإذا وقعا موصىً بهما، وأجيزت الوصية، كانت الوصية لأحد الابنين بالثلثين كالوصية للأجنبي بالثلثين، فما يفضل من المال بعد الوصية تركةٌ يستويان في استحقاقه إرثاً، وقد اختص الموصى [له] (5) بالقدر الموصى به، ويستشهد هذا القائل [بما] (6) إذا أوصى [لأحد] (7) الابنين بنصف المال، فإنه يفوز بالنصف، ثم يقتسمان النصف الآخر شطرين. ومن تمسك بالوجه الثاني فرّق أولاً بين الوصية بالنصف وبين الوصية بالزائد عليه، فقال: يبعد أن يُحمل لفظُ الوصية بالنصف على أن ذلك القدر حقُّ الموصى له

_ (1) تنفيذنا. (2) في الأصل: ما أخذه. (3) في الأصل: نفذا. (4) في الأصل: الوصيتين. (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: ما. (7) في الأصل: أحد.

فحسب؛ فإنه يستحق هذا القدرَ بالإرث، فلو لم يثبت له إلا النصف، لأبطلنا فائدة الوصية بالكلية، فتبين لما ذكرناه حملُ الوصية بالنصف على حقيقة الوصية، ثم يبقى بعدها التساوي إرثاً في الباقي. فأما إذا أوصى لأحد الابنين بأكثرَ مما يستحقه إرثاً له، لم يكن وصية، فيحتمل أنه قصد بذلك تخصيصَه بمزيد الزيادة، وتفضيلَه بها على أخيه، فتقع الوصية في تلك الزيادة، وإذا كان ذلك ممكناً، فالوصايا المترددة بين كثيرٍ وقليلٍ محمولةٌ على القليل، وليس كالوصية للأجنبي؛ فإنه لا استحقاق له إلا من جهة الوصية، والابن يستحق من جهة الإرث، [فاتجه] (1) حمل لفظ الوصية على [التفضيل] (2) بالقدر الزائد. هذا بيان هذا الوجه. 7349 - ومما يجب الإحاطة به أنه إذا أوصى لأحد بنيه بنصف [المال] (3) [و] (4) أجاز الثاني [فالذي] (5) يجب إطلاقه في عقد المذهب أن الابن المجيز الذي لم [يوص] (6) له أبطل حق إرثه في ربع المال بإجازة الوصية، والابن القابل للوصية أخذ النصف وصيةً، وليس في ذلك النصف ميراث، وكأنه [استبرأ] (7) عن حقه في ذلك النصف من الميراث [بالوصية] (8)، فكان في [استبرائه] (9) مبطلاً حق إرث نفسه في ربعٍ بصرفه إياه إلى جهة الوصية، وهو في هذا الفقه نازل منزلة الابن المجيز في قطع حق الميراث عن نصف التركة، [ويرجع] (10) الإرث إلى نصف الباقي.

_ (1) في الأصل: واتجه. (2) في الأصل: التفصيل. (3) في الأصل: المائة. (4) الواو ساقطة من الأصل. (5) في الأصل: "بالذي". (6) في الأصل: يرض. (7) استبرأ: كذا قرأناها بصعوبة بالغة. (8) في الأصل: الوصية (بدون باء). (9) في الأصل: في سراه. (10) في الأصل: ومرجع.

7350 - فإذا تبين هذا الأصلُ، [بان] (1) تصرف القفال بعده، فخرَّج عليه المسألة التي ذكرناها، وهي إذا أوصى لأحد ابنيه بالنصف، وأوصى لأجنبي بالنصف، ورأى فيها جوابين: أحدهما - ما سبق إليه [مبتدراً] (2)، إذ سئل عنها، وهو أن النصف للأجنبي، والنصف للابن. والثاني - ما حكاه عن ابن سريج وهو أن النصف للأجنبي، والسدسُ والربع للابن الموصى له، وللابن المجيز نصف السدس، فقال رحمة الله عليه: هذان الوجهان يخرّجان على الوجهين اللذين حكيناهما عن الأصحاب فيه إذا أوصى لأحد الابنين بأكثر من النصف. وأول ما نحتاج إلى تقريره بيان تصوير هذه المسألة على الصورة التي فيها خلاف الأصحاب، فنقول: لما أوصى للأجنبي بالنصف، فالثلث يستحق له لا يزاحمه فيه الابنان، ولا حاجة فيه إلى الإجازة؛ فإنه يُستحَق من غير إجازة، فيبقى من المال الثلثان وقد أوصى لأحد الابنين بالنصف، فإذا أقررنا الثلث للأجنبي بحكم الاستحقاق، بقي الثلثان بين الابنين، فإذا فرضنا الوصية للابن بالنصف، كان النصف بالإضافة إلى الثلثين زائداً على القدر الذي يستحقه الموصى له بالإرث، فإن الذي يستحقه بالإرث ثلثٌ، ويستحق [أخوه] (3) ثلثاً، فإذا وقعت الوصية، فقد صادف محل خلاف الأصحاب. فإن قلنا: الموصى به إذا [أجيز أوْ رُدّ، اقتسم] (4) الابنان الباقي إرثاً، فعلى هذا النصفُ للابن والنصف للأجنبي؛ وذلك أنا إذا صرفنا إلى الابن النصفَ من الثلثين، وبقي سدس، فهو بين الموصى له وبين الابن الذي لا وصية له نصفين إرثاً، فيحصل للابن الموصى له نصفٌ [بالوصية] (5) ونصف سدس بالإرث، ويحصل للابن المجيز نصف سدس بالإرث.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (3) في الأصل: اجره. (4) في الأصل: إذا أجيزا فرد وانقسم. (5) في الأصل: فالوصية.

فإن أجازا للأجنبي، [تكملة] (1) النصف، وقد أخذ الأجنبي الثلثَ، فالموصى له يجيز نصف سدس، والابن الذي لا وصية له يجيز نصف سدس، [فتمّ] (2) ملك النصف للأجنبي، وقد فاز الموصى له بالنصف وصيةً، فاستند الجواب الذي لم يقرره القفال على هذا الأصل تخريجاً على هذا الوجه، وهو أصح الوجهين. فإن حكمنا بأن الموصى له بأكثر من حصته من الإرث لا حق له في الباقي، فعلى هذا يبقى للابن الذي لا وصية له سدسٌ، لا حظ فيه للابن الموصى له، والأجنبي يحتاج إلى سدس إلى تمام النصف، فإذا أجاز الموصى له هذه الزيادة في حق الأجنبي، وأجازها الابن الذي لا وصية له، فيُخرج كلُّ واحد منهما نصف سدس مما خلص له، فينتقص نصف الموصى له بنصف سدس لإجازته الأجنبي، ويُخرج الابنُ الذي لا وصية له نصفَ سدس، فيتم النصفُ للأجنبي، ويبقى للموصى له سدسٌ وربع، والذي لا وصية له نصف سدس. هذا وجه خروج جواب ابن سريج، فانتظم وجهان مستندان إلى وجهي الأصحاب، وقد انتهى كلامُ القفال، [تصرّفُه] (3) في هذه المسألة. 7351 - ونحن نقول وراء ذلك: ليس ينقدح عندنا في المسألة جواب [إلا صرف] (4) النصف إلى الابن الموصى له، وصرف النصف إلى الأجنبي. هذا هو المسلك [القويم] (5)، وما عداه احتيالٌ لا حقيقة له. والذي يقرّر الحقَّ في ذلك أنّا إن فرعنا على أن الموصى له [من] (6) الابنين يفوز بالوصية، ويشارك في الباقي، فقد لاح أن للابن الموصى له النصفَ على هذا الوجه، فلا حاجة إلى إجازته.

_ (1) في الأصل: فكلمة. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: ونضربه. (4) في الأصل: جواب الآخر في النصف. وهو تصحيفٌ عجيب ظل يحوك في صدرنا أياماً حتى هدانا الله بفضله ومنه إلى إدراكه. (5) في الأصل: القديم. (6) في الأصل: في.

وإذا فرعنا على الوجه الثاني، فعليه خرّج القفال وجهَ ابن سريج، كما بيّنه الآن، ولا خروج له عندي؛ فإنا على ذلك الوجه نقول: يفوز الابن الموصى له بالمقدار الموصى به، فيبقى السدس حقاً للابن الذي لا وصية له، فلا حاجة إلى إجازة الابن الموصى له، وإنما ترتبط الإجازة في حق الأجنبي بالابن الذي لا وصية له، ولا أثر لرد الموصَى [له] (1)؛ فإنه لا يستحق من التركة إلا النصفَ الذي (2) أخذه من جهة الوصية، ولا إجازة من الوصية، فإذا قال الابن الذي لا وصية له: أجزت [وصية أبي] (3) كما قال، [فقد] (4) أسقط جميعَ حقه من المال، فانصرف السدس إلى تكملة نصف الأجنبي على الخصوص، ولا حاجة إلى إجازة الموصى له. وإذا نظر الناظر إلى وصيةٍ [لشخصٍ] (5) مع طيب نفس من لا وصية له، فخروجه من التركة في موافقة أبيه، فكيف نطوّقه نصفَ سدس وهو لا يبغيه؟ والوصيتان مستغرقتان للتركة، فالوجه إذاً القطعُ بما أجاب به القفال أوَّلاً. ولو أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، وأوصى [لأجنبي] (6) بنصف ماله، وأوصى لأجنبي آخر بثلث ماله، فأجاز الابنان ورضيا؟ موجبُ القضية في سبيل الجواب أن نقول: نقدّر للأجنبيين الثلث، ولا نتعرض معه لكيفية [قسمته عليهما] (7)، حتى يستتم ما يحصل لهما. ونعود فنقول: قد خرج الثلث من غير حاجة إلى الإجازة، ومجموع وصيتي الأجنبيين خمسةُ أسداس المال، وقد خرج من غير حاجة إلى الإجازة الثلثُ، فيبقى نصف المال موصى به بين الأجنبيين، ولسنا نتعرض لكيفية وقوع ذلك النصف

_ (1) في الأصل: ولا أثر لرد الموصى إنه فإنه. (2) في الأصل: والذي. (3) في الأصل: وصتي إلى. (4) في الأصل: نفد. (5) في الأصل: لشخصي. (6) في الأصل: للأجنبي. (7) في الأصل: قسمت عنها.

بينهما، حتى نتبين الغرض [آخراً] (1)، فقد بقي الثلثان من التركة، والأجنبيَّان يضربان فيهما بالنصف، والابن الموصى له بالنصف يضرب في الثلثين بالنصف، فإذا استوى ما يضربان [به] (2) [جُزئيةً] (3) وقدراً، اقتضى ذلك جعلَ الثلثين بين الابن الموصى له بالنصف، وبين الأجنبيين نصفين، فيقع الثلث للابن الموصى له، ويصرف الثلث إلى جهة [الأجنبيّين] (4)، فيحصل لهما ثلثان، الثلث الأول من غير إجازة، والثلث الثاني [بالمضارَبة] (5) بعد وقوع الإجازة، ثم نقول: يُقسَّمُ الثلثان بين [الأجنبيّين] (6) أخماساً؛ فإن [وصية] (7) أحدهما النصف، ووصية الثاني الثلث، [فالقسمة] (8) على هذه الجزئية توجب نسبة الأخماس، فللموصى له بالنصف ثلاثة أخماس الثلثين، وللموصى له بالثلث خمسا الثلثين. وللابن الموصى له بالنصف الثلث، وسبب نقصان حقه عن المبلغ الذي أخذه الأجنبي الموصى له بالنصف أنه استبد (9) بأجزاء من الثلث الذي لا [يزاحَم الأجنبي فيه] (10)، وانحصر حقُّ الابن الموصى له في الثلثين، ثم اقتضى التضارب [بينهم] (11) النصفَ له: نصفَ الثلثين. هذا هو الحق، وليس يسوغ الالتفات على ما فرعنا عليه نقلاً عن القفال؛ فإن

_ (1) في الأصل: أحداً. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: فجُزية. (4) في الأصل: الأجنبي. (5) في الأصل: المضارب. (6) في الأصل: الأجنبي. (7) في الأصل: وجب. (8) في الأصل: كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (9) استبد: أي انفرد وتميز عن الابن الموصى بأخذ أجزاء من الثلث الذي لا يزاحم الأجنبي فيه، ولا يحتاج إلى إجازة. (10) ما بين المعقفين مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها). (11) في الأصل: بينه.

ذلك الوجهَ، لم ينتظم، ولم نجد [له] (1) فائدة، فلا ينبغي أن يشغل الفقيه نفسه بالتعرض لمثله، على أن ذلك إنما تخيله الحذاق؛ من جهة أنه يبقى للابن المجيز شيء، فتخيلوا معنى تفضيل الموصَى له، واعتقدوا صرف الوصية إلى قدر التفضيل، والابن المجيز في هذه المسألة لا يسلم له شيء؛ فإن الوصايا عائلة زائدة على أجزاء المال. هذا إذا أجاز الابنان للأجنبيين. 7352 - فأما إذا قال الابن [الذي] (2) لا وصية له: أجزت ما [فعل أبي] (3)، وقال [الابن] (4) الموصى له: رددتُ أنا ما يتعلق بي من الوصية الزائدة على الثلث للأجنبيين، فقد قال الأستاذ: سبيل الجواب أن نقول: أما الثلث، فإنه مصروف إلى [الأجنبيين] (5) من غير احتياج إلى إجازة، فيبقى الثلثان، ونقسم المسألة من ستة، ونقول فيها: لهما سهمان من ستة، كما سنبين القسمة بينهما، ثم نقدر سهمين في يد الموصى له، وسهمين في يد المجيز، ثم يفوز الموصى له بسهميه، فيبقى السهمان في يد المجيز، فيزدحم فيهما الابن الموصى له والأجنبيان على نسبةٍ واحدة، فيصرف نصفه وهو سهم إلى الابن الموصى له، ونصفه إلى الأجنبيين. وبيان ذلك أن الأجنبيين كانا يضربان بالنصف، وهو سهم إلى الابن الموصى له [والابنُ الموصى له] (6) والأجنبيان على نسبة واحدة، فيصرف نصفه، وهو سهم إلى الابن الموصى له، ونصفه إلى الأجنبي. وبيان ذلك أن الأجنبيين كانا يضربان بالنصف بعد إقرار الثلث، وضربهما [بسدس] (7) من كل واحد من الثلثين الباقيين، ثم إن الابن الموصى له لما (8) ردّ

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: أرى. (3) في الأصل: ما فعلا بن. (4) في الأصل: للابن. (5) في الأصل: الأجنبي. (6) زيادة من المحقق. (7) في الأصل: بسبع. (8) عبارة الأصل: ثم إن الابن الموصى له وبيان لما ردّ ...

ما يتعلق به، فقد رجع إلى حق الإرث في ثلث المال، فكأنه قطع عن هذا الثلث ضربَ الأجنبي، وقطع عنه أيضاً حكمَ الوصية في حق نفسه، واكتفى في هذا الثلث بجهة الإرث، فانقطع عن هذا الثلث حق الوصايا كلها، وبقي الأجنبيان على نسبة النصف في الثلث الباقي، وبقي الابن الموصى له على مثل تلك النسبة في ذلك الثلث؛ فإن [نصفي] (1) الجهتين ثبتا على قضية واحدة، ثم انقطعت الجهتان عن أحد الثلثين على نسبة واحدة، فبقي التضارب في الثلث الباقي على نسبة واحدة. 7353 - هذا بيان مسائل الباب، وما مرت (2) من مسائل الكتاب [أعوصُ] (3) وأغمضُ منها، وسبب ذلك عسر تصوير الوصية للوارث؛ فإنه يستحق بجهة الإرث، فإذا صححنا له الوصية أُحوجنا إلى الوصية لمالكٍ في بعض ما أُوصي له، وحق الإرث قهري، والوصية [نحلة] (4)، فاعتاصت مسائل الباب؛ لأنها استحدثت قضيةً في الوصايا، لا عهد بها. 7354 - ومما نختم الفصلَ به أنَّا حكينا عن الأصحاب أن الوصية [للوارث] (5) والأجنبي إذا ثبتت، فالأجنبي مقدّمٌ بحقه: مقدارِ الثلث، والورثةُ لا يزاحِمون فيه؛ فإن الثلث محل حق الأجانب، وإنما تُفرض الزحمة من الوارث والأجنبي في الوصية الواقعة وراء الثلث. هذا هو الأصل، وعليه تفريع المسائل، وتعليله واضح. 7355 - فلو (6) أوصى بثلث ماله لأجنبي ووارث، ثم ردّ الورثة الوصيةَ للوارث، فالسدس للأجنبي؛ فإن الموصي لم يوصِ له إلا بالسدس، لمّا جعل الثلث بينه وبين الوارث.

_ (1) في الأصل: النصفي. (2) ما مرت: (ما) نافية وليست موصولة. (3) في الأصل: أغوض. (4) في الأصل: نحيلية. (5) في الأصل: الإرث. (6) في الأصل: لو.

ونُقل (1) أن أبا حنيفة صرف الثلث بكماله إلى الأجنبي في هذه الصورة، وهذا مذهب سخيف (2)؛ من جهة أن صيغة الوصية في وضعها لم تقتضِ للأجنبي إلا نصفَ الثلث، فلئن بطلت الوصية في حق الوارث في مقدارٍ من الثلث، فإثبات الزيادة للأجنبي على ما يقتضيه لفظ الموصي [بحاله] (3). 7356 - ولو أوصى لأجنبي بثلث ماله، وأوصى لأحد الورثة بثلث ماله، ورد الورثةُ الوصيةَ للوارث، فتبقَى الوصيةُ بالثلث في حق الأجنبي. ولو كانت المسألة بحالها ببيان (4) الورثة بردّ الوصيتين إلى الثلث، ثم يبطل حق الوارث، فيبقى للأجنبي السدس، كان ذلك محالاً منهم؛ لأن الوصية وقعت بالثلث للأجنبي، فلا حطيطة في حقه من الثلث قط. وأيضاً، فإن الورثة إذا أرادوا ردّ وصية [الوارث] (5) فكيف يقدرونه مزاحماً لا حق له. ولو قالوا: نرد الوصيتين إلى الثلث، فيكون الثلث بين الوارث [وبين] (6) الأجنبي، قيل: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن الأجنبي (7) لا ينقص من الثلث، فإن الوصية وقعت في حقه بالثلث. هذا قانون الباب. 7357 - وقد حكى الصيدلانيُّ مسألةً وفيها وجهٌ عن القفال أخرت حكايته، لأنه ليس معتداً به، وهو من الهفوات، ولولا [الثقة] (8) بنقله، وعلو قدر المنقول عنه، لما استجزت نقلَه:

_ (1) ونُقل: كذا بصيغة التمريض. ولم أصل إلى هذا في كتب الحنفية. (2) سخيف: أي ضعيف، يقال: ثوب سخيف إذا كان ضعيفاً غير متداخل النسج، أو رق وضعف من البلى (معجم ومصباح) فليس للكلمة ما تحمله الآن من معنى السب والشتم. (3) في الأصل: بحال. (4) ببيان الورثة: أي مع بيان الورثة لردّهم. (5) في الأصل: الإرث. (6) في الأصل: من. (7) عبارة الأصل: فإن من الأجنبي. (8) في الأصل: الثقلة.

فنذكر تلك المسألة، قال: إذا أوصى لأجنبي بثلث ماله وأوصى لكل واحد من ابنيه بثلث ماله، فأجاز كل واحد من الابنين لصاحبه، ولم يجيزا للأجنبي. فالمذهب المبتوت أن الأجنبي يستحق ثلثَ المال، ولا معنى لقولهما: " لا نجيز للأجنبي "؛ فإن الثلث مستحق للأجنبي، لا حاجة فيه إلى الإجازة، ولا أثر فيه للرد كما قدمناه. وحكى عن القفال وجهاً ثانياً أن للأجنبي ثلث أسهل (1) الثلث؛ فإن ثلثه كان شائعاً في أثلاث المال، وإذا ردّ الابنان حقَّه عن ثلثيهما، فقد سقط ثلثا الثلث. وهذا ليس بشيء، وهو خرمٌ للقاعدة التي أجمع الأصحاب عليها. وإذا لم يكن للوارث أن ينقص حق الأجنبي في الثلث، حيث لا وصية للوارث، فكيف ينتظم من الابنين أن ينقصا ثلثه بأن فرضت لهما وصية. ثم لا حاصل للوصية بمقدار الإرث؛ إذْ لكل واحد من الابنين الثلث، فالوصية بالثلث المستحق بالإرث لا حاصل له. هذا تمام المراد في ذلك. فرع متعلق بالوصية للوارث: 7358 - إذا وقف الرجل داراً لا يملك غيرها على ابنه وابنته لا يرثه غيرُهما، فقد مضى هذا في فرع ابن الحداد، ولكنا رسمنا هذا الفرع لمزيد [معنى] (2)، فلو ردّا الوقفَ في الزائد على الثلث، ارتد الوقفُ بردهما في الثلثين، وبقي الوقف في مقدار الثلث. ثم الثلثان يقسمانها للذكر مثل حظ الأثثيين، ويبقى الثلث موقوفاً بينهما، والوقف لازمٌ فيه، تفريعاً على الأصل الذي فرعنا عليه مسألةَ ابن الحداد. فإن قيل: إن كان الوقف في ثلث الدار بينهما نصفين، فهذا خلاف ما يقتضيه وضع القسمة؛ فإن حق الذكر ضعفُ حق الأنثيين، فهذا الساري (3) تفاضلٌ في

_ (1) كذا. والعبارة مستقيمة بدونها. (2) زيادة من المحقق. (3) كذا. ومعناها: الحاصل الواقع.

الحقيقة بالإضافة إلى حق الذكر والأنثى في الميراث، وقد ذكرنا أن الأب لو أراد أن يفضّل بعضَ ورثته على بعض في الثلث الذي هو محل تصرفه، لم يكن له ذلك على المذهب. فإن قلنا: الوقف في الثلث بينهما على التفاوت، كان ذلك على خلاف شرط الواقف، فإن موجبَ شرطه التسويةُ بينهما، فإن رُدَّ الوقف في مقدار لحق الورثة في الملك (1)، فتغييّر شرط الواقف في المقدار الذي يصح الوقف فيه محال. قلنا: [الشرط] (2) أولاً أن الوقف على التفاوت، ووجه الجواب عما ذكره القائل من خروج الوقف عن شرط الواقف أنا نقدّ الثلثين مثلاً في جانب الابن، والثلث في جانبها، ثم الابن نقضَ الوقف في ثلثي حصته، ونفرض [نقْضَ] (3) ثلثي حصتها، فيبقى ثلث حصتها، وهو تسع، ويبقى ثلث حصته وهو تسعان (4). وإن أحببت قلت: نقدر الدار في يد كل واحد منهما على حكم الوقف المرسل، ثم الابن يسترد سدسها؛ حتى يكون في يده ضعف ما في يدها. ثم الذي يسترده لا يبقى وقفاً، ثم يزداد في نقض الوقف حتى [يرجع] (5) إلى ما ذكرناه. فرع: 7359 - إذا خلف رجل ورثةً وأعيانَ أموال، فأوصى لكل واحد منهم بعينٍ من أعيان ماله، وكانت قيمة تلك العين على قدر حصة ذلك الشخص الذي عيّن له تلك العين، فلم يفضِّل في أقدار المالية، وإنما خصص كلاً بعينٍ. مثل أن يخلف بنين وأعبداً قيمهم متساوية، وأوصى لكل واحد من بنيه بعبد معيّن.

_ (1) المعنى: أنه إذا جاز ردّ الوقف في مقدار لحق الورثة، فلا يجوز تغيير شرط الواقف لذلك في المقدار الذي يصح الوقف فيه، بل هو محال. (2) في الأصل: الشرى. (3) في الأصل: بعض. (4) وهو تسعان: معنى ذلك أنه يبقى موقوفاً من حصتها 1/ 9 الدار، ومن حصته 2/ 9 فالمجموع 3/ 9، وهي 1/ 3 الدار، فيقع الثلث موقوفاً على التفاوت. (5) في الأصل: رجع.

فقد اختلف أئمتنا في ذلك على وجهين. قال قائلون: ينفُذُ ذلك، وليس لبعضهم أن يبطل التعيين على البعض؛ فإن حقوقهم في المقادير لا في الأعيان، بدليل أنه لو باع داراً منه في مرض موته بثمن مثلها، لم يُنقض ذلك عليه، ولم يكن تعيين الدار له بالبيع وصية. وذهب بعضهم إلى أن ذلك وصية وللبعض أن يبطل على البعض؛ فإن للناس في الأعيان أغراضاً واضحة، فلا يجوز إبطالها بطريق الشرع، وليس كالبيع؛ فإنه عقدٌ لازم، فإذا خلا عن المحاباة، نفذ البيع لوضعه في أصل الشرع. فصل قال: " ويجوز الوصية لما في البطن وبما في البطن ... إلى آخره " (1). 7360 - هذا الفصل مشتمل على مقصودين: أحدهما - الوصية للحمل، والثاني - الوصية بالحمل. فأما الوصية للحمل، فإنها جائزٌ بشرطين: أحدهما - أن ينفصل الحمل حيّاً، ويكون بحيث تصح الوصية لمثله حالة الانفصال، ولو انفصل ميتاً، فلا وصية، ولا يُقضَى بأنها صحت وبطلت، بل نتبين أنها لم تصح، ولا فرق بين أن ينفصل ميتاً بإجهاض من غير جناية، وبين أن ينفصل بجناية جانٍ، وإنما ذكرنا هذا على [وضوحه] (2)؛ لأنا قد نقيم [الولد] (3) المنفصل بالجناية مقام الولد المنفصل [حياً] (4) في قاعدة الغرور؛ فإن المغرور لا يغرم قيمة الولد إذا انفصل ميتاً، ويغرَم قيمته إذا انفصل حياً، وإذا انفصل بجناية يقوَّم ويرجع [عليه] (5)، على تفصيلٍ طويل سيأتي، إن شاء الله عز وجل في كتاب النكاح.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 161. (2) في الأصل: على وخرجه. (3) في الأصل: الدار. (4) في الأصل: حملاً. (5) ساقطة من الأصل.

فأحببنا أن نقطع وهم من يظن أنا نفصل بين السقوط بالجناية، وبين السقوط من غير جناية، كصنعنا في الغرور؛ فإن هذا الأصلَ وهو الوصية مداره على استيقان حياة الموصى له. وهذا المعنى يفوت بانفصال الجنين ميتاً، سواء انفصل بجناية [أو] (1) غيرها. هذا أحد الشرطين. 7361 - والشرط الثاني أن يكون العلوق بالولد الموصى له متحققاً حالة الوصية، فإذا أوصى لحملٍ بشيء، فأتت المرأة به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوصية، فقد استيقنا وجودَ الحمل حالة الوصية. ولا ينبغي للفقيه أن يصرف فكره إلى اشتراط كون الحمل حياً حالة الوصية؛ فإن هذا لا مطلع عليه والحملُ جنين، فيكفي وجود العلوق حالة الوصية، وتحقق الحياة حالة الانفصال. ولو أتت المرأة بالولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوصية، فلا شك في بطلان الوصية؛ فإنه أوصى للحمل الكائن، وقد تحقق أنه لم يكن حالة الوصية حملٌ. ولو أتت بالولد لأقلَّ من أربع سنين، وأكثر من ستة أشهر، نُظر: فإن كانت المرأة تحت زوج يُظن أنه يغشاها، فلا تصح الوصية لجواز أنها علقت بعد الوصية بوطء الزوج إياها. ولو لم تكن ذات زوج، فأتت بولدٍ لأكثرَ من ستة أشهر، فهل تصح الوصية له؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أن الوصية لا تصح لجواز حدوث العلوق بعد الوصية بوطء شبهة، أو سفاح. والوجه الثاني - أن الوصية تصح؛ إذ لا سبب يستند إليه تجدد الوطء [وتقدير] (2) وطء الشبهة والزنا بعيد، ودوام الحمل أكثر من ستة أشهر غالبٌ غيرُ نادر؛ فإن الوضع على الستة والسبعة من النوادر التي تذكر.

_ (1) في الأصل: له. (2) في الأصل: وتقديم.

هذا تأسيس الكلام. ولو قال للحامل: أوصيت لحملك من فلانٍ بكذا، فأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوصية، ولمدة يقتضي الشرع التحاقه بمن نسبه إليه، استحق الوصية إذا انفصل حياً، حتى لو كان طلقها، فأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوصية، ولأكثر من ستة أشهر من وقت الطلاق، وأقلّ من أربع سنين، فالولد يلحق والوصية تثبت. فإن قيل: ذكرتم أن الوصية لا تثبت ما لم تستند إلى تعيين، وثبوت النسب. [وثبوتُ النسب] (1) في الصورة التي ذكرتموها ليس مستيقناً. قلنا: أولاً تحقق الوجود، فلا طريق لثبوت النسب إلا ظاهرُ الإمكان، مع تقدم الفراش، فيحمل قوله في النسب على الممكن فيه. ولو أتت بالولد لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الفراق، لما كان النسب مقطوعاً به [حسّاً] (2)؛ فإن كون الحمل من رجل معين غيبٌ لا اطلاع عليه، ولكن يكفي ويكون [النسب] (3) محكوماً به. نعم، لو أتت بالحمل لأكثر من ستة أشهر من وقت الوصية، ولأكثرَ من وقت الطلاق [حيّاً] (4)، ولأقل من أربع سنين من الوصية والطلاق، فالنسب يثبت، والوصية لا تثبت؛ فإن ثبوت النسب يعتمد الإمكان [و] (5) قد تحقق وثبوت الوصية يستدعي استيقان الوجود حالة العقد، وهذا المعنى لم يتحقق. هذا أصح الوجهين. ومن أئمتنا من أثبت الوصية إذا لم تكن ذات زوج، ولم يبنِ الأمرَ على تقدير وطء شبهة أو سفاح، على ما قدمنا ذكره. ثم ذكر صاحب التقريب مسائل فيه.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل رسمت هكذا (احا). (3) في الأصل: النسبة. (4) في الأصل رسمت هكذا (اخا) كسابقتها، وزادت فنقطت الأول. (5) ساقطة من الأصل.

[مسائل] في الوصية للحمل

[مسائل] (1) في الوصية للحمل 7362 - منها: أنه لو قال الموصي: أوصيت لحمل فلانة بكذا، فخرج اثنان حيان، فالوصية لهما جميعاً. ولو خرج أحدهما حيّاً والآخر ميتاً، فجميع الوصية للحي، ويجعل كأن الميت لم يكن، ولا نقول: إن الوصية تتقسط على الولدين، ثم تبطل حصة الميت، وليس كما لو أوصى لحي وميت ابتداء، فإنا قد نسقط قسطاً من الوصية، على ما سيأتي ذلك مشروحاً من بعدُ، إن شاء الله عز وجل. هذا ما ذكره صاحب التقريب، ووجهه أن الميت غيرُ معتد به في الحمل، وكأنه عَلقَة أو مُضغة، ولا حمل إلا الحي، وليس يخلو ما ذكره [عن كلام] (2)؛ فإنه لو أوصى لحمل امرأة، فانفصل ميتاً، فقيل: الوصية باطلة كما إذا ابتدأ، فأوصى لميت، والميت حمل، فلا (3) تصح الوصية له، فلا يبعد عن القياس أن نقول: لو نيطت الوصية [بالحمل] (4) وهو حي وميت، فليبطل قسطٌ منها يقابل الميت. 7363 - ومما ذكره صاحب التقريب أنه لو قال: إن كان حملك غلاماً، فقد أوصيت له بألف، فأتت بغلامين، فلا شيء لواحد منهما؛ فإن حملها عبارة عن جميع ما يحتوي عليه رحمها، فقد بان أن حملها لم يكن غلاماً، بل كان غلامين. وكذلك لو أتت بغلام وجارية. 7364 - [ومثله لو] (5) قال: إن كان في بطنك غلام، فقد أوصيت له بألف، فخرج غلام وجارية، صح الألف للغلام؛ فإنه كان في بطنها غلام، ومثله لو خرج غلامان،

_ (1) في الأصل: مسألة. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) عبارة الأصل: " والميت حمل ولكن لا تصح الوصية له ... " والمثبت تصرفٌ منا، ساعدنا عليه أن كلمة [لكن] أقحمت من الناسخ بين السطور. (4) في الأصل: للحمل. (5) في الأصل: وبمثله أو.

فالوصية ثابتة، ثم ذكر قولين بعد الحكم بثبوت الوصية: أحدهما - أن الخيرة في ذلك إلى الوارث [يصرف الألف] (1) إلى أي الغلامين شاء، ولا سبيل إلى التشريك؛ فإنه ما أوصى لجميع الحمل، بل أوصى لغلام في البطن، والوارث ينزل منزلة الموروث في التعيين. هذا قولٌ. والقول الثاني - أنه لا خيار للورثة في ذلك، ثم على هذا القول قولان: أحدهما - أن الموصى به مقسوم على الغلامين نصفين، إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، واسم الغلام يتناول كلَّ واحد منهما. وقد ثبتت الوصية، والقول الثاني - أنه مالٌ مشاعٌ بينهما، يدّعيه كل واحد منهما، فهو موقوف إلى أن يصطلحا. وهذا يضاهي مسألة ستأتي في نكاح المشركات، وهي أن الكافر لو أسلم عن ثمانٍ، وأسلمن معه، ولم يتفق أن يختار أربعاً منهن، فإذا مات قبل الاختيار، فظاهر المذهب أنه يوقف بينهن ميراث زوجة إلى أن يصطلحن. وفي المسألة قولٌ آخر حكاه صاحب التقريب: أن الميراث مفضوضٌ عليهن بالسوية؛ إذ ليس إحداهن أولى به من صواحباتها. وليس هذا كالطلاق المبهم، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل. 7365 - ولو قال الرجل: أوصيت لأحد هذين الرجلين بألفٍ، وأشار إلى زيد وعمرو، ثم توفي قبل التعيين. قال صاحب التقريب: هذه المسألة كمسألة الحمل، وقد قال: إن كان في بطنك غلام، فقد أوصيت له بألف، فانفصل غلامان، ووجه التشبيه [بيّن] (2)، وقد ينقدح للفقيه فرقٌ بينهما؛ فإن قوله: أوصيت لأحدكما تنصيصٌ منه على تخصيص أحدهما بالاستحقاق، وحرمان الثاني، فيبعد قول الاشتراك في هذه المسألة، ويجرى قولُ تعيين الوارث، وقول الوقف بينهما.

_ (1) في الأصل: ينصرف الأول. (2) زيادة اقتضاها السياق.

وإذا قال: إذا كان في بطنك غلام، أمكن أن يُتخيّل من لفظه صرف الوصية إلى جنس الغلامين؛ إذ ليس في لفظه نفيٌ وإثبات بين غلامين، ومسألة نكاح المشركات بالوصية لأحد الرجلين أشبه؛ فإن الزوجية لا يفرض شيوعها في ثمانٍ، على ما سنصف ذلك في موضعه، إن شاء الله عز وجل. 7366 - ولو أوصى بشيء لحمل امرأة من زيد، فأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوصية، [فظاهر الإمكان] (1) يلتحق فيه [بزيد] (2)، لكن زيداً نفاه باللعان، فقد حكى العراقيون والشيخ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - أن الوصية لا تثبت؛ فإن النسب من زيد قد انتفى، وشرط ثبوت الوصية ثبوتُ النسب من زيد. والوجه الثاني - حكاه العراقيون عن أبي إسحاق المروزي: إن الوصية تثبت، وإن انتفى النسب باللعان؛ فإنه يثبت ظاهراً [للإمكان] (3)، وهو يعتمد للنسب، فإن نفينا النسب -لضرورةٍ داعية- باللعان، فلا ينقطع الإمكان المعتبر في باب الوصية، حكَوْا ذلك، وزيفوه [وعدّوه] (4) من غلطاته. 7367 - ولم يتناه الشيخ (5) في تزييف ذلك، وبنى عليه مسألة أخرى، تتعلق بأحكام النسب، فقال: لو أتت امرأةُ الرجل [بولدين] (6) توأمين من بطن واحدٍ، فنفاهما الزوج باللعان، فلا شك أنهما يتوارثان بقرابة الأم، فإنهما يُنسبان إلى الأم، وإن كانت زانيةً، فهما إذاً أخوان من الأم، وهل يثبت بينهما أخوة الأب حتى يقال: إنهما أخوان من أبٍ وأمٍّ؟ ذكر الشيخ وجهين مأخوذين من المأخذ الذي ذكرناه في الوصية: أحدهما - أن

_ (1) ما بين المعقفين مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (2) في الأصل: زيد. (3) في الأصل: ظاهر الإمكان. (4) في الأصل: وعلّوه. (5) الشيخ: المراد به الشيخ أبو علي السنجي. (6) في الأصل: مولدين.

الأخوّة من الأب لا تثبت بينهما؛ لأن الأبوة لم تثبت، بل انتفت. والأخوة من الأب متفرعة على الأبوة. والوجه الثاني - أنه تثبت بينهما أخوة الأب؛ تعويلاً على الإمكان، وقيام الفراش، وكأن هذا القائل يزعم أن أثر اللعان في النفي يختص بالملاعِن؛ فإن اللعان حجةُ خصوص. وهذا لا حاصل له، وهو من خيالات الاحتجاج. فإن قيل: هلا تردد الأصحاب في أن الرجل إذا قذف امرأته بأجنبي (1)، [والْتعن فلا يندفع عنه الحد] (2)؛ من جهة أن اللعان يختص بالنكاح ولا يتعلق بالأجنبي (3)؟ قلنا: هذا مما يتوجه به أحد الوجهين، ثم الأصحاب [عدّوا] (4) ذكر الأجنبي من الضرورة (5)، على ما قررناه في مسائل اللعان. 7368 - ومما ذكره الشيخ أبو علي رحمة الله عليه في شرح الفروع أنه لو أوصى لحمل امرأة، فأتت بولد لدون ستة أشهر من وقت الوصية، ثم أتت بولدٍ آخر لأكثر من ستة أشهر من وقت الوصية، ولأقل من ستة أشهر من الولادة، فالوصية مصروفةٌ إلى

_ (1) بأجنبي: أي سمّى الزاني الذي قذفها بالزنا به. (2) ما بين المعقفين مكان عبارة غير مستقيمة، وفي أولها كلمة قرأناها بصعوبة (انظر صورتها). (3) المعنى لا يندفع عنه حد قذفه للأجنبي الذي ذكره؛ لأن أثر اللعان يختص بالنكاح، ولا يتعداه إلى غير الزوجين. والمذهب أن اللعان يُسقط حقَّ الأجنبي الذي قذفها به في المطالبة بالحد (ر. الروضة: 8/ 344). (4) في الأصل: عدداً. (5) عدوا ذكر الأجنبي من الضرورة: أي إذا قذف الزوج امرأته بأجنبي عيّنه، فيذكر اسمه ضرورة في صيغة اللعان عند ملاعنته زوجته، فيشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا بفلان، فإن فعل ذلك سقط عنه الحد بقذف هذا الأجنبي، فإن لم يذكره، لم يسقط عنه الحد، وجاز لهذا الأجنبي أن يطالب بحده حدّ القذف، قال النووي: هذا هو الأظهر. فعلى هذا إن أراد إسقاط حق الأجنبي، فطريقه أن يعيد اللعان ويذكره. قلت (عبد العظيم): جعل ذكره الأجنبي ضرورة ردُّ على من قال: إن اللعان يختص بالنكاح، ولا يتعلق بالأجنبي. (ر. روضة الطالبين: 8،/344، 345).

الولدين جميعاً؛ فإنا تبيّنا أنهما حملٌ واحد؛ تحققنا الوجود بانفصال الولد الأول دون ستة أشهر، [وتحققنا من وجود الثاني لانفصاله بعد الأول لدون ستة أشهر] (1) فانتظم من مجموع ذلك أنا استيقنا وجودهما جميعاً حال الوصية. وهذا ظاهر [لا إشكال] (2) فيه. وقد انتهى تفصيل القول في الوصية للحمل. 7369 - [ونحن] (3) الآن نذكر الوصية بالحمل فنقول: الوصية بالحمل جائزة إذا تحقق وجوده حالة الوصية، [بان] (4) تأتي الأم به لأقلّ من ستة أشهر من وقت الوصية. فإن كانت الوصية [بحمل بهيمة] (5)، فالرجوع [فيها] (6) إلى أهل الخبرة، فإن [زعموا] (7) أنه لم يحدث علوق بعد الوصية، فالحمل [موصىً] (8) به إذا انفصل. وليس عندنا في حمل البهائم ضبط في الأوقات [يُرجَع] (9) إليه، على حسب ما ذكرناه في بنات آدم؛ فإن العلماء اعتنَوْا بتتبع أوقات الحمل في النسوة، وأحاطوا بالأكثر والأقل، وحكَّموا الوجودَ (10) في ذلك تحكيمهم إياه في أقل الحيض وأكثره، وأوقاتُ الحمل في البهائم تختلف باختلاف أجناسها، فليقع الرجوع إلى أهل الخبرة، فإن قطعوا بطريان الحمل، فلا وصية، وإن قطعوا بوجوده، أثبتنا الوصية. فإن كان قَرُبَ الزمان، فترددوا، فلم يُبعدوا طريان الحمل بعد الوصية، أبطلناها.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "ظاهر الإشكال" وهو عكس المعنى المراد. (3) في الأصل: والحق الآن. (4) في الأصل: منها. (5) في الأصل: ليحمل بهبة. (6) في الأصل: منها. (7) في الأصل: فإن فاعلموا. (8) في الأصل: مرضي به. (9) في الأصل: رجع. (10) الوجود: أي الوقوع، وذلك هو المنهج الاستقرائي بعينه الذي يتبع في هذه الدراسات.

ومما يختص بهذا الطرف أنه لو أوصى لإنسان بحمل جارية منكوحة، فلو انفصل الحمل ميتاً، فلا أثر للوصية، ولو انفصل بجناية جانٍ وألزمناه ما يلزم في الأجنة (1) المملوكة [فالوصية] (2) ثابتة، وما أُلزمه الجاني مصروف إلى الموصى له، وليس كما إذا كان الحمل موصىً له، ثم انفصل ميتاً بجناية جانٍ؛ فإنا لم نصادف للموصى له حياة، فوقعت الوصية [لمن] (3) لم نعلم حياته، والحمل لا يمتنع تعلّقُ [الحكم] (4) به حملاً، وإذا انفصل بجناية جانٍ، قام الغرم على الجاني مقام حياة الجنين لو انفصل حياً؛ فإن المالية دامت بالتزام الجاني بدل الجنين. وهذا واضح. 7370 - ولو أوصى بالحمل كما ذكرنا، فانفصل حياً ومات، فمؤونة تجهيزه على الموصى له، ولو انفصل ميتاً، فالذي أراه أن الموصى له لا يلتزم مؤنة تجهيزه؛ من جهة أن الوصية تعتمد ثبوت المالية، أو ثبوت كون الموصى به منتفعاً به، ولم يتحقق واحد منهما، إذا انفصل الحمل ميتاً، فالوجه أن يتبع الحمل الجارية، فيقوم بتجهيزه من يقوم بمؤونة الجارية. 7371 - ومما يتعلق الفصل [به] (5) أنا إذا جوّزنا الوصية بالحمل، فيجوز استثناء الحمل من الوصية بالجارية، وذلك بأن يوصي لإنسان بجاريةٍ حاملٍ دون ولدها، وهذا على خلاف حُكمنا في البيع؛ فإنه لما لم يجز إفراد الحمل بالبيع، لم يجز استثناء الحمل عن بيع الجارية، على ما فصلتُ المذهبَ فيه في كتاب البيع. ولا خلاف أنه لو أوصى بجاريةٍ لشخصٍ وبحَمْلها لآخر، صح، ولو أطلق الوصية بالجارية الحامل، ولم يتعرض لحملها بنفي ولا إثبات، [ففي] (6) اشتمال الوصية على

_ (1) في الأصل: الأجنة والمملوكة. (2) في الأصل: بالوصية. (3) في الأصل: إن. (4) في الأصل: الكل. (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: وفي.

الحمل احتمال ظاهر، مستنده إلى تردد العلماء في أن الحمل هل يحل محل أجزاء الأم في تناوله الاسم المطلق الواقع على الأم؟ ولهذا التفات على قواعد يكفي التنبيه عليها. ثم إن قلنا: لا يدخل تحت الوصية بالجارية، فإنه يبقى ملكاً للموصي، ثم يخلُفه الورثةُ فيه. صيان قلنا: تتناوله الوصيةُ، فإذا انفصل قبل موت الموصي، وقد كان موجوداً حالة الوصية، فهو يوصي به. فإن أوصى بالجارية مطلقاً، وقضينا باشتمال الوصية على الحمل، فلو أوصى بعد ذلك بحملها لآخر، فإن رجع عن الوصية الأولى، ثبت الرجوع، واختص الموصى له الثاني بالحمل، وإن لم يرجع عن الوصية الأولى، ازدحمت وصيتان على الحمل، وكان هذا كما لو أوصى بعبدٍ لزيد، ثم أوصى به لعمرو، فالعبد بينهما نصفان. وحساب المسألة يقام على قاعدة [العول] (1)، فهذه مسألة عالت [بكلها] (2) ويقتضي ذلك التنصيف. 7372 - ومما يتعلق بهذا المقصود أنه لو أوصى بحمل جاريةٍ، ثم تحققنا أنه لم يكن حالة الوصية حملٌ، ولكن الجارية علقت بعد الوصية، فليس الحمل الحادث موصىً به. وإن تردد الأمر، فهو على القياس [المقدّم] (3) في الوصية للحمل. 7373 - ولو قال الموصي: أوصيت لك [بما] (4) ستحمل هذه في المستقبل، أو أَوْصى [بنتاجٍ اعتاده] (5) في المستقبل.

_ (1) في الأصل: القول. (2) في الأصل: وكلها. ومعنى عالت بكلها، أي ضعفها، أي بمثل الأصل. (3) في الأصل: العدم. (4) في الأصل: ما. (5) كذا قرأناها بعد جهدٍ جهيد. فحمداً لله ملهم الصواب.

ضبطُ (1) المذهب في ذلك أن الوصية بمنافع الدار وغيرها في المستقبل جائزة وفاقاً -على ما سنعقد في ذلك فصلاً على أثر هذا، إن شاء الله عز وجل- وإن (2) كانت المنافع معدومة في الحال؛ لأن الشرع ألحق [توقّعَ] (3) الوجود منها حالاً على حال بتحقق الوجود في الأعيان، ولذلك صحت الإجارة، ومقصودُها المنافع التي ستكون. فأما إذا أوصى بما سيكون من حمل، أو نتاجٍ، ففي صحة الوصية وجهان مشهوران: أحدهما - أنها تصح قياساً على المنافع. والثاني - لا تصح؛ فإن ارتقاب وجود المنافع تباعاً ووِلاء في الاعتياد ملتحق بالحاصل الكائن، والنتاج والولد [أعيان] (4) لا يستند التوقع فيهما إلى ثبت واطراد في الاعتياد. ولو أوصى لإنسان بالثمار التي ستكون في مستقبل الزمان، فلأئمتنا طريقان: منهم من ألحق هذه الوصية بالوصية بالنتاج المنتظر والحمل المتوقع؛ من جهة أن الثمار إذا وجدت، كانت أعياناً كالنتاج والولد، وليست كالمنافع؛ فإن المنافع في وجودها لا تبقى، فلا تعويل على وجودها؛ إذ لا ننالها بعد الوجود، ولو لم يكن التصرف متقدماً على وجودها، لم يُتصوّر فيها التصرف، والأعيان إذا وجدت، بقيت، فأمكن ارتقاب وجودها حتى يعتمدَ التصرفُ الوجودَ المستمر. ومن أئمتنا من ألحق الثمار بالمنافع، فقطع بجواز الوصية بها، واستدل هؤلاء بأن قالوا: وجدنا في قبيل الثمار تصرفاً لازماً وارداً على الثمار المتوقعة، وهي المساقاة، فالتحقت الثمار لذلك بالمنافع، وليس في قبيل المعاملات ما يلزم على الحمل والنتاج في الاستقبال.

_ (1) ضبط المذهب: حقه أن يكون بالفاء جواباً للشرط. ولكنه جعل الجواب مفهوماً، تقديره: فما الحكم؟ وجاءت هذه استئناف كلام. (2) وإن كانت: متعلق بقوله: جائزة. (3) في الأصل: يرفع. (4) في الأصل: عيان.

وإن التفت ملتفتٌ إلى السّلم في الحيوان، فهو [منقطع عما] (1) نحن فيه؛ فإن معتمد السلم الذَّيْن الواقع في الذمة معلوماً بالوصف مقدوراً عليه عند توجه الطلب، وعلى الفقيه تكلف في الحكم بأن المسلم المتعين بالتسليم هو المسلَم فيه، ولولا أن سبيل تأدية الديون هذا، لقلنا: ليس المقبوض مسلماً فيه. والوصايا إذا أضيفت إلى نتاج [أغنام] (2) بأعيانها، فهي بعيدةٌ عن وضع السَّلَم؛ فإن التعيين والسلم يتنافيان. 7374 - ومما يتصل بتمام القول في ذلك [أنا] (3) إن منعنا الوصيةَ بما سيكون من حمل، أو أجزناها، ففي الوصية للحمل الذي سيكون تردد [ظاهرٌ للأصحاب] (4): قال العراقيون: المذهب في ذلك المنع؛ فإن حق الوصية أن ترتبط بالموجود وتصح الوصية له حال الإنشاء، والعدمُ يضاد [الإثبات] (5). ولا تصح الوصية لكل ثابت فكيف تصح [لمن] (6) لا ثبوت له. وحكَوْا عن أبي إسحاق المروزي أنه أجاز الوصية [لمن] (7) سيكون، وزيفوا مذهبه في ذلك. وليس ما قاله أبو إسحاق بعيداً عندنا؛ من جهة أن الوقف يصح على من سيكون، إذا وَجَد الوقفُ مورداً في الحال، وهذا سبيل وقف الرجل على أولاده، وأولاد أولاده ما توالدوا، ولو كان الوقف منقطع الأول، وكان وروده على [متوقع] (8)، ففيه اختلاف قدمته في كتاب الوقف، والوقف من التصرفات الناجزة اللازمة، فإذا تطرق إليها خلافٌ في صورةٍ، فاللائق بالوصية القطعُ بصحتها فيها؛ فإن مبنى الوصية على

_ (1) في الأصل: مقتطع ما نحن فيه. (2) مكان كلمة لم نستطع قراءتها بعدُ، رسمت هكذا: (الحمام). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: تردد الأصحاب ظاهر. والمثبت تقدير منا؛ فهو المعهود دائماً في عبارات الإمام. (5) في الأصل: لا ثبات. (6) في الأصل: إن. (7) في الأصل: من. (8) في الأصل: يتوقع.

التوقع، وإذا كان يستأخر القبول فيها عن الإيجاب، فليس الاستئخار بعيداً في وضعها. وهذا نجاز القول في الوصية للحمل، والوصية بالحمل. فصل قال: " ولو أوصى بخدمة عبده، أو بغَلّة داره، أو بثمرة بستانه، والثلث يحتمله، جاز ذلك ... إلى آخره " (1). 7375 - اتفق الأئمة على صحة الوصية بمنافع الدور وغيرِها، من العقار، والعبيد، والدواب، وكلُّ منفعة يثبت استحقاقها بطريق الإجارة يصح الوصية بها، ثم أصل القول فيها أنها ليست إعارةً على قاعدتنا، ولذلك تلزم الوصية بها إذا اتصفت بالقبول، والعواري لا تلزم. وأبو حنيفة رحمه الله (2) زعم أن الوصية بالمنافع في معنى الإعارة، ولكنها من حيث إنها تقع بعد موت المبيح تلزم؛ فإن الرجوع في العاريّة يثبت للمعير، وتنقطع العاريّة بموته، وابتداء الوصية يقع بعد [موت] (3) الموصي، فكان لزومها لذلك. وليس الأمر على هذا الوجه عندنا؛ ولكن الإعارة لم تلزم؛ من جهة أنها نِحْلةٌ وهبة، وركنُ لزوم الهبات القبض، والقبض لا يلزم في المنافع؛ من حيث إنه لا يتحقق وجودها، والوصية [منيحة] (4) ولكنها لا تستدعي في تمامها الإقباضَ؛ فإنها تلزم بالقبول إذا وسعها الثلث في الأعيان من غير جريان القبض [فيها] (5). وحقيقة المذهب في المنافع الموصى بها أنها [تصير] (6) ملكَ الموصَى له، كما أن

_ (1) ر. المختصر: 3/ 161. (2) ر. البدائع: 7/ 352، والهداية: 4/ 252. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: منحية. (5) في الأصل: منها. (6) زيادة من المحقق.

الأعيان تصير ملكاً للموصى له، [وآية] (1) ذلك أنه ينفذ تصرفه في المنافع بالإجارة، والمستعيرُ لا يصح منه إجارة المستعار، والمنافع لا يستوفيها ملكاً، وإنما يستوفيها على حكم الإباحة، وهي قريبة الشبه من إباحة الطعام للضيفان. ولهذا المعنى لم تكن العين الموصى بمنفعتها مضمونةً على الموصى له، بخلاف العين المستعارة؛ فإن المستعير لا يثبت له استحقاق في المنافع، والموصى له يستحق لها، على ما قدرنا مسالك الجمع والفرق في مسألة العارية. فهذا بيان حقيقة الوصية بالمنفعة. 7376 - ثم إنا نذكر بعد هذا أصولاً في هذه القاعدة، ونذكر في كل أصل ما يتصل به؛ فإن شذت مسائل رسمناها فروعاً، على [دأبنا] (2) في أصول المذهب. 7377 - فممّا نرى تقديمَه القولُ في بيع العين الموصى بمنفعتها، فإن كانت المنفعة الموصى بها [مُقدّرةً] (3) مضبوطة بأمدٍ مضروبٍ، فالقول في جواز بيع [العين] (4) الموصَى بمنفعتها كالقول في بيع الدار المستأجرة؛ فإن الاستحقاق في المنفعة والاستيلاء على العين بسببها ثابتٌ في الموضعين، والاستحقاق مؤقت. وإن أوصى الموصي بمنفعة عينٍ أبداً، فالوصية صحيحة، لم يختلف في صحتها علماؤنا وإن قال قائل: إنها مجهولة، فالجهل لا ينافي صحة الوصية، وإنما يراعَى الإعلام في [الأعواض] (5) والمعوّضات في عقود [المعاوضة] (6)، ثم العين الموصى بمنفعتها [أبداً] (7) لا يصح بيعها إذا لزمت الوصية، وتمت بالقبول، وفي الثلث. هذا هو المذهب الظاهر.

_ (1) في الأصل: رواية ذلك. (2) في الأصل: رأينا. (3) في الأصل: فقدره. (4) في الأصل: العتق. (5) في الأصل: الأعراض. (6) في الأصل: المعارضة. (7) في الأصل: إنه.

وذكر العراقيون من طريق التنبيه وجهاً عن بعض الأصحاب في تخريج بيع العين الموصى بمنفعتها أبداً على القولين، وصرح بنقل هذا الوجه الشيخ أبو علي في الشرح، وهذا بعيد؛ فإن العين مسلوبةُ المنفعة. ووجهُه على بعده أن الملك في الرقبة لا يَنقُص [بها] (1)، وامتناع الانتفاع ينزل منزلة امتناعه بزمانة (2) العبد، ولم يختلف علماؤنا في جواز بيع العبد الزَّمِن، الذي لا انتفاع فيه. وهذا ملتبس؛ من جهة أن المعتمد في منع البيع ثبوتُ يد مستحق المنفعة، وامتناعُ إزالتها، وهذا لا يتحقق في الزَّمِن. والتعلق بالنكاح في توجيه الوجه البعيد أمثلُ؛ فإن النكاح معقود على التأبيد، ثم لا يمتنع به البيع في الرقبة. 7378 - وإذا جرينا على المسلك الأصح، وهو المنصوص عليه للشافعي، وصححنا الوصية بالثمار التي ستكون في المستقبل كتصحيحنا الوصيةَ بالمنافع، فتفصيل القول في بيع الأشجار الموصى بثمارها، كتفصيل القول في بيع العين الموصى بمنفعتها، [فالمقدّر] (3) من الثمار كالمقدّر من المنافع، والاستحقاق على التأبيد في الثمار يضاهي المنفعة المؤبدة في ترتيب المذهب في بيع الأعيان. وكان شيخي أبو محمد يقطع القول بأن [الوصية] (4) بأولاد الأمة في مستقبل الزمان لا تمنع بيعها قولاً واحداً؛ فإن منافعها باقية، وولدُها ليس مما يؤثِّر ويقدح في تمام الملك في الرقبة، وكان [يتردّد] (5) في بيع المواشي الموصى بنتاجها، وصغْوُه الأظهر إلى صحة بيعها. ويتجه عندي تصحيح بيع الأشجار الموصى بثمارها؛ فإن الذي يتجه اعتماده في

_ (1) بها: أي الوصية بالمنفعة. وفي الأصل: منه. (2) الزمانة: مرض يدوم، والاسم منها: الزمن. (مصباح). (3) في الأصل: كالمقدّر. (4) في الأصل: بأن الموجب. (5) في الأصل: تردّدَ.

منع بيع العين الموصى بمنفعتها استيلاء المنتفع بها، [وإدامة] (1) اليد عليها، لا سقوطُ المنفعة؛ فإنا لو اعتمدنا سقوطَ المنفعة، لترددنا في بيع المعضوب (2) الزَّمِن، ولا تكاد تثبت اليدُ على الأشجار للموصى له بثمارها؛ فإنه [يبغي] (3) ثمارها إذا برزت الثمار، ولا تطّرد يده اطراد يد الموصى له بالمنفعة والمستأجر، وهذا بمثابة النكاح؛ فإن الزوج وإن كان يستحق [الاستخلاء] (4) بزوجته الأَمة لقضاء الوطر منها، فليست يده يد استيلاء، ويد السيد أغلب وأعلى من يده. فانتظم [مما] (5) ذكرناه تردّدُ الأصحاب في المنافع، كما تفصل المذهب فيها، والقطعُ بأن الوصية بولد الجارية [لا تمنع] (6) بيعها، وفي المواشي الموصى بنتاجها تردّدٌ [للأصحاب، ونزَّلوا] (7) الأشجار الموصى بثمارها منزلة الأعيان الموصى بمنافعها، وفي ذلك شيء نبهت عليه. 7379 - ومما يتعلق بهذا الأصل أن ابن الحداد قال: إذا أوصى رجل لرجل بدرهم من غلّة [داره] (8)، وكانت أجرة الدار مائة درهم، فإذا كانت الوصية [مؤبّدة] (9)، امتنع البيع في جميع رقبة الدار؛ جرياً على الأصح في أن التأبيد يمنع البيع، وغرضه بذكر هذه الصورة أن يبيّن أن البيع ينحسم في جميع الدار، وليس للقائل أن يقول: ينبغي ألا يمتنع البيع إلا فيما [يُدرّ] (10) مقدارَ الدرهم من الدار؛ فإن الدار قد ترجع غلتها إلى مقدار درهم، وهذا من قول ابن الحداد دليل على امتناع بيع الأشجار

_ (1) في الأصل: وامه. (2) المعضوب: الذي لا حراك به عجزاً وزمانة (مصباح). (3) مكان كلمة لم نُساعد على قراءتها بعدُ، رسمت هكذا " معى ". (4) في الأصل: الاستخلال. (5) في الأصل: ما. (6) في الأصل: لا يقع. (7) في الأصل: تردد الأصحاب تركوا الأشجار ... إلخ. (8) في الأصل: دايرة. (9) في الأصل: مرتدة. (10) في الأصل: بعد.

الموصى بثمارها؛ فإنه فرض [مسألته] (1) في الوصية بالولد، ولم يفرضها في إثبات حق الانتفاع [الذي] (2) يستدعي استيلاء يده على رقبة الدار. هذا تمام الغرض في هذا الركن. 7380 - ومن أركان الفصل القولُ في كيفية اعتبار خروج المنفعة الموصى بها من الثلث، فنقول: هذه الوصية معتبرةٌ من الثلث اعتبار غيرها، فالموصي وإن كان خلّف على ورثته تركته، فالمنافع التي ستوجد بعد وفاته ملحقة في اعتبار الوصية بها من الثلث، باعتبار التركة، [فلينتبه] (3) الناظر عند ذلك. وقد نقول: منافع أعيان التركة ليست من التركة، حتى لا يتعلق بها قضاء الديون [وتنفيذ] (4) الوصايا، ولعلنا نذكر تحقيق ذلك في أثناء الكتاب، إن شاء الله عز وجل. وسبب هذا أن الوصية بالمنافع [تنقُص] (5) قيمةَ الأعيان، وتؤثر [فيها] (6) أثراً بيّناً. فهذا وجه عدّ الشرع [المنافع] (7) من الثلث، وأيضاً، فإن ما أدخله من المنافع في تصرفه صار كالناجز المحصل، فإذا أوصى بها، فكأنها حصلت. 7381 - فإذا وضح بالتنبيه الذي ذكرناه [الأصلَ المجمعَ] (8) عليه، وهو اعتبار الوصية بالمنافع من الثلث - فالكلام بعد هذا في بيان ما يحسب من الثلث، والوجه أن نقسم القول، فنقول: الوصية لا تخلو إما أن تقع على التأبيد، وإما أن تقع على التأقيت؛ فإن وقعت على

_ (1) في الأصل: مسألة. (2) في الأصل: التي. (3) كذا قرأناها بصعوبة وقدرٍ كبير من التوسم. (4) في الأصل: "فتنفيذ". (5) في الأصل: يقتص. (6) في الأصل: بها. (7) في الأصل: بالمنافع. (8) في الأصل: لأصل الجميع.

التأبيد، والتفريعُ على الأصح، الذي هو الأصل في أن الوصية بالمنفعة على التأبيد إذا لزمت، [امتنع] (1) منها بيع العين. فإذا فرعنا على هذا، فقد اختلف أئمتنا فيما يعتبر خروجه من الثلث، فمنهم من قال: المعتبر خروجُ قيمة العين من الثلث؛ فإنها مسلوبة المنفعة في جهة الوصية، والتصرفات ممتنعة على الورثة بحيلولةٍ دائمةٍ، وكأن العين مستهلكة [من] (2) حقوقهم، وكأن الوصيةَ واقعةٌ بالرقبة. ومن أصحابنا من قال: تعتبر قيمةُ المنافع وخروجُها من الثلث؛ فإنها الموصى بها، والسبيل في اعتبارها أن نقول: هذا العبد كم يساوي مع وفور المنفعة؟ فيقال: مائة، فنقول: كم قيمته، وهو مستحق المنافع؟ فيقال: عشرة، فنتبين أن قيمة المنفعة تسعون. فهذا وجهُ الوصول إلى معرفة قيمة المنفعة، ومعنى اعتبارها من الثلث. التفريع على الوجهين: 7382 - إن اعتبرنا خروج الرقبة من الثلث، فلا كلام، ومعنى اعتبار الرقبة اعتبار خروج قيمتها موفورةَ المنافع. فإن قلنا: الاعتبار بخروج قيمة المنفعة من الثلث، على ما أوضحنا معنى ذلك، فالمقدار الذي يُفرض قيمةَ الرقبة وهي مسلوبة المنفعة هل يحسب على الورثة من التركة أم لا يحسب عليهم؛ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها محسوبة على الورثة من التركة؛ فإنها حقهم وملكهم استحقوها إرثاً. والوجه الثاني - أنها لا تحتسب من مقدار الوصية؛ فإن الموصى بها المنفعة، ولا تحسب على الورثة، لوقوع الحيلولة المؤبدة بينهم وبينها (3). هذا أصل القول فيما يحتسب من الثلث، إذا كانت المنافع مؤبدة في مقتضى الوصية.

_ (1) في الأصل: انتفع. (2) في الأصل: في. (3) أي لا تحسب على هؤلاء، ولا على هؤلاء، هذا هو الوجه الثاني.

وعلينا في ذلك بقية سنذكرها، إن شاء الله عز وجل إذا تكلمنا في الوصية المؤقتة، فنقول: 7383 - قدمنا التفصيل في أن الموصى بمنفعته على التأقيت هل يجوز بيعه؟ فإن قضينا بجواز بيعه، فلا خلاف أن المحتسب من الثلث أجرة المنافع لا غير. وقد يعترض في هذا المنتهى إشكال؛ فإن المنافع ليست بتركةٍ على الحقيقة -كما نبهنا عليه- فكان يجب أن نجعل الموصي بالمنافع في حكم من لم يتصرف في التركة، وهذا غير سديد؛ فإنه لو كان كذلك، [لانتفت] (1) الوصية بالمنفعة رأساً؛ فإنها تصرفٌ في حق الورثة، فإذا نفذنا الوصية، دلّ [ذلك على] (2) أن المنافع ملحقةٌ بالتركة في هذه القضية، وأيضاً، إن الوصية بالمنفعة تؤثر في قيمة العين، وتقلل الرغبة فيها. هذا إذا قلنا: الوصية المؤقتة لا تمنع البيع. فأما إذا قلنا: الوصية المؤقتة تمنع بيعَ العين ما دامت، فلأئمتنا طريقان: منهم من قطع بأن المحتسَب من الثلث قيمة المنافع، ومنهم من خرّج المسألة على وجهين، كالوجهين المقدّمين في الوصية بالمنفعة على التأبيد. أحدهما - أنا نعتبر خروج قيمة الرقبة لمكان الحيلولة الواقعة في [الحال] (3) ولا ننظر إلى توقع انقضاء الحيلولة بانقضاء المدة المضروبة. والوجه الثاني - أن الذي يعتبر خروجُه المنافعُ، ولا مبالاة بالحيلولة الناجزة في العين إذا كانت عرضة الزوال. فإن قيل: هلا جعلتم الحيلولة الواقعة في العين [بمنزلة] (4) الحيلولة الحاصلة في الثمن [بالأجل] (5) المضروب [فيه] (6)، حتى تسلكوا بهذا مسلك البيع بالثمن

_ (1) في الأصل: لانتفعت. (2) ساقط من الأصل. (3) في الأصل: الحالة. (4) في الأصل: منزلة. (5) في الأصل: بالأصل. (6) في الأصل: قيمة.

المؤجل؟ قلنا: هذه الحيلولة، مع حصول العين، وتوقع الزوال لا مبالاة بها؛ فإنا لا نعرف خلافاً في أن المريض إذا أجّر داره بأجرة مثلها، والتفريع على أن الدار المستأجرة لا تباع، فلا نقول: إذا مات المكري في أثناء المدة نبيع [عقاره] (1) بالنقص؛ فإن الإجارة من عقود الغبطة، وكان أوقع حيلولةً [بعوض] (2). ولو باع عَيْنَه بعوض، لنفذ فيه، فلا فرق إذاً بين الإجارة، وبين الوصية بالمنفعة [إلا أن] (3) الإجارةَ معاوضة، والوصية تبرّع، ثم حق ما كان تبرعاً أن يحتسب من الثلث؛ فإنّ الثلث يستحق للمريض لا يعترض عليه فيما يوقعه [فيه] (4). هذا بيان أصل المذهب في أنَّ المحتسب من الثلث [ماذا؟] (5) قيمة المنفعة أو قيمة العين في الوصية المؤقتة والمؤبدة. 7384 - ومما نستكمل به بيان هذا الفصل أن الثلث إذا ضاق عن احتمال الوصية بالمنفعة، واقتضت الحالُ، رَدَّ الوصية إلى الثلث، ففي كيفية ردها كلام، نحن نفصّله، فنقول: إن كانت الوصية بالمنفعة مؤقتةً، [كأن] (6) أوصى بخدمة عبده عشر سنين، فقد ذكرنا أن الاعتبار بخروج المنافع من الثلث، فعلى هذا إذا كان العبد يساوي مائة، وما كان خلّف سواه شيئاً، فنقول: منافعه عشرَ سنين كم تساوي؟ فإن قيل: إنها تساوي ثُلُث المائة، والعبد الآن دون منافعه في العَشْر يساوي ثلثي المائة، فالوصية منفّذة؛ فإنها خارجة في الثلث والثلث [وافٍ] (7) بها. وإن كانت المنافع في عشر سنين تساوي خمسين، والعبد مع استحقاق منافعه في

_ (1) في الأصل: عقده. (2) في الأصل: بعرض. (3) في الأصل: الآن. (4) في الأصل: توقعه عنه. (5) في الأصل: فإذا. (6) في الأصل: وكان. (7) في الأصل: داقر.

العشر يساوي في الحال خمسين، فلا بد من ردّ الوصية إلى الثلث، وقد اختلف أصحابنا في كيفية ردها، فمنهم من قال: ننقص من المدة ونردها إلى قدر الثلث، ويكون جميع العبد مستحَق المنفعة في أقلَّ من المدة التي ضربها، على ما يقتضيه الحساب. والوجه الثاني - أنا لا ننقص من المدة، ولكن ننقص من الرقبة، فنقول: إذا كان الثلث لا يفي باستحقاق جميع منفعة العبد عشرَ سنين، وكان يفي باستحقاق منفعة ثلثي العبد، أو ما يتفق عشْرَ سنين، فنرد الأجرة (1) إلى بعض الرقبة في تمام المدة، ولا ننقص من المدة شيئاً. وارتضى الشيخ أبو علي هذا الوجهَ، وذلك أن المدة قد تختلف أجرتها، فلو نقصنا من المدة، وقعنا في جهالة يتعذر ضبطها. ويمكن أن يقال: هذان الوجهان متعلّقان بأن البيع هل يُمنع في الرقبة لمكان الوصية؟ فإن قلنا: إن البيع لا يمتنع في الرقبة، فينقدح خروج الوجهين لما ذكرناه في الوجه الثاني [الذي] (2) اختاره الشيخ. وإن قلنا: البيع يمتنع في الرقبة، فالظاهر ردّ الأجرة، وأن [ننقص] (3) الرقبة حتى ترتفع الحيلولة عن بعضها (4)، وينطلق [فيه] (5) تصرف الورثة، وكل ذلك على أن المعتبر خروج المنفعة من الثلث، فإذا اعتبرنا خروجَ الرقبة، فلا يخفى أنا نرفع الحيلولة عن ثلثي الرقبة إذا لم يخلِّف غيرَها. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الوصية بالمنفعة مؤقتة. 7385 - فأما إذا كانت الوصية بالمنفعة مؤبدة، والتفريع على الأصح، وهو امتناع البيع في الرقبة، فلا يتجه في هذا القسم إذا طلبنا ردّ بعض الوصية إلا تبعيضَ الأمر في

_ (1) الأجرة: المراد قيمة المنفعة وتقديرها. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: نقص. (4) ترتفع الحيلولة عن بعضها: المعنى أن نجعل الوصية بمنافع جزء من الرقبة، لا كل الرقبة، مثل خمسة أسداسها أو نحو ذلك. (5) في الأصل: قيمة.

الرقبة؛ فإنا إن اعتبرنا خروج الرقبة من الثلث، لم يخف ذلك، وإن اعتبرنا خروج المنفعة، فالمنفعةُ مؤبدة، لا نهاية فيها، ولا ضبط لها، ولا يمكن التصرف [فيها] (1) بالتبعيض، ولا وجه إلا تبعيض الوصية على الرقبة؛ حتى تثبت على التأبيد في بعض الرقبة، على ما يقتضيه الحساب. هذا تمام البيان في معنى احتساب هذه الوصية من الثلث، ونحن نختتمه بذكر سؤالٍ على وجه ضعيف وجواب عنه فنقول: 7386 - إذا فرعنا على الوجه الضعيف في أن الوصية بالمنفعة على التأقيت توجب احتساب الرقبة [من] (2) الثلث، فإذا كان أوصى بمنفعة عبده سنةً، ولم يكن له مالٌ غيرُ العبد، فالذي يقتضيه التفريع على الوجه الضعيف ردُّ الوصية إلى ثلث العبد ورجعها عن الثلثين. فإن قيل: إذا انقضت المدة، انطلق الحجر عن جميع الرقبة، واستمكن الورثة من جميع الرقبة، فلا تقع الوصية ثلثاً، وليس كان ينقدح ذلك في الوصية المؤبدة، من حيث إن الوصية المردودة إلى [الثلث مردودة إلى] (3) ثلث العبد متأبداً، وتنزل منزلةَ وقف جزء من العبد، وتحبيسه، [وهذا] (4) لا اتجاه له، والوصيةُ مؤقتة. قلنا: هذا يُضعف هذا الوجهَ، ويبين [سقوطه] (5). ثم الممكن في توجيه [هذا] (6) الوجه أن الوصية بالمنفعة المؤقتة مقصودُها تمكّن الموصى له من المنفعة مدة معلومة، ثم اقتضى وقوع الحيلولة ردّ الاعتبار إلى الرقبة، فإذا انقضت المدة التي ضربها الموصي، فقد انقضى ثلث مقصوده، وكأن هذا القائل لا ينظر إلى القيمة، وإنما يثلّث المنحة في نفسها بفضِّها على أجزاء العبد، فلئن انطلق

_ (1) في الأصل: منها. (2) في الأصل: عن. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: فهذا. (5) في الأصل: سقوط. (6) ساقطة من الأصل.

الحجر عن العبد، فهذا انطلاق على حسب مقتضى الوصية. والذي ذكرناه لا ثبات له؛ فإن الوصايا تعتبر من الثلث على قياس القيم وأقدارها، وهذا النوع من التثليث لا ينتظم فيه اعتبار القيمة أصلاً؛ فإنا اعتبرنا قيمة الرقبة وثبتنا التثليث عليها، ثم الثلث المصروف إلى الوصية استرددناه، ورددناه إلى الورثة. وقد نجز المقصود. 7387 - ومما يعد من أركان الفصل القول في نفقة العبد الموصى بمنفعته. حاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أصحها - أن نفقة العبد تجب على الورثة؛ فإن ملك الرقبة لهم، والنفقة تتبع ملك الرقبة إذا لم تثبت عوضاً في عقد، وهذا احتراز عن نفقة النكاح؛ فإنها بنيت على مضاهاة الأعواض، ولا ينظر إلى خروجها عن الضبط؛ فإنها تعارض (1) معوضاً خارجاً عن الضبط، وهو منفعة البضع. هذا ظاهر المذهب في نفقة العبد الموصى بمنفعته. ومن أصحابنا من قال: النفقةُ على الموصى له بالمنفعة، وهذا الوجه حكاه صاحب التقريب، ووجهه تشبيه استحقاقه المنفعة باستحقاق الزوج منفعة البضع. وهذا رديء، لا اتجاه له، والذي أرى القطعَ به تخصيصُ حكاية هذا الوجه بالوصية المؤبدة، فإنها إذا كانت مؤقتة، كان العبد الموصى بخدمته بمثابة العبد المستأجر، ثم نفقة العبد المستأجر على المالك، ثم [بنى] (2) صاحب التقريب فِطرة العبد على الخلاف في النفقة؛ فإن الفطرة تتبع النفقة، فإن أوجبنا نفقةَ العبد على الورثة، فعليهم زكاة فطره، وإن أوجبناها على الموصى له، فعليه زكاة فطره. وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً في النفقة، فقالوا: نفقة العبد تتعلق بكسبه [وحق] (3) الموصى له وراء عمل العبد في تحصيل [مؤنته] (4). ثم قالوا: إن عجز العبد عن

_ (1) تعارض: المعنى تقابل وتساوي. (2) في الأصل: بين. (3) في الأصل: وعن. وهو تصحيف خفي لم ندركه إلا بفضل من الله بعد معاناة شديدة. (4) في الأصل: مؤنة.

الكسب، فصاحب هذا الوجه لا يوجب نفقته على الورثة، ولا على الموصى له، بل يوجبها في بيت المال. وهذا فيه ضعف؛ من جهة أن صرف نفقة [المملوك] (1) على بيت المال مع استظهار (2) المالك وبقائه بعيدٌ، وكان لا يبعد في قياس هذا الوجه أن يقال: النفقة تتعلق بالكسب، فإن لم يكن، انقلب وجوبُها إلى الوارث، أو إلى الموصى له. فإن قيل: لم تذكروا متعلق الوجه الذي حكاه صاحب التقريب سوى التحكم بالتشبيه بالنكاح. قلنا: ذاك وجهٌ بعيد لا يتوجه، ثم الذي يظهر التعلّقُ به أنا لو صرفنا المنفعة إلى الموصى له أبدأ، [وصرفنا] (3) كلّ العبد ومؤونته على الوارث، لثقل وقع ذلك، وانضمّ إلى الحيلولة غُرم النفقة. وليس هذا كنفقة العبد المستأجر؛ فإن المكري اعتاض عوضاً من المنفعة، وعوض المنفعة في موجب العادة يقابل احتمال النفقة، وقد يظهر مع هذا التنبيه طردُ ذلك الوجه الضعيف في الوصية المؤقتة بالمنفعة. ثم ما ذكرناه في النفقة يطّرد في الكسوة، وفي جملة المؤن الواجبة على المالك في [مملوكه] (4). 7388 - ومما [يُعد] (5) من أركان الفصل الكلام في الجناية على هذا العبد، وفي جنايته. ونحن نبدأ بالجناية عليه، والقول فيه ينقسم إلى الكلام في [قتله] (6)، وإلى الكلام في الجناية على أطرافه.

_ (1) في الأصل: المملوكة. (2) استظهار: معناها هنا قدرة. (3) في الأصل: وضربنا. (4) في الأصل: مملوك. (5) في الأصل: يعمل. (6) في الأصل: مثله.

فإن قتله قاتل قتلاً يوجب المالَ، التزم قيمتَه، وفيمن تصرف إليه القيمة اضطرابٌ للأصحاب: فذهب ذاهبون منهم إلى أن القيمة مصروفةٌ إلى الورثة، وقد بطلت الوصية، وانقطعت؛ فإن الموصى له كان يستحق منفعته ما دام حياً، فإذ قتل، فقد [انتهت] (1) الوصاية به نهايتها، كما ينتهي النكاح بموت [الزوجة] (2) وقتلها؛ [فالقيمة] (3) تسلم إلى مالك الرقبة، وهو الوارث. ومن أصحابنا من قال: نصرف [تلك] (4) القيمة إلى [شراء] (5) عبدٍ ونقيمه [خادماً] (6) للموصى له بالخدمة، حتى نكون مقيمين [لحق] (7) مالك الرقبة [ولحق] (8) مالك المنفعة. وأبعد بعض أصحابنا، فزعم أن القيمة مصروفةٌ إلى الموصى له بالمنفعة، وزعم هذا القائل أن هذا الوجه يخرّج على اعتبار خروج قيمة الرقبة من الثلث، فإذا كنا نعتقد ذلك، فكأنا اعتقدنا كونَ العبد مستوعباً بحق الموصى له؛ فإذا قُتل، صرفنا القيمة إلى من اعتبرنا خروج القيمة من الثلث في حقه، ولا شك أن هذا الوجه إن صح النقلُ فيه إنما يجري إذا كان العبد موصىً [بمنفعته] (9) أبداً. والوجه الثاني [المذكور] (10) قبل هذا، يجري مع تأقت الوصية؛ فإن صاحب

_ (1) في الأصل: انبنت. وقد سوغّ لنا التغييرَ رعايةُ المزاوجة التي يريدها الإمام في عبارته: انتهت .. نهايتها. (2) في الأصل: الوصية. وهو تصحيف قريب، بل هو سبق قلم في الواقع. (3) في الأصل: بالقيمة. (4) في الأصل: ملك. (5) سقطت من الأصل. (6) في الأصل: "حال ما" كذا تماماً (انظر صورتها) وتأمل هذا التصحيف، وكيف الوصول -بفضل الله - إلى سرِّه، وحقيقته. (7) في الأصل: بحق. (8) في الأصل: ونحن. (9) كذا قرأناها بصعوبة (انظر صورتها). (10) في الأصل: المدرك.

ذلك الوجه يرى شراء عبد بتلك القيمة، ثم إذا مرّت المنفعة وانقضت المدة، خلصت الرقبةُ ومنفعتها للوارث. فإن قيل: أليس العبد المستأجر إذا قتل في أثناء المدة، ارتفعت الإجارة في بقية المدة، فما الفرق بين الإجارة وبين الوصية المؤقتة؟ قلنا: الإجارة عقد معاوضة، وإذا لم يَسْلَم فيه المعقود عليه [إن تملكه] (1)، فحكم [المعاوضة] (2) الانفساخ، ثم إنه [يرجع] (3) بقسط من [العوض] (4) ولا [تبعض] (5) في الوصية، فلو قطعناها، لكان ذلك إحباطاً (6) لحق الموصى له. وذكر بعض أصحابنا وجهاً رابعاً من أصل المسألة وقال: القيمة [تُفضُّ] (7) على المنفعة [به، وعلى] (8) الرقبة، [وهي مسلوبة المنفعة] (9)، فينصرف ما يخص المنفعة إلى الموصى له، وما يخص الرقبة إلى الوارث، وسبيل تقويم المنفعة [إن] (10) كانت مستحقة على التأبيد أن يقال: منفعة هذا العبد كم تساوي؟ والعبد مسلوب المنفعة كم يساوي؟ فإن قيل: كيف يتأتى تقويم المنفعة، [وهي] (11) مجهولةُ المقدار؟ قلنا: سبيل [تقويم المنفعة سبيل] (12) تقويم الرقبة؛ فإن قيمة الرقبة تتعلق برجاء البقاء، ولو علم طالب الرقبة أنها فائتةٌ على القرب، لم يرغب فيها، ثم القيمة معلومةٌ

_ (1) كذا تماماً. ولم نساعد على قراءتها. ولعلها: "لمن يملكه". (2) في الأصل: المعارضة. (3) في الأصل: رجع. (4) في الأصل: العرض. (5) كذا قرأناها بصعوبة. (انظر صورتها). (6) إحباطاً: إهداراً (المصباح). (7) في الأصل: تفيض. (8) في الأصل: فيه على. (9) في الأصل: " وهي مسئلة به المنفعة " وهو تصحيف بالغ الخفاء، أُلهمنا من فضل الله قراءته، (وانظر صورة هذه الجملة). (10) في الأصل: وإن. (11) في الأصل: وقال. (12) زيادة اقتضاها السياق.

مع تردد في طرفي البقاء، فكذلك القول في المنفعة. ويتأتى [تقويم] (1) المنفعة على وجهٍ آخر، قدمنا ذكره في فصل الخروج من الثلث، فنقدر العبد منتفعاً به، فنضبط قيمته، ثم نقومه مسلوب المنفعة، فالقدر الذي ينحط مع تقدير الانتفاع قيمةُ المنفعة. وما ذكرناه فيه إذا قُتل العبد قتلاً يوجب المال. 7389 - فإن قتل قَتْلَ قصاص، فقد أجمع أئمتنا على أن المالك -وهو الوارث - يثبت له حق طلب القصاص، وإذا اقتص من القاتل، سقطت الوصية، وصار كما لو مات العبد الموصى بمنفعته حتف أنفه. وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت للموصى له حقَّ طلب القصاص، وهذا غلطٌ غيرُ معتد به؛ فإن طلب القصاص [والقتيل] (2) مملوك من خواص أحكام ملك الرقبة، وإنما غلِط هذا القائل [من] (3) مصير بعض الأصحاب إلى صرف القيمة بكمالها إلى الموصى له بالمنفعة، وهذا لا [متعلَّقَ به] (4)؛ فإن القيمة قد تصرف إلى حق من لا يطلب القصاص، كالمرتهن إذا قتل العبد المرهون في يده. هذا كله إذا كانت الجناية على نفسه. 7390 - فأما إذا قطع الجاني يدَ العبد، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في مصرف الأرش، فقال قائلون: الأرش مصروف إلى الوارث؛ فإنه بدل الطرف الفائت، والطرف ملكُ مَن الرقبة ملكه. وحكى صاحب التقريب وجهاً آخر: وهو أنا ننظر إلى ما انتقص من المنفعة، وإلى ما انتقص من قيمة الرقبة، فنفضّ الأرش عليهما، ونصرف ما يجبر نقصانَ الرقبة إلى الوارث، وما يخص نقصان المنفعة إلى الموصى له بالمنفعة. وإذا اعتبرنا نقصان

_ (1) في الأصل: تقوّم. (2) في الأصل: القتل. (3) في الأصل: في. (4) في الأصل: لا يتعلق فيه.

القيمة، نظرنا إلى قيمة عبد مسلوب المنفعة، ونسبنا النقصان إليه، وهذا الوجه هو الذي حكيناه في الجناية على النفس. وصار صائرون إلى أن ما يقابل المنفعة من القيمة مصروف إلى الموصى له بالمنفعة، وما يقابل الرقبة منها مصروف إلى الوارث. ولم يصر أحد إلى صرف تمام الأرش إلى الموصى له بالمنفعة، وإن [ذُكر] (1) في القيمةِ والجنايةُ على النفس. ولم ير أحدٌ صرف الأرش إلى عبدٍ أو شقصٍ من عبد، حتى يستحقه الموصى له بالمنفعة. هذا قولنا في الجناية على العبد الموصى بمنفعته. 7391 - فأما التفصيل في جناية العبد الموصى بمنفعته، فنقول: إذا كان هو الجاني، وجنى جناية مذهبها المال، فالأرش يتعلق برقبته، وحق الموصى له لا يمنع من ذلك، كما أن ملكَ المالك، وحقَّ المرتهن لا يمنع من تعلق الأرش بالرقبة، ثم إن فداه الوارث، وتخلّصت الرقبة، فحق الموصى له بالمنفعة قائم كما كان، وإن امتنع الوارث من فدائه لم يلزم الفداء، ولكن يباع العبد إن مست الحاجة إلى بيع جميعه. فإن قيل: هلا قلتم يمتنع بيعُه لأنه مسلوب المنفعة؟ قلنا: حق الأرش مقدّم على حق الموصى له، وهذا كما أن المرهون لا يباع دون إذن المرتهن، وإذا جنى بيع، وأُبطل حق المرتهن. فإن قال الموصى له عند امتناع الوارث من الفداء: أنا أفديه، فإن قبل المجني عليه الفداء، فلا كلام؛ فإن الأجنبي لو فدى العبد الجاني وقبله المجني عليه، انفلت [من] (2) الجناية، وإن قال المجني عليه: لست أقبل الفداء، فقد ذكر الأصحاب

_ (1) في الأصل: وإن ذكروا. (2) ساقطة من الأصل.

وجهين في أنه هل يجبر على قبول الفداء؟ أحدهما - لا يجبر كالأجنبي؛ فإنه لا حق له في الرقبة، والأرش يتعلق بالرقبة. والوجه الثاني - يجب قبول الفداء فيه؛ [فإن في فداء العبد فداء حقه] (1)، وفي بيعه انقطاع حقه. وقد أجرى الأصحاب هذين الوجهين في العبد المرهون إذا جنى، وامتنع الراهن من فدائه، وأراد المرتهن أن يفديه، حتى لا ينفك حق [استيثاقه] (2)؛ [ففيه] (3) الوجهان اللذان ذكرناهما في الموصى له، ولعل تصحيح الفداء من المرتهن أوْجَهُ؛ لأن حقه متعلق بالعين، ولهذا تصرف قيمة المرهون إذا أُتلف إليه من غير تردد، وفي قيمة العبد الموصى بمنفعته إذا قُتل ما ذكرناه. 7392 - ومما يعدّ من قواعد الفصل التفصيلُ فيما يملكه الموصى له بالمنفعة، وفي تصرفاته [بمنافع] (4) البدن، فلا شك أنه يملكها، وبنى الأصحاب عليه أنه لو احتطب أو احتش، أو صاد، فهذا الاكتسابُ للموصى له بالمنفعة، ولو كان محترفاً، فأجر أعماله له. فإن اكتسب [كسباً] (5) نادراً مثل أن يهب منه إنسان شيئاً فيتّهبه، ففي هذا الفن وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يستحقه الموصى له، وإنما [يستحقه] (6) الوارث بحق ملك الرقبة. والثاني - أنه يستحقه الموصى له بالمنفعة. هكذا أطلق الأصحاب الخلاف، وهو يحتاج إلى فضل بيان، فالاتهاب ليس مما يتعلق بعمل العبد، فالوجه في تنزيل الخلاف والوفاق أن نقول: كل كسب يحصّله

_ (1) عبارة الأصل: كان في بناء العبد بناء حقه. (2) في الأصل: استئنافه. (3) في الأصل: فيه. (4) في الأصل: بما منافع البدن. (5) في الأصل: أكساباً. (6) في الأصل: يستحق.

عملٌ، فهو للموصى له بالمنفعة، وكل كسب لا يحصله ما [يعدّ من الأعمال] (1) [كذلك العبد الذي اتهب] (2)، ففيه خلاف: من أصحابنا من قال: هذا لا [يعاوضه] (3) عمل، ولا يقتضيه نوعٌ من المنفعة، بل التغليب فيه لهبة الواهب، فيجب صرفه إلى مالك الرقبة. فإن أردنا في ذلك ضبطاً، [فكل] (4) ما يمتنع على العبد من أعماله، حتى يراجع مولاه، فهو المنفعة التي يتعلق بها الاستحقاق، فأما قوله وحكمه، فمما لا يحتاج العبد في إطلاقها إلى مراجعة مولاه. هذا قاعدة المذهب. ثم الذي ذكره العراقيون [أن] (5) منفعة البضع تدخل تحت مطلق الوصية بالمنفعة؟ وبنَوْا عليه أن الجارية الموصى [بمنفعتها] (6) لو وطئت بشبهة، فالمهر للموصى له بالمنفعة، هذا هو [المعتدّ به] (7) ولا شك أن قياس المراوزة يخالف هذا؛ فإن منفعة البضع مما لا يصح الوصية به، فلا يتعلق الاستحقاق بمنفعة البضع بنحلةٍ وهبةٍ إذا بقي الملك في الرقبة للواهب المتبرع، فيجب ألا يدخل تحت الوصية بالمنفعة إلا المنفعةُ التي تستباح بالإعارة، وتستحَق بالإجارة. ثم ترقى بعض الأصحاب من منفعة البضع إلى الكلام في الولد، فذكروا وجهين في أن الجارية الموصى بمنفعتها لو أتت بولد رقيقٍ، فالملك فيه للوارث، أو للموصى له. وهذا خرّجوه على أن [استفادة] (8) الولد فيها [كاستفادة] (9) الأكساب، واشتمال الرحم على المولود كاشتمال الشبكة على الصيد.

_ (1) في الأصل: ما بعد من الأعمار. (2) في الأصل: كترك العبد اتهب. (3) في الأصل: "يعارضه". (4) في الأصل: وكل. (5) سقطت من الأصل. (6) في الأصل: منفعتها. (7) كذا قدرناها (انظر صورتها). (8) في الأصل: استعارة. (9) في الأصل: كاستعارة.

وهذا في نهاية البعد؛ فإن الولد يعد في وضع الشرع جزءاً من الأم لا يملكه إلا من ملك الأمَّ، إلا أن تفرض الوصية ناصّةً على الأولاد، فيخرّج القول حينئذٍ على الاختلاف في الوصية بالأولاد في الاستقبال، والوصية بالثمار. وذكر بعض أصحابنا الولدَ على وجهٍ آخر، فقالوا: الولد المملوك ملكُ الوارث، ولكن هل يصير الموصى له بالمنفعة مستحِقاً لمنفعة الولد، كما أنه مستحق لمنفعة الأم؟ فعلى وجهين: وهذا [أبعد] (1) من الخلاف المحكي في صرف ملك الولد إلى الموصى له بالمنفعة؛ فإن ذلك على بعده محمول على التشبيه بالعبد، والخلاف في منفعة الولد مع تسليم الملك فيه للوارث، لا اتجاه له على مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ فإنه لا يُتبع الولدَ الأمَّ في هذه الأشياء، ولذلك لم يحكم بتعدِّي الرهن من الأم إلى الولد، وقد سبق استقصاء القول فيما نُتبع الولدَ فيه الأصلَ، وفيما لا نتبع، وفيما يُختلف فيه. 7393 - ومما يتعلق بتمام القول في هذا الفصل الكلامُ في وطء الجارية الموصى بمنفعتها، فالذي ذكره الأئمة المعتبرون في نقل المذهب أن وطأها محرم على الوارث؛ من جهة أن الوطء يسبب العلوقَ، والعلوقُ يُفضي إلى [الطَّلْق] (2)، وهو من أسباب الهلاك، والحملُ ناجزاً يؤثِّر في تنقيص المنفعة. ولم يختلف علماؤنا في تحريم وطئها على الموصى له، ومَنْ ذهب إلى أن عُقرها إذا وُطئت بشبهة مصروف إلى الموصى له، لم يخالف في تحريم وطئها عليه. وهذا أصدق آيةٍ على فساد صرف استحقاق منفعة البضع إلى الموصى له. وحكى الصيدلاني في مجموعٍ له في الخلاف وجهين عن الشيخ الإمام سهل (3) في

_ (1) في الأصل: البعد. (2) في الأصل: المطلق. (3) الإمام سهل: هو سهل بن محمد بن سليمان، أبو الطيب الصعلوكي، الفقيه الأديب مفتي نيسابور وابن مفتيها، النجيب ابن النجيب (ابن الأستاذ أبي سهل) جمع بين العلم والعمل، تخرج به جماعة من الفقهاء بنيسابور، وسائر مدن خراسان ت 404 هـ (طبقات الشافعية لابن السبكي: 4/ 393 وما بعدها).

أن الوارث هل يستبيح وطء الجارية الموصى بخدمتها؛ تعويلاً على الملك؟ وهذا بعيد. فإن صح النقل فيهما، فالوجه تنزيلهما على وطء الراهن الجاريةَ المرهونة إذا كانت صغيرة، لا يتوقع علوقها، وقد قدمنا في الرهن أن الوطء مع إمكان الإعلاق محرم، وإذا كان الإعلاق مأموناً، ففي تحريم الوطء وجهان (1): فينبغي أن يخرّج وطء الوارث الجارية على هذا القياس. فإذا فرعنا على الظاهر، وهو أن الوطء محرّم، فلا شك أن الوارث إذا وطىء لم يستوجب الحد، لمكان ملكه في الرقبة، وهل يلتزم المهرَ؟ هذا يخرّج على ما قدمنا من أن مهر مثل الجاربة إذا وطئت بشبهة هل ينصرف إلى الموصى له؟ فإن صرفناه إليه، فعلى الوارث مهرُ المثل، وإن لم نجعل المهر [مصروفاً] (2) إليه، فهو للوارث. فعلى هذا إذا وطىء الوارث، لم يستوجب بالوطء مهراً. وأما الموصى له، فلا خلاف في تحريم وطء الجارية عليه، فإن وطئها، وقلنا: منفعة البضع مصروفةٌ إليه استحقاقاً، وإن امتنع عليه استيفاؤها، فلا حد عليه إذا وطىء، فإن قلنا: منفعة البضع لا تصرف إليه، فيلتزم بالوطء على الشبهة المهرَ للوارث، وإن لم يكن شبهة، فقد قطع العراقيون بانتفاء الحد. ولا يمتنع عندي أن يجب عليه الحد كما يجب على [المرتهن] (3) إذا وطىء الجارية المرهونة. والعراقيون بنَوْا ما قالوه على مصيرهم إلى أن المهر للموصى له، فقد ذكرنا أن القياس الظاهر عندنا أن منفعة البضع لا تُصرف إلى الموصى له، ولست أدري ماذا يقول العراقيون فيه إذا أوصى بمنفعة بُضع جاريةٍ لإنسان دون منفعة بدنها؟ فإن قضَوْا

_ (1) يحرم الوطء إن كانت ممن تحبل، وإذا أمن العلوق، فوجهان، أظهرهما التحريم. (ر. العزيز: 7/ 114، والروضة: 6/ 190). (2) كذا قدرناها على ضوء السياق، وصورة أحرفها المصحفة المحرفة (انظر صورتها). (3) في الأصل: الموصي.

بانصراف الاستحقاق إليه، فهذا سخف خارج عن قاعدة الشريعة، وإن أبطلوا ذلك، [كان] (1) [إقراراً] (2) بإثبات الاستحقاق فيه تبعاً. مع أن منفعة البضع لا تفهم مندرجة تحت الوصية بالمنافع. فهذا تمام القول فيما يندرج تحت الوصية بالمنفعة. 7394 - [فأمّا] (3) تصرّف الموصى له في المنفعة، فإنه يتصرف فيها انتفاعاً، وله إباحة المنافع بالإعارة، وله إيراد عقد الإجارة عليها، ومن حقوقه إثبات اليد على العين الموصى بمنفعتها، فاختلفت الأئمة في أنه هل يملك المسافرة بالعبد الموصى بمنفعته: فذهب بعضهم إلى أنه يملك ذلك؛ لأن ملكه ثبت في جميع جهات الانتفاع المسوَّغة للملاك. [ومن] (4) أئمتنا من منع المسافرة لحق الملك في الرقبة، واستدل بأن زوج الحرة يسافر بها حيث شاء، وزوج الأمة لا يسافر بها. ولكنْ بين النكاح وبين استحقاق المنفعة (5) فرقٌ؛ فإن للمولى أن يسافر بالجارية الزوجة، ولا يمنعه من المسافرة حقُّ الزوج. والوارث لو أراد المسافرةَ بالعبد الموصى بمنفعته، لم يكن له ذلك قطعاً، والضابط لتصرفاته حكمنا بالملك الحقيقي له في المنفعة، ولأجل هذا قطع من يعوَّل على نقله من الأئمة بأن الموصى له بالمنفعة إذا مات، انتقل الاستحقاق إلى وارثه (6). وأبعد بعضُ الأصحاب، فذهب إلى انقطاع الحق الموهوب للموصى له وعَوْدِ الاستحقاق إلى وارث الموصي إذا بقي بعده. وهذا ساقطٌ غيرُ معتد به.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: إفراد. (3) في الأصل: فأمها. (4) في الأصل: ففي. (5) الأصح أن له المسافرة بالعبد الموصى له بمنفعته (ر. الروضة: 6/ 188). (6) الصحيح أن الوصية بالمنافع تنتقل إلى الوارث (ر. الروضة: 6/ 186).

ولو وطىء الوارث الجارية الموصى بمنفعتها، وأولدها، صارت أم ولدٍ له بمصادفة العلوق الملكَ. ولا خلاف أن الموصى له إذا وطىء وأعلق، لم يثبت الاستيلاد، وإن درأنا الحدَّ، ولم نُلزمه المهر، وصرفنا إليه القيمة عند القتل، فلا سبيل مع هذه الأصول إلى الحكم بالاستيلاد؛ لأن وطأه لم يصادف ملك الرقبة. نعم، إن حكمنا بأن الولد لو حدث رقيقاً لكان له، [فالولد] (1) حر؛ فإنه لا يعلق مولوده ملكاً له، ثم إذا كان المُولدُ الوارثَ، فالوصية بالمنفعة تبقى مع ثبوت الاستيلاد. 7395 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن العبد الموصى بخدمته لا ينكح إلا بإذن المالك، والموصى له بالمنفعة: أما المالك، فلا بد من استئذانه؛ فإن التزوج تسلط على الاستمتاع، وذلك يؤثر في الملك، ولا بد من استئذان الموصى له بالمنفعة [فإن ذلك يؤثر في استيفاء المنفعة] (2). وذهب بعض الأصحاب إلى أن إذن الموصى له بالمنفعة كافٍ، وهذا القائل يقول: إنما يفتقر نكاح العبد الخالص لمولاه إلى إذنه، لتعلق المهر والنفقة بالكسب، ولا معنى للنظر إلى ما في الوطء من [إنهاك] (3) القوى؛ فإن ذلك بعيد، غيرُ مدرك بالحس. والدليل عليه أنه لو صح نكاحه، لم يكن للسيد أن يحجر عليه، ويكلّفه الاقتصادَ (4)، والحكمُ في ذلك [مَيْلَ] (5) النفس، والنظر في الضارّ منه خوضٌ في التطبيب الذي لا ينتهي إليه نظر الفقيه، وهذا يقرب (6) من المأكل؛ فإن معظم [الاعتلال] (7) من الإكثار أو الإقلال في المطعم، ولا حجر على العبد فيه،

_ (1) في الأصل: بالولد. (2) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق. وعبارة الأصل: " ... الموصى له بالمنفعة في الملك، وذهب ... إلخ". (3) في الأصل: إنها. (4) الاقتصاد: أي في الوطء. (5) في الأصل: مثل. (6) كذا قرأناها بصعوبة. (7) في الأصل: الأعلاك.

[فالعهدة] (1) إذاً في افتقار النكاح إلى الإذن أنه إذا صح، تعلقت حقوقه بالكسب، والكسب مستحق للمولى. فإذا تبين ذلك، فالمنافع والاكساب للموصى له، فليقع الاكتفاء بإذنه في النكاح. فإن كان الموصى [بخدمته] (2) جارية، فلا بد في تزويجها من إذنهما جميعاً وفاقاً؛ فإن التزويج ينقُص من القيمة، وما ينقص من القيمة يؤثر في الملك لا محالة. ثم قال فقهاؤنا: الولي في التزويج الوارثُ، ولكن لا بد من رضا الموصى له، وهذا حسن ظاهر. 7396 - ومما ألحقه الأصحاب بالقواعد المقدمة القولُ في [بيع] (3) الوارث العبدَ الموصَى بخدمته، وقد اختلف أصحابنا في ذلك على ما تقدم الشرح فيه. فإن ملّكنا الوارثَ البيعَ، فلا شك في نفوذ إعتاقه. فإن قلنا: لا ينفذ بيعه، فالذي قطع (4) به معظم الأصحاب أن إعتاقه ينفذ، ثم بنَوْا عليه أن العتق إذا نفذ، بقيت المنفعة مستحقةً للموصى له. وقد ذكر شيخي وطوائف من الأئمة أن العبد المستأجر إذا عَتَق في أثناء مدة الإجارة، هل يملك فسخ الإجارة؟ فعلى وجهين، فالرأي في الإجارة القطعُ بأنه لا يملك الفسخ (5). فأما إذا كانت الوصية بالمنفعة، فهذه [منيحة] (6)، [ويتجه] (7) في ذلك ترددٌ لمثابة الاستحقاق، والظاهر [أنْ لا خيار] (8) [في أن الاستحقاق يهدم] (9) كما إذا أُعتقت

_ (1) في الأصل: فالعهد. (2) في الأصل: بحق. (3) في الأصل: جميع. (4) وهو المعتمد الذي عليه الشيخان: الرافعي والنووي (ر. العزيز: 7/ 112، والروضة: 6/ 189). (5) وهو المعتمد (ر. العزيز: 7/ 112، والروضة: 6/ 189). (6) في الأصل: "قبيحة" (انظر صورتها) والمثبت من اختيارنا. (7) زيادة من المحقق على ضوء عبارة الإمام في مثل هذه العبارات. (8) في الأصل: أن الأخيار. (9) كذا تماماً، لا تقرأ إلا هكذا. والعبارة قلقة، ولكن المعنى مفهوم من السياق والسباق، وهو =

الأمة تحت زوجها الحر؛ فإن النكاح مؤبد عليها، وهو رق كما قال المصطفى صلى الله عليه، وإنما ثبت الخيار [للمعتَقة] (1) تحت العبد للخبر (2). ويجوز أن يقال: إذا أُعتق العبد الموصى له بخدمته أبداً، [يُخيّر] (3) كالأمة تُعتَق تحت العبد؛ فإنها لو عتقت تحت حر، [لرجع] (4) إليها حظ ظاهر في [الاستمتاع] (5)، فلا ضرار إلا استمرار حكم النكاح. ولو أثبتنا حق الانتفاع للموصى له بعد الحرية، لكان دوام هذا الاستحقاق كالاسترقاق، وهذا يزيد على ما ينال [المعتقة] (6) من الضرار تحت العبد. فإن قيل: إذا أثبتم الخيار، فهل يحتمل أن يقال: تنقطع الوصية من غير حاجة إلى خيار؟ قلنا: لم يصر إلى ذلك أحد من الأصحاب، وإذا كنا نثبت الوصية بالمنفعة على التأبيد والملك في الرقبة [بعدُ للموصي] (7)؛ فلا يبعد أن تبقى المنفعةُ مستحقةً بعد زوال الملك، ولكن الخيار يعتمد الضرار، كما قدمناه. فهذا منتهى الكلام في ذلك. ثم من [قالى] (8): نفقة الموصَى [بمنفعته] (9) على المالك، فإذا [أعتقه] (10) يتخلص

_ = أن الظاهر أنه لا خيار للعبد المعتق واستحقاق الموصى له بمنفعته قائم، كما أنه لا خيار للمعتقة تحت حُرّ. (1) في الأصل: المعتق. (2) الخبر: يشير إلى قصة بريرة. (3) في الأصل: مخير. (4) في الأصل: فرجع. (5) في الأصل: الاستحقاق، والمثبت من هامش الأصل، والمقصود بالحظ الظاهر في الاستمتاع أن يد السيد ارتفعت عنها، فلا يستطيع أن يأخذها عن زوجها، وأن يسافر بها كما كان له الحق في ذلك قبل عتقها. (6) في الأصل: المعتق. (7) في الأصل: بعد الموصى. (8) في الأصل: ملك. (9) في الأصل: فمنفعته. (10) في الأصل: أعتق.

من النفقة، وإن قلنا: النفقة على الموصى له، فالاستحقاق دائم عليه؛ فإن سبب الاستحقاق عليه ثبوت المنفعة له على التأبيد، وهذا المعنى دائم مع حصول الخدمة. فرع: 7397 - الصحيح من المذهب أنه لا يجوز (1) إعتاق الموصى بمنفعته عن الكفارة؛ لعجزه عن الكسب لنفسه، فأشبه ذلك عجزه عن الكسب بالزمانة. ومن أصحابنا من قال: يصح إعتاقه عن الكفارة لكمال الرق والأطراف، فليقع النظر في ذاته وصفاته، لا في مصرف منافعه. فرع: 7398 - ذهب طوائف من أئمتنا إلى أن مكاتبة العبد الموصى بخدمته غيرُ صحيحة (2)، فإنه ليس قادراً على أكساب نفسه لنفسه، وقال هؤلاء: يجوز كتابة العبد المؤاجَر في مدة الإجارة. ومن أصحابنا من صحح الكتابة؛ تعويلاً على صرف الصدقات إليه، ويجب أن يكون في مكاتبة العبد الزمن هذا التردد. ومن منع كتابة العبد الموصى بمنفعته رأى هذين التصرفين متناقضين. فعلى هذا من أوصى بالمنفعة، ثم [كاتب] (3)، كانت الكتابة من الموصي رجوعاً عن الوصية بالخدمة، والذي قدمناه من منع الكتابة مفروض في الوارث إذا أراد مكاتبة العبد بعد استقرار الوصية بالمنفعة. فرع: 7399 - إذا غصب رجلٌ العبد الموصى بمنفعته أياماً، وعطل منافعه على مستحقها، فإنه يغرَم له أجرة المثل، من جهة أنه أتلف عليه المنافعَ المملوكة له. ولو غصب غاصب العبد المستأجَر في أثناء المدة، وضيّع منافعه على المستأجر، فقد ذكرنا أن المذهب الصحيح أنه لا يغرَم شيئاً للمستأجِر، وإنما يغرَم أجر المثل للمالك المكري ويحط (4) عن المستأجِر قسطاً من الأجرة المسماة.

_ (1) هذا هو المعتمد في المذهب (ر. العزيز للرافعي: 7/ 112، وروضة الطالبين: 6/ 189). (2) عدم صحة الكتابة للعبد الموصى بخدمته هو المعتمد في المذهب. (ر. روضة الطالبين: 6/ 189، والعزيز: 7/ 113). (3) زيادة من المحقق. (4) يحط: أي المالك.

والفرق بين الموضعين أن المنافع إذا لم تتلف في يد المستأجِر، فليست مضمونة عليه، بل هي محسوبةٌ على المكري، ثم [عهدة] (1) العقد توجب ما ذكرناه، وليس في الوصية بالمنفعة عوضٌ يفرض سقوطه في مقابلة تضييع المنفعة على الموصى له، فلا وجه إلا تغريم الغاصب قيمة ما يتلفه من المنفعة لمستحقها ومالكها، ومستحقُّها الموصى له. فرع: 7399/م- إذا ذكَر للمنفعة وقتاً، لم يخف حكم التأقيت، وقد بان حكم التأبيد أيضاً. فلو أوصى لإنسانٍ بمنفعة عبد، ولم يتعرض لتأقيتها، ولا لتأبيدها، فالذي ذكره الشيخ أبو علي في الشرح القطعُ بحمل ذلك على التأبيد؛ فإن العقود المطلقة القابلة للتأبيد محمولةٌ على التأبيد. هذا ما ذكره، ولم أر في الطرق ما يخالف ذلك. فصل (2) قال: " فإن كان أكثرَ من الثلث، فأجازه الورثة في حياته، لم يجز ذلك إلا أن يجيزوه بعد موته ... إلى آخره " (3). 7400 - الوصية إذا كانت زائدةً على الثلث، فلو أجاز الوارث الزيادة قبل موت الموصي، فإجازته ملغاة لا أصل لها؛ فإنها [حدثت] (4) عنه قبل أن يثبت له حق الإرث، فكذلك لو استأذن الموصي ورثته، فأوصى وزاد، فتلك الزيادة لا تنفذ. وهذا بمثابة ما لو أذن الشفيع لشريكه في بيع الشقص وإذا باع نثبت الشفعة [ولا] (5) أثر للإذن المتقدم.

_ (1) في الأصل: عهد. (2) من هنا بدأ عندنا نسختان: نسخة الأصل (ح)، ونسخة (س) مساعدة. (3) ر. المختصر: 3/ 162. (4) في الأصل: حدوث. (5) مزيدة من: (س).

وكذلك إذا قبل الموصى له الوصية في حياة الموصي، فقبوله مردود؛ فإنه لا يدخل وقتُ القبول ما لم [يمت] (1) الموصي، فهو على خِيرَته بعد موته. وإن قبل في حياته. فكذلك إن رد الوصية، فلا حكم لرده في الحياة. ولو كان يؤثر قبوله ورده في حياة الموصي لاشتُرط اتصالُ القبول بالإيصاء، وسيكون لنا إلى هذا [عودة] (2) في أثناء الكتاب، إن شاء الله عز وجل. فصل أورده صاحب التقريب، مضمونه يشابه الوصيةَ بالمنفعة على التأبيد، وله تعلق بالثلث ومقدارِه وتفصيل الإجازة. 7401 - قال رضي الله عنه: إذا أوصى لإنسان بدينارٍ كلَّ سنة، ولم يذكر مقدارَ الدنانير، ومنتهى السنين، قال: تصح الوصية بالدينار الواحد في السنة الأولى؛ فإنه مضبوط لا شك فيه. فأما بقية الدنانير في السنين المستقبلة، فقد ذكر صاحب التقريب فيها قولين: أحدهما - أن الوصية باطلة فيها؛ فإن ضبطها غير ممكن، ولا ندري كم مبلغها، لنقدر خروجها من الثلث، وقد يتفق معها وصايا، فلا يتحقق مبلغ حصة هذه الوصية في المضاربة، ولو صححناها، لبقينا في موجَبها أبداً. هذا أحد القولين. والقول الثاني - أنه لا تبطل الوصية في باقي السنين؛ فإن الجهالة لا تتضمن بطلان الوصايا، كالوصية بالمنفعة. ومن قال بالقول الأول، (3 نفصل عن الوصية بالمنفعة، بأن قال: الوصية بالمنفعة 3) على التأبيد غايتها أن تقتضي احتساب العبد من الثلث، ولتقويم المنفعة

_ (1) في الأصل: يجب. (2) في (ح): "مردّة". (3) ما بين القوسين ساقط من (س).

جهةٌ أوضحناها، أما إخراج دينار في كل سنة من غير ذكر نهاية، فهو مشكل جداً. ثم اختار (1) من القولين تصحيحَ الوصية، وقال مفرعاً على هذا: 7402 - إذا ثبتت هذه الوصية، فلا يخلو: إما أن يكون في التركة وصايا سواها، أو لا يكون في التركة وصيةٌ غيرُها. فإن لم يكن في التركة وصيةٌ غيرها، فلا شك أن الورثة لهم أن يتصرفوا في ثلثي التركة؛ إذ لهم رد الوصية في الثلثين، فأما الثلث، فهل ينفذ تصرفهم [فيه؟] (2) فعلى وجهين ذكرهما: أحدهما - ينفذ تصرفهم فيه، بعد إخراج الدينار الواحد؛ فإن مِلْكه متحقق، ولا يُدرى هل يستحق الموصى له في مستقبل الأعوام أم لا. والوجه الثاني - أن الثلث يوقف؛ فإن الموصى له إذا قبل الوصية، فقد ثبتت، ولا نهاية لها، فلا وجه إلا وقفُ الثلث. فإن رأينا الوقفَ، فلا كلام، فإذا بقي من له الحق على مر السنين، حتى استوعب بالدنانير الثلث، فذاك. فإن مات قبل ذلك، فبقية الثلث مردودةٌ على الورثة. وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن الوصية بالدنانير إلى غير نهاية، كالوصية بثمار الأشجار من غير نهاية، فإذا صححنا الوصية بثمار الأشجار، ثم مات الموصى له بها، فالوجه إقامة وارثه في الاستحقاق مقامه. 7403 - والغرض في ذلك يبين بفرض ثلاث مسائل: إحداها - الوصية بالمنفعة، فالمذهب الظاهر أن الموصى له إذا مات، قام وارثه مقامَه، وخلفه في الاستحقاق. وفيه وجهٌ بعيد ذكرناه (3). وإذا (4) أوصى بثمار الأشجار، فتخصيص الاستحقاق به وقطعه عن الورثة يظهر

_ (1) اختار: أي صاحب التقريب. (2) سقطت من النسختين. (3) في الأصل: ما ذكرناه. (4) المسائل الثلاث التي فرضها هي: 1 - الوصية بالمنفعة. 2 - الوصية بثمار الأشجار. 3 - الوصية بالدينار كل سنة. ففي هذه المسائل يظهر التدرج في قطع الوصية بعد موت الموصى له، ففي الوصية بالمنفعة هو وجه بعيد، وفي الوصية بثمار الأشجار يظهر بعض الظهور، وفي الوصية بالدينار يظهر جداً.

بعض الظهور؛ فإنّ في الوصية بالثمار احتمالاً في أصلها. وإذا أوصى بأن يُصرفَ إلى إنسان (1) كلَّ سنة دينار، [فمات] (2) ذلك الشخص، فيظهر في هذه (3) الصورة جداً انقطاعُ الوصية بموته، ويتجه أيضاً إذا صححنا الوصية أن يدوم الاستحقاق لورثته، ولهذا الإشكال في التفريع خرج قولٌ في إبطال الوصية. ولو قيدَ الكلامَ بصرف دينار إليه كل سنة ما بقي، فلا شك في أن ذلك ينقطع بموته. فإن صورنا المسألة في هذه الصورة، أو فرعنا على ما قطع به صاحب التقريب من حمل الوصية على الدنانير التي تكون على سني عمر الموصى له، فنقول: [نصرف] (4) الثلث على وجه الوقف، ونصرف إلى الموصى له ديناراً ديناراً، فإن استغرق الثلثَ في حياته، [فذاك] (5). وإن مات، وقد بقي من الثلث بقية، رددناها على الورثة. فإن قلنا: لا يُوقف الثلث، فالورثة يتصرفون فيه، ومهما استحق عند انقضاء سنة ديناراً، طالب الورثةَ به، وكان ذلك بمثابة ما لو اقتسم الورثةُ التركة، ثم ظهرت وصية. وهذا فيه نظر؛ فإنه إذا ظهرت وصية تتبَّعْنا تصرَّفَ الورثة في الثلث [بالنقض] (6)، فإن كان الأمر كذلك في مسألتنا، فلا فرق. وظاهر كلام صاحب التقريب أن تصرّفهم في الثلث ينفذ، ولا يُتْبَع بنقض. وهذا فيه إشكال واحتمالٌ ظاهر، وبين المسألة التي نحن فيها وبين ظهور الوصية فرقٌ؛ من جهة أن [الدنانير] (7) تنقسم على أواخر السنين في هذه المسألة وتثبت ديناراً ديناراً، وليس كالذي [يبين] (8) أنه كان ثابتاً، ولم نعلمه.

_ (1) عبارة (س): إلى كل إنسان كل سنة. (2) في الأصل: فاق. (3) في الأصل: في أن. (4) في الأصل: نقف. (5) في الأصل: بذلك. (6) في الأصل: فالنقض. (7) في الأصل: الدينار. (8) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، وساقطة من (س).

وجميع ما ذكرناه فيه إذا تجردت تلك الوصية، ولم يكن معها وصايا. 7404 - فأما إذا أوصى بوصايا ومن جملتها الوصيةُ التي ذكرناها (1)، فإن [جعل] (2) الوصية التي ذكرناها معلّقةً بعُمر الموصى له، فقد قطع صاحب التقريب بأن الثلث يُفضّ على مستحقي الوصايا في الحال، ولا نؤخر حقوقهم؛ فإنا لا نضبط مبلغ الوصية الأخرى، فلا وقف في حقوقهم، وإنما الاختلاف في وقف الثلث في حق الورثة إذا تجردت الوصية التي نحن فيها (3)، والفرق أن الثلث إن وقفناه، فهو حق المتوفَّى، ومحل تبرعاته، فلا بُعد لو [حُلْنا] (4) بين الورثة وبينه، فأما إذا ثبتت وصايا ناجزة، فالثلث محلُّ حقوقهم، فيبعد أن نقف الثلث إلى أن نتبين منتهى هذه الوصية المجهولة، فإذا فضضنا الثلث على الدينار الذي انتجز من هذه الوصية في هذه السنة وعلى سائر الوصايا، فإذا انقضت سنة أخرى، استحق الموصى له ديناراً وضارب به أربابَ الوصايا، واسترد منهم ما يقتضيه التقسيط في ذلك القدر، ثم لا يزال يفعل ذلك في كل ما يستحقه حتى تنتهي الوصية. وهذا الذي ذكره بيّنٌ إذا كانت الوصية مقيّدة بحياة الموصى له، فأما إذا لم تتقيّد بحياته، ورأينا أن نقيم ورثته مقامه، فهذا مشكلٌ لا يُهتدى إليه، وحاصله مضاربةُ [أقوام] (5) حقوقُهم مقدرة بما لا نهاية له. ولو قيل: إنه لا يضارب إلا بمقدار الثلث، ويبطل ما وراءه، لانتفاء النهاية عنه، لم يبعُد. وهذا الإشكال في مضاربة الوصايا؛ فإن الورثة إذا [ردّوا الوصية إلى الثلث] (6) انحصرت فيه، والغموض في مضاربة ما لا نهاية له أقداراً متناهية، فيجوز

_ (1) هذا التفصيل متصل بقوله السابق: إذا ثبتت هذه الوصية، فلا يخلو إما أن يكون في التركة وصايا سواها أو لا يكون. (2) في الأصل: فصَلَ. (3) في (س): نشأ منها. (4) في النسختين: حملنا. (5) في الأصل: أقدام. (6) في الأصل: ردوا إلى الوصية إلى الثلث.

أن تبطل الوصية في الزائد على الثلث، ويكون هذا في هذه المسألة مناظراً لمذهب أبي حنيفة (1) في رده ما يزيد من الأجزاء على الثلث إذا رُدّت الوصايا إلى الثلث، وهذه مناظرة لفظية، وإلا [فما] (2) ذكره أبو حنيفة باطل؛ فإنه أبطل السدس من الوصية بالنصف، وهو [مقدّر] (3)، وإنما الغموض في هذه المسألة من جهة انتفاء النهاية عن الوصية. وينقدح أن يقال: يضارب بمقدار المال كله، حتى كأنه أوصى له بكل المال، ثم ردت الوصايا إلى الثلث، فإنا نثبت المضاربة بالزائد على الثلث. ومنتهى الأمر تقدير الوصية بجميع المال، ثم هذا التضارب يقع شيئاً شيئاً. كذلك قال صاحب التقريب. ويجوز أن يقال: يوقف له القدر الذي ذكرناه، إما في تقدير الثلث وإما في تقدير الكل، بحكم المضاربة. وقد قال صاحب التقريب: إذا قال: ادفعوا إلى فلان في انقضاء كل سنة ديناراً إلى عشرين سنة، فهل نقف هذا القدر له في معارضة الوصايا؟ فعلى وجهين. 7405 - فليتأمل المتأمل أطراف هذه المسألة ولْيقْضِ العجبَ منها، وفي [اختباط] (4) تفاريعها يظهر للإنسان بطلان الوصية، وليت شعري ما قول الأصحاب فيه إذا قال: أوصيت لفلان بما لا نهاية له من الدنانير؟ هذا فيه تردد، فينقدح إبطال الوصية؛ فإنها [وقعت] (5) بغير ممكن، ويجوز أن يقال: هي وصية بالمال كله، والعلم عند الله عز وجل.

_ (1) ر. المبسوط: 28/ 121 وما بعدها. (2) في الأصل: بما. (3) في الأصل: مقدار. (4) في الأصل: "احتياط ". (5) في الأصل: "رفعت".

فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال أعطوه رأساً من رقيقي ... إلى آخره" (1). 7406 - إذا قال الموصي: أعطوا فلاناً رأساً من رقيقي، فمضمون هذا اللفظ الوصيةُ له بمملوك من جملة مماليك، ومقصود الفصل بيانُ مقتضى هذا اللفظ، وإيضاحُ المعنى الذي يكون وفاء في المطلوب منه، فإذا كان للموصي عبيد وإماء، فأعطى الوارثُ الموصى له عبداً أوْ أمةً من جملة رقيقه، فقد خرج عن موجَب الوصية ومقتضى لفظها؛ فإن الرقيق يتناول الذكر والأنثى. ولو كان في رقيقه خنثى، فالمذهب الصحيح أنه مجزىء، وبذلُه كافٍ؛ فإن اسم الرقيق يتناوله. وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أنه لا يجزىء، ولا يكون بذله وفاءً باللفظ؛ فإن هذا الاسم يتناول ما يفهم منه [في] (2) العرف، والخنثى يندر اتفاق وجوده، فلا يتناوله الاسم العام. وهذا عريّ عن التحصيل، لا اعتداد به؛ فإن الاسم العام، وهو رأس من الرقيق يتناول الخنثى تناوله للذكر والأنثى، ولو قال الرجل: [مماليكي] (3) أو أرقائي أحرار، دخل الخنثى [بحيث يعتِق] (4)، فإن [منع] (5) صاحب التقريب [ذلك] (6)، كان في نهاية البعد، وإن سلّمه، وفرّق بأن المماليك إذا [تناولت] (7) الجميع عموماً،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 162. (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: ما يمكن. (4) في الأصل: يجب العتق. (5) في الأصل: يقع. (6) في الأصل: وكل. (7) في الأصل: تنازلت.

لم يبعد اشتمال اللفظ على الخنثى مع جريانها على مقتضى عمومها؛ فإن اللفظ المُجرى على حقيقة عمومه يتناول [النادر] (1) مع تناوله لغيره، وإذا قال: رأساً من رقيقي، فحمل على النادر الذي لا يخطر بالبال دون غيره، كان بعيداً، فهذا الفرق لا حاصل له؛ فإن قوله: رأساً من رقيقي وإن كان مقتضاه بذلَ واحدٍ، فهو مضاف إلى لفظ جامع شامل على أصل، فهذا الوجه (2). 7407 - ولو قال: أوصيت لفلان برأسٍ من رقيقي، ولم يكن له رقيق حالة [الإيصاء] (3)، ولم يمت عن رقيق أيضاً، فالوصية باطلة، فإنه أضاف الموصى به إلى أرقائه، فإذا لم يكن له مماليك، فلا أصل ولا مستند للفظه. ولو قال: أوصيت لفلان برأس من رقيقي، ولم يكن له حالة الإيصاء رقيق، ثم ملك مماليك، ومات عنهم، فالمذهب أن الوصية تنفذ في واحد منهم. ومن أصحابنا من قال: الوصية مردودة؛ فإن لفظه حالة الإيصاء لم يجد متعلقاً فلغَى وبطل، ثم لا أثر لوجود الأرقاء بعد ذلك، وهذا يضاهي ما لو قال: أوصيت لفلان بثلث مالي، وكان لا يملك إذ ذاك شيئاً أصلاً، ثم تموّل ومات عن مال، فالأصح أن ثُلث ماله مصروفٌ إلى وصيته. ومن أصحابنا من قال: الوصية مردودة؛ لأنها لم تتناول مورداً، [ولم] (4) تثبت بمتعلَّقٍ حالة الإنشاء. ولم يختلف أصحابنا أنه لو كان يملك درهماً، فقال: أوصيت لفلان بثلث مالي، فخوله الله تعالى مالاً جماً، ومات، فثلث جميع ما خلف مصروف إلى وصيته. هكذا ذكر الشيخ أبو علي في صورة الوفاق والخلاف في شرح التلخيص.

_ (1) في الأصل: النار. (2) الوجه: خبر هذا. والمعنى أن هذا هو الوجه المعتمد. (3) في الأصل: الإحياء. (4) في الأصل: أو لم تثبت.

فعلى هذا لو كان قال؛ أعطوه رأساً من رقيقي، وكان يملك إذ ذاك أرقاء، ثم ملك غيرهم ومات، فللوارث أن يسلّم رأساً من الذين استفادهم بعد الإيصاء. ولو قال: أعطوه رأساً من مماليكي، وكان لا يملك إلا مملوكاً واحداً ومات على ذلك، ولم يخلّف غيرَه من المماليك، فهذا اللفظ فيه خبلٌ، واضطراب؛ من جهة أنه أضاف المملوك الموصى به إلى مماليكه، وليس له جمع من المماليك يصح إضافة المملوك الموصى به إليهم، ولكن الذي يقتضيه المذهب القطع بتنزيل وصيته على ذلك المملوك الواحد، وإن لم نجد في ملكه جمعاً من المماليك، يضيف ذلك العبدَ إليهم؛ فإنا وجدنا متعلقاً لوصيته، فاستقلت به، ولا مبالاة بأن يختل بعد هذا المتعلق لفظهُ. ولم يختلف أصحابنا في أنه إذا أوصى برأسٍ من رقيقه، وكان له جمع من الأرقاء، فماتوا إلا واحداً منها، نزلت الوصية عليه. 7408 - ومما يتصل بمقصود الفصل، وهو المعتبر فيه -وعلى المنتهي إلى هذا الموضع من هذا الفصل أن يتامل ما نلقيه إليه- أنَّ هذه الوصية مفروضةٌ فيه إذا أطلق الموصي لفظه، وأرسل وصيته، وحاول أن تنفذ فيما ينطلق عليه لفظُه، ولم يضمر إرادةَ تعيينٍ من رقيقه، فمسائل الفصل مدارةٌ على هذه القاعدة، والغرض بيان مقتضى هذه الصيغة عند الإطلاق. وعلى هذا قال الأئمة: لو أوصى برأسٍ من رقيقه، وكان له جمع من المماليك، فانتحى الوارث معيَّناً منهم، واعتمد أحسنهم قدراً، أجزأ ما يُخرجه عن الوصية؛ فإن اسم رأسٍ من رقيق يتناوله، وهذا متفق عليه بين الأصحاب. فإن قال الموصى له: لم يُرد الموصي هذا، لم يردّه، على أن نُفهمه معنى عموم اللفظ وشمول الصيغة ونبين له أن المسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يعيّن الموصي بلفظه أحداً من مماليكه، وإنما أراد أيَّ واحدٍ كان من أرقائه. ولو قال الموصى له: إنه أضمر واحداً منهم، وإن أبهم لفظه، فليس يبعد أن يضمر مع الإطلاق، وإن كان لفظه عاماً؛ فإن سيد المماليك لو قال: واحد منهم

حُرٌّ، ثم زعم أنه عنى عند اللفظ متعيناً منهم، تبيّنا نزول العتق عليه. وكذلك إذا قال الزوج: واحدةٌ من نسائي طالق. وأضمر عند إطلاق هذا اللفظ واحدةً متعينة منهم في نفسه، فهي المطلقة. وإن أطلق إبهام العتاق والطلاق، ولم يضمر معيناً، خوطب بإيجاب التعيين عليه، على ما ستأتي هذه المسائل مشروحةً في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل. 7409 - فإذا وقع التنبيه لها، فنقول: الموصى له غير بعيد عن الاحتمال، ولكن لا نقبل دعواه، ما لم يعيّن عبداً، وما لم يقل هذا مَعْنِيُّه ومرادُه؛ فإن الدعوى المبهمة مردودة ممّن يبغي مالاً. ثم إن عين، فالقول قول الورثة، فإن قالوا: لم يعيّن، ولم يُضمر تعييناً أصلاً، وإنما أبهم اللفظ ليُجرى على [مقتضى] (1) عمومه، فالرجوع إلى أقوالهم. وإن فرض عرْضُ يمين، فالقول في صيغتها يأتي في سياق الكتاب، فليس تفصيلها من غرضنا الآن. 7410 - ولو قال: اشتروا عبداً من مالي وسلموه إلى فلان، فاشترى الورثة عبداً معيناً، وسلموه إلى الموصى له، وقع الاكتفاء به في قول أصحابنا المعتبرين؛ تعلّقاً بما ذكرناه من مقتضىً، وتشبيهاً لهذا بما لو قال: أعطوه رأساً من رقيقي، وكان فيهم معيب [فقصدوه] (2) وأخرجوه إلى جهة الوصية. وذهب بعض أصحابنا إلى أن الوصية إذا كانت متقيّدة بالشراء، فلا يقبل [فيها] (3) معيب؛ فإن الشراء يقتضي سلامة المشترَى، ولذلك يثبت الرد بالعيب. فإذا قال: اشتروا عبداً أو مملوكاً، وسلموه إلى فلان، فقد أوصيت [له به] (4)،

_ (1) في الأصل: يقتضي. (2) في الأصل: يقصدوه. (3) في النسختين: منها. (4) في الأصل: لزيد.

فربْطُه المملوكَ الموصى به بجهةٍ مقتضاها طلب السلامة يقتضي السلامة. وهذا لا أصل له؛ فإن الوصية تستقل بموجب اللفظ، واللفظ عام، كما سبق تقريره، فلئن كان مقتضى العهدة في البيع ثبوت خيار الرد، فلا تعلق لهذا بوضع الوصية، والدليل عليه أن الرجل إذا وكل وكيلاً ليشتري له مملوكاً، وأطلق التوكيل ولم يقيّده بالسلامة، فاشترى الوكيل عبداً، ثم اطلع على عيب به، وكان العبد مع ذلك العيب يساوي الثمن المذكور، فالبيع يصح عن الموكل؛ حملاً على مقتضى الاسم المطلق، ثم عهدة العقد تقتضي ثبوتَ الخِيَرة في الرد، فلزم تنزيل الوصية على العبد المشترى وإن كان معيباً، ثم لا عهدة في الوصية حتى نفرض رد العبد فيها. 7411 - ومما يتعلق بتحقيق الفصل أنه إذا قال: أوصيت لفلان برأسٍ من رقيقي، وكان له مماليك، فماتوا قبل [موت] (1) هذا الموصي، انقطعت الوصية. وكذلك لو ماتوا بعد موت الموصي، وقَبْل قبول الموصى له، فلا فائدة للحكم ببقاء الوصية؛ فإنها لو ثبتت، لكانت متعلقة بعبد من العبيد الذين خلّفهم الموصي، فإذا ماتوا موتاً لا يُعقب ضماناً على آخر، فقد فاتت الوصية في أعيان العبيد، ولم يُعقب موتُهم أَبْدَالاً، وعَسُر الوفاء، ونزل هذا منزلة ما لو ماتوا قبل وفاة الموصي. 7412 - ولو أوصى برأس من رقيقه، فقُتِل أرقاؤه في حياته قتلَ ضمان، فاتت الوصية؛ فإنّ نَفَذ (2) الوصية ما بعد الموت، وقد [مات] (3) ولا رقيق له. ولو قتلوا بعد موته، وقبل قبول الموصى له، نزلت قيم العبيد القتلى منزلة العبيد بأنفسهم، فيعيّن الوارث [قيمة] (4) من شاء من المماليك.

_ (1) في الأصل: ثبوت. (2) في (س): مقرّ. واخترنا ما في الأصل: (نَفَذَ) لما عهدناه في أسلوب الإمام من استخدام المصدر على وزن (فُعول) بصيغة (فَعَل) مثل صَدَر مكان صدور، وحدَث مكان حدوث، ونفذ مكان نفوذ. (3) في الأصل: فات. (4) في الأصل: فيه.

وعلى الناظر تأملٌ في هذا؛ فإن الأقوال [مختلفة] (1) في أن الملك في الموصى به متى يحصل للموصى له؟ ففي قولٍ يحصل الملك بنفس موت الموصي، ويستقر بالقبول. وفي قولٍ يقف الأمر على القبول، فإن قُبل، تبيَّنا استنادَ الملك إلى موت الموصي، وإن ردّ الموصى له الوصية، تبيّنا انتفاء الملك أصلاً، ومسألتنا مفروضة [فيه] (2) إذا قُتل العبيد، وقَبِل الموصى له الوصية بعد قتلهم، [فيستدّ] (3) على القولين المذكورين صرفُ قيمة عبد إلى حقه؛ فإنا نتبيّن على الوقف، أو نحكم على تحقق أن عبداً من العبيد قُتل ملكاً للموصى له. وفي أصل المسألة قولٌ ثالث، وهو أن الملك يحصل للموصى له بالقبول، فعلى هذا يقع قبوله [بعد] (4) فوات رقاب المماليك، والوصية [بواحدٍ] (5) منهم، فقد يُشْكل ورود الملك على قيمة عبد ابتداء، ولكن أطلق الأصحاب ما حكيته، والممكن منه أنا وإن حكمنا بأن الملك يحصل بالقبول، فللموصى له حق في الموصى به قبل القبول. وآية ذلك أنه يستبد بتملكه، ولا يقدر أحد على إبطال هذا الحق عليه، وليس كحق القبول في البيع والهبة بعد الإيجاب من الموجِب؛ فإن الموجِب لو أراد بعد التلفظ بالإيجاب أن يُبطل إمكان القبول، تُصوِّر ذلك منه، ولا يتصور من الورثة قطع حق القبول، فخرج منه أنا وإن حكمنا بأن [القبول] (6) يستعقب الملك، فلسنا ننكر

_ (1) في الأصل: مختلف. (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: "فيستمر". وفي (س): فيستتم. والمثبت اختيار من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، والأوفق للمعنى؛ فإن (يستد) معناها (يستقيم)؛ فهي لا شك أوفق من (يستمر) التي تصحفت إليها على كثير من النساخ. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: واحد. (6) في النسختين: المقبول.

ثبوت حق الموصى له قبل القبول، فالحقوق اللازمة الماليّة إذا تعلقت بأعيانٍ (1)، لم يمتنع انتقالُها من الأعيان إلى أبدالها، كحق الموصى [له] (2)، فهذا هو الممكن. ولا يبعد عن القياس أن يقال: إذا حكمنا بأن القبول يستعقب الملك، تسقط الوصية [و] (3) تفوت بفوات الأعيان قبل القبول، وهذا ابتداء احتمال من طريق النظر، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب، فلا (4) اعتداد به. 7413 - ولو قتل العبيد بعد موت الموصي وقبل القبول إلا واحداً منهم، فالذي ذكره أئمتنا في الطرق أن للورثة أن يصرفوا الوصية إلى قيمة [قتيلٍ] (5)، كما لو قتلوا بأجمعهم، ولهم إخراج العبد الباقي. ووجه ما قالوه أن [القتلى بمثابة] (6) الأحياء في بقاء الوصية؛ إذ لو قتلوا، لكانت الوصية قائمة، فبقيت خِيرَةُ الورثة، ولا فرق بين الحي الباقي وبين [القتلى] (7). وقطع العراقيون قولهم بأنه يتعين على الوارث تسليم العبد الباقي، وإن كان لو قتلوا جميعاً، لعيَّنُوا [أيَّةَ] (8) قيمةٍ شاؤوا، واعتلّوا بأن قالوا: الأصل في الوصية إخراج (9 رأسٍ من الرقيق، فما دام ذلك ممكناً، فالوفاء بحق الوصية إخراج 9) رقيق؛ فإن فاتوا من عند آخرهم، أقمنا الأبدال لتعلق الوصية بالأعيان مقام الأعيان. وهذا الذي ذكروه فقيه (10) متجه، وما ذكره أصحابنا المراوزة ممكن غيرُ بعيد.

_ (1) (س): بالأعيان، لم يمتنع المرجوع من الأعيان إلى إبدالها. (2) سقطت من النسختين. (3) زيادة من (س). (4) (س): على اعتداد فيه. (5) في الأصل، كما في (س): القتيل. (6) في الأصل: أن القتل عليه بمثابة ... (7) في الأصل: القتل. (8) في الأصل: به. (9) ما بين القوسين ساقط من (س). (10) (س): غير متجه.

7414 - ولو أوصى بعبد معيَّنٍ لإنسانٍ، فقُتل ذلك العبد قبل موت الموصي قَتْلَ ضمان، فقد فاتت الوصية بفوات العبد، ولا تعويل على القيمة؛ فإنه لم يوص (1) بالقيمة، ولما قتل العبد، لم يقع مثلُه في وقتٍ ثبت فيه ملكُ الموصى له، أو حق تملكه. فلو قتل بعد موت الموصي وقبل القبول، فإذا قبل الموصى له، كانت القيمة له، وهذا خارج على ما قدمناه من قول الأصحاب. 7415 - وقد نجز الغرض في الفصل المفروض فيه إذا قال: أعطوه رأساً من رقيقي، وتبين أن شرط هذه الوصية أن يخلّف أرقاء، أو رقيقاً، كما بينا ذلك مفصلاً. 7416 - فلو قال: أوصيت لفلان بعبد من مالي، أو قال: أعطوا فلاناً رقيقاً من مالي، فلا يشترط في صحة هذه الوصية أن يخلف مملوكاً، ولكن لو لم يخلف مملوكاً أصلاً، اشترينا من الثلث مملوكاً، وصرفناه إلى جهة الوصية. ولو خلف مملوكاً [أو] (2) مماليك، ولفظ وصيته: أعطوا فلاناً عبداً من مالي، فلو أراد الورثة أن يشتروا عبداً ويسلموه إلى الموصى له، فالذي صار إليه المحققون أن لهم ذلك، ولا يتعين عليهم إخراج عبد من عبيد التركة؛ فإنهم لو لم يكونوا، لاستقلت الوصية في مكان تحصيل العبد من المال، فلا أثر [لوجود العبيد ولعدمهم] (3). ورأيت في بعض التصانيف رمزاً إلى أنه يتعين تسليم عبد من الموجودين، إذا كانوا في التركة، فإن لم يكونوا، فتحمل الوصية حينئذ [على] (4) تحصيل العبد من التركة. وهذا غير معتد به، ولا سبيل إلى عد مثله من المذهب.

_ (1) (س): فإنه لو فرض، ولو قتل العبد لم يقع مثله. (2) في الأصل: له. (3) في الأصل: "فلا أثر لوجوه السيد واحد منهم". (4) سقطت من النسختين.

فصل قال: " ولو قال: شاةً من مالي ... إلى آخره " (1). 7417 - إذا أوصى بشاةٍ من ماله، فالمذهب الذي عليه التعويل أن اسم الشاة ينطلق على الذكر والأنثى، فلو أخرج كبشاً أو تيساً أجزأه؛ فإن الهاء في الشاة ليست هاء التأنيث، وإنما هي هاء التوحيد، فيما يتميز الواحد فيه عن الجمع بالهاء، على قياس التمر والتمرة، والجوز والجوزة، [فقولك] (2) شاة أصله شاهة، ويتبين ذلك بقولك في التصغير شويهة، والتصغير يرد المحذوف إلى أصله. هذا هو المذهب. وأبعد بعض أصحابنا؛ فحمل الشاة على الأنثى. ثم لا خلاف أن الضانية والماعزة، مندرجان تحت الشاة، فيجوز للوارث أن يخرج من أي نوع شاء، ولو أخرج سخلة، فظاهر النص أنها تجزئه، وهو الذي قطع به صاحب التقريب وأئمة العراق، ومعظم المراوزة. وذكر الشيخ أبو بكر في مجموعه في طريقة القفال، [في روايةٍ أن] (3) السخلة لا تجزىء؛ فإن اسم الشاة لا يتناولها، كما أن اسم الرجل والمرأة لا يتناولان الطفل. ثم قال الشافعي رضي الله عنه في الوصية بالشاة: " لو أخرج الوارث صغيرة، أجزأت "، فحمل الشيخ أبو بكر (4) الصغيرة على جذعةٍ من الضأن صغيرة الجثة، وهذا الذي ذكره وإن كان له اتجاه على حالٍ، فهو خلاف ما صرح به الأصحاب أجمعون في طريقهم؛ فإنهم متفقون على إجزاء السخلة، وذلك أن اسم الشاة يتناول

_ (1) ر. المختصر: 3/ 162. (2) في الأصل: فقد ذكر. (3) في الأصل: من عقد نفسه فإن. (4) الشيخ أبو بكر: المراد به الصيدلاني، كما سيصرّح بذلك بعد سطور.

في اللسان ما يعد من جنس الغنم، والسخالُ من جنس الغنم، ويكمل بها نصاب الجذاع [والثنايا] (1) في الزكاة، فلا اغترار [بما ذكره] (2) الصيدلاني، والتعويل على الجنس كما [ذكرناه] (3)، ثم إن جرى جارٍ على ما رآه (4) اعتُرِض له بالجذعة من المعز؛ فإنها غيرُ مجزئة في الضحايا، والظاهر أنها مقبولة في الوصية بالشاة. [فإنها منزلة على مرتبة السخال والجذاع، والله أعلم] (5). 7418 - والكلام في الفرق بين أن يقول: شاة من غنمي أو شاة من مالي، والكلام في موت الشياه وقتلها، والفرق بين قتل جميعها وبقاء بعضها كما ذكرناه في الأرقاء، فلا معنى لإعادة ما تقدم. وإنما نذكر في كل فصل ما يتجدد فيه، والقول في المعيبة والسليمة، كما سبق. 7419 - ولو أوصى لإنسان ببعيرٍ، فالنص أنه محمول على الذكر، لا تجزىء الناقة فيه. وقد ذهب طوائف من أئمتنا إلى أن الناقة مقبولةٌ، فكان هذا منهم قولاً مخرَّجاً، وهو موافقٌ للغة؛ فإن من كلام أئمة اللسان أن البعير من الإبل، كالإنسان يتناول الذكر والأنثى، والجمل كالرجل، والناقة كالمرأة. هذا وضع اللسان. وما ذكره الشيخ أبو بكر في أن السخلة لا تجزىء عن الشاة الموصى [بها] (6) على الإطلاق يظهر (7) في البعير؛ فإنه قد يبعد حمله على فصيلٍ وحُوارٍ [ومن] (8) قبل

_ (1) في الأصل: والبقايا. (2) في الأصل: ما ذكرناه. والمثبت تصرف من المحقق. وأما (س): فلا أثر لما ذكره الصيدلاني. (3) في الأصل: ذكره. (4) ما رآه: الضمير يعود على الصيدلاني، والاعتراض واضح إن شاء الله. (5) زيادة من: (س). (6) في الأصل: مهما. (7) في الأصل: ويظهر. (8) في الأصل: وقد. والمثبت تقدير منا. وعبارة (س) مضطربةٌ فيها سقط هكذا: يبعد حمله =

السخال في الغنم طرَدَ مذهبَه في الفُصلان ولم يُناقَض. ثم قد ذكرنا أن مذهب جماهير الأصحاب أن الشاة مترددة بين الذكر والأنثى، والهاء للتوحيد، وما يخالف هذا بعيدٌ. 7420 - واشتهر خلاف الأصحاب في الوصية بالبقرة والبغلة، فذهب بعضهم إلى أن البقرة محمولة على الأنثى، وكذلك البغلة، وذهب آخرون إلى أنها مترددة بين الذكر والأنثى تردد الشاة، ورأيت الطرق متفقةً على أن الكلب محمولٌ على الذكر من جنسه، لا غير. وهذه الفصول المتداخلة تقتضي ترتيباً، فنقول: ما لا يتخيل فيه التأنيث ويجري في قبيله تمييز الواحد عن الجمع بالهاء، فالمذكور بالهاء واحدٌ من الجنس، وهذا كالجوزة والتمرة واللوزة والشجرة والنخلة ولا [تعويل] (1) على ما يُذْكر في النخيل من الذكور والإناث، والجنس الذي تتحقق فيه الذكورة والأنوثة من جهة الخلقة ينقسم، فمنه ما يتميز فيه الذكر عن الأنثى بالهاء، مع اتحاد البناء، وهذا بمثابة الكلب والكلبة، والحمار والحمارة، فالاسم المذكور مع الهاء الأنثى، ومن غير هاءٍ للذكور. وعليه (2) يخرّج قول الأصحاب في حمل الوصية [بالكلب] (3) على الذكر، وإن خطر لإنسانٍ فيه إشكال، فسببه [ردّ] (4) الاسم إلى العجمية، وليس في لغة العجم فرق بين الذكر والأنثى. فأما ما لم يثبت في اللسان فيه [فرق] (5) بين الذكر والأنثى بالهاء ثبوتاً متحققاً

_ = على فصيل وجوب قبل السخال في الغنم، طرد مذهبه في الفضلا. (1) في الأصل: تحويل. (2) في الأصل: بدون واو. (3) في الأصل: بالطلب. (4) في الأصل: بردّه. (5) في الأصل: رق.

منقولاً، [ففيه] (1) اختلاف الأصحاب، وهذا ينقسم: فمنه ما غلب منه إرادة التوحيد، حتى لا يكاد العرب تفهم منه التأنيث، وهو كالشاة، وفيه ما لا يبعد فهم التأنيث منه، وهو كالبقرة والبغلة، [فظهر] (2) الخلاف في البقرة والبغلة [للتردد] (3) بين التوحيد والأنوثة، وبُعد الخلاف في الشاة. فهذا ما يجب ضبطه في هذه المسائل. 7421 - ولو أوصى لإنسانٍ بدابةٍ، فاسم الدابة في اللسان ينطبق على ثلاثة أجناس: الخيل، والبغال، والحمير، ولا يندرج تحتها الإبل، وإن كانت [مركوبة] (4)، وهذا متفق عليه، ومعناه في اللسان واضحٌ، لا إشكال فيه. ثم تردد أئمتنا في لفظ الدابة، إذا جرت في [مصر، وقد] (5) قيل: إن أهلها لا يفهمون منه إلا الحمار، فلو فرضت بلدة لا يفهم أهلها من الدابة إلا الفَرَس، نفرض (6) الكلامَ [على] (7) ما يتحمل اللفظ على موجب اللسان ليتردّد بين الأجناس الثلاثة (8): الخيل، والبغال، والحمير، أو يُحمل اللفظ على موجب عرف المكان؟ فيه تردد للأصحاب: فمنهم من لم يبال بالعرف [لظهور] (9) معنى اللسان، ومنهم من حمل اللفظ على موجب عرف المكان؛ فإن العرف قرينة الألفاظ. 7422 - ويتصل بهذا الفصل أن ألفاظ العقود في النقود قد تحمل على الدراهم

_ (1) في الأصل: وفيه. (2) في الأصل: فظاهر. (3) في الأصل: المتردد. (4) في الأصل: في كونه. (5) في الأصل: في مصروفة. (6) نفرض الكلام ... إلخ جواب (فلو فرضت بلدة) والاستفهام مقدّر. (7) مزيدة من المحقق. (8) عبارة (س): ففرض الكلام ويحمل اللفظ على موجب اللسان لتردد بين الأجناس الثلاثة ... إلخ. (9) في الأصل: بظهور.

المغشوشة إذا كانت بيّنة العيار جاريةً في المعاملات، وقد ذكرنا أن الإقرار بالدراهم محمول على المطبوع من النقرة، وذكرت وجه ذلك على ما ينبغي، ولم أر للأصحاب في الوصية بالدراهم شيئاً، ووجدت صَغْوَهم الأظهرَ إلى تنزيل ألفاظ الوصايا منزلة ألفاظ المقرّين (1)، ولكن لا يبعد عن الاحتمال عندي صرف الوصية بالدراهم إلى الدراهم الجارية في المعاملات، والظاهر إجراء الوصية مجرى الإقرار، والعلم عند الله تعالى. وتمام القول في حمل الألفاظ على العرف يأتي في كتاب الأَيمان، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " ولو قال: أعطوه كلباً من كلابي ... إلى آخره " (2). 7423 - الوصية بالكلب الذي يجوز اقتناؤه صحيحة، والكلب الذي لا يُقتنى لا تصح الوصية به، وقد فصلنا في كتاب البيع ما يصح اقتناؤه، وما لا يحل اقتناؤه، وذكرنا تفصيلاً في الجرو الذي ينتفع به إذا كبر. والقدر الذي يُكتفى به هاهنا ما ذكرناه من الرجوع إلى جواز الاقتناء، (3 وعماد جواز الاقتناء 3) الانتفاع المشروع، ثم البيع وإن كان ممتنعاً، فالوصية جائزة؛ فإن البيع يستدعي الملكَ المطلقَ التامّ، والوصية لا تقتضي ذلك، بل أقرب معتبر فيها الوراثة، فكل ما يتعلق به حقُّ الإرث تتعلق الوصية به إذا انتفع الموصى له انتفاع الوارث. وهذا فيه احتراز عن القصاص [وحدّ القذف] (4)؛ فإن الوارث ينتفع به من جهة

_ (1) (س): الألفاظ المفروضة. (2) ر. المختصر: 3/ 163. (3) ما بين القوسين ساقط من (س). (4) في الأصل: وجه الفرق.

شفاء الغليل، وهذا لا يحصل للموصى له، والوارث يخلف الموروث في الانتفاع بالكلب المنتفع به، والموصى له بمثابة الوارث، وهذا يجري مطرداً في الأعيان النجسة التي يجوز الانتفاع بها، كالزبل والخمرة المحترمة، والجلدِ القابلِ للدباغ قبل الدباغ، [فالوصية] (1) جائزة بهذه الأشياء؛ تعويلاً على تعلق استحقاق الوراثة بها مع التقييد الذي قدمناه. ثم إن قال: أوصيت لفلان بكلب من كلابي، وله كلاب، فالوصية نافذة. ولو قال: أوصيت لفلان بكلبٍ من مالي، ولم يكن له كلاب، فالوصية باطلة، فإن سبيل تقدير صحة الوصية ابتياع كلبٍ، وتسليمه إلى الموصى له، وهذا لا سبيل إليه؛ فبطلت الوصية. 7424 - ومما يتعلق بمقصود الفصل كيفية اعتبار خروج الكلب من الثلث: قال الأئمة: إن كان له مال سوى الكلب، فالكلب خارج، وإن كان لا يملك إلا دانقاً، ولم يخلف على ورثته غيرَ ذلك الدانق (2)، وعللوا بأن ما خلّفه من المال، وإن قل قدرُه، فهو أعلى قدراً من الكلاب؛ فإنها لو قُتلت، لم تُضمن، ولا يصح بيعها. وعلى هذا لو أوصى بكلابه، وخلف درهماً، أو أقلَّ، فالكلاب بجملتها مسلمةٌ، والوصية بها نافذةٌ. وذكر العراقيون هذا المسلك، وحكَوْا وجهاً آخر معه، وهو أنه لا أثر لوجود المال وعدمه في الوصية بالكلاب، حتى لو كان في يده كلب، وخفف مالاً جمّاً، وقد أوصى بذلك الكلب، فالوصية تقع بثلث الكلب، وذلك أن الكلب ليس من قبيل الأموال، وليست الأموال من جنس [الكلاب] (3)، والثلث المعتبر من ثلاثة أجزاء،

_ (1) في الأصل: بالوصية. (2) مكانها بياض في (س). (3) في الأصل: الكلام.

فإذا لم يكن الكلب من جنس المال، فعدُّه جزءاً من المال محال، فلا أثر إذاً للمال كان [أو] (1) لم يكن. وهذا الذي ذكروه بعيد، لا أصل له. وكل ما ذكرناه فيه إذا أوصى بكلب أو كلاب، ومعه شيء من المال، فأما إذا لم يكن له إلا الكلاب، فأوصى بكلب منها، فللأصحاب في المعتبر الذي إليه الرجوع في الخروج من الثلث، أوجه: أحدها - أن الاعتبار بالعدد لا غير، إذ لا قيم (2) لها فتعتبر. ومن أصحابنا من قال: [تعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة، ومبنى الثلث على هذا التقدير. ومن أصحابنا من قال:] (3) مبنى الثلث على اعتبار منافعها، وهذا قريب من اعتبار قيمتها، فإن قيمتها لمكان منافعها. هذا منتهى القول في ذلك. ومن تمامه أنه لو أوصى لإنسان بكلب [أو] (4) خمر محترمة وأُهب، لم تدبغ بعدُ، فلا يمكننا اعتبار العدد في ذلك، ولا يتجه إلا قيمتها لو كانت لها قيمة، فإن منافعها لا تتجانس، فتعتبر. ومن أصحابنا من يقول: إذا أخلف، (5) كلاباً وأزقةً من الخمر المحترمة، فتعتبر الأعداد. وهذا بعيد. ...

_ (1) في الأصل: إذا. (2) (س): قيمة. (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (4) في الأصل: وله. (5) في الأصل: تكلف.

فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال: طبلاً من طبولي ... إلى آخره" (1). 7425 - الطبل له ثلاثة محامل: أحدها - طبل العطارين (2)، والثاني - طبل الحرب، وفي معناه طبل الحجيج، والثالث -[طبل] (3) اللهو، وهو الذي يضربه النسوة والمخنثون، وهو المسمى [الكوبة] (4). فأما طبل الحرب وطبل الحجيج [وطبل] (5) العطارين، فيجوز بيعها، وتصح الوصية بها. وأما طبل اللهو وهو الكوبة، فمن آلات الملاهي، وسبيله سبيل المعازف، ثم الضبط فيها أنه إذا وجب تغييرها إلى حدٍّ (6) يُسقط عنها الاسمَ المذكور، فالبيع باطل فيها وفاقاً. فإن قيل: هلا صححتم البيع (7) [ونزلتموه] (8) على الأجزاء التي تبقى بعد التغيير؟ فإن آلات المعازف لا تبطل [بالكلّية] (9) ولكنها تغير وتفسد فيها الصيغة التي [تتهيّأ] (10) لهو لأجلها. ويبقى أجزاؤها ورُضَاضها، وقد ذكرنا (11) في الغصوب

_ (1) ر. المختصر: 3/ 163. (2) طبل العطارين هو سفَط لهم، والسفط وعاءٌ يخبأ فيه الطيب ونحوه (ر. الروضة: 6/ 121). (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: الكربة. والكوبة الطبل الصغير المخصّر (مصباح). (5) في الأصل: كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) وهي بمعنى عَيبة أو وعاء. (6) (س): جهة. (7) عبارة (س): صححتم البيع الواقع على الأجزاء. (8) في الأصل: تركتموه. (9) في الأصل: بالكلمة. (10) في الأصل: نبهنا. (11) (س): ذكرنا طرق الأصحاب.

طرق الأصحاب في [المنتهى] (1) الذي لا يتجاوز في الكسر والتغيير؟ قلنا (2): البيع وإن كان سائغاً في الرضاض، فلا يصح إيراده على آلة اللهو قبل الترضيض. وهذا متفق عليه. والسبب فيه [استحثاث] (3) الناس على الانكفاف عن التصرف في آلات الملاهي، ولو جوزنا بيعها، ثم حملناه على [الأجزاء] (4) التي تبقى، لكان هذا تنجيزَ (5) تصرف فيما أمرنا باجتنابه، والتباعدِ عن التصرف [فيه] (6)، فنخرّج عليه أنه لو قال: " بعتك هذا "، وأشار إلى كوبة أو بَرْبَط، فالبيع باطل، وإن لم يسم؛ فإن تعليل البطلان ما ذكرناه من الانكفاف عن التصرف فيه رأساً. ثم إذا بان فساد البيع فيها، فالوصية بالآت الملاهي فاسدة أيضاً. فإن قيل: قد صححتم الوصية بالكلب وإن منعتم بيعه، فهلا صححتم الوصية بآلات الملاهي، حملاً على رُضاضها؛ فإن الوصية تحتمل ما لا يحتمله البيع، ولذلك صححنا الوصية بالكلب وإن لم نصحح بيعه؟ قلنا: حق من يبغي دَرْك حقائق المذهب ألا يتبع الألفاظ، ويضرب عن المعاني، فالمعنى الذي لأجله رددنا البيعَ هو المنع (7) من تعاطي هذه الأشياء، والجريان على شعار الدين في الانكفاف عن التصرف في هذه الأشياء، وهذا المعنى يجري في الوصية جريانَه في البيع، والدليل عليه أنا أخذنا الوصية من الوراثة، وقلنا: ما يستحقه الوارث لا يمتنع الوصيةُ به، ثم طبل اللهو لا يبقى في يد الوارث، فإذا كان

_ (1) في الأصل: المسمى. (2) في (س): فإن. (3) في الأصل: استحقاق. (4) في الأصل: الأجرام. (5) كذا في النسختين ولعل الصواب تجويز. (6) زيادة من المحقق. وفي (س) والتباعد عنه. (7) (س): المتبع.

لا يبقى في يد الورثة، فلا يصح الوصية به، غيرَ أن الوارث لا يستحقه طبلاً، ولو [رُضّض] (1)، لكان الرضاض ملكَه إرثاً. وإذا أبطلنا الوصية بطبل اللهو، لم نثبت للموصى له حقاً في رضاض الطبل، ومُكَسَّره (2)؛ فإن الوصية من العقود، فإذا أُبطلت، قُدّر كأنها لم تكن، والإرث خلافة ضرورية، ووضعُها يقتضي أن يكون الوارث كالموروث، وقد كان الطبل مقرّاً على الموروث، وملكُه مستمر في المكسّر المغيّر. 7426 - ولو أوصى لإنسان بطبل لهو، وكان يخرج عن صلاحية اللهو بتغييرٍ، كما فصلناه في كتاب الغصوب، واسم الطبل يبقى مع انتهاء التغيير المستحق نهايته، فقد قال العلماء: تصح الوصية بالطبل على هذا الوجه؛ فإن الاسم الذي اعتمد به الوصية يمكن تقريره وتنزيلُ الوصية عليه، فصحت [الوصية] (3) على هذا النسق، واتفقت الطرق عليه. ويجب على مقتضى ذلك القطع بتصحيح الوصية بمكسّر الطبل، أو رُضاض العود؛ فإنه جَعل موردَ العقد لفظاً مشعراً بمملوك محترم، وكأنه قال: رضضوه وسلموا إليه رضاضه، والوصية تقبل التعليق. 7427 - ولو قال صاحب [البَرْبَط] (4): بعت منك رُضاض هذا، لم يصح البيع؛ فإن البيعَ لا يحتمل التعليق، فقوله: بعتك رضاضه تقديره: إذا رُضّض، فقد بعتك رُضاضه. ثم ليس للترضيض منتهى يوقف [عنده] (5) على ضبط. فإن قلنا: يكفي في تغيير البَرْبط نزعُ الأوتار منه، فقال: بعتك هذا دون وتره [أو] (6) محلولاً الوتر (7).

_ (1) في الأصل: رخص. (2) الواو مزيدة من (س). (3) في الأصل: الوجه. (4) في الأصل: الربط. (5) في الأصل: هزه. وهو تصحيف طريف. (6) زيادة من المحقق. (7) عبارة (س): بعتك محلولاً عن الوتر هذا دون وتره أو محل عن الوتر. فهذا ... إلخ.

فهذا يقرب من بيع ذراعٍ من خشبة تُعنى للحطب، والعلم عند الله. 7428 - ولو باع إناء من فضة، وكان اتخذ آلة من آلات الملاهي من الفضة، فإذا باعه، فهذا [محتمل] (1) عندي؛ فإن الصنعة، وإن لم تكن محترمة في آلة اللهو، وفرعنا على منع استصناع الآنية من التبرين، فالمقصود الأعظم نفاسة الجوهر، والصنعة تابعة، وليس كذلك الآلات المتخذة من الجواهر الخسيسة، كالخشب وغيرها؛ فإن المقصود الأظهرَ منها الصنعةُ، والرضاضُ بعد التكسير تابع غير مقصود، فيجوز أن يكون النظر إلى المقصود في النوعين، حتى يصحّ بيع الإناء وآلات الملاهي من التبرين. ولا يجوز بيع آلات الملاهي من الخشب؛ فإن عماد المقصود فيها الصنعة، وهي مستحقة التغيير. ويجوز أن يقال: لا يصح البيع في النوعين نظراً إلى الصنعة، فإن ما يبقى من آلة الخشب متموّل، وإن قل قدره. فإذا ثبت ما ذكرناه، قلنا بعده: 7429 - إذا أوصى بطبلٍ من طبوله، وله طبولُ حرب، وطبول لهوٍ، فالوصيةُ محمولةٌ على طبل الحرب، ثم للوارث أن يعيّن من طبول الحرب ما شاء. ولو قال الوارث: لفظُ الطبل يتناول طبلَ اللهو، وطبلَ الحرب، والطبول موجودة في تركته، فلست أحمل لفظه على طبول الحرب ليصحّ، بل أحمله على طبل اللهو ليفسد، فنقول له: إذا أوصى، فقد أثبت والتزم، فلا بد من إثبات وصيته ما وجدنا إلى الإثبات سبيلاً. [فانتظم] (2) من هذا أن اللفظ إذا تردد بين محملين يصح في أحدهما، ويفسد في الثاني، فهو محمول على الوجه الذي يصح [فيه] (3)؛ فإن الموصي أثبت للوصية لفظاً

_ (1) في الأصل: محمل. (2) في الأصل: فأعظم. (3) في الأصل: منه.

وقصد إثباته، فلاح [لنا] (1) من لفظه وقصده الإثبات، [فمِلنا] (2) إليه. ولو تردد لفظُ الموصي [بين] (3) الكثرة والقلة، حملناه على القلة؛ فإن اللفظ مع القلة [مستقل] (4) والوصية ثابتة، ونحن على تردد في الزائد على حد القلة، فلا يثبت ما ترددنا فيه. هذا أصل المذهب. 7430 - وقال الأئمة: لو أوصى بعودٍ من عيدانه، فاسم العود ينطلق على البَرْبط، وعلى العود الذي هو خشب كالعصا وغيرها، فاللفظ يحمل على العود الذي تصح الوصية به، لتناول اللفظ للنوعين، قياساً على ما ذكرناه في طبل اللهو والحرب. 7431 - وممّا ذكره الشافعي رضي الله عنه الوصية بالقسيّ (5)، فنقول: إذا أوصى بقوسٍ من قسيه، أو [من] (6) ماله، اندرج تحت لفظه قسيُّ العجم، وقسيُّ العرب، وقسي الحُسبان، والحُسبان سهام صغار، ترمى على قسيِّ العجم (7)، وهي المسماة نازك (8)، ولا يدخل تحت اسم القوس قوسُ النَّدْف ولا قوس الجُلاهق، وهو قوس البنادق؛ فإن قسيّ النَّدْف مشبهة في الصورة بالقسي لمكان أوتارها، فكان تسميتها قوساً بحق التشبيه لا بوضع الاسم، وكذلك قوس الجُلاهق. هكذا ذكره الشافعي وأطبق الأئمة عليه.

_ (1) في الأصل: له. (2) في الأصل: حملنا. (3) في الأصل: من. (4) في الأصل: مستقلة. (5) ر. الأم: 4/ 21، والمختصر: 3/ 167. (6) ساقطة من الأصل. (7) الحسبان: مرامي صغار لها نصالٌ دفاق يرمي بها الرجل في جوف قصبة، ينزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها، فلا تمر بشيء إلا عقرته ... وقوسها فارسية صلبة. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 591). (8) في (س): المسماة بالنبل، وتسمى أيضاً: (النيزك)، وهو الرمح القصير. (ر. معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة، والمصباح أيضاً).

ولو جرت الوصية في ناحية لا يعرف فيها إلا نوعٌ من هذه الأنواع، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه في الوصية بالدابة في القطر الذي لا يفهم منها إلا صنفاً واحداً. وهذه المسألة وتيك تخرّجان على أن المتبع موجب اللسان في إطلاق اللفظ، أو ما يفهم منه في طرد العرف؟. 7432 - ولو أوصى بقوس معيَّنٍ، وكان عليه وترٌ، فقد ذكر العراقيون وجهين في دخول الوتر في الوصية: أقيسهما عندنا - أنه [لا يدخل الوتر؛ لأنه ليس جزءاً من] (1) القوس متصلاً به اتصال صيغة. والآخر - لا اتجاه له وإن ذكره العراقيون، ولعلهم إنما يقولون هذا في القوس المعيّن، أو في قوسٍ من قِسيٍّ كلها موترة، فأما إذا لم يكن على القسيّ أوتار، وقال: اشتروا قوساً [وسلموه] (2) إلى فلان، فلا يجوز أن يُتخيلَ خلافٌ في أنه لا يجب ضمُّ وترٍ إلى القوس الموصى بها. وما ذكروه من الخلاف في دخول الوتر تحت الوصية بالقوس يجب طرده في بيع القوس الموتر؛ فإن ما يؤخذ من الألفاظ ولا يختلف فيه موجب الوصيةِ والبيعِ [يجب] (3) طَرْدُ البابين [فيه] (4) على قضية واحدة. 7433 - ومن تمام القول في هذا أنه إذا كان عند الرجل قسيُّ ندْفٍ أو قسي جُلاهق، فقال: أوصيت لفلان بقوسٍ من قسيَّي، فالوصية تُصرف إلى قوسٍ من قسيّ الندف؛ فانه ليس [يملك] (5) غيرَها، فإضافته القوس إلى ما يملك تصريحٌ منه بقوس الندف، وهو كما لو قال: أوصيت لفلان بقوس ندف.

_ (1) عبارة الأصل: لا يدخل على الوتر ليس جزءاً من القوس. (2) في الأصل: ذكره. (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: منه. (5) في الأصل: تمليك.

ولو كان له قسيُّ ندفٍ، فقال: أوصيت لفلان بقوسٍ، أو قال: أعطوه قوساً، لم يصرف ما أوصى به إلى ما عنده، فالقوس محمولة على قوس الرمي لا غير. وإن كان يظن الظان أنه يريد بالقوس [ما] (1) عنده. ولو قال: أعطوه عوداً من القسي، فقوس العرب يُتخذ من نبعة واحدة، وليست القوس غيرَها، فالوصية تحمل على عودٍ مهيىءٍ لقوس العرب. فأما قسيُّ العجم، فهي مركبة من [أجناس شتى] (2)، وقد يكون الخشب أقلها، فلا ينتظم لفظ العود فيها، فيتعين الصرف إلى أعواد قسي العرب، وأمثال هذا سهلة مع إحكام الأصول. فصل قال: " ويجعل وصيته في الرقاب والمكاتبين ... إلى آخره " (3). 7434 - إذا قال: "اجعلوا ثلث مالي في الرقاب"، فهو موضوع في المكاتبين عندنا، وعند أبي حنيفة (4) رحمه الله، وقال مالك (5): يُشترى بثلث ماله عبيد يعتقون. واتفق العلماء على أن الرقاب في صيغة الوصية محمولة على ما يُحمل عليه قول الله تعالى في آية الصدقات: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] غيرَ أنا حملنا الرقاب في آية الصدقات على المكاتبين، وحملها مالكٌ على صرف قسط (6) الصدقات إلى شراء عبيد ليعتقوا.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: من أجناس مجتمعة من قسي. وفي (س): من أجناسٍ مجتمعة من شتى. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى. (3) ر. المختصر: 3/ 163. (4) ر. البدائع: 2/ 45، حاشية ابن عابدين: 2/ 60. (5) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 421 مسألة: 616، جواهر الإكليل: 1/ 139، والتهذيب للبرادعي: 1/ 445. (6) في الأصل: وقسط.

فإن قيل: اسم الرقاب يتناول المكاتبين والأرقاء، فلِمَ يتعين في الوصية الحمل على المكاتبين؟ قلنا: رأى العلماءُ لفظَ الرقاب لفظاً عاماً في اللغة، خاصاً في عرف الشريعة، فغلّبوا [اللفظ] (1) الشرعي، كما غلبوا لفظ الصوم، والصلاة، والحج، فإنها إذا جرت في وصيةٍ، أو نذر، أو يمين، كانت محمولةً على عرف الشرع، فكذلك القول في الرقاب. ثم إذا قال: ضعوا ثلث مالي في الرقاب، فلا بد من وضعه في ثلاثة من المكاتبين فصاعداً، والاقتصار على الثلاثة جائز، والزيادة حسنة جائزة، والنقصان ممتنع، وكذلك الوصية للفقراء والمساكين، وما في معانيهم. والقول الضابط [فيه] (2) أنه إذا أوصى لأشخاصٍ، تعيّن استيعابهم، ثم إذا كانت الوصية مطلقةً، يجب صرف الموصى به إلى جميعهم بالسوية من غير تفصيل، وإذا أوصى بشيء لموصوفين لا [حصر] (3) لهم، وكانت الصفات فيهم عوارض لا تلزم، كالفقر، والمسكنة، والغُرم، والكتابة، فهذه الوصية مستقلّة بأقلّ الجمع، ولا نقصان من الأقل، وأقل الجمع في وضع الشرع ثلاثة، ويجوز الازدياد على الأقل إلى غير نهاية، والأمر مفوض إلى رأي الوصي إذا كانت الوصية مطلقة. وفي حكم هذا القسم جواز تفضيل [البعض] (4) على البعض، حتى لو رأى الصرف إلى ثلاثة، فصرف المعظم إلى واحد منهم، وصرف إلى كل واحد من الباقين مقداراً نزراً، جاز ذلك، على ما سيأتي تقرير هذا في قَسْم الصدقات، إن شاء الله عز وجل. 7435 - ولو أوصى لأقوامٍ يبعد عن الإمكان حصرهم، وكانوا موصوفين بصفات ملازمة لهم، لا تحل محل العوارض التي يفرض طريانُها وزوالُها، وهذا بمثابة الوصية للعلويّة، فأنسابهم في حكم الصفات اللازمة، وحصرهم غير ممكن، ففي

_ (1) في الأصل: "العرف". (2) في الأصل: منه. (3) في الأصل: لا حصة. (4) ساقطة من الأصل.

صحة الوصية لهم قولان؛ فإن الصفات إذا لزمتهم، تضمن ذلك كونَهم مقصودين بأعيانهم، وليسوا كالموصوفين بما يعرِض ويزول؛ فإن الأشخاص ليسوا معينين، فإنما العَرَضُ يتبع الصفة التي يقع التعرض لها في جمعٍ، وسيأتي تفصيل القول في الوصية للعلوية وغيرهم، وإنما اعترض ذكرهم لاستيعاب أقسام الكلام، والغرض الآن أن الاقتصار على ثلاثة في الوصية للرقاب سائغ، كما يسوغ الاقتصار على ثلاثة في صرف سهام الرقاب من الزكاة إليهم، ثم الوصي إن صرف الموصى به إلى ثلاثة من المكاتبين، فقد وفَّى، وإن صرف الموصى به إلى اثنين وفات الأمرُ، فإنه يغرَم حصة ثالث، وفي القدر الذي يغرَمه خلاف مشهور. ومن أصحابنا من قال: يغرَم له أقلَّ ما يتموّل، فإنه لو صرف إليه ذلك القدر ابتداء، لكان خارجاً عن العهدة [وافياً] (1) بموجب الوصية، فخرج عن عهدة [الغرم، بما كان يخرج به عن عهدة] (2) الوصية ابتداء. ومن أصحابنا من قال: يلزم لمكاتب ثلث الموصى به، فإنه غرم واحداً من ثلاثة، وانتسب إلى المخالفة الملزمة للغرامة، فيجب أن يكون مطالباً بمقدارٍ منضبط، وأقرب الأمر الفَضُّ على رؤوسٍ ثلاثة. وسنشرح هذا أيضاً في قَسْم الصدقات، إن شاء الله عز وجل، فاكتفينا بذكر مراسمَ في التقاسيم. 7436 - فإن قيل: إذا صححتم الوصية للعلوية، فهل توجبون استيعابهم؟ قلنا: إيجاب ما لا يستطاع محال، فالوصية إذا صحت لهم، فهم نازلون منزلة الفقراء، فيجوز الاكتفاء بثلاثة منهم، ثم لا يجب التسوية، بل يجوز تفضيل البعض على البعض، كما ذكرناه في الفقراء، ثم إذا أوجبنا على الوصي أن يغرم لمكاتبٍ ثالث شيئاً، فقد قال القفال [فيما] (3) حكاه الصيدلاني: ليس لهذا الوصي أن يدفع بنفسه ما لم يلزمه إلى مكاتبٍ؛ فإنه إنما يسلم إلى المكاتَبَيْن [ما] (4) يسلِّم بحكم الوصية،

_ (1) في الأصل: رانياً. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (3) في الأصل: فما. (4) في الأصل: "فما".

وكونه وصياً، وهو الآن غارم، وليس وصيّاً [فيما] (1) يغرمه ولا مؤتمناً، فيتعين عليه أن يسلم ما يلزمه إلى حاكمٍ ليقبضه منه. ثم لو ائتمنه ذلك الحاكم فأمره بصرفه إلى مكاتب، جاز له ذلك امتثالاً لأمر الحاكم، وهذا حسن ظاهر. فصل قال: "فإن لم يبلغ ثلاث رقاب، وبلغ أقل من رقبتين ... الفصل" (2). 7437 - ذكر المزني هذا الفصلَ معطوفاً على الوصية للرقاب، وفي العطف إخلالٌ؛ فإن مضمون هذا الفصل الكلامُ في صرف ثلث المال إلى عبيد يشترَوْن ويعتقون، ومضمون الفصل الأول في صرف طائفة من المال إلى جمعٍ من المكاتبين، فإذا قال بعد نجاز الكلام في المكاتبين: " فإن لم يبلغ ثلاث رقاب وبلغ أقل من رقبتين "، لم ينتظم مبتدأ هذا الكلام مع مختتم الفصل الأول، وكان الوجه أن يبتدىء، فيقول: " لو أوصى بصرف شيء من ماله إلى شراء عبيدٍ، فلم يبلغ [ثلاث] (3) رقاب، فحكمه كذا ". نعود إلى مقصود الفصل وفقهه ونقول: 7438 - إذا أوصى بصرف ثلث ماله إلى شراء عبيد ليعتقوا، فلا بد من صرفه إلى ثلاثة من العبيد؛ لأن اللفظ لفظ الجمع، فإن لم يوجد بثُلثِه ثلاثةُ أعبد، فقد قالت الأئمة المعتبرون من المراوزة: نصرف الثلثَ إلى عبدين [نفيسين] (4)، فإن لم يتأت إلا صرفُه إلى عبدين، وفضل فضلٌ لم نجد به رقبة، ولم نجد عبدين يستوعب [ثمنهما] (5) الثلثَ، فالفاضل مردود على الورثة، والوصية باطلةٌ فيه، ولا يجب

_ (1) في الأصل: مما. (2) ر. المختصر: 3/ 163. (3) في الأصل: ثمن، و (س): ثمان، والمثبت تقدير منا أخذاً من عبارة المزني المذكورة آنفاً. (4) في الأصل: شيئين. (5) في الأصل: منها.

صرف ذلك الفضل إلى شقصٍ (1) من عبد، وعللوا هذا بأنه ذكر العبيد، واسم العبد لا ينطلق على شقص من عبد. هذا مسلك أئمتنا المراوزة. وأخذ العراقيون مأخذاً آخر، وقالوا: لا يرتدّ الفاضل إلى الورثة، بل يجب صرفه إلى شقصٍ من عبد؛ فإن غرض الموصي أن يصرف الثلث إلى جهة العتق، فإن تمكنا من الوصول إلى تحصيل العتق في أشخاصٍ، فعلنا ذلك، وإن لم نقدر على تحصيل العتق في [جمعٍ] (2) من الأشخاص، حصلناه في شخصٍ أو شخصين، فإن فضل فضلٌ، [فصرفه] (3) إلى شقصٍ أقربُ إلى مقصودِ الموصي من رده إلى الورثة. ثم قالوا: إن أمكن صرف الثلث إلى عبدين نفيسين يستوعب ثمنهما الثلث، وأمكن صرفه إلى عبدين دونهما مع صرف الفاضل إلى شقص، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب أن نشتري العبدين النفيسين؛ حتى لا يؤدي إلى التبعيض. وهذا المسلك حتمٌ. قالوا: وهو اختيار ابن سريج. والوجه الثاني - وهو اختيار أبي إسحاق فيما حَكَوْه أنه يجب أن نشتري عبدين، ونُفْضل، ونشتري بالفضل جزءاً من ثالثٍ؛ فإن هذا أقربُ إلى مقصود الموصي؛ إذ من مقصوده ربطُ العتق [بجمع] (4). وطريق العراقيين بعيدةٌ عن طريق المراوزة؛ فإنهم لم يرَوا لشراء الشقص وإعتاقه وجهاً، وإذا [فرض] (5)، لم يقع عن جهة الوصية عندهم.

_ (1) (س): بعض. (2) في الأصل: جميع. (3) في الأصل: فنصرفه. (4) في الأصل:، بجميع، وفي (س): "بجميع الثلث" والمثبت تصرّف من المحقق رعاية للمعنى المقصود. (5) في الأصل: مرض.

فالخارج من أقوال الأئمة [أن] (1) الصرف إلى ثلاثة من غير تشقيص إن أمكن تعيّن. ولو في أخسّاء من المماليك. وإن لم نجد ثلاثة، ووجدنا عبدين وشقصاً، فالمراوزة قاطعون بردّ الفضل إلى الورثة، والعراقيون قاطعون بوجوب صرفه إلى شقصٍ. وإن [تصدّى] (2) لنا شراء نفيسين وشراء عبدين دونهما مع شراء شقصٍ في ثالث، [فقد] (3) ذكر العراقيون وجهين، كما قدمنا، وقطع المراوزة بما حَكوه من اختيار ابن سُريج. 7439 - ثم قال العراقيون: إذا قال المريض: اشتروا عبداً وأعتقوه عنِّي، فاشترى الوارث عبداً وأعتقه، ثم ظهر دينٌ مستغرق للتركة، نُظر: فإن كان اشترى من عين التركة، فقد بان بطلان البيع؛ إذ لا وصية مع الدين ولا ينفذ صرف شيء من التركة إلى ثمن العبد المشترى، لمكان الدَّين المستغرِق للتركة، فالعبد مردود على بائعه، والعتق فاسدٌ، وثمن العبد يُسترد ويصرف إلى الدين. وإن كان اشترى العبد في الذمة وأعتقه، نفذ البيع والعتقُ؛ فإن البيع اعتمد الذمة، فصح للوارث (4)، ثم يَسْري العتقُ منه مطلقاً في ملكه، فلا مرد له. وهذا واضح لا خفاء به. فصل قال: "ولو أوصى أن يحج عنه، ولم يكن حج حجةَ الإسلام ... الفصل" (5). 7440 - ذكرنا صدراً صالحاً في الاستئجار على الحج المفروض والمتطوّع به في كتاب الحج، وقد يتكرر في أثناء الكلام بعضُ تلك القواعد.

_ (1) في الأصل: إلى. (2) في الأصل: تعدى. (3) في الأصل: نفذ. (4) (س): من الوارث. (5) ر. مختصر المزني: 3/ 164.

فإذا استجمع الكامل شرائط الاستطاعة، والتزم حجةَ الإسلام، ومات فتحصيل الحج دين من رأس التركة، أوصى به أو لم يوصِ. وقال أبو حنيفة (1): إذا مات ولم يوص، لم يحج عنه، وطرد هذا في الزكوات المستقرة في حالة الحياة، فقال: إذا مات من تجمعت عليه الزكاة، ولم يوصِ بأدائها، لم تُخرج من ماله، وإن لقي الله عاصياً، وإن أوصى بإخراجها، أُخرجت من ثُلثه إن وفّى بها. وكان شيخنا أبو محمد رحمة الله عليه يحكي هذا قولاً قديماً للشافعي رضي الله عنه، ولم يتعرض لحكاية هذا أحد من الأئمة الذين يبعد أن يشذ [عنهم] (2) قريب وبعيد. ثم معتمد أبي حنيفة رحمة الله عليه افتقارُ الزكاة إلى النية، ثم إن صدرت النية من ملتزم الزكاة، فذاك، وإلا (3) قامت نية من يستنيبه مقامَ نيته، فإذا مات، فقد فات صدَرُ (4) النية منه، ولم يوص، فتقوم نية وصيِّه ومأموره مقام نيته. وهذا لا يستقيم على أصلنا مع مصيرنا إلى أن السلطان يأخذ زكوات الممتنعين، كما صح ذلك في سيرة الصديق رضي الله عنه، وإنما تردد أصحابنا في أن السلطان إذا أخذ الزكاة قهراً، وسقطت طَلِبتُه، فهل تسقط الزكاة عمن عليه باطناً بينه وبين الله تعالى؟ فيه اختلاف ذكرناه في موضعه من الزكاة. ثم كنا نقول في مراجعة شيخنا أبي محمد: القياس إن لم يكن من هذا القول [بُدّ] (5) أن يقال: إذا أوصى، فالزكاة محسوبة من رأس المال؛ فإن متعلق هذا المذهب [تعذّرُ] (6) النية وسقوطُ الزكاة بتعذرها، فإذا جرت الوصاية، فقد أمكنت النية على طريق النيابة، فليؤدِّ الزكاة ديناً، فكان يأبى هذا ويقول: "القول القديم مثلُ مذهب أبي حنيفة، فالزكاة تسقط إذا لم

_ (1) ر. رؤوس المسائل: 247 مسألة: 141، حاشية ابن عابدين: 2/ 28، 5/ 415. (2) في الأصل: منهم. (3) (الواو) مزيدة من (س). (4) صدر النية: أي صدور. (5) في الأصل: به. (6) في الأصل: يعتذر.

تجر وصية، فإن جرت، فهي من الثلث"، وهذا لا أعرف له وجهاً أصلاً. رجع بنا الكلامُ إلى التفريع على أصل المذهب، فنقول: 7441 - إذا استقر الحج في ذمته ومات، [فحجة] (1) الإسلام الواقعة ركناً ميقاتية، هذا هو الركن، فيستأجر من الميقات أجيراً بأجرة قريبة، ويتأدى حج الإسلام به. ولو كان نذر حجاً في صحته، لزمه الوفاء به إن استطاع إلى الحج سبيلاً، فلو مات قبل الوفاء، ففي الحجة المنذورة قولان: أحدهما - أنها دَيْنٌ، كحجة الإسلام من رأس المال (2)، ووجهه أنه وجب في الصحة، فاستقر في الذمة، فكان ديناً لله تعالى كحجة الإسلام. والقول الثاني - أنها لا تكون من رأس التركة؛ فإن الناذر أدخل الوجوبَ على نفسه، فيجوز أن يقال: يُلزمه الشرع الوفاء به في تمكنه، فأما أن يصير ما أدخله على نفسه مزاحماً [لحقوق] (3) الورثة، فلا. وهذا التوجيه فيه مخيلةٌ (4) من الفقه، وهو معنى (5) قول بعض الأصحاب: إن هذين القولين [مبنيان] (6) على أن [المنذور] (7) هل يثبت له حكم الواجب شرعاً أم لا؟ وهذا فيه لبس وتعقيد؛ فإن الذي ذُكر من التردّد في أن الواجب بالنذر هل يأخذ حكم الواجب شرعاً؛ معناه أن من نذر لله تعالى صلاةً، ثم صلى قاعداً مع القدرة على القيام، فهل يخرج عن موجَب نذره؟ فهذا ومثله يخرّج على القولين في أن الواجب بالنذر هل يتقيد بالشرائط المرعية في الواجب شرعاً، ففي قولٍ نحمل [النذر] (8) على

_ (1) في الأصل: بحجة. (2) جعلهما النووي وجهين، وقال: إن هذا أصحهما (ر. الروضة: 6/ 197). (3) في الأصل: بحقوق. (4) (س): فيه مختلف في الفقه. (5) في الأصل: وهو معنى عن قول بعض الأصحاب. وفي (س): وهو خارج عن قول بعض الأصحاب. (6) في الأصل: ينتهيان. (7) في النسختين: النذور. (8) في الأصل: القدر.

ما يسمى صلاة؛ اتباعاً للفظ، وفي قول نحمله على مضاهاة الواجب شرعاً؛ تقريباً وتشبيهاً. فهذا مأخذ ذلك. فأما القول في أن المنذور هل يكون من رأس التركة يبعد (1) أخذه مما ذكره هؤلاء. والخلاف في احتساب الكفارة من رأس التركة، وقد لزمت الكفارة في الصحة، كالخلاف في الملتزم بالنذر؛ فإن الكفارات دخلت عليه بتسبُّبِه إلى التزامها، وليست من وظائف الشرع، فنزلت منزلة المنذور. وهذا فيما يجري في الصحة. والنذرُ الذي يصدر من المريض في مرضه المخوف من الثلث، لا خلاف فيه، وكذلك الكفارات التي تجري أسبابها في المرض. ونقول وراء ذلك: نذر الصحة إن (2) جعلناه ديناً، فلا كلام. وإن لم نجعله ديناً، فالذي أشعر به كلام الأئمة أنه لا بد من الوصية فيه، فإن لم تكن (3)، [سقط] (4) بالكلية. وفي بعض كلام المحققين ما يدل على أنها تخرج من الثلث، وإن لم يكن وصية؛ فهي مستحقة من الثلث، ونفسُ جريان النذر في حكم الوصية به، وكذلك القول في الكفارات وأسبابها. وهذا فقيهٌ حسن. 7442 - ومما نذكره في قاعدة الفصل أن الوصية بحج التطوع هل تصح؟ فعلى قولين (5) مشهورين ذكرناهما في المناسك، والأصح في الفتوى الصحة، وهو الذي

_ (1) بدون الفاء في جواب (أما) كدأب الإمام في اختيار هذه اللغة الكوفية. (2) في الأصل: وإن. (3) فإن لم تكن: أي فإن لم توجد الوصية. (4) في النسختين (سقطت). والمثبت تصرف من المحقق، فالفاعل ضمير يعود على النذر. (5) في الأصل: وجهين قولين، وفي (س) وجهين: والتصويب من العزيز للرافعي، والروضة للنووي، وقد قال: إن الأظهر صحة الوصية بحج التطوع. (ر. العزيز: 7/ 121، والروضة: 6/ 195).

تشهد له [الآثار] (1) والأقيسُ أنها لا تصح؛ فإن الحج عبادةٌ بدنية وإجراء النيابة في المفروض منه في حكم الضرورة المتبوعة بطريق الرخصة، والوصيةُ بالتطوع مستغنى عنها. ثم ذكر طوائف من أئمتنا أنا إذا صححنا الوصية بالحج تطوعاً، فهل تقدم على سائر الوصايا، أم هي مساوية لها في المرتبة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها مقدَّمة. والثاني - أنها مساوية، وهذا ترددٌ وذكر اختلاف قول، لستُ أعرف وجهه؛ فإن الوصية بالحج ليست على مرتبة من التأكيد تقتضي تقديمَها، وكيف يُدّعى ذلك وفي (2) أصل صحتها قولان: أحدهما -[عدمُ] (3) الثبوت، والمشهورُ اختلاف القول في تقديم الوصية بالعتق على ما سواه من الوصايا، وذلك لسلطان العتق في نفوذه، كما سيأتي شرح ذلك في مسائل الوصايا بالعتق. وذكر الشيخ أبو علي طريقة ناصة على الحقيقة تشفي الغليل، وعليها التعويل عندي: قال رضي الله عنه: الوصية بحج التطوع لا تقدم على غيرها من الوصايا إلا أن ينص الموصي على تقديمها، فتقدم حينئذ بحكم الإيصاء، كما سنصف ذلك أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل. والحجة المنذورة في الصحة إذا قلنا: إنها محسوبة من الثلث، قال رضي الله عنه: هل تقدم على سائر الوصايا؟ فعلى قولين: أحدهما - لا تقدم؛ لأن محلها الثلث. والثاني - أنها مقدمة لتأكد لزومها في حالة الصحة. وهذا في نهاية الحسن. ثم قال رضي الله عنه: نُجري في الوصية بالحج والوصية لزيد وعمرو بشيءٍ الاختلافَ في أنه إذا ازدحم على [المال] (4) المتضايق حق الله تعالى، وحق الآدميين، فالمقدم أيُّهما؟ وفيه أقوال ستأتي، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: الاختيار. (2) في الأصل: في صحتها (بدون واو). (3) في الأصل: أحدهما عن الثبوت ... وعبارة (س): قولان لبعدها من الثبوت. (4) في النسختين: "الحال" والمثبت من اختيارنا.

فإن قلنا: المقدَّم حقُّ الله تعالى، اتجه عليه تقديمُ الحج على الوصية للآدميين، وإن لم نَرَ ذلك، فقد نقدم حقَّ الآدمي في قول وقد نُسوِّي. فأما الوصية بالحج والوصية بالصدقة إذا اجتمعا، فلا وجه لتقديم الوصية بالحج. وكل ما ذكرناه في حكم المقدِّمة لمقصود الفصل. 7443 - ونحن الآن نعود إلى غرض الفصل ونقول: قد بينا أن حجة الإسلام إذا قرّت في الذمة، فهي دين، فلو كان أوصى الرجل بوصايا، ثم قال: أحِجوا عني حجةَ الإسلام من ثلثي، فقوله هذا محمول على مزاحمة الحج للوصايا، حتى إذا زاحمها، وقلت الوصايا [بمزاحمته] (1) إياها، فإن تحصّل ما يتأدى الحج به من المضاربة، فهو المراد، وإن لم يتحصل من مزاحمة الوصايا ما يتم به الحج، أكملناه من رأس المال. هذا إذا صرح الوصي بالإحجاج عنه من ثُلثه، وكان عليه حجةُ الإسلام، وقد استكمل الاستطاعة في حياته. ولو قال: أوصيت إليكم أن تُحجوا عني إنساناً، ولم يتعرض للثلث ولاعتبار الحج منه، ولكنه ذكر لفظ الوصية، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على ما حكاه العراقيون، فذهب بعضهم إلى أن هذا [ينزل] (2) منزلة تصريحه بالإحجاج عنه من ثلثه، حتى يقتضي مزاحمةَ الوصايا؛ فإن الوصية لفظةٌ مشهورةٌ فيما يحسب من الثلث، فجرى مجرى التصريح بالحَسْب (3) من الثلث. وذهب آخرون إلى أن الحج لا يزاحم الوصايا إذا لم ينصّ الموصي على اعتباره من الثلث؛ فإن الإيصاء بمثابة الأمر، ولو قال: أحجوا عني إنساناً، لم يتضمن مجردُ

_ (1) في الأصل: المزاحمة. (2) في الأصل: نزلت. (3) (س): في الاحتساب.

الأمر مزاحمةَ الحج للوصايا، ثم ذكروا صورةً أخرى، ورتبوا [فيها] (1) الخلاف على ما ذكرناه، وقالوا: إذا قال: أوصيت إليكم أن تُحجوا عني وأن تصدقوا بكذا، وتعتقوا رقبة، فذكر لفظ الوصية في الحج [وقَرَنه] (2) بما هو محسوب من الثلث، فهل يتضمن هذا في الحج مزاحمة الوصايا به؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا أطلق الوصية بالحج، ولم يقرنه بتبرعٍ محسوبٍ من الثلث، وهذه الصورة الأخيرة أولى بحَسْب الحج فيها من الثلث؛ فإنه انضم إلى لفظ الوصية ذكرُ الحج مع تبرعٍ يحسب من الثلث في قَرَنٍ، والإقران في الذكر من ضروب البيان. ولو [أمر] (3) بالإحجاج عنه، وقرن الحجَّ بتبرعٍ، ولم يَجْر لفظُ الوصية، ففي [مزاحمة] (4) الوصايا بالحج خلاف، والأظهر أنا لا نزاحم به، إذا لم يجْرِ لفظُ الوصية؛ فإن مجرد الاقتران لا يستقل بنفسه تبييناً، ولكن إذا جرى لفظٌ له مقتضىً، فالاقتران يؤكده. هذا مجموع القول في ذكر الحج أمراً وإيصاء، وتصريحاً بالحَسْب من الثلث، وذكْرِ غيره معه. 7444 - وما ذكرناه في الحج، وهو دين يحتسب من رأس المال يجري في جملة الحقوق التي سبيلها أن تكون من رأس المال. فإذا نصّ مَنْ عليه الحق على حَسْبه من الثلث إذا أطلق لفظَ الإيصاء أو قرنه بتبرعٍ، فالتفصيل في المزاحمة على ما ذكرناه في الحج، وفاقاً وخلافاً. 7445 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا فرعنا على تقديم الوصية [بحجّ] (5) التطوع على الوصايا، فإذا أوصى [من] (6) عليه حجةُ الإسلام، فإن تحصل الحجة من

_ (1) في الأصل: منها. (2) في الأصل كلمة غير مقروءة رسمت هكذا: [ونسريه]. (3) في الأصل: أصر. (4) في الأصل: تزاحمه. (5) في الأصل: فحج. (6) سقطت من الأصل.

ثُلثه؛ فالذي دلّ عليه فحوى كلام الأئمة أنا على تقديم الحج على الوصايا نقدم حجة الإسلام على الوصايا جُمَع، فلا مزاحمة، حتى إن لم يفضل من الثلث شيء، بطلت الوصايا، وإذا فضل عن تمام الحج شيءٌ، صرف الفضلُ إلى الوصايا [وفُض] (1) عليها، فتثبت المزاحمة في الثلث بحج الإسلام على حسب المزاحمة من حج التطوع والوصايا. ومن أصحابنا من قال: نحن وإن قدمنا حجة التطوع على الوصايا، فإذا أوصى أن يوقع حجة الإسلام في الثلث، لم نقدمها، وذلك أنا نتلقى الاحتساب في الثلث من قوله المشعر بإرادة (2) المزاحمة، وإلا فحجة الإسلام حقُّها أن تُقدَّمَ على الثلث، فإن أثّر تقديمُها في [تقليل] (3) الثلث، فلا بد من ذلك، فأما مزاحمة الوصايا في محل الوصايا، فمتلقى من [قصد] (4) الموصي، لا من مقتضى حجة الإسلام. نعم، إن قال: قدموا حجِّي في ثلثي على الوصايا، فيقدّم حينئذٍ عليها؛ اتّباعاً للفظه. 7446 - ومما نذكره في استكمال هذا أنا إذا صححنا الوصية بحجة التطوع، فإذا أطلق الوصية بها، فقد ذكر العراقيون وجهين في أن الوصية المطلقة بالحجة محمولةٌ على حجة [ميقاتية] (5)، أم هي محمولة على حجة ينتهض لها قاصداً من دويرة الموصي؟ أحدهما - أنها محمولة على ميقاتية، ولعل هذا هو الظاهر؛ فإن ألفاظ الموصي محمولة على أقل المعاني، فلذلك تحمل الوصية [بالمال] (6) على أقل ما يتموّل، كما يحمل الأقرار عليه. واسم الحج ينطلق على الحج الميقاتي، فليقع الاكتفاء به.

_ (1) في الأصل: ونص، وفي (س): ومضى. والمثبت اختيار المحقق على ضوء السياق والمعهود من ألفاظ الإمام. (2) في الأصل: فإرادة. (3) في الأصل: تعليل. (4) في الأصل: فصل. (5) في الأصل: منقاسة. (6) في الأصل: فالمال.

والوجه الثاني - أن الوصية المطلقة محمولة على إحجاج قاصدٍ من دويرة الموصي؛ إذ هذا هو العرف الغالب، وهو المفهوم من الحج المطلق، فإذا أراد مريدٌ الحجَّ الميقاتي، قيده بذلك. والعرف إذا اقترن باللفظ، كان اللفظ محمولاً على موجب العرف، فإذا تبين ذلك، فلو قال في حجة الإسلام: أحجوا عني رجلاً من ثلثي، فالحج من الميقات مردودٌ إلى الثلث لغرض المزاحمة، وهل يتضمن الأمر بالإحجاج ترشيحَ قاصدٍ من دويرة الموصي؟ اختلف أصحابنا في ذلك أخذاً من الوصية المطلقة [بحج] (1) التطوع، فمنهم من قال: لا يُحَج عنه إلا من الميقات، والمزاحمة تقع بالحجة الميقاتية، ومنهم من قال: ذكْر الحج في محل الوصايا يتضمن أن نرشح عنه قاصداً من دويرته. وكان شيخي يقول: الأمر المطلق بالحج والحج ركنٌ لا يتضمن [الإحجاج] (2) من دويرته، والأمر على ما قال. وقال الأصحاب كافة: إذا فرعنا على أن حج التطوع مقدم على الوصايا، فهذا [فيه] (3) إذا كان المبذول للأجير مقدارَ أجر مثله، فإن كان بذل له الموصي أكثرَ من أجر مثله، فتلك الزيادة الموصى بها لا تقدم على الوصايا قولاً واحداً؛ فإن سبب التقديم في الحج قوةُ الحج، أو شرفه، أو ما يرى (4)، وهذا يختص بالحج، فإذا فرضتَ نِحْلة ومزيداً (5) في الأجرة، فذلك الزائد كالوصايا. وذكر شيخي أبو محمد أن من أصحابنا من رأى تقديم الزائد على أجر المثل في الحج على الوصايا إذا وقع التفريع على تقديم الحج؛ فإن (6) ما يثبت عوضاً في الحج يتبعه في مقتضاه، ويكتسب حكمه. وهذا بعيدٌ، لم أره إلا له.

_ (1) في الأصل: فحج. (2) في الأصل: بالإحجاج. (3) في الأصل: منه. (4) أو ما يرى: أي إرادة الموصي ذلك. (5) سقطت من (س). (6) (س): فأما.

7447 - ثم إن ابن الحداد ذكر مسألة وأخرى معها ثم شعّبهما الأصحاب بالتفريع. قال ابن الحداد: إذا كان على الإنسان حجةُ الإسلام، وقد وضح أنها ميقاتية. فإذا قال: أخرجوا حجة الإسلام من ثلثي، [وأخرجوا] (1) أجرته إلى فلان، وسمى زيداً مثلاً، وقرر الأجرة، وقال مائة، وكان مقدار أجرته أجرة المثل، وأوصى لعمرٍو بما يبقى من ثلثه بعد الحج، وأوصى لبكرٍ بثلث ماله، وخلّف تسعمائة، فإن أجاز الورثة الوصايا، صرفنا ثلثاً كاملاً، وهو ثلاثمائة إلى الموصى له بالثلث، وصرفنا من ثلثٍ آخر مائة إلى الحج، وصرفنا الباقي من هذا الثلث وهو مائتان إلى عمرو، وهذا ترتيب القسمة حال الإجازة. ولو رد الورثة الوصايا إلى الثلث، وأبطلوا الزائد عليه، والثلث ثلاثمائة في هذه الصورة، فحاصل ما ذكره الأئمة في كيفية القسمة بين الوصايا ثلاثة أوجه: أحدها - غلطٌ على المذهب. والثاني - مزيّفٌ. والثالث - المذهب. 7448 - أما الغلط، فجواب ابن الحداد، قال: يصرف مائة إلى الحج، ويقسم باقي الثلث وهو مائتان بين عمرو الموصى له بباقي الثلث بعد الحج، وبين بكر الموصى له بالثلث، واعتلّ ابنُ الحداد بأن قال: لو ثبت الوصية بالحج مع الوصية بالباقي بعد الحج، والمسألة كما صورناها، [لقلنا: للحجّ] (2) مائة، والباقي [للموصى] (3) له بما يبقى من الحج، ولو فرضنا الوصية بالحج مع الوصية بالثلث، لقلنا مع ردّ الورثة الزائدَ على الثلث: نصرف إلى الحج مائة، ونصرف إلى الموصى له بالثلث مائتين، فإذا كان كل واحد من الرجلين في الوصية بالباقي، والوصية بالثلث

_ (1) في الأصل كلمة غير مقروءة. (انظر صورتها). (2) في الأصل: فقلنا صحَّحَ مائة. (3) في الأصل: يعرض له ما يبقى.

يستحق مائتين، فإذا اجتمعا مع الحج وقد بان مساواة ما يستحقه كل واحدٍ لما يستحقه صاحبه، فإذا اجتمعا، استويا. فهذا [إذاً مصير منه] (1) إلى تقديم الحج. ثم فرع بعد هذا على مذهب أبي حنيفة؛ فإنه يُقدّر في قسمة الرد -بين الذين لهم الوصية- حالةَ انفراد كل واحد منهم، ولهذا يقول: الموصى له بالنصف يساوي الموصى له بالثلث عند رد الوصيتين إلى الثلث؛ لأن الورثة إذا ردوا الزائد وفرض انفراد الموصى له بالثلث، فليس له إلا الثلث، ولو فرض عند ردهم انفراد الموصى له بالنصف، فليس له إلا الثلث، فإذا اجتمعا في المسألة اشتركا على استواء في الثلث. هذا مذهب أبي حنيفة (2). ونحن نقول: الاعتبار في حالة الرد بنسبة القيمة حالة الإجازة، والموصى له بالنصف يفضُل الموصى له بالثلث حالة الإجازة؛ فيتفاضلان في الثلث حالة الرد على نسبة التفاضل حالة الإجازة، كذلك نقول في مسألة ابن الحداد: [لو] (3) أجيزت الوصايا، فالحج مائة، وللموصى له بالباقي مائتان، وللموصى له بالثلث ثَلاثُمائة، فإذا رُدّت الوصايا إلى الثلث، ورأينا تقديم الحج، يجب أن تكون القسمة بين صاحب الثلث والباقي على [التفاضل] (4)، كما سنصفه عند ذكرنا الوجه الثالث إن شاء الله. هذا جواب ابن الحداد وبيان خطئه. وهذا الجواب وإن صدر عن رجل عظيم القدر، فليس معدوداً من المذهب؛ فإنه غلطٌ لا يستراب فيه. 7449 - والوجه الثاني - وهو المزيّف الضعيف مذهب ابن خَيْران، قال: وجدنا الثلثين حالة الإجازة على ستة أسهم بين الوصايا والحج: للحج منها سهم،

_ (1) في الأصل: فهذا إذ لا مصير منه، و (س): وهذا أولاً تضمن منه إلى يم الحج، والمثبت تصرف من المحقق. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 9 مسألة رقم 2153، ومختصر الطحاوي: 158. (3) في النسختين: ولو. (ولا محلّ للواو، فحذفناها). (4) في الأصل: الفاضل.

وللموصى له بالباقي سهمان، وللموصى له بالثلث ثلاثة أسهم، فنتخذ هذه النسبة أصلاً في الرد، ونقول: للموصى له بالثلث ثلاثةُ أسهم من ثلاثمائة، وهو مائة وخمسون، وللموصى له بالباقي سهمان، وهو مائة، ولجهة الحج خمسون. والثلاثمائة كذلك تنقسم إذا قسمت أسداساً. وهذا الذي ذكره ركيك بالغٌ في الرداءة؛ فإن الموصى له بالباقي [مؤخر] (1) عن تقدير تمام الحج، فالتبعيض من الحج ساقط رديء، وقد وافق ابن خَيْران في أن الموصي لو صرح بتقديم الحج، فقال: قدموا الحج بمائة، وما فضل فهو إلى تمام الثلث لعمرو، فلا يدخل النقص -إذا كان كذلك- على الحج، وقوله ما فضل من الحج تصريحٌ بتقديم الحج، ونظره إلى سهام الإجازة نظرٌ (2) من حيث الظاهر لا غوْصَ (3) فيه؛ فإن الباقي من الحج وقع سهمين، فإذا ردّت الوصايا، فينبغي أن نعتبر الباقي من الحج، ثم ننظر كم يقع. فقد بطل هذا المذهب. وما ذكره ابنُ الحداد، وإن لم يخرّج على مذهب الشافعي رضي الله عنه، فهو خارج على مذهب أبي حنيفة. 7450 - والمذهب الصحيح أنا إذا رأينا تقديمَ الحج، أخرجنا للحج مائة، وقسمنا الباقي بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالفضل من الحج أخماساً؛ فإن الوصية بالثلث والوصية بالباقي على هذه النسبة [وقعتا] (4) حالة الإجازة، إذا صرفنا إلى الحج مائة، وإلى الموصى له بالثلث ثلاثمائة، وإلى الموصى له بالباقي مائتين، فنرعى هذه النسبة في الوصيتين بعد تقديم الحج؛ فإنا على تقديمه نفرع. فإن لم نر تقديمَ الحج، فالوجه أن نقول: كنا صرفنا حالة الإجازة ثلثاً إلى الحج،

_ (1) في الأصل: مرجو. (2) عبارة (س): ونظره إلى سهام الإجازة تطرق خبر الظاهر لا عوض منها. (3) في الأصل: عوض منها. (4) في الأصل: وقلنا.

والفاضل منه كان مصروفاً إلى من له الباقي، وصرفنا ثلثاً إلى الموصى له بالثلث، فنجمع الحج والوصية بالباقي بعد الحج، ونصرف إليهما نصف الثلث، ونصرف إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث، ثم الحج من نصف الثلث وهو مائة وخمسون مائةٌ كاملة، والباقي وهو خمسون للموصى له بالباقي، ونصرف نصف الثلث وهو مائة وخمسون إلى الموصى له بالثلث. هذا هو الوجه الصحيح الذي لا يسوغ غيرُه، فرّعناه على تقديم الحج على الوصايا كلّها، ثم فرعناه آخراً على تقديم الحج على إحدى الوصيتين، وهي الوصية بالباقي. 7451 - صورة أخرى: إذا جرت الوصايا على ما ذكرنا، ثم رد الورثة الزائد على الثلث، وكان الثلث مائة وخمسين، ورأينا أنه لا نقدم الحج على جميع الوصايا، وهو الأصح، فعلى هذا نجعل الثلث نصفين، وسبيله (1) أن نقول: صاحب الحج، وصاحب الباقي بعد الحج نجعلهما حزباً، وصاحب الحج يقول للموصى له [بالثلث] (2): أنا والموصى له بالباقي نأخذ مثل ما تأخذ [فأَعُدُّ] (3) الموصى له بالباقي عليك، حتى أشاطرك، فاني وصاحبي مضافان إلى الثلث، ثم أفوز بنصف المائة والخمسين، ولا أدفع إلى صاحبي شيئاً، وأُعَادِكَ (4) به، كفعل الأخ من الأب والأم مع

_ (1) (س): وسيأتي. (2) في الأصل: فالثلث. (3) في الأصل: مثل ما نأخذفاً عند الموصى له ... وفي (س): مثل ما نأخذ ما عدا الرضى. والمثبت تقدير منا، على ضوء السياق. (4) وأعادك به: يمثلون هذه المسألة من مسائل الوصية بمسائل المعاداة في ميراث الجد مع الإخوة، فهنا يقول صاحب الحج للموصى له بالثلث: أنا والموصى له بالباقي بعد الحج إلى تمام الثلث، نشاطرك الوصيةَ نصفين، ثم أفوز أنا بالنصف كاملاً ولا أدفع للموصى له بتمام الثلث بعد أجرة الحج شيئاً، وذلك مثل مسألة (المعادّة) من مسائل ميراث الجد مع الإخوة، حين تجمع الفريضةُ الأخَ الشقيق وأخاً لأب مع الجد، فهنا يُحسب الأخُ لأب، ويُعدّ على الجد، ويُقسم له ثلث التركة، ثم يعود الأخُ الشقيق، فيأخذ نصيب الأخ إلى نصيبه؛ لأن الأخ لأب يُحجب بالأخ الشفيق، ولكنه احتُسب على الجد؛ لأن الجد يعجز عن دفع الإخوة لأب إذا اجتمعوا معه منفردين عن الأشقاء، فإذا اجتمعوا مع الأشقاء، وهم أقوى، كان الجد عن =

الأخ من الأب، [والجد] (1)؛ فإن الأخ من الأب، وإن كان محجوباً بالأخ من الأب والأم، فإنه يعدُّه على الجد (2)، ونقدر الأخ من الأب ضارباً في ثلثي التركة حتى لا يخص الجدَّ إلا ثلث، ثم ما يقدّر للأخ من الأب يفوز به الأخ من الأب والأم، كذلك صاحب الحج يشاطر صاحب الثلث بضم صاحب الباقي إلى نفسه، ثم يفوز بجميع الشَّطر؛ فإنه أقلُّ (3) من المائة التي يستحقها، فلا يفضل منه شيء. هكذا (4) ذكره أئمة العراق وصاحب التقريب وكلُّ معتبرٍ في المذهب، فلا فرق بين المعادّة في الفرائض، وبين ما ذكرناه هاهنا. ومن [قبيل] (5) المعادَّة ردُّنا الأمَّ إلى السدس في فريضة فيها أبٌ وأخوان وأم؛ فإن الأخوين وإن سقطا بالأب، فهما معدودان على الأم، والأب يقول: أنا حاجبهما، فهما محسوبان عليك. وقال ابن خَيْران: اعتبرْ حالة الإجازة، فإذا كان الثلث مائةً وخمسين، فالثلثان (6) ثلاثمائة، فلو أجاز الورثة الوصايا، فعلمنا للموصى له بالثلث مائة وخمسون، وللحج مائة، والباقي من الثلث الثاني وهو خمسون للموصى له بالباقي بعد الحج، فقد وقعت القسمة في الإجازة في هذه الصورة أسداساً، ولكن وقع للحج سهمان في الإجازة وللباقي سهم وللثلث ثلاثة أسهم، فإذا ردّت الوصايا إلى مائة وخمسين، قسمناها على ستة أسهم: لصاحب الثلث [منها] (7) ثلاثة أسهم، وهو خمسة

_ = دفعهم أعجز، فهم إذاً يُحسبون على الجد، ثم يسلّم نصيبهم للأشقاء، وما أحسن قول صاحب الرحبية: واحكم على الإخوة بعد العَدِّ ... حكمَك فيهم عند فقد الجد (1) في الأصل: والأم. (2) في الأصل: بعده على الجد به، ونقدر. (3) (س): أولى. (4) (س): هذا. (5) في الأصل: قبل. (6) أي عندما يجيز الورثة صرف الثلثين. (7) في الأصل: فيها.

وسبعون، ولصاحب الحج سهمان، وهو خمسون، ولصاحب الباقي سهم، وهو خمسة وعشرون. وهذا ظاهر السقوط، وتبيّن بقوله في هذه الصورة ضعفُ مذهبه [وإن] (1) جرى على قياس واحد؛ لأن ما ذكره لو كان نسبة حقيقية بالجزئية، لكانت لا تختلف بقلة المال وكثرته، وقد (2) خص صاحب الباقي في المسألة الأولى مائتان وخص الحجَّ مائة، والسبب فيه أن الباقي هو المعتبر، وقد اختلف قدر الباقي، ولا باقي في مسألتنا عن الحج، بل ليس [ما بقي] (3) معنا بمقدار الحج، فيظهر بطلان مذهبه، واتضح أن المسلك الحق ما ذكرناه. وفي نفسي من المعادّة شيء؛ من جهة أن صاحب الباقي [مترتب] (4) على الحج (5)، فكيف يعادّ به صاحبُ الحج صاحبَ الثلث، والأخ من الأب يزاحم الجد مزاحمة الأشخاص، وكذلك الإخوة في فريضة فيها أبٌ وأم، (6 وإذا لم نعتبر المعادّة، ولم 6) نعتبر الحج، قلنا فريضة فيها حج بمائة، ووصية بثلث، وهما محصوران في الثلث، والثلث مائة وخمسون، فيجب أن نصرف للحج سهمين ولصاحب الثلث ثلاثة أسهم، [وهذا احتمال] (7)، والأصل ما ذكره الأصحاب من المعادّة. 7452 - صورة أخرى: إذا كان ترتيب الوصايا على ما صورنا، والثلث مائةٌ، وقد جرت الوصية بالثلث، وأجرةُ الحج مائةٌ. فنقول: أما الوصية بما تبقى بعد أجرة الحج إلى الثلث، فباطلةٌ في هذه الصورة؛

_ (1) في الأصل: ولو. (2) عبارة (س): بقلة المال وكثرته، وحظ الحج مائة، والسبب فيه أن الباقي في المسألة الأولى مائتان، وحظ الحج فيه مائة، والسبب فيه أن الباقي هو المعتبر ... إلخ. (3) عبارة الأصل: بل ليس في معنا ما بقي بمقدار الحج. (4) في الأصل: مترقب. (5) في الأصل: على أن الحج. (6) ما بين القوسين سقط من (س). (7) في الأصل: وهو الاحتمال.

فإن الأجرة مستغرقة للثلث، فليس يفضل منها شيء، والمعادّة التي ذكرها الأئمة في الصورة المتقدمة لا معنى لها في هذه الصورَة؛ فإن المعادّة إنما تجري بين ثلاثة أشخاص فصاعداً، إذا كان الذي يقع المعادة به [يُفرضُ استحقاقُه] (1) مع واحد من الثلاثة إذا لم يكن (2) الثالث، كالجد والأخ من الأب والأم والأخ من الأب، فالمعادّة تقع بالأخ من الأب؛ من جهة أنه لو كان مع الجد وليس معهما أخ من أب وأم يقاسم الجدَّ، فيعدّه الأخُ من الأب والأم على الجد. وإذا كان من يُفرض المعادّة به (3) لا يرث مع أحدٍ في الفريضة، فلا معنى للمعادّة به، وهذا كالأخ من الأم مع الجد، والأخِ من الأب والأم. والوصيةُ بالباقي إذا كلان الثلث زائداً على المائة التي هي قدر الثلث يقدّر ثبوتُها لو تفردت الوصية بالحج، فيجوز أن يقع [بتلك] (4) الوصية معادّة مع الموصى له بالثلث، فأما إذا كان الثلث على مقدار أجرة الحج، فلا يتصور للوصية بالباقي ثبات (5). ثم إن رأينا تقديمَ الوصية بالحج، فالوصية بالثلث ساقطة، كما سقطت الوصية بالباقي، والثلث مستغرَق بأجرة الحج، وهو مصروف إليها، وإن لم نر تقديم الحج، [فالثلث] (6) بين الحج وبين الموصى له بالثلث؛ فإن الحاج يضرب بمائة والموصى له بالثلث [يضرب] (7) بالثلث، وهو [مائة] (8) فيما نطلقه في أول المسألة إلى أن تظهر غائلتها. 7453 - ثم المسألة تدور لا محالة؛ فإنها مفروضة في الوصية بحجة الإسلام،

_ (1) في الأصل: ففرض استحقاق. و (س): بعوض استحقاق، والمثبت تصرف منا. (2) يكن الثالث: كان هنا تامة. (3) سقطت من (س). (4) في الأصل: لملك، و (س): لتلك. (5) (س): فلا يتصور الوصية بالباقي بثلث. (6) في الأصل: بالثلث. (7) في الأصل: يصرف. (8) في الأصل: بمائة.

والثلث في الصورة التي ذكرناها لا يفي بمقدار الحج، فلا بد من استكمال أجرة الحج من رأس المال، وإذا أخذنا من رأس المال مقداراً، نقص (1) الثلث، وقلّ ما يحصل المضاربة [به] (2) [ويزداد] (3) المأخوذ من رأس المال، ولا ننفصل (4) إلا بالحساب، ومهما لم تف حصة الحج [بأجرة الحج] (5) وهو حجة الإسلام، [دارت] (6) المسألة؛ للاحتياج إلى أخذ التكملة والقيمة من رأس المال. ثم قال الأصحاب: وجه الدور في هذه المسألة أن يقال: نأخذ من رأس المال شيئاً مجهولاً، فيبقى مال ناقص شيئاً، فثلثه وهو مائة ناقص بثلث شيء، فنقسم ذلك بين الحج وبين الموصى له بالثلث نصفين، يخص كلَّ واحد منهما خمسون ناقصاً بسدس شيء؛ فإن الثلث مائة ناقصة بثلث شيء، وفي يد الحاج شيء وخمسون درهماً ناقصاً بسدس شيء، فنجبر الخمسين بسدس شيء من هذا الشيء الذي أخذناه، فصار خمسين وخمسة أسداس شيء، وذلك يعدل مائة، فيذهب الخمسون بالخمسين، ويبقى خمسة أسداس شيء تعدل خمسين، فالشيء يعدل [ستين] (7)، فنعود ونقول: الشيء المأخوذ من رأس المال ستون، يبقى مائتان وأربعون، ثلثها ثمانون، أربعون منها لعمرو الموصى له بالثلث، وأربعون للحج، وإذا ضم إلى [ستين] (8)، كملت المائة. قال الشيخ القفال: هكذا عَمَلُ (9) أصحابنا، وهو غلط عندي؛ لأنا إذا أخذنا

_ (1) (س): مقداراً من الثلث. (2) ساقطة من الأصل، وعبارة (س): وقل ما يحصل بالمضاربة. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) ولا ننفصل: المعنى ولا يتم بيان المسألة إلا بالحساب. (5) زيادة من (س). (6) في الأصل: وارث. (7) في الأصل: شيئين. (8) في الأصل: شيئين. (9) (س): ذكره أصحابنا، والأولى نسخة (عمل) فهذا يشبه المصطلح عند الفقهاء يريدون به الحساب.

الستين من رأس المال، وكان الثلث بعد الستين ثمانين، فالموصى له بالثلث يجب أن [يضرب] (1) بثمانين؛ فإن الثلث إنما يقام ويعدّل بعد أخذ الديون من رأس المال، والحاج يضارب بالمائة التامة بحكم الوصية. فالمسلك الحق في الفقه لو صحت هذه الصورة أن يضرب الحاج بعشرة أسهم، ويضرب الموصى له بالثلث بثمانية أسهم. وإذا جرى التضارب كذلك، ازداد نصيب الحج، واختلف الحُسَّاب في المأخوذ من رأس المال، وعلى عبارة الجبر يضارب الحاج بمائةٍ كاملة، ويضارب الموصى له [بالثلث بمائة ناقصة ثلث شيء، فالتضارب في مائة ناقصة ثلث شيء، وصاحب الحج يضرب] (2) بمائة تامة، هذا كلام القفال (3)، ويجب بحسبه في الصورة التي ذكرناها أن يكون المأخوذ من رأس المال [أقلَّ] (4) من ستين، فإنا لو أخذنا الستين [وأثبتنا] (5) المضاربة بالمائة، [لزاد] (6) ما يحصل على مائة. ونحن نقول: ما ذكره القفال من تغليط الأصحاب صحيح لا مراء فيه [ووجهه] (7) ما أبديناه من كلامه.

_ (1) في الأصل: يصرف. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (س). (3) في هامش نسخة الأصل حاشية عبارتها كالآتي: " هذا من كلام الإمام الأجل أبي نصر القشيري رضي الله عنه " ثم بعد هذا مباشرة: "قوله: الحاج يضارب بالمائة التامة فيه نظر: إذا وقع له شيء من رأس المال، فلا يضارب بمائة تامة، لأنه يؤدي إلى أن يقال: يضارب بأكثر من المائة، لأنه وقع له شيء من رأس المال، فالوجه ما ذكره الأصحاب لا غير. وما قاله القفال يؤدي إلى ألا ينقضي حكم المسألة أبداً، وهو محال" ا. هـ بنصه من هامش نسخة الأصل. (4) في الأصل: يقل. (5) في الأصل: وأثبثت. (6) في الأصل: أراد. (7) في الأصل: وجهه.

هذا القدر من كلام الشيخ [الإمام] (1) أبي نصر القشيري (2) رحمة الله عليه (3)، ثم لم يذكر (4) رضي الله عنه وجه الصواب في الحساب. ونحن إن وفق الله تعالى نذكر ما يحضرنا في هذه المسألة، إن شاء الله عز وجل فنقول وقد نجزت مسائل الحج بما فيها: قد (5) ذكر أئمة العراق في مسألة ابن الحداد وهي الوصية بالحج وبما بقي إلى تمام الثلث مع الوصية بثلث لثالثٍ شرطاً لم أره إلا لهم، وذلك أنهم قالوا: إذا تقدمت الوصية بالحج وبما بقي من الثلث، ثم جرت الوصية بثلث بعد ذلك، [فالأجوبة] (6) كما قدمناها في أطراف المسألة. فأما إذا تقدمت الوصية بالثلث، ثم جرى بعدها الوصية بالحج وبما يبقى بعد الحج إلى الثلث، فالوصية بالباقي إلى تمام الثلث باطلة؛ فإنه قد تقدم ذكر الثلث كاملاً، فالوصية بما يبقى بعد الثلث فاسدة في اللفظ.

_ (1) زيادة من (س). (2) الإمام أبو نصر القشيري، هو الإمام بن الإمام، الأستاذ أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري. الفقيه الفرضي. أحد النوابغ المرموقين، والهداة المهديين، إمام العلم والعمل. تخرّج بوالده، ثم بإمام الحرمين، فقد لازمه وواظب على درسه وصحبته ليلاً ونهاراً، ولزمه حتى حصّل طريقته في المذهب والخلاف. بلغ من نبوغه وعلوّ شأنه أن نال التقدير والإجلال من شيوخ عصره، وأئمة وقته، وتوّج ذلك أن شيخه إمام الحرمين كان يعتدّ به ويستفرغ أكثر أيامه معه، واستفاد منه بعض مسائل الحساب في الفرائض والدور والوصية؛ ودوّن ذلك منسوباً إليه في كتابه هذا (نهاية المطلب). وبحقٍ قال السبكي: "وأعظم ما عظم به أبو نصر أن إمام الحرمين نقل عنه في كتاب الوصية من النهاية، وهذه مرتبة رفيعة". توفي الإمام أبو نصر سنة 514 بنيسابور. (طبقات السبكي: 7/ 159، والإسنوي: 2/ 302، وابن الصلاح: 1/ 546). (3) الترحّم من الناسخ، وإلا فإن أبا نصر توفي -كما ترى- بعد إمام الحرمين. (4) (س): يدرك وجه الصواب. (5) في النسختين: وقد. (6) في الأصل: فالأوجبة.

وهذا الذي ذكروه لا أصل له؛ فإنه [و] (1) إن جرى ذكر الثلث، فالوصية بالباقي بعد الثلث من الحج مقدرة من ثلثٍ آخر، ولا يمتنع تقدير [فضلٍ] (2) من الحج إذا قُدّر ثلث آخر؛ فإن ذلك الباقي مضاف إلى الحج، وما تبقى منه إلى تمام ثُلثٍ. 7454 - ومما كان يذكره شيخنا أبو محمد رضي الله عنه أن الوصية بالحج إذا تقيدت بترشيح رجل من بلدةِ الموصي، فإن وجدنا وفاء نفذناه، وإن لم نجد وفاءً، رَدَدْنا الحجة إلى الميقات، وإن كان [يفي] (3) ما ظفرنا به ببعض الطريق قبل الانتهاء إلى الميقات، فإنا نُحجّ شخصاً من نصف الطريق، وكلما طالت مسافة القصد، كان [الحج] (4) أفضل. وبالله التوفيق (5). بسم الله الرحمن الرحيم فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أوصى بأمةٍ لزوجها وهو حُرّ ... إلى آخره" (6). 7455 - هذا الفصل وفصول بعده يستند إلى الملك متى يحصل للموصى له في الموصى به؟ ونحن نمهد قاعدة المذهب في هذا أولاً، ونوضح ما فيه أصلاً وتفريعاً، ثم نعود إلى تتبع الفصول المذكورة في (المختصر) على وِلائها، فنقول أولاً: الإيجاب في الوصية لا بد منه، وهو لفظةٌ دالةٌ على التمليك نصّاً صادرةٌ من

_ (1) الواو زائدة من (س). (2) في الأصل: حصل. (3) في الأصل: يثمن. (4) في الأصل: بالحج. (5) هنا في نسخة الأصل: تمت المجلدة الرابعة عشرة بعون الله وحسن توفيقه. وبعدها البسملة في أول الفصل، وأبقيناها تيمناً. (6) ر. المختصر: 3/ 164.

الموصِي، وذلك مثل أن يقول: أوصيت لفلان بكذا، أو ملكته كذا، أو أعطوه كذا، أو سلموا إليه من مالي كذا، فهذه الألفاظ وما في معانيها إيجابٌ من الموصي. وتردد أئمتنا فيه إذا قال: وهبت لفلان كذا، ورام الإيصاء، لا تنجيز [الهبة] (1): فمنهم من قال: هذا إيصاء، كقوله: ملكت فلاناً، ومنهم من قال: لا تصح (2) الوصية بهذه اللفظة؛ فإنها صريح في الهبة المنجزة، فإذا لم يترتب عليها مقتضاها في تنجيز الهبة، بطلت. فهذا بيان ما يكون إيجاباً. فإذا ذكر صيغةً صريحة في الإقرار، فهي إقرار، وليست [إيصاءً] (3)، وذلك كقوله: هذا العبد لفلان، حتى لو أراد حملَ ذلك على الإيصاء، لم يُقبل منه، ولو قرن باللفظ ما يخرجه عن كونه إقرار، مثل أن يقول: هذا العبد من مالي لفلان، فالإقرار على هذه الصيغة باطل، وهل يكون هذا إيصاءً مع عُروّه عن إنشاء تمليك؟ فيه تردّدٌ واحتمال (4). ولو قال: جعلت هذا العبدَ لفلان، فهذا إيصاء (5 لتصريحه بإثبات الملك له، ولو قال: عيّنتُ هذا العبدَ لفلان، فما أرى ذلك إيصاء 5)؛ فإن التعيين له يتردد بين معانٍ: أحدها وعْدٌ بالإيصاء، كأنه قال: عينته له لأوصي له [به] (6)، ويجوز أن يريد بلفظه [تعينه] (7) للوصية بالمنافع، وإذا تقابلت جهات الإمكان، فلا نجعل اللفظ إيجاباً في الإيصاء، فإن زعم من [يُقرّ] (8) أنه أراد إيصاء، فالظاهر عندي صحةُ الإيصاء (9) بالكنايات إذا اقترنت بالقصود والنيات. وقد ذكرت

_ (1) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (2) وهو الأصح، ذكره النووي في الروضة: 6/ 140. (3) في الأصل: اسيا (انظر صورتها). (4) المعتمد في المذهب أنه يصح، قاله النووي (ر. الروضة: 6/ 140). (5) ما بين القوسين سقط من (س). (6) في الأصل: بها. (7) في الأصل: تعينها. (8) في الأصل: بعد. (9) وهو المعتمد: (ر. الروضة: 6/ 140).

تردداً في انعقاد البياعات بالكنايات، والسبب فيه استدعاء البيع جواباً ناجزاً من المخاطب به، وذلك يستدعي إفهاماً وهو عَسِرٌ بالكناية، وسأجمع في ذلك قولاً جامعاً [في] (1) كتاب الخلع، إن شاء الله تعالى، والإيصاء لا يستدعي في الحال (2) جواباً ولذلك قَبِل التعليقَ بالأغرار والأخطار. فهذا بيان ما يقع إيصاء، ثم لا خلاف أن الوصية لا تستدعي جواباً من الموصى له في الحال، بل أجمع أئمتنا على أنه لو قبل، لم يكن لقبوله في حياة الموصي حكم، ولو أراد الردّ بعد موت الموصي، لكان على خِيَرته فيه، وكذلك لو ردّ الوصيةَ في حياة الموصي، لم يكن لرده حكم، وهو على خِيرَته في القبول بعد موت الموصي، ثم لا خلاف أن القبول لا بد منه، كما سنصفه، ولا يشترط مبادرة القبول من الموصى له كما (3) بلغه موت الموصي، ولكن الخيار إليه في التأخير والتعجيل. 7456 - فإذا تبين ما ذكرناه، افتتحنا بعده غرضنا في أن الملك متى يحصل للموصى له في الموصى به؟ وقد اختلفت النصوص، وحاصل الأقوال في ذلك ثلاثةٌ: أحدها - أن الملك يحصل بموت الموصي من قَبْل القبول، ولكن لزومه منوط بالقبول، فإن قبل الموصى له، لزم الملك، واستقرّ إذا وفّى الثلث، وإن ردّ، انقطع الملك بعد ثبوته. والقول الثاني -وهو أعدل الأقوال وأمثلها- أن الملك موقوف (4) مراعى، فإن قبل الموصى له، تبيّنا أن الملك حصل بموت الموصي إسناداً إليه، وإن تأخر القبول عنه بمدة مديدة. وإن ردّ، تبينا أن الملك لم يحصل.

_ (1) في الأصل: من. (2) في (س): جواباً في الحال. (3) كما بلغه: كما بمعنى عندما، وهذا استعمال جرى كثيراً في لسان الإمام، وتبعه فيه تلميذه أبو حامد الغزالي، وقال النووي في التنقيح: " وليست بعربية ولا صحيحة " وقد أشرنا إلى هذا من قبل أكثر من مرّة. (4) وهو كما قال الإمام، فهو المعتمد في المذهب (ر. الروضة: 6/ 143).

والقول الثالث - أن الملك يحصل للموصى له في الموصى به عند تمام قبول الموصى له؛ فالقبول يستعقب الملك على هذا القول. 7457 - التوجيه: من قال: الملك يحصل بموت الموصي، احتج بأن هذا ملكٌ يقتضيه الموت، مع تقدم الإيصاء، فشابه الملك الذي يقتضيه التوريث، غير أنا نسلّط الموصى له على الزد إن أراده، حتى لا يدخل على اللزوم في ملكه ما لا يريده، ولو كان القبول يستعقب الملك في المقبول، لوجب اشتراط اتصال القبول بالإيجاب، فلما لم يكن كذلك، بل كان القبول المتصلُ بالإيصاء في حياة الموصي مردوداً ساقطَ الأثر، دلّ أن عماد الملك الموتُ بعد الإيصاء. ومن قال: الملك يحصل عقيب القبول، احتج بأن قال: القبول معتبر بالاتفاق، إنما الكلام في أثره وفائدته، وكل تمليك اعتبر القبول فيه وجب أن يكون القبول مؤثراً في تحصيل الملك، حتى لا يتقدم حصول الملك عليه، وأيضاً؛ فإن إدخال الأشياء في أملاك الناس قَهْراً من غير ولاية بعيدٌ عن قاعدة الشريعة، وإن ثبتت (1) لهم الخيرة في الرد. وسيتضح وقع هذا في التفريع. وأما وجه قول الوقف، فواضح، وفيه الجمع [بين نكت] (2) الأقوال؛ فإن القبول لا بد منه، وليس هو على قياس القبول في سائر العقود، وللموت أثر بيّن في اقتضاء تحصيل الملك، فالوجه ربط الملك بالقبول في معرض التبيّن والإسناد. 7458 - فإذا ظهرت الأقوال نقلاً وتوجيهاً، فأظهرها في نصوص الشافعي قولُ الوقف، وأبعدها في النقل قولُ استعقاب القبول الملك، ويلي قولَ الوقف في الظهور قولُ حصول الملك بموت الموصي. وأول ما نذكره في تأسيس الأقوال قبل الخوض في تفصيل التفريع عليها أنا إن حكمنا بوقوع الملك بالموت، فالرد نقضٌ للملك، وإن حكمنا بالوقف، فمعناه لائح، وإن حكمنا باستعقاب القبول الملكَ، فالملك في الموصى به بعد موت

_ (1) (س): وإن لم تثبت لهم الخيرة. (2) في الأصل: من نكة.

الموصي إلى قبول الموصى له لمَنْ؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - أن الملك للوارث [فيه] (1). والثاني - أن الملك [يبقى للميت، فإذا فرض القبول، فإذ ذاك يملك الموصى له. توجيه الوجهين: 7459 - من قال: الملك] (2) للوارث احتج بأن الموصى به مملوك، وليس يحتمل مذهب الشافعي إثباتَ مملوك لا مالك له، ويستحيل بقاء الملك للميت؛ فإن الموت مقطعةٌ للأملاك، ومِن أدنى آثاره أن يخرج الميت عن كونه مالكاً، فيتيعن إسناد الملك إلى الوارث. ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الملك لو وقع بالموت للوارث، لكان الموصى له متملّكاً عنه، (3 وهذا بعيد عن وضع الوصية، مع أن الموصي مملِّك والموصى له يتملك عنه 3) ولا يبعد تقدير بقاء الملك له إلى اتفاق التملك بالقبول، حتى يكون ملكُ الموصى له مترتباً على ملك الموصي، وإن كان لا يبعد بقاء الدّين على الميت تحقيقاً، فكذلك لا يبعد بقاء الملك له، وقد صار صائرون من أئمتنا إلى أن الأكفان على ملك الميت، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى. فإذا ثبتت الأقوال تأصيلاً، افتتحنا التفريع عليها، [حتى إذا استكملنا ما أراد الله من التفريع، خرَّجنا على مجاري التفريعات] (4) فصولَ السواد (5)، إن شاء الله. 7460 - فإن قلنا: الملك في الموصى به يحصل بموت الموصي، فيتفرع على ذلك القولُ [في] (6) الزوائد، والمغارم، وانقطاع النكاح إن كان أوصى مالكُ الجارية

_ (1) في الأصل: منه. (2) ما بين المعقفين زيادة من (س). (3) ما بين القوسين ساقط من (س). (4) ما بين المعقفين زيادة من (س). (5) السواد: المراد به مختصر المزني، كما تكررت الإشارة سابقاً. (6) في الأصل: والزوائد.

برقبتها لزوجها، يتفرع أيضاً عتقُ الموصى به على الموصى له إن كان ابنه أو أباه أو غيرهما من الأصول والفصول. فهذه الأحكام لا بد من تفريعها. فأما القول في الفوائد كالأكساب، والنتاج الحادث، والثمار وما في معانيهما من الفوائد المنفصلة، فالقول الوجيز فيها أن الوصية إذا اتصلت بالقبول والتفريع على أن الملك يحصل بالموت، فتلك الزوائد تساق بجملتها إلى الموصى له، ولو أتلف بعضَها متلفٌ قبل القبول، غرِم البدلَ للموصى له؛ فإنه اجتمع أمران: أحدهما - حصول الزوائد في وقت ملكه، على القول الذي عليه التفريع، والثاني - استقرار الملك عليه آخراً بالقبول. هذا إذا قبل. فإن ردّ الوصية، ارتد الملكُ وانقلب إلى الورثة، وكان تركةً يؤدى منه الديون وتنفّذ منه الوصايا الثابتة. وفي تلك الزوائد وجهان مشهوران: أحدهما - أنها تنقلب إلى الورثة وتتبع الأصل في انقلابها. والوجه الثاني - أن الملك يرتد في الموصى به، وتبقى الزوائد في ملك الموصى له ملكاً لازماً لا يملك رده. توجيه الوجهين: من قال: إنها تبقى على اللزوم، احتج بحصولها في الملك مع اختصاص الرد بمحل الوصية، ولو أراد الموصى له ردّ الزوائد، لم يملكه، كما (1) لو حدثت زوائد على العين المشتراة (2) في يد المشتري، ثم [إذا ردّ] (3) المشتري بعيب اطلع عليه، فالزوائد تبقى له، ولا ترتد بردّه، وهذا مما نقله الشيخ أبو بكر في أثناء كلامه. ووجه الوجه الثاني - أن الزوائد ترتدُّ تابعةً؛ إذ لو قضينا ببقائها على ملك الموصى له، لكان ذلك تسبباً إلى إدخال شيء في ملكه قهراً، وهو مطلق لا حجر عليه، وهذا بعيد عن القواعد، وينضم إليه أن الملك قبل حصول القبول ضعيف؛ فيليق بارتداده

_ (1) (س): حتى لو حدثت. (2) (س): المستردة. (3) في الأصل: أراد ردّ المشتري.

استتباع الزوائد، وقد ذكرنا في التفريع على أقوال الخيار في البيع أنه إذا حدثت [زوائد] (1) في زمان الخيار، ثم أفضى العقد إلى الفسخ، والتفريع على أن الملك في زمان الخيار للمشتري، فإذا ارتد ملكه في المبيع، فهل يرتد الزوائد؟ فعلى خلافٍ مشهور، وبقاء الملك للمشتري في الزوائد مع ردّ الأصل أوجه من بقاء الملك في الزوائد في الوصية؛ فإن عقد البيع جرى بإيجابه وقبوله على حسب اختيار المشتري على حالٍ، فإن بقّينا له زوائدَ. صادفنا في ذلك [مستنداً من] (2) اختيار المشتري، ولم يجْرِ في الوصية قبل القبول اختيارٌ، [فيبعد] (3) عن القواعد إلزام الموصى له الملكَ في الزوائد على وجهٍ لا يملك نقضَه وردَّه. ولا شك أنه يلتحق بالزوائد [العُقر] (4) الذي يجب على الواطىء بالشبهة بين [موت] (5) الموصي والقبول، وهو مندرج تحت ما أطلقناه من قيم الفوائد؛ فإن منافع البضع من الفوائد التي تجري بين موت الموصي وقبول الموصى له، والعُقر قيمةُ ما أتلفه الواطىء من منافع البضع. وكذلك القول في أجرة المنافع إذا وجبت على الغاصب للعين الموصى بها. هذا منتهى قولنا في الزوائد عند فرض القبول والردّ، تفريعاً على أن الملك يحصل بالموت. 7461 - فأما ترتيبُ القول في المغارم التي من جملتها زكاة الفطر، فإذا فرض استهلال هلال شوال بين موت الموصي وقبول الموصى له، فزكاة الفطر تجب على الموصى له إن قبل الوصية على ظاهر المذهب؛ فان الملك كان في الرقبة حالة الاستهلال للموصى له، ثم أفضى إلى القرار بالقبول، وقد ذكرت هذا بما فيه

_ (1) في الأصل: زايد. (2) في الأصل: مستند إلى. (3) في الأصل: فبعد. (4) في النسختين: العقد. (5) زيادة من المحقق، سقطت من النسختين.

مستقصىً في كتاب الزكاة، وأتيتُ في ترتيبه وتوصيفه بالعجائب والآيات، فليتأمّله مَنْ يريده في موضعه (1)، ولْيَجمع بين ما ذكرتُه ثَمَّ وبين ما جمعتُه ها هنا لتتم القواعد جُمَع. والقول في النفقات والمؤن بين الوفاة والقبول يخرج على هذا القانون، فإن [أفضى] (2) الملك إلى القرار، فالمؤن بجملتها على الموصى له، وإن رد الموصى له الوصيةَ، فلا أحد من الأصحاب يستجيز إلزام الموصى له بالمؤن بين الموت والرد؛ فإن هذا إن قيل به هجومٌ عظيم على القواعد، وليس هذا كإلزامه ملكَ الزوائد حتى لا يمكن ردّها، نعم، وفي إلزامه الزوائد إلزامُه مؤن الزوائد، وهذا والحق أحق ما قيل فيه بعيدٌ، ولكنه متعلق بملك يقرّ (3) في الزوائد، فكان يقرب بعض القرب، وإنما الأمر الذي لا يحتمل إلزام المؤنة مع ارتداد الملك في الأصل. وقد يعترض وراء ما ذكرناه إشكال، وهو أن الموصى له إذا كان يؤخر القبولَ والنفقاتُ التي تسد الحاجات جاريةٌ لا تقف، فمن المطالب بها؟ الوجه أن نقول للموصى [له] (4): هل لك في تعجيل القبول [أو] (5) الرد؟ ولا نُلزمه واحداً [منهما] (6)، فإن قبل، لم يخف حكم القبول ولزوم النفقات، وإن ردّ، لم يخف حكم الردّ وانقلابُ المؤن إلى الورثة، وإن قال: لست أقبل الآن، ولست أردّ، وليس لكم حملٌ على أحد هذين، فيتجه جداً إن قال ذلك، أن يُطوَّقَ النفقةَ (7) ونلزمه إياها؛ بناء على حصول الملك، وهو مقتدر على صرف المؤن عن نفسه بالرّدّ، ولو لم نقل هذا، والنفقاتُ لا تقف، وإلزامُ الورثة ولا ملك لهم محال،

_ (1) الزكاة ج 3 ص 387. (2) في الأصل: أمضى. (3) (س): تقرر. (4) سقطت من الأصل. (5) في الأصل: والرد. (6) في الأصل: منها. (7) (س): أن نلزمه النفقة.

والإنفاق من التركة محالٌ، وردُّ المؤن إلى بيت المال بعيد - لم نجد للمقال مساغاً، ثم لا نعدَم للإلزام مثالاً، فإن من طلق على الإبهام إحدى امرأتيه طلاقاً مبيناً، وامتنع عن بيان المطلقة منهما، فعليه [التزام] (1) نفقتهما جميعاً -كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل- وإن كانت إحداهما بائنة، وكذلك القول في النسوة [الزائدات] (2) على منتهى العدد إذا أسلم عليهن زوجُهن، وأسلمن، ثم امتنع الزوج عن اختيار أربع منهن، فنفقتهن واجبة عليه في زمان التوقف، وليس ينقدح مسلك آخر سوى ما ذكرناه. فإن قيل: إذا مضت مدة [الخيار] (3) على ما [وصفناه] (4)، ثم اختار الموصى له الردّ، قلنا: النفقة المقتضاة منه جاريةٌ، [لا استدراك] (5) لها، ولا تراجع فيها؛ فإنه أُتي من قِبَل نفسه، ولم يختلف أصحابنا في أن الزوج إذا توقف عن البيان زماناً، وألزمناه النفقةَ، ثم بيّن، فما ألزمناه من النفقة لا يرجع به، هذا والمطلقةُ بائنة لا اعتصام لها في النفقة إلا [تأخر البيان] (6)، والملك على القول الذي عليه نفرع ثابت للموصى له، وقد انضم إليه توقُّفُه مع القدرة على التنجيز. 7462 - فلو فرضنا الموصى له غائباً، وعسر (7) الوصول إليه، وتعذرت مراجعته، فنفقة العبد الموصى به ممن تؤخذ في الحال؟ الوجه (8) أن يقال: إن أمكن استكساب العبد، فعلنا ذلك، فإن كان لا يكسب، ولا يستقل به، فلسنا نرى في الحال مأخذاً

_ (1) في النسختين: إلزام. (2) في الأصل: الزائد. (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: وضعنا. (5) في الأصل: الاستدراك. (6) مكان كلمة لم نساعَد على قراءتها، فاستغلقت علينا (انظر صورتها). وفي (س) يمكن أن تقرأ على استكراه: "إلا التبيين المتأخر". (7) (س): وتيسر. (8) (س): فالوجه.

إلا بيتَ المال؛ إذ لا ملك للورثة فيطالبوا، وإنما يطالب بالنفقة مالكُ الرقبة، ولا سبيل إلى التعطيل، فلا وجه إلا ما ذكرناه. ثم إذا قبل الموصى له الوصية، فالرجوع عليه بما أخرجناه من بيت المال منقدحٌ، وقد استقر الملك عليه آخراً، ويثبت للسلطان هذا النوع من التسلط، وهو بمثابة ما لو أنفق على عبيدِ غائب لمسيس الحاجة إلى الإنفاق عليهم، فإذا رجع المالكُ، رجع السلطان عليه، وإن ردّ الموصى له الوصية لمّا بلغه خبرها، [ففي] (1) الرجوع عليه بالنفقة [بُعدٌ] (2)؛ من جهة أن في ذلك إلزامَه مؤنةً من غير اختيارٍ منه، ومن غير تردّد مع العرض عليه، ولا سبيل أصلاً إلى الرجوع على التركة والورثة؛ فإن الملك لم يكن لهم، والنفقة تتبع الملك، كما رآه الناظر. ولا يبعد أن يقال: إذا كنا نرى ارتداد الزوائد إلى الورثة إذا رُدّت الوصية، فينقلب عليهم الرجوع بالنفقات التي جرت، ونقول بحسبه: إذا كنا نُبقي الزوائد للموصى له مع ردّه الأصلَ، فلا يبعد أن يرجع السلطان عليه [بالمؤنة] (3)، هذا مسلكٌ في الاحتمال، [والفرق أظهر] (4) فيه؛ فإن إثبات الملك للغير (5) أقرب إلى [الأصول] (6) من إلزامه مؤنةً من غير اختياره، ومن غير تسببه إلى التوقف، وانقلاب الزوائد على الورثة على مذهب الاتباع من وقت ارتداد الملك، وليس ذلك على الإسناد إلى ما تقدم، فينتظم من مجموع ذلك ألا يكون لبيت المال [مرجع] (7). هذا منتهى القول في الزوائد والمؤن والمغارم، تفريعاً على أن الملك يحصل بموت الموصي.

_ (1) في الأصل: مع. (2) في الأصل: بعيد. (3) في الأصل: بالدية. (4) في الأصل: والفرق فيه، وفي (س): والمعنى أظهر فيه، والمثبت اختيار منا، وهو تلفيق من النسختين مراعاة للمعنى والسياق. (5) (س): المعين. (6) في الأصل: الوصول. (7) في الأصل: يرجع.

7463 - فأما القول في انفساخ النكاح إذا فرضنا الوصية بزوجة الموصى له والتفريع على أن الملك يحصل بموت الموصي، فالنكاح ينفسخ بنفس موت الموصي، وذلك أن الملك ينافي النكاح منافاة المضادة، ويستحيل أن تكون زوجة الإنسان مملوكته، وكل ما يتلقى من التضاد، فلا فرق فيه بين الضعيف وبين القوي. وإن فصل فاصل بين الملك الضعيف والقوي في إفادة الزوائد (1) واقتضاء المغارم، فلا معنى لذلك فيما ينافي الشيءَ منافاة الضد، فخرج من ذلك أن الوصية إذا كانت بزوجة الموصى له، فالنكاح ينفسخ، سواء قَبِل الوصيةَ أو ردَّها، فإن الرد على هذا القول لا يبيّن لنا أن الملك لم يكن، ولكنه يقطع ملكاً حاصلاً. 7464 - فأما القول [في] (2) حصول العتق، فإذا كان الموصى به ابنَ الموصى له، فإذا قبل الوصية، عتق عليه ابنُه. وهل يحكم بحصول العتق قبل القبول، حتى نقول: لو ردّ، لم ينفذ الرد؟ هذا محل التردد والاختلاف، وللمسألة التفاتٌ على قواعد نشير إليها، منها: أن المشتري إذا أعتق العبد المشترى في زمان الخيار، والتفريع على أن الملك له مع الفرض في ثبوت الخيار للبائع أيضاً مع ثبوته للمشتري، فقد اختلف أصحابنا في نفوذ العتق. وبين مسألتنا وبين ما ذكرناه فرق ظاهر؛ من قِبَل أنا لو نفّذنا العتق في الصورة التي ذكرناها، لأفضى ذلك إلى إبطال خيار البائع، وإبرام العقد على الاستبداد، والحق في القبول للموصى له، وليس لأحدٍ معه حق، فيجوز أن يقال: نظير الوصية من البيع ما لو كان المشتري منفرداً بالخيار، والملك له، ولو كان كذلك [فعتقه] (3) ينفذ باتفاق الأصحاب. وبين هذه المسألة الأخيرة من البيع وبين الوصية فرق، فإن المشتري اختار

_ (1) عبارة (س): في انتفاء المغارم وإفادة الزوائد. (2) في الأصل: من. (3) في الأصل: معتقه.

التملك، وأثبت لنفسه مستدركاً، فإذا ضم إليه الإعتاق، كان ذلك منه قطعاً للخيار، والموصى له لم يوجد منه اختيار للوصية، ولو حكمنا بحصول العتق، لكان هذا إثباتَ ملك له على اللزوم قهراً، من غير اختيار من جهته؛ فإن العتق لا يترتب إلا على ملك، ثم العتق يستعقب الولاءَ، ومن حكم نفوذ العتق عليه لزوم (1) الولاء له، فقد تبين بما ذكرناه تردد [الرأي] (2) في المسألة. وحاصل ما ذكره الأئمة أنه إن ردّ الوصية ففي (3) الحكم [بنفوذ] (4) العتق متقدماً على ردّه -وفيه (5) ردُّ ردِّه (6) - وجهان: أحدهما - أنه يحصل؛ لسلطان العتق ونفوذه، وسقوط حق غير الموصى له. والثاني - أنه لا ينفذ؛ لبعد إثبات الولاء له على [قهرٍ] (7)، وهو مطلق لا اعتراض عليه (8). هذا إذا رد الوصية. فإن قبلها، فالعتق هل ينفذ مع الموت متقدماً على القبول؟ فعلى وجهين (9). وظن بعض الأصحاب أن هذه الصورة تترتب على الأولى، وهي أولى بنفوذ العتق منها؛ من جهة إفضاء الوصية إلى القبول. وهذا كلامٌ قليل الجدوى [والفحوى] (10)؛ فإنا لسنا نفرع على [قول] (11)

_ (1) (س): نفوذ. (2) في الأصل: الثاني. (3) (س): بقي. (4) في الأصل: نفوذ. (5) وفيه: أي نفوذ العتق، فهو ردٌّ ومنع للموصى له من الردّ؛ ففيه ردٌّ لردّه. (6) عبارة (س): وفي ردّه وجهان. (7) في الأصل: على جهة. (8) الجمهور على أنّ الموصى له يملك الردّ، وأن العتق لا يحصل قبل القبول (الروضة: 6/ 146). (9) إن قلنا: يملك بالموت، أو الملك موقوف، نتبين أنه عتق عليه يوم الموت، وإن قلنا: يملك بالقبول، عتق عليه حينئذ (ر. الروضة: 6/ 146). (10) في الأصل: والفتوى. (11) زيادة من (س).

الوقف، حتى نتبين بالقبول استناد قوة إلى الملك السابق. وإذا حكمنا بنفوذ العتق، فلا أثر للقبول، [ولا] (1) معنى للترتيب. وحاصل المذهب حصول الخلاف قبل القبول، [فُرض الردُّ أو القبول] (2). وقد نجز ما أردناه من تفريع الأحكام الأربعة (3) على قولٍ واحد. 7465 - فأما إذا فرعنا على الوقف، فالكلام الوجيز فيه أن الموصى له إن قبل، ثبتت هذه الأحكام على قضية الملك اللازم، فلا نقول: نتبين إسنادَ الملك إلى حالة الموت على جوازٍ [حتى] (4) نتردد في الزوائد، وحصولِ العتق، ترددنا في الملك قبل القبول على قولنا يحصل الملك بنفس الموت، وذلك لأن ذلك الملك وإن حكمنا به، فهو جائز، وإذا أسندنا الملك على قول الوقف نُسنده تاماً، ولسنا نقول: نسند ملكاً على الضعف، فلنثبت أحكام الملك التام. وهذا واضح. وإن فرضنا الرد، لم يثبت في حق الموصى له حكمٌ من الأحكام المترتبة على الملك؛ فإنا نتبين أنْ لا ملك أصلاً، ولكن [يعترض] (5) في هذه الحالة فقهٌ يناظر ما ذكرناه من حال الإجازة، وهو أن تلك الأحكام بجملتها للورثة؛ فإن القبول كما (6) يُبيّن استنادَ الملك التام إلى ما تقدم، فالردّ يبين تقرر الملك التام للمالك. فليفهم الناظر [ما ذكرناه من] (7) أمثال ذلك، وإن كان من الجليّات؛ فمعظم الزلل ينشأ من الغفلة عن الجليّات. 7466 - فأما إذا حكمنا بأن الملك يحصل بالقبول [ولا] (8) يتقدم عليه

_ (1) في الأصل: فلا. (2) في الأصل: فرضي الرد والقبول. (3) الأحكام الأربعة هي: 1 - الزوائد. 2 - النفقات والمغارم. 3 - انفساخ النكاح. 4 - العتق. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: يعبر من. (6) ساقطة من (س). (7) زيادة من (س). (8) في الأصل: لا (بدون واو).

تحققاً ولا تبيّنا، فنفرّع الأحكام الأربعة، ونقول: أما الزوائد الحاصلة بعد موت الموصي وقبل قبول الوصية، فسبيل الكلام [فيها] (1) أن نقول: لا يخلو الموصى له إما أن يقبل الوصية وإما أن يردّها، فإن ردّها، فلا شك أنه لا حظ له في الزوائد، ثم هي تابعة للملك، وقد ذكرنا وجهين في أن الموصى به بعد الموت وقبل القبول ملك مَن؟ فإن قلنا: إنه ملك الميت، فالزوائد تحدث على هذا التقدير، ثم تكون إرثاً وحكمه حكم التركة يقضى منه الديون، وتنفّذ منه الوصايا. وإن قلنا: الموصى به بين الموت والقبول ملكُ الوارث، فالزوائد حيث انتهى الكلام بمثابة الزوائد المستفادة من التركة، والظاهر من المذهب أن زوائد التركة لا تقضى منها الديون؛ فإن التركة مرتهنة بالديون، وهي مملوكة للورثة، فلا يتعدى حقوق مستحق الديون إلى الزوائد، والفوائد. [ومن] (2) أصحابنا من يثبت لزوائد التركة حكمَ التركة، وهذا لا خروج له إلا على قول من يقول: التركة لا يملكها الورثة إذا كانت مستغرقة بالديون، فانتظم إذاً وجهان في أن الزوائد تركة أم هي خالصُ حق الورثة. هذا كله إذا ردّ الموصى له الوصيةَ. فأما إذا قبلها، ففي الزوائد الحاصلة بعد الموت وقبل القبول وجهان: أحدهما - أنها للموصى له نظراً إلى قرار الملك. والثاني - أنها مجراةٌ على القياس الذي قدمناه فيه إذا ردّ الوصية؛ فإنا لسنا نفرعّ على قول الإسناد، فوجود طريان الملك بعد الزوائد. وعدمه بمثابة واحدة، وقد قدمنا في كتاب البيع أنه إذا حدثت زوائد في زمان الخيار -والتفريع على أن الملك للبائع- ثم أفضى العقد إلى اللزوم، فالزوائد مختلف فيها: من أصحابنا من جعلها للبائع؛ فحدوثها في حالة ثبوت الملك له، ومنهم من جعلها للمشتري؛ نظراً إلى قرار الملك في الأصل.

_ (1) في الأصل: منها. (2) في الأصل: وفي.

والضابطُ فيما هذا سبيله أنه إذا ثبت [حقُّ] (1) الملك لجهة، ثم استقر على تلك الجهة، فالزوائد لتلك الجهة؛ فإنه اجتمع كونُ الملك حالة حصول الزوائد، والقرارُ من الآخر. فإن كان الملك لجهةٍ والقرارُ على أخرى، ففي الزوائد وجهان: أحدهما - أنها تتبع جهة الملك حالة حصول الزوائد. والثاني - أنها تتبع جهة القرار، ثم إن جعلنا الزوائد للموصى له، فلا كلام، وإن لم نجعلها له، فهي على التفصيل الذي ذكرناه فيه إذا رد الموصى له الوصية. 7467 - فأما القول في المغارم، فلم أر أحداً من أصحابنا يتبعها قرارَ الملك، مع تردّدهم في الزوائد، وكان لا يبعد عن القياس تنزيلُ الغرم منزلة الغُنم، ولكن تتبع الملك الناجز. ثم يعرض في ذلك أنه ملكٌ ضعيف، وفي تعلق زكاة الفطر بالملك الضعيف خلاف [قدّمته] (2) في كتاب الزكاة على أبلغ وجهٍ في البيان. 7468 - فأما القول في انفساخ النكاح، فنقول: إذا كان حصول الملك للموصى له يقف على القبول، ثم يحصل معه، ولا (3) يستند إلى ما تقدم تبيّناً، فلا يخفى حكم الموصى له في النكاح، فإذا قبل الوصية في زوجته المملوكة، انفسخ النكاح، ولا خفاء ببقاء النكاح قبل القبول. هذا حكمه. فأما إذا كانت الجارية الموصى بها زوجة الوارث، والتفريع على أن الملك لا يحصل للموصى له إلا مع القبول، فقد ذكرنا خلافاً في أن الملك في الموصى به ما بين موت الموصي إلى قبول الموصى له لمَنْ؟ من أصحابنا من قال: إنه للميت، فعلى هذا لا ينفسخ نكاح الوارث، فإنه لا يحصل الملك له.

_ (1) في الأصل: "جواز". (2) في الأصل: قد بينته. (3) في الأصل: فلا.

ومن أصحابنا من قال: إن الملك للوارث إلى اتفاق القبول، فعلى هذا هل يحكم بانفساخ نكاح الوارث؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ينفسخ نكاحه بحصول الملك له في زوجته، وقد أوضحنا أن الملك والزوجية يجريان مجرى الضدين، وإذا كان انتفاء الزوجية بالملك على مضاهاة اعتقاب الضدين، فلا نظر إلى الضعف والقوة في الملك، قياساً على ملك المشتري في زمان الخيار؛ فإن من اشترى زوجته على شرط الخيار، وفرّعنا على أن الملك للمشتري، انفسخ النكاح بالملك الجائز. ومن أصحابنا من قال: لا ينفسخ نكاح الوارث؛ فإن هذا الملك تقديرٌ اضطررنا إليه؛ من جهة أنا لا نرى إثبات ملك لا مالك له، فوضْعُ هذا إذا فرض القبول من الموصى له لا يفضي إلى مقاصد الأملاك وحقائقها، وليس ذلك كملك المشتري في زمان الخيار؛ فإنه ملك واقع في سبيل جلب الملك؛ [فأثبت منّا قضاءً] (1) ولو رد الموصى له الوصية، فقد [تقرر] (2) ملك الوارث، فمن قال بانفساخ نكاح الوارث إذا قبل الموصى له الوصية، فلا شك أنه يقول بانفساخه إذا ردّ. ومن قال: إذا قبل الموصى له، لم ينفسخ نكاح الوارث؛ لأن ملكه في زوجته الموصى بها تقدير، فالأظهر أنا نحكم الآن باستناد الانفساخ إلى وقت موت الموصي، وهذا لطيفٌ؛ فإن حكم الإسناد يليق بقول الوقف، وقد اتجه في هذا الطرف، والتفريعُ على أن الملك يحصل بالقبول. وسببُ اتجاهه أنا لم نحكم بانفساخ النكاح إذا فرض القبول من الموصى له من حيث إن ذلك الملك كان مقدّراً، والآن إذا رُدّت الوصية، واستمر ملك الوارث، صار التقدير تحقيقاً، وهذا يتضمن الانعطافَ على ما تقدم.

_ (1) في الأصل: ما ينسَبُ مناقضاً (هكذا بكل وضوح بهذا الضبط) وفي (س): فانتسب مناقضاً (هكذا بهذا التنوين، مع صعوبة في قراءة الكلمة الأولى) والعبارة قلقة مع كل هذا. (2) زيادة من (س).

وقيل (1): لا نحكم بانفساخ نكاح الوارث قبل الرد، وإنما نحكم بانفساخه إذا ردّ الموصى له؛ فإنَّ التحقيق يثبت من وقت الردّ، وهذا متجه، والأول ألطفُ وأغوص في الفقه. 7469 - فأما القول في بيان من يعتِق على الوارث، أو على الموصى له، فإن كانت الوصية بمن يعتق على الموصى له، فحصول العتق يتوقف على القبول، فإن الملك به يحصل على القول الذي نفرع عليه، ثم إذا حصل، استقرّ، فلا يُتصور للموصى له على هذا القول ملك جائز في الوصية الصحيحة التي يحتملها الثلث. فأما إذا كان الموصى به ممن يعتق على الوارث، فإن قلنا: الملك للميت ما بين الموت إلى القبول، فلا إشكال، وإن قلنا: الملك للوارث، فهذا ملكُ تقدير، وقد اتفق الأئمة على أنه لا يعتِق على الوارث؛ فإن الملك تقديرٌ، كما ذكرناه؛ وفي الحكم بنفوذ العتق إبطالُ الوصية، وهذا محال، وليس هذا العتقُ لو حكم به موجباً غُرماً على الوارث؛ فإن الغرم إنما يثبت في سرايات العتق إذا ترتبت على أسباب اختيارية (2)، ولا سبيل (3) إلى إبطال الوصية، فليفهم الناظر مواقع الكلام، ومأخذ الأحكام، وليقض العجب من محاسن الشريعة. نعم، لو رد الموصى له الوصية، لم يبعد أن يستند نفوذ العتق إلى ما تقدم إن كان العتق ينفذ في الملك الضعيف. وقد انتهى تفريع الأحكام على الأقوال الثلاثة. 7470 - ومما يتعلق بتمام القول في هذا الأصل بيانُ المذهب في موت الموصى له بعد موت الموصي [وقبل] (4) القبول والرَّد، فإذا مات الموصي [ولم] (5) يتفق من

_ (1) (س): ومن أصحابنا من قال: لا نحكم بانفساخ ... (2) (س): إجبارية. (3) (س): ولا سبب. (4) في الأصل: قبل. (بدون واو). (5) في الأصل: لم. (بدون واو).

الموصى له قبول ولا رَدٌّ حتى مات، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن وارث الموصى له بالخيار: إن شاء، قبل الوصية، وإن شاء، ردّها. وقال أبو حنيفة (1) تلزم الوصية بموت الموصى له، وهذا في نهاية الضعف؛ فإنه إلزامٌ يتضمنه عقدٌ مع أقوامٍ مطلقين، وكان ينقدح في القياس القضاء ببطلان الوصية، لو كان مذهباً لذي مذهب؛ من جهة أن الموصى له قد مات، ففرضُ القبول من غيره، وليس القابل موصًى له [بعيدٌ] (2)، ولم يصر إلى هذا أحدٌ نعلمه من العلماء. فإذا لم يصح هذا مذهباً، وبطل لزوم الوصية من غير قبول، لم يبق بين هذين الطرفين إلا إحلالُ الوارث محل الموروث. وهذا المنتهى يشعر بدقيقة، وهي أن قبول الوصية ليس على حقائق قبول العقود، ولهذا استأخر عن الإيجاب، مع إمكان فرضه متصلاً بالإيجاب، ولكن الإيصاء يُثبت عند الموت للموصى له حقَّ التملك بالقبول، ولا يبعد أن يجري الإرث في حق التملك، كالشفعة على مذهبنا. ثم أبو حنيفة أبطل الشفعة بموت الشفيع، وألزم الوصيةَ بموت الموصى له. 7471 - فإذا ثبت [أن] (3) وارث الموصى له بالخيار في القبول والرد، فإن فرعنا على قول الوقف، لم يكن [بين] (4) قبول الوارث وردّه، [وبين] (5) قبول الموصى له وردّه فرقٌ؛ فإن قبل الوارثُ الوصية، [تبيّنا] (6) أن الملك كان حصل بموت الموصي للموصى له، ثم خلفه إرثاً على ورثته، وننُزلُ قبولَ الوارث منزلة قبول الموصى له في حياته.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 157، الاختيار: 5/ 65. (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: كان. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: ومن. (6) في الأصل: ثبتت.

وإن رد الوراثُ الوصيةَ، [تبيّنَّا] (1) أن الملك لم يحصل أصلاً، ونُنزل ردّ الوارث منزلةَ ردّ الموروث نفسه. 7472 - وإن قلنا: الملك يحصل للموصى له بموت الموصي، وقبولُه للوصية [تقريرٌ] (2) للملك، وردُّه [قطعٌ لملكٍ حاصل من غير تبيّنٍ وإسناد، فقبول الوارث وردُّه] (3) بمثابة قبول الموصى له وردّه، ولا يظهر على هذا القول أيضاً [مزيد] (4) حكمٍ. 7473 - فأما إذا قلنا: الملك في الموصى به يحصل بالقبول، فقد [يعتاص الكلام بعض الاعتياص] (5) في قبول الوارث، أما ردّه، فلا إشكال فيه؛ فإنه يستأصل الوصية ويقطع أثرها. 7474 - فأما إذا قبل الوارث والتفريع على قول القبول، فقد اختلف أصحابنا على وجهين حكاهما صاحب التقريب: فذهب بعضهم إلى أن الوارث إذا قبل تقدّم الملكُ في الموصى به إلى ألْطف لحظة قبل موت الموصى له. ومن أصحابنا من قال: يحصل الملك مع قبول الوارث من غير تقدم. توجيه الوجهين: من قال بتقدم الملك، احتج بأن الموصى له هو المقصود بالوصية؛ فيستحيل أن نثبت الوصية من غير أن يثبت للموصى [له] (6) ملكٌ في الموصى به، فاضطررنا إلى الإسناد على الحد الذي ذكرناه. وإن كنا لا نفرع على قول الإسناد والوقف.

_ (1) في الأصل: ثبتت. (2) في الأصل: مقدمة. (3) ما بين المعقفين زيادة من (س). (4) في الأصل: مزية. (5) في الأصل: يعتاض الكلام بعض الاعتياض، وفي (س): يعترض الكلام بعض الاعتراض. والمثبت تقدير منا بناء على معهود ألفاظ الإمام. (6) مزيدة من (س).

ومن قال بالوجه الثاني احتج بأنّ التفريع إذا كان على قولٍ، فلا يجوز أن يترك أصله في تفصيله، وأصل قول القبول استعقاب القبول للملك، فيبعد أن يتقدم عليه. التفريع على هذين الوجهين: 7475 - إن حكمنا بأن الملك يتقدم على موت الموصى له، فالموصى به تركة الموصى له، ولا غموض. وإن حكمنا بأن الملك يحصل مع قبول الوارث، فعلى هذا الوجه وجهان: أحدهما - أن الملك يحصل للميت، ثم ينتقل إلى القابل إرثاً. والثاني - أن الملك يحصل ابتداء للوارث. توجيه الوجهين: من قال: يحصل الملك للميت، والموصى به تركة يُقضى منها ديون الموصى له، وتنفّذ منه وصاياه، احتج بأن الوصية للمتوفى لا لوارثه، فيستحيل أن تستقر الوصية من غير أن [يستند] (1) الملك إلى الموصى له. ومن قال: الملك يحصل للوارث، احتج بأن الميت يستحيل أن يثبت له ملكٌ على الابتداء، فيثبت الملك لمن خلفه، وحلّ محله. وهذا القائل يقول: استحق وارث الموصى له [حق] (2) التملك، وهذا هو الموروث، وهو بمثابة إجراء الإرث في حق الشفعة، فإذا أقمنا الوارث في الشفعة مقام الموروث، فالملك يحصل في الشقص المشفوع للوارث ابتداء، وإن كان تلقي الملك مترتباً على حقّ موروث. ومال اختيار صاحب التقريب إلى هذا الوجه. التفريع: 7476 - إن حكمنا بأن الملك يستند إلى حياة الموصى له، فلو كان الموصى به ممن يعتِق على الموصى له تبيّناً، [فإنه] (3) يعتق عليه، على ما سيأتي

_ (1) في الأصل: يستبد. و (س) بدون نقط. (2) في الأصل: من. (3) في النسختين بأنه.

التفصيل في أن القريب كيف يعتِق على القريب في مرض موته؛ والمقدار الذي ننجزه أن المريض إذا ورث قريبه، عتق عليه من رأس المال، وتقدير الملك للموصى له لا اختيار فيه، فكان كالإرث على ما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى. وإن قلنا: الملك يحصل مع قبول الوارث للميت، فإذا كان الموصى به ممن يعتِق على الموصى له، فإنه لا يعتِق على الموصى له، فإنا قدّرنا الملك بعد موته، ولا ينفذ العتق على الميت، على ما سنبين ذلك في مسائل نجمعها في العتق في هذا الكتاب. وإن قلنا: الملك يحصل للوارث، وكان الموصى به ممن يعتق على الموروث في حياته، ولا يعتق على الوارث، بأن كان ابنَ الموصى له وأخَ الوارث القابل. نعم، تردد أئمتنا على هذا الوجه في شيءٍ وهو أن الوارث إذا ملك الموصى به، فهل يجعل هذا في حكم تركة الموصى له، حتى يقضى منه ديونه؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ليس ذلك تركته؛ فإنه لم يدخل في ملكه، فصار كالشقص المأخوذ بالشفعة. ومنهم من قال: هو في حكم تركة الموصى له؛ لأن الوارث ملكه بسببه، وليس كالمبيع المشفوع؛ فإنه مملوك بعوضه لا بالإرث، وإنما الموروث حق تملكه، والموصى به في مسألتنا مملوكٌ بالوصية للميت، فشابه ذلك ما لو كان نصب شبكة في حياته وتعقّل بها صيدٌ بعد موته، فالمذهب الظاهر أن الصيد يثبت له حكم تركة الميت؛ لترتب الملك على سبب وجد منه في حياته، والملك المستفاد مشبه في مأخذه (1) بالغُرم اللاحق، ولو كان حفر بئراً في محل (2) عدوان، وتردى فيها بعد موته متردٍّ مضمونٌ، صار الضمان وإن طرأ بعد الموت كالدين الذي التزمه الميت في حياته.

_ (1) (س): تأخره. (2) (س): في ملك غيره.

ومن أصحابنا من لم يجعل الصيد المتعقل بالشبكة تركةً، كما ذكرناه في الموصى به إذا قبله الوارث، ويبعد أن يقال: الصيد يدخل في ملك الميت، ثم ينتقل عنه، وإن ذكرنا هذا وجهاً في الموصى به؛ وذلك أنا اضطررنا إلى هذا في الوصية لعلمنا أن الموصى له هو المقصود بالوصية المملكة. هذا منتهى الكلام في حصول الملك في الموصى به إذا قبله الموصى له أو قبله وارثه. وقد ذكرنا طرفاً من هذا في كتاب الزكاة، ولكنا أوجزناه، وحق من ينتهي إلى هذا الفصلِ من كتاب الزكاة أن يحيل الناظر إلى هذا الكتاب. 7477 - ونحن نذكر بعد هذا -إن شاء الله تعالى- أصولاً نقلها المزني عن الشافعي رضي الله عنهما ونذكر في كل فصل ما يليق به، ونحرص ألا نعيد ما أوضحناه من أحكام الرّدّ والقبول. قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أوصى بأمةٍ لزوجها وهو حر، فلم يعلم حتى وضعت له بعد موت سيدها أولاداً ... إلى آخره " (1). صورة المسألة أن السيد إذا أوصى بأمةٍ لزوجها الحر، ومات الموصي وتأخر القبول حتى وضعت أولاداً، ثم قبل الزوج الوصية. قال الشافعي رضي الله عنه: " عَتَق الأولاد ولم تكن أمهم أمَّ ولد له، حتى تلد بعد القبول بستة أشهر فأكثر؛ لأن الوطء قبل القبول وطء نكاح، والوطء بعد القبول وطء ملك " (2). وهذا النص مشكلٌ، وفي ظاهره تناقضٌ، كما سنوضحه في معرض السؤال، ثم نذكر الممكن [والواجب] (3). فإن قيل: الأولاد إنما يعتقون عليه إذا حكمنا بأن الملك يحصل بموت الموصي،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 164. وتمام النص: "فإن قبل، عتقوا، ولم تكن أمهم أم ولد حتى تلد منه بعد قبوله بستة أشهر فأكثر" كما سيأتي بعد سطور. (2) السابق نفسه. (3) في الأصل: والمرات. والمثبت من (س).

فيحدث الأولاد [مملوكين] (1) لمن الأم مملوكة له، وإذا وقع التفريع على هذا، فيجب على موجبه أن يكون النكاح منفسخاً مع الموت، ثم يثبت الاستيلاد لمصادفة الإعلاق ملكَه، وإن كان الملك الضعيف لا [يستقرّ] (2) فيه الاستيلاد على رأيٍ، فهو وجهٌ، وقد ذكرته. ولكن موجَبه أن الملك الضعيف لا يفيد الملك في الأولاد. وإن قيل: يحصل الملك في الأولاد إذا بان استقرار الملك، [فيلزم] (3) أن يثبت الاستيلاد (4 إذا بان استقرار الملك، فنفْيُ الاسيتلاد 4) مع إثبات الملك في الأولاد، والقضاءُ بعتقهم عليه مشكل جداً. 7478 - ومن [أراد] (5) فقه هذا الفصل، فقد قدمنا قواعد المذهب، وتفاريعها، وإنما غرضنا الآن الكلام على النص. فمن أصحابنا من غلّط المزني في [النقل] (6)، ونسبه إلى نقل جوابين للشافعي مفرعين على قولين (7). ومن أصحابنا من قال فَرْض الكلام فيه إذا علق الولد بوطءٍ قبل موت الموصي؛ فإن الاستيلاد لا يثبت (8 به، لا شك 8) فيه؛ من قِبَل أن الوطء إذا فرضناه قبل موت

_ (1) في الأصل: مملوكة. (2) في الأصل: لا يفيد. (3) في الأصل: فيلزمهم. (4) ما بين القوسين ساقط من (س). (5) في الأصل: أراده. وعبارة (س): ومن أراد معرفة هذا الفصل. (6) في الأصل: في النص. (7) مفرعين على قولين: بيان ذلك أن قوله "عتِقوا" تفريع على حصول الملك بالموت، وقوله: "ولا تصير أم ولد" تفريع على حصوله بالقبول. وقال الأكثرون -في تفسير تخليط المزني في النقل- بل هو تفريع على قول الوقف، وأراد الشافعي " بالقبول " في قوله: " حتى تلد منه بعد القبول " أراد " الموت " فسماه قبولاً، لأنه وقت القبول. وقال بعضهم: لفظ الشافعي " الموت " لكن المزني سها فيه فجعله " القبول " ا. هـ من الروضة: (6/ 154). (8) ما بين القوسين ساقط من (س).

الموصي، فهو جارٍ في وقت لا ملك فيه للواطىء، ولكن فرضنا الولادة بعد موت الموصي وأتبعنا الولدَ الأمَّ في الملك تفريعاً على أن الحمل يتبع الأم في الوصية المطلقة، على ما أوضحنا ذلك فيما سبق. وهذا لا بأس به. ولكن في نص الشافعي ما يدرأ هذا؛ فإن الشافعي رضي الله عنه لما منع الاستيلاد علّل، فقال: لم تصر أم ولد لأن الوطء متقدم على قبول الوصية، فاعتبر تقدم الوطء على القبول، لا على موت الموصي. وليس يتجه عندنا للنص تأويلٌ إلا من وجهٍ واحد، وهو أن نقول: لعلّه فرّع على أن الملك يحصل بالقبول، فلا ملك في الجارية إذاً قبل القبول، ولكنا قد نقول على قول القبول: إذا حدثت زوائد قبل القبول، ثم استقرت الوصية بالقبول، فالزوائد تكون للموصى له؛ نظراً إلى قرار الوصية، لا إلى الحالة التي حدثت فيها الزوائد، ولكن الاستيلاد لا يتقدم ثبوته على الوقت الذي يثبت الملك فيه، وهذا وإن كان منتظماً يبعد أن يفرِّع الشافعي عليه. ومهما [نعرض] (1) لقول القبول؛ -فإن الملك يحصل به- ابتدره [فريق] (2)، وقال: هذا قولٌ ينكسر (3) عندنا، ثم ما ذكرناه في استحقاق الزوائد التي تقدمت على وقت ملك الأصل وجهٌ ضعيف على قولٍ ضعيف؛ فحَمْلُ نص الشافعي عليه استكراهٌ بيّن، وميلٌ عن مجاري كلام الشافعي، فلا وجه إلا نسبة المزني إلى الإخلال بالنقل، فَشَرْطُنا في كتابنا هذا ألا نتعدى قدرَ الحاجة في التنبيه على الغرض فيما يتعلق [بنص] (4)

_ (1) في الأصل: يعرض، و (س): تعرض. (2) في النسختين: فريقه. (3) كذا في النسختين. وأكاد أقطع بأنها مصحفة محرفة عن عبارة لم نُساعَد على إدراكها. والله المعين. (4) في الأصل: "بفعل" وفي (س): "بسواد المختصر". والمثبث اختيار منا على ضوء ما قاله إمام الحرمين في مقدمته، إذ قال: "ولا أعتني بالكلام على ألفاظ السواد، فقد تناهى في إيضاحها الأئمة الماضون" (انظر مقدمة المؤلف ص7 من الجزء الأول).

سواد المختصر (1)، وبعد كمال البيان للفقه والمعنى، [فقد] (2) أوضحنا فقه الفصل فيما تقدم. 7479 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن مات قبل أن يقبل أو يرد، قام ورثته مقامه ... إلى آخره " (3). ذكر الشافعي رضي الله عنه قبولَ ورثة الموصى له بعد موت الموصَى له من غير قبول ولا ردّ، ثم فرض هذه المسألة في الصورة الأولى حيث يفرض حصول أولادٍ للجارية الموصى بها قبل موت الموصى له. ثم قال: " إذا قبل ورثةُ الموصى له الوصيةَ عَتَق الأولاد " (4). وهذا فرّعه على أن الأولاد تدخل في ملك الموصى له، ثم يعتِقون عليه [بتقدير] (5) ثبوت الملك فيه، وهذا ينقدح على قول الوقف، ويجري منقاساً حسناً، وكذلك [يجري] (6) تفريعه

_ (1) سواد المختصر: لأول مرة يجمع بين اللفظين ويضيف (السواد) للمختصر، فقد كان يضع أحدهما مكان الآخر، فتارة كان يقول: سأجري على ترتيب (السواد)، وأخرى يقول: ونعود إلى ترتيب (المختصر). وقد أشرنا من قبل إلى أنه يضع لفظ (السواد) بمعنى (المتن) أو (الأصل)، وأن هذا المعنى غير وارد في المعاجم، وقد أفادني شيخي الشيخ محمود شاكر -برد الله مضجعه- بأن لفظ (السواد) يرد في لسان بعض الأئمة بمعنى (الأصل) أو (المتن)، وهو استعمال كان مألوفاً عندهم. ورحم الله شيخي فقد كان -عندما أفادني بذلك- في أخريات أيامه، وفي حالة لم تسمح لي بالإثقال عليه وطلب المواضع والنصوص التي جرى فيها هذا الاستعمال، وما كان هو بقادرٍ على ذلك لو أراد (رحمه الله رحمة واسعة). نعود لجمع إمام الحرمين هنا بين اللفظين، فأقول: إنه واضح -إن شاء الله- فالمعنى: "متن المختصر" وهي ألفاظ الشافعي التي "تناهى الأئمة الماضون في الكلام عليها". (2) في الأصل: وقد. (3) ر. المختصر: 3/ 165. (4) هذا معنى كلام الشافعي، أما لفظه -كما في المختصر: 3/ 165 - فهو: "فإن قبلوا، فإنما ملكوا أمةً لأبيهم، وأولادُ أبيهم الذين ولدت بعد موت سيدها أحرار، وأمهم مملوكة". (5) في الأصل: بتقدمه. (6) في الأصل: يخرج.

متجهاً على قولنا: إن الملك يحصل (1 بموت الموصي، ويتفرع أيضاً على قولنا: الملك يحصل بالقبول 1) ولكن يتقدم على موت الموصى له، ويُجعل كأنه قبل ثم مات. وهذا أبعد المحامل لكلام الشافعي؛ فإنه لا يكاد يفرّع على قول القبول، وإن جرى منه ذكر هذا القول، لم يزد على تزييفه، ثم إن المزني ذكر مسألة الوارث [ونبّه] (2) بعد ذكرها لما في الكلام من الاختلاف في المسألة الأولى، حيث حكم الشافعي بعتق الأولاد ولم يحكم بثبوت الاستيلاد، وقد مضى القول فيه. 7480 - ثم تكلم الأصحاب في مسألة قبول الورثة، فقالوا: إذا مات الموصى له بولده (3) مثلاً، فقام وارثه مقامه في القبول، وحكمنا بأن الولد يعتِق، فهل يرث أباه مع الوارث القابل للوصية؟ قالوا: هذا مما ينظر فيه إن كان يؤدي توريثه إلى حرمان القابل وإخراجِه عن أن يكون وارثاً، فلا يرث الولد المقبول، وإن حكمنا بنفوذ العتق وصحة القبول، وذلك مثل أن يخلّف الموصى له (4) أخاً فقبل الأخ له ولده (5)، فلو ورّثنا الولد يخرج الأخ من أن يرث؛ فإن الابن يحجب الأخ عن الميراث، والمسألة فيه إذا كان الولد ابناً. ثم إذا قدرنا حرمان الأخ وخروجَه عن كونه وارثاً، لم يصح قبوله؛ وإذا لم يصح القبول، لم يعتِق الابن، وإذا لم يعتِق، لم يرث، ففي توريثه إبطالُ توريثه. وهذا من [الدوائر] (6) الفقهية، وسنجمع منها مسائلَ في كتاب النكاح نبيّن بها قواعدَ الدوائر الفقيهة -إن شاء الله عز وجل- وهذه المسألة منها. 7481 - وإن كان القابل لا يخرج عن كونه وارثاً، بتقدير توريث الابن المقبول،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (س). (2) في الأصل: وبينه. (3) (س): بعد موت الموصي مثلاً، فقام وارثه ... (4) (س): يخلف الموصى له ابناً وأخاً، فقبل الأخ، فلو ورّثنا ... إلى آخره. (5) فقبل الأخ له ولده: أي قبل أخو الموصى له ولدَه الموصى به، أي ولدَ الموصى له. وإنما رجحنا عبارة الأصل هذه لما رأيناه من عبارته الآتية بعد سطور، حيث وصف الابن بأنه الابن المقبول. (6) في الأصل: من الزوائد.

وذلك مثل أن يخلف الموصى له ابناً [حُرّاً] (1) فقبل الوصيةَ بالابن المملوك، فإذا عتِق، فللأصحاب وجهان في أنه هل يرث: أحدهما أنه يرث؛ لأن القابل لا يخرج عن كونه وارثاً بتوريث هذا الابن. والوجه الثاني -وهو اختيار القفال رحمه الله- أن الابن المقبول لا يرث أيضاً في هذه الصورة؛ لأن القابل بتوريث هذا المقبول [يخرج] (2) عن أن يرث جميع المال من جهة مشاركة المقبول [في استحقاق الميراث لو ورّثناه، فلو كان كذلك، فلا يصح القبول] (3) في كل الوصية؛ [إذ لا يصح القبول في كل الوصية] (4) إلا ممن يرث كلَّ المال، ومن يرث البعض [يقبل] (5) البعض، ولا (6) سبيل إلى أن يقبل هذا الابن الذي كان رقيقاً بنفسه ليعتِق، فإن ورّثناه، لم يصح قبولُ أخيه له إلا في البعض، وإذا كان كذلك، لم يعتِق منه إلا البعض، والمعتَق بعضُه لا يرث، ففي توريثه إبطال توريثه من جهة التبعيض، وقد لاح أن هذا المقبول لا يتعاطى (7) قبول الوصية؛ فإن الوصية لأبيه، فكيف يقدر الرقيق على قبوله، فليس يتجه إذاً إلا ما ذكره (8) القفال رضي الله عنه، واختاره. 7482 - ثم قال الأئمة: من [ورَّث] (9) الابنَ المقبول، فينبغي أن يخرّج توريثه على قول الوقف، أو على قولنا يحصل الملك بموت الموصي، فيقتضي هذا أن يحصل العتق سابقاً على موت الموصى له، وهذا وإن صورناه كذلك، ففيه الإشكال الذي ذكره القفال؛ فإنا لو ورثنا ذلك الابنَ، لاحتجنا إلى فرض القبول منه، ويستحيل أن

_ (1) في الأصل: حياً. (2) في الأصل: تخريج. (3) زيادة من (س). (4) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (5) في الأصل: فقبل. (6) عبارة (س): ومن يرث البعض، ولا سبيل إلى ... (7) عبارة (س): لا يتعاطى قبول الوصية لابنه، وكيف يقدر الرقيق ... (8) ما ذكره القفال: أي عدم توريث الابن المقبول مع أخيه القابل. (9) في الأصل: أرّث.

يتقدم حصول العتق فيه على وقت قبوله، فإنه لو أقدم على القبول رقيقاً، فقبوله باطل، ولو أقدم على القبول حراً، [فقد] (1) حصل العتق دون قبوله. وهذا كلام مضطرب، وسنأتي فيه وفي أمثاله بما يشفي الغليل في [الدوائر] (2) الفقهية من كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى. 7483 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أوصى بجاريةٍ، ومات، ثم وهب للجارية مائة دينار ... إلى آخره " (3). غرضُ هذا الفصل الكلامُ في أن الزوائد التي تحصل من الموصى به بين (4) موت الموصي. وقبول الموصى له، أو قبول ورثته فتلك الزوائد لمن؟ والمائة (5) الموهوبة كسبٌ متجدد في الحالة التي ذكرناها. [وقد ذكرنا] (6) بيان الأكساب والزوائد وإيضاح من يملكها على أحسن وجه في الترتيب، وأوقع نظامٍ في التفريع، فلا حاجة إلى [إعادته] (7). وقد نجز الكلامَ في [أقوال] (8) الملك في الموصى به، وأنه متى (9) يحصل، وكيف [يتشعب] (10) المذهب في تفريعاته، وتخريجات الأحكام الأربعة التي هي المعتبر (11) وإليه الرجوع. والله ولي التوفيق، وهو [بإسعاف] (12) راجيه حقيق.

_ (1) في الأصل: قد. (2) في الأصل: الرواية. (3) ر. المختصر: 3/ 165. (4) في (س): بعد. (5) في الأصل: المائة (بدون واو). (6) زيادة من المحقق، حيث سقط من النسختين. (7) في الأصل: إعادة. (8) في الأصل: أموال. (9) ساقطة من الأصل. (10) في الأصل: يحصل. (11) في الأصل: المعتبرة. (12) في الأصل: باستعانة.

فصل قال: " ولو أوصى له بثلث شيء بعينه، فاستُحِق ثلثاه ... إلى آخره " (1). 7484 - إذا أوصى لإنسان بثلثٍ من عبدٍ أوْ دارٍ أو غيرهما من الأعيان، وكنا نقدّر أن العبد بكماله ملكُ الموصي، وأنه خصّصَ بوصيةٍ ثلثَه، ثم تبين استحقاق ثلثيه وأن الموصي كان لا يملك منه [إلا] (2) الثلث، فإن لم يخلف سوى ذلك الثلث، وردّ الورثةُ الوصيةَ في الزائد على الثلث، فالوصية ترجع إلى ثلث الثلث لا محالة. وإن خلف من الأموال ما يفي ثلثُها بتمام الثلث الموصى به، فالمنصوص عليه للشافعي رضي الله عنه القطعُ بأن جميع الثلث موصًى به. وذهب بعض السلف إلى أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث الثلث؛ فإنّ ذكر الثلث جرى شائعاً، فكأنه أوصى بثلثٍ من كل ثلث، فإذا ثبت الاستحقاق في الثلثين، بطلت الوصية بثلثي الثلث، وهذا مذهب أبي ثور وزفر، والذي يستقيم على قياس الشافعي تنفيذ الوصية في جميع الثلث الموصى به. وترتيب المذهب [في هذه المسألة] (3) وغيرها [من] (4) هذه الأجناس أن مَنْ كان يملك الشقص من دارٍ، فباعه، ولم يضفه إلى نفسه، مثل أن يقول: بعتك [نصف] (5) هذه الدار، وكان مالكاً لنصفها، ولم يقل: بعتك النصف الذي أملكه، فهل نحمل بيعَه المطلق على ما يملكه [أم] (6) نشُيعه في جميع الدار، حتى نجعلَه جامعاً بين بيع النصف من نصفه وبين بيع النصف من النصف الذي [له] (7)؟ فيه اختلاف.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 167. (2) زيادة من (س). (3) سقط من الأصل. (4) في النسختين: في. (5) في الأصل: بنصف. (6) في الأصل: لزم. وهو تحريف واضح. وفي (س): أو. (7) في الأصل: ليس فيه اختلاف.

والأوجه عندنا تصحيح البيع في النصف الذي يملكه؛ فإنه باع النصفَ، وله النصفُ، [والشيوع ينافي التميز] (1)، فلا حاصل لقول القائل: باع بعضَ ماله، وبعضَ ما لشريكه. وقد ذكرنا هذا في كتاب البيع. 7485 - فإذا أوصى بجزءٍ يستحقه من عبد أوْ دارٍ، ولم يضفه إلى ملك نفسه، فإذا صححنا البيع في جميع حصته، فلا إشكال في نفوذ الوصية أيضاً في جميعها، وإن جعلناه في البيع بائعاً بعضَ ما يملك، فالوجه حمل الوصية على جميع ما يملك، من جهة أن وضع الوصية [حملُها] (2) على الصحة إذا ترددت بينها وبين الفساد؛ ولهذا قال الأئمة إذا أحضر الإنسان طبلين طبلَ حرب وطبلَ لهو، وقال: بعتك أحدَهما [فالبيع] (3) لا يُحمل على طبل الحرب، ولكن يُقضى بفساده، لما في لفظه من التردّد، وإذا أوصى بطبل من طبوله، وله طبل لهو وطبل حربٍ، فالوصية محمولةٌ على طبل الحرب؛ لتصح؛ فيجب على هذا المقتضى صرفُ الوصيةِ إلى تمام حصة الموصِي. وذهب ابن سريج من أصحابنا إلى أن الوصية تصح في جزءٍ من حصته، وينفصل عن البيع؛ من حيث إن البيع قد يفسد كله، لتفرق الصفقة، والوصية لا تبطل لتفرق الصفقة في المقدار الذي تصح منه لو أُفرد بالوصية. ثم حاول ابن سريج فرقاً بين مسألة الطبل وبين مسألة الشيوع، فقال: إذا أوصى بطبل من طبوله، ففي حمل وصيته على طبل اللهو إبطالُها بالكلية، مع ظهور [قصد] (4) الموصي في تصحيحها وقبولها للتردّد والورود على المجاهيل، وإذا صححنا الوصية على مذهب الإشاعة في جزءٍ من الحصة التي أطلقها الموصي، فقد

_ (1) في الأصل: وللشيوع ما في التميز. (2) في النسختين: وحملها. (3) في الأصل: بالبيع. (4) في الأصل: القصد.

وجدت الوصية متشبثاً، مع استمرار قياس الإشاعة، فانفصل بذلك عن مسألة الطبل. هذا منتهى الغرض في المسألة. فصل قال: " ولو قال: ثلث ما لي للمساكين، قُسم ثلثُه في ذلك [البلد] ... إلى آخره " (1). 7486 - قد مضى في كتاب الزكاة صدرٌ من الكلام في نقل الصدقات، وسنذكره مستقصى، إن شاء الله تعالى في قَسْم الصدقات، وغرض هذا الفصل أنا إن جوّزنا نقلَ الصدقات، فالوصية للمساكين لا تختص بمساكين [البقعة] (2) التي جرت الوصية فيها. وإن منعنا نقلَ الصدقات الشرعية، فالوصايا المطلقة المضافة إلى موصوفين لا ينحصرون هل يجوز نقلها أم تتقيد بقيد الصدقات الشرعية؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يجب تنزيل الوصية المطلقة على موجب الزكاة، وهذا ما إليه [صغوُ] (3) معظم الأصحاب. وقد يوجّه بأن الألفاظ التي أجريت (4) عن مستحقي الزكاة إذا جرت في ألفاظ الموصين، فهي محمولة على معانيها في الزكوات الشرعية، وهذا كذكر أبناء السبيل والرقاب وغيرها، فإذا كانت ألفاظ [الموصين محمولة] (5) على معاني ألفاظ الكتاب والسنة في أصناف الزكاة [فالألفاظ] (6) المطلقة في الوصايا ينبغي أن تتقيد بما تتقيد به

_ (1) ر. المختصر: 3/ 167. وفي النسختين: قسم ثلثه في ذلك الثلث. والتصويب من المختصر. (2) في الأصل: النفقة. (3) في الأصل: صعود. (4) (س): أعربت. (5) في الأصل: ألفاظ المؤمنين محمولاً. (6) في الأصل: بالألفاظ. و (س): والألفاظ.

الألفاظ المطلقة في الكتاب والسنة، ثم المساكين وإن أطلقوا في الزكاة محمولون على مساكين البلدة التي بها [أمال] (1) الزكاة، فكذلك إذا قال الموصي: أوصيت بثلثي للمساكين، وجب حملهم على مساكين بلده. ومن أصحابنا من قال: لا يجب ذلك في الوصايا، فإنا إنما منعنا النقل في الزكوات لأخبارٍ وآثار وأقضية مصلحية تجري في وظائف الزكوات، فأما الوصية، فليس فيها ما يوجب منعَ النقل، والدليل عليه أنه يصح للموصي أن يصرف وصاياه قصداً إلى غير مساكين بلده، فاتباع موجَب لفظ [الموصي] (2) أولى من حمله على الزكاة. فصل قال: " ولو أوصى له بدارٍ، كانت له وما يثبت فيها ... إلى آخره " (3). 7487 - [أراد أن] (4) الوصية بالدار بمثابة بيع الدار، فكل ما يدخل تحت إطلاق اسم الدار في البيع، فهو داخل تحت مطلق تسمية الدار في الوصية. وقد ذكرنا في كتاب البيع ما يندرج تحت البيع إذا سميت الدار، وأوضحنا موضع الخلاف والوفاق، وهذا لا إشكال فيه، ولكن نتكلم في مسألة وراء هذا، ونحن نذكرها، ونذكر نقيضها (5). 7488 - فإذا أوصى بدارٍ لإنسان، فانهدمت في حياة الموصي، أو انهدم بعضُها، فذلك النقض مختلفٌ فيه: فمن أصحابنا من قال: إنه (6) يخرج عن الوصية، فإن اسم

_ (1) في الأصل: قال. (2) في الأصل: "المولى". (3) ر. المختصر: 3/ 168 .. (4) زيادة من (س). (5) في (س): تفصيلها. (6) ساقطة من (س).

الدار [لا يتناول النقض، ولا يُستحق بالوصية إلا ما يبقى تحت اسم الدار] (1) عند قرار الوصية، كما سنوضح المعنى بقرارها. ومن أصحابنا من قال: النقضُ موصى به؛ اعتباراً بحالة الإيصاء، واسم الدار كان متناولاً لهذه الأجزاء التي تحطمت بالانهدام، فيبقى تحت قضية اللفظ، وإنما [يتغير] (2) قرار الوصية فيما يتعلق بتغاير الأملاك، أو فيما [يشعر] (3) بالرجوع عن الوصية في حق الموصي؛ فإنه لو أوصى بحنطة ثم طحنها، فقد يكون هذا رجوعاً منه عن الوصية؛ من جهة إشعار طحنه باستعمال الطحين، وصرفه عن الاعتياد والإبقاء للموصى له، فأما انهدام الدار، فليس من هذا القبيل، وليس من الفقه تشبيه هذا بالنقض في حق [الشفيع] (4)؛ فإن المبيع إذا انهدم قبل ثبوت ملك الشفيع فيه، ففي أخذه النقضَ خلافٌ قدمناه في كتاب الشفعة، وذلك الأصل ينفصل عما نحن فيه؛ فإنه لا يؤخذ من الألفاظ، والإطلاقات، وإنما [يرتبط بأصلٍ حُكمي] (5)، وهو أن الشفعة لا تتعلق إلا بالثوابت. ثم إن قلنا: نقضُ الدار (6) يبقى تحت مقتضى الوصية إذا انهدمت الدار قبل موت الموصي، فلو انهدمت بعد موته، فإن قلنا: الملك على الوقف أو يحصل بالموت، فالنقض للموصى له إذا قبل الوصية. وإن قلنا: يحصل الملك بالقبول ففي النقض خلاف مرتب على ما إذا انهدمت الدار قبل موت الموصي، وهذه الصورة أوْلى باستحقاق النقض فيها؛ من جهة أن الموصي إذا مات، [فقد] (7) دخل وقت إمكان القبول، وهذا الآن على مضاهاة الشفعة مع بُعد الوصية عن قياس الشفعة.

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (س). (2) في الأصل: يعتبر، و (س): تغير. (3) في الأصل: يشرع. (4) في الأصل: المبيع. (5) في الأصل: يربط بأصل حكمٍ. (6) (س): الدواير. (7) في الأصل: وقد.

هذا بيان انهدام الدار. 7489 - فأما نقيض ذلك، فلو أوصى بدارٍ، ثم زاد في بنائها، [فتغييراته بها] (1) لا تكون رجوعاً عن الوصية، بخلاف طحن الحنطة؛ فإن الحنطة تُطحن لتؤكل، والتغايير في الدار لا تشعر بمناقضة الوصية. إذا أحدث زوائد في البناء، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن تلك الزوائد هل تدخل في الوصية؟ وهذا الاختلاف يبتني على أن أجزاء الدار من الدار تنزل منزلةَ أطراف العبد من العبد أم يثبت لأجزاء البناء حكم الاستقلال؟ وفيه خلاف ذكرناه في البيع، [وأعدناه] (2) في أثناء الكتب، ونحن نحصّل القول فيه الآن مجموعاً، فنقول: 7490 - إذا باع رجل داراً، فاحترق سقفها، فمن أصحابنا من يقول: احرّاق السقف من الدار بمثابة تعيّب العبد المبيع، فإن سقطت يدُه أو تناله آفةٌ أخرى، فللمشتري الخيار، فإن فسخ، استرد الثمن، وإن أجاز، أجاز بجميع الثمن. ومن أصحابنا من قال: احتراق السقف بمثابة تلف مبيعٍ مضمومٍ إلى مبيعٍ مع اتحاد الصفقة واشتمالها عليهما، فهو كما لو اشترى الرجل عبدين، فتلف أحدهما، فالبيع ينفسخ فيه. والرأي الظاهر أنه يسقط قسطٌ من الثمن، كما ذكرناه في تفريق الصفقة. ثم عبّر الفقهاء عن هذا، فقالوا: أجزاء الدار في وجهٍ كالصِفة (3) للمبيع، وفي وجهٍ هي مبيعة في أنفسها، وكل جزء متقوّم من الدار مبيع في نفسه. فبنى الأئمةُ زيادةَ العمارة في الدار على هذه القاعدة، فقالوا: إن جعلنا أجزاء الدار كالصفات [فزيادةُ] (4) الأعيان في العمارة الجديدة بمثابة كبر الغلام الموصى به،

_ (1) في الأصل: فتعين أنه لها. و (س): فتغيراته بها. (2) في الأصل: واعتبرناه. (3) (س): كالصفقة. (4) في الأصل: وزيادة.

ونموّ الفسيل [الموصى به] (1) وجملة الزيادات المتصلة. وإن (2) قلنا: لكل جزء من الدار حكمُ الاستقلال، فلا (3) تدخل الزيادة المحدثة في الدار تحت الوصية. 7491 - وهذا كلام مختلط عندي، والوجه القطع [بأن] (4) زيادة الأعيان لا تدخل تحت الوصية؛ فإنا لو فتحنا هذا الباب، وأقمنا الزيادة صفةً حقيقةً (5)، لزمنا منه ما صار إليه أبو حنيفة (6) من أن الغاصب إذا استعمل الأعيان المغصوبة في دارٍ ابتناها على عرصته المملوكة، صارت الأعيانُ المغصوبة صفة لملك الغاصب، حتى لا تنتزع، ويُلزم (7) بدلها؛ لأنه [فوّتها] (8) على مالكها. ثم أبو حنيفة وإن طرد هذا في الغصب، لم [يجره] (9) في الدار المشفوعة إذا زاد المشتري من أعيان ماله في بنائها، ولم يَقُل: الشفيع يأخذه؛ لأن ما زاده انقلب صفة للرَّبع المشفوع، فلا سبيل إلى اعتقاد حقيقة الصفة في الأعيان التي تزاد، ومن انتسب إلى التحقيق من أصحاب أبي حنيفة لم يعتمد في مسألة غصب الساجة (10) إلا محاذرة إلحاق الضرار بالغاصب،

_ (1) زيادة من (س). (2) (س): فإن. (3) (س): ولا. (4) في الأصل: لأن. (5) (س): حقيقية. (6) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 178 مسألة: 1867، الاختيار: 3/ 62. (7) (س): وإنما يلتزم. (8) في الأصل: فوته. (9) في الأصل: يجزه، و (س): ينجزه. (10) الساجة: خشبة من أخشاب البناء. وصورة المسألة أن يغصب غاصب ساجة، فيدخلها في بناء دارٍ له على أرضٍ مملوكة له، فعند أبي حنيفة لا نلزمه نزع الساجة وردّها، بل نلزمه قيمتها؛ والعلة عند أبي حنيفة أن الساجة صارت في حكم (صفةٍ) من صفات البناء، فخرجت عن حقيقتها. ولكن من انتسب إلى التحقيق من أصحاب أبي حنيفة لم يجعل علّة عدم إلزامه نزع الساجة أنها صارت صفةً من صفات البناء، وإنما جعل العلة محاذرة إلحاق الضرار بالغاصب إذا كلفناه هدم داره لنزع الساجة وردّها.

ورأى وجه النظر من الجانبين ألاّ نهدم بناء الغاصب ونغرّمه قيمة الأعيان المغصوبة. ولئن (1) تخبط أصحاب أبي حنيفة، لا يليق بمذهب الشافعي مثلُ هذا. نعم، اشتهر الخلاف في تلف أجزاء الدار في يد البائع، وليس ذاك من جهة التردّد في أن أجزاء الدار صفاتٌ، ولكن سبب الاختلاف أن الدار بيعت جملةً واحدةً، فوقع البيع في غرض المتعاقدين على صيغة (2) مقتضاها ألا تُفردَ (3) الأجزاء بالثمن، وليست أجزاء الدار في حكم قصد المتبايعين مع عرصة الدار بمثابة عبد [مضمومٍ] (4) إلى عبد في البيع (5)، ولست أعرف خلافاً أن البائع لو زاد في الدار المبيعة من أعيان ملكه قبل القبض، [فالمشتري] (6) ينزعها أو يكلف البائع نزعها. وإذا كان كذلك، فلا يتجه أصلاً تخيّل الخلاف في أن الأعيان التي زادها الموصي تدخل تحت الوصية، ولكن ذكرتُ ما ذكره الأصحاب، وقد حكاه الصيدلاني أيضاً ثم نبهنا على تحقيق القول [فيه] (7)، ولم يختلف أصحابنا في أنه لو باع سقفَ داره، أو خشبةً من السقف، وسهل [رفعها] (8)، وتسليمها من غير تغير ظاهر في الأعيان التي اتصلت الخشبة بها [أن البيع جائز] (9) وما جاز إفراده بالبيع كيف ينتظم فيه كونُه صفةً على التحقيق؟ هذا منتهى القول في هذا الفصل.

_ (1) (س): وقد تخبط. (2) (س): صفة. (3) (س): تنفرد. (4) في الأصل: مضمون. (5) (س): المبيع. (6) في الأصل: فالمثوي. (7) في النسختين: منه. (8) في الأصل: بيعها. (9) زيادة من (س).

[مسائل مختلفة]

[مسائل مختلفة] (1) ثم ذكر ابن الحداد وغيره مسائلَ في الوصايا مختلفة، ومتجانسة، [وأنا أرى] (2) وضعَها هاهنا، فنرسم مسائل، ونضمّن كلَّ مسألة ما يليق بها. 7492 - مسألة: إذا أوصى لرجل بعشرة دراهم، وأوصى لآخر بعشرة، وأوصى لثالثٍ بخمسة، وشرط أن نقدم صاحب الخمسة على أحدهما، وضاق الثلث عن احتمال الوصايا بجملتها، مثل أن يوصي لزيد بعشرة ولعمرٍو بعشرة وخالدٍ بخمسة، وشرط تقدّمَ خالدٍ على عمرٍو بخمسته، والثلث عشرون. فالوجه أن نضع المسألة عريّةً عن شرط التقديم، ثم نذكر موجَب التقديم، فإذا لم يقدم [أحداً] (3) من هؤلاء الثلاثة، ولم يتسع الثلث لجميع الوصايا، فينقدح في [تخريج] (4) المسألة مسلكان قريبان تقدّما في المسائل، أو تقدم أمثالُهما: أحدهما - أن نضبط مبلغ الثلث، ومبلغ الوصايا، ثم نضيف الثلاثة بالنسبة إلى الوصايا، وننفذ (5) من كل وصية مثلَ تلك النسبة. وبيان ذلك أن الثلث عشرون وجملة الوصايا خمسة وعشرون، فإذا أضفت عشرين إلى خمسة وعشرين، كانت العشرون أربعة أخماس الوصايا (6)، فلكل واحد من مستحقي الوصية أربعةُ أخماس وصيته: لصاحب العشرة أربعة أخماسها، ولصاحب الخمسة كذلك، فيكون لصاحب كل عشرة ثمانية، ولصاحب الخمسة أربعة. ويتجه مسلكٌ آخر، وهو مسلك التضارب، وذلك بأن ننسب الوصايا بعضها إلى

_ (1) العنوان من عمل المحقق. (2) في الأصل: وإن أدى. (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: تحريم. (5) (س): وتقدم. (6) ساقطة من (س).

بعض، ونقدرها سهاماً على أقل [ما معنا] (1): لصاحب الخمسة على سهمٍ، وصاحب كل عشرة على [سهمين] (2)، فيضربون بخمسة أسهم في عشرين سهماً، ونجري العشرين خمسة أسهم، يأخذ صاحب كل عشرة جزأين من العشرين، أو خُمسين من العشرين، ويأخذ صاحب الخمسة جزءاً، وإن أحببت، قلت: خُمساً فيؤدي إلى ما ذكرناه. فإذا قدرنا قسمة العشرين بين هذه (3) الوصايا من غير تقديم، (7 [فنبيّن] (4) على هذا التقديمَ (5)، [فنقول] (6): يأخذ صاحب الخمسة أربعةً من غير تقديم 7)، ويأخذ كل واحد من صاحبيه ثمانية، فنقدر لزيدٍ ثمانية ولعمرٍو ثمانية ولخالدٍ أربعة، ثم يأخذ خالدٌ من عمرٍو ما يكْمُل له به الخمسةُ، وهو سهمٌ، فيبقى في يد عمرٍو سبعة، وفي يد زيد ثمانية، ويكمل لخالد خمسة، ولا خفاء بهذا، ولكنه أوّل مسألة ذكرها ابن الحداد في هذا الكتاب. 7493 - مسألة: تشتمل على تفصيل القول فيمن يعتق على المريض في مرض موته، فنقول: جهات الملك في مرض الموت ثلاثة في غرض المسألة: إحداها - الإرث، فإذا ورث المريض من يعتِق عليه، يثبت الملك إرثاً، ويترتب عليه حصول العتق من رأس المال، هذا متفق عليه؛ فإنه ملك قهري حصل من غير عوض، ووقع حصوله مستحَقاً بجهة العتاقة، فلا احتساب من الثلث. ولو اشترى المريض من يعتق عليه، واحتمل الثلثُ العتقَ عَتَق عليه، وإن لم يسع الثلثُ تمامَ القيمة عَتَق منه القدرُ الذي يسعه الثلث، ورق باقيه، وهذا متفق عليه. والعتق ملحقٌ بالتبرعات إذا كان الملك متلقَّى من جهة الشراء والابتياع.

_ (1) في الأصل: ما مر بنا. (2) في الأصل: سهم. (3) في الأصل: وهذه (بزيادة واو). (4) في الأصل: ونبين. (5) التقديمَ: مفعول نبيّن، وليست بدلاً من (هذا). والمعنى نبين كيفية التقديم لأحد الموصى لهم. (6) في الأصل: ونقول. (7) ما بين القوسين سقط من (س).

ولو اتهب من يعتق عليه، أو كان أُوصي له به، ومات الموصي [وجاز] (1) قبول الوصية، فقبلها في مرضه، فهل يجب العتق من ثُلثه أم ينفذ (2) من رأس المال؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي رضي الله عنه: أحدهما - أنه من رأس المال؛ من جهة أن الملك لم يحصل بعوضٍ، فصار كالملك المستفاد إرثاً. والثاني - أنه محسوب من الثلث؛ فإنه تملّكٌ على اختيارٍ، فإذا حصل في ملكه باختياره، ثم قُدِّر العتق، كان كما لو اتهب عبداً ثم أنشأ إعتاقه. وهذا الوجه ركيكٌ، لا اتجاه له، والاستشهادُ بالاتهاب والإعتاق باطلٌ؛ فإنه لو ورث عبداً، ثم أعتقه، كان العتق محسوباً من ثلثه، فلا تعويل إذاً إلا على كون العتق مستحقاً، مع أنه لم يبذل عوضاً في تحصيله حتى [يعدّ] (3) بذله نقصاناً وخسراناً في المال، وإذا كان العتق مستحقاً، فلا أثر لاختيار الملك وإنما يؤثر اختيار العتق [لو كان] (4) متعلقا بالاختيار. 7494 - ثم إن (5) اشترى من يعتِق عليه بمثل قيمته، فالوجه (6) أن يحسب من الثلث، حتى لو فرض دينٌ مستغرِقٌ، [فالعتق بجملته مردودٌ] (7)، على ما سنبين شرحَه في أثناء المسألة، إن شاء الله تعالى. وإن اشترى من يعتِق عليه بأقلَّ من ثمن مثله، فإن قلت: العتق فيما يتهبه من الثلث، فلا إشكال في هذه المسألة. [وإن] (8) فرعت على المسلك الحق، وهو أن العتق فيما يتهب من رأس المال،

_ (1) في الأصل: وصار. (2) (س): أو يعدّ. (3) في الأصل: يعدل. (4) في الأصل: لكان. (5) (س): من اشترى. (6) (س): فالوجه الحسب من الثلث. (7) في الأصل: بالعتق فجملته مردودة. (8) في الأصل: فإن.

فيجب أن يقال: إذا اشترى ابنَه وقيمتُه ألفٌ بخمسمائة، فنقدّر المحاباة بمثابة المستفاد على حكم الاتهاب، وإنما يتحقق التبرع في المقدار المبذول من العوض؛ من جهة أنه بذل العوض، ولم يستبدل عنه ما يبقى ملكاً. 7495 - وتمام البيان في هذا الفصل أنا حيث نقول: يعتِق على المريض ابنُه أو أبوه بجهةٍ (1)، فلا كلام، وحيث لا يحكم بحصول العتق فيه، مثل أن اشترى ابنه بمثل قيمته وعليه دينٌ مستغرق، فالمذهب أن الشراء يصح (2) والابن لا يعتِق، ويسلَّم إلى جهة الديون رقيقاً. ومن أصحابنا من قال: إذا كانت العقبى تقتضي ردَّ العتق، فلا يصح الابتياع في أصله، حتى لا يُفضي إلى أن يتصرف في ابنه الواقعِ في ملكه حسب التصرف في الأرقاء والعبيد، [والأظهر] (3) الأصح تصحيح الابتياع، والمصير إلى أنه يباع في الديون. 7496 - ومما يلتحق بهذه القضايا أنا حيث نحسب العتق من الثلث، ثم وسع (4) الثلث القيمة، [ولا] (5) مزاحمة من دَيْن؛ فإنه يعتِق ولا يرث؛ لأنه لو ورث وعتقه محسوب من الثلث، لكان العتق [مصروفاً] (6) إلى حطه (7) وصية له، والوصية للوارث مردودة، [وإذا رددناها] (8)، فلا إرث (9)، ففي توريثه منع توريثه، وهذا ملتحق بالدوائر الفقهية.

_ (1) ساقطة من (س). (2) "فالمذهب أن الشراء يصح" استقر المذهب فعلاً على ذلك، فالنووي جعل المسألة على وجهين أصحهما هذا (ر. الروضة: 6/ 204). (3) في الأصل: فالأظهر. (4) (س): يسع. (5) في الأصل: فلا. (6) في الأصل: مضروباً. (7) (س): حط. (8) في الأصل: والمردد الإرث. (9) فلا إرث: لأنه لا عتق.

وحيث نحكم بأن العتق ينفذ من رأس المال، فإذا عتِق مَن (1) ملكه عتقاً مستحقاً محسوباً من رأس المال، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يرث: أحدهما - وهو الصحيح (2) أنه يرث؛ لأنه [لا] (3) مانع من توريثه؛ فإن عتقه لم يقع في حكم الوصايا، فهو بمثابة ما لو عتَقَ في حالة الصحة. والوجه الثاني - أنه لا يرث، وهو اختيار الإصطخري، ولست أعرف هذا وجهاً، ولكنّ الشيخ أبا علي [استدلّ له] (4) بأن قال: العتق حصل، وفيما نحتسب جنسَ العتق فيه من الثلث، فلا نظر إلى خروج هذا العتق عن القياس. ولا ثبات لمثل هذا الكلام؛ فإن العتق لاسمِه ولقبِه لا يعتبر من الثلث، وهو منقسم: فمنه ما يحسب من الثلث، ومنه ما لا يحتسب، فلا حاصل [تحت] (5) ما قال. واستشهد بمسألة [فقال] (6): إذا نكحت المرأة في مرضها بدون مهر مثلها، فيصح ذلك منها، ولا يحسب من الثلث، فإنها حابت في عوض البضع، وليس البضع [ممّا يبقى] (7) للورثة، قال: فهذا فيه إذا كان الزوج بحيث لا يرثها، مثل أن يكون رقيقاً أو مسلماً، وهي كافرة (8)، فأما إذا كان الزوج يرثها، فيلزمه مهرُ مثلها كَمَلاً، فكأنا قدرنا ذلك وصيةً في حق الزوج الوارث، وإن لم نقدره وصيةً في حق غيره. هكذا ذكره الشيخ، وأطلق [جوابه] (9) في الفرق بين من يرث وبين من لا يرث.

_ (1) (س): في. (2) ما قاله الإمام من أن هذا هو الصحيح استقر عليه المذهب، فقد قاله النووي بلفظه (الصحيح). (ر. الروضة: 6/ 204). (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: استدركه. (5) في الأصل: يجب. (6) في الأصل: وقال. (7) في الأصل: بما بقي، و (س): مما بقي. (8) كافرة: المراد ذمية كما صرح بذلك في الروضة: 6/ 133. (9) في الأصل: حرازه.

وكان شيخي رضي الله عنه لا يفصل، ويقول: المحاباة بمهر المثل في النكاح من المريضة صحيحة مع الوارث وغير الوارث. وهذا متجهٌ حسن (1)، وسيأتي كلام في نكاح المريضة ونكاح المريض، إن شاء الله عز وجل، هذا منتهى المسألة. 7497 - مسألة: مشتملة على تفصيل القول في الوصية لمن نصفه حر ونصفه رقيق، والغرض يتعلق [بصورتين] (2): إحداهما - أن يوصي لشخص نصفه حرٌ ونصفه رقيق لغير وارثه. والصورة الثانية - أن يكون النصف الرقيق ملكاً لوارث (3) الموصي. فأما إذا كان الرقيق منه ملكاً لمن لا يرث الموصي، فممَّا نجدد العهدَ به قبل الغوص (4) في المسألة أن من وهب شيئاً لعبد غيره، فإن قبل العبدُ الهبة بإذن مولاه، صحت الهبة، ووقعت للمولى، وكذلك إن أوصى لعبدٍ بشيء، فقبِل الوصية بإذن السيد، فالوصية تصح، ويقع الملك في الموصى به للسيد. فإن قبل الهبة والوصيةَ من غير إذن السيد، ففي (5) المسألة وجهان قدمناهما في مواضع: أحدهما - أن القبول باطل، ولا تصح الوصية ولا الهبة، فإنهما لو صحتا، لثبت الملك للمولى قهراً، والعبد محجورٌ عليه على حالٍ، فلا يصح منه أن يُكسب (6) مولاه مالاً بعقدٍ من غير إذنه. والوجه الثاني - أن القبول يصح، ويثبت الملك للمولى، [إن] (7) لم يردّه، كما لو احتش العبد أو احتطب، وكما لو خالع زوجته على مالٍ؛ فإن عوض الخلع يدخل في ملك المولى قهراً.

_ (1) والوجه المعتمد، هو الوجه الأول الذي سماه الإمام الصحيحَ (ر. الروضة: 6/ 133). (2) في الأصل: بصورتهن. (3) (س): للوارث. (4) (س): الخوض. وهي في الأصل محرّفة إلى (العَوْض). (5) (س): في. (6) (س): يكتسب. (7) في الأصل: وإن لم.

فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، عُدنا إلى تفصيل المسألة: 7498 - فإذا أوصى الرجل (1) لشخص نصفه حر ونصفه مملوك لأجنبي، فقبل الموصى له الوصية دون إذن المالك، ففي صحة القبول على مقابلة (2) الرق وجهان، كالوجهين فيه إذا كان عبداً قِنّاً: فإن قلنا: يصح قبول المملوك دون إذن المالك، فقد ثبتت الوصية، [ولا] (3) كلام. [وإن] (4) قلنا: لا يصح قبوله فيما يخص الرقيق منه، فقد بطل القبول في نصف الوصية. وهل يصح في النصف الآخر؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - أنه يصح؛ فإنه لو كان عليه معترَضٌ في مقدار الرق منه، فلا [يعترض] (5) في مقدار الحرية. والوجه الثاني - أنه لا يصح القبول في شيء؛ فإنا لو صححنا القبول، وأثبتنا ذلك القدرَ المقبولَ لمقدار الحرية منه، لم يصح ذلك؛ من قِبل أنّ كل ما يستفيده، فحقه أن ينقسم على شطريه، [واختصاصُ] (6) بعضه بالتملك على وجهٍ لا يَشيع [محالٌ] (7)، فإن حصرنا، بطل الحصر، وإن أشعنا وأثبتنا البعضَ الذي صححنا القبولَ منه بينه وبين مالك رقّه، [انعكس] (8) الأمر إلى إدخال شيءٍ في ملك المالك من غير إذنه، وهذا لا ينتظم قط؛ فيجب القضاء ببطلان أصل الوصية.

_ (1) (س): الوكيل. (2) كذا. وفي (س) تقرأ بصعوبة (معاملة). والمعنى واضح على أية حال. فهو يقول: في صحة القبول لما يقابل الجزء الرقيق وجهان. (3) في الأصل: فلا، و (س): بلا. (4) في النسختين: فإن. (5) في الأصل: يتعرض، وفي (س): فليعترض. (6) في الأصل: اختصاص. (بدون واو). (7) في الأصل: بحال. (8) في الأصل: إن عكس.

7499 - ولو وَهَبَ ممّن نصفه حرّ ونصفه رقيق، وأبطلنا الهبة في نصيب المالك، فهل تصح الهبة في حصة الحرية؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه في الوصية، غير أن الهبة تنفصل عن الوصية في قضيةٍ (1) ظاهرة، وهي أن القبول في الهبة إذا أبطلناه لأنه لم [يصدر] (2) عن إذن المولى، فلو أذن المولى بعد تخلل الفصل وانقطاع الرابطة المرعية بين الإيجاب والقبول، فلو أذن السيد من بعدُ، فلا يصح القبول إلا أن يجدّد الواهب الهبة. وإذا أبطلنا القبول في الوصية لعدم الإذن، ثم أذن المولى، [فجدّد العبدُ] (3) قبولاً، فيصح القبول الآن ويحصل، كأن القبول الأول لم يكن، وهذا ظاهر، والغرض أمرٌ وراء هذا، وهو أن السيد لو ردّ الوصية، فهل يفسد بردّه (4) سبيلُ القبول من بعدُ، حتى لو بدا له أن يأذن في القبول، وقد [ندم] (5) على ما قدّم من الردّ، فلا ينفذ إذنه بعد الردّ، أم كيف السبيل فيه؟ هذا مما يتعين الاعتناء (6) به، والاهتمام بفهمه. فنقول: الهبة إذا قبلها العبد بإذن المولى، فالملك [فيها] (7) يقع للمولى من غير واسطة، ولهذا قطع الأصحاب بأن الوصية لعبدِ الوارث وصيةٌ للوارث، (8 والهبة من عبده في مرض الموت تبرع على الوارث 8) ومع هذا لو قبل السيد الهبةَ، والمخاطب عبده (9)، لم تنعقد الهبة بقبول السيد، وإن كان الملك واقعاً له، لأنا نرعى في القبول

_ (1) في الأصل: نصيبه. (2) في الأصل: يعدر. (3) في الأصل: مجرّد الهبة. (4) (س): يردّ. (5) في الأصل: قدم. (6) (س): الاهتمام به والاعتناء بفهمه. (7) في الأصل: فيما. (8) ما بين القوسين ساقط من (س). (9) (س): غيره.

نظماً يقتضيه الإيجاب (1) ليكون جواباً عنه، والسيد لم يخاطَب به، [فلا] (2) يقع جوابه لو وقع، ولو ردّ السيد وكان حاضراً لما وَهَب من عبده، فإن شرطنا في قبول العبد إذنَ السيد، وأبطلناه بعدم الإذن، فالردّ أبلغ من عدم الإذن، وإن صححنا قبول العبد من غير إذن المولى، فلو زجره عن القبول، فالظاهر عندي أن الهبة تصح، ويقع الملك للمولى، ويكون كما [لو نهاه] (3) السيد عن مخالعة امرأته على [مالٍ،] (4) فخالف سيدَه وخالعها، [فعوض] (5) الخلع يقع في ملك السيد قهراً وإن نهى عن الخلع زجراً، فكأن العبد في قبول الهبة على هذا القول الذي فرعنا عليه ليس محجوراً عليه، والقبول يعتمد صحة لفظه. هذا قولنا في الهبة. 7500 - فأما في الوصية فلو قبل سيدُ العبد الوصية بعد موت الموصي بناءً على أن الملك يحصل له، [فكأنه الموصى له] (6) على التحقيق، فهذا فيه احتمال ظاهر عندي، يجوز أن يقال: لا تثبت الوصية [بقبول] (7) المولى قياساً على الهبة، ويجوز أن يقال: تثبت الوصية بقبول المولى؛ فإن قبول الوصية [يخالف في وضعه] (8) القبول في العقود، ولهذا ينفصل عن الإيصاء (9)، ويقع بعد خروج الموصي عن أن يكون من أهل التصرفات، ويموتُ الموصى له فيخلفه الوارث، وهذا ينص على الغرض (10):

_ (1) ساقطة من (س). (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: لزمناه. (4) في الأصل: ماله. (5) في الأصل: بعوض الخلع. (6) في الأصل: فكان للموصى له، و (س) فكان الموصى له. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق. (7) في الأصل: لقبول. (8) عبارة الأصل: فإن قبول الوصية في وضوه. (9) الإيصاء: المراد الإيجاب، أي ينفصل القبول ويتأخر عن الإيجاب. (10) في الأصل: العوض.

فإذا [كان] (1) الوارث يقبل، وليس موصىً له، فلا يبعد أن يقبل السيد وإن لم يسمَّ (2) في الوصية، نظراً إلى [مصير] (3) الملك إليه. ثم ينبني على هذا أنا إن (4) صححنا قبولَ السيد، فيجب (5) أن يبطل ردُّ (6) العبد لو ردّ. ولا ينبغي أن يغتر الفقيه بصورة يعارَض بها إذا قيل له: نحن وإن أقمنا الوارث مقام الموروث في قبول الوصية، فلو كان الموروث ردّ الوصية، [لبطلت] (7)، وإذا مات، لم يصح قبول وارثه، فهلا قلتم: قبول السيد يصح، ولو ردّ العبد، لارتدت الوصية؟ فإن (8) الموروث لو قبل، لكان الملك له، فهو الأصل في الوصية، فترتد الوصية بردّه، بخلاف العبد، [وهذا] (9) واضحٌ لا غموض فيه. 7501 - وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يكن بين مالك نصفه وبينه مهايأة، وكانت أعماله وأكسابه تقع (10) مشتركة. [فأما] (11) إذا جرى بينه وبين مالك [رِقِّه] (12) مهايأة، ووقع التواضع بينهما على أن

_ (1) في الأصل: بان. (2) (س): يستمر. (3) في الأصل: يصير. (4) (س): لو. (5) (س): لوجب. (6) (س): بردّ. (7) في الأصل: لبط. (8) فإن الموروث: متعلق بقوله: ولا ينبغي أن يغتر الفقيه بصورة يعارض بها ... إلخ فهذا ردٌّ على السؤال: فهلاّ قلتم ... إلخ. ببيان الفرق بين قبول وراثة الموصى له وقبول السيد عن عبده الموصى له، حيث إن الموصى له هو الأصل في الوصية، فلو ردّ لا يصح أن يبطل ردُّه بقبول الورثة، والعبدُ هو الأصل في الوصية، ولذا لا يمكن أن يبطل ردُّه بقبول السيد. (9) في الأصل: وهو. (10) ساقطة من (س). (11) في الأصل: فإنا. (12) في الأصل: ربه.

يعمل ويكتسب في مدةٍ (1) تواضعا عليها لمالك رقه، ويكتسب في مدةٍ لنفسه، فالأكساب المعتادة كالاحتشاش، والاحتطاب، واستحقاق أجرة العمل، إذا كان الشخص صانعاً، فهذه الأكساب تدخل تحت قضية (2) المهايأة وفاقاً، وأثر دخولها تحتها أن صاحب كلِّ مدَّة يختص بما يقع فيها من كسب، فإذا كانت النوبة للشخص، اختص بأكسابه فيها اختصاص [الأحرار، وإذا كانت النوبة لمالك الرق، اختص بالأكساب فيها اختصاص] (3) المالك بأكساب عبده الخالص. وظهر اختلاف أصحابنا في أن الاكساب [النادرة] (4) هل تدخل تحت المهايأة، وعدّوا من جملتها قبول الوصايا والهبات. وهذا الاختلاف (5) ذكره المصنفون ولم يوضحوا مأخذه، [وأنا أتحيل] (6) لهذا الخلاف وجهين ومسلكين: أحدهما - أن قبول الهبة والوصية ليس مما يحتاج فيه إلى إعمال منفعته (7)، وإنما هو لفظةٌ لا تحول بين العبد وبين جميع الأعمال التي يلابسها، والمهايأة ترد على المنافع، حتى كأنها قسمة فيها، وتصير المنفعة في كل نوبة حقَّ صاحب النوبة، كما يصير حق منفعة الشبكة لمن يستأجرها، وإذا اصطاد بها والمنفعة له، فالصيد ملكه، [فالأكساب] (8) إذاً تبعُ المنافع، وقبول الهبة والوصية لا يتعلق [ببذل] (9) منفعة، فلم يدخل في المهايأة التي وضعت لاقتسام المنافع، وإذا كان كذلك، تعيّن قسمة الموهوب على

_ (1) في (س): يده. (2) ساقطة من (س). (3) ما بين المعقفين زيادة من (س). (4) في الأصل: الباردة. (5) (س): خلافٌ. (6) في الأصل: وأنا حيل (هكذا بإهمال الأول والثاني) والمثبت من (س) بإهمال الحاء أيضاً، فهل هي من التحيل (بالمهملة) بمعنى التفنن، أم هي بالمعجمة من التخيل؟ أم هي: أنخل؟ بنون فخاء معجمة؟ الله أعلم. (7) كذا. والمعنى واضح وهو أن قبول الهبة ليس مما يحتاج إلى بذل جهد واستهلاك طاقة. (8) في الأصل: بالاكتساب، و (س): والأكساب. (9) في الأصل: بعدل.

الرق [والحريّة] (1) سواء جرت المهايأة أو لم تجر. هذا بيان مسلك الخلاف. ويجب أن نقول بحسبه: لو كانت الهبات غالبة في [قُطرٍ] (2)، وكانت لا تعد من النوادر، فهي خارجة على الخلاف أيضاً؛ تلقِّياً [مما] (3) ذكرناه في المنافع واختصاص أثر المهايأة بها. ويجوز أن يقال: [مأخذ] (4) الخلاف [الندور] (5) والعموم (6) كما أطلقه الأصحاب، ووجهه أن المهايأة المطلقة ترد (7) على ما يجري في العرف، فلا يمتنع أن يقول المولى، أو الشخص: إنما أوردنا المهايأة على ما يجري العرف به، وما يندر، [يبقى] (8) على حكم التقسّط والتوزّع، فعلى هذا إذا عمت الهبات في قُطرٍ، دخلت تحت المهايأة، وإنما الخلاف فيه إذا كانت الهبات والوصايا نادرة. ويجري على هذه الطريقة تفصيلٌ آخر، وهو أنهما لو صرحا بإدراج الأكساب النادرة تحت المهايأة، لدخلت تحتها؛ فإن الخلاف [في] (9) هذا المسلك محمول على (10 أنهما وضعا المهايأة 10) على ما يجري العرف الغالب به، فإذا وقع التصريح بإدراج الأكساب النادرة، اندرجت. وإن سلكنا المسلك الأول في اتباع المنافع وتنزيل المهايأة عليها، فلا أثر للتصريح

_ (1) في الأصل: والهُريّة. (وهذا التصحيف يشهد بأثر عجمة قديمة في لسان الناسخ المتعرب). (2) في الأصل: نظر. (3) في الأصل: بما. (4) في الأصل: يأخذ. (5) في الأصل: المنذور. (6) والعموم: المراد الشيوع والكثرة عكس القلّة والندرة. (7) (س): تنزل. (8) في الأصل: فبقي. (9) في الأصل: من. (10) ما بين القوسين سقط من (س).

بإدخال الهبات، ولو وقع التصريح كذلك، لما دخلت. التفريع: 7502 - إن قلنا: قبول الهبات والوصايا لا تدخل تحت المهايأة، فقد مضى التفريع فيه إذا لم يكن مهايأة، فنقول: وإن جرت المهايأة، فلا أثر لجريانها في قبول الهبات والوصايا. وإن قلنا: إنها تندرج تحت المهايأة، فالنظر إلى النوبة: فإن وقع ما يعتبر -كما سنشرحه، إن شاء الله- في نوبة الشخص، فيخلص له الموهوب والموصى به، وإن وقع في نوبة المولى [يخلص] (1) له ما وقع في نوبته، ثم الاعتبار بالإيصاء أم بقبول الوصية؟ وهذا الذي أبهمناه الآن (2). اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: الاعتبار بالإيصاء؛ فإنه ابتداء العقد، وهو الأصل، وعليه يترتب القبول. ومنهم من قال: الاعتبار بالموت وما بعده، كما سنشرحه، إن شاء الله تعالى؛ فإن أوان قرار الوصية يدخل بالموت. والقائل الأول يحتج في اعتبار الإيصاء بالالتقاط، فإنا إذا جعلنا العبد من أهل الالتقاط وأدرجناه تحت المهايأة، فالاعتبار بيوم الالتقاط لا بيوم انقضاء الحول. فإن قلنا: الاعتبار بيوم الإيصاء، فلا كلام. وإن قلنا: الاعتبار بالموت وما بعده، فهذا يتفرع على أن الملك في الموصى به متى (3) يحصل؟ فإن قلنا: إنه يحصل بالموت إما تحقيقاً وإما تبيُّناً، فالنظر إلى اليوم الذي يقع الموت فيه. وإن قلنا: يحصل الملك في الموصى به بالقبول، فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - أن العبرة بالقبول، فإنه يستعقب الملك. والثاني - أن العبرة بالموت، وإن فرعنا على قول القبول؛ فإن الأصل في الباب

_ (1) في الأصل: يتخلص، و (س): فيخلص. (2) عبارة (س): وهذا الذي أبهمناه. والآن اختلف ... (3) (س): متى ما يحصل.

الموت، وهو (1) الذي يُثبت حقَّ القبول، ويمكِّن الموصى له منه، فليكن الاعتبار به. قال الشيخ أبو علي: يتصل بذلك أنه لو وهب لمن نصفه حرّ ونصفه عبد في يوم سيده، وقبض في يوم نفسه، فالهبة في يوم من؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الموهوب يصرف إلى من وقعت الهبة (2) في يومه؛ فإن الهبة هي الأصل، وعليها يترتب الإقباض. قال الشيخ: وهذا الاختلاف ينبني على أن عقد الهبة هل يقتضي الملك مع ثبوت الخيار للواهب في الرجوع ثم القبض يلزمه ويُتمُّه؟ أم نقول القبض يستعقب [الملك] (3) ويقتضيه وعقد الهبة لا يقتضيه؟ فيه اختلاف قولٍ قدمناه في كتاب الهبات، فإن حكمنا بأن عقد الهبة يُثبت الملك قبل الإقباض، فالاعتبار باليوم الذي وقع العقد فيه، وإن قلنا: الملك يحصل بالقبض، ففي المسألة وجهان كالوجهين المفرعين على قولنا: إن الملك في الموصى به يقع بالقبول. وجميع ما ذكرناه فيه إذا وقعت الوصية لمن نصفه حر ونصفه رقيق لأجنبي. 7503 - فأما إذا أوصى لمن نصفه حر ونصفه مملوك لوارثه (4)، فالكلام في المهايأة جرت أو لم تجر، وفي (5) أن قبول الوصايا هل يدخل تحت المهايأة؛ [قد] (6) تقدم. ونحن نقول الآن: إن (7) تصورت المسألة بصورةٍ لو فرضت فرْضَ المالك الأجنبي، لكان الملك بكماله للمالك، فالوصية في مثل تلك الصورة مردودة في مسألتنا؛ فإنا لو صححناها، لكانت للوارث، والوصية للوارث مردودة. وإن تصوّرت المسألة بصورة لو فرضت والمالك فيها أجنبي، لكانت الوصية (8)

_ (1) (س): وهذا الذي. (2) (س): إليه. (3) في الأصل: العتق. (4) هذه هي الصورة الثانية من صورتي المسألة، والتي أشار إليها منذ عدة صفحاتٍ مضت. (5) (س) في أن قبول ... (بدون واو). (6) في النسختين: فقد. (7) (س): تصوّر المسألة. (8) (س): المسألة.

تقع للشخص (1) المنقسم، [فالوصية] (2) تصح بجملتها لهذا الشخص في مسألتنا. فإن (3) اقتضى التفريع في الأجنبي قسمة الموصى به على السيد والشخص، فقد قال الشيخ أبو علي: إن انتهينا إلى ذلك، أبطلنا الوصية أيضاً؛ فإن البعض منها ينصرف إلى مالك الرق، وصرفه في مسألتنا إلى الوارث غيرُ جائز، فتبطل الوصية رأساً، واستشهد في ذلك بالإرث؛ فإن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن من نصفه حر ونصفه عبد لا يرث؛ فإن التوريث بنصفه الرقيق ممتنع، فإن فسد التوريث بالبعض، من جهة أنا لو ورّثناه بنصفه الرقيق، لصرفنا ذلك القدرَ إلى مالك الرقيق، وهذا يؤدي إلى توريث أجنبي من حميمه (4)، ثم كما (5) أبطلنا الإرث أبطلناه رأساً. وهذا الذي قاله فيه نظر. أما الإرث، فمذهب الشافعي رضي الله عنه فيه ما ذَكَر؛ فإن الانقسام فيه متعذر، وأما الوصية، فلا يمتنع أن (6) يقال فيها: تبطل الوصية في حصة الوارث، وتصح في حصة الشخص (7)؛ فإن التبعيض ليس بدعاً (8) في الوصايا؛ فإن الوصية الزائدة على الثلث تتبعض عند [ردّ] (9) الورثة. فهذا ما أردناه. [ويتفرع] (10) على هذا المنتهى شيء (11)، وهو أن من أوصى لإنسان بوصية خارجة من الثلث، فقبل [الموصى] (12) له بعضَها، وردّ بعضها، فيجوز أن يقال:

_ (1) الشخص المنقسم: المراد به المنقسم بين الرق والحرية. وفي (س): المقسّم. (2) في الأصل: بالوصية. (3) (س): وإن. (4) كذا فى النسختين. (5) كما: أي عندما. وهذا استعمال خاص بإمام الحرمين، وتبعه فيه الغزالي. "وليس بصحيح ولا عربي" قال ذلك النووي في التنقيح (وأثبتناه مراراً من قبل). (6) (س): فلا يمتنع أن تبطل الوصية. (7) الشخص: أي الذي نصفه حر ونصفه مملوك لوارث الموصي. (8) (س): يُرعى. (9) في الأصل: بعض. (10) في الأصل: فيتفرع. (11) ساقطة من (س). (12) في الأصل: للوصي.

يصح ذلك، ويجوز أن يقال: لا يصح. ووجه المنع تشبيه قبول الوصية بالقبول في الهبة، ولو قبل الموهوب له الهبة في بعض ما وهب منه (1 لم يصح القبول 1) في شيء، ومن فرق تمسك بما أشرنا إليه من الفرق بين قبول الوصايا وبين القبول في الهبة وغيرها من العقود. وسنذكر أن الموصى له إذا مات قبل القبول، وخلّف ذرية، فقبل بعضهم وردّ بعضهم، فالقبول قد يثبت في حق من قبل، وإن تضمن تبعيضاً في الوصية. 7504 - ومما ذكره الشيخ أبو علي في خاتمة المسألة أن الرجل لو قال [لمن] (2) نصفه حر ونصفه عبد: أوصيت لنصفك الحر، فكيف السبيل في ذلك؟ قال: قال القفال: هذه الوصية باطلة في كل مسلك؛ فإن الإيجاب لا يجوز توجيهه على نصف الشخص. وذكر الشيخ أبو علي وجهاً أن الوصية تصح وإن توجهت على بعض الشخص، وطرد هذا الوجهَ في الهبة أيضاً إذا وُجّهت على البعض. وكشْفُ القول في هذا أن نقول: إن حكمنا بأن الهبة والوصية لا تدخل تحت المهايأة، وأنهما يقعان على الاشتراك لا محالة، وإن جرت مهايأة، فتخصيص الوصية والهبة بالبعض الحر (3) على خلاف موجَب [التبرّع] (4)، فتبطل، وإن لم يتعد وقوع [التبرّع] (5) بالوصية والهبة لهذا الشخص بحكم المهايأة. فإذا وقع التوجيه على النصف الحر، نظر: فإن لم يكن مهايأة، بطلت أيضاً؛ فإن مقتضى الحال ألا (6) تختص الهبة والوصية. وإن كان [ثَمَّ] (7) مهايأة، فإن وقع ذلك في نوبة السيد، بطلت أيضاً، فإن هذا

_ (1) ما بين القوسين سقط من (س). (2) في الأصل: بأن. (3) (س) بالبعض جرت. (4) في النسختين: الشرع. (5) في الأصل: الشرع. (6) (س): لأن تختص. (7) في الأصل: "به" وعبارة (س) مضطربة فيها تقديم وتأخير. هكذا: فإن مقتضى الحال =

على مناقضة الواجب. وإن وقع هذا في نوبة العبد، والتفريع على أن التبرع يقع (1) له لو خُوطب به كله، فإذا خوطب به نصفه الحر، ففي صحة ذلك وجهان: أحدهما - الفساد لاختلال اللفظ والمعنى، أما اللفظ فبيّنٌ، وأما المعنى، فلا يتصور أن يتّهب نصفٌ، وهذا الشخص في نوبته يتهب بنصفيه، ولكن نصفه الرقيق في نوبته عوضٌ عن نصفه الحر في يوم سيده. والوجه الثاني - أن الهبة تصح؛ فإن [قرار] (2) الملك بالحرية، وهي متبعضة بمخاطبة الجزء الحُرّ [منه] (3) مخاطبة للمالك؛ فإنّ النصف الرقيق منه لا يملك لنفسه. وللمسألة الآن التفاتٌ في الوصية على ما إذا قبل الموصى له بعضَ الوصية، وليست المسألة كتلك (4)؛ فإن ما ذكرناه يجري في الوصية والهبة، وتبعيض القبول يختص بالوصية؛ فإن من قال لشخص (5): وهبت منك هذا العبد، فقال المخاطب: قبلتُ الهبةَ في نصفه، لم يصح وفاقاً. وقد نجزت المسألة، ولم نغادر ما تمس الحاجة إلى ذكره، إن شاء الله تعالى. 7505 - مسألة: السيد إذا أوصى لعبده القنِّ بثلث ماله، فإن نص على إدخال ثلث [رقبته] (6) في الوصية، دخل فيها، وإذا قبل الوصية عَتَق ثلثُه ولا يسري العتق، وهذا أصلٌ جارٍ في العتق الوارد (7) على بعض العبد بعدَ موت الموصي بالعتق؛ فإن العتق

_ = ألا تختص الهبة والوصية، وإن وقع ذلك في نوبة السيد، بطلت أيضاً، فإن هذا على مناقضة الواجب. وإن وقع في نوبة العبد، فإن كان ثم مهايأة، فإن وقع ذلك العبد والتفريع. (1) سقطت من (س). (2) في الأصل: إقرار. (3) في الأصل: به. (4) (س): كذلك. (5) (س): قال لشخص: وهبته منك هذا العبد. (6) في الأصل: وصيته. (7) عبارة (س): العتق الوارد على بعض الموت الموصي بالعتق.

إنما يسري على موسرٍ، والميت معسر وإن خلَّف وَفْراً كثيراً، ومالاً جمّاً، ولا (1) يجوز صرف الثلث إلى رقبته بالكلية، وإن وفّى الثلث بقيمته وزاد؛ لأنه أوصى له بثلث ماله، فيستحق الثلث في كل صنف على مقتضى الوصية، ولا يجوز صرف حصتِه (2) من جميع الأصناف إلى رقبته؛ فإن ذلك لو قدرناه، لكان مخالفاً لصيغة الوصية، فيعتِق إذاً [منه] (3) ثلثه، وتبقى الوصية له، وبعضه حر وبعضه رقيق للورثة [فما يقابل] (4) الرقيق منه تبطل الوصية فيه. وفي بطلان الوصية فيما يقابل الجزء الحر منه ما قدمناه في المسألة المتقدمة على هذه (5)، واختيار (6) الشيخ القطعُ ببطلان الوصية فيما يقابل الحرية [تخريجاً] (7) لذلك على منع توريث من بعضه حر، وقد أوضحنا وجه الاحتمال، وطريقَ الفرق بين الميراث وبين الوصية. 7506 - [ومما] (8) يتعلق بما نحن فيه أن من أوصى بأن يُعتَق عبدٌ عينه من عبيده، ووفَّى الثلث به، فالوصية تنفذ، ولا حاجة إلى قبول العبد؛ فإن الغالب في العتق حق الله تعالى، والعبد المعين لا يملك إبطال حق الله، فلا حاجة إلى قبوله؛ إذ لا ترتدّ الوصية بردّه. ولو قال: أوصيت لعبدي هذا برقبته، فمآل هذه الوصية أن [يَعتِق] (9)، فهل يُشترط قبول العبد؛ فإنّ سبيل حصول العتق في هذه الجهة أن يملك العبد رقبته ويعتِق؛ هذا فيه تردّد تلقيتُه من فحوى كلام الأئمة؛ فيظهر أن نقول: لا حاجة إلى

_ (1) (س): فلا. (2) (س): حصة. (3) في الأصل: فيه. (4) في الأصل: فالقابل. (5) (س): على هذا. (6) واختيار (الواو زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين). (7) في الأصل: يجري. (8) في الأصل: وفيما. (9) في الأصل: يعين.

قبوله، لما ذكرناه من أن مقصود هذه الوصية إعتاقُه، فصار (1) كما لو أوصى بأن يُعتق. ولا يمتنع أن يقال: الوصية تتوقف على قبوله، وهذا الوجه أفقه، ووجهه أنه لم يوصِ بتحصيلِ العتق، ولكنه أوصى لعبده بملك رقبته، فليس العتق في مقصود الوصية مطلوباً للموصي على جزمٍ، وكأنه قال: "إن اختار عبدي قبولَ الوصية عَتَقَ بالوصية"، وإن لم [يقيّد] (2) باختيار القابل؛ فهي في وضعها مقيدةٌ بذلك شرعاً. وهذا التردد الذي ذكرته يجري في الوصية للعبد بثلث المال، مع التصريح بإدخال رقبته في الوصية، فيجوز أن نقول: يعتق ثُلثه من غير قبول؛ فإن الوصية في رقبته عتاقةٌ محضة، ويجوز أن نقول: لا بد من قبوله، وإن ردّ الوصيةَ، ارتدت وكان رقيقاً للورثة. وكل ما ذكرناه فيه إذا أوصى لعبده بثلث ماله، وصرح بإدخال ثلث رقبته في الوصية. 7507 - فأما إذا أطلق الوصية له بثلث ماله، ولم يتعرض لإدراج رقبته تحت مقتضى وصيته، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب بعضهم إلى أن ثلث رقبته يدخل في الوصية، وهذا اختيار ابن الحداد، ووجهه أن اسم المال يتناول رقبة العبد؛ فإنه من ماله، فأشبه ما لو صرّح بإدخال رقبته في الوصية، وقد تقدم بيان المذهب فيه (3). ومن أصحابنا من قال: لا تدخل رقبته في الوصية؛ فإن المخاطب لا يدخل فيما هذا سبيله تحت الخطاب، فإذا قال: أوصيت لك (4)، اقتضى ذلك أن يكون الموصى به غيرَ الموصى له، وهذا في إطلاقه يمنع دخوله تحت الموصى به، وهو كما لو قال لوصيّه: اصرف ثلث مالي إلى الفقراء، فلو كان الوصي (5) فقيراً، لم يجز له أن يأخذ من الثلث شيئاً.

_ (1) (س): فيصير. (2) في الأصل: وإن لم يقاتل. (3) ساقطة من (س). (4) (س): لكن. (5) (س): الموصي.

ومن نصر الوجهَ (1) الأول، انفصل عن هذه المسألة بأن قال: الصرف يقتضي إقباضاً من الوصيّ (2)، وقبضاً من الآخذ، وذلك لا يتأتى من الوصي في حق نفسه، والوصية بالملك لا تقتضي قبضاً وإقباضاً. فإن قلنا: يدخل ثلث العبد تحت الوصية المطلقة، عَتَقَ الثلث منه، فكان الكلام في باقي [العبد] (3) على ما تقدم. وإن قلنا: لا يدخل ثلثه في الوصية، فلا يعتِق شيء منه، وإذا لم يعتق، وقعت الوصية بكمالها للورثة، فبطلت. 7508 - مسألة: إذا كان بين رجلين عبدان مشتركان لكل واحدٍ [منهما] (4) النصفُ من كل عبد، وقيمة كل عبدٍ ألفُ درهم، فأعتق أحد الشريكين في مرضه نصيبه من العبدين، وكان ثلث مال هذا المريض ألفا وخَمسَمائة، فقد استوفى بالإعتاق من ثلثه ألفاً، وبقي إلى تمام الثلث خَمسمائة، ومحل تصرفه ثلثُه، وهو في مقدار ثلثه موسرٌ في تبرعاته، فلا بدّ من تسرية عتقه في مقدار خمسمائة، ولا مزيد؛ فإنه فيما وراء الثلث معسرٌ، وعتْق المعسر لا يسري، فإذا ثبت ذلك، فكيف يسري هذا (5) المقدار؟ أنفضُّه على العبدين أم نُقرع بينهما، ويحصل تمام العتق لأحدهما؟ قال ابن الحداد: نَفُضّ العتق على العبدين، ولا نقرع. وقال في مسألةٍ تُداني هذه بالإقراع. وصورتها كما ذكرناها، غيرَ أنه لم [ينجز] (6) الإعتاق في مرضه، بل أوصى بإعتاق

_ (1) (س): القول. (2) (س): الموصي. (3) في النسختين: في باقي الثلث. (4) سقطت من الأصل. وفي (س): منهم. (5) (س): فكيف يسري؟ أنفضه. (6) في الأصل: يجز.

نصيبه من العبدين بعد موته [وأوصى] (1) بتكميل [العتق] (2) فيهما، وردّ الورثة الزائد على الثلث، فيعتِق نصيبه، ويسري مقدارُ خمسمائة، ثم قال في هذه الصورة: نقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، [نكمل العتق فيه، وقد تم الثلث، فيعتق عبدٌ كامل، ويعتق النصف] (3) تنجيزاً من الثاني. فاختلف أصحابنا في المسألتين: فمنهم من قال: لا فرق بينهما، وفيهما جميعاً وجهان: أحدهما - أنا نفضُّ السراية إلى تمام الثلث عليهما؛ لأن المقتضي للسراية قد تحقق فيهما جميعاً، فليس أحدهما أولى بسراية العتق فيه من الثاني. والثاني - أنا نقرع بينهما؛ فإن مذهب الشافعي رضي الله عنه جميعُ (4) العتق بالقرعة، وسراية العتق لا تزيد على إنشاء العتق، ولو أعتق ثلاثة أعبدٍ لا مال له غيرهم؛ فإنا نردّ بالقرعة العتقَ إلى واحدٍ، إذا استوت قيمتهم، ونعتق واحداً، ونرق اثنين، وإن كان ذلك مخالفاً لقصده، وقد أثبت لكل واحد منهم حقّاً في العتاقة (5)، فلم نعتبر قصدَه، وحكّمنا القرعة، فلتكن السراية بهذه المثابة. ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على جوابي ابن الحداد فيهما، فقال في إنشاء العتق في النصيبين: نفضّ السراية إلى تمام الثلث على العبدين، ونقرع في مسألة الوصية بالإعتاق والتكميل، والفرق عند هذا القائل بين المسألتين أنه إذا أعتق نصيبه من العبدين، فليس له في تكميل العتاقة قصدٌ [وإنما] (6) السراية حكمٌ ينفذ عليه، وإن لم يُردْه، فليس أحدُ العبدين أوْلى به من الثاني، وإذا أوصى بإعتاق نصيبه من العبدين، وأوصى بالتكميل، فقد ظهر قصدُه في تكميل العتاقة، ولم يمكن ذلك في

_ (1) زيادة من (س). (2) في الأصل: العدّة. (3) ما بين المعقفين زيادة من (س). (4) كذا في النسختين. ولعل صوابها: (تنفيذ أو تحقيق). والمعنى أن مذهب الشافعي اعتماد القرعة -عند الإبهام- في العتق. (5) (س): في الوصية. (6) في الأصل: قصدوا بالسراية.

العبدين إذا ردّ الورثة الزائد على الثلث، [فكان] (1) التكميل في أحدهما [قريباً من] (2) مقصوده، ولم يوجد من المعتِق في المرض ذلك القصد. وهذا ضعيفٌ، لا ثبات له، ولا يتجه على مذهب الشافعي رضي الله عنه إلا التوصل إلى إكمال العتق في أحدهما بطريق القرعة في الصورتين جميعاً. قال الشيخ رضي الله عنه: لو قال المريض في الصورة التي صورناها: أعتقت العبدين، وعبر عن إعتاقهما جميعاً، فالوجه تنزيل هذه المسألة على حكم مسألة الوصية؛ فإنه لما أعتقهما، ظهر قصدُه في طلب كمال الحرية، فكانت هذه الصورة (3) بمثابة ما لو أوصى بتكميل العتق فيهما، ولو كان ثلثه بحيث لا يفي بتكميل العتق في أحد العبدين. ولو صرفنا تمام ثلثه إلى أحدهما، لم يكمل عتقه، فيجوز أن يقال: إذا تصورت مسألة الوصية بهذه الصورة، فالعتق إلى تمام الثلث [مفضوضٌ] (4) على العبدين؛ فإنا لا نستفيد بتخصيص العتق بأحدهما إكمالَ [إعتاقه] (5). هذا منتهى القول في ذلك. 7509 - ومن تمام البيان فيه أنا لما صوّرنا المسألة في الوصية، وأردنا تصوير السراية، لم نجد إليها سبيلاً؛ فإن العتق الوارد بعد الموت على بعض العبد لا يسري على الميت قط، لما حكمنا به من أن الميت بمثابة الحي المعسر. ومن لطيف القول في ذلك أن الثلث محلّ تصرف الميت في [مرضه] (6) وبعد

_ (1) في الأصل: وكان. (2) في الأصل: "فكان التكميل في أحدهما قوياً وهو مقصوده" و (س): قويّاً من مقصوده، والمثبت تصرفٌ من المحقق. عسى أن يكون صواباً. (3) (س): المسألة. (4) في الأصل: منصوص. (5) في الأصل: إضافة. (6) في الأصل: فرضه.

موته، وقد يتخيل [الفطن] (1) [تسرية] (2) العتق إلى تمام ثُلثه، وليس الأمر كذلك؛ فإنه [لو] (3) لم يوصِ ولم يتبرع، لكان ثُلثه لورثته، فإنما يكون الثلث محلاً لتبرعاته إذا أنشأها؛ فإذا لم يوجد منه إنشاء تبرع، فباقي ثلثه ملكُ ورثته. وهذا حسنٌ بالغ. 7510 - مسألة: إذا ملك ثلاثة أعبد قيمة كل واحد ألف، ولا مال له سواهم، ْوقال: أعتقوا بعد موتي من كل عبد نصفَه، فقد زادت الوصية على الثلث، فإن أجازها الورثة، نفذت، وإن ردّوها، رُدّت الوصية إلى مقدار [نصفي] (4) عبدين، ويتميز ذلك بالقرعة، فنقرع (5) بينهم، كما سيأتي تفصيل القرعة في كتاب العتق إن شاء الله عز وجل، فإذا خرجت قرعة الحرية على واحدٍ، عتق نصفه ورق باقيه، فإذا خرجت قرعةٌ أخرى على عبد آخر، عَتَق نصفُه ورق باقيه، ورق العبد الثالث بكماله. وهذا الذي ذكرناه يستند إلى أصلين: أحدهما - أن العتق الوارد على بعض العبد لا يسري على (6) الميت، هذا أصلٌ متفق عليه، كما [تكرر] (7) تقريره وتعليله. والأصل الثاني - أنا لا نجمع نصفي عبد [من] (8) عبد، حتى نعتق عبداً كاملاً، ونرق [عبدين] (9) والسبب فيه أنه لم يتعرض لطلب إكمال العتق، حتى يتوصل إلى ذلك، ولو في عبد واحد، وليس كما إذا قال: أعتقوا العبيد الثلاثة، فإنا نعتق واحداً، ونرق اثنين إذا استوت قيمتهم.

_ (1) في الأصل: النظر. (2) في الأصل: قرية. (3) زيادة من (س). (4) فى الأصل: وصفية. (5) قال النووي: هذا هو الأصح (ر. الروضة: 6/ 206). (6) على الميت (ساقط من س). (7) في الأصل: تقدّر. (8) في الأصل: في. (9) في الأصل: عبديه.

ولو أعتق في مرض (1) موته أنصاف هؤلاء العبيد الثلاثة، ثم مات من مرضه، لا مال له غيرُهم، قال الأئمة: نقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رِقّ، فنُعتق منه عبداً كاملاً، ونرق عبدين، ولا نظر إلى ذكره (2) الأنصاف (3)؛ فإن المالك إذا ذكر العتق في البعض، كان كما لو وجه العتق على كمال العبد. ولو أعتق العبيد الثلاثة تنجيزاً، ورُدت الوصايا إلى الثلث؛ فإنا نعتق واحداً، ونرق اثنين، وليس كذلك إذا أوصى بإعتاق أنصاف العبيد بعد موته؛ فإن الإعتاق في الأنصاف مضاف إلى وقت لا يتصور سريان العتق فيه، ولا [يتعدّى] (4) ما وراء الثلث إلى ملك من يقع العتق عنه. والقول الوجيز فيه: أن إنشاء العتق من المريض في البعض بمثابة تنجيز العتق في الكل. هكذا ذكره الشيخ، وهو متَّضح، ولم أر فيما ذكره خلافاً للأصحاب. ولو كان له عبدان لا مال له سواهما، فقال: أعتقوا من هذا نصفه، ومن هذا ثلثه بعد موتي، وقيمة كل عبد ألف، فقد زاد على الثلث، فنقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على صاحب النصف، عتق نصفه، وعتق من الآخر سدسه، وقد تم الثلث. وإن خرجت القرعة على صاحب الثلث عتق ثلثه، وعتق من صاحب النصف ثلثه، وقد تم الثلث. ولو قال في مرض موته: أعتقت من هذا نصفه، ومن هذا ثلثه، فهو كما لو قال: أعتقتكما؛ فإن العبارة عن الثلث في حق المريض بمثابة توجيه العتق على الجميع، ولو قال: أعتقتكما، أقرعنا سهماً، فمن خرجت قرعته، عتق فيه ثلثاه، ورق ثلثه، ورقّ العبد الآخر بكماله.

_ (1) (س): في مرضه. (2) (س): إلى ما ذكره من الأنصاف. (3) وهذا هو الذي قاله النووي (ر. الروضة: 6/ 206). (4) في الأصل: يعز.

7511 - مسألة: إذا أوصى لرجل ببعض عبدٍ، والعبدُ ممن لا يعتق على الموصى له، ولكن كان بحيث (1) يعتِق على وارثه، فلو مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل قبول الوصية، فالوارث بالخيار، إن شاء قبل الوصية، وإن شاء ردّها، فإن قبلها عَتَقَ عليه ذلك الجزء الموصى به، وهل يسري العتق إلى الباقي إذا كان الوارث القابل موسراً؟ هذا يستند إلى أصلٍ سيأتي استقصاؤه في كتاب العتق -إن شاء الله تعالى- وهو أن من ورث في صحته نصفاً من ابنه، وعتَقَ عليه، لم يسر العتق إلى الباقي وإن كان الوارث موسراً؛ لأنه لم يتسبَّب إلى تحصيل الملك في المقدار الذي عتق عليه، فيبعد أن يلزمَه غرمٌ في الباقي، وإذا بعُد تغريمه، امتنعت السراية؛ فإنها من غير غُرم محال. ولو اشترى النصفَ ممن يعتق عليه، وجرى القضاء بنفوذ العتق فيه، فالعتق يسري إلى باقيه إن كان المشتري ذا وفاءٍ بقيمة الباقي، والسبب فيه أنه أقدم على تحصيل الملك [قصداً بمسلك وُضِعَ لجلب] (2) الملك مباشرة من غير تخلل واسطة. ولو اشترى المكاتب ابنَ سيده، ثم عجز عن أداء النجوم، فردّه مولاه إلى الرق، فلا شك [أن] (3) ابن السيد يعتِق عليه لدخوله في ملكه، فلو كان اشترى المكاتَب نصفَ ابن سيده، ثم جرى التعجيز، والإرقاق وعَتَق عليه ذلك النصف، فهل يسري العتق إلى باقيه؛ فعلى وجهين: أحدهما - يسري؛ لأن سبب الملك إرقاق المكاتب ورده قِنّاً، وذلك جرى باختيار السيد، فأشبه ما لو اشترى النصف من ابنه. والوجه الثاني - أن العتق لا يسري؛ فإن الملك في بعض الولد ليس مقصوداً في عينه، وإنما جرى القصد في الإرقاق، ثم ترتب عليه انقلاب أكساب المكاتب إليه، ولهذا نظائر ستأتي مشروحة -إن شاء الله- فيما نذكره (4)، وهو:

_ (1) (س): ممن يعتق. (2) في الأصل: قصد المسلك موضع بجلب. (3) ساقطة من الأصل. (4) (س): ومما نذكره مسألة ابن الحداد.

7512 - مسألة ابن الحداد: من أوصى لإنسان بنصف عبد، وكان ذلك العبد ممن يعتِق على وارث الموصى له، فمات الموصي، ومات الموصى له، وقَبِل الوارثُ الوصية، فهذا يخرّج على أن وارث الموصى له إذا قبل الوصية، فالملك يحصل للموصى له، ثم ينتقل إرثاً إلى الوارث، أم يحصل الملك للوارث ابتداء؟ وقد ذكرنا تقرير ذلك على أبلغ وجه في البيان. فإن فرعنا على الأصح وهو أن الملك يحصل للموصى له، ثم ينتقل إرثاً إلى الوارث، فإذا نفذ العتق في ذلك المقدار الموصى به، فهل يسري؟ فعلى الوجهين المقدمين؛ فإنه قد قصد واختار، ولكن لم يقع الملك له من غير واسطة، بل تضمّن قبولُه تحصيلَ الملك للموصى (1) له، ثم ترتب عليه انتقالُ الملك إليه، فالتحق هذا بمسألة المكاتب وما في معناها. وهذه المسائل تدار على ثلاث صور: إحداها - ألا يكون لمن يعتِق عليه اختيار أصلاً، فإذا جرى مثل هذا في البعض وعتِق، لم يسر. والصورة الثانية - أن يختار مباشرة التملك، كما إذا ابتاع البعضَ من [ولده] (2) أو اتهب، فإذا عتِق عليه، سرى إذا كان موسراً. والصورة الثالثة - أن يختار سبباً يُفضي إلى حصول الملك بواسطة، فإذا حصل العتق، ففي السريان وجهان. وإن قلنا: وارث الموصى له يملك الموصى به من غير تقدير إرث، فهذا يلتحق بما إذا اتهب البعض من [ولده] (3) أو اشتراه. 7513 - مسألة: إذا قال: أعتقوا فلانة بعد موتي، أو قال: إذا مت، فهي حرة، وكانت حاملاً ولم يستثنِ حملَها، ولا تعرض له، فإذا أعتقت الجارية بعد موته، والحملُ جنين، قال الشيخ أبو علي: يسري العتق إلى الحمل إذا وسع الثلث.

_ (1) (س): تحصيل الملك له. (2) في الأصل: داره. (3) في الأصل: داره.

فإن قيل: لو أوصى بإعتاق قسط من عبده، نفذ (1) العتق فيه، ولم يسر، مع أن وضع العتق على السريان، ولو أعتق أحدُ الشريكين نصيبَه من عبدٍ مشترك، وكان موسراً، نفذ العتق إلى نصيب صاحبه، ولو كانت الجارية الحامل ملكاً لزيد وكان حملها ملكاً لآخر، [فإن] (2) فرضت الوصية بالجارية لزيد وبحملها لعمرٍو، فإن أعتق [مالك] (3) الجاريةِ [الجاريةَ] (4) لم يسر العتقُ إلى الولد. فإذا كان لا يسري العتق في البعض في حق الميت إلى باقي العبد، مع أن العتق يسري إلى ملك الغير، فكيف يسري العتق من الأم إلى الحمل، مع أن عتق الأم لا يسري إلى الولد المجتنّ في البطن؟ أجاب الشيخ عن هذا، [بأن] (5) قال: العتق لا ينفذ في الحمل على مذهب السريان، ولكن اسم الجارية يتناول التي سماها مع جنينها، ولهذا يشتمل البيع الوارد على الأم الحامل على حملها. هذا قول الشيخ، وقد قدمت لبعض الأصحاب أن الوصية بالجارية مطلقاً لا تتضمن الوصية بحملها (6)، وإذا كان كذلك، فيخرج من هذا أن الوصية بإعتاق الجارية يجوز ألا يتناول ولدَها، وقد بطل (7) السريان على الميت، فينتظم منه أن العتق لا يتعدى إلى (8) الحمل، وهذا متجه، وإن قطع الشيخ بما ذكرناه. 7514 - ولو كانت الجارية حاملاً، وقال: أعتقوا عيْنَ (9) هذه دون حملها، فاستثنى الحملَ مصرحاً [ناصّاً] (10) فإذا أعتقت الجارية، فهل يعتِق ولدُها؟ ذكر الشيخ

_ (1) (س): تعدى. (2) في الأصل: بأن. (3) في الأصل: بمالك. (4) مزيدة من (س). (5) في الأصل: وقال. (6) (س): بجملتها. (7) (س): يبطل. (8) (س): على. (9) (س): عنى. (10) زيادة من (س).

أبو علي وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أنه لا يعتِق ولدُها، وهو المذهب المبتوت الذي يبعد عن القياس غيرُه؛ فإنا إن قلنا في صورة الإطلاق: يعتِق الولدُ لاشتمال الاسم على الحمل، فهذا لا يتحقق مع التصريح باستثناء الحمل، وقد ذكرنا أن السريان لا سبيل إلى الحكم به في حق الميت. والوجه الثاني - أن الولد يعتِق، وإن استثناه إذا اتسع الثلث، كما سنصف التفصيل فيه -إن شاء الله- ووجهه أن الحمل بمثابة عضو من الأم في قواعدَ، أَوْلاها بذلك العتقُ، لما له من السلطان، فاستثناؤه ينزل منزلة استثناء عضو منها، بعد توجيه العتق عليها، مثل أن يقول: أعتقت هذه إلا يدها. ولو قال لجاريته الحامل بولد رقيق في مرض موته: أنت أو حملُك حر، فردّد العتقَ بين الأم وبين الولد، قال الأئمة: نقرع بعد موته بين الحمل وبين الأم؛ فإن خرجت القرعة على الحمل عتَق واقتصر العتق عليه؛ فإن المذهب الأصح الذي نقله المعتبرون أن العتق لا يسري من الحمل إلى الأم بخلاف الأعضاء؛ فإن المالك لو وجه العتقَ على عضو من مملوكه، عتق المملوك، كما سيأتي مشروحاً في كتاب الطلاق، إن شاء الله تعالى - فإن خرجت القرعة على الأم عَتَقت. والمسألة مفروضة فيه إذا كان الثلث يسع الأم والولدَ جميعاً معاً، فإذا عتقت والثلث يتسع (1)، فهل يعتق الحمل؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا أوصى بإعتاق الأم واستثنى الولد، وذلك أن ترديد العتق بين الأم والولد يتضمن ألا يجمع العتق فيهما. فإن قلنا: الحمل لا يعتق، فوجهه اتباع قول المريض، وإن قلنا: إنه يعتق، فوجهه تنزيله (2) منزلة عضوٍ من الأم في العتق الغالب، وهذا يقتضي أن يسري العتق من الحمل إذا وجه عليه إلى الأم، كما ينفذ العتق الموجه على طرف من أطراف المملوك، ولم يصر أحدٌ من أئمة المذهب إلى ذلك، إلا الشيخ أبو بكر الطوسي (3)

_ (1) (س): متسع. (2) (س): بين منزلة. (3) الشيخ أبو بكر الطوسي، هو محمد بن بكر بن محمد أبو بكر الطوسي النَّوْقاني كان إمام أصحاب الشافعي بنيسابور، كان إمام العلم والعمل، عرف بالتقوى والزهد، والرغبة عن =

رحمه الله [فإنه] (1) قال: يسري العتق من الحمل إلى الأم. وهذا فيه ضعفٌ؛ فإن انفراد الحمل بالحرية ليس بدعاً، والأمَةُ الرقيقة قد تَعْلق بولدٍ حر، وإنما يجب الحكم بنفوذ العتق إذا وُجّه على طرفٍ؛ لأنه لا يتصف (2) بالعتق، ففي ترك التسرية (3) تعطيل العتق، والحمل يعتق، وليس جزءاً شائعاً من الأصل. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الثلث يسع الأمَّ والحمل. 7515 - فأما إذا خرجت القرعة على الأم واحتملها (4) الثلث وحدها، ولم [يحتمل] (5) حَمْلها، فإن قلنا: إن الحمل لا يعتِق إذا اتسع (6) الثلث واحتملها، فلا إشكال، فيقتصر العتق على الأم، وإن قلنا: العتق يسري إلى الولد [إذا اتّسع] (7) الثلث وإن استثناه صريحاً، ففي هذه الصورة وقد ضاق الثلث وجهان: أحدهما - أنا نعتق من الجارية مع الحمل ما يسعه الثلث، فيعتق منها مقدارٌ، ومن حملها مقدار، بحيث لا يزيد المقداران على الثلث، وذلك بأن نقوّمها حاملاً، ثم نرِق منها ومن ولدها ما يزيد على الثلث. والوجه الثاني - أن الأم تعتق دون الحمل، وإن كنا نرى التسرية إلى الحمل، فنضطر (8) هاهنا إلى ترك التسرية؛ فإن الحمل يقع وراء الثلث، ولا يتعدى تبرع

_ = الحياة وكراهية الدخول على السلاطين، تفقه به جماعة منهم الأستاذ أبو القاسم القشيري، نقل عنه الرافعي في الإجارة، بهذا اللقب، فقال: "وعن الشيخ أبي بكر الطوسي" ونقل عنه في الجنايات، وفي القصاص. توفي بنوقان في 420 هـ أربعمائة وعشرين للهجرة. (ر. طبقات الفقهاء: 132، وطبقات السبكي: 4/ 121، وطبقات الإسنوي: 2/ 157). (1) في الأصل: بأنه. (2) (س): لا ينصرف. (3) (س): التسوية. (4) (س): أو حملها الثلث وحدها. (5) في الأصل: يحصل. (6) (س): امتنع. (7) في الأصل: إذ لا يتسع الثلث. (8) (س): فيه ظهر هنا إلى ترك ..

المريض إلى [ما] (1) يقع وراء الثلث، فالحمل إذاً بمثابة الحمل الحر، ولو كانت حاملاً بولدٍ حُرٍّ، لنفذ العتق فيها ولا معنى لنفوذه في حملها وهو حر الأصل. وقد نجز الغرض من المسألة. 7516 - مسألة: الرجل إذا كانت له جاريةٌ مملوكة، ولتلك الجارية ابنان حرّان: أحدُهما من سيدها، وكانت علقت به حراً من السيد قبل أن ملكها، بأن نفرض وطء شبهة، أو وطئاً في نكاح على حكم الغرور، والولد الثاني كان من غير السيد -وتصويره سهل- فلو أوصى بهذه الجارية للابن الذي ليس منه، ومات الموصي وخلّف ابنه منها وارثاً، فإن كان الثلث يحمل الجارية، فلا يخلو إما أن يقبل الموصى له الوصية، وإما أن يردّها، فإن قبلها، عتِقت عليه؛ فإنها أمه دخلت في ملكه، وإن ردّ الوصية، عتقت أيضاً على ابنها من سيدها. ولو كان الثلث لا يحتمل خروجها، فالابن الوارث لا يخلو إما أن يجيز الزائد على الثلث، وإما أن يردّ الزيادة: فإن ردّ الزيادة على الثلث وقبل الموصى له القدرَ الخارج من الثلث، فيعتق على الموصى له القدرُ الذي صحت الوصية فيه، ويعتِق على ابن السيد منها باقيها. هذا إن أراد الوارث ردَّ الزائد على الثلث. وإن أراد أن يجيز الوصية بكمالها، فقد قال الشيخ أبو علي رضي الله عنه: هذا يخرّج على أن الإجازة ابتداء عطية من المجيز أم تنفيذ وصية؟ وفيه قولان، فإن قلنا: إنها ابتداء عطية، فلا يجد الابن الوارث إلى إجازة الوصية في الزيادة سبيلاً؛ لأن حقيقة هذا القول أن الزائد على الثلث دخل في ملكه قطعاً، وإذا دخل عتق (2)، فلا يتأتى ابتداء العطية فيما ملكه وعَتَق عليه. وإن قلنا: الإجازة تنفيذ وصية، فإذا أجاز الابن الوارثُ، صحت الوصية، ونفذت بكمالها على الابن الموصى له إذا قبل الوصية، وتعتِق عليه لا محالة.

_ (1) في الأصل: لما. (2) (س): ملك.

وهذا فيه سرٌّ (1) يجب التنبّه له، وهو أن قائلاً لو قال: إذا منعنا ثبوت الخيار في شراء من يعتق على المشتري، فكأنا حسمنا مسلك ردّ الملك والعتق، وهذا القياس يقتضي أن نقول: لا يتخير الابن الوارث في إجازة الوصية، بل يعتِق عليه بعضُها، وتنقطع الخِيَرةُ، وهذا إن قيل به، فليس ببعيد. ولكن سرّ الفقه ما ذكره الشيخ، وهو أن الإجازة تنفذ على قولنا: إنها (2) تنفيذ وصية، فإن معنى هذا القول أنّا عند الإجازة نتبيّن أن الوصية بكمالها نفذت من الموصي، [إلا] (3) أن ذلك القدر الزائد يدخل في ملك المجيز، ثم يخرج بالإجازة، وسبيل تخيّره في الإجازة كسبيل تخير الإنسان في اتّهاب من يعتق عليه إذا وهب منه. هذا تمام البيان في ذلك. 7517 - ولو كان للرجل جاريةٌ، ولها ابن حرٌّ من غيره، وللسيد أخٌ، أو وارثٌ غيرُه، بحيث لا تعتِق الجاريةُ عليه، فإذا أوصى بالجارية لابنها، فلو لم [تخرج] (4) الجارية من الثلث، فاعتق الوارث القدر الذي لم يخرج من الثلث من الجارية، وقبل الموصى له الوصية، قال ابن الحداد: نفذ العتق على الموصى له، ولم يسْرِ العتق في حق واحدٍ منهما، بل ينفذ إعتاق الوارث في الزائد على الثلث إنشاءً، ويعتِق على الموصى له ما قَبِل الوصية فيه. هكذا قاله الشيخ أبو علي (5). قال الأصحاب: ما ذكره من نفي السراية من الجانبين مطلقاً غيرُ سديد، والوجه تخريج المسألة على القولين في أن الملك في الموصى به متى يحصل (6)؟ فإن قلنا: يحصل مستنداً إلى موت الموصي، فعلى هذا يعتق على الموصى له قدرُ الوصية، ويسري عتقه إلى نصيب الورثة؛ فإن وقوع العتق تبيناً (7) يتقدم على إعتاق الوارث،

_ (1) (س): بحث. (2) (س): على قولنا: وصية. (3) في الأصل: ولا. (4) في الأصل: يجز. (5) قاله الشيخ أبو علي: أي نقلاً عن ابن الحداد في شرح الفروع. (6) عبارة (س) فيها خرم واضطراب: "في الملك في الموصى له متى يحصل مستنداً إلى ... ". (7) ساقطة من (س).

والمسألة مفروضةٌ في بيان (1) الموصى له والوارث جميعاً. وإن قلنا: إن الملك يحصل عقيب القبول، فينفذ عتق الوارث في قدر الزيادة، ويسري عتقه إلى نصيب الوصية؛ إذْ (2) لم يثبت في الوصية حق العتق بعد، فإذاً تثبت السراية على القولين، على خلاف ما قاله ابن الحداد، ولكن يختلف المذهب فيمن يسري عتقه، كما اقتضاه التفريع. ثم إذا سرّينا عِتْقَ الوارث، فإنه يغرم للابن قيمة مقدار الوصية، وهذا يقع بدْعاً؛ فإن قيمةَ الأم غُرمت له، ولم تعتق عليه، والسبب فيه أن قبوله صادف الغُرْم، والقيمةُ لا تقبل العتق. 7518 - ثم ذكر ابن الحداد على الاتصال بهذا مسألةً وأجاب فيها بجواب يخالف جوابه في هذه المسألة، فقال: لو أْوصى بعبدٍ لمن يعتِق عليه ولأجنبي، لكلِّ واحدٍ منهما النصفُ، فإن قبلا معاً، عتق نصيب الابن، وسرى عتقُه إلى الذي هو للأجنبي، إذا كان الابن موسراً، وكذلك إن قبل الابن نصيبه أولاً، فيعتِق نصيبه ويسري العتق إلى نصيب الأجنبي، ثم إن قبل الأجنبي الوصيةَ، فعلى الابن قيمةُ نصيبه، وإن ردّ الأجنبي الوصيةَ، ارتد نصيبه إلى الوارث، فيغرَم للوارث قيمةَ نصف العبد (3). قال: ولو قبل الأجنبي أولاً نصيبه، وأعتقه إنشاء، ثم قبل الابن نصيبه، فهذا يخرّج على القولين في أن الملك متى يحصل للموصى له؟ فإن قلنا: إنه يحصل له الملك عقيب القبول، فقد نفذ إعتاق الأجنبي في نصيبه، وسرى إلى نصيب الابن، ويغرَم للابن قيمةَ نصيبه. وإن قلنا: إن الملك يستند إلى [مَوْت] (4) الموصي، فعلى هذا إذا قبل الابن،

_ (1) "بيان" سقطت من (س). (2) (س): أو لم يثبت. (3) ويغرم للوارث قيمة نصف العبد: هذا يقع بدْعاً على حدّ تعبير الإمام الذي مرّ آنفاً، والسبب فيه أن ردّه صادف نصف القيمة، والقيمة لا تقبل العتق. (4) في الأصل: "ثبوت".

بان أنه عتَق نصيبه بعد الموت، وسرى العتق إلى نصيب الأجنبي. هذا تفريع ابن الحداد على القولين أجراه على السداد، ولم يتعرض له في المسألة السابقة. وهذا زلل غريب؛ فإنه أغفل أصلاً، ثم ذكره وفرّع عليه على الاتصال، ولم يستدرك، ولم [يُسَبِّب] (1) بفرقٍ، وكيف نقدر الفرق في تفريعِ أصلٍ واحد!! 7519 - مسألة: إذا أوصى بعبدٍ لأبيه الحرّ أو لابنه، ومات الموصي، ثم مات الموصى له قبل قبوله الوصية، وخلّف ابنين. فإن ردّا الوصية، فلا كلام. وإن قبلا، فظاهر المذهب أن الملك يحصل للمتوفى الموصى له، فعلى هذا يعتِق العبد على المتوفى، لأنه يدخل في [ملك من] (2) يعتِق عليه. هذا هو المذهب. قال الشيخ: قد ذكر بعض أصحابنا: أنه لا يصح قبولهما، ولا قبولُ أحدهما؛ فإنا لو صححنا القبول، لحكمنا بالعتق على الموصى له، ولو عتق عليه، لثبت له الولاء، ولكان الورثة قد أَلْزَموه الولاء من غير اختيارٍ فرطَ منه في حياته، وهذا الوجه ضعيف. هذا إذا قبلاه أو ردّاه. فأما إذا قبل أحدهما الوصيةَ وردّ الثاني، فالذي ذكره الأصحاب أن القدر الذي قبله يعتِق على الميت. ثم إن كان في يد القابل من التركة ما يفي بالسراية، سرى العتق فيه، وبذل القابل القيمة مما في يده، وينفذ العتق على الميت [في] (3) هذه الصورة ابتداءً وسرايةً. هكذا ذكره الأصحاب. ولو لم يكن في يده من التركة شيء أصلاً، فلا يسري العتق. ثم قالوا: يعتبر في ذلك ما في يد القابل من التركة، ولا يعتبر ما في يد صاحبه؛ فإنه ردّ الوصية، ولم يختر قبولَها.

_ (1) في الأصل: "يسيب" وفي (س): "تثبيت" مع إسقاط كلمة: (بفرق). (2) في الأصل: ملكه متى. (وس): ملكن من. (3) في الأصل: من.

قال الشيخ: الذي عندي فيه أنه إذا قبل أحدُهما وردّ الثاني، فيعتق القدر الذي قبله، ولا يسري أصلاً؛ فإنه لو سرى، لسرى على الميت، وقد ذكرنا أن العتق لا يسري على الميت؛ لأن حكمه حكم المعسرين. ولا وجه إلا ما ذكره الشيخ، وما سواه غلط في القياس. ثم قال رضي الله عنه: إذا قبل أحدهما، وعتق ما قبله، أو قلنا بالسراية على رأي الأصحاب، فسرى إلى التمام، فالولاء للميت، ويرث به الابن القابل، وهل يرث به الابن الذي لم يقبل؟ ذكر فيه وجهين: أحدهما - أنه يرث به؛ إذ الولاء [يثبت] (1) للموروث في الأصل، فاستوى فيه الورثة، وهذا هو الصحيح. والثاني - أنه يختص بالإرث بالولاء من تسبب إلى جَلْبه، وهذا ضعيفٌ؛ فإن الولاء ليس يورث، بل يورث به، وإذا ثبت الولاء للموروث، وجب [توريث] (2) كافة الورثة به (3). 7520 - مسألة: إذا قال: إذا مت، فعبدي حر، أو قال: إذا مت، فاصرفوا إلى فلان كذا. فإذا قُتل، فهو كما لو مات حتف أنفه؛ فإن كلّ قتيلٍ ميت (4)، ويجب طرد هذا في (5) عاقبتي اليمين حنثاً وبرّاً. ولو قال: إن مت من مرضي هذا، فعبدي حر، فبرأ [واستبلّ] (6)، ثم مرض

_ (1) زيادة من (س). (2) في الأصل: توريثه. (3) ساقطة من (س). (4) (س): مريض. (5) (س): على مبنى اليمين. (6) في النسختين: استقلّ. والمثبت تقدير منا على ضوء المعنى وعلى المعهود لدينا من ألفاظ إمام الحرمين. واستبلّ معناها شفي من مرضه وعوفي، من قولهم: بلّ من مرضه: بَرَأ (معجم ومصباح).

ومات، فلا يعتِق عبدُه؛ [فإنه] (1) علّق وصيتَه على هذا الوجه بموته من ذلك المرض، [فلم] (2) تثبت الوصية. ولو مات، فاختلف الموصى له والوارث، فزعم الوارث أنه مات من مرضٍ آخر، وزعم الموصى له أنه مات من ذلك المرض بعينه. قال ابن الحداد: القول قول الوارث؛ فإن ما قاله محتمل، والأصل عدم ثبوت الوصية. قال الشيخ: هذا هو المشهور، ومن أصحابنا من قال: القول قول الموصى له؛ فإنه قد ثبت موتُه، والأصل بقاء ذلك المرض، والوارث يدّعي زوالَه وارتفاعَ وصيةٍ ثبت أصلُها. وابن الحداد يقول: الوصية إنما تثبت إذا ثبت الموت من ذلك المرض. والصحيح ما قاله ابن الحداد. 7521 - مسألة: إذا قبل الموصى له الوصية، ثبت ملكه في الموصى به، ولم يتوقف حصوله على القبض والتسليم، بخلاف الهبات. ثم الذي قطع به المراوزة أن الموصى له لو حاول ردّ الوصية بعد قبولها وقبْل القبض لم يكن له ردُّها، ولو ردّها، لم ترتد؛ فإن المنح والتبرعات إذا أفضت إلى تحصيل الملك، لم تَقبل الفسخ والنقضَ، والرجوعُ الذي أثبته الشرع في الهبات في حق بعض الناس في حكم تملك جديد أثبته الشرع. وذكر العراقيون هذا وارتضَوْه، وحكَوا معه وجهاً آخر، وهو أن الموصى له بالخيار في الردّ -وإن قبل- ما لم يقبض، فإذا قبض (3)، لم يصح منه الرد بعد القبض والقبول. وهذا ضعيف لا مستند له من أثرٍ ولا معنى، فلست أعتد به. ...

_ (1) في النسختين: وإن. والمثبت تصرفٌ من المحقق رعايةً للسياق. (2) في الأصل، وكذا (س): لم. والمثبت تقدير منا اقتضاه سلامة العبارة. (3) (س): قيل.

باب نكاح المريض

باب نكاح المريض 7522 - إذا نكح المريض امرأة، صح النكاح وفاقاً، والمنكوحة ترث الزوجَ خلافاً لمالك (1) رحمه الله، وإياه قصد الشافعي رضي الله عنه بالرد، وقد أسرف مالك رضي الله عنه في طرفي نقيض، فقال: المنكوحة في المرض لا ترث، والمبتوتة في المرض ترث وإن انقضت عدتُها قبل موت الزوج، وذكر الأستاذ أبو منصور مذاهب للسلف مختلفة في نكاح المريض، لسنا لها. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "ويلحق الميتَ من فعل غيره [وعمله ثلاث] ... إلى آخره" (2). 7523 - روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابنُ آدم، انقطع عنه (3) عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له" (4). وقال

_ (1) ر. الرسالة لأبي زيد مع غرر المقالة: 255، 256، والكافي لابن عبد البر: 248، وأيضاً: التسهيل: تسهيل المسالك إلى هداية السالك إلى مذهب الإمام مالك: 4/ 122. (2) ر. المختصر: 3/ 168. هذا. وفي الأصل: ويحمله ثلاثة. والمثبت من (س) وعبارة المختصر: قال في الإملاء: "يلحق الميت من فعل غيره ثلاث حج يؤدّى، ومال يتصدق به عنه، أو دين يقضى، ودعاء" ا. هـ. بنصه. (3) هذا اللفظ (عنه) ليس في رواية النسائي ولا الترمذي، ولكنه عند أبي داود. مما يدفع التهمة الموجهة إلى الإمام بأنه لم ير (سنن أبي داود)، وأنه كان لا يدري الحديث. (4) حديث "إذا مات ابن آدم ... إلخ": رواه مسلم في الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ح 1631، وأبو داود في الوصية: باب ما جاء في الصدقة عن الميت، ح 2880، والنسائي في الوصايا: باب فضل الصدقة عن الميت، ح 3681، والترمذي في الأحكام: باب الوقف، ح 1376، والبخاري في الأدب المفرد: 20.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادةً في أعمالكم" (1). وقال عليه السلام: "تصدَّق وأنت شحيح بخيل، ولا تؤخر حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد صار لفلان" (2). 7524 - ومضمون هذا الفصل تفصيل القول فيما يقع عن الموتى، وقد أطلق الأئمة رضي الله عنهم في الطرق أن من تصدق عن ميت بصدقة، وقعت الصدقةُ عن الميت، ولا فرق بين أن يكون المتصدق وارثاً أو غير وارث، وقرنوا الصدقة بالدعاء، وقالوا: بركة الدعاء يُرجى التحاقها بالميت، من غير فصلٍ بين داعٍ وداعٍ، فكذلك صدقة التطوع، واحتجوا عليه بما روي أن [سعد بن عبادة] (3) قال لرسول الله عليه السلام: "إن أمي أُصمتت، ولو نطقت، لتصدّقت، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم" (4).

_ (1) حديث "إن الله تصدق عليكم ... إلخ" أخرجه عدد من دواوين السنة بألفاظٍ قريب بعضها من بعض، فهو عند أحمد في المسند: 6/ 440، 441، وابن ماجه: كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، ح 2709، والبيهقي في السنن الكبرى: 6/ 269، والدارقطني في سننه: 4/ 150. (2) قوله: "تصدق وأنت شحيح بخيل ... إلخ" هو من معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه، أخرجه البخاري في الزكاة: باب فضل صدقة الصحيح الشحيح، ح 1419، 2748، ومسلم في الزكاة: باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، ح 1032، وأبو داود في الوصايا: باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، ح 2865، والنسائي في الوصايا: باب الكراهية في تأخير الوصية، ح 3641، وأحمد في المسند: 2/ 231، 250، 415، 447. (3) في النسختين: "سعد بن أبي وقاص"، وهل هذا سبق قلم من النسّاخ أم هو وهم من إمام الحرمين؟ الله أعلم أي ذلك كان. (4) هذا الحديث رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه، كلهم عن هشام (بن عروة) عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهم جميعاً: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أمي افتُلِتت نفسها (أي ماتت فجاة) وأظنها لو تكلمت لتصدقت ... ". فليس في هذه الرواية تصريح باسم السائل، ولكن الحافظ قال في الفتح إنه سعد بن عبادة، وسمى أمَّه أيضاً، فقال: إن اسمها عَمْرة، وقد جاء التصريح باسم السائل (سعد بن =

هذا ما ذكره الأئمة في الطرق، ووجدت في بعض التصنيفات رمزاً إلى شيء يدور في خَلَد الفقيه، وذلك أن الصدقة نرجو لحوق بركتها الميت، فأما أن تقع عن الميت وصَدَرُها (1) من غير وارث، وهي متطوع [بها] (2). فهذا بعيد عن القياس. وقد ذكر الصيدلاني وغيره أنها تقع عن الميت، ومعنى وقوع التطوع عن الشخص أن يلتحق بأعماله، وكيف (3) يُفرض هذا، ولم يعمله، ولم يأمر به؟ نعم، إن تصدق الرجل (4) وقصد شخصاً، كان ذلك في معنى الدعاء له، فلا يبعد أن يخفف الله على (5) المتصدَّق عنه، وتنزل الصدقة وهي واقعة عن المتصدِّق منزلةَ الدعاء؛ فإن الدعاء يقع عبادة عن الداعي، وينال بركتَه الميت. وفي حديث سعد تأملٌ للناظر، فإنه وارث، وللخلافة والوراثة أثر سنبيّنه في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى. وأيضاً، فإنه لم يسأل عن وقوع الصدقة عن أمه، وإنما قال: أينفعها ذلك؟ فقال رسول الله عليه السلام: نعم. وليس يبعد عندي أن الأصحاب الأولين أرادوا هذا.

_ = عبادة) في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنه. وصرح بذلك أيضاً حديث النسائي عن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة عن أبيه عن جده. وأما أبو داود، فقد جعل السائل المبهم في حديث عروة امرأة، وأبهم السائل في حديث ابن عباس، وجعله (رجلاً). (البخاري: الجنائز، باب موت الفجاءة البغتة، ح 1388، والوصايا: باب ما يستحب لمن توفي فجأة، ح 2760، 2761، ومسلم في الزكاة، ح 51، وفي الوصية، ح 12، 13، رقم عام 1004، وأبو داود في الوصايا: باب ما جاء فيمن مات عن غير وصية، ح 2881، 2882، والنسائي في الوصية: باب إذا مات الفجأة هل يستحب لأهله أن يتصدقوا عنه، وابن ماجه في الوصايا: باب من مات ولم يوصِ، ح 2717. هذا، وليس في أيٍّ من هذه الروايات "أصمتت". وإنما كلها: افتلتت نفسها. (1) صَدَرُها: أي صدورها، وهذا الوزن يجري على لسان الإمام لهذا المصدر ونحوه، فيقول في حدوث العالم: حَدَث العالم. (2) في الأصل: فهذا. (أي مكررة). (3) في الأصل: "وكيف يفرض من هذا ولم يعمله، ولم يأمر به" وفي (س): "وكيف يعمله ولم يأمر به". (4) (س): الميت. (5) (س): "يحقق الله ظنّ المتصدّق، وتنزل ... ".

ولكن صرح المتأخرون بوقوع الصدقة عن الميت، وكان شيخي أبو محمد يبوح بهذا، ويعلله بأن النفوس متشوقة إلى إتباع الموتى الصدقاتِ، ومقتضى الشرع الحث على الصدقات بالجهات، فلا يمتنع أن يقع الحكم بوقوع الصدقة عن الميت، وهذا يعضده الزكاة؛ فإنها ركن الدين [وقوامها] (1) النية، ثم قد تقع معتداً بها من غير نية. 7525 - فإذا تمهدت هذه المقدمة [أتبعناها] (2) باتفاق الأصحاب بأن من أعتق مملوكاً عن ميت متبرِّعاً، ولم يكن على الميت عتق، فالعتق لا يقع عن الميت، سواء كان المعتِق وارثاً أو غيرَ وارث. وفرّق من أجاز التصدق عن الميت بين العتق والصدقة، بأن قال: العتق يُعقب ولاءً، وإثبات الولاء يتضمن [صدر] (3) العتق عن ملك من له الولاء بعد العتق، وتمليك الميت [بعيد] (4) بخلاف الصدقة. وهذا كلام لا غَوْصَ له؛ فإن الصدقة عن الغير تقتضي صدرها عن ملكه، بَيْد أن الصدقة تفارق العتق بالولاء، وافتراقها في ذلك لا يوجب فرقاً في افتقار كل واحد منهما إلى الصدور (5) عن الملك. 7526 - ولو مات وعليه كفارة، فقد قدمنا في الكفارات والمنذورات -وإن جرى التزامها في الصحة- قولين في أنها ديونٌ من رأس المال، أم سبيلها سبيل الوصايا؟ فإن (6) جعلناها ديوناً، وهو الأصح، وعليه تفريع الفصل، كما سنذكره الآن -إن شاء الله عز وجل- وإن جعلناها بمثابة الوصايا، فهي بمنزلتها في الاحتساب من الثلث، وهل (7) تسقط بالموت إذا لم يَجْر إيصاءٌ بها أم لا حاجة إلى الإيصاء؟ فيه تردد

_ (1) في الأصل: وثوابها. (2) في الأصل: انتفاها. (3) في الأصل: تعدّر. (4) في الأصل: بعده. (5) (س): الصدقة. (6) جواب الشرط لم يُذكر، بل محالٌ لما سيذكره من تفريع. (7) (س): وهي.

[مقتضبٌ] (1) من كلام الأصحاب: يجوز أن يقال: إنها تسقط على هذا القول؛ فإنها إذا حلّت محل الوصايا، فلا بد من تقدير (2) ذكرها والإيصاء بها. والظاهر عندي أنه لا حاجة إلى ذكرها، وجريانُ أسبابها كافٍ، ولكنها قصرت عن الديون، من حيث أدخلها المرء على نفسه، وليست واجبة شرعاً ابتداء. ونحن نعود بعد ذلك إلى التفريع على الأصح، وهو أنها ديون، ولا حاجة إلى فرض الإيصاء بها، فنقول: إن كان التكفير (3) الواجب بإخراج طعامٍ أو كسوة، فلا خلاف أن الوارث لو أخرجه، وقع الموقع، ولا فرق بين أن يخرجه من تركته، وبين أن يخرجه من مال نفسه إذا لم يخلّف الميت تركة. هذا متفق عليه. ولو أخرج أجنبيٌ عنه ما وصفناه، فالذي ذهب إليه معظمُ الأصحاب أنه يقع الموقع كما لو أخرجه الوارث، ووجهه أن وجوب الكفارة متحقق بعد الوفاة، وقد فاتت النية ممن عليه الكفارة، وفات تقدير الإنابة؛ فصار ما يخرج في حكم دَيْن محض، لا يفتقر إلى النية، ويصح من الأجنبي أن يؤدي ديْنَ الغير؛ من جهة أنه لا يفتقر إلى النية، ويمتنع [في] (4) حالة الحياة من الأجنبي تأدية الكفارة والزكاة عن الغير؛ من جهة أن نية من عليه ممكنة، واستنابته [متوقعة] (5)، والآن [إن مات] (6)، فقد فاتت النية وتوقعها، وانحسم مسلك الاستنابة. ومن أصحابنا من قال: ليس للأجنبي أن يطعم عنه أو [يكسو] (7)، وإنما ذلك للوارث؛ فإن للوراثة خلافة لا تنكر، فلا يبعد أن نقيم الوارث مقام الموروث، وتخصيص ذلك [بمن] (8) يخلف في الوراثة.

_ (1) (س): مغتصب. (2) (س): تقدم. (3) (س): التنفيذ. (4) في الأصل: من. (5) في الأصل: موقعة. (6) في الأصل: إذا فات. (7) في النسختين: يكسوه. (8) في الأصل: ممن.

ثم إذا كان للميت ورثة واشترطنا صدور الإطعام عن الوارث، فلا خلاف أن بعضهم لو استبدّ بالإطعام، جاز، وإن لم يخلّف الميت شيئاً، وهذا يؤكد تصحيح الإطعام من الأجنبي، فإن ما يُشترط (1) فيه خلافةُ الوراثةِ يُشترط فيه صَدَره من جميع الورثة، كالإقرار بالنسب. 7527 - ولو لزمته كفارة فيها إعتاق، لم يخل العتق من أن يكون متعيّناً في ثبوته، أو يكون مع غيره على قضية التخير، كالعتق في كفارة اليمين. فإن كان العتق متعيناً في وضعه كالعتق في كفارة القتل والظهار والوقاع في نهار رمضان، فإذا أخرج الوارث رقبةً وأعتقها عن المتوفَّى، فلا شك أنه إن أخرجه من تركته أو من مال نفسه وخلَّص التركة لنفسه، [فذلك] (2) حق يخرجه، ودين يؤدّيه، والتفريع على أن الكفارات الواجبة في الصحة ديون بعد الموت. وإن لم يخّلف الميت شيئاً، وأعتق عنه وارثه من خاص ماله عبداً، صرفه إلى كفارته، وقع العتق عن المتوفى، ومن آثار وقوعه عنه أن الولاء له. ولو أعتق أجنبي عنه عبداً والعتق متعيَّن، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الإطعام، والعتقُ أولى بألا يصح؛ لاستعقابه الولاءَ، وهذا في رأي [العلماء] (3) يقتضي تعلقاً بملك أو خلافة، ولذلك لم يصحح التطوعَ بالإعتاق من الأجنبي عن الميت من يصحح منه التصدقَ عن الميت تطوعاً، فقال: إذا أعتق الأجنبي عن الميت تبرعاً، وقع العتق عن المعتِق، وانصرف إليه الولاء، ولغا قصدُه الميتَ. هذا إذا كان العتق متعيَّناً في الكفارة. 7528 - فإذا (4) ثبت على قضية التخير كالعتق في كفارة اليمين، فإذا لم نجد من الميت إيصاء، فإن أطعم الوارث، أو كسا، وقع الموقع، وإن أعتق (5) عنه عبداً،

_ (1) (س): مشترط. (2) في الأصل: بذلك. (3) في الأصل: العليا. (4) (س): فأما إذا. (5) (س): وإن كسا أو أعتق عنه عبداً.

ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العتق لا يقع الموقع؛ فإنه غير معيّن (1)، وهو من هذا الوجه مُضاهٍ (2) للعتق المتطوع به، وقد ذكرنا أن الوارث لو أعتق عن الموروث متبرعاً، لم يقع عنه. والوجه الثاني - أن العتق يقع عن الميت؛ فإن العتق مع الإطعام والكسوة على قضيةٍ واحدة، والتخيّر يتعلق بجميعها، وما اتفق إخراجه [منها] (3) يقع واجباً، ويلتحق في وقوعه بما يتعين، وقد ذكرنا أن العتق المتعيّن إذا صدر عن الوارث، وقع عن الميت موقع الإجزاء. هذا إذا أطعم الوارث أو أعتق. فأما إذا أطعم الأجنبي، فظاهر المذهب أنه يجزىء عن الميت إذا نواه وقصده، وفيه وجهٌ آخر ذكرناه. فإن أعتق الأجنبي عن الميت في كفارة اليمين، ففي المسألة وجهان، إن أحببنا رتبناهما على الوجهين في الوارث، وهو أولى بألا يقع الموقع من الأجنبي، والفرق انتفاء الخلافة وثبوتها، وإن أحببنا، رتبنا الوجهين على الخلاف المذكور في إطعام الأجنبي. هذا كله إذا لم يوص من عليه الكفارة. 7529 - فأما إذا لزمته كفارة يمين، فأوصى بأن يعتق عنه، فإن وفى ثلثه، فذاك، وإن قصر الثلث -والتفريع على أن الكفارة ديْنٌ- فقد كان شيخي يقول: يجب الإعتاق عنه من رأس ماله. وهذا ما أراه كذلك؛ بل ما دل عليه فحوى كلام الأئمة أن تعيين العتق في حكم الوصية. وإن فرعنا على أن الكفارة دين؛ فإنه غير متعين، وفي إخراجه مغرم بيّن، وشيخنا

_ (1) (س): متعمد. (2) (س): يضاهي العتق. (3) في الأصل: فيما.

كان يقول: ما حكيته بناء على أن العتق في الكفارة أحد الواجبات الثلاثة، فإذا عينه تعين. وهذا عري عن مساق الفقه، وتعيين العتق وفي غيره كفايةٌ [عنه] (1) مندوحةٌ بمثابة تعيين عبد شريف للإعتاق وفي عبد قليل القيمة مَقنعٌ، واستجماعٌ لشرائط الإجزاء. وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة في كتاب الأيمان، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ولو أوصى له ولمن لا يحصى، فالقياس أنه كأحدهم ... إلى آخره" (2). 7530 - إذا أوصى لزيدٍ وللفقراء بثلث ماله، فقد ذكر الشيخ أبو علي ثلاثة أقوال في المسألة، ولم يذكر شيخنا والصيدلاني إلا قولين منها: أحدهما - أن لزيد نصفَ الموصى به؛ فإنه (3) معنى في شخصه، والفقر معنى في نفسه، فكان إضافة الثلث إليه وإلى الفقراء بمثابة إضافة الثلث إلى شخصين، ولو قال: يصرف ثلثي إلى زيد وعمرو، فهو بينهما (4) نصفان. والقول الثاني - أن زيداً كواحد من الفقراء. ثم [لو] (5) أوصى للفقراء، فأراد الوصيّ صرفَ الموصى به إلى ثلاثة منهم، فله أن يصرف إلى واحد أقلَّ القليل، وكذلك الثاني، ثم [يخصص] (6) الثالث بتتمة الموصى به، فزيد إذا ضم إلى الفقراء بمثابة واحد منهم، إذا أوصى لهم دون غيرهم. وحكى الشيخ أبو علي قولاً ثالثاً، هو أن زيداً المضموم إلى الفقراء

_ (1) في الأصل: "وغنية". (2) ر. المختصر: 3/ 168. (3) (س): فإن زيداً معنى في شخصه. (4) (س): فيهما. (5) ساقطة من الأصل. (6) في الأصل: تخصيص.

يستحق (1) ربع الموصى به، فإنه لا بدّ من رعاية الجمع في الفقراء، وأقل الجمع ثلاثة، فيكون زيد رابعَهم، ثم هو مقصود في نفسه، فتصير الوصية في حقه بمثابة وصية أضيفت إلى أربعة، فلا ينحط حقه عن الربع، وليس كالواحد من الفقراء، فإنه لا حصر لهم. وذكر الشيخ أبو علي طريقة أخرى، فقال: من أصحابنا من قال: إنْ تعرض الموصي لفقر زيد، فقال: أوصيت لزيد الفقير وللفقراء، وكان زيد فقيراً، فتخرج المسألة على ثلاثة أقاويل: أحدها - أن له نصيبَ فقيبر، فأما إذا لم يصف زيداً بالفقر الذي هو وصف المضمومين إليه في الوصية، ولكنه قال: أوصيت لزيد وللفقراء، قالوا: فلا يخرج في هذه الصورة إلا قولان: أحدهما - له النصف. والثاني - له الربع، فأما القول الثالث، فلا يخرج. وهذه الطريقة ضعيفة. ثم قال الشيخ: إذا قلنا لزيد مثل نصيب فقير، فقد اختلف أصحابنا في معنى ذلك: منهم من قال: معناه أنه لو أُعطي أقل [ما يتمول أجزأ] (2) ذلك، وهذا هو السديد، ومنهم من قال: ينظر إلى عدد الفقراء الذين يتفق (3) التسليم إليهم، فإن أعطى ثلاثة من الفقراء وأراد الاقتصار، فلزيد ربعُ الوصية [لا ننقص] (4) من الربع، وإن كان ينقص آحادَ الفقراء [ويزيد] (5) لبعضهم. وإن أعطى خمسةً من الفقراء، فيعطيه السدسَ، وإن أعطى عشرة، فيعطيه من الوصية جزءاً من أحدَ عشرَ جزءاً من الوصية. وهذا ضعيف جداً. هذا كله إذا ذكر في الوصية زيداً وأقواماً موصوفين غيرَ منحصرين بصفةٍ لا تلزم.

_ (1) (س): مستحق. (2) في الأصل: ما يتموله أحد في ذلك. (3) (س): اتفق. (4) في الأصل: منقصة. (5) في الأصل: فيزيد.

7531 - فأما إذا قال: أوصيت لزيد وللبكريّة والعلويّة، فقد اختلف قول الشافعي في أن الوصية للعلوية والبكرية ومن في معناهم، وهم أقوام لا ينحصرون، وليسوا على صفة [يتوقّع] (1) تحولهم عنها، فأحد القولين - الوصيةُ لهم (2) باطلة. والثاني - أنها صحيحة، وقد أشرنا إلى توجيه القولين فيما تقدم. فإن صححنا الوصية، فهو كما [لو] (3) أوصى لزيد وللفقراء، وقد تبين التفصيل فيه. وإن لم نصحح الوصيةَ للعلوية، فالمذهب أن الوصية تصح لزيد [ثم] (4) في قدر ما يستحقه الأقوالُ والتفصيلُ الذي قدمناه. ومن أصحابنا من قال: إذا أبطلنا الوصية للعلوية، فتبطل الوصية لزيد المسمى، وهذا يخرّج على القول الذي يقول: إنه يستحق ما يستحقه أحد الفقراء، على معنى أنهم إن اتفقوا ثلاثة، فله الربع وإن اتفقوا أربعة، فله الخمس، فإذا (5) بطلت الوصية للعلوية فلم يُعطَ واحدٌ منهم شيئاً [لنعتبر] (6) نصيبَ زيد به، فالوصية لزيد لا تثبت. وهذا وإن كان فيه تخييل، فالأصل الذي عليه التفريع فاسد. 7532 - ولو أوصى لزيد والملائكة (7) بثلث ماله، فالوصية للملائكة باطلة، والتفريع بعد هذا كالتفريع على ما [لو] (8) أوصى لزيد والعلوية وحكمنا ببطلان الوصية للعلوية.

_ (1) في الأصل: فيوقع. (2) ساقطة من (س). (3) زيادة من (س). (4) مزيدة من (س). (5) عبارة (س): وإذا بطلت الوصية للعلوية، فلم يعد واحد منهم شيئاً لتعيين نصيب زيد به، فالوصية لا ثثبت. (6) في الأصل: لتغير. و (س): لتعيين. والمثبت تقدير منا، لا يصح غيره -إن شاء الله- ولا يستقيم المعنى إلا به. ومعنى "لنعتبر": أي لنقيس. (7) (س): والمالكية. ورسمت في الأصل هكذا: والمليكة. وترجيحنا (الملائكة) سيظهر صوابه فيما يأتي من عرض المسألة. هذا وكل موضع ذكر فيه (الملائكة) رسمته نسخة الأصل هكذا، وجعلته (س) المالكية. (8) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.

وفي هذا المنتهى أمرٌ لا بد من التنبيه [إليه] (1) وهو أنه إذا أوصى لزيدٍ وللفقراء، وقلنا: يستحق زيدٌ الأقلّ مثلاً، وهو أن تقليل نصيبه وتكثيره إلى الوصي (2)، ولا اختيار للوارث فيه بحق الإرث. فأما إذا أوصى لزيد والملائكة، وقلنا: لزيد الأقل في أوضاع هذه المسائل، فقد ذكر صاحب التلخيص في ذلك قولين: أحدهما - أن اختيار الأقل فيه إلى الوصي (3) الذي [ننصبه] (4) فيصرف (5) إليه ما شاء من المسمى، ويرتدّ الباقي ميراثاً، حتى لو استوعب معظمَ ما وقع الوصية به جاز. والقول الثاني - أن الخيار في هذه الصورة إلى الوارث، فلو قالوا (6): لا تدفع إليه إلا درهماً أو أقل مثلاً، وقال الوصي (7): ندفع إليه ألفَ (8) درهم فنتبع (9) الورثة. قال الشيخ: لعل هذا هو الأصح؛ لأنه إذا أوصى لزيد والفقراء بثلثه [فكل]، (10) الثلث يُستحق (11) بالوصية، فتعيين القدر إلى من [يُنصبُ] (12) وصياً في ذلك. وفي هذه المسألة بطل بعض الوصية، وآل التنازع إلى القدر المستحق في الوصية، فالقول قول الورثة والعبرة بمرضاتهم. وإذا أوصى لزيد، والبكرية، وأبطلناها في حق البكرية، فهو كما لو أوصى لزيد والملائكة.

_ (1) في النسختين: له. (2) (س): الموصي. (3) في (س): الموصي. (4) في النسختين: يصيبه. والمثبت تقدير منا. (5) (س): فينصرف. (6) قالوا الجمع على معنى الورثة. (7) (س): الموصي. (8) سقطت من (س). (9) (س): فينبغي للورثة. (10) في الأصل: فذلك. (11) (س): مستحق. (12) في النسختين: يصيب.

7533 - قال: ولو أوصى لزيد ولجبرائيل عليه السلام، (1 فالوصية لجبريل باطلة، وتصح في حق زيد المضموم معه، ولا يخرج في هذه المسألة قولُ الفساد في حق زيد إذا ذكر مع الملائكة، ووجهه بيّن؛ فإن الفساد أتى من الجهل بعدد الملائكة، وجبريلُ 1) واحدٌ في نفسه. ولو أوصى لزيد وللرياح بثلث ماله، فقد اختلف أصحابنا (2) في المسألة: فمنهم من قال: كل الوصية مصروف إلى زيد؛ فإن الرياح ليست من الأشخاص التي يتوهم إضافة العقود إليها، وليست كجبريل عليه السلام؛ فإنه من الأشخاص التي يتوهم ذلك فيه. والوجه الثاني - وهو الصحيح أنه يستحق نصف المسمى كالمسألة الأولى، ولا نعتقد الرياحَ أعداداً. ولو أوصى لزيد والجدار، أو غيره من [الجمادات] (3)، فهو كما لو أوصى لزيد والرياح. ولو أوصى لزيد ودابّةٍ لعمرو، فلزيد النصف، [وفي الوصية لدابة عمرو تفصيل سنذكره مفصلاً بهذا إن شاء الله] (4). فصل مشتمل على ذكر من تصح الوصية له و [من] (5) لا تصح له 7534 - فنعرض لما يكاد يغمض أو يتطرق إليه خلاف. أما الوصية للوارث، فقد سبق القول فيه، وذكر صاحب التلخيص بعدها الوصيةَ

_ (1) ما بين القوسين سقط من (س). (2) (س): اختلف أصحابنا، فمنهم. (3) في الأصل: الجدارات. (4) ما بين المعقفين زيادة من (س). ولعل صوابها: (بعد هذا، إن شاء الله). (5) سقطت من الأصل، وأثبتناها من (س).

للقاتل، وفيها قولان مشهوران: أحد القولين - أنها تصح، وهو القياس (1). والقول الثاني - أنها لا تصح، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لقاتل" (2). وهذا الحديث ليس على الرتبة العالية في الصحة، والصحيح لا وصية لوارث. ثم سلك بعض الفقهاء مسلك التوجيه بطريق التشبيه بالإرث؛ فإن استحقاق الوصية يتعلق بالموت كالميراث، ثم زجر الوارث عن القتل (3) حتى لا يستعجل الميراث به، فحُرم ما يستعجله، وهذا يتحقق في الوصية تحققه في الميراث. ثم اختلف أصحابنا في محل القولين على طرق: فمنهم من قال: القولان فيه إذا تقدمت الوصية، ثم قتل الموصى له الموصي، فإنه في هذه الصورة ينسب إلى الاستعجال، فأما إذا [جرح] (4) رجلاً ثم إن المجروح

_ (1) قال النووي: " المذهب الصحة مطلقاً " (الروضة: 6/ 107). (2) حديث "لا وصية لقاتل" رواه البيهقي: 6/ 281، بلفظ: "ليس لقاتلٍ وصية" من حديث علي رضي الله عنه، ورواه الدارقطني: 4/ 236، 237. وهو لا يحتج به كما هو مفهوم كلام إمام الحرمين، قال البيهقي: تفرد به مبشر بن عبيد الحمصي، وهو منسوب إلى وضع الحديث. وقال الحافظ في التلخيص: إسناده ضعيف جداً. هذا وقد عجب الحافظ في التلخيص من قول إمام الحرمين عن هذا الحديث: إنه ليس في الدرجة العالية من الصحة، وقال: "إنه ليس له في أصل الصحة مدخل" (التلخيص: 3/ 197 ح 1420). وتقديري أن هذا الكلام فيه نوع تحامل على إمام الحرمين من الحافظ، فإمام الحرمين لا يعنى بألقاب المحدّثين وتبويبهم وترتيبهم، فهو ليس من أهل هذه الصناعة، وإنما مراده هنا: أن هذا الحديث غير صالح للاحتجاج به كما هو فحوى كلامه. ولا يعني بقوله إنه صحيح، ولكن لم يبلغ الدرجة العالية من الصحة، لا يعني ما يفهم من ظاهر هذه العبارة، وإلا لو كان كذلك، لأخذ بالحديث، وبنى عليه الحكم ولم يردّه. وفي كلام إمام الحرمين عن الأخبار ودرجاتها في كتابه البرهان، ما يشهد لما أقول، ومن ذلك قوله: "إن الردّ والقبول يعتمد على ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، فإذا صادفناه، لزمناه، وتركنا وراءه المحدّثين يتقطعون في وضع ألقاب وترتيب أبواب" (البرهان: فقرة رقم 593). (3) (س): الفعل. (4) في الأصل: خرج.

أوصى للجارح، فالوصية صحيحة إذا مات المجروح بالجرح السابق على الوصية قولاً واحداً. ومن أئمتنا من قال: إن وقع القتل بعد الوصية، بطلت الوصية، كما سنصف بطلانها في التفريع، وإن تقدم الجرح، وتأخرت الوصية ووقع الموت بالجرح المتقدم، ففي المسألة قولان. ووجه هذه الطريقة بناء الأمر على العمل بالخبر، ثم هو نصٌّ فيمن [تأخر قتله] (1) عن الوصية له. وفي التعلق بالخبر نظرٌ إذا تقدم الجرح وتأخرت الوصية؛ من جهة أنا نفهم من حرمان القاتل حكم معاقبته بمنع مقصوده، وإن كان اللفظ ظاهراً. وهذا يناظر تردّدَ الأصحاب في حرمان من يقتُل بحق لخروجه عن محل المعاقبة؛ [إذ المعاقبة] (2) على ترك التحفظ عند وقوع الخطأ، مع عموم قول رسول الله عليه السلام: "ليس للقاتل من الميراث شيء". ثم حيث نقضي بصحة الوصية، فلا خِيرةَ للورثة، وحيث لا نقضي بنفوذها، اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: إذا أجازها الورثة، جازت، ومنهم من قال: لا تنفذ بإجازتهم، وهذا الاختلاف مفرّعٌّ على قولنا: إن إجازة الورثة تنفيذ وصية، فأما إن جعلنا إجازته (3) عند وجوب مراجعته ابتداء عطية، فابتداء وصية الوارث لقاتل الموروث [نافذ] (4) لا شك فيه. ثم قال صاحب التلخيص: وإن منعنا الوصيةَ للقاتل، فلو قتلت أمُّ الولد سيدها، عتَقَت؛ فإن عتقها محسوب (5) من رأس المال، لا يسلك به مسلك الوصايا. فأما المدبّر إذا قتل سيدَه، والتفريع على أن الوصية للقاتل مردودة، فقد اختلف

_ (1) في الأصل: يأخذ مثله. (2) في الأصل: أو المعاينة. (3) إجازته: كذا في النسختين، ويستقيم الكلام على معنى: الوارث. (4) في الأصل: فإنه. (5) (س): يحسب.

أصحابنا: فمنهم من قال: القول فيه يخرّج على أن التدبير وصية أم تعليق عتق [بصفةٍ] (1)؟ فإن جعلناه تعليقاً، نفذ العتق، ولم يؤثر القتل. وإن جعلناه وصيةً، لم يعتِق على [منع] (2) الوصية للقاتل. ومن أصحابنا من قال: سواء قلنا: إن التدبير تعليق أو (3) وصية، فتخرّج المسألة على أن العتق لا ينفذ إذا منعنا الوصية للقاتل، وذلك أن العتق على القولين محسوب من الثلث وفاقاً، وكل تبرع يكون محسوباً من الثلث، فهو في الحكم الذي نتكلم فيه وصية. وأثر القولين في أن التدبير تعليق أو وصية يرجع إلى جواز الرجوع عن التدبير، فإن جعلناه تعليقاً، لم يجز الرجوع صريحاً. 7535 - وذكر صاحب التلخيص فيمن لا تصح له الوصية: الحربي، وكلامه يقتضي أن الوصية له باطلة، واعتلّ في ذلك بانقطاع الموالاة بيننا وبينهم، قال الشيخ: هذا لم يقله أحدٌ من الأصحاب، بل قطعوا (4) بأن الوصية للحربي جائزة إذا لم يكن الموصى به سلاحاً، (5 فإن أوصى له بسلاح، فهو كما لو باع منه سلاحاً 5)، وقد مضى تفصيل ذلك في كتاب البيع. وما ذكر صاحب التلخيص من التعرض للموالاة فإنه كلام عريٌّ عن التحصيل؛ فإن الوصية لا تقتضي الموالاة، ولا تعتمدها، ولست أدري ماذا كان يقول في الهبة من الحربي، وظاهر قياسه أنها كالوصية. 7536 - والوصية للذمي منفذة؛ فإنهم في عوننا ونصرتنا، ويتعين علينا الذب عنهم [فالوصية] (6) حمل على إعانتهم بطائفة من المال؛ فإن المال أهون من تعريض النفوس للهلاك بسبب الذب عنهم.

_ (1) في الأصل: نصفه. (2) في الأصل: موضع. (3) (س): أم. (4) قال النووي: إن جواز الوصية للحربي هو الأصح (الروضة: 6/ 107). (5) ما بين القوسين ساقط من (س). (6) في الأصل: بالوصية.

7537 - ومما تعرض له صاحب التلخيص والشارحون القولُ في الوصية للعبد والوصية للدابة، فلتقع البداية بالوصية للعبد: أجمع الأصحاب على أن الوصية للعبد صحيحة، ثم بان لنا من حقيقة ترتّبهم أن الوصية تقع للعبد [في] (1) نفسه، ولكن إن كان من أهل الملك حالة القبول، وقعت الوصية (2 له، وإن لم يكن من أهل الملكِ حالة القبول، وقعت الوصية 2) لمالكه. وبيان ذلك أنه إذا أوصى لعبدِ إنسانٍ بمالٍ، ثم عتق ذلك العبد في حياة الموصي، ثم مات الموصي، فإذا قبل هذا المعتَقُ الوصيةَ، صح قبوله، ووقع الملك في الموصى به له، ولو بقي مملوكاً حتى قَبِل الوصية بعد موت الموصي، فالملك في الموصى به يقع لمالكه. ولو مات الموصي والعبد بعدُ مملوك لوارث الموصي، فأعتق الوارث العبدَ قبل قبول الوصية، قال الشيخ: هذه المسألة تخرّج على القولين في أن الملك في الموصى به متى يحصل للموصى له؟ فإن فرعنا على قول الوقف، وقلنا: إذا جرى القبول استند الملك تبيّناً إلى موت الموصي، فعلى هذا لا تصح الوصية؛ فإنها لو صحت، لاستند الملك إلى حالة الموت، وهو إذْ ذاك رقيقٌ للوارث، فلو قدّرنا فيه ملكاً، لكان للسيد. وإن قلنا: يحصل الملك بالقبول، فيقع الملك للعتيق دون الوارث. هكذا قال رضي الله عنه. 7538 - وقال في هذه المسألة: لو باع الوارث العبدَ قبل قبول الوصية، [ثم إنه قبلها في ملك المشتري. فإن فرّعنا على قول الوقف] (3) والإسناد، فلا يصح القبول؛ إذ لو صح، لا نصرف الملك إلى الوارث، لأنه كان مالك رقِّه حالة موت الموصي.

_ (1) في الأصل: من. (2) ما بين القوسين ساقط من (س). (3) ما بين المعقفين زيادة من (س).

وإن قلنا يحصل الملك بالقبول، فيصح القبول [ويقع] (1) الملك للسيد الثاني. 7539 - فانتظم [ممّا] (2) ذكره الأصحاب أن الوصية للعبد تتعلق بالعبد على ترقّب (3) ما يكون، فإن عتَقَ قبل الموت، وقَبِل الوصيةَ بعد موت الموصي، انصرفت الوصية إليه. ثم الأصحاب مع قطعهم بهذا أطلقوا القول بأن من لا تصح الوصية له لا تصح الوصية [لعبده] (4)، فأرادوا إذا بقي رقيقاً إلى القبول، وهذا قد يتطرّق إليه من طريق المعنى احتمال، لأن الموصى له هو العبد، وليس وارثاً (5)، ولكن لم يصر إلى هذا أحدٌ من الأصحاب أعرفه. ثم (6) على قول القبول (7) يحصل الملك لمن يكون [مالك رقّ] (8) القابل وقت القبول، وهذا يدل على أن المالك ليس معنيّاً بالملك، وإنما متعلق الوصية العبدُ، ثم إن اتفق كونه حراً على التفصيل المقدم، فالملك له، وإن تبدّل الرق والملك، فالملك لمالكه، ولسنا نذكر هذا (9) التخريج [وجهاً] (10)؛ فإن المذهب ما نقلناه وما ذكرناه نبنيه على طريق المعنى. ومما يخطر للفقيه في ذلك التعرضُ لاشتراط إذن المالك، وقد فرعناه فيما تقدم، ووصلنا به القول في أن السيد لو قبل وردّ العبدُ، فكيف يكون أمره؟ -[وإن] (11) كنا

_ (1) في الأصل: وقع. (2) في الأصل: بما. (3) (س): ترتيب. (4) في الأصل: لعبد. (5) (س): إرثاً. (6) ثم: سقطت من (س). (7) قول القبول: أي القول بحصول الملك في الموصى به للموصى له بالقبول. (8) في الأصل صحفت هكذا: بالطارق القابل. (9) (س): لهذا. (10) في النسختين: وجه. (11) في الأصل: فإن.

ذكرناه لم يضر أن نرمز إلى إعادته- فإن لم نشترط إذنَ السيد في القبول، فلا أثر لردّه وقبوله، وإن شرطنا إذن السيد في القبول، ففي صحة قبول السيد في أوان القبول مع إعراض العبد أو مع (1) ردّه وجهان. ومن تأمل هذه الأصول، لم يخف عليه من طرق الاحتمال شيء مع التزام (2) المنقولات عن الأئمة. 7540 - ومما يتعلق بهذا الفصل أنه إذا أوصى لدابة زيد بشيء، فأول ما فيه أنا نستفصل الموصي في حياته، فنقول: ما الذي أردتَ بذلك (3)؟ فإن قال: أردت بذلك تمليكَ الدابة، فتبطل وفاقاً؛ فإنه قصد بما أطلقه محالاً. وإن قال: قصدت بذلك صرفَ الموصى به إلى (4) حاجة الدابة في علفها وسقيها، قال الأصحاب: صحت الوصية على تفصيلٍ نذكره. وإن قال: لم أنوِ شيئاً أصلاً، قال الشيخ: تبطل الوصية؛ فإن ظاهرها تمليك الدابة، فلم تصح. فإذا نوى الصرفَ إلى العلف، كما قلناه أو صرح به، ومات الموصي، قال صاحب التلخيص: إن قبل مالك الدابة الوصيةَ، ثبتت وإن ردّها، بطلت، [ورُدَّت] (5)؛ فإن هذه الوصية تتعلق به؛ من حيث إنها تتعلق بمصلحة ملكه، ويستحيل أن نلزمه هذه الوصية حتى نتصرف في دابته بالعلف والسقي. قال الشيخ: رأيت للشيخ أبي زيد أنه قال: تثبت الوصية، وإن لم يقبلها مالك الدابة؛ فإن الموصي قصد بذلك علفَ الدابة. وذلك حسبةٌ، "وفي كل ذات كبدٍ حرّى أجر" (6).

_ (1) (س): أو ردّه. (2) (س): إلزام. (3) ساقطة من (س). (4) (س): إلى الدابة. (5) في النسختين: واردت. (6) حديث "في كل ذات كبد حرّى أجر" متفق عليه، أخرجه البخاري: كتاب الشرب والمساقاة، ح 2363، ومسلم: كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم، ح 2244.

قال الشيخ: وهذا ضعيفٌ جداً (1)، ويلزم من مساقه تجويز الوقف والتحبيس على عبيد الإنسان ودوابّه. 7541 - [ثم قال] (2) صاحب التلخيص: فإذا قبل صاحب الدابة الوصية، فإن (3) كان للموصي وصيٌّ، فلا يسلِّم الوصيُّ [ذلك] (4) الموصى به إلى صاحب الدابة، ولكن يخرجه بنفسه إلى علف الدابة، على حسب الحاجة. قال الشيخ القفال: عندي أنه إذا قبل الوصية، قبض الموصى به، ولم يتركه في يد الوصي (5)، ثم قال: عندي أنه لا يتعين عليه صرف ما قبضه بعينه إلى الدابة، ولكنه لو أراد صَرْف غيره إلى علفها وتملّكَ ما قبضه، فله ذلك، وحقيقة هذا الاختلاف ترجع إلى أنه هل يملك صاحب الدابة عينَ ما أوصى به أَوْ لا؟ فالقائل الأول لا يثبت فيه ملكاً 6) حقيقياً، ولكنه يصرفه إلى الدابة، والقفال يثبت الموصى به ملكاً لمالك الدابة، ومن هذا المنتهى ينعكس كلام [على] (7) الوصية للعبد، فإن الملك الحاصل في الموصى به للعبد تَسْميةً وإطلاقاً لسيده. ثم لم يختلف أئمتنا في أنه لا يجب على السيد صرفُ الموصى به إلى مصلحة العبد، كما لم يختلفوا في أن الملك فيه يحصل للمولى. وفي (8) تعليل ذلك، والفرق بين تعيين العبد في الوصية وتعيين الدابة سرٌّ لطيف، وهو أنّا (9) من وجه نقدّر العبد موصى له، حتى كان الموصى به واقعٌ [له] (10)، ثم

_ (1) قال النووي: إن اشتراط قبول المالك هو الأصح (ر. الروضة: 6/ 105). (2) في الأصل: فقال. (3) (س): فإن الموصي وصي، فلا يسلم. (4) في الأصل: لك. (5) (س): الموصي. (6) سقطت من (س). (7) زيادة من (س). (8) (س): في (بدون واو). (9) (س): أن في. (10) زيادة من (س).

لا حرج على الموصى له في الموصى به، غير أنه ليس من أهل الملك، فيثبت الملك لسيده، ثم لا حرج على السيد؛ فإنه بمثابة العبد، حتى كأنه نابَ عنه في الملك، وخرج العبد من الوسط. [و] (1) لا يتصور فرض هذا من (2) الدابة، ولا بد من تعليق الوصية بالدابة إذا علقت بها، فإذا لم تتعلق بها [لتقبل أو لتردّ] (3) انصراف الوصية إليها [عند حالة تطرأ] (4)، ولا بد من ربطٍ وفاءً بالوصية، فرأى الأصحاب صرْفَ الموصى به إلى مصلحتها، ثم لما كانت مملوكة، لم يتأت التصرف فيها دون المالك، فَشُرِط قبول المالك على شرط الوفاء بتخصيص الموصى به بالدابة. والقفال رضي الله عنه جعل الوصية للدابة وصيةً لربّها، وهذا وإن كان يخلِّص مما ذكرناه، فإنه (5) يورّط في غائلة عائصة؛ لأن اتباع الوصية لا بد منها، فإن أضيفت إضافة صحيحة، وجب الوفاء بها، وإلا وجب إفسادها. ثم ذكر القفال في تحقيق مذهبه مسألةً [مستشهداً بها] (6)، وهي أنه لو مات رجل، [فدفع] (7) إنسان إلى وارثه ثوباً ليكفنه به، [فإن] (8) له أن يستأثر به، ويكفنه في ثوب من عنده، وهذا خرجه على المذهب الصحيح في وضع الكفن، فإنه ملك الوارث، ولكنه (9) مستغرَقٌ بحاجة الميت. هذا أصح الوجوه، فكأنه رضي الله عنه رأى بذل الثوب من الباذل إحلالاً منه الثوبَ محل الكفن (10).

_ (1) الواو ساقطة من الأصل. (2) (س): في. (3) عبارة (س): لتقبل انصراف الوصية إليها. وفي الأصل: لتقبل أو لتقدير انصراف الوصية إليها، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق. (4) كذا في النسختين، ويمكن أن تقرأ: عند حالة نظرا. (5) ساقطة من (س). (6) في الأصل: يستشهد أنها. (7) في الأصل: فيدفع. (8) في الأصل: فاتفق له. (9) (س): ولكنه مستغرقاً لحاجته. (10) (س): محل الكفن كما قال. قال الشيخ: وهذا ...

قال الشيخ: وهذا الذي ذكره في الثوب أبعد [منه] (1) في الدابة. وهو كما قال؛ فإن باذل الثوب لم يملّكه أحداً، وإنما بذله ليدرج فيه الميت، فإما أن يرتسم رسمه (2) وإما أن يرد عليه. ثم قال الشيخ: إن حكمنا بما ذكره القفال، فربُّ الدابة يملك الموصى به ويقبض، ولا [يعترض] (3). وإن قلنا: إنه لا يملكها، فإن كان ثمَّ وصيٌّ، فهو ينفقه على الدابة، وإن لم يكن، فقد تردد فيه كلام الأصحاب. فالظاهر من كلامهم أنه إذا لم يكن وصي، صرف المال إلى مالك الدابة، ثم ليس له إبدالُه، بل ينفقه على حسب الإمكان. [وقال] (4) قائلون: ينصب القاضي في ذلك قيّماً حتى يقوم بتنفيذ الوصية. 7542 - ومن فقه (5) هذه المسألة أن الموصي إذا وصى للدابة، ومات قبل البيان، نرجع (6) إلى الورثة، فإن قالوا: نوى الصرفَ إلى العلف، صحت، وإن قالوا: نوى تمليك الدابة، بطلت، ولمالك الدابة تحليفهم، وإن قالوا: لا نعلم، فيحلفون على نفي العلم، وتبطل الوصية، وتصير كما لو قال الموصي: لم يكن لي نيّة. 7543 - ثم ألحق الشيخ أبو علي بآخرِ هذا الكلام مسألةً، وهي أن رجلاً لو وقف شيئاً على مسجد واقتصر عليه، وقال: ينبغي أن نفصل القول في ذلك على الواقف، فإن قال: نويت تمليك (7) المسجد منافع الوقف، فالوقف باطل، وكذلك إن قال: لم تكن لي نية بل أطلقت الوقف، ولو قال: قصدت صرف رَيْع الوقف إلى مصالح

_ (1) في الأصل: أبعد بما ذكره في الدابة. (2) في النسختين: يرسم. وارتسم رسمه امتثل أمره، من قولهم: رسم له بكذا: أي أمره به (معجم ومصباح). (3) في الأصل: يعرض. (4) في الأصل: فقال. (5) (س): بقية هذه المسألة. (6) (س): فنرجع. (7) ساقطة من (س).

المساجد، فالوقف يصح حينئذ، وأجرى إضافةَ الوقف إلى المسجد مجرى إضافة الوصية إلى الدابة. وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإنه شبه الوقف على المسجد بالوصية للدابة وبينهما فرق واضح؛ فإن الوصية للدابة نادرةٌ شاذة إذا ذُكرت لأهل العرف، استنكروها (1)، فتعينت مراجعة صاحب اللفظ، وأما الوقف على المسجد، فقد عم استعماله في إرادة مصالح المسجد عموماً ظاهراً، فينبغي أن يحمل مطلقُه على ما يقصد منه في عموم الاستعمال. والله أعلم. هذا منتهى القول في الوصية للعبد والدابة. 7544 - ومما ذكره صاحب التلخيص في أطراف الكلام في ذكر من تصح الوصية له ومن لا تصح الوصية له، قال: إذا جوزنا الوصية للقاتل، ومنعنا الوصية للوارث، فلو أوصى لوارثه بشيء، ثم إن الوارث قتل موروثه، فحكم التفريع على منع (2) الوصية للوارث وتصحيحها للقاتل أن تصح الوصية، وهذا ظاهرٌ؛ من قِبَل أن القاتل خرج عن كونه وارثاً بالقتل. وإنما أوردت هذه المسألة على ظهورها؛ لاقتضاء الكلام إلى حالةٍ يصير القتل فيها سبباً لتصحيح الوصية. ثم [ممّا] (3) أجراه أن عبداً لو جرح رجلاً، فأوصى له المجروح، فالوصية تصح، وإن منعنا الوصيةَ للقاتل؛ فإن هذه الوصية ترجع فائدتها إلى السيد، فليتأمل الناظر التفات هذا الفصل، ومصير (4) الوصية للعبد تارةً إلى أن العبد هو الموصى له، وتارةً إلى أن الموصى له مولاه. [والقتل الحاصل منه] (5) أن ما يتعلق بنسبة الموصى له إلى

_ (1) في الأصل: واستنكروها. (2) عبارة (س): فحكم التفريع على الوارث ... (3) في الأصل: بما. (4) (س): وهل الوصية للعبد، وهي في الأصل: ومسير (بالسين). (5) في النسختين: "والقول الحاصل فيه" والمثبت تقدير من المحقق، بناء على مقتضى السياق، =

الاستعجال (1)، فالعبد فيه لا يكون موصىً له، فإنه لا يتحصل على طائل، فينسب إلى استعجاله. وإذا كان العبد لوارث الموصي، فنقدّر كأن الوصية للوارث؛ فإن الموصي ممنوع عن تفضيل الورثة، فلو صححنا الوصية لعبد الوارث، كان هذا مسلكاً اختياريّاً (2) في تفضيل الورثة. وما (3) يرجع إلى القبول وحكمه، فالنظر فيه إلى العبد وإنما (4) يمتحن حذق المهرة في الفقه إذا اشتملت المسألة على معانٍ متعارضة، تكاد أن تتناقض، حيث صححنا الوصية للعبد القاتل، ولم نصححها لعبد القاتل، وأفسدناها لعبد الوارث؛ نظراً (5) منا في ذلك كله إلى من إليه تصير الفائدة، فذلك فيه إذا بقي رقيقاً لذلك الشخص، فلو عتَق في حياة الموصي، فقد تبين رجوع الفائدة إليه، وهو القابل أيضاً نقدره موصى له قطعاً، وانظر هل فيه ما يمنع صحة الوصية من قتل أو غيره واجْرِ فيه على القياس، مستعيناً بالله عز وجل. 7545 - و [مما] (6) أجراه الشارحون الوصية للمرتد، قالوا: هي بمثابة الوصية للحربي؛ فإنه لا عاصم للمرتد من سيف الإسلام كما لا عاصم للحربي، وقد ذكرنا [أن] (7) الوصية للحربي جائزة في ظاهر القياس، وقد حكى صاحب التلخيص [منع] (8) الوصية للحربي من نص الشافعي، ووافقه في النقل من يوثق بنقله (9).

_ = فالمعنى: أن العبد الموصى له إذا قتل لا ينسب إلى استعجال الموصى به. والله أعلم (ر. الروضة: 6/ 108، والشرح الكبير: 7/ 22). (1) في (س) إلى الاستعمال ... استعماله. (2) في (س): اختياراً. (3) في (س): ومما. (4) (س): وإنما يتبين تصرف المهرة. (5) (س): نظيرا هذا كله. (6) في الأصل: بما. (7) في الأصل: بأن. (8) في الأصل: بيع. (9) في الأصل: بفعله.

والذي صار إليه فقهاء الأصحاب تصحيحُ الوصية للحربي بكل ما يجوز بيعه منه، فأما الوصية للمرتد فأولى بالصحة؛ لأنه في عصام (1) الإسلام، وقتلنا إياه ليس حدّاً مقاماً عليه، وإنما [نجدّد له] (2) الإسلام بالبرهان الظاهر، فإن عاند، فبالسيف الباتر، ومذهب الشافعي أنه يحكم له وعليه بما (3) يحكم به على المسلمين، ويجوز أن يقال: إذا حكمنا بأن الردّة تزيل ملكه، فالوصية ضعيفة حريِّة بالفساد. وأحكام المرتدين ستأتي مستقصاة في آخر كتاب قتال أهل البغي، إن شاء الله عز وجل. فصل في بيان من تصح منه الوصية (4) 7546 - البالغ العاقل الحر المسلم تصح وصيته، ووصية [الذمي] (5) نافذة إذا وافقت (6) شرط الشرع. وهي على أقسام منها أن يوصي لشخص، وقد سبق التفصيل فيمن تصح الوصية له، فالقول فيمن يوصي الذميُّ له كالقول فيمن يوصي المسلم له. ومن الأقسام أن يوصي بما يكون قربة عندنا وعندهم، فإذا رفعت إلينا وصيته، والثلث متسع، أجزناها ونفذناها، كالوصية بعمارة المسجد الأقصى. وألحق الشافعي بذلك عمارة قبور الأنبياء عليهم السلام، وهذا حسن؛ فإن قبورهم مشاهد قوم، وعمارتها قُربة، وكان شيخي يميل إلى ذلك في قبور مشائخ

_ (1) (س): عاصم. (2) في النسختين: نجدده إلى الإسلام. (3) (س): مما. (4) (س): فيه الوصاية. (5) في الأصل: الدين. (6) (س): وافقه.

الإسلام وعلماء الدين، بناءً على ما ذكرناه، والضابط فيه أن كلَّ قبرٍ يزار تقرباً، فعمارة نعشه لإدامة الزيارة قُربةٌ (1). وكذلك إذا أوصى الذمي للفقراء أو لجهة من جهات الخير، ولو أوصى بما هو قربة عندنا، وليس قربةً عندهم، مثل أن يوصي بعمارة مساجدنا، فالوصية نافذة على شرطها في محلها. ولو أوصى بما يكون قربةً عندهم، معصيةً عندنا كعمارة الكنائس والبيع وبيت النيران، فالوصية إذا رفعت (2) إلينا، أبطلناها. هذا مذهب الشافعي، رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة (3) وأبو يوسف تجاز هذه الوصية، وكذلك أجازوا الوصية بالخمر والخنزير من ذمي لذمي. 7547 - ومما يتعلق بالفصل وصية الصبي المميز، وفيها قولان للشافعي رضي الله عنه: أحدهما -[أن] (4) وصيته جائزة، وكذلك تدبيره، وهو مذهب طوائف من العلماء، وقد عُزي هذا القول بتصحيحها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروي أيضاً عن عثمان وابن عمر رضي الله عنهما. ورمز الشافعي رضي الله عنه إلى طرفٍ من المعنى، فقال: الوصية لا تنجِّز حجراً، ولا تمنع تصرفاً، فإذا كانت لا تفوّت مقصوداً مالياً، فإن بقي، فالمال عتيد، وإن مات، كانت الوصية ذُخراً.

_ (1) ما حكاه الإمام عن الشافعي، وعن والده هنا، هو ما استقر عليه المذهب، فقد أقره شيخا المذهب: الرافعي، والنووي. قال في الروضة: "يجوز للمسلم والذمي الوصية لعمارة المسجد الأقصى، وغيره من المساجد، ولعمارة قبور الأنبياء، والعلماء، والصالحين؛ لما فيها من إحياء الزيارة والتبّرك بها" ا. هـ (6/ 98). كما أقره المتأخرون من أئمة المذهب واستقروا عليه، انظر على سبيل المثال: حاشية قليوبي على شرح الجلال المحلي على المنهاج (3/ 159 سطر 12). (2) (س): إذا وقعت أبطلناها. (3) ر. المبسوط: 28/ 94، الاختيار لتعليل المختار: 5/ 84. (4) زيادة من (س).

والتعويل على الآثار أولى مع مصير الشافعي رضي الله عنه إلى أن الصبي لا عبارة له في العقود الواردة على الأموال (1). هذا أحد القولين. وقال الشافعي رضي الله عنه في موضع آخر: لا تجوز وصيته، ولا تدبيره، وهو مذهب ابن عباس واختيار المزني. 7548 - ثم قطع الأصحاب أقوالهم (2) بتصحيح الوصية والتدبير من السفيه المبذر؛ فإن عبارته صحيحة، ولذلك كان من أهل الطلاق والإقرار بالجناية الموجبة للقصاص، واستلحاق الولد ونفيه باللعان. 7549 - ولو أوصى مملوك أو مكاتب، فالوصية [لا يقع تصحيحها في الحال، فلو ماتا على الرّق، تبينّا فساد الوصية] (3). وإن عتقا وتموّلا وماتا - فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمن (4) أصحابنا من قال: تصح الوصية، نظراً إلى صحة العبارة ابتداء وإلى الحرية انتهاءً. ومن أصحابنا من قال: لا تصح الوصية؛ فإنها جرت والرق مستمر، فإن أراد تصحيحها، [فليُنشئها] (5) بعد الحرية. ...

_ (1) ما رجحه الإمام من عدم جواز وصية الصبي هو الأظهر -في المذهب- عند الأكثرين (ر. الروضة: 6/ 97). (2) (س): ثم قطع الأصحاب بتصحيح الوصية ... (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (4) (س): فمنهم. (5) في النسختين: فلينسبها.

باب الوصية للقرابة قال: "ولو قال: ثلثي لقرابتي، أو لذوي رحمي أو لأرحامي ... إلى آخره" (1). 7550 - هذه الألفاظ إذا استعمل الموصي واحدةً منها، لم يختلف حكمها، فقوله: أوصيت لقرابتي، أو لذي رحمي أو لأرحامي عباراتٌ عن معبَّر واحد. والعلماء مضطربون في الوصية للقرابة، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إذا قال: أوصيت لقرابتي، أو لأقاربي بثلث مالي، فإنا لا نفضِّل الأدنى والأقرب على البعيد [إذا كان البعيد] (2) قريباً ولا فصْل بين المحرم وغير المحرم، ولا فرق بين الغني والفقير، والذكر والأنثى، والموصى به مفضوضٌ عليهم بالسويّة. وتعليل ما ذكرناه بيّن، ومقتضى اللفظ شاهدٌ عليه. والذي يغمض في هذا الفصل؛ من طريق الانتشار [المحوج] (3) إلى [الضبط] (4) أن المدلين بالأجداد العالية من بين الأعمام قد يكثرون وينتشرون انتشاراً عظيماً، وللعلماء اضطرابٌ في طلب موقف ينتهون إليه ولا يتعدَّوْن، فقال (5) أبو يوسف (6): ننتهي إلى أعلى (7) أبٍ له في الإسلام، ولا نتعدى إلى آباء الشرك، ونصرف الوصية إلى

_ (1) ر. المختصر: 3/ 168، 169. (2) زيادة من (س). (3) في النسختين: المخرج. (4) في الأصل: النمط. (5) (س): وقال. (6) ر. الاختيار: 5/ 78. (7) (س): أبعد.

المنتسبين من ذلك الأب العالي فمن دونه. ونحن لا نصير إلى هذا؛ فإنه خارج عن الضبط، وإذا لم نرتضِ هذا، فأين الموقف مع عموم لفظ القرابة؟ المعتمدُ (1) في هذا مأخوذ من كلام الشافعي رضي الله عنه، ولم يقصر (2) الشيخُ أبو بكر في التعبير عن مراد الشافعي رضي الله عنه: الوصيةُ (3) [تصرف] (4) إلى البطن الأدنى الذي ينتمي إليه ويعرف به دون الأباعد، واستشهد، فقال: إذا كانت الوصية للقرابة والرجل من بني شافع، فالوصية مصروفة إلى بني شافع دون سائر بني المطَّلب، أو سائر بني عبد مناف، أو سائر قريش؛ فإن الشافعي وإن كان مطّلبياً مَنَافياً قُرشياً، فإنما يشهر بشافع. فهذا هو الضبط التام في ذلك، ولا ينتهي رهط الرجل إلى الخروج عن الضبط حتى تكون وصيته لقرابته كوصيته للعلوية؛ فإنهم إذا انتشروا هذا الانتشار، وكثروا هذه الكثرة، اشتملوا على شُعب والموصي من شعبةٍ هو يشهر بها. ثم قال أئمتنا: ما ذكره الشافعي رضي الله عنه في حمل الوصية للقرابة من الرجل الشافعي على بني شافع (5 محمول على عهده القريب بأرومة شافع 5) وجُرثومته، والآن، فقد انتشروا، ولكل موصٍ ينتمي إلى الأب العالي الشافعي بطن يخصّه وهم فصيلته التي تؤويه، ولا يخفى على الفطن بعد ذلك حقيقة المراد، ثم كل من نصرف إليه من الوصية للقرابة شيئاً، فهو يُدلي إلى الميت بأسلوب من أساليب القرابة لا محالة. 7551 - وقال الأئمة: إن كان الموصي من العجم، دخلت تحت اسم قرابته القرابةُ من قِبَل الأب، والقرابةُ من قِبل الأم، وهذا الذي ذكره الأصحاب (6) واضح؛ فإن

_ (1) (س): والمعتمد. (2) (س): يفض أبو بكر في التعبير عن مراد الشافعي في الوصية تصرف. (3) الوصية تصرف ... إلخ تفسيرٌ للمعتمد المأخوذ من كلام الشافعي. (4) في الأصل: تنصرف. (5) ما بين القوسين ساقط من (س). (6) ساقطة من (س).

اسم القرابة في وضع اللسان شامل للقرابة من جهتي الوالدين. قال الشيخ أبو بكر وجمهور الأصحاب: إن كان الموصي من العرب وقد أوصى لقرابته، فالوصية لقرابته من قبل أبيه لا غير، وزعم الأصحاب أن العرب لا تفهم من القرابة في عرف لسانها إلا الذين يدلون (1) به من قبل آبائه. وذكر بعض أصحابنا وجهاً أنه لا فرق بين العربي والعجمي، وقرابة الأم داخلون تحت إطلاق اسم القرابة، كما ذكرنا في العجم، وهذا -وإن استبعده الأئمة- متجهٌ جداً موافق للغة، ومن (2) موجب اللسان، ولا مستمسك لحمل القرابة في حق العربي على الذين يدلون من قبل الأب إلا من [جهة] (3) ادعاء عرفٍ غالب في العرب، وهذا لم أتحققه من عرفهم على أني أكثرت مخالطتهم، وأصل اللسان يشمل الجانبين، والقرابة إن عُرضت على الاشتقاق، فهي من القُرب، وإن كان مختصاً بقرب النسب. 7552 - ومما يتعلق بهذا الفصل أنه إذا أطلق الوصية للقرابة، فهذا الاسم يتناول الورثة ومن ليس وارثاً، ثم قال الصيدلاني: إذا أبطلنا الوصية للوارث، فهي مصروفة بجملتها إلى الذين لا يرثون من القرابة، وقال غيره: نجعل الوصية مضافة إلى من تصح الوصية له، وإلى من لا تصح الوصية له، وظاهر القياس في مثل هذا الموضوع تقدير التقسيط على الكل، ثم المصير إلى إبطال ما يقابل الورثة، وتصحيح ما يقابل من ليس بوارث. وذكر طوائف من أصحابنا أنه إذا أوصى للقرابة، فالأولاد والأبوان لا يدخلون في الوصية، وذهب آخرون إلى أنهم يدخلون تحت اسم القرابة، وإذا دخلوا، أمكن فرضهم بحيث لا يرثون لاختلاف دين. وقد يوصي الرجل لقرابة زيدٍ، فتمس الحاجة إلى التعرض لدخول أولاده وأبويه، ومن أدخل هؤلاء، تمسك بموجب اللسان، ومن لم يدخلهم تمسك بموجب

_ (1) (س): يكون. (2) (س): اللغة وموجب اللسان. (3) في الأصل: حرية.

العرف؛ فإن الأصول لا يسمَّوْن قرابة في إطلاق اللسان، ومن سمى أباه وابنه وأمه قرابته، كان ذلك في العرف تعقيداً وإلغازاً. ثم الذين لم يدخلوا الأبوين اختلفوا في الأجداد والجدات، وأولاد الأولاد، فمنهم من أدخلهم، ومنهم من لم يدخل واحداً من الأصول ولا واحداً من الفصول، وإن بعُدوا، وخصّص القرابة بالذين يقعون على جانب من عمود النسب. ولو أوصى للأقرب فقال: أوصيت بثلثي لأقربهم بي رحماً، فقد قال الأئمة: تسلم الوصية إلى أقربهم بأبيه وأمه؛ فإنه ذكر الرحم، وهذا يتناول جانبَ الأب والأم جميعاً، ويستوي في ذلك العربي والعجمي. قال الصيدلاني: ظاهر كلامه دليل على أن اعتبار جانب الأم في حق العربي سببُه ذكرُ الرحم والقربُ به؛ فإن لفظ الموصي على ما صور (1): "أوصيت لأقربهم بي رحماً" وهذا يقتضي أنه إذا قال: أوصيت لذوي رحمي -والموصي عربي- دخل تحته المدلون بالأم، وكذلك إذا قال: أوصيت لأرحامي، وإنما يحمل لفظ العربي على المدلين بجانب الأب إذا ذكر القرابة، ولم يتعرض للرحم، فعلى هذا إذا قال: أوصيت لأقرب قرابتي، ولم يتعرض للرحم والموصي عربي، فيجب على مساق [ما] (2) حكاه الصيدلاني ألا نعتبر جانب الأم؛ فإن الذي ذكره الموصي القرابة مع صيغة تشعر بالأدنى. ثم أجمع الأصحاب على أن الأقرب يتناول الأبوين والولد، وإنما التردد فيه إذا ذكر لفظ القرابة ولم يتعرض للأقرب، وتعليل ذلك بيّن؛ فإن الإنسان إذا أشار إلى شخص، وقال: هذا قرابتي، وكان أباه أو ولدَه، فلفظه تعقيد، وإذا قال: هذا أقرب قرابتي، ثم فسره بالأب والولد، قبل منه، ولم يعدّ ذلك تعقيداً. 7553 - فإذا [تبين] (3) أصل الكلام في هذا عدنا بعده إلى من تصرف إليه الوصية

_ (1) (س): على ما صور، وهو قوله: أوصيت لأقربهم ... (2) في الأصل: بما. (3) في الأصل: بيّن.

للأقرب على شرط التحرز من صرف الوصية إلى وارثٍ، كما قدمناه، وإذا أردنا أن نتوسع في تصوير الأقرب مع تصحيح الوصية له، فرضنا الكلام في وصية الرجل لأقرب قرابات زيد، فتجري لنا جميع الصور، فنقول أولاً: لسنا نتبع الميراث في هذه القاعدة؛ فإنا نرى قريباً مدلياً [بالعصبة] (1) لا يرث كابن البنت، ويرث أولاد عمومة الجد مع وقوعهم حاشية على البعد، والوصايا تنفذ على مقتضى الألفاظ، فلسنا نحكم إذاً فيما [ننفي] (2) ونثبت الميراث، ولكنا نتبع لفظ الأقرب، فإن ظهر لنا معناه في مسألة، [تبيّنا] (3) الجواب قطعاً، وإن ترددنا، أنشأنا ترددنا عن إشكال في معنى اللفظ، ونحن نعلم أن الأقرب يشير (4) إلى قرب الدرجة، ويشير أيضاً إلى قوة القرابة، هذا معلوم من معنى اللفظ، وما يفهم منه في مجرى العرف. ومما نمهده قبل المسائل أن الأقرب يتعلّق بجانب الأب والأم جميعاً، والمُدْلي بالجهتين (5) نقدمه على المختص بإحداهما على الترتيب الذي سنذكره، إن شاء الله عز وجل. ومن أهم [ما] (6) يجب الاعتناء به أنه إذا قال: أوصيت لأقربهم لي رحماً، فقد يظن الفقيه أن لفظ الرحم يختص بجانب الأم، وليس الأمر كذلك؛ فإن الرحم المطلق في القرابة لا يعنى به مقرّ (7) الولد، وإنما شاع هذا اللفظ في القرابة، واللفظ إذا شاع على وجهٍ لم يلتفت إلى اشتقاقه، كالدابة؛ فإنها في الأحكام اللفظية محمولة على حيوان مخصوص، وإن كانت مشتقة من الدبيب. 7554 - فإذا تمهدت هذه الأصول، افتتحنا بعدها المسائل، وخرّجناها على مقتضاها، فلفظ الأقرب يتناول الأب والأم على وجهٍ واحد، والموصى به بينهما

_ (1) في الأصل: بالوصية. (2) في الأصل: فيما نبقي ونثبث، و (س): فيما نبغي ونثبت. (3) في الأصل: يثبت. (4) (س): أن الأقرب إلى قرب الدرجة يشير. (5) (س): بالجهة. (6) في الأصل: مما. (7) (س): مقدار.

بالسوية، والابن والأب في قياس الطرق مستويان، وذكر العراقيون وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الذي صححوه. والثاني - أن الابن أولى، وهذا على بعده قد يتجه [فيه] (1) كلام له غوصٌ في الفقه؛ فإن الوصية إذا وقعت لأقرب الناس بفلان، فقد يعتقد أن لفظ القرب في الولد أحرى منه في الأب، فإن ولد الرجل قريب منه، [وقد لا ينساغ] (2) هذا في [الأب] (3) انسياغه في الولد؛ فإن الولد قريبٌ من والده، وولده قريب منه، فهذا تخيل يؤول إلى معنى اللفظ، لا اتجاه [له] (4) على بعدٍ، والأصح التسوية؛ فإن القرب من أسماء الإضافة، وما قرب من شيء، قرب ذلك الشيء منه، وإنما يختلف [النسب] (5) والأسماء، فالولد قريب من أبيه؛ من جهة كونه بعضه، والأب قريب من الولد من جهة كونه أصله، فلا وجه إلا التسوية (6). ولا يخفى أنه إذا اجتمع أولاد الدِّنْية (7) والأحفاد، فالأقربون أولادُ الدِّنْية، وهكذا البطون إذا اجتمعوا والوصية للأدنَيْن (8): أولاد الدِّنية. ولو كان في الدرجة الأولى من الأحفاد [أولادُ] (9) البنات [وكان أسفل بنو بني

_ (1) في الأصل: منه. (2) في الأصل: وقولاً ينساغ. (3) في الأصل: "الولد". (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: للتسبب. (6) خالف النووي في ذلك، فقال: الأصح تقديم الابن. (ر. الروضة: 175) وكذا الرافعي، إذ قال: إنه الأظهر: (ر. العزيز: 7/ 101). (7) الدِّنية: بالدال المهملة مشدّدة مكسورة = الأقرب من قولهم: هو ابن عمي، أو ابن خالي، أو ابن عمتي أو خالتي دِنيةً، دِنياً، بالتنوين، ودُنيا ودِنيا بغير تنوين أي: لحّاً، بلام وحاء مهملة مشددة، أي لصيق القرابة من: لحت القرابة بيننا تَلِح لحاً: دنت ولصقت (ر. القاموس: د، ن، ي، والمعجم: ل. ح. ح). (8) (س): والوصية لأدنى، ولو كان في الدرجة الأولى ... (9) في الأصل: وأولاد (بالواو).

البنين، فالوصية لأولاد البنات] (1)؛ فإنهم الأقربون، ولا نظر إلى الميراث، ولا فرق بين الذكور، والإناث. قال شيخي: لو اجتمع أسباطٌ متسفلون، وإخوة [فالأسباط] (2) مقدمون في الاستحقاق، وإن بعدت درجتهم؛ لأنهم ينتمون بالتعصبة؛ فقرابتهم أقوى وإن بعدوا، ولسنا نعلل [هذا] (3) من طريق المعنى، ولكنا نرعى أن هؤلاء وإن بعدوا، فهم المفهومون من الأقربين إذا اجتمعوا مع الإخوة، وهذا متجةٌ ظاهر. وإذا اجتمع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب، فالأخ من الأب والأم أولى؛ لأنه جمع القرابة من الجهتين، وهو مقدم أيضاً على الأخ من الأم لما ذكرناه. ثم الأخت من الأب والأم مقدمة على الإخوة [من الأب] (4) لما ذكرناه من اجتماع القرابتين، فلا التفات إلى الذكورة والأنوثة ومسالك التوريث. وابن الأخ وبنت الأخ بمثابةٍ واحدة في الاستحقاق، وإن اختص بالإرث ابنُ الاخ. والأخ من الأب مع الأخ من الأم مستويان، وكل واحد منهما على قرابة واحدة. فالضابط في هذا الفن استعمال الدرجة والقوة. وابن الأخ من الأب يتقدم (5) على ابن ابن الأخ من الأب والأم؛ لأن قرب الدرجة في هذا المقام أولى بالاندراج تحت الأقرب من الاختصاص بمزية (6) قرب مع البعد في الدرجة. 7555 - وذكر الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب قولين في الجد والأخ من الأب

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (س). (2) في الأصل: بالأسباط. (3) في الأصل: بهذا. (4) زيادة من (س). (5) (س): مقدم على ابن الأخ من الأب والأم، فإن قرب. (6) عبارة (س): من الاختصاص ثم الأقرب مع البعد.

والأم أو من الأب: أحد القولين - أن الأخ مقدم على الجد؛ لأن [إدلاءه] (1) بالابن وإدلاء الجد بالأب، وإدلاؤه بالبنوة، والإدلاء من جهة البنوة أقوى. والقول الثاني - أنهما سواء (2)، وقد ذكرنا إجراء هذين القولين في عصبات الولاء. وينشأ من هذا إشكال يحيك في صدر الفقيه، وذلك أن سبب اختلاف القول في الولاء أن التعويل في التوريث بالولاء على قوة العصوبة، والبنوةُ أجلب للعصوبة من الأبوة، ولمَّا رأينا في التوريث بالقرابة التسويةَ بين الجد والأخ، ولم نردّد القولَ، كان السبب فيه أن التوريث بالقرابة لا يقتصر على طريق العصوبة. [فهذا] (3) نظر كلي في التوريث بالقرابة والولاء. ومن [لا] (4) يُجري القولين في الجد والأخ يقول: في الجد وابن الأخ قولان: أحدهما - أن الجد أولى، ويسقط ابن الأخ. والثاني - أن ابن الأخ أولى لقوة قرابته، ولا [مزيد] (5) في الضعف على هذا (6)؛ فإن تقديم ابن الأخ وإن تسفل في الوصية للأقرب [في] (7) نهاية السقوط، وإنما اتجه هذا في الولاء لاتباع العصوبة، [فأما] (8) صرف الوصية إلى الأقرب، فمأخذه موجب اللفظ، [وقد] (9) ذكرنا أن هذه المسألة لفظية، ثم أوضحنا أن من كان على عمود النسب أصلاً وفصلاً، فهو في حكم العرف وفهمِ الخطاب أولى باسم الأقرب، ثم

_ (1) في الأصل: "الإدلاء". ثم العبارة -مع هذا- فيها شيء؛ فالجد والأخ كلاهما يدلي (بالأب) ولكن الفرق أن الأخ ابنُ الأب، والجد أبوه، فليس فيهما من يدلي بالابن. (2) اختار النووي الأول، ووصفه بالأظهر. (ر. الروضة: 6/ 175). (3) في الأصل: بهذا. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: يزيد. (6) المذهب تقديم الجد على ابن الأخ، قاله النووي (الروضة: 6/ 175). (7) في الأصل: من. (8) في الأصل: فإنا. (9) في الأصل: فقد.

حكينا عن شيخنا أن الأحفاد وإن سفلوا مقدمون على الأخ القريب. ومَنْ ضبط ما قدمناه وأحاط بما [نبهنا] (1) عليه الآن، لم ينقدح له وجه من الرأي إلا تقديم الجد على الأخ؛ فإن تَحَامَل، يسوي بينهما، أما تقديم الأخ، فبعيدٌ عن مأخذ الكلام في المسألة، ولست أذكر مثل هذا لأغيّر (2) المذهب؛ فإن التعويل على النقل فيه، ولكن لا بد من تنبيه. ولا شك في تقديم بني الإخوة على الأعمام، وإن بعدوا، وكذلك يقدّمون على [بني] (3) الأعمام، والسبب فيه تعلقهم بقوة قرابة الأخوّة، فهذه قوةٌ مقدمة على قرب الدرجة، وليس كقوة ابن ابن الأخ من الأب والأم مع قرب ابن الأخ من الأب؛ فإن القرب مقدم على هذا [القدر من] (4) القوة؛ فإن الأخوّة جامعة، وقرب الدرجة أجلب لاقتضاء اسم الأقرب من الاختصاص بأخوّة مع البعد في الدرجة. ولم يختلفوا أن الجد مقدم على الأخ من الأم، وقالوا: في أب الأم وأخ الأم قولان؛ فإن أبا (5) الأم أصلٌ، وأخ الأم يدلي إلى الأم بالبنوة، ولا نظر إلى الميراث. قال الصيدلاني: أبو الأم بمثابة أبي الأب، وأخو الأم بمثابة الأخ من الأب فيجري قولان: أحدهما - أن الأخ من الأم مقدم. والثاني - أنهما سواء، وهذا [خبط] (6) لا ينساغ للفقيه. فإن قيل: إخوة متفرقون وأخوات مفترقات؟ قلنا: الوصية لأولاد الأب والأم من الذكور والإناث بالسوية.

_ (1) في الأصل: بنينا. (2) (س): إلا عن المذهب. (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: القرب في القوة. (5) هكذا يزاوج بين الاستعمالين للأسماء الخمسة في مسألة واحدة، بل سطرٍ واحد. (6) في الأصل: حط.

فإن قيل: بنو إخوة مفترقون وبنات إخوة مفترقات؟ قلنا: الوصية لبني الإخوة وبنات الإخوة من الأب والأم بالسوية. 7556 - والأعمام والعمات يشتركون في الاستحقاق، وإن اختلفوا في الإرث، ويجب القضاء بالتسوية بين الأخوال والأعمام للاستواء في الدرجة، وقرابة الأم كقرابة الأب. فهذا بيان معنى الأقرب، مهّدنا أصوله، ثم هذبنا الأصول بالصور، ونصصنا على محل الإشكال، وهو الجدّ والإخوة، فلم يبق مالا يخرج على الأصول التي ذكرناها. 7557 - ثم يتشعب من هذه الأصول مسائل ذكرها العراقيون وغيرهم من أئمة المذهب منها: أنه إذا أوصى لأقرب الناس به رحماً، [فإذا كان] (1) أقرب الناس به وارثاً، ورددنا الوصية للوارث، قالوا: فالوصية تبطل في هذه الصورة؛ فإن الأقربين خرجوا عن استحقاق الوصية، وامتنع تصيير الوصية إلى الأبعدين لمكانهم، وهذا قياس الطرق. ومما ذكروه أنه إذا أوصى لجماعة من الأقربين [لزيد] (2)، وذكر في هذا لفظاً يقتضي الجمعَ، فلو كان لزيد ثلاثة من البنين، وجمعٌ من بني البنين، فلا شك أن الوصية مصروفة إلى البنين [دون بنيهم] (3). قالوا: فلو كان له ابن واحد وابنا ابن، فللابن الثلث والباقي لابني الابن. وكذلك لو كانوا ثلاثة (4)، فللابن الثلث والباقي بينهم، يعني بين البنين. وزعموا أن ضبط المذهب في ذلك أنا [إن] (5) وجدنا من الأقربين ثلاثة، صرفنا

_ (1) في الأصل: قال: إذا كان ... (2) في الأصل: من الأقربين بزيد، و (س): وزيد. (3) في الأصل: دون بني بنيهم. (4) أي أبناء الابن. (5) زيادة من (س).

الكلَّ إليهم، وإن لم نجد منهم ثلاثة، فنصرف إلى من وجدنا ما يخصه لو كانوا ثلاثة، فإن كان واحداً، فالثلث، ثم نصرف الباقي إلى الذين في الدرجة الثانية. وليس ذلك كما لو أوصى الرجل لأقرب الناس به رحماً، فإنا نبطل الوصية للورثة إذا كانوا هم الأقربين، ولا نقول: إذا لم نجعلهم مستحقين نرتفع إلى غيرهم، وذلك أنهم وجدوا ولم (1) يستحقوا، فهو كما لو ردّوا الوصية فبطلت الوصية بردهم، وليس كذلك إذا ذكر لفظ الجمع، ثم لم نجد من الأقربين إلا واحداً أو اثنين، وهذا ذكره على هذا الوجه صاحب التقريب موافقةً للعراقيين حرفاً حرفاً، والكلام في هذا المقام لطيفٌ جداً. فإذا قال: أوصيت لأقرب الناس لي، فكان أقرب الناس به وارثاً محجوباً عن الوصية، فوجوده يحجب من بعُد، وإذا ذكر لفظ الجمع، ثم لم يوجد في الدرجة الأولى جمع، فكيف يثبت الحجب، ولم يتحقق جمع؟ ثم إذا لم يثبت الحجب (2) دخل في الاستحقاق من بَعُد، ولكن لمن قرب اختصاصٌ، فاستحق الثلث، فهذا جواب متركب من قواعد حسنة ينجح بمثلها الفقيه. 7558 - وتمام هذا الفصل في مسائل نذكرها للشافعي وللأصحاب تتعلق برعاية الجمع، قال الشافعي رضي الله عنه: إذا أوصى لقرابة فلان أو لأقربائه، فسواء كان له قريب واحد أو اثنان أو ثلاثة، فالوصية لهم، والأقرباء صيغة جمع إن كان في القرابة نظر (3). ووجه ما ذكره الشافعي رضي الله عنه أن لفظ الجمع في هذا المقام لا [يعني الجمع] (4)، وإنما الغرض الصرف إلى جهة القرابة، فإن جرت لفظة الجمع، فالغرض أن يستوعب قرابة ذلك الرجل، ثم يذكر الذاكر الجمع وهو يبغي

_ (1) (س): وإن لم يستحقوا، كما لو ردّوا الوصية بردهم. (2) (س): الجمع. (3) كذا في النسختين. (4) في الأصل: يعين للجميع.

[الجهة] (1) والصنف، وقد يحمله على ذكر الجمع استيعاب جمعٍ إن كانوا، وليس من غرضه قصرُ الوصية إذا لم يبلغوا جمعاً. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه إذا ذكر لفظ الأقرباء، فلم يكن [له] (2) إلا قريب واحد، فليس له إلا ثلث الوصية، وهذا يتيسر توجيهه. وما ذكره الشافعي أفقه وأليق بمعنى الكلام. فإن أوصى لذي قرابته وله قريب واحد، فلا خلاف أن الوصية مصروفةٌ إليه بكمالها. والذي أطلقه الأصحاب أن الوصية للقرابة لا تتضمن جمعاً؛ فإن القرابة ليست من أبنية الجمع، وإذا قيل: قرابة فلان، فمعناه ذو قرابته. وإذا قال: أوصيت لذوي قرابة فلان، وقريبُه واحد، فهل يكون له جميع الوصية؟ فهذا لفظ مشعر [بالجمْع] (3) وهو بمثابة قوله: أوصيت لأقرباء فلان؟ ظاهر النص أن الوصية مصروفة إلى قريب واحد إذا لم يكن غيره. ومن أصحابنا من قال: لا تصرف جميع الوصية إلى ذلك الواحد، ثم هؤلاء يفضّون الوصية (4) على تقدير جمع، وأقل الجمع في هذه المسائل ثلاثة. وإذا تبين ما ذكرناه، فلو أوصى للأقربين، كان كما لو أوصى للأقارب في أنه هل يُحمل هذا على اقتضاء الجمع لا محالة، أو تصرف الوصية بكمالها إلى واحد إن لم نجد من الأقربين غيره؟ وقد ذكرنا مسألةً في الأقربين، وفرضنا ابناً، وأحفاداً، وتلك المسألة تخرّج على وجوب رعاية الجمع. فإن فرعت على النص وأردت تخريج تلك المسألة، [فنصوّر] (5) في صيغة الوصية تقييداً بلفظةٍ تقتضي جمعاً لا محالة، مثل أن يقول:

_ (1) في الأصل: الجمعة. (2) في الأصل: لهم، و (س): فلم يكن له قريب واحد. (3) في الأصل: الجميع. (4) (س): يفضون على تقدير جمع. (5) في الأصل: سنصور.

أوصيت لجماعة من [أقرباء] (1) فلان، ثم تتفرع تلك المسألة، وتنساق على حسب ما قدمناه. 7559 - وقد نجز القول في الوصية للقرابة والأقربين، ونحن نذكر ألفاظاً نفرض إجراءها في الوصايا، ونذكر معانيها. فقد كثر اختباط الفقهاء فيها، وقد نذكر في بعضها مذاهب بعض السلف، لأغراضٍ لنا صحيحة. فإذا قال: أوصيت لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن آل رسول الله كل من يحرم عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، واعتمد الشافعي في هذا هذا الأصلَ، وهو تحريم الصدقة؛ فإنهم أقيموا في هذه القاعدة مقام رسول الله عليه السلام، وهذا حسن. وقال مالك: آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقيل: آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمّتُه. وهذه اللفظة فيها استبهام، واشتقاق اللفظ -إن لم يُقدّر فيه قلبٌ [وإبدال- من قولك] (2) آل يؤول، فكل من آل إليك أمره فهو من آلك، وقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] أراد به الذين ضلّوا بسببه، وآل ضلالُهم إليه. ومن الناس من يقول أصل الآل الأهل، فأبدلت الهاء همزة، فصار أَأْلاً، ثم استثقلوا اجتماع الهمزتين فأبدلوا الثانية ألفاً، فصار آلاً، واللفظة على [حالٍ] (3) فيها [تردد] (4). ثم الشافعي رضي الله عنه قطع جوابه في آل الرسول صلى الله عليه وسلم للأصل الذي وجده فيهم من تحريم الصدقة، [ونزّل] (5) ذلك منزلة القرينة المشاعة في العرف، ورأى تقييد هذا اللفظ المتردّد بها.

_ (1) في الأصل: أقرب. (2) في الأصل: وإبداله من قبلك. (3) في الأصل: حالها. (4) في الأصل: يتردد. (5) في الأصل: وينزل ذلك.

فلو أوصى رجل لآل زيد وعمرو، ولم نتبين معنى لفظه، فمن أصحابنا من أبطل الوصية، لاستبهام اللفظ وتردده بين القرابة، وأهل الدِّين، وأصحاب الموالاة، وغيرها من الجهات. ومن أصحابنا من صحح الوصية؛ فإن الاحتكام بإبطال الوصية لا معنى له. وهذه المسألة قطبٌ يقاس به كل وصية تشتمل على لفظ مجمل متردد بين جهات من الاحتمالات يعسر [جمعُها] (1)، ويعسر الاحتكام بتعيين بعضها، ثم من صحح الوصية اختلفوا: فمنهم من قال: الوصية للآل كالوصية للقرابة، ومنهم من قال: نصحح الوصية [ونفوضها] (2) إلى اجتهاد الحاكم، ثم سبيل الحاكم أن يرعى الأصلح في جهات الاحتمال، فإن أدى اجتهاده في معنى اللفظ إلى جهة، اتبع رأيه فيها، ولو كان [نصب] (3) وصياً، فقد قال هؤلاء نتبع رأي الوصي أيضاً، وهذا فيه نظر؛ لأنه ليس مسلّطاً على أن يفعل ما يشاء، وليس مجتهداً يرجع إلى اجتهاده، فينتظم مع الوصي وجهان: أحدهما - أن الرجوع إلى رأي الحاكم. والثاني - أنه يجوز الرجوع إلى رأي الوصي. 7560 - فلو أوصى لأهل بيت رجل، فقد اختلف أصحاب الشافعي في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن الوصية لأهل البيت كالوصية للآل، ومنهم من زاد على معنى الآل الزوجة؛ فإنها أصلٌ في معنى لفظ أهل البيت. ولو أوصى لأهل رجل، ولم يقل: أوصيت لأهل بيته، فقد قال [بعض] (4) الأصحاب: هذه الوصية تختص بالزوجة، وقال بعض أصحابنا: تعم كلَّ من يلزمه نفقته، والوجه الأول مذهب أبي حنيفة (5)، والوجه الثاني مذهب أبي يوسف ومحمد.

_ (1) في الأصل: جميعها. (2) في الأصل: ونفرضها. (3) في الأصل: نصبه. (4) زيادة من (س). (5) ر. البدائع: 7/ 350، الاختيار: 5/ 77.

ولو أوصى لأهل امرأة، فهذا يخرّج على الخلاف المقدم، فمن قال: الأهل معناه الزوجة، فالوصية باطلة، ومن حمل الأهلَ على من تلزم نفقته، صَرَفَ الوصيةَ إلى من يلزمها نفقتهم. 7561 - ولو أوصى لأختانه، فقد قال أبو حنيفة (1): يدخل فيها زوج كل ذات رحم محرم [منه] (2) ويدخل أيضاً كلُّ ذي رحم محرم من ذلك الزوج. وقال أصحاب الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: الوصية للختن وصيةٌ لزوج البنت، واختلفوا في أزواج الأخوات ولم يتعدَّوا هذا [الحدّ] (3)، وقطعوا القول بأنه لا يدخل أزواج العمات والخالات وغيرهم من المحارم. والأصحُّ التخصيص بأزواج البنات. ثم سنذكر خلافاً في أن الأحفاد في الوصية للأولاد هل يدخلون تحت اسم الأولاد، فمن أدخلهم تحت الوصية للأولاد، أدخل أزواج الإناث من الأحفاد تحت الوصية للأَخْتان، فلو أوصى للأَخْتان، وكانوا قد طَلَّقوا البنات طلاقاً [يقطع] (4) الزوجية، وصادفنا البناتِ غيرَ ذواتِ أزواج يوم موت الموصي، فلا وصية للذين كانوا أزواجاً، فإنهم لم يكونوا أختاناً عند الموت، وقد يتجه [فيه] (5) قول [أنّا] (6) نعتبر حالة الإيصاء، وهذا يخرّج على أنا إذا ردَدْنا الإقرار للوارث، فيعبتر كونه وارثاً يوم الإقرار، أو يُعتبر ذلك يوم الموت؟ وكان شيخي أبو محمد يقول: هذا التردّد في الاقرار للوارث على قول ردّ الإقرار، فإنا [قد نعلّل] (7) ردَّ الإقرار بالتهمة، فأما الوصايا [فالاعتبار] (8) فيها بحالة

_ (1) البدائع: 7/ 350، الاختيار: 5/ 77. (2) في الأصل: فيه. (3) في النسختين، الحدود. (4) في الأصل: فقطع. (5) في الأصل: منه. (6) في الأصل: أنما. (7) في الأصل: فإنا به إبطال. (8) في الأصل: فلا اعتبار.

موت الموصي؛ فإنها ليست مبنية على [التهمة، ومقرّ] (1) الوصايا يوم الموت، فعلى هذا لو أوصى لأَختان بناته، وما كن مزوّجات، ثم تزوجن، وكن في حِبالة (2) أزواجهن يوم موت الموصي؛ فالوصية مصروفة إلى أزواجهن، ولو كن متزوجات يوم الموت فقبل الأزواج الوصية، ثم أبانوا البنات، فالوصية قد استقرّت لهم، ولو طلقوا ثم قبلوا، فإن وقع التفريع على أن الملك بالموت أو هو موقوف فالوصية تثبت لهم، وإن قبلوها بعد البينونة، فإن حكمنا [بأن الملك يحصل في الوصية بالقبول، ففي المسألة وجهان: أحدهما -] (3) أن الوصية تبطل إذا تقدمت البينونة على القبول؛ فإن التعويل [في] (4) هذا القول على القبول، وما كانوا أزواجاً يومئذ. والوجه الثاني - أن الوصية تثبت؛ فإن القبول إن (5) استعقب الملك، فالاعتبار في صفة الموصى له بيوم الموت، والمسألة محتملة. ولو تزوجن بعد موت الموصي، فهذا فيه تردّد أيضاً، مأخوذ مما ذكرناه، فإن اعتبرنا يوم الموت أو فرّعنا على الوقف، لم نصرف الوصية إليهم، وإن فرعنا على قول القبول، ففيه تردد مأخوذٌ ممّا قدمناه في تقديم البينونة على القبول، وإن طلق الزوج طلاقاً رجعياً، فهو زوج [ووجهه بيّن] (6). 7562 - ولو أوصى [لأصهاره] (7) فقد قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه: الوصية للأصهار وصيةٌ لأبوي المرأة، فإن أوصى لأصهار نفسه، دخل تحت الوصية أبو زوجته وأمها، وإن كانت له زوجات، دخل تحت الوصية آباء الزوجات وأمهاتهن

_ (1) في الأصل: التهم، وتقر الوصايا. (2) الحِبالة -بكسر الحاء- شبكة الصائد، واستعملت هنا مجازاً بمعنى رباط الزوجية. (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (4) في الأصل: على. (5) (س): قد استعقب الملك. (6) في الأصل: ووجهين (تداخلت الكلمتان). (7) في الأصل: لأمه إن.

فحسب، ولم يدخل تحتها أبوا امرأة ابنه (1 ولا أبو امرأة أبيه 1). وإذا خرج هؤلاء، فما الظن بسائر القرابات؟ والوصية للأحماء كالوصية للأصهار. ثم إذا جعلنا الوصيةَ للأصهار وصيةً لأبوي الزوجة، ففي أجدادها وجداتها تردد بين الأصحاب سيأتي له نظائر، إن شاء الله عز وجل. 7563 - ولو أوصى لأمهاتٍ [رجل، فالجداتُ] (2) من قبل الأم يدخلن لا محالة؛ فإنه لما ذكر الأمهات على صيغة الجمع، عرفنا أنه لم يُردْ قصرَ الوصية على الوالدة، وفي دخول الجدات من قبل الأب تردُّدٌ، والأظهر أنهن لا يدخلن. وإن أوصى لآبائه، دخل تحت ذلك الأجداد من قبل الأب، وهل يدخل الأجداد من قبل الأم؛ فعلى اختلافٍ وتردُّدٍ بين الأصحاب. ولو أوصى لأجداده، دخل الأجداد من الجهتين بلا خلاف. وكذلك إذا أوصى لجدّاته دخلت الجدات من الجهتين بلا خلاف، الوارثات منهن والساقطات عن الإرث بمثابةٍ في استحقاق الوصية. 7564 - ولو أوصى [لبني] (3) فلان، نُظر: فإن كانوا محصورين، وقد عزاهم إلى أب معلوم، وكان له بنون وبنات، فظاهر المذهب أنه يختص بالوصية الذكورُ من أولاده. ومن أصحابنا من قال: يدخل جميع أولاده الذكور منهم والإناث، وهذا بعيدٌ، لا اعتبار به. ولو أوصى لبني فلان، وذكر [قبيلة، مثل أن يوصي] (4) لبني شافع، فقد اتفق

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (س). (2) في الأصل: دخل بالجدات. (3) في الأصل: لشيء. (4) في الأصل: وذكر قبله إن وصى لبني شافع.

الأصحاب على أن اللفظ لا يخصص بالذكور؛ فإن القبائل يعبر عنها على هذا الوجه، ولكن يتعرض للتفصيل إمكانُ حصرهم، فإن كان الحصر ممكناً، فالوصية صحيحة، وإن لم يكن الحصر ممكناً، ففي المسألة القولان المذكوران في الوصية للعلوية ومن في معناهم. 7565 - ولو أوصى لأولاد رجل، يتناول الذكور والإناث، وهل يختص بأولاد الدِّنية (1)، أو يتناول الأحفاد؟ فيها خلاف مشهور، وظاهر النص أنه يختص بأولاد الصلب، فإن جعلنا اللفظ شاملاً لأولاد الصلب والأحفاد، فلا كلام، وإن خصصنا الوصية بأولاد الصلب عند وجودهم، فلو قال: أوصيت لأولاد فلان، ولم يكن له أولاد صلب إذْ ذاك وكان له أولاد أولاد، ففي المسألة خلاف. ثم إن قلنا: إنهم يدخلون، فيدخل أولاد بنيه، وهل يدخل أولاد بناته على هذا الوجه؟ وجهان، وسبب التردّد أن انتساب أولاد بنيه إليه بوسائط [البنين] (2)، وانتساب أولاد بناته إلى أزواجهن، وهذا معنى قول القائل: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد (3) وإن أوصى لإخوة فلان، فقد قال أبو حنيفة (4) والشافعي: إن كانوا ذكوراً استحقوا الوصية وإن كن إناثاً، لم تصرف الوصية إليهن، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً إخوة وأخوات، فمذهب أبي حنيفة وظاهر نص الشافعي أنه يختص بالوصية الإخوة دون الأخوات، وقال أبو يوسف ومحمد: هو لجميعهن.

_ (1) (س): الذرية. (2) في النسختين: "البنت". (3) البيت من شواهد ابن عقيل (الشاهد رقم 51) قال محيي الدين عبد الحميد: "نسب جماعة هذا البيت للفرزدق، وقال قوم: لا يُعلم قائله مع شهرته في كتب النحاة وأهل المعاني والفرضيين". (شرح ابن عقيل: 1/ 233). (4) ر. البدائع: 7/ 345، الاختيار: 5/ 81، 82.

7566 - ولو أوصى لمولاه، فاسم المولى يتناول المعتِق، وهو المولى (1 الأعلى، وقد يتناول المعتَق، وهو المولى 1) الأسفل، قال مالك (2): الوصية للمولى مصروفة إلى الأسفل. وقال أبو حنيفة (3): إن لم يبين، فالوصية باطلة، وقال أبو ثور: يقرع بين الأعلى والأسفل، وحكى البويطي عن الشافعي قولين: أحدهما - أنه يوقف بينهم حتى يصطلحوا. والثاني - أنه يقسم بين الأعلى والأسفل. وهذا إذا وُجد الموليان، فإن كان لا يوجد إلا أحدهما، صرفت الوصية إلى ذلك الصنف، فإن اقتضى الحال صَرْفَ الوصية إلى المعتَقين، فكل من يثبت له الولاء عليه داخلٌ تحت الاستحقاق سواء كان متبرعاً بالعتق، أو مؤدياً فرضاً، كالذي يعتق عن كفارة أو وفاء [نذر] (4)، وهل يدخل تحت الوصية أمهات الأولاد والمدبّرون الذين يعتِقون عند الموت؟ اختلف أصحاب الشافعي [في ذلك] (5) فمنهم من قال: لا يدخل هؤلاء، وبه قال محمد بن الحسن، وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف. ومنهم من قال: يدخلون، وهو الرواية الثانية عن أبي يوسف، وليس ذلك بعيداً عن القياس، ومولى الموالاة والمحالفة ليس من الموالي عند الشافعي رضي الله عنه.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (س). (2) ر. المدونة: 6/ 74، حاشية الدسوقي: 4/ 433. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 57 مسألة 2191، البدائع: 7/ 342. (4) في الأصل: يقدر. (5) زيادة من (س).

فصل 7567 - إذا أوصى لجيرانه، فقد قال الزهري (1): حدُّ الجوار أربعون داراً من كل ناحية، وهذا هو الذي ذكره العراقيون مذهباً لنا، ولم يعرفوا غيره، واستدلوا فيه بمذهب عائشة رضي الله عنها، والظن بها أنها لا تحتكم بذلك إلا [عن] (2) ثبت عندها (3). وللعلماء في ذلك مذاهب مختلفة، والظاهر من مذهب أصحاب الشافعي أن الجار هو الملاصق من الجوانب لا غير، وهذا مذهب أبي حنيفة (4)، وهو القياس؛ لأن الجار من المجاورة، ومعناها الظاهر الملاصقة، فإن حُملت على مزيدٍ، فلا منتهى له يوقف عنده، فيجب الاقتصار على القدر المعلوم. واختلف أصحابنا في الذين يجمعهم زقاق غير نافذ، فهل نجعلهم جميعاً جيرانا؟ فيه اختلاف، ومحل الخلاف في الذين لا يلاصقون. وكذلك اختلف الأصحاب في الجار المحاذي وإن كانت السكة نافذة، وسبب الاختلاف أنه يسمى في العرف جاراً، وقد يقال: في تقسيم الجيران: جار ملاصق، وجار مقابل. ثم من [رأى] (5) إدخال الجار المحاذي، فلا يشترط الحذاء المحقق على معنى

_ (1) الزهري: سبق له ذكرٌ في الطهارة، وفى الفرائض. (2) في الأصل: بمن. (3) قال النووي عن الصرف إلى أربعين داراً: هذا هو الصحيح المعروف للأصحاب، والثبت الذي يشار إليه عند عائشة رضي الله عنها: "أربعون داراً جار". وفي رواية: "أوصاني جبريل بالجار إلى أربعين داراً" رواه البيهقى: 6/ 276، وقال: كلاهما ضعيف، وإنما يعرف عن طريق الزهري مرسلاً ا. هـ رواه أبو داود في المراسيل بسند رجاله ثقات ر. التلخيص: 3/ 201 ح 1427. (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 50 مسألة 2185، الاختيار: 5/ 77. (5) في الأصل: رأس.

المسامتة، ولكن لو زال عن الحذاء قليلاً، فهو كالمحاذي، والضبط في هذا الفن أن يكون داره من دار الموصي بحيث يتوقع منها ضرار الاطلاع، وفي مثل ذلك نذكر ضرار الجار ونقيضه، وهذا نبينه على تفصيلٍ في اتساع الطريق وضيقها؛ فإن الشارع إذا اتسع، فلا يكون المحاذي من الجانب الآخر جاراً. وإذا ضممنا إلى ما ذكرنا ما ذكره العراقيون ورأوه مذهباً، انتظم منه أوجهٌ، لا يخفى تعدادها، فهذا اقصى الإمكان في ضبط معاني هذه الألفاظ المشكلة. وإنما ذكرنا في بعضها مذاهب العلماء إشعاراً بإشكالها؛ حتى يأخذ الفقيه في نظره فيها حِذْرَه، ويتثبت في الفتوى جهده، فقد بلغنا في بعض مسموعاتنا أن المسألة الجلية كانت تُعرض في جمع من علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتفادَوْن (1) في الجواب، ويحيل البعض على البعض، فربما يخرج السائل ولا جواب معه. 7568 - ومما يتعلق بالألفاظ المذكورة في الوصايا أنه إذا أضاف الوصيةَ إلى صنفٍ من أصناف الزكاة، فسيأتي بيان أوصافهم في قَسْم الصدقات. والقدر الذي نذكره هاهنا أن الفقراء يتميزون عن المساكين، والفقير أشد حالاً من المسكين، فإن وقعت الوصية للفقراء والمساكين جميعاً، فرَّقنا بينهما بما سنذكره في الصدقات، وإن أوصى للفقراء، فهذا الاسم في الانفراد [يصلح] (2) للفقراء والمساكين جميعاً، لم يختلف علماؤنا فيه، وكذلك إذا أوصى للمساكين، فهو يتناول الفقراء وأهل المسكنة، وكأن اللفظين لا يستقل واحد منهما بمزيّة حتى يجتمعا، [فنتحقق] (3) عند اجتماعهما فرقاً.

_ (1) (س): يتدافعون. (2) في الأصل: أصلح، و (س): لا يصلح. والمثبت تقدير منا على ضوء الآتي من عبارة الإمام. (3) في الأصل: مسحر (هكذا بدون نقط) وفي (س): يتنجز، والمثبت تقدير منا.

فصل 7569 - إذا أوصى لأرامل بني فلان فقد قال الشعبي (1): هذا يقع على الرجال والنساء، وبه قال إسحاق بن راهويه (2) واستدلوا بقول [جرير] (3): هذي الأرامل قد قضيت حاجتَها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر وقال الشافعي رضي الله عنه: الأرامل هن اللواتي مات عنهن أزواجهن، أو بِنَّ عنهم بسبب من الأسباب. ثم اختلف أصحابنا في أنا هل نشترط مع ذلك فقرهن ليدخلن تحت الوصية للأرامل؟ وظاهر النص يشير إلى اشتراط الحاجة والخِلة، ثم إن كن محصورات، صحت الوصية، وإن لم يكنّ محصورات، صحت الوصية أيضاً، ويحمل على أقل الجمع. وليست الوصية لهن كالوصية للعلوية؛ فإن ما وصفن به لا يلزمهن أيضاً [كما لا] (4) يلزم الفقر والمسكنة. ولو أوصى لأيامى بني فلان، كانت الوصية مصروفة إلى غير ذوات الأزواج، والفرق بين الأيامى والأرامل أن الأرملة هي التي [كان] (5) لها زوج، والأيم هي التي ليست ذاتَ زوج في الحال، ولا فرق بين أن يتقدم لها زوج أوْ لا تكون نكحت قط، ثم لا فرق عندنا بين الأبكار والثُّيب (6)، فاسم الأيامى يشملهن، وفي اشتراط الفقر،

_ (1) الشعبي: سبق له ذكر في الفرائض. (2) إسحاق بن راهويه: سبق في الفرائض. (3) في النسختين: الفرزدق، والتصويب من اللسان، والأساس. وقال في الأساس: ولا يقال شيخ أرمل إلا أن يشاء شاعر تمليح كلامه، ثم ساق البيت شاهداً. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: هي التي لأن لها زوج. وهذا يؤكد ما قلناه في وصف النسخة. (6) الثُّيب: بضم المثلثة مشدّدة، وبفتح المثناة التحتية المشددة. قال في المصباح: إنه من كلام المولَّدين وليس بمسموع.

والوصيةُ للأيامى تردّد كما ذكرنا في الأرامل؛ فإن كلّ واحد من اللفظين يشعر بعدم الكافل، وذلك يشير إلى الحاجة. ولو أوصى لكل ثيب من بني بكر، فالذي ذهب إليه أكثر أصحابنا أن الوصية للنساء دون الرجال، وهو مذهب أبي حنيفة (1). ومن أصحابنا من قال: يدخل الرجال الذين جامعوا تحت اسم الثيب. وكذلك لو أوصى لكل بِكرٍ من بني فلان، ففي المسألة وجهان في دخول الرجال. وإنما صار إلى الوجه الضعيف من صار إليه لقول رسول الله عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائةٍ وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم" (2). 7570 - ومن الألفاظ التي تستعمل في الوصايا الغلمان، والشيوخ، والكهول، والأطفال، والصبيان، والفتيان، قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد (3): الغلام من لم يحتلم ولم يبلغ خمس عشرة سنة، وكذلك القول في الطفل والصبي، وكذلك الذراري. وفي طريق العراقيين ما يدل على أنا لا نشترط في الذراري الصِّغر، وهم النسل والأولاد كيف كانوا، ومن خالف في أن اسم الولد هل يتناول الحافد، ذهبوا إلى [أن] (4) الذرية يتناول الأولاد والأحفاد، فقال أبو يوسف: يكون الإنسان بعد البلوغ فتًى إلى ثلاثين سنة، ثم كهلاً إلى خمسين سنة، ثم يكون بعدها شيخاً إلى آخر عمره. وقال محمد بن الحسن: هو بعد البلوغ فتى إلى أربعين سنة، ويسمى شاباً في هذه المدة، ثم يكون كهلاً إلى خمسين، ثم شيخاً إلى آخر عمره، وهذه الألفاظ معانيها مشكلة في الإطلاق، ولكنا نعلم أن الطفولية إلى تهيؤ الجبلّة لثبوت مادة الزرع فيها،

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 7/ 348. (2) الحديث سيأتي في الحدود إن شاء الله. (3) ر. الاختيار: 5/ 81. (4) سقطت من الأصل.

ثم من هذا الوقت في كل جبلّة [نموٌّ] (1) وازدياد في الجسم والقوى، ثم إذا انتهى النمو، ظننا [وقوفاً] (2) في مدة، فإذا انتهى ابتدأ النقص. والشباب من كمال الجبلّة وتهيئها لأن تولد مادة تصلح لمثلها، ومن هذا الوقت شباب إلى منقرض وقت النمو، ووقتُ الوقوف كهولة. فإذا ابتدأ النقصان الجبليِّ، فهو شيخوخة إلى منقرض العمر. ثم هذه الأطوار لا تنضبط بمددٍ معلومة في جميع الجبلات؛ فإنها مختلفة في البنية والقوى، وورد في الشرع [ضبطٌ زماني] (3) في البلوغ إن استأخر الحكم، فلو ورد مثلُه في هذه الأطوار، لاتبعناه، هذا إلى اختلال الأبنية [بالاعتلال] (4) والعوارض، فكيف السبيل والذي أطلقه الأصحاب الرجوع إلى العرف، وإلى ما يفهم منه في الجبلات المختلفة؟ ولست أرى في ذلك متمسكاً شرعياً أو جبليّاً، والقدر الذي ورد الشرع به ذكْر الأربعين، فإنها الأشُدّ في التفسير الظاهر، وقد شهد بذلك نصّ القرآن قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] وإذا غمض المدرك في شيء، واستبهم الأمر، اكتفى الفطن بالمتعلق الذي لا يتعلق بمثله إذا اتسع المجال. هذا، ولا نصَّ لصاحب المذهب، وليس ما [نُجريه] (5) من الأمور الوجودية، كأدوار الحيض، وسن الاحتلام، ومدة الحمل في الأقل والأكثر. ولست أنكر [مع] (6) ذلك الالتفاتَ إلى شيئين: أحدهما - الضعف الذي لا يحمل على الأعراض والأمراض، ووخط المشيب الذي لا يحمل على الندور، مع أنه قد

_ (1) في الأصل: ثمر. (2) في الأصل: وقوف. (3) في الأصل: ضبط زمانٍ. (4) في الأصل: الأعلال. (5) في الأصل: ما تحريمه. (6) في الأصل: منع.

يُمتَّع بالسواد الشيخ ويبادر الشابَّ الشيبُ، هذا إلى الاستمساك [بما المرء] (1) فيه إلى ظهور الزوال، على أني ذكرت من مذهب السلف ما يضطرب (2) ذو الرأي فيه. 7571 - ولو أوصى ليتامى بني فلان، فيستوي في ذلك الذكور والإناث، وهم الذين لا آباء لهم، [ولا يتم] (3) بعد البلوغ، اتفق عليه أصحابنا، ونطق به الخبر الصحيح (4)، وهل يشترط الفقر، واسم الأيتام مطلق؟ فعلى وجهين، وهذا الخلاف يجري في كل صفة [تذكر] (5) في الوصية مشعرة بعجزٍ في النفس أو انقطاعٍ كامل، كالوصية للعميان والزمنَى والأرامل واليتامى والأيامى. فأما الوصية للصبيان، فلا تقتضي فقراً وفاقاً، وكذلك الوصية للشيوخ. ولا يخفى على المتأمل الفرق. ثم يجري في جميع المسائل انحصار الموصى لهم وخروجهم عن الحصر، وترتيب المذهب على ما تقدم في بيان محل الوفاق والخلاف. 7572 - ولو أوصى لعقب فلان، يتناول ذلك الأولادَ والأحفادَ وإن سفلوا، ولا فرق بين الذكور والإناث. وذكر بعض الأصحاب أنه إذا كان لمن أوصى لعقبه أولادُ صُلبٍ (1 وأولاد أولادٍ،

_ (1) في الأصل: بما المرافيه. وفي (س): بما ألم فيه. والمثبت قراءة للأصل على ضوء المعنى والسياق. (2) "يضطرب" من (المضطرب) بمعنى المجال والسعة، والمعنى: ذكرت من مذهب السلف ما فيه مجال لتدبر الرأي واختياره. (3) في الأصل: ولا يتهم. (4) الحديث: رواه أبو داود: الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم، ح 2873، قال الحافظ: أعله العقيلي، وعبد الحق، وابن القطان والمنذري، وحسنه النووي، متمسكاً بسكوت أبي داود عليه، ورواه أيضاً الطيالسي والطبراني في الصغير. ر. تلخيص الحبير: 3/ 217 ح 1463. (5) في الأصل: صفة تؤكد.

فالوصية مصروفةٌ إلى الأَدْنَيْن، فإن لم يكن له أولاد صلب 1)، فإلى الأقرب فالأقرب (2) من الأحفاد. وهذا غير صحيح عندي؛ فإن اسم العقب في وضعه يتناول الأولاد وأولاد الأولاد، وإن سفلوا، فلا معنى لتخصيص هذا اللفظ المطلق بالأدنَيْن، ولعل الذين رأَوْا ذلك أخذوه من الخلافة، فإن أولاد الدِّنْية يعقبون من الموروث [خلافة] (3)، فإن لم يكونوا، فأولاد الأولاد يعقبونه، وهكذا على ترتيب البطون. ولو أوصى لعقب فلانٍ، ومات الموصي، والمذكورُ عقبه حيٌّ بعدُ، قال جماهير الأصحاب: بطلت الوصية؛ فإنه ما دام حيّاً، فليس يعقبه أحد، وهذا جارٍ على قياس تقديم الأقرب فالأقرب؛ فإنا إذا كنا نفهم من العقب من يعقب، فالحي لا يعقبه أحدٌ وهو حي، ومعنى العقب عند هذا الإنسان من [تقدّم العقب غيرُه] (4). والظاهر عندنا (5) أن الوصية تصح إذا كان له أولادٌ؛ فإنهم يسمون أعقاباً في حياة الإنسان. 7573 - ولو أوصى لورثة إنسان، فالوصية لكل مَنْ ورثه من ذكر أو أنثى بنسب أو بسبب، غير أن الموصى به في الإطلاق موزّع عليهم بالسوية، وإن اختلفت حصصهم في الاستحقاق بالميراث. ولو أوصى لورثة فلان ومات الموصي ومن يُنسب الورثةُ إليه حي، فقد قال الأصحاب: تبطل الوصية، وقولهم في هذا أظهر؛ فإن الوراثة لا تتبين في حياة

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (س). (2) (س): فالأقرب بالإرث. (3) في الأصل: خلاف. (4) في الأصل: تقدم يعقب عنده. (5) هذا الذي اختاره الإمام هو الذي قطع به صاحب (العدّة) وجعله مذهبنا، وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى. ا. هـ عن النووي في الروضة: 6/ 180.

الإنسان. فإن كان يتطرق إليه احتمال، فيشترط فيه الوقوف إلى أن يموت، ونتبين من يرثه من الموجودين [عند موت الموصي. وإذا قلنا: تصرف الوصية إلى عقبه وهو حي] (1) فقد يحتمل أيضاً أن نتوقف حتى نتبين من يعقبه. ومن هذا التنبيه يتبيّن ظهور كلام الأصحاب. ولو أوصى لورثة زيد، ثم مات ولم يكن [له] (2) وارث خاص، فالوصية باطلة، ولا نقول: كأنه أوصى للمسلمين، لأنهم يرثونه؛ فإن الوراثة في هذه المنزلة حكم لا يتلقى مثله من موجب الألفاظ. ولو أوصى لورثة فلان، فمات فلان، وخلفته بنتٌ واحدة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة على وجهين: منهم من قال: يصرف إليها جميع الوصية، وإن لم نقل بمذهب الردّ. ومنهم من قال: نصرف إليها نصفَ الوصية ويبطل النصف منها. ثم قال الأصحاب: إن أوصى لعصبة فلان، فمات الموصي وفلان حيّ، فالوصية تصح لعصبته، ولا يشترط موته في استحقاق الوصية عند موت الموصي، وليس كالورثة؛ فإن هذا اللفظ يشعر بالوراثة، ولا وراثة في الحياة، وليس كالعقب؛ فإنه يشعر بالخلافة، ولا خلافة في الحياة. وهذا حسن متجه. ثم قال الأصحاب (3) في الوصية للعصبة: "أولاهم بالوصية أولاهم بالعصوبة" وهذا مستقيم لا يسوغ غيرُه؛ فإن حكم العصوبة يثبت للأقربين. هذا منتهى ما بلغنا من الكلام في هذه الألفاظ المدارة في الوصايا.

_ (1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (س). (2) مزيدة من (س). (3) عبارة (س) فيها خلل: ثم قال الأصحاب للوصية بالعصبة: أولاهم بالعصوبة، وهذا مستقيم.

ولو أوصى لعترته، قال العراقيون: قال ثعلب (1) وابن الأعرابي (2): العترة هم الذرية، وقال القُتبي (3): العترة هم العشيرة، وعشيرة الرجل قرابته، وردّد العراقيون قولَهم لتردد أئمة اللغة. والله أعلم. ...

_ (1) ثعلب وابن الأعرابي: هما من أئمة اللغة. وثعلب هو: أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني، أبو العباس، إمام الكوفيين في النحو، صاحب الفصيح، ومجالس ثعلب، ومعاني القرآن، وإعراب القرآن ت 291 هـ. (ر. أعلام الزركلي، وتذكرة الحفاظ: 2/ 666 ترجمة رقم 686 من الطبقة العاشرة، ورقمه فيها 32، وتاريخ بغداد: 5/ 204 ترجمة رقم 2681) وهو في تذكرة الحفاظ: أحمد بن يحى بن يزيد (بدلاً من زيد). (2) ابن الأعرابي هو: محمد بن زياد، أبو عبد الله، علامة باللغة، وأحد المشار إليهم في معرفتها، ومن أشهر حفاظها، كان ثقة، قال عنه ثعلب المذكورآنفاً: انتهى إليه علم اللغة، له العديد من المؤلفات بين مخطوط ومطبوع توفي سنة 231 هـ (ر. تاريخ بغداد: 5/ 282 - ترجمة رقم 2781، والأعلام للزركلي). (3) القتبي هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري، أبو محمد اشتهر بابن قتيبة، ولكن إمام الحرمين يذكره باسم القُتبي، وهو العلامة الكبير، ذو الفنون، نزل بغداد، وصنف وجمع، وبعُد صيته، كان ثقة ديناً فاضلاً، من المكثرين تصنيفاً، فمن ذلك: غريب القرآن، غريب الحديث، ومشكل القرآن، ومشكل الحديث، وإصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث. ذكره إمام الحرمين في البرهان في مراتب العلوم، والخلاف في المحسوسات، وهل كلها في درجة واحدة؟ وقال عنه: "إنه ولاّج هجوم على ما لا يحسنها". وقد ردّ هذا عن القتبي العلامة المحقق السيد أحمد صقر، في مقدمته لتحقيق تأويل مشكل القرآن، فراجع هذا إن أحببت، توفي ابن قتيبة سنة 276 هـ، وقيل: 270. (ر. صير أعلام النبلاء: 13/ 296، وتاريخ بغداد: 10/ 170 - 171، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 281، والبرهان لإمام الحرمين: فقرة: 52، والأعلام للزركلي).

باب ما يكون رجوعا في الوصية

باب ما يكون رجوعاً في الوصية 7574 - العطايا المحتسبة من الثلث تنقسم، فمنها: ما ينجزها المريض في حياته ويتممها في ظاهر أمره، فما كان كذلك لم يملك هو في نفسه استدراكه، وإن كنا قد نردّ ما يزيد منهما على الثلث، إذا مات من مرضه الذي يتبرع فيه، وهذا كالعتق المنجز والهبات المبرمة بالقبض والصدقات، والإبراء المنجّز، والمحاباة في البيع والشراء. وأما الأعطية التي [يُضيفها] (1) إلى حالة الموت، [فهي] (2) محسوبة من الثلث، فجملتها وصايا، والموصي بها يملك الرجوع في جميعها، إلا التدبير، ففيه قولان: أحدهما - أنه بمثابة الوصايا، وفائدة ذلك تمليك المدبِّر الرجوع عن التدبير لفظاً، مع إدامة الملك على الرقبة. والقول (3) الثاني - أنه [تعليق] (4) عتق. وفائدة ذلك أنه لا يملك الرجوع عن التدبير لفظاً، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب التدبير، إن شاء الله تعالى. وحظ هذا الباب منه ما يتعلق بحكم الرجوع، هذا تمهيد قاعدة الباب. 7575 - ثم التبرعات الجارية في مرض الوفاة إذا تمت تصرف المتبرَّعُ عليه تصرف مثله لو جرى التبرع في الصحة من المتبرّع، وإن كنا في الزائد على الثلث [ننعطف

_ (1) في الأصل: تصنيفها. (2) في الأصل: وهي. (3) (س): والوجه الثاني. (4) في الأصل: يتعلق.

نتعقب] (1) تلك التصرفات بالنقص [تبيّناً] (2) من غير إنشاء نقض، وقد نتبين بطلان جميعها، إذا ركب المريضَ دينٌ مستغرق المال. ومما يفارق التبرعاتُ فيه الوصايا المضافةَ إلى الموت أن الوصايا تقع محسوبة من الثلث، وإن وقع الإيصاء بها في الصحة؛ نظراً إلى حالة الموت، والتبرعات الواقعة في الصحة لا تحتسب من الثلث، ولو جرى تعليق في الصحة [في] (3) عتقٍ ووجد الصفة في مرض الموت المعلق، فللأصحاب وجهان مشهوران في أن الاعتبار بحالة التعليق أم بحالة وقوع العتق؟ وسيأتي شرح ذلك في موضعه من كتاب العتق، إن شاء الله تعالى. 7576 - وقد تمهد أن الرجوع في الوصايا سائغ، والباب معقود لبيان ما يكون رجوعاً عن الوصية وما لا يكون رجوعاً عنها، فنقول: ما يقع به الرجوع ينقسم إلى ما هو صريحٌ في الرجوع، وإلى ما يتضمن الرجوع. فأما التصريح في الرجوع، فإذا قال: رجعت عن هذه الوصية، أو قطعتُها، أو رفعتها، أو أبطلتها، أو نسختها، فهذه الألفاظ [وما في معناها] (4) رجوعٌ. ولو قال: حرمت هذه العين على فلان، وكان قد أوصى له بها، فظاهر المذهب أن هذا يكون رجوعاً عن الوصية؛ [فإنا] (5) نكتفي في ثبوت الرجوع [بمخايل] (6) وعلامات في الأقوال والأفعال، سنشرحها في الباب، ولفظ التحريم أوضح منها وأولى [بإفادة] (7) الرجوع. 7577 - ولو قيل له: أوصيتَ لفلان، فأنكر، وقال: ما أوصيتُ، فالذي ذهب إليه

_ (1) في الأصل: ينعطفه يعقب، و (س): نعطيه تعقب. والمثبت تقديرٌ منا. (2) في الأصل: ميتاً. (3) في الأصل: (من). (4) في الأصل: وما يعطى منها. (5) في الأصل: فإنما. (6) في الأصل: بحال. (7) في الأصل: فأفادة.

الأصحاب، وهو ظاهر النص أن هذا يكون رجوعاً، وقد يتجه في هذا نوعٌ من الاحتمال؛ من جهة أنه قد ينسى الوصيةَ، فينكرها، والإنكار إخبار، وليس بإنشاء قطع (1). ولو قيل له: أوصيتَ لفلان، فقال: لا أدري، فهذا لا يكون رجوعاً عند الشافعي رضي الله عنه إذا كان أوصى، خلافاً لأبي حنيفة (2). فهذا ما يكون رجوعاً تصريحاً، أو تلويحاً بقولٍ مقصودٍ في إظهار الرجوع. وانتظم منه أن النص في الرجوع يقطع الوصية، واللفظ الظاهر كالتحريم فيه تردّدٌ، والتصريح [بالإنكار] (3) ملتحق بالظاهر عندي، والنص قول الأصحاب فيه ما ذكرته، وهذا كلامٌ في قسمٍ واحدٍ. 7578 - فأما القسم الثاني، فهو ما لا يكون رجوعاً صريحاً، ولكنه يتضمنه، وذلك ينقسم إلى تصرفاتٍ بالأقوال وإلى تصرفاتٍ بالأفعال. فأما الأقوال، فما يتضمن [بتَّ] (4) الملك، فلا شك أنه يقتضي رجوعاً [مثل أن يوصي بعبد لإنسان، ثم يبيعه] (5) بيعاً لازماً، فهذه التصرفات تنفذ متضمنةً رجوعاً. فأما ما لا يتصف باللزوم [ولكنه] (6) يشعر بقصد الرجوع، فقاعدة المذهب أنه يتضمن الرجوع، فإن كان من تردّدٍ [في] (7) بعض المسائل، فهو لاعتقاد من يتردد في بُعد المسألة عن القاعدة.

_ (1) (س): قطعي. (2) رُوي في البدائع عن أبي يوسف في نوادره "أنه قال في رجل أوصى بوصية ثم عُرضت عليه من الغد، فقال: "لا أعرف هذه الوصية" قال: هذا رجوع منه" ثم عرض صاحب البدائع، صوراً ومسائل متعددة، فلتراجع. (البدائع: 7/ 380). (3) في الأصل: بالأفكار، (س): بإنكاره. والمثبت اختيار منا. (4) في الأصل: بقاء. (5) ما بين المعقفين زيادة من (س). (6) في الأصل: ويمكنه. (7) ساقطة من الأصل.

قال الأئمة: لو عرض العينَ الموصى بها على البيع، كان ذلك رجوعاً منه، وإن لم يبعها، وكذلك قالوا: لو وكل ببيعها، كان ذلك بمثابة العرض على البيع، فلعله أظهر في الدلالة على قصد الرجوع. ولو رهن، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يكون رجوعاً؛ فإن مقصود الرهن بيعُ المرهون في الدين، فلا ينحط الرهن عن العرض على البيع. والوجه الثاني - أن الرهن لا يكون رجوعاً؛ فإن [الذي] (1) يُضمر إبقاء الوصية قد [يرهن] (2) الموصى به لحاجة [باديةٍ] (3) مع إبرامه العزم على فك الرهن، فليس الرهن إذاً من علامات الرجوع، وليس كذلك العرض على البيع؛ فإنه تحكُّمٌ خاص في الدلالة على البيع القاطع للوصية. ولست أرى في الرهن فرقاً بين أن يتصل بالإقباض وبين ألا يتصل به؛ فإنه إنما يكون رجوعاً -إذا كان- لدلالته على القصد، وهذا لا يختلف بوجود الإقباض وعدمه. ولو وهب العين الموصى بها، يجب القطع بكون ذلك رجوعاً؛ فإن الهبة عقد تمليك، وظهور القصد كافٍ، ثم لا يتوقف حصول الرجوع على الإقباض، وذكر بعض الناقلين خلافاً في الهبة قبل القبض، وهذا مما لا نستجيز عدَّه من المذهب. وإذا رأينا العرض على البيع رجوعاً، فإذا جرى البيع على شرط الخيار، لم يسترب الفقيه في كونه رجوعاً، وإن فسخ العقد، وسرُّ هذا الفصل أن [مبنى] (4) الوصية على تقدّم الإيصاء على القبول بزمانٍ متطاولٍ، والعقود التي ينبني انعقادها على الإيجاب والقبول المتصلين لو تخلل [بينهما] (5) قاطع، لقضينا بانقطاع الإيجاب عن

_ (1) في الأصل: الذين. (2) في الأصل: رهن. (3) في الأصل: بإذنه. (4) في الأصل: معنى. (5) في الأصل: فيهما.

القبول، ولا يشترط في الوصية وقبولها تواصلٌ زماني، ولكن إذا جرى من [الموصي] (1) عَلَمٌ ظاهر في الرجوع، كان ذلك خَرْماً للإيصاء، وقطعاً له. وهذا يتضح بذكر أصولٍ يفرض في مثلها رجوع، والغرض بذكرها امتيازها عما نحن فيه، فالراجع في هبته بعد الإقباض وإن ملك الاستبداد بالرجوع لا يصح رجوعه بالمخايل والعلامات؛ فإن رجوعه في حكم تملك جديد، حتى نقول: لو أعتق العبدَ الموهوبَ المسلَّمَ (2)، لم ينفذ عتقه عند بعض الأصحاب، ما لم يقدِّم على العتق رجوعاً، ولو باع، فالبيع أولى بالرّد من العتق. ومن باع عبداً بشرط الخيار، ثم عرضه على البيع، فلسنا نرى العرض على البيع فسخاً منه، بخلاف الوصية. 7579 - والغرضُ في ذلك يتبيّن بنظم ترتيبٍ: أما الرجوع في الهبة بعد التمام، فيليق به التصريح بالرجوع؛ فإن الهبة بعد التمام أفادت تمام نقل الملك، وليس [ملك] (3) الرجوع في الهبة خياراً في عقدٍ، وإنما هو تسلط -على ملك الغير- شرعيٌّ. (4 والرتبة الثانية 4) في الفسخ -[الفسخُ] (5) من البائع في زمان الخيار، [فهذا] (6) يصادف جوازاً من العقد، ولكن العقد [ثَمَّ يسعه] (7)، فإن لم يصرح الفاسخ بالفسخ، فلا بد من أحد أمرين: إما أن يتصرف تصرفاً يستدعي نفوذُه الفسخَ، كالإعتاق والبيع، وإما أن يأتي بعلامة في نهاية الظهور كالوطء. ولسنا نلتزم الآن ذكرَ تلك التفاصيل؛ [فإنا] (8) استقصيناها في أول البيع، وإنما

_ (1) في الأصل: المرض. (2) ساقطة من (س). (3) في الأصل: تملك. و (س): وليس ملك الهبة في الرجوع. (4) ما بين القوسين ساقط من (س). (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: هذا. (7) كذا بالأصل، وفي (س): لم نسعه. (8) في الأصل: فإنما.

غرضنا التنبيه على المراتب لنفصل البعض منها عن البعض. 7580 - ثم الذي نستقصيه الآن ما يتعلق بالوصية، [فالوصية] (1) إذاً مستأخرة عن المرتبتين؛ من جهة أنه لم يثبت إلا أحد شقيها، فلا هي أفضت إلى إثبات حق، ولا أدّت إلى انعقاد عقد، فوقع الاكتفاء بعلامةٍ تخرم الإيصاء. والذي يدور في الخَلَد عند ذلك أنه لو عَرَضَ الموصى [به] (2) على البيع، ثم قال: كنت نسيت الإيصاء به، أفنقول: انبتّت (3) الوصية ظاهراً وباطناً، أم نقول: الوصية بحالها؟ هذا فيه تردد، والظاهر انقطاع الوصية ظاهراً وباطناً؛ فإنه اختل الإيصاء في هذه العين بما جرى [وانقطع] (4) الإيصاء عن القبول. وفي المسألة احتمال. 7581 - ومما يتعلق بهذا القسم أنه لو أوصى لإنسانٍ بعبد، ثم إنه دبره، فهذا يستدعي تقديم مسألةٍ مقصودة في نفسها، وبها يحصل الغرض فيما ذكرناه: أجمع الأصحاب في الطرق على أن من أوصى بعبدٍ معين لزيد، ثم لم يتعرض لتلك الوصية، وأنشأ (5) إيصاءً بذلك العبد لعمرو، قال فقهاؤنا: العبد مشترك بين الرجلين إذا تمت الوصية؛ فإن كل واحد منهما [موصًى له، فيصيران فيه بمثابةٍ] (6)، وإذا ازدحم شخصان على هذه النسبة على عينٍ، اقتضى ذلك تشطيرها بينهما، وقد ذكرنا في ذلك قواعد ومسائل في الوصية بالكل والجزء، ثم نبهنا في هذا على [دقيقة] (7) وقلنا: الاقتسام يقع على حكم الازدحام من غير فرض رجوع عن الوصية الأولى، حتى لو لم يقبل الموصى له الثاني ورَدَّ، فالعبد بكماله مصروف إلى الأول، وهكذا يكون سبيل القسمة التي تقتضيها الزحمة.

_ (1) في الأصل: والوصية. (2) في الأصل: الموصى له. (3) (س): فنقول: ثبتت الوصية. (4) في الأصل: ما يقطع. وعبارة (س): في هذه العين وانقطع الإيصاء. (5) (س): وأوصى أيضاً بذلك العبد لعمرو. (6) في الأصل: فإن كل واحد منهما يصرف منه بتمامه. (7) في الأصل: على وفقه.

ومن (1) لم يعتقد هذه المسألة حسيكة في باب الرجوع، فليس من الفقه على حظّ؛ فإنا إذا كنا نرى ارتفاع الوصية بالعلامات القريبة، فالوصية [بكمال] (2) الموصى به لغير الموصى له الأول في نهاية الظهور في قصد الرجوع عن الوصية الأولى. [وقد] (3) قال الأئمة: إن ذكر في الوصية الثانية لفظةً تدل على الرجوع عن الأولى، كان رجوعاً عنها، وذلك أن يقول: العبد الذي أوصيت به لفلان قد جعلته لفلان، أو العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان، أو العبد الذي أوصيت به لفلان قد أوصيت به لفلان. وقالوا: هذه القرائن تتضمن الرجوع عن الوصية الأولى، وإنما يحمل الأمر على ازدحام الوصيتين إذا جرت الوصية الثانية مطلقةً، من غير تعرضٍ للوصية الأولى، وما ذكروه الآن من أن الرجوع يثبت في الوصية الأولى جارٍ على قياس الباب، وإنما الإشكال في أن الوصية كيف لم تكن رجوعاً عن الوصية السابقة؟ فهذا لا وجه في تعليله إلا أن الوصايا يثبت فيها أصل الازدحام، وصار ذلك قانوناً متبعاً [وأصلاً] (4) في حكم المتفق عليه، (5 فالوصايا تزدحم على الثلث إذا زادت عليه ورُدّت إليه 5)، [فكل ما ظهر حمله على الزحمة ولم يقترن] (6) به أمر زائد على اقتضاء الزحمة، فهو محمول عليها. فأما إذا انضم إلى ذلك مزيدٌ في التعرض [للوصية] (7) الأولى، فإذ ذاك يقع الحكم بالرجوع. فهذا هو الممكن في ذلك. 7582 - رجعنا إلى ما ذكرناه من تدبير العبد الموصى به، قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا أوصى الرجل بعبده لإنسان، ثم إنه دبّر ذلك العبدَ، ولم يتعرض للوصية

_ (1) (س): ولم يعتقد هذه حسيكة. (2) في الأصل: فكمال. (3) في الأصل: فقد. (4) في الأصل: وامتلا. (5) ما بين القوسين ساقط من (س). (6) في الأصل: فكل ما حمل ظهر على الزحمة، ولم يعنون به. (7) في الأصل: بالوصية.

الأولى، كان التدبير رجوعاً عن الوصية، وليس كما لو أوصى لزيدٍ بذلك العبد، ثم أوصى به لعمرو وأطلق الوصية الثانية؛ فإن الوصيتين تزدحمان على العبد، وذكروا مسلكين في طلب الفرق: أحدهما - أن مقصود التدبير (1) العتقُ، وهو مخالف لمقصود الوصية بملك الرقبة، فإن اختلف المقصودان، ظهر بالثاني قصد الرجوع عن الأول. هذا وجه. والثاني - أن العتق يحصل إذا وسعه الثلث، في المدبر بالموت، والقبول يقع بعده، فيتقدم نفوذ مقصود التدبير على قبول الموصى له الأول. هذا ما ذكره الأئمة. قال صاحب التقريب: إن حكمنا بأن التدبير تعليقُ عتق بصفةٍ؛ فإنه يكون رجوعاً عن الوصية (2) في مقصودها ووضعها، والعتق المعلق عند وجود الصفة كالعتق المنجز عند التعليق. فأما إذا حكمنا بأن التدبير وصيةٌ بالعتق، فإذا أوصى بعبد لإنسان، ثم دبره، فقد ذكر فيه وجهين: أحدهما - أن ذلك يكون رجوعاً عن الوصية الأولى، فيثبت التدبير في جميع العبد، وهذا ما قطع به الأصحاب. والوجه الثاني - أن ذلك لا يكون رجوعاً عن الوصية الأولى، ولكن [يثبت] (3) حق التدبير على الزحمة في جميع العبد، ويبقى حق الوصية الأولى كذلك في جميع العبد، كما لو أوصى لزيد بعبد، ثم أوصى لعمرٍو بذلك العبد، ثم حكم الازدحام يقتضي التنصيف كما ذكرناه، فيعتِق نصفه بحكم التدبير، ويبقى نصفه موصىً وهذا الذي ذكره صاحب التقريب وإن كان متجهاً في القياس، فهو مخالف لما

_ (1) (س): الترتيب. (2) عبارة (س): فإنه يكون رجوعاً عن الوصية لزيد بملك الرقبة، فإن التدبير تعليق بصفة، وهذا القول يخالف الوصية في وضعها ومقصودها. (3) في الأصل: لا يثبت.

ذكره أئمة المذهب، فلو دبّره، ثم أوصى به لرجل، فإذا قلنا: التدبير وصية، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن الوصية برقبة العبد رجوعٌ عن التدبير؛ فإن الوصية مع التدبير متناقضان. ولا شك أن صاحب التقريب يطرد وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أن الوصية رجوع عن التدبير، والثاني - أن التدبير والوصية يزدحمان. وإن قلنا: إن التدبير تعليق عتقٍ بصفة، وقد تقدم واستأخرت الوصية، فالوصية ساقطة؛ فإن التدبير لا يزول بالرجوع عنه، والوصية لا تنجز حقاً، بخلاف تنجيز الإعتاق، وبخلاف البيع والهبة مع الإقباض، فإذا امتنع الرجوع، نفذ العتق المعلق بالموت معه، ولا أثر للوصية. 7583 - ومما يتعلق بهذا القسم أنه لو أوصى بعبدٍ لزيد، ثم قال: بيعوه بعد موتي، وتصدقوا بثمنه، فالأمر بذلك رجوع عن الوصية؛ فإن الأمر بالبيع يناقض استبقاء الرقبة حتى يفرض الازدحام فيها. ولو أوصى بأن يباع العبد بعد موته ويصرف ثمنه إلى الفقراء، ثم أوصى بأن يصرف [ثمنه] (1) في الرقاب، فهذا يقتضي الازدحام، فيتضمن تشطير الثمن بين الجهتين. وقد نجز الغرض في ذكر الأقوال التي تتضمن الرجوع عن الوصية. 7584 - فأما الأفعال، فإنا نعدّد منها جملاً ذكرها الأصحاب، ونشير إلى ما اعتمدوه في قياسها، ثم نذكر المسلك المرتضى عندنا. قال أئمتنا: إذا أوصى لإنسان بحنطة معيّنة، ثم طحنها الموصي، فيكون الطحن رجوعاً عن الوصية، وكذلك لو أوصى بالدقيق، ثم عجنه وخبزه. وقالوا أيضاً: لو أوصى بشاةٍ لإنسان، ثم ذبحها، كان الذبح رجوعاً عن الوصية، وكذلك لو أوصى بثوبٍ، ثم قطعه وفصله، فالقطع والتفصيل رجوع. [وتعلق] (2) الأصحاب في تعليل ثبوت الرجوع في هذه المسائل بزوال الاسم،

_ (1) في الأصل: عنه. (2) في النسختين: "واعتمد". والمثبت اختيار منا ليستقيم الكلام مع قوله: (بزوال الاسم).

فقالوا: هذه التصرفات تزيل الأسماء التي تعلقت الوصية بها، فتحولت وزالت، وحدثت أسماء أخرى، فكان الموصى به في حكم التالف المعدوم، وهذا الذي ذكروه من التعليل غيرُ مرضيّ عندنا، بل المعتمد أن نقول: لما أوصى بالحنطة، فبقاؤها إلى نفوذ القبول فيها مظنون ممكن، فإذا اختار طحنها، استبان بهذه العلامة أنه يبغي استعمال الدقيق، وكذلك إذا خبز الدقيق، فقد صرفه به عن جهة البقاء الممكن له إلى جهةِ هو فيها متشوف إلى الاستعمال، وكذلك القول في الشاة والذبح، والثوب والقطع والتفصيل. 7585 - ولو أوصى لإنسانِ بلحمٍ، ثم شواه، فمن يرعى زوال الاسم، فالاسم لم يزل، فلا يبعد أن تبقى الوصية، ومن راعى ظهور علامة الاستعجال والاستعمال، فقد ظهر هذا المعنى. وذكر العراقيون وجهين فيه إذا أوصى بخبز، ثم دقّه واتخذه فتيتاً: أحدهما - أن ذلك رجوع بمثابة طحن الحنطة الموصى بها. والثاني - أنه ليس برجوع؛ فإن الدق لم يسلبه اسمَ الخبز، فلا تنقطع الوصية بهذا القدر من التغيير. ولو أوصى لإنسان بجاريةٍ، ثم كان يستخدمها، لم يكن الاستخدام رجوعاً؛ فإنه ليس علامة في قطع الوصية؛ إذ الإنسان يوصي بعبده، ثم لا يعطل منافعه. وكذلك لو أوصى بجارية لإنسان، ثم زوّجها، فأما إذا أوصى بها ثم وطئها، فالطريقة المشهورة أنه إن عزل عنها، لم يكن ذلك رجوعاً، وكان الوطء كالاستخدام، وإن لم يعزل عنها، فيكون ذلك رجوعاً حينئذ؛ فإن ذلك يدل على استبقائه إياها لنفسه، والتسري بها. ومن أصحابنا من قال: الوطء رجوعٌ كيف فرض (1 ومنهم من قال: إنه ليس برجوع كيف فرض 1). وهذا أضعف الوجوه.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (س).

7586 - وقد أجرى الأصحاب في أثناء الكلام في هذه المسألة مسألةً من اليمين، وهي أن مالك الجارية إذا قال: "والله لا أتسرى بها"، فمتى يحنث؟ ذكروا في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أن التسري يحصل بالوطء نفسه. والوجه الثاني - أن التسري إنما يحصل إذا لم يعزل، فأما إذا عزل، لم يكن الوطء تسرياً، ولم يحنث في يمينه. وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً - وهو أنه إذا أفرزها عن خادمات المهنة وحصّنها، وظهر من قصده إرادة الاستئثار [بها] (1)، كان ذلك تسرياً، وإن لم يجر وطء، وهذا وجه ضعيف، لا استناد له إلى ثبت. 7587 - ومما يتعلق بهذا القسم أن يوصي بعينٍ، ثم يُحدث فيها زيادةً من غير أن يسقط اسمُها، وذلك مثل أن يوصي بدارٍ، ثم يزيد في بنائها، مع بقائها تحت اسم الدار، فهذه الزيادة لا تكون رجوعاً عن الوصية؛ فإنها لا تشعر [باستئثاره] (2) بالدار، ومن راعى زوال الاسم، فالاسم غير زائل، [وقد] (3) ذكرت تفصيل المذهب في أن تلك الأعيان التي زادها هل تدخل تحت الوصية. وإن أوصى لإنسان بدار عينها، ثم غيرها، واتخذ منها خاناً، [فالذين] (4) ذهبوا إلى زوال الاسم وبقائه، حكموا ببطلان الوصية، ورأوا هذا التغيير رجوعاً عن الوصية، لأن اسم الدار قد زال. وهذا فيه احتمال عندي؛ لأنه ليس فيما فعله ردُّ العرصة إلى حكم نفسه [باستعمالٍ] (5) وصرفٍ عن الجهة الأولى، وإنما هذه عمارة رآها وأجراها، وقد ذكرت أن التعويل على الاسم ليس بالقويّ.

_ (1) في الأصل: بما. (2) في الأصل: بإيثاره. (3) في الأصل: فقد. (4) في الأصل: فالذي. (5) في الأصل: باستعجال.

7588 - [ولو] (1) أوصى بثوب مفصل غير مخيط، ثم إنه خاطه، فقد قال الشافعي وأبو يوسف: لا يكون ذلك رجوعاً، وتعليله بين؛ فإن الاسم لم يتغير على مذهب من يراعي الاسم، والطريقة التي ذكرناها لا تجرى في هذه المسألة. وقال أبو حنيفة ومحمد (2): يكون ذلك رجوعاً. ولو أوصى لإنسان بقطن ثم حشا به جُبة، فقد قال من يعوّل على بقاء الاسم وزواله من أصحابنا: تبقى الوصية؛ فإن اسم القطن [باقٍ، والصحيح عندي أن ذلك رجوع عن الوصية؛ فإن القطن] (3) إذا حشا به الجبة، فهو إلى الفساد والاتساخ، وسقوط القيمة، والخروج عن معظم المقاصد المتعلقة بالقطن، وهذا يشعر بصرفه عن جهة الوصية إلى جهة الاستئثار والاستعمال. 7589 - ومما يتعلق بهذا القسم أنه لو أوصى لإنسانٍ بحنطة معينة، ثم إنه خلطها بحنطة أخرى من عنده، فهذا يكون رجوعاً عن [الوصية] (4)، فإنّ فعله يُعسِّر تسليمَ الحنطة المعينة [فيتضمن] (5) هذا رجوعاً عن موجب الوصية، وهذا ظاهر متفق عليه. ولو أوصى لإنسان بمقدارٍ من الحنطة من جملة حنطة كثيرة، مثل أن يقول: أوصيت لزيد بصاعٍ من حنطة هذا البيت، فلو أنه خلط بحنطة البيت حنطةً أخرى، فقد قال صاحب التقريب: إنْ خلط حنطة البيت بمثلها، فلا يكون ذلك رجوعاً، وإن خلطها بأجود منها، كان رجوعاً، وإن خلطها بأردأ منها، فعلى وجهين. أما ما ذكره من الخلط بالمثل، فقد اتفق الأصحاب عليه؛ من جهة أنه في وصيته لم يعتمد تعيين مقدار من الحنطة، فلا يكون الخلط مخالفاً لمقصوده. فأما إذا خلط

_ (1) في الأصل: فلو. (2) ر. تبيين الحقائق: 6/ 186، مجمع الأنهر: 2/ 694. (3) ما بين المعقفين زيادة من (س). (4) في الأصل: الهبة. (5) في الأصل: فيضمن.

بالأجود، فقد لا يسمح بالتسليم لمكان الجودة، وإن خلط بأردأ، فيتعارض فيه معنيان: أحدهما - أنه إذا سمح بالحنطة الأولى، فإنه يسمح بالأردأ أيضاً، وهذا يعارضه أنه قد لا يرضى للموصى له بالأردأ، [فلهذا خرَّج] (1) صاحب التقريب المسألة على وجهين. وينقدح عندنا من طريق الاحتمال كون الخلط رجوعاً في الأقسام كلّها، فإنه يتعذر به التسليم من تلك الحنطة الأولى، والوصية ضعيفة يتسرع البطلان إليها. ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، ثم خلطها بمثلها، أو أجود أو أردأ منها، فإنه يتعذر تسليم المبيع، وكل ما يتعذر [بسببه] (2) تسليم المبيع فبالحري أن يقدر رجوعاً عن الوصية في هذا الفن. هذا تمام البيان فيما يكون رجوعاً عن الوصية. 7590 - واتسق من مضمون الباب أن التبرعات [المنفذة] (3) في المرض لا يملك المتبرع الرجوع فيها، والوصايا المحضة يملك الرجوع فيها صريحاً وضمناً، والتدبير لا ينزل منزلة التبرع المنفذ؛ من جهة أن السيد له بيعُ المدبّر وتنجيز إعتاقه، والتصرف فيه بجميع الجهات التي ينصرف بها في المملوك القنّ، فالتدبير من هذه الوجوه مباين للتبرعات المنجزة، ولكن في [نزوله] (4) منزلة التبرعات المحضة -حتى يجوز التصريح بالرجوع فيه- قولان كما ذكرنا. ...

_ (1) في الأصل: فإنه أخرج. (2) في الأصل: نسبُه. (3) في الأصل: المتقدمة. (4) في الأصل: نزولها.

باب المرض الذي يجوز فيه العطية ولا يجوز

باب المرض الذي يجوز فيه العطية ولا يجوز 7591 - مقصود هذا الباب متعلق بتنجيز التبرعات؛ فإن الوصايا المعلقة بالموت محسوبة من الثلث، سواء فرض إنشاؤها في الصحة أو في المرض، والتدبير في هذا المعنى نازل منزلة الوصايا؛ ومن هذا ظهر إلحاقه بالوصايا؛ فإنّ عِتق المدبر من الثلث، وإن جرى تدبيره في الصحة؛ فإنما تفترق الحال إذاً بين أن يكون الموصي صحيحاً أو مريضاً مرض الموت في التبرعات المنفذة كالعتق، والهبة، والمحاباة، وما في معناها. فإن كان المرض مخوفاً وأفضى إلى الموت، [فهي] (1) من الثلث، وإن جرت وانتهت في الصحة، أو في مرض غيرِ مخوف، فمن رأس المال. 7592 - ثم لا مطمع في الاطلاع على تقاسيم الأمراض والمَيْز بين المخوف منها وغير المخوف؛ فإن العلم بذلك ليس [بالهيّن] (2) وهو يتعلق بفنٍّ معروف قد يستوعب طالبُ الكمالِ فيه العمرَ (3)، ثم لا ينال مطلوبَه، والعجب أن الفقهاء خاضوا في عدّ المخوف من الأمراض وغير المخوف منها، ولست أرى التزام ذلك، و [إن] (4) اعتلقتُ طرفاً صالحاً منه، ولكن الوفاء به غير ممكن، فالوجه أن نقول: ليس المرض المخوف هو الذي تندرُ النجاةُ منه وُيؤئِس المعالجَ؛ فإن البرْسام معدودٌ من الأمراض المخوفة، [والنجاة] (5) منه ليست بالنادر، فلا ينبغي أن يظن الفقيه أن

_ (1) في الأصل: فهو. (2) في الأصل: كلمة غير مقروءة. (3) واضحٌ أن الفن الذي يشير إليه هو فن الطب. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: والتي.

المخوف هو الذي يغلب الهلاك منه، حتى يعد الاستبلال والبرء منه في حكم النادر، ولكن يكفي ألا يكون الهلاك منه في حكم النادر، فليتثبت الناظر في هذا [العقد] (1) فإليه الرجوع، فإنا إذا كنا نرعى الخوفَ، كفى [فيه] (2) ظهور توقع الموت وإن لم يغلب عليه يلتحق ببقية [النوادر] (3). والمرض الذي ليس بمخوف هو الذي يندر ترتب الموت عليه، لأجل ذلك لا يكون توقع الموت [منه] (4) في حكم [المظنون] (5). 7593 - فلو كان المرض مخوفاً، وجرت فيه تبرعات ثم اتفق البرء منه، فجملة التبرعات منفَّذة نازلة منزلة ما يقع في الصحة، وهذا لا شك فيه؛ فإن الخوف المعتبر إنما يظهر أثره إذا أفضى إلى الموت. 7594 - وإن كان ذلك المرض بحيث لا يعد مخوفاً، ولكن اتفق ترتب الموت عليه، فهذا لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتفق الموت من سبب عارض سوى ما كنا نعرفه، وإما أن يتفق غلطٌ ممن رجعنا إليه في نفي الخوف، والغلط يفرض من وجهين: أحدهما - ألا يكون ذلك المرض من الجنس الذي ظنه مَنْ إليه الرجوع، وإما أن يكون من ذلك الجنس، ولكنه لم ينسبه إلى قوّة المريض النسبة الصحيحة؛ فإن القوة إذا انحطت، فالمرض الذي لا يكون مخوفاً من القوي مخوف في حق الضعيف؛ إذ القوةُ حمالةُ الأمراض، وعلى قدرها الخوفُ وظنُّ البرء. فإن ثبت طريان سبب آخرَ مخوفٍ، فالموت محال عليه، والتبرع الذي جرى في المرض الأول بمثابة التبرع في الصحة.

_ (1) في الأصل: الصفة. (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: بالنوادر، و (س): يلتحق نقيضه بالنوادر. (4) في الأصل: عنه. (5) في الأصل: المضمون. وعبارة الأصل فيها اضطراب وخلل: في حكم المضمون، فلو كان المضمون، فلو كان المرض المخوف ... إلخ.

وإن بان أن سبب الموت ذلك المرضُ بعينه، ولكنه أفضى إلى الموت لضعف المريض وعجزه عن الاستقلال، [فقد بان أنّا ظنناه] (1) غير مخوف وكان مخوفاً. فإن قال قائل: لو لم يكن ضعفٌ، ولم يتجدد سبب آخر، واتفق الموت؟ [قلنا: هذا ما لايكون في مستقر العادة، وعليه الكلام] (2). ومما يعترض في ذلك أنه إذا اتفق مرضٌ غيرُ مخوف في ظاهر الظن، وترتب الموت عليه، وقال أهل البصر: لا بد من تجدّد [سببٍ] (3) باطن في الأعضاء الرئيسية، فالتبرع المتقدم على ذلك تبرع [في] (4) الصحة. وإن جوز من [إليه] (5) الرجوع تجدّدَ سببٍ، وجوز أن يكون الموت من ذلك المرض بسبب ضعف القوة، وأنه لم يتأمل مقدار المرض والقوة، فالظاهر -إذا كان كذلك، [وعسُر] (6) الاطلاع على الحقيقة- إلحاقُ المرض بالأمراض المخوفة. وفيه احتمالٌ من جهة أنا نستصحب حكم الصحة إلى تحقق نقيضه، وقد يطرأ مثل هذا في إفضاء الجرح إلى الموت مع اعتراض هذه الاحتمالات، وحاجتنا تمس إلى دَرْك ذلك لإيجاب القصاص ونفيه، وسيأتي ذلك مستقصىً في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى. 7595 - ومما يجب الاعتناء بدركه أن العليل إذا كان لا يعدّ في مرض مخوفٍ ونشأت (7) علة أخرى، فإن قال أهل البصر: العلة الأولى تُفضي إلى هذه [العلة] (8) إفضاءً مظنوناً مخوفاً، فالعلة الأولى إذاً مخوفة، وإن قالوا: يندر

_ (1) في الأصل: "بعد أن ظنناه غير مخوف". (2) في الأصل: قلنا: ما لا يكون في مستقر العادة، فلا شيء عليه الكلام. (3) في الأصل: "فسببٌ". (4) ساقطة من الأصل. (5) في الأصل: عليه، و (س): البر. (6) في الأصل: وعند. (7) عبارة الأصل: في مرضٍ مخوفٍ به نشأت علة أخرى. (8) زيادة من (س).

إفضاؤها إلى هذه العلة، فالأولى ليست مخوفة، وما يجري فيها من تبرع ملتحق بتبرع الصحة. ولو لم تتجدد علّة، ولكن تزايدت، والعلة واحدة، فهكذا (1 سبيل إفضاء 1) العلل إلى الموت؛ فإنها مقسومة إلى التزايد والانتهاء والانحطاط، والقوى يقسّمها مهرةُ الأطباء على هذه الأطوار، فيبنون على ذلك ظنَّ البرء والهلاك، فإذا جرى التبرع في ابتداء حمّى، وقد لا يطّلع الطبيب على جنس الحمى، وهي منقسمة إلى المخوف وغير المخوف، فإذا ظهرت أعراضها، وبان للطبيب أنها مخوفة، فابتداؤها بحكم التبين مخوفٌ، ولكنه عرفه الآن وليس ما يتجدد من اطلاعه تجرّد علةٍ. هذا هو الذي لا بد من بناء الباب عليه. ثم ما ظهر كونه مخوفاً، لم يخف حكمه إذا أفضى إلى الموت، وما لم يكن مخوفاً لم يخف حكمه، وما أشكل الأمر فيه، فالرجوع إلى أهل البصر، ثم إن فرض نزاع، لم يثبت كون المرض مخوفاً إلا بشهادة مسلمَيْن عَدْلين من أهل العدالة، ولا يقبل فيه رجل وامرأتان، وإن كان مقصود الشهادة التعرضَ للمال؛ فإن المشهودَ به المرض وصفتُه، وهو ليس بمالٍ، وليس [موجِبَ] (2) مالٍ بنفسه، بل هو ينفصل عن الأحكام المالية، فإن كانت الشهادة على علةٍ بامرأة على وجهٍ لا يطلع الرجال عليها غالباً، فإن تلك العلة تثبت بشهادة أربع نسوة، وإذا ثبت بِشهادتهن تثبت أيضاً بشهادة رجلين وشهادة رجل وامرأتين. وإن أشكل الأمر على الذين راجعناهم، كما صورتُ الإشكال في صدر الباب، وذلك بأن يفرض مرضٌ ليس مخوفاً في صنفه ويتقدّر الموت، ثم يتردّد الظن في أن الموت كان لعلّةٍ طارئةٍ، أو هو محمول على ذلك المرض بعينه، مع اعتقاد إفضائه إلى الهلاك بسبب ضعف قوة المريض. هذا فيه تردّدٌ، وقد قدمته. والشهادة تمس الحاجة إليها عند ادّعاء علةٍ وإنكارها، فأما إذا ثبتت علةٌ، ووقع الاتفاق على صنفها،

_ (1) ما بين القوسين سقط من (س). (2) في الأصل: مرحب.

وآل الكلام إلى أنها مخوفة أم لا، [ورجع] (1) النزاع إلى نسبة قوة المريض إلى العلة، وهذا يختص بدركه الماهرون من علماء الطب، فلا بد مع الإشكال من مراجعة خبير موثوقٍ به. ثم الذي أراه أن ذلك لا يلحق بمراتب الشهادات من كل الوجوه، بل يلحق بالتقويم وتعديل الأقساط في القسمة، حتى يختلف الرأي في اشتراط العدد (2) ولفظ الشهادة. هذا منتهى حظ الفقه من الباب. 7596 - ولو ذهبت أتبع ما ذكره الفقهاء من تقاسيم العلل التي عدُّوها وأنّى لهم بها، لأتيتُ بكلام [سخيفٍ] (3)، ولو [ستمددتُ] (4) مما حَظِيتُ به من هذه الصناعة، لأتيت بكلام كثير في غير موضعه، وهو لا يثمر فائدةً. وهذا يضاهي محاولة [إغراق] (5) الكلام في أدلة القبلة في بابها. 7597 - ومما أجراه المزني أن قال: "السل ليس بمخوف"، وهذا كلام مدخولٌ، لا يرتضيه أرباب البصائر، وإن كان يرى أن العلل المزمنة التي ليست بالحادة، ليست مخوفة، كالدِّق (6) والاستسقاء وما في معناهما من الأعلال التي يظهر [الخوف] (7) فيها، وليست سريعة الانقلاب إلى البرء، أو الهلاك، فهذا بعيد مع تحقق الخوف. فليتأمل الناظر ما يمر به.

_ (1) في الأصل: وراجع. (2) قطع النووي بأن المذهب اشتراطُ العدد وغيره مما يشترط في الشهادة. (الروضة: 6/ 129). (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: استهدفت. (5) في الأصل: اعراف. (6) الدِّق: حُمّى تعاود يومياً، تصحب السلّ غالباً (معجم) وعرفه الرافعي بأنه داءٌ يصيب القلب ولا تمتد الحياة معه غالباً (فتح العزيز: 7/ 45). (7) في الأصل: الحوت، و (س): القول. والمثبت تقدير منا.

7598 - والهرَم في الشيخ الكبير ليس يلتحق بالأمراض المزمنة، (1 فافهموا ترشدوا. وإنما يتطرق الكلام إلى الأمراض المزمنة 1) من وجهين: أحدهما - أن الأئمة قالوا: الحامل ليست في حالة خوف، وإنما تُعدّ في حالة الخوف إذا طُلقت (2)، وإن كنا نعلم أن كل حاملة (3) تضع أو تجهض، وإلى أي المصيرين صارت فإلى الخوف مصيرها، ثم لم تجعل في حالة خوف قبل الطّلْق (4). هكذا. ولكن المرض المزمن ينفصل عنه، من جهة أن صاحبه مريض في الحالة الراهنة [وذات] (5) الحمل على [أحوال الصحة] (6) إلى أن تُطْلَق، ويتطرق إلى الأمراض المزمنة أنها إذا لم تكن حادّة، فقد تمكّن من العلاج في طول المدة، وهذا مما يجب التنبه له. والذي يتحصل عندنا في ذلك أن نمزج إمكان العلاج، وطول المدة بقوة المريض (7)، وتقع القضية على حسب ذلك، فإن قال [أهل] (8) البصر مع ما ذكرناه: الخوف غالبٌ، فالمرض مرض الموت إذا أفضى إليه، ولا نظر إلى طول المدّة وقصرها، والله أعلم. وقد ذكرنا في أثناء الكلام مسألةَ الحامل، وهي مقصودة، فلتعرف كما وصفناها.

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (س). (2) طُلقت: بضم فكسر: أصابها وجع الولادة. (معجم ومصباح) وضبطت في (س) بثلاث فتحات، وهو من أوهام الناسخ. (3) حاملة: المشهور المعروف (حامل) بغير (هاء)؛ لأنها صفة مختصة، وربما قيل: (حاملة) بالهاء؛ أرادوا المطابقة بينها وبين حملت، وقيل أرادوا مجاز الحمل، إما لأنها كانت كذلك أو ستكون، فإذا أريد الوصف الحقيقي قيل: حامل بغير هاء. (قاله الفيومي في المصباح). (4) (س): ... في حالة خوف، ولكن ... (5) في الأصل: ودار. (6) في الأصل: الأحوال الصحة، و (س): الأحوال الصحيحة. والمثبت تصرف من المحقق. (7) (س): المرض. (8) ساقطة من الأصل.

فصل 7599 - نص الشافعي رضي الله عنه على أن الرجل إذا كان في قُطرِ وقع فيه الطاعون الغالب، وعم طريانه، فأمر المقيم في ذلك القطر مخوفٌ، وإن لم [يطعن] (1) بعدُ. وكذلك من كان في التحام القتال بعد التفاف الصفين، وازدحام القسي، فأمره مخوف وإن لم يجرح بعدُ. وقال في أهل السفينة إذا هاج البحر والتطمت الأمواج وانتهَوْا إلى حالة مخوفة: هم في حالة خوف، وإن لم تنكسر السفينة بعدُ. هذه نصوص الشافعي رضي الله عنه، ثم نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من قُدّم ليقتص منه غيرُ مخوف ما لم يجرح (2)، فمن أصحابنا من جعل في هذه المسائل كلها قولين، وكذا في أسيرِ في يد طائفة من الكفار يقتلون الأسارى. وهذا اختيار المزني؛ فإنه [لم ير فرقاً] (3) في هذه المسائل، من جهة أنا إن نظرنا إلى الشخص، فهو صحيح في بدنه، وإن نظرنا في توقّع إلمام الخوف به، فهذا المعنى حاصل. ومن أصحابنا من فرق بين مسألة القصاص، فأجراها على النص وبَيْن غيرها من المسائل، وقال: يغلب من المسلم أن يرحم إذا ملك واقتدر، وقد يرغب في المال، فيعفو، وهذا لا يتحقق في سائر المسائل، وهذا الفرق لا يكاد يتضح. والذي يعترض في نفس الفقيه أنا إذا حكمنا [بالخوف] (4) في هذه المسائل، فالحامل وإن لم تُطلَق بعد لا يمتنع أن تلحق بالمسائل التي ذكرناها، وهذا احتمال أبديناه، والذي ذكره الأصحاب أنها ما لم تطلق لا يثبت مقتضى الخوف [في] (5) حقها.

_ (1) في الأصل: يظن. (2) ر. المختصر: 3/ 172، 173، والأم: 4/ 36، 37. (3) في الأصل: فإنه لم يرض. (4) في الأصل: حكمنا الحرف. (5) في الأصل: من.

ثم قال (1): "ومن أنفذته الجراح فمخوف" قال الأصحاب: صاحب الجائفة مخوف، وكذا صاحب الجراحة الواصلة إلى العظم، وكذلك إذا انتهت إلى مجتمع اللحم. والذي عندنا في هذا أن نذكر للفقيه ما ذكره الأئمة في الجراح التي توجب القصاص، على ما سيأتي القول فيها مشروحاً، إن شاء الله. وقد قالوا: من قطع إصبع إنسان أو أنملة من أنامله، فالجرح جرحُ قصاص، وردّدوا الخلاف في الإبرة تغرز في غير مقتل، فإن كانوا يجرون حكم الخوف في الوصايا ذلك المجرى، فقد اتسق القياس في [البابين] (2). وإن كان أئمة المذهب يَفْصلون بين البابين ويخصصون الخوف بالجوائف والجراحات المنتهية إلى مجتمع اللحم، وقد تبين أنهم لم يرعَوْا هذا في وجوب القصاص، كان هذا من مشكلات المذهب، والممكن إن كان الأمر كذلك أن يقال: الجراح الموجبة للقصاص نيط القصاص بهما، وإن كانت لا تؤدي إلى القتل غالباً محافظة على صون الأرواح؛ فإن أغوار الجراح لا تنضبط، ولا يُدرى كيف وصولها إلى التجاويف والتلافيف، فعلِّق القصاص بقبيلها، حسماً للباب وردعاً للجناة، فأما القضاء بالخوف، فينبغي أن يتبع وقوع الخوف، وظاهر كلام الأئمة الفرق بين البابين. وقد نجز مقصود الباب. 7600 - وذكر صاحب التلخيص مسائل وأقوالاً غريبة تتعلق بأحكام الأمراض، ونحن نذكر الزوائد منها وإن كان لا يليق بعضها بهذا الكتاب، فمما ذكره اختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في إقرار المريض للوارث، وفيه قولان مشهوران ذكرناهما في كتاب الأقارير، والذي زاده صاحب التلخيص أنه حكى قولاً أن إقرار المريض للأجنبي

_ (1) قال: أي الشافعي. انظر: السابق. (2) في الأصل: الباقين.

في مرضه بمنزلة تبرعه عليه (1)؛ من جهة أنا لا نأمن اتخاذ الإقرار ذريعة إلى صرف طائفةٍ من ماله إلى الأجنبي، إذا علم أن التبرعات الزائدة على الثلث مردودة. وهذا القول بعيد جداً، قال الشيخ: لم يحكه أحد غيره. 7601 - ومما حكاه أن الجنون يُسقط الصلاة أداءً وقضاءً، والإغماء إذا استغرق وقت الصلاة ينزل منزلة الجنون، فتسقط به الصلاة أداء وقضاء، وأما الصوم، فالمنصوص أن الجنون يسقطه، فلو مرت أيام من رمضان في الجنون، ثم أفاق المجنون، فلا قضاء، ولو مرت أيام في الإغماء، فيجب قضاء الصوم، والذي زاده صاحب التلخيص أن من أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الجنون والإغماء نقلاً وتخريجاً: أحدهما - لا يسقط الصوم بواحد منهما، ويجب القضاء فيهما عند زوال العذر. والثاني - لا يجب القضاء في أحدٍ من العذرين، وهذا لم أره لأحد من أصحابنا غيره. ومما ذكره متعلقاً بأحكام الأمراض: أن الصائم إذا مرض في رمضان، وخشي زيادة الأوجاع، فله أن يفطر، وقد ذكرت في كتاب الصيام تقريب القول في الأمر المرعي في المرض الذي يبيح الفطر. 7602 - قال الشيخ (2) متصلاً بهذا: ما يجوّز للصائم في رمضان أن يُفطر قد (3) يجوّز لمن لزمته كفارة الظهار أن يترك به صومَ الشهرين، فيتحول إلى الإطعام، وإن كانت الكفارة تقبل التأخير. هذا ما ذكره الشيخ، وقطع [به] (4) وفيه تأمل على الناظر. نعم، لا يشترط أن يكون المرض مزمناً لا يرجى زواله حتى يجوز التحول، ولكن إن قلنا: الاعتبار في الكفارات بوقت (5 الوجوب وكان مريضاً إذ ذاك، فيجوز التحول إلى الإطعام، وإن قلنا الاعتبار بوقت 5) الأداء، ففي هذا

_ (1) تبرعه عليه: فيها تضمين (تبرَّع) معنى تصدَّقَ. ثم عبارة (س) بدون لفظ (عليه). (2) الشيخ: هو الشيخ أبو علي السنجي، فعنه ينقل إمامنا أقوال صاحب التلخيص الغريبة. (3) (س): ما يجوز للصائم في رمضان أن يفطر به ولمن لزمته كفارة الظهار ... (4) زيادة من (س). (5) ما بين القوسين ساقط من (س).

أدنى نظر، يجوز أن يقال: إذا أطعم وهو مريض أجزأه الإطعام كما قال الشيخ، ويجوز أن يقال: إذا دام المرض شهرين، فالأمر على ما قال، وإن انقطع دون الشهرين، ففيه تردد والأظهر ما ذكره الشيخ. ***

باب الأوصياء

باب الأوصياء قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يجوز الوصية إلا إلى بالغٍ حر عدلٍ ... إلى آخره" (1). 7603 - نَصْبُ الأوصياء (2) جائز، وجوازه متفق عليه، وقد صار أبو حنيفة (3) وأصحابه إلى أن الوصاية تنزل منزلة الولاية، وليس الأمر كذلك؛ فإنها نيابة، غيرَ أنا نشترط في الأوصياء كثيراً من صفات الولاة، من جهة أن الوصاية أُثبتت مصلحةً، ولو رُدّ الأمر فيها إلى ظاهر (4) القياس، لما صحت؛ فإن قياس النيابة أن تنقطع بموت المستنيب، من جهة أن النائب فرعُ المستنيب، فيبعد أن يتصرف بعد خروج أصله من التصرف، ولكن أثبت الشرع [الوصاية] (5) نظراً للأطفال، وقياماً بالوصايا، وهي في النيابات تنزل منزلة الوصايا في التصرفات؛ فإن التصرفات حقها أن تنقطع بانقضاء العمر، ثم نفذت الوصايا بعد منقرض العمر، كذلك نفذت الوِصاية غير أنها أثبتت خارجة عن قياس وضع النيابة لمسيس الحاجة إليها، فاشترط لذلك اتصاف المنصوب بالصفات التي تطابق المصلحة، فظن أبو حنيفة أن اشتراط هذه الصفات ألحق الأوصياء بالأولياء، ثم ناقض هذا، فجوّز للإنسان أن ينصب عبدَه وصيّاً على أطفاله (6)، ولم يجوّز أن يوصي إلى عبدٍ لأجنبي، ونحن لا نجوّز الوصاية إلى عبدٍ.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 172. (2) (س): الأولياء. (3) ر. حاشية ابن عابدين: 4/ 367، 5/ 448. (4) ساقطة من (س). (5) في الأصل: الوصية. (6) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 72 مسألة رقم 2206، وحاشية ابن عابدين: 5/ 448.

7604 - والصفاتُ المرعية في الأوصياء خمسٌ: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والعدالة. ذكر الأصحاب هذه الصفات. والرشدُ لا بد منه؛ فإن من لا يستقل وإن كان عدلاً لا يصلح للقيام على الأطفال، وتنفيذِ الوصايا، وإنما اشترطنا العدالة في الوصاية ولم نشترطها في الوكالة؛ من جهة أن من يوكل وكيلاً من أهل التصرف فإنما يوكله في حق نفسه، ويُحل تصرفَه محل تصرف نفسه، فلا معترض عليه. والوصي يتصرف في حق غير الموصي، فيجب أن يُرعى فيه استجماع الصفات التي ذكرناها. فقد قال علماؤنا: إذا وكل الرجل وكيلاً، ثم قال له موكله: وكِّل فيما فوضت إليك وكيلاً، فليس لذلك الوكيل أن يوكِّل فاسقاً؛ فإنه إنما يوكّل على غيره؛ فيجب أن يرعى المصلحة فيه؛ فلا يوكِّل إلا موثوقاً به صالحاً. وكذلك لمالك المال أن يودعه عند فاسق، والمودَع في نفسه إذا احتاج إلى المسافرة، وجوزنا له أن يودع الوديعة التي (1) عنده، فيتعين عليه أن يودعها عند عدلٍ موثوق به. ثم اشتراط التكليف بيِّنٌ؛ فإلب التصرف لا يصح إلا من مكلّف، واشتراط العدالة معلَّلٌ بما ذكرناه، واشتراط الحرية سببه أن العبد لا يستقل بنفسه؛ ولذلك لم يكن من أهل الولايات. ثم مذهب الشافعي رضي الله عنه أن المكاتب لا يجوز أن يكون وصياً، كالقِنّ؛ فإنه وإن كان مستبداً بنفسه في تصرفاته وأكسابه، فلا يستقلّ استقلالاً تاماً، ولذلك يمتنع عليه كثير من التصرفات، وعند أبي حنيفة يجوز أن يكون المكاتب وصياً، وهذا أيضاً يناقض قول أصحابه (2): [إن] (3) الوصي بمثابة الولي. وأما اشتراط الإسلام فسببه أنا [لا نثق بكافر] (4)، فإن أوصى مسلم إلى كافرٍ، لم

_ (1) ساقطة من (س). (2) ر. الاختيار: 5/ 67، وحاشية ابن عابدين: 5/ 448. (3) في الأصل: فإن. (4) في الأصل: لم نثق بكافر.

يصح، وإن أوصى كافر إلى مسلم، صحت الوصاية، وإن كان يتصرف في حقوق أطفالٍ من الكفار، وهذا يوضح أن الوصاية ليست ولاية. ولو نصب كافرٌ كافراً وصياً، ورفعت الوصاية إلينا، فهل ننفذها؟ وهل نقضي بها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وهذا يقرب من التردّد في أنا هل نحكم بولاية الكافر على ابنته الكافرة؟ وإذا كان الظاهر [أن] (1) ولي الكافرة كافر، فالظاهر أيضاً تنفيذ وصاية الكافر إلى الكافر، وهذا إذا كانت الوصاية (2) لا تتعلق بحقوق المسلمين، مثل أن ينصب كافر كافراً في حقوق أطفاله الكفار، فأما إذا كان أوصى للمسلمين بوصايا، ونصب وصياً في تنفيذها [فيبعد] (3) تصحيح الوصاية إلى كافر [في] (4) مثل هذا. 7605 - ثم قال أئمتنا العراقيون: هذه الأوصاف التي شرطناها في الوصي في أيةِ حالةٍ تراعى وتعتبر؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - أنها تعتبر يوم الموت، فإذا تحققت يومئذ، نفذت (5) الوصاية مع القبول، ولا يضر اختلالها قبل ذلك. وهذا أصح الوجوه، وهو الذي قطع به المراوزة؛ فإنا نعتبر في أركان الوصية حالة الموت، فكذلك في الوصاية. والوجه الثاني - أنا نعتبر حصول هذه الشرائط في وقتين: أحدهما - وقت عقد الوصاية من الموصي، والثاني - حالة الموت، ولا يضر اختلالها بين هاتين الحالتين. والوجه الثالث - أنه يشترط تحققها في الوقتين، ويشترط دوامها بينهما، حتى لو اختل شيء منها ما بين الوصاية والموت، بطلت الوصاية. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له.

_ (1) زيادة من (س). (2) (س): الوصاية تتعلّق [بدون (لا)]. (3) في الأصل: سغة (بهذا الرسم). (4) ساقطة من الأصل. (5) (س): تقررت.

7656 - ثم إنهم لما ذكروا هذه الأوجه بنَوْا عليها حكمَ القبول، فقالوا: إن لم نعتبر الأوصافَ في حياة الموصي، فلا حكم على هذا [القول] (1) لقبول الوصي ورده في حالة الحياة، كما لا حكم لقبول الموصى له ورده في حياة الموصي. وإن قلنا: إنا نعتبر (2) الأوصاف في حياة الموصي، فلا خلاف أنا لا نشترط قبول الوصي متصلاً بالإيصاء، فإن الوصي قد يكون [غائباً] (3)، ولكن لو قبل الوصي المستجمع للأوصاف في حياة الموصي، فهل يثبت قبوله؟ ولو رد الوصاية هل يلزم رده؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - يلزم ردّه، ويثبت قبوله فيكونان كالرد والقبول بعد موت الموصي، والثاني - لا حكم لهما أصلاً. وهذا هو الصحيح الذي لم يعرف المراوزة غيرَه. ومما ذكره العراقيون في الأوصياء خلافُ الأصحاب في أن الأعمى هل يجوز أن يكون وصياً؟ (4 وهذا فيه احتمال 4). 7607 - ومما يتعلق بتمام القول في هذا الفصل تغير الوصي عن الصفات المشروطة في الوصاية بعد قبول الوصاية، واستقرارها: أما ما يُصيِّره مَوْليّاً عليه كالجنون، فلا شك أنه يُخرجه عن كونه وصياً، ثم إذا عقل، لم يعد وصياً بعد الانعزال. فأما إذا فسق الوصي، [فالذي] (5) دلّ عليه ظاهر كلام الأصحاب أنه ينعزل، ولا ينفذ بعد فسقه تصرفهُ بالوصاية. وقد ظهر اختلافٌ بين الأصوليين في أن الإمام الأعظم لو فسق هل ينخلع بفسقه (6 أو يخلع 6)؟.

_ (1) في الأصل: فلا حكم على هذا القبول الوصي، و (س): فلا حكم على هذا القول للوصي. والمثبت تصرّف من المحقق. (2) (س): إنا لا نعتبر. (3) في الأصل: غالباً. (4) ما بين القوسين ساقط من (س). (5) في الأصل: والذي. (6) ما بين القوسين ساقط من (س).

وذكر الفقهاء قريباً (1) من هذا الخلاف في فسق القضاة والولاة الذين تلقَّوا الولاية من تولية الإمام، والقدر الذي نذكره هاهنا أن فسق الأئمة مختلفٌ فيه، ولو قلنا: الظاهر أنهم لا ينعزلون بنفس الفسق، لكان ذلك مستقيماً، والسبب فيه أن استمرار العصمة بعيد، والمصير إلى انخلاع الإمام بالفسق يخرم ثقة الخلق بالإمامة والزعامة، وليس وراء الإمام ناظر، فالوجه ألا يطلق القول [بانعزاله] (2). وأما القضاة فللخلاف فيهم مجال؛ من جهة أن نظر الإمام محيطٌ بهم، فإن حكمنا بانعزالهم، لم يجرّ ذلك [خللاً] (3)؛ فإن الإمام مستقل بالاستبدال عنهم من غير إفضاء الأمر إلى انتشار الرأي. فأما الوصي؛ فإنه ليس ولياً، والعدالة مشروطة في منصبه اشتراط العقل، وهو من العقود الجائزة، فطريان الفسق عليه كطريان الجنون. 7608 - ثم الوصاية لا تثبت إلا بالقبول على الرأي الظاهر، ومن أصحابنا من أحلّها محل الوكالة، وخرّجها على الخلاف المذكور في أنا هل نشترط القبول من المستناب؟ ثم إذا قبل الوصاية، لم (4) يلزمه الوفاء بها، وله أن يعزل نفسه، كما للوكيل أن يعزل نفسه. وخالف أبو حنيفة (5) في هذا، فأوجب على الوصي الوفاء بالوصاية إذا قبلها. 7609 - ومما يتصل بهذا الفصل أن الوصي إذا خرج عن كونه وصياً، تعين على السلطان أن ينصب قيّماً، ويقيمه مقامه، حتى لا تتعطل أمور الأطفال، وتنفذ الوصايا المنوطة بالأوصياء. هذا إذا خرج الوصي عن كونه وصياً، (6 فأما إذا لم يخرج عن كونه وصيّاً 6)،

_ (1) عبارة الأصل: وذكر الفقهاء قرباً قريباً من هذا الخلاف. (2) في الأصل: ما يزاله. (3) في الأصل: خلا، و (س): أصلاً. (4) (س): قبل الوصاية من لم يلزمه الوفاء بها. (5) ر. الاختيار: 5/ 66، وحاشية ابن عابدين: 5/ 447، 448. (6) ما بين القوسين سقط من (س).

ولكن عظمت أشغاله، وكان وحده لا يستقل بها، فالسلطان يضم إليه من يعينه حتى لا يتطرق الاختلال إلى مقصود الوصاية. ولو لم يكن على الأطفال وصي، فحقٌ على القاضي أن يقيم عليهم قيِّماً على الشرائط التي ذكرناها في الإيصاء، فإذا نصب قيماً، ولم يستقلّ ذلك القيم بجميع الأشغال، فالقاضي إن أراد، صرفه، وأقام مستقلاً بالأمر. وإن أراد أن يضمّ إليه مضموماً، فعل. ووصيُّ المتوفَّى إذا لم ينعزل ولكنه لم يستقل، فليس للسلطان أن يعزله؛ فإنه ما تلقَّى الوصاية من جهته، وإنما للسلطان بل عليه أن يضم إليه من يدرأ الخلل؛ حتى يحصل الاستقلال بهما، فأما القيم فأمره إلى الوالي، إن أراد صَرْفَه من غير سببٍ، لم يُعترض عليه. هذا منتهى القول في الأوصياء، وصفاتهم المرعية، وبيان ما يطرأ عليهم، وتفصيل القول في القبول والردّ. 7610 - ونحن نذكر الآن ما يتعلق بالأوصياء فنقول: إن كان في الورثة أطفالٌ، أو مجانين، وكان المتوفى يليهم لو كان حيّاً، فله أن ينصب وصياً (1) عليهم؛ حتى يرعاهم. وإن كان الأطفال إخوةَ الميت، فهو لا يليهم حياً، فلا يصحّ أن ينصب عليهم وصياً، بل أمرهم مفوّض إلى السلطان، وهذا بيّن. ولو لم يكن في الورثة مَوْليٌّ عليه، فلا معنى لنصب وصي على الورثة، ولكن إن أوصى بوصايا وفوض تنفيذها إلى الوصي، فهي إليه، ثم الوصايا قد تكون لجهاتٍ عامة، كالوصية للفقراء أو لبناء المساجد، أو لعمارة الثغور، وغيرها من وجوه الخير، فإن فوض تفصيلها إلى رأي الوصي، فلا معترض عليه ما وافق الشرع، وإن أوصى لمعيّنين، ونفذت الوصايا باتّساع الثلث وقبول الموصى لهم، فلا يكاد يظهر للوصي أثر، سيّما إذا كانت الوصية بأعيانٍ؛ فإن الذين لهم الوصية يأخذونها ولا يراجعون الأوصياء.

_ (1) (س): ولياً.

وإن أوصى بإعتاق عبد معين، فإنشاء الإعتاق إلى الوصي، وإن كان لا يملك العدول عن العبد المعين، والدليل عليه أن ذلك العبد المعين لا يعتِق، ما لم يُعتق. وأما قضاء الديون، فلا يتعلق منه أمرٌ بالوصي؛ فإن الورثة لو أرادوا قضاء الديون من أموالهم واستبقاء أعيان التركة لأنفسهم، كان لهم ذلك؛ فإن أبَوْا أن يؤدوها من أموالهم، وأرادوا -وهم أهل رشدٍ لا يولّى عليهم- أن يتعاطَوْا بيعَ التركة وصرفَ الثمن إلى الغرماء، وكان المتوفى فوّض ذلك إلى الوصي، فهذا فيه تردّدٌ؛ من جهة أن الوصي نائب عن الموصي، فلا يبعد أن يقال: إذا لم يؤدِّ الورثةُ الديون من أموالهم، فله أن يتولى البيع ويحتاط، ولا يعترض عليه. ويجوز أن يقال: التعويل على الورثة في ذلك. فليتأمل الناظر هذا الموضع. فأما تجهيز الميت إذا لم يجْر فيه وصيةٌ منه في تعيين ثوب، أو مالط، فهو بمثابة الديون، وقد قدّمنا فيها تفصيل المذهب، ومحلَّ الوفاق وموضعَ التردّد. وأما ردُّ الغصوب والودائع، فليس يتعلق بالأوصياء؛ فإن مُلاك الأعيان يأخذونها. نعم، مؤنة ردّ الغصوب من التركة، وسبيل تلك المؤنة كسبيل الديون. 7611 - والمرأة إذا خلفت أولاداً، ونصبت عليهم وصياً، فهذا يخرّج على الخلاف المشهور في أن المرأة في نفسها هل تلي أطفالها إذا لم يكن لهم أب [كافل] (1)؛ فإن قلنا: إنها تليهم، فلها أن توصي إلى إنسان وتنصب وصياً عليهم، وإن قلنا: إنها لا تلي في حياتها، فلا يصح منها نصبُ الوصي على أطفالها.

_ (1) في الأصل: كامل.

فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أوصى إلى رجلين، فمات أحدهما، أو تغيّر ... إلى آخره" (1). 7612 - إذا نصب الرجل وصيين في أمورِ أطفاله وتنفيذ وصاياه، لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها - أن يجوِّز لكلٍّ منهما أن يستقل بالتصرف. والثاني - أن يشترط عليهما أن يجتمعا في الأمور، ولا ينفرد واحدٌ منهما بنفسه. الثالث - أن يطلق الإيصاء، ولا يتعرض لإثبات استقلال كل واحد منهما، ولا لنقيضه. فأما إذا أثبت لكل واحد منهما أن يستقل، فلا إشكال، ولكن لو كان أوصى بصرف طائفةٍ من ماله إلى المساكين، مثلاً، وكل واحد منهما مستقل بنفسه، فلو أراد أحدهما أن يصرف الموصى به إلى أقوام من المساكين بعينهم، وأراد الثاني أن يصرفه إلى آخرين معينين عنده، فنقول أولاً: إن اتفق سبقُ أحدهما إلى التنفيذ، فلا [معترض] (2) لما نفذه على موجب الشرع، وقول الموصي. وإن اجتمعا وتنازعا، فمن أصحابنا من قال: الحاكم يقرع بينهما. وهذا فيه بعدٌ؛ فإنّ استعمال القرعة من غير ثبتٍ شرعي في كل موضع لا سبيل إليه، ولم يرد في مثل هذا استعمال القرعة. ومن أصحابنا من قال: السلطان يضع ذلك المال فيمن يراه، على وَفْق الوصية والشرع، ويتركهما يتنازعان. هذا إذا كان فوّض إلى كل واحد منهما أن يستقلّ، فأما إذا شرط [اجتماعهما] (3)، واعتضاد كل واحد منهما [بالآخر] (4) أو أطلق الإيصاء

_ (1) ر. المختصر: 3/ 173. (2) في الأصل: يتعرض. (3) في الأصل: اجتماعها. (4) زيادة من (ص).

إليهما، [فعندنا] (1) أن إطلاق الإيصاء [يقتضي] (2) ألا ينفرد كلُّ واحد منهما، كما لو قيّد الإيصاء بالاجتماع؛ فإن غرضه من جمعهما [صدور] (3) الأمر عن رأي اثنين. وهذا من [الأغراض] (4) الظاهرة والمقاصد البينة، ثم كل ما أوضحنا أنه لا يتعلق بالوصاية، فلا معنى لربطه باجتماعهما، وهذا كردّ الودائع والغصوب، وكتسليم الأعيان الموصى بها إلى الموصى لهم؛ فإن هذه الأشياء لا وصية بها، ولا أثر للوصاية فيها. فأما ما يتعلق بالوصاية، فلا يستقل [واحدٌ] (5) منهما بنفسه. هذا مذهب الشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة (6) يرى لكل واحد منهما أن يستقلّ، وهذا بناه فيما زعم أصحابه على أن الوصاية ولاية، في خبطٍ لهم طويل، لسنا له الآن. ولو كان أوصى بعتق عبد معين، فلا بد من اجتماعهما، ولا ينفرد بإعتاق ذلك العبد المعين أحدُهما؛ فإن الشرط اقترانهما في كل تصرف، [لا بد] (7) من إنشائه وإعتاق ذلك العبد المعين بهذه المثابة.

_ (1) في الأصل: بعيداً. (2) مزيدة من (س). (3) في الأصل: يقدّر. وعندي أنها (صَدَر) كدأب الإمام في جميع كتبه في استعمال هذا المصدر، وأن الذي أمامنا من تصرّف الناسخ. (4) في الأصل: الاعتراض. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) الذي رأيناه في كتب الأحناف أن هذا قول أبي يوسف، وأما أبو حنيفة ومحمد، فعندهما يبطل فعل أحد الوصيين، إلا إذا أجازه صاحبه، فيجوز دون عقد جديد. (ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 449، ومختصر اختلاف العلماء: 5/ 76 مسألة رقم 2210، والاختيار: 5/ 67). (7) في الأصل: فلا بد.

فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن اختلفا، قُسّم بينهما ما كان ينقسم ... إلى آخره" (1). 7613 - أراد رضي الله عنه بذلك أن الوصيين إذا تنازعا في حفظ المال، فإن كان يجمعهما مسكن واحد، فإنهما يشتركان في مراقبة المال وصونه بالحفظ الممكن المعتاد، وإن كانا يسكنان مسكنين، قال الشافعي رضي الله عنه: إن كان المال قابلاً للقسمة، قسم بينهما، واستقل كل واحد منهما بحفظ حصته. وإن كان المال مما لا ينقسم، وتعذر اشتراكهما في الحفظ، فإن اتفقا على رجل موثوق به واستحفظاه، فجائز، وإن لم يتفقا وتنازعا [انتزعه] (2) الحاكم من أيديهما ووضعه على (3) يدي عدل رضاً. [هذا] (4) ما ذكره الشافعي رضي الله عنه، وهو من مشكلات الباب وسؤالاته. 7614 - فإن قيل: التفويض المطلق عند الشافعي إلى الوصيين يقتضي أن يشتركا في وجوه الاستصلاح، ولا ينفرد واحد منهما بوجه من الوجوه دون صاحبه، فإذا [اقتسما] (5) المالَ، فكل واحد منفرد بحفظ مقدار، والاشتراك في الحفظ [يزيد] (6) في الاحتياط، فليس المحفوظ في كلاءتين والملحوظ بعينين (7)، كالمحفوظ بعينِ واحدٍ، كما أن التصرفات الصادرة [عن] (8) رأيين مختصة [بمزيد] (9) احتياط، فإذا

_ (1) ر. المختصر: 3/ 173. (2) في الأصل: انزعه. (3) (س): في يد عدلٍ هذا ما ذكره ... (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: انتها المال. (6) في الأصل: من يد. (7) ساقطة من (س). (8) في الأصل: في. (9) في الأصل: بمؤيد.

اشترطنا صدور التصرفات عن نظرهما، فلمَ نجوز اختصاص كل واحد منهما بحفظ مقدار من المال لا يشاركه فيه صاحبه؟ قلنا: معظم هذه الأحكام المتلقاة من الألفاظ راجعٌ إلى حكم العرف، فإذا فوض الرجل تصرفاً إلى اثنين، اقتضى ذلك أن يشتركا فيه. هذا [موجب] (1) اللفظ ومعناه، في فهم أهل العرف، وهو لائق أيضاً بالمقاصد، فرأى الشافعي رضي الله عنه أن نسبة تفويض التصرف بالوصاية إلى اثنين بمثابة توكيل رجلين ببيع أو غيره من التصرفات، فأما الاشتراك في الحفظ، فمّما يعسر تكليفه، ولا يُفهم من تفويض الوصاية إلى رجلين أن يتخذا مسكناً واحداً، ويشتركا في حفظه، فاقترن موجب العرف باللفظ، واحتكم عليه. وأما إصدار التصرفات عن نظرين، فمعتاد. هذا ما يتوجه به النص، وما ذهب إليه جمهور الأصحاب. 7615 - وذهب صاحب التقريب إلى طريقة [خالف] (2) بها الأصحاب، وذلك أنه قال: إن فوض الوصاية إليهما على أن يستقل كل واحد منهما، فلا شك أنه لا يمتنع على هذا المقتضى استقلالُ كل واحد بحفظ مقدار من المال. وإن كانت [إضافة] (3) الوصاية إليهما تقتضي أن يشتركا في التصرفات ولا ينفرد بها واحد، فإن اقتسما المال بينهما على ما ذكرناه لينفرد كلُّ واحد منهما بحفظ مقدار، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك [لا يسوغ] (4)؛ فإن الاشتراك فيه ممكن، وموجب التفويض الاشتراك، كما ذكرناه في التصرفات. وهذا قياسٌ بيّنٌ. والوجه الثاني - أن ذلك سائغ وتوجيهه ما ذكرناه. ثم فرع على الوجهين، وقال: إن فرعنا على ظاهر النص (5)، فإذا تنازعا، قسم

_ (1) في الأصل: موجبه. (2) في الأصل: خالد. (3) في الأصل: إجابة. (4) في الأصل: لا يشرع. (5) (س): ظاهر المذهب.

المال بينهما إن كان مما ينقسم، وإن فرّعنا على الوجه الثاني، قيل لهما: إما أن تشتركا في الحفظ وفاءً بموجب التفويض المطلق المقتضي للاشتراك، وإما أن تمتنعا [من] (1) ذلك، فيرى القاضي في حفظ المال رأيه. ثم إن أخرج الإمام أو القاضي المال من أيديهما عند امتناعهما من الاشتراك في الحفظ، فهل للقاضي أن يستحفظ فيه رجلاً واحداً، أم يستحفظ فيه رجلين؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لو أراد أن يستحفظ رجلاً واحداً، جاز؛ فإن اشتراكهما كان متلقّىً على الوجه الذي عليه التفريع من لفظه الموجِب لذلك، وكان لفظه مختصاً بهما. فإذا امتنعا، انقطعت [قضية] (2) الوصاية، وصار كأنه لم يوصِ أصلاً، ولو خلّف رجلٌ ذريةً، ولم يوصِ، فالقاضي بحكم نظره ينصب عليهم قيماً، كذلك في هذه المسألة. والوجه الثاني - أنه يستحفظ رجلين؛ فإن الوفاء بذلك ممكن، وهو من مقاصد الموصي. وهذا ضعيفٌ لا شيء. قال صاحب التقريب: هذا إذا كان المال مما ينقسم، فإن كان مما لا ينقسم، ففي المسألة وجهان (4 على موجب [النظر] (3) فإن قلنا في المال المنقسم: إنه لا يقسم بينهما، بل ينتزعه القاضي منهما، فهذا متحقق في المال الذي لا ينقسم، ثم التفريع فيه ما تقدم، وإن قلنا: يقسم القاضي المال بينهما، فإن كان مما لا ينقسم قال: في المسألة وجهان 4) أحدهما - أنه ينتزعه منهما؛ إذ لا سبيل إلى القسمة، وقد امتنعا من الاشتراك في الحفظ. والوجه الثاني - أن [الوالي] (5) يقرع بينهما، فمن خرجت قرعته سلّم إليه المال.

_ (1) في الأصل: في. (2) في الأصل: نصبه. (3) زيادة من المحقق. (4) ما بين القوسين سقط من (س). (5) في الأصل: الولي.

هذا تفصيل القول في حفظهما وتنازعهما فيه. 7616 - ومما يجب الإحاطة به [أنا] (1) أطلقنا وجوب الاشتراك في التصرفات، وليس المعنى به أن يتلفظا بإيجاب البيع وقبول الشراء، ولكن الغرض أن يجري كل تصرف صادر عن نظرهما ورأيهما، فإذا حضرا العقد ونظرا، ثم قال أحدهما لصاحبه: اشتر هذا بكذا أو بعه، ووافق العقدُ رأيهما، فذلك جائز وفاقاً، وكذلك إذا وكلا من يبيع ويشتري بحضرتهما، فهو جائز لصدور العقد عن رأيهما. ولو وكلا من يشتري على ما يرى أو يبيع كذلك من غير أن يراجعهما، لم يجز ذلك. فإن قيل: إذا [ارتضيا] (2) ذلك، فقد جرى التوكيل عن رأيهما؟ قلنا: هذا رأيٌ يتضمنه إثبات الاستقلال لشخص، وهو مخالف لرأي الموصي وموجب لفظه المقتضي للاشتراك، كما تقدم ذكره. فإن قيل: قد تكلفتم تعليل انفراد أحد الوصيين بحفظ مقدار بالعرف، [فهلا] (3) قلتم: إذا ارتضى أحدهما بحفظ الثاني وأمانته وفوّض إليه الحفظ [جاز] (4)، كما لو فوض إليه إنشاء عقد؟ قلنا: إنه يرى أولاً رأيه في العقد، ثم [يفوّضه] (5) بمرأى منه، أو على غيبةٍ قريبة لا يختلف [في] (6) مثلها وجوه الرأي، فأما الحفظ، فالمنفرد مستقل به ولَحْظُ صاحبه منقطع عنه، وهو بمثابة ما لو فوض أحدهما إلى الثاني النظرَ في التصرفات، وجوز له أن ينفرد بها من غير مراجعة صاحبه في تفاصيل العقود، ولو [فعل] (7) ذلك لم يجز. فهذا منتهى الغرض.

_ (1) في الأصل: أن. (2) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. هكذا (استقر ـا) وفي (س) هكذا: (استوصا). (انظر صورتها في الجزء الأخير (قائمة الألفاظ التي تعذر قراءتها). (3) في الأصل: وهلاّ. (4) مزيدة من (س). (5) في الأصل: ثم يعرضه. و (س): نُفْرضه (بهذا الضبط) والمثبت تصرف من المحقق. (6) في الأصل: من. (7) في الأصل: ولو نفل ذلك.

فصل قال: "وليس للوصيّ أن يوصي ... إلى آخره" (1). 7617 - إذا نصب وصيّاً، ولم يجعل إليه أن يوصي بتلك الوصاية إلى وصيٍّ عند موته، فليس له أن ينصب وصياً؛ فإن الوصاية [تقتضي] (2) تفويضَ التصرف المذكور إلى الوصي، فأما إقامته غيرَه مقام نفسه عند انقطاع تصرفه، فليس من مقتضيات الوصاية، ولا مما يقتضيه العرف، حتى يُعتقَد تقيّد اللفظ به. نعم، إذا وكّل الوصي المطلقُ في حياته وكيلاً صالحاً موثوقاً به، فهو جائز؛ [فإنّ] (3) العرف يقتضي اقتضاءً ظاهراً [تجويز] (4) ذلك، وهذا كما أن العامل في القراض يوكّل ويستنيب في تفاصيل تصرفاته، ولا ينصب مقارضاً. فأما إذا قال: أوصيت إليك بكذا فقُمْ فيه، وأوْصِ إذا حضرتك الوفاة بهذه الوصاية إلى وصيّك، ففعل ممتثلاً لإذنه، ففي جواز ذلك قولان: أحدهما - أنه يجوز، لأن الموصي الأول أذن في ذلك، ورضي به. والقول الثاني - لا يجوز؛ لأن الوصاية [المتعلّقة] (5) بموته المتصلة به جائزة شرعاً جوازاً خارجاً عن القياس، كما سبق التنبيه عليه (6 في صدر الباب 6). فأما إثبات أوصياء متعاقبين يخلف البعض منهم البعض، فلا توقيف [فيه] (7) والأصل مفتقر إلى التوقيف.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 174. (2) مزيدة من (س). (3) في الأصل: قال. (4) في الأصل: يجري. (5) في الأصل: ألا تعلقه. (6) ما بين القوسين ساقط من (س). (7) في الأصل: منه. وساقطة من (س).

ولو قال للأول: أنت وصيي في كذا وكذا، فإذا متَّ وأوصيتَ إلى رجل، فهو وصيي فيما أنت وصيي فيه، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بأن من يعيّنه الوصي الأول إذا حضرته الوفاة [يصير] (1) وصياً (2 للموصي الأول؛ فإنه هو الذي نصبه وصياً 2) نصباً [معلقاً] (3)، والتعليق غير ممتنع في نصب الأوصياء؛ إذ لو قال: أنت وصيي إلى أن يبلغ هذا الصبي رشيداً، ثم هو وصيي، أو قال: أنت وصيي، فإذا [قدم] (4) فلان، فهو وصيي، فهذا جائز (5). ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الصورة التي ذكرناها، وفرق بأنه إذا عيّن شخصاً وعلّق الوصية إليه بمقدمه، فهو جائز قولاً واحداً؛ لأنه عالم به، وإذا قال: من أوصيتَ إليه، فهو وصيِّ، فهذه جهالة تقطع نظر الموصي عن الوصي الثاني، ولا يصح نصب الوصي كيف كان، بل لا بد من رعاية صفات فيمن ينصب وصياً، فإذا كانت رعايتها إلى الوصي الأول، فهو المتخير (6) إذاً، والصور (7) التي ذكرناها في تعليق الوصاية مفروضة في معيّنين (8). والصحيح قطعُ القول بانتصاب الوصي الثاني وصيّاً بنصب الوصي الأول، ولا حاصل في الجهالة التي ذكرناها، حتى ذهب ذاهبون من الأصحاب إلى تغليط المزني في نقل القولين في الصورة التي قطعنا القول فيها. وقد ذكر قولين في هذه الصورة.

_ (1) في الأصل: يوصي. (2) ما بين القوسين ساقط من (س). (3) في الأصل: متعلقاً. (4) في الأصل: تقدم. (5) هذا هو المذهب. قاله النووي (ر. الروضة: 6/ 314). (6) (س): متخير. (7) (س): والوصية. (8) قال النووي في قوله: "لو متَّ، فوصيك وصيِّي": باطلة على الأظهر، وقيل: قطعاً. وقيل صحيحة قطعاً (ر. الروضة: 6/ 314) وقال العز بن عبد السلام في الغاية في اختصار النهاية: جاز على الأصح. (ر. ورقة 22 من الجزء الثالث).

فرع: 7618 - إذا نصب وصيين، وجعل إليهما التصرف جمعاً، فقد ذكرنا أنه لا ينفرد أحدهما بالتصرف، فلو فسق أحدهما، أو مات، فيقيم القاضي مقامه آخر، فلو أدى اجتهاد القاضي إلى تفويض الأمر إلى [الثاني] (1)، ورآه مستقلاً كافياً ليكون منصوباً من جهته، ووصياً من جهة الميت، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يجوز؛ فإن الميت لم يرض إلا بشخصين، فلا بد من ارتسام رسمه. والثاني - يجوز؛ فإن رسمه [إنما يمتثل] (2) ما بقي الوصيان، فإذا خرج أحدهما عن الوصاية [تعذَّر] (3) اتباع [أمره وفات] (4) رعاية اجتماعهما، ثم القاضي يرى رأيه. قالوا: كذلك إذا ماتا جميعاً، أو فسقا، فهل يتعين على القاضي نصبُ شخصين أم يجوز أن ينصب شخصاً واحداً؟ فعلى. وجهين، وذكر الخلاف في هذه الصورة بعيد؛ فإنه إذا بقي أحدهما، فهو متعلّق الوصاية، فلا يبعد اشتراط ضمِّ شخص آخر إليه؛ فإذا خرجا جميعاً بالفسق عن الوصاية، أو ماتا، فقد زالت الوصاية بالكلية، فصار كما لو لم يوصِ أصلاً. فصل 7619 - إذا نصب وصيّاً (5)، وعيّن له شغلاً، لم يكن له أن يتصرف في غير ذلك الشغل المعيّن، خلافاً لأبي حنيفة (6). وسرّ (7) المذهب على ما بنينا الباب عليه، من أن الوصاية نيابة مترتبةٌ على الاستنابة، فلا تعدو محلّ الإذن كالوكالة.

_ (1) في الأصل: "الباقي". (2) في الأصل: ألا يمثل. (3) في الأصل: ـعله. (4) في الأصل: أمر وفا رعاية. (5) (س): ولياً. (6) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 461. (7) (س): وبناء المذهب.

فرع: 7620 - الجد أب الأب أوْلى عند عدم الأب، فلو أوصى [الأب] (1) في أمور أطفاله إلى أجنبي، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن الوصي هل يتصرف بالوصاية؟ منهم من قال: الوصاية باطلة مع الجد أب الأب، إذا كان مستجمعاً لشرائط الولاة؛ فإن الوصاية إنما أثبتت لعدم الولي الخاص، وولاية الجد أقوى، وهو بالتصرف والنظر أولى من الوصي الأجنبي. ومن أصحابنا من قال: الوصي أولى؛ لأنه بمثابة الأب بعد وفاته، فكان مقدّماً على الجد، كما يتقدم وكيل الأب على الجد في حياة الأب، وهذا التردد في ولاية الأطفال. فأما إذا وصى إلى أجنبي صرف صدقةٍ أو غيرِها من جهات التبرعات، فهو أولى من الجد، لا خلاف فيه. 7621 - ثم عقد المزني باباً في تصرف الوصي في مال اليتيم وقد أتينا به على أحسن مساق في كتاب البيع، وذكر فصولاً من الفروع: أولها - أن الوصي لا يملك التزويج بالوصاية، وهذا وما يتصل به سيأتي في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل. 7622 - وقد نجزت المنصوصات من كتاب الوصايا، ونحن نرسم مسائل انسلّت عن ضبط الأبواب، ونأتي بها على غير نظام ترتيب، وبنجازها [نجازُ] الوصايا، إن شاء الله عز وجل. منها: إن المريض في مرضه المخوف لو قدّم بعضَ الغرماء بتمام حقه، وكانت التركة تضيق عن جملة الديون، ولو قسمت، لنقص حق كل واحد منهم، فإذا توفي والمسألة كما صورناها، فهل نسترد من الذي قدمه المقدار الذي يزيد على حصته عند المضاربة؟ فعلى وجهين حكاهما صاحب التقريب عن ابن سُريج: أحدهما - لا نسترد شيئاً، ونُمضي ما فعله؛ فإن ما صدر منه لا يسمّى تبرعاً أصلاً. والوجه الثاني - أنا نسترد؛ فإن ما يفعل في المرض بمثابة ما يوصي به، ولو أوصى بتقديم بعض الغرماء، لم نقدمه.

_ (1) في الأصل: الآن.

7623 - ومنها أنه لو ضمن عن وارثه في مرضه لأجنبي، قال الأصحاب: لا يصح ذلك؛ فإنها وصية لوارث، أو نازلة منزلة الوصية؛ إذْ لو أدى لأدى عن وارثه. ولو ضمن في مرض موته ديناً عن أجنبي لوارثه، ففي المسألة وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا يصح، كالصورة الأولى لتعلّق الضمان بوارثه. والوجه الثاني - أنه يصح؛ فإنه لم يزد الوارث على حقه المستحق شيئاً، وهذا فيما إذا ضمن ضماناً يثبت له الرجوع على [المضمون عنه] (1) وليس يتضح بين المسألتين (2) في الضمان -الأولى وهذه- فرقٌ سديد. 7624 - ومنها لو قال لإنسان: ضع ثلثي فيمن شئت وأين شئت. فلو أراد الوصي أن يضعه في نفسه، فيكون مستحقه، قال صاحب التقريب: ليس له ذلك. وفيه احتمال عندنا على بُعد. قال: ولا يضعه أيضاً في وارث [الموصي] (3)؛ فإنه وإن لم يقصد وارثه، فإذا رددنا الوصية للوارث، فلا ينبغي (4) أن يصل شيء من الوصية إلى الوارث، سواء قصد بها أو أطلقنا الوصية ولم نقصد بها، فلا يدفع إليه شيء في الحالتين. ثم قال: فلو دفع قسطاً مثلاً من الثلث في هذه المسألة إلى الوارث على سبيل الوصية، فما الحكم فيما دفعه إليه؟ فذكر (5) فيه وجهين: أحدهما - أنه يُسترد، ويردّ إلى الوصي ليضعه حيث شاء.

_ (1) في الأصل: على يسر. (2) عبارة (س) أكثر وضوحاً هنا: "وليس يتضح في الضمان فرقٌ سديد بين المسألتين: الأولى وهذه". (3) في الأصل: الوصي. (4) عبارة (س): فلا ينبغي أن يصل من الوصية للوارث، سواء قصد بالوصية أو أطلقت الوصية ولم يقصد بها، فلا ندفع إليه شيء في الحالتين. والعبارة -على القراءتين- فيها شيء. (5) (س): قد ذكر. والذي "ذكر وقال" هو صاحب التقريب.

والثاني - أنه ينقلب ذلك القدر ميراثاً، فإنه وضعه حيث شاء، فانتهى تصرفه في ذلك القدر، ولكن لما بطل رُدَّ ميراثاً. وهذا ليس بشيء. 7625 - منها لو قال المريض وقد نصب وصياً: "قد أوصيت بثلثي لرجل [سميته] (1) لوصي هذا، فإذا مت، [وجاء] (2) فذكره وسماه، فصدقوه فيما يقول، وسلموه إلى من يسميه، فإنه صادق". فإذا سمى ذلك الوصي رجلاً، وكذبه الوارث فله تكذيبه؛ فإنه يجوز أن [يكذب] (3) وقد كلف ورثته بتصديقه فيما يجوز كذبه فيه. نعم لو شهد الوصي لذلك الرجل وحلف مع شاهده، ثبت المقصود. 7626 - ومنها أنه إذا كان للمريض دين على وارثه، وقد ضمن عن الوارث أجنبي، فأقر في مرض موته أنه استوفى الدين من الوارث، فقد اختلف قول الشافعي في أن الإقرار للوارث هل يقبل. فإن قلنا: لا يقبل إقراره للوارث، فيبقى الدين على الوارث، ولا يبرأ عنه بإقرار المريض. فأما الأجنبي، فهل يبرأ عن الضمان؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يبرأ عن الضمان؛ فإن الإقرار وإن رُدّ في حق الوارث، وجب قبوله فيما يتعلق بحق الأجنبي. والثاني - أنه لا يبرأ؛ فإن أصل إقراره مردُودٌ في حق الوارث وبراءة الكفيل تبعٌ لبراءة الأصيل في مثل هذه الصورة. وبمثله لو كان له دين على أجنبي، والوارث ضامنٌ به، فأقر [بأني قبضتُ] (4) ذلك من الأصيل يقبل إقراره في حق الأصيل، وهل يبرأ الضامن الوارث؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا يبرأ؛ لأن الإقرار في حق الوارث مردود. والثاني - يبرأ؛ فإن الإقرار إذا قبل في الأصل، [فبراءة] (5) الوارث تقع تبعاً. ثم

_ (1) في الأصل: سميت. (2) ساقطة من الأصل. (3) في الأصل: يكون. (4) في الأصل: ثاني بنصيب. (5) في الأصل: ببراءة، (س): وبراءة. والمثبت من المحقق.

ذكر صاحب التقريب مسلكاً ثالثاً فقال: إن رددنا الإقرار في حق الوارث، لم يبعد أن نردّه في حق الأجنبي؛ من جهة أن الإقرار لا يتبغض في هذا المقام، فإذا وجب ردّه، فالوجه تعميم ذلك؛ إذ يستحيل مطالبة الضامن مع الحكم ببراءة الأصيل. 7627 - ومنها مسألة فرّعها صاحب التقريب على قولنا: إن الوصية للقاتل باطلة، فقال: لو أوصى لزيد بألف ولعمرو بألفٍ، وخلّف ابنين، فأقام أحدهما بيّنة أن زيداً قتله، وأقام الثاني بينةً أن عمراً [قتله] (1) فقد ذكر أقوالاً متشعّبة من [أصول] (2) مشهورة في الدعاوى: أحدهما - أن البيّنتين تتهاتران (3) وتسقطان جميعاً مقرراً وصيتهما. والقول الثاني - أن كل واحد من الابنين يستحق نصفَ الدية على الذي ادعى أنه قتل أباه، ويبرأ عن حصته من الوصية، ويكون نصف وصيته على الابن الذي لم يدّع أنه قتله. والقول الثالث - أنه يجعل كما لو قتلاه اشتراكاً، فتسقط الوصيتان، ويشتركان في الدية. وهذا قول بعيد، لا أصل له. 7628 - ومنها أنه لو وقف ذمِّيٌّ على كنيسة شيئاً، فرفع إلينا، فلا ننفذ [وقفه] (4)، ومثله لو كان نفذه قاضيهم، ثم رفعوه إلينا، قال: فيجوز ألا ننقضه، ونجعل إبرام قاضيهم بمثابة ما لو اشترى واحد منهم خمراً وقبضه؛ فإنا لا ننقض [عهدهم] (5). والصحيح أنه لا أثر للقضاء في ذلك، بل لا وقع لأحكام قاضيهم. 7629 - ومنها أنه لو قال لأمته: إذا مت فأنت حرة، على ألا تتزوجي، فإذا مات، فإن قبلت ذلك، عَتَقَت. قال (6): ولا بد من قبولها، وإن كان لا يلزمها

_ (1) في الأصل: فله. (2) في الأصل: أمور. (3) تتهاتران: تهاتراً: ادعى كل واحد على الآخر باطلاً، والتهاتر: الشهادات التي يكذب بعضها بعضاً. (المعجم) فالبينتان تتهاتران، أي تكذب كل واحدة منهما الأخرى وتسقطها. (4) في الأصل: رفعه. (5) في الأصل: عندهم. (6) قال: القائل صاحب التقريب، كما صرح بذلك العز بن عبد السلام في مختصره.

الامتناع من التزوج، ولكن قال: لا بد من القبول لتعتِق، كما لو أعتق الرجل أمته على خمرٍ؛ فإنها لا تعتِق ما لم تقبل، وسيأتي أصل ذلك في النكاح، والخلع -إن شاء الله عز وجل- ثم ينبغي أن يقع قبولها بعد الموت، هكذا قال. ثم قال: ولو قال لأمته المسلمة: إذا مت، فأنت حرة إن بقيتِ على الإسلام، فلا تَعتِق بالموت ما لم تقبل. ثم قال: إذا قبلتْ عَتَقت، ويلزمها قيمتُها، كذلك القيمة تلزم إذا التزمت أن لا تتزوج. وهذا الذي ذكره صاحب التقريب في الإسلام [بعيد] (1)؛ فإن الإصرار على الإسلام ليس مما يتخيل مقابلته بمال، بخلاف الامتناع عن التزوج؛ فإنها في امتناعها معطِّلة على نفسها حقَّها من [الاستمتاع] (2)، فالوجه أن نجعل التعليق بالإصرار على الإسلام تعليقاً محضاً. ثم في النفس شيء من الحكم بعتقها في الحال، فإن عنى بقوله: إن [بقيت مسلمة] (3) بقاءها على الإسلام إلى وقت موته، فلا إشكال، وإن عَنَى بقاءها على الإسلام إلى موتها، فالحكم بالعتق ولم يتحقق ما يكون منها فيه نظر، إذا أخرجنا التزام (4) ذلك على قياس المعاوضات، ولا يتبين حقيقة [الأمر] (5) ما لم تمت على الإسلام في ظاهر الأمر، ثم يستند (6) الحكم. ولفظ صاحب التقريب في المسألة أنه قال: إذا متُّ، فانت حرة [إن] (7) بقيتِ على الإسلام، وهذا تعليقٌ في صيغته.

_ (1) في الأصل: بعد. (2) في الأصل: المستمتع. (3) في الأصل: يثبت مسلماً. (4) (س): إلزام. (5) في الأصل: الأمن. (6) أي يثبت الحكم بالاستناد إلى التعليق السابق. (7) في الأصل: فإن.

ولا يبعد أن يقال: لو قال لها: إذا مت، فأنت حرة إن لم تتزوجي، فذكر امتناعها على صيغة التعليق لا على صيغة الإلزام المقتضي للقبول، فلا نحكم بحصول العتق في الحال ما لم ينقضِ عمرها. ثم يعترض في هذا إشكال، وهي أنها إن تزوجت، فقد خالفت، وإن استقلت (1)، فهذا فاسد، والفاسد لا حكم له، وإن زوجها الوارث، فإذ ذاك نتبين أنها ما عتقت، وسيأتي دقائق العتق والتدبير والتعليقات إن شاء الله عز وجل. فرع (2): 7630 - لو أوصى بجاريةٍ لإنسان ومات الموصي، فعلقت بعد الموت بمولودٍ، وانفصل قبل القبول، قالوا: الولد (3) إما أن يكون للورثة على قولٍ، أو للموصى له، ولا يكون محسوباً من التركة، حتى يُقضى منه الدين، وطرد العراقيون هذا في جميع زوائد التركة إذا فرضت [قبل] (4) اتفاق صرف التركة إلى الديون. هذا ما ذكره العراقيون، ثم قالوا: من ذهب مذهب الإصطخري فقال: إذا كان في التركة دين، فلا يملك الورثةُ التركةَ، فعلى هذا ما حصل من زيادة فيكون حكمها حكم التركة. 7631 - ومما ذكره العراقيون أنه إذا أوصى بعبدٍ قيمته مائة وخلف مائتي درهم، وكانتا غائبتين، وتعذر الوصول إليهما في الحال، فلا يسلم جملة العبد إلى الموصى له في الحال؛ فإنا لا ندري تَسْلمُ الدراهم للورثة أم لا تسلم؟ ولكن نصرف ثلث العبد إلى جهة الوصية، ونرقب العاقبة. ثم قال العراقيون إذا صرفنا ثلث العبد إلى الوصية، فلا نقول: إن تصرف الورثة ينفذ في بقية العبد، فإنا نقدّر وصولَ المال إليهم، ولو وصلت الدراهم يسلم تمامُ العبد.

_ (1) "استقلّت" أي بعقد النكاح. (2) في (س): فصل. (3) في الأصل: الولد له إما أن يكون ... (4) في الأصل: مثل.

ثم إذا منعناهم من التصرف في ثلثي العبد، فهل ينفذ تصرفات الموصى له في الثلث الذي صرفناه إليه في الحال؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينفذ تصرفه فيه؛ فإنه يسلم له ثلث العبد على كل حال، فلا شيء يتوقع مما ينقص هذا الثلث، وليس كذلك الورثة؛ فإنا [إنما] (1) منعناهم عن ثلثي العبد، حتى تصل إليهم التركة. والوجه الثاني - أنه لا ينفذ تصرف الموصى له في الثلث رعاية للتسوية بين الورثة وبين الموصى له؛ إذ يبعد أن لا يسلم للورثة شيء ولا ينفذ تصرفهم، وينفذ تصرف الموصى له. وناصر الوجه الأول يقول: إذا كان لا يطمع الورثة في ثبوت حق لهم في الثلث، فلا معنى للحجر على الموصى له فيه، وهو يتعين لاستحقاقه لا محالة، ثم إن لم يتصرف الورثة، فسببه بيّن، وعلته ظاهرة، والضرورة في أطراف المسائل تؤدي إلى أمثال هذا. 7632 - وهذا الفصل لا يشفي ما لم نفصل القول في الغيبة: فإن كان المال الغائب بحيث يعسر الوصول إليه لخوفٍ، أو لسبب من أسباب الحيلولة، فيظهر فرض المسألة التي ذكرناها هاهنا، ولا يجوز بيع مثل هذا المال؛ فإنه غير مقدور عليه، إلا أن يفرض بيعُه ممن يقدر عليه. فأما إذا كان المال غائباً والطرق آمنة، وكان الوصول إليه في العرف يُعدّ [متيسراً] (2)، وقد جرت الوصية بالعبد الحاضر، فقد رأيت في كلام الأئمة تردّداً في أن هذه الغيبة هل تعد حيلولة مع إمكان التصرف في المال أم لا؟ وبنَوْا على هذا التردّد اختلافاً في أنه هل يجب إخراج الزكاة عنه، مع وجوبها فيه، وهذا القدر لا يُلحق المال بالمجحود والمغصوب حتى يَخْرجَ في أصل وجوب الزكاة قولان، ولكن إذا وجبت هل يجب تنجيز الإخراج؟ فيه الخلاف الذي أشرنا إليه، فإن أوجبنا

_ (1) في الأصل: إن. (2) في الأصل: تيسيراً.

إخراج الزكاة في الحال، [فلا أثر لهذه الغيبة، وإن لم نوجب إخراج الزكاة في الحال] (1) فيجوز أن نقول: لا يسلم إلى الوصية إلا ثلث العبد، ولكن يجب القطع بنفوذ تصرف الموصى له؛ لأن تصرفات الورثة نافذة في المال الغائب. هذا تمام ما أردناه. فصل 7633 - إذا أوصى أن يحج عنه فلان بمائة، ففي المسألة أحوال: أحدها - أن يكون الحج فرضاً، وكانت المائة أجرَ المثل، فلا شك أنها من رأس المال، فإن حج [ذلك] (2) المسمى، فذاك، وإن لم يحج، أحججنا عنه غيرَه. فإن وجدنا من يحج بأقلّ من مائة، أحججنا عنه ذلك الإنسان. فلو قال ذلك [المعين] (3): قدِّروا هذا وصيةً لي، فأحجوني بالمائة، وإن قدرتم المائة تبرعاً [فالثلث] (4) وافٍ. قلنا: ما ذهب إليه معظم الأصحاب أنا لا نجيبه إلى ذلك؛ فإنه ليس متبرَّعاً عليه، والوصية إنما تنفذ بالتبرع، وهو بمثابة ما لو قال: لا تبيعوا تركتي في صرفها إلى ديوني إلا من فلان، فهذه الوصية باطلةٌ لا معنى لها. ولو كانت المائة أكثر من أجر المثل، فالزيادة على أجر المثل وصية، فإن لم يكن المعيّن وارثاً ووفى الثلث، وجب إحجاج ذلك المعيّن، فإن لم يحج ذلك المعيّن، أحججنا آخر بأجر المثل، أو أقل إن وجدنا من يسامح. ولو كان الحج تطوعاً، وجوزنا النيابة [فيه] (5)، فالأجرة بكمالها من الثلث، وإن لم يحج الشخص الذي عينه الموصي، فهل نستأجر غيره (6 ليحج؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نستأجر غيره فتبطل الوصية 6) كما لو قال: اشتروا عبد فلان فأعتقوه، فلم

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (س). (2) في الأصل: بذلك. (3) في الأصل: المبين. (4) في الأصل: والثلث. (5) في الأصل: منه. (6) ما بين القوسين سقط من (س).

يبع فلان العبد؛ فإنا لا نشتري عبداً آخر. والوجه الثاني - أنا نستأجر [غيره] (1)؛ فإن المقصود الظاهر الحج، فلا نعطل المقصود الظاهر [بتعذّر] (2) تحصيله من جهة شخص معين، وليس كما لو عين العبدَ؛ فإن مقصودَه الظاهر تحصيل العتق لذلك العبد. ولو عين لحج التطوع وارثاً، وسمى له أكثر من أجر المثل، فالزيادة وصية، والوصية للوارث باطلة، فإن حج الوارث عنه بأجر المثل، فذاك، وإن أبى، أحججنا عنه غيرَه بأجر المثل. ولو قال: أحجوا عني رجلاً بألف درهم، وكان الألف زائداً على أجر مثل كل من يحج، ولم يعيّن أحداً، فمن أصحابنا من قال: هذه الزيادة باطلة؛ فإنه لم يعيّن لاستحقاقها رجلاً، وليس صرف هذه الزيادة من [جهات الخير] (3)، فلا معنى له، فنُحِج عنه بأجر المثل. ومن أصحابنا من قال: الوصية صحيحةٌ، ويجب تنفيذها، والتعيين إلى الوصي. وهذا تمام مسائل الوصايا. ...

_ (1) زيادة من (س). (2) في الأصل: يمنعه وتحصيله. (3) في الأصل: من جهة الجنس.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة 7634 - قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [النساء: 58]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علامة المنافق ثلاث: إذا قال كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" (1) وقاعدة الوديعة متفق عليها، وتردد [فقهاؤنا في] (2) تسميته عقداً. وهذا الاختلاف سببه أن القبول ليس شرطاً من المودعَ وفاقاً، [وإنما] (3) اختلف الأصحاب في التوكيل بالعقود وما في معناها، والأصح أنه لا يشترط القبول في الوكالة على أي وجهٍ فرضت، وقد سبق تفصيل هذا في كتاب الوكالة، وليس [للاختلاف] (4) في أن الإيداع عقدٌ فائدة فقهية. ثم الأمانة تثبت تبعاً لمقاصد في عقود، وتثبت مقصودةً في الإيداع، (5 فأما حصولها تبعاً 5)، فمثل ثبوت حكم الأمانة في الرهن، والإجارة، والقراض، ورقاب الأشجار في المساقاة، وكل ما يقبض مستحق المنفعة سبيلها ما ذكرناه. ومعنى قول الفقهاء: "الائتمان مقصود في الإيداع" أن نفس الإيداع حكمٌ من المودِع بائتمان المودَع؛ فإنه أحله محل من يؤتمن، فكان مؤاخذاً بوضع الإيداع ومقتضى الائتمان، وإلا فمقصود الإيداع حفظ الوديعة، ولا حظ للمودَع من الوديعة أصلاً.

_ (1) حديث: "علامة المنافق" متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ... إلخ". (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 12 ح 38). (2) في الأصل: فقهاً وتأخر عقداً. (3) في الأصل: فإنما. (4) في النسختين: الاختلاف. (5) ما بين القوسين ساقط من (س).

ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا أودع رجل وديعة، فلم يثق بأحدٍ يجعلها عنده، فسافر بها بحراً وبراً، ضمن ... إلى آخره" (1). 7635 - مضمون هذا الفصل أن المودع إذا طرأت عليه حالة حملته على المسافرة، أو أراد أن يسافر مختاراً من غير إرهاق واضطرار، فماذا يصنع بالوديعة؟ أيسافر بها أو يودعها؟ قال الأئمة: إذا أراد المودع المسافرة، وكان صاحب الوديعة حاضراً، فيتعين عليه ردُّها كما سنصف معنى رد الوديعة، إن شاء الله، وإن لم يكن حاضراً، وكان وكيله بقبض الودائع والحقوق حاضراً، فانه يسلمه إليه، ولا طريق غيره. [ولو لم] (2) يجد مالكَ الوديعة، ولا وكيلاً من جهته، فإن كان في الموضع حاكم، راجعه وسلّم الوديعة إليه، ثم الحاكم إن قبضها بنفسه، فذاك، وإلا أقام في حفظها موثوقاً به، فينزل ذلك القائم منزلةَ الحاكم. ولو أراد أن يسافر بالوديعة أو يودعها عند إنسان مع القدرة على مراجعة الحاكم، لم يكن له ذلك، ولو فعل، ضمن. فأما إذا خلا المكان عن حاكم يراجَع، ولم يكن في الموضع صاحب الوديعة ولا وكيله، فلو أراد المودع أن يودع الوديعة عند أمينٍ، فظاهر النص هاهنا أن له ذلك. وقال (3) الشافعي في كتاب الرهون: العدل الذي عدّل الرهن عنده، [لو] (4) أراد سفراً، فأودع ما عنده عند أمين، ضمن. وإنما قال ذلك في شغور المكان عن الحاكم، فلم ير علماؤنا بين المسألتين فرقاً، وجعلوا المسألتين على قولين: أحدهما - أنه يضمن؛ لأنه المودَع والمستحفظ، والحفظ أمرٌ خاص، وليس للمأمور في الشغل الخاص أن يقيم غيرَه مقام نفسه، فإذا فعله، كان مخالفاً لموجب الإيداع مجاوزاً لما يتضمنه أمر المالك.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 175. (2) في الأصل: ولم يجد. (3) في الأصل: قال الشافعي (بدون واو). (4) في الأصل: أو.

والقول الثاني - أنه لا يضمن؛ فإنا لو ضمناه، وقد تمس الحاجة إلى المسافرة، لكان ذلك ضربَ حجر عليه، وفي هذا خرمُ أصل الإيداع؛ فإن المودَع متبرع، ولهذا صُدِّق فيما يدعيه من ممكنٍ من الرد والتلف؛ إذ لو لم يصدَّق، لما رغب في الحفظ متبرعٌ. كذلك لو اقتضت الوديعة حجراً، لجر ذلك امتناعَ الناس عن حفظ الودائع. وحق ما يتفرع من الأصول أن يرد إليها ويجري على حسب أصولها. ومما يذكر أنه لو سافر بالوديعة حيث لا حاكم، ولا مالك، ولا وكيل، فإن كانت الطرق مخوفة، فلا شك في امتناع المسافرة بالوديعة. فإن كانت الطرق آمنةً آهلة، [والمعنيُّ] (1) بالأمن فيها غلبة الظن في السلامة، من غير قيام سبب من الخوف معلوم أو مظنون، ومن حكم تصوير الأمن قيام أسبابه: من إيالة ضابطة، ويدٍ من الوالي العدل بطَّاشة، وترتب من الناس في الأطراف، حتى لو لم [يعلم بسبب الأمن، فالمسافرة غرر] (2) وإن لم يكن سبب الخوف [بهذا] (3) القدر لا بد من الإحاطة به في بيان معنى الأمن. فإذا كانت الطريق آمنة على ما فسّرنا، فالذي أطلقه الأصحاب منع المسافرة، وحكَوْا فيه خلاف أبي حنيفة (4)، وأقاموا المسألة خلافية. وهذا ظاهر المذهب. وذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الذي صححه ورآه أصل المذهب. والوجه الثاني - أن المسافرة بالوديعة جائزة، وهذا الوجه يوافق مذهب أبي حنيفة، ووجهه على بعده أن يده مستدامة، والمسافرة مع الأمن بمثابة الإقامة، والأموال المضنون بها كأموال الأطفال يسوغ المسافرة بها. 7636 - فهذه مسائل أوردها الأصحاب في الطرق، فجمعناها مرسلة. ونحن الآن ننعطف عليها، ونذكر رباطها والفقه المعتبر فيها.

_ (1) في الأصل: فلا نعني بالأمن. (2) في الأصل: لو لم يعم سبب الأمن بالمسافرة عذر. (3) في الأصل: هذا. (4) ر. المبسوط: 11/ 122، الاختيار: 3/ 27.

فأما تعين مراجعة المالك ووكيله والحاكم، فلا إشكال فيه، إلا أن المودع إن سافر مضطراً أو محتاجاً، فيتعين على الحاكم أن يقبل الوديعة منه، إما بنفسه أو بإقامة صالح للحفظ. فأما إذا كان سفرُ المودع عن اختيار من غير حاجة حاقّة، ولا ضرورة مرهقة، فإذا راجع الحاكم، فإن أسعفه الحاكم، فلا إشكال، وهل يجب على الحاكم أن يسعفه؟ [هذا] (1) مما اختلف فيه العلماء المتكلمون في أحكام الإيالات -والشريعة بحاجة إليها، وليس للفقهاء اعتناء بها- فمنهم من قال: يجب على الحاكم ذلك؛ على أصل وجوب الإعانة وهو من أقطاب الإيالة. والثاني -[لا يجب] (2) ذلك؛ إذ لا حاجة، والقيام بمآرب الخلق غيرُ ممكن. ولا خلاف أن المودع لو أراد رفعَ اليد عن الوديعة وتسليمَها إلى الحاكم، لم يجب على الحاكم قبولها منه، مع استدامة الإقامة. هذا القدر كافٍ، ولا نتعداه فنقع في دقائق أحكام الإيالة. 7637 - فأما ما ذكرناه [عند] (3) [شغور الناحية] (4) عن الحاكم من التردد في جواز الإيداع وجواز المسافرة، ففي هذا المقام نظرٌ من وجوه: من أصحابنا من لم ير المسافرة أصلاً إذا لم يكن ضرورة، وسأصف الضرورة في أثناء الفصل، إن شاء الله. فهؤلاء يقولون: في الإيداع قولان، وعليهم تفصيلٌ لا بد منه، فإن وقعت ضرورة أرهقت المودع إلى الخروج، وقد منعناه من المسافرة بالوديعة، فالذي أراه هاهنا القطعُ بأنه إذا أودع، لم يضمن؛ فإنا لو ضمّناه، لصار الإيداع متضمناً عهدةً، وهذا يخالف وضعَ الوديعة. وبيان ذلك أن الأحوال المتقلبة قد تُفضي إلى الضرورات المزعجة الحاملة على الخروج، فإن قلنا: لو أودع -والحالةُ هذه- يضمن، فلا سبيل إلى المسافرة [إذا

_ (1) في الأصل: منها. (2) في الأصل: لا يجوز. (3) في النسختين: بعد. (4) في الأصل: شعوب.

كان] (1) يجر ذلك ما ذكرناه من [إفضاء] (2) الإيداع في بعض الأحوال إلى ضمانٍ لا محالة، وتحقيقه أن الضرورة المزعجة تسوّغ له الخروج إن لم توجبه، فإن قلنا: يمتنع الإيداع، والمسافرةُ بالوديعة ممتنعةٌ، فهذا [جمع] (3) النقيضين. [وإن] (4) قلنا: يجوز له الإيداع على شرط الضمان، كان هذا خروجاً عن وضع الوديعة بالكلية؛ فإن وضع الوديعة على أن كل ما يسوغ لا يضمن. وإذا لم تكن ضرورة، ففي هذا نظر دقيق في أنا نحرّم عليه الخروج؛ لمكان الوديعة، أم نقول: له الخروج، ولا يسافر بالوديعة ويودع على شرط الضمان؟ وهذا فيه احتمال عظيم؛ [فإنا] (5) إن حجرنا عليه لمكان الوديعة، كان عظيماً، وأدنى ما فيه امتناعُ الناس. عن قبول الودائع، وليس هذا [هيناً] (6) في الوديعة؛ فإنا بنيناها على مخالفة الأصول لتحقيق مقصودها، فصدَّقنا المودع، وهو في مقام المدَّعين [وآية ذلك أنه يقيم البينة فتسمع، ثم نقبل] (7) قوله ويحلف لو اتهم، ولا يقال: [هلا] (8) أشهدت على الرد الذي ادعيت، وليس من الكلام [الرضي] (9) أن يقول القائل في دفع هذا الإيداعُ هو الذي تضمَّن ذلك؛ فإن المودع لم يضمن تصديق المودع في كل ما يقول، بل فقه الباب مصلحة كلية وهي ما أشرنا إليه من سقوط حظ المودع في حفظ الوديعة، وإذا سقط حظ الإنسان في شيء، لم يرغب في [التعرض] (10) لعهدته، فلو تضمن الإيداع حجراً، [لكان] (11) هذا أدعى إلى امتناع

_ (1) زيادة من (س). (2) في الأصل: إمضاء. (3) في الأصل: جميع. (4) في الأصل: فإن. (5) في الأصل: فأما. (6) في الأصل: بيّنا. (7) في الأصل: إنه كذلك يقيم البينة فلمع (كذا). ثم نقل قوله. (8) في الأصل: هذه. (9) في الأصل: الوصيتين (كذا). (10) في الأصل: المتعرض. (11) في الأصل: لمكان.

الناس من [قبول] (1) الوديعة. هذا وجهٌ. وليس يمتنع أن يقال: الوديعة [تقيّده] (2) كما يلزمه [في الإيداع] (3) الحفظ إلى أن [يجد ربَّها] (4). هذا فن من النظر. ويجوز أن يقال: لا يتقيد ويودع، ولكن هل يضمن عاقبة الأمر؟ فيه القولان المذكوران. 7638 - وأما ما ذكرناه من المسافرة، فإن منعناها، فلا كلام، ولكن إن جرت ضرورة لو لم نفرض معها المسافرة بالوديعة، [لضاعت] (5)، وذلك بأن يُقدَّر في البلد [نهبٌ] (6) أو ينجلي أهلُه، فالمسافرة بالوديعة سائغة [هاهنا] (7) إذا كانت الطرق آمنة [وسأصف] (8) تعليل ذلك في ضابطٍ أذكره في آخر الفصل، إن شاء الله عز وجل. وإن لم نرجح المسافرة بالوديعة إلى [حفظها] (9) وصونها عن الضياع، فهي ممتنعة على هذه الطريقة. فأما من جوز السفر، ففيه تردّدٌ عندي في أنه هل يجوّز صاحب هذا المذهب الإيداع أم كيف السبيل فيه؟ يجوز أن يقال: يمتنع الإيداع (10) عنده؛ فإن فيه رفع اليد [عن] (11)

_ (1) في الأصل: وقول. (2) في الأصل: تعيده. (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: يحرز بها. (5) في الأصل: أضاعت. (6) في الأصل: نها (كذا). (7) في الأصل: ضامنا. (8) في الأصل: وسأصرف. (9) في الأصل: حطها. (10) عنده: أي عند صاحب هذا المذهب. (11) في الأصل: من.

الوديعة، وإقامة يد المودعَ (1) مقام [يد] (2) المأمور (3) بها. وهذا تصرّفٌ يليق بالولاية لا يقتضيه الأمر الخاص في الشغل الخاص، والمسافرة بالوديعة [تُديم] (4) يده عليها، والسفر من أطواره. ويجوز أن يقال: إنما يجوز المسافرة إذا لم يجد المودعَ أميناً يضع الوديعة عنده، [وهذا] (5) ظاهر كلام الصيدلاني في مجموعه، [فإنه] (6) قال: "فإن لم يكن حاكم، فحينئذ يودعها أميناً، فإن لم يجد أميناً، فله أن يسافر بها حينئذ، ولا يضمن" هذا لفظه. ووجه ذلك أن السفر عُدَّ عذراً في باب الوديعة، والإيداع عند الأمناء أوثق وأوفق لمقصود الأمانة من التعرض لغرر السفر. ثم قال العلماء: المنع من المسافرة فيما إذا لم يكن الإيداع في سفر، فإن كان الإيداع في السفر، فإن المودعَ يتمادى على وجهه في سفره، ولا نقول: الوديعة تثبطه، ولا نقول [أيضاً] (7): إذا انتهى إلى موضع يتأتى الإقامة [فيه] (8) نُلزمه أن يقيم، بل يتمادى إلى منتهى مقصوده، ولا حجر، ولا نقول إذا انتهى إلى مقصود سفره: نثبّطه عنده، بل يؤوب إلى وطنه، ولا يخفى على الفقيه هذا. نعم، إذا عاد إلى وطنه، ثم أراد أن يسافر [مرة أخرى] (9) فهل له المسافرة بالوديعة بعد هذا؟ فيه احتمال ظاهر، يجوز أن يقال: له ذلك؛ فإن المودِع قنع به مسافراً، فلا منافاة بين السفر وبين مقصود المودع. ويجوز أن يقال: إنما قنع المودعُ بسفره لعلمه بأنه إلى القرار مصيره، وليس في

_ (1) أي المودعَ الثاني. (2) في الأصل: اليد. (3) (س): المأمون. (4) في الأصل: قد تم. (5) في الأصل: فهذا. (6) في الأصل: فإن. (7) في الأصل: امضا (كذا). (8) في الأصل: فيها. (9) مزيدة من (س).

حاله ومقاله ما يتضمن الرضا بسفره أبداً. فهذا ما أردنا أن نذكره في تتبع المسائل التي أطلقناها وتنزيلها على حقائقها. [فصل] 7639 - ونحن نذكر الآن فصلاً عليه التعويل [فنقول] (1): الأوامر وإن كانت مطلقة، فإذا قيدتها الأحوال ومجاري العرف، تقيدت بها، وعلى هذا بنينا بطلان بيع الوكيل المطلق بما عزَّ وهان، وهذا أصلٌ قد عرفه من ينتهي نظره إلى هذا المحل من هذا [الكتاب] (2)؛ فإذا أودع رجل وجوّز للمودَع المسافرة، فهذا كلام مقيد، وإن أطلق، قلنا: تمنع المسافرة على الرأي الأصح؛ من جهة التغرير؛ إذ لو صح هذا لامتنعت المسافرة بأموال اليتامى، ولكن قرينة الحال تقتضي تثبيت الوديعة في محل الإيداع؛ فإن الغالب أن الإنسان يودع ويسافر بنفسه، فكأن الإيداع يقترن به من العرف ما يقتضي منعَ المسافرة به. ولهذا خلّفه المودِع وسافر، [فالمتبع] (3) العرف إذاً. فأما الإيداع عند أمين، فليس [يضيق] (4) العرف عن احتمال [ضيعة] (5) المسافرة؛ فإن المودِع قد يقدّر مسيس [حاجة] (6) المودَع إلى المسافرة، ثم يبغي منه أن يحتاط في الوديعة جهده، فهذا ما لا بد من مراعاته، ومن لم يمزِج (7) العرف في المعاملات بفقهها (8)، لم يكن على حظ كامل فيها. وقد نجز مقصود الفصل.

_ (1) في الأصل: وهو. (2) في الأصل: المكان. (3) في الأصل: والمتبع. (4) في الأصل: مضيق. (5) في النسختين: صيغة. ثم العبارة مضطربة في النسختين وفيها تكرار هكذا: عن احتمال صيغة عن احتمال المسافرة. (6) في الأصل: الحاجة. (7) (س): يخرج. (8) (س): تفقهاً.

7640 - ونحن نلحق به مسائل خرجت عن يد الضبط تتمةً للغرض. منها أن المودَع إذا أراد أن يدفن الوديعة وُيغَيِّب، نُظر: فإن دفنها في مضيعة، فلا شك في الضمان بالخروج عن مقتضى الائتمان. وإن دفنها في موضع حريز، [قال] (1) الأصحاب: إن لم يُطلع على مدفنها أحداً، صار ضامناً، وهذا يستقيم على الأصل؛ فإن كل مال [يفرض] (2) محرزاً، فحقيقة الحرز فيه تستدعي مراقبةً من عين كالئةٍ على ما سنذكر تقدير ذلك في صفات الأحراز من كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى. ثم قال الأصحاب: إن أطلع عليه أميناً وأعلم بمكانها، جاز ذلك. وهذا فيه فضل نظر على [المتأمل] (3)؛ فإن بعض الأئمة أطلق الإطلاع مع كون الموضع حريزاً، وشرط إطلاع أمينٍ على المدفن المحرز، وقال أئمة العراق: لا يكفي إطلاع أمين حتى يكون المدفن تحت يد ذلك الأمين، وهذا الذي قالوه حسن متجه، ولست أرى في ذلك خلافاً بين الطرق، والإطلاع الذي ذكره [عن] (4) العراقيين محمول على ما ذكره العراقيون؛ ولكنهم بيّنوه وفصّلوه. والذي يوضح ذلك أن موضع الإطلاع إذا لم يكن تحت يد المُطْلَع، فلا يكون محفوظاً برعايته، حتى لو فرض الدفن في دار وفيها سكان، والمطلَع لا يداخلهم، فلا أثر لإطلاعه في الحفظ المقصود، وإن كانت الدار خالية والمطلَع لا يدخلها، ولكنه يرعاها من فوق رعاية الحارس، أو من الجوانب، فلا يكاد يصل إلى الغرض، وإن أحاطت بالدار حياطتُه وعمها من الجوانب رعايتُه، فهذه هي اليد التي تليق بالوديعة، وهي التي عناها العراقيون، ويكون المدفن الآن في حكم بيت مرعيٍّ من جوانبه على العادة في مثله، والبيت [مغلقٌ، فهذا ما] (5) يجب الاتفاق عليه.

_ (1) في النسختين: فإن. (2) في الأصل: فوض. (3) في الأصل: التأمل. (4) في الأصل: عند. (5) في الأصل: معلق فيه أما يجب.

ثم يبتني على ذلك أن التعويل على يد هذا المُطلَع، لا على الدفن، وإذا كان على هذا الوجه، فقد غاب المودعَ، واستودع أميناً، فيلتحق بالتفصيل المقدم في أن المودعَ هل يودع؟ وقد مضى الخلاف فيه وتنزيله على الترتيب الواضح الحق. وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على أن تقرير الوديعة في موضعها، وتفويض الرعاية إلى أمينٍ أوْلى أن ينتفي الضمان فيه من نقل الوديعة بالكلية إلى يد مودعَ، ولم ينكر تخريجَ الخلاف مع [ما ذكره] (1) من الترجيح، وهذا الذي أشار إليه لست أرى له وقعاً في اقتضاء الترتيب؛ فإن التعويل على يد هذا المطلَع لا غير، وقد تبدلت اليد، فلا أثر لاتحاد مكان الوديعة. هذا منتهى البيان في ذلك. 7641 - ومما يتصل بهذا الفصل أن صاحب التقريب قال: إذا أودع رجلٌ وديعةً عند إنسان في قريةٍ خربة، ثم بدا للمودَع أن ينتقل منها إلى قرية حصينة آهلة، فإن لم يكن بين القريتين من المسافة إلا ما يقع بين محِلّتين للبلد، والأمن مطّرد، فلا بأس بالانتقال بالوديعة والحالة هذه. فأما إذا كان بين القريتين مسافة تزيد على الحد الذي ذكرناه، وكانت القرية الخربة موضعَ حفظٍ على حالٍ، ولكن القرية التي إليها الانتقال أحرز وأحصن، فإن كانت المسافة بين القريتين مسافةَ القصر فصاعداً، فالانتقال بالوديعة مسافرةٌ بها، وقد استقصينا القولَ في المسافرة بالوديعة مع إمكان الإقامة. وإن كانت المسافة قاصرة عن مسافة القصر، فإن جوّزنا الانتقال والمسافة مسافة القصر، فلا شك في جوازها إذا قصرت المسافة، وإن منعنا المسافرة عند بعد المسافة، قال: ففي الصورة التي [تقرب] (2) المسافة فيها وجهان. ومقصود صاحب التقريب يتضح بذكر مراتب: فالمسافرة مع بعد المسافة وإمكان الإقامة على وجهين. والمسافرة مع قرب المسافة واستواء قرية الإيداع والقرية التي إليها الانتقال على وجهين مرتبين على الصورة الأولى، وإن قصرت المسافة وكانت

_ (1) في الأصل: ما ذكرناه. (2) في الأصل: تعرف.

قرية الإيداع خربة والقرية التي إليها الانتقال حصينة، ففي المسألة وجهان، وهذه الصورة أولى بالجواز من التي تليها، وهي مع تصوير الخراب في قرية الإيداع مفروضة فيه إذا كان الحفظ في القرية الخربة ممكناً، ولا يعد تقرير الوديعة فيها تضييعاً. هذا منتهى المراد في ذلك. فصل قال: "وإن تعدّى في الوديعة ثم ردها إلى مكانها ... إلى آخره" (1). 7642 - مضمون هذا الفصل بيان ما يصير به المودعَ ضامناً، وقد مهدنا ثبوت الأمانة في حق المودَع مقصودة، ونحن نوضح الآن ما [يُخرجه] (2) عن الائتمان ويثبت عليه الضمان، فنقول: الأسباب المضمّنة في الوديعة شتَّى: منها التضييع، فإذا وُجد من المودَع ما يعد تضييعاً وتركاً للاحتياط [المعتاد] (3) في الحفظ؛ فإنه يصير ضامناً، ولا حاجة إلى تفصيل التضييع؛ فإن فيما ذكرناه وسنذكره من وجوب رعاية جهات الحفظ، ما يوضح أن ما يخالفها يكون مضيعاً. هذا وجهٌ في اقتضاء الضمان. والوجه الثاني - الانتفاع بالوديعة، فإذا كانت الوديعة ثوباً، فلبسه، أو دابة فركبها من غير حاجةٍ ماسة في الحفظ إلى الركوب، ضمنها؛ فإنه في حالة انتفاعه يتعدّى، ويده يد عدوان، ولو كان ينتفع بالإذن [فيضمن] (4) لكونه مستعيراً، فما الظن بما إذا انفرد بالانتفاع؟ ومن الوجوه المقتضية للضمان مخالفة المودَع في أمره، وهذا أصلٌ يجب الاعتناء بفهمه، فقد ثبت على الجملة أن المخالفة إذا تحققت، كانت مقتضيةً للضمان، وهذه الجملة [تستدعي] (5) تفصيلاً.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 176. (2) في الأصل: يخرج. (3) في الأصل: للعتاد. (4) في الأصل: يتضمن. (5) في الأصل: فتستدعي.

فنقول: إذا قال مالك الوديعة للأمين: احفظ هذه الوديعة في هذا البيت، تعيّن موضعَ الحفظ، و [إن] (1) لم يصرح بالنهي عن النقل عنه، فلو نقل المودَع الوديعة إلى بيت مساوٍ للبيت المعيّن في الإحراز أو إلى بيت أحرز من المعين، فهذا النقل غيرُ ممتنع، ولا يخفى أن النقل من بيت إلى بيت ومن دارٍ إلى دار، ومن محِلّة إلى محِلة، وكل ذلك في بلدة واحدة لا امتناع فيه، وليس ينزل منزلة المسافرة بالوديعة. هذا متفق عليه. والذي زدناه أن التعيين لا يؤثر في المنع منه إذا كان على الصورة التي وصفناها؛ فإنّ قول المالك: احفظ هذه الوديعة في هذا البيت غيرُ محمولٍ على الحجر على [الأمين] (2)، وإنما يحمل على [الأمر] (3) بصَوْن الوديعة في هذا البيت، أو فيما يحل محله في الإحراز (4 وإذا لم ينتقض غرض المالك في الإحراز 4) فلا [أرب] (5) له في أعيان [البيوت] (6). وإن نقل المودَع الوديعةَ إلى بيت [خرب] (7) في نفسه كان يجوز للمودَع حفظ الوديعة فيه لو كان الإيداع مطلقاً، ولكنه كان دون البيت المعيّن في الإحراز، فالنقل ممتنع على هذا الوجه؛ [فإن فيه مخالفة لغرض المودع في الإحراز، والمخالفة على هذا الوجه] (8) تؤثر في اقتضاء الضمان. هذا إذا أمره بحفظ الوديعة في بيت ذكره، ولم ينهه عن نقلها منه إلى غيره، فأما إذا قال: احفظ الوديعة في هذا البيت أو في هذه الدار، أو في هذه المحلة، ولا تنقلها إلى موضع آخر، فإذا عين ونص على النهي عن النقل، فنقل المودعَ، لم

_ (1) زيادة من (س). (2) في الأصل: الابن. (3) في الأصل: على الابنين. (4) ما بين القوسين ساقط من (س). (5) في الأصل: اـ ـت (كذا). (6) في الأصل: الـ ثوـ (كذا). (7) في الأصل: خربة. (8) ما بين المعقفين زيادة من (س).

يخلُ [إما] (1) أن يلجئه إلى النقل ضرورة أو لم يكن ضرورة، فإن ظهرت ضرورة تقتضي النقل مثل أن يظهر في المحل المعيّن حريق [أو غيره] (2) من الآفات، فإذا نقل والصورة (3) هذه، لم يضمن أصلاً. وزاد العراقيون في صورة الضرورة تفصيلاً، فقالوا: لو ترك الوديعة في البيت المعين، ولم ينقلها مع القدرة على النقل حتى تلفت، فهل يضمنها؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - أنه يضمن؛ لأنه عرضها للتلف. والثاني - لا يضمن، فإنه راعى فيه إذْن المودع، وقد نهاه عن النقل صريحاً. ولو قال: لا تنقلها وإن خفت عليها أو أيقنت بتلفها، فلو تركها، لم يضمنها وفاقاً، ولو نقلها والحالة هذه، قالوا: لا يضمن [أيضاً] (4) وإن خالف صريح قوله؛ [فإن قوله] (5) إنما يراعى فيما فيه تحفظ وإحاطة، فأما ما يخالف ذلك، فقوله فيه ساقط الأثر. وهذا الذي ذكروه آخراً [محتمل] (6). [ويظهر] (7) عندنا مع التصريح بالنهي عن النقل عند خوف التلف وجوب الضمان على الناقل، وسنبين بعد عدّ المسائل ما يوضح فقهها ويربط نظامها، وإذ ذاك نعود إلى هذا التردد، إن شاء الله. هذا كله إذا عين ونهى عن النقل، وطرأت ضرورةٌ تقتضي النقلَ، فأما إذا لم تكن ضرورة في النقل، والمسألة مفروضة فيه إذا عين موضعَ الحفظ، ونهى عن النقل عنه، فإذا نقل، فلا يخلو إما أن ينقلها إلى بيتٍ دون البيت المعين في الإحراز، فإن كان

_ (1) في الأصل: إنما. (2) في الأصل: وغيره. (3) في الأصل: الصورة (بدون واو). (4) في الأصل: امضا. (5) زيادة من (س). (6) في الأصل: يحتمل. (7) زيادة من (س).

كذلك، ضمن، فإنّ تجرُّد التعيين [من] (1) غير نهي عن النقل يوجب الضمان في هذه الصورة، فلا يخفى ثبوت الضمان مع النهي عن النقل. وإن نقلها الأمين إلى بيت مثلِ البيت المعين، أو إلى بيت أحرزَ منه، فقد ذكر صاحب التقريب والعراقيون وجهين: أحدهما - أنه [يضمن] (2)؛ لأنه خالف صريحَ قول المودِع من غير ضرورة. والثاني - لا يضمن أصلاً، كما لو كان اقتصر المالك على تعيين البيت ولم ينه عن النقل [فالنقل] (3) لا [يُضمِّن] (4) في هذه الصورة، وإن كان فحوى التعيين وموجبه من طريق اللفظ ينبىء عن ترك النقل، فليكن الحكم كذلك مع التصريح بالنهي عن النقل. وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على وجه ثالث - وهو أنه إن نقل إلى مثله، ضمن؛ فإنه لم يزد احتياطاً وخالف، وإن نقل إلى أحرز منه، لم يضمن، وتصير (5) زيادة الحرز مقابلة للمخالفة. 7643 - فهذا ذكر المسائل في هذا المقصود، وتحقيق المعنى يستدعي اطلاعاً على معنيين: أحدهما - الاعتناء بفهم العرف، وليعلم الناظر أن كل حكم يُتلقَّى من لفظٍ في تعامل الخلق، وللناس في ذلك القبيل من التعامل عُرفٌ، [فلن] (6) يحيط بسرّ ذلك الحكم من لم يحط [بمجاري] (7) العرف؛ فإن الألفاظ المطلقة في كل صنف من المعاملة محمولة من (8) أهلها على العرف فيها، فإذاً إذا قال: احفظ الوديعة في هذا البيت، ولا تنقله منه، فالعرف يقتضي حملَ هذا القول من المالك على تعيين مقدار

_ (1) في الأصل: بين. (2) في الأصل: يتضمن. (3) في الأصل: والنقل. (4) في الأصل: يتضمن. (5) (س): وتفيد زيادة الحرز معادلة الخلاف. (6) في الأصل: فلم. (7) في الأصل: لمحازي. (8) (س): بين أهلها.

الإحراز بالبيت المعيّن، فإن فرضت ضرورة؛ فهي خارجة [عرفاً] (1) عن موجب القول؛ فإن العاقل لا يحتكم على المستحفَظ المتبرع بما يؤدي إلى إتلاف ملكه، فهذه التقييدات لا يفهم منها في الإيداع تعريض الوديعة للتلف، وكذلك لو كانت [الضرورة] (2) في نفس المؤتمن، فلا يفهم أرباب العقول من قول المالك التماسه من المودعَ تعريض نفسه للهلاك، أو [ما] (3) في معناه لمكان [وديعته] (4)، فقد خرجت الضرورة الراجعة إلى الوديعة والضرورة الراجعة إلى المودَع عن حكم التقييد والتعيين، ولا يتمارى في هذا ذُو لُبٍّ. فأما إذا لم تكن [ضرورة] (5) وقد جرى التعيين، والنهيُ عن النقل، تعارضَ في هذا المقام وجوهُ الرأي، فيجوز أن يقع الاعتماد على قدر الإحراز بناء على ما نبهنا عليه، ويجوز حمل تقيد المودِع على حسم باب النقل من غير ضرورة؛ فإن النظر قد ينقسم في المنقول إليه، فيحاول المالك حسمَ النقل، ويعد هذا من الأغراض [الواضحة] (6) في هذا الصنف، ونظائرها في الشرعيات [والحسيات] (7) كثيرة، لسنا نطوّل بذكرها. وهذا أصلٌ رأينا التنبيه عليه. 7644 - والمعنى الثاني - أن التحكم على المودَع بأمورٍ لا تليق بمصلحة الحفظ [في] (8) الوديعة ممنوع عند المحققين، وهو في حكم القول الملغى، الذي لا مبالاة به، وقد قربه هؤلاء من الشرط الفاسد الذي لا يتعلق بمقصود العقد، كقول القائل:

_ (1) في الأصل: عنها. (2) في النسختين: الوديعة، والمثبت تقدير منا، على ضوء المعنى والسياق. (3) في الأصل: كما. (4) في الأصل: وديعة. (5) في الأصل: ضرورياً. (6) في الأصل: ولو أوضحه. (7) في الأصل: والـ حمـ اـ. كذا (انظر صورتها). (8) في الأصل: له.

بعتك هذا العبد على شرط ألا تطعمَه إلا ألذ الأطعمة، فهذا وما في معناه لغوٌ مُطَّرح. ومن الأصحاب من لا يرى مخالفة اللفظ الصريح، وإن لم يتعلق بمصلحة الوديعة؛ بناء على أصلٍ، وهو أن الحفظ مربوط بإذن المالك، ولا حق للمودَع فيه، فيجب تنزيله على حكم [نصِّه] (1) الصريح وينشأ من هذا التردد ما ذكرته في حالة الضرورة، فإذا كان قال: لا تنقله وإن أشفى على الهلاك وأيقنت بتلفه، فما ذكره العراقيون إحباطٌ (2) منهم لتعيينه من غير [غرض] (3) صحيح يرجع إلى مصلحة الحِفظ، وما ذكرناه يرجع إلى اتباع إذنه، إذْ نصَّ وصرح، فإذا قال: احفظه [في] (4) هذا البيت، ولا تنقله، فحالة الضرورة مستثناة بحكم العرف، والاحتمال تطرق إلى اللفظ إذا اقترن العرف به، ويجري اللفظ إذا لم يُرد التقييد على ما ذكرناه مجرى اللفظ العام، والعرفُ المقترن به في حكم المخصص، وهذا بمثابة ذكر الدراهم في العقود، مع تعيين العرف لنقدٍ من النقود. فإن قال: لا تنقل وإن خفت الهلاك [أو أيقنت] (5) به، فهذا قطعٌ للعرف الآن، ويعود النظر إلى [احتكامه] (6) بما لا غرض فيه، كما ذكرناه. هذا مدار هذه المسائل. 7645 - ومما يتعلق بغرض هذا الفصل وفيه استكماله أن الرجل إذا أودع عند إنسان دابَّةً، وكان لا يليق بمنصب المودعَ القيامُ بحفظها وسياستها، وإنما يُقيم مثلُ هذا المودَع في حفظ الدابة عبداً أو أجيراً مأموناً، فمطلَق الإيداع لا يُلزم المودَعَ تولِّي

_ (1) في الأصل: بنصه. (2) في (س): احتياط. (وهو تصحيف واضح)، فالمعنى أن العراقيين أحبطو، أي أبطلوا تعيينه مكان الحفظ والنهي عن النقل منه وإن هلكت الوديعة؛ لأن ذلك مخالف لغرض الحفظ والصيانة للوديعة. (3) في الأصل: عوض. (4) في الأصل: من. (5) في الأصل: واـ ـق (كذا) به وهذا. (6) في الأصل: إحكامه.

الحفظ، وهذا مما يقضي العرف به قطعاً من غير [تحيّل] (1) ولا تردد. ومما يتعلق بذلك أن دار المودَع إذ كانت لا تتهيأ لمرابط الدواب لعزتها أو لضيق مضطربها، فحكم العرف يقتضي حفظ الدابة في الإصطبل القريب من الدار، وإن بعُد واطّرد العرفُ في احتمال مثله في مثل هذه الدابة، فلا [يمتنع] (2) حفظها في ذلك الموضع. وإن كان لا [يمتنع] (2) في العرف ربطُ الدابة في دار المودَع، فإذا أراد أن يربطها في حرم [الدار] (3) وهي منه بمرأيً ومسمع، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين، وهما محمولان على صورة يتردد النظر في العرف فيها. ومن أحاط بالأصل الذي مهدناه، [هان] (4) عليه دَرْك محل الوفاق والخلاف (5). 7646 - ومما يتعلق بتتمة المقصود، وهو مما يجب الاعتناء به أن المودَع لو وكل حفظ الوديعة إلى عبده المأمون (6) عنده، أو إلى زوجته، أو ولده، أو من يأتمنهم من دونه (7)، فكيف السبيل فيه؟ هذا فيه [التباس] (8) مترتب على [التباس] (8) العرف، ونحن نأتي فيه بالواضحة إن شاء الله عز وجل، فإذا كان الموكول إلى العبد ومن في معناه النقلُ وإغلاقُ الباب، والحراسة، ومحل [الفعل] (9) مرعي بنظر المودَع، فهذا لا منع فيه؛ فإن الوديعة في يد المودَع.

_ (1) في الأصل: تحصل. (2) في الأصل: لا يمنع. (3) في الأصل: الدابة. (4) في الأصل: ضمان. (5) في الأصل بعد كلمة الخلاف كلمة غير مقروءة. (6) (س): المأذون. (7) (س): ذريته. (8) في الأصل: الناس. (9) في الأصل: النقل.

وإن [سلم] (1) الوديعة إلى من يستبدّ بيده، ولكن رآه أهلاً لذاك وربما يضع عنده ذخائره، فإذا أراد التسليم إليه بالكلية، فهذا ممنوع؛ فإنه إيداع من المودَع من غير سفرٍ، ولا ضرورة، والذي يقتضيه عرف الإيداع خلاف هذا قطعاً، ولا ينبغي أن ينظر الفقيه إلى أن المودَع يفعل بالوديعة ما يفعله بملك نفسه في الاحتياط المعتبر في الحفظ؛ فإن هذا لا يجوز اعتقاده، مع تبدل اليد على التحقيق، فإنما المودَع هذا الشخص المعين، فقد [خرج] (2) هذا أيضاً، ومهما [ارتكبت] (3) المسائل وشملها السؤال على إبهام، فالرأي [التقليل] (4) من المسائل وإخراج الواضحات من محل النظر ليستدَّ النظر في محل الإشكال، فقد آل النظر إذاً إلى أمر المودَع [عبده] (5) بردّ الوديعة إلى مَحْرَز والسيد لا يلحظ المَحْرَز، بل يكتفي فيه بنظر العبد وحراسته. هذا محل النظر. فالذي يشعر به فحوى كلام الأئمة تجويز هذا. وفي بعض التصانيف التصريح بمنع ذلك إذا لم يكن الشيء مرعيّاً من جهة المودَع. أما وجه هذا المذكور آخراً، وهو أن التسليم إلى العبد إزالةٌ لليد [ولحفظ] (6) المودَع المؤتمن، فكان في معنى تسليم الوديعة إلى صديق مأمون موثوق [به] (7)، وهذا له إيضاح في القياس، ووجه ما دل عليه قول الأئمة حملُ الأمر على العرف؛ فإن الإنسان إذا أودع وديعةً عند بعض أماثل الناس، فيبعد أن يكلفه تولِّي الحرز ومراقبة الحرز، والانقطاع عن الانتشار في الحاجات والمآرب، فإذا كان ذلك بعيداً في العرف، ولا طريق مع مفارقة المنزل إلا استحفاظٌ عند موثوق به، أو استحفاظُ متصلٍ بالإنسان كالزوجة ومَنْ في معناها.

_ (1) في الأصل: تسلم. (2) في الأصل: صرح. (3) في الأصل: ارتبكت. ورجحنا هذا المثبت من (س)، لأن هذا (المصطلح) قد تكرر من قبل في مثل هذا السياق. (4) في الأصل: التعليل. (5) في الأصل: عنده. (6) في الأصل: ويحفظ. (7) في الأصل: مأمون به موثوق.

[فهذا] (1) مسلك عندنا يجب القطع به؛ فإن حمْل المودَع على خلاف ما ذكرناه يخالف العرف المطّرد، وقد أوضحت أن الألفاظ في المعاملات محمولة على موجب العرف المطرد. فإذا قيل: هذا في حكم إبدالِ يدٍ بيد. قلنا: ليكن (2) كذلك، والمحكّم العرف، وليس كإيداع أجنبي ليس من المتصلين بالمودَع. والجملة الضابطة في (3) ذلك اتباعُ العرف المستمر على نسق، فإن لم نجده، اتبعنا صيغة اللفظ. وقولُ المودِع: "أودعتك" متضمنهُ اختصاصه باليد وما أخرجه العرف خرج، وما لم يقيّده العرف، فاللفظ فيه مُجرىً على فحواه، وهذا بمثابة حملنا التوكيلَ بالبيع المطلق على بيعٍ [بالنقد] (4) عريٍّ عن الغبن، وإن كان البيع في وضع اللسان متناولاً للبيع بالغبطة والغبن. فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الإيداع المطلق يتقيد عرفاً بالاستعانة بالمختصين، وإن كان يقتضي ما يعرض من الأحوال زوالَ اليد. ومما يتعلق بذلك أنه لو سلم الوديعة إلى عبده، وكان لا يطالع المَحْرَز في الأحايين، [فهذا] (5) فيه بعض التردد، من جهة أنه لا يمكن الحكم على العرف فيه بالاطراد. 7647 - وحاصل الكلام في ذلك يوضحه ذكرُ صور: إحداها - أنه لو أودع [مطلقاًَ فأراد المودع] (6) الخروجَ لحاجاته، واستحفاظَ من [يثق به] (7) من متصليه، وكان يطالع المحرَز في عوداته، [فهذا] (8) هو الذي رأينا القطعَ بحمل الإيداع المطلق على

_ (1) في النسختين: "وهذا". (2) في النسختين: لكن. والمثبت اختيار من المحقق رعاية للمعنى. (3) في الأصل: الضابطة له في ذلك. (4) في الأصل: النقد. (5) في الأصل: وهذا. (6) زيادة من (س). (7) في الأصل: ثبوته. (8) في الأصل: وهذا.

تجويزه، وهو الذي [اقتضاه] (1) كلام الأئمة في الطرق. وفي هذه الصورة ذكر بعضُ المصنفين (2) امتناعَ ذلك إلا بإذن المودِع، وهذا غير معتد به. والصورة الأخرى - أن يفوّض الحفظ إلى بعض المتصلين به من عبد أو زوجةٍ، أو ولدٍ، أو أجيرٍ، وكان لا يلاحظ الوديعة أصلاً، فهذا موضع التردد. والصورة الأخرى - أن يكون الحِرز خارجاً عن دار المودَع ومسكنه الذي يأوي إليه، وكان لا [يطالعه] (3) المودع، [فالظاهر] (4) هاهنا المنعُ، وتضمين المودع. فأما (5) إذا سلم الوديعة إلى من ليس متصلاً به، واستحفظه فيها، فهذا ممتنع قطعاً مخالف للفظ وللعرف. هذا منتهى المراد في مخالفة المودَع وموافقته في طريق الحفظ. 7648 - ومما يضمّن المودَع جَحدُه [لأصل] (6) الإيداع، فإذا جحد المودَع الإيداع كاذباً، والوديعة في يده؛ فإنه يصير بالجحد غاصباً، ولو تلفت الوديعة في يده بعد الجحد، كانت مضمونة عليه. فإن قيل: لو جحدها غالطاً، ثم لما ثبتت له حقيقة الحال اعترف، فكيف السبيل؟ قلنا: حكم الجحد في الظاهر اقتضى تضمينه، ودعوى الغلط [منه] (7) مردودة، فإذا ثبت حكم الغصب بالإنكار، لم تعد الأمانة بالإقرار.

_ (1) في الأصل: اقتضا. (2) "بعض المصنفين" يعني به الإمام أبا القاسم الفوراني، كذا يرمز إليه الإمام دائماً، ولا يصرح باسمه لجفوةٍ كانت بينهما (أشرنا إلى ذلك مراراً). (3) في الأصل: لا يطالبه. (4) في الأصل: والظاهر. (5) في نسخة الأصل اضطراب واقحام فقد كانت هكذا: فأما إذا سلم وكان في مطالعة المودع قال الوديعة إلى من ليس ... إلخ. (6) في الأصل: لاحل. (7) زيادة من (س).

ولو ادعى الغلط، ثم أقر، فصدقه مالك الوديعة في دعوى الغلط، فالذي نراه أن الضمان لا يجب مع تصادقهما. 7649 - وقد ذكرنا أن الانتفاع بالوديعة مضمِّن؛ فلو لبس الثوبَ المودَعَ ظاناً أنه ثوبُه، ثم كما (1) استبان انكفّ، فالذي نراه القطعُ بأنه لا يضمن، كما ذكرناه في الجحد، ولو انتفع وادعى ما ذكرناه من الغلط، لم يصدق في ذلك؛ فإن ظاهر الانتفاع مضمِّن. 7650 - ولو ألقى الوديعةَ في مضْيعة، [ضمن] (2)، فلو كان ذلك عن جهل، فلا شك أنها لو ضاعت، ضمنها، ولو لم تضع وتذكر المودعُ فردَّها إلى [المحرَز] (3)، فهذا فيه نظر؛ فإن التضييع من أسباب التلف، وكل ما كان من أسباب التلف لا يفصل في اقتضائه الضمانَ بين أن يقع عمداً أو خطأً، ووجه، تطرّق الاحتمال [إلى] (4) ذلك [أنه] (5) إذا استدرك، خرج ما جرى عن كونه سببَ التلف. 7651 - نعود إلى الجحد، فنقول: إذا جحد المودَع الإيداع، وكانت الوديعة تلفت قبل جحده مع استمرار الأمانة، فإن تحقق ذلك، فلا ضمان على الجاحد، فإن جَحْده لم يجر إلا بعد تلف الوديعة على حكم الأمانة، وكل عين تلفت على حكم [لم ينقلب] (6) ذلك الحكم بطارىء يطرأ، وظهور التلف قد يكون باعتراف من المالك، فلو أراد الجاحد أن يحلف بعد الجحد على التلف قَبْلُ، لم يقبل يمينه؛ من جهة أن

_ (1) كما: عندما. هكذا يستعمل الإمام هذا اللفظ، وهو ليس بعربي ولا صحيح، كما قال النووي في تنقيحه، وقد مرّ هذا التعليق مفصلاً. هذا. وعبارة (س): "فلما استبان" ولكنا آثرنا "كما استبان" مع غلطها، لأنها نسخة الأصل أولاً. ولأنها إحدى خصائص ولزمات الإمام ثانياً، وترجح لدينا أن هذا التصحيح تصرفٌ من ناسخ (س). والله أعلم. (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: المخزن. (4) في الأصل: لأن. (5) في الأصل: آفة. (6) في الأصل: اـ ـعلـ ـ كذا.

جحد الإيداع في الأصل مناقضٌ دعوى التلف؛ فإن من ضرورة التلف تحت يده جريان الإيداع. ولو أراد أن يقيم بينة على تلف الوديعة قبل الجحد، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن البينة لا تسمع [فإن] (1) شرط سماعها ترتيبها على دعوى صحيحة ودعواه التلف تناقض جحدَه الإيداع، وإذا بطلت دعواه، لم تصادف البينةُ مستنداً صحيحاً. والوجه الثاني - أن البينة مسموعة؛ فإنه رجع عن جحده، وكذّب نفسَه فيه، وأنشأ الآن قولاً ممكناً، والدعوى قولٌ ممكن، فإذا اعتضدت [بالبينة] (2)، ثبت المقصود بها، وإنما لا تقبل البينة إذا كان قول [مقيمها] (3) عند إقامتها يناقضها. والضبط [في] (4) ذلك أن قول المقيم إن ناقض البينة لدى الإقامة، والبينةُ مفتقرة إلى الدعوى، فهي غير مسموعة، وإن سبق قولٌ يناقض ورجع [عنه] (5) القائل وكذب نفسه فيه، وأقام على وَفق القول الثاني بينةً، ففي قبول البينة خلاف وتردد. وهذا يقرب من أصلٍ نشير إليه [ونفرضه] (6) متصلاً بما نحن فيه، فنقول: إذا جحد الإيداع، ثم ادعى التلف قبل الجحد، ولم يجد بينة، ولم نحلِّفه بجحده السابق، فلو قال لمالك الوديعة: احلف بالله لا تعلم تلف الوديعة قبل جحدي، فهل له أن يحلّفه؟ فيه تردد للأصحاب. وظاهر المذهب أنه [يحلِّفه] (7). ولو أقام بينة قبل منه، ولو ادعى ردَّ الوديعة قبل الجحد، فهو كما لو ادعى تلفها، ولو جحد، ثم اعترف، وقال: تلفت الوديعة بعد جحدي، فالضمان ثابت عليه، فإنه صار بالجحد غاصباً، وانقلبت الوديعة مضمونة، فلو تحقق التلف، لكان على حكم الضمان. ولو ادعى الرجل على رجل وديعة، فقال المدّعى عليه: مالكَ عندي شيء، ثم

_ (1) في الأصل: بل. (2) في الأصل: البينة. (3) في الأصل: يقيمها. (4) في الأصل: من. (5) في الأصل: عند. (6) في الأصل: ويعد. (7) في الأصل: يحلف.

أقر بالإيداع، أو قامت البينة عليه، فادعى بعد ذلك تلفاً، أو ردّاً، فقوله مقبول، فإنه لم ينكر الإيداع، وإنما قال: ليس عندي لك شيء، فدعوى التلف توافق ذلك الكلام؛ لأن من تلفت الوديعة عنده، فهو صادق في قوله لمالكها: مالك عندي شيء، أو لا يلزمني دفع شيء إليك. هذا بيان الجحد واقتضائه سقوطَ حكم الأمانة، مع ما يتعلق به من جهات التداعي. 7652 - ومما يتضمن التضمين في الوديعة وهي من أصول الكتاب تركُ الإيصاء. وبيان ذلك: أن من كانت عنده وديعة، وهو في حال الصحة واستمرار السلامة، فلو مات فجأة أو قتل غيلة، ولم يتمكن من الإيصاء، فلا ضمان؛ فإنه لا ينسب إلى التقصير ما استمر [في] (1) السلامة، وإن كان أدب الدين يقتضي ألا يبيت المسلم ليلةً إلا ووصيته مكتوبة عنده، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ترك الأولى في هذا لا يوجب الضمان. ولو مرض الرجل [وتمييزه] (2) قائم، فلم يُوصِ، أو حبس ليقتل، واستمكن من الإيصاء فتركُ الإيصاء يتضمن الضمان، كما سنفصله الآن، إن شاء الله تعالى. والمرض الذي أطلقناه هو المرض المخوف الذي يحسب التبرع فيه من الثلث، إن لم يبلغ المرض هذا المبلغ، فهو ملتحق بالصحة، والهرمُ من غير مرض ملتحق بالصحة في تنفيذ التبرع من رأس المال، وفيما نحن فيه من أمر الإيصاء، [فإذا] (3) ترك الشيخ الإيصاء [ثم] (4) فاجأته المنية بغتةً، فلا ضمان، فإذا تحقق التقصير بترك الإيصاء، [أو] (5) أوصى إلى فاسق غيرِ موثوق به، فإذا تلفت الوديعة بعد موته، وجب الضمان في تركته؛ من جهة أنه بإعراضه وتركه الدّلالة على الوديعة، مع ظهور

_ (1) في الأصل: من. (2) في الأصل: في تمييزه. (3) في الأصل: إذ ترك الشيخ. (4) مزيدة من (س). (5) في النسختين: وأوصى.

النُّذُر وشواهد الموت يُعدّ مضيعاً للوديعة، والتضييع من أسباب الضمان، كما تقدّم ذكره. 7653 - ولو كانت الوديعة تلفت في حياته على حكم الأمانة، فترْكُ الإيصاء لا يثبت ضماناً، فإن فائدة الإيصاء الدلالة على الوديعة الباقية، حتى لا تضيع. 7654 - ولو أوصى إلى عدلٍ وذكر له الوديعة، فإن عيّنها، فذاك، وإن وصفها، وكان في تركته من جنسها، فإذا جحدها الورثة، ولم يعرفوها وما كان عيّن الموصي، فالضمان واجب؛ من جهة أنه لو عين وميّز، لما كان يلتبس الأمر، فترْكُه التعيين، وفي تركته أمثال الوديعة [بمثابة] (1) تركه الإيصاء أصلاً. ولو لم يكن في تركته من جنس تلك الوديعة التي وصفها، ولكنا لم نجد تلك الوديعة الموصوفة في التركة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا ضمان، فإن من الممكن أن الوديعة تلفت بعد موته، قبل تمكن الورثة من الرد، ولو اتفق ذلك، فلا ضمان، فيجب حمل الأمر على وجهٍ لا يقلب الأمانة عن حقيقتها، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي. ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان إلا أن يقيم الورثة بيّنةً على تلف الوديعة قبل موت المودَع المؤتمن أو بعد موته وقبل التمكن من الرد، فإن الوديعة ثبتت، والظاهر أنها لو تلفت، لتمكن الورثة من بيان تلفها. وإذا مات وهو المؤتمن، فحق الوديعة [ثابت] (2) في التركة إلى أن تقوم بيّنة تتضمن نفيَ الضمان. 7655 - ولو مات ولم يوصِ، فجاء مالك الوديعة، وادعاها [ونسب] (3) الميت إلى التقصير بترك الإيصاء فيها، فقال الورثة: لعله لم يوصِ لتلف الوديعة على حكم الأمانة في يده، فاعترفوا بأصل الإيداع، أو قامت البينة عليه وادعَوْا ما ذكرناه، فهذه المسألة مترددة في الضمان، فإذا كان أبو إسحاق يرى نفي الضمان حيث لم تصادَف الوديعة في

_ (1) في الأصل: مثابة. (2) في الأصل: مات. (3) في الأصل: ونسبوا.

التركة بعد الإقرار بها والإيصاء، فلا شك أنه يبقى الضمان في الصورة التي ذكرناها آخراً، وهي ادعاء التلف قبل الموت، وحَمْلُ ترك الإيصاء عليه. ومن أوجب الضمان وخالف أبا إسحاق، فقد يوجب الضمان في هذه الصورة، ونفيُ الضمان في هذه الصورة أولى. ثم إن ادعى الورثة التلفَ، فالأمر على ما ذكرناه، وإن قالوا: عرفنا الإيداع، ولكن لم ندر كيف كان الأمر، ونحن نجوّز أن الوديعة تلفت على حكم الأمانة، فلم يوص لأجل ذلك (1)، ولا ثَبتَ (2)، [ففي ذلك قولان: فإن ضمّناهم] (3) حيث يجزمون دعوى التلف، فلأن نُضمِّن هاهنا أولى. وإن لم نضمنهم في [هذه] (4) الصورة الأولى، ففي هذه وجهان: أحدهما - أن الضمان يجب؛ لأنهم لم يذكروا مُسقطاً، ولم يدّعوه. والوجه الثاني - أن الضمان لا يجب، لأن أصل الوديعة على الأمانة، والأمر متردد كما ذكره الورثة، فعلى من يدعي الضمانَ إثباتُه، والأصح الوجه الأول في هذه الصورة الأخيرة. ويتصل بهذا الفصل كلام يتعلق بالورثة في الدعوى، وسنذكره في فصول الكتاب، إن شاء الله تعالى؛ فإن غرضنا الآن عدُّ ما يوجب الضمان في الوديعة، والقدرُ الذي ذكرناه في الإيصاء وتركه كافٍ في [غرضنا] (5). 7656 - ومما نذكره في [المضمِّنات] (6) أن المودَع لو نقل الوديعة نقلاً مسوَّغاً كما تفصَّل ذلك فيما تقدم، ونوى عند النقل تغييب الوديعة والاستبدادَ بها، فإنه يصير ضامناً لأن (7) هذا فعلٌ مبتدأ منه اقترن به قصد العدوان، ولو لم يجدّد نقلاً، ولم يُحدث فعلاً، ولكنه نوى التغييب والاستبداد، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن مجرد

_ (1) (س): لأجل التلف. (2) لا ثبتَ: أي لا دليل. (3) في الأصل: في ذلك قولاً واحداً هم حيث يجزمون. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: عوضنا. (6) في الأصل: الضمنات. (7) ساقطة من (س).

النية [لا] (1) يتضمن تضمين المودَع. وحكى العراقيون والشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن مجرد النية يتضمن التضمين، كما أن مجرد نية الاقتناء تقطع حول التجارة. ولو طرح المالك الوديعةَ في يد المودَع، فنوى المودَع مع الأخذ الخيانةَ، فظاهر المذهب أنه يضمن لاقتران النية بأول الأخذ، وهذا بمثابة ما لو التقط الملتقط وقرن بالالتقاط قصد التغييب، وما عدا ذلك غيرُ معتد به. والمذهب المبتوت ما ذكرناه. 7657 - وقد نجز القول فيما يتضمن تضمين المودَع وآل حاصلها إلى التضييع، والانتفاع، ومخالفةِ المالك، والجحْدِ، وتركِ الإيصاء، وهو من أسباب التضييع. 7658 - وقد تبين القول في نية الخيانة، ووضح محل الخلاف والوفاق، ثم النية التي ذكرناها تجريد القصد، فأما ما يخطر [من الهواجس] (2) من ضروب الوساوس وداعيةُ الدين يدافعها، فلا حكم لها. وإن تردد الرأيُ ولم يجزم قصداً، فالظاهر عندنا أن هذا لا حكم له حتى [يجرّد] (3) قصده في العدوان. (4 فإذا نجز بيان العدوان 4) فإذا اعتدى (5) المودَع وضمن [فترك] (6) سببَ العدوان، وإن لم يعُد أميناً عند الشافعي رضي الله عنه، وكان طريان العدوان في قطع الوديعة وحكم الأمانة بمثابة طريان الجنون على الوكيل، ثم إذا جن الوكيل وحكمنا بانعزاله، فلو أفاق لم يعُد وكيلاً، والمسألة من [طيول] (7) مسائل الخلاف.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: في الفواحس (كذا). (3) في الأصل: يحرز. (4) ما بين القوسين ساقط من (س). (5) (س): اعترف. (6) في الأصل: قبول. في الأصل: ظنون.

فلو قال المالك: [ائتمنتك فيما تعدّيتَ ابتداء، ولم يبدّل يده، ففي زوال الضمان مع استمرار اليد الأولى وجهان مشهوران، ذكرناهما في مواضعَ من كتاب الرهن وغيره، فلو قال المالك] (1): أبرأتك عن الضمان، ففي زوال الضمان وجهان مبنيان على [أن] (2) الإبراء عما لم يجب ووجد سببُ وجوبه هل يصح أم لا؟ وبيان ذلك أن الضمان في [الأعيان] (3) المضمونة إنما يجب عند تحقق التلف، ولكن العدوان قبل التلف سببٌ في الضمان، فإذا أبرأ من له الحق عن الضمان قبل التلف، كان ذلك إبراء عما وجد سببه، ولم يجب بعدُ. وفي هذا أدنى نظر؛ فإن الإبراء لو كان يوجد من هذا المأخذ، للزم على مقتضاه أن نقول: إذا أتلف العين بعد الإبراء لا يضمن قيمتها، وهذا بعيد لم [يسمح به] (4) الأصحاب. ولو قال قائل: إنما أبرئه بشرط ألا يجدد عدواناً، فهذا إبراء مشروط، والإبراء على هذا الوجه يفسد، فالوجه إذاً في إجراء الوجهين ردُّهما إلى أن الضمان هل يسقط بإسقاط المالك حتى تعود العين أمانة؟ فعلى وجهين، فيكون الإبراء إذاً في معنى ائتمان جديد كما قدمناه. وهذا نجاز الفصل بما فيه. فصل 7659 - نقل المزني مسائل متفرقة في أحكام الأمانة إذا دامت، وفيما [يصدَّق] (5) المؤتمن فيه، وأنا أرى جمعَها تحت ضوابط؛ حتى تُلفَى أحكامُ الأمانة مجموعةً

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (س). (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: الإعارة. (4) في الأصل: لم يصح الأصحاب. (5) في الأصل: يتصدق.

متصلةً بذكر أسباب العدوان [المناقضة] (1) للائتمان. فنقول: إذا ثبتت الأمانة وانتفت أسباب العدوان، فلو فرض تلف الوديعة، فلا ضمان. وإذا لم تكن الوديعةُ مضمونةَ العين، فليست مضمونة الرد. [وقد] (2) أجمع علماؤنا على أنه لا يجب على المودَع ردّها بنفسه، ولا يلزمه مؤنةٌ بسبب الرد، وإنما الذي عليه أن يخلّي بين المودِع المالك وبين الوديعة، حتى يأخذها بنفسه، فأما تولّي الرد وتعاطيه بالنفس أو بالغير، فمما لا يجب على المودَع وفاقاً. 7660 - ثم من أحكام الأمانة [تصديق] (3) المودَع، وفي ذلك تفصيلٌ، وهو مقصود الفصل، و [تصديقه] (4) يتعلق بشيئين: أحدهما - دعوى التلف. والثاني - دعوى الردّ. فأما القول في دعوى التلف، فإن ادعى المودَعُ التلفَ بسبب خفي ممكن ليس يجب في حكم العرف ظهوره إذا وقع، فالمودَع مصدق فيه مع يمينه، فإن حلف، انقطعت الطَلِبةُ (5) عنه، وإن نكل عن اليمين، رُدت اليمين على المالك، ثم إنه يحلف على نفي العلم؛ إذ لا يمكنه أن يثبت اليمين في نفي التلف وبقاء العين، فتكون يمينه في نفي التلف كيمينه على نفي فعل الغير. هذا هو المذهب المعتمد. ومن أصحابنا من يكلّفه جزمَ اليمين؛ من جهة أنه من الممكن أن يطّلع على بقاء العين في الوقت الذي ادعى المودَع تلفها فيه، وإذا كان هذا ممكناً، فجزمُ اليمين ممكنٌ أيضاً، وسيأتي تفريع هذا وأصله في الدعاوى والبينات. ثم إن العراقيين ذكروا (6) ترتيباً حسناً في ادعاء الأمين التلف، فنسوقه على وجهه، ثم نذكر مسالك المراوزة.

_ (1) في الأصل: المتناقضة. (2) في الأصل: فقد. (3) في الأصل: بتصديق. (4) في الأصل: وبتصديقه. (5) (س): المطالبة. (6) (س): ذكروا في هذا ترتيباً في ادعاء.

7661 - قال العراقيون: إن ذكر المودَع سبباً في التلف ممكناً، وكان مثله لا يظهر في العادة، فيتعذر إقامة البينة عليه، فالقول قوله مع يمينه. وإن ذكر سبباً يظهر مثله في العادة ويتيسر إقامة البينة عليه، مثل أن يدعي هلاك الوديعة بحريق في الدار ظاهرٍ وغيرِه، مما شأنه أن يظهر، كالنهب العظيم، وسيلٍ [جارف] (1) ينقلب على السكة أو (2) المحِلة، قالوا: إذا ادّعى المودَع التلف بجهة من هذه الجهات، فلا بد من إقامة البينة، ولا يُقبل قولُ المودعَ، ويمينه، وشبهوا ذلك في طرده وعكسه بقول القائل لامرأته: إذا حضت فأنت طالق، فإذا ذكرت أنها حاضت قُبل قولُها، وإن اتهمت، حلفت، وإن قال لها إذا ولدت ولداً، أو دخلت الدار، فأنت طالق، فإذا ادّعت أنها ولدت أو دخلت، لم يحكم بوقوع الطلاق حتى تقوم البينة على وجود الصفة التي تعلّق الطلاق بها، أو يعترف الزوج بها. هذه طريقة العراقيين. 7662 - وقال صاحب التقريب: إذا ادعى الأمين تلف الوديعة بحريقٍ في المحلة أو غير الحريق مما شأنه أن يظهر في العرف إذا وقع، فإذا ادعى المودَع ذلك، ولم يشتهر في الناس ما ادعاه، وحكمُ العرف أن يشتهر، فلا [يُصدق] (3) الأمين في دعوى ذلك، فإن الحالة مكذبة له، ومن ادعى أمراً [تكذبه] (4) المشاهدة فيه، فقوله غير مقبول. ثم قال: ولو رام الأمين تحليفَ المودِع على نفي الحريق في هذه الصورة، فهل له [ذلك] (5)؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له تحليفه؛ فإن المشاهدة كذّبته في ذلك؛ إذ

_ (1) في الأصل: سيلٍ جارٍ وينقلب. (2) (س): يتغلب على السكة والمحلة. (3) في الأصل: يتصدق. (4) في الأصل: يكذب. (5) زيادة من (س).

الحريق الظاهر لا يخفى، وتتوفر الدواعي على نقله، فإذا لم ينقل بان الكذب، ولولا ظهور الكذب، لصدّقنا المودَع وحلفناه. والوجه الثاني - أن له تحليفَ مالك الوديعة؛ فإنه لم ينحسم إمكان صدق المودَع بالكلية، وذلك بأن يُفرضَ حريق وانطفاء مع ذهول الناس، أو مع اشتغالهم بما ألهاهم عن التعرض لهذا الحريق، ولا يمتنع فرض مواطأة في ليلةٍ (1) حتى يخفوا ذكر الحريق. وهذا محالٌ عظيم، وفيه تلبيساتٌ لا يستقلّ بفكِّها إلا المتبحرون في الأصول. وحظ الفقه منه أنا في توجيه هذا الوجه إن قدَّرنا الإمكانَ، لزمنا تصديقُ المودَع، وإن لم نصدقه لظهور كذبه، لم ينتظم لنا [تصوّرُ] (2) إمكان صدقه، ولكن يجب أن [نعتقد] (3) أنا وإن بنينا الوديعة على تصديق المودَع، فلا يمتنع أن نشترط في ذلك ألا يعارِض قولَه أمرٌ في نهاية الوضوح، وإذا لم يظهر ما يناقض قولَه، فإذ ذاك [نصدّقه] (4). وهذا يناظر النزاع بين الزوجين في الوطء، حيث نجعل القولَ قول الزوج في إثبات الوطء؛ نظراً إلى استبقاء النكاح. وهذا الأصل في هذه القاعدة ينزل منزلة أصل الائتمان في الوديعة؛ فإن الشرع اقتضى تصديق (5) الزوج في الوطء، مع أن الأصل عدمه؛ لاستبقاء النكاح، كما [جعل] (6) القولَ قول المودَع في دعوى التلف، مع أن الأصل عدمه لتحقيق معنى الأمانة. ثم لو ادعت المرأة أنها عذراء، وشهد بعذرتها نسوة ثقات، فلا يصدق الزوج في دعوى الوطء لظهور كذبه، ولكن من حيث إنا نجوز عوْد العُذرة على بعد نجوّز للزوج وإن لم يصدّق أن يحلّف المرأة، فلا يمتنع أن يجري في الوديعة حالةٌ ظاهرة،

_ (1) كذا في النسختين. (2) في الأصل: نتصور. (3) في الأصل: نمتنع. (4) في الأصل: "مصدّق". (5) (س): "فإن الشرع يصدق الزوج ... ". (6) في الأصل: "كما أن القولَ قول المودَع ... ".

لا يصدّق معها الموع، ولكن من حيث لا يزول أصل الإمكان على استيقان لا يمتنع تحليفُ المودَع [مالكَ] (1) الوديعة. فإن قيل: فلم كانت مسألة العُذْرة متفقاً عليها؟ قلنا: لأن عَوْد العُذرة ليس متعلّقاً بمطّرد العادة، بل هو أمر يرتبط بالجبلة، وأما الحريق، فخفاؤه يكاد يخرم العادة، فاقتضى ذلك تردداً. هذا [منتهى] (2) ما ذكره الأئمة نقلاً. 7663 - وقد تحصّل من مجموع ما ذكروه ثلاث طرق: أما العراقيون - فإنهم قالوا: إذا ادعى شيئاً في التلف يهون إثباته بالشهادة، لم يصدّق، ولم نقنع بيمينه، وإنما نقنع بيمينه إذا ادعى سبباً خفياً، وألحقوا دعوى الرد بالأسباب الخفية؛ لأن العادة جارية بإخفاء الودائع بأخذها (3). 7664 - وأما المراوزة، فإنهم رأوا [تصديقَ] (4) المودع، وإن ظهرت مخايل [كذبه] (5)، ويكتفون بإمكان صدقه، قرُب أو بعُد (6)، ويفصّلون القول في الحريق، ويقولون: إن كان ليليّاً بحيث يتوقع انطفاؤه من غير اطلاع، وفرض في طرفٍ من البلدة، فخفاؤه نادر، ولكنه ممكن، فالمودع يصدق مع يمينه. فإن كان الحريق نهاراً بحيث نستيقن أنه لو كان، لما خفي، فلا سبيل إلى التصديق، ولا يبقى تنازع. 7665 - وأما صاحب التقريب، فإنه أثبت منزلةً يظهر فيها الكذب ولا ينقطع الإمكان، كما صورناه، وقضى فيها بأن المؤتمن لا يصدق لظهور الكذب، ثم ردّد الجواب في تحليف المالك. وطريقُه ينفصل عن طريقة العراقيين؛ من جهة أنهم يقولون: علامة الكذب وإن لم

_ (1) في الأصل: تحليف المودِع في ذلك الوديعة. (2) زيادة من (س). (3) كذا في الأصل، وفي (س): "وأخذها". والمعنى: عند أخذها. (4) في الأصل: بتصديق. (5) في الأصل: كونه. (6) أي بعد الامكان وقُربه، أي أمكن على بعدٍ أو على قرب ٍتصديقه.

يظهر إذا كان [إثبات] (1) سبب التلف ممكناً بالشهادة، فلا يحلف المودع. فهذا بيان الطرق. فقد خرج مما ذكرناه أن المودع مصدَّق في ردّ الوديعة يحلف عليه، وهو مصدق في دعوى التلف أيضاً، وهذا الأصل متفق عليه، وإنما تردد الأصحاب في التفاصيل. 7666 - ومما يتعلق بأحكام الائتمان أن المودَع لو ادعى الرد على رسول المودِع، فأنكر الرسول القبض، وأنكر المالك وصولَ الوديعة إلى يده، فالقول في هذا المحل قولُ المالك، وقول الرسول إن ارتبطت الدعوى به، والسبب (2) في ذلك أن المؤتمن لم يدع رد الوديعة على من ائتمنه، وإنما ادعى ردها على الرسول، وهو لم يأتمنه. ومن قواعد الشريعة أن الأمين إذا ادعى الرد على من لم يأتمنه، لم يقبل قوله مع يمينه، ولهذا نقول: إذا ادعى الوصي ردّ مال الطفل عليه بعد بلوغه، لم نكتف بقول الوصي ويمينه، فإنه (3) وإن كان أميناً، [فقد] (4) ادعى الرد على من [لم] (5) يأتمنه، وهو الطفل الذي بلغ، وقد شهد بذلك نص القرآن، فإنه عز من قائل قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] والأمر بالتأكيد [بالشهود] (6) يشعر بأن الراد لا يصدق في المردود عند تقدير الجحود، وهذا يعضد التلويح الذي ذكرناه في أن المودِع لما أحل المودَع محل المؤتمنين [فقد التزم تصديقَه] (7) وهذا يختص بما يدور بينه وبين المؤتمن، فأما من لم يأتمنه، فليس ملتزماً بتصديقه. فإذا اعتضد الحكم [بظاهر] (8) القرآن [وطرفٍ] (9) من المعنى اللائق بالموضوع الذي فيه الكلام، وجب الاكتفاء به.

_ (1) زيادة من (س). (2) في الأصل: السبب (بدون واو). (3) ساقطة من (س). (4) في الأصل: وقد. (5) في الأصل: من لا يأتمنه. (6) في الأصل: الشهود. (7) في الأصل: فهذا لزم بتصديقه. (8) في الأصل: فظاهر القرآن. (9) في الأصل: وطرق.

وعلى هذا الأصل لو ادعى الأب الردَّ على ولده بعد بلوغه ورشده، لم يقبل قوله لما ذكرناه. 7667 - ولو أراد المودَع سفراً، وجوزنا له أن يودِع الوديعةَ عند أمين، فإذا فعل، ثم ادعى المودَع الثاني الردّ على المالك، [وأنكر] (1) المالك، لم يصدَّق المودَع (2) على المالك؛ لأن المالك لم يأتمنه، وإنما [يُصدّق] (3) المودَع في الرد إذا ادعى على من أحلّه محل الأمناء. 7668 - وينشأ من هذا المنتهى أصل، وهو أنا إذا جوزنا للهامّ بالسفر أن يودع الوديعة عند أمينٍ، فلو فعل، وانطلق، ثم عاد فأراد الاسترداد من المودع الثاني وردّ الوديعة إلى يده، [فهذا] (4) فيه احتمال ظاهر؛ من جهة أن يده زالت عن الوديعة بالكلية، فلو جوزنا له أن يسترد الوديعة، لكان هذا في حكم ائتمان جديد، وهذا يبعد على أصل الشافعي. ويمكن أن يقال: له رد الوديعة إلى يده؛ لأنه الذي أزال اليدَ على حكم الأمانة، وفعل ما له أن يفعله، فكان له العود إلى ما كان عليه، وهذا [يشبه] (5) تردّدَ الأصحاب في أن [وكيل] (6) الوكيل [هل هو] (7) وكيل الوكيل حتى ينعزل بعزله وجنونه، أم هو وكيل الموكِّل؟ فالمودَع من المودَع على هذا الخلاف يخرّج: فإن جعلنا المودع الثاني في حكم المودع من المالك، فعلى هذا كأن المودع الأول خرج من [البين] (8)، ولكنا مع هذا لا نصدقه إذا ادّعى الرد على المالك؛ من جهة أنه لم يصدر منه ائتمان له.

_ (1) في الأصل: وأمكن. (2) لم يصدق المودَع: أي الثاني. (3) في الأصل: يتصدّق. (4) في الأصل: وهذا. (5) في الأصل: الشبه. (6) في الأصل: وكل. (7) زيادة من (س). (8) في الأصل: اليمين.

7669 - وعلى هذا يخرّج حكمٌ كثر فيه اضطراب الأصحاب، وهو أن الرجل إذا غصب وديعةً من يد المودَع، فهل للمودَع الدعوى عليه واسترداد العين المغصوبة من يده؟ فيه اختلاف بين الأصحاب: منهم من جوز له ذلك؛ من جهة أنه مستحفَظٌ في الوديعة باستحفاظ المالك، مأمور بالذب عن الوديعة، ومن تمام الذب عنها استردادُها من غاصبها، [فالإيداع] (1) المسلِّط على الحفظ [يُسلّط] (2) على الاسترداد ورد العين إلى الحفظ. 7670 - ومن تمام البيان في الفصل الذي خضنا فيه [أنّا] (3) إذا جوّزنا للمودَع [أن يستحفظ عبده وزوجته، إما في ساعات من الليل والنهار،] (4) وإما على العموم، فلو أراد صرف زوجته وولده [عن] (5) القيام بالحفظ، ورد الوديعة إلى يده على حكم الاستبداد، فهذا مسوّغ لا خلاف فيه، وذلك أن استحفاظَه هؤلاء في حكم الاستعانة بهم، وهو الأصل في الوديعة، فإن أراد أن يخرجهم من [البين] (6)، كان له ذلك؛ فإنهم وقعوا أتباعاً وكانت يده باقية، وإن قام بالحفظ غيرُه. هذا تمام البيان في هذا الأصل. 7671 - ولو قال المودع: رددت الوديعة إلى مأمورك ووكيلِك [باستردادها] (7) وهو فلان، فقال مالك الوديعة: ما وكلته قط، فالقول قول المالك، ولو قال: كنت وكلته [بقبض] (8) الوديعة [ولكنك] (9) لم تسلم إليه الوديعة، فالقول في ذلك قول

_ (1) في الأصل: بالإيداع. (2) في الأصل: يناط. (3) في الأصل: أما. (4) مابين المعقفين زيادة من (س). (5) في الأصل: على. (6) في الأصل: التبين. (7) في الأصل: باسترداد. (8) في الأصل: فقبض. (9) في الأصل: وكلتك.

المالك؛ فإنه الآمر ومنه صَدَرُ (1) الأمر. والمودَع لم يدّع الرد على المودِع نفسه. ولو قال الوكيل: قد استوفيتُ الوديعةَ وصُدّق من المودَع في ادعاء تسليمها إليه، وأنكر الموكِّل هذا، وقال: تواطأتما عليّ، فلا أنت استرددت، ولا هو ردّ، فالقول أيضاً قول الموكِّل، لم يختلف الأصحاب فيه. [فإن] (2) قيل: [إن] (3) لم تُصدقوا المودَع لأنه ادّعى الرد على غير من ائتمنه، فالوكيل بالقبض إذا قال: قبضتُ، يجب أن يكون مصدّقاً. وهذا أصلٌ عظيم في الوديعة، وبه نتبين سرّ [الكتاب] (4). فنقول: لا شك أن من ادعى قبضاً، فالأصل عدم قبضه، ومن ادعى رداً، فالأصل عدمُ رده، [ولكن] (5) ورد الشرع بتصديق المودَع إذا دار النزاع بينه وبين المالك، حتى [لا يضمَّن] (6) المودَع، فتخرج الأمانة عن حقيقتها، فالمقصود الأظهر في تصديق المودَع تحقيقُ حكم الأمانة ونفي موجَب الخيانة، والوكيل إذا قال: [قبضتُ] (7) ولم يصدقه الموكل، فلا ضمان عليه، ولا تبعة [فلا] (8) معنى لإلزام الموكِّل بتصديقه. ولو صدق الموكل المودَع في تسليم (9) الوديعة إلى الوكيل، وأنكر الوكيل قَبْض الوديعة وجحده، فالموكل هل يضمِّن المودَع، من جهة أنه [قصّر] (10)؛ حيث ردّ ولم يُشهد؟ فيه اختلاف مشهور:

_ (1) صَدَر: بفتح أوله وثانيه، أي صدور. (2) في الأصل: وإن. (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: الكاتب. (5) زيادة من (س). (6) في الأصل: يتضمن. (7) في الأصل: قبضته. (8) في الأصل: ولا. (9) ساقطة من (س). (10) في الأصل: مصر.

من أصحابنا من قال: له تضمينه؛ لأنه ضيع الوديعة، حيث سلمها، ولم يستوثق بالإشهاد. ومنهم من قال: لا ضمان؛ فإنه اعترف بأنه [سلّم] (1) الوديعة ممتثلاً أمره، وما كان [شرط] (2) المالك الإشهاد في تسليم الوديعة. وأطراف الكلام في الأمانات تدور على التصديق من غير [إحواج] (3) إلى [إقامة] (4) بينة، وقد ذكرنا لهذا نظائرَ في الوكالة وغيرها من الكتب، من أقربها أن الرجل إذا وكل باستيفاء دين له على رجل، فقال الوكيل: قد استوفيتُ ودفعت إليك، فقال الموكل: ما استوفيتَه، فالقول قول الآمر؛ إذ لو ثبت على الوكيل أنه لم يستوف، لم يكن متعدياً، ولا ضامناً، وإذا كان لا يلزمه من تكذيبه ضمان، فالخصومة ترد إلى أصلها، وهو أن الأصل عدم الاستيفاء. 7672 - وبمثله لو قال: بع هذه السلعة واقبض الثمن، فباعه بثمن حالٍّ، ثم اختلفا، فقال: قبضتُ الثمن وتلف عندي، أو [دفعته] (5) إليك، وقال الموكل: لم تقبض، بل سلمت المتاع قبل قبض الثمن، فالقول في هذا المقام قولُ الوكيل؛ لأن الموكل يدعي عليه تعدّياً وضماناً؛ فإن تسليم المبيع قبل قبض الثمن عدوانٌ موجِب للضمان، ونحن لا نورِّط الوكيل في الضمان بقول الموكل، فاستبان أن الدَّوران على ثبوت الضمان على الوكيل وانتفائه عنه، فإذا لم يكن في تكذيبه ما يوجب تضمينه، فلا يبعد أن لا يصدق إذا تعلقت الخصومة بثالث. وقد استقصينا هذا الفصل من أحكام الوكالة في كتابها، وذكرنا أنا في هذه المسألة الأخيرة إذا صدقنا الوكيل؛ حتى لا ننسبه إلى عدوان، فهل ينفذ هذا التصديق

_ (1) في الأصل: مسلم. (2) في الأصل: مشرط. (3) في الأصل: إخرا، و (س): إحراج. والمثبت تصرّف من المحقق. (4) في الأصل: إقام. (5) في الأصل: دفعت.

في حق المشتري؛ حتى نحكم بسقوط الثمن عنه؛ إذ هذا [مقتضى تصديق] (1) الوكيل في قبضه، فإذا صدق الوكيل في قبض الثمن، تضمن ذلك براءةَ المشتري. [و] (2) اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من حكم ببراءة المشتري لِما ذكرناه، ومنهم من لم يحكم ببراءته، وصار إلى أن فائدة تصديق الوكيل تبرئتُه عن الضمان، حتى لا ينسب إلى العدوان، بسبب [رفع] (3) اليد عن المبيع قبل تسليم الثمن (4). وقد استقصينا الكلام في جوانب هذه المسألة، وأوضحنا الإشهاد ومعناه، وموتَ الشهود، فلا معنى لإعادته. 7673 - وقدرُ غرضنا من مساق هذا الفصل أن المودَع إنما [يُصدّق] (5) مع مؤتمِنه ومودِعه، فإذا تعلق النزاع بمن لم يأتمنه، فلا يصدقه من لم يأتمنه، فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في حكم الأمانة. 7674 - وبقية الفصل أن المودَع ذا فعل شيئاً يقتضي تضمينه في حالة الاختيار، ولا [يقتضيه] (6) في حالة الاضطرار، كنقل الوديعة أو المسافرة بها على التفاصيل المقدمة، فإذا تلفت الوديعة، فادعى المودَع اضطراراً يخرج به فعلُه عن كونه مضمّناً، وأنكر المودِع ما ادّعاه من الاضطرار، فالقول قول المؤتمَن المودَع، وكل نزاع يدور بين المالك وبين المودَع من هذا الفن، فكأن المالك يدعي سببَ تضمينٍ والمودَع ينفيه، أو كأن المودعَ يدعي سبباً يدرأ الضمان وكأن المالك ينفيه، فالقول قول المودَع في جميع ذلك. ثم هذا يُعرَض على تفاصيل الطرق التي أوضحناها في خفاء الأسباب وظهورها.

_ (1) في الأصل: يقتضي بتصديق. (2) الواو: زيادة في (س). (3) في الأصل: رفيع. (4) زيادة في (س): "هذا لا يتعدى الوكيل وتبقى المطالبة على المشتري". (5) في الأصل: يتصدق. (6) في الأصل: يقتضي.

وقد نجز ما حاولنا، في معاقد أحكام الأمانة وجرى هذا مع الفصول المقدمة تمهيداً لأصول الكتاب. فصل قال: "ولو أودعه دابّةً، وأمر بعلفها وسقيها ... إلى آخره" (1). 7675 - إذا أودع عند إنسان دابة، ولم يتعرض لعلفها وسقيها، وغاب، فليس للمودَع أن يعطلها، ويقطعَ عنها ما تحتاج إليه، خلافاً لأبي حنيفة (2). ومعتمدُ المذهب أن قبول الوديعة يتضمن القيام بحفظها واستدامتها، وليس من استدامتها أن تعطل حتى تهلك، وهذا يعتضد بالعرف أيضاً، فإن الدّواب لا تُقْبل لتقتل وتترك حتى تموت وتهلك ضياعاً وجوعاً. ثم للمودَع أن يرفع الأمر إلى القاضي ليستقرض على المالك (3) إن رأى ذلك، أو يبيع الدابة إن رأى بيعها، ولسنا [نطوّق] (4) المودَع الإنفاق من عند نفسه، شاء أم أبى، مع التمكن من الجهة التي ذكرناها، فإن إلزام الإنفاق من غير سبب في الالتزام لا وجه له، وإن لم [يجد] (5) المودَعُ الحاكمَ فأنفق وأشهد (6) واقتصد، فهل يرجع على مالك الدابة؟ اختلف أئمتنا في ذلك على طريقين: فمنهم من خرجه على قولين [ذكرناهما] (7) فيه إذا هرب الجمّال، ومست حاجة المكتري إلى استئجار من يقوم بتعهد الدّواب، ولم يجد حاكماً يراجعه، فإذا استأجر من مال نفسه لمسيس الحاجة، ففي ثبوت الرجوع على الجمّال قولان.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 176. (2) ر. حاشية ابن عابدين: 4/ 551. (3) (س): على بيت المال. (4) في الأصل: نطرق، (س): نلزم. (5) في الأصل: يجز. (6) ساقطة من (س). (7) في الأصل: ذكرنا مما.

فقال قائلون- المودع إذا أنفق في [مثل] (1) هذه الصورة، كان على ما ذكرناه من الخلاف. ومن أصحابنا من قال: [لا يرجع] (2) المودَع قولاً واحداً، والفرق أن المكتري يستحق على الجمال القيام بتعهد الجمال لتتهيأ لحمل الأثقال، فإذا هرب الجمال، فاستأجر المكتري، كان ذلك تسبباً منه إلى استيفاء حقٍّ مستحَقّ، وهذا المعنى لا يتحقق في حق المودَع؛ فإنه المقصّر لمّا قبل الدوابَّ من غير تعرضٍ لعلفها وسقيها. ولو أذن القاضي للمودَع أن ينفق ليرجع بما ينفقه، فقد ذكر أصحابنا في ذلك خلافاً، [وقد] (3) أوضحنا مثلَ هذا الخلاف في مثل هذه الصورة من مسألة الجمّال. وهذا الخلاف لا يُتلقى مما قدمناه فيه إذا لم يجد الحاكم فأنفق؛ فإن الحاكم إذا رأى الاستقراض على ربّ الدواب أو رأى بيعَ دوابه، كان له ذلك، والمودَع مع الحاكم لا يستبد، فإذا كان أراد الحاكم أن يأذن له لينفق ويرجع، فوجه الامتناع فيه عند من يمنع أنه في حكم [المقرض] (4) القابض، وهذا يبعد اجتماعه في حق الشخص الواحد [ومهما] (5) تعلق أمرٌ بالحاكم وردَّدنا فيه رأياً، لم نعنِ به أن الحاكم لو أدى اجتهاده والمسألة مجتهد فيها، لم نتبع اجتهادَه؛ فإن اجتهاد القضاة متبع بلا خلاف، وإنما الذي نمهده مسلك [النظر] (6) حتى يرى القاضي فيه رأيه، فإن [استقرّ] (7) رأيه على شيء، اتبع. 7676 - ثم إذا أوجبنا على المودَع أن ينفق على الدابة، فالقدر الذي يجب إنفاقه

_ (1) زيادة من (س). (2) في الأصل: لا يراجع. (3) في الأصل: فقد. (4) في الأصل: المقبض. (5) في الأصل: ومما. (6) في الأصل: النظري. (7) في النسختين: "استمر" والمثبت من تصرف المحقق.

مما يتعين إنعام النظر فيه، فنقول: أما المقدار الذي يقيها الهلاك، فلا بد منه، وكذلك إذا كانت [تتعيّب] (1)، وإن كانت لا تهلك، فيجب أن يصونها عما يعيّبها؛ فإن التعيب في معنى التلف. ولا نكلف المودع أن يستفرغ الوسع في تسمينها، والذي يضطرب الرأي فيه أنها إذا كانت على حالةٍ وحدٍّ من السمن عند الإيداع، فهل يشترط أن يعلفها علفاً يبقيها على حدِّها أم نقول: لو انحطت عن ذلك الحد قليلاً، لم يضر، إذا لم ينته النقصان إلى حدّ العيب؟ هذا فيه نظر واحتمال (2)، ولعل الأوجه أنها إذا كانت على غايةٍ من السمن لا يشترط استبقاؤها على ما كانت عليه، وإن كانت على اقتصاد، فيتردد الرأي، والاحتمال متطرق إلى جميع أطراف المسألة. 7677 - ومما يتعلق بهذا أن المودع لو حبس الدابة، ولم يعلفها حتى هلكت، فإن لم تكن [جائعةً] (3) لمّا (4) ثبت يده عليها، ثم حبسها، فهلكت جوعاً، لزمه الضمان. ولو كانت عند الإيداع على حدٍّ من الجوع، فحبسها، وازداد الجوع وتمادى، فنفقت الدابة، وكان نفوقها بسبب الجوع السابق وما انضم إليه، فهذا يستدعي تقديم مسألة ستأتي مشروحة في الجراح، إن شاء الله تعالى، وهي أن الرجل إذا حبس إنساناً وأغلق عليه باباً حتى مات جوعاً، وكان على حدٍّ من الجوع لما حُبس، فانضم ما زاد إلى ما كان، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يجب الضمان؛ فإن الحابس لو حبسه في مثل الزمان الذي جرى الحبس فيه ولم يكن جائعاً عند ابتداء الحبس [فهذا] (5) القدر كان لا يهلكه، ولم يوجد منه إلا الحبس في هذا القدر، فلا يؤاخذ بتلفٍ ترتب على الجوع السابق. هذا وجه. والوجه الثاني - أن الضمان يجب؛ فإن حبسه صادف موصوفاً بالجوع، فكان

_ (1) في النسختين: تعيبت. والمثبت تصرف من المحقق. (2) (س): واجتهاد، ولعل الأصح. (3) في الأصل: جائفة. (4) (س): فإن لم تك جائعة لم ثبتت يده عليها. (5) في الأصل: وهذا.

مهلكاً لمصادفته جائعاً، وهذا ينزل منزلة ما لو ضرب رجلاً مريضاً مُدْنفاً سياطاً لا يهلك الصحيح بها ويقصد بها قتل المريض، فإذا مات، كان الضرب موجباً للقصاص؛ فإن المريض يُقصد قتله بهذه الضربات. (1 فقال الأئمة إذا حبس المودَعُ الدابة وكانت جائعة 1) فتمادى الجوع إلى الموت، ففي وجوب الضمان وجهان مرتبان على الوجهين في حبس الآدمي، وجعلوا الصورة التي ذكرناها في الوديعة أولى بسقوط الضمان فيها؛ من قبل أن المودعَ [له] (2) أن يحبس الدابة على الجملة، وليس يجوز لمن حبس آدميا أصلُ الحبس. وسنذكر في كتاب الجراح، إن شاء الله وجهاً ثالثاً في أن الضمان يتقسط؛ فيسقط بعضه ويجب بعضه، ولا طريق إلا التنصيف؛ فإنّ وقْع الجوع في الباطن [يختلف] (3) أولاً وآخراً، وهذا وجه لا بأس به، وإذا خرج في حبس الآدمي، خرج في حبس الدابة [من غير] (4) علف أيضاً. 7678 - ولو قال مودِع الدابة: أودعتها عندك، فلا تعلفها ولا تسقها، ولا عليك لو ماتت، فلو حبسها حتى هلكت، فلا شك أنه يأثم، ويأثم مالكُها، والذي قطع به الأصحاب انتفاء الضمان؛ فإن الضمان حق مالك الدابة، وقد أباح التسبب إلى إهلاكها. وحكى العراقيون وجهاً عن الإصطخري أن الضمان يجب على المودَع، ولست أدري لهذا وجهاً؛ فإنه إن قال ذلك من جهة تحريم ترك العلف، فيلزمه على مساقه أن يقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتل عبدي هذا، فقتله يلزمه الضمان، فإن طَرَد مذهبَه في هذه الصورة، فقد استجرأ على مخالفة الإجماع، وإن رام [فرقاً لم] (5) يجده، ولست أعد مثل هذا من متن المذهب، ولكني لا أجد بدّاً من حكايته.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (س). (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: يخلف. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: "في ماله يجده". وهذا من شواهد وعلامات سوء هذه النسخة، وأن ناسخها يرسم ولا يقرأ.

7679 - ومما يتعلق بالفصل أن المودِع لا يكلفه القيام على الدابة بنفسه وتعاطي سقيها، وهذا يخرّج على ما مهدته في استعانة المودَع بعبده والمتصلين به، ولو كانت الدابة [تخرج] (1) للسقي، فإن أخرجها [عبدٌ أو أجير] (2)، فلا بأس، وذلك مع اطراد الأمن واعتدال الحالة؛ فإن طرأت حالة في البلدة تقتضي أن ألا تسلّم الدابة إلى مملوك أو سايس، فيجب على المودَع أن يرعى في كل حالة ما يليق بالعرف فيها، والتعويل في التفاصيل على العرف، وأعرف الناس به أعرفهم [بفقه] (3) المعاملات. فصل قال: "فلو حوّلها من خريطة إلى أحرز منها ... إلى آخره" (4) 7680 - نصوِّر هذا الفصل بفض الختم والشدّ، فنقول: إذا كانت الوديعة في خريطة، وعليها ختم المودِع، فإن فض المودَعُ الختم، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب في الطرق أن المودَع يصير ضامناً للوديعة بفض الختام. وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً أن فض الختم لا يوجب الضمان، وهذا غريب (5) جداً، ووجهه على بعده أن فض الختم ليس من الأسباب المضمّنة التي ذكرناها في صدر الكتاب، ولو كان منها، لكان يلتحق بالتضييع، وليس فض الختم [تضييعاً] (6)؛ فإن الختم لا يزيد في الصون والإحراز، وهذا متجه في القياس، ولكن ظاهر المذهب ما قدمناه. فإن قيل: فما وجه ظاهر المذهب؟ قلنا: فض الختم فعلٌ يشعرُ بخيانة المؤتمن،

_ (1) في الأصل: فخرج. (2) في الأصل: عبداً وأخبر (بهذا الضبط والإعجام). وهو تصحيف فاضح. (3) في الأصل: بصفة. (4) ر. المختصر: 3/ 177. (5) لم يصف النووي هذا الوجه بالغرابة، بل حكاه أولاً، ثم ذكر الآخر، وقال: إنه الأصح. (ر. الر وضة: 6/ 334). (6) في الأصل: متضيعاً.

وإذا ظهرت مخيلة الخيانة، [ارتفعت] (1) الأمانة، وهذا يتقوى بالعرف؛ فإن الناس يعدّون من فض الختم خواناً، وقد ذكرنا أن مبنى الكتاب على العرف. والذي يشهد له أن المودع إذا انتفع بالوديعة، ضمنها، وليس انتفاعه تضييعاً، ولكن يستبين به مخايل الخيانة، ومجاوزة حدود الأمناء. هذا قولنا في فض الختم. وألحق الأئمة بذلك حلَّ الشداد عن الكيس، إذا كان مشدوداً، وهذا فيه تفصيلٌ عندي، فإن كان الشدّ على وجهِ يقصدُ، وقد يكون إعلاماً حتى يستدل ببقائه على بقاء الكيس على ما كان، فهذا كالختم، فإن كان الشد قريباً، بحيث لا يقصد مثلُه في صوان (2) [أو إعلام] (3) فما [أراه] (4) مما يُبالَى به، والاحتمال يتطرق إليه على حال. 7681 - ومما يتصل بذلك، وهو مقصودٌ في نفسه أن المودَع إذا فض الختم وضمّناه الوديعة، فلا كلام، وإن لم يكن الكيس مختوماً، ولا مشدوداً شدّاً معتبراً، فلو أخذ المودَعُ من جملة الدراهم درهماً، و [استنفقه] (5)، ضمنه، ولا يضمن غيره، وإن ردّ بدلَه من مِلكه إلى الكيس، فالمردود إلى الكيس ملكُه، ولا يتأدى به ما عليه؛ فإن الدين لا يتأدى إلا [بمُقبضٍ] (6) وقابض، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه، فالدرهم إذاً مُقَرٌّ على ملكه، ثم إنا ننظر وراء ذلك، ونقول: إن كان [درهمه] (7) يتميز عن دراهم الكيس، [فلا] (8) تصير الدراهم مضمونة عليه، وإن اختلط درهمه بدراهم الكيس على وجه لا يتميز، فيصير ضامناً [لجميع] (9) دراهم

_ (1) في الأصل: أو نفعت. (2) (س): جوان. والصوان بضم الصاد وكسرها ما يصان فيه الأمتعة. (3) في الأصل: أو علام. (4) في الأصل: رآه. (5) في الأصل: وأشفقه. (6) في الأصل: بمصيصٍ (كذا). (7) في الأصل: درهم. (8) في الأصل: ولا. (9) في الأصل: بجميع.

الكيس، وكلُّ من خلط مال نفسه بمال غيره متعدياً، صار ضامناً لجميع مال الغير، وإن قل قدر ماله، والسبب فيه انبساط أثر الخلط على جميع المال. هذا إذا أخذ درهماً واستنفقه، ثم رد بدله. فأما إذا أخذ الدرهم من الكيس ولم يفض ختماً، ولا حل شداداً، ثم رد ذلك الدرهم بعينه إلى الكيس، نُظر: فإن كان ذلك الدرهم متميزاً عن سائر الدراهم، فالضمان لا يعدوه إلى سائر الدراهم، وإن اختلط ذلك المضمون بسائر الدراهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يضمن جميعَ الدراهم؛ فإن الدرهم المردود إلى الكيس مضمون؛ بناء على أن المودع إذا ضمن عيناً من أعيان الوديعة لم يعد أميناً فيها بردها إلى الصون المطلوب منه، فالدرهم إذاً وإن رُدّ مضمونٌ، وإذا تحقق الاختلاط، فلا درهم يشار إليه إلا ويجوز أن يكون ذلك الدرهم، [فانبسط] (1) الضمان على الجميع، وصار كما لو خلط درهماً من دراهمه بتلك الدراهم. والوجه الثاني - أنه لا يضمن إلا درهماً؛ فإنه لم يتعدّ إلا في درهمٍ، ولمّا رده، فهو [مال] (2) صاحب الوديعة، فلا عدوان في الخلط. 7682 - ومما يليق بهذا المنتهى أنه إذا وضع وديعة عند إنسان والتمس منه أن يجعلها في ظرفٍ من ظروفه، فإذا فعل المودَع ذلك، ثم أراد إخراج الوديعة من ذلك الظرف، وردَّها إلى ظرفٍ آخر، فلا بأس إذا لم يكن في النقل من الظرف المعيّن إلى ظرفٍ آخر إخلال بالإحراز، وحطٌّ عن حدّ الحرز الأول. وأعظم منازل الظروف -إن كان لها أثر في الإحراز- أن تكون كالبيوت. ولو قال المالك احفظ [هذه] (3) الوديعة في هذا البيت، فنقله إلى بيت آخر، لم يضرّ ذلك إذا اقتصر على التعيين، ولم ينه عن النقل، فإن نهى عن النقل، فقد مضى تفصيل المذهب فيه.

_ (1) في الأصل: ما ـسط. (2) (س): ملك. (3) مزيدة من (س).

[فإن] (1) كان الظرف يؤثر في الإحراز، بأن يعسر قرضه (2) وقطعه، فهو بمثابة البيوت إذا عينت. هذا إذا كان الظرف للأمين. فأما إذا كان الظرف لصاحب الوديعة، فأخرج المودَع الوديعة من ذلك الظرف وحفظها دونه، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أن هذا يضمّنه الوديعة، وينزل منزلة فض الختم، وحل العِفاص والوِكاء؛ فإن التعرض لإخراج الوديعة من ظرفها تفتيش، والتفتيش عن الودائع من شيم الخوّان. والوجه الثاني - أن ذلك لا يضر، وليس هو في معنى الفض والحل؛ فإنهما يشعران بطلب الاطلاع على أقدار الودائع، وهذا هو المحذور، فإذا كان الكيس مفتوحاً، فليس في تمييزه (3) من الدراهم طلبُ اطلاع، والكيس مع الدراهم في حكم وديعتين، فإذا أراد المودَع أن يحفظ وديعتين في بيتين، [فلا] (4) حرج عليه. هذا منتهى القول فيما يتعلق بالختم، والحل، والشدّ. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شرط ألا يرقد على صندوق ... إلى آخره". ثم قال: "ولو شرط أن يربطها في كمه، فأمسكها في يده ... إلى آخر الفصول" (5) 7683 - جمع الشافعي رضي الله عنه [بين] (6) مسائل، وضابطُها واحد، وجامعها من طريق التصوير أن يذكر مالكُ الوديعة في حفظها جهةً مخصوصة في الكيفية، ثم إن

_ (1) في الأصل: وإن. (2) (س): قضه. (3) تمييزه من الدراهم: أي فصله عنها، وحفظ كل منهما على حدة. (4) في الأصل: ولا. (5) ر. المختصر: 3/ 178. (6) في الأصل: من.

المودَع يخالف تلك الجهة إلى أخرى، وذلك مثل أن يدفع دنانير إلى إنسان ويقول له: اربطها على كمك، فاحتوى عليها المؤتَمن بكفه، فهذا احتياطٌ من وجه، وإن كان مخالفةً لما ذكره المودِع، وقد اختلف طرق الأصحاب في ذلك. فالطريقة المشهورة نأتي بها على وجهها، ثم نلحق بها غيرَها، فنقول: إن لم يَجْرِ من صاحب الوديعة تنصيصٌ على [كيفية] (1) الحفظ، فلا معترض على المودَع: ربطَ الوديعة في كمه، أو أمسكها في كفه؛ فإن هاتين الجهتين في الحفظ بمثابة بَيْتين في الدار، وكل واحد منهما يتصف بكونه حرزاً معتاداً في مثل الوديعة المفروضة، فالمؤتمن يتخير في حفظ الوديعة في أي بيت شاء. فأما إذا عين صاحبُ الوديعة نوعاً من الحفظ مثل أن يقول: اربطها في كمك، فاحتوى عليها بكفه، فالربط على الكم يختص بنوعٍ من الاحتياط في بعض الأحوال، فإنه لو غفل أو غلبته عيناه، فالمربوط على الكم لا ينسلّ، ولا يتبتّر (2)، فلو كانت الوديعة في كفه، وغلبته عيناه، لاسترخت أنامله، وانسلت الوديعة. والضبط في الكف قد يكون أحرز في بعض الأحوال، فإن غاصباً لو أراد [سلب] (3) الوديعة من حافظها، فكونها في الكف أحوط وأضبط من كونها [مربوطة] (4) على الكُم، وكذلك الطَّرار قد يهون عليه [حلّ] (5) الكُمّ، واستخراج ما فيه، ولا يعصم عنه الربط، ولا يتوصل الطرار إلى ما يحتوي المرء عليه بكفه. فإذا لاح ذلك، ابتنى عليه ما ذكره الأصحاب، قالوا: إن عيّن مالك الوديعة الربطَ على الكم، فضبط المودَعُ في الكف، فضاعت الوديعة، نظر: فإن جاء الضياع من جهة الانتشار والانسلال عند النوم، والغفلة، وجب الضمان؛ فإن الضياع جاء من

_ (1) في الأصل: كفة. (2) (س): ولا ينتشر. (3) في الأصل: سبيل. (4) في الأصل: مربوط، و (س): مربوطاً. والمثبت من تصرف المحقق. (5) في الأصل: طو (كذا) الكم.

الجهة [المحذورة] (1) التي يكون الربط فيها أحوط من الاحتواء بالكف، وإن جاء الضياع من جهة [سلب، ونهبٍ، فمانعَ المودَعُ الوديعة] (2) جهده، ثم غُلب، فلا ضمان؛ فإن الاحتواء بالكف أحوط في مثل هذه الحالة. وحكى الأصحاب نصاً على هذا الوجه عن الشافعي، وذلك أنه قال: "إذا سلم مالكُ الوديعة ماله إلى المؤتمن، وقال: احفظه في هذا البيت، ولا تُدخل عليه زيداً، فخالف المودَع وأدخل ذلك الشخص الذي نهاه المالك عن إدخاله، فضاعت الوديعة، نظر: فإن جاء الضياع من جهة دخول ذلك الشخص، واطّلاعه على الوديعة، بأن سرق هو أو دلّ سارقاً، [وجب] (3) الضمان، وإن جاء الضياع من جهةِ غير هذا الداخل، فلا ضمان. وبنى الأصحاب على ذلك تعيينَ البيت في مثل قول المودع: احفظ الوديعةَ في هذا البيت، فنقله إلى بيت آخر، وكان في كل واحد من البيتين نوعٌ من الاحتياط ليس في الثاني، فإذا ضاعت الوديعة، نظر: فإن تحقق الضياع من جهة قصور البيت المنقول إليه عن البيت المعيّن، وجب الضمان، وإن لم يأت الضياع من جهة القصور، لم يجب الضمان، وذلك مثل أن يكون البيت المنقول إليه أقوى جداراً، وأطولَ سَمْكاً (4)، وأمتن أساساً، ولكنه كان يتاخم شارعاً، والبيت الآخر أضعف من المنقول إليه، ولكنه لا يتاخم الشارع، فإن أتى الضياع من جهة النقب والبيت المنقول إليه أمنع للنقب، فلا ضمان. ولا يخفى تصوّر نقيض ذلك في الجهة المحذورة، وهذه الطريقةُ المشهورة. 7684 - [قال صاحب التقريب لما استاق هذا الترتيب على وجهه: هذا هو المشهور] (5) من المذهب، ويحتمل عندي أنه إذا خالف في جهة الحفظ التي عيّنها

_ (1) في الأصل: المحروزة. (2) في الأصل: من جهة سل ونهب، فما بقي المودع جهده. (3) في الأصل: فأوجب. (4) سمكاً: ارتفاعاً. (5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من (س).

مالك الوديعة، فضبط في كفه، [وقد] (1) أمره بالربط، أو ربط وقد أمره بالحفظ في اليد أنه يضمن في الحالتين، سواء جاء الضياع من الجهة المحذورة، أو من جهة أخرى، واعتلّ بأن قال: إذا كان الضمان ممكناً في جهة المخالفة على وجهه، فقد حصل من المودَع تعرض للضمان على الجملة، فإذا تعرض للضمان في بعض (2) الأحوال لأجل المخالفة، وجب أن يصير ضامناً بسبب المخالفة كيف فرض الضياع. وهذا وإن كان له اتجاه في المعنى، فهو غريب، ويلزم على مساقه أنه إذا نقل الوديعة من البيت المعيّن إلى غيره، وكان بين البيتين تفاوت في جهتي الحفظ أنه يجب الضمان. وفي كلام صاحب التقريب ما يتضمن ذلك. فأما إذا استوى البيتان في جهات الحفظ، فإذ ذاك إذا نقل، فلا ضمان -وإن عين المالك أحد البيتين- إذا لم يصرح بالنهي عن النقل عنه. 7685 - وذكر العراقيون مسلكاً آخر، ولم يتعرضوا لشيء من هذه التفاصيل التي ذكرناها، فقالوا: إذا أمره بأن يضبطه ربطاً على الكم، فحفظه في كفه، فقد اختلف نص الشافعي في أنه إذا ضاع هل يضمن أم لا؟ ولم يذكروا في اختلاف النص التفصيل الذي حكيناه في طريقنا. ثم قالوا: اختلف أصحابنا فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن الضبط في الكف أولى وأحرز، ومنهم من قال: لا، بل الربط على الكم أحرز وأولى. فإن قلنا: الكف أحرز، فإذا أمره بالربط، فضبط في كفه، لم يضمن، ويكون كما لو قال: احفظه في هذا البيت، فنقله إلى أحرزَ منه، [وإن] (3) قلنا: الربط في الكم أحرز من الضبط في الكف؛ فإنه يضمن إذا احتوى عليه بكفه؛ لأنه ترك الأحوط في مخالفته، فكان كما لو عين له بيتاً ليحفظ الوديعة فيه، فنقلها إلى بيت دونه في الحِرز، فلم يتعرض العراقيون لما ذكره أئمتنا المراوزة [من] (4) اتفاق الفوت بالجهة

_ (1) في الأصل: فقد. (2) ساقطة من (س). (3) في الأصل: فإن. (4) في الأصل: في.

المحذورة عند فرض المخالفة، وإنما مهدوا أولاً تردُّداً في الأحوط، ثم بنَوْا عليه حكمَ الضمان، إذا فرضت المخالفة. ومن تمام طريقهم أن المسألة عندهم مصوّرة فيه [إذا] (1) نص على جهة وخصصها بالذكر، ولم ينه عن الانتقال عنها، ونزّلوا هذا منزلة ما لو عين بيتاً، وقال: احفظ الوديعة فيه، ولم يصرح بالنهي عنه إلى غيره. فلو نص على جهة في الحفظ، وصرح بالنهي عن غيرها مثل أن يقول: اربطها على كمك ولا تترك الربط ولا تعدل عنه إلى الحفظ في الكف، [فإن] (2) كان كذلك، فهو بمثابة ما لو قال: احفظ الوديعة في هذا البيت، ولا تنقلها إلى غيره، وقد ذكرنا أنه إذا نقل إلى بيتٍ أحرزَ مما عين أو مثلِه، ففي المسألة وجهان، كذلك يجري هذا الاختلاف في هذه الصورة. ومما يرد على طريقهم أن قائلاً لو قال في تأسيس الكلام: الربط والضبط متساويان، أو في كل واحد منهما نوعٌ من الاحتياط ليس في الثاني، والأحوال التي [تُحوج] (3) إلى خاصة كل واحدة من الجهتين [متعارضة] (4) الإمكان، ونتيجة هذا الحكمُ بالتساوي. ومهما ذكر العلماء في شيئين ترجيحين، وذهب كل فريق إلى تغليب الجهة التي رآها [فيتجه] (5) عند الناظر، إذا استدّ نظره استواء الجهتين لما نبهنا عليه. هذا منتهى طريق العراقيين. 7686 - فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاث طرق: إحداها - للمراوزة، وهي تدور على النظر إلى وجه الهلاك، بعد تبين ما يخص كل جهة به من الاحتياط

_ (1) في الأصل: إذ لا نص. (2) في الأصل: وإن. (3) في الأصل: تخرج. (4) في الأصل: متوارضة. (5) في الأصل: منتجة.

ونقيضه، فإن اتفق الفوات من الوجه المحذور [من] (1) الجهة المنتقل إليها، وجب الضمان وإن اتفق الهلاك من غير الوجه المحذور في الجهة المنتقل إليها، فلا ضمان. والطريقة الثانية لصاحب التقريب - وهي أنا نوجب الضمان إذا فرض الانتقال من الجهة المعيّنة إلى الجهة الأخرى، سواء كان الفوات بما يحذر في تلك الجهة أو بغيره. والطريقة الثالثة للعراقيين - وقد تفصلت على وجهها. ويُجري الفطن في أثناء ما ذكرناه في الجهتين تفصيل القول في تعيين البيت والنقل منه إلى آخر، والتفطّن لما يختص به كل بيت من احتياط في الحفظ ونقيضٍ له، حتى إن كانا كذلك، فهما كجهتي الحفظ، فإن استويا، لم يخف تفريعهما. وقد نجز تمام المراد في ذلك. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شرط ألا يرقد على صندوق ... إلى آخره" (2). 7687 - هذا متصل بما تقدم في تعيين طريق الحفظ والنهي عنه، وقصد الشافعي بهذا الردَّ على مالك (3)؛ فإنه سلك مسلكاً لم يرتضه الشافعي، فقال: إذا نهاه عن الرقود على الصندوق، فرقد عليه كان برقوده عليه دالاً اللصوص على مكان الوديعة، والدلالة على الوديعة سببُ الضمان، فرد الشافعي عليه ذلك، ولم يجعل ما [تخيّله] (4) معتبراً؛ فإن كلّ محوط برعاية كالىءٍ فيه هذا المعنى، وقد أوضحنا أن الدُّور لا تكون أحرازاً بأنفسها [ما] (5) لم تكن ملحوظة بعينٍ كالئة، نعم إن [فرض] (6)

_ (1) في الأصل: في. (2) ر. المختصر: 3/ 177. (3) ر. بلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي: 2/ 186. (4) في الأصل: حيلة. (5) زيادة من (س). (6) في الأصل: عرض.

غرض في الرقود أمام الصندوق، مثل أن كانت الوديعة [تؤتى] (1) من أمامها، فإذا فرض الرقود أمام الصندوق، فقد يعسر على من يبغي الصندوق إتيانه من جهة قدّام، ولو فرض الرقود على الصندوق تهيّأ إمكان الإتيان من الجهة المحذورة، فيلتحق هذا بما إذا عيّن جهة في الحفظ، كالربط على الكم والضبط في الكف، فتركَ الجهة المعينة، واختار أخرى [وقد] (2) مضى تفصيل ذلك، فلا حاجة إلى إعادته. فصل 7688 - إذا مات المودَع، وخلف الوديعة، وأوصى بها، ولم ينسب إلى تقصير، فتلفت الوديعة في يد الوارث، فإن كان تلفها على القرب قبل التمكن من الرد، فلا ضمان أصلاً؛ فإن المودَع لم يقصر، ومن خلفه بالوراثة لم يقصر أيضاً، ولو مر زمان إمكان رد الوديعة، ثم تلفت في يد الوارث، فهذا فيه تردد يتعين الاعتناء بفهمه. فليعلم الناظر أن الوارث ليس مودَعاً من جهة المالك، وموت المودَع لا يورِّثه حقَّ الحفظ في الوديعة، كما أن موت الوكيل لا يورث وارثه حقَّ التصرف الذي كان مفوضاً إلى الوكيل، فخرج منه أن الوارث فيما في يده بمثابة من يطيّر الريحُ ثوباً إلى يده، فليس له حكم المعتدين، وليس أيضاً أميناً من جهة المالك. وقال الأئمة: إن لم يطلع على صاحب الثوب، لم يكن عليه طَلِبَة، وهذا فيه بعض النظر عندي، فالقول فيه يبنى على أن الثوب الذي وصفناه في حق من وقع في يده هل ينزل منزلة اللقطة أم لا، وفيه خلاف ذكرته في فصل الركاز من كتاب الزكاة، فإن جعلناه لقطة، لم يخفَ حكم اللقطة فيما يجب ويجوز فيها، وإن لم نجعله لقطة، فهو أمانة، وفي وجوب الإشعار بها تردد، والظاهر أنه لا يجب طلب مالكه؛ فإن وجوب التعريف في معارضة تسليط الملتقط على التملك، فإذا سددنا باب التملك، لم نكلف من وقع الثوب بيده القيام بالتعريف، وما ذكرناه يتضح بسقوط اختيار صاحب اليد.

_ (1) في الأصل: "تُرى" وفي (س): "تولى". والمثبت تصرف من المحقق. (2) في الأصل: فقد.

وذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإشعار [به] (1). ثم القول فيه يختلف [على] (2) تردد واحتمال، فيجوز أن يجب الإشعار أبداً، ويجوز أن يكتفى [بإشهاره والإشهار] (3) به إلى حدٍّ يغلِّب على الظن شيوع خبره، ثم لا يجب غيره، أما تقييد التعريف بالسنة على قياس اللقطة، فليس بالمتجه، مع أن انقضاء السنة لا يُعقِب حقَّ التملك، وليس يُبعد فقيهٌ (4) المصير إلى ذلك؛ من حيث إنه تعريف شرعي. ولو اطلع صاحب اليد في الثوب على مالكه، يجب عليه إعلامه، وإن لم نوجب التعريف عند التباس المالك، فكذلك على الوارث في مسألتنا أن يُعلم صاحب الوديعة، فإن قصر في إعلامه بها، صار ضامناً. هذا معنى قول الأصحاب: إن تلفت الوديعة قبل الإمكان، لم يضمن، وإن تلفت بعد إمكان الرد، ضمنها، والمراد إن تمكن من الإعلام، [فلم] (5) يُعلم، ولم يُرد الأصحابُ (6) أن الوارث يلزمه تعاطي الرَّد بنفسه، حتى إن كانت مؤنةٌ في الرد، وجب عليه التزامها، هذا ما لا قائل به [من] (7) الأصحاب. 7689 - ولو ادعى الوارث الرد على المودَع، لم يقبل قوله، والسبب فيه ما مهدناه قبلُ من أنه ليس مؤتمناً من جهة المالك، وإنما تُقبل دعوى الرد من المؤتمن على من ائتمنه، وحكم الأمانة [إن] (8) ثبت في حق الوارث، فلم تثبت الأمانة مقصودة، والتصديق في دعوى الرد موقوف على ثبوت الأمانة قصداً. 7690 - ولو ادعى الوارث التلفَ، فكذبه المودِع، فالوجه عندنا القطع (9)

_ (1) زيادة من (س). (2) في الأصل: عن. (3) في الأصل: بإشعهاره والإشعار. (4) (س): وليس يبعد فيه. (5) في النسختين: فلا. (6) عبارة (س): فلا نعلم تردد الأصحاب. (7) في الأصل: في. (8) في الأصل: إذا. (9) (س): الفصل.

بتصديقه؛ لأنه ليس [معتدياً] (1) ويده يد أمانة. وينقدح عندي هاهنا طريقةُ العراقيين في إيجاب الإشهاد، [إن] (2) كان السبب مما يمكن (3) الإشهاد عليه، وكان (4) الإشهاد ممكناً، ولهذا لم نصدقه في الرد؛ فإن الإشهاد على الرد ممكن. هذا منتهى النظر في ذلك. ولو ذكر المودَع أن الوديعة تلفت في يده، ومات قبل أن يحلف، فالأمر محمول على ذلك، ولمالك الوديعة أن يحلّف الوارث، ثم قال الأصحاب: إن تحقق الوارث تلف الوديعة، حلف عليه بناء على علمه، وإن لم يتحقق ذلك، وكان ظنه غالباً في صدق أبيه، فله أن يحلف على البت؛ بناء على ظنه بصدق أبيه. وهذا قطب من أحكام الأيْمان سيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل، في كتاب الدعاوى. وإن غلب على ظنه كذب أبيه، لم يكن له أن يحلف. وإن أمكن فرض استواء الأمرين في الاعتقاد من غير تصوير ظنٍّ غالب، ففي جواز الاعتماد على قول الأب [خلاف، سببه] (5) اعتضاد اليمين ببراءة ذمة الوارث، وسلامة التركة له. ومن منعه من اليمين، اعتل بأن اليمين لا مستند لها من يقين [ولا] (6) ظن، والأصل بقاء الوديعة. فهذه جملةٌ في أحكام الورثة، كنا وعدنا ذكرها، وقد نجز الغرض منها، وإذا

_ (1) في الأصل: معتداً. (2) في الأصل: وإن كان. (3) (س): يجب. (4) (س): وإن كان الإشهاد ممكناً. (5) في الأصل: خلاف فيه وسببه. (6) في الأصل: إلا ظن.

ضمت (1) إلى ما ذكرناه في [الإيصاء] (2) وترك الإيصاء، كان المجموع كلاماً بالغاً في ذلك. فصل قال: "ولو ادعى رجلان وديعة، فقال المودَع: هو لأحدكما ولا أدري لأيكما هو ... الفصل" (3). 7691 - إذا ادّعى رجلان وديعةً، فقال المودَع: لا أدري لأيكما هو، وقد علمت أنه لأحدكما. فإن لم يدعيا علمه، فلا كلام لهما معه؛ فإنه ليس متعدياً باتفاقهما، ونسيانُه لا [يلحقه] (4) بالمتعدين وفاقاً، فليُحط الناظرُ بذلك، فهو قاعدة الفصل، فإذا لم يكن ضامناً، ولم يُدَّع عليه علمٌ، انقطعت الطَّلِبةُ عنه. هذا ما ذكره الأصحاب. قال صاحب التقريب: هل للقاضي أن يحلّفه على نفي العلم، وإن لم يدّع الخصمان العلم؟ فعلى وجهين. ثم قال: إن قلنا: لا يحلّفه القاضي، وهو الأصح، فلا كلام، ووجهه أن هذا يتعلق بحقهما، وهما لا يدعيانه. قال: وإن قلنا: يحلفه القاضي، فهو استحبابٌ وليس باستحقاق، قطعَ جوابَه بهذا. وهذا عندي كلامٌ مضطرب؛ فإن التحليف في حق الله من الزكوات إذا قضينا بأنه مستحب لغوٌ من الكلام، كما نبهت عليه في كتاب الزكاة، والحق في الزكاة لله، ويليق بحقوق الله تعالى احتياط القضاة، فأما إثبات التحليف في حق الآدميين، من غير دعوى، مع الحكم بأنه استحبابٌ، فكلامٌ (5) في نهاية السقوط والركاكة، ولكن

_ (1) (س): وإذا تضمنت هذه المقاصد إلى ما ذكرناه. (2) في الأصل: الإمضاء. (3) ر. المختصر: 3/ 178. (4) في الأصل: يلحق. (5) (س): كلام (بدون الفاء). وهذا أقرب إلى لغة الإمام.

صاحب التقريب كرر (1) هذا في كتابه، فلم أوثر إخلاء هذا المجموع عنه، ولا يمكن حمل كلامه على تنبيه القاضي الخصمين على دعوى العلم؛ فإنه لم يُرد ذلك، ولم يتعرض له، ورأى التحليف إذا قيل به من مراسم القضاة، وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة في إيضاح تداعيهما في الوديعة وقطعهما الدعوى عن المودع إذا [استفرغنا] (2) مقصودَ الفصل. 7692 - ولو ادعى كل واحد منهما علمَه، فقال هذا: أنت تعلم أني مالك الوديعة، وقال الآخر مثلَه، فيحلف المودع بالله لا يعلم. وذكر أئمتنا في طرقهم إن اليمين الواحدة تكفيه في حقهما، وقال أبو حنيفة (3): لا بد وأن يحلف لكل واحد منهما يميناً، وهذا عندي محتمل في القياس؛ فإن خصومة كلِّ واحد منهما منفصلة عن خصومة الثاني، وهذا احتمالٌ، والمذهب ما نقلته. ولو فرضنا حضورَ أحدهما، وادعاءه العلمَ، فأنكر المدعى عليه العلم، وحلف عليه، فإذا حضر الخصم الآخر، فهل يقع الاكتفاء باليمين السابقة؟ وليقع الفرض فيه إذا تعرض المودَع للتردد بينهما، فقال لما توجهت عليه الدعوى من الأول: لست أدري أودعتَ أم أودع صاحبُك فلان، فإذا جرى الحلف مع الأول، فهل يحلّفه الثاني؟ هذا لا نقل فيه، [وفي] (4) المسألة احتمال، ولا يبعد أن يثبت للثاني أن يحلِّفه، وتخصيص اتحاد اليمين [بشهودهما] (5) حال قيام الخصومة، وهذا فيه إذا وقع التعرض في جواب الأول للرجلين. فأما إذا ادعى الأول، فكان من جواب المدعى عليه: إنك أودعتني أو رجل آخر لم

_ (1) عبارة (س): ولكن صاحب التقريب ذكره وكرره، فلم نؤئر إخلاء ... (2) في الأصل: استغرقنا. (3) ر. حاشية ابن عابدين: 4/ 500. (4) في الأصل: ففي. (5) في النسختين: شهودهما.

يسمِّه، ولست أدري، فإذا حلف لا يدري أن المدعي (1) أودع عنده، فلا بد من تجديد اليمين إذا حضر الثاني. ثم إذا حضرا وادعيا (2)، وعُرضت يمين العلم، فلا يخلو إما أن يحلف بالله لا يعلم مَن المودِع المستحِق منهما، أو ينكل عن اليمين، فإن حلف: لا يدري من المستحِق منهما، قال صاحب التقريب: لا يخلو الخصمان إما أن [يحلفا] (3) بينهما أو ينكلا عن التحالف، أو يحلف أحدهما وينكل الثاني. 7693 - فإن نكلا جميعاً، ولم يحلف واحد منهما، قال: فلا يدفع المال إليهما، ولا يقسم بينهما؛ إذ لم يُقم واحد منهما حجة، ولا يدَ أيضاً لواحدٍ منهما، فلا يقتسمانه، ولكن يوقف المال [بينهما] (4) كما يوقف كل مالٍ بين جماعة أشكل مستحقه منهم. ثم إن أقام واحد منهما بينة، قضي بها، وإن اصطلحا، وتراضيا، فهو إليهم، ولعلنا نذكر في ذلك قولاً ضابطاً في نكاح المشركات، إن شاء الله عز وجل - يحوي أطراف الكلام في أمثال هذا الإشكال. فخرج منه أنا على رأي صاحب التقريب لا نقسم الوديعة بينهما وجوباً، ولكنا نقف على التراضي أو البيان. [وقال] (5) طوائف من أئمتنا -وهو مذكور في بعض المصنفات- إذا لم يحلفا، قُسّمت الوديعة بينهما قَهْراً، وسبيلهما كسبيل رجلين في أيديهما دارٌ، وكل واحد

_ (1) (س): أن المودع هو المدعي، فلا بد من تجديد اليمين. (2) صورة هذه المسألة ست هي: 1 - أن يصدفاه ولا يدعيان عليه. 2 - أن يدعيا عليه، فيحلف على نفي العلم. 3 - أن ينكل عن اليمين فتردّ عليهما فيحلفا. 4 - أن ينكل عن اليمين فترد عليهما فينكلا. 5 - أن ينكل عن اليمين فترد عليهما فيحلف الأول دون الثاني. 6 - أن ينكل عن اليمين فترد عليهما فيحلف الثاني دون الأول. (وبمثله أيضاً لو حلف ثم حلفا أو نكلا، أو حلف أحدهما ونكل الآخر). (3) في الأصل: يحلف. (4) في الأصل: منهما. (5) في الأصل: قال (بدون واو).

يدعي الدار بكمالها لنفسه، فحكم الدار أن تقرر في أيديهما ويُقضى بظاهر الملك لكل واحد منهما في نصف الدار. وهذا يمكن توجيهه بأن المودَع في إقراره [لهما] (1) سوّى بينهما، ولم يعيّن واحداً، وأبهم الأمرَ، واعترف بأن يده مستعارة، فصار كما لو ثبتت أيديهما على الوديعة. وهذا وإن كان يتجه، فالأموال المشكلة تَرد على ذلك؛ فإن من أسلم على ثمان نسوة وأسلمن، فإضافة الربع أو الثمن إليهن على قضيةٍ واحدة، ليس بعضهن أولى به من البعض. ثم لم يُطلق جماهير الأصحاب القولَ بوجوب قسمة الربع أو الثمن بينهن، على أنهم لم يُخلو ذلك الفصلَ عن المصير إلى قسمة ذلك بينهن وجوباً، على ما سيأتي. وقياس ظاهر المذهب، ما ذكره صاحب التقريب. ثم قال: إذا قلنا: يوقف المال، فهل تبقى تلك الوديعة في يد المودَع، أم تخرج من يده؟ فعلى قولين، وهذان القولان جاريان في نظائر ذلك: أحدهما - أنها تخرج من يده؛ فإنه أقر بأنه ليس بمستحق له، وثبت طلب الاسترداد من كل واحد من الخصمين، فيسلم القاضي الوديعة إلى عدل أو يحفظها بنفسه. والقول الثاني - أنه يتعين تقريرها في يد المودَع؛ فإنه لو استخرجها من يده، لوضعها عند مثله، فاستدامةُ يده إلى البيان أولى. وإن قلنا: للقاضي أن يُخرج الوديعة من يده، فلو رأى أن يستحفظه من تلقاء نفسه، لم يمتنع ذلك، ولكن لا بد منه. هذا إذا حلف المودَع، ونكل الخصمان عن التحالف بينهما. 7694 - فأما إذا حلفا جميعاً: هذا (2) حلف أنه المستحِق دون صاحبه، وكذلك صاحبه، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان حينئذ: أحدهما - أن الوديعة

_ (1) في الأصل: بهما. (2) (س): فهذا.

تقسم بينهما، ويكون كما لو تنازعا داراً في أيديهما وتحالفا، فلكل واحد منهما نصفها، كذلك هاهنا. والوجه الثاني - أنه لا يجب قسمة الوديعة بينهما؛ فإن (1) يمينهما تعارضتا وتضادّتا [فلتسقطا] (2)، ويلتحق الخصمان بما إذا نكلا، ثم لا شك أن من يقسم الوديعة بينهما في نكولهما يجري هذا الحكم في [حلفهما] (3)، ثم قال: إذا لم تقسم الوديعة، لم تثبت أيديهما، وكانت الوديعة موقوفة، وقد مضى تفصيل القول في الوقف. وكلُّ ما ذكرناه فيه إذا عرضنا اليمين على المودَع، فحلف بالله لا يعلم. 7695 - فأما إذا عرضنا اليمين عليه في نفي العلم، فنكل عن اليمين، قال صاحب التقريب في كيفية ردّ اليمين على المدّعين وجهان: أحدهما - أن القاضي يبدأ بمن شاء منهما؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، فيحلف كل واحد منهما، والبداية موكولة إلى القاضي. والوجه الثاني - أنه يُقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة يحلف أولاً ثم الثاني بعده. 7696 - التفريع على الوجهين: إن قلنا: إنه يحلِّفهما بلا قرعة، فإذا حلفا، فقد ذكر صاحب التقريب ثلاثة أوجه [على هذا الوجه] (4) أحدها - أنه يسلّم إلى كل واحد منهما نصف العين ويغرِّمه (5) كلُّ واحد منهما نصفَ قيمة العين، وتعليل ذلك أن كل واحد منهما يقول: أثبتُّ بيميني استحقاقي للوديعة، وأنت بترك الإقرار حُلْت بيني وبين نصف الوديعة، ولما [نكلتَ] (6) عن اليمين لم تُعذَر (7)، ولم تصدَّق على دعوى

_ (1) (س): لأن. (2) في الأصل: فلتسقطنا. (3) في الأصل: حلفها. (4) زيادة من (س). (5) (س): ويغرم كل واحد. (6) في الأصل: نكل. (7) (س): ولم تعد.

النسيان، فيتحصل من ذلك أن كل واحد منهما ينسبه إلى تفويت نصف الوديعة عليه، وموجب ذلك ما ذكرناه من تغريم كل واحد منهما إياه نصفَ قيمة الوديعة، وهذا الوجه لا يتضح إلا بذكر صفة اليمينين، [فيحلف] (1) كل واحد منهما على استحقاقه، وعلى علم المودَع باستحقاقه؛ فإنه بحلفه على علمه يُثبت تفويتَه، ولو (2) لم يحلف على علمه، لم يستحق عليه شيئاً من القيمة. هذا أحد الوجوه (3). و [الوجه] (4) الثاني - أن العين تقسم بينهما، وليس لواحد منهما عليه شيء من القيمة. وهذا الوجه يخرج خروجاً صحيحاً على قولنا: الشاهد على الملك إذا رجع عن شهادته بعد نفوذ القضاء، لم يغرم للمشهود عليه قيمةَ المشهود به، وكذلك إذا قال: [غصبتُ] (5) هذا العبدَ من فلان، لا بل من فلان، فالعبد مسلّم إلى الأول المقرّ له [أولاً] (6)، وهل يغرم للمقر [له] (7) الثاني قيمةَ المقرّ به؛ من جهة انتسابه إلى التفويت عليه بالإقرار الأول؛ فيه قولان. فالوجه الأول والثاني إذاً مأخوذان من هذين القولين. 7697 - وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً - وهو أن العين لا تسلم إليهما، بل توقف بينهما، وهذا الوجه خارج على ما مهده من الخلاف في حلفهما بناء على تعارض اليمينين، فالذي يقتضيه الترتيب إذاً ذكر خلاف في أن العين هل تسلم إليهما أم لا؛ فإن قلنا: لا تسلم إليهما، وقد حلف كل واحد منهما على علمه، فهل يغرَم

_ (1) في الأصل: فليحلف. (2) (س): فيها سقط واضطراب، هكذا: يثبت تفويته يعلم على علم. (3) (س): الوجهين. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: غصب. (6) زيادة من (س). (7) زيادة من المحقق.

القيمة للتفويت؟ فعلى وجهين مبنيين على ما ذكرناه من أن التفويت هل يوجب الغُرم؟ فإن قلنا: لا يوجبه، فالعين موقوفة، ولا غرم، وإن قلنا: التفويت يوجب الغرم، فالعين توقف، والغرم يجب، ثم يغرَم المودع لكل واحد منهما تمام القيمة؛ فإنه ينسب في حق كل واحد منهما إلى الحيلولة في العين. وفي كلام صاحب التقريب [دقيقة] (1) على وجه الوقف، وهو أنه قال: إذا [أوقفنا] (2) العين، فيغرَم المودَعُ لكل واحد منهما نصفَ القيمة قولاً واحداً لتنجيز الحيلولة في العين الموقوفة، وهل يغرم تمام القيمة، أم (3) النصف الثاني من القيمة في حق كل واحد على التردد المتلقى من القولين في الشهادة والإقرار؟ وهذا حسن. وكل ذلك تفريع على وقف العين. فإن قلنا: العين تقسم بينهما، ففي تغريم المودَع لكل واحد منهما نصف القيمة الوجهان المقدمان. هذا كله إذا نكل المدعى عليه، وحلف الخصمان. 7698 - ولو نكلا، كان كما لو حلف المدعى عليه على نفي العلم ونكلا؛ فإن نكولهما أقام حكم [يمين] (4) الخصم وثبتت خاصية نكولهما، فالتحق هذا بما تقدم فيه إذا حلف ونكلا. 7699 - ولو حلف أحدهما ونكل الثاني [فاز] (5) الحالف بالعين، وخاب الناكل؛ فإن نكوله كما يحرمه العين يحرمه الرجوع في القيمة. [وكل] (6) ذلك تفريع على أحد الوجهين، وهو أنا لا نقرع بينهما.

_ (1) في الأصل: حقيقة. (2) في الأصل: وقفا. (3) عبارة (س): أم لا يغرم النصف الثاني من القيمة في حق كل واحد؟ فعلى التردد. (4) في الأصل: عين. (5) في الأصل: فإن. (6) في الأصل: فكل.

7700 - فأما إذا قلنا: نقرع بينهما (1)، فمن خرجت لها القرعة، [حلّفناه] (2)، فإن حلف، فكيف السبيل فيه؟ ذكر صاحب التقريب وجهاً ظاهراً، ورمز بالثاني، فالذي أظهره أن الحالف يفوز بملك العين، وهذا فائدة القرعة، فلو قال الثاني: فأنا أحلف؛ حتى يشترك في العين، لم نُجبه إلى ذلك، ومن [آثار] (3) القرعة إعتاق عبد وإرقاق عبد، والخصمان هاهنا يدعي كل واحد منهما تمامَ الاستحقاق، والمدَّعى عليه معترفٌ بالاستحقاق لأحدهما لا بعينه، فلا يمتنع أن تؤثر القرعة في تعيين أحدهما. وقد قال الشافعي في أحد أقواله: إذا تعارضت بينتان، ورأينا استعمالهما، فإنا نقرع بين الخصمين، فمن خرجت له القرعة، فاز بالملك، وخاب صاحبه. وإنما ذكرنا هذا حتى لا يستبعد الناظر اقتضاءَ القرعة اختصاص أحدهما بملك [العين] (4). هذا وجه ظاهر. ثم فرع عليه، وقال: إذا فاز من خرجت له القرعة -وحلف- بملك العين، فهل يغرم المودَع للثاني (5) إذا حلف؟ فعلى وجهين، وهما الوجهان المذكوران في أن إيقاع الحيلولة هل يتضمن تغريم القيمة؟ فإن قلنا: لا يغرم للثاني شيئاً، [فلا] (6) يحلِّفه أصلاً ويحلّف (7) من خرجت له القرعة لا محالة. وإن قلنا: الحيلولة توجب الغرامة، فيحلف الثاني، فإن حلف، استحق [تمام] (8) القيمة. هذا كله بيان الوجه الذي أظهره، وهو اقتضاء خروج القرعة تخصيصَ من خرجت له القرعة باستحقاق العين.

_ (1) نقرع بينهما: هذا أحد الوجهين اللذين يفرع عليهما، والآخر هو أن القاضي يبدأ بأيهما شاء، وقد مضى التفريع عليه. (2) في الأصل: وحلفناه. (3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (4) في الأصل: بملك اليمين. (5) (س): للثاني، فعلى وجهين. (6) في الأصل: ولا. (7) (س): ويخرج. (8) في الأصل: استحق أم القيمة.

وأشار إلى وجهٍ آخر [وهو] (1) أن القرعة لا تفيد ذلك، ولا تقتضيه، ولكن فائدة القرعة بدايةٌ محضة باليمين، فإن خرجت القرعة لأحدهما، وحلف، حلّفنا الثاني، ثم يعود التفريع إلى أن القاضي يحلّف من شاء منهما، وقد مضى تفصيل [القول في] (2) ذلك. 7701 - ثم إذا كانا يحلفان، فسبيل حلفهما فيما يتعلق بالعين ما نصفه، فنقول: من تقع البداية به (3) إن حلف، فيحلف أنه لا حق لصاحبه في العين، ثم إن نكل صاحبه، فعلى الذي حلف أولاً أن يحلف مرة أخرى على الإثبات، فيثبت له الاستحقاق بيمين النفي والإثبات، ولا يجمع في الابتداء بين النفي والإثبات. وإن نكل من بدأنا به، فحينئذ يجمع صاحبه -إن أراد أن يحلف- بين النفي والإثبات. وتمام البيان في هذا يأتي في الدعاوى عند ذكرنا اختلاف رجلين في أيديهما دارٌ وكل يدعي تمامها [لنفسه] (4)، فيدُ كلِّ واحد ثابتة في نصف الدار، وهو فيه مدَّعىً عليه، وهو مدعٍ في النصف الذي في يد صاحبه. وحكم يمين المدعى عليه أن يكون على النفي ويمين الردّ يكون على الإثبات، ولا يثبت يمين الرد إلا عند [نكول] (5) الخصم. 7702 - وقد نجز تفصيل القول في مسألة الوديعة، وذكر الأئمة صورةً أخرى تتعلق بالغصب تناظر صورة الوديعة، وهي أن من في يده العين لو قال: غصبت هذه العين من أحدكما، ولا أدري ممن غصبت، فلا يكتفى منه بيمين واحدة على نفي العلم (6)، بل كل واحد منهما يكلفه أن يحلف على البت: ما غصبتُ هذه العينَ منك (1 فإن أبى، كان ناكلاً عن اليمين، والفرق بين البابين أن المودَع غيرُ ضامن، وقد ذكرنا في

_ (1) زيادة من (س). (2) زيادة من (س). (3) (س): من تقع البداية نحلفه إن حلف، فيحلف أنه لا حق. (4) في الأصل: لنفيه. (5) في الأصل: نكوله. (6) (س): على العلم.

صدر الفصل أن نسيانه لا يُثبت له حكمَ العدوان، فاكتفينا منه بنفي العلم؛ فإنه إذا انتفى العلم عنه، انتفى الضمان، وانتفاء العلم في الغصب لا يدرأ الضمان، ولا يقطع الطَّلِبةَ عن الغاصب، فلاح الفرق. ولو ادّعى أحدهما عليه الغصبَ، وكان سبق منه دعوى التردّد، وقال للذي وجه الدعوى عليه ما غصبت العين منك 1)؛ فإنه يصير مقرّاً للآخر؛ لأنه [اعترف] (2) أولاً [بأن] (3) الغصب كان من أحدهما، فإذا جزم نفي الغصب في حق أحدهما، تعين الثاني لثبوت الغصب في حقه، فيسلّم العين إلى الثاني. ثم هل يغرم للذي ادعى عليه، فأنكر الغصب في حقه شيئاً، وكيف السبيل فيه؟ لا شك أنه بمجرد الإنكار في حقه لا يغرم؛ فإنه لم يأت أولاً بما يقتضي ثبوتَ حق له، حتى ينتسب إلى إيقاع الحيلولة آخراً، نعم، لو أنكر دعوى الأول، وجعلنا ذلك إقراراً للآخر، فلو أقر للأول بعد ما أنكر، فهل يغرم للأول شيئاً؟ فعلى قولين وعلى هذين القولين يبتني أن الأول الذي أنكر حقَّه هل يملك تحليفه؟ فإن قلنا: لو أقر له بعد الإنكار، غرِم له، فيملك الأول تحليفَه لتوقع أن ينكل، فيحلف المدعي. وإن قلنا لو عاد، فأقر للأول، لم يغرم له شيئاً، فليس للأول أن يحلّفه؛ فإن تحليفه إياه لا يفيد غُرماً، وقد استقر الإقرار المتلقَّى من الإنكار للثاني، وذاك لا مستدرك له، فلا معنى للتحليف. وقد هذى بعضُ الأصحاب بشيء، لا فائدة فيه، ومثله يشوش المذهب، ويفسد القواعد، وذلك أن بعض من لا يحيط بسر الفقه، صار إلى أن الأول لو حلف يمين الرد، لا يستحق العين المغصوبة؛ بناء على أن يمين الرد ينزل منزلة البينة المقامة، ولا ينزل منزلة إقرار الخصم، ثم لو أقام الأول بيّنة، قضي له بها، وهذا ليس بشيء، وهو بإجماع أئمة المذهب غلطٌ، وسنذكره على الاستقصاء في كتاب النكاح، وفي كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (س). (2) في الأصل: اعرف. (3) في الأصل: فبان.

فصل 7703 - ذكر الأئمة رضي الله عنهم أن الصبي ليس من أهل أن يؤتمن (1)، ويده لا تصلح لحفظ الودائع، ثم ذكر الأصحاب التفصيلَ في إتلافه الوديعة. وقد ساق العراقيون طريقةً جامعة في أحواله، فقالوا: إن ثبتت يد الصبي على مال إنسان، وجرى من مالك المال ما [يتضمّن تسليطَ] (2) الصبي على إتلافه، فإذا حصل بهذا الطريق مالٌ في يد الصبي، وأتلفه، فلا ضمان عليه، وهذا كما لو باع شيئاً من صبي، وسلّمه إليه، فالبيع فاسد، ولو أتلف الصبي ما قبضه، لم [يضمنه] (3)؛ فإن مالك ذلك المتاع [سلّط] (4) الصبي على ذلك، ولا نظر إلى قول من يقول: إنما سلطه بعوض؛ فإن ذلك العوض ساقط، والتسليط على الإتلاف كائن، والساعي في تضييع المال هو المالك، ثم إذا لم يضمن في صباه، لم يلزمه الضمان بعد بلوغه، والضمان منفي عنه في الحال والمآل، ظاهراً وباطناً. ومن أحوال الصبي في الإتلاف أن يتلف مالاً ابتداءً من غير صدور سبب من المالك، فإذا جرى ذلك على هذا الوجه، وجب الضمان في مال الصبي، يخرج [منه] (5) في صباه، ولا ينتظر بلوغه. وإن اتفق استئخار الطلب إلى ما بعد البلوغ، طولب بعد استقلاله. ومن أحواله في الإتلاف أن يُثبت المالك له يداً مقصِّراً مغرِّراً بمال نفسه، من غير أن يسلطه على التصرف فيه، وهذا بمثابة ما لو أودع مالَه عند صبي، ففي الإيداع إثبات يدٍ له، ولكن ليس فيه تسليطهُ على التصرف، فإذا أتلف الصبي الوديعةَ، ففي وجوب الضمان وجهان: أحدهما - يجب الضمان في مال الطفل، كما لو أتلف مالاً ابتداء.

_ (1) (س): لبس من أهل الإيداع. (2) في الأصل: ما يضمن تصديق. (3) في الأصل: يتضمنه. (4) في الأصل: سقط. (5) في الأصل: فيه.

والثاني - لا يجب؛ فإن مالك المال هو المغرِّر المقصر. والأول يقول: المالك لم يسلِّطه على الإتلاف، وإنما استحفظه في المال. وهذه الأحوال الثلاث تجري في حق العبد، فإن باع المالك منه شيئاً، فالبيع مردود على المذهب، فلو أتلفه العبد، لم يتعلق الضمان برقبته، ولكنه يطالب بالقيمة إذا عتق. ولو أودع عند عبدٍ من غير إذن المولى، فأتلف العبد الوديعة، ففي تعلق الضمان برقبته وجهان، والعبد يفارق الصبي من حيث إن ما لا يضمنه الصبي (1) من مال في صباه لا [يضمنه] (2) قط، وإذا أسقطنا (3) تعلق الأرش برقبة العبد وفاقاً، ثم عَتَق، طولب بقيمة المتلَف بعد زوال الرق، والسبب فيه أن المرعي في نفي الضمان عن الصبي حقه، وحقُّه مرعيٌّ في الحال والمآل، والمرعي في نفي تعلق الأرش بالرقبة حقُّ المالك، وحقه يزول بالعتق. فلو جرى ما وصفناه من مملوك صغير، فإن كان ذلك لو صدر من صبي حر، لما وجب الضمان في الحال والمآل، فكذلك لا يتعلق الضمان بالصبي المملوك؛ فإنه كالصبي الحر، غيرَ أن الصبي الحر لم يتعلق به استحقاقٌ لغيره، بخلاف المملوك. وحيث قلنا: يجب الضمان في مال الصبي الحر، فإذا صدر ذلك السبب من الصبي المملوك، تعلق الأرش برقبته. وقد نجز تمام [المراد] (4) في ذلك ونجز بنجازه مسائل الوديعة، والله الموفق بالصواب. ...

_ (1) ما لا يضمنه الصبي في صباه. (2) في الأصل: يتضمنه. (3) (س): اشترطنا. (4) في الأصل: الرد.

كتاب قسم الفيء والغنيمة

كتاب قسم الفيء والغنيمة (1) قال الشافعي رضي الله عنه: "أصل ما يقوم به الولاة من المال ثلاثة وجوه ... إلى آخره" (2). 7704 - نقل المزني عن الشافعي رضي الله عنه حصراً في أقسام الأموال التي [يأخذها] (3) الولاة ويرعَوْنها، وجعلها ثلاثة أقسام: الصدقات، والفيء، والغنيمة،

_ (1) وضع الإمام هذا الكتاب (قسم الفيء والغنيمة)، وما يليه (قسم الصدقات) هنا، التزاماً بترتيب السواد (مختصر المزني) الذي ألزم الإمامُ به نفسه، على تبرّمه أحياناً بهذا الترتيب (انظر مقدمة المحقق) وحق هذا الكتاب أن يوضع في السير، وحق قسم الصدقات أن يكون في آخر كتاب الزكاة. وقد تبع إمامَ الحرمين في هذا الترتيب تلميذُه الغزالي في كتبه: البسيط، والوسيط، والوجيز، ثم تبعه البغوي في التهذيب، والتزم به الرافعي في الشرح الكبير، وفي المحرر، كما جرى عليه النووي في المنهاج، والعجب من النووي -رضي الله عنه- أنه خالف الرافعي، فنقل الصدقات إلى آخر الزكاة في الروضة مع أنها مختصر للشرح الكبير، وهو مع ذلك أبقى قسم الفيء والغنيمة مكانه بعد الوديعة وقبل النكاح. وهناك ترتيب آخر في المذهب، وهو ترتيب المهذّب والتنبيه للشيرازي، حيث جاء قسم الصدقات في آخر كتاب الزكاة، وقسم الفيء والغنيمة في كتاب السير. وهناك اختلاف آخر في كتب المذهب، حيث جاء كتاب الأضحية عند مدرسة المهذب في كتاب الحج مع أحكام الهدي، أما مدرسة نهاية المطلب فجاءت الأضاحي في كتاب الصيد والذبائح، إلا ما كان من النووي في الروضة - أيضاً -دون المنهاج- حيث وافق ترتيب المهذب. ومن الاختلاف أيضاً، كتاب العتق، حيث جاء في مدرسة المهذب بعد الوصايا وقبل الفرائض، أما مدرسة النهاية فالعتق في آخر الكتاب. (2) ر. المختصر: 3/ 179. (3) في الأصل: أخذها.

فقال الأئمة: الأموال العامة التي يقوم الوالي بجمعها وجبايتها تنقسم إلى الأقسام التي ذكرها، [وللإمام التصرف في أموال الملاك المتعينين] (1) وتلك الجهات زائدة على الأقسام التي نقل المزني حصرها عن الشافعي، [وتصرف] (2) الوالي في المال الذي له مالك متعين يقع على ثلاثة أوجه: أحدها - التصرف بالولاية، وهو تصرفه في مال الصبيان والمجانين، والذين لم يُؤنس رشدُهم، فإذا لم يكن لهؤلاء أولياء، فالإمام وليهم، أو من يقوم مقامه من ولاة الإمام. والوجه الثاني - من تصرفه أنه يأخذ الأموال من الممتنعين ويوفرها على مستحقها. والوجه الثالث - تصرفه في أموال الغُيّب، وعلى الناظر توقفٌ في هذا القسم، فالمالك المطلق يفعل بماله ما يشاء على وفق الشرع، ولا يلزمه عمارة أملاكه، وحفظ أمواله، وله تعريضها للضياع، وإنما [يحجر] (3) الشرع عليه في ذوات الأرواح [لحرمتها] (4) لا لحق المالية منها، والوالي يتصرف بالولاية في مال الموْليّ عليه، على حكم النظر والغبطة، كما تفصل ذلك في الكتب، والسلطان لا يتصرف في أموال الغيّب بالغبطة المحضة، وإنما يتسلط على التصرف فيها بشيئين: أحدهما - إذا أشرفت على الضَّياع، والثاني - إذا مست الحاجة إليها في استيداء (5) حقوق ثبتت على الغائب، وهذا وإن ذكره أصحاب الإيالة، فهو ملتحق باستيفاء الحقوق من الممتنعين، ثم هذا مندرج تحت الولاية، [فإن] (6) الغرض الأظهر منها درءُ الضرار، وكف الأذى والانتصاف للمظلومين، ثم في الضياع على المتأمل تفصيلٌ، فإن ظهر وامتدت الغيبة وعسرت [المراجعة] (7) قبل وقوع الضياع، فيسوغ التصرف، كما سنفصله.

_ (1) في الأصل: والإمام متصرف في أموال الملاك المعنيين. (2) في الأصل: ويتصرف. (3) في الأصل: عجز. (4) بحريتها. (5) استيداء: أي طلب أداء الحقوق. (6) في الأصل: بان. (7) في الأصل: المرجعة.

وإن (1) أمكنت المراجعة، ولم ينقطع [الخبر] (2) انقطاعاً [يغلِّب] (3) على الظن اليأسَ من العَوْد قبل المستدرك، فلا يسوغ التصرف مطلقاً. أما التصرف عند ظهور الضياع واليأس من قرب العوْد، [فيحوج] (4) إلى بيان الضَّياع، وذكرِ تفصيل التصرف. 7705 - فأما الضياع فيقسّم إلى الهلاك بالكلية وإلى الاختلال. [فأما الهلاك إذا خيف، فهو الضياع، وأما الاختلال] (5) فإن كان لا يتراقى (6) إلى تلف المعظم، ولم يكن سارياً، فلم يعدّه معظم العلماء ضَياعاً؛ فإنه لو بيع مال الغائب لخيفة الاختلال، لالْتحق ذلك بابتناء البيع في مال الغائب على النظر المحض والمصلحة، وهذا ما لا يسوغ المصير إليه. وإن كان يتلف معظم المال، فقد أُحلّ المعظم في هذا محل الكل. وما ذكرناه في غير الحيوان، فأما الحيوان؛ فإنه يباع بتطرّق الاختلال إليه لحرمة الروح، وأيضاً؛ فإن ذلك يتداعى إلى الهلاك والحيوان يباع على مالكه في حضرته إذا كان لا يستقل بالإنفاق عليه. هذا قولنا في الضياع. 7706 - فأما التصرف، فإن أمكن تدارك الضَّياع بالإجارة، اكتفى القاضي بها، ولم يبع، وإن كان لا ينسدّ الضياع بالإجارة، فله أن يبيع على الشرائط التي قدمناها، فإن قيل: لِمَ يتسلط الوالي على بيع مال الغائب عند إشرافه على الضياع والغائب ليس موليّاً عليه، ولا حق عليه [فيتأدّى] (7) من ماله الحاضر؟ قلنا: لا محمل لهذا من

_ (1) (س): وإن أمكنت المراجعة أو انقطع الخبر انقطاعاً يُغلِّب على الظن اليأس. (2) في الأصل: الغيبة. (3) في الأصل: فغلب. (4) في النسختين: فيخرج. (5) زيادة من (س). (6) (س): يترامى. (7) في الأصل: فيتمادى.

طريق المعنى إلا حملُ [الأمر] (1) على العرف فيه، فإن الغُيَّب بقرائن أحوالهم لا يأبَوْن أن يَرعى حقوقَهم من [يلي] (2) المسلمين، وينتصب وزَراً (3) لهم، حتى لو فرض من المرء عند الغيبة نهيٌ عن البيع، [وانتهى] (4) الأمر إلى الضَّياع، فلسنا نرى البيع جائزاً والحالة هذه. وبالجملة ليس يخلو بيع الوالي من غير استحقاق حق على الغائب فيما لا يجوز بيعه عليه بحضرته عن خلاف العلماء الناظرين في الإيالات، ولم أر للفقهاء اعتناء بتفصيل ذلك، والمسألة على الاحتمال، والظاهر جواز البيع على الشرط الذي ذكرناه، وإجارة القاضي لأملاك الغُيّب في معنى بيع الأعيان المشرفة على الضّياع؛ فإن المنافع متعرضة للضياع على ممر الزمان، ولم يجترىء على إطلاق [إجازة] (5) الإجارة في حق من لم تبعد غيبته أحد من العلماء فيما بلغنا. ومما يتعلق بهذا القسم ملكٌ لا يتعين مالكه ويدُ الوالي تمتد إليه حفظاً، ولو أراد صرفه إلى جهة المصلحة، وقد تحقق وظهر اليأس من الاطلاع على مالكه، فهذا مما أطلق العلماء القولَ بجوازه، من غير اشتراط إشراف المال على الضياع، ونحن نجد نظير ذلك في اللقطة، وإن كان التعريف مشروطاً في تملكها، وذلك أنه لا يظهر اليأس من العثور على مالكها إلا بالتعريف، والذي ذكرناه في مالٍ ظهر اليأس من الاطلاع على مالكه. فهذه جملٌ انتهت إليها تقاسيم الكلام في الأموال التي يتصرف الولاة فيها. 7707 - وعاد بنا الكلام إلى مقصود الكتاب، وهو القول في قسمة الفيء والغنيمة فنقول أولاً: اسم الفيء ينطلق في اللغة ووضع اللسان على الغنيمة انطلاقه على ما نظفر به من

_ (1) في الأصل: الآية. (2) في الأصل: تلف. (3) (س): وزيراً. (4) في الأصل: وإذا انتهى. (5) زيادة من (س).

أموال الكفار من غير قتالٍ، غيرَ أن الفقهاء اصطلحوا على تمييز ما نصيب من أموالهم بالقتال عما نصيبه منها من غير قتال، فسمَّوْا ما نصيبه بالقتال غنيمة، وما نصيبه من غير قتال فيئاً. وهذا الباب مضمونه ذكر تراجم في مصارف الغنيمة والفيء على الجملة، ثم القول في تفاصيلها، وأوصاف المستحقين، وأقدار ما يستحقون، يأتي مفصلاً في أبوابٍ. فأما الغنيمة، فأربعة أخماسها للغانمين إذا أرادوها وطلبوها، ولم يُعرضوا عنها، والخمس منها يقسّم على خمسة أسهم بالسوية: سهم للمصالح العامة، وسهم لذوي القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم للمساكين، وسهمٌ لليتامى، وسهم لأبناء السبيل. 7708 - فأما الفيء، فليقع الكلام أولاً في صفته التي يتميز بها عن الغنيمة، قال جماهير الأصحاب: كل مالٍ أصبناه من كافر من غير قتال وإيجاف خيل وركاب فهو فيء، ويدخل تحت ذلك ما يتخلى الكفار عنه مرعوبين لاستشعارهم الخوف من غير أن نقيم عليهم قتالاً. ومن جملة الفيء، ما يخلِّفه ذمّي وليس له وارث خاص. ومنه الجزية، والخراج المضروب على حكم الجزية، [ومنه] (1) مال المرتد إذا مات أو قتل مرتداً. هذا هو المذهب المشهور. وذكر الشيخ أبو علي تفصيلاً نأتي به على وجهه، فقال: إذا همّ المسلمون بجرّ جيشٍ إلى بلاد الكفار، فتقاذف الخبر إليهم، فانجلَوْا وخلّوا أموالهم، فعثرنا عليها من غير قتال، قال: إن انجلوا قبل (2) تجهيز الجيش وبروزه في صوب بلدتهم، فالذي [تركوه] (3) وانكشفوا عنه فيء.

_ (1) في الأصل: وفيه. (2) (س): من غير تجهيز. (3) في الأصل: يذكروه.

وإن تجهز الخيل وضربوا [معسكرهم] (1) وبرزوا في تلقاء أولئك الكفار، فانجلَوْا بعد ذلك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك المال مغنوم، وهو كما لو التقى الصفان، [فولَّوْنا] (2) ظهورهم، ومنحونا أكتافهم من غير شهر سلاح، فما خلفوه إذا ولَّوْا منهزمين مغنوم، (3 كذلك ما انجَلَوْا عنه بعد تجهيز الجيش، كما وصفناه مغنوم 3). وهذا وجه بعيد لا يوافق قاعدةَ المذهب، فالأصح إذاً أن الذي انجلَوْا عنه فيء، لأنا لم ننصب قتالاً، وقصْدُ القتال ليس بقتال، ولو فتحنا الباب الذي أشرنا إليه، لزمنا منه موافقة أبي حنيفة في أصولٍ اتفق الأصحاب على مخالفته فيها: أحدها أنه لو نفق فرسُ الغازي قبل أن يلقى قتالاً عليه، فمذهب أبي حنيفة (4) أنه إن كان وطىء بلادَ الحرب، فله سهم فرسه وإن نفق. ونحن لا نرى ذلك أصلاً، ثم ما حكاه من الوجه البعيد لم يعتبر فيه أن ينجلي الكفار بعد دخول جند الإسلام دارَ الحرب، ولكن اكتفى [بالتأهب] (5) والتجهيز والحصول في المعسكر المضروب في تلقاء الكفار، وحمل هذا على ما يلقاه الظاهرون من المؤن في تجهزهم، وهذا الوجه [في] (6) نهاية الضعف. وإن قيل به، فالاقتصار على مجرد الظهور فيه بعدٌ أيضاً، ثم لا ضبط بعد ذلك، ولا وجه إلا إبطال هذا الوجه. وقد ذكر صاحب التقريب هذا الخلاف أيضاً. [فهذا] (7) تصوير الفيء.

_ (1) في الأصل: بعسكرهم. (2) في الأصل: وولونا. (3) ما بين القوسين سقط من (س). (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 441 مسألة: 1588. (5) في الأصل: الـ ـا ـث (كذا). (6) في الأصل: على. (7) في الأصل: وهذا.

7709 - ثم اختلف الأقوال في أربعة أخماس الفيء، فقال الشافعي في قول: إنها للمرتزقة خاصة، وهم الجنود المرتّبون للذب عن حَوْزة الدين، وهم أصحاب الديوان، كما سيأتي وصْفُهم، إن شاء الله تعالى. وهذا القائل يقول: كانت أربعة أخماس الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما استأثر الله به -وكان صلى الله عليه وسلم وَزَراً للمسلمين- خَلَفَه شوكةُ الإسلام وجندُه. هذا قولٌ ظاهر. والقول الثاني - أن أربعة أخماس الفيء مصروف إلى المصالح العامة، ولكن الإمام يبدأ بالأصلح فالأصلح، والأهم فالأهم، [وأهمُّ] (1) المصالح إقامة [أمور] (2) المرتزقة وكفاية مؤنهم، وتفريغ قلوبهم، وهذا موضع التوطئة، والشرحُ بين أيدينا، إن شاء الله تعالى. والقول الثالث للشافعي، نص عليه في القديم أنا نجعل (3) الفيء خمسةَ أسهم: سهم منها للمصالح، والبداية بالأهم، كما وصفناه، وأربعة أسهم لذي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل، فتحصّل إذاً [ثلاثة] (4) أقوال كما سردناها. ثم المذهب الظاهر أن الفيء يخمّس، ومصروف خُمسه ما أشرنا إليه، وفي أربعة الأخماس قولان: أحدهما - أنها ملك المرتزقة. والثاني - أنها للمصالح، والقول القديم مهجور مرجوع عنه. ثم إذا صححنا تخميس الفيء، طردنا هذا في كل ما يستفاد من كافرٍ من غير قتال، ويدخل تحته ما خلّفه الذِّمي الذي ليس له قريب خاص، ومال المرتد، والجزية، والخراج المأخوذ من أهل الجزية. وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: أن ما أخذناه من الفيء بإرعاب الكفار من غير

_ (1) في الأصل: واسم. (2) في الأصل: أولاد. (3) (س): نجعل جميع. (4) زيادة اقتضاها السياق.

لُقْيان قتال، فهو الفيء المخمّس، وما أصبناه من كافر من غير قتال ولا إرعاب، فلا يخمس أصلاً، ثم ظاهر ما ذكره (1) أنا لا نخرِّج فيه تمليك المرتزقة على القول الظاهر؛ فإنهم أهل الإرعاب، فيكون الحاصل من غير إرعاب على هذا القول مصروفاً إلى ما يصرف إليه خمس الفيء الحاصل بالإرعاب. هذا ظاهر كلام صاحب التقريب في تفريع هذا القول البعيد. وذكر الشيخ أبو علي هذا القولَ، وذكره العراقيون أيضاً. ثم إذا فرعنا على ذلك، ففي الطرق تردد في الجزية؛ من جهة [أن] (2) الكفار، وإن كانوا يبذلونها على طوعٍ، فسبب بذلهم لها استيلاءُ يد الإسلام عليهم، واستعلاء كلمة الله، فكانت الجزية حريةً أن تلتحق بالفيء الحاصل بالرعب. هذا بيان الجمل التي أردنا تصدير الكتاب بها، لتحل محل التوطئة، والتراجم، مع العلم بأن التفاصيل محالةٌ على الأبواب الآتية، إن شاء الله عز وجل. 7710 - ومما يذكر أيضاً أن الله تعالى قال في محكم كتابه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. فقال فقهاؤنا: ما كان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في يومنا هذا سهم المصالح، ولا فرق [بين] (3) سهم الله وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما يرجعان إلى سهم واحدٍ. هذا مذهب الشافعي. وذهب بعض العلماء إلى أن ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فهو مصروف إلى الإمام الأعظم؛ فإنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيخلفه فيما كان يأخذه صلى الله عليه وسلم. والشافعي حكى هذا المذهب عن بعض السلف، وردّ عليه، ولم يصح أن الخلفاء الراشدين كانوا يأخذون سهمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) (س): ما ذكرناه لا يخرج. (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: من.

ومما يتعلق بالقرآن أن ظاهره يدل في الفيء على القول البعيد المنصوص عليه في القديم، وهو أن جملة الفيء مخمّس، ولكن هذا الظاهر [مزالٌ] (1) باتفاق المعتبرين من العلماء، كما أن ظاهر القرآن أن الغانمين لا يختصون بالمغانم؛ فإنه عز من قائل قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، ولكن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} يدل على أن أربعة أخماس الغنيم للغانمين، فإنه ما استثنى من الغنيمة إلا الخمس، وأضاف الباقي إلى الغانمين، إذْ قال عز وجلّ: {غَنِمْتُمْ}. ...

_ (1) في الأصل: مراد. وفي (س): "زال".

باب الأنفال

باب الأنفال 7711 - أراد الشافعي رضي الله عنه بالأنفال الغنائم، وهي ما أصبناه بالقتال، وقاعدة الباب أن أربعة أخماسها للغانمين. ثم صدّر الشافعيُّ الباب بأسلاب [القتلى] (1)، فمذهب الشافعي أن المسلم إذا قتل كافراً في القتال، مقبلاً غيرَ مدبر؛ فإنه يستحق سلبَه، والأصل في ذلك الأخبار الصحيحة (2)، والنصوص الصريحة، كما ذكرناها في مسائل الخلاف. ثم الكلام يقع في هذا الفصل على وجوهٍ: منها - القول في السبب الذي يستحق به السلب، فنقول: سببُ استحقاق السلب قتلُ كافر مقبل على القتال إلى أن قُتل غيرَ منهزم ولا مدبر، فلو [ولى] (3) الكفارُ وركب المسلمون أقفيتهم، فمن قتَل منهم منهزماً، لم يستحق سلبه، ولو ناوش مسلمٌ قِرناً من الكفار، وطفقا يقتتلان، ثم ولى الكافر بسبب بأس المسلم وبطشه، فاتّبعه وقتله، فظاهر المذهب أن ذلك [سببٌ] (4) لاستحقاق السلب. هكذا ذكره الشيخ أبو علي. وإنما المنهزم الذي لا يستحق قاتلُه سلبَه هو الذي لم يخض في القتال [وولّى] (5)، فأما

_ (1) في الأصل: القتيل. (2) الأخبار الواردة في السلب متعددة، وفيها أكثر من حديث متفق عليه، فمنها: "من قتل قتيلاً، فله سلبه". وهو متفق عليه من حديث أبي قتادة. أخرجه البخاري: كتاب فرض الخمس، ح 3142، ومسلم: كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، ح1751، (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 223، 224، 225، الأحاديث من رقم 1475 - 1479). (3) في الأصل: ركب. (4) في الأصل: بسبب. (5) في الأصل: ووفى.

الخائض في القتال إذا كانت [هزيمته] (1) بسبب تحامل قِرنه عليه فالذي هزمه إذا قتله استحق سلبَه. وفي هذا تفصيل لا بد منه، وهو أنه إن ولّى من قِرنه، فاتّبعه رجل غيرُ من كان يبارزه وقتله، فالظاهر أن هذا القاتل لا يستحق سلبه، وكذلك من هزمه لا يستحق سلبه الآن؛ إذْ قتله غيره. والهزيمة هي مفارقة المعترك مع الاستمرار على الفرار، [وأما التردد بين الميمنة والميسرة] (2) والقلب، فليس ذلك من الهزيمة، (3 وسنصف الهزيمة 3) وحكمَها في حق المسلمين، و [كذلك نصوّر الهزيمة وحقيقتَها] (4) إذا فرضت من الكفار، إن شاء الله تعالى. 7712 - [ومن] (5) أسباب استحقاق السلب أن يثخن المسلمُ الكافرَ، ويُذهبَ بطشَه ومنعَتَه، فإذا فعل ذلك المسلمُ، استحق سلبَ ذلك الكافِر المثخن، فلو قتله قاتلٌ [وقد] (6) أثخنه أولاً مثخنٌ، فالسلب للمثخِن، لم [يختلف فيه] (7) علماؤنا؛ فإن المقصود إثخانه وإبطال بطشه، [وقد] (8) حصل بالأول. فإن قيل: أليس روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل قتيلاً فله سلبه" فعلق استحقاق السلب بالقتل؟ قلنا: هذا ينزل على غالب العرف، والغالب أن القاتل هو الجارح أو المذفِّف (9) ابتداء، فاتجه تنزيل الخطاب عليه.

_ (1) في الأصل: هزيمة. (2) في الأصل: فأما التردد بين اليمنة واليسرة. (3) ما بين القوسين سقط من (س). (4) في الأصل: "وعد ذلك قصور الهزيمة في حقها" وفي (س): "وغير ذلك نتصور الهزيمة وحقيقتها" والمثبت تصرّف منا. (5) زيادة من (س). (6) في الأصل: فقد. (7) في الأصل: يخلف إليه. (8) في الأصل: فقد. (9) المدفف: من دفَّ عليه يدف (من باب قتل)، ودفَّف تدفيفاً: إذا أجهز عليه وجرحه جرحاً يوحي بالموت. وهي بالمهملة والمعجمة. (المعجم والمصباح).

والدليل الخاص في ذلك ما روي أن شابَّين من الأنصار أثخنا أبا جهل يوم بدرٍ وقَطَراه (1) من فرسه، ثم صادفه ابنُ مسعود مثخناً فجثم على صدره، فناطقه أبو جهل، وأجاب ابنُ مسعود، وطال تحاورهما، ثم احتزَّ (2) ابنُ مسعود رأسه، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه الشابين، ولم يعط ابنَ مسعود منه شيئاً (3)، فصار ذلك نصّاً، وحسن معه حمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المعتاد، كما تقدم ذكره. ولو قطع المسلم يدي قِرنه، وترك رجليه، أو قطع رجليه وترك يديه، فقد [ذكر] (4) العراقيون اختلاف نصٍّ أن هذا هل يكون إثخاناً، وأن ذلك لو صدر من مسلم، ثم جاء مسلم آخر [وأجهزه] (5)، فالسلب لمن؟ وأجْرَوْا القولين في ذلك: أحدهما - أن السلب للأول؛ فإنه أزمنه وأبطل قوّته ومُنَّته. والثاني - أن السلب للمجهِز، فإنه قد يبقى (6) فيه بعد قطع اليدين قتالٌ بسبب رجليه، وقد يعْدُو، فيجلب الكفار على المسلمين. وإن بقيت يداه، فقد يبطش بهما.

_ (1) قطراه من فرسه: ألقياه عنه، يقال: قطر فلاناً: أي صرعه، وقطره فرسُه: ألقاه على أحد قُطريه (جانبيه) (المعجم). (2) احتزّ: يقال: احتزّ السياف رأسه، قطعها (المعجم). (3) قصة مقتل أبي جهل وسلبه، واردة في الصحيحين، أثخنه معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وجاءا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منهما يقول: أنا قتلتُه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سيفيهما، وقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. (ر. البخاري: كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب، ح 3141، 3964، 3988، ومسلم: كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، ح 1752)، وانظر أيضاً (التلخيص: 3/ 223، 224 ح 1477). (4) في الأصل: حل. (5) في الأصل: وأخره. (6) (س): بقي.

وقد ذكر الشيخ أبو علي هذين القولين في الصورة التي ذكروها كما ذكروها، وزاد طريقةً أخرى، فقال: من أصحابنا من قال: ليست المسألة على قولين، بل هي على حالين، فحيث قال: السلب للثاني أراد بذلك إذا لم يسقط [قتاله] (1) لقطع يديه أو رجليه، وحيث قال: السلب للأول أراد به إذا أزمنه بحيث لم يبق فيه قتال. وهذه الطريقة هي الصحيحة التي لا يجوز غيرُها؛ فإن الإزمان [يختلف] (2) باختلاف الأشخاص، فرب رجل ليس بالأيِّد البالغ في القوة وإذا قطعت منه يد واحدة ينزف دمه بذلك، ويصير مثخناً، لا حراك [به] (3)، وسقوطُ القوّة على قدر بنية القلب وقوته وضعفه، ورب رجل ذي مِرّة لا تسقط قوته بقطع يديه. ولا يتضح المقصود من هذا الفصل إلا بمزيدٍ، فنقول: الكافر إذا أصابته ضربة، فسقط، ولم يبق فيه بقية يدافع بها، ولكن لو ترك، لثابت إليه نفسُه وآبت إليه مُنّته، ولكنه في الحال لا يبطش، ولا يُغنى غناءً، فالذي أراه أن هذا ليس بإثخان؛ فإنه لو ترك، لعاد كما كان حَنِقاً متغيظاً. ولو جرح الكافر جرحاً لم يمنعه من القتال في الحال، ولكنا علمنا أنه لو ترك لأهلكته الجراحات بعد أيام، فهو في الحال ليس بمثخن. 7713 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن المسلم إذا أسَر واحداً من الكفار وجاء به مأسوراً، فالظاهر أن ما عليه مِن سلبٍ لآسره؛ فإن إثبات اليد القاهرة عليه تحل محل الإثخان، فإن حكم يد الإسلام على الأسرى يُبتنى على استمرار الأسر. هذا قولنا فيما كان معه، فلو [أرقّه] (4) صاحبُ الأمر، ففي ملك رقبته كلامٌ سأذكره في الفصل الثاني. 7714 - [وهذا] (5) تفصيل القول في السلب، فأقول: كل ما يتصل بالكافر القتيل

_ (1) في الأصل: فقاله. (2) في الأصل: مختلف. (3) في الأصل: فيه. (4) في الأصل: أرقد. (5) في النسختين: وهو.

من سلاح أو جُنّة يُدرأ بها السلاح، فهو من سَلَبه، يُصرَف إلى قاتله، وسيفُه [ورُمحه] (1)، وما تبعه من أسلحته ودابّته التي هي عتادُه الاكبر، كل ذلك سلَبُه، وثيابُ بدنه التي هو لابسها من سلبه؛ فإنها متصلة به، وهو حاملها، ويمكن إلحاقها بالجُنن؛ [فإن لكل] (2) ملبوس وإن رقّ وخفَّ أثراً في الدفع، وإن لم نُحسّ أثره في الدفع، فالثياب الخشنة الدافعة لو باشرت [البشرة] (3)، أضرّت به، والقُمُص تحتها تهوّن محملها، فالقول الضابط في ذلك: أن [كل] (4) ما اجتمع فيه الحمل، وكونه سلاحاً أو [جُنة، فكونه] (5) سلباً لا شك فيه. والسلاح الذي يحمله الفرس كالسلاح الذي يحمله الفارس، [فالسيف] (6) تحت الركاب، كالسيف الذي يتقلده الفارس، والرمح الذي يعتقله ويتأبطه كالرمح المنصوب على الفرس. 7715 - وإن كان على وسط الكافر [هميان] (7) فيه شيء، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه من السلَب؛ لأن الكافرَ حامله. والثاني - أنه ليس من السلب، بل هو مغنم مشترك، لأنه ليس سلاحاً ولا جُنّة، وليس آلةً للقتال، ولا عُدّة للدفع، وليس من الملبوسات أيضاً. واختلف أئمتنا في أن الكافر لو كان على فرسٍ، وكان يُجنب آخر كالجنيبة (8) هل تعد من السلب؟ فيه وجهان: أحدهما - أنها ليست من السَّلَب؛ لأنها ليست متصلة

_ (1) في الأصل: وربحه. (2) زيادة من (س). (3) في الأصل: العشرة. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: جه فهو سلب. (6) في الأصل: والسيف. (7) في الأصل: هيمان. والهميان كيس يجعل فيه النفقة ويشد على الوسط. وهو معرّبٌ دخيل. قاله الأزهري (المصباح). (8) الجنيبة: الفرس تقاد ولا تركب (المصباح).

بالكافر اتصالاً يتأتى الاستعمالُ به، فكانت [الجنيبة] (1) بمثابة الصبي والرَّحْل الذي يكون مع الكافر. والثاني أنها من السلب؛ فإن الجنيبة مع الفرس المركوب بمثابة سيفٍ تحت الركاب، وآخرَ متقلدٍ، والعادة جارية بالاستظهار بالجنايب، وأجرى الأصحاب الوجهين في الهميان والجَنيبة مجرى واحداً؛ فإن في الهميان صورة الاتصال والحمل، وإن لم يكن من الجُنَن والأسلحة، وفي الجنيبة حكم الأعتاد (2) على الاعتياد، وإن لم يكن متصلاً بالفارس في الحال، فاعتدلا من هذا الوجه. 7716 - وظهر خلاف أصحابنا في الخاتم؛ لأنه ليس جُنّة، ولا آلة دفع، لكنه ملبوس محمول، فكان من وجهٍ كالهميان لاتصاله، وكان من وجه أخص بالكافر لأنه ملبوس يعتاد لبسه، واحتمال الهميان مما يندر جريانه، وقد يفرضُ الهميان دافعاً إذا كان فيه شيء، فإنه يدفع الأسلحة ويقي الموضع المستورَ به. ولو كان على الكافر طوْقٌ من ذهب أو فضة، فإن كان قد يستعمل مثله وقاية للرقبة، فهو من الأسلحة، ولا نظر إلى الجنس، فإن المِغفر من الحديد من السلب، فلو كان من أحد التبرين، فهو من السلب أيضاً، وإن كان ذلك الطوق [لا يستعمل] (3) إلا زينةً، فقد ذكر العراقيون فيه وجهين وقربوهما من الخلاف في [الخاتم] (4) وهذا ليس على وجهه؛ فإن الطوق لا بد وأن يكون واقياً لما يستره، وأثره في الوقاية بيِّنٌ، لا حاجة إلى تقريره. 7717 - ولو كان الكافر يقاتل راجلاً، وهو مستمسك بفرسه، فالفرس من سلبه. هكذا قال الأصحاب، ولا يمتنع عندنا إذا تُصوّر ذلك أن نجعل ذلك الفرسَ كالجنيبة، ويظهر الفرق من جهة أن الفارس في حكم [المستغني] (5) في حاله عن

_ (1) في الأصل: الحفية. (2) ساقطة من (س). (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: الحكم. (5) في الأصل: المستعير.

الجنيبة (1) بالفرس الذي هو مركوبه [والمترجل] (2) المستمسك بالفرس ليس [مستغنياً] (3) بشيء من جنس الفرس. ولو كان معه غلامٌ، فليس من السلب، ولو كان الغلام حاملاً سلاحه يناوله متى شاء، فيجوز أن [يقال] (4) ذلك السلاح بمثابة الفرس المجنوب، ويجوز أن يقال: لا يكون ذلك السلاح من السلب، وإذا جعلنا الجنيبة سلباً، ففي السلاح الذي على الجنيبة ترددٌ ظاهر. 7718 - والفرس الذي هو راكبه [مع ما] (5) عليه من سرج ومركب [كله] (6) من السلب فيما قطع به الأئمة المراوزة. وكان شيخي يقطع [بأن] (7) المِنْطقة (8) من السلب وجهاً واحداً، وذكر العراقيون في المِنطقة خلافاً، وهذا بعيد، ثم يليق بهم أن يلحقوا مركب (9) الفرس بالمنطقة، ويجوز أن يفصِّلوا ويقولوا: [لا] (10) يتأتى استعمال الفرس دون المركب؛ فهو مما لا بد منه، بخلاف المِنطقة [ويتجه] (11) على قياسهم أن يلحقوا ما لا يُحتاج إليه من

_ (1) عبارة (س) مضطربة: في حكم المستغني في حاله عن كالجنيبة عن بالفرس الذي. (2) في الأصل: والمرجل. (3) في النسختين: مستعملاً. (4) في الأصل: "يكون". (5) في الأصل: مما عليه. (6) في الأصل: كل. (7) في الأصل: في أن. (8) المنطقة: اسمٌ لما يسميه الناس الحياصة، (والأصل الحواصة) وهي سيرٌ يشد به حزام السرج (القاموس المحيط والمصباح). (9) مركب الفرس: المراد به (الركابان) والركابان هما ما يُدخل الفارس فيهما رجليه، وجمعها (ركُب) بضمتين. (ر. صفة السرج واللجام، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي: 60، 61). (10) في الأصل: لولا. (11) في الأصل: وينحو.

المركب بالمِنطقة، كالغُّرة (1) من اللجام، وأحذ [اللببين] (2)، والكفاية حاصلة بواحدة، وكذلك ما يتعلق [بالزينة] (3) كالأطراف [المفضّضة] (4) من المعاليق (5) ونحوها. وكل هذا خروج عن الأصل المعتبر، والوجه أن تعد جملة ملابس الفارس وملابس فرسه كيف فرض الأمر فيها من السلَب. 7719 - ولو قيل: هلا قلتم: السلبُ كلّ ما يسلب من الكافر، مما لا يتأتى سلبه إلا بقتله أو إثخانه؛ فإن السّلَب من السَّلْب؟ قلنا: لا يطرد هذا مع قطع الأصحاب بأن الكافر لو كان على فرسه عَيْبةٌ فيها ثياب ونفقة، أو على الجنيبة عيبة، فالعيبة بما فيها مغنم مشترك، وليس من السلب؛ فإنه ليس سلاحاً، ولا ملبوساً، فإذا كان هذا قولنا في العيبة فمخيَّمه وما فيه من رحله مغنمٌ لا شك فيه. 7720 - ولو كان معه فرسان يجنبهما، فالخلاف في واحد منهما؛ [فإنا] (6) لو جعلنا الفرسين المجنوبين سلَباً، [التزمنا] (7) ذلك في الثلاثة والأربعة فصاعداً، وإن كان يُسند الأمر في هذا إلى العادة، فليس وراء الجنيبة الواحدة عادة بها اعتبار، وإذا كان كذلك ووقع التفريع على أن السلب إحدى الجنيبين، فكيف سبيل التعيين؟ وما الوجه؟ هذا مشكلٌ محتمل، والغرض قد يتفاوت [بتفاوت] (8) الفرسين. هذا

_ (1) الغرّة: المراد بها غرة اللجام، وهي من زينته وتحليته. (2) اللببين: اللبب ما يشد على صدر الدابة، ليمنع تأخر الرحل والسرج، وهو يقع على لبان الفرس. وهو في الأصل سير واحد، ولببٌ واحد، فإذا كان من سيرين سمي الأول اللبب، والثاني (الكانف) فالتثنية هنا من باب التغليب. (السابق نفسه). (3) في الأصل: بالعر ـ ـه (كذا) تماماً بهذا الرسم. (4) في الأصل: المصصعه (كذا) تماماً. (5) المعاليق: هي السيور التي تكون في الخُروق التي في مؤخر الدفتين، والدفتان هما جانبا السرج مما يلي لحم باطن فخذي الفارس، فالمعاليق هي من نسيج السرج وزينته في الوقت نفسه. (ر. صفة السرج واللجام، لابن دريد: 48، 55). (6) في الأصل: فأما. (7) في الأصل: لالتبس فيها ذلك. (8) زيادة من (س).

[مقامٌ قد] (1) يخطر للفقيه فيه القرعة؛ فإن الفرس الذي تخرج القرعة عليه وإن شرف قدرُه لو صور وحده، لأخذه سلباً، فلا يظهر مع هذا تفاوت القيم. ويجوز أن يقال: هذا إلى الوالي، وصاحب [الرأي] (2) أَخْذاً من مِلْكه التنفيل، كما سنذكره بعد هذا، ثم لا يقع تنفيل الإمام على حسب الوفاق، ولكنه ينظر إلى الحال والشخص، والغَنَاء، وكذلك يرى رأيه في تعيين الفرس، ويبني الأمر على مقتضى الاجتهاد. وهذا [أوْجه] (3) من القرعة. وقد يخطر للفقيه تخيير القاتل؛ فإن مبنى استحقاقه السلبَ على الاختصاص [لما] (4) أبلاه من البلاء وأبداه من الغَناء، فلا يبعد أن يستحق السلبَ المتعيَّنَ وتعيينَ السلب. وما ذكرناه من تخصيص الخلاف [بالجنيبة] (5) الواحدة، وقد (6) يتحامل المصور (7)، فيفرض جنيبين، وهذا يعتضد تصويره باعتياد [جُندٍ] (8) من الكفار ذلك، والدورانُ على العادة في محل الوفاق والخلاف. ثم لا بدّ -وإن قدَّرنا خلافاً في الجنيبين- من الرجوع [إلى] (9) العادة، ثم يُفضي الأمر إلى الإشكال الذي ذكرناه. وإذا زاد العدد على العادة، والفارس إن احتمل من السلاح أكثر من العادة، فالزائد على العادة محمول وليس سلاحاً مستعملاً، وهو [يقرب] (10) من الهميان، كما تقدم،

_ (1) في النسختين: هذا مقام وقد يخطر للفقيه ... (بزيادة الواو). (2) في الأصل: الدابة. (3) في الأصل: الوجه. (4) في الأصل: بما. (5) في الأصل: فالجنيبة. (6) (س): قد يتحاول. (7) في الأصل: من المصور. (8) في الأصل: خيل. (9) زيادة من (س). (10) في الأصل: مقرب.

ثم يؤول الكلام إن جعلنا البعض سلباً إلى [التعيين] (1) وفيه التفصيل المقدم. 7721 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن من أسر كافراً، فأرقّه الإمام، ففي رقبته وجهان مشهوران: أوجههما - أنها لآسره؛ فإن رقبته أخص من سلاحه وثيابه. ومن أصحابنا من قال: رقبتُه مغنمٌ؛ فإن الرق جرى فيه بعد الأسر. ومما يتعلق بهذا أن الإمام لو رأى قتلَ الأسير، فلا معترض عليه، وليس للآسر أن يحتكم على صاحب الأمر بالإرقاق، ولا يغرم الإمام شيئاً للآسر، وإن قلنا: لو أرقه، لكان الملك في الرقبة للآسر (2)؛ لأن قتل الإمام على حكم الاستصواب نازلٌ منزلة قتل الواحد من المسلمين قِرنه، فإنّ قتله [واقع] (3) بحق، فليفهم الناظر ذلك. وكذلك لو منَّ عليه، فلا معترض، ولا غرم. ولو فاداه، فله المفاداة، ثم المال المأخوذ من مفاداته فيه احتمال على الخلاف المذكور في رقبته إذا أرقّه الإمام، والأظهر أنه ليس للآسر مالُ المفاداة؛ فإنه ليس سلباً، ولا هو عين المأسور. والله أعلم. هذا تمام القول فيما يُعدّ (4) من السلب، ويلتحق به، وفيما يخرج منه. 7722 - ومما يتعلق بالسلب القولُ في صفة السالب القاتل: اختلف أئمتنا في أن من ليس (5) من أهل السهم وكان من أهل الرضخ، كالصبيان والنسوان والعبيد إذا جرى منهم قتلٌ، فهل يتعلق به استحقاق السلب؟ فمنهم من قال: يتعلق به استحقاق السلب؛ تعلقاً بظاهر قوله عليه السلام: "من قتل قتيلاً، فله سلبه". ومنهم من قال: لا يستحق السلب إلا مَن هو من أهل استحقاق السهم في المغنم؛

_ (1) في الأصل: التعين. (2) (س): للأسير. (3) زيادة من (س). (4) (س): يتعلّق. (5) عبارة (س): في أن من يكون من أهل الرضخ.

فإن السلب واستحقاقه يتعلقان بكمالٍ في حال من هو من أهل القتال، فإذا قصر الشخص عن استحقاق السهم، كان بأن يقصر عن استحقاق السلب أولى. وقد يعترض ها هنا احتمال في الطرف الآخر، وهو أن المسلم لو قتل صبياً من الكفار مراهقاً كان يقاتل، أو امرأة كانت تقاتل، ففي استحقاق سلبه احتمال؛ فإنه ليس من أهل القتال. ولو قتل عبداً منهم، استحق (1) سلبه بلا خلاف؛ فإن ما يَلْقى من قتل عبد مثل ما يَلْقى من قتل حر، فإن عورضنا في هذا بأن قتال العبد منا كقتال الحر، قلنا: هو كذلك، ولكن الشرع لم يعلق به السهم، فترددنا في السلب. 7723 - ومما يتعلق بالسلب، وهو تمامه وختامه، القول في أن السلب هل يخمس [ومن أين يؤخذ؟ وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال قائلون: لا يخمس] (2) السلب، بل تُنحَّى أسلاب القتلى، ويُقضى بفوز القاتلين [بها. هذا] (3) ظاهر الأخبار الدالة على [اختصاص] (4) القاتلين بأسلاب القتلى، وأيضاً إذا كان يختص القاتل بالسلب عن الغانمين، جاز أن يختص به عن أصحاب الخمس. والوجه الثاني - أن السلب يخمّس؛ فإن اختصاص القاتل بسلب القتيل كاختصاص الغانمين بالمغنم، [فالقاتل] (5) في السلب كأنه الجُنْد كله فيه، ثم الخمس زاحم حقوقَ الغانمين، وكان يليق بطريق الرأي ألا يثبت الخمس إلا في الفيء، فلما لم يكن كذلك، دلّ على أن الخمس يتعلق بكل مغنوم.

_ (1) عبارة (س): ولو قتل عبداً منهم لا خلاف أنه يستحق سلبه. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه من (س). (3) في الأصل: بهذا، وهذا ظاهر ... (4) في الأصل: إخلاص. (5) في الأصل: والقاتل.

فصل قال: "والنفل من وجهٍ آخر، نفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنيمةٍ ... إلى آخره" (1). 7724 - معنى الفصل أن الإمام لو رأى أن يحرّض سرية من السرايا على اقتحام مخاوف، نفّلهم مقداراً مما يأخذون على خلاف ما يقتضيه اعتدال القسمة، مثل أن يقول لسريةٍ رأى اقتطاعَها عن كُثْر (2) الجند: نفّلتكم الربعَ، بحيث لا يخمس عليكم، هذا جائز للإمام. ذكر الشافعي البدْأةَ والرجعة، والمراد بالتنفل في البدأة أن يخصص سريةً تَقْدُم الجندَ وتُوغِل في العدو مبتدئة، هذا هو البدأة. والرجعة [أن] (3) تنجرّ الراية وكُثْرُ الجُند متوجهةً إلى بلاد الإسلام، فيقتطع الإمام سريةً ويكلفُهم أن يرجعوا على أدراجهم، ويغتالوا طائفةً من الكفار، أو يهجموا على قلعة، أو يرجعوا لغرضٍ سوى ما ذكرناه، وهذا يشتدُّ عليهم، وهو الرجعة، ثم [التنفيل] (4) في البدأة من وجهٍ قد يكون أقلّ؛ فإن السرية لم تلق بعدُ [قتالاً] (5)، والجند من ورائهم، وهم فئتُهم ووزرُهم. (6 وإذا كُلِّفوا الرجعة 6) وقد عضّهم السلاح وفشا فيهم الجراح، والجند مشرِّقٌ، وهم مغرّبون، فهذا يكون أشقَّ عليهم. وقد يكون الأمر على العكس، بأن نقدّر الكفار على أُهَبهم في الابتداء، فيعظم مصادمتُهم، ويقدّرون [مفلولين] (7) في الانتهاء، فتسهل الكرة عليهم.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 187. (2) كُثْر الجند: معظمهم وعامتهم (معجم). (3) زيادة من (س). (4) في الأصل: السبيل. (5) غير مقروءة في الأصل، هكذا: ـ ـالا (انظر صورتها). (6) ما بين القوسين ساقط من (س). (7) في الأصل: "معلولين". ومفلولين يقال: فللتُ الجيش فلاً من باب قتل، فانفلّ: كسرته، فانكسر (مصباح).

والنظر في ذلك إلى الإمام، والأحوالُ على التباسٍ، فإن رأى التسوية بين التنفيل في البدأة والتنفيل في الرجعة، سوى بينهما، وإن رأى أن يجعلهما متفاوتين، فلا معترض عليه، ثم له أن يجعل ما في البدأة أكثر مما في الرجعة، وله عكس ذلك، والسبب فيه أنه لم يَرد في ذلك توقيف شرعي، نقف عنده؛ فكان الأمر مفوضاً إلى الرأي والاجتهاد. ولو صح في بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفَّل على قدرٍ [في] (1) البدأة والرجعة، فليس ذلك -إن صح- تقديراً، وإنما هو حكم الوفاق. ثم لا يحتكم صاحب الأمر بهذا؛ فإنّ التحكم بالتفضيل في المال، والحرمان [منه] (2) غيرُ سائغ، والمال إذا تعلق الأمر فيه بالزيادة والنقصان، والأثرة والحرمان خطر في الاجتهاد. 7725 - ثم إذا تبين جواز التفضيل في [التنفيل] (3)، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: إذا خصص الإمام قوماً بشيء، فنجبر ذلك النقصانَ للجند، ويكون جبران النقصان من خمس الخمس المرصد المصالح، وهؤلاء يرون هذا الجبران حتماً، وحكماً متبعاً لا يُتعدى، ثم يردّون الأمر إلى اختيار الإمام من وجهٍ، ويقولون: إن شاء الإمام -وقد نفّلَهم الربعَ، أو ما رأى- جاء بهذا القدر من سهم المصالح (4)، ولم يخصص المتنفِّلين المفضلين بأعيان ما أَتوْا به، وإن أحب، فضّلهم بذلك القدر من أعيان ما أصابوه، ثم غرم لباقي الجند مقدارَ التفضيل من سهم المصالح، وهذا القدر لا معترض فيه. هذا قولنا. ومن أصحابنا من ذكر قولاً آخر: إن التفضيل في التنفيل جائزٌ للإمام، من غير أن

_ (1) سقطت من الأصل. (2) في النسختين: فيه. (3) في الأصل: السبيل. (4) جاء بهذا القدر من سهم المصالح: المعنى أنه لا يترك لهم أعيان ما أخذوه من العدو، بل يعطيهم بدلاً منه من سهم المصالح، كما سيتضح من العبارة التالية.

يجبر ذلك النقصان [لكُثْر] (1) الجند، فيخصص على حسب النظر في التنفيل، ثم لا يحتسب ذلك عليهم، بل يفوزون به فوْز القاتلين بأسلاب [قتلاهم] (2) من غير جبران. وهذا القائل يقول: لا يخفى مسيس الحاجة إلى مثل ذلك في سياسة الحروب، وقد ورد فيه التفضيل في التنفيل، ولم يرد جبران النقصان، فإذا وجدنا التنفيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وألفيناه موافقاً لوجه الرأي، [اتخذناه] (3) إمامَنا. هذا قولنا في تنفيل السرية في البدأة والرجعة. 7726 - ومن [أسرار] (4) المذهب في هذا أن الإمام لو لم يتعرض لهذا عند انبعاث السرية، ولكنهم لما أصابوا ما أصابوا أراد أن يخصصهم تفضيلاً وتنفيلاً ببعض ما أصابوه، فظاهر كلام الأصحاب أن هذا ممتنع بعد الإصابة والإحراز، وإنما يسوغ التفضيل والتنفيل قبل إصابة المغنم. وسبب هذا أنهم إنما [يُفضَّلون] (5) ليحرصوا على الامتداد في الصوب الذي يراه الإمام. ثم القول في ذلك معتضدٌ بالخبر (6)، وهو وارد في اشتراط التفضيل عند ابتداء البعث.

_ (1) في الأصل: أكثر، و (س): لأكثر. والمثبت تصرف من المحقق. وكُثْر الجند: معظمه، والمراد هنا باقي الجند. (2) في الأصل: قتالهم. (3) في الأصل: اتخذناها. (4) في الأصل: أسر المذهب. (5) في الأصل: ينفصلون. (6) يشير إلى حديث عبادة بن الصامت عند الترمذي، أنه صلى الله عليه وسلم نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث. قال الترمذي: وحديث عبادة حديث حسن. وفي الباب عن ابن عباس، وحبيب بن مسلمة، ومعن بن يزيد، وابن عمر وسلمة بن الأكوع. ا. هـ بنصه من جامع الترمذي. ورواه أبو داود عن حبيب بن مسلمة (ر. الترمذي: ح 1561، وأبو داود: ح 2748، 2749، 2750، وانظر أيضاً تلخيص الحبير: 3/ 221 ح 1471).

فهذا ما وجدناه، ويتأيد ما ذكرناه بطرفٍ من المعنى؛ فإنهم إذا أحرزوا والجندُ وزرُهم ومرجعُهم، والغوث قريب منهم، فقد تعلق حق الجميع بما [حصّلوه] (1)، فالتخصيص بعد تعلق حق الكافة مخالف (2) للتفضيل والتنفيل قبل (3) التحصيل. 7727 - ومما اختلف الأصحاب فيه أن الإمام لو رأى في مصلحة القتال أن يقول للأبطال، أو الجند عامة: من أخذ مالاً، فهو له لا يزاحَم فيه، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يجوز؛ فإن هذا تخصيص مخالفٌ لوضع الشرع [في] (4) تعديل القسمة، ولم يرد فيه ثَبَت. ومِنْ أصحابنا من جوز هذا؛ بناء على التفضيل في (5) التنفيل في البدأة والرجعة، وهو متَّجِه في طريق الإيالة (6)، وله نظير في مورد الشرع، وهو اختصاص القاتلين بالأسلاب. ومن قال بالأول، انفصل عن هذا [بأن] (7) قال: التخصيص (8) بالسلب سببه بيّن؛ فإن نهاية البلاء الحسن والغَناء قتلُ الكفار، فأما الاشتغال بأخذ الأموال في حال قيام القتال، فمن الأسباب الحائدة عن وجه الرأي، ومن أعظم المكائد في الحروب أن يخلِّي الكفارُ الأموالَ (9) على رجالنا حتى ينكبّوا على التنافس فيها، ثم إنهم يعكرُون عكْرةً (10)، ويرون ذلك خداعاً وغِرّة، هذا بيّن ظاهر في غالب الأمر. ثم إن لم نجوّز ما ذكرناه، فلا كلام، وإن جوزناه، فهو بمثابة التنفيل

_ (1) في الأصل: فصلوه. (2) في الأصل: تعبد مخالف. (3) (س): سقط منها: قبل التحصيل. (4) في الأصل: من. (5) (س): على التفضيل في البدأة والرجعة. (6) (س): الإماية. (7) في الأصل: فإن. (8) (س): بأن التحصيص بالسلب سببٌ. (9) في الأصل: والأموال. (10) يعكرُون عكرة: من باب قتل: أي يرجعون ويكرون كرّة. (معجم ومصباح).

[الذي] (1) سبق شرحه، ويؤول الخلاف في وجوب الجبران من خمس الخمس، كما تقدم في ابتداء الفصل. وإذا حيزت الغنائم، فمقتضى كلام الأصحاب أن التفضيل بعد حيازة المغانم غيرُ سائغ، وإنما هذا التردد قبل الحيازة. والله أعلم. هذا منتهى القول في ذلك. 7728 - ولو مست الحاجة إلى [ترجّل] (2) الفرسان، وكان يشتد القتال على الرّجّالة، ويهون على الفرسان، فأراد الإمام -والحالة هذه- أن يسوّي بين الرجّالة والفرسان، أو أراد تفضيل الرّجالة على حسب الرأي، [فهذا لا مساغ] (3) له؛ فإنه هجوم على مخالفة الوضع (4) في القسمة من غير تعلّقٍ بمستند من توقيفِ الشارع، وقد أجمع علماؤنا على أن تفضيل الفرسان على الرجّالة من التوقيفات المتبعة، وليست محمولةً على وجه الاستصواب، وهو بمثابة ما لو خصص الإمام بمزيد في المغنم الذين يباشرون القتال، وهذا لا يجوز، وما ذكرناه من تخصيصه كلَّ من يأخذ بما يأخذ على بُعده [مشبه] (5) بالسلب، فإذا لم نجد معتصماً شرعياً، فلا سبيل إلى تسليط وجوه [التأتي] (6) على [تغيير] (7) وضع الشرع في تعديل القسمة. 7729 - ومما يتعلق بالفصل أنه لو جعل للسرية المبعوثة كلَّ ما غنمت وأصابت، فهذا مما تردد الأصحاب فيه، من جهة مخالفته للأثر والتوقيف، وإفضائه إلى الميل بالكلية عن تعديل القسمة.

_ (1) في الأصل: الذين. (2) في الأصل: توجل. (3) في الأصل: وهذا لا يساغ، وفي (س): فهذا الامتناع. والمثبت تصرف من المحقق. (4) (س): مخالفة وضع القسمة. (5) في الأصل: منيّة (كذا). (6) التأتي: الترفق في الأمر، والتبصّر به حتى يأتيه من وجهه (معجم). ثم هي في الأصل: "الثاني". (7) في الأصل: تعيين.

وما ذكرناه حقه أن يُرتب على ما لو قال: من أخذ شيئاً، فهو له؛ فإن التنفيل في البدأة والرجعة في جميع ما أصابه المبعوثون أمثل من إطلاق القول بأن (1) كل من أصاب شيئاً، فهو له. وقد تمهد في مسلك المذهب أنا لا نحكِّم وجهَ الرأي في جميع المسائل، ولكن إن وجدنا في التنفيل أصلاً في التوقيف، اتبعناه، ثم تصرّفنا قليلاً في المقدار، فإن لم نجد أصلاً في التوقيف، ولم يستدّ (2) لنا قياس شبهي، وجب اتباع القواعد في تعديل القسمة، وامتنع التفضيلُ وإن وافق الرأيَ. وإن وجدنا قياساً شبهياً [كما (3) ذكرناه في تشبيه] ما يصيب كل رجل بالسلب، فهو على التردد، والزيادة على الربع والثلث مأخوذة من مسألة إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه لكونه في معناه، كإلحاقنا الأمة بالعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركاً له في عبدٍ قُوِّم عليه" وإذا وقع التنفيل في مقدار النصف، فهو مقطوع به جوازاً، وإن وقع في معظم ما يصيبه المبعوثون، فيحتمل تخريجه على الخلاف، وتنزيله منزلة ما لو [خصصهم] (4) بجميع ما يصيبونه، ثم حيث جوزنا التفضيل، ففي وجوب الجبران من سهم المصالح ما قد تمهد من الخلاف. هذا منتهى القول في ذلك. ...

_ (1) (س): أمثل من القول بل كل من أصاب. (2) يستدّ: أي يستقيم. وفي (س): يستبن. (3) (س): قياساً شبهياً في جميع ما يصيبه كل رجل ... (4) في الأصل: خصصه.

باب تفريق القسم

باب تفريق القسم قال الشافعي رضي الله عنه: "كل ما حصل ممّا غُنم من أهل دار الحرب، من شيء قلّ أوكثر ... الفصل" (1). 7730 - مسائل هذا الكتاب كثيرة الوقوع في مسائل السير، والأصحاب يخلطون الأبواب بالأبواب، وهذا يجرّ إلى التكرار، وإلى التعطيل، فالذي نراه أن نتخذ منصوصات المختصر إمامَنا، وما يقع وراءها، ولا يتصل بها، فهو محالٌ على أبواب السير، وبالجملة القدر اللائق بهذا الكتاب الكلامُ في كيفية القسمة، وأقدارها، والكلام في صفات المستحقين، فأما ما عدا ذلك، فحقه أن نذكره في كتاب السِّير. 7731 - فنبتدىء، ونقول: كل ما أصابه الغانمون من منقولٍ أو عقارٍ تحقق الاستيلاء عليه، أو وقع في أيديهم من الذراري والنسوان [فسبيل ذلك التخميس، والقسمةُ بين الغانمين. والذراري والنسوانُ] (2) يَرِقّون بنفس الوقوع في القبضة، وينزلون منزلة الأموال المغنومة، ولا يخفى أن ما ذكرناه فيه إذا تمت الحيازة، وولّى الكفار، فأما ما دامت الحرب قائمة، وكنا نصيب منهم ويصيبون منا، وقد يستردّون ما نُصيبه، فلو اتفق وقوع شيء في أيدينا، ثم استردوه قبل انكشاف القتال (3)، فلا نقول: ملكنا ما أخذنا ثم أخذوه من أملاكنا قهراً، حتى يكون سبيله كسبيل ما يأخذون من أموالنا، بل إذا استردوا، وانفصل الأمر، وانجلى القتال بعد ذلك، فلا ملك لنا فيما استردوه، وكذلك القول فيما يستردون من الذراري والنسوان، لا نجعلهم مقرّين ...

_ (1) ر. المختصر: 3/ 188. (2) زيادة من (س). (3) عبارة (س): قبل انكشاف القتال، فالقول فيه، فلا نقول ...

على حكم الرق بمثابة عبيد المسلمين، والغرض [أنا] (1) لا نثبت الملك عليهم حتى ينفصل القتال. وما نصيبه من مجانينهم، فهو بمثابة نسائهم وذراريهم. هذا قولنا في هؤلاء. فأما رجال القتال من الكفار الأحرار إذا أسروا، وثبت الاستيلاء، فهؤلاء لا يَرِقون بنفس الأسر وفاقاً، ولكن الإمام يتخير فيهم بين أربع خلال، لا معترض عليه في شيء منها: فإن أراد أن يضرب رقابهم، فعل ذلك [على حسب الرأي، ولا خيرة على حكم الإمام] (2) وإن أراد أن يمنّ عليهم، ويطلقهم، فله ذلك، و [إن] (3) أراد أن يفاديهم، فله ذلك، وإن أراد أن يضرب الرق عليهم، فعل ذلك، ولا معترض عليه، وهو مأمور بينه وبين الله تعالى بأن لا يبني ما يختاره على [الإرادة] (4) المحضة، بل حقٌّ عليه أن يتبع وجهَ الرأي في تعيين قسم من هذه الأقسام، وله أن يقضي الأمر فيهم بهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام. 7732 - ثم إن أرقهم، نُظر فإن كان انفرد بأسرهم آحادُ الرجال، ففي اختصاصهم تملك الرقاب الخلافُ [المشهور] (5) الذي ذكرته في فصل السلَب. وإن اتفق الأسر من جميع الجند، فرقابهم مغنومة مردودة إلى المغنم. وإن قال قائل: إذا رأينا [ضربَ الرق على المأسور] (6)، وقد أُرقَّ إلى

_ (1) في الأصل: أما. (2) زيادة من (س). (3) سقطت من الأصل. (4) في الأصل: الإفادة. (5) زيادة من (س). (6) في النسختين: ضرب رقبة المأسور. والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق، وعلى ضوء مختصر العز بن عبد السلام؛ فعبارته: "وإذا جعلنا رقاب من أسرهم الأجناد مغنماً، خُمِّست. ويحتمل أن لا تخمّس، إذا جعلنا الرقاب للأجناد، ومنعنا تخميس الأسلاب. = لكن الظاهر التخميس؛ فإن التخصيص لا يثبت إلا إذا انفرد المخصَّص بضربٍ من الغناء" ا. هـ بنصه.

الآسر (1)، ثم رأينا أن لا يخمس السلب، فإذا أسرهم الجند يرقون، ثم لا تخمس رقابهم، لم يكن ذلك بعيداً، والظاهر التخميس؛ فإن التخصيص إنما صادفناه عند اختصاص بعض رجال القتال بوجهٍ من الغناء، فإذا لم يكن كذلك، فالظاهر وجوب التخميس، (2 والإجراء على مناظم المغانم 2). 7733 - وإذا فادى الأسرى، فما يأخذه من أموال المفاداة ملحق بالمغانم، لا خلاف (3) فيه، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فادى به أسرى بدر، والسبب فيه أن التوصل إلى الأموال المأخوذة منهم، كان بسبب احتواء الجند على المأسورين. 7734 - ثم إن اختار الإمام القتل، فوضع السيف فيهم، فإنما يفعل ذلك بالرجال المقاتلة الأحرار، دون الذراري والنساء والعبيد، فإن أشكل عليه بلوغُ واحدٍ، فله أن يأمر بالكشف عن مؤتزره، فإن لم يكن أنبت، ألحقه بالذراري، ومن أنبت، فله (4) ضرب رقبته. وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أسر رجالَ بني قريظة، ونزّلهم على حكم سعد (5). ثم القول في الإنبات وأنه (6) عين البلوغ أو علامته ليس مما نذكره الآن، وقد أجرينا فيه كلاماً [مُشْبعاً] (7) في كتاب الحجر، والقول في ادّعاء استعجال الإنبات مما ذكرناه ثَمَّ، وسنعود إليه في كتاب السير، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) أُرق إلى الآسر. كذا في النسختين، والمراد جعلنا الرقاب للأجناد. والله أعلم. (2) ما بين القوسين سقط من (س). (3) في الأصل: ثم لا خلاف فيه. (4) (س): فليضرب رقبته. (5) خبر بني قريظة ونزولهم على حكم سعد، متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، البخاري: كتاب الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم رجل، ح 3043، 3804، 4121، 6262، ومسلم: كتاب الجهاد، ح 64 رقم عام 1768. (6) (س): هل هو عين البلوغ، أو أمارة. (7) في الأصل: شبعنا.

7735 - ومما يذكره الأصحاب في الكتابين أن واحداً من الأسرى لو أسلم بعد الإسار، فلا شك أنه يمتنع قتلُه، وقد قال الشافعي: "لو أسلموا بعد الإسار رُقوا"، وظهر اختلاف الأصحاب في هذا، فالذي صار إليه جماهير الأصحاب أنه لا يمتنع بإسلامهم بعد الإسار إلا القتل، ويتردّد الإمام فيهم على حسب الرأي بين المنّ، والفداء، والرق، فأما المن، فإذا كان يجوز في حق الأسير المصرّ على الكفر، فهو فيمن أسم أولى وأجوز، وإذا جوزنا الإرقاق، فالمفاداة أجوز. ثم هؤلاء [يفتنّون] (1) في تأويل قول الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: "وإذا أسلموا بعد الإسار، رُقّوا" والغاية [المقبولة] (2) في التأويل أنهم قربوا من الرق، وهذا يناظر قول المصطفى عليه السلام من وقف بعرفة، فقد تم حجه، والمراد قرب من التمام، وأمن الفوات. ويمكن أن يقال: المن مما يقلّ في تصرف الإمام، فلم يعتدّ به الشافعي، وكذلك المفاداة، [والغالبُ] (3) الإرقاقُ والقتلُ، فبنى الشافعيُّ رضي الله عنه على الغالب، وردّ النظر إلى القتل والإرقاق، ثم صادف القتلَ ممتنعاً، فقال: رُقُّوا. هذا هو الممكن في التأويل. ومن أئمتنا من جرى على [ظاهر النص، وقال: من أسلم من الأسارى، رُقّ. وهذا وإن كان يوافق] (4) ظاهر النص، ففي توجيهه عُسرٌ، [والممكن] (5) فيه أنه إذا أسلم، فالمن يتعلق بأهل الحرب الذين لم يلتزموا حكمنا، والمفاداة ينبغي أن تفرض من [أموال أهل الحرب] (6) أيضاً؛ فإن ابتداء ضرب مال على مسلم بمثابة ابتداء ضرب

_ (1) في الأصل:، " ـ ـعبون "، والمثبت من (س). (2) في الأصل: المنقول، و (س): المنقولة، والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء المعنى. (3) في الأصل: والغالبة. (4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (5) في الأصل: والتمكن. (6) في الأصل: من أموالهم.

جزية على مسلم، [والرق] (1) وإن كان أشد من ذلك، فقد نراه يجري ابتداء على أولاد المسلمين. وإذا انحسم القتل، وبعُد المن والفداء، صار المأسور، وإن كان رجلاً كالصبي والمرأة، فهذا هو الممكن في ذلك. 7736 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن الأسارى لو قالوا: قبلنا الجزية، وكانوا ممن يجب تقريرهم على الجزية في جيشهم إذا لم يكونوا مأسورين، فالذي عليه الجريان أن اختيار الإمام في المن والفداء والإرقاق على ما كان، وإنما التردّد في أنه لو أراد أن يقتلهم، هل له أن يقتلهم؟ هذا مما اختلف فيه الأصحاب، فمنهم من قال: له قتلهم، ولا حكم لقبولهم الجزية وهم في قبضة الإسلام، وهذا ظاهرُ القياس (2). ومن أصحابنا من قال: يحرم القتل؛ فإن قبول الجزية من العواصم في الجملة كالإسلام، [فالإقدام] (3) على القتل مع قيام عاصم محرمٌ، كما لو أسلم الأسير. وكأن [القتل] (4) بين هذين الوجهين في جواز القتل [يبنى] (5) على ما لو حاصرنا قلعة ليس فيها إلا النساء، فقبلن الجزية، فهل يحرم سبيهن لقبول الجزية؟ فعلى وجهين (6) سيأتي شرحهما في كتاب السِّير إن شاء الله تعالى.

_ (1) زيادة من (س). (2) الأظهر تحريم القتل، قاله النووي (ر. الروضة: 10/ 298). (3) في الأصل: بالإقدام. (4) في النسختين: القتال. (5) زيادة من المحقق لاستقامة المعنى. ومع ذلك يبقى في العبارة نوع قلق، بل لعل فيها سقطاً. (6) قال النووي: هذه المسألة على قولين، نص عليهما في الأم: أحدهما - يعقد لهن؛ لأنهن يحتجن إلى صيانة أنفسهن عن الرق، كما يحتاج الرجال للصيانة عن القتل ... ولا يؤخذ منهن شيء. والقول الثاني - لا تعقد لهن الجزية، ويتوصل الإمام إلى الفتح بما أمكنه ... "فالقولان متفقان على أنه لا تقبل منهن جزية" ا. هـ ثم وصف كلام الإمام بالشذوذ، فقال: "وشذ الإمام، فنقل في الخلاف وجهين، وجعلهما في أنه هل يلزم قبول الجزية، وترك =

ووجه البناء أن النسوة [لسن] (1) من أهل التزام الجزية، ولكن صورة التزامها هل تعصمهن عن الرق؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه، كذلك الأسير ساقط الاختيار، فإذا وجد منه التزامُ الجزية، فهو بمثابة التزام الجزية ممن ليس من أهلها، غير أن التأثير في الأسير يظهر في سقوط القتل، وفي النسوة في سقوط السبي. وقد ذكر صاحب التقريب في كتاب السير وجهاً بعيداً حكاه وزيّفه، فقال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الأسير إذا (2) قبل الجزية، يجب إطلاقه، وإجابته إلى عقد الذمة، وتنزيله منزلة المختار من الكفار إذا طلب الذمة، وهذا في نهاية البعد؛ فإن الأسير إذا اسلم، لم يُطلَق وجوباً، وكان الإمام على وجهٍ مخيراً بين المن والفداء والإرقاق تخير نظرٍ واجتهادٍ. وفي وجهٍ يرِق بنفس الإسلام، فلو أطلقنا الأسير القابل للذمّة، لكان أثر الأسر ساقطاً بالكلية، [فإن المختار مجالب إلى عقد الذمة إذا طلبه] (3) ويستحيل أن يبقى أثر الأسر مع الإسلام ويسقط أثره مع طلب الذمة. ولكن وجه هذا الوجه على بعده أن الجزية من آثار الكفر، فإن عقدنا له الذمة، لم نُخله عن صَغار الكفر، ولو خلّينا المسلم حتماً واجباً، لكان الإسلام مُحبطا لآثار الإسار بالكلية، وهذا لا سبيل إليه. 7737 - ومما يتعلق بأحكام الأسرى أن الإمام لو أراد أن يضرب الرق على الأسير وهو من عبدة الأوثان، فالمذهب المبتوت (4) الذي ذكره الأئمة أن ذلك جائز، ثم يصير اطّراد الرق عليه [عاصماً له] (5) ولا يجب قتله، بل لا يجوز؛ لحق الرق الثابت في رقبته للملاّك المحترمين، وليس كالمرتد؛ فإن الرق لا يعصمه.

_ = إرقاقهن" ا. هـ ملخصاً (ر. الروضة: 10/ 302). (1) في النسختين: لـ ـس. (2) في الأصل: وإذا. (3) ما بين المعقفين زيادة من (س). (4) هذا ما استقر عليه المذهب، وقال عنه النووي: إنه الصحيح. (ر. الروضة: 10/ 251). (5) في الأصل: عاصمة.

والكفار على أقسام: منهم من يقرّر على كفره بالذمة، وهم أهل الكتاب، والمجوس يسنّ بهم سنّة أهل الكتاب. ومنهم من لا تعصمه الذمة، ولكن يُنظَرون مدّةَ التسييح (1)، وهي أربعة أشهر، على ما سيأتي تفصيلها في السِّير، إن شاء الله عز وجل، وهؤلاء إذا رُقوا، دامت عصمتهم بالرق. ومنهم (2) أهل الردة، ولا عاصم لهم من حكم الله بوجهٍ من الوجوه. وقال أبو سعيد الإصطخري: "لا يجوز (3) إرقاق عبدة الأوثان، بل يتخيّر الإمام بين المن، والفداء والقتل فيهم". وإحلالُ هذا الكفر المغلّظ محل الردة نوعٌ من القياس، فإذا كان يجوّز المن والفداء، فقد خرم القياس (4) الذي اعتمده، فلا اعتداد بما ذكره أصلاً. 7738 - ومما يليق بتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: الأسير إذا بذل الجزيةَ لا يجوز قتله، وجرينا على الأصح، وهو أنه لا يجب قبول الجزية منه وإطلاقُه، ولكن يحرم قتله، فلو أراد الإمام المنَّ عليه، فعل، وإن أراد إرقاقه، [نفذ] (5) ذلك منه، وإن أراد مفاداته ورأى المصلحة (6)، وهو لا يبغيها ويأبى إلا الجزية وقبولها، فلا سبيل إلى إجباره على المفاداة؛ فإن الكلام لا ينتظم؛ إذ (7) لا يجبر عليها إلا بالقتل،

_ (1) ساقطة من (س). (2) ومنهم: أي من الكفار. (3) (س): يجوز (بدون لا). (4) خرم القياس: أي قياس عبدة الأوثان على المرتدّين، ومعنى خرم القياس: أن المرتد لا يجوز في حقه إلا القتل، فكيف يجوّز المن والفداء في حق عبدة الأوثان، وقد قاسهم على المرتدّين. قال النووي: والصحيح الأول، أي المقابل لقول الإصطخري (ر. الروضة: 10/ 251). (5) في الأصل: بعد. (6) أي رأى الإمام المصلحة في المفاداة، والأسير لا يبغيها. (7) (س): فإن الكلام لا ينتظم إلا يجبر عليها، وهذا عود إلى القتل.

وهذا عوْد إلى القتل الذي حكمنا بسقوطه، ولا يجوز أن يقال أيضاً: إذا لم يمتثل أمرنا في المفاداة، أحبطنا عصمته، وعاد الإمام إلى رأيه في قتله إذا رأى القتل؛ فإن التفريع على أن قبول الجزية عصمةٌ، فيتعين في الصورة التي انتهى الكلام إليها قبولُ الجزية منه. فإن قيل: هذا الوجهُ (1) الذي حكاه صاحب التقريب (2)، فإنه ألزم إطلاقَه وعقْدَ الذمة له، وتوظيفَ الجزية عليه. قلنا: الفرق بين مذهبه وبين التفريع الذي انتهينا إليه أنه يرى إسعاف قابل الجزية، وإن كان الصلاح في إرقاقه، ونحن نقول: إذا كان الصلاح في إرقاقه أرقه، ونفذ الرق عليه قهراً، وإن لم يكن في إرقاقه مصلحة، ولو أرقّه، لصار كلاً [ووبالاً] (3) على المسلمين، [ولو أدى الجزية التي قبلها، ورأى الإمامُ قَتْلَه] (4)، فإذا امتنع قتلُه بالجزية ولم [ير] (5) الإمام إرقاقَه، لم يتجه إلا إطلاقُه، وقبولُ الجزية منه. 7739 - ومما نذكره من أحكام الأسارى أن الأسير قبل أن يجري الرقُّ عليه، وقبل أن ينفذ الإمام رأيه فيه، لو [ابتدره] (6) واحدٌ من المسلمين، وقتله (7)، فقد أساء وتعرض لتعزير الإمام، ولكن يجب ألا نُضمِّنه؛ فإنه كافر غيرُ معصوم. فإن قيل: لو كان الإمام يرى إرقاقهم، فمن قتل واحداً منهم، فقد فوّت الإرقاق، فهلا كان ذلك بمثابة تفويت الرق بالغرور، والمغرور يلتزم القيمة لمنعه الرق من الجريان؟ قلنا: ذلك الرق كان يجري لا محالة لولا الغرور، فالغرور دفع الرق الذي لا حاجة إلى تحصيله، والرق لا يجري على الأسير من غير ضرب، وأشبه

_ (1) الوجهُ: خبر لقوله: هذا، وليست بدلاً. (2) (س): "فإن قيل هذا مذهب الإصطخري". ولم يسبق للإصطخري هذا الكلام، فهل صاحب التقريب حكى ما حكاه عن الإصطخري؟ هذا محتمل جدّاً. (3) في الأصل: وقتالاً، و (س): ووباً، والمثبت من تصرفات المحقق. (4) في الأصل: ولولا الجزية التي هذا رأي الإمام قتله، فإذا امتنع ... والمثبت من (س). (5) في الأصل: ولم يقرّ الإمام. (6) في الأصل: ابتدى. (7) ساقط من (س).

الأشياء بما نحن فيه إتلاف الجلد القابل للدباغ قبل الدباغ؛ فإنه لا يوجب الضمان مع تهيُّؤ الجلد للدباغ ابتداءً [فإنشاء] (1) الدباغ كإنشاء الإرقاق، وليس ما نحن فيه كالخمرة المحترمة؛ فإن من أصحابنا من أوجب على متلفها الضمان، وهذا على بعده موجّهٌ بأن الخمرة لو تركت، فإلى التخلل مصيرها. وقد نجز غرضنا من الكلام في الأسارى، فإن كان فيهم بقايا سنستدركها في [كتاب] (2) السير، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "وينبغي للإمام أن يعزل خمسَ ما حصل ... إلى قوله يرضخ لهم من الجميع" (3). 7740 - نصدّر هذا الفصلَ بالرضخ وأهلِه وبيان محله، فنقول أولاً: مستحق السهم المسلمُ الحر البالغ الذي [بلغ عدّه] (4) من أهل القتال، وإن كان يضعف غناؤه ويقلّ أثره، ويشترط مع ذلك كله ألا يكون مخذِّلاً، على ما سنصف المخذلَ وحكمَه. 7741 - والنسوةُ والصبيان وأهل الذمة والعبيد أصحاب الرضخ. ثم إن كانت النسوة [يُتصور] (5) منهن إعانة الجند في خدمةٍ، أو حفظ رَحل أو تهيئة طعام، أو غيره من وجوه المنفعة، فهم من أهل الرضخ، وكذلك الصبيان إذا كان ينتفع الجند بهم، فالجواب على ما ذكرناه. وإن لم يكن في النسوة منفعة، وما كان بلغ الصبية (6) مبلغ النفع، فقد ظهر في

_ (1) في الأصل: كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (2) زيادة من (س). (3) ر. المختصر: 2/ 188، 189. (4) في الأصل: الذي لا تبلغ عنده. (5) في الأصل: يتصد، و (س): يصدر منهم. (6) (س): الصبي مبلغ المنفعة.

كلام الأصحاب تردد في أنا هل نرضخ لهم؟ فمنهم من قال: لا رضخَ إلا لمن ينتفع الجند بحضوره، وهذا ظاهر القياس. ومنهم من قال: [يرضخ] (1) لهم، حتى لا نكون حرمنا مسلماً شهد الوقعة، وشاهد المغنم، وإذ ندب الله تعالى إلى ذلك في قسمة بين ملاك متعينين في أملاك لازمةٍ لهم فقال عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] فلا يمتنع إذاً تحتم ذلك في المغانم التي لا تثبت الأملاك [فيها] (2) إلا بالقسمة. وقد أشار الأئمة إلى التيمُّن بحضور أطفال المسلمين ونسائهم، فلا يبعد أن يكون حضورهم مدْرأةً لظفر الكفار وأهل الذمة، وإذا حضروا، فهم أهل الرضخ، ثم إن حضروا (3 بإذن صاحب الراية، استحقوا الرضخ، وإن حضروا 3) ولا أمر ولا نهي، استحقوا الرضخ، فإنهم في منصب الذب عنا؛ إذ هم من سكان ديارنا. وإن نهاهم الإمام [عن الحضور] (4)، فلم ينتهوا، وحضروا، ففي المسألة تردد. ويجوز أن يقال: لا يستحقون الرضخ لمخالفتهم. ويجوز أن يقال: يستحقونه؛ فإن [الحضور] (5) في المغانم لا يختلف بالموافقة والمخالفة. وأما نسوان أهل الذمة وأطفالهم، فقد ظهر [فيهم] (6) اختلاف الأصحاب. والذي [نرى] (7) ذكره أوجه: أحدها -[أنا لا نرضخ] (8) لهم أصلاً. والثاني - أنا نُجريهم مجرى أطفال المسلمين ونسائهم.

_ (1) في الأصل: يوضح. (2) في الأصل: منها. (3) ما بين القوسين ساقط من (س). (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: الحطوط. (6) في الأصل: منها. (7) في الأصل: ينتهي. (8) في الأصل: أما لا نوضح.

والثالث - أنا نرضخ لهم إن كان فيهم منفعة وغَناء، وإن لم يكن فنقطع بأن لا يرضخ لهم، وإن رضخنا لأمثالهم من أطفال المسلمين؛ والفرق أنا نستدفع بأطفال المسلمين كرّةَ الكفار وظفرتهم، ولا يتحقق هذا المعنى في أطفال الكفار. 7742 - وأما المخذّل، فهو الذي يكسر قلوب الجند، ويسعى في تفريق كلمتهم، ويستحثهم على الهزيمة، ويُرعب قلوبَهم بالأراجيف، ويفتّر أعضاءهم، فإذا شهد الوقعة، وشعر الإمام به، صرفه قهراً، فإن [انغل] (1) في الجند، فلا سهم له، ولا رضخَ له، اتفق علماؤنا عليه، فلو اتفق منه قتلُ كافرٍ، وهو متمادٍ على تخذيله، وقد يتفق منه القتل في دفع أو إرهاقٍ إلى مضيق، فقد قطع أصحابنا بأنه لا يستحق سلَب القتيل، [والسبب] (2) في ذلك أنه ضرٌّ كله، وأثره عظيم، وضرره بيّن، ونحن إنما نُسهم أو نرضح لمن ينفع أوْ لا يضر. فإن فرض فارض ضرراً من استصحاب الأطفال، فليس الضرر منهم، وإنما هو من ضرورة الحال، والمخذّل [مزجور بالحرمان] (3) عن وجوه الاستفادة. 7743 - ومما نذكره في ذلك أن المريض الزَّمن الذي لا حراك به من أهل الرضخ، كما سنصف المرضى وأحوالَهم. فهذا بيان من يستحق الرضخ. 7744 - فأما القول في محل الرضخ، فحاصل ما ذكره الأئمة في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أن الرضخ يخرج من المغنم قبل التخميس، ثم يقع التخميس بعد إخراج الرضخ، ووجه هذا تنزيل الإرضاخ منزلة المؤن، كمؤنة نقل المغانم إلى الموضع الذي تتهيأ القسمة فيه [فالإرضاخ] (4) ينزل هذه المنزلة.

_ (1) انغل: يقال: انغلّ في الفلاة ذهب فيها، والمعنى دخل في الجيش، ولم ينصرف بصرف الإمام إياه (المعجم). (2) في الأصل: "فالبينة". (3) في الأصل صحفت هكذا: من جوزوا الحرمان. (4) في الأصل: كالإرضاخ.

والوجه الثاني - أن المغانم تخمّس أولاً، ثم يؤخذ الرضخ من أربعة أخماس الغنيمة. ويحط قدر الرضخ عن قدر السهم كما سنصفه، فالرضخ إذاً عند هذا القائل من حصص الغانمين، ولكنه محطوط من السهم، كما يحط حق الراجل عن حق الفارس. والوجه الثالث - أن الإرضاخ يخرج من السهم المرصد للمصالح، وقد ذكرنا فيما تقدم التنفيل في البدأة والرجعة، وذكرنا محل [التنفيل] (1)، والخلافَ فيه، وقد ظهر عندنا أن من أصحابنا من ينزل النفل منزلة الرضخ، وقد تفصل القول في محله. 7745 - ومما نذكره متصلاً بذلك أنه لو شهد الوقعة أهل الرضخ، ولم يشهد من أهل السهم أحد، فإذا استفادوا غنائم، فلأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدها - أن المغانم تخمس، فيصرف الخمس إلى مصرفه، ويصرف أربعة الأخماس إليهم. ومن أصحابنا من قال: [يفرز] (2) الخمس، ويصرف إلى أهله، ويصرف إليهم الرضخ على ما يراه الإمام، ويصرف الفاضل إلى تمام أربعة الأخماس إلى بيت المال، ويلقى في سهم المصالح. وهذا ضعيف غيرُ معقول؛ فإنا لا ندري كم ينصرف إليهم، وكم يقدر معهم من أصحاب السهام، فلا ضبط لهذا، ولا وجه له. ومن أصحابنا من قال: ما أحرزوه لا يثبت له حكم الغنيمة أصلاً، وسبيله كسبيل ما يأخذه المسلمون سرقة، وما كان كذلك لا يخمّس، بل يصرف بجملته إلى السرّاق، على ما سيأتي شرح ذلك في [كتاب] (3) السّير إن شاء الله عز وجل. ووجه ذلك أنهم ليسوا من أهل القتال، وإن قاتلوا، فهم أتباع، فإذا لم يكن معهم أصحاب السهام، فلا حكم لقتالهم. 7746 - ثم إذا أضفنا مقداراً من الرضخ إلى العبد (4 فهو لمالك رقبته اعتباراً بجميع أكساب العبد 4). ولو جرى الإحراز، وهم على الرق، ثم عَتَقوا قبل القسمة،

_ (1) في الأصل: "النفل". (2) في الأصل: يقدّر. (3) زيادة من (س). (4) ما بين القوسين ساقط من (س).

فالحقوق للسادة، كما ذكرنا؛ فإن [الإحراز] (1) جرى في اطراد الملك على رقابهم، ولو عتقوا قبل انجلاء القتال، فهذا فيه احتمال، وسنذكره في الفصل الذي يعقب هذا الفصل، عند ذكرنا التغايير الطارئة على الجند في أثناء القتال، كنفوق الدوابّ واعتراض الأمراض وغيرها. 7747 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه أن الإمام يخرج الخمس، ويقرع بينه [وبين] (2) أربعة الأخماس، ولا يكاد يخفى كيفية الإقراع في ذلك، وهو محتوم لما في أعيان الأموال من الأغراض. فصل قال: "ثم يعرف عددَ الفرسان والرجّالة ... إلى آخره" (3). 7748 - إذا أفرز الإمام الخمسَ، وأراد قَسْم أربعة الأخماس بين الغانمين، فينبغي أن يعلم أولا الفضل الذي بين الفارس والراجل: مذهب الشافعي رضي الله عنه أن للراجل سهماً، وللفارس ثلاثة أسهم: سهمٌ في مقابلته وسهمان في مقابلة فرسه، وهذا إنما صرنا إليه من جهة توقيف الشارع، [وقد صحَّ الخبر] (4) على (5) حسب هذا. ومن شهد الوقعةَ بفرسين، فالمذهب الظاهر أنه لا يسهم إلا لفرس واحد، وحكى شيخي عن بعض أصحابنا وجهاً أنه يسهم لفرسين، وهذا يقرب بعض القرب من مذهب من جعل الجنيبة من سلب الكافر القتيل بمثابة مركوبه، ثم لا مزيد على فرسين

_ (1) في الأصل: الأخذ إن. (2) في الأصل: ومن. (3) ر. المختصر: 3/ 189. (4) صحفت في الأصل هكذا: ويرضخ الجند على. (5) الخبر المشار إليه، هو حديث ابن عمر المتفق عليه: جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً. وهذا لفظ البخاري (ر. البخاري: كتاب الجهاد، باب سهام الفرس، ح 2863، ومسلم: كتاب الجهاد، باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين، ح 1762).

في الموضعين، والوجه المحكي في أن الجنيبة سلبٌ معروف، وسببه بيّن، وإثبات السهم لفرسين مع اتحاد الفارس لم أره في مذهبنا إلا من جهة شيخنا (1). وقد نقل الفقهاء هذا مذهباً عن الأوزاعي. 7749 - ثم لا سهم إلا بسبب الخيل، وراكب البغل لا يستحق إلا ما يستحق الراجل، وكذلك القول في [راكب الحُمر] (2). والإبلُ والفيلةُ، وإن كان فيها بعض الغناء، فالسهم الزائد للخيل. والذي يعترض (3) في قلب الفقيه أن المسابقة جائزة على الخف والحافر، والمسابقة إنما جوّزت مع اشتمالها على الغرر المضاهي للقمار استحثاثاً على ركوب الخيل والإبل. ولا اغترار (4) بهذا، فليس كل عُدّة تجوز هذه المعاملة عليها يزداد السهم بسببها، كالمناضلة (5)، وهي الأصل دون سائر الأسلحة، فالغرض من المسابقة الاستعداد بالأهب، والسهام تؤخذ من (6) الدّواب التي تصلح للهرب والطلب والكرّ والفرّ، والإجماع يغنينا عن هذا. 7750 - ولو أحضر الغازي فرساً رازِحاً (7) لا يكاد ينهض لضعفه، وهُزاله، فحق الإمام أو صاحب الراية أن يمنع من مثل هذا، إذا كان في الخيل الصالحة [والأهب] (8) العتيدة [ممتنَع] (9)، كما يمنع من مصادمة القتال من غير سلاح، فلو اتفق إحضار مثل

_ (1) المذهب الوجه الأول، وهو الذي قطع به الجمهور، كما قال النووي، وجعل الآخر (قولاً) حكاه بعضهم (الروضة: 6/ 384). (2) في الأصل: ركاب الجمل. (3) (س): والذي يعرض للفقيه. (4) (س): ولا اعتداد. (5) المعنى أن المناضلة تكون بالسهام خاصة، ولا تزاد أنصبة الغانمين وأسهم بسبب رميهم بالسهام أثناء المعركة. (6) المعنى أن السهام من الغنيمة تؤخذ زيادتها وتستحق بسبب الدوابّ التي تصلح للكرّ والفر. (7) رازحاً: براء مفتوحة، وبعد الألف زاي مكسورة، هو المهزول البين الهزال. (مصباح). (8) غير مقروءة في الأصل. (9) في الأصل: متسع، وممتنع أي منعة.

هذا الفرس الذي لا غناء فيه، ففي تعلق السهم بإحضاره قولان: أحدهما - أنه لا يتعلق به استحقاق سهم؛ من جهة أنه لا غَناء فيه، فكان كالجنس الذي لا يتهيأ لمقاصد القتال من البغال والحمر وغيرها. والقول الثاني - أنه يتعلق به استحقاق السهم؛ نظراً إلى الجنس؛ فإن اتباع آحاد الأفراس في الجند العظيم عسر، فالوجه الاكتفاء بالجنس، وحسم باب النظر في التفاصيل، وهذا بمثابة إيجاب الزكاة في الجَرْبى المراض من الماشية، مع علمنا بأن الشرع (1 لم يعلق الزكاة 1) إلا بالجنس المُرْفق (2) والمقدار التام. ثم من أوجب السهم نظراً إلى الجنس، اشترط أن يكون الفرس بحيث يتأتى ركوبه، حتى (3 لو أحضر مهراً لا يركب أو فرساً لا يتأتى ركوبه 3)، فلا يجوز أن يكون في مثل هذا خلاف؛ فإن متعلّق إثبات السهم [أن] (4) استحقاق السهم لا يتوقف على مصادمة الكفار، بل الوقوف في الصف كافٍ في الاستحقاق؛ من جهة أن المصطفّين وزرُ المقاتلين كرّاً وفرَّاً، فمن كان على فرسٍ في الصف أرعب بموقفه، ولا يطّلع العدو على صفة فرسه، وشرْطُ هذا أن يكون مركوباً (5). 7751 - ولو نفق الفرس قبل القتال، لم يستحق صاحبه إلاَّ سهمَ راجل؛ فإنه لم يلق القتال إلا راجلاً، ولا فرق بين أن يكون نَفَقُ (6) الفرس بعد دخول دار الحرب، أو قبل دخولها، خلافاً لأبي حنيفة (7)، فإنه قال: إذا دخل بفرسه دار الحرب ونفق،

_ (1) ما بين القوسين سقط من (س). (2) المرفق: من أرفقه به نفعه. (معجم). (3) ما بين القوسين ساقط من (س). (4) في الأصل: واستحقاق. (5) قال الرافعي: "وعن أبي إسحاق أنه لا خلاف في المسألة، بل القول بالإسهام محمول على ما إذا أمكن القتال عليه، والآخر على ما إذا لم يمكن". (فتح العزيز: 7/ 373). (6) (نفَقَ) أي (نفوق) كما في (س). وغالباً يستعمل الإمام (فَعَلَ) مكان (فعول)، مثل: صَدَر مكان صدور، وحَدَث مكان حدوث. (7) ر. مختصر الطحاوي: 285، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 441 مسألة: 1588.

استحق سهم الفرس، وإن لم يلق عليه قتالاً، وإن قامت الحرب، [والفرس] (1) مركوب قائم، ثم نفق قبل انجلاء الحرب، فالحاصل ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يستحق سهم الفرس، حتى ينجلي القتالُ والفرسُ قائم، فإنّ الاستحقاق يستقر بانكشاف الحرب وانجلائها، فإذا تقدّر (2) نفوق الفرس قبل تحقق سبب الاستحقاق، لم يُستحق بسبب الفرس شيء. والقول الثاني - أن صاحب الفرس يستحق سهم الفرس؛ لأنه لقي القتال عليه، وحصل الإرعاب منه في انتصاب الحرب. والقول الثالث - أنه إن نفق قبل حيازة المغنم، فلا سهم بسبب الفرس، وإن نفق بعد حيازة المغنم، وقبل انجلاء الحرب، استحق صاحبه سهم الفرس، وسنوضح هذا الأصل، إن شاء الله عز وجل - عند ذكرنا المددَ إذا لحقوا بهم متى يشاركون في المغنم، ومتى لا يشاركون فيه. ولم يفصل أصحابنا بين أن يكون سبب الهلاك (3) جراحة أصابتها في الحرب [وبين] (4) أن يكون نفوقها لا بسبب القتال. ولو مات الغازي في أثناء الحرب قبل انكشافها، فقد قطع الأئمة أقوالهم، بأنه لا يثبت له استحقاق في المغنم؛ حتى يقال: يخلفه الورثة فيه. وهذا يعضد أحد الأقوال في نفوق الدابة. والمقدار الذي ذكر الأصحاب في الفرق أن الغازي إذا مات قبل انكشاف الحرب، فلا مستحق يُعزى إليه حقُّ المغنم، وإذا مات الفرس وقد أحضره صاحبه وأرعب به، [فلئن] (5) نفق الفرس، فمن يستحق بسببه قائم، وهذا الفرق فيه غموض [وبُعد] (6).

_ (1) في الأصل: فالفرس. (2) (س): اتفق تفوق. (3) (س): هلاك الدابة جراحة ... (4) في الأصل: ومن. (5) في الأصل: فليس. (6) في الأصل: وتعذر.

7752 - ومما يتعلق بذلك أن الغازي لو مرض في أثناء القتال، قال الأصحاب: إن كان ذلك المرض بحيث لا يمنعه من القثال، فلا كلام، وهو من أهل القتال، واستحقاق المغنم. وإن كان ذلك المرض يمنعه من القتال، نُظر: فإن كان [ممّا] (1) يرجى زواله، فلا مبالاة به، وإن كان ذلك المرض مزمناً لازماً، بحيث لا يرجى زواله، ففي استحقاق السهم قولان: أحدهما - أنه لا يستحقه، لخروجه عن وصف المستحقين قبل انكشاف القتال، فصار كما لو مات في أثناء القتال. والقول الثاني - أنه يستحق لبقائه، ويتصور إضافة استحقاقٍ إليه. وهذان القولان -قبل أن ننعطف على هذه التفاصيل بالتتبع- يضاهيان القولين في نفوق الدابة؛ فإن نفوقها مع بقاء [صاحبها] (2) وإمكان إضافة الاستحقاق إليه (3 بمثابة سقوط قوّته مع إمكان إضافة الملك والاستحقاق إليه 3) فلا فرق، ومأخذ الخلاف في المسألتين متقارب. وذكر بعض أئمتنا في سبب ثبوت السهم للمريض الذي زَمِنَ أن رأيه منتفع به، بأن يراجَع ويستشار، فلم يسقط الانتفاع به بالكلية، وهؤلاء ربما يترددون فيه إذا جُنّ، فمنهم من يجعل الجنون كالموت في إسقاط السهم قولاً واحداً. ومنهم من أجرى القولين في طريان الجنون؛ لأن المجنون لا يمتنع إضافة الملك إليه، وهذا المسلك أفقه؛ فإن الرأي المجرد لو كان معتمداً في الباب، لوجب إثبات السهم للذي شهد القتال مريضاً، وبقي كذلك إلى الانجلاء، وليس الأمر كذلك. فهذا ما ذكره الأصحاب. 7753 - وفي بعض هذه الفصول تأمل على الناظر. أما ما ذكره الأصحاب من أن المرض إذا كان يرجى زواله، فما المراد بهذا؟ ليعلم المسترشد أن المراد برجاء الزوال توقُّع زواله في أثناء القتال، قبل انكشافه،

_ (1) في الأصل: فيما. (2) في الأصل: صاحبه. (3) ما بين القوسين ساقط من (س).

وتقدير الكلام أن نفرض زوال ما اعترض، حتى يقدّرَ كأنه لم يكن، وما أراد الأصحاب توقعَ الزوال بعد انقضاء القتال، حتى لو كان ذلك المرض بحيث لا يتوقع زواله إلا بعد أيامٍ مثلاً، فهو في حكم المرض المزمن. ومما يجب الاعتناء به أن من حضر الوقعة وبه (1) مرض يمنعه من القتال، فزَمِن مثلاً، فلا سهم له، ولكنه يستحق الرضخ، ولو كان به مرض لا يمتنع عليه معه ركوب الفرس، والوقوفُ في الصف، ولكن لا يتأتى منه مباشرة القتال، فلا سهم له، وذلك أنا وإن كنا نسهم لمن يقف في الصف ولا يقاتل، فيشترط أن يكون بحيث يتأتى منه القتال لو مست الحاجة إليه، وإنما يكتفى بالوقوف في الصف؛ لأن ترتيب القتال يقتضي ذلك؛ فإن جملة الجند لا يتأتى منهم بأجمعهم الاشتغال بالقتال دفعة واحدة، ولكنا نشترط ما ذكرناه من إمكان القتال عند مسيس الحاجة، فلو دام -من أول القتال إلى آخره- المرضُ الذي وصفناه، فلا سهم، والواجب الرضخ. ولو كان من أهل القتال، فطرأ المرض الذي يرجى زواله -على ما فسرنا ذلك- فإن اتفق زوال ذلك المرض فذاك، وإن اتفق دوامه إلى انجلاء القتال، ففي هذا تردد ظاهر، يجوز أن يقال: إنه بمثابة المرض المزمن، ويجوز أن يقال: ليس هو بمثابته، وهو كالطارىء الزائل. وهذا يلتفت على تردد الأصحاب في أن من مرض مرضاً مرجو الزوال، وامتنع عليه الاستواء على الدابة، فليس له أن يستأجر من يحج عنه، وإنما يستأجر [ذو العَضب] (2) الذي لا يرجى زواله، فلو استأجر المريض مرضاً مرجو الزوال من يحج، فحج عنه الأجير، ثم تمادى المرض وأفضى إلى الموت، ففي وقوع الحج عن المستأجِر قولان. هذا ضبط القول في الأمراض [التي تعرض] (3) وتزول أو لا تزول. فرع: 7754 - إذا كان مع الرجل فرسه، ولكنه نزل ليقاتل راجلاً عند مسيس الحاجة إليه، والفرس مقود موجود بالقرب من صاحبه، ومهما مست حاجته إليه

_ (1) (س): ومرض مرضاً. (2) في الأصل: والعضب. (3) في الأصل: الذي يعترض.

ركبه، فإذا كان كذلك، استحق سهم الفرس، لأنه مُرصَد معتد معه، فصار كما لو كان راكبه، هذا إذا كان الفرس بحضرته. فأما إذا نزل الفرسان ليقاتلوا مترجلين في مضيق ثم درجوا فيه موغلين في القتال، وبعدوا عن الخيل، فهل يستحقون سهام الأفراس؟ حكى شيخي رضي الله عنه في ذلك وجهين: أحدهما - أنهم لا يستحقون؛ فإنهم [دخلوا] (1) القتال من غير خيل، ولم يكن الخيل بالقرب منهم، حتى يفرض منهم ركوبها إذا مست الحاجة إلى الركوب. والوجه الثاني - أنهم يستحقون سهام الأفراس؛ فإنهم أحضروها الوقعة، والتزموا مؤنها، وهي موجودة، وما بعّدوها عن أنفسهم إلا لتولّجهم في المضيق الذي لا تنسلك الخيل فيه، وقد يرجعون على أدراجهم، فالخيل على هذه الصفة تعد عدة في المعترك (2). هذا منتهى القول في الخيل وما يلحقها من التغايير. 7755 - فإذا تبين الغرض في ذلك، فإنا نذكر بعد هذا تفصيل القول في كيفية القسمة، فنقول: الغرض قسمة أربعة أخماس الغنيمة، فإن رأينا أخذ الرضخ من رأس الغنيمة، فليؤخذ المقدار الذي يفي بالأرضاخ، ثم الإمام لا يسوي بين مستحقي الإرضاخ مع التفاوت في الغَناء والأقدار، ولكنه يفاوت بينهم باجتهاده، وهي قريبة الشبه من الحكومات في أروش الجراحات، وهي مفوضة إلى اجتهاد الولاة، فالأمر في الرضخ على هذا الوجه يجري، ولا يظهر أثر الخلاف في أن الغنيمة (3) هل تخمس [أم] (4) لا؟ في أقدار الأرضاخ؛ فإنها سواء أخذت قبل التخميس أو بعدها، فالقاضي يقلّل ويكثِّر باجتهاده. وإنما يظهر الأثر في الخمس، فإن أفرزنا الخمس أوّلاً، كثر

_ (1) في الأصل: رحّوا القتال (انظر صورتها) ولم أجد لها معنى، وفي (س): وجدوا القتال والمثبت تقدير منا رعاية للسياق، مع ملاحظة أقرب صورة للكلمة الموجودة. (2) جعل الرافعي والنووي مناط استحقاق سهم الفرس هنا احتمال الركوب، وإلا فلا (الشرح الكبير: 7/ 374، والروضة: 6/ 384). (3) (س): القسمة. (4) في الأصل: أو لا.

قدره، ووفر مبلغه، وإن أخذنا الرضخ أولاً، انتقص الخمس. وإن فرعنا على الأصح، وهو أن الأرضاخ تؤخذ من أربعة أخماس الغنيمة، (1 فهذا ممّا نقصده الآن، فنقول أولاً: إن لم يكن في المعسكر أحد ممن يستحق الإرضاخ، فإنا نقسم أربعة أخماس الغنيمة 1) بعد إخراج أسلاب القتلى على الغانمين، وننظر إلى الغانمين، فإن كانوا رجّالة، قسم المغنم عليهم بالسوية، وكذلك إن كانوا فرساناً لا يشوبهم راجل، قسمت الغنيمة عليهم بالسوية، ولا يظهر التفاوت، ولا فرق بين الوقوف في الصفوف وبين الذين يصلون (2) بنار القتال. ولو كان الغانمون رجالة وفرساناً، فنقول: للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، والسبيل أن نضبط عدد الرجالة والفرسان، ونعتمد عدد الرجالة، ونضعّف (3) عدد الفرسان، فنعد كل فارس ثلاثة من الرجالة، ونقسم أربعة أخماس الغنيمة على منتهى العدد الخارج، ثم نصرف إلى كل راجل سهماً من السهام [المعدّة] (4) عنده، وإلى كل فارس ثلاثة أسهم، فإذا كان الجندُ ألفَ راجل، وألفَ فارس، فأربعة أخماس الغنيمة تقسم على أربعة آلاف سهم، على القاعدة التي ذكرناها. هذا إذا لم يكن ثمَّ أصحابُ رضخ، فإن كان مع أصحاب السهام أصحاب رضخ، وقلنا: أرضاخهم تقع بعد التخميس من أربعة أخماس الغنيمة، فالوجه أن يضبط القاسم مبلغَ أربعة الأخماس، ويتأمل عدد [أصحاب] (5) السهام، ثم يرى رأيه في أصحاب الرضخ، وينهي اجتهاده نهايته في أقصى ما يراه لبعضهم، وفي أدنى ما يراه لبعضهم وأوسطهم، ويحط الرضخ الأعلى عن سهمٍ، ويثبت مقداره بالاجتهاد، ويثبت الأدنى والأوسط وينسبهما إلى الرضخ الأعلى، [ثم ينظر إلى كم ينتهي مبلغ الأرضاخ التي تعدّ للقسمة] (6) على عدد أصحاب السّهْمانِ، فيزيد ذلك المبلغ على

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (س). (2) يصلَوْن: الفعل يتعدى بنفسه وبالباء. (3) (س): وبعضهم. (4) في النسختين: المعدلة. (5) زيادة من (س). (6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

العدد الذي كان يبتنى عليه القسمة بين أصحاب السهام لو انفردوا، فتعتدل القسمة على هذا النسق، وذلك بأن يكون أصحاب السهام ألفاً من الرجالة، وألفاً من الفرسان، فأعداد السهام أربعة آلاف، ثم لما نظر في أصحاب الرضخ اجتهاداً كانوا ثلاثمائة مثلاً، وكان المبلغ الذي أخرجه لهم بالاجتهاد مائة وخمسين، فيضم هذا العدد إلى أربعة آلاف، ويقسم أربعة أخماس الغنيمة من هذا المبلغ كله، ويحط منه ما يحتاج إليه الرضخ، ويقسمه على اجتهاده بينهم، ثم يقسم السهام الباقية على أصحاب السهام. ولو كان في أصحاب الرضخ فارس، فكيف الوجه في اعتبار حصته (1)؟ أنحطها من سهم راجل؟ أم نحطها من ثلاثة أسهم لفارسٍ هو من أهل السهام؟ (2 الرأي أن نعتبره بفارس من أهل السهام 2)، ونجعل كأنه ثلاثة من أصحاب الرضخ، ونقدر له ثلاثة مبالغ، ونحط كل مبلغ عن سهم من السهام المعدَّلة عندنا. هذا هو الوجه لا غير، وقد وضح ما أردناه من كيفية تعديل القسمة. فصل قال: "ولو كان لرجل أجير يريد الجهاد ... إلى آخره" (3). 7756 - الوجه أن نذكر المسائل في هذا النوع مرسلةً، ونوضّح في كل مسألة ما قيل فيها، ثم نذكر عند نجازها ضابطاً لها. فالمسألة الأولى في الأجير: فإذا استأجر الغازي من يخدمه أو يسوس دابتَه، أو يضرب أخبيته، ويقوم بما تمس إليه حاجته استئجاراً صحيحاً، فالظاهر الذي أجراه الأصحاب أنه [إن] (4) لم يقاتل كما (5) حضر الوقعة، لم يستحق السهم. وإن قاتل،

_ (1) (س): مراجعته. (2) ما بين القوسين ساقط من (س). (3) ر. المختصر: 3/ 190. (4) زيادة من (س). (5) كما: بمعنى عندما. وقد سبق التعليق عليها مراراً، بأنها ليست صحيحة ولا عربية. (قاله النووي في التنقيح).

ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يستحق السهم مع الأجرة، أما الأجرة، فلعمله لمستأجِره، وأما السهم فلقتاله، وهو من أهل استحقاق السهم، ثم إنما يستحق الأجرة إذا لم يعطل من العمل الموظف عليه شيئاً، وذلك بأن يقع القتال في فترة من أعماله كان لا يحتاج إلى العمل فيها. وإن عطّل عملَه في مقدارٍ من الزمان، يستحق السهمَ لقتاله، وسقطت الأجرةُ على مقابلة تعطيله الأعمال المستحقة عليه، إذا كانت الإجارة تعتمد المدّة. وهكذا ينتظم تصويرها. والقول الثاني - أن الأجير لا يستحق السهم؛ لأنه لم يقصد الجهاد في خروجه وحضوره، وأيضاً فإنه [مستحَقُّ] (1) المنافع بالإجارة، فكان كالعبد، والعبد لا يستحق السهم، ولا يستحقه مولاه بسببه. والقول الثالث - أن الأجير يخير بين الأجرة وبين السهم؛ لأنه متردّدٌ بين حالة المجاهدين وحالة الأجراء، [إن أترك] (2) الأجرة، تحقق أنه مجاهد فليستحق السهم، وإن استمسك بالأجرة، فلا سهم له، وتوجيه ذلك بيّن. 7757 - ثم إذا شرطنا في استحقاق السهم إسقاط الأجرة، فحاصل ما ذكره الأصحاب في إسقاط (3) مقدار الأجرة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يكفيه [أن يسقط] (4) ساعة القتال، فإذا فعل ذلك، استحق السهم. والثاني - أنه لا يستحق السهم [ما] (5) لم يسقط أصل الأجرة من يوم خروجه إلى منتهى القتال؛ فإنه بذلك يصرف خرجته إلى جهة الجهاد، ولا يكفي حط أجرة ساعة القتال. والوجه الثالث - أنه يحط أجرته من وقت دخول دار الحرب. وهذا بعيد عن

_ (1) في الأصل: يستحق. (2) في الأصل: يترك. (3) (س): في مقدار الأجرة. (4) زيادة من (س). (5) في الأصل: من.

قواعدنا؛ فإنا لا نعتبر دار الحرب، ولا نعلّق بها حكماً في أصول المذهب. فهذا ظاهر ما ذكره الأصحاب في الأجير الذي استأجره الغازي على عملٍ من أعماله التي يحتاج إليه. وقول إسقاط الأجرة فيه تأمل؛ [فإنا إذا كنا] (1) لا نُبعد الجمع بين استحقاق السهم والأجرة، [فمقتضى] (2) ذلك أن يعمل ويقاتل. فإن قال قائل: هو في وقت قتاله [لا يتفرغ] (3) إلى ما يعمل لمستأجِره، فيترك عمله ويقبل على القتال بدله، وإذا ترك عمله، استحال أن يستحق الأجرة بكمالها. قلنا: هذا تضيّق في التصوير، لا معنى له؛ فإن الأجير لا يعمل [دائباً والمكافحة] (4) في القتال لا تدوم أيضاً، فيمكن فرض القتال في فترات [لو] (5) ترك الأجير العمل [فيها] (6) لجاز له، ولما أثر بترك العمل في الأجرة. وأما قولنا: لا يدوم القتال، فهو حق؛ فإن البطلَ الكرّار ربَّما لا يحتاج في جميع مدّة القتال إلا إلى [ضربات] (7) تجري مجرى الفُرص ينتهزها، وليس من الحزم في القتال أن يأتي بها إلا كذلك، وأوقاتها تلطف، وأزْمانُها تخفّ، وليس المعنىُّ بقولنا: قاتلَ الأجيرُ أن يدأب ضرباً، وطعناً، وانغماساً في العدو. وإذا تبين المراد، اندفع بمجرد التصوير السؤال. وإن حكمنا بأنه لا بد من إسقاط الأجرة بجملتها إن أراد السهم، فالمراد منه أن نهضته إن كانت مقصورة على جلب الأجرة، لم يقصد الجهاد؛ فإن أراد أن يصرف نهضته إلى جهة [الغزو] (8) فيسقط حقه الأول، حتى يُقدَّر كأنه لم يخرج لمّا خرج إلا غازياً.

_ (1) في الأصل: وإذ لم إن كنا. (2) في الأصل غير مقروءة وكذا في (س) انظر صورتها فيهما. والمثبت تصرف منا. (3) في الأصل: لا ينوع (انظر صورتها). (4) صحفت في الأصل بصورة غير ذات معنى (انظر صورتها). ثم المكافحة: المراد المواجهة من قولهم: كافح القوم أعداءهم: استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترس (المعجم). (5) في الأصل: أو. (6) في الأصل: بها. (7) في الأصل: طريات. (8) في الأصل: العدو.

ومن قال: لا يلزمه (1 أن يسقط 1) أكثر من أجرة ساعة القتال، فهذا فيه أدنى تأمل؛ [فإنا] (2) إن صورنا لطفاً في أوقات القتال، فلا يقابل شيءٌ من الأجرة وقتَ القتال، فلا معنى لإسقاط الأجرة. وإن صورنا القتال ممتدّاً في زمان يقابَل بالأجرة، فإذا اشتغل فيه بالقتال وترك العمل، سقطت الأجرة من غير إسقاط، ولم يبق لاسقاط الأجرة معنى، [وآل] (3) النظر إلى أن الأجير الذي استحق المستأجِر عملَه هل له أن يترك العمل المستحَق عليه ويشتغل بالقتال، فينبغي أن [يتأنَّق] (4) الفقيه في [توجيه] (5) هذا الوجه. والسبيل فيه أن نقول: إذا قاتل في أوقات لطيفة، وهو واقف في معظم الأوقات في الصف موقف المقاتلين، وهو في ذلك يعمل لمستأجره، وقد يكون عمله مراقبةَ الرجل أو رياضةَ [دابةٍ] (6) هو راكبها، فيتصور الإتيان بالأعَمال مع تصوير القتال وينبني على ذلك أنه يستحق (7) الأجرة؛ لأنه لم يخلّ بها، فإن أراد السهم على الوجه الذي نفرعّ عليه، فينبغي أن نسقط أجرته في مدة المعركة؛ فإنه [وإن] (8) لم يكن مباشراً للقتال في جميع المدة، [فهو] (9) في حكم المقاتل إذا قاتل في بعض المدّة، فقد اجتمع القتال وتوفية الأعمال، والتخير بين إسقاط أجرةٍ وجبت وبين طلب الأجرة وترك السهم. وعماد هذا الفصل أن من جاء مجاهداً وجرّد قصده في الغزو، فلو وقف في الصف، ولم يقاتل، لكفاه ذلك في استحقاق السهم، لا خلاف فيه، ومن لم يتجرد

_ (1) ما بين القوسين سقط من (س). (2) في الأصل: فأما. (3) في الأصل: ذاك. (4) في الأصل: يرافق. (5) في الأصل: تصوير. (6) في الأصل: الدابة. (7) (س): ألا تسقط الأجرة. (8) زيادة من (س). (9) سقطت من الأصل.

قصده في الجهاد، فمجرد الوقوف من غير قتال، هو الذي فيه الكلام، والذي ذكره الأصحاب في تقسيم حال الأجير، حيث قالوا: "إن لم يقاتل، لم يستحق السهم". أرادوا إذا وقف في المعركة، ولم يتعاط قتالاً، فخرج من ذلك أن الوقوف قتالٌ في حق من جرّد قصدَه، وليس هو قتالاً في حق الأجير على موجب هذه الطريقة، وسنذكر ترتيباً يخالف ذلك في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. وإن تعاطى القتال، ففيه الأقوال، كما قدمناه. 7758 - ولو حضر البقعة تاجراً، فالذي ذكره بعض الأصحاب في الترتيب أنه إن قاتل، استحق السهم، وإن وقف في الصف ولم يقاتل، ففي استحقاق السهم قولان، والتجارة أضعف من الإجارة؛ فإنها ليست من الأشغال الشاغلة، ويتأتى الجمع بينها [وبين غيرها من الأشغال، وأيضاً؛ فإن التاجر لا يُستَحقُّ عليه] (1) عملٌ سوى القتال بسبب اشتغاله بالتجارة، وإبرامه عزمه عليها، والأجير كالعبد؛ من جهة أنه مستحَقُّ المنفعة، فاقتضى هذا الافتراقُ قلبَ الترتيب وإجراءه على مقتضى ما ذكرناه في الأجير، فإنا قلنا: إن الأجير إن لم يقاتل، لم يستحق السهم، وإن قاتل، ففي استحقاقه الخلاف المقدم، ونقول في التاجر: إن قاتل استحق، وإن وقف ولم يقاتل، ففي المسألة قولان. 7759 - ولو كان في أيدي الكفار أسير من المسلمين، فأفلت ذلك الأسير من ربطهم وتحيز إلينا، فالذي أجراه الأصحاب أنه إن قاتل، استحق السهم، وإن وقف في صف المسلمين، ولم يقاتل، ففي المسألة قولان، على الترتيب الذي ذكرناه في التاجر، ووجه التشبيه أنه يليق بحال الأسير إذا أفلت أن يقصد مقاتلة الكفار، والاشتفاء منهم، وليس يتحقق فيه ما ذكرناه في الأجير من كونه مستغرق المنفعة مستحَق العمل، فرأى الأصحاب تشبيه الأسير بالتاجر في الترتيب. 7760 - ومما ذكره الأصحاب أن الإمام إذا استأجر من سهم المصالح أجيراً للقتال،

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

فقد أطلق الأصحاب أن ذلك جائز، ثم قالوا: إذا [حضر وقاتل] (1)، فهل يستحق السهمَ؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قطع بأنه لا يستحق السهم، لأن عينَ قتاله مقابلٌ بالأجرة، فيستحيل أن يقابله استحقاقُ السهم، وليس كالمستأجَر على الخدمة والسياسة (2)؛ فإنه [إن] (3) قاتَل، فليس [قتالُه مقابلاً] (4) بالأجرة قصداً. ومن أصحابنا من جعل المستأجَر على القتال بمثابة المستأجر على الخدمة والسياسة، وجعل المسألة في استحقاق السهم على الأقوال التي ذكرناها. ويخرج من هذا الترتيب أن سبب المستأجر على القتال أقوى من سبب المستأجر على [غير] (5) القتال من الأعمال، والاستئجار على الأعمال أقوى من التجارة، وإفلات الأسير. فهذا ترتيب جماهير الأصحاب. 7761 - فإن [اعترض] (6) على الفقيه إشكال في استئجار الإمام طائفةً على الجهاد، فلا ينبغي أن يستبعد ذلك على شرط الضبط بالمدّة، فإن فروض الكفايات يجوز الاستئجار على معظمها، كحمل الجنائز [وحفر] (7) القبور، وما في معناها، [وسنجمع] (8) في ذلك قولاً ضابطاً في أول كتاب الصداق، إن شاء الله عز وجل. والذي يجب الاعتناء به في تصوير الإجارة إعلام العمل، وهذا [قد] (9) يغمض مع ذكر المدّة؛ لأنّ غوائل القتال وما تمس الحاجة إليه لا ينضبط. هذا فيه بعض

_ (1) في الأصل: حضره وقاتل. (2) والسياسة: أي سياسة الدابة. (3) ساقطة من النسختين. (4) في الأصل: بمثابة مقاتلاً. (5) في الأصل: عين. (6) في الأصل: اعتراض. (7) (س): وحمل. (8) في الأصل: ونستجمع. (9) في الأصل: به.

النظر، ويمكن فرض بذل العوض (1) في معرض الجعالة، حتى تكون المعاملة أقبل للجهالة، فهذا مجموع ما أبهمه الأصحاب وأرسلوه من المسائل، مع مزيد شرح في التنبيه على المراتب. 7762 - وذكر الشيخ أبو بكر في خاتمة هذا الفصل ما يشفي الغليل، وقال: كل مسألة قلنا فيها: إن لم يقاتل، لم يستحق السهمَ، وإن قاتل، فعلى أقوال، فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا: يستحق المقاتل، ففي الواقف قولان. وكل مسألة قلنا فيها: إن قاتل، استحق، وإن وقف، فعلى خلاف، فمن أصحابنا من قال فيها: وإن قاتل فهل يستحق السهم؟ فعلى قولين. فيخرج من مجموع كلام الأصحاب في الإجارة والتجارة وإفلات الأسير واستئجار الإمام على عين القتال أقوال: أحدها - أن هؤلاء يستحقون إذا وقفوا وشهدوا المعركة وإن لم يقاتلوا. والثاني - أنهم لا يستحقون السهم وإن قاتلوا. والثالث - أنهم يستحقون السهم إن قاتلوا، ولا يستحقون بالوقوف المجرد. والرابع - أن (2) التاجر يستحق والأجير لا يستحق. والخامس - أنه يفصل بين أن يُسقط الأجرة أو لا يُسقطها، كما تفصل. [وينشأ] (3) قولٌ آخر [من] (4) الفرق بين المستأجر على القتال وبين المستأجر لشغل آخر، وهذا كما أشرنا إليه في الترتيب المشهور من قوة بعض الأسباب وضعف بعضها. وإذا رأينا في الأجير أن يُسقط الأجرة، فلا شيء في حق التاجر يُسقطه، وقد ينقدح على بُعد أن يُشترط تصميمه على العزم على ترك التجارة، وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه له.

_ (1) (س): بذل بعض العوض. (2) (س): أن الأجير لا يستحق، والتاجر يستحق. (3) في الأصل: مـ ـلثا (انظر صورتها). (4) في الأصل: في.

قال الشيخ أبو بكر: كأن الأقوالَ في هذه [المسائل] (1) ناشئة (2) من الخلاف في أن [القصد] (3) والنية هل تعتبر في الجهاد؟ ففيه خلاف: من أصحابنا من لا يعتبر القصدَ في الجهاد، وعلى هذا لا يبعد أن يسهم لهؤلاء، قاتلوا أو وقفوا ولم يقاتلوا. ومن أصحابنا من اعتبر القصدَ في الجهاد، فعلى هذا تنفصل الأقوال كما تقدم ذكرها. فهذا مجموع القول في هذه المسائل تأصيلاً وتفصيلاً. ثم حيث قلنا: (4 إنه يستحق السهم، فلا كلام، وحيث قلنا 4): لا يستحق السهم، فهل يستحق الرضخ، فعلى وجهين حكاهما الشيخ أبو علي والعراقيون، أنه يستحق الرضخ، ولا ينحط [عن] (5) الأطفال والمرضى في حكم المغنم، وهذا ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: لا يستحق الرضخ، فإن المعنى الذي أسقط السهم يتضمن إسقاط حقه بالكلية من المغنم، وهذا وإن كان له وجه، فالمذهب ما تقدم من استحقاق الرضخ. فرع: 7763 - إذا استأجر واحدٌ من المسلمين غازياً حتى يجاهد عنه، فالاستئجار باطل؛ فإن الجهاد مما لا يجري النيابة فيه، فلو اندفع (6) المستأجر على الغزو، ووفّى ما شرط عليه من العمل، فلا شك أنه لا يستحق الأجرة، فإن العمل لم يقع عن المستأجِر، وهل يستحق السهم؟ فعلى قولين ذكرهما الأصحاب، وقربوهما من القولين في أن المستأجَر على الحج إذا نوى [الحج عن] (7) مستأجِره، وكان الأجير

_ (1) في الأصل: المسألة. (2) (س): المسائل بأسرها ناشئة. (3) في الأصل: المقصد. (4) ما بين القوسين ساقط من (س). (5) في النسختين: من. (6) (س): تبرّع. (7) ساقط من النسختين.

صرورةً، فالحج يقع عن الأجير، وفي نفي استحقاق الأجرة اتفاقٌ بين الأصحاب، فلا أجرة، ولو صح الاستئجار على الحج، فأحرم الأجير عن مستأجِره على الصحة، ثم صرف الحجةَ إلى نفسه ظاناً أنها تنصرف إليه، وقضى المناسك على هذا القصد، ففي استحقاق الأجرة قولان، فجعل الأصحاب استحقاق السهم مع فساد الإجارة على خلافٍ، ولا شك أن هذا التردد يترتب على أن الإجارة على الجهاد، ولو صحت [من] (1) الإمام، فهل يستحق المجاهد السهمَ مع استحقاق الأجرة؟ وفيه الخلاف المقدم. فإن قلنا: إنه يستحق الأجرة والسهمَ، فإن لم يستحق الأجرة لفساد الإجارة، فلأن يستحق السهم أولى، وإن قلنا: المستأجر على الصحة إذا استحق الأجرة لا يستحق السهم، فالمستأجر على الفساد إذا لم يستحق الأجرة، فهل يستحق السهم؟ وفيه الخلاف الذي ذكرناه. والمذهب أنه يستحق. 7764 - ومما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك أن الواحد من المسلمين إذا استأجر من يغزو، ولم يقصد وقوع الغزو عنه، وإنما قصد إقامة هذا الشعار وتحصيلَ هذا الخير وصرف عائدته إلى الإسلام، ففي جواز الاستئجار من آحاد المسلمين وجهان (2) مبنيان على جواز الاستئجار على الأذان من آحاد المسلمين، وكل ذلك يأتي مستقصىً، إن شاء الله عز وجل - في أول الصداق. فرع: 7765 - قال صاحب التلخيص: إذا كان في أيدي الكفار أسير من المسلمين، فلما قاتلناهم، وانكشف القتال وانحازت كل فئة، قال: "فلو أفلت أسيرٌ بعد ذلك، فهل يستحق السهمَ؟ فعلى قولين" (3). فصوّر إفلات الأسير بعد انقضاء القتال، وهذا مأخوذ عليه عند جماهير الأصحاب؛ فإن التردد فيه إذا أفلت

_ (1) في النسختين: عن. (2) جزم النووي بعد الجواز، "لأنه إن لم يكن الجهاد متعيناً عليه، فمتى حضر الصفَّ، تعين، ولا يجوز أخذ الأجرة عن فرض العين" (ر. الروضة: 10/ 240). (3) ر. التلخيص: 461.

والحرب قائمة، فأما إذا أفلت وقد أحرز المسلمون المغانم (1) فتخيل الخلاف في استحقاق السهم بعد ذلك بعيدٌ. ثم إن تكلفنا وجهاً لما قاله صاحب التلخيص، فلعل السبيل فيه أن يفرض الأسير في الصف، وهو في أيدي الكفار، وينتهز منهم الغرة، فلعل صاحب التلخيص جعل كونه في الصف -إذا أفلت في العاقبة- وقوفَ قتالٍ، وهذا على بعده يُحْوج إلى فرض كونه مطلقاً غيرَ مربوط، ويحوج أيضاً إلى تصوير اتصاله بنا على قرب من انجلاء القتال، فلو بعد وتخلل اليوم أو أكثر، فلا يجوز تقدير الخلاف فيه. والوجه القطع بتخطئة صاحب التلخيص؛ فإن السير لا غَناء فيه، ولا وقْع لوقوفه. 7766 - ولو أسلم واحدٌ من الكفار، واتصل بنا قبل انجلاء القتال، فسبيله كسبيل الغزاة، [حتى] (2) يستحق السهم بالوقوف وإن لم يقاتل، فإنه يغلب على حاله وقد ترك دينه قصدَ الذبّ عن دين الله تعالى وليس كالأسير منا [يفلت؛ فإنه] (3) يغلب عليه قصد الفوز والنجاة، وهذا يضعف قصده في القتال، والله أعلم (4).

_ (1) (س): الغنائم فيستحيل الخلاف. (2) في الأصل: معنى، والمثبت من (س). (3) زيادة من (س). (4) إلى هنا انتهت نسخة (ح) التي اتخذناها أصلاً، بل هي نسخة وحيدة من أول: فصل: قال الشافعي: لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بربع ماله. ثم صارت (س) نصاًَ مساعداً لها من أول: فصل: أورده صاحب التقريب. واستمر الأمر على ذلك حتى انتهت (هنا) نسخة (ح). وليس في خاتمتها تاريخ النسخ ولا مكانه ولا اسم ناسخها، ولا رقم الجزء المنتهي، ولا الذي يتلوه، ولا أول عبارة منه. وكل ما جاء في هذه الخاتمة: الحمد لله صلواته على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فصل (1) قال: "ولو جاءهم مدد قبل انقضاء الحرب ... إلى آخره" (2). 7767 - إذا قاتل المسلمون وأحرزوا غنائم، وانجلى القتال، وانكشف الأعداء، ثم لحق بعد ذلك مددٌ لجند الإسلام، فمذهبنا أن المدد اللاحق بعد انجلاء القتال لا يشارك الجندَ فيما أحرزوه من المغانم. وقال أبو حنيفة (3): "إن لحقوا والجند بعدُ في دار الحرب يشتركون في المغنم، ولو تعلق جند الإسلام بدار الإسلام، ثم لحقهم مددٌ؛ فإنهم لا يشركونهم". فعندنا التعويل على الإحراز، ولا التفات إلى الدار. وهذا الفصل يتطرق إليه ضربٌ من الانتشار المحوج إلى الضبط، فالوجه نقل ما ذكره الأصحاب، ثم الاعتناء بتمهيد الأصل ورعاية الضبط، فنقول: ما يحصل في [يد] (4) الجند المجتمع من المغانم مشترك بينهم، لا يختصّ آخذ الأموال بها، وفيه سببان: أحدهما - أن ما يأخذه الآخذون إنما يقرون على أخذه لقتال المقاتلين، أو لوقوف المصطفِّين، فالأَخْذ وإن حصل من بعضهم، فهو مضاف إلى كلهم. والمعنى الثاني - أنا لو خصصنا الأموال بآخذها، لكان ذلك خرماً لسبيل السياسة، فكأن الأموال على حالةٍ مطلوبُ الخلق، فإذا حصل العلم لرجال القتال بأن المال لآخذه، لابتدروا الأموال، وتركوا القتال، ثم قد يكون ذلك سبباً لظفرة الكفار، [ومن أدنى آثار] (5) ركوبهم علينا أن يستردوا ما أخذناه، وربما يضعون السيف في

_ (1) من هنا بدأ اعتماد نسخة (س) ورقة (168 ي) أصلاً، بل هي وحيدة. (2) ر. المختصر: 3/ 191. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 460 مسألة 1614، الاختيار لتعليل المختار: 4/ 127. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل غير مقروء ما بين المعقفين، فقد رسم هكذا: "لطفره الكفار من أد ـى اا ركو ـهم عليا" كذا بدون نقط. (انظر صورتها).

المسلمين، فاقتضت مصلحة القتال أن تكون الأموال فوضى (1). وإذا نفذت طليعة من [كُثر] (2) الجند على الرسم المعتاد فيه، فإن أفادت هذه السرية المتقدمة شيئاً، لم يختصّوا به، بل يشركهم الجند فيه، إذا كانوا بحيث لا يتعدَّوْا الغوث منهم، وكذلك الجند إذا غنموا، فالسرية تشترك فيما أخذه الجند، والسبب فيه أن الغوث إذا كان لا يبعد، فالسرية المتقدمة مع كُثر الجند كالميمنة مع القلب، وهذا بيّن. ولو نفذت سريتان من الجند، فأخذت كل واحدة صوباً، فهما من [كثر] (3) الجند على بُعد، لا يبعد معه الغوث، فكل سرية [تشرك] (4) الجندَ، والجند يَشْرك كلَّ واحدة من السريتين. وهل تشرك إحدى السريتين الأخرى فيما أصابته؟ على وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها تشرك الأخرى؛ فإنهما صادرتان عن جندٍ واحد والجمع بجملتهم متناصرون. وهذا هو القياس الذي قطع به المراوزة. والوجه الثاني - أن إحدى [السريتين] (5) لا تشرك الأخرى؛ فإنها ليست متهيئة لنصر الأخرى، وإنما تستنصر كل فئة بنصر الجند إذا مست الحاجة إلى النصرة، وهذا ضعيف. والوجه الأول هو المذهب. 7768 - ووراء ما أرسله الأصحاب نظرٌ من وجهين: أحدهما - يشتمل على القول في تقريبٍ يصار إليه في معنى لحوق الغوث وتعذره، والفقيه قد يكتفي في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الأمر، والتعويل على خبر ذوي الخبرة، وقد يختلف ذلك بتوعر

_ (1) فوضى: أي شائعة لا اختصاص لأحد بشيء (المصباح). (2) في الأصل: "كر" كافُ وراء. وهو تصحيف سخيف أرهقنا كثيراً في البحث عن معنى لهذا اللفظ (كر) في المعاجم وكتب الغريب؛ لأنه تكرر أكثر من مرة. ثم ترجح لدينا أنه مصحف عن "كُثر": وكثر الشيء معظمه، وكثيره، فكُثْر الجيش أي عامته وجماعته. (القاموس والمعجم والمصباح واللسان). (3) في الأصل: "كر" مصحفة أيضاً عن كُثْر. وتكرار هذا التصحيف هو الذي أوقعنا في ظن الصحة لكلمة "كر" وجعلنا نبحث لها عن معنى كما أشرنا آنفاً. (4) في الأصل: تشترك. (5) في الأصل: الشريكين.

الطرق [وسهولتها] (1)، ويختلف بعزة الماء [ووجوده] (2)، إلى غير ذلك مما يقطع على المسافرين، ومما يقرب مسيرهم، ويسهل وصولهم، وهذا لا [بأس] (3) به على ما فيه من الإبهام، والمعتمد فيه أن السرايا وكُثر الجند إذا كانوا في مواقع يتأتى منهم التناصر والتظافر [كانوا] (4) بمثابة الجند الواحد في المعترك الواحد، وإذا تقاذفوا وتبادَوْا (5)، وكان لا يتأتى من فريق منهم الاستنجاد، وكل [فرقة] (6) مستقلة بقوتها، راكبة إلى منتهى [يقطعها] (7) عن الطوائف الأخرى، فيثبت لكل فريق حكم الاستقلال. ثم الذي يمكن ضبطه في ذلك أن تكون المسافة بحيث يتأتى الانتشار في مثلها مع مكالحة (8) العدو. ولا يشترط أن يلحق الغوث في الحال، فإن ذلك لو فرض، لكانوا [معاً] (9) على صعيد واحد، ولكن إذا كان المستنجدون بحيث لو اشتغلوا بمطاردة العدو، وأرسلوا المستنجِدَ، للحقهم الغوث قبل أن [يُصطلموا] (10)، فهذا هو المعنيُّ بالغوث. وفيه دقيقة لا تخفى على أهل الحرب، هو أنه إذا كان بين يدي الجند، وبين السرية المبتعثة مسافة الغوث، كان الأعداء مرعوبين مذعورين بإمكان المدد، وذلك يفل من [عزمهم] (11)، فيقع التواصل ناجزاً بهذا، والخوف على التقريب الذي ذكرناه.

_ (1) في الأصل: الطرق وسهولته. (2) في الأصل: بعزة الماء وجوده. (3) في الأصل: يأنس. (4) في الأصل: كانه. (5) تبادَوْا: أي تباعدوا، من قولهم: بدا فلانٌ إذا خرج إلى البادية (معجم). (6) في الأصل: فريق. (7) في الأصل: منقطعة. (8) مكالحة العدو: من قولهم: "كالحه" إذا واجهه بالخصومة (معجم). (9) في الأصل: وقفا. (10) في الأصل: يصطرموا. ويُصطلموا: أي يستأصلوا، ويُقضى عليهم (معجم). (11) في الأصل: عدتهم.

وذهب بعض الأصحاب إلى مسلك آخر، عليه يدل كلام شيخنا أبي بكر، وها أنا واصفه، قال: إذا تجرر عسكر من صوب، وكانوا ينحون (1) وطراً، فرأى من يسوسهم أن يفرق سرايا في جهاتٍ حتى [يشتمل على] (2) أطراف القطر المأموم (3)، ويكون مددهم سببَ تبدد جمهور الأعداء، وقد يروْن محاصرة قلاع على الممرّ وحفظ مراصد، ثم ينأَوْن ويبعدون، بحيث لا يلحقهم معه المدد لو تحامل عليهم العدو، ولكن صاحب الراية يفعل ذلك على وجهٍ يبعد معه تحامل جيش جرار على سرية، فإنهم يأتون من الجوانب، والراية تخفق على كُثر العسكر، [وهذا الضرب من الرأي] (4) يعصم السرايا من أن يُقصَدوا، والغرض قُطر واحد بنواحيه، فلا تعويل على الغوث، والحالة على ما وصفناها، فإذا فرض والحالة هذه إصابة مغانم من السرايا، ردّوها على الجند، وإذا أصاب الجند شيئاً [شرّكوا] (5) فيه السرايا؛ [فإنّ] (6) صَدَرَ (7) الجميع عن رأيٍ واحد، والغرض في التحقيق غزاةٌ [واحدة] (8). هذا مسلك اختاره المحققون. 7769 - وقال الشيخ أبو بكر: لو كان الإمام الذي منه الصدَرُ والوالي في بلدة، فسيّرا سرايا في جهاتٍ، فأصابوا مغانم، [ومعظم الجند هؤلاء مع صاحب الراية في البلدة] (9)، فمن فيها لا يشركون السرايا فيما أصابها (10)، وإن كانت مواقعهم في القتال غيرَ بعيدة عن غوث صاحب الراية في البلدة، واحتج هؤلاء بخبرين: أحدهما -

_ (1) ينحون: أي يقصدون ويتجهون إلى وطرٍ وغاية (معجم). (2) مطموسة في الأصل. (3) المأموم: أي المقصود. (4) في الأصل: وهذا الرأي من الضرب من الرأي. (5) في الأصل: شركوه. (6) في الأصل: فإذا. (7) صَدَر: أي صدور. والمعنى أن الجميع يتحركون برأيِ واحد، وقيادة واحدة. واستعمال المصدر بهذا الوزن، لازمة من لازمات إمام الحرمين. (8) في الأصل: "واحد" وهذا من آثار عجمة قديمة لدى الناسخ. (9) في الأصل: ومعظم الجند مع هؤلاء صاحب الراية في البلدة. (فجاء الخطأ من وضع (مع) في غير موضعها). (10) أصابها: المراد ما أصابته من الغنائم.

"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة حنين، فبعث سرية إلى أَوْطاس ثم أشركهم [فيما] (1) أصاب بأوطاس، وبين حُنين وبين أَوْطاس مسيرة ليالٍ" (2)، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارّاً بالمدينة، والسرايا تبتعث في الجهات، ويختصون بما يغنمون لا يُشرِكون المقيمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصيبون، قربت المسافة أو بعدت" (3). فتحصّل مما قاله الأصحاب مسلكان مختلفان: أحدهما - النظر إلى إمكان لحوق الغوث على النفير الذي ذكرناه، ومعتمد هؤلاء وقوعُ الجند -وإن تفرقوا- موقع الجند الواحد المتناصر، وإن كانوا كذلك، اشتركوا اشتراك الجند الواحد. وإن كانوا لا يتناصرون، فكلٌّ مستقل بقوته. وكل هؤلاء يقولون في حديث حنين: كان تجهّزه صلى الله عليه وسلم في صوب حنين. والخبر محمول على ذلك؛ فإن الحصار لم يقع قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حنين، وهؤلاء يقولون أيضاً: السرايا المنبعثة كانت [بمنأى] (4) عن غوث المقيمين بالمدينة، ويقولون: لو فرض وقوع

_ (1) في الأصل: فلما. (2) حديث سرية أوطاس رواه الشافعي في الأم: 4/ 70، ورواه عنه البيهقي في الكبرى: 6/ 335. هذا وقد قال الحافظ في التلخيص: "حديث روي أن جيش المسلمين تفرقوا فغنم بعضهم بأوطاس، وبعضهم بحنين، فشركوهم" متفق عليه من حديث أبي موسى" ا. هـ. والذي رأيتُه في البخاري ومسلم حديث سرية أوطاس، وليس فيه ذكرٌ للغنائم ولا لمشاركة من كان في حنين فيها، مع أن هذا هو موضع الاستدلال من الحديث. (ر. فتح الباري: كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، جزء 8/ 41 ح 4323، ومسلم: 2/ 1943 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما، ح 2498، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 226 ح 1482. ولفظ الشافعي في الأم: "مضت خيل المسلمين فغنمت بأوطاس غنائم كثيرة، وأكثر العسكر بحنين، فشركوهم" وعنه البيهقي بلفظه. (3) حديث "أن السرايا كانت تخرج من المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغنم ولا يشاركهم المقيمون في المدينة" رواه الشافعي في الأم: 40/ 70، والبيهقي من طريقه في المعرفة. وانظر (التلخيص: 3/ 226 ح 1481). (4) في الأصل: تأتي.

سرية بحيث يلحقهم غوث الجند المقيمين، فما يصيبونه [يشترك] (1) فيه المقيمون، ثم هؤلاء يسلمون أن هذا في الجند المتأهبين للخروج إذا بلغهم هائعة ومن عداهم، وإن قربوا إذا لم يكونوا متأهبين، فلا غوث منهم، وإن اشتغلوا بالتأهب يفوت الأمر وينزل بُعْد ذلك عن الحصول منزلة بعد المسافة هذا مسلك. والمسلك الثاني - أن يشمّر قوم لصوب، ويبتُّوا أمرهم على ناحية، كما قدمنا وصفه، فالصادرون عن رأي واحد في حكم المتناصرين وإن كانوا لا يتناصرون، وعلى هذا الجندُ المقيمون في البلد ما بنَوْا أمرَهم على التشمر لأمدٍ يشاركهم السرايا فيه. هذا منتهى كلام الأصحاب صريحاً وضمناً. 7770 - وتمام البيان أن المدد إذا وقعوا في (2) الجند في المعترك موقعاً لو شعر الجند بهم، لاستنجدوا بهم، ولكنهم لم يشعروا، ثم انجلى القتال، ثم لحقهم المدد، فالذي رأيت الأصحاب متفقين عليه أن المدد لا [يشركون] (3) الجند، وهذا يعتضد [بمسلك] (4) من لا يعتمد التناصر، ويعوّل على الصدَر (5) عن رأيٍ واحد؛ فإنه ليس بين الجند والمدد رأي جامع. ومن يعتمد التناصر ينفصل عن هذا، ويقول: عدم شعور الجند بمكان المدد يحجزهم عن الاستمداد والاستنجاد، فكان ذلك بمثابة عسر الاستمداد. وقد نجز الغرض، وضممنا فيه النشر جهدنا. 7771 - وفي بعض المصنفات وجه محكي عن القفال، أخّرته حتى لا يوثق به ولا يعدَّ من المذهب: حكى صاحب التقريب: أن القفال كان يقول: إذا انبعثت السرايا والجند بعدُ في دار الإسلام، لم يشركوا، وهذا غلط صريح، ولم ينقل أحد

_ (1) في الأصل: مشترك. (2) كذا. وهي صحيحة؛ حيث تأتي (في) مرادفة لـ (مِن). قاله ابن هشام في المغني. (3) في الأصل: يشتركون. (4) في الأصل: مسلك. (5) الصدر: الصدور. مصدر صدر يصدر صدوراً وصدَراً.

من أصحاب القفال هذا عنه، فإنّ التعويل على الدار لا يوافق مذهب الشافعي بوجهٍ؛ فإنّ معوّل الشافعي على المعاني لا على الديار. 7772 - ولو لحق المدد والحرب بعدُ قائم، نُظر: فإن لم يحرز الجند المغنم حتى لحق المدد، فما يقع آخراً [ ... ] (1) بعد لحوقهم مشترك. وإن كانوا أحرزوا مغانمهم، والحرب بعدُ [ناشبة] (2) والقوم مطاردون، فهل يُشرِك الجندُ المددَ فيما أثبتوا أيديهم عليه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم لا يشركونهم؛ فإنهم لحقوا بعد إثباتهم الأيدي عليها، فأشبه ما لو لحقوا بعد انجلاء الحرب .. والقول الثاني -وهو الأصح- إنهم يشركونهم؛ فإنّ تلك الأيدي لا [حكم] (3) لها، وهي مع قيام المطاردة ضعيفة، بل هي عرضة للاستدراج لو كان للكفار عَكْرَةٌ (4) على المسلمين. 7773 - ويتصل بهذا القولُ في القسمة، فنقول: إذا انكشف القتال، وتحاجز الفئتان، فقسمة الغنيمة جائزة، وإن كانت في دار الحرب، قال الشافعي: لو قلت: القسمة في دار الحرب أولى (5)، لم أكن مبعداً؛ فإن ذلك أنفى للغُلول وأنقى للقلوب. وإذا تبدّد المغنم، خف محمله. 7774 - ولو ثبتت الأيدي صورةً على مغانمَ والحربُ بعدُ قائمة، والمطاردة

_ (1) بياض في الأصل قدر كلمة واحدة. (2) في الأصل: ناشئة. (3) في الأصل: يحكم. (4) عكرة: أي رجعة. من قولهم: عكر يعكر (من بابي قتل وضرب) عطف ورجع (معجم ومصباح). (5) عبارة الشافعي في الأم: "السنة في قسم الغنائم أن يقسمها الإمام معجلاً على وجه النظر، فإن كان من معه كثيرون، آمنون في ذلك الموضع أن يكر عليهم عدوّهم، فلا يؤخر قسمه إذا أمكنه في موضعه الذي غنمه فيه، وإن كانت بلاد حرب" الأم: 4/ 65.

دائمة، فلو اقتسموها، فالذي رأيت للأصحاب أن القسمة مردودة. ولست أبعد تخريج صحتها على القولين في أن المدد اللاحق هل يشترك في هذه الأعيان الواقعة في أيدي الجند قبل لحوق المدد، وهذا لا بد من تخريجه على ذلك. والله أعلم. ***

باب تفريق الخمس

باب تفريق الخُمس 7775 - قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قد قدمنا في صدر الكتاب أن الغنيمة مخموسة، وكذلك الفيء، ومقصود هذا الباب المعقود إيضاح مصارف خُمس الغنيمة وخُمس الفيء. وقاعدة المذهب أنّ خمس الفيء وخمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم متساوية، سهم منها للمصالح العامة، وهو السهم الذي يُرصد للمصالح، وكان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما استأثر الله تعالى به صرف سهمه إلى المصالح. وسهمٌ لذوي القُربى، وسهمٌ لليتامى، وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل. وما ذكرناه تراجم، ونحن نذكر الآن الشرح والتفصيل. 7776 - فأول ما نذكر أن الشيخ أبا علي حكى في الشرح قولاً غريباً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انقلب إلى رحمة الله تعالى ورضوانه، ارتفع سهمه، وعادت مصارف الخُمس إلى أربعة أسهم: أحدها - لذوي القربى (1). والثاني - لليتامى، والثالث - لأبناء السبيل، والرابع - للمساكين. وهذا قول غريب لم أره إلا في طريق شيخنا أبي علي. وذهب بعض العلماء إلى أن السهم الذي كان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مصروف إلى خليفة الزمان؛ فإنه وزرُ المسلمين، [وهو] (2) الذي يقرب إلى القيام مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم تصح عندي نسبة هذا إلى أحد من أصحابنا.

_ (1) في الأصل: أحدها - لذوي القربى واليتامى. (2) في الأصل: وهذا.

وفي بعض الطرق صيغةٌ مختلّة بهذا المعنى؛ فإنّ صاحب الطريقة قال: [ظاهر] (1) المذهب أن السهم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصرف إلى خليفة الزمان، ثم ذكر مذهب السلف (2). وقوله ظاهر المذهب يشعر بخلافه، ولكنه إيهامٌ لا حاصل وراءه، فلا أصل لهذا الرمز، ولا للقول الغريب الذي حكاه الشيخ، ولا عوْد (3) إليهما. وهذا قولنا في السهم الذي يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 7777 - فأما سهم ذوي القربى، فإنه مصروف إلى بني هاشم، وبني المطلب. ونعني الذي يكون من صلب بني هاشم وبني المطلب، وهم الذين ينتمون إلى هؤلاء بالآباء لا بالأمهات، فمن كانت أمه هاشمية ولم يكن أبوه هاشمياً، فليس من بني هاشم، وإنما الانتساب إلى الآباء وانتمائهم إلى الأجداد القديمة. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من [صلبة] (4) بني هاشم، وبنو المطلب يقعون منه موقع بني عبد شمس [وبني] (5) نوفل. ثم خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب، ولم يعط غيرهم، وقد قيل: إن عثمان (6) بن عفان جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عبشمياً. فقال: يا رسول الله إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك منهم، ولكن قرابتنا وقرابة بني المطلب واحدة، وقد أعطيتهم وحرمتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ بني المطلب لم يفارقونا في

_ (1) مزيدة من المحقق على ضوء السياق كما سيظهر في السطر التالي. (2) كذا. ولعلها: مذهب الشافعي، فبهذا تكون مختلفة. (3) "لا عَوْد إليهما" قال النووي: و"هذان النقلان شاذان غريبان مردودان" (ر. الروضة: 6/ 355) وعليه فالمذهب أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده -بأبي هو وأمي- لمصالح المسلمين. (4) في الأصل: صلبته. (5) في الأصل: بنو. (6) يسوق إمام الحرمين هذا الحديث على نحو ما ساقه الشافعي في الأم: 4/ 71 إلى حد كبير. غير أن الشافعي رواه عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: أتيته صلى الله عليه وسلم أنا وعثمان بن عفان، فقلنا ... الحديث.

جاهلية ولا إسلام، وشبك بين أصابعه" (1). فأبان أن سبب اختصاصهم دون الذين هم في درجتهم من القرابة، ما كان منهم من موافقة بني هاشم في الجاهلية والإسلام وهؤلاء هم الذين حرموا الصدقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم سهمهم من خمس الغنيمة والفيء، ويقول: "إنّ الله قد أغناكم عن أوساخ أموال الناس بما أعطاكم" (2). ثم أجمع أئمتنا في الطرق أنهم يستحقون سهمهم، كانوا أغنياء أم فقراء، وهذا كما أن استحقاق الورثة للميراث لا يتخصص بالفقراء المحاويج، بل يستوي في استحقاقه الغني والمحتاج، كذلك هذا. وكذلك أجمع الأصحاب على أن سهمهم مصروف إليهم على التفاوت بين الذكر والأنثى، فللذكر سهمان وللأنثى سهم، وهذا محتوم؛ فإن سبيله سبيل الميراث، وهذا السهم مصروف إليهم صرف التركة أو صرف باقيها (3) إلى الذكور والإناث من العصبة. ولا يجوز تفضيل البعض إلا من جهة الذكورة والأنوثة كما نبهنا عليه، فأما التفضيل بسائر الفضائل والمناقب، فلا سبيل إليه. فإن قيل: صح أن رسول الله

_ (1) حديث: قرابة بني هاشم وبني المطلب رواه البخاري، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، قال البرقاني: وهو على شرط مسلم هكذا قال الحافظ في التلخيص: 3/ 216 ح 1462. وانظر (البخاري: كتاب المغازي، باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام، ح 3140، وطرفاه في: 3502، 4229، وترتيب مسند الشافعي: 2/ 125، ح 411، 412، ومسند أحمد: 4/ 81، 83، 85، وسنن أبي داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذوي القربى، ح 2978، 2979، 2980، والنسائي: كتاب قسم الفيء، ح 4137). (2) حديث "إن الله قد أغناكم عن أوساخ الناس" رواه مسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، في قصة طويلة، بلفظ: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمدٍ، ولا لآل محمد" (صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، ح 1072) قال الحافظ: وفيه عند أبي نعيم في معرفة الصحابة من حديث نوفل بن الحارث: "إن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم" (ر. التلخيص: 3/ 238 ح 1503). (3) باقيها: أي باقي التركة، بعض أصحاب الفروض.

صلى الله عليه وسلم أعطى بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل، وفاضل بينهم (1). قلنا: كان السبب أن بعضهم كان ذا أولاد بخلاف البعض، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه ونصيب أولاده (2). هذا قولنا في سهم ذوي القربى، وإن كان ذلك يقتضي التوريث بالعصوبة، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي سهم ذوي القربى الأجداد والأحفاد، فلا مزيد على ما صح النقل فيه. 7778 - فأما اليتامى، فهم يتامى المسلمين الذين لا آباء لهم، وأما المستحقون ما كانوا أطفالاً، إذ لا يُتْمَ بعد البلوغ. ولا نفضّل في هذا الصنف ذكراً على أنثى. واختلف أصحابنا في أنّا هل نشترط فقرهم؟ فمنهم من لم يشترط، وجعل الأيتام من المسلمين مستحقين لهذا السهم من الخمس، وإن كانوا أغنياء. ومن أئمتنا من قال: إنهم يستحقون إذا احتاجوا، ولا يستخقون إذا استغنَوْا (3). وهذا القائل يزعم أن اليتم

_ (1) هذه تكاد تكون عبارة الشافعي، إذ قال في الأم: "وأخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع عن الزهري عن ابن المسيب عن جبير بن مطعِم قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، ولم يعط منه أحداً من بني عبد شمس، ولا بني نوفل شيئاً، فيعطي جميع سهم ذي القربى حيث كانوا لا يفضِّل منهم أحداً حضر القتال على أحدٍ لم يحضره إلا بسهمه في الغنيمة، كسهم العامة، ولا فقير على غني، ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهماً، ويعطي الصغير منهم والكبير سواء، وذلك أنهم إنما أعطوا باسم القرابة، وكلهم يلزمه اسم القرابة. فإن قال قائل: قد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل؟ قال الشافعي: فكل من لقيت من علماء أصحابنا لم يختلفوا فيما وصفتُ من التسوية بينهم، وبأنه إنما قيل: أعطى فلاناً كذا لأنه كان ذا ولد فقيل أعطاه كذا، وإنما أعطاه حظه وحظ عياله" ا. هـ (الأم: 4/ 71). (2) خبر القسمة لسهم ذوي القربى، المشار إليه، وإعطاء بعضهم مائة وسق، وبعضهم أقل، المراد به قسمة سهمهم من خيبر، أورده ابن إسحاق في السيرة، وفيه: " ... ولعلي بن أبي طالب مائة وسق، ولعقيل بن أبي طالب مائة وسق وأربعين وسقاً، ولبني جعفر خمسين وسقاً ... ولأم الزبير، صفية بنت عبد المطلب أربعين وسقاً ... قال ابن هشام: قسمه على قدر حاجتهم، وكانت الحاجة في بني عبد المطلب أكثر، ولهذا أعطاهم أكثر". (السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 1180). (3) هذا هو المشهور، وقيل الصحيح. (ر. الشرح الكبير: 7/ 333، الروضة: 6/ 356).

يشعر بعدم الكافل، وإنما لسهم هذا لحاجة ناجزة. ثم الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب اشتراك كافة يتامى المسلمين في الاستحقاق. وانفرد القفال بأن قال: المراد يتامى المرتزقة (1) دون غيرهم، وهذا [ .... ] (2) ولم يُساعَد عليه. 7779 - وأما المساكين، فلا حاجة إلى وصفهم، وهم المساكين المذكورون في آية الصدقات، كما يأتي الكلام فيها، إن شاء الله تعالى. 7780 - وأما أبناء السبيل، فهم المسافرون، وسيأتي وصفهم في الصدقات، إن شاء الله تعالى. وقد ذهب جماهير الأصحاب إلى [أنه] (3) تُشترط فيهم [الحاجة. وحكى بعضهم] (4) وجهاً عن بعض الأصحاب أنا نصرف هذا السهم إلى كل من يَهُمّ بسفر، وإن لم تكن حاجة ماسة. وهذا غريب جداً لا تعويل عليه. والمعتبر عندنا في الباب أن كل من سمي في البابين (5)، فلا يختلف وصفه فيهما، ومن جملة ذلك أبناء السبيل. فأما الذين لا ذكر لهم في آية الصدقات، فأصحاب القرابة منهم، ولا تشترط

_ (1) يتامى المرتزقة: المراد يتامى المجاهدين أصحاب الديوان الذين يأخذون كفايتهم من الفيء، فإذا استشهد واحد منهم أو مات وترك يتيماً، فيأخذ كفايته من سهم اليتامى من الفيء، ولا يأخذ من الصدقات عند القفال، وقال الماوردي بقول القفال في المساكين، فقال في الأحكام السلطانية: "والسهم الرابع للمساكين، وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم من أهل الفيء، لأن مساكين الفيء يتميزون عن مساكين الصدقات لاختلاف مصرفهما". قال الرافعي: وقد يحتج لهذا بظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن أهل الفيء كانوا بمعزلٍ عن الصدقة، وأهل الصدقة كانوا بمعزلٍ عن الفي". (ر. الأحكام السلطانية: 127، والشرح الكبير: 7/ 333، 334) وقول ابن عباس، رواه البيهقي في المعرفة: 5/ 163. (2) كلمة طمس أولها، وما بقي منها صورته هكذا (حـ ـلف) بهذا الرسم وهذا النقط. (3) في الأصل: أن. (4) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (5) البابين: المراد باب قسم الفيء، وباب قسم الصدقات.

حاجتهم. والمعتمد في ذلك الأخبار؛ فإنه صح في الأخبار "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي سهم القرابة للأغنياء كما كان يعطي الفقراء منهم" (1). فأما اليتامى، فلا ذكر لهم في الصدقات، وليس معنا فيهم ثبت من جهة الخبر، واسمهم مشير إلى الحاجة. 7781 - ومما يتعلق بمقصود الباب أن الذي دل عليه النص وصار إليه جمهور الأصحاب أنه يجب على الإمام أن يوصّل كل سهم من هذه السهام إلى جميع المستحقين في خِطة الإسلام، لا يغادر منهم أحداً، وذلك مما يتمكن الإمام منه بأن [ينصب] (2) في [كل] (3) قُطر أميناً موثوقاً ذا خبرة ويأمره بضبط أعداد المستحقين، واتخاذ جرائد وسجلات تحوي أنساب ذوي القربى، ويضبط اليتامى وغيرَهم من مستحقي السهام. وإذا صدَرَ أمورُ الخِطة عن رأي واحد واتّسقت الطاعة وأمكنت الاستطاعة، فهذا هيّن. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أن الإمام لا يلزمه ذلك، ولكنه يأمر حتى يُصرف ما يتّفق من خمس الغنيمة في كل قطر إلى المستحقين من أهل ذلك القطر، حتى لا يحتاج إلى [جمع الجميع] (4) نقلاً (5)، ثم يلزمه [تفريقها] (6) بعد جمعها. وهذا الذي ذكروه فيه إبهام. ونحن نقول إن عنى أبو إسحاق بهذا أن يكل الإمام أهل كل قطر إلى ما يتّفق في

_ (1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي الأغنياء من سهم ذوي القربى، رواه الشافعي بلفظ: فقد أعطى صلى الله عليه وسلم أبا الفضل العباس بن عبد المطلب، وكان غنياً، لا دين عليه، ولا حاجة به، بل كان يعول عامة بني المطلب، ويتفضل على غيرهم لكثرة ماله، وما منّ به عليه من سعة خُلقه" (ر. الأم: 4/ 74). (2) مكان كلمة مطموسة. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: جميع الجميع. (5) كذا قرأناها بصعوبة شديدة، وأعاننا على ذلك أن الناسخ كتب بعدها: "ثم يلزمه تفرقها بعد نقلها، ثم ضرب على كلمة (نقلها) وكتب مكانها: (جمعها). (6) في الأصل: تفرّقها.

ذلك القطر من فيء أو مغنم حتى إن لم يكن، فلا شيء لهم -وربما [تمرّ] (1) السنون على أهل كل قطر ولا يُصيبون فيه فيئاً ولا مغنماً، ومساق هذا يقتضي لا محالة أن يُحرم قومٌ ويعطَى قوم- فإن أراد هذا، فهو مخالفُ لما عليه معظم الأصحاب والنصِّ. وإن أراد بذلك أن للإمام ألا ينقل الأخماس من الأقطار ويُقرَّ في كل قطر المقدارَ الذي يليق بأهل ذلك القطر، فهذا قريب لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، على ما شرط أنه إن خلا قطرٌ، لم يُحرم أهله، ويبعث إليهم حظهم من حيث يستصوب. 7782 - فإن قيل: أليس من يؤدي الزكاة لو أراد أن يقتصر من كل صنف على ثلاثة، كان له ذلك؟ قلنا: نعم، ولكن آحاد الناس لو تكفلوا فضّ [صدقاتهم] (2) على المستحقين في خِطة الإسلام، وما في أيديهم يقلّ على سبيل الانبساط على كافة المستحقين [ويتعذر عليهم] (3) الإمكان لو أرادوه، ولا يقبل كلُّ مقدار بسطاً، فحسمنا هذا الباب. أما الإمام، فإنه ينظر لأهل الإسلام نظر الشخص الواحد [لذويه] (4) المعدودين، حتى لو ضاع واحدٌ، [تداعى] (5) ذلك إلى انتسابه إلى التقصير في الضبط، فإذا كان يجب عليه أن يرعى آحادهم، فسبيل رعايتهم أن يبسط كل سهم على جميع مستحقيه، إذا كان يقبل الانبساط عليهم، ولو جُمع الزكوات عند الإمام، تعيّن عليه أن يرعى في الزكاة ما يرعاه في خمس الفيء والغنيمة. ولكن يعترض في الزكاة قول منع النقل؛ فإن كان الإمام يرى النقل، فإنه يلتزم في جميع الزكوات إيصالها إلى المستحقين في الخِطة. فإن قال قائل: هلا خُرّج في خمس الفيء والغنيمة قولٌ في منع النقل، كما خرج

_ (1) مكان لفظة غير مقروءة. (2) في الأصل: "صدقهم". (3) في الأصل هكذا: "على كافة المستحقين [بياض قدر ثلاث كلمات] عليا عدهم الإمكان ... ". (4) في الأصل: " لرو ـه " بدون نقط. (5) في الأصل: يراعى.

في الصدقات؟ قلنا: لا يمتنع أن يخرج، ولم يتعرض لذلك الأصحاب بالنفي والإثبات. فإن قيل: أليس حمل الشافعي قول معاذ لأهل اليمن -"إئتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة" (1) - على الفيء؟ وهذا دليل من نصه على أن الفيء يُنقل. قلنا: لا يمتنع حمله على أربعة أخماس الفيء، فإنها مُرصدة للمرتزقة والجند المعقود بالمدينة، وإنما كلامنا في مصارف الخمس. وهذا منتهى المراد في ذلك. 7783 - ومن تمامه أنا [إن] (2) أوجبنا البسط على الكافة، فإن لم يكن الفقر مشروطاً فيهم، فيجب الفضّ على كافتهم بحيث يستوي الذكور في أقساطهم، وتستوي الإناث في حصصهم، وقد تقدم أن الأصل في الباب على تضعيف حق الذكور كما تقدم. وإن شرطنا الحاجة في مستحقي بعض السهام، فلا يمكن التسوية بينهم، [ولا] (3) يتجاوز [سداد] (4) الحاجة، ويجعل الحاجات معتبره ومرجوعَه.

_ (1) حديث معاذ أخرجه البيهقي، وعلّقه البخاري. (ر. السنن الكبرى: 4/ 113، والبخاري: كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة (بعد حديث 1447)، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 242 ح 1518). هذا، وفي (تنبيهٍ) للحافظ فسّر فيه غريب الحديث قال: "خميس: المراد به الثوب الذي طوله خمسة أذرع، كأنه عنى الصغير من الثياب. وقيل: لأن أول من عمله ملِكٌ باليمن يقال له: الخميس، أمر بعمل هذه الثياب، فنسبت إليه. وقال المحب الطبري: روي: "خميص" بالصاد، فإن صح، فهو تذكير خميصة. اهـ. هذا وقد صحف في التلخيص: (ملك) إلى (مالك خميس) فأشكلت العبارة في طبعة عبد الله هاشم اليماني: 3/ 114، وطبعاً تبعه أبو عاصم في طبعة مؤسسة قرطبة، والتصويب من غريب أبي عبيد: 4/ 136. (2) زيادة لاستقامة الكلام. (3) في الأصل: ولكن. (4) في الأصل: اسداد.

وإن كان المقدار الحاصل بحيث لا تنتهي حصة واحد منهم إلى مقدار سدّ الحاجة، أفيسوي الإمام أم يعطي على قدر الحاجات؟ فإن الأشخاص وإن كانوا هم المستحقين، [فالجهة التي اقتضت الصرفَ الحاجةُ، فكان للإمام أن يرعى الكثرة في أشخاصٍ] (1) بالإضافة إلى من قلّت حاجته. وإن وقع بيد الإمام مقدارٌ [لو بسطه] (2) على أهل الخِطة [لما] (3) تُصوِّر أن ينبسط لقلّته [وكثرةِ] (4) المستحقين، فإذا تُصوّر الأمر كذلك، فالأمر مفوّض إلى اجتهاده، ثم سبيل اجتهاده أن يقدِّم بما معه الأحوج فالأحوج، وإن كانت الحاجة غير مرعية في مستحقي ذلك السهم. لا وجه غير ذلك؛ فإن التأخير على الجملة ممتنع والفضّ على الكافة غير ممكن، والتحكم لا سبيل إليه، فلا وجه إلا ما ذكرناه. 7784 - ومما ذكره الأئمة في هذا الباب أنه إذا جاء إلى الإمام إنسان، وادعى أنه من ذوي القربى، لم يعطه بدعواه حتى يثبته، فإن كان [نسبه مستفيضاً] (5)، اكتفي به، وإلا ألزمه إثباته بالبينة، [إن] (6) أراد طلبَ حقه من ذلك السهم. وكذلك لو ذكر أنه يتيم، فلا سبيل إلى اعتماد قوله؛ فإن اليتيم لا بد وأن يكون طفلاً، وقول الطفل غير مقبول، فعلى الوالي أن يبحث عن ذلك بطريق البحث عنه، ثم إذا استبان صغره، فلا بد وأن يتحقق عنده موت أبيه.

_ (1) هذه الفقرة مضطربة تماماً، وقد حاولنا إقامتها بصورة غير مُرضية لنا، ولكن لم نستطع غيرها. والعبارة في الأصل هكذا: "فالجهة التي لصرف الحاجة مكان الإمام الكثرة في أشخاص بالإضافة إلى من قلت حاجته" ا. هـ بنصه. فمن وجد لها وجهاً، فليلحقها بالكتاب، وليغفر لنا، ويدعو لنا بالعفو وحسن العاقبة. (2) في الأصل: الوسطة. (3) في الأصل: كما. (4) في الأصل: وكثرته. (5) مطموس بالأصل. وأمكن قراءته على ضوء ما بقي من أطراف الحروف، وفحوى كلام العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية. (6) في الأصل: وإن.

فأما من جاء يطلب من سهم المساكين، وذكر أنه مسكين، فلا نكلفه إقامة البينة على مسكنته، وإن كانت البينة تقام على الإعسار، ولكن نكتفي بقوله، وسيأتي شرح [ذلك] (1) وأنه هل يحلّف إذا اتُهم - في موضعه من قسم الصدقات، إن شاء الله عز وجل. ...

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

باب تفريق أربعة أخماس الفيء

باب تفريق أربعة أخماس الفيء قال: "وينبغي للإمام أن يُحصي جميع من في البلدان ... إلى آخره" (1). 7785 - مقصود الباب الكلام في أربعة أخماس الفيء، وقد قدمنا في أول الكتاب اختلاف الأقوال في أربعة أخماس الفيء، وذكرنا أن القول الأشهر أنها مصروفة إلى المرتزقة، وهم الجند المرتبون المشمرون للإجابة مهما دعوا، وللجهاد مهما ندبوا، وهم شوكة الإسلام ونجدة الملّة، ولقبهم الخاص بين الفقهاء المرتزقة، والمراد أنهم بنَوْا أمرهم على الترصد للذب عن دين الله تعالى، وطلب الرزق من مال الله. والمطوِّعة هم الذين ينهضون للغزو من غير أن يكونوا مدوّنين عند السلطان. 7786 - وأول ما نذكره في صدر الباب أن الإمام إذا كان يصرف إلى المرتزقة حقوقهم من الفيء، فينبغي أن يعرف أقدار حاجاتهم، ويضبط عيال كل واحد منهم، والذين يتصلون به ممن يمونهم، حتى إذا ثبت عنده مبالغ الحاجات، فيعطي كل واحد منهم على قدر حاجته وعياله، ثم يجرّد نظره في آخر كل نوبة؛ فإن الأحوال في قدر الكفايات لا تجري على نسق واحد، وكذلك تختلف المبالغ والأقدار باختلاف الأسعار، فليكن الجميع على ذُكْره لتكون قسمته على بصيرة وثَبت. ومما يرعاه منهم حاجاتهم في الأسلحة والمركوبات. 7787 - ثم إذا فَضَّ عليهم من الفيء ما يسدّ حاجتهم، فإن لم يفضل شيء، فلا كلام، وإن فضل شيء فما يصنع بذلك الفاضل؟ فعلى قولين مبنيين على أن أربعة أخماس الفيء ملك المرتزقة، [أم] (2) ليس لهم منه إلا الكفاية؟ وفيه قولان: فإن قلنا: ليس لهم إلا الكفاية، فالفضل يصرف إلى سائر وجوه المصالح، فإنا في هذا

_ (1) ر. المختصر: 3/ 199. (2) زيادة اقتضاها السياق.

القول لا نملِّكهم شيئاً، وإنما نكفيهم ليتفرغوا إلى الجهاد والقتال. والقول الثاني - أن أربعة أخماس الفيء ملكُ المرتزقة، فعلى هذا إن فضل عن حاجاتهم شيء، فهو مردود عليهم. وحاصل القول في هذا أنا وإن رأينا كفاية المرتزقة من المصالح، فإذا كُفوا المؤن؛ فقد كفى وتم الغرضُ. وهذا القول يوجّه بأن المرتزقة لا اختصاص لهم بسببٍ يوجب لهم الملك، بخلاف الغانمين؛ فإنهم اختصوا بإثبات أيديهم على المغانم، فكفاية المرتزقة من أهم المصالح، فإذا كفوا المؤن، فقد كفى وتمّ. فأما تمليكهم من غير صدور سببٍ منهم يقتضي الملك، فلا وجه له، فإذا ملكناهم كان السبب أنهم النجدة والعماد، وعليهم الاعتماد، ولو شغرت البلاد عن أهل الاستعداد، لهجم الكفار على الثغور، وكبسوا على المساكن والدور، فما يُظفر به من غير قتالٍ بسبب رعبٍ، فينبغي أن يستبدّ به الذين منهم الرعب، فعلى هذا تصرف الأربعة الأخماس إليهم ملكاً. 7788 - وعلى المنتهي إلى هذا الموضع أن يصرف الفكرَ إلى أمرين: أحدهما - أن المغانم تقسّم على رؤوس الرجّالة والفرسان، ولا ينظر إلى المؤن التي يلتزمها (1) كل شخص، كما ينظر إلى الكفاية في المرتزقة، والسبب فيه أن المقتضي الظاهر في الملك الاستيلاءُ وإثباتُ اليد، وهذا مما يُرجع فيه إلى القوّة الناجزة، ثم للشرع توقيفٌ في الفرسان والرَّجالة، وهو مبني على التمكن الناجز والأمر الحاضر، [وفي هذا مقنع عن النظر إلى المؤن] (2) [ولكن] (3) سبب الملك في المرتزقة الإرعاب، وذلك يخرج عن الضبط، فالتفت الشرع فيه إلى المؤن، التي يلتزمها المرتصد

_ (1) أي المؤن التي يحتاجها الفرسان والرجالة. فلا ينظر إليها عند قسمة الغنائم. (2) من خبرتنا وتذوقنا لعبارات إمام الحرمين يلوح لي أن صواب العبارة هكذا: "وفي هذا قطعٌ للنظر عن المؤن". ولكنا نلزم أنفسنا دائماً احترام النص المكتوب ما دام له وجه. مهما كان قلقاً. (3) في الأصل: وفي.

للقتال، والبدار إلى هائعة الواقعة؛ إذ ليس ذلك استيلاء محققاً فيرعى. هذا أحد ما يجب الاعتناء به. ثم المؤن التي ذكرناها ينبغي ألا تنتهي إلى حدّ السرف واشتغال المرء بما لا يعنيه، وهذا بمثابة كفايتنا مؤن العبيد، فإن كان فيهم غناء (1)، فليبلغوا ما بلغوا، وإن كانوا زمنى [ويقوم بهم] (2) مقدارٌ قريب -فقد يألف عبداً قدمت خدمته عنده- فلا (3) نَضَّايق بهذا القدر (4)؛ فإن [ذلك] (5) خروج عن قانون الباب، فأما إذا كان يعتمد جمعَ الزمنى، فلا يجاب إلى كفايتهم من الفيء. هذا أحد الأمرين اللذين رأيت الاعتناء بهما. والثاني - أن المرتزق لو كان ذا غنىً وثروة، فلا ينظر إلى ماله، ولا نقول: هو مستقلٌّ بماله، فلا نكفيه، ولكنا نكفيه من الفيء، ونترك له ماله عتيداً، لنكون أقمنا مؤنته من مال الله تعالى، فإذ ذاك يترصد لقتال أعداء الله تعالى. ثم إذا قمنا بالمؤن وكفايتها، وفضل فاضل من المؤن -والتفريع على قول الملك- فإنا نقسم الفاضل على الرؤوس بالسوية، فإن المؤن قد زالت بالكلية، فإنها غير معتبرة، والفيء مضاف إليهم ملكاً، ولا فرق. فإن قيل: هلا قسمتم الفاضل على نسبة الحاجات؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك وقد زالت الحاجات. فإن قيل: هلا فضّلتم في الفاضل الفارسَ من المرتزقة على الراجل كصنيعكم في

_ (1) غناء: أي كفاية ومعونة على القتال. وعبارة العز بن عبد السلام: "وإن اتخذ المرتزق عبيداً يصلحون للقتال، ليقاتلوا عند الحاجة، لم تجب مؤنتهم على النص. وقيل: تجب. وهو الأصح عند إمام الحرمين، وعلى النص: للإمام أن يأمر المرتزق باتخاذ عبيد لذلك، ويُكفى مؤنتهم من الفيء". ا. هـ بنصه (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم 35 يمين). وعبارة الرافعي: "فأما العبيد الذين تتعلق بهم مصلحة الجهاد، فينبغي أن يُعطى لهم، كم كانوا (ر. الشرح الكبير: 7/ 337). (2) مكان كلمتين تعذر قراءتهما. (3) جواب قوله: وإن كانوا زمنى. (4) عبر عن هذا العز بن عبد السلام، فقال: "ولو زمن عنده عبد قديم الصحبة، لم يضايق في كفايته". (ر. الغاية في اختصار النهاية: الموضع السابق نفسه). (5) مكان أربع كلمات مطموسات ذهب بها أثر بلل أصاب الأصل، فاستحالت قراءتها.

الغنيمة؟ قلنا: هذا التفاضل قد نقدّر [الفراغ] (1) منه في مقام الكفايات، إذا قمنا بسد الحاجات. فإن قيل: هلا فضلتم البعض على البعض بالمناقب والمآثر، والقرب من شجرة النبوة، والعلم والتقوى وغيرها من الفضائل؟ قلنا: هذا رأي أبي بكر: ترك التفضيل، واتبع الشافعيُّ رأي أبي بكر في هذه المسألة، وذكر مفاوضة جرت بين الخليفتين، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: "أتجعل من شهد بدراً وبيعة الرضوان واختص بالسوابق كمن يدخل في الإسلام آنفاً، قال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجرهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ" (2). وقد قال صاحب التقريب: إن اتسع المال، فرأى الإمام أن ينهج منهاج عمر، كان ذلك محتملاً، فذكر قولاً مخرجاً [عند] (3) اتساع المال، فلعله أراد بذلك أن يفاضل الإمام، ويكون في المال من التوسعة ما يرد به نُهمةَ المفضول، [ومال] (4) غيره إلى قولٍ مطلق غير مقيد باتساع المال. وكان شيخي أبو محمد يقول: التصرف في ذلك قريبٌ من التصرف في حد الشرب؛ فإنا قد نفوض الرأي إلى الإمام كما سيأتي، إن شاء الله تعالى. هذا والمذهب المعتمد ترك التفضيل، وهو الذي نص عليه الشافعي وبتَّ به جوابَه (5). وكل ما ذكرناه، والتفريع على أن أربعة أخماس الفيء ملكٌ للمرتزقة. 7789 - ومما نفرعه أن نص الشافعي تردد في أنه هل يجب تمليكُ ذراري المرتزقة أم لا يجب ذلك فيهم، بل يصرف إلى المرتزقة مقدار كفايتهم، ويفوض الأمر في

_ (1) في الأصل: الفرع. (2) خبر مفاوضة عمر وأبي بكر في العطاء (رواه الشافعي في الأم 4/ 78، والبيهقي في السنن: 6/ 348، 349، والبزار، وهو في مختصر زوائد البزار: 1/ 718، 720 ح: 1329، وفي كشف الأستار برقم 1736. وانظر التلخيص: 3/ 230 ح 1490). (3) في الأصل: عنه. (4) في الأصل: وأراد. (5) ر. الأم: 4/ 78.

الصرف إلى المرتزقة ولا نعترض عليهم؟ فذكر الأئمة قولين: أحدهما - أنه إنما يملّكهم كما تملك المقاتلة. والثاني - لا يملكهم؛ فإن هذا حق المرتزقة، وهم رجال القتال المستجمعون لصفات الغانمين الذين يستحقون السهام. والذراري ليسوا من المرتزقة، فلا معنى لتملكهم ما أُعد للمرتزقة. فإن قلنا: لا يملِّكُ الذراري، فلا كلام. وإن حكمنا بأنهم يملّكون، فقد اختلف أصحابنا في تمليك بنات المرتزقة، فمنهم من أوجب ذلك طرداً للباب، ومنهم من خصص إيجاب التمليك بالغلمان الذين يتوقع أن يبلغوا رجالاً للقتال كآبائهم. ثم الذين أوجبوا تمليك [النساء اختلفوا] (1) في زوجات المرتزقة، وليس من بنات المرتزقة، فمال الأكثرون إلى أنه لا يجب تمليكهن. وما ذكرناه لا يجرّ خلافاً في القَدْر المبذول، فإن الكل يدور على مقدار الكفاية، وفي كيفية صرف مقدار الكفاية التردد الذي ذكرناه. فالذي هو التحقيق تمليك المرتزقة قدر كفايتهم ويفوّض الأمر إليهم. ومنهم من رأى إيجاب تمليك كل واحد من المتَّصلين القدر لأجله في الكفاية. هذا بيان صوره. 7790 - ومما يتعلق بذلك أن الرجل من المرتزقة إذا مات وخلّف أولادً، فهل يجب أن يصرف إليهم من الأرزاق، وإن لم يكونوا من أهل القتال؟ فعلى قولين أيضاً: أحدهما - لا يجب؛ لأنهم ليسوا من المقاتلة، وليسوا تحت كفاية مقاتل. والثاني - يجب؛ فإن رجال المرتزقة إذا علموا أن ذراريهم لا يرزقون بعدهم لا يشمّرون للقتال، ولا يعرّضون أنفسهم ودماءهم للحتوف [وظُبات] (2) السيوف، وهم يعلمون أن صبيانهم بعدهم يضيعون وروي: "أن عمر كان لا يفرض لأولاد المرتزقة، ولا يفرض إلا للفطيم، فخرج ليلة يطوف، فمرّ بباب دار، فإذا بامرأة ولها صبيٌّ

_ (1) مطموسة في الأصل: والمثبت تقدير منا على ضوء السياق. (2) ذاهبة في الأصل: والمثبت من تقديرنا.

يبكي، وهي تقول: حكم الله بيني وبين عمر، فوقف بالباب، وقال: مالَكِ ولعمر، فقالت: إن عمر لا يفرض إلا لفطيم، وقد فطمته قبل أوانه، ففرض عمر بعد ذلك للصغير فطيماً كان أو رضيعاً". ثم إذا رأينا الفوض للصبي، فهو على قدر كفايته، وكلما يَفَع وترعرع ازدادت مؤنته، فيزيد الإمام في الفوض له. ثم إذا قام بأقدار الحاجات وآل الأمر إلى قسمة الفاضل على قول التمليك، فالذي رأيته من فحوى كلام الأصحاب أنه يختص بالفاضل رجالُ القتال والذراري يكفيهم مقدار الكفاية، وإن قلنا إنهم يملكون. هذا ما رأيته، وفيه احتمال، والعلم عند الله تعالى. 7791 - ومما يليق بقاعدة الباب أن توظيف الأعطية إلى رأي الإمام، فإن رأى أن يجعلها مسانهة (1)، فعل، وإن رأى أن يجعلها مشاهرة، فلا معترض. والذي كان عليه ديوان عمر رضي الله عنه المسانهة (2). وذلك أنّ مجالب الأموالِ المغانمُ والفيءُ. وذلك في الغالب لا يتكرر في السنة. 7792 - فإن جُمع المال وتحصّل في قبضة الوالي وانقضت المدة التي ضُربت للأرزاق، فمات بعض المرتزقة بعد نهاية المدة وجباية الخمس، [فحصة] (3) ذلك الذي مات [تكون] (4) ملكاً له محقَّقاً مصروفاً إلى ورثته، وإذا كنا نقيم الوارث مقام الموروث الغانم إذا مات قبل قسمة الغنائم، مع العلم بضعف الملك فيها قبل القسمة، فالتوريث بعد انتهاء المدة وحصول المال ليس بعيداً. 7793 - وفي كلام الأصحاب تردُّدٌ في المرتزق لو أعرض عن مقدار رزقه بعد

_ (1) مسانهة: أي سنوية سنة بعد سنة. (2) خبر أن ديوان عمر رضي الله عنه كان مسانهة، قال الحافظ: خبر تدوين عمر للدواوين رواه البيهقي في المعرفة (ر. التلخيص: 3/ 229 ح 1489، وانظر معرفة السنن والآثار: 5/ 169 ح 4016، 4017، والأم للشافعي: 4/ 81) هذا، وليس فيه أنه كان مسانهة. (3) في الأصل: فحصر. (4) زيادة من المحقق، فضلنا زيادتها بدلاً من تغيير ما بعدها إلى الرفع، وحمل الناسخ على الخطأ.

انقراض الزمان وحصول المال، فهل يسقط حطه بالإعراض، أم الملك في حصته لازمٌ له كالملك الحاصل للورثة في حصصهم؟ فالمسألة محتملة، والأظهر عندنا أن الملك لا يقرّ؛ فإن الترتيب في ديوان المرتزقة ظاهر الإشعار بقصد (1) تحصيل الرزق. والجهاد لا يحمل [إلا] (2) على قصد إعلاء [كلمة الله] (3) والذب عن الملة، فلا يقع المغنم فيه مقصوداً. هذا إذا مات المرتزق بعد المدة وجباية المال. فأما إذا جمع المال، فمات بعض المرتزقة في أثناء المدة المضروبة، فهل نقول: إنه يستحق جزءاً من حصته على قدر المدة؟ ذكر الأئمة قولين، وقربهما بعضهم من القولين في الجزية إذا مات الذمي في خلال السنة؛ فإن للشافعي قولين في أنه هل يجب مقدار من الجزية على قدر ما مضى من السنة؟ ووجه الشبه عند هذا القائل من تشبيه المدة بالمدة غير مرضي عند المحققين؛ من جهة أن مدة الجزية لا تنقص عن السنة أصلاً، وهذا توقيف شرعي متفق عليه، ومدة العطاء لا ضرب لها، ولو أراد صاحب الأمر أن يجعلها ستة أشهر أو أقل، جاز ولا معترض، وإذا كانت المدة تنقص وتنقسم ابتداءً، ولا يتصور مثل ذلك في الجزية، استبان أن [وجه] (4) البناء غير سديد. والصواب توجيه القولين المذكورين في المرتزق إذا مات من غير بناء، فمن قال: إنه يستحق مقداراً من رزقه، ويصرف إلى ورثته بنسبة المدة والمال المستحق، فهذه (5) الإجارةُ والأجرة، ثم إذا انقضى شيء من مدة الإجارة، ففُرض انفساخُ الإجارة في بقية المدة بانهدام الدار، فالأجرة تتقسط ثبوتاً وسقوطاً. ومن قال: لا يستحق المرتزق شيئاً إذا مات في خلال المدة شبّه الترصد بالارتزاق والترتيب في مرتبة الجند المعقود بالجعالة؛ فإن ما يفرض وقوعه مما يبعث فيه الجند

_ (1) في الأصل: وبقصد. (2) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (3) تقدير منا مكان كلمتين ذهبت أطرافها. (4) في الأصل: أوجه. (5) فهذه الإجارة: أي أنه شبه الارتزاق بالإجارة.

لا ينضبط ولا يتطرق إليه الإعلام المرعي في الإجارة، فتشبيه [حالة المرتزق] (1) بالجعالة أولى. ثم حكمها ألاّ يُستحق ببعض [العمل فيها شيء] (2) من الجعل المضروب. هذا بيان توجيه القولين من [ .... ] (3). فصل ذكر الشافعي رواية مالك بن أوس بن الحَدَثان عن عمر أنه قال: "ما من أحد منكم إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم أُعطِيَه أو مُنِعه" (4). ثم ذكر الشافعي وجوهاً في هذا الأمر، منها أنه قال: لعله خاطب أهل الفيء والصدقة وقال ما قال وهو منتظم في حقوقهم. ويجوز أن يقال: إنه ما من أحد من المسلمين إلا وله في أربعة أخماس الفيء انتفاع؛ فإن المرتزقة إذا رُتّبوا فيها، وكُفوا المؤن، وتشمروا لسدّ الثغور وحماية البيضة، فقد انتفع المسلمون قاطبةً بذلك، وكذلك إذا بنينا [القناطر] (5)، والرباطات، والمساجد، [فينتفع بها] (5) الناس كافة في أحوالهم، [وكأنه قال] (5) ما من أحد إلا وقد [حُطّ عنه] (5) بهذا المال فرضُ كفاية، [فإنه] (5) كما لا يجوز تضييع الفقراء [لا يجوز] (5) تعطيل الثغور، فإذا صرف هذا المال إلى سد الثغور، رجع نفعه إلى المسلمين كافة. وهذا معنى الحديث، والأمر في ذلك قريب. فصل قال: "ولم يختلف أحد لقيتُه في أن ليس للمماليك في العطاء حق، ولا للأعراب ... إلى آخره" (6).

_ (1) مكان كلمتين مطموستين تماماً. (2) مكان كلمات ذهبت ولم يبق سوى أطراف بعض حروفها. (3) مقدار كلمتين لم يبق إلا حرف (غـ) من الأولى منهما. (4) ر. الأم: 4/ 79، والسنن الكبرى للبيهقي: 6/ 347، ومعرفة السنن والآثار: 5/ 162. (5) الكلمات بين المعقفين تقدير منا مكان المطموس في هذه الصفحة. (6) ر. المختصر: 3/ 201.

7794 - وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في [عبيد] (1) المرتزقة، وهذا أوان استقصائه، فنقول: إذا [اتخذ] (2) الرجل منهم [عبيداً زمنى] (2) لا يتأتى منهم الخدمة، ولا القتال، فلا [نلتزم بنفقاتهم] (2)، ولو كان الرجل [مخدوماً] (2) فاتخذ عبداً مملوكاً لم ليخدمه، فإنا نكفيه مؤنة ذلك العبد من مال الفيء، إذ ذلك من الحاجة، وإن زاد على عبدٍ لخدمته، فقد قال الأصحاب: لا حق له [في الزائد] (2)، ويقال للسيد: أعطيناك كفايتك وكفاية عيالك، وكفاية العبد الذي يخدمك، وليس لك من جهة الكفاية غيرُ هذه، وهؤلاء العبيد إن لم يمكنك أن تنفق عليهم، فبعهم. هذا ما ذكر الأصحاب. وقد قدمنا فيما سبق أنه إذا أعد غلماناً للقتال، وكانوا صالحين، فيجب القيام بكفايتهم من مال الفيء، وليس في ظاهر النص في هذا اللفظ [تعرُّضٌ] (3) له؛ فإنه نص على أنا لا لانلتزم أكثر من مؤنة عبدٍ لخدمته. واختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أن عبيد الحرب يجب القيام بمؤنهم، كما تقدم. والذي تعرض له الشافعي عبيد التزيّن والتجمل إذا كان لا يتأتى منهم القتال. وهذا هو الصحيح. ومنهم من قال: ليس للرجل المرتزق أن يتخذ عبداً للقتال، ولكن للإمام إن رأى ذلك ابتداءً [اقترح] (4) على المرتزق أن يفعل هذا. وإن رأى أن يقيم مقام العبيد أحراراً أصحاب نجدة يترتبون في الديوان، فعل من ذلك ما استقر رأيه عليه. وفي المسألة احتمال. وظاهر النص أنا لا [نكفي] (5) من الفيء إلا خادماً واحداً. وأما إن زاد المرتزق على زوجة واحدة، فظاهر النص أنا نكفي مؤن الزوجات،

_ (1) ما بين المعقفين تقدير منا مكان الكلمات المطموسة في هذه الصفحة. (2) في الأصل: للزائد. (3) تقدير منا على ضوء ما بقى من آثارحروفها. (4) في الأصل: واقترح. (5) في الأصل: نكتفي.

وإن بلغن أربعاً، ومن أصحابنا من سلك بذلك مسلك المضايقة، ولم يذكر القيام بأكثر من مؤنة زوجة واحدة. 7795 - ثم قال الشافعي: "وعليهم أن يغزوا إذا أغزوا، ويرى الإمام في إغزائهم رأيه ... إلى آخره" (1). وهذا بكتاب السير أليق، ولكنه ذكره هاهنا، فنشير إليه، ثم نعود إلى استقصائه في كتاب السير، إن شاء الله تعالى. فنقول: حق على المرتزقة أن يتبعوا رأي الإمام وأمرَه، وإذا ندبهم إلى الجهاد، لم يتثبطوا ولم يعارضوا رأي الإمام، بل طاروا إلى الجهة التي يعيّنها. وهذا فائدة إعدادهم واستعدادهم، فلا يكون لهم مشاركة في الرأي، ويكون إلى التأني (2). ولو أراد الإمام ندبهم، فلا شك أنه يُغزي كل طائفة إلى الصوب الذي يليهم، ويكون قد رتب في كل قطر أقواماً يكتفون به. وهذا الفن يحتاج إلى فصل ثانٍ، وسيأتي مبيناً في كتاب السير، إن شاء الله تعالى. ولو أراد الإمام أن يندب طائفة من المطوّعة، فإن لم تحدث حالة يتعين القتال لها، فلا ينبغي للإمام أن يجزم أمره في ذلك؛ فإن المطّوعة ليس الجندَ المرتبين، والجهادُ في حقهم من فروض الكفايات، فلو جزم الإمام أمره من غير حادثة تقتضيه، لكان ملحقاً فرضَ الكفاية بمراتب فرائض الأعيان، وهذا لا سبيل إليه؛ فإن فعل الإمام، فهل يتعين امتثال أمره، وارتسام رسمه؛ بذلاً للطاعة على حسب الاستطاعة؟ وفيه اختلاف عظيم الوقع في حكم الإمامة، ونحن بعون الله نذكر من هذا طرفاً صالحاً في كتاب السير، إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا المحالّ التي يتعين فيها الجهاد، والمواضع التي لا يتعين فيها الجهاد، فعند ذلك [نذكر تأصيل] (3) هذا الفصل وتفصيله، إن شاء الله تعالى.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 203، والأم: 4/ 79. (2) كذا. ولعل المعنى: ويكون الإمام أميل إلى التأنِّي. (3) مطموس تماماً في الأصل، والمثبت تقديرٌ منا.

7796 - ثم قال الشافعي: "ولا يعطى مجاهد من الفيء ... إلى آخره" (1). أراد بالمجاهدين الغزاة المطّوعة الذين لم يثبتوا أسماءهم في الديوان المشتمل على [العسكر المعقود] (2) والغرض من ذلك أن أربعة أخماس الفيء مقصورة على المرتزقة [المترتبين] (3)؛ إذا جعلناها ملكاً لهم [ورددنا] (4) الفاضل من الكفاية عليهم. وإن قضينا بأنهم لا يملكون الأربعة الأخماس، ولكنها مال مصلحة، ونحن نبدأ بهم [نكفيهم] (5)، فعلى هذا لو أراد الإمام أن يصرف الفاضل من كفايتهم -الذي يجوز له صرفه إلى بناء القناطر والمساجد والرباطات- إلى طائفة من المطّوعة، فلا معترض على صاحب الأمر في ذلك؛ فإن [للنظر] (6) في مال المصالح متسعاً رحباً، وهذا بيّن، ولكن الأصل أن سهم الصدقات يصرف إلى المطّوعة، وهو المعني بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّه} [التوبة: 60] فإذا [لم يحصل] (7) ذلك السهم من الصدقات، فإنا نصرفه إليهم على الشرط الذي سنذكره في كتاب قَسْم الصدقات، إن شاء الله تعالى. وإن اتفق ذلك السهم ووضعه في أهله واقتضى الرأي مزيداً، فلا [معترض على] (8) رأي الإمام كما ذكرناه. ولو أراد الإمام أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إلى المرتزقة، لم يكن له ذلك إذا كان في مال الفيء متسع. فإن لم يكن في يده من مال الفيء شيء، وكان

_ (1) ر. المختصر: 3/ 209. (2) مطموس تماماً في الأصل، والمثبت اختيار منا. (3) تقدير منا. (4) في الأصل: وردّد. (5) في الأصل: مكفيهم. (6) في الأصل: النظر. (7) في الأصل رسمت هكذا: "فإذا م ـحدد" وهي مع ذلك متلاشية وغير واضحة. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق، وعبارة العز بن عبد السلام في مختصره، قال: "ولو صرف شيئاً من فاضل الفيء إلى المطوعة، لم يجز إلا إذا جعلناه للمصالح، وفقد كفايتهم من الزكاة" (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم 36 يمين). (8) تقدير منا حيث طمست تماماً واستحالت قراءتها.

المرتزقة مستظهرين بأموالهم، ولم يكونوا على الصفات التي [نشترطها] (1) في استحقاق سهم سبيل الله من الصدقات، فلا يجوز صرف ذلك إليهم. فإن كانوا غير مستظهرين [ولو لم نكفهم] (2)، لضاعوا، فإذا رأى الإمام والحالة هذه أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إليهم، ورأى انتهاضهم وهم المعدّون المستعدون أقرب من انتهاض المطوعة، فلا معترض على الإمام في ذلك. وهذا الطرف الآخر سيكون لنا إليه عودة، إن شاء الله تعالى - في قسم الصدقات، وهذا التنبيه الآن كافٍ. فصل 7797 - ذكر الشافعي في أثناء كلامه أن ما مع الإمام من مال الفيء إذا فضل عن كفاية المرتزقة، فهو مردود عليهم، موضوع فيهم، إذا فرّعنا على أنه ملكهم، وإن لم نره ملكاً لهم، فأقرب وجوه المصالح صرف ذلك الفاضل إلى عُدد القتال قصداً ودفعاً، وأولاها أمر الثغور والحصون، وإعداد الكُراع والسلاح، ومن وجوه المصالح أرزاق الحكام والولاة وأمر الأحزاب وهم الشُّرَط، ثم ينبثُّ النظر إلى القائمين بإظهار شعار الإسلام، وهذا مما نبسط القول فيه، ونحن نأتي به ونستقصيه في كتاب السير، إن شاء الله تعالى. وقدر الغرض منه الآن أن المشهور من مذهب الشافعي أن الإمام لا يبقي في بيت المال شيئاً من مال وجوه المصالح، ما وجد مصرفاً لها مصطرفاً فيها، فإن لم يجد، ابتدأ في ابتناء رباطات ومساجد على حسب الرأي فيها، ولا يتصور انحسام هذه الجهات من الرأي، وتأسى الشافعي في ذلك بسيرة الشيخين؛ فإنهما ما كانا يدخران مال سنةٍ، بل كانا يصرفان مال كل سنة إلى مصارفه [ويشرفون] (3) إلى ما سيكون في السنة القابلة من الفتوح، وأخماس الغنائم والفيء. وهذا وإن كان أشعر به ظاهر النص، فالذي ذهب إليه المحققون العارفون بأحكام

_ (1) هكذا قدرناها بصعوبة بالغة، ونرجو أن يكون تقديرنا صحيحاً. (2) اختيار من المحقق على ضوء المعنى وما بقي أطراف الحروف. (3) ويشرفون: أي يتطلعون.

الإيالة من الأصحاب أن الإمام لو أراد إعداد مالٍ (1) وذخيرة لجند الإسلام، أُهبةً لإلمام الملمات، ووقوع المهمات، فلا معترض عليه إذا فضل المال عن الوجوه اللائحة في المصالح. وجميع ما ذكره الأصحاب لا يخرج عن أوجه (2): أحدها - وهو ظاهر النص أنه يُخرج ولا يدّخر، ثم إن ألمت ملمة -والعياذ بالله- تعين القيام بكفايتها، فإنه يخاطب أصحاب الثروة من المسلمين. والقول في ذلك يطول، وهو من غمرة أحكام السير. والوجه الثاني - أن له أن يعد في بيت المال ذخيرة، وهو أولى من كثيرٍ من وجوه المصالح، والنظر في ذلك إليه. والوجه الثالث - أن يعد القدر الذي [أقرّه] (3) الأولون فيه باستفتاح مساجد ورباطات، فأما المصالح الدائمة، فلا يؤخر بسبب الاستعداد إذا واعد أداءُ المال شيئاً منها، وسيكون لنا في ذلك بسط، ومزيد كشفٍ، إن شاء الله عز وجل (4). ...

_ (1) إعداد مالٍ وذخيرة لجند الإسلام: أي ادخار مالٍ. (2) لقد بسط الإمام هذا الموضوع في كتابه الغياثي - أكمل بسط وأوفاه (ر: الغياثي الفقرات من 346 - 408). (3) في الأصل: أمره. (4) في نهاية نسخة الأصل، وهي نسخة وحيدة (س 339) ما نصه: تم الجزء السادس عشر من نهاية المطلب في دراية المذهب، بعون الله وتيسيره والله الموفق وعليه الاعتماد يتلوه - إن شاء الله في الجزء السابع عشر باب ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيلٍ ولا ركاب. كتبه وما قبله من الأجزاء الفقير إلى عفو الله وغفرانه الراجي لطفه ومغفرته عبد الله بن جبريل بن عبد الله الشافعى، غفر الله له ولوالديه، ولمن نظر فيه من المسلمين وذكره بالرحمة والرضوان. وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم تسليماً والحمد لله رب العالمين. اتفق الفراغ منه في العشر الأول من شهر جمادى الأخرى (كذا) أحد شهور سنة ... وثلاثين وستمائة.

باب ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيل وركاب

باب ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيلٍ وركاب (1) 7798 - ظاهر المذهب أنّ الإمام لا يقسم ذلك العقار من الفيء، بل يستغله لأهل الفيء، ويصرف مستغلاتها إلى المصارف المقدمة. وقيل: العقارات كالمنقولات، فإذا قلنا: هي مملوكة لأهل الفيء، كان سبيلها سبيل المنقولات. وقيل: إنّ الإمام إذا أحب أن يصرف رقابها إلى مصارف المنقول صرف، وإن أحب، وقفَها وسبّلها على تلك الجهات، فأمّا سواد العراق، فله بابٌ. فصل 7799 - إذا أراد الإمام أن يتخذ ديواناً للعساكر يجمع أصنافهم، وأسماءهم، كان حسناً، وينصب صاحبَ الجيش، وهو ينصب [نقباء] (2)، وكل نقيب ينصب [عُرفاء] (3)، وكل عريفٍ يحيط بأسماء معروفين مخصوصين به، فالإمام يدعو عند حاجته صاحبَ الجيش، وصاحبُ الجيش يدعو النقباء، وكل نقيب يدعو عرفاء تحت

_ (1) سقط من نسخ النهاية هذا الباب، وما بعده إلى آخر قسم الصدقات. والمثبت هنا من مخطوطة مختصر ابن أبي عصرون (صفوة المذهب) الجزء الثالث، حيث رأيناه في اختصاره يلتزم ألفاظ النهاية، وقلما يغير فيها لفظاً أو تعبيراً. (2) في الأصل: "نقيباً" والمثبت من المحقق؛ إذ المراد جمع (نقيب) كما هو واضح من قوله: "وكل نقيب". (3) في الأصل: "عُرفاً"، بضم العين وتنوين الفاء، وزن (فُعُل) بضم العين، وهو مطّرد في كل اسم رباعي، قبل آخره حرف مدّ، صحيح الآخر مثل: قضيب وقضب، وبريد وبرد؛ فلا يصح في (عريف) (عُرُف)؛ لأنه صفة، بل يجمع على (فعلاء) حيث يطرد هذا الوزن في وصف مذكر عاقل على زنة (فعيل) بمعنى (فاعل) غير مضعف، ولا معتل اللام، ولا واوي العين، مثل: بخيل وبخلاء، وعريف وعرفاء. (ر. شذا العرف في فن الصرف: 108).

رايته، وكل عريف يدعو مسمَّين تحت ضبطه وأمره، فيسهل الأمر في جمعهم وتفرقهم، وفضِّ (1) الأعطية عليهم، وندب كل فريق إلى ناحية. وحسنٌ أن يكون لكل فريق علامة يعرفون بها في الحرب، فقد كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 7800 - وأوّل من دوّن الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب؛ لمّا كثر المال، وانتشر الجند، واتسعت الخِطَّة، وتعذّر الضبط، قيل [له] (2): إن مَلِك الشام كان يدون الدواوين، فرآه رأياً، فقيل له: ابدأ بنفسك، فقال: بل أقرّ نفسي حيث كنتُ؛ أبدأ برهط رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أجراهم في سهم ذوي القربى مجرى بني هاشم، فكان رضي الله عنه إذا وجد السن في بني هاشم قدّمه، وإذا وجده في بني المطلب قدمه، وجعل رأس الديوان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم استوت له عبد شمس ونوفل، وكان هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل بني عبد مناف، [فقدم] (3) عبد شمس؛ لأنه والمطلب إخوة هاشم لأبيه وأمه، ونوفل كان أخاه لأبيه؛ فرأى تقديم عبد شمس؛ لمكان عثمان وسابقته وفضله، ثم أعطى نوفلاً. ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، ابنا قصي [أخوا عبد مناف] (4)، فقدّم عبد العزى لمكان خديجة منهم؛ فإنها بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ولمكان الزبير بن العوام منهم؛ فإنّ العوام هو ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى أخو خديجة. ثم أعطى عبد الدار، وذكر من فَضْل عبد العزى أنهم شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف المطَّيبين (5)، وهو حلفٌ جمع طوائف، وتحالفوا وتمسحوا بطيبٍ

_ (1) فضِّ العطاء فضّاً: أي قسمه، فهو مفضوض. (المعجم). (2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "فقد". (4) في الأصل: "أخو عبد مناف". (5) الصواب حلف الفضول، فلم يشهد النبي صلى الله عليه وسلم حلف المطّيبين؛ فقد كان قبل مولده عليه الصلاة والسلام.

كان معهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فحلفوا ألا يُقروا ظالماً بمكة، ولا يتركوا نصرة مظلومٍ، وكان ذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. ثم انفردت له زُهرة بن كلاب بن [مرة] (1) فدعا بها تتلو عبد الدار. ثم استوت له مخزوم بن يقظة بن مرة، ويقظة وتيم هما أخوا كلاب بن مرة، فقدم تيماً على مخزوم، لمكان أبي بكر الصديق، ثم دعا مخزوماً. ثم استوت له عديٌّ بنُ كعب بن لؤي [أخو] (2) مرة، وسهمُ وجُمحُ (3)، فكان الواجب أن يقدم عديّاً لمكان عمر ومكانة ابنته حفصة، ولم يفعل، فقدّم جمحاً على سهم، وخلط عدياً [بسهم] (4) فلما وصل إلى سهمه، كبّر تكبيرة عالية وقال: الحمد لله الذي أوصل إلي حقي (5) من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دعا عامرَ بنَ لؤي أخا كعب بن لؤي، قبيلة أبي عبيدة بن [الجراح] (6)، فقال [أبو عبيدة] (7): أكل هؤلاء يُدْعَون أمامي. فقال: يا أبا عبيدة اصبر كما صبرتُ، أو كلّم قومك -يعني قريشاً- فمن قدمك منهم على نفسه قدمتك عليه، وإن شئتَ قدمتك على نفسي. ولما انتهى إلى معاوية جعل الحارث بنَ فهر بين أسد بن عبد العزى وبين نوفل، وقدمهم على سائر قريش، سوى عبد مناف. 7801 - ثم لما فرغ عمر من قريش، دعا بالأنصار لمكانهم من الإسلام، ثم وضع

_ (1) في الأصل: "ابن عبد مناف"، والتصويب من "نسب قريش" لأبي عبد الله، المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري. (2) في الأصل: أخوا. (3) سهم وجمح ابنا عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، فهما وارثا هصيص أخي عدي ومرة، فمن أجل ذلك دعيا مع عدي. (4) في الأصل: "بجمح"، ولا يصح؛ فهو سهو واضح؛ فقد قال: "إنه قدم جمحاً". (5) في المصادر: "حظي" (ر. الأم: 4/ 81، السنن الكبرى: 6/ 264، معرفة السنن والآثار: 5/ 169). (6) في الأصل: الجراحة. (7) في الأصل: "أبي عبيدة".

قبائل العرب على الترتيب. ثم أثبت العجم، وكان معتمده في الديوان شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه (1). ذكرنا هذا تيمناً. فصل 7802 - قال صاحب التلخيص: "من أخذ شيئاً من الغنيمة غالاًّ، مالوا إلى أن يحرق عليه رحله، إذا لم يكن فيه مصحف، وروى فيه خبراً" (2). فذهب معظم الأصحاب إلى تضعيف الخبر (3)، وأنه غير معمول به، وإن صحّ، فهو منسوخ؛ لأنه لم يعمل به الخلفاء، ومنهم من وافقه، وهو بعيد. وإن كان في الرحل مصحف، فقد قالوا: "لا يحرق -وإن [أمكن] (4) إخراج

_ (1) قصة تدوين عمر للديوان رواها الشافعي في الأم: 4/ 81، 82، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى: 6/ 364، ومعرفة السنن والآثار: 5/ 169 ح 4016، 4017. (2) لم نجد هذه العبارة بهذا النّص في التلخيص، وإنما العبارة في التلخيص المطبوع بين أيدينا جاءت بهذا النص: "ولو غل من المغنم شيئاً أحرق عليه رحله، وإن كان فيه مصحف بيع وتصدق بثمنه. قاله نصاً. وهذا إذا كان الإمام عدلاً، وإذا لم يكن عدلاً، يحرّق، قلته تخريجاً" ا. هـ بنصه. (ر. التلخيص: 461). فلعل إمام الحرمين نقل عن صاحب التلخيص من كتاب آخر له، أو نسخة أخرى من التلخيص غير التي بين أيدينا، فهي طبعة لا خير فيها، ولا ثقة بها. (3) الخبر الذي وجدناه في هذه الشأن رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد والحاكم والبيهقي عن صالح بن محمد بن زائدة. فال: "دخلت مع مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، فأُتي برجل قد غلّ، فسأل سالماً عنه، فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه". قال: فوجدنا في متاعه مصحفاً، فسأل سالماً عنه فقال: بعه، وتصدق بثمنه". والحديث ضعفه البيهقي، والحافظ في التلخيص، وكذا ابن الملقن في البدر المنير. (ر. أبو داود: الجهاد، باب في عقوبة الغال، ح 2713، الترمذي: الحدود، باب ما جاء في الغال ما يصنع به؟ ح 1461، المسند: 1/ 22، الحاكم: 2/ 128، السنن الكبرى للبيهقي: 9/ 103، البدر المنير: 9/ 139، 140، التلخيص: 3/ 210 ح 2267). (4) في الأصل: كان.

المصحف وإحراق الباقي- ولكن يباع رحله ويتصدق بثمنه"، وذلك في الخبر. وهذا مما لم يُساعد (1) عليه. قال: "وإنما هذا إذا كان الوالي عدلاً" (2). وكل ذلك خبطٌ لا أصل له، وعندي أنّ الخبر إن صحّ، فهو محمول على المنافقين الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ورد في الإحراق عليهم أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن الجماعة. فصل 7803 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصطفي من المغنم شيئاً، ومنه سميت صفية، فقال بعضهم: لم يكن ذلك محسوباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان محسوباً عليه من السهم الذي كان يعده للمصالح، وكان تخصيصه بالاصطفاء ليتميز ما كان [يَرْفده] (3) له. ...

_ (1) أي صاحب التلخيص. (2) ر. التلخيص: 461. (3) يَرفِده: أي يُمسكه، من باب ضرب، رَفداً، ورِفادة (المعجم) هذا. وهي بالأصل غير منقوطة، ولا مضبوطة، ولكنها تقرأ هكذا بصعوبة.

مختصر قسم الصدقات

مختصر قَسْم الصَّدقات 7804 - قال الشافعي: "الأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... } [التوبة: 60]. ومن السنة: "أنه جاء رجلان إلى النبي عليه السلام، فسألاه الصدقة، فصعّد نظره فيهما وصوب، ثم قال: أعطيكما إن شئتما، ولا حظّ فيها لغني، ولا لذي مِرَّة سوي" (1). وأجمع المسلمون على أن الصدقات وظائف موظفة في أموال الأغنياء ومن في معناهم، والغرض الكلي منها صرف قسط من أموال الأغنياء إلى محاويج المسلمين. 7805 - ولا يجب على ملاّك الأموال الباطنة صرف زكواتها إلى الولاة، بل يتولَّوْن تفرقتها على المستحقين. وأما الأموال الظاهرة، ففي زكواتها قولان: أحدهما - يفرّقها الملاك كالباطنة، وهو المختار في الجديد. والثاني -وهو مذهب أبي حنيفة (2) - وهو القديم: أنه يجب دفعها إلى الوالي لسيرة الصديق في مانعي الزكاة؛ لأن تولي الآحاد لا يؤخذ (3) منه بسطها على المستحقين، وإذا جمعها الإمام تأتى له ذلك؛ ولأنها وظيفة كلية. أعدت للحاجات العامة، فكأنها في السَّنَة تحل محل النفقات الدّارّة (4) يوماً يوماً لمن يمونه. واختصّ ذلك بما يظهر؛ لأن للناس أغراضاً في إخفاء الأموال، وظاهرها لا يمكن إخفاؤه. ووجه الأول أنها أحد أركان الدين، فيختصّ بأدائها من اختصّ بالتزامها؛ ولأن في منع الشافعي نقلها -في قولٍ- قصد التعميم؛ لأن أهل كل بلد إذا فرّق أغنياؤهم على

_ (1) لم أصل إلى هذا الكلام منصوصاً للشافعي، لا في الأم، ولا في المختصر. فهو بمعناه. (2) ر. بدائع الصنائع: 2/ 35، البحر الرائق: 2/ 248. (3) كذا. (4) الدّارّة: أي الدائمة المستمرة. (المعجم).

محاويجهم قربت من التعميم بتولِّي الإمام، إلا أنه لم يربط أحد جواز الدفع بمنع النقل، بل يجري الخلاف في النقل وإن لم يوجب دفعها إلى الأئمة. 7806 - والأموال الظاهرة: المواشي، والمعشَّرات. والباطنةُ: النقدان، وعروض التجارة. والمعادنُ (1) إن قلنا: "واجبها صدقة" - ملحقةٌ بالظاهرة. والركازُ ألحقه بعضهم بالباطنة؛ لأنها لخفاءٍ (2) وضعاً ورفعاً، وقيل: تلحق بالمعادن. وصدقة الفطر قيل: هي من الظاهرة؛ لأن وجوبها بيّن، ومتعلّقها تواصل الوقت، وقيل: تلحق بالكفارات، ولهذا لم يتعرض السعاة لجمعها، ولو جُمعت عظمت (3) مبلغُها. وقيل: إن صدقات الأموال الباطنة كانت تسلم إلى الخليفتين، وصح أن عمر طلب من حِمَاس صدقة التجارة من أُهب كانت عنده (4)، ثم رأى عثمان أن يكل زكاة الأموال الباطنة إلى أربابها. والذي يغلب على الظن أن الخليفتين كانا يقبلان زكاة الأموال الباطنة إذا جيء بها إليهما، ولا يطلبانها، ولو كان في حق الولاة أخذ جميع الزكوات، لما حطّه عثمان، وصحّ أن السعاة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمن الخليفتين كانوا يطلبون زكوات الأموال الظاهرة، ولم يصح بحثهم عن الأموال الباطنة، وندب عثمان إلى توليها أربابها لعلمه بما يؤول الزمان إليه.

_ (1) المعادن جمع معدن، والمعدن مكان كل شيء فيه أصله ومركزه، وموضع استخراج الجوهر من ذهب ونحوه، وهو ما يعرف الآن بالمنجم، والمراد هنا بالمعادن ما يستخرجه المعدِّن (أي المستخرج) منها. (2) لخفاءٍ: المعنى أن الركاز يوضع ويدفن في الأرض في خفاءٍ، ويبحث، وششخرج في خفاء، فهو لخفاءٍ وضعاً ورفعاً. (3) كذا -بتأنيث الفعل، ووجههاً- إن لم تكن من سهو الناسخ- أن الفاعل ضمير مستتر، ومبلغُها بدل اشتمال (على ما في ذلك من تكلّف). (4) أثر عمر رواه الشافعي، وأحمد، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والدارقطني (ر. الأم: 2/ 46، مصنف ابن أبي شيبة: 3/ 183، مصنف عبد الرزاق: 4/ 96 ح 7099، سنن الدارقطني: 2/ 125، وانظر تلخيص الحبير: 2/ 246).

وإذا أوجبنا دفع زكوات الأموال الظاهرة إلى الإمام، فلو فرّقها ربها، لم تقع موقعها. وإذا قلنا: يجوز لربّ المال أن يفرقها بنفسه، فلو صرفها إلى الإمام، لجاز. فصل 7807 - في جواز نقل الصدقات قولان: أحدهما - يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... } الآية [التوبة: 60]، من غير تخصيص بأهل بلد، وإنما دلّت على اعتبار صفات استحقاق الآخذين. والثاني - لا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم" (1). وقال معاذ "من نقل صدقته وعُشرَه من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته، فصدقته وعُشره مردودان إلى مخلاف عشيرته" (2). وقيل: منع النقل يجري إذا كان مُلاّك الأموال يتعاطَوْن تفرقة زكاواتهم، فأمّا إذا تولاها الإمام، فلا يتجه القول بمنع النقل؛ لأن نظر الإمام في جميع أرباب الأموال، وجميع أهل الاستحقاق في جميع خِطة الإسلام، فيشقّ منعه من النقل. ويتجه أن يقال: يرتب الإمام في كل قطر نائباً [يأمره بذلك] (3)، فهو متيسّر، وإليه يشير قوله عليه السلام لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ في فقرائهم".

_ (1) حديث معاذ سبق تخريجه. (2) حديث معاذ في نقل الصدقة لم نجده بهذا اللفظ، وقد رواه بلفظ مقارب الشافعي في الأم، والبيهقي في السنن الكبرى، وإسناده -كما قال ابن الملقن في البدر المنير- منقطع، والحديث رواه أيضاً سعيدبن منصور بإسناد قال عنه الحافظ في التلخيص: "صحيح متصل إلى طاوس". هذا وقد اقتصر الحافظ على عزوه إلى سنن سعيد بن منصور، مع أنّ ابن الملقن في البدر المنير الذي هو أصل التلخيص عزاه أيضاً إلى البيهقي في السنن، وإلى الشافعي في الأم، فلعل الحافظ اكتفى بالصحيح. (ر. الأم: 2/ 78، السنن الكبرى: 7/ 9، البدر المنير: 7/ 400، التلخيص الحبير: 3/ 242 ح 1517). (3) في الأصل: بأمره ذلك.

فإن قلنا: يجوز النقل، فلا كلام. وإن منعناه، فنقلَها وصرفَها إلى الموصوفين، ففيه قولان: أحدهما - لا تقع موقعها، وهو القياس. والثاني - تقع موقعها، لمصادفتها أهلَ الاستحقاق. قال صاحب التقريب: من قال بهذا [يُعصِّيه] (1) ويُبرىء ذمته، ولا يمنع أن يرجع الأمر إلى كراهة، ولا [تُناقض] (2) المعصيةُ التبرئةَ. فعلى هذا من كثرت زكاة أمواله، وإذا بسطها، قاربت محاويج القطر من الكفاية، فلو اقتصر على ثلاثة من كل صنف، فقد تبرأ ذمته إذا لم يكن في القطر من يرعى المحاويج غيره، لكن يعصي بتضييع أكثرهم؛ فتجتمع له المعصية والبراءة. والحضري إذا استوطن بلدة أو قرية وماله فيها، وقلنا: لا يجوز النقل، فالمذهب أنه لا يجوز نقلها إلى قرية قريبة من بلده، منفصلةٍ عن وطنه لا يستبيح الخارج إليها الترخّص (3). وقيل: يجوز النقل إلى ما دون مسافة القصر، وهو بعيد، وفيه رفع هذا القول؛ لأنه إذا جاز النقل إليها، فهي محل الصدقة، فيجوز أن ينقل منها إلى مثلها، ويتسلسل، ويرتفع هذا القول. والصحيح هو الوجه الأول. أمّا البدوي إذا استقر في موضع من البادية، لا يبرح منه إلا براح الحضري من وطنه، فإذا منعنا النقل، فلهؤلاء النقلُ إلى ما دون مسافة القصر؛ لأنه ليس في البادية مراسم بلدة وخِطة، فهذا أقرب معتبر. وقيل: لا يجوز أن ينقلوا الصدقة بحيث يتميز مخيمهم عن مخيم الحلّة الأخرى كتميز القرية عن القرية الأخرى. وهذا لا بأس به، والأول أشهر. 7808 - فإن لم يجد في بلده إلا بعض الأصناف، فيصرف إليهم حقهم، ثم ينقل حق الباقين إليهم، أو (4) جوزنا النقل، وجب في هذه الصورة صرف فاضل الموجودين إلى من وجد منهم في بلد آخر.

_ (1) في الأصل: يُعصّي. (2) في الأصل: تناقضه. (3) أي لا يجوز نقلها ولو إلى دون مسافة القصر. (4) كذا. ولها وجه.

وإن قلنا: لا يجوز النقل إذا وجد المستحقين في بلده، فعلى هذه قولان: أحدهما - يتعين صرف حصص الغائبين إلى الحاضرين ولا ينقل أصلاً. والثاني - يتعين النقل إلى بقية الأصناف؛ لأن الأصل رعايتهم، ولأنه لو لم يجد في بلد المال مستحقاً أصلاَّ، تعيّن النقل، فكذلك إذا فُقد البعض. فإن قلنا: لا ينقل، ويفضّ على الموجودين، فلا كلام. وإن قلنا: ينقل هذه، فعلى قول منع النقل تداخل قول منع النقل وقول جوازه في الأصل، لكن إذا جوزنا في هذه النقل في هذه الصورة، نقله إلى أي موضع شاء. وإن قلنا: لا يجوز النقل في الأصل وإنما ينقل في هذه الصورة لعدم بعض المستحقين، فإنه ينقلها إلى أقرب المواضع إلى بلده، فإن وجدهم دون مسافة القصر، لم يزد عليها، وإن لم يجدهم دون مسافة القصر، فالجمهور على أنه ينقلها إلى مرحلتين، ولا يبلغ ثلاثة مراحل، ويراعي الأقرب فالأقرب، وإن زادت على مسافة القصر. وقيل: إذا جاز النقل إلى مسافة القصر، فلينقُل إلى أين شاء. والأول أصح. هذا إذا وجد في بلد الصدقة من كل صنف ثلاثة فصاعداً، وفقد بعض الأصناف جملةً. فأما إذا وجد من كل صنف واحداً أو اثنين، فقد [قيس] (1) هنا على ما إذا وجد بعض الأصناف كاملاً، وفقد بعضهم، فإن قلنا ثَمَّ يفضّ على الموجودين، فهاهنا أولى، وإن قلنا ثَمّ يجب النقل، ففي هذه [قولان] (2)؛ فجعلوا فقدان الأصناف أدعى إلى النقل من فقدان كمال العدد في كل صنف. 7809 - والمعتبر وطن المال لا وطن المالك، قال العراقيون: ينبني على [هذا أن] (3) من أهلّ عليه شوال في بلدٍ وماله في غيره، ففيه وجهان: أحدهما - أن فطرته لبلده دون بلد ماله؛ لأنه حق يجب عن البدن، وليست في حقوق الأموال. والثاني - تصرف الفطرة في مستقرّ ماله؛ لأنه يعتبر فيها [المال] (4). وبيان هذا الوجه الأخير إذا

_ (1) في الأصل: "قبل" والمثبت تصرف من المحقق؛ رعاية للسياق. (2) في الأصل: "قولاً". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: للمال.

كان معه مقدار الواجب وهو في وطنه، وقلنا: لا يجوز النقل، لزمه إخراجه، وإن لم يجد قدر الواجب في وطنه، ففيه يخرج الوجه الذي ذكرناه في اعتبار وطن المال. 7810 - ومصرف الفطرة مصرف الزكوات عند الجمهور، وقيل: تجري مجرى الكفارات، فيكفي صرفها إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين. فإن قلنا: تصرف إلى الأصناف، جاء التفصيل الذي قدمناه في النقل، وإن قلنا: تجري مجرى الكفارات المالية، فمنهم من قال: هي كالزكاة في منع النقل، ومنهم من جوّز نقلها؛ لأنها ليست من الوظائف الراتبة، فلا يتطرق إليها الحكمة التي راعيناها في منع نقل الزكاة من الانبساط على جميع البلدان؛ لأن ذلك [يحسب] (1) في الوظائف الراتبة. والوصايا المطلقة للفقراء وغيرهم هل يجوز نقلها إذا منعنا نقل الزكاة؟ وكذلك الخلاف فيما يلزم بالنذر المطلق؟ قلت (2): العجب من قوله: الفطرة ليست من الوظائف الراتبة. وهل الوظيفة الراتبة إلا ما لازمت وقتاً لا تنفك عنه، وإن لم يجب في السنة إلا مرة كزكاة المال، بل الفطرة ألزم في الترتب من زكاة المال؛ فأكثر الخلق لا تلزمهم الزكاة؛ لعدم النصاب، والفطرة لازمة لمن هو من أهل العبادة. قال: ومن لا يستوطن موضعاً ولا يستقر ماله، فلا يعتبر النقل في حقه، وجميع الأرض في حقه كالبلدة الواحدة. ولو كان يتردد في إقليم فسيح، فالظاهر أن له أن ينقل الصدقة من ذلك الإقليم، وإن كان لا يخرج منه، وفيه احتمال. ولو وجبت الزكاة وهو في بعض النواحي فقد قيل: الأولى أن يخرجها في محل وجوبها، ولم يوجب ذلك أحد من الأصحاب؛ لأن حكم الاستيطان غير ثابت للمال. ولو كانت ماشية رجل تتردد بين قريتين شتاءً وصيفاً، ولا تتعداهما، فإن لم يكن

_ (1) في الأصل: كلمة رسمت هكذا " محسـ ا " وبدون نقط. (2) القائل ابن أبي عصرون، والمتعجب من قوله إمام الحرمين.

بينهما مسافة القصر، فالذي أراه على قول المنع من النقل القطع بأنه لا يجوز إخراج الزكاة إلى غير القريتين. وإن كان بينهما مسافة القصر، ففيها احتمال ذكرناه في التردد في الإقليم. ولو اتفق وجوب الزكاة، والماشية في إحدى القريتين المتقاربتين، وقلنا: يمنع النقل، لم تتعين القرية التي وجبت الزكاة فيها لتفرقتها على الظاهر. ومن وجبت عليه الزكاة في بلد ولا يجد فيه أحداً من أهل الاستحقاق، وربما احتاج في نقلها إلى قدرها أو زيادة عليه، فقد قال بعضهم: يلزمه النقل ومؤونته وإن عظمت. ولا تحتسب من الزكاة، قال: وهذا بعيد، والأصح أنه لا يجب، ويخالف الساعي إذا جمع الزكوات، واحتاج في نقلها إلى مؤونة، حيث قلنا: تكون من نفس الزكاة. ورب المال مخير بين أن ينقلها ويلتزم مؤونتها، وبين الصبر إلى أن يجد مستحقها، ولا تنزل الزكاة في يد من وجبت عليه منزلة الوديعة حتى يقال: إن وصل إليه مستحقها سلمها إليه، بل يجب عليه أن يفضها على المستحق إذا لم تلزمه مؤونة، وإن وجبت مؤونة، فعلى الاحتمال الذي ذكرناه. ذكر العراقيون حِلَّة (1) ينتجعون في البادية ومعهم أصناف أهل الاستحقاق لا يفارقونهم، فيجب صرف زكاتهم إليهم؛ لأنهم بمنزلة المقيمين معهم. هذا على قول منع النقل. قال: وفيها احتمال يُشير كلامهم إليه؛ لأن منع النقل في حكم البعيد الذي لا يستقيم على [السبر] (2)، والأخبار وردت في المقيمين، وهؤلاء مسافرون. فصل 7811 - قال: ويجمع أهل الاستحقاق أنهم أهل الحاجة، ولكن منهم من هو محتاج إلى أخذها، كالفقراء، ومنهم من يحتاج إلى دفعها إليه كالعاملين ونحوهم، فنبدأ منهم بمن بدأ الله تعالى بذكره فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فللفقراء سهم، وللمساكين سهم، ولو جرى ذكر الفقراء في وصية، فهم

_ (1) حِلّة: أي أهل حلٍّ، أي متحضرون، أهل حضر. (2) السبر: بالباء، وهي الأصل بالياء المثناة التحتانية.

والمساكين بمثابة، وكذلك لو جرى ذكر المساكين كانوا والفقراء بمثابة واحدة. فإذا اشتمل الكلام على الفقراء والمساكين، فلا بد من مغايرة بينهما. والفقير عند الشافعي أشد حالاً من المسكين، [فالفقير] (1) الذي لا يجد شيئاً وراء الضرورة مثلاً في الملبس والمسكن، ولا يمنع أن يملك شيئاً لا موقع له من كفايته. وأما من لا يفي دخله بخَرْجه، فهو المسكين. فهما يشتركان في أنّ كل واحد منهما لا يملك كَفافاً (2) أو سِداداً (3) من عيش، وفي القدرة على الكسب الذي يردّ القوت الكافي وغيرَه من الضرورات، ولا يخرجه من الاستحقاق بصفة الفقر أو المسكنة، فالفقير الذي لايملك شيئاً ولا له كسب يرد بعض كفايته، فإن رد بعضها، فهو مسكين. وأما الصحيح الذي لا حرفة له، فمنهم من قال: يشترط في الفقر الزمانة؛ لأن الصحيح لا يخلو من نوع من الكسب يسد مسداً، ويخرجه عن كونه فقيراً، وإن لم يفِ دخله بخرجه، فهو مسكين. فإن لم نشترط الزمانة، فلا كلام، وإن شرطناها، ففي اشتراط العمى تردد؛ فإن الزَّمِن البصير يكون ناطوراً. وهذا سرفٌ، وحق الناظر في الجزئيات أن لا يغفل عن الكليات ونحن نعلم أن السلف لم ينتهوا إلى هذا الحد في التضييق. وقد قال الشافعي في موضعٍ: "الفقير الذي يتعفف عن السؤال". فمن الأصحاب من شرط عدم السؤال، وجعله متمسكه، وقيل: لا تعويل على السؤال؛ فإنّ السائل [قد] (4) يُعطى، وقد يصرف، وأيضاً؛ فإن المعروف بالفقر إذا تعفف، قصده أرباب

_ (1) في الأصل: والفقير. (2) "كَفافاً" بفتح الكاف: كفاف الشيء مثله ومساويه، والكفاف من الرزق ما كان مقدار الحاجة من غير زيادة ولا نقصان. (المعجم). (3) "سِداداً" بكسر السين، السداد ما سددت به خللاً، وسِدادٌ من عوز، أو سِدادٌ من عيش: لما يسدّ الحاجة (المعجم). (4) زيادة اقتضاها السياق.

الأموال بالكفاية، والأول يقول: السائل المضطرب (1) أوسع معيشة من المتعفف، والمسكنة لا تُنافي ضرباً من المال إذا لم يفِ الدخل بالخرج. 7812 - ومن صرف سهم الفقراء والمساكين إلى الفقراء، وظن أن ما أضيف إلى [المساكين] (2) اكتفاء بالأقل درجة [من] (3) الفقر من طريق التخفيف، وطلبُ الفقر تمسكٌ [بالأشدّ] (4) الأشق، فهذا ظن باطل (5)؛ لأن مقصود الشرع إزالة الحاجات بالزكوات؛ فقد يكون من غرضه أن يصرف إلى المساكين سهماً [ليتماسكوا] (6)، ولا يصيروا فقراء؛ فلو وجد المسكين نصاباً، وكان لا يفي بمؤونته، لم يمنع صرف الزكاة إليه -وإن التزم إخراج الزكاة- فجواز صرف الزكاة إليه ينبني على تحقق مسكنته، فيجوز الصرف إليه إلى الاستكفاء. وإن كان محترفاً بحرفةٍ تحتاج إلى آلات وهو لا يملكها، وإذا ملكها رددت (7) عليه كفافه، فله الأخذ إلى أن يُحَصِّل آلة الصنعة. وكذلك لو كان يكتسب بالتجارة ولا يتأتى منه الاتجار [إلا بألفٍ] (8)، فله أخذ الألف من الزكاة. ولو كان (9) يفتقر إلى عبدٍ يخدمه، لم يحتسب عليه إذا لم يكن العبد نفيساً، وكذلك لا يحسب عليه مسكنه اللائق بحاله، ولا يكلّف بيعه؛ فإن الحاجة إليه شديدة. وأما العبد، فإن كان المسكين يُخدم لمروءته ورتبته، فعدمه شاق على ذوي المروءات؛ فلا يمتنع أن يفرق بين هذا وبين العتق في الكفارة المرتبة؛ لأن الكفارات

_ (1) المضطرب: أي الذي يدور على الناس. (2) في الأصل: "المسكين" والمثبت تصرف من المحقق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) غير واضحة بالأصل، فيمكن أن تقرأ: (بالأصل) أو بالأسد. (5) المعنى: أن من جعل الفقراء والمساكين صنفاً وأعطى السهم للفقراء؛ ظاناً أن ذكر المساكين جاء من باب التخفيف وأن توخِّي الفقراء وإعطاءهم وحدهم إنما هو من باب التمسك بالأشق، من فعل هذا فظنه باطل. (6) في الأصل: يتماسكوا. (7) كذا. والمعنى أنها ردّت دخلاً يكفي بخرجه. (8) سقطت من الأصل بعض حروف؛ فقد رسمت هكذا: "الاتجارا بالف". (9) "ولو كان ... إلخ": أي المسكين.

تتطرق إليها توسعات؛ [منها] (1) أنها ليست على الفور، وليس في الانتقال من أصلٍ إلى بدلٍ إسقاطُ الكفارة، والزكاة [وجبت] (2) لسدّ حاجةٍ حاقة. فإن كان يتضرر بترك الخدمة لضعفه أو لنقص بصره، فإن العبد لا يحسب عليه، فهذا متجه، فأما الفقير، فلا يحتمل حاله ملك مسكن ولا عبد. [ولو سلّم] (3) من عليه الزكاة إلى عبد المسكين بإذن سيده وقعت موقعها، والعبد آلةٌ، وإن لم يكن بإذنه، ففيه خلاف ذكرناه في قبول العبد الوصية والهبة بغير إذن سيده، فإن لم يكن سيد العبد من أهل الاستحقاق، لم تقع الموقع؛ لأن العبد وسيده ليسا من أهل الزكاة، وإن كان العبد محتاجاً؛ لأنّا نشترط مع الحاجة كونه أهلاً للملك، العبد وإن قلنا: يملك بتمليك سيده، فملكه ضعيف لا يكتفى به في التمليك المشروط في تأدية الزكاة، كما لو قال لعبده: ملكتك ما تحتشه، أو تحتطبه، أو تصطاده، أو تتهبه؛ فإنه إذا وُجد شيء من هذه الأسباب، لم يملك بها العبد -وإن قلنا: يملك بتمليك سيده- لأن الملك لا يحصل إلا من جهة السيد في ملكٍ حاصل، وتمليكُ الأسباب لا يملّك العبد ما يَحصل بها. ولا يجوز صرف شيء من سهم المساكين إلى المكاتب؛ لما ذكرناه من ضعف الملك. ولا يجوز صرف الزكاة إلى صبي، وإن كان فقيراً أو مسكيناً، إلا أن يقبلها له وليه، أو منصوبٌ من جهة الحاكم. 7813 - وإن كان للمسكين من تلزمه نفقتُه، ففي جواز صرف سهم المساكين وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأنه مكفيٌّ بنفقة قريبه؛ فهو كالكسب الدارّ بقدر حاجته، وهو القياس. والثاني - يجوز؛ لأن النفقة تجب عليه لمسكنته؛ فهي توجب الاستحقاق من الوجهين (4) على البدل، فإن سبقت الزكاة إليه، فلا نفقة له، وإن

_ (1) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: " اد ـلها ". (2) في الأصل: "ووجبت" بواوين. (3) في الأصل: "ويسلّم" والمثبت تصرفٌ من المحقق. (4) الوجهين: أي توجب المسكنة نفقتَه على قريبه، وكفايته من الزكاة، على البدل.

سبقت النفقة، فقد اكتفى، لكنه لا يستغني بنفقة يومه، وقد يستغني بما يأخذه من الزكاة. والوجهان في زوجته المكفيّة بنفقته. ونفقةُ الزوجية أولى بمنع صرف سهم المساكين؛ لأنها لا تسقط بالغنى، فهو كريع وقف عليها، ومن له ما يكفيه من ريْع عقار لا يصرف إليه من سهم المسكنة؛ فعلى هذا لو نشزت، سقطت نفقتها، ولم تستحق من سهم المساكين لقدرتها على العود إلى الطاعة؛ فتعود نفقتها، فهو كقدرتها على الكسب. ولو سافرت في شغلها بإذن الزوج، فإن قلنا: تسقط نفقتها، جاز أن تأخذ من سهم المساكين -حيث نجوِّز نقل الزكاة-؛ لأن نفقتها سقطت ما دامت مسافرة. قال: وفيه نظر؛ لأنها قادرة على الرجوع، فيظهر في زمان قدرتها على العود تردد، وما ذكروه أظهر؛ لأنه يجوز لها المكث، فإذا مكثت، لم تكن قادرة على العود في ذلك اليوم، وكذلك كل يوم يتجدد؛ ولأنها وإن خرجت بالإذن، فهي المتسببة إلى إسقاط نفقتها؛ لأنها وإن أذن لها، فسقوط نفقتها لتقلّبها في حظ نفسها. قلت (1): وفيما ذكره [وحكاه] (2) نظر؛ فإنها استحقت نصيباً بالمسكنة فسفرها وإقامتها سواء؛ فإنه بأخذها نصيب المسكنة، لا تمنع من السفر. قال: ولو نشزت في غيبة زوجها، وقلنا: لا تعود نفقتها بعودها إلى الطاعة ما لم ينته الخبر إلى الزوج، ففي جواز صرف شيء من سهم المساكين إليها احتمال، لانتسابها إلى النشوز أولاً. قلت: ولا ينبغي أن يكون في جواز صرف شيء من سهم ابن السبيل إليها خلاف؛ لأن نفقة الزوجية تسقط بسفرها على قول. ولا ينبغي أن يجري خلاف في جواز أخذها من سهم الغارمين إذا ثبت غُرمها؛ لأن نفقة الزوجية للكفاية لا لقضاء الدين.

_ (1) القائل ابن أبي عصرون. (2) هكذا قدرناها على ضوء ما ظهر وبقي من أطراف الحروف وظلالها.

7814 - أما صرف الأب الزكاة إلى ولده المسكين أو ولده [الفقير] (1) من سهم [الفقراء] (2) أو المساكين، فلا يجوز اتفاقاً؛ لأنه إذا صرفه إليه اكتفى في يوم أو أيام، فتسقط نفقته، فيصير المال الواحد [محتسباً] (3) من الزكاة، مسقطاً للنفقة. ويجوز أن يصرف إليهما من سهم الغارمين إذا كان عليهما دين؛ لأن القرابة لا توجب قضاء الدين، فتغسله (4) الزكاة، فيكون القريب كالأجنبي فيه، وسهم الفقر والمسكنة للكفاية، وهي واجبة على القريب. أما الزوج إذا أراد أن يصرف إلى زوجته من سهم المسكنة، فهو كالأجنبي في ذلك؛ لأن نفقة الزوجية لا تسقط بوقوع الكفاية. 7815 - ولا يجوز لرب المال أن يصرف من زكاته إلى واحدٍ من سهمين بأن يكون غارماً ومسكيناً. هذا ظاهر المذهب (5)؛ لأنا فهمنا اعتناء الشارع ببث (6) الصدقات على الأشخاص، فلا بد من رعاية ذلك، كما لا يجوز أن يرث الإنسان بقرابتين [اجتمعتا] (7) فيه، وإن لم تحجب إحداهما الأخرى. وقيل: يجوز الصرف إلى واحدٍ من سهمين بسبب الاستحقاق للصفات، وقد تجمعت. وقيل: يجوز الجمع بين سهم المسكنة وسهم الغرم لإصلاح ذات البين،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل رسمت هكذا: "معرياً" تماماً. (4) كذا. (5) على هذا استقر المذهب؛ إذ اختاره النووي، وحكاه عن جمع من أئمة المذهب، وقال: "إنه الأصح" (ر. المجموع: 6/ 219). (6) كذا. وهي من بث الشيء يبُثه: فرّقه ونشره (المعجم). (7) في الأصل: أجمعنا. وهذا فيمن اجتمع فيه جهتا فرض، فلا يعطى بهما، أما من اجتمع فيه جهة فرضٍ، وجهة تعصيب، فهو يرث بهما كزوجٍ هو ابن عم في نفس الوقت. ولا يتصور اجتماع جهتي الفرض إلى عند من يستبيحون نكاح المحارم كالمجوس، فإذا أسلموا أو ترافعوا إليها، لا نورث بالقرابتين، وفد يتفق ذلك في المسلمين بغلطٍ واشتباه. (ر. الروضة 6/ 44).

وإن كان [لمصلحة] (1) نفسه، لأنهما جميعاً يرجعان إلى الكفاية. ولا يجوز الجمع بين سهم الفقر وسهم المسكنة بحال؛ لأنهما يتناقضان، فلا يتصور الجمع بينهما في شخص واحد، وإذا أجزنا الجمع بين سهمين، أجزناه بين ثلاثة وأربعة إذا اجتمعت أسبابها. ولا يجوز صرف سهم المساكين إلى مسكين واحد؛ لأن اللفظ ينبىء عن العدد مقصوداً؛ لأنه جرى ذكر كل صنفٍ بلفظ الجمع، فلا بدّ من رعايته. 7816 - للمسكين أن يأخذ قدر كفايته بحيث يفي دخله بخرجه، ولا يتقدّر بمدة سنة؛ فإن الذي يملك [عشرين] (2) ديناراً يتَّجر بها، ولا يفي دخله بخرجه مسكين في الحال، وإن كان ما في يده يكفيه لسنة، فالمعتبر أن يتموّل مالاً يحصل له منه دخل يفي بخرجه على ممرّ الزمان. وإن كان لا يحسن تصرفاً، فالأقرب فيه أن يملَّك ما يكفيه في العمر الغالب، وفيه نَبْوة (3)؛ فإنه إذا كان ابنَ خمسَ عشرةَ سنة ويحتاج في السنة إلى عشرة، يؤدي إلى أن نجمع له مالاً جمّاً لا يليق بقواعد الكفايات في العادة. والقريبُ من الفقه: إن كان يحسن التجارة، ملكناه مالاً يردُّ عليه التصرفُ فيه ما يكفيه، ولا يحطّه من الكفاية شيئاً، بل يكتفي بما هو أدنى درجات الكفاية. وإن لم يحسن التجارة، فقد نقيم له قائماً يتَّجر له، وإن عسر ذلك، قال: فالظاهر عندي أنه لا يزاد على نفقة سنة (4)؛ فإنه لا ينضبط، وللسنة اختصاص بالزكاة؛ فإنها تجب في السنة مرة، فنزلت في كفاية المحتاجين منزلة النفقة الخاصة في كفاية من ينفق عليه، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنة (5).

_ (1) في الأصل: "المصلحة". (2) كذا قدرناها على ضوء ما ظهر من الحروف، وعلى ضوء ما يفيدة السياق. (3) كذا تماماً، والمعنى وفيه بُعد، من نبا الشيء ينبو نبوة إذا بعد، والتعبير المألوف في لغة الإمام "وفيه بُعْدٌ"، وكما ترى المعنى واحد. (4) المذهب أنه يعطى كفاية العمر، قال النووي: "إنه الأصح" (ر. المجموع: 6/ 194). (5) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنة" متفق عليه من حديث عمر =

7817 - وأما الفقير، فلو صرفنا إليه مقداراً، فيخرج به عن حد الفقراء، لم يكن للغير أن يصرف إليه من سهم الفقراء، نعم من سهم المساكين. فأما الدافع الأول، فلو دفع إليه ما ينافي المسكنة دفعةً، ففيه تردد، فيجوز أن يقال: له ذلك، فالمنتَهى المرعيُّ في حق الفقير الكفايةُ، وإن كان ابتداء الدفع من سهم الفقراء، [فتُرعى] (1) غايةُ الضر، ويجوز أن يقال: لا يدفع من سهم الفقراء إلا ْأقل القليل، والمرعي أن يخرج عن حد الفقر، وهو كأكل الميتة؛ فإنه يراعى غاية الضرورة في الإقدام عليها، ويتردد في الزيادة على سدّ الرمق، قال: والأشبه عندي جواز الدفع إلى الفقير إلى الكفاية والاستقلال، فعلى [هذا] (2) لو صَرَفَ إليه من سهم الفقراء [ما] (3) أخرجه عن حد الفقر، ثم أراد هو بعينه أن يزيده من سهم الفقراء مرة أخرى، فيه (4) ترددٌ [و] (5) التفريع على جواز الدفع إلى حد الكفاية مرة واحدة، ويجوز أن يمتنع في دفعتين، لتعدد الفعل، وتميز الآخر عن الأول، ويجوز أن ينظر إلى اتحاد الدافع. هذا كله في زكاة السنة الواحدة. فإذا تعددت السنة وفي يد الفقير بقية مما كان أخذه يخرجه عن حدّ الفقر، فلا يعطيه ذلك الشخص بعينه إلا من سهم المسكنة. فرع: 7818 - إن بني هاشم [وبني المطلب] (6) لا يصرف إليهم شيء من الزكاة، وقال عليه السلام: "إن الله أغناكم عن أوساخ أموال الناس بخمس الخمس" (7). فإن

_ = رضي الله عنه (ر. البخاري: النفقات، باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، ح 5357، مسلم: الجهاد، باب حكم الفيء، ح 1757). (1) في الأصل: "فيستدعي". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) جواب (لو) في قوله: "لو صرف". (5) الواو زيادة من المحقق. والمعنى إذا فرعنا على جواز الدفع إلى حدّ الكفاية مرةَ واحدة. (6) في الأصل: "وبني عبد المطلب"، وهو خطأ ظاهر. (7) الحديث رواه مسلم: الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة، ح 1072. وانظر التلخيص: 3/ 238 ح 1503.

لم يكن في يد الإمام فيء وافتقرت طائفة من ذوي القربى، فالجمهور أنه لا يجوز أن يصرف إليهم من سهم المساكين، وقال الإصطخري: يجوز إذا لم يكن فيء؛ لأنهم حرموا الصدقة، وأقيم الفيءُ في حقهم مقامها، فإذا لم يكن فيء، حلّوا محل الأجانب الذين لا قرابة لهم. وهذا بعيد. وكما لا يصرف إليهم من سهم الفقراء والمساكين لا يصرف إليهم شيء من سهم (1) الزكاة، وإن اتصفوا بصفات الاستحقاق. فإن [كانوا] (2) عاملين، فالأصح أنه يصرف إليهم؛ لأن نصيب العامل بمثابة الأجر. وقيل: لا يصرف إليهم. وكانت الزكاة محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقة التطوع، ويشهد له حديثٌ: فإنه عليه السلام دخل بيته، فرأى بُرْمة تغلي، فخرج وعاد، [فاستطعم] (3)، فقدم إليه خبز قفار؛ فقال عليه السلام: "البرمة تفور باللحم"، فقيل: يا رسول الله إنه لحم تُصدق به على بريرة -والظاهر أنها كانت صدقة تطوع- فلم يردّ عليه السلام ذلك القول، لكنه قال: "هو عليها صدقة، ولنا منها هدية" (4). وفي تحريم صدقة التطوع على بني هاشم وبني المطلب وجهان: أحدهما - التحريم قياساً على المصطفى، والجامع استواؤهما في الصدقة المفروضة. قلت: والاستدلال بقوله عليه السلام: "نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" (5) أولى من القياس. والوجه الثاني - أن النبي صلى الله عليه وسلم يختص بتحريم صدقة التطوع. وفقه ذلك أنه عليه السلام كان مكفياً ببيت المال، وهو يُطعِم ويسقي، فلا يليق بمنصبه

_ (1) من سهم الزكاة: المراد من جنس الزكاة. (2) غير واضحة بالأصل. (3) في الأصل: فاستعظم. (4) حديث "هو عليها صدقة، ولنا منها هدية" سبق تخريجه. (5) حديث "نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" متفق عليه من حديث أبي هريرة (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 235 ح 645، التلخيص: 3/ 243 ح 1521).

العلي أن يُمتن عليه بالصدقة. وأما الفقير من ذوي القربى، فيجب كفايته، ويبعد صرف كفايته عن جهة [القربة] (1) إلى الله تعالى، فلا معنى للصدقة إلا [تحلّة] (2) يتقرب بها لله تعالى. وفي الصدقة المنذورة خلافٌ، منهم من أنزلها منزلة الزكاة، فحرمها على ذوي القربى، ومنهم من أحلها محل صدقة التطوع، وفيها الخلاف المقدَّم. فصل 7819 - قال سبحانه: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فأثبت للعامل سهماً في الصدقات. والعامل: الساعي الذي يجبي الصدقات، ومنهم الحُسّاب والكتّاب، ومن لا بد من استعماله؛ لأن الساعي لا يستقل بذلك. فإن كان ثُمن الصدقة مثل أجور أمثالهم من غير زيادة ولا نقصان، فلا كلام، وإن فضل عن أجورهم شيء، فهو مردود على بقية الأصناف، ولو نقص عن أجورهم، فلا بد من تكميلها، ففي قول: تكمل من الصدقة، فيقدم سهم العاملين رأساً، ثم يُفضّ الباقي على بقية السهام بالسوية. والقول الثاني: يكمل من سهم المصالح، ولا يعطَوْن من الصدقة زيادة على الثمن. وقيل: ليس للعامل إلا الثُّمن، فإن نقص عن أُجرة مثله، لم يكمل من موضعٍ آخر، ويلزم على هذا إذا زاد على أجرة مثله أن يأخذه بالغاً ما بلغ، وهذا بعيد، لم يبح به من قال بالأول، ويشهد لإمكانه تحريم هذا السهم على الهاشمي، وقد قيل: هي على اختلاف حالين، فإن بدأ بسهم العامل، فنقص، تممه من الصدقة، ثم يفض الباقي على السهام الباقية، وإن بدأ بسهام غير العاملين، ثم نقص سهام العاملين، لم تُنْقَض القسمة، وتمّم سهم العاملين من المصالح. قال: وليس فيه فقه، فإن اتفق هكذا، فلا يبعد ذلك، ويليق أنه إذا اتسع سهم المصالح، فرأى الإمام أن يجعل

_ (1) في الأصل: القربى. (2) في الأصل: لحله.

مؤونة العاملين منه، فالظاهر جوازه، وهذا يدل على أن ما يأخذه العامل مؤونة على الصدقة، وليس من عين الصدقة، لكنها مؤونة محسوبة على مستحق الصدقة. وللساعي أن يبذل شيئاً من الصدقة لنقلها إلى المستحقين. ويدلّ فحوى كلام الأصحاب على أنه لا يجوز حرمان العاملين من الصدقة بالكليّة، ويدل على أن ما يأخذونه صدقة؛ ولذلك حرم على الهاشمي. والمذهب ما قدمناه. 7820 - وإذا تولى رب المال تفرقة زكاة ماله، سقط سهم العامل عنه، وإن احتاج إلى مؤونة لنقلها، لم يلزمه؛ لأنها غرامة زائدة على الزكاة، ولا عدوان منه، فيُغلَّظ عليه، فإما أن يمسكها حتى يطرقه المستحقون، وإما أن يَحْتسب من الزكاة، [ما] (1) يجوز للساعي أن يحتسبه منها، ويعارض هذا أن الساعي قابض للمساكين وغيرهم، ناظر لهم نظر الولي للمَوْليّ عليه، أو نظر القاضي في أموال الغُيب، أو نظر الوكيل للموكل. ولو تلف ما يأخذه الساعي في يده، كان محسوباً على المساكين، والزكاة [ما بقيت] (2) في يد ملتزمها، فهي من ضمانه. فهذا وجه التردد. [وإذا احتاج إلى كيال يكيل العشر، فهل مؤنته من سهم العاملين؟ ذكر الأئمة فيه وجهين؛ أحدهما - أنها من سهم العاملين؛ لأن ذلك من العمل] (3) في الزكاة، وقد زُيِّف؛ وصححنا أن مؤونة الكيال على رب المال (4)، وقد بيّنّا أن من اشترى طعاماً مكايلة، فمؤونة الكيال على البائع. وسهم هؤلاء على قدر أجور أعمالهم، ولا يقسم عليهم بالسوية. وليس لوالي البلد، ولا للإمام الأعظم من سهم العاملين شيء، وما كان الخلفاء

_ (1) في الأصل: وما. (2) غير مقروءة بالأصل، ورسمت هكذا: " ما اثبـ ". (3) عبارة الأصل هكذا: "وإذا احتاج إلى كيال يكيل العُشر، فمؤنته من سهم العاملين، أحدهما أنها من سهم العاملين لأن ذلك من العمل ... إلخ" وفيها اضطراب ظاهر. والمثبت بالتعديل والإضافة من عمل المحقق، بناء على الحكم الفقهي في المسألة (ر. المجموع: 6/ 187، 188). (4) هذا هو الوجه الثاني.

يأخذون من الصدقات شيئاً، إنما حقهم في سهم المصالح إذا لم يتطوع بالعمل، فكان الصّدّيق والفاروق يأخذان من سهم المصالح قدراً دَرَراً (1) ثم ردّاه في آخر أعمارهما إلى بيت المال، وروي أن عمر بن الخطاب أرصد لنفسه ناقة من الفيء تحلب كل ليلة، فيفطر على لبنها، فأبطأت ليلة: فلم تعد من مرعاها، فحلب له من نَعَم الصدقة، وأتي به، فشربه، فأعجبه ذلك، فسأله عنه، فقيل: إنه من نعم الصدقة، فأدخل أصبعه، فاستقاءه، وغرم قيمته للصدقات (2). فصل 7821 - قال الله عز وجل: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم} [التوبة: 60] فمنهم الكفار إذا بدا لنا حسن نياتهم، ورجَوْنا إسلامهم، وقد كانوا يُعَدون من المؤلفة، والذي استقر الشرع عليه أنهم لا يعطَوْن من الصدقات شيئاً، وهل يعطَوْن من المصالح؟ قولان: أحدهما - يعطَوْن؛ لاتساع وجوه المصالح وعَوْد الفائدة إلى الإسلام. والثاني - لا يعطَون؛ لأن سهم المصالح يُعدّ للمسلمين وهؤلاء كفار. ومنهم من هو حديث عهد بالإسلام، وهم أشرافٌ، ولم تصدق نياتهم، وفي ثبوتهم مسلمين إسلامُ أتباعهم، ففيهم قولان: أحدهما - يعطَوْن من المصالح. والثاني - من الصدقات. ومنهم بطرف بلاد الإسلام يليهم كفار، إذا أعطوا، قاموا بجهادهم، ولو لم [يجاهدوهم] (3)، نحتاج إلى مؤنة مجحفة في تجهيز جيش إليهم، فيجوز الصرف إليهم بلا خلاف، لأنه مُهمٌّ من مهمات الإسلام.

_ (1) دَرَراً: جمع دارّ. والقدر الدارّ، والرزق الدارّ: أي الدائم الذي لا ينقطع، وجمعه دُرّار، ودُرّرٌ، ودَرَرٌ. (المعجم). (ولعل الصواب "قدراً داراً") والله أعلم. (2) أثر عمر رواه مالك في الموطأ، والشافعي عنه. قال في البدر المنير: هذا الأثر صحيح. (ر. الموطأ: 1/ 269، 1لأم: 2/ 72، البدر المنير: 7/ 396). (3) في الأصل: يحادهم.

وكذا لو كان [وراءهم] (1) قوم من المسلمين، إذا صرف إليهم شيء جَبوْا صدقاتهم، وأوصلوها إلى الإمام، وامتثلوا أمره، ولو أنفذ إليهم ساعياً، عظمت مؤونته؛ لأن ذلك بذل مال في مقابلة عمل، وتسميتهم مؤلفة تجوّزٌ؛ فإن قلوبهم مطمئنة بالإيمان. ومن أين يصرف إليهما (2)؟ فيه أربعة أقوال: أحدها - من المصالح. والثاني - من سهم المؤلفة من الصدقات. والثالث - من سهم سبيل الله. والرابع - من سهم سبيل الله [و] (3) من سهم المؤلفة. وعلى الرابع قيل: يخرج على الوجهين فيمن فيه سببان يستحق بهما. وقيل: يجمع للمؤلفة (4) لحاجتنا إليهم، ولا يجمع لفقير غارم، لأنه محتاج إلينا، فيجوز الجمع للمؤلفة وجهاً واحداً، والوجهان في غيرهم. قلت: ويتجه في هذين الصنفين أن يقال: يُعطى من يُرجى جبايته الصدقة من سهم العاملين؛ لأنهم قائمون بالعمالة حقيقة، وللمجاهدين من سهم سبيل الله؛ لأنهم غزاة حقيقة، ولا يعطَوْن من سهم المؤلفة. إلا أني لم أره للعراقيين. وذكر العراقيون في الأشراف (5) هل يعطون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قولين. وإذا قلنا: يعطَوْن، فمن أين؟ فيه قولان. فإن قلنا: من الصدقات فقد أجرى صاحب التقريب الأقوال التي ذكرناها فيمن في أطراف خِطة الإسلام. وإذا قلنا: يجمع بين السهام، فهل يتعين؟ قيل: يتعين. وقيل: يفوّض إلى رأي ولي الأمر، ولعله الأصح. فصل 7822 - الرقاب: هم المكاتبون عند الشافعي، وأبي حنيفة. فيعطَوْن سهماً يستعينون به على أداء مال الكتابة، فيدفع إليه مقدار ما عليه من النجوم إذا لم يكن في

_ (1) في الأصل كلمة غير مقروءة. رسمت هكذا: " ما را ـهم ". (2) الضمير يعود على الصنفين الأخيرين. (3) في الأصل: وهو. (4) أي يجمع لهم العطاء من السهمين. (5) الأشراف: المراد الأشراف حديثو العهد بالإسلام، الذين أشار إليهم قبلاً، بأنهم لو ثبتوا على إسلامهم، لأسلم من وراءهم.

يده وفاء بها. فإن كان في يده بعض ما عليه، أُعطي تمامَه، كما يُعطى الغارم بقدر ما عليه. وفي جواز أخذه قبل حلول النجم عليه وجهان: أظهرهما - لا يجوز؛ لأنه غير مطالب. والثاني - يجوز؛ لأن له تعجيله قبل محله، ويلزم السيد قبوله، فإن رضي المكاتب بتسليم الصدقة إلى سيده، جاز تسليمها. ولو دفعت إلى السيد بغير إذنه، لم تقع الموقع؛ لأنه لا يتعين عليه صرفها إليه، بل يجوز أن يؤدي من كسبه ويستبقي الصدقة لنفسه. وإذا قبض قسطاً من الصدقة، ثم أبرأه المولى، أو نجّز عتقه، قال صاحب التقريب: نرجع فيما قبضه إن كان باقياً؛ لأنه لم يحصل به المقصود، وهو الإعتاق، ولو كان أتلفه قبل الإبراء أو العتق، ففيه وجهان: يغرم؛ لأنه يلزمه الرد، [لو] (1) بقيت. والثاني - لا يغرم؛ لأن القصد بالدفع إليه إرفاقه، وقد حصل. وقيل: إن فاتت العين، فلا غرم، وإن بقيت، ففي استردادها وجهان. وجميع ما ذكرناه يجري فيما إذا أداه أجنبي عنه، ثم أُعتق عنه، أو أبرىء. ولو لم يدفع ما قبضه إلى سيده، [فعجّزه] (2) السيد، استرد منه بلا خلاف، إن كان باقياً، أو قيمته إن كان [فائتاً] (3)، بخلاف ما تقدم؛ لأن الغرض حصول العتق، فإذا نفذ، لم نتبعه. وقيل: إذا دفع ما قبضه إلى سيده وعجز عن باقي النجوم، وعاد إلى الرق ففي استرداده من السيد طريقان: أحدهما - لا يسترد منه؛ لأنها بلغت محلها. والثاني - هي على وجهين. هذا إذا كانت العين باقية في يد السيد، أما إذا كانت فائتة، فالأمر على خلاف ذلك، وهذه أولى بأن لا يغرم السيد، وقطع الشيخ أبو محمد بالرد مهما (4) كانت العين باقية، وإن فاتت، غرم، وهو منقاس حسن؛ لأنه خرج عن كونه مكاتباً بانقلابه رقيقاً.

_ (1) في الأصل: "ولو". (2) في الأصل: فعجز. (3) غير واضحة بالأصل، وفيها أثر تصويب. (4) مهما: بمعنى (إذا).

ولو فاتت العين في يد المكاتب، تعلق عينها برقبته؛ لأنها تلفت مضمونة تحت يده، كما لو استعار عيناً، فتلفت في يده، بخلاف ما لو اشترى عيناً، فتلفت في يده كان بائعها رضي بذمته، وما قبضه من الصدقة لم يكن عوضاً، بل موقوفاً، وقد تبين أنه لم يقع منه موقعه. فصل 7823 - قال تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] فإن لزمه الغرم لحاجته الخاصة فيُرعى فيه أن يستدين في إباحةٍ كحاجته إلى نفقته، أو نفقة عياله، فهذا يقضى من الصدقة. فإن كان لزمه في جهة معصية هو مقيم عليها، لم يصرف إليه من الصدقة؛ لأنّ في قضائه إعانةً له على المعصية. ولو تاب منها، فوجهان: أحدهما - لا يقضى، زجراً عن الاستدانة على المعاصي؛ لأن التوبة لا اطلاع على حقيقتها، ولا يؤمن إظهارها توصلاً إلى أخذ المال والمعاودة إليها. وقيل: يقضى؛ لأن المعصية زالت ومحتها التوبة، وتبقى الذمة مرتهنة. ونعني بالاستدانة في المعصية أن يقترض مثلاً، أو يشتري بعقد صحيح، لا أنه يعقد عقداً فاسداً. ومن استدان غير قاصد للفساد، ثم بدا له، فصرفه في الفساد، فإذا تحقق ذلك، قُضي من سهم الغارمين. لكن إذا اقترض وقبض وصرفه في الفساد، وادّعى أنه لم يكن قاصداً للفساد، لم نصدقه. ولو اقترض بقصد به الفساد، ثم عصمه الله، فصرفه في جهةِ خيرٍ، قُضي دينه؛ لأن النية إنما تعتبر إذا صدَّقها العمل. وعلى مقتضى هذا، إذا اقترض للطاعة، ثم أنفقه في المعصية أنه لا يقضى دينه، لأن نيته موقوفة على عمله. قال الشيخ أبو بكر: الاقتراض في جهة الإسراف كالاقتراض في المعصية.

والسَّرف هو الخروج عن المعتاد، فيما لا يُكسب أجراً، ولا [يُسْمي] (1) شرفاً [و] (2) ليس محرّماً (3). ويشترط لقضاء دين الخاصة من الصدقة ألا يكون في يده ما يقضي به الدين، فأما [من] (4) تحمَّل ديةً في تسكين فتنة لولا تحملها، لثارت، فإذا طلب قضاء ذلك عنه، لزمت إجابته؛ وإن كان غنياً بعقاره ومنقولاته، متمكناً من قضاء تلك الحَمالة من غير عسر يلحقه. وإن كان غنياً بالنقدين أو بأحدهما، ففيه قولان: أحدهما - يؤدى عنه دينه، كما لو كان غنياً بعقاره وعروضه تحريضاً [لسادات] (5) القبائل على تطفئة ثائرة الفتن؛ فإنه تكثر منهم، فلذلك لا يكلّفون بقضائها من أموالهم. والقول الثاني - لا يقضى من الصدقة إذا كان له وفاء من نقد؛ لأن صرفه في هذا الوجه لا يثقل على المقتعِدين (6) للرياسة بخلاف بيع العقار والمنقولات، فإنها تصدّ المتحمل؛ فإنه يعد قريباً من الخروج من منصب المروءة في العرف، وهذا وإن لم نرضه في القياس، فهو لائق بالمعاني الكلية. ولو تحمّل الغرامة في إتلاف مال جرَّ فتنةً، ففيه طريقان: أحدهما - أنه كمتحمل الدية. وقيل: إن كان معه وفاء من النقد، لم يعط من الصدقة قولاً واحداً، وإن كان له غير النقد، فقولان على عكس الترتيب المقدّم.

_ (1) في الأصل هكذا: "يسما" والتصرف في الرسم والضبط من المحقق، على اعتبار أن الفعل (سما) بمعنى (علا) يُعدّى بالهمزة -والتعدية بها قياسية، كما أقرها مجمع اللغة العربية- فيُسمي بمعنى يعلي، فيكون المعنى: "فيما لا يكسب أجراً، ولا يُعلي شرفاً" والله أعلم. وأجزم أنها محرفة عن (ينمي) من قولهم: فلان ينميه حسبُه، أي يرفعه. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) أي ليس محرماً لذاته، وإلا فهو محرم من حيث كونه إسرافاً ومجاوزة حد الاعتدال. (ر. المجموع: 6/ 208). (4) في الأصل: "ما" وهي تستعمل لمن يعقل على ندور إذا أمن اللبس، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ولكن غيرناها جرياً على الغالب. (5) في الأصل: "لمسادات" ولا معنى لها. (6) هكذا قرأناها بصعوبة، والمعنى: من يتصدون للرئاسة، ويقتعدون مقاعدها.

7824 - ولو ضمن عن رجل ديناً في معاملة من غير خوف فتنة؛ فإن كان المضمون عنه موسراً والرجوع عليه ممكناً، لم يعط من الصدقة؛ لأنه ليس بدين؛ فإنه يجد به مرجعاً. وإن كان المضمون عنه معسراً، ولا يجد الضامن مالاً يقضي به الدين، [فله] (1) قضاؤه من الصدقة. وإن كان موسراً بالنقد أو بغيره، فقد قيل: هو كتحمل الدية، وقيل: كتحمل بدل متلف لخوف الفتنة. ومنهم من قطع بأن ضمان دين المعاملات كالاقتراض لخاصة نفسه، فالذي يلتزمه الإنسان لخاصة نفسه قطع المراوزة باشتراط الفقر في قضائه من الصدقة، وقيل: يجوز أداؤه مع الغنى، وهو ضعيف. قال: وفي هذا المقام نظر، فإن كان الغارم لا مال له، لم تتجه مطالبة غريمه له، والصدقة تصرف لسد خَلة، أو كفاية أذى مستَحِقِّ الدين (2)، وإنما شرطنا الإعسار؛ لأنه لا يمتنع أن يكون للإنسان مستنض (3)، فيصرفه إلى قضاء دينه، فيصير مفتقراً إلى الصدقة، فإن كان ينتهي بأدائه إلى المسكنة، فله أخذه من الصدقة، وهذا نوع غنى يكفي في دفع المفسدة، فإن زاد الغنى عن الكفاية، لم يقض دينه. ويجوز أن يقال: لا نهجم على قضاء دينه وهو ذو كفاف، فيرتدّ الفرض إلى مسكين عليه دين، فلا يؤدى من الصدقة إلا دين مسكين. ويجوز أن يقال: إذا لم يملك ما يقضي به دينه فلا يتهنَّى بعيشه، وهو مكتسب قدر الكفاف، فينازع في قدره وينحو إلى المحاكمة، ولأنه إذا قضيت الديون من الصدقات استرسل الناس في إقراض المعسرين واثقين بالصدقات؛ فإنها أثبت من الأغنياء المعتدّين (4).

_ (1) في الأصل: فلو. (2) في الأصل: "ومستحق للدين". (3) "مستنض". كذا قرأناها بعد لأْي. والمستنض: هو النقد الذي حصله صاحبه من تنضيض متاع أو عُروض (ر. اللسان). (4) المعنى أن الصدقات أثبت وجوداً، والثقة بأداء الدين منها أكبر من الأغنياء المعتدّين أي الموجودين، فقد يعطون، وقد يمنعون بخلاف الصدقة.

علم أن [للشرع] (1) على الحَمالات حث ظاهر، لصلتها بالمصالح العامة، حتى [كأن] (2) المتحمل مستناب من جهة الشرع في الاقتراض على الصدقة. 7825 - وفي قضاء الدين المؤجل من الصدقة ثلاثة أوجه: أحدها - لا يقضى؛ لأنه لا مطالبة به. والثاني - أنه يقضى الذي سيطالب به، [فيليق بالشرع أن يكفي المطالَب توقع المطالبة] (3). والثالث - إن كان الأجل ينقضي في وسط السنة المستقبلة قُضي دينه؛ فإنه سيؤدَّى قبل محل الصدقة الأخرى، وإن كان الأجل سنة فصاعداً، فيؤخر قضاء هذا الدين إلى صدقة السنة القابلة. والغارم على أي وجه كان يستحق الأخذ من الصدقة بسبب الغرم، فلو أخذ الصدقة ثم أبرأه غريمه، فحكمه في رد ما أخذه إن كان تلف، حكم المكاتب إذا قبض حصته، ثم أُعتق أو أبرىء. واحتج الشافعي في فصل الحَمالة بما روي أن قَبيصة بن مخارق الهلالي قال: "تحملت حَمالة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نؤديها عنك، أو نخرجها عنك إذا قدم إبل الصدقة، ثم قال: يا قَبِيصة: المسألة حرمت إلا في ثلاث: رجل تحمل بحَمَالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابه فاقة أو حاجة -شك الراوي- حتى يشهد أو يتكلم -وهذا أيضاً من الراوي- ثلاثة من ذوي الحجا أن أصابته فاقة، أو حاجة، حتى يصيب سِداداً، من عيش أو قَواماً من عيش -وهذا من الراوي أيضاً- ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة. الحديث" (4). يعرض في الأول لحلال السؤال مع الفقر، ومعنى آخره أن من كان على كفاية برأس مال يتعفف عن التكفف، فإن [حُطّ] (5) بجائحة عنه، فله السؤال إلى عود الكفاف.

_ (1) في الأصل: الشرع. (2) في الأصل: "أن". (3) العبارة كانت في الأصل مضطربة، فيها تقديم وتأخير هكذا: "فيليق بالطالب الشرع أن يكفى توقع المطالبة" والمثبت من تصرف المحقق. (4) حديث قَبيصة سبق تخريجه. (5) في الأصل: "حطه".

وفي أحاديث من الوعيد الذي يلحق الملحف في السؤال، قال عليه السلام: "الملحف في السؤال يحشر يوم القيامة وليس على وجهه مُزعة لحم" (1) ويروى "يحشر وفي وجهه خدوش". ومتى انتهى السؤال إلى الإيذاء (2) فهو ممنوع. ولو آثر المرء الصمت في الضرورت مع قيام الدواعي، فهو ممنوع، قال عليه السلام: "من صمت وقد حقّ عليه النطق، فهو شيطان أخرس" (3). وإذا مست الحاجة، فالسؤال مسوّغ، والتعفف حسن، وإن لم يكن حاجة [و] (4) لم ينته السؤال إلى الإيذاء، فهو مكروه، إلا أن يُباسط صديق صديقاً، فلا كراهة في هذا، وقد يدخل المسرة. فصل 7826 - والمعني بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] سهم من الصدقة يصرف إلى الغُزاة المطّوعة، ولا يشترط فيه كونُه محتاجاً، بل لو كان من أغنى الناس إذا طلب، يُسعف بكفايته في مركبه وسلاحه ونفقته: فالمركب ما يبلِّغه إلى محل القتال، فارساً كان يقاتل أو راجلاً، كما لا تجب حجة الإسلام على من لا يجد راحلة

_ (1) حديث "الملحف في السؤال يحشر يوم القيامة وليس على وجهه مُزعة لحم" رواه البخاري، والنسائي من حديث أبي هريرة (ر. البخاري: الزكاة، باب من سأل الناس تكثّراً، ح 1474، النسائي: الزكاة، باب المسألة، ح 2585). رواية "يحشر وفي وجهه خدوش" أخرجها أصحاب السنن الأربعة من حديث ابن مسعود (ر. أبو داود: الزكاة باب من يعطى من الصدقة، ح 1626، الترمذي: الزكاة، باب ما جاء من تحل له الزكاة، ح 650، النسائي: الزكاة، باب حد الغني، ح 2593، ابن ماجه: الزكاة، باب من سأل عن ظهر غنى ح 1840). (2) كذا قرأناها، ويرشح هذه القراءة، ويؤيدها العبارة الآتية قريباً في ختام الفصل، حيث قال: "إلا أن يباسط صديق صديقاً، فلا كراهة في هذا، وقد يُدخل السرور". (3) أثر "من صمت وقد حق عليه النطق، فهو شيطان أخرس". هذا ليس حديثاً، وإنما هو من كلام أبي علي الدقاق، ذكره عنه أبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية (ص 36). (4) زيادة اقتضاها السياق.

أو نحوها، فإن كان (1) حصّل له فرساً يقاتل عليه، إما أن يشتريه ويسبّله، فإذا اتفقت الحرب كان عتيداً للغزاة. وإما أن يستأجره، وإما أن يستعيره، وإن رأى أن يملّكه الفرس لعلمه ببلائه، فعل، ويعطيه نفقة الذهاب ومدة [الإقامة] (2) على القتال والحصار، ونفقة الإياب؛ لأن استشهاده ليس ضربة لازم، فهذا لأن الغرض من الدفع إليهم تحريضهم على الجهاد، فاعتبر ذلك مع كونهم أغنياء، كالمرتزقة من مال الفيء. ولو عدم الفيء في بيت المال، وجاء وقت عطاء المرتزقة، ففي الصرف إليهم من الصدقة وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأن حقهم في الفيء لا يسَاهمون فيه، فيبغي أن يختص [المطوعة] (3) بسهم الصدقة، وعليه تدلّ سيرةُ السلف من الأئمة والخلفاء الراشدين، فإنهم ما كانوا يمزجون الفيء بالمطوعة. والثاني - يجوز أن يصرف إليهم؛ لأنه مرصد للغزاة، وهم منهم وأولى من المطوعة. وإذا نحونا بالفيء نحو مال المصالح ورأى الإمام أن يصرف ما فضل من كفاية المرتزقة إلى المطّوعة، جاز، وإن قلنا أربعة أخماس الفيء ملك المرتزقة، لم يجز أن يصرف منه شيء إلى المطوّعة. نعم، [يجوز] (4) أن يصرف إليهم من خمس الخمس المرصد للمصالح، وقال الصيدلاني: يجوز أن يصرف إلى المرتزقة من سهم سبيل الله إذا احتاجوا إلى قتال مانعي الزكاة، قال: فيعطَوْن مما يأخذون من الممتنعين، قال (5): ولا تحقيق فيه؛ لأن ما يؤخذ من الممتنعين ومن المطيعين سواء، فلا تختلف مصارفها وهم مترصدون لأمر الإمام في كل قتال، فأي أثر لتخصيص قتال مانعي الزكاة؟ وإذا قلنا يجوز أن يصرف سهم المرتزقة إلى المطوّعة، جاز أن يصرف

_ (1) (كان) تامة، أي وُجد المطَّوّع، وفاعل (حصَّل) ضمير يعود على ولي الأمر الذي يقسِمُ الصدقات ويُعد الغزاة. (2) في الأصل: الإنابة. (3) في الأصل: "الموعطة". وهو سبق قلم من الناسخ حصل بسبب هذا القلب المكاني للأحرف. (4) زيادة من المحقق (5) أي إمام الحرمين، فهو يعترض على الصيدلاني.

إليهم جميع ما يحتاجون إليه من أصل النفقة، وما يزيد بسبب السفر على أحد الوجهين، كالمقارض إذا سافر. فصل 7827 - قال الله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] وهو مريد السفر، ولا يجد ما يبلغ به إلى مقصده، فيُدفع إليه من سهم الزكاة، إذا كان سفره طاعة. وإن كان سفر معصية، لم يُدفع إليه، وكذلك الهائم على وجهه، ومن يهمّ بالعود إلى وطنه يستحق باتفاق، وطالب التجارة غرضه صحيح وسفره مباح، وهل يصرف إليه منه إذا كان ماله غائباً، وهو يبغيه ليتجر فيه؟ قطع شيخه (1) بجواز الصرف إليه. وقال الصيدلاني: من سافر إلى بلدةٍ (2)، فقصده صحيح. قال: وفيه نظر ظاهر، فيجوز أن يقال: هذا ليس من الأغراض المعتبرة، وأكثر الأئمة على أن السفر [من] (3) غير غرض مكروه؛ لأنه إتعاب النفس بغير فائدة. وإذا أجزنا نقل الصدقة، أجزنا صرف هذا السهم إلى الطارقين، وإلى المنشئين من وطن المال، وإن لم نُجز النقل، فيجوز صرفه إلى المنشئين، فأمّا الطارقون، فظاهر النص لا نجيز الدفع إليهم؛ لأنهم ليسوا من أهل هذه البلدة. وقيل: إن أبناء السبيل الملازمون للأسفار، وهو بالطارقين ألْيق، فيجوز صرفه إليهم. وقال أبو حنيفة (4): ابن السبيل هو الطارق دون المنشىء. وإذا منعنا نقل الصدقة وفي البلد غرباء من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم، لم يجز الصرف إلى الغرباء؛ لأن تحريم النقل يقتضي أن يختص كل فريق بما عنده، وإذا علم الغرباء أن الصدقة تصرف إليهم، أمّوا البلد، وضيقوا على القاطنين في

_ (1) شيخه: أي شيخ إمام الحرمين، ويعني والده الشيخ أبا محمد. (2) بلدةٍ منكرة، أيّ بلدة، والمراد السفر لمجرد الانتقال، كما يتضح في السياق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) ر. البدائع: 2/ 46، البحر: 2/ 260.

البلد، فيفسد به [الغرض الذي قدمناه] (1) في أول الكتاب من [بسط] (2) الصدقات على جميع الجهات، وقد ذكرنا أن [لحوم] (3) الهدايا تفرّق في الحرم، فلو حضره الغرباء قُسّطت عليهم جميعاً، بخلاف الزكاة إذا منعنا النقل، والفرق أن الغرض من تفريق [لحوم] (4) الهدايا في الحرم تشريف مكانه (5) لشرفه. والغالب المرعي في الزكوات تعميم جميع أهل البلاد؛ ولأنها كثيرة تفضل [عمّن هم أهل الحرم] (6)؛ فهي بالغرباء الواردين أليق، وقد تضيق عليهم أطعمة الحرم لضيق خِطته. فأما صدقات أهل الحرم، فإنها كصدقات سائر البلاد. وإذا فارق وطنَ المال بعضُ أصناف أهل الزكاة، فنقل من عليه الزكاة نصيبَهم إليهم حيث كانوا، جاز؛ تعويلاً على الآخذ دون المكان، وهو جارٍ على القياس الذي ذكرناه، ويتضح به (7) إذا انتقل جملة المستحقين مثلاً، أما إذا كان في المقيمين في وطن [المال] (8) كفاية، وإنما انتقل طائفة منهم، فالقياس جواز الإخراج إلى الخارجين، وجَبُن بعضُ الاْصحاب في هذه الصورة على الخصوص؛ فلم يجيزوا النقل، فقد قيل: يجوز إخراج حصصهم إليهم؛ لأنهم من أهل النفقة، وقيل: لا يجوز حتى يحضروا وطنَ المال في سنة الزكاة، فلو حضروا بعضَ السنة، وغابوا قبل انقضائها، فهو مرتب على الصورة الأوّلة (9)، وهذه أولى بجواز الإخراج. ولو غابوا معظم السنة، ثم أتَوْا وقت وجوب الصدقة، جاز صرفها إليهم باتفاق، ولا حكم للغيبة السابقة، ولو غابوا بعد انقضاء السنة، صرفت صدقة تلك السنة إليهم، وتعليله بيّن.

_ (1) عبارة الأصل: "فيفسد به غرض قدمنا" والمثبت من تصرف المحقق، لاستقامة العبارة. (2) في الأصل: "قسط". وهو تحريف ظاهر. (3) في الأصل: "لحوق". (4) في الأصل: "نجوم". (5) أي تشريف مكان التفريق. (6) في الأصل: "لمن هم أهل الحرم". (7) أي ويتضح به القياس إذا انتقل ... إلخ. (8) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (9) تأنيث "الأول" بالتاء واردٌ، وإن لم يكن بالأفصح (ر. المصباح المنير).

ولو خرجوا على قصد قبل وجوب الصدقة، لم يجز نقل الصدقة إليهم إذا فرعنا على منع النقل، وإن انتقلوا بعد وجوب الصدقة، فإن اتسعت الخِطة، ولم ينحصر أهلها، فالأصح جواز الإخراج، وإن كانوا محصورين وقد غابوا بعد الاستحقاق، فلهم حصصهم. ويشترط في استحقاق ابن السبيل الحاجةُ الناجزة: ألا يكون معه ما يبلغه مقصده وإن كان له مال غائب، فلو قصد بلدة بعيدة، وله في منتصف طريقها مال، لم يأخذ إلا ما يبلغه إلى ماله، بخلاف سهم سبيل الله، فإنا نصرفه إلى الموسرين؛ لأن الغرض استحثاثهم على الغزو، وهذا يقتضي أن يُكفَوْا من الصدقة؛ حتى لا يتخاذلوا؛ ضِنةً بأموالهم، وابن السبيل [يعطى للحاجة] (1)؛ فاعتبر وجودها. فصل 7828 - من ادعى الغرم لم يصدق إلا ببيّنة؛ لأنه دعوى باطنٍ، لا يعسر إثباته. وكذا إذا ادعى العبد أنه مكاتب. ومن ادعى الفقر، أو المسكنة، لم يكلّف بيّنة على ذلك؛ لأنه يعسر ذلك على آحاد المساكين، ويتضح ذلك بسيرة الأولين؛ ولما جاء الرجلان يطلبان الصدقة، فلم يردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على (2) أن قال: "لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة سوي". وأُلحق به عدمُ الكسب، وإن أشعر ظاهر البِنْية بقوةٍ وتمكّنٍ من اكتساب بجهةٍ (3)؛ لأنا نرى كثيراً من أصحاب [القوة] (4) يعرون عن عمل [مع قوتهم] (5) فلا يطالب بالبينة. نعم، إن كذبه شاهد الحال، كذبناه. وكذلك [إن] (6) اشترطنا الزمانة في سهم الفقراء.

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، مكان كلمة رسمت هكذا: "احير" بهذا الإعجام وبها لا يستقيم المعنى. (2) في الكلام حذف تقديره، "بل ما زاد" على أن قال ... (3) كذا. والعبارة بها مستقيمة. (4) مكان كلمة غير مقروءة رسمت هكذا: " حـ ـ " تماماً وبدون نقط. (5) ما بين المعقفين تصرفٌ من المحقق، مكان كلمتين هكذا: " ـعيد قر ـهم " تماماً. (6) زيادة لاستقامة العبارة.

وإذا ادعى أن عليه ألفاً لزيد، فصدقه على ذلك، ففيه وجهان: أحدهما - يقبل تصديقه؛ ويُعطى من سهم الغارمين؛ لأنه ثبت بالإقرار. والثاني - لا يقبل؛ لأنه لا تؤمن المواطأة بينهما، وكذلك إذا صدق السيد أنه (1) عبده على الكتابة، وهذا أقوى من تصديق المدين. ولو أقرّ بدين لغائب، [وقبلنا] (2) إقراره للحاضر، ففيه وجهان. ولو قال: أنا عازم على سفر، أو أريد الغزو، لم يطالب بحجة على عزمه، وجاز الدفع إليه من السهم الذي طلبه. وحيث لا يطالب بالبينة، ففي تحليفه إذا اتهمه المطلوب وجهان، وهل هي (3) مستحقة أو مستحبة؟ وجهان: فإن قلنا: هي استحباب استظهاراً، فنكل، فلا حكم لنكوله. وإن قلنا هي مستحقة، فإن نكل عن اليمين، لم يستحق شيئاً. وقيل: إن طلب من سهم المساكين، فذكر أنه غير مكتسب، فإن شهد له ضَعفُه (4)، لم يحلّف، و [إن] (5) بعُد بشاهد الحال صدقُه، ففي تحليفه وجهان. فإن قيل: فقد قضيتم بالنكول، [إذا] (6) رأيتم التحليف مستحقاً كل، قلنا: لا بد [من شرط] (7) قيام حجة لائقةٍ بالحال، وهي اليمين، فإذا عدمت، صار كأن لم تكن بينة على الغرم والكتابة، ونحن تشترط قيامها. ومن طلب من الغزاة أو ابن السبيل لم نحلفه، بل إن انتهض غازياً أو مسافراً (8). وحلفه، ولا نجد مرجعاً لفقره، وهل هي استحقاق أو استظهار، على ما تقدّم.

_ (1) كذا. ولعل [أنه] زائدة. (2) في الأصل: "وقلنا" والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى أنه من أهل الإقرار. (3) هي: أي اليمين. (4) أي ضعف جسده. (5) زيادة اقتضاها السياق؛ فالمعنى إذا كان يوحي حاله بقوته وقدرته وأنه من أهل الاحتراف. (6) في الأصل: "وإذا". (7) في الأصل: "يشرط". (8) هنا خرمٌ، لا ندري مقداره، فالكلام غير متصل، ولا مستقيم.

وقيل: من ادّعى حَمالة، [وأشكل] (1) علينا حاله، طولب بالبينة، على قياسٍ بيِّن. فإن استفاض أمرها (2)، اكتُفي بالاستفاضة فيها، وقيل: هذا إذا انتهت إلى حدٍّ يفيد العلم [كأخبار التواتر] (3)؛ لأنها أقوى من البينة، وإذا لم تُفد إلاّ غلبة ظن، فلا أثر لها (4)، وعليه البينة، وفيما ذكره [فقه] (5). وإذا انتهت الاستفاضة إلى إفادة العلم، فإنها تفيد القاضي علماً في الخصومات. فإن قلنا: يجوز أن يحكم بعلمه، قضى بها، وإن منعنا القضاء بالعلم، فقد منع بعضهم القضاء بها؛ بناء على الأصل، ومنهم من أجازه؛ لأن المحذور من القضاء بعلمه تعرضه للتهمة، وقد زالت بالاستفاضة. والاكتفاء بها إذا أفادت ظناً فيما نحن فيه أفقه؛ لأن الأحكام فيه مبنية على الظن، بخلاف مفاصل الخصومات؛ فإنها منوطة بالعدد والتعبدات، ولا أظن بمن لم يكتف (6) اشتراطه إقامة بينة في مجلس القضاء، فإن طرد قياسه، فهو بعيد من وضع الباب، مخالف لسيرة السلف؛ فإنهم ما أخرجوا مستحقي الصدقة إلى مجلس الحكم. وإن اكتفى بقولٍ في غير مجلس القضاء، فالاستفاضة أقوى. ولعل المعتبر أن يشيع التحمل إشاعة يكتفى بمثلها في إثبات النسب، وتنبني الشهادة عليها. ...

_ (1) في الأصل: "أو أشكل" والمثبت تقدير منا. (2) أي الحَمالة. (3) كذا قرأناها مراعاة لأقرب صورة للحروف، وأقرب معنى للسياق، وإلا فمكان ما بين المعقفين كلمتان في أولاهما أثر تصويب، وقد رسمتا هكذا: " كصاصـ االـ وا ـر " مع رسم حاء صغيرة تحت الثاني والرابع من الكلمة الأولى؛ علامة على إهمالها، مما ضلّلنا طويلاً. (4) لم يفرق الرافعي بين إفادة الاستفاضة العلمَ أو غلبةَ الظن، وجعل حكمها في الحالين واحداً، وهو قبولها. (الشرح الكبير: 7/ 400). (5) في الأصل: فقيه. وهو سهو واضح. (6) أي من لم يكتف بالاستفاضة.

باب كيف تفريق قسم الصدقات

باب كيف تفريق قسم الصّدقات 7829 - تجب قسمة الصدقة على الأصناف بالتسوية، ويجب تعديل السهام اتفاقاً، إلا سهم العامل، فقد سبق تفصيله، فإن تولّى قسمة صدقته بنفسه، سقط سهم العامل، ويخرج المؤلفة على الرأي الظاهر، فيبقى الفقراء، والمساكين، والرقاب، والغارمون، وأبناء السبيل، وسبيل الله: فيقسم على ستة، فيصرف كل سهم إلى ثلاثة فصاعداً، ولا تجب التسوية بينهم (1)؛ لأنه ضبط للعدد (2)، فيجوز التفضيل وفاقاً. ولا يجوز النقصان من الثلاثة. وإذا تولى [الإمام] (3) تفرقة الزكاة، لم يؤاخذ في صدقة كل شخص بهذا التعديل، لكن يجمعها كلها، ويتعاطى فيها بتعاطي الواحد في تفرقة زكاة نفسه؛ لأن يد الإمام يد المستحقين، وهي محل الصدقة، وعلى الإمام مزيد نظر أن يوصل الصدقة إلى محاويج الخِطة. فصل 7830 - إذا فرّق زكاة نفسه، ثم ظهر أن بعض من أخذ لم يكن مستحقاً، فقولان: أصحهما - أنها لم تقع موقعها؛ لأنها من ضمانه إلى أن يوصلها إلى مستحقها، وإلى

_ (1) بينهم: أي بين الأصناف في العدد، بعد أن يستوفي ثلاثة من كل صنف. (2) أي أن شرط استيعاب ثلاثة من كل صنف ضبطٌ للعدد الواجب، وبعده تجوز الزيادة من أحد الأصناف عن الآخر. ويحتمل أن يكون في الكلام سقط، وصحة العبارة: "لأنه لا ضبط للعدد" أي لا يطالب من عليه الزكاة بإحصاء الأصناف الثمانية، ومعرفة عدد الآحاد في كل صنف، والتسوية بينهم، فإن هذا لا ضبط له لدى الآحاد ممن لزمتهم الزكاة، وإنما يتيسر هذا للإمام، عندما يقوم هو بجمع الزكاة وتوزيعها. (3) زيادة اقتضاها السياق.

هذا مَيْلُ النص في الجديد. والقديمُ: لا يلزمه تثنية (1) الزكاة؛ لأن فيه عسراً، ولا يتمكن الآحاد من نهاية البحث، وفي تثنيتها ثقل على أرباب الأموال. هذا إذا خرج من قدَّرهُ فقيراً غنياً. فأما إذا خرج كافراً، أو رقيقاً، فقد قيل: هي على قولين كالتي قبلها. وقيل: يجب قطعاً تثنيتها؛ لأن الكافر والرقيق لا يخفيان غالباً، فظهورهما يدل على تقصير المعطي، بخلاف الفقير والغني، فأمرهما مشكل. وإذا أدى سهم الغارم إلى من أقام بينة على غرمه، ثم بان كذبهم، ففيه قولان، كمن ادعى المسكنة، ثم بان غنياً. ولو لم يكلِّف مدعي الغرم البينة، وأعطاه بقوله، ثم بان كذبه، لم يقع المخرج موقعه، ورمز بعضهم [فيه] (2) إلى تردد، فإن قلنا: لا نسلّم إليه بقوله، لم يبق شك في أنه لا يقع ما أخرجه موقعه. وإن قلنا: يجوز له التعويل على قوله، فالظاهر أنه لا يعتد به؛ لأن الاستظهار بالبينة ممكن. وإذا اكتُفي بظاهر قول المخبر، كان مشروطاً بالسلامة. ولا وجه لتحليف من يدعي المسكنة إذا لم تظهر تهمة، وإن ظهرت، فإن كان المفرِّق الإمام، فيليق بمنصبه تحليفه، وإن كان ربَّ المال، فيبعد منه التحليف، ويعضّده ترك السلف التحليف. ويجوز أن يقال: له أن يحلّف، كما يسمع قول الثقات في المغارم (3)، وإن اختص سماع [البينة] (4) بمجالس الحكام، وإذا رأينا التحليف على دعوى المسكنة، لم نوجبه على من يفرق الصدقة، إذا لم يكن تهمة، بخلاف سهم الغارمين، ولا يبعد في القياس اشتراط اليمين إذا قلنا: اليمين مستحقة، وتخصيص التحليف على المسكنة بمحل التهمة، وغالب العادة

_ (1) كذا قرأناها على ضوء السياق، وبمساعدة أطراف الحروف، حيث فيها أثر تصويب، طمس صورة حروفها. (2) في الأصل: "منه". (3) المعنى: أننا كما جوّزنا سماع الثقات (أي الشهود) من الغارمين، أي طلبنا منهم البينة، وسمعناها، مع أن سماع الشهود يختص بمجالس الحكم، فكذلك يجوز أن يحلَّف في المسكنة. (4) في الأصل: بالبينة.

اجتناب (1) التهمة في مصارف الزكوات. ولو تصور استواء النفي والإثبات في دعوى المسكنة، فعلى الوجهين. أما إذا تولى الوالي تفرِقة الزكاة، فبان مَنْ ظنَّهُ مسكيناً غنياً، فالمشهور أن الوالي لا يغرم؛ لأن تغريمه يجر عسراً؛ لأنه يتعذّر عنه، ووقعت الزكاة موقعها، وبرىء [مَنْ أداها] (2)، ويسترد الوالي ما بذله إن تمكن منه، ويصرفه إلى مستحقه. ولا يقف الحكم ببراءة ذمة رب المال على أن يفعل الوالي ذلك. وإن كان (3) الآخذ كافراً، أو رقيقاً، فهل يغرم الوالي؟ فيه قولان، فإنه ينسب إلى تقصير. وقيل في الصورة الأولى أيضاً قولان. وحيث نوجب على الإمام الاستظهار، فلم يفعل، فالوجه القطع بتغريمه؛ لأنه متصرف بالولاية في حقّ الغير، وحيث لا يغرم الإمام، فلا نشك بوقوع الزكاة موقعها، وإن رأينا تغريمه، فهو بمثابة ما لو أكلها، ولم يصرفها إلى مستحقها، ولو فرض ذلك، فلم نحكم بانعزال الوالي، فظاهر القياس أنه يبرأ مَن عليه الزكاة؛ فإن يد الإمام يد المستحقين، والواقع في يده كالواقع في يد المستحقين. وقيل: لا تبرأ ذمة من عليه الزكاة؛ لأنها لم تبلغ محلها، وهذا يجري حيث يغرم الإمام جرياناً ظاهراً. وإن لم يغرم الإمام، أثبتنا له حق الاسترداد إذا تمكن منه، بخلاف الصدقة المعجلة إذا لم تقع موقعها، ففي بعض الصور نقول: لا تسترد؛ لإمكان صرفها إلى جهة التطوع، بخلاف ما نحن فيه؛ فإنّ أَخْذ الصدقة ظلماً مستحيل أن يقدَّر جهة ثبوت الملك. وأما إذا تولى تفرقتها من وجبت عليه، فالوجه أن نقول: إن أمكن الاسترداد، وجب ذلك، ويُقطع بأنّ الزكاة لم تقع موقعها.

_ (1) كذا قرأناها بصعوبة شديدة؛ لعدم وضوحها بالأصل، والمعنى أن معطي الزكاة غالباً يبعد عن موضع التهمة، ويتطلب أصحاب الحاجة الحاقة. (2) في الأصل: "مِنْ أدائها" ولعل الصواب ما أثبتناه؛ فالإمام مفرّق، وليس بمؤدٍّ، ويؤيد صحة اختيارنا الكلام بعده. (3) كذا، ولعلها: "بان".

[ .... ] (1) على أن نقول: يسترده للمساكين؛ فإن هذا لو قيل به، فهو أولى [به بعد تقدير بُرئه] (2) عن الزكاة، ولا سبيل إليه. وإن عسر الاسترداد وأيس منه، حكمنا بوقوع الزكاة موقعها، وبرىء من كانت عليه، وهو بمثابة ما لو تلف المال قبل الإمكان، إذا قلنا: تجب بانقضاء الحول. وما أخذه ذلك الإنسان هل يكون ديناً للمؤدي أم للمسلمين؟ قال: وهذا خَبْط لا يهتدى إليه، ونتبين منه تزييف القول بأن الزكاة سقطت عمن عليه. وبهذا يتضح الفرق بين الوالي ورب المال؛ فإن الوالي يتصرف للمستحقين وأرباب الأموال، ويده صالحة للنيابة للمساكين. ...

_ (1) النقط بين المعقفين مكان ثلاث كلمات تعذّر قراءتها، كما تعذّر تقدير كلمات مكانها. (2) كذا قرأنا هذه الكلمات بصعوبة بالغة. وقد رسمت كلمة (برئه) هكذا (براه).

باب ميسم الصّدقة وسمُ الدواب جائزٌ، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسم الدواب والنَّعَم في الصدقة والجزية (1). ووسمُ الأغنام في آذانها (2) وليخفَّ على قدر احتمالها. ووسمُ الإبل والبقر في أفخاذها، وكذلك وسم الخيل. ونهى النبي عليه السلام عن وسم الوجه، ورأى حماراً في وجهه وسم فقال: "ألم يبلغكم أني لعنت من يسم الدواب في وجوهها" (3). والذي ذكره الأصحاب الكراهية، وهذا الحديث يتضمن التحريم. ثم قال الشافعي (4) رضي الله عنه: علامة الصدقة: لله، وعلامة الجزية: الصَّغَار. ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه باباً (5).

_ (1) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم وسمَ الدواب والنعم في الصدقة والجزية" متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ر. البخاري: الزكاة، باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده ح 1502، واللباس، باب الخميصة السوداء، ح 5842. مسلم: اللباس، باب جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه وندبه في نعم الزكاة والجزية، ح 2119). (2) حديث وسم الأغنام في آذانها، ورد في بعض روايات حديث أنس السابق (ر. البخاري: الذبائح، باب الوسم والعلم في الصورة، ح 5542، مسلم: اللباس، باب جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه ح 2119، وابن ماجه: اللباس، باب لبس الصوف ح 3565، وأحمد 3/ 169). (3) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم رأى حماراً في وجهه وسم ... " رواه مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه (ر. مسلم: اللباس، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه ح 2117، 2118، أبو داود: الجهاد، باب النهي عن الوسم في الوجه والضرب في الوجه ح 2564، التلخيص: 3/ 240 ح 1512). (4) ر. المختصر: 3/ 244. (5) هو باب (الاختلاف في المؤلفة) ر. المختصر: 3/ 246.

آخر ربع البيوع (1). ...

_ (1) جاء في خاتمة النسخة: وافق الفراغ منه بتوفيق الله تعالى وحسن معونته، سابع ليلة مضت من ربيع الآخر من شهور سنة سبعين وخمسمائة، وهو حسبي ونعم الوكيل. وكتبه العبد الضعيف الراجي رحمة ربه عمر بن أبي غانم ابن الموصلي حامداً لله ومصلياً على رسوله محمد خير خلقه وعلى آله وأصحابه وأزواجه صلاة زاكية تامة إلى يوم الدين. ستبقى خطوطي بعد موتتي ... على أنها تبقى وتفنى أناملي فيا ناظراً فيها اسأل الله رحمةً ... لكاتبها المدفون تحت الجنادل اسأل الله رحمة.

عز الفقه وشرفه في الاقتصار على مسالكه، مع التزام الجواب عن كل واقعة. الإمام في نهاية المطلب

كتاب النكاح

كتاب النكاح (1) باب ما جاء في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأزواجه في النكاح 7831 - والأصل في النكاح قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} [النساء: 3]. وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تكثروا" (2). قال (3): واتفق المسلمون على أن النكاح شرع لإحلال النساء للرجال. قلت (4): الآيتان، والخبر لا يخص ما ترجم الباب (5)، بل هي عامة. وقوله: "النكاح شرع لإحلال النساء للرجال" فيه نقد، بل لتحليل كل واحد من القبيلين للآخر. قال: وصدّر الشافعي رضي الله عنه الكتاب بهذا الباب، وأضاف الأصحاب إليه خصائصه في غير النكاح.

_ (1) من هنا خرم في الأصل، ينتهي عند أول باب اجتماع الولاة وتفرقهم، وقد أكملناه من مختصر ابن أبي عصرون (صفوة المذهب) حيث وجدناه يحتفظ بعبارة الأصل، ونكاد لا نجد لفظة منه غير ألفاظ الأمام. (2) حديث "تناكحوا تكثروا": أخرجه صاحب مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنه، وذكره البيهقي في (المعرفة) عن الشافعي بلاغاً، وكذا هو في الأم، والمختصر (ر. مسند الفردوس: 2/ 130 ح 2663، الأم: 5/ 144، مختصر المزني: 3/ 255، معرفة السنن والآثار: 5/ 219، البدر المنير: 7/ 423، التلخيص: 3/ 248). (3) القائل هو إمام الحرمين. (4) أي ابن أبي عصرون. (5) فإن الباب مترجم بأنه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه.

7832 - ويحصر خصائصه صلى الله عليه وسلم ضربان: تغليظٌ، وتخفيف، وينقسم التغليظ إلى التحريم والإيجاب: أما الإيجاب فمنه: صلاة الليل، لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] والنافلة في اللغة: الزيادة. وهي في حق الأمة جائزة لنقصان فرائضهم، وفرائضه صلى الله عليه وسلم [منزّهة] (1) من النقص؛ فكان تهجده زيادة على مفروضاته. ومنه وجوب الأضحى (2)، والضُّحى، والوتر. وفي وجوب السواك خلاف. وكان يقضي دين من مات معسراً، لما اتسع عليه المال وجوباً عند الجمهور، أشعر به قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك كَلاًّ فإليَّ، أو ديناً فعليَّ" (3). وقيل: كان تكرّماً منه، وهو غير سديد؛ لأن قوله حقٌ، فلا يجوز تقدير خلافه، ولا يمكن حمله على الضمان عند من أجاز ضمان المجهول لما يتضاعف فيه من جهالة الجنس، والقدر، والصفة، ومن له، وعليه. وذُكر في إيجاب ذلك على الإمام من سهم المصالح وجهان. قال (4): وفيه تفصيل: فإن [من] (5) لم يقدر على القضاء، ولم يمطُل، يلقى الله تعالى ولا مظلمة عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: "لأن أموت وعلي مائة ألف

_ (1) في الأصل: منزه. (2) المراد الأضحية، وورد ذلك في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعاً "أمرت بركعتي الضحى ولم تؤمروا بها، وأمرت بالأضحى ولم تكتب"، وروى الدارقطني عن أنس مرفوعاً: "أمرت بالوتر والأضحى ولم يعزم علي" وقد ضعف الحافظ إسناد الحديثين (ر. مسند أحمد: 1/ 317، الدارقطني: 2/ 21، التلخيص: 3/ 254، 255 ح 1532). (3) حديث أنه كان يقضي دين من مات معسراً لما اتسع عليه المال، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك كلاًّ ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: الكفالة، باب الدين ح 2298، مسلم: الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، ح 4157. التلخيص: 3/ 108 ح 1268). (4) أي إمام الحرمين. (5) زيادة اقتضاها السياق.

لا أملك قضاءها أحب إليّ من أن أموت وأخلف مثلها" (1). ولا معنى لصرف مال المصالح في دينه (2). وإن ظلم بالمطل، ومات معسراً، فالأوجه ألا يصرف مال المصالح إليه، فإن قيل بجوازه، فيقضى أيضاً دين من لم يظلم؛ ترغيباً لأرباب الأموال في إسعاف المحتاجين وشرطه -عاماً وخاصاً- أن يفضل المال عن مصالح الأحياء. ومن الإيجاب مشاورة [ذوي الأحلام] (3) عند قومٍ؛ لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وقيل: نُدِب إليها استعطافاً للقلوب. وسر تخصيصه بالإيجاب تعظيم ثوابه؛ فإن ثواب الفرض أعظم؛ قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه عز وجل: "ما تقرّب المتقربون إليَّ بمثل أداء ما افترضت عليهم" (4). وقال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: عبدي، أدِّ ما افترضت عليك، تكن أعبد الناس، وانته عما نهيتك عنه، تكن أورع الناس، وارض بما قسمت لك، تكن أغنى الناس، وتوكّل على الله، تكن أكفى الناس" (5). وقيل: يزيد ثواب الفرض على النفل سبعين درجة؛ لما روى سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان: "من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه" (6).

_ (1) أثر عائشة رضي الله عنها لم نقف عليه. (2) فالراجح عند الإمام أنه لا يقضى دينه من سهم المصالح. (3) في الأصل: "ذوي الأْرحام" وهو سبق قلم؛ فلا معنى لتخصيص ذوي الأرحام بالمشورة. (4) حديث "ما تقرّب المتقربون إليَّ ... " طرف من حديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: الرقاق، باب التواضع، ح 6502، التلخيص: 3/ 254 ح 1513). (5) حديث " ... عبدي، أدِّ ما افترضت عليك" قال في كشف الخفا (1/ 75 ح 171): "رواه ابن عدي عن ابن مسعود. قال الدارقطني: رفعه وهم، والصواب وقفه". (6) جاء في زيادات النووي في الروضة: 3/ 7 قوله: "قال إمام الحرمين هنا: قال بعض علمائنا: الفريضة يزيد ثوابها على ثواب النافلة بسبعين درجة، واستأنسوا فيه بحديث" ا. هـ. وجعل ابن حجر هذه من فوائده في تلخيص الحبير، وعقب على كلام النووي قائلاً: =

فقابل النفل فيه بالفرض في غيره، وقابل الفرض فيه بسبعين فريضة في غيره، فأشعر أن الفرض يزيد على النفل سبعين درجة، بل دلّ أن كل نفل شهر رمضان كفرض غيره، وأن فرضه بسبعين فريضة في غيره. 7833 - فأما ما وجب في النكاح: فمنه تخييره نساءه، لقوله سبحانه: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]. وقيل: إن سبب التخيير أنهن طالبنه بشيء من الدنيا، ولم يكن في يديه وفاء به (1). وروي أن إحداهن طلبت منه خاتماً من ذهب، فجاءها بخاتم من فضة، لطخه بالزعفران، فردته. وقد روي في سبب التخيير وجوه، ويظهر أن [نفرة] (2) زحفت إلى قلبه صلى الله عليه وسلم لمطالبتهن له بما لايجده، فآلى صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل عليهن شهراً. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كنّا معاشر المهاجرين متسلطين على نسائنا بمكة، وكانت نساء الأنصار مسلّطات على رجالهن، فلما قدمنا المدينة اختلطت نساؤنا بنسائهم، فطفقن يتخلقن بأخلاقهن، فكلمت امرأتي ذات يوم في شيء، فراجعتني، فرفعت يدي لأضربها، وقلت: لا تراجعيني يا لكعاء، فقالت: إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وهو خير منك، فقلت: خابت حفصة وخسرت إذاً. فجمعت ثيابي وقمت، فأتيت حفصة، فقلت لها: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: نعم. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يظلّ على

_ = "والحديث المذكور ذكره الإمام في نهايته، وهو حديث سلمان مرفوعاً" وساق الحديث على نحو ما هو وارد هنا في شهر رمضان. ثم قال: "وهو حديث ضعيف، أخرجه ابن خزيمة، وعلّق القول بصحته [أي قال: إن صح الخبر] واعترض على استدلال الإمام به، والظاهر أن ذلك من خصائص رمضان، ولهذا قال النووي: استأنسوا، والله أعلم" انتهى كلام الحافظ (ر. التلخيص: 3/ 254) وانظر صحيح ابن خزيمة: 3/ 191 - 192 - رقم: 1887. (1) حديث أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم طالبنه بشيء من الدنيا، ولم يكن في يديه وفاء به، رواه ابن سعد في الطبقات عن جابر رضي الله عنه (8/ 179) وما بعدها. (2) الكلمة بين المعقفين اختيار من المحقق لمناسبة السياق، وفي الأصل كلمة تعذر قراءتها.

بعض نسائه طول نهاره مغضباً، فقلت لها: لا تفعلي ذلك ولا تغترّي بابنة أبي قحافة، فإنها حِبّ النبي صلى الله عليه وسلم، يحتمل منها ما لا يحتمل منك، وكنت قد ناوبت رجلاً من الأنصار حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أحضر يوماً، ويغيب في حاجته، فأخبره بما يجري، ويحضر يوماً وأغيب في حاجتي، فيحدثني بما جرى، فكنت في البيت إذْ قرع الأنصاري الباب عليّ، وقال: أَثمَّ عمر، فقلت: نعم. أحدث أمر؟ فقال: نعم، قلت: أجاءتنا غسان؟ - وكنا نحدث بأن [غسانَ] (1) تنعل خيولها لتغزونا فقال: أمر أفظع من ذلك: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فخرجت من البيت، ودخلت المسجد، ورأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حول المنبر جلوساً يبكون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على [مَشْرُبة] (2)، وكان أسامة (3) على الباب، فتقدمت إليه فقلت: استأذن لي، فاستأذن، فلم يُجَب، فرجعت. فلما بلغت بعض حجر المدينة، نازعتني نفسي؛ فانصرفت فقلت: استأذن لي، فاستأذن؛ فلم يجب؛ فرجعت، فلما بلغت بعض حجر المدينة نازعتني نفسي، فانصرفت فقلت: استأذن لي، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتي، فقال: اصعد، فكان صلى الله عليه وسلم نائماً على حصير من الليف، فاستوى جالساً، وإذا الليف قد أثّر في جنبه، فقلت: إن كسرى وقيصر يفترشان الديباج والحرير وأنت على مثل هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: "في شك أنت يا بن الخطاب؟ أما علمت أنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة"، ثم قصصت عليه القصة، فلما بلغت إلى قولي لحفصة لا تغتري ببنت ابن أبي قحافة بَسِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أطلقت نساءك؟ فقال: "ل". فقلت: الله أكبر" (4).

_ (1) في الأصل: غساناً. ولم ندر لها وجهاً. (2) بياض بالأصل، والمثبت من نصّ الخبر. (3) في بعض روايات الحديث: "وكان على الباب غلام أسود". وفي بعضها: "رباح". (4) أثر عمر رضي الله عنه متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 115 - 120، ح 944، 945).

وروي أنه آلى عن نسائه شهراً، فمكث في غرفته شهراً، فنزلت آية التخيير، فلما نزلت بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، فدخل عليها وقال: "إني ملق إليك أمراً، فلا تبادريني فيه بالجواب حتى تؤامري فيه أبويك"، وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ} [الأحزاب: 28] الآيات. فقالت: أفي مثل هذا أؤامر أبوي؟ اخترت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم قالت: لا تخبر زوجاتك بذلك، وطلبت أن يخترن الدنيا، فيفارقهن صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل على نسائه، وأخبرهن بما جرى مع عائشة، وكان يتلو عليهن آية التخيير، فاخترن بأجمعهن الله ورسوله والدار الآخرة (1). فثبت بذلك وجوب التخيير عليه صلى الله عليه وسلم. وذهب بعض الأصحاب إلى أن واحدة منهن لو اختارت الدنيا، لكانت تبين بنفس الاختيار، كما لو خيّر أحدنا زوجته، ونوى تفويض الطلاق إليها، فقالت: اخترت نفسي، ونوت الطلاق؛ فإنها تبين بنفس الاختيار. قال (2): وهذا غير مرضي؛ فإن الآية اقتضت التخيير بين الدنيا وزهرتها وبين الآخرة، ولا يماثل ما يجري بين الزوجين منا. قال: والأولى في التوجيه أن اختيار إحداهن الدنيا يضاد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه أن هذا القائل يقول: لو اختارت الدنيا، كان يجب على المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يفارقها، والفرقة إذا وجبت، وقعت عندنا، ولهذا

_ (1) واقعة التخيير أخرجها الشيخان من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها، وليس فيها أن عائشة طلبت أن يختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا فيفارقهن، قال الحافظ في الفتح (8/ 382): "وقع في النهاية، والوسيط التصريح بأن عائشة أرادت أن يختار نساؤه [صلى الله عليه وسلم] الفراق، فإن كانا ذكراه فيما فهماه من السياق فذاك، وإلا فلم أر في شيء من طرق الحديث التصريح بذلك" ا. هـ (ر. البخاري: التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب "قل لأزواجك إن كنتن تردن ... " ح 4785، مسلم: الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، ح 1475). (2) أي إمام الحرمين.

استدللنا بوجوب الفراق في اللعان على وقوعه. قلت: وفيما ذكره نظر؛ فإنه لو كان اختيار الدنيا يضاد صحبة رسولى الله صلى الله عليه وسلم، لتعجلت الفرقة، ولو وقعت الفرقة، لم يكن لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] معنى؛ فإن المفارِقة كيف تفارَق؟ وقوله: إن الفرقة إذا وجبت وقعت - لا يصح، وليس ذلك مذهباً، ولهذا إذا أمتنع المُولي من الفيئة، وجب عليه أن يطلق، ولا يقع الطلاق قبل تطليقه. وكذا إذا رأى الحكمان في باب النشوز الطلاق، كان التطليق واجباً، ولا تطلق بنفس وجوب التطليق. وأما في باب اللعان، فلا نقول بأن الفرقة وقعت بوجوبها، بل تقع بكمال ألفاظ اللعان. قالى: ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الفرقة لا تقع، لكن كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها تلقياً من قوله سبحانه: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]. وظاهرهُ وجوبُ الفرقة، وقد تحقق أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا يناط بالأقيسة التي تناط بها أحكام العامة، وإنما يتبع فيها موارد الشرع من غير زيادة. وذكر الخلاف في خصائصه خبطٌ، لا فائدة فيه؛ لأنه لا يتعلق بها حكم ناجز تمس الحاجة إليه، وإنما نجتهد فيما لا نجد بداً من إثباته أو نفيه، وما خلا منه تهجّم على الغيب من غير ثمرة. وانبنى على هذا أنه هل كان يلزمهن الجواب على الفور؟ فقيل: إن قلنا: إن الفرقة تقع بنفس الاختيار، اقتضى أن يكون الجواب على الفور، على قولٍ، كما لو خير أحدنا زوجته، ففي وجوب الاختيار على الفور قولان. قالى: وهذا في نهاية الضعف؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "ولا تبادريني بالجواب حتى تستأمري أبويك". فإن قيل: ما كان لها ذلك تخييراً ناجزاً، قلنا: فلم اكتفى به صلى الله عليه وسلم في جواب التخيير؟ فلا حاصل لذكر الخلاف فيه. وإن قلنا: لا تحصل الفرقة بنفس الاختيار، فلا يلزمهن الجواب على الفور، وهو الصحيح. ولما اخترن الله سبحانه ورسوله والدار الآخرة جازاهنّ الله سبحانه، فحرم عليه

التبدل بهن، والتزوج عليهن، فقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] والذي صح عند الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أُبيح له ما حرّم من ذلك (1). وقال أبو حنيفة: مات ولم يبح له. لنا ما روت عائشة رضي الله عنها: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء اللائي حرمن عليه" (2). وفي تحريم طلاقهن وجهان: أحدهما - كان حراماً عليه؛ لقوله تعالى: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] والتبدّل إنما يكون بمفارقتهن وإقامة غيرهن مقامهن. والثاني - لم يحرم طلاقهن، وهو الظاهر؛ لأن الخصائص يجب أن يقتصر فيها على المنقول. وقال بعضهم: إنه في صورة خاصة، وهو أنه لو وجد التطليق باختيارهن الدنيا، فأما منعه من إنشاء طلاق بعد انقضاء التخيير، وأثره، فلا وجه له. قال: وهذا التفصيل لا حاجة إليه، والوجه القطع بأنّ له اختيار الطلاق متى شاء. ولما أباح الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم التبدّل بهن، لم يتبدّل، وهو السر في إباحته إظهاراً لمنته صلى الله عليه وسلم عليهن. 7834 - أما المحرمات من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فمما حرم عليه من دون أمته إلا ذوي القربى، فالصدقة (3) المفروضة، وكذا صدقة التطوع على المذهب

_ (1) ر. الأم: 5/ 140. (2) حديث عائشة: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء اللائي حرمن عليه" رواه الشافعي في الأم، ولفظه "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء" قال الشافعي: كأنها تعنىِ اللاتي حظرن عليه في قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52]. وأخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي دون الزيادة، قال في البدر المنير: هذا الحديث صحيح. (ر. الأم: 5/ 140، أحمد: 6/ 41، الترمذي: التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، ح 3216، النسائي: النكاح. باب ما افترض الله عز وجل على رسوله عليه السلام وحرّمه على خلقه ليزيده إن شاء الله قربة إليه، ح 3204، البدر المنير: 7/ 440، التلخيص: 3/ 263 ح 1540). (3) فالصدقة: كذا بالفاء، ولم نعرف لها وجهاً، فقد سبق جواب أمّا بقوله: فمما حرم عليه. =

المعروف، وفي تحريمها على ذوي القربى خلاف تقدم. وقيل: بأنها لم تحرم عليه، لكنه كان يأنف منها تعففاً. وهو بعيد غريب. ومنه خائنة الأعين (1)، فكان لا يجوز له أن يظهر شيئاً ويسر خلافه وهو يسمى الإيماض بالعين. وقيل: كان يحرم عليه الإيهام، والختل بجميع وجوه الأفعال، حتى الخُدعة في الحرب. وهذا مزيف. فقد صح "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أرِاد سفراً وزَى بغيره" (2). وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الحرب خُدعة" (3). قال: لا أدري أخبرٌ هو عنه، أم أثر عن علي كرم الله وجهه لما قتل عمرو بنَ عبد ود؛ ولأن الإيماض والتلويح بالترامز يحط من قدر المتكلم، ويسقط من أبّهته؛ فأما الإيهام في الأمور العظام، فمعدود من الإيالات والسياسات. ومكائد الحروب لا تزري بأصحابها.

_ = فالكلمة (الصدقة) مبتدأ مؤخر، خبره فمما حرم عليه، والله أعلم. (1) دليله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" رواه أبو داود، والنسائي، والبزار، والحاكم، والبيهقي من حديث سعد بن أبي وقاص في قصة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم يوم فتح مكة. وروى أبو داود والترمذي والبيهقي من طريق أخرى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليس لنبي أن يومض". وفي رواية لابن سعد في طبقاته: "الإيماء خيانة، وليس لنبي أن يومىء" (ر. أبو داود: الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، ح 2683، والجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه، ح 3194، النسائي: تحريم الدم، باب الحكم في المرتد، ح 4067، مسند البزار: 3/ 350 - 351، الحاكم: 3/ 45، السنن الكبرى للبيهقي (7/ 40) (10/ 85)، طبقات ابن سعد: 2/ 107، التلخيص: 3/ 274 ح 1549. (2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً وزى بغيره" متفق عليه من حديث كعب بن مالك (ر. البخاري: الجهاد، باب من أراد غزوة فوزى بغيرها ح 2947، مسلم، التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك ح 2769، التلخيص: 3/ 275 ح 1550). (3) حديث "الحرب خدعة" متفق عليه من حديث جابر، ولمسلم أيضاً من حديث أبي هريرة (ر. البخاري: الجهاد، باب الحرب خدعة، ح 3030. مسلم: الجهاد، باب جواز الخداع في الحرب، ح 1739، 1740).

وكان يحرم عليه إذا لبس لأَمَة حربه، حرم عليه نزعها حتى يلقى العدو (1)، وقيل: هو مكروه. وهو بعيد. وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا لا آكل متكئاً" (2)، فقيل: إنه حرام. والظاهر أنه لا يحرم؛ لأنه لم يثبت فيه ما يدل على التحريم، واجتنابه عنه واختياره غيره لا يدل على التحريم. ومن هذا اجتنابه أكل الثوم، وما له رائحة كريهة، ففيه هذا الخلاف. 7835 - أما محرمات النكاح، فقد صح أنه حرم عليه التبدل بأزواجه، وقد بيّناه. وكان يحرم عليه استدامة نكاح امرأة تكره صحبته، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم نكح امرأة ذات جمال فلُقِّنَتْ أن تقول له صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله منك". وقيل لها: إن هذا الكلام يعجبه. فلما قالت له ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "لقد استعذت بمعاذ، الحقي بأهلك" (3).

_ (1) حديث "كان يحرم عليه إذا لبس لأمة حربه، حرم عليه نزعها حتى يلقى العدو" علقه البخاري مختصراً، ووصله أحمد والدارمي، وغيرهما من حديث جابر: "أنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" وفيه قصة. وللحديث طريق أخرى بإسناد حسن عند البيهقي والحاكم من حديث ابن عباس. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ (ر. البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، أحمد: 3/ 351، الدارمي: ح 2159، البيهقي (6/ 304)، (7/ 41)، الحاكم (2/ 129)، (3/ 39)، التلخيص: 3/ 273 ح 1548). (2) حديث "أنا لا آكل متكئاً" رواه البخاري، وأصحاب السنن عن أبي جحيفة رضي الله عنه (ر. البخاري: الأطعمة، باب الأكل متكئاً، ح 5398، 5399، أبو داود: الأطعمة، باب ما جاء في الاكل متكئاً ح 3769، الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء في كراهية الأكل متكئاً، ح 1830، النسائي في الكبرى: آداب الأكل، باب الأكل متكئاً، ح 6742، ابن ماجه: الأطعمة، باب الأكل متكئاً، ح 3262، التلخيص: 3/ 266 ح 1554). (3) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم نكح امرأة ذات جمال، فلقِّنت أن تقول له ... " هذا الحديث أصله عند البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد، وعند البخاري من حديث أبي أسيد، وعند البخاري والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة، وليس فيه أن المرأة (لُقِّنت)، بل هذه الزيادة قال عنها ابن الصلاح: إنها باطلة. وقد رواها ابن سعد في طبقاته، والحاكم في مستدركه بسند ضعيف. =

وقيل: إن نكاحه الحرة الكتابية كان لا يحرم عليه؛ فإن حل النكاح كان أوسع عليه من أمته. وقيل: كان يحرم عليه؛ لأن الغالب أنها كانت تكره صحبته ديناً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "زوجاتي في الدنيا، زوجاتي في الآخرة" (1). ولا يحكم بهذا في الكافرة، ولأن قدره العلي لا يقتضي أن يضع ماءه في كافرة. وكان يحرم عليه نكاح الأمة الكتابية كما يحرم على غيره. قلت: فلا ينبغي أن تعد من خصائصه. قال: ويحل للواحد من الأُمّة أن يتزوج الأمة المسلمة إذا عَدِم طَوْلَ حرّة، وخاف العنت، وفي تحريمها عليه صلى الله عليه وسلم وجهان: أحدهما - يحرم: لأن شرط إباحته خوف العنت، وهو الزنا، وقد عُصم صلى الله عليه وسلم. والثاني - يحل له، والشرط يعتبر في حق الأُمّة خاصة. وفي اشتراط عدم الطول وجهان؛ لأن حله أوسع باباً، ولهذا ينكح من غير عدد، فإن لم يعتبر فقدان الطول، جاز أن يتزوج الإماء بغير عدد، وإن اعتبرناه، لم يزد على واحدة، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم

_ = (ر. البخاري: الطلاق، باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، ح 5254، 5255، 5256، 5257. مسلم: الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكراً، ح 2007، النسائي: الطلاق، باب مواجهة الرجل المرأة بالطلاق ح 3446. ابن ماجه: الطلاق، باب ما يقع به الطلاق من الكلام، ح 2050، طبقات ابن سعد: 8/ 113 - 116 الحاكم: 4/ 37، مشكل الوسيط لابن الصلاح. بهامش الوسيط: 5/ 13، التلخيص: 3/ 278 ح 1553). (1) حديث "زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة" قال الحافظ: لم أجده بهذا اللفظ، وفي البخاري عن عمار أنه ذكر عائشة فقال: "إني لأعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة" ا. هـ. وقال ابن الملقن في البدر المنير: هذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه في ترجمة علي رضي الله عنه من رواية ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي عز وجل أن لا أُزوج أحدأ من أمتي ولا أتزوج إلا كان معي في الجنة، فأعطاني". وقد ذكر الحافظ حديث الحاكم هذا، وقال إن في الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمر مثله "وفي ملاقاته لحديث الباب تكلّف" (ر. البخاري: فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها، ح 3772، الحاكم: 3/ 137، البدر المنير: 7/ 457، التلخيص: 3/ 279 ح 1554).

تسرّى بمارية القبطية: أم ولده إبراهيم عليه السلام. واختلفوا في جواز نكاح الأمة الكتابية، ويقرب من اختلافهم في جواز نكاحه الحرّة الكتابية. ومن نكح من الأُمّة أمة كتابية، فولده منها رقيق، فلو نكح صلى الله عليه وسلم أمة كتابية، فولده منها حرّ؛ إذ يستحيل أن يُسترق جزء منه. وقيل: إن جوزنا استرقاق العرب، ففي ولده صلى الله عليه وسلم وجهان، وهذا لا يحل اعتقاده، فلو تُصُوِّر أن غُرَّ بنكاح أمة، فولده منها حرّ، ولا قيمة (1) عليه؛ لأنه لا يَعْلق رقيقاً مع العلم، فظن الحرية يكون دافعاً للرق. وسر ما حرم عليه دون أمته تكثير ثوابه في اجتنابه، لأن اجتناب المحرمات كفعل الواجبات، ووقعه أعظم من وقع اجتناب المكروه. قال صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل كان في البيت وقلبه متعلق بالمساجد، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، بحيث لم تعلم يساره ما أنفقت يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين" (2). 7836 - أما التخفيف، فهو ما أبيح له دون غيره، فمنه: الصفيُّ (3) من المغنم، وخمس الخمس، والوصال في الصوم. وأما في باب النكاح، فإنه كان له أن يزيد على أربع، وقيل: كان يباح له أن يجمع بين تسع نسوة من غير زيادة. وقيل: منكوحاته كالسراري في حق أمته.

_ (1) أي قيمة المولود باعتباره رقيقاً، فإنّ من غرّ من الأمة فنكح أمة، فولده منها حر؛ لأنّ ظن الحرية بها يدفع الاسترقاق لولده، ولكن عليه قيمة المولود لسيد الأمة، فيقدّر رقيقاً، ويغرم قيمته لسيدها. (2) حديث "سبعة يظلهم الله ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة ح 660، مسلم: الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، ح 1031). (3) الصفيّ، ومثله الصفية: ما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم قبل القسمة، والجمع الصفايا، مثل عطية وعطايا. (مصباح).

وفي انحصار طلاقه [في] (1) الثلاث الخلافُ في انحصار زوجاته. وكان ينعقد نكاحه بلفظ الهبة. وفي اشتراط لفظ النكاح في حقه خلاف سيأتي. 7837 - وقيل: كان يفتقر نكاحه إلى الولي كغيره، والصحيح أنه لا يفتقر؛ لأنه شرط لحفظ الكفاءة، وطلب الحظ، وذلك مستغنى عنه؛ فإنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وعلى أبيه (2). ولما خطب صلى الله عليه وسلم أم سلمة اعتذرت بمعاذير، وقالت: إني امرأة مُصْبية، غيرَى، وأوليائي غُيّب. فقال صلى الله عليه وسلم: "أما الصبية فسنكفيكهم، وأما الغَيْرة، فأسال الله أن يذهبها، وأما الأولياء، فلم يكن أحد منهم يكرهني إذا حضر" (3). والأصح أن نكاحه ينعقد بغير شهود؛ لأن الغرض دفع ما يتوقع من الجحود، وذلك مستحيل منه صلى الله عليه وسلم، ولو فُرض من جانبها، لكان تكذيباً له، ومن كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كفر. وقيل: هذه المسائل تندرج تحت الخلاف في أن نكاحه كالتسرّي في حقنا، فإن جعلناه كذلك، لم يفتقر إلى الولي والشهود، ولم ينحصر العدد، وصح بلفظ الهبة من الجانبين، وفي حالة إحرامه. وإن قلنا: ليس كالتسري، فحكم هذه المسائل على العكس. وقيل: إن القَسْمَ كان واجباً عليه، ويحمل قوله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] على إباحة التبدل. وكان يأمر في مرض موته أن يُطاف به على نسائه في بيوتهن (4)، وكان يستبطىء نوبة عائشة ويقول: أين أنا اليوم، أين أنا غداً؛ ففطِن

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) المراد "آدم" المذكور آنفاً، عليه الصلاة والسلام. (3) حديث أم سلمة لما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم اعتذرت بمعاذير وقالت: "إني امرأة مصبية ... " رواه النسائي، وأحمد، وأصله عند مسلم (ر. مسلم: الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة ح 918، النسائي: النكاح، باب إنكاح الابن أمه، ح 3256، أحمد: 6/ 313، 317، 320، 321). (4) حديث "أنه كان يأمر في مرض موته أن يطاف به على نسائه في بيوتهن" رواه الحارث بن أبي =

لمراده صلى الله عليه وسلم فحلّلنه، فكان يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها إلى أن قبضه الله، فقالت عائشة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي، ورأسه بين سَحْري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه (1). وقيل: ما كان يجب عليه القسم، وإنما فعله تكرّماً. وهذا يخرج على تشبيه زوجاته بالسراري. ومن خصائصه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رمق امرأة، ووقعت منه موقعاً، وجب على زوجها أن يطلقها، وقصة زينب مشهورة تشهد بذلك، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] فقيل: إنه لم يباشر عليها عقد نكاح، وإنما حلّت له بهذه الكلمة الإلهية. وقيل: إنه عقد عليها. ومعنى قوله سبحانه {زَوَّجْنَاكَهَا} أبحنا لك أن تتزوجها (2).

_ = أسامة في مسنده بسند رجاله ثقات إلا أنه منقطع. قاله الحافظ في التلخيص: (3/ 289 ح 1562). (1) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان يستبطىء نوبة عائشة ويقول: أين أنا اليوم ... " رواه الشيخان (ر. البخاري: فرض الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ... ح 3100، والمغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ح 4450، والنكاح، باب إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرض في بيت بعضهن فأذن له ح 5217. مسلم: فضائل الصحابة، باب في فضائل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ح 2443). (2) هذه الخصيصة، والاستشهاد لها بقصة زينب رضي الله عنها، تقوم على تفسير غير مرضيٍّ لآية سورة الأحزاب: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] فقد جاء فيما رواه القرطبي: "ذهب قتادة، وابن زيد، وجماعة من المفسرين -منهم الطبري وغيره- إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد، فيتزوجها هو، ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكو منها غلظةَ قول وعصيان أمر، وأذى باللسان، وتعظماً بالشرف، قال له: "اتق الله -أي فيما تقول- وأمسك عليك زوجك" وهو يخفي الحرصَ على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف" ا. هـ ثم أتبع القرطبي ذلك بروايات توضح أو تؤكد أو تشهد لهذا التفسير، منها ما رواه مقاتل، قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد، فمكثت عنده حيناً، ثم إنه عليه السلام أتى زيداً يوماً يطلبه، فأبصر زينب قائمة، وكانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها؛ وقال: "سبحان الله مقلّب القلوب"! فسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد؛ ففطن زيد؛ ففال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها؛ فإن فيها كبراً، تعظُم عليَّ، وتؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام: أمسك عليك زوجك واتق الله" انتهى ما حكاه القرطبي عن مقاتل. وأتبعها بروايات أخرى مثلها، مما قال عنه الألوسي في تفسيره: "وللقصاص في هذا كلامٌ لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول". أما ابن العربي فبعد أن روى مثل هذا عن المفسرين، قال ثائراً غاضباً فيما سماه تنقيح الأقوال وتصحيح الحال. قال: "قد بينا في غير موضع عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب ... وعهدنا إليكم عهداً لن تجدوا له ردّاً أن أحداً لا ينبغي له أن يذكر نبياً إلا بما ذكره الله لا يزيد عليه؛ فإن أخبارهم مروية وأحاديثهم منقولة بزياداتٍ تولاها أحد رجلين: إما غبيٌّ عن مقدارهم، وإما بدْعي لا أرب له في برّهم ووقارهم؛ فيدس تحت المقال المطلق الدواهي، ولا يراعي الأدلَة والنواهي ... فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى قط ربّه في حال الجاهلية ولا بعدها ... فلم يقع قط في ذنب صغير -حاشا لله- ولا كبير، ولا وقع في أمر يتعلّق به لأجله نقصٌ، ولا تعيير ... فهذه الروايات كلها ساقطة". ثم قال بعد ذلك: " ... فأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها؛ فوقعت في قلبه، فباطلٌ؛ فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذٍ حجاب. فكيف تنشأ معه وينشا معها، ويلحظها في كل ساعة، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج ... حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة". ا. هـ. هذا ومن المعاصرين الذين قالوا بهذا التفسير الدكتورة بنت الشاطىء - عائشة عبد الرحمن -على علمها وفضلها- فقد جاهرت بهذا التفسير ودافعت عنه بقوة في خبط وتخليط حول تأكيد بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم. والإمام السيوطي الذي أورد مثل هذا القصص في أسباب النزول، لم يعدّ هذه من الخصائص -على كثرة ما عدّد من الخصائص الكبرى- بل اقتصر في تفسير الآية على ما رواه البيهقي عن علي بن الحسين زين العابدين، وهو التفسير المرضي الذي سنورده بعد سطور. أما التفسير الصحيح الذي قال عنه القرطبي: "قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: هو أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كالقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم"، وهذا التفسير يقوم على أن الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو علمه بأن زيداً سيفارقها، وأنه صلى الله عليه وسلم سيتزوجها، فقد كان الله قد أوحى إليه بذلك، وليس أنه أخفى حبه لها!!

ومنها أنه أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها (1)، ووقع الاتفاق على أنه كان له في ذلك خاصية، فقيل: هي أنه لزمها الوفاء بالتزوج به، وغيره لو أعتق أمته على أن تتزوج به، لم يلزمها الوفاء وتلزمها قيمتها. وقيل: الخاصية أنه جعل عتقها صداقها مع الجهل بقيمتها، وفي جواز ذلك في حق الأمة خلاف. ومنها أنه جاز له دخول مكة من غير إحرام، وفي جوازه للأُمّة خلاف.

_ = "فحاصل العتاب -كما قال الألوسي-: لم قلتَ: أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك، وهو مطابق للتلاوة -أي يتفق مع نظم الآية- لأن الله تعالى أعلم أنه مبدي ما أخفاه عليه الصلاة والسلام، ولم يظهر غير تزويجها منه، فقال سبحانه {زَوَّجْنَاكَهَا} فلو كان المضمر محبتها، وإرادة طلاقها ونحو ذلك، لأظهره الله جل وعلا". انتهى كلام الألوسي. أما ما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم من الناس، فهو أن يرجف المنافقون بأنه نهى عن تزوّج نساء الأبناء، وتزوجّ بزوجة ابنه. ويبقى بعد ذلك إشكال، وهو كيف يقول صلى الله عليه وسلم لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وقد أعلمه الله أنه مفارقها، وأنه سيتزوجها؟ وقد أجاب عن ذلك ابن العربي بقوله: "فإن قيل: كيف يأمره بالتمسك بها، وقد علم أن الفراق لا بدّ منه، وهذا تناقض؟ قلنا: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة، لإقامة الحجة، ومعرفة العاقبة. ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان، وقد علم أنه لا يؤمن، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلاً وحكماً، هذا من نفيس العلم، فتيقنوه وتقبلوه" هذا ما قاله ابن العربي في (أحكام القرآن) ونقله عنه القرطبي في تفسيره. وأخيراً نقول: لعل إمام الحرمين كان أول من قال بهذه الخصيصة من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فإن ابن العربي وهو يعدد خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم ذكر هذه الخصيصة، ثم قال: "هكذا قال إمام الحرمين، ثم أشار إلى ما سبق من ردّه لذلك، وتبع الغزالي إمامه في ذلك. (راجع في هذه القضية: أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1541 - 1544، 1563) و (تفسير القرطبي: 14/ 188 - 192) و (تفسير الألوسي: 22/ 24 - 26) و (تفسير الماوردي: 326 - 328) و (الخصائص الكبرى للسيوطي: 2/ 246) و (الوسيط للغزالي: 5/ 17). (1) حديث "أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" متفق عليه من حديث أنس (ر. البخاري: النكاح، باب من جعل عتق الأمة صداقها، ح 5086، مسلم: النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها، ح 1365، التلخيص: 3/ 281).

ومنها أنه لا يورث. قال صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" (1)، فكان ما خلفه على ما كان عليه في حياته وكان الصدّيق رضي الله عنه ينفق منه على أهله وخدمه، ويراه باقياً على ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الأنبياء أحياء، وهذا هو الصحيح الموافق لسيرة الصديق. وقيل: كان سبيله سبيل الصدقة، قال صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة". وقيل: كان إذا أمَّن كافراً لا يلزمه الوفاء بأمانه، وكان يجوز له قتله. وهذا مما أُجمع على تخطئة صاحب التلخيص (2) فيه. وكيف يليق بمنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالف قولَه، ويخفر ذمته، ولو جاز، لكان فيه حط مرتبته، وتتبير (3) أمره، وعدم حصول الثقة به، ومن حرمت عليه خائنة الأعين كيف يجوز له أن يخفر ذمته؟ ومنها أنه كان يجوز له أن يلعن من شاء من غير سبب يوجبه؛ لأنه كانت لعنته رحمة. وهو غلط باتفاق الأئمة. ومن هذا القبيل أنه كان يجوز له أن يدخل المسجد جنباً. وهذا هَوَسٌ لا مستند له. ومن خصائصه شهادة خزيمة له، وإجازتها، وإقامتها مقام شهادة شاهدين عدلين، وفي هذا اضطراب؛ فإنه لم يصح ردّ شهادته في حقّ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى شهادته؛ لأنه معصوم عن الحلف، ومن كذّبه كفر.

_ (1) حديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" متفق عليه من حديث أبي بكر رضي الله عنه بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" (ر. البخاري: فرض الخمس، ح 3093، مسلم: الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا فهو صدقة، ح 1759، التلخيص: 3/ 214). (2) ر. التلخيص: 479. (3) كذا في الأصل، وهي بدون نقط. والمعنى: هلاك أمره وفساده. ويلوح لي أنها مصحفة عن: "وتثبيج أمره"؛ فإن التثبيج هو الاختلاط والاضطراب والتعمية. وهو الأكثر مناسبة للسياق.

ومنها أنه أبيح له الوصال في الصوم، وكان حراماً على غيره، وقيل مكروهاً. فصل في أحكام نسائه 7838 - فنقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع، وكان يقسم لثمان، وهنّ: عائشة بنة الصديق، وحفصة بنة الفاروق، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس، وصفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وهي التي كانت امرأة زيد. فهنّ اللواتي مات عنهن صلى الله عليه وسلم، وهنّ أمهات المؤمنين، محرمات على الأبد على غيره. ولو فارق امرأة في حياته هل كان يحل لغيره نكاحها؟ قيل: لا يحل كالتي مات عنها، وقيل: كانت تحل؛ لأن النكاح لم ينته نهايته، وقيل: إن كان صلى الله عليه وسلم دخل بها، لم تحل لغيره، وإن لم يكن دخل بها حلّت لغيره. ولهذا روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه، فرفعت قصته إليه، فحبسه وهمّ برجمه، فذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان دخل بها، فكفّ عنه وتركها في حِباله (1). ولا خلاف أن اللاتي خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اختارت واحدة منهن الدنيا، لحلّ لها أن تتزوج؛ لأنها لو منعت ما تمكنت من غرضها من الدنيا.

_ (1) أثر "أن الأشعث نكح المستعيذة في زمن عمر فحبسه وهمّ برجمه ... " قال الحافظ: هذا الحديث تبع [الرافعيُّ] في إيراده هكذا الماوردي، والغزالي، وإمام الحرمين، والقاضي حسين، ولا أصل له في كتب الحديث. نعم روى أبو نعيم في المعرفة عن الشعبي مرسلاً وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس موصولاً وصححه ابن خزيمة والضياء من طريقه في المختارة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق قُتيْلة بنت قيس أخت الأشعث، طلقها قبل الدخول، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، فشق ذلك على أبي بكر فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه، لم يحزها النبي صلى الله عليه وسلم وقد برأها الله منه بالردة" ا. هـ ملخصاً (ر. التلخيص: 3/ 292 ح 1565).

وليس المراد بكونهن أمهات المؤمنين أنه يجوز لهنّ التكشف لهم، كتكشف الأم لأولادها، بل المراد به التشبه بالأمهات في التحريم. 7839 - وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشبهن أخوات المؤمنين؛ لأنه لو كان كذلك، لحرمن كما حرم زوجاته، لكن يقال: هن بنات أمهات المؤمنين. ومن ذلك لا يقال: معاوية خال المؤمنين، بل نقتصر على ما جاء التوقيف به ولا نتعداه. قال المزني رحمه الله: "إنّ الله تعالى لما خص به رسوله صلى الله عليه وسلم، وميز بينه وبين خلقه لما فرض عليهم من طاعته، افترض عليه أشياء خففها عن خلقه ليزيده بها إن شاء الله قربة إليه" (1). والقراءة المشهورة (لِمَا) مخففة مكسورة اللام؛ ليكون بمعنى التعليل. وفي الكلام خلل من وجوه، ينقدح في بعضها الذب (2) والتأويل، ولا يتجه في بعضها جواب، فمن وجوه الخلل أنه قال: "إنّ الله تعالى لما خصّ به رسوله من وحيه، وأبان (3) بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من طاعته، افترض عليه أشياء" (4)، فجعل تخصيصه بما افترض عليه معللاً بما خُص به من الوحي، وفُرِض على الخلق من طاعته، فهذا [كلام] (5) مضطرب، نبيّن ما فيه من الخلل. قلنا: لفظ الشافعي على ما نقل المعتمدون عنه، قال رضي الله عنه: "إن الله تعالى لما خصّ به رسوله فأبان من فضله بالمباينة بينه وبين خلقه، افترض عليهم طاعته" (6) فجعل افتراض طاعته منوطاً

_ (1) ر. المختصر: 3/ 254 والكلام هنا بمعناه، وسيأتي قريباً بنصّه. (2) كذا. والمعنى: يمكن في بعضها الدفع للخلل وتأويله. (3) أبان: من المباينة والمخالفة. (4) هذه عبارة المختصر بنصها. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) ر. الأم: 5/ 124 مع اختلاف يسير في اللفظ، فعبارة الأم: "إن الله تعالى لما خص به رسوله من وحيه، وأبان من فضله من المباينة بينه وبين خلقه بالفرض على خلقه بطاعته في غير آية من كتابه". [وذكر الآيات] ثم قال: "افترض الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم أشياء خففها عن خلقه، ليزيده بها -إن شاء الله- قربة إليه وكرامة، وأباح له أشياء حظرها على خلقه زيادة في كرامته، وتبيناً لفضيلته، مع ما لا يحصى من كرامته".

برسالته. ثم استأنف فقال: "وافترض عليه أشياء خففها عن خلقه". فإن تكلّف متكلّف وعلّل ما خص به بعلو منصبه [بما] (1) خص به من الوحي وافتراض الطاعة، أمكن تقريب القول فيه، لكن الأوجه ما ذكره الشافعي. وقوله (2): "وأبان بينه وبين خلقه" غلط في اللغة والعربية لا يخفى دركه على الشادي (3)؛ فإن العرب لا تقول: أبنت بين فلان وبين فلان، بل تقول: أبنت الشيء عن الشيء، بمعنى القطع. وأبنت الشيء إذا أظهرته، وباينت بين فلان وفلان. ولفظ الشافعي "وأبان من فضله بالمباينة بينه وبين خلقه". وقوله "ليزيده بها قربة إن شاء الله" لا يرجع الاستثناء (4) فيه إلى نفس القربة، بل إلى جهتها؛ لأنه لا شك في حصول القربة له لما خصه به. ...

_ (1) في الأصل: "فيما" والمثبت تصرف من المحقق اقتضاه السياق. (2) وقوله: أي المزني. (3) الشادي: أي المبتدىء. (4) الاستثناء: أي قول الشافعي: "إن شاء الله".

باب ما جاء من الترغيب في النكاح

باب ما جاء من الترغيب في النكاح 7840 - والنكاح على الجملة مرغوب فيه، والأصل فيه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقوله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فوعد به الغنى، وكان الحسن بن علي منكاحاً مطلاقاً، فقيل له في ذلك، فقال: إنّ الله وعد الغِنى عليهما، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] فأنا أطلب الغنى بهما (1). والأخبار في الترغيب فيه كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا، تكثروا". وقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" (2) و"من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه، فليتق الله في الثلث الباقي" (3) فقيل: المراد به أكل الحلال. وقال صلى الله عليه وسلم لعَكاف بن وَدَاعَة الهلالي: "أتزوجت؟ " فقال: لا، فقال: "إنك إذاً من إخوان الشياطين، أو من

_ (1) أثر الحسن رضي الله عنه "إن الله وعد الغنى عليهما" لم نقف عليه. (2) حديث "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ... " متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (ر. البخاري: الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، ح 1905، مسلم: النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، ح 1400). (3) حديث "من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه ... " قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: "لم نجد له ثبوتاً" ا. هـ. وقريب منه ما رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم (واللفظ له) عن أنس مرفوعاً (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في سلسلة الصحيحة. (ر. المعجم الأوسط للطبراني: 7643، 8789، مستدرك الحاكم: 2/ 161، مشكل الوسيط لابن الصلاح - بهامش الوسيط: 5/ 24، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 2/ 160 ح 625).

رهبان النصارى، فإن كنت من رهبان النصارى، فالحق بهم، وإن كنت منا، فمن سنتنا النكاح" (1). وقال عمر لأبي الزوائد: "أتزوجت؟ فقال: لا، فقال: لا يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور" (2). ولما احتضر معاذ قال: "زوجوني، زوجوني؛ لا ألقى الله عزباً" (3). وفي القرآن الثناء على المتعفف القاعد عن النكاح، قال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60] وقال في صفة يحيى بن زكريا: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] فسّره بعض أهل اللغة بالذي لا يقدر على إتيان النساء، وفسره الشافعي بالذي لا يأتي النساء مع القدرة؛ لأنه ذكر في سياق المدح والإطراء، ولا يستحق المدح عاجزٌ. ونظر الشافعي في الأخبار المرغّبة في النكاح، وما يعارضها من الحث على التخلي لعبادة الله تعالى، فسلك طريقاً وسطاً، فقال: من تاقت نفسه إليه، ووجد أهبته، فالمستحب له أن ينكح، ومن لم تتق نفسه إليه، فالأولى أن يتخلى للعبادة. ومن تاقت نفسه إليه ولم يقدر على أهبته، فالأولى له أن لا يتزوج؛ لأنه لو تزوج، لوقع

_ (1) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم قال لعكاف بن وداعة "تزوجت ... " رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في مسند الشاميين من حديث عطية بن بُسر؛ قال في مجمع الزوائد "فيه معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف". والحديث أورده العقيلي في الضعفاء الكبير، وابن حبان في المجروحين، وابن الأثير في أسد الغابة، وأخرجه أحمد في مسنده من غير طريق أبي يعلى، ورواه ابن شاهين عن ابن عمر. قال الحافظ في الإصابة: والطرق كلها لا تخلو من ضعف واضطراب (ر. مسند أبي يعلى: 12/ 260، ح 6856، المجروحين لابن حبان: 3/ 43، الضعفاء الكبير للعقيلي 3/ 356، مسند أحمد: 5/ 163 - 164، أسد الغابة: 4/ 43، 68، 69، الإصابة: 7/ 34 - 35، مجمع الزوائد: 4/ 250). (2) أثر عمر أنه قال لأبي الزوائد: "أتزوجت ... " قال ابن الصلاح: "رواه الشافعي في القديم بإسناده" ولم يتكلم على الإسناد، والحديث رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور عن طاووس (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح - بهامش الوسيط: 5/ 25، مصنف ابن أبي شيبة: ح 15910، مصنف عبد الرزاق: ح 10384، وسنن سعيد بن منصور: ح 491). (3) أثر معاذ "زوجوني، زوجوني ... " رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 453 ح 15909).

في شغل شاغل عن العبادة. ثم يشتغل بما يكسر توقان نفسه وهو الصوم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء". والمعنى فيه أن النكاح ليس من القربات، وتحصيل النسل به مظنون، وفي الحال يشتغل بالمُلهي عن عبادة الله تعالى بتوقع أمر لا يتحقق وجوده، ولو وُجد، فلا يدري أصالح أم طالح؟ والمعتبر ليس [إلا] (1) توقان النفس والحذار من الوقوع في المخازي الموبقات، فإن أمكن ذلك، فليأخذ المرء حذره (2)، وإن لم يمكن، فالوجه الاعتصام بالله، وكسر قوى النفس بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معصوم إلا من عصمه الله، وكم من ناكح يفجُر، ومن عَزْبٍ يتقي. فإن تزوج ولا أهبة له، فقد يجر ذلك خللاً في فى ينه. 7841 - وينبغي أن يقصد ذات الدين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليك بذات الدين تربت يداك" (3). ويطلب الحسيبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وخضراء الدِّمن، قيل: وما خضراء الدمن، قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء" (4) وقال صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم، لا تضعوها في غير الأكفاء" (5).

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، كما يفهم من كلام الشافعي المذكور أنفاً. (2) أي إن أمكنه الأهبة، فليأخذ حذره ويتزوج. (3) حديث "عليك بذات الدين تربت يداك" رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، ولمسلم أيضاً، والبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ "فاظفر بذات ... ". (ر. البخاري: النكاح، باب الأكفاء في الدين، ح 5090، مسلم: الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين ح 715، 1466). (4) حديث "إياكم وخضراء الدمن ... " رواه عن أبي سعيد الخدري الرامهرمزي، والعسكري في الأمثال، وابن عدي في الكامل، والقضاعي في مسند الشهاب، والخطيب في إيضاح الملتبس كلهم من طريق الواقدي، قال الدارقطني: لا يصح من وجه. اهـ. (ر. أمثال الحديث للرامهرمزي: ص 188 ح 84، مسند الشاب: 2/ 96 ح 957، التلخيص: 3/ 303 ح 1580). (5) حديث "تخيروا لنطفكم ... " رواه ابن ماجه، والدارقطني، والحاكم عن عائشة بلفظ: "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكِحوا إليهم" والحديث صححه الألباني في سلسلة =

ويقصد البكر، لما روي أن جابراً تزوج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تزوجت"؟ فقال: نعم. فقال: بكراً أم ثيباً؟ فقال: ثيباً. فقال صلى الله عليه وسلم: "فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟ "فقال: إنّ أبي قتل، وخلف بنات صغاراً، ولم أرد أن أدخل عليهن خرقاء مثلهن (1). وصح الندب إلى نكاح الولود، لما روي عن معقل بن يسار أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني وجدت امرأة ذات منصب وجمال غير أنها لا تلد، أفأنكحها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تنكح إلا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم" (2). ويستحب ألا ينكح القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاوياً، يعني ضئيلاً محمَّقاً هزيلاً. قال صلى الله عليه وسلم: "أغربوا ولا تضووا" (3).

_ = الصحيحة (ر. ابن ماجه: النكاح، باب الأكفاء ح 1968، الدارقطني: 3/ 299، الحاكم: 2/ 163، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 3/ 56 ح 1067). (1) حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "هلا بكراً تلاعبها ... " متفق عليه (ر. البخاري: المغازي، باب 18، ح 4052 وأطرافه كثيرة، مسلم: الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين، وباب استحباب نكاح البكر، ح 715). (2) حديث معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح إلا الولود الودود ... " رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (ر. أبو داود: النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، ح 2050، النسائي: النكاح، باب كراهية تزويج العقيم، ح 3229، ابن حبان: ح 4056، 4057، الحاكم: 2/ 162، البدر المنير: 7/ 495). (3) حديث "أغربوا ولا تضووا" قال ابن الملقن: لم أر في الباب في كتاب حديثي ما يستأنس به إلا ما وجدتُ في غريب الحديث لأبراهيم الحربي من حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة قال: قال عمر لآل السائب: "قد أضويتم، فانكحوا في النوابغ". قال الحربي: المعنى تزوجوا الغرائب قال: ويقال: "اغتربوا، لا تضووا". (ر. البدر المنير: 7/ 500).

فصل 7842 - لا يحل للرجل أن ينظر من الرجل إلى ما هو عورة، ولا يحل مسّ ذلك، ولا الإفضاء إليه من غير حائل. ويحل أن ينظر إلى غير العورة إذا أمن منه الفتنة. فأما الأمرد إذا خيف من ترديد النظر إليه الفتنة، فإن كان لشهوة، فهو حرام اتفاقاً، وإن لم يقصد قضاء وطر شهوة. وإن لم يمكن فتنة، فلا بأس، وإن أمكنت فتنة وظهر إمكانها، قال صاحب التقريب: لا يحرم. وقال طوائف: يحرم، لاجتناب الفتنة، ووجه نفيه (1) أن الأمرد الوضيء محل الفتنة، ولا يُمنع من الدخول بين الناس على أحسن بزّة وهيئة، والغالب من الشباب الافتتان، ثم لم يُضرب على المرد الحجاب، فالوجه نفي تحريم النظر، والأمر بالتقوى، وقد روي أن قوماً وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم غلام حسن الوجه، فأجلسه من ورائه، وقال: "إني أخشى على نفسي مثل ما أصاب أخي داود" (2)، وهذه القصة تستحث على الورع، ولا تقتضي التحريم؛ لأن ذلك الصبي كان بمرأى من الحاضرين الناظرين، ولم ينههم عن النظر. ويكره تضاجع الرجلين في ثوب واحد، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوبٍ واحد" (3) والحديث صحيح أخرجه مسلم. 7843 - فأما نظر المرأة إلى المرأة، فقد ذكرنا أنه يجب على المرأة ستر جميع بدنها

_ (1) أي نفي صاحب التقريب للتحريم. (2) خبر الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم غلام حسن الوجه. قال ابن الصلاح: ضعيف غير صحيح. قال الحافظ: رواه ابن شاهين في الأفراد عن الشعبي، وذكره ابن القطان في أحكام النظر وضعفه (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح ج 2 ورقة 75/أ، التلخيص: 3/ 308 ح 1587). (3) حديث "لا يفضي الرجل إلى الرجل ... " أخرجه مسلم -كما قال الامام- من حديث أبي سعيد (الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات، ح 338)

إلا الوجه والكفين لأجل الصلاة، فجملة بدنها إلا ما استثني لأجل الصلاة بمثابة ما بين سرّة الرجل وركبته. وقيل: لا تنظر المرأة من المرأة إلا ما ينظر الرجل من محارمه. ولم يَصِر أحد من أصحابنا إلى قصر النظر من المرأة إلى المرأة على الوجه والكفين. وذهب المحققون إلى أن المرأة من المرأة كالرجل من الرجل في كل قسم، إلا ما يجب ستره في الصلاة؛ فإن ما يجب على الرجل ستره في الصلاة يجب في غير الصلاة، حتى في الخلوة عند طائفة من الأئمة. وما يجب على الحرة ستره في الصلاة لا يجب عليها ستره في غير الصلاة، إلا ما بين السرة والركبة. والذّميّة فيما تنظر من المسلمة كالمسلمة، إلا أنه يستحب البعد منها، وقيل: إنها لا تنظر من المسلمة إلا ما ينظره الرجل الأجنبي منها، لقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] فخصّ نساء المسلمين بذلك. 7844 - أما نظر الرجل إلى المرأة التي تحل له، فجائز إلى جميع بدنها، وما وراء إزارها، وإلى الفرج على المذهب الصحيح، لأنه يباح له الاستمتاع به، وهو زائد على النظر، وأما الخبر (1)، ففيه ضعف، ويُحمل إن صحّ على الكراهية؛ لأن خبر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يوجد (2) خلافه. وقيل: يباح النظر إلى ظاهره دون باطنه، ولا معنى فيه، وقد روي أن ابن عمر رضي الله عنهما قال لجاريته: "تجردي، وأقبلي وأدبري ولك ألف درهم" (3). ولا يحرم نظر الرجل إلى فرج نفسه، لكنه يكره من غير حاجة.

_ (1) لعله يشير إلى الخبر المروي في النهي عن النظر إلى الفرج، وهو ما روي عن ابن عباس مرفوعاً "إذا جامع الرجل زوجته فلا ينظر إلى فرجها، فإن ذلك يورث العشا" رواه ابن حبان في الضعفاء، وابن عدي في الكامل، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (ر. المجروحين لابن حبان: 1/ 202، الكامل لابن عدي: 2/ 507، الموضوعات لابن الجوزي: 2/ 271، التلخيص: 3/ 309 ح 1589). (2) كذا. ولعلها: لا يجوز خلافه، فسبق قلم الناسخ. (3) أثر ابن عمر رضي الله عنه لم نصل إليه.

7845 - وإن كانت المرأة لا تحل له، فإن كانت محرماً له بقرابة، أو رضاع، أو صهر، فله أن ينظر منها إلى ما يظهر عند المهنة، كالساق، والساعد، والعنق، والرأس، والوجه، ولا يحل له ما بين السرة والركبة. وفيما فوق السرة وتحت الركبة وجهان. وفي الثدي في زمن الرضاع طريقان، منهم من ألحقها (1) بمحل الوجهين، ومنهم من ألحقها بما يظهر عند المهنة في هذا الزمان، فما هو عورة من الرجل يجب أن يكون مستوراً [منها] (2) أبداً، وعليها وراء ذلك رعاية [هيئة، وأخذ ريبة] (3) وإذا لابست الصلاة، راعينا نهايته، ولا تكلف ذلك في تصرفاتها، فيشق عليها. أما الأجنبية فلا يحل للأجنبي أن ينظر منها إلى غير الوجه والكفين من غير حاجة. والنظر إلى الوجه والكفين يحرم عند خوف الفتنة إجماعاً، فإن لم يظهر خوف الفتنة، فالجمهور يردعون التحريم، لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال أكثر المفسرين: الوجه والكفان، لأن المعتبر الإفضاء في الصلاة، ولا يلزمهن ستره، فيلحق بما يظهر من الرجال. وذهب العراقيون وغيرهم إلى تحريمه من غير حاجة. قال (4): وهو قوي عندي، مع اتفاق المسلمين على منع النساء من التبرج والسفور وترك التنقب (5)، ولو جاز النظر إلى وجوههنّ لكُنَّ كالمُرد (6)، ولأنهنّ حبائل الشيطان، واللائق بمحاسن الشريعة حسم الباب وترك تفصيل الأحوال (7)، كتحريم الخلوة تعمّ

_ (1) ألحقها: أي المواضع والأجزاء. (2) في الأصل: "عنها" والمثبت من المحقق رعاية للسياق. (3) كذا قرأنا بصعوبة. والله أعلم بالصواب. (4) "قال" أي إمام الحرمين. (5) أي منعهن من ترك التنقب. (6) هذا من التدليل على تحريم النظر إلى الوجه والكفين؛ إذ إباحة ذلك تسوِّي بين النساء والمُرْد، وهو غير جائز عقلاً. (7) نقل هذا الرافعي عن إمام الحرمين، فقال: "اختار الشيخ أبو محمد والإمام التحريم، ووجّهه باتفاق المسلمين على منع النساء من أن يخرجن سافرات، ولو حل النظر، لنزلن منزلة المُرد، وبأن النظر إليهن مظنة الفتنة، وهن محل الشهوة، فاللائق بمحاسن الشرع حسم =

الأشخاص، والأحوال إذا لم تكن محرميّة. وهو حسن (1). والمباح من الكف من البراجم إلى المعصم، ولا يختص بالراحة، وغلط من خصّ التحليل بالراحة دون ظهر الكف، وفي جواز ظهور أخمص قدمي المرأة الحرة وجهان في الصلاة، وقيل: هو في جواز كشفه والنظر إليه في غير الصلاة على الخلاف، والصحيح تحريم النظر إليه. ولا يجري ذلك الخلاف في ظهر القدم أصلاً، بخلاف ظهر الكف. وسئل أبو عبد الله [الخِضْري] (2) عن الأجنبي ينظر إلى قلامة ظفر المرأة، فأطرق طويلاً، فقالت زوجته -وكانت ابنة أبي علي الشَّنوي (3) -: لمَ تفكر؟ وقد

_ = الباب، والإعراض عن تفاصيل الأحوال، كالخلوة بالأجنبية" (الشرح الكبير: 7/ 472). (1) الذي يستحسن هو ابن أبي عصرون. (2) في الأصل (الحصري)، ولما لم نجد من هو حصري يتفق تاريخه مع هذه الواقعة غلب على ظننا أنه (الخضري)، وصدق الواقع هذا الظن، فقد ذكر السبكي في ترجمة الخضري أنه زوج ابنة أبي علي الشنوي. والخضري سبقت ترجمته. (3) كذا في الأصل (الشنوي). ولم نصل إلى أي ترجمة له على طول بحثنا، فلم يترجم له السبكي، ولم يزد على ما ذكره من صلة المصاهرة بينه وبين الخضري. وقد أحال محققا الطبقات، العلامة محمود الطناحي، والعلامة عبد الفتاح الحلو -رحمهما الله وأجزل ثوابهما- إلى اللباب، ولم نجد في اللباب إلا الضبط للفظ الشنوي، وذكر صاحب اللباب أكثر من شنوي ليس من بينهم صاحبنا، فكأنهما -رحمهما الله- أحالا إلى اللباب للضبط فقط. ولما أعيانا البحث عن الشنوي، ولم نجد له ذكراً، لم نقنع بهذه النتيجة، ولم يقبل عقلنا أن مثل أبي علي الشنوي تتواطأ كتب التراجم والطبقات والرجال كلها على إهماله، فأخذنا نبحث في ترجمات صهره الخضري، وكان أن فتح الله لنا باباً، فوجدنا ابن خلكان في ترجمة الخضري يذكر القصة، ويسميه: أبا علي (الشبوي) [بالباء الموحدة]. وهكذا يصنع التصحيف والتحريف، فلو لم تصحف الكلمة (الشنوي) في طبقات السبكي لما جرّت كل هذا العناء. والله أعلم كم توارد على هذا التصحيف الذي رأيناه في مخطوطتنا المكتوبة سنة 570 هـ. والله أعلم بما كان في مخطوطات طبقات السبكي. والأعجب من هذا أن الكلمة صحفت عند الصفدي في الوافي إلى أبي علي التستري! والشَّبُّوْي هو الشيخ الثقة الفاضل أبو علي محمود بن عمر بن شَبُّوْيَه الشَّبُّوِي المروزي، سمع صحيح البخاري من الفربري، وحدّث به بمرو. وهذه النسبة إلى شبُّويه، وهو اسم بعض أجداده، وهناك خلاف في ضبط نسبته، فابن خلكان ضبطها بفتح الشين المعجمة، وتشديد الباء الموحدة وضمها، وسكون الواو، وكذا السمعاني في الأنساب، أما ابن ناصر =

سمعت أبي يقول في جوابها: إن كانت قلامة أظفار اليد، جاز، وإن كانت قلامة أظفار الرجل لم يجز؛ لأن كفها ليس بعورة، بخلاف ظهر القدم، ففرح الخضري، وقال: لو لم أستفد من اتصالي بأهل العلم إلا هذه المسألة، لكانت كافية (1). وقد قطع الأصحاب بتحريم النظر إلى العضو المبان من الأجنبية، كتحريم النظر إليها ميتة. ونصّ الشافعي على تحريم النظر إلى شعر الأجنبية إذا وصلته الزوجة بشعرها. والنظر إلى شعر الأمة من رأسها متصلاً ومنفصلاً جائز، فلو اختلط شعر حرة بشعر أمة ولم يتميز، فلا يليق بدأب (2) الفقه منع النظر إليه؛ لأن تحريم المناظر يبتني على تميز المنظور من غيره، وكذلك حكم جلده يسقط ويشكل. وهذا مقتضى الرأي

_ = الدين في توضيح المشتبه فقال: بفتح أوله، وضم الموحدة المشددة، وكسر الواو، تليها ياء النسب، كذا قاله الجمهور، وقيل بسكون الواو، بعدها مثناتان تحت الأولى مكسورة والثانية ياء النسب. ا. هـ وبهذه الأخيرة ضبط ابن الأثير في اللباب (الشَّبُّوْيِيّ). وقد أفادنا العلامة المحقق المحدث الشيخ عبد الرحمن المعلمي في حاشيته على الإكمال بتفسيرٍ لسبب اختلاف الضبط في النسبة لمثل هذا العلم المختوم بويه، فنذكره لفائدته - على طوله، قال: للعلم المختوم بويه طريقان، الأولى: ما جرى عليه أهل الحديث، وهو: ضم ما قبل الواو، وإسكانها، وفتح التحتانية. والثانية: ما عليه أهل العربية، وهو: فتح ما قبل الواو، والواو أيضاً، وسكون التحتانية، والنسبة إليه على هذا الأخير تكون بإبقاء ما قبل الواو مفتوحاً، وكسر الواو، تليها ياء النسبة وتسقط الياء التي كانت في المنسوب إليه. فأما على ما جرى عليه أهل الحديث فالوجه أن يكون كذلك أيضاً إلا أنّ ما قبل الواو يبقى مضموماً، وهذا هو الذي نسبه صاحب التوضيح إلى الجمهور". ر. الإكمال لابن ماكولا: 5/ 108، الأنساب للسمعاني، اللباب لابن الأثر الجزري، وفيات الأعيان: 4/ 215، 216، سير أعلام النبلاء: 16/ 423، تاريخ الإسلام للذهبي: 8/ 497، طبقات السبكي: 3/ 100، الوافي بالوفيات: 2/ 72، توضيح المشتبه: 5/ 219). (1) عقب ابن خلكان على هذه القصة فقال: "هذا التفصيل بين اليدين والرجلين فيه نظر، فإن أصحابنا قالوا: اليدان ليستا بعورة في الصلاة، أما بالنسبة إلى نظر الأجنبي فما نعرف بينهما فرقاً، فلينظر" (وفيات الأعيان: 4/ 215). (2) كذا.

الكلي، ولأن أئمة الورع كانوا لا يغضون الطرف عن الشعور الملقاة في الطرقات، مع جواز كونه شعر من لا تحل رؤية شعرها لما ذكرناه. ومن أصحابنا من فرّق بين الحرة والأمة، وجوّز أن ينظر من مملوكة غيره ما ينظر الرجل من محارمه، لما روي أن عمر رأى أمة مقنعة، فعلاها بالدرة، وقال: "يا لكعاء تتشبهين بالحرائر" (1) وهذا قد يتجه بأن حكم العورة في الحرائر أضيق منه في الإماء، ولهذا [افترقا] (2) فيما يجب ستره في الصلاة، فما لا يجب على الأمة ستره في الصلاة فهو منها بمثابة الوجه من الحرّة، لكنا بينا أن الظاهر أنه لا يحل النظر إلى وجوه الحرائر، وأولى الأعضاء بمنع النظر إليه الوجه، ومملوكته التي لا تحل له كأخته من الرضاع والنسب، والمجوسية والوثنية والمرتدة والمعتدة والمكاتبة والمزوجة كأمة غيره. 7846 - أما نظر المرأة إلى الرجل، فإن كان زوجها أو مالكها، فهو كنظر الزوج والمالك إلى زوجته ومملوكته، وفي فرجه ما قدمناه في فرجها. وأما نظر الأجنبية إلى الأجنبي، فقيل: هو بمثابة نظر الرجل إلى المرأة، وقيل: لا يحل أن تنظر منه إلا الوجه والكفين، وقيل: إلى ما يظهر منه عند المهنة، وقيل: إلى ما فوق السرة وتحت الركبة، وهو القياس المحقق. وروي أن عبد الله بن أم مكتوم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة وحفصة، فقال: لمَ لمْ تحتجبا عنه، فقالتا: إنه أعمى. فقال صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما" (3).

_ (1) أثر عمر رضي الله عنه رواه البيهقي في سننه الكبرى، وفيه قصة ليس فيها قول عمر "يا لكعاء تتشبهين بالحرائر" (ر. السنن الكبرى: 2/ 226، 227). ولكعاء: بفتح اللام، وإسكان الكاف، وبالمد، قال الأزهري: هي الحمقاء، وقال أبو عبيد: اللكع عند العرب: العبد أو الأمة. (تهذيب الأسماء واللغات: 3/ 129). (2) في الأصل حرفت؛ فرسمت هكذا "افرض". (3) حديث "أفعمياوان أنتما ... " رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان من حديث أم سلمة، وأنّ القصة كانت معها، وميمونة. هذا وقد تعقب سراج الدين ابن الملقن إمام الحرمين بأنَّ جعْلَ القصة لعائشة وحفصة لا يعرف. لكن تعقب الحافظ ابن حجر شيخه ابن الملقن وقال إنه وَجد في الغيلانيات من =

7847 - مسائل مفردة: إذا كان للمرأة عبد مملوك، فقد قيل هو محرم لها، لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، وقيل: لا؛ لأن النفوس تتقاضى أربابها بالكف عن المحارم، فصار الإطباق عليه مانعاً من التهم، ولسنا نرى ذلك بين السيدة وعبدها، والآية محمولة على الإماء، وفيه نوع استكراه، واحتماله أهون من خلوة العبد بسيدته، ولا يحمل قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَال} [النور: 31] على المخانيث المتشبهين بالنساء، بل حكمهم حكم الرجال. وحكم العنِّين حكم المقتدر على الوطء. والشيخ الهِمّ بمثابة الشباب. [وأما] (1) الخصيُّ الممسوح، فالأكثرون [نزَّلوه] (2) من الأجنبيات بمنزلة الرجل المَحْرَم، وقيل: هو كالفحل؛ لأنه يحل له نكاح التي ينظر إليها، ولو التحق بالمحارم، لسُدَّ عليه بابُ نكاحها. ولو كان [مسلولا] (3) سليم الذكر أو مجبوباً سليم الأنثيين، فحكمه كالفحول. وقد حمل بعض أصحابنا قوله تعالى: {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور: 31] على الخصي الممسوح، والإربة الحاجة. وقيل: المراد به الأطفال الذين لم يتشوفوا إلى الشهوة

_ = حديث أسامة على وفق ما نقله القاضي حسين، والإمام، فيحمل الأمر على التعدد، ويؤيده أثر عائشة عند مالك أنها احتجبت من أعمى، فقيل لها: إنه لا ينظر إليك، قالت: لكني أنظر إليه، وقد يحمل الأمر كما قال ابن حجر "على أن الراوي قلبه، لأنّ ابن حبان وصف راويه (وهب بن حفص الحراني) بأنه كان شيخاً مغفلاً يقلب الأخبار". فإمام الحرمين على أيٍّ من الحالين بريء من التعقب. (ر. أبو داود: اللباس، باب في قوله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِن} [النور: 31]، ح 4112، الترمذي: الأدب باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، ح 2778، النسائي في الكبرى: عشرة النساء، باب نظر النساء إلى الأعمى، ح 9241، 9242، ابن حبان: ح 5549، التلخيص: 3/ 308 ح 1588). (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: تركوه. (3) في الأصل: "مشكولاً" وواضح جداً أنها محرفة عن (مسلولاً) فمن الشائع تعبيرهم عن الخصي بقولهم: سُلّت خُصيتاه.

تشوف نزوان، ويحملون قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ} [النور: 31] على التأكيد. وهذا بعيد لا يوافق نظم القرآن. واختلف في قوله سبحانه: {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] فقيل: لم يبلغوا مبلغاً يحكون ما يرون، وتحملهم الدواعي على حكايته. وقيل معناه: لم يتشوفوا على ما فسرناه، والمعتبر هو التشوف في المناظر واعتماد حكاية ما يواريه الإزار، فإذا لم يبلغ هذا المبلغ، فحضوره كغيبته، واعتماد الحكاية تقع قبل سن التمييز، والقول في الصبي المتشوف كالقول في الرجل في وجوب الاحتجاب. وإن لم يبلغ التشوف، نزل منزلة المحارم. وأما الخنثى، فقيل: هو في نظره إلى المرأة كالرجل، احتياطاً، كما ثبتت أحكامه، ولم يطلق القفال فتواه بالتحريم استدامة لحكمه وحال طفوليته. قال الإمام: وجه هذا إذا لم تَدْعُ حاجة للنظر، فإن دعت حاجة، أبيح له النظر، فمن الحاجة المبيحة معالجة الطبيب، ويباح له بها المسّ، ومنها تحمّل الشهادة، فقد تفضي إلى النظر إلى ما وراء الإزار، ومطلق الحاجة لا تبيح النظر المحرم، والضرورة المهلكة لا تشترط، فالضابط فيها المرض الذي يبيح الانتقال من الماء إلى التيمم، وقد سبق بيانه. 7848 - وجواز النظر إلى الأجنبية عند خطبتها مقصور على الوجه والكفين واليدين، إذا لم يُخف الفتنة، لعموم الحاجة في بناء النكاح على تمييزه، وبيان عمومها أنه ليس في [الخلق] (1) من يستوي عنده الدمامة والحسن، والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الحاقة، وعليه يبنى جواز النظر إلى وجه المرأة عند تحمّل الشهادة عليها دون غيره. فأما ما يحرم النظر إليه لغير خوف الفتنة كالعورة، فهو حجاب شرعي متاصل، فإزالته في حكم رفع الحجاب بين الرجل والمرأة، فيراعى فيه الحاجة التي ضبطناها، ولا يبعد أن يشترط بعد الوجه والكف مزيد حاجة في عضو دون عضو، ولهذا أبحنا

_ (1) في الأصل: "الجنس". ولا معنى لها.

للمحارم النظر إلى ما يظهر في حالة المهنة، ولم نجوز للمحرمية النظر إلى ما تحت الإزار، وردّدنا القول فيما بينهما (1)، ولم تقتض المحرمية إباحة النظر إلى ما تحت الإزار لمزيد تغليظ من الشرع في ستره، ولذلك سوّي في منعه بين الذكر والأنثى. فما جاز الانتقال فيه إلى التراب (2) قطعاً يكون مُسلِّطاً على الكشف، وما اختلف القول فيه في جواز الانتقال هناك يسلط على الكشف هاهنا قولاً واحداً؛ لأن الانتقال إلى التراب من الأحوال النادرة، والحاجة إلى الكشف مما يعم بسبب الأمراض، فلا يرتب ما تعم حاجته وإن خف على ما تندر حاجته. والأصل في حل النظر إلى من يريد نكاحها قوله صلى الله عليه وسلم "من أراد أن ينكح امرأة فلينظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينهما" (3) وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم أن يتزوج بامرأة فلينظر إليها، فإن في أعين الأنصار سوءاً" وروي "شيئاً" (4). وهذا النظر مستحب لندب الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وقيل: هو مباح، وصيغة الأمر قد تحمل على الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، والنظر مباح وإن خيفت الفتنة، فاستحباب التعرض إلى الفتنة بعيد عن قاعدة الشريعة. ولا يحل النظر إلى ما سوى الوجه والكفين؛ فإن قصد التزوج، لم يحرم عليه النظر -وإن خاف الفتنة- إلى الوجه والكفين للخبر.

_ (1) ما بينهما: المراد به ما فوق السرة، وما تحت الركبة ولا يظهر عند المهنة، ولكنه عبر عنه بقوله: "ما بينهما" لوضوح المقصود، وهذا التعبير وارد في ألسنة كثير من الفقهاء. (2) أي المرض المبيح إلى التيمم. (3) حديث "من أراد أن ينكح امرأة فلينظر إليها ... " رواه النسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان من حديث المغيرة. قال في البدر المنير: هذا الحديث صحيح. (ر. النسائي: النكاح باب إباحة النظر قبل التزويج ح 3235، الترمذي: النكاح باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة ح 1087، ابن ماجه: النكاح باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ح 1866، الدارمي: 2172، ابن حبان: 4032، البدر المنير: 7/ 503، التلخيص: 3/ 305 ح 1583). (4) حديث "إذا أراد أحدكم أن يتزوج ... " رواه مسلم، وأحمد من حديث أبي هريرة وفيهما بلفظ "شيئاً". (ر. مسلم: النكاح، باب ندب من أراد نكاح امرأة إلى أن ينظر إلى وجهها وكفيها قبل خطبتها، ح 1424. أحمد: 2/ 299).

وينبغي أن يقدم النظر على الخطبة؛ لأنه إذا قدم الخطبة، ثم نظر، فقد لا تقع بغرضه، فَتَرْكُ الخطبة يؤدي إلى الإيحاش. ولا يفتقر (1) إلى إذن المرأة، بل له أن يتغفّلها فينظرها، لأن استئذانها بمثابة تقديم الخطبة. ولو أمر امرأة تنظر إلى مجردها، فلا بأس، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتزوج امرأة، فبعث إليها أم عطية وقال لها: "شمي معاطفها، وانظري إلى عرقوبها" (2). ...

_ (1) أي النظر. (2) حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتزوج امرأة فبعث إليها أم عطية وقال لها: شمي معاطفها ... " رواه أحمد والطبراني في الأوسط، والحاكم، والبيهقي من حديث أنس، قال في البدر المنير: "هذا الحديث صحيح". وقد وقع في مسند أحمد، والطبراني تسمية المرأة: أم سليم، قال في البدر المنير: (وفي رواية أنها (أم عطية) وهو غريب". (ر. أحمد: 3/ 231، المعجم الأوسط للطبراني: ح 6195، الحاكم: 2/ 166، البيهقي: 7/ 87، البدر المنير: 7/ 507).

باب ما على الأولياء وإنكاح الأب البكر بغير إذنها

باب ما على الأولياء وإنكاح الأب البكرَ بغير إذنها 7849 - إذا دعت الحرة البالغة العاقلة وليّها إلى تزويجها من كفء، وجبت عليه إجابتها، لقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} [البقرة: 232] قال الشافعي: هذه [أبين آية] (1) في كتاب الله تعالى [دلالة] (2) على أنه ليس للمرأة أن تتزوج دون الولي؛ لأنها لو تمكنت من تزويجها نفسها، لما كان لمنع الولي وعضله معنى. ولا تصلح عبارتها بعقد النكاح مطلقاً، فلا تزوج نفسها، ولا غيرها بولاية، ولا ملك، ولا نيابة، لا موجبة، ولا قابلة. وقال أبو حنيفة (3): تلي عقد النكاح بنفسها، فإن تزوجت مَن لا يكافئها، اعترض الولي على عقدها. وقال أبو يوسف ومحمد (4): إذا زوجت نفسها، انعقد موقوفاً على إجازة الولي، وإن زوّجها الولي انعقد موقوفاً على إجازتها. وقال داود (5): الثيب تزوج نفسها، والبكر لا تزوج نفسها. وقال مالك (6): الوضيعة تزوج نفسها، والشريفة لا تزوج نفسها.

_ (1) في الأصل رسمت هكذا: "امرأته" وهو تصحيف عجيب. والمثبت من مختصر المزني: 3/ 257، وأحكام القرآن للشافعي: 1/ 175. (2) الزيادة اقتضاها السياق، وهي في مختصر المزني، وأحكام القرآن، من الموضع السابق نفسه. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 247 مسألة: 713، مختصر الطحاوي: 171، المبسوط: 5/ 10. (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 247 مسألة: 713، مختصر الطحاوي: 171، المبسوط: 5/ 10. (5) ر. المحلى: 11/ 42، الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي: ص 645. (6) ر. حاشية الدسوقي: 2/ 226، حاشية العدوي: 2/ 41.

7850 - وإذا أقرّت المرأة بالزوجية، فإن قالت: زوجت نفسي، فإقرارها مردود؛ لأنها لا يصح إنشاؤها له، ولو قالت: زوجني وليّي، قبل في الجديد، ويردّ في القديم، إلا أن تكون مع الزوج في بلد غربة، فيحكم به؛ لأنه يعسر استصحاب الولي في أسفارهما، فلو عادا إلى الوطن، لم يتبع ذلك الإقرار بالنقض. وقال شيخه (1): لا حكم له؛ تفريعاً على القديم، وزعم أن إقرارها في الغربة غير مقبول ولا يفرّق بينهما، للضرورة التي أشرنا إليها. قال (2): وإن اتجه هذا في القياس، فهو بعيد من المذهب. ولا شك أنه لا ينقض القضاء المتصل به. وإن فرعنا على الجديد، فأقرت بالنكاح مطلقاً، انبنى على سماع دعواها بمطلق النكاح، فإن لم تصح دعواها المطلقة، لم يصح إقرارها المطلق. وإن قالت: زوجني وليي، فإن كان غائباً، لم نتوقف على حضوره، بل تسلم إلى المقرّ له، وإن كان الولي حاضراً، فالوجه مراجعته، فإن صدّقها، فهو المراد، وإن كذبها، لم يقبل القفال إقرارها؛ لأنها مقرة على الولي. وقيل: يقبل إقرارها؛ لأنها أثبتت حقاً عليها لزوجها، فهي كالمقرة بالرّق لغيرها. وإن قلنا: تكذيب الولي يبطل إقرارها، فجرى في غيبته، سلمت إلى الزوج، فإذا عاد الولي، فكذبها، فيخرج إلى أنّا إذا قبلنا إقرارها في الغربة، ثم عادت إلى الوطن، هل يستدام ذلك القبول؟ وإن قلنا: نقبل إقرارها على الإطلاق، فقال الولي: "لا ولي لك غيري، وما زوّجتك"، فهو على الخلاف الذي ذكرناه، والأظهر أنه لا يؤثر تكذيبه. 7851 - أما الولي إذا أقر بتزويجها، فإن لم يملك إجبارها، لم نقبل إقراره عليها؛ لأن رضاها شرط يجب اعتباره. وإن كان مجبراً لها، فإن أقر في حالة يملك إنشاء العقد عليها، قُبل إقراره؛ لأن ملك الإقرار يتبع ملك الإنشاء نفياً وإثباتاً، وإن كان قد زال عنها الإجبار، فزعم أنه

_ (1) شيخه: الضمير يعود إلى إمام الحرمين، وشيخه هو والده، الشيخ أبو محمد الجويني. (2) "قال" أي إمام الحرمين، فهو يردّ توجيه شيخه، ويراه بعيداً من المذهب.

زوجها حال بكارتها، فإقراره مردود، وإن أضافه إلى حالة يملك إجبارها؛ لأن الاعتبار بحالة الإقرار. فإن وكّل الولي المرأةَ أن توكّل رجلاً في تزويجها، فإن قال: وكّلي عن نفسك، لم يصح. وإن قال: وكّلي عنّي، فوجهان مبنيان على أن وكيل الوكيل وكيله، أو وكيل الموكِّل. 7852 - فإذا زوجت المرأة نفسها، ودخل بها الزوج، فهو وطء شبهة، يوجب المهر دون الحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أصابها، فلها المهر بما استحل من فرجها" (1). وقال الصَّيْرَفي (2): يجب الحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الزانية من أنكحت نفسها" (3). قلت (4): الصيرفي شرط أن يكون الزوج شافعياً يعتقد تحريمه، ولا يحدّ الذي يعتقد حلّه. قال (5): والمذهب الأول، والحديث يتأول على أنها إذا تزوجت

_ (1) قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أصابها، فلها المهر ... " جزء من حديث عائشة رضي الله عنها "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من فرجها" رواه الشافعي، وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم. قال في البدر المنير: هذا الحديث صحيح (ر. الأم 5/ 13، أحمد: 6/ 47، 165، أبو داود: النكاح، باب في الولي ح 1083، الترمذي: النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي ح 1102، ابن ماجه: النكاح، باب لا نكاح إلا بولي ح 1879، البدر المنير: 7/ 553). (2) الصَّيْرَفي: محمد بن عبد الله، أبو بكر الصيرفي، من أصحاب الوجوه في الفقه والأصول، تفقّه على ابن سريج، توفي سنة 330 هـ. وهذه المسألة من غرائبه التي سجلها وحكاها عنه بعض الأئمة الذين ترجموا له. (ر. طبقات العبادي: 69، تهذيب الأسماء واللغات: 3/ 186، طبقات الشافعية لابن كثير: 1/ 264). (2) حديث "الزانية من أنكحت نفسها" رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة (ر. ابن ماجه: النكاح، باب لا نكاح إلا بولي ح 1882، الدارقطني: 3/ 227 - 228، البيهقي: 7/ 110، التلخيص: 3/ 325 ح 1068). (4) "قلت" القائل ابن أبي عصرون. (5) "قال" القائل إمام الحرمين.

واستقلّت به، فقد فعلت فعل الزانية، وقد جاء مثل هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان". ولو حكم بصحته حاكم، لم ينقض حكمه إذا وقع البناء؛ لأنه مجتهد فيه. وقيل: ينقض، لمخالفته النص الذي لا يقبل التأويل. قلت: وذلك النص مفقود في هذه المسألة، والحديث الذي يرويه فيه عليه وجوه من التأويل كثيرة. فرع: 7853 - ولا يملك الوصي التزويج؛ لأنه لا يلحقه عار الدناءة؛ فلم يفوّض إليه العقد الذي هو بسبب رعاية الكفاءة، ولا فرق بين أن يصرّح له الموصي بالتزويج، وبين أن يفوّض إليه القيام بمصالح الطفلة، وقصد [بذكره] (1) الرد على مالك، فإنه يجيز للوصي أن يزوجها (2). فصل 7854 - الولي الكامل الشفقة هو الأب والجد، ويملكان إجبار البكر على النكاح في الحالة التي تجبر فيها الأبكار، وشرطه البكارة، ومعتمده قوله عليه السلام: "الثيب أحق بنفسها من وليها" (3) ومفهومه أن الولي أحق بالبكر من نفسها، وسواء في ذلك الصغيرة والبالغ. والثيب لا تجبر؛ فإن كانت بالغة عاقلة لا تزوج إلا بإذنها، ولو كانت صغيرة، لم تزوج حتى تبلغ وتأذن. وإن كانت مجنونة صغيرة، فوجهان: أحدهما - لا تزوج حتى تبلغ، كالعاقلة، لعدم حاجتها. والثاني - تزوج، كالمجنونة البالغة، ولأن الجنون ليس له وقت معلوم يُرتقب زواله فيه، بخلاف الصغر؛ ولأنّ الجنون مع الصغر أبلغ في إبطال معنى الاستقلال من البكارة؛ فكان أولى بالتجويز.

_ (1) في الأصل: بذكر. والذي قصد هو الشافعي رضي الله عنه. (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 689، مسألة: 1230. (3) حديث "الثيب أحق بنفسها من وليها" رواه مسلم وأبو داود والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنه (ر. مسلم: النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، ح 1421، أبو داود: النكاح، باب في الثيب، ح 2099، الدارقطني: 3/ 339، البيهقي: 7/ 115، التلخيص: 3/ 330 ح 1610).

فاما المجنونة البالغة، فإن بلغت مجنونة، لم تزُل ولاية الإجبار عنها، ولأن مع البلوغ والشهوة تمس الحاجة إلى النكاح، وهو من أسباب زوال الجنون، كما، أنّ العُزْبة من أسباب الجنون. وإن بلغت عاقلة، ثم جنّت، انبنى على ولاية مالها، وفيه قولان: أحدهما - للأب والجد، كما قبل البلوغ. والثاني - للسلطان؛ لأنها ببلوغها عاقلة رشيدة زالت ولاية الأب، فلا تعود بالجنون. فإن قلنا: ولي مالها الأب، فهو ولي نكاحها كالصغيرة. وإن قلنا: السلطان ينظر في مالها، فالقول في تزويجه مع وجود الأب كالقول في تزويج البالغ المجنونة مع الأخ. 7855 - وكما يزوج الأبُ البكرَ الصغيرة يزوج ابنه الصغير، ولا تعتبر البكارة والثيوبة هاهنا، وإن اعتبرت في باب الإحصان في الزنا في الذكور، والمعتبر في تزويج الابن بالصغر والجنون العقلُ والبلوغ، فيزوّج الأب ابنه الصغير العاقل، فإذا بلغ عاقلاً، لم يجبره، فإن كان رشيداً، استقل بالعقد، وإن كان مبذراً، فقد ذُكر في الحجر، وسنعيد منه شيئاً، إن شاء الله عز وجل. وإن كان الابن البالغ مجنوناً، نظر، فإن بلغ مجنوناً، زوجه الأب ناظراً (1)، وإن بلغ عاقلاً ثم جن، فعلى الخلاف في الثيب إذ بلغت عاقلة ثم جنت. وإن كان المجنون صغيراً، فظاهر المذهب أن الأب لا يزوجه، بخلاف الثيب الصغيرة المجنونة؛ لأنه يستفيد به القيامَ بمؤنتها، والابن الصغير يكلّف المؤنة. وقيل في الابن والثيّب الصغيرين المجنونين أوجه: أحدها - يزوجان. والثاني - لا يزوجان. والثالث - تزوج البنت، دون الابن. والبكارة عبارة عن جلدة العُذْرة، فإن زالت بجماع حلال أو حرام، أو وطء شبهة، صارت ثيباً، ولو زالت بقفزة أو وثبة، أو بأصبع، أو بطول التعنيس والتعزب، ففيها وجهان: أحدهما - أنها ثيب؛ لزوال البكارة. والثاني - أنها بكر؛ لأن البكارة عبارة عن عدم الممارسة واختبار الرجال، وذلك لم يحصل.

_ (1) كذا. والمعنى بمقتضى نظره له.

وتردد الشيخ أبو محمد في دخولهن في وصية الأبكار والثُيَّب (1). وقال الشيخ أبو علي: لا يدخلن فيهما؛ لأنهن لم يجامَعْن، ولا معهن جلدة العذرة. وقال صاحب التلخيص: يُقْسم (2) لهنّ حق العقد قسمة الأبكار وجهاً واحداً؛ لأن الغرض إيناسهن عن نفار الأبكار (3). وقال الشيخ أبو علي: هي على وجهين. 7856 - فأما الولي النسيب الذي لا يوصف بكمال الشفقة، وهم العصبة المدلون بالأب والجد، فليس لهم ولاية الإجبار؛ لعدم كمال الشفقة فيهم، فلا [يزوّجون] (4) صغيرة ولا كبيرة -وإن كانت بكراً- بإجبار، لكن يزوجونها والثيبَ العاقلة البالغة برضاهما وإذنهما، وفي إذن هذه البكر وجهان: أحدهما - أن إذنها بالسكوت، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذنها صماتها". والثاني - يعتبر صريح نطقها. قال: وهو القياس البيّن، ويُحمل الحديث على البكر التي يجبرها أبوها أو جدها، فإنه يكتفى بصماتها إذا استؤمرت. قلت: وفي نفس المسألة نصّ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن، فإن سكتن، فهو إذنهن" (5) فلا يمكن

_ (1) يعني إذا أوصى الموصي للأبكار أو للثيب من أقاربه مثلاً، ففي أي الصنفين تدخل من زالت بكارتها بغير الزواج؟ (2) انتقل الكلام هنا إلى حكم القَسْم بين الزوجات عند التعدد، وحق من يعقد عليها إن كانت بكراً، أو ثيباً، ومعلوم أنه يخص البكر بسبع ليال، والثيب بثلاث، فكم يخصها إذا زالت بكارتها بغير النكاح؟ (1) الذي في التلخيص الموجود بأيدينا عكس ذلك، ونصه: "الثيب ثلاثٌ: الثيب الأولى في التزويج - من ذهبت عذرتها بأي وجه: بأصبع أو مرض أو جماع. الثيب الثانية في الرجم - من ذهبت عذرتها بجماع في نكاح صحيح دون غيره. الثيب الثالثة في القسم للعروس - للثيب ثلاث، وللبكر سبع، وهي من ذهبت عذرتها بأي وجه كان. قلته تخريجاً. (ر. التلخيص: 494) ". (4) في الأصل: "يجبرون" وهو سبق قلم واضح، لا يستقيم الكلام به. (5) حديث "لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمرونهن ... " رواه الحاكم بهذا اللفظ من حديث نافع عن ابن عمر. قال في البدر المنير: هذا الحديث صحيح، ورواه الدارقطني، وبنحوه رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة (ر. المستدرك: 2/ 167، الدارقطني: 3/ 229، البدر المنير: 7/ 573، التلخيص: 3/ 331 ح 1613).

تأويله بذلك، لأن اليتيمة لا تزوج حتى تبلغ. 7857 - وإذا أجبرها الأب على نكاح الكفء، كان له ذلك، وإن سخطته، ولو دعت الأب إلى تزويجها، فظاهر المذهب أنه تلزمه إجابتها إذا كان كفؤاً، واحتج به أصحاب أبي حنيفة (1) فقالوا: لو ملك الأب إجبارها، لما ملكت هي إجباره. والعذر عنه أنه أقيم لقضاء حاجتها، فإذا أعربت عنها، لزمه تحصيلها لها، كالطفل إذا طلب الطعام من وليه، يجب عليه إجابته، مع قصوره وعدم عبارته، فهذا أولى. وقيل بأن البكر مسلوبة العبارة في النكاح أصلاً. قال: وهذا غلط، نعم، لو عيّنت شخصاً، وأراد الأب تزويجها من غيره، قيل: لا يجوز، وقياس المذهب جوازه إذا كان كفؤاً؛ لأنه لا خِيَرة لها في العقد، فكذا في التعيين، والأول مزيّف. 7858 - وأما المزوِّج بغير القرابة، فهم ثلاثة: أحدهم - من له ولاء، فحكمه حكم القريب الناقص الشفقة، كالأخ والعم. والثاني - المالك يزوج أمته جبراً، ثيباً كانت أو بكراً، مميزة أو بالغة، مجنونة أو عاقلة. والثالث - السلطان ولا يزوج على مذهب الشافعي صغيرة؛ لأن ولايته متأخرة عن ولاية عصبات النسب، وهم لا يملكون تزويج الصغيرة. والمواضع التي يزوج فيها السلطان خمسة: أحدها - إذا عضل الولي المناسب (2)، أو من له ولاء إذا دعت إلى كفء فامتنعا، زوجها السلطان. والموضع الثاني - إذا غاب الأخ، وحضر العم، زوّجها السلطان. والثالث - ألا يكون لها ولي ولا مولى، فالسلطان ولي من لا ولي له. والرابع - أن يريد الولي أن يتزوج مولاته، وليس له مشارك في الولاية، فيزوجه السلطان. الخامس - تزويج المجنونة البالغة إذا كان النظر في تزويجها، ولا أب لها ولا جد، ففي أحد الوجهين تزويجها إلى السلطان؛ لأنه هو الناظر العام، وليس لها قريب كامل الشفقة، ولأن السلطان يلي مالها في هذه

_ (1) كما هو مشهور من مذهبهم أن الأب لا يملك إجبار البكر البالغة على النكاح (ر. المبسوط: 5/ 2، رؤوس المسائل: 371 مسألة: 247، طريقة الخلاف للأسمندي: ص 59). (2) أي من النسب.

الحالة، فإذا مسّت حاجتها إليه (1)، زوّجها، بخلاف الصغيرة؛ فإنه لا حاجة بها، فتؤخر إلى حين بلوغها واستئذانها. والوجه الثاني - يزوج المجنونة البالغة عصباتها؛ لأن القريب النسيب أولى من السلطان؛ لأن مرتبة الولاية تقتضيه؛ فعلى هذا يراجِع السلطانَ، فإذا أذن له، زوّجها؛ فيقوم السلطان مقامها في الإذن عند عجزها عنه، ولأن عصبتها لا يستبد بتزويجها؛ لقصور شفقته، فإن امتنع العصبة، زوّجها السلطان، كما لو عضل. وإن قلنا: يزوجها السلطان، استحب له مراجعة العصبة ذوي الآراء، وقيل: يجب؛ لأنهم أخبر [ببواطن] (2) الأحوال، وهو ضعيف. فإن تستّر (3) العصبة، استبد به السلطان. ولا تقف معرفة حاجة المجنونة على قولها؛ لأنه لا حكم له، بل تُعرف حاجتها بمخايل لا تخفى، فإن لم تظهر مخيلة حاجتها، ورأى أهل الرأي تزويجها، زُوّجت. وإن لم يرَ الأطباء تزويجها، ولا ظهرت مخيلة حاجتها، ورأى السلطان أو النسيب تزويجها لكفاية نفقتها ومؤونتها، فأصح الوجهين أنها لا تزوج؛ لأنه يكون إجباراً على النكاح، ولا يملكه غير الأب والجد. والسلطان قال: يثبت له حق الإجبار في المجنونة البالغة. قلت: ولا يصح تسمية تزويجها إجباراً؛ لأن الإجبار لمن يكون له اختيار. قال: وإذا عُدِم الولي الخاص، زوج السلطان بحق الولاية، لقوله صلى الله عليه وسلم "السلطان وليّ من لا وليَّ له" فأما إذا زوج عند عضل الولي، فهو نائب عنه، لا بحكم الولاية؛ لأنه لو كان بولاية، لوجب إذا عضلها الأخ ولها عم ألا يزوجها السلطان إلا بإذن العم، والأمر بخلافه؛ فإن الولاية تقتضي تقديم العم على السلطان. وقيل: يزوجها بحكم الولاية؛ لأنه لا يجوز لغيره التزويج هاهنا.

_ (1) "إليه": أي إلى النكاح. (2) في الأصل: "المواطن". (3) كذا تماماً رسماً ونقطاً.

والأولى أن يقال: تزويجه عند العضل نيابة قهرية أنتجتها الولاية [لاقتضاء] (1) الحق من الممتنع قهراً، لكن يبعد أن يقال: التزويج حق للمرأة على الولي، فيُشكل عند هذا تحقيق النيابة، وللولي معنى الولاية. وقد أطلق الأصحاب معصية العاضل، قال: وليس كذلك؛ لأن تزويج السلطان إذا أمكن، فلا يتضح كون التزويج حقاً على الولي، إلا ألاّ يكون سلطان؛ فإنه يجب على الولي تزويجها، فإذا امتنع عصى. أما مع وجود السلطان، فلا. وعلى هذا التردد يخرج تزويج السلطان في غيبة الولي، وكذا تزويجه المرأة من وليها، وكذلك تزويجه المجنونة، وضابط محل التردد تزويجه مع قيام الولي الخاص، وعند عدمه تحقق (2) الولاية المحضة. 7859 - والولايةُ الحقيقية تقتضي أحكاماً على المَوْلِيِّ عليه، واستبداداً بالتصرف للنظر، فإن لم يكن المتصرَّف له أهلاً (3)، لصغر أو زوال عقل، فعليه نهاية الولاية، وإن كان أهلاً (4)، وامتنع من عليه الحق، استقلّ السلطان باقتضاء الحق قهراً، وإن انقطع نظرُ الأهل لغيبة، فهذا محل تصرف السلطان. والولي الخاص يتصرّف في المال والبدن، أما في المال، فلا يثبت إلا للأب، أو أبيه، عند فقد الأب - في مال الصغير، والمجنون، والسفيه، قهراً واستبداداً. وإذا غاب المستقلّ بالتصرف في ماله، وخيف عليه، لم يتصرف في حفظه إلا السلطان، ولو خلت البلدة عن سلطان، فليس للأب أن يتصرف فيه، ولو خيف ضياعه (5). أما التصرف في البدن، فمنه الحضانة، ومنه التزويج، فما يَجْبرُ فيه الولي، فلا

_ (1) في الأصل: "لا يقتضي" والمثبت تقدير منا. (2) (تحقق) بحذف تاء المضارعة. (3) "أهلاً" أي محلاًّ للتصرف. (4) "أهلاً" أي محلاً للولاية. (5) أي مال المستقل بالتصرف ليس للأب أن يتصرف فيه، ولو خيف ضياعه، وإنما ذلك إلى السلطان وحده.

يثبت إلا لأب أو جد، ولا يثبت إلا مع البكارة، والثيابة مع جنون، ولا يثبت لغيرهما من العصبة تزويج قهري، وكذا المال، لا تثبت ولايته لعصبةٍ غيرهما؛ لأنها ولايةٌ قهرية، فلا تثبت إلا لمن كملت شفقته؛ لأن طلب النظر مع العدالة لا يحصل إلا بكمال الشفقة الباعثة عليه. وهل يسمى الأخ ولياً لأخته الصغيرة؟ قيل: لا؛ لأنه لا يملك تزويجها، وقيل: نعم؛ لأنه يملكه عند بلوغها، والبلوغ لا يؤثر في إثبات الولاية. قال: ولا حقيقة لهذا الاختلاف؛ لأن تزويج من لا يَجْبُر ليس على قياس الولايات، لما قدمناه، والسلطان يلي المال حق الولاية عند عدم الأب والجد. قلتُ: ويفتقر إلى ذكر عدم الولي أيضاً؛ لأنه قائم مقامه (1)، وكان القياس يقتضي أن يزوج الصغيرة، كما يلي مالها، كما في المجنونة، إلا أنّ [ولاية النكاح تباين] (2) ولاية المال في قاعدتها، ولا تساويها نفياً وإثباتاً؛ فإن الأب يلي مال البنت الصغيرة، وإن كان لا يزوّجها، ويجبر البكر البالغة، ولا يلي مالها، وسرّه أنّ ولاية التزويج تخرج بعض الخروج عن قاعدة النظر؛ لأن مبناها على الإعفاف، وذلك يتعلق بالجبلات، ويقتضي ألا تزوج غيرُ بالغة، فلو زُوجت صغيرة ربما تبقى دهرها في رقّ النكاح، مع كراهتها لبعلها، فلا يدخل (3) تحت الولاية، كالطلاق. والمالُ لا يمكن تأخيره؛ فيضيع، ولذلك الوصي يتصرف في المال، ولا يتصرف في البضع، والسلطان يلي مال الصغيرة، ولا يملك تزويجها. فصل 7860 - روى الشافعي عن الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لانكاح إلا بولي وشاهدي عدل" لكنه مرسل، والشافعي يستحسن مراسيل الحسن، قال المزني: رواه غير الشافعي عن الحسن عن عمران بن الحصين مسنداً

_ (1) في الأصل: "مقامها". (2) عبارة الأصل: "ولي النكاح يباين" والمثبت من تصرف المحقق. (3) أي التزويج.

مرفوعاً (1). وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل" (2). قال الأئمة: خالف أبو حنيفة الخبر من أربعة أوجه: أنه جوز النكاح بلا ولي، ولم يشترط عدالة الولي (3)، وقد اشترطها في الخبر؛ فإن المرشد بمعنى الرشيد، كالمسمع بمعنى السميع. وأجاز النكاح بحضور فاسقين (4). وفي الخبر اشتراط حضور الذكور وأبو حنيفة يجيزه برجل وامرأتين (5). فنقول: كل صفة تسلب العبارة، وتسقط حكمها، فهي منافية للولاية، كالصبا والجنون، وكل محجور عليه لحقه، فليس بولي، والرق ينافي الولاية إجماعاً، أما المحجور عليه للفلس، فولايته ثابتة؛ لأن حجره ليس لحقه، بل لحق الغرماء مع صفات الكمال، وقد حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ بن جبل وباع عليه ماله (6). وأما السفيه، فلا يلي؛ لأن الحجر عليه يطول لقصوره، ومن لا ينظر لنفسه كيف ينظر لغيره؟ قلت: وللعراقيين وجه في تولِّيه؛ لأن الحجر عليه في المال لخوف إضاعته، وقد أُمن ذلك في تزويج ابنته. ولا يزوج مسلم كافرة بالولاية الخاصة، كما لا يزوج كافر مسلمة. والكافر

_ (1) ر. المختصر: 3/ 260. وحديث عمران بن الحصين المرفوع رواه الدراقطني والطبراني والبيهقي، قال الحافظ: وفيه راوٍ متروك (ر. الدارقطني: 3/ 225، المعجم الكبير للطبراني: 18/ 142 ح 299، السنن الكبرى: 7/ 125، معرفة السنن والآثار: ح 4100). (2) حديث ابن عباس: "لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل" رواه الشافعي، والبيهقي عن ابن عباس موقوفاً، ورواه البيهقي من طرق أخرى مرفوعاً، وقال: المحفوظ الموقوف (ر. الأم: 5/ 22، السنن الكبرى: 7/ 112، 124، التلخيص: 3/ 334 ح 1618). (3) ر. مختصر الطحاوي: 72، رؤوس المسائل: 374 مسألة: 251. (4) ر. مختصر الطحاوي: 72، المبسوط: 5/ 31، رؤوس المسائل: 372 مسألة: 248. (5) ر. مختصر الطحاوي: 169، 172، المبسوط: 5/ 32، رؤوس المسائل: 372 مسألة: 248. (6) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع عليه ماله" سبق في كتاب التفليس.

يزوج ابنته الكافرة إذا كان عدلاً في دينه، قال الشافعي: "ولي الكافرة كافر". وقيل: لا يزوجها. وقيل: هو كالفاسق. ومن استولت عليه الغفلة والذهول، أو كان به ألم يلهيه عن النظر، فلا يلي. وإذا دعت المرأة إلى التزويج مع قيام الصفات المانعة، تولى السلطان تزويجها، كما لو غاب أو عضل. 7861 - وإذا اتصف الولي بالفسق، فظاهر نصوص الشافعي في القديم والجديد أن الفاسق يلي عقد النكاح. وقال أيضاًً: لا ولاية للسفيه، واختار القفال كونَه ولياً. والمعنيّ بالسفيه المخبَّل المحجور عليه لعدم رشده، وقيل: فيه قولان. وقيل: شارب الخمر لا يزوِّج؛ لأن السكر والنشوة تغلبه على رأيه، فلا تعويل على نظره، وإن كان فسقه بغير الشرب، فإنه يلي، وقيل: إن كان نسبه يقتضي له ولاية الإجبار على النكاح، لم ينافه الفسق، وإن كان لا يُثبت له ولاية الإجبار، نافاه الفسق؛ لأنه إذا قوي سبب الولاية بعُد زوالها، فالأبوّة والجدودة لهما قوة؛ لكمال الشفقة فيهما، فلا يغالبهما الفسق، وإذا ضعف السبب، قرب زوال أثره. وقيل بعكس هذا: إن الفسق ينافي ولاية الإجبار، ولا ينافي ولاية الاستئذان؛ لأن الخوف من نظر الفاسق يُؤْمَن بمراجعتها. ولو زوجها العدل بغير كُفْءٍ برضاها، لم تعترض على عقده، وقيل: إن الأب إذا فسق، لا يجبر البكر، وإذا استأمرها، فالقياس يقتضي أن ينعقد نكاحه، فالفسق يسلب الإجبار، لا أصل الولاية. وقال شيخه: السفه الذي يقتضي اطّراد الحجر، أو ابتداءه ينافي الولايةَ، أما إذا بلغ رشيداً، وعاد سفيهاً، فقد قيل: يعود الحجر من غير حجر حاكمٍ عليه؛ فيخرج عن الولاية. ومن قال: لا يعود الحجر عليه، لا يراه ولياً ناظراً لغيره مع جهله. ومن بلغ فاسقاً لا ولاية له، أمّا الفسق الطارىء بعد البلوغ، فالمذهب أنه لا يعيد حجراً، فإذا لم يُعدّ صاحبه قاصر النظر مضطرب الرأي، فالوجه القطع بكونه ولياً، مجْبِراً كان أو غير مجْبِر؛ لقيام سبب الولاية، ووجود الشفقة، وتمام النظر، وفسقه جناية على

نفسه، ولهذا كان ناظراً لنفسه، لكن يُلزَم (1) عليه الشهادة، فمن الفسقة من لا يكذب، وإن أشفى على الحتوف، ويؤثر الصدق تحت ظلال السيوف، وهو مردود الشهادة! ويجوز الانفصال (2) عن هذا بأن العدالة شرط قبول الشهادة كالحريّة، فالعبد وإن كان صادق اللهجة - مردودُ الشهادة، والتعبد غالب على أحكام الشهادات، ولذلك اعتبر فيها عدد مخصوص، ومجلسُ القضاء، وتقدُّم الدعوى. ومطلوب الولاية الشفقةُ، وهي منه محققة، ويعضدها أن الأولين لم يعترضوا على أنكحة الفسقة، ولا يرون قبول شهادتهم. قال المحققون: ولاية المال تنزل منزلة ولاية النكاح، وهذا هو الذي لا يتضح غيره. وإن قلنا: الفاسق يلي تزويج موليته، تولَّى تزويج أمته، وإن قلنا: لا يزوج مَوْليِّته، ففي أمته وجهان: أصحهما - أنه يزوجها. وإذا قلنا: الفسق ينافي الولاية، فوكّل الولي فاسقاً في قبول النكاح، فالطريقة المعتمدة جوازه، كما يجوز أن يقبل النكاح لنفسه، فأما توكيله في التزويج، ففيه وجهان: أحدهما - أن الفسق ينافي التزويج بالوكالة كما ينافي بالولاية، والثاني - يجوز؛ لأن عبارته صحيحة، وهو غير مستقل، ونظر الولي يعضده، والأول يقول: الفسق يمنع تقليد القضاء وإن عضده نظر الإمام. قال: وهذا لا يشبه الوكالة، لأن نظر القاضي ينتشر وتعسر مراقبته في التفصيل، بخلاف الوكيل. 7862 - ويجوز للخاطب أن يوكّل عبد نفسه في قبول النكاح له وفاقاً، وكذا لو وكل عبد غيره بإذنه، ولو وكّله بغير إذن سيده، فالجمهور أن النكاح ينعقد؛ لأنه لا يفوت [بكلمة] (3) القبول على مولاه شيء من منافعه، ولا عهدة عليه فيها كتسبيحةٍ منه، وقيل: لا يصح، وهو ساقط لا يعتد به.

_ (1) أي يعترض عليه بالشهادة، بمعنى أننا نقول له: يلزمك قبول شهادة الفاسق، إذا عُرف بالصدق. (2) "ويجوز الانفصال عن هذا" أي ويجوز الخروج من هذا الاعتراض، بإلزامه الشهادة. (3) في الأصل: "بكملة".

ولو وكل الولي عبداً يزوج عنه، فوجهان مرتبان على الوجهين في توكيل الفاسق، والعبد أولى ألا يكون وكيلاً؛ لأنه مُجْمَعٌ على أنه لا يكون ولياً، وفي الفاسق الخلاف. وفي كون الأعمى ولياً وجهان، وجهُ المنع قصور نظره. قال شيخه: لا خلاف في أنه يتزوج (1)، وفي شرائه قولان، وسببه أنّ في الرؤية أثراً في شراء الأعيان يمنع الصحة على قول، ويمنع اللزوم على قول، ولا أثر لها في النكاح بحال. وفي فسق الوالي العام خلاف يترتب على أنه هل ينعزل بالفسق؟ فإن قلنا: ينعزل، فإذا فسق، انقطع تصرفه، وإن قلنا: لا ينعزل، فقد قيل: ينفذ تصرفه، وهو طرد القياس، وقيل: لا ينفذ إذا كان يتوقع إضراراً، وتكون حاله في الفسق كحاله لو أحرم بحج أو عمرة، فلا يخرج عن كونه ولياً، وإن امتنع عليه التزويج. فصل 7863 - لا ينعقد النكاح إلا بحضور شاهدين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، ولأنه عقد خطير يترتب عليه مقاصد يحتاط لها؛ فوجب صيانته عن التجاحد. ولا ينعقد بحضور عبدين، وإن كانا من أهل الشهادة، لأنه لا ينعقد بشهادتهما. قلت: قوله "وإن كانا من أهل الشهادة" بعيد من أصلنا؛ فإن العبد عندنا ليس أهلاً للشهادة، ولهذا قال: لأنه لا يثبت بشهادتهما. وكذا حكم المراهقين. ولا ينعقد بحضور فاسقَيْن خلافاً لأبي حنيفة. وظاهر النص أنه ينعقد بحضور مستورين في أمر العدالة، ويتسلّط به الزوج على استباحتها، فلو بان أنهما فاسقان حالة العقد، ففيه قولان يبتنيان على ما إذا حكم بشهادة اثنين ظاهرهما العدالة، ثم بان

_ (1) قال النووي: "للأعمى أن يتزوّج قطعاً، وله أن يُزَوِّج على الأصح" (ر. الروضة: 7/ 64).

أنهما كانا فاسقين حالة الحكم، ففي نقض الحكم قولان. ولم يسمح المراوزة بذكر خلاف في انعقاد النكاح بمستورَيْن وتسلط الزوج به. قال: والقياس الجلي أن ما يؤثِّر الفسق في إبطاله، فالجهل بالعدالة يوجب التوقف فيه، ومساق هذا ألاّ يتسلط به، حتى يتبين أمرهما، والممكن في تعليل التسليط أن الاكتفاء بهما يليق بحال العقد؛ لأنه يقع غالباً في مواضع يقل فيها المعروف العدالة، والبحث عنها يؤدي إلى طول الأمر، وترك الخِطبة، ولا حاجة ترهق إلى البينة في الحال، بخلاف حالة الحكم. وكان شيخه يردد القول في مستوري الحال في الحريّة، فيجتمع من هذا ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يتسلط ما لم تظهر الحرية والعدالة. والثاني - يتسلط. والثالث - الفرق بين العدالة والحرية. 7864 - ولا ينعقد عندنا نكاح مسلم على كافرة بحضور ذميين، خلافاً لأبي حنيفة (1). وفي انعقاد النكاح بحضور أعميين وجهان: أحدهما - ينعقد، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وشاهدي عدل" وهما شاهدا عدل. والثاني - لا ينعقد؛ لأنه لا يمكن إثباته بشهادتهما. قال: وأرى القطع بهذا؛ لأن الاكتفاء بهما يبطل مقصود شرط الشهادة في النكاح. ولو حضر ابنا الزوجين، أو ابن له وابن لها (2)، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - أنه ينعقد بهما. قال: وهذا يضاهي انعقاده بحضور أعميين. قلت: إن هذا الوجه يضاهي حضور الأعميين، فكيف يضاهي القولُ الجزمُ ما فيه خلاف؟ وإن أراد أنّ أصل الصورة تضاهيه، فحضور الأعميين على ثلاثة أوجه، فلا تتحقق المضاهاة. ثم زيّف الوجه وقال: هو في نهاية الركاكة. قلت: وليس لفظ الركاكة مما

_ (1) ر. رؤوس المسائل: 373 مسألة: 250، المبسوط: 5/ 33. (2) ترك صورة ثالثة، وهي ما إذا حضر ابنا الزوج، أو ابنا الزوجة، وهي مذكورة في الروضة للنووي: 7/ 46.

يستعمل في الجواز والمنع والصحة والإبطال، وعلة التزييف أنهما إن كانا ابنيهما، لم ينفكا أن يشهدا لأحد أبويهما (1) وإن كان ابن له وابن لها، لم يمكن إثبات النكاح بشهادتهما بحال (2). قال: ولا مساغ لهذا الوجه إلا أن يسلك به مسلك أبي حنيفة وأصحابه في حمل شرط الشهادة على طرفٍ من التعبد، وله وجه؛ لأن النكاح هو المحتاط له، ولا يشترط له الإشهاد على رضا المرأة وإذنها، ولو جحدت، لم يثبت إلا بالشهادة على إذنها، فيشكل حمل الشهادة على الاحتياط، وإنما لم نكتف بحضور فاسقين؛ لأن ما لا يُعقل يتبع فيه مورد النص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "وشاهدي عدل" والفاسق ليس بشاهد، وإن سمي به مجازاً، فليس بعدل. ولا يُكْتفى بحضور الأصم؛ لأن حضوره كغيبته. والوجه الثاني - أنه لا ينعقد بحضور ابنيهما وابن له وابن لها، لما ذكره في تزييف الوجه الأول. والثالث - أنه [لا] (3) ينعقد بحضور ابنيهما، أو ابن له وابن لها؛ لأنه لا يتوقع إثباته بشهادتهما (4)، وينعقد بشهادة ابني أحدهما؛ لأنه يتعلق به إثباته إذا جحده [أحدهما] (5) فشهدا عليه (6).

_ (1) فإذا جحد الزوج وشهدا عليه، كانا شاهدين لأمهما، وإذا جحدت الزوجة، فشهدا عليها، كانا شاهدين لأبيهما. (2) لأنه إذا شهدا للزوج كان أحدهما شاهداً لأبيه، وإذا شهدا للزوجة، كان أحدهما شاهداً لأمه. (3) زيادة اقتضاها السياق، وواضح أنها سقطت من الناسخ؛ فالصورة هي بعينها المذكورة في الوجه الأول. (4) وضح هذا في تزييفه للوجه الأول. (5) في الأصل: "أبوهما" ولا معنى لها. (6) فإذا كان ابني الزوجة مثلاً، فجحدت، فشهدا عليها، فشهادتهما عليها مقبولة يثبت بها، أما إذا شهدا لها، فلا يعتد بشهادتهما. وعبر الرافعي عن هذا قائلاً: "ينعقد لأنه يمكن الإثبات بهما في الجملة" أي فيما إذا شهدا (على أمهما) (ر. الشرح الكبير: 7/ 519، 520). وأضاف النووي "أنه ينعقد بابنيها دون ابنيه؛ لأنه محتاج للإثبات دونها" الروضة: 7/ 46.

ولو حضر ابنان له، وابنان لها، انعقد النكاح قولاً واحداً؛ لأنه يمكن إثباته من الجانبين. وهكذا لو حضره عدوّان لهما، أو عدو له وعدو لها، أو عدوان لأحدهما على أقسام البنين (1). ولا ينعقد ولا يثبت برجل وامرأتين. فرع: 7865 - إذا قال الشاهدان بعد العقد: كنّا فاسقَيْن حالة العقد، أو تعمدنا الكذب، لم يُنْقَض القضاء، وإنما القولان إذا قامت به البينة. ولم يذكر في حكم الستر شيئاً. وعندي [أنه] (2) إن لم يعلم الزوجان بفسقهما حالة العقد، لم يزُل حكم الستر، فأما إذا تصادق الزوجان على أن الحاضرَيْن كانا فاسقَيْن حالة العقد، وعلما بذلك، فالوجه القطع بتبين فساد العقد؛ لأنهما لم يكونا مستورين عنهما، وعليهما التعويل في التحليل والتحريم، بخلاف ما لو ثبت بالبينة؛ فإن الستر قارن العقد [فجُرحا بالتبيّن] (3) على القولين. ولو قال الزوجان: لم نعرف أعيانهما، وقد تذكرنا أنهما كانا فاسقين حالة العقد، فيحتمل أن يخرج على القولين، كما في قيام البينة. ولو أن الزوج سمع ممن يثق به أن فلاناً فاسق، ثم عقد النكاح بحضور المجروح، فهل يزول الستر وينحى به نحو الأخبار، فلا يشترط فيه العدد ولا الحرية؟ فيه تردد، والظاهر أن الستر يزول بأخبار من تقبل روايته وإن لم يثبت به الجرح في مجلس القضاء. ويجوز أن يقال: من لا يجرح في مجلس القضاء، فهو مستور، ومن استيقن الزوج فسقه، فعلمه في حقه كافٍ في زوال الستر. وكان الشيخ أبو محمد يسْتَتِيب شهود النكاح إذا حضروا، ويعتاد ذلك في حق المستورين استظهاراً، وكان يتردد في المعلنين بالفسق إذا أظهروا التوبة في مجلس

_ (1) أي صور العداوة هي بعينها صور البنين (عدوان لهما، عدوان لأحدهما، عدو له، وعدو لها) وفيها نفس الأوجه. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "فحرج بالتبيين".

العقد: هل يلحقون بالمستورين؟ فلو قلنا: يلحقون، فعاود الفجور على الفور، فالظاهر سقوط أثر توبتهم. وإذا أقرّ الزوجان بالعلم بفسق الشاهدين حالة العقد، حكمنا بأنه لا نكاح بينهما، ولا ينتقص بذلك الطلاق، ولا يجب به المسمى؛ للحكم بأنه لا نكاح بينهما، لكن إذا كان قد وطئها، لزمه مهر المثل. وإذا تزوجها بعد ذلك، ملك عليها ثلاث طلقات. ولو اعترف الزوج بذلك، وأنكرت المرأة، فيحكم بارتفاع النكاح، قال الصيدلاني: سبيله سبيل طلقة بائنة: فإن جرى ذلك قبل الدخول، لزمه نصف المسمى، وإن جرى بعده، فجميعه. ولو نكحها بعده عادت إليه بطلقتين؛ لأنها لم تصدقه فيه، ولا وُجد سبب يستحق به الفسخ، فهو في حكم الطلاق. وحكي عن الشافعي أنّ الحرّ إذا تزوج أَمَة وقال عقيبه: كنت واجداً طَوْلَ حرة، بانت منه بطلقة، وهو مشكل، لكنه ينزل الفراق المحكوم به منزلة الطلاق في تنصيف المسمى قبل الدخول، وتكميله بعده، ولو عادت إليه، عادت بطلقتين. قال (1): هذا لا وجه له؛ لأنه لم ينشىء طلاقاً، ولا في موجب إقراره ما يقتضي الطلاق. فصل 7866 - من بلغ سفيهاً اطّرد الحجر عليه، ولم نُجز له أن يتزوج بانفراده؛ لأنه محجور عليه لنفسه، وذلك ينافي استبداده، ولا يملك الولي تزويجه من غير طلبه؛ لأنه يملك تطليق زوجته؛ فلا يصح إلا بإذن الولي، وطلبه (2). وقد نص الشافعي في موضع: "للولي تزويجه". وفي موضع "لا يزوجه". وليست على قولين، بل على اختلاف حالين، فحيث قال: "يزوجه"، يريد إذا كان أباً، أو جداً، أو قيّماً أذن له الحاكم في تزويجه. وحيث قال: "لا يزوجه"، يريد به القيّم الذي لم يؤذن له

_ (1) القائل: إمام الحرمين. (2) "طلبه": أي طلب السفيه.

في تزويجه. فإن تولى الولي تزويجه عند طلبه بإذنه، جاز، وإن فوضه إليه -عند وجود شرائطه- جاز؛ لأن عبارته صالحة للعقد. ولوليه أن ينفرد بالتصرف المصلح لماله من غير مراجعته، كالطفل، ولو فوض إليه عقداً معيناً في المال، فالمذهب صحتُه، وقيل: لا يصح، وهو بعيد؛ لأنه مكلَّف، صحيح العبارة، وبه فارق الصبيَّ والمجنونَ، ويستثنى من ذلك المرأة؛ فإن عبارتها مسلوبة في النكاح خاصة، مع أنها مكلفة تستأذن وتراجع فيه، ولا يستند ذلك إلى معنى محقق. ومتى أبدى السفيه حاجته إلى النكاح، صُدِّق ولا ينظر إلى بِنْيته (1)، ولا يرجع إلى قول الأطباء فيه؛ لأنه لا سبيل إلى الوقوف على حقيقة الداعي إليه؛ فلا يعرف إلا من جهته، فإذا أخبر عن حاجته إلى النكاح، وجبت إجابته، وقضاء حاجته. فلو لم نجبه فللعراقيين وجهان: أحدهما - لا يتزوج، لقصوره، وعدم تفويض الولي إليه. والثاني - يستقلّ به، كما لو طلب الطعام. وهذا بعيد عن القياس. ويتجه أن يقال: يرفع المحجورُ عليه أمره إلى الحاكم، كما لو عضل المرأةَ، وسَلْبُ عبارتها بمثابة منع السفيه من الاستقلال. وجملةُ حاله إن احتاج إلى المطاعم، ولم ينته إلى الضرورة؛ فاشترى بنفسه، فقد تردد العراقيون فيه. وإن انتهى إلى حد الضرورة، قال: فالوجه عندي القطع بتجويز تصرفه لضرورته؛ لأنه من أهل العبارة، ونَصْبُ الناظر لمصلحته، فعند الضرورة منعُه لا مصلحة له فيه، لكن لا تُتصور الضرورة في النكاح وإن تناهت الحاجة فيه. والمرضيُّ أنه إن أمكن رفع الأمر إلى الوالي، لم يجز أن يستقِلّ بنفسه، وإن تعذر الرجوع إلى الوالي، ترتب على ما ذكرنا في تحقق الحاجة إلى المطاعم والكسوة وما في معناه، والنكاح أولى بالمنع؛ لأنه لا تتحقق فيه الحاجة تحققها في الطعام ونحوه؛ ولذلك يجب على الأب نفقةُ ولده، ولا يجب إعفافه، وظاهر مذهب العراقيين إجراء الوجهين في استبداده من غير مراجعة السلطان عند امتناع الولي الحاضر.

_ (1) كذا قرأناها، وهي بهذا الرسم تماماً لكن بدون أي نقط، ويشهد لصحتها قوله: "ولا يرجع إلى قول الأطباء".

وللأب تزويج ابنه الطفل [لمصلحة] (1) ظنية، مع العلم بعدم حاجته إلى النكاح. وولي المحجور عليه يرعى في مصلحته هذا المعنى، لكن لا يجبره عليه، والخلاف في استقلاله إذا ذكر حاجة جلية داعية، فأما لمصلحة جلية من غير طلب، فلا خلاف فيه. 7867 - والأولى لولي السفيه أن يعيّن له امرأة، ويقدر مهرها، ويأذنَ له في العقد عليها، فإن عيّنها ولم يقدّر مهرها، صح الإذن، وعقد السفيه بمهر مثلها أو بأقلَّ منه، فإن زاد على مهر المثل، صح النكاح ولزم مهر المثل، وسقط [الزيادة] (2). ولو قدّر مهراً، فتخيّر به السفيه امرأة، جاز، إذا كان مهرَ مثلها، وإن كان أكثر منه، لزم مهر المثل، ورُد الزائد؛ لأنه تبرع، وتبرعه مردود. ولو أذن فيه من غير تعيين امرأة ولا تقدير مهر (3)، صح الإذن على وجهٍ، فإن زاد على مهر المثل، رُدّت الزيادة، وقيل: لا يصح؛ لأنه قد يتزوج من يستغرق مهرُ مثلها مالَه، فالوجه أنه لا يصح نكاحها إذا لم يقع موافقاً لمصلحته، وإن أفسدنا الإذن، فالنكاح باطل، وإن وافق المصلحة، فكأنه لم يأذن. 7868 - وأما العبد، فإنه لا ينكح بغير إذن سيده، كالسفيه بغير إذن وليه، فلو قال له المولى: انكح من شئت بما شئت، صح الإذن، وينكح هذا، ويتعلق المهر بكسبه، بخلاف السفيه (4)، فلو لم يجد السفيه إلا من لا ترضى بمهر مثلها، وأخبر بحاجته إليها، ففيه احتمال. ولو أذن السيد لعبده أن يتزوج بمهر المثل (5)، فزاد عليه، قال الشافعي: لا تثبت

_ (1) في الأصل: "للمصلحة". (2) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام. (3) هذا هو ما يعبر عنه بالإذن المطلق. (4) المعنى أن العبد إذا أذن له السيد إذناً مطلقاً ينكح من شاء بما شاء، ويتعلق المهر بكسبه. أما السفيه، ففي الإذن المطلق احتمال سبق آنفاً، عند الكلام على زواج السفيه. (5) أي يتعلق مهر المثل بكسب العبد، وتتعلق الزيادة بذمته.

الزيادة في حق السيد، ولا تتعلق بكسبه، بل بذمة العبد، يُتْبع بها إذا عَتَق، فيصح المسمى، ويتبعض متعلقه. ولو عين ولي السفيه له امرأة، فنكحها على أكثر من مهر مثلها، رُدَّت الزيادة، ولم يطالب السفيه بها ولو فك الحجر عنه لرشده؛ لأنا نرعى فيما لا يتعلق بكسب العبد حقَّ السيد، وفي حق السفيه حق نفسه، ولو طولب بها إذا رشد، لطولب بها في الحال، كما لو أتلف مالاً، أو جنى جناية توجب المال. قال: وفي النفس مما حكيته متفقاً عليه (1) أثر؛ فإنّ السيد إذا قال لعبده: انكح هذه، فلو نكح غيرها، لم يصح، لمخالفة الإذن، وكذا لو علق إذنه بوقت أو صفة، وجب اتباع ما عيّنه، فإذا قال: انكح هذه بألف، فنكحها بألفين، فليس هذا النكاح المأذونَ فيه، فمثله في ولي السفيه. ووجه الجواب عنه، أن النكاح قائم بنفسه دون العوض، فإذا أذن فيه، استقل الإذن، ومخالفتُه في مقدار المهر مخالفة في الإذن في المهر؛ ولأن الأمر في المهر مردود إلى مهر المثل، بخلاف ما لو عين امرأة، فنكح غيرها؛ لأنه ترك مقتضى الإذن بالكلية. ويلزم إذا وكل في قبول نكاح امرأة بألف، فقبل الوكيل بألفين، قال: فالمذهب الصحيح أن النكاح لا ينعقد؛ لأنه لا مستند لنكاح الوكيل إلا الإذن، فإذا خالفه، لم يتبق له مستند، وقيل: بأن الوكيل إذا خالف في مقدار المهر، يصح نكاحه؛ لأنه غير مقصود في النكاح، فلا يؤثر الخلاف فيه. قال: وهو بعيد ومنقول (2). ولو قيل: بأن نكاح العبد والسفيه إذا خالفا في المهر لا يصح، لكان أوجه في المعنى مما ذكره في الوكيل. ولو قال السيد لعبده: انكح هذه بألف، فإن زدتَ ولو درهماً، فلا إذن فيه،

_ (1) أي في النفس شيء مما حكاه عن صحة زواج العبد مع مخالفته لإذن السيد، كما سيتضح من السطور الآتية. (2) كذا.

فكما (1) أذنت لك فيه بألف [نهيتك] (2) عنه بالزيادة، فالذي يقتضيه الرأي أنه إذا زاد، لا يصح نكاحه مع تصريحه بنفي الإذن فيه، والنكاح وإن كان حقَّ العبد، فلا بد من رعاية إذن المولى فيه، لتعلّق حقه به. وقد نصّ الشافعي رضي الله عنه أن العبد إذا زاد على ما قدره السيد، تصح تسميتُه وتلزم ذمتَه، يُتبع بها إذا أعتق، وفيه [غوص] (3)؛ فنُقدِّم أن الجمهور على أن العبد إذا ضمن ديناً بغير إذن سيده، لم يصح، ولا يثبت في ذمته المال، وقيل: يصح، ويتبع به إذا أعتق، وهو منقاس، فتعلّق بما نصّ عليه؛ فإن الزيادة وما ضمن لم يأذن السيد فيهما، وعدم تضرر السيد بالضمان لا يوجب صحته؛ [بخلاف الزيادة] (4) لأن للسيد تعلقاً بها، ولهذا لو ضمن لسيده شيئاًً عن أجنبي، لم يصح، وإن أمكن مطالبته إذا عتق، فكذلك (5) [القيمة] (6) الصحيحُ أنها تتعلق بذمته إذا عتق، وقيل: لا يطالب بها بعد العتق، والفرق أن الإتلاف لا يمكن ردُّه، ولا إحباطُ حق المتلف عليه (7)، والضمان عقد نسيئة، وتصحيحه وإبطاله إلى الشرع. ولو اشترى العبد شيئاً بغير إذن سيده، فالمذهب أنه لا يصح، وفي صحته قول غريب حكيناه، والفرق بينه وبين الضمان، أن الضمان التزام مجرد، والبيع عقد عهدة، وثبوت الملك فيه للسيد من غير عهدة محال؛ فإن وارث المشتري يملك المبيع إرثاً، مع التزام العهدة (8)، وإلزام السيد العهدة بعقد انفرد به العبد محال،

_ (1) "كما" بمعنى عندما، وقد مضى الكلام فيها. (2) في الأصل: "نفيْتك". (3) في الأصل: "غموض" ولا معنى لها. والمثبت تقدير منا، نرجو أن يكون صواباً؛ فالمعنى: وفيه بحث. (4) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، نرجو أن تكون صواباً. (5) التشبيه بالزيادة. (6) كذا قرأناها بصعوبة على ضوء صورة الحروف وفي ضوء السياق. والمراد قيمة ما يتلفه العبد من مالٍ على أجنبي. (مع ملاحظة أنه لم يسبق ذكره للإتلاف. فلعل في الكلام سقطاً؟). (7) ولذا كان تصحيح تعلق القيمة بذمته. (8) هذا تصوير لانتقال العهدة والتزامها.

ولا يتحقق هذا في الضمان لو صح، بخلاف الزيادة (1)؛ فإنها وإن التزمها العبد بغير إذن سيده إلا أنها جارية في سياق عقد مأذون فيه، فكانت أقرب من الضمان؛ ولأن أصحابنا وإن اختلفوا في العبد إذا قبل هبة أو وصية بغير إذن السيد هل تصح؟ وإذا صح فهل يملك السيد؟ لم يختلفوا في أن العبد إذا خالع زوجته على مال أن المال يدخل في ملك السيد قهراً، لأنه جرى في سياق الطلاق، وهو خارج عن الحجر، ويجمُل في القياس ألا تلزم الزيادة في المهر أصلاً، كالضمان، والفرق بينهما عسر، ولا يكتفى فيه بالجهالات، كاكتفاء أصحاب الرأي، [ويؤيده] (2) أن الظن إذا كان أغلب في الاجتماع من الافتراق، وجب الحكم بالاجتماع، ولا عبرة بفرق بعيد. ولو اشترى السفيه شيئاً بغير إذن وليه، فشراؤه فاسد، فلو قبضه وأتلفه، لم يضمنه؛ لأن بائعه هو الذي سلّطه على إتلافه، وما لا يضمنه محجوراً عليه، لا يضمنه إذا فك حجره؛ لأن المرعيّ في الحالين حقه؛ ولأن تسليطه على إتلافه واضح، وشرط ضمانه محتمل؛ فثبت حكم تسليطه، ولم يلزمه الضمان. ولو باع سفيه من سفيه شيئاًً، فقبضه وأتلفه، قطعنا بوجوب ضمانه عليه؛ لأن البائع ليس من أهل التسليط، وقد وجد من المشتري الإتلاف، فهو كما لو أتلفه من غير بيع. 7869 - ولو تزوج السفيه امرأة بغير إذن، وحكمنا بفساد نكاحه، ووطئها، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يلزمه مهر مثلها؛ لأنه عوض منفعة البضع؛ فلا يسقط بالتسليط، بخلاف ما لو أتلف المبيع في البيع الفاسد، لما قدمناه. والوجه الثاني - لا يجب المهر، كما لا تجب قيمة المبيع في البيع الفاسد، والوجهان مبنيان على القولين في المرتهن إذا وطىء الجارية المرهونة بإذن الراهن ظاناً جوازه، ففي وجوب المهر قولان.

_ (1) فهي إذاً مراتب ثلاث في الصحة، أعني التزام السيد: أدناها - الشراء بغير إذنه. وأقوى منها - الضمان، وأصحها - الزيادة في المهر. (2) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: "وسره" بهذا الرسم تماماً وبغير نقط، والمثبت تقدير منا.

والوجه الثالث - أنه يلزمه أقل ما يتمول ولا يلزمه كمال المهر، حتى لا يعرى الوطء عن بدل، وهذا لا وجه له؛ فإن زوج المفوضة إذا وطئها، لزمه كمال مهر المثل، فلا يكتفى بأقل المال، وكذلك المرتهن إذا وطىء بإذن الراهن لا مهر عليه في قول، وفي الثاني يجب تمام مهر المثل. 7870 - والمحجور عليه للفلس يصح نكاحه، والسفيهة المحجور عليها المبذرة، في النكاح كالمُطْلَقة التصرف الرشيدة، فلو تولى مالها قيّم من قِبل الحاكم، فزوّجها أخوها، صح، وسرُّه أن الرشيدة لا تستبد بالنكاح، ولو كانت ثيباً بالغاً، وإذا طلبت التزويج، وجب إجابتها، فالحجر وعدمه في حقها سواء. قلت: ولأن الحجر عليها في المال خوف إضاعته، وفي تزويجها تكثيره، وتوفيره بالمهر والنفقة، بخلاف الرجل السفيه؛ فإن نكاحه سببٌ في إضاعة المال، ونظيره أن السفيه يجوز أن يخالع زوجته بغير إذن وليه، لما فيه من تكثير ماله، وتوفيره بسقوط النفقة عنه. فصل 7871 - لا يملك السيد إجبار عبده البالغ العاقل على النكاح في قوله الجديد؛ لأنه يملك حلّه بالطلاق، فلا يجبره على عقد يملك حله؛ ولأنه يُلزمه به مالاً، فلم يجبره عليه، كالكتابة، ونصَّ في القديم أنه يجبره، وهو مذهب أبي حنيفة (1)؛ لأنه استصلاح لملكه، فهو [كالفَصْد] (2) ونحوه. فأما العبد الصغير، فإن قلنا: إنه يُجبَر البالغُ، فالصغير أولى، وإن قلنا: لا يجبر البالغ، ففي إجبار الصغير قولان: إن شئنا، بنيناهما على المعنيين في

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 312 مسألة 809، مختصر الطحاوي: 174. رؤوس المسائل: 378 مسألة: 255. (2) في الأصل: "كالقصد" وهو تصحيف واضح، والمعنى أن للسيد أن يجبر عبده على (الفصد) أي إخراج الدم الفاسد، استصلاحاً له؛ لأنه من ماله، فكذلك يجبره على النكاح إخراجاً (للماء) استصلاحاً له.

البالغ، فإن قلنا: لا يجبره؛ لأنه يملك الطلاق، فالصغير لا يملك الطلاق، وإن قلنا: يُلزم ذمته مالاً، فكذا الصغير؛ فإنه لا يملك إجباره على الكتابة، والأوْلى توجيه القولين في [الصغير بالصغر] (1): فإن قلنا: يجبره، اعتبرناه بالصغير الموْلي عليه، والسيد بالأب والجد، وإن قلنا: لا يجبره؛ فلأن السيد لا ينظر لعبده، وإنما ينظر لملكه، والنكاح لا يرد على محل ملكه، وكذا الحاكم في المجنون. قال العراقيون: إن قلنا: السيد يجبر عبده على النكاح، فالعبد لا يجبر سيده على الإنكاح. وإن قلنا: السيد لا يجبر عبده على النكاح، فهل يجبر العبد سيده على الإنكاح؟ قولان. وتعليله أن الطباع مجبولة على التشوف إلى النكاح، والرق لا نهاية له، فلو منع هذا الجنس من النكاح لجر ضرراً عظيماً. وإن قلنا: لا يُجبَر عليه السيد، فهو منعٌ لا ينتهي إلى الضرورة؛ ولذلك لا يجب على الأب أن يُعفَّ ابنَه. فإن أجرينا القولين، فرعناهما على أن السيد لا يجبر عبده، وإن قلنا: يجبره، بَعُد إجراء الإجبار من الجانبين، ويجوز أن نجريهما على القول بأنه يجبره، ويكون للعبد أن يحمله على التزويج، كما أن الأب يجبر البكر البالغة على النكاح، وهي تحمله على أن يزوجها، فالإجبار جائز من الطرفين. فإذا قلنا: العبد يجبر سيده، فمعناه أنه يطلب منه التزويج، فإن أجابه، فذاك، وإن أبى، فعلى وجهين: أحدهما - أن العبد يتزوج بنفسه، والثاني - لا يتزوج، لكن يأثم السيد بالامتناع. ومن نصفه حر، لا يملك مالكُ رقه إجباره اتفاقاً؛ لما فيه من الحرية، وهل يملك هو إجبار مالك رقه على إنكاحه؟ على القولين؛ لأن حريته تؤكد استحقاقه إجبار مالك رقه، وتمنع من إجبار السيد له؛ لأن التزويج يتناول جملته؛ فلا يَجبُر موصوفاً بالحرية من غير سبب. 7872 - ويملك السيد إجبارَ أمته على النكاح؛ لأنه يعقد على منافعَ مملوكةٍ له، وهي منافع بضعها، بخلاف العبد، فإن كانت تحل للسيد، لم يُجبَر على تزويجها؛ لأنه يُعطِّل حقه من الاستمتاع بها، ولا حجر عليه فيه، ولا تملك مطالبته به؛ فإن

_ (1) زيادة من المحقق؛ فعبارة الأصل: "والأولى توجيه القولين في الصغر، فإن قلنا ... إلخ".

الزوجة لا تملك مطالبة زوجها بالجماع، فكيف الأمة؟ وإن كانت لا تحل لسيدها، ففي إجبارها إياه على تزويجها قولان، تقدم توجيههما من مسيس الحاجة. 7873 - إذا أذن السيد لعبده في النكاح، فإن المهر، والنفقة، والمؤن الراتبة تتعلق بأكْساب العبد، فالإذن له في التزويج إذنٌ له في ذلك، وأقرب شيء إلى العبد كسبه، فقد أذن في صرفه إلى مؤونته. والقول الجديد: إذا تزوج بإذنه، لا يصير ضامناً للمهر والنفقة، والقول القديم: يصير ضامناً، وإن لم يصرح بالضمان، فوجه الأول - أنه لم يضمن تصريحاً ولا تعريضاً، ووجه الثاني - أن العبد يؤدي ذلك من كسبه، وهو ملك السيد؛ فلا فرق بينه وبين سائر أمواله، ولم يتعرض لتعلق ذلك بالكسب في إذنه، وينبني القولان على القولين في المأذون له (1) إذا قلنا: تتعلق ديونه بما في يده، ففي تعلقها بالسيد قولان، ووجه البناية في قولٍ كأنه ضامن عهدة تصرفاته فيما سلمه إليه، وفي قول تتعلق بسائر مال الإذن، كذلك السيد إذا أذن في النكاح، وهل يتعداه حتى يطالب السيد به؟ على القولين: قال العراقيون: إن قلنا: يطالب السيد، فلا كلام. وإن قلنا: لا يطالب، فلا يلزمه الضمان. فلو كان العبد عاجزاً عن الكسب، وذلك ظاهرٌ لسيده، ففي مصيرِه ضامناً على هذا القول قولان؛ لأنه إذا كان مكتسباً أمكن أن يقال: أحال السيد الغرم عليه، وإذا لم يكن كسوباً، لم يتحقق هذا المعنى، وظهر التزام السيد له، ولو كان له كسب لا يفي، فإلزامه [ما زاد] (2) على الكسب بمثابة الجميع، ولا يشترط علم السيد بعدم كسبه في جريان القول الثالث (3)، حتى لو لم يعلم لكنه كان قادراً على البحث، فتركه، فهو كما لو علم. ولو كان العبد كسوباً حالة العقد، وطرأت عليه زمانةٌ، فهو على أصل القولين،

_ (1) المراد العبد المأذون له في التجارة بمال سيده. (2) ما بين المعقفين زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (3) القول الثالث هو الفرق في ضمان السيد بين حالة كون العبد كسوباً، وحالة كونه غير كسوب.

ولا يجري فيه القول الثالث؛ لأنا إذا وجدنا بدلاً نُحيل الضمان عليه حالة العقد، [فلا يغيره] (1) ما طرأ. إذا أذن السيد لعبده أن يتمتع بالعمرة إلى الحج ففي لزوم دم التمتع للسيد قولان مرتبان على القولين في ضمان مؤن النكاح ومهره، ولزوم دم التمتع أولى بألا يطالَب به المولى؛ لأنّ له بدلاً، فعليه عوّل السيد، وهو الصيام، وليس ذلك في مؤن النكاح. فلو قلنا: لا يضمن السيد بمجرد الإذن، فلو قيد الإذن به، لم يصر ضامناً؛ لأنه ضمان ما لم يجب. [فإذا] (2) ضمن السيد المهر بعد العقد، صح ضمانه، وإن ضمن النفقة في المستقبل، لم يصح؛ لأنه ضمان مجهول، فإن ضمن منها [مقداراً] (3)، ففيه قولان؛ لأنه ضمان ما وجد سبب وجوبه، وعلى القديم يصير السيد ضامناً للمهر والنفقة جميعاً مع الجهالة، ومأخذُه تعلق العهدة والطَّلِبة (4) بسائر ماله من غير اختصاص بكسبه، وعلى الجديد لا يتوجه الضمان على السيد في جميع ماله، بل ينحصر في الكسب فيخلِّي بين العبد وكسبه، فإن اكتسب مقدار نفقته، فذلك مصروف إليها، ويبقى المهر على العبد، فإن فضل عنها، صرف الفاضل إلى المهر، حتى يؤديه منها. 7874 - وإن كان مأذوناً في التجارة، وفي يده مال لسيده يتجر فيه، تعلق ما يلزمه بالنكاح بالأرباح اتفاقاً؛ لأنها من كسبه، ونسبتها إلى رأس المال كنسبة الكسب إلى رقبة العبد. وفي تعلق لوازمه بنفس رأس المال وجهان مشهوران: أحدهما - لا يتعلق به، لأنه ليس من كسبه، فهي كرقبته، والثاني يتعلق به؛ لأنه معتمد في تعامله، ولهذا تعلقت ديون التجارة برأس المال.

_ (1) في الأصل: "ولا". (2) في الأصل: "إذا" وزيادة الفاء من المحقق. (3) في الأصل: "مقدراً". (4) بهذا الضبط وزان كلمة (بفتحٍ وكسر) وأيضاً تأتي بوزن كِلْمة بكسر فسكون.

7875 - فلو أراد السيد أن يستخدم العبد في حضره، أو يسافر به، قال العراقيون: ليس له أن يشغله عن الكسب ما بقي عليه واجبٌ في النكاح؛ لأن ذلك يشغله عن الكسب الذي تعلقت الحقوق به، وهو حسن متجه. والمراوزة أجازوا استخدامه والسفر به، وألزموه ضماناً. والله أعلم أن أقوى مراتب تعلق الحقوق تعلّقُ الدين بالرهن، وهو مانع للراهن من التصرف في المرهون ما بقي عليه شيء من الدين، ويليه تعلق الأرش برقبة العبد الجاني، وهو دون الأوّلة (1)؛ لأنه لم يتعلق بقصد المالك، فلذلك اختُلف في بيع العبد الجاني قبل فدائه، ويليه في التعلّق ما نحن فيه؛ لأن الأكساب متوقعة غير حاضرة، والوثائق تتعلق بشيء كائن؛ فإذا بعد رهن الدين، فالكسب المتوقع أولى. قال العراقيون: إذا ضمن السيد لوازم النكاح، لم يُمنع من استخدامه والسفر به، قال: وفيه نظر؛ فإنه وإن ضمن [فما لم] (2) يؤد، ينبغي أن لا ينفك التعلق بالكسب. فإذا جوزنا له أن يستخدم أو يسافر، ففعل، أو منعناه، فاستخدمه يوماً أو أياماً، لزمه حقوق النكاح، كما يلزمه فداء العبد الجاني إذا باعه، وهو ما [يتجه] (3). وما الذي يلزمه؛ قيل: يلزمه المهرُ بالغاً ما بلغ، والنفقةُ؛ لأنه قد كان يكسب هذه المدة مبلغاً كثيراً يفي بذلك. والثاني - يلزمه أقل الأمرين: من أجرة مثل العبد لمدة الخدمة، أو ما لزم من مؤنة النكاح، وهذان القولان يقربان من القولين فيما

_ (1) أشرنا سابقاً أن تأنيث (أول) بالتاء لغة. (2) في الأصل: "ما لم" [بدون فاء] والمثبت تقدير منا، أيدته عبارة الإمام الغزالي في البسيط -وهي من عبارة شيخه غالباً- ونصها: "وفيه نظر؛ لأنه وإن ضمن، فما لم يؤدِّ، فتسليطه على الاستخدام فيه بعد" (ر. البسيط: 4/ 27 ش- مخطوط بمكتبتنا) ومعنى العبارة: أن تسليط العراقيين للسيد على استخدام العبد إذا ضمن لوازم النكاح محل نظر؛ فإنه برغم ضمانه يظل التعلق بكسب العبد ما لم تؤدَّ لوازم النكاح. (3) غير مقروءة في الأصل، ورسمت هكذا: "بيعه" تماماًَ. والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق، ذلك أن بيع العبد الجاني موضع خلاف: قيل: لا يصح بيعه، ويقع فاسداً، ولا ينتقل به الملك، وقيل: يصح، ويلتزم السيد فداءه.

يفدي به جناية العبد (1)، فلو قتل السيدُ العبد (2)، لم يلزمه إلا الأقل؛ لأن المتلف لا يلزمه إلا قيمة ما أتلفه (3)، وقيل: يُبنى على القولين، وهو بعيد (4)، واستخدام السيد العبد بمثابة قتله؛ لأنه أتلف متعلق حقوق النكاح، وهو منفعته (5). ويتجه فيه أن السيد أحال بحقوق النكاح على الكسب، فإذا أفسده، فسائر أمواله ككسبه عنده، بخلاف جناية العبد؛ فإنها تجب من غير سبب صدر من جهته. ولو استخدم العبدَ أجنبي يوماً أو أياماً، لزمه أجرة المثل بلا شك من غير مزيد، لأنه أتلف منافعه، ولم يورط العبد فيما ورطه المولى (6) من التزام حقوق النكاح. ونظير استخدام السيد هذا العبد ما إذا استخدم مكاتَبه مدة، ففي قولٍ يلزمه أجرة مثل المدة، ويناظر إلزامنا السيد أقل الأمرين، وفي قول يمهله مثل المدة زيادةً على نجومه، فيناظر إلزامنا السيد أكثر الأمرين. فإن قلنا: يلزم السيد أقل الأمرين، فلا إشكال فيه، وإن قلنا: يلزمه الأكثر، لزمه المهر ونفقة الأيام التي استخدمه فيها، وفي إلزامه النفقة لمستقبل الأيام وجهان: أحدهما - تلزمه؛ لجواز أن يكتسب في تلك المدة ما يكفيه لبقية حياته، والثاني - لا يلزمه إلا الواجبات في أيام الاستخدام، أما الحادث الذي لا يحصر، فلا.

_ (1) في فداء السيد لعبده الجاني خلاف فيما يفديه به؟ قيل: يفديه بكمال أرش الجناية، وقيل: يفديه بأقل الأمرين: قيمة العبد أو أرش الجناية. (2) المراد العبد الجاني الذي تعلق برقبته أرش جنايته. (3) فإذا جنى العبد جنايةً أرشها خمسون من الإبل، كأن قطع يداً من حُرٍّ سليم الأعضاء، يتعلق أرش هذه الجناية برقبته، فإذا كانت قيمته أقل من الأرش، كأن يساوي أربعين من الإبل مثلاً، لم يغرم السيد للمجني عليه إلا قيمة العبد وهو الصحيح؛ لأن المُحلف لا يلزمه إلا قيمة ما أتلفه. على حين لو أراد السيد أن يفدي عبده الجاني كان في المسألة قولان: يفديه بالأرش بالغاً ما بلغ، وقيل: يفديه بالأقل من القيمة أو الأرش. (4) المذهب أنه لا يلزمه إلا القيمة في حالة قتله العبد، وهو ما عبر عنه الرافعي بالصحيح. (ر. الشرح الكبير: 8/ 203). (5) المعنى أن الأرجح أنه لا يلزم السيد بالاستخدام إلا أجرة مثله؛ فهي قيمة ما أتلفه، وهو منفعة العبد. (6) ورّطه السيد في التزام حقوق النكاح عندما أذن له فيه.

قال العراقيون: إذا اشتغل العبد بالكسب نهاراً، لم يكن لسيده أن يستخدمه ليلاً؛ لأنه وقت راحته، وتجب التخلية بينه وبين زوجته؛ لأنه لا يجوز استخدامه طول زمانه، ولا منعه من الاستمتاع. أما الأمة إذا زوجها مولاها، فلا يلزمه تسليمها إلا ليلاً، وله أن يسافر بها، ولا يمنعه الزوج اتفاقاً. 7876 - هذا كله إذا كان النكاح صحيحاً بإذن السيد، أما إذا نكح العبد نكاحاً فاسداً بغير إذن، فإن لم يطأ، لم يلزمه شيء. وإن وطِىء على شبهة (1)، ففي المهر قولان: أحدهما - يتعلق بذمة العبد؛ يطالَب به إذا عتق؛ لأنه لم يأذن له في العقد؛ فلم يتعلق بكسبه، ولزمه برضا مَنْ له الحق (2)، فلم يتعلق برقبته، ويخالف السفيه إذا نكح بغير إذنٍ ووطىء؛ حيث لا يلزمه المهر على ظاهر المذهب (3)، والفرق أن المرعي في السفيه حقُّه، وفي العبد حق المولى، ولا خلاف أن من باع من السفيه شيئاًً بغير إذن وليه، وأتلفه السفيه أنه لا يلزمه شيء أصلاً (4)، ولو كان ذلك مع العبد، تعلقت القيمة بذمته. ونص الشافعي في العبد على قول آخر: أنه يتعلق المهر برقبته، كأرش الجناية (5)؛ (لأنه يدخله الإباحة) (6)، وقيل: إنه ليس مذهباً للشافعي إنما حكاه عن

_ (1) أي على شبهة صحة العقد. (2) مَنْ له الحق: أي الزوجة. وما يلتزمه العبد يختلف تعلّقه؛ فإن كان برضا مَنْ له الحق، تعلق بذمته، وإن كان بغير رضا من له الحق، تعلق برقبته، وإن كان برضا السيد، تعلق بكسبه. (3) وهناك قول بأن المهر يلزم السفيه، قياساً على الإتلافات؛ فقد أتلف منفعة البضع، وعن هذا القول قيل في العبد الذي نكح بغير إذنٍ، أو أذن له السيد، فنكح نكاحاً فاسداً، ووطىء؛ قيل: يتعلق المهر برقبته كأرش جنايته؛ فكلاهما إتلاف. وعبارة الرافعي: "الثاني - يتعلق المهر برقبته؛ لأن الوطء إتلاف؛ فبدله كديون الإتلافات. (الشرح الكبير: 8/ 205) ". (4) إذا اشترى السفيه المحجور عليه شيئاً بغير إذن وليه - وأتلفه، فلا غرم عليه، ولا يلزمه شيء؛ لأن البائع هو الذي سلطه عليه؛ بتمليكه إياه. (5) أشرنا إلى هذا القول وتوجيهه في التعليق قبل السابق. (6) ما بين القوسين بهذا الرسم تماماً، ولم يظهر لي وجه هذا التعليل، ولا علاقته بالمسألة، ولعل في الكلام سقطاً، أو تحريفاً. =

غيره ومن أنكر هذا في العبد؛ فإنه ينكر وجوب المهر على السفيه. 7877 - ولو أذن له السيد إذناً مطلقاً، فنكح نكاحاً فاسداً، ووطىء فيه، ففي تعلق المهر بكسبه قولان: الأصح أن لا يتعلق به؛ لأن الفاسد غير مأذون له فيه. والقول الثاني - يتعلق المهر بكسبه لوقوع اسم النكاح على الفاسد، فيندرج الفاسد تحت الإذن، وينشأ من هذا أن من حلف لا يبيع، فباع بيعاً فاسداً، فالمذهب أنه لا يحنث، ويخرج من هذا القول أنه يحنث، وهو مذهب أبي حنيفة (1). فإن قلنا: يتعلق المهر بالكسب، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتعلق بالكسب، ففيه القولان، أحدهما - يتعلق بذمته، والثاني - برقبته. إذا أذن له في النكاح، فنكح نكاحاً صحيحاً، وفسدت تسمية الصداق، تعلق مهر المثل بالكسب قولاً واحداً؛ لأنه وجب في نكاح مأذون فيه.

_ = ولم نجد فيما ساقه الغزالي في البسيط، والرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة، لم نجد فيها ما يعين على قراءة هذه العبارة، ولعل من المفيد أن نذكر ما قاله الرافعي، فهو أكثرهم تفصيلاً للمسألة، قال: " إذا فسد نكاح العبد؛ لجريانه من غير إذن السيد، فيفرق بينه وبين زوجته، فإن دخل بها قبل التفريق، فلا حدّ، للشبهة، ويجب مهر المثل. وبم يتعلق؟ فيه وجهان: أصحهما - أنه يتعلق بذمة العبد؛ لأنه وجب برضا المستحق؛ فصار كما إذا اشترى أو اقترض بغير إذن السيد وأتلف. والثاني - أنه يتعلق برقبته؛ لأن الوطء إتلاف، فبدله كديون الإتلافات، وهذا القول منهم من نسبه إلى القديم. ومنهم من قال: هو مخرج من قولٍ لنا: إن السفيه إذا نكح بغير إذن الولي، ووطىء يلزمه المهر، والقول الأول يوافق قولنا هناك: لا يلزمه شيء؛ لأن المرعي هناك حق السفيه، فينتفي الوجوب أصلاً، والمرعي هاهنا حق السيد، ولا ضرر عليه في التعلق بالذمة؛ فعلقناه بها." ا. هـ ثم أشار إلى ما قاله إمام الحرمين هنا، فقال: "وفي النهاية أن من الأصحاب من لم ينسبه قولاً للشافعي رضي الله عنه، وقال: إنه حكى مذهب الغير" (ر. الشرح الكبير: 8/ 205). (1) ر. مختصر الطحاوي: 323، البدائع: 3/ 83.

فصل 7878 - إذا زوج الرجل أمته، لم يلزمه تسليمها إلا في الليل وحده، لكنه يستخدمها في النهار، فلو أراد عكس ذلك، لم يكن له؛ لأنه خلاف المعتاد، والليل وقت الاستراحة، وهو عماد القَسْم (1)، ويلزم الحرةَ تسليمُ نفسها إلى زوجها ليلاً ونهاراً، وإن ملكت منافع بدنها، كما ملك السيد منافع الأمة، لكن نكاح الأمة مقتطع عن نكاح الحرائر، ولهذا يملك الزوج أن يسافر بالحرة حيث شاء، ولا يملك زوج الأمة أن يسافر بها، ويملك سيّدها أن يسافر بها، وإن فوت حق الاستمتاع على زوجها. ولو قال السيد لزوج الأمة: أتخذ لك بيتاً في داري؛ تكون معك فيه، فقولان: أحدهما - لا يلزمه قبوله؛ لأنه قد يتعذر عليه دخول دار السيد، ويمنعه من ذلك الحياء والمروءة. والثاني - يلزمه؛ لأنه لا يلزم السيد رفع يده عنها، وفي إخراجها من بيته رفع يده عنها. فإن سلمها إلى الزوج ليلاً ونهاراً، وجبت عليه نفقتها، وإن سلمها في الليل دون اللهار، فوجهان: أحدهما - لا تستحق نفقة؛ لأنها مشروطة بتمام التمكين، ولم يوجد. والثاني - تستحق نصفها؛ لأنها مكنت في أحد الزمانين. وكان شيخه يقول: "تستحق جميع النفقة؛ لأن التمكين المستحق عليها هو هذا؛ لأنه زمانه المتعارف. ولو كان تسلمها في النهار مستحقاً، لزم الوفاء به كالليل". أما الحرة إذا سلمت نفسها في الليل دون النهار، ففيها وجهان كالأمة. [قيل] (2): وفي الأمة إذا كانت تحسن صنعة تعملها في بيت الزوج (3)، وجب

_ (1) أي القَسْم بين الزوجات. (2) في الأصل: "قلت" وهو غير صحيح من ناحية، ولا تستقيم العبارة معه من ناحية أخرى، أما أنه غير صحيح، فهذا قولٌ في المسألة معروف قبل ابن أبي عصرون، حكاه الغزالي وغيره من الأئمة. وأما أنه لا تستقيم العبارة معه، فكيف يقول عن قول نفسه: "وهو ضعيف؛ لأنه قد يحتاج إلى خدمتها ... "؟ وقد عرفنا من الغزالي في (البسيط) أن صاحب هذا القول هو: أبو إسحاق المروزي. كما سنورده في التعليق الآتي بعد هذا. (3) صورة المسألة أن تكون الأمة صاحبة حرفة كالنسيج مثلاً، ويمكن أن تحسن هذه الحرفة في =

تسليمها ليلاً ونهاراً، وهو ضعيف؛ لأنه (1) قد يحتاج إلى خدمتها في غير الصنعة (2). وإذا سافر السيد بالأمة المزوجة، سقط جميع نفقتها، وإن كان السفر جائزاً. ولو أراد الزوج أن يسافر معها جاز. فصل 7879 - إذا زُوِّج العبد حرة، وضمن سيده مهرها، أو قلنا: يصير ضامناً له شرعاً، فلو اشترت الحرة زوجها [بالصداق] (3)، انفسخ النكاح، لأنه لا يتصور أن يكون زوجها مملوكها؛ لأن الزوجية والملك يتنافيان. وهل تكون الفرقة من جهة سيد الزوج، أو من الزوجة؟ فيه قولان: أحدهما - من جهة السيد؛ لأنه هو الموجب (4) والقبول يبتني عليه، والثاني - يضاف إليها؛ لأنها هي المالكة، وكذلك لو وهبه منها. وفائدة القولين أنا إذا أضفنا سبب الفراق إلى البائع، فلو وجد ذلك قبل الدخول، فنصف الصداق (5)، كما في الطلاق، وإن وجد بعد الدخول، لم يسقط منه شيء. ولو قلنا: يضاف إليها، وكان قبل الدخول، سقط جميع المهر (6)، كما لو

_ = بيت زوجها، فتنتقل إلى بيته ليلاً ونهاراً، وتؤدي واجبها في حرفتها، وثمرة الحرفة إلى السيد، فلا ينقص من حقه شيء، بوجودها في بيت الزوج ليلاً ونهاراً. (1) "لأنه قد يحتاج إلى خدمتها في غير الصنعة" المراد السيد. (2) وعبارة الغزالي في هذه المسألة: "وإن كانت محترفة ممكنة من الاحتراف في يد الزوج ... فالظاهر أنه لا يجب التسليم في مدة العمل. وقال أبو إسحاق المروزي: يجب جمعاً بين الحقين، وله غرض في مواساتها، والنظر إليها" ا. هـ (ر. البسيط: 4/ 30 يمين) مخطوطة مصورة بمكتبتنا. (3) زيادة اقتضاها السياق، كما سيتضح من ذكره للصورة المقابلة، وهي الشراء بثمن غير الصداق. (4) المراد الإيجاب والقبول في شراء زوجها من سيده. (5) أي: فنصف الصداق هو المستحق، ولكن في العبارة ما يشبه التضمين إشارة إلى قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. (6) قال الرافعي: "وهذا أصح القولين؛ لأن الفرقة حصلت بالزوجة والسيد، لا اختيار للزوج =

ارتدت، أو فسخت النكاح بعيب ونحوه. وكذلك إذا اشترت الحرة زوجها بثمنٍ غير الصداق قبل الدخول (1). وإذا تزوج العبد بإذن سيده، وضمن السيد المهر المسمى، فإن تزوج أمة، فاشترى مولاها زوجَها، فالنكاح دائم، كما لو زوج أمته من عبده، فلو اشتراه بالمهر، سقط المهر؛ لوقوعه عوضاً وملكاً لمن كان له رقبة العبد، ولو اشتراه بألف في الذمة، وكان المهر ألفاً في الذمة، فلكل واحد من السيدين ألف في ذمة الآخر، ويجري فيهما أقوال التقاصّ. وإن كانت زوجة العبد حرة، فاشترته بغير الصداق، صح الشراء، وملكت العبد وانفسخ النكاح، وسقوط المهر أو تنصيفه على ما فصلناه. فإن رأينا سقوط مهرها بنسبة التملك إليها، لزمها ثمن العبد بكماله، وإن قلنا بالتشطر، فاشترته بألف، وكان المهر ألفين، سقط ألف بالفرقة، وكان الألف الثاني في مقابلة الثمن، إن جرى التقاص. [من مسائل الدور الحكمي] (2) 7880 - إذا اشترت الحرة زوجها بالصداق، وكانت مفوِّضة قبل الدخول، وفرعنا على الأصح في سقوط جميع المهر، فلو ملكته بهبة أو اشترته بغير الصداق، فقد قال الشافعي: لا يصح الشراء؛ لأن في تصحيحه إفسادَه؛ لأنه لو صح الشراء، ترتب عليه الملك، وانفساخ النكاح، وإذا انفسخ النكاح، سقط المهر بكماله، وهو الثمن، وإذا عري البيع عن الثمن يفسد، وهذا هو الدور الحكمي. وإن قلنا: إن الفسخ مضاف إلى البائع، سقط نصف المهر، ولم يتجرد البيع عن

_ = فيها؛ ولأن الزوجة هي المتملكة، والملك هو الذي ينافي الزوجية ويقطعها" ا. هـ فالمعنى أن الفرقة حصلت من جهة الزوجة. وبسبب شرائها، فيسقط جميع المهر، كما لو ارتدت. (ر. الشرح الكبير: 8/ 207). (1) أي عليها أن تردّ المهر كاملاً، وتدفع ثمن الزوج أيضاً. (2) العنوان من عمل المحقق.

جميع الثمن، بل عن نصفه، ونصفُه بمثابة إذا زوج الرجل أمته عبد غيره، فقبض جميع مهرها، ثم أعتق الأمة مالكها في مرض موته قبل الدخول بها، وقيمتها مقدار الثلث عَتَقت، ولا خيار لها برق زوجها؛ لأنها لو فسخت، ارتد المهر وصار ديناً على السيد، وينقص الثلث، لتقديم الدين على الوصية والميراث، ولأنه يُردّ العتق في بعضها؛ فلا يثبت الخيار لها، ففي إثبات الخيار إبطال الخيار. وكذا لو لم يقبض المهر، وكان محسوباً من التركة، فإنما يكون ثلث التركة مع المهر، وكذلك لو قبض المهر، ولم تستهلكه، فلو ثبت الخيار في هذه الصورة، واسترد المهر، لنقص الثلث لا محالة؛ وبطل العتق في بعضها؛ فيبطل الخيار. * إذا مات رجل وخلف عبدين وأخاً في ظاهر الأمر، فأعتق الأخ العبدين، وعُدِّلا، فشهدا أن فلانة كانت زوجة الميت، وأتت منه بولد لمدة الإمكان، فإن كان الولد ذكراً، لم يرث، وثبتت الزوجية والإرث لها، ويثبت نسب الابن ولا يرث؛ لأن توريثه يحجب الأخ، ويُبطل العتق، وإذا بطل، لم تثبت الشهادة (1)، ولا الزوجية، ولا النسب. ولو كان الولد (2) أنثى وقلنا: إن عتق النصف يسري عاجلاً، وكان الأخ المعتق موسراً، ترتب على هذا أن البنت ترث؛ لأنها لا تحجب الأخ، وبقي بعضُ العبدين ملكاً له، فإذا نفذ العتق في بعضهما سرى (3). وإن كان الأخ معسراً، لم ترث البنت لأن في توريثها ردّ بعض العتق، وكذلك الزوجة لا ترث في هذه الصورة، ويعايا (4) بها فيقال: ولدٌ للميت لو كان ذكراً، لم يرث، وإن كان أنثى، ورثت.

_ (1) "لم تثبت الشهادة" لأن العبيد ليسوا من أهلها. (2) المراد الولد المشهود بأن الزوجة أتت به. (3) "سرى"؛ لأنه موسر، والموسر إذا أعتق حصته في عبد، سرى العتق إلى باقيه، وقوّم عليه لحساب شركائه. (4) أي يُلغز بها.

* إذا أوصى لرجلٍ بابنه (1)، ثم مات الموصي، ومات الموصى له قبل القبول، وخلَّف أخاه، فقبل الأخ الوصية، صح قبوله وعتق الابن (2)، ولا يرثه، لأنه لو ورثه

_ (1) صورة المسألة أن يملك عبداً، وقبل أن يموت يوصي بهذا العبد لأبيه (أب العبد)، ثم يموت الموصى له بعد موت الموصي وقبل القبول، ويخلِّف أخاه وارثاً له، فيرث حق القبول للوصية؛ فإذا قبل الوصية، عتق العبد الموصى به للقرابة، ولكنه لا يرث أباه؛ لأنه لو ورثه لحجب الأخ (أخ الأب)، وإذا حجب الأخ، لم يصح قبوله الوصية، وإذا لم تقبل الوصية، يظل (الابن) رقيقاً، وإذا ظل رقيقاً، لا يحجب الأخ (أخ الأب) وتدور المسألة. (على القول بانتقال الملك في الموصى به إلى الموصى له بموت الموصي) [كما سنوضح في التعليق الآتي بعد هذا] وانظر هناك أيضاًً في نهاية التعليق احتمال التصحيف، وأن الوصية (بأبيه) لا بابنه. (2) "وعتق الابن" لأنه دخل في ملك أبيه بموت الموصي، على القول بأن الوصية تدخل في ملك الموصى له بموت الموصي. وهناك قولان آخران: أحدهما - يوقف ملك الموصى له، حتى إذا قبله الموصى له، دخل في ملكه بالقبول. والثاني - يوقف حتى إذا قبل، تبينا أنه دخل في ملكه بموت الموصي. فهذه أقوال ثلاثة في وقت انتقال ملك الموصى به: 1 - ينتقل إلى ذمة الموصى له بموت الموصي. 2 - يوقف على القبول، فإن قبل، تبينا أنه دخل في ملك الموصى له بموت الموصي. 3 - يوقف على القبول، فإن قبل، دخل في ملكه بالقبول. وعلى قولي الوقف يكون الملك قبل القبول للميت أم للوارث؟ وجهان: أصحهما - أنه يكون للوارث. * وإنما أطلنا بذلك لنؤكد أن المسألة لا تصح مثالاً للدور إلا على القول الأول في وقت انتقال ملك الموصى به إلى الموصى له، أما على القولين الأخيرين، فلا يعتِق (الابن) على من قَبِل الوصية؛ لأنه ابن أخيه؛ فلا يعتِق عليه عندنا؛ "فإن عتق القرابة عند الشافعية، يختص بقرابة البعضية، يعني الأصولَ والفروعَ، من الأجداد والجدات، والأولاد وأولاد الأولاد، ولا يعتِق غيرُ الأبعاض مع الأصول والفروع عندنا، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ رحمهما الله-: يعتق كلُّ ذي رحم محرم بالملك، كالأخ، وابن الأخ، والعم والخال." انتهى ملخصاً من الشرح الكبير: 13/ 342، 343). * وقد رأيت المسألة في (البسيط) للغزالي: "أوصى لرجلٍ بأبيه" وحينئذ تصح المسألة مثالاً للدَّور، على أي وقتٍ قدرناه لامتلاك الموصى به؛ لأنّ قابل الوصية سيملك (أباه)، وهو يعتق عليه عند جميع الأئمة. * هذا والمسألة في وسيط الغزالي، ووجيزه، وفي الشرح الكبير، وفي الروضة، "أوصى لرجلٍ (بابنه) " فهل ما في (البسيط) هو الصواب، وما عداه تحريف وتصحيف =

لحجب الأخ، وإذا خرج الأخ عن كونه وارثاً، لم يصح قبوله، فلا يصح العتق. ولو خلف الموصى له ابناً، وقبل الوصية، ففي ميراث الابن قولان ذُكرا في الوصية، من قال: لا يرث، قال: لأن القابل ليس جميع الورثة، ومن قال: يرث، قال: لأن القابل كان عند القبول مستغرقاً، ولم يخرج عن الورثة، وهو ضعيف والصحيح أنه لا يرث، ومن ورّثه فرّع على [أن] (1) الملك يحصل بموت الموصي، أو بناءً على الوقف (2)، لما قدمناه. فإن قلنا: إنما يحصل الملك وقت القبول، لم يرث أصلاً؛ لأنه لم يعتق في حياة الموصى له، وإنما يرث من كان حراً حالة موت الموروث. * من اشترى أباه، أو ابنه في مرض موته، فإن وفى به الثلث، عتق عليه، ولا يرث من عتق عليه؛ لأن عتقه وقع وصية (3)، ولا تصح الوصية لوارث (4)، فسقط الإرث. وإذا وُهب للمريض من يعتق عليه، فقبل الهبة، فلو نفذنا العتق، ففيه وجهان: فإن قلنا: العتق من الثلث، فلا ميراث، وإن قلنا: من رأس المال، ورث؛ لأنه لا يجمع بين الإرث والوصية. 7881 - ومن كان له دين على عبد غيره، أو أرش جناية، فملك رقبة العبد، ففي سقوط دينه وجهان: أحدهما - يسقط، كما يمنع الملك ابتداءه (5)، والمهر ثابت في ذمة العبد (6)، وهو في مرتبة الأصيل، وإذا برىء الأصيل، برىء الكفيل (7)، لأنه فرعه.

_ = توارد عليه النساخ؟ لا سيما أن الفرق بين اللفظين (بابنه) و (بأبيه) مجرد النفط لا غير؟ الله أعلم. (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) "الوقف" أي وقف الملك انتظاراً لقبول الموصى له أو ردّه، كما شرحناه في التعليق قَبْل السابق. (3) لأن شراءه من يعتق عليه يعتبر تبرعاً، والتبرع في مرض الموت محسوب من الثلث وصية. (4) فكأنه أوصى له برقبته. (5) "ابتداءه": أي ابتداء الدين. (6) أي يعتبر ديناً. (7) "الكفيل": المراد السيد؛ فهو ضامن لمؤن نكاح العبد بسبب إذنه.

والحرة إذا اشترت زوجها بغير المهر، أو ملكته بسبب غيره (1)، فهل يسقط المهر عنه، فإن قلنا: لا يسقط الدين عنه، فإذا اشترت الحرة زوجها بعد المسيس بمهرها، صح الشراء ولا دور، وإن قلنا: يسقط الدين، قال الفقهاء: تدور المسألة على هذا، ولا يصح الشراء؛ لأنه لو صح، أسقط المهر بملكه؛ لأنه يُسقط الثمن، فيسقط الملك، فيُفضي إلى الدور، وقال القفال: كنت أفتي وأحكي أن البيع يصح بناء على أن المهر لا يسقط، فرأيت في المنام أني سئلت عنها، فأجبت بأن البيع يفسد لسقوط الثمن بطريان الملك، والسيد البائع ضامن، وإذا برىء الأصيل برىء الكفيل، ثم انتبهت، فوجدت في المسألة وجهين مبنيين على العلتين (2). فصل 7882 - إذا قال لأمته أنت حرة على زق خمر، فلا تعتِق ما لم تقبل الخمر، فإن قبلتها، عَتَقت بالقبول، ويرجع إلى قيمة الرقبة؛ لأنه لا سبيل إلى الوفاء بما التزمته. ولا تلتزم العقود في الذمة، وإذا التزمت، لم يجب الوفاء بها.

_ (1) كالهبة مثلاً. (2) أورد الغزالي في البسيط قصة القفال هذه بصورة أكثر تفصيلاً، حيث قال: "قال القفال: كان حفظي عن أصحابي أنه يصح العقد؛ بنا على أن المهر لا يسقط، ثم رأيت في المنام أني سئلت عنها، فقلت: لا يصح. وعلّلت بسقوط المهر، وبنيته على أصلين للشافعي رحمه الله: أحدهما - لا يسثحق المالك على عبده ديناً، والثاني - أنه إذا لم يستحق برىء عن المهر بشرائها إياه، وهو الأصل. ومهما برىء الأصيل، برىء الكفيل، وهو السيد؛ فيؤدي إلى ارتداد العوض. ثم انتبهت، فتصفحت الكتاب، فوجدته على وجهين مبنيين على أن من اشترى عبداً له دين في ذمته بجناية أو غيرها، فهل يسقط الدين بالملك الطارىء، كما يمتنع بالملك المقارن، فعلى وجهين" ا. هـ. (ر. البسيط: 4/ 21 شمال) مخطوطة مصورة بمكتبتنا. قلت: (مهما) في كلام الغزالي بمعنى (إذا): أي إذا برىء الأصيل، برىء الكفيل. وأيضاًً صورة المسألة في دين العبد: أن يجني حرٌّ -رجل أو امرأة- على عبد غيره، فيستحق العبد بسبب هذه الجناية مالاً على الجاني، يستقر ديناً في ذمته، فإذا اشتراه الجاني، وصار سيداً له، فهل يسقط دين العبد؟ بمعنى: هل يمنع الملك الطارىء الدين، كما يمنعه الملك المقارن؟

وإذا قال السيد لأمته: أعتقتك على أن تنكحيني، لم تعتِق بمجرد هذا القول، فإذا قبلت ما أراده، عَتَقَت، ولا يلزمها الوفاء به لما قدمته. ولا يصلح ما التزمته عوضاً، فهو عوض فاسد؛ فرجع إلى القيمة، فإن تزوجت به، فهو عقد مبتدأ، لا يقع عوضاً عن العتق، فإن أصدقها غير ما عليها من القيمة، ثبت الصداق، وله عليها قيمة رقبتها، وقد يقع فيه التقاصّ، ولو أصدقها القيمة التي عليها عالمين بقدرها، صح الصداق وبرئت عما عليها، وإن كانا جاهلين بها، أو أحدهما، ففي صحة الصداق وجهان: أصحهما - أنه لا يصح؛ للجهالة، والثاني - يصح؛ لأنه أضاف القيمة إلى رقبتها، والقصد براءتها منها، لا استيفاؤها، فكأنه أصدقها رقبتها، أو عبداً يجهلان قيمته، وهذا لا يصح (1)؛ لأن القصد القيمة وهي مجهولة، بخلاف رقبتها والعبد، فإنهما معلومان. ولو أتلفت امرأة عبداً على رجل، فتزوّجها على قيمة العبد الذي أتلفته، فالصداق فاسد، ومهر المثل واجب، وتسمية العبد في إضافة القيمة إليه مع جهالتها لا تُغني. ولو طُرد فيها الوجهان، فهو قياس، لكن الصحيح ما قدمناه. ولو قالت الأمة: أعتقني على أن أتزوجك، فقال: أعتقتك، عَتَقَت، ولزمتها القيمة، كما تقدم، قال صاحب التقريب: إذا خاف ألا تفي، فقال: إن قدر الله بيننا نكاحاً، فأنت حرة قبله بيوم، فمضى يوم أو أكثر، فرضيت وتزوجها، صح النكاح، وتعتن وقوع العتق مقدماً عليه، وإن أبت، بقيت رقيقة. وقيل: لا تصح هذه الحيلة؛ فإنه إثبات نكاح على الوقف، والنكاح لا يوقف على الصحيح، وقيل: يخرج على أن من تزوج جارية أبيه، ثم تبين أن أباه كان قد مات قبل تزوجه، وكانت مملوكة له، ولم يشعر، ففيها هذان القولان، وهذا نوع من الوقف، واختار شيخه صحة النكاح؛ لتبين وقوعه في حال الحرية، بخلاف من تزوج جارية أبيه؛ فإنه نكحها على غير بصيرة؛ فإن الأصل بقاء أبيه. ولو قالت حرة لعبدها: أعتقتك على أن تتزوج بي، أو على أن أنكحك،

_ (1) "وهذا لا يصح" إشارة إلى القول الثاني بتصحيح العقد مع جهل القيمة.

فالجمهور على أن العتق ينفذ بمجرد قولها، ولا يتوقف على قبول العبد؛ لأنها لم تشترط عليه شيئاًً يقوم به، بل وعدته خيراً، فهو كما لو قالت: أعتقتك على أن أُعطيك ألفاً، بخلاف قول السيد: أعتقتك على أن تتزوجي بي؛ فإنه قول يقصد به المال، بخلاف نكاحه؛ فإنه وإن كان مقصوداً لها، إلا أنه ليس مما يُقوّم لها، وقيل: لا ينفذ العتق فيما لم يقبل العبد، فإن قبل، لزمه قيمة رقبته؛ فإن المرأة تقصد الرجل، وقد تبذل خزائنها في الوصول إليه، وإن كان ذلك لا يتقوّم شرعاً، فهو مقصود بالمال عرفاً. ولا حاصل له؛ فإن الرجل لو قال لامرأته: طلقتك على ألا تحتجبي عني أبداً، فإنّ هذا لا يعدّ عوضاً، وإن كان مقصوداً لبعض الناس. ***

باب اجتماع الولاة وتفرقهم

باب (1) اجتماع الولاة وتفرقهم 7883 - قال الشافعي: "ولا ولاية مع الأب ... إلى آخره" (2). الغرض من هذا [الباب] (3) ترتيب الأولياء، وبيان منازلهم، وتقديم الأَوْلى منهم. والوجهُ أن نذكر المراتب الكلية، ثم نذكر ترتيب الأشخاص في كل مرتبة، فنستثني الملك والتزويجَ به، ونقول بعده: الوِلاية تناط بالنسب، والوَلاء، والوِلايةِ العامة. وأهلُ النسب مقدمون على أهل الولاء، والولاية. ثم مستحقو الولاء، ثم بعدهم الوالي. فأمّا أهل النسب، فلا شك أنهم لا يلي منهم أحد [إلا] (4) العصبات، ثم ترتيب الأولياء في التزويج، كترتيب عصبات النسب في الميراث، إلا في ثلاثة أشياء: أحدها - أن أوْلى العصبات الابن، ولا يتصور أن يكون مع الابن عصبة، ولا ولاية للابن في التزويج عندنا أصلاً، ولا يملك أحدٌ التزويج بسبب آخر؛ فإن القاضي يزوّج أمَّهُ بولاية القضاء، وللابن أن يزوّج [أمَّه] (5) بالولاء، إذا كان يستحق ولاءها. والجملة أنّ البنوة لا تفيد الولاية، ولا تنافي الولاية بسبب آخر من الأسباب.

_ (1) إلى هنا انتهى السقط الذي بدأ من أول كتاب النكاح. وسيبدأ هذا القسم معتمداً على نسخة وحيدة هي نسخة (ت 2). وسيلحق بها (ت 3). والكتاب مائل للطبع جاءنا هذا الجزء من (صفوة المذهب)، فاتخذناه نصّاً مساعداً. والله المستعان. (2) ر. المختصر: 3/ 263. (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: إلى. (5) في الأصل: ابنة.

والمعنى الذي نضبط به المذهب حدّاً أن الابن ليس منتسباً إليها، ولا هي منتسبة إليه، فانتسابها إلى أبيها، وانتساب ابنها إلى أبيه، وليس الابن أيضاً منتسباً إلى [أصل] (1) نسبها. فهذا مما فارق ترتيبُ الأولياء فيه ترتيبَ عصبات النسب [في الميراث] (2). والثاني - أن الأخ من الأب والأم، أو من الأب يزاحم الجدَّ في الميراث، كما تقدم البابُ المشهور فيه. والجد مقدّمٌ في التزويج على الأخ؛ فإنه عند (3) عدم الأب يُنزّل منزلة الأب، وتثبت له الولاية الحقيقية؛ وهي الإجبار، ولا يثبت ذلك للإخوة. والثالث - أنّ الأخ من الأب [والأم يقدّم على الأخ لأبٍ في الميراث] (4). واختلف قول الشافعي في أن المرأة إذا كان لها أخ من أب وأم، وأخ من أب، كيف سبيلها في الولاية؟ [الأول] (5) - لا يتقدم الذي هو مُدلٍ بقرابة [الأب] (6) والأم على الذي هو مُدْلٍ بقرابة الأب على التمحُّض. والقول الثاني - أن الأخ من الأب والأم أولى (7). توجيه القولين: من رأى تقديمَ الأخ من الأب والأم، قاس الولاية على الميراث، ومن قال: إنهما يستويان، احتج بأنهما استويا في الإدلاء [بمن استفادة] (8) الولاية

_ (1) في الأصل: أهل. والمثبت تقدير منا. (2) زيادة من المحقق. (3) عبارة الأصل: فإنه عذر عند عدم الأب ... (4) زيادة من عندنا، لا يتم الكلام إلا بها، ولا يكون إلا كذلك. (5) زيادة من عمل المحقق، لاستقامة الكلام. (6) ساقطة من الأصل. (7) وهذا هو الأظهر (ر. قليوبي وعميرة: 3/ 224)، وجعلهما النووي قديماً وجديداً، فقال: "أظهرهما وهو الجديد: يقدم الأخ من الأب والأم، والقديم يستويان" (ر. الروضة: 7/ 59). (8) في الأصل: فمن استفاد.

منه؛ فإنّ قرابة الأم لا تفيد الولاية، وهما مستويان في قرابة الأب، وقرابة الأم تفيد الميراث على الجملة. ومن نَصر القول الأول؛ أجاب بأن قرابة الأم لا تفيد العصوبة، والأخُ من الأب والأم إنما يحجبُ الأخ من الأب بطريق العصوبة. وقد ينقدح في هذا جواب، وما ذكرناه الآن كافٍ. 7884 - ثم يتصل ببيان ما نحن فيه أمور: منها - أنه لو اجتمع في المسألة ابنا عم، أحدهما أخٌ لأم، فلا يتقدم ابنُ العم الذي هو أخ من الأم على الذي ليس أخاً، ولكن للذي هو أخ من الأم السدس بالأخوّة، والباقي بينهما بالعصوبة. هذا حكم الميراث. فأما حكم الوِلاية؛ فإذا رأينا تقديم الأخ من الأب [والأم] (1) فلو اجتمع ابنا عم، أحدهما أخ لأم، فالذي ذكره شيخي -وهو مذكور في بعض التصانيف- أن الذي هو أخ لأم مقدَّم (2)؛ فإن الأخوَّة من الأم لا تناسب الولاية أصلاً، وليس فيها إلا أنه مزيد قرابة، وهذا المعنى متحقق في أخوة الأم في ابن العم، وإن كانت لا تناسب قرابة العمومة. وكان يقول: إذا كان للمرأة ابنا ابن عم: أحدهما ابنُها، فيخرّجُ هذا الخلافُ أيضاًً، وإنْ كانت البنوة لا تفيد الولاية أيضاً (3). وقال ابن الحداد: إنْ كان للمرأة ابنا معتِق، وأحدهما ابنُها، فهو أولى بتزويجها، فرجَّح بالبنوّة في مرتبة الولاء، ولم أر هذا (4) لغير شيخي. وفيما ذكره ابن الحداد ما يوافقه. وذكر بعضر المصنفين هذا على هذا الوجه. ولست أرى الأمرَ كذلك؛ فإن من يقدِّم الأخ من الأبِ والأم؛ فمعتمده تقدُّمُه

_ (1) زيادة من المحقق. (2) وهو الراجح. (ر. قليوبي وعميرة: 3/ 224). (3) أيضاً: أي كالأخوّة لأم. (4) هذا. إشارة إلى تخريج الخلاف في ابني ابن العم إذا كان أحدهما ابنها.

[على] (1) الأخ من الأب بالعصُوبة وإن كان أُخوّة الأم لا تؤثّر في العصوبة؛ فالوجه (2) أن نخصص هذا بما يؤثّر في العصوبة لا غير، وأخوّة الأم في ابن العم لا تفيده قوةً في العصوبة أصلاً. [وأبعدُ] (3) من ذلك البنوّة؛ فإنه لا وقع لها أصلاً. والذي ذكره ابن الحداد مأخوذٌ عليه عندي؛ فإن الولاء جنسٌ آخر مخالف النسب؛ فترجيح من يزوّج بالولاء بالبنوة في نهاية البعد، فالوجه إجراء [القولين] (4) في أخوين أحدهما من الأب، والثاني من الأب والأم. ثم نجري هذا في ابنيهما، كما ذكرناه في بني الإخوة. 7885 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن المزني اختار أن الأخ للأب والأم أولى بالصلاة على أخيه من الأخ للأب، واحتج في ذلك بالميراث، وبالصلاة على الميت؛ فإن الأخ من الأب والأم أولى بالصلاة على أخيه من الأخ من الأب. وقد ذكر الأئمة في عصبات المعتِق أنه إذا كان للمرأة أخو المعتق من الأب والأم وأخوه من الأب، فكيف السبيل فيه؟ قالوا: في الميراث بينهما خلافٌ: من أئمتنا من سوى بينهما؛ فإن الميراث بالولاء يتعلق بمحض العصوبة، والأصح تقديم الأخ من الأب والأم في المواريث بالولاء أيضاًً. ثم أمرُ التزويج يترتب على هذا، فمن أئمتنا من قطع باستوائهما في ولاية التزويج، ومنهم من أجرى القولين، وسبب هذا الاختلاف، التردد الذي ذكرناه في الميراث. وما احتج به المزني من الصلاة على الميت؛ فالمذهب القطع فيه بالسَمليم،

_ (1) زيادة من المحقق. (2) هذا غير معتمد في المذهب، بل نصّ النووي على مخالفة الإمام فيه حيث قال: "ولو كانا ابنا عم أحدهما أخوها من الأم، أو ابنا ابن عم أحدهما ابنها، فقال الإمام: "هما سواء". وطرد الجمهور القولين، وقالوا: الجديد: يقدم الأخ والابن" (ر. الروضة: 7/ 59). هذا وقد تعقب ابن أبي عصرون الإمامَ فقال في (صفوة الذهب): "لا وجه لردّ الإمام على شيخه، وعلى ابن الحداد، وقوله: إن قرابة الأم أفادت قوةً في التعصيب لا يصح ... إلخ". (3) في الأصل: "وانعمد" والمثبت من صفوة المذهب. (4) في الأصل: القول.

والفرق أن مزيد القرب يورث مزيد رقّة وتحنّن وشفقة، وذلك قد يؤثّر في صدق النية في الدعاء. وكذلك الوصية للأقرب يظهر فيها اعتبار قوة القرابة. وقد ذكر بعض أئمّة المذهب أن من أصحابنا من أجرى في الصلاة والوصية أيضاًً قولين، كما ذكرناه في ولاية التزويج، ولولا أني رأيت هذا لمعتمَدِين، لما أوردته مع ظهور الفرق بين الصلاة والوصيَّة، وبين الولاية. فهذا مجموع ما أردنا أن نذكره فيما تفارق فيه عصباتُ النسب في الميراث عصباتِ الولاية. 7886 - وإذا أردنا تجديد العهد بترتيبهم؛ قلنا: الأبُ أولى في الولاية. ثم الجد أبو الأب أولى من غيره. ثم الأخ، وقد قدّمنا القولين في أخوين؛ أحدهما من أب وأم، والثاني من أب، وأجرينا ذلك في ابني الأخوين. ثم الأعمام، والترتيب فيهم كالترتيب في الإخوة. ثم كذلك بنو الأعمام، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم. وهذا على الترتيب المذكور في العصبات. هذا بيان ترتيب الأشخاص في مرتبة أهل النسب. 7887 - فإذا لم تكن للمرأة عصبةُ نسب من الذين ذكرناهم واعتبرناهم؛ فالنظر بعد ذلك في الولاء. ونحن نذكر مستحقي الولاء أولاً، وحُكمَهم في التزويج، ثم نذكر عصباتِ أصحاب الولاء. فأما مستحقو الولاء، فالمعتِق يلي تزويج معتَقته إذا لم تكن لها عصبةُ نسب من الذين ذكرناهم. ولو أعتقت المرأةُ جاريةً -ولا شك أن المعتِقة لا تزوج نفسها- ولكن قال الأصحاب: يُزوِّج مُعتَقَتَها من يزوجها. معناه: أن أولياءَ المعتِقة أولياءُ المعتَقة. وهذا سديد؛ فإنهم عصبات المعتِق، وسنصفهم. ثم قالوا: يزوج وليُّ المعتِقةِ المعتَقةَ ولا حاجة إلى إذن المعتِقة؛ فإنه لا احتكام

لها على [معتَقتها] (1)، ولا حاجة إلى إذنها، وهي ليست وليّة في العقد. هذا ما ذهب إليه الجمهور (2). وليس ذلك كتزويج مملوكة المرأة، فإن وليَّ المالكة يزوجها بإذن المالكة، ولا حاجة إلى إذن المملوكة؛ فإن الحكم في المملوكة للمالكة. ورأيت لبعض الأصحاب في المجموع الكبير للشيخ أبي علي، وهو في بعض التصانيفِ أيضاًً: أنه لا بد من مراجعة المعتِقة أيضاًً؛ فإنها مستحِقةٌ للولاء، وعصباتها إنما يزوّجون المعتَقَة لإدلائهم بالمعتِقة. وهذا متَجِهٌ لا بأس به. ثم إن روجعت المعتِقة، فأذنت، فلا كلام، وإن أبت، كانت عاضلةً حينئذٍ، وقياس هذا الوجه يقتضي أن تراجِع السلطان. ثم التزويج إلى السلطان، أم إلى عصبة المعتِقة، والسلطانُ يأذن؟ الوجه القطع بأن السلطان يأذن، والعصبات يزوّجون. فليتأمل الناظر ذلك. ومما يتعلق بما نحن فيه أنه إذا أعتق الأمةَ طائفةٌ من الشركاء؛ فلا سبيل لأحدهم للانفراد بالتزويج؛ فإنهم - وإن [تعدّدوا] (3) بمثابة معتِقٍ واحد. فهذا ما اتفق عليه علماؤنا، وليسوا كإخوةِ امرأةٍ؛ فإن كل واحد منهم أخ على الكمال، وحالُه ومعه أمثالُه كحاله لو انفرد، وليس كذلك المشتركون في الإعتاق؛ فإن الولاء حقٌّ يثبت لهم على قدر أملاكهم. ثم إن رضوا وكلوا وكيلاً، أوْ (4) وكلوا واحداً منهم. فإن عضَلوا، زوّجها السلطان، وإن امتنع بعضهم، فهو كما لو امتنع جميعهم، فالسلطان يزوّج المعتَقة. ولو أعتق الجاريةَ رجلٌ واحد، ومات، وخلّف ابنين، ثبت لكل واحد منهم حقُّ التزويج، ولا يكون الولاء مشتركاً بينهما؛ فإن الولاء لا يورث، [ولكن يورث به، ولسنا لتفصيل ذلك الآن، بل إلى كتاب الولاء، إن شاء الله، ولكن إن عرضت

_ (1) في الأصل: "معتقها". (2) وهو ما استقر عليه المذهب. (ر. قليوبي وعميرة: 3/ 225). (3) في الأصل: بعدوا. (4) في الأصل: ووكلوا.

مسألة] (1) أوضحناها. ونكتفي الآن بمسألةٍ واحدة، وهي حكمنا بأن الولاء للكبير (2). وبيان ذلك؛ أن من أعتق مملوكاً ومات، ثم خلّف ابنين، ثم مات أحد ابنيه، وخلّف ابناً، ثم مات المعتَق وخلّف ميراثاً، فهو لابن المعتِق، وليس لابن ابنه منه شيء. ولو كان الولاء موروثاً، لكان لما مات أحد ابني المعتِق، رجعت (3) حصته إلى ابنه، ثم كان يقتضي ذلك أن يُصرف قِسطٌ من الميراث إليه، فوضح أن الولاء لا يورث؛ وموجَبُ ذلك أن ابني المعتِق بمثابة أخوين؛ فيتصور أن ينفرد كل واحد منهما بالتزويج. وهذا واضح [لا يحتاج] (4) إلى مزيد كشفٍ فيه. ولو أعتق الجارية شريكان، ثم ماتا، وخلف كلُّ واحد منهما ابناً، فهما بمثابة المعتِقَين في الحياة. ولو خلف أحدهما ابنين، والثاني ابناً واحداً؛ فكل واحد من ابني أحدهما ينزّل منزلة المعتِق للنصف، لما ذكرناه من أنهما لا يرثان الولاء، بل يرثان به، وهذا بيّن. وقد نجز ما أردناه في المعتِق، وما اتصل الكلام به في الأطراف. 7888 - ونحن نبتدىء الآن الكلامَ في عصبات المعتِق، ونستعين بالله تعالى، فنقول: ترتيب عصبات المعتِق كترتيب عصبات النسب، إلا في مسائلَ نستثنيها: أحدها - أن ابن المرأة لا يليها، وابن المعتِقة يلي تزويج المعتَقة؛ وذلك لأن ابنَ المرأة لا ينتسب إليها، وابنُ المعتِقة [تنتسب] (5) إليه.

_ (1) عبارة الأصل: "فإن الولاء لا يورث، بل إلى كتاب الولاء - إن شاء الله أوضحناها ونكتفي الآن" وواضح أن بها سقطاً واضطراباً، فأقامها المحقق على ضوء السياق. والحمد لله صدّقتنا (صفوة المذهب). (2) الكبير: المراد به الكبير في الدرجة والقرب، وليس في السن، وهو معنى ما روي عن عثمان رضي الله عنه: "إن الولاء للكُبر" بضم الكاف. (ر. الروضة: 12/ 175). (3) رجعت: المعنى الواضح: انتقلت. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: تتسبب.

والثاني - أن جدّ المرأة أولى من أخيها، فإذا اجتمع جدُّ المعتِق، وأخوه من الأب والأم، أو الأب؛ ففي المسألة قولان: أحدهما: أنهما يستويان، لاستوائهما في الدرجة والقرب، هذا يقول أنا أبو أب المعتِق، وهذا يقول أنا ابن أب المعتِق. والقول الثاني - أن الأخ أولى (1)؛ فإنه يُدلي إلى أب المعتق بطريق البنوة، والجد يدلي إلى أب المعتِق بطريق الأبوة، والبنوة أقوى في العصوبة من الأبوة، وليس جدّ المعتِق أصلاً للمعتَقَة التي تُزوَّج، حتى يجعل أولى بالقيام بولاية الفرع ممن يقع فرعاً في نسبها، وإذا كان كذلك؛ فالوجه تقديم من هو أقوى في جهة العصوبة. ولو اجتمع جدّ المعتِق وابن أخيه؛ فيجري قولان فيهما على وجه واحد، وهما مأخوذان من المعنَيين اللذَيْن جرى القولان عليهما في الجد والأخ: فمن راعى الدرجةَ في الجد والأخ، وقضى باستوائهما، يقدّم الجدّ على ابن الأخ، [ومن يقدم الأخ، يقدم ابنه] (2)، فإنه [ينظر] (3) للقوة، ولا يلتفت إلى قرب الدرجة وبُعدها. ومما يتعلق ببيان ذلك؛ أن من أعتق جارية، وكان للمعْتِق أبٌ وابنٌ، فلا شك أن واحداً منهما لا يلي تزويج المعتَقة في حياة المعتِق؛ فإن المعتِق هو الوليّ، وليس لأبيه ولا لابنه ولاء في حياته، وإذا مات، وخلف المعتَقَةَ وخلّف أباه وابنه، فالابن [هو] (4) الذي يزوّج المعتَقَة دون الأب؛ لأن الابن هو العصبة، والأب مع الابن صاحب فرض، وليسَ لأصحاب الفرض استحقاقٌ بالولاء، ولو ماتت المعتَقة، لم يرثها [إلا ابن] (5) المعتِق. 7889 - ولو أعتقت امرأةٌ جاريةً، ولها أبٌ وابن؛ فالذي ذكره شيخي وجماعةٌ [من] (6) الأئمة أن الأب يزوج المعتَقة في حياة المعتِقة، [أما بعد موتها] (7) فقد ظهر

_ (1) وهو الأظهر. (ر. روضة الطالبين: 7/ 60). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: الابن. (6) زيادة من المحقق. (7) ساقط من الأصل.

اختلاف أصحابنا، فذهب المحققون إلى أن تزويج العتيقة يثبت بعد موت المعتِقة لابن المعتِقة؛ فإنه الوارث بالولاء؛ فيجب أن يثبت حق التصرف بالولاء له، وليس للأب حق في الولاء مع الابن، وليس هذا كحالة الحياة؛ فإن الأب والابن استويا في أنهما لا حق لهما في الولاء ما دامت المعتِقة حية، ولكن الأب لما كان وليَّ المعتِقة، ملك تزويج عتيقها، وقد انقطعت ولاية الأب عن المعتِقَة بموتها، ولم يتجدد له حق في الولاء (1). ومن أصحابنا من قال: ولاية تزويج العتيقة كانت ثابتة للأب في حياة المعتِقة؛ فتدوم تلك الولاية على ما كانت، وتبقى مستصحَبةَّ. وهذا الوجه على اشتهاره ضعيف، ووجهه على ضعفه؛ أن الابن لو زوج لم يكن تزويجه باستحقاقه الولاء؛ فإنا ذكرنا أن الولاء لا يورَث، وإنما يورث به، من جهة العصبات، والعصبات ينتمون إلى مستحِق الولاء، وإذا كان الابن يزوّج عتيقة أمه لو انفرد، بسبب أنه ابن صاحبة الولاء، فاستصحاب الولاية التي كانت في حياتها أقربُ من إثبات الولاية بالانتساب إلى مستحقةِ الولاء. فهذا ما ذكره الأصحاب. وذكر الشيخ أبو علي أن المعتِقة لو كانت حيّة، ولها أب وابن فمن يزوّج العتيقة؟ فعلى وجهين؛ أحدهما - أنه يزوجها أب المعتِقة؛ فإنه وليها، فكان إليه تزويج عتيقها. والوجه الثاني - أنه إنما يزوج العتيقة في حياة المعتقة ابنها. وهذا غريب جداً؛ فإنه لا استحقاق له في حياة المعتِقة، وليس إليه تزويج المعتِقة، حتى يزوج العتيق تبعاً لتزويج المعتِقة. وهذا واضح. ولكن وجهه -على بعده- أنا إذا كنا نذكر وجهاً في أن [الأب] (2) هو المزوِّج بعد موت المعتِقة، مع العلم بأنه لا استحقاق له في الولاء بعد موت المعتِقة؛ فلا يبعد أن يقال: الابن يزوج العتيقة في حياة المعتِقة، وإن لم يكن له استحقاق في الولاء.

_ (1) وهذا هو المعتمد فعلاً في المذهب (ر. الروضة: 7/ 61). (2) في الأصل: المعتق. (وهو تحريف مضلِّل، كم أرهقنا حتى اجترأنا على تغييره). والحمد لله أيدتنا صفوة المذهب.

والطريقة ضعيفة في وضعها لما قدّمنا ذكره. والمذهب المعتد به ما ذكره الأصحاب. هذا ما أردناه، وقد بان به القول في عصبات المعتِق (1). 7890 - فإن مات المعتِق، ولم يكن له عصبةُ نسب، وكان لمعتِقه معتِقٌ؛ فولاية التزويج إلى معتِق المعتِق، [ثم إلى عصبة معتِق المعتِق] (2)، فإن كان قد مات معتِق المعتِق، فإن لم يخلف معتق المعتِق عصبة، لا من جهة النسب ولا من جهة الولاء؛ فلا شك أن ميراث المعتَقة لبيت المال. فقال (3): [فالولاء و] (4) حق التزويج للمسلمين، والنائب عنهم الوالي، وهذا مستغنىً عنه، مع أن السلطان ولي من لا ولي له. ولو قيل: تزويج السلطان معلل بعلتين: إحداهما - أنه نائب المسلمين، فحق الولاء راجع إليهم، والسلطان نائبهم، والعلة الثانية: الولاية العامة. [فللقول في هذا مجال] (5)، وهو قليل الفائدة. وهو غرض الفصل. وقد انتجز القول في ترتيب الأولياء في جهة الولاء. وقد رسمنا في مبتدأ الفصل ثلاث مراتب، وأوضحنا أن مرتبة النسب مقدمة، وتليها مرتبة الولاء، ثم في كل مرتبة ترتيبٌ لأشخاص تلك الجهة، وقد تقدم بيان ذلك. فإن لم نجد نسيباً ولا منتمياً إلى ولاء، فولاية التزويج إلى السلطان. وقد مضى تفصيل القول فيه. فرع: 7891 - إذا كان بين رجلين جاريةٌ مشتركة، فأعتق أحدهما نصيبه، وكان معسراً، فلم يسْر عتقُه، وبقي نصفُها رقيقاً، فمن يزوجها؟ وما التفصيل؟

_ (1) لم يذكر إمامنا المسألة الثالثة المستثناة من تشابه عصبات النسب وعصبات الولاء، وهي كما ذكرها النووي: "إذا اجتمع أخو المعتق لأبويه، وأخوه لأبيه، فالمذهب القطع بتقديم الأخ للأبوين، وقيل بطرد القولين كالنسب، وقيل: يستويان قطعاً" ا. هـ (ر. الروضة: 7/ 60 - 61). (2) في الأصل: فإنه عصبة المعتق. (3) فقال: القائل هو الشيخ أبو علي، الذي بدأ النقل عنه قُبيل هذا. (4) في الأصل مكان ما بين المعقفين: للأزواج. ولعل ما أثبتناه يكون لفظ المؤلف. (5) في الأصل: "فالقول في هذا محال". وعسى أن يكون تصرفنا هذا هو مراد المؤلف.

نُقدم على ذلك تجديدَ العهد بالقول في الميراث، ومذهبُنا أن من نصفُه حر لا يرث. وهل يُورَث؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يورَث ويُستَحق بالإرث ما خلص له على مقابلة الحرية. والثاني - لا يرثه قرابته. فإن قلنا: يرثه قرابته، فلا كلام. وإن قلنا: لا ترثه؛ ففي مصرف ما خلفه وجهان: أحدهما - أنه يُصرف إلى [مالك] (1) الرق في نصفه؛ فانه أقرب الناس إليه. والثاني - أنه يُصرف إلى بيت المال. وقد فصّلنا هذا في كتاب الفرائض. فإذا تجدد ذكر هذا، عُدنا بعده إلى المقصود. 7892 - فإذا أردنا تزويج جارية نصفُها رقيق ونصفها حر، فلا يخلو: إما أن تكون لها عصبة من القرابة تصلح لولاية النكاح، أو لا يكون لها عصبة، فإن كان لها عصبة، فالمذهب أنه يزوجها عصبتها مع مالك [الباقي] (2)، وتزويجهم أولى من تزويج مالك الولاء (3)؛ فإن النسب متقدم على مستحق الولاء. ومن أصحابنا من قال: ليس [للنّسيب] (4) ولايةٌ أصْلاً؛ فإن النسب لا يتبعض، فإذا لم يسلط على التزويج بالنصف (5) الرقيق، فقد بطل أثره؛ فعلى هذا يكون التزويج إلى صاحب الولاء [ومالك الرق] (6)؛ فإنه كما لا يمتنع التبعيض في الملك لا يمتنع التبعيض في حق الولاء، وإنما المستبعد التبعيض في حكم النسب. وهذا ساقط لا أصل له، مع مصيرنا إلى [أن] (7) أهل النسب يرثونه في نصفه الحر

_ (1) في الأصل: بالغ. (2) في الأصل: الولاء. وهو خطأ يبين صوابه ما بعده من الكلام. (3) أي مالك ولاء النصف المعتَق. (4) في الأصل: النسب. (5) بالنصف الرقيق: الباء بمعنى (في). (6) عبارة الأصل مضطربة هكذا: "يكون التزويج إلى صاحب الولاء، وقال ملك الرق الرق؛ فإنه كما لا يمتنع ... إلى آخره". وعبارة ابن أبي عصرون بهذا المعنى نفسه. فإنه قال: "يزوجها المعتِق والشريك". (7) زيادة من المحقق.

بسبب النسب، فإذا لم يبعد إفادة النسب الإرث، لم يبعد إفادته الولاية. وما ذكرناه تفريع على أن ما خلَّفه يستحقه أهل نسبه. فأما إذا فرّعنا على أن أهل النسب لا يرثونه، فلا يثبت لهم ولاية التزويج؛ قال الشيخ أبو علي: يزوجها في ظاهر المذهب مالك الرق ومستحق الولاء، ولا ينظر إلى الميراث. قال: وقد ذكر بعض أصحابنا في أصل المسألة وجهاً آخر: أن هذه الجارية لا تُزوَّج أصلاً لعسر الأمر فيها. وهذا قولٌ سيأتي في موضعه في "المستولدة لا تزوّج". وهذا الوجه بعيد. 7893 - وفي المسألة بقية نظر: وسبيل الكشف أنا إن أثبتنا الميراثَ لأهل النسب؛ فظاهر المذهب أنه يزوّجها عصبة النسب والمالك، وفيه وجهٌ بعيد؛ أن عصبة النسب لا تزوِّج. فعلى هذا؛ هل يزوِّج المولى (1) مع المالك؟ الظاهر أنهما يزوجانها، وإن كان صاحب الولاء [لا] (2) يرث مع عصبات النسب. ومن أصحابنا من قال: يزوجها المالك والسلطان، ويُخرج المعتِقَ كما أخرج أهلَ النسب، من جهة أن صاحب الولاء محجوب في الميراث بأهل النسب. فيبعد أن يزوِّج. نعم، يجوز أن يقال: إذا تعذر التزويج من المتعلقين بالأسباب الخاصة، فالسلطان يزوج. وذكر بعض الأصحاب أنها لا تزوج. وهذا إذا ورّثنا أهل النسب. فإن لم نُورّث أهلَ النسب، لم نورث صاحب الولاء أيضاًً؛ فينقدح في هذا المقام ثلاثة أوجه: [الأول] (3) - أن القاضي والمالك يزوِّجان، وهذا متجه في هذا المقام.

_ (1) المولى: أي مولى العتاقة، صاحب الولاء. (2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (3) زيادة اقتضاها السياق.

والثاني - أن التزويج إلى المالك وصاحب الولاء، وكأن صاحب الولاء مالك؛ فإن الولاء تبعُ الملكِ والحالّ محله إذا زال الملك، غير أنه لا إجبارَ به. وهذا ضعيف. والوجه الثالث - أنها لا تزوج أصلاً. والصحيح (1) من جميع ما ذكرناه أنا إن ورثنا، فالتزويج للمالك [ولعصبة] (2) النسب، وإن لم نورّث، فالتزويج للمالك والقاضي. هذا تحرير ما قيل في هذه المسألة. فرع: 7894 - إذا أعتق المريض أمةً في مرض موته، لا مال له سواها؛ قال ابن الحداد: ليس لأوليائها الأحرار تزويجُها. فإذا كان للمعتَقة أخ حر، فزوجها الأخ [الحر] (3) على الوجه الذي ذكرناه، لم نحكم بصحة النكاح. واعتل بأن أمرها في عتقها موقوف، فربما لا تَعتِق كلها -وهذا هو ظاهر الحال- وربما تَعتِق كلها؛ بأن [يصح من مرضه] (4)، أو يستفيدَ من المال ما يُخرج هذه عن ثُلثه. وإذا كان الأمر على التردد؛ فالنكاح على الوقف مردود عند الشافعي. هذا كلام ابن الحداد. واختلف أصحابنا في المسألة: فذهب بعضهم إلى أنا لا نحكم بصحة النكاح، كما قاله ابن الحداد. ومنهم من قال: نحكم بالصحة في الحال، ونقضي بتسليط الزوج عليها؛ فإنا نراعي في تصرفات المريض الحال، ولا ننظر إلى ما يكون في المآل، والدليل عليه أنه لو وهب جميع ماله لإنسان، فالذي قبضه الموهوب له، نقضي فيه بملكه، ولو تصرف فيه تصرف الملاّك، لحكمنا بنفوذه في الحال، ولم نمنعه من الإقدام على تصرفه، وإن كنا قد نُتبع بعضَ التصرفات بالنقض في [المآل] (5) إذا مات الواهب ولم

_ (1) الأمر كما قال الإمام، فقد جعل النووي هذا الوجه الأصحّ من وجوهٍ خمسة ذكرها (ر. الروضة: 7/ 62). (2) في الأصل: للعصبة. (3) في الأصل: المريض. (ولا معنى لوصف الأخ بالمرض هنا). (4) في الأصل: بأن من يصح فرضه. (5) في الأصل: الثاني.

يف ثلثه، وكذلك إذا مات المعتق في مسألة ابن الحداد، وأوجب [المآل] (1) فساد النكاح، بأن [بان] (2) لنا فساده إسناداً. وهذا لا يمنع من الحكم بالتسليط في الحال على الظاهر. وهو كما لو عقد النكاح بشهادة مستورَيْن، فالزوج يتسلط في الحال على الاستمتاع، وإن كنا نقول: لو بان من بعدُ فسقُهما حالة العقد، لكنا نحكم بفساد النكاح تبيُّناً. قال الشيخ أبو علي: من وافق ابنَ الحداد فيما قاله: وهو أنا لا ننفذ النكاح في الحال لتردده - فيحتمل على [قياسه] (3) طردُ ذلك في هبة المريض؛ حتى يقال: لو [وَهبَ] (4) هذه الجارية التي فرضنا إعتاقها وسلَّمها، لا ينفذ التصرف من المتهب القابض، إذا كان التصرف لا يقبل الوقف، ولا يحل له الإقدام على وطئها لتردد الأمر، ولا يحتمل قياسه إلا هذا. يحققه: أن من جملة ما يفرض من تصرفاته؛ أن يزوجها إذا قبضها بحكم الملك، ولا فرق بين أن يزوجها المتّهب بحكم الملك، وبين أن يزوجها أخوها إذا أعتقت بحكم الولاية. هذا ما ذكره الشيخ على قياس ابن الحداد. ولم يُبعد أن يكون ذلك مذهباً له. ولو سلّم ابنُ الحداد الحكم بنفوذ تصرفات المتهب في الحال، لم يجد فرقاً بين ما يسلمه وبين النكاح الذي منعه. وإن طرد الخلاف في هذه المسائل -وهو الظن به- فلا شك أن مذهبه يقع مخالفاً لنص الشافعي. التفريع: 7895 - إن حكمنا بصحة النكاح في صورة ابن الحداد، فهو حكم على الظاهر، وحقيقة الأمر موقوفة على ما سيبين في ثاني الحال، فإن بان نفوذ العتق، بأن يصح هذا المريض، أو بأن يستفيد مالاً يفي ثُلثُه بقيمة الجارية، ويموت على هذه الحالة، فنتحقق نفوذَ النكاح على الصحة. وإن مات على ما عهدناه حالة الإعتاق،

_ (1) في الأصل: الحال. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: قياس. (4) الأصل: ذهبت.

بقي النظر في إجازة الوارث وردّه، فإن رد الوارث العتق الزائد على الثلث، عَتَقَ ثلثها. وتبين فساد النكاح على الشبهة، ثم لا يخفى تفصيل ذلك. وإن أجاز الوارث، خرجت الإجازة على قولين؛ في أن الإجازة من الورثة ابتداء تبرع منهم أم تنفيذ للوصية؟ فإن حكمنا بأنه ابتداءُ تبرع، فالنكاح مجرىً على الفساد؛ فإن العتق كان متبعضاً حالة النكاح. وإنما أنشأ الوارث الإتمامَ من بعدُ، وإن حكمنا بأن الإجازة تنفيذ، فيبين صحة النكاح. وهذا القائل يجب أن يقول: إذا ثبت نفوذ العتق؛ بأن يصح المعتِق، فالحكم في النكاح على الصحة تنجيزاً وتبيّناً؛ فإنا تبينا الحكم صحة النكاح ظاهراً حال حياته، فإذا صح من مرضه، فقد اطرد ما بنينا صحةَ العقد عليه. فأما إذا كان نفوذ العتق بسبب استفادة مال زائد، ثم تمادى المرض إلى الموت، أو كان سبب النفوذ إجازة الوارث، وقد جرى أمر جديدٌ سوى ما بنينا عليه نفوذ النكاح؛ فيحتمل أن يلتحق هذا بما لو زوج الإنسانُ جارية أبيه في غيبة أبيه، ثم تبين أن الأب كان ميتاً حالة التزويج، ويحتمل أن نحكم بالصحة في مسألة المريض في صورة استفادة المال [و] (1) في التفريع على أن إجازة الوارث تنفيذ؛ فإن ما يتجدد فهو موافق لما تقتضيه الحياة من تنفيذ التصرفات. وهذا بيّن. وفيما مهدناه من تصوير وجوه الوقف في كتاب البيع ما يقرر هذا. وإن فرعنا على مذهب ابن الحداد؛ فلو أعتق المريض الجارية، وفي يده مال يفي ثلثُه بقيمة المعتَقة حالة الإعتاق، وجرى تزويج الأخ على هذه الحال، ثم طرأت آفةٌ قللت ماله، وردّت ثلثه إلى مبلغٍ ما يفي بقيمة الجارية؛ ففي قياس ابن الحداد تردّدٌ في هذه الصورة: يجوز أن يقال: النكاح محمول على الصحة في الحال بناءً على كثرة المال، ويجوز أن يقال: لا يحمل النكاح على الصحة لنقصان تصرف المريض، والأموال عرضة الآفات. فهذا مجموع القول فيما فزعه ابن الحداد. 7896 - وقد ذكر الشيخ أبو علي في أثناء الشرح تفريعاً على وجه ابن الحداد - شيئاً،

_ (1) الواو زيادة لاستقامة العبارة، فهما صورتان: استفادة مال وإجازة ورثة.

فقال: فحوى كلام ابن الحدّاد يدل على أن السيد لو أعتقها -كما صورنا، فزوجها بنفسه- نفذ ذلك منه؛ فإنها إن [رقّت] (1)، فهو سيدها، وإن عَتَقَتْ، فله ولاؤها. كذا قال الشيخ. وهذا مشكل؛ فإنا لو قدرنا نفوذ العتق، فالمعتِق لا يملك التزويج بالولاء إذا كان للمعتَقة أخ من أهل الولاية؛ فإن الأخ أولى بتزويج الحرة من المولى. ولعل الشيخ أبا علي إنما قال ما قال؛ من جهة أن التصرف الذي يصدر من المريض فهو محمول على النفوذ في نفسه، وإنما التوقف في تصرف غيره إذا بني على تصرفه. وهذا ليس بشيء؛ فإنا إذا حكمنا بنفوذ عتقه [على] (2) ألاّ تنكح مع الأب (3)، فهذا التفريع إذاً مردود. وقد انتهى الكلام في ترتيب الولاة وتزويجهم بحكم الولاية، وسيأتي تفصيل القول في تزويج الملاّك لإمائهم. فصل قال: "فإن زوّجها أحدهم دون أسنّهم وأفضلهم كفئاً، جاز ... إلى آخره" (4). 7897 - لما ذكر الشافعي ترتيب الولاة والمنازل التي يترتبون فيها، صوّر بعدها اجتماع الولاة في درجة واحدة. فإن كان للمرأة إخوةٌ أولياء لا ترتب فيهم، فطلبت المرأة التزويج؛ فإن امتنع الأولياء عن التزويج وعضلوا، فالسلطان يزوجها. ويتفرع في هذه الحالة أنهم لو تطابقوا على العضل، انتسبوا إلى المعصية، كما أوضحنا ذلك في صدر الكتاب.

_ (1) في الأصل: وفت. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) أي ينفذ عتقها من السيد المريض لكن لا يزوّجها وليّها النسيب الأبُ أو غيره. (4) ر. المختصر: 3/ 264.

وإن دعت واحداً من أوليائها إلى التزويج، وكان من الممكن أن يزوجها غيرُ هذا المدعو؛ فهل لهذا المدعوّ أن يمتنع، ويكل التزويج إلى أصحابه؟ فيه اختلاف؛ ينبني على أن الجماعة إذا تحملوا شهادة، فدعا صاحب الحق اثنين منهم إلى إقامة الشهادة، فهل يتعين عليهما أن يقيما ما تحملاه؟ فيه اختلاف مشهور، وسيأتي ذكره في كتاب الشهادة، إن شاء الله عز وجل. هذا إذا امتنعوا. 7898 - فأما إذا تنازعوا في التزويج، فكان يطلب كل واحد منهم أن يكون هو المزوج، نظر: فإن خصصت المرأة واحداً منهم بالإذن والتفويض، فهو المزوج لا غير؛ فإن الأولياء في حقها بمثابة الأجانب في حق من يريد أن يوكل واحداً منهم بالتصرف، وستزداد [المسألة] (1) وضوحاً في فصول الوكالة من بعدُ، إن شاء الله عز وجل. وإن أذنت لجميع الأولياء، ولم تخصص بإذنها واحداً منهم، فإذا تنازعوا -كما صورنا- فإن كان فيهم من هو أسن وأفضل؛ فالأولى للأولياء أن يسلموا ذلك إلى أسنهم وأفضلهم. وهذا استحباب لا تنتهي مخالفته إلى حد الكراهة؛ من جهة أن تعاطي [التزويج] (2) حق لكل واحد من الأولياء، ولا ينتهي نَدْبُنا الإنسانَ إلى ترك حظه إلى حدّ الكراهة. فإن استمروا على النزاع، فالأولى أن يقرع بينهم، ويفوض التزويج إلى من خرجت له القرعة. فلو خرجت القرعة لواحدٍ، فابتدر [غيرُه] (3) وزوج، نفذ التزويج، إذا كانت المرأة مستمرة على الإذن للجميع، كما صورنا. والذي أراه الآن أيضاًً أن تزويج المبتدِر لا ينتهي إلى حد الكراهية؛ لما حقَّقتُه، إلا

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: الزوج. (3) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (راجع المسألة في الشرح الكبير: 8/ 3 - 4، والروضة: 7/ 87 - 88).

أن يكون الإقراع من سلطان، فيتجه أن نقول حينئذ: [استباق] (1) السلطان مكروه. والقول في ذلك محتمل. وفي بعض التصانيف أنه إذا زوّج من لم تخرج له القرعة، لم ينفذ تزويجه (2). وهذا بعيد غير معتد به. ولست أدري أن هذا القائل يخصص هذا الوجه البعيدَ بقُرعة ينشئها السلطان، أو يطرده في القرعة التي ينشئها الأولياء من غير ارتفاع إلى مجلس الحكم؟ 7899 - ثم إنما ينفذ التزويج ممن يزوج إذا كان زوّجها من كفئها. فأما إن زوجها بإذنها بمن لا يكافئها، ولم يرض سائر الأولياء؛ فللذين لم يرضَوْا حقُّ الاعتراض على عقده. ثم اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأن النكاح لا ينعقد إذا لم يكن صدَرُه (3) عن إذن كافة الأولياء؛ فإنا لو حكمنا بانعقاده، لكان مخالفاً لموجب الشرع؛ فإن التزويج من غير الكفء يُلحق عاراً بالنسب وأهله، وهذا لو صح، لكان متضمناً تنجيزَ ضرارٍ لا يزول، بأن نثبت للباقين حق الفسخ؛ فإن العار اللاحق لا ينغسل بتقدير الفسخ؛ إذ في تقدير نفوذ النكاح تسليط الزوج عليها. وهذا مما نقمناه من مذهب أبي حنيفة لمّا قال: إذا زوجت المرأة نفسها من لا يكافئها، فالنكاح ينعقد، والزوج يتسلط، وللأولياء حق الاعتراض. هذه طريقة. ومن أصحابنا من قال: في انعقاد النكاح قولان: أحدهما - الانعقاد؛ فإن العاقد من أهل العقد، وقد أذنت المرأة، فينزل هذا منزلة ما لو اشترى الرجل شقصاً مشفوعاً وقبضه، ثم باعه، فبيعه نافذ، وإن كان للشفيع أن ينقضه.

_ (1) في الأصل: كلمة مطموسة، تقرأ على استكراه (استصواب). (2) عبارة النووي في هذه المسألة: "فإن بادر غيره، فزوجها، صح على الأصح، وقيل لا يصح"، فلم يحكم على هذا الوجه (بالبعد وعدم الاعتداد) كما فعل إمامنا (ر. الروضة: 7/ 87). (3) صَدَرُه: أي صدوره. وهذه إحدى خصائص استعمال الإمام لهذا المصدر ونحوه، يأتي به على وزن (فَعَل) بفتح الفاء والعين.

والثاني - أنه لا ينعقد. وقد سبق توجيهه. وقطع الشيخ أبو حامد بالانعقاد. فاجتمعت ثلاث طرق. وسبب التردد -أخذاً من النص- أن الشافعي قال: إذا زوجها أحدهم ممن لا يكافئها، فالنكاح مفسوخ، ففهم الأصحاب من الفسخ رفع نكاح منعقد. فصل قال: "وليس نكاح غير الكفء بمحرّم فأردّه ... إلى آخره" (1). 7900 - منع تزويج غير الكفء من حق المرأة والأولياء، فإذا رضيت المرأة بمن لا يكافئها، وأبى الأولياء، امتنع حصول مرادها؛ فإنّ رضاها بمن لا يكافئها يعيّر النسب، وإذا تعيّر ضرر أهل النسب بما يلحق النسب من عار [وشنار] (2). فكان لهم حق دفع العار. وقد قال الشافعي: "إن للولي في بضع المرأة شركاً" وأراد بذلك ما ذكرناه، ولم يرد أنهم يستحقون منها أمراً، فإذا رضي الأولياء ورضيت المرأة وهي من أهل الرضا بأن تزوَّج ممن ليس كفئاً لها، نفذ التزويج. والحق لا يعدوهم. ولا تعبّد في الشرع بعد رضاهم بإسقاط حقوقهم. وقد خالف في هذا الشيعة. وتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بناته من عثمان وعلي وأبي العاص بن الربيع -وما كان أحد كفئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم- دليلٌ عليهم. قال الشافعي: كيف يكافىء علي فاطمةَ وأبوه كافر وأبوها سيد البشر. فإن أشاروا أن أبا طالب كفءٌ لعبد الله، والد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قلنا: إن ارتقيتم إلى هذه المرتبة؛ فالناس أولاد آدم. وأمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس -وهي قرشية- بأن تنكح أسامة بن زيد. وزيد كان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهمّ عمرُ بأن يزوج ابنته من سلمان الفارسي، فشق ذلك على ابنه عبد الله،

_ (1) ر. المختصر: 3/ 264. (2) الشنار: الأمر المشهور بالشنعة والقبح، وصحفت في الأصل إلى (وشنان). (معجم).

وشكا إلى عمرو بن العاص. فقال عمرو: أنا أكفيك [ذلك] (1). فلما لقي سلمانَ، قال: هنيئاً لك، قد تواضع لك أمير المؤمنين! فقال سلمان: ألمثلي يقال هذا؟ والله لا أنكحها أبداً. ومما يتعلق بهذا الفصل؛ أن المرأة إذا لم يكن لها ولي خاص وكان يزوجها السلطان أو من يأمره السلطان؛ فإذا دعت المرأة إلى تزويجها ممن لا يكافئها؛ فالذي نقله الصيدلاني أن السلطان لا يُجيبها إلى ذلك؛ [فإنه] (2) يزوج ناظراً لعامّة المسلمين فلا يدعُ النظر لهم. وكان شيخي أبو محمد يقطع بأنه يزوّجها؛ [فإنه لا يرجع إلى عامة المسلمين عارٌ من تزويجها] (3)، والحق (4) لا يعدوها. فإن قيل: فلتزوج نفسها إذا لم يكن لها وليّ خاص، قلنا: هي مسلوبة العبارة ووليها السلطان، والدليل على بطلان هذا التعلق، أن وليها الخاص لو رضي بأن تزوج المرأة نفسها، لم يصح. والتحقيق في ذلك، أن سلب العبارة تعبُّدٌ [بالشرع] (5) وليس يستقيم فيه معنى ورعاية الكفاءة تتعلق بحقوقٍ تسقط بالإسقاط. 7901 - ثم قال الشافعي: "وليس نقص المهر نقصاً في النسب"، والمراد بذلك أن الحق في المهر للمرأة. فلو رضيت بأن تزوج ممن يكافئها بأقلَّ من مهر مثلها،

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: بأنه. (3) ما بين المعقفين تصرف من المحقق في عبارة الأصل التي كانت مضطربة هكذا: "فإنه يرجع إلى عامة المسلمين بغير من تزوجها والحق لا يعدوها". هذا وقد أعاننا على هذا عبارة الرافعي حاكياً قول أبي محمد، ونصها: "فلو كان الذي يلى أمرها السلطان، فهل له تزويجها من غير كفء إذا التمسته المرأة؟ فيه قولان، أو وجهان: أحدهما - نعم، كالولي بالولاء والنسب، وقطع بهذا الشيخ أبو محمد، وقال: لا يرجع إلى المسلمين منه عار" (ر. الشرح الكبير: 7/ 579). (4) والحق لا يعدوها: المراد حقها في الكفاءة. (5) في الأصل: الشرع.

فعلى الولي أن يسعفها إذا كانت من أهل الطلب. وأبو حنيفة أثبت للولي الاعتراض لأجل نقصان المهر. وكان يليق بهذا المنتهى الكلام في [الكفاءة] (1) ومعناها، ولكن المزني نقله بعد هذا، فلنلتزم الجريان على ترتيب (السواد) (2). فصل قال: "ولا ولاية لأحد وثَمَّ أولى منه ... إلى آخره" (3). 7902 - هذا الأصل يجمع بيانَ ما يُخرج الولي عن الولاية وذكْرَ ما لا يخرجه عنها، ولكن يقطع نظره، وينوب عنه السلطان، وذكْرَ ما لا يؤثّر أصلاً في قطع الولاية، ولا في إثبات نيابة السلطان. فأما ما يخرجه عن الولاية، فكالصغر، والجنون المطبِق، والسفه، ويلتحق به سقوط الرأي؛ إما [لغَميزةٍ] (4) في غريزة العقل يَحْمُق بها صاحبه، وإن كان ذا ضبطٍ في المال وصلاحٍ بالبدن، أو إذا بُلي الرجل بأسقام مزمنة وآلام، فقد يضعف رأيه بها ويتبلّد من العجز والضجر، ولا يتحمل فكراً في أمر. ومثل هذا لا يكون وليّاً. نص عليه الشافعي. ومما يُخرج عن الولاية اختلاف الدين إسلاماً وكفراً. وقطع أصحابنا بأن اليهودي مع النصرانية بمثابة المجتمعين في [كفر] (5) واحد، ولا يؤثر اختلاف أديان الكفار في الولايات، كما لا يؤثر في قطع الميراث. وهذه أصول متفق عليها.

_ (1) في الأصل: الكفارة. (2) السواد: كلمة بمعنى المتن أو الأصل، وهي من المفردات التي لم تحط بها المعاجم. والمراد بها هنا مختصر المزني. (وقد أشرنا إلى هذا مراراً). (3) ر. المختصر: 3/ 264 - 265. (4) الغميزة: ضعف في العمل، وجهلةٌ في العقل. (المعجم) هذا وقد صحفت الكلمة في الأصل إلى: تعميرُه. (5) في الأصل: كفء.

ونذكر على معارضتها السَّفر. ثم نُردِّد النظرَ في خصالٍ لا بد من النظر فيها. فنقول: 7903 - إذا سافر الولي القريب، فالسفروإن طال، لا يخرجه عن الولاية، وآية ذلك أن البعيد لا يلي التزويج في غيبة القريب، ولو كانت الغيبة تُخرج الغائب عن الولاية، لانتقلت الولاية إلى البعيد. ولو غاب الأب وزوّج في الغيبة (1) ابنته البكر، نفذ تزويجها، لأنه وليها. ويتصل بذلك أمر؛ وهو أن البكر إذا كانت بالغة، وقد غاب الأب -كما صورنا- وكان لا يبعد من الأب الغائب تزويجها، فإذا جاءت إلى السلطان تطلب التزويج، ولم [يُبعد] (2) السلطان أن يزوّجها، وهي مزوَّجة الأب، فكيف السبيل (3)؟ نبنيه على نص الشافعي وتردُّدِ الأصحاب فيه. قال الشافعي: "إذا جاءت المرأة إلى السلطان تبغي منه أن يزوجها، لم يزوجها السلطان، حتى يشهد شاهدان أنه ليس لها وليٌّ حاضر، وليست في زوجية ولا عدة" فاختلف أصحابنا في ذلك. فمنهم من قال: هذا احتياط من جهته على طريق الرأي والاستصواب، ولا يتحتم مراعاة ذلك، ومن أصحابنا من قال: يتحتم (4) مراعاة هذا. التوجيهُ: من أوجب ما ذكره الشافعي من الاحتياط، احتج بما تبتني [أحكام] (5) الأبضاع عليه من نظر الشرع واحتياطه، ومن أصدق الشواهد فيه توقف انعقاد النكاح على حضور شاهدين عدلين. والذي يعضد هذا من قاعدة الإيالة أن أمور السلطان

_ (1) وزوّج في الغيبة: أي زوّجها وهو غائب، وهي بعيدة عنه. (2) في الأصل: ينفذ. وهو تحريفٌ يبدو في مظهره هيناً، ولكنه أبهم المعنى وأرهقنا حتى هدينا إلى الصواب بفضل الله. (3) هذا متصلٌ بما قبله ومبني عليه كما هو واضح، فالمعنى إذا كان الولي الغائب له حق تزويج ابنته وهو غائب، فإذا جاءت للسلطان تطلب منه أن يزوّجها، فكيف السبيل مع احتمال أن يكون الأب قد زوجها في غيبته؟ (4) قال النووي: الأصح أن هذا الاستشهاد مستحب (ر. الروضة: 69). (5) زيادة من المحقق.

يجب أن تكون مرتبطة بالنظر، ولا يليق بمنصبه أن يبتدر إلى تزويج امرأة لا يدريها، ولا يحيط بحقيقة حالها. وأحق تصرف بالنظر تصرف السلطان. ومن قال: يجوز التعويل على قولها، بنى ذلك على رجوعنا في العقود إلى قول أصحابها. فإذا صادفنا شيئاً في يد [أمين] (1) ثم إنه باعه، لم يتعرض القاضي للبحث عن حقيقة ملكه. وهذا قد ينفصل عنه بما يختص البضع [به] (2) من الاحتياط، ويرد عليه تزويج صاحب اليد على الجارية. ومما يغمض وقعه في هذا المنتهى أنا إن أوجبنا على السلطان البحث، فالقول فيه يقرب مأخذه من احتياط السلطان في الإحاطة بأن لا وارث للميت سوى هذا الحاضر، ومن هذا القبيل حكمه بالإعسار. ثم يتعلق بهذا الفن أنه لا يشهد للمرأة الطالبة للتزويج إلا من يطلع على بواطن أمرها، كما ذكرناه في الشهادة على الإعسار، والشهادةِ على ألا وارث سوى من حضر، وفيه تفصيل ذلك. وإذا أحلنا حكماً على حكمٍ ولم نستبن فرقاً بينهما، فليُعتقد مساواة التفريع للتفريع، كما استوى الأصلان. وإن حكمنا بأن النظر [مستحبٌّ] (3)، فلو ابتدر السلطان، نفذ تزويجه، وكان مسيئاً. ويتجه على هذا (4) أن المرأة لو ألحّت وطلبت التزويج ناجزاً، وقالت: إجابتي ممكنة، والإجابةُ الممكنة واجبة، والتأخير احتياط يجوز تركه، ولا يجوز تأخير واجبٍ لاحتياطٍ يجوز تركه. وهذا لا ينتهي إليه كلام الفقهاء وهو من محض أحكام الإيالة.

_ (1) في الأصل: أمينا. (2) في الأصل: عنه. (3) في الأصل: مستحباً. (4) على هذا: أي على القول بالاستحباب. أما على القول بوجوب البحث والاحتياط، فلا يجيبها القاضي. صرح بذلك العز بن عبد السلام (ر. مختصر النهاية المعروف بالغاية في اختصار النهاية: ورقة 56).

وقد اختلف أرباب الأصول فيه، فذهب قدوتنا (1) في الأصول إلى أنها لو ألحّت كذلك أجيبت، وأقصى ما يتمكن منه السلطان أن [يستمهلها] (2)، فإن أبت أجابها. وذكر القاضي أبو بكر أن القاضي لا يجيبها إن رأى ذلك رأياً، ويقول: لا [يجب] (3) عليّ إجابتك ما لم [أحتط] (4). وهذا لا يتضح بهذا المقدار، ولعلنا نجمع كلاماً شافياً في أحكام الأئمّة والولاة، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) وقفت طويلاً لأعرف من الذي يُعنَى بقوله: "قدوتنا في الأصول" وذهبت بادي الرأي إلى أنه الباقلاني، ولكن ردّني قولُه الآتي: "وذكر القاضي أبو بكر" فهذه هي عبارته عن الباقلاني. فتوقفتُ إلى أن هداني الله إلى هذه المسألة منسوبة إلى إمام أهل السنة الشيخ أبي الحسن الأشعري، فهو الذي عناه إمام الحرمين بقوله: "قدوتنا في الأصول". فقد عرض التاج السبكي هذه المسألة في ثنايا ترجمة الأشعري تحت عنوان: ومن المسائل الفقهية عنه، فقال ما نصه: "قال الإمام إمام الحرمين في "باب اجتماع الولاة" من "النهاية" في المرأة تدّعي غيبة وليها، وتطلب من السلطان أن يزوجها وتلح في ذلك: اختلف أرباب الأصول في ذلك، فذهب قدوتنا في الأصول إلى أنها تجاب، وأقصى ما يمكن السلطان أن يستمهلها، فإن أبت أجابها. وذهب القاضي أبو بكر بن الباقلاني إلى أن القاضي لا يجيبها إن رأى التاخير رأياً، ويقول: لا تجب عليَّ إجابتك ما لم أحتط" ا. هـ. هكذا أورد التاج السبكي المسألة، فأفادنا بأن المقصود "بقدوتنا في الأصول" هو شيخ أهل السنة الأشعري، وأن القاضي أبا بكر هو الباقلاني. ثم استدرك السبكي على الإمام الرافعي، فقال: "وقد نقل الرافعي المسألة عن الإمام، وقال: فيها وجهان رواهما الإمام عن أهل الأصول. وأنت ترى عبارة الإمام، لم يفصح بذكر وجهين، وإنما حكى اختلاف الأصوليين، وأراد بقدوتنا في الأصول (الأشعري). ثم حكى التاج السبكي عن والده الشيخ تقي الدين ما ينبغي أن يقال تصويباً وتصحيحاً لكلام الرافعي فقال: "قال الشيخ الوالد رحمه الله: الذي ينبغي أن يقال: إن اجتهاد القاضي إن أداه إلى أن مصلحة المرأة تفوت بالتأخير، وجبت المبادرة، أو أن المصلحةَ التأخيرُ، تعيّن، وإن أشكل الحال أو استوى أو كان في مهلة النظر، فهذا موضع التردد، وينبغي ألا يبادر" (ر. طبقات السبكي: 3/ 359، والشرح الكبير: 7/ 562). (2) في الأصل يستميلها. (3) في الأصل: ويقول: لا أجب. (4) في الأصل: أحفظ.

7904 - عدنا إلى مقصودنا: إذا غاب الأب وخلّف ابنته البكر البالغة، ولم يبعد أنه في غيبته قد زوّجها، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه في [حكم احتياط السلطان واستشهاده على نفي الزوجية قبل تزويجه نائباً عن الوكيل الغائب] (1). وكل ذلك ينبني على اختلاف القول في أن الدعوى هل تسمع مطلقةً على النكاح، أم لا بد من تقييدها بذكر شرائط الصحة؟ وهذا سيأتي مشروحاً في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل. فإن قيل: أليس للسلطان أن يبيع مال الغائب إذا أشرف على الضياع مع جواز أنه (2) باعه بنفسه؟ قلنا: نحن وإن جوّزنا ذلك، فلا [أينخرم] (3) نظرُ القاضي، ويتصرف (4) على حكم المصلحة على كل مالكٍ يُفرض. فيجري هذا في ملك من نقدِّره مالكاً، وفي ملك من نقدِّره مشترياً منه. وهذا المعنى لا يتحقق في النكاح. ومما يتصل بتمام القول في ذلك أن الولي إذا غاب، وانقطعت الغيبة، وعسر البحث بأسباب توجب تفسيرها، فالظاهر أن المرأة تجاب والحالة هذه. ثم إن بان أمرٌ يتضمن فساد النكاح، جرينا على موجبه، ولم يخف طريق (5) التدارك. وهذا الذي ذكرناه إنما يظهر إذا كان الولي الغائب مُجبِراً (6)، فإن لم يكن مجبراً، فلا يتأتى تصوير انفراده بتزويجها (7). وإذا قالت: لم آذن له في تزويجي في الغيبة، صُدّقت. وإن أراد السلطان أن يحلّفها، فعل. وكلُّ تحليفٍ لا يتعلق بدعوى مدَّعٍ بل يرتبط باحتياط -يتعرض (8) له خلافٌ: أنه استحبابٌ أم استحقاقٌ؟ وقد تقدم لهذا

_ (1) عبارة الأصل: "على التردد الذي ذكرناه في استدعاء الزوجية على نفي الزوجية، وأبعده والولي الحاضر" هكذا! وهي كما ترى عبارة مضطربة. استبدلنا بها ما بين المعقفين. (2) أنه: أي الغائب. (3) في الأصل كلمة غير مقروءة. (4) في الأصل: ويتصرف معه على حكم المصلحة. (5) في الأصل: لم يخف عن طريق التدارك. (6) مُجبراً: بأن تكون طالبة التزويج بكراً. (7) "لا يتأتى تصوير انفراده بتزويجها" بأن تكون ثيباً يجب استئذانها. (8) في موضع خبر مبتدؤه: كلُّ تحليف، ثم هي في الأصل: فيتعرض.

نظائر، وتمام البيان في هذا يظهر في أثناء الفصل. وكل ما ذكرناه في الغيبة البعيدة، وهي عند أصحابنا الغيبة إلى مسافة القصر فصاعداً (1). 7905 - ولو طلق الرجل امرأته ثلاثاً، فعادت وزعمت أن عدتها قد انقضت، وأنها نكحت وأصيبت، وطُلّقت واعتدت، وكان صدقُها ممكناً؛ فللرجل أن يعوّل على قولها. ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إيجاب الاحتياط، وإنما ذلك التردد فيما يتعلق بالولي؛ فإن عماد أمره النظر، وسنذكر هذا الفصل الأخير مستقصىً في فروع النكاح إن شاء الله عز وجل. 7906 - وإن غاب الولي الأقرب غيبة تقصر عن مسافة القصر، فإن كانت على مسافة العَدْوى (2) -وهي مسافة يبتدىء الإنسان قطعها في [صبيحة] (3) يوم ويؤوب إلى منزله، فيرجع قبل أن يَجُنَّ الليل- فإن كانت المسافة على هذا الحد، لم يزوّجها السلطان، بل يراجعُ الوليَّ (4). وإن كانت المسافة فوق ذلك، ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يراجع الولي، فإن السفر قصير (5). والثاني - لا يراجعه؛ فإنا نُدبنا في الشرع إلى الابتدار إلى تزويج النساء من الأكفاء، وحقها واجب، وليس من حق الواجب أن يؤخر مع الطالب المستحِق. وعلى هذا الوجه اختلف أصحابنا في مثل هذا في سماع شهادة الفروع مع غيبة الأصول إلى ما فوق المسافة التي وصفناها دون مسافة القصر. وكذلك اختلفوا في الاستعداء على الخصم على مثل هذه المسافة، ولا مطمع في كشف أحكام الشهادة

_ (1) الذي اختاره النووي في مسألة الغيبة هو: أنه إذا غاب الولي الأقرب، فالأولى للقاضي أن يأذن للأبعد أن يزوّج، أو يستأذنه ليزوج القاضي (ر. الروضة: 7/ 70). (2) لمعرفة اشتقاق كلمة (العدوى) وأصلها راجع تهذيب الأسماء واللغات للنووي والمصباح. (3) في الأصل: صحة. (4) هذا ما اختاره النووي (ر. الروضة: 7/ 69). (5) هذا الوجه هو الأصح، قاله النووي (السابق نفسه).

والاستعداء هاهنا؛ فإن الكلام فيهما منتشرٌ، وسيأتي تفصيلهما في أدب القضاء والشهادات، إن شاء الله عز وجل. فهذا بيان ما أردناه في السفر. 7907 - وقد قدمنا ذكر المعاني التي تنافي أصلَ الولاية وفاقاً. فإذا اتصف بها الأقربون، وخرجوا عن منصب الولاية، فحكم خروجهم أن تثبت الولاية للبعيد، وكل ما لا ينافي أصل الولاية، ولكن يؤخر النظر، فهو معتبر بالسفر، ثم طول السفر يُثبت [للسلطان] (1) حقَّ النيابة في التزويج، وإن أردنا سمينا نيابته ولاية؛ من حيث إنها تثبت قهرية، كما تقدم شرح ذلك عند ذكرنا قواعد الولايات، ولا تنتقل الولاية إلى البعيد، فإنها ثابتة للغائب، والسلطان نائب عنه. وما لا يضاهي السفر الطويل ولا ينتهض مانعاً من النظر التام، فقد يكون كالسفر القصير، وفيه الخلاف والتفصيل الذي ذكرناه. وهذه الجملة توضحها مسائل، نذكرها ونخرجها عليها. 7908 - منها: أن الولي القريب إذا أغمي عليه، فإن كان غشيته من هَيْج المِرّة الصفراء، وكانت مدتها لا تدوم، فلا مبالاة بها، وستنجلي على قرب، ومن جملة ذلك الصَّرَع. وإن كان الإغماء بحيث يدوم يوماً ويومين، فقد اختلف أئمتنا؛ فذهب المحققون منهم إلى أنه لا ينافي أصل الولاية (2)؛ فإنه إلى زوال، أو إلى الإفضاء إلى الموت، وليس له أمدٌ يتمادى، بخلاف الجنون. وذهب بعض الأصحاب إلى أن هذا ينزل منزلة الجنون، وهذا بعيد لا وجه له إلا ما سنشير إليه -إن شاء الله تعالى- عند ذكر تقطع الجنون والإفاقة. فإن حكمنا بأن هذا الضرب من الإغماء ينافي الولاية، انتقلت الولاية إلى البعيد المستجمع للشرائط المرعية في الولاية.

_ (1) في الأصل: المسافر. (2) هذا الذي رجحه الإمام، قال عنه النووي: هو الأصح (ر. الروضة: 7/ 63).

وإن قلنا: إنه لا يزيل الولاية، فينبغي أن يُعتبر بطويل السفر وقصيره، فإن كانت مدته تبلغ مدة خروج من يخرج إلى الولي، لو قدّر غائباً في مسافة القصر ويعود على اعتياد واقتصاد في النهوض والعَوْد، فهذا على حد السفر الطويل، فلا يزوِّج البعيدُ، ويزوِّج القاضي، وإن كانت مدة الإغماء دون المدة التي ذكرناها في قطع مسافة القصر ذهاباً وإياباً، فالمعتبر فيه مسافة العدْوَى وما فوقها، ولا يخفى مع هذا التنبيه دَرْكُ محل الوفاق والخلاف (1). وقد يعترض في هذا النظرِ أن الرجوع في مدة الإغماء إلى من؟ وهذا الاعتبار قبل انقضاء المدة، فلا وجه إلا الرجوع إلى قول أهل الخبرة، وذلك يختلف عندهم بنوع الإغماء والشخص المُغْمى عليه، وإنما تطول المدد في إغماء المُبَرْسم؛ فإن سبب اختلال العقل ورمٌ في الدماغ، والعقلُ يبقى على خبله ما بقي الورم، وقد يتمادى اليومين والثلاثة، هذا حُكم الإغماء. 7909 - ومما يتصل بذلك الجنون إذا تقطّع، فكان الشخص يجن يوماً ويُفيق يوماً، أو كانت النوب أكثر من ذلك أو أقل، فشرح هذا يأتي في كتاب الجزية، إن شاء الله عز وجل، وفيه نجمع جملة ما ذكره الأصحاب في الطرق، ولكنا نذكر هاهنا ما فيه مقنع. اختلف أصحابنا في نوبة الجنون: فذهب ذاهبون إلى أن الولاية تزول فيها، وتنتقل إلى البعيد (2)، ومنهم من قال: إنها لا تؤثر في إزالة [الولاية] (3)؛ فإن الجنون الحقيقي هو الذي [يُطبق] (4) حتى لا يرجى زواله إلا على بُعد، فأما ما يطرأ ويزول على قرب أو على نُوَبٍ مضبوطة، فهو من فنّ الإغماء، وقد يُفضي الإغماء بالمغمى عليه إلى سقوط النطق والانتهاء إلى الهذيان. وذلك الذي وعدناه في الإغماء هذا

_ (1) حكى الرافعي والنووي هذا التفصيل، واعتبار مدة الإغماء بزمن السفر القصير والطويل، ورضياه (ر. الشرح الكبير: 7/ 551، والروضة: 7/ 163). (2) هذا هو الأصح. قاله النووي. (ر. الروضة: 7/ 62). (3) في الأصل: البداية. (4) في الأصل: يطالق.

أوان بيانه، فمن لم ير الجنون مزيلاً لأصل الولاية شبهه بالإغماء على ظاهر المذهب، ومن رأى الإغماء مزيلاً لأصل الولاية شبهه بالجنون المتقطع على ظاهر المذهب، فكل واحد من النوعين [يحمل] (1) على الثاني. وينتظم من جمعها أوجه: أحدها - أنهما يزيلان الولاية. والثاني - أنهما لا يزيلانها. والثالث - أن الجنون يزيل والإغماء لا يزيل، وهذا هو الصحيح. ثم إن قلنا: الجنون لا يزيل الولاية، فهو كالغيبة، فلنقس مدته بمدّتها وفاقاً بوفاق وخلافاً بخلاف. ويتفرع على [هذا] (2) المنتهى أن زمان الإفاقة زمانُ الولاية، وهو بمثابة إياب المسافر، وزوال الغيبة. وإن قلنا الجنون في غيبته مزيل الولاية، نظرنا في زمان الإفاقة، فإن لم يكن فيها شائبة من خبل، ومن ضرورة البقاء الذي وصفناه طول المدة، فتعود الولاية، وتنقطع عن البعيد بعد الانتقال إليه. وإن كان في زمان الإفاقة آثار من الخبل يحتمل مثلها فيمن لا يعتريه الجنون، ويحمل على حدّةٍ وسوءِ خلق، فهل تعود الولاية والحالة هذه؟ أم تلتحق هذه المدة بالجنون؟ فيه اختلافٌ بين الأصحاب. وحقيقة التردد أنّ من الأصحاب من لم يجعل ما سميناه (3) جنوناً على الحقيقة، ومنهم من أثبته جنوناً، [وأتبعه] (4) زمن الإفاقة في الصورة التي ذكرناها، ومنهم من أثبت الجنون في نوبته، وأثبت الإفاقة في نوبتها. وإن قلّت مدة الإفاقة، بحيث قد يتماسك في مثلها من يسمى مجنوناً مطبقاً مطلقاً، فذلك جنون، وإن قل زمان الهَيْج بحيث قد يطرأ مثله على اللبيب إذا تلظَّى غضباً، فذاك ليس بجنون، وهذه مرامز.

_ (1) في الأصل: (مسلح) بهذا الرسم. (2) زيادة من المحقق. (3) ما سميناه: المراد ما رسمناه. (4) في الأصل: واتبع.

وسيأتي استقصاؤها في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى. 7910 - فإن قيل: إذا لم تجعلوا الإغماء مزيلاً للولاية، وألحقتموه بالسفر، أوْ وَقَع الفرضُ في السفر وقصرت مدته؛ بحيث تزعمون أن الولي يراجَع، فلو ألحّت المرأة وقالت: التزويج [حقِّي] (1)، فلا أرضى بتأخيره ساعةً من نهار، ونظرك أيها القاضي قائم مقام النظر المنقطع، فلا تؤخر تزويجي، فهل يجيبها إلى مرادها؟ قلنا: لا يجيبها إلى مرادها؛ فإن القاضي يقول: ليس لك إرهاقي إلى هذا الحد، لو لم يكن لك ولي أصلاً، إلى أن أفهم ما تقولين وأنظر فيما تطلبين. والمدة التي قطع الأصحاب فيها بالتأخير [لمراجعة] (2) الولي لو أخر في مثلها القاضي حيث لا ولي لها - لم يبعد؛ لنظرٍ وترديد رأي، فقد ذكرنا وجوهاً من الاحتياط غيرَ هذا، فإذا كانت لا تملك الإرهاق، حُملت على الصبر إلى المراجعة في التفصيل الذي ذكرناه. فإن قيل: حيث يزوّج القاضي في غيبة القريب، فهلا قلتم: لو زوج القريب لم ينفذ منه، لاختلال نظره بسبب الغيبة؟ ولو قيل بهذا، لكان آمناً من ازدحام نكاحين! قلنا: هذا (3) يفرض في الأب المُجْبر إذا غاب، وقوة شفقته مع غيبته تعادل نظرَ القاضي إن لم تزد عليه، فليس المصير إلى أن الولي لا يزوج لينفذ تزويج القاضي ما ولي من عكس ذلك، فليجر كلُّ شيء على أصله. ثم إن فرض نكاحان لم يخف أمرهما، وقد تمهد طريق الاحتياط في صدر الفصل، فإنه إذا وكّل الأب من يزوج ابنته ولم يعيّن كفئاً، [وصححنا] (4) التوكيل على هذا الوجه على ما سيأتي شرحه -إن شاء الله تعالى- من بعدُ، فلو غاب الوكيل غيبة بعيدة، فالمذهب أنه على الوكالة، وإن لم يكن ذا قرابة تثير شفقة؛ فإذاً الأصول لا تخرم ولا تصدم بالخيالات البعيدة.

_ (1) في الأصل: خفي. (2) في الأصل: لم أجعله. (3) هذا: أي إثبات حق التزويج للولي الغائب. (4) في الأصل: وصححت.

7911 - ومما يتعلق بمسائل الفصل؛ إحرام الولي، وسنذكر أن المحرم لا يَنكِح ولا يُنكِح، فإذا أحرم الولي بالحج أو العمرة، امتنع عليه الأنكاح والتزويج. ثم ظهر اختلاف أصحابنا في أن الإحرام هل يُخرج الولي عن الولاية أصلاً؟ فمنهم من قال: يخرج بالإحرام عن كونه ولياً، كما لو جن؛ فإن الإحرام يمنع شرعاً من تعاطي التزويج مع كمال المحرم في عقله واستجماعه شرائط الاستقلال، ولفظ النكاح يتفق صدَرُه عنه، ولو فرض ذلك، لم يتعلق به حكم، فدل أن الشرع في زمن الإحرام أخرجه عن رتبة المزوِّجين بالكلية، فاقتضى ذلك انتقالَ الولاية إلى البعيد. وإذا قيل لهذا الإنسان: إن كان الإحرام بالحج قد يتطاول زمانه، فالإحرام بالعمرة ينتجز في لحظة، وهو إلى اختيار المحرم، فكيف يتجه خروجه عن كونه ولياً؟ فإذا ثبت كون الإحرام منافياً للتزويج بالكلية، وثبت أن المحرم مسلوب العبارة كالصبي، فلا نظر إلى قصر الزمان وطوله. والدليل عليه أن الصبي المميِّز لو بقي إلى أمد بلوغه ساعة، فليس هو وليّاً، وإن كان الباقي من أمد صباه لحظة، هذا وجه. والوجه الثاني (1) - أن الإحرام لا يخرجه عن أصل الولاية؛ لأنه لم يسلبه عقله ورشده ونظره، غير أنه لا يتأتى منه إنشاء العقد، وهذا القائل يجعل الإحرام بمثابة الغيبة، وقد تمهد تفصيلها، فنجعل طول الزمان في الإحرام كطول المسافة، ثم نطبّق الخلاف على الخلاف والوفاق على الوفاق. 7912 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أنا وإن حكمنا بأن المحرم ولي، ولا يصحّ منه التزويج، كما لا يزوّج بنفسه لا يوكّل وكيلاً، فلو وكل وكيلاً بالتزويج، لم يصحّ، ولم ينفذ إنكاح وكيله. فإنا ذكرنا أن المحرم مسلوب العبارة في عقد لم يتأت منه الاستنابة فيه. ولو كان وكَّل وكيلاً بالتزويج، ثم أحرم الموكّل؛ فقد قال الأئمة: ينعزل وكيله بالإحرام، حتى إذا تحلل من إحرامه، لم يصح من الوكيل التزويج بحكم التوكيل

_ (1) هذا هو الوجه الصحيح في المذهب: (ر. الروضة: 7/ 67).

المتقدم على الإحرام، وإذا أحرم الوكيل، لم يزوِّج في حالة إحرامه ويُقضَى بانعزاله، فإذا تحلل، فليس وكيلاً. ونحن إذا جعلنا الإحرام غير منافٍ لأصل الولاية، فكأنا ألحقنا الإحرام بالإغماء، وقد ذكرنا في كتاب الوكالة تردد الأصحاب في أن الإغماء إذا طرأ على الموكِّل أو على الوكيل، فهل يضمن انقطاعَ الوكالة وانعزالَ الوكيل؟ فلا يبعد خروج الإحرام على ذلك الخلاف في جانب الموكّل والوكيل جميعاً. وقد ذكر الصيدلاني في مجموعه وجهين محكيين عن الأصحاب؛ في أن طريان الإحرام في الموكل والوكيل، هل يوجب الانعزال؟ ثم قال: إذا أحرم الموكِّل، وقلنا: لا ينعزل الوكيل، فإنه لا يزوج ما دام موكِّله محرماً؛ فإنه يستحيل أن يتصرف الوكيل عن موكله، ولكن إذا حلَّ الموكل، فيزوِّج الوكيل حينئذ. 7913 - ومما نذكره في مقاصد الفصل السكر إذا طرأ. فإن قلنا: الفاسق ليس وليّاً، فإذا فسق بالشرب، خرج عن كونه وليّاً. وإن قلنا: الفاسقُ وليّ، رجع النظر إلى تصرفات السكران في حالة سكره؛ قال الأصحاب: إن قلنا: السكران كالصاحي والفسق لا ينافي، فقد أطلق الأصحاب أنه يصح منه التزويج. وذكر شيخي فيه مستدرَكاً حسناً، فقال: السُّكر إن لم ينافِ التصرفَ، فهو ينافي الرأي والنظر، وتصرف الولي مربوط بالنظر، فيستحيل أن ينفذ تصرفه على حكم النظر ولا نظر (1) له. وهذا يضاهي مذهباً لبعض الأصحاب في أن المرتد إذا سكر، فلا يُقبل عوْده إلى الإسلام في حالة سكره؛ فإنه لا يعقِل ما يقول. وهذا فيه نظر على حال، كما سيأتي شرحه في موضعه، إن شاء الله تعالى. فأما نظره وهو في سكره الطافح غير (2) متصور، وهذا إذا قلنا: تصرف السكران نافذ. فأما إذا قلنا: لا ينفذ تصرفه، فالسكر إغماء، وقد مضى تفصيل القول في الإغماء بما فيه مقنع وبلاغ.

_ (1) المذهب أنه لا يزوّج وإن بقي له تمييز ونظر. قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 63). (2) جواب (أمّا) بدون الفاء، كدأب الإمام في كثير من الأحيان.

فقد بانت المسائل، واتضح خروجها على الأصول التي مهّدناها، وتميّز ما يقطع الولايةَ عما يقطع النظر، وبان أن ما يقطع الولاية ينقلها إلى البعيد، وما يقطع النظر ينقسم القول فيه إلى ما يطول، وإلى ما يقصر، وقد انتهى الغرض من الفصل تأصيلاً وتفصيلاً. فصل قال: "ووكيل الولي يقوم مقامه ... إلى آخره" (1). 7914 - مضمون الفصل: القول في توكيل الولي، وما يصح من ذلك، وما يفسد منه، [و] (2) القول في صفة إذن المرأة، وبيان صحيحه وفاسده، وذكر مقتضاه. فأما التوكيل، فالولي لا يخلو إما أن يكون مجبِراً، وإما أن يكون غير مجبِر، فأما الولي المجبر، فهو الأب والجد، فلا خلاف أنه يصحّ أن يوكِّل [غيره] (3) بالتزويج، فإنه ذو ولاية على التحقيق، يثبت له الاستقلال، فصار كالمالك المتصرف في حق نفسه، وقد تقدم القول فيمن يصلح للوكالة وفيمن لا يصلح لها، في الأصل المشتمل على أن الفسق هل ينافي الولاية؟ ثم هل يجوز للولي أن يطلق الوكالة ويفوّضها إلى الوكيل من غير أن يعيّن زوجاً، أم لا بد وأن يختار الوليُّ الزوجَ، فيعيّنه للوكيل؟ في المسألة قولان: أحدهما - وهو الذي نص عليه في تحريم الجمع (4) أن التوكيل يصح مع الإطلاق، قياساً على التوكيل في المعاملات. فإنه لا يفتقر إلى ذكر مقدار الثمن، ولا إلى تعيين من يعامله الوكيل، ولكن تصرف الوكيل ينفذ بالغبطة ورعاية النظر، فليكن الأمر كذلك في التوكيل بالنكاح (5). والقول الثاني - أنه لا يصح التوكيل من غير تعيين الخاطب، نصّ عليه في الإملاء.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 265. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: منه. (4) كذا. ولعل فيها تحريفاً أو سقطاً. (5) هذا القول هو الأظهر (ر. الروضة: 7/ 72)

ووجهه؛ أن الغرض الأظهر في تعيين الخاطب، وهذا مفوض شرعاً إلى الولي المتصف بكمال الشفقة. فلا يجوز أن يُحِلّ فيه أجنبياً محل نفسه، ويفوض إليه ما هو منوط بشفقة الولاة، بل حقه أن ينظر ويعيّن الخاطب، وينيب الوكيلَ مناب نفسه في العبارة عن العقد فحسب، وليس ذلك كالتوكيل بالبيع؛ فإن الغرض المطلوب منه البيع بثمن المثل، وليس يخفى درْك مقداره، ولهذا يستفاد التصرف في المال بالوصاية، ولا يستفاد بها التصرف في البضع. هذا إذا كان الولي مجبِراً على النكاح. 7915 - فأما إذا لم يكن مجبِراً، وكان يفتقر إنكاحُه المرأةَ إلى استئذانها؛ فنقول: إذا أذنت المرأة وعيّنت كفئاً، صحّ إذنها. وإن أطلقت الإذن، وفوّضت طلبَ الكفء إلى الولي؛ ففي صحة الإذن على هذا الوجه، وجهان مرتبان على القولين في توكيل الولي المجبِر. فإن قلنا: يصح (1) التوكيل مع الإطلاق، فلأن يصح الإذن مع الإطلاق أولى، والفرق أن المرأة وإن أطلقت الإذن، [فهي] (2) مفوِّضة أمرها إلى وليها، وهو على حظٍّ صالح من القرابة ذابٌّ عن نفسه في طلب تبرئة النسب والحسب عما يَشينه، وليس كذلك التفويض إلى الأجنبي. ثم إذا جوّزنا الإذن المطلق؛ فإذا قالت لوليها: "زوّجني"، تقيّد ذلك بالتزويج من الكفء، كما إذا وكل مالكُ المتاع إنساناً، فالتوكيل المطلق يتقيّد برعاية المصلحة في البيع بثمن المثل نقداً. وإن قالت المرأة لوليها: زوّجني ممن شئت، كفئاً كان أو غير كفء؛ فيتخيّر الوليّ حينئذ؛ فإن التزويج من غير كفء جائزٌ شرعاً، والحق في ذلك لا يعدو المرأةَ والوليَّ. وهذا فيه إذا كان الولي واحداً. فإن كان الأولياء جمعاً، وقد استجيزوا، فقد سبق التفصيل فيه. ولو قالت: "زوّجني من شئت" ولم تتعرض لذكر الكفاءة ونقيضها، هل يجوز

_ (1) في الأصل: لم يصح. (2) في الأصل: فهو.

للولي -والحالة هذه- أن يزوّجها من غير كفء؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه يجوز؛ فإن ظاهر قولها "ممن شئت" مشعر بهذا. وهو كما لو قال للوكيل بالبيع: "بع متاعي هذا بما شئت"، فللوكيل -إذا جرى التوكيل كذلك- أن يبيع بما عزّ وهان. والوجه الثاني - أن الولي لا يضعها في غير كفء، إذا لم تقيد إذنها بتزويج ترك الكفاءة؛ فإن قولها "ممن شئت" يحتمل التفويض المطلق ويحتمل التفويض مع رعاية الكفاءة، فقولها "ممن شئت" نحمله على تفويض تخيّر (1) الزوج. وهذا من أهم ما يراعى في باب النكاح، وقول الرجل لوكيله "بما شئت" لا يحتمل إلا تفويضه مقدارَ الثمن فحسب، وقد يدخل تحته البيع بالعُروض. وإذا وجدنا في الإذن في النكاح محملاً يحمل عليه التفويض رعاية الكفاءة، فيتعين الحمل عليه رعايةً للاحتياط في الأبضاع. ومن لطيف القول في ذلك أنها لو عيّنت زوجاً، ولم يكن كفئاً، ورضي الولي بالحطيطة؛ فقد ذكرنا أن النكاح يصح، وإذا فوضت إلى الولي، وتعرضت لتجويز ترك الكفاءة صريحاً، فلو حملنا قولها "ممن شئت" على ذلك، فهاهنا نظر على المتأمل، وذلك أنا ذكرنا وجهين في أنه هل يشترط في الإذن تعيين الخاطب؟ فليت شعري! ماذا نقول إذا فوّضت تفويضاً يقتضي إسقاط الكفاءة؟ ظاهر ما نقله الأصحاب؛ طرد الخلاف في اشتراط تعيين الخاطب، كما تقدم، وإن رضيت المرأة بترك الكفاءة. والقياسُ عندنا أن الخلاف إنما يجري حيث يجب رعاية الكفاءة، فأما إذا رضيت بمن يكون، وأسقطت اعتبار الكفاءة؛ فالوجه -والحالة هذه- أن يسقط اعتبار التعيين أيضاًً؛ فإنها بإذنها رفعت طلب [الحظ] (2)، وإنما يليق التعيين والقول به بالمحل الذي يجب فيه طلب الحظ في الآجل. ثم يقع الكلام وراءه في تعيين الكفء، وما ذكرناه وإن كان يظهر بعض الظهور،

_ (1) في الأصل: "تخيرّ عن الزوج". (2) في الأصل: الحض.

فإجراء الخلاف في اشتراط [الحظ] (1) محتمل، والعلم عند الله تعالى. هذا كله تفصيل القول في إذنها المطلق والمقيد. 7916 - والكلام بعده في التوكيل، فإذا أذنت لوليها في التزويج، وأذنت له في أن يوكّل، فيصح من الولي التوكيل، فإن الاستنابة جائزة في هذه القاعدة. وقد اجتمع عليها المرأة والولي، وهو بمثابة ما لو وكّل الرجل وكيلاً بالبيع، وأذن له أن يوكل إن أراد التوكيل، فيسوغ التوكيل وفاقاً. ولو أذنت المرأة لوليها في التزويج، ولم تتعرض للتوكيل أمراً أو نهياً، وإثباتاً أو نفياً، ففي جواز التوكيل -والأمر كذلك- وجهان مشهوران، أحدهما - أنه لا يجوز، كما لو وكل من يبيع متاعه، فإن ذلك الوكيل لو أراد أن يوكل من غير إذنٍ من الموكل، لم يجز له ذلك، إذا تعين التصرف. والولي إذا كان يحتاج إلى إذن المرأة، ولا يستقل بالتصرف، نازلٌ منزلة الوكيل، فإذا لم يجز للوكيل أن يوكل في التصرف المعيّن، فليكن الولي بمثابته. والوجه الثاني - أنه يجوز للولي أن يوكل (2)، بخلاف الوكيل، فإن الوكيل يتصرف بالإذن المجرد والأمر المحض، لا معتمد لتصرفه غيرُه. فإذا تعلق الإذن على الاختصاص، لم يكن له أن يقيم غيره مقام نفسه. والوليّ وإن كان يفتقر إلى إذن المرأة، فمعتمد تصرفه كونه وليّاً، وله في تعاطي العقد حظٌّ، فساغ له التوكيل، كما يسوغ للمالك التوكيل، فينبغي أن يصير عند الإذن بمثابة الولي المجبِر، وقد تقدم أن الولي المجبر يوكِّل. ولا خلاف أن المرأة لو أذنت بالتزويج لوليها، وصرحت بالنهي عن التوكيل، لم يكن له أن يوكل. والسبب فيه: أنا كما نرعى إذنَها في أصل التزويج، نرعى إطلاقها وتقييدها، فإذا نهت عن التوكيل، فإذنها [مختص] (3) بتعاطي الولي، فيثبت على هذا الوجه لا غير.

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) وهذا هو الأصح، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 73). (3) في الأصل: مخلص.

ولو قالت للولي: أذنت لك أن توكل بتزويجي، وليس لك في نفسك أن تتعاطى التزويج؛ فالذي ذهب إليه الأئمة أن الإذن على هذا الوجه لا يصح، فإنها منعت الوليّ من التزويج، وردّت التزويج إلى الوكيل الأجنبي، فكان ذلك بمثابة ما لو [فوضت] (1) تزويجها ابتداء إلى أجنبي، [فوكَّله] (2). وهذا لا مساغ له. ثم إذا وكّل الولي بأذن المرأة وبغير إذنها، فهل يشترط تعيين الخاطب؟ هذا ينبني على الإذن للولي؛ فإن شرطنا فيه [التقيّد] (3)، بتعيين الزوج، [فالتوكيل] (4) مطلقاً لا يصح، وكذلك إن لم نشترط تقييد الإذن، ولكن اتفق منها التقييد بالتعيين، فيتعين ذكرُ ذلك المعيَّن للوكيل؛ فإن التوكيل لو وقع مطلقاً، [فلا يهتدي الوكيل] (5) إلى الشخص المطلوب المعين. ولو جرى التوكيل مطلقاً، وقد عيّنت المرأة الزوج، فإن زوّج الوكيل غير ذلك المعيّن، لم يصحّ. وإن اتفق منه التزويج منه؛ فالأظهر عندنا: أن تزويج الوكيل لا يصحّ على هذا الوجه؛ فإنه وإن صادف المعيَّن وفاقاً، فصيغة التفويض فاسدة في وضعها؛ فإن التفويض المطلق والمطلوب [معين] (6) فاسد، وإذا فسد التفويض، لم يترتب عليه صحة التصرف. وهذا بمثابة ما لو قال وليّ الطفل للوكيل: بع هذا العبد من مال الطفل بما عزّ وهان، فالتوكيل باطل على هذا الوجه. ولكن لو اتفق منه البيع على وفق الغبطة؛ فالظاهر عندنا أن البيع لا يصح، لما أشرنا إليه من فساد صيغة التوكيل. والله أعلم. 7917 - ثم إن الأصحاب تكلموا بعد بيان ما ذكرناه في أحكامٍ تتعلق بالوكالة في

_ (1) في الأصل: فوّض. (2) فوكلت. (3) في الأصل: التنفيذ. (4) في الأصل: فالوكيل. (5) في الأصل: فلا يبتدىء التوكيل. (6) في الأصل: والمطلوب غير فاسد.

النكاح، فقالوا: إذا كان الوكيل من جانب القابل الخاطب، فهو جائز، كما يجوز التوكيل في جانب الولي المزوِّج. ثم إذا أراد الولي التزويج والقابل وكيلٌ، فلا مخاطبة بينه وبين الوكيل أصلاً. وسبيله أن يقول: زوجت فلانة من فلان بكذا، فيذكر الخاطبَ الحاضرَ أو الغائبَ، ولا يقول للوكيل: زوّجت فلانة منك؛ فإنه لو قال ذلك كان مزوجاً هذا القابل، ولو قبل المخاطب -والأمر على ما وصفناه- انعقد النكاح له. ولو قال: نويت بالعقد الذي قبلتُه موكِّلي؛ فلا تعويل على النية في الباب، وليس كما لو وكّل الرجل وكيلاً حتى يشتري له شيئاً، فإن صاحب المتاع يخاطب الوكيل، ويقول: بعت منك. والوكيل يقول: اشتريتُ، وينوي موكِّله، فينصرف الشراء إليه بالنية، والفرق بين البابين في ذلك أن المشتَرَى قابلٌ للنقل بعد تقدير حصول الملك فيه؛ فإن من ملك شيئاً أمكنه أن يقيم غيره مقام نفسه بجهة من الجهات، ومن تزوج امرأة لم يتصور منه أن يُحِلَّ غيرَه محل نفسه، فإذا كان الملك في المشترَى -على الجملة- قابلاً للنقل، وقول الوكيل: اشتريت، صالحٌ ليحمل على إضافة صورة العقد إلى النفس، وصرف مقصوده إلى الموكِّل، والعقد عقد عهدة، وموجب تعليق العهدة بمن يتعاطى القبول، وشرط ذلك أن يكون للعقد إضافة إلى الملتزم، فينتظم من مجموع ذلك جواز إضافة العقد إلى الوكيل، وامتناعُ ذلك في النكاح. وقد ذكرنا في كتاب الوكالة أن البيع لو عقد مضافاً إلى الموكِّل بالشراء على [صيغته] (1)، وعلى النحو الذي شرطناه في النكاح، فكيف السبيل فيه؛ فلا حاجة إلى إعادته الآن. 7918 - ومما يليق بغرضنا في النكاح؛ أن المزوّج إذا أضاف نكاح المرأة إلى الخاطب الموكِّل كما يجب، فقال وكيل الخاطب: "قبلت"، ولم يُضف قبولَه إلى موكِّله، ولم يزد على قوله "قبلت"؛ فهذا يترتب على أصلٍ سنذكره في ألفاظ عقد النكاح، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: صيغة.

[وهو] (1) أن الرجل إذا خاطب الخاطب بالتزويج، فقال: زوّجتك ابنتي فلانة، فقال الخاطب: "قبلتُ"، ولم يقل: "قبلتُها" ولا "قبلت نكاحها"، فقد نقول: لا ينعقد النكاح، ما لم يتعرض القابل لذكر النكاح، وذكر المنكوحة. وقد نقول يصح النكاح. والتعويل في توجيه ذلك على ابتناء القول على الإيجاب، من حيث إنه جواب له. ومن رتّب جوابه على خطاب من خاطبه، كان الخطاب في حكم المعاد في الجواب. وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل. فنقول في الوكيل: إذا قال: "قبلت"، وقد قال الموجِب: "زوجت فلانةً فلاناً"، وذكر الخاطبَ؛ إن قلنا: لو جرى العقد بين الزوج والخاطب، لم ينعقد النكاح بقول الخاطب "قبلت"، فلا شك أنه لا ينعقد بقول الوكيل على هذا الوجه أيضاًً. وإن قلنا: إذا قال الخاطب: "قبلت"، كفى، فلو قال الوكيل: "قبلت"؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن النكاح يصح للموكل، تمسكاً بتنزيل الجواب على حسب الخطاب، وقد أضاف المزوِّج إلى الموكِّل، فكفت إضافته، وابتنى قبول الوكيل عليه، وتُرك على موجب الإضافة. والوجه الثاني - أن النكاح لا يصحّ؛ فإن القابل ليس مخاطَباً حتى يكون قبوله مبنياً على حسبه، وإنما المسمَّى في النكاح الموكِّل، فليكن كلامُ الوكيل مستقلاً على ما تقتضيه سفارة النكاح. فإذا لم يكن مستقلاً، لم يصح العقد. وبهذا ينفصل قبول [الخاطِب] (2) بنفسه عن (3) المزوِّج (4)، فإنهما متخاطبان، ولا يمتنع أن يبتني جواب المجيب منهما على خطاب المخاطب.

_ (1) في الأصل: فهو. (2) في الأصل: المخاطب. (3) عن: بمعنى من، أي قبول التزويج من المزوّج. (4) "ينفصل قبول الخاطب بنفسه عن المزوِّج": المراد أن قبول الخاطب بنفسه إيجاب الولي (المزوِّج) ليس مثل قبول وكيله، فالمزوّج -ولياً كان أو وكيلاً عنه- مخاطب للخاطب، فيجوز أن يبنى قبوله على إيجابه بعكس وكيل الخاطب فالمزوِّج لا يخاطبه؛ فلا ينبني قبوله على إيجابه.

7919 - وبنى أئمتنا على ما ذكرناه من وجوب إضافة النكاح إلى الموكِّل الخاطب مسألةً في الأيمان، لم يقصدوها بعينها، وإنما راموا بإيرادها ما يثبت الغرض الحُكمي فيما نحن فيه، فقالوا: إذا حلف الرجل لا يزوج ابنته فلاناً، وسمى الوكيل من جهة الخاطب، ثم جرى العقد على صيغة السفارة، كما تقتضيه قضية النكاح، فلا يحنث المزوِّج؛ فإنه حلف لا يزوج الوكيل، ولم يزوجه، ولا خاطبه، وإنما تعرض لموكِّله وسماه في إضافة النكاح إليه. وبمثله لو قال: والله لا أبيع عبدي من زيد، ثم إن زيداً توكل عن عمرو في ذلك البيع، على صيغة التخاطب من غير إضافة إلى الموكِّل، فيحنث الحالف؛ لأنه كان حلف لا يبيع من زيد، فقد باع منه؛ إذ قال: "بعت منك". وقال زيد: "اشتريت" أو "قبلت". والوكيل بالتزويج يقول: "زوجت فلانة منك"، إن كان يخاطب الخاطب، ولا حاجة به إلى إضافة التزويج إلى استفادته من الموكل، بل يصحّ أن يقول: "زوجت فلانة منك"؛ فإنّ ذكر الجهات التي منها استفادة التصرف [لا حاجة] (1) إليه؛ إذ لو احتاج الوكيل إلى إضافة تزويجه إلى جهة الوكالة، لاحتاج الولي إلى إضافته إلى جهة الولاية، ولاحتاج المالك إلى إضافته إلى جهة الملك، ولا حاجة إلى شيء من هذا. ولو قال الوكيل بالتزويج: زوّجَ موكلي فلانٌ ابنته منك؛ كان ذلك خَلْفاً (2) من الكلام غيرَ منتظم. فالوكيل في جانب التزويج سفير (3)، مضيف إلى الموكل، فلا جَرَم نقول: لو حلف الرجل لا يزوِّج امرأة ثم زوّجها وكيلاً، حنث. ولو قال الخاطب: والله لا أتزوج من فلان، فتزوج وفلان وكيل بالتزويج، فإنه يحنث؛ فإن الوكيل في جانب التزويج مزوِّجٌ لى الحقيقة، والوكيل في جانب [التزوج] (4) ليس متزوجاً على التحقيق، ولكنه معرب عن الغير، مضيف إليه، سفير

_ (1) في الأصل: ولا حاجة. (2) في الأصل؛ حلفاً. والخلف بفتح وسكون: الرديء والسقط من القول (المصباح). (3) في صفوة المذهب: "مباشر" ولعلها الأوفق بدلاً من (سفير). (4) في الأصل: التزويج.

عنه. ولو قال: والله لا أتزوج، فانتهض وكيلاً في التزوج لغيره، لم يحنث، ولو قال: والله لا أتزوج لفلان، فتزوج له وكيلاً عنه، حنث. فإن هذا معنى التزوج له. فصل قال: "وولي الكافرة كافر ... إلى آخره" (1). 7920 - الكافر يلي الكافرة بالقرابة والولاء، هذا هو المذهب المبتوت، والنص مصرِّحٌ به. وذهب بعض أئمة الخلاف إلى أن الكافر لا يزوج الكافرة، وإنما ارتكب (2) هؤلاء ذلك من عسر الفرق عليهم بين الشهادة والولاية، وهذا ليس معدوداً من المذهب، ولم يصر إليه أحد من المعتبرين في المذهب، إلا الحليمي (3). وهو رجل عظيم القدر، لا يحيط بكنه علمه إلا غوّاص. والنص عنده محمول على ترك التعرّض للكفار إذا زوّجوا بناتهم بين أظهرهم. ثم يقول الحليمي: إذا أراد المسلم التزوج بيهودية أو نصرانية؛ فلا سبيل له إلى

_ (1) ر. المختصر: 3/ 265. (2) ارتكب: يستخدم إمام الحرمين هذا اللفظ وما يشتق منه كثيراً، من ذلك قوله في خطبة كتابه هذا: "وإن ذكر أئمة الخلاف وجهاً مرتكباً نبهت عليه، بأن أقول: اتفق أئمة المذهب على كذا، فتجري وجوه من الاختصار، مع احتواء المذهب (أي هذا الكتاب) على المشهور والنادر". ا. هـ بنصه. وقد رجحت أن هذا (الارتكاب) مصطلح من مصطلحات علم الجدل، ولكني لم أصل إليه في كتب الجدل ومجموعات المصطلحات، وواضح من السياق أن معناه: هو الوجه والرأي الذي يلجأ إليه صاحبه معتسفاً طريق الصواب، فراراً من إلزام الخصم إياه بما لا يراه. فهؤلاء قالوا بعدم تزويج الكافر الكافرة بالولاية حتى لا يُلزموا قبول شهادته، (فارتكبوا) هذا الوجه الغريب فراراً من هذا الإلزام. والله أعلم. (3) الحليمي، أبو عبد الله، الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم الشيخ الإمام. أحد أئمة الدهر، وشيخ الشافعيين بما وراء النهر، وأنظرهم بعد أستاذيه أبي بكر القفال، وأبي بكر الأودني، الفقيه القاضي، توفي 403 هـ (طبقات السبكي: 4/ 333 - 343، والبداية والنهاية: 11/ 349، وشذراث الذهب: 3/ 167، وطبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 155، وطبقات الإسنوي: 1/ 404).

قبول النكاح من أبيها، وإنما [يقبل] (1) نكاحها من السلطان؛ فإن الولاية العامة تشمل المسلمين والكفار، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى. ويلزمه أن يقول: إذا زوّج الكافر ابنته من كافر، ثم ارتفع الزوجان إلينا متنازعَيْن في نفقة أو مهر، فإنا لا نقضي بموجب النكاح بينهما، كما لا نقضي لمن يتلف خمراً منهم على صاحبه بقيمتها، ولا بمثلها، وإن كنا [لا] (2) نتعرض لهم إذا تعاملوا عليها، وهذا خرمٌ عظيم يقرِّب صاحبه من التهجم على الإجماع، وتضطرب [به] (3) أصول نكاح المشركات. فلا وجه إذن إلا القطع بأن الكافر يزوج الكافرة. والمشكل فيه أنا إذا قلنا: الفاسق يلي التزويج، فينتظم الغرض في الكافر. وإذا قلنا لا يلي الفاسق التزويج؛ فلو كان الكافر فاسقاً [في] (4) دينه، لم [يزوِّج] (5) ولا يتبين أنه عدلٌ [في] (6) دينه -مع أنا لا نطّلع على شرائعهم- إلا من جهتهم. ونحن لا نثق بإخبارهم عن قواعد شرائعهم، فيغمض مُدرَك هذا، ويعسر بسببه تزويج الكافر، إلا أن يكون فينا مطلعٌ على شرعهم، أو كان قد أسلم منهم من هو عدل رضاً فينا، وهو خبير بشرع الكفار. فإن لم نجد شيئاًً من ذلك، ومنعنا تزويج الفاسق، لم يخرّج تزويج الكافر المشكل الحال إلا على قاعدة؛ وهي: أن المستور يجوز أن يكون وليّاً، وتصرفاته تنفذ من غير بحث عن عدالته. وهذا متفق عليه بين الأصحاب، ويشهد له إطباق الخلق قاطبة على معاملة أولياء الأطفال، وإن لم تظهر عدالتهم في مقام التزكية، وإن كان ادعاء الوفاق في تزويج الفاسق يُحوج مدّعيه إلى تقريب، فما ذكرناه في المستور لا يأباه إلا

_ (1) في الأصل: نقل. (2) سقطت من الأصل. (3) زيادة من المحقق، ساعدنا عليها حكاية السبكي لهذه القضية في ترجمة الحليمي (ر. الطبقات: 4/ 335، 336). (4) عبارة الأصل: فلو كان الكافر فاسق دينه. (بالإضافة). (5) في الأصل: يتزوج. (6) زيادة من المحقق.

جحود. [فينبني] (1) نكاح الكافر على أنه مستور في دينه، ويخرج منه أنه لا يتبين فسقه في دينه إلا بقوله وإقراره على نفسه. 7921 - والكافر لا يزوج ابنته المسلمة؛ فإن اختلاف الدين يقطع العصمة والموالاة، وكذلك المسلم لا يزوج ابنته الكافرة، والسلطان يزوج الكوافر والمسلمات في منازل تزويج السلاطين. ولو أراد المسلم أن يتزوج كافرة، ولم يكن لها ولي خاص، ولم يكن بذلك القطر والٍ من المسلمين، فهل يجوز قبول نكاحها من حاكم الكفار وقاضيهم؟ ما كان يقطع به شيخي: أنه لا يَقبل نكاحها من قاضيهم (2)؛ فإن قاضيهم لا ينفذُ شيء من أحكامه لنا ولا علينا، ولا نقبل كتابه في الحكومات قبولَنا كتُب القضاة. وفي كلام صاحب التقريب إشارة إلى أنا نقبل النكاح من قاضيهم. وهذا كلام مضطرب لا تعويل عليه. وسيأتي شرح القول في أحكامهم في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل. 7922 - والمسلم لو أراد أن يزوج أمته الكافرة؛ [فالقول] (3) في ذلك يبتني على أن الكافر هل يستبيح نكاح الأمة الكافرة، حتى نقضي له باستباحتها؟ والعبد المسلم هل يحل له نكاح الأمة الكتابية؟ فيه خلاف، سيأتي مشروحاً من بعد (4)، إن شاء الله تعالى. ولكنا نكتفي الآن بحكاية تبين الغرض. ظاهر النص أن الأمة الكتابية لا يحل نكاحها لأحدٍ، وحُكي عن أبي الحسن الماسَرْجِسي (5) أنه قال: كنت عند أبي علي بن أبي هريرة، فقال: الأمة الكافرة يحل

_ (1) في الأصل: فينبغي. (2) هذا ما اختاره الرافعي، حيث قال: والظاهر المنع من قبول النكاح من قاضيهم (ر. الشرح الكبير: 7/ 557). (3) في الأصل: والقول. (4) سيأتي في (باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة). (5) أبو الحسن الماسَرْجسي، محمد بن علي بن سهل بن مصلح (صحفت في تهذيب النووي إلى [مفلح]) وماسَرْجِس، بسين مهملة مفتوحة، وراء ساكنة، ثم جيم مكسورة. ثم سين مهملة =

[للمسلم] (1) إنكاحها، وذكر هذا الفصل من المختصر. فقلت: كيف يزوّجها، وهي لا تحل لمسلم؟ ومن لا تحل للمسلمين لكفرها، لم تحل للكافر، كالمرتدة والوثنية، فقال: أتستدرك على المختصر ما لم يستدركه أحد قبلك؟ فقلت: إني أرى من يفعل ذلك: أُعرِّض به، فسكتَ. ثم خرج من الغد، فقال: وجدت للشافعي أنها تحل للكافر، فقلت: كيف الوجه؟ قال: نجعل في [المسألة] (2) قولين (3)، في أنها هل تحل للكافر؟ وألحق أصحابنا العبدَ المسلم بالحر الكافر، وأجرَوْا الخلاف في أنها هل تحل للعبد المسلم؟ وسأذكر أصل القولين والوجهين، إذا انتهينا إلى نكاح الإماء، ومقدار غرضنا الآن ذكر الخلاف. فإن قلنا: الأمة الكافرة لا تحل لكافر ولا لعبد مسلم، فلا يتصور من سيدها المسلم تزويجها. وإن قلنا: إنها تحل للحر الكافر والعبد المسلم، فالسيد هل يزوج أمته الكافرة على ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يزوجها لاختلاف الدين، كما لا يزوج الأب المسلم ابنته الكافرة. والثاني - أنه يزوج الأمة الكافرة، لأن تزويجه مستفاد من ملكه، وحق الملك يسلِّط المالك على التصرف في المملوك. والقائل الأول يتلقى منعَ التزويج من تشبيه

_ = مكسورة. وهو منسوب إلى جد من أجداده لأمه، واسمه ماسَرْجس، كان إماماً من الفقهاء الشافعية من أعلم الناس بالمذهب، وفروع المسائل، تفقه بخَراسان والعراق والحجاز، صحب أبا إسحاق المروزي، وسمع من أصحاب المزني، وسمع منه جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطبري، وكان خليفة القاضي أبي علي بن أبي هريرة في مجالسه. ت 384 هـ. (تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 212، وفيات الأعيان: 4/ 202 ترجمة رقم 576، طبقات الشيرازي: 116، والشذرات: 3/ 110). (1) في الأصل: للحرّ. (2) في الأصل: المسلمين. (3) أي تخريجاً، بمعنى أنه يخرّج على قوله المنصوص قولاً آخر، فيكون في المسألة قولان: قول بالنص وآخر بالتخريج، وسيصرح بهذا عند عَوْدِه للمسألة في باب (الاستطاعة للحرائر).

تزويج أمته بتزويج الأولياء، وعلى هذا يخرج اختلاف الأصحاب في أن السيد الفاسق، هل يزوج أمته؟ إذا فرّعنا على أن الفاسق لا يلي التزويج، فهذا التردد مأخوذ [من أصلٍ] (1) سيأتي، إن شاء الله عز وجل وهو أن الأمَة هل يثبت لها حقٌّ في التزويج؟ وقد أشرنا إلى طرف من هذا المنتهى؛ إذ حكينا الخلاف في أنها هل تجبر مولاها على التزويج؟ وسنذكر حقيقة ذلك في نكاح الأمَة، إن شاء الله تعالى. 7923 - ولو ملك الرجل أمَة مجوسية، فلا شك أنه لا يستبيح وطأها بملك اليمين، فإذا جوزنا تزويجها من حر مجوسي، فهل للمسلم تزويجها منه؟ فعلى وجهين مترتبين على الوجهين المقدّمين في تزويج الأمة الكتابية؟ وهذه الصورة الأخيرة رآها الأصحاب أولى بالمنع، واعتلّوا بأن السيد لا يستحل وطأها، فقد اجتمع فيها مخالفة دين السيد، وكونُها محرمة عليه. وهذا الترجيح لا فقه فيه؛ فإنا إنما نجوز للسيد تزويج أمته بحق الملك، وهو مالك لبضع الأمة المجوسية، ولا حاصل [للتعلّق] (2) بتحريمها عليه؛ فإن جواز الإنكاح لا يتلقى من إحلال المنْكِح غيرَه محل نفسه في الحِلّ؛ إذ الأصل على مناقضة هذا. والزوج المستحل لزوجته لا يُحلها لغيره بعقد نكاح، كما يكري الدار المكتراة. وكان شيخي يقول: من ملك أخته من الرضاع [أو] (3) النسب، ملك تزويجها، وجهاً واحداً. وإن كان لا يستحل وطأها. وهذا حسن متجه. وقد رأيت لبعض الأصحاب تشبيباً (4) بمنع ذلك. وهذا لا يعتد به. 7924 - والكافر إذا ملك أمةً مسلمة، حيث يتصور ذلك؛ فلو أراد تزويجها، كان تزويج الكافر المسلمة بمثابة تزويج المسلم الأمة المجوسية إذا جوّزنا نكاحها للمجوسي؛ فإن [المسلمة] (5) لا تحل للكافر، كما لا تحل المجوسية للمسلم.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: للتعليق. (3) في الأصل: والنسب. (4) تشبيباً: أي تحسيناً وتعلّقاً يمنع ذلك. (5) في الأصل: المجوسية.

7925 - وإذا ملك المسلم عبداً كافراً، ورأينا للسيد أن يجبر عبده على النكاح، فهل يُجبر المسلم [عبده] (1) الكافر؟ فعلى الوجهين المتقدمين في أن اختلاف الدين هل يمنع التزويج بملك اليمين؟ وإن لم نر الإجبار، فليس للعبد أن ينفرد بنفسه في التزويج. وهل يتزوج بإذن المولى؟ والتفريع على أن اختلاف الدين يمنع حق التزويج بملك اليمين، الذي يقتضيه الرأي عندنا أنه يتزوج بإذنه، ويحمل ذلك على أنه بإذنه أسقط حق نفسه، فاستقل العبد ناكحاً. فليتأمل الناظر ذلك. وهذا يعضده استشهاد مقصود في نفسه، وهو شاهد صدق فيما نحن فيه، وذلك أن المرأة لو ملكت عبداً، فله أن يتزوّج بإذنها، وإن لم تكن من أهل ولاية التزويج. ولا نقول: عليه أن يستأذن وليها، وإن كنا نرى أن تزويج إمائها مفوّض إلى أوليائها، فدل ذلك على أن تزوج العبد بإذنٍ مبني على أن النكاح حق العبد على التمحض، وإذن السيد تصرف في محض الملك، فليُفهم ذلك؛ فإنه لطيف. فصل قال: "ولو قالت: أذنتُ في فلان، فأيّ وُلاتي زوّجني ... إلى آخره" (2). 7926 - فهذه مسألة منعوتة في المذهب، تواصفها (3) نقلتها، وما رأوه مشكلاً منها لا إشكال فيه؛ وإنما الغموض فيما أغفلوه لوضوحه عندهم، أو لإعراضهم. ونحن نسرد مقالات الأصحاب في أركان المسألة، ونعقب كل ركن بما يحل مشكله، ويبين معضلَه؛ فنصور المسألة فيه. 7927 - إذا كان للمرأة مثلاً وليّان في درجة واحدة، وكانت المرأة مستأذَنة؛ فإنه

_ (1) زيادة من المحقق. وعبارة الأصل: فهل يجبر المسلم والكافر؟ (2) ر. المختصر: 3/ 266. (3) كذا. والمعنى واضح من السياق بدون قراءتها.

لا يتصوّر اجتماع مجبِرَيْن، إذ لا مجبر إلا [الأب والجد، وإذا اجتمعا] (1)؛ فالولي منهما أقربهما، وليقع التفريع على أنه يصح من المرأة الإذن في التزويج من غير أن تعيق زوجاً، فإذا قالت لوليَّيْها: يزوجني من شاء منكما كفئاً أو [غير كفءٍ] (2) فإذا ثبت الإذن في حق كل واحد منهما، فاتفق أنهما زوّجاها من زوجين، ولم يشعر أحدهما بصنيع الآخر؛ فالركن الأول في المسألة -بعد تصويرها- في بيان الحكم في التقاسيم، وذلك ينقسم إلى ما يشكل، وإلى ما لا يشكل. فأما إذا لم تشكل الواقعة، فلا يخلو؛ إما أن يقع العقدان معاً، أو يتقدم أحدهما، فإن وقعا معاً، لم ينعقد واحد منهما؛ إذ لا سبيل إلى اجتماع العقدين، وليس أحدهما أولى بالصحة أو الفساد، فالوجه أن يتدافعا. وهذه بمثابة قبول نكاح أختين في عُقدةٍ. فأما إذا تقدم أحد العقدين والكلام مفروض فيه إذا تعيّن ولم يشكل، فالصحيح العقد المتقدم. فلو اتفق من الزوج الثاني دخولٌ، وكان على ظن أنه المتقدم، أو لا عقد إلا عقده، فالوطء الجاري وطء شبهة. والصحيح العقد المتقدم. وقد قصد الشافعي بذكر ذلك -على وضوحه- الردّ على مالك (3)؛ فإنه يقول: إذا جرى الوطء في النكاح الثاني، على نحو ما صورناه، فهو الصحيح. هذا قولنا فيه إذا جرى العقدان، ولم يلتبس الحال. 7928 - فأما إذا أشكل الأمر؛ فالإشكال يقع من وجهين؛ أحدهما - أن لا يعهد الإشكال إلا قائماً من أول الأمر. والثاني - أن يكون الأمر بيّناً أولاً، ثم يطرأ الأشكال من بعدُ. فأما إذا اقترن الأشكال؛ فإنه يقع من وجهين: أحدهما - ألاّ ندري أن العقدين وقعا معاً، أو تقدم أحدهما على الثاني؟ فإن كان الإشكال على هذا الوجه، قال الشيخ القفال -فيما حكاه الصيدلاني-: النكاحان مفسوخان. قال الصيدلاني: الوجه

_ (1) في الأصل: إلا الأب أو الجد إذا اجتمعا ... (2) في الأصل: كفءاً أوزوجاً. (3) ر. الأشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب: 2/ 697 مسألة رقم: 1248.

عندي أن يقال: لا ينفسخ حتى يفسخ القاضي، لاحتمال أن أحدهما صحيح سابق، وإنما نعلم ارتفاع النكاح إذا فسخ القاضي. وحقيقة هذا الفصل يستدعي أمرين، أحدهما - التأنق في التصوير، فليقع هذا الإشكال حيث يوءس من البيان فيه، فإذا تحقق اليأس من التبيين، ففيه ما ذكره الأصحاب. وإن كان التبيين مأمولاً، فيجب البحث، وهذه المسألة تنتفي عن الشارع، فإن الغرض في هذا الركن بيان الحكم مع الاعتراف بحقيقة الحال، فهذا وجه التصوير. أما الحكم؛ فقد اختلف أصحابنا في المسألة. فقال بعضهم: إذا تحقق الإشكال، ارتفع العقد، والأمر مفوض إلى علم الله تعالى. فإن وقع في علمه وقوعُ العقدين معاً، [فلا] (1) عقد، حتى يحتاج إلى فرض قطعه. وإن ترتبا في علم الله تعالى، واطرد الإشكال في حقنا، [بين] (2) وقوعهما معاً وبين ترتبهما (3)، فالعقد الأول يرتفع إذا تحقق اليأس من التبيّن فيه، ولا حاجة إلى إنشاء فسخ، وهذا يوجّه بأن إمضاء العقد غير ممكن. وإنما تمس الحاجة إلى إنشاء فسخ إذا كان تعذر إمضاؤه، وكان يمكن تيسّره بوجه من الوجوه؛ فإذ ذاك يُفرض إنشاء فسخ فيه، على ما يوجبه الشرع ويقتضيه. وذهب آخرون إلى أنه لا بد من إنشاء الفسخ؛ فإن العقد يجوز أن يكون منعقداً إذا فرض الترتيب، فلا خلاص على [التحقيق] (4) إلا بإنشاء الفسخ. وهذا التردد يضاهي من وجه تحالفَ المتبايعين، فإن أئمتنا بعد التحالف، اختلفوا؛ فمنهم من قال: ينفسخ العقد. ثم القول فيمن [يفسخ] (5) العقد، قد استقصيناه في موضعه من كتاب البيع.

_ (1) في الأصل: ولا. (2) في الأصل: تبين. (3) في الأصل: وبين ترتيبهما معاً. (4) في الأصل: تحقيق. (5) في الأصل: ينفسخ.

فإن قلنا: في مسألتنا يرتفع العقد من غير حاجة إلى رفع، فلا كلام. وإن قلنا: لابد من إنشاء الفسخ؛ فمن ينشئه؟ هذا فيه فضل نظر. فإن رفعوا الأمر إلى السلطان، وفوضوا إلى رأيه، ففسخ، نَفَذ، ولا كلام. وإن طلق الزوجان، انبتَّ ما كنا نقدره من عقد إن كان، ولكن يُعقب هذا إشكالاً في المهر، سنذكره، إن شاء الله تعالى. وإن لم يطلقها، وأراد كل واحد منهما أن يفسخ من غير رفع إلى مجلس الحكم، وإنما يؤثران الفسخ حتى يسقط المهر إذ ثبت، فكيف السبيل فيه؟ والمرأة بنفسها لو أرادت الفسخ، فإنها المطلوبة بالعقد المسترقة به، فكيف السبيل؟ من أصحابنا من قال: لا ينشىء الفسخ إلا الحاكم أو محكّم إن رأينا التحكيم؛ فإن هذا تعيين لمكان إشكال في مظنة لَبْس، والواقعة حَرِيَّةٌ بالاحتياج إلى مجتهد ناظر، ولأمثالها انتصب القضاة فياصلَ في الخصومات، هذا وجه. وإليه ميل الصيدلاني في مجموعه (1). ومن أصحابنا من قال: للمرأة أن تفسخ من غير حاجةٍ إلى الرفع إلى السلطان؛ فإنها تفسخ النكاح بتعذر الاستمتاع بالجَبّ. وإن كان يبقى نوع من التمتع في المجبوب، فلأن نُثبت لها الفسخ بالإشكال الذي لا رفع له أولى. ومن أصحابنا من قال: لها الفسخ كما ذكرنا. وللزوجين أن يفسخا أيضاًً، كما يفسخان برقها؛ فإن الإشكال شمل جماعة، فانتظم من هذا خلاف: من الأصحاب من قال: الفسخ إلى القاضي لا غير. ومنهم من قال: للمرأة أن تفسخ، وليس للزوجين الفسخ. ومنهم من أثبت لها وللزوجين الفسخ، ولم يشترط أحد اجتماعهم، فيكون فسخَ تراضٍ. هذا منتهى القول في صورة واحدةٍ من القسم الذي نحن فيه، وهو إذا اقترن الإشكال ولم يطرأ (2) على بيان.

_ (1) هذا الوجه هو المعتمد، قال عنه الرافعي: هو الأشبه (ر. الشرح الكبير: 8/ 6)، والنووي: الأصح (ر. الروضة: 7/ 89). (2) لم يطرأ على بيان: المعنى أن الإشكال اقترن بوقوع العقدين، ولم يطرأ بعد معرفة سَبْق أحدهما ثم أشكل السابق بعد العلم.

7929 - فأما الصورة الثانية؛ فهي: أن نعلم أن أحد العقدين تقدّم، ولكن لم يتعين لنا المتقدم منهما قط، وتحقق اليأس من البيان؛ ففي المسألة قولان: أحدهما - إن هذا بمثابة الصورة الأولى، وهي: إذا أشكل الأمر، فلم ندر أوقع العقدان معاً، أو ترتب أحدهما على الثاني. وقد سبق التفصيل فيه. والقول الثاني - أنا نتوقف، ويقف العقد بينهما أبداً حتى يطلقاها. توجيه القولين: من ألحق هذه الصورة بالأولى، احتج بوقوع الإشكال وتعذّر إمضاء العقد، واستيقان التقدم لا يغني شيئاً مع اللبس في المتقدم. وإذا كنا نتسبَّب إلى رفع [العقدين مع] (1) إمكان وقوع أحدهما، فينبغي أن نفعل ذلك مع تحقق التقدم. ومن نصر القول الثاني، فصل بين الصورتين، وقال: إذا تحققنا صحة عقد في الصورة الثانية، فالهجوم على رفعه أو الحكم بارتفاعه لا معنى له، إلا [بطريقٍ] (2) شرعي، وحكمُ الشرع أن نثبت [ما] (3) نتبيّنه، ونتوقف فيما يُشكل، فإن ترتب على صورة الإشكال ضرر، فكم من ضرر يحتمل إذا لم يوجد في الشرع له رافع، وإذا كنا لا نستبعد على الرأي الأصح أنه تحبس المعتدة التي تباعدت حيضتها إلى سن اليأس، مع أداء هذا إلى [أن] (4) يبطل (5) شبابها من مراهقتها وإعصارها (6) إلى انتهائها إلى أقصى أسنان الياس في بنات أعصارها، وهذا هو العذاب الحاقّ، ولكن لم نجد له دافعاً شرعياً؛ فألزمناه، وليس هذا كالصورة الأولى؛ فإنا لم نتحقق فيها وقوع عقد، فتسامحنا في الحكم بالارتفاع لو وقع، وهذا الفرق يتجه على طريقة القفال؛ فإنه يحكم بارتفاع العقد لو وقع في الصورة الأولى من غير حاجة إلى إنشاء رفع. فلو قال قائل: لِم قال القفال في الصورة الأولى بتقدير ارتفاع العقد؟ وهلا قال:

_ (1) في الأصل: إلى رفع العقد أم إمكان وقوع ... (2) في الأصل: بطرق. (3) في الأصل: فيما. (4) زيادة من المحقق. (5) ييطل: يضيع، من قولك: بطل الشيءُ يبطُل: ذهب ضياعاً (المعجم). (6) أعصرت الفتاة: بلغت شبابها وأدركت (معجم).

الأصل عدمه؟ قلنا: ليس ما قاله القفال قولاً جازماً، ولكنه قال: لو قدرنا وقوعه، ارتفع. ومن قال: ننشىء الرفع، قد يتوجه عليه السؤال الذي ذكرناه؛ فإنه أوجب رفعاً -على ما فصلناه- فيقال له: هلا أخذت بعدم العقد؟ وجوابه: إن العقد واقع، فإنا إن أشرنا إلى هذا، فقد جرى معه صورة العقد، وكذلك إن نظرنا إلى الآخر، وعدم الانعقاد أمر محال على تقدير وقوع العقدين معاً، وقد يتجه استبعاد تصور هذا، فلا يمكن البناء على أن لا عقد، وليس كما لو أشكل على المرأة أنها هل نكحت أم لا؛ فإن الأصل في هذا المقام أن لا عقد، فلا يجب التسبب إلى رفعٍ في هذه الصورة على تقدير وقوع العقد. وكل ما ذكرناه فيه إذا اقترن الإشكال، ولم يطرأ على بيان. 7930 - فأما إذا تقدم أحد العقدين، وتعيّن، ثم أشكل ما تعيّن وأيس من التبيّن فيه؛ فالذي قطع به الأئمة أنا نقف العقد، ولا نوجب التسبب إلى رفعه، بخلاف ما إذا اقترن الإشكال، وليس يخفى الفرق على من يحاوله. وسمعت شيخي -في آخر العهد به- يحكي عن بعض الأصحاب إجراء القولين في هذه الصورة -وإن طرأ الإشكال- إذا تحقق اليأس من الخلاص منه. وهذا غريب! وذكر الأئمة نظير هذه الصور في الجمعتين إذا عقدتا في بلدة لا تحتمل إلا جمعة واحدة. وقد ذكرت تلك التقاسيم في مواضعها، ولا أذكر منها هاهنا إلا ما ينبه على فائدة. قال المحققون: إذا تيقنا تقدم جمعة ولم تتعين لنا، فهذه الصورة الأوْلى بأن يؤخذ فيها بصحة جمعة، وحكم الأخذ بذلك أن نوجب على أهل البلدة إقامة الظهر، ونمنعهم عن إقامة جمعة أخرى. فإذا تقدم أحد النكاحين، وأشكل، يتجه رفع النكاحين، والفرق أن الجمعة بعد ما صحت لا تفسخ، والنكاح بعد انعقاده يتصور فسخه بأسباب. فإذا اعتقد المعتقد كون الإشكال من أسباب الفسخ، لم يكن مبعداً. وهذا في الجمعة بعيد، فينتظم من ذلك أن الوجه القطع بأن إحدى الجمعتين إذا

تقدمت، فلا سبيل إلى عقد جمعة أخرى، وعلى الناس إقامة الظهر، فإن أحداً منهم ليس عالماً بأنه أقام الفرض الذي عليه. هذا وجه القياس، وإن كان طريق القولين في الجمعة مشهورة. وقد انتجز ركن واحد من أركان المسألة، وهو بيان حكم الإشكال، عند تقدير الاعتراف به، من غير فرض نزاع. 7931 - ولم يبق في هذا الركن إلا الكلام في النفقة، وإذا انتهى التصوير إلى حالة لا يُحكم فيها بالانفساخ ولا يثبت فيها حق الفسخ إنشاءً، فتبقى المرأة محتسبة (1) في نكاح، ولسنا ندري أن الصحيح نكاحُ هذا، أم نكاحُ ذاك؟ وقد اعترفوا بالإشكال، وإذا رفعت الواقعة على هذه الصورة إلى الحاكم، وقع الاعتراف في موضعه بالإشكال، فعلى من يقع القضاء بالنفقة؟ قال الأئمة: إذا طلق الرجل إحدى امرأتيه، وأشكل عليه المطلقة منهما، فيلزمه أن ينفق عليهما جميعاً، فإن كل واحدة محتسبة عليه، وإن أخذ آخذٌ حكمَ النفقة من هذه المسألة، قيل له: كانت كل واحدة منهما مستحِقة للنفقة، ولم يتحقق في حق كل واحدة انقطاع النكاح، وزوال السبب الموجِب للنفقة، فلكل واحدة أن تطلب نفقتها. وينضم إلى هذا أن الزوج هو الذىِ طلق، فكان هو السبب في جرّ هذا الإبهام. وقد يعترض للفقيه الالتفات إلى النشوز؛ فإنه إذا تعذر الاستمتاع [بها] (2)، سقطت النفقة، والاستمتاع متعذر على الزوج في المسألة. وإن طلب طالب الفرق، وقال: الناشز عاصية بنشوزها، عورض بجنون المرأة إذا كان يمتنع بسببه الاستمتاع بها، فإن النفقة تسقط، وإن لم تنتسب المرأة إلى معصية. فهذا الذي ذكرناه وجوه التنبيه على الطلب، والممكنُ بعد ذلك وجهان: أحدهما - أن النفقة واجبة عليهما؛ إذ جرى في حق كل واحد منهما صورةُ عقد، ولم يوجد من

_ (1) كذا. ولعل الصواب: "محتبسة". (2) في الأصل: به.

جهتها امتناع ولا صفة ذاتية يعزى إليها الامتناع، ويستحيل أن نوجب نفقتين، وليس أحدهما أولى بالالتزام من الثاني، فلا وجه إلا فضُّ (1) النفقة عليهما. هذا وجه. ويجوز أن يقال: لا نفقة أصلاً؛ فإن كل [واحدٍ] (2) منهما يقول: إن نكحت وألزمتموني حكم نكاحي فمكّنوني من مستمتَع، ثم أَلْزموني النفقة، فإذا تعذر المستمتَع من كل وجه، فلا معنى لإيجاب النفقةَ. والظاهرُ بعد هذه المباحثات الحكمُ بسقوط النفقة عن كل واحد منهما؛ فإن المرأة لا تستيقن استحقاق النفقة على واحد منهما، وكل واحد منهما ليس يستيقن وجوب النفقة عليه، والأصل براءة الذمة. فإن قيل: قد جرى في حق كل واحد منهما صورة عقد، وهي موجبة النفقة على الجملة، فهذا ثابت في حقه، وطريان الشك من جهة عقد جرى مع آخر، ينبغي ألا يسقط حق النكاح عنه؟ فالجواب عن ذلك: أنه ليس من الإنصاف النظر إلى صورة العقد في كل واحد منهما، ولكن ينبغي أن يشمل النظر الواقعة بكمالها، ولا يكون العقد ملزماً مع عقد في مقابلته، هذه صورة الواقعة. وهذا يناظر أصلاً سبق تمهيده؛ وهو أنا إذا فرّعنا على أن النجاسة وإن غلبت على الظن، فلا حكم لها ما لم تستيقن، فلو كان مع الرجل إناءان، أحدهما فيه ماء طاهر، والثاني فيه ماء نجس، وأشكل الطاهر منهما؛ فلو أفردنا استعمال إناء أخْذاً بأن هذا في نفسه غيرُ مستيقن النجاسة، لم يجز، ولكن يثبت الحكم من تقابل الإنائين، فصورة الواقعة إناء في مقابلة إناء، ويجوز أن يقال: إذا كان يثبت حكم النجاسة بسبب مقابلة نجس طاهراً، فينبغي أن يثبت حكم اللزوم بسبب مقابلة عقد صحيح عقداً فاسداً، ولكن هذا -على ما فيه من التخييل- فيه تلبيس؛ فإن المحكوم عليه شخص واحد، والإناءان محل الحكم، وهاهنا المحكوم عليه شخصان، كل واحد منهما متميز عن الثاني، فالوجه: إسقاط النفقة، ويترتب عليه أمر المهر، فالمرأة لا تعلم يقيناً استحقاق المهر على واحد منهما بعينه، وكل واحد منهما لا يعلم

_ (1) فضُّ النفقة: أي قسمتها عليهما. (2) في الأصل: "واحدة".

أن المهر يلزمه، والواقعة مشكلة، والاعتراف بالإشكال واقع، ولا سبيل إلى التزام مهرين، ولا إلى قسمة مهر، والنشوز لا مدخل له في المسألة، فالوجه: أن واحداً منهما لا يطالَب بشيء، مع القطع بأن مهراً واحداً وجب على أحدهما. فهذا ما لا ينقدح على قياس الأصول غيره. ولا حاجة مع هذا إلى الاستشهاد بمسألة الطائر إذا طار، فقال زيد: إن كان هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق، فلا نحكم بوقوع الطلاق، مع العلم بوقوعه في علم الله تعالى على زوجة أحدهما. وإنما لم نؤثر الاستشهاد بهذه المسألة مع موافقة الحكم؛ لأن قول كل واحد منهما على صورة، لو استقلت وانفردت، لأوجبت المهر والنفقة، فهذا الفرق يقع بين المسألتين، والفقه المعتمد في نفي المهر والنفقة وراء ذلك، والأولى اعتماده والاكتفاء به. وقد تم ركن واحد. 7932 - فأمّا الركن الثاني: وهو حريٌ بالاعتناء به - وهو القول في التداعي والتنازع، والذي قدمناه فيه إذا اعترف الجميع بالإشكال؛ فإذا كان يدّعي كل واحد من المتزوجَيْن أنه السابق؛ فأول ما تساهل الأصحاب فيه تحقيق القول فيمن توجه الدعوى عليه، وهذا سر الفصل ومنشأ الإشكال، وفيه اختبطت الطرق، ونحن نجري على طريقتنا في نقل ما ذكره الأصحاب، وذكر ما فهمناه من فحوى كلامهم، حتى إذا نجز، أتبعناه البحثَ وطلبَ التحقيق. قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: إذا ادعى المتزوجان السبق، وكان كل واحد منهما يدعيه، ودار هذا التفاوض بينهما، ولم يعلّقا دعوييهما بالمرأة؛ فالقاضي يحلّفهما على ما سنصف كيفية التحليف. صرح بهذا في مجموعه وفرّع عليه. وقال غيره (1): إذا تفاوض المتزوجان ولم يعلّقا دعوييهما بمحل. فلا يلتفت إليهما، ولا تسمع دعواهما؛ فإن وضع الدعوى في الشريعة يقتضي ارتباطاً

_ (1) غيره: أي الجمهور، صرح بذلك النووي (ر. الروضة: 7/ 90).

بالمستحَق عليه، ثم [يقدَّرُ] (1) من المستحق عليه إقرارٌ أو (2) إنكار، وتطّرد الخصومة على نظامها، وليس واحد من المتزوجين مدعياً استحقاقاً على صاحبه، وليس في يد واحد منهما ما يدعيه صاحبه، وهذا منقدح حسن على قياس الدعاوى وقواعد الأصول. 7933 - ثم استتم هؤلاء هذا المسلك، وقالوا: إن وقعت الدعوى [على] (3) المرأة، سمعت، كما سيأتي تفصيلها. وإن وقعت الدعوى على الولي المزوِّج، نُظر: فإن لم يكن الولي مجبراً، لم تسمع الدعوى، وإن كان الولي مجبراً؛ ففي سماع الدعوى عليه وجهان: أحدهما - أنها لا تسمع؛ فإن الولي ليس مستحقاً عليه، وإنما المدعى عليه قولٌ (4)، لو ثبت، لم يتعلق بالقائل استحقاق. وهذا هو القياس. ومنهم من قال: تسمع الدعوى؛ فإن المدعى عليه لو أقر قُبل إقراره، إذ هو مجبِر، ومن يملك عقداً يملك الإقرار. والغرض من عرض الأَيْمان تحصيل الإقرار؛ فإن ذا الدِّين قد يرعوي عن اليمين، ولا يُقدم على اليمين الكاذبة. فإذا كان المجبِر مقبول الإقرار، ونحن نرعى أن نحمله على الإقرار بسبب التحليف، ساغ تحليفه. وهذا الاختلاف لا يختص بمسألتنا في فرض عقدين، ولكن من ادعى على إنسان أنه زوّج ابنته البكر، ففي سماع الدعوى الخلاف الذي ذكرناه. فهذا ما ذكره الأصحاب. 7934 - ونحن نقول: طريقة الصيدلاني بعيدة عن قياس الأصول. والذي أراه فيها أنهما إذا كان كل واحد منهما يدعي على المرأة ويعتقد ذلك، وكان الرجوع إليه ممكناً، فلا يسوغ لذي تحصيل، أن يقدر هاهنا تفاوضاً وتحالفاً من غير مراجعة.

_ (1) في الأصل: تعذر. (2) في الأصل: إقرار وإنكار. (3) في الأصل: مع. (4) قول: أي قوله: زوجتك ابنتي.

فأما إذا اعترفا بأن الأمر مشكل عليها، فلا يتأتى منهما ربط دعوَيْهما بها، فإذا تفاوضا بينهما قُدِّرت المرأةُ كالشيء المدعى الذي لا يقر ولا ينكر، ففي هذا المقام قد يتعلق فكر الفقيه بالتحليف. وإن كانت اليد لا تثبت لواحد منهما عليها، ولكنهما إذا ارتفعا إلى مجلس القاضي، واعترفا بالتباس الحال على المرأة، وادعى كل واحد منهما السبق، فلو لم يحلّفهما، لتعطل حقاهما. فهذا في الصورة التي ذكرناها محتمل. يجوز أن يقال: يحلفهما القاضي، ويجوز أن يقال: لا يحلفهما، فإنه لا مرتبط لدعوييهما بمن يجب ربط الدعوى به، فهذا هو التحصيل في متعلق الدعوى، والله أعلم. ثم إن جرينا على التحليف في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه [يحلّفهما] (1)، وينقدح في البداية (2) تخير القاضي والإقراع؛ إذ لا مزية لأحدهما على الثاني، فإن حلفا أو نكلا، فقد أشكل الأمر، وعاد التفصيل إلى ما ذكرناه من اعترافهم بالإشكال. وإن حلف أحدهما ونكل الثاني، قضينا للحالف بالزوجية. هذا تفريع تحليفهما إذا لم يعلِّقا دعوييهما بالمرأة [وعلمها] (3) بالسبق. 7935 - فأما إذا علقا دعوييهما بالمرأة وادعى كل واحد منهما علمها؛ فللدعوى صيغتان: إحداهما - أن يتعرضا للعقد، والعلم بالسبق فيه. والثانية - ألا يتعرضا، ولكن يدّعي كل واحد منهما [عليها] (4) الزوجية المطلقة. فأمّا إذا ادّعى كل واحد منهما علمَها بالعقد السابق، فهي لا تخلو: إما أن تقر إذا ادعى أحدهما، أو تنكر، فإن أقرت -وليقع التفريع على قبول إقرارها- فإذا أقرت لمن ادعى عليها ابتداء، نفد إقرارها، وحكم بأنها زوجة المقَرّ له. وهل للثاني أن يحلفها؟ قال الأئمة: هذا يبتنى على أنها لو أقرت للثاني ورجعت

_ (1) في الأصل: يحلّفها. (2) في البداية: أي من يبدأ القاضي تحليفه منهما. (3) في الأصل: وعلمهما. (4) في الأصل: عليه.

عن إقرارها للأول، فلا يقبل رجوعها، ولكنها هل تغرَم للثاني شيئاً أم لا؟ فعلى قولين، مبنيين على ما لو قال صاحب اليد في الدار: غصبت هذه الدار من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلّمة إلى الأول، وهل يغرَم للثاني قيمة الدار، بسبب انتسابه إلى إيقاع الحيلولة بين الثاني وبين الدار؟ فعلى قولين، تمهد ذكرهما تأسيساً وتفريعاً في كتاب الغصوب وغيره. فإن قيل: لو شهد شهود على الطلاق المُبين ونفذ القضاء بشهادتهم، [ثم] (1) إنهم رجعوا عن شهادتهم، فما قولكم في تغريمهم؟ قلنا: نغرِّمهم، قولاً واحداً؛ فإن التفويت الذي حصل بسبب شهادتهم لا مستدرك له، وليس كذلك الإقرار بالغصب؛ فإن المقَرَّ له الأول يُتصوَّر أن يصدِّق المقَرَّ له الثاني، فيسلِّم الدار له، وقد يفرض قيام بينة على وفق مراد الثاني، فلما تُصوّر مستدركٌ؛ اختلف القول. فإن قيل: لم ألحقتم الإقرار بالزوجية بصورة القولين؟ قلنا: لأن الأول يتصور أن يصدق الثاني. فإن قيل: فلو اتفق ذلك، فلم تصدق المرأة؟ وقد سبق منها ما يدل على تحريمها على الثاني، فهلا قلتم: إن هذا بمثابة ما لو ادعت المرأة رضاعاً محرِّماً، ثم كذّبت نفسها، وأرادت أن تنكح من زعمت أنها محرَّمةٌ عليه، فإن ذلك لا يقبل منها؟ قلنا: إذا ذكرت رضاعاً، فقد أقرت بحرمة ثابتة، والإنكار [والإقرار] (2) في مسألتنا يتواردان على كل ممكن. فإذا أقرت بعد الإنكار، سمع ذلك منها. ولو ادعى رجل زوجية امرأة، فأنكرت، ثم أقرت، سمع إقرارها [مع أنها] (3) نفت حِلاًّ، ثم اعترفت به. وكانت كمن ينكر حقاً، ثم يعترف به. وستأتي أمثال ذلك مشروحة، إن شاء الله عز وجل. وإن حكمنا بأنها تغرم للثاني لو أقرت [له] (4)، ففي المقدار الذي تغرمه قولان،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: بأنها. (4) في الأصل: به.

وترتيب مذهب. والقول الوجيز الكافي هاهنا؛ أن مقدار ما تغرمه هاهنا، كمقدار ما نغرِّمه للشهود على الطلاق، إذا رجعوا بعد نفوذ القضاء. 7936 - ونعود إلى غرضنا فنقول: إن قلنا: إنها لا تغرم للثاني لو أقرت له، فلا نحلفها للثاني، لأنه لا يستفيد بتحليفها، لا زوجية ولا غيرها، ولا معنى للتحليف الذي لا يفيد. وإن قلنا: إنها تغرم (1) للثاني؛ فله أن يحلِّفوها رجاء أن تقر أو [تنكل] (2) عن اليمين، فتردّ اليمين على الثاني، ويستحق عليها غرماً. فإن قلنا: الثاني يحلِّفها، فلا يخلو؛ إما أن تحلف أو تنكل عن اليمين، فإن حلفت، انفصلت الخصومة، وثبتت الزوجية للأول، وانقطعت خصومة الثاني، وإن نكلت عن اليمين، ردت اليمين على الثاني، فإن نكل عن اليمين، كان نكوله بمثابة حلفها. وإن حلف يمين الرد؛ فقد حكى الصيدلاني قولين في نكاح الأول، هل ينفسخ ويثبت للثاني، أم لا ينفسخ، ولكنها تغرم للثاني؟ أحدهما -وهو محكي عن القديم- أن نكاح الأول ينفسخ، ويثبت النكاح في حق الثاني. والقول الثاني - مخرج على القياس الجديد، وليس منصوصاً عليه، وهو أن النكاح لا ينفسخ أصلاً، ولكن فائدة يمين الرد، ثبوت الغرم. ثم بنى أصحابنا هذين القولين، على أن يمين الرد كالبيّنة أو كالإقرار؛ قالوا: إن جعلناها كالبينة، ارتفع النكاح الأول، وثبت الثاني، كما لو قامت بينة على موافقة دعوى الثاني. وإن قلنا: يمين الرد كالإقرار، فلو أقرت للثاني، لم يفد إقرارها ارتفاعَ النكاح الأول، ولكنه يفيد تغريمها. قال الشيخ أبو بكر (3): الصحيح ما خُرّج في الجديد؛ لأنا وإن جعلنا يمين الرد

_ (1) في الأصل: أنها لا تغرم. (2) في الأصل: تنكر. (3) الشيخ أبو بكر: أي الصيدلاني، صرح بذلك النووي (ر. الروضة: 7/ 92).

كالبينة؛ فذاك في حق الناكلِ والحالفِ لا يعدوهما، فأما تنزيل يمين الرد منزلة البينة في حق ثالث سواهما، فلا سبيل إليه. وتحقيق ذلك: أن الثاني لا يحلف يمين الرد إلا بسبب نكولها عن اليمين، فلو قضينا بيمين الرد على المقر له (1)، لكان ذلك قضاء عليه بسبب قول المقرة؛ فإن عماد يمين الرد نكولها، ولا نأمن أن تواطئه، فيحلف وتنكل، ولا يلزمها من النكول شيء، فيحلف الثاني، وتثبت له الزوجية. وإن ثبتت الزوجية للثاني أن يقول (2): اليمين حجة في الخصومة، والخصومة واحدة، والمتنازع زوجية واحدة، فلا يمتنع أن تكون يمين أحد الخصمين أولى وأقوى من إقرار المدعى عليه لأحدهما. فهذا منتهى ما ذكره الأصحاب. وهو متجه حسن. والذي [يردّده] (3) الأئمة من ذكر انفساخ النكاح الأول، كلام متجوَّزٌ به. ومعناه: أنا نتبين أن النكاح الأول منتف من أصله، وأن الصحيح هو النكاح الثاني. 7937 - والذي ينقدح في تتمة هذا الكلام؛ أنا إذا فرعنا على القديم، وحكمنا بأن النكاح في حق الأول ينتفي، ويثبت في حق الثاني، فلا يمتنع أن نقول: إنها تحلّف في حق الثاني، وإن قلنا: لا غرم عليها؛ فإنا نبغي بالتحليف فائدةَ ثبوت (4) النكاح في حق الثاني إذا كان ممكناً، فهو أظهر في الفائدة من تقدير غرم، وكأن إقرارها الأول لا يستقر ما لم تحلف للثاني؛ فإن يمين الثاني أقوى من إقرارها للأول. وإنما يتجرد الإقرار نافعاً إذا لم يزدحم عليها خصمان، وقد جرى في حق كل واحد منهما عقد، هذا منتهى الكلام. ثم قال الأئمة: إن كان الدعوى عليها في العقد والسبقِ فيه، فلا تنتظم الدعوى

_ (1) على المقر له: أي الأول. (2) أن يقول: أي الثاني هو الذي له أن يقول. والعبارة قلقة، ولعل فيها سقطاً. (3) في الأصل: يرده الأئمة. (4) في الأصل: فائدة وثبوت.

ما لم تربط بعلمها، وهذا جار على قياس ممهد، وهو أنها [لا] (1) تتعرض -لو أنكرت العلم- لنفي فعل الغير، ولا يتأتى نفي فعل الغير بتّاً، وإنما الممكن منه نفي العلم به. وهذا بيِّنٌ وكل ما ذكرناه إذا أقرت للأول. فأما إذا أنكرت العلم في حق الأول، فتحلف؛ فإن حلفت، انفصلت بالخصومة مع الأول. ثم إذا قالت في يمينها: "بالله لا أعلم السابق بالعقد، ولا علم لي بتاريخ العقدين". فإذا جاء الثاني، وأراد أن يحلفها مرة أخرى، نُظر: فإن حضرا مجلس الحكم، ووقع تراضيهما على أن يحلفها أحدهما، فتعرضت في يمينها لنفي علمها بتاريخ العقدين، كفى ذلك؛ فلا تحلف مرة أخرى، ثم يؤول الأمر إليهما، وقد سبق الكلام في أنهما يتحالفان، وكيف السبيل في تحالفهما. والذي نجدده أنا ذكرنا تردد الطرق في أن الرجلين لو تفاوضا بينهما ولم يعلقا دعوييهما بالمرأة، وأرادا أن يتحالفا؛ فهل يسوغ ذلك؟ وإذا علقا دعوييهما في الصورة التي انتهينا إليها بالمرأة، ثم حلفت، فيظهر في هذه الصورة أن يتحالفا بينهما؛ من جهة أن تحالفهما يقع بعد ارتباط الدعوى بالمرأة، والذي كنا نذكره أن يبتديا بالتحالف من غير تعرض لها، وفي كلام بعض الأئمة إشارة إلى أنها إذا حلفت، [ونفت] (2) علمها؛ فالرجلان لا يتحالفان، وقد أفضى الأمر إلى الإشكال. وهذا زلل (3) عندي؛ فإن الحكم بانفصال الخصومة بمجرد يمينها لا معنى له، وقد قامت الخصومة أولاً معها، ولم تنكر جريان أحد العقدين على الصحة، فلا وجه لقطع تعلقهما بأيمان الإثبات بسبب حلفها على نفي العلم، هذا كلام فيه إذا اجتمعا، ورضيا بأن تحلف يميناً واحدة. فأما إذا حضر أحدهما، وادعى علمها، فحلفت، ثم حضر الثاني، وأراد أن يحلفها في حق نفسه مرة أخرى؛ فإن حكمه متميز عن حكم الأول، ويتصور أن يرضى

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: وثبت. (3) حكى النووي هذا عن الإمام، واختاره. (ر. الروضة: 7/ 91).

أحدهما بالمتاركة والإعراض، ويريد الثاني الرفع إلى القضاء، وهذا يجري في كل خصمين يدعيان على شخص شيئاًً. ومن أصحابنا من قال: إذا حلفت أولاً - على أنه لا علم لها بتاريخ العقدين، فالذي مضى كافٍ، وليس للثاني أن يحلفها مرة أخرى؛ فإن الخصمين وإن تعددا فالواقعة لها حكم الاتحاد ونفيها علمها يشمل [العقدين] (1) والخصمين جميعاً، فلا معنى لتكرير التحليف. والذي يحقق ذلك: أنها لو حلفت في حق الثاني، لكان يمينها مع الثاني على صيغة يمينها مع الأول. هذا إذا حلفت مع الأول. فأما إذا نكلت لمَّا حلفها الأول؛ فالوجه أن يحلِف من يدعي عليها، ثم لا بد وأن يحلف أنه السابق بالعقد. والذي ذهب إليه المحقون: أن ذلك يكفيه، ولا حاجة إلى التعرض لإثبات علمها بذلك؛ فإنه إنما ربط دعواه بعلمها أولاً؛ من جهة أنه لا يتأتى تحليفها إلا على هذا الوجه، فكانت اليمين على صيغة الدعوى، والدعوى على موافقة اليمين، فإذا نكلت وانتهت الخصومة إلى تحليف المدعي يمين الرد، فينبغي أن يتعرض في يمينه لإثبات مقصوده. ويتصل بهذا الطرف: أنهما لو كانا حاضرين، ووقع الرضا بأن تحلف لهما يميناً واحدة على نفي الدراية والعلم؛ فإذا نكلت، عاد الكلام في تحالفهما إلى ما ذكرناه فيه إذا حلفت. فإن قيل: قد استوى أثر حلفها ونكولها؛ فإنهما في الصورتين يتحالفان؟ قلنا: نعم هو كذلك؛ فإن الأمر لا ينفصل بجهلها وإنما الغرض بربط الدعوى بها، توقع إقرارها لأحدهما، فإذا لم تقر، وأصرت على عدم العلم، رجع الكلام إلى تحالفهما لا محالة. ولو أنها - لما ادعى أحدهما عليها العلم بالسبق، صرحت بالإنكار، وقالت للمبتدي منهما: لستَ السابق بالعقد؛ فهذا يكون إقرار للثاني بالسبق لا محالة (2)،

_ (1) في الأصل: الحقين. (2) حكى هذا النووي في الروضة واعتمده (السابق: 93).

فيعود الترتيب إلى إقرارها لأحدهما، وقد سبق في ذلك قول كاف. وكل ما ذكرناه فيها إذا توجهت الدعوى متعلقة بما جرى من العقد، وترتب عليه التعرض لنفي العلم، كما تقدم. 7938 - فأما إذا ادعى كل واحد منهما عليها زوجية مطلقة، دعوى باتّة، فهذا القسم يستدعي تقديم أصل، وهو: أن من يدعي عقد نكاح على امرأة؛ فقد اختلف قول الشافعي في أنه هل يجب على المدعي تفصيل الدعوى، وذكر الشرائط المرعية في صحة العقد؟ [وسيأتي بيان ما يجب فيه تفصيل الدعوى وما يجوز إطلاق الدعوى فيه] (1)، وقدرُ غرضنا الآن إشارة إلى الخلاف. ولو لم يتعرض المدعي للعقد ولكنه ادعى على المرأة أنها زوجته؛ فقد اختلف أئمتنا في ذلك: فقطع بعضهم بأن الدعوى مسموعة مطلقة على هذه الصيغة، ولا نكلف المدعي ذكر [الزوجية] (2) وتفصيلها واستقصاء شرائط الصحة. وذهب آخرون إلى أن المدعي يُكلَّف إسنادَ الزوجية التي يدعيها إلى عقد، ثم يؤمر -على أحد القولين- بذكر شرائط الصحة، كما تقدم. وقد ذكرنا في صدر الكتاب أن المرأة إذا أقرت بأنها زوجة فلان، فهل يقبل إقرارها مجملاً، أم لا بد من أن تذكر صفة العقد في إقرارها؟ فإن شرطنا في الإقرار التفصيل وذكر العقد، فإنا نشترط على حسب ذلك التفصيل في دعوى الزوجية مطلقة. والمسألة مفروضة في الواقعة التي نحن فيها، فلا نكتفي من المرأة بأن تنفي علمها، بل عليها أن تجيب جواباً باتّاً. ثم قال الأئمة: إذا كانت لا تدري، فلها أن تثبت قولها وتقول في جواب المدعي: "لست زوجتك"، ثم لها أن تحلف على حسب ذلك. وهذا من لطائف أحكام الدعوى؛ فإن الشرع يسوّغ القطع والبتّ في الجواب ممن لا يدري حقيقة الحال، والضابط في هذا الجنس: أنه إذا أمكن ربط الدعوى متعلقة بعلم المرأة،

_ (1) في الأصل: وسيأتي ذلك فيه، وفيما يسوغ إطلاق الدعوى فيه. والمثبت تصرف من المحقق. (2) في الأصل: الزوجة.

فغيّر المدعي صيغة الدعوى وجزمها، وأتى بها مطلقة، فتغيير المدعي صيغةَ الدعوى من ادعاء العلم إلى الجزم لا يغير حكمها. وهذا يناظر ما لو ادعى الرجل على وارث: أن مورّثك أتلف على مالاً، وعليك أن تغرم قيمته من التركة، فيحلف الوارث أنه لا يعلم أن أباه أتلف عليه، فإن لم يتعرض المدعي لذلك، وادعى على الوارث أنه يلزمه تسليم ألف من التركة إليه، فللوارث أن يحلف على البتّ؛ لا يلزمه تسليمُ ما يدعيه إليه. وإن فرعنا على أن دعوى الزوجية لا تسمع مطلقة، فإذا أسندت إلى عقد، فيعود التفريع إلى أنه لا بد من دعوى علمها، وقد مضى القول في ذلك مفصلاً، وبان ما يفضي إليه الخصام آخراً. وهذا نجاز الفصل، فإن نحن لم نذكر بعض الصور، فهو لدلالة ما ذكرناه عليه. والله المستعان. فصل قال: "ولو زوجها الولي من نفسه بأمرها، لم يجز ... إلى آخره" (1). إذا أراد الولي أن يتزوج وليته، وذلك يفرض في بني الأعمام من القرابة، وفي المعتِق والمعتَقة؛ فمذهبنا: أنه إذا أراد ذلك، ورضيت المرأة به زوجاً، فليس له أن يتولى طرفي العقد، فيزوّجها ويتزوجها. ولو وكل وكيلاً بتزويجها منه، فرام بذلك تصوير الإيجاب والقبول بين شخصين، أحدهما وكيله، والثاني هو؛ فهذا لا يسوغ عندنا أيضاً؛ فإن عبارة وكيله بمثابة عبارته، وعبارة الوكيل مستعادة في حق الموكِّل، فلا فرق بين أن يأتي هو بالعبارتين، وبين أن يفوّض لفظ الإيجاب إلى وكيله، فلا وجه إذا أراد التزوج؛ إلا أحد أمرين - أن يكون في درجته ولي إن كانت المسألة مفروضة في تزويج القرابات، أو في ورثة المعتقين، فيزوجها الولي الذي في درجته. هذا وجه.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 266.

والثاني في الإمكان -إن لم يكن في درجته ولي- أن يرفع الأمر إلى السلطان؛ حتى يزوجها منه. وهذا من منازل ولاية السلطان. قال أبو حنيفة (1): للولي أن يتولى طرفي العقد. ثم له ولأصحابه تردد يتعلق بمقتضى الألفاظ. قال أبو حنيفة: إذا قالت المرأة: "زوجني"، فله أن يتزوجها وإن لم تصرح في إذنها بذلك. وقال بعض أصحابه: لا يزوجها من نفسه ما لم تقل "تزوجني" أو "زوجني من نفسك". وإذا جوّزنا التوكيل بالتزويج على ما مضى، فلو أذن الولي والمرأة للوكيل حتى يتزوجها ويزوجها من نفسه، فهذا ممتنع عندنا؛ فإن التزويج إذا كان يقع من الولي، فهو أقوى، فإذا امتنع تولي الطرفين من الولي، فلأن يمتنع من [الوكيل] (2) أولى. ومعتمد المذهب، الذي عليه مدار التفاصيل: أن وضع العقد على أن يتعلق بالإيجاب والقبول، وهما تخاطبٌ بين شخصين، وتولّي الرجل طرفي العقد في حكم مخاطبته لنفسه، وهذا غير منتظم. 7939 - ولكن استثنى الشرع من ذلك تصرف الأب في مال الطفل؛ فيجوز للأب أن يبيع مال نفسه من طفله، ويقبل العقد له، ويجوز أن يبيع مال الطفل من نفسه، ويجوز أن يبيع مال الطفل من طفل آخر له، ويقبل العقد، فهذا مسوَّغٌ لكمال شفقته، والحاجة أيضاًً قد تمس إلى ذلك، ويعسر حمل الأب على مراجعة الوالي فيما يجِلّ ويدِقّ من تصرفات الأموال؛ فاقتضى مجموعُ ذلك اختصاصَ الأب لما ذكرناه، والإجماع يغني عن تكلف ما ذكرناه. والجد أبو الأب عند عدم الأب ينزّل منزلة الأب فيما ذكرناه. ثم اختلف أصحابنا في أن [الأب أو الجد إذا أراد] (3) أن يتولى العقد على -ما وصفناه- فهل عليه أن يأتي بشقّي العَقد، أم يكفيه الإتيان بأحدهما - بأن يقول: "اشتريت هذا من مال طفلي"، أو "بعت هذا من طفلي"؟ فمنهم من قال: لا بد

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 259 مسألة: 729. (2) في الأصل: الولي. (3) في الأصل: الأب والجد إذا أرادا.

من الإتيان بالعبارتين؛ فإنهما صورة، فلا يسوغ تغييرها. وإنما يختص الأب بأنه يتولاهما معاً. فأما إسقاط أحد الشقين؛ فإنه تغيير صيغة العقد بالكلية. ومن أصحابنا من قال: يكفيه الإتيان بأحد الشقين. ووجه ذلك أن قول القائل: "بعت" من جهة الصيغة مستقل بنقل الملك، وقول القائل "اشتريت" مستقل في فحواه بإفادة التملك، وإنما شرطنا لفظين بين المتعاقدين؛ من جهة أن أحدهما لا يقدر على [إلزام] (1) الثاني ما يريده، فأقام الشرع تخاطبهما مشعراً بتراضيهما على موجب العقد. فإذا كان الأب يستقل بنفسه في إيقاع العقد؛ فإيجابه قبول، وابتياعه بيع. ويجوز أن يعترض على هذا، فيقال: لو صح هذا؛ للزم أن يقال: إذا قال الطالب لمالك المتاع: "رضيت بأن تبيع مني". فقال: "بعت"، وجب أن يكفي ذلك، وإن لم توجد صورة القبول، وينقدح في الجواب عنه؛ أنا على هذا بنينا صحة العقد بالاستدعاء والإسعاف على قول، فإذا قال الطالب: "بع مني عبدك هذا بألف" فقال: "بعت" ففيه الخلاف المعروف، وسيأتي مشروحاً في باب ألفاظ النكاح، فإن جعلنا الاستدعاء والإسعاف عقداً، فقوله: "رضيت بأن تبيع مني" لا يبعد أن يكون كقوله: "بع مني". وسنذكر هذا وأمثاله من بعدُ، إن شاء الله تعالى. 7940 - فإذا تمهّد هذا؛ قلنا بعده: إذا أراد الولي أن يتزوج امرأة، نُظر: فإن لم يكن الإمامَ الأعظم، فلا سبيل أن يتولى الطرفين، ولكن إن لم يكن للمرأة ولي خاص، يرفع أمره إلى والٍ آخر يملك التزويج. وإن أراد الإمام الأعظم أن يتزوج امرأة بحكم الولاية، فهل له أن يتولى طرفي العقد؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما -وهو القياس- أنه ليس له ذلك؛ فإن ولايته ليست على رتبة ولاية الأب، وكذلك لا يملك الإجبار إلا في محل الضرورة، كما ذكرناه فى المجنونة، بل ولايته مؤخرةٌ عن ولاية عصبات النسب الذين يقعون حاشيةً منه. والوجه الثاني - أنه يملك تولي الطرفين؛ من جهة أنه والي الولاة. والناس قاطبة رعيته، من يلي منهم ومن يُولَى، وليس فوقه منصب حتى يفرض فيه وال، ويُقدر هو

_ (1) في الأصل: التزام.

مَوْليًّا عليه، وليس كذلك الولاة الذين هم دونه؛ فإن فوق كل واحد منهم والٍ، والإمام والي الجميع، وإليه المنتهى. فإن قيل: إذا أراد قاضٍ من القضاة أن يتزوج، فكيف سبيله؟ قلنا: لا يكفي أن يوكّل وكيلاً؛ فإن عبارة وكيله بمثابة عبارته، ولكن إن لم يكن في القطر حاكم غيره؛ فالوجه: أن ينصب حاكماً في ذلك. ثم القول في أن الحاكم؛ هل يجوز أن يكون محكّماً في عقد خاص، أم يجب تفويض نوع إليه؟ يأتي مستقصى في أدب القضاء، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: هلا أوجبتم عليه رفع الأمر إلى من فوقه، على القياس الذي أشرتم إليه في [الوالي] (1) الأعظم؟ قلنا: إذا نصب الحاكم حاكماً، فليس ذلك الحاكم منصوبه، وإنما هو منصوب الإمام الذي فوَّض إليه أن يلي ويولِّي. وإذا كان كذلك؛ فذلك المولَّى منصبه أعلى في الواقعة التي فيها الحاجة؛ فإنه محتكم. وليس كذلك الإمام؛ فإنه إذا نصب حاكماً، كان ذلك الحاكم مستنداً إليه. وهذا غير سديد؛ فإنا لم نختلف في أن الإمام يرفعه آحاد الناس إلى الحكام، ويقيمون عليه البينة، ويحلّفونه. وقد دُفع عليٌّ إلى مجلس شريح القاضي، فقضى شريح على علي. فقال علي: قضيت عليّ أيها العبد! وينقدح أن يقال: إذا ولّى الإمام شخصاً، وكان المسلمون ولَّوْه، فإنه مُولَّى من جهتهم، فمولاه مولَّى من جهتهم أيضاًً. وليس يتجه التعلق بإعتاق رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية ونكاحه إياها؛ من جهة أن خصائصه غالبة في المناكح، وقد لا نرى التعلق بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تظهر فيه خصائصه. 7941 - والجد لو أراد أن يزوج بنت ابنه من ابن ابن له في أسلوب آخر، وكانا يقعان أولاد عمومة، والجد بينهما، فهل يتولى طرفي النكاح؟ فيه وجهان مشهوران. أحدهما - أنه يتولى الطرفين كما يتولاهما؛ من جهة أن النكاح مخصوص بتعبد شرعي في ألفاظه، ولهذا لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج عندنا. فكما

_ (1) في الأصل: الولي.

يجب اتباع اللفظ في ذلك دون [المعنى] (1)، فكذلك يجب اتباع صورة العقد، وصورة العقد تستدعي لفظين في الإيجاب والقبول. فإن قلنا: الجد لا يتولى الطرفين، فلو وكّل وكيلاً في أحد الطرفين؛ فعلى وجهين. ذكرهما الشيخ أبو علي في شرح التلخيص؛ أحدهما - أن ذلك لا يكفي. فإن عبارة الوكيل عبارة الموكّل، كما مهدناه، فليرفع الأمر إلى الوالي حتى يتولى طرفاً، ويتولى هو طرفاً آخر. ثم يتفرع على ذلك أمر بديع؛ وهو: أن السلطان يتولى طرف التزويج، أو طرف التزوج، أو يتخير، أو الأمر موقوف على ما يفوِّض إليه، ويستدعي منه؟ يحتمل أن يقال: الأمر إلى السلطان في تولّي أي طرف شاء، ويحتمل أن يفعل ما يستدعَى منه، ولا ينقدح تعيين [شيء] (2) بمسلك من المسالك. واللائق بمراعاة منصب الولاة التفويض؛ فإن الأمر لا يختلف والاحتكام على الوالي لا وجه له. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أن للجد أن يوكّل في أحد الطرفين؛ فإن الولاية تامة لا قصور فيها، وإنما منعنا التولي لتعبد راجع إلى صورة اللفظ. وهذا يحصل بتعدد العبارة من جهة الجد والوكيل، وهذا لطيف حسن. وإن قلنا: الجد يتولى طرفي العقد، فقد ذكرنا خلافاً في أن الأب أو الجد إذا كان يتولى طرفي عقد من عقود الأموال، فهل يأتي بشقّي العقد، أم يكفيه أحدهما؟ فإذا فرض القول في النكاح، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: فيه وجهان كالوجهين في عقد المال. ومنهم من قال: يقطع هاهنا بوجوب الإتيان بالعبارتين، لما حققناه من التعبد الراجع إلى لفظ النكاح. 7942 - ولو وكل خاطب المرأة وكيلاً في التزوج، فوكّله ولي المرأة في التزويج، فصار موكّلاً من الجانبين، فهل يجوز ذلك، حتى يتولى طرفي النكاح بحكم التوكيل من الجانبين؟

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: "شك".

في بعض التصانيف في ذلك وجهان: أحدهما - أنه لا يجوز، وهو الظاهر؛ فإنما يحتمل مثل ذلك من وليٍّ تشمل ولايته الشقين جميعاً، كما ذكرناه في الجد والحافدين، والوكالة ضعيفة. وهذا ما كان يقطع به شيخي. والوجه الثاني - أن ذلك يصح، كما نص الشافعي عليه في التوكيل في الخلع؛ فإنه جوّز أن يكون الشخص الواحد وكيلاً من جهة الزوج في المخالعة، ومن جهة الزوجة في الاختلاع، على ما سيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. وهذا الوجه في نهاية الضعف. والذي يُهوِّن الأمرَ في رده قليلاً؛ أن شِق القبول في الوكالة [ضعيف] (1). وهو سفارة محضة، وكأنه يكتفى فيه بإخبار وإعراب عن حقيقة حال، فلا يكون الوكيل مخاطباً نفسه في التزويج، وإنما المحذور في قاعدة الفصل أن يكون الرجل [خاطِباً] (2) مجيباً. وعلى هذا يمتنع التوكيل في جانب البيع والشراء جميعاً، فإنه لو سوغّ، لكان الوكيل ملزماً نفسه ملتزماً، وذلك غير منتظم. وأبو حنيفة وإن جوّز أن يتولى الوكيل في النكاح الطرفين، لم يجوز هذا في البيع. وقد يعترض للفقيه شيء من مسألة التوكيل في الخلع، وإذا انتهينا إلى تلك المسألة، أعدنا وكالة البيع، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ويزوج الأب أو الجد البنت التي قد أيس من عقلها؛ لأن لها فيه عفافاً ... إلى آخره" (3). 7943 - وقد قدمنا في مراتب تصرف الولاة قولاً بالغاً في تزويج المجنونة، ونذكر في هذا الفصل تمامَ الغرض مشروحاً؛ فإن الذي تقدم في حكم التوطئة والتمهيد، والتفاصيل أحلناها على المسائل، فالوجه أن نذكر في تزويج المجنونة صوراً، ونوضح في كل صورة ما يليق بها.

_ (1) في الأصل: "ضعيفة" وهذا التصحيف على تفاهته أرهقنا كثيراً، فقد أوحى بأن هناك موصوفاً مؤنثاً ساقطاً رحنا نبحث في تقديره، حتى وجدنا الصواب في صفوة المذهب. (2) فى الأصل: مخاطباً. (3) ر. المختصر: 6/ 267.

فنقول: نفرض أولاً بنتاً مجنونة بلغت على الجنون، قال الأصحاب: إذا كان لها أبٌ أو جدٌّ، انفرد بتزويجها، ولم يراجع السلطان (1)، وهذا التفصيل (2) فيه نظر على المتأمل؛ وذلك أن الأب في حق الثيب العاقلة بمثابة الأخ؛ فإنه لا يجبرها، كما لا يجبرها الأخ. ثم إذا فرض الجنون، وجب ألا يختلف أمر النكاح والتزويج، ويكون الأخ والأب بمثابة واحدة، ومساق هذا يوجب أن يراجع السلطان كما يراجع الأخ السلطان، كما تقدم تفصيل ذلك، وظاهر النص يدل على أن الأب ينفرد بتزويج المجنونة إذا بلغت كذلك، من غير فرق بين أن تكون بكراً أو ثيباً، ولفظه في المختصر: "وسواء كانت بكراً أو ثيباً"، ولا خلاف أن الأب يكون أولى بمالها إذا بلغت مجنونة، ولا أثر للثيابة والبكارة في ولاية المال، وظهر اختلاف الأصحاب فيه إذا بلغت عاقلة ثم جنت، فمن أصحابنا من قال: ولاية المال للأب (3). ومنهم من أثبتها للسلطان. وحاصل المذهب بعد هذا التنبيه: أن المجنونة البالغة إذا لم يكن لها أبٌ أو جدٌّ، فحكم تزويجها بين السلطان والأخ على ما مضى من غير مزيد. وإن كان لها أب، نُظر: فإن بلغت مجنونة، تفصل الأمر، وانقسم إلى كونها بكراً أو ثيباً، فإن كانت بكراً، فلا يخفى أن الأب يتولى تزويجها؛ فإنه يزوجها وهي عاقلة إذا كانت بكراً إجباراً وقهراً، فكيف يخفى تزويجه إياها وهي مجنونة؟ وإن كانت ثيباً، وقد بلغت على الجنون؛ فظاهر النص أن الأب أولى، والتفويض إليه، وليس [عليه] (4) مراجعة السلطان. وذهب طوائف من محققينا إلى أن الأب في هذا المقام كالأخ، وهذا ما اختاره

_ (1) هذا هو الصحيح، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، بكراً أم ثيباً، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 95). (2) التفصيل: أي الفصل بين الأب والجد ومن دونهما من الأولياء. (3) قال النووي: هو الأصح، وإن قلنا: إن ولاية المال للسلطان، فكذلك التزويج (ر. الروضة: 7/ 95). (4) في الأصل: على.

الصيدلاني. ووجهه: ما ذكرناه من أن الأب والأخ بمثابة واحدة في تزويج الثيب. وآية ذلك: أن الأب لا يزوج الثيب الصغيرة، صهان كان يلي مالها - كما [لا] (1) يزوجها أخوها. فالأب في التزويج يتميز عن الاخ في حق الأبكار فحسب، هذا وجه هذه الطريقة. ومن تمسك بالنص؛ احتج بفقه أعْوَص مما ذكرناه، وهو: أن تزويج المجنونة البالغة ممكن، أو واجب إذا مست الحاجةُ إليه، ونحن إنما نُدير التزويج في حق المجنونة بين الأخ والسلطان، لقصور شفقة الأخ، وامتناع الطلب من المجنونة. ولا بد في الولاية القهرية من شفقة كاملة تستحث صاحبَها على طلب الغبطة والنظرِ؛ فإذا صادفنا الأبَ، فشفقته كاملة، وتزويج البالغة العاقلة يُبعد أن يُراجَع في تزويج المجنونة. ومن لطيف الكلام في هذا المنتهى، أن الأئمة قالوا: إذا بلغت عاقلة ثم جُنت، ففي عود ولاية الأب على [المال] (2) خلاف. ويظهر مما ذكرناه إجراء عود ولاية الأب على المال؛ فإنه أولى من غيره. ثم إن قلنا: ولاية المال للسلطان، فيظهر عندنا أن نقول: الأب ينفرد بالتزويج، لما نبهنا عليه من انفراده بتزويج البكر البالغة العاقلة، وإن كان ولاية المال إليها. وعلى الجملة نظر السلطان قاصر في التزويج، والولاية لا تُفضي إليه إلا عند انقطاع الجهات كلها، أو قيام الحاجة الحاقّة، النازلة منزلة الضرورة؛ ولهذا - لم يملك السلطان تزويج الصغيرة البكر، والأب يملكه، نظراً واستصلاحاً. هذا منتهى القول في ذلك. 7944 - ونحن نبتدىء الآن أمراً مهماً، يجب الاعتناء به، ولا يُلفى مجموعاً للأصحاب، ولكني لقطته من كلامهم صريحاً وفحوى، وقواعد المذهب إنما تغمض على طالبيها بتفرق الكلام في أمثال ما سنذكره الآن، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: الأب.

فليعلم الطالب أن النكاح تعلق بسببين: أحدهما - النظر في الأصلح، من غير اعتبار حاجة. والثاني - الحاجة الحاقة، فنذكر لكل قسم مثالاً، ثم نلحق به مواقع [اللبس] (1). فالأب يزوج الصغيرة البكر استصلاحاً، من غير حاجة حاقّة، وكذلك يزوج البكر البالغة، وهي راغمة مبديةً إباءها وسخطها. ويزوج من ابنه الطفل استصلاحاً ونظراً، وإن لم تتحقق حاجة حاقّة إلى التمتع في حالة الصغر. وبناءُ الأمر على أن الحاجة وإن لم تكن، فالأب يتوقع كونها عند البلوغ، ويرى رأيه في الحال والاستقبال، ويرى له نظره لنفسه، ولا يخصص تصرفه بما ينتجز، بل ينظر في مغبّات الأمور على حكم الاستصلاح هذا مثالٌ في قسم. ومثال القسم الثاني: أن الابن البالغ المجنون الذي طبق الجنون عليه، لا يزوج منه أبوه، إلا لحاجة داعية إلى التزويج، ناجزة في الحال، وهي التشوف أو طلب الشفاء، على ما سنصفه، إن شاء الله تعالى. والفرق أن الابن الصغير تمتُّعه استصواباً واستصلاحاً، مأمول عند بلوغه، فكان التزويج فيه مبنياً على ذلك، والابن البالغ المجنون لا منتهى لجنونه، والتزويج منه لا يقع موقع استصلاح، إلا إذا كان لدرء حاجة؛ على أن التزويج يلزمه مؤنة [دارَّةٌ] (2) وغرماً في المهر متنجزاً؛ فكان هذا النوع من التزويج مبنياً على الحاجة. 7945 - فإذا تبين القسمان، ألحقنا بهما ما نريد، فنقول: أما المجنونة البالغة إن كان يزوجها الأب، لم يعتبر في تزويجها تحقق الحاجة، بل يزوجها للمصلحة، كما يزوج الصغيرة للمصلحة؛ فإن في تزويجها كفاية مؤونتها، وإعفافها عما يتوقع من تشوفٍ إن كان. وأما تزويج السلطان للمجنونة؛ فقد تردد الأصحاب فيه: منهم من لم ير له تزويجها مع الأخ إلا للحاجة؛ فإن نظره يقصر عما يتعلق به نظر الشفيق الذي هو على

_ (1) في الأصل: اللبث. (2) في الأصل: دارِه (بهذا الضبط). ودارّة: أي متجدّدة دائمة لا تنقطع (معجم).

كمال الشفقة، ولذلك لم يل تزويج الصغيرة. ومن أصحابنا من قال: يزوجها السلطان بما يزوج الأب به - وهو منهاج الاستصلاح. ويبتني على هذه القواعد أمور، منها: أن الأصحاب اختلفوا في أن الأب هل يزوج الثيب الصغيرة المجنونة؟ وقد ذكرنا الآن التردد في تزويج الثيب المجنونة البالغة على الاستقلال، والسبب فيه أن الثيابة وإن كانت لا تَقْصُرُ شفقة الأب؛ فإنها تحط ولايته وتُثبت للمرأة استقلالاً، إن كانت بالغة عاقلة، وتثبت لها وجوب انتظار استقلالها إن كانت صغيرة؛ فمن هذه الجهة قَصُرَت ولاية الأب مع كمال شفقته. وهذا يبتني على قاعدة مهدناها في الأساليب. وهو: أن النكاح من الأمور [الجبلّية] (1) التي حقها أن يراجع فيها أصحاب الجبلات، فلا تُفوَّت حظوظهم [فيها] (2) عليهم؛ فإذا كانت الثيب مجنونة، فلا استقلال لها ولا منتهى يُرْبَط به توقع استقلالها. وإذا كانت بالغة، فهي في مظنة الحاجة، وإن كانت صغيرة، فلا حاجة في الحالة الراهنة؛ فكان اختلاف الأصحاب في الثيب الصغيرة المجنونة لذلك. وكنت أود لو استنبط مستنبط من الخلاف في تزويج الأب الثيب الصغيرة المجنونة خلافاً، في أنه هل يراعي حاجتها بعد البلوغ، ويزوجها للمصلحة؟ ولكن اتفق الأصحاب على أنه يزوجها للمصلحة. فليتأمل الناظر هذه الغوائل. 7946 - ومما ينبني على قاعدة الحاجة والمصلحة؛ القول في عدد الزوجات. قال الأصحاب: لا يزوج الأب من ابنه المجنون إلا زوجة واحدة، بناء على أن التزويج منه مبني على الحاجة، والحاجة [تنسدّ] (3) بواحدة، فليس من النظر له تكثير المؤن عليه مع الاكتفاء بالواحدة. وظاهر المذهب أنه يزوج من ابنه الصغير المميز أربعاً (4)، إن رأى ذلك صلاحاً؛ فإن التزويج من الصغير مبني على الصلاح، لا على الحاجة.

_ (1) في الأصل: الجليَّة. (2) في الأصل: فيما. (3) في الأصل: تنسل. (4) قال النووي: هو الأصح في الصورتين (السابق نفسه).

وأبعد بعض أصحابنا، فمنع الزيادة على الواحدة، اجتناباً من ثقل المؤنة. 7947 - والتزويج عند طلب السفيه؛ مما ظهر فيه الاختلاف بين الأصحاب. فمنهم من راعى فيه الحاجة، كالمجنون البالغ؛ فإن السفه لا منتهى له يُرْقَب زواله، ومنهم من بنى التزويج على المصلحة؛ فإن من كانت له غريزة العقل، فيتوقع أن تحنكه التجارب ويرشد بعد الغي، وليس كذلك المجنون؛ فإن إفاقته بعيدة. ثم قد يبتني على هذا الخلاف الزيادة على واحدة، ولكن السفيه يختص بأمر؛ وهو أنه لا يزوَّج ما لم يطلب، لما مهدناه في فصل المحجور. وقد قال الشافعي: "لو كان السفيه مطلاقاً، لم أزوج منه، وملّكته جارية يتسراها، ثم لا ينفذ إعتاقها". فهذا منتهى الفصل. 7948 - ونحن نختتمه بشيء، وهو أن الابن المجنون الصغير يجب أن يقطع بأنه لا يُزَوَّجُ منه؛ فإن التزويج من المجنون محمول على الحاجة، ولا حاجة في حق الصغير. وقد ذكرت في التزويج من الابن الصغير وجهاً لبعض الأصحاب، فإني ضممتُ الثيب الصغيرة المجنونة إلى الابن الصغير المجنون، ونظمتُ فيهما ثلاثةَ أوجه، كما تقدم. فلو كان على التزويج من الصغير المجنون معوّل، لاستنبطت منه أن التزويج من الابن البالغ المجنون مصلحة، ولكن لا أصل لذلك الوجه، وليس هو مما يعتد به، ولا يُلفى في الطرق إلا رمزاً. ومن صرح به زيّفه. ولا ينتفع [بأمثال] (1) هذا الفصل -مع ما فيه من تعارض الأصول الملْتَفَّة- من لم يأنس بكلامنا في مآخذ الشريعة، والله ولي التوفيق وتعميم النفع بهذا المجموع. 7949 - ونحن نختم هذا الفصل بأمر كلي، فنقول: إن علقنا التزويج بالحاجة، فإن كان لصاحب الحاجة عبارة؛ رجعنا إليها، كالسفيه، وإن لم تكن له عبارة، كالمجنون، فالنظر إلى مخايل تشوفه وتوقانه.

_ (1) في الأصل: بامتثال.

وإن كان التزويج مبنياً على المصلحة، فذاك مربوطٌ بنظر الناظر، فلو زوّج المحكَّمُ في المصلحة على خلاف المصلحة، فقد أساء، وفي نفوذ تصرفه كلام، سأذكره في تزويج الأب ابنته ممن لا يكافئها. وقد نجزت المسائل بما فيها. 7950 - ثم إن المزني نقل فصولاً من كتبٍ لا تليق بهذا المجموع. ولو أردنا تقريرها، لم نتمكن منه في غير مواضعها، فلست أرى الزيادة على تراجم الفصول. فمما ذكره: أن أب المجنون لا يخالع زوجته، ولا يضرب لامرأته أجل العنين، ولا يختلع ابنته المجنونة، وذكر أن نفقة المجنونة تسقط إذا امتنع على الزوج وقاعها بسبب جنونها، وذكر قذف الزوج زوجته المجنونة، وانتفاءه من ولدها باللعان، وما ذكره أصول الكتب، فكيف نخوض فيها؟ فصل قال: "وليس له أن يزوج ابنته الصغيرة عبداً ولا غير كفء ... إلى آخره" (1). 7951 - هذا من أصول المذهب، وفيه نشرح الكفاءة ومعناها، والصفاتِ المرعية فيها، والمحالّ [التي] (2) يجب رعاية الكفاءة فيها، فنقول، والله المستعان: الكفاءة -على الجملة- تتعلق بمناقبَ وفضائل لا يأباها الدين، ثم الفضائل لا نهاية لها، واعتبارُ جميعها عسير، وليس معنا توقيف ناصّ على المعتبر منها دون ما لا يعتبر، فالوجه في ربطها تقريباً، أن نقول: الصفات المرعية ثلاثة أقسام: أحدها - يتعلق بالبرء عن العيوب التي تُثبت حقَّ فسخ النكاح، والحريةُ ملحقة بها، كما أن الرق ملحق بالعيوب. والقسم الثاني - ما يجرّ شَيْناً، لو كان، وإن كان لا يتعلق به فسخ النكاح. والقسم الثالث - ما يَشِين أصحابَ الفضائل على طريق النسبة والإضافة.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 267، 268. (2) في الأصل: الذي.

وبيان القسمين الآخرين بالمثال: أن الفسق يقدح في الكفاءة، وهو شيْن في حق الناس كافة، على اختلاف طبقاتهم. ومثال القسم الثالث - النسب للقريب المتوسط؛ فإنه لا يعد شيناً، ولكن ذو النسب الرفيع يتعيّر بالاتصال بذي النسب الوضيع، فهذه القواعد الكلية. ويجمعها تقسيم آخر أَوَّليّ، فنقول: هي منقسمة إلى ما يجر ضراراً أثبت مثلُه فسخاً، وإلى ما يجر عاراً وشناراً، [لا يأبى] (1) الشرع التوقِّي منه. ثم عدّ الفقهاء الصفاتِ المرعية، فقالوا: إنها خمسٌ، وفي السادسة خلاف: البراءة من العيوب، والحرية، والنسب، والحرف الدنيئة ونقيضها، والصلاح في الدين. واختلف الأصحاب في اليسار والغنى، فمنهم من اعتبره في الكفاءة - وهذا ضعيفٌ، لا أصل له، ومنهم من لا يعتبره (2). والصحيح عندنا تنزيل هذا الخلاف على المسكنة ومِلْكِ بلاغٍ. [و] (3) لم يعتبر أحد من الأصحاب الجمالَ، ونقيضه في الكفاءة. 7952 - والمناقبُ والمثالب، والفضائل والرذائل، لا نهاية لها. ولو أخذنا في اعتبار جميعها، لم ننته فيها إلى ضابطٍ؛ فالوجه النظر إلى ما قدمناه في التقاسيم. ثم من أصول هذا الصنف؛ أن تكون مقتضية لحق الفسخ، وإن وُجِد معها من ضروب الفضائل ما وجد. وهذا أصدق شاهد في أن [الانتقاص] (4) بها لا يجبره شيء من الفضائل. وكذلك نقص الرق لا يقابله فضيلة. وأما القول في النسب؛ فلا اعتبار فيه بما يعتدُّ به بنو الدنيا، وإنما شرف النسب

_ (1) في الأصل: لا يأتي. (2) قال النووي: الأصح أن اليسار غير معتبر. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: الأشقاص.

يثبت من ثلاث جهات: أحدها - الانتماء إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، [و] (1) الاعتزاء إلى أرومته. والثانية - الانتماء إلى العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء. والثالثة - الانتساب إلى أهل الصلاح والتقوى. واعتبارُ هذه الجهات الثلاث بشواهد الشرع وموجب العادات. فأما الاعتزاء إلى القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خفاء باعتباره، وعليه بنى أمير المؤمنين عمرُ ديوانه في المرتزقة. والانتسابُ إلى العلماء يقرب من ذلك؛ فإنهم عصام الدين، وقوام الشريعة، وقد ربط الله عز وجل بهم حفظَ الملة، كما ربط بالأنبياء أصلها. وأما الانتساب إلى الصالحين؛ فقد شهد له كتاب الله عز وجل، إذ قال عز من قائل في قصة موسى والخضر عليهما السلام: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]. فأما الانتساب إلى عظماء الدنيا -وجماهيرُهم ظلمة استولَوْا على الرقاب- فهم يُعَظَّمون رغبة ورهبة، والشرع بائحٌ بحط مراتبهم في الدين، فلا تعويل إذاً على أنسابهم، وإن كانوا قد يتفاخرون بها. 7953 - وأما الحرف؛ فمنها الذي تدل ملابستُه على سقوط النفس، وحطيطةِ المروءة، والمعتبر في مثله العادات، ويختبر قدر الذي منها بملابسة القاذورات، وليس يحتمل هذا الموضع شرح ذلك، وسنستقصيه بما فيه كفاية، إن شاء الله عز وجل (2)، ولا يمتنع أن تؤثر هذه الحرف في الأنساب؛ فإنها وإن كانت في الآباء، فهي تؤثر في أحساب الأبناء. وإن قال قائل: لا خيار [ولا اختيار] (3) فيها للأولاد، قلنا: هذا يعم جميع

_ (1) سقطت من الأصل. (2) سيأتي هذا الاستقصاء في كتاب الشهادات. (3) في الأصل: والاختيار.

أبواب الأنساب، [وأولى] (1) الصفات بالاعتبار العيوب والتبري منها، وليس منها للمتصفين بها اختيار. وممَّا راعيناه في الباب التقوى والصلاح، والمعتبر فيه ما يقتضي التفسيق وما لا يقتضيه، ثم يعتبر ذلك نسباً، ويعتبر اتصاف الشخص به في نفسه. وإذا لم يكن تفسيق؛ فلا نظر إلى التفاضل في أسباب الصلاح؛ فإن سرها التقوى، ولا يطلع عليها إلا الله تعالى. وقد تكلمنا في اليسار ووجه الخلاف فيه. 7954 - فإذا تمهدت هذه الأصول، رجعنا بعدها إلى الكلام في تقابلها، والنظر في جبران بعضها ببعض، فأما العيوب؛ فقد ذكرنا أنها لا تقابل بفضيلة، فلا يزوج الرجل ابنته ممن به أحد العيوب المثبتة [للخيار] (2)، على ما سيأتي شرحها في بابها، إن شاء الله عز وجل، وإن كان الموصوف بشيء منها أكملَ البرية عقلاً وفضلاً ونبلاً ونسباً (3). وكذلك لا يزوج ابنته من رقيق، وإن كان على فضائلَ جمة. وأما شرف النسب؛ ففيه فضل نظر؛ إذ لا يعارض الانتسابُ إلى العلماء والصلحاء، الانتسابَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشجرته، والصالحون هم المرموقون بالصلاح المشهورون به، بحيث ينتصبون أعلاماً في التفرد ولا [يُنسَوْن] (4) إلى تناسخ الدهر، فهؤلاء هم الذين يشرفون بالاعتزاء لهم. فأما الذين لا يبلغون هذا المبلغ، فلا تتأثر الأنساب بالانتماء إليهم. نعم، ما اعتبرناه في نفس الإنسان من رشاد وغيّ، وصلاح وفساد؛ فالمعتبر فيه التفسيق ونقيضُه، كما تقدم ذكره، حتى إذا

_ (1) في الأصل: وأول. (2) في الأصل: الحال. (3) هذا التفصيل بين خصال الكفاءة، انفرد به الإمام، وقد حكاه النووي، وقال مقتضى كلام الجمهور أن خصال الكفاءة لا يقابل بعضها ببعض، ثم إن النووي رضي الله عنه توسع في النقل عن إمام الحرمين فقال: "إنه يرى أن السلامة من العيوب والحرية والنسب لا تقابل بسائر الفضائل" والصحيح أن الإمام متردد في النسب قاطع بالأوليين فقط (ر. الروضة: 7/ 83). (4) في الأصل: ينتسبون.

انتهى نظر الناظر إلى المفاضلة بين المستور وبين المذكور بالعدالة، [تبينا] (1) أن نظره خارج عن قاعدة الفصل، فلم نر قبل اليوم مراجعة [المزكّين] (2) في تعديل من يعبتر خلافه في الكفاءة، وإنما اعتبرنا الاشتهار في جهة الانتساب، لما قدمنا ذكره من أن الإنسان يشرف محله وينبل قدره بان ينتسب إلى مرموق في التقوى والدين. وهل تُجبر حطيطةٌ إن كانت في النسب بالصلاح الحاصل في الخاطب؟ هذا مما تردّد فيه الأئمة: فمنهم من رأى الجبر بذلك، وتعلق فيه بآثار منها: ما روي أن عبد الملك بن مروان خطب ابنةً لابن عمر، وأرسل إليه في مفاوضة بذلك رجلاً صالحاً من الموالي، فدخل المسجد، وصلى ركعتين، وأحسن أداء أركانها وبنيانها، ثم افتتح الخِطبة وأدى الرسالة، فقال ابن عمر: لا رغبة لي في عبد الملك، فإن أردتها لنفسك فخذها، فقد أحسنت أداء أمانة الله، ونظائر ذلك كثيرة. وقد روي أن عمر بن الخطاب همّ أن يزوج ابنته سلمان الفارسي، فتداخل عبد الله من ذلك شيءٌ، على ما قدمنا ذكر ذلك. ثم الصلاح الذي يعارض النسب، صلاح ظاهر يثبت للموصوف به حكم التميز من الأضراب؛ إذ لو لم يكن كذلك، لما عارض نسباً معتبراً. ومن أئمتنا من لم ير جبر النسب بالتفاوت في الصلاح؛ فإن النسب من [أصل] (3) الكفاءة، حتى إذا ذكرت الكفاءة، لم تبتدر الأفهام إلا إلى الأنساب؛ ولهذا يثبت حق الاعتراض للمولَّيْن (4) بالأنساب. وأما الحرف الدنيئة ونقائضُها؛ فإنها تعارض الصلاح وفاقاً، ولا أثر لها في معارضة الأنساب إجماعاً بين الأصحاب؛ فإن الأمر فيها قريب، ومعتمدها عادةٌ محضة، حتى إذا اطّردت، دلّت ملابستها على سقوط النفس، وإلا فالكلام مفروض

_ (1) كلمة غير مقروءة في الأصل. (2) في الأصل: المركبين. (3) في الأصل: لفظاه. وفي الهامش كلمة (تأمل) إشارة إلى توقف الناسخ فيها. (4) المراد: الأولياء، أولياء المرأة في النكاح.

في حِرف تحل ملابستها، ولو ضربنا حجراً على من يلابسها، لاحتاج إلى معاناتها كثير من الخلق، وقد امتن الله تعالى على عباده بأن نزّلهم على منازل متفاوتة وقنّع كلاً بمنصبه، وما هو بصدده، فقال عز من قائل: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] وقال الحليمي في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة" قال: أراد بذلك اختلافهم في الدرجات والمراتب والمناصب. [نجز] (1) القول في الحِرف وما يتعلق بالمروءات. وأما اليسار؛ إن اعتبرناه، فيعارضه كل خصلة معتبرة في خصال الكفاءة. وقد انتجز هذا الفن. 7955 - ونحن نأخذ الآن في ركن آخر من الفصل، فنقول: هذه الصفات المعتبرة في الكفاءة تنقسم؛ فمنها ما يعتبر في جانب الزوج والزوجة جميعاً، وهي العيوب والرق؛ فكما لا يزوّج الرجل ابنته من أبرصَ ومجنون ومجذوم ومجبوب، كذلك لا يزوج من ابنه مجذومة ولا مجنونة ولا برصاء ولا قرناء ولا رتقاء؛ فإن هذه العيوب تُثبت حق الفسخ من الجانبين، فكانت معتبرة فيهما. ولو زوّج [مَنْ] (2) بها عيب من هذه العيوب، ممن به عيب منها: نُظر؛ فإن اختلف جنس العيب، لم يختلف أصحابنا في المنع، وهذا كتزويج برصاء من مجنون أو مجبوب. وإن اتفق جنس العيب، فزوّج برصاء من أبرص؛ ففي جواز ذلك وجهان: وقد اختلف أصحابنا في ثبوت الخيار في مثله، كما سيأتي موضحاً في باب العيوب، إن شاء الله عز وجل. والتزويج من الرقيق لا يحتمل أيضاًً، وتزويج الرقيقة من الطفل لا يجوز أيضاًً؛ فإن نكاح الأمة مشروط بخوف العنت، والطفل لا يتصف بذلك. وأما ما يعتبر في أحد الجانبين؛ فهو ما عدا العيوب والرق، فليس للرجل أن يزوج

_ (1) غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها). (2) في الأصل: وبها.

ابنته قهراً، ويحتمل فيها [خسة] (1) في نسب الخاطب، أو خصلة أخرى معتبرة. ولو أراد أن يزوج من ابنه الطفل -وهو على شرفٍ من النسب، وكريم من الحسب- خسيسةً؛ فالذي صرح به الأئمة أن ذلك جائز؛ فإن الذي عليه التعويل في الباب العار والتنقي منه. والكريمة تتضع ويخس نسبها إذا تزوجها خسيس، ولا عار على الكريم بنكاح خسيسة؛ فإن المنكوحة مفترشة، في حكم المُهانة بالافتراش، فلا عيب على المفترِش من نقصانها (2). نعم، ما ذكرناه في العيوب من باب الضِّرار، لا من باب العار. وذكر شيخي أن من أصحابنا من اعتبر هذه الصفات من جانبها أيضاًً، ومنع أن يزوج الرجل خسيسة من ابنه الكريم واعتل بأن الإنسان قد يتعير بخسة خليله، وقد ينظر لأولاده إن كانوا، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم" (3) وهذا يمكن توجيهه على حال، ولكنه بعيد في النقل. ولولا أني وجدت في نص الشافعي في تفريع الغرور بالنسب شاهداً على اعتبار النسب من الجانبين، كما سيأتي ذكر ذلك، لما عددت هذا من المذهب. 7956 - فإذا ظهر بما ذكرناه القواعد المرعيّة في الكفاءة، ابتدأنا بعد ذلك صنفاً من الكلام، وقلنا: إذا زوج الرجل ابنته السليمة ممن به عيب من العيوب، فالأصح الذي كان يقطع به شيخي: أن النكاح باطل (4)؛ فإنَّ تصرّف الأب في حق ولده الطفل مقيد بشرط النظر؛ وإذا كان تصرفه في ماله مردود بعلة الغبن، [فلأن] (5) يُرَدَّ في نفسه على خلاف النظر أولى.

_ (1) في الأصل: حسبة. (2) قال النووي: هو الأصح (ر. الروضة: 7/ 85). (3) حديث: "تخيروا لنطفكم" رواه ابن ماجه والبيهقي والحاكم، وصححه الألباني، وتتمته: "فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم" (ر. صحيح الجامع: 1/ 564 رقم 2928). (4) وهذا هو المذهب. (ر. الروضة: 7/ 84). (5) في الأصل: فلا يرد.

وذكر العراقيون وغيرهم من الأئمة قولاً آخر، أن التزويج يصح وينفذ، وفرضوا القولين في تزويج السليمة من المعيب، وإذا جرى القولان في ذلك، لم يشك الفقيه في جريانهما في سائر خصال الكفاءة. أما وجه المنع؛ فلائح، وأما وجه التزويج، فالممكن فيه على خفائه، أن الغرض من التزويج أمور خفية لا تضبط، فليكن الأمر فيه موكولاً إلى الأب الشفيق، الذي هو من أهل النظر. وهذا مذهب أبي حنيفة. ثم قال العراقيون: إن قلنا: لا يصح النكاح، وهو المذهب الأصح، فلا كلام. وإن قلنا: يصح، فهل للأب أن يتلافى عقده، فيفسخَه، إذا كان زوّج ابنته السليمة من معيب؟ فعلى قولين، وكذلك إذا زوّج من ابنه الصغير السليم امرأة بها أحد العيوب، هذا ما ذكروه. [وللنظر في هذا مجال] (1)، فيجوز أن يقال: التردد في خيار الأب، فيه إذا فعل من غير علم منه بحقيقة الحال، فأما إذا أقدم على العقد عالماً بالعيب، فلا خيار له ولا مستدرك. ويجوز أن يقال: له حق التلافي، وإن أنشأ العقد على علم، فإنه يتلافى (2) لغيره، وإنما كنا نلزمه حكم علمه لو كان عاقداً لنفسه، فالتفريع على الأصل البعيد يحمل على النأي عن مدارك المذهب؛ فإن هذا يؤدي إلى ثبوت نكاح مع استمرار الخيار فيه، وما عندي أن ذلك يحتمل. فالوجه القطع بتخصيص حق التدارك بحالة الجهل، وإنما ردَّدت قولي في ذلك لفحوى كلام العراقيين. 7957 - ثم ما يتفرع على هذا، أنا إذا صححنا النكاح على خلاف النظر من الأب، فإذا بلغت المرأة، فهل لها حق الفسخ؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا خيار لها، وعقد الأب يلزمها، ويلزمها الرضا بموجبه. وهذا مذهب أبي حنيفة (3).

_ (1) في الأصل: والنظر في هذا محال. (2) في الأصل: لا يتلافى لغيره. (3) ر. الاختيار: 3/ 97.

ومن أصحابنا من قال: لها الخيار [وإن] (1) حكمنا بانعقاد العقد حتى تستدرك ما يلحقها من الضرار (2). ولو اشترى الأب عبداً معيباً بثمن مثله لطفله، ثم بلغ الطفل، واطلع على العيب، لم يثبت له حق الخيار؛ فإن حظ المالية ثابت لا نقصان فيه. وما ذكره الأصحاب في العيب، لم يذكروه في حطيطة النسب، والقول فيها يحتمل؛ من جهة أن ما يكون عيباً، ليس مما يُثبت حق الفسخ على الجملة. والوجه عندي؛ أن نضم العيوب إلى غيرها من خصال [الكفاءة] (3)، ونطرد فيها أوجهاً: أحدها - نفي الخيار عموماً. والثاني - إثباته. والثالث - الفرق بين العيوب وبين غيرها من الخصال المعتبرة، فإن الأب لم ينظر لها، وهذا يضاهي ثبوت الخيار بسبب التغرير بشرف النسب، مع اختلاف الشرط فيه على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل. ولو اكتفينا بما هو أصل المذهب، ومنعنا انعقاد النكاح، لاستغنينا عن هذه [الوجوه] (4) البعيدة. 7958 - ومما يليق بهذا المنتهى -وهو من أسرار المذهب- أنا منعنا التزويج من غير كفء، فلو اتفق ذلك من الأب على علم، فالعقد باطل، وإن لم يعلم الأب حقيقة الحال، ثم بان أن عقده لم يصادف كفئاً، أو جرى مشتملاً على عيب مثبتٍ حقَّ الفسخ؛ فالذي نرى القطع به: أنا إذا أثبتنا ذلك، بنينا عليه تَبيُّنَ فساد العقد؛ فإن الظنون لا تغير شرائطَ العقود؛ فإذا كنا نشترط في عقد الأب موافقةَ النظر، وظننا أنه

_ (1) في الأصل: فإن. (2) قال النووي: لها الخيار، ولم يذكر وجهاً غيره، ولكنه ذكر أن الإمام حكى الوجه الآخر، فكأنه اختار الأول. (ر. الروضة: 7/ 84). (3) في الأصل: الكفارة. (4) ساقطة من الأصل.

وافقه، ثم بان لنا خلافه، فنتبين فساد ما كنا نظن صحته؛ فإنا لم نَبْن الحكمَ بالصحة إلا على ظن حصول الكفاءة، ظناً مشروطاً. وهذا يناظر ما لو باع الوكيل ما وُكِّل ببيعه مطلقاً بما حسبه ثمنَ المثل، فإذا تبين أنه لم يكن ثمن المثل، بأن فساد العقد. وكذلك الولي المتصرف في المال، إذا ثبت منه عقدٌ على نحو ما ذكرناه، فالجواب ما قدمناه. [و] (1) لو اشترى الوكيل لموكله شيئاً، ثم فرض الاطلاع على عيب، فكان المشترَى يساوي الثمن المبذول مع ما به من العيب، فالملك يقع للموكل، وله حق الخيار في الفسخ والإجازة؛ فإنا نجعل شراء الوكيل في هذا المقام كشراء الإنسان لنفسه. ومن عجيب ما يجري في هذه المسالك؛ أن الإنسان إذا اشترى شيئاًً، وبان كونه مغبوناً فيه، لم يثبت له حق الفسخ بالاطلاع على الغبن. ولو كان مغبوطاً، وكان المبيع يساوي أضعاف الثمن، ولكنه اطلع على عيب قديم، فله حق الفسخ. والوكيل إذا اشترى لموكله بغبن، لم يصح عن الموكل، وإذا اشترى من غير غبن لموكله معيباً، وقع الملك للموكل، وله الخيار. وسنُجري سر ذلك -إن شاء الله تعالى- في أثناء الكلام. 7959 - وإذا كان التزويج موقوفاً على إذن المرأة، فأذنت لوليها في أن يزوجها من كفء، وجوزنا الإذن من غير تعيين الخاطب؛ فإذا زوجها ممن لا يكافئها؛ فالنكاح باطل؛ فإن الإخلال بالكفاءة في النكاح يضاهي العقد على غبن في المعاملات؛ فإن هذه الخصال المرعية بمثابة اعتبار المالية في البيع. ولو عيّنت لوليها زوجاً، وقالت: زوّجني منه، فزوّجها، [وكانت] (2) على ظن الكفاءة، ثم بان عيبٌ بالزواج يُثبت الخيار، فنحكم بانعقاب النكاح الآن؛ فإن النكاح اعتمد تعيين المرأة، فانعقد، ثم إن فسخت، فذاك. وإن رضيت، فهل للولي حق

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: وكأنك.

الفسخ؟ هذا فيه كلام، وخبط عظيم، سيأتي مشروحاً في باب الغرور، إن شاء الله تعالى. ولو بان أن المعيّن ليس كفئاً في النسب، ولم يثبت عيب من العيوب؛ فالمذهب الذي عليه التعويل: أنه لا يثبت حق الخيار، وفيه شيء سنذكره في باب الغرور، إن شاء الله عز وجل. 7960 - وقد نص الشافعي على أن من نكح امرأة، حسبها حرة، فبانت رقيقة؛ فلا خيار له. ولو نكح امرأة ظنها مسلمة، فبانت كتابية، قال: له الخيار. وللأصحاب تصرفٌ في النصين؛ وإنما ذكرت هذا القدر تنبيهاً على أن ما نحن فيه محل التصرف، والاستقصاءُ محال على باب الغرور؛ إن شاء الله عز وجل. 7961 - ومن لطائف المذهب؛ أن الموكل بالبيع مطلقاً، إذا باع بغبن، عالماً به أو جاهلاً؛ فالبيع فاسد لا خيار في إجازته، والموكل بالشراء إذا اشترى الشيء بأكثر من ثمن المثل؛ فالمذهب أن الملك لا يقع للموكل، وإن رضي به، بناء على القاعدة التي ذكرناها، ورأيت لبعض الأصحاب وجهاً في أنه لو رضي به، جاز على شرط الخيار، ولست واثقاً بهذا الوجه، ولو صح، فالمعتمد فيها: أن الأمر بالشراء مطلق، وهو متناول للشراء بالغبن والغبطة في وضع اللسان، غير أنا خصَّصْنا مُطلق اللفظ بالعادة، كما قررناه في الأساليب (1)، ثم مما لا ينكر في العادة رضا الموكل حملاً على حكم العموم، فهذا توجيه هذا الوجه، إن صح النقل فيه. والولي إذا اشترى أو باع بغبن، فلا جواز له؛ فإن الغبينة لا تحتمل في تصرفات الأولياء؛ فإن المعقود له ليس من أهل الخيار حتى يوقف العقد على رضاه، وليست عقود الولي متلقاة من لفظ يعم أو يخص.

_ (1) الأساليب: أحد كتب إمام الحرمين في الخلاف. ولما نعثر له على أثر للآن.

فصل قال: "ويُنكح أمةَ المرأة وليُّها بإذنها ... إلى آخره" (1). 7962 - نصدر هذا الفصل ببقية من أحكام الكفاءة في حق الإماء، فنقول: ليس للسيد أن يزوّج أمته ممن به عيب من العيوب المثبتة للخيار، إلا أن ترضى إذا كانت من أهل الرضا، فإن لم ترض أو كانت صغيرة، لم ينعقد النكاح، فإن حظ الأمة يُرعى في النكاح، ويثبت لها حق القَسْم، ويسقط -بإسقاطها- حقُّها من القَسْم، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. فإن رضيت بمعيّن، فزوّجها سيدها منه، ثم اطلعت على عيب، فلها الخيار، فإن أجازت العقد، لم يثبت للسيد معترض. ولو باع أمته ممن به العيوب، فالبيع نافذ، فإنه لا يُرعى في البيع حظها، ولهذا لا يثبت لمملوكةٍ حظٌّ في قَسْم. وإذا حكمنا بصحة العقد، فهل لها الامتناع من تمكين السيد المعيب؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - ليس لها ذلك، فإنها مقتهرة بالملك والرق، وإذا لم يثبت لها حق، فلا يثبت لها منصب التخيّر والامتناع. والوجه الثاني - أن لها أن تمتنع؛ فإن المثبت لحق الفسخ ما يفضي إليه العيب من العيافة والضرار الذي يداخل الجبلات والنفوس، وهذا المعنى يتحقق في الأمة تحققه في الحرة، على أن الوطء في ملك اليمين نزل منزلة النكاح نفسه. وذكر بعض أئمة الخلاف أن الأمة مجبرة على التزويج ممن به العيوب، ولا خيار لها، وهذا وإن أجريناه في مسائل الخلاف - لا نرى عدّه من المذهب؛ فالأصل الذي دل عليه النص، واتفق عليه حملة المذهب، ما قدمناه من وجوب رعاية حقها في العيوب، والله أعلم.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 268.

7963 - ثم إن كان للمرأة أمة؛ فلا شك أنها لا تتولى تزويجها، ولكن يزوج أمتها من يزوجها، والمرعي إذنُ المالكة، كما تقدم ذكره. وذكر صاحب التلخيص أن ولي المرأة لا يزوّج أمتها؛ فإنه لا يملكها ولا يليها، وليس بينه وبينها نسب ولا سبب، ثم قال: إذا أرادت المالكة تزويج الأمة، رفعت الأمة إلى السلطان، فيزوجها بإذن المالكة، وعدّ هذا من منازل تزويج السلطان، وقد اتفق الأصحاب على تغليطه (1) فيما ذكر، وأجمعوا على أنه يزوج أمتها وليُّها. وقياس ما قال صاحب التلخيص أن يطّرد هذا في معتقة المرأة، ويقال: لا يزوجها إلا السلطان؛ فإن الولاء إنما يثبت للمرأة المعتَقَة، ولا يثبت التصرف لأوليائها في حياتها ما دامت حية، وهذا لا سبيل إلى عدّه من المذهب. 7964 - ومما يتعلق بذلك؛ أن الولي على الطفل أو السفيه، لو أراد أن يزوج جاريته، أو يزوج من عبده، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن ذلك يجوز؛ إذ قد يُفضي نظرُ المصلحة إليه، ولهذا يلي تزويجَ ابنته والتزويجَ من ابنه. والوجه الثاني - أنه لا يزوج الأمة، ولا يزوج من العبد؛ لأن تزويجها ينقص قيمتها، والتزويج من العبد يشغل عن كسبه، ويعرضه لنزف القوة؛ فليس التزويج منهما من مصالح الملك؛ وإنما هو مصلحتهما في أبدانهما؛ وحق الولي أن يرعى في مال الطفل مصلحةَ المال، لا مصلحة أبدان العبيد والإماء. والوجه الثالث - أنه يزوج الأمة ولا يزوج من العبد؛ لأن في تزويج الأمة إسقاط مؤنتها، وفي التزويج من العبد شَغْل [عن] (2) كسبه. ثم إن جوزنا للولي أن يزوج جارية الطفل؛ فإنه يزوج جارية الثيب الصغيرة وإن

_ (1) الذي رأيته في (التلخيص لابن القاصّ)، عكس ما حكاه عنه إمام الحرمين، ونص عبارته: "والأولياء خمسة: السلطان فيمن لا ولي له، والعصبة، ومن له ولاء العتاقة من الرجال، والسيد في أمته، وولي السيدة في أمتها وليُّها، قاله نصاً ما لم تعتق، فإن أعتقتها لم يزوجها ولي سيدتها، قلته تخريجاً". ا. هـ بنصه (التلخيص لابن القاص: 494) فهل للتلخيص رواية أخرى؟ أم ماذا؟ (2) سقطت من الأصل.

كان لا يزوجها؛ فإن تزويج الأمة -إذا قيل به- تصرفٌ بحق ولاية المال، والولي يلي مال الثيب الصغيرة، وإن كان لا يلي بضعها. ولا يزوج الأب جارية البكر البالغة قهراً، وإن كان يجبر المالكة؛ لأنه لا يلى مالها، وإن كان يلي نفسها، ولكن لو أذنت لأبيها في التزويج، زوّجها حينئذ. 7965 - واختلف أصحابنا في أن أخ البكر إذا كان يزوّجها، هل يكتفى بصُماتها عند المراجعة؟ ولم يختلفوا أنه لا يكتفى بصمتها في تزويج أمتها؛ فإن سبيل تزويج الأمة سبيلُ التصرفات المالية في الوجوه كلها. والسلطان إذا كان يلي مال الصغيرة، فالذي يقتضيه هذا القياس، أنه يزوج أمتها بحق النظر في المال؛ طرداً للقياس الذي مهدناه. فهذا ما يتعلق بالغرض فى هذا الفصل. 7966 - وقد انتظم من مجموع هذه المسائل أنه يجتمع في الأمة تزويجُها من جهة حُكم التصرف في الأملاك، ورعايةُ حظّها في التزويج: أما حكم الملك، فبيّن؛ فان تزويجها يصادف مملوكاً منها، ولذلك تُجبر ولا تراجع، أما رعاية حظها، فيشهد لذلك امتناع تزويجها ممن به أحد العيوب المؤثرة، ثم ثبوت الحق لها في النكاح يشهد لذلك. والذي يقتضيه الفقه تمحيض حق السيد في تزويجها؛ فإنها مملوكة، والمتصرف فيها بالملك متسلط تسلط الملاك، ولكن لا يجوز الإضرار بها في تزويجها، ومن الإضرار بها أن تزوج ممن به أحد العيوب؛ وعن هذا قال بعض أصحابنا: لها أن تمتنع عن مالكها المعيب بالبرص والجذام، أو ما في معناهما. وأما تزويجها، فيقع بمحض الملك من المالك، وبحق التصرف في المال ممن يلي المال ولا يلي البضع. وقد يقع التزويج من غير ملك، وذاك فيه ثبوت ولاية؛ فإن ولي المرأة يزوج أمتها بإذن المالكة، وإن لم يكن وليَّها في مالها، ولكنه يزوجها بحق ولايته على نفس المالكة، وفي هذا المقام قال صاحب التلخيص: إنه لا يزوجها؛ إذ لا ملك له عليها ولا ولاية؛ ويزوجها السلطان بحكم الحاجة.

ولو قال قائل: ولايته في التزويج في محل تحقق الحاجة، لكان قوله سديداً؛ ولذلك يلي حيث لا ولي، وهو المعني بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "السلطان ولي من لا ولي له" (1). وفحوى الحديث دال على أن تزويجه ليس على حقيقة الولاية؛ ولذلك يزوج بالنيابة القهرية في العضل والغَيْبة، فتزويج الأمة ومالكتها مُطْلَقَةٌ (2) -عندي- ينزل منزلة الحرة المجنونة، والعقد دائر بين أخيها والسلطان؛ فإن الأخ يبعد أن يزوج مُجبِراً، والسلطان يبعد أن يلي مع الأخ. ولكن يقع تزويجها بحكم الحاجة، وتردد الأصحابُ في أن الولي، السلطان أم الأخ؟ فهذا منتهى القول في ذلك. ولتردد تزويج الأمة بين الولاية والملك التفت بعض أصحابنا إلى اشتراط صفات الأولياء في المالك المطلق المزوّج لأمته، حتى قال: الفاسق لا يزوج أمته، إذا قلنا لا يلي الفاسق، وهذا غلط صريح؛ فإن تزويج السيد أمته بمحض الملك، وإنما يتردد الرأي في تزويج ولي المرأة أمتها. نعم، إن ظن ظان ذلك؛ من ثبوت الحظ للأمة في التزويج، فله وُجَيْهٌ على البعد؛ فإنا أوضحنا أن حظ الأمة اندفاع الضرار عنها. 7967 - ومما أريد استتمام الفصل به؛ أن من نكح الأمة ثبت له حق استحلالها عموماً، ولكنه مزحوم بحق الموْلى في المنفعة، وليس الحِلّ منقسماً على الزمان، وإنما هو عام، ولكن السيد مقدم بحق المنفعة، فلو ترك السيد حقه من المنفعة، فحق الزوج في الاستحلال مطّرد، ولو انتهز الزوج فرصته في أثناء مدة انتفاع السيد واستمتع على وجهٍ لا ينقُص حقَّ الانتفاع، فلا بأس، وقد صادف مستمتَعاً مباحاً. ولو كان انتفاع السيد بحرفة الأمة، وكان يتأتى منها الاحتراف بها في دار الزوج،

_ (1) حديث "السلطان ولي من لا ولي له" جزء من حديث عائشة: "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل"، أخرجه الشافعي في الأم: 5/ 3، وأبو داود برقم 1083، والترمذي، رقم 1102، وابن ماجه برقم 1879، وأحمد: 6/ 47، 165 - 166، والحاكم: 2/ 168، وقد صححه الألباني، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 324 برقم 1607. (2) "مطلقة" أي غير محجورٍ عليها.

فالذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن السيد لا يكلَّفُ تسليمها إلى الزوج ليلاً ونهاراً، لتحترف عنده. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه أوجب تسليم الأمة إلى زوجها، إذا كانت على الصفة التي ذكرناها، وزعم أنا لو فعلنا ذلك كنا جامعين بين حق الزوج وبين حق الولي، وذكر أصحابنا نظير ذلك في الرهن، فقالوا: إذا رهن المالك عبده، وكانت منفعته في حرفة، فهل يجب تسليمه دائماً إلى المرتهن، ليحترف في يده، أم للسيد أن يرده إلى يد نفسه، ليحترف في يده؟ فيه الخلاف الذي ذكره. والذي ذكره أبو إسحاق فيه إذا أراد السيد المزوِّج حمل الجارية على الاحتراف؛ وأراد الراهن حمل العبد المرهون على الاكتساب بحرفته، فأما إذا أراد السيد أن يستخدمها في وجهٍ آخر، فلا يمنع منه. والذي ذكره الأصحاب في الرهن أوجَه مما ذكره أبو إسحاق في الزوجية؛ إذ لا خلاف أن الراهن لو أراد المسافرة بالعبد المرهون بحق انتفاعه (1)، لم يكن له ذلك، وللسيد المسافرة بالأمة المزوّجة. وذلك لمعنىً؛ وهو أن اليد ركنٌ في الرهن، ولا ينكره منصف؛ إذ الغرض من الرهن التوثق، وهذا المعنى إنما يحصل باختصاص المرتهن باليد في متعلّق الوثيقة، وليست اليد متأصلة في الزوجية أصلاً. 7968 - ومما يتم به غرض الفصل؛ أنا قدمنا أن السيد لو كان لا يسلم الأمة في مدة الفراغ من العمل، ويقول للزوج: أُمَوِّلُك (2) موضعاً من داري، فاستَخْلِ بها فيه، واستوف حقك منها، وأبى الزوج إلا أن تسلّم إليه في نوبة الفراغ، فمَن المجاب [منهما] (3)؛ فيه اختلافٌ قدمته. وهذا يشير إلى أن حق السيد يبقى في اليد، وإن انتجز حقه في الانتفاع. والذي ذكرناه الآن يشير إلى تسليم الجارية في نوبة العمل، حتى تحترف في يد الزوج، وهذا يتضمن طرد اليد للزوج في زمن الانتفاع أيضاًً. وإن أردنا الجمع بين الطرق، كان الوجه فيه أن نقول: اختلف الأصحاب في

_ (1) أي بسبب حقه في الانتفاع. (2) أُموِّلك: من قولهم: مالَ فلاناً: أعطاه المال. (معجم). (3) في الأصل: منها.

وجوب تسليمها إلى الزوج في مدة الفراغ، فإن لم نوجب تسليمها إليه في مدة الفراغ، فهل نوجب تسليمها إليه في مدة العمل، إذا كان ذلك لا يؤدي إلى تعطيل حق السيد من المنفعة؟ فعلى وجهين. هذا ترتيب الكلام. فإن قيل: إن كان للمرتهن غرضٌ في استمرار يده في مدة اكتساب العبد بحرفته، وهو دوام التوثيق، فأي غرض للزوج في استدامة يده على الزوجة، وهي دائبة في العمل، على وجه لا يتصور للزوج في تلك المدة مستمتَع؟ قلنا: قد تُفرض فرصة، ثم لا يَكرهُ مستمتِعٌ النظرَ والمؤانسة، وآية ذلك أن التعويل في القَسْم على المؤانسة وإمكان الوقاع؛ لا على [صدوره] (1). فصل قال: "وأمة العبد المأذون له في التجارة ... إلى آخره" (2). 7969 - القول في تصرف السيد في المال المسلّم إلى المأذون سبق مستقصىً في مسائل المأذون، والمقدار المتعلق بهذا الموضع تزويجُ الأمة في يد المأذون. فالقول الوجيز فيه؛ أن التزويج تنقيصٌ، وهو في ترتيب المذهب نازل منزلة التبرع بجزء من المال، أما العبد؛ فلا يملك الاستقلال به؛ لأنه مأذون له في التجارة، وأما السيد؛ فتزويجه نافذ إن لم يركب العبد دينٌ، وإن ركبه دين وحجر عليه لمكانه، لم ينفذ تزويج السيد بعد اطّراد الحجر على المال الكائن في يد المأذون، فإن لم يُحجر عليه؛ فالتزويج من السيد ينفذ بإذن العبد والغريم وفاقاً؛ إذ لا حجر. والحق لا يعدوهم. وإن زوج بإذن العبد دون الغريم، ففي المسألة وجهان بسبب انتفاء الحجر، والتصرف يتعلق بالعبد والسيد، فيصيران بمجموعهما كحر، في يده مال وعليه ديون، فإنَّ تصرفه ينفذ في ماله قبل اطراد الحجر عليه. ومن منع؛ أشار إلى كون

_ (1) في الأصل: "صوره". (2) ر. المختصر: 3/ 268.

المال متعلقاً للدين على الاختصاص، [ومال] (1): الحرُّ ليس متعلَّقاً للدين. هذا إذا كان التزويج من السيد بإذن العبد. فلو وقع التزويج من السيد بإذن الغريم من غير مراجعة العبد، فهل يصح التزويج؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح؛ إذ لا ملك للعبد، وأصحاب الحقوق رضوا بالنقص الذي جرى. والثاني - لا يصح، وهو الذي اختاره القفال؛ لأن العبد يقول: إذا بقي دين أو شيء منه، كنت المطالَب به إذا عَتقت، والاحتكام على ذمتي، وإنما التزمت من الدين ما التزمته تعويلاً على أدائه، [ممّا] (2) سلّمه إليّ. ومأخذ هذا الخلاف الأول، النظر إلى عدم الحجر، والتشبيه بالحر المعسر، على ما مضى، وهما مأخذان مختلفان لا تعلق لأحدها بالثاني. 7970 - ثم ذكر الشافعي فصلاً في شرائط النسب في النكاح مع اختلاف الشرط، والقول في هذا يتعلق بالغرور. وبين أيدينا باب معقود فيه، فرأيت تأخير هذا الفصل إلى ذلك الباب؛ حتى تُلْفَى قضايا الغرور منتظمة في مكان واحد. وعقد الشافعي باباً مضمونه في أن المرأة ليست لها عبارة النكاح. وتكلم في الباب على أثرٍ لعائشة (3)، وليس شرط هذا المجموع التعرض له. ...

_ (1) في الأصل: "وقال" والمثبت من ابن أبي عصرون. (2) في الأصل: فما. (3) ر. المختصر: 3/ 270.

باب ما جاء في الكلام الذي ينعقد به النكاح

باب ما جاء (1) في الكلام الذي ينعقد به النكاح قال الشافعي رضي الله عنه: "سمى الله تعالى النكاحَ في كتابه باسمين ... إلى آخره" (2). 7971 - مذهبنا: أن انعقاد النكاح يختص بالإنكاح والتزويج، ومعناهما في كل لسان في أصل الوضع، ومبنى المسألة عندنا؛ على أنا تُعبّدنا باستعمال هذين اللفظين، وهما المشهوران عرفاً وشرعاً، وكل لفظ سواهما يقدّر استعماله في الباب؛ ينقسم إلى ما هو صريح في مقصود آخر، وإلى ما ليس صريحاً في مقصود آخر، ولكنه كنايةٌ عن النكاح. فإن كان صريحاً في مقصود آخر، وقبِل المحلُّ نفوذَ ذلك المقصود فيه، كالهبة - والمزوّجةُ جارية- فاستعمال لفظ الهبة صريح في تمليك الرقبة، وكذلك التمليك والبيع بالعوض إذا أمكن بتقدير اللفظ فيما هو صريح فيه، فلا يجوز صرفه عنه بالنِّية، كما لو قال الرجل لامرأته: "أنت طالق"، وزعم أنه نوى ظهاراً، فيحصل الطلاق، ولا يحصل الظهار. وإن كان اللفظ كناية في فنٍّ، ولم يكن صريحاً في فن، وكان محتملاً لمقصود النكاح؛ لم ينعقد به النكاح؛ فإنّ شرط انعقاده الإشهادُ عليه، ولا مطلع للشهود على النيات، والألفاظ مستقلة من جهة أنها كناية. هذا معتمد المذهب في الباب. 7972/م- ولو عدل المزوِّج عن لفظ التزويج والإنكاح، وذكر معناهما الصريح

_ (1) من هنا من أول (باب ما جاء في الكلام الذي ينعقد به النكاح) صار عدنا نصٌّ آخر مساعد، وهو الجزء العاشر من نسخة ت 3، فالحمد لله، نسأله العون، ونستلهمه الصواب. (2) ر. المختصر: 3/ 271.

بلسانه، وأفهم المخاطَب؛ فللأصحاب في هذا تردد، ونحن نجمع مقالاتهم في نظمٍ واحد، فنقول: إن كان لا يحسن العربية، وكان لا يتأتى منه تعليماً؛ فالذي ذهب إليه أئمة المذهب: أن النكاح ينعقد بمعنى اللفظ، ولم يخالف فيه أحد إلا أبو سعيد الإصْطخري، فإنه قال: لا ينعقد النكاح إلا بلفظ العربية، ومن لا يحسنها، فليصبر إلى أن يتعلمها، أو ليكل الأمرَ إلى من يحسنها، وليوكّل بتعاطي العقد من يعقده بالعربية. فأما إذا كان يحسن العربية، فعدل عنها قصداً إلى المعنى؛ ففيه اختلاف مشهورٌ بين الأصحاب: فمنهم من قال: يصح النكاح؛ فإن المتبع المعنى، وإنما يجب اتباع اللفظ فيما يتأكد التعبد فيه، ومحله العبادات. ومنهم من قال: لا مَعْدِل عن اللفظ مع التمكن من استعماله، كما لا معدل عن الأصول المنصوصة في الزكاة، وإن كانت الأَبْدال تسد مسدها فى سد الحاجة. والقائل الأول ينفصل عن الزكاة، فإنها (1) عبادة، ولذلك لا تقع الموقع من غير نية. هذا فيه إذا كان يحسن العربية، فعدل عنها. فأما إذا كان لا يحسن العربية ولكن كان يتمكن من تعلّمها، فلم يتعلمها، واكتفى بالمعنى، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الأولى، والفرق لائح. وقد قال العراقيون: إن كان يحسن العربية، لم يجز له العدول عنها، وجهاً واحداً. وإن كان لا يحسنها، ويتمكن من تعلّمها على القرب؛ ففي المسألة وجهان. وإذا ضممنا من يحسن إلى من لا يحسن، وكان يتمكن من التعلم، اتسق في المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها - المنع فيهما. والثاني - الجواز فيهما. والثالث - الفرق، كما نبّهنا عليه.

_ (1) كذا في النسختين، ولعلها: "بأنها". وقد صدقتنا (صفوةُ المذهب).

7972/م- وحاصل القول في الألفاظ تتضمنها مراتب. المرتبة الأولى: لفظ يُعنى لنظمه، ورد به الأمرُ في عبادة، وهذا كقراءة القرآن في الصلاة، ومن حكم هذه المرتبة التعيّن، حتى لو فرض عجز، لم يقم معنى اللفظ مقامه، وإن مسّت الحاجة إلى بدل، كان ذلك البدل ذكراً آخر، وإن لم يكن معنى اللفظ المعجوز عنه. والمرتبة الثانية - في ألفاظ تُعُبِّدنا بها في عبادة، والغرض الأظهر في معناها، وليس نظمُها على خاصية تخالف مناظم الكلام، وهذا ممثل بالتشهد والتكبير، وهذه المرتبة محطوطة عن القراءة؛ من جهة أن من عجز عن ألفاظ التشهد وصيغة التكبير؛ فإنه يأتي بمعناها، ويتعين عليه ذلك، حتى لو أقام لفظاً آخر معناه مخالف لمعنى ما عجز عنه، لم يقم ما أتى به مقام ما عجز عنه؛ والسبب فيه أن الغرض الأظهر في القرآن نظمه المعجز، والغرض الأظهر في الأذكار معانيها، والرتبتان متساويتان في أنه لا يسوغ العدول عن اللفظ مع القدرة عليه، ويجب التعلم، وإنما افتراقهما في البدل عند تحقق العجز، كما ذكرناه. المرتبة الثالثة: في لفظ النكاح. وحاصل ما ذكره الأصحاب فيه [ناشىءٌ] (1) من تردّدٍ في أصلٍ، وهو أن التعبد هل يرعى فيه أم لا؟ فمنهم من قال: لا تعبد فيه، وإنما يتعين الإنكاح والتزويجُ ومعناهما لمسيس الحاجة إلى الإشهاد؛ فإن الإشهاد على الكنايات غير ممكن، وهؤلاء يقولون: يجوز العدول إلى المعنى؛ فإنه صريح بين أهله، فيحصل الإشهاد عليه. ومن أصحابنا من قال: للتعبد مدخل في لفظ النكاح، وسببه أن مقصوده يخالف مقصود كل عقد، على ما قررناه في الأساليب، ويتضح ذلك بأنه لا ينعقد (2) إلا بلفظ النكاح والتزويج، وهذا يشعر باختلاف المقاصد؛ فإذا كان وضع النكاح مخصوصاً، لم يبعد أن يكون لفظه مخصوصاً.

_ (1) في الأصل: ينشأ. والمثبت من (ت 3). (2) ت 3: لا ينعقد بلفظ النكاح والتزويج عقد.

والطريقة الأولى تضعف بمسألة، وهي: أن أهل قُطر لو استعملوا لفظة على الطرد في إرادة النكاح، وتواطؤوا عليه؛ فالنكاح لا ينعقد به. ثم من طرَّق التعبد إلى اللفظ انقسموا: فمنهم من غلا في ذلك - وهو الاصطخري، ومنهم من اقتصد، وقد تفصل القول في ذلك نقلاً. المرتبة الرابعة: في صرائح الطلاق، فإن الشافعي حصر صرائح الطلاق في ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأشار إلى اعتبار تكرر هذه الألفاظ في الكتاب والسنة، وهذا مستأخِر عن النكاح؛ من جهة أن النكاح يفتقر إلى الإشهاد، بخلاف الطلاق. ومن أئمتنا من لم يخصص الصرائح، ورأى كل لفظ شاع في العرف في إرادة الطلاق صريحاً فيه، وهذا هو القياس، كما سيأتي شرحه في الطلاق، إن شاء الله عز وجل. ثم سبب حصر الصريح على مذهب من [يراه] (1) أنه حلٌّ غريبٌ، يرد على محلول غريب. وبيان ذلك: أن المحلول مختص كما ذكرنا، والحل ليس فسخاً، وليس في حكم العتق المتقرب به، فيقبل التعبد، لما ذكرناه. ودليل القائل الآخر أن ألفاظ الفسخ في النكاح لا تنضبط، والمتبع فيها الشيوع واطراد العرف. المرتبة الخامسة: في ألفاظ العقود، سوى النكاح، وهي تنقسم إلى ما يفيد الملك المحقق، وإلى ما لا يتمحض هذا المعنى فيه: فأما ما تمحض التمليك فيه؛ فلا حصر من طريق الشرع لصرائحه، بل المتبع فيه العرف، كما ذكرناه، ولكن في انعقاده بالمكاني (2) وجهان، وسبب ذلك أنها تشتمل على الإيجاب والقبول. وحق الموجِب أن يُفهم المخاطَب، وذلك (3) يتعذر في المكاني، ومن جوز العقد

_ (1) في النسختين: يزيد. (2) المكاني: أي الكنايات. (3) ت 3: ذلك (بدون واو).

بالكنايات، عوّل على ما يقترن بها من قرائن الأحوال، هذا لا بد منه، وإن كنا قد نعدّ التعويل على قرائن الأحوال من مذهب أبي حنيفة. فأما ما لا يتمحض التمليك فيه؛ فهو كالإجارة، وسبب اختلال التمليك فيه عند الفقهاء: أن المنافع معدومة، وسببه عندنا أن المنفعة مشكلة في نفسها، لا تقع على جنس من الأعيان أو صفاتها، كما تقرر ذلك في الإجارات. والذي يوضح هذا أنه ينعقد بالإجارة، وإن لم يكن لفظ الإجارة مُشعراً بإفادة التمليك، بل معنى الإجارة تخصيص المستأجر بالدار على وجه يلتزم به أجرة الدار، فلو عُقدت الإجارة بلفظٍ يقتضي التمليك، فإن أضيف اللفظ إلى الرقبة؛ لم يصح، وإن أضيف التمليك إلى المنافع؛ ففيه وجهان: مثل أن يقول ملّكتك منافع الدار شهراً. المرتبة السادسة: لفظ يجري غير مفتقر إلى القبول في المعاملات، كالإبراء، والفسخ، وما في معناهما، فالكنايات تتطرق إليها بلا خلاف؛ إذ لا حاجة إلى إفهام قابل، ولا إلى إشهاد، وكان القياس يقتضي في جميعها جوازَ التعليق بالصفات، ولكن ليس يجري ذلك عندنا إلا في العتاق، وإطلاق الوصايا، وما يقبل المجاهيل كالجعالات ونحوها. فهذه جُمل في مراتب الألفاظ يأنس بها من [يطلب الأغواص محل الإعواص] (1). فرع: 7973 - إذا كان أحد المتناكحين يحسن العربية، وأتى بلفظ الإنكاح والتزويج، وقابله الثاني بالفارسية - والتفريع على أن النكاح ينعقد بالفارسية، فإن كان الآتي بالفارسية يحسن العربية ويفهمها، صح النكاح، وإن كان لا يفهم العربية، ولكن أخبره من يثق به أن معنى اللفظ الذي أتى به صاحبه النكاحُ، هل ينعقد العقد والحالة هذه؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يصح؛ ثقةً بتفسير المترجم الموثوق به.

_ (1) في الأصل: "من يطلبها والإعواض محل الإعواص" والمثبت من (ت 3). والمعنى من يطلب الغَوْصَ في مواضع الإِعْواص، حينما تُعْوِصُ المسائل.

والثاني - لا يصح. وهذا الوجه عندنا يجري فيه إذا لم يتعلم ذلك [القائل] (1) صيغة اللفظ، ولم ينته إلى حالة لو أراد استعماله، لتمكن منه، ولو سمعه مرة أخرى، لكان ذلك يخرج هذا الوجه، فأما إذا علّمه هذا المترجم؛ فقد التحق بمن يعلم، ووجب الحكم بانعقاد العقد. فصل قال: "أو يقول الخاطب: زوّجنيها. ويقول الولي: زوّجتكها ... إلى آخره" (2). 7974 - قد تكلمنا في التزويج والإنكاح ومعناهما. ونحن الآن نتكلم في القبول، فنقول: إن قال الموجِب: "زوجتكها". وقال المخاطب: "تزوجتها"، انعقد العقد وهذا، وإن سمي قبولاً، فهو عندنا ليس قبولاً على التحقيق، ولكنهما أتيا بشقي العقد. وكل واحد منهما صالح للابتداء به، وإنما القبول (3) على الحقيقة ما لايتأتى الابتداء به. 7975 - ولو قال المزوِّج: "زوجتك فلانة"، أو "هذه". فقال القائل: "قبلت نكاحها"، أو "قبلت هذا النكاح"، انعقد النكاح وفاقاً. فإن قال: "قبلت" واقتصر على ذلك، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا ينعقد النكاح (4)؛ فإن المجيب لم يذكر لفظ النكاح في قبوله، ولم يضف القبول إلى المرأة أيضاًً، والنكاح يتطرق إليه الاعتناء باللفظ، كما سبق تقريره. ومنهم من قال: يصح؛ فإن الجواب يترتب على الخطاب، حتى كأن الخطاب في حكم المعاد في الجواب.

_ (1) ساقطة من النسختين. (2) ر. المختصر: 3/ 272. (3) ت 3: القول. (4) الأظهر عدم الانعقاد. قاله النووي. (ر. الروضة: 7/ 37).

والدليل عليه: أن من قال لصاحبه: "أطلّقت امرأتك ثلاثاً؟ " فقال: "نعم"، كان ذلك إقراراً منه بالطلاق على ظاهر المذهب، كما سيأتي في مسائل الطلاق، إن شاء الله تعالى، وإن كان قوله "نعم" لو انفرد؛ لم يكن مستقلاً، ولا مفيداً معنى. كذا إذا قال: "قبلت النكاح" ولم يضف النكاح إلى المرأة، ولا عيّنه بتقدير الإشارة إليه، مثل أن يقول: "قبلت هذا النكاح"، فالنكاح مشار إليه، فإذا لم يُشر، ولم يضف؛ ففي المسألة أيضاًً وجهان، مرتبان على الوجهين فيه، إذا قال: "قبلت" واقتصر عليه، وهذه الصورة الأخيرة أولى بالصحة، لتعرض القابل فيها لذكر النكاح. ولو قال: "قبلتها"، فأضاف القبول إلى المرأة، ولم يذكر لفظ النكاح؛ ففي المسألة أيضاًً وجهان، مرتبان على الوجهين فيه؛ إذا قال: "قبلت" ولم يضف، ولم يذكر النكاح، ووجه الترتيب قريب مما سبق. وضبط القول: أن القابل إذا ذكر النكاح، وأضافه إلى المرأة؛ فلا خلاف في الصحّة. وإن ذكر القبول ولم يُضف إلى المرأة، ولم يذكر النكاح؛ فالمسألة مختلف فيها. وإن ذكر النكاح، ولم يُضفه إليها، [أو] (1) أضاف القبول إليها، ولم يذكر النكاح؛ ففيه الخلاف الذي تقدم ذكره. 7976 - ثم ذكر الشافعي بعد ذلك استدعاء الإيجاب مع الإيجاب، وذلك أن يقول الخاطب للولي: "زوّج ابنتك هذه مني بكذا". فإذا قال الولي: "زوّجتها"، فهذا تصوير المسألة، وظاهر النص أن النكاح ينعقد بذلك. ونقل الأئمة عن الشافعي قولين في أن البيع، هل ينعقد على هذه الصورة؛ إذا قال الطالب: "بع عبدك مني بألفِ". فقال المجيب: "بعتكه بالألف"؟ أحد القولين: أن البيع يصحّ.

_ (1) في النسختين: وأضاف. والمثبت تصرف من المحقق.

والقول الثاني: أنه لا يصحّ. والوجه ترتيب المذهب نقلاً في العقود، ثم التعرض لتوجيه القولين، والتفريع عليهما. قال الأئمة: إذا قالت المرأة لزوجها: "خالعني بألف"، أو "طلقني بألف". فقال: "أنتِ طالق"، لزم (1) الطلاق، ولزم العوض، وبانت المستدعية، ولا حاجة إلى تقدير قبول منها، بعد ما تقدم الاستدعاء والإجابة. وكذلك إذا قال العبد لسيده: "أعتقني على ألف"، فقال: "أعتقتك". وكذلك إذا قال من عليه القصاص: "صالحني على ألف"، فقال مستحق الدم: "صالحتك". فهذه المسائل تثبت وتصح، ويستقل النفوذ فيها بالاستدعاء والإجابة، من غير حاجة إلى تقدير قبول بعد الإجابة بالإيجاب. وفي البيع والإجارة قولان. وفي النكاح طريقان: من أصحابنا من أجرى القولين فيهما، كما تقدم في البيع والإجارة، ومن أصحابنا من قطع القول بصحة النكاح واستقلاله بالإيجاب والاستيجاب، كما ذكرناه في العتاق والطلاق والصلح عن الدم. وكان شيخي يُنزل الكتابة في معظم أجوبته منزلة الخلع والطلاق، ويقول: إذا قال العبد: "كاتبني على كذا"، فكاتبه (2)، صحّ على شرط الشرع، من غير حاجة إلى إعادة القول، وسمعته في آخر العهد به يقول: الكتابة حقها أن تنزل منزلة النكاح، حتى يخرج فيها قولان على إحدى الطريقين، وفيها احتمال على الجملة، وهذا أصل ما نقله رواة المذهب. 7977 - توجيه القولين في البيع: من قال: لا ينعقد (3) بالاستيجاب والإيجاب ما لم يترتب على الإيجاب قبول، احتج بأن صورة العقد تقع على وجهين: أحدهما - أن يأتي كل واحد من العاقدين بشق من العقد يليق به، ولا يكون أحدهما قبولاً،

_ (1) ت 3: وقع. (2) في النسختين: وكاتبه. (3) ت 3: إنه لا ينعقد.

وليس واحد منهما بأن يسمى قابلاً أو موجباً أولى من الثاني. والصورة الثانية - أن يتقدم إيجاب، ويترتب عليه قبول، فأما طلب الإيجاب؛ فإنه ليس شِقاً في العقد، ولا قبولاً مترتباً على الإيجاب، وكأن معناه: ابتدىءْ العقدَ (1)، فإذا ابتدأ العقد، قبله بطريق قبوله. ومن قال: لا حاجة إلى القبول؛ احتج بأن الغرض من شِقّي العقد، صدورُ لفظين من الجانبين يدل على رضاهما بموجب العقد على جزم، وهذا المعنى يحصل بالاستيجاب والإيجاب، وأيضاًً؛ فإن اشتراط القبول، سببه ألا يدخل الشيء في ملك الإنسان قهراً، وإلا فالقياس الاكتفاء بالتمليك؛ فإذا استوجب؛ فقد تحقق ما اشتُرط القبول لأجله. فإن قيل: لم قطعتم بصحة العتق والطلاق على مال والصلح عن دم العمد؟ قلنا: لأن الغالب على هذه المعاملات التعليق، ولذلك تصح مع صيغة التعليق، ولهذا يصح بذل المال على الطلاق والعتاق من أجنبي، فرجع حاصل الأمر في هذه العقود إلى [افتداءٍ] (2) مجرد. وآية هذا: أن المبيع إن قُبل (3)، كان قبوله تملكاً له، والطلاق لا يَقْبل ذلك، والعَتاق (4) والعفو عن الدم، والمقصود من هذه العقود العفو، والعتق، والطلاق، والأعواض تجري فيها على طريق التبعية. وأما النكاح -والعوض وإن لم يكن مقصوداً فيه، بخلاف الثمن- فالعوض فيه ألزم منه في الطلاق والعَتاق والصلح، بدليل أن هذه المقاصد الثلاثة يمكن تحصيلها من غير عوض، والنكاح لا يخلو عن العوض في وضعه، إلا في مسألة شاذة، سيأتي الشرح عليها، إن شاء الله تعالى. وأيضاًً، فإن الخاطب إذا قبل النكاح، فقد قبل لنفسه حقاً مستحقاً، فانتظم القبول فيه وإن لم يتأصل العوض فيه.

_ (1) أي: ابتَدِىء العقدَ حتى أقبلَه بطريق قبوله. (هكذا بسط العبارةَ ابنُ أبي عصرون). (2) غير واضحة بالأصل. والمثبت من (ت 3). (3) ساقطة من (ت 3). (4) ت 3: العتاق (بدون واو).

وتردُّدُ الإمام والدي - في الكتابة؛ سببه: تردد الكتابة بين المعاوضات وبين عقد العتاقة. 7978 - ثم قال الأصحاب: لو قال: "أتزوِّج ابنتكَ مني" (1)؟ فقال: "زوجتكها"، لم ينعقد النكاح، فإنه لم يجزم الاستدعاء، وإنما تردد فيه مستفهِماً. وكذلك لو جرت هذه الصيغة في العتاق والطلاق والصلح، فلا حكم للاستفهام في هذه الصور كلها. وهذا متفق عليه. وكان اتفق برزةٌ لشيخي إلى بعض الجهات، وأخذ يلقي المسائل، ثم أجرى في أثنائها طريقة عن بعض الأصحاب في تخريج مسألة العتاق والطلاق والصلح على قولين؛ طرداً لهذا في كل ما يفتقر إلى الإيجاب والقبول، وهذا حسنٌ متجه في القياس، ولكنه غريب في النقل، والمذهبُ التفصيل الذي ذكرناه، ولذلك أخرنا ذكره على عادتنا المعروفة. فصل 7979 - إذا أخبر رجل بأنه وُلد له ولد، فقال الآخر: إن كان المولود بنتاً، فقد تزوجتها منك". فقد قال الأصحاب: لا ينعقد النكاح وإن بان المولود أنثى؛ وذلك لأنه عقد على صيغة التعليق، والتعليقُ ينافي عقدَ النكاح، وأيضاًً فإن العقد موقوف، والوقف ينافي صحة النكاح، فقد اجتمع فيه وجهان من الفساد. وكذلك لو قال: "إن كان ابنتي طلّقها زوجها، وانقضت عدتها، فقد زوجتكها"، ثم بان أنه كذلك، لم يصح النكاح. وهذا الذي أطلقه الأصحاب، فيه فضل نظر، تداركه المحققون، فنقول أولاً: إذا زوّج الرجل أمة أبيه في غيبته، أو باعها، وظاهر الأمر بقاء أبيه وحياتُه، ثم تبيّن أنه كان ميتاً وقت التزويج، وأن الجارية كانت رجعت إليه ميراثاً، ففي صحة العقد

_ (1) ت 3: أتزوِّج مني ابنتك؟.

قولان، وهو من صور وقف العقود، على ما تقدم شرح الوقف في كتاب البيع، وشرط جريان هذين القولين، أن يكون العاقد على ظن في دوام بقاء الغائب، فأما إذا كان علم موته، وجزم البيع والتزويج؛ فلا شك في صحة العقد. فإن قلنا: لا يصح العقد، وإن تبين أن الجارية كانت ملكاً للمتصرف فيها، فلا كلام. وإن قلنا بصحة العقد إذا (1) بان كونها مملوكة للمتصرف، فلو علق، وقال: إن مات أبي وورّثني هذه الجارية، فقد زوّجتكها، ثم بان أنه كان ملكها حالة العقد -والتفريع على الحكم بصحة العقد على الوقف- ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن العقد يصح؛ فإنه لو جزمه، لكان تصحيحه على تقدير هذا التعليق، فإذا صرح بالتعليق، كان مصرحاً بمقتضى (2) العقد. والوجه الثاني - أن العقد لا يصح؛ فإن صيغة التعليق فاسدة، ونحن متعبدون برعاية الصيغة، كما نُتعبد برعاية المعنى. وهذا الاختلاف يناظر أصلاً كما (3) تقدم في أحكام المعاملات، وهو أن الرجل إذا اشترى زرعاً، واستأجر بائعَه على حصاده، وذكر عوضاً واحداً أجرة وثمناً؛ فهذا صنف من أصناف تفريق الصفقة، ولو عئر عن هذا المعنى بعبارة الشرط، فقال: اشتريت منك هذا الزرع بألف، على أن تحصده، فهل يصح العقد على هذا الوجه؟ والتفريع على أن الصفقة إذا جمعت عقدين مختلفين، صحت، فعلى وجهين، مهدنا ذكرهما، وضربنا في ذلك أمثلة. هذا تمام النظر في الفصل.

_ (1) ت 3: وإذا. (2) ت 3: لمقتضى. (3) ت 3: أصلاً تقدم ذكره في ...

فصل 7980 - إذا قال الرجل لوالد الثيب: "قل زوّجتُها منك". ولم يقل: "زوِّجنيها"، فقد كان شيخي يرى أنه إذا قال: "زوجتكها"، لا بد من قبول المستدعي في هذه الصورة؛ وذلك أنه لم يستدع منه التزويج، حتى يقال كأنه ملّكه أن يُلزمه التزويج، ولكن قال له: "قل زوّجتك". فإذا قال ذلك، استدعى هذا القول منه ما كان (1) يستدعيه لو ابتدأبه، من غير فرض طلبٍ، واستدعاء فيه. وهذا الذي ذكره حسن لطيف، وليس يخلو عن قبول احتمال، والعلم عند الله تعالى. فصل قال: "وأحب أن يقدّم بين يدي خطبته ... إلى آخره" (2). 7981 - ذكر الشافعي أنا نستحب لمن يبتدىء خِطبة امرأة، ويطلب نكاحها، أن يبتدىء بحمد الله والثناء عليه، وهذا محبوب في كل أمر له بال وخطر، والنكاح مخصوص منها بتأكد الاستحباب فيما ذكرناه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله، فهو أبتر". وروي "فهو أقطع" (3). ويستحب معه الحمد والثناء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا

_ (1) ت 3: منه كان (بدون [ما]). (2) ر. المختصر: 3/ 273. (3) حديث "كل أمرٍ ذي بال ... " هو من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود، ح 4840، والنسائي في الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة، ح 10328، 10329، وعند ابن ماجه، ح 1894، والدارقطني: 1/ 229 والبيهقي: 3/ 208، 209، وانظر التلخيص: 3/ 315 ح 1597، وهو عند ابن ماجه بلفظ أقطع، وكذا عند ابن حبان، وله ألفاظ أخر، هذا وقد حسنه العجلوني في كشف الخفا 2/ 119 رقم 1964.

تقديم الخُطبة على الخِطبة، فإذا حان (1) الوقت، ودخل وقت إنشائه، استحببنا تقديم خُطبةٍ على العقد على النسق الذي ذكرناه، ثم إن خطب الولي، فحسنٌ، وإن خطب الخاطب، فكذلك، وإن خطب ثالث، ثم تولى العقد [الولي] (2) والخاطب، فحسنٌ. وهذه عادة عرفت من عهد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. ثم إذا حمد الله الولي وصلى على المصطفى، ثم أوجب، وحمد الله [الخاطب] (3) وصلى ثم قبل؛ فقد قدم كل واحد منهما على قوله حمداً وصلاة. ولكن يعترض في هذه المسألة أنه تخلل بين الإيجاب والقبول كلام، وهذا من الأصول التي يجب الاعتناء بها، فإن تخلل بين الإيجاب والقبول سكوت في زمن متطاول، يدل مثله على إعراض القابل أو نسيانه، أو غفلته، أو على اشتغاله بالفكر فيما هو بصدده؛ فهذا يقطع الإيجاب عن القبول. وإن قصر زمان السكوت، ولم يُشعر بما ذكرناه، لم يضرّ، وإن تخلل بين الإيجاب والقبول كلام في زمان: لو فرض في مثله (4) السكوت بدلاً عن الكلام، لما كان ينقطع الإيجاب عن القبول؛ فهذا موضع الغرض من المسألة. قال الأئمة: إن كان ذلك الكلام غير متعلق بغرض العقد؛ ففي ترتب انقطاع العقد عليه وجهان: أحدهما - أنه ينقطع؛ لأن الكلام اليسير بمثابة السكوت الطويل، بدليل أن السكوت الطويل يقطع تلاوة الفاتحة، ويقطعها الذكر اليسير في أثنائها، كما يقطعها السكوت الطويل. والوجه الثاني - أن العقد لا ينقطع؛ ونصُّ الشافعي في كتاب الخلع دليلٌ على ذلك؛ فإنه قال: لو قال الرجل لامرأتيه: "أنتما طالقتان على ألف"، فارتدّتا، ثم قبلتا الخلع، وذلك بعد المسيس، ثم عادتا إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، فالخلع

_ (1) ت 3: جاز. (2) في النسختين: "للولي". (3) في النسختين: المخاطب. (4) ت 3: في بدل مثله.

صحيح [وهذا تصريح بأن] (1) تخلّل كلمة الردة بين الإيجاب والقبول ليس ضائراً، هذا إذا لم يكن الكلام المتخلل متعلقاً بالعقد. فأما إذا كان متعلقاً بالعقد، كحمد الله يقدمه الخاطب بعد تقدم الإيجاب، ثم يعقبه بالقبول، فالأصح صحة العقد؛ فإنّ تخلّل ما وصفناه ليس مُشعراً بإعراض المخاطب عن جواب ما خوطب به. قال الأئمة: هذا بمثابة تخلل الإقامة بين صلاتي الجمع؛ فإنه غير ضائر مع اشتراط التوالي بين صلاتي الجمع، [وهذا الاستشهاد تكلّف عندنا؛ فإنه لو تخلل بين صلاتي الجمع] (2) بمقدار الإقامة ما ليس من مصلحة الصلاة، لم يضرّ أصلاً. ما ذكرناه ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من ضيق الكلام، ومنع تخليل شيء بين الشقين [والطرفين] (3). فإذا جرينا على الأصح، ولم نمنع تخليل الحمد للتيمن به؛ فلا خلاف أن طويله يقطع الإيجاب عن القبول، ثم طويله معتبر بالسكوت الطويل المتخلل، على ما مضى. 7982 - ثم قال الشافعي: "وأحب أن يقول ما قال ابن عمر: زوّجتكها على ما أخذ الله للمسلمات على المسلمين من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (4). ومعنى اللفظ أن كل زوج مؤاخذ في أدب الدين بأن يمسك خليلته بمعروف أو يسرّحها بإحسان، والأولى أن يُجريا ذكر ذلك قبل العقد، أو بعد انبرامه، حتى لا يقع شرطاً في العقد، فإن قبل الولي كلامه بذلك، فقال: "زوجتكها على أن تمسكها بمعروف أو تسرحها بإحسان"، فقبل الزوج النكاح مطلقاً، أو صرح بالتزام ما شرط عليه؛ فلأصحابنا وجهان في صحة النكاح: أحدهما - أنه لا يصح، وهو ما كان يختاره شيخي؛ لأن معناه اشتراط الطلاق في بعض الأحوال، وهذا لا سبيل إليه، وسنوضح أن اشتراط الطلاق مفسد للنكاح. ومن أصحابنا من قال: يصح النكاح، وهو ما قطع به الصيدلاني نقلاً عن القفال.

_ (1) زيادة من (ت 3). وعبارة الأصل: فالخلع صحيح، وإن تخلل ... (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (3) في الأصل: والطريقين، وغير واضحة في ت 3، والمثبت تقدير من المحقق. (4) ر. المختصر: 3/ 273.

ووجهه: أن ذلك ليس شرطاً، وإنما هو تعرّض لذكر ما هو الأدب في الدين. والذي أراه في ذلك: أنهما إذا أجريا هذا شرطاً، وصرحا بالتزامه؛ فالوجه القطع ببطلان النكاح، فإن ذكراه، وصرّحا بذكر [الوعظ] (1) به من غير التزام شرط وتطرق وفاءٍ به؛ فالوجه: القطع بصحة العقد، وإن أجريا هذا الكلام مطلقاً؛ احتمل أن يحمل على الشرط لصيغته، وموجبه الإبطال. واحتمل أن يحمل على الوعظ -وهو ما تدل عليه قرينة الحال- وموجبه الصحة. فهذا كشف القول في ذلك. ...

_ (1) في الأصل: الواعظ.

باب ما يحل من الحرائر ولا يتسرى العبد

باب ما يحل من الحرائر ولا يتسرى العبد قال الشافعي: "انتهى الله عز وجل بالحرائر إلى أربع ... إلى آخره" (1). 7983 - كان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيد على الأربع. واختلف أصحابنا في أنه هل كان يجوز له الزيادة على التسع؟ وقد تقدم ذكر ذلك في خصائصه. فأما من سواه؛ فللحر أربع من الحرائر بلا مزيد، والعبد ينكح اثنتين، وذهب بعض الشيعة إلى إحلال التسع لكل أحد، ولا مبالاة بخلافهم، والدليلُ على انحصار المستحلات في أربع: حديث غَيْلان ونوفل، كما سيأتي ذكره في نكاح المشركات، إن شاء الله عز وجل، وما أظهره هؤلاء من الخلاف مسبوق بالإجماع المنعقد قبلهم. ثم قال الشافعي: "والآية تدل على أنها على الأحرار ... إلى آخره" (1). 7983/م- قصد بذلك الرد على مالك (2)؛ فإنه جوّز للعبد أن ينكح أربعاً، كالحر، والشافعي قال: الآية الدالة على الحصر واردة في الأحرار، بدليل قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 3]، وهذا في الأحرار، وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء: 3] وكل ذلك يليق بالأحرار. وقال عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوه} [النساء: 4]. وذهب الخلفاء الراشدون إلى مثل ما ذهبنا إليه، وهو مذهب عبد الرحمن بن عوف، وقال الليث بن سعد: "قال الحكم: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا ينكح إلا اثنتين" (3).

_ (1) ر. المختصر: 3/ 273. (2) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 700 مسألة رقم 1253. وكتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك: 3/ 37 مسألة رقم 8. وهذا هو المشهور عن مالك، وفى رواية لمحمد عن ابن وهب عنه أنه قال: لا يتزوج العبد إلا اثنتين (ر. المنتقى للباجي: 3/ 336، واختصار عيون المجالس: 47 و1) عن تهذيب المسالك: السابق هامش (1). (3) حديث الحكم بن عتيبة رواه البيهقي: 7/ 158، وابن أبي شيبة: 4/ 145، والشافعي عن =

7984 - ثم قال: "وإذا فارق الأربع تزوج مكانهن ... إلى آخره" (1). وقصد بذلك الرد على أبي حنيفة (2)، فمذهبنا أن من أبان امرأة؛ إما بأن خالعها، أو طلقها ثلاثاً، وجرت في العدة، حل للزوج أن ينكح أختها، وأربعاً سواها، ولا أثر [لبقائها] (3) في العدة، خلافاً لأبي حنيفة. ولو طلق امرأته طلقة رجعية، لم ينكح أختها ما دامت في العدة، ولا أربعاً سواها. وهذا صحيح؛ فإن الرجعية زوجة. وستعود هذه المسألة بأطرافها وحقائقها، إن شاء الله عز وجل. 7985 - قال: "ولو قتل المولى أمته، أو قتلت نفسها، فلا مهر لها ... إلى آخره" (4). الأمة المنكوحة إذا قتلها سيدها قبل التسليم إلى الزوج، وقبل إلمام الزوج بها؛ فالترتيب المشهور في المذهب ما نطرده أولاً، ثم نذكر بعده قولَ بعض الأصحاب، وحقيقةَ الفصل، فنقول: إذا قتل السيد أمته قبل التسليم، فظاهر المذهب -وهو المنصوص عليه- أنه يسقط مهرها في هذه الصورة، ثم ذكر أصحابنا في ذلك علّتين، تجريان مجرى حدّين، ينشأ عنهما الوفاق والخلاف. فمنهم من قال: إنما يسقط المهر؛ لأن المقصود بالعقد قد فات قبل التسليم، فأشبه فواتَ المبيع قبل القبض. ومنهم من قال: علة السقوط الفواتُ قبل التسليم، كما ذكرناه - مع خصلة أخرى، وهي: أن الساعي في تفويتها مستحق المهر؛ فعلى هذا لو قتلت الأمة نفسها

_ = عمر، الأم: 5/ 41 قال في البدر المنير: إسناده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة عن عطاء أيضاًً، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 355 رقم 1645. (1) ر. المختصر: 3/ 273، وعبارة الشافعي فيه: "فإذا فارق الأربع ثلاثاً ثلاثاً تزوج مكانهن في عدتهن". (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 342 مسألة 835، مختصر الطحاوي: 176. (3) غير واضحة في الأصل، وت 3: لإجابتها. (4) ر. المختصر: 3/ 274.

أو ماتت حتف أنفها، أو قتلها أجنبي قبل التسليم (1 فإن عللنا بالعلة الأولى 1)، فيسقط المهر، وإن قيّدنا بصدور التفويت من المستحق، فالمهر لا يسقط في هذه الصورة. فأما الحرة المنكوحة إذا ماتت أو قتلها أجنبي؛ فيستقر مهرها وفاقاً؛ وذلك أنها كالمسلّمة بنفس العقد، بخلاف الأمة، ولم يصدر منها انتساب إلى التفويت. فأما إذا قتلت الحرة نفسها قبل التسليم؛ ففي سقوط مهرها حينئذ وجهان، من جهة انتسابها إلى التفويت. هذا هو الترتيب المشهور. وفي أصل المسألة قول آخر، وهو: أن الأمة وإن قتلها سيدها، لم يسقط مهرها، وهذا وإن كان مخالفاً للنص، فهو قول منقاس، جارٍ على موجب نكاح يقبله المحقِّقون، ولم يرَوْا بين الحرة والأمة فصلاً. 7986 - وقد حان أن نذكر حقيقة الفصل، فنقول: القياس الكلي الجاري على القواعد، أن فوات المستَمتَع من المنكوحة يتضمن سقوطَ المهر كيف فُرض الفوات. وهذا تستوي فيه الحرة والأمة، قياساً على فوات المبيع قبل القبض، وقياساً على انعدام الدار (2) قبل مضي المدة المضروبة. ولكن اتفق المسلمون على أن النكاح في الحرة ينتهي نهايتَه بموتها، ولهذا يتعلق به الميراث. وهذا القياس يوجب الحكم بقرار المهر، ولا نظر إلى صورة الاستمتاع بعد ما ذكرناه من تصرّم العمر، وهو منتهى النكاح، وليس في النكاح ماليّة معتبرة في جانب المنكوحة، حتى يفرض فوات، وهذا في حكم النكاح يحتكم على العلة الكلية؛ فإن ما ينشأ من خاصية العقد، أولى بالاعتبار، فهذا هو المعنيّ بقول الأصحاب: الحرة المنكوحة مسلَّمة بنفس العقد. وليس للحرة (3) بهذا حقيقة التسليم؛ فإن لها أن تمنع نفسها حتى يتوفر عليها صداقها، كما يحبس البائع المبيع -

_ (1) ما بين القوسين ساقط من ت 3. (2) أي الدار المؤجرة. (3) ت 3: للمرأة. ولعل الصواب: وليس المراد بهذا حقيقة التسليم.

على قولٍ- حتى يتوفر عليه الثمن كَمَلاً، ولكن المراد بما ذكروه: إذا ماتت أو قتلت، فهذا بمثابة التسليم التام فيما يراعَى التسليمُ فيه. هذا قولنا في الحرة. فأما الأمة، فظاهر القياس فيها أنها كالحرة؛ فإن النكاح فيها مربوط بالعمر كنكاح الحرة. وذهب ذاهبون إلى الفرق بين الأمة والحرة؛ [من جهة أن] (1) يد السيد ثابتة على الأمة، ولهذا يقدَّم السيدُ بحق الانتفاع، فإذا انتجز حقه، ودخل وقت الدَّعة، فإذ ذاك لا يُمنع الزوج منها، فلا تمتنع والحالة هذه، وقد ضعف حق الزوج؛ إذ الحد الذي وصفناه، أن يقال: نكاح الأمة لا يصيّرها مسلّمةً بنفس العقد، بل الأمر موقوف فيها على ما يبين من تسليم السيد ومنعه. وهذا لسنا نرى الإطناب فيه؛ فإنه ليس مفضياً إلى تحقيق، مع ما ذكرناه من استواء النكاحين في الحرة والأمة، في أن كل واحد منهما [معقودٌ للعُمر] (2) لا غير. ثم المصير إلى أن الحرة لو قتلت نفسها قبل إلمام الزوج بها، فسقوط مهرها مختلف فيه في نهاية الضعف؛ فإن الأمة إذا كان يتحقق فيها ما ذكرناه؛ فلا يتحقق في الحرة شيء منه، ولا حاصل لتسبّبها إذا كانت حرة؛ فإن العمر إذا انقضى، فلا تكون الحرة بإهلاكها نفسها متسبِّبةً إلى منع المعقود عليه في النكاح؛ فإن المعقود عليه مدة العمر، طالت أم قصرت. فيخرج من مجموع ما ذكرناه: أن القياس إيجاب المهر كيف فرض الموت في الحرة والأمة، وهذا موافق قولاً ذكره الأصحاب، ولكن النص الظاهر على مخالفته. فإن رأينا الفرق بين الحرة والأمة جرياً على النص، تكلفنا الفرق بين الحرة والأمة، كما سبقت الإشارة إليه، فأما الفرق بين أن تموت الحرة وبين أن تقتل نفسها، فلا سبيل إلى [احتماله] (3) أصلاً.

_ (1) في النسختين: إلى جهة من أن يد السيد ثابتة. (2) في الأصل: معقوداً بعمره، ت 3: معقوداً لعمره. (3) ت 3: إحماله (بالحاء المهملة) وفي الأصل: "إجماله" والمثبت هو المناسب للسياق.

فصل قال: "وإن باعها حيث لا يقدر عليها، [فلا مهر لها حتى يدفعها إليه ... إلى آخره" (1). 7987 - فنقول أولاً: إذا زوّج الرجل أمته، وصحّ النكاح على حكم الشرع] (2)، ثم إنه باع الأمة، فالبيع نافذ، والزوجية قائمة. وقال ابن عباس: "بيعُها طلاقها"، ولعله أخذ ذلك من تجدد الملك على رقبة المزوّجة، وشبّه ذلك بما إذا سُبيت الزوجة، وجرى الرق عليها. والدليل على بقاء النكاح: حديث بريرة؛ فإن عائشة اشترتها وأعتقتها، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل أن النكاح لم يبطل ببيعها، والفرق بين السبي والشراء ظاهر؛ فإن السبي يغير صفة [الزوجة] (3) ويقلبها من الحرية إلى الرق، وصفةُ المزوَّجة إذا بيعت لم تتبدّل، وإنما تبدل عليها الملاك. 7988 - فإذا بان بقاء النكاح، فنقول بعده: إذا باع السيد الأمة المزوجة، وكان النكاح مشتملاً على مسمّىً صحيح؛ فهو للأول - يعني البائع، وإن كان الدخول بها حصل في ملك المشتري؛ لأن وجوب المهر مستند إلى العقد. ولو صح النكاح وفسدت التسمية في المهر، واقتضى الأمر الرجوع إلى مهر المثل، فهو أيضاًً للبائع؛ فإن مهر المثل ثبت صحيحاً بالعقد، ولا نظر إلى فساد التسمية. ولو كان زوّج أمته [وفوّض] (4) بضعها، وعرّى النكاح عن المهر أصلاً، وباعها، فوطىء الزوج في ملك المشتري، فالمهر (5) يجب، واختلَف القول في أنه يجب

_ (1) ر. المختصر: 3/ 274. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (3) في النسختين: الزوجية. (4) في الأصل: وفرض. (5) ت 3: فالملك.

بالعقد، أو يجب بالمسيس؟ على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى. فإن حكمنا بأن المهر يجب بالعقد؛ فهو للبائع، كما لو كان أصدقها خمراً أو خنزيراً، وإن حكمنا بأن المهر لا يجب في نكاح التفويض بالعقد، وإنما يجب بالمسيس؛ فالمهر على هذا للمشتري؛ فإن المسيس جرى في ملكه. 7988/م- ومما يتفرع على ذلك: أنا إذا أثبتنا المهر للبائع؛ فليس له بعد البيع حقُّ [منع] (1) الجارية عن زوجها حتى يتوفر الصداق عليه؛ فإن ملكه قد زال عن رقبة الأمة، فلم يبق له متعلق، والمشتري ليس له منعها أيضاًً؛ فإن المهر ليس له، فيستفيد الزوج بتبدّل الملك الإلمامَ بالأمة من غير حبسٍ [ومنع] (2)، وهذا إذا قلنا: المهرُ للبائع في صورة التفويض. وإن حكمنا بأن المهر للمشتري إذا وطئت عنده؛ فله أن يمنعها من زوجها حتى يفرض لها صداقها، ثم إذا فرض لها، فله أن يمنعها حتى يوفّر المفروض على المشتري. وإذا فرّعنا على أن نكاح التفويض لا يوجب المهر بنفسه، فلو أراد المالك الأول أن يطالب بفرض مهر، كان له ذلك، على ظاهر المذهب، ثم كان يتوصل إلى منعها بهذه الجهة، فلو طلب الأول الفرض قبل البيع، فأجيب إلى ما طلبه (3)؛ فيكون المفروض ملكاً للبائع؛ فإنه ملتحق بالمهر المسمى على الصحة في النكاح، ثم من موجب هذه الحالة أن المشتري لا يملك منعها؛ فإن المهر ليس له، ولا يملك البائع منعها، فإن ملكه قد زال، كما تقدم تقريره. 7989 - ولو زوّج الرجل أمته، ثم أعتقها؛ فطريان العتق عليها ينزل منزلة طريان الشراء، فحيث نجعل المهر للبائع؛ فهو للمعتِق، وحيث نجعل المهر في صورة

_ (1) في الأصل: مع. (2) زيادة من (ت 3). (3) ت 3: ما يطلبه.

التفويض للمشتري؛ فهو للمعتَقة، فطريان العتق في التفاصيل التي قدمناها كطريان الشراء. [وهذا] (1) منتهى المراد في ذلك. 7990 - ونحن الآن نذكر على أثر نجاز هذا المقصود، تفصيلَ المذهب في تجدد الملك على العبد الناكح، فنقول: إذا تزوج العبد بإذن مولاه؛ فقد ذكرنا أن المهر يتعلق بكسبه، فلو وفّى المهرَ من كسبه، ثم باعه سيده، وطلّق المرأة قبل المسيس، وحكمنا بتشطر الصداق، فالمذهب: أن شطر الصداق يرتد إلى البائع؛ من جهة أنه أدى المهر من ملك البائع؛ إذ كسب العبد ملكُه، فيرتد نصف الصداق إلى من خرج من ملكه. ولو زوّج الأب من ابنه الطفل، وساق صداقها من ملك نفسه -متبرعاً على طفله- فإذا بلغ الطفل، وطلق زوجته، فنصف الصداق يرتد إلى الزوج المطلِّق؛ والسبب فيه أن الأب لما تبرع، وساق الصداق، فمن ضرورة وقوع ذلك الصداق [المَوْقع] (2)، تقدير دخوله في ملك الزوج أولاً، وإذا كان كذلك، فقد تقدم ملك الطفل له، فإذا طلق، رجع الشطر إلى ملكه، ولا يتحقق مثل هذا في العبد؛ فإن المهر وإن تعلق بكسبه، فلسنا نقدّر دخول كسب العبد تحت ملك العبد أولاً، حتى يتوفر الصداق من ملكه. قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قال: إذا طلق العبد زوجته قبل المسيس، فشطر المهر يكون للمشتري؛ فإن الطلاق هو الذي يوجب رجوع شطر الصداق، وقد جرى الطلاق الموجبُ لذلك في ملك المشتري؛ فإذا كان الموجِب في ملكه، كان الموجَب له. وهذا وجه حكاه الشيخ وزيّفه، وهو لعمري مزيّفٌ. 7991 - ومما يتعلق بأطراف الكلام مما ذكرناه: أنا استشهدنا بتبرع الأب على ابنه بسوق الصداق من ماله، وقلنا: إذا طلق الابن بعد البلوغ، فشطر الصداق يرجع إلى الابن، وخرّجنا هذا على أن الملك يحصل للزوج أولاً، ثم ينتقل منه.

_ (1) في النسختين: وهو. (2) في الأصل: المتوقع.

ويجوز أن يقال: لا يتضمن سَوْقُ الصداق تمليكَ الابن، وهذا يوضحه ذكر مسألة مقصودة في نفسها، فنقول: إذا نكح الرجل المطْلَقُ امرأة على مال، ثم جاء أجنبي، وتبرع بأداء المهر عن الزوج، فيستحيل أن نقضي باقتضاء هذا الأداء تمليكَ هذا الرجل المُطْلَق من غير مراجعته، بل يقع الأداء [افتداءً] (1)، فإذا فرضنا من الزوج طلاقاً قبل المسيس، واقتضى ذلك تشطر الصداق، فالوجه أن يقال: يرتد شطر الصداق إلى الأجنبي المتبرع بالأداء؛ فإنه عن ملكه خرج، فيعود إلى ملكه، إلا على الوجه الضعيف الذي حكيناه في أن الاعتبار بوقت الطلاق. 7992 - فإذا تمهد هذا عُدنا بعده إلى تبرع الأب على طفله، وقلنا: ظاهر كلام الأصحاب أن التبرع يتضمن تمليكَه؛ فإن الأب يتملك (2) تمليك طفله بحق الولاية، فيُحمل ما جرى على ذلك، ثم يتجه رجوع شطر الصداق إلى الزوج، كما تبين من قول الأصحاب. ويجوز أن يقال: تبرع الأب على ابنه لا يتضمن تمليكه؛ فإن الأجنبي إذا كان يملك الافتداء بطريق الأداء من غير أن يملّك، فليملك الأب ذلك في حق طفله. وينتظم من هذا سَوْقُ أحوالٍ: أحدها - أن الأب لو قصد الفداء، ولم يقصد تمليك طفله؛ فيجب ألا يدخل الصداق في ملك الطفل، كما ذكرناه في الأجنبي، ثم موجب هذا: ألا يرتد شطر الصداق إلى الزوج إذا بلغ وطلّق، وفرّعنا على الصحيح. وإن قصد بالتبرع تمليك طفله؛ فيجوز أن يقال: يدخل في ملك الطفل، كما ذكره الشيخ. وإن أطلق الأب الأداء، ولم ينْوِ فداءً ولا تمليكاً، فهذه مسألة محتملة مترددة بين قصد الفداء وقصد التمليك. فهذا ما لا بد من تفصيله كذلك. 7993 - ومما يتفرع على هذا المنتهى؛ أن من تبرع بأداء دين أجنبي، فلمستحق

_ (1) في النسختين: اقتداءً. (بالمثناة). والمثبت تقديرٌ منا. وقد صدقته (صفوة المذهب). (2) كذا في النسخيتن، ولعلها "يملك" كما في (صفوة المذهب).

الدين أن يمتنع عن قبوله (1)، وإن كان الأداء من الأب، وزعم أنه يقصد الافتداء، فيجوز أن يقال: للمرأة أن تمتنع عن قبوله، طرداً للقياس الذي ذكرناه في الأجنبي. فهذه أمور انتهى الكلام فيها، فلم نجد بداً من التنبيه عليها. 7994 - ويعود بنا الكلام إلى سَمْت المسألة: فإذا وفّى العبد الصداق في ملك البائع، ثم جرى البيع والطلاق؛ فشطر الصداق على ظاهر المذهب يرتد إلى البائع. وإن لم يوفِّ العبد الصداق، حتى بيع، ثم إنه اكتسب في ملك المشتري، وأدّى الصداق؛ فأول مذكور في ذلك: أن المشتري ليس له منفعة غير الاكتساب؛ من جهة أن كسبه مستحَق الصرف إلى هذه الجهة، ثم إذا أدى الصداق مما اكتسبه في ملك المشتري، ثم طلق قبل المسيس، فهذا تنبيه على ما إذا اكتسب في ملك البائع، وأدى الصداق. فإن قلنا: الصداق إذا تشطر بالطلاق، فالشطر للمشتري، نظراً إلى وقت الطلاق، فلا شك في حصول الشطر للمشتري فيه إذا اكتسب في ملك المشتري. فأما إذا قلنا: شطر المهر يرجع إلى البائع إذا اكتسبه في ملكه، فإذا اكتسب في ملك المشتري؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن شطر الصداق يرجع إلى المشتري، فإنه وفّاه مما اكتسبه في ملك المشتري. والوجه الثاني - أنه يرجع الشطر إلى ملك البائع؛ فإنه وإن اكتسب في ملك المشتري، فذلك القدر كان في حكم المستحَق من كسبه، وكأنه كان مستثنى عن ملك المشتري، مفروضاً في ملك البائع. فإذا تقرر ما ذكرناه في البيع، فلو جرى بدل البيع إعتاقٌ، فنقول: إن كان اكتسب قبل العتق، وأدى المهر، ثم عتق وطَلّق قبل المسيس؛ فالنصف يرجع إلى المالك المعتِق، على المذهب الصحيح. ومن اعتبر وقت الطلاق، قال: يرجع نصف الصداق إلى العتيق، نظراً إلى وقت الطلاق. ولو عتق قبل توفية الصداق، واكتسب بعد الحرية، وأدى الصداق، ثم طلّق قبل

_ (1) في النسختين: قبوله له.

المسيس؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن نصف الصداق يرجع إلى الزوج، نظراً إلى حالة الاكتساب. والثاني - أنه يرجع إلى المعتِق؛ لأن ما بقي بالصداق مستحق على المعتق من كسبه، فكأنه في حكم المستثنى. وهذا الوجه ضعيف عندي، لا ثبات له؛ فإن حق المهر إنما يثبت للزوجة، وقد توفر الكسب بكماله على السيد في زمن الرق، فتقديم حق له في الكسب حتى يفرض مستثنى بعد الإعتاق والانطلاق عن الرق، غير معقول؛ بل الأمر على العكس من هذا الخيال؛ فإن العبد كان يملك أن يؤدي ما التزمه من الصداق من كسب رقه، فلم يتفق. وبقيت ذمته مرتهنة بدينه، حتى عَتَق واستقل، فإذا اكتسب وأدى ما عليه، فرجوع شيء عند الطلاق إلى السيد لا وجه له. ولكن الشيخ أبا علي ذكر هذا الوجه في الشرح، ولم يطنب في الرد عليه، وما ذكرناه من التزييف فيما يكتسبه بعد الإعتاق يجري فيما يكسبه بعد البيع. فصل قال: "ولو وطىء رجل جارية ابنه وأولدها ... إلى آخره" (1). الأب إذا وطىء جارية ابنه، فلا تخلو الجارية، إما أن كانت موطوءة الابن، أو لم تكن. فإن لم تكن موطوءة الابن، فوطئها الأب، لم يخلُ: إما أن يحبلها، وإما ألا يحبلها. فإن لم تعلق [منه] (2)، فالكلام يتعلق بانتفاء الحدود، ووجوب المهر، وتحريم الموطوءة على الابن. فأما الحد، فلا يجب أصلاً، لما للأب من الشبهة في مال الابن، فيما يتعلق بالإعفاف (3)، وهذا بمثابة درء حد القطع عن الأب والابن إذا سرق أحدهما من مال

_ (1) ر. المختصر: 3/ 275. (2) زيادة من ت 3. (3) فيما يتعلق بالإعفاف: حيث يجب على الابن إعفاف الأب، كما تجب عليه النفقة.

صاحبه؛ وسبب اندفاع "حق" (1) القطع من الجانبين عموم ثبوت النفقة في أوانها من الطرفين جميعاً، ولما اختص الأب باستحقاق الإعفاف على ابنه، اختص جانبه بانتفاء الحد عنه في هذا القبيل. وإذا كان الأب لا يقتل بقتل ولده، فيبعد أن يرجم بوطء جارية ابنه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" (2). فهذا ما ذكره الأصحاب في انتفاء الحد. فأما المهر، فالذي قطع به المحققون: وجوب المهر؛ فإن الوطء وطء شبهة. وما أوجب درء الحد حرمة الوطء (3) في هذا المحل. وذكر العراقيون تفصيلاً في المهر، فقالوا: إن كانت جارية الابن مكرهة؛ وجب المهر، وإن كانت مطاوعة؛ ففي وجوب المهر وجهان. وهذا غلط صريح؛ فإنهم قطعوا أقوالهم بانتفاء الحد؛ فلا معنى (4) مع ذلك التفصيل الذي ذكروه (5)، وإنما [يستدُّ] (6) هذا التفصيل في الجارية المغصوبة إذا زنا بها الغاصب - كرهاً أو طوعاً. ثم تصير الجارية محرمة على الابن؛ فإنها موطوءة الأب وطئاً محترماً. فلو قال الابن: اغرم لي قيمة الجارية، وخذها، لأنك حرمتها عليّ، لم يكن له

_ (1) كذا في النسختين، ولعلها "حدّ". (2) حديث: "أنت ومالك لأبيك": رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبزار عن عمر، ورواه ابن حبان من حديث عائشة، وابن ماجه، وبقي بن مخلد، والطحاوي عن جابر، والطبراني في الصغير عن ابن مسعود، وفي الكبير عن ابن عمر، وسمرة، والحديث صححه الألباني (ر. أبو داود: البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده، ح 3530، ابن ماجه: التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، ح 2291، 2292، أحمد: 2/ 179، ابن حبان: 410، 4262، إرواء الغليل: 338، وتلخيص الحبير: 3/ 383 ح 1670). (3) ت 3: للوطء. (4) لا معنى: أي لا حكمة ولا علة مع هذا التفصيل تؤيده. (5) الأمر كما قال إمام الحرمين، فقد قال النووي: المذهب أنه كوطء الشبهة، فعليه المهر للابن (ر. الروضة: 7/ 208). (6) في النسختين: "يستمرّ". و (يستدّ) أي يستقيم، وقد أثبتناها لأنها الأوفق في هذا السياق، ولأنها معهودة في ألفاظ إمام الحرمين، ولأن تصحيفها واضح.

ذلك؛ لأن الوطء ليس بمقصود في ملك اليمين؛ فيستحيل أن يتعلق بتفويته وجوب القيمة. ولو أرضعت امرأة الرجل جارية له؛ فليس له أن يغرّمها قيمة الجارية، فلو [اشترت] (1) امرأةُ الرجل رضيعةً من زوجها، وأرضعتها، حرمت على الزوج، ثم اطلعت على عيب قديم بها، لم يمتنع ردها بالعيب القديم، ولم يكن للمردود عليه أن يقول: كانت مباحة لي، فطرأ التحريم في يدك، فلا ترديها وقد طرأ التحريم فيها. هذا كله إذا وطىء جارية الابن ولم يحبلها. 7995 - فأما إذا أحبلها؛ فالحد منتف، والمهر واجب، والتحريم واقع، كما تقدم في الوطء العريّ عن الإعلاق. وأبو حنيفة (2) لم (3) يوجب المهر، لمّا اعتقد ثبوت الاستيلاد، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى، ورأى أن المهر يندرج تحت القيمة، وعندنا المهر يتقدم وجوبه على ثبوت العلوق بعد تغييب الحشفة، ويقع الكلام في ثبوت الاستيلاد، والمسألة مشهورة في الخلاف؛ لذلك لم نطنب في إيضاح علة المذهب. 7996 - ثم إنا نتكلم وراء ذلك في ثلاثة أحكام: أحدها - النسب. والثاني -[حرية] (4) الولد. والثالث - الاستيلاد. أما النسب: فإنه يثبت لحرمة الوطء، ولأجلها دفعنا الحد، وأوجبنا المهر. وأما الحرية: فالولد يعلق حراً. ولو وطىء رجل جارية غيره بشبهة، فحبلت؛ فالولد يعلق على الحرية.

_ (1) في الأصل: استرقت. (2) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 382، 383. (3) ت 3: لا. (4) في النسختين: حرمة.

وأما القول في ثبوت الاستيلاد؛ فالمنصوص عليه للشافعي أن الاستيلاد يثبت (1)، وهو مذهب أبي حنيفة. واختار المزني أنها لا تصير أم ولد. وهذا هو القياس، وللشافعي ما يدل على ذلك؛ لأنه قال: "إذا ملك جارية وابنتَها، فوطىء الجارية، حرمت البنت عليه، فلو وطىء البنتَ (2)؛ فهل تصير أم ولد؟ فعلى قولين. وكذلك إذا وطىء جارية ابنه". هذا لفظ الشافعي. فمن أصحابنا من ذكر قولاً مطلقاً للشافعي في أن الاستيلاد لا يثبت. ونحن نقول: هذا القول إن كان مخرّجاً، فهو منقاسٌ حسن؛ فإن جارية الابن ملكُه الخالص، لا شرك للأب فيها، ولو فرضنا شركاً، لما حلت للابن. وإن كان هذا القول مأخوذاً من نص الشافعي -الذي نقلنا لفظه- فهو بعيد؛ فإن الشافعي ذكر [احتمال] (3) البنت المملوكة، بعد ما حرمت على الأبد بوطء أمها، وكان ذلك ترديد القول في محرمةٍ على التأبيد، ثم عطف، فقال: "كذلك الأب إذا وطىء جارية ابنه". وظاهر هذا دليل على أن صور وطء الأب في موطوءة الابن حتى تكون محرمة على الأبد [كما أن البنت محرمة على الأب] (4) بوطء الأم. فحصل مما ذكرناه؛ أن ظاهر المذهب ثبوت الاستيلاد (5). ومن أصحابنا من ذكر قولاً آخر: أن الاستيلاد لا يثبت. وهو مذهب المزني. وحكى الأئمة عن صاحب التقريب قولاً ثالثاً وهو: أنه يفصل بين أن يكون الأب موسراً إذا وفَّى بقيمة الجارية، وبين أن يكون مُعسراً. توجيه الأقوال: من نفى الاستيلاد، فقياسه ومتعلّقه بيّن، ومن أثبته، تعلق بما

_ (1) وهو الأظهر، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 208). (2) أي وطىء البنت بعد ما حرمت عليه. (3) في النسختين: آجال. (4) الزيادة من ت 3. (5) عبارة النووي: وهل تصير الجارية أم ولد للاب؟ فيه أقوال: أظهرها، نعم. (ر. الروضة: 7/ 208).

ذكرناه من الشبهة، وأوقعُ متعلَّقٍ انتفاء الحد، مع العلم بحقيقة الحال، ولا وجه لدفع الحد إذا وقع الفرض في العلم بالتحريم، مع انتفاء الريب والخلاف، إلا شبهة تقتضي الاستيلاد، إذا أفضى الوطء إليه. ومن فرّق بين الموسر والمعسر؛ فوجه قوله: التشبيه بسريان العتق؛ فإن الشريك إذا أعتق حصته من عبد، وكان موسراً، سرى العتق إلى نصيب شريكه. وإن كان معسراً، لم يَسْر، وعَتَق منه ما عتق ورَقّ ما رق. وهذا القول ضعيف، وليس يُشبه ثبوتُ الاستيلاد في حق الأب تسريةَ العتق؛ فإن المرعي في منع التسرية إذا كان المعتق معسراً حقُّ الشريك؛ فإنا لو سرّيْنا العتق، لأبطلنا حق الشريك ناجزاً، وأحلناه على ذمة معسر، والمتبَع في ثبوت الاستيلاد، أحد أمرين: إما حرمة الأبوة، حتى لا تبقى أم ولده رقيقة، وإما شبهة الملك. فإن راعينا حرمة الأبوة، فهذا يعم الموسر والمعسر، وإن راعينا شبهة الملك، فليس ملك الشبهة جزءاً مملوكاً منها، حتى يقصر الاستيلاد عليه. نعم، قد يخرّج قولُ الفرق بين الموسر والمعسر في إعتاق الراهن العبدَ المرهون؛ فإن المتبع في رد عتقه تركُ الإضراب بالمرتهِن، والتوقِّي من تنجيز إبطال حقه من الوثيقة. وهذا يجوز أن يختلف باليسار والإعسار. 7997 - وهذا النوع من النظر يفصله ذكر ثلاث مراتب: إحداها - في إعتاق حصة من عبد مشترك. هذا ينقدح فيه الفرق بين اليسار والإعسار، لورود الخبر فيه بالفصل بين الموسر والمعسر، وهو أولى متبع. وفيه طرف من المعنى، وهو: أن مقدار ملك المعتِق من الشريكين منفصل عن حصة الثاني، ولا حق له في نصيب صاحبه، ولا يمتنع أن يتوقف تسرية العتق إلى نصيب الشريكين على بذْل العوض -في قولٍ- أو على إمكان بذله. المرتبة الثانية - في إعتاق الراهن. وظاهر المذهب إجراء القولين في تنفيذ عتقه، أو ردّه، من غير فصل بين أن يكون موسراً أو معسراً. والفرق بين هذه المرتبة وبين الأولى أن ملك الراهن ثابت في جميع المرهون، وثبوته أقوى من ثبوت حق الوثيقة؛

فلم يكن للنظر إلى الإعسار واليسار معنى، و [علّة] (1) نفوذ العتق صدوره من أهله في محل ملكه. ومن خرّج قولاً في الفصل بين الموسر والمعسر؛ فوجهه مراعاة حق المرتهن، وهو مختارٌ في إعتاقه. والمرتبة الثالثة: استيلاد الأب جارية ابنه، وهذه المرتبة بعيدة عن اعتبار اليسار والإعسار فيها؛ لأن المتبع حرمةُ الأبوة؛ فلا سبيل إلى إسقاطها في المعسر. فإن [عورضنا] (2) بأن الراهن المعسر مالكٌ أيضاًً، قلنا: لا يمتنع الحجر على المالك، [وأين] (3) يقع تنفيذ تصرف المحجور عليه من حرمة الأبوة؟ فهذا بيان هذه المنازل. وقد رأيت لصاحب التقريب [القول الثالث في الفرق بين الموسر والمعسر في إعتاق الراهن، ورأيتُ هذا القول لغيره في الرهن، فأما الفصل بين الموسر والمعسر في ثبوت الاستيلاد في جارية الابن، فلم أره لصاحب التقريب] (4) مع اعتنائي بالبحث عن كتابه، ولم ينقل أصحابنا هذا القول إلا عنه. فهو قول مُخيل تعليلاً ونقلاً. ويتفرع عليه أمر لا بد من إلزامه، وهو: أن الأب إذا كان موسراً؛ وجب أن تخرّج الأقوال الثلاثة في تعجيل الاستيلاد، أو تأخير الحكم به إلى بذل القيمة، أو الوقف، كما سنذكره -إن شاء الله عز وجل- في تسرية العتق من نصيب إلى نصيب. ويجب أن يقال: إذا كان الأب مُعسراً حالة العلوق، ثم أيسر من بعدُ، لم يؤثّر طريان اليسار، وتكون الجارية فيه تباع (5)، وإن كان الأب يبذل قيمتها بيساره الطارىء. كل ذلك لا بد منه إذا فرّعنا على الفرق بين الموسر والمعسر. وهذا منتهى الكلام في هذا القول، فلا عود إليه.

_ (1) في الأصل: وعليه، و (ت 3): وعامة. (2) في النسختين: عورضا. (3) في النسختين: وأن. (4) ما بين المعقفين زيادة من: (ت 3). (5) تباع: أي يجوز للابن بيعها، ذلك أن يده محتوية عليها.

وكذلك؛ إن قلنا: لا يثبت الاستيلاد أصلاً، على ما اختاره المزني؛ فالجارية رقيقة، والولد حرّ نسيب، وسنتكلم في قيمته، إن شاء الله تعالى، والمهر واجب، والحد منتف. وإن فرعنا على ظاهر المذهب، وهو: أن الاستيلاد يثبت؛ فيلزم الأبَ المهرُ وقيمةُ الجارية. والولد يعلق حراً، كما تقدم. 7998 - والقول الآن في قيمة الولد، فنقول: إن فرّعنا على أن الاستيلاد لا يثبت؛ فتجب قيمة الولد وقت انفصاله بتقديره رقيقاً، ثم إنما يجب ذلك إذا انفصل حيّاً، وسيأتي شرح ذلك في باب [الغرر] (1)، إن شاء الله عز وجل. 7999 - ولو ملك الأب هذه الجارية يوماً من الدهر، فهل تصير أم ولد له؟ فعلى قولين مشهورين، سيأتي ذكرهما في أمهات الأولاد، إن شاء الله تعالى، وهما جاريان فيما لو وطىء جارية أجنبي بشبهة، وعلقت منه بمولود، وحكمنا بحرية الولد، ونفينا الاستيلاد في الحال؛ فلو ملكها الواطىء يوماً؛ فهل تصير أم ولد؟ فعلى القولين. 8000 - وإن حكمنا بأن الجارية تصير أم ولد للأب؛ فهل يلتزم قيمة الولد مع قيمة الأم؛ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يلتزمها، كما يلتزمها الواطىء بالشبهة. والثاني - لا يلتزمها؛ فإنه التزم قيمة الجارية والولد جزء منها؛ فاندرج الجزء تحت الكل، وليس كالمهر؛ فإنه يجب على مقابلة إتلاف المنفعة؛ وليست المنفعة جزءاً من الجارية، ولا ينقدح توجيه الوجهين، والوجهُ بناؤهما على أن الملك متى ينتقل إلى الأب في الجارية؟ وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ينتقل الملك إليه مع العلوق، لا يتقدم عليه، ومقتضى هذا إيجاب القيمة للولد؛ فإن العلوق يحصل مع النقل، وليس يتعلق أحدهما بالثاني. ومن أصحابنا من قال: الملك ينتقل في الجارية قبيل العلوق؛ فعلى هذا لا يلتزم الأب قيمة الولد. وهذا الوجه معلوم؛ ومسلكه من طريق التعليل اللائق بهذا الفن

_ (1) في النسختين: الغزو.

مفهوم وكأنا نبغي في تعظيم [حرمة الأب] (1) أن نقدِّم مسقط مائه ونطفته ملكاً له. وهذا ليس بعيداً إذا أُثبت أصل الاستيلاد؛ فإن الإشكال في الأصل، وما ذكرناه بعد ثبوت الأصل قريب محتمل. وأما المصير إلى أن العلوق ونقل الملك يحصلان معاً، فهذا متجه حسن، ولكنه لا يثمر (2) إيجاب قيمة الولد؛ فإن نقل الملك إذا قارن العلوق؛ فقد صادف العلوقُ الملكَ؛ فلا أثر لتقدم الملك بلحظة، فكيف يستفاد من هذا إيجاب قيمة الولد [وقد تحصلت بعد هذا البحث على مسلكين، أوقعهما وأفقههما أن نبني لزوم قيمة الولد] (3) على ثبوت الاستيلاد ونفيه؛ فإن أثبتنا الاستيلاد، لم نوجب قيمة الولد. وذكرنا للأصحاب خلافاً في أن الملك متى ينتقل في الجارية؟ يجوز أن يقال: يتقدم بلحظة على العلوق، ليُشْرِف ورود الماء على ملك [عتيد] (4). ويجوز أن يقال: يحصل العلوق والنقل معاً، وهذا هو الصحيح، والتقدير الأول ليس بمتين (5). ولو تناهيت في تقريره، وقعت في مذهب أبي حنيفة (6)، فإنه قال: ينقل الملك مع أول الوطء أو قُبيله. وهذا التردد على حال قريبٌ بعد ألا تُتلقى منه قيمة الولد وجوباً ونفياً، وإنما تُتلقى قيمة الولد من إثبات الاستيلاد [ونفيه] (7) كما ذكرناه هذا مسلك، وهو الذي لا معدل عنه. والمسلك الثاني - أن من أصحابنا من قال: يحصل نقل الملك مع العلوق؛ فعلى هذا تجب قيمة الولد وقيمة الجارية. وهذا البناء متجه، ولكن نقل الملك بعد العلوق ليس بشيء؛ فإن المعلول لا يستأخر عن العلة إذا صادفت العلة محلها. فإن قيل: إذا ملك الرجل من يعتق عليه، أليس يحصل الملك ثم يترتب العتق

_ (1) زيادة من المحقق. والحمد لله صدقتنا (صفوة المذهب). (2) ت 3: لا يتم. (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (4) في الأصل: ملك الغير. (5) بمتين: أي قوي، يقال: رأي متين: أي قوي محكم (معجم). (6) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 382، 383. (7) زيادة من ت 3.

عليه؟ والقرابة كانت مقترنة بالملك في الحالة الأولى، ثم تأخر أثرها إلى الحالة الثانية. وفي هذا تخبّط شيخنا أبو إسحاق المروزي، حيث قال: يحصل العتق والملك في الحالة الأولى، فزعم أن جمع النقيضين في الحكم غير ممتنع، وإنما يمتنع اجتماع النقيضين حسّاً، وهذا من عثرات ذلك الشيخ. والجواب عندنا أن العتق مشروط بحصول الملك، ومن ضرورة حصوله أن يفرض تقدّمه بلحظة واستعقابه العتقَ، وليس من الممكن أن يُقدّر إلا كذلك، ولا استحالة في الجمع بين حصول الملك في الجارية ووقوع العلوق حسّاً. فليفهم الطالب أمثال ذلك، وليتثبت في زَلَق الأقدام. فإذا تحقق ما ذكرناه، انتظم منه أن الذي يجب القطع به: حصول النقل والعلوق معاً، وتقديم الملك وتأخيره لا أصل له، على أن تقديمه يليق بحكم الفقه، وتأخيره لا وجه له، ثم كيف قُدر الأمر؛ فالوجه: بناء قيمة الولد على الاستيلاد، كما قد ذكرنا. وقد أكرر معنى في فصل مراراً، ولا أبغي التطويل، ولكني أروم تنبيه الناظر، وقد يتخطى الفكر معنى ولا يفهمه، فإذا كُرّر عليه، ثبت فيه، والله المستعان. 8001 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك، أنا لو فرضنا نزول الماء مع تغييب الحشفة، فهذا تصوير العلوق مقترناً بموجب المهر، وقد ذكرنا أن الصحيح أن الملك ينتقل مع العلوق؛ هذا لم يتعرض له الأصحاب، بل أطلقوا القول بوجوب المهر، ولم يتعرضوا لهذا التفصيل. والأظهر عندي: أنهم بنَوْا الأمر على الاعتياد، والغالب أن الإنزال يحصل بعد وجوب المهر، ولو صوّر الأئمة ما ذكرناه، لنزّلوا المهر منزلة (1) قيمة الولد، هذا ما نراه، والله أعلم.

_ (1) ساقطة من (ت 3).

8002 - ومما يليق بهذا المنتهى؛ أنا إذا لم نثبت الاستيلاد، وحكمنا بأن الجارية رقيقة؛ فهي حامل بولد حر، والصحيح أن بيع الجارية الحامل بالولد الحر غير صحيح، فلو قال الابن: قد حِلتَ بيني وبين التصرف في الجارية، فاغرم لي قيمتها؛ فهل له أن يغرّمه؟ فعلى وجهين. وهذا لا يختص بالأب والابن، بل لو وطىء رجل جارية أجنبي بشبهة، وعلقت منه بمولود؛ فهل لمالك الجارية أن يغرّمه القيمة؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين. توجيههما: من قال: تجب القيمة، احتج بما ذكرناه من الحيلولة، ومن قال: لا تجب، احتج بأن يد المالك مستمرة على الجارية، وهو يتمكن من الانتفاع بها، فلا تتحقق الحيلولة باستئخار البيع في أيام. 8003 - وكل ما ذكرناه كلام في قسم واحد، وهو إذا وطىء الأب جارية الابن، ولم تكن الجارية موطوءة الابن (1 أما إذا وطئها وهي موطوءة الابن 1)، فلا شك أنها محرمة على التأبيد على الأب، فأول ما نذكره أنه هل يلزم الأبَ الحدُّ أم لا؟ المنصوص عليه في الجديد: أنه لا يلتزم الحد لحرمة الأبوة. والقول الثاني - نص عليه في القديم: أن الحد يجب، وهذا القول يجري (2) في كل وطء محرم لا اشتباه في تحريمه، ولا لبس على الواطىء. حتى لو وطىء جاريته المملوكة وهي أخته، فالحد في هذا يجب ولا يدرؤه الملك القائم، وكذلك إذا كانت مملوكة محرمة برضاع أو مصاهرة، وكذلك لو كانت مزوّجة. ومحل هذا القول وطء محرم لم يختلف العلماء في تحريمه، ولم يلتبس تحريمه على الواطىء، وكان شيخي لا يطرد هذا القول في وطء الحائض، ويقول: المحرّم من وطئها ملابسة الأذى، كما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، ويجب على قياس القول القديم إيجاب الحد على أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة، لما ذكرناه. فإذا تمهد هذا؛ رجعنا إلى غرضنا من الفصل.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 3). (2) ت 3: مجرىً.

8004 - فإذا وطىء الأب جارية الابن، وكانت موطوءة الابن، فإن فرعنا على الجديد، فلا حد، والقول في وجوب المهر، وثبوت حرية الولد إن ثبت العلوق، وفي الاستيلاد، كما تقدم في الجارية التي ليست موطوءة الابن. ولكن إذا لم تكن موطوءة الابن، وثبت الاستيلاد على ظاهر المذهب؛ فتصير الجارية مستحلّة للأب، وإذا كانت موطوءة الابن، فهي محرمة على الأب على التأبيد، وإن حكمنا بثبوت الاستيلاد، فإن التحريم المؤبد لا يزول بشيء. وإن فرّعنا على القديم، وجب الحد على الأب، كما لو وطىء أخته المملوكة. وهاهنا موقف على الناظر؛ وذلك أنا [إن] (1) طردنا القول القديم في وطء السيد جاريته المزوّجة وإن لم تكن محرمة على التأبيد؛ فيترتب على الأب أن جارية الابن وإن لم تكن موطوءة الابن، فهي محرمة على الأب قطعاً بشبهة، ويجب أن يخرّج في وطء الأب جارية الابن قولٌ في وجوب الحد عليه وإن لم تكن موطوءة الابن، وإنما لم نذكره فيما تقدم؛ حتى يجري المذهب على ترتيبه، ثم [نُلحق] (2) به ما ينبغي أن نُلحق به، ولا شك في خروج هذا القول، وإن ذكره المرتبون في الجارية الموطوءة. فأما القول في المهر، مع المصير إلى إيجاب الحد، فقد قال الأئمة: هذا بمثابة وطء الغاصب الجارية المغصوبة، فإن كانت مستكرهة، وجب المهر، وإن كانت مطاوعة، ففي وجوب المهر وجهان، وهذا التفريع مستقيم هاهنا، لا حيد فيه. 8005 - وإذا أفضى الوطء إلى الإعلاق، فهذا سرّ هذا الفصل ولُبابه، فالذي ذهب إليه المحققون: أن الوطء الموجب للحد زناً لا حرمة له، وإذا أنزل الواطىء، فلا حرمة لمائه؛ فيترتب عليه انتفاء النسب، ثم الولد لا حرمة له، ولا حرمة لماء الزاني، ومن طرد هذه الطريقة على حقها، لزمه أن يقول: إذا وطىء الرجل جاريته المملوكة، وكانت محرمة عليه بنسب، أو رضاع، أو صهر، وعلقت منه بمولود؛ فلا تصير أم ولدٍ له؛ من قِبل أن الماء لا يُنسب إلى الزاني، وهو كالمفقود في حقه،

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: نلتحق.

وإنما تثبت أمية الولد إذا ثبت نسب الولد؛ فإن أم ولد الإنسان منسوبة إلى ولده المنسوب إليه، فإذا لم يُثبت الشرع له ولداً، فكيف تثبت أمية الولد؟ وهذا مسلك لا ينساغ اعتقاد خلافه. وارتاع بعض الأصحاب من ذلك، وعظم عنده أن يطأ (1) الرجل مملوكته، وتحبل منه، ولا تصير أم ولد! فقال: إن أوجبنا الحد، [فلنثبت] (2) النسب، ثم إذا ثبت النسب ترتب عليه أمية الولد، ثم طرد بعض المصنفين ثبوت الاستيلاد مع وجوب الحد في الأب إذا وطىء جارية ابنه الموطوءة. ومن نفى الاستيلاد؛ فإنه يلقى في جريانه مسلكاً وعراً، وتلقاه مسألة لا يجترىء على طرد نفي الاستيلاد فيها إلا جسور، وهي: أن الجارية المشتركة إذا أحبلها أحد الشريكين؛ فقد أطلق الأئمة أقوالهم بأن الاستيلاد يثبت في حصته، وتردَّدوا في إثباته في حصة الشريك عاجلاً، ولم يختلفوا في أنه يسري إلى حصة الشريك، وإنما ترددهم في وقت النفوذ والسريان. وقد ذكرنا أن الحد يجب في القديم على من يطأ الجارية المشتركة بينه وبين شريكه، ونحن بعون الله وتوفيقه نذكر تحقيق القول في ذلك. 8006 - فأما الجارية المشتركة؛ فيجوز أن يقال فيها: الوطء يصادف ملك الواطىء وملك شريكه، وينزل عليهما جميعاً، فلا يتمحض تحريمه، ولكن لا يتأتى تبعيضه، فنطلق تحريمه على معنى النهي عن الإقدام عليه؛ من جهة أن من ضرورة الاستمتاع [بملك] (3) الواطىء مصادفته ملك غيره، فكان ذلك مشبَّهاً بطعام جاورته نجاسة أو سم، فالطعام ليس محرماً، ولكن لا يجوز الإقدام على تناوله؛ من جهة أنه لا يتأتى تعاطي شيء منه إلا مع جزء مما هو محرم، وقد ينفصل وطء المشتركة عن هذا، بأن الطعام والسم متجاوران، ولنا أن نقول: من أكله فقد أكل حلالاً وحراماً، ولا يتأتى مثل ذلك في الملك الشائع.

_ (1) ت 3: يطالب. (2) في النسختين: فانثبت. (3) في النسختين: ملك.

فيخرج بعد هذا التنبيه أنا لو لم نُجر القول القديم في الحد في الجارية المشتركة، لكان متجهاً؛ فإذا لم يجب الحد، اتّسق وانتظم ثبوت [التسبّب] (1) إلى المنع من المحرم المحض، ويكون هذا بمثابة إتيان مالك الغلام مملوكَه، فالحد يجب؛ فلا أثر للملك. وكذلك لو شرب الرجل الخمر التي لا تراق -وهي خمر الخلّ- حُدّ. وإن كان له حق الاختصاص بها؛ فعلى هذا يتميز الحد في حكمه ومجراه عن قياس النسب والاستيلاد. فينتظم مما ذكرناه أن الوجه القطعُ بثبوت الاستيلاد في الجارية المشتركة، ثم يخرّج هذا على تقديرين: أحدهما - نفي الحد، وإن فرّعنا على القديم. والثاني - تمييز مسلك الحدّ عن مسلك الاستيلاد، ومهما (2) حكمنا بالاستيلاد في البعض أو الكل، فمن ضرورته الحكم بالنسب. هذا ما لا بد منه. وأما إحبال الرجل أختَه المملوكة؛ فقول الحد فيها منصوص، لا يمكن إنكاره، فلا تردد في الحد على القديم، ويبقى التردد في الاستيلاد، وثبوت النسب. وهذه الصورة قابلة للاحتمال، بخلاف الجارية المشتركة؛ فإن الأخوة قائمة لازمة لا تحول ولا تزول؛ فلا يمكن تقدير انفصالها عن الملك، ولكن قد يتجه إثبات النسب وأمية الولد بسبب الملك، مع إثبات الحد وصرفه إلى التحريم المطلق، كما ذكرناه في إتيان الغلام المملوك وتعاطي الخمرة المحرّمة. فأما وطء الأب جارية الابن - إذا أوجبنا عليه الحد، فالظاهر: أنه لا يثبت الاستيلاد؛ فإنه ليس بين الأب والابن إلا حرمة قائمة، فإذا أوجبنا الحد، زالت، ثم لا نجد أصلاً نحيل عليه أمية الولد. 8007 - فانتظم مما ذكرناه ثلانة منازل: المنزلة الأولى - في الجارية المشتركة، والقطع فيها بثبوت الاستيلاد، ووجوب الحد على قياس القول القديم متردد، كما نبهت عليه.

_ (1) في الأصل: النسب، والمثبت من (ت 3). (2) "مهما" بمعنى (إذا).

والمنزلة الثانية - في وطء الأخت المملوكة: أما الحد، فمنصوص عليه، وفي الاستيلاد تردد لمكان الملك. والمنزلة الثالثة - في وطء الأب جارية الابن إذا كانت موطوءة الابن: أما الحدّ، فيثبت، والأصح أنه لا يثبت النسب ولا الاستيلاد إذا أثبتنا الحد. وهذا ما ذكره الصيدلاني. ومن أصحابنا من أثبت النسب والاستيلاد وإليه أشار بعض المصنفين، ثم إن لم نثبت الاستيلاد؛ فالمهر يفصّل أمره ويفرق بين أن تكون الجارية مستكرهة أو مطاوعة، كما تقدم. وإن قلنا: يثبت الاستيلاد مع وجوب الحد؛ ففي المهر طريقان: منهم من قطع بإيجابه كالاستيلاد، ومنهم من فصل بين أن تكون الجارية مستكرهة أو مطاوعة، فإن الوطء ساقط الحرمة. ولسقوطها وجب الحد بها، والاستيلاد وراء الوطء. وهذا منتهى تحقيق الفصل. فصل يشتمل على القول في الإعفاف وتزوّج الأب بجارية الابن 8008 - فعلى الابن الموسر أن يُعف أباه المحتاج. هذا هو المذهب (1). وقال أبو حنيفة (2): لا يجب على الابن إعفاف أبيه، ولا خلاف أنه لا يجب على الأب إعفاف ابنه، واختار المزني نفيَ وجوب الإعفاف، وذكر ابن خَيْران قولاً في المسألة، مثلَ مذهب المزني، فأجرى العراقيون والمراوزة ما ذكره قولاً؛ من جهة أنه لا يستدّ في إيجاب الإعفاف خبرٌ، ولا مسلكٌ من القياس، وغاية الإمكان فيه التعلق بثبوت الاستيلاد. هذا هو المذهب. ولا ينفصل جانب الابن عن جانب الأب في ثبوت الاستيلاد ونفيه إلا بالفرق

_ (1) هو المذهب كما قال، وقد عبر عنه النووي بالمشهور. (ر. الروضة: 7/ 214). (2) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 383.

بينهما بوجوب الإعفاف على أحدهما ونفيه عن الثاني. وهذا لا ينفع مع المزني مع مصيره إلى أن جارية الابن لا تصير مستولدة الأب. ثم إذا فرّعنا على ظاهر المذهب، فلا شك أن الأب المستغني بثروته لا يستحق على ابنه أن يعفه، وإنما يستحق ذلك على الابن الأبُ المحتاج. ثم سيأتي في النفقات -إن شاء الله تعالى- أن الأب الفقير يستحق النفقة على ابنه الموسر، إذا كان زمِناً غير كسوب مع فقره، فإن لم يكن زَمِناً، وكان يتأتى منه أن يكتسب ما يقوته؛ ففي وجوب النفقة قولان، سيأتي أصلهما وفرعهما، إن شاء الله تعالى. 8009 - ثم اختلف أصحابنا في المسألة على طرق: فمنهم من قال: الإعفاف يتبع النفقة ثبوتاً وانتفاء، وفاقاً وخلافاً، فمهما استحق الأبُ الإنفاق على ابنه، لم يبعد أن يستحق عليه أن يُعفه، وإذا لم يكن [بحيث يستحق] (1) النفقة، فلا يستحق الإعفاف. فمن أصحابنا من قال: إن وجبت النفقة، وجب الإعفاف، وإن لم تجب النفقة -على أحد القولين- بسبب كون الأب قويّاً سويّاً؛ فهل يجب إعفافه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يجب. والثاني - يجب؛ فإن الإعفاف في غالب الحال يليق بحال السويّ، والحاجة في هذا الفن تطابق حالة قوة من المحتاج. وذكر الشيخ أبو علي طريقة ثالثة على العكس من ذلك، فقال: إذا أوجبنا النفقة قولاً واحداً، فلا يبعد أن نوجب الإعفاف، وإن جعلنا المسألة على قولين - في وجوب النفقة في بعض الصور، رتبنا الإعفاف عليه، وقلنا: إن لم نوجب النفقة، لم نوجب الإعفاف، وإن أوجبنا النفقة، ففي وجوب الإعفاف وجهان؛ فإن الحاجة في النفقة تُفضي إلى الضرورة، والحاجة في الإعفاف لا تُفضي إلى حكم الضرورة؛ ولهذا يجب على الإمام أن ينفق على المحتاجين إذا لم يكن لهم من يختص بهم وينفق عليهم، ولا يجب على الإمام أن يُعف من بيت المال أحداً؛ فدل ذلك على أن الأمر في الإعفاف دون وجوب الإنفاق.

_ (1) في النسختين: بحيث لم يستحق.

فهذا ما ذكره الشيخ أبو علي (1)، ولا يحصل بما ذكرناه بيان؛ فإنا نقول: النفقة وإن كانت واجبة، فإذا كان الأب لا يحتاج إلى الإعفاف أصلاً، فلا يجب الإعفاف، فلا بد إذن مع وجوب النفقة [من] (2) اعتبار الحاجة. 8010 - ثم لم أر له في ذلك ضبطاً، فينقدح أن نقول: يعتبر فيه خوف العنت، وسأصف ذلك -إن شاء الله عز وجل- بما يضم نشره ويقرّبه من الضبط، والإحالة هاهنا كافية. ويجوز أن يقال: لا يشترط خوف العنت، وهذا ما يدل عليه ظاهر كلام الأصحاب. ثم أشاروا إلى مسلكين: أحدهما - أن الحاجة الحاقة وإن كان لا ينضم إليها [ظن الوقوع] (3) في السفاح، وشرط هذه الحاجة أن يتضرّر صاحبها بالتعزّب، ولا تعويل على الشهوة المحضة؛ فمعظم من يشتهي الوقاع يضره الاستمتاع، ثم هذه الحاجة لا تتميز عن حاجة صاحب العنت، إلا أن خوف العنت يفرض فيمن لا تكمل مُنّته في التقْوَى، وما ذكرناه في التردد يرجع إلى هذا وجوداً وعدماً. وذكر معظم الأصحاب أنا لا نعتبر الحاجة، ولكنا نُتبع وجوبَ الإعفاف وجوبَ النفقة؛ فمهما طلب الأب المستحقُ النفقةَ الإعفافَ، لزم إسعافه وإعفافه، وظاهر هذا الكلام لا يكشف الحق، فلا يجوز للأب أن يطلب الإعفاف وهو لا يحتاج إليه، هذا (4) لا يسوغ أصلاً، ولكن التردد في معنى الحاجة، كما تقدم. ثم يجب تصديق الأب فيه؛ فإنه لا يُعرف تحقق الحاجة إلا من جهته، ولا يليق بمنصبه أن يُحلّف؛ فرجع حاصل الكلام إلى التردد في خوف العنت، والقطع بتصديق الأب، إذا أخبر عن نفسه. ثم إن كان الأب لا يحتاج إلى النفقة، وكان معه بلاغ على قدر النفقة من غير فضل، وكان يحتاج إلى الإعفاف؛ ففي كلام الأصحاب تردد ظاهر في ذلك.

_ (1) ذكر النووي هذه الطرق، ولم يرجح أيّاً منها ولا من وجوهها (ر. الروضة: 7/ 214). (2) في الأصل: مع. (3) في النسختين: ظنٌّ في الوقوع. (4) ت 3: وهذا.

قال قائلون: لا يستحق الإعفاف إذا كان لا يستحق النفقة، والقياس عندنا أنه يستحق الإعفاف إذا احتاج إليه، وكانت يده لا تصل إلى ما يكفيه في ذلك؛ فإن المتبع هو الحاجة، وليس هذا كالفِطرة؛ فإن النفقة إذا سقطت، سقطت الفطرة، وإن كان لا يفضل من قوت القريب ما يخرجه فطرةً؛ والسبب فيه أن وجوب الفطرة لم يُنَط بحاجةٍ [واقعةٍ] (1) في الجبلّة، والإعفاف منوط (2) بحاجة، فإذا وقعت؛ فلا أثر لسقوط النفقة ووجوبها، ولو سقط وجوب النفقة أياماً، لاستغنى الأب عنه لسقوط شهوته، وكان يحتاج إلى الإعفاف، فلا يجوز أن يكون هاهنا في وجوب الإعفاف خلاف. وقد اشتمل ما ذكرناه على أصل إيجاب الإعفاف، وعلى من يستحق ذلك، وعلى من يستحق عليه، وعلى الحالات المرعية في ذلك. 8011 - واتفق أصحابنا على أن الجد -أبا الأب- يستحق من الإعفاف ما يستحقه الأب، وكذلك الجد أب الأم، وليس ذلك كتردد الأصحاب في أن الرجوع في الهبة هل يختص بأبِ الدِّنية؟ وذلك أن الرجوع في الهبة لا يجري فيه معنىً أصلاً، وإنما ورد الرجوع في الخبر في حق الأب؛ فأما الإعفاف؛ فتَدْاورُه على المعنى وسد الحاجة، فهو يجري مجرى النفقة في جهتها. ولو اجتمع أب وجد، وكان ذاتُ يد الابن لا تفي إلا بإعفاف أحدهما، فالأب مقدم. ولو كان في المسألة أب أب، وأب أم؛ فقد قطع العراقيون ومعظم المراوزة بتقديم أب الأب؛ فإنه مع أب الأم مستويان في القرب، وأب الأب يختص بمزيد القوة في جهة قرابته. وذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكره الأصحاب. والثاني - أنهم سواء، نظراً إلى القرب المحض، وهذا بعيد، لم أره إلا له.

_ (1) في النسختين: واقفة. (2) في النسختين: منوطة.

نعم، قال العراقيون: إذا اجتمع أب أب الأب، وأب أم؛ ففي أحدهما قوة وبُعد، وفي الثاني ضعف وقرب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القرب أولى. والثاني - أن القرب ومزيد القوة يعتدلان، ومقتضى ذلك الاستواء؛ وكان ينقدح تقديم الأقوى، كما أنا في قول - نقدّم ابن الأخ (1) في عصوبة الولاء على الجد. من جهة اعتقادنا أن الإدلاء بطريق البنوة أقوى في استفادة العصوبة. ثم حيث نحكم بالاستواء، فمؤنة الإعفاف لا يمكن قسمتها على الرجلين؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لم ينتفع واحد منهما بما يخصه، ولم يتبلغ به إلى غرضه في الإعفاف؛ فلا وجه إلا تخصيص أحدهما. وما طريق التخصيص، وهما مستويان؟ بعض أصحابنا أشار إلى القرعة، وذكر الشيخ أبو علي أن القاضي يجتهد، فيقدم من يرى منهما، والوجه فيه: أنهما إذا ادعيا الحاجة، فمن رأى ردَّ الأمر إلى الحاكم، قال: الحاكم ينظر في صفاتهما، وما يغلب على الظن من ظهور الحاجة من أحدهما، ثم يُقدم على هذا الوجه من يراه أولى. ولا شك أن الحاكم لا يحكم، فإن استوى الأمران عنده، فلا يتجه حينئذ -مع التنافس والظن الغالب في الاستواء- إلا القرعة. وحاصل المذهب في هذا الطرف خلافٌ في أن القرعة هي المحكّمة إذا استويا في دعوى الحاجة، أم نظر السلطان؟ فإن حكّمنا القرعة، لم نرفع الأمر إلى السلطان، (2 وإن لم نُحكّم القرعة، رفعنا الأمر إلى السلطان 2)، فإن اجتهد، اتبعنا اجتهاده، وإن استويا في ظنه، فلا رجوع إلا إلى القرعة. وهذا بمثابة ما لو ازدحم رجلان إلى فوّهة معدن، وكان يعسر قسمة الحاصل فيه، وليس أحدهما بأن يخصص به أولى من الثاني، والحاجة ماسة في الحال، فقد نقول: يقرع بينهما، كما مضى. 8012 - ثم يجب على الابن أن يعف أباه بما حصل به الغرض، فلو زوّجه عجوزاً

_ (1) ت 3: نقدم الأخ. وهما صحيحتان معاً، (راجع ما سلف في ترتيب الأولياء). (2) ما بين القوسين سقط من (ت 3).

لا تشتهى، أو امرأة [شوهاء] (1) فلا يسقط الفرض بذلك، كما إذا جاء في النفقات بطعام فاسد لا ينساغ ولا يسد مسداً، والرجوع في ذلك إلى ما يعدّ في [العرف] (2) سِداداً وكفاء. ثم الابن لو أراد أن يشتري لأبيه جارية حتى يتسراها؛ جاز، ويسقط بذلك فرض الإعفاف، ولو زوّج منه حرة كتابية، فيها مستمتع، جاز. ولو أراد أن يزوّج منه أمة، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يجوز؛ فإن الأب مستغنٍ بمال ابنه في باب الإعفاف. فإذا كان نكاح الحرة ممكناً من مال ابنه، وجب ألا يجوز للأب نكاح الأمة، كما لو كان في ملكه طَوْل حرة؛ فإنه لا ينكح الأمة، ومالُه بمثابة مال ابنه في هذا الأصل. ومن أصحابنا من قال: للأب أن ينكح أمة من مال ابنه، وللابن أن يكتفي بهذا القدر في حق أبيه. ووجه ذلك: أن هذا النكاح موقوف على الحاجة، فينبغي ألا يجب على الابن إلا أقل ما يسد به الحاجة، على ما سيأتي ذلك مشروحاً بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل. 8013 - ولو كان الأب مطلاقاً؛ فإذا تكرر ذلك منه مراراً، بحيث يُعدّ مطلاقاً عرفاً؛ فنقول في ذلك: إن أعف أباه بزوجة في ذلك، فماتت، فالذي ذهب إليه المراوزة أنه يجب على الابن أن يعفّه مرة أخرى. وذكر العراقيون هذا ووجها آخر معه، وهو: أنه لا يجب الإعفاف إلا مرة واحدة في العمر، فإن اتفق موت الزوجة، لم نَعُدْ إلى إلزام الابن إعفافاً مرة أخرى؛ فإن ذلك وظيفة العمر وطريحته، وهو مما لا يتكرر مراراً. ولم يفرقوا في ذكر هذا الوجه بين أن يتفق إلمام الأب بها وبين ألا يتفق. وهذا الوجه لا أصل له؛ من قِبل أن وجوب الإعفاف يستند إلى اعتبار حاجة

_ (1) في النسختين: بنوها. والمثبت تقدير من المحقق. (2) في النسختين: القرب.

الأب. فإذا ماتت الزوجة [وقامت] (1)، فيتعين على الابن كفايتها (2). ولو سلّم النفقة إلى من يجب عليه الإنفاق عليه، فتلف ذلك الطعام في يده، فعلى المنفق أن يبذل ما فيه الكفاية مرة أخرى، فبان أن الذي عليه التعويل؛ تكرير إيجاب الإعفاف إذا ماتت الزوجة، ثم لا موقف ينتهي إليه، ويقف كلامنا عليه، حتى لو فرض الإعفاف مراراً وكان الغرض يفوت؛ فيتجدد الأمر بتكرير الإعفاف إذا دامت الحاجة إليه. 8014 - ولو طلّق الزوج زوجته؛ فهل يجب على ابنه أن يُعفّه بأخرى؟ فإن قلنا: لا يتكرر الإعفاف إذا ماتت الزوجة، فلا شك أنه لا يتكرر إذا بانت بالطلاق. وإن قلنا: يتكرر الإعفاف [إذا] (3) انتهى النكاح بموت الزوجة؛ ففي الطلاق وجهان: أحدهما - أنه يجب، تعلّقاً بالحاجة. والثاني - لا يجب؛ فإن الأب قصد قطع النكاح. وقال علماؤنا: لو فسخ الأب النكاح، بمعنىً يوجب الفسخ؛ فهذا بمثابة ما لو ماتت الزوجة، ولو طلّق لغرضٍ صحيح، مثل أن يبدو له منها ما يريبه، ففي هذا ترددٌ: منهم من ألحقه بالفسخ بما يوجبه، ومنهم من خرّج هذا على الخلاف. ثم لم يختلف أصحابنا في الطرق أن الطلاق إذا تكرر منه، بحيث انتسب عرفاً إلى كونه مَلولاً مِطلاقاً، فلا يلتزم الإبدال. وهذا ليس خالياً عن احتمال، تخريجاً على ما لو سلّم النفقة إليه، فأتلفها، ثم كرّر التسليم مرة أخرى؛ فإنا قد نقول: يجب تكرير الإنفاق، على ما سيأتي ذلك في النفقات، إن شاء الله تعالى، وهذا احتمال، والمذهب المبتوت ما قدمناه.

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. ثم إن الضمير في قوله: "وقامت" يعود على الحاجة. وبهذا المعنى جاءت (صفوة المذهب). (2) الصحيح وجوب تكرار الإعفاف إذا ماتت الزوجة، كما قال الإمام. (ر. الروضة: 7/ 217). (3) في النسختين: فإذا.

8015 - ثم ما أوجبناه على الابن، فهو مهر زوجة، إن أراد الإعفاف بهذه الجهة، ثم إنه يلتزم مؤنة النكاح في مستقبل الزمان: وله الخيار؛ إن شاء سلّم الصداق إلى الأب، حتى يتزوج، وإن شاء سلّطه على التزويج، ثم ساق الصداق بعد النكاح. وإن أراد أن يملّكه جارية، حتى يتسرى بها، فله ذلك، وليس إلى الأب تعيين إحدى الجهتين. ولو عيّن الأب زوجة رفيعة المهر؛ كان للابن ألا يرضى بذلك، ولا يبذل إلا مهر امرأة فيها كفاف وإعفاف، ثم إذا بان المقدار الذي يبذله؛ فلا خيار إلى الابن في تعيين زوجة، بل يتخير الأب زوجة، والمرعي فيما (1) يبذله الابن مقداراً (2) لائقاً بالاقتصاد. فهذا إتمام المراد في ذلك. 8016 - ولم يختلف علماؤنا في أنه لا يجب على الأب أن يُعفّ ابنه. وأما إعفافُ الأم (3)، فليس يتصور؛ إذ لا مؤونة عليها ابتداء ودواماً (4)، حتى يجب على الابن بذلها. وقد ذكرنا معنى وجوب الإعفاف. 8017 - فإذا انتجز ذلك، عدنا بعده إلى حكمٍ مقصود، مترتب على ما قدمناه، وهو: القول في أن الأب، هل يجوز له أن ينكح أمة ابنه؟ وقد اختلف طرق أصحابنا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أنه لا يحل له نكاحها، وعلّل بأن قال: مِنْ شَرْط نكاح الأمة، العجزُ عن طَوْل الحرة، فإذا كان الابن قادراً على أن يُعفّ أباه بحرة، وجب عليه [ذلك] (5)، وإذا تعيّن الإعفاف بحرّة، لم يحلّ نكاح الأمة، وهذا خرّجه هذا

_ (1) ت 3: فيها. (2) كذا بالنصب، على تقدير أن يكون مقداراً لائقاً. (3) ت 3: الإمام. (4) ت 3: ولا دواماً. (5) زيادة من (ت 3).

القائل على أحد الوجهين، في أن الإعفاف بالأمة لا يجوز من الابن القادر على الإعفاف بالحرّة. فإن قلنا: يجوز للابن أن يُعفّ أباه بأمةٍ، أو كان يملك الابن جارية مستغرقة بخدمته، وكانت ذاتُ يده لا تتسع لطَوْل حرة، فسقط اعتبار هذا المجنى، فهل يجوز -والحالة هذه- للأب أن ينكح تلك الأمة؟ فعلى وجهين مبنيين على أن جارية الابن، هل تصير أم ولد إذا وطئها، وعلقت منه بمولود؟ فإن حكمنا بأن الاستيلاد يثبت - وهو ظاهر المذهب، لم يجز للأب أن ينكح أمة ابنه. وإن قلنا: لا يثبت الاستيلاد، فله أن ينكح أمة ابنه. 8018 - ولو (1) كان الأب عبداً، فأراد أن يتزوج بإذن مولاه بأمةٍ لابنه الموسر أو المعسر، يصح ذلك منه على الطرق كلها؛ فإن نكاح الأمة للعبد جائزٌ، كيف فرض الأمر، وليس في هذا النكاح -إذا جوزناه- توقع الاستيلاد؛ فإن العبد لا يثبت في حقه استيلادٌ أصلاً؛ من جهة أنه لا يثبت له ملك، ومن ضرورة الحكم بالاستيلاد، انتقال الملك في الرقبة. ولا يتفرع ثبوت الاستيلاد في مثل هذه الصورة على القول القديم -في أن العبد يملك بالتمليك؛ فإن ذلك فيه إذا ملّكه مولاه شيئاًً، فقد نقول: إنه يملكه- على ما سنوضح ذلك في شراء العبد -إن شاء الله عز وجل- على إثر هذا الفصل. 8019 - ومن أسرار هذا الفصل أن الأب إذا تزوج بجارية الأجنبي -عند جواز ذلك- ووقع الحكم بانعقاد النكاح، ثم إن الابن ملك تلك الجارية، فقد قال الأئمة في الطرق: طريان الملك للابن على زوجة أبيه لا يوجب انقطاع النكاح، وإن كنا نمنعه من ابتداء نكاح أمة الابن، وذاك أنا بنينا [منع] (2) النكاح على أحد أصلين، المنع من نكاح الأمة عند التمكن من طَوْل الحُرة، وقد وقع النكاح في أمة الأجنبي، مفروضاً

_ (1) ت 3: وهو. (2) في النسختين: مع.

على موافقة شرط الشرع، فما يطرأ في الأثناء، فلا حكم له، كما سيأتي شرح ذلك في نكاح الإماء، إن شاء الله عز وجل. ومما اعتبرناه في نكاح أمة (1) الابن ما للأب من الحق في مال الابن، وليس هذا الحكم بإثبات حقيقة الملك للأب في جارية الابن، وإنما القاطع للنكاح طريان ملك حقيقي للزوج على زوجته، وهذا بمثابة حُكمنا بأن زوج المرأة لو كان مكاتَباً لموروثها، فمات الموروث، وورثته؛ فينقطع النكاح؛ لأنها ملكت رقبة زوجها إرثاً، فلما كان ذاك حقيقة الملك، قطع طارئُه النكاح، وليس الأمر كذلك في حق الأب إذا طرأ ملكُ ابنه على زوجته. 8020 - ثم السرّ الذي وعدناه في ذلك أن الشيخ أبا علي قال: إذا طرأ ملك الابن على ما فرضناه، وحكمنا ببقاء النكاح، فلو علقت بمولود عن الأب، في النكاح الذي حكمنا بدوامه، وذلك بعد ثبوت الملك للابن عليها - قال: لا تصير أم ولد للأب، وإن فرّعنا على أن الأب إذا استولد جارية ابنه ابتداء، أنها تصير أم ولد له، واعتل بأن قال: الوطء في النكاح ليس مما يوجب الاستيلاد، وإذا نكح الأجنبي جارية الغير وأولدها، لم نحكم بحرية الولد، والاستيلادُ تبعٌ للحكم بحرية الولد أولاً، هذا ما ذكره. وكان شيخي يقطع بأن الأب إذا أولد زوجته بعد ما ملكها [الابن] (2)؛ تصير أم ولد له. وهذا الذي ذكره قد يظهر؛ فإنا إذا منعنا الأب من التزوج بجارية الابن، وبنينا على أنها عرضة لأمية ولده، والنكاح قد يقصد به ابتغاء الولد، وطلب النسل؛ فيؤدي تجويز النكاح إلى إفضائه بمقصوده إلى ما يتضمن دفعه؛ فهذا وجه التعويل في منع نكاح أمة الابن، بناء على مصيرها أم ولد. ولو صح ما ذكره الشيخ أبو علي، لبطل اعتماد هذا المعنى، ولقيل: لا يثبت الاستيلاد في النكاح، ولا يمتنع بسببه على الأب نكاح أمة الابن، وكان يرجع القول

_ (1) ت 3: الأمة للابن. (2) في الأصل: للابن.

في منع نكاح جارية الابن إلى الوجهين؛ في أنه هل يجب على الابن إعفاف أبيه بحرة، أم له أن يعفه بنكاح أمة؟ وهذا التردد إنما يجري عند يسار الابن، واقتداره على أن يُعف بالحرة، فإن لم يقتدر على ذلك؛ وجب القطع بجواز إعفافه بنكاح أمة. ثم يجب في هذه الصورة القطع بأن للأب أن ينكح أمة ابنه. هذا التفريع لا بد منه، وفي كلام الشيخ أبي علي التزام هذا. وهو بعيد عن مذهبنا - إذا فرّعنا على أن جارية الابن تصير أم ولد للأب (1) إذا حبلت منه في النكاح، فهذا كنا نعرفه مذهباً لأبي حنيفة (2)، أو لبعض أصحابه. فإذا تمهد المراد في ذلك، وبان من مذهب شيخنا وغيره أن النكاح لا يمنع نفوذ الاستيلاد، فلو طرأ ملك الابن على زوجة الأب -فنقول (3): لو علقت منه بمولود، صارت أم ولد؛ ثم يترتب عليه انفساخ النكاح إذا وقع؛ فعلى هذا، لو قيل لنا: هلا حكمتم بانقطاع النكاح- لمصيره إلى المعنى المحذور، وهو تعرض النكاح للزوال بما هو من مقاصده، وهذا قد اعتمدناه في منع ابتداء النكاح؟ قلنا: الذي رأيناه للأصحاب: أن دوام النكاح لا ينقطع؛ فإن الملك الطارىء ليس [للزوج] (4)، ولا يبعد الفرق بين الدوام والابتداء. وسمعت شيخي -في مسألة ميراث الزوجة وملكها رقبةَ زوجها المكاتَب- يقول -وقد أُلزم طريان ملك الابن على زوجة الأب- فقال: قد أقول بانفساخ النكاح. وقد رأيت هذا لبعض أئمة الخلاف، ولست أعده من المذهب؛ فإني لم أره لموثوق به في نقل المذهب، ولم يذكره شيخنا في سياق المذهب، ولعل ما ذكره كان جرياناً منه على طريقة الخلافيين. 8021 - ويتصل بهذا المنتهى، القول في نكاح أمة المكاتِب. فنقول أولاً: إذا

_ (1) في الأصل: أم ولد له. (2) ر. طريقة الخلاف للأسمندي: 55 مسألة: 23، إيثار الإنصاف: 109، فتح القدير: 3/ 407. (3) ت 3: فسنقول. (4) في النسختين: للمزوج.

وطىء سيد المكاتَب جارية المكاتَب، وعلقت منه بمولود، فإنها تصير أم ولد للسيد - لما له فيها من حق الملك. وعندي أن هذا أجراه الأصحاب على ظاهر المذهب في أن جارية الابن تصير مستولدة الأب، فإن قلنا: لا تصير مستولدة له، فليس يبعد أن نقول: يبقى الاستيلاد في جاربة المكاتب. وقد رأيت للشيخ أبي علي رمزاً إلى ذلك؛ فإن جارية المكاتب ملك المكاتب، [وإن] (1) كان في ملكه بعض الضعف، وهذا ليس نقلاً، فلا أعتمده. فإذا تبين أن الاستيلاد يثبت؛ فلو كان نكح السيد جاريةً، فملكها مكاتَبُه؛ ففي انفساخ النكاح بطريان ملك المكاتَب وجهان. سنذكرهما في الكتابة، إن شاء الله عز وجل، فلا يبعد تنزيل طريان ملك الابن على زوجة الأب هذه المنزلة، والله أعلم. وقد انتجز الغرض في الفصل. فصل قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} [المؤمنون: 5] ... إلى آخره" (2). 8022 - غرض الفصل: الكلامُ في تسرّي العبد. وهذا يبتني على القول في أنه هل يملك العبدُ إذا ملّكه مولاه؟ وفيه قولان، تقدم ذكرهما. فإن قلنا: إنه لا يملك، لم يُتصور منه التسري. وإن قلنا: إنه يملك إذا ملّكه المولى؛ فنفس تمليكه إياه جارية لا يسلّطه على وطئها، كما لا يسلّطه على سائر جهات التصرفات، فإن أذن له في التسرّي، فالذي عليه الجريان، وبه قطع الأئمة: أن له أن يتسرى بإذن مولاه، وقد روي أن ابن عمر (3) كان يسرّي [عبيده] (4) جواريَه.

_ (1) في النسختين: فإن. (2) ر. المختصر: 3/ 275. (3) أثر ابن عمر رواه ابن أبي شيبة: 4/ 174. (4) في الأصل: عبده.

وكان شيخي يحكي عن الأستاذ أبي إسحاق أن العبد لا يتسرى، وإن أذن له مولاه؛ لضعف ملكه، وتعرضه للانتزاع [والوطء] (1) يستدعي ملكاً قوياً، واحتج على ذلك بما روي عن ابن عمر أنه قال: لا يطأ الرجل إلا وليدة، إن شاء باعها، وإن شاء وهبها، وإن شاء صنع بها ما شاء. والعبد المملّك لا يملك البيع والهبة، وقد حمل أصحابنا هذا -من قول ابن عمر- على النهي عن الوطء في زمان الخيار؛ فإنه لم يتعرض في قوله هذا للعبد، ولم يجر ذكره. ثم إذا جوّزنا للعبد أن يتسرى بإذن المولى، فلو علقت منه بمولود؛ لم يثبت الاستيلاد؛ فإن حرية الولد غير متوقعة، والاستيلاد [يتبع] (2) حرية الولد، إذا صادف ملكاً أو حقَّ ملك؛ فولده إذن قن، والجارية عرضة الاسترداد، وإنما يثبت حق العبد على اللزوم في النكاح -إذا صح له- بإذن المولى. 8023 - ثم قال الشافعي: نكاح الزانية جائز على كراهة. مذهبنا: أن نكاح الزانية صحيح، ولكنا نكره ذلك، ولا خفاء بوجه الكراهية. وعن الحسن أن نكاح الزانية باطل، وقد تعلق بقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَان} [النور: 3]، وقد قيل: الآية منسوخة، وقيل: أراد بالنكاح الوطء من غير حل، وقيل: أراد (3) الزجر عن اقترابهن، وقد تجري في الزجر مبالغات. فإن كان المراد به الكراهية، فالزنا (4) لا يوجب العدة على المزنيّ بها. والحامل من الزنا يحل نكاحها؛ فإن الحمل من الزنا لا حرمة له. وإذا صححنا النكاح وهي حامل، فقد اشتهر خلاف الأصحاب في أنه هل يحل وطؤها في زمان الحمل؟ فذكر ابن الحداد أنه لا يحل وطؤها ما دامت حاملاً. والأصح أنه لا يحرم، ولفظ الشافعي دال على نفي التحريم؛ فإنه قال: "وأُحب

_ (1) في الأصل: والملك. (2) في النسختين: تبع. (3) ت 3: المراد. (4) في النسختين: الزنا (بدون الفاء).

أن يمسك عنها حتى تضع" (1). وليس لتحريم القِربان وجهٌ أصلاً، مع الحكم بانعقاد النكاح، وقد ظهر أن ماء الزاني لا حرمة له، والكراهية: يدل [عليها] (2) ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسقِ بمائك زرع غيرك" (3). وقد حمل أصحابنا هذا على ما ذكرناه. 8024 - ثم عقد الشافعي باباً (4) في نكاح العبد وطلاقه. وذكر فيه أنه ينكح اثنتين، ويملك طلقتين، وقد تقدم النكاح، وسيأتي الطلاق، إن شاء الله تعالى، وأجرى في الباب نكاح العبد بغير إذن السيد، وقد أشبعنا القول فيه بما يغني عن الإعادة. ...

_ (1) ر. المختصر: 3/ 276. (2) في النسختين: عليه. (3) حديث: "لا تسق بمائك زرع غيرك" رواه أحمد: 4/ 108، 109، وأبو داود: النكاح، باب في وطء السبايا: 2/ 248 ح 2158، والترمذي: النكاح، باب ما جاء في الرجل يشتري الجارية وهي حامل: 3/ 437 ح 1131، وقال: حسن، وابن حبان: 7/ 169 ح 4830، كلهم عن رويفع بن ثابت، ورواه الحاكم: 2/ 56، 137، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال في البدر المنير: هذا حديث صحيح، وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 464 ح 1800). (4) ر. المختصر: 3/ 277.

باب ما يحل ويحرم من نكاح الحرائر ومن الإماء

باب ما يحل ويحرم من نكاح الحرائر ومن الإماء قال الشافعي: "أصل ما يحرم به النساء ضربان ... إلى آخره" (1). 8025 - أسباب التحريم كثيرة، لاسيما ما لا يتأبد منها، والغرض من عقد هذا الباب ذكر المحرّمات بالنسب والرضاع والصِّهر، وتفصيل القول فيما يحرم من الجمع، وفيما يحل. وهذه القواعد مذكورة في كتاب الله تعالى؛ فإنه عز من قائل ذكر أربعَ عشرةَ من المحرّمات - سبع بالنسب، وسبع بالرضاع والصهر، وينساق تحريم ثلاثَ عشرةَ منهن في آية، وذكر واحدة من المحرمات قبلها. أما الآية الشاملة؛ فقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} [النساء: 23] فأما السبع المحرمات بالنسب؛ فقد احتوى عليها قوله تعالى: {أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُم وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْت} [النساء: 23] فهذه سبع. ثم ذكر أمهات النساء، والربائب، وحلائل الأبناء، والأمهات، والأخوات من الرضاعة، والجمع بين الأختين؛ فهذه ست جهات. وذكر حلائل الآباء في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]. 8026 - ونحن نقول: التحريم المؤبد - المقترن بالمحرميّة يتعلق بالنسب والسبب، فأما بيان المحرمات بالنسب؛ فنتيمّن بالجريان على ترتيب القرآن. قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} [النساء: 23] فالأم المحرمة: هي كل أنثى [انتسبت] (2) إليها بالولادة، بواسطة، وبغير واسطة، ولا فرق -إن كانت

_ (1) ر. المختصر: 3/ 278. (2) في النسختين: "انتهيت" والمثبت من ابن أبي عصرون. ولعلها الأوفق، وإن كانت الأخرى صحيحة أيضاً.

وسائط- بين أن يكنّ إناثاً وذكوراً [أو] (1) مختلطين، ويدخل تحت ذلك: الأم الوالدة، والجدات في الجهات. ثم قال تعالى: {وَبَنَاتُكُم} [النساء: 23]، فبنتك المحرمة: كل أنثى انتسبَتْ إليك بالولادة من غير واسطة [أو] (2) وسائط، لا فرق بين أن تكون الوسائط ذكوراً، أو إناثاً، أو مختلطين، فيدخل تحت ذلك بنات الصلب، وبنات البنين، وبنات البنات، وإن سفلن. ثم قال تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] فكل امرأة ولدها أبواك، أو أحدهما؛ فهي داخلة تحت اسم الأخوات، وبنات الأخ وبنات الأخت محرمات، وإن سفلن، وجدّ بنات الأخ والأخت منهما كجد بناتك منك. وكل من ولدها أجدادك وجداتك من قبل الأب فهي عمة، والعمة محرمة، ولا تحرم بناتها. وكل امرأة ولدها أجدادك وجداتك من قبل الأم، فهي خالة، والخالة محرمة، ولا تحرم بناتها، كما لا تحرم بنات الأعمام والعمات، كذلك لا تحرم بنات الأخوال والخالات. وإن أوجزت قلت: كل امرأة بينك وبينها قرابة؛ فهي محرمة عليك، إلا أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات. 8027 - ثم قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] فالرضاع محرِّم، وفيه كتاب سيأتي، إن شاء الله تعالى. وكل ما ينتظم من النسب، ينتظم من الرضاع، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (3) فتحرم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وفي ذكر شرائط الرضاع وأصوله وفصوله وجهة انتشار الحرمة فيه، كتابٌ، فلا معنى للخوض في تراجم لا تستقل.

_ (1) في النسختين: إذ. (2) في النسختين: ووسائط. (3) حديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 919).

وقد ذكر الله تعالى الأمهات والبنات من اللواتي يحرمن بالرضاع، فألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهن غيرَهن. فقال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". 8028 - وأما المحرمات بالمصاهرة؛ فأربعة: أم المرأة، وابنتها، وجد أمها منها [كجدة] (1) أمك منك، وكذلك جد بنتها منها [كجدة] (1) بنتك منك. ويخرج منه أن أمها - وإن علت، فإنها تحرم، وكذلك أمها من الرضاع تحرم عليك، كما تحرم عليك [جدتك] (2) من الرضاع. وزوجة الأب محرمة، وكذلك زوجة الابن، ولا تتعدى الحرمة من زوجة الأب وزوجة الابن إلى الأمهات والبنات؛ فإن الرجل يتزوج بأم زوجة أبيه، وبنت زوجة أبيه، وكذلك يتزوج ببنت زوجة ابنه. ثم تحرم أم الزوجة، وزوجة الابن وزوجة الأب بالنكاح الصحيح، وإن عري عن المسيس. ويتوقف تحريم بنت الزوجة أبداً على الدخول بالزوجة. قال الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ} [النساء: 23] فقيّد تحريم الربيبة بالدخول بالأم. وعن علي بن أبي طالب (3) أن الأم لا تحرم إلا بالدخول بالبنت (4)، كما أن البنت لا تحرم إلا بالدخول بالأم، وكأنه حمل قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ} [النساء: 23] على الأمهات والربائب. وهو غير مرضي؛ فإنه لا يقال: وأمهات نسائكم من نسائكم وإنما ينافي صرف الكلام إلى شيئين إذا أمكن تقدير صرفه إلى كل واحد منهما، ولو قُدر منفرداً.

_ (1) في النسختين: كجد. (2) زيادة من المحقق. (3) أثر علي رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: 4/ 171. (4) أخذ بمذهب علي رضي الله عنه أبو الحسن أحمد بن محمد الصابوني من الأصحاب، نقله النووي عن أبي عاصم العبادي وابنه أبي الحسن (ر. الروضة: 7/ 111، 112).

وعن زيد بن ثابت (1) أن الأم إن ماتت قبل الدخول، حرمت عليه الربيبة. فأقام الموت فيه مقام الدخول، كما [يقام] (2) مقامه في تكميل المهر. وقال مالك (3): "الربيبة إنما تحرم، إذا كانت صغيرة يوم التزوج بالأم، فتحصل في حجره وتكفُّله"، وإنما صار إلى ذلك لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]. وحكم بأنها لو كانت كبيرة يوم النكاح، لم تحرم. [ورأى الشافعي] (4) حمل هذا التقييد على الغالب في الوجود والعادة، كما حمل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه} [البقرة: 229] على التقييد بمجرى العادة، وصحح الخلع إذا اتفق جريانه من غير منازعة. وقوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُم} [النساء: 23] لا يتضمن

_ (1) أخرج أثر زيد بن ثابت ابن أبي شيبة في مصنفه: 4/ 171، 172 ولكن بلفظ أنه كان لا يرى بأساً إذا طلق الرجل المرأة أن يتزوج أمها، ويكرهها إذا ماتت عنده (قلتُ: أي قبل الدخول. وانظر التلخيص: 3/ 343 ح 1632). (2) في النسختين: يقدم. (3) لما أصل إلى قول مالك هذا، بل العجب أني وجدت النص على خلافه، وأوضح ما رأيناه في كتاب القاضي عبد الوهاب (الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 702 مسألة رقم 1262) حيث نص على تحريم الربيبة، وعلى أنه لا اعتبار (للحجر) وأنه لا تأثير له في التحليل والتحريم. ثم هذا الكتاب من كتب الخلاف التي تعنى بما خالف فيه المذهبُ غيره، وتدفع عن المذهب وتقرره. وقد جعل القاضي عبد الوهاب هذه المسألة في خلاف داود وحده، فهي إذاً موضع اتفاق بين المذاهب، وكذلك نص ابن جزي في (القوانين الفقهية: 210) على حرمتها سواء كانت في حجره أو في غير حجره، خلافاً لداود، فهل اطلع إمام الحرمين على ما لم نصل إليه مما روي عن مالك؟ أم أن في العبارة التي بين أيدينا تحريفاً ووهماً صوابها: "قال داود". هذا وقد حكى الرافعي في (الشرح الكبير: 8/ 35) خلاف مالك على نحو ما حكاه إمام الحرمين، فهل تبع فيه الإمام؟ أم اطلع عليه من مذهب مالك؟ الله أعلم. (4) في النسختين: "لما رأى الشافعي" وفيها تصحيف لا شك، والمثبت قراءة ابن أبي عصرون في (صفوة المذهب).

تخصيص التحريم بحليلة الابن النسيب [، فكما] (1) تحرم حليلة ابن النسيب تحرم حليلة ابن الرضاع. والغرض من هذا التقييد أن حليلة ابن التبني لا تحرم، ولعله كان للتبني حكم، وكان تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة قبل أن بعث نبياً. وقال تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]. فتحصّل من تحريم المصاهرة أنه يحرم بسبب المصاهرة أربع: الزوجة، وابنتها، وحليلة الابن، وحليلة الأب. والتحريم يحصل في ثلاث بمجرد النكاح، ويتوقف تحريم الأبد في واحدة على الدخول، وهي الربيبة. قال الأصحاب: الأم مبهمة، والربيبة حرمت بشرط، وعنَوْا بذلك أن تحريم الأم يحصل بمطلق النكاح، من غير تقييد بشرط الدخول. فهذا بيان المحرمات بالنسب والرضاع والمصاهرة. 8029 - ثم قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن} [النساء: 23] وهذا النوع من التحريم مخالف لما انتجز الآن، فإن الذي تقدَّر الفراغ منه تحريم مؤبّد مع محرميَّة. وهذا ليس من التحريمات المؤبّدة. ولكن إذا نكح الرجل امرأة، حرم عليه أن ينكح أختها ما دامت هذه في زوجيَّته. والمنصوص عليه في الكتاب: تحريم الجمع بين الأختين. وألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك جميعَ محارم المرأة، فقال: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، لا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى" (2). وأراد بالصغرى ابنة الأخ وابنة الأخت. وبالكبرى العمة والخالة. ولم

_ (1) في النسختين: كما (بدون فاء). (2) حديث: "لا تنكح المرأة على عمتها ... " رواه أبو داود: النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، 2/ 224، ح 2065. والترمذي: النكاح، باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها 3/ 433، ح 1126، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي: النكاح، باب الجمع بين المرأة وعمتها 6/ 98 ح 3296، وأصله في الصحيحين، البخاري - فتح الباري: =

يُرد صِغر السن وكِبره. فقد تكون ابنة الأخ أكبر سناً من العمة. ثم قال الأصحاب في ضبط ذلك: كل امرأتين بينهما قرابة، أو رضاع، يقتضي المحرميَّة. فلا يجوز الجمع بينهما. وإن أحببت، قلت: كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع، لو كان بينك وبين امرأة، حرمت عليك، حرم الجمع بينهما. وإن أردت قلت: كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع، ولو قدر أحدهما ذَكراً، لحرمت المناكحة بينهما؛ فيحرم الجمع بينهما. وفيما ذكرناه من المحرمية كفاية. فلا يجمع الرجل بين أختين، ولا بين العمة وابنة أخيها، وبين الأم وابنتها، وإن كانت البنت لا تحرم على الأبد بنفس النكاح على الأم. فمن نكح امرأة -لم يدخل عليها-[تحرم عليه] (1) بنتها بسبب تحريم الجمع، ولو نكحها، اندفع النكاح المعقود عليهما فيهما معاً، كما لوجمع بين أختين. 8030 - والاجتماع في الصهر المحرم لا يوجب تحريم الجمع، فيجوز الجمع بين المرأة وبنت زوجها، أو أم زوجها، وإن كان بينهما سبب يوجب الحرمة والمحرمية. وإنما قلنا ما قلنا في النسب، لما نبّه عليه صاحبُ الشرع؛ إذ قال -لما نهى عن الجمع بين الأختين- "إنكم لو فعلتم ذلك، قطعتم أرحامهن". والرضاع ملحق (2) بالقرابة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم"؛ فكان الرضاع في معنى القرابة، والمصاهرة ليس فيها رحم، حتى يفرض إفضاء الجمع إلى قطعه. وقد انتهى القول في المحرمات، وأحلنا تفصيل ذكر الرضاع على كتابه.

_ = 9/ 64 ح 5109، 5110، ومسلم: ح 1408، وانظر التلخيص: 3/ 344 ح 1635). (1) في الأصل: لم تحرم عليه. وهي ساقطة أصلاً من: ت 3. (2) ت 3: ملتحق.

فصل قال: "ونهى عمر عن الأم وابنتها ... إلى آخره" (1). 8031 - مقصود الفصل: أنه لا يمتنع الجمع بين أختين، أو أم وابنتها في ملك اليمين، ولا يمتنع اجتماعهما في ملك مالكٍ واحد، فأما إذا أراد المالك أن يجمع بين أختين مملوكتين في الوطء؛ فلا يجوز له ذلك، ولكن إذا سبق إلى إحداهما، فوطئها، حرم عليه وطء الأخرى. فلو وطىء الثانية بعد ما وطىء الأولى، [فقد أساء وتعدّى. ولا يتغير ما كان بسبب وطء الأولى، فالثانية] (2) محرمة كما كانت، والأولى مستباحة كما كانت، ولا تحرم الأولى بسبب وطء الثانية، والثانية محرمة لا تحل، حتى تخرج الموطوءة الأولى عن الملك، أو عن الحل. أما خروجها عن الملك؛ فبأن يبيعها أو يهبها، ويتحقّق زوال الملك، وأما خروجها عن الحل، فبأن يزوّجها، أو يكاتبها. ولا شك أن طريان الحيض والإحرام لا يؤثر في تحليل الثانية؛ فإن هذا ليس إزالةً للحل، وألحق [الأئمة] (3) الردّة بالإحرام. وتردد الأئمة في شيئين: أحدهما - الرهن. والثاني - البيع بشرط الخيار. أما الرهن، فإنه يحرّم الوطء، ولا يُثبت استقلالاً كالكتابة، ولا يُثبت للغير حلاً، حتى يقال: ثبوت [الحل] (4) للغير يدل على انبتات الحل الأول، وقد يزحم شيءٌ الحلَّ ولا يزحم الحلُّ. ولو وُطِئت الأولى بشبهة، فشرعت في العدة؛ لم تحل الثانية؛ فإن هذا من

_ (1) ر. المختصر: 3/ 278. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (3) في النسختين الإمام، ولم أجد لها وجهاً، والذي يفهم من كلام الرافعي والنووي أن هذا رأي (الأئمة)، ثم هما ينسبون الآراء التي ينفرد بها صاحبها إليه عادة (ر. الشرح الكبير: 8/ 43، والروضة: 7/ 119). (4) في الأصل: الحد.

الطوارىء التي تزول، والعدّة والردّة والإحرام على قضيةٍ واحدة. والتزويج والكتابة بمثابة إزالة الملك باتفاق (1) الأصحاب، والتردّدُ في الرهن، والأوجه (2) أنه لا يؤثّر في تحليل الثانية؛ لأنه من الطوارىء (3 المتوقع زوالها 3) أيضاًً. وأما إذا باع الأولى بشرط الخيار، [وحكمنا] (4) بزوال الملك إلى المشتري؛ فهذا مما تردد فيه الأئمة أيضاً؛ من جهة أن زوال الملك لم يلزم، وإنما ترددهم فيه إذا لم يكن للبائع خيار، فإن (5) كان له خيار، فالمذهب أنه يحل له وطء المبيعة في زمان الخيار، وإذا كان الحل قائماً، فيستحيل تقدير تحليل الأخت - والحالة هذه. نعم؛ إن لم يكن له خيار، وإنما الخيار للمشتري؛ ففيه التردد، والوجه عندي: القطع بتحليل الأخت؛ فإن ملك البائع قد زال، ولم يبق له مستدرك، وتصرفات المشتري نافذة من جميع الوجوه، فإن تُصُوِّرت المسألة بهذه الصورة، وفرّعنا على أن ملك البائع لا يزول؛ فإجراء الاحتمال هاهنا أوجه. ولو اشترى الرجل أمة (6) وابنتها؛ فإن وطىء الأم، حرمت عليه (7) البنت على الأبد. وإن وطىء البنت، حرمت الأم أيضاً على الأبد. 8032 - وكل حرمة في [الصهر] (8) تتعلق بالنكاح، فهي متعلقة بالوطء في ملك اليمين، ومنها أن موطوءة الرجل في ملك اليمين تحرُم على أبيه وابنه، اعتباراً بحليلة الأب والابن. وأصحاب الظاهر لم يحرموا الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين. وقال ابن

_ (1) ت 3: لاتفاق. (2) ت 3: ولا وجه. (3) ما بين القوسين سقط من ت 3. (4) في الأصل: وحكما. (5) ت 3: فإنه. (6) ت 3: أُمّاً. (7) سقطت من: ت 3. (8) في النسختين: الصهير.

عمر: وددت لو كان أبي أشد في ذلك، وسُئل عثمان، فقال: أحلّتهما آية، وحرّمتهما آية. وقال عمر: أما أنا؛ فلا أحب أن أفعل ذلك. فقال الأصحاب أشار عثمان -بما (1) ذكر- إلى قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 3]. فعموم الآية يقتضي الإباحة، وأراد بالآية الأخرى، قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن} [النساء: 23] وقول عثمان هذا يدل على أن ترديد القول في الشرع ليس بدعاً. وفي مساق قول (2) عمر ما يدل على مثله. وبالجملة لا يُنكِر ترددَ المجتهد في المظنونات إلا أخرقُ، لا يعرف مسالك الاجتهاد. فأما قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَف} [النساء: 23]، فمما اختُلف في معناه. قيل: معناه: إلا ما مضى من الجمع بين الأختين قبل نزول الآية، فذلك عفو، كقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَف} [النساء: 22] وكقوله تعالى في صيد الإحرام والحرم: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف} [المائدة: 95]. وقيل: معناه: أن نكاح الأخت الذي تقدم، لا ينقضه طريان صورة النكاح على الأخرى. بل تلك تبقى على مقتضى النكاح. فعلى هذا يلتحق قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَف} َ بالاستثناء من غير الجنس. والتقدير: لكن النكاح السالف مستباح كما كان. فصل قال: "وإذا تزوج امرأة، ثم تزوج عليها أختها ... إلى آخره" (3). 8033 - إذا جمع بين أختين في عقد واحد؛ فنكاحهما باطل، وإن [رُتّب] (4)؛ فنكاح الأخيرة باطل. 8034 - وذكر ابن الحداد صورة لا خفاء (5) بها على من أحكم الأصول، ولكنها

_ (1) ت 3: فيما. (2) ت 3: قولي. (3) ر. المختصر: 3/ 278. (4) في الأصل: رنث، وفي ت 3: زنت. وهذا من بلاء التحريف والتصحيح. (5) هذه الصورة من المولّدات لابن الحداد، وانظر عَرْضها في الشرح الكبير: 8/ 38، =

تهذّب القريحة، وتبيّن للمبتدىء مسلك النظر. وهي: أنه إذا نكح الرجل امرأة ونكح ابنه ابنتها، فغلط كل واحد منهما إلى زوجة صاحبه (1)، فوطئها بشبهة؛ فالتفصيل فيه أن يقال: إن غلط الأب أولاً، فوطىء زوجة الابن، فقد بطل نكاح الابن؛ فإنها صارت موطوءة الأب، فحرمت على الابن، [ويبطل] (2) نكاح الأب على زوجته أيضاًً؛ فإن من وطىء امرأة بشبهة حرم عليه أمها. ثم حكم هذه الصورة بعد ذلك: أنه يغرم لزوجة الابن مهرَ مثلها؛ فإنه وطئها بشبهة، وأما امرأته؛ فقد ارتفع نكاحها. والمسألة مفروضة فيه إذا لم يصب امرأة نفسه، وغلط إلى الأخرى، فقد ارتفع نكاح امرأته قبل المسيس؛ فيلزمه لها نصف المسمى - لا شك فيه؛ لأنه المتسبب إلى ما رفع نكاحَها. وأما زوجة الابن؛ فلو قال الابن لأبيه: قد تسبّبت إلى رفع نكاحي، وأفسدته، فاغرم لي كما تغرم المرضعة لزوج الصبية؛ فله ذلك. ثم كم يغرم لابنه؟ فعلى ثلاثة أقوال، ستأتي مشروحة في الرضاع: أحدها - أنه يغرم له نصف مهر مثلها. والثاني - أنه يغرم تمام مهر مثلها. والثالث - أنه يغرم له ما يغرمه هو لزوجته، والقدر الكافي هاهنا أن الأب في حق الابن بمثابة المرضعة في حق زوج الرضيعة، ثم تفصيل ما تغرمه المرضعة يأتي تأصيلاً وتفريعاً في كتاب الرضاع، إن شاء الله تعالى. ولو قالت زوجة الابن للابن: قد ارتفع نكاحي قبل المسيس، فاغرم لي نصف المسمى. قال ابن الحداد: لا شيء لها عليه؛ فإنه ارتفع نكاحها من غير قصد صدر من الزوج، والزوج إنما يلتزم شطر المهر إذا ارتفع النكاح بسببه.

_ = والروضة: 7/ 114، وسترى أثر إمام الحرمين واضحاً في أسلوبيهما. (1) ت 3: إلى ابنة صاحبها. (2) في الأصل: ويحرم.

ومن أصحابنا من خالفه، وقال: يلزمه نصف المسمى؛ فإن المرأة لم يوجد منها قصد أيضاً؛ إذ المسألة في الغلط. واستدل هؤلاء بمسألة، وهي: أن الرجل إذا كانت تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعت الكبيرةُ الصغيرةَ، وانفسخ نكاحها؛ فقد قال الأصحاب: للصغيرة نصف المهر المسمى على الزوج، وإن لم يوجد من جهته قصد. قال الشيخ أبو علي: ينبغي أن يقال: المرأة إذا (1) كانت نائمة، فوطئها الأب، أو ضبطها (2) فأكرهها؛ فينبغي أن تستحق نصف المسمى في هذه الصورة على زوجها، كما ذكرناه في المرضعة. وإن جرى الأمر على قصد منها، وإن لم تكن عالمة بصفة الحال؛ فينبغي أن يقال في هذه الصورة: إنه يسقط مهرها، لِما وُجد منها. ونظير ذلك من الرضاع ما لو دنت الصغيرة إلى ثدي الكبيرة، والكبيرة راقدة، فارتضعت خمساً؛ فيسقط مهرها في هذه الصورة. فالذي تحصَّل إذن في مسألتنا: أن المرأة إن [نزت] (3) على المرء، واستدخلت منه وهو نائم؛ فيسقط مهرها. وإن كانت هي نائمة أو مكرهة، فوطئها؛ فلها نصف المسمى على زوجها، لا خلاف فيه. وإن كانت غير نائمة ولا مُكرَهة، والحال مشتبهة، فهذا موضع تردد الأصحاب، قال قائلون: لا مهر لها، لِما صدر لها من قصد، وقال آخرون: لها المهر، كالرضيعة. ولم يختلف الأصحاب أن الصبية لو كانت ترتضع وتمتص؛ فالحكم لإرضاع الكبيرة، وتستحق الصغيرة نصف مسماها. ولا أثر لارتضاعها في إسقاط ذلك. فهذا بيان حكم وطء الأب زوجة ابنه.

_ (1) ساقطة من ت 3. (2) ضبطها: أي سيطر عليها، ومنعها من الحركة والمقاومة. (3) في النسختين: نزلت.

8035 - فإذا وطىء الابن بعد ذلك -والمسألة على حالها- زوجةَ أبيه بشبهة؛ فيلتزم لها مهر مثلها، ولا يلزمه لها شيء سواه؛ فإنه ما تسبب إلى فسخ نكاح، بل أقدم على وطء الثانية، والمرأتان جميعاً محرمتان عليه تحريمَ التأبيد قبل وطئه. هذا إذا سبق الأب بالوطء. 8036 - فأما إذا سبق الابن، فوطىء زوجة أبيه؛ فينقلب الحكم، ولا يختلف الترتيب فيما ذكرناه، فما كان على الأب في الصورة الأولى، يكون على الابن في هذه الصورة؛ فلا نطوّل بالإعادة. 8037 - فأما إذا وطئا معاً على الغلط؛ فأمر التحريم على ما قدمناه. وإنما الذي نزيد في هذه المسألة أنه حرم على كل واحد زوجُه بفعله وفعل صاحبه، فإنا لو قدرنا من كل واحد منهما فعلَه وحدَه، لحرمت به زوجتُه وزوجةُ صاحبه جميعاً، فإذا اجتمعا، فهل يغرم أحدهما لصاحبه شيئاً، بسبب تفويته زوجتَه عليه؟ قال شيخي: قال القفال: هذه الحالة كالاصطدام في تفريعه، فيغرم كل واحد منهما لصاحبه نصف الغرم، الذي كان يغرمه لو انفرد بفعله، ويهدر نصفه لمكان صاحبه، ثم ربما تقع أقاويل التقاصّ (1). هذا ما ذكره شيخي. وقال الشيخ أبو علي: ليس ذلك كالاصطدام، ولا شيء لواحدٍ منهما على صاحبه في هذه المسألة؛ إذ قد وُجد من كل واحد منهما ما لو استقل، [لحرمت عليه زوجته به. وليس كالاصطدام؛ إذ لا يمكننا أن نقول في الاصطدام فعلَ كل واحد منهما ما لو استقلّ] (2) به، لأفضى إلى التلف، [بل حصل التلف بالفعلين جميعاً] (3) وهذا الذي قاله هو الوجه (4).

_ (1) ت 3: النقاض. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، والمثبت من: ت 3. (3) ما بين المعقفين زيادة من: ت 3. (4) لم يرجح الرافعي، ولا النووي أيَّ وجهِ، بل أوردا المسألة على نحو ما جاء بها إمام الحرمين، وتكاد عبارات الرافعي تكون عبارات إمام الحرمين، ولكن لم يقل أي منهما بترجيح وجه الشيخ أبي علي، كما فعل إمام الحرمين؛ إذ قال: هو الوجه. (ر. الشرح =

8038 - فرع آخر لابن الحداد في هذا الفن: إذا نكح الرجل امرأة في عقد، ثم نكح امرأة أخرى في عقد آخر، ووطىء إحداهما مثلاً، ثم بان أن إحداهما أمٌّ للأخرى؛ فهذه المسألة لها أقسام. ونحن نذكرها قسماً قسماً. فمن أقسامها: أن ينكح الأم أولاً، ثم البنت، ويطأ الأم، ويتضح له ذلك من غير إشكال؛ فحكم هذا القسم: أن نكاح الأم ثابت، لا شك فيه، ووطء الأم لا [يقدح] (1) في نكاحها، وقد حرمت البنت على التأبيد؛ فإنها ربيبةُ امرأةٍ مدخول بها، ولم ينعقد نكاحها ابتداء؛ فإنها أدخلت على الأم. ومن الأقسام: أن ينكح البنت أولاً، ثم الأم، ثم وطىء البنت -كما سبق التفصيل -؛ فنكاح البنت ثابت، فإنها السابقة، ووطؤها لا يحرّمها، وأما الأم، فقد حرمت بالعقد على البنت. وإن نكح الأم أولاً، ثم البنت، ووطىء البنت؛ فأما الأم، فتحرم بوطء البنت على الشبهة، وأما البنت، فلم ينعقد نكاحها (2 ابتداء؛ فإنها أدخلت على الأم. وإن نكح البنت 2) أولاً، ثم الأم، ووطىء الأم؛ فتحرم البنت لوطء الأم بالشبهة، والأم محرمة بالعقد السابق على البنت، فحرمتا على التأبيد. وكل ذلك سهل المُدرك. ولو أشكل عليه أنه وطىء الأولى أم الثانية، وعلم أن الأولى في النكاح هي الأم، فالحكم فيه أن نقول: لو قدرنا وطء البنت في هذه الصورة، لارتفع نكاح الأم. ولو قدرنا وطء الأم، لحرمت البنت على التأبيد. فنقول: قد صح نكاح الأم أولاً، ولم يستيقن ارتفاعه، فالأصل بقاؤه. وهو محمول على الصحة، وأما البنت،

_ = الكبير: 8/ 38، 39، والروضة: 7/ 114، 115). (1) في النسختين: ينقدح. (2) ما بين القوسين سقط من (ت 3).

فمحرمة في الحال؛ فإنه لا يدخل نكاحها على نكاح الأم أصلاً. ولو طلق الأم [أو ارتفع] (1) نكاحُها بسبب من الأسباب، فهي مع ابنتها (2) امرأتان، نعلم قطعاً أن (3) واحدةً منهما محرمة على الأبد، وأشكل عليه عينُها؛ فلا سبيل له إلى نكاح واحدة منهما، وهو كما لو علم أن إحدى هاتين المرأتين أخته من الرضاع، ولم يدر (4) عينها، فليس له أن ينكح واحدة منهما، وهذا في نهاية الحسن، ولا وجه إلا ما ذكره، وهو من بدائع المذهب؛ فإن الأم كنا حكمنا بتحليلها؛ فلما طلقها، لم يجد سبيلاً إلى تجديد العقد عليها. وهذا إذا أبانها، فإن طلقها طلاقاً رجعياً، ارتجعها. 8039 - ومن أقسام المسألة: أن تتعين الموطوءة، ولكن لم تتعين التي سبقت بالنكاح، فكان يجوّز أن تكون الأم هي السابقة، ويجوّز أن تكون مسبوقة، وقد علم أنه وطىء البنت، فالحكم في ذلك أن غير الموطوءة محرمة على الأبد، وأما الموطوءة -وهي البنت- فلا نحكم بثبوت نكاحها؛ لأنه لم يستيقن ثبوته. بل يجوز أن تكون منكوحة سابقة، ويجوز ألا تكون منكوحة؛ لكونها مسبوقة، ولا نخلّيها حتى تنكح (5)، بل الأمر موقوف فيها، وعلى الزوج البيان، فإن حلف على نفي العلم، أو اتفقا على الإشكال، قال الشيخ: لها أن تستدعي من القاضي حتى يفسخ نكاحها. هذا منتهى كلام الشارحين. وإن رضيت بالمقام في الإشكال، ففي نفقتها ومهرها كلام - قدمته في نظير لهذه، وهو: إذا زوّج وليّان امرأة من زوجين، وقد تقدم بما فيه إقناع وبلاغ.

_ (1) في الأصل: وارتفع. (2) ت 3: ابنتان. (3) ت 3: أن كل واحدة منهما. (4) ت 3: ولو نذر عينها. (5) حتى تنكح: أي تتزوج بآخر.

فصل قال: "وإذا اجتمع النكاح وملك اليمين ... إلى آخره" (1). 8040 - إذا وطىء جارية بملك اليمين، ثم نكح أختها الحرة، انعقد النكاح عليها، وحلّت المنكوحة، وحرمت الموطوءة بملك اليمين؛ وذلك لقوة النكاح وسلطانه فيما يتعلق بإحلال البضع، وإذا انعقد النكاح، فمن ضرورة انعقاده إفادته للحل، وهذا معنى قول الأصحاب: النكاح أقوى من الوطء بملك اليمين؛ فإن الحكم للنكاح، سابقاً كان أو مسبوقاً. 8041 - فرع ذكره ابن الحداد في التباس العقد الوارد على أعداد من النسوة. إذا نكح امرأة في عقد، واثنتين في عقدة، وثلاثاً في عقدة، وأشكل عليه تاريخ العقود؛ قال ابن الحداد: لا يثبت إلا نكاح الفردة التي نكحت وحدها. فنقول: أما ثبوت نكاح الواحدة، فلا شك فيه؛ فإنا كيفما قدرنا في التواريخ، فنكاحها صحيح. وأما العقدتان الباقيتان، فلا تصحان جميعاً، قطعاً، وقد صحت إحداهما في معلوم الله تعالى. فيقال للزوج: بيّن المتقدم منهما، فإن بيّن وعيّن، فذاك، وإن قال: لا أدري، فربما يَتوجه (2) عليه يمين في ذلك - على تفاصيلَ مشهورة في نظير هذا. ثم إذا أشكل الأمر، فإن طلبت النسوة فسخ النكاح؛ فينفسخ نكاحهن. وقد ذكرتُ نظير ذلك في تزويج المرأة من رجلين. 8042 - وإن رضين بالصبر تحت الإشكال، فلا يرفع نكاحهن. وما دمن في الإشكال؛ فكيف السبيل في الإنفاق عليهن؟

_ (1) ر. المختصر: 3/ 289. (2) ت 3: يتوجد.

قال الشيخ أبو علي: [على الزوج] (1) أن ينفق على جميعهن، كما ذكرناه في الذي يُسلم وتحته ثمان نسوة، أسلمن معه، ولم يختر أربعاً منهن؛ فإنه ينفق على جميعهن. وهذا فيه احتمال ظاهر، من جهة أن الزوج تقاعد عن اختيار أربع منهن؛ فهو حابسهن مع القدرة على إزالة ذلك، [و] (2) في مسألتنا أشكل (3) تاريخ العقد، وثبت الإشكال إما بتوافق، وإما بيمين. ويجوز أن ننفصل عن هذا، فيقال: إنه منسوب إلى ترك التحفظ والاحتياط؛ وعلى هذا بنينا حرمان القاتل خطأً ميراثَ المقتول، وبهذا السبب أوجبنا الكفارة على المخطىء. 8043 - فأما الميراث، فإذا مات؛ [نفرز] (4) من تركته ميراث زوجة: الثمن، أو الربع، عائلاً أو كاملاً -على ما تقتضيه الفريضة- ثم يسلّم إلى الفردة، التي تعيّنت ربع ذلك؛ فإنها تستحق هذا المبلغ بلا شك ولا مِرْية؛ إذ أقصى ما في المسألة: أن تزاحمها ثلاث؛ فلها الربع؛ فإنها تكون رابعتهن، ثم نقف ثلاثة أرباع الحصة. ثم الطريق أن نقول: من يحتمل أن يكون له من الموقوف شيء، فيوقف في حقه ذلك الشيء، ومن لا يحتمل أن يكون له من الموقوف شيء، فلا يوقف في حقه ما يقطع؛ فإنه لا يستحقه. فعلى هذا نقول: أقصى ما تستحقه الفردة ثلث ما أفرزناه؛ فإن أحسن أحوالها أن تزاحمها اثنتان، ويبطل النكاح المشتمل على الثلاث. فلا تستحق الفردة أكثر من ذلك. وقد أخذت الربع، فبقي إمكان استحقاقها في نصف السدس، فنقف لها نصف السدس، بينها وبين الثلاث اللاتي في عقد واحدٍ. وأما الاثنتان؛ فإمكان حظهما في الثلثين؛ فإن أحسن أحوالهما أن تزاحمهما

_ (1) في النسختين: للزوج. (2) الواو زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (3) ت 3: إشكال. (4) في النسختين: تقرر.

الواحدة. وأما الثلاث؛ فأقصى ما يفرض هن ثلاثة أرباع ما أفرزناه. ثم لا يخفى النظر بعد ذلك على من أحكم قواعد الفرائض، ومسائل الخناثى. 8044 - وأما مهورهن، فلا يخلو: إما إن كان دخل بهن على الشبهة والالتباس، أو لم يكن دخل بهن. فإن دخل بهن، وكان مهر كل واحدة مائة، وقد سمى في عقد [الاثنتين] (1) ألفين، وفي عقد الثلاثة ثلاثة آلاف، فنقف أكثر (2) ما يتصور استحقاقه، وطريق الأكثر فيه أن نقول: نعلم أن المسمى في أحد العقدين واجب، مع مهر المثل [للّواتي] (3) في العقد الثاني، فنأخذ بالأكثر. والأكثر في الصورة التي فرضناها، المسمى في عقد الثلاث، ومهر المثل في عقد الاثنتين، وذلك ثلاثة آلاف ومائتان، ثم نسلم إلى كل واحدة مهر مثلها من هذا المبلغ؛ فإنه الأقل قطعاً، إما من المسمى، وإما من مهر المثل، ثم نقف الباقي. فإن بان بطريق من الطرق أن الصحيح عقد الاثنتين، فنتمّ لهما مع ما قبضتا ألفين، ونترك على الثلاث مهور أمثالهن، ونسترد الباقي، ونرده على الورثة. وإن بان أن العقد الصحيح عقد الثلاث، فلا نرد شيئاًً، ونكمل المسمى للثلاث، ونقر مهر المثل في أيدي الاثنتين. وإن كان مهور أمثالهن أكثر من المسمى؛ فلا يخفى تفريعه. وإن لم يكن دخل بهن، فنقف ثلاثة آلاف، ولا ندفع إلى واحدة منهن شيئاًً؛ فإنا لا نستيقن استحقاق واحدة منهن بعينها. ولا معنى للإطناب مع وضوح أطراف المسألة. ولو نكح واحدة، فاثنتين، وثلاثاً، وأربعاً، في عقود متفرقة، وأشكل التاريخ؛ فلا تتعيّن مع الإشكال الواحدة في هذه الصورة أيضاً، لجواز أن نكاحها وقع بعد الأربع. فهذا ما يتجدد في هذه، وتفريعها سهل. ...

_ (1) في النسختين: الابنتين، والمثبت اختيار من المحقق. (2) ت 3: أكثرها ما يتصور. (3) في النسختين: اللواتي.

باب الزنا لا يحرم الحلال

باب الزنا لا يحرم الحلال 8045 - ذكر المزني في الباب مناظرة طويلة، ثم تبرّم بها وقطعها (1). والفقه المقصود من الباب نوعان: أحدهما - بيان الأجناس [التي] (2) يتعلق تحريم المصاهرة بها. والنوع الثاني - في صفاتها على تنوعها، حراماً وحلالاً. فأما القول في الأجناس التي يتعلق تحريم المصاهرة بها؛ فمنها: النكاح. ويتعلق به تحريم أم الزوجة، وتحريم الزوجة على الأب، والابن. ولا يتعلق التحريم إلا بالنكاح الصحيح. ومما يتعلق به تحريم المصاهرة: الوطء. ويتعلق به التحريم في جميع جهات المصاهرة؛ فتحرم أم الموطوءة، وابنتها، وتحرم الموطوءة على أب الواطىء وابنه، فالوطء إذن يحرم النسوة الأربع اللواتي يلحقهن تحريم الصهر، [والنكاح] (3) لا يحرم إلا ثلاثاً منهن. 8046 - فأما الملامسة والنظر، فنقول: في تعلق الحرمة بالملامسة قولان: أصحهما - أنها لا تتعلق الحرمة بها، وإنما تتعلق بالوقاع التام. والقول الثاني - إن الحرمة تتعلق بالتقاء البشرتين، كما يتعلق بها وجوب الفدية في الإحرام، وانتقاض الطهارة.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 280 - 282. وهي مناظرة -على طريقة الإمام الشافعي- يذب فيها عن رأيه في هذا الباب. (2) في النسختين: الذي (ولعل لها وجهاً لم أعرفه). (3) في النسختين: فالنكاح.

وأما النظر إلى الفرج، فظاهر النص أنه لا تتعلق به حرمة المصاهرة، وعند أبي حنيفة (1) تثبت الحرمة به. وحكى العراقيون قولاً للشافعي مثل مذهب أبي حنيفة. وهذا غريب لا تعويل عليه. وقد حكى هذا القول طوائف من المراوزة أيضاً. ولست أرى في توجيهه متعلقاً إلا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، لم ينظر إلى فرج امرأته وابنتها" (2) وهذا الحديث لم يصححه الأثبات. ثم علينا تأمل في الملامسة ومزيد بحث في النظر، فأما الملامسة؛ فقد قيّد شيخي والصيدلاني الملامسة بكونها واقعة بالشهوة، وأرسلها بعض المصنفين وطوائف من العراقيين، وفي هذا احتمال: يجوز أن يقال: ما يتفق من غير شهوة، لا يعد [استمتاعاً] (3)؛ فيبعد عن مشابهة الوقاع، ويجوز أن يقال: تكفي صورة الملامسة، كما تكفي في نقض الطهارة. ولم أر أحداً من الأصحاب يشترط قصد الشهوة في الملامسة عند إيجاب الفدية على المحرِم. هذا قولنا في الملامسة (4). فأما النظر، فنتكلم في محله وصفته. فأما محله، فقد خصص أبو حنيفة بالتحريم النظر إلى الفرج، وعنى بذلك القبل من الرجل والمرأة. وفي بعض التصانيف إضافة هذا إلى الشافعي قولاً مع التخصيص بالفرج، كما ذكرناه، وكان شيخي يقطع بأنه لا فرق بين النظر إلى الفرج وبين النظر إلى غيره في هذا القول الغريب.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 309 مسألة رقم 804، البحر الرائق: 3/ 105. (2) لم أجده بهذا اللفظ، ولكن روى الدارقطني: 3/ 269، والبيهقي في السنن: 7/ 170: "لا ينظر الله عزّ وجلّ إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها" قال الدارقطني موقوف: فيه ليثٌ وحماد ضعيفان، ثم يقول هو محمول على ما إذا جمعهما نكاحه، أو زناه، وقد ورد في هذا المعنى أكثر من أثرٍ كلها لا تصح، (ر. مع ما سبق مختصر خلافيات البيهقي لأحمد بن فرج اللخمي: 4/ 140، 141) لترى أن الأمر كما قال إمام الحرمين: "ليس لهذا متعلَّق يصححه الأثبات". (3) في النسختين: استمتاعها. (4) حكى الرافعي والنووي ترجيح البغوي التحريم بالملامسة ونحوها، وترجيح إمام الحرمين عدم التحريم، ولم يرجحا بينهما (ر. الشرح الكبير: 8/ 36، 37، والروضة: 7/ 113، 114).

وفي هذا تأمل عندي. ولعل الوجه أن نلحق ما يواريه الإزار بالسوأة؛ فإنه عورة من الأجناس (1)، ولا يحل النظر إليه إلا لمستمتع. فأما ما يحل النظر إليه، فلا يجوز أن يتعلق به تحريم المصاهرة، وقد فصّلنا في تحريم المناظر وتحليلها ذلك، وما يحرم النظر إليه، وهو فوق السرّة وتحت الركبة، ففيه ترددٌ. هذا قولنا فيما يتعلق النظر به. فأما اشتراط الشهوة، فقد رأيت ألفاظ الأصحاب بأجمعهم مقيّدة بالشهوة هاهنا، ومن أبهم ذِكْر الملامسة، ولم يقيّدها بالشهوة، [قيّد] (2) النظر بالشهوة؛ ولعل ذلك لضعف النظر؛ فإنه ليس من قبيل الاستمتاعات، فإن اقترن به قصدٌ، كان إلحاقه بالاستمتاع متخيَّلاً. هذا قولنا في الأجناس التي يتعلق بها تحريم المصاهرة. 8047 - والنوع الثاني في ذكر أحوال ما يوجب المصاهرة: أما النكاح؛ فلا انقسام فيه، ولا تتعلق المصاهرة إلا بصحيحه، كما ذكرناه. وأما الوطء؛ فإن وقع زناً، وحراماً محضاً، فلا يتعلق به تحريم المصاهرة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (3). وللوطء أحوال: أحدها - أن يكون حلالاً؛ فيتعلق به النسب، والعدة، وتحريم المصاهرة، [وأحكام النكاح] (4). وإن كان حراماً محضاً؛ لم يتعلق به هذه الحرمات. وإن كان واقعاً على الشبهة، فالمذهب الذي عليه التعويل: أنه تتعلق به حرمة المصاهرة (5). وفي بعض التصانيف حكاية قول آخر: إن حرمة المصاهرة لا تتعلق [به] (6)،

_ (1) "من الأجناس" كذا في النسختين، ولعل المراد بها من الرجال والنساء. (2) في الأصل: قبل. (3) ر. رؤوس المسائل: 381 مسألة 259، طريقة الخلاف: 53 مسألة: 22. (4) في النسختين: وأحكام في النكاح. (5) استقر المذهب على هذا (ر. الروضة: 7/ 112). (6) سقطت من النسختين.

وقد جمع الأستاذ أبو إسحاق مسائل خلافية وفرض الخلاف مع أبي حنيفة في وطء الشبهة، وهذا مما لا يعتد به. ثم قال من حكى هذا القول: إذا قلنا: يتعلق تحريم المصاهرة بوطء الشبهة؛ فهل تتعلق به المحرمية؟ فعلى قولين، وهذا أقرب (1)؛ من جهة أن المحرمية إنما تثبت في المصاهرة لمسيس الحاجة إلى تداخل البيوت؛ وهذا المعنى لا يتحقق في وطء الشبهة. والمذهب الذي عليه التعويل أنه يتعلق بوطء الشبهة الحرمة والمحرمية (2). ولست أعرف خلافاً أنه يتعلق به النسب والعدة. فإن طلب طالب فرقاً، فالماء محرم، وحرمة المصاهرة تتبع المحرمية، والمحرمية تتبع حاجة المداخلة، فينفصل الباب عن الباب. ولو تحققت الشبهة في أحد الطرفين دون الثاني، والتفريع على أن الشبهة إذا عمّت الطرفين تثبت الحرمة والمحرمية، وهذا هو الأصل. فلا عود إلى غيره. فإذا لم تعم الشبهة الجانبين؛ فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أن التحريم لا يثبت، لسقوط الحرمة من أحد الجانبين. والثاني - أنه يثبت لثبوته في أحد الجانبين. والثالث - أن الاعتبار بجانب الواطىء (3)؛ فإن الله تعالى قرن بين الصهر والنسب، فقال عز من قائل: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]. ثم الاعتبار في النسب بالواطىء. وجمع الأئمة الحرمات، فقالوا: هي النسب، والعدة، والمهر، وسقوط الحد، وحرمة المصاهرة. فإذا كانا عالمين بتحريم الوطء؛ فلا يتعلق بذلك شيء. وإن كانا جاهلين؛ ثبتت الحرمات، ولا تعويل على القول البعيد.

_ (1) وهذا أقرب: أي التردد في إثبات المحرمية مع حرمة المصاهرة في وطء الشبهة. (2) اقتصر الرافعي والنووي على حكاية رأي إمام الحرمين والجمهور، فقال الرافعي: "وفي إيجاب وطء الشبهة المحرمية مع الحرمة وجهان ويقال قولان: أحدهما - نعم، والثاني - لا". ا. هـ ملخصاً (ر. الشرح الكبير: 8/ 36، والروضة: 7/ 113). (3) في النسختين: الوطء.

وإن كانت المرأة جاهلة والرجل عالماً، ثبت المهر، ولا نسب ولا عدة؛ لأن النسب ثبت في ماء محترم، [وعليه الحدّ دونها. وإن كانت المرأة عالمةً والرجل جاهلاً، ثبت النسب] (1) والعدّة، ولا حدّ عليه ولا مهر لها وعليها الحد، وفي المصاهرة ما قدّمناه (2). وإذا حكمنا بأن الملامسة تقتضي تحريم المصاهرة، فلو كانت حراماً محضاً، لم يتعلق بها شيء، وكذلك القول في النظر. وإن وقعا في حل أو في شبهة، فهما كالوطء فيما قدمناه. ولو لمس الأب زوجة ابنه من غير شبهة، لم تحرم على الابن. ولو لمس جاريته حرمت عليه، لما له من الشبهة في ملك الابن. وهذا خارج على القواعد المقدمة. ...

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (2) ما قدمناه: أي من الوجهين في أن الاعتبار بالرجل (الواطىء) أو الاعتبار بالاشتباه في أيهما. وعلى هذا فوجهان: أحدهما - أنها تختص بمن اختصت به الشبهة، حتى لو كان الاشتباه يحرم عليه أمَّها وبنتها، ولا تحرم هي على أبيه وابنه، ولو كان الاشتباه عليه، حرمت على أبيه وابنه، ولا تحرم عليه أمها وابنتها. والوجه الثاني - أنها تعم الطرفين كالنسب. والأصح -كما أشرنا آنفاً- أن الاعتبار بالرجل. (ر. الشرح الكبير: 8/ 35، 36، والروضة: 7/ 112).

باب نكاح حرائر أهل الكتاب وإمائهم

باب نكاح حرائر أهل الكتاب وإمائهم قال الشافعي: "وأهل الكتاب الذين يحل نكاح حرائرهم؛ اليهود والنصارى، دون المجوس ... إلى آخره" (1). 8048 - الكفار على ثلاثة أضرب: أحدها -أهل الكتاب، فيحل نكاح حرائرهم- على شرائطَ وتفاصيلَ ستأتي من بعد، إن شاء الله عز وجل، وهم اليهود والنصارى. ثم قال الأصحاب: لا كراهية في نكاح الذمية، وعن مالك (2) أنه كره نكاح الكافرة الذمية، وإن صححه. وهو مذهب ابن عمر. وتردد أصحابنا في إطلاق الكراهية في نكاح الحربية - إذا كانت يهودية أو نصرانية، فذهب الأكثرون إلى الكراهة؛ لأنها تسكن دار الحرب؛ ومساكنة الكفار في دارهم محذورة، وقد نخاف منه الافتتان، والحربية قد تسبى، وقد تكون حاملاً من زوجها بولد مسلم، والكراهيةُ تثبت بدون هذه الأسباب. وكان شيخي يقول: إن لم نُطلق الكراهيةَ في نكاح الذمية، نَدبنا إلى الانكفاف عنه، وقد تمهّد في مأخذ الأدلة أن اللهي إذا لم يكن [حاظراً] (3) محرِّماً، فإنه ينقسم إلى نهي كراهية، وإلى نهي أدب، والذي ذكره ليس مخالفاً لما قاله الأصحاب، وقد قال الرسول عليه السلام: "عليك بذات الدين، تربت يداك" (4). هذا تمهيد الأصل في مناكحة اليهود والنصارى. ومن الكفار من ليس لهم كتاب ولا شبهة، وهم أهل الأوثان، وعبدة

_ (1) ر. المختصر: 3/ 282. (2) ر. جواهر الإكليل: 1/ 295، الشرح الصغير: 2/ 420. (3) في النسختين: حاضراً. (4) متفق عليه بلفظ: "فاظفر بذات الدين" وهو جزء من حديث مشهور على الألسنة، عن أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: ح 928).

ما استحسنوا، والزنادقة، والدَّهرية، فلا يحل نكاح نسائهم، ولا تحل ذبائحهم. ومنهم المجوس، فمذهبنا الصحيح ومذهب عامة الفقهاء أنه لا تحل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم. وعن أبي ثور تحليل مناكحتهم وذبائحهم، ومن أصحابنا من نقل هذا قولاً في المذهب، أوْرده بعض المصنفين، وحكاه لي من اثق به عن الشيخ أبي بكر الطوسي (1). والتعويل على تحريم المناكحة والذبيحة، والجزيةُ مأخوذةٌ منهم. وقد روى عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب، [غير آكلي ذبائحهم، وناكحي نسائهم] (2) " (3). 8049 - فالكفار إذاً ثلاثة أقسام: منهم من تحل مناكحتهم وذبائحهم ويُقرون بالجزية لا محالة -إذا بذلوها- في ديار الإسلام، وهم اليهود والنصارى، ولا استرابة في تمسكهم بالتوراة والإنجيل، وإن حرفوها. والقسم الثاني من الكفار - عبدة الأوثان والمعطَّلة (4)، فهؤلاء تحرم مناكحتهم وذبيحتهم، ولا يُقَرون بالجزية.

_ (1) هو المشهور في رجال المذهب وأئمته بالنوقاني. سبق التعريف به في كتاب الوصايا. (2) في الأصل: في الجزية وذبائحهم، ونكاح نسائهم. وفي ت 3: عبارة غير مقروءة، والتصويب من التلخيص الحبير، وهي رواية الرافعي في الشرح الكبير: 8/ 73. (3) حديث: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 278، والشافعي، ترتيب مسند الشافعي: 2/ 130، وأبو عبيد في كتاب الأموال: ص 35 ح 78، كلهم عن عبد الرحمن بن عوف، أما الاستثناء "غير ناكحي نسائهم وآكلي ذبائحهم" فقد رواه عبد الرزاق في مصنفه: 6/ 69، 70 ح 10028، وأيضاًً: 10/ 326 ح 19256، وابن أبي شيبة: 12/ 242 ح 12691، 12/ 246 رقم 12706، والبيهقي: 9/ 192، 285. وعقب الحافظ على الكلام في الحديث بتنبيه قال فيه: "تبين أن الاستثناء في حديث عبد الرحمن مدرج" ثم نقل عن الحربي الإجماع على المنع (أي من التزوج بنسائهم) إلا عن أبي ثور. (ر. التلخيص: 3/ 352 - 354 ح 1642، 1643). (4) لا يذهبنّ بأحدٍ الوهمُ أن المراد (بالمعطّلة) هم المعتزلة!! كما أُشيع عنهم، ونبذهم بهذا اللقب مخالفوهم، وحاشى إمام الحرمين بل أي مسلم أن يعد المعتزلة من الكفار. وإنما المعطلة (هنا) من لا يثبتون الباري سبحانه وتعالى (كما قال شارح المقاصد، ونقله عنه صاحب كشاف اصطلاحات الفنون/مادة: ك. ف. ر) وستجد هذا المعنى في كلام الإمام قريباً.

والقسم الثالث - المجوس، وهم يقرون بالجزية. والمذهب الذي عليه التعويل تحريم مناكحتهم وذبيحتهم. واختلف قول الشافعي في أنه هل كان لهم كتاب، فرفع من بين أظهرهم، أو لم يكن لهم كتاب أصلاً (1)؟ وأحد القولين أنهم لم يكن لهم كتاب، ويشهد له قوله "سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب"؛ فدل أنهم ليسوا أهل كتاب. والقرآن يدل على أنه كان قبل نزول القرآن كتابان لا غير، قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] وشهدت الأخبار على ذلك، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "مثلكم ومثل من كان قبلكم ... الحديث " (2). وروي أن نوفل الأشجعي قال: علامَ تؤخذ الجزية من المجوس، وليسوا أهل كتاب؛ فقال له المستورد العجلي: أترد سنة الشيخين؟ ثم لبّبه (3)، فأتى به علي بن أبي طالب، فقال: أنا أعلمكم بأمر المجوس، فإن لهم كتاباً كانوا يدرسونه وعلماً يتعلمونه حتى واقع ملكهم أخته، فأرادوا رجمه، فقال: أنا على دين أبيكم آدم، وكان يزوّج بناته من بنيه، فأصبحوا وقد أُسْري (4) على كتابهم" (5). وهذا يشهد

_ (1) وعلى القولين لا تحل مناكحتهم، فهذا هو المذهب، كما قال إمام الحرمين. ر. الشرح الكبير: 8/ 72 والروضة: 7/ 135، 136. (2) يشير بهذا إلى حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ضرب فيه المثل لأجر المسلمين في مقابلة أجر اليهود والنصارى، إذ جاء فيه: "وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى، كمثل رجلٍ استأجر أجراء، فقال: من يعمل من غُدوة إلى نصف النهار على قيراطٍ قيراطٍ؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين قيراطين؟ فأنتم هم ... إلخ". فالحديث يدل بإشارته على أنه كان قبلنا كتابان فقط. ثم الحديث رواه أحمد في المسند، ومالك، والبخاري، والترمدي (ر. صحيح الجامع: 1/ 458 ح 2315). (3) لبَّبه: أخذه بثيابه من حول عنقه. (4) أُسْريَ على كتابهم: يقال: أسرى عليه: أتاه ليلاً، والمعنى أن كتابهم رُفع بليل (المعجم). (5) هذا الأثر عن نوفل الأشجعي، رواه البيهقي عن فروة بن نوفل، بهذا السياق نفسه مع اختلافٍ في بعض اللفظ (السنن الكبرى: 9/ 188، 189).

للقول الثاني. ثم قد نطق القرآن بصحف إبراهيم، وورد في الأقاصيص نزول كتب على الأنبياء الأولين، ومن تعلق بشيء منها فلا حكم له؛ وإنما أهل الكتاب على الإطلاق، اليهود والنصارى. وأما المجوس؛ منزّلون (1) على ما ذكرناه. وهذا مما أجمع الأصحاب عليه. 8050 - فإذا بان القول في أقسامهم؛ فنعود بعد ذلك إلى الصفات المرعية في أهل الكتاب، فمن كان منهم من أولاد إسرائيل -وهو يعقوب عليه السلام- وآباؤه كانوا مستمسكين بالتهود، من غير تقطع؛ فهؤلاء يُنكحون، وتستحل ذبائحهم. ومن لم تكن من نسل بني إسرائيل، فإن انتمت إلى أقوامٍ أوّلهم تهوّدوا أو تنصروا بعد المبعث، فلا يجوز نكاحها. وإن انتمت إلى أقوام أوّلهم دخلوا في اليهودية والنصرانية قبل المبعث، ولم يكونوا من نسل بني إسرائيل، ففي جواز نكاحها قولان. وللأصحاب في محل القولين طريقان: فمنهم من قال: إن دان أول آبائها بالدين قبل التبديل، فيصح نكاحها، قولاً واحداً. وإن دان أولهم بعد التبديل وقبل المبعث، ففي جواز نكاحها قولان. ومنهم من قلب الترتيب، وقال: إن دان أولهم بعد التبديل، فلا تحل المناكحة. وإن دان أول [آبائها] (2) بالدين قبل التبديل، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها تحل، وهو القياس؛ فإن سبب التحليل التمسك بالتهود والتنصر، وسبب تخصيص الدينين بهذه الفضيلة انتماؤهما إلى الكتابين. والقول الثاني - إنها لا تحل؛ لأن تحليل المناكحة والذبيحة أثبتت فيهم تعظيماً لنبي الله تعالى إسرائيل عليه السلام. فانتظم من مجموع ما ذكرناه: إن كان من بني إسرائيل فاستمر التهود في آبائه، فتحل مناكحته وذبيحته. ومن ضرورة كونه من ولد إسرائيل أن يكون أول آبائه قد دان بالدين، وهو غير محرف، فيجتمع شرف النسب والتعلق بالدين في أول الآباء قبل التغيير.

_ (1) منزلون: هكذا بدون (الفاء) في جواب أما، كدأب إمام الحرمين في هذا الاستعمال. (2) في النسختين: آبائهما.

ومن لم يكن من بني إسرائيل، وقد دان أول آبائه بالدين قبل التغيير؛ فهذا عري عن شرف الانتساب إلى إسرائيل، ولكن [له] (1) مزية الانتساب إلى من دان بالدين قبل التغيير؛ ففي مناكحته وتحليل ذبيحته طريقان: منهم من قطع بالتحليل، نظراً إلى الدين. ومنهم من جعل في التحليل قولين. ومن كان انتماؤه إلى من دان بالدين قبل مبعث المصطفى، وبعد التغيير؛ ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بالتحريم. والثاني - إجراء القولين. ولو كان أول آبائه قد دان (2) بعد التغيير بالدين غير مغير، وتبرأ عما فيه من تحريف على علم به؛ فهذا كما لو كان أول آبائه قبل وقوع التغيير. وإن دان أول آبائه -بعد التغيير- بالدين المغيّر؛ فهذا محل الطريقين الأخيرين: أحدهما - القطع بالتحريم. ولو عرفنا أن أول آبائه دان بالدين قبل مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأشكل علينا أنه دان الأول منهم قبل التغيير أو بعد التغيير؛ فهذا متردد بين القسمين المعلومين قبل التغيير وبعد التغيير. ويتطرق إليه احتمال في الالتحاق بأحد القسمين. 8051 - وإن أردنا جمع مقالات الأصحاب على نسق، قلنا: من كان من نسل بني إسرائيل ولم يتغير أول آبائه عن دينه تحل مناكحته وذبيحته. ومن لم يكن من نسله، وقد دان أول آبائه قبل التغيير، أو بعد التغيير، ولكن تبرأ عن التحريف، وتعلق بما كان حقاً؛ فقولان: أصحهما وأقيسهما - جواز المناكحة. ومن دان أول آبائه قبل المبعث، وأشكل أن الأول دان بالمغيّر أو بالدين القويم؟ فقولان، مرتبان على الصورة الأولى. وهذا أولى بالتحريم من التي تليها. وإن دان أول آبائه بعد المبعث، فنقطع بتحريم المناكحة والذبيحة؛ فإنه لا عصمة

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) سقط من (ت 3): "قد دان".

[بحرمة] (1) بعد نزول الفرقان، إلا لمن يدين بالإسلام. ومن أشكل أمره، فلم ندر؛ أدان آباؤه قبل المبعث أو بعده؟ فلا خلاف في تحريم المناكحة والذبيحة. ويقر هؤلاء بالجزية تقرير المجوس، والسبب فيه أن عصمة الدم وما يتبعه من المال، قد ثبت بشبهة كتاب، فأما تحليل المناكحة والذبيحة، فلا يثبت إلا بتحقق. 8052 - ومما يتم به غرض الفصل: أن من كان يدين بدين (2) موسى أولُ آبائه بعد نزول (3) عيسى عليه السلام، فهذا تعلَّقَ بالدين بعد النسخ؛ فكيف السبيل فيه؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هذا بمثابة ما لو دان (4) أول الآباء بعد مبعث نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وهذا القائل إنما يقول ذلك في تحريم المناكحة والذبيحة، فأما أخذ الجزية؛ فلا خلاف فيه، كما ذكرناه في المجوس وفي الذين أشكل الأمر في أن أول آبائه دان قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم أو بعد مبعثه. ومن (5) أصحابنا من قال: إذا دان أول الآباء بدين موسى بعد مبعث عيسى، فهو [في] (6) ترتيب المذهب بمثابة ما لو دان أول الآباء بالدين المغيّر؛ فإن دين موسى لو لم يكن مغيّراً [لاستحثَّ على الإيمان بعيسى، ولم يناف تصديقه] (7)، ولو كان كذلك، لكان يدين أول آبائه بدين عيسى مصدقاً لموسى، ومن قَبْل عيسى من النبيين. 8053 - ومما نتكلم فيه: السامرة والصابئون. وقد ظهر اختلاف نص الشافعي في تحريم مناكحتهم وذبيحتهم.

_ (1) في الأصل: " ـحر ـه " [كذا بدون نقط] ورسمت في (ت 3) هكذا " ـحر ـه " [وبدون نقط أيضاً]. (2) ساقطة من (ت 3). (3) نزول عيسى: كذا في النسختين، والمراد مبعثه، وليس نزوله قبل الساعة. (4) ت 3: ما لو أراد أن أول آبائه ... (5) متصل بالتفريع السابق، بقوله: "اختلف أصحابنا: فمنهم من قال ... ". (6) في النسختين: عن. (7) في الأصل: لا مستحث على الإيمان بعيسى، ولم يتأت تصديقه.

والذي ذهب إليه معظم الأصحاب: أن اختلاف النصين محمول على اختلاف حالين: فحيث حرّم، ظن أنهم مخالفون لليهود والنصارى في أصول دينهم، وحيث نص على التحليل، ظن أنهم ليسوا مخالفين لهم في أصول دينهم، وإنما خالفوهم فيما يجري من دينهم مجرى الفروع من ديننا، ولم يُجر أحد من الأصحاب قولين على [ظاهر] (1) اختلاف النصين إلا الشيخ أبو علي؛ فإنه حكى أن من الأصحاب من أجرى القولين. وحاصل القول في ذلك: أنهم إن لم يخالفوا اليهود والنصارى في أصول الدين، فهم ملتحقون بالذين وافقوهم في أصل الدين، ولا يجوز أن يكون في ذلك خلاف. وإن صح أنهم خالفوهم مخالفةً لو فرض مثلها في ديننا، لأوجب [تكفيراً] (2)، فليسوا من اليهود ولا من النصارى، ولا تحل مناكحتهم وذبيحتهم. وإن جرت مخالفتهم [لهم] (3) مجرى مخالفة أهل البدع لعصابة الحق في ملة الإسلام، فهذا محتمل، وعليه ينزّل ما حكاه الشيخ أبو علي من القولين، وليس هذا تعريضاً منا بتحريم مناكحة أهل البدع؛ فإن الذي أقطع به: جواز مناكحتهم، والقول في التكفير والتبري غائصٌ بعيد الغور، ولسنا له الآن. وسر المذهب أن البدع فينا وإن لم تحرِّم، فهي في الأولين على التردد، والسبب فيه: أنا لم نكفر أهل البدع فينا - تعلقاً بالسمع، ولم يتحقق لنا مثل هذا السمع من الأولين، ثم الذي بلغنا من مذهبهم: أنهم خارجون عن ضبط [المِلَل] (4) إلى اعتقاد إضافة الآثار إلى الأنجم، ومصيرهم إلى التعطيل، ونفي الإله المختار. هذا ما نقله النقلة عنهم، فإن صح، فهم معطلة يجرون مجرى الزنادقة. ولا نقبل منهم الجزية. وإن لم يصح هذا، ورأيناهم ينتمون إلى اليهود، أو إلى النصارى، وتعارض لنا في حقهم التعطيل وقبول المسألة، فلا مناكحة، وسبيلهم في قبول الجزية منهم كسبيل

_ (1) زيادة من (ت 3). (2) في النسختين: تكثيراً. والمثبت اختيار منا. (3) في الأصل: له. (4) في الأصل: "الملك".

الذين أشكل أمرهم، فلم ندر أدان أولهم قبل المبعث، أو بعد المبعث؟ فهذا تمام القول فيهم. 8054 - والسر الذي هو ختام الفصل: أن من نجري الكلام في مناكحته نقطع بأنه كافر في دين موسى؛ فإن موجب دينه الإيمان بعيسى، وبمحمد بعده، ولكن هذا النوع لا يؤثر في تحريم المناكحة؛ إذ لو أثّر، لما حل نكاح يهودية. ولو كان اليهودي مستمسكاً بالدين الحق قبل المبعث، ثم فُرض انبعاث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، لكان يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لا محالة. وما ذكرناه من التغيير في ذكر موسى وعيسى عند ذكرنا أول الآباء، أردنا به أن أولهم إن دان بالدين على وجه يقتضي الإيمان بما يأتي من الأنبياء عليهم السلام، فما يقع من التحريف المانع من الإيمان بعد موسى في الأولاد، فهذا غير مؤثر، بعد التعلق بالانتماء إلى ما وصفناه. وإن لم يكن في آبائه من يقتضي دينه الإيمان بمن بعد موسى وعيسى، فهذا الذي ترددنا في مناكحته. فهذا بيان الفصل وخاتمته. ولا يحيط بحقيقة الفصل من لم يحط بما ذكرناه. 8055 - وما ذكرناه من مخالفة السامرة، فذاك مخالفة في قاعدة سوى الامتناع [عن الإيمان] (1) بمن بعد موسى. وبيان ذلك أن السامري لو كان إسرائيلياً، فقد لا نرى مناكحته إذا تحقق لنا أنه مخالف في القاعدة، كما تقدم وصفها. وقد انتجز بهذا غرض الفصل. فصل مشتمل على ما إذا تهوّد النصرانيّ، أو تنصّر اليهوديّ، أو فُرض انتقالُ آخر من كفر إلى كفر 8056 - فنقول: الوثني إذا تهوّد، أو تنصّر، لم يستفد بما تعلّق به أمراً أصلاً، وهو على ما كان عليه من توثّنه؛ وعلتُه أن من لا عصمة له ديناً، لا يستفيد بعد نزول

_ (1) زيادة من (ت 3).

القرآن (1) عصمة، إلا بالتزام الإسلام، وهو موجب قولنا في الفصل السابق؛ إذ قلنا: من تهوّد بعد مبعث المصطفى، لم يناكَح، ولم تحلّ ذبيحته، وكما لا يستفيد كما ذكرناه الآن، لا يستفيد التقريرَ بالجزية على ما اختاره. هذا متفق عليه بين الأصحاب (2). 8057 - ولو تهوّد النصرانى، أو تنصّر اليهوديّ؛ ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - إنه يُقرّ على الدين الذي انتقل إليه. والثاني - إنه لا يُقر عليه (3). توجيه القولين: من قال: لا يقرّ المنتقل على الدين الذي انتقل إليه، احتج بأن هذا استحداث دين بعد ابتعاث محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يقبل، وحكم رده ألا يقر عليه بوجهٍ. ومن قال: إنه يقر، احتج بأن التنصّر والتهوّد جميعاً باطلان، وهما في جميع الأحكام متساويان في ديننا؛ فلا أثر للانتقال بعد استواء الدينين في المقتضى، وإنما نُنْكِر استفادة عصمةٍ لم تكن، كما لو تهوّد وثني، وهذا المعنى غير متحقق في تهوّد النصراني وتنصّر اليهودي. التفريع على القولين: 8058 - إن حكمنا بأنه يقر على ما انتقل إليه، فنجعل الذي تنصّر وكان يهودياً، كمن لم يزل نصرانيّاً، وكذلك عكسه، وحظ النكاح منه أن هذه تنكح، ولو تنصرت يهودية تحت مسلم، فلا أثر لما جرى منها. 8059 - وإن قلنا: لا يقر المنتقل على دينه الذي انتقل إليه، فماذا يُصنع به؟ القول في ذلك يتعلق بفصلين: أحدهما - في بيان ما يطالب به، وفيه قولان: أحدهما - أنه

_ (1) ت 3: الفرقان. (2) الروضة: 7/ 141. (3) قال النووي: الأصح أنه لا يقبل منه إلا الإسلام. (ر. الروضة: 7/ 140).

لا نقنع منه بشيء غير الإسلام؛ فإنه بدّل (1) ما كان عليه، ولسنا نُقره على ما انتقل إليه، فلا عاصم إلا الإسلام، وهذا أصح (2) القولين. والقول الثاني - إنه لو عاد إلى الدين الذي كان عليه، أزلنا الاعتراض عنه، ونجعل كأن الانتقال الذي جرى منه لم يكن أصلاً. والتعبير عن هذا القول يحتاج إلى تأنق، فلا ينبغي أن يقال: هو مطالب بالإسلام أو العود إلى التهوّد؛ فإن طلبَ الكفر كفر، ولكن الوجه أن يقال: هو غير [مُقرّ] (3) على التنصّر الذي انتقل إليه، ونطالبه بالإسلام، فإن عاد إلى التهود، فهل نكف عنه؟ فعلى قولين كما تقدم ذكرهما، وليس [للانكفاف] (4) عنه إذا عاد إلى ما كان عليه وجه عندي؛ فإن ذلك الدين زال بتركه إياه، فعوده إليه انتقال منه إليه، ولو كنا نقرر على دين منتقل إليه، [لقررناه] (5) على التنصر، هذا ما تسقط به الطَّلِبة، فإن وُفق وتمسك بالإسلام، أو بما يقطع الطلبة عنه، فذاك، وإن أبى إلا الإصرار على ما انتقل إليه، ففي المسألة قولان: أحدهما -أنا نغتاله- إذا تبين إباؤه، ونقتله قتل المرتد، [ونقطع العصمة] (6) عن دمه وماله وذريته؛ لأنه كان على عصمة، فأبطلها؛ فهو كافر، لا عصمة له. والقول الثاني - إنه لا يُغتال، ويبلّغ مأمنه (7)؛ فإنه كان على عهدٍ فينا، فصار كذمّيّ ينقض عهده، ويبغي اللحوق بدار الحرب. وللقائل الأول أن ينفصل عن هذا، ويقول: الذمّي إذا أراد الالتحاق بدار الحرب لم نمنعه منه، وإذا تهوّد النصراني، فهو ممنوع عن انتقاله هذا، وهذا يناظر ما لو نقض الذمّي العهد بجناية على الإسلام، فإنا قد نقول: إنه يُقتل، كما سيأتي شرح

_ (1) ت 3: ترك. (2) الأمر كما قال إمامنا (ر. الروضة: 7/ 140). (3) في الأصل: مفسر. (4) في النسختين: الانكفاف. (5) في النسختين: لقررنا. (6) في النسختين: وقطع عصمة. (7) هذا هو الأشبه، قاله النووي (السابق نفسه).

ذلك في كتاب الجزية، إن شاء الله عز وجل. 8060 - وقد بقي من مقصود الفصل حظ النكاح. فإذا قلنا: لا يقر المنتقل على ما انتقل إليه، فإن أصرت اليهودية التي تنصرت، لم ننكحها. ولو كانت تحت مسلم، وفرضنا إصرارها؛ كانت بمثابة المسلمة ترتد تحت مسلم. وإن قلنا: لا يقتل اليهودي إذا تنصّر، ولا يقر على التنصر، فاليهودية تحت المسلم إذا تنصّرت وأصرّت، فهي كالمرتدة، وإن كنا نبلّغها المأمن، فلا يتوقف تغير النكاح على اغتيالنا المنتقلة، فليفهم الناظر هذا. وإن كنا نكتفي بالعود إلى ما كانت عليه، فإذا تنصرت اليهودية، وكان تنصرها كالردة؛ [فعودها] (1) إلى التهود كعود المرتدة إلى الإسلام. 8061 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أن اليهودي إذا توثّن، فلا شك أنه لا يُقر، فإن الوثني الأصلي لا يقر، ثم بماذا تسقط الطَّلِبة عنه؟ ذكر الصيدلاني والعراقيون ثلاثة أقوال مقتضبة من الأصول التي ذكرناها: أحدها - أنه لا نقنع إلا بالإسلام. والثاني - أن الطلبة تسقط عنه بالعود إلى التهود. وهذا متفرع على أن اليهودي إذا تنصر، يقنع منه بالعود إلى التهود. والقول الثالث - إنه لو تنصر، اكتفي منه بذلك. وهذا متفرع على قولنا: إن اليهودي إذا تنصر، يقر على تنصره. وهذا القول أضعف الأقوال الثلاثة؛ فإنا وإن كنا نرى تقرير اليهودي على النصرانية - إذا انتقل إليها، فإنا لا نقر وثنياً على التنصر، ولا نثبت له عصمة النصرانية، وإذا توثن اليهودي ثم تنصّر، فهذا تنصّر عن توثّن، وبمثل هذا يضعف قول العود إلى التهود.

_ (1) في الأصل: وعودها.

فصل قال: "فإن نكحها، فهي كالمسلمة فيما لها وعليها ... إلى آخره" (1). 8062 - المسلم إذا نكح يهودية، أو نصرانية، فيثبت لها من حقوق النكاح ما يثبت للمسلمة من النفقة والكسوة، وحق القَسْم - إن كان معها ضَرَّة، وعليها من بذل الطاعة للزوج في توفية حقه من المُسْتَمْتَع ما على المسلمة. ويمنعها الزوج من البروز إلى الكنائس والبِيع، كما يمنع المسلمة من البروز إلى المساجد ومشاهد الخير، وإذا حاضت، وطهرت عن الحيض، فالزوج يُلزمها الاغتسال؛ فإن الاستحلال موقوف على الاغتسال، ويمنعها من التضمخ بالنجاسات إذا [كانت] (2) تلابسها. وذكر أئمتنا قولين في أنه هل يُلزمها الاغتسال من الجنابة؟ وإلزامُ الاغتسال عن الجنابة غير متجه. وقد ذكر العراقيون في مجامع القول في هذا الفصل تفصيلاً حسناً، فقالوا: كل ما يمنع من أصل الاستمتاع، فهي مجبرة على إزالته وتغييره. وذلك مثل أن تحيض وتطهر، فتُجبر على التطهر؛ فإنّ ترك الغسل مانع من الاستمتاع، وكذلك لو تضمخت بالنجاسة، والزوج لو لابسها، لتضمخت ثيابه؛ فهي ممنوعة من ذلك، وكذلك لو تركت الاستحداد حتى تفاحش الأمر، وبلغ مبلغاً يتعذر معه الاستمتاع؛ فيجب عليها إزالة ذلك. فأما إذا وجد منها ما لا يمنع من أصل الاستمتاع، ولكن يمنع من كماله؛ فهل تجبر على إزالته؟ فعلى قولين، وهذا كالاستحداد - إذا لم يبلغ المبلغ الذي ذكرناه، ومثله شرب قليل الخمر الذي لا يسكر، ومنه أكل لحم الخنزير مع الغسل، لما فيه من التقذر والعيافة. ويتصل بذلك أكل الثوم والأشياء ذوات الروائح الخبيثة، وهذا الفن والاستحداد يجري في المسألة على التفصيل الذي ذكرناه.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 283. (2) في النسختين: كان.

وهذا -وإن كان [يضبطُه] (1) مقصود الفصل؛ ففيه بقية- لا بد منها، وهي تقرر في الاستحداد، ثم يقاس عليه غيره. فنقول: إذا كان ترك التنظّف والاستحداد، بحيث يؤثر في غض شهوة التوّاق، فهذا مما نقطع به في إلزام التنظف، وإن كان لا يغض شهوة التواق، ولكن قد يورث المتوسط في شهوته عيافة، فهذا محل القولين. فأما ما يُحرّم الوقاع شرعاً، فلا شك في وجوب إزالته. والقول في أن غسل الذمية: هل يعتد به - إذا أسلمت، وكيف سبيل الحكم بتصحيحه، ولا تصح النية من الذمية؟ مما تقرر في كتاب الطهارة. ...

_ (1) في الأصل: يضبط.

[باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة]

[باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة] (1) فصل قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِح الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات} [النساء: 25]. وفي ذلك دليل أنه ... إلى آخره (2) ". 8063 - لا يحل للحر المسلم أن ينكح الأمة، إلا بشرطين فيه، وشرط فيها، فأما الشرطان المعتبران فيه: فخوف العنت، وفقدان طَوْل الحرة. وأما الشرط المرعي فيها، فالإسلام. وحقيقة مذهب الشافعي ترجع إلى أن نكاح الأمة في حق الحر ينزل منزلة الرُّخَص، ونصُّ الشافعي فيما نقله المزني - دالٌّ على ذلك، وقد استدل الشافعي على هذا بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى قوله تعالى: {ذَلِك لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَت} [النساء: 25]. وقد قررنا في (الأساليب) (3) وجهَ ذلك، وإنما نذكر من مساق الأساليب -ما نذكر- المسلكَ، وئجري ضابطاً لتفصيل المذهب. ولو وجد طَوْل حرة كتابية، فهل له أن يتزوج الأمة؟ فعلى وجهين: أحدهما -وهو أقربهما إلى طريق المعنى- أن ليس له أن يتزوج أمة (4)، لقدرته على طوْل حرة، والحرة الكتابية لا تنحط رتبتها في حقوق النكاح -فيما لها وعليها- عن رتبة الحرة المسلمة.

_ (1) هذا العنوان من وضع المحقق أخذاً من مختصر المزني الذي أعلن الإمام التزامه الجريان على ترتيبه. (2) ر. المختصر: 284. (3) الأساليب: اسمٌ لأحد كتب إمام الحرمين في الخلاف، كما أشرنا مراراً من قبل. (4) هذا الذي اختاره الإمام هو الأصح، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 129).

ومما يتعلق بأطراف الكلام (1) اجتناب (2) التسبب إلى إرقاق المولود، فإن ولد الحر من زوجته الرقيقة رقيق، وولده من الحرة الكتابية كولده من الحرة المسلمة (3)، ونقص دين الكتابية لا يلحق المولود. والوجه الثاني -وهو الأليق بقاعدة المذهب- أنه ينكِحُ أَمة إذا لم يجد طوْل حرة مسلمة، وإن وجد طوْل كتابية، فإن المعتمد في القاعدة تنزيل نكاح الإماء منزلة الرخص، واتخاذ مواقع النص في الكتاب قدوة النفي والإثبات، وقد قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} [النساء: 25] فقيّد بالإيمان، فدل التخصيص به على الحكم في الكوافر بخلاف ذلك (4)، وقد يشهد لهذا قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221]. وقد أرسل الأصحاب مسائل هذا الفصل، ونحن نأتي بها على وجوهها، ثم ننعطف على مواقع النظر فيها. 8064 - فمما ذكروه (5) أن القادر على أن يشتري أمة ويتسراها، لا يجوز له أن ينكح أمة. هذا ما قطع به الجماهير، وفي بعض التصانيف أن المذهب هذا (6). وفيه وجه آخر أن له أن ينكح أمة؛ فإن التسرّي لا يسد مسد النكاح، ولذلك لا يثبت لهن حق في القَسْم، فكأنهن مخرجات من الاعتبار، ومن كان تحته حرة، أو

_ (1) في النسختين: بأطراف الكلام به. (2) ت 3: احتساب. (3) كولده من الحرة المسلمة: أي في الحرية. (4) يرى الإمام أن التقييد بالإيمان على وجهه، وليس جرياً على الغالب، كما رآه النووي، ولذا يرى أن الجري على قواعد المذهب يجعل له أن ينكح أمة مع القدرة على الحرة الكتابية، على حين يرى أن "الأقرب إلى طريق المعنى أنه لا ينكح الأمة إذا وجد الحرة الكتابية". وانظر الروضة: 7/ 129. (5) عبارة النسختين: فمما ذكروه على أن القادر على أن ... (6) المذهب -حقاً- كما قال النووي: أن من قدر على التسرّي لا ينكح الأمة. (ر. الروضة: 7/ 131).

حرائر، وكان يملك أمة، فعكف عليها (1)، وعطّل الحرائر؛ فلا معترض عليه من [جهتهن] (2)، ويعتضد هذا الوجه -على بعده- بالآية؛ فإليها الرجوع، وليس فيها للتسري ذكر. 8065 - ولو كان للرجل حرة منكوحة، وهي غائبة عنه، وهو يخاف على نفسه العنت، ولا يتوصل إلى الحرة لعائقٍ ناجز، فليس له أن ينكح أمة؛ فإن الأمة لا سبيل إلى إدخالها على نكاح حرة - إذا كان صاحب الواقعة حراً. فإن أراد التوصل إلى نكاح أمة، فليُطلّق الحرة (3). 8066 - وكذلك لو كانت (4) الحرة، ولكن كانت هِمَّةً (5) هرمةً، لا يتأتى [التمتع] (6) بها، فلا يجوز أن ينكح أمة، ما دامت الحرة في حِبالته (7). فإن أراد نكاح الأمة، فليطلّق الحرة. 8067 - ولو وجد مالاً ولم يجد حرة ينكحها؛ فله أن ينكح أمة؛ فإن المال لم يعتبر في هذا الباب لنفسه، وإنما اعتبر لجهة كونه ذريعة موصِّلة إلى نكاح الحرة، فإذا كان لا يتأتى هذا، فوجود المال كعدمه. 8068 - ومما ذكره الأصحاب: أنه لو لم يجد الرجل حرة، ولكن لو سافر، لوجد حرة، قال الأصحاب: إن كان يناله مشقة ظاهرة في المسير إليها؛ فلا نكلفه

_ (1) عبارة ت 3: فعكف عليها لا يتزوج وعطّل ... (2) في النسختين: جهتين. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. (3) لم يرجح النووي بين الوجهين، ولكنه اكتفى بقوله: "الأصح عند صاحب المهذب والقاضي حسين أنه له أن ينكح الأمة، وبه قطع ابن الصباغ وجماعة من العراقيين، وأما الإمام (إمام الحرمين) فقد قطع بالمنع وكذا الغزالي والبغوي". (ر. الروضة: 7/ 129). (4) لو كانت الحرة: كان هنا تامة، فالمعنى: لو وجدت. (5) همة: الهِمّ: الشيخ الفاني، والأنثى همّة، وهما بكسر الهاء (المصباح). (6) في النسختين: التعطف. (7) حِبالته: أي في عقدة نكاحه وميثاقه. والحبالة بكسر الحاء في الأصل: شبكة الصائد ومصيدته، عبر بها مجازاً (المعجم).

ذلك، وله أن ينكح أمة، وإن كان لا يناله مشقة معتبرة، فلا ينكح أمة؛ فإن اراد النكاح، قصد الحرة (1). 8069 - ولو كان للحر مال غائب، وهو لا يتوصل إليه إلا بعد زمان متطاول، والحاجة ماسة، والعنت غير مأمون، فله أن ينكح أمة، وليس وجود المال بمثابة وجود الحرة في حِبالته؛ فإن الحرة يتأتى تطليقها، والمال الكائن في [ملكه] (2) لا نكلفه قطع ملكه عنه. وقد تعسر فرض طريق شرعي. 8070 - ومن قواعد الفصل: أنه لو لم يجد طَوْل حرة، ولكنه صادف حرة تسمح ببعض المهر، أو ترضى بمقدار من المهر؛ فلو ثقلت عليه المِنّة، فهل له أن ينكح أمة؟ فيه اختلاف مشهور بين الأصحاب: فمنهم من لم يوجب عليه تقلّد المِنّة، وأباح له نكاح الأمة. ومنهم من لم يبح له نكاح الأمة (3). وهذا هو الذي اختاره الصيدلاني، واعتل بأن العادة قد جرت بالتزويج بأقل من مهر المثل، لأغراض في المواصلات، وليس هذا مما تعظم المِنّة فيه، بخلاف بيع [الماء] (4) بالغبن؛ وذلك أن الغرض [من] (5) الأموال، المالية المحضة؛ فالمحاباة في الثمن حط من عين المقصود، وفي النكاح أغراضٌ سوى المال؛ فيخف قدر المال. ولو كانت الحرة ترضى بمهرها مؤجلاً، وكان صاحب الواقعة معسراً، فنجعله فاقداً لطَوْل الحرة (6)؛ فإن الطَّلِبة -وإن كانت لا تتوجه [بالمهر] (7) في الحال-

_ (1) قصد الحرة: أي سافر إليها. (2) في النسختين: في ملك. (3) وهذا الوجه هو المذهب (ر. الروضة: 7/ 130). (4) في النسختين: "المال"، والمثبت من تقدير المحقق؛ فإنه يشير إلى ما قرره في التيمم من أنه لا يُكَلّف الإنسان تقلّد مِنَّة إذا وجد من يرضى ببيع الماء له بأقلَّ من ثمنه. هذا، وقد جاءت (صفوة المذهب) بما في النسختين. فالله أعلم بما أراده الإمام. (5) في النسختين: عن. (6) وهذا أيضاً هو المذهب (السابق نفسه). (7) زيادة من (ت 3).

فستنقضي المدة، وسيطالب عند حلول الأجل. فإن قدّر مقدّر له يساراً، فذاك متوقع، ولا نكلفه [الالتزام] (1) على توقع اليسار. وكذلك إذا وجد السافر الماء معروضاً على البيع (2)، وكان يباع بالثمن المؤجل، وليس له مال؛ فلا نكلفه ابتياع الماء بالثمن المؤجل، بناء على انتظار وجدان وفاء في الثمن. فهذه المسائل نقلناها على وجوهها، ونحن الآن نرجع إلى تتبع مواقع السؤال ونبحث عن مواضع الإشكال جهدنا، والله ولي التوفيق. 8071 - فأول ما نوجه البحث عليه، القول في العنت وخوفه، وقد فسر الفقهاء العنت بالزنا. وهذا يستدعي مزيد كشف. فإن كانت الشهوة فاترة، وكان (3) صاحب الواقعة يُبعد من نفسه -لدينٍ أو حياءٍ، أو رعاية مروءة- اقتحامَ السفاح؛ فهذا غير خائف من العنت، فلا يحل له نكاح الأمة. وإذا لاح ذلك، فحيث ينحسم إمكان الوقاع أولى بالتحريم. والحر المجبوب لا يتصوّر منه الوطء -لا مستباحاً ولا سفاحاً- فلا يحل له نكاح الأمة قط. ولو اغتلمت النفس (4)، وتشوّفت الشهوة ورقّ عصام التقوى، فهذا خائف من العنت. وإن تاقت النفس، وكان الرجل مستمسكاً بالتقوى عليه، وأَمِن وألِف صنع الله تعالى في عصمته، فهذا يبعد منه أن يتمضخ بوضر الزنا، ولكنه قد (5) يتأذى، وقد يُفضي الأمر إلى إعلال، فهذا محل التردد: يجوز أن يقال: لا يحل له نكاح الإماء؛ لأنه يفضي إلى إرقاق المولود؛ فلا يجوز التسبب إليه بسبب قضاء وطر، أو غضّ

_ (1) في النسختين: الإلزام. (2) المراد ابتياع الماء للوضوء والاختيار بينه وبين التيمم. (3) كذا في النسختين، ولعل الصواب (أو). (4) ولو اغتلمت النفس: اغتلم: أي اشتدت غُلمته، وهي الشهوة للجماع (المعجم). (5) ت 3: كان يتأذى ولكنه يفضي الأمر.

شهوة. وإن كان يخاف الوقاع في السفاح، [فوقْعُ] (1) هذا المخوف عظيم، والإيلاد ليس مستيقناً، فأثبت الشرع نكاح الإماء مع ما فيه من الإفضاء إلى إرقاق الأولاد. هذا وجه. ويجوز أن يقال: إذا كان ترك الوقاع يجرّ ضرراً، وقد يجلب مرضاً، فيسوغ نكاح الإماء، وإن كان الغالب على الظن عدمُ الوقوع في السفاح، والعنت في حقيقة اللغة هو المشقة، وهو كناية في الزنا. وإن لم يكن خوفُ مرض ولا خشية بالوقوع في الزنا؛ فمحض التوقان وغلبة الشهوة لا يسلط على نكاح الإماء، لما فيه من [التسبب] (2) إلى إرقاق الأولاد. وما ذكرناه من خوف الزنا؛ لم نعن به غلبة الظن في وقوعه، بل المعنيُّ به توقع وقوعه، لا على سبيل الندور، والشهوة إذا اغتلمت [غلاّبة] (3) للعقل، والذي لا نصفه بالخوف لا نبغي تقدير العصمة فيه على علم، ولكن غلبة الظن بالتقوى والانكفاف ينافي الخوف، وغلبة الظن ليست شرطاً في تحقيق الخوف من الوقوع في الزنا. وهذا يتضح بضرب مثال: فإذا غلب الأمن في بعض الطرق، وُصف به، وإن كنا لا نقطع به، وإن كان وقوع المحذور يعارض السلامة، فهذا يعدّ مخوفاً، وإن كان لا يغلب على الظن الخوفُ. فهذا وجه البحث عن خوف العنت. 8072 - ومما يجب البحث عنه ما أجريناه في أثناء المسألة في تصوير غيبة الحرة المطلوبة المخطوبة، فإن الذي ذكره الأصحاب فيه أنه إن كان يناله مشقة، فلا نكلفه السفر، ويجوز له أن ينكح الأمة، وهذه المشقة مبهمة، ونحن نقول فيها: إن كان يخاف الوقوع في السفاح في المدة التي يقطع فيها المسافة؛ فينكح ناجزاً. وإن كان لا يخاف ذلك -على ما مضى تفصيل الخوف نفياً وإثباتاً- ولكن كان يناله مشقة في

_ (1) في النسختين: فموقع. (2) في النسختين: السبب. (3) في النسختين: علامة العقل.

بدنه، ويمكنه أن يتماسك في المدة التي يقطع في مثلها تلك المسافة، غير أنه يتضرر في بدنه؛ فهذا محل التأمل. فلا مطمع في ربط هذا بالسفر الذي يتوفر عليه الرخص، حتى يقال: إذا كان يحتاج إلى قطع مسافة القصر، لم نكلفه ذلك؛ مصيراً إلى أن السفر مظنة المشاق فيه؛ ولذلك تعلقت الرخص بها جمعاً وقصراً وإفطاراً؛ فإن معنى المشقة ليس معتبراً في الرُخص في تفصيل المسائل. وإنما نذكر [هنا] (1) معنىً كلياً، والمعاني المعتبرة فيما (2) نحن فيه مرعيّة في آحاد الأشخاص، وحق الفقيه أن يفرق بين ما يعتبر فيه صفة كل شخص، والأمر مبني على انقسام الأشخاص لاختلاف صفاتهم، وبين معنى كلي لم يلتفت فيه على الأشخاص، فعين السفر لا نعتبره، بل نعتبر ما ينال كلَّ شخص من المشقة، وذلك يتفاوت تفاوتاً بيّناً. 8073 - فإذا وضح هذا، رجع النظر إلى المشقة المعتبرة، وتقريب القول فيها. والغرض لا يبين منه إلا بتقديم أصل عليه، مقصودٍ في نفسه؛ فنقول: إذا كان الرجل ذا يسار وثروة، وكانت ذات يده وافية، ولكن كانت الحرة تغالي بمهرها، ولا ترضى بمهر مثلها؛ فهل يجوز نكاح الأمة بسبب مسيس الحاجة إلى بذل مزيد في مهر المثل؟ [وقد] (3) تمهد في باب التيمم أن الماء إذا كان يباع بوكيسة (4) درهم فأقل؛ فيجوز الانتقال إلى التيمم. ولا ينبغي أن ينظر الناظر إلى هذا الأصل، ويُنزل الأمة مع الحرة منزلة التراب مع الماء، والسبب فيه أن الغرض الأظهر من النكاح المستمتَع [و] (5) المواصلة؛ ولا يعد مَنْ بذل أدنى مزيد على مهر المثل مغبوناً، بل قد يحتمل هذا لأغراض في مقابلته؛ فإذا وفت الثروة، فكان المقدار الزائد على مهر المثل بحيث يعدّ [باذله متكرّماً] (6)، ويحمل على الأغراض الصحيحة؛ فلا يسوغ نكاح الأمة

_ (1) في النسختين: هذا. والمثبت تقدير منا. (2) ت 3: في أمثال ما نحن فيه. (3) في النسختين: فقد. (4) بوكيسة درهم: أي بغبينة درهم، فمن معاني الوكس الغبن، وهو المراد هنا (المعجم). (5) زيادة من المحقق. (6) في النسختين: نازلة تكرّماً.

ببذل هذا المقدار في مهر الحرة مع وفاء القدرة والثروة. فإن كان ما تطلبه الحرة [المغاليةُ] (1) خطيراً بحيث يعدّ بذله سرفاً، فلا يحال على إمكان غرضٍ [يعدل] (2) المبذول، فإذا انتهت المغالاة إلى هذا الحد، فالوجه تجويز نكاح الأمة، وإن وفت ذات اليد بإجابة المغالية. وينشأ مما نحن فيه أمر كثير الوقوع في الوقائع: فالأب إذا زوّج ابنته بدون مهر مثلها، فالذي أطلقه الأصحاب أنه يثبت مهر مثلها كَمَلاً بالعقد، وليس يبعد عن الاحتمال عندنا أن يُحتمل الحط القريب إذا أمكن حمله على رعاية غرض. وكذلك إذا زوّج من ابنه امرأة بأكثر من مهر مثلها، وكان لا يبعد حمل ذلك الزائد، فلا يمتنع الحكم بثبوته. ولست قاطعاً بما ذكرته من جهة النقل، ولكنه احتمال بيّن. وكيف يمتنع خروجه على المذهب، وقد نقلنا قولاً أن الأب إذا زوّج ابنته ممن لا يكافئها، فنقضي بلزوم تزويجه؟ وهذا أبعد من حطيطة قريبة في المهر. فإذا تمهد هذا عدنا إلى بيان المشقة التي أبهمها الأصحاب عند الحاجة إلى السفر إلى الحرة، فنقول: حقها أن تعتبر بالزائد في المهر. والتقريبُ فيه: أن المشقة إذا كانت بحيث لا ينتسب محتملها إلى مجاوزة الحد في طلب زوجة، فهي محتملة. وإن طالت الشُّقة، وعظمت المشقة، وكان مثلها لا يحتمل في طلب حرة، فهذه المشقة معتبرة، وهذا يحتاج (3) إلى مزيد نظر، وهو: أن من يبغي حرة بمبلغ زائد على مهر المثل، فتلك الزيادة تقابل بغرض مطلوب. وفي مسألة الحرة والأمة غرض مطلوب مع إضرار يلحق الولد، وهذا يشعر باشتراط مزيد في ترتيب هذا التقريب. فهذا منتهى الإمكان. وما نحن فيه ينقسم إلى ما يتم فيه [انحسام] (4) النظر، وإلى ما يُبقي فيه لنا

_ (1) زيادة من (ت 3). (2) في النسختين: "بعد". (3) سقطت من (ت 3). (4) في النسختين: انقسام. والمثبت تقدير منا.

مضطرباً، ولنا حق السبق بالإرشاد إلى الطريق. 8074 - ثم نختتم الفصل بما صدرناه [به] (1) ونقول: نكاح الحر الأمةَ مخصوص بظهور الحاجة، وإذا كان كذلك، لم يجز للحر أن يزيد على أمة واحدة؛ فإنها يُكتفى بها وتنسد حاجته [بالتمكن] (2) منها، ثم لا يقع الاكتفاء برعاية الحاجة المحضة؛ فإن الحر إذا كان تحته حرة، وبقي لا يتمكن من وقاعها، فليس له أن ينكح أمة، وإن كانت الحرة الرتقاء لا تسد حاجة [فلسنا] (3) ننكر امتناع إدخال الأمة على الحرة. ولو نكح أمة فإذا هي رتقاء، فما قدمناه من القياس يمنعه من نكاح أمة أخرى، حتى يطلّق الأولى؛ فليس يسمح أحد من أئمة المذهب بإدخال أمة على حرة، كيف فرضت الأمة. وإدخال الأمة على الأمة بهذه المثابة. فإذا أراد نكاح أمة أخرى، فليطلّق الأولى. وكل ما ذكرناه، في الحر إذا أراد أن ينكح أمة. 8075 - فأما العبد، فله أن ينكح أمة بإذن مولاه وإن تمكن من نكاح حرة، لم يختلف المذهب فيه، وتعليله مشكل فيه؛ [فإن] (4) الحر مأمور بالنظر لولده، وإنما يتوجه مثل هذا الخطاب على من يجوز أن يكون ناظراً، والعبد ليس من أهل النظر لولده الموجود، فكيف يناط به النظر للمفقود؟ وينضم إلى ذلك أن العبد لا خِيَرة له. فلا [احتكام] (5) للشرع عليهِ من أن يتخير، ثم الحرة في حق العبد كالأمة، فله أن ينكح أمة على حرة، وله الجمع بينهما في عقدة، وله نكاح أمتين، ولا فرق في حقه بين الحرائر والإماء. والمكاتَب كالعبد إذا كان ينكح، ومن نصفه حر ونصفه عبد كالعبد القن، كما أن من نصفها حرة ونصفها رقيق كالأمة.

_ (1) في النسختين: فيه. ولعل ما أثبتناه الصواب، فهو اختيار منا. (2) في النسختين: التمكين. (3) في النسختين: ولسنا. (4) في النسختين: أن. (5) في الأصل: أحكام.

ولو نكح الحر -الذي يجوز له نكاح الأمة- جارية نصفها حر ونصفها رقيق، فحكم ولده منها في الحرية والرق كحكمها، فولد الحرة حر، وولد الرقيقة رقيق، وولد المتبعضة في الرّق والحرية متبعض؛ إذ ولد كل ذي رحم بمثابتها. 8076 - وإذا تمكن الحر من نكاح جارية - نصفها حر، فهل له أن ينكح أمة كاملة الرق؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أن إرقاق بعض الولد أقرب من استغراقه بالإرقاق (1). والعلم عند الله تعالى. ومن نصفه حر ونصفه عبد، ينكح أمةً مع القدرة على نكاح حرة. اتفق عليه الأصحاب؛ لأن ما فيه من الرق حطَّه (2) عن الكمال وأخرجه عن الولاية، وليس من أهل النظر، فلا يؤاخذ بتخير حرة. فلينظر الناظر فيما نلقيه إليه، فإن كان يخطر له أن منع الحر من الأمة لكمال الحر حتى لا يقدم على ناقصة، وبنى عليه أن فيمن نصفه حر بعض الكمال، قيل له: هذا. غير سديد مع تجويزنا للحرة أن تنكح عبداً على كمالها، وجانبها أولى برعاية هذا المعنى، ولهذا حصرنا اعتبار الكفاءة في جانبها، فمنعنا تزويج كريمة من خسيس، ولم نمنع تزويج خسيسة من كريم، ومع هذا لم يمتنع نكاح العبد الحرة إذا رضيت ورضي أولياؤها. 8077 - الحر (3) إذا جمع في عقد واحد بين حرة وأمة، نظر: فإن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء، فلا شك في بطلان نكاح الأمة، فأما نكاح الحرة، فقد قطع الشافعي قوله في القديم بصحة نكاحها. وقال في الجديد: "وقد قيل: يثبت نكاح الحرة وينفسخ نكاح الأمة. وقيل: ينفسخان معاً" (4)؛ فحمل الأصحاب هذا على ترديد القول في الجديد؛ واتفقوا على طرد قولين في المسألة: أحدهما - أن النكاح

_ (1) هذا هو الأظهر عند الإمام، والنووي حكى تردّد الإمام، وحكى عن بعض الأصحاب أنه كالرقيق، ولم يرجح أيهما (الروضة: 7/ 132). (2) ت 3: حظه عند. (3) في هامش الأصل: كلمة (فصل) إشارة إلى أن هذا بدء فصل جديد. (4) ر. المختصر: 3/ 285.

يصح في الحرة (1)، وهو القياس؛ لأن الفساد إن اعتقد مجيئه من جهالة الصداق، فهو محال؛ فإن النكاح لا تفسده جهالة الصداق، وإن قدّر مقدِّر الفساد من الجمع في لفظ واحد بين ما يفسد ويصح، فهذا غير صحيح؛ فإن العقد ينعقد بمعنى اللفظ لا بصورة اللفظ، والحرة متميزة في معنى اللفظ عن الأمة. وعبّر المزني عن هذا، فقال: نكاح الحرة قائم بنفسه، أراد أنه لا تعلق له بنكاح الأمة؛ فإذا [قام] (2) بنفسه، لم يفسد بفساد غيره، وآية هذا: أن النكاح لا تفسده الشروط الفاسدة، على ما سيأتي تفصيلها في بابها، إن شاء الله عز وجل؛ وأثر الجمع في اللفظ دون أثر الشرط؛ فإن الشرط متعلق بالمشروط، ولا تعلق للشيء بما ينضم إليه ذكراً. والقول الثاني - إن النكاح يفسد في الأمة والحرة جميعاً؛ لأن العبارة عنهما جميعاً واحدة؛ والمعنى لا يتأدى إلا بالعبارة، والعبارة الشاملة لو أسقطت بعضها لم يستقل الباقي، ففساد بعضها كسقوط بعضها. وهذا [خيال] (3). والأصح: القول الأول. والوجه (4) عندي القطع بما قطع به في القديم؛ لما ذكرناه في توجيهه. ويتجه حمل قول الشافعي: "وقيل" على حكاية مذهب [الغير] (5)؛ إذ لا يليق بمسلكه في الجديد ترديد القول في صحة النكاح في الحرة مع قيامه بنفسه، كما تقدم تقريره. هذا إذا جمع بين الحرة والأمة، وهو ممّن لا يجوز له نكاح الأمة.

_ (1) قال الرافعي هذا الوجه هو الأصح، وقال النووي هو: الأظهر. (الشرح الكبير: 8/ 13، والروضة: 7/ 133). (2) في النسختين: أقام. (3) في النسختين: احتيال (بالمهملة) ولعل ما أثبتناه هو الصواب، فهو الأشبه بلغة الإمام. (4) ت 3: والأوجه. (5) زيادة من (ت 3).

8078 - فإن رضيت الحرة بمهر أمة، وقلنا: يجوز له نكاح أمة، فهذا (1) حر يتأتى منه الإقدام على نكاح الحرة ويحل له نكاح الأمة. فإذا جمع بينهما، فلا شك أن النكاح لا ينعقد على الأمة؛ إذ لو انعقد النكاح عليها، لا نعقد على الحرة؛ ثم هذا يؤدي إلى الحكم بانعقاد [نكاح] (2) الأمة مع ثبوت نكاح الحرة. ولو جاز هذا، لجاز إدخال الأمة على الحرة. فإذا بان أن النكاح لا ينعقد على الأمة، فهل ينعقد على الحرة؟ ذكر أصحابنا طريقين: منهم من قطع القول بفساد النكاح على الحرة؛ لأن الجمع بينهما غير [سائغ] (3) والإقدام على نكاح كل واحدة منهما جائز، وكأن الجمع بينهما بمثابة الجمع بين الأختين. وهذه الطريقة مزيفة؛ فإنا إنما نحكم بإبطال نكاح الأختين؛ إذ ليست إحداهما أولى من الأخرى، والجمع غير ممكن. والحرة إذا جمعت مع الأمة، فهي ممتازة عن الأمة، بدليل أن الحرة تنكح على الأمة، والأمة لا تنكح على الحرة. ومن أصحابنا من أجرى في صحة نكاح الحرة قولين، ورتبهما على القولين في الصورة الأولى. والأصح (4) عندنا: القطع بانعقاد النكاح على الحرة في الصورتين.

_ (1) ت 3: فهو. (2) زيادة من (ت 3). (3) في النسختين: ضائع. (4) لم يرجح الرافعي والنووي -شيخا المذهب- بين الطريقين، ولا بين القولين، فقد قال الرافعي: "وفي نكاح الحرة طريقان: أظهرهما عند الإمام، وبه قال صاحب التلخيص أنه على قولين كما في القسم الأول. وقال ابن الحداد، وأبو زيد، وآخرون: يبطل جزماً؛ لأنه جمع بين امرأتين لا يجوز له الجمع بينهما، ويجوز له نكاح كل واحدة منهما وحدها، فيبطل النكاحان، كما لو جمع بين الأختين". (ر. الشرح الكبير: 8/ 63، 64). وقال النووي: وفي الحرة طريقان: أظهرهما عند الإمام وبه قال صاحب التلخيص أنه على القولين. وقال ابن الحداد، وأبو زيد وآخرون: يبطل قطعاً ... إلخ (ر. الروضة: 7/ 134).

ولم أتعرض لمهر الحرة، إذا حكمنا بانعقاد النكاح عليها؛ فإن ذاك من الأصول الحسابية في الصداق، وكتابه بين أيدينا، إن شاء الله عز وجل. 8079 - ولو قال: زوّجتك ابنتي وبعتك هذا الزق [من] (1) الخمر بألف درهم، فالذي قطع به المحققون صحة النكاح (2)، لامتيازِ البيع في وضعه عن النكاح، ولأن النكاح خُص بعبارة مستقلة مفردة، ولا يتأتى التعبير عنهما إلا كذلك، وقد ذكرنا أنه لا وجه لإفساد النكاح في الجمع بين الحرة والأمة إلا اتحاد العبارة، كما تقرر، فإذا انفرد النكاح بصيغة، لم يبق [للإفساد] (3) وجه. ومن الأصحاب من أجرى في فساد النكاح قولين. وهذا ساقط من الكلام غير معتد به. ولو قال: زوّجتك ابنتي هذه، وزوجتك أمتي هذه. فقال المخاطَب: قبلت نكاح ابنتك، وقبلت نكاح أمتك؛ فلا خلاف في انعقاده على البنت؛ لأن تزويجها وقبولها متميزان عن تزويج الأمة وقبولها. ولو فصل المزوج كما صوّرنا، فأتى المخاطَب بعبارة واحدة في قبولهما، وقال: قبلتهما؛ أو قبلت نكاحهما، فالأصح القطع بصحة النكاح على الحرة. ومن أصحابنا من أجرى هذا مجرى ما لو قال المزوّج: زوجتكهما، وقد مضى الكلام فيه. 8080 - ثم ذكر الأصحاب صوراً في الجمع وفاقاً وخلافاً لا يخفى مُدركها: فإذا نكح الرجل خمس نسوة أجنبيات في عقدة، بطل النكاح بهن بالتدافع، كما لو جمع أختين أو أخوات في عقدة. ولو تزوج أربع نسوة وفيهن أختان؛ فنكاح الأختين باطل، وفي نكاح الأخريين قولان، على ما ذكره الأصحاب تخريجاً على التفريق، كما قدمناه في الجمع بين الحرة والأمة، والقولان يجريان فيما لو جمع بين خلية من العدة [ومعتدة] (4) في عقدة.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) هذا هو المذهب، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 135). (3) في النسختين: إلا فساد. (4) في الأصل: معدّة.

ولو نكح خمساً فيهن أختان، بطل النكاح في الأختين، وفي الثلاث القولان. وليس يخفى قياس ذلك، ولسنا للإطناب في مثله. ولو جمع بين أم وابنتها، فهو كذلك، كما لو جمع بين أختين. فإن قيل: الأم تحرم بالعقد على البنت، والبنت لا تحرم بالعقد على الأم؟ قلنا: ذاك افتراق في تحريم الأبد، ولسنا نحتاج إليه، وبين الأم وابنتها من تحريم الجمع ما بين الأختين؛ فالافتراق -وذلك فيما يتعلق باثبات الصهر والمحرمية- لا وَقْع له في هذا المقام. فصل 8081 - قد ذكرنا أن الأمة الكتابية لا يحل للحر المسلم نكاحها، وظاهر نص الشافعي أنها كما لا تحل للحر المسلم، لا تحل للعبد المسلم. قال الشافعي: "العبد كالحر في أنه لا يحل له نكاح أمة كتابية". وقد ذكرنا في ذلك تخريجاً عن ابن خَيْران (1) في الحكاية التي أثبتناها عن الماسَرْجِسِي، ومسلك التخريج: أن الرق غير معتبر ولا مؤثر في حكم العبد، فلتكن الأمة الكتابية، في حقه بمثابة الحرة الكتابية، وهذا متجه على هذه القاعدة من طريق المعنى. وذكرنا هذا التخريج في تزويج الأمة الكتابية من الحر الكتابي، ووجهه أخفى قليلاً في حقه منه في حق العبد المسلم؛ فإن الذي نذكر في هذه الصورة أن كفرها لا يؤثر في حق الكافر، وهذا ليس بذاك؛ فإنا كما لا نتزوج الوثنية لا نزوّجها من وثني. ولو أراد مسلم أن ينكح أمة مسلمة لكافر إذا كان عادماً للطوْل خائفاً من العنت، فالمذهب

_ (1) الموضع الذي يشير إليه هو: فصلٌ "ولي الكافرة كافر" والمذكور هناك هو (ابن أبي هريرة)، وليس ابن خَيْران!! فأيهما الصواب؟ قلتُ: وقد رأيت الرافعي توقف في هذه القضية كما توقفنا، فقد قال ما نصه: "ورأيت الإمام (أي إمام الحرمين كما قد صار معروفاً) نقل الخلاف في الصورتين في حكايةٍ أسندها إلى أبي الحسن الماسَرْجسي عن تخريج ابن أبي هريرة تارة، وابن خيْران أخرى، والله أعلم". ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 8/ 62).

الصحيح [النظر] (1) إلى صفة المنكوحة. ومن أصحابنا من منع ذلك، صائراً إلى أن نكاحها يفضي إلى إرقاق الولد المسلم (2). وهذا ليس بالقوي، وأجمع المحققون على أن الحر المسلم لا ينكح أمة كتابية لمسلم، وإن كان النكاح يفضي إلى إرقاق الولد [لمسلم] (3). وذكر الخلافيون في ذلك وجهاً، نظراً إلى من يحصل الولد رقيقاً له، فانتظم من مجموع ما ذكرناه مسلكان: أحدهما - أن الأمة الكتابية كالمرتدة، لا يحل لأحد نكاحها. والثاني - أنها ليست كالمرتدة، وقد تحل لبعض الناس. ونصُّ الشافعي فيما مضى دليل عليه؛ فإنه قال: "لا يلي المسلم كافرة إلا أن تكون أمة". ومن ضرورة هذا تصور نكاحها على الجملة. ونصَّ هاهنا على أن العبد المسلم لا ينكح أمة كتابية، ولعل ابن خَيْران (4) ذكر ما حكيناه من القولين عن اختلاف هذين النصين. ثم إن جوّزنا نكاحها على الجملة، فقد ذكرنا التفصيل فيمن يُنكحها. فصل قال: "ولو تزوّجها، ثم أيسر ... إلى آخره" (5). الحر إذا خاف العنت، وعدم الطَّول، فنكح أمة، ثم أيسر واستغنى، لم تحرم عليه الأمة، ولم ينقطع نكاحها. 8082 - وذهب المزني إلى أنه إذا طرأ اليسار بعد نكاح الأمة، بطل النكاح، وكما يشترط في العقد ألا يكون واجداً للطول، فكذلك يشترط في دوام النكاح دوام هذا

_ (1) في الأصل: نظر، و (ت 3): ينظر. والمثبت تقدير منا. (2) إرقاق الولد المسلم: أي للكافر. (3) في النسختين: المسلم، والمثبت تصرّفٌ منا. (4) ت 3: ابن حيان. (5) ر. المختصر: 3/ 285.

المعنى (1). وقياسه أن من [نكح] (2) حرة على أمة، انقطع نكاح الأمة كما (3) انعقد نكاح الحرة. [ولا] (4) خلاف أن زوال خوف العنت لا يقطع نكاح الأمة؛ فإن النكاح إنما يُعنى [لذلك] (5)، فيستحيل أن ينقطع بما هو مقصود منه. وذكر بعض المشايخ أن طريان الغنى مما يتوقع بالنكاح، اعتصاماً بوعد الله تعالى؛ إدْ قال عز من قائل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} [النور: 32]. ثم ذكر (6) في آخر الباب محاجّة في الأمة الكتابية، وأشار إلى كراهية التزوج بالحربية، وقد تقدم القول فيهما. ...

_ (1) لم أصل إلى هذا من كلام المزني في المختصر. (2) في النسختين: ينكح. (3) كما: بمعنى عندما، وقد تكرر هذا في الأجزاء الأولى كثيراً، وهو استعمال قال عنه النووي: ليس بصحيح، وليس بعربي، وقد بينا ذلك أكثر من مرة. (4) في النسختين: فلا. (5) في النسختين: "كذلك". والمثبت تقدير منا. (6) أي المزني في المختصر (ر. جزء 3 ص 285).

باب التعريض بالخطبة

باب التعريض بالخطبة 8083 - التعريض بالخِطبة جائز في عدة الوفاة، ولا يجوز للأجنبي أن يعرّض بخطبة الرجعية في العدة. وذكر الأصحاب في تحريم ذلك معنيين: أحدهما - أنها زوجة، فلا يجوز للغير التعرض لها، تعريضاً ولا تصريحاً. والثاني - أنها تكون متغيرة حنقة على زوجها، فقد يحملها ذلك على خُلفٍ (1) في ادعاء انقضاء العدّة. وأما المعتدة عن الطلاق المُبين، فقد ذكر أصحابنا في جواز التعريض وجهين مبنيَّين على المعنيين المذكورين في الرجعية؛ فإن قلنا: المعنى في الرجعية أنها زوجة، فهذا المعنى مفقود في الثانية، فيجوز التعريض بخطبتها، وإن قلنا: المعنى في الرجعية أنها حنقة متغيظة، فهذا المعنى يتحقق في الثانية؛ فيحرم التعريض معها. وهذه مراسم يذكرها الأصحاب في ضبط المسائل، وإلا فالغرض أن الرجعية لا يجوز التعريض بخطبتها؛ لأنها زوجة، وهذا المعنى كافٍ مستقل لا حاجة معه إلى آخر، والثانية فيها تردد. والوجه: توجيه الوجهين فيها بقياسها في أحدهما على المعتدة عدة الوفاة. والفرق بينها وبين المتوفى عنها في الوجه الثاني بما أشرنا إليه؛ فإن المتوفى عنها لا تكون حنقة على زوجها، وعدتها أيضاًً بالأشهر والأيام وتاريخ الموت لا يخفى، فلا يفرض في عدتها لبس إلا على بُعد. ثم (2) صفة التعريض: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت

_ (1) الخلف بضم الخاء: اسم من أسماء الكذب. (المعجم). (2) ت 3: إلا على تقديم صفة التعريض.

قيس: "إذا حللت فآذنيني" (1) أي إذا انقضت عدتك، فظنت أنه يريد أن ينكحها. ومِن صيغ التعريض أن يقول: "ربّ طالب لك" أو "رُبَّ راغب فيك" أو "من يجد مثلك؟ ". والمرأة تجيبه تعريضاً إن أرادت، فتقول: "لستَ بمرغوب عنك" أو ما في معناه. والصريح أن يقول: أريد أن أنكحك. والتصريح بالخطبة ليس مكروهاً، ولكنه محرّم باتفاق من الأصحاب. ثم يجوز التعريض سراً وعلانية، وقال داود: لا يجوز سراً لقوله تعالى: {وَلَكِن لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] قال الشافعي: معناه: لا تذكروا صريح اسم الجماع، والسر من الأسماء المشتركة، ومن معانيه الجماع نفسه؛ أورده ابن السكيت (2) في الإصلاح (3)، وهو مشهور عند أهل اللسان. ...

_ (1) جزء من حديث فاطمة بنت قيس، رواه مسلم: الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، ح 1480، وانظر (التلخيص: 3/ 314 ح 1596). (2) ابن السكيت: يعقوب بن إسحاق، أبو يوسف، إمام في اللغة والأدب ت 244 هـ (الأعلام للزركلي). (3) الإصلاح: المراد به كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت، وهو مطبوع معروف.

باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه

باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه 8084 - روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" (1) وقد روي هذا النهي مقروناً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه". فالخطبة على الخطبة محرّمة في النكاح، والسَّوْم على السوم محرم في البيع. وقد مضى في كتاب البيع السوم على السوم، وطرف من الخطبة على الخطبة، ونحن نستقصي، إن شاء الله عز وجل - في هذا الباب تحريم الخطبة على الخطبة، ونذكر ما يتعلق منها بالسوم [على السوم] (2) فنقول: 8085 - الخطبة والسَّوْم قد يتفقان وقد يختلفان: فاتفاقهما في أن الرجل إذا خطب امرأة، فأجابت؛ حرم على الغير خطبتها، وكذلك إذا ساوم رجلاً سلعة بمبلغ من الثمن، وأجابه (3)، حرم على الغير السوم على سومه. هذا إذا طلب المشتري، فأجيب. ومن هذا القبيل: أن يعرض الرجل سلعته على إنسان بمبلغ من الثمن، ويتوافقا على المقدار، فإذا دخل آخر وعلم ما جرى، فعرض سلعة أخرى بمثل ذلك الثمن، أو بأقلّ، فقد يرغب المشتري في السلعة الثانية، فيكون ذلك إفساداً لمقصود الأول، فيحرم ذلك، ويندرج كل هذا تحت النهي عن (4) السوم على السوم. وقد يختلف البابان لاختلاف الصور.

_ (1) حديث ابن عمر: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 327 ح 892). (2) زيادة من (ت 3). (3) ت 3: فأجابه. (4) ت 3: على.

فإذا صادف الرجل سِلعة بيد (1) من يريد بيعها، فإذا طلبها مستام، فقد يزيد غيرُه، فيعلم أنه على المزايدة (2 فلا يمنع 2) ولا يتصور مثل هذه الصورة في الأبضاع. ولو طلب الرجل سلعة مستاماً (3 فرضي مالكها 3)، ثم إن المشتري فارقه لا عن عِدَةٍ، فقد قال أصحابنا: للغير أن يستام في هذه الصورة، لأن مفارقته دليل على أنه أعرض عن طلبه، ولو استمر عليه، لواعد صاحبَه، وأوصاه بألا يبيعه. وإذا خطب الرجل امرأة، فأجيب وأُسعف، فسكت (4) وانصرف إلى منزله، فليس للغير أن يخطب على خطبته. وكل واحد من البابين مُقَرٌّ على العادة المعتادة فيه؛ فإن من يُسعَف بالخطبة فقد [يستأخر] (5) اليوم واليومين، ولا يعدّ ذلك إعراضاً، ثم إن طال انقطاعه -بحيث يعد ذلك إعراضاً- فحينئذ نحكم ببطلان الخطبة الأولى، ويجوز للغير أن يخطب. ولو خطب امرأة فرُدّ، فللغير أن يخطبها. ولو خطب امرأة ولا يُدرى أنه أجيب أو رُدّ، فللغير (6) أن يخطبها؛ فإنه إذا لم يتبين أنه أجيب [أو] (7) قطعت الخطبة، لما ازدحم الخطّاب على المرأة، والدليل على ذلك من جهة الخبر ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس - وهي معتدة "إذا حللت فآذنيني"، قالت: فلما حللتُ أخبرتُه، وقلت: إن أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال: "أما معاوية، فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة". قالت: فكرهت ذلك، ثم لم أجد بداً من أمر

_ (1) عبارة ت 3: فإذا صادف الرجل سلعة فيمن يريد فإذا طلبها ... إلخ وهكذا كانت نسخة الأصل، غير أنها صوّبت بقلم مخالف، وهذا يرد بها كثيراً مما يدل على أنها عورضت من قبل قارىءٍ آخر غير ناسخها. (2) ساقط من (ت 3). (3) ساقط من (ت 3). (4) سقط من (ت 3). (5) في الأصل: يسعف. والمثبت من (ت 3). (6) ت 3: فيجوز للغير. (7) في الأصل: لو.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به" (1). وإنما كرهت لأحد أمرين: إما لأنها كانت طمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن ينكحها، فلما لم يفعل، كرهت، أو لأن أسامة كان ابن مولى، ولم يكن من قريش، وإنما هو من بني كلب (2). وفي حديث زيد بن حارثة دليل على جواز استرقاق العربي. وهذا الحديث يتعلق به فوائد: منها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرّض بالخطبة وهي في العدة، لما قال "إذا حللت فآذنيني"، ثم صرح بعد انقضاء العدة، فدل ذلك على جواز التصريح بعد العدة، وجواز التعريض في العدة. ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطبة معاوية وأبي جهم، فاتجه أن يحمل هذا على أنه لم يعلم ما كان منهما، أو علم خطبتهما وعلم ترددهما، وهذا يفيد أصلاً في الباب، وهو: أن المرأة إذا كانت متوقفة في إجابة من خطبها، فلا يحرم على الغير خطبتها، وما كانت ردت الرجلين؛ فإنها لو ردتهما، لما ذكرتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويبتني على ذلك أن الثيب المستقلة إذا خُطبت، فأجابت؛ لم يكن للغير أن يخطُبها على الخِطبة الأولى. وإن ردّت، فللغير الخِطبة. وإن سكتت، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فقال الصيدلاني: في المسألة قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد- أن خِطبتها لا تحرم لذلك؛ فلا تعويل على سكوتها المتردد بين الرد والقبول، وحديث (3) فاطمة دالّ على ذلك؛ فإن الظاهر أنها ما ردّت وما أسعفت.

_ (1) جزء من حديث فاطمة السابق. (2) في حاشية الأصل: وقيل: إنها كرهت لسواده، والله أعلم. (3) هنا خلل في ترتيب صفحات المخطوط. حيث انتقلنا من آخر (152 ي) إلى أول (153 ش) ثم يستمر إلى آخر (162 ي) فيرجع إلى أول (152 ش).

قال: والمنصوص عليه في القديم (1): أنها إذا سكتت، تحرم الخِطبة على الغير، وهذا يعتضد بالعادة في الباب؛ فإن الغالب أن المرأة إذا خُطبت، لم تبادر بالإسعاف، وإنما تسكت، ثم تُراجَع مرة أخرى، أو مراراً. 8086 - ثم الاعتبار في الرد والإجابة بمن العقد إليه على سبيل الإجبار، أو بالمرأة - إن كانت مستأذَنة، وكان النكاح يفتقر إلى إذنها؟ وبيان ذلك أن [أَبَ البكر] (2) لما كان مُجبِراً، [فالمخاطَب بالخِطبة هو] (3)، ثم العبرة به في الرد والإجابة والسكوت، ولا أثر للمرأة في ذلك. وإن كانت ثيّباً؛ فهي المخطوبة، وإن كانت لا تتولَّى العقد، من جهة أنها الأصل. وإذا رضيت بكفءٍ [طلبها] (4)، حصل غرضها، فإن ساعدها الولي، فهو المراد، وإن خالفها، توصلت إلى غرضها من جهة القاضي، وكان الولي عاضلاً. 8087 - ثم حاصل المذهب أن من يُعتبر -على ما ذكرناه- إن صرح بالرد، فللغير أن يخطب. وإن صرح بالقبول، حرمت الخطبة على الغير. وإن سكت: فوجهان، أو (5) قولان. وإن لم يُدْرَ أخطبت أم لا؟ فليس على الذي يريد الخطبة أن يبحث؛ بل له الهجوم على الخطبة. وإن خُطبت، ولم يدر أن الخاطب أجيب أو رُدّ، فظاهر ما ذكره الصيدلاني أن الخطبة لا تحرم؛ فإنه استدل بحديث فاطمة، وهذه الحالة تتميز عما إذا فرض السكوت في مقابلة الخطبة؛ فإن ذلك (6) محقق والحالة التي ذكرناها - فيه إذا جوّزنا الرد وجوّزنا غيره. فهذا منتهى التفصيل. 8088 - فإن قيل: قد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد من خاطبَي

_ (1) حكى الرافعي والنووي القولين، ولكن الرافعي عكس الأمر، فوضع القديم مكان الجديد والجديد مكان القديم. (ر. الشرح الكبير: 7/ 485، الروضة: 7/ 31). (2) في الأصل: أن أبا بكر. (3) في النسختين: فللمخاطب بالخطبة ثم العبرة. (4) في النسختين: طلبه. (5) في الأصل: والقاضي قولان. (6) ت 3: دالّ محقق.

فاطمة بعيب، فما الفرق بين هذا وبين الغِيبة؟ وفي الحديث " أن الغيبة: أن تذكر الإنسان بما فيه مما يكره ذكره، فإن ذكرته بما ليس فيه، فقد بهتّه" (1). وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، فضحه، ولو في جوف رحله" (2). فكيف سبيل الجمع بين هذه الأخبار؟ قلنا: إذا ذكرتَ ما في الإنسان لغرض صحيح - وهو أن يكون إلى ذلك حاجة، أو طلبتَ نصيحةَ مسلم لتحذِّره، أو أردت مخايرةً بين شخصين، فلك في هذه المواضع أن تذكر ما في الشخص، ولك أن تتعرض لأمثال هذا وأنت تنفذ وراء الأحاديث في ردٍّ أو ترجيح (3)، ولا شك في ذلك وأنت تُجرِّح الشاهد. فخرج من ذلك: أن من ذكر في الإنسان ما هو فيه، وصدق، وكان لغرضٍ [ممّا] (4) ذكرناه، فليس مغتاباً، وإنما المغتاب من يقصد أن يفضح إنساناً، أو يهتك ستره، أو يتعلل بذكر الناس تفكّهاً؛ فهذا محرّم. ويلتحق به من (5) يتقرب إلى إنسان بذكر عدوّه بالسوء. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس" (6).

_ (1) حديث الغيبة رواه مسلم عن أبي هريرة، بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه، فقد بهته" (ر. مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الغيبة، ح 2589). (2) حديث "من تتبع عورة أخيه ... " هذا جزء من حديثٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر؛ فنادى بصوتٍ رفيع، قال: "يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يُفض الإيمان إلى قلبه ... الحديث" رواه الترمذي: كتاب البر، باب ما جاء في تعظيم أمر المسلم، ح 2032، وصححه الألباني: صحيح الترمذي: ح 1655، وصحيح المشكاة 5044، التعليق الرغيب: 3/ 277. (3) أي يجوز ذلك (أي ذكر الرجال بسوء) إن في مجال التضعيف والتصحيح للحديث، وفي مجال ردّ الشهود. (4) في النسختين: فيما. (5) في النسختين: ويلتحق به أن من يتقرب إلى إنسان ... (6) حديث: "اذكروا الفاسق ... " ذكره العجلوني في كشف الخفا، بلفظ: اذكروا الفاجر ... وقال: رواه ابن أبي الدنيا وابن عدي والطبراني، والخطيب، وقال في التمييز: "أخرجه أبو =

ثم قوله صلى الله عليه وسلم "لا يضع عصاه عن عاتقه" قيل: معناه: إنه سيء الخلق. يضرب أهله. وقيل: معناه: إنه كثير الأسفار. والعرب تقول: ألقى فلان عصاه - إذا أقام. ومنه قول القائل: [فألقت] (1) عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر (2) ...

_ = يعلى وغيره ولا يصح" (ر. تمييز الطيب من الخبيث: 24 رقم 106، وكشف الخفا: 1/ 106 رقم 305). (1) في النسختين: فقرّت. والمثبت هو المحفوظ، والذي رأيناه في "لسان العرب". (2) البيت لعبد ربه السلمي هكذا قال ابن بري. ويقال لسليم بن ثمامة الحنفي، وذكر الآمدي أن البيت لمعفِّر بن حمار البارقي (ر. لسان العرب - مادة: ع. ص. و) وفيه قصة البيت وطرف مما قيل قبله.

باب نكاح المشرك ومن يسلم وعنده أكثر من أربع

باب نكاح المشرك ومن يسلم وعنده أكثر من أربع 8089 - ومقصود الباب: بيان الحكم فيه إذا نكح المشرك في الشرك امرأة، أو نسوة، ثم يسلم ويسلمن، أو يختلف الدين بينهم، فيسلم ويتخلفن، أو يسلمن ويتخلف الزوج. ثم نفصل المسائل، ونعرض فيها نكاح المشرك الإماء وإسلامه مع بقائهن (1) على الرق، ونفرض عتقهن في الشرك أو في الإسلام، ونجري في الباب إسلامه على حرةٍ وإماء، ثم يكون اختتام الباب ببيان النفقة والمهر، والاختلاف في تاريخ تقدم الإسلام وتأخره. 8090 - فنقول: إذا أسلمت الكافرة، وتخلّف زوجها؛ فلا شك أنها لا تُقر في حِبالة الكافر، ولكن إن كانت غير مدخول بها، انقطع النكاح بنفس إسلامها وتخلّفه، ثم إسلام الزوج بعد إسلامها لا يردها إلى النكاح. وإن جرى الاختلاف كما ذكرناه بعد تقيّد النكاح بالمسيس، فالأمر موقوف ما دامت في العدة، فإن أصر الزوج على تخلّفه [حتى] (2) انقضت عدتها، تبيّنّا آخراً أن النكاح ارتفع بنفس إسلامها، والواقع [بعده] (3) عدة، فإذا انقضت، فقد [تعلَّت] (4) عن العدة وحلت للأزواج.

_ (1) عبارة ت 3: نكاح المشرك الإماء وإسلامه معنى على الرق. (2) في النسختين: حين. (3) في النسختين: بعد. (4) في النسختين: "نقلت"، وهو تصحيف، صوابه "تعلّت" جاء في حديث سُبَيْعة: أنها وضعت بعد وفاة زوجها بثلاثةٍ وعشرين يوماً أو خمسةٍ وعشرين يوماً، فلما تعلّت، تشوّفت للنكاح، ... فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن تفعل فقد حل أجلها" رواه الترمذي -كتاب الطلاق واللعان- باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع. تعلّت: خرجت من نفاسها، وفي القاموس المحيط: تعللت المرأة: خرجت من نفاسها، وتعالّت (بألف مدّ بعدها لام مشدّدة) كذلك: أي خرجت من نفاسها، وفي المعجم الوسيط: (تعالّت): خرجت من نفاسها.

وإن اتفق إسلام الزوج في مدة العدة قبل انقضائها؛ فالنكاح قائم بينهما، ونتبيّن أنه لم يرتفع بإسلامها وتخلفه عنها في المدة التي تخلف فيها. والقول فيها بمثابة القول فيه إذا ارتد أحد الزوجين -كما سيأتي ذلك في بابه- إن شاء الله تعالى. هذا مذهب الشافعي، فنكتفي به. ونحن لا نذكر الخلاف إلا في غرضٍ لنا، ولم نبن هذا المجموع إلا لبيان محض مذهب الشافعي وقياسه. هذا إذا أسلمت وتخلف، ثم كان من الأمر ما وصفناه. فإن أسلم الزوج وتخلفت، نظرنا؛ فإن كانت كتابية يجوز للمسلم ابتداء نكاحها، فالنكاح قائم بينهما، ولا أثر لإصرارها في قطع النكاح. وإن كانت مجوسية، أو وثنية؛ فلا سبيل إلى تقريرها في نكاح هذا الذي أسلم، لو أصرت، فيرجع الأمر إلى الفرق بين ما قيل المسيس وبعده - كما مضى في إسلامها وتخلفه. ولو أسلما معاً أُقِرّا على النكاح، كما سنصف ذلك، إن شاء الله عز وجل. فهذا أحد الأصلين. 8091 - الأصل الثاني: أن الكافر إذا نكح عدداً في الشرك زائداً على الأربع، ثم أسلم وأسلمن، فيتعين عليه أن يختار أربعاً منهن. فإن كان نكحهن في الشرك في عقد واحد، ثم اجتمعوا إلى الإسلام، وجب عليه أن يختار منهن أربعاً، ولا معترض عليه إن كان نكحهن في عقود متفرقة ثم اجتمعوا في الإسلام، [فهو] (1) كما لو نكحهن في عقد واحد، فيختار أربعاً منهن، فإن شاء اختار الأوائل، وإن شاء اختار الأواخر، ولا حكم لتواريخ العقود الماضية في الشرك، ولا أثر لتقدم ما يتقدم وتأخّر ما يتأخر. وإذا قلنا: هن كالمجموعات في عقد، كان ذلك نهاية البيان في أنه يختار من يشاء منهن، ويتعين اختيار أربع.

_ (1) زيادة من: (ت 3).

فلو كان أسلم وأسلمن وهن أربع، [فهن] (1) منكوحات ولا حاجة إلى الاختيار، وكذلك إذا كُنّ دون الأربع. وممَّا يتعيّن التصريح به -وإن اندرج تحت ما قدّمناه- أنه لو نكح أربعاً في عقدة، ثم نكح بعدهن أربعاً [أُخر] (2)، وقد جرى كل واحد من العقدين على شرط الإسلام، فلو فرضنا مثل هذين العقدين في الإسلام، لقلنا: المنكوحات هُنّ [الأوائل] (3)، والعقد باطل على المتأخرات، وإذا جرى مثل ذلك في الشرك، ثم اجتمعوا في الإسلام، فهو كما لو نكحن في عقد واحد. ويجب أن يتنبه الناظر لأمرٍ هاهنا، ويعتقده المذهبَ، وذلك أنه لو نكح عشراً في الشرك في عقد واحد، فهذا العقد فاسد على شرط الشرع، وإذا اتصلوا بالإسلام، فنكاح أربع منهن ثابتٌ على خلاف موجب العقود التي تنشأ في الإسلام، فلا نظر إلى ما جرى في الشرك، وإذا جرى عقد على أربع، فهذا على شرط الصحة في الإسلام، ثم لم تقع به مبالاة، ويخرج منه أنا نضرب عن صفات العقود إذا [انعقدت] (4) في الشرك، ولا ننظر إلى ما يصح منها في شرط الشرع وإلى ما يفسد، بل نقول: إذا أسلم وأسلمن، فهن مجموعات، فليختر منهن عددَ الإسلام. ونذكر أصول مذهب أبي حنيفة والغرض من ذكرها أن يكون تقييداً لمذهبنا في الحفظ؛ فإن الشيء قد يحفظ بذكر ضده. قال أبو حنيفة (5): إن نكح أكثر من أربع في الشرك، وأسلم وأسلمن، وكان نكحهن في عقد واحد؛ فنكاحهن باطل؛ [رداً] (6) إلى حكم الإسلام، ولا يختار منهن واحدة إلا أن يبتدىء نكاحها، ولو نكح أربعاً في عقد، ثم أربعاً، وأسلم

_ (1) في النسختين: فهي. (2) في الأصل: أجرى. (3) في الأصل: الأولات. (4) في النسختين: انقضت. (5) ر. مختصر الطحاوي: 180، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 335 مسألة رقم 830. (6) في النسختين: رُد إلى حكم الإسلام.

وأسلمن، فيتعين عليه نكاح [الأربع] (1) الأوائل على موجب الشرع. 8092 - وما ذكرناه في العدد يجري في جمع الأختين وتفرقهما، فلو كان نكح في الشرك أختين، وأسلم وأسلمتا، فيتعين عليه أن يختار إحداهما. ولو نكح واحدة في عقد، ثم نكح أختها في [عقد آخر، وأسلم معها، فيختار أيتهما شاء عندنا، كما لو كان نكحها في] (2) عقد واحد. وأبو حنيفة (3) يقول: إن كان نكحهما في عقد واحد، وأسلم وأسلمتا (4)، لم يختر واحدة في استدامة النكاح. ولو نكحهما ترتيباً، تعيّن عليه نكاح السابقة. والشافعي اعتمد الأخبار الصحيحة فيما صار إليه، فنتيمّن بذكرها، ثم نذكر غرضاً لنا بعدها. [روي] (5) أن غَيْلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فأسلمن معه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعاً وفارق سائرهن" (6) ولم يتعرض لجمعهن وتفريقهن في عقود الشرك. وأسلم الضحاك (7) بن فيروز الديلمي وتحته أختان، فقال صلى الله عليه وسلم: "اختر أيهما شئت وفارق الأخرى" (8). وأسلم نوفل بن

_ (1) زيادة من (ت 3). (2) زيادة من (ت 3). (3) ر. مختصر الطحاوي، ومختصر اختلاف العلماء (نفسه). (4) ت 3: وأسلم معهما. (5) في الأصل: وروي، وت 3: فروي. (6) حديث غَيْلان أخرجه الشافعي، (ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/ 16 ح 43)، وابن حبان في صحيحه (6/ 181، ح 4144 - 4146)، والترمذي في السنن: (النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة، ح 1128)، وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 346 ح 1637). (7) عامة روايات الحديث أنه عن فيروز، ولكنا وجدنا رواية عند البيهقي بلفظ: عن الديلمي أو ابن الديلمي (7/ 184). (8) رواه الشافعي (ترتيب مسند الشافعي: 2/ 16 ح 45)، وأحمد في مسنده (4/ 232) وأبو داود (الطلاق، باب فيمن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع، ح 2243)، والترمذي: (النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان رقم 1129، 1130)، وابن ماجه (النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أختان رقم 1951)، وابن حبان (6/ 181 رقم 4143)، =

معاوية، وعنده خمس، فقال صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعاً وفارق الخامسة"، قال: فعمدت إلى أقدمهن صحبة، ففارقتها (1). هذا ما ذكره الشافعي من الأخبار. وروى الأثبات حديثاً آخر لم يذكره الشافعي، وهو أن الحارث بن عمر الأسلمي أسلم وتحته ثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعاً. وفارق أربعاً" (2). فقال: فكنت أقول لمن أريد: تقدمي، ولمن لا أريد: تأخري، ولن تناشديني بالرحم والولد. فإذا ثبت متعلق المذهب؛ فإنا نقول بعد ذلك: لو رددنا إلى القياس، لم ينتظم مذهبنا على هذا النسق، وكان يتجه أن نقول: إن نكح أكثر من أربع في عقد، وأسلم وأسلمن؛ فلا يثبت نكاح واحدة منهن، وكان ينقدح في هذا وجهان من القياس: أحدهما - أن الإسلام إذا كان يدفع نكاح البعض -وإن قدّرنا الحكم بالإعراض (3) قبلُ- فكان يجب أن يندفعن؛ إذ ليس بعضهن بالبقاء أولى من بعض، وطريان هذا يضاهي جمع أختين أو أكثر من أربعٍ في عقدة في الإسلام. ولو نكح الرجل رضيعتين، فأرضعتهما مرضع وثبتت الأخوة بينهما، يندفع نكاحهما جميعاً، ولا نقول: يندفع نكاح إحداهما وللزوج الخيار، ونجعل ما يطرأ من استحالة الجمع مع التساوي في الدوام بمثابة الجمع بين الأختين عقداً، هذا وجه من القياس بيّن. والوجه الثاني - أن أَولى العلماء بالحكم (4) على الكفار بالإسلام الشافعي؛ فإنه يستتبعهم في موجب الشرع، ولا يتبع عقائدهم، وعليه بنى نفي الضمان عمن يريق

_ = وصححه البيهقي: (السنن: 7/ 184)، وانظر (التلخيص: 3/ 360 ح 1652). (1) حديث نوفل أخرجه الشافعي (ترتيب مسند الشافعي: 2/ 16 رقم 44)، وانظر (التلخيص: 3/ 349 ص 1638). (2) حديث الحارث بن عمر الأسلمي لم أصل إليه بهذا الاسم، ولعله تصحيف لما رواه البيهقي عن الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي (ر. السنن الكبرى: 7/ 183). (3) الإعراض: أي عدم الحكم لا بالصحة ولا بالفساد. (4) ت 3: بالعلم.

خمراً على ذمي، ثم اقتضى المذهب إلحاق ما يصح على شرط الإسلام في الشرك بما يفسد على شرط الإسلام، كما تقدم شرحه. فتبين أن الشافعي لم يبن قواعده في الباب على قياس مذهبه في الأصول، ولكن صادف أخباراً صحيحة ونصوصاً صريحة لم يعتقد تطرق التأويل إليها، فترك القياس لها. وفي السواد (1) ذكر مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن. وقد احتج الشافعي بالأخبار، واستاق احتجاجَه بها أحسنَ استياق، وقال: لما لم يسال النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن العقد، كان عفواً له [لفَوْته] (2)، كما حكّم الله رسولَه صلى الله عليه وسلم [بعفو الربا إذا] فات بقبضه. فقال محمد بن الحسن: ما علمتُ أحدا احتج بأحسنَ مما احتججت به، ولقد خالفتُ أصحابي فيه منذ زمان، وما ينبغي أن يدخل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم القياسُ. [فبان] (3) من فحوى كلامهما تَرْكُ القياس واتباعُ الخبر، وأشعر كلام الشافعي مُضاهاة هذا الباب أبوابَ العفو والصفح تحقيقاً ورخصة، فهذا ما أردت التنبيهَ عليه في عقد الباب. 8093 - ثم لا أثر عندنا في شيء مما ذكرناه لاختلاف الدار، فإذا أسلم أحد الزوجين، والدار جامعة لهما، أو اختلف بهما الدار، فالحكم لا يختلف عندنا. والذي عليه التعويل ما قدمناه من الفرق بين ما قبل المسيس وبعده، وأبو حنيفة (4) يعتمد اختلاف الدار، ويجعله بمجرده قاطعاً للنكاح، ويقول: إذا تعلقت الكافرة بدار [الكفر] (5) مصرة على كفرها، انقطع النكاح بينها وبين زوجها بنفس اختلاف الدار. وكذلك إذا تعلق الزوج بدار الإسلام وسكنها.

_ (1) السواد: هو مختصر المزني، والمناظرة في الجزء 3 ص 292. (2) في النسختين: "لقوته، كما حكّم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعفو الربا إذا فات بقبضه" والتصحيح من مختصر المزني: 3/ 292. (3) في النسختين: "فإن" والمثبت تقدير من المحقق. (4) ر. رؤوس المسائل: 390، مسألة 268، الاختيار: 3/ 113. (5) في النسختين: الإسلام، والمثبت تقدير منا.

فصل قال الشافعي: "ولو أسلم ونكح أماً وابنتها ... إلى آخره" (1). 8094 - هذا الفصل يستدعي تقديم أصول لا يستقل مقصود الفصل دونها، وهي أركان الباب؛ فالوجه أن نذكرها على نهاية البيان، ثم نعود إلى الفصل، ونُتبعه بعد نجازه مسائل الباب. 8095 - الأصل الأول في بيان القول في أنكحتهم التي يرونها أنكحة في مللهم، وبيان إطلاق الصحة فيها والفساد، والإعراض، وهذا أم الباب، وقاعدة المسائل ومرجوعها، ولو رددنا إلى مقتضى الرأي فيها -وقد انتهى الحكم إلينا- لصحّحنا ما يقتضي الشرع تصحيحه، وحكمنا بفساد ما يوجب الشرع فساده، جرياً على ما تمهد من استتباع حقنا باطلَهم إذا اتصلت الوقائع بنا، ورُفعت إلينا، ولكن صدّنا عن هذا الأخبارُ التي صدّرنا الباب بها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم خيّر من أسلم بين أختين، وهذا إن حُمل على جواز (2) جريان الجمع بين الأختين في الشرك، فالجمع في الإسلام باطل، وإن حُمل على إيراد عقدين في أختين، فالتخيير بينهما يتضمن تصحيح اختيار الثانية لا محالة، والأخت الثانية المُدْخلَة على الأولى لا ينعقد نكاحها في الإسلام؛ فلم يمكنّا -والحالة هذه- أن نطرد استتباعهم ودعاءهم إلى ما يصح ويفسد في شرعنا؛ فينشأ من هذا تردد عظيم بين الأصحاب لا نعهد في مسائل الفقه مثلَه؛ حتى كاد كثير (3) من الأصحاب يرتبكون في عماية، ويَنفون ويُثبتون من غير دراية، ولا نجد بداً فيه من النقل والحكاية؛ فإن المجموعات مشحونة بطرق فاسدة، ولن يتبين وجهَ الصحة من لم يطلع على مسالك الفساد. 8096 - وقال قائلون: اختلف المذهب في أنا هل نحكم بصحة أنكحتهم؟ فذهب

_ (1) ر. المختصر: 3/ 289. (2) ساقطة من (ت 3). (3) في النسختين: كثيراً بالنصب، ولم أدر لها وجهاً.

بعض الأصحاب إلى أنا نحكم بصحتها (1)، ثم إن اتصلت بالإسلام -وكانت في دوامها موافقة- فإنا نقررهم عليها، وإن جرت في الشرك على خلاف شرط الشرع، إذا لم يلحق [بها في] (2) الإسلام أسباب الفساد، كما سيأتي تفصيل هذا الفن على أثر هذا الفصل. وإن كانت في الدوام لا توافق الشرع لأمر يؤول إلى العدد والجمع - مثل أن يسلم الكافر على عشر، أو على أختين، فنقول: قد صحت الأنكحة على العشر والأختين في الشرك، ثم الإسلام يدفع إحدى الأختين والنسوة الزائدات على الأربع؛ فيقع ارتفاع نكاح المدفوعات بالإسلام على الإبهام، وخيرة التعيين إلى الزوج، وهذا هو الذي رآه الأصحاب ظاهرَ المذهب. ومن آثار هذا أن الزوج يلتزم مهور اللواتي يدفع الإسلامُ نكاحَهن، وهذا دالٌّ على ثبوت نكاحهن، وترتب الارتفاع على الثبوت، ولسنا نستقصي الآن المهر والقول فيه، وإنما نذكر أطرافاً من آثار الأصول إيناساً بها وتوطئة لها، هذا ما رآه الأصحاب المذهب الظاهر. ومن أصحابنا من قال: نحكم بفساد الأنكحة في الشرك، وهذا ساقط خارج عن قاعدة المذهب. 8097 - وفرّع كثير من المعتبرين على تقدير التردد في الصحة والفساد أمرَ الطلاق، حتى قالوا: إذا نكح الكافر كافرة في الشرك، ثم طلقها، فوقوع الطلاق يخرّج (3) على الصحة والفساد: فإن حكمنا بصحة نكاحهن، نحكم بنفوذ الطلاق، حتى إذا طلق

_ (1) قال الرافعي: هذا هو الأصح. (ر. الشرح الكبير: 8/ 97). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) هنا بدأ سقط في النسختين معاً، ووقع في أثناء الصفحة في كليهما، مما يدل على أنهما مأخوذتان عن أصلٍ واحد. ولكن -الحمد لله- استدرك مالك نسخة الأصل هذا السقط على حواشي نسخته، وإن جاء ذلك بصورة عجيبة جداً، فقد كتب -هذا السقط- بقلم رفيع وخطٍّ دقيق، غاية في الدقة، حتى استطاع أن يكتب أربع ورقات كاملة على حواشي ورقة واحدة من نسخته، ولولا عون الله وتوفيقه ما استطعنا قراءة هذه المنمنمات، والله المستعان.

امرأته ثلاثاً ثم أسلم، حكمنا بأنها محرمة عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وإن حكمنا بفساد أنكحتهم؛ فطلاقهم غير نافذ؛ فلو طلق الواحد منهم امرأته، واتصل الأمر بالإسلام؛ فالطلاق المقدم لغو، لا التفات إليه. وقد أورد هذا الخلاف بعض المصنفين، وذكره شيخي رضي الله عنه، وهذا على غاية من الفساد، لا يستريب فيه ذو عقل، والمصير إلى أن طلاق المشرك لا يقع في حكم المناكرة للحقائق. وقد عُزي هذا المذهب إلى مالك (1) رضي الله عنه. ومما يُفسد هذا قطعاً: أن من أسلم على امرأة كان نكحها، ولم يتصل بالإسلام مفسد، فهو مُقَر على نكاحها، والتقرير على الفاسد محال، وانقلاب الفاسد صحيحاً محال، ولا يتصور أن يجاب عن هذا مع إطلاق القول بفساد أنكحتهم. وقد قطع الشافعي رضي الله عنه بأن المسلم إذا طلق ذمية ثلاثاً، فنكحها كافر، ودخل بها وأبانها؛ حلّت للأول؛ فله أن ينكحها إذا خلت عن العدة، والمذهب الذي عليه التعويل: أن التحليل لا يحصل إلا بالوطء في نكاح صحيح. وقد قطع الشافعي رضي الله عنه بأن الكافر الحر العاقل البالغ إذا كان وطىء في نكاح الشرك، ثم زنى، ورضي بحكمنا؛ فإنا نرجمه، وحديث اليهوديين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رجمهما لما اعترفا بالزنا (2)، ينافي ذلك (3)، فبطل المصير إلى الحكم بفساد أنكحتهم.

_ (1) عند مالك رضي الله عنه أن أنكحة الكفار فاسدة، وإنما يصحح الإسلام منها ما لو ابتدؤوه بعده جاز. (ر. الإشراف على نكت الخلاف: 2/ 709 مسألة 1278). (2) حديث رجم اليهوديين رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، والحاكم من حديث ابن عباس، والبيهقي من حديث عبد الله بن الحارث الزبيدي، وأصل قصة اليهوديين في الزنا والرجم دون ذكر الإحصان في الصحيحين من حديث ابن عمر (ر. أبو داود: كتاب الحدود، باب رجم اليهوديين: 4/ 156 ح 4451، والمستدرك: 4/ 365، والسنن الكبرى: 8/ 215، والبخاري: كتاب الحدود، باب الرجم، ح رقم 6819، ومسلم: كتاب الحدود، باب رجم اليهود، ح 1699). (3) أي ينافي الحكم ببطلان أنكحتهم.

8098 - ومن تمام القول في هذا: أنا في قاعدة الباب لا نفرق بين عقد جرى في الشرك على شرط الشرع، وبين عقد جرى مخالفاً لشرط الشرع. وآية ذلك أن من نكح امرأة بولي وشهود، ثم نكح بعد ذلك أختها، فالنكاح الأول صحيح على شرط الشرع، ولا مزية للنكاح الأول على النكاح الثاني إذا اتصل النكاحان بالإسلام، وإذا كان كذلك؛ فمن حكم بفساد أنكحتهم يلزمه ألا يفصل بين ما يقع منهما على شرط الشرع وبين ما يخالف الشرع، والمصير إلى أن نكاحاً يعقدونه على شرط الشرائع كلها فاسد، مذهب لا يعتقده ذو تحصيل، وما الذي يمنع من صحة نكاحهم؟ ولا خلاف في صحة بيعهم وتصرفاتهم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وُلدت عن نكاح، لا عن سفاح" (1). وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان النكاح في الجاهلية على أنحاء، ونكاح واحد منها بولي وشهود" (2). ولما تبين فساد هذا الوجه للمحققين؛ قال قائلون منهم: لا نطلق الفساد على أنكحتهم، ولا نحكم فيها بصحة ولا فساد. وهذا أقرب قليلاً من إطلاق الفساد، ولكن ليس فيه شفاء وبيانٌ كاف. 8099 - وإذا أردنا أن نذكر التحقيق بعد انتجاز النقل، فالرأي عندنا أن نذكر مسألة لابن الحداد - وهي مقصودة في نفسها وبها يبين تحقيق المراد. قال ابن الحداد: إذا نكح الرجل أختين، وطلق كل واحدة منهما في الشرك ثلاثاً ثلاثاً، ثم أسلم وأسلمتا. قال: يخير بينهما، ويقال له: اختر إحداهما، كما كنت تختار لو لم يسبق منك طلاق أصلاً، فإذا اختار واحدة منهما، فالتي اختارها يثبت نكاحها.

_ (1) حديث: "ولدت من نكاح". رواه الطبراني في الكبير: 10/ 329 رقم 10812، والبيهقي في السنن: 7/ 190، قال الحافظ: وسنده ضعيف (ر. التلخيص: 3/ 361 ح 1653). (2) حديث عائشة: رواه البخاري: كتاب النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي، ح 5127، ورواه أبو داود: كتاب الطلاق، باب وجوه النكاح التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية، ح 2272، وسنن البيهقي: 7/ 190. هذا. والمذكور هنا جزء أو اختصار للحديث، فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أنحاء أربعة من نكاح الجاهلية ...

ثم إذا ثبت نكاحها بَعُدَ الطلاق فيها، والأخرى قد تعينت للفراق بحق الإسلام؛ فلا ينفذ فيها الطلاق. وفائدة ذلك أنه لو أراد أن ينكح التي لم يخترها من غير أن تنكح زوجاً غيره، صح. قال الشيخ أبو علي: هذا الذي ذكره ابن الحداد حقه أن يفرع على أنا هل نحكم لأنكحة الشرك بالصحة أم لا؟ فإن قلنا: نحكم بصحة أنكحتهم، فنقول على موجب ذلك: صح النكاح في الشرك على الأختين، وإن كان على مخالفة الشرع في العقود التي [نقيمها] (1) في الإسلام، وإذا حكمنا بصحة النكاح؛ فإنا نحكم بوقوع الطلاق على الأختين جميعاً. وموجب ذلك أنه إذا أسلم معهما، فهما محرمتان، فلا معنى للتخيير والاختيار. والوجه أن نقول: من نكحت منهما وحللها زوجها، جاز للمطلِّق نكاحها. ولو نكحتا جميعاً، فهما بمثابة أختين أجنبيتين، وهذا الذي أسلم ينكح من شاء منهما. هذا إذا حكمنا بصحة النكاحين. وإن لم نحكم بصحة أنكحتهم على الإطلاق، فلا سبيل إلى الحكم بفساد أنكحتهم؛ فإن ذلك يبطل بالطرق التي قدمناها. ولكن [نقول] (2) إذا أسلم وأسلمتا في مسألة ابن الحداد: لو لم يكن طلاق، لكان يختار إحداهما، فإذا اختار، تبين أن النكاح في الشرك كان صح على هذه التي وقع الاختيار عليها، ولسنا نتعرض قبل الاتصال بالإسلام لصحة ولا فساد (3). فإذا اتصل الأمر بالإسلام، فالحكم ما ذكرناه. ثم يصار مع [الإسلام إلى أن الجمع بين الأختين] (4) في حكم شيء فاسد لا يصح

_ (1) في الأصل: نقيسها. والمثبت تقدير منا. (2) في الأصل: لا نقول. (3) أي نتوقف في أنكحتهم - وكان هذا ميلَ ابن الحداد. (ر. الشرح الكبير: 8/ 99). (4) مكان كلمات غير مقروءة بالأصل. إلا على استكراه.

النكاح معه في الإسلام، كالنكاح في العدة أو بشرط الخيار، كما سيأتي ذلك في المسائل. وقد تمهد لنا أن تفاصيل تعبدات الشرع [غير] (1) مرعية في عقودهم، ولهذا لاتنقض عقود الربا إذا تبايعوا فيها، ثم أسلموا، فيبقى الإبهام بين الأختين، وإزالته محال في الشرع على اختيار الزوج، وهذا لم نقله عن رأي، وإنما اتبعنا فيه الأخبار، فانتظم من ذلك أن من نكح في الشرك امرأة ثم طلقها فطلاقه نافذ؛ فإنا لا نستجيز إطلاق القول بفساد أنكحتهم على هذا المسلك. وإذا نكح أختين، فطلقهما -كما فرضه ابن الحداد- فالطلاق يقع على المنكوحة منهما (2). وقد تبيّنا أن المنكوحة واحدة؛ فيكون وقوع الطلاق على هذا القياس. وينتظم جواب ابن الحداد فيما ذكره. هذا منتهى كلام الشيخ أبي علي. ولا خروج بجواب ابن الحداد إلا على التفصيل الذي ذكره. وقد نقل المزني في مسألة نكاح الأم والبنت قولاً لا خروج له إلا على بُعد في المسلك. ويخرج من مجموع ما ذكرناه مذهبان: أحدهما - الحكم بصحة عقودهم على الأخوات، ثم الإسلام يدفع ما يدفع. وكذلك القول في النسوة الزائدات، ثم الإسلام يدفع اللواتي زدن على أربع، [و] (3) على رأي ابن الحداد نُعرض عن عقودهم، فإذا اتصلت بالإسلام، فالذي ينفيه الإسلام نقول: لم يصح أولاً، والذي يثبته الإسلام (4) نقول فيه: تبينا صحته.

_ (1) ساقطة من الأصل الذي هو اللحق بهوامش الورقة (160) وهو ساقط كله من (ت 3). (2) ويحتاج نكاحها إلى محلل لها دون الأخرى (ر. الروضة: 7/ 152) والتعليل واضح، فإن الأخرى لم يصح فيها نكاح ولا طلاق؛ فكانت كأجنبية لا تحتاج إلى محلل. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) عبارة الأصل: والذي يثبته الإسلام فيه فنقول.

فأما الحكم بفساد عقودهم (1) [ ... ] (2) وذكر، فهو على القطع باطل والمصير إلى أن طلاقهم لا يقع [عديم] (3) الوجه بالكلية؛ فإنا إذا كنا نحكم بصحة نكاحهم في الإسلام استدامة وتقريراً عليه، فالطلاق أولى بالنفوذ من النكاح. وان لغا طلاقهم، فليلغ نكاحهم. 8100 - ثم يبقى وراء ما ذكرناه إشكالان: أحدهما - أن ابن الحداد قال فيمن نكح أختين وأسلم معهما (4): إذا اختار واحدة منهما، فتعينت الثانية للفراق، وذلك قبل المسيس، فللتي فارقها نصف المهر، واعتل بأن الفراق فيها حصل باختيار الزوج، وكان هذا بمثابة ما لو طلّق امرأته قبل الدخول. وهذا الذي ذكره يناقض الأصل الذي مهدناه بجوابه في مسألة الأختين وطلاقهما؛ فإنا خرّجنا ذاك على أن النكاح تتبين صحته في إحداهما، ونتبين أنه لم يصح في الأخرى، وإذا كان كذلك؛ فإذا اختار الزوج إحدى الأختين، فإيجاب نصف المهر للثانية مع الحكم بأن النكاح في حقه غير منعقد محال. وهذا لا جواب عنه. والأشكال الثاني - أنا إذا حكمنا بصحة النكاح في الأختين، وقضينا بأن الإسلام يدفع نكاح إحداهما بعد ثبوته على الصحة، فيستقيم على هذا إيجاب نصف المهر للتي فارقها الزوج؛ فإن الفراق يضاف إلى الزوج إذا كان السبب صادراً منه ومن الزوجة. وهذا بمثابة الخلع إذا جرى قبل المسيس. وسيأتي شرح القول في المهر من بعدُ، إن شاء الله عز وجل. ومحل الإشكال أنا إذا حكمنا بصحة النكاح على الأختين؛ فلو جاء كافر وتحته أختان، وطلب منا أن نفرض لهما النفقة، فماذا نصنع ونحن نحكم بصحة النكاح عليهما! وإنما يندفع النكاح في إحداهما عند الاتصال بالإسلام؟ هذا فيه تردد ظاهر؛

_ (1) هذا هو المذهب الثاني. (2) ما بين المعقفين مكان كلمتين استحالت قراءتهما. (3) مكان كلمة مطموسة تماماً. (4) آخر السقط المنقول من حاشية الأصل.

من جهة أن الفرض للأختين إنشاء حكم منا يخالف حكم الإسلام. فالذي أرى القطع به: أنه لا نفرض لهما النفقة، والدليل عليه أنا لو فرضنا لهما، للزم قاضينا أن يزوج أختين من كافر بحكم الولاية، وهذا لا يجترىء عليه من يتوفر الفقه في صدره. فكأنا -وإن حكمنا بالصحة- نَكِلُ الأمرَ إليهم ولا ننشىء فيهم شأناً، هذا ما نراه. ولمن ينظر في هذا الكتاب فضل الرأي بعدنا. وقد نجز قدر غرضنا الآن من القول في عقودهم، وحُكمنا بصحتها وفسادها. 8101 - الأصل الثاني -وهو أيضاًً من أقطاب الباب- قال الأصحاب: إذا جرى نكاح في الشرك، واقترن به ما يفسد النكاح في الإسلام، ثم اتصل النكاح بالإسلام، وقد انقضى المُفسد؛ فإنا نقرر ذلك النكاح. وبيانه: أن من نكح معتدة في الشرك، ثم انقضت العدة، وأسلم وأسلمت، فهو مُقر على النكاح، وذلك المقترن بالعقد لا حكم له. وأبو حنيفة -وإن خالف في جمع الأختين وجمع أكثر من أربع- لم يخالف فيما ذكرناه. وكذلك إذا جرى النكاح على شرط الخيار، ثم انقضى الخيار، وأسلم الزوجان؛ فهما مقران على النكاح. ولو جرى النكاح من غير حضور شاهدين، وكانوا يرون صحة النكاح من غير شهود، فإذا أسلم الزوجان أُقرا على النكاح. والجامع لغرض هذا الفصل أنا لا نؤاخذ الكفار [بتفاصيل] (1) التعبدات المرعية في عقودنا، وإذا عقدوا أنكحتهم على مفسد، ثم انقضى قبل الإسلام، فلا حكم لتيك (2) الأشياء المقترنة بالعقد. ولو اقترن بالعقد مفسد، ثم أسلم الزوجان والمفسد قائم بعدُ، مثل أن يجري النكاح في العدة، أو بشرط الخيار، ثم يسلم الزوجان وبقية العدة ثابتة بعدُ؛ فنحكم بفساد النكاح؛ فإنا لو صححناه، لكان ذلك إنشاء حكم منا بالنكاح في العدة، فلا

_ (1) في النسختين: بتفاضل. (2) ت 3: لتلك.

سبيل إليه، فإذا انقضت في الشرك ولم يصادفها الإسلام، فلا مؤاخذة بما مضى، ولا يُتبع أصلاً. وهذا الذي ذكرناه في العدة مستقيم. وأما بقاء مدة الخيار؛ ففيه نظر عندنا؛ من جهة أن (1) الخيار أمر [يقدّر] (2) ثبوته، فإذا كان فاسداً شرعاً، أمكن أن يقال: إنه غير ثابت؛ فإن الفاسد هو المنتفي، والمنتفي شرعاً لا ثبات له، فلا يبقى إلا شرط الخيار. وهذا هو الذي اقترن بالنكاح، وهو متقدم على الإسلام، فينتقض قبل حدوث الإسلام. وهذا الفقه يرد على أبي حنيفة في مسألة اشتراط الخيار في اليوم الرابع؛ فإنهم قالوا: إن لم يحذف الخيار الزائد، أفسد العقد، وإن حذف لم يفسد. فقيل لهم: الخيار الزائد فاسد محذوف شرعاً، فلا ينبغي أن يكون بخوفهم اعتبار. هذا احتمال ما ذكرناه. والذي قطع به الأئمة في الطرق: أن اتصال بقية من زمان الخيار بالإسلام بمثابة اتصال بقية من العدّة. ووجه ما ذكره الأصحاب -ولا مذهب غيره- أن النكاح لم ينعقد على صفة اللزوم في هذه الأيام؛ فلا يثبت اللزوم فيها؛ فإن المتعاقدين لم ينشئاه. ونحن وإن كنا لا نرعى شرائط الإسلام في ابتداء عقود أهل الشرك، فلا نثبت ما لم يثبتوه، وإذا عقدوا الإلزام وراء هذه المدة، لم يثبت قبل انقضائها. فهذا يقتضي أن يقال: إذا اتصل زمان الخيار بالإسلام؛ فلا إلزام في تلك المدة. وحكم الإسلام يقتضي مثل هذا، [وهذا] (3) هو الممكن عندنا في تعليل هذه الطرق. وإذا تبين أن اتصال بقية العدة بالإسلام يتضمن الحكم بفساد النكاح، فلا يخفى أن الكافر إذا نكح واحدة من محارمه، ثم أسلما، فالنكاح مردود؛ فإن إدامة النكاح على

_ (1) هنا خلل في ترتيب صفحات الأصل. حيث سنعود إلى (152 ش). (2) في الأصل: يتعذر. (3) زيادة اقتضاها السياق.

المحارم يستحيل استحالة ابتدائه عليهن. وإذا كان يفسد النكاح ببقاء بقية من [المفسد] (1)، فاستمرار المحرمية باقتضاء الإفساد أولى. 8102 - ثم أطلق أئمتنا عبارة، ونشأ من إطلاقها كلام، وذلك بأنهم قالوا: إذا أدرك الإسلام والمرأة (2) على حالة لا يجوز ابتداء نكاحها، [فلا] (3) يجوز استدامة النكاح عليها، وإن كانت المرأة عند إدراك الإسلام على حالة لا يمتنع ابتداء نكاحها، فلا يبعد استدامة نكاح [الشركِ] (4) عليها، وخرّجوا على مقتضى هذه العبارة استحالة إدامة النكاح على المحارم. وخرّجوا أيضاً امتناع دوام (5) النكاح على التي هي في بقية من العدة، إذا لحق الإسلام. واستثنى صاحب التقريب من طرد هذا الكلام مسألتين: إحداهما - أن الكافر لو أسلم، وكما (6) أسلم أحرم، ثم أسلمت المرأة قبل انقضاء العدة، والزوج محرم حالة الاجتماع في الإسلام، قال: إنه يمسك زوجته، وإن كان لا يبتدىء على هذه الحالة نكاحها، وكذلك لو أسلمت وأحرمت، ثم أسلم الزوج في العدة وصادفها محرمة؛ فإنه يقر على نكاحها. وإن كان لا يثبت نكاح المُحرمة ابتداء. فهذا أحد الاستثنائين. والثاني - أن الكافر لو نكح في الشرك، ثم إن المرأة وُطئت بشبهة بعد جريان النكاح، وجرت في العدة، فلحق الإسلام النكاح والمرأة في عدة الشبهة، فالنكاح قائم، لا يدفعه ما بقي من عدة الشبهة، وإن كانت لا تنكح ابتداء. هذا ما ذكره صاحب التقريب وقد قطع بموافقته الصيدلاني، ولم يشبّب بخلاف، ووجه ذلك بيّن؛ فإن الإحرام الطارىء عارض بعد تصرّم النكاح، وليس من

_ (1) في النسختين: للمنفسد. (2) في النسختين: فالمرأة. (3) في النسختين: ولا. (4) في الأصل: "المشرك" وفي (ت 3). " الشريك" والمثبت اختيارٌ منا. (5) آخر الخلل في ترتيب صفحات الأصل. (6) وكما: أي وعندما.

المفسدات المقترنة بالعقد. وطريان الإحرام وعدة الشبهة لا يقدح في نكاح المسلمين، فكيف يفرض قادحاً في نكاح المشرك؟ ونحن قد نحتمل في أنكحتهم ما لا نحتمل في أنكحة الإسلام. فإذا كان لا ينافي الإحرامُ وعدةُ الشبهة دوامَ نكاح الإسلام، فكذلك وجب ألا يقطع دوامَ نكاح المشرك، وليس ذلك كما لو نكحت المعتدة وبقيت من العدة مدة، وقد لحق الإسلام؛ فإن هذه العدة اقترنت بالعقد واقترانها يفسد نكاح الإسلام، فإذا لحق الإسلام والمفسد قائم، جعلنا هذا كما لو أنشأ العقد مقترناً بالمفسد في الإسلام. وهذا المعنى الذي وقع به الفرق صحيح. 8103 - ولكن يعترض عليه أصلٌ في الباب، اتفق الأصحاب عليه، وهو: أن الحر إذا نكح أمة على شرط الشرع، ثم طرأ على النكاح يساره واقتدارُه على طَوْل الحرة، وأسلم وأسلمت الأمة، فيبطل نكاح الأمة، ولا سبيل للحر إلى إمساكها، واليسار طارىء بعد النكاح، ولم يقترن بالعقد اقتران المفسدات به، فكان يجب أن يجعل طريان اليسار بمثابة طريان عدة الشبهة والإحرام. ولما نظر القفال إلى ما ذكرناه، لم يجد فصلاً (1)، وارتكب طرد القياس في المسألتين اللتين ذكرهما صاحب التقريب، وقال أولاً: إنه حكى [فيهما] (2) نصَّ الشافعي وقد تتبعت النصوص، فلم أجد ما حكاه من المسألتين منصوصاً. وأنه قال: إذا أحرم الزوج بعد ما أسلم، ثم أسلمت الزوجة الوثنية والزوج محرم، فينقطع النكاح، ونحكم بفساده، وطرد هذا في طريان عدة الشبهة على كلام ذكره بعض النقلة عنه فيها، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى. هذا مما حكاه أصحاب القاضي عن القفال على هذا النسق، وأورده بعض المصنفين عنه على هذا الوجه، ولم يورده الصيدلاني في طريقه المقصور على مذهب القفال ومسلكه فيه، بل أورد عنه ضد ما أوردناه، والذي أشار إليه من كلامه في العدة عريّ عن التحصيل. ولكنا نأتي به.

_ (1) فصلاً: أي فرقاً. (2) في النسختين: فيها.

قال من نقل عن القفال: ما ذكرناه من طرد القياس في عدة الشبهة في زمن العدة تلبيس؛ من جهة أن أحد الزوجين إذا أسلم، اقتضى ذلك الجريان في عدة النكاح، وعدة النكاح مقدمة على عدة الشبهة، فلا يتصور اقتران عدة الشبهة بلحوق الإسلام. وهذا عندي كلام مضطرب؛ إذ يمكن فرض إسلامهما معاً، حتى لا يقدر جريانها في العدة بسبب اختلاف الدين. ثم يلتزم أن تقترن عدة الشبهة بهذه الحالة أيضاًً؛ فإنه إذا أسلم أحد الزوجين، فلسنا نقطع بأن المرأة جارية في العدة؛ من قِبل أن المتخلف منهما إذا وافق وأسلم قبل زمان انقضاء العدة، فنحكم بأن النكاح قائم دائم، وأن ما كنا نقدر عدة [ليس عدة] (1)؛ فإن العدة عن الشخص يستحيل ثبوتها في صلب النكاح من غير وقوع سبب لا يستدرك، وليس كعدة الرجعية؛ فإنها تعقبت الطلاق الواقع، [والرجعية] (2) وإن ارتجعها زوجها، فالطلاق الذي وقع عليها لا يزول. وذكر بعض المصنفين على قياس القفال: أن المرأة لو وطئت بالشبهة، وعلقت بمولود من الواطىء بالشبهة، واتصل الإسلام وبقي كذلك؛ فينقطع النكاح من قِبل أن عدة الشبهة في هذه الصورة تتقدم على عدة النكاح. فلا جرم يطرد القفالُ قياسَه. 8104 - ثم حكى القفال عن نص الشافعي مسألة توافق القانون، وهي: أن الشافعي قال: إذا أسلم أحد الزوجين، وارتدّ، فالأمر على ما ذكرناه. وقال القفال: الردة تمنع [النكاح] (3) كما تمنعه العدة والإحرام، فإذا انقطع دوام النكاح بطريان الردة بعد الإسلام؛ فليكن الإحرام والعدة عن وطء الشبهة بهذه المثابة. هذا تمام الحكاية عن القفال. وكان شيخي يحكي عن القفال ما ذكرناه أيضاًً، وإنما رابني ترك الصيدلاني هذه

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في النسختين: الرجعة. (3) في النسختين: بالنكاح.

الحكاية، ونقلُه عن القفال نقيضَها، مع شدة [اعتنائه] (1) [بنقل] (2) خواص القفال. ولا شك أن القياس يخالف ما نقله الناقلون عن القفال، لما تقدم ذكره من أن طارىء الإحرام وعدة الشبهة لا ينافي دوام النكاح، [وليسا] (3) مقترنين بالعقد الذي جرى في الشرك. والذي أوردناه من طريان اليسار في نكاح الأمة مشكل جداً، واردٌ [على] (4) الفقه الذي اعتمدناه؛ من أن الإحرام وعدة الشبهة طرآ بعد انقضاء النكاح. وهذا يوضحه أن اليسار الطارىء لا يقطع عندنا نكاح الحر المسلم على الأمة إذا كان جرى النكاح في حالة الإعسار والعجز عن طَوْل الحرة. وسنذكر ما يمكن في الفرق بين طريان اليسار وبين طريان الإحرام وعدة الشبهة في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل. وأما ما تمسك به من الردة، ففيها إشكال -والحق أحق ما قيل- فإن الردة الطارئة على نكاح مدخول بها لا يتضمن تنجيز القطع، بل مقتضاها انتظار الإصرار عليها إلى انقضاء العدة، هذا هو القياس ولكن لاطريق إلا اتباع ما نقله هذه الإمام عن النص. ويمكن أن نفرق بين العدة والردة والإحرام [فنقول] (5): الردة على الجملة من قواطع النكاح، وإنما التفصيل في وقت قطعها، كما سيأتي، إن شاء الله عز وجل. والإحرام الطارىء لا يتصور أن يقطع دوام نكاح. ومن الدليل على تحقيق الفرق: أن الرجعية لو ارتدت، فارتجعها، لم تصح الرجعة (6)، وإن عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة.

_ (1) زيادة من (ت 3). (2) في النسختين: "بنقض" والمثبت من اختيارنا رعاية للسياق. (3) في الأصل، وكذا (ت 3): ولسنا. (4) في النسختين: عن. (5) في النسختين: "فقال". (6) ت 3: الرجعية.

ولو أحرمت الرجعية، فارتجعها زوجها، صحت الرجعة مع الإحرام، كما سيأتي ذلك في باب الرجعة (1)، إن شاء الله عز وجل. هذا منتهى القول في هذه الحكايات. والذي ارتبكنا فيه غمرة إشكال نكاح المشركات، ولكنا بعون الله تعالى لا نغادر جهداً في كل ما يمكن من مواقع هذا الإشكال. والله الموفق للصواب. 8105 - ومما نلحقه بهذا المنتهى: أن الرجل إذا أسلم والمرأة في بقية من العدة التي كانت مقترنة بالنكاح المعقود في الشرك -وقد تمهد أن ذلك مفسد للنكاح- وإنما غرضنا الآن الأخذ في نوع آخر من الإشكال: وهو أن الصيدلاني قطع جوابه بأن الرجل إذا أسلم وقد بقيت بقية من العدة المقترنة، فإنا نحكم بالفساد، وإن انقضت تلك البقية، ثم أسلمت، ولم يبق من العدة شيء وقت اجتماعهما في الإسلام. وكذلك القول في بقية مدة الخيار. والغرض من ذلك أنا لا نعتبر (2) في بقاء العدة ومدة الخيار ليفسد النكاح حالة الاجتماع في الإسلام. وقد صرح بذلك الصيدلاني. وقال: إذا أسلم والمفسد قائم، كفى ذلك في إفساد النكاح، وإن كانت متخلفة، وكذلك لو أسلمت وهو متخلف، والعدة باقية ومدة الخيار، فالنكاح يفسد إذا اتصل بالإسلام منهما أو من أحدهما بقية المفسد. 8106 - ولم يختلف من يبالَى به في أن الحر إذا نكح في الشرك [أمةً] (3) ثم أسلم وهو موسر، والأمة [متخلفة] (4) ثم زال اليسار، وأسلمت، وكان على شرط نكاح الإماء حال الاجتماع في الإسلام؛ أنه يمسكها. والنظر في هذا إلى حالة الاجتماع، لا يعتبر ما قبله ولا ما بعده. وهذا القياس يقتضي أن نقول: إذا اتصل المفسد بإسلام أحد الزوجين، ثم زال،

_ (1) ت 3: باب الاحرام. (2) لا نعتبر: بمعنى: لا نشترط. (3) في النسختين: أمته. (4) في النسختين: ملتحفة.

فأسلم الآخر ولا مفسد حالة الاجتماع في الإسلام؛ فلا ينقطع النكاح. هذا موجب القياس الذي ذكرناه في اعتبار شرائط نكاح الإماء، ولم يصر إلى التسوية بين البابين معتبر من أئمة المذهب. وكان ذلك إشكالاً عظيماً. وإن ظن أنه يتأتّى الانفصال من هذا الإشكال بأن يقال: اليسار طارىءٌ على نكاح الأمة، وطريانه لا يوجب قطع النكاح، والعدة مقترنة بالعقد، وقد لحقها الإسلام، فهذا لا يحل الإشكال من أوجه: منها - أن ذلك لو كان صحيحاً، لوجب ألا يؤثر اليسار الطارىء حالة الاجتماع في الإسلام، فإنا إذا لم نجعل الإحرام مؤثّراً في النكاح، طردنا ذلك حالة الاجتماع في الإسلام أيضاً، وقضينا بأنه لا يؤثر، وكذلك الكلام في عدة الشبهة، إذا لم نجعلها مؤثّرة. هذا وجه. والوجه الثاني - أنا لو قدرنا اقتران اليسار بالعقد الذي جرى في الشرك، للزم أن نقول: إذا دام اليسار حتى أسلم أحد الزوجين؛ فسد النكاح، من جهة الاقتران الذي صورناه، وكما نشترط في الإسلام خلو المنكوحة عن العدة حالة النكاح، فكذلك نشترط في نكاح الحر الأمةَ العجزَ عن طَوْل الحرة حالة العقد، فلا فرق. وقد بطل التعويل على الاقتران والطريان. والوجه الثالث - في الإشكال: أن الشافعي وأصحابه اتفقوا على أن الحر إذا نكح في الشرك حرة وأمة، ثم أسلم وأسلمت الحرة، وتخلفت الأمة، وماتت الحرة بعد ما أسلمت، ثم أسلمت الأمة ولا حرة، ولا قدرة على طَوْل الحرة؛ فلا سبيل إلى إمساك الأمة؛ فقد جعل الأصحاب الحرةَ دافعة لنكاح الأمة المتخلفة. فهلا قالوا: إذا نكح أمة ثم أسلم، وتخلفت الأمة، فكان الزوج موسراً لما أسلم، فنجعل يساره دافعاً لنكاح الأمة كما [دفعته] (1) الحرة! 8107 - فهذه وجوه من الاعتراضات لا يستقل بأدناها الغواصون، ونحن نبتغي أن نجمعها، ثم نستعين بالله عز وجل في محاولة الانفصال عنها، وطردها على أبلغ وجه مع استفراغ الوسع والإمكان.

_ (1) في الأصل: دفعه.

فنقول -والله المستعان-: ما ارتكبه القفال -إن صح النقل عنه- في طريان الإحرام وعدة الشبهة، لا سبيل إلى ارتكابه، فيخرج هذا من أثناء الكلام، وليردِّد الإنسان نظره إلى نكاح الأمة وما يفرض فيه من يسار طارىء أو مقارن، فنقول أولاً: لا ينبغي أن يظن الفقيه أنا نفرق به بين اليسار المقترن بنكاح الأمة وبين اليسار الطارىء بعده، مصيراً إلى أن المقترن مُخِلٌّ (1) بالعقد قادح في الشرط المرعي فيه، بخلاف الطارىء؛ فإن هذا تفصيل لم يصر إليهِ أحد من الأصحاب، ولم يتعرض له النص، فلا فرق عندنا إذاً، (2 وانحسم هذا المطمع. ونحن نقول بعده: قد ثبت اشتراط العجز عن الطول في حق الحر المسلم، ولم يثبت عندنا 2) اشتراط في نكاح الكافر الأمة، والذي يوضح الحق في ذلك: أن العبد ينكح الأمة عند الشافعي وإن لم يكن خائفاً على نفسه من العنت؛ من جهة أنه غير مؤاخذ بالنظر لولده [وتبعيده] (3) عن الإرقاق؛ فإذا كان كذلك، فلا يتجه مؤاخذة الكافر بتبعيد ولده عن الرق، وهو وزوجته وذراريه عرضة لاسترقاق السابين. والذي يعضد هذا أنا أثبتنا العجز عن الطَّوْل وخوف العنت بالنص، ولم نحكم بهما قياساً، وإذا كان كذلك؛ والنص مختص بالمؤمنين، فإنه عز من قائل قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25] وكان هذا خطاباً للمؤمنين. فإن أنكر [منكر] (4) ذلك، وزعم أن الكفار يندرجون تحت قوله تعالى: {مِنْكُمْ} إذا قضينا بأنهم مخاطبون بخطاب الشرع، قلنا له: لا سبيل إلى تقدير ذلك وتخيّله مع قوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} ولا يتصور نكاح المؤمنات إلا من مؤمن. فيخرج مما ذكرناه أن اشتراط الإعسار غير ثابت في نكاح الكفار للإماء؛ فلا أثر للاقتران بالعقد، ومقترن اليسار بالعقد كطارئه عليه.

_ (1) ت 3: مخلي. (2) ما بين القوسين سقط من (ت 3). (3) في النسختين: وتبعده. (4) زيادة من (ت 3).

وإن ألزم ملزم على هذا المنتهى نكاح الحرة؛ فإن الحرة تدرأ الأمة قبل الاجتماع في الإسلام مع الأمة، كما تقدم تصويره. ومذهب الشافعي أن الحرة والقدرة على طَوْلها يجريان مجرىً واحداً في نكاح الأمة نفياً وإثباتاً، وشرطاً وإسقاطاً؛ فإنا لما حكمنا بصحة نكاح العبد للأمة من غير اشتراط خوف العنت، قلنا مع ذلك: له أن يُدخل [أمة] (1) على حرة، وله (2) الجمع بينهما في عقدة، فلئن كان الكافر بمثابة العبد في نكاح الأمة، فليكن بمثابته إذا كان تحته حرة، وقد فرض منه (3) نكاح الأمة. وهذا هو المنتهى في هذا المساق. 8108 - ونحن نقول فيه بعون الله تعالى: الحرة لا تنزّل منزلة اليسار، بل الأمر فيها وفي اشتراط عدمها أعظم وأطم، والدليل عليه أن من كان في حِبالتهِ حرة غائبة، أو رتقاء لا تؤتى ولا توطأ؛ فليس له أن ينكح أمة ما لم يطلّقها، ولو وجد الرجل من المال ما ينكح به حرة غائبة، ولكنه لا يتوصل إليها إلا بعد زمان متطاول؛ فلا نجعل القدرة على نكاح غائبة بمثابة كون الغائبة في الحِبالة. وكذلك لو وجد الرجل طَوْل حُرة رتقاء، ولم يجد طَول حرة سليمة؛ فله أن ينكح أمة، بخلاف ما لو كانت الحرة الرتقاء في زوجيته وحبالته، فاستبان أن (4) الحرة تدرأ إدخال نكاح الأمة عليها، من غير نظر إلى معنى العفاف والكفاف، والمال في [غيبته] (5) لا يمنع نكاح الأمة. 8109 - ولن (6) يحصل شفاء الغليل فيما [نحن له] (7) إلا بأمر نصرّح به تلقياً من

_ (1) في الأصل: أمته. (2) ت 3: أما الجمع. (3) ت 3: له. (4) ت 3: فاستبان غير الحرة تدرأ ... (5) في النسختين: غيبه. (6) ت 3: وأن يحصل. (6) في النسختين، "يخاف له" والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى: فيما نحن بصدده؛ فهذا أقرب إلى المعهود من أسلوب الإمام.

كلام الأئمة، فنقول: بان لنا من مساق النصوص، وكلام الأصحاب أن العجز عن الطول ليس مرعياً في أول نكاح الكافر الأمةَ، لما قدمناه، ثم تمهد لنا اعتباره عند إمكان الإمساك في الإسلام، فكأن الشرط المشروط في نكاح الحر المسلم الأمةَ مستأخَر في نكاح الكافر إلى وقت الاجتماع في الإسلام، وليس ذلك أمراً بدعاً، ونحن قد نلقى من معاصات (1) الفقه في محالّ الاستغراق ما هو أغمض من هذا. ثم نرى اشتراط الحرة أعلى، ونجعلها مؤثرة قبل الاجتماع في الإسلام في دفع نكاح الإماء [المتخلفات] (2)، لما أشرنا إليه من أن الحرة تدفع إدخال الأمة عليها بعينها، [فغاية] (3) هذا الفصل فَرْقُنا بين الحر المسلم في نكاح الأمة، وبين الكافر في نكاح الأمة -فيما يتعلق باليسار- في أنا نعتبر في نكاح المسلم حالة العقد العجزَ (4)، ولا نعتبر ذلك في نكاح المشرك، بل (5) نعتبره حالة الاجتماع في الإسلام. وهذا متضح على حسب ما يليق بهذا الباب. ثم وراء ذلك الفرقُ الذي ذكرناه بين اليسار وبين الحرة. 8110 - ومن لطيف المذهب ما نذكره الآن -وهو مقصود في نفسه- وبه يعتضد ما ذكرناه: أن الأصحاب أجرَوْا في أثناء المسائل اختلافاً في أن الاختيار في النكاح الذي مضى في الشرك إذا اتصل بالإسلام يجري مجرى ابتداء النكاح، أو يجري مجزى الاستدامة؟ وربما أطلقوا قولين -وليسا منصوصين عندهم، وإنما هما مستنبطان من قضايا الأحكام- أحدهما - إنه بمثابة الاستدامة، وهو قول أبي ثور، ودليل هذا القول أنه مقرر على النكاح الذي مضى في الشرك، ولا حاجة إلى إفساخ عقد، وليس بين الاستدامة والإفساخ مرتبة. فإذا لم يكن ابتداءٌ، تعيّن الحكم بالاستدامة. والشرائط المرعية في ابتداء النكاح ليست معتبرة في الاختيار.

_ (1) ت 3: مغاصات. (2) في النسختين: المختلفات. (3) في النسختين: فغايته. (4) (ت 3): تعتبر في نكاح المسلم حالة العقد الجمع لعجز، ولا. (5) ت 3: لم نعتبره.

والقول الثاني - إن الاختيار بمثابة ابتداء النكاح، ودليله أنا نراعي في اختياره الأَمة أن يكون عادماً لطَوْل الحرة، خائفاً على نفسه من العنت، وإنما يراعى هذان الشرطان في ابتداء العقد، وهذا القائل لا يزعم أن الاختيار ابتداء على الحقيقة؛ إذ لا يصير إلى هذا محصّل مع القطع بأن ابتداء النكاح ليس مشروطاً، وأن المرة [ممسَكَةٌ] (1) بنكاح الشرك، ولكنه يقول: الاختيار كابتداء النكاح وحالّ محله، ودليله ما ذكرناه في نكاح الإماء. فإذا تبين هذا من كلام الأصحاب، فالتحقيق عندنا أن هذا التردد إنما ينشأ من مسألة الأمر (2)، ومن اشتراط العجز عن الطَّوْل وخوف العنت عند الاجتماع في الإسلام. ولولا هذه المسألة، لما خطر للفقيه أن الاختيار مشبه بالابتداء. ومن أحاط بما قدمناه، تبين له أن هذا الاختلاف لا حاجة إليه، ولكن الوجه القطعُ بموجب الاستدامة، والمصيرُ إلى أنا لا نرعى في نكاح المشرك الأمةَ العجزَ وخوفَ العنت، كما قررناه، ولكن لا نرفع اعتباره من البين. ويزدحم على هذا المقام المعنى الذي حمل المُزنيَّ على المصير إلى أن اليسار الطارىء يقطع نكاح الأمة. فكأن الأصحاب وإن لم يرَوْا ذلك مذهباً في النكاح الذي جرى على الصحة مستجمعاً لشرطَي العجز وخوف العنت، لم يُبعدوا اعتبار مذهبه في الجريان في نكاح المشرك الأمةَ إذا اتصل بالإسلام، وانضم إليه تأخير شرط لم نعتبره في النكاح إلى حالة الاختيار، فأي حاجة إلى ترديد القول؟ وإنما شذت هذه المسألة، لا من جهة أن الاختيار ابتداء، أو نازل منزلة الابتداء؛ فلا وجه إلا القطع بأن الممسك مستديم؛ لأنه كذلك حقاً، ثم ينظر الناظر في مسألة الأَمة بطريق النظر فيها. وإذا كان الذي يدّعي التشبيه بالابتداء لا يستمسك إلا بمسألة الأمة -وهي مسلّمة، وعليها كلام لا بأس به على ما يضيق بالمضايق- فالوجه ذِكر هذه المسألة وبيان شذوذها وذكر التفصِّي (3) عنها.

_ (1) في النسختين: ممسكته. (2) الأمر: أي الأمر بالاختيار. (3) تفضى -بالفاء- من الشيء وعنه: تخلّص منه، يقال: تفصَّى من الديون خرج منها (معجم ومصباح).

وإن تكلف متكلف وفرض طريان الحرة على الأمة، وطلب أن يلحق طريانها بطريان عدة الشبهة؛ كان جوابه أن الشرع أبطل اعتبار تواريخ عقود الشرك، وكفانا مؤونة النظر فيه، ودلت عليه الأخبار الناصّة، فجعلنا المتقدم والمتأخر بمثابة العقد الواحد الشامل، كما تمهّد. 8111 - ونحن ننظم الآن تراجم لما تقدم، حتى تكون ضابطة لها، ونقول: المفسد المقترن بعقد الشرك إذا انقطع قبل الإسلام، فلا مبالاة به. وإن دام إلى إسلام أحد الزوجين، حكمنا بفساد النكاح. وما يطرأ بعد النكاح -كعدة الشبهة- لا مبالاة بها، وإذا دامت إلى الإسلام -كما نقله صاحب التقريب- ففيه الكلام البعيد الذي حكاه بعض الأصحاب عن القفال. وما يطرأ بعد الإسلام كالإحرام لا مبالاة به، ولا أثر له في منع الإمساك والاستدامة إلا على المسلك البعيد المحكيّ عن القفال. وفي طريان الردة بعد الإسلام نص وتردد - كما قدمناه. وأما اعتبار العجز والخوف في نكاح الأمة، فليس من قبيل الشرائط التي تدوم من النكاح إلى الإسلام، وقد أوضحنا أن لا نشترط في نكاح المشرك الأمة عجزاً ولا خوفاً، وإنما اعتبرناهما في الدوام لا على قياس الشرائط، بل هو أصل مستفتح كما مهدناه. والحرة مع الإماء في نكاح الإماء تنزّل منزلة العدة المقترنة إذا دامت إلى الإسلام؛ فإنها تدرأ بنفسها نكاح الأمة. وقد طرّقنا إلى كل [طريق] (1) أسئلة، وأتينا بالممكن في الجواب [عنها] (2). وإنما اضطربت هذه الفصول بعض الاضطراب؛ لأن الأخبار - التي هي أم الباب، حسمت مسالك القياس في قواعد نبّهنا عليها، ولسنا نترك جميع القياس؛ وإذا

_ (1) في النسختين: طرق (ولعل الصواب ما أثبتناه). (2) في النسختين: عنهما. والمثبت تصرف من المحقق.

تركّبت المسائل من مراعاة الأقيسة والأصول المستثناة عنها، كانت كذلك، ونهاية الفقه الإحاطة بالشيء على ما هو عليه، فمن طلب من هذه المسائل ما يطلب من المسائل القياسية، فليس يبغي العلم بمسائل المشركات؛ فإنه يطلب منها ما يخالف وضعها. وقد تم الغرض من هذا الأصل. 8112 - الأصل الثالث: في بيان ما يراه الكفار نكاحاً، وما لا يرونه نكاحاً. قال علماؤنا: [إنا] (1) نقرهم إذا أسلموا على ما كان نكاحاً فيهم، فأما إذا كان يختص بعضهم بامرأة مسافحاً زانياً من غير عقد، فإذا أسلم، فلا حكم لما كان في الشرك. وإن جرى في الشرك ما يعد فيهم نكاحاً، فقد يُقَرر عليه - على ما مهدنا الأصول فيه. وستأتي تفاصيلها في مسائل الباب، إن شاء الله عز وجل. ثم إن كانت تلك العقود فاسدة في حكم شرعنا، فقد فصّلنا القول في المفسد ودوامه وانقطاعه. 8113 - ثم قال الأئمة: لو أجبر الكافر ابنته على النكاح، حيث لا يجوز الإجبار في الإسلام، ثم إنهم كانوا يجوّزون ذلك فيما بينهم؛ فإذا فرض إسلام الزوج معها، فالنكاح لازم، ولا خيار لها، ولا نظر إلى مخالفة إجبارهم لموجب شرعنا، كما لا نظر (2) إلى اعتبار شرائط الإسلام في الوجوه التي ذكرناها. ولو غصب كافر امرأة لتكون مفترشة له، لا ليسترقها، فقد حُكي عن القفال فيما حكاه الصيدلاني: لا نقر هذا المغتصب (3) إذا اتصل النكاح [بالإسلام] (4)، وإن كانوا يرون ذلك نكاحاً؛ إذ لا بد من جريان صورة عقد، ثم النظر في تفصيله على ما تقدم. وقال الأصحاب بأجمعهم: إذا كانوا يرون ذلك نكاحاً، فهو نكاح. قال

_ (1) في النسختين: إما. (2) ت 3: نضطر. (3) ت 3: لمغتصب. (4) زيادة اقتضاها استقامة المعنى.

الصيدلاني: القياس يخالف ما ذكره القفال. ولم أر هذه الحكايةَ عن القفال إلا من جهته؛ فإن أصحاب القفال أجمعوا على أنهم إذا رأوا ذلك نكاحاً، فهو نكاح، واعتلّوا بأنهم إن (1) أقاموا الفعل مقام القول في عقدهم، فقد تركوا اللفظ، وهو شرط عندنا بمثابة تركهم سائر الشروط. ومما ذكره الأئمة أن الكافر إذا نكح نكاح متعة - وهو النكاح [المتأقت] (2) ثم اتصل النكاح بالإسلام؛ فلا تقرير على ذلك؛ فإن المدة المضروبة إن كانت قد انقضت قبل الإسلام، فإنهم لم يعقدوا النكاح وراء المدة، وإن كانت المدة باقية، فالتقرير على النكاح المؤقت محال، إلا أن يروا في دينهم أن مؤقّت النكاح مؤبّد، كما نرى مؤقّت الطلاق مؤبّداً؛ فحينئذ يقر على النكاح، وإن كان الإسلام بعد انقضاء المدة. 8114 - ولو جرى نكاح في الشرك وكانوا يرونه نكاحاً، ولكنهم اعتقدوه فاسداً فيهم؛ فهذا مما كان يتردد فيه شيخي -وهو لطيف- سمعته يقول: لا يُقَر عليه؛ فإنهم لم يروه صحيحاً؛ والفاسد ليس بعقد، وسمعته يذكر في مجالس الإفادة والإلقاء أن [ما رأوه] (3) فيهم بمثابة نكاح الشبهة فينا، فإذا أسلموا عليه أقررناهم، وإنما لم نقرّهم إذا لم يجدوا ما يكون من قبيل النكاح عندهم. والذي أراه أنهم لا يُقرّون [على] (4) ما اعترفوا بفساده فيهم، إذا كان فاسداً في ديننا أيضاًً، وأما ما اعترفوا بفساده، وهو صحيح في ديننا؛ فيتجه تقريرهم إذا أسلموا. فإن أصل النكاح جرى، ثم انتهى [إلى] (5) الإسلام، وهو يتضمن تصحيحه. وهذا يتطرق إليه احتمال ظاهر؛ من جهة أنا لم نفرق في العقود المشتملة على الأعداد الزائدة على مبالغ الحصر الشرعي بين العقد السابق وبين العقد المتأخر، وإن

_ (1) ت 3: أنهم أقاموا ... (2) في الأصل: المتوقف، ومثلها (ت 3). (3) في النسختين: أن ورآه فيهم. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: إلا، والمثبت من (ت 3).

كنا في الدين نصحح المتقدم ونبطل المتأخر، فكان التعويل في نكاحهم على اعتقادهم. 8115 - ثم قال الشافعي في هذا الأصل: لو نكح المشرك امرأة بغير صداق، فأسلم، فلا صداق لها. وصورة المسألة: أنهم يعتقدون أن الصداق لا يثبت إذا لم يذكر، ويرون سقوط اعتباره وإن أفضى النكاح إلى الوطء. ثم نقول على موجب ذلك: إذا أسلما، فمسّها في الإسلام، لم يلتزم مهراً، بناء على اعتقادهم في التفويض وتعرية النكاح [عن] (1) الصداق. وإن كانوا يعتقدون مثل اعتقادنا في أن النكاح وإن عري عن التسمية؛ فالمهر يثبت الوطء، [فيثبت] (2) موجب عقدهم. ولعلنا نعود إلى ذلك في باب مُفرد معقود في نكاح أهل الذمة. وإذا انتهى [الناظر] (3) إلى هذا المنتهى، فليتأمل انعكاس الأمر؛ فإنا في القواعد نستتبعهم ونكلّفهم أن يتبعونا، وقد صرنا نتبعهم في عقدهم، كما نبهنا عليه. وتمام البيان في ذلك في الباب الذي ذكرناه. 8116 - وقد نجزت الأصول الموعودة المقدمة على نكاح أم وابنتها، ولا اختصاص لهذه الأصول بهذه المسألة، ولكني رأيت تقديمها على مسائل الباب؛ فإن منشأ الغموض منها، ومن أحكم ما قدمناه، هانت عليه المسائل بعدها. 8117 - فنعود إلى مسألة الكتاب، ونقول: إذا نكح الكافر أماً وابنتها، إما في عقد واحد وإما في عقدين؛ فلا فرق، لما قدمناه من سقوط اعتبار تواريخ عقود الشرك، فإذا أسلم وأسلمتا، فلا يخلو، إما أن يكون دخل [بهما] (4)، أو لم يدخل بهما، أو دخل بإحداهما.

_ (1) في الأصل: على. (2) في النسختين: "ويثبت". (3) في النسختين: المناظر. (4) في الأصل: بها.

فإن دخل بهما؛ فهما محرّمتان عليه على الأبد؛ إذ وطْءُ كل واحدة على الشبهة يحرّم الأخرى، وقد بيّنّا أن التقرير على نكاح المحارم محال. ولو لم يدخل بهما، فقد نقل المزني عن الشافعي أنه قال: قلنا: اختر من شئت منهما، فإن اختار الأم، اندفعت البنت، وإن اختار البنت، اندفعت الأم، فهذا هو الذي نقله المزني من جواب الشافعي في صدر المسألة. ثم قال: وقال في موضع آخر: يمسك البنت ويفارق الأم، فيتعين للبنت الإمساك وللأم التحريم، واختار المزني هذا القولَ الأخير، واعتلّ بأن النكاح على الأم لا يحرم البنت إذا لم يجر دخول، والنكاح على البنت يحرم الأم، فقد صارت الأم بنكاح البنت محرمة، فتعينت للتحريم، وتعينت البنت للإمساك. وهذا الذي ذكره المزني على نهاية الوضوح. واضطرب أصحابنا بعد هذا النقل والاختيار: فذهب الجماهير إلى بناء القولين على أن لنكاح الشرك حكماً أم لا؟ فإن قلنا: له حكم، لم يمسك إلا البنت، لما تقدم من أن العقد على البنت يحرم الأم. وإن قلنا: لا حكم لنكاح الشرك، فيتخير فيهما. هكذا نقل الصيدلاني وغيره ممن يوثق بنقله. وهذا على هذه الصيغة فاسد؛ فإنه لم يصر محقق [إلى] (1) قوله، فلا تعويل [على] (2) أن نكاح الشرك لا حكم له، وكيف يستجيز المستجيز هذا مع التقرير عليه، والمصير إلى إيجاب الإمساك، إلا أن يُطلِّق، والكلام في التضعيف والتزييف بعد الانتظام. ومن قال: يُقَر على نكاح الشرك، ثم قال: لا حكم له، كان كلامه متناقضاً، فلا وجه لتنزيل القولين إلا ما مهدناه في الأصل الأول من أن (3) الكافر إذا نكح أختين، فنحكم بصحة النكاحين، أو نُعرض: فلا نحكم بصحة ولا فساد قبل الاتصال بالإسلام؟

_ (1) في النسختين: على. (2) في النسختين: إلى. (3) سقطت من: (ت 3).

فإن حكمنا بانعقاد النكاحين، فنقول بحسبه: ينعقد النكاح على الأم والبنت (1)، ثم يدرأ الإسلام نكاحَ الأم ويحرّمها بنكاح البنت. وإن أعرضنا عن عقودهم، فحقيقة هذا القول أنا عند الاتصال بالإسلام نتبين تصحيح ما يقع الاختيار عليه، مستنداً إلى حالة النكاح في الشرك؛ فعلى هذا لا نثُبت القول بصحة النكاح على البنت، كما لا نقطع به في نكاح الأم. فإذا أسلموا خيّرناه. فإن اختار الأم (2)، اندفعت البنت، وليست محرَماً، ولكنها تندفع اندفاع الأخت. فإن اختار البنت، تبيّنّا صحة النكاح فيها، واندفع نكاح الأم بالمحرمية. وهذا القول هو المذهب الذي أجاب به ابن الحداد، حيث قال: إذا نكح المشرك أختين، وطلّق كل واحدة منهما ثلاثاً، ثم أسلم وأسلمتا، وقد مضى جوابه، وبان خروجه على الأصل الذي ذكرناه، وفائدة تقديم الأصول الإحالة عليها. 8118 - ثم قال ابن الحداد في مسألة الأم والبنت: إن فرّعنا على قول التخيير، فإذا اختار إحداهما، التزم نصفَ مهر التي فارقها؛ فإنّ تعيّنها للفراق محال على اختياره؛ وكان تسبّبه إلى الفراق بمثابة الطلاق قبل المسيس. قال القفال: هذا الذي قاله غلط، والأمر بالضد؛ لأنا إذا قلنا: يتخير، فإنما ذلك لأن نكاح الشرك لا حكم له؛ فكيف يجب الصداق (3)؟ وإن قلنا: البنت تتعين للإمساك، فيجب نصف مهر الأم، لأن هذا تفريع على أن نكاح الشرك يصح. فقد صح النكاح على الأم، ثم اندفع. وهذا الذي ذكره القفال من الاعتراض في [صيغته] (4) خلل؛ لأنه زعم أن التخيير مبني على أن نكاح الشرك لا حكم له، وهذا كلام فاسد لما ذكرناه. نعم، يتوجه الاعتراض على ابن الحداد على صيغةٍ أخرى - قدمناها في تمهيد الأصل الأول، وعددناها من الإشكالات على ابن الحداد.

_ (1) ت 3: على الأم والشرك في البنت. (2) ت 3: فإن اختار الإسلام. (3) ت 3: فكيف يجب الصداق للأم؟ (4) في النسختين: صيغة.

وأما ما ذكره القفال من أنا إذا عيّنّا البنت للنكاح، فيثبت نصف المهر للأم، ففي نفسي من هذا شيء، وهو أن النكاح إذا صح على البنت، فقد صارت الأم محرماً (1). ونحن وإن صححنا أنكحتهم، فليس ينقدح تصحيح النكاح على محرم. ويبعد عندي كل البعد أن نقول: الكافر إذا نكح أُمَّه، ثم أسلما وما كان مسها؛ أنه يجب عليه نصف مهرها، وإنما ينقدح تصحيح النكاحين على الأختين؛ فإن كل واحدة منهما قابلة للنكاح، والجمع بينهما في حكم الشرط الفاسد المفسد في الإسلام، فإن أوجبنا مهر التي يفارقها من الأختين، فهو متجه [تخريجاً] (2) على تصحيح أنكحتهم، فأما إيجاب نصف مهر المحرّمة من غير مسيس فبعيد. 8119 - والذي ينتظم لنا من مجموع ذلك في المهر: أن من نكح أختين، ثم اختار إحداهما في الإسلام، ولا مسيس؛ ففي وجوب نصف (3) المهر للمفارَقة قولان مأخوذان من تصحيح الأنكحة والإعراض عنها وردّ الأمر إلى [التبيّن] (4) آخراً. فإن حكمنا بالصحة، أوجبنا نصف المهر للمفارَقة. وإن أعرضنا ثم تبيّنّا، فالمفارَقة ما كان انعقد عليها نكاح، فلا مهر لها. وهذا يطّرد في الزيادة على الأربع. فأما إذا نكح محرَماً؛ فالذي ذكره القفال أن وجوب نصف المهر لها قبل المسيس، وقد اتصل النكاح بالإسلام، فيخرّج على قولي الصحة والفساد. والذي أراه: القطع بأنه لا شيء لها من المهر، ولا نقول: انعقد عليها نكاح في الشرك، ثم انفسخ بالإسلام. وذكر الصيدلاني وشيخي طريقة أخرى في [المسألة] (5)، فقالوا: البناء على أن نكاح الشرك لا حكم له فاسد، فالوجه أن نأخذ اختلاف القولين من أصل آخر، وهو ما قدمنا ذكره من أن الاختيار ينزّل منزلة ابتداء النكاح أم هو على حقيقة الإمساك؟ وقد قدّمنا تردد الأصحاب في هذا. وإنما الذي نحتاج إلى ذكره تلقّي القولين من هذا

_ (1) ساقطة من (ت 3). (2) في الأصل: تصريحاً. (3) سقطت من (ت 3). (4) في الأصل: التبيين. (5) في الأصل: البناء.

الأصل، فنقول: إن اختار البنت، صح بكل حال قدَّرناه: مبتدئاً أو مستديماً، والعقد في الأم باطل. وإن اختار الأم، فإن قلنا: ذلك استدامةٌ، صح. ونقدّر كأنه نكح الأم، ثم أدخل على نكاحها نكاح البنت، فليقع التمسكُ بدوام النكاح في الأم. وإن قلنا: الاختيار كالابتداء، فلا سبيل إلى اختيار الأم؛ وكأنه يبتدىء النكاح عليها، وقد عقد على ابنتها أولاً؛ [فإن] (1) نكاح البنت صحيح من غير اختيار، واختيار الأم بمثابة نكاح عليها بعد تقدم النكاح على بنتها. وهذا كلام خسيس؛ فإنا أوضحنا في الأصول أن ترديد القول والرأي في أن هذا ابتداءٌ أو (2) إمساكُ، لا حاصل له. ثم ليس ينتظم بناء هذه المسألة على ذلك إن صح ترديد القول فيه؛ فإن النكاح إذا صحّ على البنت، فأي أثر لاعتقاد الإمساك في الأم؟ وصحةُ النكاح على البنت يثبت المحرمية، وسقوط هذا الكلام منتهٍ إلى خروجه عن العقل ودرك الفهم. ومن ظن أن هذه المسألة تؤخذ من غير صحة النكاح، أو الإعراض عنه، فليس مطّلعاً على المسألة. ثم تبرم الصيدلاني بالطريقين، وقال: الوجه - القطع بتعيّن البنت للنكاح، وتعين الأم للمحرمية، كما اختار المزني، ونجعل القول الآخر (3) حكايةَ مذهب الغير، كأنه حكى مذهباً، ثم اختار مذهباً غيره، ولا يلزمه أن نجعل قولَه: "قد قيل كذا" مذهباً له. هذا لفظه في كتابه. ولست أدري على ما يُحمل هذا؟ وليس في [السواد] (4): قد قيل، وهو صدّر هذا الفصل بلفظ (المختصر) ولفظه: "إذا نكح أماً وابنتها وأسلموا، قلنا له: اختر

_ (1) في الأصل: كان نكاح البنت ... (2) في النسختين: وإمساك. (3) في النسختين: ونجعل القول في الآخر. (4) في النسختين: "السر"، (والسواد) الذي ذكرناه هو المختصر: مختصر المزني كما كررنا الإشارة إلى ذلك من قبل.

أيتهما شئت" (1). ثم لم ينقل المزني في هذا الموضع إلا هذا. فلما استكمله نقل بعده نصاً آخر، فكيف يتجه هذا الذي ذكره؟ ثم إنما تبرم بما ذكره الأئمة؛ من جهة أنه اعتقد أن في الأصحاب من يقول: لا حكم لنكاح الشرك، وهذا غير (2) سديد، والأمر على ما قدره. ولكن هذا القول ليس على هذا الوجه، وإنما هو على الإعراض والتبيّن، كما مضى. وقد نجز هذا الغرض على وجه لا يبقى بعده غائلة على ناظر. وكل ما ذكرناه فيه إذا وطئهما، أو لم يمسهما جميعاً. 8120 - فأما إذا كان دخل بإحداهما، فإن وطىء الأم، ثم اختار البنت، لم يجز. وإن اختار الأم، جاز على أحد القولين، وهو إذا لم نجعل العقد على البنت محرِّماً، وإن جعلنا العقد على البنت محرّماً للأم؛ فقد حرمتا جميعاً: حرمت الأم بالعقد على البنت، وحرمت البنت بوطء الأم. وإن كان وطىء الابنة، فلا يجوز اختيار الأم على القولين؛ فإن العقد إن حرم الأم، فذاك، وإلا فالوطء حرمها. وإن أراد اختيار البنت، فهي معيّنة له، ولا حاجة إلى اختيار؛ فإن الأم - إذا تعينت البنت للنكاح، فلفظ الاختيار فيها مجاز. فصل قال: "وإذا أسلم وعنده أربع زوجات إماء ... إلى آخره" (3). 8121 - الحر إذا نكح إماءً في الشرك، ثم أسلم وأسلمن؛ فأصل الفصل أنا نعتبر حالة (4) الاجتماع معهن في الإسلام، فإن كان على شرط نكاح الإماء، بأن كان عادماً

_ (1) ر. المختصر: 3/ 289، ونصه: "فإن أسلم وقد نكح أماً وابنتها معاً، فدخل بهما، لم تحل له واحدة منهما أبداً، ولو لم يكن دخل بهما، قلنا: أمسك أيتهما شئت، وفارق الأخرى، وقال في موضع آخر: يمسك الابنة، ويفارق الأم" ا. هـ. (2) ساقطة من (ت 3). (3) ر. المختصر: 3/ 289. (4) ت 3: تعتبر حالته حالة اجتماع.

لطَوْل الحرة خائفاً على نفسه من العنت، فله أن يختار واحدة منهن، والعبرة بحالة الاجتماع لا غير، حتى لو أسلم الزوج أولاً، وكان على شرط نكاح الإماء، ثم أسلمت وقد أيسر؛ فلا يختار الأمة؛ لأنه حالةَ الاجتماع ليس على شرط نكاح الإماء (1) بأن كان موسراً حالة الاجتماع. ثم إنه [إن] (2) أعسر من بعد، فاجتماع شرائط جواز نكاح الإماء بعد الاجتماع في الإسلام لا يفيد (3) شيئاًً. ولو كان على شرط نكاح الإماء حالة الاجتماع في الإسلام، ثم أيسر من بعدُ، لم يضر، وله إمساك الأمة. فالتعويل إذاً في اعتبار الشرائط بحالة الاجتماع في الإسلام لا غير، والسبب فيه أنه لما عسر اتباع الشرائط حالة العقد، كان أولى الأوقات باعتبارها حالة إمكان الاختيار، وذلك حالة الاجتماع في الإسلام؛ فإن الأمة لو تخلفت، وأسلم الزوج، فاختيارها غير ممكن؛ فإن الأمة الكتابية لا تكون منكوحة المسلم. وإن أسلمت الأمة، فاختيار الكافر المسلمة محال؛ فيتعين اعتبار أول حالة الاجتماع في الإسلام؛ فإنه أول الإمكان، ثم إذا لم تثبت الشرائط في هذه الحالة، اندفع نكاحها، فإذا اندفع، لم ينفع استجماع الشرائط من بعدُ. وإذا كانت الشرائط مجتمعة، ثبت النكاح. فطريان اليسار بعده بمثابة طريان اليسار على ناكح أمةٍ، وقد صح له نكاحها؛ فتبين أن المرعي حالةُ الاجتماع، والمعتبر أول حالة الاجتماع من الجليات التي يتعين ذكرها، فكم رأيت المنتمين إلى التحقيق يزلّون فيها في أثناء المسائل، [ويقولون] (4) - إن الاعتبار في الاجتماع في الإسلام بمدة العدة، حتى لو فُرض إصرار أحد الزوجين على الكفر حتى انقضت العدة، تبيّنا انبتات النكاح.

_ (1) ت 3: على شرط نكاح الإماء للاجتماع بأن كان موسراً ... (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) ت 3: يفيد (بدون لا). (4) زيادة اقتضاها السياق.

فلو قال قائل: إذا فرض الاجتماع في الإسلام في العدة، وشرائط نكاح الإماء غير مجتمعة، فارتقبوا اجتماعها في العدة. قلنا: لا أثر لأمد العدّة إلا في الاجتماع في الإسلام فحسب، فهو المتعلق بالعدة، ثم ليس بعد ذلك إلا اندفاع النكاح شرعاً أو تقرره. فإن كانت الأمة واحدة، تعينت، ولا معنى لذكر الاختيار فيها. وإن أسلم وأسلمت معه إماء والشرائط مجتمعة، ثبت نكاح واحدة، وإنما إلى الزوج تعيينها، فلو لم يعيّنها حتى انقضت العِدة، لم يضر تأخير التعيين عن انقضاء العدة؛ فإنا (1) نحصر أثر اعتبار العدة في الاجتماع في الإسلام. وإنما ذكرت هذا على وضوحه؛ فإن الفقيه قد يسبق فكره في [انغماره] (2) في طرق النظر أن الأمة إذا أسلمت مثلاً، ثم أسلم الزوج بعدها، وكان موسراً؛ فإن الإسلام (3) مع اليسار في عدم إفادة النكاح كالإصرار على الكفر، وهذه النادرة لا تعويل عليها. فإذا تمهد ما ذكرناه، فليعتقد أنه الأصل والمذهب. 8122 - وحكى صاحب التقريب قاعدة المذهب -كما ذكرنا- ومهّدها أحسن تمهيد، ثم نقل عن أبي يحيى البلخي (4) أنه قال: يعتبر في الإعسار واليسار وخوف العنت حالة إسلام من تقدم بالإسلام من الزوجين، ولا يعتبر حالة اجتماعهما، حتى لو نكح أمةً واحدة مثلاً في الشرك، ثم أسلم وهي متخلفة، ولما أسلم كان معسراً خائفاً من العنت، ثم أسلمت وهو موسر - وذلك في العدة، قال: فله إمساكها (5)

_ (1) ت 3: فانحصر. (2) في النسختين: الغمارة. (3) ت 3: فالإسلام. (4) أبو يحيى البلخي، زكريا بن أحمد بن يحيى بن موسى خَتّ بن عبد ربه بن سالم القاضي الكبير، قاضي دمشق في خلافة المقتدر بالله، من كبار الشافعية وأصحاب الوجوه، سافر إلى أقاصي الدنيا في طلب الفقه، وكان حسن البيان في النظر، عذب اللسان في الجدل. توفي بدمشق سنة 330 هـ (ر. طبقات السبكي: 3/ 298، وطبفات ابن قاضي شهبة: 1/ 81، وشذرات الذهب: 3262، وسير أعلام النبلاء: 15/ 293). (5) ت 3: اختيارها.

اعتباراً بحالة إسلامه، وكذلك لو أسلمت هي أولاً وهو معسر خائف (1) من العنت، ثم أسلم في العدة وهو موسر، فله إمساك الأمة، اعتباراً بالصفة التي كان الزوج عليها لما سبقت بالإسلام. وهذا الذي ذكره سخف لا يساوي الذكر، ولا حاجة إلى ذكر وجه الرد عليه. نعم، لو قال: إذا أسلم الزوج، وتخلفت الأمة وكان الزوج موسراً، فيندفع نكاح الأمة بيسار الزوج، لكان هذا متجهاً بعض الاتجاه؛ مصيراً إلى أن اليسار إذا اتصل بالإسلام، كان اتصاله بمثابة ما لو أسلم الزوج وأسلمت معه حرة وتخلفت أمة، فنكاح الأمة يندفع بإسلام الحرة مع الزوج، وإن لم يكن إسلامها معه في حالة اجتماع الزوج والأمة في الإسلام. وقد تمهّد أن اليسار في حق الحر ينافي نكاح الأمة منافاة الحرة لنكاحها. وكان يعتضد ذلك باتصال بقية العدة المقترنة بالنكاح بالإسلام، كما سبق إيضاحه وتمهيد الأصول. هذا طرفٌ لو قال به واقتصر عليه، لوجد مستمسكاً. فأما إذا ضم إلى ذلك أنه لو أسلم وهو معسر خائف من العنت، والأمة متخلفة، ثم أيسر، فأسلمت والزوج موسر، فله أن يمسكها اعتباراً بالإعسار المتقدم على الاجتماع في الاسلام، فلا يخفى اضطراب هذا المذهب. 8123 - ومما نذكره: أنه لو أسلم وتحته حرّة وأمة، فتنقسم المسألة أقساماً، ونحن نأتي على جميعها، إن شاء الله عز وجل. فإن أسلمت الحرة وقد أسلم الزوج وتخلفت الأمة، تعيّنت الحرة واندفعت الأمة، وكذلك لو أسلمت الأمة مع الحرة، فيندفع نكاحها، وتثبت الحرة متعينة. ولو أسلمت الحرة، وماتت، ثم أسلمت الأمة والزوج معسر خائف ولا حرة؛ فإن التي كانت ماتت قد تعينت قبل هذا، فليس له أن يمسك الأَمة. وهذا مما مهدناه قبلُ. والقول الوجيز فيه: أن الحرة إذا تعينت، انبتَّ نكاح الأمة؛ إذ لو كانت مسلمة،

_ (1) ت 3: مكان قوله "خائف من" كلمة غير مقروءة هكذا (لـ ـعر).

لاندفعت، فتوقع إسلامها لا يزيد على حقيقة إسلامها، وإذا اندفع نكاحها، لم [يَعُد] (1) بموت الحرة، فلو أسلم وهو موسر والأمة متخلفة، لم يندفع نكاحها؛ فإن اليسار إنما يدفع نكاح الإماء ممكناً (2). فيقال: إذا أمكن التوصل إلى نكاح الحرّة؛ فلا يجوز التوصل إلى نكاح الأمة. وإذا كانت متخلفة؛ فلا اعتبار بها، والمال في عينه لا يدفع نكاح الأمة، وقد تقدم في هذا ما فيه كفاية، وهذا مما يعد غمرة في الباب. وقد انتجز الفراغ منه. 8124 - ولو أسلم الزوج وأسلمت الأمة معه، وتخلفت الحرة، لم نقطع بإمساك الأمة. وكيف نقطع به ونحن نجوّز أن تكون تحته حرة، وذلك بأن تسلم المتخلفة. فإن قيل: هذا ينقض اعتبار حالة الاجتماع! قلنا: حاش لله! هو طرد ذلك الأصل؛ فإن من شرط نكاح الأمة ألا يكون تحت الحر حرة، وهذا لا نتحققه ما لم تنقضِ عدة الحرة على إصرارها، فإن أصرت، تبيّنّا أن نكاح الأمة ثبت قبلُ، ولا نقول: نتبين ثبوتَه حالة الاجتماع، بل إذا اتفق الاجتماع، تبيّنّا النكاح أصلاً، وحكمنا أن النكاح لم يزل قائماً دائماً. ولو تخلفت الحرة وأسلم الزوج والأمة، وماتت الحرة في العدة، تبينّا ثبوت نكاح الأمة (3)؛ فإن الحرة لما ماتت، انتهت العدة بموتها، وأُيس من نكاحها، وكان انتهاء العدة بالموت بمثابة انقضائها وهي مصرة على الشرك. ولو أسلمت الحرة وتخلف الزوج، فماتت الحرة، ثم أسلم الزوج، وأسلمت الأمة في العدة، أو كانت أسلمت من قبل، فيثبت نكاح الأمة؛ فإن إسلام الحرة مع تخلف الزوج لا يثبت نكاحها، وما (4) لم يثبت نكاحها، لم (5) يندفع نكاح الأمة. وكل ذلك واضح لمن أحكم الأصول.

_ (1) في النسختين: يعتد. والمثبت تقديرٌ منا رعايةً للسياق. (2) ممكناً: أي إذا كان موجوداً عند العقد، والإمام فسرها بما يعدها. (3) ت 3: الحرة. (4) ت 3: ومن لم. (5) ت 3: لا يندفع.

فصل قال: "ولو أسلم بعضهن بعده فسواء، وينتظر إسلام البواقي ... إلى آخره" (1). 8125 - هذا الفصل يجوز أن يكون مفروضاً في نكاح الإماء؛ لأنه منعطف على الفصل المتقدم. ولكن غرضه لا يختص بالإماء، ونحن نذكر المقصود في الحرائر، ثم نوضح جريانه في الإماء، إن شاء الله عز وجل. فنقول: الحر إذا أسلم وتحته حرائر، فإن أسلمن في العدة، أو أسلمن معه، وكن أربعاً، ثبت نكاحُهن قطعاً، ولا حاجة إلى الاختيار؛ فإمساك العدد المتبوع واجب؛ وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "أمسك أربعاً" محمول على الإلزام، وطريق المعنى فيه متضح؛ فإن الشرع إذا سوّغ الإمساك، فمعناه أنه أبان دوام النكاح، فإذا كان نكح أربعاً، وأسلمن معه؛ فهن منكوحات. وإن كان نكح عشراً، فأسلم وأسلمن، فيتعين عليه اختيار أربع منهن، وهذا واجب، والبدار إليه محتوم؛ فإن النسوة يبقين محصورات، والمنكوحات منهن بعضهن. وسيأتي هذا الفصل، إن شاء الله تعالى بما فيه. ولو كان نكح عشراً، فأسلم منهن أربع، وتخلفت الباقيات، لم (2) تتعين المسلمات للنكاح؛ فإنا نجوّز أن تسلم البواقي، ولا يلزم الزوج -والحالة هذه- أن يبتدر إلى تعيين المسلمات؛ فإنه ربما يبغي تعيين (3) من ستسلم من المتخلفات؛ فلو أسلمت أربع، فتوقف الزوج -كما بيناه- ثم أصرت البواقي حتى انقضت عِددهن، فالآن نتبين أن المسلمات قد تعيّنّ، ولا حاجة إلى الاختيار فيهن. وكذلك لو أسلمت أربع، وتخلّفت البواقي، ثم مُتن على الشرك في العدة؛ تعيّنت المسلمات.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 289. (2) في النسختين: ولم تتعين. (3) ت 3: تعليم.

ولو أسلمت أربع وتخلفت البواقي، فقال: رددت نكاح المسلمات، وسأختار من المتخلفات إذا أسلمن؛ فنقول: لا ينفذ ردك؛ فإن المتخلفات ربما لا يسلمن؛ فلا نحكم بتنجيز الرد. ولو أسلمت خمس، فله أن يرد نكاح واحدة منهن بعينها؛ إذ ليس في رد نكاحها ما يخرم العدد المعتبر؛ فإنه إذا رد (1) الخامسة، بقيت من المسلمات أربع، وفيهن مقنع. ولو أسلمت أربع، فقال: فسخت نكاحهن؛ فقد ذكرنا أنا لا ننفذ الفسخ؛ فإنه ربما لا يسلم غيرهن، فإن أصررن، فالأمر على ما ذكرنا، والمسلمات متعيّنات، والفسخ فيهن لغو. وإن أسلمت الباقيات -وهن أربع فصاعداً- فهل نقول الآن: الفسخ المتقدم في السابقات بالإسلام نتبين نفوذه الآن، ويلزمه أن يختار من البواقي اللاتي أسلمن أربعاً؟ فعلى وجهين؛ ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا نتبين نفوذه. والثاني - أن المقدم مُلغى، فإن أراد فسخاً، فلينشئه الآن. وهذا خارج على أصل الوقف، وفي وقف الفسخ من التردد ما في وقف العقد؛ فإن الفسخ لا يقبل التعليق بالصفة، كما أن العقد لا يقبله، وهو تلْو (2) العقد، [فكان] (3) في معناه. وسيأتي لذلك نظائر في مسائل الباب، إن شاء الله عز وجل. ولو أسلم من النسوة واحدة، لم يفسخ نكاحها، كما لم يفسخ نكاح الأربع. ولو أسلمت أربع، ثم مُتن، ثم أسلمت البواقي، وقال: اخترت نكاح الميتات؛ فله ذلك؛ فإن الاختيار بيان، والمختار أن يبين أنهن لم يزلن منكوحات من وقت العقد، فيرثهن. ولو أسلمن ومُتن ولم تسلم المتخلفات، ورث (4) الميتات من غير حاجة إلى

_ (1) ت 3: فإنه أراد الخامسة. (2) تِلْو العقد: أي تابع للعقد. (3) في النسختين هكذا "كامى" (بدون نقط وغير واضح الحرف الذي بعد الألف) والمثبت من (صفوة المذهب). (4) في النسختين: ورثت.

الاختيار؛ فإنهن تعيّنّ من غير اختيار منه للزوجية. 8126 - ولو فُرضت أحكام الاختيار في الإماء وصوّبنا اجتماع شرائط نكاح الإماء؛ فالتفريع على حسب ما ذكرناه. غير أن المختارة من الإماء واحدة، فالقول في أمة واحدة تُسلم، كالقول في أربع من الحرائر يُسلمن؛ إذ لا مزيد للحر على أمة واحدة، إذا (1) استجمع شرائط نكاح الإماء. فرع: 8127 - إذا نكح الرجل في الشرك جمعاً من الإماء، ثم أسلم، وأسلمت واحدة، وكان في حالة الاجتماع معها في الإسلام من أهل نكاح الإماء، فأسلمت ثانية وهو موسر عند إسلامها، وأسلمت الثالثة وهو معسر خائف (2)، وأسلمت الرابعة وهو موسر، قال أئمة المذهب: يعتبر حكمه مع كل أمة على الاستقلال؛ فإن حكم كل واحدة لا يتعلق بحكم غيرها، فإذاً يتخير [بين] (3) الأولى والثالثة، ويندفع نكاح الثانية والرابعة؛ فإنه (4) كان موسراً عند إسلام الثانية والرابعة. ورأيت في بعض التعاليق المعتمدة عن شيخي، أنه إذا حل له نكاح أمة، فأمة أخرى في معناها؛ والخِيَرة إليه فيهن، وكأنّ تجويز نكاح أمة يفتح عليه في جنس الإماء؛ إذ لا فرق بين أمة وأمة. وهذا وإن أمكن توجيهه، فليس معتداً به. والمذهب ما قدمناه. فرع: 8128 - إذا نكح حرائر في الشرك، فأسلمت واحدة منهن، أو أربع، ومُتن، ثم أسلم الزوج بعدهن، وأسلمت البواقي، فأراد الزوج أن يختار الميتات، لم يكن له ذلك؛ فإن التي أسلمت وماتت قبل إسلام الزوج، قد فاتت، ولم تكن في حياتها في محل إمكان التعيين للزوجية. واللفظ الوجيز فيه: إنها لما ماتت، انتهت عدتها؛ فوقع إسلام الزوج وراء عدتها، والأسلام وراء العدة لا يفيد النكاح، والضابط في ذلك أن الزوج في تخلفه لو

_ (1) في الأصل: فإذا، ت 3: وإذا وكلاهما خطأ. (2) خائف: أي من العنت. (3) في النسختين: يتخيرهن. (4) ت 3: فإن.

اختار المسلمة، كان اختياره باطلاً، كما سيأتي الشرح في أمثال ذلك، إن شاء الله عز وجل. وإذا كان الأمر كذلك، فإذا ماتت قبل إسلام الزوج، فقد فات أمرها، ولم يصادف إسلامُها حالة يتصور فيها [إمساك] (1) الزوج إياها على حكم النكاح، ووقع إسلام الزوج وراء انتهاء عدتها بموتها، وإذا كانت لا تفرض منكوحة في حياتها، فاختيارها بعد موتها لا يُلحقها بالزوجات، حتى يتصور به التوريث منها بالزوجية. ووضوح ذلك يغني عن بسطه. فصل قال: "ولو أسلم وأسلمت الإماء معه، وعتقن، وتخلفت حرة؛ وُقف نكاح الإماء ... إلى آخره" (2). 8129 - هذا الفصل متصوَّر (3) في حرّ نكح في الشرك حرّة وإماءً، ثم نفرض إسلامهن وإسلامه، وطريان العتق عليهن. والقول الضابط في الأصل تخريجه على الأصل الذي تقدم تمهيده، وهو: الرجوع إلى حالة الاجتماع في الإسلام. فإن كن عتيقات حالة الاجتماع، فقد التحقن بالحرائر في جميع الأحكام. وإن كن حالة الاجتماع في الإسلام رقيقات، فهن ملحقاتٌ بالإماء من كل وجه. وإن عتقن من بعدُ، فلا عبرة بعتقهن. ثم نعتبر حالة الاجتماع في الإسلام في اليسار ونقيضه، والخوف من العنت والأمن منه. هذا هو الضبط، وفيه كفاية. ولكنا نصوّر صوراً، ونفرض المسائل. 8130 - فلو لم يكن فيهن حرة أصلية وكان معسراً، فأسلم، وأسلمن، ثم عتقن، فإن كان حالة الاجتماع من أهل نكاح الإماء، اختار واحدة منهن، كما لو بقين

_ (1) في النسختين: امتثال. (2) ر. المختصر: 3/ 289. (3) ت 3: مصوّر.

رقيقات، ولا أثر لما طرأ عليهن من العتق. وإن لم يكن حالة الاجتماع في الإسلام من أهل نكاح الإماء، لم يكن له أن يختار واحدة منهن، وإن كن حرائر حالة تقدير الإقدام على اختيارهن. ولو أسلم الزوج وعتَقَن في الشرك، ثم أسلمن، أو سبقن إلى الإسلام، وعتقن، ثم أسلم الزوج، أو عتقن في الشرك، ثم أسلم وأسلمن معاً، فقد كن في الصور التي ذكرناها حرائر في أول الاجتماع في الإسلام؛ فسبيلهن سبيل الحرائر الأصليات، فيتعين على الزوج نكاح أربع منهن إن بلغن هذا العدد. ولو أسلم وأسلمت واحدة، ثم عتقت بعد الإسلام، فلا أثر لعتقها. فلو أسلمت البواقي على الرق يخيّر الزوج بين التي عتقت قبلُ وبين البواقي اللواتي أسلمن على الرق؛ وذلك لأن (1) الأُولى عَتَقَت بعد الاجتماع في الإسلام؛ فلم يكن لحصول الحرية بعد الاجتماع في الإسلام اعتبار أصلاً؛ طرداً للأصل الذي قدمناه. ولو أسلم الزوج وعتَقَت واحدة في الشرك، ثم أسلمت، فقد حصل الاجتماع في الإسلام وهي حرة، فلو أسلمت الإماء بعد ذلك على الرق، اندفع نكاحهن بالتي سبقت إلى الإسلام وكانت عتقت في الشرك. وتعينت تلك للنكاح. 8131 - ومما يجب التأنق فيه: أن الأُولى إذا عتقت في الشرك وقد أسلم الزوج، ثم أسلمت، فقد ذكرنا أنها ملتحقة بالحرائر الأصليات، ولا نطلق القول بأن نكاح الإماء المتخلفات يندفع في الحال؛ فإنا نجوّز أن يعتقن في الشرك، ويُسلمن في العدة حرائر. ولو اتفق ذلك على هذا الترتيب، لكان يتخير فيهن، حتى إن زدن على أربع، اختار منهن أربعاً. وما أطلقناه في الفصول المتقدمة من أن من نكح في الشرك حرة وإماء، وأسلم، وأسلمت الحرة الأصلية، وتخلفت الإماء، فقد اندفع نكاحهن بالحرة، وتعينت الحرة، فذاك مفروض فيه إذا بقين رقيقات، وأسلمن كذلك على الرق، فلو عتقن - وقد سبقت الحرة بالإسلام، ثم أسلمن بعد العتق، فهن كالحرائر الأصليات؛ فللزوج

_ (1) ت 3: بأن.

أن يختار منهن أربعاً، ويندفع إذ ذاك نكاح الحرة السابقة بالإسلام. وإن اختار الأولى مع ثلاث من العتيقات، واستكمل العدد بهن؛ جاز. ولا تكاد تخفى هذه الصورة على من أحاط بالقواعد التي مهدناها. 8132 - ولو كنّ إماء لا حرة فيهن، فعتقت واحدة منهن، وأسلمت، ثم أسلم الزوج مع بقاء الأخريات رقيقات، (1 ثم أسلمن على الرق 1)، تعيّنت الأولى للإمساك. وإذا فرضنا معهن حرة أصلية، انتظم الترتيب على ما تقدم. فلو أسلم وأسلمت الإماء، وتخلفت الحرة، فلا يختار واحدة من الإماء، ما دامت الحرة متخلفة، ومدة العدة باقية. فلو أسلمت قبل انقضاء عدتها من يوم إسلام الزوج، تعيّنت، وانفسخ نكاحهن. ولو ماتت في الشرك أو أصرت على شركها، حتى انقضت عدتها، اختار واحدة من الإماء. 8133 - ولو اختار واحدة منهن قبل وقوع اليأس عن الحرة، ثم ماتت الحرة، أو أصرت على كفرها حتى انقضت عدتها، فما حكم ذلك الاختيار الذي جرى في حال تخلف الحرة؟ نقل المزني في جواب المسألة ما نذكره، قال: "يثبت". يعني التي اختارها؛ فإنا تبيّنّا آخراً أن نكاح الحرة المتخلفة كان زائلاً في وقت اختياره الأمة. فاختلف أصحابنا: فمنهم من غلّط المزني، وقال: إنه أجاب في المسألة على أصله؛ فإنه يجوّز وقف العقود. وقد قال من بعدُ: إذا أسلم الزوج وتخلّفت امرأته، فنكح الزوج بعد الإسلام أختها، قال: فالنكاح بعدُ موقوف على ما يتبين من حال المتخلفة، فإن أسلمت، بان أن النكاح لم ينعقد على أختها، وإن بقيت على التخلف؛ بان أنه انعقد العقد على أختها. ومذهب الشافعي أن النكاح الذي أورده على الأخت باطل، وإن تخلفت المشركة إلى انقضاء العدة وماتت في الشرك، كذلك مذهب الشافعي أن الاختيار السابق في الأمة في حال تخلف الحرة باطل؛ لأنه على التردد والوقف،

_ (1) ساقط من (ت 3).

والاختيار لا يقبله، كما (1) لا يقبله العقد على الأخت، فلا بد إذاً بعد تبيّن الأمر واندفاع الحرة بالإصرار والموت على الشرك - من اختيارٍ جديد. وليس هذا معنى عندنا؛ فإن اختلاف قول الشافعي في وقف النكاح وغيره من العقود -في مثل هذه الصورة التي ذكرناها- معروف. وقد ذكرنا صور الوقف في كتابِ البيع. ونحن نعيد منه مقدار الحاجة. فمن عقد عقداً من نكاح أو بيع بناه على تقديرٍ، وظاهرُ الأمر بخلافه، مثل أن يبيع مال أبيه، أو يزوج إماءه، فالظاهر أنّه متصرف في ملك غيره، فلو تبين أن أباه كان ميتاً في تلك الحالة، وأنه ورّثه ما تصرف فيه، ففي نفوذ العقود قولان، لم ينكرهما أئمة المذهب في الطرق. والصورة الأخرى في الطرق: أن يبيع الإنسان مال غيره بغير إذنه، أو يزوّج جاريته كذلك من غير إذنه؛ فالذي قطع به العراقيون أن البيع والنكاح فاسدان، لا ينعقدان موقوفَين على إجازة المالك. وهذا موضع خلاف أبي حنيفة. وحكى المراوزة قولاً في وقف العقد على الإذن، مثل مذهب أبي حنيفة. وهذا القول على الحقيقة ليس يلائمه مذهبُ الشافعي وقياسُه. فإذا بان ذلك، فالاختيار ونكاح الأخت في الصورتين المتقدمتين يناظران التصرف الذي (2) يجري في عقده على الوقف قولان باتفاق الطرق. 8134 - والذي يتطرق إليه من السؤال أن نصوص الشافعي في الجديد تميل إلى منع الوقف. وما ينقله المزني -إذا أطلقه- محمول على النصوص الجديدة، فإن أراد نقل شيء عن القديم صرّح به، ولا ينبغي أن يُغلَّط بتركه نسبةَ قول إلى القديم، فقد اتفق له مثل ذلك كثيراً في السواد، من غير تعرض لذكر القديم. وقد ذكر بعض الأصحاب طريقةً حسنة فيما أشرنا إليه من ترتيب القديم والجديد،

_ (1) عبارة ت 3: كما لا يقبل القول كما لا يقبله العقد على الأخت. (2) في الأصل: "الذي يجري وفي عقده" (بزيادة الواو).

فقال: [مسلك] (1) الاختيار في صورة الوقف يخرّج على أصلٍ تقدم، وهو أن الاختيارَ غير (2) مشبه بابتداء العقد، وهو على حكم الإمساك؛ فيحتَمِل أن نُجري فيه قولين في الجديد، فمعوّل (3) المزني على أحدهما؛ فإن الاختيار -وإن لم يكن قابلاً للتعليق بالأغرار والأخطار- فإذا نُجِّزت [صيغته] (4) لا يمتنع أن يُحَط عن مرتبة العقود، ويقضى بقبوله للوقف. وإن نزّلنا الاختيار منزلة ابتداء النكاح، فيبعد حينئذ على قياس الجديد تصحيحه على حكم الوقف، ويجوز أن يكون كمسألة نكاح الأخت من الذي أسلم وزوجته متخلفة. فإن قيل: ألستم زيّفتم ترديد القول في أن الاختيار هل ينزّل منزلة ابتداء العقد؟ قلنا: لسنا ننكر كلام الأصحاب. والذي نجريه مباحثاتٌ عن المعاني مع الوفاء بالنقل، ثم حملنا ما قاله الأصحاب على مسائل الإماء، ونحن الآن فيها نضطرب (5)، فليس يبعد ترديد الرأي فيه على هذا النسق. وقد أكثر الأصحاب في الكلام على ما نقله المزني، وأتَوْا فيه بما لا يُحتاج إليه. والمقدار الذي ذكرناه أوقع وأدل على الغرض من جميع ما أتَوْا به. فصل قال: "ولو كان عبدٌ عنده إماء، وحرائر مسلمات وكتابيات ووثنيات ... إلى آخره" (6). 8135 - إذا نكح العبد في الشرك إماءً، وحرائر: وثنيات وكتابيات، ثم أسلم

_ (1) في الأصل: "مسألة". (2) ت 3: أن الاختيار مشيه. (3) ت 3: فقول. (4) في الأصل: صيغة. والمثبت من (ت 3). (5) نضطرب: معناها هنا: أي نتكلم، ونتخاوض، ونتفاوض. (6) ر. المختصر: 3/ 289. وليس في نص المختصر "وثنيات" ثم إنه عبّر بلفظ "أو".

وأسلمت الإماء (1)، والوثنيات (2) ولم يخترن فراقه، فله أن يمسك اثنتين: إن شاء أمتين، وإن شاء حرتين مسلمتين، وإن شاء كتابيتين، وإن شاء حرة وأمة، وإن شاء كتابية وأمة؛ لأن الكتابية بمنزلة المسلمة في النكاح، والأمة بمنزلة الحرة في حق العبد. ثم إن الشافعي شرط (3) في إمساكه اثنتين منهن ألا يخترن فراقه، وعطف ذلك على الإماء والحرائر؛ فاقتضى ظاهر الكلام أن الحرة إذا أسلمت وزوجها العبد؛ فلها الخيار، كما يثبت الخيار للأمة إذا أعتقت تحت زوجها القنّ. وقد اختلف الأصحاب في تنزيل المسألة: فمنهم من قال: ذكر الشافعي الإماء (4) يَعْتِقن والحرائر، وذكر الخيار؛ فرجع جوابه فيه إلى الإماء. وهذا قد يسوغ في نظم الكلام. والذي أراه أن هذا الفن لا مساغ له؛ وإنما يعتاد الفقهاءُ إطلاقَه، وهو غير سائغ في نظم الكلام. ولفظ الشافعي: "ولو كان عبد عنده إماءٌ، وحرائر مسلمات [ووثنيات] وكتابيات، [ثُم أسلم وأسلمن] ولم يخترن فراقه، أمسك اثنتين" (5). وقطعُ الاختيار عن اللواتي ذكرن آخراً - وهن الكتابيات، وردُّه إلى الإماء المذكورات في صدر الكلام غيرُ منتظم، ولا يمكن حمل الكتابيات على الإماء؛ فإن العبد المسلم لا يحل له نكاح الأمة الكتابية على النص. ثم الكلام مع ذلك لا يتسق؛ فإنه أفرد الإماء بالذكر أولاً، ثم أخذ في ذكر الحرائر وقسمهن مسلمات ووثنيات (6) وكتابيات. فهذا ما يتعلق بظاهر (السواد) (7).

_ (1) وأسلمت الإماء: أي سواء كن وثنيات أو كتابيات. (2) والوثنيات: أي الحرائر، فأصبحت الصورة عبد أسلم وعنده إماء أسلمن، وحرائر أسلمن، وحرائر كتابيات. (3) (ت 3): شرك. (4) أقحمت (أن) قبل لفظ الإماء في نسخة الأصل. ولا حاجة لها. (5) هذا لفظ الشافعي في المختصر وما بين المعقفين في موضع الشرح والبسط من المؤلف. (ر. المختصر: 3/ 289، 290) (6) سقطت من (ت 3). (7) السواد: المراد به مختصر المزني، والمعنى بظاهر نص السواد.

والمذهب أن الإماء إذا أعتقن، فلا شك أنه يثبت لهن الخيار تحت العبد. فأما إذا أسلم العبد وتحته حرائر، فأسلمن أو كن كتابيات، فقد ظهر اختلاف أصحابنا: فذهب بعضهم إلى أنه لا خيار للحرة. وهذا هو المذهب والقياس؛ لأنها رضيت برقّه لدى العقد، فلا خيار لها من بعدُ. ومن أصحابنا من قال: لها الخيار إذا اتصل نكاح الشرك بالإسلام، وذلك لأن للرق نقائص يظهرها الإسلام، فتصير الحرة عند اتصال عقد الشرك بالإسلام بمثابة الأمة تعتق تحت زوجها العبد. وهذا تمويه لا حاصل له. والوجه في قياس المذهب نفيُ خيار الحرة، ويبقى مع ذلك إشكال لفظ المختصر. فصل قال: "ولو عتقن قبل إسلامه، فاخترن فراقه، كان لهن ذلك ... إلى آخره" (1). 8136 - صورة المسألة: عبد نكح في الشرك أمة، ثم أسلم، وعتقت الأمة، ثم أسلمت، فالمسألة لها أطراف، ولا بد فيها من تقسيمٍ ضابط. فنقول: لا يخلو - إما أن تسلم هي وتعتق والزوج متخلف، أو يسلم الزوج وعتقت هي وهي متخلفة. فإن سبقت إلى الإسلام، وجرى العتق، والزوج متخلف؛ فلا يخلو وقد سبقت بالإسلام (2) وجرى العتق؛ إما أن يتقدم عتقها على إسلامها، أو إسلامها على عتقها. فإن أسلمت أولاً، ثم عتَقَت والزوج متخلف، فلها ثلاثة أحوال: إما أن تختار المقام، وإما أن تختار الفسخ، وإما أن تتوقف. فإن اختارت المقام، بطل اختيارها ولغا؛ من جهة أن إقامتها تحت كافر غيرُ سائغ؛ وأيضاًً فإنها جارية إلى البينونة لو فرض إصرار الزوج، فإنا نتبين أن النكاح ارتفع باختلاف الدين، والاختيارُ

_ (1) ر. المختصر: 3/ 290. (2) ت 3: إلى الإسلام.

[تعيين] (1) خصلة من غير تردد، وأثر بطلان اختيارها الإقامةَ ظاهرٌ (2)؛ فإنها لو اختارت الإقامة، ثم اختارت بعدها الفسخ، كان لها ذلك. فأما إن اختارت الفسخ، فإنه ينفذ فسخها، ونحكم بارتفاع النكاح في الحال، وجريانُها إلى البينونة، غير مناف للقطع بارتفاع النكاح في الحال؛ فإن ما تجرى إليه من البينونة يلائم قصدَها في الفسخ، وليس كما لو اختارت الإقامة؛ فإن الإقامة تنافي الجريان إلى البينونة، ثم إنها تستفيد بتنجيز الفسخ قطعَ تطويلٍ موهوم، لأن الزوج ربما يسلم في آخر جزء من العدة، فتحتاج إلى أن تختار الفسخ عند إسلامه إذا كانت تبغي الفسخ، ثم تستقبل العدة من وقت الفسخ؛ فيطول عليها أمد التربص، وإذا نجّزت الفسخَ في أوائل العتق مثلاً، استقبلت العدة. فإن لم يسلم الزوج، تبيّنّا انفساخ النكاح عند انقضاء العدة، وهي محتسبة من وقت اختلاف الدين. وإن أسلم الزوج في العدة، تبيّنّا نفوذ فسخها وشروعها في العدة على أثر الفسخ. وهذا متفق عليه بين الأصحاب. وفيه دقيقة يجب التنبه لها، وهي: أن الفسخ الذي تُنشئه متردد في ظاهر الأمر بين أن ينفذ وبين أن لا ينفذ؛ من جهة أن الزوج لو أصر حتى انقضت العدة، تبيّنّا أن الفسخ لم ينفذ، وأنها بانت من وقت إسلامها وتخلفِ الزوج عنها، ولكن هذا النوع من التردد لم يُثر خلافاً بين الأصحاب مأخوذاً من الوقف. والسببُ فيه أن الوجه الذي يقدّر فيه عدم نفوذ الفسخ تنفذ البينونة بدلاً عن الفسخ، وقد يجري مثل هذا في الوقف في العقود. ولو أرادت أن تتوقف، فلا تفسخ ولا [تختار] (3)، فلها ذلك. وإن كان القول الأصح أن خيار المعتقة تحت زوجها العبد على الفور، والسببُ فيه أنها ترتقب الجريان إلى البينونة تبيّناً، وإذا كان كذلك، فليس في تأخيرها الفسخ ما يشعر بالرضا بالإقامة، وكيف يقدر ذلك، ولو صرحت بالرضا بالإقامة، لم يكن لرضاها حكم،

_ (1) في الأصل: تعين. (2) ساقطة من (ت 3). (3) في النسختين: تختر.

وإذا كان لا يصح اختيار الإقامة، فلا وجه إلا القطع ببقاء حقها في الفسخ. 8137 - وقد قال الأصحاب: العبد إذا طلق زوجته الأمة طلقة رجعية، فَعَتَقت في خلال العدة، فلها أن تختار الفسخ؛ فإنها زوجته، ولها أن تؤخر الاختيار إلى أن تتبين الزوج هل يراجعها أم لا؟ من جهة أنها جارية إلى تقدير البينونة لو فُرض من الزوج تركُها، حتى تتسرح بانقضاء العدة، فهي غير منسوبة إلى إرادة الإقامة مع توقعها البينونة. ولو اختارت الإقامة؛ فقد اختلف أئمتنا: فمنهم من قال: يلغو اختيارها. وهذا اختيار قاضينا الحسين. وهي [مشبهة] (1) بالمسألة المقدمة في اختيار المسلمة إذا أعتقت الأمة والزوج عبد متخلف. والفقه أن الرجعية محرمة، فلا يكون اختيارها للإقامة اختيار حِلٍّ ناجز، ولا يرتفع باختيارها أيضاً توقعُ البينونة. وذهب بعض أصحابنا إلى أن اختيارها للإقامة يصح، ويفيد ردَّ الأمر إلى رأي الزوج، حتى إن راجعها، انقلبت إلى صلب النكاح. وهذا القائل يفصل بين الرجعية وبين العتيقة المسلمة وزوجها عبد كافر، فيقول: رضا الرجعية بالإقامة محمول على إثباتها للزوج سلطانَ الرجعة إن أرادها، ولا امتناع في ثبوت رجعة على رجعية، وأما الإقامة تحت كافر من مسلمة، فلا مساغ لها. فإن قيل: لو نفذنا رضاها، لكان يفيد تفويض الأمر إلى الزوج، فإن أسلم، استقر النكاح، وإن أصر، تثبت البينونة. قلنا: ليس الإسلام أمراً يناط بالاختيار، وليس هو من التصرفات في النكاح، فالرجعية تُثبت للزوج سلطاناً في النكاح إذا رضيت بالإقامة، والمسلمة لو نفذ رضاها تقديراً، لم يُفد نفوذُه للزوج تصرفاً في النكاح. 8138 - فإذا تبيّن أن للمرأة المسلمة تحت العبد الكافر أن تؤخّر الاختيار إلى أن تتبين حال الزوج، فإن أخرت، فلا يخلو الزوج: إما أن يسلم في العدة، أو يبقى

_ (1) في الأصل: مستملة.

على التخلف حتى انقضت العدة، فإن أسلم، فلها أن تختار الفسخ، فإن فسخت، نفذ فسخها، وصادف محرماً، واستقبلت عدةَ حرةٍ من وقت فسخها؛ فإن الفراق بالفسخ يقع، وقد زال ما كنّا نتوقع من البينونة باختلاف الدين، ولما أنشأت الفسخ كانت حرة، فاستقبلت عدة الحرائر. 8139 - والرجعية لو عتقت في خلال العدة، فراجعها زوجها، فاختارت الفسخ بعد المراجعة، فإنها تستقبل عدة حرة أو تبني على العدة التي كانت فيها؟ وكيف السبيل في ذلك؟ ولو أنشأت الفسخ في العدة من غير فرض رجعة، فللشافعي قولٌ: إنها تبني على عدة الإماء، ولا تستأنف عدةً أخرى، فالقول في ذلك يترتب. فإذا طلّق الرجل زوجته طلقة رجعية وجرت في العدة، ثم أتبع الطلاق طلاقاً رجعياً؛ فالأصح أنها تتمادى على العدة الأولى، ولا تستفتح عدةً جديدة. وللشافعي قول: إنها تستفتح عدة جديدة، وسيأتي التوجيه في كتاب العدّة. ولو طلق الرجعية [بائناً] (1) وحرَّمها، فخروج قول استئناف العدة في هذه الصورة أوجَه؛ لأن البينونة قطعت عصام الرجعة؛ فكان ورودها على الرجعية في قطع الرجعة بمثابة ورود الطلاق الأول على الزوجة في قطع الحِلّ. وإذا عتَقَت الرجعية، وفسخت النكاح، فاستفتاح العدة في هذه الصورة أوجَه؛ من جهة أن الفسخ ضربٌ آخر من البينونة، وهو مخالف لجنس الطلاق وحكمِه. وبالجملة: ليست الرجعية في مراتبها بمثابة المسلمة إذا أسلم زوجها المتخلف؛ فإنا نتبين أنها ما كانت في العدة، وأن الذي كنا نقدره عدة لم يكن [عدة؛ فهذه حرة ورد فسخها على صلب النكاح، ولم تقدِّم على فسخها] (2) عدة. ولو طلّق الرجل زوجته طلقة رجعية، ثم راجعها، وطلقها طلقة أخرى، فتستفتح عدةً، أم تبني على بقية العدة التي كانت؟ فيها اختلاف قول سيأتي مشروحاً -إن

_ (1) في النسختين: ولو طلق الرجعية الثانية. وهذا المثبت من هامش (ت 2). (2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 3).

شاء الله تعالى- في كتاب العدة. فإن قلنا: إنها تفتتح عدةَ حرة على أثر الطلاق الثاني، فإذا عتَقَت الرجعية تحت زوجها العبد، فارتجعها الزوج وفسخت، فلا شك أنها تستفتح عدة. وإن قلنا: الرجعية إذا طُلّقت، اكتفت ببقية العدة - فإذا فسخت، فهل تكتفي ببقبة العدة أم تستأنف؟ فيها اختلاف؛ من جهة أن الفسخ أولى [باستئناف] (1) العدة من الطلاق، لما نبهنا عليه في ذكر المراتب. هذا إذا أسلم الزوج ففسخت. 8140 - وإن أسلم الزوج في مدة العدة فأقامت، لا يخفى حكمه. 8141 - وإن بقي الزوج على التخلف حتى انقضت العدة، تحسب من وقت إسلامها، ثم طرأ العتق، فتتم عدة الحرائر لطريان الحرية، أم تكتفي بعدّة الإماء ويقال لا أثر لطريان العتق؟ نقدم على هذا أصلاً على إيجاز، ونحيل استقصاءه على كتابه، فنقول: الأمة الرجعية إذا عتَقَت في أثناء العدة، فالمنصوص عليه في الجديد: إنها تكمل عدة الحرائر، وفي القديم قولان. ولو كانت الأمة في عدة البينونة، فعتَقَت، فالمنصوص عليه في القديم: إنها تعتد عدة الإماء، وفي الجديد قولان. فإذا ظهر ذلك، فقد اختلف أصحابنا في أن الأمة إذا أسلمت، فتخلّف زوجها، فعتَقت، فكيف الترتيب فيها؟ فمن أصحابنا من قال: هي كالرجعية؛ من جهة أن الزوج مهما (2) أسلم، ثبت النكاح، وذلك إلى إيثاره واختياره، كما أن [الرجعة] (3) إلى اختيار الزوج. ومن أصحابنا من قال: ترتيب المذهب في طريان العتق على عدة اختلاف الدين، كترتيب المذهب في طريان العتق على عدة البينونة؛ من جهة أن عدة الرجعة إذا انقضت، لم تنعكس عليها البينونة تبيّناً، وإنما تتبين مع انقضاء العدة، وإذا انقضى

_ (1) في النسختين: "بإسعاف" والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. (2) "مهما" هنا بمعنى: (إذا). (3) في النسختين: الرجعية.

أمد عدة اختلاف الدين، تبيّنا أن البينونة حصلت في ابتداء العدة، ووقعت العدة بعد البينونة، فيجب إلحاقها في ترتيب المذهب بالبائنات. ومما نجريه في أقسام الكلام: أن الأمة إذا أعتقت وزوجها متخلف رقيق، فلو اختارت الفسخ، فلا يخلو: إما أن يسلم، أو يبقى على التخلف، فإن أسلم، بان أن الفراق وقع من يوم اختيارها الفسخ، وعليها عدة حرة؛ لأنها وجبت وهي حرة، وبان أن ما كنا نقدره عدة اختلاف الدين لم تكن عدة؛ فتستقبل عدةً كاملة. وإن بقي الزوج على التخلف، فالعدة من يوم الإسلام، والبينونة وقعت بالإسلام، والفسخ مردود؛ فإنه مسبوق بالبينونة المترتبة على اختلاف الدين، فهذه وإن فسخت، فكأنها لم تفسخ، فليس عليها استئناف عدة (1)، بخلاف الرجعية إذا عتقت في خلال العدة، واختارت الفسخ؛ فإن فسخ الرجعية ينفذ على كل حال من غير توقف، وفسخ هذه التي عتقت بعد اختلاف الدين موقوف؛ فإذاً [لا استئنافَ] (2)، وعدتها عدة الإماء أو عدة الحرائر؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه. وهذا كله إذا تخلف الزوج، فأسلمت هي وعتقت. وقد بانت الأقسام، وثبتت الأصول، فإن أغفلنا شيئاً، [فما] (3) ذكرناه مُرشد (4) إليه ودال عليه. 8142 - فأما إذا أسلم الزوج وتخلفت الأمة، وعتقت، فلا تختار الإقامة؛ فإن الإقامة غير ممكنة مع [كفرها] (5)، ولو أخّرت الفسخ، فلا شك أن لها ذلك، فلو أسلمت في العدة واختارت الفسخ، نفذ فسخها، وتعتد عدة الحرة من يوم الفسخ.

_ (1) ت 3: استئناف هذه. (2) في النسختين: فإذاً الاستئناف. (3) في النسختين: مما. (4) في الأصل: مرشداً، ت 3. من مرشد. (5) في الأصل: مع اختيارها.

وإن لم تسلم، وبانت باختلاف الدين، فحكم العدة على ما ذكرنا، غير أن الظاهر هاهنا إلحاقها بترتيب [البائنة] (1) إذا أعتقت؛ لأن الزوج ليس إليه شيء إذا كانت هي المتخلفة. ولو فسخت في الكفر أو اختارت المقام، فظاهر نص الشافعي أنه لا يصح منها واحد منهما. فمن أصحابنا من قال بذلك، وعلّل بأن قال: أما [اختيار] (2) المقام، فلا يلائم حالها؛ فإنها جارية في البينونة، وهي أمة كافرة لا تقر تحت مسلم. وأما اختيار الفسخ، فلا ينفذ أيضاًً، لأن فسخ النكاح بحكم العتق من قضايا الإسلام، وليس لها أن تعمل بأحكام الإسلام وتستوجب حقوقها بموجب دين لا تعتقده؛ ولأن الإسلام بيدها، فلتسلم، ثم لها أن تختار الفسخ، وليس كما لو أسلمت وعتقت وتخلف الزوج؛ فإن لها الفسخ لما تقدم تقريره؛ فإنها التزمت الإسلام، وعملت بموجبه، وإسلام الزوج ليس بيدها. وقال صاحب التقريب: لها أن تختار الفسخَ والمقام جميعاً. هكذا حكاه بعض الأئمة عنه، ولم أره في طريقته (3). وهو على نهاية السقوط في اختيار الإقامة؛ فإنا إذا لم نصحح من [المسلمة] (4) اختيار الإقامة، فيجب ألا نصحح من الكافرة أيضاًً اختيار الإقامة. وذهب بعض أصحابنا إلى أن لها أن تختار الفراق دون المقام، وهذا هو الذي لا يجوز غيره، قياساً على [المسلمة] (4)، وما ذكره الأولون من أنها لا تفسخ بحكم الإسلام مردودٌ (5)؛ فإنا نحكم للكفار وعليهم بحكم الاسلام.

_ (1) في النسختين: الثانية. (2) في الأصل: اختار. وت 3: ما اختار المقام. (3) في النسختين: طريقه. (4) في النسختين: المسألة. (5) ت 3: بحكم الإسلام هو فإنا نحكم.

فصل قال: "ولو اجتمع إسلامه وإسلامهن، وهن إماء، ثم عتقن، واخترن فراقه، لم يكن ذلك لهن، إذا أتى عليهن أقل أوقات الدنيا ... إلى آخره" (1). 8143 - هذه المسألة ليست من مسألة نكاح المشركات، ولكن صوّر الشافعي إسلام العبد والإماء معاً، ثم قدر نكاح من يثبت نكاحه منهن، ثم صوّر عتقاً تحت عبد، وفرّع على أن خيار المعتقة على الفور، ثم عبّر عن الفور بعبارة فيها مبالغة؛ حيث قال: إذا مر عليها أقل أوقات الدنيا، فلم تفسخ، بطل نكاحها. واعترض المزني على هذا، وضرب الأمثلة. والقول القاطع فيه أن المعنيَّ بالفور في خيارها -إذا فرّعنا على الفور- كالمعنيّ بالفور إذا ردّ بالعيب. وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع؛ فلست للإطناب في مثل هذا. فصل قال: "ولو اجتمع إسلامه وإسلامهن، ثم عتقن، [اختار] (2) حُرتين في العدة ... إلى آخره" (3). 8144 - قد اشتمل الباب على فصولٍ، فوقع الاعتناء في أوائلها بالحر يسلم على حرائر، ثم تلاه التفصيل في الحر يسلم على إماء يبقَيْن على الرق، ثم اتصل بحكمهن التفصيلُ في الإماء يعتِقن وزوجهن حر، وجرى بعد ذلك القول في العبيد يسلمون على إماء، واتصل به عتقهن تحت العبيد، وما يثبت لهن من الخيار، وبيان اختيارهن للفسخ والإجازة، والتفَّ بذلك أحكام العدة، واتصل القول في صنفين: أحدهما - استفتاح العدة. والثاني - في إكمال عدة الحرائر أو البناء على عدة الإماء.

_ (1) ر. المختصر: 3/ 290. (2) في النسختين: واخترن. (3) لم أصل إلى هذا بلفظه في المختصر. وإن كان موجوداً بمعناه (السابق نفسه).

8145 - وهذا الفصل من بقايا أحكام العبد يُسْلِم على نسوة. والغرض منه يحويه ثلاثة أقسام: أحدها - أن يسلم العبد على إماء منفردات. والثاني - أن يكن حرائر منفردات. والثالث - أن يكن حرائر وإماء. فإن أسلم وتحته إماء منفردات، فأسلمن معه، أو أسلمن قبل إسلامه، أو بعد إسلامه -الكل في العدة- فللعبد أن يختار اثنتين منهن، فلا يُرعى في حقه خوف العنت، ولا يلزمه الاقتصار على واحدة، بخلاف حكمنا في الحر؛ فإن الإماء في حق العبد بمثابة الحرائر في حق الحر، فلو كان تحته أربع إماء، فأسلمت ثنتان، ثم أسلم العبد قبل تَقضِّي عدتهما - وابتداء العدة محسوب من يوم إسلامهما؛ فإن سبب الفراق اختلاف الدين، وذلك يحصل بالإسلام والتخلف، فلما أسلمتا وتخلف العبد، حصل بإسلامهما صورة الاختلاف، فكان ابتداء مدة العدة من وقت إسلامهما، ثم إذا اتفق إسلام العبد قبل انقضاء زمان عدتهما، فلو أسلمت الأخريان قبل تقضّي عدتهما وعدتهما محسوبة من يوم إسلام العبد؛ فإن الاختلاف في الدين معهما حصل بإسلامه. فنقول: للعبد أن يختار الأوليين، أو الأخريَيْن، أو واحدة من الأُوليين؛ وواحدة من الأُخْريين؛ لما سبق تمهيده من أن الإماء في حق العبد بمثابة الحرائر في حق الحر، غير أن أقصى عدد العبيد في الزوجات -حرائر كن أو إماء- ثنتان. ولو أسلم العبد وأسلمن، فحصل الاجتماع في الإسلام على الرق، ثم عتق وعتقن، فلا حكم لهذا العتق، والحكم كما إذا لم يعتِقن، فيختار منهن ثنتين؛ لأن تغير الحال من الرق إلى الحرية حصل بعد الاجتماع في الإسلام، وقد ذكرنا أن ما يحدث بعد الاجتماع في الإسلام لا معتبر به، ولا معوّل عليه. ولو عتق العبد وعتقن في الشرك، ثم أسلم وأسلمن؛ فله أن يختار أربعاً منهن؛ لأنه حصل الاجتماع في الإسلام وهو حر وهن حرائر، فلا ننظر إلى ما تقدم، ونعتبر حالة الاجتماع في الإسلام، وهذا أصل يطّرد ولا يتناقض في أحكام الرق والحرية، وهو اعتبار حالة الاجتماع في الإسلام.

وكذلك لو أسلمن، وتخلف الزوج، ثم عتق في الشرك، وعتقن في الإسلام، ثم أسلم، وكذلك لو أسلم وعتق، [وعتقن] (1) في الشرك ثم أسلمن (2)، فمهما كان حراً وكن حرائر حالة الاجتماع في الإسلام، فالحكم ما ذكرناه. 8146 - ولو عتق العبد، ثم أسلم وأسلمن وهن رقيقات، فليس له أن يختار إلا واحدة منهن، على شرط أن يكون عادماً للطَّوْل خائفاً من العنت، نظراً إلى حالة الاجتماع في الإسلام، وقد كان فيه حراً، فيجعل كما لو لم يزل حراً وكن إماء، فالتحق هذا بما لو نكح الحر في الشرك إماء، فإن كان على شرط نكاح الإماء، اختار منهن واحدة. وكذلك لو أسلمن وهو في الشرك، ثم أسلم، فلا يختار إلا واحدة. وكل ذلك يندرج تحت اعتبار حالة الاجتماع في الإسلام. 8147 - ولو أسلم العبد وأسلمت واحدة منهن، وعتق العبد، ثم أسلمت البواقي، فقد حُكي عن القاضي أنه يختار الأُولى، وهي متعينة للزوجية في هذه الصورة، حتى لا يجوز له إمساك أخرى من البواقي. قال: وذلك بخلاف الحر إذا كان تحته إماء، فأسلم الحر، وأسلمت الإماء على الترتيب - واحدة واحدة؛ فلا تتعين الأُولى للإمساك، بل له أن يمسك أيتهن شاء. هذا كلام القاضي. والأصحابُ بجملتهم على مخالفته، وهو هفوة منه لا يستريب فيها فقيه؛ وذلك لأنه لما عَتق بعد الاجتماع مع الأولى في الإسلام، فعتقه الطارىء لا يثبت له درجة تزيد على درجة الحر الأصلي، ولا شك أن [الأُولى] (3) لا تتعيّن في حق الحر الأصلي. ولو عتق العبد أولاً، ثم أسلم، لم تتعين الأولى، وأي فرق بين أن يعتق قبل الإسلام أو يعتق بعد الإسلام؟ فلا ينبغي أن يشك الفقيه فيما ذكرناه. ولو أسلم وأسلمت ثنتان، ثم عتق، ثم أسلمت الأخريان؛ فقد قال القاضي في

_ (1) في النسختين: وعتقهن. (2) ت 3: أسلم. (3) في الأصل: الأول.

هذه الصورة: له أن يختار ثنتين: إما الأوليين، وإما الأُخريين، وإما واحدة من الأوليين وواحدة من الأُخْريَين، واعتلّ بأن قال: تغيّرُ (1) الحال بعد استيفاء عدد العبودية لم يتغير به الحكم، بخلاف ما لو عتق بعد إسلامه وإسلام واحدة. وهذا خبطٌ لا تعويل على مثله، ولا ينبغي الآن أن نفرع على عثرات الأئمة. 8148 - فإن قيل: إذا أسلم العبد وأسلمت الإماء، ثم عتق وعتقن بعد الاجتماع في الإسلام، فقد قلتم: لا يختار منهن أكثر من ثنتين، وينفسخ نكاح البواقي، وله أن يبتدىء نكاح الأخرييْن منهن أو نكاح ثنتين سواهن، فلا معنى للحكم بانفساخ النكاح مع التسليط (2) على أن يبتدئه بعده؟ قلنا: لما حصل الاجتماع في الإسلام على الرق؛ فقد دفع الشرع نكاح اثنتين، وقرر نكاح اثنتين، والانفساخ لا يتوقف على الاختيار، [وإنما] (3) يُعين المختارُ نكاحاً تقدم ثبوته، وفسخاً تقدم نفُوذُهُ، فإذا كان كذلك، فقد جرى الانفساخ في حالة الرق، والجاري حالة الاختيار [تعيين] (4) لما كان واقعاً قبلُ على طريق [التبيّن] (5). والدليل عليه: أنه لو تقدم اجتماع في الإسلام بين الزوج ونسوة، ثم إنهن مُتن، وأسلمت البواقي؛ فللزوج أن يختار الميّتات، مع العلم بأن الميتة غير قابلة لابتداء النكاح، ولكن الاختيار تبيُّنٌ، كما قدمناه. وكذلك لو أسلم الحر مع إماء، وكان حالة الاجتماع على شرط نكاح الإماء، ثم أيسر من بعدُ؛ فله أن يختار نكاح أمة وإن لم يكن حالة الاختيار ممن يجوز له نكاح الإماء؛ فإن الأمر مستند إلى حالة الاجتماع في الإسلام. وهذا واضح متمهّد. ثم ضرب الأصحاب في ذلك [أمثالاً] (6) من الكتب لا حاجة إليها؛ فإن المعنى

_ (1) ت 3: يعتبر. (2) ت 3: التسلط. (3) ت 2: وإن. (4) في النسختين: تعين، والمثبت تقدير منا. (5) في النسختين: البين، والمثبت تقدير منا. (6) في الأصل: أمالاً.

الذي ذكرناه مستقل كامل، غيرَ أنهم قالوا: لا يمتنع أن يُمنع الشخص من استدامة (1) ما يجوز له ابتداؤه، وهذا بمثابة ما لو اصطاد المحرِم صيداً، واستدام اليد عليه ثم تحلل ويده قائمة دائمة على الصيد، فعليه رفع يده، وإن كان يجوز له أن [يصطاده] (2) ابتداء في حالة التحلل (3)، ولكن لما استندت يده إلى اعتدائه السابق، قلنا: عليه إزالة هذه اليد. وإن كان لا يمتنع عليه إثبات مثلها. ولو غسل المتوضّىء إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف (4)؛ فإنه لا يمسح إذا أحدث؛ لأنه ابتدأ، فلبس الخف الأول قبل تمام الطهارة، فإن أراد التسبّب إلى المسح، فلينزع الرجل الأولى، وليُعدْها، كما تقرر في موضعه، وهذا مُغنٍ (5) بوضوحه عن الإبعاد في الاستشهاد. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان تحت العبد إماء منفردات. 8149 - فلو كان تحته حرائر منفردات، فلا يخفى تفصيل المذهب؛ فإن الحرائر في حق العبد كالإماء، فيتخير منهن اثنتين إذا أسلم وأسلمن معه. 8150 - ولو أسلم وأسلمت اثنتان ثم عتق، ثم أسلمت الأخريان، قال الأئمةُ [أجمعون] (6): له أن يمسك اثنتين من غير مزيد، واعتلوا بأن قالوا: عِتْقُهُ وقع بعد استيفاء عدد العبودية. ولو أسلم وأسلمت واحدة، وعتق العبد، ثم أسلمت البواقي؛ فله أن يُمسك أربعاً، لأن عتقه وقع قبل استيفاء عدد العبيد. واستشهد الأصحاب على هذا فقالوا: العبد إذا طلق امرأته طلقةً، ثم عتق؛ فإنه يملك طلقتين أُخريين تتمة الثلاث. ولو طلق امرأته طلقتين، ثم عتق، لم يملك الثالثة؛ لأنه استوفى عدد

_ (1) في النسختين: استدامته. (2) في النسختين: يصطاد. (3) ت 3: التحليل. (4) سقطت من (ت 3). (5) في النسختين: معني. (6) في النسختين: أجمعين.

العبودية في حالة العتق، ولم يؤثّر طريان الحرية من بعد. وكذلك الأمة إذا أعتقت في خلال العدة قبل استكمال قرأين؛ فإنها -على قولٍ - تكمل ثلاثة أقراء، ولو عتقت بعد استكمال القرأين، لم يلزمها القرء الثالث. والأمة إذا عتقت في أثناء ليلتها في القَسْم؛ فالزوج يكمل لها ليلتين فيلحقها بالحرة، ولو عتقت بعد مضي ليلتها، لم يزدها الزوج في هذه النوْبة على قَسْم الإماء، على ما سيأتي تفصيل ذلك في كتابه، إن شاء الله عز وجل. 8151 - وفرّع (1) ابن الحداد مسألة على هذه القاعدة، فقال: الذمي إذا طلق امرأته طلقةً واحدةً، ثم نقض العهد، والتحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وضرب صاحبُ الأمر عليه رقاً، فأراد أن ينكح تلك التي طلقها في حالة الحرية قبل نقض العهد؛ فإذا نكحها، فهو على طلقة واحدة منها، فإنه الآن رقيق، والطلاق الأول محسوب، فألحقناه برقيقٍ استوفى طلقة، وبقيت له طلقة. وبمثله لو طلق الذمي زوجته طلقتين ثم طرأ ما وصفناه من النقض والالتحاق والوقوع في الأسر وجريان الرق، ثم أراد أن ينكح تلك المطلقة، فله أن ينكحها على طلقة ثالثة، والسبب فيه أنه لما طلق امرأته طلقتين في حال الحرية، لم نحكم بوقوع الحرمة الكبرى المُحْوِجة إلى التحليل، فإذا طرأ بعد ذلك الأحوالُ التي وصفناها، فلا نُحدث تحريماً لم يتقدم، ويجوز النكاح، ثم لا يخلو نكاح عن طلقة. وهذا الذي ذكره ابن الحداد على التحقيق ناشىء من الأصل الذي مهدناه، وليس يخالفه في المعنى. وذكر الأصحاب في ذلك عبارة ضابطة، فقالوا: الجامع للمسائل [أن نقول] (2): إذا تغير الحال بعد جريان الحكم، وهناك أصل باق في [حق] (3) المغيّر، فالمغير الطارىء يؤثر - إما بالزيادة وإما بالنقصان على ما يقتضيه الحال؛ لأن المغير يجد (4)

_ (1) ت 3: ففصل. (2) زيادة من (ت 3). (3) في الأصل: حكم. (4) ت 3: يحل.

أصلاً يتشبث (1) به، و [يستند] (2) إليه ويعمل فيه. فإذا طرأ الطارىء، وليس ثَمَّ أصلٌ باق، لم يؤثر المغيّر، ولم تظهر فائدة، وعلى هذا تخريج المسائل. فإذا عَتَقَ العبد بعد إسلامه وإسلام واحدة من الحرائر، ثم عتق البواقي، فإنه يختار أربعاً؛ لأن الحرية طرأت وهناك أصل باق. ولو عتق بعد إسلامه وإسلام حرتين، لم يمسك إلا اثنتين؛ لأن المغيّر الطارىء لم يصادف أصلاً يعمل فيه بعد تمام عدد العبد. وكذلك العبد إذا عتق بعد استيفاء طلقتين، لم يملك الثالثة، لأن العتق لم يطرأ على أصل باق له في الطلاق، وإن عتق بعد استيفاء طلقة، [ملك] (3) بعدها طلقتين؛ لأن الحرية وردت مع بقاء أصل، وعلى هذا يخرّج أمر العدة. وكذلك القول في مسألة ابن الحداد في الذمِّي؛ لأنه إذا طلق طلقتين، ثم طرأ الرق، لم يبق في قياس العبيد عدد بعد الطلقتين حتى يؤثر طريان الرق؛ فسقط أثر الرق الطارىء، وإذا كان طلقها طلقةً واحدة وأثّر الرق الطارىء في الرد إلى طلقتين [فتحسب] (4) منهما الأولى، فقد جرت هذه المسائل على الضبط الذي ذكرناه نفياً وإثباتاً، فهذا ما ذكره الأصحاب. 8152 - ووراء ذلك مباحثة في المعنى، بها تمام البيان، فنقول: المسائل التي الاستشهاد بها -نظيرَ المسألة التي نحن فيها- قد تنفصل في نظر الفقيه عن هذه المسألة، وبيان ذلك: أنَّ العبد إذا طلق امرأته طلقتين، فقد وقع الحكم بالتحريم الذي يتوقف ارتفاعه على التحليل، فطريان العتق بعد ذلك لا يؤثر في رفع التحريم الواقع الممدود إلى حصول التحليل، وإذا انقضت عدة الأَمَة، وقع الحكم ببراءتها وخلوّها عن العدة، وأنها تحل للأزواج، فإذا عتقت، استحال ارتفاع الحل المحكوم به. وفي مسألتنا إذا أسلمت حرتان مع إسلام العبد، لم يصر العبد مستوفياً حقه،

_ (1) ت 3: ليتسبّب به. (2) في النسختين: يسند. (3) في النسختين: تلك. (4) في النسختين: وتحتسب.

والمسلمتان ما تعيّنتا لزوجيته (1)، بدليل أنه لو لم يخترهما حتى أسلمت البواقي، فله أن يختار اثنتين من البواقي، فلم يوجد إذاً في حال رقه إلا التمكن من اختيار اثنتين، والتمكن من التي لا تحل محل [الثُّنيا] (2). فهذا ما يخطر للفقيه في انفصال هذه المسألة عن نظائرها، وكان لا يبعد من طريق الاحتمال أن يقال: يتوقف إلى إسلام البواقي، ثم إن فرض عتقٌ في بقية العدة نلحقه بالأحرار، وهذا احتمال لا قائل به، ولا صائر إليه، والغرض بذكره التنبيه على طريق من طرق الاحتمال، وإلاَّ، فالحكم المبتوت به والمذهب المقطوع به ما ذكره الأصحاب (3).

_ (1) في النسختين: لزوجية. (2) محل الثُّنيا: بضم المثلثة وسكون الموحدة بعدهما ياء مثناة: معناه الاستثناء، يقال: حلفت يميناً ليس فيها ثُنيا، أي استثناء، وهذه هبة ليس فيها ثنيا: أي استثناء. (ر. الأساس، والقاموس المحيط، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، والمختار، والمصباح). ومعنى العبارة: أن العبد إذا أسلم وأسلم معه عدد، فليس له في حال رقه إلا التمكن من اختيار اثنتين. أما العبد الذي يطلق زوجته طلقتين، فقد بانت منه، فإذا عتق لا يتمكن منها بزعم أن العتق جعله من الذين يملكون ثلاث طلقات. "فالتمكن من التي لا تحل محل الثنيا" أي تمكينه منها بعد أن صارت لا تحل هو موضع الاستثناء، هذا وقد رسمت الكلمة هكذا (السثى) في (ت 2) وفي (ت 3) (الشى) فقدرناها (الثنيا) بعد طول تأمل. والله وحده يهدي إلى الصواب. (3) إلى هنا انتهى الجزء الحادي والعشرون من النسخة التي رمزنا لها (ت 2)، وبدأ هذا الجزء من أول (باب اجتماع الولاة وتفرقهم) وكان هو الأصل من أوله إلى نهايته، وهو أحد أجزاء هذه النسخة التي قدر لنا الحصول عليها، فلم تقع لنا كاملة، لا هي ولا غيرها، كما أشرنا في المقدمة. وهذا الجزء برقم 327. وقد جاء في خاتمته: تم الحادي والعشرون من نهاية المطلب في دراية المذهب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلم وشرّف وكرّم وعظّم. يتلوه في الجزء الثاني والعشرين -إن شاء الله تعالى- فصل: قال الشافعي: ولو أسلم وأسلم معه أربع، فقال: فسخت نكاحهن، سئل ا. هـ. بنصه.

فصل (1) قال الشافعي: "ولو أسلم، وأسلم معه أربع، فقال: فسخت نكاحهن، سئل؛ فإن أراد طلاقاً، فهو ما أراد ... إلى آخره" (2). 8153 - نجزت فصول العبد والإماء، وأحكام الرق، وطريان العتاقة، وأخذ الشافعي في ذكر أحكام باقية من نكاح المشركات تجري منه مجرى الأركان، وقد ذكرنا أن الرجل إذا أسلم وتحته نسوة، وليقع الفرض في الحر والحرائر [لئلا] (3) نقع في مضايق أحكام الرق. فإذا أسلم وأسلمن وهن زائدات على الأربع، فالإسلام يدفع نكاح الزائدات على الإبهام، وتبقى في الزوجية أربعٌ مبهمات، والتعيين إلى الزوج، وهذا قد سبق تمهيده. فإن قيل: فما أصَّلتموه أنه لو اتصل بالإسلام مفسد، تضمن ذلك الحكمَ بفساد العقد، وعليه بنيتم بقاء بقية العدة وزمان الخيار، ومعلوم أن الجمع بقي إلى الإسلام، فهلا قضيتم بفساد العقود فيهن جُمع؛ من قِبل اتصال العقد بالإسلام؟ قلنا: هذا تلبيس؛ فانَّ العدة المقترنة بالنكاح تبقى مع الإسلام وبعده، فيقع الحكم على النحو الذي مهدناه، والجمع لا يجامع الإسلام؛ فإنَّ الرجل كما (4) أسلم وتحته عشر أو أكثر، اندفع نكاح الزوائد بنفس الإسلام، فلم يجتمع مع الإسلام زائدٌ على العدد المحصور شرعاً. ولا نقول: يطرأ الإسلام ثم يفسخ العقد في الزوائد، بل يقع الإسلام مع الفسخ، ويضاد الإسلامُ نكاحَ الزوائد مضادةَ السواد البياضَ، فالضدان يتعاقبان، وليس بينهما تخلل زمان، كذلك القول في نكاح الزوائد مع الإسلام.

_ (1) من هذا الفصل بدأ العمل عن نسخة وحيدة، هي (ت 3) وبدأ هذا من أواخر ورقة 54 ش. والله المستعان. (2) ر. المختصر: 3/ 290. (3) في الأصل: لا. (4) كما: بمعنى عندما (وقد تقدم التعليق على ذلك مراراً).

ومما تقدم ذكره، أنه إذا أسلم على أكثر من أربع وأسلمن معه، أو في العدة، فيتعين اختيار أربع منهن، والزوجية ثابتة في أربع، ولا يحصل بالاختيار الزوجيةُ، وإنما يحصل به تعيين الزوجات المبهمات، ولو أراد الزوج أن يفارقهن من غير طلاق، لم يمكنه، جرياً على ما أوضحناه. 8154 - ولو أسلم وأسلمت أربع، فقال: فسخت نكاحهن، لم نحكم بنفوذ الفسخ إذا أراد بذلك فراقاً من غير طلاق، فلو أصرَّت المتخلفات؛ فالذي عليه الجماهير: أن الفسخ الموجه على الأربع الأوائل لاغٍ مردود، ووجودُه كعدمه. وقد حكينا عن العراقيين وجهاً في وقف الفسخ (1) الموجه على الأوائل، وتفريع ذلك يقتضي أن نقول: إذا كُنَّ ثمانياً، فأسلم أربع، ثم بعدهن أربع، وقد فسخ نكاح الأوائل، فنتبين الآن أن نكاح الأوائل ارتفع بما تقدم من الفسخ، وتعينت الأواخر للزوجية. ولو أسلمت الأوائل وهن أربع - في الصورة التي ذكرناها؛ فاختارهن، صح، واندفع نكاح المتخلفات، فإنْ أصررن، فاندفاع نكاحهن بإسلام الزوج، وإن أسلمن في العدة، فقد تبين أيضاًً اندفاع نكاحهن باختلاف الدين، ولكنا تبيّنّا تعيّنهن من وقت تعيينه الأوائل للزوجية (2). ولو طلّق الأربع الأوائل، نفذ، وكان توجيه الطلاق عليهن متضمناً اختيارهن؛ فإن الطلاق حَلٌّ، ومن ضرورته تقدير العقد في محلّه. ولو قال: الأوائلُ فسختُ نكاحهن، ثم زعم أنه أراد بذلك طلاقاً، قُبل قوله؛ فإنّ اللفظ يحتمله، والطلاق يقع بالصريح تارة وبالكناية أخرى. وإن زعم أنه أراد حلَّه [بلا طلاق] (3)، فقد لاح أنَّ ذلك لا ينفذ في

_ (1) حكى النووي قول الوقف، ولم يتعرض له بتصحيح ولا تضعيف (ر. الروضة: 7/ 168). (2) قال النووي: هذا هو الموافق لأصول الباب، وحكى عن البغوي أنه قال: "تقع الفرقة باختيار الأوليات" (ر. الروضة: 7/ 167). (3) في الأصل: حلّه بالإطلاق، وهو تصحيف، أعان على تصويبه عبارة الروضة (السابق نفسه).

الحال (1)، وإنما الكلام في صحة الوقف. وقد ذكرت اختلافاً ذكره العراقيون. 8155 - ولو أسلم وتحته ثمان، ثم قال: من أسلم منهن، فقد اخترت نكاحها؛ فمن أسلم منهن لم تتعين للزوجية، ولم يصح الاختيار فيها؛ فإنَّ الاختيار لا يقبل التعليق (2)؛ فإنه إن كان بمثابة ابتداء عقد من طريق التشبيه لم يقبل التعليق، وإن نزلناه منزلة الاستدامة، فالاختيار على حالٍ لفظٌ معتبر في الاستدراك، فلا أقل أن ننزله منزلة الرجعة، وهي لا تقبل التعليق أيضاًً، والذي يغني عما ذكرناه أن الاختيار تعيين، وذكره على التعليق إيراده على صيغة الإبهام، وهذا يناقض التعيين المأمور به. ولو قال: من أسلمت فقد فسخت نكاحها، وأراد تعييناً للفراق وحلاً [بلا طلاق] (3) فمن أسلمت، لم تتعين للفراق لمعنيين: أحدهما - أنَّ التعيين للفراق أحد موجبي الاختيار، فينافيه التعليق، كما ذكرناه في الإجازة. والمعنى الثاني - أن التعيين للفراق قبل العدد التام غير مسوغّ، كما قدمناه. ولو قال: من أسلمت، فهي طالق، فمن أسلمت تُطلّق، ويتضمن وقوعُ الطلاق اختيارَها للزوجية أولاً، كما تقدم، [و] (4) اختيار الزوجية، وإن كان لا يقبل التعليق مقصوداً، فقد تحصل ضمناً لما يقبل التعليق. والدليل عليه أن السيد لو أبرأ المكاتب عن نجوم الكتابة يعتق، والإبراء لا يقبل التعليق، ولو قال لمكاتبه: إن دخلت الدار، فأنت حر؛ فإذا دخل؛ عتَقَ وبرىء، فتحصل البراءة ضمناً، وإن كانت لا تُعلّق وحدها صريحاً. 8156 - ولو قال: من أسلمت، فقد فسخت نكاحها، وزعم أنه أراد بذلك الطلاق، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن ذلك مقبول منه. ثم القول في الطلاق المصرح به ما ذكرناه.

_ (1) قال النووي: "الصحيح أنه يلغو" (السابق: 168). (2) قال النووي: تعليق الاختيار باطل (ر. الروضة: 7/ 166). (3) في الأصل: بالإطلاق. (4) "الواو" مزيدة لاستقامة الكلام.

وحكى العراقيون وجهاً، أن تفسيره الفسخ بالطلاق مردود، وهذا لا وجه له. فإن تكلف متكلف وقال: الفسخ في نكاح المشركات صريح في الفراق الذي هو من خصائص الباب، وما كان صريحاً في موضوعه لا يجوز أن يُعدل به عن موضوعه [بالنية] (1)، وهذا كما أن الطلاق لا يصير بالنية ظهاراً، والظهار بالنية لا يصير طلاقاً (2). وهذا بعيد؛ فإنَ الفسخ قبل الإسلام لا يقال له على صيغة التعليق، والطلاق ينفذ، فكان استعمال الفسخ في وقت لا يجد نفاذاً في موضوعه. 8157 - ولو كُنَّ ثمانياً، فأسلمت واحدة، فقال: فسخت نكاحها، ثم هكذا: أسلمن بجملتهن واحدة واحدة، والتفريع على الأصح (3) -وهو إلغاء الفسخ- ففسخه مردود في الأربع الأوائل، وهو نافذ في الأربع الأواخر، والسبب فيه أن فسخ الأربع الأواخر وقع وراء العدد الكامل، وهو الأربع، فكان نافذاً. وكذلك لو أسلمت أربع دفعة واحدة، ثم أسلمت أربع أخرى، فينفذ الفسخ في المتأخرات؛ فإنه وراء العدد الكامل - وهو الأربع؛ فينبني على هذا ما نريد الآن. فإذا أسلمن مترتبات واحدةً واحدةً، وهو كان يفسخ نكاح كل من تُسلم، فلا ينفذ الفسخ في الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وينفذ في الخامسة إلى الأخيرة، ثم إذا نفذ الفسخ في المتأخرات، تعنيت الأوائل للزوجية، إذ لا بد من أربع. وإن فرّعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه العراقيون، فنقف الفسخَ في الأربع الأوائل، وننظر إلى ما يكون، فإن أسلمت الخامسة فقال: فسخت نكاحها، فنقدم على ذلك فرضَ الكلام في إسلام أربع جميعاً، وإسلامِ أربع بعدهن، والنسوة ثمان، وقد قال لما أسلمت الأوائل: فسخت نكاحهن، وقال لما أسلمت الأواخر: فسخت نكاحهن، فإن فرعنا على ظاهر المذهب؛ ففسخه الأُول لاغٍ، ولما فسخ نكاح الأربع المتأخرات حالة إسلامهن، نفذ الفسخ فيهن، وتعينت الأوائل للزوجية، [وعلى قول

_ (1) في الأصل: بالبينة. (2) هذا الوجه قال عنه النووي أيضاً: إنه ضعيف. (ر. الروضة: 7/ 167). (3) قال النووي في هذه الصورة: الصحيح أنه هذا الفسخ لغو (الروضة: 7/ 168).

الوقف] (1) لو فسخ نكاح الأوائل، وقفنا فسخه، وانتظرنا العاقبة، فلما أسلمت الأواخر معاً، ثبت نكاحهن كما (2) أسلمن، وتبيّنّا نفوذ الفسخ في الأوائل. ولو فسخ نكاح الأواخر، لم ينفذ فسخه؛ فإنا نفذنا على وجه الوقف فسخَه في الأوائل، فاقتضى ذلك تعيين الأواخر للزوجية، وإذا تعيّنّ، بطل تقدير الفسخ فيهن إذا أسلمت أربع معاً، ثم أسلمت أربع. 8158 - فأما إذا أسلمت أربع على الترتيب واحدة واحدة، وفرّعنا على الوقف، فالفسخ في الأربع المترتبات موقوف، فلما أسلمت الخامسة، فقد تمكّنّا من [التنفيذ] (3) لفسخ نكاح واحدة من الأوائل، فإنَّ الإجازة والاختيار في الخمس لا وجه له، فننفذ فسخاً؛ ويتعين [للتنفيذ] (4) الفسخُ في الأولى؛ فإنه أول فسخ صدر، فيتبين نفوذه بأول التمكن، ثم لما نفذنا الفسخ في الأولى يبطل الفسخ في الخامسة وتعيّنها للزوجية إذا كانت المسألة مفروضة في ثمان، ثم إذا أسلمت السادسة، نفذنا الفسخ في الثانية للقياس الذي ذكرناه في الخامسة والأولى، وإذا أسلمت السابعة، ففسخ نكاحها، نفذنا الفسخ في الثالثة، وأثبتنا زوجية [السابعة، وإذا أسلمت الثامنة، ففسخ نكاحها، نفذنا الفسخ في الرابعة، وأثبتنا زوجية] (5) الثامنة، وصار إسلام الأربع الأواخر ترتيباً مع تقدير الفسخ فيهن مؤدياً إلى ما اقتضاه فسخ نكاح الأربع الأواخر جميعاً لو أسلمن معاً بعد تقدم الفسخ في الأوائل جميعاً لما أسلمن معاً. والمذهب إلغاء الفسخ في الأوائل، وإبطال مذهب الوقف، وليس يخفى التفريع عليه. 8159 - ولو أسلمت أربع من الثمان، فآلى الزوج، لم يصر بالإيلاء مختاراً لهن، بخلاف ما لو طلقهن (6)، والسبب فيه أن الإيلاء يمين على الامتناع عن الوطء،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) كما: عندما. (3) في الأصل: التقييد. (4) في الأصل: للتقييد. (5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وهو النسخة الوحيدة، وزدناه على ضوء السياق. (6) هذا هو الأصح، قاله النووي (ر. الروضة: 166).

والحلف [على] (1) الامتناع عن الوطء يلائم الأجنبية المعينة للفراق، وليس كالطلاق؛ فإن من ضرورته حَلٌّ بعد تقدير عقد، وكذلك لو أسلمت أربع، فظاهَرَ عنهن، لم يجعل الأصحاب الظهار تعييناً للزوجية؛ فإن معنى الظهار المبالغة في وصف المرأة بالتحريم، من حيث تشبيهها بالمحرمات، وهذا يلائم حال الأجنبية بخلاف الطلاق. هذا ما وجدته للأصحاب. 8160 - ومما ذكروه واتفقوا عليه؛ أنه لو أسلم من النساء خمس أو ست، فقال الزوج المسلم: أوقعت الأربع المختارات فيهن؛ فالاختيار ينحصر فيهن، وتندفع الباقيات لو قدر إسلامهن. وقد يتطرق إلى هذا سؤال، وذلك بأن يقال: الاختيار تعيين، وحصره الزوجات في جمع من النسوة زائداتٍ على العدد المعتبر شرعاً لا تعيين فيه؟ وسبيل الجواب عنه: إن التعيين على معنى الحصر في هذا الجمع محقق كائن، وفيه تعيين الباقيات تعييناً للفراق، فصح ذلك. ولو أبهم رجل طلقة بين أربع نسوة، ثم أشار إلى اثنتين، وقال: من أردته بالطلاق فيهما، كان ذلك ضرباً من التعيين، وترتب عليه تعيين الأخريين للزوجية، وانحصار الطلاق في اللتين ذكرهما للطلاق إبهاماً، ثم يتعين عليه تعيين المطلقة منهما، كذلك القول في اختيار الأربع من الست اللواتي حصر المختارات فيهن، فنقول: عيِّن أربعاً منهن وفارق اثنتين. هذا ما ذكره الأئمة. 8161ـ ولم يتصل بأطراف الكلام أن الزوج إذا أسلم وتخلفت الزوجة، وطلقها وهي متخلفة، فلا شك أن الطلاق لا ينتجز في تخلفها، مع جواز أن تصرّ على شركها حتى تنقضي العدة؛ إذ لو اتفق ذلك، تبيّنا ارتفاع النكاح بنفس اختلاف الدين، وذلك سابق على تنجيز الطلاق. ولكن لو طلقها، ثم أسلمت، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في تنفيذ ذلك الطلاق

_ (1) في الأصل: عن.

تخريجاً على الوقف، وسبب ظهور الخلاف أن الطلاق أقبل [للغرر] (1) من غيره. ولو كان تحته نسوة زائدات على العدد المحصور، فأشار إلى أربع منهن في الشرك، فقال: أجزت نكاحهن، [فلا شك] (2) في بطلان اختياره إذا أبطلنا قول الوقف، فأما إذا فرعنا على قول الوقف، فهذا الاختيار فاسد أيضاًً؟ فإنها على ثبوتها (3) لا يصح اختيارها، ومن أجاز وقف العقود، لم يجوّز بيع الخمر على تقدير المصير إلى حموضة الخل. وفي القلب من هذا أدنى شيء؛ من قِبل أنَّ الخمر ليست مملوكة ويثبت الملك مع تخللها غير مستند إلى حالة الشدة، وإذا أسلمت الوثنية، تبينا أنها كانت زوجة وهي وثنية، وهذا الإسناد محكوم به شرعاً، فيتطرق إمكان القول بالوقف على بُعدٍ في الإجازة. والعلم عند الله تعالى. فرع: 8162 - إذا أسلمت نسوة زائدات مع إسلام الزوج، فقد ذكرنا أنه يختار أربعاً منهن، فلو وطىء، فهل يكون وطؤه اختياراً للزوجة؟ فيه وجهان ذكرهما العراقيون، وهما كالوجهين في أن الرجل إذا أبهم طلقة بين امرأتين ثم [وطىء] (4) إحداهما أو أبهم إعتاقاً بين أمتين ثم وطىء إحداهما، فهل يكون الوطء تعييناً للملك والزوجية؛ حتى تتعين الأخرى للعتق وللطلاق؟ فعلى اختلاف (5) مشهور، سيأتي مشروحاً في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل. فرع: 8163 - ظاهر النصوص أن عدة المتعينات للفراق تحتسب من وقت تقدم الإسلام ممن تقدم به، وإن أحببنا قلنا: أول العدة يُحتسب من وقت اختلاف الدين، هذا مقتضى النصوص، وعليه أجرينا المسائل. وللشافعي نص في كتاب العدة "أن الرجل إذا نكح امرأة نكاحاً فاسداً، فكان

_ (1) في الأصل: للغزو. (2) في الأصل: لا ينفك. والمثبت تقدير منا. (3) ثبوتها: أي البقاء على الشرك. (4) في الأصل: أبهم. (5) قال النووي: المذهب أن الوطء لا يكون اختياراً (ر. الروضة: 7/ 167).

يغشاها، فالعدة تحتسب من وقت التفريق بينهما، لا من آخر وطئه"، وفيه اختلاف وتفصيل سيأتي -إن شاء الله تعالى- في كتاب العدة، والغرض من ذلك أن معظم أئمتنا قالوا: ابتداء العدة محسوب من وقت اختلاف الدين، فإن فرّعنا على ابتداء عدة الشبهة من وقت التفريق بين الزوجين، والسبب فيه [أن] (1) الزوج في النكاح الفاسد يخامر زوجته ويخالطها مخالطة الأزواج، وإن كان لا يغشاها، فيجوز ألا يقع الاعتداد بذلك الزمان من العدة، فالزوج لا يغشى المتخلفات في مسألتنا ولا يخالطهن مخالطة من يتسلط على الغشيان، فكان ذلك فرقاً بين المسألتين. ومن أصحابنا من قال: إذا حسبنا ابتداء عدة الشبهة من افتراق، فنحسب ابتداء العدة في المتخلفات من وقت التعيين [للفراق] (2)، وكذلك القول فيه إذا أسلمن وتخلف، وهذا القائل يعتل، فيقول: إذا كان ظن [الزوجية] (3) على الفساد يمنع الاحتساب بالعدة في النكاح الفاسد، فتقع الزوجية في المتخلفات أو في المسلمات تحت الزوج المتخلف أولى بأن تمنع الاحتساب من العدة. وحقيقة هذا سيأتي في كتاب العدة، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ولو أسلمن معه، فقال: لا أختار، حُبِسَ حتى يختار ... إلى آخره" (4). 8164 - إذا أسلم وتحته أكثر من أربع أسلمن، فالزوج مأمور بأن يختار أربعاً منهن، والاختيار حتم عليه؛ فلا يجوز له أن يتركهن مبهمات؛ فإنه لو فعل ذلك، لكان حابسَهن على غير تعيين للفراق والزوجية. وكذلك القول فيه إذا أبهم طلاقاً من نسوة.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: فللفراق. (3) في الأصل: الزوجة. (4) ر. المختصر: 3/ 291.

ثم قال الشافعي: "إذا امتنع من التعيين، حبسته ليُعيّن، فإن امتنع مع الحبس يُعزر ويضرب حتى يختار" (1). هذا كلام الشافعي. وفي هذا أدنى تأمل على الناظر. والحبس في وجوه (2) من ثبت عليه دين نوعٌ من العقوبة، ونحن لا نحبس في الدَّين إلا بعد ثبوته، ولا تعويل على قول القائل: لسنا نقطع بصدق الشهود؛ فإنَّ البينة إذا قامت، أرقنا الدماء بها، وهجمنا على العظائم، ثم حكمنا بالظاهر، ووكلنا الأسرار إلى الرب تعالى، وليس الحبس بأعظم من القتل والرجم، ولكن إنما اختار ولاة المسلمين وقضاةُ الدِّين من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبسَ لسرٍّ، وهو أنه عقوبة دائمة إلى الوفاء بالحق، ولا يتصور إدامةُ عقوبةٍ غيره. وفيه مع ما ذكرناه لطيفة أخرى، وهو الاستيثاق بمن عليه الحق؛ فاجتمع في الحبس هذان المطلبان. ثم ذكر الشافعي أن الرجل إذا امتنع من الاختيار، فرأى القاضي أن يعزره، عزّره، وهذا مضموم إلى الحبس، فلا اكتفاء بالتعزير، وإنما رأى الشافعي [ذلك] (3)؛ لأنه ما [لم] (4) يتطرق إلى الذي وجب عليه الاختيار إمكانُ عذر؛ فإن (5) الأمر إلا إليه، فتركه للاختيار نكاح (6). فقال الأئمة: لو فرض مثل هذا في الحقوق المتوجهة، ورأى القاضي التعزير [ضمّاً] (7) إلى الحبس، فله ذلك، وإنما يتصور هذا إذا أقر بالحق واعترف بقدرته

_ (1) السابق نفسه. (2) كذا. ولعلها: "حق". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة من المحقق. (5) (إن) نافية. (6) كذا (تماماًَ بكل وضوح في الرسم) ولا أدري لها وجهاً. ولعل في الكلام سقطاً أو تصحيفاً. هذا، ولم يفد في ذلك الإشكال، عبارة العز بن عبد السلام في مختصره، ولا الرافعي، ولا النووي، ولا الغزالي في وسيطه وبسيطه. والله المستعان. ولعل صوابها: "نكال" أي تنكيل بهؤلاء النسوة. (7) في الأصل: ضمناً.

[على أدائه، وأخر مماطلةً، من غير أن يكون له وطر] (1)؛ فللقاضيَ أن يعزره، فأما إذا قامت البينة وهو [رادٌّ] (2) ولكنا أوضحنا له: "أن القضاء نفذ عليه ولا يقبل منه تكذيبُ البينة"، فإن كان يدعي إعساراً، فلا سبيل إلى المزيد على الحبس، وإن اعترف باليسار؛ فالظاهر عندنا امتناع التعزير، وفي الحبس مقنع. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن للقاضي أن يعزره. ثم ما ذكرناه من التعزير ليس حتماً، بل هو إلى رأي الوالي، على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل. ثم إن كرر السلطان التعزير حيث يراه، فلا بأس، ويخلَّلُ بين التعزيرين زمانٌ يبرأ فيه عن التعزير الأول؛ فإن الموالاة في العقوبة عظيم. فإن قيل: هلا قلتم: إذا امتنع الزوج من التعيين، فللقاضي أن يعيّن عليه، كما يطلّق زوجة المُولي بعد المدة إذا امتنع عن الفيئة، على أحد القولين؟ قلنا: المرأة مطالِبة بحقها وهي مضرورة من جهة الزوج، فإنْ قطع الحاكم نكاحاً لإزالة الضرر، لم يبعد، وفي مسألتنا واحدة من النساء لا تتعين لطلب حقها، فلا سبيل إلى تفويض ذلك إلى القاضي. ثم قال الأصحاب: إذا امتنع الزوج -وتحته ثمان، وأسلم وأسلمن- عن اختيار أربع منهن، وحبسناه، فلا نعزره على الفور، فلعل أ [له في التعيين فكراً] (3)، وأقرب معتبر في ذلك مُدَّة الاستتابة (4). 8165 - ثم عليه أن ينفق على جميعهن ما دام ممتنعاً عن اختيار أربع، أجمع

_ (1) عبارة الأصل: "على أداء الحق به وأخر بما طلبه وطر". (2) في الأصل: أراد. (3) في الأصل: "عليه في التعيين فكرة" وكنا قدرنا الصواب من عندنا هكذا: "فلعله يُعمل في التعيين فكره" ولكنا آثرنا إثبات ما رواه الرافعي في الكبير: 8/ 123. وفي (صفوة المذهب): "فلعل له في التأخير فكرة". (4) مدة الاستتابة: أي استتابة المرتد. صرح بذلك الغزالي في البسيط: 4/ 50 شمال.

الأصحاب عليه، واعتلّوا بأنهن محبوسات بسببه، والزوج قادر على تخليصهن من الحبس، فإذا أدام حبسهن أُلزم نفقتهن. وهذا المقدار لا يستقل، والوجه أن نقول: إنما تجب النفقة لأن كل واحدة منهن تزعم أنها مستحِقة، والنفقة من حيث إنها كانت من قبلُ مستحقة، ولم يتحقق في حقها على الخصوص ما يوجب إسقاط النفقة؛ فهي على مطالبتها بحقها من النفقة إلى أن يتبين ما يسقطها. والذي يوضح ذلك: أنه لو لم تثبت لكل واحدة منهن نفقة، فلا سبيل إلى إسقاط نفقتهن بالكلية، ولو أوجبنا نفقة أربع نسوة، فلا يمكن تعيين المستحقة، ولا سبيل إلى وقف النفقة إلى البيان؛ فإنَّ النفقة أُثبتت شرعاً لحاجة ناجزة لا تقبل الوقف. ولو فُضّت (1) النفقة التي ذكرناها عليهن من غير وقفٍ، لما وصلت واحدة منهن إلى نفقة تسد مسداً، فإذا تعذر الوقف، وتعذر إسقاط أصل النفقة، ولم يتجه الفضُّ [والتعيين] (2)، فالرجوع إلى اعتبار كل واحدة في نفسها؛ نظراً والتفاتاً إلى الاستحقاق القديم، حتى كأنه لا طَلِبة إلا منها ولا مستحقة غيرها - أولى (3) معتبرٍ وأحقُّ مرجوع إليه. ومما يعضد ذلك أن الجاريات في العدة بسبب اختلاف الدين ينزلن عند معظم الأصحاب منزلة الرجعيات في عدة الرجعة، على ما سنقرر ذلك في آخر الباب، إن شاء الله عز وجل. والرجعية تنزل منزلة الزوجة في استحقاق النفقة ما دامت في عدة الرجعة. فقد وضح ما ذكرناه من إيجاب النفقة على الزوج من كل وجه. 8166 - ثم الكلام وراء ذلك يُفرض في موت الزوج قبل اتفاق التعيين والاختيار، فإذا اتفق ذلك، تعلق الكلام بفصلين: أحدهما - في العدة، والثاني - في الميراث. فأما القول في العدة، فليس يخفى أن الزوجة تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر

_ (1) فضّت: أي قسمت. (2) في الأصل: "والقيمة". والمراد التعيين عليه من القاضي. (3) أولى: خبر مبتدؤه (فالرجوع إلى ... ).

وعشراً، التي مات عنها زوجها، والتي تبيّن أنها بانت عن زوجها تعتد بالأقراء، إن كانت من ذوات الأقراء، وتعتد بثلاثة أشهر إن كانت من ذوات الشهور. ونحن نعتبر في حق كل واحدة مسلك الاحتياط، ولا نحلّها للأزواج إلا على ثَبتٍ، وتعيُّنُ هذا المساق يقتضي لا محالة أن يُرعى في حق كل واحدة منهن أقصى الأجلين، فإن كانت العدة بالأشهر، لم يخف وجه الاحتياط، فإن الأربعة أشهر والعشر تشتمل على ثلاثة أشهر وتزيد، وإن كن حوامل؛ فإذا وضعت الحامل بعد الموت حملها، فقد حلت عن العدة، فإنها سواء فرضت زوجة، أو قدرت بائنة (1) عن زوجها، فوضع الحمل يبرئها إذا وضعت بعد الموت. وإن كانت من ذوات الأقراء، فينبغي أن تأتي بثلاثة أقراء فيها أربعة أشهر وعشر. وإن أحببتَ قلتَ: تعتد بأربعة أشهر وعشر، وإن أحْببت قلت: تعتد بأربعة أشهر فيها ثلاثة أقراء، فأي الأجلين انقضى انتظرت الأجل الآخر، وهذا معنى أقصى الأجلين، واليقين يحصل بهذه الطريقة. ثم عدة الوفاة يعتبر ابتداؤها من وقت موت الزوج لا محالة. والبينونة، من أي وقت يعتبر ابتداؤها؟ فعلى وجهين، مهدناهما قبلُ: أحدهما - أنا نعتبر ابتداءها من أول الإسلام، إن كان الإسلام على الترتيب، ويعتبر في حق كل واحدة إسلامها وإسلام زوجها، ولا يخفى درك هذا على الفقيه، ولا يضر التعرض للجليات في أثناء الخفيات. والوجه الثاني - أنا نعتبر ابتداء عدة البينونة في حقوقهن من وقت موت الزوج، فإنهن من قبل ذاك في حال الزوجية والتباس الحال، فشابهن المنكوحة نكاح الشبهة والزوج كافر. ومن أسرار القول في العدة -وإن كان متّضحاً- أن وجوب العدة قد يحال على اختلاف الدين، كما تقدم، وذلك يستدعي ترتيباً في الإسلام، وتقديرَ سبقٍ من أحد الزوجين إليه، فإذا أسلم الزوج وأسلمن معاً، فالعدة تحال على دفع الإسلام نكاح

_ (1) في الأصل: نابية.

الزوائد، فإنا أوضحنا أن الإسلام يتضمن انتفاء أنكحة تزيد على حد الشرع. ثم المختارات في الزوجية والمندفعات بحكم الزيادة يبنين على الوجه الظاهر من وقت الإسلام الواقع؛ فالعدة إذاً تحال مرة على اختلاف الدين، ومرة على الدفع. ثم الدفع قبل البيان على لَبْسٍ، كما أن تبين الارتفاع باختلاف الدين موقوف على ما يُبيِّن، فهذا حاصل الكلام في العدة. 8167 - فأما القول في الميراث؛ فإذا مات الزوج [وبقين] (1) [فنفرز] (2) من تركته ميراثَ زوجة من غير مزيد، وهو ربعٌ أو ثمن، عائلٌ أو كامل. ثم الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن هذا القدر يوقف بينهن، فلنفرض ثمانياً، ونقول: ميراث الزوجة الواحدة موقوف بينهن؛ فإن اصطلحن، فذاك، وإن لم يصطلحن، استمر الوقف. ثم قال الأصحاب: لو جاءت واحدة أو اثنتان أو ثلاث أو أربع يطلبن من الربع أو الثمن، فلا نجيبهن إلى شيء؛ من جهة أنا نجوّز أن تكون الزوجات من الباقيات اللاتي لم يطلبن شيئاًً من الموقوف، وقد صورنا تحته ثمانياً. ولو جاءت خمس يطلبن، فنسلم إليهن ربعَ الموقوف؛ فإنا نستيقن أن فيهن زوجة. فأقل ما يقدر لهن هذا. وقد قال الشافعي: لو كان فيهن طفلٌ (3)، فليس لوليها أن يرضى لها -إذا طلبن [الاصطلاح] (4) - بأقلَّ من ثُمن الموقوف، وعلل بأن قال: إذا وُقف بينهن وهن ثمان

_ (1) في الأصل: "وتعزين" والمثبت تقدير منا. (2) في الأصل: نقرر. والمثبت اختيار منا. (3) كذا بلفظ "طفل" بالتذكير، وهو صحيح؛ فهو دال على المذكر والمؤنث (المصباح)، وهو لفظٌ غير معهود في هذا المقام، وقد جاءت عبارة الرافعي في (الشرح الكبير) والنووي في (الروضة) والعز بن عبد السلام في مختصره بلفظ "صغيرة" مكان (طفل). لكن جاء في الوسيط بلفظ (طفلة)، ونقل العبارة ابن الصلاح عن النهاية بلفظ (طفلة)، وبمثله -طفلة- جاءت (صفوة المذهب). (ر. الوسيط، وبهامشه مشكل الوسيط لابن الصلاح: 5/ 151). (4) زيادة للإيضاح مما نقله ابن الصلاح عن النهاية في مشكل الوسيط.

مقدارٌ، [فيدُ] (1) كل واحدة منهن ثابتة على ثُمن الموقوف، فلا يقع الرضا بأقلَّ من ثُمن الموقوف على موافقة ثبوت الأيدي. ومما ذكره الأئمة؛ أن الخَمس إذا جئن يطلبن، فقد ذكرنا أنا لا نسلم إليهن إلا رُبع الموقوف في الصورة التي صورناها، فهل يشترط عليهن الإبراء عن الباقي؟ فعلى وجهين: أحدهما - وهو القياس الذي لا جريان لغيره، أنا لا نشترط ذلك؛ فإنهن لم يطلبن فوق حقهن، بل اقتصرن على المقدار المستيقن [لهن] (2)، فيبعد كل البعد أن نكلفهن إسقاط حق يتوقع لهن، بل يجب أن يُجَبن إلى القدر المستيقن فحسب. والوجه الثاني - أنا لا ندفع إليهن شيئاًً، بل نديم الوقف إلا أن يسقطن حقوقهن من الباقي؛ فإنَّ سبب إجابتهن في مقدار من الموقوف لهن قطعُ خصومة عاجلاً وآجلاً، وهذا لا يحصل إلا بالإبراء، وهذا وجه لا اتجاه له عندنا. ويتعلّق بتمام البيان في ذلك أنهن إن كن يطلبن أن يقتسمن الربع المسلّم إليهن، فذاك، وإن كن على أن يقفن ذلك الربع بينهن، فهذا خلي عن الفائدة؛ فإن الوقف كائن قبل ذلك، ولكن إذا أردن هذا، فغرضهن الاختصاص باليد. ويتفرع عليه أن الخَمس إذا أخذن رُبع الموقوف، فثلاثة أرباعه تبقى تحت أيدي ثلاث نسوة، فإن أسقطت الخَمسُ حقوقهن من الباقي، فتختص به الثلاث الباقيات، وهذا خيال في التفريع لا حاصل له، فإنا إذا اشترطنا في إجابتهن أن يسقطن حقوقهن من الزائد على الرُبع المسلم إليهن، وهن أيضاًً يقفن الربع ولا يقتسمنه، فما استفدن شيئاًً، إلا أن الربع موقوف بين خَمس - يدُ كل واحدة منهن ثابتة على خُمس الرُبع، وهو يقع سهماً من عشرين سهماً من جميع الحصة الموقوفة لهن، وقد كانت يد كل واحدة قبل هذا الاستدعاء ثابتة على سهم من ثمانية أسهم من جملة الحصة. وإذا وضح ذلك، فليس لاستدعائهن مقصود مطلوب إلا أنهن يملكن الاستبداد بأنفسهن من غير مراجعة الباقيات إذا تراضين بالاقتسام، فَتُبْنى إجابتهن إلى ما يطلبن

_ (1) في الأصل: "قبل". وهو تصحيف ظاهر. (2) في الأصل: "لها".

على ملكهن الانفراد بأنفسهن من غير مراجعة إلى الباقيات. وإن قلنا: لا يشترط على الخَمس الطالبات من الثمان إسقاط حقوقهن من الباقي، فيظهر الغرض بأنهن ملكن الانفراد بالتصرف في الربع المسلم به، وحقوقهن بعد حط الربع لهن قائمة في الباقي الموقوف. ولو زدن على الثمان وكن تسعاً مثلاً، فجاءت خَمسٌ وطلبن أن نقدر لهن شيئاًً، لم نجبهن؛ فإنا نجوز أن يكن الأربع الباقيات هن الزوجات. ولو كنَّ ستاً، فجاءت أربع منهن يطلبن، فنسلم إليهن نصفَ الموقوف؛ فإنا نعلم أن في [الأربع] (1) زوجتان، ولو جاءت ثلاث يطلبن، فنسلم إليهن ربع الموقوف، فإنا نعلم أن في الثلاث زوجة، وإنما نأخذ هذا الاعتبار من عدد اللواتي لا يطلبن أن [يخصصن] (2) بشيء، وليس يخفى مُدرك الغرض في ذلك على من له فكر. 8168 - [ومما] (3) ذكره الأصحاب في ذلك أن الزوج إذا كان تحته أربع وثنيات وأربع كتابيات، فأسلمت الوثنيات معه، واستقرت الكتابيات؛ فالنكاح متردد بينهن، من جهة أن المسلم يقرر على نكاح الكتابية، فإذا مات، ولم يختر منهن أربعاً، فلا نقف لهن شيئاًً؛ فإنا نقف المقدار المستيقن، ونحن نجوّز أن تكون الزوجاتُ الكتابيات؛ إذ لو اختارهن في حياته، لجاز له ذلك. ثم لا ميراث للكتابيات، فإذا أمكن تقرير هذا، فقد زال تحققُ الاستحقاق وثبوتُه على قطع، وهذا سديد على مذهب الشافعي في اعتبار اليقين في المواريث عند وقوع اللبس. وقد ألحق الأئمة بهذه الصورة، أن الرجل لو نكح مسلمة وكتابية ثم قال: "واحدة منكما طالقة ثلاثاً"، ومات قبل البيان، ولم نُقم بيانَ الورثة مقام بيانه، فلا نقف لهما شيئاًً، للعلة التي ذكرناها؛ فإنه كان يجوز أن يعيّن المسلمة للفراق، ثم لا ترث الكتابية لو فعل ذلك ومات.

_ (1) في الأصل: "الست". وهو سبق قلم. (2) في الأصل: يخصص. (3) في الأصل: وما.

وذكر صاحب التقريب هذه المسألة، وأجاب فيها بجواب الأصحاب، وحكى وجهاً آخر، أنَّا نقف ميراث زوجة بين المسلمة والورثة إذا وقع بينهما الطلاق المبهم، وطلب أن يفصل بين هذه المسألة وبين المسألة التي ذكرناها في نكاح المشركات من فرض أربع وثنيات يسلمن وأربع كتابيات يصررن على الكفر، ولم يأت بما يقبل الحكاية، ولا يتوقع الفقيه في ذلك فرقاً ممكناً أصلاً. فهذا ما ذكره جماهير الأصحاب في الميراث طردناه على وجهه. 8169 - وذكر صاحب التقريب طريقةً عن ابن سريج وعدَّها خارجة عن قياس الأصحاب. ولا يستقر على المسلك الحق عندنا غيرُها (1)، وذكر أنه حكي عنه أنه قال: إذا لم يختر المسلم الزوجات، ومات قبل اتفاق ذلك، واتفقت (2) النسوة على صورة الحال، ولم يختلفن، ولم تدّع واحدةٌ منهن كونها مختارة، بل اعترفن بصورة الحال، فالربع أو الثمن مفضوض عليهن بالسوية؛ فإنَّ التوقع في البيان منقطع، وكل واحدة منهن في سبب الاستحقاق بمثابة صاحباتها، وليس ذلك لبساً يُنتظر زواله. والذي يكشف الغطاء في ذلك: أن محل اللبس ينتظم أن يقال فيه: ما هو مشكل علينا معلوم لله تعالى، فهذا التقدير لا يمكن إجراؤه في هذه المسألة؛ إذ لا وجه في البيان، فيفرض معلوماً لله تعالى. ولو قال: إن كان هذا الطائر غراباً، فأنت طالق، وقال لزوجته زينب: إن لم يكن غراباً، فأنت طالق، فتطلق إحداهما. فإن أشكل الطائر، وأشكل تسميةُ الطالق منهما، فهذا الإشكال يختص بنا، والرب تعالى عليم بالطالق، ومثل ذلك لا يتأتى تقديره في المسلمات الزائدات على العدد الشرعي إذا مات الزوج قبل اختيار الزوجات منهن، فلا وجه إلا التسوية بينهن قسمةً وتوزيعاً.

_ (1) هذا الذىِ اختاره الامام غير ما استقر عليه المذهب، فقد قال الرافعي بعد أن نقل هذا عن الإمام: "والمشهور الأول" أي الوقف (ر. الشرح الكبير: 8/ 124) أما النووي، فقد قال: "ومال الإمام إلى هذا الوجه، والصحيح الذي عليه الجمهور هو الأول" (الروضة: 7/ 171). (2) في الأصل: "اتفقت" بدون واو.

وهذا حسن منقاس، وإن كان مخالفاً لما عليه جماهير الأصحاب، وهذا يخالف ميراث الخناثى، فإنا لا [نأيس] (1) بياناً فيهم، والبيان غير متوقع في المسألة التي ذكرناها، ولا بد من صرف الميراث إليهن، فلا معنى للتوقف إذاً والحالة هذه. وقد نجز الغرض من هذا الفصل. فصل قال: "وإن أسلم وعنده وثنية، ثم تزوج أختها ... إلى آخره" (2). 8170 - إذا كان نكح في الشرك وثنية، ثم أسلم وتخلفت الوثنية، وذلك بعد الدخول، فقد بان أنا ننتظر إسلامها في مدة العدة، فلو نكح بعد الإسلام أختها المسلمة، فلا شك أن المتخلفة لو أسلمت في العدة، فنكاح الأخت مردود، فإنا عرفنا أن المسلم بعد التزام الأحكام أدخل نكاح أخت على أخت. ولو نكح أختها كما فرضنا، ثم أصرت المتخلفة حتى انقضت العدة؛ فقد بان أن نكاح أختها وقع بعد بينونة المتخلفة. فالذي نقله المزني عن الشافعي أن النكاح مردود، واختار لنفسه صحة النكاح. وعلل الأصحاب فساد النكاح بما اقترن به مما يقتضي الوقف، والنكاح لا يقبل الوقف، وهذا أجراه الأصحاب على منع وقف العقود، وقد ذكرنا للشافعي قولاً في وقف العقود في كتاب البيع، وأوضحنا فيه مراتب الوقف، وطرق المذهب في كل مرتبة، فهذا نكاح جرى في وقتٍ كان لا يمكن أن نقطع فيه بانعقاد النكاح. فلم ير الشافعي -فيما نقله المزني- تصحيح النكاح. 8171 - وهذا الفصل فيه سر؛ فإن الوقف الذي اتفق الأصحاب على إجراء القولين فيه مصور فيما إذا زوّج الرجل جارية أبيه في غيبته مثلاً، بناء على تزويج ملكه بغير إذنه، ثم بان أن أباه كان قد مات في وقت التزويج، وأنها كانت مملوكة للمزوّج في

_ (1) في الأصل: نأنس. (2) ر. المختصر: 3/ 291.

الوقت، فهذا في انعقاده قولان عند كافة الأصحاب. فإذا وضح ذلك، رجع الكلام إلى نكاح الأخت وأختُها متخلفة، وقد اختلف الأصحاب في ذلك، فذهب جمهورهم إلى إفساد النكاح، وإن تخلفت الوثنية إلى انقضاء العدة. وأجرى بعضهم القولين كما ذكرناه في الصورة المتقدمة، فأما إجراء القولين؛ فقياسه أنا نتبين آخراً أن الأخت تزوجها المسلم، والوثنية بائنة (1) في تلك الحالة. ومن رأى القطع (2) أظهر فرقاً بين هذه المسألة وبين مسألة الميراث، وقال: إذا زوّج جارية أبيه في غيبته، ثم بان أنها كانت ملكاً له بالميراث، وأن أباه كان قد مات؛ فالسبب المجوِّز للنكاح كائن في الحال، ولكنه لم يعلمه المزوّج، وأما إصرار المتخلفة إلى انقضاء العدة فليس أمراً واقعاً حالة العقد، ولكنه متعلق بما يكون في الاستقبال، وهو غيب لا مطّلع عليه، ولا يعلمه إلا الله عز وجل، فهذا وجه الفرق. ومما يتضح به الفرق عند الفارقين أن من الأئمة من جعل المتخلفة بمثابة الرجعية في العدة، ونكاح الأخت في عدة الأخت الرجعية غير سائغ، والمزني لما اختار صحة النكاح بناء على ما تبين في المآل استدلّ بالطلاق، وقال: إذا تخلفت الوثنية [وطلقها] (3) زوجها المسلم، فلو أصرت حتى انقضت عدتها، فقد تبين أن الطلاق لم يصادفها؛ [فإنها] (4) بانت بإسلام الزوج، ولو أسلمت في العدة، لحقها الطلاق، وهذا مما تردد الأئمة فيه، فذهب الأكثرون إلى وقوع الطلاق، وهو الذي لا يسوغ غيره؛ فإن الطلاق يقبل التعليق بالغرر، ومنتهى ما يحذر في الوقف [تقدير] (5) التعليق، والنكاح وما في معناه من العقود لا يقبل التعليق، فلم ينعقد على تقديره، والطلاق إذا كان يقبل صريح التعليق، فيقبل تقديره على حكم الوقف، ومن أصحابنا من أجرى في الطلاق حيث ذكرنا قولَ الوقف.

_ (1) في الأصل: ثابتة. (2) القطع: أي القطع بإفساد نكاح الأخت الثانية. (3) في الأصل: يطلقها. (4) في الأصل: في أنها. (5) في الأصل: تقديره.

وعلى هذا النحو اختلف الأصحاب فيه إذا أعتق الرجل عبداً لأبيه، ثم بان أنه كان مِلْكَ الابن بالميراث؛ فالذي ذهب إليه المحققون: الحكم بنفوذ العتق قطعاً، ومنهم من رأى تخريج ذلك على قول الوقف، وقد أشرت إلى هذا الاختلاف من طلاق المتخلفة. والذي أراه إبطال مذهب من يصير إلى تخريج خلاف في الطلاق لما ذكرناه الآن. والفقيه من [يميز] (1) عثرات الأئمة عما يعد من أصل المذهب. 8172 - ومما يتعلق بمضمون الفصل أن المرأة لو أسلمت وتخلف الزوج، ونكح أختها في الشرك، وكانوا يرون نكاح الأخت على الأخت، فلو جرى ذلك في الشرك وقد أسلمت الأخت التي كانت زوجته قديماً، ثم أسلم الزوج بعد ما تزوج الأخت، فقد قال الأئمة: نجعل ما جرى بمثابة ما لو نكح في الشرك أختين، ثم أسلم عليهما وأسلمتا، فإنا نخيره بينهما، وهذا مفروض إذا أسلمت الأخت [التي] (2) تزوجها حديثاً، فالحكم أن يتخير. فإن اختار القديمة، تبين اندفاع الجديدة بعد الحكم بثبوت نكاحها، على الرأي الظاهر في ثبوت أنكحة الشرك، وإن اختار الجديدة، اندفع نكاح القديمة، هذا ما ذكره الأصحاب. وفي ذلك أدنى مراجعة؛ فإنه لو كان نكح في الشرك أختين ثم أسلم وأسلمتا، فاختار إحداهما، فقد استمر النكاح عليهما في الشرك، ثم اتصل النكاح فيهما بالإسلام، وفي هذه المسألة جرى نكاح إحداهما بعد إسلام الأخرى، ولكن لا يختلف الحكم بهذا الاختلاف؛ فإن اندفاع نكاح إحدى الأختين إنما يحصل ويتبين عند الاجتماع في الإسلام، فإذا أسلم في العدة وهما [مسلمتان] (3)، جرى الأمر في اختيار إحداهما على القياس المعلوم. فإن اختار الجديدة، بان اندفاع نكاح القديمة من وقت إسلامها، فإن اختار القديمة، بان اندفاع نكاح الحديثة، إما من وقت إسلامهما إن أسلما معاً، أو من وقت إسلام من تقدم بالإسلام منهما إن ترتبا في

_ (1) في الأصل: يحسن. (2) في الأصل: الذي. (3) في الأصل: مسلمان.

الإسلام؛ وهذا خارج عن الأصول الممهدة؛ فإنهما إن أسلما معاً، فلا اختلاف بينهما، وسبيل اندفاع الجديدة بدفع الإسلام نكاحها عند اجتماع الأختين في الإسلام، فيتأرخ اندفاع نكاحها بوقت الاجتماع في الإسلام لا بوقت الاختيار؛ فإن الاختيار بيان وليس [بقطع] (1). وإن أسلم الزوج مثلاً أولاً ثم أسلمت الجديدة من بعد، [فاختار] (2) القديمة، فهو كما لو نكح أختين في الشرك فأسلم الزوج وأسلمت واحدة فاختارهما، فنكاح المتخلفة يتأرخ زواله بوقت اختلاف الدين لا محالة. وقد نجز مقصود نكاح المشركات أصلاً وتفريعاً، ولم يبق منه إلا الكلام في المهر، وما يفرض من اختلافٍ بين الزوجين في التقدم والتأخر، وادعاء الاجتماع في الإسلام على ما تقتضيه أغراض المختلفين، ونحن نعقد في كل غرض من هذه الأغراض فصلاً. فصل قال: "ولو أسلمت قبله ثم أسلم في العدة ... إلى آخره" (3). 8173 - إذا أسلم أحد الزوجين بعد المسيس قبل الثاني، فلا يخلو إما أن تسلم هي أو يسلم هو، فإن أسلمت هي أولاً، وتخلف الزوج، نُظر: فإن جمعها الإسلام قبل انقضاء العدة، استحقت النفقة لما مضى من الزمان بعد إسلامها. وإن أصر الزوج على تخلفه حتى انقضت العدة، فقد تبيَّنا انبتات النكاح بينهما، وهل تستحق النفقة لما مضى، يعني لأمد العدة؟ قال الأئمة: الصحيح أنها تستحق، لأنها بالإسلام أدت فرضاً عليها، والنفقة لا تسقط بأداء فرض. وذكر بعض الأصحاب وجهاً آخر: أنها لا تستحق النفقة من وقت اختلاف الدين،

_ (1) في الأصل: بقطيع. (2) في الأصل: فاختيار. (3) ر. المختصر: 3/ 291.

وعلل بأن قال: هي التي (1) أحدثت سبباً منعت (2) به الاستمتاع، ثم تمادى الأمر إلى تبين الانبتات. هذا ما ذكره المعتبرون. وذكر بعض الأصحاب فيه -إذا أسلمت أولاً ثم الزوج في العدة- وجهاً أنها لا تستحق النفقة لما مضى في زمان الاختلاف، وإن استقر النكاح بينهما في الاجتماع في الإسلام؛ لأنها بإسلامها -وإن أحسنت- تسببت إلى منع نفسها من الزوج وسد طريق الاستمتاع. فهذا نقل ما قيل. 8174 - والذي أراه: أنها إذا أسلمت، وتخلف الزوج إلى انقضاء العدة، فإيجاب النفقة لمدة العدة بعيد عن القياس، وإن صحح الأصحاب إيجابها وعدّوا الوجه [الآخر] (3) ضعيفاً (4)؛ وذلك أنا نتبين أنها كانت بائنة، والبائنة لا تستحق النفقة إذا كانت حائلاً. وهذا لا ينقدح عنه جواب القاضي، [بأن] (5) الخلاف في النفقة ينبني على تردد الأصحاب في أن سبيل الجارية في عدة اختلاف الدين سبيل الرجعيات أو سبيل البائنات، وهذا مما ظهر فيه اختلاف الأصحاب: فمنهم من قال: هي كالرجعيات؛ من جهة أن الزوج يتمكن من إثبات النكاح بنفسه بأن يسلم، وتمكُّنه من ذلك بمثابة تمكُّن الزوج من رجعة المطلقة الرجعية. ومن أصحابنا من قال: المرأة بمثابة البائنة. وهذا التردد غير صادر عن ثبت [وتحقُّقٍ؛ من] (6) جهة أن الكلام مفروض فيه إذا انقضت العدة من غير اجتماع في الإسلام، وإذا جرى الأمر كذلك؛ فالتردد في البينونة

_ (1) في الأصل: الذي. (2) في الأصل: مبعث. (3) في الأصل: للآخذ. (4) هكذا يصرح الإمام بمخالفة الأصحاب، والمختار في المذهب قول الأصحاب، وسماه النووي "الصحيح" (الروضة: 7/ 172) أما الرافعي، فقد قال: إنه المذهب (ر. الشرح الكبير: 8/ 127). (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: وتحققوه عن. وقد صدقتنا (صفوة المذهب).

غير معقول، والدليل عليه أنه لو طلقها الزوج وقد أسلم وهي المتخلفة، فالطلاق لا يلحقها إذا أصرت، والطلاق يلحق الرجعية، فلا متعلق لمن يقول: عدتها بمثابة عدة الرجعية، إلا ما أشرنا إليه من تمكن الزوج من إثبات النكاح بالإسلام، وهذا لا حاصل له؛ فإن الإسلام ليس تصرفاً في النكاح حتى يُستشهد به على صفة العدة، وإنما حالٌ يجري، ثم يُبتنى عليه حكمٌ في النكاح، وهذا بمثابة قول الفقهاء: المرأة لا تقدر على رفع النكاح من غير ضرار مخصوص تدفعه بالفسخ، ونتصور منها أن ترتد ولا يكون هذا تمكناً منها من فسخ النكاح. ثم الذي يقتضيه التوجيه الذي ذكره الأصحاب: الفرق بين أن تكون هي المتخلفة وبين أن يكون هو المتخلف، فإنَّ الزوج إذا تخلف وسبقت بالإسلام، فهو متمكن من إثبات النكاح بالإسلام، فهذا يضاهي الرجعة، والزوج المتخلف بمثابة المطلِّق المرتجع من حيث يتمكن من الإسلام تمكن الزوج من الرجعة، فإذا كانت هي المتخلفة والزوج مسلم؛ فليس يتعلق إثبات النكاح باختيار الزوج؛ فإن الأمر معلق بإسلامها وتخلفها، وهذا يوضح أن التعويل على الإسلام في المعنى الذي ذكرناه غير مستقيم؛ فإن البائنة والرجعية لا اختيار لهما في الاستبداد بالرجوع إلى النكاح، والمتخلفة متمكنة من الإسلام، وهو سبب ثبات النكاح. ولو جرى في مدة العدة، فالذي لا يتجه (1) عندنا غيره: أن العدة إذا انقضت في تخلف الزوج، فلا نفقة لها، وذكر الأئمة أن الأصح وجوب النفقة، وعليه تدل النصوص، وهذا إذا سبقت بالإسلام وتخلف الزوج ثم أسلم في العدة أو أصر. 8175 - فأما إذا أسلم الزوج وتخلفت المرأة؛ فالذي ذكره الأئمة: أنا ننظر: فإن

_ (1) هذا الذي لا يتجه عند الإمام غيره، مخالف لما عليه أئمة المذهب، وتدل عليه النصوص، كما قال الإمام نفسه. وعبارة النووي: "وإن أصر حتى انقضت العدة، استحقت نفقة مدة العدة على الأصح عند الجمهور، وهو المنصوص في (المختصر) ". ا. هـ (ر. الروضة: 7/ 172) وعبارة المختصر: "ولو أسلمت قبله ثم أسلم في العدة أو لم يسلم حتى انقضت العدة، فلها نفقة العدة في الوجهين جميعاً". ا. هـ. (ر. المختصر: 3/ 291) أما الرافعي، فقد حكى الوجهين، ولم يرجح بينهما، (ر. الشرح الكبير: 7/ 127).

لم يجمعهما الإسلام قبل انقضاء العدة، فلا نفقة لها لما مضى؛ فإنها المتسببة في تخلفها، فكانت كالناشزة على زوجها، انضم إلى ذلك أنا تبيّنا حصول البينونة مستندة إلى وقت اختلاف الدين. وإن تخلفت وأسلم الزوج، ثم إنها أسلمت في العدة واستمر النكاح، فهل تستحق النفقة لمدة تخلفها؟ المنصوص عليه في الجديد: أنه لا نفقة لها لتلك المدة، لأنها بالتخلف ممتنعة عن زوجها متسببة بامتناعها فكانت كالناشزة، ونص في القديم على أن لها النفقة لما مضى من الزمان إذا أسلمت في العدة؛ لأن النكاح استقر آخراً، وهي لم تُحدث أمراً، وإنما الزوج هو الذي أحدث سبب امتناع الاستمتاع، وإذا هي أسلمت فلا، يبعد أن نحمل [تخلّفها] (1) على التفكر في قبول الدين. [ولا] (2) خلاف أن الزوج إذا أسلم وتخلفت، وكان ذلك قبل المسيس يشطر المهر، وهذا دال على إحالة الفراق على إسلام الزوج، فلا يبعد إحالة امتناع الاستمتاع على إسلامه، وناصرُ القول الجديد ينفصل عن المهر، ويقول: المهر في مقابلة العقد، وقد مضى على الصحة، وتعلقت الفرقة بسبب صدر عن اختيار الزوج، واستقرار النفقة في مقابلة التمكين، وهي بتخلفها مانعة من التمكين، فكانت كما لو سافر الزوج، فامتنعت من الخروج معه. هذا تفصيل القول في النفقة. 8176 - ثم الذي نراه أن نذكر ما يتعلق بالنفقة من اختلاف الزوجين، ثم نذكر على إثر فصل المهر ما يتعلق بالمهر من اختلافهما، فنقول - هاهنا تفريعاً على الجديد في الصورة الجديدة: إذا أسلم الزوج أولاً وتخلفت المرأة، ثم أسلمت في العدة، والتفريع على أنها لا تستحق نفقة زمان التخلف، فإذا قال الزوج: أسلمتِ بعد [إسلامي] (3) بخمسين يوماً، وقالت المرأة: بل أسلمتُ بعدك بثلاثين يوماً، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤها على الكفر، ودوام سقوط النفقة، وكانت

_ (1) في الأصل: تحليفها. (2) في الأصل: فلا. (3) في الأصل: إسلامهن.

كما لو أقرت بالنشوز، ثم ادعت أنها عادت إلى الطاعة منذ شهر، وقال الزوج: بل منذ عشرة أيام، فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النشوز. ولو اختلف الزوجان في أصل السبق، فقال الزوج: أسلمت أنا قبل إسلامك، فسقطت نفقتُكِ بالتخلف، وقالت المرأة: لا بل أنا أسلمت قبلك، فالقول قولها؛ لأن الأصل وجوب النفقة وكفر الزوج، فصار هذا كما لو اختلف الزوجان في أصل النشوز، فادعى الزوج نشوز [امرأته] (1)، وأنكرت المرأة، فالقول قولها. وحكى العراقيون وجهاً آخر وهو أنَّ القول قول الزوج؛ فإنه ادعى إصرارها على الشرك، والأصل بقاء الشرك، وهذا وجه بعيد، لم يعرفه المراوزة. وقد نجز الكلام في النفقة، وما ذكرناه منفصل عن النفقة التي تكلمنا فيها إذا أسلمن وأسلم -وعددهن زائد على العدد الشرعي- وامتنع الزوج من الاختيار، فتلك النفقة وجبت بسبب حبس الزوج إياهن مع قدرته على إزالة اللبس، فإذا ضممنا تلك النفقة إلى ما ذكرناه في هذا الفصل، انتظم من المجموع تمام القول في النفقة. فصل قال: "ولو أسلم قبل الدخول، فلها نصف المهر ... إلى آخره" (2). 8177 - إذا أسلم أحد الزوجين فلا يخلو: إما أن يكون قبل الدخول، وإما أن يكون بعده، فإن كان بعد الدخول، فلها المهر المسمى إنْ كانت التسمية صحيحة؛ فإن النكاح قد تأبد وتقرر بالمسيس، وكذلك لو ارتدت أو أرضعت رضاعاً يوجب فساد العقد بعد الدخول؛ فالمهر المسمى باقٍ مستقر، [وسنعقد] (3) في باب الغرور -إن شاء الله عز وجل- وعيوب النكاح فصلاً جامعاً فيما يتضمن سقوط المسمى قبل

_ (1) في الأصل: امرأة. (2) ر. المختصر: 3/ 291. (3) عبارة الأصل مضطربة، وفيها سقط هكذا: "فالمهر المسمى باقٍ مستقر إن شاء الله عز وجل في باب الغرور إن شاء الله عز وجل، وعيوب النكاح فصلاً ... إلخ. والصيغة المثبتة محاولة منا لإقامة العبارة بأقل تغيير ممكن. والله أعلم.

المسيس أو يوجب تشطره، وفي الحكم بعد المسيس، والقدرُ الذي ننجزه هاهنا أن النكاح ارتفع باختلاف الدين والإصرار بعد المسيس، فالمسمى الصحيح ثابت بكماله. وإن كان اختلاف الدين قبل المسيس، نُظر: فإن أسلمت المرأة، سقط مهرها وإن أحسنت بإسلامها؛ لأن الفسخ ترتب على سبب من جهتها. ولو أسلم الزوج قبل المسيس، فيتشطر المهر؛ لأن الفراق متعلق باختيار الزوج، وليس هذا كما لو فسخ الزوج النكاح بعيب المرأة، فإن جميع المسمى يسقط وإن كان الفسخ صادراً من جهته. ولو صدر الفسخ من جهتها بعيب فيه، سقط المسمى أيضاًً، فلم نفرق بين أن تكون هي الفاسخة وبين أن يكون هو الفاسخ، وفي الإسلام [فرقنا] (1) بين إسلامها وإسلامه قبل المسيس، وكذلك نفرق بين ردته وردتها، فيسقط المهر إذا ارتدت قبل المسيس، ونوجب تشطره إذا ارتد الزوج قبل المسيس. فهذا ما أردناه الآن. والفرق على الجملة بين الفسخ بالعيب وبين ما نحن فيه، أن الزوج إذا فسخ، فسبب فسخه أنه استحق سلامتها عن [العيوب] (2)، فإذا صادفها معيبة، انعكس استحقاق الفسخ على أصل العقد، واختلافُ الدين طارىء على العقد، لا استناد له إلى ما تقدم. وما ذكرناه من ثبوت المسمى فيه إذا كانت التسمية صحيحة، فلو ذكر في الشرك صداقاً فاسداً؛ فالرجوع إلى مهر المثل بكماله بعد المسيس، وإن كان قبل المسيس، فالرجوع إلى نصف مهر المثل، فهذا بيان حكم المهر. 8178 - ثم نذكر الآن -وفاءً بالموعود- في اختلاف الزوجين، وإذا اختلفا في تاريخ الإسلام، فلا يخلو إما أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول، ففيه أربع مسائل: إحداها - أن يقول الزوج للمرأة: أسلمتِ قبلي، ويسقط

_ (1) في الأصل: فرقاً. (2) في الأصل: القبول.

مهرك، وقالت المرأة: بل أنت أسلمت قبلي فلي نصف المهر، قال الأصحاب: القول قولها، وعليه نصف المهر؛ لأن الأصل بقاء مهرها، والزوج يدعي سقوطه. والمسألة الثانية - أن يقول الزوج: أسلمتِ قبلي وسقط مهرك، وتقول المرأة: لا أدري، أسلمتُ قبلك أو بعدك، فلا يقضى لها بشيء في الحال؛ لأنها ليست تدعي شيئاًً عليه. والمسألة الثالثة - أن يقول الزوج: أسلمنا معاً، وغرضه بهذا استمرار النكاح بينهما، وقالت المرأة: أسلم أحدنا قبل صاحبه، فلا نكاح بيننا، ففي المسألة قولان: أحدهما - إن القول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح، والمرأة تدعي انقطاعه، والقول الثاني - إن القول قولها؛ فإن ما ادعاه الزوج من وقوع الإسلامَيْن معاً بعيد في الوقوع وفاقاً، فلم يُصدَّق في أمر يبعد وقوعه. وقد قال الأئمة: القولان في هذه المسألة خارجان على اختلاف الأصحاب في حد المدّعي والمدّعى عليه، وفيه خلاف سيأتي مبيناً في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل، فمن أصحابنا من قال: المدعى عليه من ينكر أمراً ظاهراً جلياً، والمدعي من ينكر أمراً خفياً، فعلى هذا القول قولها؛ لأن الظاهر معها. ومن أصحابنا من قال: المدعى عليه من إذا سكت لم يُترك وسكوته، فعلى هذا، القول قول الزوج. والمسألة الرابعة - أن يقول الزوج: أسلمتِ قبل إسلامي، فلا مهر لك، وهي تقول: لا، بل أسلمنا معاً ومهري بحاله، فنقول: النكاح بقول الزوج مفسوخ لا محالة؛ فانه مؤاخذ بموجب نفسه فيما يتعلق بزوال النكاح؛ فإنه المستحق للاستمتاع، وفي وجوب المهر لها جوابان: أحدهما - إنها تستحق نصف المهر؛ لأن الأصل بقاء مهرها، والزوج يدعي سقوطه. والقول الثاني - إن القول قول الزوج؛ لأن المرأة ادعت أمراً بعيداً في العادة نادر الوقوع، وهو وقوع الإسلامين معاً. وقد ذكرنا أنها لو ادعت تقدم إسلامه لينتصف مهرها، والزوج ادعى تقدم إسلامها ليسقط مهرها، فالقول قولها، وإنما اختلف القول فيه إذا ادعت وقوع الإسلامين معاً بسبب

ادعائها اجتماعَ الإسلامين، ووقوعَ هذه الحالة النادرة في العادة كما ذكرنا، وكل ذلك والنزاع بينهما قبل المسيس. ومما أجريناه في أثناء الكلام وقوع الإسلامين معاً، ولم نعن بذلك أن يبتديا كلمتي الإسلام معاً، وإنما عنينا وقوع انتهاء الكلمة منهما معاً، هذا هو الاجتماع. ولا يضر أن يتقدم أحدهما بصدر الكلمة إذا كان الفراغ من آخر حرف منهما معاً، وسنذكر أصل ذلك في مسائل الطلاق، إن شاء الله عز وجل. 8179 - فأما إذا كان الاختلاف بعد الدخول، فلا يظهر أثره في المهر، فإن المهر واجب بكماله بعد الدخول، وإنما يظهر أثر الاختلاف في النكاح وبقائه وارتفاعه: فإذا قال الزوج: أسلمتُ قبل انقضاء عدتك، فالنكاح قائم بيننا، وقالت المرأة: لا بل أسلمتَ بعد انقضاء العدة، فالنكاح منفسخ، فقد ذكر المراوزة: فيه مسائل: إحداها - أن يتفقا على وقت انقضاء العدة، ويختلفا في وقت الإسلام، والأخرى - نقيضها، والمسألة الثالثة - ألا يتعرضا لتاريخ الإسلام ولا لتاريخ انقضاء العدة، بل يُطلِقا، وهذا الاختلاف في هذه المسائل الثلاث يجري في دعوى الرجعة وانقضاء العدة جريانه هاهنا، وقد اضطربت الطرق في ذلك اضطراباً بيّناً، فرأيت تأخير ذلك إلى كتاب الرجعة، وسأستقصي -إن شاء الله عز وجل- فيه الطرق، وأبين المختار الحق ثَمَّ. وقد انتجز الباب والحمد لله رب العالمين. ثم عقد الشافعي باباً مشتملاً على مناظرة له مع محمد في إمساك الأواخر (1)، وليس من شرط هذا المجموع ذكره. ...

_ (1) ر. المختصر: 3/ 292، والمناظرة سبق وأن ذكر الإمام طرفاً منها في أول الباب.

باب ارتداد أحد الزوجين، أو هما إلى الشرك 8180 - المرتد لا ينكح أبداً مسلمة ولا مرتدة ولا كتابية، والمرتدة لا ينكحها أحد: لا مسلم ولا كافر؛ لما فيها من حرمة الإسلام، ولا ينكحها مرتد، هذا هو القول في امتناع ابتداء النكاح مع الردة. 8181 - فأما إذا طرأت الردة على النكاح، فلا يخلو: إما أن يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول، تنجزت الفرقة من غير توقف، ولا فرق بين أن ترتد، أو يرتد الزوج، أو يرتدا معاً، فعلى أي وجه فُرض طريان الردة، فالنكاح ينفسخ على الفور، ثم العود إلى الإسلام لا يرد النكاح، وليس كملك اليمين؛ فإنا وإن حكمنا بأن ملك المرتد يزول عن ماله، فإذا عاد إلى الإسلام عاد ملكه، وهذا لا يتصور في النكاح، وخالف أبو حنيفة (1) فيه، إذا ارتدا معاً (2)، وحكم بأن النكاح لا ينفسخ إذا ارتدا معاً. فأما إذا طرأت الردة بعد الدخول، فلا فرق بين أن ترتد المرأة أو يرتد الرجل، وبين أن يرتدا جميعاً، فالحكم لا يختلف عندنا فيما يتعلق ببقاء النكاح وارتفاعه. فنقول في هذه الصور الثلاث: إذا جرت الردة، ثم فرض الاستمرار عليها إلى انقضاء العدة، فنتبين أن النكاح ارتفع وانفسخ من وقت الردة، وما جرى بعد الارتداد اعتداد محسوب؛ وإن فرض زوال الردة الطارئة قبل انقضاء مدة العدة، فالنكاح قائم بين الزوجين. هذا مذهب الشافعي، فلو ارتدت المرأة مثلاً والزوج مسلم وهي مدخول بها، فلو

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 181، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 360 مسألة رقم: 860. (2) في الأصل أُقحمت كلمة "فقال" هكذا: "وخالف أبو حنيفة فيه، فقال: إذا ارتدا معا، وحكم ... إلخ".

وطئها الزوج في أثناء العدة، فإن اتفق زوال الردة قبل انقضاء مدة العدة، فلا مهر على الزوج بسبب ما جرى؛ فإنا تبينا آخراً أن وطْأه صادف زوجته لا يُلزمه مهراً جديداً. ولو جرى الوطء، ثم أصرّت المرأة على الردة حتى انقضت العدة، وقد تبينا أن الوطء جرى مع بائنة، فعلى الزوج مهر المثل. هذا مقتضى النص في الردة. ونص الشافعي على أن الزوج المطلق إذا وطىء زوجته الرجعية في أثناء العدة، فإنه يلتزم مهرها وإن راجعها بعد الوطء، وهذا يخالف ما حكيناه عن النص فيه إذا وطىء الزوجُ المرتدةَ، ثم عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة. والكلام في هذا الفصل يأتى مستقصى في كتاب الرجعة، وفيه نستقصي حكم ثبوت المهر في الرجعية -إن شاء الله عز وجل- إذا وطئها الزوج ثم راجعها أو لم يراجعها وتركها حتى انسرحت بانقضاء العدة، فإذا نحن ذكرنا ثَمّ حكمَ المهر في الرجعة، فنذكر بعد نجاز الغرض منه كلام الأصحاب فيه إذا ارتدت المرأة ووطئها الزوج ثم عادت إلى الإسلام، وإنما رأيت تأخير ذلك لشدة تعلقه بأحكام الرجعية. 8182 - ونحن نذكر الآن حكمَ المهر المسمى في النكاح وأنه متى يسقط؟ وكيف السبيل فيه؟ إن شاء الله عز وجل. فنقول: إذا ارتد أحد الزوجين أو ارتدا جميعاً، نُظر: فإن كان ذلك [بعد] (1) النكاح [والدخول] (2)، فالمسمى ثابت بكماله، كما قدمنا ذكره في نكاح المشركات. وإن لم تكن المرأة مدخولاً بها، نظر: فإن كانت هي التي ارتدت، سقط المهر بكماله، [كما] (3) إذا سبقت إلى الإسلام وكانت مشركة تحت مشرك، فالحكم بهذا أولى إذا ارتدت عن الإسلام. 8183 - وإن ارتد الزوج قبل المسيس، تشطر الصداق، لم يختلف أصحابنا فيه، ونزل ذلك منزلة الطلاق قبل المسيس، وذلك القول فيه إذا أسلم الزوج المشرك

_ (1) في الأصل: "بُعيد". ولا معنى للتصغير هنا. (2) في الأصل: "بالدخول". (3) زيادة اقتضاها السياق.

وتخلفت المشركة الوثنية، وذلك قبل المسيس، فالحكم تشطر الصداق. ولو ارتد الزوجان معاً قبل المسيس -على ما أوضحنا تصوير الوقوع معاً-، فلا شك في ارتفاع النكاح، واختلف أئمتنا في المهر: فمنهم من قال: يجب لها نصف المهر، وقد وجد سبب الفرقة من جهة الزوج، فيحال الحكم عليه ويضاف وقوع الفراق إلى ما وجد منه، وإن أتت المرأة بمثله، كما لو خالعها، فإنه يجب لها نصف المهر، وإن كانت المرأة قد شاركت زوجها فيما وقعت به الفرقة. والوجه الثاني - لا يجب لها نصف المهر؛ لأن المرأة أحدثت ما يستقل باقتضاء الفرقة لو انفردت، فيسقط مهرها وإن [أتى] (1) الزوج بمثله، وليس كالاختلاع؛ فإن المرأة لا تستقل به والزوج في الحقيقة هو المطلق، ولم يوجد منها مشاركة في الطلاق، وإنما شاركت في قبول عوض الطلاق، [فظهر] (2) الفرق. والاختلاف في ارتدادهما يقرب من الاختلاف الذي حكيناه فيه إذا اشترى الزوج زوجته، فهل نقول يسقط المهر إذا جرى ذلك قبل المسيس، أو يجب نصف المهر للمَوْلى؟ فيه تردد؛ لأن البيع يتعلق على نسق واحد بالبائع والمشتري جميعاً، وليس كالخلع، وكأن [البيع] (3) شبيه بارتداد الزوجين؛ من حيث إن أحدهما لا يختص بكونه مفارقاً بخلاف الخلع؛ فإن المطلق هو الزوج. 8184 - ومما يتعلق بقاعدة المذهب، أن النكاح مهما (4) ارتفع قبل المسيس أو بعده بردة أحد الزوجين، أو بردتهما جميعاً، فسبيل ارتفاعه عندنا الانفساخ لا غير، وأبو حنيفة (5)

_ (1) في الأصل: إلى. (2) في الأصل: وظهر. (3) في الأصل: البائع. (4) "مهما": بمعنى (إذا). (5) عبّر إمام الحرمين فيما حكاه عن أبي حنيفة بلفظ (قد) التي توحي بالتقليل، ولم نصل إلى هذا عن أبي حنيفة، بل ما وجدناه في كتب الأحناف أن أبا حنيفة يجعل ارتفاع النكاح بالرّدة (من الزوج والزوجة) فسخاً، ولكن الذي فرّق فيه أبو حنيفة بين الزوج والزوجة في الحكم هو إباء الزوج الإسلام فقد جعله طلاقاً، أما إباء الزوجة فجعله فسخاً. وأما محمد فقد سوى بين الردة والإباء فجعلهما طلاقاً، وأبو يوسف جعلهما فسخاً، ولم يفرّقا في الحكم بين الزوج والزوجة =

قد يجعل [ارتفاع] (1) النكاح بسبب ردة الزوج طلاقاً. 8184/م- ومما يتعين إجراؤه في قاعدة المذهب سؤالاً وجواباً، أن المرأة إذا ارتدت فهي بردتها متسببة إلى فسخ النكاح وتفويته على الزوج، فلو قال قائل: هلا غرمتموها قيمة البضع لزوجها لانتسابها إلى تفويت البضع عليه، وهلا نزلتموها منزلة الأجنبية تفسد النكاح بالرضاع، أو منزلة الشهود إذا شهدوا على الطلاق، وبعد القضاء بشهادتهم رجعوا عن الشهادة؛ فإنه يجب الغرم على الشهود، وعلى الأجنبية المرضعة، على تفاصيلَ ستأتي مشروحة -إن شاء الله عز وجل- في مواضعها. قلنا: المرأة لا تغرم لزوجها شيئاًَ إذا هي ارتدت فانتسبت إلى فسخ النكاح؛ لأنها عاقدة، ولو غرمت، لغرمت بالعقد، وسبيل الغرامة بالعقد أن يسقط العوض المستحق، فإن أسقطنا جميع المهر -وقد جرى وطء- لأدى ذلك إلى تعرية الوطء عن العوض، وهذا لا سبيل إليه، وإن أسقطنا بعضاً، لم نجد إلى درك ما يصيب الوطاة الواحدة سبيلاً؛ فإن التوزيع إنما يمكن إذا كان ما عليه التوزيع مضبوطاً متناهياً، وهذا -على إشكاله- قد أوردنا الممكن فيه في مجموعاتنا في الخلاف (2). ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك، أن الشافعي نص على أن النكاح إذا فسخ بعيب بعد المسيس فيسقط المسمى بكماله، وللمرأة مهر المثل؛ لأنها قد وطئت، وذكر الأصحاب قولاً آخر أن المسمى لا يسقط بعد تقرره بالدخول، وسيأتي شرح ذلك -إن شاء الله عز وجل- في باب العيوب والغرور. 8185 - وأنا أقول: إن كانت الردة من الزوج فالمسمى بعد الدخول لا يسقط قولاً واحداً؛ من جهة أن ما يشطر المسمى لو جرى قبل المسيس، فإذا جرى بعده تقرر المسمى كالطلاق، فأما المرأة إذا ارتدت، فمعلوم أن ردتها قبل المسيس تسقط المهر

_ = (ر. المبسوط: 5/ 46، 47، فتح القدير: 3/ 296، حاشية ابن عابدين: 2/ 392). (1) في الأصل: ارتفاعه. (2) مجموعاتنا في الخلاف: أي كتبه التي ألفها في الخلاف، وهي: الدّرة المضيّة فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، والأساليب، والعمد، وغنية المسترشدين. ولم يصلنا منها إلا الدّرة المضية.

بكماله، وإن ارتدت بعد المسيس، ففي كلام الأئمة تردد، وهو محل الاحتمال، فمنهم من يلحق الانفساخ الحاصل بردتها بما إذا فسخ النكاح بعيب؛ حتى يخرَّج قولٌ في سقوط المسمى والرجوع إلى مهر المثل، ومنهم من قطع بأنَّ المسمى لا يسقط قولاً واحداً، وهو ظاهر النص، وإليه ميل الجماهير؛ فإن ردته إذا لم تسقط المسمى وإن كان النكاح يرتفع بها انفساخاً؛ فيجب ألا يسقط أيضاًً بردتها، والفسخ بسبب العيب لما تضمن سقوط المسمى بعد الدخول -على القول المنصوص- استوى فيه الجانبان، وهذا - وإن كان ظاهر المذهب، فالقياس إجراء القول المنصوص إذا كانت الردة صادرة من جهتها، ولا يمتنع الفرق بين الجانبين كما فرقنا بينهما في الردة قبل المسيس. 8186 - ثم ذكر الشافعي بعد ذلك التحول من ملة إلى ملة (1)، وقد قدمنا في ذلك قولاً بالغاً. وعقد باباً في طلاق الشرك (2)، وقد استقصينا القول في أنكحتهم، وذكرنا أن المذهب الذي عليه التعويل ينفذ طلاقهم في الشرك، وحكينا في ذلك خلافاً بعيداً، وليس ذلك مما يعتد به من المذهب، ولم أجد في مضمون الباب مزيداً، فلم أعقده، واقتصرت على ما تقدم. ...

_ (1) ر. المختصر: 3/ 292. (2) السابق نفسه.

باب عقد نكاح أهل الذمة

باب عقد نكاح أهل الذمة 8187 - قد ذكرنا في نكاح المشركات أن أنكحتهم التي عقدوها في الشرك على وفق اعتقادهم منفّذةٌ في الإسلام إذا لم يتصل بالإسلام مفسد، وقد تفصّل ذلك على أبلغ وجه في البيان، ومقصود الباب الكلام في مهورهم إذا اتصلت العقود بالإسلام، فنذكر ذلك، ونذكر معه حكم عقودهم في الأموال وتعاملهم على الخمور والخنازير، فنقول: إذا أصدق المشرك زوجته خمراً أو خنزيراً، ثم اتصل النكاح بالإسلام، فالمذهب الذي عليه الجريان: أن المرأة إن قبضت صداقها الفاسد في الشرك، ثم فرض الإسلام بعد ذلك، فليس لها طلب المهر، ويجعل كما لو كان أصدقها الزوج مهراً صحيحاً وقبضته. ولو أسلمت قبل قبض المهر، فلها طلب مهر مثلها في الإسلام؛ وذلك لأنها ما رضيت بالنكاح عارياً عن الصداق، ولما أسلمت وهي على استحقاق المهر ويستحيل أن تطلب الخمر، فلا مرجع إلاَّ إلى مهر المثل، وتنزل هذه الحالة منزلة ما لو نكح مسلم مسلمة على خمر، فالخمر لا تثبت، ولكن يثبت مهر المثل. 8188 - وذكر شيخي مسألتين غريبتين بعد تمهيد أصل المذهب وكنت أستبعدهما حتى رأيتهما لصاحب التقريب. فقد حكاهما عن نصوص الشافعي في سير الواقدي، إحدى الطريقين - أنها [إن] (1) لم تقبض الصداق في الشرك، وأسلمت، طلبت مهر المثل، كما ذكره الأصحاب، وإن قبضت الصداق الفاسد؛ ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها لا تطلب شيئاًً، وهو ما صار إليه جماهير الأصحاب؛ فإنها أسلمت (2)

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: فإنها ما أسلمت.

بعد انفصال الأمر وانتهاء النكاح إلى حالة لا يبقى لها فيه طَلِبة على موجب عقدها، وقد ذكرنا أن عقدهم متبع في تفاصيل الأنكحة وأحكامها، فصار انتهاء النكاح إلى هذه الحالة قبل الإسلام بمثابة ما لو جرى في الشرك عقد تفويض، ومعتقدهم [أن التفويض] (1) يعرّي العقد عن المهر ولا يتضمن وجوبه وإن اتصل بالمسيس (2). هذا أحد القولين، وهو الذي لم يعرف معظم الأصحاب غيره. والقول الثاني - أن لها طلب المهر إذا اتصل النكاح بالإسلام؛ فإن القبض الجاري في الشرك فاسد، فوجوده كعدمه، وهذا يعتضد باقتضاء دوام النكاح للمهر. هذه طريقة واحدة. والثانية - أنَّ القبض إذا جرى في الشرك، ثم اتصل النكاح بالإسلام فلا طلبة لها، وهذا هو الذي قطع به الجمهور. وإن لم تقبض المهر الفاسد حتى أسلمت؛ ففي المسألة قولان: أحدهما -وهو ظاهر المذهب- أنها تطلب مهر مثلها، وقدمنا توجيه ذلك، والقول الثاني - أنه لا شيء لها؛ فإنها رضيت في الشرك بالخمر، وحكم رضاها ثابت عليها في الإسلام، وقد عسر عليها قبض الخمر، فسقطت طلبتها. فهذا ما حكاه شيخي وأورده صاحب التقريب معزيّاً إلى النصوص، وليس للمتصرف في المذهب أن يلحق ما ذكرناه بالقانون، فالأصل الذي عليه التعويل ما سبق، وهو قطع القول بالفصل بين أن يجري قبض وبين ألا يجري، كما ذكرناه في صدر الفصل قبل حكاية المسألتين الغريبتين. 8189 - ومما يتصل بذلك أنهم إذا [ترابوا] (3) فباعوا درهماً بدرهمين، فإن تقابضوا

_ (1) في الأصل: "أن لا تفويض" وهو مناقض للسياق. والتصويب من المحقق مستأنساً بعبارة الرافعي (ر. الشرح الكبير: 8/ 102). (2) المعنى: أن الكافر لو نكح على صورة التفويض، بناء على اعتقادهم "أن المفوّضة لا مهر لها، دخل بها أو لم يدخل" فلو أسلم فلا مهر لها، وإن كان الإسلام قبل المسيس؛ لأنه قد سبق استحقاق وطء بلا مهر. (3) في الأصل: "توانوا" بدون نقط. وهو تصحيف غليظ، والتصويب من المحقق ثم أيدتنا =

ثم أسلموا، أو ترافعوا إلينا ورضوا بحكمنا؛ فالذي أجرَوْه لا نتبعه بالنقض. وإن أسلموا أو ترافعوا قبل القبض، فلا طلبة بينهما، والذي أجرياه من العقد يسقط، وتنقطع عهدته وآثاره. فإن قيل: ما حكيتموه من الطريقين هل تجرونه في تعاملهم على الربا وفي شرائهم [الخمر و] (1) أثمانها؟ قلنا: ليس من الرأي التفريع على الضعيف الشاذ، وإن أردناه، فلا ينبغي أن يكون للطريقين جريان في تعاملهم على الخمور والخنازير والربويات، وذلك أن النكاح يبقى بعد الإسلام مستمراً مقتضياً دوام أحكامه، والمهر من أحكامه وحقوقه، وقد يطرأ في الإسلام على النكاح ثبوت مهر لم يقترن بالعقد وجوبه، ولذلك نوجب المهر للمفوِّضة بالمسيس، وإن فرعنا على أنها تستحق بالعقد مهراً ونثبت للمفوضة أيضاًً المطالبة بالفرض على تفصيل سيأتي موضحاً في بابه من كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى. فهذا سبب جريان الطريقين على بعدهما. فأما التعامل على الخمور والربويات إذا اتصل [بالقبض]، (2) وانفصل الأمر، فيبعد تتبعه في الإسلام، ومن اجترأ على تتبع أثمان الخمور بعد ما قبضت في الشرك، كان هاجماً على خرق الإجماع، وقد قال أمير المؤمنين عمر: "ولّوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها" (3). 8190 - ولو أتلف كافر على كافر خمراً، ثم غرم للمتلَف [عليه] (4) عوضها دراهم، ثم أسلم، لم يرجع بما بذله في الشرك عوضاً ولو أسلم قبل أن يغرم، فلا

_ = عبارة الرافعي والنووي (ر. الشرح الكبير: 8/ 102 والروضة: 7/ 153). (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: إذا اتصل بالخمر لقبض. (3) روى عبد الرزاق في مصنفه: "أنه بلغ عمر أن عماله يأخذون الخمر في الجزية، فناشدهم ثلاثاً، فقال بلال: إنهم ليفعلون ذلك. فقال: فلا تفعلوا، ولكن ولّوهم بيعها، فإن اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها" (المصنف: 6/ 23 ح 9886، 10/ 369 ح 19396) ورواه البيهقي عن ابن عباس، بسياقة أخرى (ر. السنن الكبرى: 9/ 206). (4) في الأصل: عليها.

شك أن المتلَف عليه لا يطالبه بشيء، سواء كان مُصراً على شركه، أو أسلم. ولو أتلف الكافر على الكافر خمراً ثم ألزمه حاكمُهم قيمةَ الخمر، فبذلها محكوماً عليه قهراً، فلا يخلو إمَّا أن يبقيا على الشرك ويترافعا إلى حاكمنا، وإما أن يسلما، فإنْ ترافعا إلى حاكمنا وهما كافران؛ ففي المسألة قولان (1): أحدهما - أنا لا نتبع ما جرى من حكمهم [بالنقض] (2)، ولا نُلزم قابض قيمة الخمر ردها؛ جرياً على ما مهدناه من أن معاملاتهم إذا اتصلت بالقبض، [انفصلت] (3) عن تتبع [حاكم] (4) الإسلام، [ولا خلاف] (5) في أن المتلف لو بذل القيمة طوعاً، ثم أسلم [لا] (6) يرجع، وكذلك إذا ارتفع إلى مجلسنا على كفره؛ فإنه لا يجد مرجعاً. ومن عقدهم نفوذ حكم حاكمهم، كما أن من عقدهم جريان حكم بذل الثمن طوعاً على الصحة والاستحقاق. والقول الثاني - إنا نكلف [المتلَف] (7) عليه رد القيمة؛ لأنا إنما لا نتعرض لهم فيما تقابضوه بالتراضي، وهذه القيمة مأخوذة من المتلِف بغير رضاه قهراً، فلا حكم له. هذا قول ضعيف لا اتجاه له، ولكن حكاه الأئمة في الطرق، ولم يخل كتاب مبسوط عن حكايته عن أن بعض الأئمة ذكر قولين، وذكر صاحب التقريب وجهين (8).

_ (1) وقيل وجهان (ر. الشرح الكبير: 8/ 102). (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: انفصل. (4) في الأصل: حُكم. (5) في الأصل: العبارة مضطربة ومتداخلة هكذا: خلافاً في أن المتلف لو بذل القيمة. (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: المحكوم عليه. (8) لعل من المفيد هنا -إيضاحاً للمسألة- أن نخرج عما ألزمنا أنفسنا به من إيجازٍ في التعليقات، وعدم إثقال الكتاب بالنفول من المراجع المتاحة للجميع، فنورد هنا هذه المسألة بعبارة الرافعي في الشرح الكير، قال: "ولو ترابى كافران، فباع هذا درهماً من ذاك بدرهمين، أو أقرضه درهماً بدرهمين، ثم أسلما أو ترافعا إلينا قبله (أي قبل الإسلام)، فإن جرى التقابض من قبلُ، لم نتعرّض لما جرى، ولم يلزم الرد. وإن كان قبل القبض ألغَيناه. وإن كان بعد قبض الدرهمين راجعنا المؤدي وسألناه: أقصد =

ولو جرى الإتلافُ والحكمُ وتغريمُ حاكمهم المتلِفَ القيمة - كما سبق تصويره، ثم أسلم المتلَف عليه، قطع المحققون بأنا لا نغرِّم المتلَف عليه في الإسلام ولا نلزمه رد القيمة التي قبضها في الشرك، وإسلامه يقطع عنه هذه التبعة بخلاف الرافع. وطرد شيخي الخلاف في الإسلام والرافع جميعاً، وهذا منقاس؛ لأن التزامهم أحكامنا بالرفع أضعف من التزام الأحكام بالإسلام، فإذا كنا نلزمهم حكم الإسلام بسبب [الرفع] (1) والرضا بحكمنا، فلأنْ نُلزم المسلمَ حكمَ الإسلام أولى. فصل قال: "ولا تحل ذبيحة من وُلِدَ من وثني ونصرانية ... إلى آخره" (2). 8191 - الولد المتولد من بين من تحل ذبيحته ومناكحته ومن لا تحل ذبيحته ومناكحته، تفصيل المذهب فيه: أن أباه [إن] (3) كان مجوسياً أو وثنياً [فلا] (4) تحل ذبيحته ومناكحته نظراً إلى أبيه قولاً واحداً.

_ = أداءه عن الربح أو عن رأس المال؟ وقد ذكرنا التفصيل فيه في أواخر كتاب الرهن. وجميع ما ذكرناه إذا جرى القبض عن تراضٍ. فأما إذا جرى القبض بإجبار قاضيهم في ترابيهم، وفي تسليم الصداق الفاسد وفي ثمن إذا باعوها، ثم أسلموا لم نوجب الرد، فالإسلام يجبّ ما قبله. وإن ترافعوا إلينا وهم على كفرهم، فقولان، وقيل وجهان: أحدهما - أنا نكلفهم الرد؛ لأن المؤدي كان مجبراً، والترافع لا يجب ما قبله. وأصحهما - أن الحكم كما لو جرى القبض عن تراضٍ، وكما لو أسلموا. وعن الشيخ أبي محمد طردُ الخلاف فيما إذا أسلموا، وقد جرى القبض بإجبار قاضيهم. وقال الإمام: وهو منقاس، لأن الالتزام بالترافع أضعف من الالتزام بالإسلام، وإذا ألزمنا المترافعَيْن حكم الإسلام، فلأن نلزمه للمسلميَنْ، كان أولى" ا. هـ بنصه (ر. الشرح الكبير: 8/ 102) وانظر أيضاًً (الروضة: 7/ 153)، و (الوسيط: 5/ 137، 138). (1) في الأصل: الرافع. (2) ر. المختصر: 3/ 293. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: ولا.

ولو كان أبوه ممن تحل ذبيحته ومناكحته وكانت أمه مجوسية أو وثنية، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن مناكحة الولد مباح ومذكاه مستباح، نظراً إلى أبيه؛ فإنه إليه ينتسب وبه يعرف. والقول الثاني -إن هذا الولد يلتحق بمن لا يناكح ومن لا تُستحل ذبيحته- تغليظاً عليه وتشديداً للحكم في حقه. وعبّر بعض الأئمة عن هذين القولين بعبارة مرسلة تؤدي هذا الغرض المفصّل، فقال: في الولد المتولد من بين من تحل ذبيحته ومن لا تحل ذبيحته قولان: أحدهما - أن الاعتبار بأبيه فيه، والثاني - أنا نأخذ بالتغليظ ونحكم بتحريم الذبيحة والمناكحة إذا كان أحد أبويه ممن لا يناكح ولا تستباح ذبيحته، سواء كان أباً أو أماً، وهذا بعينه ما ذكرناه مفصلاً قبل. 8192 - وقد ذكر صاحب التلخيص جملاً من أحكام الأولاد رأيت معظمها مذكوراً مكرراً في الكتب، وأنا أذكر منها ما أراه مفيداً. أما الإسلام، فيلحق الولد من كل واحد من أبويه لقوته واستعلائه؛ فإنه يعلو ولا يعلى (1)، هكذا قاله المصطفى، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم "الإسلام لا يشركه الشرك، والشرك يشركه الشرك" (2).

_ (1) إشارة إلى الحديث الشريف: "الإسلام يعلو ولا يعلى" رواه الروياني، والدارقطني والبيهقي، والضياء المقدسي، وقد حسنه الألباني (ر. صحيح الجامع الصغير: 1/ 538 ح 2778، والإرواء: 5/ 106 ح 1268) وانظر أيضاًً (سنن الدارقطني، ح 395، والبيهقي 6/ 205 - والسياق له). (2) حديث "الإسلام لا يشركه الشرك"، لم أجده حديثاً، وإنما هو من كلام إمامنا الشافعي، فيما قاله التاج السبكي في ترجمته للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، حيث قال: "تكلم الأستاذ الإسفراييني في كتاب (الحَلْي في أصول الدين) على قول الشافعي رضي الله عنه: "الإيمان لا يشركه الشرك، والشرك يشركه الشرك" بما حاصله، أن الإيمان لو قارنه اعتقاد قدم العالم، أو نحوه من الكفران، ارتفع بجملته، والكفر كالتثليث مثلاً، لو قارنه خروج الشيطان على الرحمن ومغالبته، كما يقول المجوس، لم يرتفع شركه بالنصرانية، بل ازداد شركاً بالمجوسية". انتهى ما حكاه عن الأستاذ أبي إسحاق. =

وأما الجزية فلا يخفى مأخذها من النكاح والسفاح وملك اليمين ووطء الشبهة، ولسنا لتفصيلها على وضوحها. واختلف أصحابنا في دية المتولد من اليهودي والمجوسية، فالذي ذهب إليه صاحب التلخيص أنا نوجب أعلى الديتين نظراً إلى أعلى الأبوين دية، وذلك لتغليظ الجناية وتشديد أثرها على الجاني. هذه طريقة اختارها صاحب التلخيص. ومن أصحابنا من قال: القول في دية المتولد يجري على القولين المذكورين في تحليل الذبيحة والمناكحة؛ فإنه إن كان يتجه التغليظ على الجاني فقد يتجه الالتفات (1) على أن الأصل براءة الذمة، فلا ينبغي أن تشغل إلا بثبت. وأما حكم الجزية، فالذي ذهب إليه المحققون أن المتولد من بين من يؤخذ منه، ومن لا يؤخذ منه الجزية -وهذا أصل مهدناه مراراً وسيأتي تمامه في كتاب الجزية إن شاء الله تعالى- فالميل إلى تغليب أخذ الجزية؛ [ولذلك] (2) أُخِذت من المجوس مع تحريم المناكحة والذبيحة، وأخذت الجزية من الذي ترددنا في أن أول آبائه دان بالتهود قبل المبعث أو بعده. ومما أجراه القفال في الشرح أن المتولد من بين يهودي ومجوسية إذا بلغ، وأراد الاستمساك بالتمجس، فلا معترض عليه ولا نلزمه التمسك بالتهود، كما نقول في المسلم المتولد من بين المسلم واليهودية: إنه يلزمه التمسك بالإسلام، ولكن إذا أظهر التمجس، فله حكم المجوس، وإنما ترددنا فيه قبلُ. هذا مسلك القفال، وليس يمتنع أن نقول: إذا أثبتنا له حكم التهود في تحليل المناكحة والذبيحة، نمنعه من التمجس إذا منعنا الانتقال من ملة إلى ملة، وهذا سيأتي مستقصى في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى.

_ = ثم عقب التاج السبكي قائلاً: قلتُ: فيؤخذ منه أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن الكفر يزيد وينقص، فتأمل" (ر. الطبقات: 4/ 259، والأم: 5/ 8). (1) في الأصل: والالتفات. (2) في الأصل: وكذلك.

والنسب إلى الآباء، وكل حكم يناط بالنسب [فالاعتبار] (1) فيه بجانب الأب، فإذا أعطينا بني هاشم وبني المطلب فالمولود بين هاشمي وتيمية يستحق السهم. والكفاءة بالأب؛ فإنه [معتمد] (2) النسب في هذا المعنى ولا غموض فيه. فصل قال: "ولو تحاكموا إلينا، وجب أن نحكم بينهم ... إلى آخره" (3). 8193 - إذا ارتفع إلى مجلس حاكمنا ذمي راضٍ بحكمنا، والتمس أن نحكم له أو عليه، فهل يجب على حاكمنا أن يحكم بينهم بموجب دين الإسلام؟ تفصيل المذهب في ذلك أن الكلام يتعلق بأهل الذمة، ثم بالمعاهدين. فأما أهل الذمة إذا ارتفعوا إلى مجلس حاكمنا، فإن كان خصم المرتفع إلينا مسلماً، وجب على حاكمنا الحكم، سواء كان مدعياً أو مدعى عليه، أما إن كان مدعياً؛ فلا يجوز تعطيل حقه، وإن كان مدعىً عليه، فيجب الانتصاف منه للذمي، إن اقتضى الحكمُ عليه حقاً له، وإن لم يتبين ذلك، فعلينا أن ننظر، ونفصل الخصام، ونتبين مساق الأحكام، حتى نعلم أن المسلم ظالم أو بريء، هذا إذا كان خصم الكافر مسلماً. فأما إذا اختصم كافران ذميان، فلا يخلو: إما أن يكونا على ملة واحدة، وإما أن يكونا على ملتين، فإن كانا على ملة واحدة، فهل يجب على حاكمنا أن يحكم بينهما؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يجب عليه أن يحكم، لقوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُم} [المائدة: 42]، والقول الثاني، وهو الأصح - أنه يجب علينا أن نحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؛ فإنا أُلزمنا أن نكف عنهم عادية الظَّلمة، ويتعين علينا بحكم الذمة أن نذبّ (4) عنهم ذبَّنا عن المسلمين، فكيف ينساغ أن نتركهم يختصمون

_ (1) في الاصل: بما لا اعتبار. (2) في الأصل: يعتمد. (3) ر. المختصر: 3/ 293. (4) في الاصل: نداب.

ويتغالبون؟ أما الآية، فلم يتبين لنا ورودها في أهل الذمة، ولما رضي اليهوديان بحكمه صلى الله عليه وسلم ورجمهما، لم يكونا ملتزمين الجزية، [ولذا] (1) كانت الآية مبهمة. هذا بيان القولين. ثم مما يتفرع عليهما أنا إن قلنا: يجب علينا أن نحكم لهم وعليهم حُكْمَنا على المسلمين، فإذا أتانا واحد [منهم] (2) مستعدياً على خصمه الذمي، فيجب علينا أن نُعْديه ونستحضره المجلس، كما نفعل في المسلمين. وإن حكمنا بأنه لا يجب على حاكمنا أن يحكم بينهم، فإذا جاءنا واحد منهم يستعدي على خصمه، لم يجب علينا أن نُعديه، فإنا كما لا نوجب على الحاكم أن يحكم بينهم لا نُلزم من لم يرض بحكمنا حكمَ الإسلام، فوجوب الإعداء (3) عند الاستعداء على الخصم المتخلف عن المجلس مبني على وجوب الحكم على حاكمنا. وإذا شهدا (4) ورضيا بحكمنا، فمن لم يوجب الحكم على الحاكم، لم يمنعه منه. [و] (5) لا شك أنه إذا أراد [الحكم] (6) جرى على معالم الإسلام، واستتبعهم في حق الدين، ولم يتبعهم في عَقْدهم (7)، إلا أن يترافعوا إلينا وقد انفصل الأمر فيهم بتقابضٍ، كما سبق؛ فإذ ذاك لا يخفى الحكم، كما أوضحناه من قبل، ثم إذا حكمنا عند رضاهم، نفذ [الحكم] (8)، ولا خيرة لهم بعد نفوذ الحكم. وما ذكرناه فيه إذا كان الخصمان على ملة واحدة.

_ (1) في الأصل: إذا. (2) في الأصل: منهن. (3) الإعداء: النصرة، من قولهم: استعديت الأميرَ على فلانٍ، فأعداني، أي استنصرته، فنصرني. (4) شهدا: أي حضرا مجلس الحكم. (5) الواو زيادة من المحقق. (6) في الأصل: يحكم. (7) عَقْدهم: أي عقيدتهم ودينهم. (8) في الأصل: حكم.

8194 - فأما إذا كانا على ملتين مختلفتين، فإذا ترافعوا إلينا؛ فالذي ذهب إليه معظم الأئمة: أنه يجب (1) على الحاكم الحكم عند اختلاف الملل، والسبب فيه أنا لو لم نوجب ذلك، لبقيت الخصومة [ناشبة] (2) بينهم؛ فإن كل واحد من الخصمين المختلفين في الدين لا يرضى بحكم حاكم أهل دين خصمه، فيفضي ذلك إلى اشتجارٍ في ديار الإسلام، لا قاطع له، ولا فيصل فيه. وذكر العراقيون هذه الطريقة وارتضَوْها، وذكروا طريقة أخرى [هي] (3) إجراء القولين في الخصمين المتعلقين بملتين: أحدهما - أنه لا يجب علينا الحكم كما لا يجب بين متفقي الملة. ومما يجب التنبه له أن من فرّق بين المتفقَيْن [والمختلفَيْن] (4) عوّل في الفرق على أن المختلفَيْن قد لا يجتمعان على حاكم، فيؤدي ذلك إلى أن تبقى الخصومة فاشية (5)، وهذا لا يتحقق بين المتفقَيْن. وفي ذلك فضل نظر، وهو أنه إذا لم يكن لأهل الذمة في بلدة الخصومة حاكم، فما قرره الأصحاب من دوام الخصام في المختلفَيْن يتحقق هاهنا، فيلزم على موجَب ذلك أن يجب على حاكمنا الحكم إذا لم يكن لهم حاكم، وكذلك إذا كان لهم حاكم وامتنع أحد الخصمين، فيجب أن يقال: يتعين على حاكمنا أن يحكم؛ إذ يبعد أن نلزمهم حكم الكفر [ونكون] (6) وزير حاكمهم حتى يُعدي من جهته. ومن تأمل ما نبهنا عليه، استبان ضعف القول إنه لا يجب علينا الحكم بينهم.

_ (1) وقال النووي: إن وجوب الحكم هو المذهب. (ر. الروضة: 7/ 154). (2) في الأصل: "ناشية". وكأنها محرفة عن "فاشية" والمعهود في وصف الخصومة هو "ناشبة". والله أعلم. (3) في الأصل: "في" وهو تصحيف واضح. (4) في الأصل: والمتخلفين. (5) التعبير بلفظ (فاشية) أنسب هنا من (ناشبة)؛ فهناك (ناشبة) بين الخصمين، وهنا (فاشية) في المجتمع، في ديار الإسلام. والله أعلم. (6) في الأصل: "ويلون وزير حاكمهم" والمثبت من تصرف المحقق على ضوء السياق والسباق. وبمثله جاءت (صفوة المذهب).

وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المتحاكمان إلينا ذميين. 8195 - فأما إذا كانا معاهدين فقد أجمع الأصحاب في الطرق على أنه لا يجب علينا أن نحكم بينهم؛ والسبب فيه أنا لم نلتزم الذب عنهم وأن نسوسهم برأينا سياسَتنا لرعايا الإسلام، وإنما فائدة العهد ألا نتعرض لهم، والسر فيه أن الذمة أوجبت الذبَّ لمكان الجزية التي يبذلونها، ولا جزية على معاهد. وإن بذلوا شيئاًً، فلا حكم لما يبذلونه إذا لم يكن عن استحقاق، وهذا إذا كان المعاهدان متفقي الملة. فأما إذا كانا مختلفي الملة، فقد قال طوائف من محققينا: يجب علينا أن نحكم بين المعاهدَين المختلفَي الملة، كما ذكرنا في الذمييَّن المختلفَين، وعولوا على ما ذكروه من دوام الخصام. وقد ذكر بعض الأصحاب في المعاهَدين المختلفَين في الدين خلافاً، ورتبوا فيه المذهب، فقالوا: في الذميين المتفقين قولان، وفي الذميين المختلفين قول واحد في وجوب الحكم، وفي المعاهدين المتفقين قول واحد إنه لا يجب، وفي المعاهدين المختلفين قولان. وهذا عندي ذهول عن حقيقة العهد ومقتضاه؛ فإنا قد أوضحنا أنا لم نثبت للمعاهدين إلأَ أن نؤمّنهم في دمائهم وأتباعهم وأموالهم، فأما أن نليَهم ونسوسَهم، فلا، فإذا اختصم مختلفان منهم، لم يلزمنا أن نفصل الخصومة؛ جرياً على ما نبهنا عليه من مقتضى العهد. ولكن اشتهر عن الأصحاب القول بوجوب الحكم بين المختلفَين منهم، وقطع بهذا معظم المحققين من الأصحاب، وهذا محمول عندنا على أصلٍ، وهو أن طائفة من أهل العهد إذا دخلوا ديارنا، ثم ثاروا وأخذوا يصطدمون وينتطحون ويتجالدون بالسيوف، فهل يجوز تركهم على هذه الحالة؟ ما ذهب إليه أهل الإيالة (1) أن ذلك لا يسوغ؛ فإن السيوف إذا شهرت، خرج الأمر عن الضبط، وأَحْكَمت السيوفُ على

_ (1) الإيالة: السياسة. كما أوضحنا من قبل.

الطُّلَى (1)، وقد يجر ذلك خرماً للهيبة، وانتهاء إلى اهتتاك (2) محارم الإسلام، ومَنْ [إلى وامل] (3) عليه، تبين له أن الرجل المستكين تحت الطاعة إذا ثار وشهر السيف، استوى عنده الإمام الأعظم وآحاد الناس، فعلى هذا القانون يجوز أن يجب فصل الخصومات بينهم إذا اختلفوا في الدين، حتى لا يؤدي للمحذور الذي أشرنا إليه. فهذا منتهى الإمكان. والمذهب عندي القطع بأنه لا يجب الحكم بينهم، اتفقوا في الدين أو اختلفوا. 8196 - وإذا كان أحد الخصمين مسلماً والثاني معاهداً، فلا خلاف أنه يجب علينا الحكمُ مدعياً كان المسلم أو مدعًى عليه، وتعليله بيّن لمن أحاط بما مهدناه. 8197 - وإذا كان أحد الخصمين ذمياً والثاني معاهداً، فهذا مرتب عند نقلة المذهب على اختصام الذميين، فإن لم نوجب الحكم بينهما، فلأن لا نوجب وأحدهما معاهداً أولى. وهذا عندي من الترتيب الركيك؛ فإنا إذا أوجبنا الحكم على [الذمي] (4) لم ننظر إلى خصمه كالمسلم، وإن لم نوجب الحكم على الذمي، فلا فرق بين أن يكون خصمه معاهداً أو ذمياً. هذا بيان معاقد المذهب في الحكم بين الكفار. 8198 - ونحن نذكر الآن جملاً في أحكامنا عليهم إذا رفعوا إلينا عقودهم،

_ (1) كذا. تماماً بهذا الرسم، (والطُّلى): الأعناق، مفردها: "طُلاة" (المعجم)، فالمعنى: أطبقت السيوف على الأعناق. (2) اهتتاك مصدر اهتتك، ومن معاني هذه الصيغة من صيغ الزوائد المبالغة في معنى الفعل، مثل: اقتدر. (3) كذا. ولما نعرف لها وجهاً لإقامة ما فيها من تصحيف (انظر صورتها)، ومع ذلك فالمعنى واضح من السياق، فهو يقول: من تأمل واقع المجتمع تبين له ... هذا، وننبه إلى تلك الإشارة الواضحة من الإمام إلى ما عبر عنه علماء الاجتماع المحدثون (بالعقل الجَمْعي) وأن المستضعفين المستذلين إذا ثاروا وحملوا السلاح لا يردعهم رادع، ويستصغر قوة الدولة والسلطان. وهذا ما سجله التاريخ، وصاغه نظرياتٍ وقوانين علماء الاجتماع. (4) في الأصل: الذي.

فنقول: مبنى الحكم لهم وعليهم أن نقضي بموجب الإسلام، ولا ننشىء حكماً مخالفاً لقاعدة الإسلام، ولكن لا نتتبع ما مضى منهم وانفصل، وعليه خرّجنا انفصال معاملاتهم بالتقابض، ومن أراد تخريج أنكحتهم على هذا القياس، فقد طمع في غير مطمع؛ فإنا أوضحنا في أول نكاح المشركات ابتناء قواعد الباب على الأخبار، وبيّنّا خروج أحكامنا في كثير من مسائل الباب عن القياس، [ولسنا] (1) لإعادة تلك القواعد، والقدر الذي نجريه هاهنا على هذا المساق أنه إذا اتصل بالإسلام مفسد أفسدناه، وإن تحققنا مفسداً مقترناً بالعقد حالة الشرك وقد انقضى، فلا نلتفت إليه، كما مضى. 8199 - ثم اتصل بهذا المنتهى أنهم إذا ارتفعوا إلينا والتمسوا منا أن نفرض نفقة مجوسية على يهودي، وكان تزوج يهودي مجوسية؛ فالذي قطع به المراوزة أنا لا نجيبهم إلى ذلك أبداً؛ فإنا لا نحل المجوسية والوثنية لأحد. وذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أنا لا نتعرض لهم إذا نكح اليهودي مجوسية، وإن ارتفعوا إلينا قررنا لهم، وفرضنا النفقة، وهؤلاء يقولون: إنما تحرم المجوسية على المسلم ولا تحرم على الكتابي، وهذا بعيد عن قياس المذهب. ولا خلاف أن المجوسي إذا نكح واحدة من المحارم، ورفع الحكم إلينا، ورضي بحكمنا في التقرير والبت على موجب الدين؛ فإنا نفرق بينهما؛ إذ لا مساغ في الإسلام لنكاح المحارم. ومما يجب البت فيه أن المجوسي إذا ارتفع إلينا، وطلب أن نفرض النفقة للتي يعتقدها زوجة، وكانت من محارمه - فلا شك أنا لا نجيبه إلى مُلْتَمسه، ولكن هل نفرق بينها وبين زوجها؟ الذي يقتضيه الرأي في ذلك أنهما إذا لم يرضيا بحكمنا في التفريق، لم نفرق بينهما؛ فإنا إنما نجري أحكامنا عليهم إذا رضوا بها، ولم يوجد في الصورة التي ذكرناها رضاً منهم بالتفريق. ورأيت في كلام الأئمة ميلاً إلى التفريق في هذا المقام -على بعده- وقد يتجه

_ (1) في الأصل: وأسفاً.

لسببين: أحدهما - أن موجب النفقة النكاح، فإذا كان ينفذ [حكمنا] (1) فيما وقع الرضا به، فلنملك قطع خيالهم في كون هذا النكاح موجباً للنفقة، وهذا تسلط على التفريق لا محالة، وأيضاًً فإنهم إذا ارتفعوا إلينا، فقد [أظهروا] (2) لنا ما يخالف الملة، وربطوا بعض مقتضياته بحكمنا، فكان هذا بمثابة ما لو أظهروا خمورهم، ولو فعلوا ذلك، أريقت عليهم. وما ذكرته [احتمال] (3). والوجه أنا لا نفرق ما لم يرضَوْا بحكمنا في التفريق. 8200 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن الأيّم منهم إذا التمست من حاكمنا أن يزوجها، ملك تزويجها على شرط الشرع إذا كانت حرة كتابية - على ما تمهدت الأصول. وإن لم يكن لها ولي، فهل يجب على قاضينا أن يزوجها؟ خرّج الأئمة هذا على الخلاف في أنه هل يجب لنا أن نحكم لهم وعليهم؟ وهذا على نهاية البعد عندي، نعم إذا كان لها ولي [فعضل] (4) فارتفعت إلى مجلس الحكم. فهذا يشبه صورة الاستعداء والخصام، وهو لعمري صورة القولين. والذي قدمناه فيه إذا كانوا لا يرون الانفراد بالتزويج وإن لم يكن للمرأة من يزوجها. فصل 8201 - قد بنينا قاعدة المذهب على أن المُشْركة إذا قبضت صداقها الفاسد، ثم أسلمت، لم تملك مطالبة الزوج بشيء، وهذا الفصل معقود فيه إذا [قبضت] (5) البعض -والبناء على قانون المذهب- فنقول: إن قبضت بالجزئية مقداراً من الخمر المصدَقة، سقطت طَلِبتها بذلك المقدار من مهر المثل؛ حتى إن كانت قبضت نصفاً وأسلمت، فإنها تطلب نصف مهر مثلها، وسقط بقبض النصف النصفُ.

_ (1) في الأصل: حكمه. (2) في الأصل: أظهر. (3) في الأصل: اختيال. (4) في الأصل: فغفل. (5) في الأصل: قبض.

8202 - ولو جرت كتابةٌ على خمر في الشرك، وقبض السيد البعض، واتصل [العتقُ] (1) بالإسلام، فإذا قبض تمام الخمر في الإسلام، عتق العبد، ورجع السيد عليه بتمام قيمته، ولا حكم لما قبضه في الشرك، وإن كان قد قبض تمام الخمر في الشرك، وجرى الحكم بالعتق، ثم أسلم، لم يطالب العبد [بشيء] (2) من قيمته؛ بناءً على ما مضى في الكفر، ولا أثر لقبض البعض في عوض الكتابة، هكذا قال الأصحاب ونص الشافعي. والفارق أن [حكم] (3) العوض في الكتابة لا يتبعض، لأن الكتابة نازعة إلى التعليق بعض النزوع، ومن حكم التعليق أن وجود بعض الصفة لا أثر له، والعوض في المعاوضات المحضة يتوزع على المعوض، والصداق وإن كان لا يقابل البضع على حقيقة مقابلة الأعواض، فهو في نفسه منقسم، ووقوعه على مقتضى الانفراد أولى بتحقيق التبعيض فيه، والفرق يتضح بنفي حكم التعليق في الصداق. 8203 - ومما يتعلق بمضمون الفصل أنه لو أصدق امرأته أجناساً فاسدة، واشتمل كل جنس مثلاً على أعداد [مثل] (4) أن [يُصدقها] (5) في الشرك كلاباً وخنازير ومقداراً من الخمر، ثم أقبضها بعض الصداق، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على أوجه: فذهب بعضهم إلى اعتبار عدد الأجناس، وذهب آخرون إلى اعتبار الأعداد في أنفسها، وصار صائرون إلى اعتبار القيمة عند من يرى لها قيمة، وإيضاح الخلاف بالتصوير: أنه إذا أصدقها ستة كلاب، [وثلاثة] (6) خنازير، وزقَّ خمر، وأقبضها في الشرك الكلاب، فإن اعتبرنا الأجناس، فقد استوفت ثُلث المهر؛ لأنها ثلث

_ (1) في الأصل: "العقد" والمثبت تقديرٌ منا. والمعنى أن السيد أسلم قبل قبض تمام نجوم الكتابة، فالعتق يكون في الإسلام. (2) في الأصل: بالشيء. (3) في الأصل: الحكم. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: يعدمها. (6) في الأصل: أو ثلاث.

الأجناس، وإن اعتبرنا الأعداد فقد استوفت ثلاثة أخماس المهر؛ فإن الأعداد عشرة، والكلاب منها ستة، ومن اعتبر القيمة، لم يخف المسلك عنده. ولو أصدق امرأته في الشرك أعداداً من جنس واحد كالكلاب وقبضت [بعضها] (1)، فينقدح في هذه الصورة وجهان: أحدهما - اعتبار القيمة عند من يرى لها قيمة، والآخر - اعتبار العدد. وذكر بعض أصحابنا عبارة حاصلها يرجع إلى القيمة، فقال: تعتبر منافع الكلاب، وما يقدّر لها من أجرة إذا جوّزنا استئجارها، ويقع التوزيع على هذه الستة، وهذا قريب من اعتبار القيمة؛ فإن قيمها عند من يرى لها قيماً على مقدار منافعها، ولكن هذا القائل أحب أن يذكر معتبراً سائغاً في الدين. ولو أصدقها زِقَّين من الخمر، فقبضَ أحدهما، فهذا محل النظر، يجوز أن يقال: يعتبر العدد، ولا ينظر إلى الكثرة والقلة، وقد صرح بهذا طائفة من الأصحاب. ويتجه اعتبار الوزن إن أمكن الوصول إليه، أو [الكيل] (2)، فإن جرى القبض من غير كيل ولا وزن، [يخرّج] (3) أيضاًً اعتبار القيمة، ولذلك مخرجان: أحدهما - الرد إلى المقدار إذا اتحد النوع، والآخر - النظر إلى اختلاف النوع؛ فإن [القيم] (4) تتفاوت بتفاوت الأنواع. هذا منتهى ما أردناه في ذلك. [ومما] (5) أجراه بعض من ينتسب إلى التحقيق تفريعاً على اعتبار القيمة أنا إذا صادفنا الصداق خنزيرين مثلاً وقد قبضت أحدهما [فنقدرهما] (6) شاتين ونعتبر قيمتهما، وهذا كلام سخيف لا يصدر إلا عن زلل، وكيف ينتظم تقدير الخنزير شاة، فلا وجه إلا اعتبار قيمة الخنزير عند من يرى له قيمة. ...

_ (1) في الأصل: بعدها. (2) في الأصل: الكسل. (3) في الأصل: ويخرّج. (4) في الأصل: القسم. (5) في الأصل: "وما". (6) في الأصل: فتقديرها.

باب إتيان الحائض

باب إتيان الحائض 8204 - مضمون هذا الباب قد سبق مستقصىً في كتاب الحيض، ولكنا نعيد ما يليق بهذا الباب إقامةً لرسم الترتيب، فالحائض يحرم وقاعها، والأصل فيه قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. ثم الاستمتاعات على ثلاثة أقسام: أحدها - الاستمتاع بالفرج، وهو الوطء، فهو حرام بنص التنزيل والسنة وإجماع الأمة، ومن أقدم على وقاع حائض؛ فالمنصوص عليه في الجديد: أنه لا يغرَم شيئاًً، ويبوء بالمأثم إن تعمد، ونص في القديم على أنه يغرَم شيئاًً، ثم فيما يغرمه تردُّد للعلماء وأئمة الدين: فروي عن عمر أنه كان يأمر بإعتاق رقبة، وفي بعض الأحاديث: إن كان الدم عبيطاً، تصدق بدينار، وإن كان في أواخر الدم تصدق بنصف دينار، والحديث مروي عن ابن عباس (1). وقد ذهب بعض أصحابنا إلى إجراء مذهب عمر وابن عباس وجهين مفرعين على القول القديم، فهذا هو الاستمتاع بالفرج. وعن الأستاذ أبي إسحاق أنه حمل الدينار على مواقعتها في زمان الدم، وحمل نصف الدينار على مواقعتها بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال. وهذا رديء لا تعويل عليه. والنوع الثاني من الاستمتاع - التمتع بما فوق الإزار من جهة السرة وتحته من جهة الركبة وهو مسوغ. والثالث - الاستمتاع بما تحت السرة وفوق الركبة مع [تجنب] (2) الوقاع، وفيه قولان أو وجهان، سبق ذكرهما في كتاب الحيض.

_ (1) سبق تخريج هذا الحديث في كتاب الحيض. وانظر أيضاًً مصنف عبد الرزاق: 1/ 328 باب إصابة الحائض. (2) في الأصل: توقّع. وما أثبتناه عبارة الإمام في كتاب الحيض. وهي المناسبة للسياق.

ومما يجب التفطن له أنه لا يسوغ للفقيه أن [يجبن] (1) عن إطلاق تحريم وطء الحائض؛ مصيراً إلى أنَّ المحرم ملابسة أذاها؛ فإن التضمخ بذلك الأذى بعد الانفصال غير محرم، ويحرم وقاع الحائض وإن طهرت عن الأذى وغسلت المنفذ، فدل أن وطأها محرم. فصل قال: "وإن كان له إماء، فلا بأس أن يأتيهن معاً ... إلى آخره" (2). 8205 - إذا كان تحت الرجل حرائر، فلا يتأتى منه الجمع بينهن في الوطء إلا أن يرضين، فإن حق القَسْم يوجب عليه ألا يطأ واحدة في نوبة الأخرى، ثم لو وطئهن، فلا ينبغي أن نقضي بتحريم الوطء، ولكنه من جهة الانتساب إلى [الانقضاض] (3) على حق الغير يعصي. وسيأتي (4) تحقيق القول فيه في كتاب القَسْم، إن شاء الله تعالى، فلو رضين، فلا بأس أن يدور عليهن بغسل واحد، ولكن الأولى أن يخلل بين الوطء والوطء غُسلاً، فإن لم يفعل، فوضوء، فإن لم يفعل، فيغسل فرجه، ولعل المرعي فيه ألا تتصوّن (5) المأتيّة الثانية عيافة وتقذّراً، ومن ذكر الوضوء، فهو مع غسل الفرج، ولولا ورود أثر في الوضوء، وإلا فلا معنى له مع قيام الجنابة وحصول تنظيف الفرج بالغَسل. ...

_ (1) في الأصل: يحس. (2) ر. المختصر: 3/ 293. (3) في الأصل: الانقراض. (4) ما قاله الإمام في كتاب القَسْم هو: "اللائق بالتحقيق النظر إلى الحل والمحل، والقطع بالإباحة وصرف التحريم إلى ما وقعت المغايظةُ به". (5) تتصوّن: يقال: تصوّن: تكلّف صيانة نفسه ووقاها (المعجم). هذا: وقد كانت الجملة: "ألا تتصوّن المأتية الثانية" كانت هذه الجملة غير مقروءة في الأصل، وبفتحٍ من الله قرأناها هكذا، بعد عناء أجهدنا، وتأملِ طال بنا أسابيع. والله وحده المستعان.

باب إتيان النساء في أدبارهن

باب إتيان النساء في أدبارهن 8206 - هذا محرم عند الشافعي وأكثر العلماء، وحكي عن مالك إنه كان يبيح ذلك ثم رجع عنه، وقد راجعت في ذلك مشايخ من مذهب مالك يوثق بهم، فلم يرَوْا هذا مذهباً لمالك، وقال صاحب التقريب: من الناس من يضيف إلى الشافعي قولاً في القديم إنه لم يقطع بتحريم إتيان النساء في أدبارهن وتوقف فيه، وقال: ليس عندي دلالة في تحريمه. وقال محمد بن عبد الحكم: قال الشافعي: في تحريم ذلك حديث غير صحيح، والقياس عندي أنه حلال، وحكَى ذلك [عن] (1) الربيع، فقال: كذب والله الذي لا إله إلا هو. ولقد نص على تحريمه في ستة مواضع من كتبه. وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأبهم السائل السؤال، فقال صلى الله عليه وسلم: "في أي الخُرْبتين أو الخَصَفَتين أو الخُرزتين؟ أمن دبرها في قبلها فنعم، أمّا من دبرها في دبرها فلا. إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن" (2). وقيل: سبب

_ (1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام ولا يصح إلا بها. وقد أيدتنا عبارة العز بن عبد السلام في مختصره، حيث قال: "وحكى محمد بن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال: في تحريمه حديث غير صحيح، والقياس عندي جوازه، فحكى ذلك عن الربيع فأكذبه" ا. هـ. بنصه (الغاية في اختصار النهاية: 3/لوحة 77 شمال). (2) حديث الإتيان في الدبر رواه الشافعي من حديث خزيمة بن ثابت على نحو سياقة إمام الحرمين له. قال في خلاصة البدر المنير: "رواه الشافعي، والبيهقي من رواية خزيمة بن ثابت بإسناد صحيح، وصححه الشافعي، ورواه بنحوه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان" ا. هـ كلام ابن الملقن في الخلاصة. وقد صححه الألباني في الإرواء (ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/ 29 ح 90، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/ 196، وابن ماجه: النكاح، باب التستر عند الجماع، ح 1924، وابن حبان 1299، 1300، والإرواء: 7/ 65 - 68، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 367 ح 1661). وقد أتبع الحافظ الحديث بتنبيه شرح فيه غريبَ الألفاظ، نأتي بخلاصته قال: =

نزول قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم} [البقرة: 223] أن اليهود كانت تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها خلق الولد أحول. فنزلت الآية {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم} والتلذذ بالدبر من غير إيلاج جائز؛ [فإن] (1) جملة أجزاء [جسد المرأة] (2) محل استمتاع الرجل إلا ما حرم الله تعالى من الإيلاج. 8207 - ثم ذكر الأئمة ما يتعلق بالإيلاج في هذا المأتى من الأحكام، فقالوا: ما فيه تغليظ (3)، فهو متعلق به (4)، فيجب الحد إذا لم يصادف ملكاً أو شبهة، وسيأتي القول [فيه] (5) في اللواط، إن شاء الله عز وجل، ويتعلق به فساد العبادات، ووجوب الغسل، والكفارة. وإن جرى على وجه الشبهة، تعلق به المهر، وإذا أتى الزوج زوجته في هذا المأتى، تقرر المهر، هذا ما اتفق عليه المراوزة. وقال العراقيون: يتعلق بإتيان المرأة في دبرها مهر المثل، إذا جرى على وجه الشبهة على ما ذكره المراوزة، وهل يتعلق به تقرر المسمى من المهر في النكاح، فعلى. وجهين، وما ذكروه من الوجهين في التقرير حسن، ولكن ينقضه القطع بوجوب مهر المثل في النكاح الفاسد. [وقد] (6) اضطرب الأئمة في أنه هل يتعلق به ثبوت النسب إذا جرى من السيد في

_ = الخربتين: تثنية خربة بضم المعجمة، وسكون الراء بعدها موحّدة. وكل ثقبةٍ مستديرة خُرْبة. والخرزتين: تثنية خرزة، بخاء معجمة مضمومة وسكون الراء وبعدها زاي مفتوحة، والخُرزة هي الثقب الذي يثقبه الخراز. والخصفتين: تثنية خَصَفَة بفتحات والخاء معجمة أيضاًً، والصاد مهملة بعدها فاء. والخصفتين من قولك: خصفتُ الجلد على الجلد إذا خرزته مطابقاً. ا. هـ ملخصاً. (1) في الأصل: وإن. (2) زيادة من المحقق. (3) ما فيه تغليظ: أي ما فيه تغليظ من الأحكام، أي ما يترتب على الوطء من عقوبات وتحريم وإيجاب. (4) متعلق به: أي بالإيلاج. (5) زيادة من المحقق. وفيه: أي في الحد. (6) في الأصل: وإذا.

أمته؟ فإن الوطء إنما يعتبر في ملك اليمين، ونفس إمكان الوطء في فراش النكاح يثبت النسب، فمنهم من قال: يتعلق به ثبوت النسب، فقد يسبق الماء منه إلى الرحم، ومنهم من قال: لا يتعلق به ثبوت النسب، أورده بعض المصنفين، وهو غير بعيد؛ فإن من أئمتنا من قال: إذا وطىء وعزل، لم يثبت النسب في ملك اليمين، والإتيان في هذا المأتى أبعد عن إمكان العلوق عن الوطء مع العزل؛ إذ [قد] (1) يسبق بادرة من الماء لا يشعر العازل بها، والمأتى المحرم لا يفضي إلى الرحم. وقال الأصحاب: يتعلق بالإتيان في هذا المأتى وجوب العدة والمصاهرة (2). فهذا يندرج تحت ما يقتضي التغليظ. ولا يتعلق به التحليل للزوج الأول، ولا الإحصان، وقطع أئمة المذهب بأنه لا يثبت للمأتية حكم الثيب مع بقاء العُذْرة، وأبعد بعض الأصحاب. فزعم أنه يتعلق به حكم الثيابة، وهذا كان يحكيه شيخي، فلم أحكه -لبعده- في موضعه، ثم وجدته لطائفة من الأصحاب. فهذا بيان ما يتعلق بذلك، وما لا يتعلق به. 8207/م- ووراء ما نقلناه نظر على المتأمل في بعض الأحكام: كنت أود لو لم يتعلق تقرير المهر بما ذكرناه، حتى نقرر أن هذا النوع ليس مما [يُستحل] (3)، وحتى يلتحق إتيان النساء في هذا المأتى بإتيان الرجال، ولكن الأصحاب اتفقوا على ما ذكرته من إيجاب المهر وتقريره، ولعل السبب فيه أنه على الجملة وطء في محل الاستمتاع، ولذلك لا يجوز أن يتعلق به الحد (4)، ومن يأتي غلامه المملوك أُلزم الحد بإتيانه، وكأنّ إتيان المرأة في غير المأتى يشابه إتيانها في المأتي إذا كانت حائضاً، ولهذا قال الشافعي: إذا كان يحرم إتيان الحائض لما بها من الأذى، فيجب أن يحرم الإتيان في غير المأتى، لأن الأذى دائم، وما قال الشافعي هذا قياساً، وإنما قاله تلقياً من قوله

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) والمصاهرة: أي ما يتعلق بها من تحريم المحرمات. (3) في الأصل: يستحيل. (4) أي في الزوجة وملك اليمين.

سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] ففهم منه الشافعي التعرض لما ذكرناه، فجرى كلامه استنباطاً من القرآن لا قياساً. 8208 - فإن قيل: إذا جريتم على القول القديم في إيجاب الحد على من يطأ مملوكته المحرمة عليه بالرضاع، فهل يتجه إجراء هذا القول في إيجاب الحد على الذي يأتي زوجته في غير المأتى؟ قلنا: لم يشر إلى هذا أحد من الأصحاب، لا تعريضاً ولا تصريحاً، بل صرحوا بنفي الحد، ولمَّا فرعوا على القول القديم، قطعوا بأن وطء الزوجة في حالة الحيض لا يوجب الحد، والإتيان في غير المأتى بين وطء الحائض وبين وطء المملوكة المزوجة، وتشبيهه بوطء الحائض أقرب، والعلم عند الله تعالى. وهذا التردد في الاحتمال من طريق المعنى، والذي نقلناه قطعاً من قول الأصحاب نفيُ الحد، وإيجاب المهر. ولم يختلف علماؤنا في أنه تتعلق به العدة؛ فإنَّا نعلق وجوب [العدة] (1) بالتغييب من غير إنزال، وبإتيان الصبية التي لا تحبل. ومما يدور في الخلد قَطْع الأصحاب بأنه لا يتعلق به التحليل (2) والإحصان. وسيأتي قول غريب -إن شاء الله تعالى- في أن التحليل يتعلق بالوطء في النكاح الفاسد، وكان لا يبعد أن يلحق الإتيان في هذا المأتى في النكاح الصحيح بالإتيان في المأتى المستقيم في النكاح الفاسد، ومن عادة الأئمة ترك التفريع - على الأقوال البعيدة في غير محالها. وقد انتجز المراد من مضمون الباب. ...

_ (1) في الأصل: "الحد"، ولعل ما أثبثناه هو الصواب. (2) التحليل: أي لزوجها الأول إذا بانت منه عن ثلاث تطليقات.

باب مختصر الشغار

باب مختصر الشغار 8209 - نكاح الشغار باطل، وهو أن يزوج الرجل ابنته من رجل على أن يزوجه ذلك الرجل ابنته، وبُضع كل واحدة منهما صداقُ الأخرى. هذه صيغة نكاح الشغار. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار، وراوي الحديث ابن عمر: روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار، وهو أن يقول الرجل: "زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع كل واحدة منهما صداقاً للأخرى" (1). فيجوز أن يكون هذا تفسيراً عن ابن عمر، ويجوز أن يكون هذا منقولاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). والشغار من قولهم: شغر الإقليم عن الوالي، إذا خلا عنه، وقيل: هو من قولهم شغر الكلب، إذا رفع إحدى رجليه ليبول، فمن أخذه من المأخذ الأول سمى النكاح شغاراً لخلوه عن المهر، ومن أخذه من المأخذ الثاني، فمعنى الشغار عنده أن المزوج يقول: لا ترفع رجل ابنتي مستمتعاً بها إلا وأرفع رجل ابنتك. وهذا الضرب باب من أبواب أنكحة العرب، وهو من الأنحاء التي ذكرتها عائشة، وقالت: كان النكاح في الجاهلية (3) على أربع أنحاء، والعرب لها أنفة وغيرة وحمية جاهلية، وهي التي حملتها على الوأد، وكانوا إذا زوّجوا لم يرضوا أن يزوجوا ما لم يتزوجوا. فإذا تبين الخبر، ومعناه التصوير على الجملة، فإنا نذكر بعد ذلك الترتيبَ

_ (1) حديث النهي عن نكاح الشغار. متفق عليه من حديث ابن عمر. رواه البخاري: كتاب النكاح، باب الشغار، ح 5112، ورواه مسلم: كتاب النكاح، باب تحريم الشغار وبطلانه، ح 1415، (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 318 ح 1602). (2) هذا التردد في تفسير الشغار مأخوذٌ من قول الشافعي: "لا أدري تفسير الشغار: في الحديث، أو من ابن عمر، أو نافع، أو مالك" الأم: 5/ 68. (3) سبق تخريج حديث عائشة.

المشهورَ في المذهب [و] (1) غيرَه، بذكر طريقة مأثورة عن القفال. 8210 - فأما الطريقة المعروفة، فقد قال الأصحاب: إذا قال: زوّجتك ابنتي هذه على أن تزوّجني أختك -ولا اختصاص بصنف- والغرض مقابلة تزويج بتزويج، فإذا اجتمع شرطُ التزويج في التزويج، وتخليةُ العقد عن الصداق؛ [والتصريح] (2) بجعل البضع صداقاً، فهذه صورة القطع بالفساد عند جماهير الأصحاب، ولا معتمد عندنا من طريق المعنى، والتعويل على الخبر مع الاتفاق على أن النواهي في هذه الأبواب محمولة على الفساد. ولو رددنا إلى المعنى، لما أدركنا فساد النكاح الذي صورناه. فإنا إن نظرنا إلى الخلو عن المهر، لم نجد ذلك مفسداً للنكاح، وإن نظرنا إلى شرط عقد في عقد، لم نجد ذلك مفسداً للنكاح أيضاًً؛ فإنه لو قال: زوجتك ابنتي هذه على أن تبيعني دارك؛ صح النكاح، وسنوضح أن أمثال هذه الشرائط لا تؤثر في إفساد النكاح، إن شاء الله تعالى. وأما قول المزوج: على أن يكون بضع كل واحدة صداقاً للأخرى، مع تمسك الأصحاب بأن هذا تشريك في البضع، فليس فيه ما يوجب إفساد النكاح؛ فإن التشريك على حكم الزوجية في البضع هو المستند، وليس المذكور في هذا النكاح تشريكاً في الزوجية، وإنما هو إضافة البضع من طريق العوضية والتمليك إلى شخص، فقد بطل هذا من طريق المعنى. وقد قال الأصحاب: إذا تزوجت الحرة عبداً، وشُرط في النكاح أن تكون رقبة الزوج صداقاً لها، فالنكاح يفسد لفساد الصداق في هذه الصورة؛ فإن مقتضى التسمية أن يكون الزوج مملوكاً لزوجته، وهذا محال. وإذا اشترت الحرةُ زوجَها أو ملكته بجهة أخرى، اقتضى ذلك انفساخ النكاح؛ فإذا شُرط جعل الزوج صداقاً، [فسد] (3) النكاح، وهذه مسألة لم أسمع فيها خلافاً، وكان يمكن من طريق الاحتمال أن يقال:

_ (1) الواو زيادة اقتضاها السياق. ومعنى "وغيره": أي الترتيب غير المشهور الذي ذكره القفال. (2) في الأصل: فالتصريح. (3) في الأصل: فافسد.

النكاح يصح والتسمية تفسد، ولكن لم يسمح بهذا أحد من الأصحاب في مبلغ بحثي، ولعلي أعود إلى هذه المسألة في بقية النكاح، أو كتاب الصداق. 8211 - فإذا تبين أن فساد نكاح الشغار ليس مأخوذاً من جهة المعنى، وإنما التعويل فيه على الخبر، فنعود بعد ذلك إلى ترتيب المذهب. فإذا قال: "زوجتك ابنتي هذه على أن تزوجني ابنتك"، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة، فذهب الأكثرون إلى الصحة؛ من جهة أنه لم يقل: وبضع كل واحدة صداق الأخرى. ومن أصحابنا من حكم بالإفساد، غير معوِّل على المعنى، ولكن في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه صاحبُه ابنته، فَرُوي هذا القدر من غير مزيد. ولو قال: زوجتك ابنتي هذه بألف على أن تزوجني ابنتك، فالنكاح يصح في هذه الصورة، لا لجريان ذكر المهر، ولكن لم يرد تفسير الشغار بهذه الصورة على هذا النحو، واشتمال النكاح على المهر يخرجه عن معنى الشغار إذا أخذ من الخلوّ، فليكن التردد على اللفظ ومعناه، وما جاء في تفسيره، ولن يفلح من يتلقى تفاصيل هذه المسائل من طرق المعنى. ولو قال: زوجتك ابنتي هذه بألف على أن تزوجني ابنتك وبضع كل واحدة صداقُ الأخرى، ففي صحة النكاح على هذه الصيغة وجهان: أحدهما - الصحة لاشتمال النكاح على المهر وخروجه من معنى الشغار. والوجه الثاني - إنه لا يصح لما في اللفظ من الاشتراك في البضع، وهذا من هذا القائل مشعر [بالتحويم] (1) على معنى [الاشتراك] (2)، وهو باطل لا يصلح للتعويل، كما قدمت ذكره. فالخارج إذن من هذه المسائل أن النكاح إذا خلا عن ذكر المهر، واشتمل على

_ (1) في الأصل: بالتحريم. (2) في الأصل: الإشراك.

مقابلة النكاح بالنكاح، وجعل البضع صداقاً، فالقطع [بالفساد] (1)، وإن شُرط نكاح في نكاح وعَرِي عن المهر، فوجهان، وإن ذُكر مهرٌ وجعل البضع صداقاً، فوجهان. هذا هو الترتيب المعروف بين الأصحاب. 8212 - وحكى أصحاب القفال عنه مسلكاً آخر في الباب، وهو أن نكاح الشغار إنما يبطل من جهة تعليق انعقاد النكاح الأول بعقد الثاني، فيقول المزوّج: زوجتك ابنتي هذه إن زوجتني ابنتك، فتعلق انعقاد النكاح الذي ينشئه بالعقد الذي يشترطه، وكانت العرب تفعل ذلك لما نبهنا عليه من أنفتها وغيرتها، وكانت لا تعقد على الجزم عقداً، بل كانت تعلّق، فجاء فساد النكاح من جهة التعليق؛ فإن جرى التعليق، فسد النكاح، وإن لم يجر، لم يفسد النكاح بالتخلية عن المهر، ولا بجعل البضع صداقاً. وهذه الطريقة منقاسة حسنة، وليست بعيدة عما نقله الأثبات من عاداتِ الجاهلية. ثم إن كانوا وضعوا لمعنى التعليق لفظاً يقيمون منه هذا الغرض، فاللغة لغتهم، ومن استعمل ذلك اللفظ ولم يفهم المراد منه، فالقول في إطلاق اللفظ من غير فهم معناه يأتي في مسائل الطلاق، إن شاء الله عز وجل. وقد نجز غرض الباب. وأحسن الطرق في المعنى طريقة القفال، ولكن لم أرها لغيره من أئمة الأصحاب، ولم ينقلها عن القفال شيخنا. ...

_ (1) في الأصل: بالصحة.

باب نكاح المتعة والمحلل

باب نكاح المتعة والمحلِّل 8213 - ترجم المزني البابَ بالمتعة والمحلل (1)، ثم لم يجر ذكر المحلل. فنقول أولاً: نكاح المتعة فاسد، وذلك أن ينكح الرجل نكاحاً مؤقتاً إلى أمد معلوم، وإذا انتهت المدة، ارتفع النكاح. هذا معنى المتعة. واشتقاقها أن الغرض من النكاح المؤقت تمتع في أيام معدودة من غير طلب تواصل [وأمدٍ] (2) يعتاد إدامته، فهذا فاسد، وقيل: كان مباحاً في ابتداء الإسلام، وكان لا يتعلق به طلاق، ولا ظهار، ولا إيلاء، ولا توارث، ثم نُسخ، وذهب إلى نسخه معظم العلماء. وعن ابن عباس وجماعة من أهل مكة -حرسها الله- أن نكاح المتعة ثابت بعدُ (3)، وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر عن نكاح المتعة وأكل لحوم الحمر الأهلية، وقال: هما حرام إلى يوم القيامة" (4). فهذا بيان ما كان في نكاح المتعة، وذكر ما استقر عليه الشرع، فمن نكح الآن

_ (1) ر. المختصر: 2/ 4. (2) في الأصل: وأمرِ. (3) حديث ابن عباس عن المتعة رواه الطبراني في الأوسط على هذا النحو: قيل لابن عمر: "إن ابن عباس يأمر بنكاح المتعة، فقال معاذ الله!! ما أظن ابن عباسٍ يفعل هذا!! فقيل: بلى. قال: وهل كان ابن عباس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غلاماً صغيراً ... " ا. هـ قال الحافظ في التلخيص: "إسناده قوي" (ر. تلخيص الحبير: 3/ 320 ح 1603). (4) حديث علي رضي الله عنه في تحريم المتعة متفق عليه، رواه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، ح 4216، ومسلم في صحيحه: كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ح 1407. (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 320 ح 1603) واقرأ فيه للحافظ بحثاً قيماً عن نكاح المتعة، وجملة ما ورد فيه من أحاديث، وما فيها من فقه.

نكاحاً مؤقتاً ووطىء مع العلم بالتحريم، فظاهر المذهب أنه لا حد عليه، ولا تعويل على قول ابن عباس فيه، وسيأتي تأمل في ذلك في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل. فصل في المحلِّل 8214 - إذا طُلقت المرأة ثلاثاً، حرمت على المطلق حتى تنكح زوجاً غيره، ويطؤها الزوج، ثم تبين وتخلو عن العدة؛ فإذ ذاك يحل للأول نكاحُها. والوطء في ملك اليمين لا يحلل إجماعاً. ولو جرى الوطء في نكاح شبهة، فظاهر المذهب أنه لا يفيد التحليل، وذكر بعض أصحابنا قولاً غريباً أنه يفيد التحليل. ثم قال أئمة العراق: هذا القول إنما يخرج إذا جرى نكاح وكان فاسداً، فيحسب صحيحاً على الشبهة، فأما إذا وطئها الرجل على ظن أنها زوجته، فلا يحصل التحليل بذلك. هكذا قالوه. ولا ذكر له فيما بلغني من طريق المراوزة، ولكن ما نقلته عنهم في ذلك صحيح عندي على مأخذ المراوزة؛ فإنه عز من قائل قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه} [البقرة: 230] فلا بد من جريان نكاح، ثم قد يحمل لفظ النكاح على الفاسد على بعد. فأما المصير إلى [التحليل] (1) من غير نكاح، فبعيد. ...

_ (1) في الأصل: التحريم.

باب [فيما يفسد النكاح من الشروط]

باب [فيما يفسد النكاح من الشروط] (1) 8215 - ثم تكلم الأئمة في الشرائط التي لا تُفسد النكاح والتي تفسده. فنقول: إذا نكح الرجل امرأة، وشرط ألا يتزوج عليها ولا يتسرّى، وشرط ألا يسافر بها، أو ما جرى هذا المجرى، فشيء من هذه الشرائط لا يؤثر في صحة النكاح؛ والسبب فيه أن ما ذكرناه ليس مما يتعلق به مقصود النكاح، والشرط إنما يؤثر في العقد إذا كان قادحاً في مقصوده، وقول القائل: زوجتك على أن تهب من فلان شيئاًً، فلا تعلق للهبة بالتزويج، وهو بمثابة ما لو قال: بعتك هذا العبد على ألا [تكسوَه] (2) إلا الخز، فالشرط فاسد والبيع صحيح. وشرْطُ عدم التزوج في النكاح بمثابة اشتراط ترك المسافرة فيما نحن فيه. والتأقيت في النكاح يفسده، لأنه في عين مقصوده؛ ففسد النكاح. ولو شرط في النكاح أن يطلّقها، فظاهر المذهب أن النكاح لا ينعقد، وذكر بعض أصحابنا قولاً غريباً، إن النكاح ينعقد والشرط يفسد. التوجيه: من قال بالقول الأول احتج بأن شرط الطلاق بمثابة التأقيت، وكأن الشارط يقول: زوجتك إلى أبد، ثم الطلاق حتم عليك، فهذا في التحقيق تأقيت، ووجه قول من قال: إن الشرط يفسد ويبقى النكاح أن النكاح عُقد على الأبد، ثم شرط شرط فاسد لا بد فيه من طريق التقدير من إنشاء الطلاق، وليس كذلك نكاح المتعة؛ فإن نكاح المتعة معقود إلى أمد، ثم لا عقد بعد انقضائه. ولو زوج الرجل ابنته أو أمته وشرط ألا يطأها، أو لا يطأها إلا مرة واحدة، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن النكاح هل يفسد بهذا الشرط؟ فمنهم من قال:

_ (1) هذا العنوان من عمل المحقق أخذاً من مختصر النهاية للعز بن عبد السلام. (2) في الأصل: تكسوه.

لا يفسد، ويفسد الشرط ويلغو، كما لا يفسد بالاقتراحات التي ذكرناها من نحو المنع عن التزوج والتسري والمسافرة وغيرها. ومن أصحابنا من قال: يفسد النكاح؛ لأن شرط المنع عن الوطء تعرّضٌ لمقصود العقد، وعقد النكاح قابل للفساد كعقد البيع وغيره، وإنما تنفصل العقود بالتفاوت في القصود، فالمرعي في البيع ما يؤثر في المالية أو يجر لبساً وجهالة في العوض، والنكاح لا يفسد بجهالة العوض وفساده؛ فإن العوض ليس من أركانه، فأما ما يتعرض للمقصود وهو الحل؛ فيجب أن يؤثر. ويجب أن يلتحق بهذا الخلاف ما لو قال: زوّجتك ابنتي على ألا تحل لك، فهذا في معنى شرط الامتناع عن الوطء. ثم كل شرط لم نره مؤثراً، فلا كلام فيه، وكل شرط رأيناه مؤثراً، فلو ذكر بين الإيجاب والقبول، فسد النكاح به، ولو ذكر متقدماً على إنشاء العقد، فالمذهب أنه لا يؤثر. وذكر بعض الأصحاب فيما نقله القاضي وجهاً بعيداً، أن التواطؤ قبل العقد بمثابة المذكور مع العقد بين الإيجاب والقبول، وهذا الوجه الضعيف مأخوذ من مسألة مهر السر والعلانية في الصداق، وسنذكر هذه الطرق على الاستقصاء ثَمَّ، إن شاء الله عز وجل. 8216 - ثم مما يتعلق بذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له" (1). فأراد بالمحلِّل الزوج الثاني، وأراد بالمحلَّل له الزوج الأول. واللعن محمول على فساد النكاح بشرط الطلاق، أو على تأقيته إلى أول

_ (1) حديث "لعن الله المحلل والمحلل له" رواه الترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في المحلل والمحلل له، ح 1120، وقال: حسن صحيح. والنسائي: كتاب الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثاً، وما فيه من التغليظ، ح 3416 كلاهما من حديث ابن مسعود. قال الحافظ: "صححه ابن القطان، وابن دقيق العيد على شرط البخاري" وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق: 6/ 269 ح 10793. (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 349 ح 1640 - وفي الباب أحاديث أخرى أشار إليها الحافظ وخرّجها، فراجعها إن شئت).

وطأة؛ فإنه لو أقت كذلك، فسد النكاح من أصله وجهاً واحداً؛ فإنه نكاح متعة. وفي شرط الطلاق الخلاف المقدم، ولم يقع التعرض للمرأة الموطوءة؛ لأنه يغلب عليها الجهل بحكم الواقعة، وقال بعض أصحابنا: النكاح وإن صح، فإذا جرى عن استدعاء من المحلَّل له، فإنهما يتعرضان للعن، ولا يسوغ في مروءة الدين ذكر ذلك في معرض الالتماس والاستدعاء، وإن لم يتعلق باستدعاء من الزوج الأول، فلا يحصل التعرض للعن. وفي بعض الألفاظ في المحلِّل أنه التيس المستعار، وهذا يشير إلى ما ذكرناه من استدعاء الزوج الأول، وهذا القائل يستدل بظاهر الحديث، فإن فيه اللعن مع التحليل، فدل أن واقعة اللعن في صورة صحة النكاح. وكان شيخي أبو محمد يحمل اللعن على صورة فساد النكاح، ويقول: المحلِّل والمحلَّل له محمولان على الاعتقاد لا على التحقيق، وكان لا يُلحق استدعاء ذلك على وجه الصحة بالمحظورات، فإنه استدعاء أمر جائز في الدين. والأصح تحريم الاستدعاء كما ذكره الأولون، ولو لم يكن فيه إلاَّ خرق حجاب الهيبة والخروج عن سمت المروءة مع التماس الطلاق، لكان ذلك كافياً، وفيه أيضاًً صرف النكاح عن موضوعه؛ فإن النكاح ليس موضوعاً في الشرع للتحليل، بل هو موضوع لاستباحة المناكح على التأبد. ثم إذا فسد النكاح، فظاهر المذهب أن الوطء الجاري فيه لا يفيد التحليل. وفيه القول البعيد الذي ذكرناه. ثم لم يختلف المذهب في أن التحصين لا يحصل، والفرق أن التحصين إكمال واستجماع خصال في الفضائل، والتحليل في حكم الإرغام للزوج الأول، والإتيان بما تأنف منه النفوس ليكون ذلك كالمانع من استيفاء [الطلقات] (1). فرع: 8217 - لا بد فيه من حقيقة الوطء، وهو إيلاج الحشفة، فلو استدخلت المرأة [العضوَ منتشراً] (2)، حصل الغرض، ولو استدخلت ولا انتشار، فقد قال العراقيون: إن كان الانتشار في ذلك العضو، ولكن لم يكن منتشراً في ذلك الوقت

_ (1) في الأصل: المطلقات. (2) في الأصل: استدخلت المرأة والعضو منثر.

الذي حصل فيه الاستدخال، ثبت حكم الوطء، ومن أحكامه فيما نحن فيه حصول التحليل. وإن كان العضو بحيث لا يتوقع انتشاره، فلا يحصل المقصود باستدخاله. وكان شيخي يقطع بحصول الوطء بالاستدخال كيف فرض الأمر؛ فإنَّ العضو ليس خارجاً عن كونه فرجاً، فليقع الحكم عند حصوله في باطن فرج المرأة. فرع: 8218 - قد ذكرنا أن الاعتبار بتغييب الحشفة، فلو كانت الحشفة مقطوعة، فظاهر المذهب أن الجماع يحصل بتغييب قدر الحشفة من الباقي. وذكر العراقيون وجهاً آخر أنه لا بد من الإيعاب، فإن الباقي من العضو في مقابلة الحشفة لو كانت. التفريع: إن اكتفينا بمقدار الحشفة، اعتبرنا التي كانت لهذا العضو المخصوص، وإن اشترطنا الإيعاب، وكان الباقي من العضو قدر الحشفة، فلا ينبغي أن تكون به مبالاة. واتفق الأئمة في الطرق على أن وطء الصبي في إفادة التحليل كوطء البالغ، كما أن الصبية إذا طلقت، فوطؤها في صباها كوطئها بعد بلوغها في إفادة التحليل. ***

باب نكاح المحرم

باب نكاح المُحرِم 8219 - مذهب الشافعي أن الإحرام ينافي عقد النكاح في المزوِّج والمتزوج والمزوَّجة، ولو كان الولي محرماً لم يزوِّج، وكذا لو كان وكيلاً، أو كان الوالي الأعظم، أو كان دونه. والإحرام يمنع [الزواج] (1)، ولا فرق بين أن يكون القابل ولياً أو وكيلاً أو زوجاً، وإن كان القابل عن الزوج في حكم السفير. وظهر اختلاف الأصحاب في أن الإحرام في الشهود هل يؤثر؟ فالأظهر أنه لا يؤثر. وذهب الإصطخري في طائفة من الأصحاب إلى أن النكاح لا ينعقد بحضور محرمين، وهذا لا ينقدح له وجه من طريق المعنى، ولكن في بعض الروايات: "لا ينكح المحرم ولا يُنكِح" (2) ولا يشهد. وهذا رأيته في كتب الفقهاء، وما عندي أنه يبلغ مبلغ الصحة (3). 8220 - ثم المذهب الصحيح أن الاحرام لا يمنع من الرجعة، فلو كان طلق ثم أحرم في عدة الرجعة، فله الارتجاع مع الإحرام؛ فإن الرجعة في حكم استدامة النكاح، والإحرام لا ينافي دوام النكاح.

_ (1) في الأصل: الزوج. (2) حديث "لا يُنكح المحرم ولا ينكح" رواه مسلم عن عثمان بن عفان، من حديث أبان بن عثمان، وزاد فيه: "ولا يخطب" (ر. صحيح مسلم: كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، ح 1409) وانظر التلخيص: 3/ 334 ح 1619. (3) الأمر كما قال إمام الحرمين، فهذه الزيادة: "ولا يشهد" قال عنها النووي في شرح المهذب: قال الأصحاب: "هذه الرواية غير ثابتة" حكى هذا عنه الحافظ في التلخيص، وزاد: "وبهذا جزم ابن الرفعة، والظاهر أن الذي زادها من الفقهاء أخذها استنباطاً من فعل أبان بن عثمان، لما امتنع من حضور العقد، فليتأمل" انتهى كلام الحافظ (ر. التلخيص: 3/ 334، 335 عقب حديث 1619).

وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر في أن الإحرام يمنع الرجعة كما يمنع ابتداء النكاح، حكاه القاضي وغيره، وهو مذهب أحمد بن حنبل (1)، ويمكن بناء هذا الاختلاف على القولين في أن الرجعة هل تفتقر إلى الإشهاد؟ وسيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. ثم إذا ظهر منافاة الإحرام للنكاح من الجهات الثلاث: المزوِّج والمتزوج والمزوَّجة - فإلى متى يدوم الامتناع؟ في المسألة قولان: أحدهما - إنه يدوم إلى تمام [التحلُّلَيْن] (2) وسبيله سبيل حل الوطء. وفي المسألة قول آخر: إنه يزول بالتحلل الأول. وهذا يقرب عند هذا القائل من التطيّب، والقول في التحللين وأسبابهما مستقصى في كتاب المناسك. 8221 - ومما يتعلق بأحكام الإحرام ما تفصَّل من قبل في أن الإحرام [هل يُخرج] (3) الوليّ من الولاية (4)، أو يتنزل منزلة الغَيْبة، وقد مضى في ذلك قول بالغٌ في أحكام الولاية. ...

_ (1) نصَّ الخرقي في مختصره على جواز ارتجاع المحرم زوجته، وقال ابن قدامة في الشرح: "وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى في الارتجاع ألا يفعل" (ر. المغني: 3/ 337) فما نسبه الإمام هنا إلى مذهب أحمد هو رواية، وليس الذي عليه المذهب. (2) في الأصل: المتحللين. (3) في الأصل: "يحل بخروج". وهو تصحيف عجيب غريب. (4) الولي: واضح أن المراد به ولي نكاح المرأة.

باب العيب في المنكوحة

باب العيب في المنكوحة 8222 - النكاح يفسخ بالعيوب القادحة في مقصود العقد، وهي محصورة عند حملة المذهب. قالوا: ثلاثة من العيوب يشترك فيها الزوجان: الجنون، والجذام، والبرص، ويثبت اثنان في حق المرأة [وهما] (1): الرَّتَق، والقَرَن. ويثبت اثنان في حق الزوج وهما: الجَبّ، والعُنة. وإذا ثبت بأحد الزوجين عيب من هذه العيوب، ثبت للثاني حق الفسخ. ولا حاجة إلى الكشف في معظم العيوب. أما الجذام فَعِلَّة عظيمة تقطع الأعضاء، ويتصور في كل عضو، ويغلب ثبوته إذا ثبت في الوجه، والعياذ بالله تعالى، والعضو يحمرّ منه ثم يسودّ ثم ينتثر اللحم ويتقطع ويتقاذف إلى ما وراء، والبرص [بياضٌ] (2) بيّن، وليس البهق منه. وكان شيخي يقول: أوائل الجذام والبرص قبل الاستحكام لا تثبت الخيار، وإنما يثبت الخيار إذا استحكمت. وكان يقول: لا يثبت استحكام الجذام إلاّ إذا أخذ العضو في التقطع، وهذا فيه بعض النظر، فيجوز أن يقال: إذا اسودّ العضو، وحكم أهل البصائر باستحكام العلة، كفى ذلك في إثبات الفسخ، وإن لم يتقطع بعد من العضو شيء. فأما ما عدا هذه العيوب من العمى والقرع والتقرح؛ فالذي ذهب إليه الأئمة: أنه لا أثر لشيء منها، والذي يجب التأمل فيه أن حق الفسخ لو اختص بما يمنع الوطء على الحقيقة كالجَبّ والعنة والرتَقِ والقَرَن، لكان ذلك وجهاً في الحصر والاقتصار، وتخصيص الفسخ بهذه الموانع، وليس الأمر كذلك؛ فإن حق الفسخ تعلّق بالجذام والبرص والجنون، ولم يستند الحصر إلى توقيف من جهة الشارع، فأورث ذلك

_ (1) في الأصل: وهي. (2) في الأصل: والبرص بين بين.

اضطراباً في نفوس فقهاء المذهب، حتى حكى بعض الأصحاب خلافاً في البخراء (1) إذا تفاحش بخرها. والعِذْيَوْط (2)، وكذلك الصنَّاء وهي التي بها صنان مفرط لا يقبل العلاج، وكنا نعد هذا الخلاف بعيداً، ثم لم ننقله إلا مخصوصاً بما ذكرناه. ورأيت القاضي استجرأ على فتح الباب، وخرم التخصيص؛ فإنه قال: كل عيب يؤثر في حق عامة الناس في المنع عن الاستمتاع والوقاع عيافة ونَفَراً (3)؛ فإنه يثبت الخيار، وقد يتوقف حصول هذا المعنى على اجتماع عيوب، وإن كان لا يؤثر آحادها، فإذا اجتمعت فيثبت الخيار عند اجتماعها. وهذا الذي ذكره قياس لما مهدناه في البرص والجذام، ولكن لم يصر إليه أحد من الأصحاب على هذا الوجه غير القاضي، وكنا نحكي ما ذكرناه في البخر وغيره عن زاهر السرخسي (4)، والساعة اتسع الخرق على الراقع فيما ذكره القاضي، والعلم عند الله تعالى. وعلى الإنسان أدنى نظر في الجنون؛ فإن الأصحاب أطلقوا كونه مثبتاً للخيار، ولم يراجعوا فيه أهل البصائر، حتى إذا قالوا: إنه مرجوّ الزوال، فلا يثبت الخيار، وإذا قضَوْا بأنه مستحكم يبعد توقع الزوال فيه، فيثبت الخيار إذ ذاك، وهذا لو قيل

_ (1) البخراء: من بخر الفم بخراً. أنتنت ريحه، وهو أبخر، وهي بخراء (المعجم). (2) العِذْيَوْط بكسر العين وسكون الذال وفتح الياء: وزان فِعْيَول: الذي يحدث عند الجماع رجلاً أو امرأة، وهي عذيوطة. (المصباح). (3) نفر من الشيء: فزع وانقبض غير راضٍ به. ينفر نفوراً ونفاراً. وإمام الحرمين هنا استعمل المصدر بوزن (فَعَل) بدلاً من فعول، كما يستعمل صَدَر بدلاً من صدور. فهذه إحدى لازماته اللغوية. (4) زاهر السرخسي: زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى أبو علي السرخسي، الفقيه المقرىء، أحد الأئمة، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وسمع أبا لبيد محمد بن إدريس السامي، وأبا القاسم البغوي، ومؤمَّل بن الحسن الماسَرْجسي، وغيرهم، وروى عنه أبو عثمان الصابوني، وكريمةُ الكُشْمِيْهَنِيَّة، وخلقٌ. وأخذ الكَلام عن الشيخ أبي الحسن الأشعري. قال عنه الحاكم: فقيه محدّث، شيخ عصره بخراسان توفي سنة 389. (ر. طبقات الشافعية: 3/ 293، 294، والبداية والنهاية: 11/ 326، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 192، وشذرات الذهب: 3/ 131، وطبقات العبادي: 86).

به، لكان قريباً؛ نظراً إلى مبادىء الجذام والبرص، والعلم عند الله تعالى. والعنة من [بين] (1) العيوب مخصوصة بمباحثة وضرب مدة، وفي ذلك باب معقود سيأتي، إن شاء الله عز وجل. 8223 - ومما يتصل بذلك أن الزوج إذا خرج خنثى، فهل يثبت الخيار لها؟ أو إذا خرجت خنثى، فهل يثبت الخيار له؟ فمن أصحابنا من قال: إن تبين أن الزوج رجل قطعاً، فلا خيار ولا حكم لثُقبٍ زائد عليه، ثم يقع النظر في أنه هل يقدر على الجماع أم لا؟ فإن قدر، فذاك، وإن عجز فعنّين. فأما إذا وقع الحكم بالذكورة عن علامة -على ما أوضحنا الكلام في العلامات في كتاب الطهارة وميراث الخناثى- فللأصحاب اضطراب، وحاصل ما ذكروه أوجه: أحدها - إنه لا خيار إذا [ظهرت] (2) علامة معتبرة في إثبات الذكورة. والثاني - يثبت الخيار؛ فإن الأمر مظنون، وقد يتبين بخلاف ما نظن. ومن أصحابنا من قال: إن كان التعويل على إقرار الخنثى بالذكورة وإقراره عن نفسه، فيثبت الفسخ، وإن ثبتت علامة عليها تعويل، فلا فسخ، هذه طريقة. وإن استيقنّا ذكورة الزوج، ففي ثبوت الخيار خلاف، حملاً على الشهوة والعيافة، وهذا يقرب من مأخذ القاضي. وقد ذكر صاحب التقريب والعراقيون جميع الطرق التي أشرنا إليها. 8224 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن الرجل إذا اطلع على عيب بها، وكان به عيب أيضاًً، فهذا مما سبقت الإشارة إليه، فإن اختلف جنس العيب، ثبت الخيار لكل واحد منهما، وإن اتفق الجنس، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - أنه يثبت؛ فإن الإنسان لا يعاف من نفسه ما يعاف من غيره. والذي أراه أن الجب في الزوج إذا عارضه الرتق من المرأة، فيظهر ذكر الخلاف فيه؛ فإن الرتق لا يخبث النفس ولا يشين، وإنما فيه الامتناع عن الوقاع، ولا يظهر

_ (1) في الأصل: ثبوت. (2) في الأصل: أظهرت.

أثر الامتناع عليه وهو مجبوب، وكذلك لا يظهر إحالة الامتناع على الجب وهي رتقاء، فلا أقل من إلحاق ذلك بالقول في الرضا تحت الأبرص. وقد انتجز القول فيما يؤثر من العيوب، وما لا يؤثر. وقد طمع الأصحاب على تردداتهم فيما ذكرناه أن يطَّرد لهم في اعتبار العيوب ما يؤثر في المقصود، وهذا لا [يستدّ] (1) إلا للقاضي ومن سلك مسلكه. 8225 - ثم نذكر بعد ذلك أن الخيار يثبت لها إذا اطلعت على عيب -مما ذكرناه- بالزوج، ويثبت له الخيار إذا بدا عيبٌ قديم مستند إلى حالة العقد، وإن كان الزوج قادراً على الطلاق. وخالف أبو حنيفة (2) في إثبات الخيار له، وأثبت الخيار في الجب والعنة فحسب، وقد يثبت الخيار للأولياء، كما سنعقد فيه فصلاً في آخر الباب، إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت الخيار، كان على الفور، بمثابة خيار الرد بالعيب في البيع، ولا يتوقف نفوذ الفسخ على قضاء القاضي وشهود مجلس الحكم، قياساً على العيوب في البيع، وتختص العنة من بينها بالافتقار إلى مجلس الحكم، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل. ولا يتصور انتهاء الأمر في عيوب النكاح إلى الرجوع بالأرش؛ فإنَّ العوض غير معتبر فيه، وإنما يفضي الأمر إلى الأرش في البيع، [لأن] (3) العيب يقتضي غضَّ شيء من الثمن المسمى لانحصار الغرض في البيع على الماليّة، ووضوح ذلك يغني عن بسط القول فيه. 8226 - ثم إنا نذكر بعد ذلك التفصيلَ فيما يفرض متصلاً من العيوب المقترنة بالنكاح، الموجودة عنده، ثم نذكر التفصيل فيما يطرأ من العيوب بعد انعقاد النكاح على الزوجين.

_ (1) في الأصل: "يستمر". وما أكثر ما تصحف هذا اللفظ. (2) ر. الاختيار لتعليل المختار: 3/ 115. (3) في الأصل: أن.

فإذا كان العيب مقترناً بالنكاح لدى العقد، فلا يخلو: إمَّا أن يكون العيب بها أو به، فإذا كان العيب بها، وفسخ الزوج، فيتعلق الكلام بالمهر ونفقة العدة، والسكنى، والمتعة. فأمَّا المهر؛ فإن جرى الفسخ قبل المسيس؛ يسقط المهر بكماله، وإن كان الفسخ صادراً من جهة الزوج، وهو على تردده وخِيَرته، وذلك لأنه يفسخ العقد [لعيب] (1) فيها - كان بناء العقد على السلامة منه. وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وليس كما لو ارتد الرجل قبل المسيس، فإنَّا نقضي بتشطر الصداق، والفرق بين البابين لائح. وإن كان الفسخ بعد المسيس، فالمنصوص عليه للشافعي: أنَّ المهر المسمى يسقط، ويثبت لها مهر مثلها؛ لمكان الوطء الذي جرى. وخرَّج أصحابنا قولاً آخر ظاهراً -رأوه قياساً- وهو؛ إن المهر لا يسقط إذا جرى الفسخ بعد [التقييد] (2) بالمسيس. التوجيه: من قال بثبوت المسمى وتقرُّره احتج بأنه إذا لم يكن من إثباتِ مهر بُدٌّ، فالمسمى أولى به، ومن وجَّه النص استمسك بقياس الفسوخ؛ فإنه يقتضي رد الأعواض، فليرتدّ العوض المستحق بالعقد، ثم لا سبيل إلى إعراء الوطء عن المهر، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الفسخ عندنا قطع للعقد في الحال، وليس رافعاً له من أصله؛ استناداً إلى ما تقدم، وإذا كان كذلك، فالوطء يكون جارياً في وقت الاستحقاق، فمقابلته بالمهر الذي يجب على الواطىء بالشبهة (3) بعيد. وقد عبّر أصحابنا في توجيه القول المنصوص عليه بعبارتين نذكرهما لمسيس الحاجة إليهما في التفريع: قال قائلون: سبب سقوط المسمى، تعلق الفسخ بسبب كان موجوداً حالة العقد، فاستند إلى حالة العقد بالحكم، وإن لم يرتفع به العقد

_ (1) في الأصل: لمعنىً. (2) في الأصل: "التنفيذ". وهو تصحيف لا شك. (3) المراد هنا: أن الواطىء بشبهة يلزمه مهر المثل، لأن وطأه لم يصادف موضعاً مستحقاً، والواطىء في عقدٍ جرى وطؤه في وقت الاستحقاق، ففسخه بالعيب لا يساويه بالواطىء بشبهة. هذا هو الإشكال.

من الأصل، وجُعل كان الدخول وُجد في غير العقد. وقال آخرون: الزوج بذل المسمى، وأُلزمه على أن يسلم له البضع زمن العمر من غير ضرر، فإذا لم يحصل ذلك، سقط المسمى، وسيظهر أثر هذا التردد من بعدُ. هذا قولنا في فسخ الزوج. 8227 - فأما إذا فسخت الزوجة بعيب فيه، فسبيل سقوط المهر على نحو ما ذكرناه. فإن كان الفسخ قبل المسيس، سقط المسمى، وإن كان بعد المسيس، فعلى المذكورَيْن المنصوص والمُخَرَّج. ولا بد وأن يختلج في نفس الفقيه الآن نزاع، من جهة أنَّا إن أسقطنا المهر قبل المسيس -وهي الفاسخة- بسبب إنشائها الفسخ، فقياس هذا يقتضي أن يتشطر المهر إذا كان الفاسخ الزوج، اعتباراً بالردة، وإن زعمنا أن إنشاء الزوج لا يشطر؛ لأن الفسخ لعيب فيها، فظاهر هذا يقتضي أن تُعذر المرأة إذا فسخت لعيب فيه. وليس الأمر كذلك، فلا فرق بين فسخه وفسخها. والسبب فيه [أنّا] (1) نُسقط المهر استناداً لعيب إلى العقد (2). فإن كان هو الفاسخ، اتضح هذا المعنى، وإن كانت هي الفاسخة، وهَى العقد وضعُف وقعه، وشطر المهر في مقابلة العقد (3)، [وهو] (4) شبيه بالمتعة؛ ولهذا لا يجتمع شطر المهر والمتعة في الرأي الأظهر، كما سيأتي -إن شاء الله عز وجل- وليس هذا مأخوذاً من مأخذ الردة؛ فإنَّ الردة إذا طرأت، لم نتبين بها القطع في أصله، وإنما الذي طرأ قاطع جديد. ثم رأى الفقهاء الفرق بين الزوجين، وتنزيل ردة الزوج منزلة طلاقه، ونسبوا المرأة إلى قطع العقد، وأسقطوا حقها من حق العقد لما كانت هي القاطعة للعقد، والفرق نوعان: أحدهما - يقع بين مسألتين. والثاني - يقع بين موضوعين وجاحدين، فما

_ (1) في الأصل: أن. (2) أي أن العيب يسري إلى العقد ذاته؛ لأن العيب مقترن به. (3) وشطر المهر في مقابلة العقد: أي أن العقد هنا ضعف ووهَى؛ فلا يجب به شطر المهر. (4) في الأصل: وهي. والضمير على شطر المهر، وتشبيهه بالمتعة يوحي بضعف وجوبه إذا ضعف العقد.

[يقع] (1) بين مسألتين يثبت وينتفي، وينعكس ويطرد، وما يقع بين جاحدين يتبين مأخذ كل جهة، ثم ذلك يوجب الانفصال بنفيين وإثباتين، فهذا ما أردناه. 8228 - والمتعة لا مطمع في ثبوتها مع ما قررناه من انبتات النكاح، واستناد الأمر إلى أول العقد. وأما النفقة والسكنى إذا نفذ الفسخ، [فإن] (2) كانت حاملاً، ففي ثبوت النفقة قولان مبنيان على أن النفقة إذا ثبتت مضافة إلى المطلقة البائنة الحامل، فالنفقة لها أو للحمل؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما مشروحاً في كتاب النفقات. والذي يجب الإحاطة به: أنَّ المطلقة البائنة تفارق التي فُسخ نكاحها من وجهين: أحدهما - أنَّ المطلقة تستحق السكنى في زمن العدَّة قولاً واحداً، وإذا كانت حاملاً تثبت النفقة قولاً واحداً، والاختلاف في أنَّ وجوبها يعزى إلى الحامل، أو إلى حملها. والتي تفسخ نكاحها لا تستحق السكنى إذا كانت حائلاً، وفي استحقاقها النفقة والسكنى إذا كانت حاملاً قولان، فإن حكمنا بأنَّ النفقة للحامل، لم تستحق؛ لانقطاع أثر النكاح عنها بالكلية، وإن قلنا: النفقة للحمل، فتثبت النفقة حينئذ، والسكنى في معنى النفقة. وإنما ينفصل الطلاق [عن] (3) الفسخ؛ من جهة أن الطلاق تصرف في النكاح، والفسخ موضوع لرفعه وقطعه. وسيأتي بيان ذلك في كتاب النفقات. وجميع ما ذكرناه في العيوب المقترنة بالنكاح. 8229 - فأما العيوب الطارئة بعد انعقاد النكاح على السلامة، فإنا ننظر فيها، فإن طرأت على الزوج، فيثبت الخيار لها، وهذا يعتضد بقياس جلي وعضَدٍ له، فأما القياس فحق الاستمتاع وما يطرأ عليه من تعذر يضاهي حق الانتفاع في الإجارة، ثم ما يطرأ من العيب على العين المستأجرة يُثبت حق الخيار، كما يثبته العيب الذي يطلع

_ (1) في الأصل: يثبت. (2) في الأصل: وإن. (3) في الأصل: على.

عليه، ولقد كان موجوداً حالة الإجارة. هذا بيان القياس. والذي يعضده أنها لو لم تختر، لبقيت في ضرار العيب ما عاشت؛ إذ ليس بيدها مخلص سوى الفسخ، هذا إذا طرأ العيب عليه. فأما إذا طرأ العيب عليها، ففي ثبوت الخيار للزوج على الجملة قولان: أحدهما - يثبت الخيار وهو اختيار المزني- كما يثبت لها الخيار، وذلك أنها مستحقة المنافع، وهي حَرِيّة بأن تشبه بالمستأجرة في غرضنا. ولا يظن ظان فرقاً بينهما في العيب الطارىء لا نَعْكس مثله في المقارن. والقول الثاني - إنه لا خيار للزوج إذا طرأ العيب؛ فإن الطلاق بيده، وقد [سلم] (1) أصل العقد، ولزم على موجب السلامة، والمرأة في وضمع النكاح كالمقبوضة، ومنافعها لا تتبعض تبعّض منافع الإجارة. والمزني إن استدّ (2) له اختيار القول الأول، فقد لا يجري لنا ما يجري له؛ فإنا نقول: اليسار الطارىء على نكاح الأمة لا يوجب قطعَه، بخلاف اليسار المقترن بنكاح الأمة، وذلك لأنّا نعتقد الأمة مسلّمة مقبوضة بالنكاح، ونجعل ما يطرأ بمثابة ما يقع بعد تمام الاستيفاء. ثم ما أطلقناه من حدوث العيب، فهو -مما يجري عليها- جارٍ بلا تفصيل. وأما ما يطرأ عليه؛ فلا بد من استثناء العُنَّةِ منه؛ من جهة أن الزوج إذا وطىء ثم عنّ، فلا خيار للمرأة، وتفصيل ذلك يأتي -إن شاء الله تعالى- في باب العُنَّة، فإنها بطباعها ووضعها تنفصل عن العيوب بوجوه ستأتي مشروحة في بابها، إن شاء الله عز وجل. فيخرج عنه أن العنَّة إذا طرأت بعد الدخول، فلا خيار، وإن طرأت قبل الدخول وبعد النكاح؛ ففيها نظر على الضدّ، فيتجه أن [نلحقها] (3) بما يقترن بالعقد، بخلاف البرص والجذام والجنون، فليتأمل الناظر هذا المحل. ويحتمل أن يكون طارئها بعد الدخول كطارىء البرص. وإذا طرأ الجَبُّ بعد الدخول، فالمذهب أن طريانه كطريان البرص. ومن أصحابنا

_ (1) في الأصل: أسلم. (2) استدّ: استقام، كما شرحناه مراراً. (3) في الأصل: نلحق بها.

من ألحق طريانه بطريان العنة، وهذا غير سديد وإن حكاه القاضي. 8230 - فإذا تبين ما يتعلق بالخيار في العيب الطارىء عليها، فإنَّا نتكلم بعد ذلك في سقوط المهر ونقول: إن جرى الفسخ قبل المسيس، فلا شك في سقوط المسمى، سواء كانت هي الفاسخة، أو كان الزوج هو الفاسخ على أحد القولين. وإن كان ذلك بعد المسيس، فإن قلنا: يجب المسمى والعيب مقترن بالعقد، فلا شك أنّا نوجب المسمى في العيب الطارىء، بل إيجاب المسمى هاهنا أولى، وإن فرّعنا على النص في العيب المقترن، وأوجبنا مهر المثل؛ ففي المسألة ثلاثة أوجه في العيب الطارىء: أحدها - أنّا نوجب مهر المثل طرداً للقياس، ومصيراً إلى أن الفسخ يقتضي ارتداد العوض المسمى في العقد. والوجه الثاني - أنه يجب المسمى في العيب الطارىء؛ لأن الذي اعتمدناه في توجيه النص والفسخ مستندٌ إلى العيب المقترن أن العيب المقترن بالعقد يُلحق العقد بالذي لم يكن، فإذا لم يتحقق الاقتران، فلا شيء لإسقاط المسمى في [العقد] (1) وأنه لا بدّ من إثبات مهر. والوجه الثالث - أن العيب إن طرأ بعد المسيس، وجب المسمى وامتنع سقوطه، فإنَّه تقرر على السلامة، فيبعد سقوطه بعد التقرر، وإن طرأ العيب قبل المسيس، فيجب حينئذ مهر المثل، ونجعل اقتران العيب بالوطء المقرر بمثابة اقترانه بالعقد. وقد انتجز القول في الفسخ المقترن والطارىء وسقوط المهر قبل المسيس وبعده. ونعقد نحن وراء ذلك فصلاً هو غائلة الباب، ويتوقف على دركه سر القول في المهر. فصل 8231 - إذا غرِم الزوج المهر بعد المسيس -على ما سبق التفصيل فيه- فهل يثبت له الرجوع على [الولي] (2) بما غرم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يثبت له الرجوع عليه، والثاني - يرجع، والقولان في هذا الباب يستندان إلى قولين سيأتي ذكرهما في باب

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "القول".

الغرور، إن شاء الله تعالى، وهو أن المتعاطي التزويج إذا غرّ الزوج بحرية الزوجة، وانعقد النكاح على الغرور -على أصح القولين- وغرِم المهر -لما وطىء- للسيد، فهل يرجع بالمهر على العاقد الغارّ؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله عز وجل. فإن قلنا: لا يرجع المغرور بما غرمه من المهر على من غرّه، فلا يرجع الزوج في هذه المسألة على الولي. وإن قلنا: يرجع المغرور على الغارّ، فهل يرجع الزوج بما غرمه على الوليّ الذي زوّج من بها عيب؟ فعلى قولين: أحدهما وهو القياس -أنه لا يرجع؛ فإنه قد شرع في النكاح على أن يتقوم عليه البضع، وقد استوفاه وتقوَّم عليه، فكان رجوعه على الولي وهو مطالب بعوض ما التزم عوضه، وقد استوفاه- بعيداً. والقول الثاني - إنه يرجع على الولي المزوج، وهذا القول لا يوجه بمعنًى، وإنما التعويل فيه على ما رواه الشافعي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب أن (1) عمر بن الخطاب قال: "أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها، فلها صداقها، وكذلك لزوجها غرم على وليها" (2). 8232 - ثم قال الأئمة: القولان يجريان إذا كان الولي عالماً بالعيب، فلم يتعرض له، وعقد العقد مطلقاً، فلو كان جاهلاً بالعيب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - القطع بأنه لا رجوع على الولي؛ لأنه لم يوجد من جهته تصريح بالتغرير ولا كتمان، ومن أصحابنا من أجرى في هذه الصورة القولين المذكورين، واعتل بأنه إذا بطل والغرم إلى الولي، فلا معنى للفصل بين العلم والجهل، فإنَّ الأسباب المقتضية لضمان المال والمرجع به لا يفرق فيها بين علم الغارم [وجهله] (3). التفريع على هذين الوجهين: إن حكمنا بأن الولي إذا كان جاهلاً بعيب المرأة؛ لم

_ (1) بلغ من تصحيف هذا الناسخ أنه كتب: "عن أبي المسيب بن عمر بن الخطاب" والله المستعان وحده. (2) هذا الحديث رواه مالك في الموطأ: كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق والحباء، ح 9، ورواه الشافعي في الأم: 5/ 75، وابن أبي شيبة في مصنفه: 4/ 175. (3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.

يثبت الرجوع عليه قولاً واحداً، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الرجوع على الولي يثبت مع كونه جاهلاً بعيب المزوّجة، فالقولان يجريان فيه إذا كان الولي مَحرماً، وهل يجريان إذا لم يكن محرماً للمزوجة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنهما لا يجريان في غير المحارم؛ فإنه إنما يتحقق للانتساب إلى التفريط ترك البحث في حق المحارم، فيصير ترك البحث في حق المحرم تقصيراً حالاًّ محل إنشاء العقد مع العلم بالعيب، فأما من ليس محرماً؛ فإنه يبعد اطلاعه، فلا ينتسب إلى التقصير بترك البحث عن حقيقة الحال. والوجه الثاني - إن القولين يجريان في غير المحرم جريانه في المحرم؛ فإنَّ التعويل في إثبات الرجوع على الولي على الأثر الذي نقله الشافعي عن عمر في صدر الباب، وليس فيه فصل بين ولي وولي، كما ليس فيه فصل بين العالم والجاهل. 8233 - ومما يتعلق بهذا المنتهى، أنا إذا قلنا: إنما يغرَم الولي إذا كان عالماً بالعيب وزوّج، ولو كان جاهلاً، لم يثبت عليه مرجع، فلو كتمت المزوَّجة عيبَ نفسها، فهي بكتمانها حَالَّةٌ محل الولي المزوِّج مع العلم بالعيب، ففي ثبوت الرجوع فيها القولان المذكوران في الولي العالم بالعيب. وسنذكر في باب الغرور أن المرأة إذا كانت هي الغارَّة، ففي الرجوع عليها من الكلام ما في الرجوع على المزوِّج الغارّ. ثم إن رأينا الرجوع، والمرأة هي الكاتمة، وهي التي وطئها زوجها، فإذا أثبتنا الرجوع عليها، فلا معنى للغرم [لها] (1)، وذكرنا الرجوع تقدير يُفضي معناه إلى أنه لا يغرم لها؛ فإنها حلت محل من ثبت الرجوع عليه، والجمع بين الغرم [للشخص] (2) وبين الرجوع بما يغرم له متناقض. 8234 - فإذا أحللناها محل من يرجع عليه، فهل نقول: يدع إليها شيئاًً من المهر يستحل به البضع؟ فعلى وجهين: أحدهما - إنه يجب ذلك؛ فإنها لو لم تستحق شيئاًً من المهر، لكان إعراء الوطء عن العوض إحلالاً له محل السفاح.

_ (1) في الأصل: بها. (2) في الأصل: "والشخص".

والثاني - إنه لا يغرم لها شيئاًً؛ لانتسابها إلى التغرير بالكتمان، واقتضاء التغرير الرجوع لا يختص بجزءٍ من المهر دون جزء، وخلو الوطء عن المهر لا يعدم [نظيراً] (1) في الشرع. فإن قلنا: يترك إليها مقداراً، فهو أقل ما يتمول، وقد تكلمنا في ذلك في مواضع من الكتاب، وإن قلنا: لا يترك إليها شيئاً، فللأصحاب نوع من الكلام في التقدير والإسقاط في مثل تزويج الرجل أمته من عبده، فلا شك أن السيد لا يثبت له مهر أمته على عبده ثبوتاً يطالب به في الحال، أو في المآل، ولكن هل نقول: هل يثبت المهر تقديراً أو سقط كما (2) ثبت؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي وغيره، وهذا يضاهي اختلاف الأصحاب في أن الأب إذا قتل ابنه، فهل نقول: يلزمه القصاص؟ ثم يسقط بتعذر استيفائه، أو نقول: لا يلزمه القصاص أصلاً؟ تردد فيه الأصحاب. فإذا كان لهذا النوع من الخلاف جريان، فأحرى المواضع بها ما نحن فيه من تصدي المرأة للغرور، أو لما في معناه؛ فإن حق الرجوع إذا ثبت وتضمن تقدير المطالبة بما به الرجوع، فهل يقدر الوجوب فيما يثبت به الرجوع به أولاً؟ فعلى وجهين. وجريانهما في هذه الصورة أوجه من جريانهما في الأمة يزوّجها مولاها من عبده. ويكاد يكون الثبوت في المهر مع ثبوت الرجوع حالاًّ محل ما يجري فيه التقاصّ من الحقوق المقابلة. فهذا حاصل القول في الرجوع على المولى وما يتصل به. ولولا أثر عمر بن الخطاب، لما انتظمت هذه المسائل؛ فإن المعنى لا يشير إلى تنزيل الولي المزوّج منزلة الغارّ المصرِّح بالتغرير. 8235 - ثم أجمع الأصحاب على أن ما ذكرناه من إجراء القولين في الرجوع على الولي المزوّج فيه إذا كان العيب المثبت للخيار مقترناً بالعقد، فأما إذا عري العقد عن اقتران عيب به، وانعقد على سلامتها، ثم طرأ عيب، وجرينا على إثبات الخيار

_ (1) في الأصل: نظراً. (2) كما ثبت: أي عندما ثبت.

للزوج، فإنه لا يرجع بما يغرم في هذا المقام، قولاً واحداً؛ من جهة أن الولي إن كان ينتسب إلى مضاهاة الغارّ، فذاك إنما يتصور حالة إنشاء العقد، فأما ما يطرأ على العقد من العيوب، فلا يتقرر معنى الرجوع في حق الولي تقديراً ولا تحقيقاً. ويتصل بهذا الفصل ضبط وتنبيه، سيأتي مشروحاً في باب الغرور، إن شاء الله تعالى. فرع: 8236 - المرأة إذا اطلعت على عيب من زوجها، وأثبتنا لها الخيار لمكان ذلك العيب؛ فلو رضيت بالمقام تحت زوجها، فهل يثبت لأوليائها حق الاعتراض على العقد بالفسخ؟ ذكر بعض أئمتنا ثلاثة أوجه: أحدها - لهم الفسخ من غير فصل بين عيب وعيب؛ فإن العار يلحقهم بكونها تحت معيب، من غير فرق. والوجه الثاني - إنه لا يثبت لهم حق الاعتراض إذا رضيت؛ فإن العيوب المثبتة لحق الفسخ إنما تؤثر في حق الزوجة، وهي المختصة بالتضرر بها، وإنما ينال الأولياءَ العارُ من خساسة الأنساب، وما يقع فيها من غض وحطيطة. والوجه الثالث - إنه يفصل بين الجب والعنة وبين غيرهما، فلا يثبت الخيار للأولياء في الجب والعنة؛ فإن ضررهما مختص بالمرأة، فأما الجنون والجذام والبرص، فيثبت للأولياء حق الاعتراض بسببها إذا ثبت شيء منها. وسلك العراقيون مسلكاً آخر، فقالوا: لهم الاعتراض بسبب الجنون، ولا اعتراض لهم بسب الجب والعنة، وهل لهم الاعتراض بسبب الجذام والبرص؟ فعلى وجهين. وهذا التفصيل الذي ذكروه أحسن ما وقع. ثم كل ما ذكرناه في العيب المقترن بالعقد، فأما ما يطرأ بعد العقد، فإذا رضيت المرأة به، واختارت المقام تحت الزوج معه (1)، فلا اعتراض للأولياء، اتفق الأصحاب عليه، وزعموا: إنما يثبت للأولياء حق الاعتراض بما يستند إلى حالة العقد ويقترن به، فأما ما يطرأ عليه؛ فلا حق لهم فيه.

_ (1) معه: أي مع العيب.

8237 - ومن تمام التفريع فيما ذكرناه أنا حيث نثبت للولي الاعتراض وإن رضيت المرأة، فلو [دعت] (1) المرأة ابتداء إلى التزويج من شخص عيّنته، وكان به أحد العيوب، فإن قلنا: للولي حق الاعتراض وإن رضيت، فلا يجيبها إذا طلبت ودعت إلى التزويج منه، وحيث قلنا: لا يثبت حق الاعتراض في بعض العيوب التي فَصَّلناها، فإذا دعت المرأة وليَّها إلى التزويج ممن به مثل ذلك العيب؛ فعلى الولي إجابتها، فإن لم يجبها كان عاضلاً. ثم ذكر الشافعي لفظة في السواد (2)، فتعرض الأصحاب لها، وذلك أنه قال: "الجذام والبرص -فيما زعم أهل العلم بالطب- يُعدي، فلا تكاد نفس أحد تطيب بأن يجامع من هو به، وأما الولد، فقل ما يَسلَم، وإن سلم، أدرك ذلك نسلَه، فنسأل الله العافية". هذا ما نقله المزني من لفظ الشافعي. فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر" (3) فنفى العدوى وقد أثبتها الشافعي، [فكان] (4) ذلك مخالفاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: إنما نفى الرسول صلى الله عليه وسلم العدوى من شخص إلى شخص، ومن جليس إلى جليس، والذي ذكره الشافعي تعرض للعدوى إلى النسل والولد، وفي الحديث ما يدل على أن فعل ذلك غير ممتنع على طرد العادة، والدليل عليه ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسودَ، فكان ما قاله تعريضاً بها وبإتيانها الولد لا عن رِشْدة، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمر، فقال: هل

_ (1) في الأصل: ادعت. (2) السواد: هو مختصر المزني كما قلنا مراراً وتكراراً. وانظر المختصر: 4/ 7، لترى هذا اللفظ بنصه من (السواد). (3) حديث: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر" متفق عليه، رواه البخاري: كتاب الطب، باب لا هامة، ح 5757، ورواه مسلم: كتاب السلاب، باب الطيرة والفأل، ح 2223، 2224، وعند البخاري زيادة "ولا هامة" عما رواه الإمام وعند مسلم بدون "ولا صفر" كلاهما عن أبي هريرة، وفي الباب عن أنس بن مالك بنحوه. (4) في الأصل: وكان.

فيها من أَوْرق؟ قال: نعم. قال: ذاك من أين؟ قال السائل: لعل عرقاً نزعه. فقال صلى الله عليه وسلم: فلعل عرقاً نزعه" (1)، فبيّن أن العرق [نزّاع] (2)، وأن العدوى في الخِلقة وصفات البدن من الأصل على الفرع ليس بمستنكر. فصل قال: "ولو تزوجها على أنها مسلمة، فإذا هي كتابية، كان له فسخ النكاح ... إلى آخره" (3). 8238 - نقل المزني عن الشافعي أن من نكح امرأة، وشرط كونها كتابية، فخرجت مسلمة؛ قال: لا خيار للزوج. ثم كان المزني سمع الشافعي يقول: لو اشترى عبداً وشرط كونه كتابياً، فخرج مسلماً، له الخيار، فأخذ ينكر ذلك في البيع، يصير إلى أن لا خيار، واستشهد بما نقله عن نص الشافعي في النكاح، فقال الأصحاب: أما إذا اشترط الإسلام في التي تزوجها، فخرجت كتابية، فهذا من باب الخُلف في الوصف. وسنذكر في باب الغرور -إن شاء الله تعالى- أن الخلف في الوصف هل يمنع انعقاد النكاح؟ وفيه قولان، فإن حكمنا بأن الخلف في الوصف يوجب فساد النكاح، فلا فرق بين أن يشترط الإسلام، فيظهر أن الزوجة كتابية، وبين أن يشترط كونها كتابية، فيظهر أنها مسلمة. والقولان في الفساد والصحة يجريان في الخُلف من فضيلة إلى نقيصة ومن نقيصة إلى فضيلة. وإن حكمنا بأن النكاح ينعقد، فالنص دال على أنه إذا شرط كونها مسلمة فخرجت

_ (1) حديث: "لعل عرقاً نزعه" رواه البخاري: كتاب الطلاق، باب إذا عرّض بنفي الولد، ح 5305، عن أبي هريرة، وساقه على نحو سياقة إمام الحرمين. ورواه مسلم: كتاب اللعان، ح 1500، عن أبي هريرة أيضاًً. وعلى نحو ما ساقه البخاري. كما رواه أبو داود والنسائي في الطلاق، وابن ماجه في النكاح، وأحمد: 2/ 234، 239، 409. (2) في الأصل: زاغ. (3) ر. المختصر: 4/ 8.

كتابية؛ فله الخيار، ولو شرط كونها كتابية، فإذا هي مسلمة؛ فلا خيار له. فاستدل المزني بنص الشافعي في النكاح وقال: إذا اشترى عبداً على أنه كتابي، فإذا هو مسلم؛ وجب أن لا يثبت له الخيار بخُلف هذا الشرط، وإنما يُثبت الخلفُ الخيارَ إذا اشترى عبداً وشرط أنه مسلم، فخرج كتابياً، وقد نقل عن الشافعي إثبات الخيار في شراء العبد في الطرفين - إذا تحقق الخلف في الشرط، من غير فرق بين أن يكون المشروط هو الإسلام أو الكفر. 8239 - واختلف أصحابنا فيما ذكره المزني، وفيما استشهد به فقالوا أولاً: إذا شرط في النكاح كون المرأة كتابية، فخرجت مسلمة؛ فلا خلاف أنه لا خيار للزوج فإنها خرجت خيراً مما شرط، وكل غرض يستباح بالنكاح في الكتابية، فهو مستباح من المسلمة. وإذا اشترى عبداً وشرط كونه مسلماً، فخرج كتابياً؛ فلا خلاف في ثبوت الخيار. وإذا اشترى على شرط أن يكون كتابياً، فخرج مسلماً، فهذا موضع تردد الأصحاب، وحاصل ما ذكروه ثلاثة أوجه: أحدها - أن الخيار يثبت؛ فإن المقصود في الرد راجع إلى المالية، وقد يكون الكفر في المملوك من الأغراض المالية بأن يُبضع (1) المشتري العبدَ في جهة ديار الكفر، ويقدّر أنه [يروج] (2) عليه. وقد يتعلق الفكر بنوع آخر وهو أن الكافر يطلبه المسلم [وغير المسلم] (3)، والمسلم لا يطلبه إلا المسلم، ولو طلبه غيرُ المسلم لم يُسْعَف ولم يُبَع منه، ورواج الشيء بكثرة الراغبين، كما أن وقوفه بقلة الراغبين، هذا وجه. ومن (4) أصحابنا من قال: إن كان الموضع الذي جرى فيه الشراء قريباً من ديار

_ (1) يُبْضع العبدَ: أي يجعله بضاعة. من أبضعت الشيءَ فلاناً: جعلته له بضاعة. فالمعنى: أن المشتري يجعل العبد بضاعة جهة ديار الكفر (انظر المصباح). (2) في الأصل: يزوج. (3) زيادة لاستقامة المعنى. (4) هذا هو الوجه الثاني.

الكفر، فكان يُتوقع أن يطرقوا ذلك الموضع، [فيرغبوا] (1) في العبد الذي يوافق دينهم؛ فيثبت الخيار، وكذلك إن اتفق ذلك في بلد يكثر فيه أهل الذمة، فأما إذا جرى في موضع بعيد عن ديار الكفر، [ولا يكثر الكفار وأهل الذمة فيه] (2)، فإذا كان شَرَط الكفر في العبد، فخرج مسلماً، فلا خيار - والحالة هذه. وهذا ما اختاره القاضي. ومن (3) أصحابنا من وافق المزني ورأى مذهبه قولاً مُخَرَّجاً معدوداً من النظر إلى الأغراض المالية؛ فإنَّ القيمة إن كانت تزيد، من جهة رغبة الكفار، فتيك رغبة باطلة مستندها الكفر وتحسينه، واعتقاد كونه حقاً، فيكاد أن يكون ذلك المزيد بمثابة ثمن الخمر. هذا بيان الأوجه. 8240 - وبقية الكلام أن هذا العبد لو أُتلف، فمذهب جماهير الأصحاب أنه يجب على المتلِف أن يغرم قيمته اعتباراً بما يقف (4) به، وإن كان بأكثر مما يُشترى به المسلم. وذهب المزني ومن يوافقه أن ذلك المزيد لا يُضمن لما أشرنا إليه، وهو بمثابة ازدياد قيمة الجارية بأن تصير عوّادة (5). فلا يخفى أن القَيْنة (6) تُشترى في العادة بضعف ما تشترى به الجارية الناسكة، ومن اشتراها لم [يتعرّض] (7) إليه، فإن الشراء يرد على

_ (1) في الأصل: فرغبوا. (2) عبارة الأصل: "ولا يكثر من الكفار أهل الذمة فيه". (3) هذا هو الوجه الثالث. (4) اعتباراً بما يقف به: أي ليس اعتبارً بما يروج به. (5) عوّادة: أي تحسن الضرب بالعود، وهذا اللفظ مستعمل في أيامنا هذه في هذا المعنى نفسه. (6) القينة: المراد هنا: المغنية. (7) في الأصل: لم يعترض إليه: والمعنى لم يتعرض لضربها على العود وغنائها، وإنما يقع الشراء على عينها.

عينها، ولكن لو [أتلفت] (1) لم يضمن مُتلِفها إلا قيمة مثلها لو كانت لا تحسن الغناء. وقد ذكرنا طرفاً من هذا في المعاملات، وستكون لنا عودة إليه في الجنايات، إن شاء الله تعالى. ...

_ (1) في الأصل: أتلف

باب الأمة تغر من نفسها

باب الأمة تغرّ من نفسها 8241 - قد ذكر الأصحاب حكم الغرور بالنسب فيما تقدم، ونحن أخرناه إلى هذا الباب؛ حتى نأتي بأحكام الغرور مجموعة، والرأي أن نذكر حكم التغرير بالحرية ونستوعب ما فيه، ثم نذكر التغرير بالدين مع ما يتعلق به، ثم نذكر التغرير بالنسب وما يتعلق به من الصفات المرعية في الكفاءة. 8242 - فإذا غُرَّ أحد الزوجين بحرية صاحبه، فلا يخلو إما أن يُغر الرجل بحريتها، أو تغر المرأة بحرية الرجل، فإن غُرّ الرجل بحريتها، ولا يتصور ذلك، أولاً من جهة المولى؛ لأن المولى إذا ذكر حرية أمته، عَتَقَت، فالوجه فرض التغرير من وكيل الولي، بأن يزوّج وكيلُ الولي بأمر المولى، فيذكر الوكيل من تلقاء نفسه أن المزوّجة حرة. فهذا الأصل لا تتضح الأغراض فيه إلا بتقاسيم، وإذا رتبنا التقسيم في حقه، أَحْوَجَنا الترتيبُ إلى إعادة أحكام؛ حتى تجري الأقسام على انتظام، فليحتملها الناظر؛ [فإنا لا نُخلي معاداً مما هو مستجد] (1) مستفاد، إن شاء الله تعالى. 8243 - والذي نرى تصدير الفصل به -قبل الخوض في التفاصيل- الاعتناءُ بتصوير التغرير؛ فإنه لم يهتم بهذا أئمة المذهب، ولعل الأولين عولوا على فِطَن الطلبة وأبهموا، ثم تناسخت الأعصار، [فصار] (2) ما استهانوا به معضلةً في صدور أهل الزمان، ونحن لا نجد بداً من تقرير الإشكال، وتوجيه فنونٍ من السؤال، ومعارضتها بما يمكن من طريق الانفصال، حتى تنفتح نواظر البصائر، وإذ ذاك نأتي بالحق المبين، والله ولي الإعانة. فنقول أولاً: التغرير في ظاهره شرط حرية الزوجة، وقد تمهد في أحكام العقود،

_ (1) عبارة الأصل: "فا لا نحلى معاداً هو مستجد". والمثبت محاولة منا لإقامة العبارة. (2) زيادة من المحقق.

ومقتضى المعاملات أن الشرائط إنما تؤثر إذا ذكرت في صلب العقود، فلو أجرى المتعاقدان شرائط قبل الإقدام على العقد، ثم لما عَقدا العقد بالإيجاب والقبول، عرّياه عن التعرض عما كانا [تفاوضا] (1) فيه من الشرط فيما تقدم، [فالشرط] (2) لاغٍ، والعقد مجرى على الإطلاق بالاتفاق. وموجب هذا الأصل يقتضي أن يجري شرط الحرية بين الإيجاب والقبول في النكاح، ولكن لا سبيل إلى القول بذلك، وقد نص الشافعي على أن الأمة إذا كانت هي الغارّة، فيثبت الحكم بتغريرها، ويترتب على ذلك من أحكام الغرور ما سنصفه، إن شاء الله عز وجل. وإذا كان يتصور التغرير منها وليست عاقدةً، ولا يتعلق بها من شِقّي العقد شيء، فيتبين بهذا أن التغرير ليس مما يجري إجراؤه في صلب العقد؛ إذ لو كان ذلك مرعياً، لما صدر التغرير إلا من عاقد. وإن تكلف متكلف وفرض [ذكرَ] (3) الوكيل في التزويج تغريرها في معرض الحكاية، كان ذلك هذياناً؛ فإنه وكيل من جهة المالك بحق الملك، فكيف ينتظم منه ذكر الحرية حكايةً؟ وقول الأمة -وهي مجبرة على النكاح- كيف يغيّر العقد، وليس إليها من العقد شيء؟ [أفلا] (4) يتضح لكل ذي فهم أن تصوير التغرير من الأمة والمكاتبة، يُبيِّن أنا لا نقف صورة التغرير على إجرائه بين الإيجاب والقبول؟ ويجوز أن يذهب ذو الذكاء والفطانة من طريق المعنى إلى أن اشتراط كون العبد المبيع كاتباً لا يرعى فيه الإقرار بالعقد، وذلك أن الغرض من شرط كون العبد كاتباً إعلام المشتري بذلك؛ فإن العقود مبنية على ظاهر العلم بالسلامة، فكفى ذلك، وكان سبباً في إثبات الخيار عند ظهور نقيض السلامة، والفضائل ليست تنضبط بعادة مطردة، فيصير ذكر البائع لها بمثابة اطراد العادة في حِسْبان السلامة من العيوب، وإذا كان كذلك

_ (1) في الأصل: يتفاوضا. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: ذلك. (4) في الأصل: فلا.

[فقد] (1) يخطر في مجاري فكر الفطن أن ذكر مَنْقبةٍ في العقد على الاتصال بالعقد قبل الإقدام على شقيه يثبت الخيار إذا تحقق الخُلف فيه، وقد يشهد لذلك التصريةُ والتحفيل؛ فإن ما ترتب عليه من ظن غزارة اللبن يضمن الخيار إذا أخلف الظن، والتصرية متقدمة إنشاءً وفعلاً. ثم من أساليب الكلام في هذا الفن أن يقول الفقيه: الشرط الذي يُرعى اقترانه بالعقد هو الشرط المفسد؛ فإنه إذا قرن بالعقد، صار كيفيةً في العقد وصفةً فيه، وليس هو من قبيل الإعلام حتى يُكتفى فيه بسابق يغلب على الظن [تحققه. هذا] (2) مسلكٌ. وقد يتصل به أنا إذا منعنا شراء الغائب؛ ثم أقمنا تقدم الرؤيةٌ مقام الرؤية المقترنة، وقلنا: لو تقدمت رؤيةٌ وتخلل بينها وبين العقد زمن لا يغلب فيه تغير المبيع، ثم اتفق أن المشتري [الباني] (3) على الرؤية المتقدمة صادف المبيع متغيراً؛ فله الخيار، وإن لم يكن التغير إلى عيب، ونزّل المحققون الرؤية المتقدمة منزلة اشتراط المناقب والفضائل مع اختلاف الشرط، فهذه رؤية تقدمت، وهي مشبّهةٌ بالشرط، فأشعر هذا الترتيب بما ذكرناه من حِسبان تقدم الشرط في مناقب المبيع مؤثراً. هذا نجاز هذا النوع من الكلام. 8244 - وقد يعارض هذا كلامٌ أفقهُ منه، وهو أن الفضيلة المشروطة لا تنزل منزلة السلامة الغالبة المعتقدة في المبيع؛ فإنَّ التعويل في هذه المنقبة على قول المخبر، وقوله متردد بين الصدق والكذب، ولو كان سمع مشتري (4) العبدِ عُدولاً يُخبرون عن كتابة عبدٍ، فبنى الشراء عليه، ثم تبين اختلاف الظن؛ فلا خلاف أنه لا يملك الفسخ. وقول العدول الذين لا غرض لهم في ملك الغير أحرى بتغليب الظن من قول الفاسق البائع المتهم [بأنه] (5) يُروِّج متاعَه، وهو على شفا (6) وغارّ، فلا يحصل الإعلام

_ (1) في الأصل: قد. (2) زيادة من تقديرنا. نرجو أن تكون صواباً. (3) في الأصل: الثاني. (4) عند ابن أبي عصرون: "مُسْتامُ" وهي أولى من "مشتري". (5) في الأصل: أنّ. (6) عند ابن أبي عصرون: "على شفا وِفاز" والوفاز جمع الوَفَز، وهو العَجَلة.

بهذا، وإن قال القائل: [ألسنا] (1) نعتمد في صحة البيع قولَ البائع في أن المبيع [ملكُه] (2)، وقولَه في أن ما يبيعه لحم مُذَكَّاةٍ، قلنا: لأجل هو كذلك، وليس هو لإثارة قوله علماً وظناً، ولكن اضطررنا إلى تنزيل العقود على أقوال العاقدين؛ فإنا لو كُلِّفنا غير ذلك في العقود؛ لعظم الأمر، وشقَّ المأخذ. والذي يقتضيه الفقه أن الفضيلة إنما تصير مشروطة بالتزامها وإنما يتحقق التزام صفة المبيع حالة البيع، فسبيل اقتضاءِ الشرطِ الخيارَ هذا لا غير. 8245 - فإذا تنبه الناظر لهذه المسالك، جاز أن نقول بعدها: أما الشرط المفسد للعقد، فإنما يؤثر إذا اقترن بالعقد لما ذكرناه، ولو قُدِّم على الاتصال، فالمذهب أنه لا يؤثر، وفيه وجه بعيد: إنه يؤثر؛ أخذاً من مسألة مهر السر والعلانية. وشرطُ الخيار في العقد، وكذلك شرط الأجل وقتها وقت الشرط المفسد، فأما شرط فضيلة في المبيع، فالذي قدمناه من الإعلام ترديد القول فيه توطئةً لطرق الكلام، والمذهب المبتوت أنه لا بد من الالتزام، ولو قدم شرط الفضيلة في النكاح، انقدح فيه الوجه الضعيف المذكور في مهر السر والعلانية. وأما ما مهدنا به في تمهيد الكلام من التصرية، فلا متمسك به من وجهين: أحدهما - أن مسألة المصراة [خبرية] (3)، فلا ينبغي للقياس أن يبسط فيها، والآخر أن كثرة [اللبن] (4) محسوس في الحال، والنظر [مَزْوِيّ] (5) مطوي عما يفرض من تحفيل وتصرية، وأما مسألة تقدم الرؤية في تفريع الغائب؛ فسبب الخيار ضعف الرؤية وانحطاطها عن إفادة العلم حالة العقد بسبب ما طرأ من التغير، فَلْيُقرَّرْ كل أصل على موضوعه. هذا قولنا في البيع وما شرط فيه، وكذلك ما في معناه من عقود المعاملات.

_ (1) في الأصل: لسنا. (2) في الأصل: "لكمه" صحفت بقلب الحروف، والمثبت من ابن أبي عصرون. (3) في الأصل: جبرية، ومعنى خبرية أن معتمدها الخبر لا القياس. (4) في الأصل: "اللبس". (5) مزويّ: من قولهم: زوى السرَّ عنه: طواه، وزوى الشيء عنه: صرفه، ونحاه. (المعجم) ثم هي في الأصل: بالراء المهملة.

8246 - وأما النكاح؛ فالقول في الشرائط المفسدة له كالقول في الشرائط المفسدة للبيع، لا يختلف وقت الشرطين في العقدين. وأما الغرور، فلست أراه -أحسن اللهُ إرشادكم- من باب الشرائط. ومن وُفِّقَ لرُشده، تبين له من ترجمة الباب ذلك؛ فإنَّ الباب مترجم بالغرور، فلا ينبغي أن يلحق في وضعه بالشرائط وأحكامها ومواقيتها، ويجب أن يقال: إذا جرى التغير قبل العقد متصلاً، ارتبط به حكم الغرور، وسأصف الاتصال ومعناه. ويخرّج على ذلك صدَرُ (1) التغرير من الأمة والمكاتبة. ثم ليعلم الناظر أن أجنبياً لو ذكر حرية أمة، وابتنى العقد عليه، فلا يتعلق بقول ذلك الأجنبي مرجع في غرم، وإنما يثبت حكم التغرير على الكمال إذا صدر من عاقدٍ أو معقود عليه، أما العاقد، فهو الذي غرر، ثم أوقع المغرور في العقد، وكان محقِّقاً تغريرَه، وأما المنكوحة فبها اتصال العقد، فلها حظ في مستمتع العقد، فظهر تصديها للتغرير من حيث دعت إلى نفسها. والذي يحقق ذلك أنا قدّرنا قولين في باب العيوب في الرجوع على الأولياء، ولم يصدر منهم شرط والتزامه، وقاعدة التغرير مشهورة، ومن صورها أن يقول صاحب اليد في الطعام لمن يقدمه إليك: "دونك فكُلْه"، أو "هذا طعامي فتناوله"، فهذا تغرير ولا عقد. ثم إذا وجهنا قولاً على قول في التغرير بتقديم الطعام، استمسكنا بالتغرير في النكاح. هذا تمام ما أردناه. ولو أنصفنا لقلنا: الرأيُ لا يُسلّطُ على الرجوع على الغارّ في النكاح، ولكن إنما صرنا إلى ما صرنا إليه لقضاء عمر واتفاق الناس على اتباعه، والنكاح أيضاً على حال مُخطرٍ (2)، وهو معقود للأبد، معدود من أسباب النسل، فخُصّ في الشرع بالتغليظ على [المغرِّر] (3) فيه، وأمّا البياعات؛ فإنها معاملات تجري يداً بيد، فمدارها على الالتزامات.

_ (1) صَدَر: أي صدور. (2) مخطر: من قولهم: بادية مخطِرة، أي من يدخلها بين السلامة والتلف. (المعجم) هذا ويحتمل أن يكون الصواب: "على حالٍ خطرة: أي عظيم الشأن والأثر والخطر". (3) في الأصل: المغرور.

والذي يحقق الغرض من ذلك أن الوكيل مُزوِّجَ الأمة إذا ذكر حريتها من عند نفسه، فقوله هذا لغو ولا يتحقق منه التزام، على خلاف إذن المالك، ففي مُقرَنه من الإشكال ما في متقدمه، فهذا في غاية البيان. 8247 - وتمامه بذكر الاتصال وشرحه، فإذا ذكر الرجل أن فلانة حرة، ولم يقصد بهذا تحريضَ سامعٍ على نكاحها، ثم اتفق من ذلك السامع نكاحها بعد أيام، وقد تعاطى تزويجَها من كان يذكر حريتها بتوكيل المالك إياه؛ فلست أرى هذا تغريراً، والرجوع فيه إلى العُرف. ولو جرى ذكر الحرية في معرض الترغيب في النكاح، ثم اتصل به التزويج، بحكم الوكالة من المغرِّر، فهذا هو التغرير في حقه. وإن اقترن ذكر الحرية، وشرطُها بالعقد، فهو الذي لا كلام فيه؛ فإنه على أقصى نهايات الاتصال. ولو جرى ذكر الحرية لا في معرض تحريض الحاضر على [الزواج،] (1) ثم اتفق على القرب العقدُ، فهذا فيه تردد. وكذلك لو جرى ذكر الحرية في معرض التحريض، ثم جرى عقد النكاح بعد تخلل زمان يُعدّ مثله فاصلاً لما مضى عما أتى به من العقد؛ فهذا على تردد. ومهما (2) نيط الأمر بمجاري العادات، فمحل القطع فيها على النفي والإثبات بيّن، ومحل التردد فيها يفضي إلى التردد في الحكم، والأمة إذا ذكرت حرية نفسها، فالقول في اتصال كلامها وانفصالها على ما ذكرناه. وقد انتجز المقصود في تصوير الغرور، ولم يبق منه شيء إلا أمر واحد، وهو أن الأئمة ذكروا قولين في أن شرط الحرية إذا أخلف، هل يوجب فساد النكاح؛ على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى- وهذا مخصوص بالشرط المقترن لا محالة؛ لما مهدناه من أن الشرائط المؤثرة في الإفساد لا بد وأن تفرض مقترنة بالعقد؛ فإنهم ذكروا التغرير وقرنوه بإجراء القولين في فساد العقد، ولكن يمكن حمل هذا على ما إذا جرى

_ (1) في الأصل: الزوج. (2) (مهما): بمعنى إذا.

التغرير مقترناً. وإن جرى متقدماً، لم ينقدح فيه الفساد إلا على الوجه الضعيف في مهر السر والعلانية، وهذا التردد لا يعارض ما ذكرناه من تغرير الأمة بنفسها، وليست عاقدة. هذا مضطربي في تصوير التغرير، وقد نبهت للنظر في ذلك كلَّ فطن، فمن عثر على مزيد، فليلحقه بحاشية كتابنا مأجوراً، إن شاء الله عز وجل. 8248 - وقد عاد بنا الكلام إلى حكم التغرير فإذا غرّ وكيلُ المولى في تزويج الأمة بحريتها، فلا يخلو المزوَّج بها إما أن يكون حراً أو عبداً، فإن كان حراً، نُظر إن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء؛ فالنكاح باطل، وإن كان ممن يحل له نكاح الإماء، وقد جرى التغرير شرطاً؛ ففي انعقاد النكاح قولان إذا تحقق الخُلف في الشرط. وهذان القولان يجريان في كل خُلف يفرض في حقه مشروطاً من الناكح أو المنكوحة، ولا فرق بين أن يتفق الخُلف من كمال إلى نقصان، وبين أن يتفق الخلف من نقصان إلى كمال، أو من صفة إلى أخرى تماثلها في مراتب الفضائل. توجيه القولين: من قال: يصح النكاح -وهو الأصح- وإليه صار أبو حنيفة (1) واختاره المزني، احتج بأن اختلاف الشرط لا يثبت فساد البيع مع تعرضه لقبول الفساد بكل شرط فاسد متعلق ببعض مقاصد البيع، ثم لم يفسد باختلاف الشرط؛ فلأن لا يفسد النكاح أولى، وفقه التوجيه أن المعقود عليه متعيَّن في البابين، فالمنكوحة متعينة وهي ذات صفات، والعين لا تتبدل بفرض خُلف في الصفة، وكذلك العبد متعيَّن في البيع لا يفرض تبدله باختلاف شرط متعلق بصفة. ومن قال بفساد النكاح استدل بأن مدار النكاح في العادات على الصفات؛ فإن المرأة لا [تُعايَن] (2) عرفاً، وإنما يَتوصَّل طالبُ الحظ منها إلى غرضه بالوصف، فإذا فرض الخُلف في الوصف، كان ذلك اضطراباً في الطريق المعتاد في درك الأغراض من المعقود عليه، وإن كان مورد العقد المرأة، ذات صفات، ولكن التعويل في العادات

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 175، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 353 مسألة رقم: 848. (2) في الأصل: "تغاير" والمثبت تقديرٌ منا، وفي (صفوة المذهب) "تُشاهد".

على الصفات؛ فإذا اضطربت، جرَّ اضطرابها فساداً. وقرّب بعض الأئمة اختلاف القولين في ذلك من الإتيان باسمٍ يخالف اسمَ المبيع مع الإشارة إليه، مثل أن يقول: "بعتك هذه الرّمَكَة (1) والمبيع بقرة: من أصحابنا من حكم بإفساد العقد لاضطراب اللفظ، ومنهم من صححه تغليباً للإشارة والتعيين. وهذه المسألة بعيدة عما نحن فيه؛ من جهة أن الرَّمَكة لفظة تشعر بموصوف وصفات، وليس تعرضاً لصفة فحسب، فإذا خالف اللفظ بالكلية محلَّ الإشارة، اتجه فيه خلاف على بعد، وآية ذلك أن الجنس يختلف في المفهوم من اللفظ المشار إليه، والمنكوحة متعينة، وإنما المذكور صفة من صفاتها، اختلف الشرط فيها أو لم يختلف، فليس عند الفقيه لإفساد النكاح توجيهٌ عليه معوّل. وقد يقال لموجه هذا القول: إنما يستقيم التعويل على فصل الصفات لو كان شرط ذكرها في النكاح، فإذا لم يشترط ذكرها و [كفى] (2) التعيين، فيبعد أن يؤثر الخلف في الإفساد. غايةُ الإمكان في ذلك أنا قد لا نشترط ذكر شيء، وإذا فرض ذكره اشترطنا الاستداد والإصابة فيه. وهذا كما أنا لا نشترط في المبيع المشار إليه ذكر اسم جنسه، بل يكفي أن نقول: بعتك هذا؛ فلو وقع التعرض لذكر جنسه، فلا بد من الإصابة فيه عند بعض الأصحاب. هذا بيان القولين والتفريع عليهما. 8249 - فإن حكمنا ببطلان النكاح، فسد النكاح، وألحق التفريع بما إذا كان الحر الخاطب ممن لا يحل له نكاح الإماء. فإن لم يكن دخول، فرقنا بينهما، وإن جرى دخول على الظن، فوطء شبهة يتعلق به وجوب مهر المثل، والعدّة، ولا نفقة إن كانت حائلاً، وإن علقت منه بمولود، ففي وجوب النفقة قولان مبنيان على أن النفقة إذا وجبت مضافة إلى المطلقة البائنة

_ (1) الرَّمَكة: الفرس البرذونة تتخذ للنسل. (معجم). (2) كذا. ولعلها: واكتفى بالتعيين.

الحامل، هي [للحامل أو للحمل] (1)، وقد مضى ذلك. 8250 - وإن فرّعنا على القول الصحيح، وهو قول تصحيح العقد، فأول ما نذكره في التفريع على هذا القول، الخيار الذي ذكره أئمة المذهب أن الزوج المغرور يثبت له خيار فسخ النكاح إذا كان حراً. وذكر صاحب التقريب والعراقيون في الزوج الحر المغرور، وفيه إذا كان الزوج عبداً وقد غُرّ ثلاثة أقاويل: أحدها - إنه لا خيار للزوج أصلاً، فليطلق إن شاء، وهذا القائل يقول: إنما يثبت الخيار للزوج بسبب عيوب المرأة فحسب، فإن النكاح على الجملة بعيد عن قبول الخيار، وجانب الزوج أبعد عن قبول الخيار من جانب الزوجة، فإنَّ الخيار إن ثبت، فالذي يليق به ألا يثبت إلا عند الضرورة لمضطر، وإنما يتحقق نعتُ الاضطرار في حق المرأة، فإنها في ربقةٍ لا تملك حلها اختياراً، والزوج ممكَّن من الطلاق؛ وبهذا المسلك لم يُثبت أبو حنيفة للزوج حق الفسخ بجب الزوج وعنته. والقول الثاني - إنه يثبت الخيار بالتغرير في الحرية، سواء كان الزوج حراً أو عبداً، وهو الذي تدل عليه الآثار وأقضية الصحابة رضي الله عنهم. والقول الثالث - إنه يُنظر، فإن كان الزوج حراً، فله الخيار، وإن كان عبداً، فلا خيار له؛ فإن العبد وإن كان مغروراً، فالأمة مع رقها مثله، وسنذكر في خُلف الشرائط في الأنساب أن الزوج إذا بان في نسبه أحط مما شرط، ولكن كان مع ما هو عليه أعلى نسباً من المرأة، أو كان مثلها، فهل يثبت الخيار للمرأة؟ فعلى قولين، فالزوجة إذا جرى شرط حريتها، فبانت رقيقة، فهي وإن بانت دون ما شرط مماثلة لزوجها العبد، فشابه ذلك الصورة التي ذكرناها الآن في اختلاف الشرط في النسب مع التساوي في المنصب. 8251 - فهذا أصل الكلام في الخيار، والتفريع في الزوج الحر. فإنَّا فيه نتكلم على الأصح وهو أن الخيار يثبت، ثم الزوج لا يخلو إمَّا أن يفسخ أو يُجيز، فإن

_ (1) في الأصل: الحامل أو الحمل.

أجاز النكاح، استمر ولا رجوع، وعليه المهر المسمى. ولو فرض بعد البيان (1) علوق بأولاد، فهم أرقاء لمالك الأمة. 8252 - وإن فسخ، فلا يخلو إما أن [يفسخ] (2) قبل الدخول، أو بعده، فإن جرى الفسخ قبل الدخول، فلا نصف مَهر ولا متعة، وحكم العدة والنفقة والسكنى [بيِّن] (3)، فإن العدة منفية، فلا تُتوقع نفقة ولا سكنى. وإن جرى الفسخ بعد الدخول، فالمنصوص عليه للشافعي أن المسمى يسقط، ويجب لها مهر المثل على زوجها. وفي المسألة القول المخرج المنقاس، وهو أن الواجب هو المسمى؛ فإن النكاح تأكد بالمسيس، وشابه (4) تقرير المهر. وهذا بقية ما تقدم في باب العيوب. وحكم العدة والسكنى والنفقة على ما ذكرنا. وأما الأولاد الذين انعقدوا في زمان الغرور، فإنهم أحرار، وانعقادهم على الحرية، وهذا متفق عليه، وعلى المغرور قِيَمُهم يوم ينفصلون أحياء، وسبب ذلك مع الوفاق المغني عن البحث أن اتصاف الزوج بظن حرية زوجته هو الذي اقتضى انعقاد الأولاد على الحرية، فكان في حكم السبب إلى منع جريان الرق عليهم، فصار منع الرق بمثابة قطع الرق، وهذا يناظر إيجاب الغرة على الجاني، فإنا بين أن ننسبه إلى منع انسلاك الروح بهدم بنية الجنين، والتسبب إلى إجهاضه [أو إلى منع اكتمال خَلْقه بإحراضه] (5). ثم الاعتبار بقيمته يوم الانفصال على صفة الحياة، ولو فرض التمكن من اعتبار حالة العلوق، لاعتبرناها، ولكن لا قيمة للجنين في ذلك الوقت، ولا وصول إليه، وهو أيضاًً على أحكام من البعضية، فاعتبرنا وقت الخروج؛ لأنه أول حالة لاقاها

_ (1) بعد البيان: أي بعد معرفته رقها. (2) في الأصل: فسخ. (3) في الأصل: بينة. (4) أي أنه بعد المسيس أشبه تقرير المهر في النكاح الصحيح. (5) زيادة اقتضاها السياق.

[إمكان التقويم] (1) وأبو حنيفة (2) يعتبر قيمته يوم الترافع، ثم إذا غرم المغرور قيمة الولد رجع بها على الغارّ إجماعاً، وقد نطق بذلك قضاء عمر. والمهر الذي يلتزمه بالوطء في زمن الغرور هل يرجع به على الغارّ؟ فيه قولان مشهوران: أحدهما - إنه يرجع به كما يرجع بقيمة الولد، والثاني - لا يرجع به، وهو الأصح؛ لأنه شرع في عقد النكاح على أن يتقوم البضع عليه، ثم استوفى منفعة البضع بجهةٍ وطّن نفسه على التقوّم فيها، فكان كما لو اشترى طعاماً مغصوباً وأتلفه، فإذا غرِم قيمة الطعام لمستحقه، فلا يرجع بما غرمه على الغاصب. 8253 - ثم إذا ثبت أنه يرجع بالقيمة قولاً واحداً، أو بالمهر على أحد القولين؛ فالمذهب الذي عليه التعويل: أنه لا يرجع ما لم يغرَم، وكذلك إذا شهد الشهود على أن فلاناً قتل فلاناً خطأ، ونفذ القضاء بشهادتهم، وضرب القاضي العقلَ على عاقلة المشهود عليه، فإذا رجع الشهود عن الشهادة، فإنهم يغرَمون للعاقلة ما غرِمته العاقلة، فلو أراد العواقل أن يغرّموا الشهود قبل أن يغرموا ما ضرب عليهم، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً. ولذلك إذا ضمن رجل عن رجل ديناً على وجهٍ يُثبت له حقَّ الرجوع على المضمون عنه، فليس له الرجوع قبل أن يغرم للمضمون له، هذا أصل المذهب. وقد ذكرنا في رجوع الضامن على المضمون عنه قبل أن يغرم وجهاً في كتاب الضمان ليس بالقوي، وذلك الوجه يجري في مسألتنا وفي مسألة الشهود، وفي كل من يجد مرجعاً إذا غرم، إذا كان الغرم ديناً مستحقاً على من له حق الرجوع إذا غرم. ثم الحكم بيّن إذا كان الغار وكيل سيد الأمة. 8254 - فأما إذا صدر الغرور منها -كما سبق تصوير ذلك- فالغرور منها يثبت حق

_ (1) ما بين المعقفين مأخوذ من كلام الرافعي؛ إذ قال: "وتعتبر قيمة الأولاد يوم الولادة، فإنه أول حالات إمكان التقويم" (ر. الشرح الكبير: 8/ 150) وعبارة الأصل: "فإنه أول حالة لاقاها حكم ... " ثم كلمة مطموسة بعد (حكم). (2) ر. مختصر الطحاوي: 175، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 354 مسألة رقم: 850.

الرجوع عليها، والكلام في متعلّق الحق. ومتعلقُ الحقوق المالية في العبيد الكسب أو الذمة أو الرقبة، فأما الكسب، فلا مطمع في تعلّق حق الرجوع به؛ من جهة أن التعلق بالكسب إنما يثبت في الحقوق التي تثبت بإذن المولى في المعاملات والضمان [والاستدانة] (1) ونحوها، ولم يوجد من السيد في ذلك إذن. وأمّا الرقبة، فلا يتعلق بها حق الرجوع؛ من جهة أنه إنما يتعلق بالرقبة موجَب الإتلافات وأروش الجنايات، والإتلاف والجناية يردان على مملوك أو مستحق مضمون شرعاً، كالحر المحترم. والغارَّة ليست متلفة رقّاً، ولكنها متسببه إلى إثبات ظن في نفس الزوج، فيترتب عليه اندفاع الرق، فيبعد عن قياس الجنايات، ثم اندفاع الرق بظن يعتري الزوج ليس إتلافاً، بل هو متعلق بموجب معاملة ومعاقدة، وإذا كان كذلك، فالغارّة تسببت إلى ما ليس جناية، فلا يكون تسبّبها جناية، والطرق متفقة على هذا، وكأن الغرور منها بمثابة ضمان، إن صححنا الضمان من المملوك بغير إذن المولى، فإذا لم يتعلق حق المرجع بكسبها ولا برقبتها، لم يبق إلا أن يتعلق بذمتها. وسبيل ما يتعلق بالذمة [الاكتساب] (2) بعد زوال الرق بالعتق. ثم إن كان الغرور من الوكيل، وأثبتنا [للمغرور] (3) الرجوع بالمهر، فإنه يرجع بكمال المهر على الوكيل، ولا يدع إليه شيئاًً، وإن كان الغرور من الأمة، وقد عتقت، فيرجع عليها بتمام المهر على القول الذي فرعنا عليه؛ فإنه غرِم المهر لمستحقه، وهو المولى، وإنما رجوعه الآن على من لم يكن مستحقاً للمهر. 8255 - وإن صدر الغرور من المُكاتبة، وأثبتنا الرجوع بالمهر، فهل يترك إليها شيئاًً من المهر، يجوز أن يكون صداقاً؟ فعلى الوجهين المذكورين من قبل، وسبب هذا التردد، أنها المستحقة للمهر، وعليها الرجوع على القول الذي نفرع عليه، فلو وقع الرجوع بتمام المهر؛ لخلا وطؤها عن استحقاق المهر، ولاقتضى ذلك اشتباه وطء النكاح بالسفاح؛ إذ هي المستحقة وعليها الرجوع.

_ (1) في الأصل: والاستدامة. (2) في الأصل: الاتساع. (3) في الأصل: من المغرور.

وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المغرور حراً. 8256 - فإن كان المغرور عبداً، ففي انعقاد النكاح القولان، فإن قلنا: لم ينعقد، نظر: فإن كان قبل الدخول، فلا نِصْفَ مهر ولا متعة، وإن كان بعد الدخول، فيجب مهر المثل. وفي محله أقوال: أحدها - إن محله الكسب، وهذا قول ضعيف، وخروجه على أن النكاح الفاسد يدخل تحت مطلق الإذن في النكاح، وقد ذكرنا فيه قولاً ضعيفاً فيما تقدم. والثاني - إنه يتعلق بالذمة. والثالث - إنه يتعلق بالرقبة، وكل ذلك فيما سبق مفصلاً في صدر النكاح. وإن فرعنا على القول الصحيح، وهو أن نكاح المغرور منعقد، ففي ثبوت الخيار للعبد قولان، حكاهما الأئمة بأجمعهم، وهما مندرجان تحت الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في صدر التفريع على الغرور. فإن قلنا: لا خيار للعبد، أو قلنا: له الخيار، فاختار الإجازة، فعليه المهر المسمى في الكسب. وإن اختار الفسخ، فهذا يتفرع على المنصوص [و] (1) المخرّج. فإن فرعنا على القول المخرج، وهو أن المسمى يجب بعد الدخول؛ فإنه يتعلق بالكسب أيضاً؛ فإنه دين ثابت على موجب إذن المولى في معاقدةٍ، فأشبه ما ذكرناه من المسمى في بقاء النكاح. وإن فرّعنا على النص، وهو أن الواجب مهر المثل، فإذا فسخ، ثبت مهر المثل، [وفي] (2) محله الأقوال الثلاثة التي ذكرناها فيه إذا نكح نكاحاً فاسداً، وقد أذن له في النكاح مطلقاً، وإنما التحقت هذه الصورة بتيك؛ لأن مهر المثل يجب في النكاح الفاسد على موجب إذن المولى، ويجب مهر المثل على خلاف موجب الإذن أيضاًً؛ فإن العقد المأذون فيه قد زال، وزال بزواله أثر الإذن، فبقي مهرُ مثلٍ متعلق بوطء محترم.

_ (1) الواو زيادة من المحقق. (2) في الأصل: ففي.

وكان شيخي يقوي في هذه الصورة قول التعلّق بالكسب؛ لأن المهر الواجب مهر نكاح صحيح مأذون فيه، ولكن أقمنا مهر المثل فيه مقام المسمى لحالة اقتضت ذلك، وإلا فالأصل أن النكاح وقع مأذوناً فيه، وانعقد على الصحة، وجرى الوطء في اطراد الإذن، والفسخ ليس ينعكس يقيناً على الأوقات المتقدمة على الفسخ. 8257 - ثم إذا كان المغرور هو العبد كما صورناه، فإذا علقت المرأة بمولود منه مع اطراد الإشكال، فمذهب الشافعي أن الولد حر، وإن كان الوالدان رقيقين، وذلك أن المغرور إذا كان حراً، فولده إنما ينعقد على الحرية لمكان الغرور، لا لحرية المغرور، إذ لو كانت حريته تقتضي حرية الولد، لكان ولد الحر من زوجته الرقيقة حراً، مع العلم بحقيقة الحال، فإذا ثبت الحال، فإذا ثبت أن المتبع هو الغرور، فالغرور في العبد كالغرور في الحر. 8258 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن المنكوحة لو كانت مكاتبة، وقد جرى الغرور بحريتها، نظر؛ فإن لم يكن الغرور منها، وإنما كان من الوكيل المزوّج، فالرجوع على الوكيل على نحو ما ذكرناه، غير أن الذي نزيده هاهنا تفصيلُ القول في ولد المكاتبة لو لم يكن غرور. وقد اختلف قول الشافعي في ولد المكاتبة من سفاح أو نكاح عري عن الغرور: أحد قوليه - إن ولدها في الموضعين قِنٌّ. والقول الثاني - إنه بمثابة الأم يعتِق بعتقها إذا عَتَقَت، ويرِق برقها، فإن قلنا: إنه رقيق، فهو للمولى أم هو بمثابة سائر مالها تستعين به على أداء النجوم؟ فعلى قولين. وسيأتي شرح الأقوال توجيهاً وتفريعاً في كتابها، إن شاء الله عز وجل. ثم إذا فرضنا الغرور، فالولد حر من الزوج المغرور في دوام الغرور، وينتظم مما ذكرناه من الأقوال قولان في أن المغرور يغرَم قيمة ولد [المكاتبة] (1) للمكاتبة أو

_ (1) في الأصل: "المكاتب".

لمولاها، فإذا كان الغارّ وكيل المولى، فيغرم الزوج القيمة للمولى والمكاتبة، وذلك غُرمٌ على الوكيل [الغار] (1). وإن كان الغرور صادراً من جهة المكاتبة، فإن جعلنا القيمة للمولى غرم المغرور له، ورجع على المكاتبة، وإن قلنا حق القيمة للمكاتبة، فلا معنى للغرم لها؛ من جهة أنها الغارّة، ولو غرم لها، لرجع عليها، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. 8259 - وأما المهر، فإنه للمكاتبة قولاً واحداً. وفي الرجوع بالمهر القولان، فإن لم نثبت رجوعاً به، فلا كلام، وإن أثبتنا الرجوع به، فتقدير الرجوع على المكاتبة. وهل يجب أن نترك لها مقداراً من المهر؟ فعلى الخلاف المقدم. ولا شك أن مثل ذلك لا يجري في قيمة الولد إذا جعلناها حقاً للمكاتبة، وإيضاح ذلك يغني عن مزيد البسط. ثم حيث نثبت الرجوع على المكاتبة مثلاً إذا أثبتنا القيمة للمولى، وكانت هي الغارّة، فإذا أراد الرجوع عليها، طالبها بما يرجع به عليها من المال الذي في يديها، فإن لم يصادف في يديها شيئاًً، تعلق بكسبها، فإن فضل فضل، ففي ذمتها، يتبعها به بعد العتق، وجاء في لفظ الشافعي تشبيه ما يرجع به على المكاتبة بالجناية، ولم يشبهه بالجناية من جميع الوجوه؛ لأنها تتعلق بالرقبة إذا لم يف الكسب بها، وهذا الدين الذي نحن فيه لا يتعلق بالرقبة بحال. وإنما شبهه بالجناية من حيث إنه يؤدى من الكسب بعد العجز. والقول في متعلق الديون على أقسامها غمرة كتاب [الجناية] (2)؛ فلا سبيل إلى الخوض في بيانها الآن، وإنما غرضنا هاهنا أن سبيل ما يرجع به عليها لكونها غارّة كسبيل ديون المعاملات في أنه يتعلق تعلقَ ديون المعاملات. ولفظ الشافعي في التشبيه بدين الجناية محمول على ما ذكرناه.

_ (1) في الأصل: للغار. (2) في الأصل: الكناية.

فصل قال: "فإن ضربها أحد فألقت جنيناً ... إلى آخره" (1) 8260 - مضمون هذا الفصل من بقية أحكام التغرير بالحرية، وليقع فرضه فيه إذا كانت الزوجة مملوكة فيه، وقد قدمنا أن الولد على حكم الغرور حر. ثم ذكرنا أنه يجب على المغرور قيمة الولد للمولى يوم انفصاله حياً، ولو انفصل ميتاً، لم يغرَم بسببه شيئاًً اعتباراً بحالة الانفصال، وتعليله أن سبب تغريم المغرور [انتسابه] (2) إلى تفويت حق الرق على المولى بسبب ظنه الذي اتصف به، ولو قدرنا الولد رقيقاً وانفصل ميتا من غير جناية جانٍ، فيكون حق المولى في هذه الصورة فائتاً بسبب انفصال الولد ميتاً؛ فلا ينتسب المغرور إذاً إلى تفويتٍ في هذه الحالة. 8261 - ولو انعقد الولد بسبب الغرور حراً، ثم جنى جانٍ على الأم، فألقت الجنين المحكوم بحريته؛ فهذا الطرف مما يجب الاعتناء بفهمه، والاطلاع على حقيقته، فلا تخلو الجناية إما أن تكون من أجنبي وإما أن تكون من المغرور نفسه، وإما أن تكون من مولى الأمة ومالكها. فإن كانت الجناية من أجنبي، فلا شك أن الغرة تجب، وهي عبدٌ أو أمة، ثم الغرة مضروبة على عاقلة الجاني لا محالة؛ إذ لا يتصور تعمد الجنين بالجناية عليه، وشبه العمد مضروب على العاقلة كالخطأ المحض. ثم إذا تبين أن الجنين لم ينفصل ميتاً هدراً، بل انفصل مضموناً، فالضمان فيه يثبت على المغرور لا محالة، وليس كما لو انفصل ميتاً من غير جناية جانٍ، ثم الغرة إلى من تصرف؟ وما القدر الواجب على المغرور لسيّد الأمة بسبب [انفصال] (3) الجنين مضموناً؟

_ (1) ر. المختصر: 4/ 10. (2) في الأصل: انقسامه. (3) في الأصل: اتصال.

فأما مصرف الغرة، فإن لم يكن للجنين وارث سوى أبيه المغرور، فالغرة بكمالها مصروفة إليه، وإن كان للجنين وارث غيرُه، صرف قسط من الغرة إلى من يرث معه على ما تقتضيه قسمة المواريث، ولا يتصور أن ترث معه [الأم، فإنها] (1) رقيقة، [فلا يرث معه] (2) إلا جدة حرة هي أم أم الجنين، فلها السدس من الغرة والباقي للأب. هذا بيان مصرف الغرة وذكر مستحقها. فأما القول فيما يغرمه المغرور لسيد الأمة، فنقول: حاصل ما ذكره الأئمة وجهان: أحدهما - إنه يغرم لسيد الأمة أقل الأمرين من عُشر قيمة الأم أو قيمة الغرة، فإن كان عشرُ قيمة الأم أقلَّ، غرِمه للمولى، وربما يفضل من الغرة إذا لم يكن للغرة وارث غيره، وإن كانت قيمة الغرة أقلَّ من عُشر قيمة الأم، لم يلتزم المغرور إلا قيمةَ الغرة، هذا أجد الوجهين. والوجه الثاني - إن المغرور يغرَم للمولى عُشر قيمة الأم بالغاً ما بلغ، وإن كانت قيمة الغرة أقل منه. ولا يخفى أن ما ذكرناه من عُشر قيمة الأم هو واجب الجنين الرقيق عند الشافعي، على ما سيأتي موضحاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل. وكأن أحد القائلَيْن يَعتبر الأقلَّ من واجب جنين رقيق أو قيمة الغرة، والقائل الثاني يعتبر واجب الجنين الرقيق بالغاً ما بلغ. ثم زعم الأئمة أن هذا الاختلاف يقرب من القولين في أن العبد الرقيق إذا جنى وأراد المولى أن يفديه [فبكم يفديه؟] (3) ففيه قولان: أحدهما - إنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش أو قيمة العبد الجاني. والقول الثاني - إنه يفديه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ إن أراد أن يسلم له العبد، وإن أبى بيع العبد في الجناية. ثم أصح القولين: أن السيد يفديه بأقل الأمرين، فقال الأصحاب في مسألة المغرور والغرة: أصح الوجهين أنه يغرم للمولى أقلَّ الأمرين من عُشر قيمة الأم أو قيمة الغرة. واختار القاضي أنه يغرَم للمولى عُشر قيمة الأم بالغاً ما بلغ، وإن كانت قيمة

_ (1) زيادة من المحقق. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "فلم يَفْدِه".

الغرة أقل منه. ولا شك أن القاضي يختار في مسألة الفداء أنه يفدي السيد العبد بأقل الأمرين. والأصح عندنا ما اختاره القاضي، وسيتضح بتوجيه اختياره، وما يذكره الأصحاب في مقابلته حقيقة الفصل ومداره. 8262 - فنقول: المعتبر فيما يغرمه المغرور للمولى تفويته عليه، فإنا قلنا: إذا انفصل الجنين الحر حياً، فيجب على المغرور قيمته يوم الانفصال، والسبب فيه أنه لو كان رقيقاً، لكان يسلم للمولى، فإذا قلنا: [صار] (1) العبد يسبب الغرور حراً، وقد انفصل الجنين الحر حياً، فقد فوت المغرور الرِّق على السيد. فإذا بان أن معوّل الضمان ما ذكرناه من التفويت، فنعود ونقول: إذا انفصل الجنين بجناية الأجنبي الجاني، فلو كان رقيقاً، لكان الجاني يغرم عُشر قيمة الأم، فالغرور فَوّت في هذه الحالة عُشرَ قيمة الأم؛ فليجب هذا المقدار على المغرور للسيد، ولا ننظر إلى الغرة. كما أنّا عند انفصاله حياً نوجب قيمته، وإن زادت على مقدار الدية؛ نظراً إلى ما صار المغرور سبباً في تفويته. وهذا القائل يقول: أَخْذ هذا من فداء العبد الجاني محال؛ فإنَّ ذلك مفروض في عبد يتعلق الأرش برقبته، والسيد يبغي أن يستبقيَه، فيتجه ألا نلزمه أكثر من قيمته؛ فإنه لو سلمه للبيع، لم يتحصل المجني عليه إلا على ثمنه، وما يضمنه المغرور في مسألتنا ليس مأخوذاً من مأخذ الفداء، وإنما هو مأخوذ من التفويت الذي قررناه. ومن نصر الوجه الثاني وهو المشهور، وإليه ميل جمهور الأصحاب، احتج [بأن، (2) سبب تغريم المغرور ما وجب على الجاني من الغرة؛ إذ لو انفصل ميتاً من غير جناية، فلا ضمان، [و] (3) ما ضمن المغرور للسيد شيئاًً، فإذا كان سبب التضمين ما يجب على الجاني، فيبعد أن يزيد ما يضمنه المغرور على ما يضمنه الجاني له؛ إذ لو زاد، لكان المسبَّب زائداً على السبب.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: بأنه. (3) (الواو) زيادة من المحقق.

وهذا ليس على وجهه، فإنا إذا اخترنا الوجه الأول، فمعولنا فيه أنه جرت في الجنين حالة [لولا] (1) الغرور، لكان يسلم للمولى عُشر قيمة الأم، فقد صار الغرور سبباً في تفويت ذلك. والتعويل في النفي والتثبيت على التفويت، فإن الجاني غرم الغرة، وقد جرت [جنايته] (2) بعد تحقق الحرية، فينبغي أن يكون النظر إلى الحالة التي جرت الجناية فيها؛ فإن من قتل جاريةً مزوّجة، لم يلزمه قيمتُها خليّة عن الزوج، وإن كان تقدير ذلك فيها ممكناً لو بقيت، ولكنا نعتبر الصفة التي كانت الجارية عليها حالة الإتلاف. [وهذا] (3) الكلام عري عن التحصيل، فإنه مقبول في حق الجاني على هذا النسق، ولكن [لا وقع له] (4)، ولا أثر في حق المغرور، مع ما قررناه من تركه (5) التفويت. 8263 - فإذا تبين الوجهان ومأخذُهما، وما صار إليه الجمهور، واتجه ما اختاره القاضي، وانفصال هذا الأصل عن مأخذ فداء العبد الجاني. فما نفرعه على هذا المنتهى أنا إن قلنا: يغرم المغرور للسيد أقلَّ الأمرين، فإنه لا يغرمه له ما لم تسلم له الغرة؛ فإنا نأخذ تضمينه من الغرة السالمة، ثم نعتبر الأقل بناء عليها. وإن سلكنا المسلك الآخر، غرّمنا المغرور عُشرَ قيمة الأم في الحال، ولم ننتظر حصول الغرة له اعتماداً على التفويت، ونظراً إليه. فعلى هذا لو كان للجنين وارث سوى الأب المغرور، فقد ذكرنا أنه لا يتصور أن ترثها [الأم] (6) مع الأب إذا (7) كانت الأم رقيقة، أما الجدة أم الأم [فترث] (8)، فإذاً للجدة السدس والباقي للأب.

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (2) في الأصل: جناية. (3) في الأصل: "فهذا". (4) في الأصل: لا يتوقع. (5) أي تَرْكه النظر إلى التفويت والبناء عليه. (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) إذا: بمعنى (إذ) وهو استعمال عربي فصيح. سبق أن بيناه، بأمثلته ومصدره ومرجعه. (8) زيادة لاستقامة الكلام.

وإذا لاح ذلك؛ بنينا على هذا الغرض، وقلنا: إن أوجبنا على المغرور أقلَّ الأمرين، فنعتبر مع الجدة الأقل من عُشر قيمة الأم، أو خمسة (1) أسداس الغرة، فإنه لم يسلم للأب إلا خمسة أسداس الغرة، والسدس الذي تستحقه الجدة غير محسوب على الأب المغرور. وإن فرعنا على أنه يجب على المغرور عُشر قيمة الأم بالغاً ما بلغ، وإن زاد أضعافاً على قيمة الغرة، ثم قلنا: لا يتوقف تغريم المغرور على سلامة الغرة له، فنقول على موجب هذا: [على] (2) المغرور عُشر قيمة الأم، وإن كان السالم له من الغرة خمسة أسداسها؛ فلا ننظر إلى المقدار الذي يسلم له، ولا نجعل ذلك من بالنا، وإنما ننظر إلى التفويت. وهذا بيّن. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الجاني هو الأجنبي. 8264 - فأما إذا كان الجاني هو المغرور المستولد، فأول ما نذكره أنه لا يرث الجنينَ في هذه الحالة؛ لأنه قاتِل، وليس للقاتل من الميراث شيء. ثم إذا حجبه القتل، فيتصور للجنين ورثة مع الجدة، كالأخ والعم ونحوهما؛ فإن القاتل كما لا يرث، لا [يحجب] (3). وإذا اتضح هذا، عدنا إلى غرضنا، وقلنا: لا شك أن هذا المغرور إذا كانت له عاقلة، لم يغرم بنفسه الغرة، بل هي مضروبة على عاقلته، وأما الذي يغرَمه المغرور للسيد، والحالة ما وصفناها. نقل (4) بعض الأصحاب [المعتمدين] (5) عن القاضي أنه قال: ما تغرمه عاقلةُ المغرور من الغرة مصروف إلى ورثة الجنين سالمٌ لهم، وعلى

_ (1) المعنى: أننا مع وجود الجدة نوجب على المغرور الأقل من عشر قيمة الأم أو خمسة أسداس الغرة، فأيهما ظهر الأقل غرمه. وذلك أن الجدة تأخذ سدسها ميراثاً، قبل أن يغرم الأب. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: يحجبه. (4) نقل بعض الأصحاب: جواب (أما) بغير الفاء. وهي لغة كوفية، يجري عليها الإمام غالباً، كما نبهنا مراراً. ومثاله قول عائشة رضي الله عنها: وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، طافوا طوافاً واحداً. (ر. شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: 195). (5) في الأصل: معتمدين.

المغرور في نفسه أن يغرَم عُشر قيمة الأم لسيد الأمة. ثم قال هذا الناقل: هذا غلط منَّا في النقل أو سهوٌ جرى على لسان ذلك الإمام. والوجه أن يقال: يصرف من تلك الغرة مقدارُ عُشر القيمة إلى السيد، وما فضل، فهو مقسوم على الورثة، على فرائض الله تعالى. وفي هذا وقفة وتأمل على الناظر، ونحن وراء التنبيه عليه، فإن كان هذا الاستدراك على القاضي رداً عليه وتغليطاً له، ونسبةً إلى الخروج عن قياس ما اختاره في قاعدة المسألة، فالغلط من المستدرِك، والقاضي مستدٌّ على اختياره تعويلاً على [نكته] (1) التفويت. فنقول: اجتمع في هذه المسائل تفويتٌ من [المغرور] (2)، وهو سببٌ يضمّنه، والمقدار المفوَّت في صورة الجناية عُشر قيمة الأم، وحصل في المسألة جناية المغرور في نفسه على جنين حرّ، [فخرج] (3) عن كونه وارثاً، فاقتضى التفويتُ تغريمه عشرَ قيمة الأم للسيد، واقتضت جنايته الناجزة تغريمَ عاقلته غرة الجنين، وإذا تعدد السبب لا يبعد تعدّد المتسبَّب، فهذا توجيه ما ذكره القاضي. والذي يوضح ذلك أنا على موجب هذه الطريقة نُلزم المغرور إذا كان الجاني أجنبياً تمامَ عُشر قيمة الأم، وإن كان لا يسلم له إلا خمسة أسداس الغرة، فاتجه ما أردناه. وقياس مذهب الجمهور المستدرِك على القاضي ما ذكره، فإنَّا نتخذ ما يحصل من الغرة أصلاً فيما يغرمه المغرور للسيد، والذي تغرمه عاقلةُ هذا المغرور الغرة، فلا مزيد على مقدارها، ولا يجمع بين وجوبها للورثة وبين تغريم المغرور، بل نجعل رجوعنا إلى الغرة، فنؤدي منها حق السيد، فإن لم يفضل شيء، أو كانت الغرة أقل، فلا مزيد، وليس للورثة شيء، وإن كانت الغرة أكثر من عُشر قيمة الأم، فالفاضل مصروف إلى الورثة.

_ (1) في الأصل: نكثه. (2) في الأصل: الغرور. (3) في الأصل: فزوجه.

ولم يذكر الصيدلاني في كتابه إلا هذا الوجه على النسق الذي ذكرناه، فتكون الغرة ممثلة بالدّية في صورة نذكرها الآن، وهي أن الجاني إذا جنى على عبد مملوك بقطع يديه، [ثم] (1) عتقَ العبد المجني عليه، ومات حراً، فالواجب على الجاني الدية؛ فإن الاعتبار في المقدار [المغروم] (2) وجنسه بالمآل، ثم يصرف من الدية إلى السيد حقه، وفيه تفصيل عظيم في مسألة منعوتة من كتاب الجراح، وقدرُ غرضنا -الآن- منها أنا نصرف قسطاً من الدية إلى السيد. هذا مسلك الأصحاب. وفي الاستشهاد بما ذكرنا بعض النظر؛ من جهة أن الجناية اتصلت بالعبد وهو رقيق، ثم تلك الجناية بعينها [سرت] (3)، وليست مسألة الغرور كذلك؛ فإن سبب غرمه للسيد منفصل عن سبب غرم العاقلة للغرة، ولكن من حيث إن الجماهير يعتبرون الغرة قدراً ولا يوجبون الغرم قبل حصولها يتجه ما ذكره الأصحاب. فهذا بيان تصويب القاضي على موجب اختياره، والرد على من استدرك عليه. وإن كان الاستدراك على القاضي؛ من جهة أنه لم [يحك] (4) في المسألة خلافاً، وقطَعَ الجواب بأن المغرور يلتزم عُشر قيمة الأم للسيد، وعاقلتُه يغرمون الغرة بكمالها للورثة، فإن حكى في ذلك إجماع الأصحاب، ففي حكاية الإجماع نظر؛ فإنَّ قياس الجماهير ما ذكرناه من ربط الغرم بالغرة، وما ذكره القاضي صحيح على قياسه. ثم الأصحاب يقولون: إتلاف المغرور الجنين في حكم استيفائه الغرة إذا حصلت الغرة لمستحقها. وكل ما ذكرناه إيضاح لما قبلُ، والأصح في المسألة وتفريعها ما اختاره القاضي، وقد نجز الكلام في جناية الأجنبي، وفي جناية الأب المغرور. 8265 - فأما إذا علقت الجارية بالولد الحر، فجنى السيد، وأجهضت الأمةُ

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "المغرور". (3) في الأصل: سريت. (4) في الأصل: يجد.

الجنين، فعلى [عاقلته الغرة] (1) لا محالة، ثم يتفرع في هذه الصورة مذهب القاضي وطريقة الجماهير. فأما ما اختاره القاضي، فمقتضاه في هذه المسألة أن ما تغرمه عاقلة المالك -وهو الغرة- مصروف إلى ورثة الجنين. ولا يتصور في هذه الحالة للجنين ورثة إلا الأب [والجدة] (2)، ثم يغرَم المغرور للسيد عُشرَ قيمة الأم. وفي هذا الموضع عندي نظر؛ فإنا نعوّل في طريقة القاضي على التفويت، والسيد هو الذي فوّت الجنين، [فلو كان الجنين] (3) رقيقاً، لكان التفويت منسوباً إلى مالك الرق في الجنين، فيبعد أن يكون المفوت من طريق إتلاف المالك، ويجب الضمان على المغرور؛ فينبغي أن يقال: انفصاله بجناية المالك، كانفصاله من غير جناية، غير أن الغرة وجبت لمكان حرية الجنين، فالسيد يقول للمغرور: لولا تفويتك عليَّ، لما وجبت على عاقلتي، فينقدح والحالة هذه أن يصرف إليه من الغرة شيء، والأوجه عندنا على قياس القاضي أن تصرف الغرة إلى الورثة، [ولا] (4) يغرم له المغرور شيئاًً. والعلم عند الله تعالى. وهذا مشكل في النهاية بسبب كون الغرة على غير الجاني مع انتساب الجاني إلى الإتلاف. وأما قياس جماهير الأصحاب، فهو ما ذكرناه أن المغرور لا يغرم للسيد شيئاًً قبل حصول الغرة، فإذا حصلت، اعتبرت الغرة كما تقدم، فإن كانت مقدار عُشر القيمة أو أكثر، صُرف عُشر القيمة إلى السيد، ولا تخفى الطرق الأُخر، وهو إذا كانت الغرة أقل، وفي القلب من هذه المسألة حسيكة (5)، وإن فرعناها على قياس الأصحاب؛

_ (1) في الأصل: عاقلة الحرة. (2) في الأصل: والجد. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: فلا. (5) حسيكة: الحسيكة في الأصل: العداوة والحقد، والمراد هنا، الضيق والألم، وعدم الرضا، وعدم الشعور ببرد اليقين، بل بألم الشك. (المعجم وأساس البلاغة).

من جهة أنَّا لو صرفنا الغرة، وكانت مقدار عُشر قيمة الأم إلى المالك الجاني، لكان هذا الحكم مؤدياً إلى إيجاب مال على عاقلة الجاني للجاني، وهذا قبيح مضطرب، والذي يتجه عندنا في كل قياس أن لا يغرم المغرور شيئاًً للسيد. وقد انتجز القول على أقسام الجناة. 8266 - فإن قال قائل: لو كان الجاني على الجارية الحامل بالولد الحر عبدَ الزوج المغرور، فنقول: الغرة في رقبته في وضع المسألة، والمقدار الذي يرثه المستولد لا يتعلق برقبة [عبده] (1)، حتى لو لم يكن وارثٌ سواه، فلا يتعلق برقبة العبد شيء، ولكن يجعل كأنه استوفى الغرة؛ فإنّا رأينا [ .... ] (2) لمكان ملكه في رقبته، وكان هذا كاستيفاء الغرة (3). ثم ينقدح بعد ذلك سؤال [وجواب] (4) عنه، وهو أن قائلاً لو قال: هلا جعلتم إتلاف عبد المستولد بمثابة [إتلاف المستولد] (5)، قلنا: إذا كان الجاني هو المستولد، فليس له في الميراث نصيب، والجنين حر، فلا نجعله جانياً على حقه، وإذا كان الجاني عبدَه، فحق المستولد من طريق التقدير قائم، وقد أثبتناه له، ثم إنا حططناه عن ملكه، فانفصلت المسألة عن المسألة. وما عندي أن باحثاً يزيد على هذا، ليتقرر الذي ذكرناه.

_ (1) في الأصل: عبد. (2) ما بين المعقفين كلمة غير مقروءة في الأصل، ورسمت هكذا (ـحده) (انظر صورتها)، وواضح أن في العبارة خرماً، فلم تستوف التخريجين: اعتماد الغرة، والنظر إلى التفويت. (3) عبارة الإمام الرافعي في المسألة هكذا: "الثالث: أن تصور الجناية من عبد المغرور، فإن اعتمدنا التفويت، فحق سيد الأمة على المغرور، ولا تتعلق الغرة برقبته -أي رقبة عبده-، إن كان المغرور حائزاً لميراث الجنين؛ لأنه لا يستحق على عبده شيئاًَ. وإن اجتمعت جدة الجنين معه، تعلق نصيبها برقبته. وإن قصرنا النظر على الغرة، تعلّقت الغرة برقبته، ليؤدي منها حق السيد، فإن فضل شيء، فعلى ما بيّنا". (ر. الشرح الكبير: 8/ 155). (4) في الأصل: أو جواب. (5) في الأصل: الإتلاف المتولد.

8267 - ومن صور المسألة أن المغرور لو كان عبداً، وهو الذي جنى، فالغرة تتعلق برقبته للورثة، هذا قياس واضح. وأما حق سيد الجارية، فإنه يتعلق بذمة العبد، فإنَّا أوضحنا أنَّ المغرورَ إذا كان عبداً وانفصل الولد حيّاً، فقيمةُ الولدِ يوم الانفصال تتعلّق بذمة العبد، لا تتعلق بكسبه، ولا برقبته. فنفذ ذلك القياس على قانونه. ونحن نقول: حقُ السيدِ عُشْر قيمةِ الأم، وهو المتعلق بذمة العبد. وهذا إذا لم يلتفت على مقدار الغرة، فإنْ نظرنا إلى مقدارها، لم يخف قياسُ سائر الأصحاب. وهذا مُنتهى القول في التغرير بالحرية في حق الحر والعبد. ونحن نعقد وراء ذلك فصلاً في الاغترار بالحرية ظناً من غير تغرير. وأمَّا تغرير المرأة بحرية الزوج، فسنذكره في آخر الباب، إن شاء الله عز وجل. فصل 8268 - نقل الأئمةُ عن الشافعي أنه قال: "إذا نكحَ المسلمُ امرأةً حسبها مسلمةً، فبانت يهودية أو نصرانية؛ فللزوج الخيار في فَسْخِ النكاحِ. ونصَّ أنَّ من نكح امرأةً ظنَّ أنها حرةٌ، فبانت أَمَةً، فلا خيارَ للزوج ... إلى آخره". واختلف الأئمة على طُرق، فمنهم من جعل في المسألتين قولين، نقلاً وتخريجاً: أحد القولين - إنَّ الخيار يثبت في الموضعين؛ لأنَّ الغالبَ في الزوجةِ الإسلامُ والحرية؛ فصار اطراد العادة فيهما بمثابة الشرط المصرح به. والقول الثاني - إنه لا يثبت الخيار فيهما لبعد النكاح عن الخيار، وعروّ العقد في الموضعين عن الشرط. ومن أئمتنا من قطع بنفي الخيار في ظن الرق كما ذكرناه، وحَمَلَ نصَّ الشافعي في مسألة الكتابية على نقل مذهب الغير. وقد تكرر ذلك في نصوص الشافعي في مسائل النكاح. ومن أصحابنا من أقرَّ النصين قرارهما وحكم بموجبهما، وفرَّق بأنَّ الرقَّ ليس له

علامة حتى يُنَزَّل ظهورها منزلة ذكره، وكذلك الحرية لا أمارة لها، والكافرة لا يزوجها إلاَّ وليها الكافر؛ ولا يخفى ذلك، فإن فُرض خفاؤه، فسببه تلبيس معمود، ولا يبعد أن يكون التلبيس بمثابة التصريح بالشرط. هذا ما ذكره الأصحاب. 8269 - والذي أراه في ذلك أنَّ المسألتين حقهما -في إطلاق العقد- أن يؤخذا من مأخذ آخر، وهو أنَّ الكفر هل يلتحق بالعيوب التي تُثبت حق الفسخ؟ وهذا محتمل؛ من جهة أنَّ البرص والجذام إذا اقتضيا حق الفسخ لما فيهما من نفار الزوج عن الاستمتاع، فقد يتحقق مثل ذلك في الكافرة. وليس في الرق من معنى النفار ما في الكفر، ولذلك لا يستشعر المرء تكرهاً في تسري الجواري. وإتيانُهن في النكاح كإتيانهن في ملك اليمين. وقد ينقدح في الرق التحاقه بالبرص؛ من جهة أنَّ من المعاني المحذورة أيضاًً في الجذام والبرص -فيما قيل-[التعدي] (1) إلى النسل، وقد أشار الشافعي إلى ذلك. وهذا إن صح، فهو مظنون لا يرتبط بتحقيق، والرق يتعدى إلى الولد لا محالة. فينتظم من الكفر والرق في المأخذ الذي ذكرته ثلاثة أوجه: أحدها - أنهما من العيوب. والثاني - أنهما ليسا من العيوب المثبتة للفسخ. والثالث - أنَّ الكفر عيب والرق ليس بعيب. وإذا أجرينا الترتيب على هذا النظم، لم نتعلق بالعادة وادعاء اطرادها. وقد بقي من سر هذه الفصول كلام لا يبين إلاَّ في نجاز الباب. وكنَّا أخرنا التغرير بالأنساب وغيرها إلى هذا الباب، وقد حان الوفاء بالموعود.

_ (1) في الأصل: العدى.

فصل مشتمل على التغرير بالنَّسَبِ وما في معناه. 8270 - فنذكر تغرير الزوج الزوجة بشرفِ نَسَبِ نفسِهِ، ثم نذكر تغريرها زوجهَا بشرف نسبها. فإذا قال الرجل: أنا عربي أو قُرَشي، فانتسب إلى النسب كاذباً، ثم بان كذبه، نُظر، فإن بان أنه دونها في النسب، وقد تحقق الخُلف في الشرط، فالقول في انعقاد النكاح على ما قدمناه في التغرير بالحرية. وقد أوضحنا جريان القولين في كل خُلف يُفرض في شرط الصفات، والتفريع على صحة النكاح، فنقول: إذا حكمنا بالصحة، وقد بان الزوجُ دونها في النسب، وظهر الخلف في الشرط؛ فالذي أطلقه الأصحاب: أنَّ الخيار يثبت لها. فإن فسخت النكاح، لم يخف تفريع المهر والنفقة وغيرهما من الأحكام. والقول الجامع أنَّ فَسْخَها قبل الدخول وبعده بمثابة فسخها النكاح بعيب في الزوج يُثبت الخيار. وقد تقدم ذلك مستقصى في بابه. وإن اختارت الإجازة، فلأوليائها حق الفسخ، دفعاً للعار عن النسب. ولو أخلف شرط الزوج في شرف النسب، فبان دون ما شرط، ولكن كان مثلها أو فوقها -وإن ظهر كونه دون ما شرط- فهل يثبت لها الخيار -والحالة هذه- أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما - لها الخيار؛ للخُلف في المشروط. والثاني - لا خيار لها؛ فإنَّ خيار الفسخ في النكاح يجب أن يكون مستنداً إلى ضررٍ ظاهر، وإلاَّ فالنكاح بعيد عن قبول خيار لا يتعلق بدفع ضرر، ولو جاز ثبوت الخيار من غير دفع ضرر، لثبت في النكاح خيار التروي، وهو خيار المجلس والشرط، فإن لم يثبت الخيار، فلا كلام، وإن أثبتنا الخيار، فإن فسخت؛ نفذ الفسخ، وإن أجازت، فلا يثبت الفسخ للأولياء؛ فإنَّ الشرط لا يُثبت لهم شيئاًً، وإنما حقهم في دفع العار عن النسب، فإذا كان الزوج كفؤاً لها -وإن أخلف شرطه- فلا عار على الأولياء في نكاحه.

8271 - قال الأئمة: إذا زوّج السيد أَمَتَهُ من إنسان، وقد جرى في النكاح شرط حرية الزوج، ثم بان عبداً، والتفريع على صحة النكاح، ففي ثبوت الخيار قولان. فإنَّ الزوج -وإن خرج عبداً- فهو مثل زوجته، فكان ذلك بمثابة ما لو خرج الزوج كفؤاً لها، وإن بان دون ما شرط. وكان شيخي أبو محمد يرى مسألة العبد أولى بالخيار؛ فإنَّ العبد، وإن كان كفؤاً للأَمَة، ففي نكاحه ضرار وتضييق في النفقة وغيرها، وهذا المعنى لا يتحقق في الخلف في النسب مع الكفاءة. والذي يتعلق بهذا المنتهى أنَّا إذا أثبتنا الخيار في مسألة العبد، فالخيار لا يثبت إلاَّ للسيد؛ فإنَّ الأمة مجبرة على التزويج من العبد، وكيف ينتظم إجبارها على التزويج من عبد مع إثبات الخيار. وأيضاًً فإنَّ الإضافة (1) بضيق أمر النفقة ثَمَّ، ضرره يرجع على السيد، وليس كالجَبّ والعُنَّة والجنون والبرص والجذام؛ فإنَّ حق الفسخ يثبت في هذه العيوب للأَمَة، لا للسيد؛ فإنَّ الغرض منها يتعلق بالجبلات وشهوات النفوس، فكانت أولى بها. وأمَّا أمر النفقة في الأمة، فيتعلق ضراره بالسيد؛ فإنَّ الزوج إذا أعسر، فعلى السيد الإنفاق على أمته. 8272 - وإذا وضح ما ذكرناه، فالكلام بعده في طلب التحقيق والبحث عن حقيقة الباب. فنقول أولاً: أمَّا العيوب التي تكون بالزوج، فتُثبتُ لها الخيار كيف فرضت، ولا حاجة إلى تقدير الشرط؛ فإنَّ وجود تلك العيوب يُثبت حق الفسخ من غير تقدير شرط، وكان القياس يقتضي ألا نُثبت خياراًّ متعلقاً بخُلفٍ في شرط، ولكن اشتهر [اختلاف] (2) القول في إثبات الخيار المتعلق بالخلف في الشرط. وأنا أذكر على الاتصال تفصيل الغرور من جانبها والمغرور الزوج، ثم آتي

_ (1) كذا. وستتكرر هذه اللفظة قريباً. (2) في الأصل: اخلاف.

[بفصلين] (1)، بهما تتحقق أبواب وأحكام في الفسوخ. 8273 - فإذا غَرَّت زوجَها بشرفِ نسبها، والتفريع على أنَّ النكاح يصح وإن أخلف الشرط، فإذا غرّت الزوجَ بشرف النسبَ، ثم أخلف الشرط، فقد قال الأصحاب: إنْ بانت دونه ودون ما شرطت، ففي ثبوت الخيار قولان: أحدهما - يثبت الخيار، وهو اختيار المزني. والقول الثاني - لا يثبت الخيار. توجيه القولين: من قال: يثبت الخيار، [قاس] (2) خلف الشرط وهو المغرور، على خلف الشرط وهي المغرورة، وأكد بأنَّ الخيار ينبغي أن يثبت من الجانبين؛ اعتباراً بالفسخ المتعلق بالعيوب. ومن قال: لا يثبت الخيار، احتج بأنَّ نقصان نسب الزوج عن نسبها يشينها ويعير حسبَها، والرجل لا يتعير بنكاح خسيسة. وقد قال الأئمة: القولان في ثبوت الخيار له إذا كان مغروراً - كالقولين في ثبوت الخيار لها إذا كانت مغرورة، وقد بان الزوج مثلها ودون ما شرط. ووجه التسوية أنَّ الرجل إذا بان مثلها، فلا معرَّة عليها من جهة نسب زوجها، ولكن أخلف الشرطُ المقتضي مزيداً في الشرف، وجرى القولان بخلف الشرط من غير ضرار، ولحوق عار. وهذا المعنى يتحقق فيه إذا بانت المرأة خسيسةً؛ فإنَّ الزوج، وإن كان لا يلحقه عار من دناءةِ نسبها، فقد تحقق خلف الشرط المتضمن مزيد شرف فيها. وما ذكرناه فيه إذا كان هو المغرور وقد بانت دونه. فإن كان كذلك، ولكنها بانت مثله ودون ما شرطت، ففي ثبوت الخيار للزوج قولان، كان يرتبهما شيخي على الصورة الأولى، وهي: إذا بانت دونه ودون ما شرطت، وهذا الترتيب ضعيف؛ من جهة أنا إنما نثُبت الخيار للزوج

_ (1) في الأصل: بتفصيلين. (2) في الأصل: قياس.

[بخلف] (1) الشرط فحسب، وهذا المعنى لا يختلف بأن تبين مثله أو دونه، وسأشير إلى ما حمل شيخي على هذا الترتيب إذا خضت في الفصلين الموعودين [وها هما] (2). [الفصل الأول في قاعدة الفسخ] (3) 8274 - فنذكر فصلاً في قاعدة الفسخ أولاً فنقول: نُبيّن قواعد الفسخ من جانبها، ثم ننعطف على جانب الزوج، فأمَّا فسخها النكاح بموانع الزوج من الوطء [مما] (4) لا يتعلق بالعيافة وخوف العار واستشعار العدوى، فهو بمثابة فسخها النكاح بجَبِّ الزوج وعُنَّته، فهذا النوع يجري على قاعدة كلية؛ فإنَّ المقصود من النكاح تعففها بالمستمتَع في الزوج، وكذلك المقصود الأظهر في جانب الزوج التعفف بالزوجة، فإذا فقدت المستمتع منه على اليأس، فقد تعذر الغرض الأظهر من النكاح، ولم يُثبت الشرع للنساء سبب اختيارٍ يفضي إلى الفراق، فإذا انضم انحسام المستمتَع إلى اطراد قهر النكاح عليها، كان ذلك بالغاً في الضرر، والشرعُ لا يحتمل أمثال هذا، سيما وهي حرة، وإنما رضي الشرع لها النكاح رقاً (5) لما لها فيه من حق المستمتع. فإن عارض معارض ما ذكرناه بأنَّ الزوج هو مستحق منفعتها، وهي لا تستحق من الزوج مستمتعاً تملك المطالبة به، قلنا: هذا لا يصفو عن خلاف، كما سيأتي الشرح عليه في باب العُنة. ثم من تأمل حِكَم الشرع، تبيّن له اندفاع هذا السؤال؛ وذلك أنَّ صورة الاستمتاع من الجانبين على وتيرة واحدة، وغرض الشرع في إعفاف الرجل

_ (1) في الأصل: وبخلف. (2) في الأصل: وما هما. (3) العنوان من عمل المحقق، أخذاً من كلام الإمام. (4) زيادة من المحقق. (5) يعبر الفقهاء عن وضع المرأة في عقد النكاح بألفاظ مثل: حِبالة الزوج، قيد الزوجية، ربقة الزواج، رق النكاح، وكلها على المجاز، كما هو واضح لا يحتاج إلى بيان.

بالمرأة كغرضه في إعفاف المرأة بالرجل، وهذا لا ينكره ذو عقل، غير أنّ الشرع لو أثبت لهن حق الطلب، لَمَا كان ذلك على موافقة الجبلّة؛ فإنَّ الرجال لا يواتيهم الإمكان على مطّرد الزمان، وتشوفهن دائم ولا فتور فيه، فرأى الشرع إثبات الطلب للرجل؛ فإنه لا عسر من جانبهن في التمكين. ثم لما أثبت الطلب لهم أقامهم مقام من يستحق معوَّضاً، وألزمهم كفايتهن كي يلزمهن الحجاب، فانتظمت المحاسن، ثم اكتفى باقتضاء جِبلاَّت الرجال الاستمتاع بهن مع تهيُّئهن وقيام الرجال بمؤنتهن؛ وهذا [يُقيم] (1) أغراضهَن في الاستمتاع. فإذا كان الرجل مجبوباً، وانقطع إمكان الإعفاف، أثبت الشرع لها مخلصاً، وعلى هذا حرم أصل الإيلاء، فإنَّ الرجل وإن كان ينكف عن وقاع امرأته، فهي تزجي أحوالها بتوقع الوقاع، فإذا آلى الرجل لا يواقعها في مدة يظهر فيها الضرار عليهن بالانكفاف عن وقاعهن، أثبت الشرع حق رفع النكاح بالطلاق، حتى يبقى مستدرك إن أراده الزوج. فإذاً جرى فسخ المرأة للنكاح بجَب الزوج وعُنته على هذه القاعدة. ثم من لطائف وضع الشرع، الفرق بين الجب والعُنة؛ فإنَّ الجب موئسٌ متعلقٌ به تنجيز الفسخ على البت، من غير احتياج إلى رفع الواقعة إلى مجلس الحكم. والعُنة مرجوة الزوال، فبُني أمرها على التأخير، كما سيأتي حكمها في بابها. 8275 - فأما فسخها للنكاح بسبب البرص والجذام والجنون، فحائدٌ بعض الحيد؛ فإنَّ الاستمتاع لا ينحسم بهذه الأشياء إلاَّ من طريق العيافة. ووضعُ النكاح على اللزوم، [فكان] (2) الفسخ بهذه الأشياء مائلاً عن الأمر الظاهر الذي مهدناه، على أنه حالٌ يسهل مأخذه من فسخ المبيع بالعيوب المؤثرة في المقاصدة المالية؛ فإنها لما أثبتت حق الفسخ، لم تنحصر في الموئسات، بل ثبتت ثبوتاً متسعاً، فابتعد أن يكون البرص [مانعاً] (3) من الاستمتاع، كما أومأنا إليه في المالية.

_ (1) في الأصل: تقسيم. (2) في الأصل: وكان. (3) زيادة من المحقق.

ولكن اعترض في هذا المقام اضطرار الأصحاب، فارعوى معظمهم عن تعدي ما ورد فيه النص عن الشافعي ولم يثبتوا حق الفسخ في غير محل النص، [وجرى] (1) المحققون على تنزيل ما يظهر أثره في الاستمتاع منزلة البرص وما في معناه، وإليه مال القاضي، ومن لطيفِ ما جاء به أن قال: ما أُثبت الخيار به -مما عدا المنصوص- قد يكون فرداً كالبَخَر المفرط، وقد يكون [معانٍ] (2) متضامّة. ولا ينقدح إلاَّ هذا المسلك؛ فإنَّ البرص والجذام والجنون لم يثبت فيها توقيف تعبدي، كما سبق تمهيده في باب العيوب. 8276 - ومما يُثبت للمرأة حق الفسخ ما يتعلق بالشرط وإخلافه؛ فالذي لا خلاف فيه: أن تشترط الحرة حرية زوجها، فإذا أخلف الشرط، ثبت لها الخيار، وهذا منقاس، لأنّا نثبت للمعتقة تحت العبد الخيار شرعاً، ومعوّلنا فيه الخبر، كما سنشرحه في الباب الذي يأتي على أثر هذا، إن شاء الله تعالى. فإذا [تأملنا] (3) ذلك، لم يبعد ثبوت الخيار للحرة الأصلية إذا شرطت الحرية في زوجها، وكأن الشرعَ ألحق الرق في الزوج بالعيوب، وليس لنا إلاَّ الاتباع وترك النزاع. 8277 - ولو [ظنت] (4) الحرة زوجها حراً، ولم تشترط الحرية، فأخلف ظنها؛ فقد تردد الأصحاب في هذا. وقد نبهت على اختلاف الطرق، وبيَّنت أنَّ مأخذ هذا التردد أنَّ رقَّ الزوج هل هو ملتحق بالعيوب من غير شرط؟ وفيه الكلام المقدم. 8278 - ومما يتصل ببابها أن تشترط شرف النسب، فيخلف الشرط، وهذا ينقسم إلى خُلف يخرجه عن كفاءتها وإلى خُلف لا يخرجه عن كفاءتها، فقد أطبق الأصحاب

_ (1) في الأصل: وأحرى. (2) في الأصل: متعان. (3) في الأصل: تأمل. (4) في الأصل: وطبت.

على أنه يثبت الخيار لها، والتفريع على أن [النكاح] (1) ينعقد، وسبب ذلك أنَّ عدمَ الكفاءة سببٌ يؤثر في الاعتراض على العقد، ولذلك قلنا: إذا زوَّجَ المرأةَ واحدٌ من أوليائها ممن لا يكافئها، فالنكاح فاسد، أو مُعْتَرضُ الفسخ لبقية الأولياء، فإذا كان هذا مثبتاً للفسخ من غير شرط، فإذا اتصل الشرط به وظهر الخلف المسقط للكفاءة، فثبوت الخيار ليس بدعاً. 8279 - ولو كان للمرأة وليٌّ واحد، فزوّجها برضاها من رجل مجهول الحال، ثم بان أنه ليس كفؤاً، فلا خيار باتفاق الأصحاب. وليس كما لو بان الزوجُ عبداً، ففيه التردد المقدم. والفارق أنَّ الرقَّ في الزوج لا يمتنع أن يكون كالعيب، ومِن حُكمِ العيب أن يُثبت الفسخ، وإن جرى العقد عليه مطلقاً من غير تعرض لشرط السلامة؛ فإنَّ الرق يعد من النقائص، والأصل السلامة عنه بالحرية الأصلية، وأمَّا شرف النسب ودناءته؛ فإنها بمثابة المناقب المطلوبة [التي يحتمل التحلّي بها] (2) والعروّ عنها، والعقود المطلقة لا تُثبت خياراً في أبوابها عند اختلاف الظنون من غير شرط، فإذا [شُرطت] (3)، التحقت بالسلامة التي تَثبتُ ضمنَ العقد المطلق؛ إذ مراتب الإنسان تنضبط، والرفعة والضِّعة فيها تتعلق بالنسب والإضافات (4)، فكان انفصال النسب عن الرق لهذا الذي ذكرناه في العقد المطلق.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) عبارة الأصل مضطربة غير مستقيمة، وما بين المعقفين وضعناه مكان كلمتين هما: "من العبيد". ولا ندري موقعهما من الكلام، ولعل هناك سقطاً أو خللاً آخر من تصحيف وتحريف. والله المستعان. ومن عجب أن تأتي نسخة (صفوة المذهب) بنفس ما في نسخة الأصل. والله أعلم. (3) زيادة اقتضاها السياق. وصدقتنا (صفوةُ المذهب). (4) الإضافات جمع إضافة، والإضافة عند الحكماء نسبة بين شيئين يقتضي وجود أحدهما وجودَ الآخر: كالأبوة والبنوة (ر. المعجم الوسيط، والمعجم الفلسفي: مادة/أ. ض. ف) ويبدو أن إمام الحرمين غلب عليه ألفاظ الحكماء -من طول المدارسة- فقفزت هنا هذه الكلمة. والله أعلم.

فهذا منتهى القول فيما يثبت الفسخ لها على قياس. 8280 - وأمَّا ما يخرج عن القانون، فهو أن تتبين الزوج دون ما شرط ولا يخرج عن مكافأتها. وقد ذكرنا في ثبوت الخيار لها قولين: أحدهما على القواعد - أنه لا خيار لها، فعلى هذا الشرطُ لاغٍ لا أثر له، فإنه لم يُفسد العقد ولم يُثبت الخيار، فليكن التعيين فيه أنه شرط لاغ غير مُفسد ولا مؤثر. وإن حكمنا بإثبات الخيار لها، فهذا بعيد عن قاعدة النكاح؛ من قِبَلِ أنَّ وضع النكاح أنَّه لا يُرفع إلاَّ بضرر ظاهر يؤثر في المقصود، كالعيوب، والرق الملتحق بها، وفقدان الكفاءة، وهذه المعاني غير متحققة في الصورة التي انتهينا إليها. ولكنَّ المزني اختار ثبوت الخيار، وهذا يقتضي تشبيه النكاح بالبيع في كل وجه إلاَّ في تباعد المقاصد واختلافها، وهذا بمثابة اتفاق الإجارة والبيع في قواعد الفسخ، فإن كانت الإجارة تمتاز عن البيع بمقاصدها اللائقة بها، والبيع يمتاز عنها [بمقاصده اللائقة به] (1) والعقدان مجتمعان في قبولهما للفسخ على أصل واحد، فيلتحق النكاح على هذا بالبيع. وهذا ليس بعيداً لو كان مألوفاً بين الأصحاب، ولا يبقى بعد هذا [من الفروق] (2) إلاَّ أن البيع يقبل خيارَ التروي -وهو خيار المجلس- وخيارَ الشرط، وخيارَ الرؤية، إن جاز بيع خيار الرؤية، والنكاح لا يقبل شيئاًً منها؛ والسبب فيه أنَّ البيع قَبلها عن نصوصٍ تعبدية اقتضتها اقتضاء الرُّخَص، فلم يبعد اختصاصُها [بمواردَ] (3) النصوص، ومثلُ البيع يغلب وقوعه بغتةً، ويتفق صدوره ممن لم يصادم التجارب، وهذا المعنى قد لا يتحقق في النكاح. ولا حاجة إلى هذا مع ما قدمناه. وإذا حكمنا بأنَّ النكاح [يقبل] (4) الفسخ تراضياً كالبيع، ولا غرض [يُرجى] (5) في

_ (1) زيادة من المحقق لتوضيح العبارة. (2) ما بين المعقفين مكان بياض بالأصل، قدر كلمتين نرجو أن يكون تقديرهما كما توقعنا. (3) في الأصل: موارد. (4) في الأصل: قبل. (5) في الأصل: يرضى.

فسوخ التراضي، قوي المسلك الذي ارتضاه المزني، وقد انتهى القول في الفسخ الذي يثبت في جانبها. 8281 - أما الفسخ الثابت في جانبه، فأصل بابه الفسخ بعيوبها. ولا شك أنَّ فسخه أبعد عن القاعدة الكلية من فسخها؛ فإنّ [الضرار] (1) لا يعظم؛ من جهة تمكنه من حل النكاح بالطلاق؛ ولهذا لم يثبت أبو حنيفة (2) للرجل الفسخ، ولكن قيام الرجل مقام المستحِق، وقيامها مقام المعقود عليه المقصود يقوي حقَّه من الفسخ، ويعتدل في هذا المعنى الجانبان؛ فإنها ليست مستحِقة، فحق الفسخ لها مربوط بالضرار، وهو مستحق، فحق الفسخ في جانبه مربوط بعيب المستحَق. ثم يقوم النظر في خصلةٍ، وهو أنَّ حقَّ الزوج يرتبط بأمر الصداق؛ من حيث إنه يستفيد بالفسخ إسقاطه عن نفسه، والطلاق لا يفيده ذلك، [و] (3) في هذا موقف بين المتناظرين لا يليق بهذا المجموع شرحه، مع ما يتصل به سؤالاً وانفصالاً. ثم عيوبها تنقسم إلى ما يمنع المستمتع حسّاً، وإلى ما يؤثِّر فيه عيافة، والقول في ذلك كالقول في جانبها، فلا معنى لإعادته. 8282 - فأما ما يتعلق بالخُلف في جانب الزوج، فينقسم قسمين: أحدهما - يتعلق بضرار يلحق الزوج. والثاني - ما يلحق بخُلفٍ في الشرط لا يجر ضرراً. فأمَّا ما يتعلق بضرر، فقد حصره الأصحاب في الكفر والرق، فإذا اشترط الرجل كونها مسلمةً، فخرجت كتابيةً، أو اشترط كونها حرةً، فخرجت رقيقة، ففي ثبوت الخيار للرجل أقوال: أصحها - ثبوت الخيار، وهو ظاهر المذهب. والثاني - أنه لا خيار أصلاً، وجانبه ينفصل عن جانبها بما أشرنا إليه في القاعدة من بُعد جانب الزوج عن الفسخ.

_ (1) في الأصل: "الغرار" وهي مناسبة أيضاًً. (2) ر. رؤوس المسائل: 395 مسألة: 272، الاختيار لتعليل المختار: 3/ 115. (3) الواو زيادة من المحقق.

والقول الثالث - إنه يثبت الخيار للحر، ولا يثبت للعبد، وقد قدمنا هذا. ويجري فيما ذكرناه قولان في اختلاف شرط الإسلام وهذا النوع لا يتصور في جانبها. ويتصل بهذا المقام ظن الرق من غير شرط، وقد قدمت في ذلك تفصيلاً، ولا خروج لثبوت الخيار إلاَّ على إلحاق الكفر والرق بالعيوب التي تمنع المستمتَع مع عيافة. ومن فصل بين الكفر والرق، أجرى ذلك؛ فإنَّ الكافرة تُعاف والرقيقة لا تُعاف، فهذا خُلف الشرط فيما يجر ضراراً معتبراً. فأمَّا خُلف الشرط في النسب؛ فإنه ينظر فيه؛ فإن أخرجها عن مكافأة الرجل، فالذي ذهب إليه الجماهير أنَّ هذا ليس من باب الخُلف الذي يجر ضراراً؛ فإنه لا عار على الشريف بغشيان خسيسة، وعلى هذا بنى أئمة المذهب جواز تزويج الخسيسة من الطفل الشريف. وذهب بعض الأصحاب إلى إلحاق هذا بالخُلف الذي يجر ضراراً، ومنع هؤلاء تزويج الخسيسة من الطفل الشريف، وصاروا إلى أنَّ النكاح من مقاصده ابتغاء النسل، ولا يخفى تفاخر الخلق بالانتماء إلى الشريفة على قربٍ من تفاخرهم بالانتساب إلى الآباء الشرفاء، ومما شاع في العرب -وهم أخبر الخلق بالمناسب والمناصب- الذم بأن يكون الرجل ابن أَمَة، والمدح بأن يكون ابن حرة. فأمَّا الخُلف الذي لا يخرجها عن المكافأة، ففي إثبات الخيار فيه قولان أيضاًً، ولا خروج له إلاَّ على القاعدة التي ذكرناها في جانبها في مثل هذه المنزلة، وبه وصلنا [إلى] (1) التزام إلحاق النكاح بالبيع، وقد نجز الغرض في أحد الفصلين الموعودين.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

[الفصل الثاني] (1) 8283 - فأما الفصل الثاني، فمضمونه ثبوت المسمى وسقوطه عند جريان الفسوخ، أو الأسباب المفضية للانفساح. وقد تمهد حكم الطلاق وأمر المهر معه، وبان أنه إن جرى قبل المسيس تشطر الصداق، وإن جرى بعد المسيس، لم يسقط من المهر شيء، وأطلق الفقهاء أنَّ المسيس يقرر [الصداق] (2)، وعنَوْا بذلك أن الطلاق لا يؤثر في [إسقاط] (3) شيء من المسمى بعد المسيس. وغرضنا الآن جمعُ معاقد المذهب في الفسوخ، والكلام يتعلق بقسمين: أحدهما - في الفسوخ المنشأة لأسباب تقتضي إثباتها. والثاني - في انفساخ العقد بأسباب تطرأ على النكاح. فأمَّا الفسخ الذي ينشأ، فينقسم إلى ما يصدر من الزوجة، وإلى ما يصدر من الزوج، فأمَّا ما يصدر من الزوجة، فينقسم، فمنه ما يستند إلى سبب كائن حالة العقد، ومنه ما يستند إلى سبب طارىء بعد العقد. فأمَّا ما يستند إلى سبب كائن حالة العقد كالفسخ بالعيوب الثابتة يومئذ، ومنه الفسخ المترتب على خُلف مترتب على شرط مذكور في العقد. فكل ما يكون كذلك؛ فإنه يتضمن إسقاط المهر قبل المسيس، فإذا فرض بعد المسيس، فالمنصوص سقوط المسمى والرجوع إلى مهر المثل، والقول المخرج استقرار المسمى. وما يستند إلى سبب طارىء، فإذا جرى قبل المسيس، فحكمه ما ذكرناه من إسقاط المهر وهذا كالفسخ بالعيوب الحادثة.

_ (1) عنوان الفصل من عمل المحقق. (2) في الأصل: "الطلاق". وهو سبق قلم واضح. (3) في الأصل: "إسقاطه".

وإن جرى الفسخ بعد المسيس حيث يجري، فإن رأينا ثبوت المسمى إذا كان العيب مقترناً بالعقد، فلا شك أنَّ المسمى بالثبوت أولى إذا كانت الأسباب طارئة. وإن جرينا على النص في إسقاط المسمى والأسباب مقترنة بالعقد، ففي الطارئة ثلاثة أوجه تقدم ذكرها. هذا في الفسخ الذي تنشئُه المرأة. فأمَّا الفسخ الذي يُنشئه الرجل، فهو [في] (1) غرضنا من حكم، المهر كالفسخ الذي تنشئه المرأة، فلا فرق قبل المسيس وبعده. 8284 - فأمَّا الأسباب التي يقتضي طريانُها انفساخَ النكاح، كالردَّة وما في معناها، فكل ما لو فرض قبل المسيس تشطر الصداق به، كردة الزوج، فإذا فرض بعد المسيس، لم يؤثر في إسقاط المسمى كالطلاق. وقد ذكرنا أنَّ هذه الأسباب لو حدثت من المرأة قبل المسيس، تضمنت إسقاط المهر، فإذا صدرت منها بعد المسيس، فهل تتضمن إسقاط المسمى؟ وكيف السبيل فيه؟ هذا يترتب على الفسوخ المنشأة بالأسباب الطارئة على النكاح. وهذه الأسباب التي انتهينا إليها أولى بأن يتقرر المسمى معها من الفسوخ المترتبة على العيوب الحادثة، والسبب فيه أنَّا نقول: المرأة تستحق سلامة الزوج على دوام النكاح بحكم العقد، فأمَّا إذا طرأ ما ينافي هذا الدوام -ومقصودُ العقد منفعة- جاز أن يلتحق بالعيوب المقترنة بالعقد، وأمَّا الردَّة إذا طرأت، فلا استناد لها، ولا تتضمن قطعَ مستحق بالعقد يُثبت الفسخ، ولكنه كما (2) يرد يقطع، ولهذا نصَّ الشافعي على ثبوت المسمى إذا ارتدت المرأة بعد المسيس، ونصَّ على القرب منه بسقوط المسمى إذا فرض فسخ بعيب، ولم يفرِّق بين المقترن والطارىء. وقد رأيت في تعليقي عن شيخي، وفي تعليقه عن شيخه ذكرَ سقوط المسمى إذا

_ (1) زيادة من المحقق. (2) كما: بمعنى عندما، وأشرنا من قبل إلى قول النووي: إنه غير صحيح وغير عربي.

ارتدت بعد المسيس، وإني لأخشى ألاَّ يصح فيه نقل المذهب، فالموثوق به ثبوت المسمى لما نبهت عليه. وقد نجز الغرض في الفصلين، وتهذب بهما فصول أبواب [وأحكام الفسوخ] (1) والله المستعان. ...

_ (1) زيادة أكملناها بنفس ألفاظ الإمام في بدء الفصلين.

باب الأمة تعتق وزوجها عبد

باب الأمة تعتق وزوجها عبد 8285 - الأمة إذا عتقت تحت زوجها القن، فلها خيار فسخ النكاح، وهذا مما لا نعرف فيه خلافاً بين العلماء. ولو عتقت تحت زوجها الحر، فلا خيار لها عند الشافعي. ونَصُّ الشافعي ومجرى كلامه دال على أنَّ تخيير المعتقة تحت العبد القِن مأخوذ من الخبر، وليس مما يناط بمعنىً جارٍ على شرائط أهل السبر والنظر. وقد قررت هذا في الأساليب (1). وتعلَّق الشافعي بحديث بَرِيرَة، وصحّح أنَّ زوجها كان عبداً (2). ثم أخذ يقطع الحرّ عن العبد في مقصود الباب، وليس يبغي فرقاً، وإنما غرضه أنَّ خيار المعتقة تحت العبد بالخبر، وليس في معنى الرقيق (3) حتى يلتحق بالمنصوص عليه إلحاقَ الأَمَة بالعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أعتق شركاً له في عبد قُوّم عليه" (4). فهذا عقد الباب.

_ (1) الأساليب: أحد كتب الإمام في علم الخلاف. ولم نصل إليه بعد. (2) حديث بريرة، وتخييرها، وأن زوجها كان عبداً على الصحيح، رواه البخاري: كتاب الطلاق -باب خيار الأمة تحت العبد- حديث رقم: 5282، وهو عن عكرمة عن ابن عباس، وانظر أيضاً رقم: 5280، 5283، وهما عن ابن عباس كذلك. ورواه مسلم: كتاب العتق - باب بيان أن الولاء لمن أعتق: حديث رقم: 1504، وهو عنده من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث تعدد رواته، وتعددت طرقه، وقد أشبع الحافظ في التلخيص الموضوع بحثاً وتخريجاً. (انظر تلخيص الحبير: 3/ 363 - حديث رقم: 1657. (3) أي ليس الحر في معنى الرقيق، فتخير الأَمة إذا أعتقت تحته، ولا يُلحق الحر هنا بالعبد كما ألحقت الأمة بالعبد في حديث: "من أعتق شِرْكا له في عيد قُوم عليه". (4) حديث "من أعتق شركاً له في عبد ... " متفق عليه. رواه البخاري: كتاب العتق -باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أمة بين الشركاء- حديث رقم: 2522. ورواه مسلم: كتاب العتق - حديث رقم 1501.

ويلتحق به أنَّ العتق الكامل تحت العبد هو الذي يثبت لها الخيار إذا طرأ، فإذا كانت مكاتبة أو مستولدة، أو كان بعضها رقيقاً، فطرأ عليها العتق التام، أو تناول العتقُ الرقيقَ منها؛ فلها الخيار، وقيل: كانت بريرة مكاتبة، وقيل: اشتُريت على أن تعتق. وتتميم العتق في التي بعضها رقيق في معنى توجيه العتق على [الكل] (1)، والجزء من الرق في الزوج يُلحقه بالقن؛ من حيث إنه سلبه الاستقلال. فانتظم الباب على أنَّ المؤثر طريان تمام العتق، ولا نظر إلى ما كان قبله في صفة الرق وتبعّضه. ولا يشترط في الزوج كمال الرق ليثبت الخيار، بل البعض من الرق كافٍ. 8286 - فإذا تمهد أصل الباب فأول ما نذكره بعدُ، أن الخيار الثابت للمعتقة على الفور أم يتطرق إليه التراخي؟ وقد ردد الشافعي جوابه في هذا، وقال (2): "ولا أعلم في [تأقيت] (3) الخيار شيئاًً يتبع، إلاَّ [خبراً عن] (4) حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لم يمسها" (5). وحاصل ما نقله الأئمة من أقوال الشافعي ونصوصه في الكتب ثلاثة أقوال: أحدها - أنَّ خيارها يثبت على الفور، بمثابة خيار الرد بالعيب في البيع وما في معناه. وهذا أظهر الأقوال عند الأصحاب.

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة. (انظر صورتها). (2) ر. المختصر: 4/ 11. (3) في الأصل: "تأخير" والمثبت من نص المختصر. (4) ما بين المعقفين مكان كلمتين، هما من مستبشع التصحيف، فعبارة الأصل: ولا أعلم في التأخير شيئاًً يتبع، إلا [قرار في] حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. والتصويب من المختصر. وفي (صفوة المذهب): "تأخير" مثل نسخة الأصل. (5) خبر حفصة: رواه مالك في الموطأ: 2/ 563: كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخيار، ح 27، وفي الحديث عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما: "أن مولاةً لبني عدي يقال لها: زبراء. أخبرته أنها كانت تحت عبدٍ، وهي أمة يومئذٍ، فعتقت. قالت: فأرسلت إلي حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فدعتني. فقالت: إني مخبرتُك خبراً، ولا أحب أن تصنعي شيئاً، إن أمرك بيدك، ما لم يمسسك زوجك، فإن مسَّك، فليس لك من الأمر شيء. قالت: فقلت: هو الطلاق، ثم الطلاق، ثم الطلاق ففارقته ثلاثاً" ا. هـ بنصه. ورواه الشافعي، وهو في مختصر المزني كما أشرنا آنفاً.

والقول الثاني - إنه يثبت خيارها على التراخي من غير أن يُناط بأمَدٍ، ويدوم لها حقها إلى أن تُصَرِّح بإسقاطه، أو بالرضا بالمقام، أو يغشاها زوجها على طواعيةٍ منها، وعلم بحقيقة الحال، فما لم يجر ما وصفناه، فهي على خيارها. والقول الثالث - إنَّ خيارها يمتد ثلاثة أيام. توجيه الأقوال: من قال بأنَّ خيارها على الفور، شبَّهَهُ بخيار العيب، والجامع، أنَّ المقصود من الخيارين الاستمكان من دفع الضرار الناجز [فرِقُّ] (1) الزوج إذاً مع [عتقها] (2) في معنى العيب الكائن في المعقود عليه، وتأملٌ على الناظر في المعنى الذي لأجله كان خيار العيب؛ إذ لو قال قائل: هلا دام ذلك الخيار إلى أن يُسقطه مستحقه؟ كان الجواب عنه أنَّ معنى عقد البيع وما في معناه على اللزوم، فإفضاؤه إلى جواز يدوم يخالف موضوعه، فبعد تأبيد الخيار لذلك، وقيل لمستحق الخيار: اقطع العقد حتى لا يُلفى في الشرع دوامُ جوازٍ في عقدٍ حقُّه اللزوم، أو نَرضى به، وإن لم نرض به، ألزمنا الشرع العقدَ، وهذا يعتضد بمجرى كلامنا في أسلوب مسألة البراءة من العيوب، حيث قلنا: سببُ الرد زوال جهالة خفية، فإذا انكشف الأمر، فلا وقوف بعد الانكشاف، فمن شبه خيار المعتقة بخيار العيب، اعتمد ما ذكرناه من وجوب لزوم النكاح؛ فإنه عن الجواز أبعد من البيع. ومن صار إلى أنَّ خيارها لا يثبت على الفور، استمسك بأنَّ هذا حقٌّ جديد لا استناد له إلى العقد الماضي، حتى كأنها برضاها تبتدىء عقداً، ولهذا كان [الجواز] (3) خارجاً عن القانون، كما نبهنا عليه في وضع الباب. ثم من قال: يتأبد الخيار، فمتعلقه ما ذكرناه، مع أنه لا منتهى له يقف عنده، فلا وجه إلاَّ الحكم بثبوته إلى أن يبطله مستحِقه. ثم يستأنس هذا القائل بحديث حفصة، فإنها قالت: "للمعتقة الخيار ما لم يمسها زوجها".

_ (1) في الأصل: فوق. (2) نفقتها. (3) في الأصل: الجار.

ومن أقَّت بثلاثة أيام علّل في الفور بما ذكرناه، ثم بعُد عنده التأبد، فتمسك بطرفٍ من قياس الشبه، واعتبر أَمَدَ خيارها بالأمد الذي حصره الشرع في خيار التروِّي. وفي مرامز كلام الشافعي مسلك آخر في الفرق بين خيار العيب في البيع، وبين خيار المعتقة، وذلك أنه قال: "الغرض من الرد في البيع مستدركٌ ماليّ (1)، والأمر فيه قريب، فليبتدروه، والغرض في النكاح خطير، فلا يبعد أن يكون فيه متنفس من غير إرهاق"، فليكن هذا على الحفظ إلى أن نستثمره. التفريع على الأقوال: 8287 - إن أثبتنا خيارها على الفور، فتفريعه كتفريع خيار الرد بالعيب، وقد مضى مستقصى في كتاب البيع. وإن أثبتنا الخيار على التراخي؛ فإنه يبطل بإبطالها، ويلزم العقد [بإلزامها] (2)، وليس كحق مُطالبةِ التي آلى عنها زوجها -على ما سيأتي في كتاب الإيلاء- فإنَّ المدة إذا انقضت، وثبت حقُ الطَّلبةِ للمرأةِ، فلو أبطلته ورضيت المُقَامَ تحت زوجها المولي -على إضراره بها-، فلها أن ترفعَهُ إلى القاضي بعد رضاها؛ والسبب فيه أنها وإن رضيت بالمقام على إضراره بها، فليست قاطعةً بأنَّ امتناعَهُ يدوم، ففد تستحثُ الجِبلَّةُ على الفيئة، فلا يتصور وقوع الرضا منها مبتوتاً، ولفظُها -وإن كان صريحاً في البت- في حكم [الخُلف] (3). والرضا بالمقام تحت العبدِ يقعُ مبتوتاًَ لا يعارضه توقُعُ دافع [للضرار] (4). وليس ارتقابُها زوالَ الرِّقِ عن الزوج -الأصل بقاء الرق- في معنى ارتقابِها عودَ الزوج إلى الفيئةِ. ومما يتفرعُ على هذا القول: أنها لو مكَّنت، فلم يغشها الزوج، لم يبطلْ حقُها،

_ (1) عبارة الأصل: " .... مستدكٌ ماليٌّ، والأمر مالي، والأمر فيه قريب". (2) في الأصل: "إلزامها". (3) في الأصل: "الحلف" بالمهملة. (4) في الأصل: "الضرار"

وإن قيل: فعلت ما في وسعِها، فإنَّ التمكينَ من الوطءِ إنما يتحققُ عند وقوعِ الوطء. ولو وطئها الزوجُ على اقتهارٍ، فهذا فيه ترددٌ عندنا؛ من قِبَلِ أن كانت متمكنةً من الفسخِ إذْ وطئها الزوج، فسكوتُها في حكم التمكين، وهذا له التفات من طريق الشبه على أنَّ الزوجَ إذا وطىء امرأتَه قهراً، فهل يبقى لها حق حبسها نفسها حتى يتوفر الصداق عليها؟ وسيأتي مأخذُ ذلك في موضعه، إن شاء الله عز وجل. ولو غشيها قابضاً على فيها، فلا خلافَ في أنَّ حقَّهَا لا يبطلُ والحالة هذه. وهذا يناظرُ تفصيلَ الأصحابِ فيه إذا أُخرجَ أحدُ المتبايعين من مجلسِ العقدِ قهراً وهو متمكنٌ من الفسخ أو غير متمكن. وقد نجزَ ما أوردناهُ من التفريع على قولِ التراخي. وإذا أقتنا الخيارَ بالثلاث، فمبتدأُ المدَّةِ من وقتِ ثبوت الخيار، لا من وقتِ نفوذِ العتق، وذلك إذا أُشعرت بالعتق والخيار. 8288 - فإذا تمهد ما ذكرناه، فإنَّا نقول بعد ذلك: ما قُطع به في الطرق أنَّ الخيار الثابتَ في النكاح بسبب العيوب يكون على الفور؛ اعتباراً بخيار العيبِ في البيع، ولم يذكروا الأقوال التي ذكرناها في خيار المعتقة. وذكر الشيخُ أبو علي في شرح التلخيص أنَّ من أئمتنا من أجرى هذه الأقوالَ في خيارِ العيب في النكاح، وهذا لم أره له، وليس ما ذكره بعيداً عن مسلك المعنى، والذي أجريناه من كلام الشافعي في أقوال خيار المعتقة يشهد بذلك؛ فإنه فَرَّقَ بين خيار المعتقة وخيار العيب في البيع، لِعظم خطر النكاح، فلا يبعد أن يطرد هذا المعنى في خيار العيب في البيع؛ إذ غرض الخيار في البيع استدراك مالية، ولذلك قد يقابل بأرش العيب، ولا مدخل لأرش العيبِ في النكاح؛ حتى يقدر استرداد جزءٍ من الصداقِ إذا كانت هي معيبة، فالمدار على الضرار، وليس يبعد امتداد الخيار مما يتعلق بالضرار. وكنت أود لو فصلَ فاصلٌ بين خيار العنَّة وخيار الجبِّ في هذا المعنى؛ فإنَّ التي عنَّ عنها زوجُها على رجاءٍ من زوال المانع بخلاف الجَب. ولم أر إلى هذا منتهىً

للأصحاب فصلاً بين خيار العُنّة وانقضاء المدة. وفي هذا سرٌّ لطيف: مدة العُنَّة تُضرَبُ مع الإقرار بالعُنَّة كما سيأتي -إن شاء الله عز وجل- فكأنَّ الشرعَ أسعف بالفرق بين البابين وأقامَ مُدَّة العنَّةِ أجلاً في الخيار، وإن كان لا يثبت بها خيار. وسيأتي تقرير ذلك في باب العنة، إن شاء الله عز وجل. فصل قالَ: "فإنْ أصابَها فادعَتِ الجهالةَ، فيها قولانِ ... إلى آخره" (1). 8289 - هذا الفصلُ مُفرَّعٌ على القول الظاهر في أنَّ خيارَ المعتقةِ على الفور، ويمكن تفريعُهُ على أنَّه على التراخي، ولكن يبطلُ حقُّها بالمطاوعةِ والتمكنِ إذا جرى الوطء. ثم صورةُ المسألةِ أنها إذا عتَقَت وطاوعت، فوطئها الزوج الرقيق، ثم أرادت الفسخَ وادعت الجهالة، فقد نقل المزني قولين مطلقين عن الشافعي في أنَّ قولَهَا هل يُقبَل؟ واختلف أصحابنا في محل القولين على ما ننقله، ثم نبحث على [عادتنا] (2). فمن أصحابنا من قال: القولان فيه إذا ادعت الجهالةَ بالعتق، وهذا ساقطٌ؛ من جهةِ أنَّ دعوتَها الجهالةَ بالعتقِ قولٌ يمكن الصدقُ فيه، فأيُّ معنًى في ترديد القولين في قبولها، وهي صاحبةُ الواقعةِ؟ فإنْ قيل: يبطلُ حقُّها وإن صدقت في دعوى الجهالةِ بالوطء، كان بعيداً. فإذا استحال المصير إلى بُطلانِ الخيار بصورة الوطء، ودعواها الجهالة مُحْتمل؛ فلا وجه للتردد والحالة هذه. ولو صار صائرون إلى أنَّ صورة الوطء تُبطل حقها، لكان ذلك خارجاً على مسلكٍ -وإن كان بعيداً- وهو أن نجعل نفس الوطء بعد العتق قاطعاً لحق الاستدراك؛ فإنه إذا جرى وطء واحد، فالوطء الواحد كوطئات العمر، ولكن لم يسمح بهذا أحدٌ من

_ (1) ر. المختصر: 4/ 12. (2) في الأصل: عادتها.

الأصحاب، فأَبَوا أن يأخذوا القولين إلا من الجهل بالعتق، وهذا لا معنى له. ومن أصحابنا من قال: القولان فيه إذا اعترفت بجريان العتق، وادعت الجهل بثبوت الخيار لها. وهذا المسلك أقرب قليلاً على ما بينته في توجيه القولين: وأحد القولين - إنها لا تُصَدَّق، كما لا يُصَدَّق المُطَّلِع على العيبِ في البيع إذا ادعى أنَّه لم يعلم بثبوت الخيار له شرعاً. والقول الثاني - إنه يقبل قولُ المعتَقةِ؛ فإنَّ الخيار مما لا يبعد الجهلُ به في حق عوامِّ الناس، وأما الرد بالعيب، فإنه شائعٌ في العام والخاص، فادعاء الجهل فيه غير مقبول. 8290 - والذي يجب الاعتناء بفهمه بعد ما نقلناه أنَّ التأخير، أو الوطء، أو غيرَه مما يشعر بالرضا إذا استند إلى دعوى الجهل؛ فعَقْدُ المذهب فيه أنه إذا غلب على الظن كذب المدعي، فلا يُقبل قوله -وإن أمكن صدقه على بعد-[لأنَّ] (1) مبنى العقد اللازم على اللزوم، وهذا أبلغ في وضع العقد من تصديق مَن يمكن تصديقه، ولهذا قال الشافعي: إذا اختلف المشتري والبائع في قِدم العيب، فالقول قول البائع، وللبائع أنْ يحلف على البت على نفي العيب، وإن لم يكن عالماً بانتفائه قطعاً، ولم يبنِ هذا على تغليب الالتزام. فإذا تبين لنا ظهور خيار الرد بالعيب في القياس، لم يصدّق من ادعى الجهل به، وإن أمكن تصديقه. وعلى هذا بنينا ثبوت خيار العيبِ على الفور. ولو ادعى المشتري الجهلَ، وصدّقه البائع، فله الخيار وفاقاً. وهذا يناظر ما سيأتي في باب العُنَّة -إن شاء الله تعالى- من أنَّ الزوجَ إذا ادعى الوطء في مُدة العُنّة؛ فإنه يصدق، وإن كان الأصل عدم الوطء، مُحافظةً على تبقية النكاح، وهذا أصل مستغنى بتقريره، إن شاء الله تعالى. فأما خيار المعتقة؛ فليس يظهر ظهور خيار العيب؛ فإنَّ النفوس مجبولة على استدراك الغبائن في البيع. والأصل في النكاح على خلاف ذلك، [فترددت] (2)

_ (1) في الأصل: "فلأن". والصواب بدون فاء، فإنها ليست جواباً للشرط. (2) في الأصل: فتردد.

دعوى الجهل بين ظهور الصدق وبين المحافظة على تثبيت النكاح، كما رمزنا إليه في العُنة. والذي أراه أنَّ المرأة إذا ادعت الجهل بالخيار بالبرص والجنون، أو ادعى الزوج الجهل بالخيار في الرتق والقرن، خرج على القولين في خيار المعتقة؛ فإنَّ هذا مما يظهر الجهل به. فهذا ما يجب تنزيل الفصل عليه. ... ثم قال الشافعي: "فإن اختارت فراقَهُ ولم يمسها، فلا صداق لها ... إلى آخره" (1). 8291 - نقدم على ذلك القولَ في مستحِق الصداق فنقول: إذا زوّج أَمَته من عبده، فالصداق لسيد الأَمَة إذا اشتمل النكاح على تسميته، فإذا عتقت الأمَةُ ورضيت بالمقام، فالمهر مسوق إلى مولاها، وليس لها من زوجها إلاَّ النفقة والكسوة، والمؤن الدارّة على مكرّ الزمان في المستقبلِ. ولو كان زوَّجها مفوِّضةً، ثم أعتقها، نُظر، فإن جرى المسيس قبل العتق، فالمهر لمولاها، وإن جرى المسيس بعد العتق يفرّع ذلك على القولين في أنَّ المهر هل يثبت بالنكاح (2) المشتمل على التفويض، أم يثبت بالمسيس؟ وسيأتي ذكرهما، إن شاء الله عز وجل. فإن حكمنا بأنَّ المهر يثبت بالنكاح، فالمهر للمولى، وإن حكمنا بأنَّ المهر يثبت بالمسيس، ففيه اختلاف بين الأصحاب: فالذي اختاره المحققون: أنَّ المهر يثبت للمعتَقة. وسيأتي شرح ذلك -إن شاء الله عز وجل- في باب التفويض من كتاب الصداق. 8292 - عاد بنا الكلام إلى القول في سقوط المهر بالفسخ، فنقول: إذا فسخت المعتَقة قبل المسيس، سقط المهر، وإن حكمنا بأنَّ المهر للمولى، ولم يوجد منه

_ (1) ر. المختصر: 4/ 12. (2) أي بالعقد.

الفسخ حتى يُقدَّر مسقطاً، ولكن القياس أنَّ المهر يسقط إذا ارتفع النكاح قبل المسيس، واستثنى الشرعُ من هذا الأصل الطلاقَ قبلَ المسيسِ وما في معناه، فاستقر الشرع على أنَّ الصداق إنما يتنصف إذا كان الفراق صادراً من جهة الزوج المستدرِك [يتعلق بها] (1). فإذا فسخت الأَمَة، [استحال] (2) مطالبةُ الزوج بشيء من الصداق، ولم يوجد منه فراق. ولو فسخت المعتَقة بعد المسيس؛ فقد قطع الأئمة بأنَّ المسمى لا يسقط، ولم يجروا فيه القول المنصوص في العيوب، وهو أن المسمى يسقط، والرجوعُ إلى مهر المثل؛ والسبب فيه أن هذا الفسخ محال على سبب طارىء، وليست هي مستحقة للمهر، وإنما المهر لغيرها، فيبعد سقوط المسمى. والتردد الذي ذكرته في رِدَّةِ الزوجة بعد المسيس لا يجري هاهنا؛ فإنَّ الردَّة طرأت على عين النكاح المعقود، وتضمنت انفساخه، والعتق [طرأ على عين] (3) الزوجة أولاً، ثم ترتب الفسخ على تغيير طارىء، وأحكام مستجدة، لم تعهد حالة العتق. فالقطع باستقرار المسمى إذا جرى فسخ المعتقة بعد المسيس موثوق به نقلاً وتعليلاً. ... ثم قال: "ولو كانت [في عدَّة] (4) طلقة، فلها الفسخ ... إلى آخره" (5). 8293 - الرجعية إذا عتقت تحت زوجها العبد في أثناء العدة، ثبت لها حق الخيار؛ فإنها زوجة، فإن شاءت الفسخ، نفذ ذلك منها، واستفادت به [قطع] (6) حقِّ

_ (1) ما بين المعقفين كما ترى لا موضع له، فلعل في الكلام سقطاً، أو هو مقحمٌ من الناسخ. والله أعلم. (2) في الأصل: واستحال. (3) عبارة الأصل: "والعتق عن الزوجة أولاً" والمثبت تقدير منا على ضوء السياق. (4) في الأصل: "ولو كانت هذه طلقة، فلها الفسخ" والتصويب من المختصر. (5) ر. المختصر: 4/ 12. (6) زيادة من المحقق على ضوء السياق والسباق.

سلطان الزوج ناجزاً، وتستفيد أيضاًً تقصير العدة، فإنها لو صبرت حتى تتبين أنَّ زوجها هل يراجعها أم لا؟ فقد [يراجعها] (1) في آخر مدة العدة. فإذا أنشأت فسخاً بعد الرجعة، احتاجت إلى استفتاح عدةٍ من وقت الفسخ، فإذا هي نجّزت الفسخ في الحال، لم يلحقها من الطول ما وصفناه. ثم إذا فسخت فتكتفي بالعدة التي هي ملابستها أم تبتدىء الخوض في عدة الفسخ؟ فيه قولان أشرنا إليهما في نكاح المشركات، وأجَّلنا استقصاءهما على العِدد، وشبَّهنا ذلك بما لو طلق الزوج الرجعية في أثناء العدة، وقد ظهر اختلاف القول في أن الطلاقَ الذي يلحق الرجعية هل يستعقب عدة جديدةً أم لا؟ هذا إذا أرادت [التنجيز] (2)؛ فإن أرادت التأخير لتتبيّن ما يكون، فلا بأس، ولا نجعل تأخيرها مبطِلاً لخيارها وإن كان على قول الفور، وهذا مما قدمته في نكاح المشركات أيضاً. 8294 - وإن اختارت المقام لمّا عتَقَت، فاختيارها باطل، لا حكم له؛ والسبب فيه أنها جارية في حالة التحريم، وقد يفضي إلى البينونة، فاختيار المقام لا يليق بحالها. هذا ما أطلقه الأصحاب وزعموا أن إجازتها لا تخَرَّج على وقف العقود شَرْطَ أن يكون (3) مورد العقد قابلاً لمقصود العقد. ولم نجوّز بيع الخمر على تقدير مصيرها خلاًّ من حيث لم تكن في حالها قابلة للخل، ولا متصفة بالمالية. وسمعت شيخي غير مرة يحكي [تقرير] (4) إجازتها عن طوائفَ من الأصحاب. وهذا متجه غيرُ بعيد؛ فإن إجازتها إن لم تتضمن إحلالَها، فهي متضمنة قطعَ

_ (1) في الأصل: راجعها. (2) في الأصل: تنجيز. (3) عبارة الرافعي في هذه المسألة وقد حكاها عن الإمام، قال: "قال الإمام: ولم يخرّجوه على وقف العقود، لأن شرط الوقف أن يكون موردُ العقد قابلاً لمقصود العقد، ألا ترى أن بيع الخمر لا يوقف إلى أن يتخلل، وهي على حالتها غير مستحيلة" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 8/ 158). (4) في الأصل كلمة رسمت هكذا: (ـ ـعدر) بدون نقط.

خيارها وسلطانَها في ملك الفسخ، وإذا كانت مستحقة للفسخ إن أرادته، فلتملك قطعَ ذلك، وإذا قطعته، كانت رجعية مستمرة على ما كانت عليه قبل أن عتَقَت. ثم إن أخرت ولم تختر، ولم تفسخ، فراجعها زوجها، ثم أرادت الفسخ بعد المراجعة، فلها ذلك. 8295 - ثم القول في أنها تبني على بقية العدة أم تستأنف عدةً جديدةً؟ كالقول فيه إذا راجعها زوجها ثم طلقها بعد المراجعة، وكل ذلك مما سبقت الإشارة إليه مع إحالة الاستقصاء على موضعه. ومما يتولد في أثناء هذه الفصول أنَّا حيث نحكم باستفتاح عدةٍ بعد الفسخ، فلا شك أنها عدةٌ تامة؛ فإنَّ الفسخ يجري بعد الحرية. وإذا ابتدأت الحرةُ اعتداداً كان كاملاً. وإذا قلنا: تبني ولا تستأنف، فتكمل عدة الحرائر أو عدة الإماء؟ فيه اختلاف وتفصيل سبق ذكره في نكاح المشركات مع الإحالة على كتاب العِدَد. 8296 - ولو طلق العبدُ زوجتَه الأَمَة طلقةً مبينة، بأن خالع مولاها، ثم عَتَقت، فلا خيار لها؛ فإنَّ أثر الخيار في قطع النكاح، والبائنة ليست منكوحة. والقول في أنها تكمل عدة الإماء أم عدة الحرائر، على ما تقدم. ... ثم قال: "وإن كانت صبية، فحتى تبلغ ... إلى آخره" (1). 8297 - الأمة إذا عتقت في صباها تحت زوجها القن، فإنها لا تتخير في صغرها، ولا ينوب عنها أحد بطريق الولاية، لأن هذا خيار تشهِّي، فلا يسوغ تفويته. ثم إذا بلغت، فلها الخيار، وهذا قياس لا حاجة إلى الإطناب في شرحه، وهو يطّرد في خيار العُنَّة والإيلاء عن الصغيرة. ...

_ (1) ر. المختصر: 4/ 12.

ثم قال: "ولا خيار لأَمَة حتى تكمُل فيها الحريةُ ... إلى آخره" (1). 8298 - وهذا مما صَدَّرنا فيه الباب، والضابط للمذهب في الزوجين أنَّ العتق في البعضِ لا حكم له في الباب. فإذا كان جزءٌ من الزوجِ رقيقاً، فهو كما لو كان رقيقاً، وإذا كان جزءٌ من الزوجة رقيقاً، فهو كما لو كانت جملتُها رقيقةً. ومما يجب التنبُّهُ له أنَّ الفسخ الذي أثبته الشرع للمعتَقة تحت العبد ليس منوطاً بجريان النكاح على القهر منها في الرق، فإنَّ المُكَاتَبَةَ إذا زُوِّجت بإذنها -ونكاحها مفتقرٌ إلى رضاها- فإذا عتقت وزوجها عبد أو مُكَاتَب، فلها الخيار، وإن جرى النكاح بإذنها المعتبر؛ فإنَّ إذنها محمولٌ على رضاها [بالعبد] (2) ما دامت هي مكاتبة، فإذا استحدثت كمال الحرية، ثبت لها حق الفسخ. ولو قالت قبل العتق: إن أعتقت، فقد رضيت بالمقام تحت زوجي على رِقِّه، فهذا قولٌ لاغٍ؛ فإنَّ الرضا بالمقام في حال ثبوت الخيار لا يقبل التعليق، فكيف يقبله قبل ثبوته. فرع: 8299 - إذا عتقت الأَمَةُ تحت زوجها القِن، فَعتِق الزوج قبل اتفاق الفسخ، فالمذهب الصحيح أن حقها من الخيار يبطل؛ فإنه كان معَلَّلاً بما ينالها من الضرار [بالإقامة] (3) تحت القِن، وقد زالت العلة، فيجب زوال الحكم بزوالها. وخرَّج بعض أصحابنا وجهاً - أنَّ خيارها لا يبطل بعد ثبوته، وهذا بعيدٌ لا اتجاه له. والمذهب: أنَ من اشترى شيئاً واطلع على عيب قديم به، ثم اتفق زوال العيب قبل التمكن من الرد؛ فيقطع خيار الرد، وفيه الوجه المخرج الذي ذكرناه. والخلاف بين الصورتين ينبني على قاعدة ذكرناها في كتاب الشفعة، وهي: أنَّ من ثبت له حق الشفعة، فلم يشعر بها حتى باع ملكه الذي استحق الشفعة به، فهل له طلب الشفعة فيه؟ فيه اختلاف وتردد، استقصينا ذكره في كتاب الشفعة.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 12. (2) في الأصل: فالعبد. (3) في الأصل: فالإقامة.

فإن قيل: هل يتوجه الوجه الضعيف بشيء يمكن التمسك به؟ قلنا: أقصى الإمكان فيه أنَّ العيب إذا زال، فهذا محسوب لمن له حق الرد؛ فإنه حصل ذلك في استمرار حكمه ودوامِ يدهِ، فينبغي أن يكون له لا عليه، فالعيب القديم أثبت حق الرد، والسلامة الطارئةُ ثابتة للمشتري، ولو أبطلنا حق الرََّد بها، لكُنَّا صرفنا فائدة السلامة الطارئة في يد المشتري إلى البائع إذا كنا نقول: العيب الحادث في يد المشتري يؤثر في منعه من الرد، فقياس الفقه أن نقول: ما يطرأ من العيب فعليه، فما يطرأ من السلامة له. وهذا يجري ذكره في مسألتنا، والأصح ما قدمناه. فرع: 8300 - إذا ثبت حق الخيار للمعتقة تحت العبد، فطلقها زوجها قبل أن تفسخ النكاح، نُظر: فإن كان الطلاق رجعياً، فهي على حقها من الخيار، لا شك فيه. وإن كان الطلاق مُبِيناً، فقد نص الشافعي في الأم على "أنَّ الطلاقَ موقوفٌ، فإن فسخت، بان لنا أنَّ الطلاق لم يقع، وإن لم تفسخ، بان أنه وقع". وقد اضطرب أئمتنا في هذا النص، فذهب المحققون إلى مخالفة (1) النص وقطعوا بنفوذ الطلاق؛ من جهة أنَّ الطلاق صدر من أهله في محله، والفسخ إن فُرض ليس ينعكس على ما تقدمه، وإنما يتضمن قطعَ النكاح في الحال، فيستحيل أن يؤثر في الطلاق السابق. وهؤلاء رأَوْا ما نُقل عن الشافعي نقلاً منه لمذهب غيره، وهذا كثير الوقوع في كلام الشافعي؛ فإنه يخرّج مذهبه بمذهب العلماء، وقد يذب عن مذهب العلماء ذبّه عن مذهب نفسه، وفي كلامه [ـعقيد ـعـ ـنى المهر] (2). هذا هو المسلك الحق. وذهب بعض أصحابنا إلى الجريان على ظاهر النص، وهذا بعيد، ولكن الذي تمسك [به] (3) الصائر إليه أنَّ الطلاق تصرفٌ من الزوج في ملكه، فلا ينحسم (4) إذا تأكد حق الغير، وهذا كما أنا نرد إعتاق المالك لتأكد حق الغير في ملكه، فالطلاق في

_ (1) في الأصل: إلى أن مخالفة النص. (2) ما بين المعقفين رسم هكذا تماماً، ولم أعرف له وجهاً. (انظر صورتها). (3) زيادة من المحقق. (4) فلا ينحسم: أي لا يتم ولا يُمضى.

معنى العَتاق. وإذا ثبت للمرأة حق الفسخ وتأكد، امتنع تصرف الزوج. وهذا ضعيف، ولكنه أقصى الإمكان. ولكن ما ذكرناه يجري في فسخ العيب في النكاح حتى لو فرض من الزوج المعيب تطليق زوجته قبل أن تفسخ، ففي نفوذ الطلاق ووقوعه على ما يكون من فسخ أو إجازة ما ذكرناه. فإن قيل: إذا فَرَّعتم على الوجه الضعيف، فلو عَتَقت الأمة تحت زوجها القن، فوطئها الزوج قبل أن تفسخ، ثم فسخت، فهل [تعطّفون] الفسخ على هذا الوطء (1)؟ قلنا: هذا سرفٌ لا يصير إليه محصل، فإنَّ الذي وجهنا به ردَّ الطلاق تشبيهه بالعتق، الذي قد لا ينفذ بحق الغير، وهذا المعنى لا جريان له في الوطء، ولا مساغ له فيه أصلاً. فرع: 8301 - العبد إذا عتق وتحته أَمَة، فالمذهب أنه لا خيار له، بخلاف الأَمة إذا عتقت تحت زوجها العبد. وذكر العراقيون هذا ووجهاً بعيداً معه أنَّ الخيار يثبت له كما يثبت لها، وقربوا ذلك من الخيار الذي حكيته في العيوب الطارئة عليها، وإنما هل يثبت للزوج حق الفسخ؟ فهذا بعيد لا اتجاه له، فإنَّ أصلَ البابِ معدولٌ عن القياس، مبنيٌّ على الخبر، وليس الزوج في مقصود الباب في معنى الزوجة. ...

_ (1) أي تجعلون هذا الوطء في غير حقه؛ لأنها كانت تملك حق الفسخ، كما قلتم الطلاق لم يقع لأنه بان بفسخها أنه لم يصادف محلا، ولم يكن من حقه.

باب أجل العنين

باب أَجَل العِنِّين 8302 - العِنِّين هو الذي يمتنع عليه وقاع امرأته. وليست العُنَّةُ معنى مأيوسَ الزوال، وليست أيضاًً ثابتة على العموم، فلا يمتنع أن يعِن الرجل عن امرأةٍ، ولا يعِن عن أخرى. وقيل: العُنةُ في اللسان: اسمٌ للحظيرة التي تحبس فيها الإبل. ومما أرسلته العرب قولهم في الذي يهرف بكلامٍ لا قبولَ له: إنه "كالمهدِّر في العنة" (1). أي: كالإبل [التي] (2) طال احتباسها، فهي تهدر من طول المقام. وقيل: "عِنانُ الدابة" سُمِّي بما سمي لأنه يمنعها من ركوبها رأسَها. فالعنين: العاجزُ عن مواقعة امرأته. ومبنى الباب على [مكان] (3) العُنة بين العيوب الواقعةِ التي لا دفع لها، ولا رجاء في زوالها، وبين المضارة التي يُفرض وقوعها. ثم قاعدة الباب تبتني على قسمين من الكلام: أحدهما - أن تدعي المرأة عجز زوجها عن الغِشيان. والثاني - أن تدعي اقتداره، وتزعم أنه ممتنع من وقاعها مضار بها في الانكفاف عنها. فلتقع البداية بالقسم الأول، فهو مضمون الباب ومقصوده.

_ (1) مثلٌ سائر، يضرب لمن لا ينفُذ قوله ولا فعله، فهو يهدِّر في محبسه. (ر. اللسان: مادة ع. ن. ن.، ومجمع الأمثال للميداني: 3/ 21. (2) في الأصل: الذي. (3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، رسمت هكذا (ـزايد) بهذا الرسم وهذا النقط (انظر صورتها).

8303 - فإذا رفعت المرأةُ زوجَها إلى مجلس الحكم، وزعمت أنه عاجزٌ عِنِّين، فالزوج لا يخلو؛ إما أن يُقرَّ بالعُنة كما ادعتها، وإمَّا أن يدعي القدرة على الوقاع. فإن اعترف بالعنة، أو أنكرها، ولكن قامت بيِّنة عادلةٌ على إقراره بالعُنة؛ فلا يثبت للمرأة حقُ الفسخ وإن ثبت الإقرار بالعُنة. وتبيَّن في مفتتح هذا الكلام أنَّ العنة [لا] (1) تجري مجرى الجَب؛ فإن نفس وقوع الجب يُثبت الخيار، والعنة في ظاهر الحكم قد ثبتت بإقرار الزوج، ولا خيار باتفاق أئمة المذهب، ولكن يضرب القاضي للزوج المدة، وهي سنة، يمهله فيها، ويُبيِّين له: أنك إن أصَبْتَ في المدة المضروبة، انفصلت الخصومةُ وانقطعت الطَّلِبة، وإن لم تُصِبْ، ثبت الخيارُ في فسخ النكاح بعد تَصَرُّمِ المدة. والحكمة في إمهاله هذه المدة أنَّ العُنة قد تحال على أسباب [يقتضيها] (2) بعض فصول السنة، فإذا جرى هذا المهَل، وتَصَرَّمت الفصول على اختلافِ طبائعِها، تحقق العجزُ إذ ذاك، وكأنّ العُنَّة، وإن جرى الاعتراف [بها] (3) لا يتبيّن تحققها إلا بما ذكرناه. وهذا احتياط رآه الشرع، وتشوّفٌ إلى إدامة النكاح لتعرض العُنّة للزوال لتغايير تلحق الضعف والمُنَّة، وقد صح أن عمر أجّل العنين سنة (4)، وأجمع المسلمون على اتباع قضائه في قاعدة الباب. وما ذكرناه فيه إذا اعترف الزوج بالعُنة، أو شهدت بيّنة على اعترافه بها. فإن ادعت المرأةُ العُنةَ، فأنكر الزوج، فشهدت بيِّنة على العنَّة نفسها ولم يتعرضوا لإقراره بها؛ فالبيِّنَةُ مردودة؛ فإنه لا اطلاع للشاهدين على ما شهدوا به، ولو كانوا سمعوا إقراره، فليس لهم أن يشهدوا بالمقرّ به، بل عليهم أن يتعرضوا للإقرار نفسه.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: يقضيها. (3) في الأصل: بما. (4) تأجيل العنين سنة، رواه البيهقي في السنن: 7/ 226.

وإذا أقرَّ زيدٌ لعمرو بدار، فليس للذين سمعوا إقراره أن يشهدوا لعمرو -المقر له- بالملك. فإذاً لا تثبت العنة بشهادة البينة بها على الإطلاق. 8304 - فإذا أنكرَ الزوجُ، حَلَّفَتْهُ الزوجةُ، فإن حلفَ على قدرتهِ على الوقاع، انقطعت عنه الطّلبة وانفصلت الخصومة، وبطَلَ توصلها إلى حق الفسخ، فلا معنى -والحالة هذه- لضرب المدة. وأمثال هذا وإن كانت جليّة عند فقهاء المذهب، فلا يضر التعرض للتصريح به، فقد يظن ظان أنَّ للسلطان أن يقول: إن كنت صادقاً في ادعاء القدرة، فحققها بوطأة، ولستَ مرهقاً، فالسنة مهلتك ومدتها فسختك؛ فهذا لا سبيل إليه؛ إذ يلزم منه مطالبة القادرين بالوقاع، حتى إن لم يواقعوا في مهلة السنة، طلقت عليهم نساؤهم، أو فسخت الأنكحة عليهم. وهذا لا سبيل إلى اعتقاده في قاعدة المذهب. وما ذكرناه فيه إذا أنكر العجز وحلف على القدرة، فإن نكل عن اليمين المعروض عليه؛ فالمذهب الذي عليه التعويل: أنَّ اليمين مردودة على المرأة، ثم هي لا تخلو، إمَّا أن تحلف، وإمَّا أن تنكُل، فإن حلفت، ثبتت العُنة في ظاهر الحكم. والتحق الترتيب بما إذا اعترف الزوج بالعُنة، والحكم أنَّ السلطان يضرب المدة كما تمهد قبل، وإن نكلت، كان نكولها عن اليمين بمثابة حلف الزوج، وقد بان أنَّ الزوج لو حلف، لانفصلت الخصومة بحلفه. هذا هو المذهب المشهور. 8305 - قال الشيخ أبو علي: ومن أصحابنا من قال: لا تثبت العُنَّة بحلفها؛ فإنها مخبرة عن عجز [غيرها] (1)، وهذا لا اطلاع عليه، فكما لا تثبت العنة بشهادة الغير بها، فكذلك لا تثبت العنة بحلف الزوجة. وهذا ليس بشيء؛ فإنها قد تطلع بالمخايل الظاهرة على عجزه، وهي صاحبة الواقعة، والأيمان [يُكتَفَى] (2) فيها بأمثال ذلك، فإذا جرت نِيط بها حكمها، والدليل

_ (1) في الأصل: غيره. (2) في الأصل: يكفي.

على ما ذكرناه أنَّ الزوجَ إذا ذكر لفظةً من كنايات الطلاق، وزعم أنه لم ينوِ؛ فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل عن اليمين المعروضة عليه، رددنا اليمينَ على المرأة، واطلاعُها على قصده الطلاق أبعدُ عن اطلاعها على عجزه. والمعتمد في الموضعين المخايل وقرائن الأحوال. ثم من يحكم بأنَّ اليمين لا تردّ على المرأة، فلا معنى عند هذا القائل لتحليف الزوج؛ فإنَّ الغاية المتوقعة أن ينكُل، والقضاء عليه بالنكول لا وجه له، والتحليف لا يُفضي إلى رد اليمين، فلا معنى لفرضها أول مرة. والوجه أن نقول: لا سبيل إلى ضرب المدة ما لم [يُقر] (1) الزوج بالعجز، أو يثبت اعترافُه بالبيّنة، وهذا يكاد يقرب من الخُرْق والهجوم على إفساد حكمه؛ فإنَّ الزوجَ إذا عَنَّ وقلنا: إنه لا يحلف، فلا يعجز عن الصمت والسكوت إذا راجعه القاضي، فإذا كان أصل المرافعة ثابتاً كما ذكرناه، وليس فيه حملٌ على يمين، فلا ثمرة للمرافعة، ولا فائدة للمحاكمة. وللأصحاب في بعض المسائل تشوف إلى القضاء بالنكول، وقد قدمنا صوراً منها في كتاب الزكاة، وسنذكر أمثالها في مواضعها، إن شاء الله تعالى. فلا يمتنع على الوجه البعيد أن نقول: نكول الزوج يغلّب على الظن عُنَّته، فنجعل ضرب المدة فسخته، وهذا كلام متناسب، فإن عجزه يظهر بامتناعه عن الوقاع في المدة فعلاً، فلا يبعد أن يستند ابتداء الضرب إلى امتناعه عن اليمين، وكل ذلك خبط. والوجه: القطع برد اليمين على المرأة، كما صار إليه أئمة المذهب. والوجه الضعيف لم يأت به الشيخ أبو علي تخريجاً، وإنما نقله عن أبي إسحاق المروزي، وهو -كما ذكرناه- بالغٌ في الضعف. 8306 - فإذا تمهَّدَ محلُّ ضربِ المدة، وانفتح على الناظر تصورُ مسائلِ الباب؛ فإنَّا نقول بعد ذلك: مُدَّةُ العنةِ لا تختلف بالرق والحرية؛ فإن كان الزوج عبداً، فالمدة

_ (1) في الأصل: يقترن.

سنة، كما إذا كان حُرَّاً؛ إذ الغرض من ذلك امتحان الطبيعة، واستبانة عجزها وقدرتها. وما يرجع إلى الطباعِ ولا يتعلق بالتعبد، يستوي فيه العبد والحر، قياساً على مدة الإيلاء، وعلى الحولين في سنِّ الإرضاع، لمن أراد أن يُتم الرضاعة. وفيما ذكرناه احتراز عن [العدة] (1) بالأقراء؛ فإن الغالب عليها التعبد، كما سنبين، إن شاء الله عز وجل. 8307 - ومما يجب التصريح به أن المرأة إذا رفعت زوجها إلى مجلس الحكم وانتهى الأمرُ إلى أوان ضرب المدة؛ فالقاضي لا يضربها ما لم تلتمس المرأةُ ضربَها. فلو أنها -لما ثبتت العنة- انكفت عن الطَّلِبة وسكتت، فالقاضي قد يحمل سكوتَها على الدهشةِ والبرق (2) وعدمِ الإحاطة بإجراء الكلامِ في الطلبات وإجراء الخصومات، فينبهها على ما لها وعليها، فإن سكتت على ما ذكرناه، لم يبتدىء ضربَ المدة. وهذا لا خفاء به. وكذلك لا يعرض القاضي اليمين على الخصم ما لم يطلبه المدعي. ولو كانت لا تدري حكم الواقعة، فلا يحسن استدعاء ضرب المدة، ولكنها [إن] (3) كانت مصرّة على طلب حقها على موجب الشرع، فالقاضي يضرب المدة، ويبيّن أن هذا هو المسلك المرضيّ إلى دفع الضرار بوقوع الوقاع [أو] (4) قطع النكاح، وليست هذه المدة كمدة المُولي؛ فإنَّ مستندها إيلاء الزوج، وهو مقطوع به، لا مساغ للاجتهاد به. وكذلك الأجل المرعي في ضرب العقل على العاقلة، لا حاجة فيه إلى قضاء وضرب مدة؛ فإنه مستند إلى القتل الواقع حساً. 8308 - ثم إن انقضت المدة، فإن كان أصابها في السنة، فقد وفّاها حقَّها، وزال الضرار، واستمر النكاح، وإن لم يصبها، فيثبت حقُ الفسخ.

_ (1) في الأصل: المدة. (2) البرَق: بفتح الباء والراء، من بَرِق يبرق برَقاً (باب تعب) إذا فزع ودهش فلم يبصر (المعجم). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: وقطع.

ثم لم يختلف أصحابنا في أنها لو انفردت بالفسخ بعد انقضاء المدة، ولم ترفع أمرها إلى مجلس الحكم، لم يُحكم بنفوذ فسخِها، بل لَغَا قولُها؛ والسبب فيه أنَّ مدار الباب على الدعوى والإقرار والإنكار، والنظر والاجتهاد، فلا تملك الاستبداد أصلاً. وإن رفعت الأمر إلى مجلس الحكم، وتبيّن بإقرار الزوج أنه لم يصب في المدة المضروبة، فقد حان الفسخ. وظهر اختلاف الأئمة في [أنه] (1) هل يفسخ بنفسه؟ وإنْ فوّض إليها، كانت مأمورة مستنابة في تنفيذ الفسخ المفوّض إلى الحاكم. ومن أئمتنا من قال: إذا انتهى الأمر إلى الموقف الذي ذكرناه، ترتب عليه ثبوت الفسخ على الاستقلال، وتلتحق العُنَّة حينئذ بالجَبِّ، ثم لها الفسخ بالجبِّ على الانفراد، كذلك هاهنا؛ فإن حكمنا بأنها تنفرد، فهل يكفي أن يقول الزوج بعد المدة: لم أطاها في المدة، أم لا تتسلط المرأة ما لم يقل القاضي: ثبت لكِ حقُّ الفسخِ فتخيَّري؟ [من] (2) أصحابنا من قال: لا بد من تصريح القاضي بما ذكرناه، وبعده تملك المرأة الانفراد بالفسخ، كما لا بد بعد قيام البيّنة في الخصومات وتعديلها من أن يقول القاضي: ثبت الحق عندي؛ فإنَّ المجتهدات في مفاصل الخصومات لا تنفصل ما لم يُخبِر القاضي عن انتهاء نظره فيها نهايته. ومن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى ذلك في هذا المقام أصلاً؛ فإنَّ القاضي لا مجالَ لاجتهاده إذا اعترف الزوج بأنه لم يطأ في السنة، وقد مضت على كمالها. نعم، إن ادعى جريان الوطء، فيحلف حينئذ وتُدرَأ الخصومات: فإن حلف، فلا فسخ، وإن نكل، رُدّت اليمين على المرأة، فإن حلفت، عاد الكلام إلى ما إذا أقَرَّ الزوج بعدم الوطء، وفيه الخلاف الذي حكيناه.

_ (1) في الأصل: أنها. (2) في الأصل: ومن.

8309 - ثم إذا طلبت الفراق، فهو فسخ باتفاق الأصحاب، وليس كما إذا انقضت مدة الإيلاء، وتوجهت الطَّلِبة على الزوج بالفيئة؛ فإنَّ النكاح لا يفسخ، بل يُحبسُ الزوجُ ليطَلِّقَ في قول، أو [يطلق] (1) القاضي في قول؛ والسبب فيه أنَّ الزوج لم يتصف بعيب، وإنما أضَرَّ بها، والفسوخ إنما تُناط بالعيوب وما في معانيها. وهذا فيه بعض الإشكال من جهة المعنى؛ فإن [الطلاق] (2) تصرفٌ لا يدخل تحت حجر حاجر، والفسوخ مألوفة في [رفع] (3) الضرار، فكان لا يبعد عن المعنى أن يفسخ القاضي نكاح المولي من غير طلاق؛ حتى يندفع الضرار، ولا ينتقص عدد الطلاق، ولكن الإيلاء في الشرع طلاقٌ عند بعض العلماء، وهو مفضٍ عندنا إلى الطلاق إذا امتنع الزوج عن الفيئة، ولعل السبب فيه أنَّ الفيئة من الزوج ليست مأيوسة، بل هي ظاهرة الإمكان، والقدرة عتيدة؛ فقَطْعُ حالة النكاح غيرُ لائق بالنظر للجانبين، ولا مستدرك بعد الفسخ، [فأجيز] (4) الطلاق، وانقطعت الطَّلِبة بالرجعي، ليلائم ذلك إمكانَ الفيئة، فهذا هو المرعي. 8310 - ومن لطيف الكلام أنَّ الجب لما كان موئساً سلََّطَ المرأةَ على الفسخ الناجز، والعُنة على تردد، ولكنه مع حكم، وللشرع ترتب في أثنائها، فإذا ثبتت وتحقق ثبوتها بالاجتهاد، التحقت بالجَبّ، والرفعُ المنوطُ به فسخٌ (5)، فكانت العنة بعد الاجتهاد كالجب، ولذلك سقط حقها برضاها بعد ثبوت العنة، ولا يسقط حق التي آلى عنها زوجها بالرضا. وأما المولي، فإنه يُظهر ضراراً حاصله قطع طمعها عن الوقاع في مدة تتضرر في مثلها بالانقطاع عن الاستمتاع. وأبو حنيفة (6) رأى فرقة العُنة كفراق الإيلاء، ورأى فراق الجَب فسخاً.

_ (1) في الأصل: يطلّقه. (2) في الأصل: الحلاف. (3) في الأصل: وقع. (4) غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها). (5) أي رفعُ النكاح المنوط بالجب فسخٌ وصارت العنة مثله. (6) ر. مختصر الطحاوي: 183.

8311 - ومما يُنبّه على سر الباب. أنَّ العنَّة الطارئة بعد جريان وطء لا تثبت أصلاً، وليست كالجب، فإنَّ الزوج إذا وطىء مرةً أو مراراً، ثم جبَّ؛ فحق الخيار يثبت لها على التفصيل المقدم في باب العيوب. 8312 - فتنخّلّ من هذه الأسباب أنَّ العُنّة إذا ثبتت مع المهْل (1)، وامتحنت بعروّ المدة عن الوطء، وانضم إلى ذلك عرو النكاح عن الوطء؛ فتجمُّع هذه الأسباب يُلحقها بالجب. فأمَّا الاعتراف المجرد بالعنة من غير مدة وضرب أجل، فلا يُثبت حق الفسخ، ولذلك إن جرى وطءٌ، فلا تعويل على عنَّة إن كانت؛ لأنها غير موئسة، وجريان وطء يقرّب الرجاء في زوالها، فلا تلتحق بالجب. وليس يخفى في مبادىء النظر الإشكالُ في هذا، ولكنه إذا اعتضد بالإجماع، لم يبالَ به. وكل ما ذكرناه توطئةٌ للباب في أحد القسمين الموضوعين في صدره، وذلك أنَّا قلنا: الكلام يتعلق بادعاء المرأة العجز، وباعترافها بالقدرة، وطلبها الوطءَ، فإن ادعت العجز، فقد مضى صدرٌ من الكلام، وسيأتي باقيه، إن شاء الله تعالى. 8313 - وإن اعترفت بقدرة الزوج على الوطء، وذكرت أنه لم يصبها في النكاح، وطلبت الإصابة؛ فهذا يبتني على خلافٍ مشهور في أنَ الزوج القادر على الوطء، هل يُجبر على أنْ يصيبَ امرأتَه مرةً واحدة؟ فظاهر المذهب: أنه لا يُجبر؛ لأنَّ الاستمتاع حقه، وهو مستحَق عليها، ولذلك يختص الزوج ببذل الصداقِ المقامِ عوضاً عن البضع. ومن أصحابنا من قال: يجب على الزوج وطأةٌ بلا واحدة، واستدل ناصرُ هذا الوجه بمعنيين، يبتني عليهما تفريع مسائل: أحدهما - أنها تُطالب بوطأة يتقرر مهرُها بها (2).

_ (1) بسكون الهاء وفتحها. (2) لأنه إذا لم يطأها يتنصف المهر إن طلق قبل المسيس، ويسقط إذا فسخت.

والمعنى الثاني - أنها تطالب بحصول الاستمتاع؛ فإنَّ النكاح شملهما، وغرض الشرع إعفافُهما به، فينبغي أن تكون على حظٍّ من الاستمتاع تملك طلبه. وخَرَّجَ الأئمةُ على هذين الوجهين مسائلَ: منها: أنَّ المرأة إذا أبرأت عن المهر قبل الدخول، فهل تملك بعد الإبراء طلب الوطء؟ هذا يخرج على المعنيين، فإن قلنا: إنما تَطلُب الوطءَ لتقرير المهر، لم تملك طلبه، وقد أبرأت عن المهر. وإن قلنا: إنها تطلبه بحصول حقها في المستمتع، فلها الطلب في هذا المقام. ومن المسائل المفرعة: أنَّ السيد إذا زوَّج أمته من عبده، فلا مهر. وهل تملك الأَمةُ طلبَ الوطء تفريعاً على الوجه الضعيف؟ فعلى وجهين مبنيين على المعنيين. وكذلك إذا زوَّج أَمَتَهُ من حُرّ، أو عبد ليس له، وثبت المهر، فإن قلنا: طلبُ الوطء لاستحقاق مستمتع؛ فهو للأمة. وإن قلنا: طلبُ الوطء لتقرير المهر، فهو للسيد؛ لأن المهر له. وقاعدة المذهب أنَّ المرأة لا تَطلب طلبة المهر قطّ (1). وكنت أُقرّر هذا الوجه في الأوجه الضعيفة التي ينفرد [بنقلها] (2) الخلافيون (3)، حتى رأيته موجّهاً مفرّعاً على النسق الذي ذكرته في [الكلام] (4). 8314 - ثم إذا فرّعنا، وملكت المرأة طلبَ الوطء؛ فلو قال الزوج: أمهلوني مهلة العنين، لم نفعل؛ فإنه قادر على الوطء، وتلك المدة مضروبة لامتحان [عجز] (5) الزوج وتبيّن عنته.

_ (1) أي ما يقرر المهر، ويثبته على الزوج كاملاً. (2) في الأصل: بنقله. (3) يشير بهذا إلى أحد خصائص منهج علم الخلاف، وأنه يذكر الوجه الضعيف، ويقرره وينصره في مقابلة الخصم، لا إيماناً بهذا الوجه الضعيف، ودعوة إلى العمل به، ولكن رغبة في امتحان الأدلة، والتدرّب في المناظرة، والقدرة على الاستنباط. (4) في الأصل: "كلام". (5) في الأصل: غير.

وكان يليق [بالقادر] (1) مدةُ الإيلاء، إن فرعنا على أنها تطلب حقاً من المستمتع؛ فإنَّ الإضرار في وضع [الشرع] (2) منوط بهذا. ولم يتعرض لهذا الأئمةُ، ولم يصر إلى [الإمهال] (3) أيضاًً أحد. فإن استمهل أحدٌ أمهلناه، ريثما يتهيّأ في الاعتداد لهذا الشأن. ولو ذكر مرضاً، أو عجزاً ليس بالعنة، وكانت مَخيلةٌ لائحة، أخَّرناه بلا خلاف، وما [ذكرناه] (4) في استمرار الاقتدار. ثم إذا توجهت الطَّلِبة، وامتنع الزوج نَكلاً (5)، حُبس، ولم ينته الأمر إلى حبس المولي بعد انقضاء المدة، حتى يخرّج قولٌ في أنَّ القاضي يطلِّق، لم أرَ أحداً من الأصحاب يصير إلى ذلك، أو يرمز إلى احتمالٍ فيه، ولم أر هذا (6) القول أيضاًً مصرَّحاً به. وكان لا يبعدُ أن نجعل المُطالَب بالوطء كالمولي إذا انقضت المدة وتوجهت عليه الطلبة بالفيئة. ونحن قد نفرق عند ظهور الضرار وتعسُّر الحَكَمين، كما سيأتي، إن شاء الله عز وجل. [فصل] قال: "فإنْ قُطعَ [من] (7) ذكره فبقي منه ما يقعُ موقعَ الجماع ... إلى آخره" (8). 8315 - نقول في صدر الفصل: الأحكام الشرعية المتعلقة بالوطء تثبت جميعها بتغييب الحشفة، ولا فرقَ بين ما يستدعي الكمال (9) وبين ما لا يستدعيه، فيحصل به

_ (1) في الأصل: بالفلا. والمعنى: كان اللائق إمهال القادر مدةَ الإيلاء. (2) في الأصل: الشرط. (3) في الأصل: الأرمان. (بهذا الرسم وهذا النقط). (4) في الأصل: ذكرنا. (5) نَكلاً: نكل عن الأمر نكلاً (وزان تعب): جبن ونكص. (المعجم). (6) في الأصل: ولم أر في هذا القول. (7) في الأصل: منه. والتصويب من نص المختصر. (8) ر. المختصر: 4/ 13. (9) يستدعي الكمال: أي صفات الكمال، كالتحصين ونحوه، ويقابله ما يستدعي العقوبة، كالحدّ، ووجوب المهر.

التحصين، والتحليل، والحد في محله، ووجوب الكفارة، وفساد العبادة، ووجوب الغُسل، وتحريم المصاهرة، وسقوط الطّلبة بالفيئة، وحق المرافعة لسبب العنَّة. وهذا أصلٌ لا استثناء فيه. ومعنى التغييب أن يشتمل الشفران وملتقاهما ورؤية (1) الحشفة، ولو انعكس الشفران وانقلبا إلى الباطن وكانت الحشفة لا تَلقى إلاَّ ما انعكس من البشرة الظاهرة، فهذا عندي فيه تردد؛ فإنَّ الحشفة حصلت في حيز الباطن، إن التف بها الشفران المنقلبان. وكان شيخي أبو محمد [يحكم] (2) بأنَّ فطْرَ المرأة يحصل بتغييب الحشفة، وكان لا يقيم لما يغيب من بعض الحشفة حكماً، وسفّه الزيادي (3) في علته (4) المعروفة؛ إذ قال: أَفْطَرتْ بغير [جماع] (5). ورأيت للقاضي القطع (6) بأنها تفطر قبل غيبوبة الحشفة، ولا ينقدح عندنا غيرُ ذلك؛ فإنَّ وصول الواصل إلى حيّز الجوف متحقق حساً، ولو فُرض إيصال إصبع إلى وراء ملتقى الشفرين على قدر نصف الحشفة، لكان ذلك مفطراً، فما الذي يوجب الفصل؟ 8316 - والمشكل في ذلك أنَّ هذا إذا استدّ (7)، وجب القطع بأنها لا كفارة عليها

_ (1) "كذا" تماماًً بالأصل. والمعنى أن تغيب الحشفة بين الشفرين، فلا تُرى. والله أعلم. (2) في الأصل: يحصل. (3) الزيادي، محمد بن محمد بن محمِش، أبو الفضل، إمام المحدّثين والفقهاء في زمانه بنيسابور، وكان شيخاً أديباً عارفاً بالعربية، له اليد الطولى في معرفة (الشروط) وصنف فيه كتاباً، أخذ الفقه عن أبي الوليد وأبي سهل، وعنه أخذ أبو عاصم العبادي، توفي سنة 410 هـ، (ر. طبقات السبكي: 4/ 198 - 201، وطبقات العبادي: 101، وشذرات الذهب: 3/ 192). (4) علّته. هكذا رسمت تماماًً، ولعل المعنى: في تعليله للفطر، والله أعلم. (5) في الأصل: إجماع. (6) حكى هذا القطعَ عن القاضي، ونقل كلامه في (التعليقة) التاجُ السبكي، في ترجمة الزيادي (ر. الطبقات: 4/ 201). (7) استد أي استقام، وصح، واعتُمد.

على أصل الشافعي (1). ولم يختلف أئمة المذهب في أنَّ أقيس القولين وجوب الكفارة عليها. وكيف يُظن بالشافعي أن يغفل عن درك هذا، وهذا ما يعتصم به شيخي أبو محمد إذا عارضناه بتقرير وصول الواصل إلى الجوف. ولا ينبغي للفقيه أن [يستهين] (2) بالكلام في هذا المقام. ورأيت شيخي كان يبني [على] (3) ذلك شيئاً، ويقول: تردُّدُ الأصحاب في نجاسة بلل باطن فرج المرأة مأخوذٌ من اعتقاد بعضهم أنَّ ما وراء ملتقى الشفرين لا يثبت له حكم البطون، ويلتحق بداخل الفم إلى قدر حشفة معتدلة. وهذا عندي خبطٌ؛ فإنَّ ما وراء الملتقى من باطن الفرج؛ فلا معنى لإبداء المراء في ذلك. والممكن مع ما ذكرناه في تنزيل القول المنقاس أنَّ بعضَ الحشفة وإن كان يغيب ويصل إلى الباطن، فحكم الجماع أغلب، فلم يقع الاكتراث بالتغييب الذي يتعلق بوصول واصل من الظاهر إلى الباطن، وكان الحكم للوقاع. وإذا قال القائل: لمَ عَلَّقَ الشرعُ أحكام الوطء بتغييب الحشفة؟ انقدح فيه بعد الاتباع أنه الآلة الحساسة، وبها الالتذاذ، ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم العُسَيلة في الحديث المعروف. 8317 - فإذا تبيَّنَ ما ذكرناه، فلو قُطعت الحشفةُ؛ فالذي صار إليه جمهورُ

_ (1) تصوير الإشكال: أننا إذا قلنا: أفطرت بغير جماع، فتكون عند شروعها في الجماع، وبدخول بعض الحشفة يحصل الإفطار، فإذا تمّ تغييب الحشفة، واكتمل الجماع، تكون قد جومعت بعد أن أفطرت، أي أنها لم تفطر بالجماع، وإنما أفطرت قبله، ويجب على هذا أن نقول: لا كفارة عليها. وهذا لم يقل به أحد. (هذا تصوير الإشكال). وسيجيب عنه إمام الحرمين في الفقرة الآتية: "بأن بعض الحشفة، وإن كان يغيب ويصل إلى الباطن، فحكم الجماع أغلب، فلم يقع الاكتراث بالتغييب الذي يتعلق بوصول واصل من الظاهر إلى الباطن، وكان الحكم للوقاع" ا. هـ وعلى هذا لو أدخل بعض الحشفة ثم نزع تكون قد أفطرت، فعليها القضاء، ولا كفارة، لأنه لم يحدث جماع. والله أعلم. (2) في الأصل رسمت هكذا (يستهن) فيحتمل أن تقرأ أيضاً: يستهزىء. (3) في الأصل: من.

الأصحاب أنه [يتعلّق] (1) بتغييب مقدار الحشفة مما بقي [ما] (2) يتعلق بتغييب الحشفة من الأحكام. وذكر العراقيون وجهاً، أنَّ الحشفة إذا قطعت، لم تتعلق الأحكام إلاَّ بإيعاب الباقي. قال القاضي: هذا ظاهر النص، والمذهب خلافه. ثم إن فرض قطع الحشفة مع إمكان الوقاع بالباقي، فسبيل هذا الشخص كسبيل من لا قطع به، وإن امتنع عليه الوقاع، فالقول فيه كالقول في العنين. وإن كان الباقي أقل من مقدار الحشفة، فلا حكم له أصلاً، وسبيل ما جرى من القطع كسبيل الجب المتأصل. ثم وصل (3) بهذا القولَ في الخنثى، وقد قدمت فيه طرق الأصحاب على أكمل وجه في البيان. 8318 - ومما يتعلق بهذا المنتهى: أن المرأة إذا ادعت على [زوجها] (4) العجزَ، فأنكره الزوج، وادعى القدرة؛ فقد ذكرنا أن القول قول الزوج. ولو قطعت الحشفة، وبقي من الذكر ما يحصل به الوقاع التام، وادّعت المرأة العجز -والحالة هذه- فالذي ذهب إليه الأصحاب: أن القول قول الزوج - كما لو كان صحيح الذَّكر. وقال أبو إسحاق المروزي: القول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر معها؛ فإنّ قطع بعض الذَّكر حريٌّ بأن يضعف ويورث العجز. [و] (5) المروزي يقول هذا عند [استئصال] (6) الحشفة، فإذا قطعت قطعة منها، فما أراه يقول ما حُكي عنه.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: مما. (3) ثم وصل بهذا: المراد المزني في المختصر: 4/ 13. (4) غير مقروءة بالأصل. (5) (الواو) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: استقبال.

ولا يمكننا أن نحتكم على قياس من لا يتبع القياس. 8319 - ومما ذكره الشافعي: أن الرجل إذا كان لا يعنّ عن نسوة، ويعنّ عن امرأة على الخصوص، فحكم العُنة ثابت؛ وذلك أن الامتناع من الوقاع قد تحقق. وهذا قد يؤثر في فكر الفقيه؛ من جهة أن تصوير هذا يعسُر، وإن فرض، فإلحاق هذا بالعُنة مشكل. ولو أُلحِق بمرضٍ حاجزٍ، أو مانعٍ غيرِه، وقُطِعَ عن العُنّة، لكان كلاماً جارياً في مسلك الاحتمال، ولكن لا قائل به. والأصحاب - يُجمعون على ثبوت حكم العُنة على النسق الممَّهد. ويلتحق بذلك ما هو أبعد منه، وهو أن الرجل إذا أصابها في الدبر، وادعى العُنّة عن المأتى! قال الأصحاب: هو عنين في مبدأ أمره ومنتهاه، على النسق الذي قدمناه. وهذا على ما فيه من الإشكال يمهد قطباً عظيماً في الباب، وهو أن العنة تُفرض على وجهين: أحدهما - يرجع إلى عجزٍ، وهو ينقسم إلى ضعف في الحركة - سببه ضعف الدماغ، وإلى ضعفٍ سببه ضعف الكبد، وقد يرجع إلى خلل في الآلة وآفة، فهذه هي من ضعف القلب، فهذه هي العُنة الحقيقية -ولعمري- من الأمراض، ولكنها خاصة بالمقصود، وليس كمرض لا اختصاص له. وكان شيخي أبو محمد لا يفصل بين المرض الخاص في الوجوه التي ذكرناها، وبين الأمراض التي ليست مختصة إذا تحقق امتناع الوقاع. وفي هذا فضل نظر، والرأي ما ذكره. هذا وجه في تصوير العُنّة. والوجه الثاني - أن [تفتر] (1) شهوة [الإنسان عن امرأةٍ وكان لا يتشهاها، وعلى هذا يخرّج ما قدمناه من اقتداره على وطء ضراتها، مع أنه قد عنّ عنها، وعليه يخرج تشوّفه إلى غير المأتى، وتجنب قصده اعتياداً أو جبلّة، مع أنه لا ينتشر للمأتى] (2).

_ (1) في الأصل: تتلف. (2) ما بين المعقفين امّحى تقريباً وقرأناه عن الفيلم بالجهاز القارىء، وقدرناه على ضوء ظلال الحروف والكلمات. وهو صحيحٌ إن شاء الله.

فيتحصل من مجموع ما ذكرناه أن لا يمتنع الفتور كما أومأنا إليه، لا غير. ولا شك أن زوج البكر إذا عجز عن افتراعها -وإن كان يأتي الثيب- في حكم العنين. 8320 - ومما نحسم به هذه الفصول المتفرقة: أن العُنة إذا ثبتت بالإقرار أولاً، ثم امتُحِن استمرارها بالمدة وخلوها عن الوقاع، ثم رضيت المرأة بالمُقام، سقط حقها وفاقاً؛ والسبب فيه أن العنة شابهت الجَبَّ في منتهى الأمر؛ حيث أثبتت حق الفسخ، فالرضا في وقت ثبوت حق الفسخ يُسقِط الحقَّ. ولو أقر الزوج بالعنة، ولم تنقضِ المدة بعدُ، فرضيت بالمُقام، فهل يسقط حقها برضاها؟ فعلى قولين، ذكرهما القاضي والصيدلاني: أحدهما - أن حقها يسقط، كما لو رضيت بعد انقضاء المدة، وثبوت حق الفسخ. والقول الثاني - إن حقها لا يسقط؛ فإنها لم تتحقق منه العُنة بعدُ، فَحُمل رضاها على توقع عوْد القدرة. والدليل عليه: أنها لو أرادت الفسخ قبل انقضاء المدة، لم تتمكن من ذلك. فإن قيل: هل يبتني هذا على إسقاط الحق قبل ثبوته إذا وجد سبب الثبوت؟ قلنا: هذا تشبيه من طريق اللفظ. والوجه: أخذ القولين من مأخذ الباب، وكأن أحد القولين راجع إلى أن العيب لم يتحقق، فكان رضاها بمثابة رضاها تحت زوجها المُولي. وإذا تحققت العنّة، [فالرضا بالعيب] (1) لازم مُلزِم. هذا مأخذ ترديد القولين. ومما يتعلق بتمام ذلك: أنها لو فسخت النكاح بعد تحقق العنة، فإذا أرادت أن تعود إلى المطالبة، فقد ذكر بعض المحققين أن هذا يُخرَّج على القولين الذين ذكرناهما. وهذا حسن. وإن كان ينقدح بين هذه الصورة وبين الصورة المتقدمة

_ (1) في الأصل: بالرضا فالعيب.

فرق؛ من جهة أن العنة لم تتحقق في الصورة المتقدمة. والذي يحقق هذا: أن الزوج لو وطىء امرأة في نكاح، ثم عُنّ [لاحقا] (1)، فلا خيار. ولو وطىء في نكاح، ثم زال ذلك النكاح، وفرض نكاح جديد، وعُنّ [عنها فيه] (2)، فيثبت حكم العنة مُطَالبةً وإمهالاً ثم فسخاً. وهذا مسلك القفال، واختياره في هذه المسائل ثبوت الخيار لها. فصل قال: "فإن فارقها بعد ذلك، ثم راجعها ... إلى آخره" (3). 8321 - إذا رضيت المرأة بالعنة بعد تبيّنها، واختارت المقام، وبطل حقها، ثم طلقها زوجها؛ نظر؛ فإن كان الطلاق رجعياً؛ فارتجعها الزوج (4)، لم يكن لها مطالبتُه، ولا يثبت لها خيارُ الفسخ؛ لأنها أسقطت حقها فيه برضاها، والنكاح واحد. ولو طلقها طلاقاً بائناً [أو] (5) انقضت عدةُ الرجعي، ثم جدد نكاحها، ففي عَوْد حقها ومطالبتها قولان مبنيان على عَوْد الحنث، والإيلاء، والظهار، وفي البناء (6) نظر؛ لأن هذه الأحكام كانت لها في وجود النكاح الأول، وبقيت لها [عُلقة] (7)، وفي مسألتنا لم يبق لها عُلقة، وإنما نبني على الأصل المقدم أنها تلحقه على علمٍ بعُنَّته، فإن أثبتنا لها الحقَّ وهو الأصح، لم تبادر بالفسخ اكتفاءً بعلمها السابق، ولو ثبتت هذه على تعلق النكاح الثاني بالأول، لاكتُفي بالمدة السابقة، وليس الأمر

_ (1) في الأصل: "حقا" والمثبت تقديرٌ من المحقق. (2) في الأصل: عنه فيها. (3) ر. المختصر: 4/ 13. (4) اللوحتان: 104، 105 استحالت قراءتهما تماماًً، وقد سددنا هذا الخرم من (صفوة المذهب). اللوحتان: 130، 131. (5) في الأصل: إذا. (6) أي البناء على عود الحنث. (7) علق.

كذلك، بل ترفعه (1)، وتُضرَب له المدة، ويثبت حق الفسخ بعدها إن خلت عن الوطء، ولا التفات إلى ما مضى؛ فإن العُنّة مرجوّةُ الزوال، فاستفتح حقَّ الطلب في هذا النكاح. 8322 - قال المزني بعدما ذكر جواب الشافعي: "هذه (2) المسألة لا تُتصوّر؛ لأن الرجعة تكون بعدما دخل بها، وإذا وُجد الدخول في نكاحٍ، لم تثبت المطالبة بسبب العُنَّة ... إلى آخره" (3). قال الأصحاب: يمكن أن يكون فرّعَ الشافعيُّ على القديم في أن الخُلوةَ توجب العِدّةَ، ولا تنزل منزلة الإصابة في إسقاط حق الطلب بسبب العُنّة، وتجب العِدة لسَبْق (4) الماء إلى الرحم، وقد قدمنا أن الوطء في الدبر يوجب العدّة، ولا يُسقط حق الطلب بسبب العُنّة، والمزني أفطنُ من أن تزول هذه اللطائف عن نظره، ولكنه يبادر للاعتراض، والأولى به ألاّ يستفتحه إذا وجد للكلام محملاً. فصل 8323 - إذا قال الزوج ما أصبتك، وقالت: بل أصبتني، [أخذنا] (5) كلاًّ منهما بموجَب قوله فيما عليه. ولو قالت: أصبتني، فتقرّر مهري، فلا يخفى [الخلاف] (6) وانتظام الخصومة في الحَلِف والنكول والرد، وعلى المرأة العدّةُ مؤاخذةً [لها] (7) بقولها، ولا نفقة لها ولا سُكنى، وللرجل أن ينكِحَ أختها، وأربعاً سواها وابنتها. قلتُ (8): إن لم يكن دخل بالأم؛ لأن قولها غيرُ مقبولٍ عليه.

_ (1) أي إلى الحاكم. (2) في الأصل: في هذه المسألة بزيادة (في). (3) المختصر: 4/ 13. (4) أي لاحتمال سبق الماء إلى الرحم. (5) في الأصل: وأخذنا. (6) في الأصل: المختلف. (7) زيادة من المحقق. (8) القائل ابن أبي عصرون موضحاً كلام الإمام.

8324 - وإن ادعى الزوج الإصابةَ ونفتها، فالأصل النفيُ، فلا عدة عليها، وتنكح غيرَه في الحال، ولا تطالبه بأكثرَ من نصف المهر وإن كان مُقراً بجميعه؛ لأنها لا تدّعيه، ولو كانت قد قبضت جميعَ المهر، لزمها ردُّ نصفه، لكن الرجل لا يأخذه؛ لأنه مقرٌّ بأنها تستحقه، فهو دائرٌ بينهما، وله نظائر: وعلى الرجل النفقة والكسوة إذا كان الطلاق رجعياً، لكنها لا تدّعيها، فلا تطلبهما، ولا ينكح أختها في عدتها، ولا ابنتها، ولا أربعاً غيرها. 8325 - واستُثني من تغليب النفي ثلاثُ مسائلَ وفاقيةٍ، وأربعٌ خلافية: إحداها - إذا اختلف الزوجان في السَّنة المضروبة للعُنة، فقال الزوج: أصبتك فيها، وقالت: لم تصبني، فالقول قولُ الزوج مع يمينه، وإن كان الأصل النفيَ؛ تغليباً لجانب من يُغلِّب بقاء النكاح، لأن مبناه على اللزوم والدوام، والوطء الذي ادعاه ممكن، وليست العُنّةُ ضربةَ لازب؛ فترجيحُ جانبها في النفي لا يعارِض (1) [استبقاءَ] (2) النكاح، ولأن الزوج في حكم صاحب اليد، والأيدي لا تُزال بترجيحاتٍ. المسألة الثانية - إذا قال الزوج: قد أصبتها -في مدة الإيلاء- وأنكرت، فالقول قول الزوج؛ لما قدمناه. المسألة الثالثة - إذا نفى الزوج الإصابة ليشطِّر الصداقَ، فالقول قوله، فلو أتت المرأة بولدٍ يلحقه بحكم الإمكان، لحق به، ويصير مصدِّقاً لها في دعوى الإصابة، فلو كان حلف الزوج من قبْل على نفي الإصابة، واقتصر منه على شطر الصداق، فالقول الآن قولها مع يمينها؛ لأن لحوق الولد لا يورث يقيناً، لكن يغلِّب ظنَّ صدقها، فهذه يمين تعقّبت يميناً ونقضتها، ولكن أقيس وجه أنه لا يكمل لها الصداق؛ لأن النسب يثبت بمجرد النكاح والإمكان، فهذا مستثنى؛ لأنا صدقناها، والأصل عدم الإصابة.

_ (1) أي لا يقوى في ردّ تغليب القول الذي يؤدي إلى استيفاء النكاح. (2) في الأصل: استيفاء.

8326 - أما [المسائل] (1) الخلافية: فإذا خلا الزوج بزوجته -وقلنا: الخُلوةُ لا تقرر الصداق- فادعت أنه أصابها في الخُلوة، وأنكر الزوج، فقولان: أحدهما -وهو الأصح- أن القول قول الزوج. والثاني - القول قولها، وإذا أتت المرأة بولد كما ذكرناه، فنفاه الزوج باللعان لم تصدّق المرأة في دعواها الإصابة، ويصير اللعان معارضاً لما ادّعته من النسب، ويستمر الأمر على ما تقدم. وإذا (2) ادعى الرجل الإصابة في مدة العُنّة أو مدة الإيلاء وأنكرت المرأة، فلما هممنا بتحليف الزوج، قالت: إني بكرٌ، وشهد بها أربع نسوة، فإنا نغلّب جانبها؛ لأن بقاءَ العُذرة دالٌّ على عدم الوطء، لكنا نحلفها، ونجعل العذرةَ -دلالة قوة جانبها - مفيدةً غلبة الظن في صدقها؛ لأن الطلبة بحق العُنة تسقط بتغييب الحشفة، وقد قيل: إذا لم يُمعن في الوقاع تعود العذرة، فنحلفها لهذا الإمكان، فإن حلفت، ثبت غرضُها، ولها الخيار في الفسخ، وإن نكلت رُدّت اليمين على الزوج، فإن نكل، كان نكوله كحلفها. وهذا ضعيف غير متجه مع تكرر حكايته. وإن حلف، ثبتت الإصابة، وانقطعت الطلبة. وإذا (3) ضُربت مدّةُ العُنّة فحيل بينهما حيلولة ضرورته، لم تحتسب هذه المدة (4)؛ فإن أثر المهلة يظهر فيه إذا كان الزوج مخلىً مع زوجته، فإذا لم يكن، فلا حكم للمدة. فلو قال الزوج: لا تمهّدوا لي عذراً، فإني لم أستشعر من نفسي قدرةً في المدة. قلنا: لا تعويل على ذلك؛ فإن للنفس نهوضاً مع ممارسة المرأة، كما لها في

_ (1) زيادة للإيضاح. (2) هذه هي المسألة الثانية من الخلافية. (3) هذه هي المسألة الثالثة. (4) عدنا إلى نسخة الأصل (اللوحة 106).

التعزّب واستمرار العُزْبة (1) [فتوراً] (2) هذا إذا كانت الحيلولة ضرورية. فإن (3) ضربنا المدة، فغاب الزوج باختياره، ثم زعم أنه لو كان معها، [لغشيها] (4)، فهذا فيه بعض التردد. والأظهر أن المدة محسوبة عليه؛ من جهة أنه اختار الانعزال، فيحمل ذلك على عجزه، ولا خلاف أنه لو انعزل عن زوجته في البلدة الواحدة، حسبت المدة عليه. فصل قال: "وللمرأة الخيار في المجبوب وغير المجبوب من ساعتها ... إلى آخره" (5). 8327 - قال الأصحاب: أراد بقوله "وغير المجبوب" الخصي؛ فإنه قال على الاتصال بذلك: فإن الخصي ناقص عن الرجال. والمجبوب لا يجامع أبداً. وغرض الفصل قد تقدم بيانه. ولكنا رسمنا الفصل بمزيد كشف في مقصوده. فإذا اطلعت المرأة على الجَب المستأصِل، فلها الخيار من ساعتها، كما تقدم بيانه في باب العيوب. وإذا جرى الجَب طارئاً قبل الدخول، فلها الخيار أيضاًً، كما تقدم. ولو كان أصابها، ثم جبّ، فقد ذكرنا أن الزوج إذا عُنّ بعد إصابة واحدة؛ فليس لها حق الطلب بسبب العنة. فأما إذا جرى الجب بعد الإصابة، ففي ثبوت حق الفسخ وجهان مشهوران: أحدهما -وهو الأقيس- أنه يثبت؛ فإن الجب موئس، والنكاح للأبد، فإذا انقطع

_ (1) عُزبة: عزَب الرجل يعزب، من باب قتل (عُزبة) وزان غرفة، و (عزوبة) إذا لم يكن له أهل. (المصباح). (2) زيادة من المحقق لاستكمال العبارة. (3) هذه هي المسألة الرابعة. (4) في الأصل: فغشيها. (5) ر. المختصر: 4/ 14.

توقُّعُ الوقاع -ومقصودُ النكاح يضاهي المنافع في الإجارة- فيقتضي هذا إثباتَ الخيار. ومن أصحابنا من قال: لا خيار، والوطأة الواحدة كما تُقَرِّر المهرَ، تُقَرِّرُ النكاح، [وتؤمن] (1) من إجراء الفسخ بسبب التعذر. ولهذا الخلاف التفات على ما قدمناه - من أن المرأة هل تستحق وطأة واحدة؟ [وإن استوفتها، فلا خيار لها، وسقط استحقاقها] (2). ومما يتصل ببيان هذا أنه إذا [أقرّت] (3) بوطأة واحدة، ثم طرأ البرص والجذام؛ فيجب تخريج ذلك على الوجهين، فإنا إذا أجريناهما في الجَبّ، فجريانهما فيما يمنع من الإصابة عِيافةً أولى. ولو أصاب الزوج زوجته، ثم إنها اطلعت على برص قديم مقترن بعقد النكاح - فإن كنا لا نرى لجريان الوطء أثراً في العيب الطارىء، فلا أثر للوطء الذي جرى والعيب مقترن، وإن جعلنا للوطء أثراً في العيب الطارىء، فهذه المسألة فيها احتمال. والظاهر أنه يثبت لها الخيار لورود النكاح على العيب. 8328 - ثم تعرض الشافعي للكلام على الخَصي وغيره. أما المجبوب، فقد تقدم [الكلام] (4) فيه. وأما الخَصي -وهو المسلوب الأنثيين، والذكرُ باقٍ- ففيه قولان: أحدهما - أن الخيار يثبت للمرأة من ساعتها، وعليه يدلّ ظاهر النص -كما نبهنا عليه في صدر الفصل- فإن نقصان ذلك في الرجال مما يتعلق بالفحولة. والقول الثاني -وهو القياس- إنه لا خيار لها بسبب الخِصاء، فإن آلة الجماع عنده، وقد يكون الخَصيّ أقدر من الفحل - من حيث إنه لا يعروه فتور، وهذه الحالة

_ (1) في الأصل: "وهو" وعبارة (صفوة المذهب): "تقرر النكاحَ وتؤمن من فسخه بتعذّر الوطء". (2) ما بين المعقفين مكان عبارة في الأصل مضطربة، ونصها: "وإن استحقتها، فلا، ومعنى تستحقها" هكذا تماماًً. لو وضعت هذا مكان ما بين المعقفين، رأيت نسخة الأصل بعينها. (3) في الأصل: "جرت" والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق. (4) زيادة اقتضاها السياق.

لا تورث عِيافة، ولذلك رأينا هذا القول أقيس. فإن كان الخَصي يعجز عن الضَّربان (1)، فحكمه حكم العنين، على هذا القول، فلا بد من ضرب المدة، والجريان على المناظم المقدمة. ومما يتصل بذلك: أن المرأة إذا ادعت عدم الإصابة في مدة العنة - والزوج خَصي، وادعى الزوج الإصابة، فهذا فيه تردد بين الأصحاب. فذهب الأكثرون إلى أن القول قول الزوج. وذهب أبو إسحاق المروزي إلى أن القول قولها؛ لأن الظاهر معها. وقد قدمتُ ذكر هذا. 8329 - ثم ذكر الشافعي خروج الزوج على صورة الخناثى، وقد استقصيت القول في ذلك في باب العيوب، ولكني اطلعت على علامات -ذكرها الأصحاب في الطرق- تثبت بها الذكورة والأنوثة. وغالب ظني أني لم أستقصها كذلك في باب الطهارة، فلا يضر ذكرها، وإن كانت معادة، احتملناها. وقد قدمنا أن الخنثى إذا كان يبول بالمسلكين، فلا حكمَ للبول، ولا بيان فيه. وذكر العراقيون: من أصحابنا من اعتبر قلة البول وكثرته، وهذا كنا نعرفه مذهب أبي يوسف (2)، وأنه [دلّنا] (3) عليه حكايةٌ بينه وبين أبي حنيفة. وحكى القاضي قولاً في القديم: أنا نعتبر السبق في [المبالين] (4)، حتى إذا كان يسبق إلى أحدهما، فعليه التعويل. وحكى أيضاًً عن القديم اعتبار الكثرة والقلة، ومما حكاه أن البول إذا كان يسبق إليهما جميعاً معاً، ولكن كان [يحدث] (5) الانقطاع

_ (1) الضربان: من ضرب يضرب ضرباً وضراباً وضَرباناً. والمعنى هنا النكاح (المعجم والمصباح). (2) ر. الاختيار لتعليل المختار: 3/ 38، حاشية ابن عابدين: 5/ 464، والبدائع: 7/ 328، والمبسوط: 30/ 104، 105، والبحر الرائق: 8/ 539. (3) في الأصل: دنا. (4) في الأصل: المالين. (5) زيادة اقتضاها السياق.

عن أحد [المبالين] (1) أيضاًً، ففي القديم اعتبار ذلك. وقد يتفرع عليه: أن البول إذا كان يسبق إلى أحدهما، ثم يلحقه الثاني، وكان أبطأ على الثاني، فهذا -وإن لم نحكه- متردد، وكل ذلك خبط. والمذهب أنه لا اعتبار بشيء من هذا. فرع: 8330 - قد قدمنا حكمَ المهر واستقرارَه بالمسيس، والقولَ المنصوصَ والمخرَّجَ إذا فسخت المرأة النكاح بعيب من العيوب، وضبطنا فيه المذهبَ وسقناه أحسن سَوْق. وإنما رتبت هذا الفرع الآن لأمر غريب، وذلك أنَّ صاحب التقريب حكى عن الإصطخري شيئاًً بديعاً، وذلك أنه قال: إذا فسخت المرأة النكاح بسبب العُنة قبل المسيس، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها تستحق كمال المهر؛ [فإنها] (2) كانت تستحق عليه أن يكون بصفة من يتصور منه تكميل المهر، فإذا لم يكن، [وجب تكميل] (3) المهر. والقول الثاني - إنها تستحق نصف المهر (4)، ولا عِدَّة عليها في القولين؛ فإنها غير مدخول بها. هكذا ذكره الأصطخري، وهو في نهاية البعد، ولولا أنَّ صاحب التقريب نقل ذلك على إتقانٍ وتثبت، وبالغ في الرد عليه وتزييف ما جاء به، لما استجزت حكايته. والمذهب المقطوع به أنها إذا فسخت النكاح قبل المسيس بسبب العنة، لم تستحق شيئاًً من المهر. ولا ينبغي أن ننتهي إلى [نقل] (5) هذا إن لم نَعُدُّه من المذهب،

_ (1) في الأصل: المالين. (2) في الأصل: فإذا. (3) عبارة الأصل: "فإذا لم يكن لتكميل المهر". والمثبت تصرف منا. وصدقته (صفوة المذهب). (4) حكى الإمام الرافعي هذا عن صاحب التقريب، فقال: "وعن صاحب التقريب أن الإصطخري حكى قولاً آخر، أنه يجب عليه كمال المهر؛ لأنها كانت تستحق عليه أن يكون بصفة من يتصوّر منه تكميل المهر. وقولاً آخر أنه يجب نصف المهر" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 8/ 171). (5) في الأصل: أصل.

ولست أجد بداً من نقل ما يبلغني من كلام الأئمة. ثم قال المزني: قال الشافعي: "وإنْ لم يجامعها الصبي أُجِّلَ ... إلى آخره" (1). 8331 - نقل المزني تأجيل الصبي، وهذا غلط باتفاق الأصحاب، فإنه أراد بالتأجيل ضرب مدة العُنّة، وكيف يتحقق ذلك ممن لا يخاصَم ولا يطالَب بإقرار أو إنكار، وضَرْبُ المدةِ مبني على هذه المقدمات. قال الأصحاب: قال الشافعي: إن لم يجامعها الخَصي أُجِّل. وكان هذا تفريعاً على أنَّ الخِصاء لا يثبت الخيار بنفسه ناجزاً، أو أنَّ الخَصي إن عنّ بمثابة الفحل يعن. ...

_ (1) ر. المختصر: 4/ 14.

باب الإحصان الذي يرجم به من زنى

باب الإحصان الذي يُرجَمُ به من زنى 8332 - شرائط إحصان الرجم: الحرية، والعقل، والبلوغ، والإصابة في النكاح الصحيح، ولا ترتيب في الحرية والعقل والبلوغ، فإذا تحصَّلت، تعلَّق بها الغرض المطلوب، ولا نظر إلى ما يتقدم ويتأخر. واختلف أصحابنا في الإصابة في النكاح الصحيح، فذهب بعضهم إلى أنا نشترط وقوعها بعد حصول الخصال الثلاث قبلها، حتى لو وقعت الإصابة قبلها، أو قبل واحدة منها، فلا اعتبار بتلك الإصابة. ومن أصحابنا من لم يرع هذا الترتيب، وهو الأصح، وقال: إذا جامع العبدُ في النكاح، ثم عتق أو جامع مجنوناً، ثم عقل، أو جامع وهو صبي، ثم بلغ، وتوافت الخصال الأربع، حصل الإحصان. ولم يختلف أصحابنا في أنَّ الرجل يتحصن بإصابة التي لا يكمل إحصانها بالإصابة، فإذا أصاب الحر البالغ العاقل منكوحته الرقيقة، تحصن، وإن لم تتحصن، خلافاً لأبي حنيفة (1). والقول في أطراف الإحصان يأتي مستقصًى في كتاب الحدود، إن شاء الله تعالى. وإنما ذكرنا هذا القدر للجريان على ترتيب (السواد) (2). فصل في العَزْل 8333 - قال الأئمة: إذا وطىء الرجل أمته، [فعزل] (3) الماء لأنها مملوكة، فله

_ (1) ر. المبسوط: 9/ 39، 41، ومختصر اختلاف العلماء: 3/ 279 مسألة رقم: 1394، ورؤوس المسائل: 489 مسألة: 354. (2) السواد: هو مختصر المزني، كما تكرر مراراً. (3) في الأصل: فأعزل.

ألا يعرضهما لبطلان ملكه فيها، ويصونها عما يُبطل الملكية [ويحسم] (1) التصرُّف. ولو أراد أن يعزل عن منكوحته الحرة، فقد اختلف طرق الأئمة وترتيبُهم. فقال قائلون: لا يجوز العزل [إن لم] (2) ترض به المرأة، وإن رضيت فوجهان: أحدهما - يجوز؛ لرضاها، والحقُّ لا يعدوهما. والثاني - لا يجوز؛ رعاية لحق المولود. وفي الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل، وقال: "إنه الموءودة الصغرى" (3). وذكر العراقيون ترتيباً على العكس من هذا فقالوا: العزل بإذن الحرة جائز، وجهاً واحداً. وفي جوازه بغير إذنها وجهان. وذكر الأئمة في العزل عن المنكوحة الأمة وجهين: أحدهما - لا يجوز العزل؛ لأنها مستفرشة، ولها الحق في كمال الاستمتاع كالحرة. والثاني - يجوز؛ محافظة على الامتناع من إرقاق الولد، وهذا متجه. وذكروا في العزل عن المستولدة طريقين، فقال قائلون: نرتبهما على الأمة المنكوحة، وهي أولى بألاّ يجوز العزل عنها، [فلا] (4) ضرار على [التنجز] (5) بالملك، والولد حر. وقال قائلون: نُجري فيها وجهين مرتبين، ونجعلها أولى بجواز العزل عنها؛ فإنها ليست راسخة في الاستفراش، ولهذا لا تستحق القَسْم، وإتمام الاستمتاع يليق بالمنكوحات. ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب لإذن المستولدة وعدم إذنها؛ من جهة أنه لا استحقاق لها في القَسْم وحقوق الافتراش.

_ (1) مكان كلمة مطموسة وغير مقروءة، وهذه أقرب صورة إليها. (انظر صورتها). ومعنى ما أثبتناه: يمنع التصرف بسبب أُمّية الولد. (2) في الأصل: وإن لم. (3) رواه مسلم بلفظ "العزل هو الوأد الخفي" (ر. صحيح مسلم: كتاب النكاح، باب جواز الغيلة، وكراهية العزل، ح 1442). (4) في الأصل: ولا. (5) في الأصل: التجدد. ومعنى ما أثبتناه: فلا ضرار ناجزاً على ملكه، ولا على الولد، فهو حر.

وما ذكرناه في الأَمَة المنكوحة، وعرَّيناه عن ذكر إذنها؛ فإنَّ سببه رق الولد، ويمكن إدراج اعتبار إذنها في الترتيب، لما لها من حقِّ الفراش. 8334 - هذا ما ذكره الأصحاب، وفي جميع ما ذكروه غائلة عظيمة؛ وذلك أنهم قطعوا بأنَّ العزل لا يحرم عن الأمة، ورددوا الخلاف في أنَّ العزل هل يحرم عن المنكوحة؟ وكان شيخي يقطع بأنَّ العزلَ لا يحرم قط، ولكن يكره. وكان ينزل الكراهية على مضمون الأحاديث. وكان لا يفرِّق بين الأمة والمنكوحة، ويستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وطئتم فلا تعزلوا، فإنه ما مِنْ نسمةٍ قضى الله بأنها كائنة إلاَّ وهي كائنة إلى يوم القيامة" (1).ولمّا قال في العزل: إنه المؤودة الصغرى، لم يفرق بين محل ومحل. 8335 - ونحن نقول وراء ذلك كله: إنَّ المصيرَ إلى تحريم العزل لا شك أنه حائد عن القياس، وإنَّ المصير إليه ظاهر في كلام الأصحاب، والدال عليه التشبيه [بالوأد] (2)، وهو من الوعيد، ويبعد التوعد على ما ليس محرماً. ثم الذي أراه أنَّ الذي حرمه الأصحاب قصد العزل، فأمَّا إذا عَنَّ للإنسان أن ينكف عن امرأة من غير أن يجرد قصداً إلى العزل، فهذا مما يجب القطع بأنه لا يحرم. والوارد في الحديث لفظ العزل وهو مُشْعِرٌ بما ذكرته. وطريقة شيخي في أنَّ العزل لا يحرم حسن بالغ، وما ذكره من التسوية بين الأمة والمنكوحة معتضد بظاهر الخبر، وقول الأصحاب في الفصل أمثل؛ لما أومأنا إليه. ومما أجراه الأصحاب -وفيه اضطراب عندي- التعرض لإذن المرأة، وهذا يشعر بمراعاة حقها في تمام [الاستمتاع] (3). ولست أرى لهذا وجهاً، سيَّما إذا حُكِمَ بالتحريم فيه؛ إذ لا متعلَّق إلاَّ الخبر، ولا تعلق فيه للإذن. فهذا منتهى البحث عن

_ (1) حديث "إذا وطئتم فلا تعزلوا فإنه ما من نسمةٍ ... الحديث"، متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري مع اختلاف يسير في اللفظ (البخاري: النكاح، باب العزل، ح 5210. مسلم: النكاح، باب حكم العزل، ح 1438). (2) في الأصل: بالمواد. (3) في الأصل: الامتناع.

هذا. وقد نجزت فصول (السواد) من كتاب النكاح. ونحن نرسم بعد هذا فروعاً من موئدات ابن الحداد وغيره. فرع: 8336 - الثيب المالكة لأمر نفسها إذا أذنت لوليها حتى زوّجها من رجل عيَّنَتْه، ثم إنها بعد الحكم بانعقاد النكاح ظاهراً - ادعت أنها أختُ الزوج من الرضاع، فلا يقبل قولها، والإذنُ السابق يكذبها فيما ادعته. والبكر إذا زوّجها من لا يُجبرها، كالثيب، في التفصيل الذي ذكرناه. وأمَّا إذا أجبرها أبوها، أو كانت صغيرة فزوّجها، فلما بلغت، ادعت مَحْرَمِيِّة بينها وبين زوجها، قال ابن الحداد: يقبل قولها مع يمينها؛ فإنَّ قولها محتمل، والأمر في ذلك ممكن، فكانت مصدَّقة فيما يرجع إلى نفسها. وإنْ اتهمها الزوج حلّفها. هذا اختيار ابن الحداد، ووافقه على ما قاله معظم الأصحاب. وحكى الشيخ أبو زيد عن ابن سريج وجهاً آخر، أنه لا يقبل قولها في ذلك، وإن كانت مجبرة على النكاح. هذا ما نقله الشيخ في الشرح. 8337 - وعلى الناظر في أطراف الكلام تأمل: فلتقع البداية بالكلام في المجبرة إذا ادعت مُفسداً في النكاح بعد أن استقلّت وأعربت عن نفسها. فنقول: ما حكاه أبو زيد موجه بجريان النكاح على الصحة ظاهراً، واستنادِه إلى تصرف وليٍّ، فإذا ادعت ما يتضمن قطع هذا الظاهر المحكوم به، لم تُصَدَّق. ووجه ما ذكره ابن الحداد أنَّ ما ادعته من الأمور الباطنة، والنكاح إن جرى إجباراً، فهي المعينة المنظور لها، فإذا استقلت، انعطف استقلالها على الإجبار الماضي. وهذا الخلاف عندي يبتني ويترتب على ما إذا باع القاضي مالاً على إنسانٍ بحق اقتضى بيعَه، ثم رجع مالك المال؛ وزعم أنه كان قد باعه قبل بيع القاضي أو حبّسه، ففي قبول قوله قولان: أظهرهما - أنه لا يُقبل، وفيه قول آخر معروف: إنَّ قوله مقبول، فإعراب المرأة عن نفسها كإعراب المالك المطْلَق (1) عن ماله وقد جرى حكم الحاكم ببيعة.

_ (1) المالك المطلق: أي غير المحجور عليه بفَلَسٍ أو غيره.

ثم قد قدمنا في صدر الفرع أنها أذنت، فهي ثبّتت النكاح (1)، ثم ادعت محرمية، [فلم] (2) يُقْبل ذلك. وهاهنا وجهان من النظر: أحدهما - أنَّ ما ذكرناه من مذهب ابن الحداد في المجبرة من أنها تُصَدَّق (3)، أردنا به أنَّا نُحلّفها (4) اكتفاءً بيمينها، والدعوى مقبولة، فإن أقامت على ما ادعته بيِّنة سُمعت. وما رَدَدْناه من قول الثيِّب، فهو ردٌّ على التحقيق؛ فإن قولها الأخير يناقض إذنها. ولكن يعرض هاهنا أصلٌ آخر، وهو أنها إذا أتت بكلام منتظم، وزعمت أنها أذنت على ظاهر الحال، ثم تبيّن محرميِّةٌ، لم تكن عالمةً بها حالةَ الإذن، فهل نقبل دعواها على هذا النسق؟ قد قدمنا هذا في المرهون: أنَّ الرجلَ إذا أقرَّ بالرهن والإقباض، ثم زعم أنه اعتمد فيه كتاباً، ثم تبيَّن له أنَّ الكتابَ كان مزوراً؛ ففي قبول دعواه على مناقضة إقراره الأول تفصيل طويل أتى الشرح عليه، وهذا يناظر ذاك، بل قولها بالقبول أولى؛ لأنَّ ما أتت به ظاهرُ الاحتمال مُتسقٌ في مجال العرف. ثم إنْ لم نقبل ذلك منها، أو إذا أطلقت الدعوى ولم تُفصِّل، فلا نقبل أيضاًً وإن قبلنا هذا مفصلاً، فهل نقبل ذلك منها مطلقاً من غير تقديم تمهيد عذْر؟ فيه اختلاف قدمته أيضاًً. ومما يجب البحث عنه أنَّ الأخ إذا زوّج البكر البالغة، واكتفى بصمتها تفريعاً على أظهر الوجهين، فإذا زُوِّجت وهي ساكتة، ثم ادعت محرمية؛ فقد تردد الحُذّاق في ذلك، فذهب ذاهبون إلى أنَّ صمتها تصريح بالإذن، كما أنَّ صمتها بمثابة نطق الثيِّب في عقد النكاح، والذي ارتضاه العراقيون أنَّ دعواها مسموعةٌ، وعندي أنَّ الدعوى مسموعة ولا تصدق باليمين. فهذا منتهى القول.

_ (1) في الأصل: في النكاح. (2) في الأصل: لم. (3) في الأصل: لا تصدق. وهو خلاف ما جاء عن ابن الحداد آنفاً. (4) في الأصل: "لا نحلّفها". ولا يستقيم الكلام بهذا النفي.

فرع: 8338 - إذا نكح الرجل جارية أبيه على صداق، ثم مات الأب، وورث الزوج زوجته، فلا شك في انفساخ النكاح. ثم إن كان دخل بها -وعلى المتوفَّى دين، فالمهر مأخوذ منه، مصروف إلى الدين، وإن لم يكن دَين ولا وارثَ غيرُه، سقط المهر، وإن كان معه وارث، فعليه من المهر حصةُ ذلك الوارث. وإن لم يكن دخل بها، قال ابن الحداد: سقط جميع المهر، حتى إن كان دَين، لم يطالبه مستحقه بشيء من المهر، واعتل بأن قال: ارتفع النكاح قبل المسيس، لا بسبب صادر من جهة الزوج، فكان هذا كما لو ارتفع النكاح بردتها، وإنما يتشطر الصداق إذا كان من جهة الزوج قصدٌ في الفراق. ومن أصحابنا من قال: يتشطر الصداق؛ فإنه كما لم يكن من جهة الزوج قصد، لم يكن من مستحق المهر أيضاً قصد. 8339 - ونحن نقول في هذا: إذا ارتفع النكاح بسبب من جهة الزوجة المستحِقة للمهر، أو بسبب منها وليست مستحِقة- كالأمة المنكوحة، ثم فرض ذلك قبل المسيس، فالمهر يسقط. ولو فسخت النكاح بعيب فيه قبل الدخول، سقط المهر، وهذا هو الذي يلزم الفقيه فيه فضلُ تأمل؛ من جهة أنها معذورة؛ إذ فسخت لمعنًى في الزوج، وآية هذا أن الزوج إذا فسخ بعيب فيها، سقط المهر كله، وذلك بسبب تعلق الفسخ بعيبها، وإلا فالفراق من جهة الزوج، فجعلنا العيب بها كإنشائها الفسخ. وهذا في الظاهر يناقض فسخها بعيبه، ومساقه يقتضي أن نجعل العيب به كإنشائه الفراق، ولكن الفرق بين الجانبين أنَّ فسخه بعيبها يستند إلى استحقاقه سلامتها بالعقد على قياس العيوب في البيوع، فكأنه بذل العوض على شرط السلامة، وفَسْخُها ليس لاستحقاقها عليه شيئاً، وإنما هو لدفع الضرار، فأُرضي بسقوط المهر. وإذا طلَّق الزوج، فحكم الشرع [تشطّر] (1) الصداق، ولو رُددنا إلى القياس

_ (1) في الأصل: متشطر.

اللائح، لما استحقت شيئاً؛ من جهة أنَّ الزوج لم يستوف بضعها، ولم ينته النكاح نهايته، [ولكنه] (1) بطلاقه متصرف في ملكه، وليس فاسخاً للنكاح، فحَكَم الشرعُ بقسطٍ وعدل، ونظر إلى تصرفه، ثم إلى عود البضع إليها، فانقسم النظر في شعبتين؛ فأوجب تشطر الصداق، ثم رِدَّة الزوج ملتحقة بطلاقه؛ لأنها ليست إنشاء فسخ، وإنما يترتب الفسخ عليها، وارتفاع النكاح محال على الزوج من غير فوت مستحق منها. وأما القول في الخُلع -إذا جعلناه طلاقاً أو فسخاً- سيأتي (2) في موضعه، إن شاء الله عز وجل. 8340 - وإذا اشترت المرأة زوجها بصداقها، فهذا فيه تردد؛ من جهة ارتباط البيع بها وبمن عليه المهر، وقد ذكرنا ذلك مفصلاً في موضعه من النكاح. وليس الشراء كالخُلع؛ فإنَّ المغلَّب في الخلع جانبُ الزوج؛ إذ هو المطلِّق، وهو المعلِّق طلاقه بقبولها، فقوي جانبه، وشِقَّا العقد في البيع مستويان، [و] (3) يجري القولان في البيع، كما سبق ذكره. 8341 - ومما يتصل بذلك أنه لو زوّج الرجل ابنته من عبده بإذنها، ثم مات سيد العبد وورثت الزوجةُ من زوجها نصفَه، فينفسخ النكاح، فإن كان مدخولاً بها، فتسقط طَلِبتها في نصف المهر؛ فإنها ملكت نصفه. ولا طلبة للمالك على مملوكه في الحال، ولو عتق العبد، فهل تطالبه بذلك النصف؟ فعلى وجهين مشهورين قدمنا ذكرهما، ولها طلب نصف المهر تعلقاً بالنصف الذي لم ترثه. ولو كانت غير مدخول بها، فمذهب ابن الحداد أنَّ المهر يسقط بجملته؛ إذ لا صنع للزوج في ارتفاع النكاح، ومن أصحابنا من لا يرى ذلك، ويقول: أولاً القياس التشطر، ثم هذا النصف يتنصف كما يتنصف أصل المهر إذا كانت مدخولاً بها.

_ (1) في الأصل: ولكن هو بطلاقه. (2) "سيأتي": جواب أما بدون الفاء، وهو صحيح. (3) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.

فرع: 8342 - إذا زوَّج الرجل أمته من عبده، فلا شك أنه لا يثبت مهر مطلوب، ولكن ذكر الشيخ وجهين في أنَّا هل نقدِّر ثبوت المهر ثم سقوطه؛ أحدهما - أنه لا يثبت أصلاً، وهو الوجه؛ لأنَّ المعنى الذي يوجب [سقوطه] (1) دواماً مقترن بالعقد؛ فيجب امتناع الوجوب به. والوجه الثاني - أنه يثبت تقديراً، ثم يسقط، لينفصل النكاح عن صورة البدل. وهذا لا حاصل له؛ فإنَّ التقدير إذا ناقضه التحقيق، بطل. فلو قدَّرنا مهراً، أَحْوجنا التقديرُ إلى إثبات مستحِقٍّ للمهر، ومستحَقٍّ عليه، ومساق ذلك يُلزم استحقاق السيد على عبده ديناً ابتداءً، وهذا محالٌ تخيّلُه. ومن قدر ما ذكرناه، فلا أثر لهذا التقدير، حتى لو زوّج [أمته] (2) من عبده، ثم باع الأمة، فوطىء العبد الأمة ابتداءً في ملك الغير، لم يُلزَم مهراً، وإن رأينا إثبات المهر للمفوضة قبل المسيس مع تفريعنا على أنها لا تستحق المهر بالعقد. وإنما أوردت هذا؛ لأنَّ أئمة المذهب لا يحكون الوجه الضعيف، ولم يحكه غير الشيخ أبي علي. فرع: 8343 - إذا زوّج الرجل إحدى بنتيه من رجل، ثم لما بلغتا، فنفرض نوعين من الخلاف: أحدهما - أنَّ كل واحدة منهما لو قالت: أنا المزوَّجَة دون الثانية. والوجه الثاني - أن يقول ذلك الشخص زوّجني هذه، فتنكر كل [واحدة] (3) منهما الزوجية. فأما إن كان صدَرُ (4) الدعوى منهما ولا بيِّنة، رجعنا إلى الزوج، فإن عيّن الزوجُ واحدة منهما، ثبت النكاح فيما بيَّنها (5) لتقارّهما (6)، والتفريع على ثبوت النكاح بالإقرار.

_ (1) في الأصل: سقوط. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: واحد. (4) صَدَر الدعوى: أي صدور الدعوى. (5) في الأصل: فيما بينهما. (6) كذا. والمعنى لإقرارهما بالزوجية.

ثم إذا ادعت الثانية أنها الزوجة، وقصدت بذلك طلب المهر، فقد اختلف أصحابنا في ترتيب المذهب، فقال بعضهم: في جواز تحليفها إياه قولان، وهؤلاء شبّهوا هذين القولين في هذه الصورة بالقولين فيه إذا ادعى رجلان نكاح امرأة، فأقرَّت لأحدهما بالنكاح، فهل للثاني أن يحلّفها؟ فيه قولان مشهوران. وهذه الطريقة ضعيفة، والصحيح الذي ذهب إليه الجمهور: أنَّ للمرأة أن تحلِّفه لقصد المهر قولاً واحداً. والفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا أقرَّت المرأة لأحد المدعيَيْن بالنكاح، أنَّ المرأة في هذه المسألة ليست تطمع في إثبات النكاح مع إنكار الزوج وجحده، وإنما غرضها يتوجه إلى إثبات المهر، وهذا سائغ، لا امتناع فيه؛ إذ لا خلاف بين الأصحاب أنَّ المرأة إذا ادعت على رجل زوجيةً على مهر، فأنكر المدعى عليه، فدعواها مسموعة؛ فإنها ادعت مالاً وأسندته إلى سبب، وليس كذلك المسألة التي وقع الاستشهاد بها؛ فإنَّ المرأة إذا أقرَّت لأحدهما بالنكاح، فالثاني ليس يدعي عليها مالاً، وإنما يبغي إرهاقها إلى الإقرار أو النكول عن اليمين، حتى يغرّمها بحكم التفويت. وقد قال المحققون: القولان ثَمّ مأخوذان من الغرم، فإن قلنا به، صححنا الدعوى، فإذا كانت الدعوى تتجه ثَمَّ أخذاً من الغرم -وفي الغرم قولان- فهاهنا لا اختلاف في إمكان ادعاء الصدق منها، فلا وجه لترديد القول فيه. ومما يطرأ عليَّ أنَّ الشيخ أبا علي رجل عظيمُ القدر في المذهب نقلاً [وفقهاً] (1) وإحاطة، وقد يتفق له في الشروح نقل وجوه بعيدة، لو ذكرها غيره لم أنقلها، وهذا الذي ذكرته منها. 8344 - فالوجه: القطع بأنَّ لها أنْ تحلِّف هذا الرجل، فإن حلّفته، لم يخل الرجل إما أن يحلف على نفي الزوجية، أو ينكُل عن اليمين، فإن حلف على نفي الزواج [من] (2) هذه المدعية الثانية، فقد سقطت طلبتها بالكلية من المهر وغيره، وإن

_ (1) في الأصل: "ولقه" بهذا الاسم وهذا النقط. (2) عبارة الأصل: "فإن حلف على نفي الزوج هذه المدعية الثانية" والزيادة والتعديل من المحقق. =

نكل عن اليمين، رددنا اليمين عليها، فإن نكلت، كان نكولها كحلفه. وإن حلفت، فقد قال الشيخ أبو علي في هذا المنتهى: اختلف الأصحاب في منزلة يمين الرد في الخصومات، فمنهم من قال: هي كالبيّنة، ومنهم من قال: بل هي كإقرار المدعَى عليه، ثم قال: إن قلنا: حكمه حكم البيّنة، فقد اختلف أصحابنا على هذا القول، فمنهم من قال: يبطل نكاح الأولى، ويثبت نكاح الثانية؛ فإنه ثبت في حق الثانية ما حل محل البيّنة، والبيّنة وإن تأخرت، فهي أولى من الإقرار، ثم هذا القائل يقول: ينتفي نكاح الأولى، ونحكم بانقطاع نكاح الثانية أيضاًً؛ لإنكار الزوج. وهذه الطريقة لا ثبات لها؛ فإنَّ يمين الرد لا تكون بمثابة البيّنة في حق غير المتنازعَيْن، وقد أوضحنا هذا في مسائل النكاح. ولسنا نلتزم [إشباع] (1) القول في ذلك، حتى ننتهي إلى الدعاوى والبينات، إن شاء الله تعالى، فالوجه هاهنا أنها تستفيد بيمين الرد ثبوت ما تدعيه من المهر وإنْ حكمنا بأنَّ يمين الرد كالبيِّنة. 8345 - ثم قال الشيخ: إن قلنا: سبيل يمين الرد سبيل الإقرار، فعلى هذا القول اختلافٌ أيضاً بين الأصحاب، فمنهم من قال: نحكم بارتفاع النكاحين؛ فإنه لما أقر للأولى، انتفى نكاح الثانية، [ولو تحقق الإقرار؛ لتضمن إبطال نكاح] (2) الأولى بعد ما ثبت بالإقرار السابق. والنكول ورد اليمين لا يتضمن رفض ذلك الإقرارِ إذا لم يوجد من الزوج لفظٌ موجبه رفع النكاح في حق الأولى، وقولنا: يمين الرد إقرار أو بيّنة تقديرٌ، ولسنا نجعل يمين الرد كحقيقة الإقرار ولا كحقيقة البيّنة بما يتعلق بثالث، وفي هذا لطفٌ؛ فإنَّ الفطن قد يتوهم أنَّ هذا حكم يتعلق بالزوج، ومن هذا [ينشأ] (3) الخلاف الذي حكاه. ولكن سر الفقه فيه أنَّ يمين الرد تكون كالبيِّنة أو كالإقرار في مقصود المدعي من

_ (1) في الأصل: اتباع. (2) عبارة الأصل مضطربة هكذا: "فإنه لما أقر للأولى، انتفى نكاح الثانية لو تحقق لتضمن نكاح إبطال الأولى" والتقديم والتأخير والزيادة وتعديل العبارة من عمل المحقق. (3) في الأصل: انتشأ.

المُدَّعَى عليه دون غيره، وانتفاء زوجية الأولى ليس مقصوداً [للمدّعية] (1)؛ فإنها لو قصدته، لم تصل إليه؛ إذ غرضها [زوجيةُ] (2) نفسها، [وإذا] (3) كانت تقصد ذلك، فلا يتصور ثبوت زوجيتها مع إنكار الزوج. ثم إذا فرعنا على المذهب وهو أنَّ النكاح لا ينتفي في حق الأولى، ولا يقدر ثبوته في حق الثانية، فإذا حلفت الثانية يمين الرد، فالمذهب الذي يجب القطع به أنها تستحق من المهر ما يليق بتصديقها، وهذه فائدة اليمين. وذكر الشيخ هاهنا قولاً غريباً: إنَّ المهر لا يثبت؛ فإنَّ المهر فرع النكاح، فإذا لم يثبت النكاح، لم يثبت المهر، وهذا كلام مضطرب، والذي حكاه في هذا الموضع هو القول الضعيف الذي ذكرناه في أول [الفرع] (4) حيث قلنا: لا تُقبل دعواها؛ إذ لا فائدة فيها، ثم إذا أثبتنا المهر، فلها نصف المسمى؛ فإنَّ الزوج أنكر نكاحها، فحل ذلك محل الإبانة. وإذا بانت قبل المسيس، فلها نصف المسمى. وفي هذا تثبُّت على الناظر سنذكره في أول كتاب الخلع -إن شاء الله تعالى-. والتنبيه عليه أنَّ إنكار النكاح هل نجعله إيقاع فراق؟ ظاهر النص أنه إيقاع فراق، وهو مشكل. فإن لم نجعله إيقاع فراق، اتجه أن نقول: لها طلب جميع المهر إلا أن يطلقها تنجيزاً. وسيأتي هذا حيث ذكرناه، إن شاء الله تعالى، وقد نجز الكلام في صورة واحدة. 8346 - الصورة الثانية أن يزوّج الأب إحدى بنتيه كما سبق، ثم قالت كل واحدة منهما لست بزوْجِهِ، وإنما الزوجة صاحبتي. فالأمر موقوف على قول الزوج، فنقول له: عيِّن زوجتَك منهما، فإن عيّن الزوجية على إحداهما، فقد انقطعت الطَّلِبةُ عن الثانية؛ إذ الزوجةُ إحداهما. ثم القول قول التي يدعي الزوجية عليها مع يمينها، فإن حلفت على نفي الزوجية، انتفت الزوجيةُ في ظاهر الحكم عنهما جميعاً، فإن نكلت رُدَّ اليمينُ على الزوج، فإن

_ (1) في الأصل: المدّعية. (2) في الأصل: زوجيته. (3) في الأصل: "إذ" كانت ... (4) في الأصل: الفراغ.

حلف، ثبتت الزوجية في حقها لهذا الزوج، وإنْ نكل، كان نكوله عن اليمين بمنزلة حلفها. قال الشيخ: قد رأيت بعض أصحابنا الشارحين يقول في هذه الصورة: إنَّ الزوجَ إذا عيَّن إحداهما، تعيّنت، فكان القول فيه قولَ الزوج، فإنه قد ثبت أنَّ إحداهما منكوحة، والزوج أعرفُ لمحل حقه. وهذا ليس بشيء، ولو لم يحكه الشيخ، لما ذكرناه. ثم إن ابن الحداد ذكر في تصوير المسألة شرطاً، وهو أنْ يزوّج إحدى بنتيه، ثم يموت الأب، وقصد بذلك ألاَّ يُرجَع بالبيان إليه، فقال الأصحاب: لو كان الأب باقياً، فبلغت البنتان واستقلتا، وقالت كل واحدة منهما: أنا الزوجة، فالإقرار مقبول وإن أنكر الأبُ. وهذا فيه فضل نظر؛ من جهة أنَّ المسألة مفروضة في دوام النكاح، وقد تردد ذكرنا القول في قبول إقرار المرأة بالنكاح، فإن فرّعنا على القبول -وعليه بناء المسألة- فللأصحاب تردّدٌ؛ ظاهرٌ في قبول إقرار البكر، ومعها من يجبرها، ويظهر في وجه القياس ألاَّ نقبل إقرارها لكونها مجبرة، والشاهد فيه أنَّ إقرار الأب مقبول عليها؛ من جهة [ملكه] (1) إجبارها، ويبعد أن نقبل إقرار الأب عليها، ونقبل إقرارها على مضادة أبيها، فعلى هذا لا اعتبار بإقرارها، مع دوام البكارة في بقاء الأب. ومن أصحابنا من قال: نقبل إقرارها إذا استقلت بالنكاح. وفي تفريع هذا [إشكال] (2) فإنها لو أقرَّت بأنها زوجة فلان، وأقرَّ الأب بأنه زوّجَهَا من غيره، فإذا فرّعنا على قبول إقرارها، فكيف نقول؟ وما الوجه؟ وقد جرى الإقراران على التنافي؟ يجوز أن يقال: الحكم للإقرار السابق، ويجوز أن نحكم ببطلان الإقرارين إذا اجتمعا. ولو رددنا إقرارها، لتخلصنا من هذا الخبط. فأما إذا أنكرت كلُ واحدة منهما الزوجية والأب باق؛ فإقرار الأب بزوجية إحداهما

_ (1) في الأصل: "تركه". (2) زيادة اقتضاها السياق، نرجو أن تكون صواباً. وفي (صفوة المذهب): "عُسرٌ" مكان "إشكال".

مقبول، ولا حكم لإنكارها. وهذا بيِّن لا خفاء به. فجرى تقييد ابن الحداد فَرْعيه بموت الأب، لما ذكرناه. فرع: 8347 - إذا قبل الرجل نكاح أمةٍ من سيدها، ثم قال السيد: زوجتها وأنا محجور أو محصور، وقال الزوج: بل كان ذلك في حال نفوذ التصرفات، فالقول في هذه الصورة قول الزوج. هكذا قال ابن الحداد. ثم يحلف، واعتل بأنَّ العقد قد جرى، والأصلُ صحة العقد. قال الشيخ: هذا إذا لم يعهد من السيد جنون أو حجر ينافي صحة العقد، فأما إذا تمهد منه في ماضي الزمان ما ذكره، ووقع الاختلاف على ما وصفناه، ففي المسألة وجهان: ذكرهما الشيخ أبو زيد، أحدهما - أنَّ القول قول الزوج، وهو الذي اختاره أبو زيد. والثاني - أنَّ القول قول السيد المزوِّج. وهذا الاختلاف يترتب على قاعدة، وهي: أن المعترف به نكاحٌ على الإطلاق، فإذا فرض بعده ما ينافي صحته، نفرض حمل الإقرار بالعقد المطلق على الفاسد. وقاعدة المذهب أنَّ العقد المطلق محمول في الألفاظ على الصحيح، ولذلك جعلنا الحلف المتعلق بالعقد المطلق في البِرّ والحِنث محمولاً على الصحيح، فهذا هو الأصل المعتبر؛ فلزم منه الحكم بحمل العقد على الصحة، فإن ظهرت حالة تُصدّق السيد وتُغلِّب على الظن صدقه، فوجه بدوّ الخلاف أن [المانع] (1) السابق مانع من العقد صحةً وانعقاداً، وليس يمنع من إجراء صورة العقد، فقد يظن الظان أن من يدعي صحة العقد [عليه] (2) إثبات سبب الصحة حالة العقد، وزوال المانع المقدّم معترف به، فهذا حقيقة القول. وقد نصَّ الشافعي على أن الولي إذا وكَّل وكيلاً في تزويج وليته، ثم أحرم، واختلف الزوج والولي، وقد جرت صورة النكاح، فقال الوليُّ: "ما قبلتَ النكاح من الوكيل حتى أحرمتُ، فانعزل وكيلي. وقال الزوج: بل قبلتُ قبل إحرامك، قال الشافعي: القول قول الزوج". هذا نصه. ولم يحك الشيخ في هذه المسألة تردداً،

_ (1) زيادة من المحقق، نرجو أن تكون في موضعها. (2) زيادة لاستقامة الكلام.

والسبب فيه أنَّ الإحرام لاحق والأصل إسناد العقد إلى الحِلِّ المتقدم، فلينظر الناظر في ذلك. فرع: 8348 - إذا علم الرجل أنَّ له في بلده أختاً محرّةً عليه برضاع أو نسب، وكان لا يعرف عينها، قال الأصحاب: إن كانت نسوةُ البلدِ بحيث لا يمكن ضبطهن لكثرتهن؛ فله أن ينكح من شاء منهن؛ فإنَّا لو لم نجوّز ذلك، لانحسم عليه باب النكاح في هذه البلدة، ثم لو ألزمناه المُسَافَرة إذا أراد النكاح، [فيجوز] (1) أن تكون تلك المرأة قد سافرت في جهة سفره وأنها التي اتفق نكاحه لها، فرفعنا هذا من البين، وعلى هذا قال الأصحاب: إذا أفلت صيدٌ مملوكٌ من مالكه، فاختلط بالصيود المباحة التي لا تحصر، فيحل الاصطياد، كما كان يحل قبل جريان الإفلات. 8349 - وما ذكره الأصحاب من نسوة البلد، فيه تأمل، فالوجه: الفرض حيث يعم اللبس، ويُفرض جريان الرضاع مثلاً، مع استبهام الأمر، فلو كان يمكنه أن ينكح امرأة لا يتمارى فيها من أهل البلدة، فنكح أخرى في محل [الريب] (2) والمراء، [وكانت] (3) اللواتي يلتبسن عليه غير منضبطات، ففحوى كلام الأصحاب أن ذلك جائزٌ، ولا حجر أصلاً، وقد يَظن من يتشوف إلى الاحتياط أنَّا إنما نجوِّز ذلك إذا كان يؤدي إلى حسم النكاح، ولا ينبغي أن يبالى بهذا، فالأصل ما ذكره الأصحاب والذي أشرنا إليه إيراد وجه احتمال على عادتنا في المباحثة. ومما يجب التنبه له أن المعنيَّ بخروج النساء عن الضبط عُسر [عدّهن] (4) لكثرتهن على آحاد الناس، وإلا فلو أرادوا أكبر بلدة أن يُعدّ سكانُها، لتمكن منه، فهذا ما يجب الإحاطة به. ولو أشار إلى نسوةٍ معدودات وقال: واحدةٌ منهن محرَّمةٌ عليّ، ولست أعرف عينَها؛ فالمذهب: أنه لا ينكح منهن واحدة. وذكر الشيخُ وجهاً ضعيفاً أنه لو نكح

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: الترتب. (3) في الأصل: فكانت. (4) في الأصل: عندهن.

واحدة منهن محرّمة، حلت له مع شدة الكراهية؛ فإنَّ التي نكحها لم يثبت فيها محرِّم، والأصل عدم المحرِّم. وهذا الاختلاف هو الذي حكيناه في التباس إناء من الماء بإناء من البول. ولكن يبين الغرض بالإشارة إلى ذكر ثلاث مراتب، المرتبة الأولى - فيه إذا فُرض لبسٌ، وأمكن الاجتهاد، والأصل في الباب الحل، وهذا كالتباس إناء من ماء نجس بإناء من ماء طاهر، فالاجتهاد سائغ؛ فإنَّ العلامة على الجملة ممكنة، وقد تمهد في الباب أنا رُدِدْنا إلى الأخذ بأصل الطهارة. هذا بيان مرتبة، وقد سبق استقصاء أطرافها في كتاب الطهارة، والعلامة في هذه المرتبة خفية، ولهذا يعتضد بالرجوع إلى الأصل. المرتبة الثانية - فيه إذا أمكنت العلامة الخفية، ولم يثبت التمسك بأصل الحل والجواز، ومن ذلك الإناء من البول مع الإناء من الماء، [ففي] (1) جواز الاجتهاد وجهان، أصحهما المنع؛ لخفاء العلامة، وغلبة التحريم، ولم نُرَدّ إلى أصل الحل، [المرتبة الثالثة] (2) وذلك كاشتباه المُذكَّى بالميتة، والأخت بالأجنبية. فالأصل التحريم عند الحصر الذي ذكرناه، ولا علامة يقدر التعلق بها، والتحريم غالب في الباب، فالوجه: القطع بالتحريم، ولكن حكى الشيخ الوجه الضعيف، ومن نظر إلى المراتب التي ذكرناها، بان له أن الوجه الذي حكاه الشيخ على نهاية الضعف. فرع: 8350 - إذا زوَّج الذمي ابنته الصغيرة الذمية من ذمي، ثم أسلم هو، [أو] (3) أسلمت أم الصغيرة، وحكمنا لها بالإسلام تبعاً، ولا دخول، انتجز الفراق. وفي الصداق وجهان؛ من جهة أنَّ الفراق لم يأت من جهة الزوج، ولم يصدر من جهتها مباشرةُ الإسلام، بل ثبت الإسلام لها من غير اختيارها، وقد ذكرنا أنَّ المرأة إذا أسلمت تحت زوجها الكافر قبل المسيس، انبتّ النكاح وسقط مهرها، كما يسقط مهر المسلمة بالردة.

_ (1) في الأصل: في. (2) زيادة اقتضاها تريب المؤلف وسياقته للمسألة. (3) في الأصل: وأسلمت.

ومما [يلحق] (1) بهذا أنَّ الذمي لو زوّج امرأةً من ابنه الصغير الذمي، ثم أسلم أحد أبوي الزوج قبل المسيس، يرتفع النكاح، ثم قال الشيخ: في المهر وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة المتقدمة، وهذه الصورة أولى بأن يتشطر الصداق فيها؛ من جهة أنَّ ارتفاع النكاح أتى من صفةٍ ثبتت للزوج، وارتفاع النكاح في الصورة الأولى جاء من صفة ثبتت للمرأة. فرع: 8351 - إذا ادعت المرأة نكاح رجل، وأنكر الزوج النكاح، فأقامت المرأة بيّنة عادلة أنه نكحها بألف درهم، وجرى الحكم بموجب الشهادة، ثم رجع الشهود عن الشهادة؛ فهل يغرَمون للزوج؟ وذكر الشيخ وجهين: أحدهما - أنهم لا يغرمون؛ فإنهم ما غَرَّمُوه شيئاً، بل شهدوا على ملك بضع بعوض، فلم تتضمن شهادتهم تغريمه الألف مجاناً، ولكنه لما أنكر النكاح، صار شطر المهر غرماً عليه. والوجه الثاني - أنهم يغرمون؛ فإنه أنكر النكاح وشهدوا مع إنكاره، وعلموا أنَّ النكاح لا يخلص له مع إنكاره، فإنا لو قدرنا نكاحاً، [لا ينتفي] (2) بنفيه. التفريع: 8352 - إن قلنا: لا يغرمون، فإنما ذاك فيه إذا شهدوا أنه أصدقها ألفاً، وكان مهر مثلها ألفاً أو أكثر، فأمَّا إذا كان مهر مثلها خمسمائة، فيلزمهم الغرم في الخمسمائة؛ فإنهم ألزموه ذلك، ولا مقابل له من البضع. وإن قلنا: يغرمون - فلا يغرمون في هذه الصورة مهر المثل، ولكنهم يغرمون ما ألزموا الزوج، وإنما ألزموه نصف المسمى. وما ذكرناه مقدمة لمسألة ابن الحداد، وصورة مسألته: أنَّ المرأة إذا ادعت نكاحاً بألف درهم على رجل فأنكره، وشهد شاهدان بأنه نكحها، وادعت الإصابة، فشهد شاهدان أنه أصابها، أو أقرَّ بإصابتها، ثم ادعت بعد ذلك كله طلاقاً، فشهد شاهدان أنه طلقها، ثم رجع الشهود كلهم فيه. قال ابن الحداد: لا غرم على شهود النكاح ولا على شهود الإصابة، وإنما الغرم على شهود الطلاق، فيغرمون نصف مهر المثل. هذا جوابه.

_ (1) في الأصل: يليق. (2) في الأصل: لا ينفى.

واختلف أصحابنا على طرق، فذهب بعضهم إلى تصويب ابن الحداد، وقال: فرّع على أن لا غرم على شهود النكاح، وتعليله ما قدمناه في صدر المسألة، ولا غرم على شهود الإصابة؛ فإنهم شهدوا على استمتاع في نكاح، فإذا لم يلزم بسبب النكاح غرم، فكذلك لا يلتزم بسبب الإصابة. وأمَّا شهود الطلاق، فقد فوّتوا ملكاً بلا عوض، ثم رجعوا. ومن أصحابنا من قال: ما ذكرناه من تغريم شهود الطلاق غلط من أوجه، منها أثهم ما شهدوا على مخالفة الزوج؛ فإنَّ حاصل شهادتهم انتفاء النكاح، وكان المدعى عليه منكراً للنكاح مقترناً بنفي الزوجية، فلا يتحقق تفويت عليه. وهذا هو الذي لا يتجه غيره. والوجه عندي: [أن] (1) ما ذكره ابن الحداد من عثراته. ثم في شهود النكاح وشهود الإصابة نظر، أما وجه (2) النظر في شهود النكاح، فعلى ما تقدم، وأما شهود الإصابة، فإن شهدوا على النكاح أيضاً ثم على الإصابة بعده، فالوجه تغريمهم، ثم يشتركون في الغرم الذي يتعلق بالنكاح، ويختصون بالغرم في النصف الآخر من المسمى؛ فإنَّ الزوج إنما غرم ذلك النصف الثاني بسبب شهادتهم. ومَن ذكر نفي الغرم عن شهود الإصابة فقد أبعد، ولكنه وجه حكاه الشيخ، وتوجيهه ضعيف؛ فإنَّ الذي تخيله من نفي الغرم في شهود النكاح أنهم شهدوا بحق في مقابلة عوض، والوطء إتلاف منافع البضع في كل حساب، ولصاحب ذلك الوجه الضعيف أن يقول: وطؤه انتفاعه، كما أنَّ النكاح حقه. فأما إذا شهد شهود الإصابة على الإصابة مطلقاً من غير تعرض للنكاح، فينظر فيه؛ فإن تأرخ النكاح على وجه تأرخ الوطء بتاريخ متأخر عن النكاح، فعلى شهود الإصابة ما ذكرناه؛ فإنهم تسببوا إلى إثبات تقرير ذلك المسمى؛ وإن كانت الشهادتان مطلقتين، فشهود الإصابة لا يغرمون للمدعى عليه شيئاًً؛ فإن الإصابة قد تكون زنا، فإذا لم يغرِّموه، لم يغرموا إذا رجعوا.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: وجه الزوجة النظر.

فرع: 8353 - إذا ادعى زيد على امرأة أنها زوجته، فانكرت، فأقام على ذلك بيِّنة، وادعت تلك المرأة أنها زوجة عمرو، فأنكر عمرو، وأقامت المرأة بيِّنة؛ قال ابن الحداد: بيِّنة زيد أولى، وتثبت زوجيتها في حقه. ومن كلامه في ذلك: أنَّ دعواه في الزوجية أقوى من دعوى المرأة؛ إذ حق الزوجية في جانب الزوج أثبت. قال الشيخ: هذه المسألة فيه إذا أنكر عمرو الزوجية، فأما إذا لم ينكر، ولكن سكت، فأقيمت عليه البينة؛ فيجوز أن يقال: تتقابل البيِّنتَان في ذلك، والكلام على تقابل البيِّنتَين يأتي إن شاء الله تعالى. هذا منتهى كلام الشيخ، وفيه توقف على الناظر، قال ابن الحداد: [إن] (1) لم تتعرض في دعواها نكاح عمرو لذكر المهر، فالوجه أن نقول: إن أنكر عمرو النكاح، وما ذكرت المرأة صداقاً، فلا معنى [لإقامتها] (2) البيّنة، إلاَّ على مسلك بعيد في أنَّ الإنكار لا يقطع النكاح، فيكون غرضها ثبوت النفقة في مستقبل الزمان، وثبوت غيرها من حقوق النكاح، وهذا -وإن كان منقاساً- بعيدٌ عن مذهب الشافعي، وسنشبع القول فيه في كتاب الخُلع، إن شاء الله عز وجل. فأما إذا سكت عمرو، وقد ادعت المرأة النكاح؛ فظاهر ما ذكره الأصحاب: قبول دعواها، وإن لم تذكر مهراً، فإنها ادعت سبباً في استحقاق حقوق، ولم يوجد من الزوج ما يتضمن قطعه. ثم إذا سُمعت الدعوى والبينة، فالأظهر تقديم بينة زيد -كما قال ابن الحداد- لموافقة بيّنة زيد لدعواه، وحق النكاح لزيد، والمرأة لا يقوى حقها في نفس النكاح، وإنما تبغيه ذريعة إلى حقوقٍ في الاستقبال، ومن له الحق في النكاح ساكت. فهذا وجه، وإليه ميل ابن الحداد ومعظم الشارحين، وقد ذكر الشيخ وجهاً من عند نفسه في مقابل البيِّنتين، ولم يختره، والله أعلم. ...

_ (1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (2) في الأصل: لإقامته.

إن غرضي الأظهر في هذا الكتاب التنبيه على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صور الأحكام والمسائل منها غير معدومة في المصنفات، فهذا أصل الباب، ومنه تتشعب المسائل. الإمام في نهاية المطلب

كتاب الصداق

كتاب الصداق الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] وقال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وقال صلى الله عليه وسلم: " أدوا العلائق، قيل: وما العلائق يا رسول الله، قال: ما تراضى به الأهلون " (1). وانعقد الإجماع على أن ما يصح جعله صداقاً يثبت بالتسمية الصحيحة، ثم ورد في الشرع لما يسمى في عقد النكاح على معرض العوض أسماء: الصدقة، والمهر، والصداق، والأجر، قال الله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء: 4]. وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] ثم الذي يجب تصدير الكتاب به أنَّ الصداق لم يثبت على قياس الأعواض؛ فإنَّ حظها في الاستمتاع منه حظُّه في الاستمتاع منها، وهما مشتركان في الاستمتاع، ويصح أن يقال: حظها أوفى، لما صح من توفر شهوتها، وعدم تأثير الاستمتاع فيها، ولكن لما اقتضت الحكمة الشرعية استحقاق الرجال باستحقاق منفعتهن- كما تقدم ذلك مقرراً- اقتضى الترتيب بعد ذللك اختصاصهن باستحقاق ما يثبت في معرض العوض، وضعف مُنَّتهنَّ وعجزهن عن التكسب، وما طُلب منهن من التخدُّر، وعدم الانتشار، ولزوم الحِجال (2)، يقتضي ذلك. ثم الصداق الثابت لها ليس يثبت ركناً في النكاح/ ثبوت الثمن في البيع، والأُجرةِ 114 ي

_ (1) حديث: " أدوا العلائق ... " رواه الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عباس بلفظ: " انكحوا الأيامى وأدوا العلائق ... " وقد ضعفه الحافظ (ر. سنن الدارقطني: 3/ 244، السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 239 0 التلخيص: 3/ 286 ح 1672). (2) الحجال: جمع حَجَلة وهي ساتر كالقبة يزين بالثياب والستور للعروس، وسترٌ يضرب للعروس. (المعجم) وهي هنا كناية عن لزوم البيت، ويسمى النساء ربات الحجال.

في الإجارة، ولكنه -وإن قوبل باستحقاق المنفعة عليها- لا يتمحض مقابلاً على حقيقة العِوضية، ولذلك لا يفسد النكاح بفساد الصداق على المذهب الصحيح، ولا يفسد أيضاً [بترك] (1) ذكره وتعرية النكاح عنه، وإذا رَدَّت المرأة الصداق، لم يرتد النكاح كما يرتد المعوض برد العوض في المعاوضات، وقال مالك (2): فساد التسمية في الصداق يفسد النكاح، وقيل: هذا هو قول الشافعي في القديم، فإنْ صح، فهو في حكم المرجوع عنه، ولا نعرف خلافاً أن ترك تسمية الصداق لا يفسد النكاح. وكذلك [لا خلاف أن النكاح] (3) لا يرتد برد الصداق، والصداق لا يُنكر كونه عوضاً؛ فإنه يثبت على صيغة العوضية، وارتداده بالفسوخ الواردة على النكاح يُقيمه مقام الأعواض، وحبسُها نفسَها إلى توفر الصداق عليها يُلحق الصداق بالأعواض، فالوجه أن نقول: الصداق عوض في النكاح، ولكنه ليس ركناً؛ من جهة أن العوضية ليست مقصودة في النكاح، والمقصود الأظهر منه المستمتَع. ويشهد لما ذكرنا قوله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] فسمى الصدقات نحلة وعطية، ليُشعر بخروجه عن كونه مقصوداً. ومن المحققين من أئمتنا من قال: ليس الصداق عوضاً حقيقياً، وارتدادُه لزوال النكاح في بعض الأحوال سبيله سبيل التبعية، فكما يثبت تبعاً غير مقصود، فكذلك يزول بزوال النكاح- على تفاصيلَ معروفة، فحصل مسلكان: أحدهما- أنه عوض حقيقي، ولكنه ليس رُكناً في النكاح. والثاني- أنه ليس بعوض على الحقيقة وإن أقيم مقامه، ولا يكاد يظهر لهذا التردد مزيد أثر. 8354 - وإذا زوّج الوليّ وليّته إجباراً بدون مهر مثلها؛ فالمذهب الأصح: صحة

_ (1) في الأصل: ترك. (2) ر. بداية المجتهد: 2/ 21. وفيه: " وعن مالك روايتان: إحداهما- فساد العقد وفسخه قبل الدخول وبعده، والثانية- إن دخل بها ثبت، ولها صداق المثل " ا. هـ بنصه. (3) عبارة الأصل: " وكذلك الاختلاف لا يرتد برد الصداق" والتعديل والزيادة من عمل المحقق.

النكاح، وثبوتُ مهر المثل؛ جرياناً على ما قدمناه من أن الخلل في الصداق لا يؤثّر في النكاح. وذكر أئمتنا قولاً آخر، واختلفوا في كيفية نقله، فقال قائلون: القول الثاني- إن النكاح لا يصح- وإليه أشار القاضي- ووجهه- على بُعده-، أن النكاح بدون مهر المثل لا يكون معقوداً على حكم الغبطة، والعقود إذا لم تتصف بالغبطة مردودة من الولي المجبِر. وقال قائلون: [الأول] (1) في صحة النكاح، والقول الثاني في صحة الصداق، وإن كان قاصراً؛ فإن الأب لا يتهم في حق طفله. ومن وجوه الرأي: إذا كان الخاطب كفؤاً مرغوباً فيه، [احتمل] (2) وَكْسُه في المهر. وهذا يخرج على قول الشافعي في أنَّ الذي بيدهِ عقدة النكاح هو الولي، وقد يجوز على هذا القول عفوه عن المهر وإسقاطه. وإذا جمعنا وجوه تزويج الأب، قلنا: إذا زوّجها من كفئها بمهر مثلها، فقد نظر لها ولا معترض عليه، ولو كان يطلبها كفء بأكثر من مهر مثلها، فزوّجها الأب من كفء اَخر بمهر مثلها، فلا معترض عليه. ولو طلبها كفء مماثل، ورجل نبيه شريف القدر، فزوّجها من مماثلها، جاز، ولا معترض، وليس هذا كالتصرف في المال؛ فإنه إذا طُلبت سلعةٌ للطفل بأكثر من قيمة المثل، لم يسُغ بيعُها إلا بالأكثر، والسبب في ذلك أن عقود المواصلات تنطوي

_ (1) في الأصل: " الطلاق "، وهو تصحيف لا شك. وعبارة العز بن عبد السلام في مختصره: " وإن زوج المجبر بأقلَّ من مهر المثل، فالمذهب صحة النكاح، ولزوم مهر المثل، وفيه قولٌ حمله بعضهم على بطلان النكاح، وحمله آخرون على صحة الصداق، وقطعوا بصحة النكاح، وبنَوْا ذلك على جواز عفو الولي عن الصداق ". (ر. الغاية في اختصار النهاية للعز بن عبد السلام: ج 3/ لوحة رقم 88 يسار). هذا. ولم أصل إلى المسألة في وسيط الغزالي ولا بسيطه، ولا الشرح الكبير للرافعي، ولا الروضة للنووي. (2) في الأصل: احتمله.

على أسرارٍ خفية، وأمور جِبِلِّيّة، فالوجه إحالتها على الأب الشفيق، وقد يرى المماثل أجدى عليها من الشريف الذي يسطو، أو يستطيل بشرفه، والنكاح دِقُّ. (1) النظر في مراشده يدِق، والأموال لا يُبغى منها إلاَّ المالية؛ وعن هذا ينشأ كلام العلماء في تزويج الأب ابنته ممن لا يكافئها؛ فالأصح أنَّ النكاح لا يصح إجباراً، لما فيه من ظهور إلحاق العار بها. وفي المسألة قول غريب، حكيناه أن النكاح [يصح] (2) ويلزم. وفي تزويجها بدون مهر المثل من التردد ما ذكرناه، فهذه مجامع القول في عقود الأب. 8355 - ثم إذا تمهّد ما قدمناه، فالصداق لا يتقدر شرعاً عند الشافعي، وكلُّ ما يجوز أن يكون ثمناً أو أجرة يجوز أن يكون صداقاً، والمعتبر في هذا أن [يكون] (3) الصداق متمولاً. وقد قدمت فيما يتموّل كلاما واضحاً، وظني أني كررته في مواضع. وذهب أبو حنيفة (4)، ومالك (5)، وابن شُبرمة، وطوائفُ من العلماء إلى تقدير الصداق بنصاب السرقة، ثم مذاهب هؤلاء مختلفة في نصاب السرقة، وقد نظر هؤلاء إلى تشبيه البضع المستباح باليد المقطوعة في السرقة. والشافعي رأى المهر ليتميّز النكاح عن البدل في السفاح، وهذا المعنى يحصل بإثبات ما يجوز أن يكون عوضاً. ثم نص الشافعي في مواضعَ من كتبه على استحباب العشرة وترْكِ النقص عنها، وذلك للخروج من الخلاف.

_ (1) دِقُّ النظر: أي دقيقه، وصغيره، وخفيه. ويدقُّ أي يغمض ويخفى، ولا يفهمه إلا الأذكياء (المعجم). هذا. وكلمة (دِق) حرفت فى الأصل إلى (رق). (2) في الأصل: صح. (3) زيادة من المحقق. (4) ر. الاختيار لتعليل المختار: 3/ 101، ومختصر الطحاوي: 184، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 252 - مسألة رقم 717. (5) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 714 - مسألة رقم 1291.

ثم قال: السرف والمغالاة في المهر غير محبوب، والقصد هو المستحسن، ولو حصل التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجاته وبناته، فنِعْم المتبع. وقالت عائشة: " ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة من نسائه، ولا زوّج واحدة من بناته بأكثر من اثنتي عشر أوقية ونَشٍّ، أتدرون ما النَّش؟ إنما هو نصف أوقية " والأوقية أربعون درهماً، فمجموع ما ذكَرَت من الأواقي والنش خمسمائة " (1)، وقال عمر: " ألا لا تغالوا في مهور النساء؛ فإنه لو كان فيه مكرمة عند الله وعند الناس، لكان أحقكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت امرأة سفعاء الخدين وقالت: الله يعطينا، ويمنعنا عمر، فقال: أين ذلك، فقالت: قال الله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فقال: كلُ الناس أفقه من عمر رجل أخطأ وامرأة أصابت " (2). ويتعلق بمتنهن أمران: أحدهما- أنَّ المغالاة ليست مكروهة، وإنما ينهى عنها نهيَ استحباب، وقد بان أن مراتب النهي ثلاثة: تحريم وكراهة واستحباب. ومما نذكره أنَّ النزول إلى المبلغ الذي ذكرناه في مهور نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تخاطب به المرأة المالكة لأمر نفسها، والسيد في تزويج أمته. فأما الأب إذا كان يزوّج ابنته الصغيرة، فليس له أن ينزل عن مهر مثلها، وإن نزل، ففيه الترتيب القديم. ...

_ (1) حديث عائشة رواه مسلم بلفظ: " كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشاً، قالت: أتدري ما النش؟ ... " (ر. صحيح مسلم: كتاب النكاح، باب الصداق، ح 1426). (2) خبر نهي عمر عن المغالاة في المهور على النحو الذي ساقه إمام الحرمين، مركب من حديثين رواهما عبد الرزاق في مصنفه: 6/ 175، 180، ح 10399، 10420، وهما عند سعيد بن منصور، ح 594، 597، والأول عند أحمد: 1/ 301، وهو عند الحميدي:1/ 13).

باب الجعل والإجارة

باب الجُعل والإجارَة 8356 - مقصود هذا الباب مقصورٌ على الكلام في منافع يجوز إثباتها صداقاً، والقول الجامع فيها: إنَّ كل منفعة يجوز الاستئجار عليها، فيجوز فرضها على الجملة صداقاً. ثم القول في المنافع التي يجوز الاستئجار عليها، مما أصلناه على (1) هذا الكتاب من كتاب الإجارة وغيره، والقول فيه منتشر، وضبط النفي والإثبات فيه عَسِرٌ، ولم يزد الأصحاب عن نقل مسائل مُرسلة، وما اعتنوا في ذلك بضابط، ولم يتشوف إلى الاهتمام به إلاَّ القاضي، فإنه حوّم على أطرافه ولم يستوعب، والقدر الذي ذكره: أنَّ كل عمل معلوم يلحقُ العاملَ فيه كلفةٌ ويتطوع به الغيرُ عن الغير؛ فالاستئجار عليه جائز، وإذا صح الاستئجار، صح إثباته صداقاً. 8357 - وليس ما ذكره شافياً للغليل، ونحن نرى أن نذكر مسائلَ مرسلةً، ثم ننبه فيها على الغرض المطلوب، وقد نذكر فنوناً وأقساماً. فالعبادات البدنية المفتقرة إلى النية، إذا كانت النيابة لا تتطرق إليها، فلا يتصور الاستئجار عليها؛ فإنَّ مِنْ حُكْمِ الاستئجار وقوع فعل المستأجَر عن المستأجر، وامتناع النيابة ينافي هذا، والعبادة البدنية التي تجري النيابةُ فيها -وهي الحج لا غير- يجوز الاستئجار عليها؛ كما تفصَّل في كتاب الحج، وإذا قلنا: غسل الميت يفتقر إلى النية، فالاستئجار عليه جائز، [وإن] (2) كان [قربة] (3) بدنية، وذلك أنَّ النيابة

_ (1) على هذا الكتاب: أي (في) هذا الكتاب، نظير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]. (2) في الأصل: فإن. (3) في الأصل: قرينة.

جائزة فيه كما تجوز في الحج. فاعلموا ترشُدوا. ووراء ذلك أمر سننبّه عليه في أثناء الكلام، إن شاء الله تعالى. هذا قولنا في العبادات البدنية المفتقرة إلى النيات. ومما نذكره في الأقسام التي نحاولها: أنَّ الأعمال التي لا تقع قربة، ولكنها تتعلق بأمور في المعايش، ومطرد العادات، فما لا يجوز منه فلا يجوز الاستئجار عليه، وما يجوز ولا ينهى عنه، فيجوز الاستئجار عليه، بحسب أن يكون معلوماً على ما يليق به، ويشترط أن يكون له وقع في النفع والدفع، حتى لو قل قدرُه، وكان لا يقع مثله في إثارة نفعٍ أو دفعٍ موقعاً؛ فلا يجوز الاستئجار عليه. وهو في [جنسه] (1) بمثابة الحبة من الحنطة في الأعيان. ومما نشترطه أن يكون النفع من العمل راجعاً إلى المستأجِر، فلو كان يرجع النفع إلى الأجير، فالإجارة فاسدة، وذلك مثل أن يقول: استأجرت دابتك لتركبها أنت ولا تترجل، فهذا فاسد، فإذا كان العمل مباحاً معلوماً متقوماً عرفاً، وكان نفعه يرجع إلى المستأجِر فيصح الاستئجار، ومن جملة ذلك: الحمل والنقل وأعمال المحترفين، وما في معناها، وهذا بيان ما لا يقع قربة. 8358 - وأما ما يقع قربةً وإن لم نشترط فيه النية، فمنها ما يقع فرضاً على الكفاية، ومنها ما يكون شعاراً في الدين، ولا يقع فرضاً، فأما ما يقع فرضاً، فإنه ينقسم في نفسه، فمنه ما يخاطَب به المرءُ في ذاته إن اقتدر عليه، وإن عجز عنه، وجب على الغير كفايته، ومنه ما لا يخاطب به المرء على الخصوص في نفسه لغرضٍ يخصه. فأمَّا القسم الأول، فمنه حفر القبور، ودفن الموتى، وحمل الجنائز، فهذه الأشياء مما يجوز الاستئجار عليها، والسبب فيه أنَّ من مات فتجهيزه من المؤن الواجبة المختصة بتركته، وهو مما يثبت في وضع الشرع على نعت الخصوص، فإن عجز من خصّه الشرع ابتداءً، فعلى الناس كفايته. وحَمْلُ الجنازة وما في معناه مما ذكرناه ينزل منزلة شراء الكفن، والتكفينُ من فرض الكفايات، وكذلك يجب على الإنسان أن ينفق

_ (1) في الأصل: حب.

على نفسه إن وَجَد، فإن فَقَد، لم يجز تضييعه، ثم لو اشترى في حالة الضرورة طعاماً، صح ذلك منه [تنزيلاً] (1) لهذا على كون ذلك [خاصاً به] (2) في وضع الشرع، فهذا مسلك في فرائض الكفايات. ويلتحق بذلك تعليم القرآن؛ فإنَّ على الإنسان أن يتعلم من القرآن ما لا يخفى، فهذا مما يختص وجوبه، فلا جرم جاز الاستئجار عليه، وإن كان إشاعة القرآن ونشره وتعليمه فرضاً على الكفاية. والقسم الثاني- ما يثبت في الأصل شائعاً، ولا يختص افتراضه بشخص، حتى يعد من مؤنه وواجباته الخاصة، ولكن يثبت إقامةً لشعار، أو ذباً عن البيضة، وذلك مثل الجهاد، فإنه أُثبت عاماً، والمقصود به حماية الحوزة وحفظ البيضة. فهذا القسم لا يجوز الاستئجار فيه إذا كان المستأجَر مندرجاً تحت الخطاب العام بالذب. ويخرج مما ذكرناه أهل الذمة؛ فإنَّا لا نخاطبهم بالذب عن الملة، فلا جَرَم جوز الشافعي للإمام أن يستأجر طائفةً من أهل الذمة على قتال جماعة من الكفار، كما سيأتي شرح ذلك في كتاب السير، إن شاء الله عز وجل. وسبب منع الاستئجار أنَّ الخطاب إذا كان متعلقاً بالمسلمين على العموم، فيكون الأجير فيه قائماً بإقامة ما خُوطب به، ويستحيل أن يقع فعله عن غيره. فهذا ما يقع فرضاً. 8359 - وأمَّا ما يقع شعاراً غيرَ مفروض، فهو كالأذان في الرأي الأصح، فهل يجوز الاستئجار عليه؟ حاصل ما ذكره الأصحاب في الطرق ثلاثة أوجه: أحدها- أنه لا يجوز الاستئجار على الأذان أصلاً؛ فإنه وإن كان لا يجب، فهو راجعٌ إلى تعميم الشعار، ولذلك لا يؤذن كل واحد ممن [حضر] (3) الجماعة.

_ (1) كذا قرأناها بصعوبة أعان عليها السياق. (2) في الأصل: بإصابة. (3) في الأصل: نص.

والوجه الثاني- وهو الأصح، أنَّ الاستئجار على الأذان جائز من الإمام ومن آحاد المسلمين؛ فإنه ليس عبادة مفتقرة إلى النية، ولا فرضاً يلابسه المكلف، وإن كان يرجع نفعه إلى المسلمين، فنفع القرآن كذلك يرجع إلى المسلمين. والوجه الثالث- أن الإمام ومن يتولى الأمر من جهته يجوز أن يستأجر المؤذن، وليس يسوغ ذلك لآحاد الناس، وكثيرٌ من العقود يختص جوازه بالوالي إذا كان متعلقاً بالمصالح العامة. ثم إذا جوزنا الاستئجار على الأذان، فقد ذكر شيخي وغيره خلافاً في أنَّ المؤذن على ماذا يأخذ الأجرة؟ وحاصل المذكور ثلائة أوجه: أحدها- أنه يستحق الأجرة على رعاية المواقيت. والثاني- أنه يستحقها على رفع الصوت. والثالث- أنه يستحقها على الحيعلتين، فإنهما ليسا من الأذكار، وسبب هذا الاختلاف أنَّ الأذان أذكار لله تعالى [يردّدها] (1) المؤذن، فبعُد عند الأصحاب استحقاق الأجرة على أعيانها. والصحيح عند المحققين أنَّا إذا جوزنا الاستئجار على الأذان، فالأُجرة مستحقة على جميع الأذان بما فيه، ولا بُعدَ في استحقاق الأُجرة على ذكر الله تعالى، كما لا بُعد في استحقاقها على تعليم القرآن، وإن كان التعليم من ضرورته قراءة القرآن. 8360 - ومما نذكره: الاستئجار على تعليم العلم، وقد ذكر شيخي وغيره مَنع الاستئجار على التدريس، وردد الشيخ أبو بكر الطوسي فيما نقله عنه أبو بكر المفيد (2)

_ (1) في الأصل: يبدّدها. (2) لما نصل إلى شيء قاطع في ترجمة أبي بكر المفيد، فالطوسي الذي نقل عنه المفيد متوفى سنة 420 هـ. والمسألة في المذهب مشهورة عن أبي بكر الطوسي، ولكن لم نجد من صرح بناقلها عنه، وأنه أبو بكر المفيد -فيما نعلم- إلا الإمام. والذى وجدناه بهذه الكنية واللقب (أبو بكر المفيد) هو محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب البغدادي الجرْجائي المتوفى سنة 378 هـ عن نيف وتسعين سنة، فهل يمكن أن يكون ناقلاً عن الطوسي المتوفى سنة 420؟؟ الله أعلم.=

جوابه في جواز الاستئجار على إعادة الدروس. وهذا كلام ملتبس، والتحقيق فيه أنَّ من استأجر شخصاً ليعلمه مسألةً، أو مسائلَ من العلوم، فهو جائز، لا يجوز أن يكون فيه خلاف، وهو بمثابة الاستئجار على تعليم القرآن، وإن ظن أن ذلك يمتنع من قِبَل تفاوت الناس في الفهم والدرك، فهم متفاوتون في الحفظ أيضاً قطعاً، ثم لم يمنع الاستئجار في المحفوظات، والحفظُ في معنى الفهم. والذي ذكره الأصحاب من مَنْع الاستئجار على التدريس محمولٌ على ما إذا استأجر [رجلٌ] (1) مدرساً حتى يتصدى للتدريس إقامةً لعلم الشريعة من غير أن يعيِّن له من يعلمه، فهذا إن امتنع، فسببه أنه تصدى للأمر العام المفروض على الكفاية، فكان بمثابة الجهاد. ولو فرضنا استئجار مقرىء على هذه الصورة، لكان ممتنعاً، كما يمتنع استئجار المدرس. ولكن جرى كلام الأصحاب في الدرس، ومن يعلّم القرآن على العادة الغالبة في كل نوع؛ فإنهم لم يصادفوا مستأجَراً على تعليم العلم في العادة، والاستئجار على تعليم القرآن [غالب] (2). وفي النفس من الاستئجار على التدريس والتصدي له شيء؛ من [جهة أنه] (3) قد يشابه الأذان؛ فإنَّ الغرض من كل واحد منهما نفعٌ راجع إلى الناس عموماً من غير تخصيص أشخاص، وليس في امتياز الأذان عن التدريس -بالفرضية في أحدهما- فقه؛ فإنَّ المعتمد في منع الاستئجار على الجهاد أنه نزل على أهل الاستمكان نزولاً

_ = ثم ما ذكره الذهبي، والحافظ عن المفيد هذا أنه محدث ضعيف متهم. فهل هناك من يسمى بأبي بكر المفيد غير هذا أم أن في العبارة تصحيفاً؟ الله أعلم. (ر. سير أعلام النبلاء: 16/ 269، ميزان الاعتدال: 3/ 460، لسان الميزان: 5/ 43). (1) في الأصل: رجلاً. (2) في الأصل: غالبة. (3) في الأصل: من جهته قد يشابه.

عاماً، ولا متعلق له إلاَّ الذب عن حريم الإسلام، والتدريس [و] (1) إن كان يعم من وجه، فهو في جهة [التعلّق] (2) بمن يتعلم خاص؛ إذ على كل شخص أن يتعلم في نفسه، كما على كل شخص أن يعتني بحفظ المواقيت في الصلوات، والمؤذن يكفي الناس ذلك، فليفهم الناظر ما يمر به من لطائف الفقه. ولكن إن صار صائر إلى تجويز الاستئجار على التدريس، فلا بد فيه من إعلام على التحقيق، فإن الأذان بيّن في نفسه، والعلم عند الله تعالى. 8361 - ومما نذكره أنَّ القضاة إذا تراصدوا للقضاء، فلا معنى لاستئجارهم؛ فإنهم إذا انتصبوا للفصل بين المتحاكمين، تعلَّق أمر الخلق عموماً بهم، ولا يتصور أيضاً أن تنضبط أعمالهم بوجه من الوجوه. فهذا مجموع ما أردنا إيراده. ثم جُوِّز استئجار القاضي على كتبة السجلّ وغيره مما يستدعيه الخصم، ولا يوجبه الشرع، مما يأتي موضحاً -إن شاء الله عز وجل- في كتاب أدب القضاء. ومن تأمَّل ما ذكرناه، لم يخْف عليه ضوابط المذهب فيما يجوز الاستئجار عليه، وفيما يمتنع ذلك فيه. 8362 - ومما ذكره الأصحاب: الكلام على الاستئجار في الإمامة في الصلاة، فقالوا: لا يجوز ذلك في الصلوات المفروضة، وهل يجوز في النوافل كالاستئجار على الإمامة في صلاة التراويح؟ فعلى وجهين. وهذا كلام ركيك؛ فإنَّ الإمامة لا معنى لها، ولا مزيّة على الإمام في قصد الإمامة، وإنما يكفيه أن يصلي ويقتدي به من يريد، وإن لم ينوِ الإمامة، فصحة القدوة على نيَّته. نعم، قد يتوقف على نية الإمامة إحراز فضيلة الجماعة، وهذا يخصه ولا يتعداه. وقد ذكرنا أنه لا يجوز الاستئجار على عمل لا يتعدى نفعُهُ العاملَ. 8363 - فإذا تمهد ما ذكرناه، فقد ذكر الشافعي في الباب أنَّ الزوج لو أصدق زوجته عملاً يعمله مما يجوز الاستئجار على مثله، فالصداق صحيح. ومنع أبو

_ (1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: التعليق.

ْحنيفه (1) ذلك عموماً في جميع الأعمال التي يعملها الزوج. وكذلك منع أن يصدقها منفعة حر في جهة من الجهات، وإن جاز الاستئجار، وإن جوّز أن يصدقها منفعة عبد- في خبطٍ له طويل. ثم ذكر الشافعي في الباب ثلاثة فصول بعد ذلك: أحدها - في تعليم القرآن، والثاني - في رد العبد الآبق، والثالث - في خياطة الثوب. فنذكر ما يتعلق بالاستئجار على تعليم القرآن. 8364 - ثم قد تمهد من قبلُ أنَّ ما يجوز الاستئجار عليه يجوز جعله صداقاً، فإذا أراد استئجار شخص ليعلّمه، أو يعلّم من يعينه، القرآنَ؛ فهو جائز، فأول مرعيّ فيه الإعلام، ثم إنه يحصل بوجهين: أحدهما- ذكر المقدار الذي يطلب تعليمه، والثاني - المدة، فلو قال: تعلِّمني سورة البقرة، ولم يذكر المدة، جاز، ووقع الاكتفاء بإعلام المقدار، ولو ذكر المدة، فقال: تشتغل بتعليمي شهراً، جاز. ثم إن ذكر المدة، كفى، وإن ذكر المقدار، كفى، ولو جمع. بينهما، فقال: تعلّمني سورة البقرة في شهر، ففيه وجهان مشهوران، ذكرهما في مواضع من كتاب الإجارة وغيرها، فمن قال بالجواز، قال: زيادة الإعلام غير ضائرة. ومن منع -وإليه ميل معظم المحققين- قال: المدة قد لا تفي وقد يفضل منها، وذكرها مع المقدار يزيد جهالة ويجر عسراً. وكذلك لو استأجر من يَخيطُ ثوباً عيّنه في يوم، فالأمر على الخلاف الذي حكيناه. ثم ذكر العراقيون خلافاً في أنه هل يجب تعيين القراءة التي يبغي التعليم بها، مثل قراءة أبي عمرو (2) أو غيرِه؟ فذكروا في ذلك وجهين.

_ (1) ر. الاختيار لتعليل المختار: 3/ 105، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 270، 282، مسألة رقم 744، والمسألة رقم 764. (2) أبو عمرو، هو أبو عمرو بن العلاء، زبّان بن عمار التميمي المازني البصري. في اسمه واسم أبيه خلاف، واعتمدنا هنا ما رجحه الزركلي في الأعلام، وهو أخذ برواية السيوطي في المزهر، فقد قال السيوطي: "هذا أصح ما قيل فيه". وأشار إلى الخلاف في اسمه واسم أبيه ابن خَلكان في الوفيات، وهو في روايه عنده=

والوجه عندنا: القطع بأنَّ ذلك لا يعتبر ولا ينتهي التضييق إلى هذا الحد. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قصة الواهبة لذلك الأعرابي: " زوجتكها بما معك من القرآن " (1). ولم يقع للحرف والقراءة تعرُّضٌ. 8365 - ومما يتعلق بذلك أنَّ الإجارة إذا أوردت على عين شخص، فوقع الشرط على أن يكون هو [المعلّم، فلا يقيم غيرَه مقامه، كما إذا] (2) استأجر الرجل داراً معينة ليسكنها، فليس للمكري إقامةُ غير تلك الدار مقامها. ثم لو كان المعيَّن يحسن ما وقعت الإجارة عليه، صح الاستئجار. وإن كان لا يحسن، ولكن كان يتأتى منه أن يتعلم ويعلِّم؛ فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن الإجازة صحيحة؛ فإنَّ تحصيل الغرض ممكن، والتعليم لا يقع دفعة واحدة في وقت واحد، فصار كما لو اشترى شيئاً بألف، وهو لا يملك درهماً، فالشراء صحيح، وإن لم يكن في الحال في ملكه شيء من الثمن. والوجه الثاني - أنَّ الإجارة فاسدة؛ فإنها تضمنت استحقاق شيء، وهو في وقت الاستحقاق غير ممكن، وليس التعذر فيه إلى (3) التسليم؛ بل سبب الفساد أنَّ المنفعة في المسألة معدومة الجنس. وهذا الاختلاف يشير عندنا إلى سرٍّ في الإجارة، وهو أنَّ

_ = (العريان) بدل (زبّان). وهو أحد القراء السبعة، وأحد أئمة اللغة والأدب، وكان أعلم الناس بالقرَان، وباللغة والأدب، والشعر ت سنة 154 هـ (ر. وفيات الأعيان: 3/ 466 - 470، والأعلام للزركلي). (1) الحديث بطوله متفق عليه، من حديث سهل بن سعد، رواه البخاري: كتاب النكاح، باب السلطان وليٌّ، ح 5135، ومسلم: كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم القرآن، ح 1425، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 389 ح 1677. (2) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها، ويؤيدنا عبارة العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية، ونصها: " ويجوز إصداق تعليم القرآن، والإجارة عليه، ولا يقيم غيره مقامه في إجارة العين، فإن لم يحسن ما التزمه، صح إن كانت الإجارة على الذمة (ر. الغاية في اختصار النهاية: جزء 3 لوحة 89 يسار). (3) في الأصل: وليس التعذر فيه إلا إلى التسليم.

الإجارة إذا أُوردت على عينٍ ومنافعها، فكأن منافعها مع تعلقها بالعين، فيها معنى الالتزام، وكأنَّ المستأجر التزم تحصيلها من العين المعيّنة، فلا يمنع في الملتزَم أن يقع الاعتماد على إمكان التحصيل. ومن أبى ذلك يعتمد التعيينَ ومنافاته [لحكم] (1) الذمة، والوجهان فيه إذا كان يُحسن مقداراً يشتغل بتعليمه في الحال، أو كانت الإجارة مع تعلقها بالعين واردة على مدة تَسَعُ التعلّم والتعليم، فأما إذا لم تكن مدة، وكان لا يحسن شيئاً ألبتةَ، والإجارة تقتضي استحقاق الاشتغال بالتعليم، وتسليم المستحق على الفور؛ فلا وجه إلاَّ القطع بإفساد الإجارة لتحقق العجز عن المستحَق في الحال. 8366 - وكل ما ذكرناه في الإجارة يجري حرفاً حرفاً في الصداق، ونحن نرد باقي الصور إلى الصداق فنقول: لو أصدق امرأته تعليم مقدار يقع التوافق عليه، فقالت: علِّم فلاناً أو فلانة ما التزمت تعليمي إياه، ففي المسألة وجهان مشهوران ذكرهما العراقيون وغيرهم، وأثبت أئمة العراق للمذهب حداً وضبطاً وقالوا: الإجارة الواردة على العين تتعلق بمن يستوفي المنفعة، وبما تستوفى المنفعة منه، وبما تستوفى المنفعة به. فأما المستوفي للمنفعة، فيجوز أن يتبدل مع رعاية النصفة، وبيانه: من استأجر دابةً ليركبها، فله أن يُرْكِبها غيرَه، إذا كان في مثل جثته وثقله. فهذا مثال تبدل المستوفي. وأما ما تستوفى المنفعة منه، فهو العين التي وردت الإجارة على استحقاق منفعتها، فلا سبيل إلى تعديلها، وهذا [مثل] (2) تعيين دابة للركوب، لا يجد المكتري سبيلاً إلى إبدالها، بحكم الإجارة المنعقدة، ولو أتلفت الدابة المعينة، انفسخت الإجارة، [وتعليل] (3) ذلك بيِّن؛ فإنَ المنافع متعينة بتعيّن مورد العقد، فإبدالها كإبدال المبيع المعيّن، وتلفها قبل استيفاء المنفعة كتلف المبيع قبل القبض،

_ (1) في الأصل: بحكم. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: وتعيين.

وما ذكروه في تبدل المستوفي جارٍ على [القياس] (1)؛ فإنه استحق المنفعة وملكها، والشرع سلَّطَهُ على إحلال غيره محل نفسه بالإعارة والإجارة، ومن ضرورة ذلك تبدل المالك والمستوفي. ثم قالوا: ما يقع به الاستيفاء بمثابة الثوب يعيَّن للخياطة، فيقول مالكه: استأجرتك لتخيط هذا الثوب، فاستيفاء المنفعة يقع بذلك الثوب. فلو أراد مالك الثوب أن يأتي بثوب مثلِه؛ فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنَّ له ذلك. وتبديل الثوب كتبديل المستوفي؛ فإنَّ المستحَق خياطةٌ للأجير، ولا يختلف الغرض بتعدد الثياب مع تماثلها. والوجه الثاني - أنَّ ذلك الثوب يتعيَّن؛ [فإن] (2) العقد كما عيّن العاملَ- حتى لا يجوز له أن يقيم غيرَه مقام نفسه، وإن كان عملُ غيره بمثابة عمله أو أفضل من عمله، فكذلك اقتضت الإجارة إيقاع عملٍ في عين، فيجب تعيّنها حتى لا [يقع] (3) إبدالها. وهذا القائل يعسر عليه الفصل بين تبدل المستوفي -الممثَّل براكب الدابة- وبين تبدل الثوب: والممكن فيه أن منفعة الدابة لا تقع بالراكب، وإنما هو انتفاع من غير تأثر به، والثوب يتأثر بالخياطة ويقع فيه وتبقى ما يبقى، حتى اختلف قول الشافعي في أنها إجارة أو عين؟ كما ذكرنا القولين في كتاب التفليس. وهذا المعنى يجري في المتعلم المستأجِر؛ فإنه يتأثر بالتعلم، وإن كان من وجه [مستوفياً] (4) للمنفعة، فقد ساوى مكتري الدابة؛ من حيث إنه يستوفي المنفعة المستحقة، وهو في التحقيق كالثوب الذي تقع الخياطة به، من جهة تأثره بالتعلم. ثم حاصل ذلك يرجع إلى تعلق الأثر بهذه العين، والأعيان لا يدخلها الإبدال في العقود الواردة على الأعيان، فهذا مبلغ الإمكان في التوجيه، والأصحُّ الأول.

_ (1) زيادة مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: أن. (3) في الأصل: يمنع. (4) في الأصل: مسبوقاً.

8367 - ثم اختلف مسلك أئمتنا في تنزيل الوجهين، فذهب العراقيون وطوائف من المراوزة إلى أنَّا [لو] (1) منعنا الإبدال، نمنعه مع التراضي أيضاً، إلاَّ أن يُفرض عقد صحيح في الاعتياض من منفعة بمنفعة، وهذا [كما] (2) لو استأجر رجل داراً وقبضها، ثم استأجر المستأجر بمنفعة تلك الدار دابةً، فلا يمتنع هذا. وهؤلاء يقولون: لو تلف الثوب المعيّن، انفسخت الإجارة، كما تنفسخ بتلف الدابة المعينة، وصار صائرون إلى أن الثوب لو أبدل بمثله باتفاقٍ منهما وتراضٍ، جاز بلا خلاف. وإنما الوجهان فيه إذا أراد مالك الثوب أن يُبدِل، فأبى الخيّاط، وهذه طريقة القاضي. وبالجملة: التفريع على منع الإبدال ضعيف في الطريقين. وكل ما ذكرناه، فيه إذا ورد الإصداق والإجارة على عين المعلّم. فأما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، مثل أن يُصدقها الزوج تعليم سورة البقرة، ولا يتعرض لتعليم نفسه، فلا شك أنه لا يتعين عليه التعليم بنفسه، وله أن يقيم غيره في ذلك مقام نفسه. وهذا بيِّن في أحكام الإجارات. ولا يمتنع -والحالة هذه- أن يكون المتلزم جاهلاً بما التزم التعليم فيه، لأنه إذا كان لا يتعين [للتعليم] (3)، فلا معنى لاشتراط علمه. 8368 - ومما يدور في الخلد أنَّا هل نشترط تعيين السورة والجزء الذي يقع التوافق على التعليم فيه؟ هذا فيه تردُّدٌ: ظاهر كلام المشايخ: أنه لا بد من التعيين فيه؛ فإنَّ السور مختلفة، فمنها متشابهات، ومنها ما يصعب حفظها، والأمر في ذلك على تفاوت بيِّن. وكنت أود في هذا المنتهى ألاَّ يصح الإصداق للاستئجار على التعليم قبل أن يَخْبُر حفظ المتعلم، كما لا يصح إجارة الدابة للركوب قبل أن يُعايَن الراكب.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة لاستقامة الكلام. (3) في الأصل: للتعيين.

[ولأن] (1) تفاوت الحفظ والتوقف، يدنو من تفاوت الجثث أو يزيد عليها. وظاهر كلام الأصحاب: أن هذا لا يشترط، وقد يتجه في عدم اشتراط هذا، التعلقُ بحديث الأعرابي والواهبة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بأن يخبُرَ حفظَها، لمّا قال: " زوّجتكها بما معك من القرآن ". وقد ينقدح أن يقال: فيما قد كان أصدقها تعليم خَمس أو عَشر من أول سورة البقرة (2)، هكذا الحديث، ولعل الأمر كان يقرب في هذا المقدار ولا يتفاوت تفاوتاً محسوساً. وليس يبعد أن يقال: يجوز اكتراء دابة تركب من الدار إلى السوق، من غير نظر إلى جثة الراكب، فإن التفاوت لا يحس في هذا المقدار، سيما إذا كانت الدابة [قويّة] (3). فرع: 8369 - إذا أسلمت امرأة، فتزوجها رجل، وتعين عليها تعلم الفاتحة، ولا معلم بالحضرة [غير] (4) الزوج؛ فالمذهبُ الأصحُ أنه لو أصدقها تعلُّم الفاتحة، صح. وجبُن بعض أصحابنا، فمنع هذا في هذه الصورة، ومنع الاستئجار في مثلها أيضاً، وصار إلى أنَّ تعليم الفاتحة متعيَّن على الرجل، حقاً لله تعالى، فلا يجوز أن يأخذ على مقابلةِ تأدية المستحَق عليه عوضاً. وهذا ليس بشيء، فإنَّ الأصل وجوب التعلم عليها، فإن تُصُوِّرت صورة تعين فيها تحصيل الغرض من شخص، فالقاعدة هي المرعيّة. وهذا بمثابة ما لو اضطر الرجل إلى تناول طعام غيره، فليس لمالك الطعام أن يمنعه مع استغنائه عنه، ثم تعيين بذل الطعام لا يمنعه بيعه منه. والعبارة الفقهية في هذا: أنَّا لا نطلق القول بتعيين بذل

_ (1) في الأصل: ولا تفاوت ... (2) ورد ذكر الآيات من سورة البقرة، في حديث أبي هريرة، عند أبي داود، بلفظ: " ما تحفظ من القرآن؟ قال: سورة البقرة أو التي تليها، قال: قم فعلّمها عشرين آية، وهي امرأتك " (ر. أبو داود: كتاب النكاح -باب في التزويج على العمل يعمل- حديث رقم: 2112). (3) غير مقروءة في الأصل. (4) في الأصل: عن.

الطعام، بل نقول: يتعين على مالك الطعام بيع الطعام من المضطر، وكذلك يتعين على الرجل تعليمها بالعوض. وقد يمتنع المضطر عن الابتياع، فيتعين إذ ذاك على مالك الطعام إنجاده بالعوض على الرأي الأصح. وفيه وجه آخر، أنَّ العوض لا يلزم. وسنأتي بغوائل هذا في كتاب الأطعمة، إن شاء الله عز وجل. فرع: 8370 - المسلم إذا تزوج كافرةً على أن يعلِّمها شيئاً من القرآن، فقد قال الأئمة: إذا كان يرتجي بذلك أن تسلم إذا تعلمت، فيجوز الإصداق، وعليه يدل قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] والاستماع والتعليم بمثابةٍ. ثم لا قطع بالقبول، فإنه تعالى قال: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] وإن كان لا يرتجي لها الإسلام بتعليم القرآن، فقد قال الأصحاب: لا يجوز أن تُعلَّم والحالة هذه. وكذلك إذا أراد الرجل أن يعلِّم جاريته الكافرة القرآن، وكان لا يأمل أن تسلم، وإنما يبغي أن يثبت لها صفةً تزداد قيمتُها بسببها، فلا يجوز ذلك؛ فإنها قد تستخفّ بما تتلقف، ونزَّل الأئمة هذا منزلة بيع المصحف من الكافر. وهذا فيه نظر؛ فإنه يلزم منه منع الكفار من التحويم على حِلَق القرآن؛ فإنهم قد يتلقنون من تدارس القرّاء الآية والآيتين، ولم ينته الأئمة إلى هذا، ولا بد منه إذا طردنا قياسهم. فرع: 8371 - إذا أصدق المرأة تعليمَ القرآن، ثم علّمها الآية والآيات، فنسيت، فهل عليه إعادة ما نسيت [تعلمها] (1)؟ أم يخرج عن عهدة ذلك القدر، ويعلّمها البقية؟ وما التفصيل في ذلك؟ وكيف الضبط؟ وأين الموقف؟ قال العراقيون: اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: الحدُّ الذي إليه الموقف

_ (1) في الأصل: عليها. وتأنيث الضمير على أن المراد (الآيات).

[الآية] (1)، فإذا حفّظها آية، فقد خرج عن العهدة، فإن نسيت بعد ذلك، فليس عليه إعادة تلك الآية عليها، وأن يعلِّمها البقية، وإن علّمها دون آيةٍ، فنسيت، فيعيد عليها، إلى استكمال آية. قالوا: ومن أصحابنا من قال: الحد المعتبر سورةٌ، على حسبا ما ذكرناه في الآية. والوجهان عندي مدخولان: أمَّا السورة، فلا وجه للتقدير بها مع تفاوت السور، وقد يُصْدِقُها بعضَ السورة، وأمَّا التقدير بالآية، فلا وجه له أيضاً، ومن الآي قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] وآية المداينة، فالوجه إذاً [تحكيم] (2) العادة في هذا: والمتلقن المتلقف يحفظ الكلمات كما يسمعها، ثم [ينتشر] (3) عليه الحفظ، فيعيد عليه الملقن، وقد يجري ذلك مراراً، فلا يكون ما جرى أولاً من إعادة الملقن لتلك الكلمات متقناً. فهذا [بيّنٌ] (4) وفيه عُرفٌ يعرفه أهله. وإذا تم التلقن، فيبقى وراء ذلك نظر، وهو أنَّ المتلقن مؤاخذ في العرف بأن يكرر ما تلقنه في نفسه، فإذا لم يفعل، عُدَّ ذلك تقصيراً منه، فليقع البناء على هذا الذي ذكرناه. ولا يقع التقدير بالمبالغ. ولو قال قائل: التلقين يقع في مقدار يحويه مجلس، فإذا فرض القيام عنه، والعود إلى مجلس آخر، ثم ينسى المتلقن ما تقدم، فهذا يحمل على تقصيره، وقد يحتمل منه عثرات فيه. والحكم المرجوع إليه العرف فيه، وينشأ منه أنَّ المتلقن إذا كان يلهو أو يسهو ولا يُكِبّ، لم يُحتمل هذا، وفي كل واحد من التلقين والتلقن عُرفٌ متبع بين طرفي الإغفال، ونهاية الإقبال.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: تحكم. (3) في الأصل: ينشرم (ولا معنى لها). (4) في الأصل: "أبين".

فرع: 8372 - إذا أصدق امرأته تعليم الفُحش من الأشعار، والخَنا في الحكايات، فهذا الإصداق فاسد، ولو أصدقها تعليم ما يجوز تعليمه جاز. وإذا أصدق الذمي الذمية تعليم التوراة والإنجيل، فهذا عندنا كما إذا أصدقها الخمر والخنزير، فإنَّ تعليم التوراة وتعلّمَها غير سائغ، وإنْ ترجمت التوراة بلسان نعرفها، ولم يكن فيها ما ننكره، فهو كسائر أنواع الكلام. وقد نجز القول في تعليمِ القرآن وأَصْدِقَتِه وما يتعلق به. 8373 - فأما القول في ردِّ الآبق؛ فإن كان مكانُه مجهولاً، فالاستئجار على رده باطل، وتصح معاملة الجِعالة في رد الإباق، والسبب في ذلك مسيس الحاجة، ثم احتملت الجهالةُ في الجِعالة جوازَها، وعورضت الجهالة بالتمكن من الفسخ متى شاء. وإذا أثبت ردّ الآبق صداقاً، فيجب أن يكون موضع العبد معلوماً، بحيث يجوز الاستئجار على رده؛ فإن رد الآبق -لو أُثبت على الجهالة صداقاً-، لثبت لازماً؛ فإنَّ الصداق لا يثبت جائزاً، ولو ثبت على اللزوم بعُد عن قبول الجهالة، لما نبهنا عليه من أنَّ سبب احتمال الجهالة في الجعالة ما ثبتت المعاملة عليه من الجواز، فهذا هو الغرض من جعل رد الآبق صداقاً. 8374 - [فأما] (1) جعل خياطة الثوب صداقاً فبيّن، والوجه إثباتها بحيث يجوز الاستئجار عليها، كما تمهد. 8375 - ثم إنا نذكر بعد هذه الفصول الثلاثة في تعليم القرآن، ورد الآبق، وخياطة الثوب، نوعين من الكلام: أحدهما - في توفية هذه المسميات على الكمال، مع فرض الطلاق قبل المسيس. والثاني - في طريان الطلاق قبل توفية هذه الحقوق، ويَعترض في أثناء الكلام تأكدُ المهر وتقرره بالمسيس قبل توفية المسميات. وإن أحببنا أفردناه بالذكر.

_ (1) في الأصل: ما.

فأمَّا إذا أوفر ما سمّى، فعلّم ما كان شَرَطَ، أو ردّ الآبق، أو خاط الثوب، ثم طلقها قبل المسيس، فسيأتي -إن شاء الله تعالى- في مسائل الصداق أنَّ الطلاق قبل المسيس مشطّرٌ. فإن كانت العين المصْدَقةُ باقيةً، ارتد شَطْرها إلى الزوج، فإن كانت فائتةً نُظر، فإن كانت من ذوات الأمثال غرِمت للزوج مثلَ نصف ما قبضت، وإن كانت من ذوات القيم، غرِمت له نصف القيمة، على ما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل. فنقول: [ليس] (1) التعليم، ولا الرد، ولا الخياطة مما يمكن فرض رجوع نصفه إلى الزوج، فنَجعلُ هذه المسميات كالعين المقبوضة الفائتة، وهي من ذوات القيم، وقِيَمُ المنافع أجرتُها، فيغرم الزوج -إذا طلق قبل المسيس في جميع هذه المسائل- نصف الأجرة. وقد انفصل الغرض. [وأما] (2) إذا طلقها قبل المسيس، وما كان وفَّى شيئاً مما سمّى في الفصول الثلاثة؛ فنقول أولاً: رد العبيد لا يتبعض؛ فإنَّ ردَّه إلى بعض الطريق ضائع. وقال الأئمة: الخياطة لا يتبعض أيضاً، وألحقوا به التعليم، وقطعوا في الطرق بأنه لا يتبعض، وفائدة امتناع التبعض في هذه الأشياء أنَّا لا نُلزم الزوج توفيةَ الجميع على أن تغرم له نصفَ القيمة. هذا لا سبيل إليه، وقد اعتقدنا امتناع التبعيض. فينتظم من ذلك كلِّه الحكمُ بتعذر توفية الصداق، فصار كما لو أصدق امرأته عبداً، وتلف في يده، ثم طلقها قبل المسيس، ولو جرى ذلك، لكان فيما يلزمه (3) في مقابلة نصف الصداق لزوجته قولان: أحدهما - أنه يلزمه نصف القيمة، والثاني - أنه يلزمه نصف مهر المثل، وحقيقة هذين القولين سرُّ كتاب الصداق ومرجوعُ المسائل. وسنصدّر الباب المعقود إثر هذا ببيان ذلك، إن شاء الله تعالى. 8376 - والذي يبقى من المباحثة في الفصل، تقدير التعذر في التبعيض، فنقول:

_ (1) في الأصل: أليس. (2) في الأصل: وما. (3) في الأصل: فيما لم يلزمه.

إذا كان أصدقها تعليم سورة، فالوصول إلى درك نصفها عسر، وإن تكلف متكلف عدَّ الحرفِ وتنزيلَ الشَّطر عليه، فماذا يصنع بنظم الكلام، وهو على تفاوت بيِّن؟ وفيه من اليسر والعُسر في التلقين والتلقن؛ فيتعذر ضبطُ هذا ودركُ نصفه. وكذلك القول في خياطة بعض الثوب، وردِّ العبد إلى بعض الطريق. فلو فَرَض فارضٌ خياطة لا [تعاريج] (1) فيها، في دروزٍ (2) مستقيمة [ويقع الاكتفاء بشَطْرها، بأن يشبكها كضِفّتي ملاءة تؤلفان] (3)، فالتنصيف في هذا مُدرَك. وقد ينتفع صاحب العبد برده إلى نصف الطريق، وتسليمه إلى موثوق به من [أصحابها] (4). وإذا فرض الفارض ذلك، أو تعليمَ سورة سهلة المأخذ من المفصّل، كسورة

_ (1) كذا قدّرناها مع أنها رسمت هكذا [نعارت]. والذي سوّغ لنا هذا التقدير هو رعاية المقابلة مع كلمة: (دروز مستقيمة). (2) دروز مستقيمة: الدروز جمع دَرْز، والدّرز موضع الخياطة، والدّرزي: الخياط (المعجم) والمعنى هنا أن الخياطة المستأجر عليها تكون في خطوط مستقيمة. (3) هذه العبارة بين المعقفين فيها تصرف غير معهود منّا، فقد أخذنا أنفسنا بأن نقيم العبارات غير المقروءة، والمصحفة والمحرفة بأقرب صورة لألفاظها وكلماتها، بل وما بقي من ظلالها وأطراف حروفها، عندما تطمس أو تنمحي؛ وذلك حتى يبقى الباب مفتوحاً لمن يلهمه الله؛ فيقرأ هذه الكلمات القراءة الصحيحة التي أرادها المؤلف، والتي لم نُعَن نحن على قراءتها. ومن أجل هذا نَصِفُ شكل الكلمات، وكيف رسمت، وكيف نُقِطت، مع وعدِ -إن شاء الله- أن نصوّرها من المخطوط ونضعها في قائمة خاصة بآخر الكتاب، هذا مع العلم بأن هذه الكلمات كثيراً ما تقل درجة وضوحها حتى يصعب تصويرها وطَبْعها. والله المستعان. هذا، وأصل هذه العبارة في المخطوطة كانت هكذا: " فلو فرض فارض خياطة لا (نفارت) فيها، في دروز مستقيمة وقع الاكتفاء بشرطا وللشكها كضفي ملكه مؤلفان، فالتنصيف في هذا مدرك " ا. هـ. فهنا عدّلنا كلمة (وقع) إلى: ويقع. وغيرنا كلمات (بشرط) إلى: بشطرها، و (ينشبك) إلى بأن يشبكها. فكأن (الألف) في شرطا تكون مع النون التي اتصلت خطأ بالكلمة بعدها، كأنهما يكونان كلمة (أن)، وأما كلمة (ملكة) فهي إما محرفة عن كلّة، أو هي اسم غير عربي لنوعٍ من ملابس ذلك العصر، ولذا غيرنا إلى: مُلاءة. والله أعلم. (انظر صورة العبارة كلها عسى أن يلهمك الله قراءتها). (4) في الأصل: "أصحابنا" وهو سبق قلمٍ لا شك والمراد أصحاب الزوجة.

الرحمن وغيرها مما يتخيره الإنسان بعد وضوح الغرض، فقد يقرب دَرْكُ التنصيف. وإذا أُضيف ما ذكرناه إلى تفاوت الناس في جودة الحفظ والبلادة، كان هذا أقربَ محتملاً وأسهلَ مُدركاً مما ذكرناه. ولم يتعرض الأصحاب لذلك كما تقدم، وأطلقوا القول بأنَّ هذه الأشياء لا تقبل التنصيف، والوجه عندنا حمل كلام الأصحاب [على] (1) الغالب؛ فإنَّ الخياطة يغلب فرضها في القمصان والجباب والأقبية (2)، وما في معانيها، والتعليم يفرض في حزب من القرآن، فإن تكلف متكلف الفرض في الصور التي ذكرناها، لم يخف المصير إلى إمكان التشطير. ثم القول في الرد بالخياطة -إن اعتقدنا إمكان التشطير- بيّن. 8377 - والقول في تعليم النصف مما سَمَّى صداقاً يتعلق بأصلٍ آخر، وهو أنَّ النكاح إذا تقيد بالمسيس وتقرر المسمى به، وما كان علَّمها شيئا، فإذا حَرُمَتْ عليه، وكان لا يتأتى التعليم إلا مع التعرض للفتنة؛ فهذا صداقٌ تعذر تسليمه، وإن أمكن التعليم [من] (3) وراء حجاب من غير تعرض للفتنة، فالتسليم ممكن، فيقع القول في الشطر على هذا النحو. وتمام البيان أنه إذا تعذَّر تعليمها، فجاءت بغلام، وأحلَّته محل نفسها، ورضيت بأن يعلمه، فهذا يتصل بما قدمناه من أنَّ ما به استيفاء المنفعة هل يُبْدَل؟ وقد مضى موضحاً مُفَصَّلاً. ...

_ (1) في الأصل: عن. والمراد أصحاب الزوجة. (2) الأقبية: جمع قَباء. (3) زيادة من المحقق.

باب صداق ما يزيد وينقص قال الشافعي: " وكلّ ما أصدقها، فملكته بالعقد، وضمنته بالدفع؛ فلها زيادته وعليها نقصانه ... إلى آخره " (1). 8378 - مذهب الشافعي ومعظم العلماء أنَّ النكاح إذا انعقد مشتملاً على مسمًى صحيح، فإنه يتضمن إثبات ملك جميع الصداق لها، ولا يتوقف ملكُها الصداقَ على المسيس، كما لا يتوقف ملكُ الزوج كلَّ البضع. ثم لو فرض الطلاق قبل الدخول، تشطَّر من وقت الطلاق الصداقُ، من غير إسناد (2) ولا تبيُّن، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل. وقال مالك (3): لا تملك المرأة بالنكاح إلاَّ نصف المهر، وتملك النصف الثاني بالدخول. فإذا تمهد ما ذكرناه، وقد أصدق الزوج امرأته عيناً من الأعيان، ولم يُسلِّمها إليها، فالصداق مضمون على الزوج قبل التسليم. 8379 - وفي كيفية الضمان قولان منصوصان في مسائل (السواد) (4): أحدهما - أنَّ الزوج يضمنه ضمان العقد؛ لأنه عوض في معاوضة، وكان مضموناً ضمان الأعواض، كالثمن في البيع. والقول الثاني - أنَّ الزوج يضمنه ضمان اليد كالمستام والمستعير ونحوهما.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 19. (2) سبق شرح الإسناد والتبين أكثر من مرة، وبإيجاز شديد هو وقوع الحكم الآن مستنداً إلى سبب سبق، أو تبيناه بعدُ. (3) ر. الأشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 716 مسألة رقم: 1295، وجواهر الإكليل: 1/ 308، وفيهما أن المهر لا يتقرر إلا بالدخول، وليس فيهما إشارة إلى تقرر نصفه. (4) السواد: هو مختصر المزني، كما تكرر أكثر من مرة.

توجيه القولين: من قال: إنه يَضمن الصداق ضمانَ الأعواض، احتج بأنَّ الصداق عِوضٌ، كما تقرر في صدر الكتاب، ولم يُثبت مقتضى الضمان سوى العقدِ؛ فيجب إثباتُ ضمان العقود. ومن قال: إنه مضمون باليد، احتج بأن قال: الصداق إذا تلف في يد الزوج قبل تسليمه، فالنكاح لا ينفسخ بتلف الصداق، والبضع هو المعوَّض -إن كان الصداق عوضاً- ويبعد جريان الانفساخ في المعاوضات في أحد العوضين [دون الآخر] (1). وحقيقة القولين ترجع إلى أنَّا إن قضينا بكون الصداق مضموناً ضمان العقود، فعقد الصداق على هذا ينفسخ، كما ينفسخ البيع بتلف المبيع قبل القبض. ثم مِن حُكم انفساخِ البيعِ بهذه الجهة: أنَّ الثمن إن أمكن استرداده يُسترد، وإن كان فائتاً يُسترد بدلُه مثلاً إن كان من ذوات الأمثال، أو قيمتُه إن كان من ذوات القيمة. كذلك إذا حكمنا بانفساخ عقد الصداق، فارتداد البضع غيرُ ممكن؛ للإجماع على بقاء النكاح، وإذا امتنع ارتداد البضع، ثبت بدلُه، وبدلُ البضع قيمته، وهي مهر المثل. فهذا تحقيق هذا القول. ومن قال: الصداق لا يُضمن ضمانَ العقود؛ فما يعضد جانبَه أنَّ الصداق والبضع لا يتقابلان تقابل الأعواض؛ ولذلك لم يكن الصداق ركناً في النكاح، ثم عقدُ الصداق لا ينفسخ عند هذا القائل كما ينفسخ النكاح، بل يقال: تسليم الصداق مستحَق على الزوج، فإذا فات تسليم العين، خَلَفتها القيمة، ويجب تسليمها. ومما يتعلق به هذا القائل: أنَّ البضع مملوك للزوج [فيبعد] (2) أن يتقوّم عليه البضع الذي هو حقه وملكه؛ فكان الرجوع إلى قيمة العوض أولى من الرجوع إلى قيمة الملك. وإنما تردد القول فيما ذكرناه؛ من جهة أنَّ الصداق لا يخرُج عن الأعواض، وليس هو على حقائقها، ومست الحاجة عند فرض تلف الصداق إلى إثبات شيء على

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: يبعد (بدون الفاء).

الزوج، فاقتضى أحد القولين التشبيهَ بضمان العقود التي تنفسخ من الجانبين، وإن كان النكاح لا ينفسخ. واقتضى القول الثاني التشبيهَ بضمان ما ليس عوضاً، وإن كان الصداق عوضاً، ورجع إلى إثبات الأَوْلى من قيمة البضع أو قيمة الصداق. وسنوضح هذا بأبلغ من ذلك في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل. 8380 - والذي نراه الآن تعجيل مقدار من التفريع على القولين يتمهد به فهمهما، فنقول: إن حكمنا بأنَّ الصداق مضمون ضمان العقد، فإذا تَلِف في يد الزوج، انقلب إلى ملكه قُبيل التلف، وقُضي بأنه باق على ملكه، وإن كان عبداً، فعليه مؤنة التجهيز، وهذا بمثابة المبيع يتلف في يد البائع، ونقضي بانفساخ البيع، [هذا، ومما [(1) يتفرع على هذا القول أنَّ المرأة لو أرادت أن تتصرف في الصداق قبل القبض بالبيع، لم يصح ذلك منها، كما لا يصح بيع المبيع قبل القبض؛ فإنَّ الصداق على هذا القول مضمون بالعقد ضمان الأعواض، فلو باعته، لضمنت، [ولأدّى إلى] (2) أن تكون العين الواحدة [مضمونة] (3) لها وعليها، وهذا يُفضي إلى توالي الضمانين، وعليه مُنع بيع المبيع قبل التسليم. وإن فرعنا على القول الثاني، فإنَّ بيعها ينفذ في الصداق قبل التسليم، كما ينفذ بيع [المُعير] (4) في العين المستعارة؛ فإنَّ ضمان اليد لا يجانس ضمان العقد، فلا يفضي تنفيذ بيعها إلى توالي ضماني عقدين. وإذا تلف الصداق في يد الزوج، فإنَّه يتلف ملكاً لها، وإن كان عبداً، فعليها التجهيز (5)، والقول في ذلك كالقول في العبد المستعار يتلف في يد المستعير. 8381 - ثم إذا حكمنا بأنَّ الصداق مضمون ضمان اليد، وقد تلف، فإنْ كان من ذوات الأمثال، فعلى الزوج مِثلُه لزوجته، وإن كان من ذوات القيم فعليه قيمتُه.

_ (1) في الأصل: وهذا مما يتفرع. (2) في الأصل: والأولى أن تكون. (3) في الأصل: مضمون، وهذا أثر من آثار عجمة قديمة عند الناسخ. أو من تسرّعه. (4) في الأصل: المعين. (5) أي إذا مات.

ثم اختلف قول الشافعي، فذكر في مسائل الباب قولين في كيفية اعتبار القيمة: أحدهما - أنَّ الزوج يضمنه ضمان الغصوب، فعليه أقصى القيمة من يوم الإصداق إلى يوم التلف، قياساً على الغصب. والقول الثاني - إنه يضمن الصداق بقيمته يوم الإصداق. ووراء ذلك سرٌّ عظيم، هو مركز الفصل، فليكن هذا على ذُكْر الناظر حتى ينتهي إليه. وقد اختلف قول الشافعي في أنَّ العين المضمونة على المستام على أي وجه تضمن؟ فقال في قول: تضمن ضمان الغصوب (1). وقال في قول: إنها تضمن بقيمة يوم القبض. ولا يُجري في المستام إلاَّ هذين القولين. وفي المستعير هذان القولان أيضاً، وقولٌ ثالث- وهو أنَ الاعتبار بقيمة يوم التلف إذا (2)؛ لم يجر فيه من المستعير عدوان. وهذا القول يجري في المستعير؛ من جهة أنَّا لو اعتبرنا قيمةَ يوم القبض، والمستعارُ ثوب مثلاً، فالأجزاء التي انسحقت بالبِلي إلى يوم التلف لا تكون مضمونة على الرأي الظاهر، فلو اعتبرنا قيمةَ يوم القبضَ، لأدخلنا تلك الأجزاء في الضمان. وإن قلنا نعتبر قيمة الثوب منسحقاً يوم القبض، عَسُر ذلك، فتعين وقتُ التلف، وقيمةُ الثوب على ما يصادَف عليه. وهذا ليس بمَرضيّ؛ فإنَّا إن ألحقنا هذه الأيدي بيد الغاصب، فهو قياس متجه؛ من قِبل أنَّ العين موصوفة بالضمان في كل وقت؛ فلا معنى لتخصيص وقت بالاعتبار، وهذا يفضي إلى إلزام الأقصى، ولا فرق بين الغاصب والمشبه به إلاَّ في المأثم. وتحقيق ذلك أن وجوب ضمان الرد يجمعهما، فهذا وجه. وإن لم نعتبر الأقصى في القول الثاني، فلا وجه إلاَّ أن نقول: كما (3) تثبت اليد يثبت الضمان، فنتمسك بأول معتبر، حتى كأن القبض إتلاف. وإن قال قائل: هلاَّ وجهتم اعتبار يوم التلف في الأيدي كلِّها؛ لأنَّ رد العين بالتلف

_ (1) أي أقصى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف. (2) " إذا ": بمعنى (إذْ). (3) " كما ": بمعنى (عندما).

يفوت، والقيمة تلوُ العين وبدلُها؟ قلنا: هذا يوجب نفي الضمان قبل التلف، وقد أجمع المسلمون على أنَّ العين مضمونة قبل التلف على القابض، فيستحيل قصر الضمان على وقت التلف، ويستحيل تأخيرها عن أول وقت الحكم بالضمان، وقد ذكرت قولاً بالغاً في هذا في كتاب العاريّة، واستوعبت ما قاله الأصحاب، وأتبعته بالبحث، على العادة. وغرضنا الآن في الصداق إجراء القولين في اعتبار القيمة، أحدهما - أنَّا نعتبر يوم الإصداق، وفي هذا مزيد [نظر] (1) يقتضي تعيين يوم الإصداق، كما سنذكر الآية، إن شاء الله عز وجل. 8382 - ثم فرَّع الأصحاب على هذين القولين حكمَ الضمان في الزوائد التي تحدث في يد الزوج: المتصلة منها والمنفصلة. وقالوا: إن حكمنا بأنَّ الصداق مضمون ضمان الغصوب، فالزوائد بجملتها تدخل في ضمان الزوج -قياساً على الغاصب- مع ما يحدث في يده من الزوائد. وإن قلنا: لا يضمن الزوج ضمان الغصوب، فالزوائد لا تكون مضمونة عليه، وهي بمثابة الثوب تطيره الريح، فتلقيه في دار إنسان. ومما فرّعه الأصحاب: أنَّ الزوج إذا انتفع بالصداق، فإن قلنا: إنه مضمون عليه ضمان اليد، فيلزمه أجر المثل. وعلى هذا القول، لو لم يستعمله وطال مكثه في يده، فالضمان يخرج على قولي الغصب ونفيه، فإن أثبتنا ضمان الغصوب ضَمَّنّا الزوجَ المنافعَ، كصنيعنا بالغاصب. وإن قلنا: لا يضمن الزوج ضمان الغصوب، فالمنافع التي تفوت من غير تفويته، بمثابة الزوائد التي تحدث وتفوت. وإن فرّعنا على أنَّ الصداق مضمون ضمان العقد، فالمنافع التي تفوت لا تكون مضمونة على الزوج، وكذلك ما يفوت من المنافع في يد البائع لا يكون مضموناً عليه. وإن انتفع الزوج بالصداق -على قولنا: إنه مضمون ضمان العقد- فهو كما لو انتفع البائع بالمبيع، وإن اتفق ذلك، ففي وجوب الأجر عليه جوابان مبنيان على أنَّ

_ (1) زيادة لإيضاح الكلام.

جناية البائع على المبيع، بمنزلة آفة سماوية، أو هي كجناية أجنبي؟ وفيه قولان: فإن جعلناها كالآفة، لم يجب الأجر، وإن جعلناها كالجناية (1)، وجب الأجر بسبب الاستعمال. وهذا جوابنا في الزوج إذا قلنا: ضمان الصداق ضمان العقود. فهذا تأسيس القولين وبيانهما بالتفريع في عقد الباب. 8383 - ومما أذكره -وبه يحصل تمام البيان- أنَّ الرجل إذا أصدق امرأته عبداً عيّنه، فخرج مُسْتَحَقَّاً مغصوباً، ففيما يجب مهراً قولان: أحدهما - أنَّ الواجب مهر المثل. والثاني - أنَّ الواجب قيمة ذلك العبد المُصْدَقِ. وهذا الاختلاف متلقًى مما قدمناه من اختلاف القول في تلف الصداق. وتحقيق القول فيه، أنَّ الصداق إذا تلف، وقلنا: الواجب قيمته، فقد أبقينا عقد الصداق، كما أوضحنا فيما سبق، وإن كانت العين فائتة، فإذا استقل عقد الصداق دواما والعين فائتة؛ نزولاً على قيمة العين وماليتها، انعقد العقد على المالية ابتداءً، وإن لم يعتمد عيناً مملوكة. وآية ذلك، وفيه السر الموعود في أنَّا نعتبر يوم الإصداق- أنَّا نقدر أن العين لم تكن، والإصداق ورد على القيمة، والقيمة المسلَّمة هي الصداق، على القول الذي نفرِّع عليه. وإن حكمنا بأنَّ العقد ينفسخ بتلف الصداق، فلا بقاء إذاً للعقد من غير ارتباطٍ بعين، فلذلك يفسد الإصداقُ ابتداءً، ويجب الرجوع إلى مهر المثل. وكنت أود لو [قصروا] (2) التلف على القولين كما مضى، وقطعوا القول بأن الصداق إذا خرج مستحَقاً، فالرجوع إلى مهر المثل؛ فإنَّ صداق المغصوب فاسد؛ من جهة أنه لا متعلق له، وليس كما إذا ثبت الصداق، ثم تلف؛ فإنَّ التردد في الرجوع يُحمل على محاملَ ذكرناها.

_ (1) أي جناية الأجنبي. (2) في الأصل: قصر.

ولكن أطبق الأصحاب على ما ذكرته من إجراء القولين في الابتداء، والتصريح بأحدهما من التلف في الانتهاء. 8384 - وأنا أذكر الممكن وراء هذا، فأقول: النكاح لا يفسد بفساد الصداق، كما لا ينفسخ بتلف الصداق، فإذا فُرض في ابتداء النكاح [تسمية] (1) متعلقة بمغصوب، فقد اتفق العلماء على إثبات عوض، والعين لم تثبت، ولم يقصد المتعاقدان إثبات قيمة البضع، وإنما جرّدوا قصدَهما إلى إثبات هذا العوض المسمّى، فرجع حاصل الخلاف إلى أنَّ أحد القائلَيْن يقول: إثبات بدل المسمى أقرب؛ فإنهما رضيا به ماليةً، وقدراً، وعسر إثبات [عينه] (2)، ولو أثبتنا مهر المثل، لكان إثباتَ ما لم يقصداه. والقائل الثاني يقول: نأخذ من [تسميتهما] (3) قصدَ العوض وعدمَ الرضا بالتفويض، ويفسد ما تعرضا له. ونقول: كأنَّ التسمية لم تكن، واضطررنا إلى إثبات عوض، وكان إثباتُ قيمة البضع أقربَ. وهذان القولان يجريان في الخُلع، والمصالحة عن دم العمد، فإنهما لا يفسدان بفساد العوض، كالنكاح. فإذا جرى ذكر عوض فاسد، وامتنع إثباته، ففي قولٍ يثبت بدل ذلك العوض، ويُجعل ذكر العوض التزاماً، وفي قولٍ يُرجع إلى قيمة المقصود، إمَّا مهر المثل، وإما الدية في المصالحة عن الدم. 8385 - وكل ما ذكرناه فيه إذا عَيّنا عبداً، فخرج مغصوباً، فأما إذا خرج المعيّن حراً، فقد أجمع الأئمة على تنزيل ذلك بمنزلة ما لو خرج عبداً مغصوباً. وطردوا [القولين] (4) فيما يجب: أحدهما - أنَّ الواجب مهر المثل. والثاني - أنَّ الواجب قيمة ذلك الشخص لو قُدّر رقيقاً.

_ (1) في الأصل: قسمة. (2) في الأصل: " عينها " والضمير عائد على المسمى، كما هو واضح. (3) في الأصل: تسميتها. (4) في الأصل: القول.

وهاهنا يجب أن يتثبّت الناظر. قال الشيخ أبو بكر في مجموعه، والقاضي في [طريقته] (1): إنما نُجري القولين إذا لم تفسد العبارة، فأما إذا فسدت، فالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً. وبيان ذلك أنه لو قال: " أصدقتها هذا الحر ". فاللفظ فاسد، والعقد لا ينعقد باللفظ الفاسد، فالرجوع إلى مهر المثل. وإنما محل القولين فيه إذا قال: " أصدقتكِ هذا العبد "، وهذا يُضعف القولين فيه إذا قال: أصدقتكِ هذا العبد، فإذا تبيّنا بالأَخَرَة أنَّ اللفظ فاسد إذا بان ذلك الشخص حراً، ولا حكم للظنون بعد التبين، وتسمية الحر عبداً فاسد، ولم يَرِد العقد على عبد مرسل. قال شيخي أبو محمد: هذا له التفات على مخالفة [اللفظ] (2) الإشارةَ في مثل قول القائل: " بعتك هذه الرَّمَكَة "، فإذا المشار إليه بقرة، فإنَّ من أصحابنا من يغلِّب الإشارة ويُصحح البيع، ومنهم من يغلّب العبارة ويفسدها. فإذا قال: أصدقتكِ هذا العبد، فالعبارة صحيحة، والمشار إليه فاسد غير صالح للعوضية. وهذا الذي ذكره لا يشفي الغليل. وذلك أنَّ المشار إليه إذا فسد، فيجب تنزيل العبارة على حكم الفساد، والخلاف الذي ذكره، فيه إذا اقتضت الإشارة تصحيحاً لو فرض الاقتصار عليها، والعبارة تخالف الإشارة، فمن الأصحاب من يُحبِط العبارة ويغلِّب الإشارة. وحاصل ما ذكره الأصحاب -بعد ما ذكرناه من وجوه الإشكال- أنه لو قال: " أصدقتكِ هذا الحر "؛ فالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً. وإذا قال: " أصدقتكِ هذا العبدَ " -وهو حر- فقولان. هذا منتهى الإمكان. 8386 - ولو قال: " أصدقتك هذا العصير "، فتبين أنه خمر، أو قال: " أصدقتك هذه النعجة "، فإذا هي خنزير؛ فقد اضطرب طرق الأئمة. فالذي قطع به شيخي وطائفة من الأصحاب: أنَّا نحكم بالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً من غير

_ (1) في الأصل: طريقه. (2) في الأصل: مخالفة لفظ الإشارة.

تفصيل، ولا ننظر إلى العبارة ما اشتملت عليه، وذلك لأنَّ الخنزير لا يقبل التقويم، وكذلك الخمر، فلو قوّمناهما، لاستحال، ولو قدرناهما نعجة وعصيراً، كان هذا [تقريراً] (1) لتقدير الصفة الخِلْقية، وليس كالرق نقدره في الحر؛ فإنه حكم، والتقدير أن يحتمل تقدير الحكم، فأما أن يبنى على تغيير الخلق، فهذا لا سبيل إليه، فصار تعذر التقويم في الخمر والخنزير بمثابة [تعذر] (2) التقويم في المجهول، ولا خلاف أنَّ من أصدق امرأته مجهولاً، فالرجوع إلى مهر المثل. 8387 - وذهب القاضي والصيدلاني إلى إجراء القولين في الخمر والخنزير، ثم بنى هؤلاء مسلكهم على العبارة؛ فقالوا: إذا قال: " أصدقتكِ العصير "، وهو من ذوات الأمثال، فخرج خمراً، ففي قولٍ نوجب مهر المثل، وفي قولٍ نوجب مثل العصير. وإن قال: " أصدقتكِ هذه الخمر "، فاللفظ فاسد على رأيهم، والرجوع إلى مهر المثل. وعند ذلك تتفق الطرق. ولست أدري ما يقوله هؤلاء فيه إذا قال: " أصدقتكِ هذا "، واللفظ لا فساد فيه، ولم يجر فيه ما نعتمده في تقويمِ أو اعتبارِ مِثْلٍ، والخمرة لا تتقوم، فيظهر هاهنا أن ذلك ينزّل منزلة قوله: " أصدقتكِ هذا الخمر "؛ فإنا لو لم نقل به، لم يمكننا أن نعتبر الخمر بالعصير، ولو فعلنا توجَّه أن نعتبرها خلاً، ولا ضبط. ويبعد أن تُعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة- كما صار إليه بعض الأصحاب في أنكحة أهل الذمة إذا اتصلت بالإسلام، وقد جرى القبض في بعض الخمور المجعولة صداقاً. وكل ذلك خبطٌ في هذا المقام، والوجهُ: القطع بالرجوع إلى مهر المثل في تسمية الخمر، وفي الإشارة المطلقة، وليس كالإشارة المطلقة إلى الحر؛ فإنّه قد يتجه تنزيلها منزلة قوله: " أصدقتكِ هذا العبد " فإنَّ تقويم الحر ممكن على حال.

_ (1) في الأصل: تقديراً. (2) في الأصل: تعذير.

ومن لطيف ما يجب التعرض له: أنه إذا قال: " أصدقتكِ هذا العصير "، فإذا الخمرُ مشوبةٌ بالماء، فنعتبر عصيراً على قدرها. والجملة أنَّا نقدر تلك الشدة حلاوة، إذ لو لم نفعل هذا، فالعصير مجهول، نص على ما ذكرتُه الصيدلاني. وعلى هذا قد لا يكون العصير من ذوات الأمثال، فالرجوع إلى القيمة. 8388 - ووراء هذا غائلة، وهي: أنه إن انقدح في الخمر والعصير ما ذكرناه، [فما] (1) وجهه في الشاة والخنزير، وأنه شاةٌ ترعى؟ وكيف التقريب بين الشاة والخنزير؟ فإن فُهِم إبدال الشدة بالحلاوة في الخمر، وتقدير العصير؛ فكيف السبيل في الشاة والخنزير؟ وهذا وضَّح أنَّ الوجه: القطع بأنَّ الرجَوع إلى مهر المثل. فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في حقيقة القولين في أنَّ الصداق مضمون بالعقد [أو] (2) باليد. ورجع حاصل الكلام في الفوات الطارىء والفساد المقترن: أنَّ التقويم إن أمكن، فقولان: أحدهما - أنَّ الرجوع إلى مهر المثل. والثاني - أنَّ الرجوع إلى القيمة. والحر مما يمكن تقدير تقويمه، والمجهول لا يمكن تقويمه، فإذا اضطررنا إلى إثبات عوض، فلا طريق إلاَّ الرجوع إلى مهر المثل. وإن فرّعنا على أنَّ الصداق مضمون باليد [ففي] (3) الخمر والخنزير التردد الذي حكيناه. ولا خلاف أنَّ الشقص إذا أُثبت [صداقاً] (4)، فالشفيع لا يأخذه بقيمته، وإن رجعنا في التفاصيل التي ذكرناها إلى قيمة الصداق؛ فإنَّ الشفيع أبداً يأخذ بعوض مقدر في مقابلة الشقص، فبابه ينفصل عما [نحن] (5) فيه، وهو بيِّن عند التأمل.

_ (1) في الأصل: فيما. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: في. (4) في الأصل: إصداقاً. (5) في الأصل: يختص.

فصل 8389 - إذا تمهّد ما ذكرناه في تمهيد القولين، جاز بعده أن نذكر ما يلحق الصداقَ في يد الزوج من ضروب التغايير، فنذكر تقاسيمَ جامعةً، ونوضح في كل قسم ما يليق به، إن شاء الله عز وجل، فنقول: الصداق لا يخلو: إما أن يبقى على صفته حتى يسلِّمه إليها، أو يطرأ مُغيِّرٌ، فإن بقي على هيئته حتى سلمه إليها، فقد تخلص عن العهدة، وإن تغير، لم يخل: إمَّا أن يتغير مع بقاء العين، أو يتغير بالتلف. فإن تغيّر مع بقاء العين، لم يخل: إمَّا أن تغير بالزيادة أو تغير بالنقصان، فإن تغير بالزيادة، فالصداق مع الزيادة مسلمة إليها، سواء كانت متصلة أو منفصلة. وإن كان التغير بالنقصان، فلا يخلو: إما أن يتغير بنقصان جزء أو نقصان صفة، فإن تغير بنقصان صفة، فلا يخلو: إمَّا أن ينتقص بآفة سماوية أو جناية، فإن انتقص بآفة سماوية فعمِيَ، أو عوِرَ، أو سقطت إحدى يديه، أو هُزِل وكان سميناً، فهذا يتفرع على القولين في أنَّ الصداق مضمون بالعقد أم باليد؟ فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، فلها الخيار بين الإجازة والفسخ، فإن فسخت، رجعت بمهر المثل، كالمبيع يتعيّب في يد البائع، فإنه يرده المشتري إن شاء ويسترد الثمن. وإن أجازت، رجعت بالصداق [معيباً] (1) ولم ترجع بشيء، كالمشتري يرضى بالعيب الحادث بالمبيع. وإن قلنا: هو مضمون باليد، فيثبت الخيار للمرأة أيضا، فإن فسخت، رجعت بالقيمة، وإن اختارت [أَخْذ] (2) الصداق، كان لها أن تغرّمه أرش العيب؛ فإنَّ التفريع على أنَّ الصداق مضمون باليد، وما كان مضموناً باليد، فعيبه مضمون على صاحب اليد. 8390 - ومما يتصل بهذا المنتهى أنَّ المرأة إذا اطلعت على عيب قديم، وقلنا:

_ (1) في الأصل: معيناً. (2) في الأصل: أخذت.

إنه مضمون باليد، فإن فسخت، رجعت إلى القيمة، والاعتبار بقيمة العين وهي سالمة؛ إذ هذا فائدة الفسخ. فإن قيل: هلاّ قلتم: إنها إذا ردت الصداق بالعيب، كان الرجوع إلى مهر المثل؟ وإن فرعنا على ضمان اليد؛ فإنَّ التعويل في ضمان اليد على أنَّ عقد الصداق قائم لا يرتفع بتلف المهر، والرد يتضمن الفسخ على كل حال، فكان يجب أن يقال: إذا فسخت، [فرجوعها] (1) إلى مهر المثل؟ قلنا: هذا وهم وغلط؛ فإنا إذا أجرينا القولين في خروج المسمى مغصوباً وحراً، مع العلم بأن الحرية والاستحقاق يخلفان المعيّن عن الإصداق، فالرد آخراً لا يزيد على اقتران الاستحقاق والحرية بالعقد أوّلاً، هذا إذا فسخت بالعيب القديم. فأمَّا إذا أجازت، فالمسألة محتملة في أنها هل ترجع بأرش العيب، والتفريع على قول القيمة، وقد تردد جواب القاضي فيه، حتى لم ينقل عنه جواب باتٌّ، وسبب الاحتمال أنا إذا جعلنا الإصداق مضموناً باليد، فَيَدُ الزوج لم تثبت إلا على معيب من وقت الإصداق، فتغريمه الأرش -وقد قنِعت المرأة بالعين- لا معنى له، والأوجه في العقد أن تملك تغريمه؛ فإنها رضيت بالعين أولاً على تقدير السلامة، فكأنها استحقتها بالعقد، فإن تخلفت، كان ذلك كتخلف الرق عند بُدوّ الحرية في الشخص المسمى. وكل ما ذكرناه فيه إذا انتقص الصداق بآفة سماوية. 8391 - فأما إذا انتقص بجناية جانٍ، فلا يخلو: إمَّا أن ينتقص بجنايتها، أو جناية غيرها. فإن انتقص بجنايتها، يسلِّم الزوجُ العينَ ناقصةً إليها، وكانت بالجناية في تقدير القابضة لما نقص بالجناية. وإن انتقص بجناية غيرها، فلا يخلو: إمَّا أن ينتقص بجناية أجنبي، أو بجناية الزوج. فإن انتقص بجناية أجنبي، فلها الخيار على القولين، فإن أجازت، وقلنا:

_ (1) في الأصل: رجوعها.

الصداق مضمون بالعقد، رجعت بالأرش على الأجنبي؛ فإنه جنى عليها، ولا طَلِبة لها على الزوج. وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، وقد أجازت، فهي بالخيار يعد الإجازة بين أن ترجع بالأرش على الأجنبي، وبين أن ترجع به على الزوج؛ وذلك أنَّ الصداق مضمون على الزوج ضمانَ اليد، ثم إن غرمت [الأجنبي] (1)، فلا رجوع له على أحد، وإن غرمت الزوج، رجع بما يغرَمه على الجاني الأجنبي. هذا إذا اختارت المرأة الإجازة، وقدمنا الحكم على القولين فيه. فأمَّا إذا فسخت؛ فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، رجعت بمهر المثل، فحسب، وردّت العبد، ثم الزوج يرجع على الأجنبي بأرش الجناية. وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فإذا فسخت، رجعت على الزوج بالقيمة مع تقدير السلامة عن هذا العيب، ثم يَتْبع الزوجُ الجانيَ بالأرش. 8392 - وإن انتقص الصداق بجناية الزوج، فإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فلها الخيار، فإن أجازت، أخذت العين ورجعت بالأرش، وإن فسخت، رجعت بالقيمة مع تقدير السلامة. وإن قلنا: الصداق مضمون بالعقد، وقد جنى الزوج، فهذا ينبني على أنَّ جناية البائع على المبيع يُنزَّل منزلة الآفة السماوية، أو يُنَزَّل منزلة جناية الأجنبي؟ وفيه قولان، فإن قلنا: حكمه حكم الانتقاص بالآفة السماوية، فقد ذكرنا حكم ذلك، وإن قلنا: حكمه حكم الانتقاص بجناية الأجنبي، فقد ذكرنا حكم ذلك أيضاً. وكل ذلك فيه إذا كان التغيير بنقصان الصفة. 8393 - فأما إذا نقص جزءٌ من الصداق، وذلك بأن يصدقها عبدين فيموت أحدهما، أو [قفيزين] (2) فتلف أحدهما، فهذا يلتحق بفروع تفريق الصفقة، وتخريجه على قواعد التفريق هيِّن. وظاهر المذهب أنَّ العقد لا ينفسخ في القائم، وينفسخ في التالف. والظاهر أنها إن أجازت العقد في القائم، أجازته بحصته من الصداق، ولا يخفى التفريع على الآخر.

_ (1) في الأصل: للأجنبي. (2) في الأصل: فقيرين.

فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، رجعت بحصة التالف من مهر المثل، وإن قلنا: مضمون باليد، رجعت بقيمة التالف. 8394 - وقد أفضت بنا التقاسيم بعد نجاز القول في التغايير إلى الكلام في تلف الصداق في يد الزوج، فنقول: إن تلف بآفة سماوية، فالقولان مشهوران، وهما أُمُّ الباب، وإن تلف الصداق بإتلاف مُتلِف، فلا يخلو: إمَّا أنْ يكون المتلِفُ هو المرأةُ، أو غيرُها. فإن كانت هي المتلفة، جعلناها قابضة للصداق، وخرج الزوج عن العهدة. وإن كان المتلف غيرَها، لم يخل؛ إمَّا أنْ يكون أجنبياً، أو يتلفه الزوج. فإن كان المتلف أجنبياَّ، وفرّعنا على أنَّ الصداق مضمون بالعقد، فالمرأة بالخيار، فإن فسخت، رجعت على الزوج بمهر المثل، ثم الزوج يَتْبع المتلفَ بالقيمة، وإن أجازت، اتّبعت المتلفَ بالقيمة، ولا طلبةَ لها على الزوج. وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فإن فسخت، رجعت على الزوج بالقيمة، ثم الزوج يتبع المتلِف بها، وإن أجازت فلها الخيار بين أن ترجع على الأجنبي المتلف بالقيمة، وبين أن ترجع على الزوج، ثم يرجع على المتلف بما يغرم. وإن كان المتلف هو الزوج، وقلنا: الصداق مضمون بالعقد، فهذا يبتني على القولين في إتلاف البائع، فإن جعلناه كالتلف بآفة سماوية، رجعت بمهر المثل، وإن قلنا: هو كإتلاف الأجنبي، فقد سبق حكمه، فإن فسخت، رجعت بمهر المثل، وإن أجازت رجعت بالقيمة. وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فهذا يتفرع على أنه على أي وجه يضمن؟ فإن قلنا: إنه يضمن ضمان الغصوب، فلا فائدة لها في الفسخ، بل لا معنى للفسخ؛ فإنها كيف فرضت الأمر، تُغَرِّم زوجها أقصى القيم. وإن قلنا: إنه يضمن باعتبار يوم الإصداق، فإن كانت قيمة يوم الإصداق أكثر، فلا فائدة في الفسخ أيضاً، ولها قيمة ذلك اليوم إذا قلنا: إتلاف البائع كالتلف بآفة سماوية. وإن قلنا: إتلافه كإتلاف الأجنبي، فلو لم تفسخ، فليس لها إلا قيمته عند

الإتلاف، وإن فسخت غرّمت الزوجَ قيمةَ يوم الإصداق. وإن كانت القيمةُ يومَ الإصداقِ أقل، وقلنا: جناية البائع كالتلف بالآفة السماوية، فلا فائدة في الفسخ؛ فإنه ليس لها إلاَّ قيمة يوم الإصداق، فإن جعلنا التلف بجناية البائع كالمتلَف بجناية الأجنبي، فلسنا نرى لها أيضاً فائدة في الفسخ؛ فإنها إن لم تفسخ، غرَّمته قيمةَ يوم الإتلاف، وهي أكثر، وإن فسخت رجعت إلى قيمة يوم الإصداق، وهي أقل. فلا ينبغي أن نُثبت لها الفسخ؛ إذ لا غرض فيه إلاَّ التنقيص والحط، وليس كما لو اطلع المشتري على عيب المبيع، وكانت قيمته أكثر من الثمن مع العيب، فإنَّا نثبت حق الرد لاختلاف جنس الثمن والمبيع المعيب، فقد يكون له غرض في رد المعيب. فهذا ما رأيناه في ذلك. 8395 - ومما يتعلق بتمام البيان في هذه الفصول، أنَّ المرأة إذا طلبت الصداق، فامتنع الزوج من تسليمه إليها حتى تلف، فالامتناع ظلم منه وعدوان، فإذا حصل التلف في يد عادية، فينبغي أن نجعل ذلك [كحصول] (1) التلف بإتلافه، ونقول: البائع لو منع المبيع، فتلف في يده بعد ما وجب عليه تسليمُ المبيع، فهو كما لو أتلفه، [فنذكر] (2) حكم المهر إذا فرض بعد العدوان بالامتناع، ونفرّع هذا على القولين في أنَّ الصداق مضمون بالعقد أم باليد؟ فإن جعلناه مضموناً بالعقد، فلها الخيار، فإن فسخت رجعت بمهر المثل، وإن أجازت، فبالقيمة، إذا جعلنا إتلاف الزوج كإتلاف الأجنبي. فإن جعلنا إتلافه كالتلَف بآفة سماوية، فلا حاجة إلى الفسخ؛ فإنَّ الصداق ينفسخ ولها مهر المثل. وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، وفرعنا على أنه يُضمن ضمان الغصوب، فلا فائدة لترديد النظر في الفسخ والإجازة، ولها طلب أقصى القيم. وإن قلنا: الصداق مضمون بقيمة يوم الإصداق، وكانت قيمة يوم الإصداق أكثر،

_ (1) في الأصل: بحصول. (2) في الأصل: فذكر.

فلا فائدة أيضاً، ولها قيمة يوم الإصداق وإن كانت أقل، ضمن أيضاً أكثر الأمرين، من قيمة يوم الإصداق، ومن قيمته من يوم المنع إلى يوم التلف؛ لأنه متعدٍّ بالمنع، فيضمن ضمان الغصب بعد المنع. 8396 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصداق عيناً، فأما إذا كان الصداق دَيناً، فالذي يليق بهذا القسم الكلامُ في جواز الاستبدال، فإن فرّعنا على أنَّ الصداق مضمون باليد، كان [كالقرض] (1)، فإذا كان ديناً وقيمة المتلف (2)، فيجوز الاستبدال عنه قولاً واحداً، فإنا إذا كنا نجعل العين المُصْدَقَة مضمونة باليد غير مضمونة بالعقد، فنجعل الدين بمثابة ما يثبت لا على سبيل العوض. وإن حكمنا بأنَّ الصداق مضمون بالعقد ومنعنا بيعه قبل القبض عيناً، فإذا كان ديناً كان كالثمن، لا كالمسلَم فيه، وقد ذكرنا اختلاف قول الشافعي في جواز الاستبدال عن الأثمان. وقد نجز الغرض من تقاسيم الفصل، ونحن الآية نعقد فصلاً فيه إذا طلَّق الزوجُ زوجته قبل المسيس وبعده، ونذكر حكم تشطر الصداق، وما يلحقه من التشاطير في يده أو يدها. فصل 8397 - إذا طلّق زوجته قبل الدخول، فقد استقر لها ملك الصداق، فإن كانت قَبَضَتْهُ على ما استحقته، فلا كلام. وإن كان في يد الزوج، فعليه تسليمه، فإن لحقه في يده تغيّر، فقد تقدم القول فيه مستقصًى. وإن طلّقها قبل المسيس، فلا يخلو الصداق إما أن يكون عيناً أو ديناً، فإن كان عيناً

_ (1) في الأصل: كالفرض. (2) كذا. والكلام مستقيمٌ بدون قوله: " وقيمة المتلَف ". فالكلام هنا في الاستبدال عما في الذمة، لا عن مُتلَفٍ، وقيمته أو مثله. وانظر المسألة في الشرح الكبير: 8/ 234، والروضة: 7/ 250.

فالمذهب الأصح أن نفس الطلاق يُشطِّر الصداق، ويتضمن ارتداد نصفه إلى ملك الزوج سواء اختار ذلك أو لم يختره. وفي المسألة وجه مشهور بأنه لا يرجع النصف إلى الزوج ما لم يختر تملكه، فإذا اختاره، رجع إليه إذ ذاك. ووجه الوجه الأوّل ظاهرُ قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، وهذا حكم من الله تعالى، لا تعلُّقَ له بقصدِ الزوجِ واختيارهِ، وأيضاً فإنَّ موجِب رجوع ما يرجع انبتاتُ النكاح قبل استيفاء المقصود، حتى قيل: بقاء النصف عليها غير منقاس. وهذا المعنى يوجب حصول التشطر من غير قصد، كالفسوخ التي تتضمن ارتداد جميع الصداق. ومن نصرَ الوجه الضعيف، احتج بأنَّ الطلاق ليس فسخاً للنكاح، ولكنه تصرفٌ فيه، غير أن الشرع أثبت له مستدركاً في مقدارٍ من الصداق. فليتعلق ذلك باختياره. التفريع على الوجهين: 8398 - إن حكمنا بأنَّ الصداق يتشطر بنفس الطلاق من غير إحداث سبب آخر، فلو حدثت زيادة بعد الطلاق، فهي متشطرة بين الزوج والزوجة؛ لأنها حدثت على المِلكين. وإن قضينا بأنَّ رجوع الشطر يتوقف على اختيار التملك، فالزيادة الحادثة بعد الطلاق وقبل اختيار التملك خالصةٌ للزوجة، والمعنيّ بالزيادة ما ينفصل. ولو حدث بين الطلاق وبين اختيار التملك نقصانٌ راجع إلى الصفة، نُظر: فإن كان الصداق في يده، فلا إشكال ولا تفريع، وإن كان في يدها، تفرع على الوجهين: فإن قلنا: الملك في الشطر لا يرجع إلى الزوج قبل اختيار التملك، فما حدث من عيب بعد الطلاق وقبل الاختيار، [فهو] (1) بمثابة ما يحدث من العيب قبل الطلاق، فإذا جرى ذلك في يدها، فللزوج التخيُّر بهذا السبب، كما سنصفه على الاتصال بهذا، إن شاء الله تعالى. وإن حكمنا بأنَّ الملك بنفس الطلاق يتشطر، فإذا كان الصداق في يدها، فالذي

_ (1) في الأصل: وهو.

ذهب إليه المحققون من أئمة المراوزة أن النصف الراجع إلى الزوج أمانة في يدها، ولا يلحقها بسبب ما يطرأ من العيب بعد الطلاق من غير عدوانها عهدة وضمان. ولو تلف الصداق في يدها بعد الطلاق، ولم تنتسب إلى الاعتداء، لم تضمن [النصفَ] (1) الراجع إلى زوجها. هذا ما ذكره القاضي والصيدلاني وجماعة المراوزة. وقطع العراقيون قولهم بأنَّ النصف الراجع إلى الزوج مضمون عليها في يدها؛ فلو تلف ضمنته من غير تقصير. وشبهوا هذا النصف في يدها بما لو باع عبداًً بجارية، ثم رُدت الجارية بالعيب ولزم رد العبد، فما لم يرده على صاحبه يكون مضموناً عليه، حتى لو تلف العبد في يده، ضمنه. فهذا مسلكهم، وهو مخالف لطريق المراوزة. وقد فرقوا بين النصف الراجع إلى الزوج، وبين المسألة التي استشهد بها العراقيون من بيع الجارية بالعبد، فقالوا: العبد عوض الجارية المردودة، فإذا رُدَّت، فمن حكم المعاوضة إثبات الضمان في العوض حتى يُردَّ، والنصف من الصداق لا يرتد في مقابلة عوض " فإنَّ النكاح لا ينفسخ بالطلاق، فالمسألة محتملة جداً؛ فإنَّ رجوع نصف الصداق في مقابلة انقلاب منفعة البضع إليها من غير استيفاء، ولولا هذا، لكان يجب ألاَّ [يرتد] (2) من الصداق شيء. 8399 - ولو كانت قبضت الصداق، ثم فسخ الزوج النكاح بسببٍ يتضمن استرداد جميع الصداق، فالذي يقتضيه قياس الطرق كلها: أنَّ الصداق يكون مضموناً [عليها] (3) حتى تردّه؛ فإنه في هذا المقام يرتد ارتداد الأعواض في الفسوخ. وإذا ارتد الزوج قبل المسيس، وحكمنا بأنَّ ردته بمنزلة الطلاق في تشطير الصداق، فالعراقيون إذا ضمّنوها نصف الصداق عند الطلاق، فلا شك أنهم يطردون مذهبهم في هذه الصورة.

_ (1) في الأصل: بالنصف. (2) في الأصل: يزيد. (3) في الأصل: عليه.

والذي يقتضيه قياس المراوزة أنَّ نصف الصداق لا يكون مضموناً على المرأة قياساً [على] (1) نصفه وقد طُلِّقت قبل المسيس، ولا نظر إلى الانفساخ؛ فإنَّ الصداق في ذمة الزوج لا يرتد ارتداد الأعواض في الفسوخ؛ إذ لو [كان] (2) يرتد ارتدادها، لارتد جميع الصداق. ومما يتعلق ببيان الوجهين، أنَّا [إن] (3) جعلنا الطلاق بنفسه مشطِّراً، فلا خِيَرة. 8400 - ولو قال الزوج: طلقتك على أنَّ جميع الصداق متروك عليكِ، فلا حكم للفظهِ، وإن أراد ترك الصداق، فليهب منها النصفَ المرتد إليه، وإن حكمنا بأنَّ الارتداد يتوقف على اختيار التملك، فسبيل اختيارِهِ كسبيل الرجوع في الهبة. وسيأتي شرح ما يكون رجوعاً فيها، إن شاء الله تعالى. 8401 - والذي ترددت فيه مرامز كلام الأئمة: أنَّ المرأة بعد الطلاق هل تملك التصرف في النصف الذي يستحق الزوج تملكه قبل أن يختار التملك؟ يجوز أن يُقال: تملك التصرف فيه ملكَ المتهب، أو كما تملك قبل الطلاق التصرفَ في جميع الصداق، مع قدرة الزوج على أن يطلقها متى شاء. وهذا هو القياس. ويجوز أن يُقال: لا تتصرف، بخلاف المتهب؛ فإنَّ الهبة معقودة للإفضاء إلى تمليك التصرف. وكذلك القول فيما قبل الطلاق إذا طلقها الزوج، فالطلاق سبب متجدد يقتضي التسلط على [تشطير] (4) الصداق، فينبغي أنْ نُلْحقها بالملك في زمان الخيار. ثم على هذا يطول النظر في العتق والبيع، وما يقبل التعليق وما لا يقبله، وقد مضى تفصيل ذلك في أول كتاب البيع. والظاهر تنزيلها -على اشتراط اختيار التملك- منزلةَ المتهب، ومنزلةَ المرأة قبل الطلاق، حتى تتسلط على التصرف. ولا حاصل لقول من يقول: المتهب إذا تصرف في العين بإزالة الملك عنها، لم

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: كانت. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: تشطّر.

يغرمْ للواهب شيئاً إذا رجع. والمرأة إذا أتلفت الصداق قبل اختيار التملك، ثم اختار الزوج الرجوع إلى نصف الصداق، فإنه يرجع عليها بشطر القيمة؛ وذلك أنَّ هذا المعنى يتحقق قبل الطلاق، ثم تصرفها نافذ، وإن كانت لو أخرجت العين، رجع الزوج عليها بنصف قيمتها إذا طلقها. 8402 - ومن تمام القول في ذلك أن الزوج إذا طلق قبل المسيس، ولم يصادف عين [الصداق] (1)، والتفريع على اختيار التمليك، فهذا فيه عُسر في هذه الحالة، ولكن وجهه أن يثبت له اختيار الرجوع إلى شطر الصداق، فإذا اختاره، رجع عليها بنصف القيمة. ولا عود بعد ذلك إلى هذا الوجه الضعيف، والتفريع على أنَّ الطلاق بنفسه يشطّر الصداق. 8403 - وقد ذكر الشافعي في فصول (السواد) لفظةً أشكلت على المراوزة، فنذكرها ونذكر ما قيل فيها. قال: " وهذا كله ما لم يقضِ له القاضي بنصفه، فتكون ضامنةً لما أصابه في يدها ... إلخ " (2)، فتقييد الشافعي الكلام بقضاء القاضي لا يليق بظاهر المذهب؛ فإنَّا أوضحنا أنَّ الظاهر تشطير الصداق بنفس الطلاق. فقال الأئمة: معنى قوله: " هذا كله ما لم يقض له القاضي ". أي: لم يدخل وقت يقضي القاضي فيه بارتداد شطر الصداق إلى الزوج، وكأن المراد أنَّ ذلك إذا لم يطلق الزوج، فإذا طلق، فقد حان وقت القضاء للزوج بنصف الصداق إذا التمس ذلك من القاضي. وقد ذكر شيخي في دروسه أنَّ من أصحابنا من قال: يتوقف تشطّر الصداق على قضاء القاضي، وكان لا يحكي اختيار التملك كما ذكره الأصحاب، بل كان يذكر المذهب الظاهر في التشطر، ثم يقول: مِن أصحابنا من قال: لا يتشطر حتى يقضي القاضي بالتماس الزوج.

_ (1) في الأصل: الطلاق. (2) ر. المختصر: 4/ 19.

وهذا وإن كان يعتضد بظاهر النص، فهو وهمٌ وغلطٌ لا شك فيه، ولا يليقُ بمذهب الشافعي ألبتة. ومما أشكل على المراوزة من هذا اللفظ أنَّ الشافعي قال: " فتكون حينئذ ضامنة ". وهذا تصريح بأنَّ النصف الراجع إلى الزوج مضمون عليها في يدها، وهذا يطابق مذهب العراقيين. وقد ذكر المراوزة فيه تأويلاً مستكرهاً، وقالوا: هذا مفروض فيه إذا امتنعت من رد الشطر مع طلب الزوج، فتصير متعدية. وهذا التأويل فيه بعد، والممكن في التوجيه أنَّ الشافعي ذكر قضاء القاضي تحقيقاً للامتناع، وتصويراً لمسيس الحاجة إلى الرفع إلى الحكام، فإذ ذاك ذَكر الضمان، وهذا يَقْوَى مع مصير الأصحاب إلى أنَّ قضاء القاضي لا أثر له، فحصل بالحمل على ما ذكرناه من الامتناع صرفُ قضاء القاضي إلى الحاجة عند تقدير الحاجة. 8404 - فإذا تبين ذلك، عدنا بعده إلى التفريع على ظاهر المذهب، وهو أن الطلاق يُشطّر بنفسه، فنقول: الصداق لا يخلو، إما أن يكون عيناً، أو ديناً. فإن كان عيناً، فلا يخلو: إما أن يكون قد تغير أو لم يتغير، فإن لم يتغير، فلا إشكال أنَّ الشطر راجع إلى الزوج، وإن كان قد تغير، فلا يخلو: إمَّا أن تغير بالزيادة، أو بالنقصان، أو بما هو نقصان من وجه، وزيادة من وجه. فإن تغير بالزيادة: فالزيادة لا تخلو: إمَّا أن تكون متصلة أو منفصلة، فإن كانت منفصلة؛ فهي خالصة لها إذا حصلت قبل الطلاق، ويرجع الزوج في نصف العين سواء حصلت في يده أو يدها. وإن كانت الزيادة متصلة، فالمرأة بالخيار بين أن تسمح بالزيادة على الزوج، وإذا هي سمحت، رجع الزوج في نصف العين زائداً، وليس له أن يكلفها القيمة- ذاهباً إلى الامتناع من قبول [مِنّتهَا] (1)؛ فإنَّ الزيادة المتصلة ليست مما يُفرد بمنْحه، وهي تجري على أقضية التبعية. ويتصل بهذا المكان أنها إذا رضيت، كفى رضاها، ولا حاجة إلى قبولٍ من جهة

_ (1) في الأصل: مسّها. وهو تصحيف عجيب.

الزوج (1)، ولابد من تصريحها بالرضا، ولا حاجة إلى منحةٍ وهبة في تلك الزيادة (2). وإن لم ترضَ رَدَّ [نصفِ] (3) العين زائداً، [استمسكت] (4) بها، وللزوج نصفُ قيمة العين. وهاهنا نبحث عن وقت القيمة. قال الأئمة: نعتبر أقل قيمة من يوم الإصداق إلى يوم التسليم إلى المرأة، ولا نعتبر زيادة -إن كانت- بين الإصداق وبين التسليم، ولا نعتبر زيادة بعد التسليم، واعتل الأصحاب بأنَّ قيمة وقت الإصداق إن كانت أقل، فما فرض من زيادة، فهو في ملكها وحقها، فلا تؤاخذ به. وإن فرض نقصان القيمة بعد الإصداق وقبل التسليم، فهذا من ضمان الزوج، فلا تؤاخذ المرأة به. وكنت أود لو قيل: إذا لم يطرأ عيب، وإنما وجد تفاوت القيمة بارتفاع السعر، فالاعتبار بقيمة يوم الطلاق؛ فإنَّ الشطر إنما يرتد إلى الزوج يومئذ والعين قائمة، ولكنه لا تردها لمكان الزيادة، فالوجه أن نقول: ما قيمة هذه العين لو لم تكن زائدة، فنعتبرها. نعم، لو تلفت العين قبل الطلاق، فيتجه إذ ذاك اعتبار أقل قيمة من وقت الإصداق، إلى وقت التسليم، كما سنشرحها، إن شاء الله عز وجل. 8405 - ولو ازداد المبيع زيادة متصلة، ففُلِّس المشتري قبل توفر الثمن، فالبائع يرجع في المبيع، وإن كان زائداً، ولا تصير الزيادة سبباً لإبطال حق الرجوع في العين. ولأصحابنا مسألتان في محاولة الفرق بين الصداق وبين المبيع في حق المفلس. فالذي حكاه العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال في الفرق: لو أبطلنا حق

_ (1) في الأصل: من جهة أن الزوج. والمعنى أنه لا حاجة إلى قبولٍ من جهة الزوج لهذه الزيادة المتصلة. (2) عبّر عن هذه المسألة العز بن عبد السلام بإيجاز شديد، قائلاً: " وليس له أن يطلب القيمة دفعاً للمنة؛ إذ لا وقع لها " (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة 92 ش). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: استمسك.

الرجوع للبائع في المبيع، فهذا يُثبت للغرماء حق المضاربة، وليس في قطع حق الزوج [عن] (1) عين الصداق ما يُحبط حقه في المالية؛ فإنه إن لم يرجع في نصف العين، يرجع في نصف قيمة العين، حتى لو فرض الطلاق وهي مفلسة والحجر مطّرد، فللزوج الاستبداد بنصف الصداق وإن كان زائداً؛ فإنه لو لم يرجع بالعين (2)، لضارب بالقيمة. وهذه الطريقة غير مرضية، والوجه أن يقال في الفرق: البائع يرجع إلى المبيع بسبب فسخ البيع، وهذا يستند إلى استحقاق متعلق بالعقد، وإن كان الفسخ قطعاً للعقد في الحال، وذلك أنَّ العوضية تقضي ألا يُسلَّمَ عوضٌ من أحد الجانبين ما لم يسلَّمْ مقابله في الجانب الثاني، فلما كان حق فسخ البائع مستنداً إلى حالة العقد، والزيادة حدثت بعد العقد، يجوز أن يقال: لا اعتبار بها وتقع تابعة. وأما رجوع نصف الصداق إلى الزوج بالطلاق، فليس يستند إلى أصل العقد استنادَ استحقاق يوجبه مقتضى العقد، وإنما هو أمر جديد لا ارتباط له بالاستحقاق السابق. فعلى هذا إذا كانت المرأة محجوراً عليها، نظر، فإن تقدم الطلاق على الحجر، فنصف الصداق قد ارتد إلى الزوج، فطَرَيان الحجر لا يسقط ملك الزوج. وإن جرى الحجر ثم طرأ الطلاق، فظاهر كلام الأصحاب أنَّ الزوج لا يكون أولى بنصف الصداق، [فإنَّ سبب استحقاقه تَجَدَّدَ بعد تعلّق حقوق الغرماء بعين الصداق] (3). فهذا ما نقوله ولا زيادة. فحاصل المذهب إذاً أنَّ البائع يرجع بالعين المبيعة وإن زادت زيادةً متصلةً. والزوج هل يرجع [إذا جرى الطلاق] (4) بعد الحجر؟ فيه ترددٌ ظاهر للأصحاب، منهم من قال: لا يرجع، وإن لم تزد العين. ومنهم من قال: يرجع.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) واضحٌ أن المقصود: بنصف العين. (3) ما بين المعقفين مكان عبارة الأصل المضطربة هكذا: " فإن سبب استحقاقه تجدد بعد التعلق بحقوق الغرماء تعين الصداق ". (4) في الأصل: إلى اجرا الطلاق.

ثم الذين أثبتوا حق الرجوع اختلفوا في أن الصداق لو كان زائداً زيادة متصلة والمرأةُ محجور عليها، فهل يمتنع رجوعه بسبب الزيادة؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، منهم من قال: يمتنع رجوعه إلا أن ترضى ويرضى الغرماء، ومنهم من قال: لا يمتنع رجوعه بسبب الزيادة، كما لا يمتنع رجوع البائع في البيع وإن كان زائداً. 8406 - ولو زاد الصداق في يد المرأة زيادة متصلة، ففسخ الزوج النكاح بعيب بها، فالزيادة في هذا المقام لا تمنع الرجوع إلى العين، ولا أثر لها، كما لا أثر لها في الرد بالعيب والرجوع بسبب الإفلاس إلى المبيع؛ والسبب فيه أن فسخ النكاح يستند إلى استحقاق السلامة، وهو مستند إلى أصل العقد. ولو زاد الصداق في يدها، فارتد، فقد ذكرنا أن الارتداد يوجب تشطير الصداق كالطلاق، فإذا كان كذلك؛ فالزيادة المتصلة تُثبت للمرأة الخيار كما يثبت لها الخيار إذا كانت مطلقة. وإذا ارتدت المرأة، فردتها قبل المسيس توجب سقوط جميع المهر بطريق الانفساخ، وفي كلام العراقيين تردد في أن الزيادة المتصلة في هذه الصورة هل تمنع الزوج من الرجوع إلى العين؟ والمسألة محتملة؛ من حيث إن النكاح ينفسخ [بالرّدّة] (1)، ولكن هذا الانفساخ لا استناد له إلى العقد، بخلاف الفسخ الذي يجري بتخلف [السلامة] (2) المستحقة بالعقد، فيجوز أن يقال: الزيادة المتصلة تُثبت لها الخيار في الاستمساك بالعين، كما تقدم ذكره في ردة الزوج، ويجوز أن يقال: لا خِيَرة لها؛ فإنها منتسبة إلى ما يوجب قطع النكاح؛ فنَبتُّ حقَّها عن التعلق بالزيادة، كما [بتتناه] (3) عن أصل الصداق، والمسألة محتملة مما يليق بأسرار الفقه. 8407 - ولا إيضاح لمقصود المسألة ما دام يختلج ما ذكرناه في الصدر؛ وذلك أنا

_ (1) في الأصل: ينفسخ بالزيادة. (2) في الأصل: الزيادة. والمثبت تصرف من المحقق. (3) في الأصل: " بتّناه " بدون فك الإدغام.

إذا أثبتنا الخِيَرة للمرأة، فيمتنع ارتدادُ شطر الصداق ما دامت المرأة مستمرة على خِيَرَتها، وبمثل هذا المعنى يعسر من الزوج مطالبتها بنصف القيمة؛ فإن التخير من جانبها يوجب تفويض الأمر إلى رأيها، ورأيُها ليس على الفور، فكيف السبيل، وما الوجه؟ وبأي طريق ينفصل الفقه في هذه المسألة؟ فنقول: إن أعرضا جميعاً عن الطلب والرد؛ فالأمر موقوف في حق الزوج، متردد بين القيمة وبين العين وإن وجّه الزوج الطَّلِبة، فحق عليها أن ترد نصف العين مع الزيادة أو تغرَمَ نصفَ القيمة، وليس لها التسويف والمدافعة، فإن دافعت رُفعت إلى القاضي، ثم لا يَجزم الزوج دعواه في القيمة ولا في العين؛ فإن إثبات الخِيَرةِ لها يمنع الجزم في كل واحد من الوجهين، والقاضي لا يقتضي منها على أن يحبسها لتبذل القيمة أو العين إذا كانت العين عتيدة (1)؛ فإنّ تعلُّق الزوج بالعين يزيد على تعلّق المرتهن بالرهن، وتعلق الغرماء بالتركة التي أحاطت الديون بها، فنقول لها: إن كان شطر القيمة أقلَّ من نصف العين، فيُصرف إلى الزوج نصف القيمة، ويُدفع الفاضل إليها، وإن كانت العين لا تزيد على القيمة؛ ففي هذا احتمال، يجوز أن يقال: لا يسلّم القاضي نصف العين إلى الزوج، بل يبيعُه رجاءَ أن يجد زَبوناً فيشتريه بما يساوي، ويتجه في هذا أن يقال: يسلم العين إليه إذا لم يكن فضل في القيمة؛ لأن حق الزوج متأكد في مالية العين، فالطلاق على المذهب الظاهر يملّكه شطر الصداق من غير اختيار. هذا منتهى القول فيه. 8408 - ومن بدائع الأشياء اضطراب الأصحاب في معنى قول الشافعي: " وذلك كله ما لم يقض له القاضي "، وكلامه متصل بذكر زيادة الصداق، ويتعين عندي حملُ كلام الشافعي في أن القضاء على امتناعها عن [التسليم] (2) قد يقضي القاضي بتسليم العين في الصورة التي ذكرناها، وظاهر كلام الشافعي دليل على أنه لا يسلم العين إلى

_ (1) عتيدة: أي حاضرة. (2) في الأصل: التحريم.

الزوج مطلقاً؛ فإنه جعلها ضامنة إذا تلفت العين. هذا كله تفصيل القول فيه إذا تغير الصداق بالزيادة. 8409 - فأما إذا تغير بالنقصان، فلا يخلو، إما أن يكون في يده، أو يدها، فإن اتفق تعيب الصداق في يده، ثم طلقها، فحق الزوج في نصف العين، فإن النقصان محسوب [عليه] (1) وقد حدث في ضمانه لها، والحق ردُّ العين، كما فصلناه في تغير الصداق في يد الزوج بالتعيب. ومما يتصل بهذا أن الصداق لو تعيب في يد الزوج بسبب جناية أجنبي فغرّمت [الأجنبي] (2) الأرشَ، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، فلو كان هذا التعيب بآفة سماوية، لم يكن للزوج إلا نصف الصداق، وهو معيب، والآية العيب الكائن بالصداق على صورة العيب بالآفة السماوية ولكنها فازت بالأرش، وغرّمت الأجنبي، فهل يرجع إلى الزوج نصف ذلك الأرش؟ هذا مما روجع القاضي فيه، فلم يُحر جواباً جازماً، ووجه التردد في المسألة نبهنا عليه في أن هذا العيب جرى والصداق في ضمان الزوج، وهي أخذت الأرش بحق ملكها، كما تأخذ الزوائد، والرأي الظاهر أن الزوج يرجع بنصفٍ من ذلك الأرش؛ فإن النقصان استخلف الأرش، وقيمة الشيء في الماليات تنزل منزلته، فكأن العيب لم يقع، فهذا إذا حدث العيب في يد الزوج. 8410 - وإن حدث النقصان في يدها ثم طلّقها الزوج، فهو بالخيار بين أن يرضى بنصف العين ناقصاً، ويرجع فيها مع النقصان ولا يغرّمها الأرش، وبين أن يترك عين الصداق عليها لمكان العيب، ويغرّمها نصف القيمة، وهذا بناه المراوزة على أن ما يرتدّ إلى الزوج أمانة في يدها، فلا تؤاخذ بأرش النقص. ويجوز أن يقال: وإن حكمنا بأنها مؤاخذة بالتعيب والتلف بعد الطلاق في نصيب الزوج، فلا يلزمها أرشٌ أيضاً؛ فإن التعيب قد جرى والصداق مِلكها، وليس كما إذا

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: الزوج. والمثبت تصرّف منا ليناسب التفريع الآتي بعده.

قلنا الصداق مضمون باليد، ثم عاب في يد الزوج؛ فإنا نثبت للمرأة تغريم الزوج الأرشَ، والفرق أن الزوج ممسكٌ ملكَها بيدٍ ضامنةٍ، على القول الذي نفرع عليه، وموجب ذلك أن يغرَم لها أرش النقصان كما يغرَم المستعير والآخذُ على سبيل السوم، والمرأة ليست حافظة للزوج ملكاً قبل الطلاق. فهذا ما ذكره الأئمة وفيه على حالٍ احتمال، من جهة أن الصداق لو تلف قبل الطلاق، لغرمت له نصفَ القيمة، ومن يغرم القيمة بجهةٍ، لا يبعد أن يغرَم أرشَ النقص بتلك الجهة. وإذا اشترى الرجل عبداً بجاريةٍ وجرى التقابض، ثم وجد قابض العبد بالعبد عيباً، فرده، فإذا الجارية قد عابت عيباً حادثاً في يد قابضها، فقد جرى العيب في دوام ملك قابض الجارية، كما جرى العيب في الصداق في دوام ملك المرأة، ثم إذا رَدَّ قابضُ العبدِ العبدَ، فقد ظهر مصير الأصحاب إلى أنه يسترد الجارية مع أرش العيب الحادث؛ فإنها لو تلفت، لرد العبد واسترد قيمتها. وهذا قد ذكرته في أحكام العيوب في البيع، وذكرت مضطرب الأصحاب فيه. ويجوز أن يقال: ليس الصداق كالمسألة التي استشهدنا بها؛ من قِبل أن من ردّ العبد إنما ردّه لتخلّف سلامةٍ استحقَّها بالعقد، [فعهدةُ] (1) التقابل في العوضين بيّنةٌ، وهذا لا يتحقق في الصداق. فقد تحصل مما ذكرنا أن الذي ذكره الأصحاب في الطرق أن الزوج بالخيار إن شاء رضي بالنصف من غير أرش، وإن شاء طالب بنصف القيمة، وهذا بمثابة تعيّب المبيع في يد البائع من وجه. فإنا نقول: إن شاء المشتري ردّ المبيع بالعيب، وفسخ البيع، واسترد الثمن، وإن شاء رضي به معيباً. فهذا ما رأيته للأصحاب ولم أر غيره، وقد أومأت إلى وجه الاحتمال، والظاهر ما ذكره الأصحاب في المعنى أيضاً، هذا منتهى القول في تغير الصداق بالزيادة، وتغيره بالنقصان.

_ (1) في الأصل: فعهد.

8411 - فأما إذا تغير بما يكون زيادة من وجه ونقصاناً من وجه، وذلك مثل أن يكون العبد المصدَقُ صغيراً فكبر، وازدادت قوته التي هي مادة العمل، وسببُ تكثير المنفعة، وانتقص من حيث القيمة لمجاوزته نضارةَ المراهقة. وقد يفرض في هذا القسم زيادةٌ محضة ليست في عينها نقصان مع عيب ليس فيه زيادة، مثل أن يتعلم العبد المصدَقُ صنعة، ولكن اعورّت عينه، فقد اجتمع فيه النقص والزيادة. ومن صور هذا القسم أن يصدقها [أشجاراً] (1) فتصير [قِحاماً] (2) وتُرقل (3)، فكِبرُها زيادة، ولكن يقلّ ثمرها. والحكم في هذا القسم أن الخيار يثبت من الجانبين جميعاً، فإن رضيت المرأة برد النصف، فللزوج أن يأبى لمكان النقصان، وإن طلب الزوج العين، فللمرأة أن تأبى لمكان الزيادة. وليس لنا أن نقول: إذا لم ترد القيمة لمكان النقص، ولم تُنْتَقَص القيمة لمكان

_ (1) في الأصل: " شجرة " والمثبت تصرفٌ منا لكي يستقيم الكلام مع قوله " قِحاماً"؛ فإنها جمع قَحْمة، كما سيأتي في التعليق الذي بعد هذا. (2) (قحاماً): رسمت في الأصل هكذا (لحاما) وقدرنا هذا الرسم تصحيفاً عن (قِحاماً) لما رأيناه في عبارة الإمام الشافعي في الأم، والمزني في المختصر. وهكذا جاءت (صفوة المذهب). و (قِحاماً): جمع قحْمة، وِزان نعجة ونعاج، والقحمة: النخلة الكبيرة الدقيقة الأسفل، القليلة السعف (المعجم والمصباح). ثم لنا هنا ملاحظتان: الأولى - أن ما رأيناه من معاجم (الأساس، والقاموس المحيط، والمصباح، والوسيط) إما تذكر (القحم) صفةً للنخل خاصة من بين الأشجار، وإما أن لا تذكر ذلك أصلاً، عند تصريف مادة (ق. ح. م) وذكر معانيها. على حين وجدنا وصف الشجرة (بالقحمة) والأشجار (بالقحام) عند المزني والشافعي. الثانية - أن إمام الحرمين ذكر صيرورة الأشجار قحاماً وإرقالها، من باب التغير بالزيادة، على حين يفهم من معناها، ومن عبارة الإمام الشافعي في الأم، والمزني في المختصر أن هذا من باب التغيّر بالنقص. (الأم: 5/ 56، والمختصر: 4/ 20). (3) ترقل: أرقل الشجر طال. (القاموس، والمعجم، والمصباح).

الزيادة، فيجعل كأن لا زيادة ولا نقصان، هذا لا سبيل إليه ولا قائل به؛ فإن الزيادة قد تُعنى لعينها، وإن فرض نقصان، فالنقصان قد يُجتنب، وإن كانت زيادة، فلا طريق إلا إثبات الخيار من الجانبين لوجود العلتين، فالنقص علّة خيار الزوج، والزيادة علةُ (1) خيار المرأة، فإن اتفقا على الرجوع في نصف العين، فذاك، وإن أبى أحدهما، فالرجوع إلى نصف القيمة، ثم لا تكفي الزيادة في صورتها؛ فإن الزيادة التي لا تُطلب ليست زيادة كالسِّلْعة (2) تطلع واللحية تنبت. 8412 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصداق عيناً، فإن كان ديناً؛ فإذا طلقها، فلا يخلو: إما أن كان سلم الصداق إليها [أو] (3) لم يسلم، فإن لم يسلم الصداق إليها، وطلقها قبل المسيس، فتبرأ ذمته عن نصف الصداق، وهو مطالب من جهتها بالنصف الباقي، وإذا فرّعنا على الوجه الضعيف في أن رجوع الشطر إلى الزوج موقوف على اختياره، فيجب طرد هذا في الدين أيضاً، حتى يتوقف سقوط النصف عن ذمته على اختياره، والعلم عند الله تعالى. ولو أصدقها ديناً -كما صورناه- وسلم إليها ما التزم لها على الصفة المذكورة، فإن طلقها قبل المسيس، فله الرجوع بالنصف، فإن كانت تلك الأعيان المقبوضة فائتة، غرِمت للزوج نصف البدل، وإن كانت تيك الأعيان باقية فهل يتعين حق الزوج في المقبوض، [أم] (4) لها أن تغرم حقّ الزوج من مال آخر؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعين حقه، لأن العقد لم يتعلق بهذه العين ابتداءً وإنما اعتمد الوصف. والثاني - أن حقّه يتعيّن؛ لأنه تعين بالقبض، وهذا يكون سبيل كل دين يوفَّى على مستحقه. وكان شيخي يطرد هذين الوجهين في الثمن الواقع في الذمة إذا وُفِّر ووُفّي، ثم طرأ

_ (1) في الأصل: عليه. (2) السِّلْعة: خرّاج كهيئة الغدة تتحرك بالتحريك، وقال الأطباء: هي ورم غليظ غيرُ ملتزق باللحم، يتحرك بتحريكه، وله غلاف (المصباح). (3) في الأصل: ولم. (4) في الأصل: إذ.

فسخ يوجب استرداد الثمن، ورأيته مرة يطلب الفرق بين ما ذكرناه في الصداق وبين ما أشرنا إليه في الفسوخ، ويقول: الفسخ وإن كان قطعاً في الحال، فهو مستأصل للعقد، بخلاف ما يقتضيه الطلاق من التشطير، وقد أجرينا في أجزاء الكلام ما يشير إلى قريب من هذا فيما نفيناه وأثبتناه. فرع: 8413 - إذا أصدق الرجل امرأته جارية، فبقيت في يد الزوج، وعلقت بولد حادث وولدته، ثم ماتت الجارية قبل القبض، وطلقها قبل المسيس، قال العراقيون: هذا يُخرّج على القولين في أن الصداق مضمون بالعقد أم باليد؟ وأنه بماذا يرجع؟ فإن قلنا: إنه يرجع بنصف القيمة فالولد بتمامه لها؛ فإنه حدث في ملكها، وجرى الطلاق بعد انفصاله واستقلاله، ونحن على قول القيمة لا نحكم بانفساخ الصداق بالتلف، بل نقضي ببقاء العقد، قالوا: وإن قلنا: الصداق مضمون بالعقد وهي ترجع عليه بنصف مهر المثل، نقلوا عن الشافعي أنه قال: الولد للزوج، ولا حظ لها فيه، فإنا إذا أوجبنا نصف مهر المثل، فقد أوجبناه قبل العقد ونقضْنا الملك استئصالاً. وفي المسألة قول مخرّج على أن الولد يكون لها؛ فإن الفسخ والانفساخ لا يستند إلى زمان متقدم، بل يقطع الملك في الحال، وقد تقدم حصول المولود على سبب الانفساخ، وقد ذكرنا مثل هذا الاختلاف فيه إذا اشترى الرجل جارية، فولدت أولاداً في يد البائع، ثم ماتت في يده وحكمنا بانفساخ العقد، فالأولاد للبائع أو للمشتري؟ فيه خلاف قدمته، وقياس المذهب أن الأولاد للمشتري، لما نبهنا عليه. فرع: 8414 - قال العراقيون إذا أصدق الرجل جاريةً حبلى، ثم ولدت، وقلنا: إن الولد يثبت في حكم المعاوضة، ولو كان في البيع، لقوبل بقسط من الثمن، فإذا ولدت، وطلقها قبل المسيس، ورضيت برد عين الصداق، فهل للزوج حظُّ في الولد؟ وما حكمه؟ ذكروا فيه وجهين: أحدهما - له حظ فيه، ولكن زاد الولد بعد الولادة، فتغرم له قيمة نصف الولد يوم الولادة. ووجه هذا بيّن في القياس. والوجه الثاني - أنه لا حظّ للزوج في الولد؛ فإنه كان حملاً يوم العقد، ولا يمكن معرفة قيمته وهو حمل، ولما انفصل، فهو زيادة في ملكها بعد الإصداق، ولا يمكننا

أن نضبط ما بين الحمل والولادة، ولا طريق إلا أن يسقط حظ الزوج من الولد بالكلّية. وإن فرّعنا على أنه مقابَلٌ بقسطٍ من العوض؛ فإن الصداق ليس يتمحض عوضاً. وهذا الذي ذكروه، فيه اضطراب، وحاصله: أن الزيادة المتصلة لا حكم لها في البيع، فإذا قلنا: الولد يقابله قسط من الثمن، فانفصل، لم تُغير تلك الزيادة التي حصلت بالولادة حكمَه، والزيادة المتصلة لها حكم في الصداق، ثم عَسُر اعتبارها بين احتساب الحمل وبين انفصاله، فكان ترددهم لذلك. وإذا قلنا: الحمل لا يقابله قسط من الثمن، فالوجه: القطع بأنه لا حظّ للزوج في الولد، وهو بمثابة ما لو حدث العلوق به بعد العقد. فصل قال الشافعي: " والنخل مُطْلِعة ... الفصل " (1). 8415 - ذكر الشافعي تفصيل القول فيه إذا أصدق امرأته نخيلاً، فأطلعت، ثم طلقها قبل المسيس، وهذه المسألة كثيرة الأقسام منتشرة الأحكام، والرأيُ أن نمهد في أولها ما يدخل تحت التمهيد، ثم نرسل المسائل ونذكر في كل مسألة ما يليق بها، ونطلب الاستيعاب جهدنا، ثم نتُبع المسائل بما يضبطها، والله ولي التوفيق. فنقول: أولاً الطلع قبل التأبير زيادةٌ محضة لا نقصان فيها، وحمل الجارية زيادة من وجه، نقصان من وجه، لما فيه من الإفضاء إلى الغرر، والحمل في البهائم، فيه وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - زيادة من كل وجه؛ فإنه لا يفضي إلى الخطر في غالب الأمر. والثاني - أنه زيادة ونقصان، كما ذكرنا في الحبالى، فإن كل حامل تلد، فلا بد من أن يدخلها نقص في البنية. 8416 - فهذه مقدمة ذكرناها، ونعود بعدها إلى رسم المسائل على أقرب ترتيب،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 20.

فنقول: إذا أصدقها نخيلاً، فأطلعت، وأُبّرت، ثمّ [طلقها] (1)، فالثمار بعد التأبير في حكم زيادة منفصلة، فلو أراد الزوج أن يكلّف المرأة قطع الثمار، لم يكن له ذلك، فإنها ظهرت، والملكُ ملكها، فلا سبيل إلى إجبارها على قطع ثمارها، ولو قال: أرجع في نصف النخيل ونصف الثمار، لم يكن له ذلك؛ فإن جميع الثمار لها؛ من أجل أنها ظهرت وملكُها كامل في الصداق. ولو قال الزوج: أرجع في نصف النخيل وأترك ثمارك إلى الجداد، فلا ينفصل الأمر بهذا المقدار؛ فإنها تحتاج إلى تتمة ثمارها بالسقي، ثم فائدة السقي لا تنحصر على الثمار، بل يرجع الحظ الأوفر إلى النخيل؛ فلا سبيل إلى تكليفها السقي، وفائدته ترجع إلى ما يُقدّر راجعاً إلى الزوج بحكم التشطر. ولو قالت المرأة للزوج المطلق: اصبر حتى آخذ ثماري، ثم ارجع، لم يكن لها أن تكلف الزوج ذلك؛ فإن فيه إلزامَه تأخير حقه وهذا لا سبيل إليه. ولو [قالت] (2): ارجع في نصف النخيل وبقِّ ثماري إلى الجِداد، واسق ما رجع إليك، لم يكن لها ذلك؛ فإن سقيه يرجع فائدته إلى ثمارها، فتكليف الرجل تنمية ثمارها لا وجه له. فهذه مسائل اتفق الأصحاب عليها. وعلى الناظر في المسألة أن يفهمها ويودعها حفظه مفصلة. ولو قالت: ارجِع في نصف النخيل، وقد تركتُ عليك نصف الثمار، نُظر، فإن كانت الثمار مؤبّرة؛ فهل يلزم الزوج ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يلزمه قبول الثمار؛ فإنها زوائد في حكم المنفصلة؛ فإلزامه قبولها وتقلُّد مِنَّتِها بعيدٌ. والثاني - يلزمه؛ فإن الثمار وإن كان لها حكم الانفصال؛ فهي كالمتصلة في هذه المسائل. لعسر الأمر، وتعذر إمضائه مع رعاية الجانبين، فصار تعذر الأمر بمثابة تعذر فصل الزوائد المتصلة.

_ (1) في الأصل: " ثم طلعها ". والمثبت من (صفوة المذهب). (2) في الأصل: قال. وهو واضح من السياق، وقد صدّقته (صفوة المذهب).

وإن كانت الثمار بعد طلعها غيرَ مؤبّرة، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب: أنها قبل التأبير بمثابة السِّمن، وسائر الزوائد المتصلة، حتى لو تركت على زوجها نصف الطلع، لزمه قبوله. وذكر العراقيون وصاحب التقريب طريقة أخرى من تنزيل الثمار قبل التأبير منزلتها إذا هي أُبِّرت، حتى تُخرَّجَ المسألةُ على وجهين في أن الزوج هل يُجبر على قبولها إذا سمحت بها؟ وسبب ذلك أن الثمار قبل التأبير تقبل الإفراد بالبيع على رأيٍ ظاهر، خلاف السِّمَنِ وغيرِه من الزوائد المتصلة. 8417 - ومما يتعلق بذلك أن الزوج لو قال: أرجع في نصف النخيل وألتزم السقي، فهل يجاب إلى ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجاب؛ [فإنه] (1) كفاها مؤونة السقي وهذا هو الذي كنا نحاذره في إلزامها بسقي نخيل الغير، والثاني - لا يلزمها إجابته؛ فإنه لا يجد بداً من مداخلة [البستان] (2) في سقي النخيل وتعهدها، وقد لا ترضى المرأة به، فإن لم نوجب إجابته إلى ما يلتمس من ذلك، فلا كلام، وإن [أوجبنا] (3) إجابته، فالتزامه السقي وعْدٌ منه، إن وفى به، استقر الأمر، وإن بدا له، فلا معترض، ولكن يبين أن رجوعه في نصف النخيل باطل. فتبين مما ذكرناه أن هذا الرجوعَ في حكم الموقوف على ما يتبين من الوفاء بالسقي أو الإخلاف في الموعد. وألحق الأئمة بهذه الصورة ما لو أصدقها جارية، فولدت في يدها ولداً مملوكاً، واقتضى الحكم أن يكون الولد لها، فقال الزوج: أرجع بالجارية، وأمنعها من إرضاع المولود، فليس له ذلك؛ فإن فيه إضراراً عَظيماً بالولد. و [لو] (4) قال: أرجع في

_ (1) في الأصل: فإن. (2) في الأصل غير مقروءة (انظر صورتها) والمثبت تقدير منا على ضوء عبارة الرافعي؛ فإنه قال: " ... لأنها قد لا ترضى بيده ودخوله البستان" (الشرح الكبير: 8/ 300). وهي كذلك في (صفوة المذهب). (3) في الأصل: أجبنا. (4) زيادة من المحقق. وقد صدقته (صفوة المذهب).

نصف الجارية وأرضى أن تُرضع الولد؛ فهل يجب إسعافه؟ فعلى الوجهين المذكورين في النخيل والتزام سقيها، ونصُّ الشافعي في مسألة الولد يدل على [أن] (1) الرجل لا يجاب [بما يعد] (2)؛ فإنه لا يلزمه الوفاء بالموعود. 8418 - ومما نذكره مرسلاً، أن الزوج والزوجة لو تراضيا في النخيل على أن يؤخر الزوج حقَّه ولا يتعرض له إلى أوان الجِداد، ثم إذ ذاك يطلب حقه من نصف النخيل، فإذا وقع التراضي على هذا الوجه، لم نعترض عليهما، ولم نتعرض لهما، ولكن ليس يلزمهما الوفاء بما تراضيا عليه، فإن الزوج رضي بتأخر حقه، وتأجيل ما لا يلزم فيه الأجل، فله الرجوع عما قال. ولو أصر الرجل على موعده، فأرادت المرأة الرجوع، كان لها ذلك؛ لأنها تحتاج إلى السقي والتعهد، ثم يرجع النفع إلى النخيل، ومآل الأمر مصير نصف النخيل إلى الزوج، [فلها] (3) أن ترجع عن رضاها بذلك، فإنهما لم يُذكر بينهما في الصورة التي ذكرناها إلا تواعداً على تأخير الحق غيرَ لازم، كما ذكرنا. ولو تراضيا على أن يرجع الزوج إلى الملك في نصف النخيل عاجلاً، ويترك الثمار لها إلى وقت الجِداد، فإذا ثبت تراضيهما على هذا الوجه، لزم الوفاء به؛ فإن بدا للزوج، وقال: أحتاج إلى سقي النخيل، والنفعُ يرجع إلى ثمارها، قلنا: قد رضيت، فإن شئت فاترك السقي، ونحن حملنا رضاك على التزام الضرر، إن كان ضرر. ولو قالت المرأة: رجعت عن رضاي، فإني أحتاج إلى السقي لأجل الثمار، والنفع يرجع إلى النخيل، قلنا: اتركي السقي، فإن كان يلحقك ضرر، فقد رضيتِ به.

_ (1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. وهي في (صفوة المذهب). (2) في الأصل: ما يعد. وقد حكى هذا الرافعي نقلاً عن إمام الحرمين، قال: " قال الإمام (أي إمام الحرمين): ونصّ الشافعي رضي الله عنه يدل على أنه لا يجاب " (ر. الشرح الكبير: 8/ 301). (3) في الأصل: فله.

ويخرج منه أن كل واحد منهما لا يرجع عما رضي به، ولا يجب على واحد منهما السقي، فمن أراده، لم يمنع منه. فهذا بيان هذه المسائل المرسلة، ولم نذكر بعدُ عند تنازعهما ما نحملهما عليه؛ لأن ذلك يبين آخراً. 8419 - ونحن نذكر نوعاً من الضبط، ثم نختم المسألة بما فيه تمام البيان، إن شاء الله عز وجل. فنقول: هذه المسائل تجرى على ثلاثة أصناف: أحدها- مفروض فيما يقوله الرجل، والمرأة تأباه. والثاني - فيما تقوله المرأة، والرجل يأباه. والثالث - فيما يتراضيان عليه. فأما ما يقوله؛ فمنه أن يقول: اقطعي الثمار، فلا يجاب. ومنه أن يقول: أرجع إلى نصف النخيل مع نصف الثمار، فلا يجاب. ومنه أن يقول: أرجع إلى نصف النخيل، ولا ألتزم السقي والتعهد، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه لا يجاب إلى ذلك، ولا تكلف المرأة الرضا به، لما قدمنا ذكره من تضررها بمداخلته. فهذا بيان ما يذكره الزوج مبتدئاً. فأما ما تذكره المرأة والزوج [يأباه] (1)، فمن ذلك أن تقول: أخِّر حقك إلى الجِداد، فلا تجاب؛ فإن حقَّ الزوج معجّل، ولو قالت: ارجِعْ في نصف [الشجر] (2)، وثمرتي تبقى، فالرجل لا يجيبها إلى مرادها، فإن الثمار [تمتص] (3) من رطوبات الأشجار، إن لم تُسق، فإن سُقيت، فالنفع يرجع بعضَ الرجوع إلى الثمار، ولو أنها ابتدرت وجدَّت الثمرة عاجلاً، فحق الزوج يثبت في نصف العين إذا لم تُنْتَقَص الأشجار بالثمار (4) ولم تُكسر سَعفها وأغصانها.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: الشجرة. (3) في الأصل: تختص. (4) كذا. ولعلها " بالجداد ".

ولو قالت: خذ نصف النخيل ونصف الثمار، فهل يجبر الزوج على قبول ذلك؟ فيه وجهان: وذكر تفصيل في المؤبرة وغير المؤبرة، فهذا بيان قسمين. القسم الثالث: فيما يتراضيان عليه، وفيه مسالتان: إحداهما- أن يتراضيا على أن يسقي الزوج حتى تُجدّ الثمرة، فهذا تواعد، ولا يجب على واحد منهما الوفاء بما وعد. والمسالة الثانية - أن يتراضيا على أن يختار الزوج نصف النخيل في الحال، وتبقى الثمرة [إلى] (1) الجداد، فعلى كل واحد منهما ضرار من وجه، وقد بيّنا ابتداء كل واحد منهما بذكر هذا القسم، وأوضحنا أنه لا يُجاب إلى مُلْتَمَسِه، فإذا وقع التراضي منهما، فقد رضي كل واحد بما يناله من الضرر في هذا القسم. وليس ما وقع التراضي به تواعداً على تأخير حق، ولكن مضمون ما تراضيا عليه تعجيل حق لزم. فهذا بيان تزاحم الأقسام. وليعلم الناظر أنا لم نغادر من البيان شيئاً ولكن طباع هذا الفصل تقتضي أن يكرره الناظر مراراً. ثم وراء ذلك المقصودُ؛ فإنا ذكرنا ابتداء كل واحد منهما، وأوضحنا ما يُجاب إليه وما لا يُجاب، ثم ذكرنا تراضيهما. 8420 - والمقصود الأظهر أن نبيّن ما يجب تحصيله إذا ارتفعا إلى مجلس الحكم متنازِعَين، فلم تسمح تيك بالثمار، [وروجعنا] (2) في حق الزوج، فنقول: حقه الناجز نصف القيمة؛ فإن في الرجوع إلى العين من العُسر ما نبّهنا عليه، ولا سبيل إلى تأخير حق الزوج، وإن عادت فرضيت ببدل المهر، ففيه الكلام السابق. وإن رضيت بمداخلته، ففيه اضطراب السقي. وإن قال الزوج: رضيت بتأخير حقي، ففيه اضطراب السقي، وإن تراضيا، وقعنا في قسم التراضي [والتزام] (3) نصف القيمة، هذا هو اللائق بمحل التنازع لا غير.

_ (1) في الأصل: في. (2) في الأصل: ورجعنا. (3) في الأصل: وألزم.

8421 - ثم وراء نجاز هذا أمور مرسلة يجب التنبه لها، منها: أنا وإن كنا نفرّع على أن نفس الطلاق يشطر الصداق من غير احتياج إلى اختيار التملك، فذاك فيه إذا لم يعترض مانعٌ ما. أما إذا اعترض في الصداق أمثالُ ما ذكرناه من فرض لحوق الضرر بالجانبين، فجريان الملك في عين الصداق أو/الرجوع إلى القيمة يتوقف على ما سبق التواطؤ عليه، أو يُفرض الإرهاقُ إليه عند التنازع. وهذا وإن كان بيِّناً، فلا يضير التنبيه له. 8422 - ومما نرى ذكره أنا أجرينا ذكر الثمار، وهي طلعٌ حالة الطلاق، ولم تؤبّر، وأدرنا فيه التفاصيل والأقسام، وقد ذكرنا في كتاب التفليس أن النخيل إذا أطلعت في يد المشتري، ثم استمر الحجر -والثمار غير مؤبرة- فقد نرى رجوعها إلى البائع إذا آثر فسخ البيع، وقد يجرى مثل هذا في الحمل أيضاً إذا حدث، وكان الحمل قائماً وقت الرجوع. وهذا لا يجري في الصداق؛ والسبب فيه أن الطلع والحمل لا ينحطان عن زيادة متصلة، وقد ذكرنا أن الزيادة المتصلة تُثبت للمرأة حق الاستسماك بعين الصداق، والزيادة المتصلة لا أثر لها في المبيع الذي يرجع فيه البائع، [فإنا] (1) جعلنا الطلع والحمل كزيادة متصلة، تعلق بهما رجوع البائع، ولا يتحقق مثل هذا في حق الزوج. 8423 - ومما نذكره في اختتام الفصل: أنه لو أصدق امراته نوعاً آخر من الأشجار سوى النخيل، فانعقد نَوْرُها في يدها، فظهور النَّوْر ينزل منزلة بدوّ الطلع، وانعقادُ الثمار مع تناثر النَّور ينزل منزلة التأبير. وقد بان الغرضُ في كل واحد من الأصلين، وهذا نجاز الفصل.

_ (1) في الأصل: "فإذا".

فصل قال الشافعي: " وكذلك الأرض تزرعها أو تغرسها أو تحرثها ... إلى آخره " (1). رأى المزني هذه الأمور مجتمعة في كلام الشافعي، ونقله على [إثر] (2) مسألة الطلع، وظن أن الشافعي يُجري الغراس والزرع والحراثة مجرى الطلع في كل تفصيل، وأخذ يعترض ويبيّن أن الزراعة في الأرض نقصٌ من جميع الوجوه، في كلام طويل له، وكلامه في بيان تفاوت الزرع والغراس والحراثة صحيح، ولكن [ظنّه أن الشافعي] (3) أجراها مجرى الطلع خطأ، وفي نظم كلام الشافعي تعقيدٌ لا يطلع عليه إلا من جمع إلى فهمه أوفر حظ من اللغة، والشافعي ذكر فيما تقدم من المسائل ما يكون نقصاً محضاً، وذكر ما يكون زيادةً من كل وجه، وأبان الحكم فيما يكون زيادة من وجهٍ ونقصاناً من وجه، ثم ذكر الزراعة والغراسة والحراثة عطفاً على الأقسام المختلفة، ولم يعطفها على الطلع خاصة، ونحن نذكر الآن التفصيل في المسائل التي جمعها المزني في الفصل. 8424 - أما الزرع فنقصانٌ في الأرض من كل وجه، فلا نكلف الزوج الرضا بنصف الأرض مزروعة، وله نصف القيمة والأرض بيضاء، فإن رضي بها مزروعة، لزم إجابته، وليس كما قدمناه في الثمار؛ من جهة أن الزوج إذا رضي بنصف النخيل وتَبْقِيَةِ الثمار للمرأة، فالسقي الذي يُنمِّي الثمار يزيد في الأشجار، والسقي الذي ينمي الزرع لا ينفع الأرض، فإذا رضي الزوج بنصف الأرض، وجبت إجابته؛ فإن الأرض لا تزداد بتعهد الزرع. فعلى هذا لو تبرعت على الزوج بنصف الزرع -إذا كان لا يرضى بنصف الأرض لمكان الزرع- فقد ذكرنا وجهين في أنها لو تبرعت بنصف الثمار المؤبّرة في مسألة

_ (1) ر. المختصر: 4/ 21. (2) في الأصل: أكثر. (3) في الأصل: ظن أنه بان للشافعي.

النخيل، فهل يُجبر الزوج على قبوله، والزرع في حكم الثمار المؤبرة؟ فتخرج المسألة على وجهين في إجبار الزوج على القبول. وهذا الذي ذكره صاحب التقريب غلط مأخوذ عليه؛ من جهة أن الثمار زيادة لا تنقص النخيل، والزرعُ وإن كان زيادة، فالأرض منتقِصةٌ به، وقد ذكرنا أنه إذا اجتمعت زيادةٌ ونقصانٌ، لم يملك واحد منهما إجبار صاحبه. ومما يتعلق بالزرع: أن الزوج إذا طلّقها، فابتدرت واقتلعت الزرع؛ فالغالب أن النقص يبقى في الأرض إلى مدة؛ فإن الأرض فيما ذكره الحرّاثون تضعف بالزراعة، ولذلك يعسُر [موالاة] (1) الزراعة في كل سنة، فإن فرض زرع لا يُعقب نقصاً في الأرض، فإذا ابتدرت وقلعت الزرع؛ فحق الزوج [انحَصَر] (2) في نصف الأرض، فإن [أعقب] (3) الزرعُ نقصاناً، فالزوج على خِيَرته، فإن رضي بقبول نصف الأرض مزروعة، فعليه أن يُبقي الزرع فيها بالأجرة؛ [لأنها] (4) زرعت -لما زرعت- ملكَها الخالص. هذا قولنا في الزرع. 8425 - أما الغراس؛ فإنه بمثابة الزرع في جميع ما ذكرنا؛ فإن الأرض مفردةً ناقصةُ القيمة، والغرس لا يزيدها شيئاً، فإن بذلت نصف الغراس، فهو كما لو بذلت نصف الزرع، فلا معنى للإعادة، فهو كالزرع في كل وجه. 8426 - وأما الحرث فإن كانت الأرض معدّة للزراعة، فهو زيادة متصلة من كل وجه، ثم لا يخفى حكم الزيادة، وإن كانت مهيّأة للبناء، فهو نقصان، لأنه [لا يتأتى] (5) البناء على الأرض المحروثة إلا ببذل مؤونة في تنضيدها، ولا معنى للإطناب بعد وضوح المقصد.

_ (1) في الأصل: " مواراة" بهذا الرسم تماماً. والمثبت تصرف من المحقق. صدقته (صفوة المذهب). (2) في الأصل: نقص. (3) في الأصل: أعقبت. (4) في الأصل: أنها. (5) في الأصل: لا يأتى. والمثبت تصرفٌ من المحقق.

فصل قال: " ولو ولدت الأمة في يديه أو نُتجت الماشية ... إلى آخره " (1). 8427 - إذا أصدق الرجل امرأته جاريةً حاملاً، أو شاة ماخضاً، فهذا يبنى على أن الحمل هل يقابله قسط من العوض في البيع؟ وفيه اختلاف مذكور في موضعه. فإن قلنا: للحمل قسط، فهو كما لو أصدقها عَيْنَين، فإذا طلقها قبل الدخول يرجع في نصف الأم، ولا يخلص الولد لها. ثم يتصل بذلك أن الولد إذا انفصل، فهذا في حكم زيادة متصلة، والجارية قد تُعيّبها الولادة، فيقع التفصيل في عيبٍ بأحد العينين، وزيادة العين الثانية. وقد تمهّد التفصيل في القاعدتين. والذي نزيده الآية: أن من أصحابنا من جعل نفس انفصال الولد [زيادة] (2)؛ فإنه كذلك؛ إذ التفاوت بين الجنين وبين الولد المنفصل أكثر من التفاوت بين العبد السمين والهزيل، وهذا في ظاهره إخالة وإشعار بالفقه، ولكنه يغمض بالتفريع؛ فإنا إذا جعلنا الولادة زيادة، فيثبت للمرأة حق الاستمساك بالولد، ثم بناؤنا على أن الزوج يرجع في قسط من الولد، فكيف يقدّر رجوعه في نصف قيمة الولد، وهو مجتنٌّ، والجنين لا يتقوَّمُ في البطن؟ فأول إمكان تقويمه، إذا انفصل. وإذا أثبتنا للزوج نصفَ قيمته منفصلاً، ففيه نَقْضُ المصير إلى أن الولد زيادة، وإذا جاز أن تغرَمَ له نصف قيمة المولود حالة الانفصال، فينبغي أن نُسلِّم إليه نصف المولود. وإن قال هذا القائل: تُقوم الجارية حاملاً، ونصرف إليه نصفَ قيمتها، وإذا فعلنا ذلك، فقد أشركناه في الحمل، فهذا محال؛ فإن التفريع على أن الحمل يقابله قسط من العوض، كما يقابل أحدَ العبدين قسط من الثمن إذا اشتمل العقد على عبدين. والذي يوضح ذلك: أنا إذا ألزمنا المغرور بحرية زوجته قيمة الولد، اعتبرنا حالة

_ (1) ر. المختصر: 4/ 22. (2) في الأصل: بزيادة.

الانفصال. وإن كان تفويت الرق مستنداً إلى حالة الاختيار؛ فالصحيح إذاً أن الولد إذا انفصل، وجرى الطلاق [بعد] (1) انفصاله -والتفريع على أنه يُقابَل بقسطٍ من العوض- فالزوج يرجع في نصف الولد. نعم، إذا مضت أيام من الانفصال، والصبيّ ينمو فيها، لا محالة، فيتصل الكلام بالزيادة (2). وكل ما ذكرناه فيه إذا قلنا: للولد قسط. وإن قلنا [لا] (3) قسط له من العوض، فإذا ولدت، ثم [طَلّق] (4) الزوج، فحكمها [حكم] (5) ما لو كانت [حائلاً] (6) يوم الإصداق، فحبلت في يد الزوج وولدت، فلا حظ للزوج في الولد، ويقع النظر في الأم، وقد [انتقصت] (7) بالولادة. ثم الفرق بين أن يجري ذلك في يده أو يدها، [قد] (8) مضى مستقصًى، ونحن بنينا كتابنا هذا على رفض المعادات جهدنا، سيّما إذا قرب العهد، ونعيد البسط لمواقع الإشكال. 8428 - وقد يتصل بما انتهينا إليه أن نقصان الولادة في يد الزوج مضمون عليه، كما بيّنا أثر ذلك، وما يحصل من النقص في يدها يُثبت للزوج حق الخيار في الرجوع من العين إلى القيمة. فلو كانت حاملاً في يد الزوج، ثم ولدت في يد الزوجة، وانتقصت بالولادة، فهذا نقصان حدث في يدها، ولكنه مترتب على سبب كان في يد الزوج؛ فإن لكل جنين اتصال، ولكل حاملةٍ تمام، فيجب بناء هذا على المبيع إذا [جُرح] (9) في يد

_ (1) في الأصل: مع. (2) أي أنه لا يرجع بنصفه لزيادته. (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: طلقت. (5) في الأصل: "حكمه ". (6) في الأصل: حائلة. (7) في الأصل: انقضت. (8) في الأصل: "وقد" بزيادة (الواو). (9) في الأصل: خرج.

البائع، ثم سرت الجراحة في يد المشتري، فقد ظهر الاختلاف في ذلك: من أصحابنا من جعل السراية من ضمان البائع؛ لأن سببها الجراحة، فعلى هذا نقصان الولادة من ضمان الزوج، وإن حدث في يدها؛ لأن الحمل كان موجوداً في يده. ومن أصحابنا من قال: نقصان السراية من ضمان المشتري؛ لأنه حدث في يده، فعلى هذا نقصان الولادة من ضمانها. وقد بان حكم ضمانه وضمانها وإبراءُ كل واحد من الضمانين. 8429 - ثم إن المزني اختار من القول في كيفية الضمان، أن الصداق مضمون بالعقد، واحتج بنصوص الشافعي في مسائلَ، وأخذ يُعدّدها، ونحن نتبع ما أورد، ونذكر في كل مسألة ما يليق بها، مع اجتناب التكرير جهدَنا. فمما استشهد به: مسألة من مسائل الصداق، ذكرها الشافعي في كتاب الخلع - وهي: أن الزوج إذا أصدق امرأته داراً، فاحترقت، قال الشافعي [في] (1) جواب المسألة: المرأةُ بالخيار بين أن تفسخ وترجع بمهر المثل، وبين أن ترضى بالعَرْصَة [وتجيزَها] (2) بحصتها من المهر. وهذه المسألة لها مقدمة مذكورة في الكتب، ونحن نذكر منها قدر الحاجة، ثم نرمز إلى تخريج المسألة على الأصول وتنزيلها عليها، فنقول: إذا اشترى الرجل عبدين، فتلف أحدهما في يد البائع، فالقول الأصح: أن العقد لا ينفسخ في القائم، وينفسخ في التالف، والقاعدةُ أن العقد إذا ورد على ما يقبل العقد وعلى ما لا يقبله، وبطل فيما لا يقبله، ففي بطلانه فيما يقبله القولان المعروفان. ثم إن صححنا العقد، فالخيار معروف، فإن اختار المشتري الإجازة؛ فإنه يجيز العقد فيما قَبِل العقدُ بجميع الثمن أو بقسطه؟ فعلى قولين. وإذا تلف أحد العبدين، فالأظهر أن الانفساخ في التالف لا يوجب الانفساخ في

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: "وتحيزها". وأصر الناسخ على تأكيد هذا برسم حاء صغيرة تحت حرف الحاء.

القائم؛ فإن العقد قد ورد عليهما، وكان سبب ارتفاعه في التالف تلفَه، ثم إذا فُرضت الإجازة، فالمذهب: أن العقد يجاز في الباقي بقسطٍ، بخلاف ما ذكرناه في أول العقد. والفرق أن الثمن في أول العقد لم يقابل أحدهما، وقد قابل الثمن [العبدين،] (1) ويستحيل إذا تلف أحدهما أن يقابل [بتمامه] (2) الثاني، على مناقضة المقابلة التي جرت، وهذا مذكور في تفريق الصفقة، فهذا أصلٌ جدّدنا العهد به. ومن الأصول أن أطراف العبد أوصافٌ، ولا يثبت لها حكم الانفراد في المقابلة بالعوض، وإذا اشترى الرجل داراً، فانهدمت، نظر: فإن كان النقضُ قائماً؛ فالذي فات، أوصافٌ لا تقابل بقسطٍ من العوض، وإن فات النقضُ باحتراق أو [جرف] (3) سيل، وبقيت العَرْصَةُ بيضاءَ، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أعيان النقض، فمنهم من أجراها مجرى أطراف العبد، حتى تقدّر أوصافَ العبد، ومنهم من أجراها مجرى عبدٍ مع عبدٍ إذا فرض التلف. في أحدهما، وقد تقدم تمهيد ذلك في المعاملات. ونحن نرجع بعد هذا إلى غرض المسألة، فإذا أصدق الرجل امرأته داراً فانهدمت، نُظر: فإن فات النظم والتآلف، والنقضُ قائم؛ فلها الخيار إذا جرى ذلك في يد الزوج. ثم القول في الفسخ والإجازة، وما يقع الرجوع به [من] (4) مهر المثل والقيمة على ما تفصّل في نقصان الصداق بالآفة السماوية. وإن فات عين النقض، خرج هذا على أن النقض صفةٌ أو عين مقصودة، فهو كما إذا أصدقها عبداً، فسقطت أطرافه. ومحل تعلق المزني أنه نقل عن الشافعي رجوعها إلى مهر المثل، وطريق الجواب في مثل هذا بيّن.

_ (1) في الأصل: للعبدين. (2) في الأصل: لتمام. (3) في الأصل: خرق. (4) في الأصل: في.

فصل قال: "ولو جعل ثمر النخل في قواريرَ وجعل عليها صَقَراً من صقَر نخلها ... إلى آخره " (1). الصَّقَر (2) قُطارة الرطب من غير أن يعرض على النار، فإن عُرض على النار، فهو دِبْس، وإنما صور الشافعي هذه المسألة على عادة الحجازيين، فإنهم يجتنون الرطب، ويتركونه في قوارير ويصبّون عليه من القَطْر استبقاءً لرطوبة الرطب، وقد يسمونه كذلك. فصورة المسألة: أنه إذا أصدقها نخلة [فجعل] (3) على رطبها صقراً، ويفضي الأمر إلى التفصيل في انتهاء التغير إلى التعيّب، وفي نقيض ذلك. واختلف أصحابنا في وضع المسألة وتصويرها. فمنهم من قال: صورتها إذا كانت الثمرة صداقاً، وكانت كائنةً حالة الإصداق؛ فإن أصدقها نخلة عليها ثمرةٌ مؤبرة أو غير مؤبرة، ثم فعل بالثمرة وصقْرها ما وصفناه. وإنما حمل هؤلاء النصَّ على هذه الصورة؛ لأن الشافعي أثبت لها الخيارَ [لما] (4) يلحق الثمرةَ وعصيرها من التغير. وهذا يتضمن كونها صداقاً، فتفريع هذه المسألة عند هذا القائل أن يقول: إذا كانت الثمرة وصقرها موجودةً حالة العقد [ووقعت] (5) صداقاً، فلا يخلو، إما ألا ينتقص الرطب والصقر، فإن كان ذلك، فلا خيار لها، والزوج كفاها شغل الاجتناء، وتحمل المؤنة. وإن انتقص، فلا يخلو إما أن يكون ذلك انتقاص صفةٍ أو انتقاص عَيْن. فإن كان نقصانَ صفةٍ، وذلك بأن كان العصير يساوي ثلاثة دراهم، فعاد إلى درهمين، والمكيلة بحالها لم تنتقص، فلها الخيار. فإن فسخت، لم يخفَ تفريعُها

_ (1) ر. المختصر: 4/ 24. (2) بفتح القاف وسكونها. (3) سقطت من الأصل. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: " وقعت ".

على اختلاف الأحوال، فالمسألة مفروضة في نقصٍ ثبت بسبب فعلٍ من الزوج، وهو بمثابة عيب لحق المبيع بجناية البائع، ولسنا لإعادة تلك الفصول. [فإن] (1) أجازت العقد، فتخريج أرش النقصان على قولي اليد والعقد كما مضى. 8430 - وإن كان النقصان نقصانَ عين- مثل أن كان أخذ من الصقر مكيلتين، فشربت الأرطاب مكيلةً، وبقي مكيلةٌ، فحكم ذلك حكمُ ما لو أصدقها عبدين، ثم أتلف الزوجُ أحدَهما. ولا يخفى تفريع ذلك. ثم يتصل الكلام: إذا رأينا -على قول اليد- لها الرجوع إلى بدل الفائت، لا إلى بدل البضع، فالنظر في المِثْل والقيمة، والقول في أن الرطب هل هو من ذوات الأمثال، وكذلك الصقر إذا طبخ ومازجه ماء، أو كان صِرْفاً، كل ذلك مما تقدم. وهذه المسألة وأمثالها يطولها المتكلّفون بإعادة الأصول، ثم لا يعتنون بالغوص على جليّات المسائل فضلاً عن [مُعوصاتها] (2). وقد يطرأ في أمثال هذه المسألة ما يجب التنبه له، فقد تزلّ عنه القريحة، وذلك أن الرطب إذا تشرب بعض الصقر، وصار مستهلكاً فيه وزناً، ولكن ازدادت قيمةُ الرطب، [فما] (3) نقص من مكيلة الصقر مضمون، وإن ازدادت قيمة الرطب بسبب ما تشرب من الصقر، وهذا بمثابة ما لو أصدق امرأته قضيماً (4) ودابة، ثم عُلفت الدابةُ القضيمَ، فانتفعت الدابّة وسمنت، فتلك الزيادة حق المرأة، والقضيم مضمون على الزوج. 8431 - ومن أصحابنا من قال صورة المسألة فيه إذا لم تكن (5) للمرأة صداقاً، وما كانت موجودة حالة العقد، بل كان أصدقها نخلة، ثم أثمرت في يده، فالثمرة

_ (1) في الأصل: وإن. (2) في الأصل: مغضاتها. (3) في الأصل: فيما. (4) القضيم: فعيلٌ من قضم. والمراد به هنا العلف. (5) لم تكن: أي الثمرة.

تحدث ملكاً لها. وليست من جملة الصداق. ونص الشافعي مصرِّحٌ بهذا في الكبير. فإذا كانت الصورة مفروضة على هذا الوجه، فليست المسألة من مسائل الصداق، ولكنها من مسائل [الغصوب] (1)، فهو كما لو غصب رجل رطباً وعصيراً، وصب العصير على الرطب، فالقول في ذلك ينقسم وينفصل، وقد يتعفن الرطب تعفناً سارياً غير متناهي العفن، وقد مضى ذلك مستقصًى في كتاب الغصوب. فلا معنى للخوض فيه. وقد يقع الفرْضُ فيه إذا صب على التمر الذي ليس بصداق صقْراً من عند نفسه، فيكون كنظائره في الغصوب، مثل أن يغصب ثوباً فيصبغه بصبغ من عند نفسه، وهو من أصول الغصوب، ولست أوثر أن أذكر في هذه المسائل إلا مراسمها، ولا ينقطع ترتيب فصول [السواد] (2)، وإلا فلا معنى لإعادة الأصول. وقد تمس الحاجة إلى إعادة أطرافٍ منها، والمقصودُ غيرُها، أما إعادتها بأعيانها، فلا يليق بغرضنا. 8432 - ومما ذكره الأصحاب أن الثمرة لو كانت صداقاً، فصب عليها الزوج من صقْر نفسه، وجعلها في قارورة، فإن لم تنتقص، فلا خيار لها، فالزوج ينزع صقره. وإن انتقص الثمرة، فهذه مسألة نقصان الصداق بجناية الزوج، وقد مضى تفصيله. وإن كانت الثمرة تنتقص لو نزع الصقْر منها، ولا نقص مع الصقر، أو كانت تنتقص لو أزيلت مع الصقر عن القوارير؛ فقال الزوج: تركت صقري والقوارير على الزوجة، فهذا بمثابة مسألة النَّعل (3)، وفيها التفصيل المفرد في البيع، والظاهر أن المرأة تجبر على القبول، وكذلك القول في مسألة [النّعل] (4)، ثم لو فُرّغت القارورة وزايل النعلُ، فهل يستردهما من كان مالكهما؟ فيه وجهان. والخلاف راجع إلى أن

_ (1) في الأصل: " الصداق " وهو سبق قلم. (2) في الأصل: " الشواذ " وهو تصحيف لى (السواد) الذي يعني به مختصر المزني، كما تكرر ذلك مراراً. (3) يشير إلى مسألة من مسائل الرد بالعيب، فيمن اشترى حصاناً ونعله، ثم وجد به عيباً قديماً، فأراد ردّه، فما حكم نزع النعل إذا أثّر أو لم يؤثر؟ وقد بسطها الإمام في موضعها من البيوع. (4) في الأصل حرفت إلى (البغل) هنا وفي الموضوع السابق.

التَّرك تمليكٌ أو (1) ليس بتمليك. ويمكن أن يقال: إن لم نجعله تمليكاً، فلا يمتنع الإجبار عليه، وإن جعلناه تمليكاً؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نُجبرها عليه؛ لأنه تبعٌ، ولا مِنّةَ فيه؛ إذ للزوج غرض ظاهر سوى [الامتنان] (2). والوجه الثاني - أنا لا [نجبرها] (3)؛ لأن الإجبار على التمليك -وهي مطلقة- بعيد. فصل قال: " وكل ما أصيب في يده بفعله أو فعل غيره ... إلى آخره " (4). 8433 - نصُّ الشافعي في هذا الفصل يدل على أن الصداق مضمون ضمان المغصوب؛ فإنه قال: " فهو كالغاصب ". ثم استثنى مسألة، وهي: إذا كان الصداق [أَمةً] (5) فوطئها، وادعى الجهالة، وقال: كنت أظن أنها لا تَملِك قبل الدخول إلا النصف، فيُصدّق في دعوى الجهالة، وكيف لا وقد صار إلى ذلك مالك (6)، ثم لا يخفى حكم ثبوت النسب، أو فرض علوق وحكم الحرية، ولا تثبت [أُميَّة] (7) الولد في الحال، ولو ملكها يوماً من الدهر؛ ففي ثبوت أمومة الولد قولان مشهوران. ومن غصب جارية، وأصابها، وادّعى الجهالة، لم يصدق. وقد سبق صدرٌ صالح في دعوى الجهالة حيث تُحتمل وحيث يبعد احتمالها، فلا حاجة إلى شيء مما ذكرناه.

_ (1) في الأصل: تمليك وليس بتمليك. (2) في الأصل: " الايتمان " بهذا الرسم تماماً. (3) في الأصل: نجبره. (4) ر. المختصر: 4/ 24. (5) في الأصل: مجهولاً. (6) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 716 مسألة 1295. (7) في الأصل: " أم".

فصل قال: " ولو أصدقها شقصاً من دارٍ ففيه الشفعة ... إلى آخره " (1). 8434 - هذا من أصول الشفعة، فالشقص المذكور صداقاً، أو بدلاً في الخلع، أو في المصالحة عن دم العمد مستحَقٌ بالشفعة، فيأخذه الشفيع بمهر المثل في النكاح والخلع، وببدل الدم من الصلح عن الدم. وإذا ذُكر الشقص صداقاً، وفُرض الطلاق، ففي المسألة ثلاث صور: إحداها - أن يأخذ الشفيع، ثم يُفرض الطلاق؛ فهو كما لو باعت الشقص، ثم طلقها الزوج، فالرجوع بنصف القيمة. وإن طلق الزوج واتصل به طلب الشفيع، فحضرا معاً؛ فهذه المسألة المعروفة بين المروزي وابن الحداد تعارضها مسألة الإفلاس، وتردد الشقص بين رجوع البائع وأخذ الشفيع، فلتطلب هذه المسألة في موضعها. والمسألة الثالثة: أن يجرى الطلاق والشفيع غائب، ثم يحضر ويبتدىء الطلب، فإن قدمنا الزوج في المسألة الأولى على الشفيع، فلا شك في تقدمه في الأخيرة، وإن قدمنا الشفيع إذا جاء والزوج معاً، ووقع الطلاق، وطلب الشفعة على اجتماع، فإذا تقدم الطلاق على طلب الشفيع؛ ففي المسألة وجهان. وفصَل بعض أصحابنا بين أن يأخذ الزوج، ثم يجيء الشفيع، وبين ألا يأخذ، وقال: إذا أخذه لم ينقض عليه. فانتظم في المسألة الأخيرة ثلاثة أوجه بعد الترتيب على الثانية. والفصلُ بين أن يأخذه قبل مجيء الشفيع وبين ألا يأخذ- التفاتٌ (2) على أصلٍ في الشفعة، وهو أن الشفيع إذا لم يشعر بالشفعة حتى باع الشقص الذي هو شريك به؛ ففي بطلان حقه من الشفعة قولان، والفرق بين أن يأخذ وبين ألا يأخذ لا حاصل له،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 25. (2) " التفاتٌ " خبرٌ للمبتدأ: " والفصل بين أن يأخذه ... ".

إذا كان التفريع على الظاهر في أن نفس الطلاق يشطّر الصداق، فإن كان وجه الفصل تفريعاً على أن ملك الزوج يتوقف على اختيار التملك، فقد يتجه ذلك. فصل قال المزني: " اختلف قوله في الرجل يتزوجها بعبد يساوي ألفاً على إن زادته ألفاً ... إلى آخره " (1). 8435 - إذا جمع بين النكاح والبيع مثل أن يقول: " زوجتك ابنتي هذه وبعت منك هذا العبد بألف درهم، وقيمة العبد ألف "، فقال: " تزوجتها واشتريت العبد على هذا ". أو قال (2): " قبلت النكاح والعقدَ في العبد " والغرض ألا يُغفلا لفظ النكاح والتزويج. وقد يكون العبد من جانب الزوج، فيقول: " تزوجت ابنتك على هذا العبد، على أن تعطيني ألفاً "، ومهر المثل ألف، وقيمة العبد ألف، فنصف العبد المبيعُ والنصف صداق، فهذه صفقة جمعت عقدين مختلفي الحكم، وللشافعي قولان، أظهرهما - الصحة. والقول الثاني - أن الصفقة لا تصح. وقد ذكرنا هذا في ترتيب تفريق الصفقة، فنذكر ما يليق من هذا الأصل بالنكاح والصداق. فإن قلنا: الصفقة صحيحة، فلا يخلو، إما أن يكون العبد من جانبه وردُّ الألف من جانبها، أو يكون الألف من جانبه والعبد من جانبها. فإن كان العبد من جانبه، فالنصف منه صداق، والنصف مبيع بالألف، فلو اطلعت على عيب به، وفسخت، استردت الألف الذي كان ثمناً لنصف العبد، وترجع بسبب الصداق بمهر المثل في قول، وبنصف قيمة العبد في قول - كما سبق. ولو أرادت أن ترد النصف بالعبد -إما المبيع وإما الصداق- ففي المسألة قولان، كالقولين في العبدين إذا اشتراهما ووجد بأحدهما عيباً، فأراد ردَّه، وإمساكَ الآخر. ووجه الشبه أن العقد هناك وإن اتحد،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 25. (2) في الأصل: وقال.

فقد تعدد المعقود عليه، وهاهنا اتحد العبد وتعددت الجهة والعقد. ولو جرى فسخ قبل المسيس يوجب رد الصداق، يرتد نصف العبد إلى الزوج، فإنه كل الصداق -والفرض في فسخٍ يوجب رد جميع الصداق- ويبقى النصف الآخر من العبد بحكم الشراء. ولو طلقها قبل الدخول، رجع ربع العبد إلى الزوج، وبقي ثلاثة أرباعه- الربع منه بحكم الصداق، والنصف بحكم الشراء، ولو فرض التفريق على الوجه الآخر، لم يخف تفريع المسألة، وقصاراها التَّدْوارُ على التفريع وما ترجع المرأة به. فصل قال: " ولو أصدقها عبداً فدبّرته ... إلى آخره " (1). 8436 - إذا دبّرت المرأة عبد الصداق، وطلقها زوجها قبل المسيس؛ فالذي نقله المزني: أنه لا يرتد إلى الزوج نصف العبد، وأن رجوعه إلى نصف القيمة، فاقتضى النص كونَ التدبير مانعاً من الرجوع إلى الزوج، واختار المزني أن النصف من العبد يرتد إلى الزوج وينتقض الترتيب فيه. وفي المسألة طرق للأصحاب، منهم من قال: القول في ذلك على قول الشافعي: إن التدبير وصية، أو تعليق عتق بصفة؟ فإن قلنا: التدبير وصية، يُشَطَّر الملك في العبد بالطلاق، كما لو أوصت بأن يعتق ذلك العبد عنها بعد الموت، ثم طلقها الزوج؛ فالوصية تنتقض في النصف، ويرتد إلى الزوج ملكاً. وإن قلنا: التدبير تعليق، فالتعليق لا يقبل الرجوع، بخلاف الوصية، فكان مانعاً من الارتداد إلى الزوج بلزومه. وهذا غير سديد؛ من قبل أن التعليق بالصفة لا يمنع إزالة الملك، وللمعلِّق أن يبيع العبد الذي علق عتقه بالصفة، كما له أن يبيع العبد الموصى بعتقه، فافتراق التعليق والوصية في أنه يتصور الرجوع عن الوصية صريحاً، ولا يصح الرجوع عن

_ (1) ر. المختصر: 4/ 26.

التعليق صريحاً، لا يوجب فرقاً بينهما في جواز البيع والهبة وغيرهما من جهات التصرفات التي تستدعي الملك التام. ومن أصحابنا من قال: التدبير في عبد الصداق يمنع الارتداد إلى الملك التام. ومن أصحابنا من قال: التدبير في عبد الصداق يمنع الارتداد إلى الزوج قولاً واحداً، سواء حكمنا بأن التدبير وصية، أو قلنا: إنه تعليق عتق بصفة؛ وذلك لأنها إذا دبّرت وقد قصدت التصرف بعقد عتاقة، وعلّقت ذلك العقدَ بالعبد، فينبغي ألا ينتقض قصدها؟ فإنا إذا كنا نمنع الزوج من الرجوع إلى نصف الصداق إذا زاد أدنى زيادة، مع علمنا بأن الزيادة المتصلة لا أثر لها في الفسوخ والعقود والردود، فتعلُّقُ غرضها بعقد العَتاقة لا ينقص عن الزيادة المتصلة. ثم من سلك هذه [الطريقة] (1)، إذا قيل لهم: لو لم تدبره، ولكنها صرحت بالوصية بعتقه، أو علقت عتق عبد الصداق بصفةٍ، فماذا تقولون؟ فقد اختلف جواب هؤلاء. فقال قائلون: التصريح بالوصية وتعليق العتق يمنعان مع التدبير. وقال آخرون: المنع يختص بالتدبير؛ فإنا وإن أحللناه محل الوصية أو محل التعليق، فلسنا [ننكر] (2) أن التدبير عقدُ عتاقة في الشرع، وبه يتحقق تجرّد القصد إلى التقرّب. وأما التعليق بالصفات؛ فإنه من أحكام المعاملات، والوصية لا يُقْدم عليها الموصي إلا وهو يثبت لنفسه مستدركَ الرجوع. فإن قيل: فالتدبير مع ذلك [يقبل] (3) الرجوعَ في قولٍ - والإبطالَ بإزالة الملك في قول؟ قلنا: إنما يَقْبله ممن أنشأه، [فأما إبطاله عليها لحق الزوج] (4)، فهو بعيد. ومن اشترى عبداً بثوب، وقبض العبد ودبّره، ثم ردّ صاحبه الثوب عليه بعيب قديم، فالمذهب الأصح: أن العبد يرتد، والتدبير ينتقض، قولاً واحداً، لقوة الفسخ واستيلاء سلطانه. ولذلك لا تؤثر الزيادة المتصلة في منع الارتداد بالفسخ،

_ (1) سقطت من الأصل. (2) في الأصل: نذكر. (3) في الأصل: قبل. (4) في الأصل: "فلها أن تبطل عليه الحق للزوج" والمثبت من (صفوة المذهب).

بخلاف الارتداد إلى الزوج بحكم الطلاق، أو بما يحل محل الطلاق مما يوجب التشطير قبل المسيس. وأبعد بعض الأصحاب فجعل التدبير مانعاً من الارتداد بالفسخ، كما يكون مانعاً من التشطير بالطلاق، وهذا بعيد غير معتد به. ومن أصحابنا من قطع بأن التدبير في عبد الصداق لا يمنع تشطيره، وهذا هو القياس الظاهر، ولكنه مخالف للنص، ويقبح ترك النص الصريح، والوجه: إثباته قطعا أو قولاً، وتوجيهه بما يمكن، والله أعلم. 8437 - والذي جرى في المسالة بعد طرق الأصحاب سببان: أحدهما - التردد في أن التصريح بالوصية والتعليق هل ينزل منزلة التدبير؟ والثاني - أن التدبير إذا رأيناه مانعاً من التشطير، فقد يمنع من الارتداد في الفسوخ، ومن الرجوع في الهبة، فيه الوجهان المذكوران. فمن أصحابنا من عمّم المنع في هذه الأبواب، وجعل التدبير بمثابة زوال الملك في جميعها. ومنهم من خصص المنع بالتشطير؛ لما ذكرناه من تنزيل التدبير منزلة الزيادة المتصلة فاختص بباب التشطر في الصداق. فهذا حاصل القول في المسألة. 8438 - ثم إن جعلنا التدبير مانعاً من التشطير؛ فلو دبرت عبد الصداق، ثم أبطلت التدبير بالرجوع في التدبير صريحاً، فهل يكون هذا بمثابة ما إذا زال ملكها عن عبد الصداق، ثم عاد إليها ملكاً، ثم طلقها الزوج قبل المسيس؟ فعلى وجهين. من أصحابنا من جعل طريان التدبير وزواله بمثابة طريان زوال الملك وعوده قبل الطلاق. ومنهم من قال: ليس كزوال الملك، وإن جعلناه مانعاً من التشطير إذا كان ثابتاً عند الطلاق، قياساً على الزيادة المتصلة؛ فإنها وإن كانت مانعة في ثبوتها عند الطلاق، فلو طرأت وزالت، وعاد الصداق إلى ما كان عليه حالة العقد، فما تقدم من الطريان والزوال لا أثر له في منع التشطير. وهذا نجاز المسألة. وسيأتي القول في حقيقة التدبير في كتابه، إن شاء الله تعالى.

8439 - ثم تكلم الأصحاب في زوال ملك المرأة عن الصداق وعوده إلى ملكها، وهذا مما تكرر في كتاب التفليس، والرد بالعيب، والضابط للأبواب أن الملك الزائل فالعائد، بمثابة الملك الذي لم يعد، أم بمثابة الملك الذي لم يزُل؟ فيه قولان. ثم ينفصل كل باب على حسب ما يليق به. والقدر الذي يتعلق بهذا الكتاب طرد الخلاف في الشطر من غير فرق بين جهةٍ في العود [وجهةٍ] (1)، وإنما تختلف [التفاصيل] (2) في المبيع إذا خرج ثم عاد ببيع، ثم فرض الاطلاع على العيب، فهذا يضطرب الرأي فيه لإمكان الرد في البيع الجديد، [وتحمله] (3) في البيع القديم، على ما مضى مستقصًى في موضعه. أما في الصداق؛ فإذا تحقق الزوال والعود، فلا نظر إلى تفاصيل الجهات، وبالجملة: زوال الملك أظهرُ أثراً في منع التشطر منه في منع الفسوخ، لما مهدناه من ضعف التشطر، والشاهد فيه منع الزيادة المتصلة [له] (4) وإثبات الخِيَرة لها، ثم حيث جعلنا زوال الملك مؤثراً في المنع، فهو فيه إذا زال زوالاً لازماً، فإن كان الزوال على نعت الجواز، مثل أن يبيع بشرط الخيار -والتفريع على زوال الملك- فإذا انتقض البيع وارتد الصداق إليها؛ ثم طلقت؛ ففي هذا النوع من الزوال وجهان. وطريان الرهن وزواله لا يؤثر. وإذا كاتبت عبدَ الصداق، ثم عجَّز المكاتبُ نفسَه، وانقلب رقيقاً؛ فهذا أجراه القاضي مجرى زوال الملك على اللزوم، وطرد الخلاف على ما ذكرناه، وهو مرتب عندنا على زوال الملك؛ فإنّ المكاتب مِلْكُ المولى إلى العتاقة، وإن تضمنت الكتابة حيلولة، فالرهن يتضمنه أيضاً، ثم لا يؤثر طريان الرهن. 8440 - ثم قال الشافعي: " ولو تزوجها على عبد، فَوُجِد حراً، فعليه قيمته ...

_ (1) في الأصل: وجهته. (2) في الأصل: التفاصل. (3) في الأصل: وتخيله. (4) في الأصل: به. والضمير في (له) يعود على التشطِّر.

إلى آخره " (1). وهذا نص من الشافعي على الرجوع إلى القيمة في اقتران الفساد بالصداق، وقد فصلنا هذا في تمهيد القواعد على أحسن الوجوه، فلا حاجة إلى إعادتها. فصل قال: " إذا شاهد الزوجُ الوليَّ والمرأةَ أن المهر كذا ... إلى آخره " (2). 8441 - صورة المسألة: إذا تواطآ على مقدار من المهر سراً، واتفقا على أن يُظهرا أكثر، فإذا جرى العقد علانية بالمبلغ الكثير بعد تقدم التواطؤ، قال المزني: اختلف قوله في ذلك. فقال في موضعٍ: السرّ، وقال في موضع العلانية. ثم قال: هذا عندي أولى؛ لأنه إنما ينظر إلى العقود، وما قبلها وعدٌ، هذا نقل المزني واختياره. وقد اختلف أصحابنا على طريقين، فمنهم من قطع بأن الاعتبار بمهر العلانية، وما جرى من التواطؤ في السرّ لا حكم له، فهو [وعدٌ] (3) كما قاله المزني، والمعوّل على ما جرى العقد به لا غير، وهؤلاء يحملون نص الشافعي على فرض إجراء عقد في السر بالمبلغ الذي وقع التراضي عليه، ويشهد لذلك قوله " إذا شاهد الزوج الولي " فذكر الولي يشعر بجريان العقد، وهذا وإن كان قياساً، فهو مخالف للنص. ومن أصحابنا من أجرى القولين، كما نقله المزني- ثم هؤلاء اختلفوا على طريقين، فمنهم من قال: القولان مفروضان فيه إذا قالا: المهر ألف، وقد تواضعنا بيننا على أن نجعل ذكر الألفين علانيةً عبارة عن الألف الذي وقع التراضي به، فإذا جرى ذلك كذلك، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الاعتبار بمهر السرّ؛ فإنهما جعلا الألفين عبارة عن الألف، واللغات اصطلاحات، وليس يبعد عن القياس تحريفها؛ فإنها لا معنى لأعيانها، وإنما المقصود معانيها، وما يقع التفاهم به فيها.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 26. (2) ر. المختصر: 4/ 27. وفي الأصل: " ... الزوج والولي والمرأة " والمثبت عبارة المختصر. (3) زيادة من المحقق.

والقول الثاني - أن الواجب مهر العلانية؛ فإنهما أجريا لفظاً صريحاً في العقد، والصرائح لا تحال ولا تُزال عن حقائقها بما يفرض من تواطؤ وتواضع. وهؤلاء يقولون: لو وقع التراضي سراً على خلاف هذا الوجه، وقالا المهر مهر السر، ولم يتعرضا لتعيين اللغة، كما نصصنا عليه؛ فالذي تقدم وعد، والتعويل على المذكور في العقد، كما ذكره المزني. ومن أصحابنا من طرد القولين، وإن لم يجر تعرض لتغيير اللغة بطريق المواضعة والاصطلاح، وذلك أنه وإن لم يقع لتغيير اللغة تعرض، فالمراد آيلٌ إلى ذلك. ثم بنى الأئمة على هذه القاعدة جملةَ الأحكام المتلقاة من الألفاظ، فإذا قال الزوج لزجته: إذا دخلت أنت طالق ثلاثاً، لم أرد به الطلاق، وإنما غرضي أن تقومي أو تقعدي، أو غرضي بالثلاث الواحدة، فظاهر المذهب: أن ذلك لا يقبل منه. وفي هذه المسألة الوجه البعيد الذي ذكرناه في مهر السر والعلانية، وسنبسط القول في هذا في مسائل الطلاق، عند اعتنائي بذكر الصرائح والكنايات، والأمور الظاهرة والباطنة ومسائل التدبير. فصل قال: " وإن عقد عليها النكاح بعشرين يوم الخميس ... إلى آخره " (1). 8442 - إذا ادعت المرأة أنه نكحها يوم الخميس بعشرين، ويوم الجمعة بثلاثين، وطلبت المهرين؛ فدعواها مسموعة. فإن ثبت العقدان بإقراره وبالبينة، أو نكل عن اليمين، فرُدّت اليمين عليها، فحلفت، ثبت المهران. فإن ادعى الزوج بعد ثبوت النكاحين أنه لم يصب في النكاح الأول، فالقول في هذا قوله مع يمينه بناءً على الأصول التي مهدناها؛ إذ قلنا: إذا اجتمع النفي والإثبات في تداعي الزوجين في الإصابة، فالقول قول النافي إلا في المسائل التي استثناها. ثم ما ذكره الأصحاب أن الزوج لو لم يتعرض لنفي الإصابة في النكاح الأول،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 27.

فللمرأة طلب المهرين على الكمال، ولا حاجة بها إلى إثبات المسيس في النكاح الأول، وإن كان المهر لا يتقرر إلا به، ونفس النكاح الثاني يدل على ارتفاع النكاح الأول، فكأن النكاح الأول ثبت وارتفع، ولم يثبت فيه المسيس، وطلب جميع المهر من غير مسيس على استمرار النكاح ممكن، فأما إذا ارتفع النكاح، فلا يمكنها طلب المهر على قياس استمرار النكاح، والأصل عدم المسيس، ولكن يعارض هذا أن المهر ثبت بالنكاح على الكمال، فعلى من يدعي سقوط شطر منه أن يتعرض له، ولكن يتطرق إلى هذا أن الزوج لو ادعى نفي الإصابة صُدِّق مع يمين، ولم يطالَب بأمر آخر. فليتأمل الناظر هذا، وليفهم لطفَ مأخذه، فالأصل ثبوت المهر، وهذا يستمر في سكوت من عليه المهر. فإن ادعى عدمَ المسيس صُدِّق مع يمينه، وإن لم يدّع طولب بتمام المهر، بناء على ثبوته. فإذاً على الزوج إثبات مقتضى التشطر بيمينه. وحجج الخصومات منقسمة، وهذا كما أن المودَع مطالَب بالوديعة، محبوس إذا سكت، فإن ادعى تلفاً أو رداً، صُدّق. ولو قال الزوج: كان النكاح الثاني تجديداً للإشهاد (1) ولم يكن عقداً جديداً، فلا ينفعه هذا القول، بل إذا قال ذلك، استغنت المرأة عن إقامة البينة، وكان ما صدر منه إقراراً بالعقدين: أما الأول فقد اعترف به، وأما الثاني فقد اعترف بصورته، وادعى فيه الإعادة، وهذا يُشبه إذا ادعى رجل على رجل عيناً، وقال المدعى عليه للمدعي: بعها مني، فالاستباعة تتضمن إقراراً للمدعي بالملك، وليس للمدعى عليه أن يقول: طلبت منه صورة البيع ولم أعترف بصحة بيعه، فإنَّ طلبَ البيع محمول على البيع الصحيح، وكذلك كل من اعترف بعقد، فاعترافه المطلق محمول على الاعتراف بالعقد الصحيح.

_ (1) كذا. ولعلّها: للإشهار (بالراء).

فصل قال: " ولو أصدق أربع نسوة ألفاً ... إلى آخره " (1). اختلفت نصوص الشافعي في مسائل متناظرة، ونحن ننقل أجوبته فيها، ثم نذكر طرق الأصحاب. قال: إذا نكح نسوة في عقدة واحدة وأصدقهن مالاً واحداً سمّاه؛ فلا شك في صحة النكاح، وفي صحة الصداق قولان [نص] (2) عليهما. ونص أيضاً على مثل هذين القولين إذا خالع امرأته، أو نسوة بعوض واحد، فالخلع واقع، والبينونة حاصلة، وفي فساد العوض قولان. ولو ملك أشخاصٌ عبيداً، فملك كل واحد عبداً أو أكثر، فباعوا عبيدهم بمال يقع [التراضي] (3) عليه من رجل، فقد نص الشافعي على فساد البيع، وقطع قولَه به. ولو كاتب عبيداً على عوض واحد نجَّمه عليهم، فقد نص على صحة الكتابة، وقطع قولَه بها. فاختلف أصحابنا على طرق؛ فمنهم من ضرب بعض هذه النصوص ببعض، وجعل في المسائل كلِّها قولين: أحدهما - أن العقد باطل لجهالة العوض؛ فإن كل واحد ليس يدري ما ثبت له بالعقد، ولكل واحد حكمٌ في نفسه، وانضمام غيره إليه لا يغيّر من أمره شيئاً، فلا أثر لكون جملة المسمى معلومة إذا كان كل واحد منهم جاهلاً بما يطالب به، وهذا بمثابة ما لو قال الرجل: " بعتك داري هذه بما باع به فلان عبده "، فالبيع باطل، وإن كان الوصول إلى ما [باع] (4) به فلان عبده ممكناً، وما نحن فيه أولى بالبطلان؛ فإن درك ثمن ذلك العبد ممكن على يقين، وسبيل درك

_ (1) ر. المختصر: 4/ 27. (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: اعتراضي. (وهو من غرائب التصحيف). (4) في الأصل: يباع.

العوض في حق كل واحد بالتقويم والفضِّ (1)، وهذا مظنون لا يتوصل إلى مسلك التعيين فيه. وما يجري في النكاح والخلع والبيع والكتابة على نسق واحد؛ فإن هذه العقود -وإن اختلفت أحكامها- فهي متساوية في اشتراط الإعلام في عوضها. والقول الثاني - أن العقود بجملتها صحيحة؛ فإن المقدار المسمى معلوم وقد قوبل بمعلومات، فاشتملت الصفقة على مقابلة معلوم بمعلوم، ثم الاجتهاد وراء ذلك في القسمة، والنص يخصص القول الأول. هذه طريقة. 8443 - ومن أصحابنا من أقرّ النصوص قرارها، وطرد القولين في بدل الخلع والصداق، وقطع بالفساد في البيع، وبالصحة في الكتابة، وهؤلاء يحتاجون إلى فرقين: أحدهما - بين البيع والخلع وبين الكتابة، أما الفرق بين البيع وغيره؛ فهو أن العوض ركن في البيع، وحكم فساد الركن فساد العقد، ثم موجب فساد البيع إلغاؤه، والبدل ليس ركناً في الخلع والنكاح، وفقه ذلك أنا لا نفسد النكاح والخلع بفساد العوض، وإذا لم نفسدهما، فلا بد من إثبات عوض، وذلك العوض هو مهر المثل الذي نريد توزيع المسمى عليه، وإذا كنا لا نجد بداً لإثبات مهر المثل، فلا يمتنع توزيع المسمى عليه، ومثل هذا لا يتحقق في البيع. وأما الكتابة، فهي أقل [احتمالاً] (2) لأمثال هذه الأمور؛ فإن عوضها أُجمل على صيغة تَفْسُد عليها الأعواض في العقود؛ فإنها مقابلة الملك بالملك، ثم كان سبب احتماله تشوف الشرع إلى تحصيل العتاقة، فإذا أمكننا أن نقدر وجهاً في الصحة، لم يَلِقْ بوضع الكتابة أن تفسُد لتخيير السيد. ومن فهم ما ذكرناه، لم يفسد عليه الكلام العام في اشتراط الإعلام في أعواض هذه العقود. ومن أصحابنا من ألحق البيع بالنكاح والخلع، وخصص الكتابة بقطع القول فيها بالصحة، والسبيل ما قدمناه، ولا يمتنع عكس هذه الطريقة على من يحاول؛ فإن الكتابة مضمونها العتق، وهو على النفوذ كالطلاق، والبيع يختص من بين هذه

_ (1) والفضِّ: أي والتوزيع والتقسيم. (2) زيادة من المحقق.

العقود بمزايا وتأكيدات في رعاية صفات الأعواض. فأما القول في الصداق، فإن أفسدناه، رجعنا إلى مهور أمثال النسوة، فإن كل فساد يرجع إلى الجهالة فالرجوع إلى مهر المثل، وهذا مقطوع به. 8444 - ووراء ما ذكرناه غائلة؛ فإنا على قول القيمة وضمان اليد نقدر للخمر قيمة، ونقدر الخمر عصيراً، ومساق هذا يقتضي ألا نصير إلى مهر المثل إلا في المجهول الذي لا يمكن تقويمه. وإذا كان النص على مهر المثل ممكناً، فليس هذا بأبعدَ من تقدير قيمة الحر. فإن وفّينا حق هذا الأصل، قلنا: إذا رأينا الرجوع إلى القيمة في قاعدة الصداق عند طريان التلف أو اقتران الفساد، فالوجه: تصحيح الصداق. وإن لم نر ذلك، جرى القولان، وهذا تكلّف منا، والأصحاب طردوا القولين على القولين. وحق من يريد الاعتناء بالمذهب أن يفهم ما قيل ويتثبت في النقل، ثم يحيط بالمشكلات، ويستمسك بها في نصرة قول على قول. وإن حكمنا بصحة الصداق، فلا وجه إلا فضّ المسمّى على أقدار مهور أمثال النسوة، فإن استوين في مهور الأمثال استوت حصصهن، وإن تفاوتن في المهور، تفاوتت الحصص. وفي طريقة القاضي قول غريب أن المسمى [مفضوضٌ] (1) على رؤوسهن من غير نظر إلى تفاوت المهور، وهذا وهم غير معدود من المذهب، لا يُحتمل إلا من رجل له قدرٌ وقدمُ صدق في المذهب. وما ذكرناه من التفريع في النكاح يجري مثله في بدل الخلع، [حرفاً بحرف] (2). 8445 - وأما [البيع] (3) -إن أفسدناه- لم يخف حكم فساده، والسبب فيه جهالة العوض، كما قررناه في التوجيه، ثم نقول: لو كان بين أربعة أشخاص أربعة أعبد،

_ (1) في الأصل: مفضض. (2) في الأصل: فانحرف. والمثبت من (صفوة المذهب). (3) في الأصل: المبيع.

لكل واحد منهم ربع الجميع، فإذا باعوا الأعبد من شخص بثمن واحد، صح بلا خلاف؛ فإن لكل واحد ربع الثمن، ولا جهالة، وإنما الحكم بالفساد، أو ترديد القول حيث ينفرد كل واحد بعبد أو عبيد، بحيث تمس الحاجة إلى فضّ المسمى على أقدار القيم. ومما نفرعه أن الرجل لو قال: اشتريت عبدك بما يخص العبد من الألف لو وزع عليه وعلى عبد زيد، ولم يجر عقد مع زيد؛ فالبيع فاسد على هذا الوجه، وإن كان لو فرض عقد مشتمل على عبديهما بمقدار من المسمى، لخرجت المسألة على قولين؛ والسبب فيه أن معتمد الصحة النظر إلى صيغة الصفقة المشتملة على معلومين من الجانبين على الجملة، مع رد الجهالة إلى القسمة. ومما يتفرع على البيع أيضاً أنا إذا صححناه، فلا وجه إلا فَضُّ المسمى على قيم العبيد، وذلك القول البعيد الذي حكيناه في النكاح والخلع وهو الفض على الرؤوس لا يتأتى في العبيد؛ فإنهم أموال قوبلوا بأموال في عقد يقصد منه المالية، وحقائق المالية لا تجري في الأبضاع، وهذا تكلفٌ منا؛ فإن ذلك القولَ فاسدٌ، حيث ذكروا ما للعبد في الكتابة، فلا بد من فض العوض عليهم بما ذكرناه في البيوع، نص الشافعي عليه في الكتابة، وأجمع عليه الأصحاب، وهذا نجاز الفصل. فصل قال: " ولو أصدق عن ابنه ودفع الصداق من ماله ... إلى آخره " (1). 8446 - قد ذكرنا في كتاب النكاح صيغة قبول النكاح للأطفال، وصيغة التزويج منهم، وغرضنا من عقد هذا الفصل أمور تتعلق بالمهر. منها: أن الأب لو أصدق امرأة ابنه الطفل شيئاً من أعيان ملك نفسه عند قبول النكاح، فهذا جائز، والعين المذكورة تثبت صداقاً. والتقدير فيها أن يفرض دخولها تحت ملك الطفل، ثم ملك زوجته يترتب على ملكه، فتلحق العين بأموال الطفل،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 28.

ويجب الإصداق من ملك الطفل، وهذا متفق عليه. ثم إذا بلغ الغلام، وطلّق زوجته قبل الدخول، والعين باقية في يدها؛ تشطّرت، ورجع نصفها إلى الزوج -وهو الابن- فإنا قدّرنا دخول العين في ملكه، وأوضحنا ترتّب ملك المرأة على ملكه، فيرجع الشطر إلى الجهة التي منها الخروج. ثم الأب إن قال: قصدت هبةً، فالأمر منزّل على قصده، وإن قال: قصدت إقراضاً، فالظاهر عندنا أن قصده متبع؛ لاحتمال الأمر. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن مطلق إصداقه يتضمن الهبة لا محالة، وصرحوا [أنه] (1) إذا قال: لم أنو شيئاً، كان محمولاً على الهبة، ثم إذا حملناه على الهبة، ثم فُرض رجوع شطر تلك العين إلى الابن، فهل يملك الأب الرجوع فيما رجع إلى الابن؟ فعلى الخلاف المعروف في أن ملك المتهب إذا زال وعاد، فهل يثبت للأب حق الرجوع فيه؟ ولو ارتدت المرأة، أو جرت حالةٌ غيرُ الردة، مقتضاها رجوع جميع الصداق إلى الزوج، فالجميع يرجع إلى الابن رجوعَ النصف عند فرض الطلاق قبل الدخول، ثم القول في رجوع الأب، على ما ذُكر. 8447 - وذكر الأصحاب مسألة عدّوها من اللغز والمغالطة، فنذكرها على صورتها، فقالوا: إذا قبل الأب النكاح لابنه الصغير، وأصدقها أمّ الصغير (2)، فكانت في ملكه، ثم بلغ الغلام، وطلقها، فإلى من تعود الأم أو بعضها؟ وكيف الطريق بهذا [اللغز] (3)؟ لأن الأم لو دخلت في ملك الابن، لعَتَقَتْ، فإذا عتقت، لم يصح الإصداق، وإذا لم يصح الإصداق، لم يحصل العتق، فيلتحق هذا بالمسائل الدائرة. فهذا ما ذكره الأئمة. وينشأ من هذا سؤال، وهو: أن الأب لو قبل لابنه الصغير نكاح امرأة مهرُ مثلها

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام. (2) ويتصور ذلك بأن يتزوج أمة غيره، فيستولدها، ويكون ولدها رقيقاً تبعاً لها، ثم تدخل في ملكه هي والولد، فيعتق الولد عليه دونها، فإذا زوج ابنه هذا وجعلها صداقاً تكون هذه الصورة. (3) في الأصل: " الغار ". ولا معنى لها، فليس هنا غرور، ولا غارّ ولا مغرور.

مائة، فأصدقها من خالص ماله ألفاً، فكيف يكون الرأي؟ وهل يكون هذا كما لو أصدقها من مال الطفل ألفاً، مع العلم بأنه لو فعل ذلك من مال الطفل، لكان متبرعاً من ماله، والتبرع من مال الطفل مردود، وهذه المسألة في نهاية الحسن. وأول ما يجب قطعه أن يظن ظان أن الملك يثبت للطفل، ويبطل الإصداق؛ فإن سبيل ثبوت الملك له الإصداق، وإذا كان بقصد الإصداق، كيف يصح التمليك؟ فوجه الكلام أن يقال: يحتمل أن يصح الإصداق: فإن كان مع تقرير ملك الطفل، فإن هذا تبرع حصل بتبرع الأب بمال نفسه، ولم يثبت للطفل ملك متأثل حتى يفرض منع [التبرع] (1) فيه. ويجوز أن يقال: يفسد الصداق رأساً؛ لأن في تصحيحه تثبيتٌ لملك الطفل مع التبرع به. وما وجدناه منصوصاً للأصحاب من منع إصداق الأم يشهد لإفساد هذا الإصداق، فإن انقدح لفقيهٍ نظرٌ في الفرق، فلا حرج عليه، ولا يَطْمَعَن في تخريج في العتق؛ فلا وجه فيه غير ما ذكره الأصحاب. فإن قيل: قد حكيتم عن أبي إسحاق أنه قال: من يشتري من يعتِق عليه، حصل الملك والعتق معاً، فقياسه أن يحصل ملك الطفل في الصداق وملك المرأة معاً، ثم حصول ملكها يمنع حصول العتق، فهل يخرّج على هذا جواز إصداق الأم؟ قلنا ليس ما قاله أبو إسحاق مما يحل التفريع عليه، سيما في هذه المضائق، وحق كل ناظر في مضيق أن [يقطع] (2) فكره عن الأصول البعيدة. فهذا منتهى ما ذكرناه في ذلك. 8448 - ومما يتصل بهذا: أن الرجل إذا نكح امرأة [و] (3) أصدقها ألفاً، وجاء أجنبي وأدّى الألف من غير رضا الزوج، وطلقها قبل المسيس، فحكم الطلاق تشطير الصداق، ويبعد كل البعد أن نقدّر للزوج ملكاً فيما أدّاه الأجنبي؛ فإنه لا يملك

_ (1) في الأصل: المتبرع. (2) في الأصل: يقتطع. (3) في الأصل: أو.

الأجنبيُّ تمليكَ الزوج شيئا قهراً، وهو ما يليه (1)، أما التشطير، فلا شك فيه، وحكى شيخي وجهين فيمن ينقلب الشطر إليه، أحد الوجهين: أنه يرجع إلى الأجنبي؛ فإنه من ملكه خرج، ولا وجه عندنا غيره، وإن استبعد مستبعد رجوع نصف الصداق إلى غير الزوج، فسببه أداء الصداق من غير الزوج. والوجه الثاني - أنه يرجع إلى الزوج، وهذا القائل يضطر إلى أن يقول: يدخل في ملك الزوج تقديراً أولاً، وقد يتفق مثل هذا. وقد ذكرنا أن العبد إذا خالع زوجته على مال، فالعوض يدخل في ملك السيد، ولم يجر الخلع بإذنه، ولم يخرج البضع عن استحقاقه، والقياس يقتضي أن يكون عوض البضع عن استحقاقه، والقياس يقتضي أن يكون عوض البضع لمن يخرج البضع عن حقه، ومن الأصول الخفية أن [محض] (2) القياس قد يضيق، فيدِق النظر، وهو يمشي مشي المُقَيَّد، ثم قد يقف، ويضطر الفقيه إلى حكم، فيصرفه إلى أقرب الوجوه إليه من غير قياس، إذا امتنع تعطيل الحكم، وهذا تكلف، وليس العبد كالأجنبي المتبرع، فإن ما يكتسبه العبد [إنما] (3) يكتسبه للسيد. وكل ما ذكرناه فيه إذا أصدق الأب زوجة ابنه من مال نفسه. 8449 - فأما إذا أصدقها من مال الابن، فإن كان قدر مهر مثل المرأة. أو أقل؛ صح النكاح، وثبتت التسمية، وإن كان أكثر من مهر المثل؛ ففي المسألة قولان: أحدهما - أن النكاح لا ينعقد. والثاني - أنه ينعقد، ويُرد إلى [مهر المثل] (4). وأصل هذين القولين أن فساد المهر وإن كان في قاعدة المذهب لا يؤدي إلى إفساد النكاح- فالمهر ثبت في الصورة التي ذكرناها في حكم الشرط، وكأن المرأة لم ترض بالنكاح إلا به، فلا ينبغي أن يؤخذ هذا من فساد المهر مطلقاً؛ إذ لو قلنا: يلزمها

_ (1) ما يليه: أي لا ولاية له عليه، فيملكه. (2) في الأصل: محطى. (3) في الأصل: بمثابة ما يكتسبه للسيد. (4) في الأصل: مثل المهر.

النكاح بمهر المثل، لكان هذا تجنّياً ظاهراً واحتكاماً عليها وتغييراً لموجب إذنها، وليس كما لو كان الصداق خمراً؛ فإنه لا حكم لرضاها بالخمر، وطلبها أكثر من مهر المثل يسوغ في الشرع؛ فليفهم الناظر هذه الدقيقة، فإنا رأينا المتعمقين يرون قول فساد النكاح قولاً فاسداً في المذهب، لا يرون له اتجاهاً إلا على قول بعيد في أن فساد المهر يؤدي إلى فساد النكاح، وليس الأمر كذلك؛ فإن الشافعي في مساق نصوصه على أن النكاح لا يفسد بفساد الصداق، ينص على هذين القولين. ولو زوّج ابنته بأقل من مهر المثل، ففي انعقاد النكاح قولان: أحدهما - لا ينعقد. والثاني - ينعقد بمهر المثل، وتوجيه القول في الإفساد مأخوذ مما ذكرناه، وهو أن الرجل لم يرض بأن يُلزِمَ النكاح بأكثر مما ذُكر، ْ وقد سبق تقرير هذا. وهذا الذي نبهنا عليه من شرائف الكلام، ولست أذكر أمثال هذا [تصلّفاً] (1) ولكني أقصد أن يكون للمنتهي إليه فضل تأمل. 8450 - ثم إذا أصدق الرجل امرأة ابنه لا من مال نفسه، فلا يخلو، إما أن يصدقها من عين مال الطفل، وإما أن يصدقها ديناً، فإن كان عيناً [مَلَكتها] (2) والكلام في كونه على قدر مهر المثل أو أكثر منه، وقد سبق ذلك. وإن ذكر في قبول النكاح لطفله دَيناً مطلقا، فالمنصوص عليه في الجديد: أن المهر لا يثبت في ذمة الأب، والمال على الابن، نعم، إن كان للابن مال، فالابن مطالب بتأديته من ماله. وقال في القديم: يكون الأب ضامناً للمهر شرعاً، وقد ذكرت القولين وتوجيهَهما. وكذلك لو أذن المولى لعبده في النكاح، فالقول الجديد: أن ذمة السيد خلية عن المهر، والمهر والنفقة يتعلقان بكسب العبد، وقال في القديم: يصير السيد ضامناً،

_ (1) في الأصل: " ـ صـ ـا " هكذا بدون أي نقط. والمثبت تصرف منا على ضوء عبارات الإمام في مثل هذه المسائل. (2) في الأصل: ملكها.

وذمة العبد مشغولة أيضاً، وهو في رتبة الأصيل والسيد في مقام الكفيل. وإذا أذن لعبده في التمتع بالعمرة إلى الحج، فالقول الجديد- أن العبد يصوم لا غير، وليس على السيد بذلُ مال. والقول الثاني - أن السيد يُريق دمَ المتعةِ عن عبده. فإن قلنا: ذمة الأب عريّة عن المال، فإن كان للابن مال، فالمرأة تطالب الأب المتصرف بأداء المهر من مال الابن، ولو صرّح الأب بضمان المهر شرطاً -والتفريع على الجديد- فيصير حينئذ ضامناً، والمرأة بالخيار، فإن شاءت طالبت الابن إذا بلغ، أو طالبت الأب بالأداء من ماله، وإن شاءت طالبت الضامن، ويظهر أثر هذا مُتّضحاً فيه إذا لم يكن للابن مال ثم الأب إذا ضمن -حيث انتهى التفريع إليه- فإن غرم، فهل يرجع على الابن؟ قد [ذكرنا] (1) في كتاب الضمان أن من ضمن بالإذن، وشرط الرجوع وغرم كذلك؛ فإنه يرجع، فإذا لم يفرض الإذن، ففيه تفصيل. وحظ هذه المسألة من ذلك الأصل الذي أشرنا إليه- أن الأب لا يحتاج إلى تصريحٍ بشرطٍ، حتى يرجع، ولكن يكفي قصده، فنضع قصدَه موضع الإذن وشرطِ الرجوع، ثم نطبق الخلاف على الخلاف والوفاق على الوفاق. وإذا ضمن وأدى في هذا المنتهى، ثم طلق الزوج؛ فنصف المهر يرجع إليه، ثم الكلام بعد ذلك في أن الأب هل يرجع أم لا؟ فإن ما يصدر من الأب في مثل ذلك يتضمن تمليكاً؛ فإنه يَمْلِكُ تمليكَ الطفل- كما سبق تفصيله، وإذا كان تبرعه من مال نفسه يتضمن تمليكه، فما يؤديه بعد الضمان والالتزام يقتضي ذلك لا محالة، وفائدة ما ذكرناه أن تشطير الصداق إذا رجع -حيث يثبت للأب حق الرجوع- فلا نقول: ينحصر حق الأب فيما رجع، بل يلتحق ما رجع بسائر أملاك الطفل، ثم الأب يتصرف فيه فيما يرجع به تصرفه في سائر أملاكه. وهذا كله تفريعٌ على القول الجديد في أن التبرع لا يُلزم الأب ضماناً بحكم العقد، ثم صورنا فيه إذا لم يصرح بالضمان أو صرح به.

_ (1) في الأصل: ذكرناه.

8451 - فأما إذا فرعنا على القديم، وقضينا بأن التبرع يُلزم الأبَ الضمان، قال القاضي: إذا غرم الأب على القول القديم ما ضمّنه الشرع، فلا يجد به مرجعاً على مال الطفل، ويكون هذا كضمان العاقلة دية الخطأ؛ فإنهم إذا تحملوا [العقل] (1) وأدَّوْا ما حمّلهم الشرع، لم يرجعوا بما بذلوه على القاتل. ثم قال: فلو شرط الأب، [صح] (2) النكاح، فإن النكاح لا يفسد بأمثال ذلك، وقيل له: لو ضمن الصداق بشرط براءة الابن، فكيف الوجه؟ فقال: لو ضمن الضامن دَيْناً على شرط براءة الأصيل، فلابن سريج في ذلك وجهان ذكرناهما: أحدهما - يجوز. والثاني - لا يجوز. هذا معروف في غير ما نحن فيه. فإذا فرضنا شرط الضمان على هذا الوجه -والتفريع على القول الجديد، وهو أن الضمان لا يلزم شرعاً- فيحتمل وجهين: أحدهما - أن الضمان لا يصح، ويفسد بالشرط، ثم يلتحق هذا بشرط ضمان فاسدٍ في العقد، وقد اختلف القول في أن شرط الضمان الفاسد والرهن الفاسد في العقد، هل يتضمن فساد العقد؟ وقد ذكرنا في ذلك قولين في كتاب الرهون، هذا وجهٌ. وإن قلنا يصح الضمان [عن] (3) دين مستقر بشرط براءة الأصيل، فشرْطُ هذا في صلب العقد يجب أن يكون فاسداً؛ فإن العقد يستدعي ثبوت العوض في ذمة [العاقد] (4)، والخلاف الذي ذكرناه عن ابن سريج في ضمانٍ يرد على دين مستقر، لا يبعد سقوطه. وإذا تبين أن الضمان لا يتضمن إبراء الذمة إذا وقع شرطاً في العقد، فالشرط إذاً فاسد، وإذا فسد الشرط، فهل يفسد الضمان؟ فيه وجهان ذكرناهما توجيهاً وتفريعاً في كتاب الضمان، هذا كله إذا فرعنا على القول الجديد -وهو أن الشرع لا يُلزم ذمةَ الأب ضماناً-.

_ (1) في الأصل: العقد. (2) في الأصل: وصح. (3) في الأصل: من. (4) في الأصل: المعاقد.

فأما إذا فرعنا على أن الشرع يُلزم ذمة الأب الضمان، فَذِكْرُه الضمان لا معنى له، وهو نطق منه لموجب العقد، فإن ذكر شرط البراءة - أعني براءة الابن، فهذا هو الشرط، وهو فاسد، فإذا اقترن بالصداق؛ يجوز أن يقال يفسد الصداق به، كما سيأتي تقرير ذلك في بابٍ بعد هذا -إن شاء الله تعالى- ويجوز أن يقال: يفسد الشرط ولا يفسد الصداق. وفيما ذكرناه حكاية عن القاضي وَقْفةٌ عظيمة؛ فإنه [حكم] (1) بأن الأب لا يرجع على القول القديم بما يغرمه عن جهة الضمان الشرعي، وهذا مما لا سبيل إلى القول به؛ فإن الشرع أثبت للأب [نظراً] (2) في طلب غبطة الابن لكمال شفقته، فإذا نظر له واستد نظره، فانتصاب ذلك سبباً لتضمينه وإلزامِه المغارم الثقيلة، محالٌ، ولا شك أن الابن مطالَبٌ بالمهر إذا بلغ، وكذلك هو مطالب بالنفقات وسائر مؤن النكاح، وليس كالقاتل خطأً؛ فإنه لا يطالَب بالعقل مع إمكان مطالبة العاقلة، وبالجملة لا يُشبِّه المغارمَ التي تتعلق بالمعاملات النظرية المنوطة بشفقة الأب بالجنايات وضرب أروشها على العاقلة إلا غافلٌ عن القولين، وضرب العقل على العاقلة مُعْتَبَرُ الأحكام التي لا تعلل. 8452 - وينشأ من هذا المنتهى نظرٌ في فنٍّ، وهو: أن البنت إذا خطبها كفء، غلب على الظن أن تزويجها موافق لأقصى الغبطة المطلوبة، فهل يجب على الأب أن يزوّجها، أو لا يجب عليه، أو يجوز له، أو يُستحبّ؟ هذا محل النظر. 8453 - ونحن نرى تقديم أصل على ذلك، فنقول: تصرف الأب في مال الطفل ينقسم، فمنه محتوم، ولا يشك العاقل في رعايته، وهو حفظ ماله وصونه عن الضَّياع، ويتصل بذلك تنميتُه بما يقيمه حتى لا يأكل مؤنُ [الحفظ] (3) المالَ، وعلى هذا يحتمل قول عائشة (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) (4) فأما التناهي

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. وهي بهذا اللفظ في (صفوة المذهب). (2) في الأصل: ناظراً. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) حديث: "اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة" رواه الطبراني في الأوسط بهذا اللفظ عن =

في الاستنماء والنزوحُ في البر والبحر، والتطوّح في [النّجود] (1) لاستنماء مال الطفل؛ فهذا لا يجب، وضبط هذا القسم [ما] (2) ينتهي إليه إلى [الإجهاد] (3) والإكداد، والشغل عن المهمات التي تخص الولي، وبين مأمور فيها بإحسان النظر، وهل يجب ذلك؟ الظاهر أنه [يجب] (4) [فلو] (5) سنحت غبطة، كزبون يطلب شيئاً بأكثر من ثمنه، فيجب تحصيل ذلك للطفل، وكذلك إذا كان يُعرض شيء [مما يُريد] (6) وكان يباع بأقلَّ من ثمنه، ولكن هذا فيه نظر؛ فإن الأب لو أراد أن يشتريه لنفسه جاز، ولا يلزمه أن يشتريه لطفله. وأما بيع مال الطفل وهو -مطلوب على غبطة- فمحتوم. هذا نظرنا في المال. ووراء ذلك مزيد، وهو أن الأب لو تبرم بالتصرف في مال طفله، وأراد دفع الأمر إلى القاضي لينصب فيه قيّماً بأجرٍ، فلست أرى هذا محظوراً على الأب، وكذلك لو نصب هو بنفسه ناظراً، ولو طلب من السلطان أن يُثبت له أجراً على عمله، فالسلطان يرى رأيه، فإن وجد متبرعاً بالعمل، فالأظهر أنه لا يجعل له جعلاً، وليس كما لو طلبت الأم أجرة على الإرضاع ووجد الأب متبرعة به؛ فإنا في قول قد نقول: الأم

_ = أنس مرفوعاً، في ترجمة علي بن سعيد. (ر. المعجم الأوسط: ا/ل: 250، وروى البيهقي عن عمر موقوفاً مثله. (ر. السنن الكبرى:4/ 107) ورواه الشافعي مرسلاً عن يوسف بن ماهك (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 224) ورواه الشافعي موقوفاً عن نافع عن ابن عمر (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 225) والذي وقع لنا عن عائشة أنها كانت تلي ابني أخيها القاسم، وكانت تخرج من أموالهما الزكاة (ر. الموطأ: 1/ 251) وانظر تلخيص الحبير: 2/ 308، 309. ح 826) ولم نصل إليه عن عائشة باللفظ الذي أورده المؤلف. (1) في الأصل: العود. والمثبت تقديرٌ منا بمعاونة ألفاظ العز بن عبد السلام في مختصره. (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج1 لوحة رقم: 97 (يمين)). (2) في الأصل: مما. (3) في الأصل: الاجتهاد. (4) في الأصل: لا يجب. وهو مناقض للسياق، ولما ورد في مختصر العز بن عبد السلام (السابق نفسه). (5) في الأصل: ولو. (6) في الأصل: فيما يزيد.

أولى بالإرضاع إذا اقتصرت على أجر المثل؛ والسبب فيه التفاوت اللائح بين إرضاعها وإرضاع الأجنبية. وإن لم يجد السلطان متبرعاً، فالظاهر أنه لا يُثبت للأب أجراً، ويجوز أن يقال: يثبته؛ إذ للأب أن يستأجر عاملاً في مال الطفل؛ فإذا لم يمتنع منه بَذْلُ الأجر على العمل، لم يمتنع أَخْذُ الأجر على العمل، فهذه أمور معترضة نبهنا عليها. 8454 - وتزويج الأب ابنته مع ظهور الغبطة، وغلبة الظن في اتجاهها لا يبعد أن يجب. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي (لا تؤخر أربعاً) وذكر من جملتها " البكر إذا وُجد لها كفء " ولا يبعد أن يرى الأب تأخير التزويج لتعلقه بالجبلة، وكون المقصد الأظهر فيه الإعفاف والإمتاع، ويعارض ذلك أن هذا الكلام لو وفّر عليه حقه، لكان مقتضاه منع التزويج، ووجوب التأخر. فأما المجنونة إذا تشوفت، فيجب تزويجها إذا كانت بالغةً، لظهور الحاجة، فأما التزويج من الطفل، فأبعد من الوجوب، والأظهر أنه لا يجب لما يلزمه من المؤن، ولا حاجة في الحال، وإذا كان مجنونا؛ فالتزويج منه عند مسيس الحاجة حتمٌ. هذا منتهى النظر في هذا الفن. وإن كان القاضي يقول: الأب إذا زوّج من ابنه المجنون -حيث يلزمه التزويج منه - يضمن المهر على القديم، وإذا غرِم، لم يرجع، فهذا خروج عن الضبط، ومصيرٌ [إلى] (1) إيجاب إعفاف الابن على الأب، والمرجع (2) الذي نفاه القاضي لا يفصل فيه بين اليسر والعسر من الطفل، وإن كان يفصل بين [التزويج] (3) الواجب وبين التزويج الجائز، ويقول: إنما يفسد المرجع في التزويج الجائز، فهذا إثبات نظرٍ على غرر، والآباء لا يورطون أنفسهم في هذه المغارم بما لا يجب عليهم، والتزام الغرر إنما يليق بمن يطلب حقَّ نفسه، كالذي [يؤدب] (4) زوجته، أو كالذي ينتسب إلى مجاوزة الحد

_ (1) في الأصل: على. (2) المرجع. أي الرجوع. (3) في الأصل: الزوج. (4) في الأصل: يوهب.

لا محالة، كالذي يؤدب ولده؛ فإنه إذا أفضى إلى الهلاك، تبيّنّا مجاوزةَ الأب حدّ الأدب، وانتهاءه إلى مبلغ من الضرر لا يجوز الانتهاء إليه. فهذا تمام المراد في ذلك. ثم ذكر الشافعي في آخر الباب تزوج المحجور المبذّر والإذنَ له، وهذا قد أجريناه مستقصًى في النكاح على أحسن وجه، وأبلغه في البيان. ***

باب التفويض

باب التفويض 8455 - نصدّر الباب بذكر التفويض الصحيح المتضمن تعريةَ النكاح عن المهر، وعلى الطالب أن يتأنّق في صدر الباب أولاً، فنقول: المالكة لأمر نفسها -وهي الحرة العاقلة البالغة الرشيدة- إذا أذنت لوليها في أن يزوّجها بلا مهر، وقالت: " زوّجني بلا صداق "، فزوّجها وليها، وصرّح بنفي المهر على حسب إذنها، فهذا النكاح هو الذي يسمى نكاح التفويض. والمرأةُ تسمى مفوِّضة ومفوَّضة، ومأخذ اللفظين بيّن، وتسمية تعرية النكاح عن المهر تفويضاً ليس على حقيقة اللسان؛ فإن التفويض معناه التخيير، والإحالة على رأى الغير في النفي والإثبات، فالذي ينطبق على هذا اللفظ أن تقول لوليها: " إن شئت زوّجني بلا مهر، وإن شئت زوِّجني بالمهر "، ولو صرحت بنفي المهر، فزوّجها الولي، ولم يتعرض لذكر المهر؛ فهذا بمثابة ما لو نفى المهر، اتفق الأصحاب عليه. ولو زوّج السيد أمته من أجنبي، ولم يذكر مهراً، كان هذا تفويضاً منه. ولو أذنت المرأة في التزويج، وأطلقت إذنها، ولم تذكر المهر نافية ولا مثبتة، فإذنها المطلق محمول على طلب المهر، وفاقاً، وهو بمثابة إذن مالك المتاع في بيع متاعه. ثم إذا أذنت في النكاح مطلقاً، أو طلبت المهر، فزوّجها الولي، فإنا نقدم على هذا فصولاً في الوكيل والولي المجبر، ثم نرجع إلى الولي المزوِّج بالإذن. 8456 - فإن سمّى الوكيل مقداراً من المهر، فخالف، نُظِر؛ فإن زاد، فقد زاد خيراً، وكان كما لو قال الوكيل لوكيله: " بع عبدي هذا بألف "، فباعه بألفين، فالبيع لازم، والعوض المسمى ثابت، وإن خالف الوكيل في النكاح فنقص عن المقدار الذي سُمي له؛ لم ينعقد العقد؛ لأن تزويج الوكيل مبناه على الإذن، فإذا خالف الإذن مزوِّجاً بغير إذنٍ، فالتزويج بغير الإذن مردود. وهو كما لو قالت: " زوّجني من زيد " فزوّجها من عمرو.

ولو نَصب الوكيلَ في التزويج، ولم يَذكر له مقداراً من المهر، فلو زوّج بدون مهر المثل، [أو] (1) زوّج مع نفي المهر؛ فقد ذكر بعض الأصحاب قولين في انعقاد النكاح، وهذا بعيد، والوجه: القطع بأن النكاح لا يصح؛ فإن تصرّف الوكيل مما يتقيد بموجب الاذن، فكذلك يتقيد بالعرف المقترن بالإذن، ومقتضى العرف رعاية الغبطة، ولهذا قلنا: الوكيل بالبيع مطلقاً إذا باع بغبن، لم يصح بيعه. ومما يتصل بهذا المقام: أنا إذا كنا لا نصحح من الوكيل المطلق التزويجَ بأقلَّ من مهر المثل، فلو زوج مطلقاً؛ فعلى ماذا يُحمل الإطلاق؟ هذا فيه تردد ظاهر، يجوز أن يقال: هو محمول على تعرية النكاح، حتى لا يصح من الوكيل العقد، ويظهر جداً أن يُحمل على ثبوت مهر المثل؛ فإن الشرع يقتضي إثبات المهر إذا لم يجرِ تصريح بالنفي، فيكون إطلاق النكاح بمثابة ذكر مهر المثل. ويخرّج على هذا التردد أن الوكيل المطلق لو [زوج] (2) بخمر، فالرجوع إلى مهر المثل في مثل ذلك، فكيف السبيل؟ والأظهر في هذه الصورة الفساد؛ فإنه أتى بصورة المخالفة، فهذا ما أردنا ذكره في الوكيل. 8457 - فأما الولي إذا زوّج وليته، فلا يخلو؛ إما أن يكون مجبِراً، فزوج بمهر المثل: صح. وإن زوج الصغيرة أو البالغةَ البكرَ بدون مهر المثل، أو نكاحَ تفويضٍ؛ ففي انعقاد النكاح قولان، قدمنا تحقيقهما. فإن قلنا: إنه ينعقد، فيثبت مهر المثل، أجمع الأصحاب عليه. ولم يَصر أحدٌ إلى انعقاد [النكاح بالمقدار] (3) الذي سمّاه. وقال أبو حنيفة (4): ينعقد النكاح بذلك المقدار. فأما إذا كان الولي مزوِّجاً بالإذن، فإن سمّت المرأة مقداراً، فزوّج الوليّ بدونه، فهو كالوكيل؛ فإن تزويجه؛ موقوف على الإذن، فإذا ظهرت المخالَفَةُ، كان كما لو زوّجها بغير إذن.

_ (1) في الأصل: وزوّج. (2) في الأصل: متزوّج. (3) في الأصل: إلى انعقاد (المقدار بالنكاح) الذي سماه. (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 259 مسألة رقم: 727.

وإن لم تسم مقداراً من المهر، فزوّجها الولي، بمهر المثل صح، وإن زوّجها بأقلَّ من مهر المثل، فللأصحاب طريقان: أقيسهما - القطع بأن النكاح لا يصح؛ فإنّ إذنها المطلق محمول على موجب العرف، فكأنها قيّدت إذنها بما يليق بالعرف من المهر، ولو كان كذلك، فخالفها، لم ينعقد النكاح، ومن أصحابنا من قال: في تزويج الولي بدون مهر المثل، أو على حكم التفويض -وإذنها مطلق- قولان: أحدهما - إن النكاح يبطل. والثاني - إنه يصح، وينعقد بمهر المثل، كما ذكرناه في الوليّ المجبِر. وهذا القائل يزعم أن الإذن المطلق يُلحِق الولي بمرتبة المجبِر، ويُخرجه عن مرتبة الوكلاء، الذين لا معتمد لهم إلا الإذن. فهذا بيان تصوير التفويض. 8458 - فيعود بنا الكلام بعده إلى القول في حكم التفويض المحقَّق المتضمِّن تعريةَ النكاح عن المهر، فإذا جرى هذا، فالنكاح ينعقد، والمهر يجب عند الدخول، وهل يجب بنفس العقد المهرُ؟ ما قطع به العراقيون: أنه لا يجب المهر بالعقد، ولم يعرفوا غيرَ هذا، وإنما ذكروا القولين في محلٍّ سينتهي البيان إليه، إن شاء الله تعالى. وقال المراوزة: في المسألة قولان: أظهرهما - أنه لا يجب بنفس العقد شيء من المهر، ويجب بالدخول. وقالوا: هذا (1) هو المنصوص. والقول الثاني - إنه يجب لها المهر بنفس العقد، وكان شيخي يحكيه حكايةَ من يعتقده منصوصاً، وقال القاضي: هو مخرّج، والصحيح ما قاله. ثم إن حكمنا بأن المهر لا يجب بالعقد، فأول ما نفرّعه على هذا القول: أنها إذا وُطئت، فالمهر يجب عند الدخولِ والوطءِ لا محالة؛ فإن وجوب المهر في هذا المقام ليس خالياً عن تعبد الشرع، ولا يبعد إضافته إلى حق الله تعالى؛ حتى يمتاز النكاح عن السفاح وبدل البضع، وقيل: يجب أن يمتاز نكاحنا عن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل جعل خلو النكاح عن المهر من خصائص النبي

_ (1) في الأصل: وهذا.

صلى الله عليه وسلم، إذ قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] ولا يتصور أن يخلُوَ عن المهر وطء -في غير ملك اليمين، مع كونه محترماً- إذا أمكن تقدير المهر. والذمية إذا نكحت في الشرك على التفويض، وكانوا يرَوْن سقوط المهر عند المسيس أيضاً، فقد ينزل النكاح على موجب عقدهم إذا اتصل الإسلام، كما سبق تقريره. والسيد إذا زوّج أمته من عبده، فلا يثبت المهر أصلاً؛ فإن إثباته غير ممكن، وما حكيناه من مذهب بعض الأصحاب في أن المهر يثبت بأصل النكاح، ويسقط، لا تحصيل فيه ولا تحقيق وراءه. فأما في غير هاتين المسألتين، فلا يتصوّر خلو مسيسٍ في نكاحٍ من مهر، هذا ما اتفق عليه الأصحاب قاطبة في طرقهم. 8459 - وقال القاضي إذا [قالت له زوجته] (1)، وهي مفوضة: " طأني ولا مهر عليك "، فلا يمتنع أن نقول: إذا وطئها في نكاح التفويض على الوجه الذي صورناه، إن المهر لا يجب؛ فإنها صاحبة الحق، وقد [سلّطته] (2) مع الرضا بانتفاء المهر، وخرّج عن هذا قولَ الشافعي في كتاب الرهون: إذا قال الراهن للمرتهن: أذنت لك في جماع هذه الجارية المرهونة، فإذا واقعها ظانّاً أن الوطء يحلّ له بإذن الراهن، ففي وجوب المهر قولان للشافعي، ذكرناهما. في الرهون، قال: ووجه قوله " لا يجب المهر " أن مالك البضع، ومن يثبت له المهر -لو ثبت- رَضيَ بالوطء، فكان ذلك إسقاطَ حقه منه. ومن الأقيسة الجلية الكليّة في قاعدة الشرع أن من يملك إسقاط العوض بعد ثبوته له، إذا سلّطه على إتلاف العوض، كان تسليطُه عليه متضمناً إسقاط العوض. ولذلك نقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: " اقتله "، فقتله، لم يلتزم القاتل بالإذن للمالك

_ (1) في الأصل: قال لزوجته. (2) في الأصل: سلطت. وفي (صفوة المذهب): أسقطته.

الآذن عوضاً، وكذلك إذا قال [للجاني] (1): اقطع يدي، فإذا قطعها، لم يلتزم عوضاً، هذا وجه التخريج. وما ذكره لَستُ أُعدّه من المذهب، وأظن أنه (2) لم يذكره ليلحقه بأصل المذهب، وإنما ذكره ليوضح جهة الاحتمال وتطرقه إليه؛ فإن ما قاله مسبوق بالإجماع من نقلة المذهب في الطرق المختلفة. ثم إنما كان ينتفع المناظِر بما خرّجه لو صحّ أنه كان يطلقه فيه إذا جرى التفويض في النكاح مطلقاً، وقضينا بعروّ العقد عن المهر، فكان يجب أن يقال: إذا وطىء الزوج -وقد صَحّ التفويض في أصل العقد- لا يجب المهر، بناء على ما تقدم؛ فإن الزوج بعد صحة التفويض، يتصرف في ملك نفسه، ومن انتفع بملك نفسه، وقد ثبت ملكه خلياً عن العوض، فيبعد أن يستوجب العوض بسبب تصرفه الجائز في ملكه الثابت العريّ عن العوض، [و] (3) القاضي لا يسمح بتخريجه في هذه الصورة، بل نَقَل عنه من يُعْتَمَد أن سقوط المهر مع جريان المسيس إنما يُقدّر إذا جدّدت تسليطاً على الوطء من غير مهر، وصرّحت بنفي المهر. والمهر في ذلك متردد عندي؛ فإني رأيت في بعض مجموعاته ما يدلّ على طرده التخريج فيه، إذا جرى تفويض تام على الصحة، من غير احتياج إلى تجديد إذن في الوطء، فإن لم يكن من هذا التخريج بد، فلا بد من طرده على هذا الوجه الذي ذكرناه؛ وذلك أن إذنها المتجدد لا يصادف حقها؛ من جهة أن الزوج هو المستحق للبضع، وقد ثبت استحقاقه الأول عرِيّاً عن العوض، فلا معنى لاشتراط تسليط من المرأة، [فيما] (4) استقر فيه حق الزوج. وقد يتجه مع هذا فرق ظاهر بين مسألة التفويض ومسألة إذن الراهن، وذلك أن إذن الراهن متعلقٌ بوطءٍ في غير نكاح، ولايبعد أن يخلو وطءٌ في غير نكاح عن

_ (1) في الأصل: الجاني. (2) في الأصل: وأظن أنه إن لم يذكره. (3) (الواو) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: فما.

المهر، والدليل على الفرق: أن مجرد إذن الراهن -على أحد القولين- يتضمن سقوط المهر من غير تعرض لإسقاط المهر، ولو عقد النكاح خالياً عن المهر ذاكراً، لثبت المهر إذا لم يتعرض لنفي المهر، كما قدمنا ذلك في تصوير التفويض، فقد اجتمع -مما حُكي عنه ومما رأيته- كلامٌ مختلط، وأنا أحصّله وآتي به مضبوطاً. فأقول: 8460 - إذا جرى التفويض على الصحة -والتفريع على أنها لا تستحق بنفس العقد مهراً- فالمذهب المشهور: أنها إذا وطئها زوجها، ثبت مهر مثلها بالمسيس، سواء سَلَّطت بعد التفويض على الوطء من غير مهر، أو تمادت على ما سبق، ولم تُجدِّد تسليطاً، وذكر القاضي تخريجاً، وفيه وجهان: أحدهما - أن المهر لا يجب بالوطء وإن لم تجدد تسليطاً، بناء على ما تقدم من التفويض. والوجه الثاني - أنها إن لم تجدد تسليطاً حتى مسّها الزوج، وجب لها مهر المثل، ولا تخريج. وإن جدّدت تسليطاً وقيّدته بنفي المهر، فإذ ذاك يخرّج وجهٌ في سقوط المهر. ووجه الأول [في] (1) تنزيل التخريج بيّن، لا حاجة فيه إلى تكلف إيضاح. ووجه الوجه الثاني - أن النكاح له تميزٌ عن المسيس، ويتعلق بالمسيس تقرير المهر، فلا يبعد أن يحمل التفويض (2) حالة العقد على الرضا بسقوط حق العقد، حتى لو طُلِّقت قبل المسيس، لم تستحق نصف مهر في مقابلة العقد، فكان اشتراط تجديد التسليط مع نفي المهر [كما] (3) ذكرناه. ثم إن جرينا على الوجه الثاني في تنزيل تخريجه، فلا شك أنها تملك المطالبة بالفرض قبل الدخول، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى. وإن جرينا في التخريج على أن المهر لا يجب وإن لم تجدد تسليطاً، ففي ملكها

_ (1) في الأصل: يجيء. (2) في الأصل: أن يحمل على التفويض حالة العقد على الرضا. (3) في الأصل: بل ذكرناه.

المطالبةَ بالفرض قبل المسيس احتمال ظاهر، يجوز أن يقال: إنها تملكه، ويجوز أن يقال: إذا لزم النكاح عارياً عن العوض، فلسنا نتوقع ثبوت المهر عند المسيس على هذا الوجه، فلا تملك المطالبة بالفرض. وهذا هو القياس لو أمكن طرده. فهذا منتهى ما أردناه في ثبوت المهر وسقوطه عند جريان المسيس، تخريجاً على أن عقد التفويض خالٍ عن استحقاق المهر. وإن فرعنا على القول الثاني -وهو أنها تستحق المهر بالعقد- فالذي قطع به الأئمة: أنه إذا طلقها زوجها قبل المسيس، سقط المهر، ولم تستحق شطره، وليس لها إلا المتعة. 8461 - وكان شيخي أبو محمد يكرر في دروسه أن الطلاق قبل المسيس يشطر مهر المثل -على قولنا: تستحق المفوضة المهر بالنكاح- وكان يشبه هذا [بما] (1) لو ذُكر في النكاح مهر [وجُحد] (2)، ووقع الحكم بالرجوع إلى مهر المثل، فإذا وقع الطلاق قبل المسيس في مثل هذا النكاح، فمذهب الشافعي أن مهر المثل يتشطر تشطّر الصداق المسمى على الصحة. وهذا الذي ذكره قياسٌ جلي لا ندفعه، ولكنه خالف ما عليه كافة الأصحاب؛ فإنهم لم يختلفوا في سقوط جميع المهر إذا جرى التفويضُ والطلاقُ قبل المسيس، فكان ما ذكره غيرَ معتد به، [ولا] (3) يلتحق بالوجوه الضعيفة المعدودة من المذهب، وإنما ذكرته لأنبّه على أنه كذلك، فإنه يُلفَى في كثير من التعاليق عن ذلك الشيخ، فليعلم الناظر ما ذكرناه فيه. ومما ذكره: أنا إذا فرّعنا على أن المفوضة تستحق بالعقد المهر، فلا يثبت لها حق المطالبة بالفرض على هذا القول، كما لو جرى في النكاح تسميةُ خمرٍ أو خنزير أو مهرٍ مجهول؟ فإنا إذا قضينا بثبوت مهر المثل في هذه المسائل، فلا تملك المرأة المطالبةَ

_ (1) في الأصل: مما. (2) في الأصل: وجحود. (3) في الأصل: وما لا يلتحق.

بالفرض، وإن طلبته وطالبت به قيل لها: حقك مهر مثلك، فاطلبيه، ولا تطلبي فرضه وهو ثابت مستحَق. وقد أجمع الأصحاب على أنها تملك المطالبة بالفرض. وإن فرّعنا على أنها تستحق بالعقد المهرَ فيما ذكره شيخي؛ بناءً على أن مهر المفوضة يتشطر بالطلاق، وما ذكره الأصحاب مبني على أنها لو طُلقت، سقط جميع مهرها، [فملّكوها] (1) طلبَ الفرض لتتوصّل به إلى تقرُّر شطر المهر. 8462 - فإن قيل: ما ذكرتموه في التفريع [لا يثمر] (2) إلا الخبطَ والاضطراب، فعلى ماذا تقررون المهر؟ قلنا: سنذكر الغرض في ذلك بعد تقديم أصل آخر، وهو: أنه إذا جرى تفويضٌ صحيح، ولم يجر مسيس ولا طلاق، حتى مات أحد الزوجين، ففي ثبوت مهر المثل قولان للشافعي وتردّدٌ بيّنٌ، وذِكْره يستدعي تقديمَ خبر، وهو ما روي " أن عبد الله بن مسعود سئل عن المفوِّضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول؟ فكان يردد السائل ويعدُ حتى تردد شهراً، ثم قال: إن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمني ومن الشيطان، أرى لها مهر نسائها والميراثَ، فقام مَعْقِل بن سِنان وقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بِرْوع (3) بنت واشق الأشجعية بمثل قضائك هذا؛ فَسُرّ ابنُ مسعود سروراً لم يُسَرّ مثله، وحمد الله عز وجل على ذلك " (4).

_ (1) في الأصل: فملوكها. (2) في الأصل: لا يتم. (3) بِرْوع: باء موحدة مكسورة، وسكون الراء المهملة، وفتح الواو، بعدها عين مهملة (تهذيب الأسماء واللغات للنووي). (4) حديث بِرْوع، رواه أحمد في مسنده: 3/ 480، وأبو داود: كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسمّ صداقاً حتى مات، ح 2114، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة، فيموت عنها قبل أن يفرض لها، ح 1145، والنسائي: كتاب النكاح، باب إباحة التزويج بغير صداق، ح 3355، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب الرجل يتزوج، ولا يفرض لها، فيموت على ذلك، ح 1891، وابن حبان: ح 4086، والحاكم: 2/ 180، 181، وقال صحيح على شرط مسلم، وقد رواه أيضاً الشافعي في الأم، وتكلم =

فهذا الحديث يقع أيضاً في تصوير موت أحد الزوجين، ولكن تردَّدَ الشافعيُّ (1) في الحديث وحكم باضطرابه، إذ قد قيل: قال معقل بن يسار، وقيل: معقل بن سنان، وقيل ناسٌ من أشجع، وقد بلغ الحديثُ على الوجه الذي رويناه عليَّ (2) بن أبي طالب، فلم ير قبول رواية معقل، وقال: لا نقبل في ديننا قول أعرابي بوال على عقبيه، فردد الشافعيُّ المسألة؛ لأن الحديث لم يقع على شرطه في الصحة، فيبقى مجرد مذهب ابن مسعود، ويعارضه مذهب علي؛ فإنه كان لا يرى للمفوضة عند موت أحد الزوجين مهراً، وقد خلا النكاح عن المسيس (3). 8463 - وقد حان أن نذكر الترتيب في المذهب، فنقول: أما العراقيون فقد استدُّوا، وجَرَوْا على المسلك المرتضى، وقَضَوْا بأن المفوضة لا تستحق بالعقد مهراً؛ إذا (4) لم يعرفوا قولاً آخر، وقطعوا بأنها تستحق المهر إذا مسها الزوج، وذكروا قولين فيه إذا مات أحد الزوجين، مع قطعهم بأنها لا تستحق بأصل العقد مهراً، ووجّهوا القولين، فقالوا: من أوجب المهر في موت أحد الزوجين، احتج بأن الموت نازل منزلة الوطء في تقرير المهر؛ بدليل أنه يتقرر المهر المسمى بالموت قبل المسيس، كما يتقرر بالمسيس نفسه، ومن قال: لا يثبت المهر بالموت، احتج بأنها ما استحقت بالعقد مهراً، ولا جرى مسيس؛ حتى يقال: لو لم يثبت المهر، لكان الوطء في حكم المبذول، عرياً عن العوض. وسرّ هذا القول أن النكاح إذا اشتمل على مسمى صحيح، ثم فرض طلاق قبل المسيس، يسقط نصف المسمى، ويبقى نصفه في مقابلة العقد، وإن جرى مسيس، تقرر المهر. وإن فرض موت من غير مسيس، تقرر المسمى بانتهاء النكاح نهايته.

_ = فيه بما لخصه الحافظ بقوله: وقال الشافعي: " لا أحفظه من وجهٍ يثبت مثله " (ر. الأم: 5/ 61، وانظر التلخيص: 3/ 387 ح1676). هذا. وفي نسخة الأصل: معقل بن يسار. والتصويب من كتب السنة. (1) أشرنا إلى هذا التردد وموضعه من كتاب الأم، في التعليق السابق على الحديث. (2) في الأصل: " الذي رويناه عن علي بن أبي طالب، فلم ير قبوله ". (3) قول علي هذا. رواه الشافعي في الأم: 5/ 61. (4) إذا: هي هنا بمعنى " إذ " وهو استعمال فصيح أشرنا إليه أكثر من مرة من قبل.

وإذا عُقِد النكاحُ على التفويض، ثم فُرض الطلاق قبل المسيس؛ فلا يثبت من المهر شيء فتمثل (1) القول من هذا المنتهى، فرأى الشافعي -بعد التردد في حديث معقل- في قول حكمَ المهر عند الموت ولا مسيس، كحكم نصف المهر عند الطلاق قبل الدخول؛ فإن نصف المسمى كان ثبت عند الطلاق. والآية لم يثبت منه شيء، فكان تشبيه ما يقتضيه الموت من التقرير بما يتقرر من المسمى عند الطلاق قبل المسيس، أولى من تشبيهه بما إذا جرى المسيس. فهذا أحد القولين، وهو فقه حسن. والقول الثاني - أن الموت في اقتضائه التقريرَ، نازل منزلة الوطء؛ فإنه إذا انقضى العمر على النكاح، وبلغ بانقضائه النكاحُ غايتَه، فقد اتصل بالمقصود -وهو الدوام إلى آخر العمر- فيجب ألا يكون عريّاً عن المهر. والقول الأول أفقه (2)، والثاني معتضد بقصة ابن مسعود؛ فإن حديث معقل إن رده عليٌّ، عمل به ابن مسعود، ومن قواعد الأصول الترجيح بالحديث الذي لا يقطع بسقوطه؛ فإنه لا ينحط عن أقوى مسلك في الترجيحات، هذا كله بيان طريقة واحدة، وهي ما اختاره العراقيون. 8464 - طريقة أخرى للمراوزة، وهي: طرد القولين في أن المفوِّضة هل تستحق بأصل العقد مهراً؟ وفيه على ما ذكروه قولان: أحدهما -وهو الأصح عندهم- أنها لا تستحق بأصل العقد مهراً، وهذا الذي قطع به العراقيون ولم يعرفوا غيره. والقول الثاني - أنها تستحق بأصل العقد المهرَ، ورأْيُ المراوزة في ذلك مختلف،

_ (1) كذا بهذا الرسم بدون أي نقط. (ولعل المعنى: أننا يمكن أن ندرك مأْخذ القول، ونعرف أصله). (2) قال النووي: " رجح الإمام والبغوي والروياني أن المهر لا يجب بالوفاة قبل المسيس " فلعله أخذه من قول الإمام: " الأول أفقه ". ثم إن النووي رأى ترجيح الوجوب، مائلاً إلى تصحيح حديث بِرْوع، ولعلّه في هذا تبع الرافعي في الشرح الكبير. قلت (عبد العظيم): واضح من كلام الإمام أنه أمْيل إلى ترجيح الوجوب وإن لم يصرّح به. (ر. الشرح الكبير: 8/ 279، والروضة: 7/ 282).

قال معظمهم: هذا قول مخرج. وقال قائلون: هو مأخوذ من نص الشافعي في أن المفوِّضة إذا ماتت، أو مات زوجها قبل المسيس، فلها المهر كاملاً، هذا منصوص. وهو دالّ على أنها استحقت بأصل العقد المهر؛ فإنه لا يتقرر بالموت مهر ما لم يثبت بالنكاح. توجيه القولين في الأصل: من قال: لا يثبت المهر بالعقد، احتج بأن المهر حقها، وحق المولى من أمته، فإذا وقع الرضا بإسقاطه لم يثبت، وآية ذلك أنه لا يتشطر بالطلاق قبل المسيس. ومن قال: إنها تستحق بالعقد، احتج بثبوت المهر حالة المسيس، مع العلم بأن تصرف المالك على الوجه المستباح في ملكه لا يلزمه عوض ملكه، فإذا لزم، دلّ على أن اللزوم كان بالعقد، هذا وضع القولين تأصيلاً وتوجيهاً. 8465 - فإن حكمنا بأنها لا تستحق بالعقد شيئاً، فوراء ذلك تخريج القاضي في المسيس كما قدمته، وليس هو من المذهب، وإذا أنكرناه بشيء من هذا المنتهى، فإنه يتحقق هذا القول، فنبديه في معرض سؤال وجواب عنه. 8466 - فإن قيل: ما وجه إيجاب المهر حالة الوطء، مع عروّ العقد عن المهر؟ قلنا: الجواب عن ذلك يستدعي تقديم أصلٍ في المذهب -هو مقصود في نفسه- وبه يبين غرضُنا في المنتهى الذي انتهينا إليه، وذلك أن المفوضة إذا وطئها الزوج، ووقع الحكم بوجوب المهر، فقد اختلف أئمتنا في أن الاعتبار في مهر المثل بحالة الوطء أم بحالة العقد؟ وفيه وجهان مشهوران، ينبني عليهما أنا إذا اعتبرنا حالة المسيس فكأنا افتتحنا إيجاب المهر بالمسيس، نخرّجه على أنا وإن احتملنا إسقاط المهر حالة العقد، فلا نحتمل إسقاطه في مقابلة المسيس. وفي تقرير ذلك إشكال بيّن؛ فإن المهر ليس ركناً في النكاح، وإنما يتميز النكاح عن السفاح بصحته وإفضائه إلى استحقاق المنفعة على موجب الشرع، وذلك لا يستدعي عوضاً، ولذلك لم يبعد في الشرع نكاح يصح من غير مهر، كتزويج السيد أمته من عبده.

ونهاية الإمكان في ذلك أن نقول: النكاح في وضعه يقتضي [كالبيع] (1) الصحيح- عوضاً، والذي ذُكر من أن المهر ليس ركناً في النكاح، فالمراد به: أنه ليس يثبت على حقيقة العوضية ركناً، كما يكون الثمن أحد ركني البيع، فأما المصير إلى أنه لا يثبت شرعاً إقامةٌ لمنصب النكاح وما يقتضيه الشرع، فلا، فهو ركنٌ شرعاً، وليس ركناً عوضاً، وهو بمثابة عوض الخلع؛ فإن البينونة من غير عوض ولا استيفاءِ عدد [الطلقات] (2) في الممسوسة غيرُ ممكن، ولكن يفسد العوض، ويثبت الرجوع إلى مهر المثل، أو قيمةِ العوض، كما تقدم في الصداق. ثم إنما يعظم الأمر في تعرية الوطء عن العوض الشرعي، ولا يبعد عروّ النكاح، وهذا القائل يقول في تزويج الرجل أمتَه من عبده: إنا نحكم بثبوت المهر وسقوطه، وهو محمول على مذهب الضرورة؛ فإن العبد لا يملك ولا يستبيح الوطء [بطريق] (3) التسري، فأُثبت في حقه النكاح، كما ذكرناه. وقد ينقدح فيه أن يقال: كان يجب بطلان تزويج الأمة من العبد إذا كان مولاهما واحداً، إذ [لا] (4) يتصور أنه نكاح مشتمل على المهر. فهذا منتهى الإشكال. ومن قال: الاعتبار في مهر المثل بصفتها حالة النكاح، احتمل ذلك مسلكين: أحدهما - أنا نتبين إذا جرى المسيس أن المهر وجب بنفس العقد، فيخرج من ذلك أن الأمر موقوف، فإن انقضى النكاح من غير مسيس، تبينا آخراً أن المهر لم يجب بأصل العقد. وإن جرى في النكاح مسيس، تبيّنّا أن المهر وجب بأصل العقد، هذا مسلك. والثاني - أن المهر يجب بالمسيس، وإن اعتبرنا صفة المرأة حالة النكاح، فعلى هذا نقطع القول بعرو العقد عن المهر، ويكون الاختلاف في أن الاعتبار في صفتها -

_ (1) مكان كلمة غير مقروء بالأصل. وهي كذلك في (صفوة المذهب). (2) زيادة لإيضاح العبارة. (3) في الأصل: وطريق. (4) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. وهي ثابتة في (صفوة المذهب).

إذا أوجبنا مهر المثل -حالةَ [النكاح] (1) - مأخوذاً (2) من أصل اختلف فيه الأصحاب، وهو أن الرجل لو جنى على أمة حاملٍ بولد رقيق، ثم أَجْهضت، وأوجبنا على الجاني عُشر قيمة الأم، فنعتبر قيمتها يوم الانفصال أم نعتبر قيمتها يوم الجناية؟ المنصوص عليه للشافعي أن الاعتبار بقيمتها يوم الجناية. وقال المزني وأبو الطيب بنُ سلمة: نعتبر قيمتها يوم الإلقاء. وفي هذا التشبيه نظر ولكنه على حالٍ تقريبٌ في سرّ مسألة الجناية، يأتي في كتاب الجنايات، إن شاء الله عز وجل. والأوجه في المعنى: أنّا [إن] (3) اعتبرنا حالة العقد، فنتبين استناد الوجوب إلى تلك الحالة، ونبني الأمر على الوقف الذي ذكرناه؛ [إذ] (4) لا وجه لاعتبار صفة في حالةٍ لا يجب المهر فيها- ثم إذا قلنا: لا يجب المهر بالنكاح، فلا شك أن الطلاق إذا جرى قبل المسيس، فلا يجب شيء إلا المتعة. وقد ربط المحققون ذلك بقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] ثم قال عزّ من قائل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقد اتفق المفسرون أن الآيات مسوقة في المفوِّضة، وأنها إذا طلقت قبل المسيس، فلها المتعة، كما سيأتي شرحها في بابها، إن شاء الله تعالى. ثم قالوا: [لو] (5) فرض لها شيء قبل المسيس، فطُلقت، فلها نصف المفروض، ولا متعة. 8467 - ثم يبقى -بعد ما ذكرناه- القولُ في طلب الفرض- تفريعاً على أنها

_ (1) عبارة الأصل: " ويكون الاختلاف في أن الاعتبار في صفتها، إذا أوجبنا مهر المثل، فإنها حالة مأخذواً من أصل اختلف فيه الأصحاب " والحذف والزيادة من المحقق، ونرجو أن يكون صواباً. (2) مأخوذاً: خبر " يكون الاختلافُ ... ". (3) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام. وفي (صفوة المذهب): " إذا ". (4) في الأصل: أن لا وجه. (5) زيادة من المحقق.

لا تستحق بالعقد المهرَ -فنقول: إذا جرينا على ما قطع به الأئمة- من وجوب المهر عند المسيس، فهؤلاء أجمعوا على أنها تملك المطالبة بالفرض، حتى لا يقع الإقدام على الوطء إلا على مفروض ثابت. وإن فرعنا على أن المهر لا يثبت بالمسيس أيضاً، وقلنا: لو مسها، فلا مهر، وإن لم يجر تسليط على الوطء، فيتجه جداً أن نقول: لا تملك المطالبةَ بالفرض أصلاً، وقد لزم النكاح عريّاً عن المهر، كيف تَصَرَّفَ الحال، وقد يلزم على هذا القياس أن يقال: لا يثبت المهر، وإن قُدّر فرضٌ؛ لأن الانعقاد ولزومه على حكم [العقد] (1) ينافي في ثبوت المهر، جرياً على امتناع إلحاق الزوائد بالعقود [وبُعْد لزومها] (2)، وهذا مشهور من مذهب الشافعي. وما ذكرناه أقيسةٌ واحتمالات، والرأي: القطع بما قطع به الأصحاب. 8468 - ثم في مصير الأئمة إلى أن المهر يجب عند المسيس إشكالٌ في الفرض والمطالبة؛ من جهة أنه كان يجوز أن يقال: هي على ثقة من ثبوت المهر إذا جرى المسيس، فلا معنى لطلبها الفرض، ولكن المرأة تقول: إذا كان الزوج [يتسلّط] (3) على الوطء ولي المهر، ثم الشرع أثبت لي حق الامتناع عن الوطء في النكاح المشتمل على المسمى الصحيح، فطلبي الفرض في مقابلة طلبي المهر المسمى في النكاح المشتمل عليه. فهذا منتهى القول في هذا، وهو غاية البيان. ومن طمع أن يلحق ما وَضْعُه على الإشكال وتقابلِ الاحتمال بما هو بيّنٌ في وضعه، فإنما يطلب مستحيلاً مُعْوِزاً. والمطلع على الحقائق -فيعرف كل شيء على ما هو عليه- هو الله عز وجل. وكل ما ذكرناه تفريع على أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً.

_ (1) في الأصل: العرف. والمثبت تصرّف منا. (2) في الأصل: " وبعد لـ مومها " هكذا تماماً. (3) في الأصل: يتشطط.

8469 - فإن قلنا: إنها تستحق المهر بالعقد، ففي التفريع على هذا القول بقية البيان. قال الأئمة: إذا طُلِّقت قبل المسيس؛ لم تستحق من المهر شيئاً، وإن قضينا بأنه وجب بأصل العقد، فهذا هو المذهب، وعليه التعويل. والشاهد له من القرآن قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237]، فخصص استحقاق نصف المهر بأن نفرض، فدلّ مفهومُ الخطاب دلالة ظاهرة على أنها لا تستحق شيئاً من المهر إذا لم يجر فرضٌ. وكان شيخي يقطع -إذا فرعّ على هذا القول- بأن المرأة تستحق نصف مهر المثل إذا طلقت قبل المسيس، قياساً على ما إذا أصدقها زوجها خمراً أو خنزيراً أو مجهولاً. وهذا غير معتد به. وسرّ مذهب الأصحاب يتبين بذكر مرتبتين: فنقول: إن اشتمل النكاح على مهر مسمَّى، ثم فُرض الطلاق قبل الدخول، فالشرع قابَل العقدَ بنصف المهر، وليست هذه المقابلة على نهاية التأكد، والدليل عليه: أنه قد يفرض سقوط جميع المسمى بجريان فسخ قبل المسيس. والمختار: أنه لا يسقط المسمى بجريان الفسوخ بعد المسيس؛ لما كان المهر على نهاية التقرر، فهذه مرتبة. فإذا رضيت المرأة بتعرية النكاح عن المهر، فالمهر ضعيف، وإن حكمنا بأنه يثبت بالعقد، فتكون جملة المهر في هذه المنزلة بمثابة شطر المسمى إذا جرت تسمية. فإن حكمنا بسقوط جميع المهر في حقِّ المفوضة، فليس حكمنا منافياً للقضاء بوجوب المهر بأصل العقد. فهذا بيان مسلك الأصحاب، وهو الحق الذي لا مراء فيه. ثم ينبني على ذلك أمر الفرض والمطالبة، أما على طريق الإمام والدي (1) [] (2)

_ (1) الإمام والدي: هذه هي المرة الثانية للآن التي عبر فيها عن والده بهذه الصورة، بدلاً من شيخي، وأبو محمد، والشيخ الوالد. ونادراً جداً (الإمام) فقط. (2) ما بين المعقفين بياضٌ في الأصل قدر أربع كلمات. والسياقُ مستقيم بدونه.

فليس لها طلب الفرض؛ فإن مهر المثل عنده ثبت ثبوت المهر المسمى، فيتشطّر بالطلاق، ويتقرر بالمسيس، فلا معنى لطلب الفرض؛ فإن الفرض لا يفيد مزيداً، وسبيل طلبه في هذا المقام كسبيل طلبه إذا جرى في النكاح مسمّىً فاسدٌ، وكسبيل طلبه إذا جرى المسيس واستقر به مهر المثل. ولا خلاف أنه لا معنى لطلب الفرض بعد المسيس. ولكن هذا المذهب -وهو المصير إلى أن المهر يتشطر بالطلاق قبل المسيس والفرضِ- ليس معتداً به، ولا معدوداً من المذهب. فالمرأة إذاً تملك طلب الفرض، وغرضها أن تتوصَّلَ إلى تقرير نصف المهر، [لو] (1) فرض طلاق قبل المسيس. وحقيقةُ القول في الفرض نذكره على الاتصال بنجاز هذا الكلام في فصل معقود. فصل في الفرض ومعناه وما يتعلق به من التفاصيل. 8470 - فنقول: إذا حكمنا بأن المفوِّضة لا تستحق شيئاً بالعقد، فقد ذكرنا أنها تملك طلب الفرض. وأوضحنا ما فيه من ترددٍ واحتمالٍ على ما عليه الأصحاب، وعلى التخريج الذي ذكره القاضي. والأصل المعتمد: أنها تملك طلب الفرض إذا فرعنا على أنها تستحق المهر بالعقد، فالذي ذكره الأئمة مع ذلك أنها تستحق طلب الفرض. وقد أوضحنا ذلك على طريقة الأصحاب، وذكرنا طريقة شيخنا أبي محمد. ونحن الآن نرفع تفرّق الفكر بالتخريج، وطريق شيخنا، ونرد النظر إلى ما عليه الأصحاب، من أنها تملك طلبَ الفرض، وهذا متجه على قولنا: إنها لا تستحق بالعقد مهراً، فالفرض يفيدها لا محالة استحقاق المفروض. وإن قضينا بأنها تستحق بالعقد، فالفرض يفيدها تقرير نصف المهر، بناء على أنها إذا طُلقت قبل المسيس، لم تستحق شيئاً، ويسقط المهر كله.

_ (1) في الأصل: " ولو ".

ووراء ذلك كلام للأصحاب، وذلك أنهم قالوا: لو أرادت أن تطلب من المهر شيئاً وإن قل، لم تملكه ولم تجد إليه سبيلاً، وإنما لها طلب الفرض فحسب، وهذا الآن مشكل جداً، مناقضٌ لقولنا: إنها تستحق بالعقد المهرَ، وكان الوجه أن يقال: تملك طلب المهر، وتملك طلب الفرض. أما طلب المهر فمعلل بثبوت المهر، وأما طلب الفرض، فسببه تقرير نصف المهر، وهذا له التفات على مطالبتها بوطأة واحدة ليتقرر بذلك مهرها، ولكن ذلك مختلَفٌ فيه، وطلب الفرض على رأي الأصحاب متفق عليه، والسبب فيه أن الزوج قادر على الفرض متى شاء، والوطء أمر جِبِلِّيٌّ قد لا تساعد الطبيعةُ على المواتاة فيه، ولا عجز بالزوج أيضاً، ولكن وقته لا يتعين، فبعُد تمليك المرأة الطلبَ فيه في أي وقت [تشاء] (1)، وما ذكره الأصحاب تصريح بإفساد القول بأنها تستحق بالعقد شيئاً، وأن هذا القول لا ثبات له، ولذلك لم يعرفه العراقيون، ولم يعرِّضوا بذكره أصلاً. 8471 - فإذا [تمهّد] (2) أصل الفرض فيما رسمناه، فنخوض بعد ذلك في تفصيل القول، ونقول: الفرض يقع من الزوج، فإذا وقع التراضي بمبلغ، فَفَرضه الزوجُ، ثبت، ويجوز أن يكون عينا معيّنة - نقداً أو عَرْضاً، ويجوز أن يكون ديناً ملتزماً في الذمة. والمذهب الأصح: أن الفرض إذا كان يجري من الزوج، فلا يشترط علمُه وعلمُ الزوجة بمقدار مهر المثل، وإنما التعويل على رضا المرأة وفَرْضِ الزوج. ومن أصحابنا من قال: لا يصح [الفرض] (3) من الزوج ما لم يكونا عالمين بمقدار مهر المثل، وهذا الوجه ضعيف، لا معوّل عليه، ولكنه مشهور في الحكاية. وقد قال بعض المحققين: إن حكمنا بأن المفوضة لا تستحق بالعقد مهراً، فلا حاجة إلى معرفة هذا المِثْل؛ فإن الفرض ابتداءُ إيجابٍ على هذا القول، وإن حكمنا

_ (1) في الأصل: شاء. (2) في الأصل: مهد. (3) في الأصل: العقد. وصدقتنا (صفوة المذهب).

بأن المفوضة تستحق المهر بالعقد، فهو مهر المثل؛ فلا بد من علمها بمهر المثل. والذي نراه في ذلك رأياً -وهو حقيقة الأمر- أنا إن فرّعنا على الأصح -وهو أن المفوِّضة لا تستحق بالعقد شيئاً- فإذا فَرَضَ الزوجُ، فالظاهر أنه لا حاجة إلى العلم بمبلغ المهر، ولكن ينقدح معه اشتراط العلم؛ فإنا لو قدرنا الفرض ابتداء إيجاب، كان ذلك خارجاً عن القانون؛ فإن العوض إنما يثبت بالعقد، وشرطه إيجاب وقبول، والقبول ليس معتبراً في الفرض اتفاقاً، ولو اعتُبر، فالمرأة ليست قابلة في عقد النكاح، والنكاح لا يمكن إعادته ما لم يُنقض، فمن ضرورة الفرض أن يكون له التفاتٌ على ما يجب بالوطء، والواجب به إن لم يجر فرضٌ مهرُ المثل. وبالجملة الفرض لا يضاهي قاعدة من قواعد الأعواض على رأي الشافعي. فمَن اشترط العلم بالمهر على هذا القول، فصدَرُه مما نبهنا عليه الآن. ويتصل بهذا المنتهى أن المفروض لو كان أقل من مهر المثل، جاز على هذا القول، وكذلك لو كان عَرْضاً من العروض، مع العلم بأن مهر المثل لا يكون إلا نقداً. والسر فيه أن الشرعَ كما (1) أثبت للمرأة طلب الفرض وَسَّع الأمرَ عند التراضي؛ حتى يستفيد الرجل [البراءة] (2) عن مهر المثل قبل وجوبه بالمسيس إذا رضيت؛ فإن المهر المسمى في النكاح على التراضي، فكان الفرض دائراً على الرضا، ولكن إن رضيت، فالأمر على ما وصفنا. وإن لم ترض إلا مهر المثل، فالوجه أن يقال: إن ساعدها، فذاك، وإلا رفعت الأمر إلى القاضي، وهو القسم الثاني في الفرض، كما سنصفه الآن، إن شاء الله عز وجل. 8472 - ومما يتعلق بذلك: أن الزوج لو أراد أن يفرض لها من غير أن تطلب الفرض؛ فإن فرض لها أقل من مهر المثل، لم يثبت. وإن فرض لها مهر المثل من غير طلبها وتعرضها، فهذا محتمل جداً؛ يجوز أن يقال: يثبت؛ فإن الفرض ليس

_ (1) "كما": بمعنى (عندما). (2) في الأصل: " المثل عن مهر المثل ". والمثبت محاولة منا لإقامة النص. لسنا راضين عنها تماماً. والله المستعان.

عقداً، [ويظهر] (1) أن يقال: لا يثبت ما لم تطلب؛ فإن طلبها ينزل منزلة القبول في العقود. ولو وقع التراضي على أكثر من مهر المثل، فيظهر على هذا القول أن يثبت؛ فإن المهر غير ثابت حالة الفرض، ويحتمل ألا يثبت الزائد إذا كان من جنس النقد الذي إليه الرجوع؛ فإنا على كل حال نلتفت إلى مهر المثل، فكأنه وإن لم يثبت بعدُ- فهو مستحق الثبوت. وهذا يشابه مسألة ستأتي -إن شاء الله عز وجل- في الجنايات، وهي: أن من صالَح على دم العمد على أكثر من دية، ففي ثبوت العوض كلام مأخوذ من التفريع على موجب [العمد] (2)، أنه ماذا؟ وسيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى. وإذا كان يثبت المشروط- وهو أقل، فيثبت أيضاً وهو أكثر. ولولا اعتراض شيء في الفكر لما أوردنا القول في ذلك، ولكن لو ثبتت الزيادة، لما ثبتت إلا عوضاً، وكيف يتصور ثبوت العوض من غير التفات إلى ما سيستحق من غير صيغة عقد؟ 8473 - ومما يتم به الغرض: أن المرأة لو قالت: " أسقطت حقي من طلب الفرض " فكيف الوجه فيه؟ فنقول: قد ظهر الاختلاف في أن الإبراء عما [لم] (3) يجب وظهر (4) سبب وجوبه، هل يصح؟ وعليه خُرِّج إبراء المرأة عن نفقة عدتها، فعلى هذا لو قالت: أبرأت عما سيجب لي من المهر عند الوطء؛ فالظاهر: خروج ذلك على الخلاف الذي ذكرناه الآن. فإن قيل: ثبوت المهر يتعلق بتعبد الشرع، فكيف يسقط بإسقاطها؟ قلنا: الإبراء في الأعواض نازل منزلة الاستيفاء، وليس هذا الذي ذكرناه بمثابة ما ذكره القاضي من تسليطها إياه على الوطء من غير مهر، فإن معناه أن ترضى بانعدام المهر، وإجراء الوطء على حكم التعرية، والإبراءُ الذي ذكرناه، معناه: تقدير ثبوت المهر مع إسقاطه بعد ثبوته.

_ (1) في الأصل: فيظهر. (2) في الأصل: العمل. (3) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام إلا بها. (4) وظهر سبب وجوبه: أي جرى سبب وجوبه، كما هي عبارة الرافعي والنووي. وفي صفوة المذهب: " ووجد سببُ وجوبه ".

فإذا تقرر هذا، عدنا إلى القول في إسقاطها حقَّ طلب الفرض، فنقول: هذا لغو لا حاصل له؛ فإنها إذا لم تُسقط المهر -على التقدير الذي ذكرناه- فلا يسقط حق الطلب، كما يسقط حق طلب المرأة التي آلى عنها زوجها، في أمثلة لذلك معروفة. وكل ما ذكرناه تفريع على أن المفوِّضة لا تستحق بالعقد شيئاً. 8474 - فأما إذا فرّعنا على أنها تستحق [بالعقد] (1) المهرَ، فلو وقع التراضي على مقدار مهر المثل، فلا كلام. وإن وقع التراضي على أكثر من مهر المثل؛ فالذي أراه: امتناع هذا، كما إذا صالح عن دم العمد بأكثر من الدية، والتفريع على أن الموجَب الدية أو القَوَد أوْ أحدُهما لا بعينه، فإن وقع التراضي (2) على أقل من مهر المثل؛ فالذي قطع به الأصحاب: أن ذلك يصح. وخروج ذلك على حمل الاقتصار على هذا المقدار على إسقاط ما يتمم به مهر المثل، وعلى هذا خُرِّج جواز الفرض بما دون مهر المثل. فإذا تقرر ما ذكرناه، فالذي جرّ هذا الكلام كلَّه، القولُ في أنا هل نشترط علم الزوجين؟ وقد فرعنا ذلك على القول الأول، وتفريعه على هذا القول: أن المفروض إن كان دون مهر المثل قطعاً، فلا حاجة إلى العلم بمقدار مهر المثل، وإن أمكن أن يكون المفروض أكثر من مهر المثل، ولم يكن من جنس مهر المثل، فالوجه: ألا نشترط العلم بالمهر. وإن كان المفروض من جنس مهر المثل، ويمكن أن يكون [أكثر] (3)، فيتجه اشتراط العلم. فهذا تمام البيان في ذلك [و] (4) الأصحاب أطلقوا وجهين. 8475 - ومما نذكره الآية: القول في تأجيل المفروض، وقد ذكر معظم الأئمة أن المفروض يقبل التأجيل، وفي بعض التصانيف ذكر الوجهين، والتحقيق فيه: أنا إن فرعنا على أن المفوِّضة لا تستحق بالعقد شيئاً؛ فالظاهر: ثبوت الأجل إذا وقع

_ (1) زيادة لوضوح العبارة. (2) عبارة الأصل هكذا: فإن وقع على التراضي أقل من مهر المثل. (3) زيادة لاستقامة الكلام، لا يصح إلا بها. (4) (الواو) زيادة من المحقق.

التراضي به، فإن المفروض على هذا القول واجبٌ مبتدأٌ، وإن كان له التفات على موجب العقد. ويحتمل أن يقال: لا يثبت الأجل فيه؛ فإن الفرض ليس عقداً تاماً، وأشبه شيء به الفرض (1)، ثم لا يثبت الأجل فيه. وإن فرّعنا على أن المفوضة تستحق بالعقد المهر، فهل يقبل الأجل، وكيف وجهه؟ فنقول: الأجل على هذا القول بعيدٌ، ولكن ليس ينحسم الاحتمال فيه، مع جواز الاقتصار على أقل من مهر المثل، وجواز العدول عن جنس مهر المثل. وكنت أود لو كان الفرض على هذا القول اعتياضاً عن المهر الواجب بالعقد، ثم كان يترتب عليه ما يليق به، ومن أوائله: اشتراط الإيجاب والقبول، قياساً على الاعتياض، عن جميع الأعواض، أو كان يخرّج على الاعتياض عن الثمن في الذمة، ولكن أطبق الأصحاب على إجراء الفرض على نسق واحد على القولين، وهو محمول عندي على كف الفكر عن الغوامض والمغاصات، ونحن لم نأل جهداً نقلاً وتنبيهاً وتخريجاً على الأصول. 8476 - ومما يتصل بهذا المنتهى: أن الزوج لو فرض لها خمراً برضاها، فالذي ذكره الأئمة يقتضي أن ذلك لغو، وكأن لا فرض، ولا نجعل تسميةَ الخمر في مقام الفرض بمثابة تسميته الخمر [مهراً] (2)، فإن قيل: إذا جوزتم تأجيل المفروض، فهلا جعلتم تسميته بمثابة تسميتها (3) في الإصداق؟ قلنا: لا سواء؛ فإن الخمر إذا [سميت] (4) في النكاح، فقد قصد العوض، فلم نجد بُداً من إثبات المهر، فأثبتناه. وأما الفرض، فليس ينحسم بابُه، فإذا فسد فرضٌ، لغا، وابتُدِىء فرضٌ صحيح، هذا هو الذي لا يجوز غيره. وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الفرض على التراضي.

_ (1) كذا. وهو في مخطوطة ابن أبي عصرون بنفس الألفاظ أيضاً. (2) زيادة لإيضاح الكلام. (3) تسميتها: الضمير يعود على الخمر. (4) في الأصل: سويت.

8477 - فأما القول في فرض القاضي؛ فإنما تمس الحاجة إلى ذلك، إذا طلبت وأبى الزوجُ، أو تنازعا في مقدار المفروض، فأما إذا كانا يتراضيان، فلا فائدة في الارتفاع إلى القاضي. فإذا ثبت ذلك؛ فلو تنازعا، وكانت المرأة لا ترضى إلا بأقصى حقها، فلا يصح الفرض من القاضي، ما لم يكن عالماً بمقدار مهر المثل؛ إذ إليه الرجوع، وهو منتهى حقها. فإن تراضيا في مجلس القاضي بدون مهر المثل، فالقاضي ليس بفارض، وإنما الفارض الزوجُ برضاها، فإن فوّضا إلى القاضي، فهو في حكم المستناب عن الزوج، وإذا كان النزاع دائماً، فَفَرْضُ القاضي ثابت أيضاً، ولكنه نيابةٌ قهرية، يُجْريها القاضي [استيفاءً لحقٍّ] (1) من الممتنع عنه. ولو امتنع الزوج من الفرض، فرضيت المرأة بدون مهر المثل، أو رضيت بأن يكون المفروض مؤجلاً، والتفريع على أن الفرض يقبل التأجيل، فنقول: أما إذا رضيت بالتأجيل، والزوج على إبائه وامتناعه، وكان القاضي يفرض عليه قهراً، فقد قال المحققون: ليس للقاضي أن يفرضه مؤجلاً، وإن كان الفرض قابلاً للأجل لو صدر من الزوج- على الرأي الأصح؛ والسبب فيه: أن منصب القاضي [يقتضي منه إلزامَ الزوج] (2) مالاً حاقّاً، انتجزت الطَّلِبة به. فأما إثباته على أجلٍ ومهل، فلا يليق بمنصب الولاة، وليس كما لو كان الفارض الزوج؛ فإن ذلك يجري مجرى العقود والتراضي على ما يتفق به الرضا به. والسلطان قد يبيع مال الطفل بأجل؛ لأن بيعه منوط بالنظر، فإذا رأى الغبطة في التأجيل، أجّل، على شرائط ذكرناها في كتاب الرهون، [وفرضه عن زوج ممتنعٍ استيفاءُ حقٍّ منه] (3)، ولا يتحقق استيفاء الحق لأجل

_ (1) في الأصل: استيفاء الحق. (2) عبارة الأصل: " أن منصب القاضي ـعـ ـعـ ـ من الزام العين مالاً حاقاً " هكذا بهذا الرسم وهذا الضبط، والمثبت تصرّفٌ منا. يؤدي المعنى، وإن كان بعيداً عن ألفاظ الأصل. (3) عبارة الأصل: " وفرضه للزوج ممتنع استيفاء حق منه " هكذا بهذا الرسم والنقط. والمثبت تصرف منا بالزيادة والتعديل، وفاءً بما يقتضيه السياق، حيث تعذر علينا إدراك موضع التحريف في ألفاظ الأصل.

الامتناع إلا فيما يتَّصف بالحلول، وأيضاً، فالأجل إذا ثبت، فهو حق لمن عليه الحق، وإثبات الحق لناظرٍ [لنفسه] (1) حاضرٍ لا وجه له. فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأجل لا يثبت إلا برضا [الزوجة] (2) وفي ثبوته [برضاها] (3) التردد الذي ذكرناه. فهذا منتهى القول في ذلك. ثم قال الأصحاب: إذا كانت المرأة لا ترضى إلا بنهاية حقها، فيتعين على القاضي أن يفرض لها مهرَ مثلها، ثم قالوا: لو زاد شيئاً أو نقص، لم يجز إلا القدر اليسير الذي لا يؤبه له، ويسوغ الاجتهاد فيه. ولم يُرد الأصحاب بذلك زيادة محققة أو نقصاناً محققاً، وإنما أرادوا ما يقع التغابن في مثله، ولا يثبت به القول فيه زيادة ولا نقصان. وهذا على التحقيق إيجاب مهر المثل؛ فإن مبلغه مظنون، كما سيأتي في الباب المعقود على أثر هذا الباب، إن شاء الله عز وجل. فرع: 8478 - الأجنبي إذا فرض للمفوضة شيئاً برضاها، وجرى ذلك بينه وبينها، فهل يصح الفرض من الأجنبي؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يصح كما يصح من الأجنبي أداءُ الدين، وإن لم يصدر عن إذن الزوج، فكذلك يصح منه الفرض برضاها. [وهذا المفروض يكون على الأجنبي] (4)، فإنه لم يُلزم الزوجَ شيئاً. والوجه الثاني -وهو الأصح عندهم- أنه لا يصح؛ لأنه تصرفٌّ في العقد، وتغيير لصفته. فإن قلنا: لا يصح، لغا ما كان، ولها مطالبة الزوج بالفرض. وإن صححنا الفرض، سقطت طلبتها عن الزوج، وطالبت الأجنبي بما التزمه. ثم إذا طلقها الزوج قبل المسيس، فإلى من يرتد النصف المفروض؟ فعلى الوجهين المذكورين إذا تبرع الأجنبي بأداء الصداق، ثم فرض الطلاق.

_ (1) في الأصل نفسه، والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون. (2) في الأصل: الزوج. (3) في الأصل: برضاه. (4) ما بين المعقفين به تعديل يسير لإقامة العبارة، أما عبارة الأصل، ففيها خللٌ على النحو الآتي: " وهذا والمفروض على الأجنبي، فإنه لم يلزم الزوج شيئاً ".

فصل 8479 - قال الأئمة: ما ذكرناه [قولنا] (1) في التفويض الصحيح، وقد تقدم تصويره، والحكمُ فيه على وجه لم يدخل في إمكاننا أشفُّ (2) وأفضل منه، وهذا الفصل معقود في التفويض الفاسد. وفساد التفويض في الغالب يصدر ممن لا يملك التفويض، فإذا كانت المرأة سفيهة، فرضيت أن تزوَّج بلا مهر، فلا حكم للرضا بترك المهر؛ فإذا زوجها وليّها بغير مهر كان كما لو ابتدأ تزويج ابنته بغير مهر، فإذا جرى ذلك، ففي انعقاد النكاح القولان السابقان. ومما يجب التنبه له في هذا المقام أنها لو أذنت في أن تُزوَّج بلا مهر، وكان النكاح يتوقف على إذنها، فإذا زوّجها الوليّ بالمهر، وظن الفقيه أن النكاح لم يقع على حسب الإذن، فيجب أن لا ينعقد، فقال (3): يظهر تنزيل هذا منزلة ما لو أذنت في أن تزوج بألف، فزُوِّجت بألفين. ولو جرى ذلك، لانعقد النكاح، وثبت المسمى، فيحمل على رضاها، فنزل المهر على طلب النكاح كيف كان. وإن هي صرحت باشتراط نفي المهر، وذكرت ما يتضمن خروج النكاح عن موجب إذنها لو زُوِّجت بالمهر، فهذا بمثابة ما لو قال المالك: " بع عبدي هذا بألف ولا تبعه بأكثر منه، فتخالف إذني ". وقد ذكرنا في كتاب الوكالة، فأوضحنا تردد الأصحاب فيه. وإذا قال: " هب هذا العبد من فلان " فباعه منه، لم يجز؛ لأنه انتقال من صنف من العقود إلى صنف، والنكاح بالمهر والعَرِيُّ منه عن المهر صنفٌ واحد، فكان مشبهاً بما ذكرناه في البيع بأكثر من المقدار الذي سماه الموكِّل.

_ (1) في الأصل: قول. (2) أشف: أي أفضل، وأوفى، وأتم (المصباح، والمعجم). (3) (فقال) أي الفقيه.

ومما ذكره الأئمة أن المرأة المطْلقَة (1) في مالها، المالكة للتبرع به، لو قالت لوليها: " زوّجني بما شئت، أو بما أراد الخاطب "، فإن جرى العقد على هذه الصيغة، فقال الولي: زوجتُ فُلانة منك أيها الخاطب بما شئت، فهذا معقود بمهر مجهول، فالرجوع إلى مهر المثل، ولو وقف الولي على المبلغ الذي شاءه الخاطب، ثم أنشأ العقد به، فيجب القطع بصحة التسمية. وذُكر عن القاضي أن هذا مجهول. وتعلَّق بأن لفظ الإذن على صيغة الجهالة. وهذا وهم عظيم؛ فإنها فوّضت إلى الولي أن يعقد بما يقدره الخاطب، و [ليس] (2) من غرضها أن [تُعاد] (3) صيغة لفظها في العقد، فسبيل التفصيل إذاً ما ذكرناه. وقد يتجه أن يقال بعد فهم ما ذكرناه من كلامها: إذا عقد النكاح وأعيدت صيغة لفظها، فقال الولي: " زوجتكها بما شئت "، فالنكاح مختلٌّ؛ لأن الولي خالف موجب إذنها، فكان كما لو قالت: " زوجني " فزوجها بأقل من مهر مثلها. فلو قالت: " زوجني " فزوجها بخمر؛ فالواجب مهر المثل لو قدر انعقاد النكاح [ولكان] (4) ما جاء به [موجَبَ] (5) الإذن المحمول على العرف، فليتأمل الناظر ذلك. ولا ينبغي أن نسرف في [الفرض] (6) أيضاً. وإذا اتضحت الأصول، لم يخف على الفقيه مُدرك المقصود منها. ثم قال الأئمة: إذا انعقد النكاح بمهر المثل عند اتفاق تسمية فاسدة، فإذا طُلِّقت قبل المسيس، تشطّر مهر المثل كما يتشطّر المسمى الصحيح، خلافاً لأبي حنيفة (7)،

_ (1) المطلقة: أي غير المحجور عليها. (2) زيادة لاستقامة العبارة وصحتها، على ضوء السياق والسباق. (3) في الأصل: تغادر. (4) في الأصل: ولكن. (5) في الأصل: لموجب. (6) في الأصل: الطرف. (7) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 335.

وإذا جرى في [نكاح] (1) التفويض فرضٌ، ثم طلقت قبل المسيس، تشطر المفروض، وخالف أبو حنيفة (2) في ذلك أيضاً، واجترأ على ظاهر النص في قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقد ذكرنا إطباق المفسرين على حمل هذه الآي على المفوضة. وإذا خلا نكاح التفويض عن الفرض، ثم فُرض الطلاق قبل المسيس، فلا يثبت -وإن فرعنا على أن المهر يثبت بالنكاح مع اشتماله على التفويض- مما ذكره شيخنا أبو محمد غير ملحَق بالمذهب، كما تقدم شرحه، والله أعلم. ...

_ (1) في الأصل: النكاح. (2) ر. حاشية ابن عابدين (الموضع السابق).

باب تفسير مهر المثل

باب تفسير مهر المثل 8480 - مهر المثل يكثر تَدْوَارُه في الكلام، فيجب في النكاح الصحيح عند فساد التسمية، وقد يجب في نكاح التفويض، ويجب في وطء الشبهة، وقد يجب في بدل الخلع، وتمس الحاجة إلى معرفته في توزيع المسمى على مهور الأمثال إذا نكح الرجل نسوة في عُقدة، وفرّعنا على تصحيح الصداق، وتمس الحاجة فيه إذا كان الصداق شقصاً مشفوعاً؛ فإن الشفيع يأخذ شقصاً من مهر المثل، وهذا الباب معقود في بيان مهر المثل، والطرق التي توصل إلى معرفتها. 8481 - ونحن نقول على الجملة: مهر المثل قيمة البضع، والسبيل فيه كالسبيل في قيم المتقوّمات، ثم إذا أشبهت قيمة الثوب، فالوجه اعتبار ذلك الثوب بأمثاله، والنظر إلى ما عهدت أمثال هذا الثوب رائجة به، وذلك يختلف بكثرة الرغبات وقلتها، فهذا مسلك مهر المثل. وخاصية الباب الإحاطه بأمثال التي نريد أن نعرف مهرها. فقال الأصحاب: يعتبر مهر المرأة بنساء العصبات. والقول الضابط فيه: أنا نعتبر النسوة اللاتي ترجع أنسابهن إلى من يرجع نسب المستحقة إليه، وبيان ذلك بالمثال: أنا نعتبر الأخوات من الأب والأم لانتسابهن إلى من تنسب هذه إليه، وكذلك تعتبر العمات؛ فإنهن منتسبات إلى الجد، وهو على عمود النسب. وتعتبر بنات الإخوة من الأب وبنات الأعمام، ولا تعتبر بنات الأخوات؛ فإنهن لا ينسبن إلى أمهاتهن، وإنما ينسبن إلى أزواج الأخوات، ولا يعتبر مهر المرأة بمهور البنات والأمهات، فإنهن لا ينسبن إلى من تنسب هذه المرأة إليه، ولذلك لا تعتبر الأخوات من الأم وبناتهن والأخوال والخالات وبناتهم لما ذكرناه.

8482 - فإذا لاحت النسوة المعتبرات والخارجات عن الاعتبار؛ فالطَّلِبة وراء ذلك بتعليل هذا، فنقول: الصفة الغالبة في العرف الجاري في مقدار المهر النسبُ، فإن المنتسبات إلى شجرة واحدة يجرين على مقدار من المهر، وإن فرض النقص منه عُدّ حطيطةً ووكيسة، والأبضاع لا تتقوم تقوم الأموال، وإنما يُرجع فيها إلى أمثال هذه الخصال التي ذكرناها. ثم قال الأئمة: إن كانت هذه المرأة التي تبغي مقدار مهرها مساوية لنساء العصبات فذاك، وإن كانت مخالفة لهن في بعض الخصال الحميدة أو الذميمة، فقد يزيد وينقص على ما تقتضيه الصفات، فلو اختصت بصراحةٍ في النسب، وصباحة في الوجه، وسلامة في الخَلْق، وعفة [ويسارٍ] (1)، ومزية في العقل، ومَسْحةٍ من الجمال ظاهرةٍ، فيزاد لها بهذه الصفات، فكأن القطب الذي عليه المدار النسبُ، ثم الاقتصار عليه. ومن لطيف القول في هذا أن الجمال غير معتبر في الكفاءة، والنسب مرعي فيه، وهو الأصل، والجمال مرعي في مهر المثل باتفاق الأصحاب؛ وذلك لأنا وإن اعتبرنا النسب في الباب، فطلب مهر المثل طلب قيمة، والقيم ترتبط بالرغبات، والرغبات تتفاوت بهذه الصفات، والكفاءة ليست من هذا القبيل، والمجتنب ثَمَّ العارُ، كما بينا قاعدة الكفاءة، فإذا لم يكن ضرار ولا عار، فالكفاءة كافية، وهذا مبني على الرغبات. وقطع أئمتنا باعتبار اليسار في مهر المثل، وإن لم يكن اليسار صفتَها، ولا حق للزوج في مالها، ولكن يسارها يستجر الرغبات إليها، وقد ذكرنا أن التعويل في قيم المتقومات على الرغبات. 8483 - ثم مهر المثل حيث ثبت ويُقضى به يكون من النقد الغالب؛ فإنه قيمة،

_ (1) في الأصل: " وسياد " والمثبت تقدير منا، أكدته عبارة العز بن عبد السلام في مختصره. (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم: 99 يمين). والمعنى أن يسار المرأة وغناها له نوعُ تأثير في قيمة مهرها، وإن لم يكن للزوج أي حق في مال زوجته.

والقيم تناط بالنقد الغالب، ولو فرض نقدان عامان، فلا يختلف التقويم بهما، وليس هذا كتقويمنا عروض التجارة؛ فإن الغرض قد يختلف بسبب انتقاص النصاب، وهذا لا يعقل في المتقومات. ولو سامحت واحدة من نساء العشيرة بحيث تعد بذلك [ندْرة] (1) محمولة على مسامحة، فلا اعتبار بها في حق هذه [التي] (2) تطلب كمال مهر مثلها، وإن عمّ ذلك في نساء العشيرة بعد أن لم يكن، حُمل هذا على انحطاط [السعر] (3)، واستبان انتقاص الرغبات فيهن، فكانت المعتبرة محمولةً على هذا التخفيف. ولكل صورة من الصور التي نذكرها نظير في القيم لا يخفى مُدركه. ولو جرت عادتهن من المهر ولكن كن يؤجّلنه فإثبات مهر المثل مؤجلاً محال؛ فإنه قيمة في مقابلة إتلاف أو فيما يحل محل الإتلاف، والقيم لا تتأجل، ولكن إذا كان مهر العشيرة ألفاً مؤجلاً إلى سنة، فيثبت حالاًّ ما يساوي ألفاً مؤجلاً، فيُحَطّ من المقدار، ويُقضى بالحلول. ولو قالت: أوجبوا الجميع وأنا أمهله، لم يلتفت إليها؛ فإن الأجل إذا كان لا يلزم، فلا حكم لوعدها. 8484 - ومما ذكره الأئمة: أنه لو جرت عادة العشيرة بحط شيء من المهر إذا كان الخاطب منهم، وطلب مزيد إذا كان الخاطب أجنبياً، قالوا: إذا كان المطالَب واحداً من العشيرة، فيعتبر في حقه تلك الحطيطة، وكان شيخي أبو محمد يأبى هذا ويقطع بخلافه؛ فإن قيم المتلفات لا تختلف باختلاف المُتْلِفين. وفي هذا فضل نظر عندنا، فيجوز أن يقال: إن كنا نعتبر مهراً في نكاح، فتلك الحطيطة مرعية، فإن مسامحة العشيرة سببها طلب التداني في التواصل، وذلك في حكم العرف الغالب يستحث على الحطّ.

_ (1) في الأصل: بدرة. وعبارة (صفوة المذهب): " ولو سامحت واحدة من العشيرة، فتلك نادرة ومسامحة لا اعتبار بها ". (2) في الأصل: الذي. (3) في الأصل: السفر.

وأما إذا جرى وطء بشبهة؛ فيجب أن لا [يفرق] (1) بين القريب والبعيد، فإن الحطيطة التي ذكرناها تُحْتَمَلُ في النكاح رغبة في المواصلة مع تداني القرابة. والذي عليه الفقه في الباب أن لا نقطع نظره عن قصد المواصلات، ولا نظر إلى الأبعاض تتمحض أموالاً. وعندنا أنا أوضحنا قاعدة الباب ولم نُبق كلاًّ على الطالب. ولو أُحوجنا إلى معرفة مهر امرأة لا نعرف لها عشيرة، فليس إلا رد النظر إلى الرغبة المحضة في أمثالها على ما هي عليها، وإنما لم نقتصر على هذا في [النسيبة] (2)؛ لأن الخاطب قد يجهل نسبها، فنذكرها له، وما ذكرناه جار، فالرجوع إلى الرغبة في النسيبة وغير النسيبة، وإنما خُص هذا الباب بالعقد لبُعْد الأبضاع عن المالية المحضة، مع أنها منزّلة على قيم الأموال، غير أنها [تمتاز] (3) عن الأموال بالصفات المرعية فيها اللائقة بها، فالأموال قد تختلف أسباب الرغبات فيها، وإن شملتها المالية، والله أعلم. ...

_ (1) في الأصل: يجب. (2) في الأصل: النسبة. (3) في الأصل: تنحاز.

باب الاختلاف في المهر

باب الاختلاف في المهر إذا اختلف الزوجان في المقدار المسمى في النكاح، فقال الزوج: " نكحتك بألف " فقالت: بل بألفين، أو اختلف في جنس الصداق، أو في صفته، كما صورنا ذلك في اختلاف المتبايعين، فالزوجان يتحالفان، ثم تحالفهما لا يفضي إلى انفساخ النكاح، ولكن التسمية ترتد وتزول، والرجوع إلى مهر المثل؛ فإنه إذا عسر المسمى بسبب جهالةٍ، فلا وجه إلا الرجوع إلى مهر المثل، والجهالة متحققة ثابتة بالتحالف. ثم الذي ذهب إليه الأصحاب بأجمعهم: أنا لا ننظر إلى المقدار الذي ادعته منسوباً إلى مهر المثل، ولا نفرق بين أن يكون مثلَه أو أقلَّ [أو] (1) أكثر. وحكى العراقيون بعد اختيارهم ما ذكرناه وجها بعيداً عن ابن خَيْران، أنه كان يقول: إن كان ما ادعته أقلَّ من مهر المثل، فليس لها إلا ما ادعته، مثل أن يقول الزوج: " نكحتك بخمسمائة "، وتقول الزوجة: " بل نكحتني بألف "، وكان مهر مثلها ألفاً وخمسمائة؛ فالذي ذهب إليه الأصحاب: أنا نوجب لها ألفاً وخمسمائة، وقال ابن خَيْران: ليس [لها] (2) إلا الألفُ؛ فإنها لم تدّع أكثر منه. وهذا ضعيف مزيف؛ فإنها ادعت الألف عن جهة التسمية، وقد حكمنا بانقطاع التسمية، ورددناها إلى مهر المثل عن جهة أخرى، لم تدع منها شيئاً، ثم يقال له: إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن، فادعى البائع أكثر مما اعترف به المشتري، ولكن كان ما ادعاه البائع أقل من قيمة المبيع، فماذا تقول؟ فإن قال: يرجع البائع إلى قيمة المبيع التالف في يد المشتري، فكيف يفرق بين هذا وبين ما ذكره في المهر؟ وإن طرد خلافه في مسألة البيع، كان على نهاية البعد.

_ (1) في الأصل: إذا كثر. (2) ساقطة من الأصل.

ثم قال ابن خَيْران: إذا أصدق امرأته ألفاً، ولم يختلفا فيه، ولكن فسد الصداق بشرطٍ، ولزم الرجوعُ إلى مهر المثل، وكان الألف أقلَّ من مهر المثل، فليس لها إلا الألف من جهة رضاها به، كما ذكره في التحالف، وهذا قول فاسد، لم يرتضه أحد من الأصحاب. ولو فرض الاختلاف بين الزوجين بعد ارتفاع النكاح، فهو كما لو فرض في حالة قيام النكاح إذا كان المتداعي بالمهر قائماً، وبيان ذلك: أنه إذا طلقها بعد المسيس، وما كان أقبضها المهر، فاختلفا بعد البينونة؛ يتحالفان، والرجوعُ إلى مهر المثل. وإذا كان الطلاق قبل المسيس فيتحالفان، والرجوع إلى نصف مهر المثل. 8485 - وذكر الأصحاب صورة في الاختلاف، نحكيها ونذكر [ما] (1) فيها، فإذا ادعت المرأة أن الزوج أصدقها ألفَ درهم، وقال الزوج: جرى النكاح خالياً عن ذكر المهر، ولم يدّع التفويض، وقد ذكرنا فى صورة التفويض، وبيان ما ليس منها أن المرأة إذا لم تصرح بالرضا بترك المهر، واتفق جريان العقد من الولي خالياً عن ذكر المهر؛ فالرجوع إلى مهر المثل. فإذا تبين هذا، فكأن الزوج ادعى مهر المثل، وادعت المرأة ألفاً من جهة التسمية، وإنما يحسن وقع هذه المسألة إذا كان الألف أكثرَ من مهر المثل. قال القاضي: يتحالفان، وينزل هذا منزلةَ ما لو ادعت المرأة ألفاً، وادعى الزوج ثمانمائة من جهة التسمية. وهذه المسألة محتملة، تردد فيها المحققون. ووجه الاحتمال فيها يظهر بالتوجيه. أما وجه ما ذكره القاضي، فبيّنٌ؛ فإن الزوج ادعى صيغةً في العقد متضمنها إثباتُ مهر المثل، وهو دون ما ادعت المرأة، هذا وجه. ويجوز أن يقال: هذا اختلافٌ راجع إلى النفي والإثبات، فالمرأة ادعت التسمية، والزوج أباها أصلاً، فيتجه أن نقول: القول قول النافي مع يمينه، فإذا ثبت النفي، ولم تحلف الزوجة، رجعنا إلى مهر المثل. وفائدة هذا ألا يجري التحالف من الجانبين.

_ (1) في الأصل: " ونذكره فيها".

8486 - ثم قال الشافعي في تحالف الزوجين: " أبدأ في الزوج بالتحليف، وقال في البيع: أبدأ بجانب البائع "، والزوجُ في مقام المشتري؛ فالنصان مختلفان، والتصرف فيهما نقلاً وتخريجاً وفرقاً جرى مستقصى في باب التحالف من كتاب البيع. 8486/م- ولو اختلف الزوجان بعد انفساخ النكاح بسبب يقتضي ارتداد جملة الصداق، فلا يتصور التحالف؛ فإن فائدة التحالف التنازع في مقدارٍ من المهر، وقد ارتد كله، وهذا إذا تفاسخا، وما كان أقبضها الزوج الصداق. فلو تنازعا في المقدار، فقال الزوج: " أصدقتك ألفين، وسقتهما إليك، فردَدتِ ألفاً لمّا انفسخ النكاح قبل المسيس ". وقالت المرأة: " ما أصدقتني إلا ألفاً، فقبضتُه، ورددتُه "، فهذا ليس من الاختلاف الذي نحن فيه؛ فإن الاختلاف بين الزوجين إنما يفضي إلى التحالف إذا كنا نرجع إلى مهر المثل، ونترك التسمية، وهذا المعنى لا يتحقق في هذه المسألة، وقد سبق انفساخ النكاح. وحاصل قول الزوج يرجع إلى إقباضها ألفين، وهي تنكره، فالقول قولها. ولو كان الاختلاف على هذا الوجه مذكوراً في النكاح، لما كان اختلافاً يوجب التحالف، فإن الزوج ادّعى إلزام أكثر مما تدعيه المرأة. هذا بيان القول في التحالف. فصل قال: " وهكذا الزوج وأبو الصبية البكر ... إلى آخره " (1). 8487 - ذكر الشافعي اختلاف الزوجين وتحالفهما، ثم عطف عليه اختلاف الزوج مع أبي الصبية، فاقتضى ترتيبُ الكلام تنزيلَ الأب مع الزوج منزلةَ الزوجة مع الزوج في التحالف، وموجبَ ذلك تحليفُ الأب، فنذكر ترتيب المذهب وطريق الأصحاب، ثم نرجع إلى [السواد] (2).

_ (1) ر. المختصر:4/ 31. (2) في الأصل: " الشواذ ". والسواد -كما قلناه مراراً- هو مختصر المزني.

8488 - فمن أصحابنا من ذكر وجهين في أن الأب هل يحلف عن طفله الموليِّ عليه فيما يتعلق بتصرف الولاية؟ ثم حاصل ما ذكره الأئمة ينحصر في مسلكين: أحدهما - طرْد الوجهين في كل ما يتعلق بحظ الطفل، ويندرج تحت ولاية الولي، من غير فرق بين أن تكون الخصومة متعلقة بتصرف أنشأه الولي، وبين ألاّ تكون كذلك. وبيان القسمين: أن من أتلف مالاً من أموال الطفل، ثم أنكر، فللولي أن يحلّفه إن لم يجد بيِّنةً، فإن نكل عن اليمين، ففي رد اليمين على الأب وجهان. وكذلك القول في كل ما يضاهي ذلك. وسبب طَرْد الخلاف يتبين بالتوجيه، فمن أبى ذلك، احتج بأن الأيْمان لا يتطرق إليها إمكان النيابة، وسبب ذلك أن الحالف متعرض [للحِنث] (1) والمأثم لو كذب، ولا يليق بمناصب النيابة قيامُ الغير مقام الغير في التعرض للحرج، بل حكمة الشرع في اختصاص صاحب الواقعة بهذا المأثم. وهذا في مسلكه يضاهي العبادات البدنية؛ فإنها امتحان الأبدان بالمشاق، حتى تتهذب وتتعرض لثوابها، ولهذا لم يُحلَّف الوكيل بالخصومة، وإذا انتهت الخصومة [إلى توجيه اليمين عليه] (2) رُد الأمر إلى تحليف الموكِّل. ومن جوّز للأب أن يحلف، احتج بأنه في تصرفه مستبدٌّ غيرُ مستناب، فهو في حكم المالك المتصرف في حكم نفسه. وهذا فيه بعد؛ فإن الأب مستناب شرعاً، وإن كانت استنابته لا تتعلق بإذنٍ من آذن، وإذا كان يتصرف لغيره، فقد اتجه الفقه الذي ذكرناه في منع الحلف. التفريع على الوجهين: 8489 - إن حكمنا بأن الأب لا يحلف -وهو القياس- فالوجه: وقف الخصومة إلى أن يبلغ الصبي، فيتعرضَ لليمين حينئذ، وكان شيخي يقول على هذا: لا معنى

_ (1) في الأصل: الحلف. (2) ساقط من الأصل.

لعرض اليمين على الخصم؛ فإن منتهى الخصومة قد يفضي إلى نكوله، ثم لا يُقضَى بنكوله. وذهب كثير من أئمتنا إلى أنه يحلّف الخصم؛ فإنه إذا رغب في اليمين، فلا امتناع في القضاء بيمينِ مَنْ خصمُه طفل، وإنما الامتناع في تحليفِ أو في إنابةِ غيره منابه، وهذا هو الذي لا يجوز غيره. فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، توقفنا حينئذ. وإن قلنا: يحلف الأب، فإن نكل الخصم، رددنا اليمين على الأب، فإن حلف، ثبت حق الطفل، وإن نكل، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنا نقف الأمر إلى أن يبلغ الصبي، ولعله يحلف، ثم إن حلف استحق. ومنهم من قال: تنفصل الخصومة بنكول الأب عن يمين الرد؛ فإنا لم نقمه في مقام الحالفين إلا على تقدير تنزيله منزلةَ من هو صاحب الواقعة، حتى كأنه المالك، وإليه الانتهاء، ولهذا نظير من طريق اللفظ، وهو أن الوارث إذا لم يحلف مع الشاهد الواحد في ادعاء دَيْنٍ أو عينٍ للمتوفى، فلو كان للميت غريم، فأراد أن يحلف إذا نكل الوارث؛ ففيه قولان، وترتيبٌ سيأتي مستقصى في كتاب القسامة، إن شاء الله عز وجل. ولكن ليس ما نحن فيه مثلَ ما أردناه؛ فإن الوارث مالك التركة على الحقيقة، فلا يمتنع أن يؤثر نكولُه، والغريم له حق التعلّق بالتركة لو ثبتت، وفي مسألتنا الملك على الحقيقة للطفل. فإن قيل: كيف يجري تحليف الأب لطفله، وشهادته له مردودة؟ قلنا: اليمين لا تؤخذ من مأخذ الشهادة؛ فإن الإنسان لا يشهد لنفسه، ويحلف فيما يتعلق به جلْباً ودفعاً، وهذا كله بيان طريقة واحدة. 8490 - ومن أصحابنا من قال: [إن كانت] (1) الخصومة متعلقةً بشيء ما أنشأه (2) الوليُّ، فلا يحلف فيه الولي أصلاً، وإن تعلق بما أنشاه الولي، ففي تحليفه وجهان.

_ (1) ما بين المعقفين مكان بياضٍ بالأصل. (2) ما أنشأه: نؤكد أن (ما) هنا نافية.

وهذا بمثابة ما لو باع الولي مال الطفل، أو زوّج الصغيرة، ثم وقع النزاع في صفة العقد، فيجري الخلاف في ذلك؛ فإن العقد وإن كان متعلقاً بحق الطفل، فمتعلق الدعوى من الأب أنه قيل له: " عقدت على الوجه المخصوص " وهذا صادر منه، فترتبط الخصومة [به] (1) من هذا الوجه، فينفي أو يثبت، ويتجه التحليف في هذا المقام. وقد ذهب كثير من الأئمة -أئمة العراق- إلى القطع بأنه يحلف، ومجرى التحالف بينه وبين الخصم فيما يتعلق بإنشاء الولي، ولم يذكروا في ذلك خلافاً، ووجه الطريقة: أن الأب لو أقر بعقدٍ عقده في استمرار الولاية قُبِل إقرارُه، وإذا كان مقبول الإقرار، لم يبعد أن يُحلَّف؛ فإن الحلف على الإنكار حريٌّ بالقبول ممن يُقبل منه الإقرار. ثم هؤلاء طردوا الطريقة في القيّم والوصيّ والوكيلِ بالعقد، فإن كل واحد من هؤلاء لو أقر بأنه أنشأ العقد قُبِل إقراره، إذا كان إقراره في وقتٍ لو أنشأ ما أقرّ به، نفذ. وقد ذكرنا أن الإنكار يعاقب الإقرار. فإذا كان من أهل الإقرار، وجب أن يكون إقراره ثابتاً، حتى يتعلق به ما يتعلق بالإنكار الصحيح. والوكيل بالخصومة لا يحلف؛ من جهة أنه لو حلف، لكانت يمينه راجعة إلى حق غيره، وليس يُثبت أو ينفي شيئاً مضافاً إلى إنشائه، ولو تعلقت الدعوى بالوكيل فيما هو مطالب به [بالعهدة] (2)، فلا شك أنه يحلف؛ من جهة أنه فيما يطالَب به مجيب عما يتعلق بخاصته. فاعتماد هؤلاء في هذه الطريقة على ما ذكرناه من رجوع النزاع إلى ما ينشئه الولي، واعتماد الأولين في الطريقة الأولى على ما يتعلق بتصرف الولي واستبداده. والطريقتان متباينتان.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) في الأصل: بالعمدة.

8491 - وذكر [شيخي] (1) أخرى، وهي: أن الأبَ لا يُحلّف [في شيء مما] (2) يتعلق بحق طفله، ولا فرق بين ما ينشئه الأب وبين ما لا يتعلق بإنشائه. وإنما تردد الأصحاب في تحليفه في النكاح خاصة، واختلافهم مبنيٌّ على أنه هل يملك إسقاطَ المهر والعفو عنه؟ فإن قلنا: إنه يملك العفوَ، فاليمين معروضة عليه، فإنه على رتبة المالكين، و [إن] (3) لم ننفّذ عفوه، فلا نحلفه، هذا بيان طرق الأصحاب. 8492 - ثم إن قلنا: الأب لا يحلف فيما له الإنشاء فيه، فيقف الأمر حتى تبلغ الصبية، ثم نُدير النزاع بينها وبين الزوج، ونفرض الكلام في التنازع في مقدار المهر، فإذا قال الزوج: " نكحتك بألف " والزوجة تزعم أن أباها زوّجها بألفين، فالتحالف يجري الآية بين الزوج والزوجة، ثم المرأة تحلف يميناً تشتمل على الجزم ونفي العلم، إذا رأينا الاقتصار على يمين واحدة -كما- تقدم تفصيل ذلك في كتاب البيع، فتحلف إذاً: " بالله لا تعلم أن أباها زوّجها بألف، ولقد زوّجها بألفين "، ثم يمين نفي العلم إنما تتوجه إذا ادّعى العلم عليها. 8492/م- ولو مات الزوج والزوجة، ووقع الاختلاف بين ورثة الزوجين بعد موتهما، أو وقع الاختلاف بين ورثة أحدهما مع الآخر، فالتحالف يجري على الصورة التي ذكرناها بين الزوج والزوجة، فوارث الزوج يحلف: " لقد نكحها بألف، ولا أعلم أنه نكحها بألفين "، ووارث المرأة يحلف: " لقد نكحتْه بألفين، ولا أعلمها رضيت بألف "؛ فقد اشتمل حلف كل واحد منهما على إثبات أمر من الغير، ونفي أمر منه. والقاعدة التي إليها الرجوع في أمثال هذا -وعليها تدور المسائل- أن كل يمين كان

_ (1) الزيادة من معنى كلام ابن أبي عصرون. (2) في الأصل: "يحلف شيئاً فيما يتعلق ... " والمثبت تصرف منا على ضوء المفهوم من عبارة ابن أبي عصرون. (3) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.

مقصودها الإثبات فهي على البتّ، سواء أثبت الحالف من نفسه أو أثبت من غيره، واليمين على النفي [تتفرّع] (1) فإن تضمنت نفيَ شيء من الحالف، فهي على البت، وإن تضمنت نفيَ أمر من الغير، فهي على العلم. والسبب الكلي فيه أن الإثبات لا يعسر الاطلاع عليه، سواء كان من الحالف أو من غيره، ولا يعسر الاطلاع على النفي الراجع على الحالف؛ فإن الإنسان يعلم ما ينفي عنه كما يعلم ما يُثبت في حقه، فأما النفي عن الغير، فالاطلاع عليه بعيد، والالتزام من غير ثَبَت لا وجه له. وإذا حصلت اليمين على نفي العلم، ووقع الاكتفاء [بها] (2) في قطع الخصومة، فإن هذا غاية الوسع والإمكان. [وللخصومات] (3) وقفات في بعض الأطراف دون اليقين المطلوب في غيرها، ولكن إذا اضطررنا، اكتفينا باستفراغ الوسع. وعلى هذا لو ادعى رجل ديناً على الميت، والوارث ابنه، فالقول قول الوارث، يحلف على [نفي] (4) العلم: " لا يعلم أباه أتلف ما ادعاه، أو استقرضَ " على حسب اتفاق الدعوى في تعيين هذه الجهات، فيكتفى منه بالحلف على نفي العلم. وإن نكل ردت اليمين على المدّعي، يحلف على البت بأنه متلف. ولست أضمن الآن تفصيل ذلك، وتحصيلَ ما فيه، فإنه من أقطاب الدعاوى، وسننتهي إليها فنشرحها، إن شاء الله عز وجل. فإن قال قائل: كيف يتحالف ورثة الزوجين وقد انتهى النكاح نهايته؟ قلنا: أثر التحالف يظهر في الصداق وما ينتهي نهايته، فإنه في حكم عقدٍ منقطعٍ عن عقد النكاح، وتتصور فيه الردود بجهاتها بعد الموت. 8493 - فإذا نجز بيان المذهب، عدنا بعد ذلك إلى الكلام على النص:

_ (1) في الأصل: تنفي. (2) في الأصل: "بهذا". (3) في الأصل: والخصومات. (4) ساقطة من الأصل.

ظاهر ما قاله الشافعي أن أب الصبية يحلف كما تحلف الزوجة إذا استقلّت، والخلافُ مفروض في مقدار الصداق، وذلك أنه -رضي الله عنه- ذكر اختلاف الزوجين وتحالفهما، ثم قال: " وهكذا الزوج وأبو الصبية "، فمن قال: نُحلّف الأبَ؛ استمسك بظاهر النص. ومن قال: لا نحلّف، قال: لم يعطف أبَ الصبية على الزوجة المستقلة لنحلفه، وإنما عطف ليبين أن الاختلاف ممكن، ويتعلق به إقامة البينة كما تُصوِّر ذلك في الزوجين. فصل قال: " فالقول قول المرأة ما قبضت مهرها ... إلى آخره " (1). 8494 - إذا اختلف الزوجان في أصل القبض، فقال الزوج: " أقبضتكِ " وأنكرت المرأة؛ فالقول قولها. فإن الأصل عدم القبض، ودوام إشغال الذمة بالمهر، فإن اتفقا على القبض، واختلفا في صفته؛ فقالت المرأة: " دفعتَ ما دفعتَ هديةً ومنحةً". وقال الزوج: "بل سلّمتُه مهراً"؛ فالقول قول الزوج مع يمينه. وهذا الأصل مطّرد في كل موضع يقع الاختلاف فيه في جهة القبض، والرجوع فيه إلى الدافع؛ إذ الغرض في ذلك يختلف بالقصد، ولا اطلاع على القصد إلا من جهة القاصد، وقد ذكرنا هذا وما يتعلق به في المعاملات، وأوضحنا مثل هذا الاختلاف في دَيْنين، وقد اتفق أداء شيء، وثار النزاع في أنه مقبوض من أية جهة؟ وبيّنا القولَ فيه إذا قال الدافع: لم أقصد شيئاً. 8495 - ومما يتعلق بما نحن فيه الكلامُ في أن الأب هل يقبض مهر ابنته؟ فنقول: إن كانت صغيرة، قبض الأب مهرها، فإنّ قبضَ المهر تصرّفٌ في مالٍ، وهي مولّىً عليها من جهة أبيها، فعلى هذا لو كانت الصغيرة ثيباً، فالأب يقبض مهرها؛ فإن الثيابة لا تؤثر في ولاية المال، وإنما تؤثر في ولاية النكاح، وقد ذكرنا أن الأب يزوّج ابنته البالغةَ البكرَ إجباراً، فلو كانت سفيهة، قبض مهرها أيضاً، فإن الحجر مطرد مع السفه على المال.

_ (1) ر. المختصر:4/ 31.

فأما إذا كانت رشيدة، فهل يقبض الأب مهرها؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يقبض مهرها، كما يجبرها على النكاح؛ فعلى هذا يكون الصداق مستثنًى عن سائر أموالها، لمكان اتصاله له بما هي مجبرة فيه. والقول الثاني وهو الأصح - أنه لا يقبض مهرها لما أظهرناه من أن هذا تصرفٌ في المال، والأب لا يلي مال الرشيدة البالغة. وهذان القولان بناهما المحققون على القولين في أن الأب هل يملك الإبراء عن صداق البكر البالغة؟ وفيه اختلاف سيأتي مرتباً في بابٍ، بعد هذا -إن شاء الله عز وجل-، فهذه طريقة. ومن أصحابنا من قال: لا يملك قبض صداقها وجهاً واحداً من غير إذنها، كما لو كانت ثيّباً، وهذا هو القياس. ثم إن قلنا: لا بد من إذنها، فلا يكفي العرْضُ عليها مع سكوتها، ولا اكتفاء بصُماتها، وإن قلنا: قد يكتفى بصمات البكر إذا كان زوّجها من لا يجبرها، كالأخ وغيره. فصل يجمع قواعدَ في تداعي الزوجين، واختلافهما، وعلى الناظر صرفُ الاهتمام إلى دَرْكه. 8496 - فنقول: أولاً، إذا أحضرتْ رجلاً مجلس الحكم، وادعت عليه ألف درهم من جهة الصداق، فالقول قوله؛ فيحلف لا يلزمه تسليمه إليها، فإذا لم تعلّق المرأة دعواها قصداً على الزوجية، وإنما تعرضت للصداق، فليس على الزوج التعرض للزوجية، ويقع الاكتفاء منه بنفي ما ادعته من المال. [ولا] (1) يعرضُ القاضي للسؤال على الزوجية من غير أن تطلب المرأة ذلك، فهذا فضول منه، وللزوج ألا [يجيبه] (2).

_ (1) في الأصل: " ويعرض القاضي " وهو عكس السياق. وصدقتنا (صفوة المذهب). (2) في الأصل: يجيبها.

ولو سألت المرأة القاضيَ، واستدعت منه أن يسأل الرجل عن النكاح، حتى إن اعترف هو به، لزمه حكم النكاح، وإن أنكر تعلَّق بإنكاره حكمُ إنكار النكاح، فيجب على القاضي أن يبحث. ثم قال قائلون: إن ادّعت الصداق، وسألت القاضي أن يسأله عن النكاح، سأله، ولزمته إجابته. وقال طائفة من المحققين: لا يسأله ولا تلزمه الإجابة -إن سأله- حتى تدعي الزوجةُ الزوجية. فإن ادعتها، فحينئذ يراجع القاضي الزوجَ، وإن لم تدع الزوجية، لم يجب على القاضي أن يتعرض لها، كما لو قال رجل -وقد رفع رجلاً إلى مجلس الحكم- اسأله أيها القاضي، هل لي عليه ألف؟ فهذا ليس بدعوى، ولا مبالاة به، وإنما ذكرنا من وجوب مراجعتها ما ذكرناه لجزمها دعواها في الصداق، ثم إذا جزمت دعوى الزوجية، فقد ذكرنا تفصيل دعوى الزوجية في فروع ابن الحداد في آخر النكاح. 8497 - وقد ذكر القاضي أموراً تتعلق بدعوى الزوجية، نذكرها وننظر ما فيها: فإذا ادعت المرأة الزوجية، فاعترف الزوج بها، وأنكر المهر؛ فقد قال: ثبت لها مهر المثل، ولو أراد الزوج أن يحلف، لم يكن له ذلك، والحاكم يقول: لا فائدة لك في الحلف، فإن النكاح العري عن المهر يثبت فيه مهر المثل. وهذا أمر ملتبسٌ لابد فيه من التفصيل، فنقول: إن قال الزوج جرى النكاح عرياً عن المهر، ولم يدع تفويضاً محققاً على حكم التصريح بإسقاط المهر؛ فموجب ما ذكره ثبوت مهر المثل. وإن نفى المهر، ولم يصف العقد بالعرو عن ذكره، ولكن قال: لا مهر لها؛ فالذي ذكره القاضي: أن قول الزوجة مقبول في دعوى مهر المثل. وهذا مشكل جداً؛ من قِبل أن النكاح يفرض عقده بأقلّ ما يتمول، وليس شرط انعقاد النكاح أن يكون فيه مهرُ المثل، فكيف الوجه في ذلك؟ وما علة الحكم بثبوت مهر المثل؟ فنقول: وجه ما ذكره: أن النكاح في نفسه -إذا لم يثبت فيه مسمى صحيح - بمثابة الوطء المحرم، فإن الوطء المحرم يتعلق به مهر المثل، فصورة النكاح إذا لم يثبت فيه صداق مسمى، تتضمن مهر المثل، والتسمية وإن كانت ممكنة فإذا لم تثبت؛ فالمرأة مستمسكة بما أصله التزام مهر المثل. هذا تعليل ما ذكره.

وتتمة الكلام فيه أن مهر المثل لا يثبت ما لم تحلف أنها لم ترض بأقل من مهر المثل، ويكفيها أن يغلِّب جانبَها ويحلّفَها، فإنا إذا كنا لا نبعد جريان التسمية، فلا سبيل إلى إثبات مهر المثل بمجرد الاعتراف بالنكاح. ووراء ما ذكرناه غائلة صعبة سنذكرها بعد نجاز المسائل المترتبة على هذا النسق. فلو حكمنا مثلاً بمهر المثل، فقال الزوج: ما أصبتها، وطلّقها، فلها نصف مهر المثل، فإن قيل: هلا حملتم الأمر على التفويض، حتى لا يجب لها شيء؟ قلنا: التفويض أمر نادر، فلا يحمل الصداق عليه، وقد بيّنّا أن التفويض لا يثبت ما لم تصرح المرأة بالإسقاط والرضا وبنفي المهر. 8498 - ولو ادعت امرأة على وارث الميت أن أباه نكحها، وأقامت بينة على النكاح، قال: يثبت لها مهر المثل إن ادعته، وحلفت بأنها لم ترض بمسمّىً دون مهر المثل، وإن لم تكن لها بينة على النكاح، وكان الوارث صغيراً، فنقف الخصومةَ إلى أن يبلغ، فإن بلغ وأقر بالنكاح، عاد الأمر إلى ما ذكرناه في المسألة الأولى. وإن ادعى الوارث قدراً من الصداق دون مهر المثل، فإن أقام بينة على ذلك المقدار، لم يكن لها أكثرُ منه، هذا ما ذكره. 8499 - وقد حان أن ننبّه على الإشكال الذي أشرنا إليه فنقول: إذا ادعت امرأة زوجية على رجل، فاعترف بها، وسكت عن ذكر مقدار المهر، أو قال: لست أدري كم أصدقتها، وزعمت المرأة أنه أصدقها ألفَ درهم، وهو مقدار مهر مثلها؛ فالذي قطع به الأصحاب أولاً: أنها إذا ذكرت مقدار مهر مثلها، وادعت أنه المسمى، وادعى الزوج مسمى دون ذلك، فإنهما يتحالفان، كما قدمناه في صدر الباب. وقال أبو حنيفة: القول قولها في مهر المثل، فإن ادعت زيادة على مهر المثل، فالقول قول الزوج في نفيها، ولو ادعت المرأة زوجية [ومسمًّى] (1) مساوياً لمهر مثلها، وأنكر الزوج التسمية أصلاً، وذكر أن النكاح جرى عرياً عن المهر؛ فهو

_ (1) في الأصل: أو مسمَّى. وقد جاءت (صفوة المذهب) بما أثبتناه.

معترِف بما ادعت ثبوتاً، وإن أنكر التسمية؛ فإن موجَبَ إطلاق العقد [من] (1) غير تفويض ثبوتُ مهر المثل. وإن ادعت المرأة ما ذكرناه، فلم يعارضها الرجل بدعوى تسميةٍ أخرى، ولكنه قال: لست أدري، أو توقف وصمت؛ فظاهر ما ذكره القاضي: أن القول قولها مع يمينها، لما ذكرناه من أن النكاح مطلقُه يُثبت مهر المثل، وهذا موضع الإشكال، وهو على الحقيقة مصيرٌ إلى مذهب أبي حنيفة في النظر إلى مهر المثل. والذي يقتضيه قياس مذهبنا أن دعواها موجهةٌ بالمقدار الذي ادعته على الزوج، فإن تردد لم تمنع منه بتردده؛ وحلّفناه، فإن نكل عن اليمين المعروضة رددنا اليمين عليها، فتحلف يمين الرد. وإن كانت المسألة مفروضة في المرأة ووارث الزوج، فالوارث لا يطالَب إلا باليمين على نفي العلم، فإذا ادعت تسميةَ ألف، وهو بمقدار مهر مثلها، فأنكر الوارث العلم به، وحلف على نفي العلم؛ فمذهب القاضي ما ذكرناه، وهو على قياس قولنا مشكلٌ. والذي يقتضيه القياس الحكمُ بانقطاع الخصومة، والقدر الثابت على قطعٍ: هو أقل ما يُتموّل، وفيه من التردد ما أجريناه في مسائلَ جمّةٍ، وهذا منتهى ما أوردناه في ذلك. 8500 - ومما ذكره القاضي متصلاً: أن الرجل إذا أشار إلى مولود، وقال: هذا ولدي، ولم يقل هذا ولدي من هذه، [فالتي] (2) تزعم أنها والدته لا تستحق المهر بهذا المقدار. وإن قال: هذا ولدي منها، قُضي لها بمهر المثل، لأن النسب إنما يلحق في نكاح أو وطء شبهة، وأيُّ ذلك كان وجب مهر المثل. وهذا بناه على أن النكاح المطلق محمول على اقتضاء مهر المثل، [وقد] (3) ذكرنا ما فيه؛ فإنَّ التسمية ممكنة دون مهر المثل، وإنما يجري هذا لو كان الزوجان

_ (1) سقطت من الأصل. وهو كما أثبتناه في (صفوة المذهب). (2) في الأصل: فالذي. (3) في الأصل: فقد.

لا يتحالفان إذا ادَّعى الزوج تسمية ما هو أقل من مهر المثل. ثم قال القاضي: لا يحمل استلحاق النسب على استدخالها ماء الزوج " فإنَّ ذلك نادر، والعلوق منه أندر منه؛ فلا يحمل الأمر عليه. وقد انجلى الفصل مع التنبيه على كل مُشكل. ***

باب الشرط في المهر

باب الشرط في المهر 8501 - نقل المزني عن الشافعي مسألتين متشاكلتين في الصورة، وأجاب فيهما بجوابين مختلفين، ونحن ننقل لفظيهما. قال: قال الشافعي: " وإذا عقدَ النكاحَ بألف على أن لأبيها ألفاً، فالمهر فاسد؛ لأن الألفَ ليس بمهرٍ [لها] (1)، ولا بحقٍّ له باشتراطه إياه. ولو نكحَ امرأةً على ألف، وعلى أن يُعطي أباها ألفاً، كان جائزاً، ولها منعه وأخذها (2) منه، [لأنها هبةٌ لم تقبض،] (3) أو وكالة " (4) هذا لفظ [السواد] (5). وليس يخفى تشاكل (6) المسألتين في التصوير. وجوابه في الأُولى: إنَّ المهرَ فاسدٌ. وجوابه في الثانية: إنَّ ذلك جائزٌ. وقد اختلف أصحابنا مذهباً، فنذكر اضطرابَهم في المذهبِ أولاً، ثم نرجع إلى (السواد). فمن أصحابنا من قال: إذا عقد النكاح بألف على أنَّ لأبيها ألفاً، فالمهر فاسد، كما نَصَّ عليه. َ والمسألة مفروضة فيه إذا كان عقدُ النكاح على اللفظ الذي صورناه. ولو قال: نكحتُها على ألفٍ، وعلى أن أُعطي أباها ألفاً، فالمهر فاسدٌ أيضاً؛ إذ لا فرق أن يقول: على أنَّ لأبيها ألفاً، وبين أن يقول: على أن أعطي أباها ألفاً.

_ (1) في الأصل: " له ". والتصويب من المختصر. (2) وأخذها: أي الألف. (3) في الأصل: لأنه لم يقبض. (4) ر. المختصر: 4/ 32. (5) في الأصل: " الشواذ ". وهو تصحيف بالنقط. وتكرر هذا اللفظ مراراً (بالسين المهملة، والدال المهملة كذلك) وقلنا: إن معناه: مختصر المزني. فهذا اسمه الذي يطلقه عليه الإمام، وهو وارد في الاستعمال الفصيح بمعنى الأصل أو المتن، ولكنه غير منصوص في المعاجم. (6) تشاكل: أي تشابه.

فأما إذا قال: نكحتها على ألفين، على أنْ أُعطي أباها ألفاً، فهذا فيه نظر، فإنْ قال: ذلك بأمرها وإذنها، فلا يبعدُ تصحيحُ المهرِ. فكأنه أصدقَها مِقْداراً صحيحاً، وضم [إليه] (1) التزام عملٍ لها، قريب المأخذ (2). ثم هي -كما قال الشافعي-: واهبةٌ، أو واعدة، أو موكِّلة بالهبة، والنظر في ذلك مجتمِع غيرُ منتشر. ولو شرط الزوجُ عليها أن تهب من أبيها ألفاً، فهذا فاسد مفسد؛ فإنه ملَّكَها وحَجَر عليها. ثم ما ذكره هذا القائل لا يختص بألف من ألفين يذكرهما، بل لو أصدقها ألفاً على أن تسلمه إلى أبيها على التأويل الذي ذكرناه، فالجواب كما ذكرناه. هذه طريقة. ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان. وقد نقلهما المزني في مسألتين متشاكلتين، بين لفظيهما أدنى تفاوت، وقد مضت صورةُ المسألتين. فأحد القولين: إنَّ المهرَ يفسدُ، وتوجيهه بَيِّنٌ، فإنه شَرَطَ شيئاً في العِوض لغير المستحِق في العقد، فكان كما لو اشترى شيئاً وشَرَطَ شيئاً في معرض الثمن لغير البائع. والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في القديم- إنَّ المهرَ يصحُّ، وتستحق المرأةُ الألفين. وهذا القائل يقول: ذَكَر الزوجُ الألفين في لفظين وأثبتهما لأجلها، وكانا حقَّها، وإن أضاف أحدَهما إلى أبيها. وهذا بعيد جداً لا اتجاه له في وجه من الرأي. 8502 - فإذا ثبت ترتيب المذهب؛ فالذي ذكره المزني مشكلٌ في المسلكين. أما على الطريقة الأولى، فلا شك في اضطراب المسألة الثانية؛ فإنه لم يقل فيها: أصدقتك ألفين، بل أضاف إليها ألفاً، وأضاف الألف الآخر إلى أبيها. ولا فرق بين

_ (1) في الأصل: " السه " كذا بهذا الرسم والنقط. (2) عبارة العز بن عبد السلام عن هذه المسألة: " فإن قلنا بالطريقة الأولى (يعني بطلان الصورتين الواردتين في مختصر المزني) فأصدقها ألفاً أو ألفين على أن يعطي أباها ألفاً بإذنها، فلا يبعد التصحيح لأنه التزم المال والعمل الذي هو الدفع إلى الأب. (ر. الغاية في اختصار النهاية ج 3 لوحة رقم 101 يمين).

أن يضيفه بقوله: على أن أعطي أباها ألفاًً، [وبين قوله: على أن لأبيها ألفاً] (1). والنصان أيضاً على الطريقة الثانية مضطربان؛ فإنه لم ينبه فيهما على القولين، وأعجب من ذلك كله أنه (2) لم يتعرض للكلام على النصين، ولو استرسل في الاعتراض بخيال يتخيله على بعد (3). [وأما الطريقة الثالثة] (4): طريقة القولين، [فمسلك] (5) التصحيح على غاية البسط (6) [؛ لأن] (7) الزوج لا يضيف إلى أبيها ما يضيف إلاَّ تشبيهاً، وهذا يتضمن إثبات الألفين جميعاً لأجلها، فكان هذا بمثابة إضافة الألفين إليها. وهذا القياس يقتضي أن نُجري القولين في البيع لو تصور بالصورة التي ذكرناها في النكاح. وسمعت شيخي يحاول تقرير المسألتين، ويتكلف الفرق بينهما، ويقول: لفظ العقد في المسألة الأولى: " أن يقول: نكحتها بألف على أنَّ لأبيها ألفاًً "، يتضمن (8) تمليك الأب الألف في وضع العقد؛ فكان ذلك فاسداً. وإذا قال: أصدقتكِ ألفاً على أن أُعطي أباكِ ألفاًً، فمن حمل الإعطاء على التسليمْ، والملك في المعطَى للمرأة، فليس لفظ العقد تمليكَ الألف للأب. وهذا تكلف لا نتحصل منه على طائل؛ فإنَّ الألف الثاني إذا لم يضف إليها، فقد تخبط اللفظ فيه، ثم " أُعطي " (9) المقرون بـ " على " للتمليك، وستأتي -إن شاء الله تعالى- مسائلُ الخلع شاهدة على ذلك.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) أنه لم يتعرض للكلام على النصين: المراد المزني؛ فإنه أورد النصين في المختصر ولم يتكلم عليهما. (3) هنا بياض بالأصل قدر أربع كلمات. ولذا لا نجد جواب (لو) في قوله: " ولو استرسل ". (4) ما بين المعقفين زيادة من المحقق على ضوء السياق، ولا يستقيم الكلام بدونها. (5) في الأصل: فسلك. (6) غاية البسط: أي غاية الوضوح. (7) في الأصل: والآن. (8) في الأصل: ويتضمن. (بزيادة الواو). (9) ثم اعطي المقرون بعلى: المعنى أن لفظ أُعطي إذا اقترن بلفظ (على) كان مفيداً للتملك.

ولو قال: اشتريت منك هذا العبد على أن أعطيكَ ألفاًً، كان ذلك بمثابة ما لو قال: اشتريت منك هذا العبد بالألف. فلا وجه عندنا إلا الجري على الطريقة الأولى (1)، وحمل الخلل على النقل؛ فإنه على كل وجه مختل. فصل قال: " ولو أصدقها ألفاًً على أنَّ لها أن تخرج، أو على ألاَّ يخرجها من بلدها ... إلى آخره " (2). 8503 - قال الأئمة: الشرائطُ في النكاح قسمان: شرطٌ يقتضيه مُطلقُ العقدِ، وذلك أن يتزوجَها على أن يُنفقَ عليها، أو يَقْسمَ لها، أو ما أشبهَ ذلك، فالذي ذكره صحيح، والشرطُ متضمّنُ العقد. فأما إذا كان الشرطُ بحيث لا يقتضيه العقد، فإنْ أثَّرَ في مقصودِ النكاحِ أثراً بيِّناً، أفسد النكاح، وذلك مثل أنْ [يؤقِّت] (3) النكاح أو يشترطَ ألاَّ يطأها. وإن اشترط أن يطلقها؛ فالمذهب: فساد النكاح، لتأثير الشرط في مقصود العقد. وذكر بعضُ أصحابنا قولاً: أن الشرطَ يَفْسُد والنكاح يصح، وهذا غير مُعتدّ به. فلو شرط شرطاً فاسداً لا يعظم أثرُه في مقصود النكاح، مثل أن يشترط ألاَّ يتزوج ولا يتسرى عليها، وأنها تخرج من الدار متى شاءت، وأنه لا يطلقها، فهذه الشرائط تفيدها فوائدَ، وهي فاسدة. وقد تكون الشرائطُ عليها، مثل أن يشترطَ ألاَّ ينفق عليها ولا يَقْسم لها، ويجمعَ بينها وبين ضرَّاتها في مسكن واحد. فهذه الشرائطُ لا تُفسد النكاح، ولكنها تُفسد الصداقَ، فإنَّ الصداقَ يَفسُدُ بما

_ (1) الطريقة الأولى: هي: البطلان في الصورتين اللتين حكاهما المزني. (2) ر. المختصر: 4/ 33. (3) في الأصل: يرتب.

تفسد به أعواضُ العقودِ؛ من جهةِ أنَّ العِوضَ إذا لم يتجرّد، وانضمَّ إليه شرطٌ، صار عوضاً وشيئاً مجهولاً، ومساق ذلك يتضمن إفساد الصداق. ثم الفساد من جهةِ الجهالة يوجبُ الرجوعَ إلى مهر المثل، كما مهدناه. 8504 - وقال محمد بنُ الحسن: إن زاد المسمى على مهر المثل [وزادها] (1) بالشرط، لغا الشرطُ، وصحت التسمية، وإن نقص عن مهر المثل، وكان الشرطُ ينقُصُها؛ فيلغو الشرطُ وتصحُ التسمية أيضاًً. وإن زاد في المهر ونقص في الشرط، أو زاد في الشرط ونقص في المهر، فسدت التسمية؛ لأنه زاد في المهر زيادة هي في مقابلة الشرط، فجَعَل الباقي مجهولاً، وإذا نقص المهرُ وزاد في الشرط، جعل الشرط في مقابلة ما نقص من المهر، فصار المهرُ مجهولاً. وهذا الذي ذكره غيرُ بعيد عن مسلك الفقه، وكنا نَوَدُّ لو كان مذهباً لبعض الأصحاب، حتى كنا نقول: الشرط الزائد مع المهر الزائد أو المنطبق على قدر مهر المثل ليس يعكس جهالةً على المهر، ولكن المعتمد عند الأصحاب أن المشروطَ فاسدٌ مضمومٌ إلى الصداق، والعوض يفسد تارةً بما ينعكس عليه من الجهالة، وتارةً باقترانه بفاسد. وهذا يتطرق إليه كلام- هو منتهى النظر في المسألة، وهو: أنَّ ما ذكره محمد من أنَّ المهر الزائد أو المنطبق على القدر، لا يصير مجهولاً بالشرط الزائد، فلو كان صحيحاً، لكان يجبُ أن يُقال: إنْ زاد المهرُ ونقصَ الشرط، فالرجوع إلى مهر المثل، وكذلك إن نقص المهرُ وزاد الشرط، أو زادا ونقصا، فسد المهرُ بالاقتران، ولكن لا يقطع القول بأن الرجوع إلى مهر المثل. ويجوز أن يقال: [لو] (2) أثبت العوض دراهم وشرطاً، وذلك الشرطُ مجهولُ الأثر، وهما جميعاً مهر، فكان الرجوعُ إلى مهر المثل لذلك. فهذا منتهى البحث، وقد ناقض محمد ما قاله في الصداقِ في البيع، فقال: لو باع ما يساوي ألفاًً بألفين وزقِّ خمر، وقبض المبيع، وتلف في يده؛ فإنه يغرم القيمة، وليس للبائعِ أن يقول: اطرحْ الزقَّ من ألفين ليصح العقدُ بالألفين.

_ (1) في الأصل: وزاها. (2) زيادة اقتضاها السياق.

فصل قال: " ولو أصدقها داراً، فاشترط له، أو لها، أو لهما الخيار ... إلى آخره" (1). 8505 - نصّ الشافعي هاهنا على أن شرطَ الخيارِ يُفسدُ الصداقَ ولا يُفسدُ النكاحَ. ونصَّ في القديم على أنَّ شرط الخيار في الصداق يُفسد النكاح. فمن أصحابنا من حمل ما قاله في القديمِ على ما إذا شرط الخيار في النكاح نفسِه، حتى يثبت التخيير في رفعه على حكم الرؤية، فأما إذا خصَّص الصداق بالخيار، فلا يفسد النكاح، قولاً واحداً. ومن أصحابنا من قال: إذا خصّص الصداق بالخيار، ففي المسألة قولان: أحدهما - إنه يبطلُ النكاحُ به، كما لو شرط في النكاح. والثاني - لا يبطل، كسائر الشروط الفاسدة في الصداق. ثم إن قلنا: يبطل النكاحُ بشرط الخيار في الصداق، اختلف أصحابنا، فمنهم من عدّى هذا إلى كل شرطٍ فاسدٍ في الصداق، فطرد قولاً مثلَ مذهب مالك (2) في النكاح يفسد بفساد الصداق، ولا خلاف أن النكاح لا يفسد بالتعرية عن العوض، ولا خلاف أن النكاح لا يرتد برد الصداقِ بالعيب. ومن أصحابنا من خصَّص القولين بفساد الصداقِ بجهة الخيار، وفرّق [بأن] (3) الخيار في [صيغته،] (4) وإن خُصّ بالصداق يتضمن الارتباط بالعقد الذي الصداق عوضٌ فيه، وشَرْطُ الخيار في أحد العوضين في البيع يتعدى إلى العوض الثاني، فإن كان الخيارُ في وضعه قابلاً للتخصيص؛ إذ لو خصّ بأحد المتعاقدين، لاختصّ به، فمع هذا لم يختص بأحد العوضين.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 33. (2) ر. جواهر الإكليل: 1/ 309، القوانين الفقهية: 205، والإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 714 مسألة 1290، وفيه أن في المسألة روايتين. (3) في الأصل: بين. (4) في الأصل: صيغه.

8506 - ووراء ما ذكرناه طريقة أخرى مبنية مناسبة (1)، ذكرها الصيدلاني في كتاب البيع، وهو أنَّ شرط الخيار صحيح [في الصداق وفي خيار المجلس في ذلك قولان] (2) ووجه خروج ذلك على القياس أن الصداقَ يتطرقُ إليه الردود والنكاحُ قائم بحاله. 8507 - فإذا تمهَّد ما ذكرناه انتظمَ بعد ذلك الترتيبُ، فنقول (3): في صحة الخيار في الصداق قولان. ولا خلاف أنَّ الخيارَ في النكاحِ نفسِهِ يُفسده، فإن صحَّحنا الخيارَ في الصداق، فلا كلام، وأثر الرد والإجازة يختص بالصداق. وإن أفسدنا الخيارَ في الصداق، فهل يفسد النكاحُ به؟ فعلى قولين أصحهما: إنه لا يفسد. وإن أفسدنا النكاح به، فهل يفسد النكاحُ بسائر وجوه فساد الصداق سوى الخيار؟ فعلى وجهين. 8508 - ثم قال الشافعي: " ولو ضمن أبُ الزوجِ نفقتَهَا عشر سنين ... إلى آخره " (4). فرض الشافعي المسألة في ضمان الأب، ولا اختصاص به، فلو فُرِض الضمانُ على هذا الوجه من أجنبي، لكان كذلك. وعرض المسألة أنَّ من ضمن النفقةَ في أيامٍ معدودة في الاستقبال وأعلَمَها، فهذا ضمان ما لم يجب بعدُ ووُجد سببُ وجوبه، وفيه الخلاف المعروف، والترتيب في الجديد والقديم، وقد ذكرناه في أول كتاب الضمان، وفي معناه إبراؤها عن نفقة أيام معدودة، ولسنا لإعادةِ تلك الفصول، وقد جرت على أكمل وجه في البيان في موضعها. ...

_ (1) كذا. "ولعلها قياسية". (2) عبارة الأصل: " في الصداق في ذلك، وخيار المجلس في ذلك قولان ". ولا يخفى ما فيها، وطريقتنا في تصحيحها. (3) في الأصل: ونقول. (4) ر. المختصر: 4/ 33.

باب عفو المهر

باب عفو المهر 8509 - وقد تقدم أنَّ الزوجَ إذا طلق امرأتَه قبل المسيس، وقد جرى مُسمًّى صحيح، فإنه يتشطر. والمعتمد في ذلك قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. وقد تكلموا في قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]؛ فإنها استحقت الجميع بالعقد، ثم عاد النصف بالطلاق، قيل (1): التقدير فنصف ما فرضتم لهن، ثم إذا اختص الاستحقاقُ في جانبها بالنصف، ارتدّ النصفُ الآخرُ إلى الزوج. وقيل: المذكور النصف [لكن بغرض التثنية] (2) على النصفين، والمعنى: فنصف ما فرضتم لكم والنصف لهن. 8510 - ثم قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أراد به الزوجاتِ يعفون عن المهر، فيخلص الكل للأزواج، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. وقد اختلف القولُ في الذي بيده عُقدة النكاح: فقال في القديم: هو الولي، وبه قال ابنُ عباس، ورجَّح الشافعي هذا القولَ في القديم من أوجه: أحدها - أنَّ قول ابنِ عباس مقدم [في] (3) التفسير؛ لأنه ترجمان القرآن وقد قال صلى الله عليه وسلم وهو يمسحُ

_ (1) في الأصل: وقيل. (2) ما بين المعقفين محاولة لإقامة النص مع الاحتفاظ بأقرب صورة للكلمات الواردة في الأصل، وعبارة الأصل هكذا: " وقيل المذكور النصف لو ـعرص الـ ـسه على النصفين" (انظر صورتها) هذا. وقد راجعت المسألة في الأم، وأحكام القرآن للشافعي، والشرح الكبير، والروضة ومختصر العز بن عبد السلام، فلم أجد ما يفيد في تصحيح العبارة. (والكتاب ماثل للطبع حصلنا على هذا الجزء من مختصر ابن أبي عصرون، والحمد لله صدّق تقديرنا، فقد وجدنا العبارة عنده كما تصوّرناها، فلله الحمد والمنة). (3) زيادة من المحقق.

رأسَهُ بيده -وكان إذ ذاكَ صبياً-: " اللهم فَقِّههُ في الدين، وعَلمهُ التأويل " (1). ومما ذَكَرهُ أنه تعالى قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فكان ذلك راجعاً إلى عفو يخلص به الصداق للزوج ليكون المعفوّ واحداً، وأيضاًً فإنَّ قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فإنَّ (2) ذِكْرَ الزوج جرى على صيغةِ المخاطبة، وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ} على صيغة المُغايبة، ولا يحسن عطفُ المغيابة على المخاطبة في حق شخص واحد. والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في الجديد- إنَّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، وروى الشافعي هذا عن علي، وابنِ جريج (3)، وابنِ المسيب، وغيرهم. وأيضاًً فإنَّ الله تعالى ذَكَرَ خلوص الصداق له بعفوها، ثم عطف هذا عليه، فظهر أنَّ المرادَ عفوٌ يخلصُ به الصداق لها. اشتملت الآية على ذكر الخلوص من الجانبين، وذكر التشطر والانقسام على الجانبين، وقد قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} والأقرب للتقوى عفوُ الزوجِ، فأما عفوُ الأب عن حقِّ ضعيفةٍ، فلا يتَّصف بهذه الصفة. وقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} خطاب لهما. 8511 - فهذا ذكرٌ للقولين على صيغة التردد في التفسير، وثمرتهما اختلافُ القول في أنَّ الولي هل يملك الإبراء عن صداقِ ولِيَّتِهِ؟ وفيه قولان: الجديد -إنه

_ (1) حديث: " اللهم فقهه في الدين ... " رواه مسلم مقتصراً على لفظ: " اللهم فقهه " (مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ح 2477) وأما بالألفاًظ التي ساقه بها إمام الحرمين، فقد رواه أحمد في مواضع كثيرة من (المسند، منها: 1/ 266، 314). (2) في الأصل: " وأيضاًً، فإن ذكر الزوج جرى على صيغة المخاطبة ... ". (3) ابن جريج، عبد الملك بن عبد العزيز، أبو الوليد، وأبو خالد، فقيه الحرم المكي، كان إمام أهل الحجاز في عصره، أول من صنف تصانيف العلم بمكة، رومي الأصل، من موالي قريش، مكي المولد والنشأة. توفي سنة 150 هـ. (ر. تاريخ بغداد: 10/ 400، وصفة الصفوة: 2/ 122، وتذكرة الحفاظ: 1/ 160، ووفيات الأعيان: 3/ 163، وتهذيب التهذيب: 6/ 402. وانظر الأعلام للزركلي).

لا يَملك. وهو مذهب أبي حنيفة (1). ووجهه في القياس لائح؛ فإن الصداقَ مالٌ من أموالها، فلم يملك الأبُ إسقاطَه كسائرِ أموالِها. والقول القديم: إنه يملك الإسقاط؛ لأنه أكسبها هذا المال في مقابلة البضع، ثم رجع البضعُ إليها، وهو على كمالٍ من الشفقة، ولا يُنكَر في جهات الاستصواب إسقاط المهر، فإذا صدر ممن كملت شفقته، كان محالاً على النظر. التفريع (2): 8512 - إنْ منعنا العفوَ، فلا كلام. وإنْ جوزناه، فنفوذه مشروط بخمسة أشياء، أحدها - أن يكونَ الولي أباً أو جَدَّاً؛ إذْ لا مُجبر غيرهما. والثاني - أن يفرض العفوُ قبل الدخول؛ فإنَّ المهر إذا تأكد بالدخول، فقد تحقق فواتُ البضع، ولأجله استقر العوض. فإنْ كُنا نتلقى إسقاطَ المهرِ من حملِ قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} على الولي، فالعفوُ واردٌ في شطرِ الصداق، إذا فُرض وقوع الطلاق قبل الدخول. والشرط الثالث - أن يكون العفوُ بعد الطلاق، أو يقعُ الاختلاعُ به؛ والسبب فيه اختصاص الآية أولاً بما بعد الطلاق، ومعتمد هذا القول الاتباع، وأيضاًً فإنها تبقى في أسر النكاح، فلو سقط مهرُها وهي [باقية] (3) في الزوجية، والزوج ربما يستمتع بها- فيفوت بضعها مجاناً. والشرط الرابع - أن يكون الصداقُ دَيناً، فلو كانَ عيناً، لم يجز للولي هبته من الزوج. هذا ما صار إليه معظم أئمة المذهب، وتمسكوا بظاهر العفو؛ فإنه مُشعِرٌ بالإبراء، وأيضاًً فإنَّ الملكَ لا يستقر في الدين استقراره في العين. وكان شيخي أبو محمد يرى للولي على هذا القولِ هبةَ العين؛ اعتباراً بالإبراء عن الدين، وهو

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 290، حاشية ابن عابدين: 2/ 290، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 263 مسألة رقم: 734. (2) في الأصل: والتفريع. (3) في الأصل: ـ ـه في الزوجية.

متجهٌ لا بأس به، وكان يُجَوِّزُ [الاختلاعَ] (1) على عين الصداق؛ اعتباراً بالدين. والصحيحُ ما صار إليه الجماهير. والشرط الخامس - أن تكون صغيرةً عاقلةً بحيث يُرْغَبُ في مثلها، فإن كانت مجنونةً، فحكمها حكم الصغيرة العاقلة، وقالت المراوزةُ: لا ينفذ الإبراء عن مهر المجنونة؛ لأنه لا يُرغب فيها، وكأنَّا إنما نُجوّز اختلاعَ الصغيرة بمهرها، والإبراءَ بعد الطلاق؛ حتى يُرغب فيها، وهذا المعنى مفقود في المجنونة التي لا يتشَوَّفُ الخُطَّابُ إليها. 8513 - ولو كانت ثَيِّبا بالغةً، فلا شك أن الأب لا يبرىء عن مهرها. وإنْ كانت بكراً بالغة -والتفريع على تنفيذ إبراء الولي- هل ينفذ إبراؤه عن مهر البكر العاقلة؟ فعلى قولين: أحدهما - ينفذ، لملكه عُقدةَ النكاح؛ فإنه يملك إجبار البكر بالغة. والثاني - لا ينفذ إبراؤه؛ فإنَّ الولاية إن كانت مستمرة على البضع، فلا ولايةَ للأب على مالها، وصداقُها من مالها. وهذا يقرب مما قدمناه قبلُ من أن الأب هل يملك الانفراد بقبض مهر البكر البالغة السفيهة كالبكر الصغيرة، لثبوت الولايتين عليها؟ والصغيرةُ إذا ثابت بوطء شبهة، وإنما صورنا وطء الشبهة حتى لا يتقرر المهر بفرض المسيس من الزوج، فإذا ثابت الصغيرة تحت زوجها كما ذكرناه، فقد صارت إلى حالة لا يملك الأبُ تزويجَها فيها قهراً حتى تبلغ، فتأذن. فقال أئمةُ المذهب: إذا كانت كذلك، لم يملك الولي إسقاطَ مهرها؛ فإنه لا يملك إجبارَها، وليس بيده عقدةُ نكاحها. وأبعدَ بعضُ أصحابنا بأن جوّز للأبِ أو الجدِّ العفوَ عند الطلاق أو بعده إذا كانت صغيرةً؛ نظراً إلى نفاذ ولايته في مالها، وهذا ضعيف، غيرُ معدود من المذهب؛ فإن ولايةَ المالِ لا تسلِّط على العفو والإسقاط، وإنما المتبع ما يُشعر به ظاهرُ القرآن، وهو يشير إلى ملك عقدة النكاح، والثيب الصغيرة في حق الأب بمثابة الثيب البالغة في التزويج.

_ (1) في الأصل: الاطلاع.

فصل قال: " وأي الزوجين عفا عما في يده، فله الرجوع ... إلى آخره " (1). 8514 - هذا الفصل وفصول بعده تشتمل على مُكرَّرات، ونحن [نوفّر] (2) لها جهدَنا والتنبيهَ عليها من غير بسط. وهذا الفصل مفروض في وقوع الطلاق قبل المسيس وتشطّرِ الصداق، ثم إذا تشطر الصداق، عيناً كان أو ديناً، يترتب عليه حكم الهبة والإبراء، فإن كان عيناً فالنصف له والنصف لها، فإن وهبت ما هو لها من زوجها، لم يخف تفريعُ الهبات، فإن كان في يدها سلَّمَته، وإن كان في يده، نُفرّع فيه ما إذا وهب مالكُ الوديعة من المودَع، وعاد التفصيل وإعادة القبض، وفيه اختلافُ قولٍ وتفصيلٌ طويلٌ تقصَّيناه في موضعه. وإن وهب الزوجُ ما ارتدّ إليه منها، فالأمر كذلك. وإن كان الصداقُ ديناً وسقط شطرُه، وبقي لها الشطرُ فأبرأت، فلا يخفى حكم الإبراء، والظاهر أنه لا يفتقر إلى القبول وفيه وجه بعيد ذكرناه. 8515 - والذي نذكره في هذا الفصل أنَّ الهبةَ مستعملة في الأعيان، ولفظ الإبراء لا يستعمل في تمليك الأعيان، والعفو مختلف فيه، فالذي ذكره معظم المحققين: أن الهبة في الأعيان لا تصح بلفظ العفو؛ فإنه في معنى الإبراء. وذكر القاضي أن العفو يجوز استعماله في الهبة، وظاهر قوله [فيما] (3) نقل عنه يدل على أن استعمال العفو في الهبة يختص بالصداق فيما يدور بين الزوج والزوجة، أو يصدرُ من الولي، على أحد القولين، فاستدلّ في هذا بظاهر قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فذكر الله تعالى لفظ العفو مع انقسام الصداق

_ (1) ر. المختصر: 4/ 34. (2) في الأصل: نؤثر. (3) في الأصل: فيها.

إلى العين والدين، والألفاظ قد يأخذ بها صاحبُ المذهب من الشرع، وعليه بناء صرائح الطلاق. وهذا الذي ذكره لم يرتضه غيره، وقالوا: ليس المرادُ بذكر العفو في القرآن [التنبيه] (1) على اللفظ الذي يستعمله الزوجان، وإنما المراد أنْ يتركَ كلُّ واحد منهما حقَّه، ثم طريق الترك فيه موكول إلى بيان الشرع. ثم لو صح ما ذكره في الصداق، للزم طرده في سائر الهبات. 8516 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا لم نر الإبراء والعفو من ألفاظ الهبات في الأعيان، فهل يلتحقان بالكنايات؟ وقد قدمنا تفصيلاً في أنَّ عقودَ التمليك هل تنعقدُ بالكنايات إذا كانت مفتقرة إلى الإيجاب والقبول؟ قال شيخي: الإبراء ليس كنايةً أيضاًً في هبة الأعيان، فإنه لا يتضمن تمليك الغير، وإنما معناه إسقاط المُبرِىء في حقَّ نفسه، وعماد الهبة تمليك المتّهب، وهذا متجه حسنٌ، لا يجوز غيره، وفي كلام القاضي ما يدل عليه أيضاًً. وإذا كان الصداق ديناً، فاستعمل الإبراءَ، فهل يشترط القبول في الإبراء؟ وهل يشترط القبول إذا جرى الإبراءُ بلفظ الهبة؟ ففي المسألة وجهان. وهذا منتهى المراد في هذا الفصل. فصل قال: " ولو وهبت له صداقَهَا، ثم طلقها [قبل أن يمسّها] (2) ففيها قولان ... إلى آخره " (3). 8517 - إذا أصدقَ الرجلُ امرأته عيناً من الأعيان وسلّمها، ثم إنها وهبت عين الصداق من الزوج، وسلّمته إليه، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، والصداق قد عاد

_ (1) في الأصل: المبينة. (2) ساقط من الأصل. وأثبتناه من المختصر. (3) ر. المختصر: 4/ 34.

إليه بهبتها، فهل يرجع عليها بنصف قيمة الصداق؟ فعلى قولين منصوصين: أحدهما - يرجع [عليها] (1)؛ لأن الصداق عاد إليه بتمليكٍ منها، فصار كما لو [باعته منه] (2) ثم طلقها. والثاني - لا يرجع عليها؛ لأنها عجّلت ما كان يستحقه عليها مؤجَّلاً بالطلاق، والمستحَق في المال إذا عُجّل، لم يبعد وقوعه الموقعَ عند دخول وقت الاستحقاق، كالزكاة إذا عُجّلت. والأقْيس القول الأول؛ فإن العَوْد إلى الزوج، لم يكن عن جهة تعجيل حق الزوج (3) في الشطر. ولو قدمت إليه الصداق زاعمة أنَّ نصفَه هبةٌ ونصفَه تعجُّلٌ لما يجب للزوج عند الطلاق، فلا يصح من الزوج التصرف في الشطر المعجل، ولا يصح التمليك فيه؛ فإنه على الحقيقة تعليق تمليك بما سيكون، ولا يقبل التمليكُ التعليقَ على أمرٍ منتظر. وإذا رجع الصداقُ إلى الزوج ببيعِ محاباة، [فإنه] (4) يرجع عليها بنصف قيمة الصداق عند الطلاق؛ [فإنّ] (5) المحاباة في معنى الهبة، في كونها تبرعاً، على ما كان يذكره شيخنا، ولم أرَ في الطرق ما يخالفه؛ والسبب فيه أنا وإن كنا نعد بيع المحاباة من التبرعات، فالمبيع مقابَلٌ بالثمن وإن قلّ، وإذا كان مقابلاً به، استحال انصرافه إلى جهة استحقاق الزوج شطر الصداق عند الطلاق. 8518 - ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من القولين لا يختصان بالطلاق، بل إذا وهبت الصداق، ثم جرى ما يوجب ارتداد جميع الصداق إلى الزوج، كالردة، ففي رجوع الزوج عليها بتمام القيمة القولان. فلو باع رجلٌ عبداً بجارية، ثم وهب قابضُ الجاريةِ الجاريةَ من قابض العبد، ثم

_ (1) في الأصل: إليها. (2) في الأصل: اشترته منه. (3) في الأصل: تعجيل حق الزوج حق في الشطر. (4) في الأصل: وإنه. (5) في الأصل: وإن كانت المحاباة في معنى الهبة.

اطلع [قابض] (1) العبد على عيب قديم به، فردَّه، فهل يرجع على بائع العبد بقيمة الجارية؟ فعلى القولين، والمسائل متناظرة في جريان القولين فيها. ثم رأيت في مرامز كلام الأصحاب تردداً لطيفاً في أنَّا إذا قلنا: لا يملك رادّ العبد الرجوعَ بقيمة الجارية، فهل يملك رده؟ وإن ردّ، فهل ينفذ ردُّه أم لا؟ وهذا محتمل حسن، وهذا من جهة أن [الغرض] (2) من الرد استرداد العوض، فإذا لم يثبت له حقُ الاسترداد، ففي رده بُعْدٌ، وليس هذا كالطلاق؛ فإنه لا مرد له، والفسوخ التي أُثبتت في النكاح ليس مقصودُها استردادَ الصداق، [فما] (3) ذكرناه من التردد في الرد بالعيب في المبيع. 8519 - وما ذكرناه فيه [إذا كان الصداق عيناً، أما] (4) إذا كان الصداق ديناً، فأبرأت زوجها، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، فهل يرجع عليها بنصف الصداق؟ في المسألة طريقان: من أئمتنا من جعل فيها قولين كما في العين، ومنهم من منع الرجوع عليها عند الطلاق قولاً واحداً، وفرَّق بين العين والدين بأنها إذا أبرأت، لم تستوف الصداق، ولم يستقر ملكها فيه، بل أسقطته، وفي العين استقر ملكها. وكان شيخنا يقرب الطريقين في القطع وطرد القولين من اختلاف الأصحاب في أنَّ الإبراء: هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ ولو كان الصداق ديناً، فأبرأت زوجها بلفظ الهبة، وحكمنا بأنه يفتقر إلى القبول، فهذا مرتب على الإبراء. والفرق اقتضاء الهبةِ التمليكَ، فكأنها ملّكت زوجها ما عليه. فإنْ قيل، كيف سبيل الهبة في الدين، وركن الهبة القبض [وأين القبض] (5) في

_ (1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (2) في الأصل: العوض. (3) في الأصل: "فيما". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

الديون؟ قلنا: إذا وهب مستحقُّ الدين [الدينَ] (1) ممن عليه، فلا حاجة إلى تقدير القبض في هذه الحالة، ونحن قد نُبرم هبات من طريق آخر، كتقديرٍ من غير إجراء قبضٍ حسي، وكما أن القبض ركن التمليك في الهبة، فإنه يتعلق به حكم نقل الضمان، ثم إذا كان لرجل على رجل دين، فاعتاض عنه عيناً، فحكم الدين أن يسقط، ويكون كالعوض المقبوض المتلف في يد مستحقه. ولو أصدق الرجل امرأته ديناً، ثم نقد ووفّى، فلما قبضت وهبت من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، ففي هذه المسألة طريقان على العكس: إحداهما - القطع بأن الزوج يرجع عليها. والأخرى - طرد القولين. 8520 - فيترتب مما ذكرناه ثلاثة أحوال: إحداها- فيه إذا كان الصداق عيناً، فجرت الهبة، ثم الطلاق، وفيها القولان. والثانية - أن يكون الصداق ديناً، فتبرىءَ عنه، ثم يجري الطلاق قبل المسيس، وفيها طريقان، إحداهما - القطع بأنه لا رجوع عليها. والحالة الثالثة - أن يكون الصداق ديناً، فيوفرَه الزوج، ثم إنها تهب ما تقبض، ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بأنه يرجع عليها إذا طلقها. ثم إذا كان الصداق في الذمة، ففُرض النقدُ، والهبة، والطلاق؛ فلا فرق بين أن يكون من ذوات الأمثال، وبين أن يكون من ذوات القيم. هذا كله إذا عاد جميع الصداق إلى يد الزوج، ثم فرض الطلاق قبل المسيس. 8521 - فأما إذا أصدقها عيناً وسلّم إليها، ثم إنها وهبت نصف ذلك الصداق من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، فهذا يترتب على ما إذا عاد جميعُ الصداق إليه، ثم طلقها: فإنْ قلنا: إذا رجع الجميع إليه، فإنه يرجع عليها بنصف القيمة إذا طلقها، فهاهنا نُثبت له حقَّ الرجوع في النصف لا محالة.

_ (1) زيادة من المحقق، اقتضاها إقامة العبارة.

ثم في كيفية الرجوع أقوال: أحدها - إن حق الزوج ينحصر في النصف الباقي في يدها، ويتعين الموهوب من حقها، وهذا كما قال الشافعي في الزكاة: إذا أصدقها أربعين شاة، وأخذ الساعي منها واحدة، ثم طلقها قبل المسيس، رجع عليها بمقدار عشرين شاة مما بقيت في يدها، ويتعين ما أخرجته من حقها. وكما قال في التفليس: إذا اشترى عبدين بمائتين، وقضى مائةً، وتلف أحد العبدين، ثم فُلّس، [وكانت] (1) قيمتاهما متساويتين، فإذا رجع البائع، انحصر حقه في العبد القائم، وهذا القول يعرف بقول الحصر. والقول الثاني - إنه يرجع في نصف الباقي وربع قيمة الجملة، فيشيع ما أخرجته وما [أثبتته] (2) فيحصل للزوج مقدار النصف عيناً وقيمةً. و [هذا] (3) القول يُشْهر بقول الشيوع. والقول الثالث - إنه بالخيار بين ما ذكرناه في القول الثاني، وبين أن يرجع في نصف (4) العين كلها. وقد نصَّ الشافعي على القولين الآخرين في مسألةٍ في الصداق، وهي إذا أصدقها إناءين، فكسرت أحدَهما، ثم طلقها، نص على قولين: أحدهما - إنه يرجع في نصف الإناء الصحيح ونصف قيمة المنكسر، والثاني - إنه بالخيار بين هذا وبين أن يرجع في نصف قيمة الإناءين. والقولان المذكوران في مسألة الإناءين إذا انكسر أحدهما يمكن بناؤهما على تفريق الصفقة في الرد بالعيب إذا اشتملت الصفقة على عينين، ثم اطلع على عيب بأحدهما. ثم الأقوال الثلاثة تجري في مسألة إصداق أربعين شاة، وفي كل ما يناظر ذلك. وفي المسألة بحث سنذكره عند نجاز المنقول. 8522 - قال الأئمة: لو وهبت المرأةُ النصفَ من أجنبي، ثم طلقها الزوج قبل

_ (1) في الأصل: فكانت. (2) وما أثبتته: أي أبقته في يدها. هذا. وقد قرأنا هذا اللفظ بصعوبة بالغة، على ضوء صورة الحروف المضطربة (انظر صورتها). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: " ... في نصف مهر العين كلها ".

المسيس؛ فإنه يرجع في النصف، ثم في كيفية التوزيع والحصر والشيوع والتخيير الأقوال الثلاثة. 8523 - وكل ما ذكرناه تفريع على قولنا: جميع [] (1) الصداق إذا عاد إليه، ثم طلقها، فإنه يرجع عليها بالنصف. فأما إذا قلنا: لو رجع جميع الصداق إلى الزوج من جهتها، لم يرجع عليها عند الطلاق بشيء، فإذا وهبت منه النصف، ثم طلقها، ففي المسألة جوابان على الحصر والشيوع: أحدهما (2) - إنه لا يرجع، فكأنها عجلت يوم الهبة جميع ما كان يستحقه يوم الطلاق. والوجه الثاني - إنه يملك الرجوع، ثم في قدر ما يرجع فيه جوابان: أحدهما - إنه يرجع في نصف ما بقي في يديها، وهو ربع الجملة، ونجعل الفائت بالهبة من الحقين النصف من حقه والنصفُ من حقها، وكأنها عجلت نصف ما كان يستحق عليها؛ لأن الحق شائع. وهذا اختيار المزني. والثاني - إنه يرجع في تمام النصف، ويتعين حقها فيما وهبت، فتحصَّل أجوبةٌ: أحدها - إنه لا يرجع بشيء، وما قبضه من النصف هبة محسوب عليه. والثاني - إنه يرجع بنصف الباقي فحسب، وهذا على الإشاعة. والثالث - إنه يرجع بتمام النصف، وهذا على الحصر. وتحقيق ذلك: أنَّا في قولٍ نحصر حق الزوج فيما قبض، وفي قولٍ نحصر حقها فيما وهبت، وفي قول نُشيع، فاستكمال الحصر من وجهين يقتضي جوابين: أحدهما - إنه لا يرجع بشيء، والثاني - إنه يرجع بتمام حقه، والإشاعة توجب التبعيض لا محالة. ثم إذا قلنا إنه يرجع بتمام حقه، ففي كيفية الرجوع الأقوال الثلاثة التي قدمناها:

_ (1) بياض بالأصل، قدر أربع كلمات، ولكن الكلام مستقيم بدون تقدير أي شيء. (2) في الأصل: أو لأحدهما. وهو تحريف واضح.

أحدها - إنه يرجع في النصف الباقي. والثاني - إنه يرجع في نصف الباقي وربع قيمة الكل. والثالث - إنه يتخيّر. هكذا ذكر الأصحاب. وهذا فيه وهمٌ؛ من جهة أنَّا نفرّع على منع الرجوع لو وهبت الكل، وعلى هذا إذا وهبت النصف، لم ينقدح الرجوع بتمام الحق عند الطلاق إلا على الحصر، وقول الحصر يوجب حصرَ حقه فيما بقي، فإعادة الأقوال الثلاثة لا معنى له. هذا ما ذكره الأئمة نقلناه على وجهه. 8524 - ونحن نقول بعد ذلك: إذا [وهبت] (1) المرأة جميع الصداق من الزوج، ثم طلقها، فقد مضى أصل القولين فيه. فإذا وهبت النصف، فقد ذكرنا ثلاثة أقوال، وكلها بينة، فإن حصرنا حق الزوج فيما بقي، فلا كلام، وإن أثبتنا له الرجوع إلى نصف ما بقي وإلى ربع قيمة الكل، فإنَّ أكثر أصحابنا لم يذكروا على هذا القول تخيراً، وإن تبعض الحق عليه، وذكروا التخير في القول الثالث. وهذا فيه غموض؛ من جهة أن التبعيض يُثبت الخيار في أمثال هذه المسائل؛ فكان يجب أن نقطع بالخيار، وهذا فيه وقفة على الناظر؛ من قِبَل أنَّا قطعنا بإثبات الخيار، ففي المسألة قولان إذاً: أحدهما - إنه ينحصر حقه في النصف الباقي، فيخلص له العبد هبة ورجوعاً، والثاني - إنه بالخيار، إن شاء، رجع إلى نصف ما بقي، وإلى ربع قيمة الكل، وإن شاء، رجع إلى نصف قيمة الكل. وإن أثبتنا التبعيض بلا خيار، كان ذلك مناقضاً لأصلٍ بَيِّنٍ في المعاملات، وهو: أن التبعيض عيب. 8524/م- وإذا طلق الرج [امرأته، فصادف الصداق معيباً في يدها بعيب حادث قبل الطلاق، فللزوج الخيار، إن شاء، رضي بشطر الصداق معيباً، وإن شاء، رجع بنصف القيمة سليماً. فإذا كان التبعيض عيباً، وحُكم العيب في الصداق تخيير الزوج، فرفْعُ التخيير بعيدٌ جداً]

_ (1) في الأصل: وهب.

فإن قال قائل: مبنى الصداق على التبعيض إذا فرض الطلاق، واحتمل ذلك على قول من الأقوال، لم (1) يكن لهذا الكلام تحصيل؛ فإن الطلاق يقتضي التشطير، وهذا (2) تربيعٌ. وإذا قلّ الجزء، قلّت القيمة على قدره، [فإذا] (3) كانت الجملة تساوي ألفين وكان نصفها عند فرض الإفراد يساوي أربعمائة، فالربع قد يساوي مائة وخمسين؛ فإن الرغبة في الجزء الكثير أكثر من الرغبة في الجزء القليل. فإن قال قائل: إذا رجع النصف إلى الزوج بالهبة، ثم فرض الرجوع في ربع آخر إليه، فلا تبعيض في حقه. قيل: هذا أيضاًً لا حاصل له، من قِبَل أن الهبة غيرُ محسوبةٍ عليه، فينبغي أن يكون النظر محصوراً على هذا النصف الآخر، وقد تحقق التبعيض فيه، كما ذكرناه. فهذا منتهى البحث سؤالاً وجواباً. 8525 - /والحق المستقيم على القياس: ردُّ الخلاف إلى قولين، ووجه قول من لا يُثبت الخيار -على بعده- أن التبرع على قول الإشاعة مَلَّك الزوجَ ربعَ العين وربعَ القيمة، مع أن في يدها النصف الكامل، [و] (4) إذا ملَّك الشرعُ الزوجَ المُطَلّق شيئاً، فإثباتُ الخيارِ -مع أن الشرعَ ملّكه كذلك- بعيدٌ. فإذاً؛ وجه نفي الخيار أن الإشاعة تقتضي التمليك على هذا الوجه، ولا خيار فيما اقتضاه الشرع. هذا هو الممكن، والوجه ما قدمناه. فهذه مباحثة في هذه الطرق. 8526 - مباحثة أخرى: إذا طلق الرجلُ امرأته، وصادف الصداقَ معيباً في يدها، فقد ذكرنا أنه إن أراد، رجع بنصف القيمة، وكذلك لو تلف الصداقُ في يدها ثم طلقها. وهذا كلام أطلقه الفقهاء وتساهلوا في إطلاقه، والغرض منه يبين بسؤال. فإن قال قائل: يرجع الزوج بنصف قيمة الكل، أو بقيمة نصف الكل، وبينهما

_ (1) لم يكن لهذا الكلام: جواب قوله: فإن قال قائل: ... (2) (وهذا): إشارة إلى رجوعه إلى نصف النصف. (3) في الأصل: وإذا. (4) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.

تفاوت؟ قلنا: يرجع بقيمة نصف الكل؛ فإنه لم يفته إلاَّ نصف الكل، وهذا مما يجب إجراؤه في المسألة التي نحن فيها؛ فإنا أطلقنا ربع قيمة الكل، والمراد قيمة ربع الكل. 8527 - ومن المباحثات في المسألة: التعرض لانكسار أحد الإناءين، وفي معناه: لو أصدقها عبدين، فعاب أحدهما، وقد حكينا قولين: أحدهما - إن الزوج يرجع بنصف الإناء الصحيح، ونصف قيمة المنكسر، والثاني - إنه يتخير بين ما ذكرناه، وبين الرجوع بنصف قيمة الإناءين. وقد ذكرنا أن هذا يخرج على تفريق الصفقة في الرد بالعيب. وتصوير ذلك في التفريق: أن من اشترى عبدين، فوجد بأحدهما عيباً، فأراد ردّ المعيب منهما وإمساكَ الصحيح، ففيه قولان، وإن أراد، ردَّهما، كما تقرر هذا في كتاب البيع. وهذا فيه نظر؛ فإنَّا في مسألة الإناءين ألزمناه -في أحد القولين- الرجوعَ إلى نصف الصحيح ونصف قيمة المنكسر، وفي القول الثاني خيرناه، فكيف ينطبق هذا الذي ذكرناه على ما جئنا به مثلاً في شراء العبدين، مع الاطلاع على عيب بأحدهما؟ وصورة القولين ثَمَّ: أنه يرد المعيب في قولٍ، ولا يرده وحده في قول؛ بل يردهما ويسترد الثمن، ثم على هذا القول طريق استدراكه للظُّلامة، [ردُّ] (1) الصحيح والمعيب. فإن لم يرد ذلك، فليقنع بالمعيب، وليمسكه مع الصحيح. ونظير هذا من الصداق لو قلنا: طريق استدراكه أن يرد الإناءين ويطالبها بقيمة نصفهما، فإن أبى ذلك، فليقنع بنصف الإناء المنكسر مع [نصف] (2) الإناء الصحيح، وليس الأمر كذلك؛ فإنَّا نقول في مسألة الإناءين في أحد القولين: يتعين إمساك نصف الصحيح، وطلب نصف قيمة المنكسر، وهذا في التحقيق إلزام التبعيض إذا أراد الاستدراك.

_ (1) عبارة الأصل ... طريق استدراكه للظلامة والصحيح والمعيب. (2) زيادة اقتضاها السياق.

وفي القول الثاني - نخيّره بين التبعيض -وهو الأصل- وبين ردهما. وكان الأصل في البيع ردّهما. وإذا جوّزنا التبعيض، فهو دخيل، والأصل هاهنا التبعيض، وإذا أراد ردهما، فهو دخيل. 8528 - ولن يحيط الناظر بحقيقة هذا ما لم يفهم فرقاً كلياً بين القاعدتين، وهو أن البيع مفسوخ [بالرد] (1)، وهو متَّحد لا يتعدد بتعدد المعقود، فبعُد عند بعض العلماء إيراد الفسخ على بعضه، فينشأ منه منع التفريق. وأما رجوع الصداق إلى الزوج، فليس في حكم عقد يعقد، ولكنه رجوع قهري شرعي، غير أنا قد لا نرد إليه ما في رده إليه إضرار به، وينتظم من هذا أن استمساكه بنصف الصحيح على القاعدة؛ فإنه لا ضرار فيه. بقي طريقٌ للاستدراك في نصف المنكسر، فله الرجوع إلى نصف قيمته، فهذا [بَتٌّ] (2) لا كلام فيه، فإن أراد رد الصحيح مع المنكسر، فهذا خروج منه عن قاعدة الصداق؛ فإنَّ من اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً؛ فإنه يردهما باتحاد العقد، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا. فقال قائلون: لا سبيل إلى ردهما في الصداق؛ لافتراق الأصلين، وتباعد القاعدتين، ونظر ناظرون نظراً ظاهراً من غير بحث عن تباعد القاعدتين، وقالوا: يملك الزوج ردهما. ولم يترك هذا القائل التمسك بجواز التبعيض، وكذا وقع لهذا الإنسان هذا، من حيث ظن أنَّ إفراد العين مشابه للعيب، وأن المشتري إنما يرد العبدين لذلك. ثم قد وجد في الصداق الردّ بالعيب مع إمكان دفع الضرر دونه؛ فإنَّ الزوج إذا صادف الصداق معيباً في يدها، رجع إلى نصف القيمة، ولو قالت: أجبرُ النقصَ لم يُبالَ بها. وهذا وهم؛ فإنَّ تميّز أحد العبدين عن الثاني ليس عيباً، وإنما سببه ما ذكرناه من اتحاد العقد. [بان] (3) تحقيق القول في الأصلين، وانتظم منه أنَّا في البيع نقول في قول: يجمع ولا يُفرِّق. وفي قول: إن شاء فرَّق وإن شاء جمع. فإن أراد الزوج ألا يستدرك

_ (1) في الأصل: بالردة. (2) في الأصل: ثبت. (3) في الأصل: فإن.

الظلامة، استمسك بنصف الصحيح ونصف المنكسر. وتلك المناقشات فيه إذا كان يبغي استدراك الظلامة. فهذا تمام المباحثة في الانعطاف على أطراف الكلام في المسألة. وقد انتظم قبلها النقلُ على وجهه. فصل قال الشافعي: "ولو خالعته بشيء مما عليه من المهر، فما بقي، فعليه نصفه ... إلى آخره" (1). 8529 - أورده المزني من الخلع، وغرضه إنما هو الاستشهاد بنص الشافعي على ما يدل على قول الشيوع؛ فإنا لما ذكرنا الهبة في بعض الصداق، أجرينا نصوصاً للشافعي دالَّةً على الحصر، فاختار المزني قولَ الشيوع - وهو الأصح والأَقْيَسُ. وتمسك بنص الشافعي في المسألة التى سنذكرها وهي قليلة النَّزَل (2)، ومدارها على أصول سابقة، ومن معه رشد من الفقه يُخرّج المسألة، ونحن نذكرها ولا نغادر شيئاً منها، فنحرص على الاختصار جُهدنا. 8530 - فنقول: إذا اختلعت المرأة نفسها من زوجها نُظر: فإن كان بعد الدخول، فلا يخلو، إما أن كان إلى غير جنس الصداق، [أو على جنس الصداق] (3)، فإن كان على غير جنس الصداق، مَلَك الزوج عليها العوض، ثم الخلع مفروض قبل المسيس، فيتشطر الصداق، فله عليها عوض الخلع، ولها عليه نصف الصداق.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 35. (2) النَّزَل: بفتح النون والزاي المعجمة: من قولهم: رجل ذو نَزَل أي كثير الفضل والعطاء، و" فلان ليس بذي طُعْم وليس بذي نَزَل ": ليس له عقل ولا معرفة، وسحابٌ ذو نَزَل: كثير المطر، وطعام كثير النزل: كثير البركة (المعجم، والمصباح). والمعنى هنا أن هذه المسألة قليلة الأثر والفائدة. (3) زيادة اقتضاها الكلام.

فإن خالعها على ما هو جنس الصداق، صح الخلع؛ فإنه لم يورده على الصداق. ثم يتشطر الصداق إن كان الخلع قبل المسيس، ويجب المسمى بكماله إن كان بعد المسيس. ثم تجري أقوالٌ في التقاصّ في قدر التساوي على ما ستأتي مشروحة، إن شاء الله عز وجل. 8531 - وإن [خلعت] (1) نفسها بصداقها، وكانت مدخولاً بها، صح الخلع، وبرىء الزوج عن الصداق الذي كان استقر عليه بالمسيس. وإن خلعت نفسها قبل المسيس بالصداق، لم تخل إمَّا أن تخلع بتمام المسمى، وإما أن تختلع بنصف المسمى، فإن اختلعت بتمام المسمى قبل الدخول، فحكم الخلع تشطير الصداق. فإذا كان الصداق ألفاًً، وقد جرى منها الاختلاع عليه، فنصف العوض المذكور حقُّ الزوج. فالعوض متبعِّض إذاً، بعضه مستحَق، وبعضه ثابت على ما تقتضيه المعاملة. فيخرج في هذا المقام قَوْلا تفريق الصفقة: فإن أفسدنا الصداق (2) بالتفريق، جرى القولان في أن الصداق إذا فسد؛ فالرجوع إلى مهر المثل، أو إلى بدل العوض المسمى، فإن قلنا: الرجوع إلى مهر المثل، فالزوج يستحق عليها مهرَ مثلها، وقد سقط نصف المسمى، وهي تستحق نصفَ المسمى، فإن تجانسَ المالان، جرى أقوال التقاصّ. وإن رجعنا عند فساد المسمى إلى بدله، فالمسمى دراهم، وبدلها دراهم؛ فإنها من ذوات الأمثال؛ فيستحق الزوج عليها ألفَ درهم، وهي تستحق على زوجها خمسمائة، ولا يخفى التقاصّ، هذا إذا فرعنا على أن التفريق مفسدٌ. فأما إذا قلنا: التفريق لا يُفسد، فيصح نصف المسمى، وهو نصيبها من المهر. ويجري الآن القول في أن للزوج الخيار، فإن فسخ (3)، عاد القولان إلى أن الرجوع

_ (1) في الأصل: أخلعت. (2) أفسدنا الصداق: المراد أفسدناه بدلاً للخلع وعوضاً فيه، بسبب أن نصفه مستحقٌّ للزوج. (3) أي فسخ عقد الخلع بسبب أن العوض الذي هو المهر المسمى خرج نصفه مستحقاً.

إلى مهر المثل، أو إلى مثل جميع المسمى؟ ففي قولٍ يستحق عليها مهرَ مثلها، وفي قولٍ يستحق عليها مثلَ ما سمى، وهو ألف درهم. وإن اختار الإجازة، جرى الخلاف في أنه [يجبُر] (1) بالكل أو بقسطٍ، فإن قلنا: إنه يجبر بالكل، فيجبر الخلع بمقدار حصتها من المهر، وهو خمسمائة، فيسقط الشطر بالتشطير، ويسقط الباقي بالعوضية. وإن قلنا: يجبر بالقسط؛ فيرجع فيما هو مستحق بنصف مهر المثل، أو بنصف البدل، والبدل مثلٌ؟ فعلى القولين. ولا يخفى أن ما ذكرناه من الخيار فيه إذا كان الزوج جاهلاً بحقيقة الحال في الشطر والتفرق. هذا كله إذا كان الصداق ألفاًً [فاختلعت] (2) نفسها بالألف الذي هو صداق. ولو اختلعت نفسها بألف مطلَقٍ، فلا يكون صداقاً، ويصح الخلع، واستحق الزوج عليها الألف، وهي تستحق الخمسمائة. 8532 - ولو أنها اختلعت نفسها عن زوجها بنصف مهرها -وهو خمسمائة- وهي غير ممسوسة، فهذا يصوّر على أوجه: أحدها- أن تقول: اختلعت نفسي بالخمسمائة التي تبقى لي، فإذا قالت ذلك، صح الخلع بتنصيصها على تخصيص المقدار الخالص لها، ثم لا يخفى أن موجب ذلك سقوط جميع المهر، النصف منه بحكم التشطر، والنصف بحكم المعاوضة. والصورة الثانية - أن تقول: اختلعت نفسي بخمسمائة شائعة من مهري، وصرَّحَت بما ينافي الاختصاص، فهذا تفريق؛ فإن النصف مما ذكرته مستحَق للزوج، والنصف لها، فيعود التفريع كما مضى، ولكن تختلف الأقدار. أما النصف من الألف، فيسقط بحكم التشطر، ويقع الكلام في النصف الثاني. فإن أفسدنا العوض بالتفريق فيرجع الزوج -في قولٍ- إلى تمام مهر مثلها، وفي

_ (1) في الأصل: يجر. والمعنى أنه إن أجاز عقد الخلع ولم يصح إلا نصف العوض -الذي نصيبها في الصداق المتشطر- فهل يجبر ما صح العقد فيه (وهو نصيبها) ويجعله وحده عوضاً للخلع؟ أم يجعل نصيبها قسطاً من عوض الخلع؟ (2) في الأصل: فأخلعت.

قول إلى خمسمائة. وإن لم نُفسد واختار الزوج الفسخ، فالجواب كذلك. فإن اختار [الإجازة] (1) وقلنا: يجبر بالتمام، كان بدل الخلع مائتين وخمسين، والحكم أن الزوج يبرأ عن سبعمائة وخمسين بحكم التشطير والعوض ويبقى لها بقية المهر. وإن قلنا يجبر بالبعض، ففيما يرجع به قولان: أحدهما - إنه يرجع بنصف مهر المثل، فله عليها نصفُ مهرها، ويسقط من مهرها سبعمائة وخمسون، ولها عليه مائتان وخمسون. الصورة الثالثة - أن تقول: اختلعت نفسي بخمسمائة من المهر، ولم تصرح بالإشاعة ولا بما يختص بها، ولكنها أطلقت الاختلاع كذلك، فنقدم عليه تجديد العهد بما إذا قال الشريك في الدار بالنصف: بعت نصفي، فإن قال ذلك، صح، وإن قال: بعت النصف من هذه الدار. فمن أصحابنا من حمل ذلك على ملكه، ومنهم من حمله على الإشاعة، فمن حمل على النصف الذي له صحح، وإن حمل على الإشاعة؛ فإن النصف مما باعه له، والنصف لشريكه، فتتفرق الصفقة. نعود إلى مسألتنا، ونقول: إذا اختلعت المرأة بخمسمائة على الإطلاق؛ فقد اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خَرَّجَ هذا على بيع نصف الدار مطلقاً ممن يملك نصفها، ففي وجه نقول: اختلاعها بالخمسمائة محمول على اختلاعها بحقها الخالص، وهذا يلتفت على الحصر. وفي وجه نقول: اختلاعها واقع بحقها وحق الزوج. ثم تسترسل التفاريع على قوانينها. هذه طريقة. ومن أصحابنا من قطع بأن الخمسمائة محمولة على الإشاعة، والفرق بين هذه الصورة وبين بيع نصف الدار [أن] (2) من يبيع نصفَ الدار مالكٌ لنصفها دون غيره، يُحمَلُ تصرفُه على ما يملك. وإذا اختلعت بالخمسمائة في مسألتنا، فقد أنشأت الاختلاع والمهر غير متشطر، وإنما يقع التشطر مع اختلاعها، فهذا موجَب القطع بالحمل على الإشاعة. وقد يرد على ذلك أنها إذا خصصت بما يبقي لها، فهذا تعليق بما سيبقى إذاً، فهذا منتهى الكلام في هذا.

_ (1) ساقطة من الأصل. (2) زيادة اقتضاها السسياق.

8533 - ثم تعلق المزني بنص الشافعي في الحمل على الإشاعة في هذه المسألة التي نقلها، واستدل بنصه في مسألة هبة بعض الصداق، وقال: ينبغي أن تحمل هبة البعض [على] (1) الشيوع، كما نقله في مسألة الاختلاع ببعض المهر. فاختلف أصحابنا في الجواب؛ فقال بعضهم: جرى الشافعي فيما نقله على قول الشيوع، وهذا النوع متداول بينه وبين الأصحاب. وقال قائلون: نفرق بين مسألة الخلع وبين مسألة الهبة، ونقول في مسألة الخلع: اقترن سببُ استحقاق الزوج بتصرفها، فنفوذ التصرف واستحقافُ الزوج يلتقيان ويقربان، فكل ما وقع التصرف فيه يجعله عوضاً محسوباً من الحقين، حق الزوج، وحقها. وليس [كذلك] (2) مسألة الهبة؛ لأنها وهبت النصف في حالةٍ لم يكن للزوج فيها استحقاقٌ في عين الصداق، ولا سببٌ للاستحقاق، فكان تصرفها محمولاً على خالص حقها، وإذا حمل تصرفها على حقها الخالص، تعين صرف ما بقي إلى خالص حق الزوج، وقال هؤلاء: نظير مسألة الخلع أن يطلقها والصداق بعدُ في يدها بكماله، فلو تصرفت في النصف، فلا يكون تصرفها في خالص حقها، بل يجعل شائعاً في الحقين. فصل قال: " فأما في الصداق غيرِ المسمى، أو الفاسد، فالبراءة في ذلك باطلة؛ لأنها أبرأته مما لا تعلم ... إلى آخره " (3). 8534 - إذا نكح المرأة نكاحَ تفويض، فقد ذكرنا أن لها حقَّ طلب الفرض. فلو قالت: أسقطت حقي عن طلب الفرض، لم يسقط حقها. فلو أكبّت على الطلب، فبادر وطلقها، فقد كُفي الرجل أمر الطلب، وليس لها إلا المتعةُ قبل الدخول.

_ (1) في الأصل: في. (2) زيادة من المحقق. (3) ر. المختصر: 4/ 35.

8535 - وإذا طلق الرجل امرأته في نكاح مشتمل على التسمية قبل المسيس، وحكمنا بأن شطر المهر لا يرجع إلى الزوج إلا باختيار التملك، فلو قال: أبطلت حقي في التملك، بطل حقه، ولا حاجة في ذلك إلى قبول المرأة، وإن فرعنا على أن صحة الإبراء تقف على القبول. وسبب هذا أن ثبوت حق التملك يضاهي ثبوتَ حق الشفعة، ثم حق الشفيع يبطل بالإبطال من غير قبول؛ فإن من يشترط القبولَ في الإبراء يحمله على التمليك. وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه. هذا قول القاضي فيما نقله عنه من يوثق بنقله، ويظهر عندي ألا نحكم ببطلان حقه من التملك إذا فرعنا على الوجه الضعيف؛ وينزل إبطالُ حق التملك منزلةَ إبطال الواهب حقَّه في الرجوع في الهبة؛ فإنه لو قال: أبطلت حقي في الرجوع، لم يبطل حقه، ولغا ما جاء به. فإن قيل: هلا شبهتم ذلك بالغانم يُبطل حقه عن المغنم؟ فإنه يَبطُل حقُّه من أجل أنه لم يملك المغنم، بل ملك أن يتملك. قلنا: لا بأس بهذا السؤال، ولكن الواهب يملك نقضَ ملكٍ قام للمتهب، والغانم يُبطل حقَّ تملّكٍ وليس تملّكه نقضاً لملك تام. فهذا تشبيه من طريق الظاهر. والتشبيه بالرجوع في الهبة أعوص، وذلك أن ملكها تم بالإصداق، وقد تلقّته من قِبل الزوج، وإذا أراد الزوج استراداد النصف، فإنما يسترجع ملكاً تاماً، فكان تشبيهاً بالرجوع في الهبة. وهو بعيد عن حق الشفعة؛ من قِبَل أنه دَفْعُ ضرار، كالرد بالعيب، والشفيع داخل على ملك المشتري، فكان أصلُ حقه نازحاً عن القياس، ربطه الشرعُ بدفع الغرر، فإذا وقع الرضا به، لم يبعد سقوطه، ولهذا كان طلبُ الشفعة على الفور على الأصح، واختيار الزوج التملك ليس بهذه المثابة، والمسألة على حالٍ محتملة. وقد قدمنا في صدر الكتاب تشبيه تملك الزوج بالرجوع في الهبة، فكان ذلك جرياناً على أحد الوجهين في الاحتمال. 8536 - وإذا كان النكاح نكاحَ تفويض، فإن قلنا: لا تستحق المرأة بالعقد شيئاً، فلو أبرأت عن المهر، لم يصح ذلك منها؛ فإنه إبراء قبل الوجوب. وإذا فرعنا على

أنها تستحق المهرَ بالعقد، نُظِر، فإن كانت عالمة بمهر مثلها، صح إبراؤها، وإن كانت جاهلة بمبلغ مهر المثل، فلا يصح إبراؤها فيما جهلته، وهل يصح إبراؤها في المقدار المستيقن؟ فعلى قولين. وبيان ذلك أنها لو استيقنت أن مهرها لا ينقص عن ألف، وجوّزت أن يبلغ ألفين، فإذا أبرأت عن مهر مثلها لم يصح إبراؤها عما هي مترددة فيه. وهل يصح إبراؤها عن الألف المستيقن؟ فعلى ما ذكرناه. فإن قيل: إذا فرعتم على أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً، فهلا جعلتم إبراءها عن مهر المثل إذا علمته بمثابة الإبراء عما لم يجب، ووُجد سببُ وجوبه؟ [و] (1) في مثل هذا قولان؟ قلنا: ليس هذا بمثابة إبراء المرأة عن نفقة غدها؛ فإن النفقة وإن لم تكن واجبة في الحال، فالنكاحُ يفضي إلى وجوبها من غير سببٍ آخر، فاستمر القولان في مثل ذلك، ومهر المفوضة على قولنا: إنها لا تستحق شيئاً بالعقد لا يثبت إلا بسبب سيحدث، يتعلق إنشاؤه بالاختيار: كالفرض والمسيس. وقد ذكرت قولاً جامعاً في ضمان ما لم يجب في ترتيب القديم والجديد، والإبراءُ عما لم يجب بمثابة ضمان ما لم يجب. 8537 - ومما يجب التنبه له أن نص الشافعي في كتبه يشير إلى أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً، وفي هذا الفصل من نص الشافعي ما يدل على أنها تستحق بنفس العقد المهر؛ فإنه قال: " فأما في الصداق غير المسمى أو الفاسد فالبراءة في ذلك باطلة لأنها أبرأته مما لم تعلم ". فقوله: " الصداق غير المسمى " يشير إلى صورة التفويض. ثم أبطل الشافعي الإبراء، وعلل إبطاله بأنها أبرأت عما لم تعلم. ولو كان الصداق غير واجب بالعقد، لكان تعليل إبطال الإبراء [بعدم الوجوب] (2)؛ فإن ما لا يجب لا يعلل إبطال إسقاطه بكونه مجهولاً؛ إذ المجهول ثابت على الجهالة وهذا حسن.

_ (1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: يعد من الوجوب.

ولكن يتطرق [إليه] (1) حمل النص على تعرية النكاح عن ذكر المهر من غير إذن صريح من المرأة في التعرية. وقد ذكرنا أن هذا يقتضي ثبوتَ المهر، وليس من صور التفويض، وإنما يلتحق النكاح بالتفويض التام إذا صرَّحت المرأة بالرضا بإسقاط المهر. والمفوضة لو أبرأت عن المتعة قبل الطلاق، لم يصح إبراؤها؛ لأن ذلك إسقاط ما لم يجب بعدُ، ولا يخرج على القولين المشهورين في أنَّ ما لم يجب، ووُجد سبب وجوبه، هل يصح الإبراء عنه؟ فإن وجوب المتعة محال على الطلاق الذي سيقع؛ فليس النكاح سبباً خاصاً في إيجاب المتعة، وقد ذكرنا هذا في إبرائها عن المهر، إذا قلنا إنها لا تستحق المهر بأصل العقد. ...

_ (1) في الأصل: إلى.

باب الحكم في الدخول وإغلاق الباب وإرخاء الستر

باب الحكم في الدخول وإغلاق الباب وإرخاء الستر قال الشافعي: " وليس له الدخول بها حتى يعطيَها المال ... إلى آخره " (1). 8538 - للمرأة حبسُ نفسها عن زوجها، حتى يتوفر الصداقُ عليها كَملاً، وقد ذكرنا في البيع نصوصاً وأقوالاً في أن البداية [بالتسليم] (2) على من تجب من البائع والمشتري؟ فكان الحاصل أربعةَ أقوال: أحدها - إنه يجب على البائع البداية بتسليم المبيع أولاً. والثاني - إن البداية تجب على المشتري. والثالث - إنهما يُجبَران معاً. والرابع - إنهما لا يُجبران، ولكن من بدأ منهما بتسليم ما عليه، أُجبر صاحبه على التسليم حينئذ. والزوج في النكاح في مقام المشتري، والمرأة في مقام البائع، وتجري بينهما ثلاثة أقوال: أحدها - إنهما يجبران جميعاً إذا تنازعا البداية. والثاني - إنهما لا يجبران، ولكن من بدأ منهما أُجبر صاحبه على تسليم ما عليه، فإن بدأت المرأة بتسليم نفسها، وجب على الزوج بعد تسليمها أن يسوق إليها صداقَها. فإن بدأ الزوج بتسليم الصداق، وجب عليها أن تسلم نفسها، إذا لم يكن بها عذر، كما سنصف المعاذير من بعدُ. والقول الثالث - إنه يجب على الزوج البداية بتسليم الصداق، ولا يخرّج قولٌ: إنه يجب عليها البداية بتسليم النفس، وإن كنا ذكرنا قولاً في إيجاب البداية على البائع، فهي في مقام البائع ومحلِّه، والفارق أن المرأة إذا بدأت فسَلَّمت نفسها؛ كان في

_ (1) ر. المختصر: 4/ 36. (2) زيادة اقتضاها السياق.

تسليمها تفويتُ منفعة البضع على وجهٍ لا يُفرض الرجوع إليها، وليس كذلك البائع؛ فإنه إذا سلَّم، فلم يَفِ المشتري بتسليم الثمن، أمكن فرضُ رجوعه إلى المبيع؛ فإنه لا يفوت عنه بالتسليم. 8539 - ثم إذا لم نوجب على واحد منهما البداية، فَمِنْ حُكْمِ هذا القول أن المرأةَ لا تطالِبُ زوجها بالمهر، ولا يثبت لها حقُ المطالبةِ به ما لم تُسَلِّم نفسَها، فإنْ سلَّمت نفسَها، ووطئها الزوج، استقر المهر، وحقت الطَّلبة. وإن مكّنت، فامتنع الزوجُ، توجهت الطَّلبةُ بالمهر، وإنْ لم يتقرر المهرُ، فيكفيها تسليطُها على الطلب وإن لم يقرر المهر. ومن لطيف الكلام أنها لو مكنت، ثم امتنعت وأخذت تطلب، لم يكن لها الطلب؛ فإنها عادت إلى منع البداية، والذي جرى منها لم يكن بداية تامة. فبين التقريرِ واستقرارِ الطلب بالمسيس، وبين تفويت حق الطلب مرتبةٌ يفهمها الفطن. ثم هذه المرتبةُ شرطُها أن تستمر المرأةُ على التمكين منها ولا تُبدي إباءً. وإذا قلنا: إنهما يجبران، فتصوير ذلك: أن يؤخذ الصداقُ من الزوج ويوضعَ على يديْ عدل، ثم تُجبرُ هي على تسليم نفسِها، فإذا سلَّمت نفسها سُلِّمَ الصداقُ إليها. والذي نراه في ذلك أنها إذا سلمت، فلم يأتها الزوج؛ فعلى العدل تسليم الصداق إليها على القاعدة المقدمة. ولو قدّرنا تسليم الصداق إليها في هذا المنتهى، فَهَمَّ الزوجُ بوطئها، فامتنعت، فالوجه استرداد الصداق منها. وإذا قلنا: الزوج يجبر على البداية بتسليم الصداق، وتملك المرأةُ الابتداءَ بطلب الصداق، فذلك إذا كان يتأتى منها التمكين، فأما إذا كانت على حالةٍ لا يتأتى من الزوج قِربانها، فلا تملك مطالبةَ الزوج بالمهر؛ فإن تسليم الصداق يجب أن يكون واجباً حيث يتأتى [منها] (1) استيفاءُ ما يقابل الصداق. وإذا قلنا في البيع يبدأ المشتري بتسليم الثمن، فإنما يجب ذلك إذا كان البائع قادراً

_ (1) في الأصل: من.

على تسليم المبيع. فلو كان أبِق العبد بعد البيع، فالمشتري لا يطالَب بالثمن؛ فإن الثمن لا يجب وجوبَ قِيم المتلفات، وإنما يجب عوضاً، ووضع العوض يقتضي -وإن وقع البداية به- أن يقابل معوّضه. 8545 - ولو وفّر الزوج الصداق على المرأة، فالقول في ذلك ينقسم، فإن أوجبنا عليه البداية، فذلك حيث يتصور منها التمكين، فإذا امتنعت، استرد ما سَلَّم. وإن لم نوجب عليه البداية، فتبرع وبدأ، فامتنعت عن التمكين، لم يسترد الزوج، بل أُجْبرت على التمكين. وإن تبرع بتسليم الصداق وهي معذورة، ثم بدا له في الاسترداد، فهل له أن يسترد؟ ذكر القاضي وجهين: أحدهما - له الرجوع؛ لأنه سلَّمَ في وقت لا يلزمه التسليمُ فيه، والامتناع قائم، وهذا وجه ضعيف. والأصح: أنه لا ينتزع ما سلم إليها؛ لأنه تبرع بالتسليم، فالرجوع بعد التبرع لا وجه له. وإذا كان يذكر وجهين في المعذورة، فيتجه ذكرهما أيضاًً في التي لا علة بها، بل تلك أَوْلى؛ من جهة أن تسليم الزوج يحمل على توقع تمكينها، وإن كان متبرعاً. وإذا سلم وهي معذورة، فهذا أبعدُ من الانتزاع؛ فإن التسليم جرى مع توطين النفس على امتناع الوطء. ولو نظم ناظمٌ هذا على العكس، لاتجه. فيقول: إن كانت معذورة فسَلَّمَ مع العلم بعذرها؛ لم يرجع. وإن لم تكن معذورة وأراد الرجوع، فوجهان. وكل هذا خبط. والوجه: القطع بأنَّ المتبرع بالتسليم لا يرجع. فهذا تمام البيان في هذا الفن. 8541 - ثم إذا ساق الزوج الصداق، فعليها التسليم، فإذا استَمْهَلَت، أُمْهِلَت ريثما تستعد وتتهيأ، ثم ذكر الأصحاب أن منتهى المَهَل ثلاثة أيام؛ فإن الاستعداد ممكن في هذا القدر من الزمان. وهذا الذي ذكروه تقديرٌ، ولا سبيل إلى التقدير من غير توقيف. والذي يجب التثبت فيه: أن معظم ما يعتقده الناس استعداداً لا حاجة إليه، وإنما المعنيّ بالاستعداد في الشرع أن تهيىّء بدنَها بتنظف لا يكاد يخفى، وما عداه لا اكتراث

به، فعلى هذا يقرب الزمان، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص. 8542 - ثم ذكر الشافعي أن الصغيرة التي لا تطيق الجماع لا تسلّم إلى زوجها، وكذلك لو كانت مريضة مرضاً يضرُّ بها الوقاعُ ضرراً بيّناً، فالأمر على ما ذكرناه. وإن كان لا يضرّ بها الوقاع، وجب تسليمها إلى الزوج. ولو قال الزوج: سلموها إليَّ وإن كان بها مانع، وأنا أنكفّ عنها، لم تسلم إليه وإن كان موثوقاً به؛ فإنَّ نزقات النفس ونزغات الشيطان لا تؤمن، ولذلك حرم الله تعالى استخلاء الرجل بأجنبية، وإن كان أعدلَ البريّة وأتقاهم. وإن كانت حائضاً، وجب تسليمها، فإنه ينتفع بها على وجوه. ولا خلاف أن الزوج إذا حاول من زوجته الحائض الاجتماع معها في شعار، وطلب ضمّاً والتزاماً، فليس لها أن تمتنع، ولو جاز لها أن تمتنع، لوجب على الزوج أن يمتنع، وهذا على ظهوره ليس بالهين، ويعارضه القول في المريضة، فإن الزوج قد يستمتع بها من وجوه، وقد يهوى لقاءها ثم لا يؤتمن عليها. وعن عائشة أنها قالت: " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة فحضت، فانسللت، فقال: مالكِ، أَنُفستِ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: خذي ثياب حيضتكِ وعودي إلى مضجعك، ونال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا ما تحت الإزار " (1). وقد يدور في الخلد أن هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة تقبيله نساءه وهو صائم. قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه

_ (1) حديث عائشة بهذا اللفظ (ما عدا قوله: ونال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا ما تحت الإزار) رواه مالك في الموطأ، والبيهقي في السنن، وقد أنكر النووي هذه الزيادة، وقال: غير معروفة في كتب الحديث. ولكن هذا المعنى في الصحيحين، من حديث عائشة أنها قالت: " كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأتزر بإزارها ثم يباشرها " واللفظ لمسلم. (ر. الموطأ: 1/ 58، والسنن الكبرى: 1/ 311، والبخاري: كتاب الحيض- باب مباشرة الحائض، حديث رقم: 302، ومسلم: كتاب الحيض- باب مباشرة الحائض فوق الإزار- رقم: 293، وتلخيص الحبير: 1/ 294 حديث رقم: 231).

وسلم يُقَبِّل إحدانا وهو صائم، وكان أملككم لأرْبِه " (1). بأبي هو وأمي، ولكن لا ينبغي أن يتمارى الفقيه في جواز استخلاء الزوج بزوجته وهي حائض. فإن قيل: ما الفرق بين الحائض والمريضة؟ قلنا: المرعيُّ في حق المريضة خيفةُ الإضرار بها؛ فلها أن تمتنع، ولولي الصغيرة أن يمنعها، وتحريم وقاع الحائض يتعلق بحق الله تعالى، والوازع من الهجوم على المحرمات الوعيد، فإذا كان [الحِلّ] (2) قائماً بالنكاح، وكان الوطء محرماً، وقع الاكتفاء بإيضاح التحريم. ولو رضيت المريضة بأن يخلو بها زوجها، لم يحرم عليه أن يستمتع بها استمتاعاً لا يضر. ولو عرفت المرأة أن الزوج يغشاها في الحيض، ولا يراقب الله تعالى فيها لو استخلى بها، فهل لها أن تمتنع؟ هذا فيه تردد، وليس يبعد تجويز ذلك لها، أو إيجاب ذلك عليها، والعلم عند الله تعالى. 8543 - ثم إذا ثبت أن للمرأة أن تمتنع عن الوطء حتى يتوفر عليها صداقها، فلو مكَّنت، فأتاها الزوج، ثم أرادت بعد جريان الوطء أن تمتنع حتى يتوفر عليها الصداق، لم يكن لها ذلك؛ فإنَّ الوطأة الواحدة بمثابة وَطْآت العمر في تقرير الصداق، فليس لها بعدها امتناع، خلافاً لأبي حنيفة (3)؛ فإنه جوَّز لها الامتناع بعد الوطأة الأولى. ولو وطىء الزوج قهراً من غير مطاوعة، فمهرها يتقرر، فلو أرادت الامتناع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لها ذلك؛ فإنها لم تطاوع، والامتناع ممكن. والثاني - ليس لها ذلك؛ لأن مهرها قد تقرر، وانتهى إلى حالة لا يتعرض بعدها

_ (1) حديث عائشة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه وهو صائم ... " متفق عليه (ر. البخاري: كتاب الصيام- باب القبلة للصائم حديث رقم: 1929، ومسلم: كتاب الصيام- باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة- حديث رقم: 1108). فائدة: يجوز في ضبط همزة (أَرَبه) الفتح والكسر فقد جاءت الرواية بهما (ر. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير). (2) في الأصل: الحد. (3) ر. مختصر الطحاوي: 188، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 285 مسألة رقم: 769.

[للسقوط] (1)، فصار كما لو طاوعت، واسترجاع ما جرى غير ممكن، وليس كما لو اغتصب المشتري المبيع -على قولنا: للبائع حق الحبس- فإن المبيع [إن] (2) أمكن استردادُه، [استرد] (3) ورُدّ إلى يد البائع حتى يتوفر الثمن عليه. 8544 - ثم ذكر الشافعي بعد ذلك فصلين من كتابين: أحدهما - النفقة، فإذا قالت المرأة لزوجها: مهما (4) سقت إليَّ صداقي مكَّنتُكَ، ثبتت نفقتها. ولو سكتت ولم تتعرض لذلك، ففي ثبوت النفقة قولان. ثم تعرض لاختلاف القول في نفقة الصغيرة، وكل ذلك يأتي على الاستقصاء في كتاب النفقات إن شاء الله عز وجل. 8545 - والفصل الثاني في الإفضاء (5)، فإذا أتى الزوج زوجته فأفضاها، فالقول في تصوير الإفضاء وفي موجبه يأتي في كتاب الديات -إن شاء الله عز وجل- وحظّ هذا الباب منه أن الزوج لا يُمَكَّن من غشيانها بعد ذلك ما لم يندمل مارِنُها (6)، فإن زعمت أنها لم تستبلّ (7) بعدُ، فلا رجوع إلا إليها وإن طال الزمان، فلا وجه إلا تصديقها مع يمينها، إلا أن يفرض إمكان الاطلاع. فإن كان كذلك، فللزوج أن يأمر أربعاً من النسوة الثقات حتى يطّلعن ويخبرن بحقيقة الحال، فإذا أخبرن بأنها قد بَرَأَت، مُكِّن الزوج من وطئها.

_ (1) في الأصل: المسقوط. (2) زيادة لاستقامة العبارة. (3) في الأصل: فاستردّ. (4) " مهما ": بمعنى (إذا). (5) الإفضاء: المراد به هنا، هو أن يجامع الرجل امرأته، فيهتك الحاجز بين المسلكين فيجعلهما واحداً، وقيل: جعل سبيل الحيض والغائط واحداً (المصباح، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي). (6) المارن: المراد به هنا الغضروف الحاجز بين المسلكين، وأصله: ما لان من الأنف. (المعجم). (7) تستبل: أي تشفى وتتعافى.

فصل قال: " وإن دخلت عليه، فلم يمسها حتى طلقها ... إلى آخره " (1). 8546 - المقصود [بالكلام] (2) خَلوة الرجل بامرأته، وأنها هل تقرر الصداق من غير مسيس؟ وهل توجب العدة؟ فالمنصوص عليه للشافعي في الجديد: أن الخَلوة لا تقرر ولا توجب العدة، ولا يتعلق بها حكم. وقال في القديم: الخَلوة [تقرر المهر، وتوجب العدّة] (3)، ثم اختلف الأئمة في تنزيل القول القديم، فقال قائلون: الخلوة في القديم تنزل منزلة الوطء في تقرير المهر وإيجاب العدة، وتوجيه القولين مذكور في طيول المسائل. وكنت أود أن يختص جريان القولين بتقرير المهر؛ من قِبل أنَّ تمكُّن المستحق من حقه في المعاوضات إن كان [ينزل] (4) منزلة استيفاء ذلك الإنسان حقَّه، فلا وجه مع هذا لإحلال الخَلْوة محل الوطء في إيجاب العدة المتعلقة بما يشغل الرَّحِم، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، بل من أجرى القولين أجراهما في التقرير وإيجاب العدة جميعاً. ولما قال أبو حنيفة (5): الخَلوة تقرر المهر، قضى بأنها توجب العدة، غيرَ أنه قال: إذا فرض طلاق بعد الخَلوة، واستقبلت المرأة العدة، فليس للزوج حقُّ الرجعة، وقطع أئمتنا بثبوت الرجعة تفريعاً على القديم؛ فإن الرجعة عندنا لا تنقطع إلا [باستيفاء] (6) العدة، أو استيفاء العدد، أو وقوع الفراق على عوض.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 37. (2) في الأصل: الكلام. (3) في الأصل: " في القديم: الخلوة ثم توتر ثم اختلف الأئمة ... " كذا بهذا الرسم، وهذا النقط (انظر صورتها) والمثبت من مختصر العز بن عبد السلام. (4) في الأصل: نزل. (5) ر. مختصر الطحاوي: 203، مختصر اختلاف الفقهاء: 2/ 348، والمبسوط: 5/ 148. (6) في الأصل: بانتفاء.

ثم قال أبو حنيفة: الخَلوة إنما تقرر المهر إذا لم يكن في المرأة مانع من الوطء شرعاً، كالحيض، والنفاس، والإحرام، وصوم الفرض. واختلفت الرواية في صوم التطوع. ثم قالوا: الخَلوة بالرتقاء والقرناء تقرر المهر وإن كان الوطء ممتنعاً طبعاً بحيث لا يتصور وقوعه. فهذا بيان اضطراب مذهبه. 8547 - وقد ذهب المحققون من أئمتنا إلى أن الخَلوة بالرتقاء لا تقرر المهر؛ فإنه لا معنى لها؛ فإن الخَلوة إن نزلت منزلة الوطء؛ من حيث إنها تشتمل على التمكين من الوطء، فهذا غير ممكن في الخَلوة بالرتقاء، ولا أثر للخَلوة بها، والكَوْنُ معها في الملأ كالكون معها في الاستخلاء، فأما الخَلوة بالحائض والنفساء؛ فمال القفال إلى مساعدة أصحاب أبي حنيفة في أن الخَلوة لا تقرر مع هذه الموانع الشرعية وإن كان الوطء ممكناً، هذه طريقة الأئمة في الخَلوة. ومن أصحابنا من قطع بأن الخلوةَ لا تقرر المهر، ولا توجب العدة، وزعم أن الشافعي تردد قوله في القديم في أن الخَلوة إذا جرت، وادعت المرأة الوطء فيها، وأنكر الزوج؛ فمن المصدَّق؟ فعلى قولين: أحدهما - أن المصدَّق الزوج؛ فإن الأصل عدم الوطء. والثاني - القول قول المرأة مع يمينها، فإن الظاهر جريان الوطء في الخَلوة، فإن أنكر منكر هذا، قلنا له: الخَلوة في ادعاء الوطء كاليد في ادعاء الملك. والعلم عند الله تعالى. ***

باب المتعة

باب المتعة قال الشافعي: " جعل الله عز وجل المتعةَ للمطلقات ... إلى آخره " (1). 8548 - المتعةُ اسم لمقدارٍ من المال يسلمه الزوج إلى زوجته إذا طلقها، وقد يسمَّى المتاع. وأمتع الحسنُ زوجةً طلقها اثني عشر ألف درهم، فقالت: " متاع قليل من حبيب مفارق " (2). والأصل في الباب قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] وشهدت الأخبار وأجمعت الأمة على المتعة. والكلام في ثلاثة فصول: [الفصل الأول] 8549 - في تفصيل المطلقات، وهن ثلاثة أقسام: مطلقة لم يفرض لها ولم يتّفق الدخول بها، فهي تستحق المتعة، ونصُّ القرآن شاهد فيه، قال تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] والإجماع منعقد على استحقاقها للمتعة في هذه الحالة. والمطلقة الأخرى: هي التي فرض لها الصداق، وطلقت قبل المسيس، فلها نصف المفروض أو نصف المسمى في أصل العقد، ولا متعة لها في ظاهر المذهب. وتقسيم القرآن أصدق شاهد فيه، فإنه تعالى لما ذكر المتعة في حق التي لم تُمس، ولم

_ (1) ر. المختصر: 4/ 38. (2) خبر إمتاع الحسن بن علي رضي الله عنهما في متعة إحدى نسائه، رواه البيهقي: 7/ 257، والدارقطني: 4/ 30، 31 وضعفه صاحب التعليق المغني، وابن أبي شيبة: 5/ 156، ومقدار المتعة عند البيهقي عشرون ألفاً، وعند الدارقطني وابن أبي شيبة عشرة آلاف، ولم يَرْو واحدٌ منهم أنها كانت اثني عشر ألفاًً، كما قال الإمام.

يفرض لها، قال في الآيات التي تلي هذه {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، فدل فحوى الخطاب على أنَّ المتعة ونصف المفروض يتعاقبان على التبادل. والمطلقة الثالثة: هي التي استقر لها مهر بالمسيس، ثم طلقها زوجها، ففي وجوب المتعة لها قولان: أحدهما - إنها لا تستحق المتعة، وهو المنصوص عليه في القديم، وبه قال أبو حنيفة. ووجهه أنه قد سلم لها المهر، ولا متعة مع المهر. ونصف المسمى في مقابلة العقد، كتمام المسمى، أو كتمام مهر المثل بعد المسيس، فإذا كانت المتعة تَسقُط بسبب وجوب نصف المسمى أو المفروض قبل المسيس، فلأن تسقط إذا وجب جميع المهر على الاستقرار أولى. والقول الثاني - وهو المنصوص عليه في الجديد: إنها تستحق المتعة؛ لأن ما سلّم لها من المهر في مقابلة منفعة البضع، لا في مقابلة العقد والطلاق. وإذا جمعنا المطلقات وأردنا نظم الأقوال فيهن، انتظمت ثلاثة أقوال: أحدها- إنه لا متعة إلا للتي طُلِّقت قبل المسيس ولم يفرض لها، وهي المفوّضة. والقول الثاني - إن لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم تُمس، فاستحقت نصف المهر عند الطلاق. والقول الثالث - إن لكل مطلقة متعة من غير استثناء، وهذا القائل يلتزم إثبات المتعة للمطلقة قبل المسيس، وإن فرض لها واستحقت نصف المفروض، وهذا بعيد مخالف لظاهر التقسيم في المتعة والفرض. الفصل الثاني 8550 - يشتمل على الكلام فيما يوجب المتعة، وما لا يوجبها من أقسام الفُرَق، فنقول: أما الفُرقة الحاصلة بالموت؛ فإنها لا توجب المتعة وفاقاً، والميراث كافٍ، وكأنَّ المتعة أُثبتت لمستوحشةٍ بالطلاق، والتي مات عنها زوجها متفجعةٌ غيرُ مستوحشةٍ.

فأما ما يجري من الفراق في الحياة؛ فقد قال الأئمة: كل فُرقة تصدر عن جهتها، إمَّا بأن تُنشئَها، أو يصدرَ منها سببٌ يتعلق به ارتفاعُ النكاح، فلا تناط به المتعة. وما يصدر من الزوج لمعنًى فيها، كالفسخ بالعيوب، فإنه لا يتعلق به المتعة. وأما ما ينفرد به الزوج لا لمعنى فيها، فيتعلق به استحقاق المتعة، ومن جملة ذلك الطلاق، ومنها ارتداد الزوج وإسلامه. وقد نص الشافعي على أن الإسلام من الزوج يوجب المتعةَ، ذَكَرهُ في آخر كتاب المشركات. والخلعُ، وإن كان يتعلق بها، فالأصل فيه الزوج. وإذا فوض الطلاقَ إليها، فهو كما لو طلقها بنفسه؛ فإن عبارتَها مستعارة، وكأنَّ الزوج هو المعبِّر، فالفراق المنوط باللعان يثبت المتعة، فإنه مما ينفرد الزوج به، ولا يتوقف حصول الفراق على لعانها. وإذا وقع الفراق بفعل من غير الزوجين، مثل أن ترضع امرأتُه [الزّوجةَ] (1) الرضيعة إرضاعاً مفسداً، فهذا يوجب المتعة. 8551 - والضبط الجامعُ أن كل ما لو جرى قبل المسيس، لم يسقط به المهر المسمى، بل تَشَطَّر، فهو من موجبات المتعة، وكل ما يتضمن سقوطَ جميع المسمى لو جرى قبل المسيس، فلا تتعلق المتعة به. ثم إذا تعلقت المتعة بفُرقةٍ من الفُرق، فتجري فيها الأقسام الثلاثة المذكورة في الطلاق لا محالة، وعلينا في هذا القسم أن نُلحق [كل] (2) فرقة من الفُرق بالطلاق، ثم فيها الأقسام الثلاثة والأقوال الثلاثة. وما قطعناه عن مضاهاة [الفُرق] (3)، فإنا نحكم فيه بأنه لا تتعلق المتعة به، كيف فُرض، وصُوِّر، [وعلى] (4) أيةِ حاله قُدِّر. ولا استثناء في شيء مما ذكرناه إلا في مسألة واحدة وهي: إذا اشترى الزوج زوجته، فالمذهب أن هذه الفُرقة تُشطِّر الصداق، ولا تتعلق بها المتعة؛ فإنَّ المتعة

_ (1) في الأصل: المزوّجة. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: الفراق. (4) في الأصل: وأعلى.

لو وجبت، لوجبت مع الفراق لمنْ يحصل الفراق في ملكه. فإذا اشترى زوجته، فقد ملك رقبتها، فلو وجبت المتعة لوجبت له، ويستحيل أن يجب له على نفسه شيء. 8552 - ونقول على الاتصال بهذا، المتعة تجب بالفراق، ولا يتقدم وجوبها عليه، فلو زوّج السيدُ أَمَةً مفوِّضة، ثم باعها، فطُلقت في ملك المشتري، فالمتعة للمشتري؛ لأنَّ الطلاق هو الموجب للمتعة، وقد جرى في ملك المشتري، [فهذا] (1) قاعدة المذهب في الفُرق التي تقتضي المتعة والتي لا تقتضيها. 8553 - وقد نقل المزني أنها إذا فسخت النكاح بعيب العُنَّة [لها المتعة] (2)، وقد أجمع الأصحابُ على تغليطه، وصادفوا هذه المسألةَ منصوصةً للشافعي على العكس مما نقل. وغلط بعضُ المصنفين، فقال: لا متعة في الخلع لتعلق الفراق بها، وهذا خطأ، بدليل أن الخلع يشطّر الصداق، [ونَقَل عن الأصحاب] (3) تردّدَهم فيه إذا ارتد الزوجان معاً، وتردَّدَهم فيما إذا اشترت الزوجة زوجَها المملوك. نعم، إن جعلنا الخلع فسخاً، فمن أصحابنا من تمارى في التشطير، فيليق بهذا القول ترديدُ الوجه في المتعة. وغَلِطَ طوائفُ من الأصحاب في شراء الزوج زوجته، فحكَوْا أن المتعة تجب للبائع على المشتري، وقد رمز إليه الصيدلاني، وهذا عندي ليس من غلط الفقه، بل هو خللٌ في الفكر؛ فإن من صار إلى هذا بين أمرين كلاهما محال، إن قال: تجب المتعة قبل الفراق، كان رادّاً للإجماع. وإن قال: تجب مع الفراق، والفراق يحصل مع الملك، ثم المتعة تجب للبائع، فهذا مستحيل وإن وجبت متعة، على نفسه [لنفسه] (4) كان هذا كلاماً متناقضاً. فهذه غلطات نبهنا عليها بعد طرد المذهب على السداد.

_ (1) في الأصل: في هذا. (2) ساقط من الأصل. والمثبت من المختصر، ونص عبارته: " وأما امرأة العنين، فإن شاءت أقامت معه، ولها عندي متعة " والله أعلم. (ر. المختصر: 4/ 39). (3) زيادة من المحقق لاستقامة العبارة. (4) في الأصل: فإن وجبت على نفسه، كان هذا.

الفصل الثالث في قدر المتعة 8554 - ولا [قدر] (1) عندنا لأقلها، ولا لأكثرها، وهي موكولة إلى اجتهاد الحاكم، ثم هي تختلف باختلاف الأحوال على ما سنصفه، ونذكر ما بلغنا من قول الأصحاب نقلاً، ثم نرجع، فنبحث. ذكر العراقيون وجهين في تقدير المتعة: أحدهما - أن أقل المتعة ما يتمول، فلو أمتعها الزوج بأقل ما يتمول، فقد خرج عما عليه. وهذا القائل يقول: ما صح أن يكون صداقاً، صح أن يكون متعة في كل صورة. والوجه الثاني -وهو الصحيح- أن تقديرها إلى الحاكم واجتهاده، وليس كالصداق؛ فإنَّ الصداق على التراضي، فكان كالأثمان، والمتعة أمر معتبر يفرض ثبوته في وقت التنازع، فيجب أن يكون له أصل يفرضُ الرجوع إليه، ونصُّ القرآن شاهد فيه، فإنه عز من قائل قال: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. ثم فرعوا على الوجهين، فقالوا: إن اكتفينا بأقلِّ ما يتموّل، فلا كلام، وإن أحلناه على اجتهاد الحاكم، فالحاكم يَعتبر ماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يعتبر حالَ الزوج لا غيرَ في اليسار والإعسار، ولا ينظر إلى حالها، فيقول: زوجٌ في حالِ زيدٍ ويسارِه، كم يكون أقل متعة منه في العادة؟ فيبني الأمرَ على هذا، قالوا: وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي. والوجه الثاني - أنه يعتبر حالها، فيقول: امرأة في مثل حال هذه بكم تُمَتَّع في العادة في أقل ما يُفرض؟ ولا يعتبر حال الرجل، وهذا الوجه مخالف لظاهر القرآن، فإنَّه تعالى قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال الإمام والدي: يعتبر في ذلك حالهما جميعاً، فيقال: مثل هذا الرجل ما أقلُّ ما يمتِّع به مثلَ هذه المرأة؟

_ (1) في الأصل: تقدر.

8556 - هذا تردُّدُ الأصحاب، وليس فيما ذكروه تحويمٌ على المقصود، فضلاً عن الإخلال، وذلك أنه ما لم يبِنْ موقعُ المتعة ومنزلتُها لا يمكن أن يعتبرَ فيها ما ذكره الأئمة؛ فإنَّ الإنسان يختلف ما يبذله إذا اختلف جهاتُ المبذول، فما لم يَبِنْ محلُّ المتعة، أعِوضٌ هي أم مِنْحة؟ لا يظهر. وقد اتفق المحققون على أن المتعة لا يبلِّغها القاضي نصفَ المهر، وسبب هذا بينٌ؛ فإنها تجب حيث لا يجب نصف المهر، وكأنا نقنع بما يقلّ عن شَطر المهر إذا لم يحتمل الحالُ شَطْر المهر، فليتخذ الناظر هذا أصلَه. قال القفال: لا تبلغ المتعةُ نصفَ المهر، كما لا يبلغ التعزيرُ الحدَّ، والرضخُ السهمَ، والحكومةُ الدِّيةَ. وقال الشافعي في القديم: أستحب المتعةَ قدر ثلاثين درهماً، وإنما استحب ذلك لأثر ورد عن ابن عمر (1). وقال الشافعي في بعض كتبه: ينبغي أن يفرض القاضي فيها مِقْنعةً أو ثوباً أو خاتماً. وقال القاضي: أي شيء فرضه بعد ما كان متمولاً جاز. 8556 - هذا ما بلغنا من كلام الأئمة. والذي يلوح لنا فيه بعد بناء الأمر على حطّ المتعة عن نصف المهر أن المتعة كاسمها إمتاعٌ وإتحافٌ يسدّ ممّا تداخلها من الفراق مسداً، وليس في الإمتاع عادةٌ مطردةٌ في الناس، حتى نرجعَ إليها من غير قاضٍ رجوعَنا إلى العادات، في القبوض والأَحراز، وأمور في المعاملات، فهذا يتعلق بنظر القاضي، حتى يَفْرِض قدراً يراه لائقاً، ثم يختلف هذا بالإعسار واليسار، ثم لا ضبط للتقدير، [في التعزير] (2)؛ فإن التقدير يختلف باختلاف أحوال الناس في عرامتهم (3) وشراستهم، فرب صاحبِ عَبْرة (4) يكفيه

_ (1) حديث ابن عمر، رواه البيهقي موقوفاً. (ر. السنن الكبرى: 7/ 244، والتلخيص: 3/ 392 ح 1685). هذا وفي نسخة الأصل " حديث عمر". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) عرامتهم: أي عنفهم وشدّتهم، وشراستهم. (4) عَبْرة: أي: دمعة. والمعنى رقيق القلب سريع الفيئة.

[تبكيتٌ] (1)، ورب [عَرمٍ] (2) خبيث، لا يردعه إلا الكثير من [التعزير] (3)، ثم الحد مردٌّ لاعتبار التعزيزات؛ فإنها توقيفات الشرع. فإن قال قائل: إذا كان المقصود من التعزير [التأديب] (4) والردع، فمن وصفتموه لا يرتدع؟ قلنا: إن لم يرتدع، فسيعود، وإن عاد، عُدنا، والإمام أقدر على معاقبته، ويدُه على الرقاب، وهو تحت ضبط الإمام. وما ذكره العراقيون من أن الزوج لو أمتعها بأقلِّ ما يتمول، جاز، خارجٌ عن القانون. وما ذكره القاضي من ذكر أقل ما يتمول مضافاً إلى اجتهاد الحاكم، محمول عندي على ما إذا كان [حال] (5) الزوج تقتضي هذا، فلا نظن به على علو قدره أن يجوّز إثباتَ أقلِّ ما يتمول من غير رجوع إلى مستند، ثم يربط ذلك باجتهاد الحاكم. هذا ما عندنا في ذلك، وقد مهدنا المطالب، والرأي فوضى (6). 8557 - ومما أجريناه في الكلام، نصفُ المهر، وهو المعتمدُ الفقيه، فإن لم يكن في النكاح مسمى، فالمعتبر نصف مهر المثل، وإن كان في النكاح مسمى، وفرّعنا على أن المدخول بها تستحق المتعة؛ فننظر في المتعة ونصفِ مهر المثل، أو ننظر في المتعة وهو نصف المسمى، هذا محتملٌ: يجوز أن يكون الرجوع إلى نصف مهر المثل؛ فإن المسمى متعلقه التراضي، والأصل الذي لا تعلق له بالتراضي هو مهر المثل، ويكون رضاها بأقلَّ من مهر المثل عن مسامحة، هذا هو الأشبه، والعلم عند الله تعالى. ...

_ (1) في الأصل: تنكيت. (2) في الأصل: " عُرة " وهو تصحيف. (3) في الأصل: الغزير. (4) زيادة لاستقامة الكلام. (5) في الأصل: " اختار" (هكذا بهذا الرسم والنقط) ولم أدر لها وجهاً. والمثبت تصرف منا. (6) فوضى: أي مشترك، من قولهم: مالهم ومتاعهم فوضى بينهم: إذا كانوا شركاء فيه، يتصرف كل واحد منهم في جميعه بلا نكير. (المعجم).

باب الوليمة والنثر

باب الوليمة والنثر قال الشافعي: " والوليمة التي تعرف وليمة العُرس ... إلى آخره " (1). 8558 - أبان أن الوليمة تنطلق على كل مأدبة في إملاكٍ، أو نفاسٍ أو خِتان، أو حادثِ سرور، ولكنها شُهرت بما يتخذ في العرس، وقد روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك الوليمة في حضر ولا سفر " (2). وروي " أنه أولم على صفية بسويق وتمر في السفر " (3) ودخل عليه عبدُ الرحمن بنُ عوف وعلى ثوبه أثر الصفرة فقال: " مَهْيَم ". وهذه كلمة تستعمل في [الاستفهام] (4) رآها البصريون من الأصوات كصه، ومه، وحيهلا، [وهيهات] (5)، وقال الكوفيون معناه: ما هذا؛

_ (1) ر. المختصر: 4/ 39. (2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك الوليمة في حضر ولا سفر" لم نصل إلى حديث بهذا اللفظ، ولكنه مأخوذ من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته حيث أولم في السفر على صفية كما ذكر الإمام، ووفيناه بذكر روايته في التعليق الآتي بعد هذا مباشرة. (3) حديث " أنه أولم على صفية بسويق وتمر " رواه أحمد: 3/ 110، وأبو داود: كتاب الأطعمة، باب في استحباب الوليمة عند النكاح، ح 3744، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في الوليمة، ح 1095، والنسائي الكبرى: كتاب الوليمة، باب الوليمة في السفر، ح 6601، وابن ماجة: كتاب النكاح، باب الوليمة، ح 1909، وابن حبان: 6/ 146، ح 4052. وكلهم من حديث أنس، وفي الصحيحين عن أنسٍ أيضاً " أنه صلى الله عليه وسلم جعل وليمة صفية ما حصل من السمن والتمر، والأقط. (ر. البخاري: كتاب النكاح، باب البناء في السفر، ح 5159، ومسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته، ثم يتزوجها، ح 1365، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 394، ح1687). (4) مكان بياضٍ بالأصل. و" مَهْيَمْ " بميم مفتوحة، فهاءٌ ساكنةٌ بعدها، فمثناة تحتية مفتوحة، بعدها ميم. ومعناها: ما حالك؟ وما شأنك؟ وما وراءك، فهي للاستفهام. (المعجم). (5) في الأصل: وسهات.

فإنه يستعمل في السؤال فقال عبد الرحمن: تزوجتُ امرأة [من الأنصار] (1)، وكانوا يتضمخون بالزعفران في العُرسِ، قال صلى الله عليه وسلم: " أولِمْ ولو بشاة " (2). ثم كما يأمر بالوليمة يأمر بإجابة الداعي على تفاصيلَ سنذكرها. 8559 - والشافعي جعل وليمة العرس أَوْلى الدعوات، وغيرَها أخفَّ منها. ثم قال: " ومن تركها لم يَبِنْ لي أنه عاصٍ، كما تبين لي في وليمة العرس " (3)، فكان هذا ترديد جواب منه في وليمة العرس، فمن أصحابنا من جعل في وليمة العرس وأنها هل تجب؟ قولين، وتمسك بظواهر الأوامر، ولم يردد الجواب في [وجوب] (4) غيرها. وذهب المحققون إلى أن الوليمة لا تجب قولاً واحداً، وإنما التردد في وجوب إجابة الداعي؛ فإن لفظ التعصية نُقل في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: " من لم يجب الداعي فقد عصى أبا القاسم " (5). ومن لم يوجب الإجابةَ حمل لفظ العصيان على المخالفة وتركِ التأسّي، وهذا غير بعيد على مذهب الاتساع في الكلام. وقد يقول القائل: أشرت على فلان برأيى، فعصاني. وقال صلى الله عليه وسلم: " لو أُهدي إليَّ ذراع، لقبلت، ولو دُعيت إلى كُراع، لأجبت " (6). والمراد كُراع شاة. وقال بعض المتكلفين أراد بالكراع: كراع

_ (1) زيادة لإتمام المعنى، أخذناها من نص الحديث. (2) حديث " أولم ولو بشاة " متفق عليه. (ر. البخاري: كتاب النكاح، باب الوليمة ولو بشاة، ح 5167، ومسلم: كتاب النكاح، باب الصداق، ح 146). (3) ر. المختصر: 4/ 39. (4) في الأصل: وجوبها. (5) متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة، بلفظ: "من دعي، فلم يجب، فقد عصى الله ورسوله ". (ر. البخاري: كتاب النكاح، باب من ترك الدعوة، فقد عصى الله ورسوله، ح 5177، ومسلم: كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، ح 1432) وله ألفاظ عندهما، ولأبي داود من حديث ابن عمر: " من دعي إلى الوليمة، فليأتها " (ر. تلخيص الحبير: 3/ 394، 395 ح1689). (6) حديث: " لو أهدي إلي ذراع ... " رواه البخاري: كتاب الهبة، باب القليل من الهبة، ح 2568، وهو عنده بلفظ: " لو دعيت إلى ذراع أو كراع، لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو=

[الغميم] (1)، وهي قرية من المدينة على فراسخ، فيكون المعنى لو دُعيت إلى مسافة بعيدة، لأجبت، وهذا غير مستقيم والكُراع مقرون بالذراع. ثم من حمل التردد في الوجوب على إجابة الداعي، لم يَفْصِل بين دعوة ودعوة ومن ردد الجواب في وجوب اتخاذ الدعوة خصص تردده بوليمة العرس. ووصف أبو سعيد الخدري أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر فيما وصف: " كان صلى الله عليه وسلم يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويعلف الناضح، ويحلب الشاة، ويركب الأتان، ويطحن مع الخادم، وكان لا يحمله الحياء على ألا يحمل البضاعة من السوق إلى أهله، وكان يسلم مبتدئاً، ويصافح الغني والفقير، ويجيب إذا دُعي ولو إلى حَشَف التمر، وكان هين المؤونة، جميل المعاشرة، بسَّاماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوسة، جواداً من غير سرف، رحيماً رقيق القلب ما تجشَّأ عن شِبع قط، ولا مدَّ يده إلى طمع " (2). بأبي هو وأمي. 8560 - وعلينا بعد ذلك أن نفصِّل الدعوةَ والإجابةَ، فنقول: إذا بعث واحداً وقال له: ادعُ من لقيتَه، فدعا واحداً، فلا عليه لو تخلف، فإنه غيرُ معيّنٍ بالدعوة، وإذا لم يتجرد قصدٌ إلى مدعو، فيجب أن لا يثقلَ التخلفُ على الداعي، ولو دُعي وعلم المدعوُّ أن في دار الداعي أقواماً لا يلائمون المدعوَّ -والتفريع على وجوب إجابة الداعي- فهذا فيه ترددٌ للأصحاب، وهو أن يدعوَ رجلاً شريفاً مع طائفة من السُّفل والأراذل. وإن كان المدعوُّ صائماً، لم يتخلف أيضاًً، بل يجيب ويحضر. ثم إن كان صومه

_ = كراع، لقبلت " وطرفه في 5178 وهو بلفظ: " لو دعيت إلى كراع، لأجبت، ولو أهدي إلي كراع، لقبلت " وأحمد في مسنده: 2/ 424. (1) غير واضحة ولا مقروءة بالأصل، والمثبت من (معجم البلدان) لياقوت. (2) لم نصل إلى حديث لأبي سعيد بهذه الألفاظ، بل لم نصل إلى حديث في الشمائل على هذا السياق الذي يجمع كل هذه المعاني، وإنما في الشمائل أحاديث أخر ربما بمجموعها تجمع هذه المعاني. (رجعنا إلى الشمائل للترمذي، وشرحها جمع الوسائل، وكذا رجعنا إلى دلائل النبوة، وزاد المعاد، والخصائص الكبرى).

فرضاً بَرَّكَ ودعا، وأبدى عُذرَهُ، وإن كان صومه تطوعاً، وعلم أنه لا يعز على المضيف تركُ الأكل، لم يفطر، وإن علم أنه يشق عليه تركُ الأكل، فالأولى أن يفطر ويصومَ يوماَّ مَكانه. وإن علم المدعو في الأصل أنه لا يعز على الداعي امتناعُه -والتفريع على وجوب إجابة الداعي- فهذا فيه احتمال. وقد روي: أن ابن عمر دُعي إلى دعوة مع جماعة، فمد يده إلى الطعام، ثم قال: " خذوا بسم الله، وأمسك، وقال: إني صائم " (1). وإن كان في مكان الدعوة منكراتٌ كالمعازف، نُظر، فإن علم أنه لو حضر لنُحِّيت ورُفعت تعظيماً له، فينبغي أن يحضر، ويكونُ حضورُه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن لم ينزجروا، ولم يكن له بمنعهم يدان، لم يُقِمْ وخرجَ، ولا يُقيم فيما بينهم ما بقي له اختيار. 8561 - وإن كان في البيت صور، فإنا نتكلم فيها أولاً، ونقول: الصور الشاخصة والمستوية على السقوف والجدرات والأُزر (2) المرتفعة والسجوف (3) المعلقة ممنوعة، ويحرم الأمر بها وتعاطيها، وقد روي: " أنه دخل رجل على ابن عباس فاستخبره ابنُ عباس عن حرفته، فقال إني أنقش هذه الصور، فقال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُحشر المصورون يوم القيامة، ويقال لهم انفخوا الروح فيما خلقتم، فما هم بنافخين، ولا يخفف عنهم العذاب. فقال الرجل: ما لي حرفة سواها، قال: فإن كنتَ فاعلاً، فعليك بصور الأشجار " (4). وعن عائشةَ أنها قالت: " كانت لنا سَهوةٌ علقتُ فيها سُترة وعليها صورة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، [وكان] (5) يدنو

_ (1) حديث ابن عمر، رواه الشافعي في الأم: 6/ 181، والبيهقي: 7/ 263. (2) الأزر: جمع إزار، وهو هنا حويّط يقام بجوار الحائط يلصق به، للتقوية، أو للزينة. (3) السجوف: هنا بمعنى الستور. (4) حديث ابن عباس متفق عليه، رواه البخاري: كتاب البيوع، باب التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك، ح 2225، ورواه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، ح 2110. (5) في الأصل: وكانوا.

منه وينصرف، فعل مراراً، ثم قال صلى الله عليه ومسلم: حُطِّيها، واتخذي منها نمارق " (1). ففهم العلماء من ذلك أن المحظور صور الحيوانات، فأما تشكيل الأشجار فلا بأس به. ولو صور المصور حيواناً إلا وجهه، ففيه تردد: فمن أصحابنا من جوز ذلك، وجعل ما عدا الوجه خطوطاً وتشكيلاً كالأشجار. ومنع مانعون ذلك، فإنَّ سائر أعضاء الحيوان يُشعر بالحياة إشعار الوجه. ثم فيما رويناه ما يدل على الفرق بين الصور المرفوعة وبين المحطوطة التي توطأ على الفرش والنمارق، ولعل السبب فيها أنها إذا كانت مرفوعة، ضاهت الأصنام، وإذا كانت موطوءةً مفترشة تحت الأقدام، فليست كذلك، وأيضاًً، فإنها إذا كانت مرفوعة كانت مُهيّأةً للنظر إليها، والمخادّ الكبار التي لا تتوسدُ، وإنما تهيأُ مرتفعةً شاخصة في معنى الستور. ولبس الثياب المصورة كان يمنعه شيخي، ولعله أولى بالمنع من رفع الصور على الستور المعلّقة، وكان يقول: استعمال الثياب المصورة لا يحرم، فإنها تصلح للفرش، كما يتأتى تعليقها ولبسها، وإذا كان لها وجه في الاستعمال، حمل الاستعمال عليه، وعندي أن الذي يتعاطى التصوير هو الآثم بكل حال، وفي المسألة احتمال. وإذا صادف الناهي عن المنكر سترةً معلقة وصورة، لم يفسدها، بل حفظها لتفرش. ثم في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة " (2)، فيكره على موجَب الحديث دخولُ بيت فيه صورة ممنوعة، كما

_ (1) حديث عائشة. رواه البخاري بأتمّ مما جاء به الإمام: كتاب اللباس، باب ما وطىء من التصاوير، ح 5954، 5955، ورواه النسائي: كتاب الزينة، باب التصاوير، ح 5356، 5357. (2) حديث " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة " رواه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم صورة الحيوان، ح 2112. (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 399، 400 ح 1696).

ذكرناه، ولا ينتهي الأمر إلى التحريم عند كثير من أصحابنا. وكان شيخي يُلحق هذا بالمحظورات، ويُلزم الخروج من البيت، والأصح الاقتصار على الكراهية. فصل وقال في نثر السكر واللوز والجوز في العرس: " لو تُرك، كان أحبَّ إليَّ ... إلى آخره" (1). 8562 - أراد الشافعي كراهةَ الالتقاط؛ لأنه أُخذ بخُلسةٍ ونُهبة، وفيه خروج عن المروءة، وربما يخطِر للناثر أن يُؤْثر بعض الملتقطين. ولا يبعد أن يحمل ما ذكره الأصحاب على النثر أيضاً؛ فإنه سببُ الحَمل على الالتقاط. وعندي أن الأمر في ذلك لا ينتهي إلى الكراهة. ومن لم يكن ذا حظ من الأصول قد لا يفصل بين نفي الاستحباب وإثبات الكراهية، وليس كذلك، ولفظ الشافعي مشعر [بالتهيب] (2) وحط الأمر عن رتبة الكراهية؛ فإنه قال: " لو تُرك كان أحبَّ إليّ ". ثم قد ينتهي الأمر في هذا إلى الإباحة إذا كان الناثر لا يؤثر أحداً، وكان المتطلعون عنده بمثابةٍ. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر إملاكاً فقال: أين أطباقكم، فأُتي بأطباق عليها جوز ولوز وتمر فنُثرت. قال جابر بن عبد الله راوي الحديث: فقبضنا أيدينا، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما لكم لا تأخذون. قلنا: لأنك نهيتنا عن النُّهبى، فقال: إنما نهيتكم عن نهبى العساكر، خذوا على اسم الله، فجاذَبَنا وجاذبناه" (3). فثبت الأصل بالخبر الصحيح.

_ (1) ر. المختصر:4/ 40. (2) كذا قرأناها على ضوء حروفها التي تداخلت بعضها في بعض، فصارت تقرأ: "بالتحفيذ" أيضاًً. (3) الحديث عن النثر رواه البيهقي عن معاذ بن جبل، وقال عنه الحافظ: " في إسناده ضعف وانقطاع. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة عن معاذ نحوه، وأورده ابن الجوزي =

ثم ما وقع على الأرض، فالحاضرون فيه شرَعٌ، يملكه من يبتدره، وإذا ثبتت يد إنسان على شيء منه، لم يُسلب منه، ولو غالبه مغالب، فهو غاصب، وإن وقع شيء في حِجر إنسان، فإن كان بسط حجره لذلك، لم يؤخذ منه، وكان احتواء الحِجر المبسوط لذلك بمثابة الأخذ باليد، وإن لم يكن قصد هذا ببسط حِجره، فهل يجوز الأخذ من حجره؟ قيل: لو كان لا يرغب فيه جاز، وإن عُلم أنه يرغب فيه، وإن لم يقصد بسطَ حِجره لهذا، ففي المسألة وجهان مبنيان على الطائر إذا فرخ في دار إنسان، فصاحب الدار أحق بالفرخ، ولكن لو ابتدره غيره فأخذه، فهل يملكه؟ فعلى وجهين. 8563 - من تحجر أرضاً ليحييها، فابتدرها غيره وأحياها، فالأصح أنه لا يملكها، وفي المسألة وجه على بعد. ولو نشر ذيله فوقع فيه شيء، كان نشْرُ الحِجر مملّكاً بخلاف [المحجِّر،] (1) فإن الملك يحصل بمجرد إثبات اليد في المنثور، وما يحصل في الحِجْر على الصورة التي ذكرناها يُعد في يد صاحب الحِجر، ويُعدُّ إحرازاً لما احتوى عليه حِجْره [ومجرد] (2) إثبات اليد لا يملّك الموات حتى يُحيىَ كما ذكرناه. ولو سقط من حجره ما وقع فيه، نُظر، فإن لم ينشره بقصد الأخذ، فإذا سَقَطَ، مَلَكَهُ من يبتدره، وإن كان من وقع في حِجْره راغباً فيه، وهو بمثابة ما لو عشش طائر في دار ثم طار الفرخ، فلا اختصاص لصاحب الدار بعد مفارقته دارَه. ولو نشر ذيله، أوآلة كانت معه، فوقع فيه شيء، ثم سقط منه، فهذا فيه احتمال، والظاهر أنه يملكه، ثم لا يزول ملكه بالسقوط، كما لو اعتُقِلَ صيد بشبكةٍ نُصبت على مدارج الصيود وانضبط بها، ثم حدث حادث فأفلت؛ فالظاهر أنه مِلك ناصب الشبكة.

_ = في الموضوعات، ورواه فيها أيضاًً من حديث أنس، وفيه خالد بن إسماعيل وهو كذاب ... " ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ (ر. التلخيص: 3/ 407 ح 1710، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/ 288، وشرح معاني الآثار: 3/ 50). (1) في الأصل: الحجر. (2) في الأصل: وبمجرد.

وفي الصيد وآلة اللقط وجه آخر؛ فإن العادة هي المرعية في هذه الأبواب. وما تحتوي عليه الشبكة لا يوثق به أو يؤخذ، نعم لو أخذه آخذ لم يملكه. وكذلك القول لو أخذ آخذٌ ما وقع في آلة الملاقط لم يملكه، وإنما الكلام فيه إذا سقط بنفسه. فصل في أحكام الضيافة وما يتعلق بها 8564 - إذا قَدَّم المُضيف الطعام، فالمذهب الظاهر: أنه لا حاجة إلى لفظٍ من المضيف، بل تكفي قرائن الأحوال في إفادة الإباحة. وأبعدَ بعضُ أصحابنا، فقال: لابد من لفطٍ منه، فليقل: كلوا بارك الله فيكم، أو ليأتِ بلفظ [يفيد] (1) هذا الغرضَ. وليس بشيء. ثم الضيف هل يملك ما يأكله؟ اختلف أصحابُنا في المسألة، فمنهم من قال: لا يملكه أصلاً، وإنما يأكله على ملك المُضيف مباحاً، وهذا ما حُكي عن اختيار القفال. ومن أصحابنا من قال: إنه لا يملك حتى يضعَها في فيه. ومنهم من قال: لا يملكها حتى يمضغها بعضَ المضغ. ومنهم من قال: لا يملكها حتى يزدردها، فإذا ازدردها، تبيّنا أنه ملكها مع الازدراد. وفائدة هذا التردد ظاهر في إثبات الملك ونفيه. وكان شيخي يصحح أن الضيف لا يملك، ويذكر هذه الوجوهَ في أن الإباحة هل تلزم، حتى لو رجع المضيف، لم يكن له الرجوع. وهذا لا بأس به، ولكن الأصح أن الإباحة لا تنتهي إلى اللزوم قط، ما لم يَفُت المستباحُ، وليس في الشرع إباحة

_ (1) في الأصل: فيفيد.

تُفضي إلى اللزوم إلا في النكاح، فإنا قد نختار أن المعقود عليه في النكاح ليس مملوكاً وإنما هو مستباح مستحق (1). ومن قال لا بد من لفظٍ في إباحة الطعام يشترط من الناثر لفظاً أيضاً. ثم لا يشترط تمليكاً وإيجاباً وقبولاً، بل يكتفي بأن يقول: خذوا، أو بأي لفظ في معناه. 8565 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنَّا إذا رأينا إجابةَ الداعي حتماً، فلو دُعي جمعٌ فأجاب بعضهم، هل تسقط الفرضية عمّن لم يجب سقوطَ فرض الكفاية في مثل هذه الصورة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يُنحَى بذلك نحو فروض الكفايات، وأقرب الأمثلة إلينا ردُّ جواب السلام على جمعٍ؛ فإنه إذا أجابه واحد منهم، سقط فرض الجواب عن الباقين. وعندي أن ما ذكروه فيه إذا وُجِّهت دعوةٌ على جمع ولم يُخَصَّص كلُّ واحد منهم [بالتنقير] (2)، فإن خصص كل واحد بالدعوة -والتفريع على وجوب الإجابة- فلا يسقط الفرض أصلاً عن البعض بحضور البعض، وعلى هذا القياسُ يجري في السلام [لو خُصِّصَ] (3) كلُّ واحد بتسليمة. ولو حضر الدعوة، ولم يكن عذر يمنعه من الأكل، وكان يشق على المُضيف امتناعه؛ فقد ذكر العراقيون وجهين في وجوب الأكل بناءً على وجوب الإجابة. وهذا بعيد إن قيل به، فيكفي ما ينطبق عليه الاسم في التعاطي. [فإن لم تكن دعوة،] (4) فالأكل والتطفل حرام، وفي الحديث: " من دخل دار

_ (1) هذه القاعدة "ليس في الشرع إباحة تفضي إلى اللزوم إلا في النكاح، وأن المعقود عليه في النكاح ليس مملوكاً، وإنما هو مستباح، فيستحق" ذكرها ابن السبكي في الأشباه والنظائر: 1/ 369. ناقلاً إياها عن إمام الحرمين في النهاية وبنصها. (2) في الأصل: التنويش. ولم أعرف لها وجهاً، مع تقليبها على كل صورة ممكنة من حروفها، بل لم نجد لها معنى في معاجم المعرب والدخيل. فقدّرنا أنها محرّفة عن (التنقير): والتنقير هو دعوة الرجل باسمه: مأخوذ من قول القائل: نقَّرْتُ باسم فلان إذا دعوته من بين القوم (المصباح والمعجم). (3) في الأصل: واخصص. (4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

غيره بغير إذنه، دخل عاصياً وأكل حراماً " (1). وإنما يفرض هذا والدعوة نَقَرى (2)، فأما إذا كانت الدعوة جَفَلَى (3)، وفتحت الباب ليدخل من شاء، فلا تطفل والحالة هذه. وقد نجزت المسائل المنصوصة في [السواد] (4)، ونحن نرسم بعدها فروعاً لابن الحداد وغيره. فرع: 8566 - إذا قال السيد لعبده: انكح فلانة [الحرّة] (5)، وأجعلُ رقبتك صداقها، فالإذن فاسد؛ فإن النكاح على هذا الوجه لا يصح؛ إذ المرأة لو ملكت رقبة زوجها في دوام النكاح، لانْفسخ النكاح، فكيف يفرض انعقاده ابتداءً مع تقدير حصول الملك في رقبة الزوج؟ ولو تعاطى السيد التزويج بنفسه على هذه الصفة، فزوجَ من عبده الصغير -أو الكبير على قول الإجبار- حرةً، وجعل رقبة الزوج صداقاً، فالذي قطع به الأصحاب: بطلانُ النكاح. وكنت أود لو ذهب ذاهب إلى صحة النكاح وفساد الصداق، ثم كان الرجوع إلى مهر المثل أو إلى القيمة، ولكن ما يصير إلى هذا صائر. والتعويل في المذهب على النقل. وتعليل ما ذكره الأصحاب: أن من نكح امرأة وأصدقها خمراً، فإنا نفرض الصداق منفصلاً عن النكاح، حتى كأنه ليس عوضاً، وليست تسميةُ الخمر قادحةً في مقصود النكاح، وقد ذكرنا أن الشرائط التي لا تؤثر في مقصود النكاح لا تُفسده. وأما جعل

_ (1) حديث: "من دخل دار غيره ... إلخ " هو عند البيهقي: 7/ 265 بلفظ: " من دخل على قوم لطعام لم يُدع إليه، فأكل، دخل فاسقاً، وأكل ما لا يحل له " ورواه الطبراني في الأوسط بقريب من هذا اللفظ، ح 8266 وقد ضعفه الألباني في الإرواء: 7/ 16. (2) نَقَرَى: بفتحات ثلاث للنون والقاف والراء المهملة، ومعناه أن تكون الدعوة خاصة يُعيَّن فيها من يدعى باسمه. من قولهم: نقرْتُ باسمه أي دعوته من بين القوم. (المصباح والمعجم). (3) جَفَلَى: وزان فَعَلَى بفتح الكل: وهي أن تدعو الناس إلى طعامك دعوة عامة من غير تخصيص أحدٍ باسمه. (المصباح والمعجم). وإمام الحرمين ناظر في هذا إلى قول طَرَفة بن العبد: نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى ... لا نرى الآدبَ فينا ينتقر (4) في الأصل: "الشواذ". ونذكر أن السواد هنا هو (مختصر المزني). (5) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام -مع ما سيأتي- بدونها.

رقبة الزوج صداقاً، فنوعٌ من إفساد يقدح في مقصود النكاح، كما تقدم. 8567 - ولو أَذِنَ لعبده في أن ينكِحَ أَمَةَ الغير، ويجعل رقبته صداقها؛ فهذا جائز؛ فإنه لا يصير مملوكاً للزوجة، إذ مالك الصداق سيد الأَمَةِ، ولا يمنع أن يجتمع الزوج والزوجة في ملك مالك؛ فإن للسيد أن يزوِّجَ أَمَتَهُ من عبده. فإذا تبين ذلك، فلو انعقد النكاح على هذا الوجه، ثم طلق زوجته قبل المسيس؛ فحكم الطلاق [لعيل] (1) التشطير. وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: يرتد نصف الرقبة إلى السيد الأول؛ فإن الرقبة خرجت من ملك السيد الأول، ونصف الصداق يرتد إلى من يخرج الصداق من ملكه، وليس هذا كما لو أصدق الأب عيناً من أعيان ماله زوجةَ طفْلِهِ؛ فإنا نقول: إذا بلغ وطلق، رجع نصفُ الصداق إلى الزوج، فإنَّا نقدر إصداق الأب عنه تمليكاً، ثم نحكم بأنه ثبت صداقاً عن ملك الطفل، ولا يتأتي في هذه المسألة مثل هذا، وليس بين كون العبد ملكاً للأول وبين وقوعه صداقاً مرتبة. ومن أصحابنا من قال: لا يرتد نصف العبد إلى السيد الأول؛ لأن الطلاق هو المشطّر، وهو يقع والعبد في ملك الثاني. وهذا الوجه عندي في حكم الوهم والغلط الذي لا يعوّل عليه، وذلك أن العبد هو الصداق، فلو فرضنا الصداق [غيرَه،] (2) وصورنا طلاقاً، لنظرنا على وجهٍ في حالة الطلاق، فأما إذا كان هو الصداق، فلا وجه إلا النظر إلى من خرج العبد عن ملكه. وذكر الشيخ أبو علي وجهين في أن العبد إذا نكح بإذن مولاه، والتزم المهرَ في الذمة، وأدَّاه من كسبه، ثم باع مالكُ العبد العبدَ، وطلق قبل المسيس، فالصداق إلى من يرتد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرتد نصف الصداق إلى [المالك] (3) الأول، وهو الوجه.

_ (1) كذا. والسياق مفهوم على أية حالٍ بدونها. (2) في الأصل: غرة. (3) زيادة لإيضاح الكلام.

والثاني - أنه يرتد إلى الثاني؛ نظراً إلى حالة الطلاق. فهذا -على هذا الوجه- بعيد. والترتيب الصحيح أنه إذا أدَّى المهر مما اكتسبه في ملك الأول، ثم فرض الطلاق في ملك الثاني؛ فالنصف يرتد إلى الأول؛ لأن الأكساب كانت ملكَ الأول، ومِن ملكِهِ خرجت إلى الزوجة، فأما إذا جرى النكاح في ملك الأول، ثم باعه مولاه، فاكتسب في ملك الثاني ووفَّر الصداقَ، ثم طلق قبل المسيس، فالنصف يرتد إلى الأول أو إلى الثاني؟ فعلى وجهين. وإذا ضممنا ما ذكره الشيخ أبو علي إلى ما رتَّبه الأصحاب، انتظم من مجموعه في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها - أن نصف الصداق يرتد أبداً إلى من جرى النكاح في ملكه. والثاني - أنه يرتد أبداً إلى من يجري الطلاق في ملكه. والثالث - أنه يفصل، فإن اكتسب في ملك الأول وأدّى، رجع الشطر إلى الأول، وإن اكتسب في ملك الثاني وأدّى، رجع الشطر إلى الثاني. 8568 - ثم فرع الأصحاب مسألة إصداق العبد رقبة نفسه، فقالوا: إن حكمنا بأن شَطرَ الرقبة يرتد إلى الأول، فلا كلام، وإن حكمنا بأن الشطر يرتد إلى الثاني؛ فلا معنى للتشطر على الحقيقة، فإنه لو تشطر، لرجع إليه، فلا معنى لتقدير خروج الشطر عن ملكه وعوده إليه؛ إذ ليس يفهم الخروج إلا مع الدخول، وهذا غير معقول في هذه المسألة، فرجع فائدة الوجه إلى أنَّ صَرْفَنا حقَ التشطرِ إلى الثاني يوجب بقاء ملكه فيما كان يرجع لو كان مستحقُ التشطيرِ غيرَه. ثم كل ما ذكرناه في باب شطر الصداق يتحقق في جميعه إذا جرى ما يوجب رد جميع الصداق، فإذا اطلع العبد على عيب بامرأته يُثبت مثلُه الفسخَ، ففسخ النكاح، فهذا يوجب ارتداد جميع الصداق، فإن قلنا: يرتد إلى السيد الأول، فيعود العبد ملكاً له، وإن قلنا: يرتد إلى ملك السيد الثاني؛ فحكم هذا ألا يخرج العبد عن ملكه، فإنه لو خرج منه لعاد إليه. 8569 - ومما يتصل بذلك، أن العبد لو عَتَقَ في هذه المسألة، وكان أعتقه السيد

الثاني، وهو مالك الأمة، فلو طلقها قبل المسيس، وبعد نفوذ العتق، فهذا يُفَرَّعُ على ما تقدم، فإن جرينا على المذهب الصحيح، وقلنا: نصف الصداق يرجع إلى السيد الأول، فالسيد الثاني -المعتِق- يغرم نصف قيمته للسيد الأولط. وإن فرّعنا على الوجه الثاني -وهو اعتبار يوم الطلاق- فمستحق الشَّطر هذا المعتَق؛ فإنه استقل بنفسه لما عتق، فرجع بقيمة نصف نفسه على سيده الثاني في الذي أعتقه. وكل ما يتفرع في نصف الصداق يتفرع في جميعه إذا جرى ما يوجب ارتدادَ جميع الصداق. فرع: 8570 - إذا أصدق ذمي امرأته الذمية خمراً، وقبضت الخمر في الشرك، ثم أسلما، فقد ذكرنا أنه ليس لها مهر المثل بعد ما انبرمت الحالة بالقبض في الشرك. فلو استحالت الخمر التي في يدها خلاً، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يرجع عليها بشيء؛ فعلى وجهين: أحدهما - يرجع عليها بنصف الخل، وهو اختيار ابن الحداد، وذلك لأن هذه العين تلك العين، وليس انقلابها خلاً من قبيل الزيادات المتصلة. والوجه الثاني - أنه لا يثبت له الرجوع بشيء؛ فإن انقلاب الخمر خلاً أكبر في مرتبته من الزيادات المتصلة، فإذا كانت الزيادة المتصلة تمنع من الرجوع في العين، فانقلاب الخمر خلاً بذلك أولى. ولابن الحداد أن يقول: جرى إصداق الخمر في حالة كانوا يَرَوْنها مالاً في تلك الحالة، ثم جرى الطلاق، وفي يدها مال في الإسلام، وليس كالزيادات المتصلة؛ فإن مصيرنا إلى أنها (1) تمنع تشطّر الصداق، لا يَحْرِم الزوجَ، بل المرأة تغرم له نصف القيمة. وهذا تكَلُّف. والأصح: الوجه الآخر؛ فإنا لا نلتفت إلى ماليةٍ في الإسلام. التفريع: 8571 - إن قلنا: لا يرجع الزوج بشيء من الخلّ، فلا كلام، وإن قلنا: الزوج يرجع بنصف الخل، فلو أنها أتلفت الخل، ثم طلقها قبل المسيس؛ ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه يرجع عليها بنصف مثل الخل التالف، وهو اختيار

_ (1) الضمير يعود على الزيادات المتصلة، كما هو واضح.

الخِضْري، فإنه إذا ثبت الرجوع، تعين الخل عند [بقائه] (1)، فالوجه أنه يرجع بمثله عند تلفه؛ فإنه من ذوات الأمثال. والوجه الثاني - أنه لا يرجع عليها بشيء عند تلف الخل، وهذا اختيار ابن الحداد. ووجهه أن الخل إذا تلف قبل الطلاق، [لم يصادف] (2) الزوج خلاً، ولا أصدق خلاً، ونحن نعتبر (3) حالة الإصداق والقبض (4) القبض. وهذا فيه فقه. والأصح ما ذكره الخِضري؛ فإن الخمر لما استحالت خلاً، قدرنا كأن الصداق كان خلاً. 8572 - ومما يتعلق بهذه المسألة أنه لو أصدق امرأته جلدَ ميتة في الكفر، وقبضته، ثم أسلما، ودبغته، وطلقها قبل المسيس، اختلف أصحابنا على طريقين في المسألة: فمنهم من قال: فيها وجهان كالوجهين في الخمر إذا انقلبت خلاً. ومنهم من قال: لا يرجع في هذه الصورة، وجهاً واحداً بخلاف مسألة الخل، والفرق بينهما أن التملّك تحقق في مسألة الجلد بقصدها وفعلها، فيظهر انفرادها بالجلد المدبوغ، بخلاف الخمر تنقلب خلاً. ثم قال الشيخ [أبو علي] (5): إن قلنا في مسألة الجلد: إن الزوج إذا طلقها يرجع في نصفه مدبوغاً، فلو [أتلفته] (6)، ثم طلقها، قال: يجب القطع في هذه الصورة بأنه لا يرجع بشيء عند التلف، فإن الجلد ليس له مثل، بخلاف الخل، فلا سبيل إلى المثل، ولو أثبتنا للزوج حقاً تقديراً، لتعيّن في القيمة، ثم لو قدرنا الرجوع إلى القيمة فالاعتبار بقيمة يوم الإصداق، ولم يكن للجلد يوم الإصداق قيمة.

_ (1) في الأصل: نقله. (2) في الأصل: " ولم يصادف ". (3) ونحن نعتبر: أي عند الرجوع. (4) في الأصل: " أو القبض ". والمثبت مأخوذ من عبارة النووي، إذ قال:" ... لأن الرجوع في الصداق تعتبر قيمته يوم الإصداق والقبض". (الروضة: 7/ 303). (5) الزيادة من المحقق للتعريف فقط. (6) في الأصل: أتلفه.

وهذا الذي ذكره حسن، ولكن الاحتمال متطرق إلى الجلد، حيث انتهى التفريع إليه؛ فإنَّا نُقَدِّر كأن الصداقَ كان جلداً (1)، وإنما نُثبت الرجوع في نصف العين لو بقي بتأويل تقدير الصداق كذلك يوم الإصداق. ومن بقية المسألة أنها لو باعت الخل أو الجلد أو وهبته، فهو كما لو تلف في يدها، أو [أتلفته] (2) في كل تفصيل. ثم جميع ما ذكرناه في النصف عند فرض الطلاق قبل المسيس، يتقرر في الجميع عند تقدير ارتداد الجميع. فرع: 8573 - إذا أصدق الرجل امرأته حلياً، فكسرته، ثم أعادت صيغته، ثم طلقها قبل المسيس، فلا يخلو إما أن أعادته على صيغة أخرى، أو أعادته على تلك الصيغة بعينها، فإن أعادته على صيغة أخرى، ثم طلقها قبل المسيس، فللزوج الامتناع؛ فإن ذلك وإن كان زيادة، فقد زالت الصنعة التي كانت، فكان ما نحن فيه بمثابة زيادة من وجه ونقصان من وجه آخر. وإن عادت تلك الصنعة الأولى بعينها، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يثبت له الرجوع بنصف الصداق؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبت له الرجوع إلى نصف [الحلي؛ فإنها] (3) عادت كما كانت، فصار كما لو أصدقها عبداً سميناً، فهُزل في يدها ثم عاد سميناً، كما كان من غير زيادة، ثم فرض الطلاق قبل المسيس، وإن كان كذلك، فالأصحاب -فيما نقله الشيخ- مجمعون على أنه يرجع بنصف العبد. والوجه الثاني - أنه لا يرجع بنصف [الحلي] (4)، وللمرأة منعه، وهذا اختيار ابن الحداد، وليست كالسمن في الصورة التي ذكرناها؛ فإن هذه الصيغة عادت باختيارها وليست كالسمن، وهذا التردد يشبه اختلاف الأصحاب في أن تحصيل هذه الآثار هل يلحقها بالأعيان، أم كيف السبيل فيها؟ وقد ذكرنا هذا في كتاب التفليس.

_ (1) كان جلداً: أي مدبوغاً. (2) في الأصل: أتلفت. (3) عبارة الأصل: " يثبت له الرجوع إلى نصف فإنه ". والزيادة والتعديل من المحقق. (4) في الأصل: الإناء. ولم يسبق للإناء ذكر في هذا الفرع.

التفريع: 8574 - إن قلنا: يرجع في نصف الحلي، فلا كلام. وإن قلنا: لا يرجع، فبماذا يرجع؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يرجع في نصف قيمة الإناء (1) غيرَ مكسور، فإن كان من ذهب، فالواجب نصفُ قيمته وَرِقاً (2)، وإن كان من [ورقِ] (3)، فالواجب نصفُ قيمته ذهباً. والوجه الثاني - أنها تغرَم مثلَ [نصف] (4) تِبر الحلي وزناً بوزن، ثم تغرَم نصف أجر مثل الصائغ من نقد البلد، وهذا قد قدمنا له نظيراً في البيع، وكل ذلك والحلي مباح، أو قلنا يجوز استصناع الإناء (5) وصنعته محترمة. 8575 - ثم أجرى الشيخ أبو علي (6) في أثناء المسألة كلاماًً لا يختص بفرض الصداق، فقال: إذا غصبَ الرجل إناء من ذهب وزنه ألف، وقيمتُه ألف ومائة، وفرعنا على أنَّ اتخاذ الأواني محرم، فلو كسره الغاصبُ، فرجع إلى ألف، فهل يغرَم قيمة الصنعة؟ فعلى وجهين. وهذا غريب غير متجه؛ فإن تلك الصنعة على هذا الوجه ليست متقوّمة، وما لا يتقوَّم لا يختلف الأمر فيه بين مُتلِف وبين مُتلِف. ولو غصب جارية مغنية قيمتها لمكان الغناء ألفان، فتلفت أو رجعت إلى ألف، ونسيت ما كانت تحسنه، فهل يضمن الغاصب ما كان في مقابلة الغناء؟ فعلى وجهين ذكرهما. ثم زاد فقال: من اشترى جارية مغنية تساوي ألفين بسبب الغناء، وقيمة رقبتها

_ (1) عاد يعبر عن الحلي بالإناء. (2) ورقاً: أي فضة، وذلك حتى لا يقع في الربا ببيع الذهب بالذهب. (3) في الأصل: " من دون ". (4) زيادة لتصحيح العبارة. (5) استصناع الإناء: يصح هذا إذا قلنا في أول الفرع: " إذا أصدقها حلياً أو إناءً ". (6) ثم أجرى الشيخ أبو علي ... : الإمام ينقل عن الشيخ أبي علي في شرح الفروع لابن الحداد، فكأنه يقول: ثم أجرى الشيخ أبو علي في أثناء شرحه لهذا الفرع كلاماً لا يختص بفرض الصداق.

ألف، فإن اشتراها بألف، فيصح البيع، وإن اشتراها بألفين فقد حكى الشيخ في ذلك اختلافاً، فحكى عن المحمودي أنه أفتى ثَمَّ ببطلان البيع؛ فإنا لو صححناه، لصار تعليم الغناء مَكْسبةً وننسبُها إلى المقابلة بمال. قال الشيخ أبو زيد: إن قصد بشرائها والمغالاة في ثمنها غِناءها؛ فلا يصح، وإن أطلق البيع، ولم يقصد ذلك صح. وقال أبو بكر الأودَني (1): مِن أصحابِنا مَن قال: يصح البيع على كل حال، ولا يختلف بالقصود والأغراض. وهذا هو القياس السديد. فرع: 8576 - إذا أصدق الرجلُ امرأتَه عبداً، فرهنته، ثم إنه طلقها قبل المسيس والعبد مرهون؛ فلا يرجع في نصف العبد مرهوناً على تقدير أن تفك الرهن وتسلّم إليه نصفَ العبد، فلو قال الزوج: أصبرُ وأنتظر، فإن انفك الرهن، رجعتُ في نصف العبد، فللمرأة ألا ترضى به؛ فإنها لو رضيت، لكان الحق باقياً في ذمتها، ولو قدرنا رجوع [العبد بالانفكاك] (2)، فذاك منتظر، ولها ألا تصبر على شغل الذمة. ولو قالت: أصبر حتى يفكَّ الرهنُ، فللزوج ألا يصبر ويطلب حقه عاجلاً. ولو قال الزوج: رضيت بنصف العبد، وصبرت إلى فك الرهن وأبرأتكِ عن الضمان، وأنا متربص إلى فكاك الرهن، فإن سلِم فذاك، وإن لم يسلَم وتلف العبد، فلا عليكِ، فهل عليها أن تجيبه إلى ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - عليها أن ترضى بما رضي به. والوجه الثاني - ليس عليها، وشبه ذلك بما لو أصدق امرأته نخلاً، فأطلعت، وطلقها قبل المسيس، فلو قال الزوج: أصبر إلى أن تُجَدَّ الثمارُ، ثم أرجع في نصف النخيل ويكون الضمان [عليّ] (3) حتى [لو] (4) تلف حقي قبل الجداد، فلا يلزمها ذلك.

_ (1) في الأصل: الأودي. وهو تصحيف. (2) في الأصل: رجوع العين في الثاني. (3) في الأصل: عليك. (4) زيادة اقتضاها السياق.

ولو قال: أخرجتك من ضمان العين في الحال، وأنا متربص فإذا جُدَّت الثمار، رجعت في النخيل، وإن تلفت، فلا عليك، فهل يلزمها ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما. وهذا عندي غيرُ سديد، فإنَّ الصداق إذا كان نخيلاً -كما صوره- فطريق الكلام فيه يتعلق بالسقي، ورجوع فائدته إلى الشجرة، ومثل ذلك لا يجري فيما نحن فيه؛ [وتلك] (1) المسألة أجريناها على أحسن وجه. وما ذكره الشيخ من الوجهين يُفسد نظامها. وأما مسألة الرهن، فما ذكره من الخلاف فيه، بعيد أيضاًً؛ فإنه يبعُد أن يتملك النصف وهو مرهون، فإن ما لا يصح ابتياعه لا ينقلب إلى الزوج ملكاً، وإذا بعُدَ ملكُ النصفِ، فما معنى سقوط الضمان عنها؟ فالوجه: انحصار حقه في القيمة لا غير. 8577 - ومما يتعلق بهذه المسألة أنها لو أجَّرت العبد المُصْدَقَ مدةً، وطلقها الزوج، والعبد في بقية المدة، فلا سبيل إلى فسخ الإجارة بعد لزومها، فإن أراد الزوج الرجوعَ بنصف القيمة، فهو حقه. ولو قال: أصبر إلى انقضاء الإجارة، ثم أرجع في نصف العبد، وضمان ذلك إلى أن يتفق الرجوع عليك، فليس له ذلك. ولو قال: أتربصُ إلى انقضاء المدة وقد أبرأتكِ في الحال عن ضمان حصتي، فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُجاب إلى مُلتَمَسِه. والثاني - لا يُجاب، كما ذكرناه في الرهن. فإن قيل: هلا خرجتم ذلك على أن الدار المكراة هل تباع؟ حتى تقولوا إذا لم يصح بيعه، امتنع الرجوع في نصفه، وإن قلنا: يجوز بيع المكرَى، فيجوز منه الرجوع فيه، [إن] (2) رضي به. قلنا: كان الإمام (3) يذكر ذلك ويختاره على هذا الوجه.

_ (1) في الأصل: فتلك. (2) في الأصل: وإن. (3) الإمام: يقصد والده الشيخ أبا محمد. رضي الله عنهما وعن جميع أئمتنا.

وحقيقة هذه المسألة تبتني على الصداق إذا تشطر، حيث لا منع، فنصيب الزوج مضمون أو غير مضمون؟ وقد ذكرنا اختلاف الطرق في ذلك. فإن قلنا: [نصيبه] (1) في يدها غير مضمون إذا لم تتعدّ ولم تمتنع، فإذا رضي الرجل برجوع نصف المكرى إليه، وجب إجابته لا محالة. وإن قلنا: نصيب الزوج مضمون على الزوجة ما دام في يدها، فإذا قال الزوج -والصداق مكرى-: رضيت بنصفه، فإن جوزنا بيع المكرَى، وقد رضي الزوج بالنصف ولم يبرئها عن الضمان، لم يجب، وإن أبرأها عن الضمان، فهل يصح الإبراء عن الضمان؟ هذا يبتني على أن المغصوب منه إذا أبرأ الغاصب عن الضمان هل يبرأ؟ وفيه خلاف قدمته، وهو مبني على أن الإبراء عما لم يجب، [ووُجد] (2) سببُ وجوبه هل يصح؟ ثم ثمرة هذا أنَّا إن صححنا الإبراء، أجيب الزوج وإن لم نصحح الإبراء، لم يجب. 8578 - ومما يتعلق بهذه المسألة أيضاًً أن المرأة لو باعت العبد المُصْدَقَ قبل الطلاق، ورجع إلى ملكها، ثم طلقها قبل المسيس، ففي الرجوع إلى عين الصداق وجهان مشهوران. ولو أصدقها عبدَه فرهنته، ثم انفك الرهن، فطلقها قبل المسيس؛ فللزوج الرجوع إلى نصف العبد، ولا حكم لطريان الرهن، وإن كنا نقول: لو صادف الزوج العبدَ مرهوناً عند الطلاق لم يرجع في نصفه، وكذلك القول في الإجارة إذا طرأت وزالت قبل الطلاق. ولو أصدقها عبداً فدبّرته، وفرّعنا على أنه لا يرجع في نصف المدبّر، إذا صادفه الطلاقُ مدبّراً، فلو دبّرته، ثم رجعت عن التدبير؛ فالذي عليه الجريان: أنه يرجع الآن. قال الشيخ: لو طلقها والعبد مرهون، وقلنا: يمتنع الرجوع فيه، أو كان مدبراً

_ (1) في الأصل: نصيبها. (2) في الأصل: ووجه.

وحصرنا حق الزوج في نصف القيمة، فاتفق أنه لم يرجع في نصف القيمة حتى انفك الرهن، وزال التدبير؛ فلو قال الزوج: قد زالت الموانع، فلا أرضى إلاَّ بنصف [العبد] (1)، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما: أحدهما - حقه في نصف [العبد باقٍ؛ فإنّ] (2) هذه الأسباب لو زالت قبل الطلاق، لثبت حق الزوج في العبد، فكذلك إذا زالت بعده وقبل انفصال الأمر. والوجه الثاني - أنه لا حظَ له في العبد؛ اعتباراً بحالة الطلاق. وهذا هو الصحيح. ثم إذا أثبتنا له حقَّ الرجوع إلى العين، فالظاهر عندنا أن الأمر في ذلك إليه حتى [لو] (3) استقر على طلب نصف القيمة، كان له ذلك؛ فإن الأمر في التغايير التي تلحق الصداق تتعلق بالاختيار، وإنما يتشطر [الصداق] (4) من غير اختيار -على الأصح- إذا لم [تُقْرن] (5) حالة الطلاق بسبب من هذه الأسباب. ويجوز أن يقال: يتعين حقه على هذا الوجه في العين إذا لم يتفق قبضُ القيمة، ويكون هذا بمثابة ما لو لم يكن مانع حالة الطلاق. فإن استبعد مستبعدٌ ذلك [فيه] (6)، فهو ميلٌ منه إلى أنه لا حق له في العين، وهو وجهٌ منقاس؛ لأنه ملك عليها نصف القيمة، وانفصل الأمر، وهذا منتهى الاعتبار في باب الصداق. ومن أتلف على رجل مثلياً، ولم يصادف [للمتلَف] (7) مِثلاً، فهو مطالبٌ بالقيمة، فإن لم يتفق تغريمُه القيمةَ حتى وُجد المثلُ، فيتعين المثلُ، لا خلاف فيه. فهذه مسالك النظر.

_ (1) في الأصل: العين. (2) عبارة الأصل: "أحدهما - حقه في نصف العين بأن هذه الأسباب لو زالت ... إلخ " وإقامة النص بالتعديل والزيادة من عمل المحقق. (3) زيادة لاستقامة العبارة. (4) في الأصل: الطلاق. (5) في الأصل تُفرض. (6) في الأصل: " منه ". (7) في الأصل: المتلف.

فرع: 8579 - ذكر الشيخ في أثناء كلامه فصولاً مستفادة يتعلق بعضها بالصداق ولا يتعلق بعضها به، ونحن نأتي بالفوائد منها. فإذا أعتق الرجلُ أَمَتَهُ في مرضه المخوف، ونكحها؛ فقد قال الأصحاب: لا ترثه العتيقةُ بالزوجية، فإنَّ إعتاقه إياها في المرض وصية، ولا يُجمع بين الوصية والميراث، والمسألة من دوائر الفقه. 8580 - ولو قال لأَمَته في مرض موته: " أعتقتكِ على أن تنكحيني "، فقبلت ذلك، عَتَقت ولزمتها القيمة، ثم إذا أعتقت بقوله وقبولها والتزمت القيمةَ، فلا يلزمها الوفاء. فلو نكحها، وجعل ما لزمها من القيمة صداقَها، وكانت القيمة معلومةً، فيصح النكاح، ثم لا يخلو إما أن تكون قيمةُ العتيقة مثلَ مهر مثلها، أو كانت قيمتُها أكثرَ من مهر مثلها، فإن كانت [قيمتُها] (1) مثلَ مهر مثلها أو أقلَّ، فيصح النكاح وترثه. وذلك أن العتق كما (2) وقع في حقها مجاناً ألا يكون، (3) وصية، فلا دَوْر، ثم قد صَرَفَ المعتِق قيمتها إلى مهرها، وليس فيه محاباة. فأما إذا كانت أكثرَ من مهر مثلها، وقد نكحها المعتِق على قيمتها، فقد حاباها؛ فإن مهر مثلها إذا كان خمسمائة، وقيمتها ألف، فإذا أصدقها قيمتَها، فقد حاباها، فهل ترث؟ ذكر وجهين: أحدهما - أنها لا ترثه؛ فإنه قد حاباها في قيمتها، فكأنَّ نصف العتق وقع مجاناً، فيعود الأمر إلى الوصية بالعتق. ومفهوم قول ابن الحداد يشير إلى هذا الوجه، وهو ضعيف. والوجه الثاني - أنها ترثه، وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره؛ فإن أصل العتق وقع بعوض المثل، والمحاباة رجعت إلى القيمة، فهو كما لو نكح حرة بأكثر من مهر مثلها، فإنها ترث والمحاباة تُردّ.

_ (1) في الأصل: قيمته. (2) كما: بمعنى " عندما، وهو استعمالُ غير صحيح ولا عربي، كما أشرنا إلى ذلك. (3) في الأصل: " لتكون ".

8581 - ومما أجراه في أثناء الكلام أنه تعرض لاستبدال المرأة عن الصداق، وخرجه على القولين في أن الصداق مضمون باليد أم بالعقد؟ وهذا بيّن، ثم انتهى إلى الكلام في الاستبدال عن الثمن المتلزم في الذمة، فذكر فيه قولين، وهما مشهوران. ثم قال: لو كان الثمن دراهم معينة؛ فالأصح: أنه لا يجوز الاستبدال عنها؛ لأنها تتعين بالتعيين، ونزلت منزلة سائر الأعيان. وذكر وجهاً أنه يجوز الاستبدال عنها إذا جَوَّزنا الاستبدال عن الثمن الواقع في الذمة؛ لأن الدراهم لا تعنى لأعيانها، وإنما تعنى لنقودها وماليتها، والقصود مرعية في جواز الاستبدال ومنْعه، ولذلك منعنا الاستبدال عن المُسْلَمِ فيه وإن كان ديناً في الذمة؛ فإن جنسه مقصود في وضع العقد، كما أن الأعيان مقصودة، فإذا لم يمتنع التحاق الدين بالعين في منع الاستبدال، لم يبعد التحاق بعض الأعيان بالديون التي يجوز الاستبدال عنها. وهذا وجه بعيد؛ من قِبَل أن الدراهم إذا حكمنا بتعيينها، فالعقد ينفسخ بتلفها، وهذا يؤذن بضعف الملك فيها، فيبعد تصحيح الاستبدال عنها. فرع يتعلق بالصيد والإحرام: 8582 - لا بد فيه من تجديد العهد ببعض ما سبق في المناسك، فنقول: المُحْرِم ممنوع من ابتياع الصيد، فلو اشترى صيداً، فمن أصحابنا من أجرى في صحة شرائه قولين: أحدهما - إنه لا يصح الشراء ولا يملك الصيد. والثاني - يصح الشراء ويملك. وهذا يستند إلى القول في أن المُحرِم إذا كان في ملكه صيدٌ قبل الإحرام، فإذا أحرم، فهل يزول ملكه عنه؟ فعلى قولين: أحدهما - يزول ملكه بنفس إحرامه. والثاني - لا يزول أصلاً. ومن أصحابنا من قال: لا يزول الملك بالإحرام الطارىء قولاً واحداً. ولكن هل يلزم المحرمَ إرسالُ ذلك الصيد؟ فعلى قولين. ومما يتعلق بذلك أنَّا وإن قلنا: [يتصور] (1) من المحرم أن يتملك صيداً في الابتداء

_ (1) في الأصل: التصوّر.

قصداً واختياراً، فالصيد يدخل في ملكه بالطرق التي لا اختيار فيها، كالإرث، ثم يلزمه إرساله، وهذا بمثابة قطعنا القول بأن الكافر يرث العبد [المسلم] (1). قال الشيخ: إذا قلنا: إن طروء الإحرام يزيل الملك عن الصيد، فلا يبعد على ذلك أن نقول: الإحرام يمنع حصول الملك بجهة الإرث؛ فإنه إذا قطع الملك المستدام، يجوز أن يمنع حصول الملك بجهة الإرث. فهذا شيء ذكره من تلقاء نفسه، والمذهب الذي صار إليه الأصحاب أن الإحرام لا يمنع حصول الملك القهري؛ فإنه يبعد أن يرث شيئاً ولا يرثَ شيئاً، ثم يدخل في ملكه فيزول إن فرعنا على أن الإحرام يقطع دوام الملك. ومما ذكره في مقدمة المسألة: التعرضُ للخلاف المشهور في أن رجوع نصف الصداق إلى الزوج هل يتوقف على اختياره؟ وهذا مما ذكرناه. 8583 - ثم قال: إذا ارتدت المرأة قبل المسيس، اقتضى ذلك ارتداد جميع الصداق إلى الزوج، ولا أثر للاختيار في ذلك وجهاً واحداً، وكذلك كل نكاح ينفسخ، ويجب من انفساخه ارتدادُ جميع الصداق، فلا أثر للاختيار. وهذا الذي ذكره حكايةٌ، وهو موثوق به فيما يحكيه. والفرق بين الطلاق وبين الفسخ، أن الفسخ بطباعه يقتضي ردَّ العوض، بخلاف الطلاق؛ فإنه تصرُّفٌ في العقد وليس فسخاً له. وإذا ارتد الزوج، فارتداده يوجب تشطّر الصداق، والذي أراه أن الوجه الضعيف في اشتراط اختيار التمليك، يجري في النصف الذي يرتد إلى الزوج بردته؛ فإن ردة الزوج قبل المسيس، تنزل منزلة الطلاق، فهذا ما أردناه في ذلك. 8584 - ثم نعود إلى فرع ابن الحداد، وقد ذكر صورتين: إحداهما - أن الرجل إذا أصدق امرأته صيداً، ثم أحرم الزوج، وارتدت المرأة قبل المسيس، فيرتد الصداق إلى ملك الزوج مع إحرامه؛ فإن هذا ملك ضروري، فكان بمثابة الإرث. وكذلك لو

_ (1) في الأصل: الملى. (كذا) وما أثبتناه هو الموافق لحكم المسألة في مواطنها. والمعنى هنا: أن المحرم يتملك الصيد قهراً بالإرث ثم يلزمه إرساله، مثل الكافر الذي يتملك العبد المسلم بالإرث ثم يلزمه إرساله بالبيع.

كان باع صيداً وهو مُحِلٌّ، ثم أحرم، فرُدّ عليه الصيدُ بالعيب؛ فإنه يدخل في ملكه، ثم يتعين عليه إرساله، فإن أرسله، فلا كلام. وإن بقي في يده حتى أحل، فهل يجب الإرسال في هذه الصورة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب، وفاءً بما تقدم. والثاني - لا يجب، ويكون بمثابة الكافر إذا أسلم عبده وألزمناه بيعه، فلم يبعه حتى أسلم، فلا يلزمه الآن بيعه. ويترتب على هذا أنَّا إذا قضينا بأن الإحرام يقطع دوام ملك المحرم عن الصيد، فإذا اضطررنا إلى الحكم بارتداد الصيد إليه، فهل نقول: يرتد إليه ملكاً ويزول؛ تفريعاً على هذا الوجه، كما يرث الصيد ثم يزول ملكه؟ والظاهر: أنَّا نقول بهذا إذا فرعنا على زوال الملك، ولكن هذا القول ضعيفٌ. والتفريع على الضعيف يتخبط. فأما (1) إذا طلق الزوج المحرم زوجته قبل المسيس والصيد في يدها، فإن قلنا: النصف من الصداق لا يرتد إلى المطلق إلا [باختيار] (2) التملك، فليس له اختيار التملك، فإذا امتنع الاختيار بسبب الإحرام، فله أن يغرِّمها نصفَ القيمة، وليس لها أن تقول: لا أغرم لك شيئاً، فإنك أُتيتَ من جهة نفسك هكذا. وفي المسألة أدنى احتمال. وإن قلنا: لا حاجة إلى الاختيار والطلاق مشطِّر بنفسه، فعلى هذا، إذا طلقها وهو محرم، فإن قلنا: لو اشترى صيداً ملكه، فإذا طلق، مَلَكَ نصفَ الصداق. وإن قلنا: لو اشترى لم يملك، فإذا طلق، فهل يملك نصف الصيد؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يملك؛ لأنه اختار الطلاق (3)، فأشبه ما لو اختار الشراء. والثاني - يملك؛ لأنه ما اختار التملك.

_ (1) هذه هي الصورة الثانية التي تقع قسيماً للصورة التي ترتد فيها الزوجة، وفد ذكرناها آنفاً. (2) في الأصل: باعتبار. (3) لأنه اختار الطلاق: المعنى أنه بإيقاعه الطلاق، والطلاق مشطّرٌ بنفسه، فكان كأنه أوقع الشراء والتفريع على أنه لا يملك الصيد بالشراء. والوجه الثاني - يملك نصف الصداق، لأن إيقاعه الطلاق ليس اختياراً لتملك نصف الصداق (الذي هو الصيد) وإنما دخل نصف الصداق في ملكه قهراً.=

وقد مضى معظم ذلك في كتاب الحج. 8585 - ثم يتصل بذلك أنه إذا طلقها قبل المسيس وقلنا: يرتد إليه نصف الصيد، فموجب ذلك أن يتعين الإرسال عليه، ولكن إرساله عَسِرٌ؛ إذ ليس جميع الصيد عائداً إلى المُحرم، وإرسالُ البعض غيرُ ممكن. فإن لم يرسله حتى تلف في يده- والإحرام مستدام بعدُ؛ يضمن نصف الجزاء، وإن أرسله، فقد برىء عن الجزاء عند تقدير التلف، ولكنه يغرَم نصف القيمة للمالك (1)، وهو الذي ورّط نفسه في هذا التضييق. ويتعارض في هذه المسألة أمران متناقضان؛ فإنَّا لو قلنا: يجوز إرسال الصيد، كان ذلك تسليطاً على تفويت ملك الغير، وإن قلنا: ليس له إرساله، كان ذلك إذناً للمحرم في إمساك الصيد، والجمع بين الأمرين مستحيل. ولو قال قائل: أوجبوا الإرسال، وضمِّنوه قيمة نصيب الشريك، وقد يجوز إخراج مال الغير في مظان الضرورات ومسيس الحاجات. هذا خرَّجه بعض الحذاق على الاختلاف المعروف في أنه إذا اجتمع حقّ الله تعالى وحق الآدمي في أمرٍ مالي، فكيف الوجه فيه؟ فمن رأى تقديم حق الله تعالى، لم يُبعد أن يوجب الإرسالَ في هذه الصورة والتغريمَ. ومن رأى تقديم حق الآدمي لم يُبعد أن يحرِّم الإرسال ويُلزمه إدامةَ اليد إلى الرد فيكون هذا صيداً يجب على المُحْرِم إمساكه. ومن لم ير تقديمَ حق الله تعالى ولا تقديم حق الآدمي، فليس ينقدح على هذا إلاَّ أن يتخير في الإمساك والإرسال، فإن أرسل عُزِّر وغُرِّم، وإن أمسك عُزِّر، وإذا أتلف، لزمه الجزاء. 8586 - وقد تَعْرِض عند ذلك مسألة أجريناها في الأصول (2)، وهي: أنه لو اتفق وقوع إنسان على صدرِ مريضٍ بين مرضى، وعلم أنه لو استقر على من وقع عليه،

_ (1) للمالك: المراد هنا الزوجة التي طلقها، حيث كان الصداق (الصيد) في ملكها. (2) ر. البرهان في أصول الفقه: 2/فقرة: 1527 - 1534.

لمات ذلك المريض، ولو انتقل منه، لهلك من ينتقل إليه، فالذي اخترناه أن هذه واقعة لا نُثبت فيها حكماً بنفيٍ ولا إثبات، فإنا كيف نفرض الأمر نقع في تجويز قتلٍ محظور، وإهلاكِ ذي روح محترم. والمصيرُ إلى إخلاء واقعةٍ خطيرة عن حكم الله تعالى في الشرع ليس بالهيِّن. فليس يبعد عندنا أن يقال بنفي الحرج عنه فيما يفعل، وهذا حكمٌ. ولا يبعد أيضاًً أن يقال: انتقالك ابتداءً فعلٌ منك، واستقرارك في حكم استدامة ما وقع من سقوطك ضرورياً، وقد يتجه ذلك بأن الانتقال إنما يجب في مثل ذلك إذا كان ممكناً، ولو امتنع، فإيجابه محال، والممتنع شرعاً كالممتنع حِسَّاً وطبعاً، ولئن عظم وقع الكلام فيما يتعلق بالدماء، فالتخيير ليس بدعاً في الأموال، وما يتعلق بجزاء الصيد؛ فإنا قد نبيح الصيدَ للمحرم، وقد نبيح للإنسان مالَ غيره. ولو وقع بين أوانٍ فلابد من انكسار بعضها، أقام أو انتقل، فيتعين في هذه الصورة القول بالتخيير. فرع: 8587 - يتعلق بضمان الأب مهر زوجة الابن. وهذا قد أجريته فيما تمهد من الأصول، ولكن رأيت للشيخ تصرفاً فلم أجد بداً من الإعادة، وإن مست الحاجة إلى تكرير، فلا مبالاة به. المنصوص للشافعي في الجديد: أن الأب إذا قبل لابنه الصغير نكاح امرأة، فلا يصير ضامناً للمهر بنفس النكاح، فإن ضمنه، صار ضامناً، كما يضمن سائر الديون اللازمة، فيلتزمها، ثم إذا ضمن وغرم، فهل يرجع بما غرم؟ قال الشيخ: إنْ قَيَّد ضمانَه بشرط الرجوع، ولَفَظَ ذلك صريحاً، فيملك الرجوع إذا غرم. وإن لم يشترط الرجوع، لم يضمن. واكتفى بعض المحققين بقصد الرجوع منه والنيةِ من غير لفظ، وهذا المسلك أفقه وأليق؛ وقد ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه يُكتفى بأحد شِقَّي البيع، فإذا كان يسقط التلفظ بأحد شِقَّي العقد، لم يبعد أن يسقط التلفظ بشرط الرجوع. ويمكن أن يُبنى ما ذكر الشيخ من اشتراط اللفظ وما اكتفى به غيره من النية والقصد؛ على الاختلاف الذي قدمناه في أنَّا هل نكتفي بأحد شِقَّي العقد أم لا؟ هذا تفريع على القول الجديد.

وللشافعي قول في القديم أن الأب يصير ضامناً للمهر بنفس العقد، وإن لم يُصرح بالضمان، فإذا فرعنا على ذلك وغرم الأبُ ما ضمنه، قال الشيخ: لا يرجع به، وقد حكيت فيما تقدم مثل هذا من أجوبة القاضي، وقد شبهنا غرامته المهر بما تلتزمه العاقلة من أُروش الجنايات؛ فإنهم لا [يرجعون] (1) به على الجاني خطأً. وقد قدمت أن إثبات الرجوع متجه، والقياس على تحمل [العقل] (2) بعيد. وقد قدمنا في ذلك أوجهاً، ونحن نضم إليها مزيدَ بيانٍ، فنقول: لم يختلف العلماء في أن الصبي إذا بلغ، طولب بالمهر، والقاتل خطأً لا يطالب بأرش الجناية مع العاقلة، وإذا أبرأ مستحق الأرش القاتلَ، لم يكن لهذا الإبراء معنى، والمرأة إذا أبرأت زوجها الصغير عن الصداق، صح إبراؤها، وفيما قدمته قبلُ مزيد كشف. 8588 - ثم من لطيف الكلام أن الأب إذا ضمن -على القول الجديد- ولم نُثبت له حق الرجوع، فإذا توجهت الطلبة عليه عن جهة ضمانه؛ فله أن يؤدي المهر من مال الطفل، فيكفيه ذلك غُرمَ الضمان. ولو قال المطالب: لست أوجه الطلب عليك من جهة الطفل، وإنما أطالبك بموجب التزامك وضمانك، فهذا لا حاصل له، فإن مقصوده الوصول إلى الدين. ولو قال: أجزتُ مالي على الطفل، لم يتأت منه مع ذلك توجيه الطلب على الضامن في هذا المقام؛ فإن الضامن يقول: إذا كنت تطالبني، فلي غرضٌ ظاهر في تأدية الدين من مال الطفل. ولو طالب الأبَ بحكم الضمان مع إبراء الابن، اعتباراً بالعاقلة التي وقع الاستشهاد بها، فهذا محالٌ عندنا، فإن الطفل في مرتبة الأصيل، والأب في مرتبة الكفيل، فيستحيل إخراج الأمر عن حقيقة الضمان. فرع: 8589 - مشتملٌ على مسألةٍ دائرة فقهية سبقت في النكاح، ولكنا نُعيدها لدقيقةٍ مستفادة. فنقول: إذا أذِن السيد لعبده حتى نكح حرةً بمهرٍ، والتزم السيد ذلك المهرَ، إمَّا بصريح الضمان على الجديد، وإمَّا بحكم الإذن في العقد- على القديم،

_ (1) في الأصل: يرفعون. (2) في الأصل: العقد.

ثم إنَّ الحرة اشترت زوجها من مولاه بالمهر، فالبيع مردود؛ فإنه لو صح، لانفسخ العقد، وإذا انفسخ قبل المسيس، ترتب عليه سقوطُ المهر، [وإذا سقط] (1) المهر -وهو الثمن- بطل البيع لعُروّه عن الثمن. ولو فرضت المسألة بعد المسيس، فهي مسألة الرؤيا، وفيها [تصرفٌ للقفال] (2)، فلا حاجة إلى الإعادة. وقد ذكر الشيخ أبو علي في هذا المنتهى كلاماًً هو الذي حملنا على رسم الفرع وإعادة ما فيه، وذلك أنه قال: إنما ذكر القفال ما ذكره بعد المسيس؛ لأنها إذا ملكت زوجها، سقط ما على العبد لها؛ فإنها مالكة، والمالك لا يستحق على مملوكه ديناً. قال: وهذا فيه نظر، فإنَّ المهر جُعِلَ ثمناً، وملك رقبة العبد لا يحصل إلا بإزاء سقوط المهر لأجل الثمنية. ثم إذا سقط المهر بهذا السبب -وهو مقتضى المعاوضة- فكيف يقال بعد ذلك: إذا ملكته، سقط بالملك عنه؟ ثم يسقط عن السيد كما يسقط الدَّين عن الكفيل ببراءة الأصيل؟ هذا قول الشيخ واستدراكُه. 8590 - وفي المسألة نظرٌ دقيقٌ، فنقول: ما ذكره القفال وجلّى فيه رؤياه، ثم مراجعته المشايخ وتقريرهم إياه يُخرَّج على قاعدةٍ سنصفها، فنقول: اختلف أئمتنا في أنَّ من ملكَ دَيْناً على مملوك لغيره، ثم ملك ذلك المملوك، فهل يسقط الدين [سقوط] (3) انبتات؛ حتى إذا عَتَق، لم يطالبه المولى، أم يبقى الدين في ذمته وتسقط الطلبة في الحال، لتحقق إعسار العبد في حق المولى؟ فإنَّ ما يؤدي العبد الديونَ [منه] (4) في ديون المعاملات الكسبُ، وهو ملك المولى، وفائدة بقاء الدين في ذمته أنه إذا أعتق، طالبه إذ ذاك. فنعود ونقول: المهر لا يسقط بعد المسيس. هذا ما عليه التفريع، فإذا كان المهر لا يسقط بحكم النكاح، فالمرأة إذا ملكت زوجها، فهل تستحق عليه الدين أم يسقط؟ قال القفال: إن قلنا: لا يسقط، فالمسألة لا تدور والبيع يصح، ولئن

_ (1) في الأصل: وأسقط المهر. (2) في الأصل: تصرف القفال. (3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق. (4) في الأصل: منها.

تعذّرت مطالبة المملوك لإعساره، فلا تعذر في مطالبة الضامن. وإن قلنا: يسقط الدين عن المملوك بطريان ملكِ مستحِق الدين على رقبته، قال: فالمسألة تدور؛ فإن المهر يسقط بعلة طريان الملك وإن لم يسقط بعلةٍ في النكاح من فسخ أو انفساخ، فإذا كان الدين يسقط، فالمسألة تدور، وإن خالفت عِلَّةُ الإسقاط بعد المسيس عِلَّته قبل المسيس. وقد حكينا استدراكَ الشيخ أبي علي. وللمذهبين عندي وجهان إذا ذكرناهما، بان بهما حقيقةُ المسألة فنقول: إذا فرعنا على أن الدين يسقط بطريان الملك، فله مسلكان: أحدهما - أن يسقط الدين بملك الرقبة، كما ينسفخ النكاح بملك الزوج أو الزوجة، هذا وجه. والوجه الثاني - أن يملك الدينَ على العبد، ثم يسقط، كما يملك من يشتري أباه الأبَ، ثم يعتِق عليه، فإن جعلنا نفسَ ملك الرقبة مسقطاً للدين، فمعناه أنه لا [يضادّه] (1) بل يعاقبه معاقبةَ الضد، فعلى هذا تدور المسألة، كما قال القفال؛ فإنَّ الملك وسقوطَ الديْن بعِلَّتِه، ووقوعَ الثمن، يُفرض على اقترانٍ ليس [فيه] (2) تقدم ولا [تأخّر] (3)، فيلزم من هذا ما ذكره القفال. وإن قلنا: من طرأ ملكُه يملك الدين ويسقط- كما ذكرناه في شراء القريب، فيتجه على هذا ما قاله الشيخ؛ فإن الدين إنما يسقط بتقدير ملك الدين وتعقيب السقوط إياه، فإذا صار الدين مستغرقاً بالثمنية، لم يسقط بالملك؛ لأنه لا يدخل في الملك مع الرقبة، حتى إذا دخل سقط. فإن قيل: هل يتوجه تصرفُ الشيخ قبل المسيس؟ قلنا: لا، فإنَّ المهر يسقط قبل المسيس -على القول الأصح- بالفسخ الواقع قبل المسيس، ولا ينتظم فيه ما تكلفناه بعد المسيس للشيخ أبي علي من تقدير ملك الدين وترتُّبِ السقوط عليه. والذي يوضح ذلك أنَّ استيعاب المهر مع جريان الفسخ المسقط للمهر محال،

_ (1) في الأصل: يضامّه. والمثبت من (صفوة المذهب). (2) في الأصل: فيها. (3) في الأصل: تأخير.

ولهذا نص الشافعي على قول التفريق فيه إذا اختلعت المرأةُ نفسها بصداقها قبل المسيس؛ فإنَّ نفس الاختلاع يوجب التشطير، ولا يثبت العوض إلا على ما يقتضيه الخلع من التشطير، وهذا بَيِّنٌ. 8591 - ثم ذكر الشيخُ مسألةً فرضها، وصور [الدَّوْرَ] (1) فيها، ونحن نذكرها على وجهها، فنقول: إذا سلَّمَ السيدُ ديناراً إلى عبده، وأذن له أن يتزوج به حرةً، فإذا تزوجها [بذلك الدينار] (2)، وسلمه إليها، ثم إن السيد باع ذلك العبدَ من زوجته بذلك الدينار الذي قبضته صداقاً، وهي غيرُ ممسوسة، قال: لا يصح البيع للدَّوْر، وتدور المسألة، لمكان وقوع الفسخ قبل المسيس. وذكر هذه المسألة بعد المسيس، وأجرى فيها (3) جوابَي القفال في مسألة الرؤيا. وهذا فيه نظر بيِّن، فإذا وقع البيع بعد المسيس، فيجب القطع بصحة البيع، فإنَّ ما قدمناه في دينٍ في ذمة العبد يسقط على تقديرٍ قدمتُه، وإذا كان المهر عيناً، وقد ملكتْه قطعاً، واستقر ملكها فيه، فطريان الملك على الرقبة كيف يؤثر!؟ وهذا أراه وهماً وغلطاً (4)؛ فإنَّ القفال بنى كلامَه على سقوط الدين عن ذمة العبد، ثم على سقوطه عن ذمة السيد؛ من حيث كان العبدُ أصيلاً والسيدُ كفيلاً، وشيء من هذا لا يُتخيل في الصداق المعين. فرع: 8592 - يشتمل على مُعادٍ وزوائدَ مستفادة. إذا أذِن السيد لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً ووطىء، ففي متعلّق المهر اختلافٌ مشهور، ولو نكح بغير إذن سيده نكاح شبهة، فوطىء، ففي متعلق المهر اختلافُ أقوال أيضاً: أحدها- إنه يتعلق برقبة العبد. والثاني - يتعلق بذمته، فإن النكاح لم يجر بإذن السيد، فلم يتعلق المهر بكسبه، فرجع ظاهر ما ذكره الأصحاب إلى قولين وسيتبين قولٌ ثالث مفصِّل.

_ (1) في الأصل: " الديون". (2) في الأصل: بغير ذلك الدينار. (3) عبارة الأصل: وأجرى القفال فيها جوابي القفال. (4) في الأصل: وهما غلطا.

قال ابن الحداد: وإن نكح حرةً بإذنها أو نكح أَمَةً بإذن سيدها، لم يتعلق المهر بالرقبة، وإن نكح امرأةً بغير إذن سيدها ووطئها، فيتعلق المهر بالرقبة في هذه الصورة. فمِنْ أصحابنا مَن وافقه على تفصيله. فيقول: إن نكح أمةً بغير إذن سيدها، فيجب القطع بأن المهر يتعلق بالرقبة إذا وطىء، وإن كان بإذن السيد أو كان ذلك مع حرة، فيتردد القول في متعلق المهر. ومن أصحابنا من قال: إذا نكح أمةً بغير إذن سيدها ووطئها؛ فلا نقطع بتعلق المهر بالرقبة، بل نخرِّج المسألةَ على الاختلاف؛ فإن لرضا الأمة تأثيراً في الجملة، وإن لم يأذن السيد، والدليل عليه: أن الأَمَةَ إذا طاوعت على الزنا، فلا مهر لها على أحد الوجهين. فينتظم في متعلق المهر أقوال: أحدها - إنه يتعلق بالرقبة من غير فصل. والثاني - إنه لا يتعلق بالرقبة من غير فصل. والثالث - إنه يفصل بين الحرة وبين الأمة تنكح من غير إذن سيدها. فرع: 8593 - إذا نكح الرجلُ أَمَةً نكاحاً فاسداً ووطئها، فعليه مهر مثلها، ثم يعتبر مهر مثلها بوقت الوطء دون العقد؛ فإنَّ العقد لم يُفد ملك البضع، بل لغا وفسد، فلا حكم له، وليس ذلك كنكاح المفوضة. [فإن] (1) لم نوجب بنفس العقد مهراً، ثم أوجبناه عند الوطء، فقد نعتبر في مقدار مهر المثل كمالَها يوم العقد، وذلك أن النكاحَ ملَّك البضع وأفضى إلى استيفائه، فكان اعتبارُ وقته محمولاً على كونه مملِّكاً للبضع، مفضياً إلى التسليط على الوطء، وهذا المعنى لا يتحقق في النكاح الفاسد. ثم إذا وطىء الرجل المرأة في نكاح فاسد مراراً مع اتحاد الشبهة، فلا يلتزم إلا مهراً واحداً إجماعاً، ولو وطئها مع اتحاد الشبهة، وهي هزيلة ومهر مثلها خمسمائة، ثم حسنت، فوطئها مرة أخرى -والشبهة واحدة- ومهر مثلها ألف، فيلتزم الواطىء أكثرَ المهرين؛ فإنَّا نُقَدّر كأنَّ الوطء الأول لم يكن.

_ (1) في الأصل: فإنا.

والذي يحقق ذلك أن الحدود على الاندراج والتداخل، وهي مبنية على الاندفاع، فلو زنا عبدٌ في رِقِّهِ، ولم نُقم عليه الحد، فَعَتَقَ، [وزنا] (1) في الحرية، فإنا نقيم عليه حدَّ الأحرار. فإن قيل: الأب إذا وطىء جاريةَ ابنهِ مراراً، فالشبهة واحدة، وهي حق الإعفاف، فيتحد المهر أم يتعدد؟ قلنا: ذكر الإمام (2) وجهين في ذلك، والمسألة محتملة لترددها بين وطء الشبهة وبين إتلاف المتقومات المتعددة. ويجب القطع بأنَّ الغاصب إذا وطىء الجاريةَ المغصوبة قهراً مراراً، يلزمه بكل وطأة مهر جديد؛ فإنَّ ذلك إتلاف محض، وليس فيه تخيل شبهة شاملة تتصف بالاتحاد. فصل 8594 - إذا زَوَّجَ الرجلُ أَمَتَهُ بصداق معلوم، ثم باعها، أو أعتقها، فالمهر بكماله للسيد المزَوِّج؛ سواء اتفق الوطء في ملكه، أو اتفق بعد زوال ملكه، وهذا إجماع. ولو أَجَّرَ عبدَهُ سنةً، فمضى نصف المدة، فأعتقه؛ يجب الوفاء بالإجارة في بقية المدة، ثم هل يرجع بأجر مثل نفسه بعد العتق على سيده في بقية المدة؟ فعلى وجهين. ولا خلاف في النكاح أنَّ الأمة وإن بقيت في النكاح بعد العتق، فلا مرجع لها على سيدها، بل جميع المهر للسيد. ثم إذا باعها السيد، فليس للمشتري أن يحبسها حتى يتوفر الصداق على البائع. وهذا محال تخيله. وكذلك لو أعتقها، فليس لها أن تحبس نفسها، فلو زوّج أمة مفوِّضة، ثم باعها، فإن جرى فرض المهر وهي ملك الأول، فالمهر للأول، وإن جرى الفرض في ملك المشتري، فهذا يبتني على أن مهر المفوضة يجب بالعقد أم لا؟ وقد تمهد هذا فيما مضى.

_ (1) في الأصل: وزوى. (2) " الإمام " يعني والده.

فرع: 8595 - إذا اختلف الزوجان في الصداق، فزعم الزوج أنه أصدقها هذا العبد، فأنكرته، وقالت: بل أصدقتني هذه الجارية؛ فالمذهب: أنهما يتحالفان؛ فإنهما اتفقا على مقابل المهر -وهو البضع- فكان اختلافهما في العوض موجباً للتحالف، وذكر الشيخ وجهاً ضعيفاً أنهما لا يتحالفان؛ فإن الصداق في حكم عقد مفرد عن النكاح، والنكاح على جانب منه، ولذلك لا يرتد برده ولا يفسد بفساده. ثم [إذا] (1) اختلفا في الصداق نفياً وإثباتاً، فلم تجتمع دعواهما على شيء، فكان كما لو قال: بعت منك هذا العبد بألف درهم، وقال المشتري: لا، بل اشتريت منك هذه الجارية بمائة دينار، فلا تحالف والحالة هذه، بل كل واحد منهما منفرد بدعوى لا تعلق لها بدعوى الثاني، فالوجه أن نفصل كل خصومة بطريقِ فَصْلها. والصحيح أنهما يتحالفان. وقد ذكرنا صور التحالف في كتاب البيع، ونحن نقتصر هاهنا على مقدار غرضنا في الصداق. 8596 - فإذا تبين أصلُ الاختلاف، وظهر أن المذهب التحالفُ، فنفرض مسألة ذكرها ابن الحداد، ونخرّجُها على القاعدة. فإذا كان في ملك الرجلِ أُمّ امرأة وأبوها، فنكحها وأصدقها أحدهما، ثم اختلفا، فقال الزوج: أصدقتُكِ أباكِ، وقالت هي: بل أصدقتني أُمي، فالمشهور أنهما يتحالفان، وفيه الوجه البعيد أنهما لا يتحالفان. فنفرع ونقول: إنْ قلنا: يتحالفان، فإن حلفا جميعاً، استحقت المرأة مهر المثل ورَقَّت أمُّها التي ادعت عتْقَها بالإصداق، وأما أبوها فقد عَتَق بإقرار الزوج، ولا نجد بقيمته مرجعاً عليها؛ فإنها مُنكرة، وولاء الأب موقوف؛ من جهة أنه لا يدعيه أحد، هذا إذا تحالفا. فأما إذا حلف الزوج على ما ادعاه وعرضنا اليمين على المرأة، فنكلت، فترق الأم

_ (1) زيادة من المحقق، لاستقامة الكلام.

كما ذكرنا، ويثبت أن الأب صداقٌ، ويعتِق بهذا الحكم، ولا مهر لها سواه، والولاء موقوف أيضاًً؛ لأنها منكرة. وبمثلها لو قال: أصدقتُكِ أباك ونصفَ أمك، وقالت هي: بل أصدقتني أبي وأمي جميعاً، فإن تحالفا، عَتَقَ الأب ونصفُ الأم، فإن كانت موسرة، فيعتق الأب وتمامُ الأم. وإن كانت معسرة، فيعتق الأبُ ونصفُ الأم، ولها مهر مثلها في الصورتين، وعليها قيمة أبويها إن كانت موسرةً، وإن كانت معسرة فقيمة الأب ونصف قيمة الأم، ثم يقع التقاصّ في أطراف المسألة، وكيفما دارت المسألة، فلها مهر مثلها عند التحالف؛ لانفساخ الصداق. وإن حلفت هي، ونكل الزوج عَتَق الأبوان، وإن كانت معسرة؛ فإنه ثبت الصداق على موجَب [قولها] (1)، ولم ينفسخ، وليس لها مهر المثل؛ فإنها استوفت حقها. وإن حلف هو ونكلت، عتق أبوها ونصفُ أمها إن كانت معسرة، وليس لها مهر المثل؛ إذا (2) ثبتت بيمينه جملةُ المقصود. وإن كانت موسرة، عتقا، ولا مهر لها، ويرجع عليها بنصف قيمة الأم؛ لمكان السراية، وقد ثبت عليها دعوى الزوج، فيثبت موجبها. هذا كله تفريع على ظاهر المذهب، وهو أنهما يتحالفان. 8597 - وإن فرعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه الشيخ في أنهما [لا] (3) يتحالفان، فقد قال: إذا ادعت المرأة أن أمَّها صداقُها، وأنكر الزوج، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف رقَّت، وأما الأب؛ فإنه حرٌ بإقراره، ثم قال: لا حلف عليها، ولها مهر مثلها في هذه الصورة. وعلَّل بأن الزوج إذا اعترف بعتق الأب، فلا يتجه منه أن يدعي (4) على الزوجة،

_ (1) في الأصل: على موجَب ولها. (2) إذا: هنا بمعنى (إذ) وهو استعمال فصيح، بينا صحته مراراً. (3) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (4) أي ليس قوله: أصدقتك أباك دعوى عليها، بل هو دعوى لها.

أي (1) أصدقتك هذا فاستحققتيه، ولسنا نفرع على قول التحالف حتى يتعرض كل واحد منهما للنفي والإثبات، بل نميز الدعوى عن الدعوى، ولا تكاد تصح صيغة في الدعوى للزوج؛ فإنه إذا كان ادعى أنك استحققتيه، [كان هذا] (2) دعوى لها لا دعوى عليها، وإن ادعى عليها أنك لا تستحقين مهر المثل، كان هذا جواب من يدعي عليه، لا ابتداء دعوى؛ فإن المرأة إذا ادعت حقها؛ فالقول قوله في أنه لا حق لك، فإذا انحسم سبيل دعواه عليها -والنكاح ليس عارياً عن المهر بالاتفاق- فلا وجه إلا الرجوع إلى مهر المثل. وهذا الذي ذكره مشكل؛ فإن الصداق ليس ينفسخ إذا كانا لا يتحالفان، فيبعد أن نُثبت لها بطريق الدعوى عليه مهرَ المثل، فليقل الزوج: صداقكِ هذا لا مهرُ المثل. والمسألة محتملة جداً. فرع: 8598 - ذكر صاحب التقريب أنَّا إذا حكمنا بأنَّ الصداق مضمون باليد، وقلنا: إنه مضمون على الزوج ضمانَ غصب، فلو وجدت به عيباً، فالمذهب: أن لها الردُّ، وإن كان من حكم المضمون بالغصب ألا يُردَّ [بالعيب، فإن] (3) من غَصب عبداً وتعيّب في يده، فالغاصب يرده معيباً، ويضمُّ إليه أرشَ العيب. قال صاحب التقريب: قد ذهب بعض أصحابنا إلى أنا إذا جعلناه بمنزلة المغصوب؛ فإذا حدث به عيب في يد الزوج، فليس للزوجة خيار الرد، قياساً على الغصب، ولكن لها أرش العيب بالغاً ما بلغ، قال: ويُحكى ذلك عن أبي حفص الوكيل (4) من أصحابنا.

_ (1) أي أصدقتك هذا فاستحققتيه: هذا تفسير لقوله: أصدقتك أباك. (2) في الأصل: هذا كان. (3) زيادة اقتضاها السياق، وهي نفس عبارة (صفوة المذهب). (4) أبو حفص الوكيل، عمر بن عبد الله، أبو حفص بن الوكيل الباب شامي، الإمام الكبير، من الأئمة أصحاب الوجوه، من نظراء أبي العباس، وأصحاب الأنماطي، ذكره ابن قاضي شهبة في الطبقة الثالثة، وهم الذين كانوا في العشرين الأولى من المائة الرابعة، وقال: إنه توفي بعد العشر وثلثمائة. (ر. طبقات السبكي: 3/ 470، وطبقات العبادي: 71، وطبقات الشيرازي: 110، وطبقات الإسنوي: 2/ 538).

وهذا وإن كان متجهاً في القياس، فهو بعيد في الحكاية. وإذا قال قائل بهذا الوجه، لزمه طردُه على قولنا: إنه يُضمن باليد، ولكن لا يُضمن ضمانَ الغصب، وإن صح هذا مذهباً يفرَّع على مثله، فما ذكرناه في العيب المتجدد في يد الزوج. فأما إذا فرض اطلاعٌ على عيب قديم كان قبل الإصداق، فتغريم الزوج أرشَ العيب بعيد، وإلزام المرأة الرضا بالظلامة بعيد أيضاً، فليتأمل الناظر ذلك. ولا اعتداد على الجملة بما ذكره، وأصلُ (1) المذهب ما قدمناه. وذكر الشيخ -والدي- أبو محمد في الرد بالعيب طريقةً غريبة، فقال: الرد بالعيب يجري لا محالة، ولكن إذا ردت المرأة الصداق؛ فمن أصحابنا من قال: الرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً؛ لأنَّ الصداق ينفسخ بالرد، ونحن إنما نُثبت قيمةَ الصداق إذا تلف في يد الزوج؛ بناءً على أن عقد الصداق قائم، فإذا فُسخ الصداق بالرد، لم يبق متعلَّق. وهذا لا بأس به، ولكن يُفسده اتفاقُ الأصحاب على إجراء القولين إذا كان الصداق حُرّاَ، أو تبين مستحَقاً، فردّ الصداق لا يزيد على اقتران المفسد، فالتعويل إذن على ما قدمناه. فرع: 8599ـ ذكر صاحب التقريب في التفريع على أن عفو الولي عن المهر نافذ، أنا نشترط أن يقع العفو بعد الطلاق. وهذا قد تقدم ذكره، فلو جعل الولي المهرَ بدل الخلع، قال: في المسألة وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأن الشرط إنشاء العفو بعد الطلاق، كما قدمنا تعليله. والثاني - يجوز؛ فإنه وقع مقارناً للطلاق، فالواقع معه كالواقع بعده. فرع: 8599 م- ذكر بعض المصنفين أن من جمع بين نكاح وبيعٍ صفقة واحدة، ففي صحة النكاح قولان، وهذا مدخول. والوجه: القطع بصحة النكاح، والتردد

_ (1) في الأصل: " أصل المذهب ... " بدون واو.

في صحة الصداق وفساده، وإنما أخذ هذا من تردد الأصحاب فيه إذا جمع نكاحَ مستحَلَّة ومحرم في عُقدة، فإنّّ نقْلَ قولٍ في فساد نكاح المستحَلَّةِ مشهور على ضعفه، وجمع الصفقةِ مختلفين من تفريق الصفقة. وهذا غيرُ سديد والوجه ما قدمناه. ***

كتاب القسم والنشوز

كتاب القَسْمِ والنشوز قال الشافعي: " قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ... إلى آخره " (1). 8600 - للرجال حقوق على النساء، كالتمكين، والاستقرارِ في البيت، ويدخل تحت التمكين التنظُّف والاستعداد بالاستحداد وغيره. ولهن على الرجال المهرُ والنفقة والسكنى والكسوةُ، على ما ستأتي حقوقُها مفصلةً -إن شاء الله تعالى-. قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة: 228] فاقتضى الظاهر تشبيه ما لهن بما عليهن، وهذا التشبيه في أصل الحق، والحقان متشابهان في التأكد ووجوب الوفاء به، وليسا متشابهين في الكيفية والصفة. ثم فَسَّر الشافعي: المعروف المذكور في قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، فقال: "وجماع المعروف بين الزوجين كفُّ المكروه، وإعفاءُ صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيُّهما مطل [بتأخيره] (2)، فمَطْلُ الغني ظلم " (3). ومعناه: جملة المعروف بين الزوجين أن لا يؤذي أحدُهما صاحبه، وينكفُّ عن إلحاق مكروه به، فالمرأة لا تؤذي الزوجَ بلسانها أو شراستها، والرجل لا يؤذِيها بوجوه الأذى، ويعفي كلُّ واحد منهما صاحبَه عن مؤنةٍ في طلب حقه، فيوفر الزوج الصداقَ عليها، ولا يحوجها إلى رفعه إلى القاضي، فقد تحتاج إلى بذلِ مؤونة ومعاناةِ مشقةٍ.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 41. (2) زيادة من نصّ المختصر. (3) ر. المختصر: 4/ 41، 42.

وكذلك القول في المرأة فيما عليها له، ولا يُظهر واحد منهما كراهيةً في تأدية حق صاحبه، فالرجل لا يعبس عند إيفاء حقوقها بل يؤديها كاملة على طلاقة، والمرأة لا تعبس إذا قَرِبَها الزوج. ثم قال: " فأيهما مطَلَ فمطل الغني ظلم "، والمطل: مدافعة الحق مع القدرة على التأدية، ولفظ " الغني " لا يختص باليسار والثروة، بل كل متمكن من تأدية حق مستقلٍّ به، فهو في حكم الغني. وللغني في أسماء الله تعالى معنيان أحدهما: المقتدر، والثاني: البريء عن الحاجة. ومن حقوق المرأة على الرجل القَسْم، وهذا الكتاب بأبوابه معقودٌ له لا غير، فإن تطرق إليه حكم آخر، لم يكن مقصوداً بالكتاب. 8601 - فنبتدىء، ونقول: الرجل لا يخلو إما أن يكون ذا زوجة واحدة، وإما أن يجمع بين زوجتين فصاعداً، فإن كان ذا زوجة واحدة، فلا يلزمه أن يبيت عندها، ولو لم يدخل عليها قط، فلا طَلِبةَ عليه إذا كان يوفيها حقوقها، والذي يقتضيه أدب الدين ألا يعطّلَها، فقد يُفضي تعطيلُها -إذا هي تاقت- إلى الفجور، وفي تعطيلُها إضرارٌ بها، ولست أُبعد إطلاَق لفظ الكراهية في تعطيلها، فإنَّا نسمح بإطلاق هذا اللفظ دون هذه الأمور التي أشرنا إليها. وقد حُكي عن أبي حنيفة (1) أنه قال: ينبغي ألا يخليَ أربعَ ليالٍ عن ليلةٍ يقيم فيها عندها؛ فإنَّ أقصى ما يفرض من النسوة تحته أربع، ثم ينالُها من القَسْم ليلةً من أربع ليال. وهذا غير مرضي عند أصحابنا؛ فإنَّ اعتبار أقدار الليالي حيث لا قَسْمَ محال، ولو نظر ناظرٌ إلى الإضرار ومؤنة أربعة أشهر، كان بعيداً، فإن كان الضرار لا يدفعه إلاَّ الاستمتاع، فهذا (2) غير مرعي في المبيت الذي نقرر القول فيه.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 190، البدائع: 2/ 333. (2) في الأصل: وهذا.

8602 - وإن جمع بين نسوة [أو] (1) بين امرأتين، ثم أراد الإضراب عنهن؛ فلا معترض عليه، وهُنَّ بجملتهن -إذا أَعرض عنهن- كالزوجة الواحدة، فإن بات عند واحدة منهن، لم يكن له تخصيصها، بل عليه أن يَقسم بينهن ويسوي في المبيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، حُشر يوم القيامة وأحدُ شقيه مائل " (2). والذي ذكرناه من الأمر بالتسوية إنما هو فيما يتعلق بالأفعال، وأما القلوب، فلا يملكها إلاَّ مقلبُ القلوب، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]. قال المفسرون: لن تستطيعوا أن تعدلوا بالقلوب، فلا تتبِعُوا أهواءكم أفعالكم؛ [فإن] (3) من أتبع هواه فِعلَه، فقد مال كل الميل، فكان ميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه بَيِّناً، وكان يحاول التسويةَ بينهن فعلاً، ويقول: " اللهم هذا قَسْمى فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك " (4). وكان ذلك مشهوراً في الصحابة رضي الله عنهم، حتى

_ (1) في الأصل: وبين. (2) الحديث: "من كان له امرأتان ... " رواه أحمد في مسنده: 2/ 347، والدارمي: 2/ 193، ح 2206، وأبو داود: كتاب النكاح، باب القسم، ح 2133، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، ح 1141، والنسائي: كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه، ح 8890، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، ح 1969، وابن حبان رقم 4194، والحاكم: 2/ 186، وانظر (التلخيص:3/ 408 ح 1711). (3) في الأصل: قال. (4) حديث: " اللهم هذا قسمي فيما أملك ... " رواه أحمد، والدارمي، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم عن عائشة، بلفظ: "هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " وأعلّه النسائي، والترمذي، والدارقطني بالإرسال. (ر. المسند: 6/ 144، وسنن الدارمي: 2/ 193، ح 2207، وأبو داود: كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، ح 134، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، ح 1140، والنسائي: كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه، ح 3943، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب القسم بين النساء، ح 1971، وابن حبان: 6/ 203، ح 4192، والحاكم: 2/ 187، وانظر التلخيص: 3/ 290 ح1563).

إن الناس كانوا يحسبون ليلةَ عائشةَ وينتظرون ليلتها، فمن أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، كان يُهديها في ليلتها، فشق ذلك على صواحبها، فأتين فاطمة وشكون إليها وحَمَّلْنَها رسالةً، فبَلَّغنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تحبين ما يحب أبوك، إنَّ جبريل لا يأتيني وأنا في فراشٍ سوى فراش عائشة " (1). وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسعُ نسوة، وهو يقسم لثمان منهن؛ فإنَّ سودة طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: راجعني لأُحشر في جملة نسائك، وقد وهبتُ ليلتي لعائشة فراجَعَها (2)، وقيل:

_ (1) حديث: "إن الناس كانوا يحسبون ليلة عائشة ... إلخ " رواه البخاري أتمَّ من هذا، ففيه استشفاع نساء النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة أوّلاً، وقوله عليه الصلاة والسلام لها: "إن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة " ثم استشفعن ثانيةً بفاطمة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بنية ألا تحبين ما يحب أبوك "، وليس نزول الوحي في ثوب عائشة في جواب فاطمة، وإنما هو في جواب أم سلمة، ثم إنهن أرسلن زينب بنت جحش ثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم. كل هذا عند البخاري. وهو عند مسلم مقتصراً على الاستشفاع بفاطمة وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم على نحو ما في البخاري، ثم الاستشفاع بزينب بنت جحش، وبدون ذكر لتحري ليلة عائشة بالهدايا. وعند النسائي: مقتصراً على الاستشفاع بأم سلمة، بسبب تحري ليلة عائشة بالهدايا، والاستشفاع بفاطمة وزينب في أحاديث أخرى وعند أحمد من حديث أم سلمة وأن الاستشفاع كان بها والجواب على نحو ما في البخاري. (ر. البخاري: كتاب الهبة، باب من أهدى إلى صاحبه، وتحرى بعض نسائه دون بعض، ح2580، وأيضاًً: 2574، 3775، ومسلم: كتاب الفضائل، باب فضل عائشة، ح 2442، والنسائي: كتاب عشرة النساء، ح 3396، 3403، وأحمد: 6/ 293). (2) حديث هبة سودة يومها لعائشة متفق عليه، رواه البخاري: كتاب النكاح، باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك، ح5212، وأيضاًً: 2593، ورواه مسلم: كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، ح 1463. وأما خوف سودة من الطلاق سبباً لهذه الهبة، فقد رواه أبو داود: كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، ح 1235، والترمذي: كتاب التفسير، باب ومن سورة النساء، ح 3040، وكذا عند الحاكم: 2/ 186. أما تطليق سودة ومراجعتها، فهو عند البيهقي: 7/ 75، 297.

أمره الله تعالى بها، فقال: "راجع سودة فإنها صوَّامةٌ قوَّامة " (1). 8603 - وكان صلى الله عليه وسلم لا يُخلّ بالقسْم، ولا يألو جهداً في رعاية التسوية، حتى في مرض موته، قيل: كان يأمر حتى يطاف به على حُجَر نسائه (2) وكان يستبطىء ليلة عائشة، ويقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غداً؟ ففطِنّ مراده، وكان يُمرَّض في بيتِ عائشة إلى أن توفاه الله عز وجل. وعن عائشة أنها قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونحري في الليلة التي لم أظلم فيها أحداً " (3). أرادت أنه اتفقت الوفاة في نوبتها الأصلية التي لم تكن من قِبَل سودة. وقد ظهر اختلافُ الأصحاب في أنَّ القَسْم هل كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كان يفعله تكرماً، كما قدمناه في أول كتاب النكاح، فمن أحلّهن في حقه محل الإماء لم يوجب القَسْم، كما تقدم شرحه في ذكر خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل قال: "وعماد القَسْم الليلُ ... إلى آخره " (4). 8604 - المعتمد في زمان القسم الليل، لأنه سكنٌ، قال الله تعالى: {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص: 72]. وقال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96].

_ (1) حديث: "راجِعْ سودة، فإنها صوامة قوّامة " لما أصل إليه. (2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل في ثوب يطاف به على نسائه، وهو مَريض يقسم لهن " قال الحافظ في التلخيص: رجاله ثقات إلا أنه منقطع (التلخيص: 3/ 290 ح 1562). (3) حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم، كان يسأل أين أنا اليوم، أين أنا غداً، وأنه استأذن أن يمرّض في بيت عائشة، وأنها قالت: توفي صلى الله عليه وسلم في يومي بين سحري ونحري" رواه البخاري حديثاً واحداً: كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، ح 4450، ورواه مسلم أيضاًً، بغير إشارة إلى الاستئذان أن يمرّض في بيت عائشة: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة، ح 2443. (4) ر. المختصر: 4/ 43.

وقد سمى الله تعالى الأزواجَ سكناً، فقال عز وجل: {أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]. وقولنا: "الأصلُ " (1) لا يتبين أثره الآن، وإذا انتهينا إلى تفريع المسائل، أوضحنا ذلك، إن شاء الله عز وجل. ثم إنما يكون التعويل على الليل في حق معظم الناس، وعامة الخليقة؛ فإنهم ينتشرون في مآربهم وأوطارهم نهاراً، فإذا جنَّ الليل، ارتادوا السكونَ في مساكنهم والدَّعَة. فلو فرض شخص يشتغل بالليل ويسكن بالنهار -كالحراس [ومن] (2) في معناهم، فعماد القسم في حقوقهم النهار؛ فإن المتبع فيه أن الأصل في القَسْم وقتُ السكون والدَّعةِ، فإن من ينتشر نهاراً لم يمنع منه، ولم يُلزم أن يدخل على صاحبة النوبة النهار، فإنا لو فعلنا هذا، لانقطع الناس عن معايشهم، ولصار الكافل العائل معولاً مكفولاً. وهذا أحد الآثار في الفرق بين الليل والنهار، كما سنجمعها في فصل بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ولو كان عند الرجل حرائرُ مسلماتٌ ... إلى آخره " (3). 8605 - غرض الفصل أن الكتابيةَ والمسلمةَ في القَسْم متساويتان؛ فإن حقوقهما متساوية، فإذا ساوى حقُّه على الكتابية حقَّه على المسلمة، فيجب أن يتساويا أيضاًً فيما تستحق كل واحدة على زوجها. وحقق الأئمة هذا فقالوا: استمتاع الرجل بالكتابية يتسع اتساع استمتاعه بالمسلمة، ولا ضِرار على ولده منها؛ فإن ولد المسلم من الكتابية مسلم. 8606 - فأما إذا اجتمعت الرقيقة والحرة تحت حر مثلاً بطريق اجتماعهما، فالقَسْم

_ (1) أي قولنا: الأصل في القَسْم الليلُ. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) ر. المختصر: 4/ 43.

بين الحرة والأَمَة على [التفاضل] (1) عندنا وعند أبي حنيفة، خلافاً لمالك (2)، فإنه قال: لا فرق في القسم بين الحرة والأَمَة، وهذا غير سديد. ومعتمدنا: أولاً: ما روى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " للحرة ثُلثا القسم وللأمة ثُلثه " (3). وفراشُ الأَمَة المنكوحة ناقص، وتمكُّنُ الزوجِ من الاستمتاع بها ناقصٌ، ويلحق الولدَ نقصُ الرق، فيليق بهذا ألا يسترسل الزوج في الاستمتاع بها توقياً من الولد، ولذلك لم يثبت نكاح الرقيقة في حق الحر إلا في محل الحاجة. فإذا ثبت ذلك؛ فإذا كان تحته حرة وأمة، فالحرة على ضعف الأَمَة في القسم، فيقسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة. 8607 - ثم إذا فرض طريان العتق على الأمة؛ فأصل المذهب لا غموض فيه، ولكن قد تلتبس الصور، فالأَولى الاعتناء بتفصيل الصور، [فنبدأ] (4) بذكر التفصيل فيه إذا وقعت البدايةُ في نُوَب القَسْم بالحرة، ثم نذكر إذا ما وقعت البداية بالأَمة. فإن وقعت البداية بالحرة، فعتقت الأمة، فلا يخلو إما أن تعتق في نوبة الحرة، أو في نوبة نفسها، فإن في نوبة الحرة، وكان يقسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة، فالجواب المجمل إلى أن يُفصّل -أنها إذا عتقت في نوبة الحرة، صارت بمثابة الحرة الأصلية في القَسْم في مستقبل الزمان، وكأنَّ الرقَّ لم يكن، والتفصيل أنها إذا أعتقت في الليلة الأولى من ليلتي الحرة، فيكملُ الزوج الليلةَ الأولى للحرة، ثم هو بالخيار إن شاء اقتصر في حقها على هذه الليلة، وأقام عند العتيقة ليلة، ثم استدار عليهما ليلة ليلة،

_ (1) في الأصل: التفاصيل. (2) ر. المدونة: 2/ 198، الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 7232 مسألة رقم 1307. (3) حديث: "للحرة ثلثا القسْم وللأمة ثلثه ": "رواه البيهقي من حديث سليمان بن يسار بهذا المعنى، ورواه أبو نعيم في المعرفة من حديث الأسود بن عويم، وروي عن علي مرسلاً " كذا قال الحافظ في التلخيص: 3/ 409 ح 1716، وانظر السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 299، 300). (4) في الأصل: "فنقول".

وإن أراد أن يقيم عند الحرة ليلتين [فإنه يقيم عند العتيقة ليلتين] (1) أيضاًً، فإنها التحقت بالحرة الأصلية، كما ذكرنا أولاً. ولو عتقت في الليلة الثانية من ليلتي الحرة، فإن أراد أن يتم تلك الليلة، ويقيم في بقيتها عند الحرة، فله ذلك، كما تقدم، ثم يقيم عند العتيقة ليلتين أيضاًًً، وإن كانت تلك الليلة قد تشطرت، فأراد أن يخرج في وسط الليل إلى العتيقة ويقيم عندها ليلة ونصفاً، فيجوز ذلك، ولو كان وَضْعُ القَسْم ابتداءً على أنصاف الليالي، لم يجز؛ فإنَّ تبعيض الليالي يُفسد غرضَ السكن وما فيه من مستمتَع. ولكن إذا طرأ العتق في أثناء الليلة الثانية من ليلتي الحرة، فربما يبغي الزوج أن يجعل القَسْم ليلة ليلة، ولو استتم نوبة الحرة ليلتين، لاحتاج إلى أن يقيم ليلتين عند العتيقة، فإذا لم يرد ذلك، فله أن يبعِّض هذه الليلة، ويرعى التسوية بينهما، وليس كما لو طرأ العتق في أثناء الليلة الأولى في نوبة الحرة؛ فإن نوبةَ القَسْم لا تنقُص عن ليلة في وضعه. 8608 - ومما ذكره الأئمة في ذلك أن العتق لو جرى في الليلة الثانية، فأراد الزوج أن يفارق الحرة في بقية تلك الليلة ويبيت عند صاحبٍ له، فإذا فعل ذلك، فأراد أن يبيت عند العتيقة ليلة ويدور إلى الحرة بليلة ويدير النوبتين كذلك؛ قال الصيدلاني: له هذا، وما مضى من الليلة غيرُ محسوبٍ عليه، وهو مختطفٌ من البَيْن؛ فإنَّ ما جرى من التبعيض أفسد تلك الليلة، حتى كأنه لم يُقم في شيء منها عند الحرة، وهذا يؤكده تمهيد (2) عُذر الزوج؛ فإنه كان يتمادى على موجب الشرع في تفضيل الحرة، ثم كما (3) بلغه أتلف. وهذا الذي ذكره خارج عن القياس في وجوب رعاية النَّصَفة، وتعيّن اعتبار التعديل، وتنزيل العتيقة إذا طرأ عتقها على نوبة الحرة منزلة الحرة الحقيقية،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) تمهيد عذر الزوج: أي قبوله. يقال: مهّدتُ له العذر: أي قبلته. (3) كما: بمعنى عندما أو لمّا وقد أشرنا مراراً أنه من الاستعمالات غير العربية ولا الصحيحة.

لا [تدرؤه] (1) التخاييل. فإذا كنا نقول: إذا أكمل للحرة ليلتين يبيت عند العتيقة ليلتين، فإذا بات عند الحرة ليلةً ونصفَ ليلة، ثم أراد أن يبيت عند العتيقة ليلة، فهذا قسْم على التفاضل، وسنذكر مناقشاتٍ (2) للأصحاب في أنصاف الليالي في المسائل التي ستأتي -إن شاء الله عز وجل-، فالوجه: القطع بأنه يُحسب عليه ما مضى من الليل. فترتب من مجموع ما ذكرناه أن العتق إذا جرى في أثناء الليلة الأولى، فلا بد من إكمالها، ثم للزوج الخيار بين أن يدور بعد انقضائها إلى العتيقة، ويبيت عندها ليلة، فيردّ النوبة إلى ليلةٍ ليلة، وبين أن يبيت عندها إلى تتمة الليلتين، ثم يقيم مثلها عند العتيقة. وإن جرى العتقُ في أثناء الليلة الثانية على الشطر مثلاً؛ فللزوج ثلاثة أحوال: إحداها - أن يتمها، ثم يمكث عند العتيقة ليلتين، والأخرى - أن يدخل على العتيقة في نصف الليل، ويقيم عندها ليلة ونصف، ثم يرتب من النوبة ما يريد، ويجتنب في وضع القَسْم تبعيضَ الليل في المستقبل، كما سنصفه، إن شاء الله عز وجل. والحالة الثالثة - أن يخرجَ إلى صديق أو مسجد ويبيتَ (3) فيهما، قال الصيدلاني: إن ما مضى من الليل لا يحسب عليه، وقد أرى الأمر بخلاف ذلك، وكل هذا فيه إذا كانت البداية بالحرة وقد عتقت الأمةُ في نوبة الحرة. 8609 - فأما إذا انقضت نوبة الحرة بكمالها ليلتين، وانتهت النوبة إلى الأمة، فعتقت في أثناء ليلتها؛ فالعتق الطارىء على نوبتها يثبت لها كمالَ نوبة الحرة، فيبيت عندها ليلتين، وحكم الطارىء إذا كان يقتضي كَمَلاً أن يقتضيَه إذا جرى قبل استيفاء حظ العبودية، ولذلك قلنا: إذا عتق العبد وقد طلق امرأته طلقة واحدة، فالعتق يُملّكه تتمة ثلاث طلقات. وهذه الصورة التي ذكرناها في القسم أبعد عن اقتضاء مساواة الحرة من الصورة الأولى، وذلك أن نوبتها دخلت وهي على الرق، ثم ألحقناها بالحرة للعتق الطارىء،

_ (1) في الأصل: " تدرؤها " ولعل هذا من آثار عجمة قديمة لدى الناسخ. (2) في الأصل: في منافسات. (3) في الأصل: وبات.

وفي الصورة الأولى كملت الحرية فيها، وتقدمت على أول نوبتها، فوافاها أول النوبة وهي حرة فيها. وما ذكرناه لم نقصد به الفرقَ بينهما؛ فإن الحكم في الصورتين واحد، ولكن أردنا التنبيهَ على حقيقة الحال، وترجح إحدى الحالتين من طريق المعنى على الأخرى. ولو وفَّى الحرة نوبتها ليلتين، ثم وفَّى الأمة نوبتَها ليلة، ثم عاد إلى الحرة، فعتقت الأمة، فما مضى من النوبة في الرق لا التفات إليه، ولا يتوقع فيه مستدرك؛ فإنَّ العتقَ وقع بعد انقضاء تلك النوبة، وإنما يفيد العتقُ إلحاقَ الأمة بالحرة إذا طرأ في نوبة الحرة، أو في نوبة الأمة، فإذا انقضت نوبتان على رقها، ثم طرأ العتق في الثانية للحرة؛ فالنوبتان الماضيتان لا سبيل إلى تعقبهما بالتغيير، فإنا لو نقضناهما، لتعقبنا نُوَباً، وهذا يجرّ تغيير نُوَبَ الرق والحرية في سنين، ولا سبيل إلى التزام ذلك، نعم، إذا طرأ العتق في النوبة الثانية للحرة، فالعتيقة في هذه النوبة كالحرة. وشبّه الفقهاء النوبةَ الأولى الماضيةَ في الرق أنها لا تعتبر، بما إذا طلق العبد امرأته طلقتين، ثم عتق وتحته زوجةٌ لم يطلقها، فالتي بانت البينونة الكبرى قبل العتق باستيفاء عدد العبيد فيها لا تتغير، وهي محرَّمة حتى تنكح زوجاً غيره، والعتق يفيده في الزوجة التي لم يطلقها، أو طلقها طلقة واحدة- تمامَ العدد. 8610 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البداية بالحرة في أول النُّوَب. فأما إذا وقعت البداية بالأَمة، ووضْع القَسْم على أن يقسم لها ليلة وللحرة ليلتين، فإذا فرضنا عتق الأمة؛ فلا يخلو إما أن تعتِق في نوبة نفسها، وإما أن تعتق في نوبة الحرة، فإن عتقت في نوبة نفسها، التحقت بالحرائر، وللزوج الخيار إن شاء اقتصر على هذه الليلة، ثم يقسم للحرة الأصلية ليلة واحدة أيضاًًً، وإن أراد أن يبيت عند العتيقة ليلتين، فلا معترَضَ عليه ويبيت عند الحرة الأصلية ليلتين. والجملة في ذلك أن الأمة إذا أعتقت في نوبتها، قدَّرنا كأنَّ الرقَ لم يكن وصورناها كالحرة (1) الأصلية.

_ (1) في الأصل: كالحرية.

فأمَّا إذا مضت نوبة الرقيقة على الرق، وانتهت النوبة إلى الحرة، فاُعتقت الأمة؛ قال الأئمة المحققون: يتعين على الزوج أن يوفيَ الحرةَ ضعفَ ما وفَّى الأمةَ، فإن قال: أوفّي الحرة ليلة، والعتيقة بعدها ليلة، وأردّ النوب إلى أفراد الليالي قلنا: لا، فإن شئت ذلك، فلا معترض عليك في الاستقبال، ولكن بعد توفية حق الحرة. وإذا استوفت الأمة ليلةً، وانقضت نوبتها، استقر في الذمة للحرة ضعفُ ما كان للأمة، والليلة الواحدة في حق الأمة كالليلتين في حق الحرة. فإذا وفَّى الحرة ليلتين، فلو أراد بعد ذلك أن يرد القسْم إلى ليلة ليلة، فليفعل، ولا معترض. 8611 - وتحقيق ذلك أنه لو كانت تحت الزوج حرتان، فكان يقسم ليلتين ليلتين، فلو قسم لإحداهما ليلتين، ثم لما انتهى إلى الثانية قال: بدا لي أن أرد النوبة إلى ليلة ليلة؛ قلنا له: وفّ الثانية ليلتين، فإذا انقضتا، فافعل ما شئت، فالليلة الماضية في حق الرقيقة كالليلتين في حق الحرة. هذا تمام البيان. وقد رأيت هذه الصور مستقلةً بإفادة المقصود على أحسن نظام. 8612 - ومما نلحقه بما تمهد؛ أن العتق إذا جرى في يوم الأمة كما لو جرى في ليلتها، وكل امرأة لها ليلة أو ليال، فلها مع كل ليلة يوم، وذلك اليوم محسوب من نوبتها، فإذا جرى العتق فيه كان كما لو جرى في ليلتها؛ فإن اليوم من النوبة. 8613 - والعتق في بعض الأمة لا حكم له ما لم يتم. وهذا كما أن العتق في بعض الأمة لا يثبت لها حق الفسخ إذا كان زوجها رقيقاً. ثم قال: "وللأمة أن تُحلّله من قَسْمها ... إلى آخره " (1). 8614 - سنذكر على الاتصال فصلاً في هبة المرأة حقها من القَسْم، والذي يتصل بهذا المقام أن الأمة إذا أسقطت حقَّها من القَسْم؛ فلا معتَرَض عليها. وليس للسيد بعد إسقاطها أن يطلب حقها، فإنَّ ذلك من حقوقها الآيلة إلى جبلّتها، وما كان كذلك فسبيله التفويض إليها، [وكذلك نقول إذا آلى الزوج عن

_ (1) ر. المختصر: 4/ 43.

زوجته الأمة] (1)، فحق الطلب للأمة، وكذلك إذا عنَّ عنها، فالطلب على التفصيل المعلوم يثبت لها، لا مدخل للسيد فيه. فصل 8615 - المرأة إذا وهبت نوبتَها، فذلك صحيحٌ منها على ما سنفصل القول فيه. والأصل في ذلك -مع اتفاق العلماء- حديث سودة إذ وهبت نوبتها لعائشة (2). ثم قال الأئمة: إذا وهبت المرأة نوبتَها، فلهبتها ثلاثُ صيغ: إحداها - أن تُعيِّن لهبة نوبتها واحدةً من ضَرّاتها، والأخرى - أن تطلق الهبة ولا تعيِّن واحدةً، والثالثة - أن تقول: وهبت نوبتي لك أيها الزوج، فضعها حيث شئت، وإن أردت، فاقسمها على جميع ضراتي. 8616 - فأما الصيغة الأولى - وهي إذا عينت واحدة من ضرائرها، فأقل ما نذكره: أن هذه الهبةَ شرطُها أن يساعِد الزوج عليها، فلو أراد الزوج أن يقيم عند الواهبة كما كان يقيم عندها قبل الهبة، فله ذلك؛ فإنها تملك إسقاط حق نفسها، فأما إسقاط حق مستمتَعٍ للزوج، فمحال. وإذا لاح هذا، هان أمر الهبة، ورجع إلى أنه لو لم يبت عندها برضاها، جاز. ولكن إذا عيَّنت واحدة من الضرات، تعيَّن صرف الهبة إليها، فلو قال الزوج: أنت قد أسقطت نوبتك، وأنا أصرفها إلى من أشاء، قلنا له: ليس هذا إليك. وهذا (3) فيه إشكال [يحتاج] (4) إلى أن يُجاب عنه. وذلك أن تركها نوبتَها ليس حقاً [يُبذل] (5)، بل هو حق يترك، [وتعيين] (6) الموهوبة يشعر بمضاهاة الهبةِ الهباتِ

_ (1) في الأصل: وذلك نقول الزوج إذا آلى عن زوجته الأمة. (2) مرّ آنفاً تخريج حديث سودة. (3) في الأصل: وهذا ليس فيه إشكال. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: ببدل. (6) في الأصل: وتعين.

التي تتعلق بما يجوز بذله. والجواب: [إنها] (1) لم تعينها [بهذا] (2)، ولكنَّ ترْكها حقَّها [هذا] (3) مشروط بهذا، [فكأنها] (4) رضيت بترك حقها على شرط أن يوضع في التي عَيَّنتها، والدليل عليه أنَّا لا نشترط قبولَ الموهوب [لها] (5)، بل لو أبت، فالزوج يبيت عندها على الرغم منها (6)، فهذا بيان هبتها من واحدة من ضراتها. ومما يتعلق بذلك أنها إذا وهبت؛ فالهبة لا تلزم، فمهما أرادت أن ترجع رجعت، وهذا متفق عليه؛ لأن هبتها لم تشتمل على عينٍ تحتوي عليها يد، وإنما تركت حقاً يتجدد لها شيئاً فشيئاً. 8617 - ثم الذي أطبق عليه معظم المحققين أنها إذا رجعت؛ فالهبة مستمرة إلى أن يبلغ [خبرُ] (7) رجوعِها الزوجَ، فلو مضت نُوبٌ [و] (8) الزوج لم يشعر برجوعها، فتلك النوب لا مستدرك لها، ولذلك قالوا: لو أباح [رجلٌ] (9) لإنسان [ثمار بستان] (10) أو غيرها مما يقبل الإباحة، فكان المستبيح يتمادى على تعاطي ما أُبيح له، فلو رجع المبيح، ولم يبلغ رجوعُه من أبيح له؛ فالإباحة دائمة قائمة في حقه. قال شيخي: إذا رجعت المرأة ولم يشعر الزوج، فالمسألة تخرج على القولين المعروفين في أن الموكِّل إذا عَزَلَ الوكيلَ ولم يبلغ العَزلُ الوكيلَ، فهل ينعزل؟ على قولين، وهذا الذي ذكره جار على ظاهر القياس، ولكن اشتراط بلوغ الخبر أغْوص

_ (1) في الأصل: إنما. (2) في الأصل: لهذا. والمعنى أنها لم تبذل لها هذا الحق، والذي ليس في حقيقته من الحقوق التي تبذل. (3) في الأصل: وهذا. (4) في الأصل: فكانت. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) أي على الرغم من الموهوب لها. (7) في الأصل: جر. (8) الواو مزيدة من المحقق لاستفامة المعنى. (9) في الأصل: رجلاً. (10) في الأصل: بيمارستان.

وأفقه؛ فإنَّ حقيقة القَسْم لا تؤول إلى حقٍّ مستحق يوفّى ويستأدى (1)؛ ولهذا قُلنا: لو أعرض الزوج عن جميعهن، فلا طَلِبة عليه، لكنه إذا بات عند واحدة، لزمه أن يبيت عند الباقيات، فالغالب على القَسْم اجتناب ما يتداخلُهن من الغضاضة والأنفة بالتخصيص، فإذا سمحت واحدة بإسقاط حقها، فلا يتحقق من الزوج قصد التخصيص ما لم يبلغه خبرُ رجوعها، وكل ما ذكرناه فيه (2) إذا وهبت [وعيّنت] (3). 8618 - فأما إذا أطلقت الهبة ولم تخصص بها ضرة، ولم تُضفها إلى مشيئة الزوج، فإذا رضي الزوج بهذا، كان حكم هبتها أن تخرج من حساب النُّوب، وتنزل -إذا وهبت- منزلتَها لو بانت (4). فإذا كُنَّ أربعاً فوهبت واحدة نوبتها على الصيغة التي ذكرناها، وكان الزوج يقسم بينهن ليلة ليلة، أو كما يريد، فترجع فائدة هبتها إلى سقوط مزاحمتها وسرعة العود إلى كل واحدة. 8619 - فأما الصيغة الثالثة في الهبة وهي: إذا [قالت] (5) للزوج: وهبت نوبتي منك، فضعها حيث تشاء، وخَصِّصْ بها من تشاء، فهذا مما اختلف فيه جواب الأئمة. فالذي قطع به شيخي واشتمل عليه تعليقه: أنَّ الهبة تقع على هذا النسق، فالزوج بالخيار، فإن شاء فض (6) نوبتها عليهن، كما لو أطلقت الهبة، وإن شاء خصص واحدة منهن. ووجه ذلك أن صاحبة الحق وهبت ذلك. وقطع الصيدلاني جوابه نقلاً عن القفال بأنَّ الزوج لا يخصص واحدة منهن، والهبة المنوطة بمشيئته بمثابة الهبة المطلقةِ أو المضافةِ إليهن. وهذا الذي ذكره فقيهٌ حَسن؛ وذلك لأنها إذا أسقطت حقها، فالزوج لا يستفيد

_ (1) ويستأدى: أي يطلب أداؤه. (2) في الأصل: فيه أن إذا وهبت. (3) في الأصل: عتقت. (4) أي تصير كما لو طلّقت. (5) في الأصل: قال. (6) فضّ: قَسَم.

منها حقاً، وإنما هي تركت ما لها، فصار كأنها لم تكن، والحق الحقيقي للزوج، وليس لآحاد النسوة، إلاَّ ما أشرنا إليه من حق التسوية. فإذا أخرجت نفسها من البَيْن، صار كأنها لم تكن، واستعمل الصيدلاني في ذلك عبارة حسنةً واقعة، وذلك أنه قال: ليس له أن يقول: أجعل هذه الليلة [لواحدة] (1)؛ فأبيت عندها ليلتين؛ إذ ليس للزوج أن يعد نفسه كإحداهن، فيثبت له ليلة من الهبة، وحقيقة هذا أنَّ الحق له، والتخصيص للنسوة. ووجه ما ذكره شيخي أنها لو قيَّدت هبتها بتعيين ضرتها، تقيدت على تأويل أن هبتها مقيدة بصيغة، فتثبت على مقتضاها، كذلك إذا وهبت على شرط تخير الزوج، فلتتقيَّد هبتُها بمقتضى لفظها. وللصيدلاني أن يقول: إذا ارتفع الحجر عن الزوج، فوَضْعُه النوبةَ فيمن يختارها ميل، وهذا هو المحذور في شَرعْ أصل (2) القسم، وإذا خصصت الواهبة واحدةً، فلا ميل من الزوج. 8620 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الواهبة لو خصصت واحدة من ضراتها واختصت، وكنا رتبنا نُوَبَهن بالقرعة، فإن كانت نوبة الواهبة إلى جنب نوبة الموهوبة، فالأمر قريب، فيجمع الزوج للموهوبةِ نوبتَها ونوبةَ الواهبة. وإن كانت نوبة الواهبة منفصلة عن نوبة الموهوبة بليلة أو ليلتين، فإذا وهبت، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يأتي في حق الموهوبة بالليلتين وِلاءً؛ فإنها إذا كانت تستحق ليلتين، فلا معنى لتفريقهما عليه. والوجه الثاني - أنه يأتي بالليلتين على ما يقتضيه ترتيب نوبة الواهبة والموهوبة، حتى إن كانت نوبة الموهوبة في أول النوب، فيوفيها نوبتها، ثم يوفي التي لم تهب، حتى ينتهي إلى نوبة التي وُهبت، فيعود ويبيت عند الموهوبة تلك الليلة. 86201 - ومما ذكره الشافعي في آخر هذا الفصل: أن الاعتياض عن حق القسم غير

_ (1) في الأصل: الواحدة. (2) في الأصل: أهل.

جائز، والأمر على ما ذكره، ولا يجوز الاعتياض عن أمثال هذه الحقوق؛ فإنها في التحقيق تخصيصاتٌ تتعلق بالأَنَفةِ وطلبِ التسوية، ولا مسوِّغ للاعتياض عما هذا سبيله، وإذا منعنا الشفيع عن الاعتياض عن حقه من الشفعة، فلأن نمنع هاهنا من الاعتياض عن حق القَسْم أولى. فصل قال: "ولا يجامع المرأة في غير نوبتها ... إلى آخره " (1). 8622 - الفصل يشتمل على مقصودين: أحدهما - يتعلق بتحصيل قولنا: عماد القَسْم الليل. والثاني - يتعلق بذكر ما لو جامع في نوبة إحداهن الأخرى. فأما المقصود الأول فقد اشتهر من قول علمائنا أن عماد القسم الليل، وهو السكن، وعليه التعويل، والنهار التابع لليل يتعلق به حقُّ القَسْم أيضاًًً، ولكن لا يتأكد الحقُّ في النهار تأكده في الليل، ونحن نستعين بالله عز وجل ونبين حقيقة ذلك. 8622/م- فأما الليل فليس للزوج أن يخرج من دار واحدة ويدخل على أخرى، فلو [مرضت] (2) امرأةٌ ولم تثقل، فأراد أن يدخل عليها عائداً، فكيف السبيل، وما الوجه؟ أولاً: ليس [له] (3) الدخول على واحدة منهن من غير سبب، فلو فعل، باء بالإثم، وكان ظالماً، ثم إن كان الزمان الذي خرج فيه بحيث [يُحَسّ] (4) ويبين له قدرٌ من الليل، فعليه أن يقضيه لصاحبة النوبة. وفي كلام من نقل عن القاضي أنه [لو] (5) بلغ ثلثاً من الليل، قضى، وهذا ليس

_ (1) ر. المختصر: 4/ 43. (2) في الأصل: فرضت. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: يحسن. (5) زيادة اقتضاها السياق.

بشيء. وإذا كنا نوبّخ خصومنا بالتحكم بالتقدير، فلا ينبغي أن نبوء بمثل ما ننكره، فالأصل عندي أن يكون مقدار المفارقة بحيث لو نسب إلى الليلة، لأمكن أن يقال: جُزءٌ منها. وإن كان في قفته بحيث لا يُدرك جزئيتهُ من الليل، فليس في هذا المقدار إلاَّ التأثيم. ويحتمل على بُعد أن يقال: يقضي لصاحبة الليلة مثلَ تلك الخرجة، وإن قل زمانُها، حتى إذا انتهت النوبة إلى التي كان دخل عليها، فيخرج من عندها، ويدخل على صاحبة النوبة الأولى. هذا بيان القول فيه إذا دخل في نوبة واحدة على ضرتها من غير عذر. 8623 - فإن مرضت له امرأةٌ وأشرفت على خوف الهلاك، فيجوز للزوج الانتقال إليها بالكلية للتمريض، حتى إذا بَرَأَت (1)، قضت من نوبتها بعد [الاستبلال] (2) للواتي لم (3) يدخل عليهن، كما سيأتي ذلك في فصل مفرد، إن شاء الله عز وجل. 8624 - فأما إذا مرضت واحدة ولم يتحقق انتهاؤها إلى الخوف، فالذي ذكره القاضي وطوائف من المحققين أن له أن يخرج إليها عائداً. قال صاحب التقريب: المذهب أنه لا يخرج إليها عائداً إذا لم تَنته إلى الخوف والثقل. وذكر بعض الأصحاب قولاً أن له أن يخرج إليها عائداً، ثم قال: وهذا غلط والمذهب: أنه لا يجوز له الخروج. هكذا ذكر صاحب التقريب، والذي رآه صاحب التقريب غلطاً أفتى به طوائفُ من أئمتنا. ثم إن خرج عائداً ومكث زماناً [يُحسّ] (4)، وجب القضاء فيه، وإن كان لا [يحسّ] (5)، فعلى الترتيب المقدم.

_ (1) برأ المريض: يَبْرأ من باب (نفع) ويأتي أيضاًًً من باب (تعب) (المصباح: مادة: ب. ر. ى). (2) في الأصل: الاستبدال. والاستبلال: معناه البرء والشفاء. (3) في الأصل: للواتي التي لم يدخل. (4) في الأصل: يحسن. (5) في الأصل: يحسن.

والذي عندي أن المرض الذي أطلقوه لا بد فيه من ضبط أيضاًًً، فلا يجوز الخروج بكل ما يسمى مرضاً، ولعل الضبط في ذلك أن يكون المرض بحيث يجوز أن يقدّر مخوفاً، ودخوله عليها ليتبين، حتى يكون مبيته على فراغ (1). وكل ما ذكرناه في الليل، وفيه بقية، ينعطف [عليها] (2) كلامنا في النهار. 8625 - فنقول: لا يتحتم على الرجل أن يلازم زوجته في نوبتها نهاراً؛ فإنَّا لو ألزمناه ذلك، لانقطع عن مكاسبه، فله أن ينتشر في بياض نهاره كما أشعر نصُّ القرآن بذلك، فقال عز من قائل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]. فرجع قوله {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إلى الليل، وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} إلى النهار. 8626 - ثم يتعلق بالنهار نوعان من الكلام: أحدهما - أن الزوج لو كان يخرج في نهارِ واحدةٍ وينتشر، وكان يلازم الأخرى في نهارها، فكيف الكلام فيه؟ فإن كان هذا عن اتفاق شغل، فلا مضايقة، وإن كان عن قصد، فهذا محتمل (3): ما يدل عليه ظاهر كلام الأئمة أن ذلك غير ممتنع، وفيه احتمال ظاهر مأخوذ من كلامهم أيضاًًً، ووجه الاحتمال أن مدار القَسْم على ترك التخصيص واجتناب إظهار الميل، وهذا إذا تكرر في النهار ميلٌ ظاهر، إذا لم يكن شغلٌ محمول على الوفاق، ووجه الجواز حسم الباب عن الرجال، [إذا أرادوا الانتشار بها] (4). وهذا فصل. والثاني - دخوله على التي ليست النوبة لها. أجمع الأصحاب على أنه لا يجوز له أن يدخل في نوبة واحدة على الأخرى ويجامعَها، هذا لا سبيل إليه؛ فإنه منتهى

_ (1) حتى يكون مبيته على فراغ: أي يكون مبيته عند غير المريضة على فراغ بالٍ واطمئنان. (2) في الأصل: عليه. (3) فهذا محتمل: أي غير مقطوعٍ بحكمه، كما سيأتي بيانه، متصلاً به. (4) كذا. بنفس هذا الرسم. انظر صورتها. ولعل في الكلام سقطاً، أوْ له وجهاً لم نهتد إليه. والله المستعان.

المقصود، وفيه الميل الأظهر وإبطالُ الاختصاص بحق النهار بالكلية. وهل له أن يدخل في نهار واحدة على الأخرى من غير جماع، أم هل يُرعى في ذلك عذرٌ؟ اضطربت طرق الأئمة، ففي كلام العراقيين ما يدل على جواز الدخول إذا لم يكن وقاع، وهذا مضطرب لا ضبط فيه، ويلزم منه أن يجوز له الكَوْن عند التي لا نوبة لها في معظم النهار، أو في جميع النهار، وهذا بعيد. وقال قائلون: لا يدخل عليها إلا لحاجةٍ ومهمٍّ، وبان من كلام هؤلاء أن الدخول ليلاً للمرض لا غير، والدخول نهاراً لا يجوز من غير حاجة، ويجوز عند ظهور حاجة، وإن لم يكن مرض، ولفظ الشافعي في [السواد] (1) يدل عليه، فإنه قال: " ولا بأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجةٍ، ويعودَها في مرضها في ليلة غيرها " (2)، وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على تنزيل النهار منزلة الليل، والطرق محتملة وأبعدها رفع الحجر. والذي أراه مقطوعاً به: أنه كما يحرم الجماع في نهار الليل؛ يحرم الدخول فيه على وجهٍ يغلبُ فيه جريان الجماع؛ فإن الذي يداخل صاحبةَ النوبة من ظهور جريان الجماع يداني جريانَه، والكلام في مثل هذا ينتشر، وأقصى الإمكان في الضبط ما ذكرناه. 8627 - وقد بقي من الفصل المقصودُ الثاني، وهو الكلام فيه إذا جامع واحدة في ليلة غيرها، وقد ذكر العراقيون في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أنه إذا جامع في ليلةٍ غيرَ صاحبة النوبة، فقد أفسد الليلةَ، فعليه أن يقضيَ لها ليلة؛ فإنَّا وإن كنَّا لا نوجب

_ (1) في الأصل: السؤال، وهو تحريف. ثم المراد بالسواد المختصر، كما نبهنا عند وروده مراراً من قبل. (2) ر. المختصر: 4/ 43. هذا، وقد قال الرافعي: "لا يجوز أن يدخل في نوبة واحدة بالليل على أخرى، وإن كان لحاجة، كعيادة وغيرها، فالذي نقله المزني في المختصر أن الشافعي رضي الله عنه قال: " ويعودها في مرضها في ليلة غيرها " فهو سهوٌ عند عامة الأصحاب، قالوا: وإنما قال الشافعي رضي الله عنه: " في يوم غيرها ". (ر. الشرح الكبير: 8/ 365).

التسويةَ بين النساء في الجماع، ونقول: هو موضع تلذذ لا إجبارَ عليه، فمن الأصول بناء الأمر على إمكان الوقاع، وتزجية (1) كل واحدة نوبتها بذلك، فإذا جرى جماعٌ -والغالب أن الليلة الواحدة لا تحتمل أكثرَ من وطأة واحدة- ففي هذا إفسادُ الليلة عليها؛ فعلى هذا، وإن عاد إليها وبات عندها، فلا حكم لهذه البيتوتة. والوجه الثاني - أنه عصى بما فعل، ولكن لا يلزمه قضاءُ الليلة إذا لم يتفق مكثٌ في زمان محسوس، كما تفصّل من قبل، وهذا متّجه إذا ثبت أنه غير مطالَبٌ بالوطء. والوجه الثالث - أنه إذا وطىء في ليلتها غيرَها من النساء، فيلزمه أن يصيب المظلومةَ في ليلة تلك التي وطئها في هذه النوبة، وهذا طريق استدراك هذا النوع من الظلم، وهذا القائل يُلزمه الوطءَ، وهو بعيد عن قاعدة المذهب، وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الوطء ليلاً. 8628 - فأما إذا وطىء واحدةً في نهار الأخرى، فقد ذكرنا أنه كان ممنوعاً عن ذلك، وإقدامه عليه مُحرم، فإن قلنا: الوطء في الليل لا أثر له، فلا أثر له في النهار أيضاًًً. وإن قلنا: الوطء في الليل يفسده، أو يجب تداركه بالوطء في نوبة الموطوءة، فماذا نقول في الوطء نهارً؟ هذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يكون النهار كالليل، ويجوز أن نقطع في النهار بالاقتصار على التعصية. فصل قال: "وإن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثاً ثلاثاً ... إلى آخره" (2). 8629 - أقل نوب القسم ليلة، فلو أراد أن يقسمَ الليلةَ في وضع القسم، لم يكن [له] (3) ذلك؛ فإنَّ الاستئناس المطلوب ينبتر (4) ويفسد نظامه بتبعيض الليلة، ولو أراد

_ (1) تزجية كل واحدةٍ نوبتها بذلك: من زجّى الشيء ساقه، تقول: زجّيت أيامي دافعتها وأمضيتها برفقٍ، والمعنى هنا أن القسم على رجاء إمكان الوقاع من كل واحدة وقضاء ليلتها به. (2) ر. المختصر: 4/ 43. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) ينبتر: ينقطع. وهذا اللفظ مستعمل كثيراً في كلام الإمام بهذا المعنى.

أن يقسم ليلة ليلة، فله ذلك، وكذلك لو أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، فلا معترض عليه في اختيار مقدارٍ من هذه المقادير. وإن أراد أن يزيد النوبة على الثلاث؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يجوز؛ إذ لا موقف بعد المجاوزة، والثلاث على حالٍ مدةٌ معتبرة في الشريعة في أصولٍ، ثم إذا لم نجد موقفاً وراء الثلاث، فربما نجعل النوبة ستة أو أكثر منها، وهذا يؤدي إلى مهاجَرةٍ في حق اللواتي تتأخر نُوبهن، ثم يترتب [عليها] (1) انتساج وحشة بين الزوج وبين المتخلفات، وإلى تأكد ألفة تنتهي إلى المِقَة، فيحصل من السرف في الازدياد مقتٌ ومِقَة (2)، وقطعهما جميعاً عسر. فإن قلنا: لا تجوز الزيادة على الثلاث، فلا كلام، وإن جوزنا الزيادة، ففي المسألة وجهان، ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنا لا نقف في موقف، والثاني - أنا لا نتجاوز السبع؛ فإنه منتهى مدة روعيت في هذا الفن؛ لأن للبكر سبع ليال في حق العقد، فاتخذناه معتبراً. 8630 - وعندنا أنَّ رفعَ الضبط وتفويضَ الأمر في أقدار النُّوب إلى الزوج لا يجوز أن يكون معدوداً من المذهب إلاَّ على وجهٍ، وهو أن [تُرتّب] (3) النوب بالقرعة على ما سنصفه، فيجوز أن نتخيل -على بُعدٍ- أن المدة وإن طالت إذا كان المحكَّمُ القرعةَ، فمن [تخرج لها] (4) تقع البدايةُ بها، فلا ينتسب الزوج إلى التهمة في الميل والإيثار. وهذا أيضاًًً ليس بشيء؛ فإن المقدار الذي يتحتم [على] (5) الزوج لا يضرُّ به الوفاء به، فلو بدا له أن يقلل أو يكثر بعد الوفاء بالتسوية، فلا معترض عليه، والتفريع على البعيد أبعدُ منه، فليخرج هذا الوجه من المذهب.

_ (1) في الأصل: عليهن. والضمير في (عليها) يعود على تلك النوب الطويلة. (2) المقة: من ومق يَمِق مقة إذا أحب وعشق (المعجم) ولا يخفى على الفطن ما في الكلام من محسنات البديع. (3) في الأصل: ترتيب. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: عليه.

ولفظ الشافعي في المختصر: [وأكره] (1) مجاوزة الثلاث، وهذا هو الذي حمل بعض الأصحاب على جواز المجاوزة، والشافعي كثيراً ما يطلق الكراهية والمراد به التحريم. ولم يتعرض أحد لذكر مدة الإيلاء، وإن كان زمانها معتبراً في الإضرار، ولو سبق إليه سابق، فشرْطُه ألا تزيد النوب على أربعة أشهر زيادة لا تنتهي النوبة إلى الواحدة بعد أكثر من أربعة أشهر. وهذه احتمالات مختلطة. فإن ثبت [أن] (2) [تعيين] (3) أقدار الزمان إلى الزوج على النسق الذي [ذكرناه] (4)، فإذا كان يفتتح توظيف النُّوَبِ؛ فالمذهب أنه يحكِّم القرعةَ [أم] (5) الابتداءُ بواحدة باختياره؟ [من] (6) أصحابنا من قال: هذا إليه أيضاًًً، ثم تنتظم النوب. 8631 - ومما يدور في الخلد أنَّا إذا منعنا الزوج من وطء زوجةٍ في نوبة زوجة، فهذا الوطء حرام، [أم] (7) ماذا نقول فيه؟ فإذا حرّمناه وقد صادف محل الحِلّ، كان بعيداً، وإن أحللناه، فهو ممنوع من الجماع بعينه، وليس كالصلاة في الدار المغصوبة، ومما يزداد به الغموض أنَّ الوطء ليس مُستحَقاً عليه لواحدة منهن، فإنه لو لم يطأ واحدة منهن، أو وطىء بعضَهن وانكف عن وطء بعضهن، فلا معترض عليه. والذي أراه أن التحريم المضافَ إلى الوطء ينقسم: فمنه تحريم يرجع إلى عين

_ (1) في الأصل: "ذاكره" وهو تصحيف عجيب يشهد بأن هذا الناسخ (يرسم) ولا يقرأ، والله المستعان. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: تعين. (4) مكان بياض بالأصل. (5) في الأصل: "والابتداء". (6) في الأصل: ومن. (7) زيادة لتوضيح المعنى.

الوطء على التحقيق من غير تعلُّقٍ بحق الغير، هذا هو الذي نُطلق فيه التحريم من غير محاشاة كالوطء في غير محل [الحل] (1)، ثم ينقسم هذا أقساماً لسنا لها، وفي وطء الحائض ما قدمته في بابه. ومن الأقسام تحريمٌ يتعلق برعاية حق الغير إذا كان مُفضياً إلى إبطال حق له مستَحَق، وهذا كوطء الراهن المرهونة، حرمناه لإفضائه إلى هلاك المرهونة، أو إلى بطلان المالية الصالحة لوثيقة الرهن. والقسم الثالث - ما نحن فيه، وهو تحريم الوطء لأجل إفضائه إلى إدخال مَغِيظَةٍ على الغير، وإن لم يكن ثَمّ حق مستَحَقّ. فإذن لو (2) قال قائل: الوطء من جهة مصادفته محلَّ الحل ليس بمحرم، ومن جهة تضمنه جرَّ مغيظة وضراراً من هذا الفن، فهو محرم. ثم اللائق بالتحقيق النظر إلى المحل والحل، والقطعُ بالإباحة وصرف التحريم إلى إيقاع المغيظة، لا إلى ما وقعت المغيظة به، والقول في هذا يغوص إلى مغاصات الأصول. 8632 - ثم نختم الفصل بذكر إجماع الأصحاب على أنه لا يجب على الزوج التسوية بينهن في الجماع، فإنَّ ذلك موضع تلذذ، لا يليق بمحاسن الشرع الإجبار عليه والتسوية. فصل معقود في ظلم الزوج بعضَ نسائه بالقَسْم وإقامته عند صواحباتها 8633 - فنقول: إذا ظلم واحدة، فبات عند ضراتها، ولم يبت عندها، يلزمه القضاء للمظلومة، وأول ما يتّضح القصد به أن نوبتها المستحقة وإن كانت ليلة من أربع ليال، فظُلْمها يقع على تفرق، فإذا ألزمنا الزوج القضاءَ، فإنه يوفيها حقها وِلاءً

_ (1) في الأصل: المحل. (2) جواب لو محذوف، تقديره: فقد أصاب، (أو نحوها).

تباعاً، وليس له أن يفرِّق القضاء. وهذا بمثابة ما لو أتلف أموالاً في أزمنة متفرقة على إنسان، فإنه يغرَمُها له دفعة واحدة. وإذا ترك صلوات في مواقيتها عاصياً بتركها، قضاها وِلاءً وإن تركها مفرقة. ثم صورة الظلم والقضاء ما نَصِفه، فلو كانت تحته أربع نسوة، فبات عند ثلاث ستين ليلة، عند كل واحدة منهن عشرين، فإنه يقضي للمظلومة عشرين ليلة تباعاً. ولو بات عندهن ثلاثين ليلةً، قضى للمظلومة عشر ليال، ولو كنَّ ثلاثة (1)، فبات عند اثنتين عشرين قضى للمظلومة عشراً. 8634 - وإن تصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها آخراً، فنكح جديدة، فالوجه أن يخص الجديدة بحكم الزفاف -كما سيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى-، إن كانت بكراً، فسبع، وإن كانت ثيباً، فثلاث، وهذا لا يحسب في حساب. ثم هذه المظلومة تستحق عشر ليال، وإنما يقضي لها من حقوق [اللتين] (2) ظلم الزوجُ هذه بهما، والجديدة لم يظلم الزوج بها. فقال الأئمة: الوجه أن نُدير الليالي بين المظلومة وبين الجديدة، فنقسم للجديدة ليلة، وللمظلومة ثلاثَ ليال، فتمضي ثلاث نوب، وقد وفّى المظلومة من العشر التي استحقتها تسعاً، فبقي ليلة واحدة، فلو وفاها، جرَّ ذلك عسراً على الجديدة في حقها؛ فإنَّ القضاء إذا انقضى يجب إعادة النوب، وربما لا تنتهي النوبة إلى الجديدة إلاَّ في الخامسة مع احتساب الليلة العاشرة، وحقها أن ترجع النوبةُ إليها في كل أربع ليال إن كانت النوبة ليلة، وهذا إذا وقع أفضى إلى ظلم الجديدة. وكان شيخي يرتبك في هذه المسألة وتختلف أجوبته، ثم كان يستقر على [أن] (3) هذا تَحَيُّفٌ لازم لا بد منه؛ فإنه لا مستدرك فيه إلا بالتبعيض، وتبعيض الليل مفسد، ولو بعَّضنا، لأضررنا لأجل التبعيض بالأُوليين والمظلومة، وهذا يجر خبلاً، ونحن

_ (1) ثلاثة: بالتاء، مع أن المعدود مؤنث، ولكن هذا جائز لتقدم المعدود. (2) في الأصل: الليلتين. (3) زيادة اقتضاها السياق.

قد نعدل عن المنصوص عليه في الزكاة إلى القيمة حذاراً من التشقيص. وهذا الذي ذكره محمول على [مسلكٍ من] (1) إعمال النظر في صرف الكلام إلى تمهيد الوجه البعيد. والذي [قطع] (2) به الأصحاب أن هذا التحيّف يجب استدراكه، ولا طريق في استدراكه إلاَّ التبعيض، ولا يقع ضرر التبعيض موقعاً إذا كان في معارضة إحباط حق. فإذا ثبت هذا، فالوجه: أن يقضي للجديدة ثُلثَ ليلة؛ فإنَّ الليلة العاشرة دارت بين ثلاثٍ: المظلومة والأُولَيَيْن، فانقسمت عليهن أثلاثاًً، فليثبت للجديدة مثلما ثبت لكل واحدة، وهذا لطيف في مجاري الحساب؛ فإنَّ الظلم وقع في ليلة، والقسمة وقعت من ليلة وثلث ليلة، فإنَّ الذي يقتضيه الإنصاف التسويةُ بينهما، ولا سبيل في طلب التسوية إلا هذا، فإذا قضى لها ثلث ليلة، فالوجه: أن يخرج ويبيت عند صديق في بقية الليل، فإنَّ تخلل الفُرَج في النّوَب ليس ظلماً، إنما الظلم في الإقامة عند بعضهن تخصيصاً وترك بعضهن. ولو كان يدير عليهن النُّوبَ ليلة ليلة، وكان يخلل في أثناء النوب فرجات، فلا بأس عليه. فإن قيل: في أصل المسألة سؤال؛ فإن المظلومة إذا كانت تستحق قضاء عشرٍ وأدرنا النوبَ بينها وبين الجديدة على أربع، فكما نُثبت للجديدة في كل أربع ليلةً متجددة، فنثبت للمظلومة أيضاًًً ليلة متجددة، فما لنا نحسب لياليها من محض الظلم، ولا نثبت لها مما يتجدد في الزمان مزيداً؟ قلنا: هذا خيال؛ فإن اللتين وقع الظلم بهما (3) كانتا تستحقان من تلك الأيام شيئاً، فقد جرى [التدارك] (4) على نحو الظلم، وهذا متجه لا خفاء به.

_ (1) في الأصل: ملك عن. (2) في الأصل: وقع. (3) اللتين وقع الظلم بهمات المراد الزوجتين اللتين بات عندهما، وظلم الثالثة قبل أن يتزوج الرابعة. (4) في الأصل: بالتدارك.

8635 - ولو طلَّق المظلومة، فقد سقط حقُّها في الحال، ولكن بقيت مظلمتُها في القيامة وإن سقطت طَلِبتُها، ولو راجعها، فهي على حقها؛ فإن النكاح واحد، ولو أبانها ثم جدد النكاح عليها، قال القاضي: عليه قضاء ما ظلمها به في النكاح الثاني، وهذا متجه، وكأنَّا نقول: لم يسقط حقها، ولكن تَعذَّر إمكانُ إبقائه، فإذا عاد الإمكان، فالحق قائم كما كان. ويتجه جداً تخريج هذا على القولين في عَوْد الأحكام في النكاح الثاني. وأقربها شبهاً بما نحن فيه طَلِبة المُولَى عنها في النكاح الثاني. وقد ينقدح في ذلك فرق؛ فإنَّ عود [الحق] (1) في الطلاق فيه بُعدٌ، من جهة أنه [قطع] (2) حِلَّ نكاح مضى، وإيلاء المولي في وضع اليمين باقٍ، [بدليل] (3) أنه لو وطئها في النكاح الثاني، حنث. وليس قضاء الظلم من هذه المآخذ، وإنما هو من المأخذ الذي ذكره، وهو عُسر التوفية، فإذا زال العسر، فالطلبة قائمة. 8636 - ووراء ما ذكرناه غائلةٌ، وهي أن هذا إنما يتجه إذا جدد النكاح على المظلومة، واللواتي وقع الظلم بهن باقيات تحته، فإن استبدل بهن، فلا يقضي الظلم أصلاً؛ فإنه لو قضاه، لظلم الجديدات. ولو لم يُفرض بينونة، ولكن ظلم واحدةً بعشرين ليلة، ثم لم يُبنها، بل أبان اللواتي وقع الظلمُ بهن، واستبدل عنهن جديدات، فلا يتصور القضاء؛ فإنَّ القضاء لا معنى له إلاَّ أن ينقطع عن اللواتي وقع الظلمُ بهن، ويشتغل بتوفية حق المظلومة، وهذا بيّن لا إشكال فيه.

_ (1) في الأصل: الحث. (2) في الأصل: "علّق" والمثبت اختيارٌ منا لأن الحديث عن نكاحٍ ثانٍ بعد بينونة قطعت الحل. (3) في الأصل: بذلك.

فصل قال: "ويقسم للمريضة والرتقاء ... إلى آخره" (1). 8637 - حق القَسْم يثبت للنسوة، وإن كان بهن موانعُ طبيعيةٌ أو شرعيةٌ من الوقاع، فيقسم للمريضة، والرتقاء، والحائض، والنفساء، والتي ظاهر عنها -وإن كان لا يقربها حتى يُكَفِّر- وكذلك يقسم للصائمة، والمُحْرِمة؛ والسبب فيه أن المقصود الظاهر من القَسْم الإيناس، ولسنا ننكر أن المقصود الأقصى الوقاعُ، أو تزجيةُ الوقت على [رجائه] (2)، ولكن عماد القَسْم الإيناسُ، واجتنابُ التخصيص، والحذرُ من الإضرار، بإظهار [الميل] (3) وهذا يتضمن إشراكَ اللاتي ذكرناهن، والتي آلى عنها زوجُها إذا انقضت مدة الإيلاء، فلها المطالبة بالطلاق، والمطالبة بحق القَسْم على البدل، وإليها الخِيَرةُ. 8638 - ثم إن كان الزوج يسكن منزلاً، وكان يدعوهن في نُوَبهن، فعليهن أن يحضرنَه، ومن امتنع منهن، فهي ناشزةٌ، ويسقط حقها من القسم في نوبة امتناعها. وإن كان يدور عليهن في مساكنهن، فليفعل من ذلك ما يراه. وإن كان يُساكن واحدة منهن، وكان يدعو إلى دارها ضَرّاتِها، فلهن أن يمتنعن؛ فإنَّ مُساكنة الضَّرَّة لا تجب. والقول في تفصيل المساكنة، واشتمالِ دارٍ على حُجَر يأتي مستقصًى في كتاب العِدد، إن شاء الله عز وجل، ومحل غرضنا: منْزِلٌ مُتحد لا يجوز للزوج أن يُسكنه ضرتين (4).

_ (1) ر. المختصر: 4/ 43. (2) كذا قدرناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف. (3) في الأصل: المثل. (4) خالف ابنُ أبي عصرون الإمامَ في هذا، فعقَّب قائلاً: "قلت: وهذا الإطلاق لا يصح؛ فإنهما إذا رضيتا بذلك، جاز" ا. هـ.

ولو كان يدعو بعضَهن ويصير (1) إلى بعضهن في منزلها، فقد قال القاضي: ليس هذا من العدل والتسوية. ولست أرى [الأمرَ] (2) في هذا بالغاً مبلغ [الحظر] (3)، وإنما هو ممّا يُفرض من التفاوت في [التهلّلِ] (4) والاستبشارِ والوقاعِ نفسِه- وإن استُثْني الوقاع بخروجه عن الاختيار، فالاستمتاعات الاختيارية كالقبل [واللثم والالتزام] (5) لا تشترط [فيها] (6) التسوية. وقد ينقدح في ذلك فرق، فإنَّ تخصيص البعض بالمسير إليها، وتخصيص البعض بالاستدعاء، قد يورث [ضغينةً] (7) وإظهارَ تفاوت في الميل والتقديم والتأخير، ومع هذا يجب القطع بأنَّ هذا القدر من التفاوت محتمل؛ لأنَّ تفاوت الأقدار والمناصب قد يقتضي هذا القدر، فلا ينتهي الأمر فيه إلى التحريم. 8639 - ثم قال الشافعي: "وإن سافرت بإذنه ... إلى آخره " (8). إذا سافرت المرأة، ففي سفرها ثلاث مسائل: إحداها - أن تسافر دون إذن الزوج، فهي ناشزة، لا قَسْمَ لها ولا نفقة. والمسألة الثانية - أن تسافر [الزوجة] (9) بإذن الزوج، بأنْ كان أشخصها في شغل من أشغال نفسه فنفقتها دارّة، وحقها من القسم ثابت، فإذا عادت وكان أقام في غيبتها عند ضراتها، فيجب عليه أن يقضيَ حقَّها، كما بيِّنا كيفية القضاء فيما مضى.

_ (1) يصير: أي يمضي إلى بعضهن، كما عبر بذلك الرافعي والنووي. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "الحصر". والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون. (4) في الأصل: التملك. (5) في الأصل: والقيم والإلزام. (6) زيادة من المحقق. (7) فى الأصل: مريضة. (8) ر. المختصر: 4/ 44. (9) في الأصل: الزوج. وهي صحيحة، ولكن جرى الفقهاء في الأبواب كالميراث والنكاح على استعمال (الزوجة) بالتاء لدفع اللبس.

والمسألة الثالث - أن تخرج بإذن الزوض في حاجة نفسها ومُهمٍّ سَنَحَ لها، فإذا كان ذلك، فالمنصوص عليه في الجديد: أنه يسقط حقها من القَسْم ونفقتِها، وقال في القديم: لها القسم والنفقة؛ لأنها خرجت بالإذن والرضا. والصحيح: القول الجديد؛ فإنها اشتغلت عن الزوج بما هو خالص حقها، فيبعد أن يثبت حقها على الزوج وهي مشتغلة عنه، وهذا في القَسْم على نهاية الوضوح؛ من جهة أن طمعها في استمرار حقها من القسم مع اشتغالها بغرضها عن استيفاء الحق طمع في غير مطمع، فالإذن لا يفيدها إذاً إلا سقوطَ المأثم. 8640 - ثم قال: "وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه ... إلى آخره" (1). ذهب أئمة المذهب إلى أنَّ الزوج إذا جُنَّ، فإنَّ حق القَسْم ثابت، كما كان من قبل، وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه، مع رعاية التسوية، وإن رأى، دعاهن إليه في نُوَبهن. ثم قالوا: لو ترك الوليُّ حقَّ واحدة، وخصَّ الزوجَ بالباقيات، فهذا ظلمٌ يجب تداركه بطريق القضاء كما تقدم، فإنْ تداركه الوليُّ بنفسه جاز. وإن أفاق المجنون، وقامت البينة على ما جرى من الظلم، واعترف به اللواتي وقع الظلم بهن، فيجب عليه أن يقضي إذا [استبلَّ] (2) واستبد (3) به. وإن لم تقم بيِّنة، ولم يثبت اعتراف، فقول الولي غيرُ مقبولٍ في دعوى ظلمٍ جرى؛ لأنَّ الولاية قد انقطعت بالإفاقة؛ فلم يبق للولي سلطان. وإذا زال سلطان الولاية، زال بزواله قبولُ القول. هذا مسلك الأئمة المعتبرين. 8641 - وذكر بعض المصنفين وجهين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أن حق القسم يسقط بالجنون، فلا مطالبة على الولي برعايته؛ فإنَّ الغرض الأظهر من القَسْم الإيناسُ، والمحذورُ من التحيف فيه إظهارُ الميل،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 44. (2) في الأصل: استقل. ومعنى استبل أي شفي. (3) استبدّ به: أي ملك القضاء وانفرد بالتصرف.

والإضرارُ بهذه الجهة بالتي يقع التخلف عنها، وهذان المعنيان مفقودان من المجانين. وهذا لا بأس به، وإن لم أرَه إلا في هذا التصنيف ومؤلفه مجهول (1) عثورٌ (2) في المذهب. وعندي وراء ذلك نظر، وهو أن مخاطبة الولي بأنْ يطوف به عليهن لا وجه لها؛ فإنَّ الزوج العاقل لو أراد التخلف عنهن، فلا مطالبة عليه، وإنما يُطَالَبُ الوليُّ بما يُطَالَبُ به الزوجُ لو لم يكن مَوْلياً [عليه] (3). ولو أدخل الوليُّ واحدةً على الزوج، فهل يجب عليه أن يُثبت لكل واحدة مثلَ هذا؟ هذا محل النظر، فالذي ذكره معظم الأصحاب: أنه يجب؛ تنزيلاً للولي منزلة الزوج. والذي ذكر في هذا التصنيف أن ذلك لا يجب على الولي؛ فإنَّ عماد القَسْم ما ذكرناه من اجتناب إدخال المغايظ على المحرومات بتمخصيص المخصَّصات، وهذا إنما يُفزع قلوبَهن من جهة الزوج، فأما الولي، فلا يتعلق بفعله هذا. وما ذكره الأصحاب أظهرُ؛ طرداً للقياس الذي مهدناه من أن الولي مُخاطبٌ في المجنون بما يُخاطب به الزوجُ لو كان عاقلاً. ونحن وإن راعينا ترك الإضرار واجتناب المغايظ، فلسنا ننكر كونَ القسم حقاًً مطلوباً. وبقي في المسألة نظر في أنهن لو جِئْنَ وقُلنَ: للزوج أن يتخلف عنا بجملتنا لو كان عاقلاً، بناءً على الاختيار والإيثار، ونحن في أثناء ذلك نرجو عودَه إلى القَسْم، وإذا

_ (1) مجهول: أخشى أن تكون (جهول). فبعض المصنفين الذي يقصده الإمام ليس مجهولاً! وقد صرّح النووي بأن صاحب هذا الوجه هو الفوراني. (الروضة: 7/ 347). وغفر الله لإمامنا إمام الحرمين، فليس أبو القاسم الفوراني جهولاً، ولا مجهولاً، ولكنه "استيلاء النقص على البشر". (2) عَثور: أي كثير العثرات. وقد أشرنا أنه يقصد بقوله: "بعض المصنفين" أبا القاسم الفوراني، وأنه كثير الحطّ عليه. ولكن لم يبلغ ذلك إلى الوصف بأنه (مجهول عثور) إلا هذه المرة. ومع ذلك يُظهر إعجابه بقوله، ويثبته في كتابه. ويا للعجب كيف يصنع الغضب حتى بالكبار!! (3) في الأصل: عنه.

جُن الزوج وأطبق الجنون، فلا إيثار له، فلو منعْتَه عنا، لكان ذلك إضراراً [بنا] (1)؛ فقد يتجه إذا لم يكن على الزوج ضرر من الوقاع أن تجب إجابتهن، فظاهر النص دال عليه، فإنَّ الشافعي قال: وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه، وفحوى كلام الأئمة دالةٌ على حمل ذلك على التسوية، حتى لو فرض الامتناع عن إدخاله عليهن [جملةً] (2)، فالمسألة محتملة جداً. وقد أشرنا إلى وجوه الكلام في أطراف المسألة، وما حكيناه من الوجهين في بعض التصانيف يمكن حمله على هذا الطرف أيضاًًً. 8642 - ثم إن كان يُجن يوماً، ويُفيق يوماً، فليس من العدل أن نجعل نوبة الجنون لواحدة، ونوبةَ الإفاقة لواحدة، ولكن الوجه: أن [نبني] (3) نوبة الجنون ونوبة الإفاقة إمَّا على التناوب، وإمَّا على الجميع. وحكى الأئمة أيضاًً للشافعي [قولاً] (4) في أنَّ الرجل إذا كان مفيقاً في نوبةِ واحدةٍ، مجنوناً في نوبة الأخرى، فأيام الجنون غيرُ محسوبة على التي كان الزوج مجنوناً في نوبتها، ونجعلُ كأنَّه غاب عنها، فإذا أفاق، وفّاها حقها مثلما وفَّى للأولى في حالة الإفاقة. وهذا [يُحوج] (5) إلى تدبر؛ فإنَّ أيام الجنون على الجملة أيام قَسْم على ظاهر النص. وقول الأصحاب، [بإخراج] (6) أيام الجنون عن الاعتبار فيه بعضُ النظر: يجوز أن يُقال: إن لم ترض بالإقامة عندها في أيام الجنون وانتظرت الإفاقة، فلها ذلك؛ فإنها تقول: أقام عند صاحبتي عاقلاً والتسويةُ مرعية، فأما إذا [أقام عندها] (7) في الجنون، فهذا منها بمثابة الرضا بعيبِ ما يجوز رده بالعيب، فإن لم يكن بأيام

_ (1) في الأصل: بينا. (2) في الأصل. بجملته. (3) في الأصل: بين. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: يخرج. (6) في الأصل: فإخراج. (7) في الأصل: أقامت عنده.

الجنون اعتبار، فهذا يؤكد سقوطَ حكم القَسْم في أيام الجنون بالجملة، كما نقلنا التردد [فيه] (1)، والله أعلم. 8643 - ثم قال الأئمة: إن كان الزوج محجوراً سفيهاً، فهو في نفسه مخاطب بالتسوية بينهن؛ فإنه عاقل مكلف، ولا مدخل للولي في هذا. 8644 - ثم قال: "وإن خرج من عند واحدة في الليل أو أخرجه السلطان ... إلى آخره" (2). إذا كان الزوج عند واحدة في نوبتها، فخرج في بقية الليل باختيارٍ، أو أخرجه السلطانُ، فقد تبعض على صاحبة النوبة حقُّها في هذه الليلة، فيجب على الزوج قضاءُ ما فاتها من حقها، ولم يصر أحدٌ من الأصحاب إلى أن ما مضى من الليل يبطُل ويتعطل حتى يجب قضاء الليلة بتمامها، وإن كنَّا ذكرنا وجهاً في أنه لو جامع في نوبةِ واحدةٍ ضرّتها، فقد بطلت الليلة، وهذا الوجه حيثما ذكرناه ضعيف. ثم الفرق لائح؛ فالذى يجب قضاؤه المقدارُ الذي فات. ثم إذا أراد قضاءه وتحته امرأتان مثلاً، فالوجه: أن يبيت المقدار الذي كان فيه عند تلك الزوجة عند صديقٍ، أو في مسجدٍ، فإذا انتهى إلى الزمن الذي خرج فيه، عاد إليها وأقام عندها، ولا يضر تخلفه عن ضرتها في ليلة تامة؛ فإنّ تخلل التفريق والفُرَجُ في خلَلَ القسم ليس ظلماً، إذا لم يكن فيها مقيماً عند واحدة؛ فإذاً المقدار الذي كان فيه [ثاوياً] (3) عند صديق مستثنى من حساب نُوَبِ القَسْم، وإنما المحسوب المقدار الذي [يقضيه] (4). ثم التبعيض في هذه الصورة محتملٌ على الضرورة، وإن كنا نمنع من وضع القَسْم على أنصاف الليالي؛ فإنما نمنع ذلك على الاختيار، وإذا حَمل عليه اضطرارٌ في القضاء، فلا بد من احتماله.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ر. المختصر: 4/ 44. (3) في الأصل: ثابتاً. (4) في الأصل: يقتضيه.

وإن أراد الذي يبغي قضاء نصفِ ليلة أن يبيت في النصف الأول عند زوجتيه؛ فهو ممكن، فليجعله نصفين في المقدار متساويين، يقيم في أحد النصفين -وهو ربع الليلة - عند إحداهن، ويبيت في الربع الآخر عند الأخرى، وقد حان وقت القضاء. والأشبه أن يقيم عند التي يقضي لها ثلاثةَ أرباع ليلةٍ ليلةً وِلاءً حتى [لا] (1) يحتاج إلى الانتقال. 8645 - ثم قال: "وليس للأماء قَسْمٌ، ولايُعطَّلْن" (2)، [لا] (3) خلاف أنه لا قَسْم للإماء، ولا قَسْم للمستولدات أيضاًًً، وإن ثبت لهن أحكام الفراش عند بعض العلماء، ثم كما لا قَسْم لهن مع الزوجات، لا قسم بينهن [والمولى] (4) بالخيار فيهن -وما ينشأ من إسقاط حكمهن، وهو عظيم الوقع على الحرائر المنكوحات-[أن] (5) الزوج لو أقام عند أَمَةٍ دهراً، فلا اعتراض عليه، مع العلم بما يتداخل الزوجات من ذلك، ولكن مقتضى الشرع أنهن مخرجات من الاعتبار نفياً وإثباتاً، وإنما يُطلب حق القسم إذا دخل على واحدة من المنكوحات، فللباقيات جينئذٍ أن يُطالبنه بالتسوية. 8646 - ثم ذكر الشافعي فصلاً في إضرار الرجل بامرأته، ورفْعِها شكواها إلى مجلس القاضي، ونحن نرى تأخير ذلك إلى باب الحَكَمَيْن، وفيه نذكر إضرارها ونشوزَها عليه، والتباسَ الأمر بينهما، وقد عقد الشافعي في النشور باباً مُفرداً. 8647 - ثم قال: "وله منعها من شهود جنازة أمها وأبيها، وما أحب ذلك ... إلى آخره" (6). للزوج أن يُلزم المرأةَ لزومَ البيت، ويمنعَها من الخروج حسماً (7)، ويمنعها عن

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) ر. المختصر: 4/ 44. (3) في الأصل: في. (4) في الأصل: والأولى. (5) في الأصل: لهن. (6) ر. المختصر: 4/ 44. (7) حسماً: أي قطعاً (المعجم).

عيادة الوالدين إذا مرضا فضلاً عن زيارتهما، ويمنعها عن شهود تجهيزهما إذا ماتا، هذا الحق ثابت له إجماعاً. ولكن قال الشافعي: "وما أحب ذلك". أراد: أني لا أستحب للزوج الغلوّ إلى هذا الحد؛ فإنه سرف يُفضي إلى الحمل على قطيعة الأرحام، ثم فيه حملُها على ما تمقُت به الزوَج وتفرَكُه (1) لأجله، ثم يتنغص العيش عليه، فيؤدي الأمر إلى قطع الوُصلة، والمسلك المستقيم رعايةُ القصد على التعميم، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فلا ينبغي أن يأذن لها في التبرج، ولا يمنَعها عن زيارة الأبوين وعيادِتهما، وشهودِ تجهيزهما، أو زيارةِ القبر، فأمَّا اتباع الجنازة إلى المقبرة؛ فإنه هُتكة وتكشف؛ فالأولى منعها. ...

_ (1) تفرَكُه: أي تبغضه.

باب الحال التي يختلف فيها حال النساء

باب الحال التي يختلف فيها حال النساء (1) 8648 - مضمون الباب الكلامُ في حق [الزِّفاف] (2). فنقول: إذا نكح الرجل بكراً أو ثيّباً، وعنده زوجات، فتُخَص المزفوفةُ إليه بحقٍّ في العقد غيرِ محسوب في نُوَبِ القَسْم، فإذا انقضى ذلك، كما سنصفه، عاد إلى ترتيب النُّوَب، فإن كانت الجديدة بكراً، خَصّها بسبع ليالٍ، وإن كانت ثيِّباً خَصّها بثلاث ليالٍ، ثم لا تحسب السبع والثلاث على الجديدتين، ولا يلزمه قضاؤهما في حقوق المتقدمات. وأبو حنيفةَ (3) يجوِّز التخصيصَ، ويُلزم القضاءَ في البكر والثيب. ومعتمد الشافعي ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عند أم سلمة لما زُفت إليه ثلاثَ ليال، فلما انقضت، فارقها، فتعلقت برسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أهلك هوان! إنْ شئت سبَّعتُ عندك وسبَّعت عندهن، وإن شئت ثلّثت عندك ودُرت " (4). وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للبكر سبع، وللثّيبِ ثلاث" (5). فالباب موضوع على الخبرِ، ومقتضاه ما ذكرناه، فللبكر سبعٌ، فإنها نفورةٌ، فلا يزول ما بها من الحشمة والحياء إلاَّ بمدة، والثيِّبُ في ذلك دونها، ثم الرجوع في المقادير إلى التوقيف. 8649 - ثم لو أقام عند الثيِّب سبعاً بطلبها ورضاها، أقام عند كل واحدة من

_ (1) في الأصل: " باب الحال التي يحلف فيها منع النساء " والتصويب من المختصر. (2) في الأصل: الرقاب. (3) ر. مختصر الطحاوي: 190، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 295 مسألة رقم: 785. (4) رواه مسلم: 2/ 1083 كتاب الرضاع، ح 1460، ومالك في الموطأ: 2/ 529 كتاب النكاح رقم 14، وانظر التلخيص: 3/ 410، ح 1718. (5) حديث أنس أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب إذا تزوج الثيب على البكر، ح 5214، ومسلم: 2/ 1084، كتاب الرضاع، ح 1461، وانظر التلخيص: 3/ 410 ح 1717.

صاحباتها سبعاً سبعاً، وبطل حقُّ اختصاصها بحق العقد. وإن أقام عندها ثلاثاًً، لم يقض الثلاث. وإن أقام عندها سبعاً من غير طلبها، لم يبطلُ اختصاصُها بالثلاث، ولم يقض لصواحباتها إلا الأربع الزائدة على مقدار حقها، والتعويل فيما ذكرناه على الخبر، فإنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن شئت سبَّعت لك وسبعت لهن -وهذا تصريح بقضاء السبع- وإن شئت ثلثت عنك ودُرت". معناه: عدت في الأدوار إلى أحسابها، ولم أقض الثلاث. وإنما قال هذا، إذ طلبت منه أم سلمة أن يقيم، فإذا لم يكن منها طلب، لم يملك الزوج إبطالَ حقِّ عقدِها بإطالة المقام عندها. وذكر الأصحاب لِمَا ذكرناه من بطلان حقِ العقد نظيراً، وفي ذلك النظير كلامٌ، ولكنا نذكره، قالوا: لو قطع الجاني يدَ إنسانٍ من المرفق، فقطع المجنيُّ عليه يدَه من الكوع في القصاص، فليس له حكومة في الساعد؛ فإنه قَطَعَ ما لم يكن له قَطْعُه، وعدل عن حقه. وكذلك الثيب إذا عدل عن حقها إلى ما هو حق غيرها. 8650 - ولو أقام عند البكر أكثرَ من سبع، لم يقض لضراتها إلاَّ مقدار الزيادة. ولسنا نفي بمعانٍ جامعة فارقة، وإنما ندور على مقتضى الخبر، فإذا لم نجد متعلقاً فيه، رجعنا إلى التمسك بالقياس. ومن القياس الجلي ألاَّ يبطل حقُ صاحبِ الحقِ إذا أخذَ أكثرَ من حقه، فأجرينا الزيادةَ على حقِّ البكرِ على هذا القياس، وتركنا ما ذكرناه في حق الثيب من بطلان حقها -إذا طلبت الزيادةَ وأُجيبت- على موجب الخبر. 8651 - ولو طلبت الثيب أن يقيم عندها خمسَ ليال، فهل يبطلُ حقُها بهذا المقدار من الزيادة أو بما دونها؟ أم يتوقف بطلانُ حقِها في الثلاث على أن تطلب السبعَ أم ببعض هذا؟ لم أرَ فيه نصاً، وفي المسألة احتمال تشيرُ إليه الترديداتُ التي ذكرناها. 8652 - ومما يتعلق بالباب أنَّ المنكوحةَ إذا كانت أَمَة؛ فكيف القول في حق عقدها إذا زُفت؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: هي كالحرة، وإن كانت (1) أعلى منها في القسم المستمر في دوام النكاح؛ لأنَّ حقَّ العقدِ لغضِّ الحياء وكسر

_ (1) وإن كانت أعلى: المراد الحرة.

الحشمة، وهذا يرجع إلى الجِبلَّة، وما يتعلق بالجبلات من المُدد لا يختلف بالرق والحرية [ولذا لم يتطرق إليه فرقٌ في مدة العُنَّة والإيلاء] (1) وفيما ذكرناه احتراز عن العدّة. ومن أصحابنا من رأى تنصيف حق العقد بالرق؛ فإنَّ هذا على مضاهاة القَسْم، وإن اختص بمزيد غرض، فإلحاقه بقاعدة القَسْم أولى. فإنْ فرعنا على هذا الوجه الأخير، فلا وجه إلاَّ التنصيف، فللأَمَةِ البكر ثلاثُ ليال ونصف، والأيام على حسب ذلك، وللأَمَةِ الثيب ليلةٌ ونصف، والأيام كما ذكرناه، وليس ذلك كالأقراء، فإنَّا لا نثبت للأَمة في العدة قرءاً ونصفاً؛ فإنَّ القروء لا تتبعض، والليلة تتبعض. فإن قيل: أليس تردَّدَ الأصحاب في الاعتداد بالأشهر، فقال قائلون: تعتد الأمة بشهرين، قلنا: سبب ذلك أنهم رأوا الأصل الأقراء، فأثبتوا شهرين في مقابلة قرأين. والأصح أنَّ اعتداد الأمة بشهر ونصف. وهاهنا قطعوا بالتنصيف؛ إذ لا أصل يمتنع التبعيض فيه. 8653 - ثم قال الشافعي: "ولا أحب أن يتخلف عن صلاة ولا عن شهود جنازة ... إلى آخره" (2). أراد بهذا أنَّ الزوج في إقامته أيام الزفاف عند زوجته ينبغي أن لا يترك إقامة الجماعات والخروج لها، وهذا إنما ذكره الشافعي على ظهوره؛ لأنَّ أهل الحجاز يعتادون لزومَ بيت العرس إلى انقضاء أيامٍ، لا يرون البروز فيها، فأبان أنَّ تلك العادة لا أصل لها. ...

_ (1) عبارة الأصل: "وإذا لم يتطرق إليه بعد المدة العُنَّة والإيلاء" والمثبت تصرف من المحقق. (2) ر. المختصر: 4/ 45.

باب القسم للنساء إذا حضر سفر

باب القَسْمِ للنساء إذا حَضَرَ سفرٌ 8654 - نقول في صدر الباب: إذا أراد الانتقال إلى بلدة أخرى، فهو بين أمرين، إمَّا أن يستصحبَ جميعَ زوجاته، وإمَّا أن [يخلّفهن] (1)، ولا معترض عليه في ظاهر الحكم في واحد من الأمرين. وأمَّا إذا أراد أن يستصحب بعضَهن، وينتقلَ معها، ويخلِّف الباقيات، فهذا حرامٌ محض. وإذا كنا نُحرِّم تفضيل امرأة بلحظة من القَسْم؛ لما فيه من إثبات التخصيص والميل، فالانتقال ببعضهن وتعطيل الباقيات أعظم من هذا. والذي يدور في الخَلَد أنه إذا انتقل إلى بلدة أخرى، وأزمعَ إدامةَ الإقامة، وخلّف الزوجات بجملتهن، فقد يخطِر للفقيه أنهن يتضررن باحتباسهن عمرَهن. وليس كما لو كان يمتنع من الدخول عليهن وهو حاضر؛ فإنهن كنَّ يرجون أن يعود إلى المألوف من معاشرتهن، والعَوْدُ ممكن، [وأما] (2) إذا انتقل وخلّفهن، فهذا ضرر بيِّن، وليس ينتهي الأمر إلى التحريم. 8655 - فإنْ لم يكن سفرُه سفرَ نُقلةٍ، فهو في الخِيرَتين المذكورتين في سفر النُّقلة على ما ذكرناه، فإنْ شاء خلّفهن ولم يستصحب واحدة منهن، وإن شاء سافر بهن. ولو أراد أن يسافر ببعضهن ويخلِّفَ الباقيات، فليس له أن يفعل ذلك بانياً على تخيّره وإرادته؛ إذ ذلك لو فعله مناقضٌ لوضع القَسْم، من المنع عن إظهار الميل. وحقه إذا أرادَ المسافرةَ ببعض نسائه أن يقرع بينهن، فيسافرَ بمن تخرجُ القرعةُ

_ (1) في الأصل: يخلفن. (2) زيادة اقتضاها السياق.

عليها، وإذا فعل ذلك، فالأيام التي تنقضي في سفره لا يلزمه [قضاؤها] (1) للمخلّفات إذا رجع إليهن. والأصل في الباب، ما روي عن عائشة أنها قالت: "كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتُها سافر بها" (2). ثم صح بطريق الاستفاضة أنه كان إذا رجع يجري على النوب في القَسْم. وذكر الأئمة معنى كلياً -والتعويل على الخبر- ونحن نذكر منه ما ينضبط به المذهب إذا تفرعت مسائل الباب، فنقول: المرأة التي تخرج مع زوجها مسافرة، وإن كانت تحظى بصحبة الزوج، فإنها تشقى بما تلقى من محن السفر، وينضم إلى هذه سقوطُ اعتبار الرجل في تحكيمه القرعة. والمخلّفةُ وإن كانت تشقى بفُرقة الزوج، فهي على حظٍّ بالتردد والتودع (3) في البلد. فهذا أصل الباب. وأبو حنيفة (4) يُلزم قضاء أيام السفر للمخلّفات، ولا يجعل للقرعة أثراً في إسقاط القضاء. 8656 - ثم ذكر أئمتنا مسائلَ مرسلةً تأتي على أطراف الباب، ونحن نأتي بها، ثم نجمعها في ربقة جامعة.

_ (1) في الأصل: قضاؤه. (2) حديث عائشة رواه البخاري: كتاب النكاح، باب القرعة بين النساء إذا أراد سفراً، ح 511، ورواه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، ح 2445، وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 412 ح 1721). (3) التودع: الإقامة والدّعة. (4) لم أر هذا عند الأحناف، لا في مختصر الطحاوي، ولا في مختصر اختلاف العلماء، ولا في حاشية ابن عابدين. بل وجدت عكس ذلك في الاختيار لتعليل المختار: 3/ 117، قال ما نصه: "ويسافر بمن شاء، والقرعة أولى ... ومن سافر بها لي عليه قضاء حق الباقيات؛ لأنه كان متبرعاً، لا موفياً حقاًً" ا. هـ. وحكى الرافعي عن الغزالي في الوسيط أنه قال: إن أبا حنيفة رحمه الله، قال بوجوب القضاء (ر. الشرح الكبير: 8/ 380، والوسيط: 5/ 300). قلتُ، عبد العظيم. تبع الغزالي شيخه في هذا النقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو مخالف لما رأيناه عند الأحناف، فهل هو وهم في النقل، أم هو قول مهجور لأبي حنيفة رضي الله عنه؟ وانظر أيضاًًً (البدائع: 2/ 333، والهداية: 1/ 222) لترى أنهما أيضاًً يقولان بعدم القضاء للمخلّفات، وانظر أيضاًً: المبسوط: 5/ 219، وابن عابدين: 2/ 401.

فمما ذكروه: أن الرجل إذا بلغ المقصد، فلو نوى مقام أربعة أيام، فعليه قضاؤها للمخلَّفات إذا رجع؛ فإنه في إقامته خرج عن حكم المسافرين، وهذا مما أجمع عليه أئمة المذهب، القاضي، والصيدلاني وغيرهما. ثم إذا ابتدأ الرجوعَ، فهل يلزمه قضاءُ مدة الرجوع؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - يلزمه؛ فإنه من وقت الخروج عن حد المسافرين، انقطع حكم السفر المُسقط للقضاء، فتلتحق أيام رجوعه بأيام إقامته. والوجه الثاني - أنه لا يقضي للمخلفات أيام الرجوع؛ فإنه من وقت ابتداءِ الرجوعِ تركَ ما لابَسَهُ من الإقامة، وعاد إلى حكمِ السفر، وقد اقتضى السفر سقوطَ القضاء، وهو من وقت الرجوع مسافر. وناصر الوجه الأول يقول: الظاهر يقتضي أن يقضي للمخلَّفات إذا خصص واحدة من الضَرَّات بالصحبة، ولكن القرعة اقتضت جواز التخصيص من غير قضاء، فإذا انقطع حكم القرعة بالإقامة، لم يعد حكمُها، ولا بد من استفتاح قرعة أخرى، ولا سبيل إلى ذلك إلاَّ عند العَوْد، وفرضِ إنشاء سفر، وابتداء إقراع عنده، وهذا بمثابة ما لو اعتدى المودَع وضمن، فإذا ترك العُدوان، لم يعد أميناً؛ [إذ] (1) جرى الائتمان أولاً مطلقاً. ثم إن حكمنا بأنه يقضي أيام رجوعه للمخلفات، فلا كلام، وإن حكمنا بأنه لا يقضي؛ فالذي قطع به الأئمة: أن الأيام التي لا يقضيها أولها من وقت خروجه متوجهاً إلى الوطن الذي به المخلّفات. 8657 - وفي بعض التصانيف أنَّ أول الوقت [عند] (2) عزمه على [الانكفاء] (3) وقصده. وهذا غلط [صريح] (4)؛ فإنَّ حكم الإقامة إذا ثبت لا يزول إلا بمزايلة المكان الذي ثبت حكم الإقامة فيه.

_ (1) في الأصل: إن. (2) في الأصل: عن. (3) في الأصل: الانكفاف. والانكفاء: هو الرجوع. (4) في الأصل: صحيح.

وإنما وقع لهذا المصنف هذا من قول الأصحاب: إنه إذا قصد الإقامة، لزمه القضاء من هذا الوقت؛ فظن أن قصد الرجوع في قطع الإقامة كقصد الإقامة في قطع السفر، وهذا ظاهر السقوط، ولا مصدر له عن فكرٍ؛ فإنَّ الإقامة تحصل بمجرد القصد، كما تحصل [القِنية] (1) في البضائع لمحض النية، ولا تنقطع الإقامة إلاَّ بفعل السفر، كما لا ينعقد حول التجارة إلا بإنشاء عقد التجارة، فليس هذا إذاً معدوداً من المذهب. وقد ذكر العراقيون اختلافاً للأصحاب على مناقضة هذا، فقالوا: إذا سافر الرجل ببعض نسائه عازماً على الانتقال إلى البقعة المقصودة، فهذا ظلم منه، وإذا انتهى إلى البقعة [المأمومة] (2)، فالأيام التي تتفق الإقامة فيها (3) بها مقضية، والأيام [التي] (4) قطع [فيها] (5) المسافة من الوطن إلى البقعة، فعلى وجهين: أحدهما - أنها لا تُقضى؛ فإنها أيام سفر، والمسألة مفروضة في الإقراع واتباع خروج القرعة لا محالة. والثاني - أن تلك الأيام مقضية؛ فإنها قصدُ ظلم، فكانت في معنى الظلم، وهذا [أوجه] (6)، والوجه الأول مزيف، وليكن ميل الفقيه في الباب إلى القضاء، مهما وجد فيه مستمسكاً. 8658 - وإذا أقام في البقعة التي قصدها، وثبت له حكم الإقامة، وانقطعت رخص المسافرين، ثم إنه أنشأ سفراً من تلك البقعة قُدُماً، وهو مُستدبر وطنَه مثلاً، فإن قلنا: أيام رجوعه إلى الوطن مقضية- فهذه الأيام مقضية، وإن قلنا: أيام الرجوع

_ (1) غير مقروءة بالأصل. والقِنية: الاقتناء، يشير الإمام بها إلى أن من يملك عروضاً للتجارة، إذا نوى القِنية، أي نوى اقتناءها، واتخاذها لنفسه، ينقطع حول التجارة بمجرد نية القِنية. (2) في الأصل: المأمونة. (3) فيها: أي في البقعة المأمومة. وبها: أي بالزوجة التي معه. فالمعنى: الأيام قضاها في البقعة بهذه الزوجة. (4) في الأصل: الذي. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: الوجه.

لا تُقضى، فالحال ينقسم في تقدمه بالسفر، فإن بدا له هذا السفر الآن، ولم يكن [عازماً] (1) عليه في خروجه الأول، فهذه الأيام مقضية؛ فإنه أنشأ السفر عن إقامةٍ، وما كان عزم عليه قبلُ. وإن كان نوى أن يمتد إلى بغداد، فأقام بالرَّي الإقامة التي وصفناها، ثم استتم سفرته إلى بغداد؛ فهذا فيه احتمالٌ، على قولنا: أيامُ الرجوع غيرُ مقضية، والأوجه هاهنا: وجوب القضاء. ويجوز أن نَفْصل بين أن يقطع نيةَ السفر، ثم تبدو له فيعود، وبين أن يكون مستديماً لنية السفر الأقصى، ولكن نوى إقامة أيامٍ في بقعة، فتنتظم أوجه، وجهان عامَّان في النفي والإثبات، ووجه مُفَصَّل، كما نبهنا عليه. ولو نوى مُقام المسافرين، فهو مسافر، لا يتغير من الحكم الذي ذكرناه في القسم شيء. 8659 - وذكر العراقيون أنه إذا سافر ببعض نسائه سفراً قصيراً، فيلزمه القضاء، وزعموا أن القضاء إنما يسقط في السفر الطويل عند فرض القرعة المسقطة للاختيار، وكأنهم عدُّوا سقوط القضاء في مقابلة المشقة التامة. وكان شيخي يتردد في هذا ويقول: من الرخص ما يتعلق بالسفر القصير والطويل وفاقاً، أو على قولٍ، وأحراها بالذكر الجمع بين الصلاتين تقديماً وتأخيراً. والوجه عندي: القطع بما ذكره العراقيون (2)؛ فإنَّ ما نحن فيه يضاهي إسقاط العبادات، أو تخلية الأوقات منها. وهذا الفن لا يثبت إلا في السفر الطويل، والله أعلم. فهذه المسائل أطلقها الأصحاب وما أحوجَها إلى رباط يحويها.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) لم يرجح الرافعي ولا النووي أياً من الوجهين، ولكنهما نقلا ترجيح صاحب التهذيب وصاحب التتمة للتسوية بين السفر الطويل والقصير (ر. الشرح الكبير: 8/ 381، والروضة: 7/ 363).

8660 - وقد أجرى الأصحاب في صدر الباب النُّقلة، وهذا قد يخيِّل أن إقامة أيام وإن جرى العزم عليها لا توجب القضاء، ثم صرحوا بأنه لو أقام أربعة أيام على قصد وعزم- فهذه الأيام مقضية. وكل ما [ذكروه] (1) صحيح. والضبط فيه أنَّ سفر النُّقلة ببعض النساء محرَّم، يعني تخصيصَ المخرَجة. والسفرُ إذا لم يكن سفرَ نُقلة، وكانت الحاجة تَمَسُّ إلى إقامة أيام بالقصد، فهذا النوع من السفر مما يسوغ فيه تخصيص بعض النسوة بالقرعة، وليس كسفر النقلة، ويجب قضاء أيام الإقامة؛ لمكان التودّع (2) وزوال المشقة. وإن كان السفر عرياً عن قصد النقلة، ولم تكن [فيه] (3) إقامة تزيد على مدة المسافرين؛ فيجوز الخروج ببعض النسوة بالقرعة ولا يلزمه القضاء. 8661 - فالأسفار إذن على ثلاث مراتب. [المرتبة الأولى:] (4) سفر النقلة، وهذا هو الذي لا يجوز الخروج فيه ببعض النسوة؛ فإنه لا يتصور أنْ يجمع من يقصد الانتقال بين قصد الانتقال وقصد القضاء، فيجرد قصدَه ظلماً، فكان مقصودُه محرماً. والمرتبة الثانية: سفرةٌ (5) فيها تودّع يُسقط رخص المسافرين، فالخروج ببعض النسوة على شرط تحكيم القرعة جائز، ثم أيام الإقامة إذا انقضت مقضيةٌ؛ لما فيها من التودّع. والمرتبة الثالثة -[هي] (6) سفرة طويلة لا [يتخللها] (7) ولا يتصل بمنتهاها،

_ (1) في الأصل: ذكره. (2) التودّع: أي الدعة والراحة من السفر. (3) في الأصل: فيها. (4) هذا العنوان من وضع المحقق. (5) في الأصل: لسفرة. (6) في الأصل: في. (7) في الأصل: يتخيلها.

[إقامة] (1) في أيام تزيد على مدة إقامة المسافرين، فيجوز تخصيص بعض النسوة [بالإقراع] (2)، والقضاءُ منتفٍ في جميع الأيام، فإنَّ حكم السفر مطرد فيها. 8662 - ثم ننعطف ونقول: إذا خرج بالبعض وقصدُه النقلة، وأقرع، فعلى أيام خروجه إلى الانتهاء إلى المقصد خلاف، ذكره العراقيون وإذا كان على قصد إقامة أيام في منتهى السفر مثلاً، فأيام خروجه إلى الانتهاء إلى المقصد غيرُ مقضية بلا خلاف. وأما المرتبة الثالثة، فلا كلام فيه؛ فإنَّ جُملة الأيام عرية عن التودّع، وفيها دقيقة لطيفة، وهي: أنَّ المسافر [إن] (3) كان لا يقيم بمقصده إلاَّ يوماً واحداً؛ فإنه لا يقصر في المقصد ولا يفطر؛ إذ لو عُدَّ ذلك منزلاً، لكانت مرحلة واحدة كافية؛ لأجل أنها إذا حسبت ذهاباً ومجيئاً، صارت مرحلتين، [فإنا نميز] (4) الرخصة في السفر من غرض القَسْم؛ فإنَّا لا نوجب القضاء إذا لم يُقم في مقصده، وإن كان لا يقصر، لأن [مبنى] (5) هذا الباب على زوال التودّع، ومبنى الرخص على انتهاء السفر، والرجوع ابتداءٌ آخر. والذي يقتضيه هذا القياس أنَّ السفر إذا كان مرحلة واحدة، فيجب أن يكون في إسقاط القضاء [كمرحلتين] (6) في التقصير (7)، فإنَّ مدة الكون في خاصية الباب في منتهى السفر كالإقامة في مرحلة من المراحل، وهذا لطيفٌ حسن، والاحتمال مع ذلك قائم. 8663 - ومما بقي في الفصل: الكلام في أيام الرجوع، فنبدأ بالمرتبة الثالثة، ونقول: أيام الرجوع في السفرة التي لا تودّع فيها كأيام الذهاب، وأيام الرجوع من

_ (1) في الأصل: أقام. (2) في الأصل: "بالإخراج". (3) في الأصل: وإن. (4) في الأصل: "فإنا نامن الرخصة". (5) في الأصل: منتهى. (6) في الأصل: لمرحلتين. (7) كذا. ولعلها في القصر.

السفرة المبنية على قصد النقلة على وجهين، والأصح فيها: القطع بوجوب القضاء؛ فإنه لم يجر إقراع له حكمٌ في ابتداء الأمر، ولست أرى لنفي القضاء وجهاً، ولكنه مشهور. فأما أيام الرجوع من المقصد الذي أجرى فيه قصدَ الإقامة لا قصدَ الاستيطان، ففيه وجهان: أصحهما - أنَّا لا نقضي؛ فإنَّ السفرة جائزة بسبب القرعة، وإذا اطَّرد الجواز؛ فلا يُستثنى من سقوط القضاء إلاَّ أيام التودع. 8664 - ومما يعترض في الباب أنَّ المسافر إذا قصد بقعة ولم يُزمع الإقامة في مدة، ولكن ربط أمره بانتجاز حاجة، فالقول في أنه هل يترخص إذا زادت إقامتُه على مدة المسافرين مذكور في الصلاة. فإن أدمنا الرُّخَصَ، فالأيام غير مقضية، وإن أسقطناها وألحقناه بالمقيم؛ فالقول فيه كالقول في إبرام العزم على الإقامة أربعة أيام، فإن قيل: لا تودّع بمن يبرم عزمه [على الرحيل بانتجاز حاجته] (1)، قلنا: أُلحق هذا الشخص بالمتودّع [بدليل] (2) سقوط الرخص. 8665 - ومما يجري ركناً في الباب أنه لو خرج بواحدة من غير قرعة، فإذا آب، قضى للمخلفات إجماعاً، وينضم إلى وجوب القضاء عصيانُه بالخروج بالتي اختارها؛ فإنه أظهر الميل إليها، فاقتضى ذلك تعصيتَه وإلزامَه بالقضاء، فلا نظر -مع ما ذكرناه- إلى مقاساتها المشقة. 8666 - ولم يختلف العلماء في أنه إذا أقام عند واحدة من نسائه في الحضر ليمرضها، فهذه الأيام مقضيةٌ للأخريات، فإن ماتت المريضة، خرجت من البين (3)، ولم يظهر أثرُ وجوبِ القضاء في حق الباقيات، فالوجه أنْ نقدر كأنَّ التي

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: بالمتودّع به ليل سقوط الرخص. (3) البَيْن: هذه من ألفاظ إمام الحرمين التي رأيناها في البرهان وغيره، ثم ترددت هنا كثيراً، ومعناها واضح من السياق، وإن لم نجدها منصوصة في المعاجم بهذا المعنى.

ماتت لم تكن. وإن استبلّت وبرئت، قضى تلك الأيام [للباقيات] (1)؛ فإنَّ قيامه بتمريضها يقع [محضاً] (2) لها، وليس كذلك الخروج ببعضهن سفراً؛ فإنها وإن حظيت من وجه، شقيت من وجه. ثم لا يجوز للرجل أن يقوم بالتمريض ويقطع النُّوبَ إلاَّ عند حاجة. وقد رأيت في هذا تردداً للأئمة، فالذي ظهر من كلام المعظم أنَّا نشترط أن يكون المرض مخوفاً، وأشار مشيرون إلى أنَّ الحاجة الحاقّة كافية، حتى إذا عظمت الآلام -وإن لم تبلغ مبلغ الإخافة [ولم] (3) تجد ممرضاً- فللزوج أن يقوم بتمريضها. وإذا كان المرض مخوفاً، ووجدت المرأةُ من يقوم بتمريضها ففي جواز قيام الزوج بتمريضها تردد. وحاصل المذهب أنَّ المرض إذا اشتدَّ ألمُه، [ولم تجد] (4) المرأة غيرَ الزوج، فللزوج تركُ النوب لتمريضها، [وإن وجدت] (5) غيرَه، فعلى التردد. وللزوج القيام بتمريضها في المرض المخوف إذا لم تجد من يقوم مقامه، فإن وجدت، فعلى التردد. وقد نجز مضمون الباب تأصيلاً وتفصيلاً، ونحن نذكر على إثر ذلك فروعاً مرتّبة المآخذ .. فرع: 8667 - إذا سافر بواحدة بالقرعة -حيث يسقط القضاء- فلو تزوج بجديدة في خلال الطريق، فإنه يخصها بحق العقد ثلاثاًً أو سبعاً، ثم يَقْسِمُ بينها وبين التي سافر بها، فلو أراد أن يخلّف إحداهما ببلد، لم يجز إلا بالقرعة، وإذا فعل ذلك بالقرعة، فالتفصيل على ما قدمناه.

_ (1) في الأصل: الباقيات. (2) في الأصل: محض. (3) في الأصل: إذ لم. (4) في الأصل: ووجدت. (5) في الأصل: وإن لم تجد.

ولو خرج بامرأتين بالقرعة، جاز، فلو بدا له أن يخلِّف إحداهما ببلد، لم يجز إلاَّ بالقرعة. ولو ظلم إحداهما في الطريق لصاحبتها، قضاها في الطريق، فإن لم يتفق القضاء حتى رجع، قضى للمظلومة من حق [التي] (1) ظلمها بها دون حق صاحبتها المتخلفتين. ولو خرج منفرداً، ثم تزوج في الطريق، لم يلزمه أن يقضي للمخلَّفات [كل الأيام] (2) التي صحب فيها المُتَزَوَّجَةَ في السفر؛ لأنه خرج ولا حقَّ لهن، ثم تزوج في السفر، ولا يتصور عليه القَسْم بينهن، وإنما يجب الإقراع في اللواتي يجتمعن تحته حالة السفر، فإذا كان الإقراع يُسقط حق المتخلفات، فابتداء [الزواج] (3) بذلك أولى. فرع: 8668 - إذا كان تحته زوجتان، فنكح جديدتين، فقد ثبت لهما حق العقد، فلو أراد سفراً وأقرع، فخرجت القرعة على إحدى الجديدتين، فإذا سافر [بها] (4)، فلا شك أن أيامها تندرج تحت صحبة السفر، إذا كان يصحبها. فإذا عاد، فهل يلزمه أن يوفي الجديدةَ الأخرى حقَّ العقد -إذا لم يكن وفاها من قبل؟ والمسألة فيه إذا زُفَّت إليه، فلم يُقم عندها؟ اختلف أصحابنا في المسألة فيما نقله العراقيون، فمنهم من قال: لا يوفيها حق العقد؛ فإنَّ أيام حق العقد قد انقضت في سفره، كما انقضت نُوبُ القديمتين، ثم لا يجب قضاءُ نوب القديمتين، فلا يجب تدارك حق العقد. ْومن أئمتنا من قال: يجب أن يوفيها حقَّ العقد، ولا يقاس حقُّ العقد في ذلك بالقَسْم، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي؛ والسبب فيه أن معنى التوحش قائم، وحق القَسْم قد يسقط بأسباب، وهو يجب شيئاً شيئاً، فإذا كان الرجل مسافراً على

_ (1) في الأصل: الذي. (2) في الأصل: بكل للأيام. (3) في الأصل: الزوج. (4) زيادة من المحقق.

شرط الشرع، فلا يجب للمخلَّفات حقُّ القَسْم. وحق العقد يجب دفعةً واحدة، لا على قياس القسم؛ فإنَّ القسم [للتسوية] (1)، وحق العقد حق مستَحقٌّ في الذمة، فلابد من الوفاء به. وعندنا أنَّ ما ذكروه في المزفوفة. فأمَّا التي لم يزفها بعدُ إذا أدخلها في القرعة، ولم تخرج القرعة عليها، فإذا عاد وزفها؛ فيجب القطع بأن حقها -والحالة هذه- قائم. ولو نكح جديدةً وزفها على قديمة، وخرج مسافراً، ولم يستصحب واحدة منهما، فإذا عاد، فالذي أراه أنه يلزمه أن يوفي المزفوفةَ حق العقد هاهنا، فإن مضت أيام في السفر غيرُ محسوبة عليه، وفي المسألة احتمال على حال، والعلم عند الله تعالى. ...

_ (1) في الأصل: التسوية.

باب نشوز المرأة على الرجل

باب نشوز المرأة على الرجل 8669 - للمطيعة المنقادة النفقةُ والقَسْمُ على زوجها. والناشزة هي الممتنعة من التمكين، والأصل في الباب قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]. وقد ذكر الشافعي [للآية] (1) تأويلين: أحدهما - أنَّ هذه الخصال مرتبة على أحوالٍ تصدر منها، فإن خاف الزوج نشوزَها، ولم يبدُ بعدُ عينُ النشوز، بل بدت أماراته، [فيعظها] (2) حينئذٍ. فإن لم تتعظ وأبدت النشوز، هجرها في المضجع، فإن أصرت وتمادت ولم تحتفل بالهجر في المضجع، ضرَبَها، واقتصد، عالماً بأنه لو أفضى الضربُ إلى الهلاك، أو إلى فساد عضو، ضمن. وقد يرد لفظُ الجمع والمراد به ذكْرُ المراتب، والتخييرُ فيها على حسب وقوعها، قال الله تعالى في آية المحاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، فاللفظ للتخيير، والمراد به الترتيب على قدر الجرائم، هذا أحد التأويلين. والثاني - أن [يحصر] (3) معنى الآية فيما بعد وقوع النشوز، وعند ذلك يجمع بين الوعظ والهجر والضرب، فإذا أمكن حمل هذه الخصال على الجمع -وظاهر الصيغة مُشعرٌ بالجمع-، فالأولى أن يحمل على ذلك، فعلى هذا معنى قوله: تخافون، أي: تعلمون النشوز. وقد يرد الخوف والمراد به العلم.

_ (1) في الأصل: الأئمة. (2) في الأصل: فيعظلها. (3) في الأصل: يحضر.

8670 - واختلفت الأخبارُ في ضرب النساء، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تضربوا إماء الله" (1) فجاء عمر وقال: "يا رسول الله [ذَئِر] (2) النساء أي [نشزن] (3) واجترأن، فأذِن في ضربهن، فبسط الرجال أيديهم إلى ضرب النساء، وجاوزوا الحد، فأطاف بآل محمد أي: بحُجَرِ نسائه وأهل بيته صلى الله عليه وسلم نساءٌ كثيرات كلهن يشتكين أزواجهن، فخرج صلى الله عليه وسلم وقال: لقد أطافَ الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلُّهن يشتكين أزواجهن!! خيارُكم خيارُكم لنسائكم، لا يضربن أحدُكم ظعينتَهُ ضربه أَمَته" (4). ثم تكلم الشافعي في ترتيب الكتاب والسنة، فذكر وجهين: أحدهما - أنه يحتمل أن تكون الآية وردت بإباحة الضرب، ثم نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه تنزيهاً، ثم لمَّا استطالت النسوة [بأذاهن] (5) على الأزواج أذنَ في ضربهن، فلما بالغوا، قال آخراً: خياركم خياركم لنسائكم، واستحث على الصبر على أذاهن والإعراض عن مجازاتهن على شكاسة الأخلاق وشراستهن، وهذا [لعمري] (6) هو الأصل.

_ (1) حديث " لا تضربوا إماء الله " رواه أبو داود: كتاب النكاح، باب في ضرب النساء، ح 2146، والنسائي كتاب عشرة النساء، باب ضرب الرجل زوجته، ح 9167، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب ضرب النساء، ح 1985، والحاكم: 2/ 188، 191، والبيهقي: 7/ 354، (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 413). (2) في الأصل: دَبُرَ. بهذا الرسم وهذا الضبط. وذئر النساء: من قولهم: ذئر يذأر ذأراً: أنف وغضب، واستعد للمواثبة، فذئر النساء: أي نشزن على أزواجهن، وذئرت المرأة على بعلها: نثزت، فهي ذئر وذائر (المعجم). (3) في الأصل: خسرن. وأرها محرفة عن (نشزن). (4) هذا الحديث مع ما قبله: "لا تضربوا إماء الله" أخرجه البيهقي على نحو سياقة إمام الحرمين تماماً إلا بعض ألفاظ، وفي آخره قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وايم الله لا تجدون أولئك خياركم" مكان رواية الإمام: "خياركم خياركم لنسائكم، لا يضربن أحدكم ظعينته ضربه أمته" (ر. السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 354). (5) في الأصل: "بذلتهن"، والمثبت اختيار منا على ضوء السياق، ويساعدنا على هذا الاختيار ورود الكلمة بعد ذلك بسطور. (6) غير مقروءة في الأصل.

8671 - فإذا تبيَّن أصل الباب، فَسِرُّه وأهمُّ ما فيه: تصوير النشوز، ونحن نذكر فيه ما يشفي الغليل -إن شاء الله عز وجل-، ثم نذكر طرفاً من الكلام في ضربهن، ثم نذكر حكم النشوز. 8672 - فنقول أولاً: لسنا نشترط في النشوز أن تمتنع المرأةُ امتناعاًً لا يدخل في إمكان الزوج ردُّها إلى الطاعة قهراً، بل إذا نشزت وتمكن الزوج من ردها، فهي ناشزة، هذا طرف أطلقناه، ويعارضه أنها لو كانت تمتنع امتناعاً يمكن عده من فنون التدلل والمجاذبة لتكون أشهى، فليس هذا من النشوز، وليس من شرط طاعتها المبادرةُ التي تُخرج من [خَفَر] (1) الحياء إلى تشوُّف التوقان، فما المعتبر إذن في تصوير النشوز؟ فنقول: إن خرجت عن مسكنه، فهي ناشزة على تحقيق، وإن استمكن من ردها. وإن كانت معه، ولكن كانت تمتنع على الزوج امتناعاً يحوجه إلى تأديبها، فقد يتعرض الرجل بسبب امتناعها لضررٍ؛ بسبب تخلف قضاء النَّهْمة والشهوة، فهذا نشوز؛ فإنَّ النشوز ضدُّ الطاعة. والطاعة معلومة في المنقادة على حسب العادة، وقد تختلف بالبكارة والثيابة، وعلو المنصب، والتوسط في الدرجة، وهذا على تصوير لزوم المرأة أُبهة الحياء، والامتناع هو الذي يلحق إضراراً بالرجل بسبب تأخر الحاجة، أو يحوجه إلى أن ينتصب مؤدِّباً، والنكاح للإيناس والاستئناس، والذي يحقق ذلك: أن الطاعة تمكينٌ منها، وهي تستفيد به تقرير حقها، فإذا احتاج الزوج في تحصيله إلى تضرر أو مقاساة [كُلفة] (2)، فله أن يتركها حتى يضيع حقها. 8673 - والترتيب في ذلك أنها إذا خرجت من مسكن النكاح، فهي ناشزة كيف فرض الأمر، وإن لم تخرج وعُدّت مطيعةً، والزوج لا يحتاج في تحصيل الغرض منها إلى مقاساة كلفة، أو تعرض لضرر أو إقدام على ضرب؛ فهي مطيعة. وإن كان

_ (1) في الأصل: خفة. (2) في الأصل: كلفته.

يحتاج إلى كُلفة أو ضرب أو تعرض لضرر، فهي ناشز. ولو كانت تمكن من الوقاع، وتمنع مما عداه من جهات الاستمتاع، فكيف السبيل وهي ممكِّنةٌ من المقصود؟ فهذا نوع من النشوز، وأقرب أصلٍ إلى ذلك ما ذكرناه في الأَمَة، إذا كان السيد يسلمها ليلاً ولا يسلمها نهاراً، فذاك أولاً سائغ للسيد. ثم في وجوب النفقة خلاف، وما ذكرناه في الحرة غير سائغٍ لها، وهي مُمكَّنةٌ (1) من المقصود، ففي استقرار النفقة تردد، ولكنها مجبرة على ما يحاوله الزوج منها إذا كان لا يكلفها ما لا يسوغ. فهذا قولنا في تصوير النشوز. 8674 - وليس من النشوز أن تبذو (2) على زوجها، وتستطيل عليه سبَّاً وشتماً، فإنها إذا كانت تُمكِّن مع ذلك، فالتمكين [جارٍ] (3) ولا نشوز، وهي ممنوعة عن المسابّة مزجورة عنه، وإنْ أفضى الأمر إلى التعزير عُزِّرت، وفيه فضل نظر أذكره في فصل الضرب. 8675 - فأما القول في الضرب؛ فالأولى ألاَّ يضرب، وليس كالولي في حق الطفل [العرِم] (4)، فإنَّا نؤثر له أن يؤدبه، والفرق أنَّ الولي يؤدبه لاستصلاحه، والزوج يؤدب زوجته لتصلح له، والضرب ليس فيه توقيف، والجبلاَّت تختلف باختلاف الأحوال في احتمال الضرب، فالأولى ألاّ يتعرض للضرب المفضي إلى الغرر لحظّ نفسه [ففيه] (5) الحيدُ عن الصفح وحُسن المعاشرة.

_ (1) ممكَّنة: بفتح الكاف هنا، والمعنى أنّ الحرة ليس لديها مانع يسوّغ لها عدم تمكين الزوج من أي جهة من جهات الاستمتاع، بخلاف الأمة لا يسلمها السيد إلا ليلاً. (2) تبذو عليه: من قولهم: بذُو بذاةً وبذاءة، وبذَوْتُ عليهم وأبذيتهم، من البذاء وهو الكلام القبيح. (القاموس المحيط). (3) في الأصل: جازٍ (بالزاي). (4) العرم: من قولك عَرَم فلان يعرُم عَرْماً: اشتدّ وخبث، وكان شريراً (المعجم). (5) في الأصل: فيه.

وإذا أراد الضربَ، ففي وقته تردد، ذكر العراقيون وجهين في أنَّ الزوج هل يُبادر الضرب بأول نشوز، أم لا يجوز له الضرب حتى يستمر أو يتكرر منها النشوز؟ [وتلقَّوْا] (1) ما حكَوْه من الاختلاف عن ظاهر القرآن؛ فإنَّه عز من قائل قدم ذكرَ الوعظ، ثم عقّبه بالهجر، ئم اختتم بالضرب، فنبّه سياقُ الخطاب على رعاية تدريج، ثم ظاهر كلامهم -[في] (2) هذا إذا نصروا المنع من الهجوم على الضرب- يشير إلى أنَّ الضرب يقع في الثالثة، [فإنهم] (3) لما نصروا الوجه الثاني رأَوْا هذه الخصال مجموعة كما (4) ظهر النشوز. 8676 - وتحقيقُ القول في هذا يعطف الفقيه على النظر في حال من يقصد الإنسان في بدنه أو ماله، فإنَّ الدفْعَ يقع على التدريج، على ما سيأتي مشروحاً -إن شاء الله تعالى- حتى إذا كان الدفع ممكناً بتهييبٍ وزجرٍ في المنطق، لم يجُز الانتهاء إلى الفعل، ثم الأفعال تترتب على أقدار الحاجة، والقول في ذلك متيسرٌ سنضبطه في موضعه، إن شاء الله عز وجل. ويجوز أن يقول القائل: المنع من النشوز يجري على ترتيبِ دفع الصائل في رعاية التدريج، [ونهايته] (5) في أنَّ الصائل لا يُدْفع إلا بما يأتي عليه، فيجوز دفعه إلى ما يُفضي إلى هلاكه، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا، فانَّ [للتأديب] (6) موقفاً من طريق التقريب، لا يُتعدّى، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى. ويجوز أن يقال: ليس ضربُ الناشزة في معنى الدفع، وإنما هو في معنى إصلاحها في مستقبل الزمان. وإذا كانت تنزجر في كل نوبة من النشوز، نقول: فقد تعتاد ذلك؛ فلا يمتنع أن يقال: إذا نشزت وظن الزوج أنَّ الوعظ يصلحها والهجرَ،

_ (1) في الأصل: وتلقَّوه. (2) في الأصل: وفي. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) كما: بمعنى عندما. (5) في الأصل: "ونياهته". هكذا بدون نقط (انظر صورتها). (6) في الأصل: التأديب.

فيقتصر. وإن ظن أنها ستمرن (1) وسيفسد حقه منها، فيضربها لتصلح له في المستقبل، وهذا هو الحق لا غير، وعليه يجري تأديب الأب ابنه، غيرَ أن الأب يصلحه له، والزوج يصلحها لنفسه. 8677 - ثم المتبع في ذلك الظن، فإن ظهر للزوج سوء خلقها بنشوزٍ واحدٍ، ضربها، وإن قدر النشوز الواحد نادرة، لم يضربها، ويختلف هذا باختلاف الأحوال والأشخاص، ولا نطلب في ذلك يقيناً، ولا يجوز الإقدام على الضرب من غير ظن في أنَّ الاستصلاح يحصل به. وإنْ أبت المرأةُ وتمادت؛ وكانت لا تنكفّ [إلا] (2) بالضرب المبرِّح، فليس للزوج أن يبرِّح بها، وينتهي إلى حالة توقع الخوفَ عليها؛ فإنَّ الغرض إصلاحُها، فإذا ظن أنها لا تصلح فَضَرَبَها، كان ذلك [حَنَقاً] (3) وشفاءَ غليل، وهو غير مسوّغ، هذا هو السر المتبع، ولو أفضى الضرب إلى الهلاك، وجب الضمان، وإنْ أفضى إلى نقيصةٍ ثبتت لمثلها حكومة، فعلى الزوج أن يضمنه. وإن جرَّ الضرب شيئاً، ثم زال نوجب على الجاني (4) في مثل ذلك شيئاً على وجهٍ بعيد، والوجه هاهنا: القطع بأنه لا يجب على الزوج شيء. فإن قيل ضرب الزوج إذا أفضى إلى نقيصة، فالبعض من هذا لو اقتصر عليه، لما كان موجِباً ضماناً، فهلاَّ جعلتم النقيصة بمثابة أثر يترتب على مستحِق وغير مستحِق؟ قلنا: إذا جاوزَ الزوجُ الحد، أَخرجَ بآخر فِعْلِه أوّلَه عن كونه إصلاحاً، فصار جميع ما صدر منه جناية، وسنصف هذا في أبواب التعزيرات من كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) ستمرن: أي ستعتاد النشوز، من قولهم: مَرَنَ وجهه على الأمر: تعوّد تناوله بدون حياء أو خجل. (معجم). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: حقاًً. (4) على الجاني: أي في الجنايات، غير ضرب الزوج كما هو واضح.

8678 - ومما أطلقه الأئمة ونطق به القرآن الهجرُ، وكان شيخي يهجرها في المضجع، ولا يترك [مناطقَتَها] (1) وراء ثلاث ليال؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. وهذا فيه نظر عندنا؛ فلو رأى استصلاحها في مهاجرتها في المنطق، فلست أرى ذلك ممنوعاً، وهو أهون من الضرب. والذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو تَهَاجُر الأخوين من غير سبب يقتضيه في الشرع. هذا بيان الهجر والضرب. 8679 - [ويتصل] (2) به أنها إذا كانت تؤذيه في المنطق ولا تمتنع عليه، فهل له أن يؤذيها، أو يرفعها إلى السلطان؟ فيه ترددٌ بين الأصحاب، قال قائلون: هي فيما تأتي به وراء التمكين من موجبات التعزير، كالأجنبية، كما أنها في منعها حق الزوج من مال أو غيره مما يتعلق بحقوق الزوجية كالأجنبية. وقال قائلون: يؤذيها الزوج على استطالتها، وبذاءة لسانها؛ فإنها وإن كانت ممكِّنةً مع ذلك، فهذا ينكِّد المعاشرة، ويكدّر الاستمتاع، ولسنا ننكر تعلقه بما يوجب استصلاحَ الزوجة في الحقوق الخاصة في النكاح. فأما الحكم في سقوط النفقة، ففيه (3) تفاصيل تتعلق بكتاب النفقات. ...

_ (1) في الأصل: مناطقها. (2) في الأصل: ويبطل. (3) هنا خلل في ترتيب صفحات الأصل. ولذا انتقلنا إلى ص201 شمال، بدلاً من 200 شمال.

باب الحكمين في الشقاق بين الزوجين

باب الحكمين في الشقاق بين الزوجين 8680 - الأحوال الدائرة في هذه الفنون بين الزوجين تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها - أن يصدر العدوان من الرجل في إيذائها والإضرار بها، فإذا تحقق ذلك منه، منعناه من الإضرار، واستوفينا منه ما يمتنع عنه من الحقوق، وإن كان جسوراً لم نأمن أن يضربها ضرباً مبرِّحاً، وقد يفضي ذلك إلى هلاكها، فنحول بينها وبينه؛ فإنَّا إنْ ضربناه لضَرْبه إياها تعزيراً، فقد يضم لذلك [حنقاً] (1) ويبلغ منها مبلغاً لا يستدرك. ثم إذا استشعر الوالي ذلك وضَربَ الحيلولة، لم يردّها إليه حتى تلين عريكتُه، وتظهر عاطفته، وذلك لا يتبين بقوله، وإنما يتضح بأن يُختبرَ ويوكلَ به في السر من يبحث عن مكنون ضميره فيها، فإذا غلب على الظن أنه مأمون في حقها رُدَّت إليه، وهذا يُضاهي البحثَ عن الإعسار وغيره من الأمور الباطنة المتعلقة بالنفي، ويتصل به استبراؤنا الفاسقَ إذا تاب. وإن لم يتحقق إيذاؤه إياها، بل ظننا ذلك ظناً، فالوجه أن يأمر الحاكم من يراقبهما في السر والعلن، ولا يشترط أن يتحقق ذلك، ولا يضرب القاضي حيلولة بينهما بمجرد الظن إذا لم تبدر منه بادرة، فإذا بدرت، فقد يديم الحيلولة إلى ظهور الظن بالأمر، وإذا تحققنا الإضرار بها، فليس إلاَّ الحيلولة، فأما إلزام الطلاق، فلا. 8681 - وإن تحقق العدوان منها، فهو النشوز، وقد مضى فيه باب، وإن توهمنا نشوزاً، فلا يدَ للقاضي، ويدُ الزوجِ متسلطة عليها، فإن بلغ الأمرُ مبلغاً يُعجز الزوجَ، استعان بالسلطان.

_ (1) في الأصل: حقاً.

8682 - وإن نشبت خصومة بين الزوجين، وأشكل الأمر، فلم ندر من (1) الظالم منهما؟ وكان الزوج لا يصفح، والمرأة لا تفتدي، واشتبه حال الزوجين، فهذا موضع بعثة الحكمين، فيبعث الإمامُ حكمين عدلين حَكَماً من أهله، وحَكَماً من أهلها، حتى يخلوَ كل واحد من الحَكَمين بصاحبه، فيستطلعَ رأيه، ويعرفَ مكنونَ غرضه، ورغبته في صاحبه أو عنه، ثم [يلتقيان] (2)، ويُثبتُ كلُّ واحد ما عنده؛ وإنما استحببنا أن يكونا من الأهلين؛ لأن انبساطهم أكثر، واطلاعهم على حقائق الأمور أمكن. فهذا تصوير بعثة الحكمين. والأصل في الباب نص الكتاب لقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، [وفي الآية] (3) وجهان من التأويل. قيل: معناه إن [يُرد] (4) الزوجان إصلاحاً، يوفق الله بينهما. وقيل: معناه إن يُرد الحكمان إصلاحاً وجرَّدا قصدَهما في ذلك يوفق الله بين (5) الزوجين ببركةِ قصدِهما. وهذا ما فهمه عمرُ من الآية (6)، فروي أنه بعث حكمين فرجعا، وقالا: لم يتم الأمر بينهما، فَعَلاَهُمَا بالدِّرةِ وقال: "الله أصدقُ منكما، لو أردتما إصلاحاًً، لوفَّق الله"، فرجعا واعتقدا إصلاحاً، فلما بلغا مكانهما، كانا قد أغلقا الباب [وتلاوما] (7) واصطلحا (8). 8683 - ثم [إن] (9) اتفق التئام الحال واصطلاح الزوجين، فذاك.

_ (1) في الأصل: أن. (2) غير مقروءة في الأصل، لذهاب معظم حروفها، وقدرناها على ضوء السياق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: يريد. (5) في الأصل: يوفق الله ذلك بين الزوجين. (6) في الأصل: الأئمة. (7) مكان كلمة ذهب بها التصوير من طرف السطر. (8) أثر عمر رضي الله عنه لم نصل إليه. (9) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

وإن [رأيا] (1) الحال بينهما [أبعد] (2) عن قبول الصلاح ورأيا الخصومة [ناشبة] (3) لا تنفصل، وظنا أن الوجهَ التفريق [بينهما] (4)، فهل ينفذ الفراق بينهما إذا رأياه؟ للشافعي قولان في أن التحكيم من الولي [تولية] (5) أو هو توكيل من الزوجين، أحد القولين- أنهما وكيلان لا ينفذان أمراً إلا [برضا] (6) الزوجين، فالذي هو من جانب الزوج وكيله لا يطلِّق ولا يخالع ولا [يثبت أمراً بغير] (7) إذن الزوج، والذي من جانب المرأة لا يختلع عن المرأة بشيء من مالها إلا بإذنها. وهذا [أحد] (8) القولين، وهو اختيار المزني، ووجهه أن الطلاق للرجال، ولا يتعلق به تصرف [متبرع] (9) دون الزوج، إلا في حق المولَّى كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. وهو في حكم [المستثنى] (10) المخصوص الذي لا يقاس عليه، هذا في جانب الطلاق. أما بذل مالها من غير [إذنها] (11) [بطلقة] (12) فعلى نهاية البعد عن قاعدة القياس. 8684 - ومن قال بالقول الثاني قال: للحكمين أن يفرقا [إن] (13) رأيا التفريق،

_ (1) في الأصل: رأينا. (2) تقدير من المحقق، حيث ذهب التصوير بأطراف السطور. (3) في الأصل: ناشئة. (4) تقدير منا مكان كلمة ذهبت من طرف السطر. (5) تقدير منا مكان كلمة ذهبت. (6) اختيار من المحقق بدلاً من كلمة سقطت. (7) كذا قدرناها مكان كلمة غير مقروءة، وأخرى ذهبت من طرف السطر (انظر صورتها، وغيرها من الكلمات التي قدرناها في هذه الصفحة). (8) تقدير منا مكان ما ذهب. (9) كذا قرأناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف. (10) تقدير منا مكان الساقط. (11) تقدير منا مكان الساقط. (12) في الأصل: مطلقة. (13) اختيار من المحقق.

وهو الذي نصّ عليه في أحكام القرآن (1)، واحتج بأن الله تعالى سماهما [في كتابه] (2) حكمين، والحكم هو الذي يحكم وينفذ ما يراه قهراً، ووكيلا الزوجين لا يسميان [حكمين] (3). فإن قيل: قيَّد اللهُ تنفيذَ الأمرِ بإرادتهما، قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35]، قلنا: إن حملناها على الحكمين، سقط السؤال، وإن حملنا قوله: {إِنْ يُرِيدَا} على الزوجين فالمعنى: إن [لاحت] (4) إرادةُ الصلاح مِن الزوجين، وفّق الله (5) بينهما. وعن علي أنه بعث الحكمين بين [الزوجين] (6) وقال: "أتدريان ما عليكما، ما عليكما إن رأيتما أنْ تُفَرِّقا أَنْ تُفرقا، وإن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا [قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي] (7)، فقال الزوج: أمَّا الطلاق فلا، فقال عليٌّ: كذبت حتى تقر [بما أقرّت به] (8) " (9). ووجه التعلق بقول علي: أتدريان ...

_ (1) الذي في أحكام القرَان للشافعي يؤيد القول الأول ونص عبارته: " ... بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها، ولا يبعثهما إلا مأمونين وبرضا الزوجين. ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرّقا إذا رأيا ذلك. ثم قال: ولو قال قائل: يجبرهما السلطان على الحَكَمين كان مذهباً" (أحكام القرَان: 1/ 212، 213، والأم: 5/ 103، 104) هذا ولم نجد فيما رأينا من كتب المذهب من عزا الأقوال إلى كتب الشافعي إلا الرافعي، فقد عزا القولَ الثاني إلى (الإملاء) وليس إلى (أحكام القرآن) فلعل في الكلام سبق قلم أو وهماً. (الشرح الكبير: 8/ 391). (2) اختيار من المحقق. (3) تقدير منا على ضوء السياق. (4) تقدير منا على ضوء السياق. (5) في الأصل: يوفق الله ذلك بينهما. (6) تقدير منا. (7) هذه الزيادة من نصّ رواية الشافعي في الأم. (8) غير مقروء في الأصل، وأثبتناه من رواية الأم. (9) حديث علي بهذه السياقة وبهذه الألفاظ، هو نص ما رواه الشافعي في الأم: 5/ 177، إلا أن إمام الحرمين قدّم " إن رأيتما أن تفرقا ... " على " إن رأيتما أن تجمعا ... " ورواه أيضاًًً النسائي في الكبرى: ح 4678، والدارقطني: 3/ 295، ح 189، والبيهقي: 7/ 305، 306، وعبد الرزاق: 6/ 512، رقم: 11885، 11887، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 414 ح 1723.

الحديث، [أنه] (1) فوض الفراق إلى [رأي الحكمين] (2) ولما قال الزوج: أمَّا الطلاق فلا، رد عليٌّ عليه وقال: كذبت. فما معنى تكذيبه؟ لعله أبدى في الابتداء رضاً بما يستصوبه الحكمان، ثم رجع عنه، [فكان] (3) ذلك [منه] (4) خُلْفاً في الوعد فورد التكذيب عليه. وإنْ تعلَّق ناصرُ هذا القول بأنَّ [الضرر] (5) مدفوع، ولسنا نرى للخصومة [الناشبة] (6) الملتبسة مدفعاً، وترك النزاع [والشقاق] (7) (8) يخالف مبنى الشرع، فهذا كلام كلي لا يتعلق به على السداد غرض جزئي في محل النزاع. والذي يقتضيه القياس تقرير النكاح وضرْب الحيلولة بينهما؛ حتى لا يتنازعا. ولا معتمد لهذا القول إلاَّ التمسك بظاهر القرآن والأثر. التفريع على القولين: 8685 - إن قلنا: الحكمان كالوكيلين، فسيأتي -إن شاء الله تعالى- تفريعُ القول في الوكالة في الخلع والطلاق، والفدر الذي ننجزه لإيضاح التفريع: أنَّا إذا جعلنا الحكمين في منزلة الوكيلين، فإذا لم يجر من الزوجين توكيل، فليس إليهما من الأمر شيء، إلاَّ التفقد والبحث عن محل اللبس، حتى يتبين للقاضي الظالمُ منهما من المظلوم، ثم مضى حكم الإنصاف (9) والانتصاف. ولو وكَّلاَ ثم عَزَلا، أو عزل أحدهما، انعزل المعزول، ولو جُنَّا أو جنَّ أحدهما،

_ (1) في الأصل: وأنه. (2) تقدير منا مكان الساقط. (3) في الأصل: وكان. (4) اختيار منا مكان الساقط. (5) اختيار منا مكان الساقط. (6) في الأصل: الناشئة. (7) تقدير منا. (8) هنا خلل في ترتيب صفحات الأصل. ولذا سننتفل إلى ص 200 ش. (9) في الأصل: حكم في الإنصاف والانتصاف.

فمن جُنَّ ارتفع التوكيل في حقه، وإذا أفاق عن الجنون، فالتوكيل زائل، فإن أراد أن ينفذ أمراً، فليبتدىء توكيلاً. 8686 - وإن فرَّعنا على القول الثاني، وجعلنا ابتعاث السلطان تحكيماً، فلهما أن ينفذا ما يريان الصلاحَ فيه، فإنْ رأيا الطلاقَ، طلَّقَا على السخط من الزوج. وذكر الأئمة أنهما يختلعان المرأةَ بشيء من مالها، وإنْ لم ترض. وهذا متفق عليه في التفريع على هذا القول. فإن أنكر مُنكر بذلَ مالِ مطلقة في الافتداء بغير إذنها، فهو كتطليق زوجة إنسان من غير إذنه، والأموال قد تدخل تحت الحجر، والطلاق لا يدخل تحت الحجر، فإذا احتكم الحَكَمُ في الطلاق، لم يبعد فرض الاحتكام على مال الزوجة في طلب الصلاح. 8687 - ثم نتكلم وراء هذا في أمور مهمة بها تمام البيان، فنقول أولاً: نصُّ القرآن مشعر ببعثه الحكمين، وهذا فيه تأمل على الطالب، فإنَّا إن اعتقدنا التحكيم [منهما في مرتبة] (1) الولاية، فالعدد يبعد اشتراطه في الوالي، وإن نزّلناهما منزلة الوكيلين، فالعدد ليس بشرط أيضاًً، وسنذكر في وكالة الخلع -إن شاء الله تعالى- أنَّ الشخصَ الواحدَ يجوز أن يكون وكيلاً في الخلع من الجانبين على أحد الوجهين، فإن كان يتجه رعاية العدد على قول التوكيل عند مسيس الحاجة إلى الخلع، فيلزم من مساق هذا الاكتفاءُ بوكيل من جانبه إذا كانت هي تختلع بنفسها. فإذا جعلنا ذلك تحكيماً، ففي المسألة احتمال ظاهر، يجوز أن نتبع القرآن ولا نعقد لظاهره تأويلاً، ونشترط حكمين، ويجوز أنْ نحملَ العدد على الاستحباب، بدليل اتصاله بوصفٍ ليس مشروطاً، وهو قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِهِ}. {مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] وهذا مستحَب غيرُ مستحَق إجماعاً. وقد يشهد للاكتفاء بالحاكم الواحد حديثُ حبيبة (2) بنت سهل، فإنَّ الرسول قطع النكاح بينهما بتّاً لما اطلع على

_ (1) في الأصل: فيهما ومرتبة. (2) حبيبة بنت سهل الأنصارية هي زوجة ثابت بن قيس التي اختلعت منه فيما يرويه أهل المدينة،=

أمرهما، كما سنذكر ذلك في صدر كتاب الخلع -إن شاء الله عز وجل-، ويقوى التمسك بتلك القصة في تنفيذ الطلاق حكماً وفي [الاتحاد] (1) الذي أشرنا إليه، والله أعلم. 8688 - ومما يجب النظر فيه أنَّ الحكمين ينبغي أن يكونا على عقلٍ ودراية واستقلال بالاطلاع على خفايا الأمور، هذا لا بد [منه] (2). والعدالة لا شك مشروطة، فلا ثقةَ بمن يخون نفسَه ودينه. ثم لم يشترط أحدٌ من أصحابنا أن يكونا مجتهدين، وكيف سبيل اشتراط ذلك؟ وقد لا يتصدى للفتوى في سعةِ رقعة إقليم إلاَّ الشخص الواحد، فكيف نرقبُ مجتهداً من أهله ومجتهداً من أهلها. ولكن لا بُدَّ أن يكونا عالمين بحكم الواقعة، فالعقل يرشدهما إلى وجه الرأي والتحويم على الأسرار والخفايا، وحكم الواقعة تقريرٌ أو تفريقٌ على حسب الاستصواب. وينشأ من هذا أنَّ الحاكم إذا ولّى حاكماً، وكان ما يتعلق به أمورٌ خارجة عن الضبط والنهاية، فلا بد من كون مولاّه مجتهداً؛ فإنه بالإضافة إليه بمثابته بالإضافة إلى الإمام الأعظم، فأمَّا إذا كان الحاكم خاصاً، فلا يشترط الاجتهاد من المحكّم، ويشهد له الحكمان، وهذا رمز إلى مراتب الولاة، وسنأتي فيها بالعجائب والآيات في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل. فالذي تَنَخَّلَ من مجموع ما ذكرناه القول في العدد وصفة الحَكَمَيْن. 8689 - ثم قال الأئمة: لا يبعث الحكمين بمبادىء الشر والشقاق، حتى يظهر

_ =وسيأتي حديث ثابت بن قيس قريباً، في أول الخلع. (ر. الإصابة: ترجمة حبيبة بنت سهل). (1) غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها) وهذا تقدير منا. (2) في الأصل: فيه.

التشاتم والتواثبُ والأمورُ المستكرهةُ المنكرة، وتنشب الخصومة على [التباسٍ] (1) لا يُفك ولا يُدرك في ظاهر الأمر. ثم إذا كان رأي الحكمين أن يُفَرِّقا، فالتفريق يقف على استدعائهما، وإن كانت هي [المعنة] (2) فهذا ما يجب الوقوف عليه. ثم إنْ قدرناهما وكيلين، لم يقف نفوذ حكمهما على حضور الزوجين، قياساً على تصرف الوكلاء. وإذا جعلناهما حَكَمين وقد اطلعا على حقيقة الحال، فلو رأى الحكمان الطلاق، فغاب الزوجان، فهل ينفذ تطليقهما مع قطعهما بشكايتهما؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا يشترط هذا والمتبع الصواب الذي يريانه. ومنهم من قال: لا قطع إلاَّ إذا كانا مكبين على الشكاية، ولا يشترط أحدٌ استدعاء الطلاق والاختلاع؛ فإن هذا لو شرط، فهو تنفيذ الفراق على حسب إذنهما، بل يكفي قيام الشكاية. 8690 - ولو تراضيا وأظهرا الوفاق، فقال الحكمان: إنهما لا يفيئان، وسيرجعان إلى التنازع الذي ألفناه منهما مراراً، فلا تعويل على هذا، ولا سبيل إلى [الفراق] (3). 8691 - فالأحوال إذاً ثلاثة: إحداها - إبداء الوفاق، فلا فراق معه. والثانية - في إدامة [التلاوم] (4) والتخاصم، عند ذلك للحكمين أنْ يُطلّقا إذا رأيا. والحالة الثالثة - أن [يغيبا] (5) بعد الشكاية أو يسكتا مع الحضور، وفيه التردد، والمسألة فيه إذا راجعهما الحكمان فآثرا السكوت.

_ (1) في الأصل: القياس. وهو تصحيف سخيف أرهقنا أياماً حتى ألهمنا الله الصواب. (2) كذا بهذا الرسم والنقط. ولم أعرف لها وجهاً، مع طول البحث والمعاناة. (3) مكان كلمة ذهبت فيما ذهب من أطراف السطور. (4) مكان كلمة غير مقروءة. (5) في الأصل: يُعينا (بهذا الرسم وهذا الضبط).

فصل قال: "ولو استكرهها على شيء أخذه منها ... إلى آخره " (1). 8692 - هذا الفصل من مسائل الخلع، ولكنه اتصل بتنازع الزوجين [بأخراه] (2). وصورة المسألة: أنَّ المرأةَ إذا قبلت الطلاقَ على مالٍ في ظاهرِ الحال، ثم ادعت [على] (3) الزوج أنه يلزمه ردُّ ما أخذ منها؛ لأنها كانت مُكرهة على الاختلاع، والزوج [ساكت] (4)، وأقامت بيِّنة على الإكراه، وإنما فرضنا سكوته لغرض [يبين] (5). قال: فالمال مردود عليها، والطلاق يُحكم بوقوعه رجعياً؛ لأنه لم يقر بطواعيتها. ويمكن فرض المسألة فيه إذا كانت الدعوى على الوكيل من جهة الزوج، فأنكر الطواعية (6) [فالزوج] (7) لا يلزمه حكم إنكار الوكيل، وهذا فيه إذا قامت بيِّنةٌ على إكراهها على الخُلع قصداً. فأمَّا إذا لم يكرهها على الخلع ولكن [كان] (8) يُسيء العشرةَ معها، ويؤذيها بالمشاتمةِ والضرب، فلو اختلعت وزعمت أنها كانت تبغي الخلاصَ من أذى الزوج، فلا يكون هذا إكراهاً، وإن كان ما يجريه الزوج من الضرب لو خوَّف المرأةَ به، لكانت مُكرهةً، وهذا بيِّن. وستأتي حقيقة هذه المسألة في كتاب الخلع، إن شاء الله عز وجل (9).

_ (1) ر. المختصر: 4/ 50. (2) كذا قدرناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف. (3) تقدير منا على ضوء السياق، وما بقي من أطراف الحروف. (4) تقدير منا على ضوء السياق، وما بقي من أطراف الحروف. (5) في الأصل: تبين. (6) عبارة الأصل: فأنكر واذكر الطواعية. (7) تقدير من المحقق. (8) زيادة اقتضاها السياق. (9) انتهى هنا الجزء العاشر، الذي اعتمدناه هنا أصلاً (نسخة وحيدة) من أول (باب الاختلاف في=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

_ =إمساك الأواخر) وجاء في خاتمة هذا الجزء ما نصه: تم الجزء العاشر من نهاية المطلب في دراية المذهب. يتلوه الجزء الذي يليه -إن شاء الله تعالى- كتاب الخلع. والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً. فرغ من نسخه عبد الصمد بن مرتضى بن رحمة بن رفاعة الكندي بتاريخ العشر الأول من شعبان المكرم سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

كتاب الخلع

كتاب الخلع (1) 8693 - الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب، فقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. فأباح الله تعالى الافتداء، ورَفَع الجُناحَ في أخذ المال عنه، ورفع الجُناح عنها في البذل، إذا استشعرا هَيْجَ الفتنة وقيام النزاع. والأصل في الكتاب من جهة السنة؛ حديثُ حبيبةَ بنتِ سهل زوجة ثابتِ. بن قيس بن شماس، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم لصلاة الصبح، فرأى حبيبةَ على باب الحجرة، فقال: من هذه؟ فقالت حبيبة: لا أنا ولا ثابت. واختلف في معنى قولها، فقيل: معناه: لا كنت ولا كان ثابت؛ إذ كنا سببَ شغل قلب رسول الله. وقيل معناه: لا أوافقه ولا يوافقني. فلما دخل ثابت المسجد، قال له صلى الله عليه وسلم: "هذه حبيبة تذكر ما شاء الله أن تذكر". فقالت حبيبة: "كل ما أعطانيه عندي". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ منها" (2). فجلست في بيت أهلها إلى أن خالعها، وأخذ المال منها، وجلست تعتد في بيت أهلها (3).

_ (1) من هنا بدأ العمل على نسخة ت 2 في جزئها الخامس والعشرين، وهي وحيدة أيضاًًً حيث انتهى الجزء العاشر من نسخة ت 3، والله وحده المعين، والهادي إلى الصواب. (2) حديث ثابت بن قيس رواه البخاري: كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، ح: 5273، ورواه أبو داود: كتاب الطلاق، بالث في الخلع، ح 2229، (وانظر التلخيص: 3/ 415 ح 1724). (3) هذه عبارات الشافعي بنصها في المختصر: 4/ 50، 51.

والإجماع منعقد على أصل الخلع. وليس في حديث حبيبة رضا ثابت بالطلاق، ولا جريانٌ بلفظ المخالعة، ولا محملَ لقصة حبيبة إلا ما ذكرناه في الحَكَمين. ثم قال الشافعي: آية الافتداء في كتاب الله تعالى مقيَّدة بخوف النزاع. وهذا التقييد لا مفهوم له؛ فإنه يخرج على الغالب في العادة؛ فإن الزوجين لا يتخالعان وكل واحد منهما راغب في صاحبه، وقد تكرر الكلام على مثل هذا في المسائل. وهذه القصة تدل على [أن] (1) ما يقدمه الزوج من ضرب (2) لا يحمل على الإكراه على الخلع، وفي هذا سر يليق به، وهو: أن ضرب الزوج إياها يرغّبها في الخلاص منه، فتختار الاختلاع. والإكراهُ على نفس الخلع لا يحدث فيها رغبةً في الخلع، وإنما طلب الخلع منها قهراً، فأتت به قهراً. فعرض المزني وبعضُ الأصحاب لكلام في أن الخلع لا يوصف بالسنة والبدعة. ولا معنى [للتّسرّع] (3) في ذلك، فإنه بين أيدينا (4)، وسنذكره مستقصى في الطلاق، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ورُوي عن ابن عباس أن الخلع ليس بطلاق ... إلى آخره" (5). 8694 - اختلف قول الشافعي في أن الخلع فسخُ النكاح على تراضٍ، أو هو طلاق على مال؟ فالمنصوص عليه في الجديد: أنه طلاق. وهو مذهب أبي حنيفة (6) واختيار المزني، وهو الصحيح، وبه الفتوى.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في قصة ثابت بن قي أنه كان قد ضربها (راجع حديثها برواياته المختلفة). (3) في الأصل: للشرع. (4) بين أيدينا: أي سيأتي مستقبلاً. (5) ر. المختصر:4/ 54. (6) ر. مختصر الطحاوي: 191، والمبسوط: 6/ 171، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 465، مسألة رقم: 981.

ونص في القديم على أن الخلع فسخٌ، [ومذهب] (1) عمر وعثمان وعليٍّ أن الخلع طلاق، ومذهب ابن عباس أنه [فسخ] (2) وتوجيه القولين مذكور في المسائل. وأول ما نذكره -قبل استفتاح التفريع- أن من قال: "الخلع طلاق" من مذهبه أن النكاح لا يقبل الفسخ بالتراضي، بل جريان الفسخ فيه موقوف على دفع ضرار، وعلى صفةٍ تُضادّ دوامَ النكاح. وما يكون كذلك، فهو انفساخ، لا يتعلق بالقصد. 8695 - فإذا تمهّد هذا، عُدنا إلى التفريع على القولين: فإذا جعلنا الخلع فسخاً، فهو صريحٌ باتفاق المفرّعين على هذا القول إذا جرى ذكرُ المال، فإن تخالعا من غير ذكر المال، فهذا يتفرع على قول الفسخ، ويتفرع على قول الطلاق. ونحن نرى أن نؤخّر تفريعه على تفريع القولين، ثم نفرده، ونستقصي ما فيه. فالخلع مع [المال] (3) إذاً صريح في الفسخ، فإذا [قالا: تفاسخنا] (4) على مالٍ ذكراه، فالمذهب الأصح: أن الفسخ صريح في إفادة المقصود. وذكر العراقيون وغيرهم وجهاً أن الفسخ يكون كناية في هذا المقام؛ لأنه لا ذكر له في الشرع، ولا جريان له على الألسنة، والكنايات تتميز عن الصرائح بما ذكرناه. وظهر اختلاف أصحابنا في المفاداة مع ذكر المال على قول الفسخ. فمنهم من قال: هي صريح كالمخالعة. ومنهم من قال: إنها [كناية] (5). ويقرب الاختلاف في هذا من تردد الأصحاب في لفظ الإمساك إذا استعمل في الرجعة: فمن أصحابنا من قال: إنه صريح. ومنهم من قال: إنه كناية.

_ (1) في الأصل: وهو مذهب عمر وعثمان وعلي. (2) في الأصل: خلع. (3) في الأصل: الحال. (4) في الأصل: "قلنا لا تفاسخنا" وهو تحريف عجيب. والتصويب من المحقق. (5) في الأصل: كنايته.

وكذلك اختلفوا في أن لفظ [الفك] (1) هل يكون صريحاً في العتق؟ وإنما نشأ الاختلاف في هذه المسائل عن أصل نُنبّه عليه، وهو: أن من أئمتنا من نظر إلى شيوع المفاداة والإمساك والفك، [في هذه الأغراض] (2)، والصريحُ ما يشيع في إرادة مقصدٍ. [ومن] (3) أئمتنا من نظر إلى جريان هذه الألفاظ في الشرع. [كالمفاداة] (4) في قوله تعالى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. والإمساك في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231]. والفك دي قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13]. وحاصل المذهب: أن ما جرى له ذكر في الشرع، وتكرر حتى صار مشهوراً في الشرع؛ فهو صريح، وإن لم يفرض فيه إشاعةٌ في العادة؛ فإنّ ما عُرف شرعاً، فهو المتّبَع، وعليه بنينا حملَ الدراهم في الأقارير على النُّقرة الخالصة، وإن كان قد يغلب العرف على خلاف ذلك، وعليه ألحق الشافعي [السَّراح والفراق] (6) بصرائح الطلاق لمَّا ألفاهما (7) متكررين. فأما ما جرى في الشرع مرة واحدة، كالمفاداة، والإمساك، والفك، ولم يكن ذلك شائعاً؛ ففيه الوجهان. وما شاع ولم يجرِ له ذكر في الشرع، فهل يلتحق بالصرائح؟ فعلى وجهين. ومنه

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. واعتمدناها من لفظ العز بن عبد السلام في المختصر، ومن كلام المؤلف الآتي قريباً. (2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى. (3) في الأصل: فمن. (4) في الأصل: والمفاداة. (5) المعنى أن من أئمتنا من جعل الصريح، هو ما شاع في إرادة المقصد، ومن أئمتنا من جعل الصريح ما جاء في استعمال الشرع. (6) في الأصل: "ألحق الشافعي والقرآن بصرائح الطلاق" والتصويب والزيادة من المحقق. (7) تكررت مادة (س. ر. ح) في القرآن الكريم بمعنى الطلاق سبع مرات: "أسرحكن" سورة الأحزاب: 28، "تسريح" سورة البقرة: 229، "سرِّحوهن" مرتين سورة البقرة: 231، وسورة الأحزاب: 49، "سراحاً" مرتين، سورة الأحزاب: 28، 49. وجاءت مادة (ف. ر. ق) بمعنى الطلاق مرتين: "أو فارقوهن بمعروف" سورة الطلاق: 2، "وإن يتفرقا" سورة النساء: 130.

قولْ القائل لامرأته: "أنت (1) عليّ حرام"، في هذه البلاد. وما ذكرناه مرامز، وسيأتي استقصاؤها في أول الطلاق، إن شاء الله تعالى. 8696 - ومما يتفرع على هذا القول: أنا إذا جعلنا (2) المخالعةَ صريحاً وقطعنا القول بذلك على الفسخ، ولا ذكرَ لها في الكتاب، فكيف خروج هذا على القاعدة التي ذكرناها؟ ولم يختلف أصحابنا أن المخالعة صريح في الفسخ -على قول الفسخ- وهذا في ظاهره يخرِم ما أصّلناه! وسبيل الكلام عليه شيئان: أحدهما - أن الخلع جرى في عُرف نَقَلةِ الشريعة، حتى كان حَمَلةُ الشريعة يحملون على التلفظ بها، والأزواج إذا نطقوا بالخلع رأَوْه الأصل. وليس كذلك قول القائل لامرأته: أنتِ على حرام. ويتجه فيه وجه آخر، وهو أن الخلع إذا استعمل فسخاً، فالفسخ يضاهي حلولَ العقود، ولا حصر لألفاظ حلول العقود، وهي محمولة على الأشاعة، متلقّاة منها لا غير، والطلاق تصرف؛ فإنه ليس فسخاً، وليس يُشعر بإزالة مِلكٍ، فتطرّق إليه التعبّد تطرّقَه إلى النكاح. وكأن المعتمد فيه ورود الشرع والتكرر فيه. 8697 - إذا تبين ما ذكرناه؛ فلو ذكر الزوج المخالعة على مال، وقِبلَتْه المرأة، ونوى الزوج الطلاق؛ فالذي قطع به المحققون: أنه لا يصير طلاقاًً بالنيّة، فإنه صريح في الفسخ، واللفظ الصريح الموضوع في محلّه، إذا قَصد مطلِقُه مقصوداً آخر غيرَ ما يقتضيه محلُّه؛ فاللفظ لا ينتقل؛ ولهذا قلنا: إن الزوج إذا ذكر الطلاق، وزعم أنه نوى ظهاراً، أو ذكر الظهار، وزعم أنه نوى طلاقاً؛ فاللفظ ينفذ في موضوعه الصريح، ويلغو القصد في غيره. وقد يرد على ذلك لفظ التحريم؛ فإنه صريح في اقتضاء الكفارة إذا قال الرجل لزوجته: أنتِ عليّ حرام، ولو نوى به طلاقاً كان طلاقاً، وسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: وأنت. (2) في الأصل: جعلناه.

والذي ننجزه الآن، أن لفظ التحريم لا يختص حكمه في اقتضاء الكفارة بالزوجية، وأن السيد لو قال لأمته: أنتِ عليّ حرام، التزم الكفارة، وفي ذلك نزلت سورة التحريم، فلم يختص التحريمُ بالنكاح (1)، فيجوز ألا يختصَّ في النكاح بمقصود، هذا هو المذهب. 8698 - ومن أصحابنا من قال: الخلع يصير طلاقاً بالنية (2). وهذا ذكره شيخي وطائفة من العراقيين [والوجه] (3) فيه: أن الفسخَ والطلاقَ متساويان في بتّ الملك ورفعِ النكاح، فلم يبعُد نقلُه من رفعٍ إلى رفع، وليس كذلك الطلاق والظهار. وهذا خيال لا حاصل له؛ فإن تعطيل الصريح لا وجه له، وفي حمل الخلع على الطلاق تعطيلُه في الفسخ، ويستحيل أن ينفذ الفسخ به، مع وقوع الطلاق، هذا لا سبيل إليه. فلو [أجراه] (4) من لا [بصيرة له حيث لم ير لردّ] (5) الفسخ أثراً، وقال: ينفذ الفسخ والطلاق، قيل له: الفسخ بَيْنٌ، والطلاق لا يقع مع البينونة. فهذا ما أردناه في ذلك. فإن قيل: النكاح ينفسخ بلفظ [الفسخ] (6) عند ثبوت الأسباب المقتضية للفسخ،

_ (1) قوله: "لم يختص التحريم بالنكاح" إشارة إلى أن ما صح في قصة سورة التحريم وسبب نزولها، أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل على نفسه، في قصة رواها مسلم في صحيحه. واختارها القرطبي في تفسيره. وهو موافق لما اعتمده المؤلف هنا. (راجع القضية في تفسير القرطبي، صحيح مسلم، وغيرهما إن شئت). (2) هذا الكلام تفريعٌ على القديم في أن الخلع فسخٌ لا طلاق. (3) في الأصل: فالوجه. (4) في الأصل: أجرى. (5) ما بين المعقفين من تصرف المحقق بدلاً من عبارة الأصل التي جاءت هكذا "يضره له حيث لم يزرِد الفسخ أثراً" كذا تماماً بهذا الرسم وهذا النقط والضبط. والحمد لله. صدق تقديرُنا، فقد وجدناه بعينه في مختصر ابن أبي عصرون، بعد أن حصلنا على هذا الجزء والكتاب ماثل للطبع. (6) زيادة اقتضاها السياق.

ثم لو استعمل الزوج الفسخ، ونوى الطلاق وقع. قلنا: لفظ الفسخ لا اختصاص له بالنكاح؛ فإنه يجري في كل عقد ينفسخ، ثم إنما ينفذ لفظ الفسخ إذا كان ثَمَّ موجِب له، فإن لم يكن، فلا نفاذ له، فلا يمتنع استعماله في الطلاق. فلو أطلق الزوج لفظ الفسخ، ونوى به الطلاق حيث يملك الفسخ، فالمسألة محتملة. ويجوز أن يُقضى بوقوع الطلاق لصلاح اللفظ له وملكِه إياه، وهذا ما قطع به القاضي. ويجوز أن يقال: ينفد الفسخ بصريح لفظه؛ إذ لا حاجة إلى قصده في الفسخ، ولا ينفذ الطلاق، كما ذكرناه في المخالعة، ولعل الفسخ أولى بالنفوذ إذا وُجد سببٌ له؛ فإن ما نُنفذه من الفسخ في الخلع يقتضي التراضي بالفسخ، فإذا لم يقصد الزوجُ الفسخَ، ولم يخطر له ببال، فالتراضي على الفسوخ مفقود، وهو سبب الفسخ. فليتأمل الفقيه هذا المقام يجد له عوضاً. 8699 - ومما نفرّعه على هذا القول: أنا إذا جعلنا الخلع فسخاً، فلا يصحّ من الأجنبي الاستقلالُ باختلاع المرأة على حكم الفسخ؛ فإن الفسخ المعقود بالتراضي شرطه أن يرتبط برضا الزوجين، فإن العقد يتعلق بهما، ولا يجوز أن يكون الأجنبي ركناً في فسخ التراضي. فإن قيل: قد قطع الشافعي أجوبته بتصحيح خلع الأجنبي! قلنا: سبب ذلك أنه فرّع على الجديد، ولم يُلفَ له تفريع على القديم. وكانت أجوبته محمولةً على أن الخلع طلاق. وإذا وقع التفريع عليه، فيصحّ من الأجنبي [افتداءُ] (1) المرأة بالطلاق عن زوجها بمال يبذله، وينزل هذا بمنزلة افتداء الرجل المستولدة من مولاها بمال يبذله عن مقابلة إعتاقه إياها، والسبب في ذلك أن الطلاق فُرقة ينفرد الزوج بها كالعتق، فإذا علّقه بمال [يلتزمه] (2) أجنبي على مذهب الافتداء،

_ (1) في الأصل: الافتداء. (2) في الأصل: يلزمه.

لم يبعد [و] (1) الفسخ المنوط بالتراضي، يستحيل حصوله بين الزوج والأجنبي. وقد بقي من التفريع على هذا القول مقدار صالح، ولكنا رأينا تأخيره لغرض لنا في الترتيب، ونعود الآن إلى التفريع على القول الآخر. 8700 - فإذا قلنا: الخلع طلاق، فإذا ذكر معه المال، واتصل بالقبول؛ فظاهر المذهب أن اللفظ لا يعمل إلا بالنية. ونص الشافعي في الأملاء على أن الخلع صريح في الطلاق أو كناية؛ [اختلف] (2) الأئمة في مأخذ القولين، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن هذا الاختلاف مأخوذٌ [من] (3) أن اللفظ إذا ساغ استعماله في الناس على قصد الطلاق، فهل يلتحق بالصرائح بسبب الشيوع وإن لم يتكرر في ألفاظ الشرع؟ وهذا لفظ مختلف فيه، وسنذكره ونستقصيه في موضعه، إن شاء الله عز وجل. فإذا؛ ظاهر المذهب: أن الصرائح منحصرة في الطلاق والفراق والسَّراح، ومعانيها بكل لسان. وفي المسألة قول آخر: إن الخلع يلتحق بها لشيوعه في الاستعمال. هذا مسلك لبعض الأصحاب، وهو الصحيح. وذهب ذاهبون إلى أن سبب اختلاف القول ذكر المال، وهذا تمسكٌ بالقرينة. ومذهب الشافعي أن الكنايات لا تلتحق بالصرائح بقرائن الأحوال: كالسؤال، والغضب، وما يظهر في مخايل الإنسان في قصد الطلاق. وسيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى. فكان هؤلاء يستثبتون من جملة القرائن: المال؛ فإنه لا يُبذل هزلاً، ولا [يستبطر] (4) إلا لتوطين النفس على المفاداة. ويظهر أثر هذا الاختلاف في مأخذ

_ (1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: واتفق. (3) زيادة لاستقامة العبارة. (4) كذا. وهذه القراءة انتهينا إليها بصعوبة بالغة ولعل المعنى: يستبطر أي يستهان بالمال ويستخف به، من قولهم بطر النعمة إذا استهان بها وكفرها (المعجم).

القولين فيه إذا جرى لفظ الخلع من غير ذكر المال، وقد وعدنا أن نذكر هذا مفرداً مفرّعاً على القولين. ومن فوائد التفريع على هذا القول أن الرجل إذا خالع امرأته ثلاث مرات، لم تحلّ له إلا بعد زوج، بخلاف ما إذا جعلناه فسخاً؛ فإن تكرر الفسوخ -وإن بلغ عدداً كثيراً- لا يؤثر في إيجاب التحليل، وتحريم العقد ممدود (1) إلى نكاح ووطءٍ فيه. فهذا الذي ذكرناه؛ ذِكْرُ قواعد التفريع على القولين، ونحن نُلحق أموراً، أهمها: الكلام فيه إذا جرى الخلع من غير تعرّض لذكر المال. فرع: 8701 - إذا اختلع الزوجان، ولم يجرِ ذكر المال، فقال الزوج: خالعتك، فقالت: اختلعت نفسي، فهذا نفرّعه على قولنا: الخلع طلاق أوّلاً، ثم نفرّعه على القول الآخر. فإذا قلنا: إنه طلاق. قلنا: إنه صريح، فهذا ينبني على أن كونه صريحاً يُتلقى من ذكر المال أو من شيوع اللفظ؟ فإن تلقيناه من قرينة المال، فها هنا لا قرينة، فهو كناية، فيحتاج إلى النية. ثم نفرّع أولاً على أن مأخذ القولين من الشيوع، وهذا ما صار إليه معظم الأصحاب. فإن قلنا: اللفظ صريح. فإذا لم يتعرضا لذكر المال، فهل يجب المال؟ فيه وجهان: أحدهما - أن المال يجب وإن لم يذكراه؛ فإن اللفظ في العرف يقتضي المال. والوجه الثاني - لا يثبت المال لعدم الذكر والتعرض له. التفريع: 8702 - إن قلنا: إن المال لا يثبت، فيقع طلقة رجعية، ثم هل يشترط القبول، أم يقع بمجرد قول الزوج؟ فعلى وجهين: أحدهما - إنه يقع [بمجرد] (2) قول الزوج؛ فإنه إذا نوى الطلاق، ولم يتعرض للمال، ولم يُثبت الشرعُ المالَ، فلا حاجة إلى قبولها، فكان ما جاء به طلاقاًً مجرداً في ممسوسةٍ من غير استيفاء عدد، فاقتضى ذلك جريانها في عدة الرجعة.

_ (1) يوجد في الأصل كلمة غير مقروءة بعد كلمة (العقد). والمثبت عبارة صفوة المذهب. (2) في الأصل: مجرّد.

والوجه الثاني - أنه لا بد من قبولها؛ فإن صيغة اللفظ مأخوذة من بناء المفاعلة. ووضع باب المفاعلة على التعلق بشخصين، فإن كان مُشعراً بفعل كالمقاتلة والمضاربة، فذلك الفعل يدور بين شخصين، فإذا قال: خالعتك، اقتضى هذا في وضع اللسان قبولَها، فكأنه قال: إن قلتِ اختلعتُ، فأنت طالق. وقد يتعلق الطلاق بالقبول، وإن كان المال لا يثبت. والدليل عليه: أن الزوج إذا خالع زوجته السفيهة فقبلَتْ، وقع الطلاق رجعياً، ثم لا يثبت المال. ولو لم تقبل، لم يقع الطلاق، فلتكنَ المخالعة [الخالية] (1) عن ذكر العوض بهذه المثابة. والذي يقتضيه القياس في هذا، أنه لو قال: خلعت عنك، ولم يقل: خالعتك، ونوى الطلاق، فلا حاجة إلى قبولها؛ فإن لفظه لم يصدر عن باب المفاعلة. فإذا تبيّن هذا مفرّعاً على أن اللفظ صريح، ففيه تفصيل عندنا، به يتم الكلام، وهو: أن الرجل إذا قال: خالعتك، ولم يقصد بذلك التماس الجواب منها، وإنما قال على الابتداء: خالعتك، وهي [تنفي] (2) تنجيز الطلاق، فالوجه: القطع بأن الطلاق يقع، فان اللفظ يحتمل [التنجيز] (3) من غير تعليق بالقبول، وهو كما لو قال: قاطعتك وبارأتك، فالكنايات يُكتفى بها بدون ما ذكرناه من الاحتمال. ولو قال: خالعتك ونوى طلاقاًً، [و] (4) هو يلتمس بذلك جوابها، فها هنا قد يتجه الخلاف في أن وقوع الطلاق هل يتوقف على قبولها؟ فالظاهر عندنا أنه إذا لم يثبت المال، لم يتوقف على قبولها؛ فإن الطلاق مما يتفرد الزوج به، وليس وقوعه مرتبطاً بمال يتوقف لزومه على التزامها، فلا وجه إلا تنفيذ الطلاق، وقصدُه التماسَ جوابِها لا أثر له بعد ما نوى الطلاق. وسيأتي لذلك نظائر في مسائل التدبير من كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) زيادة اقتضاها استقامة العبارة. (2) في الأصل: تتقي. (3) في الأصل: التخيير. (4) (الواو) زيادة من المحقق.

والوجهان في أن المال هل يثبت بمطلق المخالعة يبتنيان على نظائر لهذه المسألة. منها: أن الرجل إذا دفع إلى إنسان دراهم، وقال: قارضتك عليها حتى تتصرّف، ولم يسمِّ مقداراً من الربح، فهل يستحق أجرة المثل إذا عمل؟ فعلى وجهين. وكذلك لو قال لمن استعمله على أشجار: ساقيتك (1)، ولم يذكر له مقداراً من الثمر، فإذا عمل؛ فهل يستحق أجرة مثل عمله؟ فعلى وجهين. وقد تقدم في المعاملات في ذلك مثله. وما أجريناه كله تفريع على أن الخلع صريح بطريق الشيوع. 8703 - فأما إذا قلنا: إنه يلتحق بالصرائح بقرينة المال، فإذا لم يجرِ [ذكرُ] (2) المال، فهو كناية، [فتذكّر] (3) ذلك. والتفريع على القول الصحيح -وهو أن الخلع كناية، وإن اشتمل على ذكر المال- فإذا قال: خالعتكِ، فقالت: اختلعتُ، فهذا ينبني على أن مطلق هذا اللفظ هل يقتضي المالية، أم لا؟ فإن حكمنا بأن مطلقه يقتضي المالية، فلا يخلو؛ إما أن ينوي الزوج الطلاق، وإما ألا ينوي، فإن نوى الزوج الطلاق، ونوت المرأة أيضاًًً طلب الطلاق؛ فالطلاق يقع بائناً، والرجوع إلى مهر المثل. وإن نويا الطلاق، ولم يذكرا المال -والتفريع على أن مطلق اللفظ لا يقتضي المال - فلا يخلو؛ إما أن ينويا المال، وإما ألا يجري ذكر المال في ضميرها، كما لم يجرياه في لفظهما، فإن لم ينويا المال ولم يذكراه، وقلنا: اللفظ لا يقتضيه؛ فالطلاق يقع رجعياً. فإن قيل: في هذا الكلام اضطراب؛ من جهة أن التفريع على أن الخلع كناية،

_ (1) في الأصل: "ساقيتك لعملٍ". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: فنذكر.

فكيف ردّدتم الجواب في أن اللفظ هل يقتضي المال [بنفسه] (1)؟ قلنا: وإن حكمنا بأن اللفظ كناية في اقتضاء الطلاق، فإنا نُجري الخلافَ في أنه هل يقتضي المال في [وضعه] (2) أم لا؟ فكان (3) التردد [باقٍ] (4) في أن هذا اللفظ هل يقتضي المال أم لا [يقتضيه] (5)، هذا وجه الكلام، وقد انتهى إلى قولنا: اللفظ كناية في الطلاق وليس صريحاً في اقتضاء المال. فلو نويا المال مع نية الطلاق، فالنية هل تؤثِّر في المال؟ والتفريع على أن اللفظ بنفسه لا يقتضيه. [اضطرب] (6) أصحابنا في المسألة. فمنهم من قال: النية لا أثر لها في المال، فكأنها لم تكن. ومنتهى الجواب أن الطلاق يقع رجعياً، ويتجه هاهنا أن الطلاق لا يقع أصلاً؛ فإن الزوج نوى طلاقاًً بمالٍ، والتعويل على نيته، فإذا لم يحصل المال بنيته، ونيته في الطلاق متقيدة بالمال، فلا. يقع الطلاق، وهذا وجه فقيه. ومن أصحابنا من قال: نية المال كذكر المال، فعلى هذا إذا نوى المال، ونوت المال، وثبتت نية الطلاق، فالطلاق يقع بائناً، وجهاً واحداً، تفريعاً على ما ذكرناه. هذا تمام التفريع إذا قلنا: الخلع طلاق. 8704 - فأما إذا فرعنا على أن الخلع فسخٌ، وقد جرى ذكر الخلع والقبول من غير مال - ونحن أوضحنا أن الخلع -على قول الفسخ- صريح في الفسخ؛ فالذي ذكره الأصحاب: أن هذا يُبنى على أن مطلق هذا اللفظ هل يقتضي المال؟ وجريان هذا الخلاف على نسق واحد. فإن قلنا: اللفظ يقتضي المال بإطلاقه- وهو الذي اختاره القاضي وصححه.

_ (1) في الأصل: نفسه. (2) في الأصل: وصفه. (3) فكان التردد: كان هنا تامة. (4) في الأصل: "بان" والمثبت من (صفوة المذهب). (5) في الأصل: يقتضيها. (6) في الأصل: اضطراب.

ووجهه أن الخلع [حلّ] (1) النكاح، فكان في معنى عقد النكاح، ثم عقد النكاح إذا عري عن المهر من غير تفويض صريح ممّن يملك المهر، يجب فيه مهر المثل. فليكن الفسخ كذلك. والدليل على تساويهما أن النكاح على العوض الفاسد ينعقد على مهر المثل، أو على قيمة العوض المسمى إن كان مما يُتقوّم. والخلع على العوض الفاسد في هذا كالنكاح، فإذا استويا عند تسمية العوض الفاسد، وجب أن يستويا عند [الإطلاق] (2). 8705 - فإن قيل: ما وجه من يقول: المخالعة المطلقة لا تقتضي مالاً، وما الفرق [بينها] (3) وبين النكاح المطلق؟ وما الذي أوجب القطع في النكاح، والترديد في الفسخ؟ وليس التفريع على قول الفسخ على حكم التفريع على قول الطلاق؛ فإن أصل الطلاق أن يكون بغير عوض، فإذا عُلِّق بالعوض، كان العوض دخيلاً فيه، والفسخ تلو النكاح، فيقتضي من العوض ما يقتضيه النكاح، فما وجه التردد إذاً؟ قلنا: لا يمتنع تخيل فرق أولاً؛ فإن النكاح جلْبُ استباحة البضع، فلا يبعد أن [يتأكد] (4) العوض فيه. والخلع متضمنه ارتداد البضع إليها، وهذا لا يستدعي العوض حسب استدعاء الجلب، فلا يمتنع أن يكون الخلع في ذلك دون العقد. فإن قيل: جوّزوا [تخلية] (5) الخلع عن العوض -لما ذكرتموه- إذا وقع التصريح به، وقد ذكرتم قولين في النكاح المعقود على التفويض الصحيح هل يقتضي ثبوت المهر؟ فهلا طردتم هذا في الخلع؟ قلنا: لا يتعرض الأصحاب لهذا، ولم يسمح بهذا التقريب أحد، والذي يقتضيه القياس الحقّ قبولُ ذلك، والقولُ بإمكأنه؛ فإن

_ (1) في الأصل: حدّ. (2) في الأصل: "الطلاق". (3) في الأصل: بينهما. (4) في الأصل: بتأكيد. (5) في الأصل: تخيله.

الفسخ لما كان يتأكد من العوض فيه، أو كان وضعه على ارتداد المسمى، فكان يقال: أمر العوض فيه قهري؛ فإنه بناء وليس بابتداء، وهذا وجه بيّن- لو كان مذهباً لذي مذهب، ولم يصر إلى هذا أحد. فإذا انبنى الخلع على تسمية العوض، كما انبنى النكاح عليه، ثم تردد القول في أن العوض هل يثبت في نكاح التفويض -وأصح القولين أنه لا يثبت- فما المانع من مثل هذا في الخلع؟ ثم كان يجب على هذا التقدير أن يقال: إذا حكمنا بخلوّ نكاح التفويض عن المهر، فالمسيس فيه يثبته وينبني عليه المطالبة بالفرض، كما تفصّل، وليس في الفسخ شيء من هذا، وكان يجب أن ينفذ الفسخ عارياً إذا عري -إما على قطع، وإما على قول ظاهر- ولم يقل [بهذا] (1) أحد من الأصحاب، ولست أحمل تركهم لهذا إلا على ضعف حرصهم في التفريع على القول الضعيف، وإلا فما ذكرناه واجب، وليس هو بأبعدَ من قول المحققين: إن الخلع مع الأجنبي مردود على قول الفسخ. ولم يصر إلى هذا أحد من الأئمة الماضين، ولكن المفرعين قالوا: جرت الأجوبة على قول الطلاق، وهذا منتهى الكلام. 8706 - فإن قيل: هذا يضمّن الخلع -على قول الفسخ- ارتداد المسمى، كالفسوخ القهرية، حتى يكون الخلع في النكاح بمثابة الإقالة في البيع؟ قلنا: ليس [من الحزم] (2) في طلب الغايات أن يذكر الإنسان الأقيسةَ الكلية الجليّة، ويترك حق خاصية العقد الذي فيه الكلام. ومن خاصية النكاح أن المهر إذا تقرر، ولم [يُنْقض] (3) العقد بخلل مقترنٍ بأصله، فالمسمى لا يسقط. [ولذلك] (4) لم يسقط إذا ارتدت المرأة بعد المسيس على الرأي الظاهر، ثم في النكاح تقرُّران:

_ (1) في الأصل: بها. (2) في الأصل: في الحزم. (3) في الأصل: "ينقص" واضحة الضبط والنقط. (4) في الأصل: وكذلك.

التقرُّر الأكبر بالمسيس، وقد يليه التقرر بالموت. [والتقرّر] (1) الآخر (2) هو تقرر لا يتشطر [بالاختلال] (3) الواقع بالعقد (4). وهذه الخاصيّة لا توجد في سائر العقود، والخلع فسخُ تراض لا يستند إلى خلل في أصل العقد، فامتنع سقوط المسمى [به] (5) بعد المسيس، وامتنع سقوط الشَّطر به قبل المسيس، فلما اختص بهذه الخاصية نزل على عوض مبتدأ، ثم كان في ذلك العوض، كالنكاح الوارد على الصداق، فهذا أقصى المضطرب في ذلك. 8757 - فنعود بعد هذا إلى التفريع، فنقول: إن حكمنا بأن مطلق الخلع يقتضي العوض، فتثبت البينونة بالفسخ، والرجوع إلى مهر المثل. وإن قلنا: هذا اللفظ لا يقتضي المال، فيلغو الخلع، هكذا قال الأصحاب، من غاص منهم ومن قنع بالظاهر؛ إذ لا عوض، ولم يرَوْا خلعاً بلا عوض. والذي أراه -على القياس الذي قدمناه- أن يثبت الفسخ ولا يثبت العوض، وهذا احتمال لا تعلق له بنقل. وقد نجز التفريع على المخالعة المُطْلَقة العريّة عن العوض. والذي ذكره الأصحاب فيه، ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يلغو. والثاني - أنه يقع طلاق رجعي. والثالث - أن البينونة تقع، والمال يجب.

_ (1) في الأصل: والتقرير. (2) الآخر: يعني به التقرر بالموت. (3) في الأصل: بالابتدال. (4) قوله: بالاختلال الواقع بالعقد: معناه أن تقرر المهر بالموت لا يقبل التشطر، مع ما تعرّض له العقد من اختلالٍ، حيث لم يتم استيفاء المعقود عليه، وهو (البضع)، فقد مات الزوج قبل المسيس. (5) في الأصل: له.

ثم هي على الطلاق طلاقٌ مُبِين، وعلى قول الفسخ فسخ. هذا حاصل المنقول، وتحقيقه وتَنْسِبَتُه من القواعد على ما ذكرناه. وهذا الفرع لُباب التفريع على القولين، وبه [يعتاص] (1) الفصل، فإنه [نحا نحو] (2) كل قاعدة. ثم إنا نذكر بعد هذا فروعاً مرسلة ونلحقها بالقواعد التي مهدناها. فرع: 8708 - إذا قالت المرأة: طلقني على كذا. فقال الزوج: خالعتك بكذا. فإن فرعنا على أن الخلع فسخ، لغا قول الزوج، والنكاح قائم؛ فإن المرأة التمست الطلاق بألف، ولم يُجبها إلى ما التمست، بل فسخ، والفسخ دون الطلاق المبين؛ لأن الطلاق بالعوض يُبين، ويَنقُص العددَ، والفسخ لا ينقُص العدد، فقد سألت أعظم الفُرقتين، فأجابها إلَى أدناهما. وإن قلنا: الخلع طلاق، وجعلناه صريحاً، أو نوى الطلاق، استحق العوض، ووقع الطلاق المبين، فإنه أجابها إلى ما التمست. ولو قالت: خالعني بألف، فقال: طلقتك عليه، [والتفريع] (3) على أن الخلع فسخ، فقد التمست الفسخ، وأجابها إلى الطلاق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع شيء، [لأنهما] (4) لم يتفقا على شيء واحد. والثاني - أنه يقع الطلاق ويثبت العوض؛ لأنها سألت فُرقةً لا تَنقُص العددَ، فحَصَّلَ الفرقةَ، وزادها نقصان العدد. وحقائق هذه المسائل يتوقف انكشافها على تفصيل القول فيه إذا تخالع الزوجان، وجعلنا لفظ التخالع كناية أو تخاطباً بلفظ الكناية، ثم نفرض بينهما ريبة أحدهما.

_ (1) في الأصل: يعتاض (بالضاد) ثم المعنى (بالصاد): مأخوذ من (عَوِص) و (أعوص)، والمراد أن بهذا التفريع على الأقوال، وتقعيدها، وتأصيلها على القواعد والأصول، يكون الفصل صعباً عويصاً، وليس أمراً هيناً رخواً. (2) في الأصل: نجا من كل قاعدة. (3) في الأصل: فالتفريع. (4) في الأصل: لأنها.

وهذا نذكره في باب مخاطبة الرجل امرأته، ورمزتُ إلى هذا الوعد لعلمي بأن ما ذكرته يختلج في صدور الأكياس. فصل قال: "ولو خالعها تطليقة بدينار على أن له الرجعة ... إلى آخره" (1). 8709 - إذا قال الرجل: خالعتك تطليقة بدينار، على أن لي الرجعة، فقبلت، أو قال: طلقتك طلقة بدينار على أن لي الرجعة. تصوير المسألة: تدور على تطليقٍ بمال بصريحٍ أو كناية، مع شرط الرجعة؛ فالذي نقله المزني: أن الطلاق واقع، والعوض المذكور ساقط، والرجعة ثابتة. لم ينقل المزني عن الشافعي إلا هذا، واختار أن الطلاق يقع [بائناً] (2)، والرجوع إلى مهر المثل، وشرطُ الرجعة ساقط. ونقل الربيع عن الشافعي ما اختاره المزني، ولم يصحح في النقل غيره، ثم قال: وفي المسألة قول آخر إن الرجعة ثابتة، والدينار مردود. وقيل: اختار الربيع ثبوت الرجعة وسقوط العوض، فنقل ما اختاره المزني، واختار ما نقله، فحصل في المسألة قولان إذاً. 8710 - توجيه القولين: من قال بوقوع البينونة، عوّل على تغليب الفراق، ورأى شرط الرجعة شرطاً فاسداً. فالشرائط الفاسدة لا تدرأ بينونة [الخلع] (3)، قياساً على جملة الشروط الفاسدة. وإذا أردنا كلاماًً جامعاً في ذلك، قلنا: إذا كان المخالع من أهل الطلاق، والمرأة من أهل [التزام] (4) البدل، وقد تقابل الطلاق والبدل؛ فحكم ذلك البينونة، وما يناقضهما من الشروط مردود.

_ (1) ر. المختصر:4/ 52. (2) في الأصل: ثابتاً. (3) في الأصل: والخلع. (4) في الأصل: إلزام.

ومن نصر القول الثاني، احتج بأن الطلاق اقترن به ذكر المراجعة والمال، وهما متناقضان، فإذا عسر الجمع بينهما، واستحال [انتفاؤهما] (1)، فينبغي أن نثبت أقواهما، وأقواهما: الرجعة؛ فإنها تثبت من غير إثبات. ويجوز أن يُعضَّدَ هذا القول، فيقال: الرجعة تُناقض البينونة، ومقصود الخلع: [البينونة] (2) فشرط الرجعة يناقض مقصود الخلع، فيدرؤه، وينزل منزلة عقد النكاح على شرط الانكفاف عن الوطء. وقد يدخل على ذلك (3) أن النكاح المؤقت، ومضافه إلى بعض المنكوحة فاسدٌ، ومؤقتُ الطلاق مؤبد، ومبعّضه مكمّل. ولا شك أن أقيس القولين ما اختاره المزني. 8711 - ثم إنه في اختياره استشهد بمسائل، نقل فيها نصوصاً، فنذكرها، ونذكر أقوال الأصحاب فيها. فمنها: أنه قال: قال الشافعي: "إذا خالع زوجته بطلاقٍ على مال، وقال: مهما بدا لكِ أن تستردي العوض، فاسترديه، ولي الرجعة، فالطلاق يقع بائناً، والرجوع إلى مهر المثل، ويثبت عليها لازماً لا يدرأ" (4). والذي صار إليه معظم الأصحاب موافقتُه، [وطلبوا] (5) الجوابَ، والفرقَ بين هذه المسألة وبين صورة القولين. والذي تحصّل من الفرق أن البينونة في مسألة الاستشهاد ناجزةٌ [ومقتضى] (6) الشرط استدراكها إذا أرادت المرأة استرداد العوض، [وصورة] (7) القولين فيه إذا قرن شرط الرجعة بالمال.

_ (1) في الأصل: انقضاؤهما. (2) في الأصل: والبينونة. (3) "يدخل على ذلك": أي يعارضه. (4) ر. المختصر:4/ 53. (5) في الأصل: وطلب. (6) في الأصل: "بمقتضى". (7) في الأصل: وسورة.

والفرق يظهر بين التنجيز وشرط الاستدراك وبين [اقتران نفي] (1) البينونة بالعقد. وذكر صاحبُ التقريب والشيخُ أبو علي أن من أصحابنا من رأى نص الشافعي في المسألة التي استشهد بها المزني جواباً على أحد القولين، وقال: إذا نصرنا القول الثاني، حكمنا بأن البينونة لا تقع في مسألة الاستشهاد؛ فإنه لم يبتّها، بل ردّدها؛ فثبتت الرجعة، وانتفى المال على القول الذي ننصره على المزني. 8712 - ومما تعلق به المزني لنصرة القول الذي اختاره: أن الرجل إذا قال لمالكِ العبدِ: أعتق عبدك عني بألف على أن لك الولاء، فإذا أعتقه على هذا الشرط، فكيف السبيل فيه؟ نقل أن العتق ينفذ بالمال على المستدعي، وله الولاء، وشرط الولاء باطل مردود. ومن أصحابنا من قال: الشرط باطل، ولكن لا يرتدّ العتق به، ولكن يرتد به طريق الاستدعاء في محاولة نقل الملك أولاً، وبناء العتق عليه؛ إذ العتق إن كان لا يقبل الرد، فطريق الاستدعاء يمكن إبطاله حتى إذا بطل، نفذ العتق على المنشىء (2)، وله الولاء، ولا عوض. وتعلق المزني بمخالعة الرجل امرأته السفيهة المحجورة، فإن الشافعي نص على وقوع الطلاق، وانتفاء العوض، وثبوت الرجعة. ووجه استدلال المزني أن المال لم يثبت، بحيث لم تكن المرأة من أهل الالتزام. وهذه المسألة ستأتي بما فيها، إن شاء الله تعالى، ولسنا للإطناب في محاجة المزني. وذَكَر في أثناء الكلام اختلاعَ الأمة المزوّجة نفسها، وسيأتي حكم اختلاعها، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: "وبين أمران في البينونة والمثبت من (صفوة المذهب). (2) المنشىء: أي المالك الذي سينشىء العتق.

فصل قال: "ولا يلحق المختلعةَ الطلاقُ ... إلى آخره" (1). 8713 - المختلعة لا يلحقها الطلاق في عدة البينونة؛ فإنها بائنة خارجة عن النكاح، والطلاق حلٌّ للنكاح، وخلاف أبي حنيفة (2) - مشهور، والرجعية يلحقها الطلاق في عدة الرجعة، وفي صحة مخالعة [الرجعية] (3) وجهان مشهوران: أحدهما - أنها تصح، لأن الطلاق من غير عوض يلحقها، فيلحقها بالعوض، وأثر العوض اقتضاء البينونة، وليست [الرجعية بائنة] (4). الثاني - أنها لا تبين، ولا يصح الخلع، لأن نص الشافعي دالّ على أن الزوج إذا وطىء الرجعية، التزم مهر مثلها. فيبعد أن يكون بحيث يلتزم الزوج المهر بوطئها ويُلزمها بالخلع العوضَ. وسنذكر التفصيل في وطء الزوج الرجعية، وتفصيلُ القول في الظهار والإيلاء إذا وُجّها على الرجعية، سيأتي في كتاب الظهار والإيلاءَ إن شاء الله عز وجل. ...

_ (1) ر. المختصر:4/ 54. (2) ر. تحفة الفقهاء: 1/ 276، وفتح القدير: 4/ 81، 82، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 467 - مسألة رقم: 984. (3) في الأصل: الرجعة. (4) في الأصل: الرجعة ثابتة.

باب ما يقع وما لا يقع

باب ما يقع وما لا يقع قال: "ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاًً، في كل سنة تطليقة ... إلى آخره" (1). 8714 - نقدم على مقصود هذا الباب تفصيلَ القول في عَوْد الحِنث. فإذا علق الرجل طلاق امرأته بصفةٍ، ثم بانت عنه بسبب من الأسباب، فسخٍ أو طلاقٍ مُبين، ثم عادت إليه، فلا يخلو: إما أن تبين من غير استيفاء عدد، ثم تعود. وإما أن يطلقها ثلاثاًً، وتعود إليه بعد التحليل؛ فإن لم تقع الحرمة الكبرى وبانت، ثم جدد عليها نكاحاً، فوُجدت الصفة التي علّق الطلاق عليها في النكاح الأول في النكاح الثاني؛ فالمنصوص عليه في القديم: القطعُ بوقوع الطلاق. وفي الجديد قولان: أحدهما - يقع، وهو القول المعروف بعَوْد الحِنث. والقول الثاني - لا يقع. توجيه القولين: من قال: يقع، احتج بأن التعليق جرى في نكاح، والصفة تحققت في نكاح، والنكاحُ الثاني مبني على النكاح الأول في عدد الطلقات؛ فإنه لو طلق طلقة واحدة، فبانت المرأة، ثم جدّد النكاح عليها؛ [فهي] (2) تعود إليه بطلقتين؟ فإذا انبنى النكاح على النكاح في العدد، وجب أن ينبني عليه في اليمين بالطلاق. ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن التعليق جرى في النكاح الأول، وقد تصرّم ذلك النكاح، [فلينقضِ] (3) بما فيه؛ إذ لو نفذنا في النكاح الثاني يمينه السابقة في النكاح

_ (1) ر. المختصر: 4/ 55. (2) في الأصل: فهل. (3) في الاصل: فليقض.

الأول، لكنّا منفذين تصرفه في النكاح الثاني قبله (1)، وهذا ينافي مذهب الشافعي. هذا إذا كان النكاح الثاني قبل وقوع الحرمة الكبرى. 8715 - فإن علّق طلاق امرأته، ثم طلقها ثلاثاً تنجيزاً، ثم نكحت زوجاً آخر، وعادت إلى الأول على شرط الشرع، ثم وُجدت الصفة التي علق الطلاق بها في النكاح الأول؛ فالمنصوص عليه في الجديد: القطع بأن الطلاق لا يقع، والحِنث لا يعود. وفي القديم قولان. وإذا جمعنا الصور وضممنا أجوبة القديم إلى الجديد، انتظم في عود الحِنث ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يعود أصلاً إذا تخللت البينونة، وتجدد النكاح. والثاني - أنه يعود كيف فرض الأمر نظراً إلى حالة التعليق ووجود الصفة، وهما واقعان في النكاح. والقول الثالث - إن الحِنث يعود إذا لم تتخلل الحرمة الكبرى، فإن تخللت، لم يعد. والمصير إلى عود الحنث بعد وقوع الثلاث على نهاية البعد، حتى لا يكاد ينتظم [تعبير] (2) فيه عن توجيه؛ فإن الرجل إذا علق ثلاث طلقات بوجود صفة، فإنما علّق ما يملك تنجيزه من الطلقات، فإذا أنجز ما علّق، فقد انحلّ ملكه المعلق، وكان التنجيز بمثابة الاستيفاء، فلا يبقى للتعليق متعَلّقٌ، ويستحيل بقاء تعليق لا متعلقَ له. 8716 - وأبو حنيفة (3) فصّل في عَوْد الحنث بين أن يقع النكاح الثاني بعد تخلل الحُرمة الكبرى وبين أن يقع قبل تخللها، وهذا الفصل حسن في جانب نفي الطلاق

_ (1) قوله: "لكنا منفذين تصرّفه في النكاح الثاني قبله": معناه أننا ننفذ التصرف في النكاح قبل أن يوجد النكاح، وهذا خلاف مذهب الشافعي، فعنده أن من قال: إذا تزوجت فلانة فهي طالق. لا تطلّق بهذا اللفظ. (2) في الأصل: تغيير. (3) ر. المبسوط: 6/ 95، ومختصر الطحاوي: 203، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 409 مسألة رقم: 915، ورؤوس المسائل: 420 مسألة رقم: 292.

عند استيفاء الطلقات الثلاث، ولكنه أفسد على نفسه، حيث قال: إذا طلق الرجل امرأته، فبانت ونكحت زوجاً وأصابها، ثم عادت إلى الأول على شرط الشرع؛ فمذهبه: أنها تعود إلى الأول بثلاث طلقات. ثم بنى على هذا المذهب مسألةً في التعليق، فقال: إذا علّق ثلاث طلقات بصفة في النكاح الأول، ثم نجّز طلقتين، فبانت وأونكحتصيبت، وعادت إلى الأول، فوُجدت الصفة؛ قال: تطلق ثلاثاًَ، ومعلوم أنه لما نجّز طلقتين في النكاح الأول، فقد نجّز مما علق طلقتين، فإدامة التعلق بما نجّز محال. وهذه المسألة لا تتصور على أصلنا؛ فإن النكاح الثاني عندنا مبني على النكاح الأول في عدد الطلاق، كما سيأتي القول في هذا [في] (1) الطلاق، إن شاء الله عز وجل. 8717 - وذكر الأئمة في تعليق العتق وعَوْد اليمين ما ذكروه في الطلاق. فإذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، ثم زال ملكه عن الرقبة زوالاً لازماً، ثم عادت (2) إليه، فوُجدت الصفة في الملك الثاني؛ ففي وقوع العتق القولان المذكوران في عود الحنث في اليمين المعقودة بالطلاق إذا تخللت البينونة من غير استيفاء عدد، فإنه تخلل في الموضعين حالةٌ [لو] (3) فرض فيها وجود الصفة، لما وقع الطلاق ولا العتاق. وذكر الأئمة لتنجيز الطلقات الثلاث بعد التعليق نظيراً من العتاق، فقالوا: إذا علق عتقَ عبد، ثم نجّز إعتاقه، ثم التحق بدار الحرب، وكان كافراً [فسبي] (4)، وأُرقّ، ورأينا إرقاقه -على تفصيل في السِّير، سيأتي إن شاء الله عز وجل- فإذا عاد ملكاً لمن علّق عتقه، فوُجدت الصفة، ففي وقوع العتق -والحالة هذه- ما في وقوع الطلاق إذا عَلَّق [به، ثم] (5) نجَّز الطلقات الثلاث، ثم عادت إليه.

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام. (2) ثم عادت إليه: أي الرقبة. (3) في الأصل: أو. (4) في الأصل: يسبَى. (5) في الأصل: ثم به.

ووجه التشبيه لائح، فإنه إذا علقَ الطلاق، ثم طلق ثلاثاً، فقد نجز ما علق؛ وإذا علّق عتق عبده، ثم أعتقه تنجيزاً، فقد نجّز ما علّق؛ فإن العتق ليس مما يتعدد. 8718 - ومما يتعلق بأطراف المسألة: أنا إذا رأينا عَوْد الحنث، فلو علق الطلاق في النكاح الأول، ثم أبان زوجته، فوُجدت الصفة في زمان البينونة، فلا شك أن الطلاق لا يقع لمصادفة الصفة حالةً لو أنشأ الطلاق فيها تنجيزاً لَمَا وقع. وإذا عادت، ثم وجدت تلك الصفة في النكاح الثاني؛ فالذي صار إليه أئمة المذهب: أن الطلاق لا يقع [وإن] (1) فرعنا على عَوْد الحنث، واعتلّوا بأن الصفة لما وجدت في زمن البينونة، انحلت اليمين انحلالاً لم تصادف إمكان إعمال، فانحلّت بلا عمل، فإذا انحلت، استحال أن يقع في النكاح الثاني شيء. ووجه ذلك أن اليمين لا تنعقد إلا مرة واحدة (2). فإذا وجدت بعد المرة، فقد زال متعلَّق اليمين، وعسر الحكم بالصفة، فكان موجب ذلك أن تنحل اليمين بلا خلاف. وحكى العراقيون عن أبي سعيد الإصطخري وجهاً أن اليمين لا تنحل، لأن يمين الزوج معقودة على طلاق يُمْلَك في زمان يُتصور من فيه التنجيز والتنفيذ، ويستحيل عقد اليمين بالطلاق على زمان البينونة، وإذا لم تنعقد على زمان البينونة، لم تنحل بما يقع في زمان البينونة. وهذا متجه على مذهب الشافعي، ولكنه بعيد في النقل، غيرُ معتد به. ومما يتعلق بهذا الأصل؛ أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق غداً، ثم أبأنها قبل الغد، فانقضى الغد في البينونة، ثم عادت، فلا شك أن ذلك الطلاق المؤقت لا يقع. ولا يخرّج في هذه الصورة وأمثالها مذهب الأصطخري؛ فإن الوقت الذي علق الطلاق به، قد انقضى قبل النكاح الثاني، فلا يتصور وجوده في النكاح الثاني، حتى نتكلم في وقوع الطلاق وعدم وقوعه، وأما مذهب الأصطخري فيه إذا كان متعلق الطلاق صفةً يتصور وجودها في النكاح الثاني.

_ (1) في الأصل: فإن. (2) هنا سقطٌ في نسخة الأصل -وهي وحيدة- وقد ألحقه أحد مطالعي النسخة بالحواشي وهو نحو ورقة كاملة، فالله المستعان على فك رموزه.

8719 - ومما يتعلق بأصل عَوْد الحنث؛ أن الرجل إذا قال لامرأته: إذا بِنْتِ ونكحتكِ ودخلتِ الدار في النكاح الثاني، فأنتِ طالق، ثم بانت ونكحها، فدخلت الدار؛ فالذي ذهب إليه أئمة المذهب أن الطلاق لا يقع أصلاً. وإن فرّعنا على عَوْد الحِنث؛ فإنه صرح بتعليق الطلاق في نكاح قبل انعقاده، وهذا لا يراه الشافعي ولا يسوّغه. ومن أصحابنا من قال: يخرّج هذا على قول عَوْد الحِنث؛ فإن النظر إلى وقوع المعلَّق في النكاح مع وقوع الصفة في النكاح، وهذا بعيدٌ مع التصريح بإضافة الوقوع إلى النكاح الثاني، حتى لا يفرضَ انحلال اليمين في النكاح الأول [هكذا أجروه] (1). والوجه أخْذه من عود الحنث بعد استيفاء الثلاث؛ فإن الحنث ينطبق على ما يتجدد بالنكاح الثاني من مِلْك. 8720 - ومما كان يفرعه شيخي في هذا الأصل: أن الرجل إذا علق طلقة واحدة بصفة -وهو يملك الثلاث- ثم قال: نجّزتُ تلك الطلقة التي علّقتها، فتنتجز الطلقة لا محالة. وهل ينحل التعليق؟ هذا ينبني على أنه إذا نجز الثلاث، فهل ينحل التعليق حتى لا يعود في النكاح الثاني؟ فإن قلنا: لا ينحل التعليق، فلا (2) معنى [لحَلِّ] (3) التعليق بالجهة التي ذكرناها. فإن قلنا: ينحلّ التعليق لو استوفى الطلقات، فإذا علق واحدةً، ثم نجز واحدة، وزعم أنها التي علقها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن التعليق ينحلّ، [ووجهه] (4) بين. والثاني - أنه لا ينحلّ، ويبقى التعليق مرتبطاً بما بقي من الطلقات؛ فإنه ما كان متعلقاً بطلقة معينة. ولا خلاف أنه لو علق طلقة، ثم نجّز طلقة مُطْلَقة، فالتعليق

_ (1) ما بين المعقفين تقدير منا على ضوء السياق، امحت الكلمات، أو كادت. (2) انتهى اللحق أو السقط، وعدنا إلى منتصف الورقة 15 ش. (3) في الأصل: لحمل. (4) في الأصل: ووجه.

لا ينحلّ؛ فقوله: نجزت ما علّقت تصرّفٌ منه في فكّ التعليق، وليس ذلك إلى المعلِّق. هذا تمام البيان في تمهيد أصل عَوْد الحنث، ولهذا الأصل تكرُّرٌ في الكتب على ما يليق بمقاصدها، وفيما ذكرناه الآن مَقْنع. 8721 - وقد عاد بنا الكلام إلى مضمون الباب. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً: في كل سنة واحدةٌ، رجعنا إليه، فإن زعم: أنه أراد مُدَد السنين وتنكيرَها، ولم يرد السنة المعروفة العربية [المستفتحة] (1) بالمحرم، فالجواب -ومراده ما وصفناه- أنه يقع في الحال طلقة؛ لأنه يكون في سنةٍ لا محالة، وقد أوقع الطلقات الثلاث في [ثلاث] (2) سنين، فلتقع كلُّ طلقة في سنة، وموجب ذلك وقوعُ طلقة في الحال؛ لأنه في سنة، ولم يعلّق الطلقات الثلاث بانقضاء ثلاث سنين. ثم إذا حكمنا بوقوع طلقة في الِحال؛ لأنه في سنة، فلو راجعها، وامتدّت عدة الرجعة بتباعد الحيضة، أو امتداد زمان الحمل، حتى مضت اثنا عشر شهراً؛ [فتقع عليها الطلقة الثانية فإن راجعها، وطالت العدة إلى اثني عشر شهراً] (3) أخرى، فيقع عليها الطلقة الثالثة، فتلحقها الثلاث في أربعة وعشرين شهراً ولحظةٍ، وهذه اللحظة الزائدة: وقتُ وقوع الطلقة الثالثة. والوقتُ الذي وقع فيه الطلقة الأولى محسوب من السنة الأولى. وهذا بيّن لا يخفى دَرْكُ مثله على الفطن. وما ذكرناه فيه إذا تمادت عدة الرجعية، وارُتجعت المرأةُ على نظمٍ يقتضي وقوع الطلقات كما صورناه. فإن لحقها الطلقةُ الأولى، ولم يرتجعها، وانقضت عدتها قبل مضي السنة الأولى، [وبانت] (4)، فإن نكحها، فتمت اثنا عشر شهراً من يوم تلفظه بالطلاق

_ (1) في الأصل: المستحقة. (2) زيادة اقتضاها إقامة العبارة. (3) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها استقامة العبارة، وهي من عمل المحقق. (4) في الأصل: فأبت.

[وعَقْدِه] (1) اليمين، فهل تلحقها الطلقة الثانية؟ فعلى القول الممهد في عَوْد الحنث. وقد قدمنا فيه الأقوالَ، والترتيبَ البالغَ [الكافي] (2)، والكلامُ في الطلقة الثالثة على ذلك يخرّج. ولو لحقتها الطلقةُ الأولى، وانقضت عدتها في السنة الأولى، ولم يجدد عليها النكاحَ حتى مضت السنة الثانية، فقد انحلت اليمين في الطلقة الثانية؛ [فإنه كانت نهايتها] (3) بانقضاء السنة الثانية. وليس هنا محل تخريج الإصطخري (4)، -بل هو كما لو قال لامرأته: أنت طالق غداً، ثم أبأنها قبل الغد، وتصرّم الغد على البينونة، ثم جدد النكاح- فلا (5) يقع الطلاق، [ثم هل يقع الطلاق] (6) الثالث لو امتدت العدة (7)، [وهل] (8) تنحل اليمين بمضي تلك اللحظة؟ قلنا: لا تنحلّ؛ فإن أمد الطلاق الثالث منتهٍ. غير أنا ابتدرنا (9) الحكم بوقوعه لنحقق دخول الوقت، وكل طلاقٍ أضيف إلى زمانٍ ممتد إضافة الشيء إلى ظرفه الزماني، فإنه يقع في أول جزء منه. فإذا كانت المرأة بائنةً في الجزء الأول من السنة الثالثة، لم يقع الطلاق.

_ (1) في الأصل: وعدّه. (2) كذا قرأناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف. (3) ما بين المعقفين قرىء بصعوبة بالغة على ضوء الظلال الباقية للكلمات. وعبارة العز بن عبد السلام: "فتنحلّ اليمين المعلقة بها" (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم: 115ش). (4) عبارة العز بن عبد السلام: فإن لم يتزوجها حتى مضت السنة الثانية، فتنحل اليمين المعلقة بها، بوفاق الإصطخري. (ر. الغاية في اختصار النهاية: 3 لوحة رقم 115 ش). (5) كذا قرأناها بصعوبة بالغة. (6) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق. (7) قوله: "ثم هل يقع الطلاق الثالث لو امتدت العدة ... إلخ" مرتبط بما قبل العبارة المعترضة. والمعنى أنه لو امتدت العدة حتى دخلت في السنة الثالثة، ومضت منها لحظة تسع وقوع الطلاق، فهل يقع الطلاق الثالث بمضي تلك اللحظة، أم تنحل اليمين. (8) في الأصل: فهل. (9) ابتدرنا الحكم بوقوعه: أي حكمنا بوقوعه إن قلنا بعود الحنث. لكن يعترض هنا أن المرأة لم تكن محلاً لوقوع الطلاق عند دخول السنة الثالثة.

فإذا نكحها [في أثناء السنة الثالثة، فهذا النكاح جرى في أمد الطلاق الثالث] (1) ثم إن قلنا: بعَوْد الحنث، فكما (2) نكحها، طلقت؛ فإن هذا زمانٌ من السنة الثالثة، وهو بمثابة ما لو قال لامرأته: أنت طالق غداً، ثم أبأنها، فمضى صدرٌ من الغد، ثم جدد النكاح عليها في بقيةٍ من الغد، ورأينا عود الحنث، فالطلاق يقع كما (3) ينكحها. هذا كله فيه إذا قال: أردت بقولي: في كل سنة طلقة، تنكيرَ السنين، ولم أُرد تعريفها بالسنين العربية. 8722 - فإن قال: أردتُ السنين العربية، طُلّقت في الحال طلقة، لأنها تقع في سنةٍ عربية. وكلما أهلّ المحرم، طُلقت طلقةً أخرى. وقد تقع الطلقة [الأولى] (4) في آخر لحظة من السنة، وتقع الثانية في اللحظة الأولى من السنة؛ فتلحقها طلقتان في لحظتين. والفرق بين [هذه] (5) المسألة وبين الأولى مستبين؛ فإن المسألة الأولى مقتضاها تقدير السنين من وقت نطقه، فانتظم ذلك الترتيب على ما مضى، وهذه المسألة مبنية على ما يقع من السنين العربية، لا على ما يقدره الحالف. والغرض التام في ذلك يتّضح بذكر مسألة واستغراب، وجوابٍ عنه. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً في كل يومٍ طلقة، [فإن] (6) قال ذلك وهو في يوم، فتقع واحدة في الحال، وتقع الثانية كما (7) طلع الفجر في اليوم الثاني، ولا يتوقف الوقوع على أن ينتهي في اليوم [الثاني] (8) إلى الوقت الذي انعقد فيه اليمين في اليوم الأول. وإن قال: أردت تنكير اليوم، فالجواب كذلك. فإن قيل: هلا

_ (1) ما بين المعقفين انمحى تماماً أو كاد، وقدرناه على ضوء المعنى وظلال الكلام وآثاره الباقية. (2) فكما: أي عندما. (3) كما ينكحها: أي عندما ينكحها. (4) في الأصل: الأخرى. (5) زيادة لإقامة الكلام. (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) كما: بمعنى عندما. (8) في الأصل: الأول.

حسبتم بعد وقوع الطلاق [زمانَ] (1) يومٍ: مثلاً يقع الطلاق في وقت الزوال، فيتربص إلى انتهاء اليوم الثاني إلى وقت الزوال. وهذا في التحقيق مضي يوم مضى شطره أمس ولم [يمض] (2) مقدار يوم في اليوم الثاني؟ قلنا: سبب ذلك أنه إذا علّق الطلاق باليوم وجعله ظرفاً؛ فإذا قال: في كل يوم، فكما (3) طلع الفجر شرعت في جزء من أجزاء اليوم، وليس كذلك السنة المنكرة؛ فإنها تطلق على اثني عشر شهراً. فإذا نظر الناظر إلى مسألة الأيام، ومسألة السنين المنكرة، ابتدر اعتقاد الفصل بينهما، ثم تعسر العبارة عن مكنون الضمير. ويُستنكر أمثالُ ذلك في مسائل الطلاق؛ فيقع الاعتناء بتَرْصيف العبارة، وتطبيقها على المعنى. ونحن نقول: السنة تنكر، وتعرّف، فيقال: أقبلت السنة إذا قرب هلال المحرم، واليوم يعرّف وينكّر. وليس يبعد اعتقاد التبعيض فيه أيضاًًً؛ فإِن الرجل إِذا قال لامرأته وقت الزوال: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فلا تطلّقُ حتى تغرب الشمس، ويدخلَ اليومُ الثاني، وينتهي إلى وقت الزوال. ولكن الألفاظ المطلقة في الأيام ظاهرةٌ في الأيام المعرفة. والسنين المطلقة ليست ظاهرةً في السنين العربية؛ فإنّ تعرّف الأيام أظهرُ من تعرف السنين؛ كيف؟ وطبقات الخلق على اختلافٍ في تعريف السنين، ولسنا على توقيفٍ حاقّ في تعريف السنين العربية، فكان قولُ القائل: أنت طالق ثلاثاًً في كل سنة طلقةٌ ظاهراً في احتساب السنة المنكرة من وقت القول، وقول القائل: "في كل يوم" ظاهرٌ في اليوم المعروف؛ حتى يُعدَّ احتسابُ يوم من يومين في حكم الشاذ، الذي [يلتبس] (4) الفكر عليه، إذا لم يُرِد (5).

_ (1) في الأصل: أزمان. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) فكما: أي عندما. (4) في الأصل: يلتمس. (5) من أراد يريد.

8723 - [و] (1) هذا يتبين بمسألتين: إحداهما - أنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً في كل سنة طلقة، فراجعناه في قصد التعريف والتنكير، فزعم أنه لم يكن له قصد، فهذا عندنا ملتحق بمسائلَ ستأتي في الطلاق -إن شاء الله تعالى- مستندةً إلى قاعدةٍ لا سبيل إلى الخوض فيها الآن، ولكنا ننجز الجواب والفتوى على حسبها، فنقول: إذا زعم أنه أطلق اللفظ، ولم ينو تنكيراً ولا تعريفاً، ففي المسألة وجهان أخذاً من كلام الأئمة في قواعد الطلاق: أحدهما - لفظه يحمل على التنكير؛ فإن إطلاق الرجل قولَه سنة من غير تعريف محمول على سنة يضعها [ويعتبرها] (2) من تلقاء نفسه. هذا هو الغالب في حكم الإطلاق. والوجه الثاني - يحمل على السنة العربية؛ فإنه لا تعريف في كلامه. وقد يترجح أحد القولين على الثاني بمصادفته التعريف الشرعي. وإذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً في كل يوم طلقة، وزعم أنه لم ينو تعريفاً ولا تنكيراً، فهذا محمول على اليوم المعرّف بلا خلاف؛ [فإنه] (3) المفهوم السابق إلى الأفهام، ومبتدأُ الأيام منفصلةٌ في الصورة بتخلل الليالي. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً في كل يوم طلقة، وزعم أنه أراد تكميل اليوم الذي كان فيه بساعات اليوم الآتي، فهو إن صدق في حكم الله تعالى محمول على حكم نيّته [تديّناً] (4). وإن قال: فاقبلوه مني ظاهراً، فهل [يحمل] (5) على هذا ظاهراً ويقبل قوله؛ فعلى وجهين سيأتي أصلهما، إن شاء الله عز وجل: أحدهما - أنه يقبل، لظهور الاحتمال مع النية، ولا مطمع في تمهيد هذه القواعدِ بعدُ، ومقدار غرضنا الآن إظهار الفرق بين السنين والأيام، وقد لاح على أبين الوجوه، والحمد لله رب العالمين.

_ (1) الواو زيادة اقتضاها للسياق. (2) في الأصل: "ويغيرها". (3) في الأصل: فإن. (4) في الأصل: بيّناً. (5) في الأصل: محمل.

8724 - وإذا قال: أجرتك هذه الدار ثلاثَ سنين، فابتداء المدّة من وقت العقد، وإذا قال: أجرتكها ثلاثة أيام، وأنشأ العقد وقت الزوال، استكملنا الأيام بالتلفيق كالسنين، ولا فرق بين السنين والأيام في ذلك، والسبب فيه ارتباط الإجارة باستغراق المدة في الموضعين، والطلاق إنما يقع في أوقاتٍ من السنين والأيام. وهذا تمام الغرض. * * *

باب الطلاق قبل النكاح

باب الطلاق قبل النكاح قال الشافعي رحمه الله: "ولو قال: كلُّ امرأة أتزوجها فهي طالق ... إلى آخره" (1). 8725 - إذا قال الرجل لأجنبية: إن نكحتك، أو إذا نكحتك، فأنت طالق. فهذا التعليق قبل النكاح لغوٌ، وإذا نكحها، لم تطلق. وإذا قال: كل امرأة أنكحها، فهي طالق، فقوله لغو. وقاعدةُ المذهب أن التعليق تصرفٌ من مالك الطلاق في الطلاق [بما] (2) يقبله الطلاق من التعليق، فإذا لم يملك الطلاقَ، [كان] (3) تصرفه فيه لغواً. وقال أبو حنيفة (4): التعليق إذا أضيف إلى النكاح على [الإطلاق] (5) أو على التعيين في مخاطبة واحدة، صح، وإذا فرض النكاح عَمِل. وقال صاحب التقريب: تردد جواب الشافعي في القديم، ونقل من كلامه [ما يدلّ] (6) على أن قوله في القديم مثلُ مذهب أبي حنيفة، وتارة ينقل قولاً [بعيداً] (7) وتارة ينقل تردداً، وقد يقول: الطلاق لا يعلّق قبل النكاح في المشهور من قوله، والصحيح من مذهبه. وهذا لم أره إلا في طريقته، فنقلته على وجهه، وتعرضت لصيغ كلامه،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 56. (2) في الأصل: ما. (3) في الأصل: وكان. (4) ر. تحفة الفقهاء: 2/ 294، والمبسوط: 6/ 129. (5) في الأصل: الطلاق. (6) في الأصل: وما يدل. (7) في الأصل: معبداً.

ولا عَوْدَ إليه، والمسألةُ [خلافية] (1) مشهورة. 8726 - وقد أجرى الأئمة فيها مسائلَ مذهبيةٍ، ونحن نذكرها ونستعين بالله تعالى. فمنها أن العبدَ يملك على زوجته طلقتين، فلو علق الطلقة الثالثة مع الطلقتين، فقال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم عَتَق، ودخلت المرأة الدار بعد العتق، ففي وقوع الطلقة الثالثة وجهان: أقيسهما - أنه لا يقع، تخريجاً على [القاعدة] (2) التي ذكرناها معتمداً في المذهب، وذلك أنه علق الثالثة في وقت كان لا يملكها، فلزم إلغاء تعليقه. والوجه الثاني - أنه يقع؛ فإنه لما علّق، كان مالكاً للنكاح، فصدر تعليقه عن ملك مستقىً عن ملك الأصل، وشبه بعض الفقهاء هذا بالإجارة، فإنها تصدر عن مالك الرقبة، والمنافُع [مستجدةٌ شيئاً فشيئاً] (3). وهذا تكلف، فإن الإجارة أُثبت أصلها للحاجة ثم [المنافعُ] (4) تترتب خِلقةً ووجوداً، فجعلت كالموجود، وأما العتق (5)، فإنه ليس مما يُقضى بوقوعه، بل هو متوقع، ولو قيل: الغالب دوام الرق، لكان سديداً. 8727 - ومنها أن الرجل إذا قال لأمته: كل ولدٍ تلديه، فهو حر، وكانت حائلاً فعلقت بولدٍ بعد التعليق، فإذا ولدته، فهل ينفذ العتق فيه؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا ينفذ؛ لأن الولد لم يكن موجوداً حالة التعليق. والثاني - أنه ينفذ العتقُ لصَدَره عن مالك الأصل، والعتق أولى بالنفوذ في هذه المسألة من الطلاق الثالث في مسألة العتق؛ لأن من ملك الأصلَ، فذلك يملّكه الولدَ، وملك العبد النكاحَ لا يملكه الطلاقَ الثالث. ثم إذا نفذنا العتق والطلاقَ في المسألتين، فلا حاجة إلى إضافة الطلاق إلى حالة

_ (1) في الأصل: الخلافية. (2) سقطت من الأصل. (3) عبارة الأصل محرفة هكذا: مستوحد شيا. (4) في الأصل: النافع. (5) المراد عتق العبد الذي علق ثلاث طلقات.

الملك، بل يكفي أن يقول العبد: إذا دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثاً، ثم يعرضُ العتق ويكفي أن يقول لأمته: إذا ولدت ولداً، فهو حر، ولا حاجة أن يقول: إذا ولدت ولداً في ملكي. 8728 - ومنها كلامٌ في النذر، فإذا قال الرجل: إن شفى الله [مريضي] (1) فلله عليّ إعتاقُ عبدٍ، فإذا شفي المريض، [لزم] (2) الوفاء بالنذر وإن لم يكن في ملكه عبدٌ حالة النذر، والسبب فيه أن التعويل في هذا النذر على الالتزام المطلق في الذمة، والديون كذلك تلزم الذمم؛ فإنها لا تتعلق بالأعيان، وإذا كنا نحتمل هذا في أثمان البياعات مع بعدها عن قبول الأغرار، فلا بعد فيها في النذور القابلة للمجاهيل، وضروب الأغرار. ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبداً إذا ملكته، فهذا صحيح؛ فإن النذر على هذا التقدير يُلتزم، وعلى هذا الوجه يُفرض الوفاء به. ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبدَ زيدٍ هذا إن ملكتُه، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: النذر يبطل؛ فإن معتمده التصرفُ في ملك الغير قبل ملكه، فيبطل، كما بطل تعليق العتق والطلاق قبل الملك. والوجه الثاني - أنه لا يبطل؛ لأن معتمد النذر الذمة، والذمة مملوكة للملتزم، والطلاق يتمحض إيقاعاً في العين؛ فإذا لم [يملك] (3) العين، لغا تصرّفُه فيه. 8729 - وإذا قال: [أوصيت] (4) لفلان بألف درهم، وكان لا يملك إذ ذاك حبة، ثم ملك ما يفي بالوصية، فالمذهب تصحيح الوصية، كما لو نذر نذراً مطلقاً وهو لا يملك شيئاً. وأبعد بعض أصحابنا، فأبطل الوصية بأنها ليست التزاماً في الذمة، والنذر التزامٌ، فكان المنذور ديْناً.

_ (1) في الأصل: مرضي. (2) في الأصل: ولزم. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: أرضيت.

والذي عليه التعويلُ التسويةُ بين البابين؛ فإن الوصية تقبل من الإطلاق ما يقبله النذر، فمطلَقُها وإن لم يكن دينا كمطلَق النذر [إن] (1) كان ديناً. وإذا استويا في قبول الإطلاق والمطلق لا يرتبط بالعين، فلا فرق في الغرض المقصود. وإذا قال: لو ملكت عبد فلان، فقد أوصيت لك به، ففي الوصية وجهان: أحدهما - أنها لا تصح، لوقوعها في عينٍ غير مملوكة، فكانت كتعليق العَتاق والطلاق قبل الملك. والثاني - تصح، لأن الوصية مبناها على الغرر والخطر، ونفوذها في وقت زوال ملك [الموصي] (2)، وكان شيخي يقول: إذا صححنا الوصية مضافة إلى العين، وصححنا النذر مضافاً إلى العين، فشرطهما أن يقيّدا بتقدير الملك، فيقول الناذر: إن ملكت هذا العبدَ، ويقول الموصي إن ملكتُ هذا العبدَ، فلو وجه الناذر على عبد الغير مطلقاًً فقال: لله عليّ أن أعتق هذا العبد، ووجه الوصية كذلك على ملك [الغير] (3) فالنذر والوصية باطلان. والظاهر عندنا ما ذكره. وإذا سلم الخائضُ في المسألة الوصيةَ والنذرَ المتعلقين بالعين، ورتب عليه اشتراطَ الإضافة إلى الملك عسُر عليه الكلام في المسألة. 8730 - وإذا قال: إن تزوجتُ فلانة، فقد وكلتك في طلاقها، فالوجه القطع ببطلان الوكالة؛ فإنه تصرفٌ في الطلاق قبل الملك، وقد اختُلف في أن الوكالة هل تقبل التعليق، والطلاقُ قابلٌ للتعليق، فإذا لم يجز تعليق ما يقبل التعليق قبل النكاح، فكيف تصح الوكالة؟ ولو قال: وكلتك في بيع عبد فلان أو عتقه إذا ملكتُه، وفي طلاق فلانة إذا نكحتُها، ثم ملك، ونكح، ففيما نُقل عن القاضي وجهان في هذا.

_ (1) في الأصل: وإن. (2) في الأصل: الوصي. (3) في الأصل: العين.

[والوجه] (1) عندي القطع بالفساد؛ فإن الوكالة لا يصح تنجيزها، والتصرف غير ممكن، فلا فرق في المعنى بين هذه الصورة [والصورة] (2) الأولى. ...

_ (1) في الأصل: فالوجه. (2) زيادة اقتضاها السياق.

باب مخاطبة المرأة بما يلزمها من الخلع وما لا يلزمها

باب مخاطبة المرأة بما يلزمها من الخلع وما لا يلزمها قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قالت له امرأته: إن طلقتني ثلاثاًً، فلك عليّ مائةُ درهم، فهو كقول القائل: بعني ثوبك هذا بمائة درهم ... إلى آخره" (1). 8731 - هذا الباب غمرة الخلع، وفيه خاصيته ومعظمُ مسائلِه، وسبيلنا أن نصدّره بذكر قاعدة الخلع وطباعها ومبناها في الاشتراك والتمحض؛ حتى نتخذَها أصلاً متبوعاً، ومتعلَّقاً مرجوعاً، وسنبين ما يجري من المسائل على السَّنَن، وما يميل بعض الميل من الشواذ. قال الأئمة: الخلع إن حكمنا بكونه فسخاً، فهو محمول على حقيقة المعاوضة من الجانبين؛ فإنه فسخٌ بمالٍ، وليس كالفسوخ التي تَرِدُ على العقود الأُخر إذا (2) حكمنا [بارتداد] (3) الأعواض من غير ذكرٍ لها، والخلع إذا جعلناه فسخاً لا يَرِد على العوض المسمى في العقد، وإنما يرد على بدلٍ جديد، كما سبق تقريره، وإذا كان فسخاً في نفسه، [حلّ] (4) محل حقيقة المعاوضة حتى لا يقبَل التعليقَ. وهذا الباب العظيمُ القدر ليس موضوعاً لقول الفسخ، فإن المسائل تتشعب من الطلاق على المال. 8732 - ونقول قبل الخوض في تمهيد القاعدة: في لفظ (السواد) (5) إشكال، فإن الشافعي قال: "إذا قالت: إن طلقتني ثلاثاًً، فلك مائة درهم، فهو كقول الرجل

_ (1) ر. المختصر: 4/ 57. (2) إذا بمعنى: "إذ". (3) في الأصل: ارتداد. (4) في الأصل: حالاً. (5) السواد: المراد به مختصر المزني.

بعْني ثوبك هذا بمائة درهم". وهذا التشبيه فيه اشتباه؛ فإن قول الرجل: "بعني" ليس على صيغة التعليق، وإنما هو التماس إيجاب، وقول المرأة: "إن طلقتني" تعليق منها، فكيف يتشابهان؟ ولو قال الرجل: "إن بعت مني" فهذا اللفظ فاسدٌ، لا ينعقد به البيع. فنقول: غرض الشافعي تشبيهُ أحد البابين بالثاني في وقوعهما التماساً بعوض، ثم يقع الالتماس في كل باب على ما يليق به، فالبيع لا يقبل التعليق، فلم يَلِقْ به [إلا] (1) الاستدعاءُ الجازم، والخلع يتطرق إليه التعليقُ، فيقبل الاستدعاءَ بصيغة التعليق؛ فإذاً قصدُه المقابلة بينهما في المعنى لا في الصيغة. 8733 - ونحن نبتدىء بعد ذلك قاعدةً تبين حقيقة الخلع ووضعَه من جانب الزوج وجانب المرأة، والكلامُ في الطلاق على المال، أو التفريع على أن الخلع طلاق. [فالخلع] (2) إذاً طلاق مقابَل بعوض، وهو في جانب الرجل ينتمي إلى التعليق والمعاوضة، والخلع في جانبها معاوضة نازعةٌ إلى الجعالة، ثم من حيث اشتمل الخلع في [جانب] (3) الرجل على الطلاق [واستيداء] (4) البدل والمال، تطرق إليه حكم التعليق في الطلاق، ومعنى تطرقه إليه أنه قد يجري في مسائل الخلع موجب تعليق الطلاق، ومن آثاره على الإجمال، ألا يفرض الرجوع [عنه] (5)؛ فإن من علق الطلاق، ثم رام الرجوع عن تعليقه، لم يجد إلى ذلك سبيلاً. وقد يتفرع في جانب الزوج حكم المعاوضة، حتى يثبت له الرجوع عن قوله، كما إذا قال الرجل لمن يخاطبه: بعتك عبدي هذا بألفِ درهم، ثم رجع عن قوله قبل أن يجيبه المخاطَب، فالرجوع يثبت، ولا ينعقد العقد بما يفرض من القبول بعد تقرير الرجوع عن الإيجاب. ْفهذا معنى قولنا: الخلع في جانبه يعتزي إلى التعليق وإلى المعاوضة، وليس من

_ (1) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام إلا بها. (2) في الأصل: والخلع. (3) زيادة لاستقامة العبارة. (4) في الأصل: "واستبدال". وهو تحريف مضلّل. (5) في الأصل: إليه.

حق المنتهي إلى هذا الفصل أن يعتقد تبيّن المقصود منه جزءاً جزءاً على طباع سائر الفصول، بل ينبغي أن يعلم أن تمام البيان فيه موقوف على نجازه، وسبيلُ التدريج إليه إطلاق [الأصول] (1) على الإجمال، ثم بيانها موقوف على انقضاء الفصل. 8734 - وذكر الأئمة أن الخلع في جانبها معاوضة، وزاد المحققون أنها معاوضة نازعةٌ إلى الجعالة، ثم قد يجري لها لفظ التعليق في استدعاء الطلاق، بأن تقول: إن طلقتني، فلك ألف، فإن ظن المبتدىء الفطن أن هذا يناقض ما قدمناه من اختصاص التعليق بجانب الرجل، قلنا له: لسنا ننكر جريان صيغة التعليق في جانبها؛ فإن صيغة التعليق تجري في الجعالات؛ إذ يقول القائل: إن رددت عبدي الآبق، فلك كذا كذا، وهذا سائغ. والغرض من الفصل بين الجانبين أن جانب الزوج يشتمل على تعليق الطلاق، وقد يجري على صيغة لا يُفرض الرجوع عنها، وليس في جانبها تعليقٌ [لا يفرض] (2) الرجوع [عنه] (3)؛ فإنها إذا قالت: إن طلقتني، فلك ألفٌ، ثم قالت: رجعت عما قلت، [فإذا] (4) طلقها، لم يلزمها شيء، ويقع الكلام في أن الطلاق هل يقع أم لا؟ [و] (5) نفصله في المسائل، إن شاء الله تعالى. ولو قال الرجل: إن أعطيتِني ألفاًً، فأنت طالق، ثم قال على الاتصال قبل أن تعطيه: رجعتُ عما قلت، لم يكن لرجوعه حكمٌ، فالنفي والإثبات في التعليق راجع إلى ما ذكرناه من قبلُ: إنّ في جانب الزوج الطلاقَ، يعلّقُه على وجه لا يملك الرجوع عنه، وليس في جانبها الطلاقُ، وإنما في جانبها سؤال الطلاق، فالتطليق بالمال يكون في معنى التعليق، وسؤال الطلاق في معنى الجعالة. فلا يمتنع جريان صيغة التعليق من الجانبين؛ فإن صيغة التعليق تجري في الجعالة

_ (1) في الأصل: الأصلال. وهو جمع غريب لكلمة أصل. (2) في الأصل: ولا يفرض. (3) في الأصل: عنها. (4) في الأصل: وإذا. (5) (الواو) زيادة من المحقق.

والطلاق، وأما الرجوع، فقد يمتنع من جانب الزوج؛ لأنه [تعليق للطلاق] (1) إن عَلّقَ، وتعليق الطلاق لا يقبل الرجوع. [والتعليق] (2) في جانبها يقبل الرجوع؛ فإنها تسأل الطلاقَ بمالٍ، وسؤال الطلاق يقبل الرجوع. 8735 - ثم جَمَع الحذاق مسائل متفنّنةً، يثبت في بعضها حكمُ المعاوضة في جانب الزوج، ويثبت في بعضها حكمُ التعليق المحض، ويجتمع في بعضها حكم التعليق والمعاوضة، [و] (3) إذا أطلقنا التعليق في أثناء الكلام بعد هذا، عنينا تعليقَ الطلاق الذي لا يقبل الرجوع، فنأتي بالمسائل، ثم نذكر بعدها وجهَ التحقيق، ثم نذكر تحقيق الكلام في جانبها، ونخوض بعد الانتجاز في مسائل الباب فنبدأ بجانبه فنقول: المعاوضة تُغلَّب في الحكم؛ فإن الرجل إذا قال لامرأته: طلقتك على ألف. أو قال: أنت طالق على ألف، فلو أراد الرجوع وصيغة لفظه على ما ذكرناه، صح رجوعه، فلو قبلت بعد ذلك، فلا حكم لقبولها، والنكاح قائم، وما تقدم من لفظ الطلاق ينتقض [برجوعه] (4) وهذا من أحكام المعاوضة، فالخلع إذاً في جانبه فيما ذكرناه ينزل منزلة البيع؛ فإن من قال: بعت عبدي بألفٍ، ثم رجع قَبْل القبول، انقطع الإيجاب بالرجوع. ومما يثبت في أحكام المعاوضة أنه يختص القبول بالمجلس كما في البيع. ومنها أنه إذا قال: طلقتك ثلاثاً على ألف، فقالت: قبلت طلقة بثلث ألف، فلا يصح ذلك، ولا يقع شيء، كما لو قال: بعتك هذا العبد بألف فقال المخاطب: قبلت البيع في ثُلثه بثلث ألف، فلا يصح البيع؛ لاختلاف الإيجاب والقبول. فهذه مرامز توضّح أنه قد يثبت حكم المعاوضة في جانبه.

_ (1) في الأصل: تعلّق الطلاق. (2) في الأصل: والتعلّق. (3) (الواو) مزيدة من المحقق. (4) في الأصل: رجوعه

8735/م- وقد يغلب التعليقُ في مثل قوله: متى ما أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، أو متى شئت، فأنت طالق. أو متى ما ضمِنتِ ألفاًً، فأنت طالق. فأحكام التعليق تتمحّض في هذه [الصور] (1)؛ فإن الزوج لو أراد رجوعاً وألفاظه ما ذكرناه، لم يمكنه، وهذه من مقتضيات التعليق في التطليق، ولا تختص أحكام هذه المسائل بالمجلس، فلو أعطت، وضمنت، أو شاءت بعد انفصال المجلس، حكمنا بوقوع الطلاق، كما لو قال: متى ما دخلت الدار، فأنت طالق، فلا رجوع، ولا اختصاص بزمانٍ، ولا حاجة إلى قبولٍ من جهتهما. وهذا من موجبات التعليق. 8736 - وقد تجري مسائلُ [يجتمع] (2) فيها حكم التعليق والمعاوضةِ جميعاً: فإذا قال: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، أو إن ضمنتِ ألفاًً، فأنت طالق، وإن شئت، فأنت طالق على ألف، فيثبت في هذه الألفاظ حكم التعليق وحكم المعاوضة، أما حكم التعليق، فلا يملك الزوج الرجوعَ على قياس تعليقه الطلاق، ولا حاجة إلى قبولها لفظاً على حسب قبولها المخالعة المطلقة المعقودة على [نحو] (3) صيغة التعليق. فإن كان التعليق بالإعطاء، فهو فعلٌ، فإن أتت به، وقع الطلاق. وإن كان معلّقاً بالضمان أو المشيئة، فلا بد من اللفظ، وضمانها ومشيئتها تحقيق لصفة التعليق، وليس في معنى قبول المخالعة المطلقة التي ينزل القبول في مثلها منزلة القبول في البيع. وممّا يَثبتُ مضاهياً لأحكام المعاوضات في هذه المسائل الأخيرة أنا نشترط أن يتحقق متعلّق الطلاق على الفور في زمان اتصال القبول بالإيجاب، فإذا قال: إن أعطيتِني، فليقع الإعطاء على الفور، ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فلا فور. فهذه تنبيهات، والتحقيق بين أيدينا. 8737 - ومما رأيت إثباته هاهنا سؤالٌ وحكاية جوابٍ، وهذا قضّيتُ العجبَ

_ (1) في الأصل: الصورة. (2) في الأصل: مجتمع. (3) في الأصل: "نجر" كذا بهذا الرسم وهذا النقط.

منه، ولست [أثبته] (1) لأنقص به أحداً، فإنما غرضي منه التنبيهُ على الوجه الفاسد، حتى إذا أعقبتُه الوجهَ الحق، استفاد الناظر مُدركَ الحق؛ فالتزمه، ومسلكَ الباطل فاجتنبه. قال من لا أعدل به أحداً من بني الزمان (2): سألت القاضي -وهو على التحقيق حَبْر المذهب - لِم غلّبنا في بعض هذه المسائل حكمَ المعاوضة؟ وغلّبنا في بعضها حكمَ التعليق؟ وأثبتنا الأحكام على الاشتراك في بعضها؟ وحكى في جوابه: أنه قال: "لما اشتمل الخلعُ من جانبه على التعليق والمعاوضة، وفَّرنا على الأصلين حُكْمَيْهما". فعاد السائل مُباحثاً، وقال: لم أثبتنا حكم المعاوضة حيث أثبتنا، ولم أثبتنا حكمَ التعليق حيث أثبتنا، وحكى من جوابه: "أنه لما ثبت الشبهان، ولم يترجح أحدهما على الثاني، فلا معاب في إثبات الحُكْمين". ثم عاد السائل قائلاً: هلا عكسنا، فأثبتنا حكمَ التعليق حيث أثبتنا حكم المعاوضة، وأثبتنا حكم المعاوضة حيث أثبتنا حكم التعليق، وحكى من جوابه: "إنا لو فعلنا ذلك، لتوجه السؤال كما توجه الآن، وتسلسل الكلام". ولا أدري علام نعمل هذه المفاوضة وما فيها من السؤال والجواب، وهي مبنية على أن ما أثبتنا من أحكام المعاوضة وأحكام التعليق في المواضع التي [ذكرناها] (3) [إنما تحكّمنا بها وبتعيين] (4) محالها؟ وسببُ جمعنا لها اشتمال الخلع على التعليق والعوض، ثم انبنى الجواب الأخير على هذا العقد؛ إذ قال: لو [قلبنا] (5) الأمر، لكان السؤال على هذا النسق، وكيف يسوغ أن يعتقد الجواب التحكُّم في دين الله من غير ثبتٍ ودليلٍ يقتضي تخصيصَ كل حكم بمحله؟ ولست أحمل ذلك إلا على الوهن

_ (1) في الأصل: أثبت. (2) لما يترجح عندنا بعدُ من يعنيه الإمام هنا. (3) في الأصل: ذكرناهما. (4) في الأصل: إنما تحكما بها. (5) في الأصل: قلنا.

وزيادات الكلام التي لا يحتفل بها، ولا تعد من الأصول، وقد لا يخلو عنها كلام المحققين. 8738 - ونحن نقول والله المستعان، وعليه التكلان: الخلع في جانب الرجل طلاقٌ على مال، أثبته على الصيغة المتهيئة للمعاوضات المحضة، يثبت فيها أحكام المعاوضة من جواز الرجوع، والاختصاص بالمجلس، وامتناع وقوع الجواب مخالفاً للإيجاب، وذلك إذا قال: خالعتك أو طلقتك على مالٍ يذكره ويسميه، فإذا وقع اللفظ كذلك - والمعاوضة المحضة ليس فيها صيغة التعليق- غلب حكم المعاوضة. وإن قال: متى ما أعطيتِني ألفاًً، فأنت طالق، فقد جاء بصيغة التعليق، وبعُد [الفرضُ] (1) من المعاوضة المحضة، فتثبت أحكام التعليق، التي منها: امتناع الرجوع، وعدم اشتراط القبول، وعدم التخصص بالمجلس، وقُرب الزمان، [و] (2) المتبع في ذلك صيغة اللفظ، فما كان تعليقاً امتنع الرجوع، ولأجله لم يفتقر إلى القبول، ولم يختص بزمان؛ لأن قوله "متى ما" يتضمن التصريحَ بهذا الزمان، فقد جرت هذه الأحكام على موجَب صيغة اللفظ. وإذا قال: "إن أعطيتني"، فهذا تعليق؛ فامتنع الرجوع عنه، ولكن قول القائل: إن أعطيتِني ليس صريحاً في هذا الوقت، ولا ينكر صلاحيته للزمان المتراخي والزمان المتصل، فلما تقابل الاحتمالان، وفي اللفظ ذكر العوض، والمعاوضةُ تقتضي الفور، غلّبنا أحدَ الاحتمالين لذلك، فجرى هذا مأخوذاً من اللفظ ومعنى المعاوضة، ولكن كان اللفظ صريحاً في التعليق، فامتنع الرجوع وتردد في الزمان [متردِّدٌ مردِّداً] (3) أحد الاحتمالين بموجب المعاوضة. هذا مبنى الاشتراك، وإذا استندت هذه الأحكام إلى موجَبات الألفاظ، فأي حاجة إلى هذا التردد الغث الذي حكيناه في الجواب؟

_ (1) في الأصل: الغرض. وقدّرنا صحتها بالفاء (الفرض)؛ لأن المعنى فرضُ المسألة وتصويرها. (2) (الواو) زيادة اقتضاها السياق. (3) عبارة الأصل: "وتردد في الزمان متردداً أحد الاحتمالين".

8739 - فإن قيل: لم جوزتم ترديد هذه العبارات، ثم رتبتم على الألفاظ مقتضياتها؟ قلنا: فيما مهدناه جوابُ هذا؛ فإن الخلع لما كان طلاقاً بمال، فإلى الزوج أن يوقعه على صيغة المعاوضة، وله أن يوقعَه على صيغة التعليق، وسببُ جواز إيقاعه على صيغة المعاوضة ما فيه من العوض، فإذا سوّغ الشرع مقابلةَ الطلاق بالمال، كان كتسويغه مقابلةَ عبدٍ بمال، فهذا هو الذي جوز إيقاعه معاوضةً، فإن غمض على الإنسان [جوازُ] (1) مقابلة الطلاق بالمال، فهذا خروج عن مقصود الكتاب [وتشوّفٌ] (2) إلى قاعدة كلية إن أحببنا، اقتصرنا فيها على التعبد، وإن أحببنا، ذكرنا الكلمة الكليّة، وهي [حصولها] (3) إذا أرادت الافتداء على ما يُشعر به قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وسبب جواز إيقاعه على صيغة التعليق أن الطلاق يقبل التعليق، فلا امتناع في تعليقه بمالٍ، وهذا هيّنٌ [و] (4) الألفاظُ المشتركة منزّلة على جواز التمحض في الوجهين. فإن قيل: هلا قلتم: الطلاق لا سبيل إلى الرجوع عنه كيف فرض؟ قلنا: إلى مالك الطلاق التصرف فيه، فإن نجّزه، انتجز، وإن جرد تعليقه، فحكمه امتناع الرجوع، وإن أدرجه في صيغة معاوضة، فكأنه يعلّقه إن لم يرجع، وهذا بمثابة [إفضاء] (5) الكتابة الفاسدة إلى العتق على قاعدة التعليق، ثم الرجوع فيها ممكن؛ لأنها أُثبتت على صيغة يتطرق إليها جوازُ الفسخ، ومالكُ العتق لم يجزم تعليقه، وهذا الفن ليس هو بالعسر. وكل ما ذكرناه في بيان تردد الخلع من جانب الرجل. 8740 - فأما ما ذكرناه من كون الخلع في جانبها معاوضةً نازعةً إلى الجعالة، فإنا نبيّن هذا بالمسائل، فنقول: إذا قالت: "إن طلقتني، فلك ألف" إنما يحتمل

_ (1) في الأصل: جوازه. (2) في الأصل: "وتشوق" ولكن المشهور المعروف في لغة الفقهاء هو (التشوف) بالفاء. (3) في الأصل: "تحصيلها". (4) (الواو) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: اقتضاء.

صيغة التعليق منها على قاعدة الجعالة، تنزيلاً لقولها منزلة قول القائل إن رددت عليّ عبدي الآبق، فلك كذا. وإن قالت: طلقني ثلاثاًً على ألف، فطلقها واحدة، استحق [ثلث الألف] (1). ونفرّق في هذا [بين] (2) جانب الرجل والمرأة؛ فإن الرجل إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاًً بألف، فقالت: قبلت طلقة [بثلث] (3) ألف، لم يقع شيء. وإذا قالت: طلقني ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة، استحق [ثلث الألف] (4)، والفارق أن قوله: أنت طالق ثلاثاًً بألف على صيغة المعاوضة، وهذا يستدعي في جانبها قبولاً على نعت الموافقة، فإذا لم يكن قبولها موافقاً لإيجاب الزوج، كان باطلاً، فكأن لا قبول. فهذا خارج على الأصل المقدّم. وإذا قالت: طلقني ثلاثاًً على ألف، فطلقها واحدة، فثبوت قسطٍ من العوض يخرّج على قاعدة الجعالة؛ فإن من قال: رُدَّ عبيدي الأوابق ولك كذا، فإذا ردّ واحداً منهم، استحق بحصته. 8741 - وإذا قالت امرأتان لزوجهما: طلقنا بألف، فطلق إحداهما، استحق مقداراً من العوض، وفيما يستحقه قولان سبق أصلهما، وسيأتي تفصيلهما في المسائل، إن شاء الله تعالى، وهذا أيضاًًً خارج على قاعدة الجعالة. ثم المرأةُ في جميع الصور تملك الرجوعَ عن قولها قبل صدور الجواب عن الزوج، سواء ذكرت صيغةَ التعليق، فقالت: إن طلقتني، أو ذكرت صيغة الاستدعاء، فقالت: طلقني بألف، وذلك بأنها [إن] (5) استدعت أو علقت، فليس في جانبها إلا بذل العوض، غير أنا نحتمل ما يسوغ في الجعالات من جهة أنها تلتمس

_ (1) في الأصل: ثلاث آلاف. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: بثلثه. (4) في الأصل: ثلثه الألف. (5) زيادة اقتضاها استقامة العبارة.

من زوجها أمراً قابلاً للتعليق [بالأغرار] (1) والأخطار، فاحتمل منها التعليق. وهذا كما ذكرناه في الجعالة، فنا احتملنا فيها صيغة التعليق لاتّصاف المطلوب بالغرر؛ من جهة الجهالة. وهذا تأسيس الكلام في بيان الخلع من جانبها. 8742 - ومما يتصل بهذا أنها لو قالت: متى ما طلقتني فلك ألف، فظاهر لفظها يقتضي التصريح بالزمان الممتد، وقد أوضحنا في جانب الرجل أنه إذا قال: متى أعطيتني ألفاًَ فأنت طالق، فالإعطاء لا يتخصص بالزمان القريب، فلو أعطت على الاتصال أو بعد طول الزمان، وقع الطلاق. وإذا قالت المرأة: متى طلقتني، فلك عليّ ألف، فإن طلقها على الاتصال، استحق العوض، وإن أخر، ثم طلق، لم يستحق العوضَ. وهذا موضع وقوفِ وتأمل من وجوهٍ فنكشف المباحثة عنها: أحدها - أنا جعلنا الخلع في جانبها في معنى الجعالة، والجعالة تقبل ربطَ المقصود بزمان متراخٍ، فإن الرجل إذا قال: إن رددت عليّ عبدي الآبق، فلك دينار، فمهما رد ذلك الإنسان عبدَه، استحق الجُعل المسمى، فلو كان استدعاؤها الطلاق بمثابة الجعالة، وقد صرحت بالتأخير ومدّ الزمان، وأتت بلفظة تُشعر به، لوجب أن يقال: مهما طلق، استحق العوض اعتباراً بالجعالة؟ قلنا: [هذا] (2) سؤال واقع؛ فإن التأخير تطرّق إلى الخلع من جانبها، إذ [قالت:] (3) متى أعطيتني، فكان لا يبعد أن يتطرق التأخير إلى جانبه، إذا كانت هي المستدعية؛ فإن استدعاءها يدور بين طِباع الجعالة والطلاق، وكلاهما قابلان للتأخير؟ وسبيل الجواب عن هذا أن نقول: أما الجعالة، فإنما سوغها الحاجة الماسة إليها، ولا يتأتى فيها تحصيل المقصود على التعجيل، فإنها تُفرض في الأمور

_ (1) في الأصل: "بالأعراز" (ولولا أنه أكد العين برسم عين صغيرة تحتها ما أثبتنا هذا الفرق). (2) في الأصل: وهذا. (3) في الأصل: قال.

المجهولة العسيرة كرد الإباق وغيره، فاستحال اشتراط تعجيل المقصود فيها، وإذا استدعت المرأة الطلاق، فتعجيله ممكن، ولو فرض تأخير الطلاق في زمانٍ منفصل، [لخرج] (1) عن أن يكون متعلقاً باستدعائها؛ فإن الزوج مالكٌ للطلاق مستقلٌ بإيقاعه، والعرف غالب باستقلاله فيه، فهو حري بأن يقع صادراً عن ملك الزوج، ولا يقع عن غير هذه الجهة إلا بارتباطٍ ظاهر، ومن ضرورة فرض الارتباط اتصالُ تعليقه باستدعائها، فإذا انقطع، كان في وقوعه عن جهة الاستقلال كالصريح في نفوذه في بابه، ثم الصريح لا ينصرف عن بابه [بالقصد] (2)، فهذا هو الذي أوجب اتصالَ الطلاق باستدعائها، ليقع مرتبطاً بالمال، والجعالة في هذا الحكم بائنةٌ بعيدةٌ عن الطلاق، وإذا [شبهنا] (3) أصلاً بأصل [لم يُستنكر] (4) افتراقُهما. فهذا نوع من البحث. 8743 - فإن قيل: هلا قلتم: الخلعُ [يفسُد] (5) إذا استدعت الطلاقَ بلفظةٍ مصرِّحة بامتداد الزمان؛ فإن ما ذكرتموه يقتضي أن امتداد الزمان وانفصالَ الطلاق عن استدعائها يُبطل مقصودَ الخلع، وإذا عقد العقد بلفظٍ لا يطابق مقصودَه، وجب الحكمُ بفساده. قلنا: قولها متى طلقتَني فلك ألف، كما (6) ثبت أول الزمان المتصل، فقد أفاد لفظُها التعرضَ للزمان المطلوب، وتضمّن مَهَلاً بعده هو يفسح على الزوج، فاستقل العقد بالوقت المتصل، وبطل ما فيه من مَهَلٍ، وكأنها ذكرت الوقت المطلوب وزادت. فإن قيل: الزيادة فاسدة، فأفسدوا الخلع بها، وقولوا: إذا أجاب الزوج على

_ (1) في الأصل: يخرج. (2) في الأصل: القصد (بدون الباء). (3) في الأصل: أشبهنا. (4) في الأصل: لم تستنكره. (5) في الأصل: يفيد. (6) كما: بمعنى (عندما).

الاتصال، وقعت البينونة، وفسد العوض لفساد لفظ العقد، ثم لا يخفى حكم فساد العوض. قلنا: ما ألزمت المرأة الزوجَ شيئاً حتى يكون ذلك في حكم الشرط، ولم يتحقق منها التزامٌ أيضاًًً، واللفظة التي ذكرتها صالحة للوقت، وما قدّرناه من اقتضاء التعجيل قرينة في تقييد اللفظ، فصح العقد. وهذا هو المنتهى البالغ. وسيأتي تمام شرحه إذا انتهينا إلى هذا الفصل -إن شاء الله تعالى- فإن ما ذكرناه من المسائل بين أيدينا، وإنما ذكرنا تراجمها للتنبيه على القاعدة، فإذا تقررت القاعدة بها، فسنقررها مفصّلة بالقاعدة إذا انتهينا إليها، إن شاء الله تعالى. 8744 - وكل ما ذكرناه في الطلاق على المال متحقق في [العتق] (1) على المال، فالعتق من جانب المولى تعليق ومعاوضة، وهو من جانب المستدعي معاملةٌ نازعة إلى الجعالة، ولسنا نعني بما ذكرناه الكتابة، وإنما نعني قولَ المولى: أعتقتك على كذا، واستدعاءُ العتق من العبد. فأما الكتابة، فلها طِباع آخرُ، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، ولا يمكن أن نحكم عليها بمضاهاة الخلع؛ فإن فاسدها جائز، وفاسد الخلع نافذ إذا لم يجر ما يردّ الطلاق، فيرد المال، وفي الكتابة دون تنجيز العتق مقاصدُ، وهي معاملةٌ برأسها، فالذي يشبَّه بالخلع العتقُ على المال. وقد نجز القول في تمهيد القاعدة التي هي مرجوعُ الباب [وقطبُه] (2). ونحن نخوض بعد ذلك في مسائل الباب -إن شاء الله تعالى- على الترتيب. 8745 - فأول ما ذكره الشافعي التعرض للصلات التي يستعملها الزوج المطلِّق على المال، ثم تتصل به الصلات التي تستعملها المرأة في استدعاء الطلاق. إذا قالت المرأة: طلقني بألف أو على ألف. فقال الزوج: "طلقتك"، أو "أنت طالق"، على الاتصال المرعي، فالطلاق يقع، ويثبت العوض المسمى على

_ (1) في الأصل: العين. (2) في الأصل: "وقطبها".

الصحة، ولا حاجة إلى أن يذكر الزوج المال ويعيدَه، بل يكفي اتصال طلاقه بالتماسها. وإذا قال الرجل: بعتك عبدي هذا بألفٍ، فقال المخاطب: قبلت، أو اشتريت، كفى ذلك، وانعقد البيع، وإن لم يتفق إعادةُ العوض. ويتصل بهذا الطرف أن الزوج لو قال: طلقتها ابتداءً، ولم أقصد جوابَها، وقد يستفيد بذلك الرجعةَ، ونفيَ البينونة، فالوجه تصديقُه؛ فإنه مستقل بالتطليق، وقوله مستقل بالإفادة، وليس كما لو قال القائل للرجل: أطلقتَ امرأتَك؟ فقال: نعم؛ فإنا نجعل ذلك على ظاهر المذهب إقراراً بالطلاق؛ لأن قوله نعم ليس بمفيدٍ على استقلاله، وإنما يفيد بتقدير بنائه على السؤال، وإذا قال: بعتُ منك عبدي هذا بألفٍ، فقال: اشتريت، ثم زعم أنه لم يقصد جواب المخاطَب، فهذا فيه احتمال؛ من قِبل أن قوله ليس [بمستقلٍّ] (1) في الإفادة، وليس كقول الزوج طلقتك؛ فإنه [مستقلٌّ] (2) دون تقدم ستدعائِها. ولو قالت المرأة: لم تقصد إجابتي، لم يُقبل قولها؛ فإنا لا نشترط قصدَه في الإجابة، بل نشترط ألا يقصد الابتداء، ولا يمتنع أن يقال: لا بد من قصده، حتى لو فرض وقوعُ قوله وفاقاً -من غير ربطٍ بما سبق منها - يقع الطلاق رجعياً؛ فإن التواصل بين الكلام المستقل والاستدعاء إنما يحصل بقصد التواصل. فتحصّل مما ذكرناه أنه إذا وصل الطلاقَ باستدعائها، وزعم أنه قصد إسعافها وبناءَ الجواب على التماسها، صح، وانتظم الخلع. وإن قال: قصدتُ ابتداءَ التطليق، صُدّق؛ فإن اتّهم حُلّف؛ لأنه [يبغي] (3) نفيَ البينونة، وإن اتفق إطلاقُ اللفظِ من غير قصدٍ في الربط -وفي تصويره عُسْر - فالظاهر أنه محمول على الابتداء، وسيأتي في ذلك نظائرُ في مسائل الطلاق، إن شاء الله.

_ (1) في الأصل: بمستقبل. (2) في الأصل: مستقبل. (3) في الأصل: ينغي.

8746 - ولو قالت: طلقني، ولك ألف، فطلقها، ثبت العوض. هذا ظاهر ذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة (1): لا يثبت العوض بهذه الصيغة؛ فإن قولها: [ولك ألف] (2) إخبارٌ، وليس التزاماً بخلاف قولها: طلقني بألفٍ، أو على ألف، المسألة مشهورة معه. وكذلك إذا قالت: طلقني ولك عليّ ألف، فمذهبنا ما ذكرناه. وذكر القاضي في أثناء المسائل وجهاً خرجه من تلقاء نفسه أن هذا لا يكون التزاماً لمال، ثم نظم وجهين: أحدهما - أن المال يثبت، لأن العرف جارٍ باستعمال هذا للفظ على إرادة التزام المال، فقرائنُ المال شاهدةٌ، والغرض من قيود الألفاظ قرائنها الإفهام بها. وقال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72] وهذا جرى ي تسمية أجرةٍ أو جعالة في القصة المشهورة. والوجه الثاني - أن المال لا يثبت بهذه الصلة؛ لأنها ابتداءٌ وليست بناءً على لفظٍ صرِّح به في اقتضاء الإلزام والالتزام، ثم اللفظ الواقعُ ابتداءً صريحٌ في [العلّة] (3) هذا الذي ذكره وإن [أمكن] (4) توجيهه، فهو مخالف للنص وما عليه الأصحاب، ثم لظن به أنه لا يطرده فيه إذا قالت: طلقني، ولك عليّ ألف، والعلم عند الله تعالى. هذا قولنا في الألفاظ التي تصدر من المرأة المستدعية للطلاق. 8747 - فأما الرجل إذا ابتدأ وقال: طلقتك بألف، أو قال: طلقتك على ألف، قوله يستدعي المال، فإن قبلته، قُضي بثبوت البينونة، وإن لم تُجب، ولم تلتزم لمال [لم] (5) يقع الطلاق. ولو قال الرجل ابتداءً: طلقتك، أو أنت طالق، ولي عليك ألف، فهذه المسألة

_ (1) ر. المبسوط: 6/ 180، البدائع: 3/ 152. (2) في الأصل: "ولك علي ألف". وهذه الصورة ستأتي بعد سطور. (3) في الأصل: العدّة. (4) في الأصل: "أصلن" بهذا الرسم تماماً. (5) في الأصل: ولم.

ذكرتُها في أثناء الباب، وأنا أرى ذِكْرَها في هذا المقام، حتى ينتظم الكلام في الصّلات التي تصدر منها ومنه جميعاًً. قال الشافعي: "إذا قال الزوج: طلقتك ولي عليك ألف، وقع الطلاق رجعياً، وكان كما لو قال: طلقتك وعليك حج". وتعليل ما ذكره بعد العلم بأنه متفق عليه بين الأصحاب - أن قوله: "طلقتك" [مستقلٌّ] (1) في إيقاع الفراق، فلا يتعلق بشرط وعوضٍ إلا بصلة تُشعر بربط الطلاق إشعاراً صريحاً، وإذا قال: "طلقتك ولي عليك ألف" [فهو] (2) صريح في الإخبار، ولا يمتنع أن يقال: طلَّق، ونجّز، وأخبر (3). فإن قيل: إذا قالت: طلِّقني ولك ألف، فلا يمتنع أيضاًًً حملُ قولها على الإخبار، قلنا: نعم هو كذلك، ولهذا اتجه تخريج القاضي، كما قدمنا ذكرّه، وإن أردنا فرضاً، لم نعدمه؛ فإن استدعاء الطلاق ليس كلاماً نافذاً، وإذا اقترن بذكر المال، أفاد المجموعُ استدعاء الطلاق بالمال، وإذا قال الرجل: طلقتك، فهذا ْمستقل في تقيّد (4) الطلاق على الإطلاق، فلا يرتبط إلا بلفظ صريح. ويتجه أن يقال: قول المرأة: "طلقني" وإن [كان لا يلزمُ به طلاقٌ] (5)، فهو صريح في استدعاء الطلاق، فلا يتعلق إلا بصلة متصلة تقع صريحاً في اقتضاء الربط. 8748 - ومما يتصل بهذا أن الزوج لو قال بعد صدور الصلة التي وصفناها: أردت بقولي: "وعليكِ ألف" اشتراطَ الألف، وكان مرادي بقولي وعليكِ ألف ما يريده القائل بقوله: "أنت طالق بألف"، فهذا لا يقبل منه في ظاهر الأمر، هكذا قال شيخي وأئمة المذهب.

_ (1) في الأصل: مستقبل. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) قوله: طلق، ونجز، وأخبر: معناه أنه يمكن أن يقال تفسيراً لقوله: "طلقتك، ولي عليك ألف" إنه طلق ونجز الطلاق، وأخبر بما له عليها. (4) تقيّد الطلاق على الإطلاق: أي وقوعه مطلقاً من غير مال. (5) في الأصل: "وإن كان لا ـه" كذا بهذا الرسم. والمثبت تقدير منا. وعبارة العز بن عبد السلام: "بخلاف سؤالها؛ فإنه لا يفيد شيئاً بمجرده" (ر. الغاية: ج3 لوحة 117 ش).

ووجدت لأصحابنا تردداً فيه إذا توافقا على أنه أراد ذلك، فمنهم من قال: لا أثر للتوافق، والطلاق [رجعي] (1) بعد قوله: "طلقتك"، وقوله بعد ذلك: "ولي عليك ألف" صلةٌ لا تصلح للتعليق والربط، فهو كما لو قال: "طلقتك فاستعيني" (2) ثم زعم أنه أراد بذلك أمراً يخالف الحكم بوقوع الطلاق، [فلا] (3) أثر لقوله، والطلاقُ نافذ. ومن أصحابنا [من قال:] (4) إذا توافقا، كان الطلاق واقعاً بالمال؛ فإن قول القائل " وعليك ألف " لا ينحطّ عن الكنايات في اقتضاء العوض، وللقائل الأول أن يقول: لو كان كذلك، لصُدِّق الرجل وحده، لأنه قال محتمَلاً، ويجوز أن يجاب عنه بأن هذه الكناية يعارضها التصريح بالطلاق [المستقل] (5) والأصل تنفيذه على [الاستقلال] (6). ويتفرّع على ما ذكرناه أن الرجل لو ادّعى أنه عنى بالصلة التي ذكرها المالَ وإلزامَه، فأنكرت المرأة ذلك، فإن قلنا: لو تصادقا عليه، تعلق الطلاق بالمال، فالقول الآن قول الزوجة؛ فإن الأصل والظاهر معها، وللزوج أن يحلّفها على [نفي] (7) العلم: لا تدري أن الزوج أراد ربطَ الطلاق بالمال. وإن قلنا: لو تصادقا، [لم] (8) يتعلق الطلاق بالمال، فلا حكم للاختلاف، [والحكم أن الطلاق لا يتصور تعلُّقُه وارتباطه مع هذه الصّلة. وهذا إنما ذكرناه فيه إذا قال الزوج: أنت طالق وعليك ألف. 8749 - فأما إذا قال: أنت طالق على أن لي عليك ألفاًً، قال صاحب التلخيص:

_ (1) في الأصل: الرجعي. (2) فاستعيني. كذا قرأناها بصعوبة. (3) في الأصل: ولا. (4) زيادة من المحقق، لاستقامة الكلام. (5) في الأصل: المستقبل. (6) في الأصل: الاستقبال. (7) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (8) في الأصل: فلم.

" هذا شرط والصيغة مشعرةٌ به " ونقول له؛ ماذا أردت بهذا؟] (1) فإن زعم أنه أراد بذلك اشتراط ضمان الألف عليها حتى كأنه قال: أنت طالق إن ضمنت لي ألفاًً، وتفصيل ذلك يأتي على الاستقصاء من بعدُ، إن شاء الله تعالى. قال صاحب التقريب: إذا فسر هذا اللفظَ بهذا، قُبل منه؛ فإنه زاد على الصلة الأولى صلةً رابطةً إذا (2) قال: على أن لي عليكِ ألفاًً، وليس كما لو اقتصر، فقال: طلقتك ولي عليك ألف، وذلك أنه لو اقتصر، فذلك إخبار بعد تطليق، وإذا قال: طلقتك على أن لي عليك ألف، فهذا شرط بعد التطليق، فإذا استعقب الطلاقُ شرطاً، صار الطلاق

_ (1) هنا أمورٌ عدة بيانها كالآتي: أ - عبارة الأصل مضطربة مختلة فقد جاءت هكذا: "والحكم أن الطلاق لا يتصوّر تعلّقه وارتباطه مع هذه الصلة، وقد ذكر صاحب التخليص على الاتصال. فهذا إنما ذكرناه فيه إذا قال الزوج: أنت طالق وعليك ألف، فلو قال: أنت طالق على أن لي عليك ألفاًً فنقول له: ماذا أردت بهذا" هكذا كانت العبارة، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء عبارة الغزالي في البسيط 4 لوحة: 119 ش. ب- جاء في الأصل: صاحب التخليص. وليس في كتب الشافعية التي جاءت في طبقات السبكي، وطبقات الإسنوي كتاب بهذا الاسم. فهو إذاً محرّف عن (التلخيص) لابن القاص، وهو الذي يذكره الإمام في هذا الكتاب، وتكرر مراراً منها أربع عشرة مرة في كتاب الطهارة. ج- لم نجد في التلخيص الذي بين أيدينا هذا الكلام الذي أشار إليه الإمام، وحكاه الغزالي، فهل هو وهمٌ في النهاية أم خلل من الناسخ، وتبعه الغزالي؟ أم أن في نسخة التلخيص التي بين أيدينا سقطاً؟ أم أنه في موضع آخر من الكتاب لم نصل إليه؟ والعلم عند الله. د- مقتضى قول صاحب التلخيص: "هذا شرط والصيغة مشعرة به" أن الطلاق يقع رجعياً، ولا مال، ويلغو الشرط. وهو ما اختاره الغزالي في الوجيز مصرحاً به، كما في الوسيط أيضاًًً. هـ- المعتمد في المذهب أنه يقع بهذا طلاق بائن ويلزم المال إذا قبلت. هذا ما حكاه العراقيون عن النص في الأم. وأودعه أبو بكر الفارسي في عيون المسائل، وقطع به صاحب المهذب وسائر العراقيين (ر. الشرح الكبير: 8/ 434، والروضة: 7/ 405). إذا قال: هي بمعنى "إذ". وهو تعبير صحيح وعليه شواهد من النثر والشعر أكدنا ذلك من قبل أكثر من مرة.

مشروطاً بالشرط الذي استعقبه، ثم قال صاحب التقريب: إن فسر بالضمان، قُبل، كما ذكرنا. وإن قال: لم أرد تعليق [الطلاق] (1) بضمانها، ولكن أردت تعليق [الطلاق] (2) بالتزامها وقبولها، وأحللتُ قولي على أن لي عليك ألفاً محل قولي: أنت طالق بألف، أو على ألف. قال صاحب التقريب: لا يقبل هذا التفسير منه. وفي كلام غيره من الأصحاب ما يدل على أن تفسيره بما ذكره مقبول. فانتظم منه [أنه] (3) لو فسره [بتعليق] (4) الطلاق بالضمان، قُبل منه، ولو فسره بتعليق الطلاق بقبول المال في الحال، ففيه الخلاف والتردد الذي ذكرناه عن صاحب التقريب وغيره. ثم إذا فَسَّرَ بالضمان وقبلناه وفاقاً، [فلتعليق] (5) الطلاق بضمان المال صيغتان: إحداهما - أن يقول: "أنت طالق إن ضمنت لي ألفاًً"، والصيغة الأخرى أن يقول: "متى ضمنت لي ألفاً". فإن قال: "إن ضمنت لي ألفاً"، كان ذلك محمولاً على الفور، وإن قال: "متى ضمنت"، كان على التراخي، على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله عز وجل. فإن قال: أنت طالق على أن لي عليك ألفاًً، فهذا متردد بين قوله: إن ضمنت، [وقوله متى ضمنت] (6) ولعل جملة نقلي (7) ما يقتضي الفور أشبه. وهذا منتهى الكلام في الصلات التي يستعملها الزوجان في ذكر المال استدعاءً وابتداء. 8750 - ومما يتعلق بهذا المنتهى أن الرجل إذا قال: بعني عبدك بألف، فهذا

_ (1) في الأصل: الضمان. (2) في الأصل: الإطلاق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: يتعلق. (5) في الأصل: فتعليق. (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) جملة نقلي: يريد أن معظم ما نقله عن أئمة المذهب أقرب إلى اقتضاء الفور.

صحيح صالح لعقد البيع. ولو قال: بعني عبدك على ألف درهم، صح. ولو قال بعني عبدك [ولك علي] (1) ألف درهم، فقد ذكر القاضي فيه وجهين: أحدهما - أنه يصح كما يصح ذكر المال بهذه الصلة من التي تستدعي الطلاق. والوجه الثاني - أنه لا يصح، لأن الخلع على الجملة يَقْبل من التوسع ما لا يقبله البيع، ولهذا يصح الاستدعاء فيه بلفظ التعليق، وذلك إذا قالت: إن طلقتني، فلك ألف. ولو قال المستام: إن بعتني عبدَك، فلك ألف، لم يصح. فصل قال: "ولو قالت له: اخلعني، أو بتّني، أو أبنِّي، أو ابرأ مني، أو بارئني، ولك عليّ ألف ... إلى آخره" (2). 8751 - ذكر الشافعي هذه الألفاظَ وهي كناياتٌ في الطلاق، وقرنها بذكر المال، وأجراها على حكم الكناية، وتصرف في تفاصيل القول في [النيات] (3)، كانت أو انتفت، كما سنصف، وهذا يدلّ من نصه على أن الخلع لا يصير صريحاً بقرينةٍ من المال. وقد ذكرنا عن بعض الأصحاب طريقة في أن الخلع يلتحق بالصرائح على أحد القولين بقرينة المال. وهذه الطريقة تخالف النصَّ، فليقع التفريع على أنها كنايات. ثم قال صاحب التقريب: إذا قلنا: الخلع طلاق، فنجعل هذه الألفاظ كنايات وإن اقترنت بذكر المال، على المسلك الصحيح الموافق للنص. وإذا قلنا: إن الخلع فسخ، فإذا جرت هذه الألفاظ مقرونةً بذكر المال، فهل تكون صريحةً في الفسخ، أو كناية؟ فعلى وجهين.

_ (1) في الأصل: "ولي عليك" وهو خطأ واضح يخالف السياق والسباق. (2) ر. المختصر: 4/ 57. هذا وقد كانت العبارة في الأصل هكذا: "ولو قالت له: أو بني، أو أبني، أو ابرأني، أو بارئني" والمثبت من نص عبارة المختصر. وتمام العبارة: "وهي تريد الطلاق، وطلّقها، فلها ما سمّت". (3) في الأصل: "البيان ".

وهذا بعيدٌ. والطريقةُ المذكورة على الصحة أن هذه الألفاظَ كناياتٌ في الطلاق على قول الطلاق، وفي الفسخ على قول الفسخ؛ [والوجه] (1) الآخر الذي ذكره صاحب التقريب وجهٌ [ليس] (2) به مبالاة إلا أن يقول القائل: الكلامُ في الألفاظ [في] (3) الفسخ أوسع؛ ولذلك قطعنا بأن لفظ الخلع صريح في الفسخ، وإن جعلنا المسألة على قولين في أنها هل تكون صريحاً في الطلاق إذا قلنا: الخلع طلاق. وهذا مما لا يعتد به، ولكن صرح صاحب التقريب بنقله، ولم يقله من تلقاء نفسه. 8752 - فنعود إلى تفصيل الكنايات مع ذكر المال -والتفريعُ على قول الطلاق، والتفريعات التي سنذكرها في الألفاظ التي رسمناها - بمتابعة التفريع في لفظ الخلع على قول الطلاق، مع المصير، إلى أنه كناية، فنقول: إن نويا الطلاق، [وقع] (4) الطلاق ولزم المال، وإن لم ينويا، لغا اللفظُ، النكاح قائم. وإن نوت المرأة استدعاء الطلاق، ولم ينو الرجل بلفظه الطلاقَ، لغا اللفظ؛ فإن المتبع [في] (5) إنشاء الطلاق وقَصْدِه الزوجُ. ولو نوى الرجل الطلاقَ ولم تنوِ المرأةُ الطلاقَ في استدعائها، ينظر: فإن كانت قالت: خالعني على ألف، وقال الرجل: خالعتك على ألفٍ، فجرى ذكر البدل من الجانبين، وقد نوى الرجل الطلاق، ولم تنو المرأة استدعاء الطلاق، فالجواب في المسألة أنه لا يقع شيء؛ فإن الرجل صرح بذكر المال، ثم لا سبيل إلى القضاء بثبوت المال إذا لم تنو المرأة استدعاء الطلاق، وإذا لم يثبت -لما ذكرنا - لم يقع الطلاق المرتبط به. فإن قيل: هلا نزّلتم هذا منزلة ما لو خالع الرجل امرأته السفيهة المحجورة؛ فإن

_ (1) في الأصل: للوجه. (2) زيادة من المحقق على ضوء السياق. (3) مزيدة لاستقامة الكلام. (4) في الأصل: ووقع. (5) في الأصل: من.

الطلاق يقع عندكم رجعياً، ويتعلق وقوعه بصورة القبول من المرأة، وإن كان المال لا يلزم؟ فاحكموا بأنها إذا قبلت المال في مسألتنا [بوقوع] (1) الطلاق رجعياً متعلقاً بصورة [قبولها] (2). قلنا: لا سواء؛ فإن المرأة إذا كانت من أهل الالتزام، فالطلاق معلَّق بوقوع الالتزام منها، فإذا لم تنو، لم تلتزم، وسنتكلم في المحجورة بما يشفي الغليل، إن شاء الله. 8753 - وإن قالت الزوجة: خالعني على ألف، ولم تَنْوِ استدعاءَ الطلاق، فقال الرجل: خالعتُك، ولم يذكر المال، غيرَ أنه نوى الطلاقَ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع به شيء؛ لأنه جواب لسؤالها، وهو مرتب عليها، وهي قد ذكرت المال صريحاً، ولكن امتنع حصول المال؛ لأنها لم تَنْوِ ربطَ التزامها بالطلاق، ولا ارتباط للزومٍ إلا بجهة الطلاق، وإذا لم يلزم المال، فقول الزوج مشروط في قرينة الحال بثبوت المال، وإذا لم يثبت السبب الذي قدمناه، لم يقع شيء. وهذا أقيسُ الوجهين. ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق الرجعي، وينقطع قولُها عن قوله؛ بسبب أنها لم تلتزم المال على الصحة، والزوج في لفظه لم يذكر المال أيضاًً، وكلامه مع النية [مستقلٌّ] (3) في اقتضاءٍ الطلاق، وليس كما لو أعاد الرجل المال؛ فإن هذا لو فرض الابتداء به، لم يقع به الطلاق من غير فرض جواب. وهذا كلام مزخرف (4)؛ فإن الحال في اقتضاء المال من جهة بناء قوله على قولها بمثابة تصريحه بذكر المال. وقد يرد على هذا أيضاًًً أن الرجل يقول: قَوْلي: "خالعتك" لا [يقع] (5) به الطلاق من غير نية؛ فإنا نفرع على أنها كناية، وأنا ما نويت الطلاق على الإطلاق؛

_ (1) في الأصل: يوقع. (2) في الأصل: قبلها. (3) في الأصل: بمستقل. (4) في مختصر ابن أبي عصرون: "منحرف" ويبدو أنها هي الصواب. (5) في الأصل: لا يقطع.

إنما نويته مقيّداً بثبوت المال، وهذا يُحْوِج إلى نوعٍ من البحث. وإذا قال الرجل لامرأته: أنت بائن، ثم زعم أنه أضمر بقلبه تعليق الطلاق بصفة، كدخول الدار ونحوه، فالأصح أنه مدين فيما بينه وبين الله تعالى، كما سنذكره في مسائل الطلاق -إن شاء الله عز وجل- ولكن لا يقبل قوله باتفاق الأصحاب ظاهراً، وإنما ذلك الذي قدمناه في حكم الباطن والتديين. فأما إذا قال: أنت بائن، وزعم أنه نوى طلاقاًً معلّقاً بصفةٍ، فهذه المسألة فيها تردد بين فحوى كللام الأصحاب: يجوز أن يقال: يُحكَمُ بوقوع الطلاق ظاهراً، كما لو صرح بالطلاق، وزعم أنه أضمر التعليق؛ فإن الكناية مع نية الطلاق بمثابة صريح الطلاق، وقد ألحقتها النية بالصريح، ثم إنه أضمر وراء ذلك تعليقاً، فكان حكمه أن يُدَيَّنَ. ويجوز أن يقال: لا يحكم بوقوع الطلاق ظاهراً؛ فإن النية ليست جازمة، ْواللفظة ليست مستقلة، فقد اعترف بنية مضطربة، فلا نحكم بوقوع الطلاق. عُدْنا إلى المسألة التي كنا فيها: إذا لم يُعدِ الزوجُ ذكرَ المال، [فالوجه] (1) هاهنا ألاّ نحكم بوقوع الطلاق؛ لما بين قوله وقولها من الارتباط. ولكن ذكر القاضي فيه وجهين، وصحح ما لا يصح عندنا غيره. هذا إذا ذكرت امرأة المال في استدعائها، وأعاد الزوج المال، أو لم يُعده. 8754 - فأما إذا قالت: خالعني، ولم تذكر مالاً، ولم تنو الطلاق، فقال الزوج: خالعتك، وزعم أنه نوى الطلاق، فأحسنُ مسلك في هذا أن نقول: أختلف أصحابنا في أن التخالع المعرَّى عن ذكر العوض هل يقتضي المالية؟ وقد ذكرناه وبيّناه على نظائرَ له. فإن قلنا: التخالع مقتضاه المال، وإن لم يجر فيه ذكرُه، فهو كما لو ذكرت المال. وقد مضى التفصيل فيه. وإذا قلنا: مطلق التخالع لا يقتضي المال، وهي لم تَنْوِ طلبَ الطلاق، والزوج نواه، فالظاهر هاهنا يقع. فإن قيل: ألستم ذكرتم خلافاً في أن التخالع إذا عري عن ذكر العوض، ونوى الزوج الطلاق، فهل يفتقر ذلك إلى قبولها، وإن كان المال

_ (1) في الأصل: والوجه.

لا يثبت؟ قلنا: ذاك ذكرناه وسردنا نَظْمَه على أحسن وجه، وهذه المسألة تخالف تيك؛ فإنا فرضنا الأولى فيه إذا ابتدأ الزوج، وقال: خالعتك، وهذه المسألة التي نحن فيها مصوّرة فيه إذا استدعت المخالعة، فأجابها الزوج، فالاستدعاء ينزل منزلةَ القبول المتأخر عن الإيجاب. فمن [جمع] (1) ما ذكرناه إلى ما قدمناه، اتسق له من المجموع ترتيبٌ يحوي المقصود. وقد كنت أحلت في التفريع على قولي الفسخ والطلاق تمامَ البيان فيما يتعلق بالنيات على هذا الفصل، وقد وقع الوفاء به. فصل 8755 - إذا قالت المرأة: طلقني بألف، فقال: "أبنتك"، أو أتى بكناية أخرى، وزعم أنه نوى الطلاق؛ فالذي قطع به المراوزة: أنه يستحق المال؛ فإن الكناية مع النية بمثابة الصريح، وحكى العراقيون عن ابن خَيْران أنه قال: لا يقع الطلاق؛ من جهة أنها قد تقصد أن يطلقها صريحاً؛ إذ الرجوع في الكناية إلى نية الزوج، وهو بين أن يَصدُق بالإخبار عنها أو يَكذب، [وللأصحاب] (2) أن يقولوا إذا كان مؤاخذاً بإقراره ظاهراً، فلا تعويل على قصدها ومرادها. ولو صرح الرجل بالطلاق، تطرق إليه إضمار ما لو صدق فيه لم يقع الطلاق، وهي الإضمارات التي تنبني عليها مسائل التدبير. فصل قال الشافعي: "ولو قالت له: أخلعني على ألف، كانت له الألف ما لم يتناكرا ... إلى آخره" (3). 8756 - وهذه لفظة مبهمةٌ، يُلغَز بأمثالها، وما كان من حق المزني أن يودعها

_ (1) في الأصل: جميع. (2) في الأصل: فللأصحاب. (3) ر. المختصر: 4/ 57. وفي الأصل: "ولم يتناكرا" والتصويب من نص المختصر.

كذلك في (السواد) (1)؛ فإن التصانيف إن بنيت على [البسط، اتسع] (2) فيها الكلام تكريراً، وتقريراً، وتحريراً. وإن بنيت على الإيجاز، اعتمد الموجِز أقصر لفظةٍ عن المعنى المطلوب، وجعلها ناصّةً عليه من غير قصور ولا ازدياد، وهو الكلام البليغ، فأما التعبير عن المعاني المشكلة بالمجملات، فغير ذلك أجمل بالمزني. [ومَحْمل] (3) كلامه، ووجه تسويغه أن يقال: قد بناه على ما تقدم، وقد أبان فيما سبق [صريحَ] (4) الخلع استدعاءً وجواباً، وابتداءً بالإيجاب [أو] (5) القبول، فكان قوله في هذه المسألة محالاً على ما تقدم من تصوير شِقي الخلع، وفرض التناكر بعده مهمٌّ. 8757 - إن أصحابنا اختلفوا في تفسير قوله: "ما لم يتناكرا" قال قائلون: معناه وقع الطلاق ما لم يتناكرا النية: إذا زعم الزوج أنه لم ينو، وادعت المرأة أنك نويت، فالقول قول الزوج مع يمينه. وقد تجري صورةٌ [تُنكر] (6) المرأة فيها النيةَ، فلا تلتزم المال، ولا يقع الطلاق، كما تقدم التصوير فيه. فإذا فرض هذا، فالقول قول المرأة مع يمينها، وفائدة حلفها أن تدفع [التزام] (7) المالِ عن نفسها. فالذي قطع به الأصحاب أنها إذا حلفت، فلا مال عليها [لا] (8) المسمّى، ولا ما يرجع من المسمى إليه (9). غير أن الزوج أقر بالبينونة؛ إذ نوى وادعى أنها نوت، فكان مؤاخذاً بإقراره.

_ (1) السواد: هو المختصر. كما هو واضح، وقد تكرر ذلك مراراً. (2) في الأصل: البسيط اتسعت. (3) في الأصل: ويحمل. (4) في الأصل: تصريح. (5) في الأصل: والقبول. (6) في الأصل: منكر. (7) زيادة لاستقامة العبارة. (8) في الأصل: إلا. (9) "ولا ما يرجع من المسمى إليه": المراد الشطر الذي يرجع إليه من المسمى إذا كان ذلك قبل المسيس.

هذا بيان هذه المسألة، ولتكن على الحفظ؛ فإن بين أيدينا مسألةً تكاد تخالف هذه. وإذا انتهينا [إليها] (1) استفرغنا الفكر في الفرق والجمع، إن شاء الله عز وجل. ثم من حمل كلام الشافعي على هذا المحمل، أو على المحمل الأول في اختلاف [النِّيّتين] (2) صرف الاستثناءَ في قوله: ما لم يتناكرا إلى وقوع الفراق. وإن صُورت [على] (3) إنكار المرأة النية، فالفراق واقع بحكم الإقرار، والاستثناء في قوله ما لم يتناكرا راجع إلى الألف، والتأويل في هذه الصورة أوقع؛ فإنه قال: كانت له الألف ما لم يتناكرا، فاقتضى اتصال الاستثناء بالألف رجوعَه إليه. هذا مسلك الأصحاب. 8758 - وقيل معنى قوله: "ما لم يتناكرا" أن الخلع يثبت والمال يلزم، إلا أن يرجع الرجل عن إيجابه قبل قبولها إن كان المبتدىءَ بالإيجاب، أو ترجع المرأة عن استدعائها قبل الإسعاف إن كانت هي المبتدئة. وحظ الفقيه من هذا الفصل ما ذكرناه من أن الرجوع ممكن إذا جرت صيغة العقد من الزوج، ولم يأت بتعليق صريح، والمرأة ترجع عن استدعائها على أي وجه فرضت صيغة كلامها. ويتصل بهذا الطرف أنهما لو [تخالفا] (4) على التواصل المعتبر ظاهراً، ثم قال الزوج: قد رجعتُ قبل قبولها، فهل يُقبل قوله؟ الذي نراه [القطعُ بأنه] (5) لا يقبل قوله، فإن صورة قوله مع صورة العقد جرت، وادعى الزوج - بعد جريانها - ما يتعقب العقد بالإفساد، فكان كما لو وكل وكيلاً بعقد، ثم نفذ الوكيل العقد، فادعى الموكِّل أني كنت عزلتك قبل أن عقدتَ، فهذا لا يُقبل بعد جريان ظاهر العقد من الوكيل. فإن ادعى علمها بالرجوع، حلّفها. وما ذكرناه في هذا الطرف يجري في

_ (1) في الأصل: إليه. (2) في الأصل: البينتين. (3) في الأصل: عليه. (4) في الأصل: تحالفا. (5) في الأصل: القطع به أن.

جانبها (1). وفائدة إجرائه إلزامُه المالَ المسمّى في ظاهر الأمر، كما ذكرناه. ومن أصحابنا من قال: معنى قوله: "ما لم يتناكرا": ما لم [يتخالفا] (2) في المسمى مقداراً أو جنساً. وهذا ظاهر كلامه؛ فإنه تعرض للمسمى وثبوته، ثم ذكر التناكر، ثم لم يستتم جواب المسألة، وتمامُ الجواب أنهما يتحالفان، ثم الرجوع إلى مهر المثل، والإخلال بتمام البيان محمول على ظهوره. هذا هو الممكن فيه. فصل "وإن قالت: على ألفٍ ضمنها لك غيري، أو على ألف فَلْسٍ ... إلى آخره" (3). 8759 - هذا الفصل يستدعي تقديمَ [أكثرَ من] (4) أصلٍ، والتعرضَ لبيان أطرافها، وإذا أجريناها إلى منتهى الغرض، انعطفنا على (السواد) (5) وما فيه. الأصل الأول في بيان اختلاف الزوجين في تواجب العقد في جنس المسمّى ومقداره، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق على ألف درهم، فقالت: قبلت [على] (6) ألف فَلْسٍ، فيلغو الخلع، والنكاحُ قائم؛ فنّ شرط انعقاده التوافقُ في الاستيجاب والإيجاب، أو في الإيجاب [والقبول] (7)، فإذا اختلفا، فلا تعاقد، وكلام كل واحد منهما في حكم ابتداء الكلام، لا تعلق له بما قبله وبعده، وسنبين الآن أنها إذا أطالت فصلاً زمانياً بين إيجابه وقبولها، لم نقض بثبوت الخلع أصلاً؛ لما في إطالة الفصل من الإشعار بالإعراض، مع أنا لا نبعد تخلل الفاصل بعذر، فإذا كان نظام العقد ينقطع بما ذكرناه، فكيف يلتئم ولا تعلّق لأحد الكلامين بالثاني.

_ (1) أي: أنها تحلِّفه إذا رجعت قبل قبوله، وادعت علمه برجوعها. (2) في الأصل: يتحالفا. (3) ر. المختصر:4/ 57. (4) زيادة من المحقق اقتضاها عود الضمير الآتي في الجملة، وستجد فعلاً أكثر من أصل. (5) السواد: هو مختصر المزني كما ذكرنا ذلك مراراً. (6) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (7) زيادة لاستقامة العبارة.

والآن إذا انتهى الكلام إلى رعاية التواصل، فهو مذكور في الفصل الذي يعقب هذا إن شاء الله تعالى. 8760 - ومما يتعلق بهذا الفصل، وهو مَزِلّةٌ اضطرب فيها الطرقُ، وحقٌّ على من يبغي دَرْك الغايات أن يَصرف الاهتمامَ إليه. والوجهُ فيه أن نذكر [طرق] (1) الأصحاب طريقةً طريقةً، وننقل ما قالوه على ثَبَتٍ، ثم ننعطف، فنبدي ما فيه من الإشكال، ونبيّن على الاتصال ما يُنتج الإشكال، ثم نرجع رجعة أخرى، ونوضّح أن ما ذكرناه، وإن كان قياساً، [فهو] (2) مائل عمّا قال الأئمة بعض الميل، ثم نذكر وراء ذلك الممكنَ في توجيه ما نقلناه. فلتقع البداية بتصور ما نريد، والتصوير مختلف أيضاًًً، والذي نقل عن القاضي أن الرجل إذا قال لامرأته: "أنت طالق على ألف"، ولم يتعرض للجنس المعدود بها، وقالت المرأة: "اختلعت على ألف" ولم توضح أيضاًً الجنسَ، ثم قال الرجل: عنيتُ به الدراهم، وأنتِ تعلمين ذلك، وقالت المرأة: عنيتُ به الفلوس وأنتَ تعلم أني عنيت بذكر الألف الفلوسَ، قال القاضي فيما نَقَل عنه من أثق به: يتحالفان، والرجوع إلى مهر المثل. ووجهُ الإشكال فيما قال أنه فرض العقدَ معقوداً بألف مرسلة، ثم أخذ يدير التنازع على ما صورنا، وبنى عليه التحالف. وهذا في نهاية الإشكال؛ فإن إطلاق الألف حقُّه أن يفسد العقد، حتى يلزمَ الرجوع إلى مهر المثل، ولا أثر للتنازع، وموجَبُ هذا القياسِ البيّنِ أنهما وإن تطابقا على إرادة الدراهمِ بالألف المطلق، فالعقد لا ينعقد على الصحة، و [تحصل] (3) البينونة، فيقع الرجوع إلى مهر المثل؛ فإن العقود لا تعتمد في إبانة أعواضها النيّات، وإنما النظر في الإعلام والجهالة إلى صيغ الألفاظ لا غير، واللفظ مجملٌ مرسل في صورة المسألة.

_ (1) في الأصل: طريقة. (2) في الأصل: وهو. (3) زيادة اقتضاها السياق.

وذكر العراقيون مسلكاً آخر وغيروه قليلاً عما حكيناه عن القاضي، فقالوا: إذا قال الرجل: خالعتك على ألف درهم، ولم يكن في البلد نقد مطرد في الجريان؛ بل كانت فيه نقودٌ مختلفة، قالوا: إن اتفقا على أنهما قصدا ألفاًً معلومة من صنوف الدراهم، وتوافقا، فيصح الخلع، وذكر القاضي في الألف المرسلة مثلَ ذلك، إذا فرض التوافق على الجنس، ثم بنى العراقيون على ما قدروا من التصادق، فقالوا: لو أطلقا ألف درهم، ثم اختلفا، فذكر كل واحد منهم جنساً وصنفاً أنكره الثاني، فهل يتحالفان؟ قالوا: في المسألة وجهان: أحدهما - أنهما [لا] (1) يتحالفان؛ فإن التحالف لا يجري في النيات، وإنما يجري في صفة الألفاظ والعقود. وهذا ليس بشيء، والأصح التحالف، وهو الذي قطع به القاضي. وذكر صاحب التقريب الألف المرسلة من غير ذكر جنس أصلاً كما ذكره القاضي، ثم سلك مسلك القاضي في التفريع. 8761 - ونحن بعدُ في مساق النقل، ولكنا نذكر في كل فصل من المنقولات ما يتعلق به في تهذيب النقل. فنقول الآن: لا معنى للتقييد بألف درهم إن صح الانعقاد مع اختلاف النقود، ولا فصل بين الألف المرسلة والمقيدة بجنس، هذا لا شك فيه. والبحث بعدُ أمامنا. وذكر شيخنا أبو محمد طريقةً أخرى في المسألة، فقال: إن لم يتعارفا، ولم يتواضعا على أن المراد بالألف ماذا، فليس إلا القطع بفساد الخلع والرجوع إلى مهر المثل؛ فإن الجهالة متمحضة، لا دارىء لها سابقاً ولا [مقترناً] (2). وإن تواضعا على أن يعيّنا بألفٍ جنساً ونوعاً تواصفاه وأحاطا به، فالذي أطلقه (3) أنهما لو توافقا على موجب التعارف، وزعما أنهما عيّنا صنفاً تواضعا عليه، فالخلع ينعقد.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: مقرناً. (3) أطلقه: أي الشيخ أبو محمد.

وهذا الذي ذكره -إن كنا نستمسك بالقياس الجلي- يلتفت على التردد في مهر السر والعلانية، كما تقدم ذكرهما في كتاب الصداق، وقد أوضحنا ثَمَّ أن الاعتبار بالعلانية، ولا حكم لما جرى في السر من اصطلاح وتواضع. وإذا كان كذلك، فمقتضى هذا [يوجب] (1) إظهارَ مذهبٍ في أن الخلع يفسد؛ نظراً إلى اللفظ المبهم في صيغته. ثم قال شيخي بانياً على طريقته: لو قالت المرأة في هذه الصورة: أنا عنيت ألف فَلْسٍ، وإن كان تعارفنا على الدراهم، وقال الزوج: لا، بل أردتِ ما وقع التعارف عليه. قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أنهما يتحالفان، وإليه ميل النص، كما سننقله -إن شاء الله تعالى - بعد الفراغ عن نقل الأصحاب. والثاني - أنهما لا يتحالفان، بل الوجه الرجوع إلى [نيتها] (2)؛ فإن الاطلاع عليها عسر، فالقول قولها مع يمينها. ثم قال: إن قلنا: يتحالفان، فإذا حلفا، فالرجوع إلى مهر المثل، وإن قبلنا قولها (3)، فأثر قبول قولها مع اليمين مُصيِّرٌ الألفَ مبهمة مجهولة؛ فإنها ليست منكرة للمالية في الخلع، فالرجوع إلى مهر المثل لها (4) هذا ما ذكره، وزاد على الأصحاب، فقال: إبهام الألف مع فرض تقديم التعارف في الصداق والأثمان والأعواض جُمَع يخرّج على هذا التفصيل، فلا فرق. هذا منتهى كلامه. وقد قال العراقيون إذا ذكروا الخلاف في التعارف إذا قلنا: لا يتحالفان، فالرجوع إلى مهر المثل لوقوع الاستبهام.

_ (1) في الأصل: "موجب". والمعنى هنا أن الإمام يستدرك على شيخه القطعَ بأن الخلع ينعقد لو توافقا وزعما أنهما عينا صنفاً تواضعا عليه، ويرى الإمام أن القياس الجلي على مهر السر والعلن يقتضي إظهار مذهبٍ هنا في أن الخلع يفسد، لا القطع بانعقاده. والله أعلم. (2) في الأصل: "أثبتهما" والمثبت من (صفوة المذهب). (3) وإن قبلنا قولها: أي مع يمينها. (4) عبارة الأصل أقحمت فيها لفظةٌ هكذا: " ... فالرجوع إلى مهر المثل لها -فأثر- هذا ما ذكره" وهذه الفقرة -مع ذلك - فيها نوع اضطراب وقلق مع ما قبلها.

8762 - وعلينا في استتمام النقل صورٌ ذكرها القاضي على منهاج طريقه، فنذكرها، قال: [لو تخالعا] (1) والألف مطلق لا تعرّف بالتعارف. إذا قال الرجل: عنيتُِ بالألف الدراهم وأنت تعلمين [وخالفت] (2) المرأة، فقالت: بل عنينا الفلوس وأنت تعلم؛ فإنهما يتحالفان، والرجوع إلى مهر المثل. وقال أيضاًًً: لو تخالعا على ألف مطلق، واتفقا على أنه لم يكن منهما نية، فالخلع فاسد، والرجوع إلى مهر المثل؛ إذ الفرقة لا ترد، وسبب فساد الخلع جهالة البدل في الصورة التي ذكرناها. وذكر متصلاً بهذا أنه لو خالعها على شيء، أو ألف شيء [فالرجوع] (3) إلى مهر المثل. وهذا دالٌّ على أن الخلع على الشيء خُلع على مجهول، والجهالة لا تزول بالتطابق على النية، حتى لو قالا: أردنا بالشيء درهماً، فلا حكم لتوافقهما على الإرادة، وكذلك القول فيه إذا قال ألف شيء، وإنما أجرى ما ذكرناه من تنزيل اللفظ على النية إذا جرى ذكر الألف المطلقة، ورأى الألفَ المطلقة قابلةً لأثر النية والقصد، بخلاف الألف المقيد بالشيء. ومما ذكره أن الرجل إذا قال [و] (4) قد جرى الألف: عنيتُ بها الدراهم، وأنت عنيتِ الفلوس، وأراد بذلك دفع الفرقة؛ فإن الأمر لو كان كذلك، لم تقع الفرقة، وكان كما لو صرح الرجل بذكر الألف درهم، فقبلت المرأة بألف فلس؛ فإن [القصود] (5) إذا كانت تؤثر، فهي نازلة منزلة العبارات متفقها كمتفقها ومختلفها كمختلفها، ولما قال الرجل: عنيتُ أنا الدراهم وعنيتِ أنت الفلوس، قالت المرأة: أنا عنيت الدراهم أيضاًًً، فالرجل كما قدمناه يقصد دفع الفرقة، فلا نقبل قولَه عليها

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (3) في الأصل: والرجوع. (4) الواو زيادة من المحقق. (5) في الأصل: المقصود.

[ونحكم] (1) بوقوع الفرقة، وهذا منقاس حسن. ثم قال: وله عليها مهر المثل لتعذر تسليم المسمى. وهذا مشكل كما سننبه عليه. ومما ذكره أن الرجل لو قال: [عنيتُ] (2) الدراهم وأنتِ عنيت الفلوس، [فقالت:] (3) أنا عنيتُ الفلوس كما ذكرتَ، ولكنك عنيتَ الفلوس أيضاًًً. قال: الطلاق واقع لوجود الإيجاب والقبول، وعليها مهر المثل. وهذا مشكلٌ أيضاًًً، كما سنذكره إن شاء الله عز وجل. 8763 - فهذا منتهى [الغرض] (4) في نقل قول الأصحاب وتفريعهم، ونحن نتكلم وراء ذلك على جهة المباحثة فيما قدمنا نقله، ونرى الكلام منقسماً إلى ما يتعلق بالأمور الكلية، وإلى ما فرعه الأصحاب عليها. 8764 - فأما الكلام على الكليّات، فحاصل ما ذكره الأصحاب يحصره طريقان: إحداهما -وإليه ميْلُ معظم الأئمة - المصيرُ إلى تثبيت العوض بالنية والقصد، من غير تقدّم تواطؤ وتعارف. والثانية -[مبناها] (5) على التعارف. فأما [إن] (6) لم يكن التعارف، فقد رأيناهم مجتمعين من طريق النقل والفحوى على أن الشيء إذا ذكر، لم يثبت بالنية، وإنما الذي ذكرناه في عددٍ لا يَبين المعدود فيه، [كما] (7) لو ذكر عدد، وضم إليه مجهول، مثل أن يقال: ألف شيء، فهذا لا يثبت أيضاًًً بالنية، وإنما يثبت عدد لا يقرن بمجهول.

_ (1) في الأصل: وحكم. (2) في الأصل: عنينا. (3) في الأصل: فقال. (4) في الأصل: الغوص. (5) في الأصل: منقضاها. (6) في الأصل: فأما من لم يكن التعارف. (7) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

ثم انقسم هؤلاء بعد الإجماع الذي حكيناه في محله، فاكتفى المعظم بذكر العدد المطلق. وشرط العراقيون ذكر الجنس، مثل أن يقول: "ألف درهم"، ثم قالوا: يتعين بالنية نوع من الجنس، وإن كانت الدراهم مضطربة في البلدة. والممكنُ في توجيه ما قالوه أن الشيء إذا ذُكر، فهو لفظ مصوغٌ للإبهام، وكذلك إذا أضيف إليه، أو فسر العدد به، فقيل عشرون شيئاً، فلا تؤثر النية في إزالة الجهالة واللفظ موضوع لإثباتها. وإذا قيل: ألفٌ، فبيانه إتمامٌ، فاعتقدوا أن النية تتمم، ثم خرّجوا هذا على تطريق الكنايات إلى النوايا بالطلاق، وقالوا: عماد الخلع الطلاق، فإذا كان لا يمتنع انعقاد الخلع بما هو كناية في الطلاق تعويلاً على النية، [فكذلك] (1) البدل إذا ثبت ثبوت الكناية، لم [يبعد إتمامُه] (2) بالقصد والنية، ثم افتراق الأئمة في ذكر الجنس والسكوت عن النوع، وأن هذا أهل، (3) يشترط أم لا؛ محمولٌ على ما نذكره. تخيّل (4) العراقيون أن الألف بمثابة الشيء، فإذا وُصل بجنسٍ (5)، كان النوع بعده إتماماً. وهذا إن صحت الطريقةُ خَورٌ وجبنٌ. والسبيل أن العدد المطلق مفسر بالجنس والنوع، وهذا شديد الشبه بترددٍ حكيناه في أن بيع ما لم يره المشتري إذا صح، فهل يشترط فيه ذكر الجنس أم لا، وإن شرط معه ازديادٌ على الجنس؟ فيه تردد قدمناه في موضعه. وهذا تقريب شبَهي، والمأخذان مختلفان. والمأخذ الحقيقي هاهنا تشبيه أحد ركني الخلع [بالعوض] (6)، والثاني - يعني تشبيه لفظ العوض- بلفظ الطلاق، وقد تحققتُ أن الأصحاب لم يحتملوا هذا في

_ (1) في الأصل: وكذلك. (2) في الأصل: لم يتعدّ إتمامَه (بهذا النقط والضبط). (3) في الأصل: قيل. (وهو تصحيف خفيّ أرهقنا أياماً حتى ألهمنا الله صوابه). (4) قوله: "تخيل العراقيون ... إلخ" كلام مستأنفٌ، تفسير وبيان لقوله: "ما نذكره". (5) قوله: "فإذا وصل بجنسٍ ... إلخ" معناه أن الألف إذا وصل بجنس، مثل أن يقول: "ألف درهم" يكون النوع إتماماً مثل أن يقول: "ألف درهم هروية" فالدرهم جنس، والهروية نوع. (6) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

المعاوضات المحضة. وسبب التردد في الخلع ما أشرنا إليه. 8765 - هذا منتهى الإمكان في ذلك الإشكال [بحاله] (1)؛ فإن العوض لا يثبت إلا معلوماً، ويختص الخلع بأن العوض المجهول فيه لا يدرأ البينونة المقصودة، بل يُرجع إلى مهر المثل، فأما إثبات المجهول عوضاً بالنية، فلا سبيل إليه، ولو قيل به، لزم مثله في الشيء قطعاً. والذي تكلفناه خيالٌ؛ فإن النية تَحمل اللفظَ على إحدى جهات الاحتمال، ولا تصير كالصلة الزائدة فيه، والألف [شائع] (2) في جميع معدودات العالم كالشيء وأظهر منه الألف المضافة إلى الشيء، فلسنا نرى للنية وقوفاً (3) مع ذكر الشيء، فليفهم الناظر ما نقدم، وليقطع بما فيه من الاضطراب. ولو طرد طاردٌ هذا في المعاوضات كلِّها، لكان أقرب، وقد قال الفقهاء: الجعالة مع ابتنائها على الغرر والجهالة يجب أن يكون العوض معلوماً [فيها] (4) بالجهة التي تعلم بها أعواض البيع، والقدر الذي هو المتعلق أن الجهالة احتملت في الجعالة للضرورة، ولا ضرورة في ذكر لفظ الكناية في الخلع. ثم انعقد الخلع بكناية الطلاق إجماعاً؛ تعويلاً على النية، والدليل عليه أيضاًً أن من محض حكم الطلاق التعليق، ثم وجدنا مالاً يُملّك بالتعليق في الطلاق من غير لفظٍ مملِّكٍ فيه. ولذلك إذا قال الرجل: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، فإذا أعطت ألفاًً، مَلَكَ، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله عز وجل. ولهذا الفصل وقعٌ عظيم في نفس الفقيه لما فيه من الميل عن القياس، مع ما فيه من اتفاق معظم الأصحاب، فليقع التعلق بهذا الذي ختمنا الكلام به. وقد نجز الكلامُ على طريقةٍ واحدة.

_ (1) في الأصل: محالة. (ولعلها: لا محالة) ويكون المعنى: لا محالة (أي لا حيلة) بعد هذا البيان لإنهاء الإشكال. (2) في الأصل: سائغ. (3) كذا. ولعلها (موقعاً). (4) في الأصل: فبه.

8766 - فأما من يراعي التعارف، فلم أر هذا أوّلاً لغير شيخنا وأنا أخشى أنه ارتاع من مخالفة القياس، فظن أن الأصحاب أرادوا التعارف، وأنا أشك في أن الأصحاب لم يريدوه، فإن صح التعويل على التعارف، فالنظر على حسب ما يليق بهذا أن نقول: المذهب الأصح أن التواضع [السّري] (1) لا تعويل عليه، وإنما الحكم للّفظ المعلن المذكور حالة العقد، فكان يجب على هذا أن يخرّج التعارف على الخلاف، ولكن ينقدح مع ما نبهنا عليه فرقٌ، وهو أن التواضع إذا وقع على ألفٍ في السر، ثم جرى ذكرُ الألفين، فموجب التواضع تغيير اللغة في هذه المسألة، وإذا جرى التواضع على حمل الألف على نوعٍ، فهذا من باب التواضع على تفسير مجملِ [ما ذكراه] (2) صريحاًً وقصداه آخراً. وهذا وإن كان فيه بعض الإخالة، فليس يَدُلّ (3). فإن كان في المسألة فقهٌ، فلا يعدو وجهين: أحدهما - أن الرجوع إلى مهر المثل في جميع هذه المسائل، وهذا هو القياس الجلي، ولكني لم أر هذا لأحدٍ من الأصحاب، حتى [يسند] (4) إليه مذهباً. والوجه الثاني - ما ذكرته من فصل الكناية، وهذا وإن كان غامضاً، فهو لائق بفقه الخلع، على ما سنكمل الأنس به في مسائل الباب -إن شاء الله تعالى- أما التعارف والبناء عليه، فليس من القياس الجلي في شيء، وليس من الفقه الذي رأيناه تخصيصاً بالخلع في شيء. وقد نجز الكلام في هذا الفن مباحثةً في التفصيل، مع تقدير القول بثبوت الألف بالنية. فإذا اعترف الزوجان بأنهما لم ينويا شيئاً، فالرجوع إلى مهر المثل؛ فإن المعتمد النية، فإذا لم تكن (5)، تحققت الجهالةُ، فانجرّ القول إلى القياس الجلي المطلوب.

_ (1) في الأصل: البريء. (2) في الأصل: ما ذكرناه. (3) كذا. (انظر صورتها). (4) في الأصل: لسند. (5) تكن: كان هنا تامة.

وكذلك إذا [اتفقا] (1) على أن أحدهما لم ينو، فالألف لا تثبت بمجرد نية من ينوي، ولا يقع الطلاق من غير عوض، فلا طريق إلا مهر المثل. وإن كان تنازعا في النية، فزعم أحدهما أنه نوى الدراهم المعلومة، وزعم الثاني أنه نوى الفلوس، فهذا فيه [تثبت] (2)؛ فإن لم يدع أحدهما على الثاني شيئاً، ولكن أخبر عن نية نفسه، فليس هذا محلَّ التحالف بلا خلاف، والسبيل فيه الرجوع إلى مهر المثل، كما قدمناه. وإن قال الرجل مثلاً: عنيتُ الدراهم وعنيتِ أنت الدراهم، وقالت المرأة: عنيتُ الفلوس وعنيتَ أنت الفلوس، وادعى كل واحدٍ مع ما ذكرناه عِلْمَ صاحبه، فهذا موضع تردد الأصحاب، فمنهم من قال: يتحالفان، وهو بمثابة ما لو اختلفا في عوض الخلع تصريحاً به، فقال الزوج: خالعتك على ألف درهم وقالت: بل خالعتني على ألف فلس، ولو اختلفا كذلك، لتحالفا، ثم الرجوع إلى مهر المثل، وهذا الوجه هو الذي قطع به القاضي، وهو القياس إن يثبت الأصل الذي ذكرناه؛ فإن النية نازلة في هذا الأصل منزلة النطق المصرح به. 8767 - وذكر العراقيون وجهاً آخر: أن التحالف لا يجري؛ فإن هذا تحالفٌ في النية، والقياس أن يرجع في صفة كل نية إلى الناوي، وهذا يعارضه أن القياس أن يرجع في صفة كل قول إلى القائل، وفي صلة كل عقدٍ إلى العاقد، ثم إذا اختلف المتعاقدان في صفة العقد، تحالفا؛ إذ ليس أحدهما بأن يصدق أولى من الثاني، وإذا كانت النية مرجوع العقد، كانت كاللفظ، وليس كما لو وجد التناكر في نية الطلاق؛ فإنا إذا صدقنا الزوج، انعدم العقد، وهاهنا البينونة واقعة، والرجوع في صفتها إلى لفظ. قال العراقيون: إذا قلنا: لا يتحالفان، فلسنا نحلّف واحداً منهما؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، ولو قدرنا تحليف كل واحدٍ منهما، لكان يقتضي هذا ألاّ

_ (1) في الأصل: اتفقتا. (2) في الأصل: تثبيت. والمعنى هنا: "فيه تفصيل".

يقع الفراق بمثابة ما لو قال الزوج: خالعتك بألف درهم، فقالت: قبلت بألف فلس، ولو جرى ذلك، لم يقع شيء؛ فإنها لم تقبل ما طلقها عليه. وإذا رجع الخلاف إلى النية، فالبينونة واقعة بلا خلاف. فإن جرى التوافق في اللفظ وهو المعتمد في وقوع البينونة، ولا سبيل إلى دَرْئها، فإن قلنا: القول قولها فيما تعني، عارضه أن القول قوله فيما يعني، [فينتظم] (1) من مجموعه جهالة لا دَرْءَ لها، فالرجوع إلى مهر المثل، وليس في هذا كبير فائدة إلا أن الحلف يسقط، وإسقاط الحلف في نهاية البعد؛ فإن الأيمان لا تُعنى لأعيانها، وإنما يتوقع منها نكولٌ وردّ يمينٍ أو نكول [عن] (2) يمين الرد وإقرار، فحسْمُ باب الحلف لا وجه له. وإذا لم يحسم، فليس أحد الجانبين أولى من الثاني، ثم ثمرة الوجهين جميعاً الرجوعُ إلى مهر المثل، وإذا كان كذلك، فلا معنى لرد قياس التحليف مع الموافقة في المقصود. وقد انتهى الكلام في ذلك. 8768 - فلو قال الرجل: عنيتُ بألفٍ [دراهم] (3)، وأنتِ تعلمين أني عنيتُها، وقالت المرأة: عنيتُ بالألف الفلوسَ وأنت تعلم أني عنيتُها، ولم يزيدا على هذا، ولم يدع واحد منهما على صاحبه أنك عنيتَ ما عنيتُ، فالذي نقله موثوق به عن القاضي أنهما يتحالفان، والرجوع إلى مهر المثل. وهذه الصورة مشكلة؛ من جهة أن الزوج لا يستمر له دعوى الألف عليها ما لم يدع أنها قبلت الألف، وإنما صح قبولها بلفظها ونيتها، وكذلك القول في الطرف الآخر، فكيف الوجه في ذلك؟ الذي عندي فيه أن المراد بهذه الصورة هو المراد بالصورة الأولى؛ فإنه إذا قال: علمتِ ما عنيتُ معناه قبلتِ ما علمتِ، ففي التصوير إيجازٌ، وإلا، حاصل الكلام: أنك علمتِ قصدي وبنيتِ قبولك على ما علمتِ، وكذلك القول في جانبها. فأما إذا لم يدّع الزوج عليها قبولَ الدراهم، والمرأة لم تدّع على الزوج التطليقَ

_ (1) في الأصل: ينتظم. (2) في الأصل: من. (3) في الأصل: درهم.

بالفلوس، فكيف الوجه فيه؟ هذا يستدعي تقديمَ أصلٍ: وهو أنهما لو اتفقا على اختلاف النيتين، وقد قال الزوج: خالعتك على ألفٍ، فقالت: قبلتُ الألف، وتصادقا على اختلاف القصدين، فالذي يجب القطع به أن الطلاق يقع ظاهراً، فإن اللفظين متوافقان ظاهراً، وليقع الفرض في التصريح بالطلاق، ولكنَّ [أثرَ توافقهما في اختلاف القصد أن الزوج لا يطالبها] (1) بمالٍ؛ فإنه معترف بأنه لم يوجد [منها] (2) التزام ما ألزمها الزوج، ولكن لا يقبل قوله في رد البينونة المغلّظة بظاهر اللفظ. فإن قيل: هذا حكم الظاهر، فما حكم الباطن في علم الله تعالى لو فرض اختلاف النيتين؟ قلنا: قياس الأصل الذي بنينا عليه هذه التفاريع أن النية مع الألف المطلقة بمثابة اللفظ الصريح. ولو قال: خالعتك على ألفِ درهم، فقالت: قبلت بألف فلس، لم يقع الطلاق. ولو قال لامرأته: أنت طالق، وزعم أنه نوى طلاقاً عن [وثاقٍ] (3)، فإن كان صادقاً، فالحكم أنه لا يقع الطلاق باطناً، ولكن يَعلمُ من نفسه صدقَ نفسه، فهو باطن يمكن الاطلاع عليه، فكان باباً من أبواب الفقه متميزاً عن الغيب. وتخالفهما في النية لا يطلع عليه واحد من الزوجين، فليس هذا من المواطن الملتحقة بأبواب التديين (4)، بل هو بمثابة ما لو قال زيد: إن كان هذا الطائر غراباً، فامرأته طالق، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً، فامرأته طالق، فلا يُحكم بوقوع الطلاق على زوجة واحدٍ منهم، إذا تحقق اليأس من درك الحقيقة، وما يقدّر متعلقاً بعلم الله تعالى غيبٌ لا يقع به حكم، لا في الظاهر، ولا في الباطن، لكن الطلاق يتعلق به احتياطٌ، والاحتياط في مسألتنا الحكمُ بوقوع الطلاق البائن منهما. 8769 - مباحثةٌ أخرى: حكينا من تفريعات القاضي أنه إذا قال الرجل: عنيتُ

_ (1) عبارة الأصل: " ... أثر توافقهما في اختلاف القصد من الزوج لا يطالبهما بمال". (2) في الأصل: منهما. (3) في الأصل: وفاق. (4) أبواب التديين، وقاعدته ستأتي في كتاب الطلاق إن شاء الله.

بالألف الدراهمَ، وأنتِ عنيت الفلوس، وقالت المرأة: بل عنيتُ الدراهم، فلا يقبل قوله عليها، وهي تدعي موافقته، ويحكم بوقوع الفرقة المبينة. وحكينا أنه قال: له عليها مهر المثل لتعذر تسليم المسمّى. أما الحكم بوقوع الفرقة فبيّنٌ بناء على ظاهر اللفظ وما فيه من التوافق، وأما إيجاب مهر المثل عليها، فلا يستقيم على الأصل، لأن الزوج يدّعي أن الطلاق لم يقع، وإذا لم يدع الوقوع كيف يثبت له العوض، وهو لا يدّعيه بموجب قول نفسه، ومن لا يدّعى مالاً كيف يطالِب به؟ فإن قال قائل: لو صدّقها من بعدُ أنها عنت (1) الألف التي عناها هو؟ قلنا: إذ ذاك نطالبها بالمسمى المعيّن، لا بمهر المثل. 8770 - مباحثةٌ أخرى: حكينا في تفريع القاضي أن الزوج إذا قال: عنيتُ الدراهمَ وأنتِ عنيتِ الفلوس، وقالت المرأة: بل عنيتَ أنت الفلوسَ، وأنا عنيتُ الفلوس، قال: الطلاق واقع لوجود الإيجاب والقبول، وعليها مهر المثل. أما وقوع الطلاق، [فبعيد؛ لاعتراف] (2) الزوج بأنها عنتِ الفلوس، ولو عَنَتْها، لكانت نيتها كلفظها، ولو صرحت، لما وقع شيء إذا تخالفا، وإذا لم يقع شيء، لم يثبت عوض. ونحن نختم هذه المباحثات بشيء، فنقول: لعل القاضي يقول: إذا توافقا على القصد، فالقصد مع اللفظ كاللفظ الصريح، وإن لم يقصدا شيئاً، فهو خلع بمجمل.

_ (1) عنى الشي: قَصَده. من باب (رمى). تقول: عنيتُ أنا الدراهم، وعنَتْ هي الفلوس. (2) عبارة الأصل مضطربة، ومتناقضة؛ ففد جاءت هكذا: "أما وقوع الطلاق، فبين، لا نزاع، لاعتراف الزوج بأنها عنت الفلوس". هكذا تقرأ (بعد تصويب ما فيها من تصحيف) والتناقض واضح فالتعليل لظهور وقوع الطلاق، هو في الواقع تعليل لعدم وقوعه. ويشهد لصحة قولنا وتصويبنا -على وضوحه - عبارة العز بن عبد السلام، فقد قال: "ولو قال: أردتُ الدراهم، وأردتِ الفلوس، فقالت: بل أردنا الفلوس، وجب مهر المثل عند القاضي، ولا وجه لما قال، لاعتراف الزوج ببطلان الالتزام؛ فإن اللفظ لو وقع كذلك لم تطلّق" (ر. الغاية في اختصار النهاية: جزء 3 ورقة 118 ش). وانظر الروضة: 7/ 432، 433. (وأخيراً انظر صورة عبارة الأصل، فقد يبدو لك فيها قراءة أخرى).

وإن اختلف قصدهما، بطل القصد؛ فإن شرط صحة القصدين بتوافقهما، فإذا اختلفا، بطلا، وصار كما لو لم يقصدا شيئاً. وهذا يعضده أن الطلاق لا مردّ له إذا وجد التوافق من طريق اللفظ، وعن هذا يظهر أن التردد في الباطن لا حاصل له، وإن كان ذلك غيباً فيما ذكرناه. 8771 - فإذاً الأحوال ثلاث: إحداها - أن يتوافقا في القصد، كاللفظ. والحالة الثانية - أن يختلفا، فيدّعى كلٌّ مقصوداً من نفسه، ويدعي مثلَ ذلك من صاحبه، فهذه صورة التحالف. والحالة الثالثة - أن يختلف القصدان فيحكم ببطلانهما، ورجع الخلع إلى العوض المجهول. ويخرج من هذا أن القصد معتبر في الوفاق ساقط في الخلاف، فإن كان هذا ينساغ، فعليه تخرج أجوبة القاضي في التفريع، فإن وجب اعتبار القصد في الخلاف كما يجب اعتباره في الوفاق، فلا تصح أجوبته فيما ذكرناه من التفريعات المتأخرة. وكل ما ذكرناه أصل واحدٌ من الأصلين الموعودين. 8772 - الأصل الثاني يتعلق بخلع الأجنبي بنفسه، وتوكيل المرأة إياه، وتوكيله المرأة، فنقول: لم يختلف العلماء -في أن الأجنبي لو سأل الرجلَ أن يطلق زوجته على مال، فأجابه- أن الخلع يصح، والعوض يلزم الأجنبي. والمرأةُ لو وكلت أجنبياً حتى يختلعها من زوجها بمال تبذله المرأة، فذلك صحيح. وإن وكل الأجنبي أجنبياً، صح أيضاًًً، ولو وكل أجنبي المرأة حتى تخلع نفسها عن زوجها بمال يبذله الأجنبي الموكِّل، جاز. وهذه الأصول متفق عليها. ثم من كان وكيلاً بالاختلاع، نُظر. فإن أضاف لزوم المال إلى موكِّله، لم يتعلق الطَّلِبةُ به، وكان في البَيْن سفيراً رسولاً. وإن التزم مطلقاًً ونوى بالتزام المال جهةَ موكله، فتفصيل القول في مطالبته كتفصيل القول في مطالبة الوكيل بالشراء، وقد سبق الكلام مستقصى في العُهدة. والمقدارُ الذي تمسُّ الحاجة إلى إعادته أن مستحق المال لو لم يصدِّق الوكيل في دعوى الوكالة، فله مطالبته، وإن صدقه، فظاهر المذهب أنه

يطالبه أيضاًًً؛ لالتزامه وإضافته لفظ الالتزام إلى نفسه، ثم هو يرجع على موكِّله رجوعَ الضّامن على المضمون عنه. ومن أصحابنا من قال: [إن] (1) اعترف بكونه وكيلاً، لم يطالبه، كما لا [يطالَب] (2) السفيرُ. هذا بيان الأصل الذي حاولنا تقديمه. 8773 - ونعود بعد ذلك إلى النص (3)، فنقول: تعرض الشافعي لاختلاف الزوجين في [أمرين:] (4) أحدهما - هذا الذي نحن فيه الآن، والآخر - الاختلاف في الفلوس بالدراهم. فأما تفصيلَ القول في الاختلاف المتعلق بالخلع عن جهة الغير، فإنا نبتدىء تفصيلَ ذلك، ونستعين بالله، وهو خير معين، ونقول: إذا قال الزوج: طلقتك على ألفٍ عليك، وقالت المرأة: أنا لم أتعرض لقبول الألف، وإنما قبلها عنك فلان الأجنبي، وجرى الخلع بينكما، فالبينونة واقعة بإقراره، والقول قولها في نفي الاختلاع مع يمينها، فإنها أنكرت أصل تعلّق العقد بها، [ولا] (5) يستحق الزوج على ذلك الأجنبي شيئاً أيضاًًً؛ فإنه بريء بموجب إقراره وقوله، فينفذ الحكم بالبينونة (6)، ثم لا يملك مالاً؛ إذا (7) اختلعت المرأة على نفي الالتزام. وهذه الصورة بيّنة. ولو قال: خالعتك على ألف التزمتِه مطلقاًً، وقالت المرأة: قلتُ قبلتُ عن فلان

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: يطالبه. (3) نذكّر بنص الشافعي، وهو: "فإن قالت: اخلعني على ألفٍ ضمنها لك غيري، أو على ألف فلسٍ، وأنكر، تحالفا، وكان له عليها مهر مثلها". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: فلا. (6) خالف في ذلك ابنُ أبي عصرون؛ إذ قال: "قلتُ: لا يكفي في ثبوت البينونة إقراره، بل إقراره وتصديقها أنه خلعها، وقوله: إن القول قولها في تنفِ الاختلاع سهو؛ فإنها لم تنفي الاختلاع، وإنما نفت الالتزام، أو مباشرة الاختلاع" ا. هـ. (7) إذا اختلعت: بمعنى إذ.

ألفاًً، ولم أضف الالتزام إلى نفسي. وقد قدمنا فيما سبق أن السفير لا ضمان عليه، وهي لو صُدِّقت سفيرةٌ على رتبة الرسالة، وإذا جرى الاختلاف على هذه الصيغة، فقد ذكر المراوزة أنهما يتحالفان والرجوع إلى مهر المثل، وعللوا بأنهما اتفقا على جريان العقد مبهماً، واختلفوا في صفة العقد على الوجه الذي وصفناه؛ فاقتضى ذلك أن يتحالفا. 8774 - وذكر العرا قيون وجهين: أحدهما - أنهما يتحالفان، كما ذكره المراوزة. والثاني - أنهما لا يتحالفان؛ فإنها أنكرت أصل الالتزام كما (1) ادعت السفارة؛ ومن أنكر أصلَ الالتزام والأصلُ براءة ذمته، فالوجه أن يحلّف (2). وهذا الوجه متجه منقاس، غير أنهم نقلوه، وأفسدوه بالتفريع، فقالوا: لا تحالف ولكن يلزمها مهر المثل، وهذا على نهاية السقوط؛ فإنها أنكرت أصل الالتزام، فإن كانت مصدَّقة، فكيف تطالب، وأثر التصديق أن يثبت الحكم على صفته إذا لم يكن نزاع، ولو صدق الزوج زوجته فيما ادعته من السفارة، لكان لا يلزمها شيء، وهذا واضحٌ لا [دفْع] (3) له. فإن قيل: ما الذي تعتمدونه في إثبات التحالف بينهما؟ قلنا: جرى أصل العقد وما فيه من الالتزم، واعترفت المرأة بالالتزام، ولكنها ادعت سقوطه بإضافتها اللزوم إلى غيرها، فأمكن أن يكون في هذا تردد في التصديق [ونقيضه] (4)، ووجه التصديق أوضح، والوجه الآخر متضح؛ فإنها صاحبة الواقعة، ففي توكّلها عن الأجنبي بعدٌ، وإذا احتمل الأمران على استواء، انطبق عليه احتمال صدق الزوج وكذبه على هذا النسق؛ وهذا يوجب استواء الجانبين، ومقتضاه التحالف. ثم التحالف موجبه الرجوع إلى مهر المثل، ثم الرجوع به على من رجع البضع إليه. هذا وجه التحالف. والقياس الحق أن لا تحالف؛ فلا مال عليها، ويخاطب الزوج بموجب إقراره،

_ (1) كما ادّعت السفارة: بمعنى عندما ادعت ... (2) فالوجه أن يحلّف: أي أن القول هنا قول الزوجة مع يمينها، ولا يحلّف الزوج ليردّ قولها. (3) في الأصل: وقع. (4) في الأصل: ونقضه.

ويقضى عليه بالفرقة، ولا مرجع له على أحد بالمال، كما لو قال لامرأته: خالعتك أمس على ألف فقبلتِها، فأنكرت، [فالبينونة] (1) تثبت بموجب إقراره، ولا يثبت المال. 8775 - ثم ذكر صاحب التقريب مسألة متصلة بما نحن فيه، فقال: إذا جرى الخلع بين الرجل وامرأته، فأطلقت المرأة التزامَ المال، ثم قالت: أردت بمطلق قولي ولفظي ألفاًً يؤديها موكلي فلان، ولم أقصد التزاماً يخصّني، فقد ذكر صاحب التقريب هاهنا قولين: أحدهما - أنهما يتحالفان، وأن هذا الاختلاف إلى مقدار العوض وجنسه. والقول الثاني - أن القول قولُ الزوج؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا [أطلقتْ قولها وقبولها] (2)، والظاهر أنها التزمت العوض في خاصتها، فالقول قول الزوج لهذا الظاهر؛ والتحالف إنما يجري إذا استوى الجانبان في احتمال الصدق والكذب. ثم ذكر قولاً ثالثاً - أن القوال قول المرأة؛ فإنها الناوية، فهي أعرف بنيّتها وقَصْدها؛ [فالرجوع إليها] (3)، وهذا قول ملتبس. ونحن نقول في كشف الغطاء فيه: إن كنا نطالب الوكيل الملتزمَ باللفظ المطلق -وهو ظاهر المذهب - فهذا الاختلاف لا خير فيه؛ فإنها معترفة بأنها مطالَبةٌ بالمال كيف فرض الأمر. وإن فرعنا على أن الوكيل لا يطالَب، فإن أضاف الالتزام إلى نفسه، فهذا الكلام مختل محتاج إلى التفصيل، فإن أنكر الزوج أصلَ التوكيل، فلا معنى للترديد الذي ذكر. وإن اعترف بالتوكيل وردّ النزاع إلى نيتها، فهذا [أوان] (4) الاحتمال على بُعد. والوجه -مع الاعتراف بالتوكيل والتفريع على أن الوكيل لا يطالب بالعهدة في العهد

_ (1) في الأصل: فالبينة. (2) في الأصل: إذا طلقت وقولها وقبولها. (3) في الأصل: "فالزوج عليها" والمثبت من (صفوة المذهب). (4) في الأصل: فهذا وإن الاحتمال.

المطلق- أن تُصدّق المرأةُ؛ فإنها الناوية، وهي أعرف بنية نفسها، فالكلام كيفما فرضته [مختبط] (1) لا أصل له. 8776 - وأما الكلام في الاختلاف في الدراهم والفلوس، فقد مضى موضحاً في الأصل الأول إذا (2) ذكرنا القاعدة ومحل التحالف على أبلغ وجه يتعلق بإمكاننا. 8777 - ولم يبق الآن إلا نقلُ اللفظ في (السَّواد) على وجهه، وردُّ النظر إليه. قال الشافعي: "فإن قالت: على ألف ضمنَها لك غيري، أو قالت: على ألف فلسٍ وأنكر، تحالفا، وكان له عليها مهر مثلها" هذا هو اللفظ الذي نقله المزني. أما التحالف في الضمان، فليس يحتمل اللفظُ إلا صورة واحدة، وهي أن يقول الزوج: أطلقتِ الالتزام، وتقول المرأة: بل أضفتُه إلى غيري. هذا هو الذي قطع المراوزة فيه بالتحالف، على موجب النص. وحكى العراقيون فيه وجهين: أحدهما - التحالف. والثاني - أنهما لا يتحالفان وعليها مهر المثل، وقد ذكرنا أن القياس ألا يتحالفا ولا [يلزمها] (3) شيء، ولكن لم أر أحداً من المعتَبرين يصير إلى هذا، [فأُسنِدُه] (4) إليه أو أعلقه بفحوى كلامه. فإن قال قائلٌ: هذا القياسُ، أمكن حمل نص الشافعي على مجمل، ولكن لا معنى للتشاغل به. وأما قول الشافعي في الفَلْس، فليس يبعد حمله على اختلافهما في الدراهم والفَلْس صريحاً، ونفرض النص فيه إذا قال الزوج: خالعتك على ألف درهم وقبلتِه، وقالت: بل خالعتني على ألف فلس فقبلتُه. ولكن في المذهب ما فيه من وجوه الإشكال (5).

_ (1) في الأصل: مخبط. (2) إذا: بمعنى (إذ). (3) في الأصل: يلزمهما. (4) في الأصل: وأسنده. (5) عبارة المختصر هذه محلّ الإشكال، علق عليها الرافعي في الشرح الكبير قائلاً: "ظاهر هذا النص يقتضي التحالف فيما إذا أقرّت بالاختلاع، وقالت: ضمن المال فلان، ولا وجه فيها =

وغايتنا أن ينتهي كل فصل إلى حقيقته، ولا نغادر شيئاً من وجوه الاحتمال، ونحيل المذهب على النقل الصحيح، فنكون جمعنا بين وجوه القياس، وبين تحقيق النقل، والتنبيه على حقيقة الفصل. 8778 - ومما ذكره القاضي في أعقاب المسألة: أن الرجل لو قال: طلقتك على ألف عليك، ولم أشترط ضمان الأجنبي، وقالت: طلقتني بألفٍ عليّ على أن فلاناً الأجنبي ضامن، فهذه المنازعة لا معنى لها؛ فإنها أقرت بالالتزام تحقيقاً، وذكرت شرط ضمانٍ لو صح، لم ينفعها، وإنما كانت تُثبت مزيدَ تعلّقٍ للزوج، فكأنها [ادّعت] (1) للزوج حقاًً، والزوج يُنكر، وهذا ثابت لا شك فيه. فصل قال: "ولو قالت: طلقني ولك عليَّ ألف درهم، فقال: أنت طالق على الألف إن شئت، فلها المشيئة وقتَ الخيار ... إلى آخره" (2). 8779 - نقول في مقدمة الفصل: إذا كانت صيغة قول الرجل على صيغة [المعاوضة] (3)، فتقتضي جواباً عاجلاً، كما يقتضيه الإيجاب في البيع والإجارة، ونحوهما من المعاوضات [المفتقرة] (4) إلى الإيجاب والقبول، والذي ذكره

_ = للتحالف؛ بل هي مطالبة وإن كان هناك ضامن. فاختلف الأصحاب: حكى الحناطي عن بعضهم أن المسألة غلط من الكاتب. ومنهم من قال: الجواب راجع إلى صورة الاختلاف في الفلس؛ فربما جمع الشافعي بين مسألتين، فأجاب في إحداهما، وترك جواب الأخرى والأكثرون ردوا الجواب إليهما، واختلفوا في محل النص" انظر تفصيل الصور والطرق التي وصل بها الرافعي إلى سبع طرق. في الشرح الكبير: 8/ 474، 475. (1) في الأصل: أودعت. (2) ر. المختصر: 4/ 57، 58. والمثبت نص عبارة المختصر، فقد كانت عبارة الأصل مضطربة هكذا: "ولو قالت له: طلقني ولك علي ألف درهم، فقال: أنت طالق على ألف إن تثبتت لها المشيئة وقت الخيار". (3) في الأصل: المعارضة. (4) في الأصل: المقرة.

الأصحاب فيه الاتصالُ، والإحالةُ على العرف، وقد تقصَّيت هذا في البيع، وأوضحتُ أن المنتهى المطلوبَ فيه أن لا يتخلل زمانٌ يشعر تخلُّله بإعراض المخاطَب عن الجواب؛ فإذا تخلل مثله، انقطع. ومن لطيف الكلام في ذلك أنه لو أمكن تردده ليفكر ويرعى المصلحة، ويرى ما عنده، فلا معوّل على هذا، فإن الإيجاب والقبول مبنيان على تقديم الرأي، ومن يوجب يبتدىء الكلام، وغرضه أَخْذُ الجواب على الفور، لا تفويضُ الأمر إلى المخاطب ليرى [رأيه] (1). فإذا تخلل ما يقطع الاتصال الذي ذكرناه، بطل التواصل، ولو وجد قبول من بعدُ، لم ينفع. والمذهب أنه لو تخلل كلامٌ يسير لو فرض بدله سكوت لما انقطع، فلا أثر لتخلل ذلك الكلام، ونصُّ الشافعي: [شاهد] (2) فيه؛ فإنه قال: "لو خالع امرأته، فارتدت، ثم قبلت، ثم عادت قبل انقضاء العدة، وهي ممسوسة، فالخلع واقع"، فلم يجعل تخلل كلمة [الردة] (3) قاطعة للجواب عن الإيجاب. وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أن تخلّل كلامٍ من القابل بين الإيجاب والقبول يقطع القبول، وهذا غير سديد؛ فإنه [لا يدلّ] (4) على الإعراض، والنص يخالف ما قال، كما ذكرته. ولو طال الزمان، وكان المجلس الواحد جامعاً لهما، فينقطع العقد، ولا أثر لاتحاد المجلس، لم يختلف فيه أئمة المذهب. وقد يُطلق الشافعيُّ لفظ المجلس في مثل ذلك، ولا يعني به المجلس الذي يتعلق به خيار المجلس؛ فإن ذلك المجلس وإن طال، امتد الخيار بامتداده، فمن أطلق المجلس [عَنَى] (5) المجلسَ القصير الذي يليق بمجلس المخاطب على ما سبق تفصيله. ولو وُجد الإيجابُ، ففارق المخاطَبُ

_ (1) في الأصل: برأيه. (2) في الأصل: مشاهد. (3) في الأصل: الرّد. (4) في الأصل: لا يزل. (5) في الأصل: على.

المجلسَ مفارقةً ينقطع بها خيار المجلس، ولكن قَرُبَ الزمان، فأجاب، ففي العقد وجهان، والأصح الانعقاد؛ تعويلاً على الزمان، فمن لم يحكم بانعقاده، جعل المفارقةَ مشعرةً بالإعراض. 8780 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الخلع عريّاً عن التعليق، وقال الزوج خالعتك، أو طلقتك بألفٍ أو على ألفٍ. فأما إذا ذكر الزوج لفظ التعليق، فقد يستدعي قوله فوراً، وقد لا يستدعيه، فإذا قال لامرأته: متى ما ضمنت، [أو متى ضمنت أو مهما] (1) ضمنت ألفاًً، فأنت طالق، فهذا على التراخي. وإذا قال: إن ضمنت ألفاًً، فأنت طالق، فهذا يقتضي أن تضمن على الفور. فأما حمل متى، وما، ومهما، وأي وقت على التراخي، فلصريح اللفظ، ولقبول الخلع لهذا المعنى. وقد قررناه عند تمهيد الخلع وحقيقته وماهيته وما فيه من شوب (2)، واسترداد، وتمحّض، فأما حمل [إن] (3) على الفور، فليس من جهة استدعاء (إن) فوراً، فإنه شرطٌ والشرط، ينبسط على الأزمان. وإذا قال الرجل لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، لم يقبل ذلك فوراً، ولكن يقترن بـ (إن) العوضيةُ، وهي مقتضية التعجيل، و (إن) الشارطة ليست صريحة في اقتضاء التأخير، فاقتضت القرينةُ الفورَ، وليس كما لو قال: متى أو متى ما ضمنت، فإن ذلك تصريح بتجويز التأخير. ومقتضى النصوص لا تدرؤه القرائن. 8781 - وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت. فهذا يقتضي مشيئتها على الفور والاتصال، وإن لم يكن في الكلام معنى، وليس كما لو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، وليس هذا من مقتضيات كتاب الخلع. ومهما جرى ذكر طلاقٍ من غير تعرضٍ

_ (1) عبارة الأصل: قال لامرأته: "متى ما ضمنت أو متى ما مهما ضمنت". (2) من شوْبٍ، واسترداد، وتمحض: يريد شوب الجعالة والعوض، واسترداد العوض إذا قلنا بأنه فسخ، والتمحّض للعوضية. ويشير إلى ما سلف قريباً في (باب مخاطبة المرأة بما يلزمها من الخلع). (3) زيادة اقتضاها السياق.

لذكر [عوض] (1)، فهو معترض في الخلع، فليُلْحَقُ بمسائل كتاب الطلاق. ولكن إذا جرى هذا وهو مجمع عليه، فلا بد من الإشارة إلى تعليله، مع [إحالة] (2) تحقيقه على كتاب الطلاق، فنقول: أما احتمال دخول الدار للتأخير، وما في معناه في قوله: إن دخلت، فبيّنٌ، لا حاجة إلى كشفٍ، وإنما نميز عن هذا القبيلِ إذا قال: أنت طالق إن شئتِ، فسببه أن قوله: إن شئتِ معناه استدعاء جواب، فكأنه إذا قال: إن شئت يلتمس منها جواباً بذكر المشيئة، وشرط الجواب أن يكون متصلاً بالخطاب، وعليه ابتنى وجوبُ ترتيب الجواب في العقود على الإيجاب، وإلا فالعوضية في عينها ليس فيها إشعار بالتواصل الزماني، ولكنها تذكر في ابتداء وجوب وإيجاب وقبول وتفاوض مبناه في [التجاوب] (3) على التواصل عرفاً وعادة، حتى يعد السكوت المتطاول فيه إعراضاً. فإذا كان يتحقق استدعاءُ الجواب في قوله: إن شئت، وإن لم يكن عوضٌ، فهذا يقتضي التواصلَ الزماني لا محالة، وهذا إنما يتحقق فيما يجوز أن يقدر جواباً. فأما الدخول فيما عداه من الأسباب، فلا يصلح أن تكون أجوبةً، فلم يكن لشرط [الاتصال] (4) فيه معنى. ومما لا يخفى مُدركه، ولا بد من ذكره في ترتيب الكلام أن المرأة إذا قالت: أشاء أن تطلقني. فقال: أنت طالق إن شئت، فما تقدم من قولها لا يكفي؛ فإن التعليق على هذه الصيغة يقتضي وقوع المشيئة [في] (5) المستقبل بعد صدور التعليق؛ فإن الشرط لا يعقل تعلقه إلا بالمستقبل. ولو كانت دخلت الدارَ، فقال الزوج: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق ما لم تستأنف دخولاً، إلا أن يكون قال: إن كنت دخلت الدار، فأنت طالق.

_ (1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (2) في الأصل: إحاطة. (3) في الأصل: التجاوز. (4) ساقطة من الأصل. (5) في الأصل: من.

وستأتي هذه الألفاظ وحقائق معانيها في كتاب الطلاق. 8782 - فإذا ثبتت هذه المقدمات قلنا بعدها: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق على ألفٍ، فهذا يستدعي قبولاً منها على الاتصال. وإن قال: أنت طالق إن شئت [فهذا يستدعي جواباً منها] (1) على الاتصال، كما تقدم، ولو جمع بينهما فقال: أنت طالق على ألف إن شئت، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب بعضهم إلى أنه يكفيها أن تقول (2): شئتُ على الاتصال، وينتظم الخلع، ولزوم المال ووقوع البينونة بقولها: شئتُ. وهذا قد يدل عليه فحوى كلام الأئمة كالقاضي وغيره، وهو ظاهر كلام الصيدلاني. ومن أصحابنا من قال: لا بد من الجمع [بين] (3) لفظ القبول ولفظ المشيئة. وذهب بعض الأصحاب إلى أنه يكتفى [منها] (4) أن تقبل. أما من اكتفى بلفظ المشيئة، فوجهه أن قول الرجل: أنت طالق [إن شئت] (5) ليس [في صيغته تعرُّضٌ من طريق التصريح] (6) لقبولها، ولكن لما لم يتصور منه أن يحتكم بإلزامها مالاً، اقتضى ذلك منها التزاماً، فكان قولها في معنى الضَّمَن (7)، كما وصفناه. فإذا قال: أنت طالق على ألفٍ إن شئت، فقد جعل متعلَّقَ الطلاق ولزومَ المال قولَها المجردَ شئتُ، فيجب أن يتعلق الأمران جميعاً به. ولو قال الرجل لمن يخاطبه: بعت منك عبدي بألف درهم إن شئت؛ فالبيع

_ (1) زيادة من المحقق. (2) عبارة الأصل: أن تقول: إن شئتُ. (3) في الأصل: من. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) زيادة من المحقق. (6) عبارة الأصل: "ليس في صيغة تعرض من طريق ليصرح لقبولها " كذا بهذا الرسم تماماً. (7) الضَّمن: الضمان والالتزام، من قولهم: ضمن ضَمَناً وضمانة التزم. (المعجم) وهو مصدر مسموع معروف مدونٌ في أواسط المعاجم، ولكنه غير مستعمل الآن، وهذا يُلزم من يتعرّض للنصوص التراثية بالتأني والتمهل وألا يسارع بالتخطئة والتغيير لما لا يجده مألوفاً عنده.

لا ينعقد؛ فإنه لا يقبل التعليق؛ إذا (1) وضع البيع على المعاوضة المحضة، ومتضمنها أن يكون صَدَرُ شقَّي العقد من المتعاوضين على نسق واحدٍ، مع اجتناب التعليق من الجانبين جميعاًً، فهذا وجه هذا الوجه. وأما من قال: لا بد من الجمع بين الإيجاب والقبول ولفظ المشيئة، فوجه قوله أن الزوج لما قال: أنت طالق على ألف، فهذا منه لو تجرد يقتضي اجتماعَهما: اجتماع القبول ولفظِ المشيئة منها، فليأت بهما جميعاً. ثم لا ترتيب، فإن شاءت قالت أولاً: قبلت وشئت. وإن شاءت قالت: شئت وقبلت. والأصح الأول، ولا يستقيم على الفقه المعتبر في الخلع إلا ما ذكرناه في توجيه الوجه الأول. والذي يؤكده أنه لو قال: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، فإذا أعطت ألفاًً، طُلِّقت وإن لم يوجد من جهتها تمليك؛ نظراً إلى ظاهر التعليق، واكتفاء بما يسمى إعطاء في الحقيقة. فإذا كان كذلك، فالاكتفاء بلفظ المشيئة في الحكم بوقوع الطلاق ولزوم المال جائز على هذا القياس. فأما من يقول: لا بد من قبولها (2) ويقع الاكتفاء به، فاشتراط قبولها عنده موجبه [ما] (3) تقدم، وأما عدم اشتراط لفظ المشيئة [فقبولها] (4) المجرد في العرف يعد جواباً عن جميع كلام الرجل. وهذا القائل يغلّب مقتضى المعاوضة، ويشترط القبول؛ فإنه الركن. وهذا الوجه عندي غلط صريح، ولم أره إلا لشيخي، فلا يجوز عده من المذهب، ولولا تكرر سماعي [منه] (5) لما أوردته، فيبقى الوجهان المقدمان، وأوضحهما الاكتفاء بلفظ المشيئة كما تقدم. 8783 - ثم يتفرع على ما ذكرناه أنا إذا اشترطنا لفظ المشيئة، واكتفينا به، فلا يصح

_ (1) إذا: بمعنى: إذ. (2) قبولها: أي قولها: قبلت. (3) في الأصل: بما. (4) في الأصل: وقبولها. (5) في الأصل: فيه.

من الزوج الرجوع عنه؛ فإنه تعليق مجرد، والرجوع عن التعليق غير ممكن. ومَنْ شرط [الجمعَ] (1) بين القبول وبين لفظ المشيئة، فهل يجوّز للزوج الرجوعَ قبل أن تقبل المرأة [وتشاء] (2)؟ فيه تردد ظاهر، بسبب اشتمال كلام الزوج على المعاوضةِ (3) والتعليقِ جميعاًً، ووجه الاحتمال بيّن، ولكن لست أجد لهذا الوجه أصلاً، والوجه الاكتفاء بلفظ المشيئة، ثم مَنعُ الرجوع كما تقدم. فهذا تمام ما أوردناه في ذلك. 8784 - عدنا إلى صورة المسألة إذا قالت المرأة: طلقني واحدةً بألف، فقال الزوج: أنت طالق بألفٍ إن شئت. فهذا الذي ذكره يُخْرِج كلامَه عن كونه كلاماًً جواباً لها؛ فإنه لو اقتصر على قوله: أنت طالق، لكان ذلك إسعافاً وجواباً، فإذا قال: إن شئت فهذا يقتضي أمراً في الاستقبال؛ لما قررناه من أن الشرط مقتضاه معلّقٌ بالاستقبال لا محالة. ثم إن كنا نعد اقتصارها على القبول إذا [ابتدأ] (4) الرجل فقال: أنت طالق بألفٍ إن شئت وجهاً [مرتباً] (5)، فلا بد على هذا من تجديد القبول، [وما] (6) تقدم من استدعائها لا يكفي؛ لأن قوله: إن شئت، تضمن معنىً في المستقبل لا محالة، قولاً كان أو لفظ مشيئة، فوضح أن المرأة إذا سبقت واستدعت التطليق بالمال، فقال الزوج: أنت طالق بألفٍ إن شئت، فالقول الوجيز المشعر بكمال المقصود أنا نجعل كأن استدعاءها لم يكن، وكأن الزوج ابتدأ، فقال: أنت طالق بألف إن شئت، ثم التفصيل ما قدمنا ذكره. 8785 - ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن المرأة لو قالت: طلقني واحدة بألف،

_ (1) في الأصل: الجميع. (2) في الأصل: وتشاهد. (3) في الأصل: المعارضة. (4) في الأصل: اشتد. (5) في الأصل: مريباً. (6) في الأصل: وإذا تقدم.

فقال الزوج: أنت طالق، ولم يُعد ذكرَ المال، وقع كلامه جواباً، واستحق المال الذي التزمته. وبمثله لو قالت: طلقني واحدةً بألف، فقال: أنت طالق إن شئت، ولم يذكر المال، فقد بطل أثر استدعائها، وصار الرجل كالمبتدىء، [في هذا] (1) القول، وإذا ابتدأ، فقال: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئتُ، وقع الطلاق [رَجعياً] (2)، ولم يثبت المال، فكذلك إذا قالت: طلقني بألفٍ، فقال: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئتُ وقع الطلاق رجعياً؛ [فإنا] (3) جعلنا قوله ابتداء، وقطعناه عن كونه جواباً. 8786 - ثم قال المزني نقلاً عن الشافعي: إذا قال: أنت طالق على ألف إن شئت، فلها المشيئةُ وقتَ الخيار، وأراد بذلك اشتراطَ اتصالِ لفظ المشيئة، كما تقدم، وعبر عن الاتصال بوقت الخيار، وأراد الوقتَ الذي يجري فيه إمكان الرجوع عن الإيجاب قبل القبول، وهو الذي يسمى وقتَ [القبول] (4). 8787 - ثم ذكر (5) بعد هذا ألفاظاً مضطربة، وكلاماًً هو جواب مسألة لم يذكرها بعد، فقال متصلاً بما ذكرناه: "وإن أعطته إياها وقت الخيار، لزمه الطلاق". وهذا جواب لما لم يجر له ذكر، وهو أن الرجل إذا قال: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق. فمن جواب هذا أنها إن أعطته على الاتصال، وقع. فلم يذكر المسألة وذكر جوابها. ثم قال: "وسواء هرب الزوج أو غاب أو أبطأت بالألف" وهذا غير منتظم أيضاًًً، فإنه عطف هذه المسألة على وقوع الطلاق، والحكم فيها أن الطلاق لا يقع إذا شرطنا اتصال القبول والإعطاء. وفي كلامه خبطٌ ظاهر، وشرطنا ألا نطنب في التعرض (للسواد) والاعتراض عليه، إذا لم يكن لنا غرض فقهي، فهذا نجاز المسألة.

_ (1) في الأصل: فهذا. (2) في الأصل: ورجعنا. (3) في الأصل: فإن. (4) في الأصل: القول. (5) أي المزني، والعبارات التي سيوردها، تجدها في المختصر: 4/ 58.

فصل قال: "ولو قال: أنت طالق إن أعطيتني ألف درهم ... إلى آخره" (1). 8788 - هذا الفصل عُدّ من مشكلات الكتاب (2)، وسبب الإشكال فيه اشتماله على خواصَّ للخلع سبق تعليلُ بعضها، وفيه أيضاًًً حُكمٌ قدمتُ في الأقارير استقصاءه، يتساهل فيه الفقهاء، ولم يفردوه هاهنا، فاجتمعت جهاتٌ من الإشكال، ونحن نأتي، بمضمون هذا الفصل موضّحاً، إن شاء الله عز وجل. فإذا قال الرجل لامرأته: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، فأول ما نذكره أنه لا حاجة في ذلك إلى قولٍ لفظي منها، فإنه لم يعلّق الطلاق على قولٍ؛ فلا يقتضي قولاً أو يتضمنه. وبيان ذلك أنه علق الطلاق على فعلها إذا (3) قال: "إن أعطيتني" وأخرج قولَه عن صيغة المعاوضة، التي تقتضي إيجاباً وقبولاً، فلا نشترط قولاً منها أصلاً. ثم الذي يجب البحث عنه في ذلك أنها إذا جاءت وسلمته إليه، فقد نقول: إنه يملكه على ما سيأتي ذلك في أثناء الفصل -إن شاء الله تعالى- وهذا تمليكٌ بمجرد فعلٍ من غير قبول. وليس في قاعدة الفصل خلاف، وغموضه في أنه عديم النظير، وإلا فالتمليك في درك العقول في معنى التمليك بالفعل، والصحيح أن القبض في الهبة هو [المملِّك] (4) دون اللفظ المتقدم عليه. واتفق الأصحاب على ما ذكرناه أن من الهدايا والمنح ما لا يفتقر إلى اللفظ، وما يؤثر عن ابن سريج من كون المعاطاة معاقدة يتأكد بهذا. 8789 - ثم مما يتعلق بهذا أنها إذا جاءت بالمشروط ووضعته بين يدي الزوج، فإنه يدخل في ملكه قهراً، وإن لم يأخذه؛ فإنه ذكر لفظةً معناها الإعطاء، وهذا متحقق

_ (1) ر. المختصر:4/ 85. (2) واضحٌ أن المراد مشكلات كتاب الخلع. (3) إذا: بمعنى إذ. في الأصل: الملك.

من غير أخذ بالبراجم (1)، وليس يملك الزوج الرجوعَ عما قال. فانتظم من مجموع ما ذكرناه أن الطلاق لما قبل التعليق بالقول والفعل والالتزام والقبول، وقد أثبت الله المال في المفاداة في حكم الرخصة، فثبت المال في الجهة التي يثبت تعليق الطلاق فيها. فهذا ما أردناه في ذلك، وهو واضحٌ -إن شاء الله عز وجل- لائق بخاصية الخلع. 8790 - ثم قال الأئمة: إذا قال: إن أعطيتني ألفَ درهم، فأنت طالق. فيبنغي أن تأتي بالألف وازنةً، فلو أتت بألفِ درهمٍ معدودةٍ لا تزن ألفاًً [لم يقع شيء] (2). ولتكن نقرة خالصة، ولتكن مضروبةً مسكوكة، والقول في هذا مما تقدم استقصاؤه في كتاب الأقارير. ونحن نذكر هاهنا ما تمس الحاجة إليه، فنقول: الدراهم في الشريعة وازنة، والدرهم هو النقرة كالرِّقة والورِق، وإذا كانت الفلوس لا تسمى دراهم، فالمغشوش الذي بعضه نحاس [ليس] (3) درهماً؛ فإن جنس النحاس لا ينقلب بسبب [مخالطة] (4) النقرة، وقد تقدم تقرير هذا في الأقارير. ومما ذكرناه ثَمَّ أنه لو أقر بدراهم، وفسرها بدراهم معدودة، لم يقبل منه إلا إذا كان ببلدة يعمّ فيها الدراهمُ النقصُ المعدودة غيرُ الوازنة، فإذا أقر في مثلها بألف درهم، وفسرها بالمعدودة والنقص الجارية الغالبة في البلد، ففي قبول تفسيره وجهان، ذكرناهما في الأقارير. 8791 - ولو قال الزوج: إن أعطيتني ألف درهم، وفسرها بالنقص في بلد يغلب فيه جريانها، وزعم أنه أراد النقصَ، فكيف التصرف فيه؟ قال الأئمة: هذا يخرّج

_ (1) في الأصل: بالمزاحم. وهو تصحيف أرهقنا كثيراً. والأخذ بالبراجم يراد به القبض باليد كما هي عبارة العز بن عبد السلام في اختصاره للنهاية. والبراجم هي رؤوس السُّلاميات، والمراد رؤوس الأصابع التي بها القبض والأخذ (المصباح والمعجم). (2) ساقطة في الأصل، وأثبتناها من (صفوة المذهب). (3) زيادة اقتضاها السياف. (4) في الأصل: فمخالطة.

على الوجهين المذكورين في الإقرار؛ فإن المرعيّ في لفظ الأقارير مثلُ المرعي في صيغ [التعليق] (1) وهذا حسن. ولكن وراءه غائلة لا بد من التنبيه لها، وهي أن الزوج إذا فسر الدراهم بالنقص المعدودة، فهذا يتضمن وقوع الطلاق دون الوازنة، فإذا كان ما يقوله محتملاً [وفيه] (2) توسيع وقوع الطلاق، فيجب القطع والحالة هذه [بقبول] (3) قوله. وإنما يظهر أثر الاختلاف في عكس هذه الصورة، وهي أنه إذا كان في بلدة دراهم معدودة تزيد على الوازنة في زنتها، فإذا فسر الدراهم التي علّق وقوع الطلاق بعطائها، [بالمعدودة] (4) التي تزيد زنتها على الوزن المعلوم في الوازنة، وكانت تلك الدراهم غالبة، فينقدح حينئذ فيه ذكرُ الوجهين؛ لمكان النية الموافقة للعادة الجارية. ولو أقر بألف درهم، ثم فسر إقراره بألف معدودة يزيد زنتها على وزن الوازنة، فلا شك في قبول تفسيره، وإنما الخلاف فيه إذا فسرها بالنقص، ولا حاجة إلى الإطناب في هذا؛ فإنه واضح. ولو قال المقر: لفلان علي ألفُ درهم. ثم فسره بالمغشوشة، وكانت غالبة جارية في محل الإقرار، ففي قبول تفسيره وجهان، وهما الوجهان المذكوران في النقص؛ فإن المغشوشة نقرتها ناقصة، ونقصانها لا ينجبر بالنحاس. وإذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، وكان لفظه مطلقاًً، فهذا محمول على النقرة الخالصة، ولو قال: أردت بذلك المغشوشة، فيجب القطع بقبول تفسيره؛ فإن ما قاله محتمل، وفيه توسيع وقوع الطلاق. فليتأمل الناظر هذه الأمور الجليّة التي لم يتعرض لها الأئمة لوضوحها. 8792 - ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك إذا انتهى الكلام إلى هذا المنتهى أن من اشترى شيئاً بألف درهم، في بقعةٍ دراهمُها الجارية نقصٌ، فالذي يرى الأصحابُ فيه

_ (1) في الأصل غير مقروءة (انظر صورتها). (2) في الأصل: وقت. (3) في الأصل: مقبول. (4) في الأصل: فالمعدودة.

أن مطلق الدرهم في البيع والمعاوضات محمولة على الدراهم الجارية في العرف. وليس الأمر على هذا الإطلاق عندنا. ونحن نفصل القول فيه ونستعين بالله تعالى - فنقول: إذا كان في أيدي الناس نقود من أصنافٍ مختلفة النقوش والسكة، وكان الغالب في المعاملات صنفٌ منها، فإذا أطلقت الدراهم -والحالة هذه- انصرفت إلى ما يغلب، وصار جريان العرف واطراده بالمعاملة في ذلك الصنف بمثابة التقييد لفظاً [فيُفيد] (1) اقترانُ العرف من الإعلام ما يفيد التقييدُ نطقاً ولفظاً. ولو كانت النقود كما وصفناها، فقال الرجل: لفلان عليّ ألف، فلا يتقيد المقرّ به بالنقد الغالب. وكذلك لو قال الرجل لامرأته - والنقود كما وصفناها: إن أعطيتني ألفَ درهم، فأنت طالق، لم يختص هذا بالنقد الجاري في البلد، بل لو أتت بألف من أي نقدٍ كان، وقع الطلاق بعد أن تكون وازنة. وهذا موضع استفراق (2)؛ فإن النقد الغالب يتعين في المعاملات، ولا يتعين في الأقارير، ولفظ التعليق. وهذا عندنا -في المعنى والفقه- ليس بتفاوتٍ، وطريق الكلام فيه [أن المعاملات إخبارٌ عمّا نصف] (3)، والإقرار إخبارٌ عن ماضٍ، ولا يمكن أن نحكم على العادة بالاطراد فيما تقدم، فلا يتحقق كون العادة قرينة في المخبرَ عنه، فبقي الإجمال في الصنف. وكذلك إذا قال لامرأته: إن أعطيتني ألف درهم. فليس تعليق الطلاق أمراً معتاداً، فلا يصير اطراد الاعتياد قرينةً فيه، وتحقيقه أن العادة لا معنى لها على الانفراد، والمعنيّ بجريانها، جريانُ المعاملات، والتعليقُ ليس مما يتكرر جريانه في الدراهم، [فكان] (4) مطلق الدراهم يجري على مقتضى الإطلاق فيها، ومقتضى الإطلاق التعميم بأي صنف أتت به وقع الطلاق، إذا كان نقرة وازنة. هذا في اختلاف النقود.

_ (1) في الأصل: فعيد. (2) موضع استفراق: أي طلب الفرق. (3) عبارة الأصل: أن المعاملا عمت نصف. (4) في الأصل: وكان.

8793 - فأما إذا كان الجاري في البلد دراهمُ ناقصةٌ في الوزن، فهذا موضع النظر، فاسم الدراهم [مقيدٌ] (1) بالنقرة الوازنة، فإذا جرى العرف بخلاف ما يقتضيه الاسم، فإذا قال المقر: أردت النقص تمسكاً بالعرف، ففيه وجهان. وإذا أراد من علَّق الطلاق تفسير لفظه في هذا المقام بالنقص المعدودة، فقد ذكر الأصحاب وجهين. ولا معنى لهما عندي، بل الوجه القطع بالقبول؛ فإن فيه توسيعَ الطلاق، والاحتمال في ذلك كافٍ. فإذا جرى ذكر الدراهم في المعاملة في الموضع الذي دراهمه الغالبة نقصٌ، فهذا فيه اختلاف بين الأصحاب، فالذي ذهب إليه المعظم أن العرف مقيِّدٌ في المعاملات وطريق الفرق فيه ما ذكرناه من جريان المعاملات، وعدم ذلك في التعليق، وحققنا في الإقرار استناده إلى سابقٍ لا تحكّم فيه بعرف. ومن أصحابنا من قال: اسم الدراهم صريح في الوازنة، والعرف لا يغيّر الصريح عن معناه ووضعِه، وليس هذا كما قدمنا ذكره من إثبات أثر العرف في إعلام نقدٍ من النقود المختلفة؛ فإن ذلك إعلام بطريق القرينة في محل الإبهام، ولو حملنا الدراهم على الناقص، لكان ذلك تغييراً لموجب النص الصريح، والعرف لا يغير [النصوص ومعناها] (2) وهذا إن كان له اتجاه في المعنى لكن (3) المشهور حمل الدراهم في المعاملات على النقص إذا كانت غالبة، وإنما الخلاف في الأقارير، وفي التعليق الذي قدّمته. فهذا ما عليه بناء المذهب. وقد أوضحنا الفرق بين المعاملة. 8794 - ومما [نتمّم] (4) به الغرض في ذلك، القولُ في الدراهم المغشوشة، وإجمال الكلام فيها أولاً أنها بمثابة النقص في الإقرار والتعليق، وإنما نفصّل [فيها] (5) ذكر المعاملات. فنقول: يعترض في المغشوشة أصلٌ آخر، وهو أن مقدار النقرة إن

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: المنصوص ومعناهما. (3) في الأصل: ولكن. (4) في الأصل: نقيم. (5) في الأصل: فيهما.

كان مجهولاً في الدراهم، ولم يكن لها جريان، فلا يصح [التعويل] (1) عليها لا مذكورة ولا معيّنة؛ فإن الجهالة على هذا الوجه تمنع الثبوت في الذمة. وإذا عيّنت، فأشّر إليها، [فالإشارة] (2) بمثابة الإشارة إلى تراب المعدن. [فإن] (3) كان لها جريان في العادة، مع أن مقدار النقرة [مجهول فيها] (4)، ففي صحة التعامل بها وجهان، قدمنا ذكرهما في كتاب البيع وأبوابٍ من المعاملات. وتعويل من يجوّز على الجريان، والصحيحُ [المنعُ] (5). وإن كان مقدار النقرة معلوماً -ففي طريق العلم به توقف، فإنه مما لا يعاين، فإن أمكن العلم به فبقول ثقات - فيزول في هذه الصورة [الجهلُ] (6) بالمقصود، وتصير الدراهمُ المعلومةُ العيار المغشوشةُ بمثابة الدراهم المعدودة والنقصُ في الوزن. وقد تفصّل القولُ فيها. فهذا تمام القول في هذا الفن. 8795 - ومما يخرج مما قررناه أنا إذا قيدنا لفظ التعليق بالعرف الجاري في الموضع، فقد يقتضي الحالُ حملَ الدراهم على المغشوشة في الإقرار، ولكن الوجه عندي فيه أنه إذا قال المُقر: أردت المغشوشة، ففي قول منه -وعرف الموضع مساعدٌ - الوجهان، فلو لم يدع أنه أراد المغشوشة، فالوجه عندي مطالبته بالخالصة، وسبب ذلك أن العرف لا جريان له في الأقارير، فاسم الدراهم على اقتضاء الخلوص والزنة التامة. ولكن إن زعم أنه أراد ما يجري به العرف في المعاملة، فقد يعذره بعضُ الأصحاب بسبب جريان المعاملة، وهذا لا قطع به، ولا يمتنع أن يقال: إن تراجع فيما أراد، فإن زعم أنه لم يرد شيئاً، فإقراره محمول على الغالب في المعاملة. هذا تردد لطيف يجب تدبره.

_ (1) في الأصل: التعليل. (2) في الأصل: بالإشارة. (3) في الأصل: وإن. (4) في الأصل: مجهولين فيه. (5) في الأصل: المتبع. (6) في الأصل: والجهل.

وأما إذا جعلنا للعرف أثراً، وقد جرى التعليق في الطلاق، أو العتاق، فإن قال: أردت الدراهم المغشوشة، فالوجه عندي القطع بتصديقه لما فيه من توسيع الطلاق. وإن أطلق، فالوجه القطع بحمل لفظ المطلق على الخالصة الوازنة. ومن أصحابنا من ذكر وجهاً وهو صادر عن غير بصيرة ودراية بحقائق الأشياء ووضعها. وقد انطوى إلى هذا المنتهى أصلان: أحدهما - تعلّق الإعطاء بفعلٍ مجرد من غير قول من جهتها. والثاني - الكلام في الخلوص والنقصان. 8796 - ونحن نبتدىء -بعد هذا- الكلامَ في مقصود آخر، والبناءَ على الفرق بين المعاملات وألفاظ المُعلِّقين، فنقول: إذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، وكان في البلد نقد غالب وزان خالص، فإذا جاءت بألفٍ من النقد ووضعته بين يدي الزوج، قُضي بوقوع الطلاق، لتحقق الصفة، ثم ما أعطته من جنس النقد فيملكه الزوج ولا يجري فيه رد واسترداد، وقد وقع الطلاق وجرى الملك في المعطى معاً. ولو أتت بألف درهم وازنة خالصة، ولكن النقد الغالب في البلد غيرُ ذلك الذي أتت به، وليقع الفرض إذا كان النقد الغالب خالصاً وازناً أيضاًًً، ولكن الاختلاف في جودة السكة وزكاتها (1)، وفي لين النقرة وانْطراقها، وفي خشونتها، فالذي ذكره الأئمة أن الطلاق يقع، كما ذكرناه، ثم الزوج لا يملك ما جاءت به، ولكن يرده ويسترد ألفاًً من نقد البلد؛ فإن الذي تقتضيه المعاملة التقييد. بنقد البلد، والذي يقتضيه التعليق اتباع الاسم، فوقع الحكم بوقوع الطلاق لتحقق الاسم، وثبت الرجوع إلى النقد الغالب لموجب المعاملة. هذا قول الأصحاب. وهذا مشكل. فليتأمله المنتهي إليه؛ فإن الطلاق إنما يقع لتحقّق الصفة

_ (1) زكاتها: كذا بهذا الرسم تماماً. (ولعل المعنى المر اد صفاؤها وحسنها).

[وتمليك] (1) الدراهم، فلئن كان ما جاءت به على حقيقة الصفة، فليتحقق فيه التمليك؛ فإن الإعطاء معناه التمليك، فالذي يقتضيه القياس الحق أن يتملّك الزوج ما يقع الطلاق بالإتيان به، وإن كان يجب اتباع النقد الغالب، فيجب أيضاًًً أن يتوقف وقوع الطلاق على ما هو المملوك. وهذا لا مطمع في دفعه. [و] (2) في نص الشافعي في (السواد) ما يدل على أنا لا نرجع إلى نقد البلد، ولكن إذا أتت بالدراهم وهي نقرة وازنة، وقع الطلاق للاسم، فإن كانت النقرة معيبة، فعليها ألفٌ خالصة غيرُ معيبة، ولم نرجع إلى النقد الغالب. وهذا فيه دفعٌ لنوعٍ من الإشكال، وهو المصير إلى نقد البلد؛ فإنه لم يعتبره، ولكن لما وضح قصد التمليك في الألف، اقتضى ذلك السلامةَ من العيوب، كما يقتضيه كل ما أُثبت عوضاً. وهذا ليس ينفي الإشكال بالكلية؛ فإن القياس يقتضي ألا يقع الطلاق إلا بما يجري الاستحقاق فيه، وما يقع الطلاق به فينبغي ألا يبدّل. وقد أجمع الأصحاب في الطرق [على] (3) أن الرجوع إلى نقد البلد إذا كان في البلد نقد غالب. وهذا مع اشتهاره لا وجه له أصلاً، وفي إيجاب الإبدال [لعين] (4) المعيب إشكالٌ قائم أيضاًً، ولكنه أمثل من الرجوع إلى نقد البلد، والله أعلم. وقال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: من أصحابنا من قال: إذا وقع الطلاق إذا جاءت بالألف الخالصة الوازنة، فالرجوع إلى مهر المثل، وعلَّل هذا القائل [بأن التمليك] (5) من غير إلزام والتزام، وعقدٍ مشتملٍ على شقيه بعيدٌ. ولكن الزوج لم

_ (1) في الأصل: تمليك. (بدون الواو). (2) الواو زيادة من المحقق. (3) سقطت من الأصل. (4) في الأصل: تعين. (5) زيادة اقتضاها السياق.

يرض بوقوع الطلاق من غير مال، وفسد التملك بلفظ الإعطاء مع [الفعل] (1)، [فكان] (2) مجموع ذلك يقتضي الرجوع إلى مهر المثل. ولو أتت [بألفٍ] (3)، يقع الطلاق بمثلها، وكان النقد الغالب من ذلك الجنس أيضاًًً، فهذا القائل يقول: الألف الذي به [وقع الطلاق] (4) مردود، والرجوعُ إلى مهر المثل؛ لما ذكرناه، من أن لفظ التعليق لا يفيد معنى التمليك على التمام، وليس خالياً عن اقتضائه أيضاًًً، فهذا بيان هذا الوجه. ومما نجري في ذلك أيضاًًً أن من يحمل لفظ المعلِّق على موجب العرف في الدراهم النقص والمغشوشة، كما قدمناه، فيلزمه أن يقول: إذا أتت المرأة بألف -والنقد الغالب غيره- فلا يقع الطلاق؛ لأن اللفظ يتضمن [التقيّد] (5) بالعرف. وهذا بعيد، ولكنه مستند إلى ما تقدم تقريرُه وحكايتُه عن بعض الأصحاب. 8797 - فهذا تمام ما قيل فيه. والمذهب الحكم بوقوع الطلاق إذا جاءت، بألف وازنة خالصة، ثم إن كانت موافقة لنقد البلد، فالزوج يملكه. وإن كان النقد مخالفاً لما أتت به، وقع الطلاق، ورد الزوج ما جاءت به وطالبها بألفٍ من النقد. وإن لم يكن بين ما أتت به وبين النقد إلا تفاوتٌ في النوعين، فإن [تراضيا بما جاءت به] (6) جرى الملك فيه، كما سبق تقريره في السَّلم إذا أتى المسلم إليه بما يخالف، النوع الموصوف والجنس جامعٌ، ولا وجه للخصوص في ذلك، والقياس ما تقد التنبيه عليه من وقوع الطلاق إذا أعطت ما وصف، وتعلق الملك بعينه، وما حكاه الشيخ أبو علي من الرجوع إلى مهر المثل فيه [غَوْص] (7) في الفقه. فهذا تمام الاطلاع على حقيقة هذا الطرف.

(1) في الأصل: "الفصل". ثم المراد (بالفعل) أنها جاءت بالألف وأعطتها. (2) في الأصل: وكان. (3) في الأصل: "بالألف" والمثبت من (صفوة المذهب). (4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (5) في الأصل: "النقد". وهو تصحيف ظاهر. (6) عبارة الأصل: فإن تراضيا الزوجين بمالِ به جرى الملك ... (7) في الأصل: "عوض".

8798 - ومما يتعلق بتمام الكلام أنه إذا قال: إن أعطيتني ألفاًً، فهذا يقتضي أن تأتيَ به على الفور في زمان قبول العقد، حتى لو فرض تخللُ زمانٍ ينقطع بمثله الإيجاب عن القبول، فإذا أتت بالألف بعد ذلك، لم يقع الطلاق. وهذا مما مهدناه عند ذكر أصل الخلع وماهيته. وقد اتفق الأصحاب على هذا في طرقهم. ورأيت في شرح التلخيص أن من أئمتنا من قال: قوله: إن أعطيتني ألفاً لا يقتضي الفور، كما أن قوله إن دخلت الدار لا يقتضي الفور، فإن التواصل إنما يليق بكلامين: أحدهما التماس جواب، والثاني جواب عنه. وهذا وإن أمكن توجيهه، فهو بعيد في الحكاية، لا تعويل عليه، وسيأتي فصلٌ في أنه إذا قال: [إن] (1) أعطيتني ألفَ درهم، فهذا محمول على تسويغ التأخير. فهذا بيان أصول الفصل، والتنبيهُ على موقع الإشكال فيه، والانفصال عما يمكن الانفصال فيه (2). 8799 - ثم مما ذكره الشافعي في ذلك أنه إذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فلو أتته بألفي درهم، وقع الطلاق، ولا أثر للزيادة التي جاءت بها، وليس كما لو قال: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت ألفين، فلا يقع شيء، والفرق أن القبول جواب الإيجاب، فإذا خالفه في الصفة، خرج عن كونه جواباً. وإذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فالإعطاء ليس جواباً، وإنما هو فعل، وإذا جاءت بألفين، فمما جاءت به ألف درهم، ولا اعتبار بالزيادة. ولو قال: إن ضمنتِ لي ألفَ درهم، فأنت طالق، فقالت: ضمنت ألفي درهم، وقع الطلاق، ولا يلزمها إلا الألف؛ فإن الضمان وإن كان قولاً منها، فليس أحدَ شِقَّي عقد، حتى يشترط وقوعه على وفق النسق الصادر من. الرجل. والدليل عليه أن

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "فيه" بمعنى (عنه).

الضمان مما يقبل التأخير إذا ذكر الزوج لفظاً مقتضاه التأخير، وذلك إذا قال: متى ضمنت لي ألفاًً، فأنت طالق. 8800 - ومما نذكره وهو ختام الفصل أنه إذا قال: إن أعطيتني ألفَ درهم، فأنت طالق، والتفريع على أن الطلاق لا يقع إلا بالنقرة الخالصة، فلو أتت بالنقرة المطبوعة وكان النقد الغالب مغشوشاً معلومَ العيار، والبناءُ على أخذِ التملك من النقد الغالبِ وأخذِ الوقوعِ من الدراهمِ الخالصةِ الوازنة، فموجب ذلك أن تسترد الدراهم الخالصة وتغرم للزوج المغشوشة. وهذا في نهاية الإشكال، كما تقدم من الكلام الواضح في المسألة أنها إذا أتت من التبر بزنة ألف درهم [أو بما] (1) فيه وزن الألف، فلا يقع الطلاق، إذا كان المذكور دراهمَ؛ فإن النقرة لا تسمى دراهم ما لم تطبع، وإذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأتته بدرهم خسرواني وزن ألف درهم، ففيه كلام ذكرته في الإقرار بألف درهم، فيطلب في موضعه. فصل قال: "ولو قال: متى أو متى ما أعطيتِني ... إلى آخره" (2). 8801 - قد ذكرنا التفصيل فيه إذا قال: إن أعطيتني، وأوضحنا أن هذا محمول على الفور، وكذلك إذا قال: إذا أعطيتني، فهو في اقتضاء الفور بمثابة قوله: إن أعطيتني. ولو قال: متى أعطيتني، أو متى ما أعطيتني، فهذا لا يقتضي التنجيز، ولكن الأمر موسّعٌ عليها؛ فإن اللفظ صريح في اقتضاء التأخير، فإن أخرت، فمهما أعطت على القرب أو البعد، حُكم بوقوع الطلاق، وليس هذا بدعاً إذا ثبت ما قدمنا ذكرَه من إيقاع لفظ التعليق من غير اشتراط لفظٍ من جهتها في القبول. وكذلك إذا قال: متى ضمنت لي ألفاًً، فمهما ضمنت على القرب أو البعد، وقع

_ (1) في الأصل: أو بأنا فيه. (2) ر. المختصر:4/ 85.

الطلاق؛ فإن ضمانها ليس يُنحى به نحو قبول المال المذكور في صيغة المعاوضة. وإنما سبيله سبيل تحقيق الصفة التي هي متعلق الطلاق، وهو بمثابة الإعطاء إذا قال: إن أعطيتني، أو متى أعطيتني. 8802 - فإذا تبين هذا، فنقول: إذا قال: متى أعطيتني، فلا شك أنها بالخيار إن شاءت أعطت، وإن شاءت لم تعط، ولكن إذا جاءت بالألف على الوجه الذي يقع به الطلاق [ووضعته] (1) بين يديه، فلا حاجة إلى قبضه إياه بالبراجم (2)، هذا يسمى إعطاء على الحقيقة، ثم إن كان لا يفرض فيه إبدال، فكما (3) جاءت به ملكه الزوج، [ردّه أو لم يردّه] (4)، فإنه بعد ما قال، فلا يجد سبيلاً إلى الرجوع عن موجب قوله، وإذا حصل ملكه فيه، فلا يمكنه إخراجه عن ملكه إلا بطريق شرعي من الطرق المُرسِلة للأملاك. وإذا جاءت بها وجرى الملك فيها، سقط خيارها أيضاًًً، فلا تملك استرداده؛ فإن الملك يثبت فيه على اللزوم. وإذا كان علق الطلاق بضمانها، فهي بالخيار [إن شاءت، ضمنت] (5) وإن شاءت لم تضمن، فإذا ضمنت، لزمها الوفاء بما ضمنت، ولا خِيرَةَ بعد الضمان، وجريان الالتزام. 8803 - ومما يتعلق بهذا أنه إذا قال إن أعطيتني ألف درهم، فهذا مذكور على الجهالة، ولكنه يحصل الحنث (6) بالاسم، ثم يتفرع المذهب على حسب ما تقدم.

_ (1) في الأصل: رضيته بين يديه. (2) بالبراجم: أي بالأصابع، وتناوله باليد. كما مرّ آنفاً. (3) فكما: بمعنى عندما. وقد ذكرنا من قبل أن هذا استعمال غير فصيح، بل غير عربي كما فال النووي. (4) في الأصل: الراده أو لم يردّه. (5) زيادة لاستقامة نظم الكلام. (6) الحنث: كذا بهذا الرسم بكل وضوح. ولعل استعمالها هنا من باب الأضداد، فالمعنى أنه يحصل الأداء والإعطاء إذا وضعت بين يديه ألفاًً مما يطلق عليه اسم الدراهم.

وإذا قال: متى ضمنتِ، أو إن ضمنت ألفَ درهم، فالألف مجهول، والضمان فيه على الجهالة ضمانُ (1) مجهول، ولكنه يتعلق بما إذا أعطت ألفَ درهم، ثم سبيل الرجوع إلى النقد الغالب على ما تقدم، ويتجه في الضمان جدّاً الرجوع إلى مهر المثل كما ذكرناه في مسألة الإعطاء؛ فإن التعويل على اللفظ في الضمان، فإذا جرى على صيغة الجهالة، اتجه فيه الرجوع إلى مهر المثل. فظاهر المذهب أنها تضمن الألف، وتطلّق، ثم يستحق عليها ما يستحق إذا قال: إن أعطيتني ألف درهم. هذا هو المذهب. ثم الوجه الذي ذكره الشيخ (2) في الرجوع إلى مهر المثل يعود. وإن وصف، فقال: إن أعطيتني ألف درهم صفتها كذا وكذا، وبالغ في الصفة، فإذا أتت به، فيجب القطع على الطريقة المشهورة بأنها إذا جاءت بها على [ما] (3) وصف، استحق الزوج عينَ تلك الدراهم، وإنما التردد في الرجوع إلى نقد البلد على قول الأصحاب، أو إلى ألفٍ سليمة من العيب على ظاهر النص فيه إذا ذكر الألف مطلقة. ويجري مع الإعلام واستقصاء الوصف الطريقةُ التي ذكرها الشيخ؛ من جهة أنه تلقَّى الفساد من جهة أن التمليك من غير لفظ من جهتها بعيد. وإذا كان السبب هذا، لم يختلف بأن يكون الألف موصوفة، أو لم تكن. ومما يتعلق بهذا أنه إذا قال: إن ضمنت لي ألفاًً ووصف الألف، واستقصى الوصف، فضمنت، فما ذكره الشيخ أبو علي من الرجوع إلى مهر المثل يجري هاهنا أيضاًًً. فإن قيل: معتمده في مسألة الإعطاء أن التمليك من غير قبولٍ من جهتها بعيد. وإذا كان متعلق الطلاق بالضمان وهو يحصل بقولها، فما وجه الرجوع إلى مهر المثل؟ قلت: ضمانها ليس قبولاً لإيجاب، وإنما هو التزام مستقل بنفسه منقطعٌ عن إيجاب من جهة الزوج، ولذلك يُتصور تأخير الضمان عند قول الزوج إذا قال: متى ضمنتِ، كما يتصور ذلك في الإعطاء. فهذا منتهى ما أردناه في ذلك.

_ (1) ضمانُ مجهول: خبر للمبتدأ فالضمان فيه ... (2) الشيخ المراد هنا: الشيخ أبو علي. (3) زيادة من المحقق.

8804 - ولو قال: إن أقبضتني ألف درهم. فهذا على ظاهر المذهب لا يتضمن تمليكاً، فإذا أقبضته، لم يملك الزوج ما قبض، ولم يملك عليها شيئاً غيره، وكان الطلاق الواقع رجعياً، بمثابة ما لو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق. ومن أصحابنا من قال: قوله " أقبضتني " بمثابة قوله: "أعطيتني" في التفاصيل التي قدمناها. وهذا بعيد لا تعويل عليه. وإذا قال: "إذا أقبضتني"، وحملناه على التعليق المحض من غير تمليك، فلا يبنى ذلك على الفور، كما لو قال: إن دخلت الدار، وليس كما لو قال: إن أعطيتني ألفاًً. فإن هذا محمول على الفور، لما فيه من معنى المعاوضة. 8805 - ولو قال: إن أعطيتني ألف درهم، أو متى أعطيتني، ثم أكرهها على الإعطاء، فلا يقع شيء؛ لأن هذا عطاء تمليك والإكراه ينافي التملك. وإذا قال: إن أقبضتني، وقد بان أنه محمول على التعليق من غير رعاية العوضية، فإذا أكرهها، فأقبضته، مكرهةً، فهذا يخرّج على القولين في أن الصفة التي علق الطلاق بها إذا وجدت على صفة الإكراه، فهل نحكم بوقوع الطلاق. وسيأتي شرح ذلك بما فيه في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل. ثم إذا قال: إن أقبضتني، فجاءت به وأوقعته بين يديه، فهذا إقباض، لا يشترط في تحقيق الإقباض أن يقبض الزوج بالبراجم. ولو قال: إن قبضتُ من مالِكِ ألفاًً، فأنت طالق، فقبض من مالها قهراً، وقع الطلاق قولاً واحداً، فإنه قَبَضَ مختاراً وقبضُه متعلَّق الطلاق، فيعتبر الاختيار فيه، ولو أُكرِه فقبض مُكرَهاً، فقولان. 8806 - فهذا غاية ما يتعلق بهذا الفصل في هذا المعنى، والغائلة الكبرى من الفصل فيه إن قال: إن أعطيتني ألف درهم، فجاءت بألفٍ مغصوبة، وسيأتي هذا في فصل مفرد على ترتيب (السواد) (1) ويستكمل فيه الغرض، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) السواد: مختصر المزني كما تكرر مرات ومرات.

فصل قال: "ولو قالت له: طلقني ثلاثاًً ولك ألف درهم ... إلى آخره" (1). 8807 - إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاًً بألف درهم، فطلقها واحدة، وقعت الطلقة بثُلث الألف، سواء أعاد ذكر العوض، أو لم يتعرض لذكره، إذا خرج كلامه جواباً، وأجراه على شرط الاتصال الزماني. هذا مما مهدناه عند ذكرنا أصلَ الخلع [وماهيتَه] (2)، وفرقنا فيه بين الجانبين، فأوضحنا أن المرأة إذا استدعت ثلاثاًً بمال، فأجابها الزوج إلى بعض ما استدعت بقسطه من المال، [نفذ] (3)، وثبت قسطٌ من المال. ولو قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاً بألف، وقالت: قبلت طلقةً بثلث الألف، لم يقع شيء، وقدمنا في إيضاح الفرق بين الجانبين ما فيه مَقْنع. ثم إذا كانت المرأة هي المستدعية، فلا فرق فيما ذكرناه من جريان التبعيض [بين] (4) صلةٍ وصلةٍ إذا استوت الصلات في جواز الاستعمال واقتضاء التعويض. فإذا قالت: طلقني ثلاثاًً على ألف، أو طلقني ثلاثاً، ولك عليّ ألف، أو طلقني ثلاثاًً ولك ألف، فإذا طلقها واحدةً، بانت به، واستحق عليها ثلثَ الألف، كما لو قالت: طلقني ثلاثاًً بألف. وأبو حنيفة (5) خصص جريان التبعيض بصلة (الباء) فقال: إذا قالت: طلقني ثلاثاًً بألف، فطلقها واحدةً، استحق ثلث الألف، وأما إذا قالت: على ألف، أو لك ألف، فلا يستحق الزوج بإجابتها إلى بعض ما سألت شيئاً؛ واعتقد الفرق بين (الباء) و (على) صائراً إلى أن الباء تقتضي التعويض المحقق، والتعويضُ من مقتضاه مقابلة

_ (1) ر. المختصر: 4/ 58. (2) في الأصل: ما وهبته. (3) في الأصل: بعد. (4) في الأصل: من. (5) ر. المبسوط: 16/ 173، 174، ومختصر الطحاوي: 202، وحاشية ابن عابدين: 2/ 562، 563.

الجملة بالجملة وتوزيع الأبعاض على الأبعاض. (وعلى) كلمةُ شرطٍ ومن مقتضى الشرط وجودُ كمال الشرط في ثبوت المشروط. وهذا الذي ذكره خيالٌ لا أصل له، والصلات مستوية في اقتضاء التعويض، وجريان التبعيض. ثم ما أشرنا إليه من التعويض لا يكفي في إجراء التبعيض، حتى نضم إليه نزوعَ المعاوضة في جانبها إلى الجعالة، كما سبق تقريرها. وإذا جرى كلام على البسط تأصيلاً، فلتقع القناعة بإحالة الفروع عليها. هذا أصل الفرع. 8808 - ولو سألت المرأة ثلاثاً بألف. وكان الزوج لا يملك إلا الطلقة الأخيرة، فطلقها تلك الطلقة. قال الشافعي: يستحق عليها تمامَ الألف. وقال المزني: لا يستحق عليها إلا ثُلثَ الألف، وذكر أبو إسحاق المروزي طريقة أخرى، اختارها لنفسه، وقد نزّل عليها نصَّ الشافعي بزعمه، فنذكر طريقته، ثم نذكر تصرفه على النص. قال: الحكم يختلف بعلم المرأة وجهلها، فإن كانت تظن أن الزوج يملك عليها ثلاث طلقات، فإذا طلقها الطلقةَ الأخيرة، وكان لا يملك غيرها، لم يستحق عليها إلا ثلث الألف، ولو كانت عالمةً بأنه لا يملك عليها إلا الثالثة، فسألت الثلاث بالألف، فطلقها الثالثة، استحق تمام الألف، كما قاله الشافعي؛ لأنها لما سألت الثلاث مع العلم بأنه لا يملكها، حُمل سؤالها على تحصيل [الحُرمةِ] (1) الكبرى. هذا أصل كلامه. ثم تصرف على النص، وزعم أن قول الشافعي، في ثبوت الألف بالطلقة الثالثة محمول على ما إذا كانت عالمةً [بأن] (2) الزوج لا يملك إلا الثالثة. فنقول: لا يستقيم تصرفُ المروزي على النص لمسألةٍ تص عليها الشافعي في [الكبير] (3)؛ فإنه قال: لو قالت له: طلقني ثلاثاًً بألفٍ، وكان بقي له عليها طلقتان، فإن طلقها واحدة، استحق ثلث الألف، وإن طلقها ثنتين، استحق كل الألف. ولم

_ (1) في الأصل: الجهة الكبرى. وهو من طرائف التصحيف. (2) في الأصل: لأن. (3) في الأصل: الكثير. والكبير هو من كتب الشافعي.

يفرق بين حالة العلم وحالة الجهل، وهذا لا يستقيم على مذهب المروزي؛ فإن المرأة لو كانت عالمة، فمقتضى أصله أن الزوج يستحق عليها بالطلقة نصف الألف، تنزيلاً للعوض على معلومها. وقد قال الشافعي: لو طلقها طلقة استحق ثلث الألف، فإن حُمل استحقاق الثلث على جهلها، [فمذهبه] (1) أنها إذا كانت جاهلة فلو طلقها الطلقتين، استحق ثلثي الألف، فلا يستمرّ مذهب المروزي في هذه المسألة منطبقاً على النص، ولأن الشافعي أجرى جوابه في الطلقتين على نسق واحد، فقد بطل تصرفه (2)، وبقي مذهبه. 8809 - ومسائل الفصل مُدارة على ثلانة مذاهب: أحدها - النص، والآخر مذهب المزني، [والثالث مذهب المروزي] (3) ونحن نذكر قواعد المذاهب موضحة، ثم نذكر وجوهَها، ثم نفرع المسائلَ عليها. أما مذهب الشافعي، فقاعدته أن المرأة إذا سألت الثلاثَ، فحصَّل الزوج لها الحرمة الكبرى، استحق عليها تمامَ العوض المسمى، ولا نظر إلى العدد، ولا فرق بين أن يكون الزوج مالكاً للثالثة أو لاثنتين، ومهما حصلت الحرمة الكبرى، تعلق (4) به استحقاق تمام العوض. وإن لم تحصل الحرمة الكبرى يوزّع المال المبذول على [العدد] (5) المسؤول، ونُظر إلى ما أوقعه الزوج، فوجب بقسطه من العوض؛ نظراً إلى التوزيع الذي ذكرناه، ولا فرق بين أن تكون عالمة أو جاهلة. وبيان ذلك -على قدر الحاجة إلى تمام التفريع- أنها لو سألت ثلاثاًً وكان الزوج يملك واحدة أو اثنتين، فاستوفى ما يملكه؛ فإنه يستحق تمام العوض. ولو كان يملك طلقتين مثلاً، فطلقها واحدة، استحق ثلث الألف؛ لأنه لم يحصّل الحُرمة

_ (1) في الأصل: فمذهبها. (2) تصرفه: الضمير يعود على المروزي، والمعنى بطل تصرفه في نص الشافعي، فلا يستقيم، ولكن بقي مذهبه في التفريق بين علم المرأة وعدمه. (3) زيادة لاستقامة الكلام. (4) في الأصل: وتعلّق. (5) مكأنها بالأصل كلمة (المال) مضروباً عليها.

الكبرى، فيوزع المبذول على العدد المسؤول، وهي قد سألت الثلاث، فلم يجبها إلا إلى واحدة. هذا [أصل] (1) النص. وأما قاعدة مذهب المزني، فتوزيع البدل على العدد المسؤول أبداً، سواءٌ حصّل الزوجُ الحرمةَ الكبرى، أو لم يحصِّلها. وأصل مذهب المروزي أنها إن كانت جاهلة، فالبدل موزع على العدد المسؤول كما قاله المزني. وإن كانت عالمة بأن الزوج لا يملك تمام المسؤول، فالعوض يقابِل معلومَها وإن علمت أنه لا يملك إلا واحدة، فالعوض في مقابلته. فإن علمت أنه يملك طلقتين يوزع البدل على ما علمته ملكاً للزوج. فإن طلقها بثنتين استحق التمام؛ فإنه استوفى جميع ما علمت. وإن طلقها واحدةً، وهو يملك اثنتين، استحق نصف البدل؛ توزيعاً على معلومها، لا على مسؤولها. هذا بيان أصول المذاهب الثلاثة. ولم ينسب أحد من الأصحاب مذهبَ المزني إلى مذهب الشافعي ومتبعيه إلا الشيخَ أبا علي، فإنه حكى أن بعض الأصحاب رأى مذهب المزني تخريجاً ملحقاًً بالمذهب. وهذا متجه؛ [و] (2) في كلام المزني، ما يدل عليه؛ فإنه قال: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا، والذي يقتضيه الإنصاف تقديمُ تخريجه على تخريج غيره، فإذا كان تخريج ما ذكره على قياس الشافعي، فهو تخريج منه وقد يجانب مذهبُه الشافعيَّ ويخترع لنفسه مقالة؛ فإذ ذاك لا يُلحق بالمذهب. 8810 - توجيه المذاهب: أما مذهب المزني، فوجهه ظاهر؛ فإنها إذا سألت الثلاث بالألف، فقد قابلت عدداً بمبلغٍ، فإذا لم يحصّل الزوج من العدد إلا بعضَه بَعُد أن يستحق تمامَ البدل المسمى. ثم أكد المزني ذلك وتشوف إلى تقدير سؤال وأجاب عنه، فقال: إن نظرنا إلى حصول الحرمة الكبرى، فليست هي حاصلة بالطلقة الثالثة، وإنما تحصل باستيفاء العدد، والاستيفاءُ لا ينحصر معناه على الثالثة، بل إنما يحصل بالطلقتين السابقتين وبالثالثة المنجّزة، وإذا لم يجبها إلى العدد، فلم يأت بما

_ (1) في الأصل: هذا الأصل. (2) (الواو) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

هو مقتضى الحرمة، ومقتضى اللفظ مقابلةُ الألف بالثلاث. وأما وجه النص، فهو أن الطلقات لا تُعنَى لأعيانها، وإنما الغرض الأحكامُ المرتبةُ عليها، والمقصود الأقصى منها الحرمةُ الكبرى، فإذا حصّلها الزوج بالطلقة الثالثة، فقد حصل تمام مقصودها، والعدد لعينه لا معتبر به، فإن الأموال إنما تقابل بمقاصدَ معقولةٍ. فلا يبقى بعد ذلك إلا ما أورده المزني من إحالة الحرمة على الطلقات الثلاث، وقد يشبِّه المزني ذلك بإحالة السُّكر على الأقداح السابقة واللاحقة. وهذا موضع التثبت، [فللقدح الأول والأخير] (1) أثرٌ في العقل مخامرة وتخميراً. ولا يحصل بالطلقة الأولى من تحريم النكاح شيء، ولو فرض حصولٌ لا يتبعّض، وإذا شبه المشبه ما نحن فيه بتغريق السفينة بتثقيلها بكثرة الشِّحنة، وكلُّ قدرٍ يُغوِّص من السفينة قدراً، فلا نظر إلى هذه الأجناس، والذي نحن فيه ليس في معناها؛ فإن شيئاً من حرمة العقد لم يحصل، وإنما تحصل حرمةُ العقد خصلةً واحدةً -من غير ترتب وتبعّض- بالطلقة الثالثة. ثم إذا وضح أن النظر إلى تحصيل المقصود، فالمناقشة في العلة لا معنى لها. وقد حصّل الزوج كلّ المقصود، وما كان حَصل من هذا المقصود شيء قبلُ. وأما وجه مذهب المروزي، فهو أنها إن كانت جاهلةً، فقد ثبتت المقابلة على معادلة المسمى ما سألته من العدد، فيجب رعاية قصدها، وهي مقدورة. فأما إذا سألت الثلاث، والسؤال يتعلق بالاسقبال، فيستحيل حمل سؤالها على محالٍ، فيتعين حمله على المقصود الذي علمته. وهذا ليس بشيء، وليس ينقدح إلا النص، ومذهبُ المزني؛ فإنه يجوز أن يقال: إذا علمت أنه لا يملك الثلاث، وسألت الثلاث، قصدت تنقيص المسمى، إذا استوفى الزوج ما يملك. هذا بيان أصول المذاهب تمهيداً وتوجيهها.

_ (1) ما بين المعقفين مكان كلمات مضطربة رسمت هكذا: " فلا قدح بل الآخر والأولة ".

8811 - ونحن نوضحها الآن بالمسائل الجليّة، ثم نأتي بعدها بالمسائل التي فيها بعض الغموض، ونختتم الفصل بمسائل أوردها صاحب التلخيص، ونذكر فيها ما ذكره الشارحون، إن شاء الله تعالى. فنقول: إذا كان يملك عليها طلقة، فسألت ثلاثاًً بألف، فطلقها الثالثة؛ فإنه يستحق تمام الألف على النص، ويستحق ثلثه على مذهب المزني توزيعاً للبدل المبذول على العدد المسؤول، والمروزي يقول بمذهب الشافعي إن كانت عالمة، وبمذهب المزني إن كانت جاهلة. وإن كان الزوج يملك عليها طلقتين، فسألت ثلاثاً بألف، فتفريع المسألة على النص أنه إذا طلقها الثنتين، استحق الألفَ بحصول الحرمة الكبرى، وإن طلقها واحدةً من الثنتين، استحق ثلث الألف توزيعاً للمبذول على العدد المسؤول؛ فإنها سألت الثلاث، ولم يحصّل الزوجُ مقصود الثلاث، ولم يوقع إلا طلقة واحدة. وأما المزني؛ فإنه يقول: إن طلقها ثنتين، استحق ثلثي الألف، وإن طلقها واحدةً، استحق ثلث الألف؛ فإنه يوزع البدل على العدد المسؤول أبداً. والمروزي يفصّل بين أن تكون عالمة أو جاهلة، ويقول: إن كانت جاهلة، فطلقها طلقتين، استحق ثلثي الألف، وإن كانت عالمةً فطلقها طلقتين، استحق تمام الألف، وإن طلقها طلقة، استحق نصف الألف؛ توزيعاً للبدل على معلومها لا على مسؤولها، فيكون مذهبه في حالة علمها وقد طلقت طلقةً واحدة مخالفاً للنص ومذهب المزني. 8812 - ولو قالت: طلقني عشراً بألف وكان يملك عليها ثلاثاًً أو اثنتين أو واحدة. فالتفريع على النص أنه إن حصّل الحرمة الكبرى، استحق تمام العوض المسمى، وإن لم يحصّل الحرمةَ الكبرى، بل طلّق واحدة من الثلاث، أو واحدة من اثنتين؛ فإنه يستحق عُشر البدل؛ توزيعاً له على العدد المسؤول. فإن كان يملك ثلاثاًً فطلق اثنتين استحق خمس البدل؛ لأن ما أتى به خمس العشرة. وعلى مذهب المزني البدل يتوزع أبداً على العدد المسؤول، حتى لو كان لا يملك

إلا واحدة، لم يملك بإيقاعها إلا عشر البدل، وإن حصلت الحرمة الكبرى. وذكر الشيخ أبو علي في بعض مجاري كلامه أن المزني لا يوزع إلا على العدد الشرعي، فإن زاد السؤال، فالتوزيع مردود إلى الثلاث. وهذا فيه احتمال على مذهبه؛ فإن مذهبه مدارٌ على ركنين: أحدهما - رعاية المقابلة اللفظية، وهذا القياس يقتضي التوزيع على العشر فصاعداً، كيفما اتفق السؤال؛ نظراً إلى اللفظ. والركن الثاني - أنه يقول: الحرمة لا تحصل بالطلقة الأخيرة وحدها، بل تحصل [بها] (1) والطلقتين السابقتين، فعلى هذا لا يبعد رعايةُ الثلاث، والمنعُ من [تعدّيها] (2) في الاعتبار؛ فإن الحرمة الكبرى تتعلق في الثلاث على رأيه. وهذا وإن كان له اتجاه، فالمذهب المعروفُ به التوزيع على العدد بالغاً ما بلغ. وأما المروزي، فإنه يبني مذهبه على العلم والجهل، ولا تكاد المرأة تجهل أن عدد الطلاق لا يزيد شرعاً على الثلاث، فنذكر السؤال على هذا التقدير: فإذا سألت عشراً، وكان الزوج يملك ثلاثاًً مثلاً، فالبدل موزع على الثلاث، فإنها منتهى العدد في علمها، فيقع التوزيع على معلومها، ويكمّل البدل باستيفائه تمام المعلوم. وإن فرض فارض امرأة حديثة العهد بالإسلام، لم يبلغها العدد الشرعي في الطلاق، فإذا سألت عشراً على تقدير أن الزوج يملك ذلك، فالتوزيع يقع على مسؤولها. ومن أصحابنا من تصرف على المروزي، وقال: إنما يؤثر جهلها إذا لم يتعدَّ الحصرَ الشرعي، فإن تعدته، فلا معوّل على جهلها. وهذا ضعيفٌ، ومذهبه أن جهلها مهما تُصوّر معتبرٌ في العدد الشرعي، وفي الزائد عليه. فإن قيل: حكيتم على الجملة خلافاً (3) على طريقة المروزي والمزني في العدد الزائد على العدد الشرعي، وقطعتم باعتبار العدد الزائد على مذهب الشافعي، فما السبب فيه؟ قلنا: ما حكيناه أولاً من مذهب المزني، والمروزيِّ مزيفٌ، لا اعتداد

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: قعد بها. (3) في الأصل: حكيتم على الجملة أنه خلافاً.

بمثله. ثم له (1) وجه على المذهبين، أما مذهب المزني، [فمعوّله] (2) أن الحرمة تناط بالثلاث، وهذا يوجب حصره النظر في الثلاث. والمروزي إنما يحصر اعتبار الجهل فيما يفرض جهله، وما يندر جهله لا معوّل عليه. أما إذا فرعنا على النص [فالتعويل] (3) على شيئين: أحدهما - تحصيل الحرمة الكبرى، وهي المقصود، فإذا لم تحصل الحرمة، فلئن قيل: الزائد على الحرمة لغوٌ، فالمرأة قابلت المال بالثلاث. وبالزائدة (4) عليها، فليقع نظر الفقيه في مقابله، وليعتقد أنه إذا ألغى مقابل المال، لغا المال، وهذا المعنى يوجب التقسيط على المقصود لا محالة، وهذا التقسيط لضبط [المذهب] (5) وإلا فالتقدير إسقاط سبعة أعشار الألف بطريق الإلغاء، فلا تبقى إلا ثلاثة أعشار، فيثبت بالواحدة عشر، وبالثانية عشر آخر، وبالثالثة التمام لحصول الحرمة الكبرى، وكأن الألفَ على حصول المقصود، ويتطرق الإلغاء إليه دون المقصود. فهذا تفريع جليات المسائل على أصول المذاهب. 8813 - ونحن الآن نأخذ في المسائل الغامضة، فنقول: إذا قالت: طلّقني ثلاثاً بألف، وكان يملك عليها ثلاثاًً، فقال في جوابها: أنت طالق واحدةً بألف واثنتين بغير شيء، فتلحقها الطلقة الأولى، وتبين بها، ولا يقع الأخريان؛ لأنها تصير مختلعة بالأولى، والمختلعة لا يلحقها الطلاق. هذا ما ذكره الصيدلاني والقاضي، والأئمة المعتبرون في المذهب. وفي المسألة إشكالٌ لا دفع له، وذلك أنها لما سألت الثلاثَ بألف، فقد سألت كل طلقة بثلث ألف، وقد قال الزوج في جوابها: أنت طالق واحدة بالف، فلم يقع

_ (1) له: الضمير يعود على الخلاف. (2) في الأصل: فمعلوله. (3) في الأصل: والتعويل. (4) وبالزائدة: أي الطلقات الزائدة على الثلاث. (5) في الأصل: مذهب.

كلامه على موافقة تقديرها، وعلى مقتضى مقابلتها، وإذا خالف كلامُ الزوج استدعاءَ المرأة، لم يكن كلامه إسعافاً، وإذا أظهر الزوج خلافاًً، صار مبتدئاً غير مجيب، فالذي يقتضيه القياس الحقُّ أن الطلقة الأولى لا تقع؛ لأنه ربط وقوعها بالتزام الألف، ولم يسبق من المرأة استدعاء ذلك، ولم تقبل أيضاًً الألف على حسب قوله بعد قوله (1)، وإذا لم تقع الطلقة الأولى، وقعت الطلقتان الأخريان رجعيتين. هذا هو الذي لا يجوز غيره، وإذا كان الكلام على مقتضى لفظٍ، وهو على حسب ما ذكرناه قطعاً ولم نصادف على مخالفته نصاً، فلا وجه للتماري في التعلّق بالحق. هذا منتهى المراد في ذلك، نقلاً واستدراكاً. والذي ذكره الأصحاب أن الطلقة الأولى تقع بثلث الألف، وتصير المرأة مختلعة، وهذا على نهاية الخبط (2) والفساد. 8814 - ولو قالت: طلقني ثلاثاًً بألف، فقال: أنت طالق طلقة مجاناَّ بلا عوض، وطلقتين بألف درهم. فنقدم على المسألة تجديد العهد بأن الرجعية هل تُخالع؟ وفي ذلك قولان: أصحهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن مخالعتها تصح؛ فإنه إذا كان يلحقها الطلاق بلا عوض يلحقها الطلاق بالعوض. والقول الثاني - أن الطلاق بالعوض لا يلحقها، وهو منصوص عليه في القديم. وهذه المسألة مفرعة على هذا الأصل، ونحن نصوّرها على وجهٍ لا يلحقها غائلة، ونعيد تصوير الأولى على حسبها حتى يتبين الغرض في النفي والإثبات، ثم نعود إلى ما في المسألة من غائلة، فنقول: إذا قالت: طلقني ثلاثاًً بألفٍ، فقال الزوج: طلقتك واحدة بثلث الألف، واثنتين مجاناً، فتقع الواحدة بثلث الألف، فإن الزوج موافق فيها موجب استدعاء زوجته، ولا تلحق الطلقتان بعدها؛ فإنها صارت مختلعة.

_ (1) على حسب قوله بعد قوله: أي أن قوله صار ابتداء إيجاب يستدعي منها قبولاً بعده. (2) خالف الإمام أئمة المذهب كما رأيتَ، وقد استقرّ المذهب على رأي الإمام، فقد قال الرافعي والنووي عن كلام الإمام: " حسن متجه " وقالا عن رأي أئمة المذهب: " إنه بعيد " (ر. الشرح الكبير: 8/ 454. والروضة: 7/ 420).

ولو قال في جوابها وسؤالها كما مضى: أنت طالق واحدةً مجاناً بلا عوض، واثنتين بثلثي الألف. فهذا يخرّج على أن الرجعية هل تخالع؟ فإن قلنا: إنها تخالع، ثبت ثلثا الألف، وإن قلنا: إنها لا تخالع، فلا يثبت للزوج شيء من المال، ثم إذا لم يثبت المال، فالذي قطع به الأصحاب وقوع الطلاق من غير عوض. وهذا من الأصول، فليتنبه له الناظر، وليقف عنده؛ فإنا نبتدىء فنقول: من طلق امرأته طلقةً رجعية، وقلنا: الرجعية لا تخالع، فإذا قال لها: أنت طالق على ألف درهم، فقالت: قبلت، فالطلاق يقع رجعياً؛ فإنه إن كان لا يلحقها الطلاق بعوض يلحقها الطلاق بغير عوض، فتصير الرجعية في هذا المقام كالمبذرة السفيهة. وقد نص الشافعي وأطبق الأصحاب على أن الزوج إذا قال لامرأته السفيهة المبذرة: أنت طالق على ألف درهم، فقالت: قبلت، فالطلاق يقع رجعياً. ولا شك أن الرجعية في المعنى الذي ذكرناه بمثابة المبذرة، إذا تُصوِّر تطليقُها من غير عوض، وقد وُجد القبول منها على صيغةٍ واحدة، وهما من أهل العبارة، بل عبارة الرجعية إذا لم تكن مبذرة أولى بالصحة. فإن عاود معترضٌ، وأبدى إشكالاً ينعكس على السفيهة، كان كلاماًً في غير موضعه. ثم الذي عليه التعويل في السفيهة أن الطلاق على صيغة المعاوضة يعتمد صورة القبول، ولا يعتمد اللزوم، والدليل عليه أنه إذا قال لامرأته المُطْلَقة (1): أنت طالق على زِقِّ خمر، فقالت: قبلت، وقع الطلاق، والمقبول لا يلزم. ولو التزمت مهر المثل في مقابلة قول الزوج، لم يقع شيء، فاستبان أن التعويل في وقوع الطلاق على التوافق في القبول، على شرط صحة العبارة. وسنُجري مسألة السفيهة بعد ذلك [ونزيدها] (2) كشفاً، والغرض المنتجز الآن تشبيه الرجعية بالمبذرة. وهذا واقعٌ لا رفع له. فخرج من مجموع ما ذكرناه أنها إذا قالت: طلقني ثلاثاًً بألف، فقال: طلقتك واحدة بلا عوض، وطلقتين بثلثي الألف، فلا خلاف في وقوع الثلاث، ولكن إن

_ (1) " المطلقة " أي غير المحجور عليها، فهي هنا في مقابلة السفيهة. (2) في الأصل: وندبرها.

صححنا [مخالعة] (1) الرجعية، وقعت الطلقتان الأخيرتان بثلثي الألف، وإن منعنا مخالعة الرجعية، وقعت الطلقات الثلاث من غير عوض؛ فإن الأولى وقعت رجعية، ثم امتنع بعدها ثبوت العوض. هذا تفصيل القول مع فرض المسألة من غير غائلة. 8815 - فأما إذا سألت ثلاثاًً بألفٍ، فقال: أنت طالق واحدةً مجاناً، واثنتين بالألف، فإن جوزنا مخالعة الرجعية، فالوجه القطعُ بثبوت الألف، ولا حكم لما في لفظه من مخالفة المرأة؛ فإنها قابلت الثلاث بالألف، وقابل هو طلقتين بالألف، والسبب فيه أنه حصّل الحرمة الكبرى، وقد ذكرنا أنه إذا حصلها، فلا نظر إلى العدد، وهذا حكم النص، وعليه التفريع. فإن فرع مفرّع المسألة على مذهب المروزي في حاله، فينقدح في هذه الصورة ألا تقع الطلقتان على موجب القياس الذي ذكرناه، من جهة مخالفة الزوج استدعاءها، وليست هذه المسألة بمثابة الأولى؛ فإنها مفروضة فيه إذا طلق الطلقة الأولى بالألف، مع العلم بأن الأولى لا تفيد الحرمة الكبرى، فاتجه فيها القياس الذي ذكرناه، من جهة [مخالفة الزوج استدعاءها] (2) وإن كان مذهب الأصحاب على مخالفته. 8816 - ومما نفرعه أن المرأة إذا قالت: طلقني واحدة على ألف، فقال: أنت طالق ثلاثاًً، قال الشافعي في هذه المسألة: طلقت ثلاثاً وله الألف. وقال أبو حنيفة (3): لا يستحق عليها شيئاً، وأبو يوسف ومحمد مع الشافعي. معتمد المذهب أنه أجابها إلى ما سألت، وزاد. ولم يخالف أبو حنيفة في أنها إذا سألت ثلاثاً بالألف، فطلقها واحدةً، استحق ثلث الألف، وهذا أقرب إلى مخالفتها. وما ذكرناه فيه إذا قال: أنت طالق ثلاثاًً في مقابلة قولها: طلقني واحدة. فإذا لم يُعد الزوج ذكرَ المال، فالجواب كما ذكرناه.

_ (1) في الأصل: المخالعة. (2) في الأصل: مخالعة الزوج استدعائها. (3) ر. المبسوط: 6/ 182، وحاشية ابن عابدين: 2/ 562.

وإذا قالت: طلقني واحدةً بألف، فقال: أنت طالق ثلاثاً بألف، أو على ألف، فهذا موضع التردد؛ من قِبَل أنها قابلت واحدةً بألف، فقابل الزوج في جوابها ثلاثاًً بألف، فاقتضى ما جاء به الزوج مقابلة طلقة بثُلث الألف، فالذي ذهب إليه معظمُ الأصحاب وقوع الثلاث [و] (1) استحقاق الألف كالصورة الأولى، وهي إذا لم يُعد الزوج ذكرَ المال؛ ووجهه أنه أتى بما سألت وزاد. [و] (2) في بعض التصانيف عن القفال أن الثلاث تقع، ويستحق الزوج ثلث الألف؛ لأنها رضيت بواحدة على العوض، ولم يثبت العوض إلا على مقابلة ملك الواحدة، ولكن لا ترتّب في الطلقات حتى يقال: ثبت الطلاق بمالٍ، ولم [يلحقه] (3) غيرُه. وفي هذا التصنيف وجهٌ آخر، وهو أنه يقع طلقة واحدة فحسب؛ لأن التوافق لم يقع إلا على طلقة واحدة، والزوج قابل الطلقتين الأخريين بمالٍ، والمرأة لم تقبله، وهذا والذي حكاه عن القفال ليسا بشيء؛ إذ لوْ صحّ هذا المسلك، لوجب أن لا يقع شيء؛ من قِبل أنه قابَل كلَّ طلقة بثلث الألف. وهذا يخالف استدعاءها. 8817 - ولو قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف، فقال: أنت طالق واحدة بثلث الألف، لم يقع شيء؛ فإن الاختلاف [بين] (4) الإيجاب والقبول لا فرق فيه بين الزيادة وبين النقصان. ولو قال الرجل: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال: اشتريته بألفين، لم ينعقد البيع، ولم نقل: أتى بالألف وزاد فلغت الزيادة، فلو كانت المسألة التي نحن فيها تخرّج على القاعدة التي شبَّب بها هذا المصنف حكايةً عن القفال، لوجب المصير إلى أنه لا يقع شيء، ثم كان لا يفرّق بين أن يعيد الزوج ذكرَ الألف وبين أن يذكرَ

_ (1) (الواو) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: (في) بدون واو. (3) في الأصل: يلحق. (4) في الأصل: من.

الألفَ إذا [طلق] (1) ثلاثاًً؛ فإنه وإن لم يُعد ذكرَ الألف، [فهو] (2) معادٌ ضمناً، وعلى هذه القاعدة تثبت الأعواض. فإن قال قائل: فما الجواب [فيما] (3) شبّبتم به في إعادة الألف، وفي السكوت عنه؟ قلنا: خروج المسألة على أنه إذا طلقها ثلاثاًً، فقد حقق غرضها، فلا نظر بعد ذلك إلى شيء. وهذا مشكلٌ في صورةٍ سَهْلُ المحتمل في الأخرى، فأما الصورة السهلة، فهي إذا طلقها ثلاثاًً؛ فإنه استوفى ما عنده، وصارت الحرمة الكبرى في حكم الخَصْلةِ الواحدة، فلا تقسيم ولا تبعيض بعد حصولها، وكانت سألت فُرقةً مخففة، فأجابها مغلظة، وينقدح عليه عكس هذه الصورة. وأما الصورة التي فيها عسر هي (4) إذا قالت: طلقني واحدةً بألف، فقال: أنت طالق ثنتين بألف، فلم يتحقق في هذه الصورة حرمةٌ مغلّظة، نتّبعها ونترك العدد، والمقابلة تختلف في الصورة ويترتب على اختلافها اختلاف الاستدعاء والإجابة، ولم ينص أصحابنا على هذه المسألة بعينها، ولكن قياس كلامهم القطعُ بوقوع الطلقتين. وينقدح عندي في هذه الصورة مذهب أبي حنيفة، فليتأمل الناظر مواقف الكلام ومواقع الأشكال. 8818 - وقد انتهى ما أضمرناه من تفريع المسائل الغامضة على القواعد المقدّمة. ونحن نذكر بعدها ما يتعلق بكلام صاحب التلخيص (5) من الزوائد -والله المستعان. فمما ذكره أن المرأة إذا سألت طلقتين [أو ثلاثاً وهو لا يملك] (6) إلا الواحدة،

_ (1) في الأصل كلمة غير مقروءة هكذا (قلق). (2) في الأصل: وهو. (3) في الأصل: كما. (4) نذكر أن سقوط الفاء في جواب (أما) لغة كوفية، جرى المؤلف عليها غالباً. (5) ر. التلخيص لابن القاص: 511. (6) عبارة الأصل: طلقتين ثلاث وهو لا يحلل إلا الواحدة.

والتفريع على النص، وقال الزوج في جوابها: طلقتك اثنتين [الثانية منهما] (1) بألف، فلا يستحق من العوض شيئاً؛ فإنه عرَّى الطلقة الأولى عن العوض، وكان لا يملك غيرها. وقد أتى بذكر الطلقتين أولاً على صيغةٍ تقتضي الجمع، ثم جاء بها تقتضي الترتيب؛ إذ ذَكرَ الثانية، ومن ضرورة الثانية أولى، وهذا لائح، فإن قال في جوابها: أنت طالق اثنتين الأولى منهما بألفٍ، استحق تمام الألف، ولغا تقدير الطلقة الثانية. وكل ذلك يخرّج على أنا لا نرعى العدد مع تحصيل الحرمة الكبرى. ولو سألت طلقتين، وهو لا يملك إلا واحدة، فقال في جوابها: أنت طالق طلقتين، ولم يتعرض لذكر المال وتقديرهِ المقابلةَ، ولما راجعناه، قال: لم يكن لي نية تقدير مقابلة، ولكني زدتُ على ما أملك لفظاً، فكيف السبيل فيه؟ نقول أولاً: لو نوى صرفَ الألف إلى [الأولى] (2) استحق تمام العوض، [أما] (3) لو لفظ أو نوى صرف الألف إلى الثانية -كما صورناه أولاً- لم يستحق شيئاً. وإذا قال: لم يكن لي نية، فقد ذكر الشيخ وجهين: أحدهما - أنه لا يستحق شيئاً؛ فإنه يجوز تقدير الأمر على وجهِ لا يستحق شيئاً، ويجوز خلافه، [والأصل] (4) براءة الذمة. والوجه الثاني - وهو اختيار [أبي زيد] (5) المروزي أنه يستحق تمام العوض لتحصيل الحرمة الكبرى؛ فإنه لم يأت بما يناقض استحقاقَ العوض. وهذا هو الصحيح. والذي يقتضيه كلام الشيخ أنه لو قال: نويت مقابلة الثانية بالعوض لا يستحق. وهذا فيه نظر عندي، فإنه إذا لم يتلفظ بهذا، ولفظه للجمع، فلا يختلف مقتضاه الصريح بنية باطلة.

_ (1) في الأصل: الثالثة منها. (2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (3) فىِ الأصل: كما. (4) في الأصل: والوجه. (5) مكان كلمة غير مقروءة في نسخة الأصل. وأبو زيد المروزي غير أبي إسحاق المروزي الذي سبق مذهبه آنفاً.

ومما ذكره من هذا الجنس أنه لو كان يملك طلقة كما صورنا، فقالت المرأة: طلقني اثنتين بألف، فقال في جوابها: طلقتك اثنتين بألف، فقابل الأولى في لفظ بهما، والتفريع على مذهب الشافعي ونصه، قال الشيخ: اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: يستحق تمام الألف، وهو الصحيح؛ فإن الحرمة الكبرى مهما حصلت، لم يبق بعد حصولها نظر إلى تفصيل المقابلة، وكما لا يعتبر التوزيع على ما سألت إذا أجيبت إلى الحرمة الكبرى، فلا يعتبر التوزيع على ما لفظ الزوج به. ومن أصحابنا من قال: لا يستحق إلا نصف العوض، وهو خمسمائة؛ فإنه قابل الطلقة المملوكة بخمسمائة، فلا يستحق أكثر منها. وهذا ساقط مع حصول الحرمة الكبرى، كما قدمنا. وليس كما لو قالت: طلقني اثنتين بألفٍ، وكان يملك ثلاثاًً، فقال: طلقتك واحدة بخمسمائة؛ فإن تلك الواحدة تقع بالخمسمائة؛ إذ ليس فيها تحصيل الحرمة الكبرى. 8819 - ومما فرعه أن المرأة لو سألت طلقة بألف، وكان الزوج يملك عليها ثلاثاًً، فقال في جوابها: أنت طالق وطالق ثم طالق، نُراجعه. فإن قال: أردتُ مقابلة الألف بالطلقة الأولى، فلا يلحقها بعدها طلاق. فإذا [قال:] (1) أردت [إيقاع] (2) الطلقة الأولى بلا عوض، [وإيقاع] (3) الثانية بالألف، ثم إيقاعَ الثالثة، فهذا يخرّج على مخالعة الرجعية، فإن قلنا: يلحقها الطلاق بالعوض، طُلّقت طلقتين الأولى بغير عوض، والثانية بالألف، ولا تقع الثالثة. وإن قلنا: الرجعية لا تخالع، لم يستحق الزوج من العوض شيئاً، [وطلقت] (4) المرأة ثلاثاً بناء على أن الرجعية إذا خولعت، وقلنا: لا يصح مخالعتها، فيقع الطلاق من غير عوض، قياساً على السفيهة.

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام. (2) في الأصل: ارتفاع. (3) في الأصل: فإيقاع. (4) في الأصل: فطلقت.

ولو قال الزوج: أردت بالطلقة الأولى والثانية رجعتين بلا عوض، [وأردت] (1) مقابلة الثالثة بالعوض، فالذي ذكره الأصحاب أن ذلك يخرّج على القولين في مخالعة الرجعية، وهو بيّن لائح. فإن جوّزنا مخالعتها، وقع الطلاق، واستحق الزوج الألف كَمَلاً، وإن منعنا مخالعة الرجعية، وقع الثلاث، ولم يستحق الزوج شيئاً. وقال الشيخ أبو علي في الشرح: إذا طلق الرجل امرأته طلقتين، وجرت في عدة الرجعية، فخالعها على الثالثة، صحت المخالعة على الثالثة قولاً واحداً؛ فإنه يتعلق بها مزيد فائدة، وهي الحرمة الكبرى، وإنما القولان في مخالعتها بالطلقة الثانية، وهذا تفصيلٌ لم أعرفه (2)، ولم أره إلا له، وليس فيه كبير معنى؛ فإن الخلع بالطلقة [الثانية] (3) يفيد البينونة وبتَّ النكاح، فإذا لم يصحح الخلع مع ذلك، فأي أثر للحرمة الكبرى في التصحيح. 8820 - ثم إن صاحب التلخيص أتى بكلام مضطرب، وأعاد صوراً أجاب فيها بخلاف ما سبق من جوابه في أعيانها، فكانت هذه المسألة معروفةً بكثرة عثراته، ونحن لا نذكر ما لا يفيد معنى ولا يجدي فقهاً، فالذي يتعلق به -على كل حال- شيٌ أنه قال: إذا [كان] (4) الرجل يملك طلقة واحدة، فسألت المرأة ثلاثاًً، فقال في جوابها: أنت طالق ثلاثاً، قال: يثبت الرجوع إلى مهر المثل، وقد سألت الطلاقَ الثلاثَ بالألف (5)، ولم يتعرض لهذا الكلام فيما تقدم، بل أطلق ما أطلقه الأصحاب من ثبوت البدل المسمى إذا [حصلت] (6) الحرمةُ الكبرى، واتفق معظم الأصحاب على

_ (1) في الأصل: فأردت. (2) خالف ابنُ أبي عصرون الإمامَ في هذا، حيث قال معقباً: "قلتُ: إن غَرُبَ هذا القولُ عنده، فهو معروف عند أهل العراق، وأما أثره، فظاهرٌ؛ فإنها تقصد بالعوض تأكيد البينونة، وحصولُها بالثالثة آكد لا محالة، وإنما جاء الخلاف في الثانية؛ لأنها لا تفيد إلا الحرمة وقد حصلت بالرجعة الأولى" ا. هـ. (3) في الأصل: "الثالثة ". وهو خطأ لا يستقيم الكلام معه. (4) في الأصل: قال. (5) ر. التلخيص لابن القاص: 512. (6) في الأصل: جعلت.

تغليطه في إثبات مهر المثل، وتناقضُ كلامه بيّنٌ لا حاجة إلى تكلفٍ في إيضاحه. قال الشيخ أبو علي: وجدت نسخاً من التلخيص أصلح فيه ذكر مهر المثل [وحذفه] (1). ووجدتُ (2) لبعض الأصحاب وجهاً غريباً أنها إذا سألت ثلاثاًً والزوج لا يملك [إلا] (3) واحدة أو اثنتين، فحصّل الحرمة الكبرى بإيقاع ما يملك -أن البدل المسمى يسقط، والرجوع إلى مهر المثل؛ لما حصل من الاختلاف بين القولين، والمسمى إنما يثبت عند التوافق المحقق؛ ولا سبيل إلى تعرية الحرمة الكبرى عن العوض؛ فكان الرجوع إلى مهر المثل. وهذا ليس بشيء، وبأمثاله تختبط أصول المذهب. وأنا لم أذكره وأنا أسوق ترتيبَ المذهب، وأخّرت ذكره؛ حتى لا يعدّ من المذهب. وقد [انتهى] (4) هذا الأصلُ العظيم من الخلع مشتملاً على أكمل البيان، منبهاً على مواقع الإشكال، وإلى الله الابتهال في الإكمال. فصل قال: "ولو بقيت له عليها طلقة، فقالت: طلّقني ثلاثاً بألف، واحدةً أحرم بها عليك ... إلى آخره" (5). 8821 - إذا كان الرجل يملك طلقة واحدة، فقالت المرأة: طلقني ثلاثاً واحدةً أحرم بها، وثنتين إن نكحتني، فقد ذكر أصحاب القفال صورتين: إحداهما - أن تستدعيَ منه ثلاثَ طلقات بألفٍ: واحدةً تنجز الحرمة، واثنتين يلتزمهما في الذمة إذا نكحها يوماً، نجّزهما. هذه صورة. فإذا نجّز الطلقة التي يملكها، والتزم طلقتين، فالذي ذكره الأئمة المراوزة أن

_ (1) غير مقروءة في الأصل، والمثبت من (صفوة المذهب). (2) ووجدتُ: هذا كلام الإمام، وليس حكاية كلام الشيخ أبي علي. (3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (4) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (5) ر. المختصر: 4/ 59.

الطلاق المنجز ينفذ بالمال، ولكن المسمى لا يثبت، والرجوع إلى مهر المثل. والسببُ فيه أنها قابلت المال بتنجيز والتزامٍ في الذمة، والتزامُ الطلاق في الذمة فاسدٌ، فشرطه فاسد مفسد؛ وإذا فسدت صيغة العقد والطلاقُ المنجَّز لا مردَّ له، وقد تثبت المالية، فينحصر [أثر] (1) الفساد الواقع في صيغة العقد في المال المسمى. وهذا النوع من الفساد يوجب الرجوع إلى مهر المثل، على ما سنعقد في ذلك فصلاً جامعاً لمحل الخلاف والوفاق. ثم لو فرض نكاحٌ، فلا شك أن الزوج لا يطالَب بالوفاء بما التزمه من الطلاق؛ فإنا أفسدنا الالتزامَ، ولو وجب الوفاء، لصح الالتزام. 8822 - الصورة الثانية: أن تقول: طلقني الواحدة التي تملكها، وعلّق طلقتين إن نكحتني يوماً ولك ألف، فإذا نجّز ما ملك، وعلق الطلقتين، كما استدعت، فالتعليق مردود، فإنه تعليقٌ للطلاق قبل النكاح، وصيغة استدعائها فاسدة [و] (2) الرجوع إلى كمال مهر المثل، كما ذكرناه في الصورة الأولى المشتملة على التزام الطلاق بدل التعليق. فهذا منتهى ما بلغنا من قول أصحاب القفال. 8823 - وذكر صاحب التقريب في المسألتين طريقةً أخرى حسنةً، فقال: قد جمعت المرأة بين طلاقٍ يصح الاعتياض عنه، وبين طلاقين لا يصح الاعتياض عنهما، وقابلت الكلَّ بعوض، فالوجه تخريج ذلك على تفريق الصفقة، ولو جمع الرجل في صفقة واحدة بين عبد يملكه، وعبدٍ مغصوب أو حُرٍّ، وفسد العقد في المغصوب أو الحر، ففي فساده في المملوك قولان، فليكن الأمر كذلك في الطلاق. فإن قلنا بصحة تفريق الصفقة، فيصح الخلع متعلّقاً بالمسمى في الطلاق المنجز. وإن حكمنا بالفساد لم يُرَدّ الطلاق، ولكن نحكم بفساد ما يقابله من المسمى، ثم نفرِّع عليه أنا إذا صححناه، فللمرأة الخيار، بسبب تبعّض المقصود صحةً وفساداً. فإن أجازت، فبكم تجيزه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها تجيز بتمام المسمى. والثاني

_ (1) في الأصل: بأثر. (2) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.

-أنها تجيز بقسطٍ، فيلزمها ثلثُ المسمى، والطلقات في حكم التوزيع متساويةً بلا خلاف بين الأصحاب. وإن فسخت، ارتد البدل بجملته إليها، وكان الرجوع إلى مهر المثل في المذهب الظاهر. وكل ما ذكرناه تفريع على تصحيح تفريق الصفقة، وإن أفسدناها، فالرجوع إلى مهر المثل، لا غير، كما حكيناه عن الأولين. وهذا الترتيب حسن، لم يتعرض القفاليون إليه، ذكره صاحب التقريب، وأورده العراقيون على هذا الوجه. فإن قيل: إذا [لم تصححوا] (1) باب التفريق، فهلا قلتم: إنا وإن أفسدنا الصفقة بسبب التفريق، فلا يلزمها إلا قسط من المسمى؟ قلنا: هذا ليس بشيء، فإنا إذا أفسدنا العقد، ولزم الرجوع إلى المال، فالوجه الرجوع إلى قيمة ما فات على الزوج، وقيمة ما فات على الزوج مهر المثل، ولو [عُدْنا] (2) إلى أعداد الطلقات والتوزيع عليها، لكان هذا حكماً بالصحة، وقضاءً بثبوت المقابلة، وهذا ظاهر، ولكني لا أرى التبرّم بذكر الظواهر في الكتب المنعوتة بالإشكال. فإن قيل: هل تتوجه طريقة القفالين بشيء؟ قلنا: أجل، وجهُهُ أن الطلاق الملتزمَ في حكم ما لم يحصل (3)، ولا يقدّر مضموماً إلى غيره، حتى يخرّجَ على قاعدة التفريق، ولا وقع له إلا من جهة تنزيله فاسداً مفسداً. 8824 - ومما يهجِس في القلب تقويةُ الصحة على نص الشافعي، فإن المرأة لو سألت ثلاثاً وكان الزوج لا يملك إلا واحدةً، فطلقها [تلك] (4) الواحدة، فإنه يملك تمام المسمى من غير حكمٍ بتقسيطٍ ولا فسادٍ؛ [نظراً] (5) إلى تحصيل الحرمة

_ (1) في الأصل: إذا صححتم. (2) في الأصل: قدرنا. (3) عبارة الأصل: ما لم يحصل به ولا يقدر مضموماً. (4) مكان كلمة غير مقروءة. (5) في الأصل: ينظر.

الكبرى، فإذا كنا نُحبط أثر سؤالها في طلقتين، ونصحح البدل المسمى ونُثبته، فإلغاءُ سؤالها التزامَ طلقتين أو تعليقَهما أولى. ويجب أن يخرّج على هذا القياس ثبوتُ البدل المسمى، وإن أفسدنا البدلَ، و [قلنا] (1): الرجوعُ إلى مهر المثل، اتجه ما [ذكره] (2) في شرح التلخيص من الرجوع إلى مهر المثل إذا سألت الطلاق [ثلاثاًً] (3) والزوج لا يملك إلا واحدة أو اثنتين. فليتأمل الناظر ذلك يرشُد. 8825 - ومن بقية الكلام في المسألة أنا إذا جرينا على طريقة المراوزة، ورأينا إفساد المسمى والرجوعَ إلى مهر المثل، فلو نجّز الطلقة التي يملكها، ولم يسعفها بالتزام طلقتين، ولا بتعليقهما، فكيف الوجه؟ هذا مُتَرَدَّ؛، فليتأمله الناظر، فإن قلنا: لا أثر لإسعافه بذكر الالتزام والتعليق، فكلاهما في حكم اللغو المطَّرح، ويجب على مساقه إثبات البدل المسمى على الصحة، نظراً إلى ما حصل من الحرمة الكبرى. وإن قلنا: لا بد (4) أن يذكر الزوجُ الالتزام أو [التعليق] (5)، فيجب أن يقال: إذا لم يفعل، فتقع الطلقة الثالثة (6) [بلا عوض] (7)، وهذا بعيد جداً. وإن قيل: يجب [بما] (8) نجّز ثلثُ العوض، فهذا تصحيح [التفريق] (9) وهو خوضٌ في طريق صاحب التقريب في تفريع التفريق، إجازةً وفسخاً، وصحة وفساداً. 8826 - فإذاً اتجه في الصورتين المذكورتين في الفصل ثلاثُ طرق: أحدها- طريقة التفريق.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " ذكره ". (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: ولا بدّ (بزيادة واو). (5) في الأصل: تعلّق. (6) الثالثة: أي التي يملكها. (7) في الأصل: فلا عوض. (8) في الأصل: ما. (9) زيادة من المحقق.

والأخرى - تصحيحُ المسمى، وإلغاءُ التعرض للزائد على الطلقة المملوكة، والاكتفاءُ بتحصيل الحرمة؛ تخريجاً على النص في أن الزوج إذا [كان] (1) يملك واحدةً والتمست المرأة ثلاثاًً، فلا نظر إلى التماسها، والتعويلُ على تحصيل الحرمة. والطريقة الثالثة - لأصحاب القفال: وهي القطع بإفساد المسمى، وحملُ ما جاءت به على شرطٍ فاسد مفسد. وهذه الطريقة هي التي تصح على السَّبْر. والفصلُ بين ما نحن فيه وبين استدعائها ثلاثاًً والزوج يملك واحدة أنها لم تُظهر مقصوداً مرتقباً، وإنما طلبت أمراً ناجزاً، ومقصودُها تحصيل الحرمة الكبرى. وفي مسألتنا طلبت الحرمة الكبرى، ورامت وراءها أمراً مرتقباً معلقاً، أو ملتزماً، ففسد قصدُها، وهو معقول، وليس ما أبدته مما ينضم إلى ما طلبته في الحال، حتى يلحق بالتفريق، ولا وجه لإلغائها، فكان مؤثراً في إفساد الصيغة. ثم إذا ذكرت اشتراط الالتزام [أو] (2) التعليق، فالوجه بعد المباحثات القطعُ بأنا لا نشترط أن يتلفظ بالتزام أو تعليق؛ فإنهما فاسدان، ولا معنى لاشتراط الإتيان بالفاسد، وليس كما لو علق طلاقاً بأمر يفسد من جهتها؛ فإنه لا بد لها من الإتيان به لتطلّق؛ فإن تعليق الطلاق بما يفسد في نفسه صحيحٌ في ذاته، فخرج [أنها] (3) إذا اشترطت الالتزام أوالتعليق، فطلقها الزوج الطلقة التي يملكها، كفى ذلك والرجوع إلى مهر المثل. فصل قال: "ولو خالعها على أن تكفل ولده عشر سنين ... إلى آخره" (4). 8827 - هذه المسألة عدها بعضُ الناس من مُعْوصات الخلع، وليست منها، وهي في التحقيق متلطفة (5) في الكتاب، وفي مثلها أوثر قبضَ الخُطَى في البيان، والإحالةَ

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: والتعليق. (3) في الأصل: منها. (4) ر. المختصر: 4/ 59 - 60. (5) كذا: وربما كان صوابها (متطفلة).

على الأصول، وهي في التحقيق مبنية على الاستئجار على الإرضاع والحضانة، وأن الصفقة إذا جمعت عقدين مختلفي الحكم كالبيع والإجارة، ففي صحة الصفقة خلاف. ومما يجرى في أركان المسألة أن السَّلم في شيء واحد إلى [آجال] (1) هل يجوز؟ وفيه قولان. وكذلك السلم في أصنافٍ إلى أجل واحد فيه قولان؟ وجملة هذه الأصول سبقت مقررة في مواضعها، ونحن نكتفي بالإحالة عليها إذا تعلقت أطراف الكلام بها. 8828 - ومما يجرى في المسألة [أن] (2) من استأجر امرأة لترضع له مولوداً عيَّنه، فلو مات ذلك المولود في أثناء مدة الرضاع، فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه نظر. فإن كانت أجنبية منه، ففي فسخ الإجارة [واستبقائها] (3)، وجواز الإتيان بولد آخر تفصيلٌ طويل، ذكرته في أول كتاب الصداق، فيه إذا استأجر رجل خياطاً حتى يخيط له ثوباً معيناً، أو حتى يعلّم له صبياً، فإذا فات المحل الذي تضمنت الإجارة إيقاعَ العمل فيه، ففي انفساخ الإجارة الخلاف المقدم. فإن حكمنا بأن الإجارة تنفسخ لفوات المحل الذي تقع فيه، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ، فلو كانت المستأجرة أمَّ الرضيع، فإذا مات الرضيع، ففي انفساخ الإجارة قولان: أحدهما - وهو الأقيس أنها لا تنفسخ، كما لو كانت أجنبية من الرضيع. والثاني - أنها تنفسخ؛ فإن الغرض يختلف في درور اللبن [ونكادته] (4) وكل ذلك

_ (1) في الأصل: إلى الأجل. وهو خطأ واضح؛ فإن ذلك ليس محل خلاف. وإنما الكلام في إطعام الطفل إلى سنوات أي آجالٍ. وعبارة العز بن عبد السلام: "وأسلم في جنسين إلى أجل وأجناسِ إلى آجال". (ر. مختصر النهاية: 4/ 122) وعبارة الرافعي عن الصورة، "تتضمن عقدين مختلفين؛ فإن السبيل في الإرضاع والحضانة سبيلُ الإجارة، وفي الطعام والإدام سبيل السلم، وأيضاًًَ فإنه يتضمن السلم في أجناسٍ مختلفة إلى أجل، والسلم في جنسِ واحد إلى آجالٍ متعاقبة" (ر. الشرح الكبير: 8/ 430). (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: واستيقافها. (4) في الأصل: ونكاته. وقوله: " ونكادته " أي قلته، من قولهم نكِد ماء البئر (بكسر ثانيه):=

مستقصىً في موضعه. وسيأتي قواعد في الاستئجار على الإرضاع في كتاب الرضاع مشتملة على ما ذكرناه. ويتصل بالمسألة الكلامُ في بدل الخلع إن أفسدناه أو صححناه، ويتصل الكلام بالتبعيض إذا جرى الاستيفاء في البعض، وعَسُر استيفاء الباقي. فهذه الأصول إذا كانت على ذُكر الإنسان لم يخف عليه تفريع المسألة. 8829 - وصورة مسألة الكتاب أن يخالع الرجل امرأته على أن ترضعَ ولده، وتكفله عشر سنين، [ويذكر] (1) الإرضاعَ والحضانةَ، وقد نقول: الإرضاع يكفي؛ فإنه يستتبع الحضانة، ويذكرَ أجناس الأطعمة في كل يوم قدراً وصنفاً، ويتعرضَ [للكسوة] (2) إن كانت مقصودة في المعاملة، ويعتني بالإبانة فيها؛ فإنها تختلف بالصغر والكبر، والصبي إلى النمو ما هو. هذه صورة المسألة؛ والشافعي نص على تصحيح المعاملة [تفريعاً] (3) على تصحيح الصفقة إذا اشتملت على عقود مختلفة؛ إذ في المعاملة إجارةٌ واستحقاقُ عينٍ، وأجناسٌ موصوفة إلى أجل واحدٍ في كل يوم، وجنسٌ إلى آجال، ولا حاجة إلى الإطناب. ثم إن كان الطعام كِفافاً، فلا كلام، وإن كان المقدّر فاضلاً عن الكفاية، فهو للزوج. وإن كان الصبي [رغيباً] (4)، لا يكفيه المقدّر، فالمزيد على الأب إن لم يكن الطفل [غنياً] (5). وإن ماتت المرأة وراء مدة الإرضاع، فلم يبق عليها عمل، فالأعواض المؤجلة عليها تحل بموتها، وإن كان عليها عمل، فالإجارة تنفسخ في بقية المدة، ولا تنفسخ

_ = أي قل ماؤه، والناكد الدابة قليلة اللبن. (المعجم). (1) في الأصل: وذكر. (2) في الأصل: " البنوّة ". (3) في الأصل: تفرعاً. (4) في الأصل: غريباً. "ورغيباً": أي نهماً كثير الأكل، من قولهم رغُب فلان: اشتد نهمه وكثر أكله، فهو رغيب ورغِّيب. (المعجم). (5) في الأصل: "رغيباً " وهو تصحيف، والمعنى: إن لم يكن الطفل غنياً، فالزيادةُ على الأب.

فيما مضى على الأصح، فإن المقبوض التالف (1) لا يقبل الفسخ على الظاهر. وإن حكمنا بالانفساخ في المستقبل، فلا تنفسخ المعاملة في الأعيان على الأصح وإن اتحدت الصفقة، لاختلاف الصنف والحكم والمقصود. ثم يتفرع وراء ذلك الكلامُ في أن بعض العوض إذا انفسخت المعاملة فيه، فالرجوع إلى قيمته، أو إلى قسط من مهر المثل. كل ذلك بيّنٌ، لا حاجة إلى الإطناب بذكره. ومن لا يستفيد الاستقلالَ بتفريع مثل ذلك [إذا انتهى] (2) إلى هذا المنتهى، فليس من أهل النظر في هذا المجموع. 8830 - وما ذكرناه مرامزُ مفرّعةٌ على تصحيح المعاملة، فإن أفسدت (3) ففي المسألة طريقان: أحدهما - أن المسألة تخرّج على قولين في أن الرجوع إلى مهر المثل أو إلى أبدال هذه الأشياء مِثلاً أو قيمةً. ومن أصحابنا من قال: الرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً، فإن الفساد راجعٌ إلى صيغة المعاملة. ولو كنا نجوّز الرجوع إلى الأبدال المختلفة، لأثبتنا المبدلات المختلفة. وهذا سيأتي مشروحاً في الفصل الذي نجمع فيه تفصيلَ القول في فساد بدل الخلع -إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ولو قال: أمرك بيدك فطلقي نفسك إن ضمنتِ لي ألف درهم ... إلى آخره" (4). 8831 - وإذا قال الرجل لامرأته: طلقي نفسك، فهذا توكيل منه إياها أو تمليك؟ في المسألة قولان: أحدهما - أنه توكيل، فعلى هذا إن طلقت نفسها على الفور، جاز. وإن طلقت نفسها بعد زمان، وبعد مفارقة المكان الذي جرى التفويض فيه،

_ (1) المقبوض التالف: التالف هنا بمعنى المستهلك، أي المنفعة التى استهلكت وأتلفت فى مدة الإجارة التي مضت قبل موتها. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: أفسد. (4) ر. المختصر: 4/ 60.

جاز، وكانت بمثابة الأجنبي يقول له الزوج: طلق زوجتي؛ [فإن] (1) ذلك تفويض لا يستدعي استعقاب تنفيذ الطلاق. والقول الثاني - أن التفويض إلى المرأة تمليك، وليس بتوكيل؛ فإن البضع يرجع إليها. بتطليقها نفسها تصير مالكةً لنفسها، وسيأتي القولان بتوجيههما وتفريعهما في كتاب الطلاق، إن شاء الله تعالى. 8832 - وقدر غرضنا منهما الآن أنا إن جعلنا ذلك تمليكاً، اقتضى ذلك استعقابَ تطليق نفسها؛ فإن التمليك يجري مجرى المعاقدة، على ما سيأتي ذكره مشروحاً، إن شاء الله تعالى. ثم إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن ضمنت لي ألفاًً، فإذا ضمنتْ، طُلّقت. وإذا قال لها: طلّقي نفسك إن ضمنت لي ألفاًً، فإنها تملك تطليق نفسها بشرط أن تضمن ألفاًً، فإذا ضمنت [وطَلَّقَتْ] (2) فقد تعاطت الشرطَ والمشروطَ، وكل ذلك مسوّغ في اتساع باب تعليق الطلاق بإعطاء المال، [واتساع] (3) صدره لقبوله؛ [فلم يَخْفَ] (4) بعده اتباع التعليق، فإن قيل: هي المتسببة إلى السبب الملزم للمال، وهي الملتزمة؟ قلنا: الالتزام بالضمان في التطليق يقع بإيقاع الزوج، أو بإيقاع من يفوِّض إليه الزوج. ثم [لو] (5) قال لها: طلقي نفسك إن ضمنت لي ألفاًً، ورأينا أن تفويض الطلاق بمجرده يقتضي استعجالَ التطليق، فإذا ضمّ إلى تفويض الطلاق شرط ضمان المال، تأكد اشتراط الابتدار. وإن قلنا: مجرد التفويض لا يوجب الابتدار، فإذا قال لها: طلقي نفسك إن ضمنت لي ألفاًً، فالأصح أن هذه الصورة تقتضي الابتدار في الضمان والتطليق؛ فإنه

_ (1) في الأصل: كان. (2) في الأصل: تطلَّقت. (3) في الأصل: واتسع. (4) في الأصل: لم يخف. (5) زيادة اقتضاها السياق.

لو قال لها: إن ضمنت لي ألفاًً، اقتضى ذلك بداراً، فليكن الأمر كذلك والطلاق مفوض. ومن أصحابنا من قال: إذا جعلنا التفويض توكيلاً، وهو على التراخي، ثم ما فيه من اقتضاء التراخي يستتبع أمر المال في معنى التأخير، فمهما ضمنت ملكت أن تطلق نفسها بحكم التوكيل، وهو كما لو قال الرجل لأجنبي: طلق امرأتي إن ضمنت لي ألف درهم، فهذا محمول على التأخير؛ إذ قد يجري مثل هذا في [غيبتها] (1). والآن يتعلق هذا الكلام بأطراف التوكيل في الخلع، وسيأتي مستقصىً في موضعه، إن شاء الله عز وجل. 8833 - ثم إذا قلنا: تطليقها وضمانها على الفور، فإليها التقديم والتأخير، وليكن الأمران جميعاً على التواصل، فتقول: طلقت نفسي، وضمنت ألفاًً أو ضمنت ألفاًً وطلقت نفسي، ولا حرج فيما تُقدِّم أو تؤخر. فإن قيل: إذا قالت: طلقت نفسي تحكمون بوقوع الطلاق؟ قلنا: لا يقع الطلاق حتى تضمن، ولا نقول: إذا ضمنت، تبيّنّا وقوعَ الطلاق قبل الضمان؛ فتطليقها نفسها مع الضمان كتطليق الزوج إياها على شرط الضمان. ولا يتخيل الفقيه غير ذلك. ولو قالت: ضمنت الألف، وطلقت نفسي، فلا نحكم بأن الضمان يُلزمها مالاً قبل أن تطلّق، بل يقع [الاثنان معاً] (2). ومما يتعلق بذلك أنا إذا قلنا: التفويض إليها توكيلٌ، ولم نحكم بأن ذكر المال يقتضي فوراً، فلو أخرت تفريعاً على هذا الوجه، فطلقت نفسها، ثم ضمنت المال بعد زمان متخلل بين التطليق والضمان، فلا ينفذ الطلاق؛ فإنا وإن أخرنا تطليقها، فلا فصل بين الطلاق والضمان؛ فإنه لا يثبت واحد منهما. دون الثاني. وكذلك لو قال: طلقي نفسك متى ضمنت، فقوله " متى " يؤخر عن تفويضه لا عن تطليقها.

_ (1) في الأصل: "عينها" والمثبت بمساعدة ابن أبي عصرون. (2) في الأصل: الآن معاً.

فصل قال: "ولو قال: إن أعطيتني عبداً، فأنت طالق ... إلى آخره" (1). 8834 - مضمون الفصل الكلام فيه إذا ربط الكلامَ بعوض مطلقٍ، أو معين، والقولُ في ذلك مضطربٌ في الطرق، ونحن نرى أن نجمع العوض في نوعين، ونأتي في كل واحد منهما بالمسائل اللائقة مرسلةً، ونذكر في كل مسألة ما بلغنا من قول الأئمة، حتى إذا استوعبنا مضمون كل نوعٍ بالمسائل، انعطفنا بعدها على ذكر جامعٍ ضابطٍ إن شاء الله عز وجل، ثم نختتم الفصلَ بعثراتٍ وقعت لا نعدُّها من المذهب، ولا نرى تَرْك نقلها. 8835 - فأحدُ النوعين فيه إذا علّق الزوج الطلاق على عوض يحصل بفعلٍ، مثل أن يقول: إن أعطيتني. والثاني فيه إذا جرى العوض على صيغةِ المخالعةِ والمعاوضة من غير تعليق من الزوج، وهذا النوع يستدعي قبولاً، لا محالة، كما بان فيما تقدم، وسيزداد وضوحاً. 8836 - فأما مسائل التعليق، فإذا قال لامرأته: إن أعطيتني عبداً، فأنت طالق، فإذا جاءت بعبدٍ يتصوّر إجراء التمليك فيه من جهتها، نحكم بوقوع الطلاق لوجود الصفة، ولا فرق بين أن يكون ذلك العبد معيباً، أو سليماً؛ فإن التعويل في الحكم بوقوع الطلاق على تحقيق الاسم، وإمكان الإعطاء، وهذا ناشىء من الأصل الذي تمهد قبلُ في أن الرجل إذا قال لها: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، فإذا أعطته، طُلِّقت، وقد تملّك الزوج عينَ ما تأتي به، إذا كان الألف معلوماً، على ما تقدم تفصيله وإيضاحه. وقد يقتضي الحال ردَّ ما جاءت به ومطالبتَها بألفٍ [غيرِها] (2) على ما تفصّل، فإذا

_ (1) ر. المختصر: 4/ 60. (2) زيادة من المحقق.

جرى التعليق على العبد المطلق، فهذا مجهولٌ لا محالة، والمجهول لا يُستحق عوضاً، فيقع الطلاق إذاً، [والعبد] (1) مردودٌ عليها، ثم الرجوع إلى مهر المثل في هذه الصورة قولاً واحداً؛ فإنا إذا لم نثبت الشيء عوضاً لكونه مجهولاً، فلا طريق إلا الرجوع إلى مهر المثل. 8837 - هذا إذا أتت بعبدٍ هي مالكته، ويتصور منها إجراء التمليك فيه، فإن غصبت عبداً وجاءت به، فقد ذكر الأئمة وجهين في وقوع الطلاق: أحدهما -وهو الذي مال إليه المحققون، وقطع به معظمهم، منهم القاضي- أن الطلاق لا يقع؛ فإن الإعطاء متضمنه التمليك، فينبغي أن تأتي بما يتصور منها التمليك فيه، حتى إن فرض عدم جريان الملك فيه، فلا يكون من جهتها، وإنما يأتي تعذُّر جريان الملك، من جهةٍ أخرى، فتُسمَّى مُعْطية؛ من حيث بذلت الوسع والإمكان الصادر منها، فعند ذلك تسمى مُعطية، والذي يُحقِّق هذا أن الرجل قد يقول: أعطيت فلاناً شيئاً، فلم يقبله، فإذا أتى بمغصوبٍ، وقال: قد أعطيت فلاناً، فلم يقبل، كان كلامه مضطرباً، ورُدّ عليه: وكيف أعطيتَه، ولم يكن لك؟ فهذا بيان هذا الوجه. والوجه الثاني - أن الطلاق يقع؛ فإنها لو أتت بعبدٍ مملوك لها، وصيغة التعليق ما وصفناه، وهو قوله: إن أعطيتِني عبداً، فالزوج لا يملك عبدها المملوك لها، فإذا كان هذا لا يُفضي إلى جريان الملك فيما تأتي به، فلا معنى لاشتراط كونه مملوكاً لها، بل يكفي أن يكون عبداً يُتصور فيه على الجملة إجراء الملك، حتى لو [أتت بحُرٍّ] (2)، لم نقضِ بوقوع الطلاق؛ من جهة أنها لم تأت بعبدٍ. والذي أراه من متن المذهب الوجهُ الأول، ولا ينبغي أن يغتر الناظر بما ذكرناه في الوجه الثاني؛ فإن اللائق بعقد الخلع ذلك الوجه.

_ (1) في الأصل: فالعبد. (2) عبارة الأصل: "حتى لو أبت لم نقض بوقوع الطلاق" والتصويب والزيادة من عمل المحقق، بناءً على المعنى المفهوم من عبارة ابن أبي عصرون.

8838 - ثم فرع القاضي على ذلك الوجه، فقال: إن قال: إن أعطيتني زقَّ خمر، فأنت طالق، فجاءت بخمرة محترمة مستحَقَّة لغيرها، فهل يقع الطلاق؟ ذكر فيه تردداً، فشبه الخمر في وجهٍ بالعبد المغصوب، وقطعها عن العبد في وجهٍ؛ من حيث لا يتصور في جنسها جريان الملك، وقال في توجيه المسلك الأول: الاختصاص في الخمر [ليس] (1) في حكم الإطلاق إلى إمكان الإعطاء والبذل، وإن كان ذلك الجنس لا يقبل نقل الملك. فهذا منتهى تصرف الأئمة فيه. 8839 - [وإذا عين الزوج عبداً] (2)، وعلق الطلاق بإعطائها، وقال: إن أعطيتِني هذا العبد، فأنت طالق، فإن كان العبد ملكَها وأعطته إياه، وقع الطلاق، وملك الزوج العبد؛ فإن التعيين أعلمه. ولو خرج ذلك العبد مستحقاً، فقد خرّج العراقيون وجهين في وقوع الطلاق: أحدهما - أن الطلاق لا يقع، وهو اختيار ابن أبي هريرة؛ لأنه علق الطلاق بإعطاء ذلك العبدِ المعيّنِ، والإعطاء تمليك، فإذا كنا لا [نوقع] (3) الطلاق والعبد المذكور في الإعطاء مطلق إذا جاءت به مغصوباً، وإن كان العبد المطلق لا يتصور أن يملّك على هذه الجهة، فإذا اتجه اشتراط إمكان الإعطاءِ والتمليكِ ثَمَّ، فاتجاه ذلك في العبد المعيّنِ أولى، مع العلم بأنه لو كان مملوكاً لها، وأتت به، لملكه الزوج. وهذا متجه حسن. والوجه الثاني - أن الطلاق يقع، وهو الذي قطع به القاضي؛ لأن الإعطاء جرى ظاهراً، والفرقة لا تُرد، ثم ذكر القاضي أن الفرقة بينونة [مع ردّ] (4) العبد، والأمر على ما قال، فإنها إن وقعت، فلا سبيل إلى تقديرها إلا بمال، والفرقة الواقعة بالمال بينونة.

_ (1) في الأصل: يسر. (2) في الأصل: إذا كان الزوج عبداً. (3) في الأصل: نرفع. (4) زيادة من المحقق، على ضوء السياق، لا يتم الكلام إلا بها أو بمثلها.

ثم الرجوع إلى قيمة العبد المعيّن أو إلى مهر المثل؟ فعلى قولين معروفين في بدل الخلع والصداق. وإن قال الزوج: إن أعطيتني هذا العبدَ المغصوب، فأنت طالق. هذا يفرّع على ما إذا لم يذكر المغصوب واقتصر على إعطاء العبد المعيّن. فإن قلنا: يقع الطلاق في الصورة الأولى، فلأن يقع في هذه الصورة أولى؛ فإنه إذا ذكر المغصوب أشعر بقناعته بإقباضها إياه هذا العبد، وإن لم يكن ملكاً لها، فيصير الإعطاء مع ذكر المغصوب دالاً على أنه ليس يبغي التمليك. وإن قلنا في الصورة الأولى: إن الطلاق لا يقع، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع؛ فإن الإعطاء في المغصوب غيرُ ممكن، فإذا ذكر الإعطاء وأضافه إلى المغصوب، فقد علّق الطلاق بمستحيل، فكان كما لو قال لامرأته: إن بعت الخمر، فأنت طالق، أو قال: إن صليتِ محدِثةً؛ فأنت طالق، فإذا أتت بصورة البيع في الخمر، وبصورة الصلاة مع الحدث، لم يقع الطلاق على مذهب الشافعي. والمزنيُّ يخالف في هذا. ونحن لا نجد بداً من رمزٍ إلى المذاهب في ذلك. 8840 - [فإذا] (1) عقد الرجل يمينه على البيع المطلق، لم يحنث بالبيع الفاسد، هذا ظاهر المذهب، وللشافعي نصٌّ في النكاح دالٌّ على أن الفاسد يدخل تحت الاسم المطلق الواقع على الجنس؛ فإنه قال: "لو أذن لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً، وأصاب، فالمهر يتعلق بكسبه". ولا يُتصوّر أن يتعلق بكسب العبد إلا دينٌ رتب على إذن السيد، وهذا وإن لم يكن منه بدٌّ، فهو ضعيف. فأما إذا علق اليمين على الامتناع عن بيعٍ فاسد، مثل أن يقول: والله لا أبيع الخمر، فإذا باعها، فمذهب المزني أنه [يحنث] (2)، وقد اشتهر من طائفة من

_ (1) في الأصل: وإذا. (2) في الأصل: يذهب. (وهو سبق قلم) ثم الذي في (صفوة المذهب) عكس هذا، ونصه: " ولو قال: والله لا أبيع الخمرَ، فباعه، لم يحنث عند المزني، وإليه ذهب الجمهور، ودل عليه النص ".

الأصحاب موافقتُه. والذي ذهب إليه الجمهور، ودل عليه النص أنه لا يحنث. وهذا فيه إذا أطلق اللفظ. فأما إذا قال: عنيت بيميني أني لا أقول: بعت هذه الخمرة، فيحنث إذا قالها. وسيأتي تفصيل هذا في الأَيْمان، إن شاء الله عز وجل. فإن قلنا: لا يقع الطلاق (1)، فلا كلام. وإن قلنا: يقع الطلاق، فالذي ذكره القاضي والصيدلاني أن الرجوع. إلى مهر المثل قولاً واحداً في هذه الصورة، لأنه لما قال: إن أعطيتني هذا المغصوب، فلفظه فاسد، وقد ذكرنا هذا الفن في كتاب الصداق، وأوضحنا ما فيه من مستدرك [وحكينا] (2) عن الأئمة قولين في أن الرجوع إلى القيمة أو إلى مهر المثل. وذكر القاضي في بعض أجوبته أن الطلاق يقع رجعياً؛ لأنه قَنِع بهذا، وطرد هذا فيه إذا قال: إن أعطيتني خمراً، أو هذه الخمرة، فأنت طالق. قال: من أصحابنا من قال: يقع الطلاق رجعياً، وهذا متجه في القياس. [وهو] (3) في نهاية البعد في الحكاية، ولا يقبل مثله إلا من مثل القاضي. وإذا قال: [إن أعطيتني ميتة، كان كما إذا قال:] (4) إن أعطيتني خمراً، أجمع الأئمة عليه. وهذا لأمكان الانتفاع بالميتة في وقت الضرورة، أو بأن تجعل طعمة للكلاب والجوارح، أو بأن تعتقد مطلوبة في بعض الملل كالخمر. 8841 - ولو قال: إن أعطيتني هذا الحرَّ، فالكلام في وقوع الطلاق كما مضى. وإذا حكمنا بالوقوع، فالأظهر أن الطلاق رجعيٌّ، ومن أصحابنا من أثبت البينونة والمالية، ثم يعود التردد في أنا نخرّج القولين، أو نقطع بالرجوع إلى مهر المثل.

_ (1) عودٌ إلى ذكر الوجهين فيما إذا عين عبداً مغصوباً، وقال: إن أعطيتني هذا العبد المغصوب. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: وهذا. (4) المثبت تصرّف في العبارة بالزيادة من المحقق، على ضوء المعنى، وأخذاً من عبارة العز بن عبد السلام، إذ قال: "والتعليق بإعطائه الميتة كالتعيق بإعطاء الخمر اتفاقاً؛ للانتفاع بها في الضرورات، وإطعام الجوارح". (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج3 ورقة 123ش).

هذا ما أردناه في أحد النوعين الموعودين، وهو ربط الطلاق على صيغة التعليق بإعطاء العوض. 8842 - فأما الكلام في المخالعة وإجراء الإيجاب والقبول من غير تعليق، فإذا قال الزوج: خالعتك على عبدٍ، فالطلاق يقع بقبولها، ولا حاجة إلى الإتيان بالعبد، والتقدير خالعتك على التزام العبد. ثم إذا قبلت، وكانت عبارتها صحيحة، وكانت من أهل الالتزام أيضاًًً، فيقع الطلاق بقبولها، ويلزمها مهر المثل، إذا (1) العبد مجهول. وإن كانت صحيحة العبارة، ولم تكن من أهل الالتزام، فالذي وجدت [الطرق متفقة] (2) عليه أن الطلاق يقع رجعياً بقبولها، ولا مال. والمذهب الذي عليه التعويل أنه لو قال لزوجته الصبية: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت [لم] (3) يقع الطلاق؛ إذ لا قول لها، وهي مسلوبة العبارة. ومن أصحابنا من خرج هذا على خلافٍ سيأتي ذكره -إن شاء الله عز وجل- في أن الرجل إذا قال لزوجته الصبية: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت، فهل نحكم بوقوع الطلاق؟ فقال هذا المفرّع: إذا حكمنا بوقوع الطلاق بلفظها في المشيئة فنحكم أيضاًًً بوقوع الطلاق بلفظها في قبول العوض. وهذا وإن كان له اتجاه، فهو بعيد؛ فإن ألفاظ العقود مستلبة على أصل الشافعي من الصبي والصبية، ولا يطرد سلب قولها في غير العقود. 8843 - ولو خالع الرجل على معين وجرى القبولُ ممن هو من أهله، ثم خرج ذلك المعيّن مستحقاًً، فلا خلاف في وقوع الطلاق، وليس كما لو علّق الطلاق بإعطائه، فخرج مغصوباً؛ فإن التعويل على صيغة المخالعة في وقوع الطلاق، على الإيجاب والقبول. ثم إن صح المسمى سُلِّم، وإن فسد وأمكن إثبات المالية، وقعت البينونة،

_ (1) إذا: بمعنى إذ. (2) في الأصل: الطريق عليه. (3) في الأصل: فلم.

وفي المال الذي يثبتُ التفصيل المشهور. وإن عسر إثبات [المالية] (1)؛ بأن تكون المختلعة سفيهة، أو رجعية، وقلنا: لا تخالع الرجعية- فالطلاق يقع لصورة الإيجاب والقبول، ثم يكون رجعياً. هذا وضع الباب في ذلك. والأصل مطرد، لا اضطراب فيه إلا عن جهة أصلٍ لا نجد بداً عن ذكره مقصوداً ثم إذا ذكرناه ونقلنا ما فيه، نبهنا على مخالفته الأصلَ الذي مهدناه في النوع الثاني، ثم ننظر فيما ينقدح في المباحثات. 8844 - ونبتدىء فنقول: إذا [جاء أبُ] (2) الصبية إلى زوجها وقال: خالعها بهذا، وأشار إلى عبد هو ملك الأب، فإذا خالعها الزوج على ذلك العبد، صح الخلع، واستحق الزوج ذلك العبد. ولو جاء أجنبي واختلعها عن زوجها بمالٍ يبذله، [فالخلع] (3) صحيح، على ما مضى ذلك في صدر الكتاب. ولو جاء الأبُ بعبدٍ من مال ابنته، واختلعها عن زوجها به، وظن الزوج أنه مِلْك الأب، فالبينونة تقع، والرجوع على الأب بقيمة ذلك العبد المعين أو بمهر المثل؟ فعلى قولين. ولو قال الأب: هذا عبدها وقد اختلعتها به، فقال الزوج: خالعتها به، فالذي أطلقه الأصحاب أن الطلاق يقع رجعياً. أما الوقوع، فسببه ثبوت الإيجاب والقبول، [وأما] (4) سقوط المالية، فسببه أن الأب أضاف العبد إلى ملكها، وفي ذلك قطع طمعه عنه، فكانت هذه مخالعة لا مالية فيها، ووقوع الطلاق بعد الإيجاب والقبول بمثابة مخالعة المحجورة؛ فإنّ تعذر استحقاق عبد الصبية بمثابة تعذر التزام ذمة المحجورة مالاً. هذا ما ذكره الأصحاب. وقالوا: لو لم يُضِف العبدَ إلى ملك الزوجة، وورد الخلع عليه مطلقاً، وكان

_ (1) في الأصل: الملك. (2) في الأصل: إذا جاءت. (3) في الأصل: والخلع. (4) في الأصل: وإنما.

الزوج عالماً بأنه ملك الزوجة، ففي المسألة وجهان: [أحدهما -] (1) أن الطلاق يقع رجعياً، كما لو أضيف العبد إلى ملكها لفظاً، وكان علمه بكون العبد ملكاً لها بمثابة إضافة العبد إلى ملكها. والوجه الثاني - أن الفرقة بينونة، ويرجع الزوج [على] (2) الأب بقيمة العبد، أو مهر مثل الزوجة. هذا ما نقله الأصحاب، وقالوا على معارضته: إذا قال الرجل لامرأته: خالعتك على هذا العبد المغصوب، فقالت: اختلعت، وقعت الفرقة بائنةً، وفيما يرجع [به] (3) الزوج على زوجته قولان: أحدهما - أنه يرجع عليها بقيمة العبد المعين. والثاني - أنه يرجع عليها بمهر مثلها، وليس يخفى أن هذه المسألة في ظاهرها تخالف مسألة اختلاع الأب مع إضافة [العوض] (4) إلى ملك الصبية، وذلك أن الإضافة إلى ملكها بمثابة إضافة العبد المغصوب في المسألة الأخرى إلى ملك المغصوب منه، واعترف كل من نحا نحو الغوّاصين ولم يرض بالاختصار على الظواهر أن الفرق بين المسألتين عسر؛ فإن الأب من أهل الاختلاع استقلالاً، كما أن المرأة تختلع نفسها، وفي العبد المضاف إلى ملكها مالية، والعصاة يتنافسون على الأموال المغصوبة، كما يتنافس أصحاب الخمور في الخمور، وإن لم تكن متمولة. 8845 - ثم أتى بعض النقلة عن القاضي بما لا أوثر نقلَه [والاحتفالَ] (5) به. والذي يتعين نقلُه أن كثيراً من أئمتنا صار إلى أن المخالع على العبد المغصوب لا يستحق مالاً، ويقع الطلاق رجعياً، كما ذكرناه في اختلاع الأب ابنته بعبد يضيفه إلى ملكها، ثم طرد [هذا] (6) في المخالعة على الخمر، وقضى بأن الرجل إذا قال لامرأته:

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: إلى. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: الغرض. (5) في الأصل: والاحتمال. (6) في الأصل: هؤلاء.

خالعتك على هذه الخمرة، أو على هذا [الخنزير] (1)، أو على هذه الميتة، وقالت: قبلت، قُضي بوقوع الطلاق رجعياً. ولست أنكر إمكانَ توجيه هذا؛ فإن من يذكر الخمر لا يبغي غيرها، وليست الخمر مالاً، وليس الخنزير مالاً، وليس يبعد عن قاعدة القياس إبطالُ المقصودِ الفاسد والاعتقاداتِ الحائدة عن موجب الشرع، وبناءُ الأمر على حكم الدين، وكذلك إذا جرى التصريح بذكر [الغصب] (2). ولكن هذا لا يوافق ظاهر المذهب، ومقتضى النصوص. وإن عُدّ هذا الذي ذكرناه قولاً، فيجب لا محالة على مقتضاه أن نُخرِّج في هذه المسألة -وهي مسألة الأب- قولاً آخر من ظاهر المذهب، فكان يجري قولان في المسألتين: أحدهما - أن الطلاق [يقع] (3) رجعياً في هذه المسائل، سواء فرض من الأب في حق ابنته، أو فرض بين الزوج وزوجته. هذا لا بدّ منه على مقتضى الترتيب الذي ذكرناه. 8846 - والذي أراه في هذا المجال أن معظم الناظرين في هذه المسائل المتعارضة، لم يُنعموا النظرَ فيها، ولم يجشّموا أنفسهم دَرْك معانيها، والذي يجب القطع به أن مخالعة الزوج زوجته على مغصوبٍ مع التعرض لذكر الغصب، أو على خمرٍ أو خنزير، مع التعرض لذكرهما يوجب بينونةً وماليةً، كما مهدنا [المذهب] (4) فيه. فبقي لنا النظر في مسألة الأب، وأنا أقول فيها: تلك المسألة مفروضةٌ فيه إذا كان يختلع الأبُ ابنته بحكم الولاية متصرفاً عنها، [فذكره] (5) عبدَها مع إضافة الملك إليها مشعر بهذا القصد، وكل من يتصرف عن الغير فيضيف التصرف إليه، فليس قبولُه

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (2) في الأصل: الغصوب. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: بذالمذهب. (5) في الأصل: وكره.

التزاماً في حق نفسه، وليس كالمرأة إذا التزمت الخمر؛ فإنها قصدت خلعَ نفسها، [وافتداءَها] (1) بما تبذله من مالٍ أو شيء يُحصَّل في العرف بمال. وهذا فرق ظاهر. وإذا كنا نقول: إذا خالع الرجل امرأته المحجورة لا تثبت المالية؛ لأنها ليست من أهل الالتزام في حق نفسها، فالأب ليس من أهل الالتزام في حق ابنته إذا كان يتصرف بحكم الولاية لها. ووراء ما ذكرناه سرٌّ، لا اطّلاع عليه إلا عند نجاز الفصل، وتمامُ الكلام أن الأب يُتصوّر أن يختلع ابنتَه اختلاع الأجنبي إياها؛ فإن هو قصد أن يختلعها اختلاع الأجنبي لا على حكم الولاية، فالاختلاع على هذا القصد يُلزمُه الماليةَ، حتى لو اختلعها بعبد ابنته، [وكان] (2) كما لو اختلعت المرأة نفسها بعبد مغصوب. وتمام البيان بين أيدينا بعدُ. 8847 - وقدرُ غرضنا الآن التنبيهُ على مسلك الفرق على الجملة [فممّا] (3) نذكره وننقل ما فيه، وإن أخر الشافعي ذكره أن الأب إذا قال لزوج ابنته: طلِّقْها وأنت بريء عن صداقها، أو على أنك بريء عن صداقها، فإذا طلقها الزوج بناءً على ما ذكره الأب، فالذي صار إليه جماهير الأصحاب أن الطلاق [يقع] (4) رجعياً، ولا شك أن هذه المسألة تخرّج أولاً على أن الأب هل يملك الإبراءَ عن الصداق، وقدمنا تفصيل ذلك في موضعه. فإن رأينا للأب الإبراء، فقد نقول: له أن يختلعها على البراءة من الصداق، والزوج يبرأ. وهذا مما قدمناه، فلا عَوْدَ إليه، والتفريع على أنه لا يملك الإبراء، فعلى هذا لا يبرأ الزوج بسبب الاختلاع، ويقع الطلاق رجعياً، هذا مقتضى النص، وهو الذي ذهب إليه جمهور الأصحاب. وذكر صاحب التقريب وجهين في أن الطلاق هل يقع إذا حكمنا بأن البراءة

_ (1) في الأصل: واقتداها. (2) في الأصل: كان (بدون واو). (3) في الأصل: مما. (4) زيادة اقتضاها السياق.

لا تحصل، وقد ذكرهما بعض المصنفين، ولا تعويل على ما ينفرد ذلك المصنف بنقله؛ فإنه كثير العثرات غيرُ موثوق به، ولكني رأيت لصاحب التقريب وجهين في وقوع الطلاق، ذكرهما، وكررهما فنقلناهما على تحقيقٍ. 8848 - ونحن الآن -بعون الله- نوضّح المسالك وننزل المسائل على مراتب، ينجح الفقيه بها، ويرتاح بذكرها، [ولا تظن بعدها أن الشافعي في أسطر مقاربة بين كلام متهافت] (1). فنقول: إذا خالع الرجل زوجته المبذرة، فقبلت، فهي صحيحة العبارة، وقد وجد منها صيغة الالتزام على الصحة، ولكن قضى الشرعُ بأنه لا يلزمها شيء؛ فاعتمدَ وقوعُ الطلاق صحةَ قبولها، [ولم يلزم] (2) المال، ونتيجة هذه الجملة وقوعُ الطلاق. وإذا قال الأجنبي: وكّلتني فلانة بأن أختلعها بكذا، فقال الزوج بانياً على ذلك: خالعتها بكذا، فقال الوكيل: قبلت عنها، وكان كاذباً في التوكيل، لم يقع الطلاق، لأن الأجنبي لم يضف إلن نفسه، ولم يصدُق في دعواه الوكالة، فلم يعتمد الطلاقُ قبولاً صحيحاً. وإذا اختلع الأب ابنته بحكم الولاية، وأبان ذلك في صيغة لفظه، فهذا خارج عن ولايته، ولكنه أطلق الاختلاع، ولم يضف لفظ الاختلاع إلى ابنته، بل بناه على ولايته، وهو ممن يتصور منه أن يخالع بنفسه مخالعة الأجنبي، فتردد الأمر وتطرّق إليه إمكان المصير إلى الطلاق، فلا يقع كما ذكرناه في مثله الأجنبي الآن، وإن وقع فهذا القبول أضعف من قبول المحجورة، فقد بان وجه التردد في الوقوع، وينبني عليه وجه سقوط المالية. ونحن نقول الآن: إذا اختلع الأب ابنته بمال نفسه، فهذا محمول على اختلاع

_ (1) كذا. جاءت هذه العبارة بين المعقفين بهذا الرسم تماماً. ولا أدري موقعها، ولا ما فيها من تصحيف -إن كان- أو نقص. والله أعلم، والسياق متصل ومفهومٌ مع رفعها من البين، كما فعل ابن أبي عصرون في مختصره، إذ تركها كاملةً. (2) في الأصل: ومن لم يلزم.

الأجنبي، وإن اختلعها بمالها، وأضاف المال إلى ملكها، فهذه المسألة التي ترددنا فيها وقوعاً أولاً، ثم أوضحنا سقوط الماليّة. وإن قال الزوج: اختلعتَها عن نفسك اختلاع الأجنبي، وبذلت مالَها بذلَ المغصوب، ولكن الاختلاع وقع مطلقاًً، فالظاهر في هذا تصديق الأب، فإنّ إضافة العوض إلى مالها أصدقُ شاهد فيه. ولم يبق في المسألة إلا نظرٌ واحد، وهو أن صاحب التقريب ذكر الوجهين في وقوع الطلاق في البراءة عن المهر، ولم يذكر ذلك الوجه في اختلاعه بعبدها، والصحيحُ عندنا أنه لا فرق بين المسألتين إذا ظهر قصده التصرف عنها. وإن أردنا فرقاً، فتنزيل الخلع على البراءة نصٌّ في التصرف عنها في ذلك العقد، وتنزيله على عبدها قد يتأخر عن هذا، وفيما ذكرناه انتجاز المقصود بكماله. 8849 - ووراء ذلك مسألة: وهي أن الأب إذا قال: خالعها، وقد ضمنت لك براءتها عن مهرها، قال الأصحاب في هذه الصورة: المذهبُ وقوع الطلاق، وإذا وقع الطلاق، فهل يجب على الأب مال، فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يلزمه شيء كما لو قال: وأنت بريء أو على أنك بريء، فإن البراءة لا يصح ضمانها بل لا ينتظم الضمان فيها. والوجه الثاني - أن الغرم يتعلق بالأب في هذه اللفظة، فإنه أضاف الضمان لنفسه. وذكر بعض المحققين وجهاً مفصلاً حسناً، فقال: نراجعه فيما عنى الضمان، فإن قال: أردت ضمان البراءة في عينها من غير مزيد، لغا ضمانُه. وإن قال: أردت أنك إذا غرمت أو طالبت أديت عنك، فهذا التزام مالية، فيجوز أن يقتضي ضمانَها. وهذه المسائل بجملتها فيما إذا جرت المخالعة إيجاباً وقبولاً، واستدعاءً وإسعافاً. فأما إذا قال الزوج: إن برئتَ عن صداقها، فهي طالق، فلا شك أن الطلاق لا يقع إذا كانت البراءة لا تحصل. 8805 - وقد حان أن نذكر ضابطاً على التحقيق، فنقول: إذا جرى التخالع إيجاباً وقبولاً، فالطلاق يعتمد صحةَ القبول، ثم ثبوت المالية يعتمد كون القابل من أهل الالتزام، وصحة العوض لا تخفى جهاتها.

وإن تردد الأصحاب في وقوع الطلاق، فليُطْلب ذلك من ضعف القبول، وإن ترددوا في سقوط المالية مع وقوع الطلاق، فذلك مأخوذ من صحة القبول، وضعف الالتزام، وإن كان لفظ الزوج مبنياً على التعليق، مثل أن يقول: إن أعطيتِ، فالطلاق يقع من تحقيق الصفة، فإن كانت مقتضية تمليكاً، فلا يتوقع فيها طلاق رجعي [وإذا] (1) لم يكن التمليك ممكناً، فإن الصفة معدومة. وأنا أقول: إذا قال للمحجورة: إذا أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، فأعطته، لم يقع شيء. فهذا تنزيل هذه المسائل على منازلها، وتخريجها على أصولها [ما أمكن] (2) [وأملنا] (3) ألاّ ينتهي إلى هذا ناظرٌ إلا ترحم على جامعه (4). والله ولي الأجابة بمنّه ولطفه. فصل قال: "ولو خالعها بعبدٍ بعينه، ثم أصاب به عيباً، ردّه ... إلى آخره" (5). 8851 - بدل الخلع ينزل منزلة الصداق في كل تفصيل ويجري فيه القولان في أنه مضمون باليد أو بالعقد، فبدل الخلع في يدها كالصداق في يد الزوج. ثم الكلام فيما إليه الرجوع كالكلام في الصداق، بلا تباين، ولا مزيد حرف. وقد تقصّينا القول في الصداق، فلم أر لإعادة ما قدمته معنى. ومن جملة [ما نذكره] (6) هاهنا الردُّ بالعيب، فإذا جرت المخالعة هاهنا على صيغة الإيجاب والقبول على عين مالٍ، نفذت الفرقة؛ تعويلاً على القبول، فإذا وجد الزوجُ

_ (1) في الأصل: إذا (بدون واو). (2) في الأصل: وأمكن. (3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (4) رحم الله إمام الحرمين، ورضي عنه، وتقبل منا ومنه. هذا، وقد استجاب ابن أبي عصرون للإمام، فقال في مختصره: " والله يرحمه من جامع ". ويرجو العبد الفقير إلى رحمة ربه محققه دعوة بخير من كل ناظرٍ فيه، والله يتقبل ويعين ويغفر ويرحم. (5) ر. المختصر: 4/ 61. (6) في الأصل: ما ذكره.

بالعوض المعيّن عيباً، مَلَك ردَّه، كما تملك المرأة رد الصداق، ثم القول فيما يرجع به الزوج عليها كالقول فيما ترجع [به] (1) على الزوج في الصداق. 8852 - ثم قال الشافعي: "ولو خلعها على ثوب على أنه مَرْوي، فإذا هو هَرَوي ... إلى آخره" (2). يقول: إذا خالعها على ثوب هروي، فالصورة في ذلك تختلف، ونحن نُجري أمثلةً والخلعُ إيجاب وقبول، ثم نذكر أمثلةً والخلعُ على صفة التعليق. فأما إذا كان إيجاباً وقبولاً، وفُرض اشتراط صفة في العوض [وقع] (3) اختلافها، فذلك ينقسم إلى العوض الموصوف في الذمة وإلى العوض المعيّن؛ فإن كان موصوفاً في الذمة مثل [أن] (4) يقول: خالعتك على ثوب هروي، صفته كذا وكذا، وأخذ يُطنب إلى استغراق المقصود، فإذا قبلت المرأة، قُضي بوقوع البينونة بنفس القبول؛ بناء على ما تمهد من الأصول. ثم هي مطالبة بالثوب الموصوف، فإن أعطته مروياً، ردّه عليها، وطالبها بالثوب المستحق الذي أحاط الوصفُ به. ولو قال: خالعتك على هذا الثوب المروي أو على هذا الثوب، على شرط أنه مروي، فإذا قالت: قبلت، حكم بوقوع الطلاق. قطع الأئمة أجوبتهم به؛ فإن الفرقة بالمخالعة المتعلقة بالإيجاب والقبول، تعتمد القبول، ولا نظر إلى الصفة المشروطة، كانت [أو تخلّفت] (5). والدليل عليه أنه لو قال: خالعتك على هذا الخلّ، فقالت: قبلت، ثم تبين أن المشار إليه خمر، فالفرقة تقع، وكذلك إذا قال: خالعتك على هذا العبد؛ فإذا المشار إليه حر، وقعت الفرقة. فإذا كان الخروج من المالية لا يمنع وقوع الفرقة، فالخروج من صفةٍ إلى صفةٍ بهذه المثابة.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ر. المختصر: 4/ 61. (3) في الأصل: مع. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: كانت لو اختلف.

ثم إذا شرط كونَ الثوب المشار إليه مروياً، [فبان] (1) أنه هروي، وقع الحكم بنفوذ الفرقة، فالعوض [لا] (2) يفسد بالاختلاف في الصفة، وآيةُ ذلك أن الزوج لو رضي به، جاز له ذلك، وإذا كان [الاختلاف] (3) في صفاتِ الأعواض في المعاوضات المحضة لا يوجب فساد العوض، فبدل الخلع بذلك أولى. ثم إن رضي الزوج بذلك، فلا كلام، وإن لم يرض به، فله الرد، وليس ذلك بدعاً؛ [فإن] (4) ما يتطرق إليه خيار الرد بالعيب يتطرق إليه خيار الخُلف، ثم إذا [ردّ] (5)، ففيما يرجع به قولان: أحدهما - أنه يرجع إلى مهر المثل. والثاني - أنه يرجع بقيمته. وهذان القولان في أنه إذا ردّ العوضَ بالعيب، فإلى ماذا يرجع؟ ثم إذا أثبتنا له الرجوع [يرجع] (6) بقيمة الثوب المروي على ما شرط، إذ لو كان يرجع بقيمة الهروي، لقنع بالثوب الهروي من غير رد. وما ذكرناه فيه، إذا اتحد الجنس، فكان الثوبان من القطن مثلاً، لكن [إن] (7) اختلف النوع بالجنس، فالأمر على ما بيناه. فإن كان الثوب الذي أشار إليه، وشرط كونه مروياً، كان كتاناً، [والهروي] (8) قطن، فإذا اختلف الجنس، فلو أراد الزوج أن يستمسك بالثوب المعاين المعيّن، فهل له ذلك؟ اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: ليس له ذلك، ولو رضي به، لم يملكه؛ فإنه ليس من جنس ما ذكره، فلم يجد إلى ملكه سبيلاً، وهو كما لو خالع على عبدٍ، ثم قبض أمةً من غير فرض اعتياض، حيث يجوز الاعتياض، وليس كذلك

_ (1) في الأصل: فقال. (2) في الأصل: أو لا. (3) في الأصل: يختلف. (4) في الأصل: وإن. (5) في الأصل: زاد. (6) زيادة من المحقق. (7) زيادة اقتضاها السياق. (8) في الأصل: والمروي.

إذا اتحد الجنس؛ فإنّ قبض النوع عن النوع سائغ على [ما سنذكر] (1) في ذلك ضابطاً جامعاً. وذكر الشيخ أبو حامد وجهاً آخر أن [للزوج] (2) أن يقنع بالثوب المعين، وإن لم يكن من جنس ما وصفه، وذلك أنه أشار إليه الزوج، إذ خالع عليه، وقال: خالعتك على هذا الثوب، فكانت الإشارة غالبةً على الذكر والوصف. وهذا يداني اختلافَ الأصحاب فيه إذا قال: بعتك هذه النعجة، فإذا هي عجل، ففي صحة العقد، وانعقاده خلاف معروف، ذكرناه في البيع. 8853 - والأمر المتبع في هذا أن ما لا يجوز الاعتياض عنه كالمسلم فيه لا يجوز أن يؤخذ فيه جنس عن جنس، ويجوز أن يؤخذ المعيب عن السليم. وهل يجوز أن يؤخذ فيه نوع عن نوع؟ فيه اختلاف، وإذا جوزنا الاعتياض عن الثمن، فكل ما منعناه في السلم نجوّزه في الثمن، ولكنا نشترط إجراء عقد، وما نجوّزه في السلم نجوّزه في الثمن من غير عقد، ومحل الاختلاف جوازاً ومنعاً في السلم يستعمل في الثمن في الافتقار إلى عقد، وعدم الافتقار إليه. وما يُفرض من خُلف في الأعيان المعيّنة، فإن اتحد الجنس، انعقد العقد، وجاز الاستمساك بالمعيّن، فإن اختلف الجنس، ففي انعقاد المعاوضة خلاف، وفي فساد الخلع به خلاف، والفرقة جائزة على اعتماد القبول، ثم إن لم يفسد العوض، جوزنا الاستمساك به، وإن أفسدنا العوض ردّدنا القولين في الرجوع، ففي قولٍ يرجع إلى مهر المثل، وفي قولٍ يرجع إلى قيمة الثوب لو كان على ما وُصف به. وكل ما ذكرناه ترديد للمسائل، والخلع إيجابٌ وقبولٌ. 8854 - فأما إذا كان الخلع على صيغة التعليق، فإذا قال: إن أعطيتني ثوباً مروياً، فأنت طالق، فإذا أعطته هَرَوياً، لم تطلق؛ فإنّ معتمد الطلاق وجودُ الصفة في هذا النوع. ثم إن جاءت به مروياً، وقع الحكم بالطلاق، ولم يخْفَ التفصيلُ بعده إذا كان

_ (1) في الأصل: ذكر. (2) في الأصل: الزوج.

الثوب مجهولاً، وكان بمثابة ما لو قال لها: إن أعطيتِني عبداً، فأنت طالق. فإن كان الثوب موصوفاً بالصفات المرعية في السلم، فلا يقع الطلاق ما لم تتحقق الصفات فيما جاءت به. وليس هذا بمحل الرضا إنما يتعلق الإتيان به؛ فإن الطلاق لا يقع إذا علق بصفاتٍ ما لم تتمحض تلك الصفات. وإن كان على الصفات المذكورة المستقصاة، وقع الطلاق، وملك الزوج ما جاءت به؛ فإن الثوب أثبت مُعْلَماً مبيّناً، فصح عوضاً، وصلح لكونه مملوكاً عوضاً. 8855 - ولو علق الطلاق وأشار إلى العين وذكر الوصف، ففي لفظه تعليق وإشارة ووصف، وذلك مثل أن يقول: إن أعطيتني هذا الثوبَ وهو هروي، فأنت طالق. فإن أعطته، وكان مَرْوياً، لم يقع الطلاق؛ لأن قوله [وهو] (1) هروي معناه الشرط المحقق، والتقدير إن أعطيتني هذا الثوب، فأنت طالق إن كان هَرَوياً. فإذا تعلّق الطلاق بصفتين، استحال أن يقع بإحداهما. ولو قال: إن أعطيتني هذا الثوب الهَرَوي، فأنت طالق، فكان [مَرْويّا] (2) على خلاف ما ذكر، فقد ذكر القاضي جوابين في هذه الصيغة: أحدهما - أن الطلاق لا يقع، كما لو قال: إن أعطيتني هذا الثوب وهو هروي. والثاني - أنه يقع؛ [لأن] (3) الهروي لا يعطى معنى (4) الشرط في قوله: هذا الثوب الهروي، إذ معناه الثقة بكونه هروياً، والثقةُ تنافي الشرط. وقوله: وهو هروي، فيه معنى التردد، فيتطرق إليه إمكان الشرط والتعليق، [والتعليق] (5) على التحقيق في معنى الشرط.

_ (1) في الأصل: وغير هروي. (2) في الأصل: "هَرَويّاً " وهو سبق قلم كما يتضح من تصوير المسألة. (3) في الأصل: لا الهروي. (4) في صفوة المذهب: (لا يُغني مَغْنَى الشرط). (5) زيادة لاستقامة الكلام.

فصل قال: "ولو أخذ منها ألفاًً على أن يطلقها إلى شهر ... إلى آخره " (1). 8856 - مضمون الفصل يتعلق بثلاثة أشياء: أحدها - في طلب التزام طلاق مؤخر في الذمة بمال مبذول في الحال. والثاني - استدعاء تعليق الطلاق ومقابلته بمال. والثالث - استدعاء طلاق على الفساد بمال. فأما استدعاء التزام الطلاق مؤخراً، فمن صورته أن تقول المرأة لزوجها: [طلقني] (2) غداً أو بعد شهر -على ما يتفق الاستدعاءُ فيه- ولك ألف درهم، فمقتضى [الاستدعاء] (3) التأخيرُ في التنجيز، ومقابلة الالتزام في الحال [بالمال] (4). فنقول: إن طلق الزوج في الوقت المعين على حسب الاستدعاء، فإن قصد إيقاعَ الطلاق في ذلك الوقت جواباً عمّا التمسته ووفاءً بما التزمه لها، واعتقد صحة ذلك، فالطلاق يقع بائناً، ويثبت المال على الفساد؛ فإنّ شرط المال مع استئخار الطلاق، [يوقع] (5) الشرط فاسداً؛ إذ وضع الخلع مع ارتباط المال بالطلاق على الاتصال. ثم قال الأصحاب: الواجب في هذه الصورة مهرُ المثل؛ فإن فساد العقد جاء من فساد الصيغة ومخالفتِها وضعَ الشرع. وإنما يجري القولان في أن الرجوع إلى مهر المثل أو قيمة المسمى إذا كان الفساد ناشئاً من المسمى، فيجري قول في العدول عنه إلى قيمته، فأما إذا جاء الفساد من الصيغة، فلو ثبتت المالية على الصحة، لثبت المسمى، فاقتضى ما ذكرناه الرجوعَ إلى مهر المثل.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 62. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: استدعاء. (4) في الأصل: فالمال. (5) في الأصل: على.

ولو أنشأ الزوج الطلاق في الوقت المعيّن، وقصد أن يكون ذلك ابتداءَ إيقاعٍ منه، من غير تقدير وفاء بملتزَم، فيقع الطلاق رجعياًً. وإذا قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف، فقال: " أنت طالق "، على الاتصال، وقصد ابتداءَ الطلاق، لا إيقاعَه جواباً، فالطلاق يقع رجعياً، ولكن بينه وبين الله تعالى، ولا يصدّق في دعواه الانفرادَ والاستبدادَ مع اتصال لفظه بلفظها. وإذا انفصل الطلاق ووقع في الوقت المستدعى في المسألة التي نحن فيها، ثم زعم أنه قصد ابتداءً، فالظاهر عندنا أنه يُصدّق ظاهراً، وتنفصل هذه المسألة عن الجواب المتصل في الأمر الظاهر. ولو قال: قصدتُ جوابها وإسعافَها، ولكن علمت فساد العوض، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق مُبينٌ، فيثبت الرجوع إلى مهر المثل، كما قدمناه لا يتغير الحكم بعلمه بالفساد وجهله [به؛ فإن المسلمَ يعلم تسميةَ الخمر فاسدة] (1)، وإذا سماها، ثبتت المالية في الخلع، وسبب هذا أن المالية تثبت بقصد المالية، والعلم بالفساد لا ينافي قصد المالية، وكيف ينافيه والشرع قاضٍ بالمالية. وفيما نقل عن القاضي أنه إذا علم الفساد، لم يستحق، وكان الطلاق رجعياً في محل الرجعة. وهذا كلام رث لا حاصل له. والممكن في توجيهه أن الطلاق إذا انفصل عن استدعائها، ضعف عن اقتضاء المال، ورجع إلى عنصره (2) ووجب حمله على إطلاقه. وهذا إنما كان يستقيم لو كان يبغي البدل، مع ظن الصحة مصيراً إلى أن الطلاق إذا انفصل، فلا محمل له إلا الابتداء، فإذا لم يقل هذا، فلا رجوع إلا إلى الفرق بين [العلم] (3) بالفساد والجهل به.

_ (1) ما بين المعقفين مكان عبارة الأصل المضطربة، التي جاءت هكذا: "لا يتغير الحكم بعلمه بالفساد وجهله بضمان المشلة يعلم تسمية الخمر فاسدة ... إلخ " والحمد لله صدّقَنا (صفوة المذهب). (2) إلى عنصره: أي إلى أصله. (3) في الأصل: العمل.

8857 - ومما يتصل بهذا القسم الذي نحن فيه أن المرأة إذا قالت: خذ مني ألف درهم، وأنت متخير في تطليقي إلى شهر، فإن عجلْتَه أو أخرته، فلك ألف إذا أوقعته في المدة المذكورة. قال الأصحاب: إذا أخر ثم طلق (1)، فهو كما لو قالت: لك ألف لو طلقتني غداً أو بعد شهر، فطلقها في الوقت المعيّن، وزعموا أن التفاصيل بجملتها تعود كما قدمناها. وفصل القاضي في هذه الصورة بين أن يكون عالماً بالفساد، وبين أن يكون جاهلاً به. وهذا منه (2) وإليه، ولو صح، فهو متروك عليه. والذي قطع به الأصحاب أنه إذا طلق على قصد الوفاء لها، استحق مهر المثل لفساد الصيغة. 8858 - وهذا أوان التنبيه لأصل عظيم قد ذكرناه في تمهيد ماهية الخلع، وهو في ظاهر الأمر على مناقضة ما ذكرناه الآن، وذلك أن المرأة إذا قالت لزوجها: متى ما، أو مهما طلقتني فلك ألفٌ، فهذا اللفظ صريح في التأخير، ثم المأثور عن الأصحاب أنه إن طلقها على الفور، استحق المسمى، وإن تأخر الزمان، فطلقها، لم يستحق شيئاً. وهذا على القطع يخالف ما ذكرناه الآن في الصورة الأخيرة؛ فإن قول القائل متى ما صريحٌ في اقتضاء التأخير، وتسويغه، فهو يناظر قولها: أنت بالخيار في تطليقي عاجلاً أو إلى شهر، فلئن كان الزوج بمبادرة الطلاق في المسألة المبنيّة على (متى ما) يستحق البدل المسمى، فيجب أن يستحق أيضاًً البدلَ المسمى إذا ابتدر الطلاق وإن خيرته؛ فإن (متى ما) يعطى إفادة التخيير في التعجيل والتأخير، وإن كان لفظ التأخير في مسألتنا مفسداً للمسمى؛ حتى يقال: وإن ابتدر الزوج الطلاق لا يستحق المسمى، وإنما يستحق مهر المثل، فيجب على مساق هذا أن يفسد الخلع إذا وقع استدعاء الطلاق بلفظ (متى ما).

_ (1) ثم طلق: أي في المدة. (2) كذا " منه وإليه " ولعل صوابها (وهذا معزو إليه).

وإنما نشأ هذا الإشكال من المسألة الثانية، وهي إذا قالت: "لك ألف، وأنت بالخيار في تطليقي عاجلاً، وفي تأخير الطلاق إلى شهر"، واستدعاؤها يستحيل على التعجيل والتأخير، ويلزم أيضاًً أن يقال: إذا كان الاستدعاء بلفظ (متى ما)، فأخر الطلاق على قصد الإجابة إنه يستحق مهر المثل. وبالجملة، لا فرق بين المسألتين، وقد انتظم في مسألة (متى ما) صحةُ الخلع إذا ابتدر، وعري الطلاق عن البدل إذا تأخّر، وانتظم هاهنا للأصحاب الرجوع إلى مهر المثل إذا اتصل الطلاق، وإثبات مهر المثل إذا انفصل على قصد الإجابة، فيجب قطعاً نقل جواب كل واحدٍ من المسألتين إلى أختها، وإجراء وجهين فيهما جميعاً. وقد وجدت هذا الذي ذكرتُه في مرامزِ كلام صاحب التقريب، حكاية عن تصرفات ابن سريج. 8859 - ومما يكمل به البيان أنها إذا قالت: طلقني غداً بألف، وأثبتنا العوض على الشرط المقدم إذا أجابها في الوقت المعين، فلو عجل الطلاق قبل الوقت المؤقت، ففي استحقاقه العوض احتمال؛ من جهةٍ خالف غرضها، [ومن جهةٍ] (1) عجل الفراق، وقد تقدم لهذا نظير فيه إذا استدعت الفسخ -على قولنا الخلع فسخ- فطلقها، فكيف يكون الأمر في ذلك؟ فيه اختلاف قدمنا ذكره. ولو قالت: طلقني غداً بألفٍ، وطلقها بعد غدٍ، لم نثبت شيئاً بلا خلاف؛ فإنه أخر الطلاق، وهو في وضعه منافٍ لاستحقاق العوض، فلا هو وصل، ولا هو أتى به على وفق استدعائها، بل أخر عنه، فهذا منتهى القول في ذلك. ومن القول الجليّ في هذا النوع أنه لا يستحق عليها شيئاً ما لم يأت عليها العدد (2) فيطلقها، إذا كان يبغي التأخير؛ فإن استحقاق المال يقترن في كل حساب بوقوع البينونة لا يتصور ترتب أحدهما على الثاني، لأن البينونة تقع بالمال. ومهما رجعت المرأة عن قولها قبل تنفيذ الطلاق، بطل المال، وانقطع مسلك

_ (1) عبارة الأصل: ... خالف غرضها ومن توجه عجل الفراق. (2) ما لم يأت عليها العدد: يريد ما لم يحن الموعد المحدد ويطلق فيه.

استحقاقه، ولا فرق بين أن تقول: إن طلقتني غداً، فلك ألف، [وبين أن تقول: طلقني غداً على ألف] (1) والأمر في جانب الزوج بخلاف هذا؛ فإنه إن قال: خالعتك على ألف، ملك الرجوع قبل إجابتها، وإن قال: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، لم يملك الرجوع، والسبب فيه أن الطلاق إذا علق، لم يتصور الرجوع عنه [لا] (2) لصيغة التعليق، وذلك أن الطلاق في نفسه إذا علق، لم يملك الرجوع عنه. وكم من تعليق يُرجَع عنه. والمرأة إنما تعلق المالَ وذكرَه، فكانت بمثابة ما لو قال الرجل: إن رددت عبدي الآبق، فلك كذا، فإذا أراد الرجوعَ، كان له ذلك، وقد ذكرنا أن الخلع في جانبها معاوضةٌ نازعةٌ إلى الجعالة. وهذا نجاز الكلام في نوع واحد من الأنواع الثلاثة المذكورة في الفصل. 8860 - فأما النوع الثاني وهو الكلام في مقابلة تعليق الطلاق بالمال وهذا يفرض على وجهين: أحدهما - أن يبتدىء الرجل، فيقول: أنت طالق غداً على ألف درهم، فتقول: قبلت. والصورة الأخرى - أن تقول المرأة مبتدئةً: علق طلاقي على مجيء الغد، ولك ألفُ درهم. وذكر صاحب التقريب وجهين في أن الخلع هل يصح كذلك، وهل يثبت البدل المسمى أم لا؟ حكاهما عنه الصيدلاني، ورأيتهما في كتابه: أحد الوجهين - أن المسمى يثبت؛ فإن معلَّق الطلاق كمنجزه؛ من جهة أنه لا مردّ له بعد إجرائه، وليس في حكم الوعد والالتزام في الذمة، حتى يظهرَ فيه الوجه الذي قدمناه في الفساد، والتعليقُ متصل بذكر المال وقبوله، ومن لم يستبعد إثبات المسمى في قول الرجل: متى أعطيتني ألف درهم مع الاستقصاء في وصفه، فينبغي ألا يستبعد تصحيح مقابلة التعليق بالمال. هذا أحد الوجهين.

_ (1) زيادة من المحقق على ضوء السياق وحمداً لله، فقد وجدناها عند (ابن أبي عصرون). (2) في الأصل: " إلا لصيغة .. " ومعنى " لا لصيغة التعليق " أن امتناع الرجوع إذا علق الطلاق يرجع إلى طبيعة الطلاق، لا إلى أن العقد معلق، فكم من تعليق يجوز الرجوع عنه.

والوجه الثاني - أن الخلع يفسد على معنى أن المسمى لا يثبت؛ فإن وضع الخلع على تنجيز تخليص المرأة بما تفتدي به نفسَها، والتي عُلّق طلاقها زوجة قبل وجود الصفة، وقد تتأخر الصفة، فكان ذلك مخالفاً لوضع الخلع، فلزم الرجوع إلى مهر المثل، ولا خلاف أن المال لا يثبت في ذمتها، ما لم تتحقق الصفة؛ فإن الطلاق يقع عندها، ويستحيل ثبوت المال عليها متقدماً على حصول الفراق. وذكر شيخي أبو محمد وجهاً ثالثاً، حكاه عن [شيخه] القفال، وذلك أنه قال: من أصحابنا من فرق بين الابتداء إذا كان منه وبين ما إذا ابتدأت؛ فإن ابتدأ الزوجُ، وقبلت المرأة، صح البدل، وثبت المسمى، وإن ابتدأت المرأة بالاستدعاء ووضعت استدعاءها على تعليق الطلاق، لم يصح ذلك منها، وكان مآلُ الأمر بالرجوع إلى مهر المثل. وهذا عندنا تخيل لا حاصل له؛ فإن التعليق إذا كان يقبل المقابلة بالمال، فإذا استدعت، فقد استدعت بالمال قابلاً للمقابلة، فلا أثر لتقدم قولها وتأخره. وذكر القاضي وجهاً آخر- أن المال لا يثبت؛ لأن المعاوضة لا تقبل التعليق، وإذا لم يثبت المال، لم يقع الطلاق؛ فإنه علق على مال. وهذا أولاً ضعيف؛ فإن وقوع الطلاق ينبغي أن يناط بالقبول، فإذا قال الزوج: أنت طالقٌ غداً بألف، فقالت: قبلت، فحصول القبول في هذه الصورة على صيغة حصول القبول في الطلاق المنجّز؛ إذ لا تعليق للطلاق بثبوت المال، وإنما تعليقه بصفة وبوقتٍ، فالمصير إلى أن الطلاق لا يقع غفلةٌ عظيمة. نعم، إن قيل: لا يثبت المال بجهة التعليق، فهو [فقهٌ] (1) على حال. ثم يجب أن يكون التفريع عليه أن الطلاق يقع رجعياً. 8861 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرجل إذا علق الطلاق، وذكر مالاً، كما وصفناه، فقبلت المرأة، فلو أرادت المرأة الرجوعَ قبل وقوع الطلاق، لم تجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن الأمر استقر بالتعليق والقبول، وصار التعليق كالتطليق.

_ (1) في الأصل: فقيه.

فإذا فرعنا على فساد المسمى [كان الجواب كمثله] (1)، والسبب فيه أن الطلاق تعلق تعلقاً لا يُستدرَك، وارتبط بالمال ارتباطاً لا يحتاج معه إلى تجديد قبول، فلا يختلف الأمر بفساد المسمى وصحته، وليس كما لو استدعت منه أن يطلقها غداً؛ فإنها تملك الرجوع [لو أرادت] (2) حتى نقول: لو رجعتْ، ولم يشعر الزوجُ، فطلقها على قصدِ الإسعاف، نفذ الطلاق عارياً عن العوض. وقد ينقدح فيه اشتراط بلوغ الخبر، كالتوكيل والعزل، والأظهر أنا لا نشترط بلوغ الخبر؛ فإن هذا في حكم الرجوع عن أحد شقي العقد قبل صدور الشق الثاني من العاقد. فقد انتظم مما ذكرناه أن المرأة في صورة التعليق لم تلتزم بعدُ مالاً عليها، ولا نجد سبيلاً إلى دفع ما سيلزمها عند وقوع الطلاق، وكأنها التزمت أن تلتزم، وينشأ من هذا المنتهى تأكيدٌ لما قدمناه، وهو أن الطلاق [لو] (3) أُخّر، ثم أوقع، لم يتعلق به استحقاق مالٍ، وقد استنبطتُ هذا من قول الأصحاب فيه إذا قالت: متى طلقتني، فلك ألف. وقد صرح القاضي في التعليق بأن المال لا يثبت في وجهٍ إذا كان لا يثبت هاهنا وقد انعقد التعليق، فلأن لا يثبت في الطلاق المنشأ بعد زمان مستأخر أولى. وقد نجز القول في مقابلة تعليق الطلاق بالمال. 8862 - فأما الفن الثالث، فهو أن تستدعي طلاقاً، وتذكر من حكمه ما لا يوافق الشرع، مثل أن تقول: طلقني بألفٍ طلقةً يمتد تحريمها إلى شهر، ثم ينقضي. فإذا قال: أنت طالق طلقةً إلى شهر، فالطلاق يقع على موجَب الشرع، مسترسلاً على الأزمان، ثم قال الأصحاب: يفسد العوض [الذي] (4) سمَّت، بسبب فساد الصيغة، والرجوع إلى مهر المثل، وقياس هذا بيّن، على ما ذكرناه. ولو قالت لزوجها: طلقني نصف طلقة بألف، فقال: أنت طالق نصف طلقة،

_ (1) في الأصل: كالجواب كمثل. (2) في الأصل: ولو أرادت. (3) زيادة اقتضاها استقامة الكلام. (4) زيادة من المحقق.

فكيف السبيل؟ هذا فيه تردد؛ من قِبل أن ما استدعته فاسد في لفظه، وإن كان الشرع يكمله، وهذا بمثابة استدعائها طلاقاً إلى شهر، فوقوعُ الطلاق مطرداً على الأزمان حكمُ الشرع، كذلك تكميلُ الطلقة الملفوظ بها نصف طلقة موجب الشرع، فوجب أن لا يكون بين المسألتين فرق. وكذلك لو قالت: طلق يدي أو طلق نصفي بألف، ففي المسألة تردد، واحتمال، والاحتمال في هذه الصورة الأخيرة أظهر، فإنها تُبنى على خلافٍ للأصحاب -يأتي- في أن من قال لامرأته: نصفك طالق، فالطلاق يصادف النصفَ، ويسري، كما يفرض مثل ذلك في العتق، أو يكون تطليق النصف عبارة عن تطليق الكل؟ والظاهر في المسائل كلها الرجوع إلى مهر المثل. وقد نقلنا نصَّ الأصحاب فيه إذا استدعت الطلاق إلى شهر أن الرجوع إلى مهر المثل. فليتأمل الناظر هذه المسائل. فصل قال: "ولو قالتا: طلقنا بألفٍ، ثم ارتدتا ... إلى آخره" (1). 8863 - نُجدد العهدَ في مقدمة الفصل بما مهدنا ذكره في كتاب الصداق. نقول: إذا خالع الرجل امرأتيه بمالٍ سماه، فقبلتا، فالبينونة تقع، وفي صحة البدل قولان تمهد أصلهما فيما مضى: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإنه لا يدري بماذا يطالِب كلَّ واحدة، وكلُّ واحدة منهما مستقلّةٌ بنفسها فيما تلتزِم وتطالَب به. والقول الثاني - أن الخلع صحيح، وتعدُّدُ المرأتين بمثابة ابتياع عبدين بألف. فإن لم نصحح التسميةَ، فالرجوعُ إلى مهر المثل، فيطالِب كلَّ واحدة منهما بمهر مثلها؛ فإنّ سبب الفساد الجهالة، ومهما (2) كان فساد البدل بسبب الجهالة، فالرجوع إلى مهر المثل.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 62. (2) " مهما " بمعنى (إذا).

وإن حكمنا بصحة المسمى، فالأصح الذي عليه التعويل أنه يتوزع على مهور أمثالهما، فإن كان مهراهما متساويين، فعلى كل واحدة نصفُ البدل المسمى، وإن كانا مختلفين، وزعنا المسمى على مقداريهما، وتطالَب كل واحدة منهما بما يخصها. وذكر الشيخ أبو بكر (1) قولاً آخر: أنا نوزع المسمى بالسوية على رؤوسهما، فلا ننظر إلى تفاوت المهرين وتساويهما. وهذا لم أره إلا له، وأجراه القاضي قولاً، ولم يزيفه، ثم وجّهه الصيدلاني بأن الطلاق هو المقابَل بالمال، وطلاقُها وطلاق صاحبتها لا يختلفان في سبيل العدد، كما لا تختلف طلقات امرأة. وهذا ضعيف، لا أصل له؛ فإن المقابَل بالمال أبضاعُهما، وسبيل حَلِّ النكاح عنهما الطلاقُ، فلا معنى للنظر إلى أعداد الطلاق، ثم أعداد النسوة. ثم إن صح هذا الذي ذكره، فيتفرع عليه أمران: أحدهما -[أنه] (2) يجب القطع بصحة الخلع إذا كان تفريع التوزيع يُفضي إلى هذا، وربّ أصلٍ [يستبدل] (3) بفرعه في إجراء الترتيب. هذا لا بد منه، فيقال: إذا كنا نرى التوزيع على الرؤوس، فالبدل

_ (1) الشيخ أبو بكر: المراد به هنا: الصيدلاني. (2) في الأصل: أن. (3) في الأصل: " يستبسل ". وأما الاستبدال الذي يشير إليه، فبيانه أن الأصل الذي جدد الإمام العهد به هو أن الرجل إذا خالع زوجتيه بمالٍ سماه، فالبينونة تقع، وفي صحة المسمّى خلافٌ: من قال: " لا يصح " علّل بالجهالة؛ فإنه لا يدري بماذا يُطالب كلَّ واحدةٍ منهما. ومن قال: " يصح " جعل الرجوع إلى نسبة مهر المثل من المسمى: أي يطالب كل واحدة بما يساوي نسبة مهر مثلها من المسمّى. ثم ذكر الصيدلاني قولآ آخر وهو أن المسمى يوزع بينهما بالسوية على الرؤوس، ووجّهه بأن المقابل بالمال هو الطلاق وهو لا يختلف من زوجة لأخرى. فإذا صح هذا- وهو مفرع على صحة المسمّى، فنعتبر هذا الفرع أصلاً، ونقلب التفريع، ونقول: إذا كان التوزيع على الرؤوس فالمسمى ثابثٌ، وإذا كان التوزيع على مهر المثل، ففي صحة المسمى خلاف (هذا هو إبدال الأصل بفرعه).

المسمى ثابت، وإن كنا نقدر التوزيع على مهر المثل، ففي صحة المسمى الخلاف الذي ذكرناه. ومما يجب تفريعه على ذلك أن الرجل إذا قال في مخاطبة امرأتيه، وكان يملك على كل واحدةٍ ثلاث طلقات: طلقتك يا زينب واحدةً، وطلقتك يا عَمْرة اثنتين بألف درهم، فإذا كنا نرى التوزيع على التسوية، فهذا فيه تردد، والظاهر أن المطلقة اثنتين تلتزم ثلثي الألف، والمطلقة واحدة تلتزم الثلث؛ نظراً إلى أعداد الطلاق في المرأة الواحدة، وفي كلام الصيدلاني ما يدل على أن التوزيع على الرؤوس، [ولا نظر] (1) إلى أعداد الطلاق، فيكون البدل المسمى منشطراً أبداً بين اثنتين، وإن تفاوت الواقع عليهما من أعداد الطلاق. 8864 - ولو قال الزوج لامرأتيه: أنتما طالقان على ألف، فقبلت إحداهما، ولم تقبل الأخرى، لم تطلق واحدة منهما. [هكذا] (2) ذكر الأصحاب. وهذا لعمري جارٍ على ظاهر المذهب فيه إذا قال الرجل لشخصين: بعت منكما عبدي هذا بألف درهم، فقال أحدهما: قبلت البيعَ في نصفه بخمسمائة، فالذي ذكره أئمة المذهب أن القبول لا يصح على هذا الوجه، ما لم يساعد صاحبه، وإن فرعنا على المذهب المشهور والقول المنصور على أبي حنيفة، ورأينا أن لأحدهما أن يتفرد برد ما اشتراه عند الاطلاع على العيب، وإن لم يساعده الثاني في الرد (3). هذا الذي ذكرناه في القبول هو المذهب المقبول، وقد اشتهر عن الأصحاب ذكرُ منعٍ فيه، والحكمُ بتصحيح القبول من أحدهما في القدر الذي يخصه من الملك، بالقدر الذي يلزمه من الثمن، ولم أر هذا لمعتمدٍ في المذهب. وغالب ظني أنه من

_ (1) في الأصل: والنظر إلى أعداد الطلاق. (2) في الأصل: وهذا ذكر الأصحاب. (3) المعنى هنا: أن المذهب هو عدم تصحيح القبول في البيع، إذا قبل أحدهما بخمسمائة، حتى ولو قلنا: يجوز لأحدهما أن ينفرد برد ما اشتراه عند الاطلاع على العيب، وإن لم يساعده الثاني، فيما إذا كانا قبلا معاً، ثم اطلعا على عيب بالعبد.

ارتكاب (1) الخلافيين، وقد حكيت هذا في كتابٍ واستشهدت بمسألةٍ من الخلع، ولم أتثبت فيها على ما ينبغي. 8865 - وهذا أوان التفصيل على التحصيل الذي عليه التعويل. فنقول: إذا كان البادىء الزوج، فقال لامرأتيه: أنتما طالقان بألف. فإذا قبلت إحداهما، ولم تقبل الثانية، لم يقع شيء، كما لو قال مالك العبد: بعت عبدي هذا منكما بألف درهم، فقبل أحدهما دون الثاني، لم يصح. والخلع أولى بألا يصحَّ ببعض القبول فيه، لما فيه من تضمين التعليق. وإن صح في البيع تصحيحُ القبول من أحدهما دون الثاني، لم يمتنع خروج مثله في

_ (1) ارتكاب الخلافيين: تكرر هذا اللفظ (ارتكب) بأكثر من صيغة من صيغ الاشتقاق، في مواضع كثيرة على طول هذا الكتاب، ومنها على سبيل المثال قوله في خطبة الكتاب: "وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجهٌ غريب منقاس ذكرت ندوره وانقياسه، وإن انضم إلى ندوره ضعف القياس نبهت عليه ... وإن ذكر أئمة الخلاف وجهاً مرتكباً أنبه عليه". وحين يعرض للاجتهاد في القبلة، يعقب على أحد الوجوه في صورة من الصور قائلاً: "وهذا إن ارتكبه مرتكب، ففيه بعدٌ ظاهر" وفي باب آخر يعقب على أحد الوجوه قائلاً: "ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلاف" وفي كتاب النكاح يعقب على إحدى المسائل قائلاً: "ولما نظر القفال إلى ما ذكرناه، لم يجد فرقاً، وارتكب طرد القياس في المسالتين اللتين ذكرهما صاحب التقريب، وقال أولاً: إنه حكى فيهما نص الشافعي، وقد تتبعت النصوص، فلم أجد ما حكاه من المسألتين منصوصاً ... ". هذه نماذج لورود هذا اللفظ، وصورٌ من اشتقاقاته، ولقد تبادر إلى الذهن أن هذا (الارتكاب) أحد مصطلحات علم الجدل والمناظرة، فبحثت واستقصيت جهدي في كل مظانه: في الكافية في الجدل لإمام الحرمين، المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي، واصطلاحات المتكلمين والفلاسفة للآمدي، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وتعريفات الجرجاني، وكليات أبي البقاء، ثم غريب ألفاظ الشافعي، ثم معاجم اللغة، ثم معجم الألفاظ التي شرحها ابن خلكان في الوفيات. ويبدو أن المراد بالارتكاب هنا التعسف وركوب الطريق غير السوي، يظهر ذلك من سياق العبارات التي أمامنا، والذي يرشح هذا التفسير أن هذا (الارتكاب) يكون عادة من أئمة الخلاف، عند نصرة كل صاحب رأي لرأيه، فيعتسف أيّ طريق، انتصاراً لرأيه، وفراراً من إلزامات خصمه. والله أعلم.

الخلع؛ فإنه وإن اشتمل على معنى التعليق، فهو في هذا المقام كالمعاوضة المحضة؛ إذ يجوز للمخالع إذا لم يأت بلفظ التعليق أن يرجع قبل القبول، وهذا أصدق الآيات في تغليب معنى المعاوضة في الفن الذي نطلبه. والمعتمد في منع تبعض القبول مخالفة القبول لما أشعر الإيجاب باستدعائه، فإن من قال: " بعت منكما " مستدعٍ لجوابهما على الاقتران، فهذا ما يجب التعويل عليه، ولهذا قلنا: لو قال الرجل: بعتك عبدي هذا بألفٍ، فقال المخاطب: اشتريت بألفين، فالبيع لا ينعقد، وكان من الممكن إحباط الألف الزائدة والمصير إلى أنها ملغاة، ولكن شرط القبول موافقة الإيجاب على وجهٍ [لو فرض غير مستقلٍّ] (1) لانْبنَى على ما تقدم، وذلك أن المخاطَب إذا قال: قبلت، فهذا لا يستقلّ لو انفرد، ولكنه نفذ لابتنائه على ما تقدم. وإذا قال البائع: بعت عبدي هذا منكما بألف، فقالا: اشتريناه بالألف، صح وقد تحققت الموافقة على النهاية. ولو قال: بعت هذا العبدَ منكما بألف، فقال كل واحد منهما: اشتريتُ نصفه بنصف الألف. فهذا فيه احتمالٌ عندي؛ من قِبَل أنه خاطبهما على صيغة تقتضي جوابهما، فإذا ذكر كل واحد منهما عبارة تصلح للانفراد ورّث ذلك احتمالاً، والظاهر الصحة بحصول الغرض من الموافقة في المعنى، ثم لا نشترط أن ينطقا معاً، بل إذا قال أحدهما: قبلت، ثم قال الثاني بعده: قبلت، والأمر على التواصل، والزمان الجامع المرعي الشامل، جاز. وهذا هو الممكن. ولو قال رجلان: بعنا عبدنا هذا -وهو بيننا نصفان- منك بألف، فقال لأحدهما: اشتريت نصيبك بخَمسمائة، فالذي أطلقه الأصحاب أن البيع لا يصح في بعض العبد إذا أراد الاختصار عليه، ومنعُ الصحة في هذه الصورة أَعْوصُ وأغمض من منعها [إذا] (2) اتحد البائع وتعدد القابل، فكل واحد منهما يعرب عن ملكه، ولا تعلّق له بملك صاحبه، فإن صح تبعيض القبول فيه إذا قال الشخص الواحد: بعت عبدي

_ (1) في الأصل: " أو فرض عن مستقبل ". (2) في الأصل: وإذا.

منكما، فلا شك أن هذا يُخرّج فيه إذا قالا بعنا منك. وسنذكر صوراً في استدعاء النسوة الطلاق؛ فإنا الآن فيه. إذا ابتدأ الزوج وقال: خالعتكما، أو خالعتكن. [فلو خالع] (1) امرأتين بألف، وكانت إحداهما سفيهة، والأخرى مُطْلقة (2)، فقبلتا، وقع الطلاق وفاقاً، ثم الطلاق الواقع على السفيهة رجعي، وطلاق المُطْلقة بائن. فإن قيل: قد [تبعض] (3) الأمر في لزوم العوض، فهلا حكمتم بأن ذلك يمنع وقوع الطلاق؟ قلنا: المرعي القبول. وقد ذكرنا أن قبول المحجورة في اقتضاء الطلاق، كقبول المُطْلقة، فإذا حصل الوفاق في القبول، لم يمتنع افتراق الأمر في لزوم المال وانتفائه. ووقوع البينونة على إحداهما، والطلاق الرجعي على الأخرى. فهذا قدر غرضنا الآن في ابتداء الرجل بالمخالعة. 8866 - فأما إذا سألت امرأتان الطلاق، وقالتا: خالعنا بألفٍ، فإن أجابهما، وقال: خالعتكما، أو طلقتكما: فالبينونة واقعة، وفي صحة المسمى القولان المقدّمان؛ فإن مأْخذهما لا يختلف بأن يكون الزوج هو المبتدىء، أو تبتدىء النسوة بالاستدعاء. ولو قالت امرأة: طلقني [وضَرَّتي] (4) بألف، فقال: طلقتكما، فالمسمى صحيح هاهنا، بلا خلاف، فإن القائلة متحدة، غير أنها أدخلت نفسها وضرتها في العقد، وتعدّدُ المعقود عليه لا يؤثر، إذا تحقق اتحاد العاقد، وليس كما إذا سألتا، فأجابهما؛ فإن كل واحدة منهما مستقلّة بالالتزام. وهذا ظاهر مغنٍ بظهوره عن مزيد الكشف. ولو [قالتا] (5): خالعنا أو طلقنا بألف، فقال في جواب إحداهما: طلقتك،

_ (1) في الأصل: ولو. (2) مطلقة: أي غير محجورة. (3) في الأصل: يتبعض. (4) في الأصل: " وحدي " وهو تصحيف مضلَّل. (5) في الأصل: قلنا.

فالطلاق يقع [بائناً] (1)، وهذا التبعيض لا ينافي وقوع الطلاق، وليس كما إذا قال: خالعتكما بألف، فقبلت إحداهما؛ فإن الطلاق لا يقع على القابلة، كما حكيناه عن الأصحاب؛ فإن قوله محمول على مقتضى المعاوضة والمعاوضة في مثل هذه الصورة تقتضي الاجتماع في القبول، فجرى ما قدمناه على هذا القياس. فأما إذا قالتا: طلقنا بألف، فطلق إحداهما، فكل واحدةٍ على استدعائها، لا تعلق لها بصاحبتها، وليس كما لو قال الطالبان: بع منا هذا العبد بألف، فباع نصفه من أحدهما، فالبيع باطل؛ لأنه معاوضة [محضة، والمعاوضة] (2) المحضة تقتضي توافقاً حقيقياً بين الجواب والإيجاب، واستدعاءُ الخلع في النسوة، وإن كان معاوضة، فهي نازعة إلى جعالة، ولو قال: رجلان أبق عبداهما: رُدّ عَبْدَيْنَا ولك كذا، فرد عبد أحدهما، استحق مقداراً، فإذا [استدعتا] (3)، فأسعف إحداهما، استحق مقداراً من المال، ثم لا يتصور استحقاقُه المالَ من غير تقدير [وقوع] (4) البينونة. ومن استنبط في (5) تبعيض القبول في البيع قولاً، إنما استنبطه من إجابة [الزوج] (6) إحداهما وقد ابتدأتا الاستدعاء، ثم طرد هذا حيث يلزمه، وقال: إذا قال مالك العبد: بعت منكما هذا العبدَ بألف، فقبل أحدهما دون الثاني، صح. وهذا [الباني] (7) ليس على وجهه؛ فإن الذين قالوا في الخلع إذا استدعتا ابتداءً،

_ (1) في الأصل: ثانياً. (2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (3) في الأصل: استدعا. (4) في الأصل: توقع. (5) " في " تأتي مرادفة لـ (مِن). (6) غير مقروءة في الأصل. (7) في الأصل: " الباقي " والمثبت تصرّفٌ منا على ضوء السياق، فالمعنى أن هذا الباني أي المستنبط على وجهه الصحيح. وعَبارة ابن أبي عصرون: " قال الإمام الاستنباط ليس على وجهه ".

فأجاب إحداهما، ثبت المال وتقع البينونة أطلقوا [القول] (1) بأن الزوج إذا ابتدأ، فقال: خالعتكما بألفٍ، فقبلت إحداهما دون الثانية، لم يقع شيء. فإذا لم نُجز [استنباط] (2) التبعيض من صورة إلى صورة في الخلع، فكيف يجب استنباط التبعيض في (3) الصورة التي ذكرناها في البيع مع إطلاقنا بأن الخلع في مثل تلك الصورة لا يتبعض القول فيه. 8867 - ومن الأسرار اللطيفة فيما نحن فيه في قواعد الخلع أن الزوج إذا استعمل في مقابلة الطلاق بالمال صيغة المعاوضة، اقتضى ذلك عدمَ التبعّض في القبول قياساً على المعاوضة [المحضة] (4). وإن استعمل صيغة التعليق، فأولى، وذلك بأن يقول لامرأتيه: إن أعطيتماني ألفاًً، فأنتما طالقان. فإذا إعطته [الألف] (5) إحداهما دون الأخرى، لم تطلق المعطية؛ فإنّ التعليق بالصفتين فصاعداً يقتضي الاجتماع في الصفات. وهذا بيّن في قاعدة التعليق، [فإن إيجاب الزوج] (6) لا يخلو عن المعاوضة والتعليق، وكل واحدة منهما تقتضي الجمع. وإن كان الاستدعاء من النسوة، فهن يلتمسن ما يقبل الغرر، فيصير قبول الطلاق للغرر في حقهن مُلحِقاً استدعاءَهن باستدعاء الأعمال في الجعالة؛ إذ ليس منهن تعليق، وإنما منهن بذلُ مال غيرَ أنهن يبذلن الأموال في مقابلة ما يقبل الغرر، ولهذا قال المحققون: ما يصدر منهن معاوضة نازعة إلى الجعالة. وانتظم من هذا أن الزوج إذا ابتدأ [فمعاوض] (7) أو معلّق، والمرأة إذا استدعت، فليس من جانبها ما تملك [تعليقه] (8). فإذا ارتبط المال بما يقبل الغرر، كان إسعاف

_ (1) في الأصل: الزوج. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) بمعنى (مِنْ). (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: " أعطت إحداها " والتعديل والزيادة من (صفوة المذهب). (6) في الأصل: فإذا جابت. (7) في الأصل: بمعاوض. (8) في الأصل: تطليقه.

الزوج على قياس إسعاف العامل المجعول له؛ فإذا تحقق هذا، وقال: طلقتك يا هذه، فالبينونة تثبت، والكلام بعد ذلك فيما يلزمها، وهذا خارج على ما إذا [خالعهما فقبلتا] (1). فإن قلنا ثَمَّ: على [كلّ] (2) واحدة منهما تمامُ مهر مثلها، فعلى التي خصها بالإجابة مهرُ مثلها، وهذا حكمٌ بفساد العوض. وإن قلنا ثَمّ: المسمى يوزع عليهما بالسّويّة، فهذه التي خصها الزوج بالإجابة عليها نصف البدل الذي ذكرناه. وإن قلنا: إذا خالعهما بألف، فقبلتا الألف، فعلى كل واحدة منهما من المسمى مقدار مهر مثلها، فهذا القول لا يخرج هاهنا؛ لأنه إذا خالعهما، فقبلتا، وصححنا المسمى، فنقول: المسمى معلوم في نفسه، فلا يضر الجهل في التوزيع، وإذا خص إحداهما بالإجابة، فإذا كنا نفرع على التوزيع على مهر المثل، فلم يثبت في حق هذه المجابة إلا مقدارٌ مجهول من المسمى في أول الأمر، وليس هذا جهالة توزيع بعد إعلام العوض على وجهٍ. وإذا صدر القبول منهما، فالألف بكماله ثابت، وهو معلوم، فأمكن أن يعتمد العقد إعلامَ الألف، وإذا لم يجب [إلا] (3) إحداهما، فأول [العوض] (4) مجهول إذا كنا نرى التوزيع على أقدار مهر المثل؛ فإذاً لا ينقدح فيه إذا أجاب إحداهما إلا قولان: أحدهما - الواجب مهر المثل. والثاني - أن الواجب نصف المسمى إذا كنا لا نرى التوزيع، فأما إثبات مقدار من المسمى بتقدير توزيعه على المهرين، فلا سبيل إلى المصير إليه. وإذا أجابهما، انتظم على إفساد التسمية وتصحيحها ثلاثةُ أقوال: أحدها - أن على كل واحدةٍ مهر مثلها. والثاني - أن على كل واحدة من المسمى مقدار ما يقابل مهرها عند القسمة على أقدار المهرين (5).

_ (1) في الأصل: " خالعها قبلنا " وواضح ما فيه من تصحيف. والمثبت من (صفوة المذهب). (2) في الأصل: كذا. (3) في الأصل: إلى. (4) في الأصل: العرض. (5) لم يذكر القول الثالث، وهو أن على كل واحدة منهما نصف المسمى. (ولعله تركه لوضوحه).

وقد نجز تمام المقصود في ابتدائه بالمخالعة وابتدائهن بالاستدعاء وما يفرض من جمع وتفريقٍ في القبول منهم، وفي إجابة من الزوج. 8868 - ثم ابتدأ الشافعي هذا الفصل وغرضه الكلامُ في طريان الردة، ونحن نقول: إذا قالت المرأة: طلقني بألف، ثم ارتدت قبل إجابة الزوج، فأجابها الزوج بعد ردتها، فنذكر غرضَ الشافعي، ثم ننعطف على ما يتعلق به من الإشكال، قال الشافعي: إذا كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فإذا ارتدت، انقطع النكاح بردّتها، ولغا طلاق الزوج؛ فإنه يقع بعد انفساخ النكاح. وإن كانت مدخولاً بها، فليس يخفى أن انفساخ النكاح موقوفٌ عندنا، فإن أصرت على الردة، تبيّنا أن النكاح انفسخ مع الردة وأنها استقبلت العدة بعد الردة. وإن عادت إلى الإسلام في زمن العدة، تبيّنا أن [الردة] (1) لم تقتضِ انفساخ النكاح، والخلعُ يخرج على هذا التقدير، فإن أصرت حتى انقضت مدة العدة، لغا طلاق الزوج، وبان أن صدوره من الزوج بعد الانفساخ، وإن عادت، فالطلاق واقع، والخلع صحيح، هذا مراد الشافعي. 8869 - ثم يتطرق إلى ما ذكر أسئلةٌ وأجوبة عنها، مثلاً: إنّ قائلاً لو قال: هذا النص هل يدل على أن تخلل كلام بين الإيجاب والقبول لا يوجب انقطاع أحدهما عن الثاني؟ قلنا: قد استدل بهذا النص من صار إلى أن تخلل الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول، لا يؤثر، ووجهُ الاستدلال أن الشافعي صحح الخلع مع تخلل كلمة الردة إذا جرت بعد الدخول، وفرض العوْد إلى الإسلام قبل مدة العدة. وهذا فيه نظر عندي من قِبل أن الشافعي صور مسألته فيه إذا استدعت المرأة الطلاق، ثم ارتدت، ثم أجاب الزوجُ، فالكلام صادر من المرأة بعد فراغها عن الاستدعاء، وإنما يقع التناقش والبحث [فيه إذا] (2) جرى الإيجاب، فتكلم القائل بكلامٍ غير القبول، ثم قبل. وهذا يناظر ما لو تخالع الرجل مبتدئاً، فارتدت المرأة،

_ (1) في الأصل: العدّة. (2) في الأصل: فيه ما إذا.

ثم قبلت، والشافعي لم ينص على الردة في هذه الصورة، وإنما ذكر الردة في الصورة الأولى. وقد يجري في هذا نوع آخر من السؤال، وهي أنها لما ارتدت، كان يجب أن نجعل ارتدادها رجوعاً [منها] (1)؛ فإن الردة تُغنيها عن طلب الفراق، فهلا أشعرت الردة برجوعها؟ وسبيل الجواب أن الردة لا تَعْني الرجوعَ عن الاستدعاء، ولكن المرأة إذا لحقتها شِقوةُ الردة، لم تقصد بالردة أمراً سوى ما بدا لها، ثم الانفساخ حكم الشرع. فهذا وجه التنبيه على ذلك. 8870 - ومن تمام الكلام في ذلك أن الرجل إذا خالع امرأتين، ثم ارتدتا بعد الدخول، وقبلتا أو استدعتا وارتدا، وأجابهما الزوج، فإن أصرّتا، لم يخف حكمهما، وإن رجعتا، لم يخف أمرهما. وإن أصرت إحداهما ورجعت الأخرى؛ فإن كان الاستدعاء منهما، ثم جرى الأمر كما ذكرنا، فهذا بمثابة ما لو استدعتا ولا ردة، فأجاب إحداهما. وقد مضى هذا. وإن ابتدأ الزوج المخالعة، فارتدتا، ثم قبلتا، فقد يتجه ألاّ نصحّح قبولهما وإن عادتا؛ لتخلل الكلام؛ بناء على أن الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول قاطعٌ؛ وليس هذا كالصورة الأولى. وإن صححنا الخلع ولم نجعل الكلام في نفسه قاطعاً، فإن أصرتا أو عادتا، لم يخف الحكم. وإن أصرَّت إحداهما وعادت الأخرى، فليتأمل الناظر هذا الموقف؛ فإنَّ القبول في حق المُصِرَّة باطل؛ فقد ذكرنا أن إحداهما إذا قبلت دون الأخرى، لم يثبت الخلع في حق القابلة، ولم يقع الطلاق؛ فقد ينظر الناظر إلى أنهما قبلتا، ثم أبطلنا قبول إحداهما، وقد يخطُِر له تقريب هذا مما إذا كانت إحداهما محجورة، والأخرى مطْلَقة، وليس الأمر كذلك. فنجعل كما لو قبلت إحداهما، ولم تقبل الأخري؛ فإنا أبطلنا القبول في حق التي قبلت، وجعلنا كأنا لم تقبل، فوجود ذلك القبول وعدمه بمثابةٍ، ووضوح ذلك يغني عن كشفه. وقبول السفيهة صحيح إذا

_ (1) في الأصل: " عنها ".

انفردت، فإن الطلاق يتعلق به، وإن كان رجعياً. فصل 8871 - ثم قال الشافعي: "ولو قال لهما: أنتما طالقان إن شئتما ... إلى آخره" (1). مضمون هذا الفصل قد سبق موضحاً، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شئت ولم يذكر عوضاً، اقتضى ذلك مشيئةً على الاتصال، وإذا قال لها: أنت طالق بألف إن شئت، فقد ذكرنا تردد الأصحاب في ذلك، واخترنا أنه يكفيها أن تقول: شئت، ثم ذكر الشافعي فرضَ الكلام في امرأتين بأن يقول الزوج لهما: أنتما طالقان بألف إن شئتما، والغرض لا يختلف، وإنما قصد الشافعي أنه لا بد من [مشيئتهما] (2). وهذا بيّن مبيّنٌ على الأصول المقدمة. فصل " قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال له أجنبي: طلق فلانة ولك عليّ ألف ... إلى آخره" (3). 8872 - غرض الفصل أن بذل المال على الطلاق من الأجنبي جائز وإن لم تشعر المرأة، ولم تأمر، وهذا لا خلاف فيه. والتردُّدُ الذي ذكرناه في صدر الكتاب في الخلع الذي يختلف القول. في كونه فسخاً أو طلاقاًً، فأما الطلاق نفسه، فيجوز للأجنبي بذلُ المال عليه، ثم يصح منه أن يختلع [امرأةً] (4) على عينٍ من أعيان مال نفسه، ويصح منه أن يختلعها على مالٍ يلتزمه في ذمته، ثم إذا انفرد بذلك، نفذ اللزوم عليه، ولم يجد مرجعاً. وإن أمرته المرأة بأن يختلعها، نُظر: فإن شرطت له الرجوعَ [عليها] (5) بما يغرَم،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 62. (2) في الأصل: مشيئتها. (3) ر. المختصر: 4/ 63. (4) في الأصل: امرأته. (5) في الأصل: عليه.

رجع إذا غرِم، وإن أطلقت الإذن، فغرم الأجنبي، فهل يرجع عليها؟ فعلى وجهين. وكان شيخي يقول: من ضمن مالاً عن إنسان بإذنه، ولم يشترط الرجوع عليه، فإذا غرِم، ففي الرجوع خلافٌ مشهور. وإذا وكل رجلٌ رجلاً حتى اشترى له عبداً بمال في الذمة، فاشترى، وغرم الثمن، فالمذهب الذي يجب القطع به أنه يرجع على الموكِّل، وذلك أنه حصّل له ملكاً بعوض، فيبعد أن يعتقد المشتري سلامةَ الملك له في المبيع من غير عوض. وإذا اعترف الموكِّل بالتوكيل، لم يختلف الأصحاب في أنه لو أراد البائع مطالبته بالثمن، أمكنه، فالإذن في البيع إذاً بمثابة الإذن في الضمان مع التقيد بالرجوع. وأبعد بعضُ أصحابنا، فألحق المشتري إذا ضمن بالضامن إذا غرم. وهذا بعيد. والمرأة إذا أذنت لأجنبي في الاختلاع، ولم تذكر الرجوع عليها، فهذا بين الضمان وبين التوكيل بالشراء: شَبَهُه بالتوكيل من جهة أن منفعة الخلاص تعود إليها، كما أن الملك في المبيع يقع للموكِّل بالشراء. ويُضاهي الضمانَ من جهة أن الضامن يُتصور أن ينفرد بالضمان والأداء، والأجنبي يُتصور أن ينفرد بالاختلاع والتخليص. فهذا بيان هذه المنازل. وحقيقةُ القول في الوكيل بالخلع والاختلاع ستأتي في فصلٍ مفرد بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. 8873 - ثم اختلاعُ الأجنبي الزوجةَ مع كونه مُجْمَعاً عليه خارجٌ على مذهب الافتداء؛ فإن المرأة في أسر الزوجية، [وحِبَالة] (1) النكاح، وقد سمى الله تعالى الاختلاعَ افتداءً، وأثبته على صيغةٍ تُشعر بالرخصة، فقال عز وجل: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وشبه الشافعي اختلاعَ الأجنبي بافتداء الأسرى. ولو قال الرجل لمالك المستولدة: أعتقها، ولك ألف، أو على ألف، فأعتقها، استحق الألفَ المسمى على باذله، وخرج هذا على مذهب التخليص والافتداء؛ فإن الملك في رقبة المستولدة لا يقبل النقل، كحق الزوج في زوجته. ولو قال الرجل لمالك عبدٍ: أعتقه عنِّي بألفٍ، فأعتقه، صح، ووقع العتق عن

_ (1) في الأصل: وجعالة.

المستدعي بناء على تقدير انتقال الملك إليه أولاً، ونفوذ العتق عن المستدعي في ملكه. ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك بألف، فأعتقه، ولو قال: [أعتقه بألف] (1)، ولم يضف العتق إلى نفسه، فأعتقه، وقع العتق عن المالك. وهل يستحق العوض على المستدعي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يستحقه إذا (2) كان من الممكن أن يقابل المالَ المبذول بنقل الملك إليه ونفوذ العتق عليه، وهذا لو فعله، كان على قياس المعاوضة، فإذا كان قياس المعاوضة ممكناً، فالمعاملة التي مساغها الافتداء يبعد أن تنفذ؛ إذ محلها الضرورة. ولو قال: أعتق أم ولدك عني بألف، فإذا أعتقها، وقع العتق، ولم يستحق على المستدعي شيئاً؛ فإنه شرط في استحقاق المال عليه وقوع العتق عنه. هكذا ذكر الأصحاب. ولو قال الأجنبي للزوج: " طلق زوجتك عني بألف "، فطلقها، فالوجه القطع أنه يستحق الألف؛ فإنه لا تخيّل لوقوع الطلاق عن المستدعي، ووقوع العتق عن المستدعي ممّا يُتخيل على الجملة. نعم، لا يمتنع أن يقال: يفسد لفظ الأجنبي بقوله: " طلقها عني ". ثم أثر فساد اللفظ الرجوعُ إلى مهر المثل. والذي يتعلق بتمام البيان في المسائل أن الأجنبي إذا قال: " طلقها بألفٍ أو على ألفٍ "، فإذا طلقها، استحق عليه الألف. ولو قال الأجنبي: " طلقها ولك ألف " فقد ذكرنا تردُّداً في أن المرأة لو استدعت الطلاق بهذه [الصيغة، فهل] (3) يُستحق العوض عليها. والأجنبي [أولى بالتردّد من المرأة] (4)؛ فإنه أبعد عن غرض الخلع، فكان جانبه أولى بصلةٍ مصرِّحة بمعنى المعاوضة.

_ (1) في الأصل: " أعتقتُه بألف ". (2) إذا: بمعنى (إذ)، وهو استعمال سائغ عليه شواهد من الشعر والنثر، كما أوضحنا ذلك قبلاً. (3) في الأصل: بهذه الصفة فهو. (4) عبارة الأصل: " والأجنبي من على المرأة " ولعل فيها سقطاً أو تصحيفاً. والحمد لله ما قدرناه وجدناه بنصه في (صفوة المذهب).

فصل قال: "ولا يجوز ما اختلعت به الأمة إلا بإذن سيدها ... إلى آخره" (1). 8874 - الأمة إذا اختلعت نفسها عن زوجها، فلا يخلو إما أن تختلع بإذن السيد أو تختلع بغير إذنه. فإن اختلعت بإذن السيد، لم يخل إما أن تختلع على عينٍ من أعيان مال السيد، وإما أن تختلع بمالٍ ملتزَم في الذمة. فإن اختلعت بإذن السيد على عين من أعيان ماله، صح ذلك، واستحق الزوج تلك العين فإن اختلعت بعوض ملتزَم تعلّق العوض بكسبها، وكان عوض الخلع عليها بمثابة الصداق على العبد المأذون له في النكاح، ويُخرَّج في بدل الخلع [القول القديم] (2) في أن السيد هل يصير بنفس الإذن ضامناً لعوض الخلع، وهذا أجريناه في الصداق، ولا فرق بينه وبين الخلع. هذا إذا اختلعت بإذن السيد. 8875 - فأما إذا اختلعت نفسَها عن زوجها بغير إذن مولاها، فلا يخلو إما أن تختلع بمالٍ في الذمة، أو تختلع [بعين من أعيان] (؛) الأموال. فإن اختلعت بمالٍ في الذمة، فقد تردد الأئمة في هذا، فذهب طوائفُ إلى أن اختلاعها فاسد، والمراد بفساده فساد التسمية، أما البينونة فواقعة، والمال يلزم ذمةَ الأمة على التفصيل الذي سنذكره في التفريع، إن شاء الله تعالى. هذا ما ذكره الصيدلاني وشيخي وبعض المصنفين. وقطع الشيخ أبو علي جوابه بأن الخلع يصح، والمسمى يثبت. فحصلنا على وجهين. وقد ذكرت اختلاف الأصحاب في العبد لو ضمن مالاً بغير إذن مولاه، فهل يصح ضمانُه أم لا؟ وذكر الشيخ أبو علي في هذا الفصل أن العبد لو اشترى شيئاً بغير إذن مولاه، ففي صحة شرائه وجهان، وقد فصلنا هذا فيما تقدم في موضعين. والذي يتعلق بغرضنا الآن في ضمان العبد بغير إذن مولاه وجهان، وفي اختلاع

_ (1) ر. المختصر: 4/ 63. (2) في الأصل: " والقول القائم " وهو تصحيف واضح، والتصويب من (صفوة المذهب). (3) في الأصل: بغير أعيان الأموال.

الأمة بغير إذن مولاها وجهان. والضمان والاختلاع في مرتبةٍ واحدة؛ لأنه لا يتضمن واحد منهما تصرفاً في حق المولى، لا في الرقبة، ولا في الكسب [وإنما] (1) تفرض المطالبة بالملتزم بعد العتق [إذا] (2) فرض يوماً من الدهر. وإذا اشترى العبد بغير إذن مولاه، ففي صحة الشراء وجهان مرتبان على الضمان، والشراءُ أولى بألا يصح؛ لأن من ضرورته ثبوت الملك [في] (3) المبيع، ويستحيل أن يملكه العبد، وإن ملكه المولى قهراً، كان بعيداً. ثم إن صححنا الضمان، لم يطالب العبد من مكاسبه، ولا تتوجه [عليه] (4) الطّلبة ما دام الرق. وإن أفسدنا الضمان، فأثر إفساده إلغاؤه، حتى لا تتوجه الطَّلبة بالمضمون بعد العتق أيضاًً. [وأما الاختلاع] (5) فسواء أفسدناه أو صحَّحناه، فالبينونة واقعة، والأمة مطالبة إذا أعتقت. وأثر الخلاف ثبوت المسمّى، ولا مطالبة به إلا بعد العتق. وإن أفسدنا الاختلاع، فالحكم ثبوت مهر المثل، والمطالبة به بعد العتق. وأما التفريع في البيع إذا صححناه، فقد مضى مستقصىً في كتاب البيع. 8876 - ومما نفرعه اختلاع المكاتبة، فإذا لم نصحح اختلاع الأمة، لم نصحح اختلاعها بعوض ملتزم في الذمة، ولكن البينونة واقعة، والطّلبة تثبت بعد العتق؛ فإن بدل عوض الخلع مشبَّهٌ بالتبرع، وبذل ما يستغنى عن بذله. وإن جرى اختلاعها بإذن المولى، فهو [كالتبرع] (6) بإذنه، وفي تبرع المكاتب بإذن المولى قولان سيأتي ذكرهما -إن شاء الله عز وجل- فيِ كتاب الكتابة، والغرضُ أن نبين أن اختلاعها بمثابة تبرعها.

_ (1) في الأصل: وإنها. (2) في الأصل: وإذا. (3) في الأصل: من. (4) في الأصل: عليها. (5) في الأصل: " وإن العتق " وما بين المعقفين تقديرٌ منا على ضوء السياق والسباق، وهو قريب من لفظ العز بن عبد السلام في الغاية. (6) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

8877 - وإن اختلعت الأمة بعينٍ من أعيان مال السيد من غير إذنه، فالزوج لا يستحق العين. ولكن إن جعلنا الأمة من أهل الاختلاع في الذمة، فهي كالحرة تختلع بمالٍ مغصوبٍ، غيرَ أن الحرة قد تطالب إذا كانت موسرة، والأمة بمثابة الحرة المعسرة بمطالبتها بعد العتق. ثم فيما تطالب به قولان: أحدهما - أنها بعد العتق تطالب بقيمة تلك العين المذكورة عوضاً. والثاني - أنها تطالب بمهر المثل. وكل ذلك تفريع على أن الأمة من أهل الاختلاع. فإن لم نجعلها من أهل الاختلاع، فالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً؛ فإن إحالة الفساد على خروجها من أن تكون من أهل الاختلاع أولى وأقرب، فإذا كانت إحالة الفساد على غير العوض، فالوجه الرجوع إلى مهر المثل. والأمر في هذا قريب. والمكاتبة إذا اختلعت بعينٍ من أعيان مالها بغير إذن المولى، فالزوج لا يستحق تلك العين، وهي كالأمة إذا اختلعت بعينٍ من أعيان مال السيد، فإن اختلعت بإذن السيد، ففي المسألة قولان مبنيان على تبرع المكاتب بعينٍ من أعيان ماله. هذا منتهى المراد. وزعم صاحب التلخيص أن اختلاعها بإذن المولى لا يصح، وإن صححنا تبرعها بإذن المولى. وهذا مزيف متروك لا حاصل له. فصل (1) قال: "وإذا أجزتُ طلاق السفيهة بلا شيء ... إلى آخره" (2). 8877/م- لا [يختلف] (3) المذهب أن السفيه ينفذ طلاقه، وهو مما لا يدخل تحت الحجر المطرد بسبب السفه، وليس الطلاق كالعَتاق، والفارق أن الطلاق

_ (1) من هنا، من أول الفصل بدأ العمل عن نسخة مساعدة، هي التي رمزنا إليها بـ (ت 6). (2) ر. المختصر: 4/ 64. (3) في الأصل: يخالف، والمثبت من (ت 6).

لا يُتلف ما يلتحق بالأموال المحضة، والإعتاق إتلافٌ محض، ولا ينفذ من المبذر التصرفاتُ في المال، ولا يصح منه الاستقلالُ بالنكاح، ويصح النكاح بعبارته إذا أذن الولي، فلو أذن له في [بيعٍ خاص] (1) على حسب المصلحة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يصح كالنكاح. والثاني - لا يصح؛ لأن النكاح من حاجته وضرورته، وليس محضَ مال، ولكن وقف على الإذن لما فيه من استحقاق المهر. وأما البيع، فتصرف في المال المحض. ثم إذا كان طلاق المحجور نافذاً، فلو طلق بمال، نفذ، وصح، قلّ المال أو كثر؛ لأن طلاقه إذا كان ينفذ من غير عوض، فلأن ينفذ مع العوض أولى. والعبد يطلِّق مجاناً، ولو طلق على مال، صح ونفذ، ودخل المال في ملك المولى قهراً، كما يدخل في ملكه ما [يحتطبه] (2) العبد وما يصطاده، واختلف الأصحاب فيما يتّهبه العبد من غير إذن المولى، كما تقدم ذكره، والفرق بين الهبة وبين بدل الخلع واضح مذكور في موضعه. ثم إذا خالع السفيه على مالٍ وحكمنا (3) بصحته، [لم] (4) نفرق بين أن يكون البدل المسمى مثلَ مهر المثل، أو أقل منه. ثم ما يأخذه من البدل لا يترك تحت يده [بل] (5) يلتحق بسائر أمواله، فيمتنع (6) تصرفه فيه، وإن لم يكن عليه حجرٌ في تحصيل هذا [العوض] (7) أصلاً ومقدارً، وكذلك إذا احتش، أو احتطب، أو اتّهب، فما يحصل [بهذه] (8) الجهات باختياره، فالحجر عليه مطرد في جميعه (9).

_ (1) في الأصل: في مبيع خص. والمثبت من (ث 6). (2) في الأصل: يخبطه. (3) في (ت 6): وقضينا. (4) في الأصل: ولم. (5) في الأصل: من. والمثبت من (ت 6). (6) في (ت 6): ويمتنع. (7) في الأصل: الغرض. والمثبت من (ت 6). (8) في الأصل: فهذه. (9) (ت 6): جميعها.

فصل قال: "ولو اختلفا، فهو كاختلاف المتبايعين ... إلى آخره" (1). 8878 - إذا اختلف المتخالعان بعد جريان الخلع في قدر بدل الخلع، أو صفته، أو جنسه، فقال الرجل: قد خالعتك على ألفٍ، وقالت: "بل على خمسمائة، أو قال: خالعتك على ألفٍ صحاح، فقالت: بل مكسرة، أو قال: خالعتك على خمسين ديناراً، فقالت: بل على ألف درهم. فإذا اختلفا على وجهٍ من هذه الوجوه، فإنهما يتحالفان، والفرقة لا ترتد، والرجوع إلى مهر المثل؛ فإن البضع في حكم المبيع الفائت؛ وإن اختلف المتبايعان على وجهٍ من الوجوه التي ذكرناها في الثمن، وكان المبيع قد تلف في يد المشتري، فمذهبنا أنهما يتحالفان، والبائع يرجع على المشتري بقيمة المبيع، فمهر المثل في معنى قيمة المبيع. وإذا اختلفا في العدد، والمسؤول، فقالت المرأة: طلَّقَني ثلاثاًً سألتُها بألف، وقال الرجل: بل طلقتك واحدة سألتِها بألفٍ، فهذا الاختلاف يجر التحالف أيضاًًً. ولكن القول قول الزوج في نفي ما عدا الواحدةَ المقَرَّ بها. وأثر الاختلاف والتحالف يرجع إلى بدل الخلع، فإذا تحالفا، سقط البدل المسمى، ويرجع الزوج عليها بمهر مثلها. وإنما لم يؤثر [اختلافهما في تغيير أمر الفراق؛ لأن الطلاق] (2) لا مرد له، ولا يتصور نقضه (3)، فيجري في أصله على القياس الذي يقتضيه الشرع. وإذا كان الزوج هو المطلق، فالقول قوله في الأصل، ثم في العدد، واختص أثر الخلاف (4) بالعوض؛ فإنه يلحقه الفسخ، والرد، والفساد، والاستبدال، وهذا بمثابة اختلاف الزوجين في مقدار الصداق، وإذا تحالفا، اختص أثر التحالف بالصداق وتسميته، والنكاح قائم لا يزول بفرض الاختلاف في مقدار

_ (1) ر. المختصر: 4/ 64. (2) في الأصل: اختلافها في تعيين محل الاختلاف: لأن الفرق. والمثبت من (ت 6). (3) (ت 6): تعقبه. (4) (ت 6): الاختلاف.

العوض؛ والسبب في ذلك أن البدل في النكاح والخلع ليس ركناً، بل هو في حكم الدخيل الذي يستقلّ الفراق دونه. 8879 - ومما يتصل بهذا الفصل نصٌّ نقله القفال عن (الكبير) (1) ونحن ننقله على وجهه، ونذكر كلام الأصحاب فيه، ثم نوضّح المسلك الحقَّ الذي لا سبيل إلى مخالفته، قال: نص في (الكبير) على أن المرأة لو قالت لزوجها: سألتك أن تطلقني ثلاثاًً بألفٍ فطلقتني واحدة، وقال الرجل: بل طلقتك ثلاثاً، كما استدعيتِ. قال الشافعي: إن لم يكن قد طال الفصل، وقع الثلاث، وإن طال الفصل، ومضى ما يبطل (2) خيار القبول، فالطلقات واقعة بإقرار الزوج، ويتحالفان؛ لأنه يدعي عليها كمال الألف، وهي تقرّ بثلثها، وإذا تحالفا، فالرجوع إلى مهر المثل. [هذا هو النص، والوجه أن نبين طريق الإشكال في الاتصال، ونذكر ما قال الأصحاب] (3) في هذا الطرف. ثم نذكر وجه الإشكال في الانفصال، ونبين ما قيل فيه، ثم ننص على ما هو الحق عندنا. فأما إذا قرب الزمان ولم يمض ما يفصل الإيجاب عن القبول، فقال الزوج ما قال، والزمان متصل، فالنص يقتضي أن الزوج يستحق المسمّى، ونجعل قوله الصادر منه بمثابة إنشاء الطلاق؛ فإنه لم ينفصل بعدُ الإيجابُ عن القبول، والإنشاءُ ممكن. هذا معنى النص، وظاهرُ الكلام. ووجه الإشكال فيه أن الزوج إن كان طلّقها قبل هذا القبول طلقةً واحدة، [فقد] (4) بانت بها، [وإذا بانت] (5) بواحدة، لم يلحقها بعد الواحدة طلاق، وإن قرب الزمان،

_ (1) الكبير: ويسمى الجامع الكبير، وهو الأم، وهذا النص موجودٌ في الأم المطبوع: 5/ 190. (2) (ت 6): "فليبطل" بدل "ما يبطل". (3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 6). (4) في الأصل: فقبلت. (5) زبادة من (ت 6).

فما معنى تنزيل قوله على الإنشاء؟ ولو فرض الإنشاء، لما وقع على التحقيق الذي ذكرناه. هذا وجه الإشكال. 8880 - ومما ذكره المحققون في محاولة حلّ هذا الإشكال ما لا يتبين [إلا بتقديم مقدّمة] (1): فإذا قال الرجل لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، تلحقها الطلقةُ الأولى، وتبين بها، ولا تلحقها الثانية. ولو قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق. فإذا دخلت الدار، فهل يلحقها طلقتان، أم لا يلحقها إلا واحدة؟ فعلى وجهين، سيأتي أصلهما، والتفريعُ عليهما في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل. فإذا بانت المقدمة قال قائلون بعدها: إذا استدعت المرأة طلقتين أو ثلاثة بمال، فقال الزوج في جوابها: " أنت طالق [وطالق] (2) "، ففي لحوق الطلقة الثانية الوجهان المذكوران فيه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: " إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق ". والجامعُ أن صفة الدخول تجمع الطلقتين المعلّقتين به، وكذلك استدعاء المرأة يجمع قولي الزوج إذا قال: أنت طالق وطالق؛ فإن استدعاءها في الطلقة الثانية على حسب استدعائها في الأولى، وكذلك القول في الثالثة إن فرضت على صيغة العطف والتقطيع. ثم هذا القائل يقول: إن كان الزوج طلق طلقة بثلث ألف، والزمان بعدُ على حد الاتصال، فلا يفوت تطليقٌ آخرُ يُنشئه في إسعافها بالطلاق على أحد الوجهين، فينتظم على هذا إمكان الإنشاء، وإن سبق تطليقٌ بجزء من الألف. ووراء ذلك سؤال سنورده ونجيب عنه، إن شاء الله تعالى. هذه طريقة أوردناها في الدروس، وهي غير مرضية؛ فإن الذي يجب القطع به أن المرأة إذا قالت: طلقني ثلاثاً بألف، فقال في جوابها: أنت طالق وطالق [وطالق] (3) لا يقع إلا طلقة واحدة، وهي الأولى؛ فإنها تبين بالأولى، ولا تلحقها الثانية والثالثة

_ (1) في الأصل: إلا بتقدمة. (2) زيادة من: (ت 6). (3) زيادة من نسخة: (ت 6).

بعد البينونة، ويكون هذا كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، فتبين بالأولى، ولا تلحقها الثانية، وليس ذلك بمثابة ما لو قال لها: أنت طالق وطالق إن دخلت الدار؛ وذلك أن وقت الطلاقين ينطبق على أول الدخول، ويتحقق اجتماعهما في الزمان، فليس أحدهما أولى بالوقوع من الثاني، وإذا أنشأ، فالإنشاء مأخوذ من لفظه، واللفظُ مرتب، ويستحيل أن يقع معنى اللفظ الثاني قبل اللفظ. وإذا كان يقع مع اللفظ واللفظ مؤخر عن الأول، فلو وقع باللفظ الثاني طلاقٌ، لصادف بائنةً؛ وهذا بعينه يتحقق في جواب السائلة عدداً بمال، فإنه إذا قال: أنت طالق وطالق، فيقع طلاق مع فراغه عن اللفظ الأول، فلو وقع بالثاني طلاق [آخر] (1)، لكان بعد البينونة بالطلاق الأول لا محالة، [والبائنة] (2) لا تطلق عند الشافعي؛ فلا وجه لتخريج وجه في وقوع ما ينشئه ثاني بعد وقوع الأول. 8881 - ولو قال قائل: " أحمل كلام الشافعي على ما إذا قالت: سألتك ثلاثاًً بألف فطلقتني واحدةً بألف، ورامت بذلك ألا يقع شيء، ولا يلزمها من البدل شيء "، فلا معنى [للإطناب] (3) في هذا الفن؛ فإن النص مصرح بخلافه، ومحلُّه مفروض (4) فيه إذا قالت: استدعيتُ ثلاثاً بألف فطلقتني واحدة، وأطلقتْ، ثم مقتضى (5) إطلاق الطلاق الواحد أن يقع بثلث المسؤول. هذا هو النص. على أنا قد حكينا عن الأصحاب خبطاً في الصورة التي ذكرناها، وهي إذا سألت ثلاثاًً بألف، فقال: أنت طالق واحدة بألف، فهذا مما حكينا فيه كلامَ الأصحاب وأوردنا عليه المباحثات من جهتنا، فلا حاصل لحمل الكلام على هذا المحمل والتطويل لا يفيد. فإن قيل: أي غرضٍ في الحمل على هذه الصورة؟ قلنا: لو جرى جارٍ على

_ (1) سقطت من الأصل، والمثبت من: (ت 6). (2) (ت 6): الثانية. (3) في الأصل: للإيجاب. (4) في الأصل: ومفروض. (5) (ت 6): حكم.

القياس، لقال: إذا استدعت ثلاثاً بألف، فقال في جوابها:- أنت طالق واحدة بألف، فلا يقع شيء، ولا يكون ما جاء به جواباً لها، فإذا كان الزمان على القرب والاتصال، فيتصور منه إسعافها على الموافقة الآن، فإذا تصور المساعفة، انبنى عليه حمل قول الزوج على إنشاء الطلاق، ولكن لا نرى الحمل على هذا المحمل، النص ظاهره وفحواه يخالف هذه الصورة. 8882 - ثم وراء ذلك كله إشكال عتيد، وهو أن الزوج أقرّّ بأنه طلقها ثلاثاً، ولم ينشىء الطلاق (1)، وقوله متردد بين الصدق والكذب، فكيف يقع الطلاق؟ وسبيل الجواب أن من يملك إنشاء شيء فقد يجعل إقراره بمثابة إنشائه له، ولهذا نظائر عند الأصحاب، منها: أن الزوج إذا ادّعى أنه ارتجع زوجته، فأنكرت الزوجةُ الرجعةَ في [بقاء] (2) العدة ودوامها، فنفسُ إقرار الزوج بالارتجاع [قد نجعله] (3) إنشاءَ ارتجاع، وإن كان كاذباً، وسأذكر هذا وأجمع إليه نظائره في كتاب الرجعة، إن شاء الله تعالى. وما ذكرناه من تنزيل الإقرار منزلة الإنشاء مشكلٌ لا يستقيم فيه تعليلٌ فقيه، كما سنوضحه في المحل الذي ذكرناه، ولكن لو قدّرنا أن الأمر كذلك، فلا انتفاع بهذا مع ما قدمناه من أن الطلاق السابق يمنع إنشاء الطلاق بعده، وإن قرب الزمان. وإذا انحسم إمكان الإنشاء مع قرب الزمان، فلا معنى للانشغال مع ذلك بتنزيل الإقرار منزلة الإنشاء، ولم [يُحوِّم] (4) أحد من الأصحاب على هذا الإشكال والاعتناء به إلا شيخنا أبو بكر (5)؛ فإنه حوّم، ولم يَرِدْ، فكان كالذي ينتبه ثم يتغافل. 8883 - ونحن نذكر الآن وجه الحق ونقول: إذا قالت المرأة: سألتك ثلاثاً بألف

_ (1) (ت 6): الثلاث. (2) زيادة من (ت 6). (3) في الأصل: فجعله. (4) في الأصل: يَحُمْ. ورجحنا المثبت من (ت 6) لأنه المعهود في لفظ الإمام. (5) شيخنا أبو بكر: المراد به الصيدلاني.

فطلّقتني واحدةً، فقال [الزوج] (1) ما طلقتك قبلُ، وإنما أطلقك ألآن، ثم طلّقها، والزمان قريب، والوقت متصل، فالوجه القطع بأن الثلاث تقع، ويستحق الزوج المسمى بكماله، بناءً على ما ذكرناه من اتصال الوقت، وما ادّعته عليه من التطليق الواحد لو تحقق، لامتنع نفوذُ غيره، ولكن القول قولُ الزوج في نفي ما ادعته قبلُ؛ فإنه المطلِّق وإليه الرجوع في النفي والإثبات، والعدد والمقدار. هذا على [هذا] (2) الوجه متجه. ولو قال الزوج: قد طلقتك قبلُ ثلاثاًً، وهي تزعم أنه طلقها واحدة، فلا [ينفع] (3) -والصورة هذه- قُرْبُ الزمان؛ فإن الإنشاء بَعْدَ ما مضى غيرُ ممكن. بقي أن الزوج هل يصدق في أنه طلقها ثلاثاً أم لا؟ والوجه المبتوت الحكم (4) بوقوع الثلاث لإقراره بها، ولكن لا يقبل قوله عليها في استحقاق تمام المسمى (5)؛ فإن الرجوع إليها فيما يستحق عليها، كما أن الرجوع إليه في عدد الطلاق. وهذا بمثابة ما لو قال القائل: إن رددت عليّ عبيدي الثلاثة الأُبَّق (6)، فلك ألف. فقال المجعول له: قد رددتهم، فلا يقبل قوله، ولا يستحق من الجعل شيئاً ما لم يثبت الردّ بالبينة أو بإقرار الجاعل، فالوجه إذاً أن نقول: لا يستحق عليها إلا الثُّلثُ؛ فإن هذا المقدار متفق عليه، والباقي متنازع فيه، فالقول قولها مع يمينها. هذا هو الذي [لا] (7) يجوز غيره [وإنما] (8) يحرص الحارص على تخريج وجهٍ

_ (1) زيادة من (ت 6). (2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين. (3) في الأصل: يقع. (4) (ت 6): أنا نحكم. (5) (ت 6): استحقاق المسمى بكماله. (6) الأُبَّق على وزن فعّل مضعف العين المفتوحة، وهو مطرد في فاعل صحيح اللام صفة، مثل راكع وركّع، ولكن المسموع الوارد في المعاجم (اللسان والمصباح) أُبّاق، على وزن فاعل وفعال، مثال: كافر وكفار. (7) سقط من الأصل. وزدناه من (ت 6). (8) زيادة من (ت 6).

لقولٍ مشكل إذا كان يتطرق إليه إمكان. فأما إذا لم ينسلك فيه ظن (1)، فلا وجه لمصادمة القطع. والسبيل في مثل هذا الحملُ على الزلل في النقل، أو الخلل في النسخ (2)، ولا معصوم إلا من عصمه الله تعالى. هذا منتهى الكلام في هذا الطرف. 8884 - وتمامه أن الزوج إذا قال: ما أجبتك قبلُ، ولكن طلقتك ثلاثاًً الآن، فقد ذكرنا أنه يستحق تمام المسمى، ولكن يتوجه عليه يمينٌ من جهتها، فتقول: تحلف بالله أنك لم تطلقني طلقة في جواب سؤالي قبيل هذا. فيتعين عليه أن يحلف إن أراد المسمى (3). وقد ذكر الصيدلاني اليمين في ذلك على هذا الوجه، ولكنه [لم يَبُحْ بالتصوير] (4) على التفصيل الذي ذكرناه، فإن أراد ما ذكرناه، فقد طبق مفصل الحق، [ولكنه حوّم عليه] (5) ولم يَرِدْه، وإن أراد أن المرأة تحلّفه (6): أنك ما طلّقتني واحدة [قَبْلُ، والزوج يزعم] (7) أنه طلقها قبلُ ثلاثاً، فلا خير في هذه الصورة؛ فإن الزوج إذا أسند قوله إلى ما تقدم، ولم ينكر إجابتها من قبل حتى ينشىء الإجابة في الحال، فيؤول الأمر إلى النزاع فيما كان، وموجبه أن قول الزوج مقبول عليه في الثلاث، ولا يُقبل قوله عليها في استحقاق المسمى. ولست أبعد أن المنتهي إلى هذا الفصل، إذا كان ذا فكرٍ قد يخطُر له أن مقصودها في الثلاث قد حصل [بحكمنا] (8) على الزوج وقضائنا بوقوع الثلاث، فيجب أن يكون مصدّقاً في استحقاق المسمّى.

_ (1) (ت 6): الظن. (2) يشير إلى الخلل المحتمل في النص الذي فيه الكلام، والذي نقله القفال عن (الكبير) وقد طرّق هذا الاحتمال إلى النص أيضاًً (العز بن عبد السلام) ولكن جعله منقولاً عن الأم. مما يؤيد قولنا في تعليق سابق: إن الجامع الكبير هو بعينه (الأم). (3) فإن نكل لم يجب المسمى. (4) في الأصل: لم ينجح على التصوير. (5) زيادة من (ت 6). (6) في (صفوة المذهب): " تحلف ". (7) عبارة الأصل: قبل والزوج فزعم. (8) في الأصل: بحكمها.

وهذا تلبيس لا يقنع به طالبُ غاية؛ فإنا حكمنا عليه ظاهراً حكمنا في (1) الأقارير، وقد لا يكون الأمر في الباطن كذلك. ومن الأصول الممهدة أن قول الإنسان مقبول فيما هو عليه، وليس مقبولاً فيما يجب على غيره. 8885 - وسيبين ما ذكرناه بذكرنا الطرف (2) الآخر، فنقول: إذا انفصل الزمان، فموجب النص أن الزوج لا يستحق كمالَ المسمى، ولو كان على الحكم بوقوع الثلاث معوّلٌ، لقضينا باستحقاقه المسمى [وإن] (3) انفصل الزمان؛ اعتماداً على قضائنا عليه بموجب إقراره. ثم قال الشافعي: لا يستحق المسمى إذا طال الزمان، وهذا حق. وقال (4) فيما نقله النقلة: يتحالفان؛ لأنه يدعي عليها كمال الألف، وهي [تقرّ بثلثها] (5)، وهذا أبعد عن التحقيق من الطرف (6) الأول؛ فإن التحالف إنما يجري إذا كان الاختلاف آيلاً إلى [صفة العقد] (7) أو إلى صفة عوضه، فإذا حصل التوافق على أن المطلوب ثلاث والبدل ألف، ووقع النزاع فيما وقع من الزوج، [فالتحالف] (8) في هذا محال، والوجه القطع بأنه لا يستحق عليها إلا القدر المتفق عليه، وهو ثلث الألف. وإذا لم يتجه التحالف [لم يتجه الرجوع] (9) إلى مهر المثل. ثم لا يخفى (10) أن الزوج لو أراد أن يحلفها على المسلك الحق، حلفها على نفي

_ (1) (ت 6): بالأقارير. (2) المراد بالطرف الآخر، حالة ما إذا انفصل الزمان، ومضى وقتٌ لا يصلح بعده إنشاء القبول. (3) في الأصل: وإذا. (4) (ت 6): وفيما نقله النقلة (بدون قال). (5) تقريب مثلها. (6) (ت 6): طرف الأول. (7) في الأصل: إلى صيغة الصفة أو إلى صفة عوضه. (8) في الأصل: والتحالف. (9) عبارة الأصل: وإذا لم يتجه التحالف، فالرجوع إلى مهر المثل. (10) عبارة (ت 6): ثم لا يخفى أن الزوج لو أراد أن يحلفها، لم يتجه الرجوع إلى مهر المثل. ثم لا يخفى أن الزوج لو أراد أن يحلفها على المسلك الحق حلفها على نفي العلم.

العلم؛ فإن يمينها تتضمن نفي فعلٍ للغير. ومن الأصول التي تكررت في المعاملات وستقرر في الدعاوى والبينات -إن شاء الله تعالى- أن اليمين إذا تضمنت نفي فعل الغير فصيغها نفي العلم. فإن قال قائل: هلا قلتم: الزوج من وجهٍ مصدق في [التطليق] (1) والمرأة مصدقة في عدم التزام [تمام] (2) البدل، فيتعارض الأصلان، ولا يكون أحدهما أولى بالتصديق من الثاني، وإنما ينشأ التحالف من استواء الجانبين. ثم إذا تحالفا، فلا وجه إلا الرجوع إلى قيمة البضع الفائت؟ قلنا (3): إن كان لما نقله الأصحاب وجه، فهو هذا، ولكنه تلبيسٌ عندنا؛ فإن الزوج في إقراره بمثابة البائع يدعي تسليمَ المبيع إلى المشتري وتلفه في يده، مع إنكار المشتري للقبض، وهذا بيّن لا غموض فيه. فلم نغادر إذاً طرفاً لم ننته إليه نقلاً وإيضاحاً، وغايتنا في هذا الكتاب إنهاء كل فصلٍ نهايته. والله ولي التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق. فصل قال: "ولو قال: طلقتك بألفٍ، فقالت: بل على غير شيء ... إلى آخره" (4). 8886 - إذا ادعى الرجل أنه طلقها على ألف، فأنكرت التزام الألف قبولاً واستدعاء، حكمنا بوقوع الطلاق على صفة البينونة على إقرار الزوج، والقولُ في نفي البدل قولُها، وهذا يؤكد الأصلَ الذي مهدناه، وإن كان وضوحه مغنياً عن الاحتياج إلى الاستشهاد، ولكن ذلك [النص] (5) المشكل حكاه القفال عن الأم (6)، ولم ينقله

_ (1) في الأصل: التعليق. (2) زيادة من (ت 6). (3) (ت 6): فأما إن كان. (4) ر. المختصر: 4/ 64. (5) في الأصل: الفصل. (6) قال الإمام آنفاً: حكاه القفال عن (الكبير)، وهنا يقول عن (الأم)، وقد وجدنا النص في كتاب الأم: 5/ 169. فدلّ ذلك على أن (الكبير) هو بعينه (الأم).

المزني، وكل ما يضاف إلى الأم، فهو من الأقوال القديمة (1). 8887 - ولو قال السيد لعبده قد أعتقتك على ألفٍ، فأنكر العبد التزام الألف، نفذ الحكم بالعتق، ولم يلزم المال. ولو قال: بعت منك إياك بألف، فأنكر، أو قال: بعت منك هذا العبد بألف، [فأعتقته] (2)، فالعتق ينفذ في هذه المسائل، ولا يثبت المال على المنكر. وبمثله لو قال: بعت منك هذا العبد بألف، ولي عليك ثمنه، فأنكر المدعَى عليه البيع، فلا يؤمر المقِرُّ بتسليم العبد إليه، والسبب فيه أن مستحِقَّ الحق في هذه الصورة الأخيرة هو الذي ادعى صاحبُ العبد كونه مشترياً وأنكر هو حقَّ نفسه، فيستحيل أن يثبت حقه، على الرغم منه، والعتق في المسائل التي ذكرناها لله تعالى فلا يرتد إذا جرى الإقرار به، ومن الأصول الثابتة أن من أقر بشيئين وأحدهما يضره، والثاني ينفعه قُبل قوله فيما يضره، ورُدّ فيما يضر غيره. فرع: 8888 - قال صاحب التقريب: إذا قالت المرأة: طلقني على شيء أو على مال، فقال: أنت طالق على ألف درهم، فالرجوع إلى مهر المثل والبينونة تقع بهذا الذي بينهما. وسبب الرجوع إلى مهر المثل أنهما لم يتراضيا على معلوم. وهذا يحتاج إلى مزيد تفصيل، فيجوز أن يقال: إذا قال المرأة: طلقني على شيء فغرضها بذلك أن تلتمس [منه] (3) تطليقها على عوض، حتى إذا طلّقها على عوض قبلت، هذا ظاهرٌ في قول المرأة: طلقني بعوض، أو طلقني بما تريد. لأتخلّص بقبول مرادك (4)، فعلى هذا لا يحكم بوقوع الفرقة.

_ (1) قول إمام الحرمين هنا: " كل ما يضاف إلى الأم، فهو من الأقوال القديمة " مخالفٌ للمشهور المعروف من أن (الأم) الذي بأيدينا من عمل الشافعي بمصر، ويبدو أن أسماء كتب الإمام الشافعي كانت تتداخل، فكتابه البغدادي (الحجة) هو القديم بيقين، وكان يُسمّي المبسوط، وكان (الأم) أيضاًً يسعى (المبسوط) فمن مثل هذا كان التداخل، والوهم. هذا ويمكن أن تكون (الأم) مصحفة عن (الإملاء). والله أعلم. (2) في الأصل: " فأَعتقه " والمثبت من (ت 6) ومن (صفوة المذهب). (3) زيادة من: (ت 6). (4) " لأتخلص بقبول مرادك " المعنى لأتبين مرادك، فأقبله، فتقع البينونة، فكأنها تستنطق منه=

وسبيل التفصيل في ذلك أن نقول: إذا أرادت المرأة الاستدعاء الجازم، المغني عن القبول، فالحكم ما ذكره صاحب التقريب، وتعليله بيّن. وإن زعمت أنها أرادت استنطاقه بشيء يقدّره لتقبله، ففي قبول ذلك منها احتمالٌ ظاهر: يجوز أن يقال: لا يقبل ذلك منها، ويحمل قولها على الاستدعاء الجازم، كما لو قالت: طلقني بألف، فقال طلقتك بألف، ويجوز أن يقال: هذا منها استنطاق الزوج بابتداء الإيجاب الذي يقتضي استعقابَ القبول. وفي المسألة احتمال ظاهر. ولو قالت: طلقني بشيء، فقال في جوابها: أنت طالق بشيء، فالأظهر هاهنا حمل استدعائها على الجزم الذي يكتفى به، وليست [المسألة] (1) خاليةً عن الاحتمال، والعلم عند الله تعالى. فصل قال: " ويجوز التوكيل في الخلع، حراً كان، أو عبداً ... إلى آخره" (2). 8889 - هذا الفصل بقية الكتاب، وهو من الفصول المنعوتة (3) -والله ولي التوفيق عند كل عسر- فليقع تصدير الفصل بمن يجوز أن يكون وكيلاً في الخلع، فنقول أولاً: للزوج أن يوكل بالمخالعة، وللمرأة أن توكل من يختلعها عن زوجها، والتوكيل جارٍ (4) من الجانبين. ثم (5) نذكر وراء هذا من يجوز أن يكون وكيلاً [للزوج في المخالعة، ثم نذكر من يجوز أن يكون وكيلاً] (6) للمرأة في الاختلاع. 8890 - فأما الضبط فيمن يجوز أن يكون وكيلاً للزوج في المخالعة، فقد قال الأئمة

_ = الإيجاب، فإذا قال ما طلبته، كان عليها القبول. (1) مزيدة من: (ت 6). (2) ر. المختصر: 4/ 64. (3) كذا بحذف الجار والمجرور. فالمعنى: المنعوتة بالعسر، أو الغموض أو نحو ذلك، يظهر هذا من الدعاء: "والله ولي التوفيق عند كل عسر". (4) (ت 6): جاري. ولعل الأولى: جائز. (5) (ت 6): ثم نحن نذكر وراء ذلك. (6) زيادة من: (ت 6).

الماضون: من ملك مباشرةَ الخلع لنفسه بنفسه، تُصُوِّر أن يكون وكيلاً للغير في الخلع، فللرجل أن يوكل حراً أو عبداً، ومحجوراً عليه بالسفه؛ فإن العبد يستبد بالمخالعة، وكذلك المحجور المبذر. وقالوا: للمسلم أن يوكل ذمياً في مخالعة امرأته المسلمة؛ إذ الذمي قد يخالع زوجته المسلمة، وذلك بأن تسلم ذمية تحت ذمي بعد الدخول، فإذا خالعها، ثم جمعهما (1) الإسلام، بان أن الخلع كان صحيحاً. وهذا الذي ذكره الأصحاب منتظمٌ في النفي [والإثبات] (2) والطرد والعكس، ولكنْ فيه تقييد [ليس يفيد] (3) فقهاً على ما نؤثره. ولو كان (4) يتصور تطليق الذمي [زوجةً مسلمة] (5)، لصح أن يكون وكيلاً [لمسلم] (6) في تطليق زوجته، تعويلاً على صحة عبارته. ولهذا قلنا: الذمي على المذهب الأظهر [لا] (7)

_ (1) تصوير صحة الخلع من الذمي للمسلمة يكون بأن يتزوج ذمّي من ذمية، ثم تسلم وحدها، فإذا خالعها، ثم جمعهما الإسلام، بمعنى أنه لحق بها مسلماً قبل أن تنقضي العدة، فنتبين أن العقد الذي كانا عليه ماضٍ، وبالتالي نتبين أيضاًًً أن الخلع كان صحيحاً. (2) سقطت من الأصل. (3) زيادة من: (ت 6). (4) (ت 6): ولو كان لا يتصور. (5) في الأصل: زوجة المسلم. (6) زيادة من (ت 6). (7) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين. وأقول: سقطت، بمعنى أنها سقطت من الناسخ، وتوارد عليها النساخ، ولم تسقط من الإمام، ودليلنا على ذلك أمران: الأول: بناء العبارة، فالقول بالجواز مخالف للضابط الذي قرره الإمام، وساق العبارة مساق التعليل، ويظهر ذلك بشيء من التأمل. الثاني: أن المسألة ليست خلافية في المذهب، ولم يذكر أحد فيها خلافاً، ولم يحكه أحد عن الإمام لا من المتقدمين ولا من المتأخرين (استقصينا كتب المذهب في هذه المسألة في بحث لنا مطول، لا تحتمله هذه التعليقات) ولكن وجدنا البلقيني أشار إليه مخطئاً الإمام، ولم يحمله على الناسخ، إلا أن البلقيني انفرد بهذا وحده بين المتقدمين والمتأخرين فيما نعلم ولم يتبعه أحد. والله أعلم. هذا وبينما الكثاب ماثل للطباعة جاءنا هذا الجزء من صفوة المذهب لابن أبي عصرون فوجدنا عبارته هكذا: "ولهذا على المذهب الأظهر يجوز أن يتوكل الذمي لمسلم في قبول =

يجوز أن يكون وكيلاً في تزويج مسلمة، [والتزوّج] (1) بها لمسلم. 8891 - ومما ظهر الاختلاف بين أصحابنا فيه أن المرأة هل يجوز أن تكون وكيلة في الطلاق بالعوض [وغير العوض] (2): فمن أصحابنا من قال: يجوز أن يوكل الرجل امرأة حتى تخالع زوجته وتطلقها بمال، ويجوز أن يوكل امرأةً حتى تطلق زوجته من غير مال؛ إذ لا خلاف أن الرجل إذا قال لامرأته: طلّقي نفسك، فطلقت نفسها، نفذ الطلاق بلفظها؛ وإذا كان قولها صالحاً للطلاق في هذا المحل الذي حكينا الوفاق فيه، فلا يمتنع أن تكون الأجنبية وكيلة في تطليق الزوجة، ولمّا [استُلبت] (3) عبارة المرأة في طرفي النكاح، لم يتصور منها على الصحة تزويج [ولا تزوّج] (4). ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن تكون المرأة وكيلة في الطلاق، ولا يقع الطلاق بعبارتها، كما لا ينعقد النكاح بلفظها، وهذا القائل يقول: تفويض الرجل الطلاق إلى المرأة ليس توكيلاً، وإنما هو تمليك، [وقد رمزنا] (5) إلى هذا الأصل، وأحلنا استقصاءه على كتاب الطلاق. وقال الأصحاب: الخلاف في أن المرأة هل يجوز أن تكون وكيلةً في الطلاق مأخوذ من الخلاف في أن الرجل إذا فوّض الطلاق إلى امرأته، فهذا تمليك أو توكيل؟ فإن جعلناه توكيلاً، لم يمتنع توكيل المرأة بالطلاق، وإن جعلناه تمليكاً، اختص التمليك بالزوجة، ولم يُتصوّر من غيرها عبارةٌ صحيحة عن الطلاق، ولولا [اشتهار هذا] (6) الخلاف،

_ = نكاح مسلمة" ا. هـ. فهل هذا هو الحكم عند الإمام؟ وإذا كان كذلك يبقى السؤال: لماذا لم يحكه أحد عنه، إلا البلقيني؟! وتبقى المسألة محل نظر! (ر. الشرح الكبير: 7/ 557، الروضة: 4/ 300 و7/ 66). (1) زيادة من المحقق. (2) زيادة من (ت 6). (3) في الأصل: "استقبلت" وهو تحريف واضح. (4) في الأصل: يتزوّج. ثم معنى العبارة أن الأمر في الطلاق يختلف عنه في النكاح بالنسبة للمرأة، فعبارتها في عقد النكاح مستلبة، ولكنها في الطلاق معتبرة. (5) في الأصل: "وقد رصرفا" هكذا بهذا الرسم. وهذا من مستبشع التصحيف. (3) في الأصل: استشهاد الخلاف.

لتناهيت (1) في تزييف منع توكيل المرأة؛ فإنه إذا صح تمليك المرأة، فلأن يصح توكيلها أولى، فقد يتوكل في الشيء من لا يملكه؛ ولذلك لنا: يجوز أن يكون العبد والكافر والفاسق [وكلاء] (2) في النكاح على الرأي الأصح. وإن كانوا لا يلون النكاح على الاستقلال؛ فلا حاصل إذاً لهذا الخلاف؛ ولكنه مشهور مذكور في كل طريق. هذا قولنا فيمن يصح أن يكون وكيلاً بالتطليق على مال، والمخالعة من جهة الزوج. 8892 - فأما من يكون وكيلاً لها، [فكل من يكون من أهل العبارة في الطلاق يجوز أن يكون وكيلاً لها في] (3) سؤال الطلاق. وقال الأئمة: إن خالف مخالف في المرأة هل يجوز أن تكون وكيلة عن (4) الزوج، فلا خلاف أن المرأة يجوز أن تكون وكيلة عن [الزوجة] (5) في الاختلاع؛ فإن الأصل في الاختلاع المرأة، وقد نص الشافعي على أن المرأة إذا اختلعت نفسها وضرتها بمالٍ، صحَّ. وإذا كان يصح منها أن تختلع ضرتها من غير توكيل من جهتها، فلا يمتنع أن تكون وكيلة أيضاًً. هذا تفصيل القول فيمن يجوز أن يكون وكيلاً من الجانبين. وفي تنبيهنا على من يجوز أن يكون وكيلاً إيضاح لمن لا يكون وكيلاً. 8893 - وإذا تبين هذا، خضنا بعده في تصرف الوكيل على الموافقة والمخالفة: فنبيّن تفصيلَ القول فيما يصدر من وكيل الزوج، ثم ننعطف، فنبين ما يصدر من وكيل الزوجة. فأما وكيل [الزوج] (6)، فلا يخلو إما أن يكون موكلاً بالمخالعة المطلقة، وإما أن

_ (1) كذا. ولعل الأولى: "لما تناهيت". (2) في الأصل: وكيلاً. (3) ما بين المعقفين زيادة من: (ت 6). (4) (ت 6): عن جانب الزوج. (5) في الأصل: الزوج. (6) زيادة من (ت 6).

ينصّ الزوج على مبلغ من المال، فإن نص على مبلغٍ معلوم، وقال: طلّق زوجتي بمائة دينار، فلا يخلو الوكيل إما أن يوافقه، وإما أن يزيد، وإما أن ينقص. فإن خالعها بالمقدار المذكور، نفذ الخلع، وثبت البدل، وإن زاد على المقدار المسمّى، ثبت ما سماه الوكيل، وكان ما جاء به في حكم الموافقة. وهذا بمثابة ما لو قال مالك العبد للوكيل: بع عبدي هذا بمائة، فإذا باعه بمائتين، نفذ البيع بهما. وقد قررنا هذا وما يليق بجوانبه في كتاب الوكالة. وإن خالف الوكيل الزوجَ، فنقص وخالع بأقلّ من المقدار المسمى، فالمذهب [المبتوت] (1) الذي عليه التعويل أن الطلاق لا يقع؛ فإن الوكيل لا يملك الاستقلال بالتطليق، وإنما يطلّق مأذوناً، وإذا خالف، لم يكن مأذوناً. وذكر بعض أصحابنا قولاً مخرجاً في وقوع الطلاق على ما سنذكر -على الاتصال - أصله في هذا الفصل، إن شاء الله تعالى. ولسنا نفرع على القولين حتى نذكر صورةً أخرى. 8894 - فإذا وكل الزوج بالمخالعة مطلقاً، ولم ينص على مقدارٍ من العوض، فقال: خالع زوجتي هذه، فالذي ذكره الأصحاب أن الوكيل إذا خالعها بمهر مثلها، أو أكثرَ من مهر مثلها، نفذ وصح (2)، وكان بمثابة ما لو باع الوكيل المطلق ما وكّل ببيعه بثمن المثل، أو بأكثر من ثمن المثل. فأما إذا خالعها بأقلَّ من مهر مثلها، فظاهر النص في الإملاء وفيما حكاه الربيع أن الطلاق يقع على تفصيلٍ سنذكره في التفريع، إن شاء الله تعالى. وخرّج مخرجون [قولاً] (3) أن الطلاق لا يقع؛ فانتظم من هذا أن ظاهر النص في التوكيل المطلق وقوعُ الطلاق، وإن جرت المخالعة بدون مهر المثل، وظاهر النص أن الزوج إذا عين مقداراً، فخالع الوكيل بأقلّ منه، فالطلاق لا يقع. وخرج الأصحاب في كل صورة قولاً على خلاف النص.

_ (1) ساقطة من الأصل، وهي في (ت 6). (2) (ت 6): فقد صح. (3) زيادة من: (ت 6).

فأما وجه التخريج [في صورة] (1) الإطلاق، فبيّنٌ؛ فإنه مخالف، والعقدُ المطلق محمول على عوض المثل، فلذلك جعلنا الوكيل المطلق بالبيع إذا باع بأقل من ثمن المثل مخالفاً، نازلاً منزلة ما لو عين له مالك المتاع مقداراً من الثمن، فباع بأقلَّ منه، فليكن الأمر كذلك ها هنا. وإذا ظهرت المخالفة، وبطل استقلال الوكيل بنفسه، [لم] (2) يبق إلا رد الطلاق. فإن قيل: هذا بيّن، فما وجه نفوذ الطلاق على ما اقتضته النصوص؟ قلنا: الطلاق مأخوذ من اللفظ، مُدار على التطليق (3)، فإذا قال الزوج: خالع زوجتي، فالذي جرى من الوكيل يسمى مخالعة، فيجب تحقيق التطليق بحكم اللفظ، وليس كالمبايعات؛ فإنها مدارة على العادات. وفيما قدمناه من تنزيل العقود على النقود الغالبة وقطع تعليق الطلاق عن هذا الأصل ما يؤكد هذا (4). فإن قيل: ما وجه تنفيذ طلاق الوكيل الذي عيّن له الموكل مقداراً، فخالع بأقلّ منه؟ قلنا: [أول] (5) ما نوجه به أن نستدل بالتوكيل المطلق مع فرض المخالعة بأقلّ من مهر المثل، وعلى الجملة، [يضعف] (6) توجيه هذا. وقد أضرب عن حكايته كثير من الأئمة. هذا بيان القولين في وقوع الطلاق وعدم وقوعه. 8895 - ونحن الآن نفرّع ونستعين بالله عز وجل: فإن قلنا: لا يقع الطلاق، فقد لغا لفظ الوكيل، ولا حكم لما جاء به. ان حكمنا بأن الطلاق واقع، فقد ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص قولين:

_ (1) في الأصل: بصورة. (2) في الأصل: ولم. (3) في (ت 6): "التعليق". (4) لفظ (هذا) سقط من: (ت 6). (5) في الأصل: الأول. (6) في الأصل: فضعف.

أحدهما - أن [الزوج] (1) بالخيار إن شاء أجاز ما فعله الوكيل وتنفذ البينونة، وإن شاء، ردّ المال [وردّ البينونة، ووقع الطلاق رجعياًً؛ فإن الطلاق إن كان يقع بحكم اللفظ، فالبينونة لا تثبت إلا بالمال، والمال لم يثبت على موجب الإذن، فهذا نوع من التخيير. وحكى قولاً آخر مخرجاً عن ابن سريج أن الزوج بالخيار، إن شاء أجاز ما - فعله الوكيل، وإن شاء ردّ المال] (2) والطلاق أصلاً (3). فإن قال قائل: هذا بعينه مصير إلى وقف الطلاق، وقد ذكرتم في المعاملات للشافعي قولاً في وقف العقود، ثم ذكرتم الآن الوقف من وجهين، وقفاً في البينونة والرجعة، ووقفاً في رد الطلاق قلنا: لو كان هذا مأخوذاً من وقف العقود، فالممكن فيه اختصاص [الطلاق بمزايا يقتضي بها مزيد النفوذ] (4)، فقد يقول القائل: نحن وإن لم نجوز وقف سائر العقود، فقد نجّوز وقف الطلاق لما أشرنا إليه. وهذا ليس على [الحد الذي] (5) أرتضيه؛ فإنا لو أخذنا هذا من وقف العقود، لوجب تعطيل [التوكيل] (6) فيها، ولوجب أن يقال: إذا أقدم أجنبي على مثل ما وصفناه، فالكلام في إجازة الزوج وردّه على ما تقدم. وهذا انحلال وخروج عن الضبط. ونحن نستفرغ الوسع في توجيه ما حكيناه، ونقول: أما الحكم [بوقوع] (7) الطلاق في إطلاق الوكالة، فمأخوذ من اللفظ، وما ينبني الطلاق عليه. في الحنث والبر، فليتخذ الناظر هذا معتمده. ثم وراء ذلك مالٌ (8)، فيجوز أن يُفرض فيه [خيار] (9).

_ (1) عبارة الأصل: أن الزوج الخيار. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه من (ت 6). (3) أصلاً: أي لا يقع رجعياًً ولا بائناً. (4) عبارة الأصل: اللفظ ثم إنا يقتضي لها مزيد النفوذ. (5) زيادة من: (ت 6). (6) في الأصل: الوكيل. (7) في الأصل: فوقوع. (8) (ت 6): قال. (9) في الأصل: خيال.

ثم ينقدح من فرض ردّه قولان: أحدهما - أن الطلاق لا مرد له؛ فإن ارتدّ المال، بقي الطلاق عريّاً؛ فكان رجعياًً، ويجوز أن يقال: وقع الطلاق، ولكن ارتبط بمالٍ يقبل الرد، وهو لم يرض بالطلاق المطلق، فينعكس رد المال على رد الطلاق، وليس هذا [كردّ] (1) عوض الخلع بالعيب؛ فإن الطلاق لزم متعلقاً بعينه، فلم يكن له بعد لزومه مردّ، وهذا النوع من الرد الذي نحن فيه ينعكس على أصل [الإذن] (2) ومن طلب أكثر من هذا في هذا المقام، وقع في الوقف، مع ما فيه من الفجاجة. 8896 - وبالجملة لسنا ننكر سقوط القولين جميعاً في رد البينونة، وأصل الطلاق، ولم أر هذين القولين إلا للشيخ أبي علي، والأصحابُ في الطرق مجمعون على أن الفرقة إذا وقعت، كانت بينونة لا خِيرَةَ في ردها، وحكَوْا عن الشافعي بعد القضاء بلزوم البينونة (3) قولين على وجهٍ آخر أحدهما - أن الطلاق إذا وقع بالمقدار الذي سماه الوكيل، نفذ وتم، والرجوع إلى مهر المثل، فينفذ الطلاق لموجب الإطلاق، وفقضي، بفساد التسمية للإخلال بما يجب أن يُرعى في المال، ونتيجةُ هذه الجملة الرجوعُ إلى مهر المثل. ْوالقول الثاني - أن الزوج بالخيار: إن شاء، فسخ ورجع إلى مهر المثل، وإن شاء، قنع بذلك المقدار ورضي به، وقد يكون له فيه غرض، وقد يكون عيناً وهو يبغيه، ولا يريد إسقاطه. فإن قيل: فما وجه القولين؟ قلنا: [الأوجه] (4) ثبوتُ مهر المثل، وجهه لائح. وأما وجه [قول] (5) الخيار، فهو أنا إذا نفذنا الطلاق، لم يمكننا أن نقطع القول بفساد المسمى، ولم يمكننا أن نهجم على إبطال حق الزوج من المال، فكان يتجه ما ذكرناه أن يتخير الزوج، كما نصصنا عليه.

_ (1) في الأصل: الرد. (2) في الأصل: الأذى. (3) (ت 6): بلزوم البينونة على قولين. (4) في الأصل: إلا وجه ثبوت مهر المثل. (5) زيادة من (ت 6).

8897 - ولا ينبغي للمفرّع أن يذكر هذه التفاريع في غير صورة الإطلاق؛ فإن المذهب المبتوت أن الزوج إذا عين للوكيل مقداراً وأمره بالمخالعة [به] (1)، فخالف وخالع بأقلّ منه، فالطلاق لا يقع؛ فلا حاجة إلى تفريع المسألة بعد الحكم بوقوع الطلاق. ولو فرّع مفرع على أن الطلاق يقع مع المخالفة لصريح (2) الإذن، لَسَمُجَت التفاريع؛ فإن ما ذكرناه وتكلفناه إنما يلطف [موقعه] (3) مع إطلاق اللفظ، واشتماله على مقتضى العموم مع الالتفات على قاعدة الحِنث والبر [من وجه] (4)، ومع النظر إلى اختلال المال في الأثناء من [وجه] (5)، والخلع مركب من أصول متعارضة، فجرى ترتيبٌ عليه طلاوةُ [القبول] (6) وإن كان التحقيق مخالفاً [له] (7). فأما إذا فرض التصريح بالمخالعة (8)، فتبعد تلك التفاريع. 8898 - ومما يدور في الخلد أن الرجل إذا قال للوكيل: خالع امرأتي، فهل نقول: مجرد ذكر المخالعة يشعر بالمال؟ وهل يخطر لذي النظر في المغمَضات [تخريجٌ] (9) هذا على ما إذا قال الرجل لامرأته.: " خالعتك "، فقالت: اختلعت. ولم يُجرِ واحدٌ منهما للمال ذكراً؟ ففي ثبوت المالية كلام ذكرتُه في أول الكتاب. يجوز أن يقال (10): التوكيل بالمخالعة بمثابة التوكيل بالبيع، [ولو قال: بع عبدي، كان ذلك محمولاً على البيع] (11) بالعوض.

_ (1) زيادة من: (ت6). (2) (ت6): بصريح. (3) في الأصل: موضعه. (4) في الأصل: في ذلك. (5) في الأصل: من وجهه. (6) في الأصل: والقبول. (7) في الأصل: لها. (8) أي بمقدار من المال يحدده الزوج، فهذا مفهوم مما ذكره في صدر الكلام على التفريع، فهو في مقابلة التوكيل المطلق. هذا. وفي نسخة (ت 6): المخالفة. (9) في الأصل: تخرج. (10) يجوز أن يقول الففيه. (11) زيادة من (ت6).

ويجوز أن يقال: ليست المخالعة كذلك، فإنها كناية في وضعها، ومن محالّ ترددها إرادة الخلع بها من غير مالٍ، فليكن في هذا مزيد نظر، وإذا (1) قال الرجل للوكيل: طلق امرأتي بمالٍ، أغنى هذا عن ذكر المخالعة، وكان تصويراً في الإطلاق من غير تعرض لمقدارٍ في المال. وقد انتجز بعون الله ولطفه تفريع القول في تصرف الوكيل من جهة الزوج. 8899 - فأما تفصيل القول في تصرف الوكيل من جهة المرأة، فنقول: لا تخلو المرأة إما أن توكل بالاختلاع مطلقاً من غير تنصيص على مقدار من المال، وإما أن تنص على مقدار من المال، فإن نصت على مقدارٍ من المال، وقالت لوكيلها: اختلعني بكذا. فإن وافق الوكيل واختلعها بذلك المقدار، صح، ونفذ. وإن وقع الاختلاع بأقل من ذلك المقدار، صح أيضاًً، وكان ذلك تناهياً في الموافقة، وهو بمثابة ما لو قال الرجل لوكيله: اشتر لي هذا العبد بألف، فإذا اشتراه الوكيل بخمسمائة، فقد وافق وزاد، فالنقصان في هذا الجانب بمثابة الزيادة في ثمن المبيع من الوكيل بالبيع. 8900 - وإن خالف الوكيل واختلعها بأكثر مما سمَّت، فهذه مخالعة متضمنها جرُّ ضرار ومزيدُ غرم، فلا يخلو الوكيل إما أن يضيف العقد والقبول إليها، وإما أن يطلق الاختلاع، ولا يضيف إليها. [فإن أضاف إليها] (2) وقال: اختلعتها بألفٍ من مالها أو بألفٍ عليها، فظاهر النصوص في الكتب الجديدة والقديمة أن الطلاق يقع. ومذهب المزني أن الطلاق لا يقع، وليس يخفى اتجاه القياس فيما اختاره المزني؛ فإن هذا الوكيل لم يضف الاختلاع إلى نفسه، فينزل العقد عليه، وإنما أضاف إليها، وهي لم تلتزم بنفسها هذا المقدار، ولم تأذن لوكيلها في التزامه، فاقتضى القياس أن يكون هذا القبول لاغياً بمثابة المعدوم، وإذا انتفى القبول -والإيجابُ يتعلق به- كان

_ (1) (ت 6): فإذا. (2) زيادة من: (ت 6).

بمثابة ما لو قال الرجل لامرأته: أنت طالق بألف، فسكتت، ولم تقبل. هذا وجه ما ذكره المزني، ولم أر أحداً من الأصحاب يرى مذهبه قولاً مخرجاً في المذهب على [اتجاهه] (1). والذي أراه أن يُلحَق مذهبُه في جمبع المسائل بالمذهب؛ فإنه [ما انحاز] (2) عن الشافعي في أصلٍ [يتعلق] (3) الكلام فيه بقاطعٍ، وإذا لم يفارق -الشافعيَّ- في أصوله، فتخريجانه خارجةٌ على قاعدة إمامه، فإن كان لتخريج مخرِّج التحاقٌ بالمذهب، فأولاها تخريج المزني لعلوّ منصبه في الفقه، وتلقّيه أصول الشافعي [من فَلْق فيه] (4) وإنما لم يُلحق الأصحابُ مذهبَه في هذه المسألة بالمذهب؛ لأن من صيغة تخريجه أن يقول: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا. وإذا انفرد بمذهبٍ، استعمل لفظةً تشعر بانحيازه، وقد قال في هذه المسألة لما حكى جواب الشافعي: " ليس هذا عندي بشيء "، واندفع في توجيه ما رآه بما ذكرناه. 8901 - فإن قيل: ما وجه القول المنصوص عليه؟ قلنا: "الإذن قد صدر منه على الجملة، والوكيل جرى في أصل الاختلاع على الإذن، وإنما خالف في العوض، وقد تمهد في أصل الشرع أن العوض ليس ركناً في الخلع، حتى يفسدَ الخلعُ بفساده، [وإذا] (5) كانت الفرقة تقع بالمخالعة على الخمر مع القطع بأن القبول في الخمر باطل، [وكان] (6) من الممكن أن يقال: إذا لم تكن الخمر مقبولة، فإضافة القبول إليها لاغٍ، [فلما] (7) تعلّق بقبول الخمر وقوع الطلاق شرعاً، وليست الخمر مقبولة شرعاً، (8 دل على ما ذكرناه 8)، وليس الطلاق المتعلق بالقبول بمثابة الطلاق المعلق بالصفات؛

_ (1) في الأصل: اتجاه. (2) في الأصل: فإنه إنما انجاه عن الشافعي. (3) في الأصل: متعلق. (4) زيادة من: (ت 6). (5) في الأصل: وإن. (6) في الأصل: فكان. (7) في الأصل: فأما. (8) ما بين القوسين ساقط من (ت 6).

فإن الطلاق إذا علقه مالكه بصفة، فلا فرق بين أن تكون تلك الصفة محظورة ديناً، وبين أن تكون مباحة؛ فإن تقدير وقوع الطلاق في التحقيق يرجع إلى تأقيت الطلاق، وكأن مالك الطلاق قال عند وجود الصفة المذكورة: أنت طالق، هذا مسلك التعليق، فلا يختلف إذاً -على هذا- التعليقُ باختلاف المتعلقات. وأما القبول، [فالطلاق] (1) يقع به على حكم تصحيح القبول أخذاً من أحكام المعاوضات، فإذا وقع الطلاق بقبول الخمر، تبين أن فساد العوض لا أثر له، فقد قبل الوكيل عنها حقّاً، ولكن أتى وراء القبول بما هو فاسد في حكم إذنها، فوقع الطلاق لذلك. هذا وجه النص والمذهب. التفريع: 8902 - إذا تبين أن الطلاق واقعٌ، فالمذهب الصحيح أن المسمَّى يسقط، والرجوع إلى مهر المثل، بناء على ما وجهنا به المذهب من القياس على فساد العوض، وهذا من باب الفساد الراجع إلى صيغة اللفظ، ثم موجب هذا الرجوع إلى مهر المثل. وفي المسألة قول آخر أن على المرأة الموكِّلة أكثرَ الأمرين من المائة التي سمَّتها، ومن مهر مثلها، [فإن كان ما سمّته أكثر من مهر مثلها، فعليها بذلُ ما رضيت به، وإن كان مهر مثلها أكثرَ مما سمته، فعليها مهرُ مثلها] (2). وحقيقة القولين لا تتبين إلا بمعاودات ومباحثات. أما القول الذي صححناه في التفريع، فمأخذه من إفساد التسمية، وهذا لائحٌ. وأما القول الثاني، فليس القائل به قاطعاً بالفساد، ولكنه يقول: إذا سمى الوكيل مائتين وسمت المرأة مائة، فقد أتى الوكيل بالمقدار الصحيح، وضم إليه ما لا يصح، وهو الزيادة، وكأنه لا يقطع القول بالفساد.

_ (1) في الأصل: في الطلاق. (2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 6).

ومما يسوغ الاحتجاج به لهذا القول أن المبالغة في تقرير (1) فساد التسمية توجب رفع الإذن من البَيْن، وهذا تورط في مذهب المزني. وإنما يتجه الحكم بوقوع الطلاق لاشتمال قول الوكيل على ما فيه بعض الموافقة. وإذا لم يقدر هذا، كان ذلك استئصالاً للإذن ورفعاً له، ثم هذا القائل إذا لم يجزم القول بالفساد، كان موجَب [ما يؤصّله] (2) أن ينظر إلى ما رضيت بالتزامه، فإن كان مثلَ مهر المثل أو أكثر، ألزمنا الزوجَ الرضا به، وإن كان أقلّ من مهر المثل، فيثبت عند ذلك للزوج حقٌّ؛ من جهة إخلاف ظنه، ولا معتبر ينظر إليه إلا فوات البضع وإيجاب قيمته، وهذا إيجاب مهر المثل، من غير فساد ولا تقدير خيار وفسخ، ولكن يثبت للزوج حق لم نجد له مأخذاً إلا القيمة، ووجد من المرأة التزامٌ، [فتردّد] (3) النظر بينهما على ما حكيناه. هذا هو الممكن في توجيه هذا القول. والقول الأسدُّ الرجوعُ إلى مهر المثل جزماً، من غير تفصيل. ثم سواء أوجبنا مهر المثل، أو ألزمنا أكثر الأمرين مما سمّت أو مهر المثل، فليس على الوكيل غرم، ولا ضمان؛ فإنه أخرج نفسه من البَيْن، ولم يضف الالتزام إلى نفسه [أصلاً] (4). التفريع على القولين: 8903 - إن جزمنا (5) القول بثبوت مهر المثل، فلا كلام، ويجب تمامه، وإن زاد على ما سماه الوكيل. وإن فرعنا على القول الثاني وقد سمت المرأة مائة، ومهر المثل مائة وخمسون، وسمى الوكيل مائتين، فالواجب مائة وخمسون، ولو كان مهر المثل تسعين،

_ (1) عبارة (ت 6): في تقدير فساد القيمة توجب وقع الإذن. (2) في الأصل: ما وصله. (3) في الأصل: وتردد. (4) زيادة من (ت 6). (5) (ت 6): جرينا.

فالواجب مائة، ولو كان مهر المثل ثلاثمائة، فالأصح أنا (1) نوجب المائتين؛ فإن الزوج رضي بهما فيما سماه الوكيل، فكما يلزم المرأة المائة وإن كان مهر المثل أقل منها لالتزامها، فكذلك يلزم الرجل الاكتفاء بالمائتين إذا كان مهر المثل أكثر منهما، لأنه رضي بهذا المقدار، فإنّ (2) رضاه معتبر، كما كان رضاها معتبراً. ومهر المثل دائر بينهما. هذا تفصيل القول فيه إذا أضاف الوكيل ما ذكره من المسمى الزائد إلى التزام المرأة. 8904 - فأما إذا لم يتعرض للإضافة إليها، ولكن أطلق اختلاعها بالمائتين، فالخلع نافذ، والبينونة واقعة، فإنها إذا كانت تقع والخلع مضاف إليها على خلاف إذنها، [فلأن] (3) تقع والاختلاع مطلق أولى. ثم ما الذي يجب على الوكيل؟ أولاً - أجمع أصحابنا على أن المرأة لا تخرج من البَيْن، ولا يقال: لمّا خالف الوكيل مقدار ما سمَّته، وأطلق القبول والالتزام، كان هذا بمثابة ما لو اختلع بنفسه من غير توكيل. هذا لم يصر إليه أحدٌ من الأصحاب، [إذا أطلق الالتزام، ونوى الموكّلة] (4). ثم فيما يجب عليها (5) وعليه قولان: أحدهما - أنا ننظر إلى مهر المثل، فنوجبه على المرأة إذا كان أكثر مما سمّت، ونوجب على الوكيل تكملة المائتين. وبيان ذلك أنها سمَّت مائة، ومهر المثل مائة وخمسون، وقد سمَّى الوكيل مائتين، فنوجب عليها مائة وخمسين، ونوجب على الوكيل الخمسين، تكملة المائتين. وإن كان ما سمته أكثر من مهر المثل، بأن كان مهر المثل تسعين، وما سمته مائة، وما سماه الوكيل مائتان، فعلى المرأة المائة، وعلى الوكيل المائة الأخرى. ولو بلغ مهر مثلها

_ (1) عبارة (ت 6): فالأصح أن الزوج لا يستحق إلا المائتين، فإنه رضي بهما فيما سماه الوكيل. (2) عبارة (ت 6): فكان رضاه معتبر، كما أن رضاها معتبر. (3) في الأصل. فلا. (4) زيادة من (ت 6). (5) (ت 6): فيما يجب عليه قولان.

مائتين، فكمال مهر المثل عليها [على] (1) هذا القول. فإذاً الواجب عليها أكثر الأمرين، فإذا لم يبق شيء إلى تمام المائتين، فلا طلبة على الوكيل، وإن بقي شيء، فعلى الوكيل إتمامه. وفي المسألة قولٌ آخر، وهو أقيس عند أئمة المذهب، وذلك أنا لا نُلزم المرأةَ إلا ما سمَّت، فلا نحط ولا نزيد، ونوجب على الوكيل إتمام المسمى من عند نفسه. وحقيقة القولين في هذه الصورة تؤخذ أولاً من أن الفساد لا يتطرق إلى التسمية؛ فإن الالتزام جرى من الوكيل مطلقاً، [ومطلق] (2) الالتزام صحيح منه من غير توكيل، وليس كما لو أضاف إليها على الخُلف؛ فإن [الإضافة] (3) فاسدة، وبم يوجد منه التزامٌ [مطلق] (4)، حتى ننزّل عليه. [فإذا فُهم هذا، نقول بعده: إنا في القول الأول نقول: قد تعلق الخلع بها] (5) على حالٍ؛ إذ لو لم يتعلق بها، [لبرئت] (6) بالكلية، ولاختص الوكيل بالالتزام، وهذا لا سبيل إليه لما بنينا المذهب عليه من أن قاعدة الخلع لا تزول بالتغاير في [التسميات. نعم، قياس مذهب المزني] (7) انصراف الاختلاع عنها بالكلية إلى الوكيل؛ فإنه ينزل الاختلاع منزلة الابتياع؛ وإذا كان الرجل وكيلاً بابتياع عبد بمائة، فإن أضاف

_ (1) زيادة من (ت 6). (2) في الأصل: ونطلق. (3) في الأصل: الافة. (4) في الأصل: منطلق. (5) عبارة النسختين هنا مضطربة، فقد جاء في الأصل: فإذا فهم هذا القولين بعد أنا في القول الأول نقول وقد تعلّق الخلع بها ... وفي (ت 6): فإذا فهم هذا بيان القولين بعده: أما في القول الأول: قد تعلق الخلع بها. والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق، وألفاظ النسختين. (6) في الأصل: الترتب. (7) عبارة الأصل: في التسميات، فقياس مذهب المزني.

الشراء إلى الموكل وأوقعه بمائتين، كان الشراء باطلاً، وإن أضافه إلى نفسه، انصرف عن الموكل، ووقع عن الوكيل. هذا قياس المزني. 8905 - وإذا فرعنا على مذهب الشافعي، فلا بد (1) من تعليق الخلع بالمرأة، ثم إذا تعلق بها وقد جرى على خلاف ما رسمت، دار الأمر عليها بين ما سمّت، وبين مهر المثل، فلزمها الأكثر منهما، ثم ذكرنا في الصورة الأولى أنه إذا قَصَر (2) الأكثرُ عن المائتين، فلا يجب على الوكيل شيء، والسبب فيه أنه لم يلتزم، بل أضافه [فكان] (3) خارجاً عن الغرم، وقد التزم في مسألتنا، فلزمه الوفاء بما [التزمه] (4) هذا بيان هذا القول. [والأقيس] (5) القولُ الآخر؛ فإن اعتبار مهر المثل إنما يحسن إذا كنا نشَوبُ الخلعَ أثر الفساد. وهذا إنما يتجه إذا فسدت التسمية بالإضافة، وهاهنا لم تفسد، وإنما (6) جرت مطلقة، فإن كان يتعلق بالمرأة شيء، فلا التفات على مهر المثل، وإنّما الالتفات إلى ما التزمته، قلّ أم (7) كثر، وعلى الوكيل التتمّة. وعلى (8) هذا أطلق الغواصون القولَ بأن هذا أقيسُ من الأول، ولم يعتبر أحد من الأئمة مهرَ المثل جزماً في هذه الصورة، بخلاف صور الإضافة على الفساد؛ فإن تلك الإضافة فسدت، فكان الرجوع إلى مهر المثل في القول الصحيح، والتسميةُ المطلقة صحيحة في صيغتها؛ فلم ينقدح مهر المثل (9 على جزم 9)، ثم سرّ المذهب في

_ (1) (ت 6): فإنا نبين تعلق الخلع بالمرأة. (2) قَصَر: من باب قتل، تقول قصر السهم من الهدف لم يبلغه، وقصر الطعامُ نقص وغلا. (المعجم والمصباح). (3) في الأصل: وكان. (4) في الأصل: ألزمه. (5) في الأصل: والأتتس. (وهو تحريف عجيب رسم الناسخ الكلمة مشوّهة بغير معنى). (6) (ت 6): فإنها. (7) (ت 6): أو. (8) (ت 6): وعن هذا. (9) ما بين القوسين سقط من (ت 6).

هذا أن المقدار الذي يلتزمه الوكيل منفرد به، فهو مطالب به، والزائد عليه يتخير الزوج فيه، إن شاء طالب به المرأة، وإن شاء طالب به الوكيل، ثم هو يرجع به على الموكلة. هذا على المذهب المشهور في العهدة. وإن قلنا: لا يطالَب الوكيل بعهدة العقد، فالقدر الذي يتوجه الطلبة به على المرأة لا يطالب الوكيل به إذا اعترف الزوج بكونه وكيلاً، ولم يكن بينهم اختلاف، وكانت (1) هذه الصورة بمثابة ما لو بذلت المرأة مالاً، ووكلت وكيلاً، فقال الوكيل: إن زوجك لا يخالعك بهذا المقدار، فلا عليك، وأنا اختلعك بما يطلبه، وإن زاد على ما بذلتِ، فالخلعُ يَقْبل هذا؛ فإن الأجنبي إذا ملك الافتداء من خالص ماله [والبضع] (2) يرجع عليها لا حظ للأجنبي فيه، فيقبل التبعيض على موجب الافتداء. هذا نظر الشافعي. وقد بان تحقيقه. ثم إن حكمنا بأن المرأة تغرم الأكثر مما سمت ومن مهر المثل، فإن زاد مهر مثلها عن المائتين، فالزوج لا يطلبه أصلاً. وقد ذكرنا هذا في الصورة الأولى، وهو في هذه الصورة أوضح. وأجرينا في الصورة الأولى قولاً أن مهر المثل يجب بالغاً ما بلغ، وإن زاد على ما سماه الوكيل، ولا شك أن ذلك القول لا يجري هاهنا؛ فإن صورة الإضافة اتجه فيها الفساد، وموجبه الرجوع إلى مهر المثل، ولا يتجه الفساد في هذه الصورة التي ذكرناها. هذا تفصيل المذهب فيه إذا أضاف الوكيل العوض (3) إليها، أو أطلق التزامه، ولم يُضف ولكنه نواها (4). 8906 - فأما إذا قصد اختلاعها من تلقاء نفسه، أو أطلق ولم (5) ينوها، نزل الخلع عليه وانقطعت الطّلبة عن المرأة. وهذا بينٌ لا إشكال فيه.

_ (1) (ت 6): وكأن. (2) في الأصل: فالبضع. (3) (ت 6): العرض. (4) نواها: أي الإضافة. (5) (ت 6): ولم يبدها بذل.

8907 - ولو أضاف الوكيل المال إليها، كما قدمنا التصوير فيه، ولكنه ضمن عنها. وإيضاح التصوير أنها إذا وكلته بأن يختلعها بمائة، فقال الوكيل: اختلعتها بمائتين من مالها، على أني ضامن، فهذه الصورة ذكرها الصيدلاني، وزعم أن حكمها حكم ما لو أطلق التسمية والالتزام، ولم يضف إليها. وهذه هفوةٌ بيّنة؛ فإن الإضافة إذا فسدت، فالضمان لا يردّها إلى الصحة، فيجب طرد القولين المذكورين في صورة الإضافة إليها، حتى يتبين ما يجب. ثم إذا استمر القولان على نحو ما جرى ذكرهما، فهذه الصورة [التي ذكرها] (1) تمتاز عن الأولى في حكمٍ وهو أنا لم نلزم الوكيل في الإضافة إليها شيئاً، وهاهنا نُلزمه ما يلزمها من جهة الضمان. فإن قيل: لم لا تلزمونه التتمّة إلى المائتين؟ قلنا: لأنه لم يضف التزام العوض إلى نفسه، وإنما أقام نفسه كفيلاً، والكفيلُ لا يستقل بنفسه في الغرم. فهذا ما يجب التنبيه له. 8908 - وكل ما ذكرناه فيه إذا وكلت المرأة وكيلاً بالاختلاع، وسمت مقداراً من المال، فأما إذا أطلقت التوكيل (2)، ولم تتعرض لتسمية مقدار، فحق الوكيل إن أراد أن يجري على مرتبة الوكالة ألا يختلعها بأكثر من مهر المثل. فإن اختلعها بمهر المثل أو أقلَّ، فذاك، والخلعُ نافذ على الصحة. وإن اختلعها بأكثر من مهر المثل، فالزيادة على مهر المثل كالزيادة على المقدار المسمى إذا كانت سمَّت مقداراً. ثم يختلف الأمر بأن يضيف إليها أو يطلق الالتزام. فإن أضاف إليها، فهو كالإضافة إليها وقد كانت سمّت فزاد الوكيل. وإن أطلق، فهو كالإطلاق في الصورة الأولى. والجملة أن مهر المثل في صورة إطلاق التوكيل بمثابة ما لو (3) سمت إذا فرض من الوكيل الزيادة عليه، فلا فرقَ، غيرَ أن المسألة تمتاز عن المسألة بأمرٍ يرجع إلى

_ (1) زيادة من (ت 6). (2) (ت 6): الوكيل. (3) (ت 6): بمثابة ما سمت.

الصورة، وهو أنا قد نجري فيه إذا سمت شيئاً قولاً في أنه يلزمها أكثرُ الأمرين مما سمّت أو مهر المثل. وهذا لا يتصور جريانه في الإطلاق، فإنها ما سمت شيئاً، فلا ينتظم التردّد في حقها [بين] (1) شيئين، ولكن لا يلزمها إلا مهر المثل، والكلام في أن الوكيل هل يلتزم تتمة المسمّى يخرّج على القياس المقدّم؟ فإن أضاف الالتزام إليها، لم يضمن شيئاً، وإن أضاف الالتزام إلى نفسه، فهو كما لو أضاف الالتزام إلى نفسه في صورة التسمية. هذا منتهى القول في تصرف وكيل المرأة ألاختلاع. وكل ما ذكرناه فيه إذا اختلع الوكيل بجنس ما سمت -إن كانت سمت- فوافق المقدارَ، أو زاد، أو نقص. 8909 - فأما إذا حاد الوكيل عن الجنس الذي سمت، وذكر جنساً آخر، وذلك بأن تسمّي دراهم، فيختلع الوكيل على الدنانير، قال القاضي: إن أطلق الاختلاع، صح، ووقع عن [الوكيل] (2)، وبطل أثر الوكالة، وكان بمثابة ما لو اختلع أجنبيٌّ [زوجة] (3) إنسان بمالٍ من عند نفسه، وهذا إذا أطلق الالتزام. وإن أضاف الالتزام إليها، فسد ولم يقع الطلاق، وهذا يؤكد مذهب المزني في الصورة الأولى؛ فان أصل التوكيل جارٍ منها، والفساد راجع إلى التسمية، فإذا كان فساد التسمية في المقدار لا يمنع وقوع الطلاق، ففساد الجنس لا يبعد ألا يؤثر، ولم أر هذا التفصيل (4) في الجنس والمقدار إلا للقاضي، وإن أراد المريد فرْقاً، لم يعدمه على شرط أن ينطاع لتركيب (5) الخلع [ولا يبغي] (6) فيه كلاماًً مجرداً، فنقول:

_ (1) في النسختين: من. (2) في الأصل: التوكيل. (3) في الأصل: ووجه. (4) (ت 6): الفصل. (5) (ت 6): لتركب. (6) في الأصل: ولا ينبغي.

[المخالفة] (1) في الجنس إعراضٌ بالكلية عما قالت، [والمخالفة] (1) في المقدار [إتيان] (2) بما ذكرت مع مزيدٍ، كما تقدم. ومما يجب تجديد العهد به التوكيلُ في النكاح، فإذا وكلت المرأة في أن تُزوَّج بمائة، فزُوِّجت بخمسين، فالذي ذهب إليه القفال أن النكاح لا ينعقد. وقال بعض الأصحاب: ينعقد بمهر المثل، فإن حكمنا بأنه ينعقد، فهذا يطابق الخلع في أصله؛ من حيث إنه لا تندفع البينونة [بخلافٍ] (3) يجري في العوض. وإن جرينا على طريقة القفال، احتجنا إلى فرقٍ بين النكاح والخلع، والممكن فيه التعلّق (4) بغلبة الطلاق وجريانه، وتصحيح فاسده، وتكميل مبعّضه، وتأبيد مؤقته، والنكاح لا يحتمل شيئاً من ذلك؛ [فإذا] (5) وكل الرجل وكيلاً حتى يقبل له نكاح امرأة بألف (6) فقبل الوكيل النكاح بألفين، [فاختيار] (7) الشيخ (8) أن النكاح لا ينعقد، وقال بعض الأصحاب: ينعقد، والرجوع إلى مهر المثل، والحكم بالانعقاد بعيد (9) في هذا الطرف. وقد انتهت المسألة نهايتَها، وبلغت مبلغاً لا مزيد عليه، ولكن ليس من الممكن

_ (1) في الأصل: والمخالعة. (2) في الأصل: إثبات. (3) في الأصل: ـحلا. (4) (ت 6): التعليق. (5) في الأصل: وإذا. (6) (ت 6): بألف درهم. (7) في الأصل: فاختار. (8) الشيخ: المراد به هنا القفال. وهو على خلاف اصطلاحه، فحيثما قال (الشيخ) مطلقاً بغير قيد فهو يعني به الشيخ أبا علي السنجي، والذي سوغ مخالفة هذا الإطلاق هنا هو أن القفال قد سبق له ذكر في الصورة المقابلة لهذه الصورة، وهي: " إذا وكلت المرأة في أن تزوج بمائة فزوجت بخمسين " ويؤيد أنه يعني بالشيخ هنا القفال، أن السبكي في (الأشباه والنظائر) نقل هذه المسألة، وكلامَ إمام الحرمين فيها بنصه، ثم عقب قائلاً: وأظنه يعني بالشيخ -هنا- القفال، ففي كلامه ما يشير إلى ذلك (ر. الأشباه والنظائر: 1/ 367). (9) ساقطة من (ت 6).

إنهاء كل مسألة إلى حدٍّ يفهمه كل أحد، ولن يحيط بمأخذ الكلام في هذه المسألة إلا دربٌ (1) فقيهٌ عالم في الفقه سديدُ القريحة شديدُ الطلب للغايات (2). فرع: 8910 - إذا وكل الرجل وكيلاً حتى يخالع زوجته بمائة، فوكلته المرأة حتى يختلعها بمائة، فكان وكيلَه ووكيلَها، فهل يصح ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح، كما لا يصح مثله في البيع والإجارة، والسبب فيه أنه إيجاب وجوابٌ، ولا ينتظم صدورهما عن شخص واحد، والأب مستثنىً عن هذا القياس، كما قدمناه في كتاب النكاح. والوجه الثاني - أنه يصح؛ لأن الطلاق يقبل ما لا تقبله المعاوضات المحضة، ولذلك صح فيه الخلع، وجرت البينونة، ولزم العوض من غير فرض قبول إذا قال الزوج: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، فجاءته (3) بالألف، وقع الطلاق، وثبت المال، على التفاصيل المقدمة، فإذا لم يبعد هذا، وفيه اكتفاءٌ بقولِ واحدٍ من أحد الجانبين، [فالاكتفاء بشخصٍ واحدٍ] (4) لا يكون بدعاً، [فإن منعنا هذا (5)، لغا لفظ الوكيل] (6)، ولم يقع شيء. وإن صححنا، فهل يقتصر الوكيل على أحد الشقين، أم لا بد من الإتيان باللفظين المعبّرين عن الشقين؟ فعلى وجهين ذكرناهما في الأب إذا كان يعامل ابنه الطفل، وكان شيخنا أبو محمد يحكي في هذه المسألة مسألةً عن القفال وتردداً من جوابه فيها، وهي أن [مستحق] (7) الحق إذا وكل رجلاً باستيفاء حقه من إنسان، فوكّله ذلك الذي

_ (1) دَرِبٌ: بالمهملة المفتوحة ثم مهملة مكسورة والثالث باء موحدة: ماهرٌ حاذق، من درب يدرَب (باب تعب) يقال: درب على الشيء: مَرِنَ وحَذِق، ودرب به: اعتاده وأولع به. (المعجم والمصباح). (2) عبارة (ت 6): إلا دربٌ في الفقه سديد القريحة شديد الطلب. (3) (ت 6): فإذا جاءته. (4) في الأصل: والاكتفاء بشرط واحد. (5) هذا: إشارة إلى توكيل شخص واحد في الخلع من الرجل والمرأة، فيكون وكيلاً عنهما معاً. (6) عبارة الأصل: فإن معنا هذا الغا لفظ التوكيل. (7) في الأصل: يستحق.

عليه الحق بإيفاء حقه، فانتصب وكيلاً عن الموفي والمستوفي، فكيف سبيل هذه الوكالة؟ لا شك أنه لا يظهر للفساد في هذا أثر، ولكن لو فرض منه الاستيفاء، ثم تلف في يده ما قبضه، فإن حملناه على كونه وكيلاً بالاستيفاء [فما يتلف في يد وكيل الاستيفاء] (1) يكون من ضمان مستحِق الحق، وإن قدرناه موفياً، فما يتلف في يد وكيل الموفي يكون من ضمان من عليه الحق. وإذا كان موكلاً من الجانبين [وفرض] (2) التلف في يده، فهو ضمان مَن؟ ترددَ جوابُ القفال في ذلك، والوجه أن نقول: إن قصد القبضَ عن جهة من وكله بالاستيفاء، فلا شك أن ما يتلف في يده يكون من ضمان مستحق الحق. وإن لم يقصد شيئاً، فالمسألة مترددة قريبةٌ من تقابل الأصلين، والعلم عند الله تعالى. وإن قصد القبض عن الموفي، فليست المسألة خاليةً عن الاحتمال أيضاًً والله أعلم. ...

_ (1) زيادة من (ت 6). (2) في الأصل: وفوّض.

باب الخلع في المرض

باب (1) الخلع في المرض قال الشافعي رضي الله عنه: "ويجوز الخلع في المرض كما يجوز البيع ... إلى آخره" (2). 8911 - نجدد العهد بالنكاح في المرض، ثم نذكر الخلع، فالمريض إذا نكح بقدر مهر المثل، أو أقل، فلا حرج عليه [ولا يحتسب ما يسوقه صداقاً من الثلث؛ لأن ذلك معدودٌ] (3) من حاجته، ولا مطلع على حاجته إلا من جهته، فنكاحه بمثابة شرائه لذائذ الأطعمة، ولا معترَض عليه في شيء من ذلك، [وإن] (4) استوعب مالَه بمهور الأبكار وقضاء الأوطار. وإن نكح بأكبر من مهر المثل، فالزيادة تبرع، فإن كانت المرأةُ وارثةً، فالزيادة مردودة، وإن كانت ذمّية لا ترث هذا المسلم، أو كانت أمة والمهر لمولاها، فالزيادة تبرعٌ محسوب من الثلث (5). 8911/م- ولو خالع المريض زوجته، فلا معترض عليه، ولا مؤاخذة بمقدار بدل الخلع، فإنه لو طلق مجاناً، جاز فإذا طلّق بمالٍ ثبتَ وإن قلّ. وهذا كما ذكرناه في مخالعة السفيه زوجته، والزوجات لا يتعلق بهن حقوق الورثة، كأمهات الأولاد. وقد ذكرنا طرفاً من الكلام فيه إذا أعار المريضُ نفسَه، وخدم غيره، وأوضحنا كلام الأصحاب في أن بذل منافعه هل يحسب من الثلث، أم يقال: لا يحتسب؛ فإن

_ (1) (ت 6): فصل. (2) ر. المختصر: 4/ 66. (3) ما بين المعقفين زيادة من (ت 6). (4) في الأصل: فإن. (5) (ت 6): التلف.

منافع بدنه لا تبقى لورثته؟ وقد ذكرنا هذا ونظائره في كتاب الوصايا. 8912 - فأما المرأة إذا نكحت في مرض الموت، نظر: فإن نكحت بمهر المثل أو أكثر، فذاك. وإن نكحت بأقلَّ من مهر المثل، فإن كان الزوج حراً يرثها، انعقد [العقد] (1)، وثبت مهر المثل، ولا وصية لوارث (2). وإن كان الزوج عبداً فالمسامحة مع السيد، وظاهر المذهب أن ما حابت به وصيةٌ محسوبةٌ من الثلث. ومن أصحابنا من قال: ليس بوصية؛ فإن منافع بضعها لا تبقى لورثتها، وإنما الشرع فيما يبقى للورثة لولا التبرع. 8913 - وإن اختلعت المرأة في مرض الموت نفسَها من زوجها بمهر المثل، أو أقل، لم يحتسب من [ثُلثها] (3) وقال أبو حنيفة (4): يحتسب، وهذا بناه على أصله في أن البضع لا يتقوّم عند الخروج من النكاح. وإن كان قد تقوّم عند الدخول في النكاح. وأما المكاتبة إذا اختلعت أو المكاتب إذا نكح، فينبغي ألا تُتلقّى هذه التصرفات من تصرفات المريض؛ فإن لها مأخذاً سيأتي موضحاً في كتاب الكتابة، إن شاء الله عز وجل. وإن اختلعت نفسها بأكبر من مهر المثل، فالزيادةُ وصية (5).

_ (1) زيادة من (ت 6). (2) ولا وصية لوارث: المعنى أنه لا تحسب المحاباة لزوجها الحر الذي يرثها من الثلث، فإنه لا تجوز له الوصية. على حين لو كان الزوج عبداً، وقبلت نكاحه بأقل من مهر المثل، فالمحاباة في هذه الحالة للسيد، فتحسب من الثلث، حيث تجوز له الوصية لأنه غير وارث، كما هو واضح من العبارة الآتية. (3) في الأصل: ثمنها. (4) ر. المبسوط: 6/ 192، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 470 مسألة: 992. (5) لأنها محاباةٌ بغير عوض، فعوض الخلع هنا هو مهر المثل.

فصل قال: "ولو كان خالعها بعبد يساوي مائةً ومهر مثلها خمسون ... إلى آخره" (1). 8914 - صورة المسألة عرية عن مقصود الفقه، ولكن في لفظها وفتوى الشافعي فيها تعقيد، والغرض التنبيه عليه، ووجه الجواب عنه. والصورةُ مريضةٌ اختلعت نفسها على عبدٍ يساوي مائة، وهو جميع مالها، ومهر مثلها خمسون، فالخلع يثبت، وقدر مهر المثل يثبت لا محالة، والزائد عليه وصية، فينفذ ما يسعه الثلث، وهو سدس العبد، فيسلم للزوج ثلثاه: النصفُ بحكم الاستحقاق، والسدس بحكم التبرع، فإن السدس ثلث الباقي. غير أن الزوج بالخيار من جهة التبعّض (2). ثم إذا فسخ، فالرجوع إلى مهر المثل أو إلى القيمة. هذا جواب المسألة. غير أن المزني نقل في جواب المسألة: " أن الزوج بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد ونصف مهر مثلها، وإن شاء، رده ورجع بمهر مثلها "، وأخذ يعترض ويقول: "لا بل يستحق نصف العبد، لأنه [قدر] (3) مهر المثل، ويستحق من الباقي ما يحمله الثلث " (4). قال أصحابنا: ما ذكره المزني صحيح. ثم منهم من غلطه في النقل، وقال: إنما قال الشافعي: الزوج بالخيار إن شاء أخذ ما يخصه من العبد، وإن شاء رده ورجع بمهر المثل، ولم يقل ونصف مهر المثل. وهذه المسألة لا تُلفى منصوصة على الوجه الذي نقله المزني في شيء من كتب الشافعي. وقال بعض أصحابنا: لفظ الشافعي أن الزوج بالخيار إن شاء أخذ نصف

_ (1) ر. المختصر: 4/ 66. (2) المعنى أن الزوج إذا لم يسلم له العبد كاملاً، وتبعّض بينه وبين الورثة، كان هذا عيباً موجباً للخيار، فإن فسخ ولم يرض بالاشتراك في ملك العبد، فله مهر مثلها أو القيمة. (3) زيادة من (ت 6). (4) ر. المختصر: 67.

العبد، ونصفُه (1) مهر المثل، فحذف المزني الهاء، وقال: إن شاء أخذ نصف العبد، ونصفٌ (2) مهر مثلها، فنوَّن النصفَ، وحذف المزني التنوين. ومن أصحابنا من حمل ما نقله المزني على ما إذا أصدقها عبداً يساوي مائة درهم، ثم خالعها عليه قبل الدخول، فعاد النصف إليه بحكم الطلاق قبل الدخول، فله الخيار بين أن يأخذ النصف [الباقي مع نصف مهر المثل، لأجل النصف] (3) المستحَق له بالطلاق، وبين أن يرده ويرجع بمهر المثل. وهذا منتظم، ولكن لا فائدة في قوله: ومهر مثلها خمسون. فهذا منتهى القول في ذلك والله أعلم. ...

_ (1) (ت 6): ونصف. (2) (ت 6): ونصفه. (3) ما بين المعقفين زيادة من: (ت 6).

باب خلع المشركين

باب خلع المشركين حكم خلع المشركين حكمُ أنكحتهم وما يبذلون من الأبدال، كما يبذلون منها في الصداق وقد مضى القول مفصلاً فيما يقبض في الشرك، وفيما يقبض في الإسلام، فلا معنى لإعادة [ما مضى مقرّراً] (1)، ثم يذكر الأصحاب مسائل خالف أبو حنيفة فيها، ونحن نذكرها ونبين مذهبنا فيها. فرع: 8915 - إذا اختلعت قبل قبض المهر على عين أو دين، لم يسقط مهرها عن ذمة الزوج عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2)، فإنه قال: المخالعة توجب براءة ذمة الزوج عن مهر المرأة قبل المسيس وبعده، وإن لم يجر للمهر ذكر، وهذا أخذه من لفظ الخلع والاختلاع، وهو وسوسة لا حاصل وراءها. فرع: 8916 - إذا خالع امرأته على خمرٍ أو خنزير، فالخلع فاسد، وعليها مهر المثل، على الرأي الظاهر؛ فإن الخمر والخنزير يعسر تقويمها. وقال أبو حنيفة (3): [يقع] (4) الطلاق، ولا شيء عليها، وإن كان العوض يثبت لو كان صحيحاً وهذا بناه على أصله في أن البضع لا يتقوّم في الخروج من النكاح، والرجوع إلى مهر المثل تقويم للبضع. فرع: 8917 - إذا خالع على مالٍ مؤجل على الحصاد والدياس، فسد العوض، والرجوع إلى مهر المثل، وعند أبي حنيفة (5) يصح، ويتعجل المال ويفسد الأجل.

_ (1) في الأصل: وما مضى مفرداً، وفي (ت 6): ما مقرراً. والمثبت تصرف من المحقق، فهو اختيار من النسختين. (2) ر. مختصر الطحاوي: 191، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 466 مسألة: 983. (3) ر. المبسوط: 6/ 191، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 470 مسألة 991. (4) زيادة من (ت 6). (5) ر. المبسوط: 6/ 191.

فرع: 8918 - إذا خالعها على ما في كفها، فسد العوض، والرجوع إلى مهر المثل، وقال أبو حنيفة (1): إذا أصاب في كفها شيئاً، فهو العوض، فإن لم يصب، فله ثلاثة دراهم. وما ذكرناه تفريع على الرأي الظاهر في أن بيع الغائب لا يصح على هذه الصفة. فرع: 8919 - إذا قالت: أبرأتك عن مهري بشرط أن تطلّقني، فقال الزوج: أنت طالق، فالبراءة لا تصح؛ فإنها معلّقة والتعليق يفسدها، ثم طلاق الزوج جرى مطلقاًً من غير تعليق، ولو قال الزوج: إن أبرأتني، فأنت طالق، فقالت: أبرأتك، فالطلاق بائن، فإن التعليق من جهته غير ممتنع، وهو بمثابة ما لو قال: أنت طالق إن ضمنت لي ألفاًً، ولو قال الزوج: طلقتك فأبرئيني، وقع الطلاق، ولا يلزمها الإبراء؛ لأنه نجّز الطلاق، واستدعى الإبراء. وفي كتاب الخلع فروع ممتزجة بقواعد الطلاق، رأينا تأخيرها إلى آخر الطلاق والله المعين. ...

_ (1) ر. المبسوط: 6/ 187.

ولو اعتنى الفقيه بحل مشكلات الفقه، كان أولى من الاشتغال بتعقيدات في الصورة. الإمام في نهاية المطلب

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ... إلى آخره" (1). 8920 - الأصل في الطلاق آيات في الكتاب معروفة، وسننٌ ستأتي في مواضعها على حسب مسيس الحاجة إليها، إن شاء الله عز وجل، وأجمع المسلمون على أصل الطلاق. وهو في اللسان من الإطلاق يقال: أطلقتُ البعير إذا أرسلته وحللت عقاله، وأطلقتُ الأسيرَ إذا خلّيته، وهو لفظ جاهلي ورد الشرع باستعماله وتقريره، وقيل: كان الطلاق الجاهلية على أنحاءٍ: الطلاق، والفراق، [والسَّراح] (2)، والظهار، والإيلاء، وأنتِ عليّ حرام. قالت عائشة رضي الله عنها: جاء الشرع بنسخ البعض وتقريرِ البعض. ثم الشافعي صدّر الكتاب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. قيل: التقدير: يأيها النبي قل لأمتك: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن. وقيل: المذكور النبي في صدر الآية وهو وأمته معنيّون، والشاهد فيه رجوعُ الخطاب إلى الجمع في قوله إذا طلقتم النساء، والكلام في ذلك يطول، وما ذكرناه كافٍ، ثم قوله: "طلقوهن لعدتهن" معناه طلقوهن لوقت يشرعن عقيبه في العدة، وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ: "فطلقوهن لقُبل عدتهن" والظاهر أن هذا كان يذكره تفسيراً.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 68. (2) صحفت كلمة (السراح) في الأصل إلى كلمة غير مقروءة ولا معنى لها: (النراح).

ثم الكتاب [مبدوءٌ بالكلام] (1) في الطلاق البدعي والسني، وهما لفظان أطلقهما أئمة السلف، وتداولهما فقهاء الأعصار، ونحن نذكر فقه الفصل موضحاً، ثم نأتي بالعبارات، ونستعين بالله تعالى، وهو خير معين. 8921 - فنقول: يحرم على الرجل أن يطلق زوجته المدخول بها في زمان الحيض من غير عوض ولا رضاً من جهتها، هذا متفق عليه. وكذلك إذا جامع امرأته في طهر، ولم يتبين أنها حامل أو حائل، فيحرم عليه تطليقها في الطهر الذي جامعها فيه من غير عوض. هذان أصلان ثابتان بالوفاق، ومستند الإجماع فيهما الحديث، وهو: ما روي أن ابنَ عمرَ طلق امرأته في الحيض، فسأل عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "مُره فليراجعها حتى تطهرَ، ثم تحيضَ، ثم تطهرَ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" (2) هذا رواية مالك عن

_ (1) في الأصل: يبدو الكلام. (2) حديث طلاق ابن عمر امرأته بهذا السند: مالك عن نافع عن ابن عمر، وبهذه الألفاظ، لا ينخرم منها حرف واحد، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الطلاق، باب وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّة} ح 5251، ولهذا الحديث روايات أخرى عند البخاري، باختلافٍ في اللفظ، وزيادات، وهي بأرقام: 4908، 5252، 5253، 5258، 5264، 5332، 5333، 7160. وهو عند مسلم: كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف، وقع الطلاق، ح 1471، والرواية الأولى بذات السند: مالك عن نافع عن ابن عمر، وبذات الألفاظ التي ساقها البخاري، وهي التي جاء بها إمام الحرمين كما أشرنا آنفاً. وللحديث عند مسلم روايات عدّة بلغت العشرين كلها عن ابن عمر، منها أربع عن نافع عن ابن عمر، وثلاث عن سالم عنه، وباقيها عن ابن سيرين، ويونس بن جبير، وعبد الله بن دينار، وطاوس، وأبي الزبير، وهي بألفاظ وزيادات تختلف عن السلسلة الذهبية، أي الرواية الأولى التي أشرنا إليها وبينا أنها ذات رواية البخاري. والحديث عند أبي داود أيضاً في كتاب الطلاق - باب طلاق السنة والبدعة (4)، الأرقام من 2179 إلى 2185، والأول منها هو ما جاء عند البخاري ومسلم عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وبذات الألفاظ. والأحاديث الباقية فيها ما أشار إليه الإمام من رواية سالم، ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين.

نافع عن ابن عمر. وروى سالم ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين عن ابن عمر، وفيه: "مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر" (1)، وسنتكلم على هاتين الروايتين بعد تمهيد القاعدة في السُّنّة والبدعة، فنقول: يحرم إنشاء الطلاق بعد الدخول عرياً عن العوض في زمان الحيض، والذي نضبط المذهب به أن هذا يؤدي إلى تطويل عدتها؛ فإن بقية الحيض لا يعتد بها، وإلى ذلك أشار الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: "فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تُطلق لها النساء" فعلل تحريم الطلاق بإفضائه إلى تطويل العدة، ولا مزيد على علة صاحب الشرع صلوات الله عليه. ولو خالعها، فلا حظر ولا تحريم. ولو طلقها [برضاها] (2) من غير ذكر عوض، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك سائغ؛ لمكان رضاها، فصار كما لو اختلعت نفسها. والثاني - لا يجوز (3)؛ فإن حدود الشرع ومواقف التعبدات لا تختلف بالرضا والسخط. 8922 - فإن قيل: [على] (4) ماذا بنيتم أولاً تحريم الطلاق في الحيض؟ قلنا: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: "مره فليراجعها" ارتفع عبد الله إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرأيت لو طلقتُها ثلاثاً"؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إذن عصيت، وبانت امرأتك" وما قال عبد الله ما [قال] (5) معانداً، وقدرُه أعلى من هذا، وإنما قال مستفهماً؛ لأنه ما كان بلغه أمرُ (6) البدعة

_ (1) ت6: "حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر". وفي هذا خلل واضح، فهو مخالف لما في كتب الحديث، ثم أي فرق إذاً بين هذه الرواية والتي قبلها. (2) في الأصل: بغير رضاها. (3) عدم الجواز هو الأصح المعتمد في المذهب. قاله النووي (الروضة: 8/ 4). (4) زيادة من (ت6). (5) في الأصل: كان. (6) في الأصل: بلغه من أمر البدعة والسنة.

والسنة في الطلاق، وبنى الأمر على ظاهر الشرع في أن من ملك تصرفاً، لم يُحْجر عليه فيه، وأشعر بذلك قوله: "أرأيت لو طلقتها ثلاثاً" فأبان له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التطليق في الحيض عصيان. فإن قيل: من أين أخذتم نفي التعصية في المخالعة؟ قلنا: أخذناه من حديث زوجة ثابت في أصل الخلع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالافتداء وأمره بالقبول، ولم (1) يستفصل، وهو يجري افتداء مخلِّصاً ولا يليق بروْم التخليص [والتخلّص] (2) تخير الأوقات، والنظر في تفاصيل الحالات. هذا أصل المذهب. ثم اتفق حملة الشريعة على أن الطلاق -وإن كان محرَّماً (3) - نافذٌ، ولا اكتراث بمخالفة الشيعة في ذلك. فهذا ركن. 8923 - والركن الثاني في المنع من الطلاق في الطهر الذي وقع الوقاع فيه، [والطلاق عريٌّ عن البدل. وذكر القاضي خلافاً في أن الخلع في الطهر الذي جرى الوقاع فيه] (4) هل (5) يحرم؟ والسبب فيه أن تحريم (6) الطلاق في عقد المذهب [يرتبط] (7) بما يفرض من التندّم إن ظهر ولد؛ فإن الإنسان قد يُؤثر طلاق زوجته، وإن كانت أم ولده، لم يطلقها، فيلحقه الندمُ لو طلق (8) ثم تبين الحَبَل، (9 وفي حالة الحيض يرتبط بتطويل العدة 9)، فإذا كان المستند هذا فقد نقول: اختلاعها [في الحيض] (10) يشعر بكمال رضاها؛ فإنها لا تبذل المال إلا على طمأنينة، فيؤثِّر هذا

_ (1) ت 6: ولم يفصل ولم يستفصل. (2) زيادة من (ت 6). (3) ت 6: محترماً. (4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (5) عبارة الأصل: في الطهر الذي وقع الوقاع فيه هذا تحريمٌ والسبب فيه ... (6) ت 6: التحريم. (7) في الأصل: ويرتبط. (8) في الأصل: ولو طلّق. (9) ما بين القوسين سقط من (ت 6). (10) زيادة من (ت 6).

في رضاها بطول العدة، وأما الطلاق في الطهر الذي جرى الوقاع فيه، فمستندٌ إلى أمر الولد، ولا يؤثر رضاها في أمر الولد. وهذا الذي ذكره القاضي غيرُ مرضي؛ فإن التعويل على الندم لأجل الولد ليس بالقوي، وقد أوضحنا فساد ذلك في (الأساليب)، ولولا أن الشرع تعرض للعدة والنهي عن تطويلها، لما عللنا بذلك أيضاً، فالوجه تنزيل الخلع على الخروج عن السنة والبدعة؛ تعويلاً على الحديث، والمعنى الكلي الذي أشرنا إليه. وكان شيخي أبو محمد يحكي عن شيخه القفال أن الأجنبي إذا اختلع المرأة من غير رضاها (1 في زمان الحيض فالخلع محظور؛ فإنه لم يصدر عن رضاها 1). وهذا الذي ذكره متجه حسن (2). ويجوز أن يقال: الخلع كيف فرض [لا يكون بدعياً] (3). وهذا الذي يليق بمذهب الاقتداء، والظاهر ما ذكره القفال؛ فإن المعتمد (4) في إخراج الخلع عن البدعة الحديث، وهو وارد في المرأة التي رامت الاختلاع بنفسها. 8924 - ثم قال الأصحاب: المذهب ينضبط في السنة والبدعة [ونفيهما] (5) من جهتين، فإن أحببنا (6) أخرجنا اللواتي لا يلحقهن سنة ولا بدعة وقلنا: هن خَمْسٌ: [المختلعةُ] (7)؛ للمعنى الذي ذكرنا، وغيرُ المدخول بها؛ فإنه لا عدة عليها، ولا دخول، فيتوقع منه الولد، والحاملُ ليس في طلاقها بدعة؛ فإن عدتها لا تطول،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 6). (2) ما قاله القفال هو الأظهر عند الرافعي، والأصح عند النووي (ر. الشرح الكبير: 8/ 483، والروضة: 8/ 4). (3) في الأصل: ولا يكون بدعاً. (4) ت 6: فإن معتمد المذهب. (5) في الأصل: وتقسيمهما. (6) ت 6: أوجبنا. وهو تحريف لعله مقصود من الناسخ؛ فإنه على علم بما يكتب، ولكنه أبعد النجعة -إن كان قاصداً- فأوجبنا من الإيجاب، أي الإثبات المقابل للنفي، على حين المذكور غير هذا، وقد نص المؤلف في الفقرة التالية على مقابل هذا الضابط، فقال: وإن أثبتنا. (7) سقطت من الأصل.

وإذا كان حملها بيّناً، فالظاهر أن الطلاق يصدر على وجه لا يستعقب ندماً، ولا بدعة في عدة الصغيرة؛ فإنها تعتد بالأشهر، وهي لا تطول ولا تقصر، وكذلك الآيسة لا بدعة في طلاقها. فإن قيل: إن كانت الصغيرة لا يتوقع حبلها، فالآيسة قد يتوقع ذلك منها، وقد ينفتق رحمها ويعود حيضها، فتَعْلَق. قلنا: البناء على ظواهر الظنون، ولو [راجع] (1) الرجل امرأته الآيسة، وكان قد واقعها، فليس فيها مرد متوقع حتى يطلّق عنده. فهذا ضبط اللواتي لا يلحقهن سنة ولا بدعة، والطلاق فيهن لا ينعت بحظر [ولا] (2) بسنة. وإن أردنا الضبط من جانب الإثبات قلنا: البدعة إنما تلحق الحائض الممسوسة في الطلاق العريّ عن البدل والرضا، وتلحق التي جومعت في طهرها، وهي من ذوات الأقراء. ثم الطلاق المحظور البدعي ما يصادِف -على الشرائط المقدَّمة- حيضاً، أو طهراً وقع فيه وقاع، والطلاق السني هو الذي يصادف طهراً عرياً عن الوقاع. هذا هو الأصل المعتبر في الباب. 8925 - [وقد قال الشيخ أبو علي] (3): إذا استدخلت المرأة ماء الزوج، كان ذلك في إثارة البدعة كالجماع؛ فإنه يتعلق به خشية ندامة الولد. ولو أتاها في غير المأتى، وعلم أن الماء لم يسبق إلى الرحم، فهل يثير هذا الوطءُ بدعة؟ فيه تردد، وميل الشيخ إلى أنه لا يثيرها. والظاهر عندنا أخْذُ ذلك من العدّة، وقد ذكرنا أن هذا الوطء هل يتضمن العدة؟

_ (1) في النسختين: "ولو جامع" والمثبت تقديرٌ منا، والمعنى "ولو راجع الرجل امرأته الآيسة، وكان قد واقعها، فليس فيها مردّ متوقع حتى يطلّق عنده" فيكون المعنى: لو أمرناه بمراجعتها لأنه طلقها بعد وقاعها، فما المردّ المنتظر الذي يطلّق عنده. والله أعلم. (2) في الأصل: إلا بسنة. (3) في الأصل: قال أبو علي.

ولو وطىء امرأته في زمان الحيض، ثم مضت بقية الحيض، قال (1): البدعة قائمة حتى تحيض حيضة أخرى بعد الطهر. وهذا فيه احتمال؛ فإن بقية الحيض يدل على عدم العلوق. وقال: المرأة إذا طلبت الفيئة من الزوج المولي بعد المدّة، فلم يفىء، وطلبت الطلاق وهي في زمان الحيض، طلقها الزوج (2) أو القاضي ولا بدعة، وهذا متفق (3) عليه. وإن ذكرنا خلافاً في سؤال الطلاق؛ لأن هذا طلب حق، فكان مخالفاً لسؤالٍ من غير استحقاق. فصل قال: "وأحب أن يطلقها واحدة لتكون له الرجعة ... إلى آخره" (4). 8926 - قال الأئمة: إيقاع الطلاق في الأصل مكروه من غير حاجة، واحتجوا عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وأحبها إليه العتاق" (5) والفقهاء قد يتساهلون في إطلاق الكراهية، وأرباب الأصول

_ (1) "قال: البدعة قائمة" القائل هو الشيخ أبو علي، كما صرح بذلك الرافعي في الشرح الكبير: 8/ 488. هذا. وفي نسخة ت 6: (فإن) بدل (قال). وهو تصحيف مضلّل. (2) ت 6: طلقها الزوج ولا بدعة أو القاضي. (3) قوله: "متفق عليه": هذا فيما إذا طلق القاضي على المولي، أما إذا طلق هو في الحيض فقد قال الرافعي: "وكان يجوز أن يقال: هو بدعي؛ لأنه بالإيذاء والإضرار أحوجها إلى الطلب، وهو غير ملجأ إلى الطلاق، بل هو يتمكن من أن يفيء إليها، والمطلوب أحد الأمرين من الفيئة أو الطلاق؛ فلا ضرورة له إلى الطلاق في الحيض، (ر. الشرح الكبير: 8/ 483) وبمثله قال النووي في الروضة: 8/ 4. (4) ر. المختصر: 4/ 69. (5) حديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" رواه أبو داود: كتاب الطلاق، باب في كراهية الطلاق، ح 2178، ورواه ابن ماجه أيضاً: كتاب الطلاق، ح 2018، بدون زيادة "وأحبها إليه العتاق"، ولكن رواه الدارقطني في سننه بهذه الزيادة، بلفظ: ما خلق الله شيئاً أحب إليه من العتاق، ولا شيئاً أبغض إليه من الطلاق (ر. سنن الدارقطني: 4/ 35 رقم 94) وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 417 ح 1725).

لا يطلقون هذا اللفظ إلا على تثبت، فإن ظهر غرض يستحثّ على الطلاق كمخيلة ريبةٍ واستشعار نشوز، فالكراهية لا تتحقق، وإذا كان لا يهواها وربما لا تسمح نفسه بالتزام مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فلا كراهية في الطلاق والحالةُ هذه. فالكراهية لا يتجه إطلاقها إلا عند زوال الحاجات والأغراضِ التي يُطلِّقُ العقلاء لأجلها، وإن لم يكن غرضٌ ولا حاجة، فلا بأس بإطلاق الكراهية. ثم حيث تُطلق الكراهية، لا نفرق بين [الواحدة] (1) والعدد. وإن ظهر غرضٌ ترتفع الكراهية لأجله، فقد نقول: لا يستحب جمع الطلقات، ويستحب أن يفرقها، ولسنا ننكر أن وضعها في الكتاب والسنة يشعر [بالاستحثاث] (2) على تفريقها؛ حتى لا يلقى الإنسانُ ندماً، ولا ينتهي الأمر إلى [إطلاق] (3) لفظ الكراهية، حيث لا كراهية، في أصل التطليق. 8927 - ومذهب الشافعي أن الجمع بين الطلقتين والثلاث، لا سنة فيه ولا بدعة، وإنما تتعلق السنة والبدعة بالزمانين المذكورين على التفاصيل المقدمة: أحدهما - زمان الحيض. والثاني - الطهر الذي وقع [الوقاع] (4) فيه. وأبو حنيفة (5) يحرم الجمع، كما يحرم التطليق في الحيض وفي الطهر الذي جرى الوقاع فيه، والمسالة مشهورة معه في الخلاف. وقد قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: جمع الطلقات لا معصية فيه. ولكن هل يقال: السنة تفريقها؟ فعلى وجهين، واحتمل كلامه معنيين: أحدهما - التردد في استحباب التفريق حكماً. وأحد الوجهين أن ذلك لا يوصف بالاستحباب، [والأمر] (6) فيه إلى مالك الطلاق، وفي كلامه ما يدل على أن اسم السنة هل يتناول

_ (1) في الأصل: الواحد. (2) زيادة من (ت 6). (3) في الأصل: الطلاق. (4) زيادة من (ت 6). (5) ر. المبسوط: 6/ 4، 7، ورؤوس المسائل: 408 مسالة: 282، والاختيار: 3/ 121. (6) في الأصل: فالأمر.

التفريق؟ فعلى وجهين، ولا شك أن البدعة لا تتناول الجمع عندنا، ومقتضى هذا أنه لو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وزعم أنه نوى التفريق على الأقراء يُصدَّق ظاهراً، وهذا بعيدٌ مخالفٌ للنص والمذهبِ، والسنةُ والبدعةُ يتعاقبان، أما التردد في الاستحباب، فللاحتمال إليه تطرُّقٌ، والظاهر الاستحباب، ومنع لفظ السنة. 8928 - ثم قال الشافعي: "لو طلقها طاهراً بعد جماع، أحببت أن يرتجعها ... إلى آخره" (1). والمراد بذلك أنه إذا طلقها بدعياً في زمان الحيض، فإنا نستحب ونؤثر له أن يرتجعها، والأصل في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم [في قصة ابن عمر] (2)؛ حيث قال: "مُره فليراجعها". وتعليل ذلك أنه إذا طلقها في الحيض، فقد طوّل العدة عليها، وإذا طلقها في طهر جرى الجماع فيه، تعرّض لندامة الولد، فإذا تمادى، ولم يرتجع، كان في حكم من يُديم المعصيةَ مع القدرة على قطعها، وإذا ارتجع، زال ما كنا نحرّم الطلاق لأجله، من تطويل العدة، والتعرض للندامة. وقد ينشأ من هذا الموضع سؤال: بأن يقول قائل: هل توجبون الارتجاع؛ فإن في الارتجاع قطعُ الضرار عنها بتطويل العدة، وكذلك القول في الارتجاع في الطهر الذي جرى الجماع فيه؟ وقد يشهد لوجوب الارتجاع لو صِير إليه ظاهرُ قوله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها". قلنا: أجمع الأصحاب على [أن] (3) الارتجاع لا يجب، ثم أجمعوا على [أن] (4) ترك الارتجاع لا [يلتحق بما] (5) يُقضى بكونه مكروهاً (6)، وأكثر ما أطلقوه في ذلك أنا نستحب أن يرتجعها.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 70. (2) زيادة من (ت 6). (3) زيادة من (ت 6). (4) سقطت من الأصل. (5) زدناها من (ت 6). (6) قال النووي: "في هذا نظر، وينبغي أن يقال: ترك الرجعة مكروه، للحديث الصحيح الوارد فيها، ولدفع الإيذاء". (ر. الروضة: 8/ 5).

فالجواب إذاً عن السؤال أن الارتجاع مقصوده الظاهر تداركُ حقٍّ (1) وجلبُ منفعةٍ، ويبعد المصير إلى وجوبه؛ لينبني عليه انتفاء تطويل العدة، وأصل التطليق محرّم للخبر وللمعنى، فإذا جرى، فلا يبلغ المحذور من الطلاق المحظور مبلغاً يوجب لأجله رجعةً مقصودها في الشرع جلبٌ أو استدراكٌ. 8929 - فإذا ثبت أن الرجعة لا تجب، ولكنها تُستَحَب، فقد قدمنا في صدر الكتاب روايتين وهذا أوان الكلام عليهما: روي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى [تطهر، ثم] (2) تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء". وروى سالم بنُ عبد الله ويونس بنُ جبير ومحمد بن سيرين: ["مره فليراجعها، فإذا طهرت، فإن شاء فليطلقها"] (3) وفي ظاهر الروايتين

_ (1) عبارة ت 6: أن الارتجاع لو وجب ومقصوده الظاهر. تدارك حق أو جلب حق، ويبعد المصير ... (2) هذه الزيادة من متن الحديث في البخاري ومسلم برواية مالك عن نافع عن ابن عمر. فهذا هو الصواب في هذه الرواية، وهو بعينه لفظها الذي ساقه الإمام آنفاً في أول كتاب الطلاق، ولولا أن الإمام ساق هذه الرواية على هذا الوجه من قبل، لأثبتناها كما هي، ولعددناها من الوهم في الحديث، وعلقنا عليها بذلك. (3) في النسختين جاءت رواية سالم ويونس وابن سيرين بهذا النص: "مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر". وما أثبتناه بين المعقفين هو نص رواية من الروايات الواردة عن سالم ويونس وابن سيرين تضاف إلى رواية أخرى أثبتناها في أول الكتاب، وكلها على كثرتها واختلاف لفظها، وما فيها من زيادات تؤدي هذا المعنى. (حاشا رواية واحدة عن الزهري عن سالم، فقد جاءت على نحو رواية نافع). وقد لخص أبو داود قضية هذه الأحاديث فقال: "قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر يونس بنُ جبير، وأنس بن سيرين، وسعيدُ بن جبير، وزيد بن أسلم، وأبو الزبير، ومنصور عن أبي وائل، معناهم كلهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك". ثم قال: "قال أبو داود: وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر، وأما رواية =

تفاوت، وموجب الرواية [الأولى] (1) أنه يراجعها إذا طلقها في الحيض، ثم يمسكها، حتى تنقضي بقية الحيض ثم تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر. وظاهر الرواية [الثانية] (2) فيه تردد؛ فإنه قال: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض" ثم تطهر، فظن بعض الناس أن المراد بقوله: "حتى تحيض" حتى تنقضي بقية الحيض، فإذا طهرت، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها. وكان شيخي أبو محمد يذكر في ذلك وجهين من متن المذهب: أحدهما - أن المستحب ألا يطلقها كما (3) طهرت من بقية الحيض، وهذا هو الذي ذهب إليه

_ = الزهري عن سالم، ونافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك". ثم قال: "قال أبو داود: وروي عن عطاء الخراساني عن الحسن، عن ابن عمر نحوُ رواية نافع والزهري. والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير" ا. هـ بنصه. قلت (عبد العظيم): كان لا بدَّ لنا من تصويب هذه الرواية أيضاً ليتسق الكلام مع تغيير وتصويب الرواية الأولى (رواية نافع) وتستقيم كل ذلك مع صحيح روايات الحديث الموجودة في البخاري ومسلم وأبي داود، وهو متفق أيضاً مع ما أورده إمام الحرمين -من قبل- لصحيح رواية نافع، ولما أشار إليه في نسخة الأصل عن رواية سالم ويونس وابن سيرين. وأما ما جاء هنا من اضطراب وخلل، فهو من خلل النساخ وعجلتهم، وكأني بهم هنا كتبوا نص الروايتين من ذاكرتهم لا من الأصل الذي أمامهم، يرجح ذلك -إن لم يؤكده- أن إمام الحرمين ساق الروايتين على وجههما الصحيح -من قبلُ- في نسخة الأصل، مع أنها من النسخ السقيمة. والله وحده الأعلم بما كان. ثم أقول: تعليقُ أبي داود في سننه على الأحاديث يوحي إلينا أن إمام الحرمين كان علم بهذا التعليق، مما يغلب على الظن أنه كان يراجع سنن أبي داود، وأن سنن أبي داود هي ما كان يعنيه حينما يكرر قوله: "وفي الكتاب الذي يرجع إليه في الأحاديث" فهل أنا على صواب؟ (راجع إن شئت البخاري، ومسلم وسنن أبي داود في المواضع والأرقام التي أشرنا عند رواية مالك عن نافع عن ابن عمر في أول كتاب الطلاق). (1) في النسختين (الثانية). (2) في النسختين (الأولى) وسوغّ لنا هذا التغيير، ما كان قبلُ من تصحيح الروايات. (3) كما: بمعنى (عندما).

الجمهور، والسبب فيه أنه لو طلقها كما طهرت، لكانت الرجعة مقصودة لأجل الطلاق، حتى كأنه (1) ارتجعها ليطلقها، وهذا لا يليق بمحاسن الشرع في آداب العشرة بين الزوجين في الدوام والفراق. نعم، إذا تركها على حكم النكاح طهراً كاملاً، ثم حاضت، ثم طهرت، فنحمل مضي الطهر الأول على إمساكها في زمان الاستمتاع. 8930 - ومن أصحابنا من قال: [لا بأس] (2) لو طلقها في الطهر الأول؛ فإن الرجعة قطعت أثر الطلاق البدعي، وأزالت تطويل العدة، فإذا طلقها كما (3) طهرت، فهذا الطهر محسوبٌ، وليس فيه ندامةُ ولدٍ. ثم على هذين الوجهين يُخَرَّج تنزيل رواية ابن عمر، فإن قلنا: لا بأس لو طلقها كما طهرت، فقوله: حتى تحيض ثم تطهر محمول على انقضاءِ الحيض (4 واستفتاح الطهر. وإن جرينا على الوجه الأصح، فقوله حتى تحيض 4) محمول على حيضة مستأنفة بعد طهر، وهذا ظاهر اللفظ؛ فإنَّ حَمْل الأفعال والأحوال مع صيغة الشرط على استفتاح الأمور في الاستقبال أظهر من حملها على انقضاء ما به الملابسة. فإن فرعنا على الوجه الظاهر، فقد ذكر الأئمة وجهين في أنا هل نؤثر وهل نستحب للزوج أن يجامعها في الطهر الأول؟ فقال قائلون: لا يُطْلَقُ في هذا الاستحبابُ، والأمر إلى الزوج. وقال آخرون: يستحب ما ذكرناه إذا لم يكن عذر؛ فإنه إذا لم يواقعها، كان تربّصه في الطهر والحيضة بعده محمولاً على أن يطلقها في الطهر الثاني، وقد بنينا الأمر بالرجعة على خلاف هذا. ولو طلقها في الحيض، وراجعها في الحيض، وأصابها في زمان الحيض، ثم طهرت، والتفريع على أنا نؤثر للزوج أن يطلّق في الطهر الثاني، فذلك الأمر مستدام، ولا حكم للوطء الذي جرى في زمان الحيض؛ فإنه وطء محظور منهي عنه، فلا يتعلق

_ (1) (ت 6) حتى أنه. (2) زيادة من (ت 6). (3) كما: بمعنى (عندما) وستأتي بهذا المعنى من نفس الموضع. (4) ما بين القوسين سقط من (ت 6).

به غرض مطلوب في الشريعة فوجودُه كعدمه، وإنما ذكرنا هذا حتى لا يظن ظان أنه إذا راجعها ووطئها في الحيض، فقد أخرج الرجعة عن أن تكون لأجل الطلاق. ولو طلق امرأته في طهرٍ جامعها فيه، ثم راجعها، كما ذكرناه (1)، فلا شك أنه لا يطلقها، ولو طلقها، لكان الطلاق بدعياً؛ لأنه وقع في طهر جرى فيه وقاع، فإذا حاضت، ثم طهرت، فله أن يطلقها الآن، ولا يشترط في إقامة الأَوْلى والمستحبِّ أكثرُ من ذلك. ولو طلق [امرأته] (2) في طهر جامعها فيه، ثم راجعها في الحيض، والتفريع على الأصح؛ فإنه لا يطلقها في الطهر الذي يلي هذا؛ لأن الرجعة تكون لأجل الطلاق. ولو طلقها في طهر لم يجامعها فيه، ولم يكن الطلاق بدعياً، غير أنه راجعها في الحيض، حكى القاضي عن الأصحاب أنهم قالوا: لا نستحب له أن يطلقها إذا طهرت؛ فإنه لو طلقها كما (3) طهرت -وقد راجعها في الحيض- لكانت الرجعة لأجل الطلاق، ثم قال: والذي عندي أنه لا بأس عليه لو طلقها كما طهرت؛ لأن الطلاق الأول لم يكن بدعياً في الأصل، ونحن إنما نأمر بالرجعة، ثم بالإمساك على التفصيل المذكور إذا كان الطلاق الواقع بدعياً، وهذا الذي اختاره القاضي هو المذهب الذي لا يُعْرَف غيره، ولم أر حكاية غيره لغير القاضي (4). فهذا تفصيل القول في استحباب الرجعة والإمساك بعدها، وما يتعلق به من خلاف ووفاق. فرع: 8931 - إذا قال الرجل لامرأته التي هي بمحل السنة والبدعة: أنت طالق مع آخر جزء من حيضك، فمعلوم أن الطلاق ينطبق على الجزء الأخير، وذلك الجزء

_ (1) ت 6: أمرناه. (2) زيادة من (ت 6). (3) كما: بمعنى عندما، وهو استعمال قال عنه النووي: إنه غير صحيح وغير عربي، وقد نبهنا على ذلك مراراً. (4) الأمر كما قال إمام الحرمين، المذهب ما اختاره القاضي، لا ما حكاه، وقد وصف النووي هذا الوجه الذي حكاه القاضي بالضعف (ر. الروضة: 8/ 8).

لا يكون من العدة، وهي تستفتح طهراً معتداً به؛ فليس في هذا التطليق تطويل العدة عليها؛ فاختلف أصحابنا فيه: فذهب القياسون إلى أن الطلاق لا يكون بدعياً؛ لأنه ليس فيه تطويل عدة، ولا ندامة ولد، وذهب آخرون إلى أن الطلاق بدعي؛ لمصادفته الحيض، وهذا القائل يعتضد بالرجوع إلى التوقيف والتعبد، ويهون عليه تضعيفُ طريقِ الرأي والتعويلِ على المعنى؛ لما نبهنا عليه قبلُ وقررناه في المسائل. ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فللشافعي قول: إن الانتقال من الطهر إلى الحيض قرءٌ معتد به. فإن فرعنا على هذا، فالطلاق سنّي لمصادفته الطهر، وإفضائه إلى تقصير العدة. وإن قلنا: لا يعتد بذلك قرءاً، فللأصحاب وجهان: أقيسهما - أن الطلاق بدعي؛ لأنها تستقبل حيضة كاملة لا يعتد بها، وإذا كنا نجعل الطلاق في أثناء الحيض بدعياً؛ لأن بقية الحيض غيرُ معتد بها، فلأن نقول: الطلاق بدعي إذا استقبلت حيضة لا اعتداد بها أولى. وذهب بعض أصحابنا إلى أن الطلاق سني؛ لمصادفته الطهر الذي لم يجرِ فيه جماع، وهذا القائل يلتفت على التعبد واتباع التوقيف، كما تقدم شرحه. فصل قال: "وإن كانت في طهر بعد جماعٍ ... إلى آخره" (1). 8932 - هذا الفصل مُصدَّر بقُطبٍ يتعلق بمقتضى الألفاظ، فنقول: الطلاق يُنجَّز ويُعلّق، ثم تعليقه تارة يكون على صيغة الشرط، وتارة يكون على صيغة التأقيت، وهما جميعاً معدودان من التعليق. فأما الشرط، فهو الذي يتعلّق بما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون، مثل أن يقول لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فهذا شرط محقق، وأما التأقيت، فمثل قول الزوج: إذا استهل الهلال، فأنت طالق، فهذا تأقيتٌ وليس شرطاً؛ فإن الشرط هو الذي [لا يُقطع] (2) بوقوعه، والتأقيت مبني على

_ (1) ر. المختصر: 4/ 70. (2) في الأصل: لا يقع.

القطع في المتعلَّق، وعن هذا قال سيبويه: "إذا قال القائل: إذا قامت القيامة كان (1) كذا وكذا: فهذا إيمان بالقيامة (2)، وإذا قال: إن قامت، فهذا تردد في التصديق بها". وعن هذا قال أئمة اللسان: قول القائل: إن طلع الفجر، فأنت (3 طالق، كلامٌ معدول عن الوجه المستحسن، فإن الفجر يطلع لا محالة، وإذا قال: إذا 3) طلع الفجر، فأنت طالق، فهذا هو النظم الجاري في كلام الفصحاء. وقد يجري الطلاق معللاً بعلة، فحكم الطلاق أن يتنجّز، ثبتت (4) تلك العلة أو انتفت، وبيانه أنه لو قال: أنت طالق لرضا فلانٍ، [وزعم] (5) أنه أراد تعليل إيقاع الطلاق بالرضا، فالطلاق ناجزٌ رضي ذلك الشخص أو سخط، وذلك أن المعلِّل ليس يعلِّل (6) الطلاق بالعلة، وإنما يُنجِّز الطلاق ثم يبتدىء، فيعلل تنجيزَه بسبب، فالتعليل كلام مبتدأ لا ينشأ ليرتبط الطلاق به وجوداَّ وعدماً. وسنذكر مسائل هذا الأصل، إن شاء الله عز وجل. 8933 - ثم نقول بعد هذا: استعمال اللام في الأوقات محمول على التأقيت بالاتفاق، وبيانه أنه إذا قال: أنت طالق لهلال رمضان، فهو بمثابة قوله: إذا استهل هلال رمضان، فأنت طالق؛ والسبب فيه أن اللام مستعملة مع الأوقات للتأقيت بها، وهذا شائع في لغة الفصحاء، وهي أظهر من قول القائل: إذا استهل الهلال، فأنت طالق، وينضم إلى ذلك أن تخيّل التعليل بالأوقات بعيد عن الوهم؛ فإن التعليل إنما

_ (1) في الأصل: وكان كذا وكذا. (2) لأن (إذا) معناها التحقيق، فمن قال: "إذا قامت القيامة كان كذا وكذا"، معناه أنه متحقق من القيامة مؤمن معتقدٌ بمجيئها. لكن لو قال: "إن قامت القيامة، كان كذا وكذا" فقد جعل القيامة موضع التردد، لأن وضع (إن) في اللغة للتردد في الشرط. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 6). (4) الورقة رقم 133 (ي، ش) مكررة. (5) في الأصل: فزعم. (6) ت 6: يعلق.

يقع بمثل السخط والرضا، و [ما في] (1) معناهما، فأنتج [مجموع] (2) ما ذكرناه أن اللام مع الوقت تأقيت. 8934 - وإذا قال الرجل لامرأته التي تعتورها حالةُ السنة والبدعة: أنت طالق للسُّنة، نُظر: فإن كانت في زمان سُنَّة، وهو طهر لم يجامعها فيه، انتجز الطلاق في الحال، وهو بمثابة ما لو قال عند الاستهلال: أنت طالق لهلال رمضان، فيقع الطلاق مع الهلال. وإذا قال لامرأته في زمان الحيض: أنت طالق للسُّنة، لم تطلق في الحال حتى تطهر، ثم تُطلَّق، فتحمل اللام على التأقيت بوقت السنة، كما قدمنا ذلك في إضافة اللام إلى الأوقات؛ والسبب فيه أن اعتوار زماني السنة والبدعة على المرأة يُظهر قصدَ التأقيت من اللام. وكذلك لو قال لها: أنت طالق للبدعة، وكانت في زمان الحيض، أو كانت في طهر جامعها الزوج فيه، فالطلاق ينتجز، ولو قال لها وهي في طهرٍ لم يجامعها فيه: أنت طالق للبدعة، لم ينتجز الطلاق، حتى تصير إلى زمان البدعة، فإن لم يجامعها، فحاضت، طُلِّقت، وإن جامعها في ذلك الطهر، فقد انتهت إلى زمان البدعة، فتطلق أيضاً، كما سنفصل هذا في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. والغرض الآن أن نبين أن قول الزوج: أنت طالق للسنة وللبدعة محمول على التأقيت، لا على التعليل. 8934/م- ولو قال [لامرأة] (3) لا يتصور فيها سنة ولا بدعة: من النسوة الخمس اللواتي قدمنا ذكرهن: أنت طالق للسنة، انتجزت الطلقة في الحال. وكذلك لو قال لها: أنت طالق للبدعة، انتجزت الطلقة، ولم نرتقب فيها المصير إلى حالة السنة والبدعة، وبيان ذلك بالتصوير أنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق للسنة أو للبدعة، فلا يحمل الأمر على تقدير دخول ومصيرٍ [بعده] (4) إلى التعرض لطوارىء السنة

_ (1) زيادة من (ت 6). (2) في الأصل: مجموعه. (3) في الأصل: لامرأته. (4) في الأصل: فعده.

والبدعة، وإن لم يكن هذا بعيداً عن التوقّع والانتظار. وقد نص العراقيون على أنه إذا قال لها: إذا صرت من أهل السنة، فأنت طالق، ولم يكن مدخولاً بها، فالطلاق لا ينتجز، بل يرقب الدخولَ، والمصيرَ إلى حالة السنة. فإن قيل: إذا كان هذا غيرَ بعيد عن التوقع، فهلا حملتم قولَ الزوج عليه؟ قلنا: حمل السنة والبدعة على الوقت إنما يظهر في التي تتصدّى لهما، وتتعرض لاعتوارهما [عليها] (1)، فيصيران في [حقها] (2) كاعتقاب الجديدين (3)، وتوالي الليل والنهار، فيستبق إلى الفهم والحالة هذه إرادة الوقت، واللامُ في وضعها للتعليل، وإنما تستعمل في الوقت إذا قُرنت بذكر الوقت أو قرنت بما يمرّ ويجري جريان الوقت، وإلا فالسنة والبدعة لفظتان مستعملتان في الشرع، لا جريان لهما في اللغة، وإنما استعملتا شرعاً على الخصوص، فلا يُعدَّى بهما موضعهما، ولا تحمل اللام في حق من يعتورها السنة والبدعة على التأقيت، وصرح الأئمة لفظاً [وفحوى] (4) بما يدل على أن من قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق للسنة، فلا يقبل ذلك منه ظاهراً، بل يديّن باطناً، كما سنذكره في باب أصل التديين؛ وإنما لم نقبل ما ذكره باطناً لظهور اللام في التعليل، وانعدام القرينة في اقتضاءِ التأقيت. 8935 - ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق لوقت السُّنّة، فهذا فيه تردد عندي؛ من حيث صرح بالوقت: يجوز أن يقال: قوله لوقت السنة، كقوله للسنة، ويجوز أن يقال: إن فسر لفظه بمصيرها إلى حالة السنة يقبل ذلك منه، ويجوز أن يقال: إن فسره بالطهر، وفسر وقت البدعة بالحيض، وإن لم يكن دخول قبل ذلك منه، ولو أطلق اللفظ، وزعم أنه لم يكن له نية، فالظاهر وقوع الطلاق. فليتأمل الناظر المسالة؛ فإنها محتملة.

_ (1) في الأصل: عليه. (2) في الأصل: حقه. (3) الجديدان: هما الليل والنهار، فالجملة مترادفة مع ما بعدها. (4) في الأصل: ونجوى.

8936 - ولو قال لامرأته: أنت طالق لرضا فلان، فإن زعم أنه أراد بما قال تعليلاً، وقع الطلاق ناجزاً، سواء رضي فلان أم سخط، على ما قررناه في أصل التعليل. ولو أطلق لفظه، وزعم أنه لم يرد تعليلاً، ولا تأقيتاً، انتجز الطلاق؛ فإن صيغة اللفظ تقتضي تنجيزها، ولم يظهر ما يدفع التنجيز. ولو زعم أنه أراد التعليق بوقت رضا زيد، فهذا مقبول باطناً إن صُدِّق، فهل (1) يقبل ذلك منه ظاهراً؟ فعلى وجهين، ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أنه لا يقبل منه؛ فإن الرضا ليس مما يؤقت به، وهو مما يعلل به، فكان التعليلُ أظهرَ، وإذا غلب التعليل، كان موجبه انتجاز الطلاق. والوجه الثاني - أن ما قاله مقبول [ظاهراً] (2)؛ فإنه مُحْتَمَل غيرُ بعيد، فإذا (3) لم يَبْعُد ما قال، صُدِّق، وسيأتي ضبط هذه الأبواب -إن شاء الله عز وجل- على ما ينبغي. ثم قال الصيدلاني: إذا قال: أنت طالق لقدوم فلان، فمطلق هذا محمول على التأقيت؛ فإنه يَظهر التأقيت بالقدوم، ويبعد التعليل به، بخلاف الرضا. ثم ينتظم من هذه الجملة أن اللام مع الوقت تأقيت، وهو (4) مع الرضا وما في معناه مما يُتخيل التعليل به [تعليلٌ] (5) في الإطلاق. وإن أريد به [التأقيت] (6) صُدق المرء باطناً، وهل يصدق ظاهراً، فعلى وجهين. وما يظهر التأقيت به ينقسم إلى ما يتكرر بتكرر الزمان كالسُّنّة والبدعة، وإلى ما لا (7) يتكرر تكرر الأزمان، [كقدوم زيد.

_ (1) ت 6: وهل. (2) زيادة من (ت 6). (3) ت 6: وإذا. (4) وهو: أي حرف اللام. (5) زيادة من (ت 6). (6) في الأصل: التعليل. (7) ت 6: وإلى ما يتكرر.

فأما ما يتكرر تكرر الأزمان] (1) وَيَكُرّ كُرورَها، فمطلق اللام فيه للتأقيت، كقول الرجل للمرأة (2) التي هي [بصدد] (3) السُّنة والبدعة: [أنت طالق للسُّنّة أو للبدعة] (4) هذا للتأقيت كما ذكرناه. وأما ما يظهر فيه قصد التأقيت ولا يكرّ كرورَ الزمان، كقول القائل: أنت طالق لقدوم زيد، وزيدٌ غير قادم، وإنما يُنتظر قدومُه، فالذي قطع به الصيدلاني أن مطلق ذلك تأقيت، ولم أر في الطرق ما يخالف هذا، وهو متجِهٌ، فلا [مزيد] (3) عليه. ولو قال لامرأته: أنت طالق لدخول الدار، فالظاهر أن مطلق هذا محمول على التعليل، وإن زعم أنه أراد بذلك تأقيتاً، فهو قريب من قوله: أنت طالق لرضا فلان مع زعمه أنه أراد بذلك تأقيتاً وتعليقاً بوقت الرضا، ومعنى التعليق في الرضا قد يغلب وإن أمكن أن يُتخيل في دخول الدار؛ فالوجه ألا يُفرّق بين البابين. هذا [هو] (6) الضبط في استعمال اللام فيما نحن فيه من السنة والبدعة، وفيما في معناه. 8937 - وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أنه إذا قال للتي لا سنة فيها ولا بدعة: أنت طالق للسنة، انتجز الطلاق للسنة، كما ذكره الأصحاب. ولو قال: أنت طالق للبدعة، فالمذهب أن الطلاق ينتجز، كما ذكرناه عن الأصحاب، وحكى عن الأصحاب وجهاً: أنا ننتظر مصيرها إلى حالة البدعة؛ فإن طلاق السُّنَّة يمكن حمله على ما يسوغ، وأما طلاق البدعة، فلا مساغ له إذا لم تكن المرأة من أهل البدعة.

_ (1) زيادة من (ت 6). (2) ت 6: لامرأته. (3) في الأصل: مصدر. (4) زيادة من (ت 6). (5) في الأصل: يزيد. (6) مزيدة من (ت 6).

قال الشيخ: والصحيح وما عليه الأئمة أنه يقع الطلاق في الموضعين سواء [وصف] (1) الطلاق بالسنة أو البدعة. 8938 - ثم نعود إلى تفصيل الطلاق [السني والبدعي في حق التي يُتصور في حقها السنة والبدعة] (2): [فإذا] (3) قال لامرأته وهي في طهر [لم] (4) يجامعها فيه: أنت طالق للسنة، وقع الطلاق، فانطبق انتجازه على وقت السنة، وإن كانت في حالة الحيض، لم تطلق حتى ينقضي حيضها وتشرع في الطهر، فإذا شرعت فيه، وقع الطلاق مع أول جزء من الطهر، ولا يتوقف وقوعه على أن تغتسل، خلافاً لأبي حنيفة (5)، ولا فرق عندنا بين أن يكون حيضتها منقطعة على أكثر الحيض أو على أقله أو أغلبه. ولو قال [لها] (6): أنت طالق للبدعة. فإن كانت في حالة البدعة، وقع في الحال، وإلا فحتى تصير إلى حالة البدعة: فلو كانت في طهر لم يجامعها فيه، وقد قال لها: أنت طالق للبدعة، فإن كان خلاّها ولم يجامعها حتى حاضت، طلقت مع أول جزءٍ من الحيض. وإن كان قال لها [ذلك] (7) وهي في طهر لم يجامعها فيه، فلو جامعها في هذا الطهر قبل أن تحيض، وقع الطلاق كما (8) غيب الحشفة؛ فإنها انتهت إلى وقت البدعة.

_ (1) في الأصل: سواء خلف الطلاق. (2) عبارة الأصل: إلى تفصيل الطلاق والسني والبدعي في حق الذي يُتصور في حقه السنة والبدعة (3) في الأصل: وإذا. (4) زيادة من (ت 6). (5) ر. البدائع: 3/ 91. (6) مزيدة من (ت 6). (7) في الأصل: قال لها إذ ذاك. (8) كما: بمعنى عندما.

8939 - ثم الكلام مفروض فيه إذا كان الطلاق المعلَّق رجعياً، [فينظر] (1): فإن أَخْرجَ ثم أولج، فالحد لا يجب؛ لأنها رجعية، والمهر سيأتي مفصلاً في كتاب الرجعة. وعقد المذهب فيه أنه إذا وطىء الرجعية وتركها حتى انسرحت، التزم مهر مثلها. وإن راجعها، ففي المسالة وجهان. هذا ظاهر المذهب وأصله، وسيأتي ذلك مشروحاً في كتاب الرجعة، إن شاء الله عز وجل. كذلك إذا غيب الحشفة ووقع الطلاق، ثم نزع وأعاد فأولج، فهذا جماع مستحدث صادف رجعية. ولو أولج الحشفة أول مرة، وحكمنا بوقوع الطلاق، فمكث أو تمم الإيلاج، فلا شك أن الحد لا يجب؛ لأنه مخالطٌ رجعية، فأما المهر، فقد سكت الشافعي عن ذكر وجوب المهر هاهنا، ونص على أنه إذا أصبح المكلف مجامعاً في نهار رمضان ولم ينزع، تلزمه الكفارة، والنصان في ظاهر الأمر مختلفان: قول الشافعي هاهنا يدل على أن المكث والاستدامة لا يكون بمثابة النزع والإعادة، ونص الشافعي في الصيام مصرح بأن الاستدامة بمثابة ابتداء الجماع. وقد ذكر القاضي هاهنا طريقين للأصحاب: قال: منهم من قال: في المهر والكفارة قولان: أحدهما - أنهما يجبان تنزيلاً للاستدامة منزلة الابتداء. والثاني - (2) لا تجب الكفارة ولا المهر. توجيه القولين: من لم يوجبهما قال: الجماع واحد، فلا ينقسم حكمه، ولم يتعلق بأوله كفارة، [ولا مهر] (3)، فلا يتعلق بالدوام ما لم يتعلق بالابتداء ومن قال بالقول الثاني (4) قال: صورة الجماع موجودة بعد وقوع الطلاق وطلوع

_ (1) في الأصل: منظر. (2) في (ت 6): "ومنهم من قال:". (3) في الأصل: فلا مهر. (4) في الكلام ما يسميه علماء البلاغة (اللّفّ والنشر) فالقول الذي ذكره باسم (الثاني) هو (الأول).

الفجر. قال القاضي: ومن أصحابنا (1) من لم يوجب المهر هاهنا وأوجب الكفارة وأقر النصين على ظواهرهما، وفرق بأن قال: الزوج إذا وطىء زوجته وقع الطلاق بأول وطءٍ، وهذا الوطء قد تعلق به المهر؛ من جهة أن مهر النكاح يشمل على الوطآت كلها، فوقع الاكتفاء باشتمال ذلك المهر على هذه الوطأة [والوطأة] (2) الواحدة لا يتعلق بها مهران. والوطء في حكم الكفارة ليس في هذا المعنى؛ فإنه لم يتعلق بأوّله كفارة، وقد وجدت صورته في وقت العبادة ومن أصلنا أن الجماع المانع من الصيام كالجماع القاطع للصيام، فهذا وجه الفرق. وما ذكره القاضي من تخريج [نفي] (3) الكفارة غريب في النقل، وإن كان متجهاً. وما ذكرناه في المهر فيه إذا استدام الوطء، ووقع التصوير فيه إذا كنا نوجب المهر عند النزع والإعادة، ثم نتردد في أن الاستدامة هل تكون بمثابة النزع (4) والإعادة. ولو أصبح وهو مخالط أهله، ثم قرن بأول الإصباح النزعَ، فلا كفارة، ولا [فطر] (5) كما قدمناه في كتاب الصيام. ولو وقع الطلاق في الصورة التي نحن فيها، وكما (6) وقع، نزع ولم يعرّج (7)، فالأصحاب متفقون على أن المهر لا يجب؛ لأن النزع انكفاف عن العمل، ولا يتعلق بالانكفاف عن العمل ما يتعلق بالإقدام عليه. 8940 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو قال لامرأته في الطهر الذي لم يجامعها فيه: أنت طالق ثلاثاً للبدعة، ثم جامعها، فكما غابت الحشفة طلقت ثلاثاً، ثم ننظر: فإن أخرج ثم أولج، فهذا إيلاج بعد وقوع [الثلاث،] (8) وهو موجب للحد مع العلم

_ (1) هذا هو الطريق الثاني. (2) زيادة من (ت 6). (3) زيادة من (ت 6). (4) ت 6: الشرع. (5) في الأصل: ولا نظر. (6) وكما وقع: وعندما وقع الوطء. (7) ولم يعرّج: أي لم يستمر في المخالطة. من عرّج بالمكان إذا نزل به وأقام (المعجم). (8) في الأصل: الطلاق.

بحقيقة الحال، وإن مكث أو تمم الإيلاج مع العلم بوقوع الطلاق، فظاهر المذهب أنه لا حد عليهما؛ فإن الوطأة لا يتبعض حكمها، والحد لم يتعلق بأول هذه الوطأة، فلا يتعلق بدوامها. وذهب بعض أصحابنا إلى إيجاب الحد؛ فإن صورة الوطء ثابتة مع القطع بالتحريم. ولو غيّب الحشفة واستدام، وتمم الإيلاج كما صورنا، فإن أوجبنا الحد، لم يجب المهر، وإن لم نوجب الحد، فالمهر على الخلاف الذي تقدم. ولو وقع الثلاث بالتغييب، كما صورنا، ونزع كما (1) وقع، فلا حد ولا مهر، لما ذكرناه من أن الانكفاف عن الفعل لا يحل محل الإقدام عليه. ولو قال لامرأته وهي في زمان البدعة: أنت طالق للسُّنّة في هذا الوقت، وأشار إلى وقت البدعة وقع الطلاق، ولغا [التقييد] (2) بالسنة؛ لأن الإشارة أغلب في هذا المقام من العبارة. فهذا تفصيل القول وترتيبه في ذكر السُّنة والبدعة. فصل قال: "ولو كان قال في كل قرءٍ واحدة ... إلى آخره" (3). 8941 - قد ذكرنا من أصل الشافعي رضي الله عنه أنه ليس في [جمع] (4) الطلقات وتفريقها سُنَّة ولا بدعة، ونقول على موجب هذا: إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وكانت في زمان السُّنّة ولفظُه [مطلق] (5)، فالطلاق (6) الثلاث ينتجز في الحال، وكذلك لو كانت في زمان البدعة، فقال: أنت طالق ثلاثاً للبدعة، فلا أثر

_ (1) كما: عندما. (2) في الأصل: التقبيل. (3) ر. المختصر: 4/ 70. (4) في الأصل: جميع. (5) في الأصل: طلق. (6) ت 6: فالطلقات تتنجز.

لذكر البدعة في الثلاث، كما لا أثر (1) لذكر السنة، واللفظ مطلق. ولو زعم أنه أراد بقوله: أنت طالق ثلاثاً للسنّة تفريقَ ثلاث طلقات على ثلاثة أقراء فهل يقبل ذلك منه ظاهراً أم باطناً؟ وكيف التفصيل فيه؟ هذا سنذكره في آخر الفصل مع إمكان البيان في التديين، إن شاء الله تعالى. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً في كل [قُرء] (2) طلقة، فالقرء في قاعدة المذهب عند الشافعي طهر بين حيضتين، هذا هو الأصل. فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء واحدة، فلا تخلو المرأة إما أن تكون مدخولاً بها أو تكون غير مدخول بها. فإن لم تكن مدخولاً بها، وكانت من ذوات الحيض، نظر: فإن كانت في حال الطهر، وقعت عليها طلقة، وبانت. وإن كانت في حالة الحيض، لم يقع في الحال شيء؛ فإن اسم القرء لا ينطلق على الحيض عند الشافعي، فإذا انقطع دمُها، وشرعت في الطهر، وقعت الطلقة وبانت، وإن تركها، لم يَلْحَقْها إلا تلك الطلقة. وإن نكحها (3) وشرعت في الطهر الثاني، ففي لحوق الطلاق في النكاح [الثاني] (4) بعد تخلل البينونة قولا حِنث اليمين، وقد استقصينا ذكرهما. ولو لم يجدد النكاح حتى مضت الأقراء المتوالية، ثم نكحها، لم تطلّق؛ لأن السبب المحنِّث قد جرى في حالة البينونة، ولم يتعلق الحنث به، فانحلّت اليمين، وقد استقصينا هذا الطرف فيما تقدم متصلاً بالكلام في عَوْد الحِنث. هذا إذا لم تكن مدخولاً بها. 8942 - فأما إذا كانت مدخولاً بها، فلا يخلو: إما أن تكون حائلاً أو حاملاً، [فإن كانت حائلاً] (5) وهي من ذوات الأقراء، وقال الزوج ما قال وهي في حالة الطهر،

_ (1) ت 6: يؤثر. (2) في الأصل: فرق. (3) أي بعقدٍ جديد، فهي غير مدخولٍ بها، فلا عدة عليها. (4) في الأصل: البين. (5) زيادة من (ت 6).

فتلحقها طلقة رجعية، ثم إذا طهرت ثانياً، لحقتها طلقة أخرى، فإذا طهرت ثالثاً، وقعت الطلقة الثالثة. ثم الطلقةُ الثانية والثالثة لحقتا وهي في حالة الرجعة، ووقوع الطلاق على الرجعية هل يقتضي عدة (1) مستأنفة؟ هذا مما قدمنا اختلاف القول فيه، وأحلنا استقصاءه على كتاب العدة، فلا معنى للخوض فيه. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت حائلاً. 8943 - فأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو: إما إن كانت ترى الدم، أو كانت لا ترى الدم: إن كانت لا ترى الدم: [وقد] (2) قال الزوج: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة، فتلحقها طلقة في حالة الحمل لا محالة، وهذا مما يجب التثبت فيه. وقد ذكرنا أن القرء عبارة عن حال احتباس الدم بين حيضتين، والحامل تكون كذلك؛ فإن الحيضة تحتبس في زمان الحمل، وحكم الحامل كحكم الحائل في طهر يتطاول زمانه، ثم إذا وضعت الحملَ، انقضت العدة، وبانت، فإذا طهرت من النفاس، لم يلحقها الطلاق الثاني؛ لأنها بائنة؛ فإن نكحها في مدة النفاس، ثم طهرت [من] (3) النفاس في النكاح الثاني، فيعود اختلاف القول جديداً وقديماً في عَوْد الحِنْث. ولا معنى لتكرير الصورة بعد وضوح المقصود. ولو راجعها في زمان الحمل قبل الوضع، فإذا طهرت من النفاس، لحقها طلقة أخرى؛ فإن النكاح لم يتعدد، وإذا لحقها هذه الطلقة، استأنفت العدة قولاً واحداً؛ لأن انقضاء العدة يتعلق بوضع الحمل، وهو إن ارتجعها قبل الوضع، فقد مضى بعد الرجعة ما يتعلق به انقضاء العدة لولا الرجعة، فلا وجه لتخيّل بناء القرء على وضع الحمل، وهذا موضع رمزٍ وعقد جُمل في العِدد، واستقصاءُ الكلام فيها محالٌ على كتاب العدة.

_ (1) ت 6: استنئاف عدة. (2) في الأصل: فقد. (3) في الأصل: في.

8944 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الحامل لا ترى دماً، فأما إذا كانت ترى دماً [على] (1) ترتيب الأدوار ونظمها، فقد اختلف قول الشافعي في أن دم (2) الحامل على الترتيب المنتظم هل يكون حيضاًً أم لا؟ فإن قلنا: إنه دم فسادٍ، فلا حكم له، وهو كما لو قال: لو لم (3) تَرَ دماً، وقد تقدم التفصيل. فإن حكمنا بأن ما تراه دمُ حيض فإذا كان قال: "أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة"، وكانت الحامل في حالة الحيض، لم يقع الطلاق؛ لأن القرء عبارة عن طهر محصور بين حيضتين، وهذه الحامل لها حيض وطهر. وإن قال لها ذلك وهي في زمان الطهر، فيقع لتحقق اسم القرء، وهل يتكرر الطلقات الثلاث بتكرر الأقراء عليها وهي حامل؟ فعلى وجهين: أقيسهما (4) - أنه يتكرر؛ لأنا إذا أثبتنا الحيض والطهر، وحققنا اسم القرء، فيجب على موجب ذلك أن يتكرر الطلاق بتكرر الأقراء. الوجه الثاني - أنه لا يتكرر؛ لأن الطلاق إنما يتكرر إذا كان الطهر محتوشاً بدمين دالّين على براءة الرحم، [وهذا] (5) المعنى لا يتحقق في هذه الأطهار، وأما الطلقة الأولى، [فإنا] (6) حكمنا بوقوعها كما نحكم بوقوع الطلاق إذا كانت لا ترى دماً، ولكنا توقفنا في وقوع الطلاق، ولم نوقعه وهي حائض. ثم قال الأصحاب: من حيث إنه يوجد طهر محتوش بدمين يختص وقوع الطلاق به، ومن حيث إن الدمين لا يدلاّن على براءة الرحم قلنا: لا يتكرر وقوع الطلاق بتكرره، وهذا وإن كان ظاهراً في الحكاية (7)، فالقياس ما تقدم؛ فإن الطلاق إنما يتحقق بتحقق الاسم، واسم الأقراء يتكرر، والزوج لم يعلّق الطلاق بأقراء دالة على

_ (1) مزيدة من (ت 6). (2) ت 6: في أن ما تراه الحامل على الترتيب المنتظم. (3) ت 6: كما إذا لم تر دماً. (4) ت 6: أحدهما - وهو الأقيس. (5) في الأصل: هذا (بدون الواو). (6) في الأصل: فإن. (7) وهذا هو الذي قال عنه الرافعي: "إنه الأصح"، ولم يتكلم على موافقة الأول للقياس. (ر. الشرح الكبير: 8/ 500).

براءة الرحم، فلا معنى لاعتبار البراءة في هذا المقام. وكل ما ذكرناه إذا قال لامرأته وهي من ذوات الأقراء: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة. 8945 - فإذا قال لامرأته- ولم تحض قط: أنت طالق ثلاثاً في كل قرءٍ واحدة، فالذي عليه الأصحاب أنا لا نحكم بوقوع الطلاق في الحال، ولكن إذا حاضت هل نتبين أن الطلاق وقع عليها باللفظ السابق؟ فعلى وجهين مبنيين على أنها إذا رأت الدم في خلال العدة بالشهور، فهل نحتسب ما مضى قرءاً؟ فيه قولان (1) مبنيان على أن القرء عبارة عن ماذا؟ وفيه قولان: أحدهما - أنه عبارة عن طهرٍ يحتوشه دمان، فعلى هذا لا نحتسب ما مضى لها قرءاً؛ لأنه لم يكن بين دمين. والقول الثاني - أن القرء عبارة عن الانقلاب من الطهر إلى الحيض [أو من الحيض إلى الطهر] (2)، فعلى هذا نحسب ما مضى لها قرءاً من العدة، ونحكم بوقوع (3) الطلاق تبيّناً. وإذا قال للآيسة القاعدة (4) عن الحيض: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة، فإن عاودها الدم بعد ذلك، فلا خلاف في وقوع الطلاق، وإن استمرت على التقاعد واليأس، فهل يلحقها الطلاق أم لا؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يلحقها الطلاق؛ لأنها انتقلت من الحيض إلى هذه الحالة. والثاني - أن الطلاق لا يلحقها؛ فإن القرء طهر بين دمين، وهذا نقاء تقدمه دمٌ، ولم يستأخر عنه دم، والقرء بمعنى الطهر (5) محمول على قول القائل: قرأت الماء في الحوض، والطعام في الشدق، وهذا إنما يتحقق إذا كان يجتمع في زمان النقاء دمٌ في الرحم، ثم يزجيه الرحم. هذا تصرف الأصحاب في تعليق الطلقات بالأقراء.

_ (1) ت 6: فعلى وجهين مبنيين. (2) زيادة من (ت 6). (3) هذا الوجه هو الأظهر في الصغيرة والآيسة، قاله الرافعي (ر. الشرح الكبير: 8/ 500). (4) ت 6: للآية المتقاعدة. (5) ت 6: والقرء معنىً طهرٌ محمول.

8946 - وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً أن الرجل إذا قال لزوجته الصغيرة: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة: أن الأقراء في حقها هي الأشهر، فتلحقها ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر؛ فإن الأشهر في حقها مُقامة مقام الأطهار المحتوشة بالدماء. وهذا ضعيف جداً؛ لأنه مائل عن مأخذ الباب، والتعليقاتُ تؤخذ من قضية اللسان، وقد يُلتفت فيها على العادات، فأما النظر إلى تنزيلات الشرع أشياء مقام أشياء، فليس [من] (1) حكم هذا الكتاب (2) وموجبه أصلاً. ولا شك أن العرب لا تسمِّي الأشهر أقراء أصلاً، لا في الصغيرة، ولا في حق الآيسة، فليكن التعويل على موجب اللفظ. فهذا إذاً وجهٌ غير معتد به. وقد انتهى تفصيل القول في [تعليق أعداد الطلاق] (3) على الأقراء. 8947 - [ونحن الآن نستفتح] (4) مسألة متصلة بهذا النوع، ونبتدىء بسببها القولَ في التديين (5)، فنقول: إذا قال الرجل: أنت طالق ثلاثاً للسُّنة [ونوى تفريقها على ثلاثة أقراء، فقد ذكرنا أن السُّنة والبدعة لا تتعلقان بالجمع والتفريق، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً للسّنة] (6)، وزعم أنه أراد تفريقها، لم يقبل ذلك منه في ظاهر الحكم، وإن علم الله تعالى منه الصدق فيما ادّعاه، فلا تقع [الطلقات] (7) الثلاث معاً بَيْنه

_ (1) في الأصل: في. (2) ت 6: الباب. والمراد (كتاب الطلاق). (3) في الأصل: في تعديد إطلاق على الأقراء. (4) في الأصل: ونحن لا تستفتح. (5) التديين: من قولهم ديّن فلان فلاناً إذا تركه وما يعتقد (المعجم) والمعنى هنا أن الحكم بالطلاق يقع ظاهراً، ولا يقع باطناً، وبمعنى آخر يقع قضاء ولا يقع ديانة، فالرجل إذا علم من نفسه الصدق، وأنه لم يكن يريد الطلاق، فبوسعه أن يُمسك زوجته ويعاشرها معاشرة الأزواج، ولكن إن ارتفع إلى مجلس القضاء لا يمكن للقاضي إلا التفريق وإيقاع الطلاق. (6) زيادة من (ت 6). (7) في الأصل: الطلاق.

وبين الله تعالى، وعبّر الفقهاء عن هذا فقالوا: لا يُقبل منه في الظاهر، ولكن يُدَيّن بينه وبين الله. 8948 - ونحن نذكر الآن قاعدة التديين، ونستعين بالله تعالى، فنقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فالذي جاء به لفظ صريح، فلو قصد به الطلاق أو أطلقه ولم يقصد به شيئاً، ولم يَهْذِ بلفظه، ولم يحكه، وقع الطلاق ظاهراً وباطناً. ولو نوى بقوله طالقٌ التطليق عن وثاق، أو حل أسير وحَجْر، فإذا أبدى هذا، لم يقبل منه في ظاهر الحكم، ولكن إذا لم يثبت لفظه في مجلس القضاء، وكان صادقاً بينه وبين الله تعالى، لم يقع الطلاق في حكم الله وعلمه. ولو قال: أنت طالق وأضمر (1) ألا يقع، وأجرى على ضميره: أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك، فهذا يقع ظاهراً وباطناًً. 8949 - وطريق الضبط في هذا الطرف أنه إذا ذكر لفظاً صريحاً، وزعم أنه أضمر [معنىً] (2) محتملاً، وفي صيغة اللفظ احتماله، فلا سبيل إلى مخالفة الصريح في ظاهر الحكم، ولكن إن صدق وفي اللفظ احتمال، فلا يقع الطلاق بينه وبين الله تعالى، وسنقرر ذلك عند ذكرنا الصرائح وأحكامها، إن شاء الله تعالى. ولو أضمر مع صريح الطلاق شيئاً [لا ينبىء] (3) اللفظ عنه في صيغته ووضْعِه، ولو جرى (4) ذكرُ المعنى الجاري في الضمير متصلاً بالكلام الظاهر، لما كان الكلام منتظماً، ويُعدّ ما جاء به متهافتاً، لا يجرّد العاقلُ القصدَ إلى نظم مثله، فهذا مردود ولا حكم له. ومثال هذا القسم ما لو قال: أنت طالق، ونوى طلاقاً لا يقع، فهذا لو صرح به، لكان لغواً مُطَّرحاً، لا مبالاة بمثله، والطلاق واقع، فقد خرج الضمير عن صيغة

_ (1) ت 6: أو أضمر. (2) في الأصل: لفظاً. (3) في الأصل: لا ينشأ. (4) ت 6: ولو ذُكر المعنى الجاري في الضمير.

اللفظ، وعن معنىً ينتظم مع اللفظ لو فرض وَصْلُه [به] (1) فلا طريق (2) إلا الإلغاء ظاهراً وباطناً. ولو أضمر ما لا يُشعر اللفظ به في صيغته، ولكن لو وُصل بالكلام وأظهر، لكان ينتظم الكلام معه، وذلك مثل أن يقول: أنت طالق، ثم يقول: نويت وأضمرت إن دخلتِ الدار، وأضمرت إلى شهرٍ، أو ما جرى هذا المجرى من تأقيتٍ أو تعليقٍ، فإذا أضمر شيئاً مما ذكرناه، وذكرنا ضبطه، فلا شك [أنا لا نقبل] (3) منه في الظاهر ما زعم أنه أضمره، ولكن هل يُديّن بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين: أقيسهما أنه لا يديّن؛ فإن التديين يجري إذا كان ما يضمره [لائقاً] (4) بمعاني اللفظ [على بُعدٍ] (5)، فأما إذا لم يكن اللفظ مشعراً به على قرب ولا بعد، فالإضمار فيه نيّةٌ مجردة، ولا تعلق لها بلفظٍ، والنية المجردة (6) لا أثر لها عند الشافعي؛ ولهذا نقول: إذا أجرى معنى الطلاق [جزماً على قلبه، لم يقع الطلاق] (7) ظاهراً وباطناًً، وخالف مالك (8) في هذا. والوجه الثاني - وهو ظاهر قول الأصحاب أنه إذا علَّق بضميره، تعلّق بينه وبين الله، والتحق بقواعد التديين. 8950 - وعلى هذا الخلاف يُخرّج ما إذا قال: أنت طالق، ثم زعم أنه أضمر (إن

_ (1) مزيدة من (ت 6). (2) في الأصل: فلا يقع طريق إلا الإلغاء. (3) في الأصل: أن لا نقبل. (4) في الأصل: لأنه. (5) في الأصل: على ما بعد. (6) ت 6: والنيات بمجردها. (7) زيادة من (ت 6). (8) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 746 مسألة رقم: 1351، والمعونة على مذهب عالم المدينة؛ 2/ 851، وعيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1226 مسألة: 853، والقوانين الفقهية: 231، وحاشية الدسوقي: 2/ 385، والتاج والإكليل للمواق بهامش شرح الحطاب: 4/ 58.

شاء الله تعالى) وقد نص الشافعي في عيون (1) المسائل: أنه [لو] (2) قال لامرأته: إن كلمت زيداً، فأنت طالق، ثم قال: أردت بذلك إن كلمتِه شهراً، [فالحكم] (3) بعد انقضاء الشهر يرتفع، فلو كلّمتْه (4) بعد الشهر، لم يقع الطلاق باطناًً. وللفقيه في هذا أدنى نظر؛ فإن قول القائل: إن كلمتِ زيداً يتعلق بالأزمان على العموم، وحملُ اللفظ الصالح للعموم على الخصوص من تأويل اللفظ على بعض مقتضياته، وانتهى الأمر في تردد الألفاظ بين العموم والخصوص [إلى] (5) نفي طائفة من العلماء [صيغةً] (6) مجردة ظاهرةً في العموم، وهذا لاعتقادهم تردّدَ الألفاظ في هذين المعنيين. وليس هذا كما لو قال: أنت طالق، وزعم أنه أضمر: إن دخلت الدار، فإن هذه الصيغة وما في معناها لا التفات للفظ عليها بوجهٍ من الوجوه. [فما] (7) نقل عن الشافعي ملحق بقوله: أنت طالق مع دعواه أنه نوى الطلاق عن الوثاق. فهذا تصرّف الأصحاب في أصول التديين. ويلتحق بالأصل الذي مهدناه ما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً وزعم أنه أراد التفريق على الأقراء، فهذا لا يُقبل ظاهراً، وهل يُدَيَّن؟ يلتحق هذا بما لو زعم أنه أضمر تأقيتاً أو تعليقاً؛ فإنه ليس في قوله: أنت طالق ثلاثاً ما يشعر بما ذَكر. ولكن لو ذكره، لانتظم الكلام معه.

_ (1) يلوح لنا أنّ المقصود بعيون المسائل هو كتاب (عيون المسائل في نصوص الشافعي) للإمام أبي بكر الفارسي، ولقد راجعت الشرح الكبير للرافعي، والروضة للنووي، والبسيط والوسيط للغزالي، ومختصر العز بن عبد السلام وجميعها تذكر المسألة على أنها من منصوصات الشافعي، ولكن لا أحد من هؤلاء الأئمة الكرام ذكر موضع ورودها. والله أعلم. (2) زيادة من (ت 6). (3) في الأصل: والحكم. (4) في الأصل: فلو قال كلّمته بعد شهر. (5) في الأصل: في. (6) في الأصل: وصيغة. (7) في الأصل: وممّا.

وإن قال: أنت طالق ثلاثاًً للسُنة، ثم زعم أنه نوى التفريق على الأقراء، فالظاهر [إلحاق] (1) هذا بما لو أضمر تأقيتاً أو تعليقاً، كما ذكرناه، ولا يتغيّر الحكم بتقييد الثلاث بالسُّنة، فإن هذا اللفظ في إشعار اللغة لا يقتضي تفريقاً، وإذا رددنا لفظ السنة إلى موجب الشريعة، فقد قدمنا من مذهب الشافعي أن السُّنة والبدعة لا تعلق لهما بالجمع والتفريق. فهذا بيان الحكم في هذه المسألة وتنزيلها على مرتبتها في التديين. 8951 - [وللألفاظ في الطلاق] (2) مسالك كنت أوثر جمعها، فبدا لي أن أؤخرها حتى يحصل الإلف بمجاري الكلام في الألفاظ. ومعظم مسائل هذا الكتاب مُدارةٌ على مقتضى الألفاظ، وهي معتبر الكتب المتعلّقة بقضايا الألفاظ، فالوجه أن نُجري في كل فصل ما يليق به، ثم نختتم الكلام بضوابط [تُنزَّل الألفاظ] (3) على مراتبها، ونبيّن مقاصد الشرع فيها، إن شاء الله تعالى. فصل قال: "ولو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة ... إلى آخره" (4). 8952 - إذا قال لامرأته المتعرضة للسُّنة والبدعة: أنت طالق ثلاثاًً بعضهن للسُّنة وبعضهن للبدعة، راجعناه فإن أراد تنجيز طلقة واحدة في الحال توافق السُّنة (5) أو البدعة وتأخير اثنتين إلى الحالة الثانية، فيقع على هذا الترتيب، فإن تفسيره البعض [بواحدة] (6) في الحال ليس بعيداً عن مقتضى الظاهر.

_ (1) مزيدة من (ت 6). (2) في الأصل: والألفاظ في الظاهر. (3) زيادة من (ت 6). (4) ر. المختصر: 4/ 71. (5) في الأصل: والبدعة. (6) في الأصل: واحدة (بدون باء).

[وإن] (1) أراد فيما زعم تعجيل طلقتين على حسب موافقة الوقت في السُّنة والبدعة وتأخير طلقة إلى ارتقاب الحالة الأخرى، فهذا ممكن محتمل، وتفسيره فيه مقبول ظاهراً، وذلك أن البعض لا يختص في حكم اللسان، ولا في موجب العرف بمبلغ، وهو لفظ مبهم يتناول الواحد والزائد على الواحد، فإذا فسره كان بمثابة من يفسر مجملاً، فيحمله على بعض جهات الاحتمال، فلم يمتنع قبول حمل (2) البعض على الواحدة و [على] (3) الثنتين. وإن زعم أنه أراد بالبعض نصف الثلاث وقعت ثنتان في الحال، لأن نصف الثلاثة واحدة ونصف، وكأنه نجّز طلقة ونصفاً، ولو فعل ذلك، لوقعت طلقتان، وهذا بيّن في جهات الاحتمال. ولو طلق وزعم أنه ما نوى شيئاً، ولكن أجرى هذا اللفظ، فالذي نقله المزني عن الشافعي أنه يقع في الحال ثنتان، ثم قال من تلقاء نفسه: "أشبه بمذهبه عندي أن قوله بعضهن يحتمل واحدةً، فلا يقع غيرها" (4)، فأوضح من قياس الشافعي أنه لا يقع عند الإطلاق إلا واحدة، وأورد هذا على صيغة التصرف على مذهب الشافعي وقياسه، ولم يورده مختاراً لنفسه، وأنا أوثر أن ننظر في كل كلام له إلى ما أشرنا إليه، فإنْ تصرف على المذهب وأجرى قياسه، فهو تخريج على مذهب الشافعي وتخريجه أولى بالقبول من تخريج غيره، وإن لم يتصرف على قياس المذهب، واستحدث من تلقاء نفسه أصلاً، فيعدّ ذلك مذهبَه، ولا يلحق بمتن المذهب، فليكن ما قاله في هذه المسألة تخريجاً، والمنصوص وقوع طلقتين، ومذهب المزني وتخريجه على مذهب الشافعي أنه لا يقع إلا طلقة. 8953 - التوجيه: وجه النص أن الثلاث موزعة على بَعْضَين مضافة إليهما،

_ (1) في الأصل: وإنما. (2) ساقطة من (ت 6). (3) مزيدة من (ت 6). (4) ر. المختصر: 4/ 71.

فاقتضى إطلاق الإضافة التقسيط، على التنصيف (1) وموجب هذا إثبات طلقةٍ ونصف على حسب الحالة الناجزة، والطلقة والنصف طلقتان، فينتجز طلقتان، ويتأخر طلقة. وهذا القائل يوجّه النص بمسألة: وهي أن صاحب اليد في الدار لو قال: بعضها لفلان وبعضها لفلان، فمقتضى هذا اللفظ الاعتراف لكل واحد منهما بشطر الدار. وأما وجه مذهب المزني، فهو أن البعض لفظ مجمل، كما قدمنا تقريره؛ فإن ذكر صاحب اللفظ تفسيراً، قبلناه وإن أطلقه، تردد بين القليل والكثير، فوجب تنزيله على الأقل؛ فإنا لا نوقع من الطلاق إلا المستيقن، وما تقدم ذكره من التسوية خيال لا يقع [بمثله] (2) الطلاق. فإذا نصرنا مذهب المزني وعددناه قولاً مخرجاً، لم نسلم مسألة الإقرار بالدار. ومن عجيب الأمر أن الأصحاب نقلوا مسألة الدار (3) [نقل] (4) من يرى أن الدار مشطرة بموجب اللفظ، حتى [لا يراجَع فيها] (5) المقِر. وهذا خارج عن الضبط، فالوجه القطع بأنا إذا فرعنا على تخريج مذهب المزني، فما ذكره المقر لفظٌ مبهم لا استقلال له، ولا بد فيه من مراجعة المقِر، وإن عسرت مراجعته، كان إقراراً مبهما لا يُطَّلَع على معناه ومقدارِ المقَرّ به. ونظائر ذلك كثير في الأقارير. وإذا فرعنا على النص، فيجب القطع بالرجوع إلى قول المقر، كما ذكرناه في الطلاق، فإن عسر الرجوع عليه، فقد يجوز حمل اللفظ على التنصيف والتشطير. وهذا كلام ملتبس، ولا وجه في مسألة الإقرار إلا الرجوع إلى قول المقر، وكل ما كان مُجملاً يُرجع فيه إلى تفسير مُطلِقه، فإذا عسر درْك تفسيره، استحال أن يُتََلَقَّى

_ (1) ت 6: التسوية. (2) في الأصل: بمثابة. (3) ت 6: مسألة الإقرار. (4) زيادة من (ت 6). (5) في الأصل: لا يراجعها فيه.

من اللفظ ما يُلحقه بالظواهر، [ويخرجه عن المجملات] (1)، فإن مخالفة الظاهر غيرُ مقبولة في المعاملات، وإن عُدّ التفسير بياناً للمجمل، وجب القضاء بالإجمال عند عدم التفسير. 8954 - وقد يخطر [في] (2) ذلك للفطن شيء، وهو أن المعظم لا يسمى بعضَ الشيء، واسم البعض ينطلق على النصف فما دونه، وإذا تقابل البعضان، أشعر ذلك بأن كل بعض ليس المعظم، فيجب القضاء بتنزيل البعضين على الشطرين. [وهذا الآن يُظهر] (3) استفادة التنصيف من اللفظ، ومساق هذا يقتضي ألا يقبل منه حمل البعض على الطلقة الواحدة، وقد ذكرنا أنه لو حمل البعض على طلقة منجزة وطلقتين مؤخرتين، قُبل ذلك منه، وهذا يلتحق بفن من الفنون في الطلاق، وهو أنا قد نحمل لفظاً في الإطلاق على محمل، فإذا قال صاحب اللفظ أردت غيره يُقبل منه ذلك ظاهراً، [وهذا] (4) فوق درجة التديين، وسيأتي نظائر لهذا، إن شاء الله تعالى. فإذاً المطلق محمول على التنصيف لما ذكرناه، وإذا حمل البعض على الواحدة، ففي قبول ذلك منه احتمال. وقد ذكر صاحب التقريب أوالعراقيون، (5) فيه وجهين: أحدهما - أنه يقبل، وهو الصحيح، إذ لفظ البعض يحتمل الواحدة احتمالاً بيناً. والثاني -وهذا اختيار ابن أبي هريرة- أنه لا يقبل؛ فإن مقتضى اللفظ ينجز الطلقتين على النص، وإذا لاح هذا، انتظم منه أن مقتضى النص أن اللفظ ظاهر في التنصيف مستقلٌّ بإفادته وفي (6) حمله على خلافه احتمال ظاهر النص، وهل يقبل

_ (1) في الأصل: ونلحقه بالمجملات. (2) مزيدة من (ت 6). (3) في الأصل: وهذا لا يظهر. (4) في الأصل: وهو. (5) مزيدة من (ت 6). (6) في الأصل: في (بدون واو).

الحمل على خلاف الظاهر؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، ومقتضى مذهب (1) المزني أن اللفظ مجمل لا ظاهر له، وموجب هذا قبول تفسيره، فإن عدمنا [التفسير] (2)، نزلناه على الأقل. ولو قال صاحب المقالة: أردت تعجيلَ بعضٍ من كل طلقة في الحال، فهذا مقبول وينتجز الطلقات الثلاث؛ فإن أبعاض الطلاق مكمّلةٌ على ما سيأتي شرح ذلك، على ترتيب مسائل الكتاب، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ولو قال: أنت طالق أعدل أو أحسن ... إلى آخره" (3). 8955 - إذا قال لامرأته: أنت طالق أعدل الطلاق، أو أكمل، أو أحسن، أو أفضل، أو أجمل الطلاق، فإنْ أجمل هذه الألفاظ، انصرفت إلى ما ينصرف إليه لفظ السُّنة، فكأنه قال لها: أنت طالق للسنة، فإن كانت حالها موافقة للسنة، تنجزت الطلقة، وإلا انتظرنا حالة السنة. وما ذكرناه فيه إذا كانت المرأة بصدد السنة والبدعة؛ فإن أراد بهذه الألفاظ السُّنة، فقد طابق قصدُه ظاهرَ ألفاظه. وإن قال: عنيت بما أطلقته من هذه الألفاظ تنجيز الطلاق في الحال، فرأيت أحسن أنواع الطلاق أعجلَها، فيتعجل الطلاق؛ فإن ما ذكره محتمل، ومهما ذكر احتمالاً مقتضاه (4) إيقاع الطلاق، فهو مقبول، وإن كنا قد لا نقبل في نفي الطلاق مثل ذلك المعنى ظاهراً، وإنما نحيل قوله على التديين. فإن (5) قال: أردت بما أطلقت من الألفاظ تأخير الطلاق، وإن كان في زمن

_ (1) في الأصل: ومقتضى ذلك مذهب المزني ... (2) فى الأصل: التفسيرين. (3) ر. المختصر: 4/ 71. (4) في الأصل: احتمالاً معناه مقتضاه. (5) ت 6: فلو قال.

السّنة؛ فإني رأيت المَهَل أجملَ من مفاجأة الطلاق، فهذا لا يقبل، إذا كان حالها موافقاً للسُّنة؛ والسبب فيه أنه يبغي نفيَ الطلاق في الحال، ثم ليس لمنتهى وقوع الطلاق ضبط لفظي ولا شرعي، فإنه إن أراد التأخير من حال السُّنة إلى حال البدعة، فهذا يخالف الشرع، والألفاظَ الشرعية، وإن أراد التأخير إلى طهرٍ آخر، فلا ضبط له، فليس انتظار طهر ثانٍ أولى من انتظار طهر ثالث، والمرأة في الحال في طهر لم يجر فيه جماع، فخرج من مجموع ما ذكرناه أن هذه الألفاظ عند إطلاقها محمولة على السنة، حتى إذا كانت [المرأة] (1) في حالة بدعةٍ، تأخر الطلاق إلى وقت السنة، وإن نوى تعجيلاً على خلاف السنة، فقوله عليه مقبول. وإن كانت في حال السنة، ونوى تأخيراً عن احتمالٍ يُبديه، فذلك غير مقبول منه ظاهراً. ولا شك أنه يُديّن على ما مهدنا أصل التديين. 8956 - ولو قال لامرأته: أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه وأوحشه، أو أفضحه أو أفظعه؛ فإن أطلق هذه الألفاظ، ولم ينو بها شيئاً، فهو كما قال: أنت طالق للبدعة، ولا يخفى حكم هذه اللفظة، فإن كانت في زمان بدعة، تنجز الطلاق. وإن كانت في زمان سُنة، تأخر وقوع الطلاق إلى مصيرها إلى حالة البدعة. ولو كانت في حالة سُنّة، فقال: أردت بأقبح الطلاق أعجله، قُبل ذلك منه وانتجز الطلاق، وإن كان في حالة بدعةٍ، فقال: [أردت بالأقبح ما يتأخر] (2) ويُنتظر، لم يقبل ذلك منه؛ لأنه لا ضبط ولا توقف ينتهي إليه، كما ذكرناه في الأحسن واكمل. والذي يختلج في الصدر من هذه المسألة أنه إذا قال: أنت طالق [للسنة، وكان وقت السنة منتظراً، فالكلام محمول على التأقيت، وكذلك القول فيه إذا قال: أنت طالق للبدعة] (3). فأما إذا قال: أنت طالق أجمل الطلاق [أو] (4) أقبح الطلاق، فهذا في ظاهره

_ (1) مزيدة من (ت 6). (2) عبارة الأصل: أردت ما لا يتأخر. (3) زيادة من (ت 6). (4) في الأصل: "وأقبح".

تنجيزٌ مع وصفٍ، وليس في صيغة اللفظ ما يقتضي تعليقاً، أو تأقيتاً. ولو قال قائل: مُطلَقُ هذا اللفظ التنجيز، ثم ينظر في مُفسده على التفاصيل المقدمة، لكان هذا كلاماً جارياً على صيغ الألفاظ ومعناها. وليس ما ذكرناه مذهباً لذي مذهب؛ فإن الأصحاب مجمعون في الطرق على أن الأحسن وما في معناه مطلقُه محمول على ما يحمل عليه قول القائل: أنت طالق للسُّنة، والأقبح محمول عند الإطلاق على ما يحمل عليه قول القائل: أنت طالق للبدعة فهذا بيان الفصل نقلاً واحتمالاً. 8957 - ثم ذكر الشافعي أنه لو قال: أنت طالق طلقةً حسنة، [كان] (1) كما لو قال: أنت طالق للسنة، وكذلك ما في معنى هذا اللفظ. وإذا قال: أنت طالق طلقة قبيحة، فهو كما لو قال: أنت طالق للبدعة. ومنتهى التقريب (2) في هذا الفصل أن الأحسن صفةُ مدح، وهذا مفهوم من هذا اللفظ، فلا محمل له أولى من [السُّني، والأقبح صفة ذم، فلا محمل له أولى من] (3) المحظور المحرّم. ولو قال: أنت طالق طلقة حسنةً قبيحةً، فقد جمع بين النقيضين، وتنتفي الصفتان لتناقضهما، ويبقى الطلاق المطلق، وهو محمول على التنجيز، وكذلك لو قال: أنت طالق طلقة لا سُنيّة ولا بدعية، وكانت متعرضة لهما جميعاً، فتتعارض الصفتان وتسقطان في النفي، كما سقطتا في الإثبات، ويبقى الطلاق المطلق. ولو قال للتي لا تتعرض للسنة والبدعة: أنت طالق للسنة والبدعة، فالصفة ساقطة والطلاق مُطلق، وحكم الانتجاز كما ذكرناه.

_ (1) مزيدة من (ت 6). (2) ت 6: التقرير. (3) زيادة من (ت 6).

8958 - ثم قال الشافعي: "لو قال: أنت طالق إذا قدم فلان للسُّنة ... إلى آخره" (1). إذا قال لامرأته: إذا قدم فلان، فأنت طالق للسُّنة، فالقول الوجيز في هذا الفصل أنا ننظر إلى قدوم فلان، وإلى حالة المرأة عند قدومه، ونقول: كأنه قال لها عند قدومه: أنت طالق للسنة، ثم لا يخفى حكم ذلك. وكذلك لو قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق للبدعة، فهو كما لو قال: عند قدومه أنت طالق للبدعة. ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو قال هذا القول والمرأة حالة قوله لم تكن من أهل السنة، ولا من أهل البدعة، ثم صارت من أهلها، فقدم زيد، فالحكم بحالها عند قدوم زيد، ولو كانت من أهل السنة والبدعة، ثم خرجت عن أن تكون من أهل السنة والبدعة باليأس والتقاعد، فالاعتبار بحالها عند قدوم زيد. وكل ما ذكرناه يندرج تحت قولنا: نجعل ما ذكره بمثابة ما لو قال لامرأته عند قدوم زيد: أنت طالق للسنة أو البدعة. ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: إذا قدم فلان، فأنت طالق للبدعة، فهذا التعليق في نفسه بدعة؛ لأن الطلاق لا يقع به إلا موجب البدعة، وإذا قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق للسنة، فتعليقه هذا ليس محظوراً، ولو قال لامرأته: إذا قدم زيد، فأنت طالق، ولم يتعرض لوصف الطلاق عند القدوم بالسُّنّة والبدعة، فإذا قدم زيد، طلّقت، وإذا (2) كان في زمان بدعة، وقع الطلاق [بدعيّاً، وإن كانت في زمان سنة، وقع الطلاق] (3) سنياً. هذا قولنا في صفة الطلاق الواقع. 8959 - فأما التعليق نفسه، فليس فيه تعرض لسنة وبدعة، وإنما هو تعليق طلاق بصفة، فظاهر كلام الشافعي على أن التعليق لا يتصف بالبدعة؛ فإن الأمر متردد، ولم

_ (1) ر. المختصر: 4/ 72. (2) ت 6: فإن كانت. (3) زيادة من (ت 6).

يقصد المعلّق اعتماد إيقاع الطلاق في وقت البدعة. وحكى من يوثق به من أصحاب القفال أنه كان يقول: التعليق [على] (1) الإطلاق بدعة، إذا كان لا يمتنع وقوع الطلاق في وقت البدعة؛ لأنه متردد بين أن يقع الطلاق بدعيّاً، وبين أن يقع سنياً وغيرَ بدعي، والتردد بين المعصية وغيرها في نفسه معصية. وهذا الذي ذكره القفال وإن كان معتضداً بمسلك من المعنى [فهو] (2) بعيد من وجهين: أحدهما - أنه في حكم الهجوم على ما اتفق عليه الأولون؛ فإن تعليق الطلاق على الصفات [لم] (3) يحظره أحد، والآخر - أن تحريم الطلاق بسبب تطويل العدة أو بسبب ندامة الولد ليس جارياً على قياس جلي؛ فإنما التعويل الأظهر فيه التعبّد، فلا ينتهي الأمر إلى مصير التعليق بدعيّاً لجواز إفضائه إليه، إذا لم يوجد من المطلّق تجريد قصد إلى مصادفة البدعة. فصل قال: "ولو قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق ... إلى آخره" (4). 8960 - مضمون هذا الفصل الكلامُ في مسألتين: إحداهما - أن يقول الرجل لامرأته: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، والأخرى أن يقول لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، فنبدأ بما إذا قال لامرأته: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فالطلاق معلق بوجود الحمل في بطنها حالة التعليق، فلا نحكم بوقوع الطلاق في الحال للشك القائم والتردد، والأصل بقاء النكاح، ولكن إن أتت بولد لستة أشهر (5)، فقد استيقنّا وجود الحمل حالة التعليق، فنقضي بوقوع الطلاق تبيّناً، واستناداً (6)، ثم تقضي العدة بوضع

_ (1) في الأصل: في. (2) في الأصل: فهذا. (3) سقطت من الأصل. (4) ر. المختصر: 4/ 72. (5) هذا الحكم مبني على تقدير أقل الحمل بستة أشهر، فإذا ولدت لستة أشهر بعد يمين الطلاق المعلّق، فمعنى هذا أنها كانت حاملاً بيقين وقت عقد اليمين. (6) تبيناً واستناداً: أي نحكم بوقوع الطلاق مستندين في هذا الحكم إلى ما تبيناه من وجود الحمل =

الحمل، ولو أتت بولد لأكثر من أربع سنين، فكما (1) مضت أربع سنين تبيّنا حيالها (2) حالة التعليق، فلا يقع الطلاق. وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر، وأقلَّ من أربع سنين، فإن لم (3) يطأها بعد عقد اليمين، وقع الطلاق، لأنا وإن كنا نجوّز أن يكون علوقها بعد العقد، فالأمر محمول على أن العلوق من الزوج والوطء [المتقدّم] (4) على اليمين، وإذا كان كذلك، فيقدر الحمل موجوداً حالة التعليق، ونقضي بوقوع الطلاق. وذكر الأئمة قولاً آخر: أن الطلاق لا يقع، لجواز أن يكون العلوق بعد اليمين، والأصل بقاء النكاح، وهذا القائل يقول: لا نحكم بوقوع الطلاق ما لم [نتيقن] (5) وجود الحمل حالة اليمين. وإذا كان (6) الزوج يطؤها بعد اليمين، وأمكن إحالة العلوق على الوطء المتجدد بعد اليمين، فلا خلاف أنا لا نحكم بوقوع الطلاق، ولو وطئها بعد اليمين فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من ذلك الوطء الجاري بعد اليمين، فلا أثر لذلك الوطء، فإن إمكان العلوق لا يسند إليه (7). فتحصل من مجموع ما ذكرناه أنه إذا جرى بعد اليمين وطء يمكن إحالة العلوق

_ = وقت اليمين (وقد سبق لنا أن شرحنا معنى التبين والاستناد). (1) فكما مضت أربع سنين: أي عندما مضت أربع سنين. (2) تبينا حيالها: هذا الحكم مبني على تقدير أقصى مدة للحمل بأربع سنين، فإذا جاءت بولد لأكثر من أربع سنين -بعد تعليق الطلاق على حملها- تبينا باليقين أنها لم تكن حاملاً عندما علق طلاقها. (3) اشترط عدم الوطء -بعد اليمين- هنا؛ لأنه لو وطئها بعد اليمين، لكان العلوق محتملاً من هذا الوطء المتجدد. (4) في الأصل: المقدر على اليمين. (5) في الأصل: نتبين. (6) ت 6: ولو كان. (7) هذا الحكم بعدم إمكان العلوق من الوطء بعد اليمين، إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر، مبني -كما هو واضح- على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا ولدت لأقل من ستة أشهر، بعد اليمين - تبينا يقيناً أنها كانت حاملاً عندما علق الطلاق على حملها.

عليه (1)، لم يقع الطلاق، وإن استيقنا وجود الولد حالة التعليق، بأن أتت به لدون ستة أشهر، حكمنا بوقوع الطلاق، وإن لم يجر وطء بعد اليمين، أو جرى وطء لا يمكن إحالة العلوق عليه، ولكن كان يمكن إحالة العلوق على وطء من غير الزوج، فالشرع في إلحاق النسب يقدر استناد العلوق إلى الوطء المتقدم على اليمين (2) غير أن سبيل الاحتمال غير منحسم بأن يفرض العلوق بعد اليمين من غير الزوج، فظاهر المذهب الحكم بوقوع الطلاق. وفي المسألة قول آخر [أنّا لا] (3) نحكم بالوقوع للتردد الثابت والأصل بقاء النكاح. 8961 - ثم إذا قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فإلى أن نتبين (4) من العواقب ما ذكرناه، هل يحل للزوج وطؤها أم كيف الطريق؟ قال الأصحاب: لا يطؤها حتى يستبرئها، فإنه ذكر لفظة الطلاق، ووقوعه غير بعيد، وأمر الأبضاع على التشديد. ونقل العراقيون قولاً [آخر] (5) أن الوطء لا يحرم، بل يكره، فحصل قولان في تحريم الوطء: أحدهما - أنه محرم، لما قدمناه. والثاني - أنه مكروه غير محظور، لأنا لم نستبن وقوعَ المحرم، ثم إذا حرمنا الوطء، وقلنا: يستبرئها، فلا يطؤها حتى تنقضي مدّة الاستبراء. وبكم يستبرئها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، والقول في حرةٍ خوطبت بما ذكرناه. فأحد الوجهين أنه يستبرئها [بثلاثة أقراء؛ فإن الاستبراء في حق الحرة لا ينقص عن ذلك. والثاني أنه يستبرئها] (6) بقرء واحد، كما تستبرأ الأمة المملوكة؛ لأن هذا ليس بعدّة، واعتبار العَدد في الأقراء يتعلق بالعِدد، وإنما الغرض بهذا الاستبراء استظهارٌ

_ (1) يعرف ذلك إذا علمنا أقل مدة الحمل وأقصاها، وقد مضى أنها ستة أشهر في الأقل، وأربع سنين في الأقصى. (2) ت 6: على العقد. (3) في الأصل: ما لا نحكم. (4) ت 6: نتبين وقوع الطلاق من العواقب ... (5) في الأصل: واحداً. (6) ما بين المعقفين زيادة من (ت 6).

وتعلق بعلامة. ثم قالوا: إن قلنا: يستبرئها بثلاثة أقراء، فهي أطهار [على] (1) ما سيأتي في العِدد، إن شاء الله تعالى. وإن قلنا: يستبرئها بقرء واحد، فسبيله كسبيل استبراء المملوكة، ثم المذهب الصحيح أنه حيضة، وفيه وجه أنه طهر، وسيأتي ذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. ثم إذا مضى الاستبراء على ما ذكرناه، فيحل للزوج وطؤها. ومما ذكره العراقيون أنه لو استبرأها أولاً -إما بقرء أو أقراء، وظهر عنده براءتها في ظاهر الحال- ثم قال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق. فهل يحل وطؤها بناءً على الاستبراء المتقدم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحل لحصول علامة براءة الرحم، وليست في اعتداد على التحقيق؛ حتى نعتبر فيه الترتيب، ونقضي بأن العدة إنما يعتد بها إذا ترتبت على الطلاق. والوجه الثاني - أنه لا حكم للاستبراء المتقدم، كما لا حكم للعدة قبل الطلاق، والاستبراء قبل الشراء (2). 8962 - ومما يتعلق بذلك [أنا] (3) إذا أمرناه بالاستبراء، فمرّت بها صورة الأقراء، ثم أتت بولدٍ لزمانٍ يُعلم وجوده حالة اليمين، فنتبين بالأَخَرة أن الوطء صادف مطلَّقة، وأن [ما] (4) كنا نحكم به أمرٌ ظاهر، وقد بان أن الحكم بخلافه، ثم لا يخفى تفصيل القول في المهر، وتجدّد العدة، وغيرهما من الأحكام. وإذا أمرناه بالاستبراء، فمضى شهر أو شهران وأكثر، فلم ير قرءاً وهي من أهل الأقراء؛ فإنه يجتنبها، فإن انقطاع الحيض عنها من مخايل الحمل، وهذا يؤكد التحريم، ثم الأمر يبين بوضعها الحمل وعدم وضعها، كما تقدم. ولو كانت في سن الحيض، ووقت إمكان الحيض، فقال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، وما كانت حاضت من قبل، فالعدة في حق مثل هذه -لو طلقت- بالأشهر؛

_ (1) زيادة من (ت 6) (2) قبل الشراء: أي شراء الأمة. (3) سقطت من الأصل. (4) زيادة من (ت 6).

فإذا اعتدت بالأشهر، نكحت، وجعلنا مضيّ الأشهر علامة على براءة الرحم؛ حتى يجوز لها أن تنكح، وإذ ذاك توطأ، ثم في الحكم بانقضاء العدة حكمٌ بانبتات النكاح، [فإن] (1) الرجعية زوجة ما دامت في العدة. فخرج مما ذكرناه أن الأشهر في حق هذه في مسألتنا إذا لم تكن حاضت [قبلُ] (2) بمثابة الأقراء، فإذا مضت الأشهر، حلّ له وطؤها إلا أن تظهر بعد الأشهر علامة الحمل، فإذ ذاك يمتنع. وذاتُ الأشهر إذا رأت علامة [الحمل] (3) بعد الاعتداد بالأشهر لم تنكح، وإذا استرابت، ففيها كلام (4)، سيأتي في كتاب العدد، إن شاء الله تعالى. هذا تمام البيان فيه إذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق. 8963 - وقد يتعلق بهذا أنه لو قال للمتقاعدة الآيسة: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فهل يحل له الإقدام على وطئها؟ حق هذه المسألة أن تبنى على أن الاستبراء المتقدم هل يؤثر في إباحة الوطء أم لا؟ فإن جعلناه مؤثراً وقد تحقق اليأس، فالظاهر أنه يحل له وطؤها. وإن لم نعتبر ما تقدم على عقد اليمين، فاستبراؤها بالأشهر محتملٌ. وكل ذلك كلام في مسألة واحدة من المسألتين الموعودتين. 8964 - فأما المسألة الثانية، وهي أن يقول لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، ومعناه إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، فالطلاق معلق في هذه المسألة بعدم الحمل، وكان معلقاً في المسألة الأولى بوجود الحمل، فنقول أولاً: لو أتت بولد لأقل من ستة أشهر، فلا يقع الطلاق؛ لأنا تحققنا وجود الحمل عند عقد اليمين، والطلاق معلق على عدم الولد، وإن أتت بالولد لأكثر من أربع سنين، أو لم تأت بولدٍ

_ (1) في الأصل: في الرجعة. (2) مزيدة من (ت 6). (3) سقطت من الأصل. (4) ت 6: تفصيل سيأتي.

في أربع سنين ولا بعدها، نحكم بوقوع الطلاق، لعلمنا بأنها لم تكن حاملاً حالة عقد اليمين. وإن أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، ولأقلَّ من أربع سنين، واحتمل أن يكون الحمل موجوداً يوم الحلف، واحتمل ألا يكون، فإن لم يطأها الزوج بعد اليمين، فالأظهر أنها حبلت بما سبق من الوطء قبل اليمين، وأنها كانت حاملاً قبل (1) اليمين، ونحكم في هذه الصورة بأن الطلاق لا يقع وجهاً واحداً؛ إذا الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، والظاهر استناد العلوق إلى ما تقدم، فاجتمع الظاهرُ والأصلُ في نفي الطلاق. ولو حلف كما صورنا، ثم وطىء بعد اليمين، فأتت بولد لأكثرَ من ستة أشهر من وقت اليمين، نظر: فإن أتت به لأقلّ من ستة أشهر من وقت الوطء بعد اليمين، فلا أثر لذلك الوطء؛ فإن إمكان العلوق لا يستند إليه، فوجوده في غرضنا كعدمه. وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت اليمين ومن وقت الوطء بعد اليمين، ففي وقوع الطلاق وجهان في هذه الصورة: أحدهما - يقع؛ لأن الظاهر [أنه محمول] (2) على الوطء بعد اليمين، وأنها كانت حائلاً قبله. والوجه الثاني - أنه لا يقع؛ لجواز أن [تكون] (3) حاملاً وقت اليمين، وأن الزوج وطئها، وهي حامل، ولا يقع الطلاق بالشك، وإنما يقع باليقين، وقد يقع بالظاهر، وليس في الوطء المتجدد ما يظهر الحيال وعدم الحبل قبله وهذا ما اختاره صاحب التقريب، وهو لعمري مختار. 8965 - ثم نتكلم وراء هذا في حل الوطء وتحريمه، ووجوب الاستبراء، فإذا قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، فلم نتبين بعدُ حِيالَها وحَملَها، فهل يحرم الإقدام على وطئها قبل أن نتبين الأمرَ؟

_ (1) (ت 6): وقت اليمين. (2) في الأصل: أنها محمولة. (3) مزيدة من (ت 6).

قد ذكرنا تعليق الطلاق بالحمل قبلُ، وهذا تعليق الطلاق بعدم الحمل، وذكرنا فيه إذا علق الطلاق بالحمل قولين في تحريم الوطء، والأصل عدم الحمل، فإذا علق الطلاق بالحيال، فالتحريم أغلب هاهنا؛ من جهة أن الأصل عدم الحمل، والطلاق يقع بعدم الحمل. 8966 - والذي تحصّل من مسلك الأصحاب في المسألتين طريقان: أحدهما - أنه إذا قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، يحرم الوطء في الحال قولاً واحداً. وإذا قال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق؟ فهل يحرم الوطء في الحال؟ فعلى قولين. والطريقة الأخرى عكس هذه، فإذا قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، فمن أصحابنا من قال: لا يحرم الوطء، بل نكرهه قولاً واحداً؛ فإن الأصل عدم الحمل. وإذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فهل يحرم الوطء أم يكره؟ فعلى قولين. فإذا جمع الجامع الطريقين، فحاصل القول في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها - التحريم فيهما. والثاني - الكراهية فيهما، مع رفع التحريم. والثالث - أن الوطء يحرم إذا كان الطلاق معلقاً بعدم الحمل، ولا يحرم إذا كان معلقاً بالحمل. ثم إذا بان الكلام في التحريم، وجرينا على أن الوطء يحرم فيه إذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإذا انكف عنها، فمضى بها قرء أو قرءان على انتظام الأقراء، ولم يظهر بها حمل، قال صاحب التقريب والقاضي: نحكم بوقوع الطلاق وتبيّنا حِيالَها حالة [عقد] (1) اليمين، ثم تكون الأقراء بعد عقد اليمين عدتَها، فلها أن تنكح. وإذا جعلنا الاستبراء في هذه المحال بقرء واحد، حكمنا بوقوع الطلاق إذا مضى قرء، واحتسبنا هذا القرء من عدتها، وأمرناها باستقبال قرأين آخرين بَعْده، ويتم انقضاء العدة، فالذي ذكره المحققون أنا نحكم بوقوع الطلاق عند مضي ثلاثة أقراء تبيّناً وإسناداً

_ (1) مزيدة من (ت 6).

إلى وقت اليمين. وإذا مضى قرء واحد، فهل نحكم بوقوع الطلاق؟ فعلى وجهين. 8967 - وفي هذا المقام وقفة على الناظر؛ فإنا إن ذكرنا تردّداً في المسألة الأولى: وهي إذا قال: "إن كنت حاملاً، فأنت طالق" - في أن وطأها هل يحل بقرء واحد، فسببه أن الأصل الحِل، ونحن نبغي علامةً على البراءة، فأما الحكم بوقوع الطلاق بقرء واحد، فبعيد، وليست النفس خالية عن التردد في الحكم بوقوع الطلاق بعد ثلاثة أقراء، فما الظن بالقرء الواحد؛ فإن الرجل إذا طلق امرأته، فأصل الطلاق البتُّ، [ولذلك] (1) حرمت الرجعية، فإن نحن أحللنا الرجعية بعد ثلاثة أقراء للأزواج، فسببه مضي علامات البراءة بعد الطلاق (2)، وهاهنا الطلاق واقع بالعلامات عند الأصحاب. ولكن هذا الذي ذكرناه توسّع في الكلام؛ فإن الذي رأيناه للأصحاب أنه إذا مضت ثلاثة أقراء، حكمنا بوقوع الطلاق؛ فإن الأقراء علامة على براءة الرحم، وعلى هذا بنينا انقطاعَ الرجعة [وبينونةَ] (3) الرجعية وحِلَّ نكاحها لغير المطلّق، وكان من الممكن أن نأمرها بالتربص إلى انقضاء أكثر مدة الحمل (4)، فإذا قضى الشرع بإحلالها بناء على علامة البراءة، فيقع القضاء بوقوع الطلاق بناء على علامة البراءة، وقد عَلَّق الطلاقَ على عروّ رحمها عن الولد، إذ قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإذا قامت علامة الاستبراء بقرء أو أقراء قَبْل اليمين، فهل نحكم بوقوع الطلاق كما (5) علقه بالحيال؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما. ومما يجب ترتيبه على ذلك أنه إذا قال لامرأته: إذا برىء رحمك فأنت طالق، يجب تخريج هذا على ما ذكرناه من مضي القرء والأقراء، ويجب القطع بأنه إذا مضت ثلاثة أقراء والزوج مجتنبها، فيقع الطلاق، وفي القرء الواحد الخلاف. 8968 - ولو قال: إن استيقنت براءة الرحم، لم نقض بوقوع الطلاق ما لم يمض

_ (1) في الأصل: وكذلك. (2) ت 6: طلاق. (3) في الأصل: وتبين به. (3) أكثر مدة الحمل: أي أربع سنوات. (5) كما: عندما.

أكثر مدة الحمل، ونعود إلى التنبيه مرة أخرى، ونقول: بنى الأصحاب وقوع الطلاق على حكم الشرع بأن الأقراء دالة على براءة الرحم، وذلك حكم مقتفىً، وتعبد متبع بعد وقوع الطلاق، وكنت أود لو طلبنا في تعليق الطلاق يقين الصفة؛ فإن الأيمان مبنية على معاني الألفاظ، ولا فرق بين أن يقول القائل: إن قدم زيد، فأنت طالق، [وبين أن يقول: إن استيقنت قدوم زيد، فأنت طالق] (1)، فتحقيق القدوم مطلوب، وإذا قال: إذا استيقنت حيالك، فأنت طالق، فوقوع الطلاق بثلاثة أقراء محال، فإذا قال: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، فالحكم بوقوع الطلاق من غير استيقان الحيال بعيد عن موجب الأيمان، وقضايا الألفاظ. وقد وجدت لشيخنا (2) ما يدل على هذا، فلذلك عدت إليه، والعلم عند الله تعالى. 8969 - ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا قال لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، ثم مرّ بها ثلاثة أشهر، ولم تر دماً، فإن كانت من ذوات الأقراء، لم نحكم بوقوع الطلاق؛ فإنا لا نحكم بأن عدتها تنقضي بالأشهر لو كانت مطلَّقة، ولو كانت على سن الحيض ولكن لم تحض، وقد قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، ومضت بها ثلاثة. أشهر، فالأشهر في حق هذه عدةٌ بعد الطلاق، مسلِّطةٌ على التزويج، فإذا قال لها: إن لم تكوني حاملاً [أو كنت حائلاً] (3)، فأنت طالق، فقياس قول الأصحاب وقوع الطلاق. وهذا على نهاية البعد؛ فإن مضي الأشهر الثلاثة أو مضي شهرٍ واحدٍِ على طريقةٍ أخرى يُفضي إلى الحكم بوقوع الطلاق، مع أن الأصل بقاء النكاح، والطلاقُ لا يقع بالشك. ثم قال الأصحاب: إذا حكمنا بوقوع الطلاق بعد مضي ثلاثة أقراء في ذوات الأقراء، فأتت بولد بعد ذلك لأقل من ستة أشهر [من وقت اليمين] (4)، بان أن الطلاق الذي حكمنا بوقوعه لم يقع؛ فإنا استيقنا أنها حامل حالة عقد اليمين، والطلاق

_ (1) زيادة من (ت 6). (2) لشيخنا: المراد والده. (3) زيادة من (ت 6). (4) في الأصل: في وقت الطلاق.

معلّق بالحيال. [وإذا] (1) أتت بالولد لأكثر من ستة أشهر، فإن لم يطأها بعد اليمين، قالوا نتبين أن الطلاق لم يقع أيضاً، وإن وطئها بعد اليمين وطأً يمكن إحالة العلوق عليه، ففي [نقض] (2) ما حكمنا به من الطلاق وجهان. هذا كلام الأصحاب، وقد أتينا فيه بأكمل البيان، نقلاً وتنبيهاً على محالٌ الاحتمال. والله المستعان. فصل قال: "ولو قالت له: طلقني، فقال: كل امرأة لي طالق، طلقت امرأته التي سألته إلا أن يكون عزلها بنيته ... إلى آخره" (3). 8975 - صورة المسألة أن الزوجة جاءت إلى زوجها مشاجِرةً، وهي تزعم: أنك نكحت امرأة وهو يترضّاها ويأبى، ويزعم أنه لم ينكح، وهي مصرّة في خصامها، فقال: كل امرأة لي فهي طالق، وهو يبغي تصديق نفسه، فلو استثنى باللسان السائلة المشاجرة، وقال: كل امرأة لي غيرُك فهي طالق، فلا تطلق السائلة، وطُلِّقت سائرُ زوجاته سواها، وإن لم يستثنها باللسان، ولا عزلها بالقلب، فظاهر كلام الشافعي أن الطلاق لا يقع ظاهراً، فإنه قال: طلقت امرأته التي سألته إلا أن يكون عزلها بنيته. فاختلف أصحابنا فذهب بعضهم إلى أن الطلاق يقع على السائلة؛ فإن قوله: كل امرأة لي، لفظٌ يعم السائلَة وغيرَها، فيجب إجراؤه على عمومه، فإذا زعم أنه خصصه، لم يقبل ذلك منه في الظاهر؛ فإنه خلاف الظاهر، وهذا القائل سلك مسلكين في نص الشافعي: أحدهما - أنه حمله على التديين والباطن، ولا يخفى على من أحاط بأصل التديين أنه إذا كان صادقاً في استثناء السائلة بنيته، لم يقع الطلاق عليها باطناً. هذا مسلك. وربما قال هذا القائل: النقل مختلٌّ، والخلل من المزني. وذهب بعض أصحابنا إلى أن الطلاق لا يقع على السائلة ظاهراً، والزوج مصدَّق،

_ (1) في الأصل: إذا (بدون واو) وت 6: وإن. (2) في الأصل: بعض. (3) ر. المختصر: 4/ 72.

وإذا اتهم حلّف، وقد مال القاضي إلى هذا، واحتج عليه بأن قرينة الحال تصدقه فيما يدّعيه، والكلام يظهر بقرينة الحال ظهورَه بقيود المقال، وسنذكر في ذلك أصلاً ممهداً في الفروع، ومن صوره أن الرجل إذا حلّ القيد عن زوجته، ثم قال: أنت طالق، وزعم أنه أراد تطليقها عن قيدها، وإنشاطها عن عقالها، وقد جرى ذلك ظاهراً، [فهل] (1) يصدَّق في حمل لفظ الطلاق على حل الوثاق والحالةُ هذه؟ فعلى اختلاف [بين] (2) الأصحاب، وهذا يجري مهما (3) اقترن باللفظ ما يُظهر قصد (4) التديين، وسيأتي ذلك مفصلاً، إن شاء الله عز وجل. 8971 - ثم ذكر القاضي كلاماً آخر بدعاً، فقال: "إذا قال: نسائي طوالق، وله أربع نسوة، ثم زعم أنه عزل واحدة منهن بقلبه، فهل نقبل ذلك منه في ظاهر الحكم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُقبل؛ لأن اللفظ العام قابل للتخصيص، وإذا وجدنا جريان ذلك في الكتاب والسنة، لم نُبعِد قبولَه ظاهراً، ويُصدَّق الزوج فيه". وهذا غريب، لم أره لغيره، ويلزم على مقتضاه أنه إذا قال: عبيدي أحرار، ثم

_ (1) في الأصل: أنها تصدق. (2) في الأصل: من. (3) مهما: معناها هنا (إذا)، وهذا المعنى غير منصوص في المعاجم. وهذا الاستعمال جاء في كتاب (العين) للخليل بن أحمد حين قال: "إذا سئلتَ عن كلمة، وأردت أن تعرف موضعها، فانظر إلى حروف الكلمة، فمهما وجدت منها واحداً في الكتاب المقدّم، فهو في ذلك الكتاب" انتهى من مقدمة كتاب العين، نقلاً عن رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس) للشيخ أحمد شاكر، وهي مستلّة من مقدمته لتحقيق وشرح (جامع الترمذي) وقد اعتنى بها فأفردها بالنشر وعلق عليها أخونا الكريم العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة- برّد الله مضطجعه، فكان من تعليقاته النفيسة، تعليقُه في هذا الموضع على كلام الخليل بن أحمد هذا، واستعمال (مهما) بمعنى (إذا) فقال: "قول الخليل هنا: (فمهما)، لفظُ (مهما) هنا بمعنى (إذا)، وهذا المعنى لم يذكر في (المعاجم)، ولم أر له شاهداً في كلام العرب فيما وقفت عليه، والعمدة في كلام اللغويين ما يروونه لا ما يلفظونه. وقد وجدت هذا الاستعمال في كلام الإمام الغزالي في "المستصفى من علم الأصول" اهـ. (ر. تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة: ص 47، وهامش رقم (1) من نفس الصفحة). (4) ت 6: معنى التديين.

زعم أنه لم يرد بالعبيد إلا ثلاثة منهم واستثنى الباقين، فيجب خروج تصديقه ظاهراً على هذا الخلاف، ولم يفرض هذه المسألة في قرينةِ حالٍ؛ حتى يستمر تخريجها على رفع القيد مقترناً بقوله: أنت طالق عن وثاق، ثم قال القاضي لو قال: نسائي طوالق، وزعم أنه عزل ثلاثاًً وبقّى واحدة، فلا يقبل ذلك منه؛ فإن الواحدة لا ينطلق عليها لفظ النساء، ولا توصف بالطوالق، ولم يذكر التفصيل فيه إذا زعم أنه استثنى ثنتين وأراد بالطلاق ثنتين. [ولعلّنا] (1) نذكر هذا الجنس في مسائل الاستثناء. وبالجملة قبول الخصوص مع صدور اللفظ عاماً من الزوج في هذا (2) الحكم غلطٌ عندنا صريح، وإنما صار إلى هذا من صار؛ من ظنه أن تخصيص العموم سائغ مطلقاً، وليس كذلك؛ فمن قال: نسائي لم يحمل هذا إلا على جميعهن، ولا يجوز تقدير التخصيص في هذا المقام، ومن أحاط بمسالك كلامنا في الأصول، لم يخف عليه دَرْكُ هذا، ولا مطمع في دركه (3) هاهنا. ثم [من] (4) أخذ من ظاهر كلام الأصوليين أن العموم يخصص، وجب معه مطالبة المخَصِّص بالدليل، فكان يجب أن يحمل هذا على طلب قرينة مُصدِّقة. فهذا منتهى القول في الفصل. 8972 - وقد ضَرِي أئمةُ المذهب بحكاية شيء عن بعض المعتبرين في هذه المسألة (5): قيل: إن رجلاً من أئمة المذهب ب (طَبَسَ) (6) كان يستقرىء (7) إلا أن

_ (1) غير مقروءة في الأصل. (2) ت 6: في ظاهر الحكم. (3) ت 6: ولا مطمع في تقرير ذلك هاهنا. (4) سقطت من الأصل. (5) المسألة: المراد مسألة الإمام الشافعي، التي دار عليها الفصل، وهي قوله رضي الله عنه: "ولو قالت له: طلقني، فقال: كل امرأة لي طالق، طلقت امرأته التي سألته، إلا أن يكون عزلها بنيته". (6) طَبَس: مدينة في برّية بين نيسابور وأصبهان وكرمان (معجم البلدان). (7) يستقرىء: أي يطلب ممن يقرأ عليه أن يقرأ عليه عبارة الشافعي المشار إليها آنفاً هكذا: إلا أن يكون عزلها.

يكون عزلها (بثُنْيته)، والثُّنية هي الاستثناء، وكان يرى أن السائلة تُطلّق إلا أن تُستثنى لفظاً. وهذا الذي ذكره كلام منعكس عليه؛ فإنه نسب الأصحاب إلى التصحيف، والتصحيف مع اعتدال الحروف قد يقع سيّما إدْا قرب المعنى، فأما الغلط في الهجاء فممّا يوبّخ به صبيان المكاتب، وقول القائل: (بثنيته) خمسة أحرف سوى الضمير، وقوله بنيّته أربعة أحرف، فلا حاصل لما [جاء] (1) به، وليس كلُّ ما يهجِس في النفس يُذكر. 8973 - وقد جرى في هذا الفصل ما ينتظم أصلاً، وشرطنا أن نذكر في كل فصل ما يليق به، ثم نذكر -إن شاء الله عز وجل- في آخر الكتاب فصلاً ضابطاً، يقع جمعاً للجوامع وربطاً للأصول اللفظية. فمما انتظم في هذه المسألة أن تخصيص العموم إذا جرى في الضمير، امتنع معه وقوع الطلاق باطناً، وهل يقبل ذلك ظاهراً إذا اقترن باللفظ قرينة كسؤال السائلة في لفظ الكتاب (2)، ففيه التردد الذي ذكرناه للأصحاب، وإن لم تكن قرينة، فادّعى اللافظ باللفظ العام التخصيص، فقد ذكر القاضي في قبول ذلك وجهين، وأسلوب كلامه أن الطلاق صريح في حكم النص، فلا يقبل في الظاهر ما يخالفه، والعام ظاهرٌ في وضع الشرع ليس بنص، فهل يُقبل من اللافظ به تخصيصُه؟ فعلى التردد الذي ذكرناه. وإذا أطلق الزوج كناية ولم ينو شيئاً، لم يقع شيء، فالألفاظ إذاً في طريقه: نصٌّ: لا يُقبل في الظاهر ما يخالفه. [وظاهر] (3): لو أطلق، نفذ كاللفظ العام، وإذا ادّعى مُطلِقه تخصيصَه، ففي قبوله وجهان.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) الكتاب: المراد به هنا المختصر. (3) في الأصل: فظاهر.

وكناية لا يسمَّى لفظاً ظاهراً في اقتضاء الطلاق، فلا يُعْمَلُ مطلقُه. وهذا ترتيب حسن، ولكن العموم في المقام الذي ذكره في حكم النص عند المحققين، كما نبهنا عليه. وسنعود إليه في مسائل الطلاق، إن شاء الله تعالى (1). ...

_ (1) جاء هنا في نسخة الأصل (ت 2/ 328) ما نصه: تم الجزء الثالث والعشرين من كتاب نهاية المطلب يتلوه -إن شاء الله تعالى- في الجزء الرابع والعشرين باب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وسلم.

باب ما يقع من الطلاق وما لا يقع

باب ما يقع من الطلاق وما لا يقع (1) قال الشافعي: "ذكر الله الطلاق في كتابه بثلاثة أسماء ... إلى آخره" (2). 8974 - هذا الفصل مشتمل على بيان صرائح الطلاق وكناياته، فنقول: الألفاظ التي تستعمل في الطلاق تنقسم إلى الصريح والكناية، فالصريح ما يَعْمل من غير افتقارٍ إلى النية، وهو مُنحصر في ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأخذ الشافعي الصرائح من التكرر في ألفاظ الكتاب، قال الله: {فَارِقُوهُنّ} [الطلاق: 2]، وقال: {سَرِّحُوهُنّ} [البقرة: 231] وقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وتكرُّرُ لفظ الطلاق في الكتاب ظاهرٌ، وأشهر هذه الألفاظ وأظهرها الطلاق، فهذا الذي جرى في الجاهلية والإسلام، وأطبق عليه معظم طبقات الخلق، ولم يختلف في كونه صريحاً العلماء، ومذهب أبي حنيفة (3) أن الصريح هو الطلاق لا غير، وقد حكى العراقيون قولاً قديماً للشافعي موافقاً لمذهب أبي حنيفة في أن الصريح لفظ الطلاق لا غير، والفراقُ والسراحُ ملتحقان بأقسام الكنايات. ثم الألفاظ الصادرة عن الطلاق صرائحُ: جرت أسماء، أو أفعالاً، فإذا قال: أنت طالق، أو طلقتك، أو أنت مطلَّقة، وقع الطلاق. وإذا جرينا على الأصح، وقضينا بأن الفراق والسراح صريحان، فلو قال: فارقتك أو سرحتك، فالذي جاء به صريحٌ. ولو قال: أنت مفارَقة أو مسرَّحة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن اللفظ صريح، كما لو قال: أنت مطلقة.

_ (1) نبدأ من هنا العمل على نسخة وحيدة، لا وجود لغيرها، ومن الله وحده نستمد العون، وهي نسخة (ت 6) من الورقة 26 شمال. (2) ر. المختصر: 4/ 72، 73. (3) ر. المبسوط: 6/ 77، البدائع: 3/ 106.

والثاني - أن اللفظ كناية؛ فإن الفراق والسراح [ما] (1) ظهرا وما اشتهرا اشتهار الطلاق، ومعتمد الشافعي في إلحاقهما بالصريح جريانهما في الكتاب، ثم لم يجر ذكرهما إلا على صيغ [الأفعال] (2)، فأما المفارقة والمسرَّحة، فلا ذكر لهما، والمطلقة مذكورة في القرآن مع شيوع لفظ الطلاق. ولو قال لامرأته: أنت الطلاق، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إنه ليس بصريح؛ فإنه غير معتادٍ، وليس جارياً على قياس اللسان، أيضاً، وكان كالمعدول عن الوضع والعرف. ومن أصحابنا من قال: إنه صريح، لأن لفظ الطلاق، لا يطلق -كيف فرض الأمر - إلا على قصد الفراق، فإن جرى لفظٌ على خلاف ما يعرف ويؤلف، فالاعتبار بأصل الكلمة. ولو قال لامرأته: أطلقتك، أو أنت مُطْلَقة، واستعمل صيغة الفعل أو الاسم، من الإطلاق، فهذا لم يتعرض له الأصحاب، وفيه تردد بيّن؛ فإن الإطلاق شائع في حلّ الوثاق وإطلاق الدواب عن رباطها، وإطلاق الأسرى والمحبوسين، وإخراج اللفظ عن كونه صريحاً أقربُ وأظهر عندنا في هذا منه إذا قال: أنت الطلاق؛ فإن الطلاق لا معنى له في الاستعمال إلا الفراق، بخلافه. ومن أسرار الصرائح أن يظهر اللفظ على غرض، [ويعد استعماله في غيره نادراً] (3) وإذا كان الاستعمال في غير جهة الطلب شائعاً، أشعر هذا بالخروج عن الصرائح في الجهة المطلوبة، على ما سنذكر التحقيق في آخر الفصل، عند نجاز المنقولات.

_ (1) في الأصل: لما. (2) في الأصل: صيغ الألفاظ. وهو تصحيف. سوّغ لنا تغييره وتصحيحه سياق الكلام وفحواه، ثم أكد ذلك قولُ العز بن عبد السلام: "والصريح هو الطلاق والسراح والفراق، وكذلك الأسماء والأفعال المأخوذة من الطلاق، كقوله: طلقتك، أو أنت مطلقة، وكذا الفعل من السراح والفراق، وفي الاسم كقوله: أنت مسرّحة أو مفارقة وجهان" (الغاية في اختصار النهاية: جزء3 ورقة 135 يمين). (3) في الأصل: "ويعد استعماله وغيره قادراً" وهو تصحيف واضح. والمثبت تقدير من المحقق.

8975 - وممّا يتعلق بذلك أن الأصحاب قالوا: معنى الطلاق بالعجميّة صريح، وزعموا أن معناه: "توهشته اي". وحكى بعض المصنفين (1) عن الأصطخري أنه لا صريح بغير لسان العرب، وهذا غريب لا أصل له (2)، وإنما اشتهر الخلاف عن الأصطخري في النكاح، كما قدمنا ذكره في الألفاظ المشتملة على ألفاظ النكاح. ثم كان شيخي أبو محمد يقول: كل لفظةٍ معدودة من الصرائح في العربية إذا ذكر معناها الخاص بلسان آخر، فهو صريح؛ فمعنى قول القائل: أنت طالق "توهشته اي" ومعنى قوله: طلقتك "دشت بازْداشْتَم"، ومعنى فارقتك: "از تو جُدَا كَرْدَم، ومعنى سرحتك: "تُراكسيل كردم". وقال القاضي: الصريح من هذه الألفاظ "توهشته اي"، فأما قوله: "دستت باز داشتم" فليس بصريح. وهذا غير سديد؛ فإن قول القائل: "دشت بازداشتم" هو تفسير قوله طلقتك، وإذا كان قوله: "توهشته اي" صريحاً؛ من حيث إنه معنى قوله: "أنت طالق" فقوله: "دشت بازداشتم" هو معنى قول القائل: "طلقتك" فلا معنى لإبداء المراء في هذا. أما معنى فارقتك وسرحتك، فالظاهر أنه ليس بصريح؛ فإنا في المفارقة والتسريح على تردد، كما نبهنا عليه. وإذا اختلف الأصحاب في المفارقة والمسرَّحة مع اتحاد اللغة، فهذا في معنى المفارَقة والتسريح أظهر. فهذا ما رأينا نقلَه، ولا بد الآن من الكلام في مأخذ الصرائح. 8976 - الذي يقتضيه الفقه أن الصريح إذا لم يتعلق به توقيف وتعبد، يؤخذ من الشيوع، ومحاولةِ أهل العرف حصرَ اللفظ في مقصودٍ، فإذا اجتمع هذان المعنيان، ترتب عليهما ابتدار المعنى إلى الأفهام؛ فإن التردد ينبت من إشكال اللفظ في نفسه،

_ (1) بعض المصنفين: المراد به أبو القاسم الفوراني كما أشرنا مراراً من قبل، والتعبير عنه بهذا الأسلوب دائماً، هو نوع من الحط عليه، على حد تعبير ابن خلكان. (2) يضغف الإمامُ الفورانيَّ في هذا النقل عن الإصطخري، ويصفه بالغرابة، وهذا ما قاله السبكي، وأشرنا إليه من قبل.

ومن جريانه في معانٍ، فإذا ظهر لفظٌ على إرادة معنى واحد، فهو يُفهِمه ويُعلِمه، وحكمنا في مساق الفقه أن من صدر منه لفظ يبتدر فهمُ الناس معناه، فإذا زعم أنه أراد خلاف ما تبتدره الأفهام، كان ما أضمره خلافَ ما أظهره، وعند ذلك تترتب مسائل التَّديين؛ فإنّ ما يُدَيّن المرء فيه يتعلق بمقتضى اللفظ، ولكنه خلاف ما يظهر منه، ويندر من ذي الجدّ أن يطلقه على خلاف معناه المستفيض إلا أن يريد إلغازاً أو تعقيداً، ثم حُكمنا أنا لا نقبل في الظاهر خلاف الظاهر، ولا نصدِّق من يبدي إضماراً على خلاف ما أظهره، هذا معنى الصريح. وقد يثبت في النكاح تعبّد قررناه في بابه، فلا ينبغي أن يكون على ذلك الباب التفات. وقد أطبق الفقهاء قاطبة على أن المعتبر في الأقارير والمعاملات إشاعة الألفاظ وما يفهم منها في العرف المطرد، والعباراتُ عن العقود تُعنَى لمعانيها، وألفاظ الطلاق عبارات عن مقاصد، فكانت بمثابتها، وموجب هذه الطريقة أن لفظة أخرى لو شاعت في قُطْرٍ وقومٍ شيوع الطلاق -كما قدمنا معنى الشيوع- فهو صريح، وعلى هذا الأصل قول القائل لامرأته: أنت عليّ حرام، أو حلال الله عليّ حرام، ملتحق في قُطرنا وعصرنا بالصرائح. 8977 - وذهب ذاهبون من الأصحاب إلى أنا لا نزيد على الألفاظ الثلاثة: الطلاق، والفراق، والسراح. ولا نظر إلى الظهور والشيوع، وهذا القائل اعتقد أن مأخذ الصرائح يتعلق بالتعبدات والتلقِّي من لفظ الكتاب وتوقيف الشارع، وقد يعتضد في ذلك بإلحاق الشافعي الفراق والسراح بالصرائح، [وليست أكثر اختصاصاً] (1) من

_ (1) عبارة الأصل: "وليس أنا اختصاص من الباين ... " وواضحٌ أن فيها خللاً لا ندري سببه، أهو تصحيف وتحريف أم خرم، أم هما معاً. والصواب الذي لا يحتمل السياق غيره، يؤديه -إن شاء الله- هذا المثبت بين المعقفين، تصرفاً من المحقق، فالمعنى أن الشافعي رضي الله عنه ألحق الفراق والسراح بصريح لفظ الطلاق، مع أن البائن والبتة، والبتلة، والخلية ليست أقل اختصاصاً بالطلاق -في لسان العرب- من الفراق والسراح، فدل ذلك على أن مأخذ الصرائح التلقي من لفظ القرآن، وتوقيف الشارع.

البائن، والبتة (1)، والبَتْلَة (2)، والخليّة، في لسان العرب فإذا خصّصها الشافعي بالإلحاق وبالصرائح، أشعر هذا برجوعه إلى مورد الشرع. وهذا يتطرق إليه نوعان من النظر: أحدهما - أنا لا نُبعد شيوع الفراق والسراح في العرب في بلادها، وهذا فيه بعض النظر، فإن الشافعي تعلق بالقرآن. والوجه الآخر من النظر - أنه ليس في إلحاق الفراق والسراح بالصّرائح ما ينفي التعلق بالإشاعة؛ إذ لا يمتنع أن يقول القائل: للصرائح مأخذان: أحدهما - الجريان في ألفاظ الشرع. والثاني - الشيوع في الاستعمال، كما سبق تفسيره. وفي [النفس] (3) شيء من الفراق والسراح؛ فإنه لم يظهر لنا من الخطاب قصد بيان لفظ التسريح والمفارقة، ولكن جرى معنى ترك النسوة وحل ربقة النكاح في مقابلة ذكر الإمساك، فإنه قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ففهم المخاطبون أن الزوج مأمور بأن يمسك المرأة أو يخلّي سبيلها، فالغرض الذي سيق الخطاب له ترديد الزوج بين هذين المقصودين، وليس من الغرض الظاهر أن يقول لها: سرحتك، وهو بمثابة قول القائل: أكرم هذا السائل، أو سرحه. ليس المراد بهذا: قُلْ له: انسرح. وكذلك القول في فارقوهن. وأما الطلاق، فقد اشتملت الآي على الاعتناء بألفاظها وعددها، ويقوى على هذا المسلكِ القولُ القديمُ الموافق لمذهب أبي حنيفة في حصر الصريح في لفظ الطلاق. وتحصَّل من مجموع ما ذكرناه تردّدُ الأصحاب في مأخذ الصريح، كما أوضحناه. 8978 - وحكى القاضي عن شيخه القفال أنه كان يقول في لفظ التحريم: إذا قال الرجل: حلال الله عليّ حرام، ونوى طعاماً صُدّق، وإن أطلقه وكان أَنِساً بالفقه عالماً

_ (1) البتة: من البت والقطع، فقوله لامرأته: أنث بتة أي مقطوعة، وبتّ طلاق امرأته أي طلقها طلاقاً لا رجعة فيه (المعجم والمصباح). (2) البتْلة: من البَتْل وهو القطع: بَتَله بتلاً: قطعه، ويمين بَتْلة: قاطعة، وصدقة بَتْلة: منقطعة عن صاحبها خالصة لوجه الله. (المعجم)، فالمعنى هنا "أنت بتلة" أي مقطوعة العقد والصلة. (3) في الأصل: "التفسير" وهو تصحيف واضح.

بأن الكناية لا تعمل إلا مع النية، فإذا أطلق اللفظ ولم ينو، لم يقع الطلاق، فإن كان [عاميّاً] (1)، سألناه عما سبق إلى فهمه من إطلاق عامّي آخر لهذه الكلمة، فإن زعم أنه يسبق إلى فهمه الطلاق قيل له: لفظك محمول على فهمك لو كان اللافظ غيرك. وهذا توسط بين الصريح والكناية وضربٌ من التحكم. 8979 - ونحن نبُدي في هذا أصلاً ضابطاً ونقول: اللفظ الصريح المتفق عليه الشائع في طبقات الخلق هو الطلاق، فحكمه أن يعمل مطلَقُهُ ممن صدر منه، ومن أبدى فيما زعم عقداً ونيّة بخلاف موجب اللفظ، التحق بباب التديين. هذا قسم. ويعارضه الكناية التي سنصفها، وهي لفظة محتملة غير شائعة في الطلاق، فسبيل هذا القسم ألا يعمل اللفظ إلا مع النية، ومطلَقُه لاغٍ، والرجوع إلى قصد المطلِق. ويتخلل بين الصريح الّذي قدمناه وبين الكناية قسم ثالث يعمل مطلَقه عند الأصحاب من غير نيّة، فإذا زعم صاحب اللفظ أنه قصد خلاف الظاهر، فقد يقبل ذلك منه ظاهراً، ويكون في قبوله خلافٌ. وبيان ذلك بالمثال أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أحسن الطلاق، فمطلَق هذا محمول على الطلاق السُّني، وإن لم ينو الزوج الطلاق السّني، ولو زعم أنه أراد بالأحسن تعجيل الطلاق في زمن الحيض، فهو مقبول منه، فهذا يحمل مُطلَقه على محملٍ، ويجوز العدول عنه بالقصد. وسيأتي لهذا نظائر. ثم تنقسم المسائل: فقد يتفق الأصحاب على إعمال اللفظ على جهةٍ عند الإطلاق، ويختلفون في أن تلك الجهة هل تتغير بالقصد المخالف لها، وقد يتفق الأصحاب على إعمال القصد على وجه ويختلفون في الإطلاق، وهو مثل قول القائل: أنت طالق طالق طالق، فلو زعم أنه أراد التأكيد، قبل منه، ولم يقع إلا طلقة واحدة، ولو قال: لم أقصد التأكيد، ولكن أطلقت هذه الألفاظ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نحكم بوقوع الثلاث إذا كانت المرأة مدخولاً بها.

_ (1) في الأصل: عاماً.

والقول الثاني - أنه لا يقع إلا واحدة. ولكل أصلٍ من هذه الأصول ضابطٌ سيأتي مشروحاً -إن شاء الله- وإنما ذكرنا هذا المقدارَ لغرضٍ، فنقول: الطلاق لا يصرفه عن معناه إلا هازل، أو منفردٌ بقصد إلغازٍ، ولفظ التحريم قد يجرى استعماله مصروفاً عن قصد الطلاق، فإذا أُطلق، فهو شائع في قصد الطلاق، فينقدح [فيما] (1) هذا سبيله أن يصدّق في الظاهر من زعم أنه نوى غير الطلاق. وإن قال: لم أنو شيئاً، انقدح فيه الحمل على موجب الألفاظ. وانتظم من هذا أن ما استمرت الاستفاضة فيه كلفظ الطلاق، فلا معدل عنه إلا على حكم التديين، وما شاع شيوعاً بيّناً، ولكن قد يعتاد بعض الناس استعماله على قصدٍ آخر، فما كان كذلك، وهو زائد على الألفاظ الثلاثة، فهو محلّ تردد الأصحاب: فمنهم من لم يلحقه بالصرائح، ولم يُعمل مطلَقه، ومنهم من ألحقه بالصرائح، وجعله كلفظ الطلاق. ومنهم من فصَّل بين أن يقصد غير الطلاق، وبين أن يُطلقه، كما حكيناه عن القفال رضي الله عنه، ثم على رأيه إن صار لفظ التحريم في الشيوع كالطلاق، التحق بالطلاق، فهذا وجه في الصرائح. 8985 - فأمّا الكنايات فقد وصفناها ومن ضرورتها أن تكون مشعرة بمعنى الطلاق، ولكن لا تكون شائعة على التفسير المقدم، فما كان كذلك، افتقر إلى النية ولغا مطلَقُه، وهذا كالخليّة (2)، والبرية (3)، والبائنة (4)، وما يشبهها وقد قسمها الأصحاب إلى الجلية وإلى الخفية، فالجلية منها ما ظهر معناها، وقد يجري

_ (1) في الأصل: فيها. (2) الخلية: أصلها مأخوذ من ناقة خليّة، أي مطلقة بغير عقال، ترعى حيث شاءت. ثم قيلت في طلاق المرأة (المصباح) وفي غريب ألفاظ الشافعي: معناها أنها خلت منه وخلا منها، فهي فعيلة بمعنى فاعلة. (فقرة: 717) من الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي. (3) البرية: مسهلة الهمزة: "أي برئت منه وبرىء منها". قاله الأزهري (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 718). (4) البائنة: الأفصح البائن، وهي من بان الشيءَ إذا فصله وقطعه، فهو بائن، ومنه: بان صاحبه إذا فارقه وهجره (المعجم) و (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي).

استعمالها جرياناً ينحط عن الاستفاضة والحصر في معنى الطلاق، وما ذكرناه من الألفاظ من الجليّات ومنها: الخلية، والبريّة. والخفيةُ كقول القائل لامرأته: اعتدي، واستبرئي رحمك، والحقي بأهلك، وحبلُكِ على غاربكِ، ولا أَنْدَه سرْبَك (1)، واغربي، واذهبي، وتجرّعي وتجردي، وما في معناها، مما يشتمل على تقديرٍ أو استعارةٍ. والتقدير في مثل قولك: اعتدّي: معناه طلقتُ، فاعتدي، والاستعارة في مثل قولك: تجرّعي، أي معناه: تجرعي مرارة الفراق، وكذلك حبلك على غاربك، وما في معناه. وإذا ذكر لفظة ليس فيها إشعارٌ بمعنى الطلاق، وزعم أنه نوى الطلاق، لم يقع شيء؛ لأن اللفظ غير مشعرٍ، والنية المجردة لا تتضمن وقوع الطلاق، وقد يتردد الأصحاب في بعض الألفاظ، فإذا قال لها: كلي، أو تنعمي، فهذه الألفاظ لا إشعار فيها، ولو قدّر مقدر فيها معنى الطلاق على بُعدٍ، عُدَّ ذلك من التعقيد الذي لا يتعلق بأصناف البيانا، ودرجاتِ الألفاظ المستعملة في المقاصد. ولو قال: اشربي، فالظاهر أنه لا يقع الطلاق وإن نواه. ومن أصحابنا من قضى بوقوع الطلاق حملاً على تقدير: اشربي كأس الفراق، وهذا بعيد. فهذا بيان مراتب الألفاظ في عقد الباب. ولو قال لامرأته: لستِ لي بزوجة، فهذا إقرار صريح بنفي الزوجية، كما سنفصله في فروع الطلاق. ولو قصد به إنشاء الطلاق، فالمذهب أنه يقع، لإشعار اللفظ بذلك. ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق؛ فإن اللفظ صريح في الإقرار والإخبار، وهذا ليس بشيء.

_ (1) في الأصل: ولا أندره سربك، والتصويب من الشرح الكبير والروضة. ومعنى لا أنده سربك: أي لا أزجر إبلك، من نده الرجل: صات، ونده البعيرَ ونحوه: زجره وطرده عن أي شيء بالصياح، وكان من طلاقهم من الجاهلية أن يقول الرجل: "اذهبي فلا أنده سربك" (المعجم. وفي الزاهر: "لا أنده سربك، أي لا أرعى إبلك ولا أردها عن مرعى تريده، لأنك لست لي بزوج، فاذهبي مع مالك حيث شئت".

8981 - فإذا تبين أن الكنايات لا تعمل بأنفسها، فمذهب الشافعي أنها لا تعمل مع القرائن أيضاً من غير نيّة، والرجوعُ في النية إلى الزوج، فإذا سألت الطلاق، فقال: "أنت بائن"، وظهر من مخايله أنه قصد إسعافها، فلا تعويل على ذلك عند الشافعي، وإذا قال: لم أقصد الطلاق، فالقول قوله مع يمينه، وكذلك الكلام فيه إذا أجرى الزوج بعض هذه الألفاظ في حالة الغضب، وقد ظهرت على مخايله التبرم بالمرأة، ومحاولة الخلاص منها، فالرجوع مع ذلك كلِّه إلى نيته. وخالف أبو حنيفة (1) على تفصيل له في الألفاظ، فأعمل قرائن الأحوال، وقرينة السؤّال. فإن قال قائل: قد ذكرتم في مأخذ الأصول (2) أن قرائن الأحوال تثير العلوم الضرورية، فإذا اقترنت تلك القرائن بألفاظ الزوج، فكيف ترون الرجوع إلى نيَّة الزوج، وقد علمتم قصده بقرائن الحال؟ قلنا: لا ينتهي الأمر في قرائن الأحوال في مأخذ الفقه إلى هذا المنتهى، وهي متفاوتة جداً، وليس من قواعد الفقه فتح أمثال هذه الأبواب؛ فإن مُدركَ قرائن الأحوال في القصود عسرٌ جداً، فحسمنا هذا الباب حسماً. وقد تُعتمد القرائن في تحمل الشهادات مع ابتناء أمرها على طلب التحقيق، فالذي يشاهد صبياً يمتص ثدياً فيه لبنٌ قد يشهد على ارتضاعه، ولا تعويل على القرائن فيما نحن فيه، وسبب ذلك أن الصبي لا تردد فيه إذا كان يمتص ثدياً فيه لبن، ومخاطِب زوجته لا ينتهي إلى منتهى يحكم على قصده قطعاً، وقد يشهد بذلك اختياره كنايةً مع إمكان التلفظ الصريح. فهذا ما يجب التنبيه فيه. 8982 - ثم إذا بان أن النية لا بد منها، فلو قدّم النيةَ، ولما تلفظ، لم يكن ناوياً مع اللفظ، لم يقع شيء؛ فإن النية منقطعة عن اللفظ، واللفظُ متأخر عن النية، ولو قدّم اللفظ، ثم نوى، فالجواب كذلك.

_ (1) ر. البدائع: 3/ 106، تبيين الحقائق: 2/ 215. (2) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة: 503.

ولو استفتح النية مع اللفظ وتمت نيته، وبقي من لفظه شيء، فظاهر المذهمب وقوعُ الطلاق. ومن أصحابنا من قضى بأنه لا يقع. ولو استفتح اللفظ عريّاً عن قصد الطلاق، ثم أتى بالنية في أثناء اللفظ، وانطبق آخر النية على انتجاز اللفظ، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن الطلاق يقع؛ نظراً إلى وقت انتجاز اللفظ. والثاني - أن الطلاق لا يقع؛ لأنه لم ينشىء اللفظ على قصد الطلاق، فقد مضى صدرٌ منه عرياً عن قصد الطلاق، وباقي اللفظ لا يستقل بنفسه فتجرّدت النية عن اللفظ. ولو فرضنا إنشاء النية واللفظ، ثم انتجز اللفظ وما تمت النية بعدُ، لم يقع الطلاق. وقد ذكرنا أمثال هذه الصور في نية الصّلاة مع تكبيرة الإحرام، وبين الأصلين فرق يتنبه له الفقيه، وهو أن نية الصلاة ليست قصداً إلى معنى التكبير، ونيةُ الطلاق قصدٌ مختص بمعنى اللفظ واللفظ دونه لا يستقل، والنية وتكبيرة الإحرام ركنان في الصلاة [وليست] (1) النية قصداً إلى خاص معنى التكبير. ثم سرُّ النية القصدُ، والقصد لا يطول، [وقد] (2) يفرض فيه تردد إلى التجرُّد، ومن كان هذا على ذُكره استغنى عن كثير من تطويلات الفقهاء، ثم القصد خصلةٌ، فلا يتصور انبساطها، واللفظ منبسط، فحق الاقتران أن يُقرن اللافظ القصدَ بأول اللفظ، ثم يُديم ذكرَ القصد لا عينَه، والذكر العلمُ، وكذلك الحفظ. 8983 - وإذا أطلق الزوج لفظاً في الكناية، وزعم أنه لم ينو الطلاق، فالقول قوله، وللمرأة تحليفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، فلها أن تحلف، فإذا حلفت يمينَ الرد، قُضي بوقوع الطلاق، فإن قيل: على ماذا يُحمل يمينها ولا اطلاع لها على قصد الزوج؟ قلنا: معتمد يمينها قرائن الأحوال والمخايل الدالة على القصود، فلها أن تعتمد أمثال ذلك، وتبني يمينها عليه، وسنوضح في الدعاوى والبينات أن الأيمان تعتمد ذلك.

_ (1) في الأصل: ليست (بدون واو). (2) في الأصل: قد (بدون واو).

فصل قال: "ولو قال: أنت طالق من وثاقٍ ... إلى آخره" (1). 8984 - كل ما لو ادعى الزوج القصدَ فيه،؛ دُيّن (2)، ولم يُقبل في الظاهر، فإذا وصله بلفظٍ حُمل أول اللفظ عليه، فإذا قال: أنت طالق عن وِثاقٍ، لم نقضِ بوقوع الطلاق، بهذا اللفظ؛ فإن الكلام منتظم، وأول النطق مربوط بآخره، وهذا يضاهي أصلَ الاستثناء، وحكمنَا بتصحيحه، كما سيأتي، وكذلك إذا قال: فارقتك إلى المسجد، أو سرحتك إلى أهلك، حتى تتنزهي وتعودي، فكل ذلك مقبول. ومما ذكره الفقهاء أن الرجل إذا أطلق لفظةً صريحةً ونوى ما لا يقبل، [فهو لا يقبل] (3) ظاهراً، ولكن يُديَّن الزوج فيه، فلو ادعى الزوج شيئاً من هذا، لم يقبل قوله، ولو قال لامرأته: أنت تعلمين ذلك مني، فهو لغو؛ فإنها وإن صدّقته فيما ادعاه، فالطلاق لا يندفع رعايةً لحق الله تعالى، فلا مساغ للتحليف في هذا المجال؛ فإن الغرض من عرض الأيمان أن يرعوي المستحلَف أو يقرّ، [وقد] (4) ذكرنا أن إقرار المرأة لا أثر له، فلا معنى لتحليفها. فصل قال: "ولو قال لها: أنت حرة يريد الطلاق ... إلى آخره" (5). 8985 - غرض الفصل أن لفظ الإعتاق كنايةٌ في الطلاق، ولفظ الطلاق كناية في الإعتاق، وأبو حنيفة (6) يمنع إعمال الطلاق في الاعتاق، ومعتمد المذهب أن الكناية

_ (1) ر. المختصر: 4/ 73. (2) دُيّن: أي ملّك أمر دينه، وتُرك وما يدين الله به بينه وبين نفسه. (3) زيادة من المحقق لا ستقامة الكلام. (4) في الأصل: قد: بدون واو. (5) ر. المختصر: 4/ 74. (6) ر. رؤوس المسائل: 416 مسألة: 285، إيثار الانصاف: 186.

تتطرّق إلى البابين جميعاً، ومعنى الكناية لفظٌ محتمل مشعرٌ كما قدمناه، وجملة كنايات الطلاق والعتاق مشتركة في البابين. 8986 - والذي يستثنى من الإشعار أن الرجل إذا قال لامرأته: "أنت طالق" وزعم أنه نوى ظهاراً، فالطلاق مشعرٌ بمعنى الظهار، وإذا قال لها: أنت عليَّ كظهر أمّي، ونوى بذلك الطلاق، فاللفظ مشعر بمعنى الطلاق، ولا يعمل واحد من اللفظين في مقصود الثاني. والضابط فيه: أن اللفظ إذا كان صريحاً في بابه، ووجد نفاذاً، فلا سبيل إلى ردّه عن العمل فيما هو صريح فيه، وإذا كان يعمل لا محالة فيما هو صريح فيه، فيستحيل أن يكون صريحاً نافذاً في أصله ووضعه، ويكون كناية منويَّة في وجه آخر. فإن قيل: إن كان يبعد صرف الصريح عن معناه، فأيُّ بعدٍ في الجمع (1) بين المعنيين؟ قلنا: اللفظة الواحدة إذا كانت تصلح لمعنيين، فصلاحها ليس يقتضي اجتماع المعنيين، وكذلك القول في كل لفظ مشترك سبيل صلاحه للمعاني أن يصلح لكل واحد منهما على البدل، فأما أن تكون مجتمعة اجتماع المسميات تحت صيغة الجمع، أو تحت لفظٍ عام، فلا. فإذا تعين إجراء اللفظ صريحاً، امتنع إجراؤه في معنى آخر، فإذا استعمل الطلاق في العتاق، فليس الطلاق صريحاً واجداً محلّه حتى ينفذ، وكذلك العتاق، إذا استعمل في الطلاق. 8987 - ولو قال لعبده: اعتدَّ واستبرِ رحمك، وزعم أنه نوى العتق، لم ينفذ؛ فإن هذا اللفظ في حكم المستحيل في حقه، وقد ذكرنا أن الكنايات لا بد وأن تكون مشعرةً بالمعنى المقصود. وإذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: اعتدي واستبرئي رحمك، وزعم. أنه نوى الطلاق، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يقع الطلاق؛ لأنها إذا لم تكن ممسوسة، فليست من أهل العدّة. والأظهر - وقوع الطلاق؛ فإنها محل العدة على الجملة، إذا توافت شرائطها، والإشعار كافٍ، وهو بيّنٌ.

_ (1) عبارة الأصل مضطربة: هكذا "فأي بعد في المعنيين الجمع بين المعنيين".

ولو قال لأمته: اعتدي واستبرئي رحمك، فلا [شك] (1) أنه إذا نوى العتق، عَتَقت. ولو قال لأَمَته: أنت عليّ كظهر أمي، ونوى العتق، فالظاهر أنها تَعتِق، وذكر القاضي وجهاً - أنها لا تعتق؛ فإن هذا اللفظ بعيد عن الإشعار بالعتق. وهذا لا أصل له، والوجه القطع بوقوع العتق؛ تعويلاً على الأصول التي مهدناها. 8988 - وقد يعترض على مضمون هذا الفصل أن الرجل إذا قال لأمته: أنت علي حرام، فمطلق هذا صريح في اقتضاء كفارة اليمين، كما سيأتي التفصيل فيه، إن شاء الله تعالى، ثم لو نوى به العتق، نفذ العتقُ، وهذا يَرِدُ على قولنا: الصريحُ إذا وَجَد نفاذاً، لم ينتقل عنه، وسأقرّر هذا على وجهه في فصل التحريم، إن شاء الله تعالى، وهو بين (2) أيدينا. فصل قال: "ولو قال: أنت طالق واحدةً بائناً ... إلى آخره" (3). 8989 - مضمون هذا الفصل أن البينونة الباتّة لملك النكاح منوطةٌ عندنا بوقوع الطلاق مع انتفاء العدة (4)، أو بوقوع الطلاق مع العوض، وإذا فرض استيفاء العَدد، انضم إلى زوال ملك النكاح تحريم عقد النكاح، حتى يجري التحليل، فأما وقوع الطلاق مع قيام العدة من غير عوض، ولا استيفاء عَددٍ؛ فإنه يستعقب سلطان الرجعة لا محالة، ولو أراد الزوج أن ينفي الرجعة من غير عوض ولا استيفاء عدد، لم يكن لذلك معنى مع قيام العدة، وكان كمن يريد تحريم عقد النكاح من غير استيفاء عدد، وما ذكرناه مكرراً من العدة إشارة إلى شيئين: أحدهما - أن الطلاق إذا لحق التي ليست مدخولاً بها، فلا عِدَّةَ، فلا جرم كان الطلاق مُبيناً، وكذلك إذا صادف الطلاقُ

_ (1) في الأصل: فلا ظاهر. (2) بين أيدينا: أي أمامنا بمعنى أنه سيأتي بعدُ. (3) ر. المختصر: 4/ 74. (4) انتفاء العدة: أي عدم وجوبها أصلاً، أو انتهائها وعدم بقائها.

ممسوسة، وجرت في العدة، فهي رجعية، فإذا لم يرتجعها زوجها حتى انقضت العدة، بانت، والسبب فيه انتفاء (1) العدّة والرجعة مع بقاء الطلاق. وأبو حنيفة (2) ينفي الرجعة بمسلكين: أحدهما - أن يطلّق الزوج ممسوسة من غير عوض، ويشترط قطع الرجعة، فالرجعة تنقطع عنده بشرط القطع. والمسلك الثاني - أن يقع الطلاق بكناية من الكنايات تُشعر بالبينونة، فإذا نوى الطلاق بها، كان الطلاق مُبيناً لا محالة، وإن لم يقصد الزوجُ قطعَ الرجعة. فانتظم من مذهبنا أن الرجعة لا تنقطع بالقطع، ولا بلفظة، وإنما تنقطع بالعوض، وعدم العدة، واستيفاء العَدد. فصل 8990 - المرأة إذا ادّعت على الزوج أصلَ الطلاق، فأنكره أو ادّعت عليه نية الطلاق، فدعواها مسموعة واليمين معروضة، ومردودة (3)، ولو لم تدّع، فشهد شاهدان حسبةً على الطلاق، سُمعت شهادتهما؛ فإن حق الله تعالى غالب في الطلاق، وآيةُ غلبته أن الواقع لا ينتفي بتراضي الزوجين. فلو ادعى واحدٌ من الناس على رجل أنه طلق امرأته، فهذا ليس بدعوى، فإن كانت عنده شهادةٌ، فليقمها من غير دعوى، والمرأة لو أرادت أن تَشهد على طلاق الزوج، لم تجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن الحظ يرجع إليها من الخلاص، ولها مقام الدعوى.

_ (1) انتفاء العدة والرجعة: يستخدم الإمام هنا "انتفاء العدة" بمعنى عدم بقائها وانتهائها، وبمعنى عدم وجوبها أصلاً. وذلك واضح تماماً في قوله في أول الفصل: "مضمون هذا الفصل أن البينونة الباتة لملك النكاح منوطة عندنا بوقوع الطلاق مع انتفاء العدة، أو بوقوع الطلاق مع العوض ... إلخ". (2) ر. المبسوط: 6/ 73، رؤوس المسائل: 400 مسألة 283، البدائع: 3/ 112، إيثار الإنصاف: 170. (3) أي معروضة على الزوج، ومردودة -عند نكوله- على الزوجة.

ْولو طلقها زوجُها طلقةً رجعيةً، ثم زعمت المرأة أنه طلقها طلقة أخرى، فإن راجعها، فلها أن تدعي حينئذٍ، وإن أرادت أن تدعي وهي جارية في عدة الرجعة، فظاهر المذهب أن دعواها مسموعة؛ فإن الرجعية زوجة، ومن أصحابنا من قال: لا تسمع دعواها؛ فإنه ليس لها غرض صحيح في الحال؛ إذ الحيلولة ناجزة، والرجعة لا تنقطع بالطلقة الثانية. والأصحُّ الأول. فصل قال: "ولو كتب بطلاقها، فلا يكون طلاقاً إلا أن ينويه ... إلى آخره" (1). 8991 - نقول في صدر الفصل: الأخرس يقيم إشاراته المُفْهمة مقام عبارات الناطق، فيقع بإشارته طلاقُه وعتاقه، ويصح بيعُه وشراؤه وسائرُ عقوده، وحلوله وردوده، ثم يقع طلاقه بإشارةٍ لها رتبة الصّريح، ويقع بإشارة ونيّة لها رتبة الكناية، وتصح أقاريره ودعاويه، ولا تطويل؛ فإشارة الأخرس كعبارة الناطق. ولم يختلف أصحابنا إلا في الشهادة، فمنهم من صحح شهادة الأخرس، ومنهم من أباها، ولعله الأصحُّ. وممّا يتعلق بتحقيق ذلك أن الأخرس إذا أبلغ في الإشارة، فالصّريح منها ما يفهم منها الطلاق، ولا يختص بفهمه أصحاب الفطنة والدرْك، بل يعمّ دركُ المقصود منه، فهذا يُلحق إشارته بالصريح الذي يفهم منه الطلاق على شيوع، فإن ترددت إشارته، وكانت صالحةً للطلاق ولغيره، أو كان يختص بدَرْكه الفطن، فهذا يلحق بالكناية. وإذا أبلغ الأخرس في الإشارة، ثم زعم أنه لم ينو الطلاق، فالذي يظهر عندي أن هذا يلتحق بالقسم المتوسط بين الصريح والكناية حتى يتردّد فيه، [كما لو استعمل اللفظ الشائع في الطلاق، وقال:] (2) قصدت غير الطلاق، وليس كلفظ الطلاق في

_ (1) ر. المختصر:4/ 75. (2) عبارة الأصل: "حتى يتردّد فيه فتوى قوله قصدت غير الطلاق ... " وهي غير مستقيمة، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء ما حكاه -بمعناه عن الإمام- كل من الرافعي والنووي، فعلى سبيل المثال قال الرافعي: "ولو بالغ في الإشارة، ثم ادّعى أنه لم يرد الطلاق، قال =

حق الناطق (1)، فهذا، غائصٌ فقيه، فليتأمله الناظر. 8992 - ومما وقع في الوقائع أن الأخرس إذا أشار في الصلاة بالطلاق أو بغيره من العقود [والحلول] (2)، فلا شك أنا نُنفّذ منه مقتضى إشاراته، وإذا [نفَّذناها] (3)، ففي القضاء ببطلان الصلاة تردّد، والظاهر أنها لا تبطل، وقد قدمنا ذكر ذلك فيما تقدّم. وإذا كتب الأخرس بالطلاق، نفذ الطلاق [منه] (4)؛ فإن الكِتْبة (5) أوقع في البيان من الإشارة، ولو قدر على الكِتْبة، فأشار، نفذت إشارته؛ فإن الكتابة في مرتبة الإشارة، فليفهم الناظر هذا، وإن كانت الكتابة منتظمة والإشارات لا نظم لها. 8993 - فإذا ثبتت هذه المقدمات، استفتحنا بعدها القول في كتابة الناطق، فنقول: القادر على النطق إذا كتب الصّيغة الجازمة بالطلاق، قال الأئمة: إن كتب، وقرأ، ونوى، وقع الطلاق. فإن قيل: إذا قرأ، فقد صرّح ونطق، فأيّ حاجةٍ إلى النيّة؟ قلت: نعم، هو كذلك، ولكن القراءة مع النظر في المكتوبات يتأتى حملها على محمل الحكاية، فيتنزل هذا عندنا -وإن كان اللفظ صريحاً- منزلة ما لو قال: في حالِ حَلّ قيدها: أنت طالق، ثم زعم أنه أراد تطليقها عن وثاق، وفيه التردد الذي قدمناه. وإن صرح وقال: إنما أريد أن أحكي، فهذا كما لو قال: أنت طالق عن وِثاق.

_ = الإمام: هو كما لو فسّر اللفظة الشائعة في الطلاق بغير الطلاق " (ر. الشرح الكبير: 8/ 536). (1) المعنى: أن الناطق إذا ذكر لفظ الطلاق صريحاً، ثم زعم أنه لم ينو الطلاق، لم يقبل منه، بخلاف الأخرس إذا أبلغ في الإشارة المفهمة حتى يفهم منها الطلاق جميع الخلق، ولا يختص بذلك ذوو الفطن، فهذا ملحق بصريح اللفظ، ولكنه يختلف عن اللفظ الصريح بأنه لو زعم أنه لم ينو الطلاق التحق عند الإمام بالقسم المتوسط بين الصريح والكناية. (2) في الأصل: والحلود. (وهو تصحيف واضح). (3) في الأصل: فإذا نفذ فلها. (4) في الأصل: فيه. (5) الكتبة: الكتابة، تقول: كتب كتابة، وكِتْبة بكسر فسكون، وكَتباً بفتح وسكون، والاسم الكتابة، لأنها صناعة، كالتجارة والعطارة. (المصباح).

وإن كتب ولم يقرأ، ونوى الطلاق، فقد نص هاهنا [على] (1) الوقوع (2)، ونصَّ في الإملاء على أنه إذا كتب بطلاق زوجته ونوى، لم يقع طلاقه، وقال في كتاب الرجعة: ولا يكون رجعة إلا بكلام، كما لا يكون نكاح ولا طلاق إلا بكلام (3). فاختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن الطلاق لا يقع؛ فإن الكاتب قادر على العبارة، فليعبر عن غرضه؛ فإن العبارة أصل البيان، والكتابةُ فعلٌ. والقول الثاني - أن الطلاق يقع؛ فإن الكتابة مما يتفاهم بها العقلاء، وهي أحد البيانين. ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق بالكتابة مع النية قولاً واحداً، وما ذكره في الرجعة قصد به الردَّ على أبي حنيفة (4) في مصيره إلى أن الوطء رجعة، ثم استمر في كلامه كما وصفناه، ونصُّ الإملاء عند هذا القائل محمول على الأخرس، أو على الغائب، كما سنبين التفصيل فيه. ثم فرّع الأئمة الحاضر وجعلوه أولى بأن لا يقع طلاقه بالكتابة؛ من جهة اقتداره على الإفهام بالنطق والكلام، والغُيَّبُ يعسر عليهم المناطقة، فتصير الكتابة في حقهم بمثابتها في حق الأخرس. والذي تحصّل من كلام الأصحاب طريقان في الحاضر، وطريقان في الغائب على العكس، فأما الطريقان في الغائب، فمن أصحابنا من قطع بوقوع الطلاق، ومنهم من ذكر قولين.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) نص هاهنا على الوقوع: المراد في المختصر، وهي العبارة التي صدّر بها الفصل: "ولو كتب بطلاقها، فلا يكون طلاقاً إلا أن ينويه". (3) يريد بحكاية هذا الكلام أن يشير إلى القول المخرج من هذه العبارات: "ولا يكون رجعة إلا بكلام، كما لا يكون نكاح ولا طلاق إلا بكلام" حيث يؤخذ من هذا أنه إذا كتب ونوى ولم يتلفظ لا يقع الطلاق، فإنه لم يتكلم ولا طلاق إلا بكلام. (4) ر. مختصر الطحاوي: 192، المبسوط: 6/ 19، مختصر اختلاف العلماء:2/ 388 مسألة: 893، اللباب: 3/ 54.

[وفي] الحاضر طريقان على العكس: منهم من قطع بأن طلاقه لا يقع بالكتابة، ومنهم من قال: قولان. وينتظم من الغائب والحاضر ثلاثة أقوال. 8994 - ثم إذا تمهد الأصل، فالكلام وراء ذلك في أمور: منها تفصيل القول فيما يتعلق بالكِتْبة من الأحكام سوى الطلاق، ومنها ما يكتب عليه، ومنها اتباع الألفاظ [المُثْبتة] (1) في الكتب وبيان صيغتها. فأما القول فيما يتعلق بالكتابة، فترتيب المذهب فيه أن الأحكام المتعلقة بالألفاظ تنقسم إلى ما لا يفتقر إلى القبول، وإلى ما يفتقر إلى القبول، فأما ما لا يفتقر إلى القبول، فهو كالطلاق والعتاق والإبراء والعفو عن الدّم، فهذه الأشياء هل تحصل بالكِتبة؟ فيها التفاصيل التي قدمناها في الطلاق، ثم المذهب المقطوع به أن الكِتْبة بمجردها، لا تتضمن وقوع الطلاق، حتى تنضم إليها النية، ولا يحصل بها الإبراء والعفو والعتق كذلك، حتى يقترن بها نيات هذه الأشياء، وحكى الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً غريباً أن صيغة الكِتبة إذا كانت صريحاً لو فرض النطق بها، وقع الطلاق من غير نيّة، وهذا بعيد، لم أره لغيره. 8995 - والتحق بهذا المنتهى أن الناطق لو أشار إشارة الأخرس، فهل يقع الطلاق بإشارته، قال شيخي: كان القفال يُجري إشارة الناطق بمثابة كتابته، وكان ميله إلى أن الإشارة من الناطق أولى بالإحباط من الكتابة؛ فإن الكتابة مألوفة من الناطقين على اطراد، سيما في حالة الغيبة بخلاف الإشارة، فإنها لا تصدر على قصد الإفهام إلا على ندورٍ، أو في حالة هزء، ثم إذا صدر من الناطق -على قولنا بإعمال إشارته- ما لو صدر من الأخرس، لكان صريحاً، فكيف سبيلها؟ الوجه القطع بأنها كناية عن الناطق كالكتابة، وإن كانت صريحاً من الأخرس. وكان شيخي يقطع بأن الكتابة صريحٌ من الأخرس. ولي في هذا نظر؛ فإن كتابة الكاتب، قد تقع لنظم حروف وامتحان قلم، ومحاكاة خط، فإن انضمّ إلى الكِتبة

_ (1) في الأصل: كلمة غير مقروءة: رسمت هكذا (المثهته).

قصدُ الإفهام بها، فلا ريب حينئذ في أن الكتابة مع مخايل قصد الافهام كالإشارة لو أبلغ فيها. فهذا قولنا فيما لا يفتقر إلى القبول. 8996 - فأما ما يفتقر إلى القبول، فينقسم إلى النكاح وغيرِه: فأما غير النكاح. كالبيع والإجارة والهبة وما في معناها، نفرضها (1) مع الغَيْبة، ثم نذكر حكمَها مع الحضور: فأما إذا جرت الكتابة بالبيع في الغيبة، فمن ضرورة ذلك انقطاع كتابة من يبتدىء عن قبول من يَرِدُ الكتابُ عليه، فيجتمع في ذلك إقامة الكتابة مقام اللفظ، وفيه التردد الذي ذكرناه في الطلاق والعتاق وما في معناهما مما لا يشترط القبول فيه، وتأخُّرُ (2) أحد شقي العقد عن الثاني، وهذا لا يقتضي تأكيداً في المنع لا محالة، فينتظم منه ترتيب القولين في البيع على القولين في الطلاق، والبيعُ أولى بالمنع. فإن قيل: ما وجه الجواز، وقد انفصل أحد الشقين عن الثاني؟ قلنا: في ذلك وجهان: أحدهما - أن نجعل ورود الكتاب بمثابة افتتاح الإيجاب، ويتبعه القبول على الاتصال. والوجه الثاني - أن القبول إنما يشترط اتصاله بالإيجاب لأن الموجِب أنشأ كلامه على وجه يقتضي جواباً متصلاً، وإذا كتب الكاتب، فكتابته تقتضي الموافقة على حسب ما يليق بالعرف في مثل ذلك، وهذا حسن، ولكن يلزم على مساقه أن يقال: إذا أوجب في الحضور إيجاباً مقترناً بجواز تأخّر القبول، وجب تجويزه، ولا صائر إلى هذا إلا أبو حنيفة (3)، فإنه جعل مدّة المجلس وإن [طالت فُسحةً] (4) في ذلك، ونحن لا نقول به، فينضم إلى ما ذكرناه مسيسُ الحاجة في التكاتب، وهذا لا يتحقق في التخاطب. ويتصل بذلك أنه إذا ورد الكتاب، فهل يشترط اتصال القبول بالاطلاع على الكتاب أم لا؟ الوجه القطع باشتراطه على المعنيين؛ إذ لا حاجة بعد الاطلاع، وقد جعلنا الاطلاع كإنشاء الإيجاب.

_ (1) جواب (أما) بدون الفاء. وهذا جارِ كثيراً في أسلوب الإمام، وهي لغة كوفية. (2) وتأخرُ: معطوف على كلمة (إقامة) من قوله: فيجتمع في ذلك إقامة الكتابة ... إلخ. (3) ر. المبسوط: 6/ 211، فتح القدير: 2/ 412، البدائع: 3/ 114. (4) في الأصل: وإن طالب فسخه في ذلك.

ولو قال الغائب: بعت داري هذه من فلان، وأُشهد عليه، فإذا بلغ الخبر مَنْ هو في مقام المشتري، فهي كالكتابة، بل هذا أولى بالصحة لوجود اللفظ. هذا بيان البيع وما في معناه. 8997 - فأما النكاح، فهو أولاً يترتب على البيع إذا فرض بالكتابة في حالة الغيبة، فليرتب على البيع، والفرقُ ما في النكاح من التعبد والتضييق في العبارات، ثم يتفرع على النكاح افتقاره إلى الشهادة. فإن صححنا النكاح وقد جرى من الغائب لفظُه، وشهد عليه عدلان، وشهدا على قبول من يبلغه الخبر، فقد ثبت ركن الشهادة، وإن شهد على قول الزوج عدلان، وشهد على قبول القابل عدلان آخران، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن النكاح لا ينعقد؛ لأن واحداً منهم لم يشهد على عقد تامٍ. ومن أصحابنا من قال: يصح النكاح؛ لأن العقد لو جُحد أمكن إثباته بهم، وهو المقصود. وهذا فيه إذا لَفَظَ الموجِب والقابلُ بالإيجاب والقبول. فأما إذا كتب، ولم يتلفظ، فالإشهاد على الكتابة ممكن، ولكن الكتابة كناية، ولا اطلاع على نية الكاتب، وإن زعم أنه نوى بعد الكتابة، فهذا إشهاد على الإقرار، ولا يقع الاكتفاء بالإشهاد على الإقرار، فالذي يقتضيه قياس الشافعي القطعُ بأن هذا لا يصح. ولكن أجرى كثير من الأصحاب القولين في الكتابة في النكاح، ولعلهم رأَوْا هذا محتملاً لضرورة الغيبة، وهذا بمثابة احتمال انقطاع الإيجاب عن القبول بسبب حاجة الغيبة. هذا منتهى الكلام في هذه القاعدة. 8998 - ويتفرع عليه الكتابة في الحضور، وقد قدمنا أن الكتابة في الحضور أبعد عن الجواز؛ لانتفاء حاجة الغيبة، فإن منعنا، فلا كلام. وإن جوزنا، فقد يمكن فرض اتصال الكتابة بالقبول في الشهود والحضور، فإن كان كذلك، لم يبق إلا إقامة الكتابة من غير حاجةٍ مقام العبارة. وإن انقطع الإيجاب عن القبول في الشهود والحضور، فنقطع بالمنع، وهو بيّن. 8999 - ثم يتفرع على هذه القواعد مسائل سهلة المأخذ، فإذا كتب إلى إنسان بأنّي وكلتك في بيع مالي وعتْقِ عبدي، فهذا يترتب على أنه لو شافهه بهذا هل يفتقر إلى

القبول؟ فإن قلنا: لا حاجة إلى القبول مع المشافهة، فالقول في ذلك كالقول في الكتابة في الطلاق والعتاق. وإن شرطنا القبول في ذلك، التحق بالقسم الذي يفتقر إلى الإيجاب والقبول، وقد ذكرنا حكم الكتابة في هذا القسم. وهذا نجاز الكلام في حكم الكتابة في هذه الأقسام. 9000 - فأما القول فيما يُكتب عليه، فالكتابة على الرَّق، والقرطاس، والألواح، والنقر في الأحجار والخشب، كلها بمثابة واحدة. ولو خط على الأرض خطوطاً وأفهم، فالجواب كما ذكرناه. وإذا فهم الفاهم [ما كتبه] (1) وبلّغه (2)، كان كما لو بلّغ كتابه. ولو رسم الأسطر على الماء أو على الهواء، فلا حكم لهذه الكتابة؛ فإن الكتابة حقها أن تقع بياناً، ولا انتظام لها على الهواء أو الماء. نعم، لا يمتنع أن يلتحق هذا بالإشارات؛ فإن هذه الحركات قد يُفهم منها شكلُ الحروف، فتتنزل منزلة الإشارات المفهمة. 9001 - فأما الكلام في صيغ الكتابة ومقتضياتها، وما يطرأ على الكُتب من التغايير، فهذا خاصية الفصل وينبسط فيه الكلام بعض الانبساط، فإذا كان في الكتاب: "أما بعد فأنت طالق". فإذا وقع الحكم بالكتابة تبيّنا وقوع الطلاق من وقت الكتابة؛ فإنه لم يعلّق الطلاق ببلوغ الكتاب ووصوله، بل نجّزه؛ إذ قال: "أما بعد، فأنت طالق". وإذا قال: إذا بلغك كتابي، فأنتِ طالق، فلا يقع الطلاق ما لم يبلغها، وإذا قال: إذا قرأتِ كتابي فأنت طالق، فلا يقع الطلاق بنفس البلوغ ما لم تقرأ أو يُقرأ عليها، كما سنفصل هذا في آخر الفصل، إن شاء الله.

_ (1) في الأصل: فاكتبه. (2) وبلّغه: المعنى أن واحداً فهم المكتوب في الكتاب، ثم قام بتبليغه إلى المكتوب إليه، من غير أن يحمل إليه الكتاب، فهو يكون كتسليمه الكتاب.

9002 - وإذا انمحى الكتاب، فإن بقيت [رقوم] (1) يُفهم منها الغرض، وقع الطلاق المعلق ببلوغ الكتاب، وإن انمحى ودرس، ولم يبق ما يُفهم منه مضمون الكتاب، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق لا يقع إذا كان معلقاً ببلوغ الكتاب؛ فإن هذا خرج عن كونه كتاباً بالانمحاء، والدّليل عليه أن الكاتب لو كان كتب: إن بلغك كتابي، ثم محا بنفسه، فاتفق بلوغ ذلك القرطاس، فلا إشكال في أن الطلاق لا يقع، فإذا انمحى كان كما لو محاه الكاتب بنفسه. وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن الطلاق يقع؛ فإن هذا وإن انمحى يسمى كتاباً، ويقال: "أتاني كتاب فلان"، وإن انمحى. وهذا الذي ذكره بعيدٌ؛ فإنه إنما يسمى كتاباً بتأويل أنه كان كتاباً، ووضوح ذلك مغْنٍ عن بسطه. 9002/م- والكلام يتعلق [بعد ذلك] (2) بسقوط بعض الكتاب ووصول بعضه، ونحن نتكلم فيه إذا وصل أسطرُ الطلاق وسقط غيرها، ثم نتكلم في سقوط الأسطر التي فيها الطلاق. والتقسيمُ الجاري في ذلك أن نقول: الكلام في أربع مسائل: إحداها - في سقوط أسطر الطلاق من الكتاب. والثانية - في سقوط الأسطر التي هي من مقاصد الكتاب، لكنها غير الطلاق. والثالثة - في سقوط أسطر فيها التسمية والتصدير، أو الحمد والصلاة في آخر الكتاب. والرابعة - في سقوط البياض من طرفي الكتاب أو حواشيه. فأما إذا سقطت أسطر الطلاق، وكان في الكتاب: إذا بلغك كتابي، فأنت طالق، فحاصل ما ذكره الأصحاب في هذه الصورة ثلاثة أوجه: أحدها - أن الطلاق لا يقع؛ فإنه علّقه ببلوغ الكتاب، والكتاب عبارة عن مجموعِه، وقد سقط مقصود الكتاب، فكأن الكتاب لم يصل.

_ (1) في الأصل: وقوم. (2) زيادة من المحقق اقتضاها توضيح الكلام.

والوجه الثاني - أن الطلاق يقع؛ إذ يقال: وصل الكتاب، [وإن] (1) كان سقط منه شيء. والوجه الثالث - أنه يفصّل: فيقال: إن قال: إن جاءكِ كتابي هذا، لم يقع؛ لأن الإشارة تحوي جميعَ الأجزاء. وإن كتب: إن جاءكِ كتابي، ولم يشر، وقع؛ لأنه جاءها ما ينطلق عليه اسم الكتاب. المسألة الثانية - إذا سقط غير الطلاق، ولكن كان من متضمنات الكتاب، كعُذرٍ مُقدَّمٍ على الطلاق، أو ذكرِ حالٍ منها يتضمن توبيخاً، وهو معقَّبٌ بالطلاق، فإذا سقط ما يشتمل على هذه الفنون، وكانت الأسطر المحتوية على الطلاق باقية، فتعود الأوجه، ولكن هذه الصورة أولى بوقوع الطلاق؛ فإنه فصّل الطلاق، وهو الغرض والمنتهى. المسألة الثالثة- إذا سقط من الكتاب محلّ التصدير والحمد، ففيه الخلاف، والأظهر وقوع الطلاق؛ فإن الساقط لم يَفُت بسقوطه شيء من مقاصد الكتاب، وإنما سقطت مراسم ليست معنيّة. والمسألة الرابعة - في سقوط البياض، فالذي قطع به أئمة المذهب أن الطلاق يقع؛ لأن الكتاب محل الأسطر، والحواشي متصلةٌ وليست مقصودة أصلاً. وأشار بعض الأصحاب إلى إبداء احتمال في هذا؛ فإنّ حواشي الكتاب تُعدُّ من الكتاب، ويحرم على المحدث مس حواشي المصحف، كما يحرم عليه مس الأسطر. وكنت أحب لو أجرينا في هذه المسائل -أعني المسائل الثلاث الأُوَل- الفرقَ بين أن يبقى معظم الكتاب، أو يسقط معظمه؛ فإن للمعظم أثراً ظاهراً في بقاء الاسم. ولو قال: إذا بلغك طلاق، فانت طالق، فبلغ الكتاب إلا الأسطر التي فيها ذكر الطلاق، لم يقع وفاقاً، وكذلك إذا بلغ تلك الأسطر التي فيها ذكر الطلاق من غير تفصيل. وإذا بنينا على أن الانمحاء يُخرج الكتاب عن كونه كتاباً، فالانمحاء بمثابة السقوط في البعض. فهذا تفصيل القول فيما يلحق الكتاب من التغايير.

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

9003 - وإذا قال: إذا قرأتِ كتابي، فأنت طالق، فلم تقرأ، ولم يُقرأ عليها، لم يقع الطلاق، ولو قال: إذا قرأتِ كتابي، فأنت طالق، فكانت قارئةً، فقرىء عليها، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن الطلاق لا يقع؛ فإنها لم تقرأ. والثاني - يقع؛ لأن هذا يراد به الاطلاع على مضمون الكتاب، لا صورة القراءة. وهذا يحصل بأن يُقرأ عليها، كما يحصل بأن تقرأ بنفسها. ولم يختلف علماؤنا في أنها لو طالعت الكتاب، وفهمت ما فيه، ولم تلفظ بكلمةٍ، وقع الطلاق وإن لم يوجد قراءة؛ وهذا يؤكّد أن قراءة الكتاب محمولة على الاطلاع على ما فيه. ولو كانت أُمِّيَّة، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق يقع إذا قرىء الكتاب عليها؛ فإن القراءة في حقها محمولة على الاطلاع لا غير. وأبعد بعض من لا احتفال به، فجعل تعليق الطلاق بالقراءة في حق الأمية بمثابة تعليق الطلاق على محال، وهو كما لو قال: إن صعدت السماء، فأنت طالق، فالطلاق لا يقع، لعدم الصعود، وإن كان محالاً. وإذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، فأنت طالق، فلم تره، ورأى غيرها، فسنذكر أن الطلاق يقع، وإن كانت الرؤية ممكنة منها، بخلاف ما لو قال: إذا قرأت كتابي وكانت قارئة، فلم تقرأ، وقُرىء عليها، والفرق أن قراءة غيرها ليست قراءتها، والرؤية قد يراد بها العلم، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] معناه: ألم تعلم ربك، وسيأتي هذا الفرع بما فيه، إن شاء الله. ومما فرعه صاحب التقريب: أنه إذا قال: إذا بلغك نصف كتابي، فأنت طالق، فبلغها الكتاب كله، فهل نقضي بوقوع الطلاق؟ فعلى وجهين: أحدهما- يقع؛ فإن الكتاب يشتمل على نصفين، ففي بلوغه بلوغ نصفه. والثاني - لا يقع؛ فإنّ النصف في هذا المقام إنما يُطلق لغرض التبعيض، فإذا لم يتحقق التبعيض، لم تتحقق الصفة. وقد انتهى ما يتعلق بفصل الكتاب؛ فقهاً، وإيضاحاً لموجب صيغ الألفاظ.

فصل قال: "ولو قال لامرأته: اختاري، أو أمرك بيدك ... إلى آخره" (1). 9004 - مقصود الفصل الكلام فيه إذا فوّض الزوج الطلاق إلى زوجته، ونحن نقول: تفويض الطلاق إلى أجنبي توكيلٌ على التحقيق، ثم الأصحاب ربما يفصلون بين التوكيل وبين الأمر كما تقدم استقصاؤه في كتاب الوكالة، وبيانه أن الرجل إذا قال لصاحبٍ له: وكلتك ببيع عبدي أو إعتاقه، أو طلاق زوجتي، فهذا توكيل على الحقيقة. واختلف الأصحاب في أنه هل يشترط القبول فيه أم لا؟ كما مضى. وإن قال: بع عبدي، من أئمتنا من قال: هذا أمرٌ غيرُ مفتقر إلى القبول وجهاً واحداً، وإنما المطلوب [عنده] (2) الامتثال والارتسام فحسب، ومنهم من قال: هو توكيل على صيغة الأمر، ويجري فيه الخلاف في القبول، كما يجري فيه إذا قال: وكلتك. ثم إن لم نشترط القبول، لم يتقيد إيقاع المطلوب بزمانٍ إذا لم يكن التوكيل مقيداً بمراعاة زمان، بل إن امتثل الوكيل أو المأمور على الفور أو بعد زمان، جاز ونفذ. وإن قضينا بأن القبول لا بدّ منه، فالاتصال مرعيٌ في القبول لا محالة، ثم الكلام في تنفيذ المقصود لا يشترط فيه تعجيلٌ ولا اتصالٌ إذا لم يشترط الآمر والموكّل تعجيلاً. 9005 - فأمّا إذا فوض الزوج الطلاق إلى زوجه، فقال لها: طلقي نفسك، فقد اختلف قول الشافعي بأن هذا تمليك، أو توكيل بالطلاق، فأحد القولين أنه توكيل، أو أمرٌ كما قدمته، والقول الثاني أنه تمليك. التوجيه: من جعله توكيلاً، اعتبر المرأة بالأجنبي، فإن مالك الطلاق الزوج،

_ (1) ر. المختصر: 75. (2) في الأصل: عند (بدون هاء الضمير).

ومن يطلّق بأمره مأمور من جهته، فلا فرق بين أن يتصل الأمر بالزوجة أو بأجنبي. ومن قال بالقول الثاني، احتجّ بأن التفويض إليها يتضمن تمكينها من أن تملك نفسها، وهذا الأثر يرجع إليها، ويتصل بها، فكان قوله طلقي نفسك خارجاً عن محض التوكيل. التفريع: 9006 - إن جعلنا التفويض إليها توكيلاً، فلا فور عليها، فإن طلقت على الاتصال نفسَها، فذاك. وإن طلقت نفسَها بعد زمان متطاول، وبعد مفارقة ذلك المجلس، جاز، وهل يشترط قبولها أم لا؟ فعلى ما ذكرناه من تردد الأصحاب في أن الآمر هل يفتقر إلى القبول. والمسألة فيه إذا قال لها: طلقي نفسك. وإن حكمنا بأن التفويض تمليك، فالجواب يقتضي الفورَ، وهو بمثابة قبول العَقْد مع إيجابه، فإن خلّلت زماناً متطاولاً ينقطع بمثله الإيجاب عن القبول، فلا تملك أن تطلق نفسها بحكم التفويض الأوّل، كما لا يملك المخاطب بالإيجاب القبول بعد تطاول الزمان. هذا مسلكُ الأصحاب في التفريع. ومما فرَّعوه على قول التمليك أن الزوج لو رجع عن تفويضه على الفور قبل أن تطلّق نفسها، انقطع ملْكها التطليق، ولم ينفذ الطلاق إن طلّقت نفسها؛ لأنا إذا جعلناها مملكة [فهي] (1) بمثابة القابلة للخلع إذا خاطبها الزوج بالإيجاب فيه، وهذا يقبل الرجوع. وقال ابن خيران: "إذا فرعنا على قول التمليك، فليس للزوج الرجوع بعد التفويض، ولو رجع، لغا رجوعه، ونفذ تطليقها نفسَها، على الاتصال". واعتل بأن قال: كأن الزوج قال لها: إذا تلفظت بتطليق نفسك، فأنت طالق. وهذا وجه مردود لا أصل له، والعجب أن شيخي كان لا يحكي في التفريع على قول التمليك غيرَه، وكان يعبر عنه، ويقول: "هو تمليك مضمّن بتعليق" مشيراً إلى أن الرجوع غير ممكن بتضمّن (2) التمليك التعليق.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) بتضمن التمليك التعليق: أي بسبب تضمن التمليك التعليق.

هذا نظم المذهب. 9007 - وسلك القاضي مسلكاً آخر، فقال: نرسم القولين في أن التفويض تمليك أو توكيل، ونقول: الأصح [أنه] (1) تمليك، وهو المنصوص عليه في معظم الكتب. والقول الثاني - أنه توكيل، ولا يُرى للشافعي منصوصاً إلا في الأمالي المتفرقة. فإن حكمنا بأنه تمليك، فالفور لا بد منه. ثم غلط هاهنا بعض أصحابنا، فقال: يمتد جوابها امتداد المجلس، كخيار المكان، وهذا غلط غير معتدّ به، وإنما غلطُ هذا القائل من قول الشافعي "ولا أعلم خلافاً، أنها إن طلقت نفسها قبل أن يتفرقا من المجلس أو تُحدثَ قطعاً لذلك أن الطلاق يقع عليها" (2). والشافعي كثيراً ما يطلق المجلس ويريد به مجلس الإيجاب والقبول، والمعنى رعاية التواصل الزماني، كما قدّمنا ذكره. وقد يطلق مثل هذا في الخلع، ولم يجسر أحدٌ من أصحابنا [على] (3) حمل ذلك على المجلس الذي يناط بمنتهاه انقطاع خيار المجلس. قال (4): وإذا فرعنا على أن هذا توكيل، فيحتمل أن نقول: تطليقها ينبغي أن يكون على الفور أيضاً؛ فإن توكيل الزوج المرأة يشعر بتمليكها لفظاً، والتمليك اللفظي يقتضي جواباً عاجلاً، ولهذا قلنا: إذا قال لزوجته: "أنت طالق إن شئتِ"، اقتضى ذلك فوراً في المشيئة، بخلاف ما لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فيتضمن قوله طلِّقي نفسك جواباً عاجلاً والتماسَ تنفيذٍ أو إعراضٍ، ثم قال: وهذا إذا قال لها: طلقي نفسك. ولو قال: وكلتك أن تطلقي نفسكِ، وصرّح بلفظ التوكيل، قال القاضي: يحتمل أن يقال أيضاً في هذه المسألة: يختص بالمجلس، كما وصفناه، وإن صرّح

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ر. المختصر: 4/ 75، 76. (3) زيادة من المحقق. (4) قال: القائل هو القاضي، فما زال كلامه مستمراً.

بالتوكيل؛ لأنه يشوبه شُعبة من التمليك، فعلى الطريقين يكون جوابها على الفور سواء لَفَظَ بالتوكيل، أو لم يلفظ به. وهذا الذي ذكره فقيهٌ حسن، ولكنه منفرد به من بين الأصحاب. 9008 - والمقدار الذي رمز إليه المحققون أنا إن قلنا: هذا توكيل، فحكمها حكم [الوكيل] (1)، وإن قلنا: هذا تمليك، فهل يصح من الزوج توكيلها أم كل تفويض منه إليها يتضمن تمليكاً؟ فعلى ترددٍ وخلاف، وهذا محتمل، وإيراده على هذا الوجه أمثل. ولو قال على قول التوكيل: طلقي نفسك متى شئت، أو متى ما شئت، فهذا لا يقتضي فوراً أصلاً؛ فإن معتمد القاضي مسألة التعليق بالمشيئة. ولو قال: مهما (2) شئت، فأنت طالق، فلا فور، بل مهما شاءت، طلَّقت، فإذا كانت المشيئة تقبل التأخير، إذا قيّدت بالتأخير، فليكن الأمر كذلك في التوكيل. ومما يهجس في النفس أن من قال: التفويض توكيل، ولا يقتضي تطليقاً منها نافذاً في الحال، فكيف وجه القطع باقتضاء قول الرجل: "أنت طالق إن شئت فوراً"؟ فإن مسألة المشيئة عندي تتوجه بتمليكها الأمر، والتمليك مضاهٍ للإيجاب المستعقب للقبول، وإلا فلا فرق في العربية بين قول القائل لامرأته: أنت طالق إن شئت، وقوله: أنت طالق إن كلمت زيداً، والمستعمل في المسألتين أداة الشرط، وأُمُّ بابه (3)، وحكم الشرط ألا يتخصّص بزمان، بل يسترسل على الأزمان المبهمة. فليتأمل الناظر هذا فإنه [عويصٌ] (4). وسنعود في الفروع إلى مسألة المشيئة، إن شاء الله. وكل ما ذكرناه فيه إذا فوّض الطلاق إليها بلفظٍ صريح، وطلّقت نفسها بلفظ صريح.

_ (1) في الأصل: التوكيل. (2) مهما شئت: (مهما) بمعنى (إذا). (3) وأمّ بابه: المراد (إن) فهي أمّ باب الشرط. (4) في الأصل: عريض، والمثبت تقدير منا، على ضوء أسلوب الإمام.

9009 - فأما إذا فوّض إليها في ظاهر الأمر بكناية، فأجابت بكناية، أو اختلف الجانبان في ذلك، فالتفصيل فيه إذا قال لها: أمرك بيدك، أو فوضت أمرك إليك، أو ملكتك أمرك، أو قال: اختاري نفسك، فهذه الألفاظ كنايات منه، فإذا أجابت بكناية، فقالت: اخترت نفسي، أو أبنت نفسي، فيتعين الرجوع إليهما، فإن زعما أنهما نويا الطلاق تفويضاً وإيقاعاً، وقع رجعياً إذا كانت بمحل الرجعية. ولو لم ينو الزوج، لم يقع وإن نوت، ولو نوى تفويض الطلاق إليها ولم تنوِ المرأة إيقاع الطلاق، لم يقع الطلاق، فإنها الموقعة المطلِّقة، فينقسم لفظها إلى الصريح وإلى الكناية. وقال أبو حنيفة (1): يقع الطلاق، وإن لم تنوِ إذا نوى الزوج، وكأنّ كلام المفوِّض معادٌ في جوابها، وهذا ساقطٌ لا أصل له. وهذه المسألة مشهورة في أصحاب رسول الله عليه السلام وهي ملتطم خلافهم، والمسألة مشهورة بالتخيير والاختيار، فإذا قال الزوج: اختاري، فقالت: اخترت نفسي، فقد ذهب عمرُ وابنُ عمرَ وابنُ مسعودٍ وابنُ عباسٍ وعائشة إلى أنها لو اختارت نفسها، وقعت طلقة رجعية، ولو اختارت زوجها، لم يقع شيء (2)، وحيث حكموا بالوقوع أرادوا إذا وجدت النية من الجانبين، وروي عن علي أنها لو اختارت نفسها وقعت طلقة بائنة، وإن اختارت زوجها وقعت طلقةً رجعيةً، وبه قال زيد، وروي عن عائشة لما بلغها عن علي أنها لو اختارت زوجها وقعت طلقة رجعية اشتدّ إنكارها عليه، وقالت: خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أترى كان ذلك طلاقاً (3)؟

_ (1) ر. المبسوط: 6/ 210، تبيين الحقائق: 2/ 220، فتح القدير: 2/ 410. (2) وردت هذه الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في مصنف ابن أبي شيبة:5/ 58 - 61 - كتاب الطلاق- باب ما قالوا فى الرجل يخير امرأته فتختاره أو تختار نفسها. والأمر على ما قال إمام الحرمين فيما روي عن عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة، أما ما روي عن علي، فهو: "إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة وهو أملك بها". (3) السابق نفسه.

ومما يتعلق بالفصل أن الزوج لو أنكر نية الطلاق، فالقول قوله مع يمينه. والمرأة لو قالت: نويت الطلاق كما نويتَ، فقال الزوج: ما نويتِ أنت، فقد ذكر القاضي وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن القول قولها؛ فإن المرأة هي الناوية، وإليها الرجوع، ولا مطّلع على النية إلا من جهتها. نعم، إن أراد تحليفها، كان له ذلك. ومن أصحابنا من قال: القول قول الزوج، وهذا ضعيف لا أصل له، ووجهه - على بعده- أن الأصل بقاء النكاح، وعدم وقوع الطلاق، وهي تزعم أن الطلاق وقع بنيتها المنضمّة إلى لفظتها. 9010 - ولو ذكر الزوج في التفويض كناية، فقال: اختاري، أو أبيني نفسك، أو بتِّي نفسك، فقالت: طلقت نفسي، فالمذهب الظاهر أن الطلاق يقع إذا اشتمل جانب الكناية على النية. ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق. حكاه العراقيون عن ابن خَيْران، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يكون جوابها على صيغة التفويض إليها. قال القاضي: وهذا الخلاف يجري في التوكيل، فلو قال لأجنبي: طلق زوجتي، فقال: أبنتها، ونوى الطلاق. ولو قال: أبن زوجتي أو خلّها ونوى الطلاق، فقال الوكيل: "طلقتها". أو "هي طالق"، فيخرّج الخلاف. ولو قال لزوجته: أبيني نفسك، فقالت: خلّيت نفسي، وَوُجِدت نية الطلاق من الجانبين، فلا يخفى تخريج هذا على ظاهر المذهب، والطلاق واقع. فأما إذا قلنا: اختلافُ الشقين صريحاً وكناية يمنع وقوعَ الطلاق، فإذا جرت الكناية من الجانبين، ولكن اختلفت الصيغتان، ففي المسألة تردد على هذا الوجه الضعيف. ولعلّ الأوجه الوقوع تعويلاً على النية؛ فإن اللفظ لا استقلال له في الجانبين.

فصل قال: "وسواء قالت طلقتك أو طلقت نفسي ... إلى آخره" (1). 9011 - إذا قال الرجل لامرأته: أنا منك طالق، قال الأصحاب: إن نوى إيقاع الطلاق عليها، وقع الطلاق، وإن لم ينو إيقاع الطلاق عليها، لم يقع، وزعموا أن قوله: أنا منك طالق صريح في بنيته وصيغته، ولكنه أضيف إلى [الرجل] (2)، فهو بمثابة الكنايات؛ فإن المرأة محل الطلاق، فإذا أضيف الطلاق إلى الرجل، كان على تأويل إضافته إليها، من حيث إنه منها على سبب منتظم بينهما. وكذلك إذا قال الرجل: أنا منك بائن، قال الأصحاب: لا بدّ من نيتين إحداهما نيّة أصل الطلاق، والثانية نية الإيقاع عليها. 9012 - وأصل هذه المسألة مقرر في (الأساليب)، ولا نجد بداً من ذكر طرفٍ مما ذكرناه فيها أوّلاً: ذهب ذاهبون من أصحابنا إلى أن الرجل معقود عليه في حقها، كما أنها معقود عليها في حقه، وأكثروا في هذا سؤالاً وانفصالاً. ونحن لم نرتضِ هذا المسلكَ؛ فإن المرأة لا تستحق من بدن زوجها ومنفعة زوجها شيئاً، فلا معنى لكونه معقوداَّ عَليه لها وفي حقها، وإنما المستحِق هو الزوج ومنافعها أو حِلُّها مستحَق له، فلا وجه إلا القطع بأنّ مورد العقد محل الاستحقاق. ولكن إذا قال الزوج: أنا منك طالق، انقدح في هذا وجهان: أحدهما - أن على الزوج حجْراً من جهتها، وإن لم يكن معقوداً عليه؛ فإنه لا ينكح أختها، ولا أربعاً سواها، فإذا أضاف الطلاق إلى نفسه، أمكن حمل ذلك تقريراً على حَلّ السبب المقتضي لهذا الحَجْر. والوجه الثاني - أن المرأة مقيدة، والزوج في حكم القيد، وقد يقال: حُلّ القيد،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 77. (2) في الأصل: محل. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.

كما يقال: حُل المقيّد، فإضافة الطلاق إلى الزوج تتجه من غير أن يفرض معقوداً عليه. ثم إذا قصد الزّوج الطلاق، ولم يضف الطلاق إليها، فالذي صار إليه جمهور الأصحاب أن الطلاق لا يقع، كما قدمنا ذكر ذلك. وذهب طوائف من المحققين إلى أن قصد الطلاق كافٍ، وإن لم يضفه لفظاً وعقداً إليها. وهذا اختيار القاضي، وهو القياس تحقيقاً، فإن الطلاق نقيضُ العقد، وإذا ارتفع العقد، فلا حاجة إلى التنصيص على محلٍّ نطقاً أو نية وقصداً. وهذا الكلام فيه إبهام بعدُ، فإن الرجل لو قال: أنا منك طالق، وقصد الطلاق، ولم يقصد تطليق نفسه، فالأمر على ما ذكرناه. وإن قال: أنا منك طالق، ونوى تطليق نفسه، فكيف السبيل؟ وعلى ماذا يحمل هذا القصد؟ وهل نقول: الطلاق صريح ولا حاجة فيه إلى التعرض للمحلّ؟ أما مذهب الجمهور، فبيّن، وأما المذهب الآخر، فقد بان منه أنه [إن] (1) لم يقصد إلا الطلاق على الإطلاق، كفى، وإن جرّد قصده إلى تطليق نفسه، فالوجه عندنا ألا يقع، لأن كونه محلاً لإضافة الطلاق -و (2) ليس محلاً للعقد، ولا استحقاق للمرأة فيه - بعيدٌ (3) فهذا كلام لا يستد (4) مطلَقُه، حتى يصرف بتأويل إلى مصرفٍ صحيح. ثم الجمهور قالوا: ينصرف إليها، وقال آخرون: يكفي أن يقطع عن تخصيصه بنفسه، فأما تنفيذه مع تجريده القصد في إضافة الطلاق إلى نفسه فبعيدٌ جداً. وقد ذكر بعض الخلافيين أن اللفظ صريح، وإن قصد تطليق نفسه، وهذا لا احتفال به. وشبّه مشبهون هذا بما لو قال لامرأته: أنت الطلاق، من حيث إن لفظ الطلاق جرى على صيغة مستبشعة حائدةٍ عن جهة العرف في الاستعمال.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) "وليس محلاً للعقد" (الواو) هنا واو الحال. فالمعنى: والحال أنه ليس محلاً للعقد، ولا استحقاق للمرأة فيه ... (3) بعيدٌ: خبر (أن) في قوله: لأن كونه محلاً لأضافة الطلاق. (4) لا يستدّ: أي لا يستقيم.

هذا تمام البيان في ذلك، ويترتب عليه فصل متصل بما تقدم من تفويض الطلاق إليها. 9013 - فلو قال لها: طلقي نفسك، فقالت: طلقتك، فخاطبته، فقال الأصحاب: إن قصدت تطليق نفسها وقع، وقال المحققون: يكفي قصدها الطلاق، وفي تخصيصها الطلاق بالزوج على قصد وعمدٍ الكلامُ الذي ذكرناه. والمسألة ليست خاليةً عن تردّد الأصحاب في أن الرّجل إذا فوّض إليها صريح الطلاق، فأتت بالكناية، فهل يحكم بوقوع الطلاق؟ فإن قولها: طلقتك على مخاطبة الزوج كناية كما قدّمنا. 9014 - ولو قال السيد لعبده: أنا منك حُرّ، فهذا مما اشتهر فيه خلاف الأصحاب: فمنهم من قال: يحصل العتق إذا نواه، كالطلاق. ثم الترتيب في تنزيله على العبد، وفي إطلاقه، على ما مضى. ومن أصحابنا من قال: لا يحصل العتق أصلاً؛ فإن الملك لا يوجب حجراً على المالك، والنكاح يوجب حجراً على الناكح. ولو قال الرّجل لامرأته: أعتدُّ منك واستبرىء رحمي، ونوى الطلاق، فهذا مما اشتهر فيه ذكر وجهين: والوجه - إلغاء اللفظ؛ لأنه غير منتظم في نفسه، والكناية لفظة يظهر انتظامها في معنى، ولكن لا تتعين لذلك المعنى، فإذا كان الكلام في نفسه مثبَّجاً (1) معدوداً لغواً، فلا معول عليه. فصل قال: "ولو جعل لها أن تطلق نفسها ... إلى آخره" (2). 9015 - نصدّر هذا الفصل بكلام في نية العدد: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً، أو طلقتك ثلاثاًً، فلا شك في وقوع الثلاث، سواء كانت المرأة مدخولاً بها،

_ (1) مثبَّجاً: أي مختلطاً معمّى غيرَ واضح. من ثبجَ الرجل الكلامَ والخط ثَبجاً؛ عمّاهما، ولم يبينهما. (2) ر. المختصر: 4/ 76.

أو غير مدخولٍ بها، وقول الزوج ثلاثاًً لا يُقطع عن صدر كلامه؛ فإنّه منعطف عليه تبييناً وشرحاً وإيضاحاً، وليس في حكم كلام مبتدأ. ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق، وطالق، فإنها تبين بالطلقة الأولى، ولا تلحقها الثانية؛ فإن المعطوف عليه مستقلٌّ بنفسه، وليس المعطوف بياناً له، ولا كشفاً لمعناه، فإذا استقل الكلام الأول بعد موجبه، فتبين المرأة. ثم قال الفقهاء: قول الرجل: أنت طالق ثلاثاًً مشتمل على مفسَّر وتفسير، وزعموا أن قوله ثلاثاًً ينتصب على التفسير، وهذا جهل بالعربية، وذَهاب عن وضع اللسان، وبابُ التفسير والتمييز مشهور بين النحاة، وليس هذا منه، بل قول الزوج ثلاثاًً نعتُ مصدرٍ محذوف والتقدير: أنت طالق طلاقاً ثلاثاًً، وهو كقول القائل: ضربت زيداً شديداً، والتقدير ضرباً شديدأ. 9016 - ثم معتمد المذهب، والقطبُ الذي عليه تدور المسائل أن الفعل من الطلاق والاسمَ المشتق يُشعران بالمصدر لا محالة، والمصدر يصلح للواحد والجنس، فتَطرَّق إمكانُ العدد، فإنْ لَفَظَ الزوج به، فذاك، وإن قال: أنت طالق، ونوى عدداً، وقع العدد الذي نواه، خلافاً لأبي حنيفة (1)، فاستبان أن الفعل من لفظ الطلاق والاسمَ صريحان في أصل الطلاق، صالحان للعدد على التردّد، والنيةُ شأنها تعيين وجهٍ من وجوه التردد. ولو قال لامرأته: أنت طالق واحدة، ونوى الثلاث، أو ثنتين، فهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن ينصب قوله واحدةً نصبه قوله ثلاثاًً، والآخر أن يقول واحدةٌ بالرفع، فأمّا إذا نصبَ قوله واحدةً، فهذا يستدعي ذكر مقدمة، ستأتي مشروحةً في موضعها، إن شاء الله، ونحن نذكر مقدار غرضنا منها. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ولم يخطر له إلى استتمام اللفظ الاستثناءُ،

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 411 مسألة 918، تبيين الحقائق: 2/ 197، اللباب: 3/ 41.

ثم لمّا تم لفظ الطلاق، خطر له أن يقول على الاتصال: إن شاء الله؛ تداركاً لما تقدّم، فقال: إن شاء الله متصلاً، فقد قال أبو بكر الفارسي - في كتابه المترجم مسائل الإجماع: يقع الطلاق في هذه المسألة إجماعاً، ووافقه معظم الأصحاب في دعوى الإجماع، وتعليلُه: أن لفظ الطلاق تم، ثم حاول استدراكه من بعدُ، فكان قصده في الاستدراك مردوداً. ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق؛ فإن شرط وقوعه ألاّ يُجري على الاتصال به لفظاً ما يكون استدراكاً. وهذا الوجه على اشتهاره مزيّفٌ، لا تحصيل له، وسنعود إلى ذلك في مسائل الاستثناء، إن شاء الله. 9017 - فنقول الآن: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة، ثم زعم أنه قصد بجميع كلامه ثلاث طلقات، وبسط قصده على أوّل كلامه وآخره، فهل يقع الثلاث؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: لا يقع الثلاث؛ لأن لفظه يناقض قصدَه، والقصد بمجرده لا يعمل ولا ينفذ [في] (1) الثلاث واللفظ على مناقضته، كنية الطلاق عند ذكرٍ من الأذكار عند قراءة القرآن. هذا إذا نوى الثلاث بجميع اللفظ. ولو نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، ثم خطر له أن يقول واحدة، فعلى طريقة الفارسي يقع الثلاث؛ فإنه طبق نية الثلاث على لفظ محتملٍ لها، ثم أتى بعد ذلك بلفظٍ يناقض ما تقدّم، فلا حكم له. وإن جرينا على الوجه الضعيف وأعملنا الاستثناء الذي وصله لفظاً، وإن قصده بعد نجاز اللفظ، فيخرّج على ذلك الوجهان المذكوران فيه إذا نوى بجملة اللفظ الثلاث. وإذا ضممنا هذه الصورة إلى الصورة الأولى، انتظم فيها أوجهٌ: أحدها - أن الثلاث تقع، والثاني - أنها لا تقع. والثالث - أنه إن نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، تقع، وإن نوى الثلاث بمجموع اللفظ، لا تقع. ولو قال: أنت طالق واحدةً، وزعم أنّي أردت طلقةً واحدةً ملفّقاً من ثلاث

_ (1) في الأصل: فيه.

طلقات، وقعت ثلاث طلقات، [فإنّ] (1) ما قاله ممكن، والطلاق الواحد الملفق حكمه ما ذكرناه. وذكر بعض أصحابنا وجهاً أن الثلاث لا تقع؛ لأن لفظ الواحد ينافي العدد، وتقدير التلفيق بعيد عن الدّرْك، والنياتُ إنما تعمل إذا كانت تطابق وجهاً مفهوماً من صيغة اللفظ. والخلاف في هذا يقرب من تردد الأصحاب في ألفاظٍ اختلفوا في إلحاقها بالكنايات، كما سنصفها من بعدُ، إن شاء الله. 9018 - ولو قال لامرأته: أنت واحدةٌ، ونوى الثلاث، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أنها تقع على تأويل حمل الواحدة على التوحّد والتفرد عن الزوج، والمرأة قد تنفرد عن زوجها بطلقة، وقد تنفرد عنه بثلاث طلقاتٍ، وذكر القاضي هذا، وصححه، وحكى معه وجهاً آخر: أن الثلاث لا تقع، لمنافاة لفظة الواحدة لها. وهذا فيه نظرٌ دقيق عندي، فأقول: إن خطر له التوحّد وربطَ الطلاق به، على التفصيل الذي ذكرناه، فلا يجب أن يكون في هذا خلاف. وإن نوى الثلاث، ولم يخطر له وجهُ حمل الواحدة عليها، فهذا فيه احتمال، وينبغي أن يكون هذا المسلك على ذُكر الفقيه في مسائل ستأتي على القرب. 9019 - ومما وصله الأصحاب بهذا المنتهى أنه لو قال لامرأته: أنت طالق واحدةٌ -بالرفع في واحدة- فهذا يُبنى على ما لو قال لها: أنت واحدةٌ، وقد ذكرنا أن الأصح أنه إن نوى الثلاث، وقع. فلو قال: أنت طالق واحدةٌ يُحمل هذا في العربية على إتباع الصفةِ الصفةَ، وكأنه قال: أنت طالقٌ أنتِ واحدةٌ. ثم الكلام -في إفراد الواحدة بالذكر- ما (2) ذكرناه. وقد يعترض في هذه المسألة وفيه إذا قال: واحدةً بالنصب الفرقُ (3) بين أن يكون

_ (1) في الأصل: وإن. (2) ما ذكرناه: خبر لقوله: ثم الكلام في إفراد الواحدة بالذكر. (3) الفرقُ: فاعل يعترض.

صاحب اللفظ معرباً أم غيرَ معرِبٍ، وهذا فنٌ سيأتي، ولسنا نخوض فيه الآن، والتنبيهُ عليه كافٍ. 9020 - ولو قال لامرأته: أنت طالق، فماتت، فقال: ثلاثاً، ووقع موتُها مع قوله ثلاثاًً، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن الثلاث تقع، لأن الموقَع هو الطلاق، وقد صادف حالة الحياة والثلاث منعطفة على الطلاق، فلا يضر وقوع اللفظ الثاني في حالة الموت. والوجه الثاني - أنه لا يقع شيء؛ لأن جميع الكلام في حكم المقصود الواحد، فإذا وقع بعضه في حالةٍ تنافي وقوعَ الطلاق، لم يقع الطلاق، كما لو قال لامرأته: "أنت طالق"، فوقع اللام والقاف في حالة موتها. والوجه الثالث - أنه يقع طلقة واحدة؛ فإن قوله: "طالق" مستقل بإفادة الطلاق، وهذا صادف الحياة، فوجب إعمال هذا، وإحباط ما يقع بعد الموت. ولو قال: أنت طالق، وكان على عزم الاقتصار عليه، فماتت، فقال: ثلاثاً، فلا شك أن الثلاث لا تقع في هذه الصورة، وينتفي الوجه الثاني أيضاً، فلا يبقى إلا الحكم بوقوع الواحدة. وهذا يلتفت على مسألة الفارسي إذا قال: أنت طالق، ثم بدا له أن يقول: إن شاء الله، وقد ذكرنا أن المذهب إلغاء الاستثناء، وفيه وجةٌ أن الاستثناء لا يلغو، ويبعد أن نقول في التفريع عليه: إنه لا يقع شيء على وجهٍ؛ فإنه أتى بما لو قصده ابتداء، لما وقع شيء في وجهٍ. ولو قال: إن شاء الله بعد موتها، والتفريع على الوجه الضعيف، فيجب القطع بأن الاسثتناء لا يعمل - والله أعلم. ولو كان قصد أن يقول: إن شاء الله، فلما قال: أنت طالق، قال: إن شاء الله مع موتها، هذا محتمل لمصادفة الاستثناء حالة الموت. وسنعود إلى هذا في فروع الاستثناء، إن شاء الله.

9021 - وإذا قال لامرأته: أنت بائن، ونوى ثنتين، وقعتا، كما إذا نوى واحدةً أو ثلاثاًً، وقال أبو حنيفة (1): يقع الثلاث إذا نواها، وتقع الواحدة، ولا يقع الثنتان، وله في ذلك مسلك اشتملت الأساليب على ذكره والردّ [عليه] (2). وكل ما ذكرناه في تأسيس المذهب في احتمال اللفظ للعدد إذا كان منشىء الطلاق هو الزوج. 9022 - ونحن نعود وراء ذلك إلى مسائل تتعلق بتفويض الطلاق؛ فإذا قال الرجل: لامرأته: طلقي نفسك واحدةً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، وقعت الواحدة، ولغا الزائد. ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاًً، فطلقت نفسها واحدةً، وقعت الواحدة. وقال أبو حنيفة (3): إن فوّض إليها ثلاثاًً، فطلقت واحدة، وقعت الواحدة، كما ذكرنا، وإن فوض إليها واحدة، وطلّقت نفسها ثلاثاً، لم يقع شيء. ولو قال لامرأته: طلقي نفسك، ونوى تفويض الثلاث إليها، فقالت: طلقت نفسي، ونوت الثلاث، وقعت الثلاث؛ فإن التفويض بالنية في العدد بمثابة التفويض بالكنايات، مع العلم بأن التعويل فيها على النية. فإذا قال: أبيني، فقالت: أبنت نفسي، فلا بد من النية في الجانبين، فالقول في النية المتعلقة بعدد الطلاق كالقول في النية المتعلقة بأصل الطلاق. ولو قال لها: طلقي نفسَك، ونوى الثلاث، فقالت: طلقت نفسي، ولم تتعرض للنية، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يقع إلا طلقةٌ واحدة؛ فإنها لم تنو العدد، فنفذ اللفظ فيما هو صريح فيه من غير مزيد، وهو كما لو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: طلقت نفسي واحدة.

_ (1) ر. المبسوط: 6/ 73، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 421 مسألة 921، الاختيار: 3/ 133، اللباب: 3/ 42. (2) زيادة من المحقق. (3) ر. البدائع: 3/ 124، إيثار الإنصاف: 156، الاختيار: 3/ 137.

وذهب بعض الأصحاب إلى أن الزوج إذا نوى الثلاث ولم تتعرض المرأة للنية، وقد جرى النطق بالصريح من الجانبين، فيقع الثلاث؛ تعويلاً على نيته؛ فإنه فوض إليها لفظ الطلاق، وهو تَولَّى قصدَ العدد. وهذا ضعيفٌ جداً؛ إذ لا خلاف أنه لو قال: أبيني نفسك، ونوى، فقالت: أبنت نفسي، لم يقع الطلاق تعويلاً على نيته، فليكن الأمر كذلك في العدد؛ فإن الصريح كناية في العدد. 9023 - ولو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: "طلقت نفسي"، أو قالت: "طلّقتُ"، ولم تتلفظ بعدد ولم تنوِه (1)، فقد قال القاضي: يقع الثلاث؛ فإن قولها جرى جواباً، والإيجاب في حكم المعاد في الجواب، وقد يجري القبول على وجهٍ لا يفهم لو قدر منفرداً، ولكنه ينتظم مع ابتداء الخطاب بسبب البناء عليه، ثم قال: ليس هذا كما لو قال: طلقي نفسك، ونوى الثلاث، ولم يتلفظ بها، فقالت: طلقت نفسي ولم تنو الثلاث، وذلك أن العدد في جانب الزوج مربوط بالنية، فلا يمكن بناء كلامها على النية، فإن التخاطب لا يقع إلا بالنية وهي على الجملة لا تحل محل الصّريح. هذا كلامه. وقد ذكرنا خلافاً فيه إذا نوى الزوج العدد، ولم تنو المرأة، ومن تمسك بالوجه الضعيف، وحكم بأنّ الثلاث تقع، فله أن يعتضد بما إذا قال الزوج صريحاً: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: طلقت نفسي. ولنا تفصيلٌ ونظر في تصريح الزوج بتفويض الثلاث مع اقتصارها على الطلاق من

_ (1) عبارة الأصل، فيها تكرار، وزيادة هكذا: "ولو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: "طلقت نفسي، أو قالت: طلقت نفسي، أو قالت: طلقت نفسي، ولم تتلفظ ... " والتعديل والتصويب من المحقق على ضوء مختصر العز بن عبد السلام، فقد جاء فيه: "وإن قال: طلقي نفسك ثلاثاًَ، فقالت: طلقت نفسي، أو قالت طلقت، ولم تنو العدد، طلقت ثلاثاً عند القاضي ... " (ر. الغاية في اختصار النهاية: ورقة 139 يمين جزء: 3).

غير ذكر عددٍ، [فنقول] (1): إن كان التفريع على أن تفويض الطلاق تمليكٌ، وجوابها بمثابة القبول في مقابلة الإيجاب، فيتجه ما ذكره من بناء كلامها على كلامه؛ فإن قولها على قول التمليك بمثابة القبول مع الإيجاب. فأما إذا جعلنا التفويض توكيلاً، فالوجه أن لا يقع الثلاث؛ فإنّ تصرف الوكيل لا ينبني على التوكيل، وإنما هو افتتاح تصرّف، ولو كان مبنياً على التوكيل، لشُرط اتصاله به. ومن قال: يشترط على قول التوكيل اتصالُ كلامها بالتفويض، فقد يخطر له ما ذكره القاضي أيضاً. ويجوز للفقيه أن يقلب هذا الترتيب، فيقول: إن جعلنا التفويض توكيلاً، فلا نبني كلامها على كلامه، وإن جعلناه تمليكاً، فالمسألة محتملة: يجوز أن يسلك فيه مسلك البناء، كما ذكره القاضي، ويجوز أن يقال: لا يبنى قولها على قوله؛ فإنها متصرفة على الابتداء تصرفاً له صيغة التمام، وليس كالقبول الذي لا يقع إلا شقّاً، والدليل عليه أنه لو قال: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت نفسي واحدة، وقعت الواحدة، ولو قال: طلقي نفسك واحدة، فطلقت نفسها ثلاثاًً وقع من الثلاث واحدة، ولو كان تطليقها مع تفويضه كالإيجاب والقبول، لما وقع الطلاق مع الاختلاف؛ فإن الرجل لو قال لمن يخاطبه: بعت منك عبدي هذا بألف، فقال: اشتريته بألفين، لم ينعقد العقد، ولم نقل: ينعقد بالألف ويلغو الألف الزائد، وهذا النوع ينفذ من الوكيل. هذا منتهى القول في تفويض العدد مع تصوير موافقتها ومخالفتها لفظاً وقصداً. 9024 - ثم قال الشافعي: "ولو طلق بلسانه واستثنى بقلبه ... " (2) وهذا طرف من أطراف التديين، وقد استقصيناه فيما تقدم.

_ (1) في الأصل: ونقول. (2) تمام العبارة: "ولو طلق بلسانه، واستثنى بقلبه، لزمه الطلاق، ولم يكن الاستثناء إلا بلسانه. (ر. المختصر: 4/ 76).

فصل قال: "ولو قال: أنت عليَّ حرام يريد تحريمها بلا طلاق ... إلى آخره" (1). 9025 - هذا الفصل نفرضه حيث لا نحكم بأن لفظ التحريم صريح في الطلاق، ثم نذكر مقصود الفصل، حيث نحكم بكونه صريحاً في الطلاق. 9026 - فإذا لم نجعله صريحاً في الطلاق وقد قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أو قال: حرّمتك، أو أنت محرّمة، فقد قال الأصحاب: إن نوى بما قال طلاقاً، فهو طلاق. وإن نوى الظهار، فهو ظهار. وإن نوى تحريم ذاتها على نفسه، تلزمه كفارة اليمين بنفس اللفظ، ولم يتوقف لزومها على إلمامه بها. وإن أطلق اللفظ، ولم يقصد شيئاً، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أن اللفظ صريح في إيجاب الكفارة. والثاني - أنه كناية بحيث لا يجب بمُطْلَقه من غير نيةٍ شيءٌ. والثالث - أنه كناية في حقّ الحرة، صريحٌ في حقّ الأمة إذا خاطبها به، وهذا الوجه ذكره العراقيون. 9027 - التوجيه: من جعله صريحاً في إيجاب الكفارة، تعلق بظاهر قوله تعالى في مخاطبة النبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآيات [التحريم:1 - 3]، والصحيح في سبب نزولها أنه عليه السلام خلا بمارية القبطية في نوبة حفصة، فاطلعت عليه، وقالت: أفي بيتي؟ وفي يومي؟ فاسترضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلبها،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 76.

وحرّم مارية على نفسه، فنزلت الآية وقال تعالى في مساقها: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1)، ثم مقتضى القرآن إيجاب الكفارة بنفس اللفظ من غير تعرّض لقصد،

_ (1) قصة تحريم مارية القبطية على هذا النحو الذي ساقه إمام الحرمين رواها سعيد بن منصور في سننه: 1/ 390 ح 1707، والبيهقي في الكبرى: 7/ 353، ورواها الدارقطني من حديث عمر في السنن: 4/ 41، 42 ح 122، وأبو داود في المراسيل: 202 ح 240. وهو عند النسائي من حديث أنس بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1]: سنن النسائي الصغرى: كتاب عشرة النساء، باب الغيرة، ح 3411، ومن حديث أنس أيضاً أخرجه الحاكم في المستدرك، بلفظ النسائي، وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه" وأقره الذهبي (ر. المستدرك: 2/ 493). قال الحافظ بعد أن ساق هذه الأحاديث: "وبمجموع هذه الطرق، يتبين أن للقصة أصلاً، أحسب، لا كما زعم القاضي عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح، وغفل رحمه الله عن طريق النسائي، وكفى بها صحة، والله الموفق" انتهى كلام الحافظ (ر. تلخيص الحبير: 3/ 421، 422، ح 1732). قال عبد العظيم: خرّج الحافظ في التلخيص هذه الأحاديث، عن قصة مارية وحفصة كما أوردها الرافعي في الشرح الكبير، ولم يتعقبه -كعادته- بذكر الأحاديث (الأصح) التي اتفق عليها الشيخان البخاري ومسلم، وغيرهما، وجاء فيها قصة أخرى لنزول الآيات، لا علاقة لها بمارية، ومخالطتها في بيت حفصة، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنةِ جحش، ويمكث عندها، فواطأت أنا وحفصة عن: أيتنا دخل عليها، فلتقل له: أكلتَ مغافير، إني أجد منك ريح مغافير، فال: "لا، ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحداً" (البخاري، كتاب التفسير: سورة التحريم، باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، ح 4912، وانظر أرقام: 5216، 5267، 5268، 5431، 5599، 5614، 6691، 6972) وبنحوه رواه مسلم عن عائشة، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته، ولم ينو الطلاق، ح 1474، ورواه أيضاً ابن سعد، وابن المنذر، وعبدُ بن حميد، وابن مردويه، قال ذلك الألوسي، وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن عائشة أن شرب العسل كان عند حفصة، والقائل سودة وصفية. قال النووي عند شرح حديث مسلم: هذا ظاهر في أن الآية نزلت في سبب ترك العسل، وفي كتب الفقه أنها نزلت في تحريم مارية ثم نقل عن القاضي عياض قوله: الصحيح في سبب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = نزول الآية أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح، قال النسائي: إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غاية" انتهى كلام النووي ناقلاً إياه عن القاضي عياض. ثم قال النووي: "قال القاضي بعد هذا: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب". ثم أقول: قال الألوسي: "وبالجملة الأخبار متعارضة، لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح، أن الآية في قصة العسل، لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح". ثم قال الخفاجي: نقلاً عن النووي أيضاً: "الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله عنها" انتهى ما قاله الألوسي نقلاً عن الخفاجي ناقلاً إياه عن النووي. (روح المعاني: 28/ 146، 147). وبهذا أصبح القائل إن الصحيح أنها في قصة العسل، وأن قصة مارية لم ترد من طريق صحيح، وأن الصواب أن شرب العسل كان عند زينب، أصبح القائل لكل هذا هو النووي في شرح مسلم. والواقع أن النووي نقله عن القاضي عياض وبالرجوع إلى حاشية الشهاب الخفاجي، برئت ساحة الألوسي، فالذي قَوَّل النووي ما لم يقله هو الخفاجي في حاشيته، حيث نسب إليه جازماً ما حكاه عن القاضي عياض، فقد قال الشهاب عند تفسير أول سورة التحريم: "اختلف في سبب النزول: فقيل: قصة مارية، وقيل: قصة العسل، وقال في شرح مسلم: الصحيح أنها في قصة العسل، لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح ... وفي شرح مسلم أيضاً: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب" انتهى بنصه كلام الخفاجي، وعنه أخذه الألوسي، وكم من الأبحاث أخذت عن الألوسي ونسبت إلى النووي ما لم يقله بل نقله عن القاضي عياض!!! ووقوع الخفاجي في هذا (الوهم) أو هذا (التسرّع) شاهد صدق على قصور البشر. الخلاصة: وخلاصة ما تقدم نجمعها في أمور: ا- أن الأحاديث في سبب نزول الآيات متعارضة بعضها في قصة العسل، وبعضها في قصة مارية. 2 - أن أحاديث قصة العسل في أعلى درجات الصحة؛ فهي في الصحيحين وغيرهما. 3 - أن قول القاضي عياض: إن قصة مارية لم تأت من طريق صحيح لم يخالفه فيه أحد، إذا حملناه على تفاصيل القصة من مخالطة مارية في بيت حفصة، وحوار حفصة في ذلك، فهذا بالاتفاق لم يأت من طريق صحيح. 4 - احتج الحافظ ابن حجر في إنكاره على القاضي عياض -قال: أحسب أن للقصة أصلاً- بأمرين: =

وهذا بمثابة ذكر الظهار وكفارته في آيات الظهار. ومن قال: مطلق التحريم لا يكون صريحاً في اقتضاء الكفارة، احتج بأنّ الزوج لو نوى به الطلاق، لكان طلاقاً، ولو كان صريحاً في اقتضاء الكفارة، لما جاز نقله عما هو موضوع فيه، كالطلاق إذا نوى الزوج به ظهاراً، وكالظهار إذا نوى به طلاقاً. ومن قال بالوجه الثالث، اعتمد القرآن وسببَ نزوله، وقال: المعتمد في هذا الأصل الكتاب، وهو وارد في المملوكة، والحرّةُ مشبَّهةٌ بالمملوكة، فلا يمتنع أن يكون اللفظ صريحاً في موضوعه. 9028 - ثم مذهب الشافعي أن التحريم حيث يوجب الكفارة لا يتنزّل منزلة اليمين، حتى يقال: يتوقف وجوب الكفارة على مخالفة التحريم بالإقدام

_ = أ- مجموع الطرق. ب- رواية النساني من حديث أنس. وأقول: ليس في الأمرين ما يردّ كلام القاضي عياض، أما مجموع الطرق، ففيه ما فيه، وليس هذا الموضع مما يعتمد فيه التصحيح أو التقوية بمجموع الطرق. أما حديث النسائي، فليس فيه تفاصيل القصة، بل لفظه كما رواه الحافظ نفسه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك} فيبقى قول القاضي عياض: "لم تأت قصة مارية من طريق صحيح" على صوابه، حيث يردّ القصة التي تحوي هذه التفاصيل. ثم يأتي هنا السؤال: هل يجوز الترجيح بقوة الرواية؟ وهل يمكن الجمع بين القصتين، كما جعله الحافظ احتمالاً في الفتح، وكما قاله الشوكاني في تفسيره. ولكن يجب أن نؤكد عند الجمع أن تحريم مارية لم يكن على هذا النحو الذي ورد في الفصة، فليس هذا ثابتاً باتفاق، بل يجب الوقوت عند ما رواه النسائي: "حرمها على نفسه" فليس من الرواية ولا من الدراية أن نخترع تفاصيل لسبب التحريم إذا صح أصله. والله أعلم. وأختم بتساؤل: هل يفهم من قول الإمام النووي في شرح مسلم: "وفي كتب الفقه أنها نزلت في تحريم مارية" هل يفهم من هذا نوع إنكارٍ على الفقهاء؟ لا سيما وأنه لم يتعرض للقضية أصلاً وأعرض عنها تماماً في (الروضة). الله أعلى وأعلم. ونضيف ملاحظة أخرى، هي أن كتب الفقه اعتمدت هذه القصة -قصة مارية- دون قصة العسل على ضعف قصة مارية؛ لأنها هي الأوفق للتمثيل والاستشهاد في تحريم الأبضاع، فهذا عذرهم، والله أعلم.

والاستمتاع، وأبو حنيفة (1) جعل لفظ التحريم يميناً بمثابة قوله: "والله لا أطؤك" ثم أقامه إيلاءً في النكاح، وحلفاً في ملك اليمين، ثم لم يخصص أصله بالفروج، بل قضى بأن تحريم الأطعمة والأشربة وغيرها من المستحلاّت بمثابة اليمين المعقودة على الامتناع منها. فإن خالف اليمين، وجبت الكفارة. وما ذكرناه من اقتضاء التحريم الكفارةَ يختص بفرج الحرّة والأمة ولا يتعداهما إلى ما عداهما من المستحلات، وسنذكر حقيقة هذا في أول كتاب الأَيْمان، إن شاء الله. 9029 - ولو قال لزوجته أو أمته: أنت عليّ حرام، ثم زعم أنه أراد الحلف على الامتناع من الوطء، ففي قبول ذلك منه وجهان: أحدهما - أن اليمين لا تنعقد، وهو الذي صححه أئمة المذهب؛ فإن عماد اليمين ذكرُ اسمٍ معظَّم أُمرنا بالإقسام به إذا أردنا القسم، ولفظ التحريم ليس صريحاً فيه ولا كناية، وإنما لفظ التحريم ذكر المقسَم فأين القسم والاسم المقسَم به؟ ومن أصحابنا من قال: يثبت القسم إذا نواه؛ فإن موجب القسم عند الحنث يضاهي موجب التحريم، وقد قال أهل اللسان: "قول القائل: "لأدخلنّ الدار" قسمٌ، واللام لام قسم" فليس يبعد تحصيل اليمين بالنية إذا جرى مقصود اليمين بعبارة مؤكدة. وهذا غير مرضي؛ فإنا لا نعرف خلافاً أن الرّجل إذا قال: لأدخلن الدار، ونوى القسم، لم يكن مقسماً، وأحكام الشرع لا تؤخذ من تقديرات العربية، واليمينُ منها منوطةٌ تعبداً باسم الله، أو بذكر صفةٍ من صفاته الأزلية. ثم من جعل التحريم بالنية يميناً تردَّدُوا في لفظ التحريم في سائر المستحلاّت كالمطاعم والملابس وما في معناها، فقال القيّاسون من هؤلاء المفرّعين: التحريم يصير يميناً بالنية في جميع هذه الأشياء. وقال آخرون: التحريم إنما يصير يميناً في المنكوحات والإماء.

_ (1) المبسوط: 6/ 70، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 413 مسألة 922، حاشية ابن عابدين: 2/ 553.

ومما يجب الإحاطة به أن هذا الخلاف الذي ذكرناه آخراً إنما نشأ من لفظة الشافعي، وهي أنه قال: "إذا حرم زوجته، يقال له: أصب وكفّر" (1)، فظن ظانون أنه رضي الله عنه أوجب الكفارة بالإصابة على تقدير اليمين، وليس الأمر كذلك، بل أراد أن التحريم لا يحرّم وطأها بخلاف الظهار، فإنه يثبت تحريماً ممدوداً إلى التكفير، فأبان الشافعي أن التحريم لا يوجب حجراً أو حظراً في الوطء. فإن قيل: هلا كان التحريم كالظهار؟ قلنا: لو كان كالظهار، لكان ظهاراً، فهو إذاً لا يقتضي التحريم، ولكن يقتضي وجوب الكفارة، وهو نازع من وجهٍ إلى اليمين، وليس يميناً ويشبه في ظاهره الظهارَ، وليس ظهاراً ولا في معناه. 9030 - ولو قال لنسوة: حرمتكن وقصد تحريم أنفسهن، فيلزمه كفارة واحدة أم كفارات بعددهن؟ فعلى قولين ذكرهما صاحب التقريب والقاضي، وكان شيخي وطوائف من أئمة المذهب يقطعون بأن الكفارة تتّحد، فمن ذكر القولين قرّب التحريم المضاف إلى النسوة في هذا المقام من الظهار، [فلو] (2) قال الزوج لنسوةٍ: أنتنّ عليّ كظهر أمّي، ففي تعدد الكفارة قولان، سيأتي ذكرهما. ومن قطع باتحاد الكفارة، فوجهه أن الظهار يُثبت التحريم في النسوة، ويشابه الطلاق من هذا الوجه، والتحريم لا يثبت في ذواتهن ويشابه اليمين من هذا الوجه، ويشابهها أيضاً في صفة الكفارة. ومن سلك طريقة القولين قال: وجوب الكفارة في التحريم لا يتوقف على المخالفة، فكان حريّاً بأن يشبّه بالظهار، ولو خاطب إماء وحرمهن بكلمة، فهو كما لو حرّم نسوة بكلمة. ثم إن قضينا باتحاد الكفارة إذا خاطب النسوة أو خاطب الإماء، فلو قال لنسوته وإمائه أنتن محرمات عليّ، أو حرمتكن، فمن أصحابنا من قال: لا تجب إلا كفارة

_ (1) ر. المختصر: 4/ 76. (وأصله في الإملاء رواه عنه المزني في المختصر). (2) في الأصل: ولو (بالواو).

واحدة تفريعاً على اتحاد الكفارات إذا خاطب نسوةً مجردات أو إماء منفردات، وهذا ظاهر القياس. ومن أصحابنا من قال: هاهنا تتعدد الكفارة لتعدد الجهة نكاحاً وملكاً. وهذا خيالٌ لا أصل له، وإن كان مشهوراً، حكاه الصيدلاني وغيره، ثم صاحب الوجه الضعيف حيث انتهى التفريع إليه لا يوجب إلا كفارتين؛ نظراً إلى تعدد الملك والنكاح، وهذا كلام مضطرب، والوجه تنشئة الخلاف من عدد المحرمات منكوحات كنّ، أو إماء، أو مختلطات. 9031 - وكل ما ذكرناه مفروض فيه إذا لم يكن لفظ التحريم صريحاً في الطلاق. فإن كان صريحاً في الطلاق لاستفاضته وشيوعه، وتفريعنا على أن مأخذ الصرائح الشيوع، فإذا أطلق التحريم، فهذا نفرّعه على أن التحريم في اقتضاء الكفارة صريح أم كناية؟ وتحقيق القول فيه أنا إن حكمنا بأن مأخذ الصرائح الشيوع، فلا يتصور كون لفظ التحريم صريحاً في البابين؛ فإن المعنيّ بالشيوع أن لا يستعمل في اطراد العادة إلا في معنىً، ولا يقع الحكم للفظ بكونه صريحاً إلا بشرطين: أحدهما - الاستفاضة، والآخر - أن لا يستعمل إلا في معنى المطلوب. وإذا بان أنا نضم إلى الشيوع الحصر، فلا يتصور أن يشيع لفظ على الحد الذي ذكرناه في معنيين مع اتحاد الزمان والمكان، وهذا بمثابة إطلاق الغلبة في النقود، فالغالب هو الذي يندر التعامل على غيره، ويستحيل تقدير الغلبة في نوعين؛ فإنّ قصارى هذا التقدير يجرّ تناقضاً، وهو أن كل واحدٍ منهما أغلب من الثاني، فيلزم منه إثبات شيئين كلّ واحدٍ أغلب مما هو أغلب منه. فإذا شاع اللفظ في مسألتنا في أحد المعنيين، كان صريحاً فيه كناية في الثاني. 9032 - وإن جوزنا أن يكون للصريح مأخذان: أحدهما - ورود الشرع، والآخر - الشيوع على النعت المقدّم، واعتمادُ الشرع في باب الصرائح يشهد له نصُّ الشافعي على أن الفراق والسراح صريحان، وإن عرفنا قطعاً أنهما ما شاعا شيوعاً يتميزان به عن الخليّة، والبريّة، والبائن.

فلو فرض شيوع التحريم في الطلاق وفرعنا على أن الصرائح تؤخذ من مأخذ الشرع أيضاً، فهل ينتهي التفريع إلى كون التحريم صريحاًً في البابين؟ وكيف السبيل في ذلك؟ هذا فيه نظر يجب الاهتمام به، ولا يتجه فيه إن أثبتنا المأخذين إلا أمران: أحدهما - أن نسلك مسلك التغليب إذا جرى اللفظ مطلقاً، ونعتقد أن الطلاق أغلب مثلاً لوجوه لا تكاد تخفى، واللفظ يطابق المعنى إذا كان طلاقاً؛ فإن الطلاق يحرم النفس، والتحريمُ الموجب للكفارة لا يحرم النفس. هذا مسلكٌ. وإن انقدح للفقيه استواء الوجهين، فلا مطمع في تحصيل معنيين بلفظ واحدٍ، هذا ما لا سبيل إليه وإن جرّد القاصد قصده إليهما جميعاًً؛ لأن اللفظ الواحد لا يصلح لمعنيين جميعاً إذا لم يوضع في وضع اللسان للجمع، فلا يتجه إذاً إن لم ينقدح وجهٌ في الترجيح إلا أنه يخرج عن كونه صريحاًً في البابين جميعاًً، لتعارض العرف والشرع، واستحالة الجمع، وامتناع تخصيص أحد الجانبين، فلا [يعمل] (1) اللفظ إذاً في أحد المعنيين إلا بالقصد. هذا منتهى النظر. 9033 - ومن لطيف الكلام في هذا أن الصريح [الذي هو] (2) على الدّرجة العليا. كالطلاق، فإنه لا يُعدَل عن ظاهره إلا على مسلك التديين، ويلتحق الظهار به أيضاً لاستوائهما في الجريان في الجاهلية والإسلام، وكل ما يلتحق بالصرائح لعموم عرفٍ متجدّدٍ -فالعرف لا ثبات له- فقد يعرض استعقاب العرف عرفاً آخر، وقد مهدنا في قاعدة الصرائح أن من الألفاظ ما يعمل مطلَقُه، وتنصرف النية فيه، وهذا من ذاك، فالتحريم إذا شاع على الحدّ الذي نعهده، فلا يكاد يبلغ مبلغ شيوع الطلاق في كل زمانٍ ومكانٍ، ولا يعد مستعمل التحريم في غير مقصود الطلاق آتياَّ بَشاذًّ نادرٍ، بخلاف من يستعمل الطلاق ويبغي غير معناه، ومن أحاط بهذه المرتبة من الصرائح، بنى عليه ما ذكرناه، من أن التحريم وإن كان صريحاً في اقتضاء الكفارة، فيصير طلاقاً بالنية.

_ (1) في الأصل: يعلم. والمثبت تصرف من المحقق. (2) في الأصل: الصريح (النهوُ) على الدرجة العليا (بهذا الرسم تماماً).

هذا تحصيل القول في ذلك، وتبليغه المرتبة الأقصى في البيان. 9034 - ومما يتعلق بتمام الكلام في فصل التحريم أنه لو قال لأمته التي هي أخته من الرضاع أو النسب: حرّمتك، أو أنت عليّ حرام، وزعم أنه أراد تحريمها في ذاتها، فلا تلزمه بهذا القول كفارةٌ، لأنه وصفها بما هي متصفة به من التحريم، وإنما يُلزم لفظُ التحريم الكفارةَ إذا خاطب به مستحلّه، فيناقض لفظُه موجَبَ الشرع، فيعدّ ما جاء به كلاماً مخالفاً للشرع، ثم تعبّد الشرعُ فيه بكفارة. وإذا قال لأمته المعتدة، أو المرتدة، أو المزوّجة، أو الوثنية، أو المجوسية: أنت عليّ حرام، وأراد تحريمها في ذاتها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لايلزمه شيء لأنه وصفها بالتحريم في حالةٍ كانت فيها محرّمة، فلا تناقض، ولا حلف. والثاني - يلزمه لأنها بمحل أن يستبيحها بتغاييرَ تلحق. وإذا خاطب بالتحريم امرأته المُحْرِمة، ففيه وجهان، كما ذكرناه. وأطبق المحققون على أنه لو خاطب الرجعية، لم يلتزم شيئاً، لأنها مُحرَّمة خالية عن الحلّ، وفيها احتمال من طريق المعنى، وإن لم نجد فيه نقلاً. وإذا خاطب بالتحريم الصائمة والحائض، التزم الكفارة؛ فإن تلك العوارض لا حكم لها، والتحريم لا يعم أيضاً جميع وجوه الاستمتاع، ولفظ التحريم عام من جهة الوضع. فإذا قال لامرأته: أنت عليّ كالميْتة، أو الدم، أو الخمر، أو الخنزير، فهو كما لو خاطبها بلفظ التحريم، ويمكن أن يقال: إن جعلنا التحريم صريحاً لمورد القرآن، فهذه الألفاظ لا تكون صرائح، والعلم عند الله. وقد انتجز قولنا في قاعدة التحريم.

فصل قال: "فأما ما لا يشبه الطلاق مثل قوله: بارك الله فيك ... إلى آخره" (1). 9035 - غرض الفصل أنّ شرط ما يوصف بكونه كناية أن يكون مشعراً بالمقصود، ثم إن ظهر إشعاره، لم يخف كونه كنايةً، وإن خفي، فقد يُثيرُ خفاؤهُ خلافاً. فلو قال لامرأته: تجرّعي أو تردّدي أو ذوقي، فهذه الألفاظ كنايات، فإنها من طريق الاستعارة تشعر بالفراق، ولو قال: اشربي، وزعم أنه نوى الطلاق، فوجهان، قدمنا ذكرهما، ومن جعله كناية قدّر فيه اشربي كأس الفراق. وكان شيخي يقطع بأن قوله: "كلي" ليس بكنايةٍ، وألحق القاضي والعراقيون كلي بقولهِ: "اشربي" وهذا فيه [بعد] (2) ولو قال: بارك الله فيك، أو اسقيني، أو أطعميني، أو ردّديني، أو ما أشبه ذاك، فليس بطلاق، لأن هذه الألفاظ غيرُ مشعرةٍ بالفراق. وإن حملها حامل على معنىً بعيد، عُدَّ متكلفاً، آتياً بما يلتحق بقسم التعقيد والإلغاز. ولو قال: "أغناكِ الله"، ونوى الطلاق، فقد ذكر العراقيون وجهين، ومأخذ أحدهما من قوله عزّ وجل: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] فكأنَّه قال لها: فارقيني يغنك الله. وهذا بعيد، ولا يجوز أن يحمل على ذلك قوله: "بارك الله فيكِ"، وإن أمكن على بعدٍ أن يقول: أردت أغناك الله؛ فلا تنتهي التقديرات في الكنايات إلى هذا المنتهى. فليقس القائس على محل الوفاق والخلاف ما لم نذكره. فصل 9036 - ثم قال الشافعي: "ولو قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاًً [للسُّنة] (3) وقعن معاً ... إلى آخره" (4).

_ (1) ر. المختصر: 4/ 77. (2) في الأصل: بعيد. والمثبت اختيار من المحقق. (3) زيادة من نص المختصر. (4) ر. المختصر: 4/ 77.

9037 - مقصود الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاً وقعت الثلاث عند الشافعي وأصحابه، وهو مذهب عامة العلماء. وذهب بعض السلف إلى أنه لا يقع إلا واحدة، وهذا إنما قاله بسبب أن قول الرجل: "أنت طالق" مستقلٌّ بنفسه، فينبغي أن تبين المرأة، به فإذا بانت، لم يلحقها إلا واحدة. ومعتمد مذاهب العلماء أنّ آخر الكلام منعطفٌ على أوّله، كما أنّ أوّله مربوط بآخره، وقوله: "ثلاثاً" من تمام قوله: "طالق". ولو قال للّتي لم يدخل بها: "أنت طالق وطالق" بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية وستأتي هذه المسائل بما فيها موضحة إن شاء الله تعالى. ***

باب الطلاق بالوقت وطلاق المكره

باب الطلاق بالوقت وطلاق المكره قال الشافعي: "وأي أجلٍ طلّق إليه لم يلزمه قبل وقته ... إلى آخره" (1). 9038 - إذا علق الرجل طلاق زوجته بأمرٍ في الاستقبال، تعلّق به، ولم يقع قبل تحققه، ولا فرق بين أن يكون ما علّق الطلاقَ به مما يأتي لا محالة، وبين أن يكون الظن متردداً فيه: قد يكون وقد لا يكون؛ فإذا قال: إن دخلت الدارَ، فأنت طالق، فهذا مما لا يقطع بكونه (2). فإذا قال: إذا طلع الشمس، فأنتِ طالق، فهذا مما يكون لا محالة، والطلاق لا يقع في الموضعين قبل تحقق الصفة؛ خلافاً لمالك (3)؛ فإنه قال: إذا علق الزوج الطلاق بما يكون لا محالة، انتجز الطلاق في الحال، وإنما يقف وقوفه على وجود الصفة إذا لم تكن مستيقنة الكون، قد تكون وقد لا تكون. 9039 - ثم ذكر الشافعي مسائل في ذكر الأوقات التي تُفرض متعلقاً للطلاق والعتاق، والغرض منها بيان معاني الألفاظ المستعملة فيها، فقال: "لو قال في شهر كذا ... إلى آخره" (4). إذا قال الزوج لزوجته: أنت طالق، في أول شهر رمضان، طلقت كما (5) أهلّ الهلال.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 77. (2) بكونه: أي بوجوده. (3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 748 مسألة 1357، وعيون المجالس له: 3/ 1227 مسألة 854. (4) ر. المختصر: 4/ 77. (5) كما: بمعنى عندما.

ولو قال: أنت طالق في شهر رمضان، وقع الطلاق مع أوّل جزء منه، وكذا إذا قال: في أول شهر كذا، أو في غرّة شهر كذا، أو في أول غرة شهر كذا، فالطلاق في هذه المسائل يقع مع أول جزء من الهلال، والأصل المعتمد أن اسم الشهر إذا تحقق، فقد تحققت الصفة التي هي متعلق الطلاق، والطلاق ليس معلَّقاً بدوام الصفة، ولا بنجازها، فاقتضى ذلك الوقوع مع أول الاسم. ومن دقيق الكلام في هذا أنه قد يظن الظان أن الوقت ظرفٌ للطلاق وشرط الطلاق الواقع فيه أن يحتوش بزمان سابق، وهذا تقدير محال، فالمعنيّ بالظرف الزماني انطباق فعلٍ على زمان، فأما اشتراط تقدم [زمان] (1) أو تأخّر، فلا. 9040 - وإذا قال: أنت طالق في يوم كذا، وقع الطلاق مع أول جزء من الفجر، وقال أبو حنيفة (2): يقف وقوع الطلاق على انتهاء ذلك اليوم بغروب الشمس، وهذا بناه على أصلٍ له في العبادات، وذلك أنه قال: "كل فعلٍ عُلِّق بوقتٍ موسّع، تعلّق بانتهاء ذلك الوقت" كمصيره إلى أن الصلاة تجب بآخر الوقت، وهذا جهل بموضوع البابين: أما الصلاة، فإن ربط وجوبها بآخر الوقت أخذاً من أن المؤخِّر لا يعصي، فهذا له وجهٌ على حال، وفي معارضته كلامُ أصحابنا. فأما مأخذ وقوع الطلاق المعلق، فمِن تَحقُّق الصفة، ولا وقوف بعد تحقق الصفة، وليس هذا مأخوذاً من وجوبٍ حتى ينظرَ الناظرُ في إثبات المعصية ونفيها. 9041 - وإذا قال: أنت طالق في آخر شهر رمضان، ففي المسألة وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها تطلق في آخر جزء من آخر الشهر؛ فإن ذلك الجزء هو الآخر حقاً. والوجه الثاني - أنها تطلق مع أول جزء من ليلة السادس عشر؛ فإنه إذا مضى النصف الأول عُدَّ ما بعده آخراً، وهذا أول الآخر. وقد ذكرنا أن الطلاق يقع كما (3) تحقق الاسم.

_ (1) في الأصل: زماني. (2) ر. فتح القدير: 3/ 376، حاشية ابن عابدين: 2/ 445، الفتاوى الهندية: 1/ 368. (3) كما: أي عندما.

وإذا قال: أنت طالق في أول آخر الشهر، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تطلق في أول ليلة السادس عشر، فإنا أوضحنا أن النصف الأخير ينطلق عليه اسم الآخر، والجزء الأول من النصف الثاني أول الآخر، وهذا بناء على ما ذكرناه من أنه إذا قال: أنت طالق في آخر الشهر، يقع الطلاق في الجزء الأول من ليلة السادس عشر، وأولُ الاَخِر والآخرُ بمثابة، فإن الآخر، وإن كان مطلقاً، فنحن نكتفي بأوله. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أن الطلاق يقع كما (1) طلع الفجر من اليوم الأخير من الشهر، وهذا بناء على قولنا: إذا قال لامرأته: أنت طالق آخر الشهر تطلق مع الجزء الأخير، فإذا ضَمَّ إلى الآخر أوّلاً مضافاً إليه، وقال: أنت طالق في أول آخر الشهر، طلبنا أقرب أولٍ إلى الآخر، فوجدناه اليوم الأخير. والمسألة محتملة حسنة. 9042 - ولو قال: أنت طالق في آخر أول الشهر، ففي المسألة أوجه ذكرها العراقيون وغيرهم: أحدها - أنها تطلّق مع آخر جزء من الليلة الأولى من الشهر؛ فإن هذا أقرب زمان يضاف فيه الآخر إلى الأول. والوجه الثاني - أن الطلاق يقع مع آخر جزء من اليوم الأول، فنعتبر الليلة واليوم في الأولية، ثم نأخذ آخر هذا الزمان. والوجه الثالث - أنا نحكم بوقوع الطلاق مع آخر جزء من اليوم الخامس عشر، فإن النصف الأول يعدّ أول الشهر، وآخر هذا الأول ما ذكرناه. 9043 - ولو قال وهو في بياض نهار: إذا مضى اليوم فأنت طالق، طلقت بغروب شمس ذلك اليوم، وإن لم يبق من اليوم إلا لحظة، لأنه عَرَّف اليوم، فاقتضى التعريف ما ذكرناه. ولو قال والحالة هذه: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق حتى ينتهي في الغد إلى الوقت الذي عقد اليمين فيه، لأنه نكّر اليوم، فالاسم المنكر

_ (1) أي: عندما طلع الفجر.

يقتضي مسمّى كاملاً، وسبيلُ [التكميل] (1) ما ذكرناه. ولو قال بالليل: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فيقع الطلاق بغروب شمس الغد. ثم لا يخفى أن الطلاق يقع مع الغروب، وهو أول جزء من الليلة المستقبلة، فلا يقع الطلاق مع آخر جزء من النهار؛ فإن الطلاق معلق بمضي النهار. 9044 - ولو قال: أنت طالق في سَلْخ شهر رمضان، ففي ذلك أوجه: قال العراقيون: يقع الطلاق مع آخر جزء من الشهر؛ إذ به الانسلاخ. وقال قائلون: يقع الطلاق كما (2) يطلع الفجر من اليوم الأخير، وهذا ما ذكره القاضي. ويحتمل أن يقال: يقع الطلاق مع أول جزء من اليوم الذي يبقى معه ثلاثة أيام إلى آخر الشهر؛ فإن السلخ يطلق على الثلاثة من آخر الشهر، كما أن الغُرة تطلق على الثلاثة من أول الشهر. وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر - أنه إذا مضى من الشهر جزء، وقع الطلاق؛ فإن هذا أول الانسلاخ. وهذا على نهاية السقوط وليس مما يعتدّ به. ولو قال: أنت طالق عند انسلاخ شهر رمضان، لم يتجه فيه إلا القطع بأنه يقع مع آخر جزء من الشهر، ووجهه لائح. 9045 - ووصل الأصحاب بهذا أنه إذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، فأنت طالق، فإذا رأى الهلالَ غيرها، وهي لم تره، فالذي ذكره الأصحاب أن الطلاق يقع؛ فإن الرؤية تُطلَق والمراد بها العلم، ولو قال: أردت بالرؤية العيان، فلا شك أن هذا مقبول باطناً، إن كان صادقاً بينه وبين الله تعالى، وهل يقبل ذلك ظاهراً؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يقبل؛ لأن الرؤية المطلقة إذا أضيفت إلى الأهلّة عُني بها في الظاهر وقوع الهلال وثبوته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" وأراد العلم به.

_ (1) في الأصل: التمليك. وهو تصحيف طريف. (2) كما: أي عندما.

والوجه الثاني - أنه يُقبل؛ فإن إرادة العيان بالرؤية ليس من الأمور البعيدة. ولو قال: إذا رأيت فلاناً، فأنت طالق وكان غائباً، فقدم، فلم تره، فالظاهر حمل ذلك على العيان، وذلك أنا قلنا ما قلنا في الهلال لجريان الاعتياد فيه، وللألفاظ مجاري مختلفة باختلاف المحالّ؛ فإن الذي لم ير الهلال قد يقول -إذا غاب عن بلده -: ورأينا الهلال في الليلة الفلانية، ولا يقول: رأيت فلاناً وما رآه، والسبب فيه أن رؤية الأشخاص فيها أغراض، وليس في رؤية الهلال غرض، [وينبغي] (1) للمحصل أن يعتقد أن مجاري العبارات التي يستعملها أرباب العقول لا تختلف إلا لأغراض مختلفة قد يظهر مُدركها، وقد يخفى. وقال القفال: إذا ذكر الرؤية بالفارسية وأضافها إلى الهلال، فهي العيان، لا العلم، وهذا إنما قاله؛ من جهة أن الرؤية تطلق في العربية والمراد بها العلم، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] وهذا الذي ذكره القفال فرقٌ متخيل بين اللغتين، لكن فيه خلل ناجع، وهو أنا لا ننكر أن المعنى الأظهر للرؤية العيانُ إذا لم يُعدَّ إلى مفعولين، فإذا قلت رأيت زيداً، كان ظاهره عاينت زيداً، وإذا عدّيته إلى مفعولين كان بمعنى الظن كقولك: رأيت زيداً عالماً، فإذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، كان هذا على معنى العيان في اللغة، وإنما حملنا ظاهره على العلم للعُرف واكتفاء الناس فيه برؤية الغير، وهذا يتحقق في لغة العجم، فلا فرق إذاً بين اللغتين. فصل قال: "ولو قال إذا مضت سنة، فأنت طالق، وقد مضى من الهلال خمسٌ ... الفصل" (2). 9046 - إذا قال لامرأته: إذا مضت السنة، فأنت طالق، انصرفت إلى السنة العربية المفتتحة بالمحرم، فإذا كان في بقيةٍ من السنة، فانقضت، وقع الطلاق وإن

_ (1) في الأصل: "ولا ينبغي". (2) ر. المختصر: 4/ 78.

كانت تلك البقية لحظة، كما ذكرناه في اليوم المعرّف. ولو قال: إذا مضت سنة فأنت طالق، فلفظه يقتضي سنة كاملة؛ لما ذكرناه من أن الاسم المنكّر محمول على المسمى الكامل، والسنة الكاملة اثنا عشر شهراً بالأهلة، ولا معتبر بالشهور العجمية، وفي التواريخ شهور مختلفة يعرفها المقوّمون وفيها كبائس، ولا اعتبار بشيء منها في الآجال المطلقة في عقود الإسلام، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] ثم عمّ في عرف أهل الدين إطلاق السنة والأشهر على هذا المراد، فانضمّ إلى التعبد عمومُ العرف، فالسنة الكاملة اثنا عشر شهراً، فإن لم ينكسر الشهر الأول ومضت اثنا عشر شهراً بالأهلة، طُلِّقت، ولا يتصور ألا ينكسر الشهر الأول إلا بأن يعلق الطلاق على وجه يتأتى هذا الغرض فيه، وهو أن يقول: إذا مضت سنة من أول رمضان، فأنت طالق؛ فيتأتى اعتبار الأشهر بالأهلة. 9047 - فأما إذا أنشأ وقال: إذا مضت سنة فأنت طالق، فقد يعسر تصوير عدم انكسار الشهر الأول؛ فإن قوله يقع في شهرٍ، والتنبيهُ في هذا كافٍ. فإذا انكسر الشهر الأول، فهذا الشهر المنكسر لا بد وأن يكمل ثلاثين يوماً، سواء خرج ذلك الشهر ناقصاً، أو كاملاً. ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: نعدّ بعد مضي [كسر هذا] (1) الشهر الأول أحدَ عشرَ شهراً بالأهلة، ثم نكمل ذلك الشهرَ الذي انكسر من الشهر الثالث عشر، حتى إذا كان مضى من الشهر الذي انكسر خمسٌ، ثم عددنا بعد هذا الشهر المنكسر أحد عشر بالأهلة من بين ناقص وكامل، فننظر الآن في حساب الشهر الأول المنكسر، فإن كان كمل ذلك الشهر ثلاثين، فقد مضى خمسة وعشرون، فنحسب من هذا الشهر خمسة أيام، فإن كان ذلك الشهر ناقصاً، فنحسب من ذلك الشهر أربعة وعشرين، ونحسب من الشهر الثالث عشر ستة أيام.

_ (1) في الأصل: كلمة غير مقروءة.

هذا معنى استكمال ذلك الشهر ثلاثين يوماً. وقال أبو حنيفة (1): مهما (2) انكسر السْهر الأول، انكسر سائر الشهور، فإذا وجب اعتبار التكميل في الشهر الأول، وجب اعتبار التكميل في كل شهر، وقد قال بهذا بعض أصحابنا. ووجهه أنه إذا انكسر الشهر الأول، فالوجه أن يكمل من الذي يليه؛ فإنّ السنة لا تنقطع أيامها، فيستحيل أن نحتسب منها شهوراً والشهر الأول معلق، لم يمض بعد، فإذا كان يجب أن يكمل الشهر الأول، فينكسر الثاني بالأول، ثم ينكسر الثالث بالثاني وهكذا إلى نجاز السنة، وهذا المذهب مطرود في العِدد والآجال الشرعية والأيْمان، وهو على ما فيه من الإخالة بعيدٌ؛ فإن اعتبار الأهلّة أصل غير منكر، وخروج اعتبار الأهلة في أحد عشر [شهراً] (3) محال، وإذا كان كذلك، فلا وجه إلا ما ذكرناه أولاً. فصل قال: "ولو قال لها: أنت طالق الشهرَ الماضي ... إلى آخره" (4). 9048 - مضمون الفصل الكلام فيه إذا قال لامرأته: أنت طالق الشهر الماضي، والكلام في ذلك يقع على وجوه: أحدها - أن يُطلِق هذا اللفظَ، ولا يتعرض لقصد ونيةٍ، فالحكم أنه يقع الطلاق في الحال، ويلغو قوله الشهر الماضي. وسبب [ذلك] (5) أن قوله: "أنت طالق" صريح في التنجيز، وقوله: "الشهر الماضي" لفظ ملتبسٌ متردّد بين جهات، كما سنذكرها، فإذا لم يقصد بلفظه شيئاً، سقط أثر المجمل منه، وعمل اللفظ المستقل. ولو أطلق اللفظ، فلم نتمكن من مراجعته، حتى مات أو جنّ، فيحكم بالوقوع في الحال؛ بناء على ما ذكرناه من استقلال اللفظ باقتضاء التنجيز.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 380 مسألة 885. (2) مهما: واضح أنها هنا بمعنى إذا. (3) زيادة من المحقق. (4) ر. المختصر: 4/ 78. (5) زيادة اقتضاها السياق.

9049 - ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهر الماضي" أن يقع في الحال الطلاق، ولكن يترادّ إلى الشهر الماضي، ويستند إليه، ويتنجز في الحال وينعكس إلى ما مضى، فهذا الذي قاله كلام لا أثر له، والطلاق يتنجز في الحال، ولا ينعكس على ما تقدم؛ فإن التصرف في الزمان الماضي بأمرٍ ينشأ في الحال مستحيل، وقضايا (1) الألفاظ لا تتقدم عليها قط. وحكى بعض الأئمة عن الربيع أنه قال: لا يقع الطلاق؛ فإنه قصد طلاقاً [يعتمد] (2) الانعكاس، وفي لفظه إشعارٌ به، والطلاق على هذا الوجه مستحيل، والمستحيل لا يقع، وقال الأئمة: هذا من تصرف الربيع وتخريجه، وتصرّفُه إذا لم يوافق قاعدة المذهب مردود، والمقبول منه منقولُه لا مقوله، واستدل الربيع على ما قال بان قال: إذا علّق الرجل الطلاق بمستحيل، لم يقع، مثل أن يقول: لامرأته إن طرْتِ أو صعدتِ السماء، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق. ومن أصحابنا من قال في مناكرة الربيع: إن قال: "إن طرتِ، فأنت طالق"، يقع الطلاق، وفي الوصف والتعليق تصرفٌ للأصحاب نذكره، ثم نوضح الصحيح فيه. قالوا: إذا وصف الطلاق بصفة مستحيلة لا يُنظم في الجدّ مثلُها، لغت الصفة ويقع الطلاق، مثل أن يقول: "أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك"، فقد وصف الطلاق بصفة مستحيلة، وهذه الصفة لا يتخيلها ذو عقلٍ وتحصيل، فقيل: الطلاق نافذ وحظّ الهزل منه مردود، وهو بمثابة ما لو قال: "أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً" فالثلاث واقعة والاستثناء المستغرق مردود، وإن وصف المطلِّق الطلاقَ بصفة مستحيلة حكماً، ولكن لا يبعد أن يتخيلها متخيل، وذلك كقول القائل: أنت طالق الشهر الماضي، فإذا أراد طلاقاً شابَه الانتجازُ في الحال، والانعكاس على ما مضى، فالطلاق واقع، والصفة باطلة؛ بناء على حكم الشرع، بإبطال تلك الصفة. وقال الربيع: لا يقع الطلاق؛ فإن الذي أوقعه من الطلاق لا يتصور وقوعه على النعت الذي ذكره، وهو لم يوقع غيره.

_ (1) وقضايا الألفاظ: بمعنى مقتضياتها. (2) في الأصل: يعتدّ.

وهذا مردود عليه؛ فإن اللفظ صريح في اقتضاء التنجيز، وهو لم ينف التنجيز في الحال، ولكنه ذكر وراء التنجيز أمراً محالاً، فوجب الحكم بالتنجيز أخذاً باللفظ والقصد، ووجب إلغاء الانعكاس؛ فإنه مستحيل، ثم الربيع جعل الوصف كالشرط، وقال: إذا ذكر الانعكاس، فكأنه قال: "إن انعكس الطلاق على الزمان الماضي، فأنت طالق الآن". وهذا كلام مستكره متكلَّف. 9050 - ثم نعود بعده إلى تعليق الطلاق بالمستحيلات: فإذا قال: "إن صعدت السماء، أو إن طرتِ، أو إن أحييت ميتاً، فأنت طالق" فحاصل ما ذكره الأصحاب في هذه الفنون ثلاثة أوجه: أحدها - أن الطلاق يقع بقوله: أنت طالق ويلغو التعليق المحال؛ فإن التعليق إنما يثبت إذا أمكن، وجرى شرطاً يرتقب حصوله لتعلق المشروط به، فإذا لم يكن كذلك، كان خارجاً عن حقيقة التعليق، ويلزم إبطاله لخروجه عن وضعه، وإذا بطل، بقي التطليق من غير تعليق. والوجه الثاني - وهو الذي قطع به معظم الأئمة أن الطلاق لا يقع؛ فإنه لم ينجزه فيتنجز، بل علقه، ثم إن كان التعليق في ممكن، فالوجه أن ينتظر [و] (1) إذا كان التعليق في غير ممكن، فغرض الزوج أن يمتنع وقوع الطلاق حسب امتناع الصفة التي [ذكرها] (2). والوجه الثالث - أنه إذا قال: إن [طرتِ] (3) أو صعدت، لم يقع الطلاق، لأن الربّ تعالى موصوف بالاقتدار على إقدارها على الطيران، والترقي في السماء، فهو من الممكنات والمقدورات، فإذا قال: "إن أحييت ميتاً"، يقع الطلاق؛ لأن هذا من المستحيلات؛ لأن إحياء الموتى لا يتصف بالاقتدار عليها إلا الإله الأزليّ، فيتحقق التحاق هذا بالمستحيلات، فلا يبعد إلغاء التعليق فيه، هذا ما ذكره الأصحاب.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: ذكرناها. (3) في الأصل: طردت.

9051 - والوجه عندنا القطعُ بمخالفة الربيع في الصفة، والقطع بأن التعليق في المستحيل وغير المستحيل يمنع انتجاز الطلاق؛ فإنا لو نجّزناه، لأوقعنا طلاقاً لم يوقعه، وليس يخرج على الانتظام تعليق الطلاق بما لا يكون على قصد أن الطلاق لا يقع، كما أن الصفة المذكورة لا تكون، وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فاقتضى ظاهر الخطاب من جهة الصيغة تعليقَ خروج الكفار من النار على أن يلج الجمل على هيئته في سم الخياط على ضيقه، وهذا مستحيل، والمقصود أنهم لا يخرجون أبداً، كذلك القول في تعليق الطلاق بالمحال. 9052 - ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهرَ الماضي" أن الطلاق يصادف في وقوعه الشهرَ الماضي، [وإن] (1) كان لفظ الإيقاع حاصلاً الآن. وهذا يتميز عن الصورة المتقدمة بشيءٍ، وهو أنه في الصورة المتقدمة قصد التنجيز في الحال مع العكس على ما مضى، فكان المذهب الحكم بالتنجيز، وإبطال قصد العكس، وهو في هذه الصورة يبغي ألا ينجّز في الحال طلاقاً، وإنما يعكسه على ما مضى ويقدّر وقوعه فيما سبق، ثم هو يسترسل على الزمان استرسال الطلاق، فإذا أراد ذلك، فلفظه غير بعيد عن الإشعار بهذا. وقد يتخيل بعض الناس إمكان ذلك، فيخرج ما أبداه عن الهزل الذي لا يخفى مُدركه، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن الطلاق لا يقع؛ لأنه لم يقصد تنجيزه، وقصْدُ الإيقاع على ما رَامَ غيرُ ممكن. والوجه الثاني - أن الطلاق يقع؛ فإنه ليس يُنكَر انبساط الطلاق على الزمان الذي أنشأ اللفظ فيه، فهذا الزمان من مضمّنات قصده في الطلاق، فلينتجز في الوقت وليلغُ ما يزيد على ذلك. والشافعي ذكر في هذه الصورة لفظةً محتملة مترددة، فقال: "إيقاع الطلاق الآن في شهرٍ مضى محال" (2) فمن أصحابنا من قال: لا يقع؛ لأنّ الشافعي أحاله، والمحال لا يقع، ومنهم من قال: يقع؛ لأنه نجَّز الطلاق، والإحالة في الصفة مُخْرَجة من البَيْن، فيجعل كأنه أطلق، ولم يصفه.

_ (1) في الأصل: فإن. (2) ر. المختصر: 4/ 78.

وكان شيخنا يقول: إذا قال: أردت إيقاع الطلاق في الحال ووقوعه في الشهر الماضي، فيقع في الحال، ولو قال: أردت إسنادَ الإيقاع والوقوعَ إلى الشهر الماضي، ففيه وجهان مشهوران، وفي لفظه تعقيد. والأولى في التفصيل ما ذكرناه، فإن أراد الإيقاع في الحال على شرط الانعكاس، فهذه صورة الرّبيع، وإن أراد أن يسند (1) وقوع الطلاق بإيقاعه ولفظه المسموع منه في الحال، فهذه صورة الوجهين، فأما إسناد الإيقاع والوقوع إلى ما مضى، فكلامٌ مضطرب، وقصد شيخنا ما ذكرناه، وإنما التعقيد راجع إلى العبارة. 9053 - ومن تمام الكلام في المسألة أنه إذا قال: أردت بقولي: "أنتِ طالق الشهرَ الماضي" أنك قد طلقك زوج في الشهر الماضي، فأردت الإخبار عنه، قال الأصحاب: إن أقام بينة أن زوجاً طلقها في الشهر الماضي، قُبل منه ما يدعيه في معنى لفظه، ثمّ وإن اتهم مع ذلك، حُلِّف، وإن لم يمكنه أن يُثبت أن زوجاً طلقها في الشهر الماضي، فلا يقبل ذلك منه، ويحكم بانتجاز الطلاق. هكذا قال الأصحاب. وفي القلب من هذا شيء؛ فإن اللفظ إذا كان محتملاً، وهو صاحب اللفظ والإرادة، فإذا فسر لفظَه بممكنٍ، فلا يبعد أن يقبل تفسيره، ثم يكذَّب في إخباره، وإذا كنا نجعل المسألة على وجهين فيه إذا فسر لفظه بمحال، وهو إسناد [الوقوع] (2) إلى ما مضى، حتى نقول في وجهٍ: لا يقع الطلاق، فلا يبعد أن ينزل لفظه إذا فسره بالإقرار منزلة ما لو ابتدأ، فقال: قد طلّقكِ في الشهر الماضي زوجٌ غيري، وهذا لا يوجب وقوع الطلاق منه، وإن كان كاذباً؛ فإذاً هذا متجهٌ على ما ذكرناه، ولو كان قوله لا يحتمل الإقرار، لَما جاز الحملُ عليه، وإن أمكنه أن يثبت بالبينة طلاقاً من زوج. ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهر الماضي" أني طلقتك في نكاحٍ في الشهر الماضي، ثم جددت عليك [نكاحاً] (3) بعد البينونة، فهذا بمثابة ما لو فسر

_ (1) أن يسند وقوع الطلاق: المعنى أن يوقعه في شهرٍ مضى، أي واقعاً من ذلك الوقت. (2) في الأصل: الوقاع. (3) في الأصل: نكاحها.

لفظه بطلاق صدر من زوجٍ غيره، والتفصيل فيه ما مضى. 9054 - ولو قال الزوج: أردت بهذا أني طلقتك في الشهر الماضي طلقة رجعية، وأنتِ الآن في عدّة الرّجعة، فالذي ذكره المحققون أن هذا مقبول منه؛ فإن لفظه محتمل، وهو متضمنٌ ثبوتَ الطلاق في هذا النكاحِ إقراراً به، وإذا تردد لفظه بين الإقرار وبين الإنشاء والنكاحُ متّحد، فالوجه تصديقه من غير أن يُحْوَج إلى بيّنة، وغاية الأمر أن يُحَلَّف. ونقل بعض النقلة عن القاضي أنه قال: إن صدّقته المرأة، قُبل ذلك منه، وحُمل قوله على الإقرار بالطلاق، وإن كذبته، فالقول قولها؛ لأن الظاهر منه إيقاع الطلاق في الحال، فنحكم إذاً بوقوع طلاقين: أحدهما - إنشاء، والآخر - إقرار منه، وهذا كلام مضطرب، لا يجوز نسبةُ مثله إلى القاضي؛ فإنا إن قلنا: لا نقبل تفسيره بالإقرار، فقد يكون لهذا وجه؛ فإن صيغة الإيقاع أغلب، والدليل عليه أنه لو قال: "أنت طالق"، فهذا في ظاهره صفة، فلو قال: أردتُ أني طلقتك؛ فأنت الآن بحكم التطليق الماضي طالق، فهذا غير بعيد عن صيغة اللفظ، ولكنّه لا يقبل. فلو قال قائل: لا يقبل حَمْلُ قوله: أنت طالقٌ الشهرَ الماضي على الإقرار أصلاً، لكان كلاماً، ويلزم منه ألا يُقبل إقرارُه إذا فسره بتطليق زوج غيره أو بتطليقه في نكاح آخر، وإن أقام بينة عليه؛ فإذ قُبل ذلك على الشرائط المقدّمة وقال هذا الناقل في هذه المسألة: لو صدَّقَتْه قُبل، ولا أثر لتصديقها؛ فإن الطلاق يتعلق بحق الله، فلو قال لامرأته: أنت طالق، وزعم أنه أراد طلاقها عن وِثاق، لم يقبل منه ظاهراً، ولو صدَّقته المرأة، فلا تعويل على تصديقها، فلا وجه لهذا التفصيل. وينبغي أن يقال: تفسير الرجل قولَه بالإقرار، ويُحَلّف، ويُفْصل بين هذه الصورة وبين ما إذا حُمل لفظه على الطلاق من [غيره] (1)، أو منه في نكاح آخر؛ لأن هذا إنكار منه للطلاق في هذا النكاح، فإن لم يُقْبل حَمْلُه اللفظَ على الإقرار، وجب ألا

_ (1) في الأصل: من غير (بدون هاء الضمير).

يؤثر تصديقُها، ووجب ألا يقبل [حمل كلامه على طلاق غيره] (1)، وعلى طلاقه في نكاح آخر. 9055 - فإن قيل: "لو قال الزوج: إذا مات فلان، فأنت طالق قبله بشهرٍ، فمات قبل مُضيّ الشهر"، فالطلاق لا يقع في هذه الصورة، فهلا غلبتم الإيقاع في ظاهر الحال، كما لو قال: أنت طالق الشهرَ الماضي؟ قلنا: علق الطلاق بما لا يستحيل أن يُتصور: أن يبقى ذلك الشخص أشهراً، وهو الظاهر الذي عليه بناء الأمر، فإن اتفق استئخار موته، وقع الطلاق قبل موته بشهرٍ، وإن مات قبل مضيّ الشهر، فلفظه صريح في ترتيب الطلاق على هذا النسق، فإذا جرّ محالاً، لم نوقع الطلاق، وهذا قد يقوّي مذهب الربيع في الحكم بأن الطلاق لا يقع، إذا أراد إيقاع طلاقٍ في الحال على أن ينبسط منعكساً على ما مضى. 9056 - ولو قال لامرأته: أنت طالق غَدَ أمس، أو أمس غدٍ: على الإضافة في الموضعين، فيقع الطلاق في اليوم؛ فإن اليوم غدُ أمسٍ، وأمسُ غدٍ. ولو قال: أنت طالق غداً أمسِ من غير إضافةٍ، وقع الطلاق غداً، ولغا ذكر أمسِ، وكذلك لو قال: أنت طالق أمسِ غداً، لغا ذكر أمس، وطلقت غداً. وهذا فيه نظر عندنا؛ فإنه إذا قال: أنت طالقٌ أمس، فهذا بمثابة قوله: أنت طالق الشهرَ الماضي، فلو أطلق هذا اللفظ، لانتجز الطلاق في الحال، فذكرُه غداً مع ذكره أمس لا يغيّر هذا المعنى، ولا يؤخر الطلاق [في] (2) الحال. وهذا بيّن إذا تأملته. 9057 - وممّا نذكره متصلاً بهذا الفصل أنه إذا قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق قبله بشهر، فقدم قبل مضي الشهر، لم يقع الطلاق؛ فإنا لو قضينا بوقوعه، لقدمناه على القدوم بشهر، ثم هذا يتضمن أن يتقدم وقوع الطلاق على لفظ المعلِّق وهذا محال.

_ (1) في الأصل: حمله على كلامه على طلاق غيره. (2) في الأصل: من.

وكذلك إذا قال: إن ضربتك، فأنت طالق قبله بشهر، فإذا ضربها قبل مضي شهرٍ، لم يقع الطلاق. وإذا علق بالقدوم والضرب على ما صوّرنا، فقَدِم الشخص المذكور بعد شهرٍ، ووقع الضرب بعد شهرٍ، قضينا بوقوع الطلاق متقدماً على القدوم والضّرب بشهر، على نحو ما ذكره المعلّق. وقال أبو حنيفة (1): إذا ذكر القدومَ أو غيرَه، ثم أسند الطلاق إلى شهر قبل الصفة المذكورة، فلا حكم للزمان المذكور، والطلاق يقع عند القدوم والضّرب، سواء تخلل شهر أو لم يتخلل، ووافق أنه إذا قال: إذا مَات فلان، فأنت طالق قبله بشهرٍ، فمات بعد شهرٍ. أن الطلاق يقع مستنداً (2)، ولو قال: إن ضربتك، فأنت طالق قبل ضربي بشهر، ثم ضربها قبل شهر، فقد ذكر أن الطلاق لا يقع، ثم تنحلّ اليمين، بهذا الضرب حتى لو ضرب بعد ذلك بشهرٍ أو أشهر، لم يقع الطلاق أيضاً؛ فإن اليمين انحلت بالضرب الأوّل، ولم يمكن وقوع الطلاق (3). ولو قال قائل: الضرب المعقود عليه هو ضرب يتصور أن يقع الطلاق قبله بشهر، فموجب هذا ألا تنحل اليمين بالضرب الأول، لما كان هذا بعيداً؛ تخريجاً على أن صفة اليمين إذا وجدت في حالة البينونة لا تنحل اليمين، قد ذكرنا هذا في أول الخلع محكيّاً عن الإصطخري، وسنعود إلى هذه الأجناس في فروع الطلاق، إن شاء الله تعالى. فصل قال: "ولو قال لها: أنت طالق إذا طلقتك ... إلى آخره" (4). 9058 - هذا من أصول الكتاب، وهو كثير التدوار في المسائل، ومضمونه الكلامُ في (إن)، و (إذا)، و (متى)، و [متى ما] (5) إذا اتصلت بالإثبات، أو اتصلت

_ (1) ر. الفتاوى الهندية: 1/ 368. (2) يقع مستنداً: أي يقع منذ الوقت الذي حدده، فيقع قبل القدوم والضرب بشهرٍ كما علقه. (3) كل هذا حكاية قول أبي حنيفة رضي الله عنه. (4) ر. المختصر: 4/ 78. (5) في الأصل: (وميتما) وهو تحريف واضح.

بالنفي، وفيه بيان تعليق الطلاق على التطليق، وعلى وقوع الطلاق، والفرق بين الممسوسة وغير الممسوسة. فإذا قال لامرأته: "إن طلقتك، فأنت طالق" أوقال: "إذا طلقتك، فأنت طالق، أو متى طلقتك، أو [متى ما] (1) طلقتك"، فإن كانت مدخولاً بها فطلقها، طلقت بالتنجيز، وطلقت بالتعليق، فتلحقها طلقتان. ثم هذه الألفاظ لا تقتضي فوراً، فمهما (2) طلقها، لحقها [طلاقان] (3): [طلاقٌ] (4) بحكم التعليق الماضي، وانتجز ما نجزه. ولو قال: (إن) طلقتك أو (إذا) أو (متى)، أو (متى ما) طلقتك، فأنت طالق. [فهذه] (5) الألفاظ لا تقتضي قط بداراً، وكذلك إذا أضيفت إلى دخول الدار وغيرها من الصفات. وإن أضيفت إلى ما يقتضي عوضاً [، فإن] (6) و (إذا) يحملان على الفور، فإذا قال: (إن) أعطيتني ألفاً [أو إذا] (7) أعطيتني ألفاً، فهذا يقتضي الفور، كما قدّمناه في أصول الخلع. فأما (متى) و (متى ما) و (مهما)، فإنها لا تقتضي الفور، وإن قرنت بطلب العوض. هذا أصل المذهب، وقد مهدناه في الخلع. والفقهُ المتبع في هذه الأبواب أنّ (متى)، و (متى ما) (8)، و (مهما) بمثابة

_ (1) في الأصل: (وميتما) وهو تحريف واضح. (2) مهما بمعنى إذا. (3) في الأصل: طلاقاً (بالنصب). (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: وهذه. (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: وإذا. (8) في الأصل وميتما: كذا يرسم (متى ما). ولعله أراد وصل (متى) مع (ما)، فرسم الألف =

قولك أيّ وقتٍ، وهذا تنصيص على إدخال الأزمنة كلها، فإذا قرنت بالعوض، فالنص لا يحال (1)، والخلع يقبل التأخير والتعجيل. وأما (إن) و (إذا)، فليسا ناصَّين على الأوقات وإدخالِ جميعِها تنصيصاً، [فإذا] (2) اقترن بهما قصد التعويض، انتصب التعويض قرينةً في تخصيص (إن) و (إذا) بالزمان المتصل، هذا إذا كان في الكلام قصد تعويض. فإن لم يجر ذكر العوض، (فإنْ) و (إذا) بمثابة (متى) و (متى ما) في التأخير، فإذا قال: إن دخلتِ الدار، فأنت طالق، لم يقتض ذلك فوراً في الدخول، وكذلك إذا قال: (إذا) دخلتِ الدار و (مهما) (3) بمثابة ما لو قال: (متى) أو (متى ما) دخلتِ الدارَ فأنت طالق. والمشيئة في الصفات مستثناة، فإذا قال: أنت طالق إن شئت، اقتضى ذلك فوراً، بخلاف قوله: إن دخلت، وإن كلمت زيداً، وما جرى هذا المجرى، والسبب فيه أن تفويض الطلاق إلى المشيئة يتضمن تمليكها نفسها، والتمليك يقتضي قبولاً أو ما في معنى القبول متصلاً بالتمليك، وسنذكر مسائل المشيئة، إن شاء الله عز وجل. فانتظم من مجموع ما ذكرناه أنّ (إن) و (إذا) محمولان على الفور عند ذكر العوض، و (متى) و (متى ما) يجريان على التأخير، و (إن) و (ومتى) و (متى ما) في الصفات كلها على التأخير إلا في المشيئة.

_ = المقصورة (ياءً)، ثم جاء الخطأ في وضع النقط فقدم التحتية، وأخر الفوقية، وكأنه كان يريدها هكذا (متيما). (1) كذا في الأصل تماماً (رسماً ونقطاً) والمعنى واضح على أية حال، وهو أن (متى) و (متى ما) و (مهما) إذا قرنت بالعوض، فلا تقتضي الفور، فإنها تنبسط على الأزمنة كلها، بخلاف (إن) و (إذا). (3) في الأصل: وإذا. (4) هنا ينص الإمام على أن مهما فيها معنى الظرفية، وقد علمت قريباً -في بعض تعليقاتنا- ما قاله النحاة في هذا الموضوع.

9059 - ولو علق الطلاق بنفيٍ، نظر في هذه الأدوات، فإن قال: إن لم أطلقك (1) إن لم أضربك، إن لم تدخلي الدار، أو ما جرى مجرى هذه الصفات، (فإنْ) في جميعها لا تقتضي فوراً، كما لو ربط بالإثبات. فقوله: إن [لم تدخلي] (2) كقوله: إن دخلت في أن لا فور فيهما جميعاًً. وإذا قال: إن لم أطلقك، فأنتِ طالق، فالأمر على التراخي والتمادي ما بقي الزوجان، وأمكن التطليق وتوقعه، فلو ماتت أيسنا حينئذ من التطليق، فنحكم بوقوع الطلاق قُبَيْل مَوتِها، فإنه كان قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق. وقد تحقق أنه لم يطلقها. وإن مات الزوج، فقد تحقق اليأس بموته أيضاًً، فنتبين وقوعَ الطلاق قبيل موته، ولو جن الزوج، فلا يأس من التطليق، بل نتوقع الإفاقة، فلو اتصل الجنون بموت الزوج، فنتبين وقوعَ الطلاق قبيل الجنون، فإنا تحققنا بالأَخرة أن الطلاق تعذّر من وقت الجنون. ولو قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، ثم بانت عنه بفسخٍ، وجدّد عليها نكاحاً، ففي عَوْد الحِنث قولان: فإن حكمنا بأن الحنث يعود، فكأنها لم تَبِنْ، ويعود استمرار توقع التطليق على الترتيب الذي ذكرناه. وإن قلنا: الحِنث لا يعود، فهذا موقفٌ يجب التوقف عنده للوقوف على ما فيه، فإذا قال: إن لم أضربك، فأنت طالق، ثم بانت عنه بطلاق أو فسخٍ، فالضرب بعدُ غير مأيوس -وإن بانت عنه- فلو ضربها بعد البينونة أو بعد نكاحٍ، فالطلاق المعلق بعدم الضرب لا يتوقع له وقوع، فإنه قال: إن لم أضربك، [فقد] (3) ضربها، ولو لم يضربها في النكاح الأول، فبانت، وماتت أو نكحها، وماتت في النكاح الثاني، فالطلاق المعلّق في النكاح الأول لا يقع في النكاح الثاني؛ فإنا نفرّع على منع العَوْد،

_ (1) الكلام هنا جارٍ على حذف حرف العطف، وهو جائز صحيح، والمعنى: إن لم أطلقك، أو إن لم أضربك، أو إن لم تدخلي الدار. (2) في الأصل: إن تدخلي (بدون لم) وهو لا يستقيم مع السياق. (3) في الأصل: وقد.

وقد تحقق اليأس من الضرب، وعجزنا عن إيقاع الطلاق في النكاح الثاني. 9060 - وإن صوّرنا في البائنة موتها من غير تجديد نكاح، فهذا يُغني عن التفريع على عود الحنث، فنقول: إذا تحقق اليأس من الضرب آخراً، وعسر الحكم بوقوع الطلاق قبيل موتها؛ فإنها بائنة، أو منكوحة نكاحاً جديداً لا يقع فيه الطلاق المعلق في النكاح الأول؛ فإذا كان كذلك، فهل نتبين أنها طلقت في النكاح الأول قبيل البينونة؟ هذا موضع النظر. والوجه ألا نحكم بوقوع الطلاق؛ فإنا إنما نحكم بوقوع الطلاق عند تعليق الطلاق بالنفي متى تحقق اليأس، فوقْتُ وقوع الطلاق يتقدم على اليأس بلحظة، وقد صادفت هذه اللحظة بينونةً، أو نكاحاً جديداً، ولو ذهب ذاهب إلى ردّ الطلاق إلى النكاح الأول ليأسٍ بعده، استرسل هذا الكلام إلى أصل، لم يصر إليه أحد من الأصحاب، وهو أن نقول: إذا تحقق اليأس والنكاح واحد، فنتبيّن عند اليأس وقوع الطلاق من وقت اللفظ. وهذا من دقيق الفقه، فتأمّلوه ترشدوا. ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إسناد الطلاق إلى وقت اللفظ إذا تحقق اليأس، وهذا محتمل؛ من جهة أن المذهب الأصح أن المستطيع المستجمع لأسباب الاستمكان إذا لم يحج وقد تمادت سنون في الاستطاعة، فنحكم بأنه يموت عاصياً، وفي الأصحاب من يبسط المعصية على أول وقت الاستطاعة، ومنهم من يحصر التعصية في السنة الأخيرة، فليتنبه الناظر لما يُنَبّه له. ولم نقل هذا ليكون وجهاً؛ فإن الأصحاب مجمعون على أن الطلاق لا يستند إلى وقت اللفظ، والزوج متسلط على الوطء إجماعاً، وإن كان بيده أن يضرب ويخلّص نفسه من هذا التوقع. 9061 - ونعود بعد ذلك إلى ما كنا فيه، فنقول: إذا قال لامرأته: "إن لم أطلقك، فأنت طالق"، ثم انفسخ النكاح بسببٍ، وماتت على البينونة، فقد عسر التطليق بالانفساخ، ثم اتصلت البينونة بالموت، فهذا عندنا بمثابة الجنون إذا طرأ،

وقد قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، فإذا جنّ، فالجنون لا يقطع توقع التطليق بتقدير الإفاقة، ولكن إذا اتصل بالموت أسندنا اليأس إلى أول الجنون، كذلك البينونة تنافي التطليق، ولا تنافي توقّعه، فإذا استمرت البينونة إلى الموت، كان بمثابة اتصال الجنون بالموت، فيلزم من هذا المساق إسناد اليأس إلى الفسخ، فليقع الطلاق قُبَيْله. وليتصوّن المرء الآن من الوقوع في الدَّوْر؛ فإن الطلاق المعلق لو كان رجعياً، انتظم فيه تصوّر الفسخ، وإن كان بائناً، وقع في قاعدة الدَّور، فلا التفات إليها؛ فإنها بين أيدينا (1)، وسنفري فيها فريّنا (2)، والله المستعان. 9062 - والغرض الآن الفرق بين أن يقول: إن لم أطلقك فأنتِ طالق، وبين أن يقول: إن لم أضربك، فأنت طالق، فإن اليأس عن التطليق يستند إلى أول البينونة؛ فإن البينونة تنافي التطليق، والبينونة لا تنافي الضرب، فاليأس من الضرب يقع قبيل الموت، ولا يصادف محلاً للطلاق. ولو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فانفسخ النكاح بردةٍ أو غيرها، ثم جدد عليها نكاحاً، فالتطليق يتصوّر في النكاح الثاني، وإن منعنا عَوْد الحنث، فإن الذي يمتنع هو الطلاق المعلّق لا التطليق في صورته، وصورة التطليق في النكاح الثاني

_ (1) بين أيدينا: أي أمامنا. (2) وسنفري فيها فريّنا: يقال: فلانٌ يفري الفريّ، وهو أن يبالغ في الأمر حتى يتعجب منه، والفريّ الأمر العظيم. وإمام الحرمين هنا ناظرٌ إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمر بن الخطاب: "فلم أر عبقرياً يفري فريّه" (ر. غريب الحديث للخطابي: 2/ 571) وفي القاموس: الفريّ كغني يأتي بالعجب في عمله. والحديث متفق عليه، رواه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، ح 3634، وأطرافه في 3676، 3682، 7019، 7020. ورواه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، ح 2393. وتمام الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني على قليبٍ عليها دَلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غرباً، فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقرياً يفري فريّه".

كالضرب، فلا يتحقق اليأس من التطليق قبيل الموت، ثم إذا منعنا عَوْد الحنث لا يتصوّر وقوع الحِنث في تلك اللحظة. وهذه أصول بيّنةٌ للفطن ملتبسةٌ على من لا يردّ نظره إليه. 9063 - وكل ما ذكرناه نفرّع على تعليق الطلاق بنفيٍ بكلمة (إن) التي هي أم باب الشرط، فلو علق الطلاق [بنفيٍ] (1) واستعمل (إذا) أو (متى) أو (متى ما) أو (مهما) فقال: إذا لم أضربك أو إذا لم أطلقك فأنت طالق، فالقول في (متى) و (متى ما) كالقول في (إذا) فإذا مضى من الزمان ما يسع التطليقَ أو الضربَ أو صفةً أخرى علق الطلاق بها، ولم يأت بما ذكره، يقع الطلاق الذي علقه، وليس كما لو قال: إن لم أطلقك. ولا يستقل بمعرفة الفرق بين (إن) و (إذا) من لم يفهم طرفاً يتعلق بهذا الفصل من العربية، فنقول: (إذا) ظرفُ زمان، وهو اسم مشعر بالزمان، وكذلك (متى) و (متى ما)، و (إن) حرف، وليس بظرف، وليس اسماً للزمان. فإذا قال القائل: إذا لم أطلقك، فمعناه أيُّ وقت لم أطلقك، فأنت طالق، فقد علق طلاقها بوقت لا يطلقها فيه، فإذا مضى وقت لم يطلقها فيه، فقد وُجدت الصّفة التي علق الطلاق بها، و (إن) ليس اسماً لوقتٍ، وإنما هو حرف مسترسلٌ على الاستقبال، لا إشعار فيه بزمان. هذا هو الفرق ويترتب عليه أنّ (متى) و (متى ما) في معنى (إذا)؛ فإن معناهما أي وقتٍ لم أطلقك، وابتناؤهما على التأخير في مثل قوله: متى أعطيتني ألفاً، فأنت طالق، لا يغيّر غرضَنا في المقام الذي نحن فيه، فإن متى تنطلق على الزمان القريب انطلاقه على البعيد، والطلاق يقع بأول الاسم، فإذا تحقق الزمان الأول عريّاً عن التطليق، فقد وُجدت صفة الطلاق، ثم يتسق من هذا أن آثارها تقع على الفور، بخلاف ما إذا فرضت في إثبات الأعواض في مثل قول القائل: إذا أعطيتني مع قوله: متى أعطيتني، والسبب فيه ان متعلق الطلاق ثمَّ اعطاءٌ، فإن قرن بلفظ لا ينص على

_ (1) في الأصل: فبقي. وهو تصحيف واضح.

عموم الزمان، اقتضت قرينة العوضية تعجيلاً، وإن قرنت بلفظ ناصٍّ على عموم الأوقات، حمل على العموم، والطلاق بالإعطاء والزمان ظرفُه. والمعتمد فيما نحن فيه تحقق زمان عارٍ عن الصفة. وهذا بيّن لا إشكال فيه. والذي ذكرناه قاعدة المذهب. 9064 - والذي سنذكره بعدُ فيه غيرُ معدودٍ من متنه وأصله، ولذلك أخرته، ولا أجد بداً من ذكره؛ لأنّي وجدته في تصانيف الأئمة مسطوراً. قال العراقيون: من أصحابنا من لم يتضح له الفرق بين (إن) و (إذا) في النفي، فقال: أجعل المسألة فيهما على قولين نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن الأمر يُحمل فيهما على الفور إذا كان متعلَّق الطلاق نفياً، فإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فمضى أقل زمان إمكان الطلاق، وقع الطلاق، كما لو قال: إذا لم أطلقك. والقول الثاني - أنّ (إن) و (إذا) بمثابةٍ واحدة، ولا يقع الطلاق منهما ما لم يتحقق اليأس من الطلاق كأنْ لو كانت الصفةُ إثباتاً؛ فإنَّ (إن) و (إذا) في الإثبات مستويان في قول القائل: إن دخلت الدار، وإذا دخلت الدار، وهذه الطريقة مزيفة، نقلها العراقيون وبالغوا في تزييفها، وذكرها الشيخ أبو علي على هذا النسق، وحكى عن صاحب التلخيص أنه قال: إذا قال: إذا لم أطلقك [أو إن لم أطلقك] (1)، فكلاهما على التراخي، وهذا خطأ، وهو مذهب أبي حنيفة (2). ومما نذكره بعد عقد المذهب أن صاحب التقريب، قال: إذا قال: إذا لم أطلقك فأنت طلاق، فهذا على الفور عند الإطلاق، فلو قال: أردتُ بذلك إن فاتني طلاقك فأنت طالق، فهل يقبل ذلك منه أم لا؟ ذَكَر وجهين وأجرى الكلامَ على أن (إذا) في

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها بمعناها عند صاحب التلخيص، ونص عبارته: "ولو قال لامرأته: أنت طالق إذا لم أطلقك، أو إن لم أطلقك، لم يقع الطلاق حتى يموت أحدهما؛ فتطلق واحدة" (ر. التلخيص لابن القاص: 523). (2) ر. البدائع: 3/ 131، تبيين الحقائق: 2/ 206، الاختيار: 3/ 128.

الإطلاق مع النفي للفور، فإن [حَمَل] (1) المطلقَ على التراخي بالتأويل الذي ذكرناه، ففي قبول ماجاء به في الظاهر وجهان. وهذا الذي قاله حسنٌ، ملتحق بمتن المذهب؛ لما فيه من الاحتمال. ثم شبَّب في مساق كلامه بشيء، فقال: إذا قال الرجل لامرأته: إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق. ثم قال: أردت متى أعطيتني، فيحتمل أن يُقبل ذلك. وهذا عندنا يجب ألا يُتردد فيه؛ فإنه فيما يبديه موسّعٌ للطلاق، وكل ما يقبل التديين فيه، فإذا قاله الرجل وهو عليه (2) فيقبل، ولكن يتطرق إليه أنه قد يقصد استحقاق العوض المتراخي؛ فيجب أن يقال: إن وافقته المرأة في تصديقه، استحقَّ العوض، وإن أبت وقد أتت بالعوض في زمانٍ متراخٍ، فهذا الآن محتمل. وقد نجز الكلام على (إن) و (إذا) و (متى) و (متى ما) و (مهما) في النفي والإثبات، مع العوض ومن غير عوض. ويلتحق (بمتى) و (متى ما) و (مهما) قولك: أيّ وقتٍ، وأي حين، وأي زمانٍ، فهذه الألفاظ بمثابة قولك: (متى) في كل تفصيل. وقد نجز بنجاز هذا ركنٌ واحد من مضمون الفصلِ المعقود، وقد بيّنا أن مضمونه ثلاثة أركان. وهذا الذي مضى ركن. 9065 - الركن الثاني في تفصيل القول في المدخول بها وغير المدخول بها في الأغراض التي نُجريها، فإذا قال لامرأته المدخول بها: إن طلقتك، فأنت طالق، أو إذا طلقتك، أو متى، فإذا طلقها، انتجز ما نجزه، ووقع الطلاق الذي علَّقه بالتطليق؛ إذ قال: إن طلقتك، فأنت طالق. 9066 - ثم هذه الألفاظ، وهي (إن) و (إذا) و (متى) و (متى ما) و (مهما) ليس فيها اقتضاء التكرار، وإنما فيها عموم [الزمن] (3)، ثم اليمين تنحل بمرة واحدة،

_ (1) في الأصل: حمله. (2) كذا. والسياق واضح على أية حال. (3) في الأصل: الزمنه.

ولا أثر لهذا، والطلاق ثلاث، وإنما يظهر أثر ما نقول في العتاق، فإذا قال: "مهما أعتقت عبداً من عبيدي، فعبد آخر معه حرّ"، فإذا أعتق عبداً، عتق عبدٌ، ولو أعتق بعد ذلك عبداً لم يعتِق عبدٌ آخر بحكم التعليق المقدم، فإن اليمين انحلّت بالكرَّة الأولى. والصّيغة المقتضية للتكرار في العربية قول القائل: "كلما ضربتك، فأنت طالق" فإذا ضربها، طلقت، ثم لو ضربها مرة أخرى، طُلّقت طلقة أخرى، وكذلك حتى تستوعب الطلقات، ولو كانت أعداد الطلاق أكثر من الثلاث، لاسترسلت كلمة (كلما) على جميعها. 9067 - ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: إن طلقتك، أو إذا طلقتك، فأنت طالق، فإذا طلقها، انتجز ما نجّز، ولم تلحقها الطلقة المعلّقة، والسبب فيه [أنها تبين] (1) بالطلاق [المنجز] (2)، وإذا بانت، لم يلحقها طلاقٌ ثانٍ مع البينونة، وهذا متفق عليه، وتعليله بيّن. وقد يتصل به سؤال وجواب عنه، وبهما يحصل الغرض. فإن قيل: إذا قال الرجل [لامرأته] (3) التي لم يدخل بها أو (4) للمدخول بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، فالطلاق متى يقع؟ قال قائلون: الطلاق يترتب على دخول الدار؛ فإن الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فليترتب الطلاق على الدخول، ونقول: دخولٌ والطلاق بعده، كما يترتب عتق القريب المشترَى على حصول الملك. وقال المحققون: يقع الطلاق مع الدخول، لا قبله ولا بعده، وأما المصير إلى أن الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فهذا لا ننكره من معناه، ولكنه ترتُّبُ اللفظ في هذا المقام، وليس الغرض تأخير وقوع الطلاق عن الدخول، وإنما الغرض تطبيق التطليق

_ (1) في الأصل: أنها إذا نبيّن. (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، وتوضيح العبارة. (3) ساقطة من الأصل. (4) في الأصل: وللمدخول.

على الدخول، غير أن الفاء تُستعمل جزاءً والجزاء ينتظم كذلك، وإلا فلا يستريب ذو عقلٍ أن غرض الناطق تطبيق الطلاق على الدخول، حتى كأنّ الدخول علّته. وإذا قال القائل: صيغة الجزاء تتضمن تعقيباً أيضاًً؛ فإن الرجل إذا قال: إن جئتني، فأنا أكرمك، تضمّن هذا ترتُّبَ الإكرام على المجيء. قلنا: إذا كان الجزاء فعلاً ينشأ ويكون مربوطاً [بالشرط] (1)، فمن ضرورة وقوع الفعل أن يترتب، وليس كذلك وقوع الطلاق؛ فإنه حكمٌ لا يمتنع تقدير حصوله على الاقتران، بل لا يمتنع تقدير حصوله متقدماً؛ فإنه لو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، قبْل [دخولك] (2) بيوم، أمكن تقدير الوقوع كذلك، وهذا جزاءٌ متقدم على الشرط، غير أنّ وجه انتظام الجزاء فيه يرجع إلى نسق اللفظ، ثم الجزاء مرتبط بالشرط على معنى أنه لا يحصل دونه، فإن قُرن، اقترن، وإن قُدّم، تقدّم، وهذا منتظم من طريق اللفظ، ولكن شواهد الحكم في المذهب تدل على الوقت، وآية ذلك أن الرجل المريض إذا قال: إن أعتقت سالماً، فغانم حرّ، ثم أعتق سالماً في مرضه، فإن وفّى الثلث به فحسب، عَتَق سالم فحسب، وهذا يدل على ترتيب العتق في غانم على سالم. ولو قال: أعتقتكما، ازدحما على الثلث، ومما يدل على الترتيب أنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم طلقها، وقع ما نجّزه، ولم يلحقها الطقة المعلّقة، وهذا لا يخرّج إلا على أصل الترتيب؛ فإنا لو قدّرنا وقوع المعلّق مع وقوع المنجز، لم يبعد الحكم بوقوعهما، والمصير إلى أنها بانت بهما؛ فإن قيل: لا يلحقها الطلاق المعلّق، دل هذا على ترتب المعلق في وقوعه على المنجّز، وهذا يشعر بترتب كل طلقة على الصفة، وهذا بالغٌ في الإشكال؛ فإن الذي يقتضيه اللفظ ما ذكرناه من الجمع، والذي يقتضيه مذهب الفقهاء الترتيبُ، وما حكيته في ترتّب الوقوع على الدخول، وفي وقوعه معه نقلته من كلام الأصحاب. ثم لم يختلفوا أن التي لم يدخل بها لا تطلق الطلقة المعلّقة على التطليق المنجز،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: دخوله.

وإن كان يظنّ ظانّ أن الترتب من آثار الفاء، قيل له: هذه المسائل لا تختلف أحكامها بأن تذكر الفاء فيها أو لا تذكر؛ فإن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك فأنت طالق، فحكم هذا ما قدمناه: من أنه إذا طلقها لم يلحقها الطلاق المعلّق، ولو قال: أنت طالق إذا طلقتك، فلا (فاء) والجواب كما مضى، فإذا طلقها انتجز ما نجّز، ولم يقع ما علّق، ولعلنا في الفروع نعود إلى مزيد مباحثةٍ في ذلك. 9068 - والقدر الذي هو غرض الفصل أنه إذا قال للتي لم يدخل بها: إذا طلقتك، فأنتِ طالق، أو أنت طالق إذا طلقتك، فإذا طلقها وقع ما نجّز، ولم يلحقها ما علَّق. وكذلك قال الشافعي: إذا قال لامرأته التي دخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم خالعها أو طلقها على مالٍ، نفذت بينونة الخلع، ولم يلحقها الطلقة المعلقة؛ فإن المختلعة لا يلحقها الطلاق عندنا كالبائنة قبل المسيس، فالبينونة بالخلع في منافاة لحوق الطلاق كالبينونة لعدم العدة في حق التي لم يدخل بها. هذا بيان هذا الركن. 9069 - والركن الثالث من مضمون الفصل متصل بما نجّزناه الآن، وهو القول في تعليق الطلاق وتسمية التعليق تطليقاً، فإذا قال لامرأته المدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق. فإذا دخلت الدار، طلقت بالدخول، وطلقت بالتعليق الأول على التطليق، والمقصود من ذلك أنه قال أولاً: إذا طلقتك، فأنت طالق، وقال بعد ذلك: إذا دخلت، فأنت طالق، فصار تعليق الطلاق بالدخول مع الدخول بمثابة تنجيز التطليق بعد التعليق الأول. ولو قال لها أولاً: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال بعد ذلك: إذا طلقتك فأنت طالق، فدخلت الدار، فوقع الطلاق بوجود الصفة، فإنها لا تطلق بسبب قوله إذا طلقتك، فأنت طالق؛ فإنه لم يطلقها بعد هذا القول، ولم ينشىء التعليق بعد هذا القول أيضاً، بل جرى التعليق بالدخول متقدماً على قوله: إن طلقتك. فانتظم من مجموع هذا أنه إذا قال: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم نجّز

[هذا] (1) بعد هذا، وقع ما نجّز وما علّق بالتطليق. ولو أنشأ تعليقاً بعد قوله: إن طلقتك، فنفس التعليق لا يكون تطليقاً، ولكن إذا وجدت الصفة، وقد جرى التعليق بعد قوله: إن طلقتك، كان التعليق مع الوقوع بمثابة التطليق من بعدُ. ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، فإذا دخلت الدار، طلقت بالدخول، وطلقت بتعليق الطلاق بالوقوع، فإنه علق لحوق الطلاق بوقوع الطلاق لا بالتطليق، وهذا بيّنٌ. ومما نجريه متصلاً بهذا أنه إذا قال لها: إن أوقعت عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فدخلت الدار، لحقها طلاقان كما قدمنا. وهو كما لو قال: إن طلقتك، فأنت طالق، ثم علق الطلاقَ من بعدُ. 9070 - ووجدت للعراقيين أنهم قالوا: إذا قال للمرأة المدخول بها: إذا أوقعتُ عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار، طُلّقت بدخول الدار، ولم تطلّق بسبب قوله السابق: "إن أوقعتُ عليك طلاقي" طلقة أخرى، وكأنهم قد رأَوْا أنه إذا علق طلاقها، فهذا لا يكون إيقاعَ طلاق عليها، وإنما يتحقق الإيقاع [بالتنجّيز] (2)، من غير توسط سببٍ وتعليق وهذا مردود في قول المراوزة، باطلٌ قطعاً على قياسهم، وكنت أحسب هذا خللاً واقعاً في نسختي، ثم طالعت نسخاً ومجموعات وتعليقاتٍ معتمدةً، فوجدت الأمر مثبتاً على هذا النسق. فإن كانوا يقولون ما يقولون فيه إذا قال للمدخول بها: إن أوقعت عليك طلاقي ولا [يقولونه] (3) فيه إذا قال: إذا طلقتك، [فالفرق] (4) بين التطليق وإيقاع الطلاق عسرٌ. وإن عمّمُوا هذا في الإيقاع والتطليق، فهو خروج عما عليه الفقهاء؛ فإن التعليق

_ (1) في الأصل: هكذا. (2) في الأصل: بالتنجز، وواضح أن الفعل نجّز. (3) في الأصل: ولا يقولون. (4) في الأصل: والفرق.

على الاختيار تطليقٌ في اللسان، فإذا قال الرّجل لامرأته: "إن قمت، فأنت طالق" فقامت وطُلِّقت، يقال: طلّق فلان زوجته، وهذا لا سبيل إلى إنكاره. 9071 - ومما نذكره في هذا الفصل أنّ (كلّما) كلمة تتضمن التكرار [في العربية] (1) بخلاف (متى ما) و (مهما) فإنهما يعمّان الأزمان ولا يقتضيان التكرار، فإذا قال لامرأته المدخول بها: كلما وقع عليك طلاقي، فأنتِ طالق، ثم طلقها طلقت ثلاثاًً؛ فإنه يقع عليها بالتنجيز طلاق، وبالتعليق السابق طلاق، ثم يتكرر، ولو زادت أعداد الطلاق على الثلاث لاستوعبتها الكلمة، وتضمنت وقوع جميعها. 9072 - وذكر الأصحاب فرعين هذّبوا بهما أصلين: أحدهما - معنى التكرار المتلقَّى من قول القائل كلّما. والثاني - يتضمن تمهيد تأخر التعليق وتقدّمه، والفرق بينهما إذا قال: إن طلقتك فأنت طالقٌ. 9073 - فأمّا الفرع الموضِّح لمعنى التكرر، فإذا كان للرجل أربع نسوة وعبيد، فقال: كلما طلقت واحدةً منكن، فعبدٌ من عبيدي حرّ، وكلما طلقت ثنتين منكن، فعبدان من عبيدي حرّان، وكلما طلقت ثلاثاًً منكن، فثلاثة أعبدٍ من عبيدي أحرار، وكلّما طلقتُ أربعاً، فأربعة أعبدٍ من عبيدي أحرار. فالمسلك الحقّ في هذه المسألة: أنه عَقَدَ أربعةً من العقود بكلمةِ (كلما) وهي للتكرار، فيتكرر العتق بتكرر كلّ عقد منها، ولكن ما حُسب في مرّة لا يحسب هو ولا شيء منه في عقدٍ مماثلٍ له، فإذا طلّق واحدة، حنث في يمين الواحدة، وعتَق عبدٌ، فإذا طلّق الثانية، حنث في يمينين يمين الواحدة، فإنها على التكرر، ويمين الاثنين؛ لأنه لما طلقها صار مطلقاً لواحدة أخرى سوى الأولى، وصار مطلقاً بتطليقها ثنتين، فيعتِق إذاً ثلاثةُ أعبدٍ سوى ما تقدم: عبدٌ بتطليقه الثانية وهي واحدة، وعبدان بسبب تحقق طلاقين على امرأتين، فقد عَتَقَ من العبيد أربعة.

_ (1) في الأصل: التكرار والعربية.

فإذا طلق الثالثة، حنث في يمينين: يمين الواحدة ويمين الثلاث؛ لأنه بتطليقها صار مطلقاً واحدة أخرى، وكلمة (كلما) للتكرار، وصار محققاً تطليق الثلاث؛ لأن هذا مع الأوليين قبلها ثلاث، فيعتِق الآن أربعةُ أعبدٍ سوى ما تقدّم: واحد بالحنث الواقع بتطليق الواحدة، وثلاث بتطليق الثلاث؛ فيكمل العتق في ثمانية. ولا يحنث في يمين الاثنين مرة أخرى، لأن الثانية التي قبل الثالثة حسبت في يمين الثنتين مرة، فلا تحسب في يمين الثنتين مرة أخرى؛ فإن هذا يؤدي إلى تكرير الحنث مراراً، مع اتحاد صنف اليمين، ومحلّ اليمين. فإذا طلق الرابعة، حنث الآن في ثلاث الأيْمان: يمين الواحدة، ويمين الأربع؛ لأنه حقق طلاق الأربع، وحنث في يمين الثنتين مرةً أخرى، لأن الرابعة مع الثالثة ثنتان، فيعتق سبعة عبيدٍ، ويكمل الذين عتقوا خمسة عشر، ولا يحنث مرة أخرى في يمين الثلاث؛ لأن الثالثة والثانية حسبتا في يمين الثلاث، فلا يحسبان مرة أخرى في يمين الثلاث؛ لأن ما حسب في عقدٍ لا يحسب في عقد مثله. وهذا كما لو قال لها: كلما دخلت الدار، فأنت طالق، فإذا دخلت الدار مرةً طلقت، فإذا دخلت ثانيةً طلقت طلقةً واحدةً، ولا يقال: تطلق طلقتين طلقة بهذه الدخلة وطلقة بالدخلة الأولى؛ لأن الدخلة الأولى حسبناها، فلا نحسبها في مثلها مرة أخرى. وإذا طلق النسوة الأربع دفعة واحدة، عتق من العبيد خمسة عشر؛ إذ لا فرق بين أن نجمع تطاليقهن، وبين أن نُرتبه، فحكم اللفظ ومقتضى التكرار لا يختلف. هذا هو المذهب الذي عليه التعويل. ومن أصحابنا من قال: إذا طلق الثالثة يحنث في يمين الثنتين مرّة أخرى فيبلغ مجموع الذين يعتقون سبعة عشر. وهذا غلط صريح، وإن كان مشهوراً؛ لأنا لو حنثناه بالثالثة في يمين الثنتين، لزم أن نحنثه أيضاً بالرابعة في يمين الثلاث، ونحكم عليه بعتق عشرين عبداً، وهذا لا قائل به.

9074 - وكل ما ذكرناه إذا قال: كلما طلقت، فَعَقَد الأيْمان بكلمةِ (كلما)، فأما إذا قال: إن طلقت واحدةً من نسائي، فعبد من عبيدي حر، وإن طلقت ثنتين، فعبدان حرّان، وإن طلقت ثلاثاًً، فثلاثة من عبيدي أحرار، وإن طلقت أربعاً، فأربعة من عبيدي أحرار. فإذا طلقهن ترتيباً أو جمعاً عَتَقَ من عبيده عشرة، فلا ننظر إلى عدد الأيمان ومعقود كل يمين، ولا يكرّر الحنث في واحدة منها، فعدد الأيمان أربعةٌ: يمين بواحدة، ويمين باثنتين، ويمين بثلاث، ويمين بأربع، فنأخذ مضمون الأيمان من غير تكرر، فيبلغ عشرة. وفي بعض التصانيف ذكر صِيغَ هذه الأيمان بكلمة كلما، والجوابَ فيها أنه يعتِق عشرةٌ من العبيد؛ فهذا غلط صريح لم أذكره ليلحق بالوجوه البعيدة، ولكن سبب ذكره التنبيهُ على أن هذا من عثرات الكتّاب، وما ذكره جواب الأيمان المعقودة، (بإن) و (متى) و (متى ما)؛ فإن هذه الكلمة لا تتضمن التكرار. فأما إذا كانت الكلمة متضمنة تكراراً، فلا تنحلّ اليمين بالواحدة بأن يطلّق واحدةً، وكذلك القول في الثتنتين. 9075 - فخرج من مجموع ما ذكرناه أن معنى التكرار أن لا نحل يميناً بحنث في مثله، ولكن لا نحسب شيئاً واحداً مرتين في يمينين متماثلين. وإذا اختلفت صيغ الأيمان، فحينئذ يحسب النسوة عن جهاتٍ في الأيمان المختلفة. فهذا فرعٌ مهدّنا به أصل التكرار. 9076 - فأما الفرع الثاني، فإنا نمهدّ به معنى تقدم التعليق وتأخره. فإذا كان للرجل امرأتان حفصة وعمرة، فقال: مهما طلقت عمرة، فحفصةُ طالق، ثم قال: مهما طلقت حفصة فعمرةُ طالق، ثم إنه بدأ بحفصة وطلقها، فتطلق بالتنجيز وطلقت عمرة بالحنث؛ لأنه علّق طلاق عمرة بتطليق حفصة، وعادت طلقة على حفصة؛ لأنه علّق طلاق حفصة بطلاق عمرة في الابتداء، لما قال: مهما طلقت

عَمرة فحفصة طالق، وقد طلق عمرة بعد هذا بأن علق طلاقها بتطليق حفصة، ثم نجّز تطليق حفصة. وقد ذكرنا أن التعليق إذا اتصل به الوقوع، كان تطليقاً. ولو بدأ بعمرة وطلقها، طُلِّقت بالإيقاع والتنجيز، وطلقت حفصة بالحنث؛ لأنه علّق طلاقها بطلاق عمرة ولا تعود طلقة على عمرة، وإن كان علق طلاقها بطلاق حفصة؛ لأن هذا [وقع] (1) على حفصة بحكم تعليق طلاقها بطلاق عمرة، وهو سابق على يمين عمرة. وليس في هذه المسألة غائلة، وإنما الذي فيها فهمُ التقدم والتأخر في التعليق، وسبب ما فيها من أدنى تعقيدٍ أن المبتدىء ينظر إليها، فيرى تطليقاً وتعليقاً، فيلتبس عليه معنى التعليق لذكره مع التطليق. وبيان ذلك أنه إذا قال لعمرة: إذا طلقتك، فحفصة طالق، فهذا تعليق طلاق حفصة، وإن خوطبت عمرة بالتطليق. وإذا قال لحفصة: إذا طلقتك، فعمرة طالق، فهذا تعليق طلاق عمرة، وإن خاطب بالتطليق حفصة، فليفهم الفاهم التعليق، ولينظر إلى تقدّمه وتأخّره. 9077 - ومما ذكره الأصحاب في اختتام هذا الفصل أنه إذا قال لامرأته: إن لم أطلقك، فأنت طالق، أو إن طلقتك، فأنت طالق. فهذا تعليل في موجب العربية، ومن ذكر [لفظَ] (2) الطلاق وعلّله، وقع الطلاق، ولم ينظر إلى العلّة كانت أو لم تكن، وتقدير الكلام: أنت طالق لأن لم أطلّقك، ثم اللام تحذف وتستعمل، هذه الكلمة كذلك في اللغة الفصيحة، ولو استعمل هذا اللفظ من لا يَفْصِل بين أنَ وإنِ في العربيَّة، فهو محمول على التعليق، وسنذكر هذا الأصل في الفروع، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: وقوع. (2) في الأصل: رسمت هكذا (لللفظ).

فصل قال: "ولو قال لامرأته: أنت طالق إذا قدم فلان فقدم به ميتاً، [أو مكرهاً] ... إلى آخره" (1). 9078 - غرض الفصل بيان الإكراه والاختيار والعمد والنسيان، ولكنه مفروض في صفة تجتمع فيها غوامض، وينفصل باتضاحها قطبٌ من الأقطاب. ونحن نقول في مفتتح الفصل: 9079 - إذا قال القائل: والله لا أدخل الدار، فحُمل وأدخل الدار قهراً، لم يحنث؛ فإن هذا ليس بدخول، ولو أمَرَ حتى حُمل وأدخل الدار حَنِثَ؛ فإن هذا يسمى دخولاً، وركوبه الأكتافَ كركوبه دابّهً، وأَمْرُ الحاملين بالدخول به كإمالته العنان إلى صَوْب الدار، ولو حُمل وكان قادراً على الامتناع وأدخل الدار، فلم يأمر ولم يزجر، فهذا فيه تردد، سيأتي مشروحاً في كتاب الأيْمان، إن شاء الله تعالى. ولو حلف بالله لا يدخل، فأكره حتى دخل بنفسه، ففي حصول الحنث قولان: أحدهما - أنه يحنث؛ لأنه دخل الدار. والثاني - لا يحنث؛ لأن فعل المكره كالمسلوب، واختياره فيه موجوداً كالمفقود. ولو نسي يمينه، فدخل الدار، ففي حصول الحنث قولان، وللأصحاب مسلكان في ترتيب النسيان على الاستكراه، والاستكراه على النسيان، وسيأتي ذكرهما في الأيْمان. والقدر الذي تمس حاجتنا إلى ذكره الآن أن سبب الخلاف في النسيان أن الناسي غير هاتكٍ لحرمة اليمين، وليس بهاجمٍ على المخالفة، هذا هو المرعي. فأما المكره، فسبب الخلاف فيه قضاء الشرع بتضعيف اختياره، ويتحقق فيه أيضاًً عدم الانتساب إلى اعتماد الهتك.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 79. والزيادة بين المعقفين من نصه.

ومن نسي صومه [فأكلَ] (1)، لم يفطر، ومن أكره على الأكل، فأكل، ففي حصول الفطر قولان. وهذه نبذة مست الحاجة إليها، فذكرناها واستقصاءُ أصولها وفصولها في كتاب الأيمان. 9085 - ونبتدىء بعد ذلك الكلامَ في الطلاق، فنقول: إذا علق الرجل الطلاق بصفة، فلا يخلو إما [أن] (2) يعلقه بصفةٍ تصدر منه، وإما أن يعلّقه بصفة تصدر من المرأة، وإما أن يعلقه بصفةٍ تصدر من أجنبي: فإن علّق الطلاق بصفةٍ تصدر منه، فالمذهب الصحيح أنه يجري فيه الخلاف في الإكراه والنسيان، ولا خلاف أنه لو حُمل وأدخل كرهاً، لم يقع الطلاق، فلو نسي اليمين، فدخل أو اكره حتى دخل بنفسه، جرى في كل صورةٍ من النسيان والإكراه قولان. وكان القفال يقول: إنما يختلف القول في الإكراه والنسيان إذا كانت اليمين بالله، فالتعويل في اليمين بالله على تعظيم اسم الله تعالى، والتعويل في تعليق الطلاق بالصفات على وجود الصفات على أي وجهٍ فرضت. وهذا مختص بالقفال. والأصحاب على طرد الخلاف في الباب، والسبب فيه أن الغرض في اليمين بالطلاق الامتناع عن أمرٍ، فإذا كان قصد اليمين هذا، فقد يتوهم خروج النسيان والاستكراه عنه. وهذا يجري مطرداً في اليمين بالله تعالى، وفي اليمين بالطلاق والعتاق، والدليل عليه أن الإكراه على الطلاق بمثابة الإكراه على اليمين بالله. وإذا فرض الإكراه في سبب الحنث، فوجه تضعيف الاختيار في سبب الحنث بالطلاق في الطلاق كوجه تضعيفه في سبب الحنث في اليمين بالله تعالى، والدليل عليه أن من حلف لا يدخل الدار، لم يعصِ بالدخول، ولم تؤثر اليمين عندنا في تحريم ما كان مباحاً قبل اليمين، فلا انتساب إذاً إلى هتك الحرمة والشرعُ لا يحظر المخالفة، فالذي

_ (1) في الأصل: فالحل. (2) سقطت من الأصل.

ذكره القفال إنما [يستدّ] (1) على مذهب أبي حنيفة (2) في مصيره إلى أن اليمين يحرّم الحلال. هذا إذا كانت اليمين بالطلاق ومعقودةٌ على فعل الزوج. 9081 - فإن علّق الطلاق بفعل المرأة؛ فإن قال ذلك وهي لم تسمع، ولم يقصد الزوج إسماعها اليمين حتى تنزجر -بسبب الطلاق-من الصّفة المحلوف عليها-، فالمذهب الأصح أن الطلاق يقع إذا دخلت الدار مكرهةً على الدّخول، وذلك أنه لم يعلق الطلاق بقصدها، ولم يظهر [من] (3) تعليقه منعُها من الدخول، حتى يحمل ذلك على العمد، فوجب الحملُ على صورة الدخول. نعم، لو حملت وأدخلت، فهذا لا يسمى دخولاً، فلا يقع الطلاق؛ لأن الصّفة لم توجد. ومن أصحابنا من أجرى القولين في دخولها مكرهة؛ لأن الإكراه على أحد القولين يضعف اختيارها، ويلحقها -وإن دخلت- بالمحمولة المُدخَلة. وهذا فقيه حسن، أورده القاضي واختاره، ولا يمكن فرض النسيان في هذه الصورة؛ فإن المسألة موضوعة فيه إذا لم يكن عندها علم [عن] (4) اليمين، فإذا دخلت مختارة، ولا علم عندها، طلقت بلا خلافٍ. هذا هو التفصيل فيه. إذا علق طلاقها، وهي لم تشعر. 9082 - فأما إذا علّق طلاقها وهي تشعر، فيظهر أنه يقصد أن يكون الطلاق مانعها من الدخول، فإذا أُكرهت، فدخلت مكرهةً، كان إجراء القولين في هذه الصورة أظهر من إجرائهما في الصورة الأولى. ولو نسيت يمين الزوج، جرى القولان على الأصح.

_ (1) في الأصل: "يستمرّ" وما أكثر ما تصحفت هذه الكلمة على النُّسّاخ. (2) ر. فتح القدير: 4/ 56. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: من.

والقفال إذا كان لا يُجري القولين في فعل الحالف إذا نسي أو أكره، فلا شك أنه لا يجريهما فيه إذا كان المعقود عليه فعلَ المرأة. 9083 - فأما إذا كان المعقود عليه فعلَ أجنبي، نظر: فإن جرى اليمين من حيث لا يشعر، فلا يتصور فرض النسيان فيه، ولكن إذا أكره ذلك الشخص، فوُجد منه متعلّق الطلاق مكرهاً، ففيه طريقان للأصحاب: أظهرهما عندنا - إجراء القولين لضعف الاختيار، وتخيّل التحاق فعل المكره بأحوال المحمول. وإن شعر ذلك الأجنبي بيمين الحالف، لم يخلُ إما إن كان ممّن لا يُبالي بيمين الحالف ولا يزعه ذاك عن فعله، أو كان ممن يمتنع بسبب حلف الحالف، فإن كان ممّن لا يمتنع بسبب حلف الحالف، فلا يبالي ببرّه وحنثه، فمثل هذا الشخص إذا بلغه خبر اليمين، ثم نسيها، فلا أثر للنسيان منه؛ فإن الفرق بين الناسي والعامد إنما يظهر في حق من يمتنع في الذكر، فيجوز أن يُعذر إذا نسي. فأما المكره، فالرأي عندنا طرد القولين فيه؛ لما ذكرناه من تأثير الإكراه في سلب حكم الاختيار. وإن كان ذلك الأجنبي ممن يرتدع ويمتنع بسبب يمين الحالف، فإذا نسي، اختلف مسلك الأصحاب؛ من حيث لا تعلق للنكاح به، ويتجه عندنا طرد القولين في النسيان. ولو حلف الحالف بمشهدٍ من زوجته، وعقد على فعل زوجته، ولم يقصد منعها، وإنما أراد تعليق الطلاق على الصفة مهما وجدت، فالوجه القطع بأن النسيان لا أثر له. والضابط فيه أنه إن أسقط أثر النسيان بعدم العلم باليمين، أو بعدم مبالاة المحلوف عليه بحلف الحالف، أو يقصد الحالف التعليق على الصفة المجردة من غير قصد في المنع بسبب الطلاق، فلا وجه لذكر الخلاف في النسيان. والقولان في الاستكراه جاريان. هذا بيان هذه التفاصيل على القواعد المحققة.

9084 - ونعود إلى ترتيب (السواد) (1) فنقول: إذا علق طلاق امرأته بقدوم زيد، فقدم مختاراً، قضينا بوقوع الطلاق. وإن كان مكرهاً، فعلى القولين. وإن كان غير عالم باليمين، ففيه التفصيل المقدّم. ولو أدخل البلدة محمولاً، لم يقع الطلاق، ولو رد إلى البلدة ميتاً، لم يقع الطلاق. وهذا المذكور في السواد قسم من الأقسام التي استوعبناها. 9085 - ثم قال: "ولو قال: إذا رأيتُه، فرآه في تلك الحالة، حنث ... إلى آخره" (2) إذا قال لامرأته: إذا رأيتِ فلاناً فأنتِ طالق، فرأته حياً أو ميتاً، وقع الطلاق، ولسنا لتعليل البيِّنات (3)، وكذلك إذا رأته والمرئي نائمٌ أو سكران، ولو رأته في المنام، فهو حلم، لا يقع به طلاق، ولو رأته وهو في ماء، والماء بلطفه يحكيه، فالظاهر عندنا القطع بوقوع الطلاق، فإنه رؤي حقّاً، وصار الماء اللطيف بين الناظر والمنظور إليه بمثابة أجزاء الهواء. وحكى من يُعتمد عن القاضي أن الطلاق لا يقع، وهذا لا اتجاه له؛ فإن ما ذكرناه رؤية في الإطلاق والعرف والحقيقة، وهو انكشافٌ في وضع الشريعة، ولهذا جعلنا الواقف في الماء اللطيف الذي يحكي العورة عارياً، وقضينا بأن صلاته لا تصح، فلا وجه إلا ما ذكرناه. نعم، إذا نظر في المرآة وخَطَر من ورائه مَنْ حَلَف على رؤيته، فتراءى له ذلك الخاطر في المرآة، أو في الماء، فهذا فيه احتمال. وإن كان ذلك المرئيُّ في الحقيقة

_ (1) السواد: المراد به مختصر المزني. (2) ر. مختصر المزني: 4/ 79. (3) البينات: أي الواضحات التي لا تحتاج إلى تفسير وتسبيب.

مرئيّاً، ولكن سبب التردد العرفُ وإطلاقُ أهله بأني لم أر فلاناً، ولكني رأيت مثاله في المرآة. ولو قال لامرأته، وهي عمياء: إن رأيت فلاناً، فأنت طالق، فالمذهب أن هذا لغوٌ فيها؛ فإن الطلاق معلق بمستحيل، فلا يقع. ومن أصحابنا من جعل قوله: إن رأيت فلاناً بمثابة قوله: إن رأيت الهلال، ثم رؤية الغير تقوم مقام رؤيتها، غير أنا نفعل هذا في مسألة الهلال؛ حملاً للرؤية على العلم، ومن سلك هذا المسلك في رؤية زيد وعمرٍو، لم يكتف بالعلم بوجود من علّقت اليمين به، ولكنه حمله على أن يحضر عنده، ويقرب منه، ويجلس منه مجلس المخاطبة، وهذا محمول على قول الضرير قد رأيت اليوم فلاناً، وأحطت بما عنده، والمراد أنِّي حضرته وشهدته. ثم لو رأته وهي مجنونة أو سكرانة، وقع الطلاق؛ لأن رؤية السّكرانة والمجنونة صحيحة. 9086 - وألحق الأصحاب مسائل بهذا الفن منها: أنه لو قال لها: إن مسست فلاناً، فأنت طالق فمسته حياً كان أوميتاً، طُلِّقت، ولو كان بين البشرتين حائل، لم تطلق. وقد ذكرنا تردداً في أن لمس شعر المرأة هل يوجب نقض الطهارة؟ وفي مسّ الشعر تردد لبعض الأصحاب؛ فإن مسألة الملامسة متلقاة من ظاهر الكتاب، والتصرف فيها متعلق بصيغ الألفاظ، والوجهُ عندنا القطعُ في اليمين بأن الحنث لا يحصل. ولو قال: إن ضربتِ فلاناً فأنت طالق، فضربته حياً، وقع الطلاق، ثم الذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنا نشترط أَلَماً، وإن لم يكن مبرّحاً شديداً، وذهب طوائف من المحققين إلى أن الألم ليس بشرطٍ، والضَّربُ يحصل بصدمةٍ وإن كانت لا تؤلم، ورُبّ شخص يُضرب مجتمع اللحم منه بجُمعِ كفك، فيلتذّ به التذاذ المغموز بالغمز، وهذا ضرب، ولو وَضَع حجراً ثقيلاً على عضوٍ-من ذلك المعيّن- ضعيفٍ، فانطحن تحته، فهذا إيلام، وليس بضرب.

ولو ضربته ميتاً، لم تطلق؛ فإن الضرب المطلق في العرف لا يحمل على ضرب الميت. والذي أطلقتُه من الصدمة لا ينبغي أن يعتمد الإنسان مُطلَقها؛ فإن من ضرب أنملةً على إنسان لا يتصور أن يقع بمثله إيلام، لم يتعلق بها بَرٌّ ولا حنث، فالمحكَّم إذاً ما يسمى ضرباً، وهو صدمٌ بما يفرض منه وقوع الألم، حصل الألم أو لم يحصل. ولو قال: إن قذفتِ فلاناً، فأنت طالق، فقذفته حياً أو ميتاً، طُلقت؛ لأن قذف الميت كقذف الحي إطلاقاً، وحكماً. ولو قال: إن قذفت فلاناً في المسجد، فأنت طالق، فالشرط في حصول الحنث أن تكون القاذفة في المسجد. هكذا قال الأصحاب. ولو قال: إن قتلت فلاناً في المسجد، فالشرط أن يكون المقتول في المسجد، والفرق أن نفس القذف يُجتنبُ في المسجد، ولا يفهم من إضافة القذف في المسجد إلا كون القاذف في المسجد؛ فإن هتك حرمة المسجد بإنشاء القذف فيه. وإذا أضيف القتل إلى المسجد، فُهم من مُطلَقه [إيقاعُه] (1) بالمقتول وهو في المسجد. هذا ما ذكره الأصحاب. ولم يحملوا القتل في المسجد على كون القتل في المسجد بتأويل أن يرمى إلى ذلك المعيّن أو يناله برمح والقاتل في المسجد والمقتول خارج المسجد، والأمر على ما ذكروه، واللفظان مطلقان. فأما إذا قال: أردت بالقذف في المسجد كَوْن المقذوف في المسجد، وأردت بالقتل في المسجد كون القاتل في المسجد، فهل يقبل ذلك منه ظاهراً؟ هذا فيه احتمال بيّن وتردُّدٌ ظاهر؛ من قِبل أن قوله في المسجد ظرفٌ متردد بين القاذف والمقذوف، والقاتل والمقتول، وهو في محض اللغة الفصحى صالحة لهما. والذي ذكرناه في الإطلاق موجَب العرف تلِّقياً من الهتك، فإذا فسّر لفظةً بما يصح على اللسان (2)، وينطبق على اللغة، وجب أن يكون في قبوله خلاف، وهذا من

_ (1) في الأصل: إيقاع. (2) يصح على اللسان: المراد تداول الألسنة والعرف.

أصول الكتاب، فمن خالف اللغة إلى ما لا يبعد انسياغُه في العرف، كان في قبوله ظاهراً خلاف، ومن خالف العرف إلى ما يوافق اللغة ولا يبعد بعداً كليّاً عن العرف، ففى قبول تفسيره خلاف. وإذا أكثرنا المسائل في الظاهر والباطن، وحصل الأُنس بها، هان ضبطها في الآخر. 9087 - ثم قال: "ولو حلف لا تأخذ مالك عليّ ... إلى آخره" (1). إذا قال: إن أخذتَ مالك عليّ، فامرأتي طالق، فإذا أخذه، وقع الطلاق، سواء أعطاه الحالف، فأخذه، أو أخذه قهراً من غير إعطاء منه، وكذلك لو أجبره السلطان فأعطى فأخذه مختاراً، أو أخذه السلطان من ماله وسلّمه إليه، فإذا أخذه على اختيارٍ، وقع الطلاق، والتعويل على أَخْذه كيف فرض. ولو كان عليه دين، فقال من عليه الدّين: إن أخذتَ مالك عليّ، فأخذه قهراً - ولا امتناع ممن عليه الدّين- فلا يكون هذا آخذاً لماله رجعةً، فلا يقع الطلاق إلا حيث يكون راجعاً إلى حقه، وهو في الصورة التي ذكرناها غاصبٌ، واليمين معقودةٌ على أن يأخذ ماله. ولو أجبره السلطان، فأخذ ماله -والأولى فرض ذلك فيه إذا كان عيناً من الأعيان- فإذا كان مجبراً على الأخذ، ففي وقوع الطلاق قولان مذكوران في المكره على ما تفصّل. ولو قبض السلطان حقه قهراً، حيث يجوز للسلطان ذلك، فهذا يحل محل أخذه حكماً، ولكن لا يحصل الحنث؛ فإن التعويل في الأَيْمان على الأسماء والإطلاقات، لا على الأحكام. ولو حلف لا تأخذ مني مالك عليّ، فإن أعطاه مختاراً، فأخذه حَنِثَ، ولو أخذ السلطان ماله وسلمه إلى مستحقه المحلوف عليه، فلا حِنْث؛ لأنه حلف لا تأخذ منّي، وهذا ليس أخذاً منه.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 79.

ولو أجبره السلطان على التسليم، ففي هذا نظر [يبين] (1) بتقديم أمرٍ عليه، وهو أن مستحق الحق لو سلبه من الحالف، وقد حلف لا تأخذ مني، فالظاهر عندنا أن الطلاق يقع. وفي كلام القاضي ما يدل على أن الطلاق لا يقع، وفيه على حالٍ إخالةٌ واحتمال؛ فإن الإنسان إنما يقول: أخذت مني إذا كان عن طواعيةٍ من المعطي، وإن لم يكن، يقال: سلبت مني. وهذا بعيدٌ والوجه ما قدمناه. قال القاضي: لو أجبر السلطان الحالف على التسليم، فعلى قولين، وهذا بناه على اشتراط الاختيار في الإعطاء، ونحن لا نرى هذا أصلاً، والتعويل على أخذ المحلوف عليه من يد الحالف أَعْطَى أو لم يُعط، رضي أو كرِه. ولو حلف لا يعطيه، فأعطاه مختاراً ذاكراً، حَنِث، ولو كان مكرهاً أو ناسياً، فعلى الخلاف، ولو أخذه السلطان وسلمه إلى صاحب الحق، فلا حنث. ومن أحكم الأصول، هانت عليه المسائل. 9088 - ثم قال: "ولو قال: إن كلمتِه، فأنت طالق ... إلى آخره" (2). إذا قال لها: إن كلمتِ فلاناً، فأنت طالق، فكلمته بحيث يسمع، وسمع، وقع الطلاق. وإن لم يسمع لعارض لفظ (3)، وذهول في المكلَّم، فقد قال الأصحاب: يقع الطلاق، وفي هذا نظر سننعكس عليه به، إن شاء الله. ولو كان المكلَّم أصمَّ، فكلمته على وجه لا يسمعه الصم، ويسمعه من لا صمم به، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أن الطلاق يقع؛ فإن هذا يسمى تكليماً، وليست اليمين معقودة على الإسماع. والوجه الثاني - أن الطلاق لا يقع؛ فإن ما جرى ليس تكليم الصمّ، فهو في حقه بمثابة همسٍ لا يسمعه السميع.

_ (1) في الأصل: بين. (2) ر. المختصر: 4/ 79. (3) كذا، والمراد: لفظٌ عارض يشوّش على المكلَّم.

واللفظ الذي ذكرناه يتفصّل -بعد الإحاطة بفصل الأصمّ- فإن كان اللفظ بحيث لا يتصوّر أن يسمع معه وإن جرّد المكلّم قصده في الدّرْك والإصغاء، فهذا فيه احتمال مأخوذ من تكْليم الأصمّ، وإن كان اللفظ بحيث يتصوّر السّماع معه، لو فرضت الإصاخة والإصغاء، لأمكن الإسماع، فيجب القطع هاهنا بالحِنث؛ فإنه يقال: كلمته فلم يُصغِ. وقد ينقدح [في] (1) هذا نظر في تكليم الأصم إذا كان وجهه إليه، وهو أنه يعلم أنه يكلّمه، فالوجه هاهنا القطع بوقوع الطلاق، وكذلك القول في مثل هذه الحالة، والمانع اللفظ. وإن كان كلمته على مسافة بعيدةٍ لا يحصل الإسماع في مثلها ولم يحصل، فلا يقع الطلاق، ولو اختطفت الريح كلامها وسحلته (2) في أذني المكلَّم، فالظاهر أنه لا يقع الطلاق. ولو كلمته ميتاً أو نائماً، لم يقع الطلاق، ولو هذت هي بالكلام، لم يقع الطلاق، وإن كان على صيغة تكليمه، لأن هذا لا يسمى تكليماً. وإن سمي كلاماً. ولو جُنّت، فكلمته، قال القاضي: يقع الطلاق، وهذا يخرج على أنها لو أكرهت على التكليم هل يقع؟ فإنّ قصد المجنون أضعف من قصد المكره، وسنذكر في حصول الحِنث مع الجنون كلاماً بالغاً في كتاب الإيلاء، إن شاء الله. ولو كلمته سكرانةً أنبني أمرَها على أنها كالصاحية أم لا؟ فإن جعلناها كالصاحية، وقع الطلاق، وإلا فهي كالمجنونة، ولو انتهت إلى السكر الطافح، فهذت، فهذيانها كهذيان النائم، وسيأتي على الاتصال بهذه الفصول أحكام السّكران.

_ (1) في الأصل: من. (2) سحلته: أي صبته، يقال: سحلت السماء أي صبّت الماء (معجم)، والمعنى إذا كلمته من مسافة بعيدة، لا يكون الكلام من مثلها، ولكن الريح حملت كلامها إليه، فلا يسمى تكليماً.

فصل قال: "ولو قال للمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالقٌ ... الفصل" (1). 9089 - إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقعت عليها طلقة وبانت، ولم تلحقها الثانية، والثالثة؛ فإن اللفظة الأولى مستقلة بإفادة الطلاق، وليس ما بعدها تفسيراً لها؛ فإن استقلت، ثبت حكمها، وحصلت البينونة. 9090 - وإذا قال للمدخول بها أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وأتى بهذه الكلمات على الوِلاء، وقعت الطلقة الأولى، ونظرنا في الثانية والثالثة، فإن زعم أنه نوى بهما الإيقاع، حُملتا على الإيقاع، وطُلقت ثلاثاًً، وإن نوى باللفظة الثانية والثالثة تأكيد اللفظة الأولى، قُبل ذلك منه، ولم [يقع] (2) إلا واحدة. فإن قيل: لم كان كذلك، وكل لفظةٍ مستقلّة بنفسها في إفادة الطلاق والإشعار بمعناه، فالثانية كالأولى، والثالثة كالثانية، والتمسك باللفظ أولى من التمسك بقصدٍ يزيل فائدةَ اللفظ؟ قلنا: التأكيد من القواعد التي لا سبيل إلى إنكارها وجحدها، وهو من مذاهب الكلام، ثم أصل التأكيد عند أهل العربية ثلاثة أقسام: الدرجة العليا من التأكيد لتكرير اللفظ، وكأن الذي يكرره يبغي بتكريره شيئين: أحدهما - التوثق بإيصال الكلام إلى فهم السامع عند تقدير ذهوله وغفلته. والثاني - الإشعار بأن هذا اللفظ لم يسبق إلى لسانه؛ فإنه إذا كرّره قطع هذا الوهم، فهذا أمّ باب التأكيد، وهو ممثل بقول القائل: رأيت زيداً زيداً، ومررت بزيدٍ زيدٍ. والمرتبة الثانية في التأكيد - تلي التكرار والإعادة، وهو كقول القائل: رأيت زيداً نفسه.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 80. (2) في الأصل: يقعد.

والمرتبة الثالثة في التأكيد - الإتيان بألفاظ تؤكّد معنى ما تقدم، وهو كقول من يريد التأكيد في عمومٍ، فيقول: رأيت القوم أجمعين، ثم قد يتبعون هذه الكلمة بكلمٍ لا يستقل مفرده ولا يشتق من معنىً وهو كقوله: جاءني القومُ أجمعون أَكْتعون أَبْصَعون. فهذا مراتب التأكيد وأصلها التكرير، كما ذكرنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تحقيق أمرٍ كرّره ثلاثاًً. فإذا كان هذا أصلَ التأكيد، وكل لفظةٍ من الألفاظ التي ذكرها ليست مُفردةً في الذكر، فإذا فسَّرها بالتأكيد، والتأكيدُ أصلٌ في نفسه، والتكرير أصل التأكيد، لَزِمَ قبول ذلك منه. ولو أطلق هذه الألفاظ، ولم يذكر أنه قصد الإيقاع أو التأكيد، بل قال: لم يكن لي قصد، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها محمولة على تجديد الإيقاع، والثاني - أنها محمولة على التأكيد. فمن حملها على الإيقاع، فتمسكه باستقلال كل لفظة لو أنفردت. ومن حملها على التأكيد، احتج بما مهدّناه قبلُ من أنّ أصل التأكيد التكرير، ومن أراد التجديدَ، فالعباراتُ الجامعة للعدد معلومة، وقَصْدُ التجديد بتكرير الكلم ليس أصلاً، وقَصْدُ التأكيد بالتكرير أصل في بابه، والأصل أنا لا نوقع من الطلاق إلا ما نستيقن. 9091 - ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق وطالق، لحقتها طلقتان، ولا مساغ لقصد التأكيد في ذلك؛ فإن المؤكِّد لا يعطف على المؤكَّد، وحكم كل معطوف أن يكون مجدّداً مستأنفاً حالاًّ محلّ المعطوف عليه في الفاصل والاستقلال. ولو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق، فالألفاظ متغايرة، والحكم وقوع الثلاث إذا كان مدخولاً بها، وذلك؛ لأن اللفظة الثانية معطوفة على الأولى، فلا تصلح لتأكيدها، واللفظة الثالثة متعلقة [بصلة] (1) لم يسبق لها ذكر، حتى يفرض فيها التكرير، فاستقلت كُلّ لفظة.

_ (1) في الأصل: بصلته.

9092 - ولو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثم زعم أنه أراد بالثانية طلاقاً بائنا مجدّداً وأراد بالثالثة تأكيد الثانية، فهذا مقبول؛ فإن الثالثة على صيغة الثانية، وليس بينهما حائل يمنع من التأكيد، وهو متصل بالمؤكَّد. ولو قال: أردت إيقاع الأولى والثانية، وأردت بالثالثة تأكيدَ الأولى، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن التأكيد على هذا الوجه باطل غير مقبول، وإذا بطل التأكيد، حُمل اللفظ على التجديد، فيقع ثلاث طلقات؛ لأن من شأن ما يقع التأكيد به أن يكون متصلاً بالمؤكَّد، غيرَ منفصل عنه، وهو قد نوى باللفظة الثانية تجديد الطلاق، وهي فاصلة بين الأولى والثالثة، فامتنع من تخللها قصدُ التأكيد، وإذا بطل التأكيد تعيَّن التجديد. والوجه الثاني - أن قوله مقبول؛ فإن الغرض أن يؤكّد الطلاق السابق، ولا يرجع التأكيد إلى اللفظ، وإنما يرجع إلى معناه، واللفظة الثالثة متصلة بوقوع الأولى، والأولى والثالثة متشابهتان لا تتميز إحداهما عن الأخرى، والأصح عند المحققين الوجه الأول. 9093 - ولو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق، فيقع الطلقة الأولى والثانية وأما الثالثة، فإنها على صيغة الثانية، فإن أراد بالثالثة تأكيد الثانية، قبل منه. وفي هذا أدنى غموض؛ لمكان واو العطف، وانفصال اللفظ به عن اللفظ، وقد ذكرنا أن التأكيد ينافي الانفصال، ولكن لا خلاف أن قصده في التأكيد على ما ذكرناه مقبول، وسببه أن اللفظة الثالثة تكريرُ اللفظة الثانية، وقد ذكرنا أن أم التأكيد التكرير، والواو إذاً في الثالثة لا تكون عاطفةً، وإنما هي تكرير الواو الأولى، والكلمة بعدها تكرير الكلمة الثانية. ولو أطلق ولم يقصد شيئاً، وقعت طلقتان معطوفة ومعطوف عليها، وفي الثالثة قولان، كما قدمناه. ولو قال: أردت بالثالثة تأكيد الأولى، لم يقبل منه وجهاً واحداً؛ فإنه مخالف للفظة الأولى باتصالها بالواو، فلا يصلح للتأكيد. 9094 - ولو قال: أنت طالق طالق طالق، وزعم أنه قصد التأكيد، لم يقع إلا واحدة.

فإن قيل: الكلمة الثانية ليست مصدرةً بالضمير، وكذلك الثالثة، والأولى مصدرة بالضمير؟ قلنا: هذا لا أثر له؛ فإن التأكيد يتعلق بالطلاق، ولا فاصل بين الألفاظ. ولو قال: "أنت طالق طالق أنت طالق"، فالتأكيد يتطرق إلى الثانية مع الأولى، واللفظة الثانية انفصلت عن الثالثة بإعادة الضمير، ولا معول على هذا الفصل، فإن هذا الضمير ليس عاطفاً، حتى يقال: العطف يقتضي استئنافاً، فأمر التأكيد متجه، وإعادة الضمير محمول على التنبيه للتأكيد. 9095 - وحكى صاحب التقريب نصاً للشافعي يكاد يخرِم ما قدّمناه من الأصل، ونحن نحكيه على وجهه، ونذكر تصرفه فيه، ثم نعود إلى ترتيب الفصل ونستوعب أطرافه وبقاياه. قال: قال الشافعي: "لو قال: أنت طالق، وطالق، لا بل طالق، فيقع طلقتان بقوله: أنت طالق وطالق". فلو قال: عَنيْت بقولي "لا بل طالق" تحقيقَ ما مضى وتأكيده، قال: قال: الشافعي يقبل ذلك منه. قال صاحب التقريب: جعل أصحابنا المسألة على قولين: أحدهما - هذا، وهو بعيد عن القياس. والثاني -وظاهر النص في المختصر- أنه يقع الثلاث، كما لو اختلفت الألفاظ من وجهٍ آخر، مثل أن يقول: أنت طالق، وطالق، ثم طالق، فإن الطلقات تتعدد إجماعاً. ثم قال صاحب التقريب: هذا فيه إذا قال: لا بل طالق. فلو قال: "طالق وطالق بل طالق" من غير (لا)، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بوقوع الثلاث في هذه الصورة، ومنهم من جعل المسألة على قولين، كما قدمناه فيه إذا قال: لا بل طالق. وهذا النص الذي حكاه صاحب التقريب حكاه العراقيون كذلك، وإذا بعد الشيء، استأنستُ بكثرة النقلة، ولا شك أن الذي يقتضيه القياس [أن] (1) يُحمل اللفظ

_ (1) مزيدة من المحقق.

على التجديد وامتناع [حمله] (1) على التأكيد، ولا ينبغي أن يُغيَّر أصلُ المذهب وقاعدتُه، بما يجري نادراً من حكايات النصوص. والذي يمكن توجيه النص به: أنّ (بل) يتضمن استدراكاً في مخالفة ما مضى ومضادّته، حتى إن كان الكلام الأوّل نفياً، كان (بل) إثباتاً، وإن كان صَدْرُ الكلام إثباتاً، كان (بل) نفياً. هذا معنى الكلمة ووضعها، فإذا قال أولاً: أنت طالق، ثم قال آخراً: لا بل طالق، أو بل طالق، فهذه الكلمة ليست على وضعها في اقتضاء المخالفة فضعفت ووهت، وكانت كالساقطة المُطَّرحة، وهذا المعنى لا يتحقق في سائر التغايير الحاصلة بالصّلات المختلفة، وهذا لا بأس به. على أنّ المذهب ما قدّمناه. 9096 - ولو قال: "أنت طالق، وطالق، فطالق" وقعت الطلقات الثلاثة (2). فإن قيل الفاء كالواو في معنى العطف، فهلاّ جوزتم أن يكون اللفظ الثالث تأكيداً للفظ الثاني؟ قلنا: الفاء عاطفة، والعطف ينافي التأكيد وليست الفاء تكريرَ الواو، فإذا امتنع التكرير في الفاء، وجب إجراؤه على حقيقة العطف، والعطفُ مقتضاه الاستئناف. 9097 - وإذا أردنا نظمَ هذه المسائل المتفرّقة تحت ترجمةٍ، قلنا: إذا تغايرت الألفاظ بصلاتِ عواطفَ مختلفة، فهي على التجديد. وإذا لم يتخللها عواطف، فهي بين التجديد والتاكيد: فإن قَصَد التأكيد، قُبل، وإن قَصَد التجديدَ، نَفَذ. وإن أطلق، فعلى الخلاف، فإذا تخلل بين لفظين ما يمنع من التأكيد، وقعت الثنتان، وفي الثالثة ما ذكرنا من التفصيل، فإن أكد بها الثالثة، قُبل، وإن أكد الأولى، فعلى وجهين قدمنا ذكرهما.

_ (1) في الأصل: لفظه. (2) كذا (الثلاثة) بالتأنيث، وهو جائز صحيح، لتقدم المعدود، حيث تجوز الموافقة والمخالفة.

9098 - ولو قال: أنت طالق طلقةً، فطلقة، نص على وقوع طلقتين، ونص على أنه لو قال: "عليَّ درهمٌ فدرهم" لم يلزمه إلا درهم واحد، فمن أصحابنا من جعل في المسألتين قولين: بالنقل والتخريج، وهذا بعيد. ومنهم من أجراهما على الظاهر، وفرّق بأن الطلاق إيقاعٌ لا يَدْرأُ لفظَه إلا مَحْملُ التأكيد، والفاء تمنع من التأكيد، والإقرار إخبار والإخبارُ يحتمل من التأكيد والتكرار ما لا يحتمله الإيقاع، والدليل عليه أنه لو قال: أنت طالق طلقةً، بل طلقتين، فالمنصوص أنها تطلق ثلاثاًً، ولو قال: عليّ درهمٌ، بل درهمان، لزمه درهمان، ولو أعاد كلمة الطلاق على الهيئة الأولى في المجلس مع تخلل فصلٍ، وقعت طلقتان، ولو أعاد الإقرار على هيئته الأولى في مجلس أو مجلسين وأراد الإعادة، قُبل منه. ولي في قوله: أنت طالق طلقة، بل طلقتين نظرٌ؛ فإنه ربما يبغي بهذا ضمَّ طلقةٍ إلى الأولى، فيتطرّق إمكان الإعادة على هذا التأويل، وهذا يتجه على النص الذي حكاه صاحب التقريب، بل هو أوجه منه. ووجه ما ذكره الأصحاب أنه إذا قال: بل طلقتين، وجب حملهما (1) على الإنشاء، وإذا ذكرنا احتمال الضم، كان التقرير ضم إنشاء إلى إقرار، كأنه يقول: تيك الطلقة الأولى واقعة، والأخرى أُنشئها، وحَمْلُ الألفاظ في الطلاق على الإقرار بعيد. 9099 - ولو قال: أنت طالق طلاقاً، فهي واحدة إن لم ينو أكثر منها؛ فإن قوله: طلاقاً مصدر، والمصدر إذا أُكّدّ الكلام به، لم يقتض تعديداً، أو تجديداً، وهو كقول القائل ضربت زيداً ضرباً. فهذا بيان الأصول في مضمون الفصل، ولا فصل إلا ويترتب عليه فروع، وأنا أرى تأخيرها حتى تقع الفروعُ نوعاً، والأصولُ نوعاً.

_ (1) في الأصل: وجب في حملهما على الإنشاء.

9100 - والذي أختتم به هذا الفصل، وهو سرٌّ لطيف أنه إذا قال لامرأته: "أنت طالق، إن شاء الله" على الاتصال، فسنوضّح أن الطلاق لا يقع إذا أنشأ اللفظ على قصد الاستثناء، والشرطُ أن يكون الاستثناء متصلاً، والمنفصل منه لا يعمل، فهذا مما يراعى فيه الاتصال، ومما يعتبر فيه الاتصال أيضاًً الإيجاب والقبول، وما في اللفظ المحمول على التأكيد يشترط اتصاله بالمؤكَّد (1). وأنا أقول: ليس اتصال المؤكِّد بالمؤكَّد والاستثناء بصدْر الكلام على مساق اتصال القبول بالإيجاب، بل يجب أن يكون اتصالُ كلام الشخص الواحد بكلامه أبلغ من اتصال القبول بالإيجاب، والمرعي في كل باب ما يليق به، فإذا انفصل القبول انفصالاً [يُخرجه] (2) عن كونه جواباً، ويُشعر الفصلُ بإعراض القابل عن الجواب، فهذا هو القاطع، وبدون ذلك ينقطع الاستثناء عن صدر الكلام؛ فإنَّ تواصُلَ الكلام الواحد فوق اتصال جواب خطاب، ويشهد لهذا أن تخلل كلام بين الإيجاب والقبول لا يقطع على الرأي الأصح. والذي أراه أن تخلل كلام بين الاستثناء والمستثنى عنه يقطع الاستثناء، حتى لو قال: أنت طالق -قم يا عبدُ- ثم قال: إن شاء الله، لم يعمل الاستثناء، وقياس التأكيد كقياس الاستثناء، وقد يرد على هذا أنه إذا قال: أنت طالق طالق أنت طالق، ثم قال: أردت التأكيد باللفظة الثالثة، فهذا مقبول، كما قدّمته، وقوله في اللفظة الثالثة: "أنت" كلام زائد، ولكنه في معناه التنبيه للتأكيد، وما كان كذلك لم يكن فاصلاً قاطعاً. وإذا ذكرنا هذا تبين أن السكتات إذا تخللت واللفظ واحد، فينبغي أن تكون أقصر ما يُفرض بين الإيجاب والقبول، ولا يشترط أن يجمع المتكلم الكلام والاستثناء، والتأكيد والمؤكَّد في نفسٍ واحد. هذا نجاز ما أردناه.

_ (1) عبارة الأصل: " ... فهذا مما يراعى فيه الاتصال، ومما يعتبر فيه الاتصال أيضاًً الإيجاب والقبول، (وذلك الاتصال) وما في اللفظ المحمول على التأكيد يشترط اتصاله بالمؤكَّد" والتعديل بالحذف من المحقق. (2) في الأصل "يخرج".

فصل قال: "وكلّ مكرهٍ ... إلى آخره" (1). 9101 - نذكر في هذا الفصل حكمَ الإكراه على الطلاق، والعتاق، والعقود، حتى إذا نجز وتفرّعت مسائله نختتم الفصل بالإكراه ومعناه، فنقول: طلاق المكره وعتاقه لا يقع إذا تحقق الإكراه، وأتى المكرَهُ بالطلاق على مقتضى الإكراه. ولو جرى ما يكون إكراهاً، فطلق المكرَه على حسب الاستدعاء منه، وزعم أنه اختار إيقاع الطلاق، فيقع الطلاق [و] (2) لا يمتنع أن يوافق قصدُه واختيارُه صورةَ الإكراه من المكرِه. وإن أُجبر على أن يقول لامرأته: أنت طالق، فقال ما قال [وهو] (3) مُجْبرٌ، ونوى تطليقها عن وِثاقٍ، لم يقع الطلاق. وهذا نهاية التصوير في الإكراه؛ فإن اللاّفظ أتى بلفظه على مطابقة المجبِر للخلاص منه، ولم يأل جهداً في التغيير وصرف النية عن الفراق إلى غيره. ولو أُجبر، فوافق، ولكنه لم ينو تطليقها عن وثاقٍ، وكان من الممكن أن ينوي ذلك، هل نحكم بوقوع الطلاق؟ ذكر القاضي وجهين: أحدهما - وهو اختيار القفال أن الطلاق يقع؛ لأنه كان متمكناً من أن يورِّي، ويضمر ما ذكرناه، فيكون بقصده حائداً عن الفراق، فإذا لم يفعل، جرّ هذا إليه حكمَ المختارين؛ من حيث لم [يستفرغ] (4) وُسعه في الحَيْد عن الطلاق، وكان يقول: لو نوى الطلاق عن الوِثاق في حالة الاختيار، لم يقع الطلاق بينه وبين الله تعالى، ولكنه لا يصدّق إذا ادعى ما أضمره؛ من حيث إن الظاهر يكذّبه؛ فإنّ ذا الجدِّ لا يطلق لفظ الطلاق ومراده حلّ الوثاق، فإذا كان مكرهاً وأضمر حلَّ الوثاق، كان مصدَّقاً؛ لاقتران الإجبار بظاهر

_ (1) ر. المختصر: 4/ 81. (2) زيادة اقتضاها إيضاح العبارة. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: يتفرع.

قوله، وهو (1) بمثابة الإقرار في الاختيار والإجبار، وإذا أقرّ بالطلاق كاذباً، لم يُحكم بوقوع الطلاق باطناًً، ولكن لو ادّعى أنه كان كاذباً في إقراره، لم يُصدّق، وإذا أكره على إقراره، ثم زعم أنه كان كاذباً، صُدّق؛ لأن ظهور الإجبار يُغلِّب على الظن صدقَه في دعوى الكذب في الإقرار. هذا أحد الوجهين وبيان اختيار القفال. والوجه الثاني - أن الطلاق لا يقع، وإن لم يُوَرِّ؛ لأنّه أنشأ اللفظ مجبراً عليه، فسقط حكمه، ولم يأت بنيةٍ تُشعر باختياره. هذا ما ذكره الأصحاب. وفي المسألة مزيد تفصيل عندي، فإن فرضت في غرٍّ غبيّ لا يفهم التورية، فلا ينبغي أن يكون في انتفاء طلاقه تردّدٌ، وإن كان المجبَر فقيهاً عالماً لمسألة التورية، ولم يفته ذكر هذه المسألة حالة الإجبار، فالأظهر عندنا أن الطلاق يقع، [وللاحتمال مجالٌ] (2) بيِّن إذا لم يقصد ولم يختر، وهذا محلّ الوجهين. ولو كان الرجل عالماً ولكن أذهله الوعيد وبهَرَهُ السَّيفُ المسلول، فهو كالغِرّ الغبي الذي لا يذكر ولا يشعر. 9102 - ومما نذكره في ذلك أن الأصحاب قالوا: لو أكرهه المكرِه على طلقةٍ، فقال: هي طالق ثلاثاًً، وقعت الثلاث؛ لأنه لمّا زاد على الطلقة المطلوبة منه، ظهر بذلك اختياره وقصدُه وإرادتُه الطلاق. وقال الأصحاب: لو أكرهه على أن يطلقها ثلاثاًً، فطلقها واحدةً، وقع الطلاق. وطردوا في ذلك أصلاً وقالوا: مهما (3) خالف المكرَهُ المكرِهَ بزيادة على ما طلبه أو بنقصان منه، نحكم بوقوع الطلاق؛ لأنه إذا خالفه، فقد أتى بغير ما طلبه، فكان كالمبتدىء بلفظه، وموجب ذلك الحكمُ بالوقوع. وقالوا: لو أكرهه على أن يطلّق زوجته عَمْرة، فضمها إلى ضرّتها، وطلقهما،

_ (1) وهو بمثابة الإقرار في الاختيار والإجبار: المعنى أن حكم لفظ المكرَه إذا ورَّى حكمُ الإقرار بالطلاق في حالتي الاختيار والإجبار. (2) في الأصل: والاحتمال مجاز. (3) مهما: بمعنى إذا.

حُكم بوقوع الطلاق؛ بناء على ما ذكرناه من مخالفته إياه. ولو أكرهه على تطليق امرأتين، فطلق إحداهما، قالوا: وقع الطلاق، كما لو أكرهه على ثلاث طلقات، فطلق واحدةً. وقالوا أيضاًً: لو قال المكرِه: قُلْ: طلقتها، فقال: فارقتها، أو سرّحتها، حكم بوقوع الطلاق؛ طرداً للأصل الذي قدمناه، من أن المكرَه إذا خالف المكرِه المُجبِرَ، حكم بوقوع الطلاق؛ من جهة أن المخالفة تُصوِّر المكرَه بصورة المبتدىء المنشىء الذي لا ينبني كلامُه على استدعاء المجبِر. ولي في هذه المسألة نظر: أما إذا أكرهه على طلاق عمرة، فطلّق عمرة وحفصة ففي تحقق الإكراه في عمرة وعدم وقوع الطلاق عليها احتمال بيّن ظاهرٌ؛ فإنه لا منافاة بين اختياره طلاقَ حفصةَ وبين كونه مجبراً على طلاق عمرة، فكأنه أتى بما استدعاه المجبر منه، وضمّ إليه ما كان في نفسه اختياره، والذي يحقق ذلك أنه لو كان على [نيّة] (1) أن يطلق حفصة، فقال المجبر: طلق عمرة معها، فهذا ظاهر في تحقق الإكراه في طلاق عَمْرة. وأما إذا أكرهه على تطليق عمرةَ وحفصة، وطلق عمرة، فقد يظهر أنه يبغي بهذا إجابة المجبر في بعض ما قال، وهو يرجو أن يكتفي بذلك، فهذا فيه احتمال من هذا الوجه أيضاًً، والاحتمال في الصورة الأولى أظهر؛ من جهة أنه يتخلص [بما يفعله] (2) عن إرهاق من يجبره، ويتخلص عن الإكراه بتطليق واحدة، والمطلوب منه تطليق اثنتين. ولو قال - وقد طلب منه طلاق اثنتين: أنت طالق وأنت طالق، فهذا مما يجب القطع به في كونه مكرهاً، فإنه ساعد (3) المجبر على هذه الصيغة، فكان بمثابة ما لو جمع طلاقهما في صيغة التثنية. فأما إذا أجبره على طلقة، فطلق ثلاثاًً، فلا شكّ في وقوع الثلاث؛ فإن الذي صدر

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: ما يفعله. (3) "ساعد" هنا بمعنى: أجاب، لا بمعنى أعان.

منه يشعر بانشراح صدره للطلاق، ولا يتميز طلقة عن طلقة، وليس كامرأتين، يضم إحداهما إلى الأخرى. نعم، إذا أجبره على الثلاث، فطلق واحدةً، فهذا فيه من الاحتمال ما فيه إذا أجبره على تطليق نسوةٍ، فطلّق واحدةً. 9103 - ثم قال الأئمة: الهازل بالطلاق يقع طلاقه، وهو الذي يقصد اللفظ دون المعنى، وليس هو الذي يقصد طلاقاً عن وِثاقٍ، فمطلَقُ اللفظ من الهازل يوقع الطلاق ظاهراً وباطناً، ولا يُلحقه بالذي ينوي طلاقاً عن وثاق، فإن نواه في هَزلِه باللفظ دُيّن، فإن الجادَّ يُدَيّن، فالهازل في معنى الجادِّ. 9104 - وأما اللاغي، فلا يقع طلاقه، وهو الذي يبدُر منه لفظ الطلاق من غير قصدٍ، فلا يقع طلاقه. وهذا في تصويره فقهٌ؛ فإن الرجل إذا سمعناه يتلفظ بالطلاق، ثم ادّعى أنه كان لاغياً، فقد لا يُقبل ذلك منه ظاهراً وإن كان مقبولاً باطناًً لو كان صادقاً، فصوّر الأصحاب اللّغوَ على [نيته] (1) فقالوا: إذا كان اسم زوجته طاهرة، فقال: يا طالقة، وذكر أن هذا سبق إلى لسانه، وانقلب لسانه في بعض حروف اسمها، فقرينة الحال قد تصدّقه، فقال الأصحاب: إن ادعى اللّغوَ والحالة هذه، صُدِّق. ولو اقترن بقوله: أنت طالق حَلُّ وِثاق، ثم زعم أنّه أراد بالطلاق أنها محلولة الوثاق، ففي [قبول] (2) ذلك وجهان، والسبب فيه أن لفظ الطلاق مستنكر مع هذه الحالة، فإن العاقد لا يختار إطلاق هذا اللفظ، والمسألة مفروضة في اختيار اللفظ، فأما التفات اللسان في حرفٍ مع ظهور القرينة، فلا وجه إلا القطع بقبوله. ووصل أصحابنا بهذا أن امرأته لو كان اسمها طالقة فقال: يا طالقة، وهو يقصد نداءها، لم يقع الطلاق، وكذلك لو كان اسم العبد حرّاً، فقال مولاه يا حرّ، وقصد النداء، لم يُقضَ بوقوع العَتاق، ولو قصد الطلاق، وقع الطلاق، ولو أطلق اللفظ ولا يقصد نداءً ولا إنشاءَ طلاق.

_ (1) مكان كلمة تعذرت قراءتها (انظر صورتها). (2) في الأصل: قبوله.

فحاصل ما ذكره الأصحاب في العَتاق والطلاق وجهان، والمسألة محتملة جداً شديدة الشبه بما إذا قال: أنت طالق طالق طالق، ولم يقصد تجديداً ولا تأكيداً. والإكراه على تعليق الطلاق يمنع انعقادَه، [كالإكراه] (1) على تنجيزه، وكذلك الإكراه على الأيْمان والنذور، والبيع والهبة، والأجارة، والنكاح، والعقود، [جُمَع] (2) وكان شيخي يقول: الهازل بالبيع فيه احتمال: يجوز أن يقال: هو كالجادّ، وكالهازل بالطلاق والعتاق، ويجوز أن يقال: لا ينفذ البيع من الهازل به؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدّهن جدٌ وهزلهنَّ جدٌّ: الطلاق والعَتاق والنكاح"31) وموجب الحديث التحاق النكاح بالطلاق. وفيه إشكال؛ فإنه في معنى البيع؛ من حيث إنه لا يعلّق، ولا يصح باللفظ الفاسد، ولا يَشيع من الجزء إلى الكل، بخلاف الطلاق والعتاق. 9105 - وأما الإكراه على الردة، فإنه يسلب حكمَها؛ قال الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106]. ومن فقهائنا من يقول: يجب التلفظ بالردة لابتغاء الخلاص، كما يجب شرب الخمر عند الإكراه عليه، وهذا خطأ عندنا، فلو أصرّ الأسير على الدّين الحق، واستقتل، جاز ذلك، بل هو الأولى، وسنذكر جُملاً من هذا في كتاب الجراح، إن شاء الله. فإذا أكُره الحربيّ على الإسلام، فنطق بالشهادتين تحت السيف، حكم بكونه

_ (1) في الأصل: فالإكراه على تنجيزه. (2) في الأصل: مجمع. (3) الحديث رواه الطبراني في الكبير: 18/ 304 ح 780، ورواه أبو داود: كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل، ح 2194، والترمذي: كتاب الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، ح 1184، وابن ماجة: كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعباً، ح 2039، والدارقطني: 4/ 18، والحاكم في المستدرك: 2/ 197، 198، رووه جميعاًً بلفظ (الرجعة) بدل (العتاق) وقد صححه الحاكم وتعقبه الذهبي في أحد رجاله، ووافق الحاكم في تصحيحه صاحبُ الإلمام، وانتهى الحافظ ابن حجر إلى الحكم عليه بأنه (حسن) (ر. التلخيص: 4/ 423 ح 1737).

مسلماً؛ فإن هذا إكراه بحق، فلم يغير الحكم، اتفقت الطرق على هذا، مع ما فيه من الغموض من طريق المعنى، فإن كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عن الضّمير منزلة الإقرار، والظاهرُ من المحمول عليها بالسيف أنه كاذب في إخباره. ولو أكَره ذميّاً على الإسلام، فأسلم فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنا هل نحكم بإسلامه؟ والمصير إلى الحكم بإسلامه بعيد، مع أن إكراهه عليه غير سائغ، فلئن [استدّ] (1) ما ذكرناه في إكراه الحربيّ من جهة أنه إكراه بحقٍ، فلا ثبات لهذا المسلك والمكرَهُ ذميٌّ والإكراه ممنوع. 9106 - ومما نلحقه بهذا الأصل [أنّا ذكرنا] (2) قولين في الإكراه على الصفة الّتي علّق العتق بها، مثل أن يقول الزوج: إن دخلتُ الدار، فأنتِ طالق، فإذا أكره على الدخول ففي وقوع الطلاق قولان، والفرق بين الإكراه على صفة الطلاق وبين الإكراه على تنجيز الطلاق أو تعليقه أنا نبطل اختيار المكرَه في التنجيز والتعليقِ بالإكراه المقترن به، وهذا لا يتحقق في الصفة؛ فإن قول القائل: إن دخلتُ الدار متناول لما ينطلق عليه اسم الدخول سواء كان على صفة الاختيار، أو على صفة الإجبار، فكان الحكم بوقوع الطلاق مأخوذاً من تناول العقد لطَوْرَي الإكراه [والاختيار] (3)، وعقدُ اليمين على ما يوجد من المكره ممكن، فإنه لو قال في اختياره: إن دخلتُ الدار مكرهاً، فأنت طالق، فأجبر على الدخول فدخل، وقع الطلاق وفاقاً. وقد نجز ما أردناه في هذا الفن. 9107 - وبقي من الفصل الكلامُ فيما يكون إكراهاً، وفيما لا يكون إكراهاً، وهذا غائصٌ عويص، قلّ اعتناء الفقهاء به، ونحن نرى أن ننقل فيه ما بلغنا، ثم ننعطف عليه، ونتصرّف فيه بترتيب المباحثات. أما العراقيون، فقد ذكروا فيما يكون إكراهاً على الطلاق أوجهاً: أحدها - أنه

_ (1) في الأصل: "استمرّ". وهذه اللفظة تصحفت كثيراً كثيراً على بعض النساخ - و (استدّ) أي استقام. وهي المناسبة للسياق. (2) في الأصل: ما ذكرنا. (3) في الأصل: والإجبار.

التخويف بالقتل مع غلبة الظن بوقوعه لو لم يساعِف المجبَر. والثاني - أن الإكراه هو التخويف بالقتل أو القطع. والوجه الثالث - أنه التخويف بالقتل أو القطع أو إتلاف المال، وكل ما يصعب احتماله، ويعدّ في العرف من أسباب الإلجاء. ثم قالوا: ويختلف ذلك بأحوال ذوي المروءات. فهذا منتهى كلامهم. ونقل (1) القاضي رضي الله عنه عن القفال طريقةً في حدّ الإكراه، وارتضى لنفسه مسلكاً، وحكى عن العراقيين مسلكاً: أما ما حكاه عن القفال، فهو أنه قال: الإكراه أن يخوّفه بعقوبة تنال بدنَه عاجلاً، لا طاقة له بها، فلو قال: إن قتلتَ فلاناً وإلا قتلتُك، أو إن لم تقتله، لأقطعنّ طرفاً من أطرافك، أو لأضربنّك بالسياط أو لأجوّعنّك، أو لأعطشنّك، أو أخلِّدُ الحبسَ عليك، فهذا كله إكراه. فإن قال: أفعل بك هذه الأشياء غداً، لم يكن إكراهاً. وإن قال: لأتلفَنَّ مالك، أو لأقتلنَّ ولدك، لم يكن إكراهاً؛ لأنّ هذه عقوبةٌ لا تنال بدنه. وقال: إن قال: لأصفعنّك في السوق، والمحمول من ذوي المروءات، فليس هذا بإكراه، فإن احتمال هذا يصعب على أصحاب [المروءات] (2)، والمتمسكون بالدّين ربما يؤثرون المشي مع الحفاء وتحسر الرأس (3). هذا ما حكاه عن شيخه القفال. وقال رضي الله عنه: الإكراه عندي أن يخوّفه بعقوبة لو نالها من بدنه مبتدئاً،

_ (1) يعرض هنا لرأي الخراسانيين (المراوزة) بعد أن انتهى من كلام العراقيين. (2) في الأصل: الرعونات. (3) يضرب هذا مثلاً لما يمكن أن يعاقب به ويكره به: الحفاء وتحسّر الرأس. وكأن المعنى: أن المتمسكين بالدين يتحملون أمثال هذا، ويؤثرونه على الخضوع والاستجابة للمكرِه المجيز.

لوجب عليه القصاص، فعلى هذا إذا خوفه بتخليد السجن، لم يكن إكراهاً إلا أن يخوّفه بالتخليد في قعر بيتٍ يغلب الموت من الحبس فيه. قال: وقال العراقيون: إنْ قال له: إن قتلتَ فلاناً وإلا قتلتك، أوقطعتُ طرفَك، كان إكراهاً، ولو قال: إن قتلته، وإلا أتلفت مالك، لم يكن إكراهاً، وإن قال: إن أتلفتَ مال فلان وإلا أتلفت مالك، يكون هذا إكراهاً. قال القاضي: الإكراه لا يختلف باختلاف المحالّ، فلا فرق بين أن يكون المطلوب من المكره قتلاً، أو طلاقاً، أو عِتاقاً، أو بيعاً، أو [عُقدة] (1) من العقود. وفي بعض التصانيف: اختلف أصحابنا في صفة المكرَه: منهم من قال: إذا توعده بما لا تحتمله نفسه، والغالب أنه يحقق ما توعّد به، فهذا إكراه، ومنهم من قال: يختلف ذلك باختلاف عادة الناس، فالشريف إذا خُوّف بالصفعة الواحدة على ملأ من الأشهاد، فهو إكراه في حقه، وفي هذا الكتاب (2): وإن خُوف بإتلاف المال والولد، فهل يكون إكراهاً؟ فعلى وجهين. وكان شيخنا أبو محمّد يقطع جوابه بأن الإكراه يختلف باختلاف المطلوب، والإكراهُ على الطلاق دون الإكراه على القتل، ثم كان يختار أنّ الرجوع فيما يكون إكراهاً إلى ما يؤثر العقلاءُ الطلاقَ عليه، وهذا يجري في الحبس الطويل، والضربِ المبرّح، والنقصِ الظاهر من المروءة. فهذا مجموع ما ذكر في هذا الفصل. 9108 - ونحن نقول: إذا كان التخويف يتعلق بالروح، وذلك بأن يكون التخويف بالقتل، أو القطع الذي لو فرض وقدّر سريانه إلى الهلاك، لكان موجباً للقصاص، فهذا إكراهٌ في جميع المواضع، لا يجب أن يكون فيه خلاف، وإن ردّد العراقيون فيما حكيته جوابهم في التخويف بقطع الطرف.

_ (1) في الأصل: عنده. (2) هذا الكتاب: يعني به (بعض التصانيف) المشار إليه آنفاً، وصاحبه هو الإمام أبو القاسم الفوراني.

وإذا كان التخويف بضربٍ لو فُرض وقوعُهُ، لكان من موجبات القصاص إذا أفضى إلى التلف، فهو بمثابة التخويف بقطع الطرف، وهذا جارٍ في كل محل، يخالف فيه من يخالف في التخويف بقطع الطرف إلا أن يكون التخويف بضرب لا يتصوّر البقاء معه، فيكون بمثابة التخويف بالقتل. فأما إذا كان التخويف بتخليد الحبس، أو إتلاف المال، أو قتل الولد، فهاهنا موقف يجب التنبه له: ذهب ذاهبون إلى أن المرعي في هذا المقام أن يكون المطلوب من المجبَر أقلَّ في نفسه ممَّا خُوّف به، وبنَوْا عليه أنه إذا كان كذلك، فإنه سيؤثر الطلاق في غالب الأمر، فيكون محمولاً على اختيار الطلاق، ومن كان محمولاً على اختياره، سقط اختيارُه؛ فإن الاختيار الحقيقي هو الذي لا يكون المرء محمولاً عليه. وإن كان المطلوب منه أكبرَ في النفوس مما يخوَّف به، فلا يتحقق الإكراه حينئذٍ، وهذا المسلك يوجب الفرق بين المطلوب والمطلوب، فإن كان المطلوب قتلاً؛ فإن احتمال الحبس على انتظار الفرج [هو] (1) أهون من الإقدام على قتل مسلم. وإن كان المطلوب الطلاق والعتاق، لم يهن احتمال الحبس، وهذا يرجع إلى الجبلّة، وليس من أوزان الفقه وتصرفه في الفرق بين الخطير وما دونه، بل لا تحتمل النفس الحبس والمطلوبُ الطلاق، فيصير محمولاً على اختيار الطلاق، وليس الأمر كذلك في القتل. وعليه يخرّج الفرق بين المناصب والمراتب، والنظر إلى ذوي المروءات، وسرّ هذا المسلك ردّ الأمر إلى كون الإنسان محمولاً على اختيار ما يطلب منه. فقد لاح أن هذا السبيل يوجب الفرق بين المطلوب والمطلوب، وبين المطالَب والمطالَب. 9109 - والطريق مبهمٌ بعدُ [وسنذكر] (2) فيه الممكن من التفصيل بعد تمام البيان في التقعيد والتأصيل.

_ (1) في الأصل: وهو. (2) في الأصل: سنذكر (بدون وأو).

ومسلك المحققين أن الإكراه هو الذي يسلب الطاقة والإطاقة، ولا يُبقي في غالب الأمر للمرء خِيَرَة التقديم والتأخير، حتى يصير كأنه لا اختيار له، والمخوّف بالقتل والقطع كذلك، [فلا يقع] (1) المطلوب منه لنظره وتخيره (2). فأما الذي يؤثر الطلاق على الحبس، فإنما هو مفضّلٌ حالةً على حالة، ومرتاد عيشة على عيشةٍ، واختياره صحيح، فلا يتحقق الإكراه والحالة هذه. والذي فرضه الأولون من الموازنات، والنظر في الأقدار مسلكٌ من مسلك الرأي والاستصواب، فقد يُرهق الزمانُ المرءَ إلى أمثاله، فيستصوب له أن يطلّق أو يبيع، وليس هذا من الإكراه الحقيقيّ في شيء، فينحصر الإكراه على هذا المسلك فيما يكاد يُعدِم الاختيار، حتى لا يبقى إلا ما يؤثره من يفر من الأسد في وطء الأرض المشوكة، فقد يتخطاها الفارّ وهو لا يحس بوخز الشوك. وبين هذه الطريقة والطريقة الأولى تباين عظيم. ثم لا نفرّق فيه بين أن يكون الإكراه على إتلاف مالٍ قلّ أو كثر، أو على بيع مال، أو طلاق، أو قتلٍ، ولا يعترض على هذا إلا شيء واحد، وهو أنه لو خُوّف بإيلامٍ عظيم لا يصابَر، وإن لم يكن مما يقصد به القتل، فقد يحصل بمثل هذا قريبٌ من سلب الطاقة، وفيه نظر. وأنا أقول: التخويف به لا يكون إكراهاً، أما مفاتحته (3) بالإيلام، ففيه [الاختلاف] (4)، وليس هذا كالتخويف بالقتل؛ فإن وقوع الخوف أشد من وقوع هذا الإيلام. هذا بيان تأصيل الطريقين. 9110 - وعلينا بعد هذا أمران: أحدهما - التفصيل والآخر - الإشارة إلى العثرات: أما التفصيل، فتأصيل الطريقة الأخيرة بفصلها (5)، ولا يرد عليها إلا الألم

_ (1) في الأصل: ولا يقع. (2) المعنى لقطع نظره وتخيّره بالإكراه. (3) مفاتحته بالإيلام: المعنى بدء إيلامه. (4) في الأصل: الاحتلام. (5) بفصلها: أي كما هي عليه في بياننا وشرحنا لها.

المرهق الذي ذكرنا، ومسألةٌ أخرى وهي أن الأخرق لو خوّف، فما يحسبه مهلكاً ولم يكن كذلك، فقد ينتهي إلى سقوط الاختيار، وهذا يُخرَّج على ما إذا رأى سواداً ظنه عَدُوَّاً، فصلى صلاة الخوف، ثم لم يكن كما ظنّ. فأما الطريقة الأولى، فمن ضرورتها الفصل بين المطلوب والمطلوب، فالإكراه على القتل فوق الإكراه على الطلاق وإتلافه المال. ثم الإكراه على القتل يقع بالتخويف بالقتل لا غير في وجهٍ، أو بالتخويف بالقطع الذي يكون مثله عمداً في قتل النفس، فأما ما عداه، فلا يكون إكراهاً على القتل؛ فليس التخويف بإتلاف المال والولد إكراهاً على القتل. فأما الإكراه على الطلاق، فلا يشترط فيه القتل والقطع، ثم قال الأصحاب: يختلف الإكراه باختلاف درجة المكرَه، كما حكيناه. وذكروا خلافاً فيما يتعلق بغير بدن المطالَب: كالإكراه بإتلاف المال وقتل الولد ومن في معناه. فينتظم منه أن ما يتعلق ببدن المطالَب المكرَه، فإن كان عقوبةً وإيلاماً، أو حبساً يهون الطلاق في مقابلته، فهو إكراه، ثم الآلام تختلف بقوّة المكرَه وضعفه، فقد يحتمل القوي الضربَ العنيف، والضعيفُ لا يحتمله، فهذا مما يختلف باختلاف الأبدان لا محالة، وما يرجع إلى حط الجاه، والغضّ من المروءة كالصفع على رؤوس الأشهاد، وتكليف الإحفاء وتحسر الرأس في الأسواق، فهذا مختلف فيه: فمن أصحابنا من لا يراه إكراهاً، ومنهم من يراه إكراهاً في حق من يعظم وقعُه في حقه. هذا فيما يتعلق بالمُطالَب. فأما ما يتعلق بغيره، فهو التخويف بإتلاف المال، وقتل الولد، أو الوالد، فهذا فيه اختلاف: فمنهم من يجعله إكراهاً، ومنهم من لا يجعله إكراهاً، ففي كلام العراقيين ما يدل على أن التخويف بالمال في مقابلة المال إكراه، وليس التخويف بإتلاف المال في مقابلة الطلاق إكراهاً.

9111 - هذا مجموع ما ذكروه. وهو خارج عن الضبط؛ فإن [انتقاص] (1) المروءات والأقدار التي يصعب وقعها أو يهون احتمالها بالإضافة إلى الروح لا تنضبط، ويرجع الأمر فيه إلى النظر في آحاد الأشخاص؛ فإنهم على تفاوتٍ ظاهر، وإن كانوا [يُعدّون] (2) داخلين تحت نوع أو جنسٍ. وإذا جعلنا الإكراه بإتلاف المال إكراهاً، فالنظر ينتشر في هذا من [وجه] (3) أنا إن سوّينا بين القليل والكثير، كان ذلك مردوداً، فلا خطر في إتلاف الدرهم فما دونه، وإن نظرنا إلى نصاب السرقة، عارضه المقدار الذي تغلظ اليمين فيه، ثم هما جميعاً توقيفان، والذي نحن فيه معنى معقول، وهو الإلجاء الغالب المؤثر في توهين الاختيار، فإحالة هذا على التوقيفات محال، وأخذ هذا الأصل من جواز الدفع عن المال قلّ أو كثر بعيدٌ؛ فإن معنى الإلجاء يبطل بالكلّية، وإن رجعنا إلى عزة المال في النفوس وضِنّتِها بها، عارضه تخرّق الأسخياء، وهذا نَشَرٌ لا مطمع في ضمّه أصلاً، ولا ينقدح فيه إلا النظر إلى حال كل شخصٍ، ثم لا مطلع عليه إلا من جهته، والكلام يخرج عن ضبط الفقه، فيجب ردّ الإكراه إلى التخويف بالقتل، أو التخويف بما يؤدي إلى القتل، كما ذكرناه. هذا منتهى التفريع. 9112 - فأما العثرات، فعَدُّ القفال الحبسَ إكراهاً على القتل عثرةٌ، ولا سبيل إلى اعتقادها؛ فإن الحبس لا يسلب الاختيار، وهو في مقابلة القتل قليلٌ في كل مسلك، والجمع بين سقوط الطاقة وبين المصير إلى أن الحبس إكراهٌ هفوةٌ. والقطع بأن التخويف بقتل الولد ليس بإكراه والحبس إكراهٌ هفوةٌ. وقد انتهى الغرض على أكمل وجه في البيان.

_ (1) مزيدة من المحقق لاستقامة الكلام، ولعلها سدّت مكان خرم أكثر من هذا. (2) في الأصل: يغدون. (3) في الأصل: من أوجه.

فصل قال: "ومغلوب على عقله خلا السّكران ... إلى آخره" (1). 9113 - أما المغلوب على عقله بالنوم، أو الجنون، أو الإغماء، فلا يقع طلاقه، وأما السّكران، وهو مقصود الفصل، فنتكلم في حكمه، ثم نتعرض لبيان السكر، فنقول: طلاق السّكران واقع في ظاهر المذهب، ولا يُلفى للشافعي نصّ في أنه لا يقع طلاقه، ولكن نصّ في القديم على قولين في ظهاره، فمن أصحابنا من نقل من الظهار قولاً إلى الطلاق، وخرّج المسألتين على قولين. ومعظم العلماء صائرون إلى وقوع طلاق السكران، وذهب عثمان وابن عباس وأبو يوسف (2) والمزني وابن سُريج في أتباعٍ لهم إلى أن طلاق السكران لا يقع. وأما سائر تصرفات السكران، فللأصحاب فيها طرق: منهم من قال: في جميعها قولان: أحدهما - حكمه فيها حكم الصاحي. والقول الثاني - حكمه فيها حكم المجنون. والقولان مُجْريان في أقواله وأفعاله فيما له وعليه. ومن أصحابنا من قال: ما عليه ينفذ، وفيما له قولان. ومنهم من قال: أفعاله كأفعال الصاحي، وفي أقواله قولان؛ وهذا لمكان قوة الأفعال. هذه مسالك الأصحاب، وأشهرُها طرد القولين في الجميع، ولا خلاف أنه مأمور بقضاء الصلوات التي تمرّ عليه مواقيتها في حالة السّكر، وإن كان السكر بمثابة الإغماء، على معنى أنه لا يتصور إزالته بالتنبيه، كما يُزال النّوم به.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 81. وتمام العبارة في المختصر: "وكل مكرهٍ ومغلوب على عقله فلا يلحقه الطلاق خلا السكران من خمر أو نبيذ". (2) لم نجد في كتب الأحناف من نسب إلى أبي يوسف القول بعدم وقوع طلاق السكران، ولكنهم ينتقلون إلى الكرخي، والطحاوي وينسبون القول بعدم الوقوع إليهما (ر. بدائع الصنائع: 3/ 99، حاشية ابن عابدين: 2/ 424، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 431 مسألة 941).

وكان شيخي يقول: من أُوجر (1) خمراً، وانتهى إلى السكر الطافح، فمرت عليه مواقيت صلوات، لم يلزمه قضاؤها، كالمغمى عليه. وتردد الأصحاب في أنا إذا جعلنا السّكران كالصاحي، فهل نجعل صورة السكر حَدَثاً ناقضاً للطهارة؛ فإنه على صورة الإغماء، وقد قدّمنا هذا في كتاب الطهارة. فهذا قولنا في أحكام السكران. وقد قال الشافعي: إذا ارتد السكران، ثبت حكم الردة، ولكنّه لا يستتاب حتى يُفيق، وعن هذا النص نشأ للأصحاب الفرق بين ما له وعليه، والأَوْلى حمل ذلك على رعاية [مصلحته] (2)، وإلا فالإسلام يصح ممن تصحّ منه الردة. 9114 - فأما حدّ السكر، فقد نقل عن الشافعي أنه قال: إذا اختلط كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم، فهو سكران. وقال قائلون: إذا أخذ يهذي في الكلام ويتمايل في المشي، فقد انتهى إلى السكر. وقال بعض الأصحاب: السكران من لا يعلم ما يقول، وهذا يعتضد بظاهر قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]. وهذه العبارات متقاربة، ولكنها ليست على الحدّ الذي أرتضيه في البيان، فأوّل السكر لا يسلب الكلامَ، ولا يُنهي السكران إلى الهذيان الذي يصدر مثله من النائم، ولكن السكران هو الذي يكون في كلامه وخطابه وجوابه وما يقوله ويفعله كالمجنون، وللمجنون مَيْزٌ وفهم، وهو يبني عليه الجوابَ والإصغاء وفهم الخطاب، فإذا انتهى السكران إلى مثل حاله، فهو في حد السكر. ثم قد ينظم المجنون كلاماً وقد يخبطه، ولا تخفى تاراته في نظمه وخَبْطه، والمعنىُّ بكلام الشافعي إذا اختلط كلامه المنظوم أن يتطرق إلى كلامه الاختلاطُ الذي يتطرق إلى كلام المجانين.

_ (1) أُوجر: من أوجرت المريض إذا صببت الدواء في حلقه (المصباح). (2) في الأصل: مصلحةٍ.

ومن قال: السكران من يهذي ويتمايل، فالذي جاء به لا بيان فيه، والتمايل لا معنى له. ومن قال: السكران من لا يعلم ما يقول، فعليه مراجعةٌ، لما ذكرنا من أن أصل العلم لا يمكن سلبُه من البهائم، فضلاً عن السكارى والمجانين، ومن أراد الإحاطة بهذا على التحقيق، فليجدّد عَهْده بمجموعاتنا (1) في حقيقة العقل، ثم ليَبْنِ عليه أن السكران من لا يتصف بالعقل، وإن نجّزنا طرفاً منه: فمن لا عقل له، [لا يتصوّر] (2) منه النظر العقلي، وإن ذكر من مباديه شيئاً، فهو عبارات الفقهاء، ولا يخفى عروُّه عن حقيقتها. 9115 - فإذا دبّت الخمرة (3)، انتشى الشارب وعَرتْه طَرِبَةٌ وهِزّةٌ، وهذا قد يَحُدّ (4) العقل، فليس من السكر (5). وبعد ذلك ما (6) وصفناه من السكر، مع بقاء أفعال وأقوال. ومنتهى (7) السكر الاتصاف بصفة المغشي عليه.

_ (1) بمجموعاتنا في حقيقة العقل: المراد مؤلفاتنا، ومباحثنا في حقيقة العقل، وللإمام كتاب بعنوان (مدارك العقول) لما نصل إليه بعدُ. وقد أشبع قضية العقل والعلم بحثاً في كتابه الفذّ (البرهان في أصول الفقه) في الفقرات من 36 إلى 69. وكان من نعم الله علينا أن هيأ لنا إخراج هذا الكتاب لأول مرة، بعد أن ظل مخطوطاً قروناً طويلة يُسمع به ولا يرى، فلله الحمد والمنة. (2) في الأصل: "ولا يتصوّر" (بزيادة الواو). (3) أول صور السكر عند الإمام. (4) يحدُّ العقل: من باب قتل. وهي هنا من معنى حدَّ السيفَ: إذا شحذه. كذا فسر الرافعيُّ كلام الإمام (الشرح الكبير: 8/ 566). والمعنى أن الخمر في أول أمرها قد تشحذ العقل، قبل أن تغيبه وتذهبَ به، وهذه أول مرحلة من مراحل السكر الثلاث - عند الإمام. (5) فليس من السكر: أي هذه الحالة الأولى من حالات السكر ومراحله، وهي لا تحسب في أحكام السكران. (6) هذه الحالة الثانية أو المرحلة الثانية من مراحل السكر. (7) وهذه هي الحالة الثالثة، أو المرحلة الثالثة.

ثم في هذا نظر. فإن انتهى إلى حالة الإغماء وسقوط الاختيار بالكلية، فالوجه القطع بإلحاقه بالمغمى عليه، حتى إذا بدرت منه كلمة الطلاق بُدورَها من النائم الهاذي، فلا حكم لها، وكذلك القول في أفعاله، فهي منزّلة منزلة ما يصدر من المغشي عليه. وإنما التردد والكلامُ فيه إذا كان السكران على [مضاهاة] (1) المجانين. وأبعدَ بعض أصحابنا فألحق ما يصدر من ذي السكر الطافح بما يصدر منه، وهو يفعل ويقول ويتردد، وهذا إنما أخذه من إيجابنا عليه قضاء الصلوات وإن انتهى السكر إلى رتبة الإغماء (2). ثم الفقه في الصّلاة يستدعي الإشارة إلى مسائل قدمناها في كتاب الصلاة، منها:

_ (1) في الأصل: مضادّة. والمثبت تصرّفٌ من المحقق على ضوء السياق. (2) لخص الإمام الرافعي هذا الفصل -في حدّ السكر- من كلام الإمام تلخيصاً حسناً، وليس في عرضنا لهذا التلخيص والترتيب من كلام الرافعي خروج على المنهج الذي نراه وندعو إليه، وألزمنا به أنفسنا، وأعني به عدمَ إثقال الكتاب المحقق بالتعليقات التي لا تخرج عن كونها شرحاً، أو تلخيصاً، أو إعادة صياغة، وإنما هو من صلب منهجنا حيث يدخل في (إضاءة النص) والإعانة على فهمه، فقد جاء كلام الإمام عن حدّ السكر متداخلاً يصعب ضبطه، وهذا ما سوّغ لنا أن نورد تلخيص الرافعي، وهذا نصه: "ولم يرضَ الإمام عبارات الأصحاب، وقال: شارب الخمر تعتريه ثلاثة أحوال: إحداها - هزة ونشاط يأخذه إذا دبت الخمر فيه، ولم تستول عليه بعد، ولا يزول العقل في هذه الحالة، وربّما يحتد. والثانية - نهاية السكر، وهو أن يصير طافحاً، ويسقط كالمغشي عليه، لا يتكلم، ولا يكاد يتحرك. والثالثة - حالة متوسطة بينهما، وهي أن تختلط أحواله، فلا تنتظم أقواله وأفعاله، ويبقى تمييزٌ وفهم كلام. فهذه الحالة الثالثة سكرٌ، وفي نفوذ الطلاق فيها الخلاف الذي بيناه. وأما في الحالة الأولى، فينفذ طلاقه لا محالة؛ لبقاء العقل، وانتظام القصد والكلام. أما في الثانية، فالأظهر عند الإمام، وهو المذكور في الوجيز أنه لا ينفذ؛ لأنه لا قصد له، كأنه جرى على لسانه لفظ، فهو كما يفرض في حق النائم، والمغمى عليه، ومن الأصحاب من جعله على الخلاف المذكور لتعدّيه بالتسبب إلى هذه الحالة، وهذا أوفق لإطلاق أكثرهم، والله أعلم" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 8/ 566).

أنّ من ردّى نفسه من شاهقٍ، فانخلعت قدماه، وصلّى قاعداً، فإذا [استبلّ] (1) وبرأ، فالأصح أنه لا يلزمه قضاء الصلوات التي أقامها قاعداً؛ من جهة أن الرخص والتخفيفات وإن كانت لا تثبت للعصاة، فالمعصية قد انقضت بالتَّرْدية، ودوامُ العجز كان بعد انقضائها. ومن أصحابنا من أوجب القضاء تغليظاً على الذي عصى بترْدية نفسه. وإذا عاطت (2) المرأة فأَجْهَضَتْ جنيناً، ونُفِست، فالمذهب القطع بأنها لا تقضي الصلوات التي تمر مواقيتها في النفاس، وفيه خلاف. ثم من يُلزم القضاء في الضروب التي أشرنا إليها يستدل بالسّكران؛ فإن الشّرب هو الذي يتعلق الاختيار به كترْدية النفس، وكالسعي في الاستجهاض، والسكر لا يقع مختاراً. وفصل المحققون بين السكر وبين الصّنوف التي قدمناها بأن قالوا: مطلوبُ من يشرب السُّكر، وإلا فالسَّكر في نفسه والمشروب مرٌّ بشعٌ، وليس مطلوباً، ومبنى الشرع على التغليظ على من يبغي ما لا يجوز ابتغاؤه، فلما كان السُّكر شوْفَ النفس، التحق عند حصوله بمعصية مختارة، وانخلاع القدم، واسترخاء النفاس ليس مطلوبَ

_ (1) في الأصل: "استقلّ"، وهو تحريف والتصويب من المحقق على ضوء أسلوب الإمام، واستخدامه هذا اللفظ في هذا المعنى دائماً و "استبلّ" أي شُفي وعادت إليه عافيته. (2) عاطت المرأة: لم تحمل سنوات من غير عقم، وقيل: إن ذلك بسبب سمنها وشحمها (اللسان، والمعجم، والقاموس). ثم هي في الأصل غاطت (بالغين المعجمة) ومع ذلك فالكلمة (عاطت) غير مستقيمة في سياقها؛ إذ المعنى أن المرأة تفعل فعلاً تتسبب به إلى الإجهاض وإلقاء جنينها، وهذا لا تؤديه (عاطت). ولما أصل بعدُ إلى اللفظة التي يظن أن هذه حرفت عنها، مع تقليبها على جميع صورها الممكنة. والله أعلم. الآن والكتاب ماثل للطبع حصلنا على صورة من هذا الجزء من (صفوة الذهب) ووجدنا الكلمة فيها واضحة وهي: "وإذا (عالجت) المرأةُ؛ فأَجْهَضَت" والمعنى إذا تسببت في الإجهاض وتعاطت أسبابه من شراب أو طعامٍ، أو فعلٍ. (فانظر واعجب كيف تصحفت الكلمة (عالجت) إلى (غاطت)!!!.

النفوس، ثم السُّكر في عينه تركٌ للصلاة، أو سببٌ خاصٌّ فيه، فلم يُسقط قضاءَ الصلاة قولاً واحداً. وأما الحكم بوقوع الطلاق، فمما يقع متفرعاً على السكر، وقد لا يتفرع، وكأن التردد فيه وفي أمثاله لما نبهنا عليه، والسُّكر بالإضافة إلى الصلاة عينُ الترك، أو سببٌ خاصّ في الترك. 9116 - ومن تعاطى شيئاً يزيل العقل من غير حاجة عصى ربّه، ثم قال الأصحاب: حكمه إذ اختلط عقله كحكم السكران. والذي أراه فيه أنه لا يُلحق بالسَّكران، والتحقيق فيه أن هذا النوع من زوال العقل إذا لم يكن مقصوداً، فهو عندنا في حكم الصّلاة كانخلاع القدم في حق من يردّي نفسه، وكالنفاس في حق المستجهضة. وإذا كان الفقه المحض يقتضي إسقاط قضاء الصّلاة مع خلافٍ فيه، فالقطع بإلحاقه بالسكران لا وجه له، وكذلك إذا تسبب فجنّن نفسَه، ففي الأصحاب من ألحقه بالسكارى. وهذا غفلةٌ عن المعنى الذي نبهنا عليه. ولما أراد المزنيّ نصرة مذهبه في أن طلاق السّكران لا يقع، احتج بالذي جنّن نفسه، ولم ير أنه يخالَف في وقوع طلاقه، وللأصحاب فيه التردد الذي حكيناه، وفي كلام القاضي ما يدل على القطع بإلحاقه بالسكارى، وهذا فيه خلل ظاهر لما نبَّهت عليه. ولم يختلف أصحابنا في أنّ من أُوجر خمراً، فسكر، وطلّق، لم يقع طلاقه. ومن تداوى ببَنْجٍ (1)، أو غيره، فزال عقله، لم يقع طلاقه. وإذا حرّمنا التداوي بالخمر، فالمتداوي بها عاصٍ بشربها، ولا يخفى الحكم وراء ذلك. ...

_ (1) ببَنْجٍ: البَنْج: مثال فلس، نبت له حب يخلِط بالعقل (المصباح).

باب الطلاق بالحساب

باب الطلاق بالحساب قال الشافعي: "ولو قال لها: أنت طالق واحدة في اثنتين ... إلى آخره" (1). 9117 - إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق واحدة في اثنتين، فإن قال: نويت واحدةً مع اثنتين -والمرأة مدخول بها- وقعت الثلاث، لأن ما قاله محتمل، ونحن نوقع الطلاق بأدنى احتمال يبديه، وإن كنّا لا ندفع الطلاق بمثله، وكلمةُ (في) قد تستعمل بمعنى (مع) قال الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} [الأعراف: 38] أي (مع) أمم. وإن أراد جعل الطلقتين ظرفاً، ورأى الواقع واحداً هو المقصود بالوقوع، فهذا مقبول منه؛ فإن (في) معناه الظاهر إفادة الظرف، والإشعار به، ثم الذي في الظرف يخالف الظرف. وإن أراد به الحساب -وكان عالماً به- حُمل لفظه على الحساب، ووقع ثنتان. وإن أطلق لفظه، وزعم أنه لم يرد شيئاً، فقد ذكر القاضي وغيرُه من المحققين قولين: أحدهما - أنه محمول على الحساب، فيقع ثنتان. والثاني - أنه لا يقع إلا واحدة؛ لأنه يحتمل الحساب، ويحتمل الظرف، ولا مزيد على المستيقن، وهو طلقة واحدة، وما زاد مشكوك فيه، وقرّبوا هذين القولين من قول الزوج لامرأته المدخول بها: أنت طالق طالق طالق، إذا زعم أنه أطلق لفظه، ولم يَعْنِ تأكيداً ولا تجريداً.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 81.

وهذا في عالمٍ بعبارة الحساب يزعم أنه أطلق لفظه، ولم يخطُر (1) له معنى. وفي بعض التصانيف ذِكْرُ قول ثالث، وهو أنه يقع ثلاث طلقات وذكره شيخنا، وهو بعيدٌ، ووجهه على بعده أنه يعرض لثلاث طلقات مع صلةٍ والأصلُ وقوع العدد الذي تلفظ به. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان عالماً بمراد الحُسّاب بمثل هذه اللفظة. 9118 - فإن كان جاهلاً بمراد الحُسّاب، وقد أطلق اللفظ، فالذي قطع به المحققون أنه لا يقع إلا واحدة إذا زعم أنه لم يكن له قصد. وينقدح عندنا خروج القول الذي حكيناه عن بعض التصانيف في إيقاع الثلاث، نظراً إلى التلفظ بها، ولكنني لست أثق بهذا القول. ولو قال مُطلِق هذا اللفظ -وهو جاهل بالحساب وعبارةِ أهله-: أردت بهذا اللفظ ما يعنيه الحُسّاب، ولست عالماً به، ففيما يقع والأمر كذلك وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقع ما يقتضيه الحساب، فإنه قصد الطلاق، وربط العدد بمقصودهم، فيقع الطلاق ويراجع الحُسّاب في مقصودهم، وهو كما لو قال: إن كان الطائر غراباً، فامرأته طالق، فليس هو على علم بموقع الطلاق في الحال، ولكن إذا تبينا تحقق الصفة، حكمنا بوقوع الطلاق تبيّناً. والوجه الثاني - أنه لا يقع إلا واحدة؛ فإنه لم يفهم معنى اللفظ، والنياتُ لا تثبت على الإبهام، وإنما تثبت على التحقيق والتفصيل، ولا خلاف أن الأعجمي إذا نطق بالطلاق بلغة العرب، ونوى معناه عند أهله، ولم يفهمه عند إطلاق اللفظ، ثم وضح له معناه، لم يقع الطلاق باتفاق الأصحاب، وليس هذا كما لو علّق الطلاق على صفةٍ هو جاهل [بها] (2) فإن قصده إلى الطلاق ثابت ومتعلّقه مشكل، فيبحث عنه، ومعظم التعليقات كذلك تقع. ويخرّج عندنا على هذا الخلاف أن يقول القائل: طلقت فلانة مثل ما طلق فلان

_ (1) من بابي: ضرب وقعد. (2) مزيدة من المحقق.

زوجته، وكان لا يدري أنه طلق زوجته واحدة أو أكثر، فيقع الواحدة، وفي الزيادة الخلافُ الذي ذكرناه. 9119 - وهذا أصلٌ، فلتسند إليه مسائله، وحاصله أن من لفظ ولم يدر أصلَ معنى الطلاق، ثم بُيّن له أنّ معناه الطلاق، فلا خلاف أنه لا يقع الطلاق، وإن علق الطلاق على مبهمٍ تعّلق به. وإن قصد أصلَ الطلاق، وأبهم فيما زعم قصدَه في العدد وأحالَه على قول الغير، فهذا موضع التردد. 9120 - ثم قال الشافعي: "ولو قال: أنت طالق واحدة لا تقع [عليك] (1) فهي واحدة تقع" (2). والأمر على ما ذَكَر، فإنه أتى بالطلاق، ثم أتى بما يدفعه على وجهٍ لا ينظم ذو الجدّ مثلَه، فكان بمثابة ما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاًً، وسنعيد هذا في أصل الاستثناء، ونجمع من هذا الجنس محلّ الوفاق والخلاف. فصل قال: "وإن قال: واحدة قبلها واحدة، كانت طلقتين ... إلى آخره" (3). 9121 - إذا قال لامرأته التي دخل بها: أنت طالق وطالق، طلقت طلقتين على الترتب، فيلحقها واحدة بقوله الأول، والثانيةُ بقوله الآخر. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاًً، فالمذهب المبتوت أن الثلاث تقع عند الفراغ من قوله: ثلاثاً. ومن أصحابنا من يقول: إذا فرغ عن قوله: ثلاثاًً، تبيّنا وقوعَ الثلاث بقوله: أنت طالق.

_ (1) زيادة من متن المختصر. (2) ر. المختصر: 4/ 82. (3) ر. المختصر: 4/ 82.

وهذا الخلاف مأخوذ [ممّا] (1) إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فماتت، ثم قال: ثلاثاً، فمن قال ثَمَّ: لا يقع شيء، فيقول في سلامة (2) الحال: يقع الثلاث عند قوله ثلاثاًً. ومن قال ثَمَّ: يقع الثلاث، يقول في سلامة الحال: يقع الثلاث بفراغه من قوله: أنت طالق. ومن قال ثَمَّ: إذا ماتت المرأة، وقعت طلقة بقوله: "طالق" في حياتها، فيلزمه على هذا المساق أن يقول: يقع طلقة بقوله طالق، ويتم الثلاث بقوله ثلاثاًً. هذا مسلكٌ لبعض الأصحاب، وهو ساقط عندنا؛ فالوجه القطع بأن الثلاث تقع مع الفراغ من الكلام؛ إذ لا خلاف أنه إذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاًً، طلقت ثلاثاً، ولو كانت تطلق واحدة بقوله أنت طالق، لبانت ثم لا يلحقها غير الواحدة. ومن لطيف الكلام في هذا أنه إذا أنشأ قولَه: أنت طالق، وعزم على أن يقول ثلاثاًً، فهذا ليس يطبِّق قصدَ الثلاث ونيّتَها على قوله طالق؛ فإنه بنى كلامه على أن يصرّح ويعوّل على ذكر الثلاث، فلا معنى للمصير إلى أنه في حكم من يقول: أنت طالق وينوي الثلاث، ولكن إن تمّ اللفظ واتَّسق على ما أراد، فالتعويل على اللفظ. والوجه القطع بوقوع الثلاث مع الفراغ من اللفظ، وإن طرأ ما يمنع نفوذ الطلاق كالموت في المخاطبة، فيثور الإشكال الآن؛ فإن تعطيل لفظه، وقد أتى بما يستقل ويفيد في حالة الحياة محال، فاضطرب رأي الأصحاب عند طريان ما وصفنا، فمن [طرد] (3) القياس الذي قدمنا صائر إلى أن بعض اللفظ إذا وقع بعد الموت، لغا كلُّه، وهذا وهم، والمصير إلى وقوع الثلاث وهمٌ، والأقرب ألا يعطَّل ويُكتفى بموجب اللفظ المصادف للحياة.

_ (1) في الأصل: فيما. (2) سلامة الحال: أي عدم موت الزوجة. (3) في الأصل: "طارد".

وينتظم من هذا أنه إذا أنشأ الطلاق على أن يفسّره، فالأمر فيه موقوف؛ فإن انتظم اللفظ من غير مانع، قطعنا بوقوع الكل مع آخر اللفظ، وإن طرأ مانع، فعند ذلك يضطرب الرأي، كما نبهنا عليه. 9122 - ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، فلا يلحقها إلا الطلقة الأولى. ولو قال: أنت طالق ثنتين، أو قال: أنت طالق ثلاثاًً، فيلحقها العدد المفسِّر إجماعاً. 9123 - ولو قال لامرأته التي دخل بها: أنت طالق طلقةً قبلها طلقةٌ، أو أنت طالق طلقةً بعد طلقةٍ، فيلحقها طلقتان؛ فإنه وإن رتّب لفظه وجاء بالطلقتين في صيغتين، فالمدخول بها تحتمل الطلقات المتتابعات. 9124 - ثم إذا لحقها طلقتان، فلا خلاف أنهما يقعان في زمانين؛ فإنه مصرّح بإيقاعهما كذلك، وذكر العراقيون وجهين في كيفية وقوع الطلقتين بهاتين الصيغتين بعد القطع بوقوعهما في زمانين: أحد الوجهين - أنه يتنجّز طلقةً، ويستبين وقوع طلقة قبلها. والثاني - أن المُوقَع المنجَّز يتنجّز ويعقبه طلقة أخرى. وقد ذكر القاضي الوجهين على هذا النسق. وهذا مضطرب عندي، فإنا ننظر إلى الطلاق المنجَّز، فإن قدّرنا وقوع طلقة قبله على معنى أنها تتقدم على لفظ المطلِّق، فهذا من المحالات؛ فإن الطلاق لا يتقدم وقوعه على لفظ المطلِّق، وإن نظرنا إلى الطلاق الموقَع، وقلنا: يقع [بعد] (1) طلاق آخر، فهذا أحد الوجهين الذي لا يفهم غيره في الإمكان والوقوع. ولكن يسوغ للقائل الأول أن يقول: إذا قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، فلا يقع ما في ضمن قوله: أنت طالق طلقة، حتى يقدُمه طلاق، وهذا الطلاق الذي يتقدّم يقع أيضاًً بعد اللفظ، وكأن المعنى: أنت طالق طلقة من قبلها طلقة تقع، فهذا يزيل الخبط والاضطراب، ويقطع توهم الغلط.

_ (1) في الأصل: "بعده طلاق" وهو مخالف للسياق.

فإذا انتظم الوجهان، فتمام المراد أنه لو أراد بقوله: قبلها طلقة إسناد الطلاق إلى ما قبل تلفّظه، فيكون ذلك بمثابة قوله: أنت طالق الشهر الماضي، وقد قدمنا ما فيه من الأقسام، ويعترض في أقسام تلك المسألة أنه لو أراد الإيقاع في زمانٍ مضى، فهل يُحكم بالوقوع؟ فعلى وجهين. وفي هذه المسألة إن أراد بقوله: قبلها طلقة ما ذكرناه، فالكلام كالكلام المقدّم في الشهر الماضي، وإنما قطع الأصحاب بوقوع الطلقتين من غير إعادة تلك الأقسام، لبنائهم المسألة على ترتيب الطلقتين بعد اللفظ، ولا ينتظم والمسألة هكذا إلا مع تأخير وقوع مضمون قوله: أنت طالق، فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه دقيق المُدرك. 9125 - ونعود بعده إلى إطلاق الوجهين، ونفرّع عليهما أمر التي لم يدخل الزوج بها. فإذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق طلقةً قبلها طلقة، أو قال: أنت طالق طلقة بعد طلقة، فكيف الوجه؟ لا خلاف أنه لا يلحقها طلقتان؛ فإن هاتين الطلقتين تقعان على المدخول بها في زمانين، ولا يتصور أن يلحق بها طلاقان في زمانين؛ فإنها تبين بأولهما، ولكن تلحقها طلقة واحدة أم لا يلحقها شيء؟ هذا محل النظر. قال القاضي: إن حكمنا بأن مضمون قوله: "طلقة" يقع، ثم يتبعه طلقة، فهذه يلحقها طلقة وهي الموقعة وتبين، ولا يلحقها ما بعدها. وإن قلنا: يتأخّر مضمون قوله طلقة ويقدُمها طلقة بقوله: "قبلها طلقة". قال القاضي: على هذا لا تطلق هذه أصلاً، واعتلَّ بأن قال: لمَّا قال لها: "أنت طالقة قبلها"، فحاصل كلامه: أنت طالق طلقةً مسبوقة بطلقةٍ، ولا يتصور في غير المدخول بها طلقة مسبوقة بطلقةٍ، وإذا لم يقع الطلقة المعيّنة بقوله: "أنت طالق طلقة" لا تقع الطلقة السابقة تقديراً؛ فإن الأُولى شرطها أن تكون قبل ثانيةٍ، وإذا عسرت الثانية، فالتي يقدرها سابقة لا يقال فيها قبلها، فعسُر إيقاع الطلقتين، ودارت المسألة. وهذا على نهاية الحسن واللطف. ثم في المسألة غائلة، وذلك أن القاضي قال: من ذهب مذهب ابن الحداد،

وصار إلى أن الدَّور يمنع وقوع الطلاق، فالجواب ما ذكرناه، من امتناع وقوع الطلاق على التي لم يدخل بها بالعبارة التي ذكرناها. ومن ذهب مذهب أبي زيد ولم يُدِر المسألة قال: تلحق المرأة طلقة واحدة، فإن القول بالدّور -على أصله- باطلٌ. 9126 - وهذا كلام مختلّ؛ من جهة أن صورة الدّور: أن يقول لامرأته: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبل تطليقي إياكِ ثلاثاً". فإذا نجّز تطليقها، لم يقع شيء على رأي ابن الحداد ومعظم الأصحاب، وسببه أنه لو وقع ما نجز، لوقع قبله ثلاثاًً، ولو وقعت الثلاث، لامتنع وقوع ما نجّز. ووجه قول أبي زيدٍ أن الشرط لا يقف على المشروط، بل المشروط يقف على الشرط، وما نجّزه شرط، فليقع، ثم ننظر في الجزاء وتيسره وتعسّره. والمسألة التي نحن فيها ليست من هذا القبيل؛ فإنه ليس في لفظ المطلِّق شرطٌ ولا جزاء، نعم، فيها صفة وموصوف، وارتباط على هذا الحكم؛ فإن كانت الطلقة المقدّمة المعنيّة [بقوله] (1) قبلها موصوفة بكونها سابقة، فلتقع لاحقة، وإن وقعت فردة، فليست سابقة، فهذا من باب تعذّر الصفة، ثم تتعذر المسبوقة تعذراً حقيقياً، إذ ليس من الممكن فرض طلقة مسبوقةٍ في التي لم يدخل بها إذا كان يوقعهما في قَرَن، فليس هذا مأخذ الدور، وإن كان يشابهه من طريق التعذر بالارتباط. ولو صحّ هذا، لقال أبو زيد: لا يلحقها طلقة، وإن كان الشرط المنجّز عنده يقع في مسألة الدَّور. 9127 - فالوجه وراء هذا أن نقول: إن أوقعنا مضمون قوله: أنت طالق أولاً، فهذه تلحقها طلقة، كما قدمنا، وإن رأينا في المدخول بها أن نوقع أولاً مضمون قوله قبلها، فيحتمل وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وتوجيهه الصفة والموصوف. ويحتمل - أن نقول: يقع طلقة؛ فإنه قصد توزيع طلقتين على زمانين، ولا يكون طلقة قط صِفة لطلقة، فعلى هذا يلحقها الأولى، وكأن هذه العبارة بمثابة قول

_ (1) في الأصل: بقولها.

القائل: أنت طالق طلقةً وطلقةً، فإذاً نُجْري الوجهين على أحد الوجهين ونوجههما بهذا، فأما الأخذ من قول ابن الحداد وقول أبي زيد، فلا وجه له. ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو قال: أنت طالق طلقة بعدها طلقة، فاللفظان معناهما واحد، ولا حاجة بنا إلى تكلف [بيان] (1) ذلك، فليتأمله الناظر، واستواء هذين اللفظين في معنيهما كاستواء اللفظين الأوّلين في معناهما. فإذا خاطب بما ذكرناه امرأته المدخولَ بها، وقعت طلقتان. وإذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبل طلقةٍ، أو طلقة بعدها طلقة، فتلحقها طلقةٌ لا محالة؛ فإن الطلقة الموقعة أولى، وإذا كانت أولى؛ فإنها تقع. وقد يتمسك الفطن بهذا محتجاً لأحد الوجهين في المسألة الأولى، ويقول: إن صح مذهب الوصف والموصوف، وجب أن يقال: لا تقع الطلقة الأولى؛ فإنها لا تقبل الوصف باستعقاب أخرى، وإذا امتنع هذا، فقد زالت الصفة، فيزول الموصوف. وقد ينقدح عن هذا جواب لا يخفى؛ فإن الرجل إذا قال لأمته: أول ولدٍ تلدينه، فهو حر، فإذا ولدت عن نكاح أو سفاح عَتَق، وإن لم تلد بعده، وستأتي هذه الألفاظ بمعانيها، إن شاء الله. 9128 - ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق طلقة [معها طلقة، أو مع طلقة، طلقت طلقتين] (2) واختلف أصحابنا في كيفية وقوعهما، فمنهم من قال: يقعان معاً؛ لأن كلمة مع للاقتران، والوفاءُ بمعنى لفظه، ممكن، فيجب الحكم بالإيقاع على نحو ما ذكره، ومعنى لفظه الجمع. والوجه الثاني - أنه تقع طلقة وتعقبها طلقة أخرى؛ فإنه أتى بلفظتين ليست واحدة منهما تفسيراً للأخرى، وكل لفظة مستقلة، فليقع الطلاقان بهما في زمانيهما، وقد

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه أولاً رعاية للسياق، ثم وجدناه بنصه -والحمد لله- في مختصر ابن عصرون (ر. صفوة المذهب: جزء3 ورقة 4 شمال).

صدرا منه في زمانين، فليقع كلّ طلاق عند منقرض كل لفظ، وليس كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً؛ فإن آخر الكلام بيانُ الأول. ويتّصل ببيان الوجهين أنا إذا قلنا: يقع الطلاقان في وقتين، فلا إشكال أنهما يترتبان، وإن قلنا: يقعان معاً، فلا يقع بقوله: "أنت طالق طلقة" شيء، حتى يتنجّز الفراغ من اللفظ الأخير، ويتنزل اللفظان منزلة قول القائل أنت طالق ثلاثاًً، وقد أوضحنا أنه إذا جرى هذا اللفظ، ولم يطرأ مانع، وقع الثلاث مع الفراغ من آخر الكلام. 9129 - فإذا تبين هذا فرّعنا على الصورة التي ذكرناها مخاطبة المرأة التي لم يدخل بها بما ذكرناه، فإذا قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، أو قال: معها طلقة، فإن قلنا: في المدخول بها يلحقها طلاق واحد، ثمّ يعقبه طلاق، [فإذا] (1) لم يكن مدخولاً بها، لحقها طلاق ولم تلحقها أخرى. وإذا قلنا في المدخول بها: إن الطلاقين [يلحقانها] (2) على جمع واقتران، فنقول: يلحق غيرَ المدخول بها طلاقان، كما لو قال لها: أنت طالق طلقتين. وقال أبو حنيفة (3): إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، أو بعد طلقة، تقع طلقتان. وهذا يخالف جميعَ مسالكنا، وهو قول من لا يدري ولا يحيط بحقائق الألفاظ، فإن قوله: (قبلها) و (بعد) صريح في الترتيب والنصِّ على الزمانين. وقال: إذا قال لها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو بعدها طلقة وهي غير مدخول بها، لم يلحقها إلا طلقة واحدة. فرع: 9130 - إذا قال: أنت طالق طلقة تحت طلقة، أو قال: تحتها طلقة، أو فوق طلقة، أو فوقها طلقة، أو على طلقة، أو عليها طلقة. فقد قال الأئمة: هذا

_ (1) في الأصل: وإذا. (2) في الأصل: يلحقهما. (3) ر. مختصر الطحاوي: 198، المبسوط: 6/ 133، تبيين الحقائق: 2/ 213.

بمثابة ما لو قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، أو معها طلقة؛ فإن هذه الصلات تقتضي من الجمع ما يقتضيها (مع) فكان الجواب فيها كالجواب في (مع). فرع: 9131 - لو قال لغير المدخول بها: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق، فدخلت الدار، فكم يلحقها من الطلاق؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلحقها إلا طلقة واحدة؛ لأن المعلَّق بلفظ بمثابة المنجّز عند وجود الصفة، فكأنه قال لها عند الدخول: أنت طالق وطالق، ولو نجّز ذلك على هذا الوجه، لم يلحقها إلا واحدة. والوجه الثاني - أنه يلحقها الطلاقان، فإن كل واحد منهما معلّق بالدخول، ولو فرضا في حق المدخول بها، لقيل وقعا معاً مع الدخول، أو على الترتيب، كما أشرنا إليه، وليس كما لو نجَّز فقال: أنت طالق وطالق، فإن كل لفظ مستقل بتنجيز الطلاق، ولا تعلّق لأحد اللفظين بالآخر. ونحن في الطلاق المعلق لا نقدّر تصحيح النطق بالطلاق عند وجود الصّفة؛ فإنه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم جُنَّ، فدخلت الدار، وقع الطلاق، وإن لم يكن الزوج عند دخول الدار من أهل التطليق، فإذاً الطلاقان يتساوقان في الدخول، ويقعان على جمع (1). وهذا فيما إذا قدّم الشرط وقال: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق. فأما إذا أخّر الشرط، وقال: أنت طالق وطالق إن دخلت الدار، فهذا رتّبه الأصحاب على ما لو قدّم الشرط. فإن قلنا هناك: يقع طلقتان فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يقع واحدة، فهاهنا وجهان، والأظهر وقوعهما؛ فإنه قدّم ذكر الطلاق، ثم ذكر الرابط من بعد، فكان مشبهاً بما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً. وهذا الترتيب لا يتحصَّل عندنا والتعليق شرطٌ قدِّم أو أخِّر، والوقوع جزاء قدّم أو أخر، فلا يعتدّ بمثل هذا إلا من لا دُرْبَة له في نظم الكلام والعربيّة.

_ (1) على جمع: أي يقعان معاً.

فصل قال: "وإن قال: رأسكِ أو شعرك ... إلى آخره" (1). 9132 - إذا أضاف الطلاق إلى جزء يتصل بها اتصال خِلقة مثل أن يقول: رأسُكِ أو يدكِ، أو شعركِ طالق، فيقع الطلاق، ولو أضاف الطلاق إلى جنينها، لم يقع الطلاق، اتفق (2) عليه نقلة المذهب. ولو أضاف الطلاق إلى فضلات بدنها كالدمع، والريق، والبول، والعرق، وما في معناها، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يقع؛ لأن هذه الأجزاء لا يلحقها الحلّ والحرمة، [وليست متَّصلة] (3) بها اتصال خلقة؛ فإن قيل: ما الفرق بين هذه الأشياء وبين الجنين، والجنين متكون من فضلة منها؟ قلنا: ولكن له حكم الاستقلال والانفصال. وإذا قال: روحك طالق، وقع الطلاق؛ فإنه يعبَّر به عن الجملة، وكأنه الأصل المقوِّم، وما عداه فرع. وإذا قال: دمك طالق، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بوقوع الطلاق؛ فإن الدم في معنى الروح؛ إذ به قوام البدن، وليس من الفضلات التي تنفضها الطبيعة، كالبول وما في معناه. ومنهم من قال نُجري الوجهين في الدم؛ لأنه غير متصل اتصال التحام والتئام وليس [الروح] (4) المقوِّم بمثابة الفضلات، ثم البدن لا يخلو عن الفضلات وتنفض الطبيعة بعضها، والدم كذلك. ولو قال للمرأة: لبنك طالق، أو قال: منيّك طالق، قال الأصحاب: اللبن

_ (1) ر. المختصر: 4/ 82. (2) لم يسلّم الرافعي للإمام باتفاق الأصحاب نقلة المذهب على ذلك، ونقل عن أبي الفرج الزاز حكايته وجهاً في وقوع الطلاق إذا أضافه إلى جنينها. (ر. الشرح الكبير: 8/ 568). (3) في الأصل: وليس متصلاً بها. (4) في الأصل: الزوج.

كالرجيع والبول، فإنه يُنْتَفَض لا محالة، بخلاف الدّم القارّ في العروق. وإذا قال: منيك طالق، فهو في معنى اللبن؛ فإن ما يصير [منيّاً] (1) يُنْتَفَض ومادته الدّم، وما دام دماً لا يكون منيّاً. ولو أضاف الطلاق إلى صفة من الصفات التي ليست من الأجزاء كالحُسن، والقبح، واللون، لم يقع الطلاق. ولو قال: سِمَنُك طالق، فالسِّمَن جزء من أجزائها ملتحم [بها] (2). ولو قال: شحمك طالق، والشحم على الثَّرْب (3) كالشيء الجامد، ولا التحام له، ولا روح فيه وإذا اندلقت حشوةُ (4) الإنسان من الجرح فيُبَان الشحم منه ولا يألم، فهذا فيه ضرب من التردد (5)، وليس عندنا مذهبٌ ننقله. ولو قال: حياتك طالق والحياة صفة، فالأشبه أنها بمعنى الروح، ولا يختبطن الفقيه في الروح والحياة، فيقع فيما لا يعنيه. 9133 - ولو أبينت أذنها فالصقتها بحرارة الدم والتحمت -إن أمكن ذلك وتُصوّر- فلو أضاف الطلاق إلى هذه الأذن الملتحمة، ففي وقوع الطلاق وجهان: أحدهما - أنه يقع للاتصال الحقيقي من جهة الخلقة. والوجه الثاني - أنه لا يقع؛ لأنها مستحقة الإبانة والفصل لأجل الصلاة (6)، فكأنها

_ (1) في الأصل: ميتاً. (2) زيادة من المحقق. (3) الثرب: بالمثلثة المفتوحة، بعدها راء مهملة ساكنة، شحم رقيق يغطي الكَرِش والأمعاء (القاموس والمعجم). وفوقه تتراكم الشحوم ومظاهر السّمن. (4) حشوة الإنسان (بضم الحاء وكسرها) جميع ما في البطن عدا الشحم (المعجم) وخصها الفيومي في (المصباح) بالأمعاء. (5) واضح أن ميل الإمام إلى عدم الوقوع كما يفهم من تصويره، وقد فهم ذلك الرافعي، ولم يوافقه، بل رجح الوقوع. (ر. الشرح الكبير: 8/ 568). (6) تعقب ابن أبي عصرون الإمام، فقال: "قوله: لأن هذه الأذن مستحقة الإبانة لأجل الصلاة لا يصح؛ لأن ما يبان من أجزاء الآدمي في حياته طاهر على المذهب، والصلاة معه تصح، وما عليه من دم معفو عنه، سيما إذا خيف من قطعه" (صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 5 شمال).

كالمبانة، وحكمها حكم الجماد والميتة، وهذه المسألة صوّرها الفقهاء وبنَوْا الحكم على اعتقاد تصوّرها، وهي ليست متصوَّرة، فإن ما أبين وفصل لا يلتحم قط في طرد العادة، وقد يبان البعض فيلتحم ما أبين، ومثل هذا لو أضيف الطلاق إليه وبعضه مبانٌ غير ملتحم، فالطلاق يقع مع انقطاع البعض قبل التحامه. ولو أضاف إلى الأخلاط المنسلكة في البدن كالبلغم والمِرّتين (1) فسبيل الإضافة إليها كسبيل الإضافة إلى فضلات البدن، وليس كالدّم؛ فإن به قوام البدن، وهو مادة خَلَف ما ينحل من الإنسان. 9134 - ومن بقية الكلام في هذا الفصل أنه إذا أضاف الطلاق إلى جزء منفصلٍ أو إلى جزء شائع، وحكمنا بوقوع الطلاق، فللأصحاب اختلاف مشهور في تقدير ذلك، فمنهم من قال: يصادف الطلاق الجزء المعيّن، أو الشائع، ثم يسري منه ويستوعب، كما يسري العتق من النصف. ومنهم من قال: تقديرُ وقوع الطلاق بتنزيل عضو أو جزء منزلة الكل، فإذا قال: يدك طالق، أو نصفك طالق، كان كما لو قال: أنت طالق، وإذا كان التقدير على هذا الوجه، فلا حاجة إلى تقدير توجيه الطلاق على البعض والتسرية منه إلى الباقي. توجيه الوجهين: 9135 - من قال يقدّر فيه التَّسرية استدلّ بمقتضى اللفظ أولاً، وبما استشهدنا به من التسرية في العتق.

_ (1) المرّتين: المرة خلط من أخلاط البدن، وكان القدماء يعتقدون بأخلاط أو عناصر أربعة يجعلون لها التأثير في استعداد الإنسان ومزاجه، وهذه الأخلاط هي الدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء. وكانوا ينسبون إليها فيقولون: دموي، وبلغمي، وصفراوي، وسوداوي (المعجم مادة: م. ر. ر، م. ز. ج). وقال الإمام هنا المرتين من باب التغليب، فهو يريد: الصفراء، والسوداء، والصفراء هي المرّة فسماهما معاً المرّتين. وهذا مفهوم من السياق، حيث ذكر الدم من قبل، وذكر هنا البلغم، فلم يبق من الأخلاط -التي كانت معروفة عندهم- إلا الصفراء والسوداء، فهما (المرتين).

ومن قال: لا تقدر التسرية احتج بأن الطلاق لا يفرض له ثبات على جزء شائع حتى يُبنى عليه التسرية منه، وليس كذلك العتق المضاف إلى الجزء الشائع وإذا كانت التسرية نتيجة إمكان الثبات على الجزء المذكور، وذلك غير ممكن في الطلاق، فيتصدّى بعد ذلك إبطال اللفظ وإلغاؤه، أو إعمالهُ بتنزيله منزلة مخاطبة الجملة، فإذا لم يمكن الإلغاء، لم يبق إلا الوجه الثاني. والذي يحقق هذا أنه لو قال: أنتِ طالق نصف طلقةٍ، لم يفرض ثبوتٌ وسريان، بل جعل النصف عبارة عن الكل، فإذاً ثبت الوجهان، وفائدتهما أن الرجل إذا قال لامرأته: "إن دخلت الدار [فيمينك طالق، فقُطعت يمينها، ثم دخلت الدار] (1) فإن جعلنا تنفيذ الطلاق بتقدير التسرية من الجزء المعين، لم يقع الطلاق؛ لأن التسرية تستدعي تمكيناً من أصل، [وذلك] (2) الأصل زائل. وإن جعلنا العبارة عن الجزء عبارة عن الكل، فالطلاق واقع، وقوله: يمناك بمثابة قوله: أنت طالق. ولو قال لامرأته التي لا يمنى لها: يمناك طالق، فمن أصحابنا من خرّج هذا على التردد الذي ذكرناه؛ وقال: إن جعلنا ذكر الجزء كالكل، فالطلاق واقع، وإن قدرنا التسرية، لم يقع. وهذا غير سديد في هذا المحل، والوجه القطع بأن الطلاق لا يقع؛ لأن العبارة لم تصادف معبَّراً، فكان كما لو قال لامرأته: لحيتك طالق، أو قال: ذكرك طالق. وهذا يجب أن يكون متفقاًعليه. ولو أضاف العتق إلى عضوٍ معيّن من عبدِه، اختلف الأصحاب فيه أيضاً على حسب ما ذكرناه في الطلاق؛ فإن تقدير تثبيت العتاق في الجزء المعيّن ليبنى عليه التسرية مستحيل، فكان العتاق فيه كالطلاق في الجزء الشائع والمعيّن. ولو قال مالك العبد: نصفك حرٌّ، فظاهر المذهب تقدير التسرية.

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من صفوة المذهب جزء: 5 ورقة: 6 (يمين). (2) في الأصل: فذلك.

ومن أصحابنا من قال: النصف في العبد الخالص عبارة عن الكل، ولا يسلك فيه مسلك التسرية؛ فإن العتق في المملوك الواحد لا يتبعض، وإنما تفرض التسرية من ملك إلى ملك. 9136 - وما ذكرناه من الإضافة إلى الجزء المعين والشائع لا يجرى إلا فيما يقبل التعليق بالأغرار ويبنى على السّريان والغلبة. قال القاضي: إضافة الإقالة والفسوخ إلى الجزء المعين فاسد لاغٍ؛ فإن الفسوخ ينحى بها نحو العقود، ولا تُعَلّقُ كما لا تُعَلَّقُ العقود؛ فما لا تصح إضافة العقد إليه لا يصح إضافة الفسخ إليه، والإقالة بين أن تكون بيعاً أو فسخ بيع. فصل قال: "ولو قال: أنت طالق بعض تطليقة ... إلى آخره" (1). 9137 - إذا قال لامرأته: أنت طالق بعض تطليقة، طلقت طلقة واحدة، وهذا على مذهب تنزيل العبارة عن البعض منزلة العبارة عن الكل، ولا تتخيل التسرية في ذلك. ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة، أو أربعة أثلاث، أو خمسة أرباع، أو ما شابه ذلك، فزاد على الأجزاء الطبيعية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع إلا طلقة؛ فإنه أضاف الأجزاء التي ذكرها إلى طلقة واحدة، فكان الاعتبار بالمضاف إليه، فإن زادت الأجزاء، فالزائد ملغى؛ فإن الأضافة من غير مضاف إليه لاغية، لا حقيقة لها. والوجه الثاني - أنه يقع طلقتان؛ فإنه زاد على أجزاء طلقة، فانصرف نصفان إلى طلقة وتمت بهما، والزائد محتسب من طلقة أخرى والطلاق على الغلبة والسّريان. وحقيقة الوجهين ترجع إلى أن من الأصحاب من يعتبر المضاف إليه ولا يزيد عليه، ومنهم من ينظر إلى الأجزاء المذكورة، فإن كانت على قدر طلقة أو أقل، نفذت

_ (1) ر. المختصر: 4/ 82.

طلقة، وإن كان في الأجزاء المذكورة زيادة، فهي محتسبة طلقة أخرى. 9138 - ويتفرع على ما ذكرناه مسائل: فإذا قال: أنت طالق أربعة أنصاف طلقة، ففي وجهٍ طلقة، والزيادة لاغية، وفي الوجه الثاني طلقتان. وإذا قال: خمسة أنصاف طلقة، فهي في وجهٍ طلقة، وفي وجهٍ ثلاث طلقات؛ فإن الطلقتين يكملان بأربعة أنصافٍ، والنصف الخامس يُعتد به من الطلقة الثالثة. وعلى هذا قياس سائر الأجزاء، إذا زادت على أجزاء واحدة. 9139 - ولو قال: أنت طالق نصف طلقتين، وزعم أنه أراد نصفاً من كل طلقة، وقعت طلقتان، ولو أطلق لفظه، فالأصح أنه لا يقع إلا طلقة، فإنه يظهر حمل نصف الطلقتين على طلقة من غير أخذ جزء من كل طلقة. ومن أعظم الأصول المعتبرة ألا نوقع الطلاق إلا على استيقان، أو ظهورٍ يلي الاستيقان، والضابط فيه أن يكون تقدير الحَيْد عن ذلك الظهور في حكم المستكره في الكلام المستبعد، وحمل نصف الطلقتين على طلقة لا استكراه فيه. ومن أصحابنا من قال: يقع طلقتان؛ فإن نصف الطلقتين بمثابة نصف العبدين، ونصف العبدين نصفٌ من كلّ عبدٍ، فليكن الأمر كذلك في نصف الطلقتين. فإذا حمل هذا على الإشاعة، لزم وقوع طلقتين، وينشأ من هذا أنه لو قال: لفلان نصف هذين العبدين، ثم قال: أردت أن أحد العبدين له، لم يقبل ذلك منه وفاقاً، والسّبب فيه أنهما شخصان، فلا شك لا يتماثلان، فإضافة النصف إليهما تتضمن إضافة النصف إلى كل واحد منهما لا محالة، وليس كذلك إضافة النصف إلى طلقتين؛ فإن الطلقتين تضاهيان عدداً محضاً من غير تمثيل معدودٍ، فإذا أضيف النصف إلى اثنين من العدد، اتّجه فيه الحمل على واحدٍ. ومن سلك المسلك الآخر جعل الحكم المسمى بالعدد كالشخص الماثل. هذا إذا قال: أنت طالق نصف طلقتين وأطلق.

[فإن] (1) قال: أردت [بنصف] (2) الطلقتين طلقة، فإن حملنا المطلَق على هذا، فلا شك أنه إذا فسّر به قُبل، وإن لم يحمل المطلق على هذا، فإذا فسّر به، ففيه وجهان. ولهذا الفنّ أمثلة ومسائل مضى بعضها، وسنكمل الأُنس بذكر باقيها. 9140 - وبالجملة الألفاظ ومعانيها على مراتبَ عندنا، فمنها: ما لا سبيل فيه إلى الإزالة ظاهراً وباطناًً، وهذا يفرض في جهات مخصوصة، وهو ممثل بأن يقول لامرأته: "أنت طالق"، ثم زعم أنه نوى طلاقاً لا يقع، فهذا مردود ظاهراً وباطناً، وضبطه أنه لو صرح به متصلاً، لرُدّ وأُلغي، فلا يزيد منويُّه على ملفوظه. والرتبة الثانية - ما لا يُقبل فيه تغيير اللفظ ظاهراً، [ويدَيَّن] (3) اللافظ بينه وبين الله تعالى. وهذا كقول القائل: أنت طالق، مع إضماره التطليق عن الوثاق، وقد ضبطنا قاعدة التديين بما فيه أكملُ مَقْنع، وهذه المرتبة تضبط بأن يضم اللافظ ما لا يعتاد إرادته باللفظ مع اختلاف الأحوال، ثم ينقسم مسلك المذهب: فمن الأصحاب من يضبطه بما يمكن النطق به، ومنهم من يضبطه بذلك ويشترط معه إشعار اللفظ به في وضعه على بُعدٍ كالتطليق عن الوثاق. والمرتبة الثالثة ظهور اللفظ في غرضٍ مع صرفه بتأويلٍ آخر إلى وجهٍ آخر، والصرفُ إلى ذلك الوجه قد يجري في مجاري الكلام، ولا يبعد بُعْدَ ما ذكرناه في المرتبة الثانية. وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: قد يظهر التأويل حتى يكاد [يكون] (4) اللفظ في حكم المتردّد بين معنيين، فيظهر في هذا المقام ألا نحكم بالوقوع بحكم اللفظ. وقد يخفى التأويل -وإن كان يفرض جريانه- فيغلب أن مطلِق اللفظ لا يُطلِق اللفظَ إلا على مقتضى ظهور؛ فإن أراد غيره صُرِف بالنية، فما كان كذلك يضطرب الرأي في حكم إطلاقه.

_ (1) في الأصل: بأن. (2) في الأصل: تنصيف الطلقتين. (3) في الأصل: يبيّن. (4) زيادة من المحقق.

وقد يتناهى ظهور اللفظ، ويخفى التأويل، حتى يقتضي الرأيُ القطعَ بحمل المطلق على الوقوع، ويتردد الرأي في قبول التأويل في حكم الظاهر، فيصير التأويل في نظرٍ مائلاً إلى التديين، وفي نظرٍ يمتاز بتقدير إجرائه في الفرق وإن كان على ندور. وتُهذَّب هذه الأقسام بأن نقول: إذا تردّد اللفظ بين أن يقع ولا يقع، وظهر التردّد، قطعنا بنفي الوقوع. وإن تعلّى عن التردّد، وكان الوقوع أظهر، ولم ينته التأويل إلى الخفاء، [قطعنا] (1) بقبول التأويل؛ فترددنا في صورة الإطلاق. وإن اتصل التأويل برتبة الخفاء، أعملنا اللفظ المطلق، وإن ادعى اللافظ صرفه إلى التأويل، ترددنا فيه. وهذا الذي نذكره أقصى الإمكان في الضبط. وميزان هذه الأقسام قريحة الفقيه على شرط الرسوخ في معرفة اللفظ والعادة. 9141 - وما ذكرناه الآن مثال قسم من هذه الأقسام. فإذا قال: أنت طالق نصف طلقتين، فالذي نراه أن الحمل على طلقة مع الحمل على نصفي طلقتين في رتبة التقاوم واللفظ مردّد بينهما، فكان الأظهر أن المطلق [منه] (2) يحمل على الأقل، ومن أبدى فيه خلافاً؛ فلإلفه بالخلاف في الألفاظ المطلقة وعدم اعتنائه بمعرفة الإقرار (3). ولو قال: أنت طالق نصفي طلقتين، فاللفظ محمول على طلقتين كيف فرض وقدّر. ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقتين، فالأجزاء المضافة زائدة على المضاف إليه، فمن راعى المضاف إليه، أوقع طلقتين، وألغى الزيادة، ومن راعى الأجزاء في أنفسها أوقع ثلاث طلقات على القياس المقدم.

_ (1) في الأصل: وقطعنا. (2) في الأصل: عنه. والمثبث تقدير منا. والمعنى أن المطلق من هذا النوع من الألفاظ يحمل على الأقل. (3) غير واضحة بالأصل. وقراءتها على هذا النحو غير مُرْضية. (انظر صورتها).

ولو قال: أنت طالق خمسة أنصاف طلقتين، فمن راعى المضاف إليه، لم يزد على طلقتين؛ فإنه إذا ألغى الزيادة، لم يكترث بمبلغها، ومن نظر إلى الأجزاء أوقع الثلاث؛ فإنه لم يجد أكثر من الثلاث. 9142 - ولو قال: أنت طالق سدس وثلث وربع طلقة، فالواقع طلقةٌ. ولو قال: أنت طالق سدس طلقةٍ وربع طلقةٍ وثمن طلقةٍ، فالمذهب الصحيح أنه يقع ثلاث طلقاتٍ؛ فإنه عطف الجزء على الجزء، وأضاف كل جُزءٍ إلى طلقةٍ، فاقتضى ذلك تغاير الطلقات المضاف إليها، وإذا تغايرت، انصرف كل جزءٍ إلى طلقةٍ، وهذا يقتضي التعدّد لا محالة. ومن أصحابنا من قال: إذا نوى صَرْفَ هذه الأجزاء إلى طلقة واحدة، قُبل ذلك منه، وإن تعددت الألفاظ، ومثَّل هذا القائل المسألةَ بما لو قال: أنت طالق طالق طالق؛ فإن الألفاظ وإن تعدّدت تطرّق إليها إمكان التوحيد والتأكيد، فكذلك الطلقات وإن تعدّدت، فالأمر فيها على التردد، وإذا تردّدت الطلقات بين التأكّد والتجدّد والأجزاء مضافة [إليها] (1)، تبع المضافُ المضافَ إليه. وهذا ساقط لا أصل له، والأصل ما قدّمناه؛ وذلك أنه لو قال: أنت طالق طلقة طلقةً طلقةً، فالتأكيد مقبول، ولو خلل بين الطلقات صلاتٍ متغايرة، فهي على التجدّد، والإتيان بالأجزاء المتغايرة يفيد من التجدد في المضاف إليه ما تفيده الصلات المتغايرة، والمسألة مفروضة فيه إذا قال: أنت طالق سدس طلقةٍ وثمن طلقة. وقد يجرى ذلك الوجه الضعيف فيه إذا قال: أنت طالق ثلث طلقةٍ وثلث طلقة وثلث طلقةٍ. 9143 - ومن قواعد هذا الفصل إيقاع طلقةٍ بين نسوةٍ، فإن هذا قد يُفضي إلى التبعيض، فكان منتظماً مع تبعيض الطلاق. فإذا قال لأربع نسوة: أوقعت عليكن طلقة، وقع على كل واحدة منهن طلقة لا محالة، فإنه عمّمهن، وصرّح باشتراكهن، فكأنه طلق كل واحدة ربع طلقة.

_ (1) في الأصل: إليهما.

ولو قال: أوقعت عليكن طلقتين وقصد قسمة [الطلقتين] (1) عليهن على استواء وتعديل من غير إفراد كل طلقةٍ بالتوزيع على جميعهن، فمقتضى هذه القسمة أن يخص كل واحدة نصف طلقة، فيطلقن واحدة واحدة. ولو قال: أردت كل طلقةٍ على جميعهن، فيخص كل واحدة منهن جزءان من طلقتين، فتطلق كل واحدة طلقتين. ولو أطلق، ولم يتعرض لتفصيل القسمة، فلفظه في الإطلاق محمول على استواء القسمة من غير تقدير فضّ (2) كل طلقةٍ على جميعهن؛ فإن تقدير هذا تأويل بعيد، ولا تحمل اللفظة مع إطلاقه على التأويل البعيد. وإذا قال الرجل لعبده: اقسم درهمين على هؤلاء الأربعة، لم يفهم المأمورُ منه تقسيمَ كل درهم على جميعهم. 9144 - ولو قال: أوقعت بينكن تطليقةً، ثم زعم أنه أراد تطليق واحدة منهن دون الباقيات، والمعنيَّ باللفظ أوقعتُ طلقةً على واحدة منكن، فإذا كانت المطلّقة بينهن، فالطلاق بينهن، وهو كقول القائل وهو يتّهم بالسرقة واحداً من جمع: [المسروق] (3) لا يخرج من بين هؤلاء، فيطلِقُ اللفظ، وإن كان يرى أنه في يدٍ واحد منهم دون غيره من أصحابه. فإذا فسّر قوله: أوقعت بينكن تطليقة بما ذكرناه، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أن ذلك لا يقبل؛ فإن مقتضى اللفظ التشريك وترك هذا المقتضى إزالةٌ للظاهر بتأويل بعيدٍ. والوجه الثاني - أن هذا مقبولٌ منه، وهذا الوجه صححّه بعض المصنّفين، وزعم أنه الأظهر، وهو غير سديد. والصحيح حمل اللفظ على الاشتراك؛ لأن الطلاق أضيف إلى جميعهن بصلةٍ اتصلت بضميرهنّ.

_ (1) في الأصل: الطلقة. وكذا في (صفوة المذهب) لابن أبي عصرون، والمثبت اختيار منا على ضوء ما يأتي من شرح الإمام للمسألة. والله أعلم. (2) فض: أي تقسيم. (3) في الأصل: والمسروق.

وقد زيّف القاضي قبول تخصيص الطلاق بواحدة منهن، ولم يحك الشيخُ أبو عليّ هذا الوجهَ أصلاً، بل قطع بأنّ اللفظ محمول على الاشتراك، ثم الذين يصححون وجوب الحمل على الاشتراك ويضعّفون الوجه الآخر قاطعون بأن اللفظ المطلق من غير إبداء قصد محمول على الاشتراك. ومن صحح قبول حمل الطلاق على واحدة لا بعينها ذكر في الإطلاق أن الظاهر الحَملُ على الاشتراك، وشبّب بوجهٍ مخالفٍ لهذا واللفظُ مطلق. وهذا باطل قطعاً، فلا شك في الحمل على الاشتراك في الإطلاق، وإنما التردد فيه إذا قال: أردتُ تطليق واحدة لا بعينها، والأصح أنه لا يقبل. 9145 - ولو قال: أوقعت بينكن ثلاثَ طلقات، وأراد القسمة المستوية، أو أطلق اللفظ، فتطلّق كلّ واحدة طلقة، ويخصها من القسمة ثلاثةُ أرباع طلقةٍ، ثم تُكمّل. ولو قال: أردت توزيع كل طلقةٍ عليهنّ، طُلقت كل واحدة ثلاثاًً، والمطلَق محمول على القسمة المستوية. ولو قال: أوقعت بينكن أربعَ طلقاتٍ، وأراد الاستواء، أو أطلق، طلقت كل واحدة طلقةً، وأصابها من حساب القسمة طلقة. ولو قال: أوقعت بينكن خمسَ طلقات [وهن] (1) أربع، طُلِّقت كل واحدة طلقتين؛ فإن القسمة المستوية توجب أن يخص كلَّ واحدة طلقةٌ وشيء. ثم هذا جارٍ في الست والسّبع والثمان. فإن قال: أوقعت بينكن تسعَ طلقات وأراد القسمة المستوية أو أطلق اللفظ، طلقت كلُّ واحدة ثلاثَ طلقات؛ فإن تسوية القسمة على الأربع والمقسوم تسعة يوجب أن يخص كل واحدة [طلقتان وربع] (2)، أو جزء [طلقة] (3) فَتُكَمَّلَ. وإن أراد تقسيط كل طلقة، فقسمة الثلاث عليهنّ يوجب تكميل الطلقات في حق

_ (1) في الأصل: ومن. (2) في الأصل: "طلقتين وشيء" والمثبت من صفوة المذهب. (3) في الأصل: أو جزء الطلاق.

كل واحدة، فلا معنى لذكر هذا القسم وراء الثلاث (1). 9146 - ولو قال: أوقعت بينكن خمسَ طلقات وكن أربعاً، فإن أطلق لفظه، طلقت كل واحدة طلقتين، كما تقدم، وإن قال: أردت تطليق واحدةٍ ثلاثاًً، وتطليق واحدة اثنتين، وتبرئة اثنتين عن الطلقات، فهذا خارج على الخلاف الذي ذكرناه: فمن أصحابنا من قال: لا يجوز إخراج واحدة منهن عن الطلاق؛ لما يقتضيه اللفظ من التشريك. ومن أصحابنا من قال: يُقبل ذلك منه، وقد قدمنا هذا الخلاف. ولو قال: أردتُ تطليق فلانة منهن ثنتين، وفضَّ ثلاث طلقات من الخمس على الباقيات، حتى يطلقن واحدة واحدة، فهذا ليس فيه إخراج واحدة عن أصل الطلاق، ولكن فيه تفاوت بينهنّ في المقدار، فمن قبل منه إخراج بعضهن عن قسمة الطلاق، فلا شك أنه يقبل هذا أيضاً، ومن لم يقبل إخراج بعضهن عن الطلاق، فهل يقبل التفاوت في القسمة؟ هذا فيه تردّد: من أصحابنا من قال: لا بد من تقدير التسوية والقسمة، ثم ننظر إلى ما يقتضيه حكم القسمة في حق كل واحدة. وقطع الشيخ أبو علي بأن التفاوت في القسمة مقبول من تفسيره؛ فإنه أضاف الطلقات إليهن وأبهم القسمة مردَّدةً بين تخيّر التفاوت وبين التعديل، فإذا لم يأت ما يخالف الاشتراك [والإضافةُ] (2) مبهمة، اتّجه قبول تفسيره. 9147 - ولو قال: بينكن -وهنَّ أربعٌ- عشرُ طلقات، فإن أراد القسمة المستوية قُبل، وطلقت كل واحدة ثلاث طلقات؛ فإنه ينالها طلقتان ونصفٌ. ولو قال: أردت [فضَّ] (3) العَشْر على أن يكون ثلاث على زينب، وثلاث على عَمْرة، وثلاث على فاطمة، وواحدة على عائشة، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه واختيار الشيخ (4) فيه القبول.

_ (1) المعنى: أنه سبق أن قلنا: إن قسمة الثلاث عليهن (الأربع نسوة) توجب تكميل ثلاث طلقات، فلا معنى لذكر هذا القسم في كل ما هو وراء الثلاث، أي زيادة على الثلاث. (2) في الأصل: فالإضافة. والتصويب من المحقق. والله الهادي إلى الصواب. (3) فضّ: أي قسمة. ثم هي في نسخة الأصل "نض" والتصويب من المحقق. (4) الشيخ: المراد هنا أبو علي.

ولو قال: أوقعت بينكن طلقتين وهُنّ أربع، ثم ادّعى أنه أراد تطليق اثنتين دُون الأُخريين، ففي المسألة وجهان، وكذلك لو قال: أوقعت بينكن أربعاً، ثم قال: أردت طلقتين على واحدة وطلقتين على واحدة، ففي المسألة الوجهان المذكوران. ولو ادعى أنه أراد إيقاع الأربع على واحدة منهن، وفرّعنا على أنه يقبل منه تفسير التخصيص، فهاهنا تطلّق المعيّنة ثلاثاًً، وفي الطلقة الرابعة جوابان للقاضي: أحدهما - أنها تلغو، فكأنه قال لواحدة: أنت طالق أربعاً؛ فإنا إذا قبلنا التخصيص في الأصل، فهذا من موجبه. والجواب الثاني - أن هذه الطلقة الرابعة توزّع على الثلاث الباقيات، حتى لا تضيع؛ فإن تفسير التخصيص إنما يقبل إذا لم يتضمن إحباط طلاقٍ مما جاء به. والمسألة محتملة حسنة. 9148 - ولو قال وتحته أربع نسوةٍ لثلاث منهن: أوقعت بينكن طلقةً، وحملنا هذا على الاشتراك، فيقع على كل واحدة منهنّ طلقة بحكم اللفظ، فلو قال للرابعة: أشركتك معهنّ -والمسألة لصاحب التلخيص (1) -، قال الأئمة فيها: إن لم ينو بقوله أشركتك طلاقاً، لم يقع شيء؛ فإنه كناية. وإن قال: أردت بذلك طلقةً واحدةً وعنيت بالإشراك أن تكون كواحدة منهن، فيقبل هذا منه؛ فإن هذا الاحتمال ظاهر. ولو قال: أردت بالإشراك أن تصير الرابعة شريكة لكل واحدة من الثلاث على التفصيل، فينالها من شركة كل واحدة طلقة، فتطلق ثلاثاً. ولو قال: نويت الإشراك، ولم يخطر لي لا الواحدة ولا الثلاث، فقد قال القفال فيما حكاه الشيخ أبو علي: إن هذه الرابعة تطلق طلقتين؛ فإنه نال الثلاث ثلاث طلقات، وهن حزِبٌ، وهذه الواحدة في مقابلتهن، وقد لحقهن ثلاث طلقاتٍ طلقة طلقةً، فإشراكها يتضمن أن تكون على النصف من ثلاث طلقات، فينالها طلقة ونصف، وإذا كمّلنا، أصابها طلقتان.

_ (1) صاحب التلخيص هو ابن القاصّ، وقد سبقت ترجمته، وكتابه (التلخيص) طبع في مجلد متوسط، والمسألة في ص 520 منه.

قال الشيخ أبو علي: الصواب عندي أن هذه الرابعة في صورة الإطلاق لا تطلّق إلا واحدة؛ فإن ظاهر التشريك في الطلاق يقتضي أن تكون كواحدة منهن، حتى تنزل منزلة الواحدة، هذا أقرب إلى الفهم، وأقرب إلى الدرك من جمع ثلاث طلقات، وتقدير التشطير [فيها] (1) والأمر على ما ذكره الشيخ، ولا اتجاه لغيره. 9149 - ومما يتعلق بتمام المسألة أنه لو قال لأربع نسوة: أوقعت بينكن ثُلثَ طلقة وسدُس طلقةٍ ونصفَ طلقة. قالى العراقيون: يقع على كل واحدة ثَلاث طلقات، فإنه فصل الطلقات، وقسم كل جزء من طلقةٍ عليهنّ، وهذا الذي ذكروه ينبني أولاً على ما لو قال لواحدة: أنت طالق سدس طلقةٍ وثلث طلقةٍ ونصف طلقة، وهذه المسألة قدّمناها. فإن قلنا فيها: الواحدة لا تطلق ثلاثاًً إذا أطلق الزوج هذه الألفاظ، فهذا في القسمة أَوْلى، وإذا قلنا: الواحدة إذا خُوطبت بهذه الألفاظ، طلقت ثلاثاً، فإذا قال لأربع نسوة: أوقعت بينكنّ سدس طلقةٍ، وثلث طلقة، ونصف طلقة، فالمسألة محتملة: يجوز أن يقال: هو كما لو قال: أوقعت بينكنّ ثلاث طلقات، والقسمة المستوية لا توجب في ذلك إلا طلقة. ويجوز أن يقال: لمّا أفرد ذكرَ كل جزء من طلقة، ظهر من ذلك قصد توزيع كل طلقة على الجميع، والتقديرُ قسمت عليكن طلقة، ثم أخرى، ثم أخرى. ولو قال على الطريقة التي ارتضاها العراقيون: أوقعت بينكن طلقة وطلقة وطلقة، فهذا محتمل على قياسهم، يجوز أن يقال: تطلّق كل واحدة ثلاثاًً لما في لفظه من التفصيل، ويجوز أن يقال: هذا كما لو قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات، ويجوز أن يقدر فرقٌ بين هذا وبين أن يقول: أوقعت بينكن سدس طلقة، وثلث طلقةٍ، ونصف طلقةٍ؛ فإن في تغاير أجزاء الطلاق مزيد دلالة على تفصيل بعضها عن البعض بالقسمة، وليس في عطف الطلقة على الطلقة هذا.

_ (1) في الأصل: فقهاً.

فصل قال: "ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين، فهي واحدة ... إلى آخره" (1). 9150 - قدمنا في كتاب الأقارير أصل الاستثناء وتفصيلَه، والقولُ في صورة الاستثناء يتسّع في الأقارير؛ فإنّ فرض الأعداد ممكن، فيتوسع المجال في ورود النفي على الإثبات، والإثباتِ على النفي، ولا مزيد على الثلاث في الطلاق، وفيما قدمناه من الأقارير ما يُطْلع على تمام المقصود في الطلاق، ونحن نتوفَّى التكريرَ جهدنا، ولكن لا يمكن إخلاء هذا الفصل مما ذكره الأصحاب، فإن اقتضى الترتيب تكريراً، كان محتملاً، ونحن نحرص ألا نُخلي ما نذكره عن زوائدَ وفوائدَ. وفي الاستثناء أصلان معتبران: أحدهما - الاتصال، وقد مضى بيانهُ وسببُ اشتراطه. والآخر - ألا يكون الاستثناء مستغرقاً للمستثنى عنه (2)؛ فإن استغرق، كان مردوداً ولا يتوقف الرّد على بعضه، بل يَحبَط كلُّه، وينفُذ المستثنى منه بكماله. ومن الأصول المرعيّة أن الاستثناء يناقض المستثنى عنه، فإن جرى بعد نفي، كان إثباتاً، وإن جرى بعد إثباتٍ، كان نفياً. ومن الأصول أن الاستثناء المعطوف على الاستثناء في معناه، فلا يكون استثناء منه، بل يكون مع المعطوف عليه استثناء عما تقدم، وإن جرت صيغة الاستثناء بعد الاستثناء من غير واو عاطفة، فالثاني استثناء من الاستثناء الأول، ويجري على مضادته لا محالة. 9151 - ونحن بعد الإشارة إلى الأصول نذكر المسائل؛ فإن قال: أنت طالق ثلاثاًً إلاّ ثلاثاً، طلقت ثلاثاً، وبطل الاستثناء، وصار كأنه لم يكن. ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة، طلقت ثنتين. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدة، وإلا واحدة، فقد استثنى طلقتين بعبارتين

_ (1) ر. المختصر: 4/ 82. (2) كذا. وفي نيابة حروف الجر بعضها عن بعض كلام معروف.

معناهما واحدٌ، فكان كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين. ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين إلا واحدة، فاللفظة الأخيرة استثناء من الاستثناء؛ فإنها غير معطوفة، والتقدير: أنت طالق ثلاثاًً تقع، فهو إثباتٌ، إلا ثنتين لا تقعان، وهذا نفي ما أثبته، إلا واحدة تقع، وهذا إثبات ما نفاه. وإذا عَطَف المستثنى عنه بعضَه على بعض، وأَتى بالعدد في صيغٍ وعَطَف البعض منها على البعض، ثم عَقّبه باستثناءٍ، فهل نجمع المستثنى عنه حتى كأنه في صيغةٍ واحدة أم نتركه على إفراده ونقطعه؟ ذكر القاضي وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي، وتصوير المسألة أن يقول: أنت طالق واحدةً، وواحدة، وواحدة، إلا واحدة. فقد ذكر ثلاث طلقات في ثلاث صيغ، فمن جمع تلك الصيغ، صحح الاستثناء، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة، ومن يترك تلك الصيغ على تقطيعها، فالاستثناء عنده باطل، فإنه قال آخراً: وواحدة، ثم قال: إلا واحدة، فانصرف استثناء الواحدة إلى الواحدة، فكان مستغرقاً، والاستثناءُ المستغرق باطل. ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثنتين، فهذا يخرج على الوجهين، فإن جمعنا الصيغ، لم يقع إلا طلقة واحدة، وكان كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين، ولو تركنا الصيغ على تقدّمها وتقطعها، وقع الثلاث وبطل الاستثناء؛ فإنه قال آخراً: وواحدة إلا ثنتين، فاستثنى ثنتين من واحدة والاستثناء زائد على ما يقع به الاستغراق. ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة [وواحدة] (1) إلا ثلاثاًً، فلا شك في وقوع الثلاث كيفما قدّرنا: ضممنا الصيغَ، أو تركناها مفرّقة. 9152 - ولو عطف الاستثناءات بعضَها على البعض بحرف الواو، فالكل في معنى واحدٍ لما مهدناه من اقتضاء العطف الإشراك، ولكنا هل نجمعها على تقدير أنها كالمذكورة في صيغة واحدة أم نتركها على تقطعها ونفرّق صيغها؟ قال القاضي

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

وغيره: في المسألة وجهان كالوجهين فيه إذا عطف المستثنى عنه بعضه على البعض بالصيغ المتفرقة. وبيان الغرض بالصور أنه لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدةً، وواحدة، وواحدة، فإن جمعنا هذه الصيغ وجعلناها [كالصيغة] (1) الواحدة، بطلت بجملتها، ووقع الثلاث، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً. ولو تركناها على تقطعها، فيصح الاستثناء في ثنتين وتبطل الصّيغة الأخيرة، فإنها مستغرقة، فيختص الإبطال بها، ويصير كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة وواحدة. ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين وإلا واحدة، فإن جمعنا الصيغ، أوقعنا الثلاث، وصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وإن فرعنا على التفريق، فاستثناء الثنتين صحيح واستثناء الواحدة باطلٌ مردودٌ. ولو قلب، فقال: إلا واحدة وثنتين، فالثلاث تقع على أحد الوجهين، ويقع ثنتان على الوجه الثاني، فإن الصّيغة الأولى في الاستثناء مشتملة على واحدة، والصيغة الثانية مستغرقة، وإذا بطل بعض مضمونها بطل الجميع. 9153 - ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، إلا ثنتين، فالتقدير: أنت طالق ثلاثاًً تقع، إلا ثلاثاًً لا تقع، إلا ثنتين تقع، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن الثلاث تقع؛ لأن الاستثناء الأول، كان مستغرقاً فلغا، ولغا الثاني، لأنه استثناء من لاغٍ، وهذا ضعيف. والوجه الثاني -وهو الأصح- أنا نصحح الاستثناءين، فنجعل الاستثناء الثاني منصرفاً إلى الاستثناء الأول على حكم المضادة، فيخرج الاستثناء الأول من كونه مستغرقاً، فإذا خرج عن كونه مستغرقاً، صحّ، والتقدير على ما قدمناه أنت طالق ثلاثاًً تقع، إلا ثلاثاًً لا تقع إلا ثنتين تقعان فيعود الاستثناء الأول إلى واحدة، فيقع طلقتان، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة.

_ (1) في الأصل: بالصيغة.

والوجه الثالث - أن الاستثناء الأول يلغو، ويرفع من البين، فيقدّر كأنه لم يكن، فيبقى الاستثناء الثاني، والطلقات الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين، ولو قال ذلك، لم يقع إلا طلقة واحدة. وهذا على نهاية الضعف، ولولا اشتهاره [وتوّلع الأصحاب بحكايته] (1)، لما ضمَّنته هذا المجموع، فإنه خارج عن صيغة اللفظ، وعن حكم القصد والمراد، وليس في المصير إليه استمساكٌ بمقتضى فقهيّ. ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا واحدة وواحدة وواحدة، وقع الثلاث إجماعاً؛ لأنا إن جمعنا، لم نخصص بالجمع جانباً، وكان التقدير أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وإن فرقنا، لم نخصّص بالتفريق واحداً من الجانبين، فيؤول الكلام إلى استثناء واحدة عن واحدة، فيقع الثلاث على التقديرين جميعاًً. وكان شيخي أبو محمد يقول: "كل تفريق يؤدي إلى تصحيح الاستثناء، فهو مختلف فيه؛ ميلاً إلى إيقاع الطلاق". ولا أصل لهذا؛ فإنا نتبع الألفاظ وصِيغَها، فإن عنّ لفقيهٍ تغليبُ وقوع الطلاق، عارضه أن الأصل عدم وقوعه، ومن الأصول الممهدة أنا إذا ترددنا في وقوع الطلاق، قلنا: الأصل عدم الوقوع. 9154 - ومما يتعلق بتتمة الفصل أمرٌ فرّعه ابن الحدّاد، وتكلم الأصحاب فيه، وذلك أنه قال: إذا زاد المطلّق على العدد الشرعي في الطلاق، فالاستثناء بعده يتردّد كما نصف ونصوّر. فإذا قال لامرأته: أنت طالق خمساً إلا ثلاثاًً، فقد اختلف أصحابنا في المسألة اختلافاً مشهوراً، فمنهم من قال: يقع الثلاث؛ فإن الخمس التي ذكرها عبارة عن الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، ولو قال، لوقعت الثلاث؛ لأن الاستثناء مستغرق. والوجه الثاني - وهو اختيار ابن الحداد أنه يقع ما استبقاه بعد الاستثناء، والخمسُ إذا استثني منها ثلاث، بقيت ثنتان، فتطلق طلقتين، وسرّ هذا الوجه أنه ذكر الخمس

_ (1) في الأصل: تولع الأصحاب حكايته.

ليتوسّع في الاستثناء، فليقع ما يلغو في مقابلة ما يستثنى؛ إذ هذا طباع الاستثناء، وليقع ما بقي. ولو قال: أنت طالق أربعاً إلا ثنتين، فهذا يخرج على الوجهين، فمن قال: الأربع عبارة عن الثلاث، يقول في هذه الصورة: لا يقع إلا طلقة، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين، ومن قال: يقع ما أبقى، حَكَم بوقوع طلقتين. ولو قال: أنت طالق ستاً إلا ثلاثاًً، فيقع الثلاث على المذهبين، وخروجه بيّن، فإن من يعتبر ما يبقى بعد الاستثناء يقول: قد بقي ثلاث، ومن جعل الست عبارةً عن الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاًً، وهذا بيّن إذا تأمّلته. ولو قال: أنت طالق طلقتين ونصفاً إلا واحدة، قال ابن الحداد: يقع الثلاث، وإنما بناه على أصلٍ ذكرناه في تقطيع العبارة، فكأنه قال: أنت طالق ثنتين وواحدة إلا واحدة (1). 9155 - ومما يتعلق بتمام الفصل أن بعض الطلقة في الإيقاع طلقةٌ، كما سبق تمهيده، وإن غالط مغالط وقال: لا يقع طلقةٌ بلفظ النّصف، ولكن إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق نصفَ طلقة، وقع الطلاق بقوله: "أنت طالق"، ولغا قوله: نصف طلقة. ولو قال: أنت طالق طلاقاً لا يقع، لوقع، فذكر النصف بعد ذكر الطلاق لا معنى له. وهذا ليس بشيء؛ فإنه لو قال: أنت طالق طلقةً ونصفاً، وقعت طلقتان، ولا حيلة في الطلقة الثانية -وقد استقل الطالق بطلقة- إلا حملُ نصف طلقة على طلقةٍ، وكذلك لو قال: أوقعت عليك نصف طلقة، وقعت طلقة. فهذا أصلٌ لا مدافعة فيه. ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا نصف طلقة، وقعت الثلاث ولغا استثناء النّصف، هذا ما صار إليه حملة المذهب.

_ (1) وقعت الثلاث لأننا جمعنا في جانب الإثبات ثنتين وواحدة، فصارت ثلاثاً، ثم لغا الاستثناء لأنه مستغرق، إذ هو استثناء واحدة من واحدة.

9156 - وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع ما ذكرناهُ، وحكى وجهاً غريباً أن النصف في الاستثناء بمثابة الطلقة، ونجعل البعض عبارةً عن الكل في الإيقاع والإسقاط، وهذا غريب، لم أرَهُ إلاّ لهُ. ووجهه -على بعده- أنا نحكم بوقوع الطلقة إذا جرى ذكر بعضها، لا على مذهب السريان، كما تقدّم شرح ذلك، بل لا يتجه فيه إلا إقامة العبارة عن الجزء مقام العبارة عن الواحدة، ولعلّ السر فيه أن ما لا ينقسم فبعضه ككلّه. وهذا غير صحيح؛ فإن الطلاق يُغَلَّب في وقوعه، والاستثناءُ مناقَضةُ الوقوع، وإذا استثنى من يبغي النفي بنصف طلقة، فقد ألغى نصف طلقةٍ والذي أبقاه يُكمَّل. ولو كنا نجري على أن الجزء عبارة عن الكل فيما لا ينقسم، للزم أن نقول: ما قاله بعض أصحاب أبي حنيفة (1) في أن الرجل إذا قال: زوَّجْتك نصف ابنتي، كان بمثابة ما لو قال: زوجتك ابنتي، لم يختلف أصحابنا في أن النكاح لا يصح بذكر الجزء من المنكوحة. فالتفريع إذاً على أن استثناء الجزء باطل، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقةً ونصفاً، بطل استثناء النصف، وصح استثناء الواحدة، ووقعت طلقتان. ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين ونصفاً، فإن جعلنا النّصف عبارة عن طلقةٍ في الوجه الغريب الذي حكاه الشيخ أبو علي، فالتقدير: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين وواحدة، ثم يقع هذا في أنا هل نجمع المفرّق؟ فيه التفصيل المقدّم. وإن قلنا: إنَّ ذكر الجزء في الاستثناء باطل، فهذا فيه احتمال على هذا المقام: ظاهر القياس أن النصف يبطل، ويبقى استثناء ثنتين، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، [ولا يتجه فيه إعمال الاستثناء؛ لأن في إعماله إبطاله] (2)، إذ لو عمل النصف، لصار الاستثناء مستغرفاً مع التفريع على أن المفرّق كالمجموع، ونحن نغلب وقوع الطلاق في هذه المنازل.

_ (1) ر. المبسوط: 6/ 90. (2) عبارة الأصل: "ويتجه فيه إعمال الاستثناء في إعماله إبطاله" والتصويب من صفوة المذهب ج 5 ورقة 11 شمال.

ولو قال -والتفريع على الأصحّ-: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقتين إلا نصفَ طلقة، فهذا الاستثناء الأخير صحيح؛ فإنه إيقاعٌ، والتقدير أنت طالق ثلاثاًً تقعُ إلا ثنتين لا يقعان، إلا نصفاً [يقع] (1). ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقة ونصف، فإذا فرعنا على الأصح، فذكر النصف باطل؛ لأنه للإسقاط لو صح، فالتعويل على هذا، فمهما (2) كان الاستثناء للإيقاع، صح فيه لفظ الجزء، ومهما كان للإسقاط لم يصح على الأصح. وفي هذا نجاز مسائل الاستثناء، والله أعلم بالصواب. فصل قال: "ولو قال: كلّما ولدت ولداً، فأنت طالق ... إلى آخره" (3). 9157 - هذا الفصل يشتمل على أحكامٍ منوطةٍ بمقتضى الألفاظ، والقولِ في انقضاء العدة بوضع الحمل، وإذا اشترك في المسألة النظرُ في الألفاظ والكلامُ في الأحكام، أحوجت المسألةُ الناظرَ إلى مزيد تدبّر، ومضمون المسألة يتأدّى بمسألتين: إحداهما - مفروضة في لفظةٍ لا تقتضى التكرّر، والأخرى مفروضة [في لفظةٍ] (4) تقتضي التكرر، ثم تتشعب كل مسألة. ونحن نأتي في كل واحدة بما يليق بها. 9158 - فإذا قال لامرأته: إن ولدت ولداً، فأنت طالق، فولدت ولداً، ثم أتت بولدٍ آخر لأقلّ من ستة أشهرٍ من ولادة الولد الأول، فيلحقها طلاق واحد بالولادة الأولى، وتنقضي عدتها بوضع الولد الثاني، ولا يتكرر الطلاق؛ فإنه علّقه بقوله: (إنْ)، وهو لا يقتضي التكرر، والولد الثاني يلحقه نسبُه، فإن الأول لحقه؛ إذ

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها في صفوة المذهب (الموضع السابق نفسه). (2) "مهما" بمعنى (إذا). (3) ر. المختصر: 4/ 82. (4) زيادة اقتضاها السياق.

العلوق به كان في النكاح والولد للفراش، والولد الثاني في معنى الولد الأول؛ فإنهما من بطن واحد، وحكم البطن لا يختلف احتمالاً ولحوقاً. فإن كان بين الولدين -والمسألة بحالها- أكثرُ من ستة أشهُرٍ، فلا شك أن العلوق بالولد الثاني وقع بعد انفصال الأول؛ إذ لو كانا من بطنٍ واحدٍ، لما تخلل بينهما ستة أشهر، فإذا تبين أن العلوق بالثاني وقع بعد الأول، فهل يَلحق الولدُ الثاني الزوجَ؟ في المسألة قولان مبنيان على صورة نرسمها، ونُحيل استقصاءها على كتاب العدة، وهي أن الرجل إذا طلق امرأته طلقة رجعيةً، ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلّ من أربع سنين من وقت انقضاء العدة، وكان الطلاق رجعياً، فابتداء أربع سنين يحتسب من وقت الطلاق أو من وقت انقضاء العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو الأصح عند المحققين أنه يحتسب من يوم الطلاق؛ فإن الطلاق وإن كان رجعياً، فهو قاطع لاستحلال الافتراش، وإن كان الملك قائماً، ونحن إنما نلحق الولد بالفراش؛ لاطراد استحلال الافتراش، والطلاق وإن كان رجعياً، فهو قاطع لهذا المعنى، ولهذا استعقب الاعتدادَ، وهو غير معقول إلا في زمان الانعزال. والقول الثاني - أن ابتداء السنين الأربع محتسب من آخر العدة؛ لأنّ الرجعية في العدة زوجة، وسلطنة الزوج قائمة عليها. وسيأتي تحقيق ذلك توجيهاً وتفريعاً، إن شاء الله. 9159 - وإذا أتت المرأة بولدٍ ولحقها الطلاق عند الولادة، ثم أتت بولدٍ بعد ذلك لستة أشهرٍ فصاعداً، فنحن نعلم قطعاً أن العلوق بالولد الثاني لم يكن في حال استمرار النكاح، كما نعلم قطعاً أنها إذا أتت بولدٍ بعد الطلاق الرّجعي لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، فالعلوق به لا يكون متقدّماً على الطلاق، فاستوت المسألتان في تحقق وقوع العلوق بعد الطلاق، فخرجت المسألة على قولين في لحوق الولد الثاني. فإن قلنا: الولد يلحق، فقد طُلِّقت هذه عند الولد الأول، ثم انقضت عدتها بوضع الولد الثاني، وإن قلنا: الولد لا يلحق، فلا تنقضي العدة به؛ فإن عدة الرجل إنما تنقضي بوضع المرأة حملها إذا كان الولد ملتحقاً بمن العدة منه.

ولو أتت -والمسألة كما صورناها- بولدين بينهما أقل من ستة أشهرٍ، ثم أتت بثالث لأكثر من ستة أشهر من الولادة الثانية، فيلحقها طلقة بوضع الولد الأول، وتنقضي عدتها بوضع الولد الثاني، ويلحقه الولدان، ولا يلحق الولد الثالث قولاً واحداً؛ فإنا نعلم أن العلوق به وقع بعد الولد الثاني، وهذا ثابت بوضع الولد الثاني، وعاد إمكان العلوق إلى زمان البينونة، وإذا كان كذلك، ترتب عليه انتفاءُ الولد الثالث؛ فإن الولد اللاحق قولاً واحداً هو الذي يمكن تقدير علوقه في صُلب النكاح، والولد الذي اختلف القول فيه هو الذي يمكن تقدير علوقه في زمان الرجعة، ولا يمكن تقديره قبل الطلاق. ولو قيل: لو أتت بالولد الثالث لأكثر من ستة أشهرٍ من وضع الولد الأول، ولأقلَّ من ستة أشهرٍ من وضع الولد الثاني، وكان بين الثاني والأول أقلُّ من ستة أشهر، فكيف الحكم فيه إذاً؟ قلنا: هذه مغالطة والمسألة لا تتصور كذلك؛ فإن الرحم إذا اشتمل على أولادٍ، كانت المدة بين وضع الأول وبين وضع الآخر أقل من ستة أشهر، فإن الرحم تنتفض عما فيه وتبرأ عما عداه في أقلَّ من ستة أشهر. وما ذكرناه فيه إذا ذكر لفظة لا تقتضي التكرار. 9160 - فإن ذَكَر لفظة مقتضاها التكرار؛ فقال: كلما ولدتِ ولداً، فأنت طالق، فأتت بأولادٍ من بطن واحدٍ، فإن أتت بأربعة أولادٍ، لحقتها ثلاث طلقات، فتطلق بالوضع الأول واحدةً، وبوضعِ الثاني ثانيةً، وبوضع الثالث ثالثة، وتنقضي عدّتها بوضع الولد الرابع، ولا إشكال؛ فإن الطلقات كملت، وفي الرحم بقية. فأما إذا ولدت ثلاثة أولادٍ من بطن واحدٍ، ولم يتخلل بين الأول والآخر ستة أشهرٍ، فيلحقها طلقتان: الأولى والثانية. ثم المنصوص عليه في الجديد أن العدّة تنقضي بوضع الثالث، ولا يقع الطلاق بوضعه، ونص في الإملاء على أنّ الطلقة الثالثة تقع بالولد الثالث، وتستأنف العدة بالأقراء. 9161 - فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قطع القولَ بأن الطلاق الثالث

لا يقع أصلاً، وأنها تَبين بوضع الولد الثالث، ووجهه بيّنٌ؛ فإن الطلاق لو لم يلحقها، لبانت بالولادةَ؛ لمكان براءة الرحم، فإذا كان وضع الولد مقترناً بالبينونة، فالطلاق الثالث مضافٌ إذاً إلى حال البينونة، وهذا محالٌ، وهو كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك فأنت طالق، فإذا طلقها تنجيزاً تنجّز الطلاق، ولا يقع ما علّقه؛ لأنها تبين بوقوع الطلاق الأول. وهذا القائل يتأوّل نصَّ الإملاء ويحمله على ما إذا ولدت الولد الثاني، فراجعها وردّها إلى صلب النكاح، فولدت الولد الثالث في النكاح، فتلحقها الطلقة الثالثة، ثم تستقبل العدة، وتكون كما لو قال لامرأته الحامل بولد واحدٍ، وهو لا يملك إلا الطلقة الثالثة: إذا ولدت، فأنت طالق، فإذا ولدت، طُلِّقت، واستقبلت العدة. وهذه الطريقة مستدّة في المعنى، ولكنها مخالفة للنصّ؛ فإن الأصحاب عن الإملاء نقلوا التصريح بتصوير اعتقاب الولادات من غير تخلل رجعةٍ. والطريقة المشهورة طرد القولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الطلاق لا يقع بالولادة الثالثة، ووجهه مما ذكرناه. والقول الثاني - أن الطلاق يقع، وقد تكلف الأصحاب توجيه هذا القول لاشتهاره، فلم يتحصّلوا على معنى عليه مُعوّل. 9162 - وقد ذكر القفال مسلكاً نحن نذكره، ثم نوضح اختلاله، قال: اختلف قول الشافعي في أن الرجعية إذا طلقها زوجها في عدة الرجعة، فهل تستأنف عدةً إذا لحقها الطلاق أم تتمادى على العدة الأولى؟ وقد أشرنا إلى هذين القولين فيما سبق، وسنستقصيهما في العدد، إن شاء الله. ثم إذا قلنا: تتمادى على العدة بانيةً، فلا كلام. وإن قلنا: يستعقبُ الطلاقُ عدةً جديدة، فالعدّة الأولى تنقطع، وتستأنف هذه عدة جديدة، ثم لا نقضي بأن الطلاق وقع، وهي في بقية من العدة الماضية، [ولكن نقول: يقع الطلاق على مفصل الانقطاع والاستقبال] (1)، وهو كما لو قال لامرأته: أنت طالق بين الليل والنهار؛ فإذا

_ (1) عبارة الأصل: ولا نقول: "يقع الطلاق على متصل الانقطاع والاستقبال"، والتصويب بالتعديل والتغيير من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 12 شمال.

صادفها الطلاق، لم يكن الطلاق واقعاً في جزء من النهار، ولا في جزءٍ من الليل. هذا كلامه. وقال بانياً عليه: إذا حكمنا بأن الطلاق يقتضي عدّة مستقبلة، فالطلاق الثالث يلحق مع انفصال الولد، ويتصل به استقبال العدة، فلا يكون واقعاً في جزءٍ من العدة المستقبلة ولا في جزء من الزمان قبل تمام الانفصال، ولكن يقع على المتصل. هذا ما ذكره. 9163 - وهو كلام مضطرب، ولو التزمنا في هذا المجموع أن [نُري] (1) -بفضلةٍ في اللسان- الباطلَ في صورة الحقّ، لكنا مُلبِّسين، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك، ومقصودنا فيه أن نوضح ما عندنا في كل مسألة على [حقيقتها] (2)، وهذا مما يقطع قولَنا فيه بأن هذا القول لا يتوجه؛ فإن الولادة هي الانفصال، ويتحقق معه من غير ترتبٍ انقضاءُ [العدة] (3)، فالطلاق المعلق على الولادة لا يقع إلا مع الانفصال، وحق الإنسان أن يتحفظ في ذلك جهده، ولا يقول إلا ما يُشعر بالتحقيق. فإن قال القائل: يقع الطلاق بعد الانفصال؛ بناء على ما ذكرناه من قول الأصحاب في أن الطلاق المعلّق على الصفة يترتب على حصولها، فهذا وجهٌ، ولكن يزداد توجيه القول بعداً؛ فإن الانقضاء يحصل بالانفصال، وتقع البينونة معه حكماً؛ فإن هذا ليس تعليقاً وشرطاً مشروطاً، وإنما هو حكم شرعي. فإن قلنا: يقع الطلاق مع الصفة، فيصادف أول حال البينونة، وإن قلنا: يترتب عليه، فيقع مسبوقاً بالبينونة، فلا وجه أصلاً. وما ذكره القفال غير سديد؛ فإنه فرض حكماً في غير زمانٍ، وهذا خارج عن المعقول؛ فإن التي يقال فيها: ليست [مُطلَّقةً] (4)، ثم يقال: طلقت، فمن ضرورة

_ (1) كذا قرأناها بصعوبة بالغة على ضوء أطراف الحروف الباقية، واستجابةً للسياق. (2) في الأصل: حقيقته. (3) في الأصل: القول. والتصويب من (صفوة المذهب: ج 5 ورقة 13 يمين). (4) في الأصل: طلقة، والتصويب من صفوة المذهب (السابق نفسه).

حكم مرتب على حكم أن ينفصل كل واحد منهما عن الثاني بزمان، وقد تبيّن أن الطلاق لم يقع قبل تمام الانفصال، فليقع مع الانفصال أو بعده. فأما [الفصل] (1)، فكلام غير معقول، وأما ما استشهد به من قول الرجل لامرأته: أنت طالق بين الليل والنهار -وليس بينهما فاصل زماني- فالوجه عندنا القطع بأن الطلاق يلحقها في آخر جزء [من الليل أو آخر جزء] (2) من النهار، وبذلك تكون طالقاً بين الليل والنهار. فإن قيل: هلا قضيتم بأن الطلاق يقع في أول جزء من الليل؛ قلنا: لأن معنى وقوع الطلاق بين الليل والنهار أن تكون متصفةً بالطلاق في منقطع النهار ومبتدأ الليل (3)، وهذا إنما ينتظم على الوجه الذي ذكرناه. 9164 - ثم إن أصحابنا اختبطوا وراء هذا من وجوهٍ نصفها، فقال قائلون: إذا قال الرجل لامرأته الرجعية: أنت طالق مع انقضاء العدة، ففي الحكم بوقوع الطلاق قولان مبنيان على القولين في مسألة الولادة. وهذا لا شك ينطبق على مسألة الولادة، ومن أقام القولين في مسألة الولادة، التزم إقامتهما في هذه المسألة. والذي أُنكره من قول هؤلاء أنهم قالوا: القولان في مسألة الولادة مبنيان على ما لو قال لامرأته: أنت طالق مع انقضاء العدة. وهذا كلام سخيف؛ فإن الشافعيّ نصّ على القول البعيد في الولادة، ولا نصّ له في تعليق الطلاق بانقضاء العدة، فكيف يُبنى قولٌ منصوصٌ على صورة مفرعةٍ عليه. نعم، لو قيل: هذا القول يقتضي الحكمَ بوقوع الطلاق إذا قال: أنت طالق مع انقضاء العدة. لكان ذلك وجهاً. 9165 - ومما ذكره بعض النقلة عن القاضي: أن هذا مفرّع عليه أن الرجل إذا قال للرجعية: أنت طالق في آخر العدّة، فهل يقع الطلاق أم لا؟ فإن قلنا: في مسألة الولادة بوقوع الطلاق، وقع الطلاق في هذه الصّورة.

_ (1) في الأصل: المتصل. والتصويب من صفوة المذهب (نفسه). (2) زيادة اقتضاها السياق، على ضوء كلام ابن أبي عصرون في مختصره. (3) عبارة ابن أبي عصرون: "لأن معنى كونه بينهما أن تتصف بالطلاق في منقطع أحدهما ومبتدأ الثاني" السابق نفسه.

وإن قلنا في مسألة الولادة المُبرئة للرّحم: لا يقع الطلاق، فلا يقع فيه إذا قال: أنت طالق في آخر العدة. وهذا غلط صريح؛ فإن آخر العدة من العدة، كما أن آخر اليوم من اليوم، وآخر الشهر من الشهر، وقد ذكرنا العبارات الدائرة في ذكر الآخِر والأول، وإذا لاح ذلك، فإضافة الطلاق إلى جزء من العدة كيف يمتنع وقوعها؟ وأين هذا من تعليق الطلاق بالولادة المُبرئة للرحم، والعدة تنقضي بالانفصال والطلاق يقع بالانفصال، أو يترتب عليه، والانفصالُ يعقب منقَرَضَ العدة [كما يعقب] (1) السّوادُ البياض من غير تخلل خلوّ عن اللون بينهما. وإن ظنّ الناقل أن قول القائل في آخر العدة يقتضي كون زمان الطلاق ظرفاً، ثم ظنّ أن ما كان في ظرف يجب أن يكون محتوشاً به، فهذا وهم لا يشتغل بمثله طالبُ معنىً؛ فإن الظرف الزمانيّ هو الزمن الذي ينطبق عليه ما يضاف إليه ذو الظرف، فأما الإحاطة [به] (2)، فمن خيالات النفوس. ومن عجيب الأمر أن هذا القائل شبَّه قول القائل: أنت طالق في آخر جزء من العدة بقول الرّجل لامرأته: أنت طالق في آخر الحيض. ثم للأصحاب وجهان في أنه هل يبدّع بهذا الطلاق. وهذا اضطراب فاحش، وخلطٌ للأصول، فما قدمناه من وقوع الطلاق مأخوذ من مصادفة الطلاق زماناً من الرجعة، وما استشهد به هذا القائل من إضافة الطلاق إلى آخر الحيض مأخوذ من التردّد في أنا نتبع التعبّد، وقد ورد النهي عن الطلاق في الحيض، أو نستمسك بطرفٍ من المعنى، وهو اعتبار تطويل العدة، وليس في إضافة الطلاق إلى آخر الحيض تطويلُ العدة، فقد تباعد الأصلان، وبان أن الطلاق المضاف إلى آخر عدة الرجعية واقع قطعاً، وليس هو ناظراً لمسألة الولادة، فلم نتحصل من

_ (1) في الأصل: "كما لا يعقب" والتصويب بناء على السياق. وكلام ابن أبي عصرون (ر. صفوة المذهب: جزء 5 ورقة 13 شمال). (2) زيادة اقتضاها السياق.

المسألة على ما نوجّه به قول [القاضي] (1)، ولم نقف في هذا وقوف ناظرٍ أو محيلٍ على ذي فكر بعدنا، ولكن القول الضعيف ضعيف كما وصفناه. فصل قال: "ولو قال: إن شاء الله، لم يقع ... إلى آخره" (2). 9166 - إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، لم يقع الطلاق، وهذا لا يختص بالطلاق، بل لو عقّب العِتاق أو البيعَ، أو الهبة، أو غيرَها من الألفاظ التي يتعلق بها العقودُ، أو غيرُها من الأحكام بالتعليق بالمشيئة، بطلت الألفاظ جُمعُ، ولم يتعلق الحكم بشيء منها. ولو قال [مستحق] (3) الدم: "عفوت إن شاء اله "، فالذي جاء به ليس بعفوٍ. وهذا سمّاه العلماء الاستثناء، وهو في التحقيق تعليق، وسبيل تسمية قول القائل: "أنت طالق إن شاء الله تعالى" استثناء، كسبيل تسمية قول القائل: أنت طالق إن دخلت الدار استثناء، وليس يبعد عن اللغة (4) تسمية جميع ذلك استثناء؛ فإن مَنْ أطلق قوله: أنت طالق، كان يقتضي لفظُه وقوعَ الطلاق على الاسترسال من غير تقيُّد بحالٍ، فإذا عقَّب اللفظ بالاستثناء، فكأنه ثَناه عن مقتضى إطلاقه، ثَنْي [الحبل] (5) عن امتداده، وإنما سُمّي قولُ القائل: أنت طالق ثلاثاً [إلا اثنتين استثناء] (6)، لأن الاستثناء يَثْني موجب اللفظ عن الوقوع. وممّا نمهده في صدر الفصل أن الرجل إذا قال: "أنت طالق إن شاء الله"، فهذا في التحقيق نفي بعد إثبات، وهو مقبول، وليس كقوله: لفلان عليّ عشرة إلا عشرة،

_ (1) مكان كلمة تعذر علينا قراءتها، ورسمت هكذا (الاياا) انظر صورتها. (2) ر. المختصر: 4/ 383. (3) في الأصل: بمستحق. (4) في صفوة المذهب: الفقه بدلاً من اللغة. (5) في الأصل: الخبل. والمثبت من صفوة المذهب: جزءه ورقة 14 يمين. (6) زيادة من صفوة المذهب (السابق نفسه).

وأنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإن الاستثناء المستغرق باطل، والمستثنى عنه نافذ بكماله، وفرّق الأصحاب بين البابين، بأن قالوا: الإتيان بالاستثناء المستغرق لا يبني عليه الجادُّ ابتداءً كلامَه، ولا يعدّ الكلام المتصل به منتظماً على جدٍّ وتحصيلٍ، وأمّا تعليق الكلام بالمشيئة، فمما يعدّ منتظماً، ثم قيل: الكلام بآخره. وهذا يعتضد بأن قول القائل: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً تعقيبُ إثبات بنفيٍ على التناقض [المحض] (1)، وقول القائل: "أنت طالق إن شاء الله" تعليقٌ بصفة صيغتها تتضمن التردّد؛ فإن مشيئة الله غيبٌ لا يُطَّلع عليه، فلم يكن مبنى الكلام على [التنافي] (2) والتناقض، ثم إن وقع الحكم بانتفاء الطلاق لأمرٍ يقتضيه الشرع، فهذا لا يرجع إلى اختلال الكلام في نفسه. هذا هو الفرق. 9167 - وقد حكيتُ فيما أظن عن صاحب التقريب: أن التعليق بمشيئة الله تعالى لا يؤثر في إبطال الألفاظ، وهذا شيء غريبٌ لا تعويل على مثله، وقد قدّمت ذكرَه في كتاب الإقرار، فالتفريع إذاً على ما عليه الأصحاب. ثم لا فرق بين الطلاق والعتاق؛ فإن مشيئة الله غيبٌ في جميعها. وعن مالك: أنه قال: العتق المعلق بمشيئة الله ناجزٌ، والطلاق المعلّق بالمشيئة لا يقع (3)، وقد أورد إسحاق في مسند مُعَاذ بن جَبَل عن يحيى بن يحيى عن إسماعيل بن عيّاشٍ عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحُول عن معاذٍ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاذ ما خلق الله شيئاً على وجه الأرض أحبَّ إليه من العتاق، وما خلق الله شيئاً على

_ (1) في الأصل: المحيض، والمثبت تقدير منا. (2) في الأصل: التناهي، والمثبت من المحقق. (3) هكذا يروي الإمام عن مالك رضي الله عنهما: "أن العتق المعلق بمشيئة الله ناجز، والطلاق المعلق بالمشيئة لا يقع" ولكن الرافعي رضي الله عنه يقول: "روى هذا إمام الحرمين وجماعةٌ عن مالك، والأثبتُ عنه أنه لا يؤثر الاستثناء في العتق، ولا في الطلاق، وإنما يؤثر في اليمين بالله تعالى" (ر. الشرح الكبير: 9/ 34) وما قاله الرافعي صدَّقته مصادر الفقه المالكي وأمهات كتبه. (ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 748 مسألة: 1361، وعيون المجالس: 3/ 1240 مسألة: 864، وجواهر الإكليل: 1/ 351، والتاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب: 4/ 74، وحاشية الدسوقي: 2/ 392).

وجه الأرض أبغضَ إليه من الطلاق؛ فإذا قال الرّجل للمملوك: أنت حر إن شاء الله، فهو حرّ، ولا استثناء له، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فله استثناؤه، ولا طلاق فيه" (1)، وروى أبو الوليد في تخريجه في الأيمان عن معدي كَرِب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق أو طلّق واستثنى، فله ثُنَيَّّاه" (2). ولو قال أنت طالق: إن شاء زيد، توقف وقوع الطلاق على مشيئته، فإن شاء وقع، وإلا لم يقع، والاطّلاع على مشيئته منتظَرٌ كالاطلاع على سائر أفعاله وأقواله التي يفرض تعليق الطلاق بها. 9168 - ولو قال: انت طالق إلا أن يشاء الله، فهذا فصلٌ فيه اضطرابٌ للأصحاب، والرأي في التدرج إليه أن نفرض في مقدمة الخوض في التعليق بالمشيئة تعليقاً بصفةٍ أخرى، ثم تعليقاً بنفيه، ثم نفرض التعليق على هذه [الصِّفة] (3) بمشيئة زيدٍ، ثم نعود بعد ذلك كُلِّه، ونبيّن الحكم فيه، إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله تعالى، فنقول: إذا قال لامرأته: أنتِ طالق إن دخل زيدٌ الدّار، فهذا طلاق متعلق ثبوته بثبوت الدخول، ولو قال: أنت طالق إن لم يدخل زيدٌ الدارَ، فالطلاق ثبوته متعلق بعدم دخول زيد الدار، والطلاق القابل للتعليق يتأتّى تعليقهُ بثبوت الصّفات، ويتأتى تعليقه بانتفائها؛ فإن التعويل على قول المعلِّق، والصفاتُ وإن أُخرجت مخرج الشروط،

_ (1) حديث معاذ رواه إسحاق في مسنده، وأبو يعلى الموصلي، وعبد الرزاق في مصنفه: 6/ 390 رقم 11331، ورواه الدارقطني: 4/ 35، والبيهقي في الكبرى: 7/ 361، وقال: حديث ضعيف، وقال الحافظ في المطالب العالية: منقطع، وكذا البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة. (ر. المطالب العالية: 1643، وإتحاف الخيرة المهرة: 5/ 79 حديث رقم: 4461، ونصب الراية: 3/ 235). (2) حديث معدي كرب رواه أبو موسى المديني في ذيل الصحابة، وبمعناه رواه البيهقي من حديث ابن عباس، ولفظه: "من قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فلا شيء عليه، ومن قال لغلامه: أنت حر إن شاء الله، أو عليه المشي إلى بيت الله، فلا شيء عليه". قال الحافظ: وفي إسناده إسحاق بن أبي يحى الكعبي، وفي ترجمته أورده ابن عدي في الكامل وضعفه (ر. البيهقي: 7/ 361، والتلخيص 3/ 430 ح 1745، ونصب الراية: 3/ 235). (3) في الأصل: الصيغة.

فهي في التحقيق بمثابة الأوقات لما عُلق بها، ويجوز أن يعلق الشيء بوقت ثبوت شيء، ويجوز أن يعلّق بوقت انتفائه. ثم إذا قال الرجل: أنت طالق إن لم يدخل زيدٌ الدار، لم يحكم بوقوع الطلق، ما دام الدخول منتظراً من زيد؛ فإن مات وفات إمكان دخوله، حكمنا بوقوع الطلق. ثم ما عليه الأصحاب أنّ الطلاق [يقع] (1) إذا تحقق اليأس من الدخول، ثم يسند وقوع الطلاق إلى ما قبل اليأس، كما تقدّم. ولو قال لامرأته: "أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار"، [فإنه] (2) إن دخل، لم تطلق، وإن لم يدخل، طُلِّقت، كما إذا قال: أنت طالق إن لم يدخل زيد الدار، فقوله إلا أن يدخل زيد الدار يعطي من المعنى في الحال والمآل على طوري النفي والإثبات ما يعطيه قوله: أنت طالق إن لم يدخل زيد الدار. وينتظم من ذلك أنه إذا قال: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار، فالطلاق معلَّق بعدم دخوله. 9169 - ومما لا يستريب فيه من لا يرضى بالتخابيل أن الطلاق بين أن يُنَجّز أو يعلّق، وهذا تقسيمٌ لا يُفرض عليه مزيدٌ. فإن تعلّق الطلاق، فلا انتجاز في الحال، ومتعلَّق الطلاق نفي أو إثبات، وإن تنجز، فلا يجوز أن يكون له ارتباط بأمرٍ منتظرٍ، ولا يجوز أن يقدّر معنى التنجز، ثم يفرض [فيه] (3) مستدرك. وإنما ذكرنا هذا حتى لا يعتقد الناظر أن قول القائل: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار تنجيز بعده مستدرك؛ فإن الطلاق المنجز لا يستدرك، ولكن حق الفقيه أن ينظر في عاقبة اللفظ ومغزاه؛ فإن رُوعي نفيٌ أو إثبات مأخوذ من اللفظ بوقوع الطلاق، فهو متعلّق الطلاق، والطلاق متعلّق به، ونحن نبني على هذا القول إذا قال: أنت طالق

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: إنه. والمثبت تصرف من المحقق. (3) في الأصل: منه.

إن لم يدخل زيد الدار، ثم [إن] (1) مات زيد ولم ندر أدخل أم لم يدخل، فالرأي الأصحّ أن الطلاق لا يقع؛ فإنا لم ندر هل انتفى دخوله، [فالطلاقُ] (2) متعلق بعدَمِ دخوله. وأبعد بعض من لا بصيرة لهُ، وقال: إذا أشكل دخوله، فالأصل عدم دخوله، وهذا هذيان لا حاصل لمثلِه، فإنَّ توقع الدخول كتوقع عدم الدخول، وهما في مسلك الاحتمال متساويان، ويعارض تساويهما أن الطلاق لا يقع بالشك. ولو قال: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار، ثم مات، ولم ندر أدَخَل أم لم يدخُل، فالذي ذهب إليه الجمهور كُثرهُ (3) أن الطلاق يقع، وإنما صاروا إلى هذا من حيث اعتقدوا أنّه نجّز الطلاق، ثم عقبه بمستدرك، فإذا لم يثبت الاستدراك، فالطلاق مقرّ على تنجيزه. وهذا عندنا خيالٌ (4) لا حاصل له؛ فإن مضمون قوله إلا أن يدخل زيد الدار تعليق، كما أن مضمون قوله إن لم يدخل زيد الدار تعليق، وإذا لم يتحقق متعلّق الطلاق، فالوجه القطع بأن الطلاق لا يقع (5). وعضَدُ هذا وتأييدُه بأن نقول: لم يعلق الزوج الطلاق بأن لا يعلم دخوله، وإنما علّقه بأن لا يدخل، معلِّقاً كان أو مستثنياً. 9170 - فإذا ثبتت هذه المقدمة، رجعنا بعدها إلى تعليق الطلاق بمشيئة شخصٍ، فإن قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، فمعناه في تنزيل الكلام وتقديره:

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: بالطلاق. والمثبت تصرف منا. (3) كُثره: أي معظمه، فالكُثْر: المعظم. (معجم). (4) كذا خيال (بالخاء المعجمة والمثناة التحتية) وأرجح أنها (خبال) بالخاء المعجمة ثم بالموحدة التحتية. حيث يُكثر من هذا اللفظ. (5) خالف الإمام هنا الجمهور، واستقر المذهب على رأي الإمام، قال الرافعي: "وأما الإمام، ففد اختار عدم الوقوع، وهو أوجه وأقوى في المعنى" (ر. الشرح الكبير: 9/ 38). وكذلك قال النووي: "واعلم أن الأكثرين قالوا بالوقوع فيما إذا شككنا في الفعل المعلق عليه، واختار الإمام عدم الوقوع في الصورتين، وهو أوجه وأقوى". ثم قال النووي في زياداته: قلت: الأصح عدم الوقوع، للشك في الصفة الموجبة للطلاق. والله أعلم" ا. هـ (ر. الر وضة: 8/ 98).

أنت طالق إن لم يشأ زيدٌ طلاقَك، أي إن شاء طلاقَك لم تطلقي، فكأنه علق الطلاق بأنْ لا يشاء الطلاق. ثم ممّا يجب التنبّه له -على ظهوره- أنه إن شاء الطلاق لم يقع الطلاق؛ فإن متعلق الطلاق أن لا يشاء، ولو لم يبلغه الخبر، أو بلغه، فلم يشأ نفياً ولا إثباتاً حتى فات الأمر، وقع الطلاق؛ فإنه لم يعلِّق الطلاق بأن يشاء أن لا يطلِّق، وإنما علق الطلاق بأن لا يشاء أن يطلِّق، ثم تنتفي مشيئته بإعراضه وإضرابه، وتنتفي مشيئته بعدم الطلاق بأن يشاء الطلاق، ثم إذا شاء الطلاق، لم يقع بمشيئته الطلاق، وإنما يقع الطلاق بعدم مشيئته الطلاق. وهذا يُحوج الناظر إلى أدنى تدبّر، وهو الذي يقفه على المقصود، وإيجاز اللفظ الكافي أنجع وأوقع في مثل ذلك. ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فمعناه كمعنى قوله: أنت طالق إن لم يشأ زيد، والتقدير أنت طالق إلا أن يشاء زيد أن لا تُطلَّق، فلا تُطلَّق. 9171 - ومما يتعلق بهذا الفنّ سؤال وجواب. فإن قيل: إذا زعمتم أن متعلق الطلاق أن لا يشاء زيد الطلاق، واعتقدتم أن عدم مشيئته متعلَّقُ الطلاق، فلو شاء الطلاق، ثم أعرضَ، أو ترك، فقد تحقق عدم المشيئة، فأوقعوا الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فلم يشأ زيد زمناً، ثم شاء، فإن الطلاق يقع إذا شاء، والثبوت بعد النفي كالنفي بعد الثبوت؟ قلنا: هذا وهم وذهولٌ عن دَرْك معاني الألفاظ، (فالنفي) المرسل محمول على العموم والاستدراك، ولذلك يقتضي النهيُ استيعابَ الأزمنة بالانكفاف، و (الأمرُ) على الرأي المحقق لا يقتضي التكرار واستيعابَ الأزمان بتجديد الامتثال حالاً على حال، والتنبيه في مثل هذا كافٍ. 9172 - فإذا تبيَّن هذا، عُدنا بعده إلى ما هو مقصود الفصل: فإذا قال القائل: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالذي حكاه الصّيدلاني أن الطلاق لا يقع، وحكى قولاً آخر أن الطلاق يقع، وزعم أن الشيخ لم يحكه، ونقل من يوثق به عن القاضي أنه كان

يختار الحكم بوقوع الطلاق، إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله. ولستُ أنكر أن الفطِن الفقيهَ النفس قد يبتدر إلى هذا الجواب، ولكن لو تثبّت، وغضّ نَزَقَات (1) القريحة، ولم يُتْبع نظرَه بوادر مُضطرب النفس، وكان بصيراً بمعنى اللفظ، لتبيّن أن الوجه القطعُ بأن الطلاق لا يقع؛ وذلك أنه قال: إلا أن يشاء الله، فمعناه إلا أن يشاء الله أن لا يقع، فلا يقع، ومشيئةُ الله في تعلقه وعدم تعلّقه بالنفي والإثبات غَيبٌ، وقد أوضحنا بالمقدمات أن النفي في هذه الصّيغة متعلق بالطلاق، وليس الطلاق منجَّزاً، فهذا طلاق معلّق بنفي هو في حقنا غيبٌ، والأصل استمرار النكاح، وعدمُ وقوع الطلاق. ثم قال قائلون من أصحابنا: إذا مات زيد، وكان قال الزوج: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، ولم ندر أشاء أم لم يشأ، فالطلاق واقع. ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فمشيئة الله غيب، ولا نحكم بوقوع الطلاق. ثم أخذ يفرق ويقول: المشيئة صفةٌ طارئة على زيدٍ، فالأصل عدمها، ومشيئة الله صفته الأزلية، فلا يقال: الأصل عدمها. وهذا كلام أخرق لا بصيرة معه؛ فإن الطلاق ليس معلّقاً بنفس المشيئة، وإنما تعلُّقه بعدم مشيئة عدَمِ الطلاق، ومشيئة الله تتعلق ولا تتعلق، فعدم التعلق فيها متعلَّق طلاق الرجل، فما معنى قول القائل: الأصل ثبوت مشيئة الإله؟ ومن ألف كلامَنا وغشيَ أطراف مجلسنا، استهان بمثل هذا الكلام؛ فلا فرق إذاً بين أن يموت زيد ويستبهم علينا مشيئته، وبين أن يقع التعليق بمشيئةٍ أزليةٍ تعلُّقها غيب مستبهَمٌ علينا، فلا يقع الطلاق في الوجهين. 9173 - وقد انتجز تمام الغرض، على تبرّم منا بالإطناب فيه، فإنه واضح، ومن أنعم النظر في مقدّماته، لم يخْفَ عليه دَرْكُ المقصود من آخره. وإنما إشكال الفصل في أن يقول القائلُ: إذا أشكل أمر زيدٍ يقع الطلاق، وإذا قال: إلا أن يشاء الله لا يقع، وهذا أمرٌ لا ينفصل أبداً.

_ (1) نزقات: من النزق: وهو الخفة والطيش. (المعجم والمصباح).

وقد يقال: عدم مشيئة زيدٍ إذاً لا تبين. قيل: لكن [مشيئة الله عز وجل] (1) كذلك ثم إذا شاء الطلاق، فقد جزم العدم، لما ذكرنا من أن العدم المحلوف عليه حقه أن يستمر. فهذه فصول كافية في غرضنا، ونحن نرى أن نصل بمختتم هذا الفصل فروعاً تتعلق بالمشيئة. فروع: 9174 - إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقد ذكرنا أن المشيئة تتعلق بالمجلس، والمعنيُّ بالمجلس قربُ الزمان المعتبر في اتصال الخطاب بالجواب، وقد قدمنا تعليلاً في ذلك، ومِلْنا في التعليل إلى ما في المشيئة من التمليك. ولو قال: "أنت طالق إن شاء فلان"، لم يختص ذلك بقرب زمانٍ ومجلس، وهو بمثابة ما لو قال: "أنت طالق إن قدم فلان". وإذا قال لأجنبي: إن شئتَ فامرأتي طالق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا على التراخي، كما لو قال: إن دخلت الدار. والثاني - إنه على الفور؛ فإنه استدعاء نطقٍ يقع جواباً، فحقه أن يكون على الفور، وقد قال الشافعي: في الإيلاء لو قال لها: والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس، كان مولياً، فشَرَطَ المشيئةَ في المجلس، وإن لم تكن قد مُلّكت الطلاق، [لم] (2) يُعلّق بمشيئتها الطلاق. وهذا يؤكد أحدَ الوجهين في الأجنبي. ويجوز أن يفرضَ في محل النص [تخريجاً] (3) أخذاً من الخلاف المذكور في الأجنبي. ويجوز أن يفرّق بينها وبين الأجنبي، [بأن] (4) الإيلاء قد يُفضي إلى الطلاق، فهي في حكم المملَّكةِ على هذا التقدير.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "ولم" بزيادة (الواو) وهو يقلب المعنى، إذ المقصود: أنها لو لم تملك الطلاق، لم يتعلق بمشيئتها، فهو عُلِّق بمشيئتها لأنها ملكته. (3) في الأصل: تخريجٌ. والتصويب منا على ضوء السياق، فالمعنى: يجوز أن يفرض هذا الوجه تخريجاً من الخلاف المذكور في الأجنبي. وهذا قريب من عبارة ابن أبي عصرون. (4) في الأصل: فإن.

وإذا قال الزوج: امرأتي طالق إن شاءت، قال القاضي: هذا مما أتوقف فيه؛ فإنها لو شاءت، لوقع الطلاق، وملكت نفسها، فهي مخيّرة مُملّكة على هذا الرأي. وينتظم ممّا ذكرناه أنه إذا خاطب امرأته بالمشيئة بحرف (إن)، فهذا على الفور، لاجتماع معنى التمليك والاستنطاق بالجواب، ولو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فهذا لا يُحمل على الفور، لانتفاء معنى التمليك واستدعاء الجواب. ولو قال لزيد: زينب طالق إن شئتَ، فوجهان لوُجُود استدعاء الجواب وانتفاء التمليك. وإذا قال: امرأتي طالق إن شاءت، فهذا فيه معنى التمليك، وليس فيه استدعاء الجواب. وفي هذا الفصل الأخير مستدرك عندي، فإذا قال: وامرأته حاضرة: امرأتي طالق إن شاءت، فيجوز أن يُتخيل في هذا تردد. وإن كانت غائبةً، فقال ما وصفناه، فيبعد اعتبار اتصال [الجواب] (1)؛ فإن الحالة ناطقة بصريح التعليق والبعدِ عن قصد التمليك، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن دخلتِ الدار، فقد ملكها التسبب إلى الطلاق، ثم لم يكن لهذا أثر في حمل الدخول على الفور، ويجوز أن نقول: إذا بلغها الخبر، فيحتمل أن يطلب منها الابتدار إلى المشيئة، وليس هذا بعيداً عن غرض المتكلم. 9175 - وإذا قال: أنت طالق إن شئت أنت وأبوك، فمشيئتها تختص بالمجلس، وإن شاءت هي في المجلس، وأخّر الأبُ، ثم شاء، قال القاضي: لم يقع الطلاق، لأنه قرن بين مشيئة الأب ومشيئتها على الفور، فلزم من المشيئة المقترنة بمشيئتها ما يلزم من مشيئتها. وهذا حكاه رضي الله عنه، وراجعه أصحابه فيه، فأصر عليه. والتحقيق أن مشيئة الأب قرينةُ مشيئةٍ يشترط فيها التعجيل والاتصال، فتكتسب مشيئةُ الأب من الاقتران التعجيلَ؛ فإن حقها أن تكون مقترنة بمشيئة الزوجة، وإذا

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، ثم هي في عبارة ابن أبي عصرون.

تعجّلت مشيئة الزوجة، واقترنت بها مشيئة الأب، كانت على التعجيل. ويحتمل احتمالاً ظاهراً أن تكون مشيئتها على البدار والاتصال، ولا يجب رعاية ذلك في مشيئة الأب، وتقرّ كلّ مشيئةٍ على حكمها لو كانت مفردةً، وهو كما لو قال: أنت طالق إن شئت ودخلتِ الدار، فالمشيئة حقها أن تتنجّز، ودخول الدار لو استأخر، ثم وقع، وقع الطلاق. 9176 - ولو قال: أنت طالق إن شئتِ، فقالت: شئتُ إن شئتَ، فقال الزوج: شئتُ، لم يقع شيء؛ لأن المشيئة حقها أن تكون مبتُوتةً مجزومة؛ فإذا قالت: شئتُ إن شئتَ، فقد أخرجت ما قالت عن كونه خبراً عن المشيئة الحقيقية. وهذا واضح (1). 9177 - ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدةً، فشاء واحدةً، فالمذهب المشهور أنه لا يقع شيء؛ لأن معنى الكلام وتقديره الظاهر: "أنتِ طالق ثلاثاًً إلا أن يشاء أبوك واحدةً، فلا يقع شيء"، فعلّق عدم وقوع الثلاث بمشيئته واحدةً، وقد شاء واحدةً. وهو كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا أن يدخل أبوك الدار، فإذا دخل الدار، لم يقع شيء، فمشيئته واحدة بمثابة دخوله الدار في الصورة التي ذكرناها. وذهب بعض أصحابنا إلى أنهُ يقع واحدةً، والتقدير عنده: أنت طالق ثلاثاًً إلا أن يشاء أبوك واحدة، فواحدة، فكأنه يقول: الثلاث يقعن إلا أن يكتفي الأب بواحدةٍ، فلا يقع إلا واحدة، وهذا التردد فيه إذا أطلق اللفظ، ولم يُرد شيئاً؛ فإن أراد وقوع واحدة على التأويل الذي ذكرناه في توجيه الوجه الضعيف، فلا شك أن الواحدة تقع؛ فإن التأويل وإن بعد، فهو مقبول، إذا كان مقتضاه وقوع الطلقة. ومن قال: إنه يقع واحدة إذا أطلق لفظه، وهو الوجه البعيد، فلو قال اللافظ:

_ (1) علق ابن أبي عصرون على هذا قائلاً: "قلت: بل لم تأت بالمشيئة في الحال، وإنما علقت وجود مشيئتها على وجود مشيئته" (ر. صفوة المذهب: جزء5 ورقة 16 شمال) فهو يرى عدم الوقوع موافقاً للإمام، ولكن يخالف في التعليل.

أردت تعليق انتفاء الثلاث بمشيئته واحدة، فهل يقبل ذلك منه حتى لا يقع شيء؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه يصدّق، ولا يقع شيء. 9178 - ولو قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقالت بلسانها: شئتُ، وكانت كارهةً بقلبها، فلا شك أنا نحكم بوقوع الطلاق ظاهراً، وهل يقع في الباطن؟ قال القفال: جرت هذه المسألة بيني وبين أبي يعقوب الأَبيْوَرْدي، فذهبَ إلى أنه لا يقع الطلاق باطناًً، كما لو قال: أنت طالق إن حضتِ، فقالَت حِضتُ كاذبةً، فهي مصدّقة ظاهراً، ولا يقع الطلاق باطناً. قال القفال: قلتُ: يقع الطلاق باطناًً، وكأنه معلّق بوجود لفظ المشيئة وقد وجد، والدليل عليه أنه لو قال: أنت طالق إن شاء فلان، فقال: شئت، حُكم بوقوع الطلاق وصُدّق، ولو كان معتبر الطلاق مشيئةَ القلب، لكان ذلك بمثابة ما لو قال: "أنت طالق إن دخل فلان الدار"، فقال فلان: دخلتُ، لم يصدق، فدلَّ [على] (1) أن الطلاق معلق بالنطق بالمشيئة (2)، وقد جرى قطعاً.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في هذا الكلام والاستدلال حذف لمعلومٍ أدى إلى ما يشبه التناقض. وبيان ذلك أنه يستدل على أن وقوع الطلاق غير معلّق بمشيئة القلب، فذكر دليلاً على ذلك عدم تصديق فلان إذا قال: "دخلتُ الدار" وهذا عكس المطلوب، فلو كان التعليق بالظاهر، لصدق ووقع الطلاق، ولكن في الكلام حذفٌ للعلم به، والتقدير: وإذا كان من المعلوم المسلم أنه إذا قال لامرأته: "أنت طالق إن دخل فلان الدار" فقال فلان: دخلت، وقع الطلاق، فدلّ ذلك على أن الطلاق معلق بوجود اللفظ الدال على المشيئة والدخول، لا على حقيقة ذلك، ولو كان معلقاً على حقيقة المشيئة، لم يُصدّق فلانٌ المعلّقُ بدخوله إذا قال: دخلتُ. ويشهد لمحاولتنا هذه تلخيص الإمام ابن أبي عصرون لكلام إمام الحرمين؛ إذ قال ما نصه: "ولو قال: أنت طالق إن شئت، فقالت بلسانها: شئت -وهي كارهة- وقع الطلاق ظاهراً، وهل يقع باطناً؟ حكى القفال عن أبي يعقوب الأبيوردي أنه لا يقع، كما لو قال: أنت طالق إن حضت، فقالت: حضت -كاذبةً-، لم يقع في الباطن شيء. وقال القفال: يقع باطناً؛ لأنه معلق بلفظ المشيئة؛ ولهذا لو قال: أنت طالق إن شاء فلان، فقال: شئت، صُدِّق ووقع الطلاق. ولو تعلق بمشيئة القلب، لكان بمثابة قوله: إن دخل فلان الدار، فأنت طالق، فقال: دخلت، وقع الطلاق" ا. هـ (صفوة المذهب/جزء 5 ورقة: 17 يمين).

قال القاضي: لعل ما ذكره الأبيوردي أصح، وما استدلّ به الشيخ (1) فيه نظر؛ من جهة أن تعليق الطلاق على مشيئتها فيه معنى التمليك، وهو يعتمد الإرادة ومحلها القلب، وليس في تعليق الطلاق على مشيئة زيدٍ معنى التمليك، [بل هو] (2) فيه لفظ مجرد منه ظاهراً وباطناًً. وهذا كلام لا يشفي الغليل؛ فإن لفظ المشيئة مشعر بإرادة القلب في الموضعين، ولا وقع لملكها نفسها لو طلقت في هذا المقام، فالوجه في الجواب أن مشيئة زيدٍ وإن تعلقت بإرادة قلبه، فلا مطلع على إرادته إلا من جهته، وما كان كذلك، فلا طريق فيه إلا التصديق، وليس كما [لو] (3) قال: أنت طالق إن دخل فلان الدار؛ فإن الدخول يمكن أن يعرف لا من جهة الداخل. ولو قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فقالت: دخلت، لم تصدق. ولو قال: أنت طالق إن حضت، فقالت: حضتُ، صُدّقت؛ لأن الحيض لا يعرَف إلا من جهتها، كما ستأتي المسائل المعلّقة على الحيض. ومساق كلام القاضي دليل على احتكامه على أبي يعقوب؛ فإن الطلاق إذا كان معلقاً على مشيئة زيدٍ، فقال: شئت، ولم يرد بقلبه - أن (4) الطلاق يقع باطناً تعويلاً على اللفظ، وإنما لا يقع باطناًً إذا كان معلقاً بمشيئة المرأة ولم تُرد بقلبها، وهذا تحكُّم محال. وأبو يعقوب أفقه من أن يسلّم الفرق بين المسألتين، ولكن المسألة تدور على [نكتة] (5)، وهي أن المرأة لو أرادت الطلاق بقلبها ولم تنطق بالمشيئة، فإن كان

_ (1) الشيخ: المراد به هنا القفال. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) زيادة من المحقق. (4) المعنى أن الطلاق يقع ظاهراً وباطناًً إذا كان معلقاً بمشيئة زيد ولم يشأ بقلبه، بل بلفظه فقط، وإذا كان معلقاً بمشيئة المرأة، فلا يقع باطناًً إلا إذا شاءت بقلبها؛ لأن في التعليق بمشيئتها معنى التمليك، بخلاف الأجنبي. هكذا وبهذا التفريق رجح القاضي كلامَ الأبيوردي. (5) في الأصل: ثلاثة، ورسمت هكذا (ثلثه). ويعلم الله كم أضنانا هذا التصحيف، حتى بلغ بنا الضيق والضجر مبلغاً سدّ منافذ الفكر والطاقة نحو يومين، ونحن نراوح في مكاننا صباح =

أبو يعقوب يزعم أن الطلاق يقع باطناً لتحقق إرادة القلب، ولكن لا يقع الحكم به لعدم الاطلاع، [فيستدُّ] (1) كلامُه، وإن سلّم أن الطلاق لا يقع باطناًً، فيضعف ما ذكره، ونتبين أن متعلق الطلاق اللفظُ المجرد. والذي أراه أن استدلال القفال حَرَّفه النقلة، والخلل يتسرع إلى النقل، سيّما في العلوم المعنوية، وعندي أن القفال ألزمَ الأبيوردي وقوع الطلاق بإرادة القلب، فقال أبو يعقوب: يقع، فقال القفال: يجب أن يصدّق إذا أخبر عن إرادة قلبه، هذا يجب أن يكون مجال الكلام، ولأبي يعقوب أن يرتكب (2) مسألة الأجنبي، ويقول: يصدّق. 9179 - فأما إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فأرادت بقلبها، ولم تنطق، فيجب القطع بأن الطلاق لا يقع باطناًً وظاهراً؛ فإنَّ شرطَ جوابها أن يكون على صيغة الأجوبة واتصالها بالخطاب، والكلام الجاري في النفس لا يكون جواباً، فكأن الزوج علق الطلاق بإرادة وجوابٍ، فإذا لم يتحقق الجواب، لم يقع الطلاق ظاهراً وباطناًً. ولو قال لامرأته: أنت طالق متى شئت، فهي كالأجنبي، فإن الجواب غير ملتمسٍ منها. 9180 - وانتظم من مجموع ما ذكرناه أن التعليق إن كان على مشيئةٍ تقع جواباً، فالطلاق لا يقع بمجرّد إرادة القلب ظاهراً وباطناًً. وإن شاءت على الاتصال، وهي كارهة بقلبها، وظهر اللفظ منها، فهذا موضع تردّد الإمامين (3). وإن كان الطلاق معلقاً بالمشيئة من غير اشتراط صيغة الجواب، فإن وُجد لفظ المشيئة مع كراهية

_ = مساء، حتى علم الله صدق عزيمتنا فألهمنا قراءتها، فله وحده الحمد والمنة، وإليه ألجأ لائذاً بحوله وقوته بارئاً من حولي وقوتي (انظر صورة الكلمة). (1) في الأصل: "فيستمرّ" والمثبت تقدير منا على ضوء معرفتنا بألفاظ الإمام. والله أعلم. (2) سبق أن أشرنا إلى معنى (الارتكاب) الذي يعنيه إمام الحرمين في مثل هذا السياق. وهو واضح هنا من هذا السياق. فكل من يُلجئه مُناظره ويُلزمه ما لا يصح، فإذا لم يجد جواباً، والتزم ما لا يُسلّم ولا يصح، فهو (مرتكب). (3) الإمامين: القفال والأبيوردي.

القلب، فالطلاق يحكم به ظاهراً وفي الباطن التردد الذي ذكرناه، وإن وجدت الإرادة باطناًً، ولم يوجد لفظ المشيئة، فمن لا يعتبر الباطن، يقول: لا يقع الطلاق باطناًً لعدم اللفظ، والأبيوردي قد يقول: يقع الطلاق بإرادة القلب باطناًً، إذا لم يجر في التعليق استدعاء جواب. هذا منتهى الكلام في ذلك. فرع: 9181 - ولو قال لزوجته الصبية: أنت طالق إن شئت، فقد قدّمنا ترددَ الأئمة في ذلك، وميلُ الأكثرين إلى أن الطلاق لا يقع، وهذا قد يؤكّد مذهب الأبيوردي، فإنه لو كان التعويل على مجرد اللفظ، فلفظها منتظم كائن، وذهب ذاهبون إلى أن الطلاق يقع، كما لو قال للصبية: أنت طالق إن تكلمتِ أو قلت: شئتُ، فقالت: شئت. ولو قال لمجنونةٍ: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت، لم يقع الطلاق وفاقاً، والسبب فيه أنا وإن كنا نعتمد اللفظَ، فالشرط صدَر (1) اللفظ ممّن يتصوّر أن يكون لفظه إعراباً عن مشيئة قلبه، ولا يثبت للمجنونة قصدٌ على الصحة، وليس هذا كما لو قال: إن تكلمتِ. وإن قال: إن شئتِ، فقالت في سكرها: شئتُ، فهذا يخرّج على أن السّكران كالمجنون أو كالصاحي. وكان شيخي يقطع بأنه لو قال للصبيّة: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت لا يقع شيء؛ فإنه لا عبارة لها في معاملات الأموال، وليس كما لو قال: إن شئت، فقالت: شئتُ، ففيه الخلاف المقدم. وقال القاضي: قبول الصبيّة يجوز أن يكون بمثابة قبول المحجورة السّفيهة، حتى يقع الطلاق رجعياً، ولا يثبت المال. وهذا بعيد جداً. ولو قال: طلّقي نفسك إن شئت، والتفريع على أن هذا تمليك يستدعي جوابها

_ (1) صَدَرُ: أي صدور. وهذا الاستعمال لهذا المصدر هو الغالب، بل الدائم في لغة إمام الحرمين.

على الفور، فللزوج الرجوع قبل أن تجيب. ولو قال لها: أنت طالق إن شئت، وأراد الرجوع قبل أن تقول: "شئت"، فلا يقبل رجوعه، فإن هذا في ظاهره تعليق، والتعليق لا يقبل الرجوع. كما لو قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، ثم قال: رجعتُ عما قلت، فلا أثر لرجُوعه. وإذا اتصل الإعطاء، وقع الطلاق. فإذا قال: طلقي نفسك إن شئت، والتفريع [على أن هذا تفويض، فلا يستدعي جوابَها على الفور] (1)، فلو ابتدرت وقالت: طلقت نفسي [و] (2) شئت، فلا إشكال، ولو قالت: طلقت نفسي، فقال الزوج: رجعتُ -قبل أن تقول: شئت- فلا أثر لرجوعه؛ فإنه لم يبق إلا التعليق بالمشيئة، وقد ذكرنا أن التعليق لا يقع فيه الرجوع، ولو أراد الزوج أن يرجع قبل أن تقول: طلقت نفسي، نفذ رجوعه؛ فإن تفويض الطلاق يقبل الرجوع قبل أن [تجيب] (3)؛ فقد اشتمل كلامه على ما يؤثر الرجوع فيه وعلى ما لا يؤثر الرجوع فيه. فانتظم الأمر في قبول رجوعه مرةً وردِّه أخرى، كما وصفنا. 9182 - ومما ذكره الأئمة في المشيئة أنه لو قال لامرأته: يا طالق إن شاء الله. قالوا: يقع الطلاق، ويلغو الاستثناء؛ فإن الاستثناء إنما يعمل في الأخبار وصيغ الأفعال، فأما الأسامي، فلا عمل للاستثناء فيها. وهذا فيه نظر؛ فإن الطالق وإن كان اسماً، فمعناه يعني طلقتك، ولو أراد أن يصرف اللفظ عن اقتضاء الإيقاع، لم يقبل منه أصلاً. وإذا قال: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله، لم يقع شيء والثلاث تقع تفسيراً لمصدرٍ يُضمِّنه الطلاق، وهو متعلق الاستثناء، فالوجه عندنا صحة الاستثناء، وانتفاء الطلاق. وقد وجدت هذا في مرامز المحققين. ولو قال: يا طالق أنت طالق ثلاثاًً إن شاء الله، انصرف الاستثناء إلى الثلاث، ووقعت طلقة بقوله: يا طالق، وهذا بيّن.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، واستقامة الكلام. (2) (الواو) زيادة من (صفوة المذهب: جزء 5 ورقة 18 يمين). (3) في الأصل: تجيز. والمثبت تقديرٌ منا.

9183 - ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً يا طالق إن شاء الله. قال الأصحاب: لا يقع عليها شيء؛ لأن قوله: يا طالق لا يعمل الاستثناء فيه، فانصرف إلى ما يقبل الاستثناء، وهو قوله: أنت طالق ثلاثاًً، وامتنع وقوعها، ولم نُوقع طلقة [بقوله] (1) يا طالق بعد إيقاع الثلاث؛ لأنه وصفها بالطلاق [لإضافة الطلاق] (2) الثلاث الذي أوقعها [إليها] (3) وقد لغت الثلاث؛ فلغا الوصف الصادر عنها، ولم ينقطع حكم الاستثناء بما تخلل بينه وبين المستثنى عنه من قوله يا طالق، لأنه على وفق المستثنى عنه من جنسه، فالاستثناء إنما ينقطع إذا تخلل بينه وبين المستثنى عنه ما ليس من جنس النظم الذي يتسق فيه الاستثناء، فلو قال: طلقتك يا فاطمة إن شاء الله، أو أنت طالق [ثلاثاًً] (4) ياحفصة إن شاء الله، فالاستثناء يعمل، ولايضرّ تخلل التسمية بين الاستثناء وبين المستثنى عنه. وهذا فيه وجهان من النظر: أحدهما - ما قدمناه من صرف الاستثناء إلى الطالق، فلا امتناع فيه، فيتّجه إذاً ربط الاستثناء بالطالق وقطعه عن الثلاث، وإذا انقطع الاستثناء عن الثلاث وقعنَ، فيبقى الطالق القابل للاستثناء في وضعه، والاستثناء مختص به، ولكن لا يعمل في هذه المسألة بعد أن طلقت ثلاثاً. ولا يمتنع أن يقال: يلغو الاستثناء، لتخلل "الطالق"؛ فإنه في حكم اللّغو الذي لا حاجة إليه، وليس كالتسمية؛ فإنها تجري على سَداد الكلام وحسن النظم، والطالق في قوله: "أنت طالق ثلاثاًً يا طالق إن شاء الله" فضلةٌ [مستغنى عنها] (5)، فيُقْطع الاستثناء ويقع الثلاث على هذا التأويل. ويتجه وجهٌ آخر - وهو صرف الاستثناء إلى الثلاث وإبطال الثلاث، فيبقى قوله: "يا طالق"، فتطلق طلقة بذلك، ولا حاصل لقول من قال: هذه الصفة صادرة عن

_ (1) في الأصل: لقوله. (2) زيادة اقتضاها السياق، وهي في صفوة المذهب (السابق نفسه). (3) زيادة من المحقق. (4) زيادة من صفوة المذهب (السابق نفسه). (5) في الأصل: فضلة مستغثة.

الثلاث، بل هي مقالة مستقلة بنفسها، فيرتبط بها حكمها. 9184 - ما سبق ثلاثة أوجه: أحدها - إنه لا يقع شيء وهو الذي حكاه القاضي. والثاني - إن الثلاث تقع، وله معنيان. والثالث - إنه يقع طلقة واحدة، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله يا طالق؛ فإنه لو قال هذا، بطلت الثلاث بالاستثناء، ويقع طلقة بقوله آخراً: "يا طالق". 9185 - ولو قال: أنت طالق يا زانيةُ إن دخلت الدار، فالطلاق معلق بالدخول، ولا يضرّ تخلل ما جرى. 9186 - ومما نذكره في خاتمة الفصل ونجمع فيه تراجم، أنه لو قال لامرأته: أنت طالق إن لم يشأ الله، فقد نص الشافعي على أن الطلاق لا يقع؛ فإنه علقه بمحال؛ فإذا كان المحال لا يقع، كما لو قال: أنت طالق إن صعدت السّماء، فإذا استحال صعودها، انتفى الطلاق، وكذلك إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فعدم تعلق المشيئة بالطلاق مع وقوع الطلاق محال. قال صاحب التلخيص: لو قلت: "يقع الطلاق"، لم أكن مُبعداً؛ فإنه خاطبها بالطلاق وقال بعده محالاً غيرَ ممكن في العقد، وما لا إمكان له لا تعليق به، وليس كالتعليق بصعود السماء؛ فإن الرب قادر على إقدار العبد عليه، وقد قدمنا خلافاً بين الأصحاب فيه إذا قال: "أنت طالق إن صعدت السماء" ورتبنا عليه جملاً تُوضِّح الغرض، وسنعود إليها في الفروع، إن شاء الله. فانتظم فيه أنه لو قال: أنت طالق إن شاء الله، لم يقع الطلاق. وحكى صاحب التقريب والشيخ أبو علي قولاً غريباً أن الطلاق يقع، ونقلا للشافعي نصاً أنه لو قال: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، فهو مظاهر، وطرد المحققون هذا القولَ في الطلاق، والعقودِ جُمَع والحلول، وكلَّ لفظ حقه أن ينجزم، ورام بعض الأصحاب أن يفرق بين الظهار وغيرِه، ولست أرى لذكر ما لا أفهمه وجهاً. وقال بعض المحققين: الاستثناء بعد الإقرار باطل، فإذا قال الرجل: لفلان علي عشرة إن شاء الله، فالعشرة ثابتة، والاستثناء باطل؛ فإنه أخبر ثم رام بآخر كلامه أن

ينفي، فأما ما هو إنشاء، فشرطه أن يصح اللفظ فيه، فإذا قال: إن شاء الله، لم يأت بلفظ صحيح، فلا يصلح اللفظ المضطرب للإثبات. وكل ذلك خبطٌ والصّحيح أن التعليق بالمشيئة [يفنِّد] (1) جميعَ ما تقدم من إقرار وإنشاء، وحَل وعَقْد، وطلاق وظهار. ولو قال: أنت طالق إن لم يشأ الله، فالنص أنه لا يقع، وخَرَّج صاحب التلخيص الوقوع. ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالصحيح أن الطلاق لا يقع، وقد أطنبنا فيه. وفي المسألة قولٌ آخر: إنه يقع، زعم القاضي أنه القياس، وهو غفلة منه، والصحيح أنه لا يقع. قال الصّيدلاني: كان القفال لا يذكر غيره. 9187 - ومما نذكره متصلاً بالفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق، ثم كما (2) تم اللفظ بدا له أن يقول: "إن شاء الله تعالى"، فقاله على الاتصال، ولكنه لم ينشىء اللفظ على قصد أن يعقبه بالاستثناء، قال أبو بكر الفارسي: لا خلاف أن الطلاق يقع؛ فإن الاستثناء أنشاه بعد وقوع الطلاق، وهذا المعنى ظاهر، لا مناكرة فيه، ولكنه جمعَ مسائلَ عويصةً، وادّعى الإجماع فيها، فلم تسلم له دعوى واحدةٍ منها، وخالفه الأصحاب في جميعها، فكذا (3) حتى ذكروا خلافاً في هذه المسألة، وكان شيخي يَعْزيه إلى الأستاذ أبي إسحاق، ورأيته لغيره. ولست أرى له وجهاً؛ فإن الطلاق يقع مع تمام اللفظ، فإنشاء الاستثناء بعده تداركُ طلاقٍ واقعٍ. وأبو بكر ما نقل الإجماع في المسائل، ولكن ذكرَ مسائلَ غريبةً تستند إلى معانٍ ظاهرة لا مُدرك فيها إلا المعنى، ولا ينقدح فيها إلا وجهٌ واحد، وهذه المسألة من أظهرها.

_ (1) في الأصل: يفيد. وفي صفوة المذهب: "يبطل". والمثبت اختيارٌ منا لأقرب الصور إلى الموجود في الأصل. (2) كما: أي عندما. (3) كذا بهذا الرسم (فكذا). (انظر صورتها).

ثم ما ذكره يجري في التعاليق، فلو قال: أنت طالق، ثم بدا له أن يقول: إن دخلت الدار، فقاله، فالطلاق يتنجز على ما ذكر، والتعليق بعده طائحٌ (1). ومن خالف في مسألة الاستثناء يخالف في هذه. قال شيخي عن القفال: إذا قال: أنت طالق واحدة ثلاثاً إن شاء الله، فلا يقع شيء، وينصرف الاستثناء إلى جميع الكلام، والواحدة التي قدّمها معادة في الثلاث، فانصرف الاستثناء إلى [جميع] (2) الكلام. ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً ثلاثاً إن شاء الله، لم يقع شيء. ولو قال: أنت طالق واحدةً وثلاثاً -بالواو العاطفة- إن شاء الله، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الاستثناء يرجع إلى الجميع؛ فإنه وإن عطف، فلا مزيد على الثلاث، وإذا تعلقت الثلاث بالمشيئة، لم يقع شيء. والوجه الثاني - أن الطلقة الأولى تقع، والواو فاصلة. ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً وثلاثاًً إن شاء الله، فوجهان: أحدهما - لا يقع شيء. والثاني- يقع الثلاث، والواو فاصلة مانعة من انعطاف الاستثناء. ولو قال: أنت طالق واحدة واثنتين إن شاء الله، فهذا مخرَّج على أنا هل نجمع ما يفرقه من الصيغ؟ فإن لم نجمع، وقعت الطلقة الأولى، وإن جمعنا، لم يقع شيء. ...

_ (1) في هامش الأصل: "حاشية: أي ساقط" وعبارة (صفوة المذهب: 5/ورقة 19 يمين): "فالطلاق يقع، ويلغو التعليق". (2) في الأصل: يوم الكلام.

باب طلاق المريض

باب طلاق المريض قال الشافعي: "وطلاق المريض والصحيح سواء ... إلى آخره" (1). 9188 - طلاق المريض واقع كطلاق الصحيح، لا مراء فيه، ومقصود الباب الكلام في انقطاع الميراث، وتحصيلُ المذاهب في ذلك، فنقول: إذا طلق في الصحة، وأبان، انقطع الميراث، من الجانبين سواء اتفق موت الزوج، وهي في العدة بعدُ، أو مات بعد انقضاء العدة، وسواء كان الطلاق بسؤالها أو لم يكن بسؤالها. وإن كان الطلاق رجعيّاً، فالرّجعية زوجة في الميراث: إن مات الزوج وهي في عدة الرجعية، ورثته، وإن ماتت في العدة ورثها. 9189 - فأما الطلاق في مرض الموت، فإن كان رجعياً، فالتوارث قائم ما دامت في العدة، حتى لو ماتت قبل انقضاء العدة، ورثها الزوج ولو مات، ورثته. ولو أبانها، نُظر: فإن أبانها بسؤالها أو اختلاعها، انقطع الميراث، ولم يكن الزوج فارّاً؛ لأنه غير مُتّهم؛ إذ هي الراغبة في البينونة. وذكر العراقيون: أن من أصحابنا من أجرى القولين اللذين سنذكرهما في انقطاع الميراث، ونسبوهُ إلى ابن أبي هريرة، وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فهو معتضد بقصة عبد الرحمن بن عوف وزوجتِه تماضر (2)، فإنها [سألت] (3) الطلاق، فطلقها

_ (1) ر. مختصر المزني: 4/ 83. (2) قصة عبد الرحمن بن عوف رواها الشافعي من حديث عبد الله بن الزبير، وقال: هذا حديث متصل (الأم: 5/ 138)، ورواها عبد الرزاق في مصنفه (7/ 62 ح 12192)، والبيهقي في الكبرى (7/ 329، 330)، ورواها مالك في الموطأ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (2/ 571 ح 40). أما الرواية التي فيها أن الطلاق كان بسؤال زوجة عبد الرحمن، فقد رواها مالك في الموطأ عن ربيعة (2/ 572 ح 42). (3) في الأصل: "سات" هكذا ولعلها صحفت إلى (شاءت).

ثلاثاًً، وورّثها عثمان. وهذا غير مُعتدٍّ به، وقد ذكرنا في الطلاق البدعي اتفاقاً في أن الخلع ليس بدعياً، وفي الطلاق بالسؤال [قولين، و] (1) لست أدري هل نجريهما [هاهنا] (2) في الاختلاع؟ ولا ينبغي أن نعتني بالتفريع على الضعيف. 9190 - وإن لم تسأل الطلاق، فطلقها ثلاثاً، أو طلقها الطلقةَ الثالثة الباقية، أو سألت طلقةً أو طلقتين رجعيتين، فطلقها ثلاثاًً، فلا أثر للسؤال في هذا المقام، [فالمسائل] (3) يُخرّجُ في جميعها قولان: أظهرهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الميراث ينقطع، والعبارة المشهورة عن هذا القول: "أنا لا نجعله فارّاً، بل نقضي بانقطاع الميراث؛ لأن علة الوراثة عصمة الزوجية، وقد انقطعت". والقول الثاني - أن الميراث لا ينقطع، نص عليه في القديم، واعتمد حديثَ عبد الرحمن -كما ذكرناه- في المسائل، وهو في القديم كان يقدم الأثر على القياس، والعبارة عن القول القديم: "أنا نجعله فارّاً ونتّهمه بقصد قطع الميراث، ونعاقبه بضدّ مقصوده، كما نحرم القاتلَ الميراثَ؛ من جهة أنا نتّهمه باستعجال الميراث". ثم إذا فرّعنا على القديم، فعبارتنا عنه أنه فارّ، وإن جرت مسألة فيها خلاف وردَّدنا هذه العبارة بين النفي والإثبات، فليعرف الناظر هذا في صدر الباب، ثم ينتظم في التفريع على هذا القول اتباع التهمة، والتفريعات مطردة على هذا المعنى. وإن لم يكن له ثبات في سبر النظر وإقامة الجدال، ورُبَّ معنىً نستعمله رابطةً للتفريعات، فيجري، ولا نرى التمسك به في الخلاف. 9191 - فإن ورثنا المبتوتة، فإلى متى نورثها؟ فعلى أقوال: أحدها - أنا نورثها إلى أن تنقضي العدة؛ فإن مات الزوج قبل انقضاء العدة، ورثته، وإن مات بعد انقضاء العدة، لم ترث؛ فإنّ العدة تابع من توابع النكاح، وعُلْقَة من بقايا أحكامه، وهذا مذهب أبي حنيفة (4).

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (2) زيادة رعاية للسياق. (3) في الأصل: "والمسائل" والمثبت تقدير من المحقق. (4) ر. مختصر الطحاوي: 203، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 432 مسألة 942، طريقة الخلاف: 123 مسألة 51، إيثار الإنصاف: 179.

والفول الثاني - أنا نورثها إلى أن تنكح، وهذا مذهب ابن أبي ليلى (1)، ووجهه أن اعتبار العدة باطل؛ فإنها بائنة في العدة وبعد انقضائها؛ فلا معنى للنظر إلى العدة، ولو طلقها في الصحة، ثم مرض ومات وهي في العدة، لم ترثه، فإذا بطل اعتبار العدة، فالنظرُ إلى النكاح؛ فإنها لو نكحت، صارت محل أن ترث زوجها الثاني، فبعُد أن تورّث من زوجين، ولا يمتنع أن نجعل تزوجها إسقاطاً منها لحقها، والأولى التعلّقُ باستبعاد توريثها من زوجين. والقول الثالث - أنا لا نُسقط ميراث المبتوتة بشيء إلا بأن تموت قبل زوجها، فلو نكحت أزواجاً، فميراثها قائم؛ فإن حق الإرثِ إذا ثبت لم يسقط، وإذا أدمنا توريثها بعد الزوجية، لم نُبق لمستبعدٍ متعلَّقاً، وهذا مذهب مالك (2). 9192 - وممّا نفرّعه أن المريض لو طلق زوجته التي لم يدخل بها، فإن قلنا في المدخول بها: إذا انقضت عدتها لم ترث، فغير المدخول بها لا ترث؛ إذ لا عدة عليها، وإن لم نعتبر العدة في المدخول بها، ورّثنا هذه، ثم إلى متى ترث؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها ترث إلى أن تتزوج. والثاني - أنه لا ينقطع حقها من الميراث ما لم تمت قبل المطلِّق. 9193 - ومن الأصول المفرّعة على القول القديم أنه لو كان تحته أربع نسوة، فطلقهن في مرض الموت، وتزوج بأربعٍ سواهن، ثم مات، ففي المسألة ثلاثة أوجهٍ: أحدها - أن حق الإرث للمطلقات، ولا ميراث للواتي نكحهن في المرض؛ فإنه نكحهن ونصيبُ الزوجات مستحَق من الميراث، فلا حظ لهن؛ إذ لا سبيل إلى حرمان الأوائل، ويبعد توريث أكثر من أربع. والوجه الثاني - أن الميراث بين البائنات وبين المنكوحات؛ فإن البائنات لم ينقطع

_ (1) ر. بداية المجتهد لابن رشد: 2/ 89، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 2/ 1243 مسألة 866، اختلاف الفقهاء للمروزي: 241 مسألة 98. (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 750، 751 مسألة 1363 - 1365، عيون المجالس 3/ 1240 مسألة 865.

استحقاقهن، وإذا ورثناهن، استحال أن نحرم المنكوحات، وعلى هذا الوجه لا يمتنع أن نورث عدداً كثيراً من النسوة بفرض نكاحهن وطلاقهن. والوجه الثالث - أن الميراث للمنكوحات، ويسقط بهن حق المطلقات، فإنا ورثناهن لتعلقهن بآثار [النكاح] (1) والمنكوحات الجديدات مستمسكات بعين النكاح؛ فكنَّ أولى من صواحبات العلائق والآثار. وهذه الأوجه إنما تنشأ لزيادة [العدد] (2) على مبلغ الحصر، فلو طلق امرأة ونكح أخرى، فلا وجه إلا الاشتراك إذا كنا نفرّع على الوجه الأول، أو على الوجه الثاني، أمّا الوجه الثاني، فمقتضاه الاشتراك، وأما الوجه الأول، فمقتضاه تخصيص المطلقات في الصّورة الأولى، وهذا لا ينقدح في هذه الصورة؛ فإنا نقدّر كأنّ التي طلقت لم تطلق، ولو لم يطلق الأولى ونكح عليها أخرى، لاشتركتا، وهذا على وضوحه يجب ألا يُغْفَلَ عنه؛ إذ قد يظن [ظانٌّ] (3) أن الواحدة تستغرق الربع أو الثمن كالأربع، ويحسَبُ أن الخلاف يجري في مطلقة ومنكوحة، وليس الأمر كذلك؛ [فما] (4) ذكرناه من إدخال منكوحة على منكوحة، وهذا لا يتحقق مع الزيادة على الحصر. فأما إذا فرعنا على الوجه الثالث، وهو أن الميراث للمنكوحات الأربع المتأخرات، فإذا طلق واحدة ونكح أخرى، فكيف الوجه وقد وجهنا الوجه الثالث باستمساك المتأخرات بحقيقة النكاح؟ نقول: لا ينقدح إلا التشريك؛ فإن التشريك بين اثنتين ممكن، وهذا كما لو نكح امرأتين، فأبان إحداهما في المرض -والتفريع على القديم- فالميراث بين الباقية في حالة النكاح وبين البائنة، فاستبان أن الأوجُه في فرض الزيادة على العدد المحصور. 9194 - صورة أخرى: إذا طلق أربعاً وأبانهنّ، ونكح واحدةً، فإن رأينا تخصيص

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، وهي في صفوة المذهب. (2) في الأصل: "العبد" وهو تصحيف واضح. (3) في الأصل: طلق. (4) في الأصل: (ما) والمثبت تصرف منا رعاية للسياق.

المطلقات، حرمنا الجديدة، وإن رأينا الإشراك أشركنا، وإن رأينا في الصورة الأولى تقديم المنكوحات، [فلا] (1) وجه إلا صرف جميع ميراث الزوجات إلى الواحدة الجديدة، فإن الذي نحاذره الزيادة على العدد، وإذا عسر، خصصنا الميراث بأحد [الحِزْبَيْن] (2) والمنكوحة أولى. ولو طلق واحدةً، ونكح أربعاً، فإن أشركنا، فلا كلام، وإن خصصنا المنكوحات، حرمنا المطلقة، وإن خصّصنا [المطلقات] (3)، انفردت الواحدة [البائنة] (4) بجميع الميراث، وسقطت الزوجات. 9195 - ولو علّق طلاقها في المرض نُظِر: فإن علَّقهُ بفعل نفسه، ثم أوجد ذلك، فهو فارٌّ. وإن علّق بفعلها، ولها منه بدٌّ، ففعلت وبانت، فليس بفارٍّ، كما لو سألت (5). وإذا ذكرنا قولاً بعيداً، لم نعُد إليه. وإن لم يكن لها منه بدٌّ وكانت مدفوعةً إلى ذلك الفعل محمولةً عليه طبعاً أو شرعاً: كالنوم، والطهارة، وتأدية الفرائض، فالرجل فارّ. وإن علّق الطلاق في المرض بفعل أجنبيّ أو بمجيء وقتٍ، أو جريان شيء من الحَدَثان (6)، فتحقَّقَ ذلك، فالرجل [فارّ] (7) بمثابة المنجِّز في المرض.

_ (1) في الأصل: ولا، والمثبت تقدير منا. (2) في الأصل: الجزأين. والمثبت تصرف من المحقق، ووجدناه في عبارة صفوة المذهب. (3) في الأصل، وفي صفوة المذهب: "المطلقة" وهو تصحيف، حيث الكلام عن صورة طلاق الأربع ونكاح أربع أخريات. (4) في الأصل: الثانية، والمثبت تقدير من المحقق. ثم هي مصحفة أيضاًً في صفوة المذهب: جزء (5) ورقة (20) شمال. (5) كما لو سألت: أي سألت الطلاق. (6) الحدثان: بفتحاث ثلاث ثم ألف مد بعدها نون: يراد بها هنا نوائب الدهر وحوادثه (ر. المعجم). (7) في الأصل: "فان" وهو تصحيف واضح.

ولو علق الطلاق بفعلها، فنسيت، قلنا؛ إن لم يكن عندها علم من (1) اليمين، فالرجل فارّ. وإن كان عندها علم، وظهر من قصده أنه رام منعها عن ذلك الفعل، فإذا نسيت وفعلت، وحكمنا بوقوع الطلاق مع نسيانها، فهل نجعل الرجل فارّاً؟ هذا يحتمل: إن نظرنا إليه، فإنه لم يجرّد تطليقها، وإن نظرنا إليها، فلم يوجد منها ما يحل محلَّ سؤالها الطلاق، والأشبه أنه فارّ؛ لأنه علق الطلاق في المرض، فوقع من غير قصدها، والمعلَّق على هذا الوجه كالمطْلَق. وممّا يتعلق بذلك أنه إذا علق الطلاق بتطعّمها، فما حدّ الحاجة؟ أنجعلها على حدّ الضرورة كالتي لا تختار الطلاق ونجعلها دون الضرورة مختارةً أم نعتبر شيئاً آخر؟ وما قولنا في التَّفِلَة (2)؛ هذا كلام منتشر. أما الضرورة، فلا نرعاها، فإذا أكلت أكلاً عَدَمُه يضرّ بها، فليست مختارة، وإن تلذّذت بالطعام، وذلك يضرها، فنجعلها كالمختارة، وإن تلذذت والأكل ينفعها، فيجوز أن يُلحق بجنس الطعام؛ فإن الفصل بين هذه المراتب عسر، يعجز عنه مهرة الأطباء، ويجوز أن تجعل كالمختارة فيه. والذي أراه أن التعويل في هذا على ظنّها، فإن ظنت تطعّمَها على حدٍّ يضر تركه، فليست مختارةً -وإن كان الأمر على ضدّ ذلك- بناءً على ما مهّدتُه في النسيان. وإن ظنت أن ذلك التطعّم مضرّ، فهي مختارة وإن كان الأمر على خلاف ما ظنت، فهذا نوع من الكلام في تعليق الطلاق. 9196 - ومما يتعلق بتمام الكلام في هذا القولُ في تعليق الطلاق في الصحّة مع وقوعه في المرض، أو في زمنٍ يتصل بهِ، ونحن نفصِّل هذا بالمسائل.

_ (1) كذا في الأصل وفي صفوة المذهب أيضاًً. والمعنى -كما هو واضح- أنها ليس عندها علم عن يمين تعليق طلاقها. (2) التفلة: في الحديث: "وليخرجن تفلات" أي غير متطيبات، ولا متزينات. فالتفلة التي تركت زينتها هذا معناها في الأصل، ثم استخدم هذا في معنى الزهد والتقلل، والرغبة عن الطعام.

فإن علق الصّحيحُ الطلاق بمقدمات الموت وما يُنبىء عنه، فهو فارٌّ، وإن جرى التعليق في حالة الصحة، وذلك مثل أن يقول: إذا وقعتُ في النزع، أو تردّدت روحي في الشراسيف (1)، فأنت طالق، وإنما قطعنا بكونه فارّاً؛ لأنه اعتمد الفرار وأضافه إلى المحل الذي ينشأ منه التهمة. وكذلك لو قال: أنت طالق قبل موتي بيوم أو يومين، وذكر مدة قريبةً، الأغلبُ أن مرض الموت ينبسط عليها، فإذا مات وتبيّنا بتاريخ تلك المدة أن الطلاق وقع في أولها، وأولها في الصّحة -كذلك اتفق (2) - فالرجل فارٌّ، والتعليقُ في الصحة والوقوع في الصّحة (3)؛ فإن معتمد هذا القول تحقق التهمة. وقد ذكرت في مقدمة الباب [أننا] (4) نعتبر التهمة تطرد في التفريع على القول القديم، وقد وقع الطلاق في هذه المسألة في وقتٍ لو نجّزه فيه لم يكن فارّاً (5). وكان شيخي أبو محمدٍ يقول: "إذا علق الصحيح الطلاق على الموت، أو على مرض الموت، ففي كونه فارّاً خلاف". وهذا مجازفة وذهول عن المسألة. نعم، الصورة الأخيرة التي ذكرناها صعبة؛ فإن التّهمة وإن تحققت، فينبغي أن يقع أحد الطرفين في المرض، فتقدير الخلاف في هذا ظاهر. وحكى من يوثق به أن القاضي قال في مجالس الإفادة: "إذا قال: إذا مرضت مرض الموت، فأنت طالق قبله بيومٍ، أو قال لعبده إذا مرضتُ مرض الموت، فأنت

_ (1) الشراسيف: جمع شرسوف، وهو الطرف اللين من الضلع مما يلي البطن، والمعنى: إذا تردّدت روحي بين أضلعي عند خروجها. (المعجم). (2) أي صادف. (3) كون التعليق في الصحة واضح، حيث أنشأه كذلك، وكون الوقوع في الصحة يظهر إذا علمنا أن الحكم بوقوع الطلاق كان قبل موته بيوم أو يومين، ولما ضبطنا التاريخ، تبين لنا أنه كان في حال الصحة يومئذٍ. (4) في الأصل: أن. (5) هذا هو موضع المفارقة في المسألة، أنه يعتبر فارّاً، مع أنه علّق ووقع المعلَّق في وقتٍ لو نجز فيه ما عَلّق لم يكن فارّاً.

حرٌ قبله بيومٍ، قال: ليس بفارٍّ، وليس العتق من الثلث لوقوع الطلاق والعتق في حال الصحة". وكان يجوز أن نقول: المطلِّق فارّ، والعتق من الثلث: أما الفرار، فالمتبع فيه التهمة، وهي لائحة، والشاهد لهذا المسألةُ التي [نذكرها] (1) الآن: وهي إذا قال: أنت طالق قبل موتي بيومٍ، ثم مضى يوم في أوّله صحيح، ومرض في آخره ومات، فالطلاق وقع في الصّحة، وهو طلاقُ فارّ على القياس البيّن، فليكن الأمر كذلك في تقديمه على مرض الموت. ثم إذا تحقق هذا في الطلاق، فالعتق يتبعه، فكل طلاق يفرضُ طلاقُ فارٍّ، فالعتق إذا أقيم في محله، فهو عتق تبرّع. 9197 - ولنا وراء هذا تصرفان: أحدهما - أنه لا يبعد فرق بين المسألة الأولى التي استشهدنا بها وبين الثانية؛ فإنه ذكر في الأولى أياماً يغلب على القلب انبساطُ المرض عليها، وصرّح في المسألة التي أفادها القاضي بالتقديم على المرض، فإن كانت تهمةٌ (2)، فلتكن، فإنا لا نلتزم مضادّته في كل تهمةٍ، ولا بدّ من ضربٍ من الارتباط بالمرض. هذا وجهٌ. والأَوْجه أنه فارّ؛ فإنّ هذا ينشأ من استشعار الموت. والوجه الثاني في النظر - أن ما ذكرناه من الفرار متجه، فأمَّا عتق يفرض وقوعه في الصحة ويختلف في احتسابه من رأس المال، فلا وجه له؛ فإن مأخذ الاحتساب من الثلث وقوعُ التبرّع في حالة الحجر، ومرض الموت يجرّ على المرء حجراً ويردّ مضطربة (3) إلى ثُلثه، فلا التفات في هذا على التهمة.

_ (1) في الأصل: "ذكرناها" والمثبت اختيارٌ منا، على ضوء السياق، ويشهد لاختيارنا عبارة ابن أبي عصرون ونصها: " ... ويجوز أن يقال: إن المطلق فارّ، وإن العتق من الثلث؛ لأن المتبع في الفرار التهمة، وهي لائحة، ويشهد لهذه المسألة: إذا قال: أنت طالق قبل موتي بيوم، فمضى يوم هو في أوله صحيح، ومرض آخره ومات، فالطلاق وقع في الصحة، وهو طلاق فارّ على القياس البيّن، فليكن الأمر كذلك" ا. هـ (ر. صفوة المذهب: جزء (5) ورقة (21) شمال). (2) كانت تهمة: كان هنا تامة: أي فإن وجدت تهمة. (3) مضطربة: المراد هنا تصرفاته.

9198 - ومما يتعلق بهذا أنه لو علق الطلاق في الصحة بفعل من أفعال نفسه، ثم مرض، فَفَعَله في المرض، قطع القاضي بأنه فارّ؛ فإنّه اعتمد سبب الطلاق في مرضه، فكان كما لو نجّز الطلاق في المرض، وهذا حسنٌ فقيه، وكان شيخي يذكر وجهين في هذه الصورة، والوجه عندي القطعُ بما ذكره القاضي؛ فإن عماد القول التهمةُ، وتحققُها في هذه الصورة كتحققها في تنجيز الطلاق. وإن علَّق الطلاق في الصّحة بفعل أجنبي، أو بأمرٍ يجوز أن يقع في الصحة، ويجوز أن يقع في المرض مما لا يتعلق به، فاتفق وقوع ذلك في المرض، فحينئذٍ في المسألة قولان: أحدهما - أن الاعتبار بحالة التعليق، ولقد كان صحيحاً فيه، فليس فاراً. والقول الثاني - أنه فارّ؛ نظراً إلى وقت وقوع الطلاق، ولعلّ الأقيس القولُ الأول؛ فإنّ التهمة لا تتحقق. وكما طرد الأصحاب قولين في الطلاق طردوهما في العِتاق ومحلِّ احتسابه، وجريانُ القولين في العِتاق في الصورة التي انتهينا إليها حسنٌ تردداً في وقت التعليق ووقت النفوذِ. فإن قال قائل: إذا كان عماد الفرار على التهمة، فكيف يخرج قول الفرار في الصورة التي ذكرتموها؟ قلنا: إذا علّق بصفةٍ مترددةٍ بين أن تقع في الصّحة أوالمرض، ولو أوقع في المرض، لاتّهم، فإذا أطلق التعليق بما يجوز تقدير وقوعِه في المرض، انبسط التعليق على زمانٍ لا تهمةَ فيه، وعلى زمانٍ فيه تهمة، فلا يبعد أن يُنْظَر إلى العاقبة. وإن وقع في زمانِ نفْي التهمة، فلا فرار، وإن وقع في زمان التهمة، جعلناه فارّاً. وقال أبو حنيفة (1): إذا وقع العتق في المرض، وقد جرى التعليق في الصّحة، فالعتق من الثلث، وإذا جرى تعليق الطلاق في الصّحة، ووجدت الصّفة في المرض، فلا يكون الزوج فارّاً، وتعلَّق في الفرق بفصل التهمة، وكنت أودّ لو كان ذاك مذهباً

_ (1) ر. المبسوط: 6/ 157 وما بعدها.

لأصحابنا. وقد قدمنا رمزاً إلى مثله في الفرق بين العتق والطلاق. 9199 - ومما يتعلق بهذا أنه إذا أقرّ في المرض بطلاقها في الصحة، فليس بفارٍّ، وإقراره مقبول، ولو أقر في المرض بعتقٍ نجّزه في الصحة، فهو من رأسِ المال. قال القاضي: يجوز أن يُخرَّج في المسألتين قولٌ آخر أنه يكون فاراً، والعتق من الثلث. وأقرب مأخذٍ لهذا أن المريض في حالة حجرٍ، والمحجور عليه إذا أقرّ وأسند إقراره إلى حالة الإطلاق، ففي قبول إقراره في الحالِّ قولان، كالمفلس يقرّ بعد اطراد الحجر عليه بدين [فيما مضى] (1) زعم التزامَه في حالة الإطلاق، فهل يزاحم المقَرُّ له سائرَ الغرماء؟ فعلى قولين، قدمنا ذكرهما. ولو أبان في مرض الموت امرأته الأمةَ، فعَتَقَت أو امرأته الذِّمية، فأسلمت، أو كان الزوج عبداً، فطلّق ثم عَتَق، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يكون فارّاً في هذه المسائل؛ لأنه لم يكن متعرضاً للتهمة حالة الطلاق؛ فإن السبب المورّث لم يكن ثابتاً في ذلك الوقت، فإن طرأ سببٌ، فذلك لا حكم له. وقد يتطرق إلى ما ذكرناه نظرٌ مأخوذ من إقرار الرجل لعمّهِ وله أولادٌ ذكور، فإذا جرى الإقرار في مرض الموت، ثم اتفق موت الأولاد ومصير العمّ وارثاً، والتفريع على أن الإقرار للوارث مردود، فهل يُردّ الإقرار في هذه الصّورة؟ فعلى قولين، وكذلك لو فرض الأمر على عكس ذلك، وقدّر المقَرّ له وارثاً لو فرض موت المقِرّ، ثم حدث حاجبٌ، ففي [قبول] (2) الإقرار قولان. فلو قال قائل: إذا جرى الطلاق، ثم أفضى الأمر إلى الوراثة، فيخرّج كون المطلق فارّاً على ما ذكرناه من القولين في اعتبار الحال أو المآل، لم يكن ذلك بعيداً. والضابط في الباب أن الوصية يُرعى فيها المآل حتى لو أوصى لأجنبيّة، ثم نكحها، فالوصية مردودة، ولهذا لم نفرق بين وصية الصحيح وبين وصية المريض؛

_ (1) عبارة الأصل: مضى فيما زعم. (2) في الأصل: "قبوله" والمثبت تصرف منا.

فإن محل الوصية في حق الكافة بعد الموت، والإقرار تنجيز التبرّع في المرض؛ [فخرج] (1) على قولين في اعتبار الحال والمآل. ولو أقرّ لأجنبية في مرضه، ثم نكحها، فهل نجعل ذلك إقراراً لوارثٍ؟ فعلى طريقين: منهم من قطع بقبول الإقرار، ومنهم من جعل المسألة على قولين، على الأصل الممهّد. 9200 - ولو نكح ذمّي ذميةً، ثم أسلم الزوج في مرض الموت، وأصرت المرأة، وأفضى اختلاف الدّين إلى انقطاع [التوارث] (2)، فلا يكون الزوج فارّاً إجماعاً؛ لأنّ الزوج أدّى مفروضاً عليه، ثم لا يتطرق التهمة إليه في قصد الحرمان، وكذلك لو فسَخَ النكاحَ بعيبٍ، فلا يُجعل فارّاً؛ لأنه استوفى حقاً مستحقاً له، فلم يُحمل ما جرى منه على قصد الحرمان. ولو ارتدّ الزوج، فانبتَّ النكاح، ثم عاد، فهل نجعله فارّاً؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا لا نجعله فارّاً، لأنه لا يظن به أن يبدّل دينه لقصد الفرار، مع تمكنه من الطلاق. والثاني - أنه فارّ، ولا يُمهَّد له عذر. والمرأة لو ارتدت يجري الوجهان فيها، والأصح انقطاع ميراث الزوج عنها؛ فإنا وإن كنّا نطرد معنى التهمة، فلا ينبغي أن نبعد عن مورد الأثر، وهذا وارد في الطلاق والطلاق مثبَتٌ لرفع النكاح، والردة ليست تصرفاً في النكاح. 9201 - وإن لاعن الزوج، نظرنا: فإن لم يكن ثَمَّ نسبٌ، وكانت لا تطلب اللعان، فقد قيل: إنَّه فارّ، كما لو أبانها بالطلاق، ولو كان ثَمَّ نسبٌ متعرّض للثبوت، فنفاه باللعان، أو طلبت اللعان، [ولو لم] (3) يلتعن، لعوقب على ما صدر منه من قذفٍ، فلا يكون فاراً.

_ (1) في الأصل: يخرج. والمثبت اختيار منا. (2) في الأصل "النكاح". (3) في الأصل: "ولم" والمثبت من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة (22) شمال.

وفي كلام الأئمة رمزٌ إلى أن اللعان لا يكون فراراً، وإن لم يكن ثَمَّ نسبٌ ولا طلب؛ فإن التهمة بعيدة مع ما في اللعان من التعرض للشهرة والخزي، والطلاقُ ممكن دون ذلك. 9202 - ثم إذا طلق الزوج زوجته وأبانها، فالقولان في توريثها منه لو مات، فأما إذا اتفق موت المبتوتة، فلا خلاف أن الزَّوج لا يرثها، والسبب فيه أنه المطلِّق المُؤْثرُ للقطع، وإذا كنا نقول: الطلاق إذا كان صادراً عن سؤالها، فينقطع ميراثها، فلأن ينقطع ميراث الزوج وهو المنشىء للطلاق أولى وأحرى. ***

باب الشك في الطلاق

باب الشك في الطلاق 9203 - صدر الشافعي الباب بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وردَ في الشك في الحدث، وذلك أنه قال: "إن الشيطان ليأتي أحدَكم بين إليتيه في الصّلاة، فلا ينصرفنّ حتى يسمع صوتاً أو يشمّ ريحاً" (1) فأمر صلى الله عليه وسلم عليه بالبناء على اليقين وطرح الشك، فاتبع الشافعي هذا الحديث، واتخذه أسوته في الشكوك الطارئة على محالّ اليقين، وأراد أن يبني مسائل الشك في الطلاق على هذا الحديث، وإنما استدلّ بهذا الحديث في صدر باب الطلاق لسببٍ وهو أن مالكاً (2) رضي الله عنهُ قال: "إن شك في عدد الطلاق أخذ بالأكثر"؛ بناء على أصل له، وهو أن الأصل المطرد إذا حدث فيه أصل آخر، فالتمسك عنده بالأصل الثاني، ولذلك يقول: لو شك في الحدث قبل الشروع في الصّلاة، لم يبن على يقين الطهارة، لأنه الآن متيقّن عدم انعقاد الصّلاة، فإذا عقدها، فهو على شك في الانعقاد، وإذا شك في الحدث بعد الشروع في الصّلاة، لم يخرج منها بما طرأ له من الشك؛ لأن الأصل انعقادُها. هذا أصله، فلم يُرد الشافعي أن يتمسك بمحلّ [مناقضة، وجعل] (3) ما يسلمه معتبره؛ فإنه لا يستنبط المعنى إلا من محالّ الإجماع، ولم يثق بإجماع، فاتخذ الحديث مستنده في قاعدة طريان الشّك على الأصل، ثم بنى عليه الكلام واتسع في الكلام. 9204 - والمسلك الضابط في طريان الشكوك على الأصول لا يبين إلا بأن نذكر

_ (1) حديث: "إن الشيطان ليأتي أحدكم ... " إلخ. أصل هذا الحديث متفق عليه: البخاري، ح 137، 177، 2056، وعند مسلم، ح 361، 362، وبهذا اللفظ ذكره البيهقي في الخلافيات عن الربيع عن الشافعي، والمزني في المختصر عن الشافعىِ، ورواه البزار بلفظ قريب (مختصر زوائد البزار، ح 171، والبيهقي في السنن الكبرى بمعناه: 1/ 161، وكذا الحاكم: 1/ 134 وانظر: تلخيص الحبحر: 1/ 222 ح 170، 171). (2) ر. الإشراف 2/ 753 مسألة 1370، عيون المجالس: 3/ 1246 مسألة 871، (3) في الأصل: "مناقضته ويجعل" والمثبت من صفوة المذهب جزء (5) ورقة: 23 يمين.

عبارة الفقهاء ونبُدي ما فيها من الإشكال، ثم نأتي بالمعتبر الموثوق. فعبارة الفقهاء: "إن اليقين لا يترك بالشك" وهذا مختلٌّ؛ فإن الشك إذا طرأ، فلا يقين. ثم إن حُمل هذا على ما مضى، وقيل: معنى قول الفقهاء إن اليقين السّابق لا يترك بالشك الطارىء، فليس هذا على هذا الإطلاق، ولكن القول في ذلك ينقسم، فإن طرأ الشك وأمكن الاجتهاد، تنوّع الكلام، فقد يتمهد مسلك الاجتهاد بالمتعلّقات الواضحة، كمسائلِ الاجتهاد في الطلاق التي اختلف العلماء فيها، وصار صائرون إلى أن الطلاق يقع، وذهب آخرون إلى أنه لا يقع، فالمتبع الاجتهاد، ولا حكم للنكاح السابق وما تقدم من استيقان انعقاده. وإن جرى الاجتهاد وخفيت العلامة، فإن دعت الضرورة إليه، وجب التمسك به، وهذا كما إذا كان مع الرجل إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس، فلا سبيل إلا ترك الماءين، أو الاجتهاد في الأخذ بأحدهما، ولا سبيل إلى الترك، فتعيّن الاجتهاد. وإن كان مع الرّجل إناء واحد وفيه ماء، [فشك] (1) في طريان النجاسة عليه، وغلبت عنده علاماتها، فهل يأخذ بالاجتهاد، وعلاماتُ النجاسة خفية، وقد أدرك خفاءها من أحاط بأبواب النجاسات. وإذا رَقتِ (2) العلامات إلى الظهور، وقدت في اليقين، فلا جرم اختلف القول في أنه هل يجب التمسك بالعلامات، أو يستصحب اليقين السابق، وهذا هو استصحاب الحال الذي يخوض فيه الأصوليون. وإن انحسم الاجتهاد، وطرأ الشك، فعند ذلك يرى الشافعي أن يستمسك باليقين السابق، ولا يقيمَ للشك وزناً، وسببه من طريق المعنى أن الشّك يتعلق بمعتقدين متعارضين ليس أحدهما أولى من الثاني، ولا يخلو -في غالب الأمر- المرءُ عن الشك، سيّما إذا بُلي بأطراف الوسوسة، فرأى الشافعي التمسكَ باليقين المستصحب أولى، واعتضد فيما رآه بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا تأسيس الباب. ونحن نقول بعده: 9205 - مَنْ شك في الطلاق، فالأصل بقاء النكاح، وله الأخذ بحكم استصحابه،

_ (1) في الأصل: فشكه. (2) رقت العلامات إلى الظهور: أي سَمَتْ وارتفعت، من الفعل رقا يرقو رَقواً (المعجم).

ولا يخفى الورع والأخذ به على أصحابه، ولو علم الطلاقَ، وشك في العدد، فالواقع القدر المستيقن، والمشكوكُ فيه لا يقع في الظاهر المحكوم به. وكذلك العتق وما في معناهما. وعلى هذا بنى الشافعي الشك في أعداد ركعات الصّلاة. 9206 - ثم إذا تمهّد أصل الباب، فنذكر صوراً تجرّ شكوكاً منها: أنه لو طار طائر، فقال الزوج: إن كان هذا غراباً، فامرأتي طالق، ولم يتبيّن له حقيقة الحال، فلا يقع الطلاق؛ لاحتمال أنه لم يكن غراباً، وكذلك لو قال: إن كان غراباً، فامرأتي طالق، وإن كان حماماً، فعبدي حرّ، فلا نحكم بالطلاق ولا بالعتاق، فإن الطائر قد يكون جنساً ثالثاً. ولو قال: إن كان غراباً فعمرة طالق، وإن لم يكن غراباً، فزينب طالق، فتطلق إحداهما؛ فإن الطائر إما أن يكون غراباً أو لا يكون غراباً، فقد وقعت طلقةٌ مبهمة بين زوجتيه، وسيأتي هذا الأصل في الباب، فهو المقصود. ولو صدر هذان القولان من رجلين: قال أحدهما: إن كان غراباً، فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً، فامرأتي طالق، فلا نحكم عند إشكال الأمر بوقوع الطلاق على زوجةِ واحد منهما، بخلاف ما لو اتحد الحالف وتعدّد المحلوف بطلاقه، والفرق أن الحالف إذا اتحد، فقد تعين الحانث، وأمكن توجيه الخطاب عليه بربط بعض أمره بالبعض، وحمله على مقتضى وقوع الالتباس، وإذا تعدّد الرّجلان، امتنع الجمع بينهما في توجيه خطاب، ومعلوم أن أحدهما لو انفرد بمقالته، لما حكمنا بوقوع الطلاق على زوجته، فإذا ذكر صاحبه شيئاً، استحال أن يتغيّر حُكْمنا على زيد بسبب مقالةٍ صدرت من عمرو، فيتعذر المؤاخذة إذاً. وهذا قد يناظر ما إذا سمعنا صوت حدثٍ بين رجلين، ثم قام كل واحدٍ منهما واستفتح الصّلاة، فلا معترض على واحد منهما؛ فإن كل واحد يورِّك (1) بالذنب على

_ (1) يورّك بالذنب على صاحبه: أي يحمله عليه ويحمله إياه. يقال: ورّك فلان ذنبه على غيره توريكاً إذا أضافه إليه وقرنه به (اللسان والأساس).

صاحبه. نعم، إذا أراد أحدُهما أن يقتدي بالآخر، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، والإمام لا معترض عليه؛ فإنه في حكم المنفرد. وبمثله لو تيقن الرجل -وقد صلى صلاة الصبح وصلاة الظهر- أنه كان محدثاً في إحداهما، والتبس [الأمر] (1) عليه، فلم يدر الصلاة التي كان محدثاً فيهما، فنأمره بقضاء الصّلاتين جميعاًً؛ فإن المحكوم عليه واحد، ولا يمتنع توجيه الخطاب عليه بمؤاخذة تتعلق بواقعتين، ثم سبيل الاستدراك قضاء الصّلاتين. وفي مسألة الطلاق إذا اتحد الزوج واستبهم الأمر، فالطلاق يقع على إحداهما. ولو فرضنا كلام الرجلين في العِتاق، لكان على هذا النسق، فإذا قال زيد: إن كان الطائر غراباً، فعبدي حر، وقال عمرو إن لم يكن غراباً، فعبدي حرّ، فلا نحكم بالعتق في واحد منهما؛ بناء على الأصل الذي قدمناه في الطلاق في مثل هذه الصورة. 9207 - ولكن مما يجب التنبه له أنا وإن لم نحكم في حق واحدٍ منهما بحصول الطلاق والعتاق، فإنا نقول: إحداهما طالق، وأحد العبدين حرٌ في علم الله، وإن كنا لا نطّلع على ذلك، فقد يظهر أثر ما ذكرناه بمسألة تتصوّر في العتاق دون الطلاق، وهي أنه إذا جرى التعليق من مالكَي العبدين على حسب ما ذكرناه، فلا نحكم بالعتق في واحدٍ من العبدين؛ لاشتباه المحكوم عليه، غيرَ أن أحد العبدين لو صار إلى المالك الثاني بشراءٍ، أو بجهة من جهات الملك، فإذا ملكه، فلا بد من الحكم بالعتق في أحد العبدين؛ فإنّه اتحد المخاطَب الآن، ثم سبيل التفصيل فيه أنه إن لم يكن قال شيئاً سوى ما تقدم من التعليق، فنقول: أحد العبدين في يدك حرّ، فعيّن أحدهما، [والبحث] (2) عن سبيل البيان. وبالجملة تصير الصورة كما لو قال ابتداء: إن لم يكن غراباً، فسالم حرّ، وإن كان غراباً، فغانم حرّ.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: والحنث.

وإن كان قد قال: ما حنثتُ في يميني، فكما (1) ملك عبد صاحبه، حُكم بحرّيته عليه؛ لأنه إذا نفى الحنث عن نفسه، فلا بدّ وأن يكون صاحبه حانثاً، ومن أقر بحرّية عبدٍ لغيره، ولم يصدّق عليه، ثم اشتراه، فيؤاخذ بحكم قوله، ويُقضى بعتقه. ثم في هذه الصورة التي انتهينا إلينا ليس له أن يرجع بالثمن على صاحبهِ؛ لأنه إنما عَتَق بحكم إقراره وإقرارُه مردود على البائع، وصاحبه مكذّبٌ له. فهذا أصل الباب. 9208 - ثم ذكر الشافعي بعد هذا حنثاً واقعاً من رجل مردَّداً بين الطلاق والعتاق، وأنا أرى من الرأي أن أذكر التردد في طلاق زوجتين أو زوجات، وأعتبر [به] (2) التردد في العتاق، ثم أبني عليه تردداً بحنث بين الطلاق والعتاق. فصل قال: "ولو قال: إحداكما طالق ثلاثاًً منع منهما ... إلى آخره" (3). 9209 - إذا قال لامرأتين تحته: إحداكما طالق ثلاثاًً، فلا يخلو إما أن ينوي إحداهما بالقلب، أو يُطْلق إطلاقاً، ولا ينوي عند إطلاقه اللفظَ واحدةً منهما بعينها: فإن نوى بقلبه واحدةً منهما، فهي الطالق في حكم الله، ولكن الأمر مبهم، وهو محبوس عنهما، مأمور بالإنفاق عليهما؛ لأنهما في حبسه، وإن كانت إحداهما مطلقة ثلاثاًً، فيطالب بالبيان، ويقال له: بيّن المطلّقة عندك. ثم قال الأصحاب: الطلاق يقع باللفظ السابق، فلا يتأخّر وقوعه إلى البيان الذي يطالب به، والعدة تحسب من يوم اللفظ على ظاهر المذهب، وخُرِّج قولٌٌ آخر: إن العدة محسوبة من يوم البيان. وبنى الأصحاب هذين القولين الظاهر والمخرّج على القولين في أن المستفرشة

_ (1) فكما: أي عندما. (2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، وهي موجودة في صفوة المذهب. ومعنى "وأعتبر به التردد في العتاق": أي أقيس به التردد في العتاق. (3) ر. المختصر: 4/ 85.

بالنكاح الفاسد إذا فرقنا بينها وبين الواطىء بالشبهة، فالعدة من آخر وطأة أو من وقت التفريق بينهما، ووجه التشبيه أن الأمر ملتبس، فاختلف القول في تاريخ ابتداء العدة، كذلك إذا لم يُبيّن، فالأمر ملتبس في ظاهر الأمر مع كل واحدة، فإذا فرض البيان، كان هذا كالتفريق. وهذا غير سديد، والأصح في استبهام الطلاق [الاعتداد] (1) بالعدة من وقت اللفظ، والسبب فيه أن استرسال الواطىء بالشبهة على المرأة ينافي صورة الانعزال الذي تتصف به المعتدة، فنشأ القولان من ذلك، وليس كذلك استبهام الطلاق؛ فإن الحيلولة ناجزة، وقد فرقنا بين الزوج وبينها، والنيّة مقترنة باللفظة، فالوجه تأريخ ابتداء العدة باللفظ. ثم مما يتعلق بهذا القسم أن قوله: "إحداكما" غير صالح للتعيين في وضع اللسان، ولكنه صالح لكل واحدة منهما، فإذا انضمّت النية إلى اللفظ المبهم، صار اللفظ معها كالنّص في التعيين، وهذا كالكنايات؛ فإنها في نفسها صالحة لجهات من الاحتمالات، ثم يتعين الطلاق بالنية، كذلك القول المبهم المتردّد بين الزوجين يتعيّن بالنية، ويختصّ بإحداهما. 9210 - ومما يجب ذكره أن اعتقاد ضرب الحيلولة بينه وبينهما صحيح، أطلقه الأصحاب، وحكموا به، كما ذكرناه، فليس [له] (2) أن يُقدم على [وطء] (3) واحدة ما لم يقدّم بياناً. وهذا فيه فضل نظرٍ عندي؛ فإنه إذا كان يعرِف المطلّقة منهما باطناًً، وإليه الرجوع، وإذا قال صُدِّق، وإن اتهم حُلّف، فإذا أقدم على إحداهما، فما الوجه في سبب منعه؟ نعم، هو ممنوعٌ من غشيانهما جميعاًً، فأما إذا غشي إحداهما، فما سبب المنع والحالةُ كما وصفناها؟ قلنا: هذا محل التثبت، وإن كان ظاهراً عند المتأملين.

_ (1) في الأصل: الاعتياد. (2) زيادة رعاية للسياق. (3) زيادة من معنى كلام ابن أبي عصرون في اختصاره (صفوة المذهب).

فنقول: إذا قال الرجل لامرأتيه: إحداكما طالق، ولم يشعر بهذا القول أحد، ونوى إحداهما، وكانت متعينة، فإذا لم ترفع الواقعة إلى القاضي، فالمطلقة في حكم الله هي المنويّة، ولا يجب حبسٌ ووقفٌ، وهو يقدم على استحلال المستحَلَّة عنده وعند الله تعالى. وإنما مسألة الوقف فيها إذا ظهرت هذه الواقعة لمن إليه الحكم، فيقول: قد طلقتَ يا رجلُ وأبهمتَ، فحق عليّ ألا أتركك تختلط بهما كما كنت تفعل من قبل، ولست أجعل إقدامك على غشيان إحداهما بياناً، ولو رأيتك تغشاها، لم أتبيّن أنها المنكوحة؛ فإن الوطء لا يُعيِّن إذا كنت نويت المطلَّقة لمَّا أطلقت اللفظ، فقد تطوقتُ عهدةً في الشرع؛ إذ علمتُ وقوعَ الطلاق، وأشكل علي الأمر، ففصِّل، ثم أَقْدِم، فإذا قال: أيّها القاضي عنيتُ بالطلاق هذه، فالقاضي يرجع إلى قوله، ويزول الاستبهام، وبيانُه وإن استأخر بمثابة اقتران البيان بلفظه. فإن سكتت الموطوءة، أضرب القاضي [عنه] (1) وقد تعينت المطلَّقة، وإن خاصمت تلك، قال القاضي: انكفّ عنها، حتى تنفصل الخصومة بينكما، كما سنبيّن فصل الخصومة. فهذا سرّ القول في الحبس الذي ذكره الأصحاب. وقد يخطر للفطن أن المرأة إذا لم تخاصم، وقال القاضي: أبهمتَ الطلاق، فاحلف بالله أنك عنيت بالطلاق من أبهمتها، فلست أرى للقاضي هذا؛ فإن الرجوع إلى الزوج في هذا، وإنما يثبت التحليف لذاتِ حظٍّ، وهي المرأة، ونحن إذا قلنا: يحلَّف من يؤدي الزكاة، فرأينا المقطوع فيه أنه استحبابٌ، ثم ذاك محض حق الله، والغالب في الطلاق والنكاح طلب الحظوظ. 9211 - ومما أطلقه الأصحاب في ذلك -ولا بدّ فيه من مزيد كشفٍ- أنهم قالوا: إذا حبسناه عنهما [أو خلّينا] (2) بينه وبينهما، فيجب عليه أن ينفق عليهما، ويُدرَّ

_ (1) زيادة لإيضاح الكلام، وفي صفوة المذهب: "كف القاضي عنه". (2) في الأصل: وخلنا.

عليهما من حقوق النكاح، ما كان يُدرّه قبل الإشكال الواقع، وهذا متفق عليه، ثم إذا [بيّن] (1)، فلا يسترد النفقة المصروفة إلى المطلقة. وهذا من النوادر؛ فإنه أنفق على مطلقة ثلاثاً، وقد تكون غير مدخول بها -حتى لا يرتبط الفكر بالعدّة- والسّبب فيه أنها كانت محبوسةً حبس الزوجاتِ، وقد يظن الظانّ أن النفقة إنما لا تستردّ لامتناع الزوج نكداً (2) عن التعيين مع تمكنه منه. وهذا يرد عليه ما إذا لم يكن الزوج متمكناً من البيان، وذلك بأن يقول: إن كان الطائر غراباً، فزينب طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرة طالق، ثم حلّق الطائر ومرّ، وأيس من درك جنسه، فلا توانيَ من الزوج، وقد يقال: [هو] (3) الذي ورّط نفسه وزوجته في الإبهام، فَيَرِدُ عليه [ما لو] (4) طلق إحدى امرأتيه، ثم التبست المطلقة عليه بغير المطلقة، ولا مبالاة بالصور؛ فإن المخطىء في التزام الكفارة وحرمان الميراث ملحق بالعامد في وضع الشرع، وإن كنا نستبق إلى فهم التكفير من الكفارة ومضادة المقصود بالحرمان. 9212 - وممّا يتعلق بتأصيل المقصود في الفصل أن الزوج إذا أبهم الطلاق، فحتمٌ عليه أن يبيّن ولا يترك الأمرَ مبهماً، ولو امتنع عن البيان وتركهما معلقتين، عصى ربَّه، وقد قدّمنا في نكاح المشركات أنه يتعين عليه اختيار أربعٍ إذا أسلم على أكثرَ من أربع نسوة، وذاك مبني على ضربٍ من التروِّي، ثم [لم] (5) نعذره في التأخير، وهاهنا المطلقة بيّنة عنده، فيتعين عليه إزالة الإبهام، وإن ادّعى إشكال الأمر عليه، فسنوضح ذلك في فصل الخصومات، إن شاء الله.

_ (1) في الأصل: تبين. (2) نكداً. كذا بهذا الرسم تماماً، ومعناها -كما هو مفهوم من السياق- عناداً، ولم أصل إلى هذا المعنى في المعاجم المعروفة (اللسان- القاموس- الأساس- المصباح- المختار- الوسيط - النهاية في غريب الحديث). (3) في الأصل: هذا. (4) زيادة اقتضاها السياق. وعبارة الأصل: "فيرد عليه أنه طلق إحدى امرأتيه". (5) زيادة من المحقق.

9213 - ووجه الرأي عندنا أن نذكر ما يتعلق بالمسألة من فقه ونظرٍ إلى قضيةٍ لفظيّة، ثم نختتم الفصل بالخصومة وسبيل فصلها، ونحن الآن فيه. إذا أجمل طلقةً وبيّن بقلبه المطلقة، فنستتم هذا الفصل قائلين: إذا طلبنا المبهِم بالبيان، وكان أجمل طلقةً بين امرأتين، فقال لمّا أخذناه بالبيان، وكان أجمل طلقة: هي هذه أو هذه، فنقول: ما زدتنا بياناً، والذي أتيتَ به عبارةٌ عن الإشكال، ولا نجعل قوله هذا تعييناً؛ فإن الكلام بآخره. وإن قال: أردتُ هذه وهذه، فقد أقر فيهما بالطلاق، فحكمنا بوقوع الطلاق عليهما بإقراره. وإن قال: هذه بل هذه، تعينت الأولى بصدْر كلامه، ثم أراد أن يرجع عنه بقوله بل هذه، فلم يُقبل رجوعه في حق الأولى، وثبت إقراره في حق الثانية. وإن قال: "هذه هذه" إن أشار بهذه الكلمة إلى إحداهما، وكرّر الكلمة في خطابها، فهي المتعينة، وإن واجهٍ إحداهما فقال: أردت هذه، ثم واجه الأخرى على الاتصال، وقال: هذه، حكمنا بوقوع الطلاق عليهما، كما لو قال: أردت هذه وهذه. فلو قال: أردت هذه ثم هذه، قال القاضي: يتعين الأولى ولا تطلق الثانية، لأن كلمة ثم تقتضي التأخير والتراخي، فقد أثبت في الثانية على حكم الإخبار طلاقاً واقعاً على موجب التراخي، وهو إنما طلق واحدةً لا غير، ولم يسبق منه طلاقٌ يُحمَل على ترتيب. وهذا كلام مختل؛ فإن قوله: "ثم هذه" اعترافٌ بالطلاق فيهما، فليَثْبُت وليَفْسُد ما جاء به من اقتضاء التأخير أو الترتيب، والدليل عليه أنه لو قال: أردت هذه وهذه، حكمنا بوقوع الطلاق عليهما، وإن لم يكن في لفظه ما يوجب وقوع الطلاق عليهما. 9214 - ولو قال الرّجل لامرأتيه: إحداكما طالق، ونوى طلاقهما، فالوجه عندنا أنهما لا تطلقان جمعاً، وقد ذكرنا تردداً فيه إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة وزعم أنه نوى ثلاثاًً، وتلك المسألة قد يتطرق [إليها] (1) تأويل، أمّا حمل إحدى المرأتين

_ (1) في الأصل: إليه.

عليهما، فلا وجه له، وإيقاع الطلاق بمجرد النية لا سبيل إليه. ومع هذا إذا قال في التفسير: أردت هذه وهذه، وقع الحكم بوقوع الطلاق عليهما، وإن كان الإقرار لا يوقع الطلاق، وليس إقراره مرسلاً فيحمل على طلاق ماضٍ، ولكنه أحاله على اللفظ الذي أبهمه لما راجعناه مستفسرين، ثم هذا الحكم يقع ظاهراً، وسببه أن كل امرأة حكمها متميز عن حكم ضَرَّتها، وقد ثبت في حق كل واحدة إقرار، فجرى الحكم في حقهما بالطلاق، وإذا كنا لا نُبْعد هذا، فلا فقه في التمسك بما في "ثُمّ" من التأخير. ويتفرع على ما ذكرناه أنه لو قال: أردت هذه بَعْد هذه، فقياس قول القاضي أن الثانية تطلق، فإنها وإن ذُكرت آخراً، فهي مقدَّمة في المعنى، إذ قال: "بعد هذه" والتي أشار إليها أولاً لا تطلق؛ فإنها المؤخَّرة في المعنى. وهذا بعيد. ولو قال: هذه قبل هذه، فالأولى تطلق، ولا تطلق الثانية على قياس القاضي، وهما طالقتان على المسلك الحق. وسنكثر المسائل والصّور بعد ذلك لتدريب المبتدئين، ولا نعيد في كل صورة "أردتُ" وإن كنا نريده، ونقتصر على إطلاق "هذه" وما يتصل به من صلاتٍ. 9215 - فلو كان تحته ثلاث نسوةٍ، وقد أبهم بينهنّ طلقة، فلمّا راجعناه أحبس واحدة منهن وحدها، وأحبس اثنتين مجتمعتين، ثم أشار إلى الاثنتين مثلاً، وقال: هذه وهذه، ثم وقف وقال: أو هذه. قال الأصحاب: الطلاق مردّد بين الثالثة الفردة، وبين الأوليين المجتمعتين، وعلى الزوج بيان، فإن بيّن في الثالثة، تعينت، وتعينت الأوليان للزوجية. هذا مقتضى اللفظ. وإن عين الأوليين للطلاق، وقع الحكم بطلاقهما، وتعينت الثالثة للزوجية، ولو عيّن من الأوليين إحداهما، طلقت صاحبتها المجتمعة معها، فإنه قال أولاً: هذه وهذه مشيراً إليهما، والواو عاطفة مشرِّكة، فلا يفترقان. وحاصل كلامه ترديد الطلاق بين واحدة فردةٍ إن طلقت، تعينت ثنتان للزوجية،

وبين زوجتين تجتمعان في الطلاق وإذا تعينتا له، تعينت الثالثة الفردة للزوجية. وهذا بيّن. وبمثله لو أشار إلى الفردة أولاً وقال: أردت هذه أو هذه وهذه، فالجواب كما مضى، ولا يختلف موجب اللفظ ومأخذه بتقديم الواحدة أو تأخيرها. وما ذكرناه فيه إذا جعل الثلاث حزبين واحدةً واثنتين، ثم أشار على الصّيغة التي قدّمناها، وفَصَل بين الحزب والحزب بوقفةٍ، [فلو] (1) جرى على سرد الكلام واطرادهِ، وقال: أردت هذه أو هذه وهذه، ولم يفصل بين الواحدة والثنتين بوقفٍ في الكلام وسكتةٍ ولا بنغمةٍ تدلّ على التقطيع، بل قال مرسلاً: هذه أو هذه وهذه، فإذا جرى الكلام سرداً، احتمل أن تكون الثالثة معطوفةً على الأولى مضمومةً إليها، واحتمل أن تكون مضمومةً إلى الثانية، فلا بدّ من المراجعة. فإن زعم أنه أراد عطف الثالثة على الثانية، فالثانية والثالثة حزب والأولى حزب، ورجع التفصيل إلى ما إذا أشار إلى واحدة وقال: هذه، ثم فصل عنها ثنتين، وقال: أو هذه وهذه. فإن زعم أن الثالثة مضمومة إلى الأولى معطوفة عليها، فالأولى [والثالثة] (2) حزب [والثانية] (3) حزب والكلام في ترديد اللفظ، كما مضى حرفاً حرفاً. ولو اتَّسق الكلام من غير فصلٍ بوقفٍ ونغمةٍ، وقال: هذه وهذه أو هذه، فيحتمل أن تكون الثالثة مضمومةً إلى الثانية دون الأولى، ولو كان كذلك، طلقت الأولى وإحدى الأخريين من الثانية والثالثة، ويحتمل أن تكون الثالثة مضمومةً إليها (4) فتكون الأولى والثانية حزباً والثالثة حزباً، والجواب لو كان كذلك: فالرجوع إلى نيته في محالّ الاحتمال؛ فنقول: أبهم الطلاقَ بين فردةٍ وهي الثالثة وبين ثنتين وهما الأولى والثانية فتطلق الثالثة وحدها أو الأخريان جمعاً، كما قدّمنا نظائر ذلك، فيؤخذ بالبيان، كما مضى.

_ (1) في الأصل: فله. (2) في الأصل: "والثانية" وهو مناقض للسياق. (3) في الأصل: "والثالثة" وهو مخالف للسياق. (4) إليها: أي إلى الأولى.

9216 - ولو كنّ أربعاً، فأبهم بينهن طلقةً، ثم قال: هذه أو هذه أو هذه أو هذه، فما زاد بياناً، وإن قال: هذه وهذه وهذه وهذه، فقد أقر في الكل بالطلاق، وكذلك لو قال: هذه بل هذه بل هذه، فكل استدراك إقرارٌ مبتوتٌ في محل الاستدراك، وما فيه من الرجوع مردود. ثم إن قسم الأربع، فيتصوّر في تقسيمهن تحزيبات وتفريقات أكثر المتكلفون الصورَ فيها. ومن أحاط بمأخذ الكلام فيما قدمناه، هان عليه مُدرك الجميع، ولو كنتُ أرى فيها إشكالاً، لم أتبرم بتكثير الصور. 9217 - والذي يجب اختتام الكلام به أنا ذكرنا في أثناء المسائل: الوقفةَ والنغمةَ، ويجب أن يكون عنهما بحث؛ فإنا بنينا هذا المجموع على التعرض لأمثال ذلك، فنفرض صورةً واحدةً، ونعيد فيها حكم الوقفة والنغمة، فإذا كنَّ ثلاثاًَ فحزَّبهنَّ حزبين، ثم قال: هذه وأشار إلى الفردة، ثم أقبل على المجتمعتين، وقال: أو هذه وهذه، فقد ذكرنا أن تفصيل الكلام يخالف سردَ الكلام وطردَه؛ إذ ذكرنا في السرد احتمالين، وذكرنا في التفصيل احتمالاً واحداً، ثم الذي ذكره القاضي أنا نَفْصل بالوقفة والنغمة، أما الوقفة، فهي أن يقول: "هذه" قال القاضي: ثم يقف لحظة، ويقول: مشيراً إلى الثنتين: أو هذه وهذه، فَذَكَر الوقفةَ وقيّدها باللحظة. وأول ما يجب فهمه في ذلك أن المبيِّن يقول: أردت هذه، ويشير إلى واحدة مثلاً، فإن أطال الوقوف حتى انتهى إلى الانقطاع، ثم قال: أو هذه وهذه، طلقت الأولى، ولغا قوله: "أو هذه وهذه"؛ فإن هذا كلام لا استقلال له، فقد انقطع نظم الكلام بطول الفصل، فلم يرد القاضي بالوقفة الوقفةَ الفاصلة القاطعة للنظم، وإنما أراد وقفةً تدل على التفصيل مع انتظام الكلام، ولهذا قرّب الوقفةَ باللحظة، ثم عاد فقربها بالنغمة، وتلك النغمةُ لا تَبين بالكِتْبة (1) ومراسم الخط، ولكن يفهم الفطن معناها ووجهَ إفضائها إلى إفادة الفصل والإشارة إلى التحزيب. 9218 - وفي هذا فضلُ نظرٍ على المتأمل، فإن ما ذكره ليس تعلقاً بالألفاظ، وإنما

_ (1) الكِتبة بكسر الكاف: مصدر كتب يكتب. (المصباح).

هو من قبيل القرائن، والعملُ بالقرائن -وإن كانت دالَّةً في مجاري التخاطب- بعيدٌ عن مذهب الشافعي، فإنه لا يعوّل على القرائن في إلحاق الكنايات بالصرائح، وهذا الذي ذكرته تنبيهٌ على الإشكال، وإلا فالحق المبتوت الذي لا يجوز غيره ما ذكرناه من التعلق بدلالة الوقف، ونعتبر النغمةَ. والقرائنُ التي ينكرها الشافعي هي مثل سؤال المرأة الطلاق، مع قول الرجل: أنت بائن في جوابها، وممّا أنكره الغضب، فإن أبا حنيفة (1) جعل الغضب قرينةً على الطلاق عند التلفظ بالكناية، والشافعي أبَى هذا؛ فإن السّؤالَ حالُ المرأة، والرجلُ قد يُسعِف وقد يخالف، والغضبان قد لا يطلق. فالذي أنكره الشافعي هذه الضروب، فأما أصل القرينة، فلا ينكره ذو فَهمٍ، والدليل عليه أن الرّجل لو قال حاكياً: "أنت طالق" في درج كلام، وكانت زوجته حاضرةً، لم نقض بوقوع الطلاق، وإن جرّد قصدَه في مخاطبتها، وقع الطلاق، إذا لفظ الزوج بالصريح، وصيغة الحكاية كصيغة الخطاب لا تتميز إحداهما عن الأخرى إلا بتحديقٍ أو نغمة مخصوصة، أو وقفةٍ تقطع المخاطبة بالطلاق عن [انثيال] (2) الكلام، ولو لم يقل القائل بهذه الضروب، لما انتظم كلام، [ولالتبس] (3) ما يخاطِب به بما يحكيه. وهذه الضروب من القرائن تورث العلومَ الضرورية، وعليها تُبْتَنى صيغ الألفاظ في الأخبار، والإقرار، والإنشاء، والأمر، والنهي، فوضح أن الذي أنكره الشافعي ما لا يُثبت العلمَ ويَبْقَى معه التردّدُ واللفظ كنايةٌ في نفسه، فأما ما يفيد العلم، فقرائن الأحوال مع الألفاظ كقيود المقال. 9219 - وكل ما ذكرناه فيه إذا أبهم طلقةً -ونوى واحدةً بعينها، فأما إذا أوقع طلقة بين امرأتين أو نسوةٍ ولم يعين واحدةً منهنَّ بقلبه، فيطالب بتعيين واحدة، كما يطالب

_ (1) ر. الهداية مع فتح القدير: 3/ 401. (2) في الأصل: "أثناء" والمثبت تقدير من المحفق. (3) في الأصل: "ولا لنفسٍ" وهو تصحيفٌ ألهمنا الله صوابه.

في القسم الأول بتبيين المنوية المعنية عند إطلاق اللفظ، فالمطالبة في ذلك القسم بالتبيين، وفي هذا القسم بالتعيين. ثم إذا عيّن واحدةً، فالطلاق يقع من وقت التعيين أو يستند إلى وقت التلفظ؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يقع من وقت التعيين. والثاني - أنه يقع من وقت اللفظ. توجيه الوجهين: من قال: إنه يقع من وقت اللفظ، احتج بأمورٍ منها أنه جزم الطلاق ونجّزه؛ إذ قال: إحداكما طالق، وليس في لفظه تعليق، فلو أخرنا وقوع الطلاق إلى وقت التعيين، لكان ذلك مخالفاً لمقتضى قوله، وأيضاً؛ فإن التعيين؛ المتأخر ليس بياناً للكلام الأوّل، وليس إنشاءَ طلاق، فإذا كان لا يتأتى منه أن يقول: "عنيت بالطلاق هذه" على معنى الإخبار عما خطر له قبل [الطلاق] (1)، [لم] (2) يكن قوله عنيت هذه طلاقاً، والطلاق لا بعض له، ويستحيل أن يصير التعيين مع اللفظ السابق بمثابة لفظ منتظم؛ فإن اللفظ الواحد أو الجملة الواحدة لا تتقطع، وقد تخلل بين الأول وبين هذا التعيين زمان ينقطع الوصل بمثله، فلا وجه إلا استناد وقوع الطلاق إلى اللفظ. ومن قال: يقع الطلاق عند التعيين، احتج بأن الزوج يعين أيتهما شاء عن خِيَرةٍ وتشهٍ، ويستحيل وقوع الطلاق مبهماً من غير نزولٍ على محلٍّ مخصوصٍ ويستحيل بقاء الطلاق محوِّماً على محلٍّ إلى النزول عليه، فلا وجه إلا المصير إلى أنه يقع عند التعيين. 9220 - وأهمّ ما يجب الاعتناء به فهْمُ هذا الخلاف وتنزيلُه على حقيقته، ثم ابتداء التفريع وراء ذلك. ذكر القاضي أن هذه المسألة بينها وبين الكلام في أن القسمة بيعٌ أو إفراز حق مشابهةٌ ومضاهاةٌ في المعنى؛ فإن الشريكين في الدار المشتركة إذا اقتسماها، فوقع

_ (1) في الأصل: "المسيس" ولعلها سبق قلم من الناسخ، فلا معنى لها في هذا الموضع. (2) في الأصل: "ولم".

بعض الأبنية في حصةٍ والبعض في حصّةٍ، فللشافعي قولان في حقيقة القسمة وماهيتها، قال في أحد القولين: القسمة بيعٌ، وكأن الذي وقع في حصته البيت الشرقي باع حصته من البيت الغربي الذي وقع في حصة صاحبه بحصّة صاحبه من البيت الشرقي، وإلا فالحقان كانا شائعين في البيتين، وهذا القائل يقول: ثبت اختصاص كل واحدٍ منهما بالقسمة ثبوتاً مبتدءاً. هذا أحد القولين. والقول الثاني - أن القسمة إفراز حق، ومعنى هذا القول أنا نتبين بالأخرة أن حق كلّ شريكٍ من الدار ما تبين وتميز بالقسمة، ولا نُثبت لواحد منهما ملكاً مجدداً. هذا بيان القولين، ووجه تشبيه ما نحن فيه بمأخذ القولين أنا في وجهٍ نقول: يقع الطلاق على إحداهما على إبهام، ثم إذا تعينت، تبين لها أنها الطالقة قبلُ. وفي وجهٍ نقول: يقع الطلاق عند التعيين [كما يثبت] (1) اختصاص كل شريك عند القسمة. وقد بالغ القاضي في استنباط ذلك، وأحسن في إيضاح وجه الشبه؛ فإن الدار كانت على الشيوع حساً، كما جرت اللفظة على الإبهام فيما نحن فيه، وتميُّزُ الحصة ثَمَّ كتعيُّن المطلقة والزوجةِ هاهنا، واستناد [التمييز] (2) ثَمّ إحرازاً أو إفرازاً كاستناد وقوع الطلاق هاهنا. والمصير ثَمَّ إلى أن القسمة هي المفيدة للتخصيص على الابتداء بمثابة مصيرنا إلى أن التعيين هو الذي يفيد الوقوع متصلاً به غيرَ مستند إلى اللفظ. وهذا وإن كان حسناً فالوجهان مستقلان في الباب دون هذا التشبيه. 9221 - فأما من قال: يستند الطلاق إلى اللفظ، فوجهه بيّن؛ فإن صيغة الطلاق جازمة لا تعليق فيها، ولا سبيل إلى ردّ الطلاق، والتعيين يبيّن بالأخرة التي طُلقِّت أولاً، وهو كما لو أسلم المشرك على نسوة، فالإسلام يدفع الزائدات على الأربع، ولا يتوقف اندفاعهن على تعيين الزوج الممسَكات والمفارقات، غير أن تعيين

_ (1) في الأصل: لا يثبت، والمثبت من عمل المحقق. (2) في الأصل: البيتين. والتصويب من صفوة المذهب.

الزوجات مرتبط باختيارالزوج، فإذا اختار أربعاً، تبيّنا أن صواحباتهن اندفعن بالإسلام، وتبيّن لنا ذلك آخراً مستنداً إلى الأول. والقائل الثاني يقول: إيقاع الطلاق من غير محلٍّ محال، ولكن قول الزوج: إحداكما طالق جزمٌ منه في الإيقاع، فاقتضى إيقاع الحيلولة؛ فإن الطلاق -وإن لم يتم - صدر صدوراً لا يرد، فلم يستقل ليقع، ولم يتعلق لينتظر متعلقه، فكان مقتضاه إلزام الزوج إتمامَه ولو بعد حين، فإذا أتمه إذ ذاك وقع الطلاق، فكأنه أوجب الطلاق، ولم يوقعه، وأبو حنيفة (1) يصير إلى أن اللّعان يوجب الفراق ولا يوقعه، والإيلاء عنده (2) يوقع الفراق عند انقضاء المدة، وعندنا يوجبه إذا امتنع من الفيئة، وإبهام الطلاق فيما نحن فيه لا يوقع الفراق، ولكنه [فوق] (3) الإيلاء، فيوقع الحيلولة ويلزم الإتمام. والفقيهُ من يطلب في كل موضع ما يليق به، وقد اجتمع في هذه المسألة تنجيزٌ، فعسر ردّه، ولم يصادف محلاًّ متعيناً نُطقاً وعقداً، فمست الحاجة، إلى التعيين إذا (4) لم يجر التعيين أولاً، ثم كان الطلاق مفتقراً إلى التعيين غيرَ معلق به، فنشأ منه الخلاف في أنه واقعٌ أو واجب الوقوع. هذا حقيقة الوجهين في وضعهما. 9222 - ويتم الغرض والبيان بالتفريع، فنقول أولاً: إذا أبهم الطلقة، ولم ينو واحدة، فلا دعوى للزوجات، بخلاف ما لو أطلق اللفظ ونوى بقلبه، فإن للزوجات الدّعوى على الزوج: كل تدّعي أنك عنيتني-على ما سنذكر [في] (5) فصل التداعي والخلاف.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 505 مسألة 1050، مختصر الطحاوي: 215، المبسوط 7/ 19، 43. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 473 مسألة 998، رؤوس المسائل: 423 مسألة 295، المبسوط: 7/ 20. (3) في الأصل: فوت. وهو تصحيف أجهدنا أياماً حتى ألهمنا الله صوابه. (4) إذا: بمعنى (إذْ). (5) زيادة لإيضاح العبارة.

وإذا لم يكن من الزوج نيّة، فالدعوى منهن لا معنى لها، ولكنه مطالبٌ بإنشاء التعيين عن خِيرَةٍ وتشهٍ، وهذا بمثابة مطالبة المسلم على النّسوة الزائدات على الحصر بأن يعيّن منهن أربعاً، فلهن الطَّلِبة، وليس لهن الدعوى. 9223 - وممّا نفرع على ذلك أنا إن حكمنا بأن الطلاق يقع من يوم التعيين، فالعدة من ذلك الوقت. وإن قلنا: من يوم اللفظ، [ففي] (1) احتساب العدة وجهان، كما تقدم ذكرهما فيه إذا لفظ بالطلاق وعيّن بالعقد والنية؛ وذلك أن الطلاق في المسألتين وقع من وقت اللفظ، ولكن لما التبس الأمر، اختلف الأصحاب في تاريخ أول العدة، كما تقدم شرح ذلك. 9224 - ومما يتفرّع على ذلك أنه إذا أبهم طلقةً ثم وطىء واحدةً، وكان الإبهام بين امرأتين مثلاً، فينظر: إن نوى لمّا لفظ بالطلاق وعين بالقصد، فالوطء لا يكون تعييناً، واتفق الأصحاب أنه لا يكون تبييناً للتعيين السابق الحاصل [بالقصد] (2)؛ فإن الوطء فعلٌ، والفعل لا صيغة له، ونحن جعلنا الوطء من البائع في زمن الخيار فسخاً، وجعلناه من المشتري إجازة؛ لأن الفسخ والإجازة أمران منشآن، فوقع الحكم بحصولهما، وإنما المستنكر وقوع الفعل بياناً. هذا إذا نوى لما لفظ بالطلاق. فأما إذا لم ينو، وكان مطالباً بالتعيين، فهل يكون الوطء الصادر منه تعييناً للمنكوحة حتى تتعين الأخرى بالطلاق، فعلى وجهين: قال القفال: الوجهان مبنيان على أن الطلاق يقع بالتعيين أو يستند إلى اللفظ، فإن حكمنا بأن الطلاق يقع بالتعيين، فالوطء لا يُوقع الطلاقَ، وإن حكمنا بأن الطلاق يقع باللفظ، فالوطء يضاهي اختيار الفسخ، أو اختيار الإجازة من المتعاقدَيْن، وكما اختلف الأئمة في أن الوطء هل يكون تعييناً للطلاق المبهم في التي يكف عن وطئها.

_ (1) في الأصل: (نهي) وهو تصحيف واضح. (2) في الأصل: "بالعقد" وهي كذلك في صفوة المذهب: جزء (5) ورقة 26 يمين.

كذلك اختلفوا في العتاق إذا أبهم المالك العتق بين أَمَتين، ولم يعيّن واحدة منهما بقلبه عند تلفظه، فإذا وطىء إحداهما، فهل تتعين الموطوءة للملك والأخرى للعتق، فعلى الخلاف الذي ذكرناه، وأبو حنيفة (1) يفصل بين العتق والطلاق، فيقول: الوطء تعيين في الطلاق، وليس تعييناً في العتاق، والمسألة مشهورة معه في الخلاف. 9225 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه إذا أبهم الطلاق ولم ينو، فلما طالبناه بالتعيين في هذا القسم، قال: عَنَيْتُ هذه أو هذه، فنقول: ما زدتنا بياناً، ولم توقع تعييناً. وإن قال: هذه وهذه، أو قال: هذه بل هذه، تعينت الأولى، ولغا لفظه في الثانية، أما تعيين الأولى، فتعليله بيّن، وأما بطلان لفظه في الثانية، فسببه أن تعيينها للطلاق محالٌ، ولا مجال للحمل على الإقرار في هذا القسم والقضاء بموجبه، بخلاف ما إذا نوى عند اللفظ، ثم قال: هذه وهذه، أو قال: هذه بل هذه، فإنا نؤاخذه بموجب إقراره وإخباره عما مضى، ثم يعترض لنا قبول الإقرار الثاني وإن طال الرجوع على (2) الأول إذا لم ينو عند اللفظ، فلا مساغ للإخبار عن ماضٍ، والإقرار إخبارٌ عن ماضٍ، وإذا انحسم الإقرار، فالتعيين يصحّ على وجهٍ يقتضيه اللفظ، واللفظ لا يقتضي إلا مطلّقةً واحدةً، وقد ذكرنا أنه إذا قال: إحداكما طالق ونواهما لم تطلقا، وإنما تطلق واحدةٌ منهما، ثم إذا صح التعيين في واحدة، انحسم التعيين في الأخرى، وهذا فقه حسنٌ، وسواء فرّعنا على أن الطلاق يقع عند التعيين، أو يستند إلى اللفظ، فإن حكمنا بأن الطلاق يقع عند التعيين، فتعليل ما ذكرناه بيّن، وإن أسندنا الوقوع إلى اللفظ تبيُّناً، فاللفظ يكمل بالتعيين؛ فإنه لم يكن كاملاً إذا (3) طلّق ولا مقترناً بنيّةٍ، فإذا حصل إكماله آخراً، لم يقبل الإكمال إلا على صيغة اللفظ. وتمام البيان فيه أنه إذا نوى عند اللفظ ثم قال: هذه بل هذه، فلا تطلق إلا واحدة في علم الله، والذي ذكرناه مؤاخذة تتعلق بالظاهر؛ لأنا وجدنا للإقرار مساغاً، وإذا

_ (1) ر. طريقة الخلاف: 155 مسألة: 65، إيثار الإنصاف: 189. (2) "على" بمعنى: "عن". (3) إذا: بمعنى (إذ).

اتضح أن لا مساغ للإقرار، فلا وجه إلا ما قدّمناه، وهذا متضح لا إشكال فيه. 9226 - وممّا نفرعه على هذا الأصل أنه إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق، ولم يعيّن واحدةً بنيّة، فلو ماتتا، وبقي الزوج، فالذي قطع به أئمة المذهب أن التعيين لا ينحسم بموتهما، وهذا يؤكد أحد الوجهين في استناد الوقوع إلى اللفظ، وإذا قلنا لمن يصير من الأصحاب إلى أن الطلاق يقع عند التعيين: كيف سبيل الحكم بوقوع الطلاق بعد الموت؟ وهلاّ قلتَ: إن الطلاق يمتنع وقوعه بعد فقدان المحل؟ يقول: إن هذا اللفظ وإن كان لا يوقع الطلاق ابتداء، فإنه يوجبه إيجاباً لا يُدفع، ولو حكمنا بأنه يفوت، لوجب أن نقول: إذا بدا للزوج ألا يعيّن، ورأى أن يبقيَهما على النكاح، فلا معترض عليه والنكاحُ يستمرّ، فإذا لم نقل ذلك، تبين أن الطلاق لا بد منه. وقد ذهب أبو حنيفة (1) إلى أنهما إذا ماتتا في الصّورة التي ذكرناها، فقد فات التعيين بموتهما. ومذهبه أن الطلاق يقع عند التعيين، وكان شيخي يميل إلى هذا المذهب، وليس هذا ملتحقاً بمذهب الشافعي، والمذهب المقطوع به ما ذكرناه. ثم إن كنا نرى استناد الطلاق إلى اللفظ، فلا إشكال؛ فإن فرّعنا على أن الطلاق يقع عند التعيين في حياتهما، ففرض الوقوع عند التعيين بعد الموت محال، ولا بدّ من فرض استناد على هذا الوجه في هذه الصورة، ثم كيف الاستناد؟ وما المستند؟ المذهب الأصح أن الطلاق يستند إلى اللفظ في هذه الصورة، ويلتقي الوجهان؛ فإنا لم نجد إلى رد الطلاق سبيلاً، ولم يمكنا أن نحقّقه عند التعيين، وترددنا بين اللفظ والتعيين، فإذا عسر تحقيق الطلاق عند التعيين، استند إلى اللفظ تبيّنا. ومن أصحابنا من قال: تطلق المعينة قبيل موتها، فإن عُمرها كان محلّ التعيين، فإذا تصرّم، رددنا وقوع الطلاق إلى آخر زمن يمكن فرض التعيين فيه، وهذا فقيه حسنٌ، وهو يناظر في الظاهر مذهب أبي حنيفة (2) في حكمه بَعتاقة المكاتَب الذي خلف وفاء إذا أخذت النجوم من تركته، فالعتق لا يحصل بعد الموت عنده، ولكن

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 199. (2) ر. المبسوط: 7/ 216، رؤوس المسائل: 546 مسألة: 403، طريقة الخلاف: 177 مسألة 70، إيثار الأنصاف: 185.

إذا أُدّيت النجوم، تبين حصول العَتاقة قبيل الموت، ويقرب هذا من قولنا برجوع المبيع إلى ملك البائع قبيل التلف، فيصادف الانفساخ ملكاً قائماً، وإن كان قيام الملك ينافي الانفساخ، ولكن لما عسر الحكم بالانفساخ بعد الموت، ودلّ الشرع على أن العقد لا يبقى مع تلف المبيع في ضمان البائع، فانتظم من مجموع ذلك أنا اضطررنا إلى إيقاع الفسخ بالموت قبله. ويكثر نظائر ذلك. فصل قال: "فإن ماتتا، أو إحداهما ... الفصل" (1). 9227 - إذا طلق إحدى المرأتين، ثم فرض طريان الموت قبل التبيين، أو قبل التعيين، فلا يخلو إما أن يفرض في جانبه وإما أن تموتا ويبقى، وإما أن تموت إحداهما ثم يموت الزوج. فإن ماتتا وبقي الزوج، نظرنا: فإن كان لفَظَ ونوى وكان مؤاخذاً بالتبيين، فإذا بيّن الطلاق في إحداهما، سقط ميراثه منها، وبقي ميراثه من الأخرى، وبيانه لا شك مقبول، فلو ادّعى ورثةُ التي عينها للزوجيّة ليرثها أنه كان عيّنها للطلاق عند اللفظ، فالقول قوله مع اليمين ما عيّنها (2)، فإن نكل، حلفوا وخرج الميراثان: أحدهما لإقراره، والثاني لقيام يمين الرد بعد إنكاره ونكوله. وإن أطلق اللفظ أولاً، ولم ينو بقلبه ثم ماتتا -وقد ذكرنا أنه يعيّن بعد الموت- فإذا عين واحدة للطلاق، ورث الأخرى، ولا يتوجّه عليه الدعوى، وقد ذكرنا الآن أن التعيين لا ينحسم بموتها، وأبو حنيفة لمّا صار إلى انحسام التعيين، ورّث الزوج منهما جميعاً، ولكن لم يُثبت له تمامَ الميراث من واحدة منهما، وقضى بأنه يأخذ من تركة كل واحدة منهما نصف ميراث زوج. وهذا كلام مختبط لا أصل له، فإن التعيين إن انحسم، فمقتضاه سقوط الطلاق رأساً، وإن ماتتا على الزوجية، فالزوج يرثهما ويثبت له من تركة كل واحدة منهما

_ (1) ر. المختصر: 4/ 85. (2) في الأصل: فالقول قوله مع اليمين مع ما عينها.

ميراث زوج، وكان شيخي في ميله إلى هذا المذهب يُثبت له ميراثين، وفرّع أبو حنيفة مذهبه، فقال: إذا ماتت إحداهما، تعيّنت الحيّة للطلاق، ووقع الحكم بأن التي ماتت زوجة، وكان شيخي في تقدير اختياره وراء (1) المذهب يصحح هذا التفريع ويقول به، وهو لعمري صحيح لو صح الأصل، ولكن ما ذكره الشيخ إظهار ميلٍ، وما أجمع عليه الأصحاب أن التعيين لا ينحسم بالموت. هذا كله فيه إذا ماتتا وبقي الزوج. 9228 - فأما إذا مات الرجل وبقيتا، فهل يقوم الوارث مقام الزوج في البيان والتعيين؟ اختلف طرق أصحابنا: فمنهم من قال: في التبيين والتعيين جميعاًً قولان: أحدهما - يقوم الوارث مقامه في البيان والتعيين جميعاًً؛ لأن الوارث خَلَف الموروثَ، فيقوم مقامه في التبيين والتعيين جميعاً، كما يخلفه في حق الشفعة والردِّ بالعيب، وحبسِ المبيع واستلحاقِ النسب. والثاني - لا يقوم الوارث مقامه؛ لأن حقوق النكاح لا خلافة فيها، فلا تتعلق الوارثة بشيء منها، كحق اللعان، وأقرب الأحكام شبهاً بما نحن فيه أن من أسلم (2) وتحته عشر ومات قبل البيان، فالورثة لا يقومون مقام المورّث في تعيين أربع، ولا يكاد ينفصل هذا عن إطلاق الطلاق من غير نيةٍ، هذه طريقة الأصحاب. ومنهم من قال: إن كان نوى [لمّا] (3) لَفَظَ، فالوارث يقوم مقامه في البيان؛ إذ قد يكون للوارث اطلاع على ما نواه المورث، [كأن] (4) كان سمعه أو تبيّنه من مَخيلةِ حاله، وعلى مثل ذلك تَعْتَمد المرأة في الحلف إذا أفضت الخصومة إلى ردّ اليمين عليها. ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: يقوم الوارث مقام المورث في التعيين إذا لم يكن اقترن باللفظ نية، فإن اقترن باللفظ نيّة، فهل يقوم الوارث مقام المورث في التبيين، فعلى قولين.

_ (1) وراء المذهب: أي مع اختياره المذهب. (2) في الأصل: أن من أسلم وأسلمت وتحته ... (3) في الأصل: "لصّاً" وهو من عجائب وغرائب التصحيف. (4) في الأصل: "فإن".

وينتظم من جميع هذه الطرق أقوال: أحدها - أن الوارث يقوم مقام المورثِ في التبيين والتعيين. والثاني - أنه لا يقوم مقامه فيهما. والثالث - أنه يقوم مقامه في التبيين ولا يقوم مقامه في التعيين كالعدد الزائد في مسألة نكاح المشركات. هذه طرق مرسلة. وذكر الشيخ القفال طريقة مفصلة حسنة، موافقة لظاهر النص، فكان يقول: إن كانت المرأتان حيتين، فليس للوارث التعيين ولا البيان؛ لأنه [لا] (1) غرض للوارث في أن تكون المطلقة هذه أو تلك، فإن ميراث الواحدة ميراث الاثنتين ربعٌ أو ثمن، وإذا لم يكن له غرض، فهو كالأجنبي وليس كالزوج، فإنه صاحب الأمر، ومنه الواقعة، وإليه المآل. 9229 - وإن ماتت إحداهما ثم مات الزوج، ثم ماتت الأخرى، فإن عين الوارث الميتة (2) للطلاق، قُبل قوله، فإنه أقر على نفسه بما يوجب حرماناً من حقٍ، واقتضى استحقاقَ حقٍّ عليه، فكان هذا من قبيل قبول الأقارير، فهذا مقبول قولاً واحداً؛ فإنه في التحقيق أضر بنفسه من وجهين. وإن عين الطلاق في الحيّة بعد الزوج، فله في هذا غرض صحيح، وللقصد به تعلُّق، فإن هذا لو ثبت، يخلُصُ له ميراث أبيه، ويثبت حق الإرث في تركة الميتة، فهل يُقبل قول الوارث حتى يثبت غرضه في التركتين؟ فعلى قولين، ثم يحسن في هذا المقام إعادة الطرق في التبيين والتعيين. 9230 - ولو كانتا ميتتين، فقد يظهر غرض الوارث في التعيين بأن يكون الميراث من إحداهما أكثر، وقد يكون له غرض في عينٍ من أعيان التركتين. وهذا كلام مستعارٌ، فلا ينبغي أن يكون إلى أقدار المواريث التفات أصلاً، والغرض أن يكون

_ (1) في الأصل: لأنه اغرض للوارث. (2) في الميتة: أي الميتة قبل الزوج، كما يفهم من السياق، ويزداد وضوحاً بما يأتي.

للخصومة تعلّقٌ بالوارث، فلا نظر إلى الغرض مع هذا. وإذا كانتا حيتين، فهذا المعنى معدوم، ولكن عبّر الأصحاب عما ذكرناه بالأغراض. ولو كان أجمل عتقاً بين عبدين ومات وبقيا، فهذا محل القولين في بيان الوارث؛ فإن استحقاقه يتعلق بأحدهما، وهذا لا يتحقق في الزوجتين الحيتين. 9231 - فحاصل كلام القفال وإليه ميل معظم المحققين أن الكلام يقع مع الوارث في ثلاث صورٍ: إحداها - ألا يكون له غرض في التبيين والتعيين، فلا نجعله من أهل واحدٍ منهما. والثاني - أن تتعلق الواقعة بغرضه، فيأتي بكلام يَضرُّ به نفسَه، فيقبل ذلك منه قبولَ الأقارير. وإن كانت الواقعة متعلقة بغرضه، وقال قولاً في البيان والتعيين ينفعه من كلّ الوجوه، أو ينفعه من وجهٍ، ففي قبول البيان والتعيين قولان. هذا مسلكه. ثم يجري الفرق بين البيان والتعيين على المراسم التي قدمناها، حيث يجري اختلافُ القول في القبول، ويتطرق إلى ما ذكره من القطع بالقبول في صورة الإضرار أن يُقْبَلَ البيان إقراراً، وفي التعيين وإن كان مضراً التردد الذي ذكرناه. 9232 - وأطلق العراقيون وصاحب التقريب إجراءَ القولين في تبيين الورثة وتعيينهم وإن لم يكن لهم غرض. وهذه الطريقة ليست بالمرذولة، فإنا لا نقبل قول الوارث بغرضه، إذ قبول الأقوال لا يناط بأغراض القائلين، وإنما يناط بكونهم من أهل القبول تأصلاً أو خلافةً، وهذا المعنى يتحقق في حق الورثة وإن لم يكن لهم غرض. وهذا لا بأس به إلا في صورة واحدة، وهي إذا أقر الوارث بما يضره، فيجب قبولُ ذلك وقطعُ القول بهِ، وشرطه أن يكون إقراراً، ولا يكون تعييناً، فهذه الصورة مستثناة، لا يرتاب فقيه في استثنائها؛ فإنه أقرَّ بحرمان نفسه واستحقاق غيره، وقبول ذلك لا مراء فيه.

هذا منتهى القول فيما يقبل ويرد من تبيين الورثة وتعيينهم وذكْرِ اختلاف الطرق والمسالك. 9233 - ثم يتفرع عليه أنا إذا لم نقبل قول الوراث والزوجتان ميتتان نُظر: فإن ماتتا بعد الزوج، وقفنا بين ورثتيهما ميراث زوجة من تركة الزوج، وإن كانتا حيتين، وقفنا بينهما ميراث زوجة. وإن مات الزوج، ثم ماتت إحداهما والأخرى حيّة، وُقِف ميراث زوجةٍ بين الحيّة وبين ورثة الميتة، ولو ماتتا ثم مات الزوج، وُقِف لورثة الزوج من تركة كل واحدة منهما ميراث [زوج] (1) إلى أن يصطلحوا. ولو ماتت إحداهما، ثم الزوج، ثم الأخرى، وُقِف لورثة الزوج من تركة الأولى ميراث زوج، ووقف من تركته لورثة الأخرى ميراث زوجة إلى أن يصطلحوا. وإن أقبلنا، (2) قول الوارث، فقد يُفرض نزاع وخلاف، وسنذكره في فصلٍ مفردٍ عند نجاز الباب. 9234 - وقد كنّا أخّرنا فصلاً في وقوع الإشكال بين الطلاق والعَتاق، وهذا أوان ذكره، وإذا انتجز، ذكرنا بعده الخلاف بين المطلِّق والزوجتين، ثم بين الزوجتين والورثة ونُلحق بهذا المنتهى فروعاً نستدرك ما انسلّ عن ضبط الأصول. فصل قال: "ولو قال: حنِثتُ بالطلاق أو العتاق، وقف عن نسائه ورقيقه ... الفصل" (3). 9235 - إذا حلف يمينين: إحداهما بالطلاق والأخرى بالعَتاق، وتيقّن الحِنث [في] (4) إحداهما، ولم يدر أنه حنث في أيتهما. وتصوير ذلك هيّن، فلو سَقَته في

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: قلنا. (3) ر. المختصر: 4/ 85. (4) في الأصل: مِنْ.

ظلمة الليل جاريةٌ، فقال: إن كانت الساقية امرأةً من نسائي، فهي طالق، وإن كانت جارية، فهي حرة، وقد يفرض هذا في الطائر، فإذا قال: إن كان غراباً، فامرأتي طالق، وإن لم يكن غراباً، فعبدي حر. هذا هو التصوير. قال الشافعي: يوقف عن النساء والعبيد، ولا يمكّن من أن يستمتع بالنساء، ويتصرف في العبيد، ويؤمر بالإنفاق عليهم، لأنهم في حبسه، ثم يؤمر بالتبيين، كما تفصّل من قبل. 9236 - ولو مات قبل البيان، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: في قيام الوارث مقامه في البيان أو التعيين قولان، كما ذكرناهما في المرأتين وفي العبدين، وكل كلام يجري في الطلاق المبهم الفرد، أو العَتاق المبهم الفرد، وجب أن يجري إذا ارتبط الاستبهام بالطلاق والعَتاق. ومن أصحابنا من قطع القول بأن الوارث لا يبيِّن ولا يعيِّن إذا تعلق الإبهام بالطلاق والعَتاق، والسبب فيه أن القرعة تجري في العَتاق، وإن عارضه الطلاق. وهذا من الهذيان الذي لا مبالاة به إلا أن يُجري صاحب هذه الطريقة مسلكه في العتق الممحّضّ؛ فإن العتق إذا تمحّض، فهو أولى بالقرعة منه إذا عارض العَتاقُ الطلاقَ. ثم من قال بالبيان قدّمه على القرعة، كما في حالة الحياة. وإن لم نقل بالبيان، أو قلنا به، ولكن لم يبيّن الوارث، فالقرعة تجري، فَنُقرِع بين الأمة والزوجة، فإن خرجت على الأمة عَتَقَت، وتعينت المرأة للزوجية؛ إذ لا يتصور التعيين إلا مع زوال الإبهام. ومن ضرورة زوال الإبهام ما ذكرناه. وإن خرجت القرعة على المرأة، لم تطلق؛ فإن القرعة لا تؤثر في إيقاع الطلاق أصلاً، وإنما [أثرها] (1) في العتاق. ثم إذا خرجت القرعة على المرأة، وحكمنا بأن

_ (1) في الأصل: أثرنا.

القرعة لا تؤثر، فالمذهب المبتوت أن الأمر يبقى ملتبساً، ويسقط ما كنا نبغيه بالقرعة من البيان. وفي بعض التصانيف أن القرعة تعاد مرّة أخرى عند بعض أصحابنا، وعندي أن صاحب هذه المقالة يجب أن يخرج من أحزاب الفقهاء؛ فإن القرعة إذا كانت تعاد ثانية، فقد تعاد ثالثة، ثم لا يزال الأمر كذلك حتى تقع على الأمة؛ فإن القرعة تُسْتَخْرجُ عليها. وحق صاحب هذا المذهب أن يقطع بعتق الأمة، وهذا لا سبيل إليه. وذكر طوائف من أصحابنا أن الطلاق وإن كان لا يقع على المرأة، فالقرعة تؤثِّر في إرقاق الأمة. 9237 - فقد تحصّل سوى الوجه الفاسد وجهان: أحدهما - أن الأمر يبقى ملتبساً في العتق، والطلاق. والثاني - أن الأمة تَرِقُّ. فإن قيل: ألستم قلتم: إذا خرجت القرعة على الأمة، عَتَقت وتعينت الزوجة للزوجية، وقطعتم بهذا؟ فهلاّ قطعتم بأن الأمة ترِق؟ قلنا: لأن القرعة إذا وردت على الأَمَة، فقد خرجت على محلٍّ تؤثِّر القرعة فيه وهو العَتاق، وإذا خرجت على الطلاق، فلا أثر لهذا في هذا المحل، وإذا لم يكن لها أثر، لم يبعد أن تُلغى حتى يستمر اللبس. ويتعلق بهذا الفصل مسائل لطيفة في الاختلاف، سنذكرها في فصلِ الاختلاف، وهذا أوان افتتاحه. فصل مشتمل على وجوه الاختلاف مسائله: 9238 - إذا قال الرجل لامرأتيه: إحداكما طالق، وكان نوى واحدةً منهما بقلبه، فلما طالبناه بالبيان، [فإن] (1) عيّن واحدة منهما تعينت، فإن لم تخاصم الأخرى، فلا تعرّض لهما ولا تبقى طَلِبةٌ من جهة السّلطان.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

وإن قالت الأخرى: نويتني وعنيتني، فالخصومة تدار بينهما: فيحلف الزوج بالله لم ينوها ولم [يعنها] (1)، فإن حلف، انقطعت الخصومة، ويمينه على البت، فإنه ينفي فعلَ نفسه، فإن نكل، رُدَّت اليمين على المرأة، فإن حلفت، حكمنا بوقوع الطلاق عليها ظاهراً، لأجل يمينها، وقد نُثبت طلاق الأولى بإقراره. وإن نكلت عن يمين الردّ، كان نكولها بمثابة حَلِفهِ. ولو قال الزوج لما طالبناه بالبيان: قد كنت نويت وعنيت إحداكما ثم نسيت، فإن صدقناه، فلا طَلِبةَ، فإن المطالبة بالتعيين تأتي من جهتهما، فإذا رضيتا بالمقام تحت الاحتباس، فلا تعرض للسلطان. نعم، يُمنع من مُلابستهما جميعاًً، ومن مُلابسة كل واحدة منهما. فأما إذا ادعى الرجل النسيان، فكذبتاه، فإذا سبقت واحدة وقالت: عنيتني، فقال في جوابها: لا أدري، فلا يقبل ذلك منه. ولو قال: حلّفوني بالله: لا أدري، لم نكتف بهذه اليمين منه، فإن المحلوف عليه فعله، فلتكن يمينه جازمةً، ولو فتحنا هذا الباب، لما توجهت يمين جازمة على من يُدّعى عليه استقراضٌ، أو إتلافٌ، أو قتلٌ أو غيرُها. فإن قال الزوج: أتجوّزون صدقي؟ قلنا: نعم، فلو قال: فلم تطالبونني باليمين الجازمة، وأنا أمنحكم يميناً جازمةً في أني نسيت؟ قلنا: لا سبيل إلى إجابتك. ولكن وراء هذا سرّ، وهو أنا لا نقضي بنكولك عن اليمين المعروضة عليك، بل نقول: اليمين مردودة على المدّعية، فإن حلفت، وقع القضاء بيمين الرد، وهي حجة جازمةٌ في الخصومة نازلةٌ في طريقةٍ منزلةَ البيّنة، وفي طريقةٍ منزلةَ الإقرار. 9239 - ومما نذكره على الاتصال بهذا أنه لو كان قال: إن كان هذا الطائر غراباً فزينبُ طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرةُ طالق، ثم فرضت الدعوى منهما أو من إحداهما وكانتا لا تدعيان طلاقاً إلا من هذه الجهة، فلو قال: قلت ما قلت من تعليق

_ (1) في الأصل: بعينها.

الطلاق، وأنا في كِنٍّ والليلُ ملقٍ [سُودَ أكنافه] (1) على الآفاق، وقد مرّ الطائر، فكيف أطلع على جنسه، فاقنعوا مني بيمينٍ على نفي العلم؛ إذ لا خلاف أن المحلوف عليه لو كان أمراً أنفيه من فعل غيري، لكنت أحلف على نفي علمي به، مثل أني لو قلت: إن دخلتِ الدار، فأنت طالق، ثم ادّعت المرأة الدخول، كان يكتفى مني بالحلف على نفي العلم بالدخول؛ من جهة أن إحاطة العلم بنفي فعل الغير يعسر، وإذا كان يقع الاكتفاء بنفي العلم لتعذر الإحاطة، فإحاطة العلم بجنس الطائر في الصورة التي ذكرناها أعسر، والدَّرك فيه أبعد. قلنا: إن سلمت المرأتان الصورة التي [ذكرها] (2) الزوج، فقد تحقق أن العلم منه بجنس الطائر غيرُ ممكن، فهذا اعتراف منهما بأنه ليس يعلم حقيقة الحال. وإن اعترفتا كذلك، فلا يتصوّر من واحدة منهما دعوى منضبطة عليه. وحكم هذه الصورة ما تقدم من أنهم إذا اعترفوا بالإشكال، تُرك الأمر مبهماً، وانقطعت طَلِبةُ البيان، ويلزمه أن يَرُد عليهما حقوقَ النكاح. وإن ادعى الزوج حالةً لا يتصوّر معها الإحاطة بجنس الطائر، وأنكرت المرأتان ذلك، وادعت كل واحدة منهما على البت أنه طلقها، فلا يُكتفى منه بادعاء نفي العلم، وإن أبدى الجهلَ، جُعل ذلك إنكاراً منه، وعُرضت عليه اليمين الجازمة، فإن تمادى على ادعاء الجهل، جُعل ذلك بمثابة النكول عن اليمين، وتردّ اليمين على المدعية، فإن قال الزوج: إذا كان لا يمتنع صدقي في دعوى الجهالة، فكيف تستجيزون إثبات الطلاق؟ قلنا: لسنا نثبت الطلاق بنكولك عن اليمين، وإنما أثبتناه بيمينها الجازمة في إثبات الطلاق، ولكن سبيل الوصول إلى يمين الرد في ترتيب الخصومة ما ذكرناه. وهذا قدمنا تقديره فيه إذا قال: إحداكما طالق، وكان قد عيّن بقلبه إحداهما، ثم زعم أنه نسي من نواها.

_ (1) في الأصل رسمت هكذا: سودا كنا فيه. (2) في الأصل: ذكرناها.

9240 - ولو ذكر في مجلس الحكم صورة الحال، وكانت المرأتان لا تدعيان الطلاق إلا من جهة التعليق في مسألة الطائر، فتقدمت امرأة كان علق طلاقها بكون الطائر غراباً، [فقد ادعت] (1) أن الطائر الذي علق الطلاق به كان غراباً، فهذه الدعوى يجب أن يجيب عنها؛ فإن التنازع محصور في صفة الطائر. فالذي أراه أن الزوج ينفي كونه غراباً جزماً؛ فإن الاطلاع على جنس الطائر ممكن، وهو من قبيل الإثبات الذي حقه أن يحلف عليه جزماً، فإن ادعى الجهل، جُعل منكراً ثم ناكلاً، وتُعرض اليمين الجازمة على المدّعية. وإن كان الشيء في جنسه مما يفرض الاطلاع عليه، فلا ننظر إلى تفاصيل الصور، وهذا كما أنا إذا جعلنا اليمين على نفي فعل الغير على [نفي] (2) العلم، فلا نغيّر هذا الأصل بتصوّر الإحاطة بالنفي في بعض الصّور. فإن قيل: نفي كون الطائر غراباً ليس بإثبات. قلنا: كم من نفي يجب أن يكون اليمين عليه جزماً، وإنما تكون اليمين على نفي فعل الغير على [نفي] (3) العلم فحسب، ونفي صفةٍ في طائر كإثبات صفة فيه، وسبيل العلم في البابين على نسق واحدٍ. فهذا ما أراه في ذلك. وبالجملة ما يفرض من إشكالٍ في ذلك بمثابة ما لو قال الزّوج: نسيت ما نويت، ولا ينفع الزوج ذلك، وإن كان ما يدّعيه ممكناً. فهذا منتهى الغرض في ذلك. 9241 - ومما نذكره في [الاختلاف] (4) أنه لو وقع الإبهام بين الطلاق والعَتاق، كما صورناه في جاريةٍ وزوجةٍ، فإن قال: حَنِثْتُ في العتق عَتَقت، وبقيت الدعوى للمرأة؛ فإن حلف الزوج، أنه لم يحنَث في طلاقها، انفصلت الخصومة، وإن

_ (1) في الأصل: "فقال: أدعي" وهو تحريف لا يستقيم معه الكلام، والمثبت تصرّف من المحقق. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: اختلاف.

نكل، رُدت اليمين على المرأة. ولو قال: لا أدري، لم نقنع منه بهذا، كما تقدّم ذكره. ولو كان علق عتق عبيدٍ وطلاقَ نسوةٍ على الإبهام، فادّعت واحدة من النساء الحِنْث، فنكل الزوج، وحلفت، ثبت طلاقُها، ولم يثبت طلاقُ صواحباتها، وإن كان اليمين بطلاقهن والحِنْث لا يتبعّض، ولكن إنما ثبت الحنث باليمين ويمينُ واحدةٍ لا يثبت في حق الغير، وهذا كما لو مات رجل وخلّف ابنين، وكان له على إنسانٍ دين، فلو أقام أحدهما شاهداً وحلف معه ثبتت حصته من الدّين، ولم تثبت حصة أخيه، وهو على دعواه، ولو أقام أحد الابنين شاهدين، ثبت جميع الدّين في حق الأخوين، وهذا واضح. ولو قال الزوج: إن دخلتُ الدار فأنتن طوالق، فادعت المرأة أنه دخل الدار وعرضنا اليمين عليه فنكل، فحلفت تلك المدعية، طلقت، ولم تطلق صواحباتها؛ لما ذكرناه. وقد يعترض للإنسان أن الطلاق يتعلق بحق الله، ولكن حق الله لا يثبت في حق الغير بيمين الغير أيضاًً، وإذا كانت الدعوى تتوجه والخصومة تَتَرتّبُ تحليفاً ورداً، فالأصل الثابت الذي لا مراء فيه ما ذكرناه من أن اليمين لا تُثبت شيئاً في حق غير الحالف. 9242 - ومن بقية الكلام في الاختلاف أن الذي أبهم الطلاق إذا مات، فقد ذكرنا أن الوارث هل يقوم مقامه في البيان، فإن قلنا: لا يُقبل بيانه، فلا تتوجه عليه الدّعوى؛ فإنه بمثابة الأجنبي في القول الذي نفرّع عليه. وإن قلنا: إن بيانه مقبولٌ، فإن كان لا يتعلق به حقّ وغرض، ورأينا قبولَ قوله في بعض الطرق، وذلك مثل أن يموت الزوج ويخلّفَ زوجتين قد أبهم بينهما طلقةً مُبينةً، فلو امتنع عن البيان، فلا تتوجه عليه الدعوى منهما؛ فإنه لا يتعلق بعين واحدةٍ منهما [غرضه] (1) بوجهٍ.

_ (1) في الأصل: "بغرضه".

وإن كانت المسألة مفروضةً حيث يتعلق الأمر بغرضه مثل أن يكون الإبهام في عتق عبدين، فتتوجّه الدّعوى على الوارث، ثم [إن] (1) ادعى أحدهما أن أباه حَنِث، فإنه يحلف على نفي العلم: "بالله لا يعلم أن أباه حَنِث" ثم لا يخفى تمام الخصومة، لو فرض النكول والردّ. فهذا تمام المراد، ثم ما لم نذكره لا يخفى قياسه، فلم نر المزيد على هذا. وإذا كان الإبهام بين العتق والطلاق، ومات المبهِم وقلنا: تعيين الوارث مقبول، فإذا زعم أنه كان حَنِثَ في الطلاق، قُبل قوله، وللمرأة أن تحلِّفه، فيحلف على الإثبات أن أباه حَنِث في الطلاق. ثم للعبد أن يحلّفه، فيحلف بالله: لا يعلم أن أباه حَنِث في عتقه؛ فإن اليمين في حقه متعلقة بنفي فعل الغير، وهذا جارٍ على الأصل الذي مهدّناه. وقد نجز ما أردناه في ذلك والله المستعان. فروع متعلقة بالباب: 9243 - إذا أشار الرجل إلى امرأته وأجنبية، وقال: إحداكما طالق، ثم ادّعى أنه أراد بذلك الأجنبية، فهل يصدق في ذلك؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب الأكثرون إلى أنه يصدّق فيما يدعيه؛ فإن قوله إحداكما صريح في الترديد بينهما. ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق على زوجته، فإنه أرسل الطلاق بين أجنبية ليست محلاً لطلاقه، وبين زوجته، فينزل الطلاق على التي هي محل الطلاق، ويلغو موجبُ الترديد، وهو كما لو أوصى بطبلٍ من طبوله، وله طبل حربٍ وطبولُ لهو، فالوصية تنزل على طبل الحرب؛ فإنه محل الوصية الصّحيحة، والطلاق أولى بالنفوذ من الوصية. ومما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أن الزوج إذا قال: زينب طالق، وكانت زوجته تسمى زينب ثم قال: أردت بذلك جارتي وهي زينب، فالأكثرون من الأصحاب

_ (1) زيادة من المحقق، مع أنها ساقطة أيضاًً من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 30 يمين.

صاروا إلى أن الطلاق واقع، ولا يُقبل حمله إيّاه على الجارة؛ فإن الطلاق لا يردّ، ولا يحمل على [اللغو] (1). ومن أصحابنا من قال: يقبل ذلك؛ فإن لفظه محتمل له، والأصل بقاء النكاح ومال إلى اختيار ذلك القاضي، وهذا التردد في الظاهر. فأما من أنكر قبول قوله ظاهراً لا (2) يُنكر أن الطلاق لا يقع باطناًً بينه وبين الله إذا صُدِّق. والجهل لا يمنع وقوعَ الطلاق بلا خلاف، فلو كان نسي أن له زوجة، فقال: زوجتي طالق، طلقت. ولو أشار إلى عبدٍ لأبيه وقال: أعتقتك، ثم تبين له أنه كان قال هذا وأبوه قد مات والعبد رجع إليه ميراثاً، فالعتق نافذ. فرع: 9244 - إذا أبهم طلقة مُبينة بين امرأتين، فيلزمه البيان أو التعيين، كما مضى تفصيله، ولو أبهم طلقةً رجعيّة بينهما، فهل يلزمه أن يُبيِّن أو يعيّن، فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه؛ فإن الرجعيّة زوجة. والثاني - يلزمه؛ فإنها محرّمة، والحيلولة مستحقة بالطلاق الرجعي، والأصح الأول. والله أعلم. فرع: 9245 - إذا طار طائر، فقال زيد: إن كان غراباً فعبدي حر، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فعبدي حر، فلا نحكم بعتق واحد منهما، كما تقدم ذكره، فلو اشترى أحدهما عبد الثاني، فالشراء صحيح، ولكن إذا اجتمع العبدان في ملكه؛ فلا شك أن أحدهما في معلوم الله حر، وإنما كنا لا نحكم بهذا لتعدد المالكَيْن وتعذر

_ (1) في الأصل: "ولا يحمل على موجب العادة" والمثبت من المحقق على ضوء عبارة ابن أبي عصرون، وهي: "فإن الطلاق لا يردّ، ولا يلغو" وربما كان صوابها: "فإن الطلاق لا يردّ، ويحمل على موجب العادة" أي أن العادة لا تجري بتطليق الرجل زوجة جاره. (2) جواب (أما) بدون الفاء.

جمع الخطاب وهما متفرقان، فإذا اجتمع العبدان، في ملكٍ واحد منهما، فهما في حقه مجتمعان الآن، وهو مخاطب واحد. وقد ذكر صاحب التقريب وجهين بعد التنبيه لما ذكرناه: أحدهما - أنهما إذا اجتمعا في يده وتصرّفه، فيوقف عنهما جميعاًً إلى أن يتبين الأمر، ويصير بمثابة ما لو كان العبدان جميعاًً في ملكه أو لا، فقال: إن كان هذا الطائر غراباً، فعبدي سالم حرّ، وإن لم يكن غراباً، فعبدي غانم حرّ، [وهوى] (1) الطائر وأشكل الأمر، وهذا أصح الوجهين، وقد قدّمت ذكره. والوجه الثاني - أن يده لا تُقبض عن التصرّف في عبده الأوّل؛ لأن الحكم فيه هكذا جرى، فلا نغير الحكم المتقدم، وإنما نمنعه من التصرف في عبده الذي اشتراه، فإن هذا عبد جديد، فنجدّد فيه حكم الوقف، ثم لا نقطع في العبد الثاني بالحرية، ولكن نقفه عن التصرّف فيه إلى أن يبين حقيقة الأمر، والوجه الأول أقيس. والله أعلم. ...

_ (1) في الأصل: وهو.

باب الهدم

باب الهدم 9246 - إذا طلق الرجل الحرّ زوجته ثلاثاً أو استوفى العبدُ ما يملك، فطلّق زوجته طلقتين، حرمت الزوجة وحرم نكاحُها، ثم يمتدّ تحريم النكاح إلى التحليل، كما قدمنا وصفه في الأبواب المتقدمة، وقد أطلق الفقهاء أن وطء الزوج المحلِّل يهدم الطلقات الثلاث، وترجمة الباب توافق هذا، وهذا فيه استعارة وتجوّز؛ فإن الطلاق بعد وقوعه لا يتصور هدمه، ولكن الطلاق الواحد والاثنين في حق الحر لا يحرِّم عقدَ النكاح، بل إن كان رجعياً، لم يخف حكمه، وإن كان مُبيناً، فلا بدّ من نكاح جديد، وإن استوفى ما يملك من الطلاق، تعلّق باستيفائه تحريمُ النكاح، ثم هو في التوقيف ووضع الشرع ممتد إلى اتفاق التحليل والتخلّي من الزوج المحلل، ثم يقال: انقضت الطلقات الثلاث، وانتهى حكمها، وصارت المرأة إذا نكحها الأول بمثابة أجنبية ينكحها الرجل ابتداء، فيملك عليها ثلاث طلقات. ثم أطلق الفقهاء الهدم وعنَوْا به أنها تعود بثلاث طلقات، ولم يُريدوا أن تلك الطلقات الواقعة تُهدَم بعد وقوعها وتزول؛ إذ لو زالت، لعادت المرأة منكوحةَ الأول من غير احتياج إلى نكاح جديد. ولو طلق امرأته طلقةً أو طلقتين، ولم يستوف العددَ، فانسرحت المرأة ونكحت وأصيبت، ثم تخلّت، ونكحها الأول؛ فإنها تعود إلى الأول ببقية الطلاق عندنا وعند محمد، وقال أبو حنيفة (1): إذا نكحت ووطئها الزّوج، ثم تخلّت عن النكاح والعدة ونكحها الأول عادت إليه بثلاث طلقات، والمسألة مشهورة في الخلاف.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 409 مسألة 914، رؤوس المسائل: 420 مسألة 292، المبسوط: 6/ 95، طريقة الخلاف: 100 مسألة 42، إيثار الإنصاف: 162، الغرة المنيفة: 160.

وقد نجزت المسائل المنصوصة في (السواد) (1) وما يتصل بها. وهذا الكتاب من بين الكتب كثير الفروع والشعب؛ فإنه مبني على الألفاظ، ولا نهاية لما ينطق الناطقون به تنجيزاً وتعليقاً، وينضم إلى دَرْك الصيغ أمورٌ تتعلق بالعادات، والحاجة تَمس إلى الإحاطة بحقيقتها ضمّاً إلى دَرْك الألفاظ، ونحن لا نألوا جهداً في الإتيان بها والتنبيه على ضوابطَ فيها، وتقرير أصولٍ تهدي إلى المراشد فيما نذكره، وفيما ينسلّ عن ذكرنا وحفظنا، ونحرص أن نُجري الفروع مصنفةً، ونذكرها صنفاً صنفاً وما لا يدخل تحت ضبط التنويع نجمعه في مسائل شتى، وإلى الله الرغبة في التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق. فروع في تعليق الطلاق بالحيض: 9247 - إذا قال لامرأته: إن حضت، فأنت طالق، اقتضى ذلك حيضةً مستأنفة، حتى لو كانت في خلال حيض، لم تطلق في الحال؛ حتى تطهر ثم تحيض، والسبب فيه أن الشرط يستدعي استئنافاً، وبقية الشيء لا تكون استئنافاً فيه لساناً وعرفاً، حتى لو قال لامرأته والثمار مُدركةٌ إذا أدركت الثمار، فأنت طالق، اقتضى ذلك إدراكاً مستأنفاً يأتي في العام القابل. ثم إذا رأت دماً مستأنفاً، لم نحكم بوقوع الطلاق، وإن كان على ترتيب الأدوار؛ فإنه قد ينقطع دون أقل الحيض ويكون دمَ فسادٍ، والطلاق معلق بالحيض، فإذا استمر الدم المسبوق بطهرٍ كامل يوماً وليلةً، تبينا أنه دم حيضٍ، ثم الطلاق يتبين وقوعه مستنداً إلى أول جزءٍ من الدّم؛ [فإنّا] (2) تحققنا آخراً أن ما رأته أولاً دمُ حيضٍ وتوقُّفنا، كان لنتبين. ويعترض في ذلك أنها إذا رأت الدّم، فهل يجب اجتنابها في الاستمتاع ناجزاً؟ هذا بمثابة ما لو قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، وقد ذكرنا في ذلك بياناً كافياً.

_ (1) السّواد: المراد مختصر المزني، كما أشرنا مراراً من قبل. (2) في الأصل: فأما.

9248 - ثم إذا قالت المرأة -وقد علّق الطلاق بحيضها-: "قد حضت"، فالقول قولها مع يمينها، ولو كذّبها الزوج، فلا معتبر بتكذيبه. والذي عليه التعويل في ذلك يبينُ بتقسيمٍ: فإن علق الرجل طلاق امرأته بأمرٍ يظهر ويُتَصور إثباته بالبينة مثل أن يقول: إن دخلت الدار، فأنت طالق،. فإذا زعمت أنها دخلت، وأنكر الزوج دخولها، لم نصدقها، ولم نقض بوقوع الطلاق حتى يَثْبت الدخول بالبينة. ولو قال: إن حضتِ، فأنت طالق، فقالت: "حضتُ"، صُدّقت مع يمينها، وقال الفقهاء: النساء مؤتمنات في أرحامهن، وزاد زائدون بياناً وقالوا: لا يتبين الحيض إلا من جهتها؛ فإن الدّم في عينه، وإن رُئي، فلا يمكن القضاء عليه بكونه حيضاً، ما لم تخبر بترتيبٍ في أدوارها، يقتضي ذلك كونَ ما تراه حيضاًً. فهذا ما ذكره الأصحاب ووراءه كلام يأتي الشرح عليه، إن شاء الله. ولو قال لامرأته: إن زنيتِ، فأنت طالق، فزعمت أنها زنت، فالمذهب الذي عليه التعويل أنا لا نحكم بوقوع الطلاق؛ من جهة أن الزنا يفرض الاطلاع عليه لا من جهتها. وقال بعض أصحابنا كل عملٍ خفيٍّ لا يفرض الاطلاع عليه، فهي مصدقة فيه، والزّنا منه، وهذا حائد عن التحقيق غيرُ معدودٍ من المذهب. ولو قال الرجل لامرأته: إن أضمرتِ بُغضي، فأنت طالق، فزعمت أنها أضمرت، وقع الطلاق، وإن اتُّهمت، حُلّفت؛ إذ لا مطّلع على مكنون الضمائر إلا من جهات أصحابها، فلا وجه إلا أن نصدقها، وهذا أصل جارٍ في القصود والنيات المعتبرة. 9249 - وما ذكره الأصحاب من الفرق بين الأفعال التي يتطرق إليها إمكان الإثبات وبين ما لا يُعلم إلا من جهة المرأة يكاد يوافق مذهب مالك (1) في ادعاء المودَع التلف، فإنه قال: إن ادعى سبباً جلياً يظهر مثله ويتأتى في الغالب الإشهاد عليه، فلا يقبل

_ (1) ر. حاشية الدسوقي: 3/ 430، جواهر الإكليل: 2/ 141.

قوله، وإن ادعى سبباً خفياً يعسر الإشهاد عليه، فيصدّق حينئذٍ. وعندنا لا فرق في المودَع إذا أمكن صدقه، وذلك الكتاب مبني على أن صاحب الوديعة [يحُل] (1) محلَّ المؤتمنين في إيداعه، فكان التزامُ تصديقه فيما يمكن صدقه [فيه] (2)، ولم يوجد من الزوج ائتمان المرأة في جليّ ولا خفيّ، فامتاز هذا بوضعه عن المودَع وقياسِه، وبان أنا إنما نُصدّق المرأة في ذكر الحيض، والإعرابِ عن معنىً في الضمير يفرض متعلَّقاً للطلاق؛ من جهة أن كل معلِّقٍ [بصفةٍ، فقضيةُ] (3) كلامه إمكان وقوع الطلاق عند وجود الصفة؛ فإن من ضرورة التعليق ترديد الأمر، فإذا كان [لا مطَّلِع] (4) على ما جعله متعلَّقَ الطلاق إلا من جهتها، وهي في التقدير مكذَّبة، فكيف الوقوع [ونفسُ] (5) تعليقه -وما به التعليق لا يأتي إلا من جهتها- في حكم الالتزام لتصديقها. وهذا أظهر من التزام المودِع تصديق المُودَع؛ فإن ذلك المعنى [لا يستدّ] (6) في ذلك الكتاب ما لم يُعضَّد بمصلحة الإيداع، كما قرّرناه في موضعه. 9250 - وممّا يتعلق بهذا الأصل أنه لو قال لإحدى امرأتيه: إن حضت، فَضَرّتك طالق، فإذا زعمت أنها حاضت، لم نحكم بوقوع الطلاق على ضَرَّتها، وإنما تُصدّق في حق نفسها إذا علق طلاقها بحيضها، وهذا يكاد يخرِم ما مهدّناه من قولنا: لا يُطَّلع على الحيض إلا من جهة المرأة، ويعترض أيضاًً على ما ذكرناه عَضُداً للكلام، إذا (7) قلنا: التعليق يتضمن إمكان وقوع الطلاق على الجملة. وسبيل الجواب عما نبهنا عليه أن المرأة إذا علق طلاقها بحيضها، فليست مصدَّقةً من غير يمين، وكلُّ مؤتمن، فمعنى ائتمانه الاكتفاءُ بيمينه، ثم تحليفها ممكن في حق نفسها، وإذا علق طلاق الضَّرّة بحيضها، فإن لزم تصديقُها من غير يمين، كان بعيداً،

_ (1) في الأصل: (احمل). (2) في الأصل: منه. (3) في الأصل: "معلق بصيغة كلامه"، والمثبت تصرّف من المحقق على ضوء السياق. (4) في الأصل: لا يطلع. (5) في الأصل: فنفس. (6) في الأصل: يستمرّ. (7) إذا:: بمعنى (إذ).

فإنه إثبات الطلاق من غير حُجّة، وإن حلفت، كان تحليفها لغيرها -ولا تعلّق للخصام بها- محالاً. وقد يرد على هذا ما يتم البيان بالجواب عنه، وهو أن الرجل إذا قال لامرأته: إن حضت، فأنت وضرتك طالقان، فزعمت أنها حاضت، فهي مُصدّقة مع يمينها، والطلاق واقع عليها، ولا يلحق ضَرَّتَها وإن ثبت حيضها بيمينها المرتبطةِ بخاصّتها، والجواب أن اليمين وإن اشتملت على حق الحالف وحق غيره، فإذا ثبت حقُّ الحالف، لم يثبت حقُّ غيره؛ إذ الأيْمان بعيدةٌ عن قبول النيابة، وعن إثبات الحقوق لغير الحالفين. ولو مات رجل وخلّف ابنين ودَيْناً، فادعى أحد الابنين الدين، وأقام شاهدين يثبت بالبينة حقُّه وحقُّ أخيه، ولو أقام شاهداً واحداً، وحلف معه، لم يثبت من الدّين إلا حصتُه، وإن تعرّض في اليمين لواقعةٍ يشتمل ذكرها على تمام الدين. فهذا قاعدة الفصل. 9251 - وإذا قال: إن حضت حيضةً، فأنت طالق، اقتضى ذلك حيضةً تبتدئها وتختمها بخلاف ما لو قال: إن حضت، فأنت طالق، فإنا نحكم بوقوع الطلاق مع أول جزءٍ من الحيض إذا تبيّناه باستمرار الدم يوماً وليلةً. وإذا قال: إن حضت حيضةً، اقتضى ذلك حيضة كاملةً، ثم الطلاق يقع مع انقضاء الحيضة؛ فإنه متعلَّق الطلاق. وإذا قال لامرأتيه: إن حضتما فأنتما طالقان، فلو حاضت إحداهما لم تطلق الحائض، ولا صاحبتها؛ فإنه علّق الطلاقين على الحيضين، فلا وقوع ما لم تحيضا. ولو قال: إن حضتما حيضةً، فأنتما طالقان، فللأصحاب وجهان: أحدهما - لا يقع على واحدة، وإن حاضتا؛ لأن مُطْلَقَ هذا اللفظ يقتضي أن تحيضا حيضةً واحدةً، وهذا مستحيل؛ فإنهما إذا حاضتا، فالصادر منهما حيضتان، فكأن الطلاق معلّق بمستحيل.

والوجه الثاني - أنه يقع، لأن حمل قوله: "حيضة واحدة" على حيضةٍ واحدةٍ من كل واحدة ممكن، وإذا أمكن تنزيل اللفظ على ممكن له تصوّر، وجب حمل اللفظ عليه، فإن مبنى النطق على ألا يُلغى ما أمكن استعماله، وهذا قطب في الكتاب، فليتنبه المرء له، وهو إذا تردّد اللفظ (1) على وجه يحتمل استحالةً ويحتمل إمكاناً، فمن الأصحاب من لا يُبعد الحملَ على الاستحالة؛ حتى لا يقع الطلاق، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان حتى لا يلغو اللفظ؛ فإن التعرض للاستحالات يكاد أن يكون كالهزل، وهَزْلُ الطلاق جدّ. وعن هذا قال قائلون: الطلاق المعلَّق بالاستحالة على التصريح يتنجز ولا يتعلق. ومن الأصل الذي نبهنا عليه قول القائل لامرأته وأجنبية: "إحداكما طالق"، فإذا زعم أنه أراد الأجنبية، فهو من فنّ الحمل على المحال، وفيه التردد الذي ذكرناه في فروع باب الشك. وإذا قال لامرأتيه: إن حضتما، فأنتما طالقان، فقالتا: حضنا، نظر: فإن صدّقهما، طُلِّقتا، وإن صدق إحداهما وكذَّب الأخرى، طُلقت المكذَّبة (2)، لأن صاحبتها مصدّقة وقولها في حق نفسها مقبول. هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب، ووجهه ما نبهنا عليه من أن المكذَّبة مصدّقة في حق نفسها، والمصدّقة يثبت حيضها بتصديقها، وأما المصدَّقة، فإنها لا تطلق؛ فإن حيضها وإن ثبت في حقها، فحيض المكدَّبة لا يثبت في حقها، فلم تطلق المصدَّقة؛ من جهة أن حيض المكذَّبة غيرُ ثابت في حقها. وإذا كذبهما لما قالتا: حضنا، لم تطلق واحدة منهما: هذه لا تطلق؛ لأن حيض صاحبتها مردود في حقها، والأخرى لا تطلق بمثل هذه العلة.

_ (1) في الأصل: إذا تردد اللفظ له على وجه يحتمل استحالة ... (2) تطليق المكذَّبة؛ لأنه وقع الحيضان، حيضُها بإقرارها -فيما لا يعرف إلا من جهتها- وبحيض صاحبتها. وعدم تطليق المصدَّقة؛ لأنه لم يقع الحيضان بالنسبة لها، فهي مصدّقة في حيضتها، أما صاحبتها، فلا اعتداد بحيضها وقد كُذِّبت.

9252 - وإذا قال لأربع نسوة: إن حضتن، فأنتن طوالق، وقلن: حضنا، فإن صدّقهن، طلقن وإن كذبهن، لم تطلق واحدةٌ منهن، لا لأنها مكذبة في حق نفسها، ولكن لأن طلاق واحدة لا يقع ما لم يثبت حيض الجميع، وحيض صواحبات كل واحدة لا يثبت في حقها، وظهور ذلك يغني عن الإطناب فيه. وإن صدّق واحدةً منهن وكذب ثلاثاًً، فلا تطلق واحدة، وتعليله ما مضى، وكذلك إن صدّق ثنتين وكذّب ثنتين، وإن صدّق ثلاثاًً وكذّب واحدةً، طلقت المكدَّبة، لأنها مصدَّقة في حق نفسها، وقد ثبت حيض صاحباتها بتصديق الزوج، ولا يطلق المصدقات، ولا واحدة منهن؛ لأن حيض المكذَّبة لا يثبت في حقوقهنّ. وإذا تمهدت الأصول، وجب الاكتفاء في التفريع بالمرامز. 9253 - فإذا قال: إن حاضت واحدة منكن، فصواحباتها طوالق، فإذا حاضت واحدة، لم تطلق الحائض، وطلقت صواحباتها، طلقة طلقة، وقد ذكرنا أنه لو كذب هذه، لم تطلق صواحباتها. فإن قيل: كيف يصدقها ولا حجة؛ فإنها لا تحلف في حق الغير لو كُذّبت، ولا يعلم الزوج صدقَها قطعاً، والطلاق لا يقع من غير تثبّتٍ، وإن قيل إقرار الزوج يُلزمه موجَبَ قوله، فكل إقرار له مستند، فما مستند إقرار الزوج، وهو لم يتعرض لإقرار مرسلٍ بوقوع الطلاق، وإنما قال: "صُدِّقت في ادّعاء الحيض". وهذا السؤال له وَقْعٌ؛ إذ لو قال الزوج: سمعتها، وأنا أجوّز أن تكون صادقةً وكاذبةً، ويغلب على ظنّي صدقُها، فلو لم يذكر إلا هذا، لم نحكم بوقوع الطلاق، وإذا قال: صدقتِ، فلا مستند لتصديقها إلا هذا، وقد قال الشافعي: إذا اعترف السيّد بوطء أمتهِ، ولم يدع استبراءً، لحقه النسبُ، فإنه لو استلحقه، لم يُسنده إلى ما ذكرنا، فلا جرم جعل الشافعي الإقرار بالوطء استلحاقاً؛ إذ الاستلحاق معناه الإقرار بالوطء. فهذا نهاية السؤال. وقد سمعت بعض أكابر العراق يحكي عن القاضي أبي الطيب (1) أنه حكى عن

_ (1) القاضي أبو الطيب الطبري. سبقت ترجمته.

الشيخ أبي حامدٍ (1) تردداً في الحكم بوقوع الطلاق إذا لم يكن للتحليف وجهٌ، فأما إذا حلفها، والمعلّق طلاقها، فاليمين حجّة، وحجج الشريعة مناط الأحكام، وينتظم منه [أنه] (2) إن اكتفى بتصديقها ولم يُحلِّفها، فالحكم بوقوع الطلاق مشكلٌ كما ذكرناه. وهذا نقلتُه وأسندتُه، ولست أعتمد ذلك؛ فإن المعتمد ما أطبق الأصحاب عليه، وقد تتبّعت طرقاً منقولةً عن الشيخ أبي حامدٍ، فوجدتها عريّةً عن ذلك. وسبيل دفع السؤال أن جواز الحلف قد يستند إلى مخايلَ وأحوالٍ دالةٍ على الصّدق؛ حتى جوّرنا للمرأة أن تحلف على نية الزوجِ الطلاقَ، ولا مستند ليمينها إلا مخايلُ تتبيّنها من قصده، ولا قطعَ؛ إذ لو كانت تيك المخايلُ تورث قطعاً، لما صُدِّق الزوج في أنه لم ينو الطلاق، فإذا كان مثل هذا مستند الحلف، والحلفُ حجة، فإذا استند الإقرار إليه كيف لا نحكم به، وإنما ذكرت السؤالَ والجوابَ، ونَقْلَ التردد، حتى نُرسِّخ التنبه لما ذكرته في قلب الناظر. 9254 - ولو قال: أيتكن حاضت، فصواحباتها طوالق، فقلن: "حضنا". إن كذَّبهنّ، لم تُطلَّق واحدةٌ منهنّ، وإن صدّقهنّ، طُلّقن ثلاثاًً ثلاثاًً؛ لأن لكل واحدة منهن ثلاثَ صاحبات، فتأتيها ثلاثُ طلقات من جهاتهنّ. وإن صدّق واحدةً، طلقت صواحباتها طلقة طلقةً بلا مزيد، ولم تطلق المصدَّقة. وإن صدق ثنتين، طلقت كل واحدة من المصدّقتين طلقةً لأن لها صاحبةً مصدَّقةً، فتأتيها من جهة صاحبتها طلقة، وطلقت المكدَّبتان طلقتين طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهما صاحبتين مصدّقتين، وإن صدّق ثلاثاًً وكذّب واحدة، طُلقت المكذَّبة ثلاثاًً؛ إذ لها ثلاث صاحبات مصدَّقات، فتأتيها من جهاتهن ثلاث طلقات، وتطلق كل واحدة من المصدَّقات طلقتين؛ لأن لكل واحدة صاحبتين مصدّقتين. فهذا بيان أصول هذه الفروع والإرشاد إلى كيفية تفريعها.

_ (1) الشيخ أبو حامد الإسفراييني. سبقت ترجمته. (2) زيادة اقتضاها السياق.

فروع في تعليق الطّلاق بالولادة. 9255 - قد قدمنا الأصلَ المقصود في ذلك فيما سبق، فإن عاد فيما نجدّده بعضُ ما سبق احتُمل، فلو قال لأربع نسوةٍ: إن ولدتنّ فأنتن طوالق، فلا تطلق واحدة ما لم تلدن. ولو قال: كلما ولدت واحدة منكن، فأنتن طوالق، فولدت واحدة، طلقت الوالدة طلقةً، وطلقت صواحباتها طلقة طلقة؛ فإن الولادة متحدة بعدُ، فإذا ولدت الثانية وقد كانت في العدّة عن الطلقة التي لحقتها، انقضت عدتها في الجديد، ولم تلحقها طلقة أخرى، والأُولى لما ولدت وطلِّقت استقبلت العدة بالأقراء، وإذا كانت في بقية من عدتها، فتلحقها بولادة الثانية طلقة ثانية، والثالثة والرّابعة تلحقها طلقتان. هذا الذي ذكرناه في الثانية تفريعٌ على الجديد، وإن فرعنا على القديم، قلنا: يلحقها أيضاًً طلقة ثانية، وتستقبل العدة بالأقراء، وهذا قولٌ لا ينقدح لي توجيهه، وقد نقلت ما قيل فيه. فإذا ولدت الثالثة، انقضت عدّتها في الجديد عن طلقتين، وطلّقت الأولى الطلقة الثالثة إن كانت في بقية العدة، وتطلق الرابعة ثلاثاً، وفي القديم تطلق الثالثة الطلقة الثالثة، وتستقبل الأقراء، وتلحق الطلقةُ الثالثةُ الثانيةَ. ومهما فرضت ولادة في مطلَّقة جاريةٍ في العدة، والطلاقُ يتعلق بالولادة، فالقول الجديد مقتضاه انقضاء العدة، والانسراح وعدم لحوق الطلاق، والقول القديم مقتضاه وقوع الطلاق واستقبال العدة بالأقراء. وهذا في الولادة المبرئة للرحم، وقد مهدنا هذا فيما تقدم. 9256 - وإذا قال: كلما ولدتْ واحدةٌ منهن فصواحباتها طوالق، فولدت واحدة، طُلقت صواحباتها طلقة طلقة، فإذا ولدت الثانيةُ -والتفريع على الجديد، ولا عَوْد إلى القديم- انقضت عدّتها عن طلقةٍ، ووقعت على الأولى طلقة، وكملت للثالثة والرابعة طلقتان، فإذا ولدت الثالثة، انقضت عدّتها من طلقتين وكملت للأولى

طلقتان، والرابعة ثلاث؛ فإذا ولدت الرابعة، انقضت عدتها عن ثلاث وكملت للأولى ثلاث إن كانت في بقية العدة. وإن ولدت ثنتان منهن دفعةً، ثم ثنتان دفعة، وقعت على كل واحدة من الأوليين طلقة من جهة صاحبتها. وعلى كل واحدة من الأُخريين طلقتان بولادة الأوليين، إذ تأتي كلَّ واحدة منهما طلقتان من الولادتين، فلما ولدت الأخريان، وقع على كل واحدة من الأوليين -على تقدير بقاء العدة- طلقتان أخريان، فتكمل الثلاث في حق كل واحدة من الأوليين، ولم يقع على الأخريين بولادتهما شيء في الجديد؛ لأنهما ولدتا معاً، فصادف آخر انقضاء العدة في كل واحدة من الأخريين ولادة الأخرى، وإذا وجدت صفة الطلاق في حال انقضاء العدة، فلا فرق بين أن تكون تلك الصفة ولادة غيرها وبين أن يكون ولادتها. فهذا بيان هذه الفروع ومنشؤها، وما لم نذكر منها، فالمذكور مرشد إليه. فروع في المسائل الدائرة: 9257 - إذا قال الرجل لامرأته: إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، فطلقها، لم يقع عند ابن الحداد، ومعظمِ الأصحاب، وهذا مما يجرُّ ثبوتُ الطلاق فيه سقوطَه، وإذا كان كذلك، استدارت المسألة، وسقطت من أصلها؛ لأنّا لو أوقعنا الطلقة الّتي نجزها، للزمنا أن نوقع ثلاثاًً قبلها، ولو وقعت الثلاث قبلها، لامتنع وقوع هذه المنجّزة، وإذا امتنع وقوعها، امتنع وقوع الثلاث قبلها، فهذا معنى دورانها. وذهب الشيخ أبو زيد إلى أن الطلقة المنجّزة تقع، وهذا مذهب (1) أبي حنيفة، واحتج محمدٌ لأبي حنيفة، بأن الجزاء إذا رُتّب على الشرط، ترتب عليه، ولا يترتب الشرط، على الجزاء في وضع الكلام، فيجب على هذا المقتضى تحقيقُ الشرط، والنظر في الجزاء، فإن أمكن إمضاؤه أُمضي، وإن كان من عُسرٍ، انحصر على الجزاء، فأما أن ينعطف الجزاء على الشرط، فبعيد عن وضع الكلام، وتمسك أبو زيد باستبعاده في انسداد باب الطلاق.

_ (1) ر. فتح القدير: 3/ 371.

وهذا ليس بذاك. ووضع ابنُ الحداد هذه المسألة وذكر فيها زيادةً مستغنىً عنها، فقال: إذا [قال: " إن] (1) طلقتك طلقةً أملك رجعتك بعدها، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً " ولا حاجة إلى التقييد بالرّجعة، فإن المسألة تدور دون ذكرها لو قال: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً". وإن قال: إن طلقتك طلقة أملك رجعتك، فأنت طالق قبلها طلقتين أفادت الزيادة، ودارت المسألة، فلا تقع المنجزة، ولا المعلقة؛ فإنه لو وقعت المنجزة، لوقعت قبلها طلقتان، وتكون المنجزة ثالثة، والثالثة لا تستعقب الرجعة. ولو أطلق فقال: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبلها طلقتين" فإذا طلّقها طُلّقت ثلاثاً ولا دَوْر. وإن قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق قبلها طلقةً، دارت المسألة؛ فإنه لو وقعت المنجّزة، لوقعت قبلها طلقة، ولبانت المرأة، ثم لا تلحقها المنجّزة بعد البينونة، وتدور. وإذا فرّعنا على القول بالدَّور وأراد الزوج أن يتّخذه ذريعةً، فليقل: إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاً. ثم إذا أراد طلاقاً، فليوكل؛ فإن تطليق الوكيل لا يندرج تحت تطليق الزوج. ولو قال: مهما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً، فينحسم عليه باب التطليق والتوكيلِ (2) على القول بالدور. وقد يلزم على مذهب ابن الحداد تصوير انسداد الطرق من كل وجه بأن يقول: "مهما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، ومهما فسخت نكاحكِ، فأنت طالق قبله ثلاثاً"، فلا ينفذ منه لا فسخ ولا طلاق. 9258 - ومذهب من ينكر الدورَ تنفيذُ المنجّزةِ وردُّ ما قبلها. هذا هو المشهور.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) أي: وباب التوكيل.

وذكر الشيخ أبو علي وجهاً على إبطال الدور أنها تطلق ثلاثاًً، قال: ثم اختلف الصّائرون إلى ذلك في وجه وقوع الثلاث، فمنهم من قال: يقع الثلاث المشروطة تقدمها، ولا تقع هذه التي أنشأها، وكأنه قال: مهما تلفظت بإنشاء طلقة، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً، فوقوع الثلاث موقوف على لفظه، وإن كان لا يقع بلفظه طلاق منجّز. وهذا رديء لا خروج له إلا على مذهب من يحمل اللفظَ المطلقَ على الفاسد والصحيح جميعاًً، وعليه خُرّج قول للشافعي فيه إذا أذن الرجل لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً ووطىء، قال في قول: يتعلق المهر بكسبه. وهذا بعيد لا يفرّع على مثله. قال الشيخ: وقال قائلون: تقع الواحدة التي أنشأها واثنتان من الثلاث المعلّقة. 9259 - فانتظم أوجهٌ: أحدها - الدّورُ والقولُ به، وعليه تفريع معظم الأصحاب. والثاني - وقوع ما ينجّز؛ لأنه شرطٌ، وإبطال الجزاء. والثالث - تكميل الثلاث، ثم له مأخذان حكاهما الشيخ، كما بيناهما. 9260 - ولو كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فقال: مهما طلقتك، فأنت طالق قبلها، فالمسألة تدورُ على مذهب ابن الحداد، كما ذكرنا. فأما على مذهب أبي زيد فالطلقة المنجزة تقع، ومن قال ممن يخالف ابنَ الحداد في المسألة الأولى بوقوع الثلاث، فلا يوقع هاهنا أكثرَ من طلقةٍ واحدةٍ؛ فإن الطلقتين متباينتان زماناً ووقتاً، ويستحيل لحوق طلقتين كذلك بامرأة غيرِ مدخول بها، ولكن اختلف هؤلاء في أن تلحقها الطلقة المعلقة أو المنجزة، والمذهب عندهم وقوع المنجّزة. 9261 - ومن صور الدّور في العتق أن العبد إذا كان مشتركاً بين شريكين، فقال أحدهما وهو موسر: مهما أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حرّ قبل نصيبك، والتفريع على تعجيل السّراية، فمهما (1) أعتق الشريك، لم ينفذ عتقه، فإنه لو نفذ، لنفذ عتق شريكه قبله وسرى إلى نصيبه، ثم كان لا ينفذ عتقه.

_ (1) فمهما: "مهما" بمعنى إذا.

ولو ذكر كلُّ واحد منهما لصاحبه مثلَ ذلك -وهما موسران- لم ينفذ عتقُ واحد منهما. أما أبو زيدٍ، فإنه يمنع ذلك ويشتدّ على ابن الحداد؛ فإنه استبعد انحسام الطلاق على المطلِّق، وهذا حَسْمُ الإعتاق على المالك ممّن ليس مالكاً، فكأنّ كل واحد منهما حجر على صاحبه أن يتصرّف بأقوى التصرفات في ملكه. 9262 - ومن صور الدّور في هذه الأجناس أن يقول لامرأته: إن وطئتك وطأ مباحاً، فأنت طالق قبله. فإذا وطئها، لم يقع الطلاق؛ فإنه لو وقع، لما كان الوطء مباحاً. قال الشيخ (1): وأبو زيد يوافق في هذا؛ فإن الذي نحاذره انحسامَ الطلاق وانسداد باب التصرف، وهذا لا يتحقق في تعليقٍ بفعلِ (2) واحدٍ. ولو قال لامرأته: إن ظاهرتُ عنكِ أو آليت عنك، فأنتِ طالق قبله ثلاثاًً، فلا يصح الإيلاء والظهار على أصل ابن الحداد للدّور، وعند أبي زيدٍ يصح الإيلاء والظهار؛ فإنه سدُّ بابٍ من التصرفات، ولا يقع الطلاق قبلهما. ومن المسائل أن يقول للرجعية: إن راجعتك، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً، فلا يصح الرّجعة عند ابن الحداد للدّور، ويصح عند أبي زيدٍ، حتى لا يؤدي إلى حَسْم التصرف. ومن الصور أن يكون للرجل امرأة وعبد، فيقول لامرأته: مهما دخلتِ الدار وأنت زوجتي، فعبدي حر قبل دخولك، وقال لعبده مهما دخلت الدار وأنت عبدي، فزوجتي طالق قبل دخولك، ثم دخلا معاً، لم تطلق المرأة، ولم يعتِق [العبد] (3) وتعليله بيّن، والشيخ أبو زيد لا يخالف في هذه المسألة؛ لأنه ليس فيه سدّ بابٍ. وذكر الشيخ صوراً واضحةً، لم أر في ذكرها فائدة. ومَنْ فَقُه نفسُه (4) لا يتصور أن

_ (1) الشيخ المراد به -كما هو اصطلاح المؤلف- أبو علي السنجي، وهو هنا يحكي عن أبي زيد قوله بالموافقة. (2) في الأصل ضبطت بفعلٍ. (3) زيادة من المحقق. (4) فقه نفسه: أي صار فقيه النفس، وإمام الحرمين يجعل فقْه النفس أحد شروط الاجتهاد؛ فهو =

تُلقى عليه مسألة دائرة، فلا يتنبه أما من احتدّت قريحته، فإنه يبتدر فهمَ الدّور، ومن كان في دركه بطء يتبين الدّورَ إذا لم تنتظم المسألة. 9263 - ومما ذكره أن قال: من أصحابنا من حكى عن ابن سُريج أنه قال: إذا قال لامرأته: مهما (1) طلقتك طلقة أملك فيها الرّجعة، فأنت طالق ثلاثاًً، قال ابن سريج - فيما حكاه هذا الحاكي: تدور المسألة، ولا يقع المنجّز ولا المعلّق؛ لأنه لو وقع ما نَجَّز، لوقع الثلاث، وإذا وقع الثلاث، لم تثبت الرّجعة، وإذا لم تثبت، لم تقع الثلاث، فلا يقع. قال الشيخ: حُكي عنه هذا، ونُسب إلى كتاب له يسمى "كتاب العيبة" (2) ولم ينقلوا في هذه المسألة التقييد "بما قبلُ" [فلم] (3) يقل: مهما طلقتك طلقةً أملك الرجعة، فأنت طالق (قبلها) ثلاثاًً. قال الشيخ: ابن سريج أجلّ من أن يقول ذلك، فلعلّ المنقول سقطة من كاتب أو ناقل، والمسألة لا تدور، والثلاث تقع؛ لأنه إذا طلق واحدةً، استعقبت الرجعةَ، ووقع الثلاث على الاتصال بها مترتبةً عليها، وهي التي تقطع الرجعة؛ فلا وجه في الدور. ولكن لو قال: إن طلقتك طلقةً رجعيةً، فأنت طالق معها ثلاثاًً، فإذا طلقها، فيجوز أن تخرّج المسألة على وجهين: أحدهما - لا يقع شيء؛ لأن الثلاث تقترن بالطلقة المنجَّزة، فلا تكون رجعيةً، فتدور المسألة. والوجه الثاني - يقع الكل على الترتيب، وإن قُيّد بالجمع. وهذا كاختلاف أصحابنا في أنه لو قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت

_ = الذي يمكن صاحبه من الإحاطة بالفقه، فيقول: "والصنف الثاني من العلوم -التي يجب على المجتهد الإحاطة بها- الفن المترجم بالفقه ... وأهم المطالب في الفقه التدرّب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهذا هو الذي يسمى فقهَ النفس، وهو أنفس صفات علماء الشريعة" (ر. الغياثي: فقرة رقم: 582). (1) مهما: بمعنى إذا. (2) في الأصل: الغيبة. (3) في الأصل: لم.

طالق [طلقة معها طلقة] (1)، فطلقها هل يقع الطلقة المعلَّقةُ؟ فيه وجهان ذكرناهما. وعندي أن المسألة المنقولة عن ابن سريج على وجهها؛ فإنه قال: إذا طلقتك طلقة أملك فيها الرجعة، ولا يتصوّر ملك الرجعة مع وقوع الثلاث، فلا تتحقق الصفة (2)، وإذا لم تتحقق، لم يقع [الثلاث] (3). وتحقيقُ ذلك أنه لا يفرض حال فيها رجعة [لا يصادمها] (4) وقوع الثلاث؛ فالثلاث تمنع الرّجعة ولا تقطعها، فلا وجه لاستبعاد الشيخ؛ فإنّ ما ذكره إن كان متجهاً، فما ذكره ابن سريج أو حُكي عنه لا ينحط عن وجهٍ ظاهر. فروع متعلقة بالتعليق بصفات الأولاد والحمل 9264 - قد ذكرنا أنه لو قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فأتت بولد لأقلَّ من ستة أشهر، طلّقت، وإن أتت به لأكثرَ من أربع سنين، لم تطلق. وإن أتت لأقلَّ من أربع [سنين] (5) وأكثرَ من ستة أشهر، فقد تقدّم التفصيل فيه. ونحن ننشىء الآن فروعاً تتعلق بتغايير الصيغ والألفاظ. 9265 - فإذا قال: إن كنتِ حاملاً بذكرٍ، فأنتِ طالق، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن وضعت ذكراً فحسب، انقضت عدتها عن طلقةٍ؛ فإنه لم يتعلق الطلاق بالولادة، وإن وضعت أنثى فحسب، انقضت عدتها عن طلقتين، ولو وضعت ذكرين فحسب، فالطلقة واحدة، لا تزيد بزيادة الذكور، وكذا إن وضعت أنثيين، فيقع بالثنتين ما يقع بالواحدة، ولو وضعت ذكراً وأنثى، انقضت عدتها عن ثلاث؛ فإنا تبينا أنها حامل بذكر وأنثى؛ فلحقها الثلاث، ولم يتوقف [وقوع الطلاق] (6) على الولادة، حتى نقع في تفريع مصادفة وقوع الطلاق انقضاء العدة.

_ (1) في الأصل: إذا طلقتك، فأنت طالق معه. والمثبت من تصرف المحقق. (2) الصفة: أي الرجعة، كما صرح بذلك في صفوة المذهب. (3) زيادة لاستقامة المعنى. (4) في الأصل: لا يصادفها. (5) زيادة لاستقامة الكلام. (6) زيادة اقتضاها السياق.

9266 - ولو قال: إن كان حملك ذكراً، فأنت طالق طلقةً. وإن كان أنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن وضعت ذكراً فحسب، [انقضت] (1) عدتها عن طلقة. وإن وضعت أنثى، انقضت عدتها عن طلقتين، وإن وضعت ذكراً وأنثى، لم يقع عليها شيء؛ لأن قوله: "إن كان حملك ذكراً" يقتضي أن يكون جميع حملها ذكراً، وكذلك قوله: "إن كان حملك أنثى" يقتضي كون جميع الحمل أنثى؛ فإذا كان البعض ذكراً والبعض أنثى، لم توجد الصفة في الوجهين جميعاًً، فلم يقع شيء. ولو كانت المسألة بحالها، فأتت بذكرين لا أنثى معهما، أو أتت بأنثيين لا ذكر معهما، فقد قال القاضي: يقع الطلاق، وقوله: إن كان حملك ذكراً محمول على جنس الذكور، وقوله: إن كان حملك أنثى محمول على جنس الإناث. وهذا ليس على وجهه عندنا، وكان شيخنا يقول: إذا أتت بذكرين، لم يقع شيء؛ فإن حملها زائد على ذَكَر، فهو كما لو أتت بذكر وأنثى، والاسم المنكور مقتضاه التوحيد في مثل ذلك، فإذا أتت بعددٍ، فصفة التوحيد غيرُ متحققة، وصار كما لو أتت بذكر وأنثى، والمسألة مفروضة فيه إذا كانت مُطْلقة، والحكم بوقوع الطلاق حملاً على الجنس في صورة الإطلاق بعيد. نعم، إن قال: أردت الجنس، فنحكم بوقوع الطلاق للاحتمال الذي يبديه، وقد ذكرنا أن الطلاق يقع باحتمال خفيّ إذا أراده الرجل. 9267 - ولو قال: إن كان ما في بطنك ذكرٌ فأنت طالق طلقةً، ولو كان ما في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين، فهو كما لو قال: إن كان حملك ذكراً وإن كان حملك أنثى. ولو قال: إن كان في بطنك ذكر، فأنت طالق واحدةً، وإن كان في بطنك أنثى، فأنت طالق ثنتين، فإذا ولدت ذكراً وأنثى، تبينا أنها طلقت ثلاثاً قبل الوضع، وانقضت عدّتها بآخر الولدين، والفرقُ ظاهر؛ فإن قوله: إن كان ما في بطنك تعبير عن جميع ما في البطن، وقوله: إن كان في بطنك لا يتضمن حصراً، ولكن يتضمن كون الذكر والأنثى، أو كونهما.

_ (1) في الأصل: انقطعت.

ولو قال: إن كان مما في بطنك ذكر، فأنت طالق طلقةً، وإن كان مما في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين، فهذا لا يقتضي أولاً كون جميع الحمل ذكراً أو أنثى؛ فإن كلمة (مِن) للتبعيض. ولكن لو أتت بذكرٍ، فالذي أطلقه الأصحاب أنها تطلق طلقة، وإن لم يشتمل رحمها على غيره، ولو كان في رحمها أنثى فحسب، طلقت طلقتين. وهذا فيه بعض النظر، والوجه ألا يقع شيء إذا أتت بولدٍ واحدٍ؛ لأن (مما) مركّبٌ مِن (مِنْ وما) و (مِن) للتبعيض، فكأنّ الطلاق معلّق بالذكر إن كان بعضاً من الحمل، وإذا كان وحده لم يتحقق هذا المعنى. وكذلك القول في الأنثى الفردة. ولو أتت بذكرين، وقع الطلاق؛ لتحقق التبعيض، وكذلك القول في الأنثيين. ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر، فأنت طالق واحدة، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق ثنتين، فإن وضعت ذكراً، فطلقةٌ، وإن وضعت أنثى فطلقتان، وإن وضعت ذكراً وأنثى، انقضت عدتها عن ثلاث طلقات. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الطلاق معلّقاً على الحمل. 9268 - فأما إذا علّق بالولادة، فقد تمهّدت الأصول فيها، ولكنا نذكر مسائل. فإذا قال: إن ولدت ذكراً، فأنت طالق طلقةً، وإن ولدت أنثى، فأنت طالق طلقتين، فلو ولدت ذكراً فحسب، وقعت عليها طلقةٌ، واعتدت بالأقراء، فإن ولدت أنثى [فحَسْب] (1) فطلقتان، وتعتد بالأقراء. وإن ولدت ذكراً وأنثى، فإن وضعتهما متعانقين دفعةً واحدةً، طلقت ثلاثاًً، واستقبلت العدة بالأقراء. وإن وضعتهما على الترتيب، نُظر: إن وضعت الذكر أولاً، فطلقة وانقضت عدتها بالأنثى في الجديد عن طلقة.

_ (1) في الأصل: "فبَسْ" و (بَسْ) كلمة فارسية معناها: حَسْب: أي فقط. (المعجم الكبير، والمعجم الوسيط). ولقد هممتُ بتركها في الصلب كما هي، لاحتمال أن تكون من الإمام، لكنّي عدت فاستبعدت ذلك، ورجحت كونها سبق قلم من الناسخ والله أعلم.

وإن وضعت الأنثى أولاً، فطلقتان، وانقضت عدتها بالذكر عن طلقتين، على المذهب الجديد. ولا يخفى القديم والتفريع عليه. وإن أشكل المتقدّم منهما، أخذنا بالأقل وحكمنا بوقوع طلقةٍ. وإن وضعت ذكرين وأنثى، نُظر: فإن وضعتهما ثم وضعت الأنثى، لحقتها طلقة بالأول فحسب، وانقضت العدّة بالأنثى. وإن وضعت الأنثى أولاً، ثم وضعتهما على الترتيب، لحقتها طلقتان، وطلقة أخرى بالأوّل من الذكرين، وانقضت العدة بالثاني. وإن وضعت الذكرين بعد الأنثى ملْتفَّين معاً، لحقتها طلقتان بالأنثى، وانقضت العدة بوضع الذكرين على الجديد، وعلى القديم يلحقها طلقة بأحد الذكرين بعد الثنتين، وتستقبل العدّة بالأقراء. وإن وضعت في هذه الصورة ذكراً، ثم أنثى، ثم ذكراً، فطلقة، ثم طلقتان، وتنقضي العدة بالذكر الثاني عن ثلاث. وإن وضعت ذكراً وأنثيين، فالقياس على ما مضى. 9269 - ولو كانت له امرأتان عمرة وزينب، فقال: كلما ولدَتْ واحدةٌ منكما، فأنتما طالقان، فولدت عمرة يوم الخميس [ولداً] (1)، وزينب يوم الجمعة ولداً، ثم ولدت عمرة يوم السبت ولداً آخر، وزينب يوم الأحد ولداً آخر، فنقول: لما ولدت عمرة وقعت على كل واحدة منهما يوم الخميس طلقة، ووقعت على كل واحدة منهما يوم الجمعة طلقة أخرى، ثم تنقضي عدة عمرة بما ولدت يوم السبت عن طلقتين في الجديد، ووقعت بها طلقة أخرى على زينب، فكمل لها الثلاث وانقضت عدتها بولادتها يوم الأحد عن ثلاث. ولو قال: إن ولدتِ أنثى، فأنت طالق طلقتين وإن ولدتِ ولداً، فأنت طالق طلقة، فولدت أنثى، طُلِّقت ثلاثاً؛ لأنها وضعت ما يسمى ولداً وما يسمى أنثى، فهو

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام.

كما لو قال: إن كلمت رجلاً، فأنت طالق، وإن كلمت زيداً فأنت طالق وإن كلمت فقيهاً، فأنت طالق، فكلمت زيداً وكان فقيها طلقت ثلاثاًً لاجتماع الصفات الثلاث به. فروع في تعليق الطلاق بالحلف بالطلاق. 9270 - إذا كانت له امرأتان زينبُ وعمرةُ، فقال: إن حلفت بطلاقكما، فعمرة طالق، ثم قال ثانية وثالثةً: إن حلفتُ بطلاقكما، فعمرة طالق، فلا يقع الطلاق أصلاً، فإنه انعقد يمينه أولاً، ثم لم يحلف بعدها بطلاقهما، بل حلف بطلاق عمرة، فإن المحلوف بطلاقها هي التي تطلق، ولم يقع التعرض إلا بوقوع الطلاق على عمرة، وهو قد علق الطلاق على أن يحلف بطلاقهما. فلو قال أولاً: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، ثم قال: إن حلفت بطلاقكما، فزينب طالق، فلا تطلق بعدُ واحدةٌ منهما؛ فإنه علّق طلاق عمرةَ على الحلف بطلاقهما، فليقع بعد ذلك حلف بطلاقهما، ولم يحلف بعد ذلك إلا بطلاق زينب، فلو ذكر الحلف بطلاق زينب مراراً، فلا يقع الطلاق أصلاً. ولو ذكر عمرة أولاً على الصيغة التي ذكرناها، ثم ذكر زينب على الصيغة التي وصفناها، ثم ذكر عمرة مرَّة أخرى، فتطلق عمرة الآن؛ فإنه حلف بطلاقها أولاً، وعلّق طلاقها بأن يحلف بطلاقهما، ثم جرى بعد ذلك حلف بطلاق زينب، ثم حلف بطلاق عمرة، فقد تحققت الصفتان، واجتمع اليمينان في حقها. وأما زينب، فلم يوجد بعدُ الحلف بطلاقهما بعد الحلف بطلاق زينب. فصوِّرْ واحْكُم، وهذا سهل المُدرك. 9271 - ولو كانت له امرأتان، فقال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها منكما، فصاحبتها طالق، قال صاحب التلخيص (1): إذا سكت ساعةً يمكنه أن يحلف فيها بطلاقهما فلم يحلف، طلقتا، ولو قال مرةً أخرى: "أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فصاحبتها طالق" على الاتصال باليمين الأولى قال: قد برّ في اليمين الأولى، فإنه

_ (1) ر. التلخيص: 522

قال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فإذا كرّر هذه اللفظة مرة أخرى، فقد حلف بطلاقهما جميعاًً، وبرّ في اليمين الأولى، ولكن انعقدت يمين أخرى، فإن كرّر ثلاثاً على الاتصال، برّت اليمين [الثانية] (1)، وانعقدت اليمين الأخرى، فلو سكت عقيب اليمين الأخيرة لحظةً يتصور فيها الحلف بالطلاق، فلم يحلف طُلِّقتا جميعاً. والمسألة فيها إشكال؛ من قِبل أنه جعل ما يجري مقتضياً للفور، حتى قال: لو سكت عقيب اللفظ لحظة، حكم بوقوع الطلاق بالحلف الأوّل، قال الشيخ أبو عليَّ: عرضت هذه المسألة على الشيخ القفال، وعلى كل مَنْ شرح التلخيص، فصوَّبوه. والذي يقتضيه القياس عندي أن قوله: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فغيرها طالق، لا يقتضي الفور أصلاً، ولو سكت على ذلك، لم نحكم بوقوع الطلاق على واحدة منهما إلى أن يتحقق اليأس بأن يموت هو أو تموتا (2). وإنما قلنا ذلك، لأن الذي يقتضي الفور في هذه المنازل هو الذي ينطوي على ذكر وقتٍ مع التعلق بالنفي، مثل قوله: أيُّ وقتٍ لم أطلّق، أو إذا لم أطلّق، أو متى لم أطلّق، وقد نصّ الأصحاب على أنّه إذا قال: "متى لم أطلقك" فهذا يقتضي الفور، ولو قال: "إن لم أطلقك" فهذا على التراخي. وقوله: أيُّما امرأة ليس فيه تعرض للأوقات أصلاً. والذي ذكره الشيخ أوضح من أن يُحتاج فيه إلى الإطناب، ولست أدري لما ذكره صاحب الكتاب وجهاً. فإن قيل: قد نص الأصحاب على أنه لو قال لامرأته: (كلما) لم أطلقك، فأنت طالق، فهذا على الفور، وليس فيه تعرّض للوقت؟ قلنا: هذه المسألة صحيحة،

_ (1) في الأصل: الثالثة. (2) نسب ابن أبي عصرون هذا إلى صاحب التلخيص، وجعله من كلامه، ونصّ عبارته: "وقال صاحب التلخيص: وعندي أنه لا يقتضي الفور، ولا تطلق واحدة منهما حتى نيئس بموته أو بموتهما، لأن مقتضى الفور ذكر الوقت مع النفي" 1. هـ بنصه (ر. صفوة المذهب: جزء (5) - ورقة: 36 شمال).

وأجمع أهل العربيّة على أنّ (ما) في كلما ظرف زمانٍ، وأمّا قوله: فأيما امرأة فـ "أيّ" تسمية المرأة. ولو قال: أنت طالق ما لم أطلقك، فهذا على الفور أيضاًً؛ فإن (ما) في هذه المنزلة بمثابة (إذا)، فهو ظرف زمان. 9272 - ومما نذكره في الحلف بالطلاق أن الرّجل إذا قال لامرأته: إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق، طلقت بهذا التعليق؛ فإنه حلف بطلاقها. وبمثله لو قال بعد الكلام الأول: إذا طلعت الشمس، فأنت طالق، لم تطلق، هكذا ذكره ابن سريج رحمه الله، واعتل بأن اليمين ما يقصد بها استحثاث على إقدامٍ، أو على إحجامٍ، وذِكْر طلوع الشمس في الصّورة التي ذكرناها تأقيتٌ، ليس فيه حث على فعلٍ ولا على ترك فعلٍ، وقد وجدت الأصحاب على موافقته. ولو قال: إذا دخلت الدّار، فأنت طالق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا يمين؛ لأنّ قصده المنع، فصار كما لو قال: إن دخلت الدّار. والثاني - إنه ليس بيمين، والاعتبار باللفظ، وإذا للتأقيت. ولو قال: إن طلعت الشمس، فأنت طالق، فقد ذكر بعض أصحابنا وجهين في أن هذا هل يكون يميناً؟ وهذا زللٌ؛ فإن ما لا يتصور الاستحثاث عليه لا يفرض اليمين فيه كيف صرفت العبارات. مسائل شتى وفروع مختلفة: فرع: 9273 - إذا قال لامرأته: إن بدأتك بالكلام، فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك بالكلام، فعبدي حرّ، ثم كلمها، ثم كلمته، لم تطلق هي، ولم يعتق عبدها؛ لأن الزوج بتكليمها بعد عقد يمينها، لم يكن بادئاً بالكلام، وإنما كان تالياً، فإنها بدأته بقولها: إن بدأتك بالكلام فعبدي حرّ، والرمز في مثل هذا كافٍ، فلا نبسُط بعد هذا، إلا في محل الحاجة. ولو قال لواحدٍ: إن بدأتك بالسلام، فعبدي حرّ، فقال له ذلك الإنسان: إن

بدأتك بالسلام، فعبدي حرّ، فسلم كل واحد منهما على صاحبه دفعةً واحدةً، لم يحنث واحد منهما؛ لأنه لم يوجد منهما البداية بالسّلام، وانحلت اليمين. فلو سلم أحدهما بعد ذلك، لم يحنث؛ فإن سلامه لا يقع ابتداء مع ما تقدم. فرع: 9274 - إذا قال لها: إن أكلت رمانةً فأنت طالق، وإن أكلت نصف رمانةٍ، فأنت طالق، فأكلت رمانةً كاملة، طُلقت ثنتين، لأنها أكلت رمانةً ونصفَ رمانةٍ، وهذا من الأصول؛ فإنّ (إن) [وإن] (1) كان لا يقتضي تكراراً، فإذا ذكر لفظ (إن) وجرى موجودٌ واحد تحت اسمين، فقد وجد الاسمان، فالتعدد من تعدد الاسم، لا من التكرار. ولو قال لها: إن أكلتِ رمانةً، فأنتِ طالق، وقال: كلما أكلت نصف رمانة، فأنت طالق، فأكلت رمانة، طلقت ثلاثاًً، وهذا من أصل التكرار، وقد أكلت نصفي رمانة ورمانة، وفي المسألة الأولى تحقق اسمان: الرمانة ونصف الرمانة. فرع: 9275 - إذا كانت له امرأتان حفصة وعمرة، فقال: مَنْ بَشَّر بقدوم زيدٍ، فهي طالق، فبشرته حفصة، ثم عمرة، طُلقت حفصة، ولم تطلق عمرة؛ لأن البشارة هي الأولى. ولو ذكرت حفصة كاذبةً، لم تطلق، فإذا ذكرت عمرة صادقة، طلقت. ولو بشره أجنبي بقدوم زيد صادقاً، ثم بشّرتاه أو إحداهما، لم يقع الطلاق. والبشارة الكلامُ الأول الصدق الذي يقرع سمع الإنسان. ولو بشرتاه معاً صادقتين، طلقتا. ولو قال: من أخبرني بقدوم زيدٍ فهي طالق، فأخبرتاه على الجمع أو على الترتيب صادقتين أو كاذبتين، طلقتا؛ فإن اسمَ الخبر يتناول ذلك كلّه. 9276 - فرع لابن الحداد: إذا كان له امرأتان زينب وعمرة، فنادى عمرة، وقال: يا عمرة، فأجابت زينب، فقال: "أنت طالق"، فنَسْتَفْصِلُ الزوجَ أولاً، ونقول: هل عرفت أن التي أجابتك زينب أم ظننتها عمرة؟ فإن قال: عرفت أن التي أجابتني

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

زينب، فيقال له: فما كان قصدك بعد ذلك؟ فإن قال: أردت تطليق زينب، ولم أرد تطليق عمرة، فيقبل قوله؛ إذ قد ينادي الرجل امرأةً، ثم لا يطلقها ويطلق غيرها، وربما نادى عمرة لشغل، فلما [أجابته] (1) زينب غاظه ذلك؛ فطلقها، فليس من ضرورة النداء السّابق أن تكون المناداة مطلّقةً. ولو قال: علمت أن التي أجابتني زينب، ولكني أردت بقولي: "أنت طالق" تطليقَ عمرة، لا تطليق زينب. أما عمرة فتطلق ظاهراً وباطناً، فإنه سمّاها، وقال: أنت طالق، وأما زينب، فتطلق ظاهراً، فإنه خاطبها بالطلاق، ولا يقبل ما قاله ظاهراً في درء الطلاق عن زينب، ولكن يُدَيَّن باطناًً. وفي هذا فضل نظر؛ فإنه إن نادى واسترسل في كلامه، ولم يربط قوله: "أنت طالق" بانتظار جواب، وبان ذلك في جريانه في الكلام واتحاد جنس صوته ونغمته، ثم قال: أردت عمرة، لم تطلق إلا عمرة ظاهراً وباطناً. وقد أوضحنا فيما تقدّم ظهور أثر النغمات والتقطيعات. فأما إذا نادى منتظراً جواباً، فاتّصل جواب زينب، فقال: أنت طالق، وَرَبَط بالنغمة قوله على جواب زينب، فعند ذلك نقول: تطلق زينب ظاهراً وعمرة لا يظهر طلاقها والحالةُ هذه، غيرَ أنه إذا قال: نويتُها صُدِّق ظاهراً، وإلا فلا يتصوّر ظاهران على التنافي، غير أنا ذكرنا أن القصد الخفي في الوقوع ملحق بالظاهر. هذا كله إذا قال: علمت أن المجيبة زينب. 9277 - فأما إذا قال: حسبت أن التي أجابتني عمرة، وما ظننتها زينب [فخاطبتها] (2) بالطلاق على ظن أنها عمرة. قال ابن الحداد: أما عمرة، فلا تطلق؛ فإنه ناداها وسمّاها، ثم خاطب بالطلاق غيرَها، فانقطع خطاب الطلاق عن النداء، فنجعل كأنّ النداء لم يكن، فلا يبقى فيها عُلقة إلا أنه ظن المخاطبةَ عمرة، وهذا لا يقتضي وقوعَ الطلاق على عمرة؛ فإنه لو

_ (1) في الأصل: أجابتهاء (2) في الأصل: فخاطبها. والمثبت تصرّف من المحقق ساعدنا عليه الإمام ابن أبي عصرون.

خاطب واحدةً من نسائه وقال: أنت طالق، ثم قال خاطبتها على ظن أنها عمرة، فإذا هي زينب، فيقع على زينب المخاطبة، ولا تطلق عمرة. هذا قولنا في عمرة. وهل تطلق زينب التي أجابت؟ ذَكَر فيه وجهين: أحدهما - تطلق، وهو الظاهر، ولهذا قطعنا الطلاق عن عمرة، ولو قيل: المخاطبة تطلق ظاهراً والتي ناداها أولاً هل تطلق أم لا؟ فعلى وجهين، لكان محتملاً. فرع: 9278 - إذا كان تحته امرأتان، فقال لإحداهما: أنت طالق إن دخلتِ الدار، لا بل هذه، وأشار إلى الأخرى، قال أصحابنا: إن أطلق لفظه، وتحقق أنه رام تطليق الثانية بقوله: "لا بل هذه" فمطْلَق ذلك يقتضي أن المرأتين جميعاًً تطلقان. إذا دخلت الأولى الدار. ومعنى الكلام: "أنت طالق إن دخلتِ الدار لا بل هذه عند دخولك"؛ فلا يصح رجوعه عن طلاق الأولى ويُثبت الثانية، فيقع الطلاق عليهما جميعاً عند دخول الأولى. ولو قال: أردت بقولي: "لا بل هذه" أن هذه تطلق إذا دخلت هي بنفسها الدار، فهل يُقبل ذلك منه أم لا، فعلى وجهين: أحدهما - يُقبل منه ويحمل الكلام عليه للاحتمال الظاهر فيه، وحقيقة عطف هذه على الأولى أن تكون مثلَها وشريكتَها في المعنى. ثم الأولى لا تطلق إلا بدخول الدار، فكذلك الثانية ينبغي ألا تطلق حتى تدخل بنفسها الدار؛ إذا فُسّر قوله بهذا. والوجه الثاني -وهو اختيار القفال- أنه لا يقبل ذلك منه في الثانية على هذا الوجه، ولكن يحمل لفظه على طلاق الثانية بدخول الأولى، ولا يصدق فيما قاله من إرادة دخولها بنفسها، وتمسك فيما قاله بمسألة، وهي أنه قال: الطلاق يقع بالكناية تارةً وبالصّريح أخرى، والأيْمان لا تنعقد بالكنايات، وبيانه أنه لو قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق إذا دخلت الدار، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها، فإن أراد بذلك أن الثانية تطلق إذا طلقت الأولى، فيقبل منه ذلك، وإن أراد بذلك أنها إذا دخلت الدار بنفسها طلقت، كالأولى إذا دخلت، فلا يقبل ذلك منه. وهذه المسألة التي استشهد القفال بها ربما لا تَسْلَم دعوى الوفاق فيها، والقول

الجامع فيه: أنه لو حلف بالله على فعلٍ أو تركٍ، ثم قال: الفعلُ الآخَر مثلُ الفعل [الأول] (1)، فلا يكون حالفاً؛ فإن عماد اليمين بالله تعالى ذكر الاسم المعظم، ولم يجر ذلك الاسم في الفعل الثاني الذي أشار إليه. وإذا قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق، ثم قال لضرتها: "أنت شريكتها" ونوى التسويةَ بينهما في الطلاق، فهذا مقبول. ولو قال لإحدى امرأتيه: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال للأخرى أنت شريكتها، وأراد أنك تطلقين إذا طلقت فهذا يثبت؛ فإنه إشراك في الطلاق عند وقوعه. ولو علق طلاق الأولى بصفة، ثم قال للأخرى: "أنت شريكتها" ونوى تعليق طلاقها بالدخول، فهذا محل الوجهين؛ فإن هذا يتردد بين الإشراك في اليمين وبين الإشراك في الطلاق، فإذا قلنا: يقبل الإشراك في الطلاق، فالتعليق قريب منه، ومن لم يَقْبل قوله في حق الثانية إن قال: أردت تعليق طلاقها بدخول نفسها، فلا يوقع عليها طلاقاً إذا دخلت الأولى، بل تُلغى اللفظة، ولو قال لإحدى امرأتيه: "إن دخلت الدار، فأنت طالق، لا بل هذه" ثم زعم أنه نوى تعليق طلاق الثانية بدخولها في نفسها، فإن قبلنا هذا، فلا كلام، وإن لم نقبله، حكمنا بأنها تطلق بدخول الأولى؛ فإن قوله: "لا بل هذه" يترتب على كلام صريح في الطلاق منتظمٍ معه انتظاماً يقتضي الطلاق لا محالة، وقوله: أنت شريكةُ الأولى كلامٌ مبتدأ متردّدٌ، فإن حمل على محملٍ غير صحيح، بطل اللفظ والحمل. فرع: 9279 - إذا قال الرجل وتحته امرأتان: زينب وعمرة، فقال لزينبٍ: إن طلقتك، فعمرة طالق، وقال لعمرة: إن طلقتك، فزينب طالق، فقد علق طلاق عمرة ابتداء، ثم علّق طلاق زينب انتهاء، فلو طلق عمرة أولاً تنجيزاً، طُلِّقت، وطلقت زينب؛ فإنه قال: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، [وهل] (2) تطلق عمرة طلقة أخرى غير المنجزة بسبب أن الطلاق وقع على زينب -وقد قال: إن طلقت زينب فعمرة طالق-؟

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام. (2) في الأصل: فهل.

طريق التحقيق في ذلك أن نقول: قد قال ابتداء: إن طلقت زينب فعمرة طالق، فمهما أنشأ بعد ذلك تعليق طلاق زينب، ثم وقع الطلاق بالصفة، فقد طلق زينب، ومعلوم أنه بعد ما ذكر أولاً تعليق طلاق عمرة، علق بعد ذلك طلاق زينب، حيث قال آخراً: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، فلما طلقت زينب بوجود الصفة، فتعود طلقة إلى عمرة لا محالة، فتطلق طلقتين: طلقةً بالتنجيز، وطلقة بالصّفة، وزينب لا تلحقها إلا طلقة واحدة. ولو كان المسألة بحالها ولكنه طلّق زينب أولاً، فتطلق عمرة؛ فإنه قد قال ابتداء: "إن طلقت زينب، فعمرة طالق" ولا تعود طلقة إلى زينب؛ وذلك أنه لم يعلق طلاق زينب إلا انتهاء، لمّا قال: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، فينبغي أن تطلق بعد هذا عمرة إنشاء، أو يبتدىء، فيعلق بعد ذلك طلاقها، ولم يوجد بعد القول الأخير تعليق طلاق عمرة، وإنما علّق طلاقها قبل ذلك. وعبرة هذه المسألة أنه لو قال لامرأته زينب: "إن دخلتِ الدار، فأنتِ طالق"، ثم قال لعبده: "إن طلقتُ زينب، فأنت حرّ"، فإذا دخلت الدار وطلقت، لم يعتِق العبد؛ فإن تعليق طلاق المرأة سبق تعليق العتق. وبمثله لو قال [لعبده] (1) أولاً: إن طلقتها، فأنت حرٌ. ثم ابتدأ بعد ذلك فعلّق طلاقها بدخول الدار، فإذا دخلت، طلقت وحصل العتق. هذا هو الأصل، وقد يحوّج بعض الصور إلى مزيد فكرٍ. فرع: 9280 - الذمي الحرّ إذا نكح امرأة وطلقها واحدة، ثم نقض العهد، واستُرِق، فأراد أن ينكح امرأته التي طلقها في الحرّية طلقةً واحدة، فنكحها بإذن السّيد، ملك عليها طلقةً واحدةً؛ فإنه طلقها من قبلُ طلقةً، وهي محسوبةٌ، ثم نكح وهو رقيق، ولا يملك الرقيق إلا طلقتين، وقد استوفى إحداهما. وبمثله لو نكح في الكفر امرأة وطلقها طلقتين، ثم التحق بدار الحرب، فاستُرق بعد نقض العهد، وأراد أن ينكح تلك المرأة بعينها، قال ابن الحداد: له ذلك،

_ (1) في الأصل: قال العبد.

ويملك عليها طلقة واحدةً؛ والعلّة فيه أنه لما طلقها في الحرّية، لم تحرَّم عليه، إذ هو حر، فيستحيل أن يقال: طرْدُ الرق يحرم عليه امرأة لم تكن محرمة في الحرية. قال الشيخ: من أصحابنا من قال: إذا طلقها ثنتين في الحرّية، ثم استُرق، فأراد أن ينكح تلك المرأة قبل أن تنكح غيره، فليس له ذلك؛ فإنه الآن عبد، وما مضى من الطلاق محسوب عليه، وقد سبقت طلقتان، فيجعل كأنهما سَبقتا في الرق. والصّحيح الأول. ومما [يلحق] (1) بهذه المسألة: أن العبد إذا طلق امرأته طلقةً واحدة، ثم عَتَقَ، فيملك عليها طلقتين في الحرّية، وبمثله لو طلق طلقتين، ثم عَتَقَ فالذي ذكره الأصحاب بأجمعهم أنه لا ينكحها حتى تنكح غيره. قال الشيخ: رأيت لبعض أصحابنا وجهاً غريباً أنه إذا عتق، فله أن ينكحها على طلقة، وهذا قد يخرّج على الوجه الذي حكيناه في الحرّ الذمّي إذا طلق طلقتين ثم استرق، فإن قلنا: الاعتبار برقّه في الحال، فلا [ينكحها] (2). فنقول: الاعتبار بالحرية الطارئة، والحرّ يملك ثلاثاًً، وهذا بعيد جدّاً. ولكن حكى الشيخ الوجهين في المسألتين، وصرّح بالحكاية. فرع: 9281 - إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق واحدةً، ثم قال لها قبل الدخول: إذا دخلت الدار، فأنت طالق ثنتين، فإذا دخلت الدار، طلقت ثلاثاً؛ فإن مضمون اليمينين يقعان معاً. ولو قال لغير المدخول بها: "أنت طالق وطالق"، فلا تلحقها إلا الطلقةُ الأولى. ولو قال لعبد من عبيده: إذا مت، فأنت حرّ، ثم قال لآخَر هكذا: إذا مت فأنت حر، فإذا مات لم يقدّم المذكور أولاً بالحرية وإن قَدّم ذكرَه، فهذا نظير تعليقين متعاقبين.

_ (1) في الأصل: يليق. (2) في الأصل: ينكح.

ولو قال في مرضهِ: "سالم حرّ وغانم حر" فسالم مقدم؛ فإن العتق ينفذ فيه قبل التعبير عن غانم، وهذا نظير ما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، ولو قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، فطلقها، وقعت المنجّزة، ولم تقع الأخرى بعدها؛ فإن المنجزة متقدمة، وقد أوضحنا هذا في الأصول. ولو قال: مهما (1) أعتقت سالماً، فغانم حرّ، فإذا أعتق سالماً، فيكون عتقه مقدّماً على عتق غانم عند ضيق التركة. 9282 - ولو قال لغير المدخول بها: "إذا طلقتك، فأنت طالق مع الطلقة المنجزة" ثم طلقها، فهل يقع الطلقةُ الأخرى عليها؟ فعلى وجهين ذكرهما رضي الله عنه: أحدهما - يقعان؛ لاجتماعهما واقترانهما. والثاني - لا يقع إلا المنجّزة؛ فإنه غاير بينهما في اللفظ. قال: وكذلك اختلف أصحابنا في أنه لو قال: إذا أعتقت سالماً فغانم حر معه، ثم أعتق سالماً، فهل يقدّم عتقه على عتق غانم، فعلى وجهين. وكل ذلك مما قدمنا أصوله، فإن أعدنا شيئاً مما سبق، فالقصد الإفادة لا الإعادة. 9283 - ومما ذكره رضي الله عنه أنه لو قال لغير المدخول بها: "أنت طالق طلقة قبلها طلقة" قال: في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - لا يقع عليها شيء، وتدور المسألة، فإذا وقع عليها [طلقة] (2) وهي غير ممسوسة، فلا تلحقها الثانية، وإذا لم تلحقها الثانية، لم تلحقها الأولى؛ فإن الارتباط مشروط بينهما. والوجه الثاني - تلحقها طلقتان: أما الواحدة فبقوله: أنت طالق طلقة، وأما الثانية بقوله (3) قبلها طلقة، فيلغو قوله: "قبلها" فيكون كما لو قال: أنت طالق الشهر الماضي، فكأنه جمع عليها طلقتين.

_ (1) مهما: بمعنى (إذا). (2) عبارة الأصل: "فإذا وقع عليها واقعة قبلها أخرى، وهي غير ممسوسة ... " والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المفهوم من المسألة. (3) بقوله: جواب (أما) بدون الفاء.

وهذا ضعيف لا اتّجاه له. والوجه الثالث - أنه تلحقها طلقة واحدة، وهو المشهور نقلاً وتعليلاً، وسرّ الدّور في هذه المسألة قد ذكرته فيما تقدّم، وأوضحت أن هاتين الطلقتين تقعان على المدخول بها بدفعتين في زمانين، وكيف وقوعهما وترتّبهما، فلا نعيد ما سبق. والذي زدناه الوجه الذي حكاه الشيخ في وقوع الطلاقين على غير المدخول بها. فرع: 9284 - إذا علق العبد ثلاث طلقات بصفة، فقال لامرأته: إن دخلتِ الدار فأنت طالق ثلاثاًً، فعتَقَ العبد أولاً، ثم وجدت الصفة [بعدُ] (1)، فقد اختلف أصحابنا اختلافاً مشهوراً، فذهب بعضهم إلى أنه لا يقع إلا طلقتان، فإنه كان لا يملك غيرهما حالة التعليق، وكان تعليقه للثالثة بمثابة تعليق الطلاق قبل النكاح. والوجه الثاني - أن الثالثة تقع؛ فإنه كان مالكاً لأصل النكاح، والطلاق تصرّفٌ فيه. والأقيسُ الوجه الأول. وإذا قال الرّجل لأَمته: إذا علقت بمولود بعد لفظي هذا، فهو حرٌ، فالولد الجديد إذا أتت به هل تنفذ فيه الحرية؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا ينفذ؛ لأنه لم يكن مالكاً لذلك المولود حالة التعليق؛ إذ شرط كون الشيء مملوكاً أن يكون موجوداً. والثاني - ينفذ؛ نظراً إلى المِلْك في الأصل. 9285 - ولو قال العبد لزوجته: إذا مات مالكي، فأنت طالق طلقتين، وقال السيد لذلك العبد: إذا مت، فأنت حرّ، فمات السّيد، وحصلت الحرية، قال ابن الحداد: يقع طلقتان، ويملك الرجعة، وعلّل فقال: لأن الطلاق [وقع بعد] (2) الحرية. قال الشيغ: جوابه في المسألة صحيح، وتعليله باطل؛ فإنه قال: وقع الطلاق بعد الحرية، وليس كذلك، بل وقعا معاً؛ فإنهما عُلِّقا بالموت على وجهٍ واحد، فلا معنى لتقدم الحرية على الطلاق، وإذا وقعت الطلقتان في الحرية، اقتضى وقوعُهما

_ (1) في الأصل: أولاً. (2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

فيها استعقابَ الرّجعة، وليس كما لو وقعا في الرق. وحكى الشيخ عن بعض الأصحاب وجهاً بعيداً أنها تحرم عليه؛ لأن الحرية لم تتقدم على الطلاق. وهذا على نهاية الضّعف. وإذا فرعنا على ما أفتى به ابن الحداد، وهو المذهب الذي لا يجوز غيره، فلو قال العبد لزوجته: إذا مات سيّدي، فأنت طالق (1) في آخر جزء من حياته، وقال السيد: إذا مت، فعبدي هذا حرّ، فالطلاق يقع في زمان الرق، ولا رجعة؛ فإن الرّجعة لا تثبت بعد الطلاق، وإنما تثبت حيث تثبت مع الطلاق، ومعنى وقوع الطلاق في الرق وقوع الحرمة الكبرى، وهذا يناقض ثبوتَ الرجعة لا محالة، وهذا ذكرناه على وضوحه؛ ليقطع وهمَ من يظن أن وقوع الطلاق يستعقب الرجعة، وقد يطلق الفقهاء ذلك، وهو تجوّز منهم، والتحقيق ما نصصنا عليه. فرع: 9286 - لو تزوج الرجل بجارية أبيه، وعلّق طلاقها بموت الأب، فإذا مات، لم يقع الطلاق على ظاهر المذهب؛ لأن الملك يحصل في الرقبة، وحصوله يتضمّن انفساخ النكاح، فلو وقع الطلاق، لكان واقعاً على مملوكته، وهذا محال. وأبعد بعض أصحابنا، وقال: يقع الطلاق. وهذا وهمٌ وغلط، وإنما تخيّله من صار إليه؛ من حيث اعتقد أن الملك يحصل مع الموت، والانفساخُ يترتب عليه (2)، كما يشتري الرجل من يَعْتِق عليه، فيملكه في لحظة، ثم يعتِق عليه، فظنّ ظانّون أن الانفساخ مع الملك كذلك يكون، وليس الأمر كذلك؛ فإن الانفساخ يحصل مع الملك، والملك مع النكاح يتعاقبان تعاقب الضّدين، وليس كما وقع الاستشهاد به؛ فإنا قدّرنا ملك القريب اضطراراً ليصحّ العقد، وهاهنا لا ضرورة إلى مناقضة الحقائق والقياسِ، ولا تناقض في الحكم بالملك والفسخ جميعاًً؛ فإن الملك سيبقى بعد الانفساخ مطرداً. وقد قال أبو إسحاق المروزي: من اشترى قريبه، حصل الملك والعتق معاً.

_ (1) فأنت طالق: أي طلقتين، كما هو أصل المسألة التي نفرع عليها. (2) يعني أن الملك يقع أولاً، فإذا وقع الملك، وقع الطلاق المعلق عليه، قبل أن يقع الفسخ المترتب على الملك.

وزعم أن موجب العتق الملك، وموجب الملك العقد، وقد وقع الموجبان معاً، ثم زعم أنه لا يمتنع ثبوت حكمين نقيضين يقتضيهما القياس، وإنما الممتنع وجود ضدّين حساً ووقوعاً. وهذا على نهاية السقوط؛ فإن التناقض غير محتمل شرعاً وعقلاً. وما ذكرناه فيه إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين، فالجواب على ظاهر المذهب ما ذكرناه؛ لأن الدين لا يمنع الميراث على الصحيح من المذهب، وقال الإصطخري: الدّين المستغرق يمنع الميراث، وعلى هذه الطريقة يقع الطلاق؛ لأنها لا تنتقل بالموت إليه. فرع: 9287 - إذا قال لامرأته: أنت طالق مع أول موتي، أو مع موتي، أو قال: أنت طالق مع انقضاء عدتك، فالمذهب أنه لا يقع الطلاق؛ فإنه جعل وقوع الطلاق مقارناً بحالة لا يتصوّر فيها نكاح، وإنما يقع الطلاق في وقت يفرض فيه النكاح لولا الطلاق، فصار كما لو قال: أنت طالق بعد موتي، أو بعد انقضاء عدتك، والمخاطبةُ رجعية. ولو قال: أنت طالق مع آخر جزء من عدتك، فقد ذكر الأصحاب وجهين في وقوع الطلاق، ومنْعُ الوقوع ضعيف ساقط، ولا تعلق لاشتراط كون محل الوقوع [محبوساً] (1). وحكى الشيخ عن الخِضْري أنه قال: إذا قال: أنت طالق مع موتي [أوْ مع] (2) انقضاء العدة، يقع الطلاق، وهذا خرجه على القول عن (الإملاء) فيه إذا قال لامرأته وهي حامل بولدين: كلما ولدت ولداً، فأنت طالق، فإذا ولدت الولد الأول طَلَقت (3)، وإذا ولدت الثاني، لم تَطْلُق بالولادة الثانية، وتنقضي عدتها على الصحيح المنصوص عليه في الجديد.

_ (1) في الأصل: محتوشاً، والمثبت من (صفوة المذهب)، والمعنى: لا يشترط أن تكون المرأة، التي هي محل وقوع الطلاق محبوسة للزوج، أي ليست في العدة. (2) في الأصل: ومع. (3) طلقت: بفتح اللام وضمها، -وهذا الضبطُ من نسخة الأصل- أي انحلت عنها عقدة الزواج (المعجم).

وقال في (الإملاء) (1): يلحقها طلقة ثانية وتستقبل العدة بالأقراء، ونحن نعلم أن العدة تنقضي بوضع الولد، والطلاقُ المعلق بالولادة يقع مع انقضاء الولد، فيقع الطلاق إذاً مع انقضاء العدة، فخرجت المسألة في الموت والتعليق بالانقضاء على قولين. قال الشيخ: القول المذكور عن (الإملاء) في نهاية الضعف، ولا استقامة له في القياس، فهو ممّا لا يفرّع عليه، والتخريج على الضعيف يقود المخرِّج إلى مقاربة مخالفة الإجماع. فرع: 9288 - إذا نكح امرأةً حاملاً من الزنا، فقد ذكرنا أن النكاح يصحّ، وفي حلّ الوطء وجهان: أصحهما - أنه لا يحرم. فلو قال لها الزوج -وهي حامل من الزنا وقد وطئها-: "أنت طالق للسُّنة" قال ابن الحداد: لا يقع الطلاق أصلاً؛ فإنه وطئها في طهر ووجود الحمل وعدمه بمثابةٍ، وقد جرى الوطء فكان الطلاق في طهر جامعها فيه. ولو كان الحمل من الزوج، ووطئها بعد ظهور الحمل، ثم طلقها للسُّنة، فيقع الطلاق، فكأنا لا نجعل للحمل أثراً. وممّا يتعلق بذلك أنها لو كانت ترى الدم وهي حامل من الزنا، وقلنا: الحامل تحيض: فلو قال في زمن الدَّم: أنت طالق للسُّنة، فلا يقع الطلاق لمكان الدم، وهي كحائل رأت الدّم. ولو كان الحمل من الزوج، وكانت ترى دماً، وقلنا: إنها تحيض، فقال لها في زمان الدم الموجود في الحبل: أنت طالق للسُّنة، ففي وقوع الطلاق وجهان مشهوران ذكرناهما، والفرق أنا لا نجعل للحمل من الزنا حكماً أصلاً. وكان شيخي يقول: على هذا القياس يجب أن نقطع بأنّ الحامل من الزنا تحيض، وهذا فيه نظر؛ فإن اختلاف القول في أن الحامل هل تحيض أم لا؟ أمرٌ متعلق بأن وجود الحمل هل يَنفي الحيضَ حكماً؟ وهذا يستوي فيه الولد النسيب والدّعي.

_ (1) الإملاء: أي في القديم، فهو هنا في مقابلة الجديد.

فرع: 9289 - العبد إذا نكح امرأة وطلقها طلقتين، وتبين أن سيده قد أعتقه، ولم يدر أن العتق كان قبل الطلاق، أو الطلاق كان قبل العتق، فإن كان العتق مقدماً، فلا شك في ثبوت الرجعة، وإن كان الطلاق متقدّماً، فقد حَرُمَت حتى تنكح زوجاً غيره. وإذا أشكل الأمر، ولم يَدْرِ، واتفق الزوجان على الإشكال، قال ابن الحدّاد: تحرُم حتى تنكح غيره، فإنا استيقنا رقّه، وعرفنا وقوع الطلاق، والأصل أن العتق لم يكن قبل الطلاق، وقد وافقه معظم الأصحاب. وذهب بعضهم إلى أن الرّجعة ثابتة؛ فإن الأصل أن تحريم العقد لم يحصل، فلا نقضي به إلا بثبت، والأول هو المذهب. فأما إذا اختلف [الزوجان] (1) فقال الزوج: أُعتقت أولاً، ثم طلقتُ، وقالت الزوجة: طلقتَ أولاً، ثم عَتَقْت؛ فقد حرمتُ عليك. فإن اتفقا في وقت العتق، واختلفا في وقت الطلاق، مثل أن يتفقا على أن العتق كان يوم الخميس، وقال الزوج: إنما طلقتُ يوم السبت، وقالت المرأة: بل يوم الأربعاء قبل الخميس، فالقول في هذه الصورة قول الزوج؛ فإن المطلِّق هو الأصل، والطلاقُ يومَ الأربعاء إليه، فإذا نفاه، انتفى. وإذا اتفقا على وقت الطلاق، وأنه يوم الخميس، واختلفا في وقت العتق، فقال الزوج: كان العتق يوم الأربعاء، والطلاق بعده. وقالت المرأة: لا بل كان العتق يوم الجمعة، فالقول في هذه الصورة قولها، فإن الأصل دوام الرق يوم الأربعاء. ولهذا نظير في الرجعة سنذكره، ونعيد هذه المسألة وأمثالَها، إن شاء الله، ونذكر ضابطاً في المذهب جامعاً. فرع: 9290 - إذا قال لامرأته: أنت طالق يوم يَقْدَم فلان، فقدم وقت الظهر، فإنها تطلّق. ومتى تطلق؟ فعلى قولين مخرّجين: أحدهما - أنها تطلق عقيب القدوم، ولا يتقدم الطلاق على القدوم.

_ (1) في الأصل: الزوج.

والقول الثاني - أنه إذا قدِم، بان لنا أنه وقع الطلاق مع أول الصّبح؛ فإن اسم اليوم يتحقق ذلك الوقت، وابن الحداد فرّع على قول التبيّن، وله أصل مشهور في النذور، سيأتي مشروحاً، إن شاء الله. فلو ماتت امرأته ضحوةً، أو خالعها، ثم قدِم فلان وقت الظهر، والطلاق معلَّق بقدومه ثلاثٌ. فإن قلنا: يقع الطلاق عقيب القدوم؛ فلا يقع في هذه الصورة شيء؛ فإنه قدم وهي ميّتة، أو مختلعة. وإن قلنا بالتبين، [تبيّن] (1) لنا عند قدومه أنها ماتت مطلقةً، وأن الخلع جرى بعد وقوع الثلاث، ولا يكاد يخفى تفريع ذلك في العتق. فرع: 9291 - إذا قال لامرأته المدخول بها: "أنت طالق واحدة، بل ثلاثاًً إذا دخلت الدار" فلا شك أن الثلاث لا تقع ما لم تدخل الدار، ولكن هل تقع واحدة؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - أن التعليق يرجع إلى جميع ما تقدّم، فما لم تدخل الدار لا يقع شيء؛ فإن الشرط ينعكس على جميع ما تقدّم. ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق واحدة بل ثلاثاًً، لا يقع شيء حتى تدخل، فليكن الأمر كذلك إذا تأخر التعليق. والوجه الثاني - وهو اختيار ابن الحداد أن الطلقة الأولى تقع، وما ذكره بعدَ (بل) هو المعلق بالدخول؛ فإن (بل) تَضَمَّنَ قطعاً لكلام عن كلام على سبيل الاستدراك. ولو كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فقال: "أنت طالق واحدةً بل ثلاثاًً إن دخلت الدار"، فإن قلنا: جميع الطلقات تتعلق بالصّفة، فلا تطلق في الحال. ثم إذا دخلت الدار، وقعت طلقة وفاقاً، وهل يقع الباقي؟ فعلى وجهين حكيناهما في مواضع، وهو كما لو قال لغير المدخول بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق وطالق، وهذا يجري في كل طلاقين في لفظين مقتضاهما الوقوع معاً، وإن قلنا: الطلقة الأولى لا تتعلّق [بل] (2) تتنجز، فتبين بالطلقة الأولى، ولا تلحقها الأخرى إذا دخلت؛ فإنها

_ (1) في الأصل: فتبين. (2) في الأصل: بان.

بائنة، ولو نكحها فدخلت، لم يعد الحِنث؛ فإن التعليق وقع بعد البينونة حيث انتهينا إليه. وحكى الشيخ وجهاً عن بعض الأصحاب أن هذا يخرّج على عَوْد الحنث، ولولا عِظم قدر الشيخ، لما نقلت هذا الوجه. فرع: 9292 - إذا قال لامرأته: إن دخلت الدّار طالقاً فأنت طالق، أو قال: أنت طالق إن دخلت الدار طالقاً، فإن دخلت الدار وما كان طلقها قبل الدخول، فلا يقع بالدخول طلاق؛ فإنه علّق الطلاق على صفتين إحداهما دخول الدار، والثانية أن تدخلها طالقةً، وهذا يبتني على أن الطلاق المعلّق بالصفة يترتب على الصفة، ولا يقع معها. وقد كرّرت هذا مراراً، ونبهت على ما فيه من الإشكال، ثم أوضحت استمرار اتفاق الأصحاب في التفريع. ولو كنا نقول: يقع الطلاق المعلّق بالدخول مع الدخول، لكنا لا نوقع الطلاق أيضاًً؛ فإن قوله: إن دخلت الدار طالقاً يقتضي أن تكون طالقاً بغير الدخول حتى يتعلقَ الطلاقُ بكونها طالقاً مع الدخول، ويستحيل أن يكون الطلاق المعلق هو الطلاق الذي علق به الطلاق، واقتضاء اللفظ التغاير الذي ذكرناه بيّن لا إشكال فيه. فرع: 9293 - إذا نكح الرّجل أمةً، ثم قال: إن اشتريتك، فأنت طالق ثلاثاًً، وقال مالكها: إن بعتكِ، فأنت حرّة، فإذا باعها (1) عَتَقت في زمان خيار المجلس. قال ابن الحداد: ويقع الطلاق؛ فإن الشراء قد وجد. قال أصحابنا: هذا تفريع منه على أن الملك في زمان الخيار للبائع. فإن قلنا: الملك بنفس العقد ينتقل إلى المشتري، فينفسخ النكاح بالملك على المشهور، ولا يقع الطلاق، فإن قيل كيف ينتقل الملك إليه بعد نفوذ عتق البائع؟ قلنا: لما صح البيع، فمن حكم صحته نقل الملك على هذا القول، وهو كما ذكرناه في شراء من يعتِق على المشتري؛ إذ لولا ذلك، لما انعقد العقد على القول الذي عليه نفرع.

_ (1) فإذا باعها: أي لزوجها، كما هو مفهوم من السياق، وصرح به النووي في الروضة.

فرع: 9294 - إذا قال لامرأته: إن كان أول ولدٍ تلدينه ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كان أول ولدٍ تلدينه أنثى، فأنت طالق ثلاثاًً، فولدت ذكراً وأنثى، ولم يخرجا معاً، ولكن أشكل المتقدم، فلا يقع إلا طلقة واحدة، هكذا قال أصحابنا أخذاً بالمستيقن، وهذا واضح. ولو خرجا معاً دفعة واحدة، قال الشيخ: ما ذهب إليه معظم الأئمة أنه لا يقع الطلاق أصلاً؛ فإنه علق طلقةً بأن يخرج ذكرٌ أولاً، وثلاثاًً بأن تخرج الأنثى أولاً، فإذا خرجا معاً، لم يتحقق الأوّلية في واحد منهما. قال الشيخ: لو قلت: وقع الثلاث، كان محتملاً؛ فإن الأول هو الذي لا يتقدمه شيء، وليس من ضرورة الأول أن يستأخر عنه شيء، والدليل عليه أنه لو قال لها: إن كان أوّل ولدٍ تلدينه ذكراً فأنت طالق، فولدت ذكراً، ولم تلد سواه في عمرها، فيقع الطلاق؛ فعلى ذلك يجوز أن يقال: [الذكر] (1): لم يتقدمه أنثى، والأنثى لم يتقدمها ذكرٌ. قال الشيخ: عرضت ذلك على القفال، فقال: المسألة محتملة. والمذهب ما قدّمناه؛ لأن الرجل لو قال لعبديه: من جاء منكما أولاً، فهو حرٌّ، فلو جاءا معاً، لم يعتِقْ واحد منهما، هكذا ذكر الأصحاب، ولا يجوز أن يُتَخيّل في هذه المسألة خلاف، فإنه علق العتق على السّبق، ولا سبق إذا جاءا متساوقين، وليس كما إذا ولدت ولداً واحداً؛ فإنه لم يتعرّض في تلك المسألة لولدين وتقدير أولية فيهما. فرع: 9295 - إذا نكح جارية أبيه، أو أخيه، ثم قال: إذا مات سيدك، فأنت طالق، فإذا مات، فملكها الزوج، أو ملك بعضها -على ما يقتضيه التوريث- فلا يقع الطلاق، بل ينفسخ النكاح. قال ابن الحداد: هذا هو الصحيح. ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق، وقد قدمت هذا في الأصول.

_ (1) في الأصل: لذكر.

ولو قال السيد لها: إذا متُّ، فأنت حرّة وقد سبق من الزوج التعليق كما ذكرنا، فمات، وهي خارجة من الثلث؛ فيقع الطلاق لا محالة، ولو علق الزوج الطلاق، فقال السّيد: إذا متّ، فأنت حرّة بعد موتي بشهر، فإذا مات، فتبقى تلك مملوكةً إلى شهر، والتفريع على ما اختاره ابن الحدّاد، وهو أن الفسخ أولى بالتنفيذ من الطلاق، وفي هذه الصورة في وقوع الطلاق وجهان مبنيان على أن الملك فيها إلى أن تعتق لمن؟ وفيه وجهان: أحدهما - أن الملك للوارث. والثاني - أنه تبقى على ملك الميت إلى أن تَعتِق، فعلى هذا يقع الطلاق، ولا ينفسخ النكاح، وإن قلنا: الملك للوارث، ففي الانفساخ وجهان: أحدهما - أنه ينفسخ، وهو الأصح لحصول الملك. والثاني - لا ينفسخ؛ لأن هذا ملك تقديري، ثبت لانتظام كلام، وإلا فلا حقيقة له، ولا يُفضي إلى مقصود. فرع: 9296 - إذا قال: أنت طالق أكثرَ الطلاق، فتطلق امرأته ثلاثاً؛ فإن الأكثر صريح في أقصى عدده، والكثرة مُصرِّحة بمعنى العدد، ولو قال: أنت طالق أكبرَ الطلاق، ولم ينو عدداً، فلا يقع إلا واحدة؛ لأن الكِبَر لا يُنبىء عن العدد، وكذلك لو قال: أعظم الطلاق، أو قال: أنت طالق ملءَ الأرض أو ملءَ العالم، فلا يقع بمطلق اللفظ إلا طلقة، ولو قال: أنت طالق ملءَ هذه البيوت الثلاثة، فهذا يقتضي تعدّد الطلقات وكذلك إذا قال: أنت طالق ملءَ السموات. فرع: 9297 - قال ابن سريج إذا قال لامرأته: أنت طالق هكذا، وأشار بأصبع واحدة، فهي طلقة، وإن أشار بأصبعين، فطلقتان، وإن أشار بثلاث، فثلاث. هذا إذا قال: (هكذا)، وأشار إلى أصابعه. فإن قال: أنت طالق، ولم يقل: (هكذا) ولكن أشار بأصابعه، فلا نحكم بوقوع الثلاث ما لم ينوها، وهذا بيّن، ولم أر فيه -إذا قال (هكذا) وأشار إلى أصابعه الثلاث- خلافاً، وذاك فيه إذا أشار إلى أصابعه إشارة تكون قرينةً مثبتةً للعلم، فلو لم تقم قرينةٌ، فلا وجه للحكم بالثلاث؛ فإن الرجل قد يعتاد الإشارة بأصابعه الثلاث في الكلام، فإذا لم يوضح ينظر إلى الأصابع أو ترديد نغمة على صيغة إلى أن

يتبين الغرض، فلا نحكم بالوقوع، وما أجريناه من الكلام على القرائن من الأصول والأقطاب. فرع: 9298 - إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً، فيقف وقوع الطلاق على الدخول والكلام. ثم قال الأصحاب: يشترط ترتُّبُ الكلام على الدخول، حتى لو كلمتْ، ثم دخلتْ، لم تطلق؛ لأنه في الحقيقة علّق وقوع الطلاق عليهما عند الدخول بكلام، فكان هذا تعليقَ التعليق، والتعليقُ يقبل التعليق، كما [أن] (1) التنجيز يقبل التعليق، وهذا كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار، فأنت مدبّر، فالتدبير يقف على دخول الدار، ثم لا عتق حتى يموت السّيد بعد دخول العبد الدار، وليس كما لو قال: أنت طالق إن كلمت ودخلت، بشرط وجود الوصفين لا غير، لأن الواو للجمع خصوصاً في المعاملات. هذا ما ذكره القاضي والأصحاب: أما المسألة الأخيرة، فسديدة، وأما المسألة الأولى، ففيها نظر؛ فإنه ذَكَر صفتين من غير عاطف، فالوجه الحكم بتعلّق الطلاق بهما، فأما الترتيب، فلا معنى للحكم [به] (2). ولو قال: إن دخلتِ الدار إن كلمتِ زيداً إن أكلتِ رغيفاً، فأنت طالق، فالطلاق يتعلق بوجود هذه الصفات، والحكمُ بترتّب بعضها على بعض تحكُّمٌ، لا أصل له، فإن كان هذا مسلماً، فلا فرق بين أن يُقدِّم ذِكْرَ الطلاق وبين أن يؤخره. وإن كان ممنوعاً، فما قدمناه من الكلام كافٍ (3). ولو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً إلى أن يقدَمَ فلان، فالتأقيت راجع إلى الصفة، والتقديرُ: إن كلمته قبل قدوم زيدٍ، فأنت طالق، ولا يرجع هذا التأقيت إلى أصل الطلاق؛ إذ لو رجع إليه، لتنجز في الحال، كما لو قال: أنت طالق إلى شهرٍ،

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام. (2) في الأصل: بهما. (3) عبارة ابن أبي عصرون: وإن منع فما قدمناه كافٍ. والمعنى إن اشترط الترتيب ومنع وقوع الطلاق، فما قدمناه من الحجج كافٍ في نقضه.

ثم إن كلّمتْه قبل أن قدِمَ زيد، طلقت، ولو لم تكلمه حتى قَدِم زيد، لم تطلق، ولا يضر التكلم بعدُ. هذا معنى التأقيت. فرع: 9299 - لو قال: "إن دخلتِ الدار فأنت طالق" ثم كرّر هذا اللفظ ثلاثَ مراتٍ، فإن أراد التأكيد، فطلقة واحدة عند دخول الدار، وإن أراد التجديد، فإن دخلت الدار، طُلِّقت ثلاثاًً بدخلةٍ واحدة. ولو قال: أردت عقد ثلاثة أيمان، حتى تطلقَ طلقاتٍ [ثلاث] (1) بثلاث دخلات، فهذا لا يحمل عليه مُطلقُ الكلام بالإجماع؛ فإن اليمين الأخيرة حقها أن تنحل بأول دخلةٍ لتحقق الصّفة، وكذلك القول في الثانية والأولى، ولكن يُديّن فيما يقول باطناً، ولا وجه لقبوله ظاهراً. فرع: 9300 - إذا قال لأربع نسوة: أربعكن طوالق إلا فلانة، أو إلاّ واحدة على الإجمال، لغا الاستثناء، لأنه أوقع الطلاق على الأربع بجملتهن، فإذا قال: إلا فلانة، فقد قصد إبطال اللفظ في حقها، ورفْعَ مقتضاه بالكلية، فصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً لا تقع، أو ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وليس كما لو قال ثلاثاًً إلا واحدة، فإن الاستثناء في الواحدة صحيح. ولو قال: أربعكن إلا فلانة طوالق، فيصح الاستثناء في فلانة. هذا ما أورده القاضي والمسألة [مخيلة] (2) حسنة. [و] (3) يحتمل أن نقول: يصح الاستثناء؛ طرداً لقاعدة الاستثناء، فإنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فقد تعرّض لعدد الطلقات، ولو سكت عليه ولم يستثن، لكان الكلام مستقلاً في إيقاع الثلاث، ثم صح مع هذا استثناء الواحدة والثنتين بعد ذكر الثلاث، فلا فرق بين عدد الطلقات وبين عدد المطلّقات.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: محتملة، والمثبت اختيار من المحقق. (3) (الواو) زيادة من المحقق، وهي في عبارة ابن أبي عصرون.

ووجه ما قاله القاضي أنه إذا قال: أربعكن طوالق إلا فلانة، فهذا اللفظ لا يستعمل كذلك في الاعتياد، كما لا يستعمل قول القائل ثلاثاًً إلا ثلاثاً، [ويستعمل] (1) أنت طالق إن شاء الله، ولو تكلفنا فرقاً سوى ذلك، لم نجده، ولعلّ القاضي يقول: إذا قال: "هؤلاء العبيد الأربعة لك إلاّ هذا"، وأشار إلى واحد منهم، قال: الاستثناء باطل، ولعلّ ممّا يقوّي كلامَه ثبوتُ الكلام بالإشارة، وللإشارة أثر ووَقْعٌ في تثبيت الكلام. ولو قال: "لفلان أربعة أعبدٍ عليّ إلا عبداً" فالاستثناء صحيح. فرع: 9301 - إذا قال قائل للزوج: أطلّقت امرأتك؟ فقال: نعم، فقال (2): ذكر صاحبُ التلخيص في ذلك قولين: أحدهما - أن الطلاق يُحكم بوقوعه لقوله: (نعم) مع السؤال المتقدِّم، وإن لم ينو الطلاق. والقول الثاني - إن الطلاق إنما يقع به إذا نوى، فإذا لم ينو شيئاً، لم يقع. قال الشيخ: حكمَ بأن الطلاق يقع بهذه اللفظة مع النيّة في قولٍ، ويقع من غير نيّة في قولٍ، وجعل هذا إنشاءً للطلاق صريحاًً أو كناية. ووافقه بعض أئمتنا، وقال: ما ذكره من [القولين] (3) مبنيّ على قولين للشافعي فيه إذا قال الولي: زوجتك هذه، فقال في جوابه: قبلتُ، ولم يقل قبلت نكاحها، فهل ينعقد النكاح بذلك؛ بناء على ما تقدم من الإيجاب؟ فعلى قولين. قال الشيخ: هذه الطريقة غير مرضية، فقوله (نعم) في جواب السؤال ينبغي ألا يكون صريحاًً في الطلاق ولا كناية، بل هو صريح في الإقرار بالطلاق، ثم إن كان صادقاً، فلا كلام، وإن كان كاذباً، فلا يقع به الطلاق باطناًً، وينفذ الحكم بالإقرار ظاهراً، ثم لا يجوز أن يكون في ثبوت الإقرار اختلافُ قولٍ، ومن قال لرجل بين يدي القاضي: ألي عليك ألف درهم؟ فقال: نعم، قضى القاضي بكونه مُقرّاً، ولو جرى ذلك بين يدي الشهود تحمّلوا الشهادة على صريح إقراره، فعلى هذا لو قال في جواب

_ (1) في الأصل: ويستعمله. (2) القائل هو الشيخ أبو علي. (3) في الأصل: القول.

السؤال كما ذكرنا، ثم قال: أردت بذلك أني كنت نكحتها من قبل هذا، وطلقتها في ذلك النكاح السابق، فهذا ينزل منزلة ما لو قال لامرأته: أنت طالق الشهر الماضي، ثم فسّره بأنه كان طلقها في نكاحٍ سابق، وقد تقدم تفصيل ذلك. 9302 - ولو قيل: ألك زوجة؟ فقال: لا. قال أصحابنا: هذا كذبٌ صريح لا يتعلق به حكم، وقال المحققون: هذا كناية في الإقرار، قال القاضي: عندي أن هذا صريح في الإقرار بنفي الزوجية، وقال رضي الله عنه: إذا أشار المشير إلى امرأةٍ، فقال لبعلها: هذه زوجتك، فقال: لا، كان ذلك تصريحاًً بالإقرار بنفي الزوجية. ولو قيل له: أطلقت زوجتك، فقال: قد كان بعض ذلك، فلا نجعل هذا إقراراً بالطلاق؛ لأنه يحتمل التعليق، ويحتمل أنها كانت تُلاجّه (1) وتخاصمه، وتسأل منه الطلاق، ولم يكن قد أوقع بعد، فعبّر عن بعض المفاوضة التي جرت. ولو قال الدّلال لصاحب المتاع: بعتَ متاعك هذا بألف درهم من هذا الرجل، فقال: نعم، فلا يكون هذا إيجاباً بلا خلاف؛ فإنّ نعم خبرٌ يدخله الصّدق والكذب، فلا يصلح للإنشاء، وكذلك لو قال القابل: نعم، لم يكن ذلك منه قبولاً. ولو قال الدلال لصاحب المتاع: بعتَ متاعك هذا بألفٍ من هذا الرجل، فقال: "بعتُ" فالوجه القطع بأن هذا لا يكون بيعاً، إذا لم يُعِد [ذكرَ] (2) الثمن وخطابَ الطالب، ولم يأت بكلام ينتظم مبتدءاً، وليس كما لو قال المخاطب: قبلتُ؛ فإن قوله مع الإيجاب كلامان ينتظم أحدهما مع الثاني. وإذا قال الدلال: بعتَ عبدك هذا من هذا الرجل، فقال: بعتُ، فيقع قوله جواباً للدلال، وما كان جواباً له لم يصلح أن يكون خطاباً لذلك [الطالب] (3)، فلا يتجه في كونه جواباً إلا الخبر، وهو مضطرب في كونه إقراراً أيضاًً؛ فإن قرينة استدعاء الدلال شاهدة على أنه يبغي منه الابتداء.

_ (1) تُلاجّه: من اللجاجة. (2) زيادة لاستقامة الكلام، وهي في عبارة ابن أبي عصرون. (3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

وقال الأصحاب: لو قالت المرأة لزوجها؛ طلاق ده مرا، فقال: "دادم" لا يقع به شيء، لأن قوله: "دادم" (1) لا يصلح للإيقاع. قال القاضي: عندي يقع الطلاق؛ لأن المبتدأ يصير معاداً في الجواب، وهذا الذي ذكره مذهب أبي يوسف، وهو متجه؛ فإن السؤال مع الجواب يترتبان ترتب الإيجاب والقبول. فأما إذا قال الدلال: بع عبدك هذا بألف، فقال: بعت، فلا يستقل قول صاحب العبد: "بعت" كلاماً مبتدأ، ولا يترتب على قول الدلاّل جواباً. فرع: 9303 - لو قال: أنت طالق طلقةً عددَ التراب، وقعت طلقة واحدة؛ لأن التراب في نفسه جنس واحد. فإن قال: أنت طالق عدد أنواع التراب، طلقت ثلاثاً. فرع: 9304 - لو قال: أنت طالق طلقةً وطلقتين، وقع الثلاث، فإن قال: أردت إعادة تلك الطلقة الأولى في الطلقتين، وضمَّ أخرى إليها، قيل: يقبل ويقع طلقتان؛ فإن هذا محتمل. والذي صار إليه الجمهور أنه تقع الثلاث؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه. ولو قال بالفارسية: (تو از زني مَن بيك طلاق ودو طلاق هشته اي) (2)، كان القفال يفتي بالثلاث قياساً على ما ذكرناه في العربية قال القاضي يقع عندي طلقتان، لأن الناس يقصدون منه إيقاع طلقتين، ومن أراد منهم الثلاث زاد، فقال: (بيك طلاق وبدو طلاق وبسه طلاق هشته اي). فرع: 9305 - إذا قال الزوج: طلّقي نفسك إن شئت ثلاثاً، فلا بُدّ في هذه

_ (1) هذه الألفاظ الفارسية معناها كالآتي: "طلاق ده مرا" معناها: أعطني الطلاق: أي طلقني. وكلمة (دادم): أي أعطيت. (2) جملة فارسية صوابها: "توزَنْ مَنْ بَيَكْ ودُو طلاق" والمعنى الحرفي: تو= أنتِ، زَن: زوج، من= ضمير المتكلم (أنا) = زوجتي. بَيَكْ= بواحد طلاق، ودو طلاق= واثنين طلاق. والمعنى الأجمالي: أنت يا زوجتي طالق بواحدة وطالق باثنتين. واختلف في هذا، فقال القفال: يقع ثلاث طلقات، وقال القاضي: يقع ثنتان فقط، ومن أراد الثلاث قال: " بَيَكْ طلاق، وبدُو طلاق، وبـ سِه هسته إي " ومعنى: بـ سِه= بثلاث، هسته إي= أسلوب تأكيد والمعنى الأجمالي: أنت طالق بواحدة وباثنتين وبثلاثة قطعاً.

المسألة من أن تشاء، هذا هو الذي عليه التفريع، فلو أنها شاءت، فتطلِّق نفسها، وتقول: شئت، وطلقت نفسي، ولا يكفي أن تقول: شئت؛ فإنه لم يعلّق الطلاق على مشيئتها بل علق تفويض الطلاق إليها على مشيئتها. فلو قال: طلقي نفسك ثلاثاًً، فطلقت واحدة، وقعت الواحدة، وهذا الأصل مشهورٌ قدمنا ذكره. فلو قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثاً، فلو أنها شاءت طلقةً واحدةً، وطلقت نفسها واحدة، قال صاحب التلخيص لا يقع شيء، وكذلك لو قال لها: طلقي نفسك إن شئت واحدة، فشاءت ثلاثاًً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، فلا تقع واحدة منها. وعلة ما ذكره أنه لم يملّكها الثلاث ولا الواحدة في المسألتين تمليكاً مجرداً، بل علّق التمليك بمشيئة موصوفة بصفةٍ، فإذا قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثاًً، فقد شرط في ملكها الطلاق أن تشاء ثلاثاً، وكذلك عكس هذا. وذكر الأصحاب ما ذكره، ووافقوه. ومسألتاه مصورتان فيه إذا خلّل ذكرَ المشيئة بين قوله: طلقي وبين قوله ثلاثاًَ أو واحدة، فلو قال: ثلاثاًَ إن شئت، أو طلقي نفسك واحدة إن شئت، فذكر المشيئةَ بعد ذكر العدد أو بعد ذكر الواحدة، فلو شاءت واحدةً وقد جرى التفويض في ثلاث، وقعت الواحدة. ولو طلقت نفسها في مسألة الواحدة ثلاثاً، وقعت الواحدة، كما لم يكن في المسألة مشيئة، ولكن لا بدّ من أن تذكر المشيئة. ومجرد تطليقها نفسها لا يكفي. والفرق بين ذكر المشيئة قبل [العدد] (1)، وبين ذكرها بعدَه أنه إذا قال لها: "طلقي نفسك إن شئت ثلاثاً"، فإذا لم تشأ ثلاثاًَ لم تتحقق مشيئتها؛ فإنه وصف مشيئتها بالتعلّق بالثلاث، فإذا لم تحصل المشيئة المشروطة، فلا يقع الطلاق، فمهما (2) ذكر العدد بعد المشيئة فالعدد متعلق المشيئة، وكذلك لو قال: طلقي نفسكِ

_ (1) في الأصل: العدّة. (2) فمهما: بمعنى: فإذا.

إن شئت واحدة، وليس كذلك قوله: طلقي نفسك ثلاثاًً إن شئت. وهذا الذي ذكره الأصحاب ظاهر إذا كان الكلام مطلقاً. وإن زعم أني أردت بقولي ثلاثاًً بعد المشيئة تفسيرَ الطلاق، لا وصفَ المشيئة، فهذا مقبول. وإذا قال لها: طلقي نفسكِ إن شئت واحدةً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، فهذا فيه احتمال عندي؛ فإن من شاء الثلاث فقد شاء واحدة؛ إذ الثلاث تنطوي على الواحدة، ويحتمل ما قاله الأصحاب؛ فإنه جعل الواحدة متعلَّق المشيئة، فلا يمنع أن تكون المشيئة موصوفة باتحاد المراد. فرع: 9306 - قد ذكرنا أنه إذا قال: إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس أو مطرت السماء، أو هبت الريح، أو ما أشبه ذلك، مما لا يتعلق باختيارٍ لها، ولا يتصور فيه منع ولا تحريض، فلا يقع الحِنث بذلك. ولو زعم الزّوج أن الشمس قد طلعت فخالفته المرأة، فقال: إن لم تطلع، فأنت طالق، فيحنث بهذا في يمينه الأولى، وهو قوله: إن حلفت؛ فإنه قصد تصديق نفسه، وهذا من مقاصد الأَيْمان، فصار قوله يميناً على هذا الوجه. فروعٌ تتعلق بالمعاياة وطرائف الأسئلة: 9307 - إذا قال لها: إن لم تعرّفيني عدد الجوز الذي في هذا البيت، فأنت طالق، وكان البيت ممتلئاً جوزاً، وربما يضيق عليها الزمان الذي تجيب فيه، قال الأصحاب: الحيلة في نفي الطلاق أن تذكر المرأة عدداً يقدّر الجوز عليه، فإن استرابت زادت حتى تستيقن أنها ذكرت فيما ذكرت عدد الجوز، ولا يضرها الزيادة على العدد، فإنها وإن زادت، فقد ذكرت العدد المطلوب. وهذا خطأ عندي إن ذكر في سؤاله التعريف؛ فإنّ اللفظ يشعر بأن [غرضه أن] (1) تفيده المعرفة بعدد الجوز، والذي ذكرْته على مجازفةٍ ليس بتعريفٍ، وإنما فرض الفقهاء هذه الصورة فيه إذا قال لها: إن ذكرت لي عدد ما في البيت وإلا فأنت طالق،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

فإذا ذكرت عدداً على النسق الذي ذكرناه، فتكون ذاكرةً لذلك العدد فيما تذكره من الأعداد، ولكن الشيخ ذكر في المسألة التعريف. ثم إذا فرضنا في الذكر -وهو الوجه- فلتأخذ من عدد [تستيقنه] (1) مثل أن تعلم أن عدد الجوز في البيت يزيد على ألفٍ، ثم تذكر الألف، وتزيد ضمّاً للعدد إلى العدد، حتى تنتهي إلى مبلغٍ تستيقن أن ما في البيت لا يزيد عليه، ولا يتصور هذا ما لم تزد [إلى] (2) أن يفرض وفاق، وهو نادرٌ في التصور. ومما يجب الاعتناء به أنها إذا ذكرت الألف، كما صوّرناه، فقد ذهب القاضي إلى أنها تزيد على ما استيقنته واحداً واحداً، فلو قالت: ألفاً ثم ألفين، أو مائة ألفٍ، لم يكفها ذلك، إذ لو كان يكفيها ذلك، لذكرت عدداً على مبلغ عظيم أوّل مرّةٍ، فإذا قال الأئمة: تذكر ما تستيقن، ثم تزيد عليه، فلا وجه للزيادة إلا ما ذكرناه؛ فإنها سَتَمُرّ إذا كانت تزيد واحداً واحداً بالعدد الخاص بجَوْزِ البيت، وإذا لم تفعل هكذا، وذكرت مائة ألفٍ وعددُ ما في البيت ينقص عن هذا، فما ذكرت عدد الجَوْز في البيت، وإنما ذكرت عدداً عددُ ما في البيت بعضه. ثم هذا الذي ذكرناه في اللفظ المطلق، فلو أراد الزوج بهذا تنصيصها على العدد المطلوب، فلا ينفع ما ذكرناه. والذي يدور في خلدي من هذه المسألة أن مطلق هذا في العرف لا يُشعر إلا بالتنصيص، وقد نصّ الأصحاب على خلاف هذا، وكنت أودّ لو فرضت هذه المسألة فيه إذا نوى الزوج ما ذكرناه، ثم كان يقال: هل يزال ظاهر الإطلاق بنيّته، فعلى تردد. 9308 - ولو قال: إن لم تعُدِّي الجوز الذي في هذا البيت في ساعة، فأنت طالق، ذكر أصحابنا وجهين: أحدهما - أنها تأخذ من مبلغ [تستيقنه] (3)، ثم تأخذ في

_ (1) في الأصل: تستبقيه. والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون. (2) في الأصل: "إلا". (3) في الأصل: تستيقن.

الزيادة، كما ذكرناه فيه إذا قال لها: إن لم تذكري عدد الجوز. ومنهم من قال: إذا كانت اليمين معقودة على العدّ، فلا بد وأن تبتدىء من الواحدة، وتأخذ في الزيادة، حتى تنتهي إلى الاستيقان كما ذكرناه؛ فإن العدّ متضمّنه التفصيل من الواحدة إلى المنتهى، وليس كالذكر، ولم يذكر أحد من الأصحاب أن العدّ محمول على تولّي العدّ، فعلاً، وزعموا أن العدّ إنما هو العدّ باللسان. ولست أرى الأمر كذلك؛ فإن من [جلس] (1) نَبْذةً من بيتٍ فيه جَوْز، ثم أخذ يهذي ويذكر باللّسان أعداداً، فهذا لا يسمى عدّاً في الإطلاق، وإن حمل [لفظُهُ] (2) عليه، كان تأويلاً، والنظر في أن التأويل المزيل للظاهر، هل يقبل؟ نعم، إذا قال: "إن لم تعدّي"، فرمقت الجوز، وأخذت تعدّ وترمق كل جوّزة، فهذا عدٌّ، وإن لم يوجد فعلٌ باليد، فأما قول اللسان، فلست أراه عدّاً. 9309 - ولو قال - وقد خلط دراهم لامرأته بدراهمَ كانت في كفّه: إن لم تميّزي دراهمَك من هذه الدراهم، فأنت طالق. قال الأصحاب: المخلّص أن تميز الدراهم كلها تمييزاً عاماً، بحيث لا تبقي منها درهماً ودرهمين ملتصقين. وكذلك إذا كانا يأكلان تمراً أو مشمشاً، فقال: إن لم تميزي نوى ما أكلت، فأنت طالق، فالطريق ما ذكرناه. وهذا فيه نظر عندي، فإن نوى التنصيص في التمييز، فالذي ذكرناه ليس بمخلّص، وإن أطلق اللفظ، فالذي ذكره الأصحاب أن ما ذكرناه [مُخلِّص] (3). ولست أرى الأمر كذلك إن كنا نأخذ المعاني مما تبتدره الأفهام، ولئن كان للفقه تحكم في حصر الصرائح أخذاً من التعبد [والتكرّر] (4) في الشرع، فألفاظ المعلِّقين لا نهاية لها، وليس للصفات التي يذكرونها ضبط، فسبيل الكلام على الظواهر تنزيلها

_ (1) في الأصل: حبس. ومعنى العبارة: أن من انتبذ جانباً من البيت، وفيه جوز، ثم أخذ يهذي ... إلخ. (2) في الأصل: لفظ. (3) في الأصل: تخلّص. (4) في الأصل: غير مقروءة (انظر صورتها).

على ما يُفهم، وإنما يتميز الظاهر عن الكلام المتردد بشيء واحدٍ، وهو أن يفرض الإطلاق، ثم لا يفرض مراجعة المطلِق واستفسارُه، فما كان كذلك، فهو ظاهرٌ، والنص كذلك، غيرَ أن مُطْلِقَه لو ذكر له تأويلاً، لم يُقبل، ولم يُرَ له وجهٌ في الاحتمال، وأمثال هذه الألفاظ لا يستريب الفاهمون أن معانيها على خلاف ما وضعها أصحاب المعاياة، فالوجه وضعها مع تجريد القصد إليها على حسب ما يذكره الفقيه. 9310 - ولو كان في فم المرأة تمرة، فقال الزوج: إن بلعتيه، فأنت طالق، وإن لفظتيه، فأنت طالق، وإن أمسكتيه، فأنت طالق، فالمخلِّص أن تأكل نصفه وتلفظ نصفه، ولا يحصل الحِنث بوجهٍ من الوجوه التي ذكرناها. 9311 - ولو قال - وهي في ماءٍ جارٍ: إن مكثت فيه، فأنت طالق، وإن خرجت منه فأنت طالق. قال الأصحاب: لو مكثتْ، لم تطلق، لأنّ الدُّفع من الماء التي تَلْقاها قد جرت وانحدرت، فلم تمكث فيه، ولم تخرج منه. وهذا قريب من الفنون المقدمة. فإن نوى الزوج الخروج من ماء النهر، فما ذكرناه ليس بمخلِّص، وإن خطر له ما ذكرناه، أمكن أن يقبل، وإن أطلق، ففيه نظر، وهذا من الأقطاب؛ فإن أمثال هذه الألفاظ لو ردّت إلى اللغة، فيمكن تنزيلها على ما ذكره الفقهاء، وإن ردّت إلى ما يفهم منها في الإطلاق، فالأمر على خلاف ما ذكروه، والحمل على موجب الفهم عند الإطلاق أوْلى. هذا منتهى القول في هذه الأجناس. 9312 - وإذا كانت على سلّم، فقال: إن نزلت من هذا السّلم، فأنت طالق، وإن زَنأتِ (1)، فأنت طالق، وإن وقفت، فأنت طالق، فالوجه أن تطفر إن قدرت عليه، وإلا تُحْمل من السلم، أو يُضْجَع السلم وهي عليه، أو ينصب بجانب السُّلّم سُلَّم آخر حتى تتحول إليه.

_ (1) زنأتِ: أي صعدت. من قولك زنأت في الجبل إذا صعدت فيه (المعجم).

ولست بالراغب في هذه الفنون، واللائق بهذا المجموع [أن] (1) يبتنى على ما هو الوجه، وما ذكرته من نظر الناظرين إلى اللغة والإضراب عن المفهوم من الألفاظ. ولو قال لامرأته: إن أكلت هذه الرمانة، فأنت طالق، فأكلتها إلا حبة، لم تطلق، وهذا سديد في اللغة والعرف، وقد يقول القائل: أكلتُ رمانة، وإن فاتته حبّة، ولكن للاحتمال فيه مجالٌ. وإذا اجتمعت اللغة وتردد العرف، فالحكم بوقوع الطلاق لا وجه له، ولا يعدُّ من قال: لم يأكل رمانةً إذا ترك حبّةً حائداً عن ظاهر الكلام. ولو علق الطلاق بأكلِ رغيفٍ، فجرى الأكل فيه، وبقيت فُتَاتةٌ، قال القاضي: لا تطلق، واعتبر الفتاتة بحبات الرمانة. والقول في هذا مفصل عندي، فإن كان ما سقط قطعةً محسوسةً وإن صغرت، فهي كالحبة من الرمانة، وأما ما دق مُدركه من الفتاتة، فما عندي أنه يؤثر في الحِنث والبر، وهذا عندي مقطوع به في حكم العرف إن كان على العرف معوّل في الأَيْمان. وسمعت شيخي كان يقطع بهذا في الفتاوى. والضبطُ لهذه الأجناس أن من سئل عن لفظة، فإن كان لا يدري معناها في اللغة، فلا يهجم على الجواب، ولكن من جوابه: إني أراجع في هذه من يعرف اللغة، وإن كان يعرف معناها في اللغة وأحاط بأنه منطبق على العرف، جرى في الجواب. وإن جهل العرف، سأل عنه أهل العرف، وإن كان العرف متردّداً كان صغوه الأكثر إلى استبقاء النكاح. وإن صادف العرفَ على خلاف اللغة في وضعها، كان واقعاً في المعاياة، والوجه عندي تحكيم العرف على اللغة، كما أوضحته وبينت مسلك الأصحاب، ولا يسوغ الميل عن جادّة الفقه، حتى تحلو المسائل في استماع العوام. فروع في المكافأة والتعليقات بالصفات النادرة: 9313 - وهي كثيرة الجريان في الخصومات الناشئة بين الزوجين، وأكثر ما تقع هذه المسائل فيه إذا بدأت المرأة، فواجهت زوجها بما يكرهه، ووصفته بصفةِ ذمٍّ،

_ (1) زيادة من المحقق.

وقال الزوج: إن كنتُ كما قلتِ، فأنت طالق، فهذه المسائل تجري على ثلاثة أقسام: أحدها - أن يقصد الزوج تعليقاً على التحقيق. والثاني - أن يقصد مكافأتها ليغيظها بالطلاق، كما غاظته بما أسمعته. والثالث - أن يُطْلِق اللفظَ. فإن قصد التعليق، فلا بدّ من النظر في الصّفات: فإن تحققت، وقع الطلاق، وإن انتفت، لم يقع، وإن أشكلت، فالأصل أنْ لا طلاق، ثم كثيراً ما يجري في المهاترات، والإفحاش، والخنا (1) في المنطق - صفاتٌ لا تكون، فيقع الناظر في التطلب، فالوجه الحكم بأن الطلاق لا يقع. وأنا أذكر من جملتها واقعةً رُفعت في الفتاوى، وهي أن المرأة قالت لزوجها: يا (جهوذروى) (2)، فقال في جوابها: إن كنت كذلك، فأنت طالق؛ فوقع المسْتَطْرِفُون وبَنُو الزمان في طلب هذه الصفة، فذهب بعضهم إلى الحمل على صفار الوجه، وسلك سالكون مسلك مخيلة الذل في خبطٍ لا أصفه، وكان جوابنا فيه: إن المسلم لا يكون على النعت المذكور، فلا يقع الطلاق، ولم أوثر ذكر ما فيه فحش، وفيما أوردته التنبيه التام للفطن. وإن قصد الرجل بذلك مكافأتها، فاللفظ صريح في التعليق، ولكن إذا أراد الزوج مكافأةً، فلها وجه، والتقدير: إن كنت كذلك، فأنت طالق إذاً. ومما مهدته أن الاحتمال الخفي مقبول في وقوع الطلاق إذا أراده اللافظ. وإن أطلق اللفظَ، فهو محمول عندي على التعليق، إلا أن يعم عرفٌ في المكافأة، فيجتمع وضع اللغة والعرف، وقد سبق الكلام فيه. وقد رأيت كثيراً من المشايخ يميلون إلى المكافأة للعجز عن النظر في الصفات،

_ (1) الخنا: الفحش في المنطق، يقال: خنا فلان يخنو خَنْواً، وخناً: أفحش في منطقه. (المعجم). (2) كلمة فارسية وصوابها (جهره زَرْدْ) أي أصفر الوجه. هذا هو المعنى الحرفي، ويبدو أنها كانت عبارةً دارجة تستخدم في السب كناية عن صفات قبيحة يفحش التصريح بها، وقريب من ذلك قول العامة في سبابهم: يا أسود الوجه.

وسبب ذلك أنهم حسبوا كلّ مذكورٍ كافياً. ومعظم بدائع الشتائم غير كائنة، فلا يقع الطلاق. فرع: 9314 - إذا قال: أنت طالق يوم يقدَم فلان، فقدم ليلاً، فالمذهب أن الطلاق لا يقع، فإنه لم يعلّق الطلاق على مجرّد القدوم، حتى ربطه بالوقوع في يوم، وذكر بعض الأصحاب وجهاً أن مطلق هذا يحمل على وقت القدوم، وهذا بعيد لا أعده [من المذهب] (1) ومن أحكم الأصول إلى هذا المنتهى، لم يخف عليه دَرْكُ مثل هذا. فرع: 9315 - حكى العراقيون عن ابن سريج أنه قال: إذا قال الزوج لامرأته: إن لم أطلقك اليوم، فأنت طالق اليوم، فلا يقع الطلاق أصلاً؛ وذلك أنه ما دام اسم اليوم موجوداً، فيقدّر التطليق فيه، فلا يقع الطلاق. وإذا انقضى اليوم، فقد فات الإيقاع والوقوع جميعاً. قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا هفوة، والوجه القطع بأن الطلاق يقع في آخر جزء من اليوم، ونتبين ذلك بعد انقضائه، والدليل عليه: أنه لو قال: أنت طالق إن لم أطلقك، فإذا مات ولم يطلقها، فيتضح لنا أنها طلقت قُبيل موته، وما ذكره ابن سريج يقتضي ألا يقع الطلاق، ولو هجم هاجم على ركوب هذا، لكان خارقاً للإجماع. فرع: 9316 - إذا قال لامرأته: إن خالفت أمري، فأنت طالق، ثم قال لها: لا تكلمي زيداً، فكلمته، لم تطلق؛ لأنها خالفت نهيه، ولم تخالف أمره. ولو قال لها: إن خالفتِ نهيي فأنت طالق، ثم قال لها قومي، فقعدت، فقد ذهب الفقهاء إلى أن الأمر بالشيء نهي عن أضداد المأمور به، وقالوا على حسب معتقدهم: إذا قعدت، فقد خالفت نهيه، فيقع الطلاق، وقد أوضحنا في مجموعاتنا في الأصول أن الأمر لا يكون نهياً، ولا يتضمن نهياً، فلا يقع الطلاق إذاً. ولو كنا نعتقد اعتقاد الفقهاء، لتوقفنا في وقوع الطلاق أيضاًً؛ فإن الأيْمان لا تحمل على معتقدات الناس في الأصول، وإذا قال لها الرجل: قومي، فلم يوجد منه نهي

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

حتى يفرض تعلّق الطلاق بمخالفته، والطلاق لا يقع بالضِّمْن إذا لم يجر الوصف الذي هو متعلق الطلاق تحقيقاً. فرع: 9317 - إذا قال لنسائه: من أخبرتني بقدوم زيدٍ، فهي طالق، فأخبرته منهن واحدة، طلقت، صادقةً كانت أو كاذبةً. وقال بعض المصنفين: لا يقع الطلاق ما لم تكن صادقة، وهذا فيه احتمال. ولو قال: من أخبرتني أن زيداً قَدِمَ، فهي طالق، فأخبرته واحدة، طلقت، وإن كانت كاذبة، وإنما أوردنا هذا الفرع لحكاية هذا الفرق بين اللفظين، وهو حسن، فانتظم منه أنه إذا قال: من أخبرني بأن زيداً قد قَدِمَ فلا فرق بين الصّدق والكذب، وإن قال: من أخبرني بقُدومِ زيدٍ، فأخبرت واحدة كاذبةً، ففي المسألة وجهان، لم أقدّم ذكرهما. فرع: 9318 - إذا قال: أنت طالق بمكة، وأراد تعليق الطلاق على أن تأتي مكة وتطلّق حينئذ، فهذا محتمل، وإن قال: أردت التنجّيز، قَبِلْنا، ولم نتأنّق في إظهار وجهٍ من الوقوع. وإن أطلق لفظه، فقد حكى شيخي وجهين في أنه هل يحمل على التعليق، أو على التنجيز، ففي المسألة احتمال، أما التعليق، فسابق إلى الفهم، وأما التنجيز، فسببه أنه ليس في اللفظ أداة تصلح للتعليق. فرع: 9319 - إذا قال لامرأته: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: عجّلت تلك الطلقة المعلقة وجعلتها منجّزة، فإنها تقع في الحال. ولو وُجدت تلك الصفة، ففي وقوع الطلاق وجهان ذكرهما شيخي، وحاصلهما يرجع إلى [أن] (1) الطلاق المعلق هل يقبل التنجيز أم لا؟ وقد قدمت هذا في أول كتاب الخلع، ولكن رأيت هذين الوجهين للشيخ أبي عليّ، فأحببت نقلهما. فرع: 9320 - إذا قال: أنت طالق إلى حين، أو زمان، فإذا مضت لحظة وإن لطفت، حكمنا بوقوع الطلاق؛ فإن اسم الحين والزمان ينطلق عليه.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

ولو قال لها: إذا مضى حِقَبٌ أو دهرٌ، فأنت طالق، قال الأصحاب: هذا كما لو قال: إذا مضى زمان أو حين، وهذا مشكل جداً؛ فإن اسم الدهر والحقب لا يقع على الزمان اللطيف، وإيقاع الطلاق بعيد مع حسن قول القائل هذا الذي مضى ليس بدهرٍ، وقيل: سُئل أبو حنيفة (1) عن تعليق الطلاق بالدهر، فقال: لا أدري، وروجع مراراً فأصرّ عليه. والذي أراه فيه أن العَصر عبارة عن زمانٍ يحوي أمماً، فإذا انقرضوا، فقد انقرض العصر، أو من قول الناس: انقرض عصر الصحابة. ومن كلام الأصوليين هل يشترط في انعقاد الإجماع انقراض العصر؟ هذا بيّن في معنى العصر، والحكم بوقوع الطلاق دون ذلك، أو في الزمن القريب بعيد عندي، وأما الدّهر، فإطلاقه على الزمان القريب بعيدٌ، [بعد] (2) ما تمهّد من وجوب إمالة الفتوى إلى نفي الطلاق. وهذه الألفاظ تُصوّر مطلقةً، وفيها يقع الكلام، وبحقٍّ توقّف أبو حنيفة في هذه المسألة، وفي القرآن ما يدل على أن الحين من الدّهر، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] وسُمي القائلون بقدم العالم دهريةً، وقد يطلق الدهر، ولا يراد به الزمان، وهو معنى تسمية الملحدة دَهْرية، فإنهم يضيفون مجاري الأحكام إلى الدّهر، وإلى هذا أشار الرسول عليه السلام، وقال: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر" (3) وليس ينقدح لي في الدهر معنى إذا كان مطلقاً، وقرن بالمضي إلا الحمل على العصر، فإنه يقال مضى عصر الأكاسرة، وانقضى دهرهم، ولست واثقاً بهذا أيضاًً، والذي حكيته عن الأصحاب تنزيل الدهر والعصر منزلة الحين والزمان. فرع: 9321 - قال صاحب التقريب: إذا قال: أنت طالق اليوم إذا جاء الغد، فلا يقع أصلاً، فإنه علق وقوع الطلاق في اليوم على مجيء الغد، فلا يقع الطلاق قبل

_ (1) لم نصل إلى هذا النقل عن أبي حنيفة في كتب الأحناف التي رجعنا إليها، أما المسألة فانظر المبسوط 6/ 105، 114، وفتح القدير، والكفاية: 3/ 371. (2) زيادة من المحقق. (3) حديث: "لا تسبوا الدهر ... " أخرجه مسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب كراهية تسمية العنب كرماً، ح 2247. =

مجيء الغد، ثم إذا جاء الغد، فقد مضى اليوم، فلا يمكننا أن نوقع الطلاق في الزمان الماضي. ولا يبعد أن يقال: يقع الطلاق إذا جاء الغد مستنداً إلى اليوم، كما لو قال: إذا قدم زيد، فأنت طالق قبل قدومه بيوم، فالمسألة مشكلة. فروع ذكرها ابن الحداد من مسائل الخلع 9322 - منها: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثنتين إحداهما بألف، فنقول: لا تخلو المرأة إما أن تكون مدخولاً بها، وإما ألا تكون مدخولاً بها، فإن كانت مدخولاً بها، فلا يخلو إما أن قبلت الألف أو لم تقبلها: فإن قبلت الألف، حكمنا بوقوع الطلقتين على الصحيح، وسنذكر فيها خلافاً في أثناء المسألة، إن شاء الله. وإن لم تقبل الألف، فهل يقع طلقة واحدة أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يقع شيء؛ فإنه ذكر عوضاً في مقابلة إحداهما، وجعل الأخرى تابعة لها، فإذا لم تقع التي هي بعوض، فلا تقع الأخرى. والوجه الثاني - تقع واحدة من غير عوض رجعية؛ فإنّه علق إحداهما بعوض، ولم يعلق الأخرى بالعوض، فينبغي أن تقع، فلا تفتقر إلى القبول، قال الشيخ هذا هو القياس، واختار ابن الحداد الوجه الأوّل. ثم قال رضي الله عنه، ولا خلاف أنه لو قال: أنت طالق ثنتين واحدة بألفٍ، والأخرى بغير شيء، فتقع تلك الواحدة من غير قبول، [وحكي] (1) الوفاق في هذه الصيغة، وليس يبعد عندنا طرد الوجهين فيها أيضاًً تشبيهاً (2) بالمسألة الأولى. فإن قلنا: إنه لا يقع شيء أصلاً لو لم تَقبل، فإذا قبلت وقعتا جميعاًً. وإن قلنا: إن طلقةً تقع من غير قبول، فعلى هذا كما (3) قال الزوج ما قاله،

_ (1) في الأصل: نحكمي (رسمت هكذا تماماً). (2) في الأصل: وتشبيهاً. (3) كما: بمعنى كلما، أو عندما.

حكمنا بوقوع طلقة رجعيةٍ، فإذا قبلت فيكون ذلك بعد وقوع طلقة رجعية، فإذا قبلت، فيكون ذلك اختلاعاً بعد وقوع طلقةٍ رجعيةٍ. وقد اختلف المذهب في أن الرجعية هل يصح اختلاعها؟ فإن جوّزناه، فقد لزمها الألف وبانت، وإن قلنا: لا يلزمها المال أصلاً، قال الشيخ: فهل يقع الطلاق الثاني رجعياً مع الأوّل، فيقع طلقتان رجعيتان، فعلى وجهين: أحدهما - لا يقع؛ فإن المال لم يلزم وهو [ملازمٌ للمال] (1). والثاني - إنه يقع؛ فإن المرعي في وقوع الطلاق القبول، وقد جرى، فأشبه ما لو خالع امرأته المحجورة. هذا كله إذا كانت المرأة مدخولاً بها. 9323 - فإن كانت غير مدخول بها والمسألة بحالها، فإن قلنا: لا يقع طلقة من الطلقتين إلا بالقبول، فإن قبلت، صح الخلع ووقعتا جميعاًً. وإذا قلنا: تقع طلقة مجّاناً، فتبين بها قبل أن تجيب، ولا يصح الخلع أصلاً، فلا حكم لقبولها، فإنه جرى بعد البينونة. وفي المسألة مباحثةٌ نُطلع على لطفها وسرِّها، وذلك أنا إذا قلنا: لا يقع شيء إذا لم تقبل، فإذا قبلت، وقعت الطلقتان، فإحداهما تُقابل بالعوض والأخرى عريَّةٌ عن العوض، والطلاق المقابَل بالعوض في حق المدخول بها مُبينٌ، والطلاق الذي لا عوض معه، ولا يحصل استيفاء العدد به ليس بمُبين، فيقع طلاقان: أحدهما - المبين ويقترن [به] (2) طلاق على نعت الطلاق الرجعي. 9324 - ولو قال لامرأته التي دخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم خالعها، طُلِّقت طلقةً بعوض، ولم تلحقها الطلقة المعلقة؛ فإنها لو لحقتها، لصادفت بينونةً، واقتران البينونة يمنع وقوع الطلاق، كما أن تقدّم البينونة يمنع استعقاب الطلاق، فكيف يقع طلاقان مختلفان أحدهما بمال والآخر عريٌّ عن العوض، فالطلاق المُبين

_ (1) في الأصل: غير مقروءة (انظر صورتها). (2) في الأصل: بها.

ينافي وقوع الطلاق الذي لو انفرد، لكان رجعيّاً. وإن قيل في جواب ذلك: لا يمتنع في الاجتماع هذا؛ فإن من طلق امرأته ثلاثاً، فلو فرضنا الاقتصار على طلقتين، لكانتا رجعيتين، والثالثة توقع الحرمة الكبرى، ثم لم يمتنع الاقتران. وهذا لا يدفع بالسؤال، فإن الثلاث إذا جمعت، فحكمها تحريم العقد، ولا يتصف طلقة منها بكونها رجعية، بل حكم جميعها تحريم النكاح، والطلاق بالمال متميز عن الطلاق المقترن به صفةً وحكماً، فيقع الطلاق المقترن به مع البينونة، والواقع مع البينونة يصادف بائنة، وإذا صادف بائنةً، وجب ألا يمتنع وقوعه بعد البينونة. فوجه الجواب إذاً أن نقول: إذا فرعنا على أن المرأة لو لم تقبل المال، لم يقع واحدة من الطلقتين، فاستحقاق المال يتعلق بالطلاقين، وإن أثبت أحدهما أصلاً والثاني تبعاً، فسبب وقوع التابعة ارتباطها؛ بالأخرى؛ من حيث إنها تتوقف على قبول المال توقف الأخرى. هذا هو الوجه في الانفصال عن السؤال، وقد تركنا على الناظر فضلَ نظر، فلينظر، فقد مهدنا السبيل. 9325 - ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً على ألف، فقالت: قبلتُ واحدة، أو قالت: قبلت واحدةً بثلث الألف، فلا يقع الطلاق أصلاً، وبمثله لو قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة، استحق ثُلثَ الألف. وقد قدمنا هذا في أصول الخلع، واستفرغنا الوُسع (1) في الفرق. قال الشيخ: رأيت لبعض أصحابنا تخريجاً في جنب الزوج، أنها إذا سألت ثلاثاًً بألف، وأجابها إلى واحدةٍ لم يستحق شيئاً، ولم يقع الطلاق قياساً على جانبها. وهذا غريب جداً. ولو قال لامرأته: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت واحدة بألفٍ، قال

_ (1) عبارة الأصل: واستفرغنا الوسع في الوسع، في الفرض ...

الشيخ: المذهب الصحيح أن الطلاق يقع على الجملة على ما سنفصله، إن شاء الله، وإنما قلنا ذلك، لأن التعويل في جانبها على قبول المال، وقد قبلت المال. ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق لاختلاف الإيجاب والقبول، فأشبه ما لو قال الرجل: بعت منك هذين العبدين بألف، فقال المخاطب: قبلت البيع في هذا العبد بألف، فلا يصح البيع. قال الشيخ ويحتمل أن نقول: يصح البيع في ذلك العبد بالألف، تخريجاً على أصلٍ وهو أنه لو قال لوكيله: بع عبدي هذا بألفٍ، فباعه بألفٍ وثوبٍ، فهل يصح ذلك؟ فيه قولان وتفصيلٌ طويل. وهذا التخريج في البيع بعيد؛ من قِبل أن المخاطب في البيع إذا غير طريق المقابلة يخرج كلامه عن كونه جواباً، والمرأة إذا قبلت الألف، فتعرضها لعدد الطلاق وتوحيده لا معنى له، فإذا عرفت أن الأصح وقوع الطلاق، فكم يقع؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يقع واحدة، فإنها قبلت واحدة، وهذا ظاهر كلام ابن الحداد. وإن لم يصرح به، وذلك أنه قال: قد أجابته وزادته خيراً، فلو كان يقع الثلاث، لما كان لما قاله ابنُ الحداد معنى. والوجه الثاني - وهو اختيار القفال أنه يقع الثلاث، وهذا هو المذهب الصحيح، وذلك أن قبول الطلاق وتفصيله ليس إليها، وإنما إليها قبول المال فحسب، فمهما (1) قبلت ما رامه الزوج من المال، وقع ما قاله الزوج من الطلاق، وما ذكره الشيخ أبو علي من التخريج في البيع ينقدح على رأي ابن الحداد، ولا خروج له على الأصح الذي اختاره القفال، ولا يخفى دَرْكُ ذلك على الناظر. ثم إذا حكمنا بوقوع الطلاق، فالمذهب الصحيح أن الألف يلزم. قال الشيخ: رأيت لابن سريج وجهاً أن العوض يفسد، والرجوع إلى مهر المثل، قال الشيخ، وهذا محتمل [إن] (2) قلنا: يقع طلقة واحدة، بل هذا [أوجه] (3) على

_ (1) "مهما" بمعنى: "إذا". (2) في الأصل: وإن قلنا. (وحذْف الواو تصرّفٌ منا). (3) في الأصل: الوجه.

هذا الوجه، وإن قلنا يقع الثلاث، ففساد العوض أبعد على ذلك. 9326 - ثم ذكر ابن الحداد مسائل في الاختلاف نشير إلى بعضها؛ فإن أكثرها متعلق بكتب ستأتي، إن شاء الله. فمما ذكره أن الرجل إذا كان تحته صغيرة وكبيرة، فخالع الكبيرة، على مال، وأرضعت الكبيرة الصغيرة، وأشكل الأمر، فلم ندر أيهما أسبق، ولا يخفى حكم سبق كل واحدٍ منهما لو ظهر، فلو سبق الرضاع، لغا الخلع، ولو سبق الخلع صح، ولا أثر للرضاع في الإفساد؛ فإن اختلف الزوجان، نُظر: إن اتفقا على وقت الخلع، وأنه جرى يوم الجمعة، واختلفا في وقت الرضاع، فقال الزوج: جرى يوم السبت، فقالت: بل يوم الخميس، فالقول قول الزوج، والأصل بقاء النكاح يوم الخميس، وإن اتفقا على أن الرضاع كان يوم الجمعة، واختلفا في الخلع، فقال الزوج: كان يوم الخميس وقالت: لا بل يوم السبت، فالقول قولها؛ فإن الأصل بقاء النكاح، وذكر من هذا الجنس مسائل ستأتي في كتبٍ، إن شاء الله، فلم نأت بها. فرع: 9327 - إذا قالت المرأة لزوجها، طلقني على ألف درهم طلقة، فقال: طلقتك بخمس مائة، فالمذهب أن الطلاق يقع بمجرد ذلك. ومن أصحابنا من قال: لا يقع لاختلاف الإيجاب والقبول، كما لو قال: بعني عبدك بألفٍ، فقال بعتكه بخمسمائة، قال الشيخ أبو علي: تصحيح البيع محتمل عندي، وقد قدمنا لذلك نظيراً. ثم إذا وقع الطلاق، فكم يستحق الزوج؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - أنه يستحق تمام الألف؛ فإن تقدير المال إليها، والطلاق إليه. والوجه الثاني - أنه لا يستحق إلا خمسمائة؛ فإنه رضي بها ولم يقبل الملك إلا فيها، والعوض لا يُمْلَك إلا بتمليك وتملك، ويحتمل عندي أن يُخرّج وجهٌ في المسألة في فساد العوض، والرجوع إلى مهر المثل. وقد ذكر الشيخ لهذا نظيراً فيما سبق، ولم يذكره هاهنا. ولو قال الرجل لآخر: إن رددت علي عبدي الآبق، فلك عليّ دينار، فقال

المخاطب: أرده بنصف دينارٍ، فالوجه عندي القطع بأنه يستحق الدينار؛ فإن القبول لا أثر له في الجعالة، وقد ينقدح فيه خلاف أيضاًً؛ فإن قبول المال لا أصل له في الخلع أيضاًً، فالطلاق ثَمَّ كردّ العبد هاهنا، غيرَ أن الطلاق قولٌ شُرط اتصاله بالاستدعاء، فضاهى القبول ولبسه (1). فرع: 9328 - الزوج إذا ادعى اختلاع امرأته بألف درهم، فأنكرته، فأقام شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين، ثبت المال؛ فإن المال يثبت بما ذكرناه، أما الفرقة، فقد ثبتت (2) بقوله. ولو ادعت المرأة الخلع، فأنكره الزوج، فلا بد من شاهدين؛ فإن غرضها إثبات الفرقة. قال الشيخ: لو ادعى الرجل الوطء في النكاح، وغرضه إثبات العدة والرجعة، فلا يقبل منه إلا شاهدان [إن] (3) أراد إقامة البينة. ولو ادعت المرأة مهراً في النكاح، وأنكر الزوج أصل النكاح، فأقامت شاهداً ويميناً على النكاح، وغرضها إثبات المهر، قال الشيخ: لم يثبت شيء بخلاف ما قدمناه، وذلك أن النكاح ليس المقصود منه إثبات المال، وإنما المال تابع، والنكاح لا يثبت إلا بشهادة عدلين. وكان شيخي يقول: يثبت المهر إذا قصدته. وما ذكره الشيخ أبو علي أفقه (4)؛ فإنها وإن أثبتت مقصود المال، فمقصودها في النكاح غيرُ المال، والشاهد لهذا أن الشافعي لم يقض بانعقاد النكاح بحضور رجل وامرأتين، وهذا مشعر بأن النكاح من الجانبين لا يثبت إلا بعدلين، ولا يثبت شيء من مقاصده، وفي المسألة احتمال على حال.

_ (1) كذا. بهذا الرسم تماماً، ولم أدر لها وجهاً. (انظر صورتها). (2) في الأصل: تثبت. (3) زيادة من المحقق. وهي موجودة فيما نقله السبكي في طبقاته عند ترجمته للإمام. (4) جزم الرافعي بأن المهر يثبت بالشاهد واليمين، ولكن السبكي نقل المسألة كاملة، وأطال النفس في الانتصار لقول الإمام رادّاً لكلام الرافعي (ر. الطبقات: 5/ 220).

وسأجمع بتوفيق الله في الدعاوى والبيّنات قواعدَ المذهب فيما يثبت بالشاهد والمرأتين، وما لا يثبت إلا بعدلين. وإلى الله الابتهال في تصديق الرجاء وتحقيق الأمل، وصرف ما نتعب فيه إلى نفع المسلمين، وقد نجز ما حصرنا من مسائل الطلاق أصلاً وفرعاً، وستأتي بقايا في الرجعة، والإيلاء، والظهار، إن شاء الله. 9329 - وقد كنا وعدنا أن نجمع في آخر الكتاب قولاً ضابطاً يجري مجرى التراجم المذكّرة، والكتابُ مشتمل على أحكام وتصرُّفٍ في ألفاظ، فأما الأحكام، فلها أصول، وقد تمهدت وتفرعت. وأما الألفاظ، فالكلام فيها على أنحاء، منها: القول في الصريح والكناية، وقد مضى موضّحاً، ولا مَعْدِل عما هو صريح لفظاً ومحلاً وصيغةً إلا بجهات التديين، وقد انتظمت قواعد التديين. والقول في الكنايات مضبوطٌ، فلا حاجة إلى إعادته، والصرائح تجري على صيغ، وصلات، وتكريرات تتردد بين التأكيد والتجديد وغيرها، فيلقى الفقيه أقساماً [وربما] (1) يقتضي الإطلاق وقوعاً، وينتظم في إبداء تأويل يخالف الوقوع خلافٌ (2). وربما يقع الوفاق في قبول التأويل، ويجري في الإطلاق خلاف. وقد قدمت مراتب المذهب فيه. هذا كله تصرف في الصريح والكناية ومبانيها وصلاتها، ومحالّها. 9330 - فأما ألفاظ المطلّقين في صفاتهم وتعليقاتهم، فلا ضبط لها، فكل ما يتفق فيه موجب اللسان والعرف، فالحكم به، ولا حيد عنه إلا بالتّدْيين على شرطه (3). وإذا أشكل اللفظ في اللسان والعرف، فإن كان مثبَّجاً (4)، فلغوٌ؛ فإن النية

_ (1) في الأصل: وبما. (2) خلافٌ: فاعل لقوله: ينتظم. (3) على شرطه: أي على شرط التديين. (4) مثبجاً: ثَبجَ الرجل الكلامَ والخط ثبجاً عماهما ولم يبينهما. (المعجم) فالكلام المثبج أي المعمّى الذي لا يعرف له معنى.

المجردة لا توقع الطلاق، وإن كان مردداً بين الاحتمالات، فليس إلا مراجعة صاحب اللفظ. وإن اقتضى اللسان معنىً والمفهومُ في عرف الاستعمال غيره، فيختلف العلماء في أن المتبع اللسان، أو ما يسبق إلى الفهم في اطراد العرف، وعلى هذا التردد خرجت مسائل المعاياة، وذكرنا أن المختار اتباعُ العرف؛ فإن العبارات لا تُعنى لأعيانها، وهي على التحقيق أماراتٌ منصوبة على المعاني المطلوبة، وهذا منتهى المراد. ***

كتاب الرجعة

كتاب الرجعة 9331 - الأصل في الرجعة الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]، والرد: الرجعةُ باتفاق المفسرين، وقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] قيل: أراد بالإمساك الرجعة في العدة، وأراد بالتسريح أن يتركها حتى تنسرح بانقضاء العدة، وقيل: الإمساك في الآية ليس رجعة، والمراد مخاطبة الأزواج بأن يمسكوا بالمعروف، أو يسرحوا بالإحسان. وذكر الشافعي في أول الكتاب آيتين إحداهما قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] والأخرى قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] ثم قال: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين، فالبلوغ في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} بمعنى مقاربة انقضاء العدة، لأن العدة إذا انقضت، فلا سبيل إلى الإمساك، ولا ينتظم التخيير بينه وبين التسريح، والبلوغُ في الآية الثانية بمعنى انقضاء العدة؛ فإن النهي عن العضل لا يتحقق إلا عند انقضاء العدة، أما البلوغ بمعنى الانقضاء، فبيّنٌ لا يحتاج فيه إلى تأويل، وأما البلوغ بمعنى المقاربة، ففيه ضَربٌ من التوسع، وهو على مذهب قول القائل: "بلغت البلدة" إذا قاربها ودنا منها. والأصل في الرجعة من جهة السّنة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرَ في ابنه عبدِ الله "مُرْه فليراجعها" الحديث. وأجمع المسلمون على ثبوت الرجعة، فمن يملك ثلاثَ طلقاتٍ يُتصوّر منه رجعتان إحداهما بعد الطلقة الأولى، والثانية بعد الثانية، والطلقة الثالثة تُحرِّم عقد النكاح تحريماً ممدوداً إلى التحليل والتخلّي من نكاح المحلِّل وعِدّته. والعبد يملك طلقتين ورجعةً واحدةً، ثم الاعتبار عندنا في عدد الطلاق برق الزوج وحريته، فالحر يملك ثلاثَ طلقات، سواء كانت زوجته حرة أو رقيقة، والعبد يملك

طلقتين سواء كانت زوجته حرةً أو رقيقةً، وأبو حنيفة (1) اعتبر في عدد الطلاق رق الزوجة وحرّيتها، والمسألة مشهورة في الخلاف. فصل قال: "والقولُ فيما يمكن فيه انقضاءُ العدة قولُها ... إلى آخره" (2) 9332 - مقصود هذا الفصل يتعلق بالأصناف التي تتعلق العدة بها، فنذكر في كل صنف ادعاء المرأة انقضاء العدة، فإن كانت من ذوات الأشهر، بأن تكون آيسة متقاعدةً عن الحيض، فإذا ادعت انقضاء الأشهر وأنكر الزوج، فهذا الخلاف في التحقيق يرجع إلى وقت الطلاق، وإذا اختلف الزوجان في وقت الطلاق، فالقول قول الزوج مع اليمين لا محالة؛ إذ الرجوع إلى قوله في أصل الطلاق وعَدده، فالقول قوله في وقت الطلاق. وحقيقةُ هذا يرجع إلى نفي الطلاق وإثباته في الوقت المعيّن، فهي تدعي الطلاق فيه، والزوج ينكر. فأما إذا كان انقضاء العدة بوضع الحمل، وهذا ينقسم ثلاثة أقسامٍ: أحدها - أن تدعي إسقاط سقطٍ (3) ظهر فيه التخطيط والتخليق، فالقول قولها مع اليمين؛ إذ لا طريق إلى معرفة ذلك إلا من جهتها، فكان الرجوع إليها، كما لو ادعت الحيض، ولا يشترط أن تأتي بالسقط وتُريه الناس، وإن كان ذلك داخلاً في الإمكان؛ فإنها وإن فعلت ذلك، لم نتحقق أن السقط منها، فلا معنى لتكليفها ذلك. ثم ذكر القاضي وبعضُ المصنفين أن إسقاط السقط إنما يكون في مائة وعشرين يوماً، فإن ادعت ذلك في هذه المدة من يوم إمكان الوطء بعد النكاح، قُبل ذلك

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 204، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 407 مسألة 913، رؤوس المسائل: 417 مسألة 290، الغرة المنيفة: 161، طريقة الخلاف: 113 مسألة 47، وإيثار الإنصاف: 159. (2) ر. المختصر: 88. (3) سقْط: قال في المختار: مثلثة السين، وفي المصباح اقتصر على الكسر، وفي المعجم الوسيط ضبطها بالضم فقط.

منها، وإن ادعت إسقاط السِّقْط لأقلَّ من ذلك من يوم النكاح، لم يقبل ذلك منها. قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدء خلق أحدكم في بطن أمه أربعون يوماً نطفة، وأربعون يوماً علقة، وأربعون يوماً مضغة، ثم يبعث الله ملَكاً فينفخ فيه الروح، ويكتب أجله ورزقه، ويكتب [أشقييٌّ] (1) هو أم سعيد" (2). ولو ادعت إسقاط لحم، لم يظهر فيه التخطيط ففي انقضاء العدة بوضعه قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب العِدد، إن شاء الله. فإذا قلنا: لا تنقضي العدة بوضعه، فلا معنى لادعائها، وإن قلنا: تنقضي العدة به، فالقول فيه كالقول في القسم الأول، فيقبل قولها مع يمينها، ثم إن ادعته لثمانين يوماً من يوم النكاح، صُدِّقت وحُلِّفت، وإن ادعته لأقلَّ من ذلك من يوم النكاح، لم تصدق، وإذا كنا في أمثال هذه المدد والحُكم بالأقل منها والأكثر نرجع إلى الوجود - مع ما فيه من الخبط والاضطراب- فإذا وجدنا فيه مستمسكاً من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان أولى بالتعلق، وقد دل حديث ابن مسعود أن التخليق في المائة والعشرين، وانعقاد اللحم على تواصل والتئام في ثمانين يوماً. ولو ادعت ولادة ولدٍ كاملِ الخلقة، فالقول فيه قولها في ظاهر المذهب، وقال أبو إسحاق: لا يقبل قولها؛ لأن الولادة تشهدها القوابل في الغالب بخلاف السِّقْط فإن سقوطه يفجأ، والولد التام يقدُم انفصالَه الطَّلْقُ، والولادة فيه على الجملة مشهودة، وهذا المذهب متروك على أبي إسحاق، والأصح تصديقها؛ فإن النساء مؤتمنات في أرحامهن (3). 9333 - فأما إذا كانت عدتها بالأقراء، فادعت انقضاء العدة، فهذا من حقه أن

_ (1) الزيادة من كتب الحديث. (2) حديث ابن مسعود متفق عليه (البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم، ح 3208، مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي، ح 2643). (3) خالف في ذلك ابن أبي عصرون، فقال: "والقياس مع أبي إسحاق، وما في أرحامهن محمول على الحيض والإسقاط" صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 51 يمين.

يذكر في كتاب العِدد، ولكن توافَقَ الأصحابُ في المجموعات والمصنفات على ذكره [في الرجعة] (1)؛ فإن الحاجة ماسة [إلى ذلك] (2) في أمر الرجعة وبقائها وانقضائها، فالمرأة لا تخلو إما أن تكون مبتدأة، أو معتادة، فإن كانت معتادةً، فلا تخلو إما أن تكون عاداتها مختلفة، وإما أن تكون أدوارها مستقيمة، فإن كانت عاداتها مختلفة، أو كانت عادتها مستقيمة على الأقل في الطهر والحيض، نظر: فإن طلقها في حالة الطهر، فأقل مدة تصدق فيها على انقضاء العدة اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان؛ لأنا نقدر وقوع الطلاق، وقد بقي من الطهر لحظة، فنحسبها قرءاً، ثم بعدها يوم وليلة حيضٌ، ثم خمسةَ عشرَطُهرٌ، ثم يوم وليلة حيضٌ، ثم خمسةَ عشرَ طهر، ثم تطعن في حيضة بلحظة، وهذه اللحظة للاستبانة محسوبةٌ من العدة. فإن ادعت انقضاء العدة في اثنين وثلاثين يوماً ولحظة واحدة، فهذا يخرج على قولٍ للشافعي في أن القرء وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض. فعلى هذا إذا قال: أنت طالق في آخر جزءٍ من طهركِ، فيقع الطلاق في الجزء الأخير من الطهر، ويُحْسَب انتقالها إلى الحيض قرءاً، فيسقط لحظة، وعلى المشهور لا بد من لحظة من الطهر بعد الطلاق، وقول الانتقال لا يتصور إلا إذا كان الطلاق معلقاً، بآخر جزء من الطهر؛ فإنه لا يمكن تنجيز طلاق مع درك مصادفته للجزء الأخير من الطهر، وإذا علق، وقع كذلك. 9334 - وإن طلقها في حالة الحيض، فأقل مدة تُصدَّقُ فيه على انقضاء العدة سبعة وأربعون يوماً ولحظة؛ لأنا نقدر وقوع الطلاق في آخر جزء من الحيض بالتعليق، فيمضي خمسةَ عشرَ يوماً وهي طهر، ثم يوم وليلة حيض، ثم خمسةَ عشرَ يوماً، ثم يوم وليلة، ثم خمسةَ عشرَ، ثم تطعن بلحظة في الدم، وهذه اللحظة للاستبانة، وليست محسوبة من العدة، ولم نشترط في أول العدة أن تبقى من الحيض لحظة؛ لأن زمان الحيض لا يحتسب من العدة، بخلاف ما قدمناه في زمان الطهر؛ فإن اللحظة

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة لاستقامة العبارة.

الأخيرة محسوبة من العدة معدودة قرءاً، والانتقال من الطهر إلى الحيض معدود قرءاً في قول بخلاف الانتقال من الحيض إلى الطهر. فهذا بيان أقل زمان يفرض انقضاء العدة فيه، إذا صادف الطلاق الطهر أو الحيض، فإن ادعت الانقضاءَ في زمان ممكن، صُدِّقت مع اليمين. وإذا ادعت الانقضاء في زمان أقلَّ مما ذُكر، فلا شك أنا لا نصدقها؛ فإنها ادعت ما لا يوافقه الإمكان، فلو مضى من الزمان ما انتهى به الأمد إلى حد الإمكان، فإن كذََّبت نفسَها فيما ادعته من قبل، وابتدأت (1) عند مضي زمان الإمكان، فادعت الانقضاء الآن، صُدِّقت بلا خلاف. وإن أصرّت على دعواها الأولى التي كذبناها فيها، ثم انقضى من الزمان ما يتصل به الإمكان، فهل نصدقها الآن؟ فظاهر المذهب أنا نصدقها، ولا معوّل على ما سبق منها، وإصرارُها على دعوى انقضاء العدة بمثابة ابتدائها الدعوى بعد تحقق الإمكان. وهذا يناظر ما لو ادّعى المخروص عليه في الزكاة غلطاً متفاحشاً على الخارص لا يتفق وقوع مثله لخبيرٍ بالخرص، [فقول] (2) المخروص عليه مردود في المقدار المتفاحش، وهل يقبل قوله في المقدار الذي يقع مثله للخارص المتدرب؟ المذهب أنه يقبل قوله في ذلك المقدار، وإن كانت دعواه متعلقة به وبالزائد عليه المنتهي إلى ما يندر وقوعه. ومن أصحابنا من قال: إذا أصرت المرأة على دعواها الأولى، ولم تكذب نفسها فيما سبق منها، ولم تستفتح دعوى ممكنة، فلا يقبل قولها؛ فإن انقضاء العدة مما لا يتكرر، والذي ادعته مردود، ولم تدع دعوى أخرى، فتقبل والحالة هذه، وهذا الوجه له اتجاه في المعنى، وإن كان الأظهر غيرَه. والقائل الأول يقول: إذا كنا لا نصدقها وهي مصرّة أدّى ذلك إلى أن ينقضي الزمن الأمد ولا نحكم بانقضاء عدتها بالبادرة التي صدرت منها.

_ (1) أي ابتدأت الدعوى. (2) في الأصل: فنقول.

[وكل] (1) ما ذكرناه فيه إذا كانت عادتها مضطربة أو كانت عادتها مستقيمة على الأقل في الحيض والطهر. 9335 - فأما إذا كانت عادتها مستقيمة على الأغلب في الحيض والطهر مثلاً، فادعت انقضاء العدة في أقلَّ من ثلاثة أقراء معهودة في أدوارها، فهل يقبل قولها أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما -وهو الأصح- أنه يقبل؛ لأن العادة قد تتغير وتتبدل بالزيادة والنقصان، والتقدم والتأخر، والأصل تصديقها إذا أخبرت بمُمكن. ومن أصحابنا من قال: لا تصدق؛ لأن العادة المستمرة تخالف ما تذكره، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً في الحكاية، فهو بعيد في الاتجاه. ثم اختلف الأئمة في أن العادة هل تثبت بالمرة الواحدة؟ والأصح ثبوتها بها كما قدمناه في كتاب الحيض. وإذا فرعنا على الرجوع إلى عادتها فيما نحن فيه، فيبعد عندي التعويل على المرة، ويبعد أيضاًً التعويل على المرتين، ولست أرى لهذا الوجه ضبطاً نَنْتهي في التفريع إليه، والتفاريع محنة (2) الأصول بها يبين فسادُها وسدادُها، ثم لا وجه عندنا مع ما نبهنا عليه من الإشكال إلا الرجوعُ إلى العادة المعتبرة في الحيض، ويجب طرد الخلاف في المرة الواحدة. 9336 - وإن كانت المرأة مبتدأة، ففيما تصدق على انقضاء العدة؟ فيه وجهان مبنيان على أن القرء عبارة عن ماذا؟ فإن جعلناه عبارة عن الانقلاب؛ فإنها تصدق في اثنين وثلاثين يوماً ولحظة؛ فإنا نقدر وقوع الطلاق في اللحظة التي تعقبها الحيضة الأولى، وهذا القائل يقول: الصغيرة إذا حاضت بعد الطلاق، [احتسب] (3) لها ما جرى قرءاً.

_ (1) في الأصل: ولكن. (2) محنة: محنته محناً من باب نفع اختبرته، وامتحنته، والاسم المحنة (المصباح). (3) في الأصل: واحتسب.

وإن لم نجعل الانقلاب إلى الحيض قرءاً وجعلنا القرء عبارة عن طهرٍ يحتَوِشُه دمان، فلا نعتد بما يتقدم على الحيضة الأولى طهراً، وتفصيل هذا على كمالِه يأتي في كتاب العدة، إن شاء الله؛ فإذاً لا تنقضي عدتها في أقلَّ من ثمانية وأربعين يوماً ولحظة تطعن بها في الدم؛ فإنه تمر عليها ثلاثة أطهار وثلاث حيض، والمسألة فيه إذا صادفها الطلاق قبيل الحيضة الأولى. فهذا تمام المراد في ذلك، فإن أغفلنا البسطَ التام، فذاك لتعلقه بأصول العدد، وقد ذكرنا في هذا الموضع ما فيه كفاية لغرض الفصل. فصل قال الشافعي: "وهي محرَّمةٌ عليه تحريمَ المبتوتة ... إلى آخره" (1). 9337 - الطلاق الرجعي عندنا يحرم الوطءَ، وجميعَ الاستمتاعات من اللمس والنظر، وهي في التحريم كالبائنة، والشافعي شبهها بالمبتوتة في أصل التحريم، لا في صفته؛ فإن تحريم المبتوتة لا يدفعه إلا نكاحٌ مستجمع لشرائطِ الشرع، بخلاف الرجعية، ووطءُ المبتوتة مع العلم بالتحريم يوجب الحد، ووطءُ الرجعية لا يوجب الحد، وقد هَذَى بعض الناس بإيجابه في الرجعية، ولعله أخذه من القول القديم في وجوب الحد على من وطىء مملوكته المحرمة عليه بالرضاع، أو وطىء مملوكته وقد زوجها، وهذا على نهاية البعد؛ فإن الرجعية مستحلّةُ الوطء عند شَطر الأمة، فهذا إذاً غيرُ معتد به، ولا عود إليه. ثم أطلق الأصحاب القول بأن الطلاق الرجعي يؤثِّر في الحل وإزالة الملك، ولكنه قابل للارتجاع والردّ، ورُبَّ ملك يزول مع إمكان التدارك فيه. 9338 - ثم قال الأصحاب: انتظم من قواعد المذهب ثلاثةُ أقوال في أن الطلاق الرجعي هل يزيل الملك، قولان منها مأخوذان من [أصولٍ ثلاثة للشافعي] (2) أحدها -

_ (1) ر. المختصر: 4/ 88. (2) في الأصل: أصول للشافعي ثلاثة.

مخالعة الرجعية، وفيها قولان: أظهرها - أنها جائزة، والثاني - الإشهاد على الرجعة، وفي وجوبه قولان. والثالث (1) - أن مدة أربع سنين (2) تعتبر من وقت الطلاق أو من وقت انقضاء العدة، يعني عدة الرجعية، وفيه قولان. وأما القول الثالث، فهو التوقف؛ فإن انسرحت تبينا زوال الملك بالطلاق، وإن روجعت، تبينا أنه لم يَزُل، وهذا القول مأخوذ من قول بعض أصحابنا: إن الرجعية إذا وطئها زوجها نظر: فإن راجعها في العدة، لم يلتزم المهر بوطئها، وإن تركها حتى انقضت عدتها، لزمه المهر، وسنذكر هذا مفصلاً على أثر ذلك، إن شاء الله. فاستنبط الأصحاب عن هذه الأصول ثلاثةَ أقوال، وهي شبيهة بالأقوال في أن الملك في زمان الخيار في البيع لمن؟ والذي عندنا فيه أن المصير إلى زوال الملك خروجٌ عن المذهب، وقد قال الشافعي: الرجعية زوجة بخمس آيٍ من كتاب الله، وذكر الآيات المتعلقة بالأحكام التي استشهد بها، وكيف لا تكون زوجةً وهي وارثةٌ وموروثةٌ، والتوريث لا يقع من الجانبين إلا بالنكاح، والطلاق يلحقها، ولا تطلق إلا منكوحة، ولا ينكِحها مُطلِّقها، بل يرتجعها، فهي إذاً صائرة إلى البينونة لو لم يرتجعها زوجها. وأما أخذ زوال الملك من وجوب الإشهاد، فساقط؛ فإنه مأخوذ من التعبد لا غير، ولو لم يكن كذلك، لاشترط رضاها والولي، وأما إفساد (3) مخالعة الرجعية، فهو في الأصل غير متجه. ولو كان عليه معوّل، لكان امتناع الخلع لزوال الملك، ولامتنع التطليق من غير عوض أيضاً بناءً على هذا الأصل، وأما احتساب أكثر مدة الحمل من وقت الطلاق، فسببه أنها غير مستفرشة، ونحن لا نقنع بصورة النكاح في

_ (1) المراد هنا الثالث من أصول الشافعي، أما (الثالث) الذي بعده، فالمراد به القول الثالث في المسألة. (2) أربع سنين: أي أكثر مدة الحمل. (3) كذا. ولعلها: امتناع.

الإلحاق، حتى لو غاب الرجل عن المرأة مدة يُقطَع بأنهما ما التقيا فيها، فإنا لا ندخل تلك المدة في الإمكان المعتبر على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله. وأما قول الوقف، فعلى نهاية السقوط؛ فإن مضمونه الحكمُ بالبينونة مستنداً إلى الطلاق، كما نفعل مثل ذلك في الردة الطارئة على النكاح. 9339 - فإن قيل: لم حرمتم وطأها إن كانت منكوحة؛ ولم قضيتم بانقضاء عدتها؟ والعدة لا تنقضي عن الزوج في الزوجية؟ قلنا: هذا مثار الإشكال، فإن كنا ننشىء زوال الملك من أصلٍ، فهذا أولى بالذكر من التحويم على [خيالات] (1)، ثم تحريم الوطء [يستند] (2) إلى الآثار قبل الحقائق، والتحريمُ قد يحصُل بعوارضَ، والملك تامّ، فكيف إذا ظهر التحلل؟ وهذا مما نستخير الله فيه، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إطلاق البينونة لا تحقُّقاً ولا استناداً، وإنما عبروا بالبينونة عن انبتات الملك على وجهٍ لا يُستدرك بالرجعة. والحاصل عندنا مما قدمناه أن الزوجية باقية، ولكن الطلاق يُجريها -إذا كانت مدخولاً بها- إلى البينونة، وجريانُها إلى البينونة يوجب تحريمَها والاحتسابَ بعدّتها، هذا حكم الشرع فيها، ولا شك أنه خارج عن قياس الأقيسة الجلية، ولا يتخلص أبو حنيفة (3) عن هذا الإشكال بإباحته وطأَها؛ فإنه وافق في شروعها في العدة، والعدةُ لا تمضي من الزوج في صلب النكاح، بدليل أن عدة التي آلى عنها زوجها لا تنقضي في الأربعة الأشهر، وإن كان الإيلاء طلاقاً عند أبي حنيفة.

_ (1) في الأصل: احتيالات. (2) في الأصل: "سياق" (انظر صورتها) والمثبت تقدير من المحقق. (3) ر. مختصر الطحاوي: 192، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 388 مسألة 893، رؤوس المسائل: 421 مسألة 293، المبسوط: 6/ 19.

فصل قال: "ولمّا لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام، فلا تكون رجعةٌ إلا بكلام ... إلى آخره" (1). 9340 - قصد الشافعي الرد على أبي حنيفة (2) في مصيره إلى أن الوطء رجعة، وأوضح من مذهبه أن الرجعة لا تحصل إلا بالكلام، وعند أبي حنيفةَ الوطءُ واللمسُ بالشهوة، والنظرُ إلى الفرج بالشهوة يُحصّل الرجعة، سواء جرى على قصدٍ إلى الرجعة أو لم يقصد الزوج الرجعةَ. وعن مالك (3) أن الوطء يكون رجعةً إذا قصد الزوج به الرجعةَ. فإذا تبين أن الرجعة لا تحصل إلا بلفظ أو إشارة من الأخرس قائمةٍ مقام اللفظ؛ فإن إشاراتِ الأخرس تقوم مقام ألفاظ الناطقين، فالكلام بعد ذلك في العبارات: فإذا قال الزوج: رددتك إليّ، فهذا صريح في الرجعة، وقد قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] ولو قال: "رددتك"، ولم يقل: "إليّ" فهل يكون ذلك صريحاً في الرجعة أم لا؟ ذكر الشيخ أبو علي والقاضي وغيرُهما وجهين. ولو قال: راجعتك، كفى ذلك من غير صلةٍ؛ فإن هذه اللفظة مُجراةٌ في الاستعمال من غير صلة، وسبب التردد في قوله: "رددتك" أن مُطلِقه من غير صلةٍ بقوله: "إليّ" قد يُفهم منه الرد الذي هو نقيض القبول، وهذا المعنى لا يتحقق في قوله: "راجعتك" وارتجعتك. ولو قال: رَجعْتُك، فهذا مما يستعمل لازماً ومتعدياً، تقول: رجعت رجوعاً ورجعتُ المالَ من زيد رجعاً، فإذا قال: رجعتك، فقد عدى إلى الضمير، وهو الكاف، فالوجه تنزيله منزلة قوله: ارتجعتك.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 88. (2) ر. مختصر الطحاوي: 192، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 388 مسألة 893، رؤوس المسائل: 422 مسألة 294، المبسوط: 6/ 19، اللباب: 3/ 54. (3) ر. الإشراف: 2/ 758 مسألة 1384، عيون المجالس: 3/ 1250 مسألة 873، القوانين الفقهية: 234، شرح زروق: 2/ 58.

ولو قال: أمسكتك، واقتصر على ذلك، ففيه وجهان: أحدهما - أنه صريح في الرجعة، وهذا القائل يتمسك بورود لفظ الإمساك في القرآن [دالاً] (1) على إرادة الرجعة. ومن أصحابنا من قال: ليس لفظ الإمساك صريحاً في الرجعة. ثم اختلف المفرّعون على هذا الوجه، فذهب الشيخ والقاضي إلى أن قوله: أمسكتك وإن لم يكن صريحاً في الرجعة، فهو كناية فيها، فإذا نوى الرجعة، صحت باللفظ والنية. وذكر العراقيون وجهاً آخر أن الإمساك لا يصلح للرجعة، وإن اقترنت النية بها (2)؛ لأن الإمساك معناه الاستدامة والاستصحاب، والرجعةُ ابتداء استحلال، فلا تحصل بما ليس فيه معنى الابتداء. فتحصّل من مجموع ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه في لفظ الإمساك: أحدها - أنه صريح في الرجعة. والثاني - أنه كناية مفتقرة إلى النية. والثالث - أنه غير صالح للرجعة مع النية أيضاًً. 9341 - ومما اختلف الأصحاب فيه الرجعةُ بلفظ النكاح والتزويج، فمن أصحابنا من قال: تحصل الرجعة به؛ فإن اللفظ إذا كان صالحاً لابتداء العقد، وإثبات الاستحقاق؛ فلأن يصلح لتدارك ما وقع من الخرم أولى. ومن أصحابنا من قال: لا تحصل الرجعة بلفظ التزويج والنكاح؛ فإن النكاح للابتداء وليس فيه إشعار بالتدارك. وهذا الخلاف قرّبه الأصحاب من الخلاف إذا قال المُكري: بعتك منافع هذه الدار سنة، ففي انعقاد الإجارة بلفظ البيع وجهان، ووجهُ التقريب أن البيع موضوع لتمليك الرقبة، والإجارةُ موضوعةٌ لاستحقاق المنفعة، فتباعد المقتضيان.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) بها: على معنى الكلمة أو اللفظة.

ثم إن حكمنا بأن الرجعة تصح بلفظ النكاح، فقد ذهب القاضي إلى أنه كناية في الرجعة ولا بد من النية. وقال قائلون: لا حاجة إلى النية، وهو من باب تحصيل الأضعف بالأقوى. وللأصحاب تردُّدٌ في هذه المسألة من وجه آخر: فمنهم من قال: لا يصلح لفظ النكاح للرجعة وإن نوى به الرجعة، ومنهم من قال: تحصل الرجعة مع النية، والخلاف في أن مُطلَقه هل يفيد الرجعة؟ فينتظم من مجموع ما ذكرناه أوجه: أحدها - أن لفظ النكاح والتزويج يُحصّل الرجعة من غير نية. والثاني - أنه لا يحصّلها مع النية. والثالث - أنه كناية لا يعمل بنفسه، فإن اقترن بالنية، نفذ. ووراء ما ذكرناه سرٌّ لا بد من التنبه له، وهو أنا سنذكر تردداً في أن الإشهاد هل يشترط على الرجعة، فإن [قلنا:] (1) لا يشترط الإشهاد، فلا يمتنع حصول الرجعة بالكناية، وإن قلنا: الإشهاد يشترط في صحة الرجعة، فعقْدُ الرجعة بالكناية بعيد؛ فإن الشهود لا يطلعون على النيات. وقد يخطر للمنتهي إلى هذا الموضع أن الزوج إذا تلفظ بكناية في الطلاق، ثم رددنا اليمين على المرأة، فإنا نسمع منها اليمين على أن الزوج نوى الطلاق، ومعتمدها في ذلك التعلّقُ بمخايلِ الزوج، فإذا جاز هذا في اليمين، فلتجز الشهادة. قلنا: لا يجوز تحمّلُ الشهادة بما يجوز الإقدامُ على اليمين به؛ فإنا قد نجوّز للرجل أن يحلف معتمداً [على] (2) خط أبيه إذا كان موثوقاً به عنده، وسنصف مجال الأيْمان والبصائر المرعيّة في تحمل الشهادات في كتاب الدعاوى والبيّنات، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة من المحقق، وهي عند ابن أبي عصرون.

وقد يجوز أن يقال: يشهد الشاهد على اللفظ، [ويبقى] (1) التنازعُ في النية، وهذا بمثابة قولنا: المقصود من الشهود إثبات النكاح عند فرض الجحود، ثم لا يشترط الشهادة على رضا المرأة، وهو عماد النكاح؛ فإن الرجل لو جحد، لم يبق النكاح مع جحوده، فإذا جحدت [المرأة] (2)، فالشهادة على عقد النكاح لا تغني شيئاً. والوجه ما قدمناه من تنزيل الأمر في الصريح والكناية على الإشهاد. 9342 - ومن أسرار هذا الفصل أن العراقيين صاروا إلى أن ألفاظ الرجعة محصورة شرعاً في (الرجعة) (والارتجاع) (والمراجعة) (والرد). وفي (الإمساك) (والنكاح) الخلافُ المقدم. وقول الشيخ أبي علي دالٌّ على أن ألفاظ الرجعة لا تنحصر تعبداً، بخلاف النكاح، حتى [لو] (3) قال الزوج: رفعتُ الحرمة بيننا، أو ما جرى هذا المجرى، كان صريحاًً، وسبب الاختلاف في الإمساك ما فيه من التردد، وسبب الخلاف في النكاح مشابهتُه البيعَ بالإضافة إلى الإجارة. والعراقيون قالوا: سببُ الخلاف في الإمساك تردُّدُ المفسرين في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة:231] على ما قدمناه في صدر الكتاب، وسبب الخلاف في لفظ النكاح إقامةُ الأقوى مقام الأدنى. وهذا المسلك قد يجري في مجال الحصر والتقيُّد. والمسألة محتملة؛ فإن الرجعة نازلة منزلة جَلْبٍ في البضع بلفظٍ، فكان قريبَ الشبه بالنكاح في هذا المعنى، وإذا اختلف الأصحاب في انحصار صرائح الطلاق، وأنها مبنية على التعبد، وهي على التحقيق إزالة، فهذا في لفظ الرجعة أمكن وأوجه. 9343 - ومما ذكره الشيخ أبو علي أن الرجل إذا قال للرجعيّة: راجعتك للمحبة أو

_ (1) في الأصل: وينفي. (2) في الأصل: كلمة غير مقروءة. (3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

للإهانة، أو بالمحبة، أو بالإهانة، فإن قال: قصدت بذلك الرجعةَ الحقيقيةَ، وعلّلتها بالمحبة أو بالإهانة، فيقبلُ منه، وتثبت الرجعة. وإن قال: أردت بذلك أني راجعتك في المحبة، ولكن لم أرْدُدك إلى استمرار النكاح، فلا تصح الرجعة. وإن أطلق لفظَه في ذلك، ولم ينوِ شيئاً، فقد قال الشيخ: مُطلَقُه يقتضي الرجعةَ، وهذا ما رأيته للمشايخ، وفيه احتمال على بُعدٍ، وإجراؤه على ما ذكر الشيخ هو المتجه، وهو من الأقطاب والأصول؛ فإن قول القائل: "راجعتك" لو فرض الاقتصار عليه، فهو صريح، وفي الصلة الآتية بعده تردّد، فيؤثِّرُ هذا في قبول النية منه في وجهي التردد. وإذا فرض الإطلاقُ، بطلت الصلة، وبقيت اللفظة لو (1) قدّرت مفردة، فينتظم منه قبول التبيين، والمصيُر عند الإطلاق إلى إعمال اللفظ وإلغاء الصلة، ووجه تطرّق الاحتمال أن قائلاً لو قال: كون اللفظ صريحاً يجرّده، وهذا ضعيف؛ فإن المراجعة إذا كانت ملتحقة بالصرائح، فقول الرجل: لم أنو شيئاً يرجع إلى نفي القصد عن الصلة، فينزل هذا منزلة ما لو نطق العربيُّ بصريح الطلاق ووصله بأعجمية لا يفهمها. 9344 - ثم ذكر الشافعي أن الوطء لا يكون رجعة، وقد ذكرت مسلك هذه المسألة في (الأساليب) وأوضحت أن حقها أن تبنى على تحريم الوطء، فليتأمله طالبه في موضعه. ثم إذا لم يكن الوطء رجعةً، فهل يتعلّق به وجوب مهر المثل؟ نصُّ الشافعي دال على وجوب مهر المثل، وقد قال في غير موضع من كتبه: يجب على الزوج المهرُ: راجعها أو لم يراجعها؛ فلم يختلف أئمة المذهب في أنه لو لم يراجعها ويتركها حتى انسرحت بانقضاء العدة، فيلزمه مهرُ المثل. ولو راجعها، فظاهر النص أنه يلزمه مهر المثل، وخرّج الأصحاب فيه قولاً أنه لا يجب، وهذا مشكل في التعليل جداً. وأصدق آية على أن الطلاق يتضمن زوال الملك هذا الذي ذكرناه؛ فإنها لو كانت

_ (1) جواب (لو) مفهوم من السياق كما هو واضح.

على حقيقة الزوجية، لاستحال أن يلتزم الزوج بوطئها مهراً وقد غَرِم مهرَ النكاح، فلما نص الشافعي على وجوب المهر، أشعر هذا بكونها غيرَ مُستَحَقةٍ بالنكاح. والتحقيق فيه أنا إذا قلنا: زال الملك بالطلاق، فقد ملكت المرأة نفسها، ولكن للزوج عليها سُلطان الرّد، فإذا لم نجعل الوطء رداً، فقد [وقع] (1) الوطء، وهي غير مملوكة للزوج. نعم، لو كنا نجعل الوطء رجعة، لكان الوطء من الزوج بمثابة وطء البائع الجاريةَ المبيعةَ في زمان الخيار، فالوطء فيه فسخ، فلا جرم لا يلتزم المهرَ بما هو فاسخ به، فإذا لم نجعل الزوج مرتجعاً، جعلنا وطأه إياها بمثابة ما لو وُطئت بشبهة، فيكون المهر لها لا محالة. وقد يلتفت الفطن فيما ذكرناه على تفريعنا على قولنا: إن الملك في زمان الخيار للمشتري، فلو وُطئت الجارية ثم لم يتفق فسخ العقد، فالمهر للمشتري، هذا مسلك الكلام. ولكن تفريعه على أن الرجعية ليست بزوجة، ولا خروج له إلا على ذلك. ولو تكلف متكلف، فقال: منافع بضع المرأة على حكمها (2)، والدليل عليه أن الزوجة لو وطئت بشبهة في صلب النكاح، فالمهر لها، فإذا انعزلت عن زوجها في الاعتداد، ثم وطئها الزوج -وحُكم الانعزال مستمر عليها- فقد أتلف منفعةً هي بحكمها. وهذا تلبيسٌ؛ فإن الزوج لو كان مستحق المنفعة، لكان بالوطء مستوفياً منفعةً هو مستحقها. 9345 - ثم ذكر أصحابنا تصرفاً على النص فقالوا: قال الشافعي في الرجعية: إذا وطئها الزوج يلزمه المهر، راجعها، أو لم يراجعها. وقال: إذا ارتدت المرأة، فوطئها الزوج وكانت مدخولاً بها، فعادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، لم يلتزم مهرها، ولو أصرت على الردة حتى انقضت العدة، التزم مهرها؛ فقال الأئمة: أما

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة. وعبّر عن هذا المعنى ابنُ أبي عصرون بقوله: "فإذا لم نجعل الوطء ردّاً، فقد وطىء غيرَ مملوكةٍ له.". (2) على حكمها: أي على حكم ملكها، فمع أن المرأة في زوجية صحيحة قائمة، فإن منافع البضع ملكٌ لها. هذا هو التكلف المشار إليه. (هذا تفسير ابن أبي عصرون للعبارة).

إذا أصرت على الردة حتى انقضت العدة، فلا شك في لزوم المهر؛ فإن الوطء صادف البينونة. وهذا لا يدرج في خيال الخلاف وإمكانه. فأما إذا عادت إلى الإسلام، فمن أصحابنا من قال: ننقل جواب الرجعية إلى المرتدة، وجواب المرتدة إلى الرجعية، ونقول: في المسألتين قولان نقلاً وتخريجاً. وهذا كلام مختلط لا ثبات له: أما المرتدة إذا عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، فقد تبينا بالأخرة أن الزوج وطئها، ولا انخرام في النكاح؛ فإن الأمرَ كان على التوقف، فإذا بان من الموقوف أحدُ طرفيه، التحق الحكم فيه بما لو كان مستحقاً في ابتداء الأمر، فلا وجه لذكر الخلاف هاهنا. وأما وجوب المهر في الرجعية، فلا وجه إلا ما ذكرناه من اعتقاد زوال الملك على التدريج المقدّم. 9346 - ثم يحيك في الصدر التوريثُ من الجانبين، وأقصى الإمكان فيه أن يقال: لا يختص التوريث بحقيقة الزوجية، وكيف يختص بهذا والموت يُنهي النكاح، [فوقع] (1) الاكتفاء بعُلقة فيها سلطنةُ الزوج، سواء كانت صلبَ النكاح أو تابعةً (2) تستدعي قهر الزوج، فإذا ماتت تحت قهره، أو مات عنها وهي مقهورة، فالتوريث ثابت. هذا أقصى الإمكان. وليت شعري ماذا نقول إذا قال الرجل: زوجاتي طوالق؟ فالرجعيات هل يندرجن تحت مطلق هذا اللفظ؟ كان شيخي يقطع بأنهن يدخلن، والوجه عندي تخريج هذا على تردد الأصحاب في أن الرجعية زوجة أم لا؟ وهذا أهون مُحتمَلاً من الأحكام المتناقضة التي ذكرناها. وقد اختلف القول في أن من قال: عبيدي أحرار، فهل يدخل المكاتَبون تحت هذا اللفظ، أم لا؟ وقد يعترض للفقيه أن الكتابة تُوقِع حيلولةً لازمة بين المَوْلى وبين

_ (1) في الأصل: فموقع. (2) المعنى أنه يكتفى في التوريث بعُلقة فيها سلطنة الزوج، سواء كانت هذه السلطنة هي صلبَ النكاح، أو كانت من توابعه كحق الرجعة.

العبد، بخلاف الطلاق الرجعي، فإن الأمر في الطلاق وتدارك حرمته إلى الزوج، والمسألة على الجملة محتَمَلة. 9347 - ومما يتصل بالقول في تحريم الرجعية أن الزوج إذا اشترى زوجته الأمة، نُظر: فإن اشتراها في صلب النكاح، فقد اختلف أصحابنا في أنها هل تحل له من غير استبراء، فقال قائلون: لا بد من الاستبراء، لأنه استحدث ملكاً عليها، ومن القواعد الممهدة أن من ملك جارية لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها. ومن أصحابنا من قال: له أن يستحلّها من غير استبراء، بخلاف ما إذا اشترى جارية ليست منكوحتَه؛ فإن من ملك جارية، فإنها [إذا] (1) لم تكن مستحَلَّةً له من قبل، فإذا كان الملك المتجدد مترتباً على حظرٍ سابقٍ، فلا يمتنع إيجاب الاستبراء، وإذا اشترى منكوحته، فإنما نقلها من سبب حلٍّ إلى سبب حلٍّ، فلا معنى لتخلل الاستبراء بينهما. ولو طلق زوجته الأمة طلاقاً رجعياً، ثم اشتراها في العدة، فقد قال الأصحاب: لا يحل له وطؤها حتى تنقضي بقيةُ العدة بعد الشراء، أو ينقضي الاستبراء، كما سنوضحه في التفريع، والسبب فيه أنه نقلها من حرمةٍ إلى الملك، وليس كما إذا اشترى زوجته، فإنه نقلها من حلٍّ إلى حل. فإن قيل: أليس لو ارتجعها، استحل وطأها وكانت محرمة عليه؟ فاجعلوا طريان ملك اليمين بمثابة طريان الرجعة؟ قلنا: ملك اليمين يضادّ النكاح، ويتضمّن قطعَه وفسخَه، والرجعة تردّها إلى ماكانت عليه من قبلُ، فإذا اختلف ملك اليمين والنكاح، لم يكن أحدُهما مستدركاً لما وقع في الثاني من خلل. فيجب إذاً أن نقول: من اشترى جاريةً وكانت محرمةً عليه من قبلُ، فلا يحل له ابتدارُ وطئها والتسارع إلى غشيانها من غير جريان ما هو استبراء. 9348 - ثم إن كان بقي من العدة مقدار قليل والاستبراء يزيد عليه، أو كان الباقي أكثرَ من الاستبراء، فقد قال معظم الأصحاب: يُكتفى بأقلِّ الأمرين، وقال آخرون:

_ (1) زيادة من المحقق.

لا بد من الاستبراء الكامل، وهذا قياس؛ فإنا لو نظرنا إلى ما سبق، لقلنا: إنها تحل؛ فإن عدتها تؤثر في تحريمها على الغير، وليست المعتدة عن الرجل محرمةً عليه للعدة، ولكن التحليل يستدعي شيئاً من رجعة أو نكاحٍ مجدد، وقد جرى سبب التحليل وهو الملك، فلو كنا ببقية العدة وبقية العدة ليست استبراء، لكانت العدة مؤثرة في تحليلها له. وهذا غير سديد. فانتظم ما ذكرناه أن بقية العدة إن كانت لا تزيد على الاستبراء، أو كانت تزيد، فالاستبراء كافٍ. وإن كانت بقية العدة أقلَّ من الاستبراء، ففي المسألة وجهان. وفي الكلام نوع من الاختلاط؛ فإن الاستبراء بالحيض، والعدةُ بالأطهار، فكيف يترتب استواء البقية ومدة الاستبراء، فلا وجه إذاً لتصوير الاستواء، فإجراؤه في الكلام مجاز، والحيضة الكاملة لا تقع في العدة إلا وبعدها طهر يتبين انقضاؤه بالطعن في الحيضة الأخرى، فإذا كان كذلك، فيقع الاكتفاء بالحيضة، وإن بقي من العدة بقية طهر، فمن أصحابنا من يكتفي بها، ومنهم من يشترط حيضاًً. وإن فرعنا على وجهٍ بعيد في أن الاستبراء بالطهر كالعدة، فينتظم على هذا الوجه البعيد تصوير الاستواء، ولكن إذا كان بقي من الطهر بقية، فهذه البقية استبراء كامل على هذا الوجه البعيد. وما يتعلق بالاستبراء من هذا الفصل، فسيأتي استقصاء القول فيه في كتاب الاستبراء. 9349 - ولو طلق زوجته ثلاثاًً وكانت مملوكة، فلو اشتراها، فالمذهب أنه لا يستحل وطأها ما لم تنكِح زوجاً على شرط التحليل؛ فإن الطلقات الثلاث تُثبت حرمةً ممدودةً إلى وطء المحلل، والتخلِّي منه. ومن أصحابنا من قال: يحل له وطء المطلقِة ثلاثاًً بملك اليمين، وهذا غريب، ووجهه على بعده أن الطلقات الثلاث خاصّيتها تحريمُ عقد النكاح، وهو لم ينكحها، وإنما ملكها، فلو عَتَقت، فأراد أن ينكحها، لم ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره.

ولا ينبغي أن يُخطر الفقيهُ بباله أنا إذا فرّعنا على هذا الوجه الضعيف، فكأنا أسقطنا حكم الطلقات بالملك، فإذا زال الملك، كان له أن ينكحها؛ فإن هذا مصير إلى إقامة الملك مقام التحليل، وهذا لا يجوز، فالوجه ما قدمناه. فصل قال: "ولو أشهد على رجعته ... إلى آخره" (1) 9350 - الإشهاد على الرجعة مأمور به، والأصل فيه قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] والمنصوص عليه في الجديد، أنه لا يجب الإشهاد، ولكن يستحب، وسبب استحبابه مقابلة ما يتوقع من الجحود بشهادة الشهود، وقد ندب الله تعالى إلى الإشهاد على المداينات، ونصّ الشافعي في القديم على وجوب الإشهاد، وبه قال مالك (2). توجيه القولين: من لم يوجب الإشهاد احتج بأن الرجعة في حكم استدامةٍ واستمرارٍ على النكاح السابق، ولذلك لم تفتقر إلى الرضا والولي، ولا يتصور أن يثبت [بسببها] (3) مهر، وإن سُمِّي (4)، فكان الإشهاد فيه مستحباً غيرَ مستحَق. ومن نصر القول القديم، احتج بظاهر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، ومالك رأى الإشهاد في الرجعة ركنَ الرجعة، ولم يشترط الإشهادَ في النكاح، ولكن اشترط الإعلان بأي جهةٍ تتفق، والرجعةُ على الجملة مردّدة في ظن الأصحاب بين النكاح وابتداء العقد، وبين الاستدامة والاستصحاب، ولما كان الظاهر أن الإشهاد

_ (1) ر. المختصر: 4/ 89. (2) القول بالوجوب ليس هو المشهور في مذهب مالك، قال ابن جزي في القوانين (ص 234): "الإشهاد مستحب في مشهور المذهب. وقيل: واجب، خلافاً للشافعي". وقال ابن عبد البر في الكافي: "واجب وجوب سنة". وانظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 758 مسألة 1386، وعيون المجالس: 3/ 1251 مسألة 875. (3) في الأصل: بسببه. (4) وإن سمي: يعني وإن سمى الزوج مهراً لمراجعتها، فلا يثبت في ذمته، ولا يجب عليه.

لا يُشترط، خرّج القاضي عليه ما ذكره الأصحاب من أن المحرم يرتجع زوجته المطلّقة وإن كان لا ينكِح ابتداء. وذهب شرذمة من الأصحاب إلى أن المُحْرِم لا يصح منه الرجعة. قال القاضي: هذا الخلاف خارج على أن الإشهاد هل يشترط؟ فإن جعلنا الإشهاد شرطاً، فقد أحلَلْنا الرجعة محلَّ النكاح، فلا يمتنع أن لا تصح من المحرم، كما لا يصح منه ابتداء النكاح، وإن لم نشترط الإشهاد على الرجعة، فقد أحللناها محلّ الاستدامةَ. والإحرامُ لا ينافي استدامةَ النكاح. 9351 - ومما ذكره [تخريجاً] (1) على ذلك أن العبد إذا طلّق، فله المراجعةُ دون إذن السيد، قال القاضي: هذا إذا لم نشترط الإشهاد، فإن شرطنا الإشهاد على الرجعة، ونزَّلناها منزلةَ ابتداء النكاح، فلا يمتنع أن لا تصح الرجعةُ من العبد إلا بإذن السيد. وهذا الذي ذكره على نهاية البُعد؛ فإنا لا نوجب الإشهاد لكون الرجعة بمثابة عقد النكاح، ولا معتمدَ في اشتراط الإشهاد إلا التعلّق بنص القرآن، ومن طمع في توجيه هذا القول بمسلك من مسالك المعاني، فقد أبعد، ولو كان كما ظن، لتردد الرأي في اشتراط إذنها وفي اشتراط الولي، فلما حصل الوفاق على أنهما لا يُشترطان، تبين أن الرجعةَ ليست عقداً، ووجوب الإشهاد في القول القديم مربوط بظاهر القرآن، كما قدمنا الاستدلال به. وأما ما ذكره في فصل العبد، فمما لا أستجيز إلحاقَه بالمذهب، وهو قول مسبوق بإجماعٍ للأصحاب على خلافه. ولو كان يخرّج من قولِ وجوب الإشهاد قولٌ في أن العبد يحتاج إلى مراجعة سيده في الرجعة؛ من حيث شابهت الرجعةُ النكاحَ في اشتراط الإشهاد، لكان أقربُ تفريع على هذا أن يقال: لا تصح الرجعة ما لم ترضَ المرأة؛ فإن مدار النكاح على رضاها، فإذا لم يُشترط إذنُ المرأة، كان اشتراط إذن السيد بعيداً، بل الوجه القطع ببطلان ذلك.

_ (1) زيادة من المحقق.

9352 - ومما نذكره على الاتصال بهذا أن الرجعة لا تقبل التعليق بالأعذار والأخطار، ولا بالصفات التي ستأتي لا محالة، بل لا صحة لها إلا من جهة التنجيز كالنكاح، والبيع، وغيرهما من العقود، فلو قال لامرأته: مهما (1) طلقتك، فقد راجعتك، فإذا طلقها، لم تثبت الرجعة، لما بيّناه من امتناع تعليق الرجعة، ولو علق الطلاق بالرجعة، فقال لامرأته الجارية في عدة الرجعة: مهما راجعتك، فأنت طالق، فإذا راجعها، طلقت. وقد ذهب شرذمة من أصحابنا إلى أن تعليق الطلاق بالرجعة لاغٍ؛ فإن المقصود من الرجعة الإحلال، فلا يجوز تعليق نقيضه به، وهذا غير معتد [به] (2) ولولا أن القاضي حكاه، لما حكيته. 9353 - ثم ذكر الأصحاب نوعاً من الاختلاف متصلاً بفصل الإشهاد، وهو قريب المُدرك، فنذكره على ما ذكره الأصحاب، ثم نعقد فصلاً يجمع بيان أحكام اختلاف الزوجين في الرجعة، وانقضاء العدة، فنقول: إذا راجع امرأته وأشهد على ذلك، ثم إنها نكحت زوجاً، ولم تشعر بالرجعة، أو علمتها، ولم تبالِ بها، فنقول: إذا ادعى الزوج تقدم الرجعة على النكاح، فإن أقام بينةً تَبيَّن لنا أن النكاح مردود، والشافعي يُطلق في مثل هذا المقام الفسخَ، فيقول: "النكاح مفسوخ" ومراده بالمفسوخ المردود، كما ذكرناه. هذا إذا أقام الرجل بيّنة على الرجعة. فإن لم يكن له بيّنة -وقد نكحت المرأة زوجاً- فإذا ادّعى المطلِّق الأول الرجعةَ، نُظر: فإن أقرت المرأة بالرجعة، لم يُقبل إقرارُها؛ لأنها تُبطل به حقَّ الغير، وهو حق الزوج الثاني، وإن أنكرت، فهل تحلّف؟ هذا مما تمهد في كتاب النكاح، والقدرُ [المغني] (3) في نظم الكلام أنها لو أقرت بعد ما نكحت، فإقرارها مردود، ولكنها

_ (1) "مهما" بمعنى: (إذا) وكذا في الجملة التالية. (2) مزيدة لاستقامة العبارة. (3) في الأصل: المعني.

هل تغرَم للمطلِّق الذي ادعى الرجعةَ المهرَ، فعلى قولين، تمهّد أصلُهما، ووضح فرعهما في كتاب النكاح، فقال الأئمة: عرض اليمين عليها إذا أنكرت يخرِّج على القولين في أنها لو أقرت هل تغرَم للمقر له [المهرَ] (1) فإن قلنا: إنها تغرم، فاليمين معروضة عليها فعساها تُقرّ أو تنكُل عن اليمين إذا عُرضت عليها، فيحلف المدير يمين الرد، ويغرّمُها. وإن قلنا: إنها لا تغرَم، فلا فائدة في عرض اليمين. ثم إن عرضنا اليمين، فجحدت ونكلت، وحلف الرجل يمين الرد، فالمذهب أن النكاح لا يُردُّ في حق الثاني. وأبعد بعض أصحابنا، فقال: إذا حكمنا بأن يمين الرد بمثابة البينة المقامة، فالنكاح يبطل، وترتد هذه إلى النكاح الأوّل. وقد ذكرت هذا الوجهَ وزيفته في النكاح، وبنيت عليه أنا إذا كنا نرى ردّ النكاح، فلا يتوقف عرضُ اليمين على مصيرنا إلى أنها تغرَم لو أقرت، بل نعرض اليمين ونحن نتوقع ارتداد النكاح الجديد، وهذا بعيدٌ لا تعويل عليه. ولا أثر عندنا لدخول الزوج الثاني بها خلافاً لمالك (2). وهذا مما قدمته أيضاً في كتاب النكاح. 9354 - ولو أراد من يدّعي الرّجعة أن يوجه الدعوى على الزوج، فالمذهب أنه لا يجد إلى ذلك سبيلاً؛ لأنّه لا يد للزوج [إلا] (3) على زوجته، فليدّع على الزوجة لا غير. وذكر العراقيون وجهاً أنه لو أراد أن يدعي على الزوج، جاز لاستيلائه حكماً عليها، وهذا له غَوْرٌ وغائلةٌ، وسنستقصي أسراره في كتاب الدعاوى، فليس هذا من خواصِّ كتاب الرجعة. 9355 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن العدة إذا انقضت في ظاهر الحال، وادّعى

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ر. الإشراف: 2/ 759 مسألة: 1387. (3) زيادة اقتضاها السياق.

الزوج أنه كان راجعها من قبلُ، فأنكرت المرأة الرّجعةَ -واقتضى ترتيب المذهب تصديقها مع يمينها، كما سنفصل صور اختلاف الزّوجين على أثر هذا، إن شاء الله تعالى- فلو أنها بعد ما أنكرت الرّجعة وصدقناها، عادت فأقرت بجريان الرجعةِ - وما كانت نكحت؛ حتى يؤدي إقرارُها إلى إبطال حق الزوج الثاني- فقد قال العلماء: إقرارها مقبول، وإن سبق منها إنكارٌ، وهذا قد يعترض فيه إشكال؛ من جهة أن قولها الأول، اقتضى تحريمها على ذلك المطلّق، وإذا سبق منها قول يدل على تحريمها، فقبول نقيض ذلك القول مشكلٌ. وقد قال الأصحاب: إذا قالت المرأة: أنا أخت فلان من الرضاع أو النسب، ثم أنكرت ذلك، وكذّبت نفسها فيما سبق منها، فلا يُقبل قولُها الثاني، وقد سبق منها الاعتراف بما يوجب الحرمة، وهذا من مواقف الاستفراق (1)؛ فقال الأصحاب: حرمة الرضاع مؤبّدةٌ مؤكّدة، بخلاف حرمة البينونة بانقضاء العدة. وهذا لا يَشفي مع ثبوت الحرمة في الموضعين، والاستفراق في أصل الحرمتين. وقال قائلون: الفرق أن الرضاع يتعلق [بها] (2) وهي أحد الركنين فيه؛ فإقرارها به يكون على ثبتِ وتحقّقٍ، فلا يَقبل الرجوعَ، والرجعةُ تثبت وهي لا تشعر، فلا يمتنع أن تنكرها، ثمّ تذكّرَها (3) وتعترفَ بها. وهذا غير شافٍ أيضاًَ؛ فإن الرضاع يجري في الحولين، والمرتضِع لا يشعر به في الغالب، وإن شعر به في الحال نسيه، وذَهِلَ (4) عنه في المآل، فلا خير في هذا الفرق. فالوجه إذاً أن نقول: اعترافها بأخوّة الرضاع والنسب مستندٌ إلى ثبوت، فلم يقبل الرجوع فيه قياساً على الأقارير كلها، وجحدُها الرجعة -وإن صُدّقت- يستند إلى نفي ذلك، ولذلك لا تحلف على البتّ، بل تحلف على نفي العلم، ولا امتناع في أن تقول: لا أعلم، ثم تعلم.

_ (1) أي طلب الفرقة بإثبات الحرمة. (2) ساقطة من الأصل. (3) "تذكر" بحذف تاء المضارعة. (4) ذهل: بفتح العين وكسرها. (المعجم).

ولو ادعت المرأة على الزوج أنه طلقها، فأنكر، ونكل عن اليمين، وحلفت المرأة، ثم كذَّبت نفسها، فلا معوّلَ على تكذيبها بعد ما ادّعت الطلاق، وإن كان كذبُها ممكناً، ولا يمتنع صدقُها في القول الثاني (1)، ولكن إذا استند قولها إلى إثباتٍ، لم يقبل رجوعها. ولو نكحت المرأة، فقالت: لم أرض -وكانت على صفةٍ يفتقر النكاح إلى رضاها - فإنا نصدقها مع يمينها، فلو قالت: تذكّرت أنّي رضيت، فهذا محتمل عندي، وإن كان نفياً؛ فإنه نفيٌ تتعلق اليمين الباتّة به، فيتجه ألا نصدقها، ويظهر أيضاًً أن نصدّقها. 9356 - ويترتب مما ذكرناه ثلاث مراتب: إحداها - أن يتعلق الاعتراف بإثباتٍ، فلا يُقبل الرجوع عنه، إذا كان يتعلق بحق الغير، كحق الله في الطلاق. وما يتعلق بنفي فعل الغير، فالرجوع عنه لا يَمتنع قبولُه إلا في حكمٍ واحد، وهو أن يتضمن قولُه الأول سقوطَ حقه: مثل أن يقول: "ما أتلف فلانٌ مالي" فإذا عاد وادعى الإتلاف. على مناقضة ذلك القول، لم يقبل منه؛ فإنه بنفي الفعل اعترف بانتفاء استحقاقه. وإذا تعلق الاعتراف، أو القول الذي ليس اعترافاً بنفيٍ يتعلق بالنافي، كقول المرأة: لم أرض مع قولها من بعدُ: قد تذكرت أني كنت رضيت، فهذا فيه احتمال. ولست أخوض في فصلٍ يتعلق بالتنازع إلاّ وأنا أستشعر منه وَجَلاً [لعلمي] (2) بأنه لا يمكن الانتهاء إلى استقصاء أطرافه، وهو محالٌ على الدعاوى والبينات، وسنأتي فيها بالعجائب والآيات -إن شاء الله- وعندها تنكشف أسرار الخصومات.

_ (1) في القول الثاني: أي في المسألة قولان، الثاني منهما: "لا يمتنع صدقها" وليس المعنى: لا يمتنع صدقها في عبارتها الثانية، وهذا واضحٌ تماماً في عبارة ابن أبي عصرون. (2) في الأصل: لعلى.

فصل قال: "ولو قال: راجعتك قبل انقضاء العدة ... إلى آخره" (1). 9357 - من أهم ما يجب الاعتناء به، وقد كثر تَرْدادُه في الكتب وتردُّدُ الاستشهاد به، والطرق مضطربة فيه غاية الاضطراب - القولُ في اختلاف الزوج والمرأة في الرجعة وانقضاء العدة، ورَأْيُنا في أمثال هذه الفصول، أن نأتي بجميع المنقول، على ما فيه من الاختلاف، ثم ننعطف عليه بالتنقيح والتصحيح، وهذا الفصل لا يحتمل هذا المسلك؛ فإن القول فيه يتكرر وينتشر، فالوجه أن نأتيَ بمضمون الفصل منقحاً [على] (2) ما ينبغي، ونجمعَ اختلافَ الطرق، بعد تقرير البحث في النفس، وتعرية الكتاب عن طرق المطالب، فنقول: 9358 - الكلام في هذا المقصود يتعلق بثلاثة فصول: أحدها - فيه إذا جرت الرجعة، وذكرت المرأة انقضاء العدة، وحصل الوفاق على الأمرين، ورجع النزاع إلى التقديم والتأخير، هذا فصلٌ، فنشتغل بما فيه، ثم نذكر بعده الفصلين، فنقول: إذا توافق الزوجان على انقضاء العدة، وجريان لفظ الرجعة، وتنازعا في التقدم والتأخر، فالقول في ذلك يتعلق بمسائلَ: إحداها - أن يتفقا على وقت انقضاء العدّة ويختلفا في وقت الرّجعة: نحو أن يتفقا على أن العدة انقضت يوم الجمعة غيرَ أن الزوج زعم أنه ارتجع يوم الخميس المتقدّم على الجمعة، وزعمت المرأة أن الرجعة جرت يوم السبت. قال المراوزة الآخذون عن القفال: شيخي، والقاضي، والشيخُ أبو علي، ومن صنف في طريقته: القولُ قول المرأة؛ واعتلّوا بأن انقضاء العدة متفق عليه، محكومٌ به، والزوج يدّعي رجعةً قبل الوقت المتفق عليه، والمرأة تنكر ذلك، والأصل عدم

_ (1) ر. المختصر: 4/ 90. (3) زيادة اقتضاها السياق.

الرجعة، والمرأة مؤتمنة في انقضاء العدّة، وقد أجرى الزوج الرجعة في وقتٍ مضى زمنُ العدّة قبله، والعدةُ أوانُ الرجعة، ومضطرب (1) سلطان الزوج، فيتنزّل هذا منزلة ما لو وَكَّل رجل رجلاً ببيع مالٍ، ثم إنه عزله على رؤوس الأشهاد، فادعى الوكيل أني كنت بعت المتاع قبل العزل، فلا يقبل قول الوكيل، كما لا يقبل قول الولي بعد زوال الولاية في تصرفٍ يُقرّ به مستنداً إلى حالة الولاية، كما لا يُقبل قول القاضي بعد الانعزال، بأني كنت حكمت لفلان بكذا، فكذلك إذا ادعى الزوج الرّجعة، فالسّبيل فيه ما ذكرناه. 9359 - وذكر صاحب التقريب والعراقيون في هذه الصورة وجهاً آخر مضاداً لما ذكرناه عن المراوزة، وذلك أنّهم قالوا: إذا كان الوقت الزماني في العدة متفقاً عليه، فالقول قول الزوج في ادعاء الرجعة قبل ذلك. ووجه هذا: أن المرأة، إنما تُصدّقُ في إخبارها عن طهر وحيض، وقد صُدّقت، فانتهى قولها، وبقي وراء ذلك ادعاء الزوج رجعةً يوم الخميس المتقدم على الجمعة المتفق عليها، الزوجُ يدعيها، ولو صُدِّق فيها، لما انقضت العدة، بل كانت تنقلب إلى صلب النكاح، وصدْقُ الزوج ممكن فيها، والزوجُ أعرف بالرجعة منها؛ إذ لا يشترط في الرجعة مخاطبتها، أو إعلامها، فنفيها الرجعةَ بعيد عن القبول. وهذا يعتضد بمسألة اتفق الأصحاب عليها، وهي أن الزوج لو أقر بالعنّة، لمّا رَفَعت المرأةُ [الأمرَ] (2) إلى القاضي، [واقتضى] (3) ترتيب القضاء تأجيلَه سنة، فإذا انقضت، وادّعى الزوج أنه وطئها، وأنكرت المرأة الوطء، فالأصل عدم الوطء، وقد اعتضد ذلك بإقرار الزوج بالعجز والعنة، ثم جعلنا القولَ قولَ الزوج مع يمينه؛ تشوفاً إلى استبقاء [الزواج] (4)، [فليكن] (5) الأمر كذلك في الرجعة.

_ (1) أي مجالُ سلطان الزوج. (2) زيادة لاستقامة الكلام. (3) في الأصل: وانقضي. (4) في الأصل: الزوج. (5) في الأصل: ولكن.

[وهنا] (1) مزيد ترجيح، وهو أنها في الغالب تشعر بالوطء، وقد لا تشعر بالرجعة. فإن أُلزم هذا القائلُ ادعاءَ الوكيل البيع بعد جريان العزل مع إسناده البيع إلى ما قبل العزل، فسبيل الجواب: أنا إنما نصدّق الوكيل في البيع؛ من جهة أنه قادر على إنشاء البيع، ومن الأصول الممهّدة أن من قدر على إنشاء شيء، فخبره عنه مقبول، هذا هو الذي يوجب تصديقَ الوكيل لا غيرُ، وإلا فلا يتحقق في الموكَّل بالبيع ما يتحقق في المودَع، والدليل عليه أن المودَع لو ادعى ردَّ الوديعة على غير المودِع بأمر المودِع، فقد لا يصدق، وبيع الوكيل يتعلق بثالث، فاستبان أنه ليس على قانون الودائع والأمانات، فإذا انقطع سلطانه ظاهراً، استحال قبول قوله، وأما جانب الزّوج؛ فإنه يعتضد بما جعلناه عُهدة الكلام من استبقاء النكاح والاستشهاد بالوطء. وقد ينقدح لصاحب الوجه الآخر أن يقول: الطلاق قاطع للنكاح، والزوج يدعي استدراكاً، وفسخ المرأة بالعنة إنشاء قطع، فيتجه ثَمَّ الاستبقاء؛ فإن النكاح بعيد عن الفسخ، وهاهنا انثلم النكاح بالطلاق، وإن كان الزوج على [سلطنته] (2) في التدارك، فهذا سرّ التوجيه. 9360 - وذكر صاحب التقريب في هذه الصورة وجهاً ثالثاً، لا يكاد يفهم إلا بتقديم المعنى الذي يُنتجه، فنقول: تصديق الزوج في الرجعة أصلٌ على قياس الاستبقاء، وتصديقُ المرأة في انقضاء العدة أصلٌ، فهما متقابلان، فمن سبق إلى دعواه، فالحكم له. فإن قال الزوج أولاً: قد راجعتك يوم الخميس، فقالت المرأة: انقضت عدتي يوم الجمعة، وما راجعتَ يوم الخميس، فالزوج هو المصدَّق مع اليمين؛ والسبب فيه أنّه أنشأ دعوى الرّجعة منتظماً مع تمادي العدة، فإذا ذكرت الانقضاءَ بعد هذا القول، قيل لها: وقع الحكم بالرجعة، ورؤيتُك الدمَ بعد هذا لا تكون انقضاء العدة، وإنما هو

_ (1) في الأصل: وهذا. (2) في الأصل: على شك ظنه في التدارك. (وهذا من غرائب وعجائب التصحيف).

رؤية الحيض في صلب النكاح، [ولا بدّ] (1) مع هذا من تحليف الزوج. وإن سبقت المرأة وقالت: انقضت عدتي، وكان ذلك صحوة يوم الجمعة، فقال الزوج -بعد قولها-: قد راجعتك أمس، فالقول قول المرأة؛ فإنها لما ذكرت طَعْنَها في الحيض الرابع، فقد وقع الحكم بانقضاء العدة، فإذا أنشأ الزوج بعد هذا قولَه، لم يُقبل منه. وهذا الوجه ارتضاه صاحب التقريب، واختاره العراقيون. وفي الحالة الأخيرة سرٌّ ينبّه على الغرض: فإذا قلنا: المتبع قولها، فاليمين لا تسقط، فتحلف بالله لا تعلم أن الزوج راجعها أمس؛ فإنها بيمينها تنفي فعل الغير، والزوج إذا كان هو السابق المبتدر، فيحلف بالله أنه راجعها، فإنّ [يمينه] (2) تتضمن إثبات قوله. 9361 - فقد انتظمت ثلاثة أوجه في هذه الحالة: أحدها - تصديق الزوج كيف فرض الأمر. والثاني - تصديق المرأة مطلقاً. والثالث - النظر إلى من يبتدر، قال العراقيون: من ابتدر منهما، فالحكم لقوله بلا خلاف، وإن أنشآ قَوْلَيْهما معاً، فحينئذ وجهان: أحدهما - أن القول قول المرأة، وهو فيما حكَوْه اختيار أبي العباس (3) وأبي إسحاق. والوجه الثاني -ذكره صاحب التقريب وغيرُه- أن القول قول الزوج. التوجيه: من قال: القول قول المرأة إذا أنشآ قوليهما معاً، قال: المرأة مؤتمنة، وليست منشئةً أمراً، وإنما هي مخبرةٌ عما هي مصدّقة فيه، فلا اطلاع عليها إلاّ من جهتها، والزوج يدعي إنشاء رجعةٍ على اختيار منه، فكان أبعد عن التصديق. ومن قال: القول قول الزوج، احتج بأن قال: المرأة لا تخبر عن انقضاء العدة،

_ (1) في الأصل: فلا بد. (2) في الأصل: ييّنه. (3) أبو العباس: المراد هنا ابن سريج، كما سيصرّح به بعد قليل.

وإنما تخبر عن مَرِّ أطهارٍ وحِيَضٍ، والزوج يُخبر عما ملّكه الله من الرجعة، فكان قوله أوْلى بالقبول، وهذا إذا ضَمْمناه إلى ما تقدّم، انتظم من المجموع أوجهٌ، ونحن نرى إعادةَ جميعها: فمن أصحابنا من صدّق المرأة مطلقاً. ومنهم من صدق الرجلَ مطلقاً. ومنهم من قال: المصدّق منهما من يبتدر، ثم من يدعي الابتدار يُفرِّعُ، ويقول: إن صدر القولان منهما معاً، فوجهان. هذا مجموع ما ذكره الأصحاب في صورة تقدّم الرجعة على يوم الجمعة وتأخرها عنها. 9362 - فأما إذا وقع الوفاق على أن الرجعة وقعت يوم الجمعة، وقالت المرأة: انقضت عدتي يوم الخميس، وقال الزوج: بل انقضت يوم السبت، فهذه الصّورة (1) تجري فيها الوجوه المقدمة، ولا نتبرم بإعادتها لمزيدٍ فيها. قال المراوزة القول قول الزوج؛ لأن الرجعة وقع الوفاق على جريانها، والمرأة ادعت انقضاء العدة والأصل بقاؤها. وقال صاحب التقريب والعراقيون: القول قول المرأة؛ فإنها تقول: ما يقوله الزوج صورةً ولفظاً [اتفقنا] (2) عليه، فانتهى قول الزّوج نهايته، وأنا ادعيت انقضاء العدة قبل هذا الوقت، فلزم تصديقي. ومن أصحابنا من فَصَل بين أن تبتدر وتقولَ، أو يسبق الزوج فيقولَ، كما مضى، ثم التفريع على وجه الابتدار يجري على النسق المقدم. والذي نَزيده في هذه الصورة أن قول الزوج: "قد راجعتك أمس" مع الوفاق على وقت انتهاء صور الأقراء، ادّعاءُ رجعةٍ فيما سبق، بعد ظهور انقطاع سلطانه بالوفاق

_ (1) هذه هي المسألة الثانية من مسائل هذا الفصل. (2) في الأصل: اتفقا.

على وقت انقضاء مدة العدة، فكان ذلك شبيهاً بدعوى الوكيل بعد العزل، أما إذا وقع الوفاق على لفظ الرجعة، ووقتِه، فقول المرأة: "قد كانت عدتي منقضيةً قبلُ"، ليس إنشاءَ أمرٍ منها ولا إخباراً بإنشاء أمرٍ فيما سبق، بل أخبرت عما رأت قبلُ، وهي مؤتمنة فيما تُخبر عنه؛ إذ لا مطّلع عليه إلا من جهتها، وهذا المعنى الموجب لتصديقها يستوي فيه الصور كلُّها، وهذا حسن بالغ، ومقتضاه أن [نغلّب] (1) َ في الصورة الأولى تصديقَها كما مضى، ونغلبَ في هذه الصورة تصديقَها، وهذا بعينه هو الوجه الذي حكاه العراقيون عن أبي العباس بن سريج، وأي إسحاق، وما ذكرناه تنبيهٌ على وجه التوجيه فيه. وقد نجزت مسألتان في هذا الفصل. 9363 - المسألة الثالثة: ألا يقع التعرض لوقت الرّجعة، ولا لوقت انقضاء العدة، ولكن يقول الزوج: راجعتك قبل انقضاء العدة، وتقول المرأة: بل انقضت عدتي قبل الرّجعة. كان شيخي فيما سمعتُه، وبلّغنيه عنه بعضُ الأثبات يذكر وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أن القول قول الزوج؛ تغليباً لاستبقاء النكاح. والثاني - أن القول قول المرأة؛ تغليباً لائتمانها وتصديقها فيما لا مطّلَع عليه إلا من جهتها، بخلاف الرّجعة؛ فإنه يُتصور الإشهاد عليها والإشعار بها. قال ابن سريج: إذا تعارض أصلان، فالتحريم أغلب، وظهر هاهنا اعتبار المبادرة إلى الدعوى، فمن سبق، فهو المصدّق، ومن [لا] (2) يعتبر المسابقة يفرض صدور اللفظين معاً، ويذكر الوجهين، كما قدّمنا. وفي فصل المسابقة والتفريع عليه مزيد شرح لا يتأتى ذكره هاهنا، فإن اختلج في نفس الطالب شيء، فصبراً حتى ينتهي إليه. وقد نجز فصلٌ واحد من الفصول الثلاثة الموعودة.

_ (1) في الأصل: نغلبه. (2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.

الفصل الثاني 9364 - فيه إذا وقع الوفاق على الوقت الذي قالت المرأة فيه: "انقضت عدّتي"، فقال الزوج: "قد راجعتك قبل هذا"، وأنكرت المرأة قوله، وما اعترفت بارتجاعه أصلاً، والفصل الأول فيه إذا اعترفت بارتجاعه، وأنكرت التقدم على وقت انقضاء العدة، فأصل لفظه متفق عليه، والخلاف في وقته، وهاهنا أصل الارتجاع قد أنكرته المرأة. قال صاحب التقريب: هاهنا القول قول المرأة بلا خلاف، من غير تفصيل. وهذا عندي خطأ صريح؛ فإنها إذا اعترفت برجعةٍ بعد العدّة، فذلك الاعتراف لا حكم له؛ فإنها ما أقرّت برجعةٍ، وإنما أقرت بالتلفظ بصيغة الرجعة، وقال الزوج: لو أتيتُ بلفظ الرجعة في الوقت الذي اعترفت المرأة به، لكان لغواً غيرَ مفيدٍ، فإذاً التنازع يؤول إلى ما ادّعاه الزوج من الرجعة يومَ الخميس. هذا مثار الخلاف، والاعتراف بقوله يوم السبت باطل، فتعود المسائل الثلاث في ذلك بما أجرينا فيها من الأوجه. ولا ينبغي للفقيه أن يتمادى فيه. الفصل الثالث في تنازع الزوجين والعدة باقية 9365 - فإذا قال الزوج: راجعتك أمس، وقالت المرأة ما راجعتني أصلاً، والعدّة باقية، وربما يجري هذا في صدر العدّة. قال صاحب التقريب: المذهب أن القول قول الزوج؛ فإنه ادعى الرّجعةَ في وقت لو أراد إنشاءَ الرجعةِ فيه، لأمكنه، فقوي جانبه بذلك، وقُبل قوله فيه. وحكى وجهاً غريباً أن القول قولُ المرأة في نفي الرجعة فيما سبق؛ فإن الأصل عدم الرجعة، وبقاءُ أثر الطلاق؛ فإن أراد الزوج تحقيق ما قال، فليبتدىء ارتجاعاً. وهذا بعيد جداً، ويلزم على قياس ذلك أن يقال: إذا وكل وكيلاً ببيع شيء من ماله، فقال الوكيل: قد بعته، وأنكر الموكِّل بيعَه، ولم يعزله عن الوكالة، فالقول

قول الوكيل؛ لأنّه ادّعى البيع في وقتٍ لو أنشأه، لنفذ منه، فإنْ طَردَ الخلاف في الوكيل، كان هاجماً على خرق الإجماع، وإن سلّمه، عَسُر الفرق بين رجعة الزوج وتصرف الوكيل. وهذا الوجه أراه غلطاً كالوجه الذي ذكره في الفصل الثاني، وقد ذكرته الآن. 9366 - فإذا قطعنا بأن القول قول الزوج إذا كانت العدة باقيةً، فقد كان شيخي يحكي عن القفال أنّ الإقرار بالشيء في وقت إمكان إنشائه بمثابة إنشائه، وإن كان إقراراً على الحقيقة، وهذا لست أرى له وجهاً؛ فإن الإقرار نقيضُ الإنشاء، فيستحيل أن يفيده ويقوم مقامه، والإقرار يدخله الصّدق والكذب بخلاف الإنشاء، فإذا أقرّ كاذباً كيف نجعله منشئاً؛ فلا وجه لذلك. وكان شيخي يطرد هذا الوجه في الطلاق، ويقول: الإقرار بالطلاق طلاقٌ عند هذا القائل. وهذا خطأ؛ فإن الشافعي وأصحابَه نصّوا على أنّ من أقر بالطلاق كاذباً، فالزوجية قائمةٌ بينه وبين الله، ولو كان الإقرار الكاذب طلاقاً واقعاً ظاهراً وباطناًً، لما تُصوِّرت مسائل التديين، وقد قلنا: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ونوى الطلاق عن وِثاق، لم يقع الطلاق باطناًً، ولم نعرف في هذا خلافاً، ومن يقول بوقوع الطلاق باطناًً إذا أقر كاذباً، وهو لا يبغي الإنشاء، بل صرح بإسناد الطلاق إلى ما مضى مخبراً غير موقع، فكيف يقع الطلاق باطناً. فإن قيل: نصَّ الشافعيُّ على أنّ من نكح أَمةً، ثم أقرّ بأني كنت نكحتها وأنا غير خائف من العنت، فهذا طلاق. قلنا: هذا ضمُّ إشكال إلى إشكال؛ [فإنّا] (1) نبُعد كونَ الإقرار بالطلاق إنشاء، وهذا النص يقتضي أن يكون الإقرار بفساد النكاح إنشاءَ طلاق، وهذا كلام متناقض؛ فإن فساد النكاح يمنع وقوعَ الطلاق، فلا وجه عندي إلا حمل هذا النص على خللٍ في النقل، وليس من الحزم تشويش أصول المذهب بمثل هذا.

_ (1) في الأصل: كنا.

9367 - فإن قلنا: لا يكون الإقرار كالإنشاء، وصدقنا الزوج في دعوى الرجعة المضافة إلى أمس، فللمرأة أن تُحَلِّفه، فإن كل مصدَّق في الخصومات محلَّفٌ في أمثال ما نحن فيه. وقد انتهت [الفصول] (1) الثلاثة وبقيت وراءها مسألةٌ، نص الشافعي [عليها] (2) في المختصر، ولم يقفْ (3) عليها المزني، ونحن نذكرها، ونذكر لَحْن المزني فيها. 9368 - قال الشافعي: ولو قال: "ارتجعتك اليوم، وقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك، صدّقتُها، إلا أن تُقرّ بعد ذلك، فتكون كمن جحد حقاً، ثم أقرّ به" (4)، هذا لفظ الشافعي. ونحن نقول بعدُ: هذه المسألة نصوّرها إنشاء ونصورها إخباراً، فإذا أنشأ، وقال: راجعتك، فقالت على الاتصال: انقضت عدتي، فالرجعة لا تصحّ، فإنا لو حكمنا بصحتها، لحصلت مع الفراغ من اللفظ، وهكذا سبيل كل ما يتعلق بالألفاظ، وقولُها إخبار، والمخبَر عنه لو صُدّقت يتقدّم على قولها؛ فإن العدة تنقضي ثم تُنشىء على الاتصال -إن ابتدرت- إخباراً عن انقضاءٍ سابق على أول الخبر، وقد ثبت أنها مصدَّقةٌ؛ فإذا قررنا الإنشاء في الرّجعة على حقّه، وصدقناها، وقع انقضاء العدة مع فراغ الزوج من لفظ الرّجعة، فيتبين أنها وقعت في وقتٍ صدّقنا المرأة في انقضاء العدة فيه. وحمل معظم الأصحاب قول الشافعي في رسم المسألة على إنشاء الرّجعة منه، وإخبارِها على الاتصال؛ إذ لا يتصوّر [منها] (5) إنشاءُ أمر، والعدّة لا تنقضي بالقول

_ (1) في الأصل: "الأصول". (2) زيادة من المحقق. (3) ولم يقف عليها المزني: هل المعنى لم يقف على سرّها ويدرك حقيقتها؟ أم الكلمة محرّفة والصواب لم "يوافقه عليها المزني"؟ الله أعلم. (4) ر. المختصر: 4/ 90. (5) في الأصل: فيها.

حسب حصول الرجعة بالقول. وإذا كانت الرجعة توجب الحِلَّ، وانقضاءُ العدّة يوجب البينونة، فإذا انتفى الموجبان، وجب تغليب الحظر، فهذا حمل المسألة على إنشاء الرجعة. فإن زعم الزوج أنّي لم أرد بقولي: "راجعتك" إنشاءَ الرجعة وإنما أردت الإخبار عن رجعةٍ سبقت مني، فإذا قالت المرأة على الاتصال: انقضت عدّتي، فهذه المسألة تنعطف على الصور التي تقدّمت، فيقع الحكم مثلاً بانقضاء زمن العدة بقولها، ونقول للزوج: متى راجعتَها؟ فإن زعم أنه راجعها قبل هذا بيوم مثلاً، فقوله: راجعتك في الحال لا يزاحم خبرَها عن انقضاء العدة، حتى يقالَ: ابتدر بالدعوى، بل قوله صالح للإنشاء، وهو صريح فيه. وقد ذكرنا أن صريح الإنشاء لا يزاحِم خبرها؛ فهي امرأة مبتدئة بدعوى انقضاء العدة، فإذا قال الزوج بعد ذلك: قد راجعتها قبل هذا الزمان، فهذا كلام مؤخَّر عن قولها، وقد سبق التفصيل فيه إذا ابتدرت، فادّعت انقضاء العدة، ثم ادعى الزوج بعد هذا رجعةً سابقةً. هذا بيان المسألة إذا صُوِّرت إنشاءً، أو حُمل قولُ الزوج على الإخبار. 9369 - ولمّا أورد المزني هذه المسألة جعل الزوج مبتدئاً بدعوى الرّجعة، وقدّر المرأة مستأخرة في دعوى الانقضاء، ورأى أن الزوج أولى بالتصديق. والذي ذكره قد يتجه إذا تأخّر قولها ولم يتصل، وتقدّمت دعوى الرجل، فأما إذا قال الزوج: راجعتها، فقالت على الاتصال: انقضت عدتي، فلا يتجه إلا إبطالُ الرّجعة؛ فإنّ لفظه صريح في الإنشاء، والإنشاءُ باطل مع الخبر المتصل. وإن حمله على الإخبار، فلفظه المطلق لا يصل لذلك، فيقع الحكم بالانقضاء، فإن أنشأ بعد ذلك تقديمَ دعوى، فهذا مزيد في تصوير المسألة وإتيانٌ بدعوى أخرى مستَفْتَحةٍ. هذا بيان الأصول والصور في اختلاف الزوجين. والله أعلم.

فصل قال: "ولو دخل (1) بها، ثم طلقها ... إلى آخره" (2). 9370 - أراد الشافعي رضي الله عنه بقوله: "دخل بها" خلا بها، ثم تعرض للخلاف في ادّعاء الإصابة ونفيِها، وقد ذكرنا اختلاف القول في أن الخلوة هل تنزل منزلة الوطء في اقتضاء العدة وتقريرِ المهر؟ فإن نزّلنا الخلوة منزلة الوطء في إيجاب العدّة، فالرأي الظاهر الّذي يجب القطع به أن الرجعة تثبت ثبوتَها لو كانت موطوءة. وقال أبو حنيفة (3): تثبت العدة، ولا تثبت الرجعة، وحكى الشيخ أبو علي وجهاً مثلَ (4) مذهب أبي حنيفة. وهذا لا اتجاه له في القياس؛ فإن العدة إذا ثبتت في مُطَلَّقة من غير عوض ولا استيفاءِ عدد، فلا معنى لنفي الرّجعة. قال الشيخ: هذا يوجَّه بأن الرّجعة تستدعي عُلقة كاملة، فإذا لم يجر سبب العلوق، لم تتأكد العُلقة، ومقتضى الطلاق القطعُ وإزالةُ الملك. ولا حاصل لهذا الكلام؛ فإن العدة تترتب على اشتغال الرحم، أو على جريان سبب الاشتغال، والعدة بهذا المعنى أخص من الرجعة، فإذا لم يبعد وجوب العدة على خلاف قياس موضوعها، لم يبعد ثبوت الرجعة. وحكى الشيخ أيضاًً وجهين في أنا إذا أوجبنا العدة على المطلقة التي أتاها الزوج في دبرها، فهل تثبت الرجعة في مثل هذه العدة أم لا؟ أحدهما - تثبت الرجعة، وهو القياس. والثاني - لا تثبت؛ فإن إيجاب العدة في حق المأتيّة في غير المأتَى مرتبط بضروبٍ

_ (1) في المختصر: "خلا". (2) ر. المختصر: 4/ 90. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 234 مسألة 1943، المبسوط: 5/ 148. (4) عبارة الأصل: وجهاً مثل له مذهب أبي حنيفة.

من التغليظ، ويليق بالتغليظ نفيُ الرجعة، وهذا الوجه على ضعفه قد يستند إلى ما ذكره الشيخ من التغليظ. أما الوجه الذي حكاه في الخلوة، فلا وجه له أصلاً. 9371 - ومما ذكره الشيخ متصلاً بهذا أنه لو قال لامرأته: مهما (1) وطئتك، فأنت طالق، فإذا وطئها، وقع الطلاق، [واستقبلت] (2) العدة بالأقراء إن لم تَعْلَق. ثم لو وطئها ورأينا إيجاب المهر بوطء الرجعية، فتفصيل القول في المهر لو نزع أو استدام، أو نزع وأعاد، كتفصيل القول فيه إذا قال: [إذا] (3) وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، أو نفرض الاستدامة والنزع والإعادة على جهالة. وقد تمهد هذا فيما سبق. 9372 - وإذا حكمنا بأن الخلوة لا تقرّر المهرَ، ولا تحل محل الوطء، فلو ادعى الزوج الإصابة وأنكرتها المرأة، أو ادّعت المرأة الإصابة لتقرير المهر وأنكرها الرجل، ففي المسألة قولان قدمنا ذكرهما في كتاب الصّداق. فصل قال: "ولو ارتدّت بعد طلاقه ... إلى آخره" (4). 9373 - إذا طلق الرجل امرأته ثم ارتدّ، أو ارتدّت، فارتجعها في حال رِدّتها، أو ردة أحدهما قال الشافعي: الرجعة فاسدة؛ لأنها للإحلال والردة تنافي الإحلال، وقال المزني: إن دامت الردة حتى انقضت العدة، فنتبين أن الرجعة وقعت وراء البينونة؛ فإنا نتبين عند استمرار الردّة إلى انقضاء العدة أنها تضمنت قطع النكاح كما (5) وقعت. وإن زالت الرّدة في مدة العدة، فنتبيّن أن الرّجعة واقعةٌ صحيحةٌ لمصادفتها محلَّها تبيُّناً

_ (1) مهما: بمعنى: إذا. (2) في الأصل: استقلت. والمثبت تصرف من المحقق. (3) زيادة اقتضاها استقامة الكلام. (4) ر. المختصر: 4/ 90. (5) كما: بمعنى عندما.

هذا ذكره المزني واختاره لنفسه، وله عبارات في اختياراته: تارةً يفرط ويسرف ويقول بعد النقل: "هذا ليس بشيء"، وما كان كذلك، فهو من مفرداته. وكلامُه مشعر بمجانبته مذهبَ الشافعي فيما نقله وأخْذِه في مأخذٍ آخر، فلا يعد مذهبُه تخريجاً. وتارة يقول: قياس الشافعى خلافُ ما نقلته، فإذا قال ذلك، فالأوجه عدُّ ما يذكره قولاً مخرجاً للشافعي. وإذا لم يتصرف على قياسه، وقال: الأشبه عندي، كان لفظه متردداً بين التصرف على قياس الشافعي مَصيراً إلى أن المعنيّ بقوله هذا أشبهُ: [أي] (1) هذا أشبهُ بمذهب الشافعي، ويجوز أن يقال: "هذا أشبه" معناه أشبهُ بالحق ومسلك الظن، ولم أر أحداً من أصحابنا يَعُدّ اختيار المزنى فى هذه المسألة قولاً معدوداً من المذهب مخرجاً. وما ذكره متجه على القياس جداً؛ فإن الردة إذا زالت قبل انقضاء مدة العدة، تبيّنا أن النكاح لم ينخرم، وأن الملك لم يزُل أصلاً، وما مضى كنا نحسَبه من العدة، ثم تبينّا أنها لم تخض في العدة، بخلاف الرجعية إذا ارتجعها زوجها؛ فإن العدة تنقطع ولا نتبين أنها لم تخض في العدة، والإشكال يتأكد بأن الإحرام مع أنه يمنع من ابتداء النكاح لا يمنع من الرجعة على النص والمذهب المعتمد، فكان يتجه تخريج الرجعة على الوقف، وليست الرجعية بعيدة عن التفريع على الوقف فيما نحن فيه. ولا خلاف أن المرتدة إذا طُلقت، ثم زالت الردة قبل انقضاء أمد العدة، فالطلاق واقع، وهذا متفق عليه. 9374 - والذي يمكن توجيه النصّ به أن الرّدة إذا تمادت حتى انقضت العدة، وقعت البينونة تبيُّناً مع أول جزء من الردة، ووقع التمادي بعد البينونة، فلا يقع التمادي شرطاً في وقوع البينونة، فإن الشرط لا يتأخر عن المشروط، ويتحقق بذلك أن الردة تمنع الإقدام على الاستحلال ابتداء، ولو فرض زوالها، فهي محتَمَلةٌ في دوام

_ (1) في الأصل: إلى هذا.

النكاح، فأما أن تحتَمل في ابتداء تصحيح تحليل ينشأ، فلا. وينضم إليه ما يقتضيه الشرع من التغليظ على المرتد. وأما المحرم، فلا مجال للمعنى فيه، والمتبع في امتناع نكاح المحرم خبرُ الرسول صلى الله عليه، والردة تنافي الاستحلال على معنىً معتبر، فلا معنى للتصحيح. وأما الخروج على الوفف، فقد ذكرنا توجيهه على رأي المزني، ولكن لم يقل به أحدٌ من أئمة المذهب، ووجه ردّ الوقف أن الردّة التي وقعت لا نتبين آخراً أنها لم تقع، فاقترانها بابتداء الرجعة كاقتران مفسد بالعقد، وهو بمثابة ما لو وهب الخمر أو رهنها، ثم استحالت خلاً، فأقبضَ الخلَّ، فالشدّة المقترنة بالعقد تمنع انعقاد العقد، وقد تطرأ الشدة بعد الانعقاد، فيتوقف على الزوال، كما ذكرناه في مسائل الرّهون. وأمّا وقوع الطلاق عند زوال الرّدّة في مدة العدة، فليس بدعاً؛ من جهة أن الطلاق تحريم كالرّدة، فلا منافاة، وقد تبيّن آخراً أن النكاح كان دائماً. 9375 - وإذا أردنا تقييد المذهب بمراسم قلنا: الوقف الذي رجع إلى الجهالة، كالذي يبيع عبداً كان لأبيه في حالة ظنه بقاءه، فإذا تبين أن أباه كان ميّتاً والعبد انتقل إلى البائع إرثاً قبل البيع، فالضابط في هذا الفن أن ما لا يقبل التعليقَ إذا اقترن به جهلٌ على هذا النسق، نُظر: فإن لم يكن الجهل مستنداً إلى أصلٍ ماضٍ، فلا حكم له، وهو بمثابة ما لو باع عبداً حسِبه لغيره، ثم تبين له أن العبد كان له، فالبيع نافذ. وإن استند الجهل إلى أصل متقدم، كبيع عبد الأب على ظن بقائه إذا تبين أن الأب كان ميتاً وقت البيع، ففي المسألة قولان، أما الطلاق؛ فإنه لا يندفع بالظنون سواء استندت إلى أصول أو لم تستند. 9376 - ومما نذكر في ذلك أن الرجل إذا قال لأَمَته: إن قيّض الله بيننا نكاحاً، فأنت حرة قُبَيْله، فإذا نكحها، فقد قطع صاحب التقريب، ومعظم المحققين بصحة النكاح؛ فإن الإقدام عليه كان على ثبت. وقال بعض الأصحاب: هذا يخرج على الوقف. وهذا لا أصل له. ومن مراتب الكلام في الوقف ما دُفِعْنا إليه، فالمزني ألحق رجعة المرتد والمرتدة

بالوقف، والشافعي رأى نفس اقتران الرّدة مفسداً للفظ الرجعة، وأجرى عدمَ الردّة شرطاً في الصحة، والتوقف الذي حسبه المزني ذاك في دوام النكاح لا في إنشاء ما ينشأ على الصحة، وينشأ على الفساد، فيفسد. هذا منتهى القول في ذلك. ***

باب المطلقة ثلاثا

باب المطلقة ثلاثاًً (1) قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى في المطلقة الطلقة الثالثة ... إلى آخره" (2). 9377 - إذا طلق الرجل الحرُّ امرأته ثلاثاًً، أو طلق العبد زوجته طلقتين، واستوفى كلُّ واحد منهما أقصى ما أُثبت له من الطلاق، فيحرُم عليه عقدُ النكاح عليها، حتى تنكِح زوجاً آخر نكاحاً صحيحاً، ثم يغشاها الزوج الثاني، وينبتُّ النكاح، وتُخلي (3) عن العدّة؛ فإذ ذاك يحلّ للزوج المطلِّق تجديدُ النكاح، وسبيلها معه كسبيل أجنبيةٍ يبتغي ابتداء نكاحها، قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] والمعنى: فإن طلقها الطلقةَ الثالثةَ، فلا تحل له بنكاح حتى تتزوج زوجاً آخر. وليس (4) للإصابة ذكرٌ في القرآن، وإنما هي مستفادةٌ من السنة: روي أن رفاعة بن رافع طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت من عبد الرحمن بن الزبير، ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكيةً، فقالت: يا رسول الله إن ما معه مثلُ هُدبة الثوب، فقال عبد الرحمن: كذبَتْ يا رسول الله، والله إني لأعرُكها عرْك الأديم العُكاظي، فقال صلى الله عليه وسلم: "تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" (5)، فشرط الإصابة.

_ (1) من هنا بدأ جزءٌ جديد من نسخة ت 2، فصار نصّاً مساعداً مع نسخة الأصل. (2) ر. المختصر: 4/ 91. (3) تُخلي: مضارع أخلا، بمعنى (خلا) تقول: خلا المنزل من أهله، وأخلى من أهله (المصباح). (4) ساقطة من (ت 2). (5) حديث زوجة رفاعة بن رافع القرظي متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. =

وقال بعض العلماء: جَمْعُ الطلاق مما لا يحبّه الله تعالى. والرجلُ إن لم يكن ممنوعاً عنه قولاً صريحاًً، فلعل الغرض من إثبات التحليل أن ينكف الرجل عن تطليق التي يضمر معاودتها ثلاثاًً، حَذَراً من التحليل الذي يشتد وقعه على كل ذي غَيْرة من الرجال. 9378 - ثم الكلام يقع في فصول: أحدها - القول في الجهة التي يشترط حصول الوطء فيها، فنقول: إذا طلق الرجل زوجته الأمةَ ثلاثاًً، فوطئها مولاها بملك اليمين، لم يحصل التحليل به وفاقاً، والمرعيُّ حصول الوطء في الجهة الكاملة الموضوعة للوطء التي وقع الطلاق فيها. ولو نكحت المطلَّقة ثلاثاً نكاح شبهةٍ، وحصل الوطء على ظن التحليل، ففي حصول التحليل قولان: أظهرهما - أنه لا يحصل؛ فإنه لم يقع في نكاح، ولا معوّل على الظن المخالف للحقيقة. وهذا كما أن الإحصان لا يحصل بالوطء في النكاح الفاسد. والقول الثاني: إن التحليل يحصل، لأن النكاح الفاسد ملحق بالصحيح في معظم الأحكام، والمعنى الذي ذكرناه [فيه] (1) متعلِّقاً بالغَيْرة يحصل به، وليس التحليل كالإحصان؛ فإن الوطء في الإحصان [ركنٌ في إفادة كمال التمتع] (2) يُنتج التعرض للعقوبة الكبرى، فلئن وُقف على التحقيق، لم يبعد. ثم إذا فرعنا على القول الضعيف، فلو وُطئت تلك المرأة بشبهة، من غير فرض جريان صورة النكاح، فقد اختلف جواب الأئمة، فالذي اختاره المحققون أن التحليل لا يحصل به؛ فإنه لم يجر فيما يسمى نكاحاً.

_ = البخاري: الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث، ح 4960، مسلم: النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره، ح 1433). (1) ساقطة من الأصل، وفي ت 2: منه. والمثبت تصرّف من المحقق. (2) في الأصل: "ركن في إفادة كماله في المستمتع" وفي ت 2: "يكن في إفادة كمال في المستمتع" والمثبت تصرّفٌ منا استئناساً بعبارة ابن أبي عصرون. (صفوة المذهب: جزء 5 ورقة: 61 يمين).

ومن يُلحق النكاحَ الفاسدَ بالصحيح، فقد يتخيل اندراج النكاح تحت الاسم المطلق، مع ثبوت الأحكام، والمذكور في كتاب الله النكاحُ. وذهب بعض أصحابنا إلى أن وطء الشبهة بمثابة الوطء في النكاح الفاسد؛ فإن اسم النكاح على الإطلاق لا يتناول الفاسد عندنا، فليس في الوطء في النكاح [الفاسد] (1) إلا ظنُّ الحِل، وهذا المعنى متحقق في وطء الشبهة. التفريع: 9379 - إن جرينا على أن وطء الشبهة لا يحلل، فلا كلام. وإن جعلناه محللاً، فالوجه عندنا أن نفرض جريانه على ظن الزوجية، فلو ألم بها رجل وحسبها مملوكتَه، فحسبان الملك لا يزيد على نفس الملك، والوطء في نفس الملك لا يوجب التحليل، وسيكون لنا عودٌ إلى تفصيل وطء الشبهة واختلاف الظنون فيه، في أحكام الاستيلاد وحرية الولد، إن شاء الله. ولو علمت المرأة فساد النكاح، وتعرضت لحد الزنا، وجهل الزوج، أو كان الأمر على العكس، فقد ذكرنا أوجهاً في أن تحريم المصاهرة هل يحصل مع الجهل في أحد الجانبين؟ والذي أراه القطع بأن التحليل لا يحصل ما لم يكن الجهل شاملاً لهما؛ فإن العلم إذا ألحق أحدَهما بالزنا، استحال تخيُّلُ التحليل مع هذا؛ ولهذا قطعنا القول أن الوطء في نكاح الشبهة يوجب حرمةَ المصاهرة، وقلنا: القول الأصح أن الوطء في نكاح الشبهة الشاملة للجانبين لا يقتضي التحليل. فهذا تمام القول في الجهة التي يشترط حصول الوطء فيها. 9385 - فأما الكلام في الوطء، فتغييب الحشفة -أو تغييبُ مقدارها إن كانت الحشفة مقطوعة- هو المعتبرُ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وأوضحنا أن الأحكام المنوطة بالوطء تحصل جملتُها بما نصصنا عليه. والإتيان في الدّبر لا يفيد التحليل وفاقاً، فالذي هو المقصود في الفصل استدخال المرأةِ الفرجَ بالأصبع، ولا بد من الاعتناء في ذلك بضبط المذهب، فإن حصل

_ (1) زيادة من المحقق.

الانتشار ووقع الإيلاج مع الاستعانة بالأصبع، فهذا وطء. وإن كان العضو [فاتراً] (1) لم يخل إما أن يكون ممن لا يتوقع منه في مثل حده انتشاراً، أو كان يتوقع منه انتشار، فإن كان ذلك ممن يتوقع منه انتشار، ولكن صادف الإدخال والاستدخال فتوراً أو عُنة فالذي أطلقه الأصحاب أن هذا يحصل به التحليل؛ فإن العضو مما يتوقع الإيلاج به، وقد حصل الوصول إلى الباطن، فلا نظر إلى وصوله بصفته وقوته، أو إلى وصوله بإدخال واستدخالٍ. فأما إذا كان الزوج صبيّاً لا يتصور من مثله انتشار، كابن أيامٍ، فإذا استدخلت المرأة ذلك منه، وقد قُبل النكاح له، فالذي أطلقه الأصحاب أن التحليل لا يحصل بهذا؛ فإن ذلك إذا لم يكن في مظنة إمكان الوطء لا يسمى وطءاً، فلا اعتبار به. وهذا مشكل عندنا، وقد وصل الفرج إلى داخل الفرج، ولا يجوز أن يكون في وجوب الغسل خلاف، وإن منع مانع هذا، كان مُبْعِداً، وإن سَلَّم أنه وطءٌ تام في الغسل، استحال تبعيضُ الأحكام، وإن التفت الأصحاب على أن المرعي في وطء المحلّل ما يُنتج انتعاشَ الغَيْرة، وهذا إنما يُفرض عند إمكان الوطء، فهذا أقرب ما يتمسك به. وذكر شيخي قولاً غريباً: أن وطء الصبي لا يفيد التحليل وإن أولج. وهذا لم أره إلاّ له وقد نقلته بعد تكرّر السماع عنه ومصادفتِه في التعاليق، وإن صح، فوجهه أنه لا يحرِّك الغيرة، ولست أعتد بهذا القول من المذهب، ولو ذكر هذا التردد في الإدخال من الصبي الذي لا يتصور من مثله الجماع، لكان حسناً، ولكنه ذكره في غير البالغ، وإن ناهز وأولج الفرجَ المنتشر، وهذا على نهاية البعد (2).

_ (1) في الأصل: فاقداً. والمثبت من (ت 2). (2) علق ابن أبي عصرون على ذلك قائلاً: "قلت: ومذهب العراقيين أن الإيلاج من غير انتشار لا يحصل به التحليل مطلقاً، تمسكاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك" وهذا تعبير عن وجود الشهوة منهما، فمن لا تتحرك آلته كيف يجد لذة لإدخاله بالدّس؟ هذا في حق من له شهوة، فأما الصبي الصغير، فلا عبرة بتغييبه ولو انتشر لِفَقْدِ الشهوة في حقه" انتهى بنصه (ر. صفوة المذهب: جزء 5 ورقة: 61 شمال).

وذكر بعض الأصحاب في التخفيف من الغيرة تزويج المطلقة من عبدٍ صغير -إذا قلنا: يقبل السيد النكاح لعبده الصغير- ثم يولج القدر المرعيَّ، ويوهَب العبد منها، فينفسخ النكاح. ولا شك أن وطء الخصي كوطء الفحل. 9381 - ومما نذكره الكلامُ في حالاتِ مُحرّمةِ الوطء، مع دوام النكاح، فنقول: إذا أصابها الزوج صائمة، أو مُحْرمة، أو حائضاً، حلت بالإصابة، وإن كانت محرّمةً، خلافاً لمالك (1). ومقصود الفصل أنه لو أصابها وهي مرتدة أو هو مرتد، أو أصابها وهي في عدّة الرجعة، ثم زالت الردّة، فكيف السبيل؟ وهل نقضي بأن التحليل يحصل؟ تكلم الشافعي رضي الله عنه فيما ذكرناه، وأنكر المزني (2) تصوّرَ المسألة؛ فإن الردة من غير دخول [تبتّ] (3) النكاح، والطلاق من غير مسيس يستعقب البينونةَ، فكيف تصوير المسألة (4)؟ فقيل له: إذا استدخلت ماء الرجل تلتزم العدة ولا تحل لزوجها، والإتيان في الدبر يوجب العدة، ولا يتعلق به التحليل، كما قدمناه، والخلوة -في القول البعيد- توجب العدة، ولا تحلل، فهذا تصوير المسألة.

_ (1) ر. الإشراف: 2/ 757 مسألة 1381، حاشية العدوي: 2/ 72. (2) ر. المختصر: 4/ 93. (3) في الأصل: تثبت، وفي ت 2: من غير نكاح تثبت النكاح. (4) ينكر المزني تصوّر المسألة، لأن هذه المطلقة ثلاثاًً إذا تزوجت الزوج الآخر، فإن أصابها قبل الرّدة، ثم ارتدت وعادت، فقد حلّت بالوطء قبل الردة، ولكنها لو ارتدت قبل الدخول، فقد انبتّ النكاح، فكيف يتصوّر وطءٌ للمرتدّة بعد البينونة؟ ومثلها الرجعية، فلو أصابها قبل الطلاق، فقد حلت بهذه الإصابة، ولا عبرة بالوطء في العدة حصل أو لم يحصل، وأما إذا طلقها قبل الإصابة، فقد انبتّ نكاحها، فكيف يتصوّر وطء في عدة الرجعة، ولا رجعة له عليها ما لم يكن أصابها، أي دخل بها، أي حصل الوطء. هذا وجه استبعاد المزني وإنكارِه تصوّر المسألة، والردّ عليه بتصوير الاستدخال والوطء في الدبر، حيث لا تحليل بذلك، مع أنه يوجب العدة، فلو وطأ في هذه العدة هل تحلّ له بهذا الوطء؟ هذه صورة المسألة.

فأما الحكم، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: لا يحصل التحليل بالوطء في زمان الردة ولا بوطء الرجعية، فإن هذا وطءٌ في ملك مختل. قال المحققون: إن حكمنا بأن الوطء في النكاح الفاسد يفيد التحليل، فلا شك أن الوطء في الردة ووطء الرجعية يفيد التحليل، وإن حكمنا بأن الوطء في نكاح الشبهة لا يفيد التحليل، فلا شك أن الردة لو دامت حتى انقضت العدة، لم يفد التحليل، وإن زالت الردة قبل انقضاء العدة، فالمسألة -حيث انتهينا إليه- محتملة أيضاًً، وليس الوطء في هذا كالرجعة مع الردة؛ فإن الرجعة في حكم عقد يَفْسُد ويصح، فيجوز أن يتخلّف عنه شرط الصحة، وأما الوطء، فقد بان جريانه في صلب النكاح، ولا يتطرق إليه وقفٌ وامتناعٌ بسببه؛ فإن ذلك يليق بالعقود. نعم، وطء الرجعية قد يفرض في محلّه (1) ضعف، فإن الطلاق يزيل الملك على رأي الأصحاب. والمذهب الذي عليه التعويل أن الوطء يوجب المهرَ، راجعها أو لم يراجعها، والرأي في ذلك أن يَتْبع ما نحن فيه المهرَ، فإن لم يراجعها، ثبت المهر ولا تحليل، وإن راجعها، ففي المهر خلافٌ، وفي التحليل احتمال. وكل هذا إذا لم نجعل الوطء في نكاح الشبهة محللاً، [ولكن] (2) [إذا جعلنا الوطء في نكاح الشبهة محللاً] (2) فالوجه ألا نجعله محللاً في الردة إذا دامت، فإن المرتد على اعتقاد استدامته، والله أعلم. وقد يرد على هذا أن الحد مدفوع عنه في الرأي الظاهر. 9382 - ثم قال الشافعي: "ولو ذكرت أنها نكحت نكاحاً صحيحاً ... إلى آخره" (3). إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاًً، فانسرحت ذاكرةً أنها تنكِح وتسعى في تحليل نفسها،

_ (1) في ت 2: مثله. (2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، والمثبت في رقم (2) تصرف منا مكان عبارة غير مقروءة في (ت 2) وأما رقم (3) فهو مأخوذ من ت 2. (3) ر. المختصر: 4/ 93.

فإذا عادت فذكرت أنها نكَحت ووُطئت وتخَلَّت وَحلّت، وكان لا يقترن بقولها ما يكذبها، قال الأصحاب: إن غلب على قلب الزوج صدقُها، فله التعويل على قولها. وإن شك، ولم يترجح له ظن، فالورعُ الاجتنابُ. ولكن لو عوّل على قولها، ونكَحها، صح، ولو غلب على الظن كذبُها، وكان صدقُها ممكناً، فلو نكحها، فالذي قطع به الأصحاب صحةُ النكاح، مع انتهاء الأمر إلى الكراهية. وفي بعض التصانيف أنه إذا ظنها كاذبة، وعوّل على قولها ونكَحها، لم تحل له. وهذا غلط صريح، وهو من عثرات الكُتّاب (1). والذي قطع به الأمامُ وصاحبُ التقريب والشيخُ أبو علي والعراقيون أن النكاح ينعقد، وتحل في ظاهر الحكم، وإن غلب على الظن كذبها إذا كان الصدق ممكناً. 9383 - وهذا المنقول وإن كان هو المذهب فقد يعترض للفقيه فيه إشكال؛ فإن إثبات النكاح بشهادة الشهود ممكن، وكيف لا ولا يصح النكاح إلا بمحضر عدلين، ولكن الجواب أن النكاح يُعنى للوطء وإثباتُه عسر، والزوج يمتنع عن قيام الشهود عليه، فهذا يُفضي إلى حسم الباب، ولا يُغني إثباتُ النكاح شيئاً 2)، والعسرُ في المقصود قائم. ثم إثباتُ النكاح -من غير جحد وخصومة- مقام [الوطء] (3) متعذر، وكل [ما لا يجوز] (4) إظهاره فهو هُتكة؛ فكان التعويل على قولها في الحكم اضطراراً. والأجنبية تنكِح، والتعويل على قولها في أنها خليّةٌ عن الموانع، وهي في مقام

_ (1) هذا الضبط من نسخة الأصل. (2) ت 2: ولا يعني إثبات النكاح يقيناً. (3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين. (4) ما بين المعقفين تصرف منا، فعبارة الأصل غير مستقيمة، هكذا: "متعذر وكل ينبغي بفرض في إظهاره، فهو هتكة" وعبارة (ت 2) مثلها إلا أن بها كلمة مطموسة لا تقرأ.

بائعٍ لحماً: يجوز أن يكون من ذكيّ (1) ومن ميتة، فالرجوع إلى قولها. ولو قال الزوج الثاني ما وطئتها، فلا معول على قول الزوج؛ فإنا لو اعتمدناه لأَحْوجْنا المرأة إلى إثبات الوطء بالبينة، وفيه العُسْر الذي بنينا الفصلَ عليه. فإن قيل: هلا أوجبتم تحليفها؟ قلنا: هذا قول من لم يربط الفقهُ قلبَه، فإن الحلف لا يُثبت يقيناً، وقد أوضحنا أن النكاح ينعقد مع الرَّيب، والله أعلم. ...

_ (1) ذكي فعيل بمعنى مفعول، أي لحم من مذكّى، تقول: جملٌ ذكي أي مذكّى (المصباح).

كتاب الإيلاء

كتاب الإيلاء قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227] ... إلى آخره" (1). 9384 - الأصل في الإيلاء قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226]، والإيلاء في اللسان الحلف والأليّة اليمين، ومنه قول القائل: قليلُ الأَلاَيا حافظٌ ليمينه ... وإن بدرت منه الأَلِيَّةُ برّت (2) والإيلاء في لسان الشرع اسمٌ لحلف الرجل على الامتناع من وطء امرأته، على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله. وأصل الإيلاء متفق عليه، وكان من طلاق الجاهلية، وصورته وحكمه على الجملة في الإسلام ما نذكره، فنقول: إذا حلف بالله أو حلف يميناًَ سَنصفها: "لا يطأ امرأته"، وأطلق، أو ذكر الامتناع مدّة تزيد على أربعة أشهر ولو بلحظة، فهذا هو المولي، ثم إن جامع في المدة، استمر النكاح كما كان، وسنذكر ما يلتزمه بالمخالفة. وإن بقي على امتناعه حتى انقضت المدة، رفعته المرأة إن أرادت إلى مجلس القاضي، وطالبته بالفيئة، أو الطلاق، فإن فاء وجامع أو طلق، انقطعت الطَّلِبة، وإن أصرّ، فللشافعي قولان فيما يعامل به: أحد القولين - أنه يُحبس حتى يطلِّق. والثاني - أن القاضي يطلِّق عليه زوجته، ثم يكفي في الطلاق أن يطلقها طلقة

_ (1) ر. المختصر: 4/ 94. (2) البيت من شواهد ابن منظور في اللسان، ولم ينسبه، وفيه: "وإن سبقت" وفي (ت 2): "ولم يك إلا حافظاً ليمينه" بدلاً من الشطر الأول. وفي اللسان: الأُلوة، والألوة، والإلوة، والأليّة على فعيلة، والأليَّا، كله: اليمين، والجمع: (ألايا).

رجعية. وإن حكمنا بأن السلطان يطلّق، لم يطلِّق إلا طلقة واحدة، فإن صادفت محل الرجعة، فرجعيّة، وإن لم تكن محلاًّ للرجعة، فبائنة. وأبو حنيفة (1) يقول: إذا انقضت الأربعة أشهر، طُلقت [طلقةً] (2) من غير حاجة إلى إنشاء الطلاق، [والفيئةُ] (3) عنده تدفع الطلاق إذا وقعت في المدة، ثم الطلاق الواقع عند منقرض المدة بلفظ الإيلاء بائنٌ عنده. 9385 - ومما نذكره في تأسيس الكتاب وطلب الإيناس بتصويره: أن الرجل إذا آلى أخذت المدة في الجريان من غير حاجة إلى ضربٍ من جهة القاضي، بخلاف مدة العُنّة، فإنها من يوم الترافع إلى القاضي؛ لأنها مجتهد فيها. والمعنى الكلي الذي عنه صَدَرُ مسائل الكتاب أن الرجل إذا امتنع عن وطء امرأته من غير أَلِيّة؛ فإنها [تُزجي] (4) الوقتَ بتوقّع الوقاع. وإذا آلى ألاّ يجامعها، فذلك يقطع توقّعَها، ويشتدّ ضِرارُها، وسنذكر قصة حفصةَ وعمرَ رضي الله عنهما، وهي تدلّ على أن للمدّة المنصوص عليها في القرآن أثراً ووقعاً في الإضرار. ومن الأصول أن الأربعة الأشهر بجملتها فُسحةٌ ومهلةٌ من (5) الله تعالى أثبتها للزوج، فلتقع الطَّلِبةُ بعدها، وهذا الأصل يقتضي أن تكون المدة التي ذكرها الزوج في يمينه زائدة على المهلة التي أثبتها الله له، ثم لا ضبط للزائد، فيقع الاكتفاء بأقل القليل. ولو قال قائل: هلا راعيتم زماناً بعد الأربعة الأشهر يمكن في مثله فرض الطلب؟ قلنا: هذا لا يُرعى (6)؛ فإن المدّة إنما تعتمد زمانَ الضِّرار، والمرأةُ تصبر على

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 473 مسألة 998، المبسوط: 7/ 22، مختصر الطحاوي: 207. (2) زيادة من ت 2. (3) في النسختين: النية. والمثبت تصرّفٌ من المحقق. (4) في النسختين بالراء المهملة (عليها علامة الاهمال). والمثبت اختيار من المحقق، وتزجي الوقت أي تقطعه وتُمضيه. (5) ت 2: في كتاب الله. (6) ت 2: هذا مرعي.

زوجها أربعةَ أشهر فحسب، وإن كانت الجِبِلات تختلف، فالأصل الكلي ما ذكرناه. ولكن لو مضت تلك اللحظةُ الزائدةُ على الأربعة [الأشهر] (1) المذكورة (2) في اليمين، لم يلتزم شيئاً (3)، فليس الرجل بعد المدة مولياً (4). ولو حلف لا يطؤها خمسة أشهر، فلم ترفعه حتى انقضى الشهر الخامس، فقد انقضى الإيلاء، وصار الرجل بمثابة ما لم يولِ، وسيأتي كل ذلك مشروحاً. فإن قيل: فأي فائدة في الحكم بكونه مولياً، ولا يُتصور توجيه الطلب عليه، ولا يقع الطلاق عندكم بمضي المدة؟ قلنا: لا أثر للإيلاء إلا انتسابُ الرجل إلى المأثم في الإضرار بها إذْ آيسها وقطع أملها عن الوطء، وهذا الأصل يعترض كثيراً في المسائل؛ فقدّمناه. 9386 - ومما نرى تقديمه أن الرجل إذا قال لامرأته: والله لا أصبتك أربعة أشهر، فإذا انقضت، فوالله لا أصبتك أربعة أشهر، ثم هكذا، حتى نَظَم أيماناً، فالذي صار إليه الأئمة أن الرجل ليس مولياً. نعم، هو حالف، ولا يخفى حكم الحالفين. فإذا نفينا الإيلاء عَنَيْنا نفيَ خاصية هذا الكتاب (5 من الإفضاء إلى الطلب كما مهدناه، وهذا مشكل معترض على المعنى الكلي الذي هو عماد الكتاب 5) وهو قطع التوقع والإضرار. وذكر الشيخ وجهاً غريباً أنه إذا ذكر يمينين مشتملين على مدّتين يزيد مجموعهما على أربعة أشهر، وكانتا متواصلتين، فهو مولٍ، وهذا وإن كان جارياً على المعنى

_ (1) زيادة من المحقق. (2) عبارة ت 2: "ولكن لو مضت تلك اللحظة الزائدة على الأربعة، فلا معنى لمطالبتها زوجها، فإنه لو فاء بعد انقضاء المدة المذكورة في اليمين لم يلتزم شيئاً"، ففيها زيادة مقحمة. (3) فإنه لم يحنث في يمينه، فلم يلتزم كفارة، ولم يزد على الأربعة الأشهر، التي هي مهلة من الله، فلم يلتزم شيئاً بذلك أيضاًَ، حقيقةً يأثم بإساءته لزوجته، ولكنه إثمُ سوء العشرة، وليس إثمَ المولين، كما سيوضّح ذلك فيما يأتي، فصورة المسألة أنه أقسم ألأ يطأ زوجته أربعة أشهر، فتنحلّ اليمين بانقضاء الأشهر الأربعة بغير حنث، ويصبح غيرَ مولٍ. (4) عبارة الأصل، ومثلها (ت 2) مضطربة، ففيها لفظان يفسدان سياقها: هكذا "لم يلتزم شيئاً، وقيل وبعد فليس الرجل بعد المدة مولياً". (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

الذي ذكرناه، فهو خارج عن قياس الأبواب؛ فإن لكل يمين حكمَها، وقد ذكر العراقيون هذا الوجه وزيفوه، وزيفه الشيخ أيضاًً. وقد ذكرنا أن من حلف لا يجامع امرأته أربعة أشهر ولحظة، فهو مولٍ وإن كان الزمان لا يتسع للطَّلِبة، ورَدَدْنا فائدة الحكم بكونه مولياً إلى تأثيمه، فليت شعري هل يؤثّم المُولي من الأيمان المشتملة على المدد البالغة بمجموعها خمسة أشهر فصاعداً؟ فإن لم نؤثمه، بَعُدَ؛ وقد ظهر نَكَدُه (1) وقصدُه في الإضرار، وإن أثّمناه وليس بيدنا في مسألة الأربعة الأشهر واللحظة (2 إلا التأثيم، وقد قطعنا ثمّ بكونه مولياً، وبيّنا أن المذهب أن صاحب الأيمان المتوالية ليس بمولٍ، فكيف الكلام؟ أقصى الإمكان أن نقول: للتأثيم مأخذ؛ فالذي يحلف على الأربعة الأشهر واللحظة 2) يأثم إثمَ المولين، والذي يوالي بين الأيمان إن كان يأثم، فالوجه ألا يأثم إثمَ المولين، ولا يمتنع أن يقال: الصدوق اللهجة إذا قال: "لا أجامعك" فقد يأثم، ولو قال [قائل: القياس] (3) لا يأثم صاحب الأيمان المتوالية، لم يكن قوله بعيداَّ، وهذا يحصر الإثم (4) في الإتيان بما نهى الرب تعالى عنه. وهذه جمل في تصوير الإيلاء وتمهيد أصله. فصل قال: "والمولي من حلف بيمين تلزمه بها كلفارة ... إلى آخره" (5). 9387 - مضمون الفصل يتعلق بمقصودين: أحدهما - فيما هو إيلاء من جملة الأيمان، والثاني - فيما يلتزمه المُولي إذا فاء [وحنث] (6).

_ (1) في (ت 2) "نُكْرُه" ويتكرر هذا اللفظ (نكده) ومشتقاته في كلام الإمام بمعنى (عناده)، ولم أجده منصوصاً في المعاجم. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (3) في النسختين: "ولو قال قياس لا يأثم" والمثبت تصرّف من المحقق. (4) يحصر الإثم ثم في الإتيان. (5) ر. المختصر: 4/ 94. (6) زيادة من (ت 2).

فأما القول في الأيمان فهي ثلاثة أقسام: أحدها - اليمين بالله تعالى أو بصفة من صفاته الأزلية، كما سيأتي القول فيها -إن شاء الله تعالى- في أول كتاب الأَيْمَان، فإذا حلف بالله وأطلق، أو قيد بالتأبيد، أو ذكر مدّة تزيد على أربعة أشهر، فهذا مولٍ. فهذا قِسْمٌ. والقسم الثاني - أن يعلّق بالوطء حكماً يقع، كالطلاق والعتاق، فالمنصوص عليه في الجديد أنه مولٍ، وعلى هذا القول تفريع مسائل الكتاب. والقول الثاني - أنه ليس بمولٍ. والقسم الثالث - ما لو علق بالوطء التزامَ أمرٍ يفرض لزومه بالنذر، مثل أن يقول: إن وطئتك، فلله عليّ صوم أو صلاة أو صدقة، أو لله عليّ أن أعتق عبداً، فالقول الجديد أنه مولٍ، وفي القديم قولٌ أنه ليس بمولٍ، ثم إذا جعلناه مولياً، فإذا خالف وفاء، فهو حانث في يمين اللجاج والغضب، وفيما يلزمه ثلاثة أقوال، سنشير إليها في مسائلِ الكتاب، ونستقصيها في كتاب النذور. 9388 - وضابط المذهب في أقسام الأيْمان أن الحالف بالله تعالى على الشرائط التي ذكرناها في الإطلاق والتأقيت مولٍ. ثم المنصوص (1) في الجديد أنه [إنما] (2) صار مولياً؛ لأنه عرّض نفسه لالتزام أمرٍ [إذا] (3) جامع؛ فظهر الضِّرار بذلك، وبنى عليه إثباتَ الإيلاء بكل التزامٍ، وضمَّ إلى الالتزام ما يقع، كالطلاق والعَتاق يعلّقان؛ فإن الالتزام لا فقه فيه، وإنما الغرض ذكر أمرٍ محذور لو فرض الوقاع، وهذا يظهر الضّرار، واقعاً كان أو ملتزَماً. هذا مسلك القول الجديد. وأما القول القديم، فإنه مبنيّ على اتباع الحلف بأعظمَ ما يحلف به، وفيه يظهر قصد الرجل في الامتناع، وقد يقلّ الملتَزم (4) حتى يستهان به، فالمولي من يؤكد وعْدَ

_ (1) ت 2: التعويض. (2) في الأصل: إذا. (3) في الأصل وفي (ت 2) أيضاً: لالتزام أمرٍ أو جامع. والمثبت من المحقق. (4) ت 2: المسألة.

الامتناع بذكر أمر عظيم، وكانت العرب تولي، فتذكر اسم الله تعالى، وإن ذكرت بعض الأصنام اعتقدته إلهاً؛ فالإيلاء ينبغي أن يكون على النعت الذي عُهد (1) في الجاهلية؛ فإنه طلاق جاهلي، فغُيّر بعضَ التغيير، فيبقى على اقتضاء الطلاق إذا كان على الصفة المعهودة (2)، فإن لم يكن على تلك الصفة، كان يميناً من الأيمان، هذا توجيه القول القديم. وإذا أردنا أن ننظم القول، قلنا: الحلف بالله على الامتناع عن الوقاع مطلقاً أو مقيداً بمدة زائدةٍ على الأربعة الأشهر إيلاء، ثم ذكر في العلة الجارية مجرى الضبط والحد مسلكان: أحدهما - أنه مولٍ؛ لأنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، وهذا هو المسلك الجديد، ويخرّج عليه أن الحلف بالطلاق والعَتاق والتزامَ ما يلتزِم إيلاءٌ. والمسلك القديم - أن المولي من يمتنع عن الوقاع بذكر الاسم المعظّم، اتباعاً لما عُهد فيه، فيخرجُ الحلف بغير الله وبغير صفاته عن كونه إيلاء. والتفريعُ على الجديد. وقد نجز أحد مقصودي الفصل. 9389 - فأما المقصود الثاني، فهو بيان ما يلتزمه المولي إذا حلف بالله لا يجامع ثم جامع. المنصوصُ عليه في الجديد: لزمته كفارةُ اليمين، وقياسه بيّن. والمنصوص عليه في القديم قولان: أحدهما - ما ذكرناه في الجديد. والثاني - أن الكفارة لا تلزم. ووجه القول الجديد [لائح واضح، ووجه القول القديم أن الأيلاء] (3) منتزَع عن حكم الأيْمان، لما فيه من اقتضاء الطلاق حملاً عليه عند الامتناع من الفيئة، فكأن اليمين مستعملة في اقتضاء هذا المعنى، مصروفةٌ عن وضع الأيمان. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "الإيلاء طلاق، غير أنه غُيّر في الإسلام" (4).

_ (1) في النسختين: الذي عهد إليه في الجاهلية. والتصرف من المحقق. (2) في ت 2: المحمودة. (3) ما بين المعقفين مزيد من (ت 2). (4) أثر عائشة رضي الله عنها لم نقف عليه.

والأصح القول الجديد، وفيه (1) تبقية مُوجَب اليمين وإثباتُ حكم الطلاق عند الامتناع؛ من جهة إظهار الضرار، فلا تناقض بين الحكمين. 9390 - وذكر القاضي رحمه الله في توجيه القول القديم التعلقَ بقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] واستنبط منه أن المولي إذا فاء، أدركه صفح الشرع وعفوهُ، وهذا يشعر بانتفاء الغُرم، ثم تصرّف (2) على موجب هذا الاستدلال، فقال: الفيئةُ (3) مذكورة بعد مضي المدة، فيجري القولان في انتفاء الكفارة في الوطء الجاري بعد انقضاء المدة؛ فإنا نتبع النص (4) في توجيه أحد القولين، حتى إذا فرضت الفيئة في الأربعة الأشهر قبل انقضائها، فالظاهر وجوب الكفارة؛ فإن هذه الفيئة لا ذكر لها في القرآن، ولا متعلق عنده في توجيه نفي (5) الكفارة إلا ظاهر الآية، ثم استقر كلامه على أن نذكر في الفيئة بعد المدة قولين ونذكر في الفيئة دون المدة قولين، والصورة الأخيرة أولى بوجوب الكفارة. وهذا ترتيب رآه (6)، وبناه على التوجيه بظاهر القرآن، وليس بذاك (7)، فليس في القرآن ما يوجب نفي الكفارة، وإنما المقصود من قوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] أن الفيئة لا تَحْرُم باليمين على الامتناع منها، وقد يخطر للمؤمن المعظِّم اعتقادُ تحريم الفيئة. وقد صار إلى ذلك أبو حنيفة (8)، فالآية بظاهرها تدل على نفي الحرج والتحريم عن الفيئة، ثم لو (9) صح ما تخيله القاضي ففي الفيئة في الأشهر قطع الضرار، فإذا كان يستحق المطالَب في التضييق عليه التخفيفَ، فابتداره تدارك الأمر

_ (1) ت 2: وفي. (2) ت 2: ثم يضرب. (3) ت 2: العلة. (4) ت 2: البصر. (5) ت 2: بين. (6) ت 2: وهذا ترتيب رأيناه على التوجيه. (7) ت 2: كذلك. (8) ر. مختصر الطحاوي: 207، المبسوط: 7/ 19، فتح القدير: 4/ 42. (9) ت 2: ثم صح ما تخيله القاضي.

في قطع الضرار أولى بذلك، فلا وجه لما ظنه كيف قدر الأمر. نعم، من الجليات التي ننظمها أن من حلف لا يطأ زوجته أربعة أشهر، ثم جامع في الأشهر، لزمته الكفارة بلا خلاف، فإنه ليس بمولٍ، والضابط في ذلك أن اليمين إذا كانت لا تُفضي إلى توجيه الطلب بالفيئة أو الطلاق، فتعلقُ الحنث فيها الكفارةُ، وسبيلها كسبيل سائر الأيمان. وإن (1) تعلق باليمين خاصّية الإيلاء -وكانت يميناً بالله تعالى- فالفيئةُ ترفع حكم الإيلاء، فيختلف القول في وجوب الكفارة. ومما ذكره القاضي رضي الله عنه، وكان شيخي يحكيه عن القفال أن القولين في انتفاء الكفارة والحلف بالله تعالى يقرب مأخذهما من أن الأيْمان بالطلاق والعتاق والالتزامات هل تكون إيلاء أم لا؟ فإن قلنا: المولي لا يلتزم بالفيئة الكفارة، فلا تعويل على الالتزام، ولا إيلاء إلا الحلف بالله تعالى. وإن قلنا: الحالف بالله يلتزم الكفارة إذا فاء، فلا يبعد أن يكون كلُّ ملتزِمٍ في معناه. وكان شيخنا يقول: هذا الترتيب قريب في مسلك المعنى، ولكنه لا ينتظم على ترتيب الجديد والقديم، وذلك أن قول الشافعي في القديم يختلف في أن المولي بالله هل يلتزم الكفارة، ولا يختلف مذهبه في القديم أن الحالف بغير الله ليس بمولٍ؛ فإن سلك سالك طريقة البناء، فلا بد وأن نخرّج قولاً في القديم في أن الإيلاء يختص بالحلف بالله. فصل قال: "ولا يلزمه الأيلاء حتى يصرح ... إلى آخره" (2). 9391 - اختلفت الطرق في صرائح الألفاظ في الجماع، ونحن نذكر طريقة ضابطة جامعة، إن شاء الله، فنقول: انقسام الألفاظ إلى الكناية والصريح يأتي من ألفاظ

_ (1) ت 2: وما تعلق. (2) ر. المختصر: 4/ 95.

القسم بالله وبصفاته، وهذا الفن ليس من غرضنا، وسيأتي مستقصىً في أول الأيْمان، إن شاء الله عز وجل، وغرض الفصل التعرضُ لانقسام الألفاظ إلى الصرائح والكنايات فيما يتعلق بالجماع. وقد ذكر الشيخ أبو علي ثلاثة أقسام تحوي (1) جميعِ المقصد، فقال: من الألفاظ عن هذا المقصد ما هو صريح، ولا يتطرق إليه تدْيينٌ وأمرٌ في الباطن يخالف الظاهر. ومنها ما يتطرق التدْيين إليه. ومنها ما هو كناية في الظاهر أيضاً. فأما ما هو صريح ظاهراً ولا يُنَوّى (2) فيه أصلاً، فمنه النيّك، فلو قال: لا أنيكك، ثم فسر ذلك بالضم والالتزام والقُبلة، فلا يقبل ذلك منه ظاهراً وباطناً؛ فإن التديين إنما يجري بأحد وجهين: إما أن يكون في اللفظ إشعارٌ به على بُعد كصرف (3) (الطالق) (4) إلى الطلاق عن الوِثاق. وإما ألا يكون اللفظُ مشعراً به، ولكن ينتظم [وصل] (5) اللفظ به، مثل أن يقول: أنت طالق، ويُضمر (إن شاء الله تعالى)، وهذا فيه اختلافٌ قدمته. فأما إذا قال: لا أنيكك، وحَمَل اللفظَ على القُبلة، فلا انتظام لهذا، ولا إشعارٌ به، وكذلك لو قال: لا أُدخل ذكري في فرجك، أو لا أولج. ولو قال للبكر: والله لا أفتضك، فهذا صريح، فلو زعم أنه نوى به الضم والالتزام، فهل يُنوَّى فيه باطناً؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أصحهما - أنه لا يديّن؛ لأن الافتضاض لا يَحْتَمل ما نواه بزعمه.

_ (1) ت 2: يجوز جمع. (2) ينوّى فيه: أي لا يسأل عن نيته فيه، فلا أثر لها. (3) ت 2: كضرب. (4) الطالق: أي في مثل قوله: "أنت طالق" ثم يزعم أنه يعني أنها طالق عن وثاق. (5) في الأصل: وصف اللفظ به.

وفيه وجه بعيد أنه يُنَوّى؛ فإنه ربما يستعار الافتضاض، في استفتاح الأمور، والتديينُ يُكتفى فيه بأدنى إمكانٍ في الاحتمال. 9392 - فأما القسم الثاني، فهو ما يكون صريحاً ظاهراً، ويتطرق التديين إليه، وهذا ينقسم: فمنه ما يكون صريحاً قولاً واحداً، ومنه ما اختلف القول فيه، (1 فأما ما لم يختلف القول فيه 1) فقد اختلف فيه جواب الأئمة بعد الاتفاق على أن الجماع صريح قولاً واحداً، وكان شيخي لا يقطع القولَ إلا في الجماع، وقال صاحب التقريب: الجماع والوطء صريحاًن قولاً واحداً، وقال الشيخ أبو علي: الجماع والوطء والإصابة صرائح في ظاهر الحكم قولاً واحداً، وهذا ما ذكر العراقيون، والقطع في لفظ الإصابة بعيد، وإلحاق الوطء بالجماع غيرُ بعيد. فهذا بيان الأجوبة فيما يتحد القول فيه. فأما ما اختلف القول فيه، فالمباشرةُ، والملامسة، والمماسَّة، والمباضعة، فهذه الألفاظ -وما يصدرُ منها- فيها قولان: أحدهما - أنها صرائح كالجماع. والثاني - أنها كناياتٌ بخلاف الجماع؛ فإن لفظ الجماع شائع في الاستعمال، حتى لا يتمارى السامع في معناه. وهذه الألفاظ التي ذكرناها لا تُستعمل استعمال الجماع، ومن لم يؤثر ذكرَ الجماع، عدل إلى لفظةٍ من هذه الألفاظ، وهذا يوضح أنها ليست في منزلة الجماع. قال صاحب التقريب: الألفاظ الدائرة في الشريعة التي اختلف المفسرون في معناها، فحملها بعضهم على الجسّ، وحملها آخرون على الجماع، اختلف القول فيها حسب اختلاف علماء التفسير. وهذا الذي ذكره ليس بحدٍّ عليه معوّل، والأصل في الباب أن المعنى المطلوب في ذلك (2) وضَعَ اللسانُ فيه الكنايةَ؛ فإن أرباب المروءات يأنفون من الألفاظ الموضوعة

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) ت 2: ذكر.

لهذا المعنى صريحاًً، فكان الوضع على المكاني (1)، ولكن ظهر بعضها وشاع، فالتحق بالصريح الموضوع للمعنى، ولم يظهر بعضها ولم يَشِعْ، فتردد القول، وسبب التردد مع أنها مكاني الاعتناءُ بالمكاني في الباب، وأرى الوقاعَ في مرتبة الوطء وقد سبق التردد فيه. 9393 - فأما ما يلتحق بالكنايات قولاً واحداً، فهو كقول القائل: لأبعدن عنكِ، لا يجمع رأسي ورأسَك وسادة، وألحق الأصحاب بهذا أن يقول: [لأسوأَنّك] (2)، وهذا من أبعد الكنايات. والقِرْبان والغِشيان فيهما ترددٌ: من الأصحاب مَنْ ألحقها بالكنايات التي ذكرناها آخراً، ومنهم من ألحقها بالمسّ والجسّ، ولعل هذا أقربُ؛ فإن (3) لفظ القرب جرى في الكنايات على إرادة الوقاع، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ويجوز أن يكون الإتيان في معنى القِربان قال الله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]. ولا يبعد أن يقال: القِربان والغِشيان إذا استعملا مصدرين؛ فإنهما كالملامسة وما في درجتها مصدراً وفعلاً، فإن قال: لا أقربك، فيلتحق بالكنايات المحضة؛ فإن القِربان يشيع استعماله في الوقاع، والقرب يشبع في غير الوقاع من وجوه القرب المكاني، [والفعل الصادر عن المصدرين كالقرب لا كالقربان] (4). وإذا مهدنا القواعد، ثم شذت لفظة لم نذكرها، لم يَخْفَ على الفقيه إلحاقُها بالأقسام المضبوطة التي ذكرناها. ثم لو نوى بالجماع غير المعنى المطلوب، وزعم أنه أراد الاجتماع، فما ذكره محتمل، ولكن اللفظ شائع، فَيُنوَّى ويديّن باطناًً، ولا يقبل ما قاله ظاهراً.

_ (1) المكاني: أي الكنايات. (2) في الأصل: "لا شريك" وفي (ت 2): "لاسرتك" والمثبت من مختصر المزني، وفي صفوة المذهب رسمت هكذا: "لأسونك" وهي نفس لفظة مختصر المزني. وفي الروضة مثل ما في مختصر المزني: "لأسوأنك". (3) ت 2: فلعل لفظ القرب. (4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2). وعبارتها: والفصل الصادر عن المصدرين ... والتغيير تقدير منا، نرجو أن يكون صواباً.

وقد نجز الغرض في هذا الفن. 9394 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لو قال والله لا أجامعك في دبرك، فهو محسن ... إلى آخره" (1). وهذا كما قال؛ لأنه عقد اليمين على ما هو ممنوع محرّم، فقد وافقت اليمين موجَب الشرع، وكذلك لو قال: والله لا أجامعك في حيضك أو نفاسك، فالذي صدر منه ليس إيلاء، لأنه حلف على الامتناع مما هو ممنوع شرعاً. فصل قال: "ولو قال: والله لا أقربك خمسة ... إلى آخره" (2). 9395 - فإذا قال: "والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم إذا مضت خمسةُ أشهر، فوالله لا أجامعك سنة"، فقد عقد يمينين على مدّتين مختلفتين متعاقبتين، فنتصرّف في المدة الأولى واليمينِ فيها، ونقول: إذا مضت أربعةُ أشهر، توجهت الطَّلِبة من المرأة بحكم اليمين [الأولى] (3). ثم لا يخلو الزوج إما أن يفيء أو يطلق، فإن فاء، انحلت اليمين الأولى، وفي لزوم الكفارة من اختلاف القَوْل ما ذكرناه. ثم لا يحتسب الشهر [الخامس] (4)؛ فإن اليمين قد انحلت فيه، بل نقول: إذا مضى الشهر الخامس، فيدخل مفتتحُ مدّة اليمين الثانية، فإنه كان قال: فإذا مضت خمسةُ أشهر، فوالله لا أجامعك سنة، فإذا مضت أربعةُ أشهر من أول مدة اليمين الثانية، وهي تقع لا محالة بعد انقضاء الشهر الخامس، فإذا انقضت الأربعة الأشهر بعد الخمسة، توجهت الطَّلِبةُ مرة أخرى، فإن فاء، انحلّت اليمين، وفي لزوم الكفارة ما قدمناه.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 96. (2) ر. المختصر: 4/ 96. (3) مزيدة من (ت 2). (4) سقطت من الأصل، وزدناها من (ت 2).

هذا إذا سلك طريق الفيئة. 9396 - فأما إذا وجهنا عليه الطَّلبة في اليمين الأولى وطلّق، فالقول فيه إذا راجع، أو تركها حتى تبين ثم جدّد النكاح - يستدعي تقديمَ أصلٍ مقصود، فنقول: إذا حلف الرجل لا يجامع امرأته وأطلق اليمين، ولم يقيّدها بمدّة، ثم لما طولب، طلّق، فإذا ردَّها، لم يخلُ: إما أن يردّها بالرجعة في العدة، أو يردّها بالنكاح بعد البينونة، فإن راجعها، فيعود حكم الإيلاء بعد انقطاع الطّلبة، والسبب فيه أن البينونة إذا لم تقع، فالنكاح في حكم الاتحاد والتواصل، فإذا راجعها، فهو على حال المولين؛ فإن المولي من يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر شيئاً، وهو بعد الرجعة بهذه المثابة، وللنكاح حكم الاتحاد، فسبيله كسبيل من يحلف على الابتداء؛ فإن دوام اليمين وتصوُّرَ الحنث كابتداء اليمين. فهذا قولنا في اطراد حكم الإيلاء. 9397 - ثم قال الأئمة: إذا كانت اليمين مُطْلَقة، وقد طلق لمّا طولب بعد المدة، فإذا راجع، فلا تتوجه عليه الطَّلِبة على الفور كما (1) راجعها، وهذا من الجليات المتفق عليها، ولا بد من التنبّه له؛ فمعظم غلطات الفقهاء في الجليات. وكان ينقدح في القياس أن يقال: كما راجعها، عادت الطلبة؛ لأن النكاح له حكم الاتحاد، ولم تجر منه الفيئة، والضرارُ دائم، ولكن لما طلق، فقد أتى بأحد ما طولب به، فيؤثّر الطلاق -بإجماع الأصحاب- بقطع حكم الطَّلبة التي توجهت بانقضاء المدة، ثم جُعل في الرجعة كأنه آلى ابتداءً، ولقد كان من قبل مخيَّراً بين أمرين: الفيئة والطلاق، فخرج منه أن الفيئة تَحِل اليمين، وتدرأ الضرار، ويخرج الرجل عن كونه مولياً، والطلاق بعد المطالبة يقطع الطَّلِبةَ الحاقّةَ، ولسنا نعني انسداد باب الطلب؛ إذ لو كنا نعني ذلك، ونكتفي به، لعاد الطلب كما راجع، فكان سقوط الطلب محققاً، وكأنه وفّى بما أفضى إليه انقضاءُ المدة، ثم جعلناه كالمبتدىء؛ لأنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، فصار كما لو ارتجع وحلف، ثم أثّر اتحاد النكاح

_ (1) كما: بمعنى عندما.

في هذا المعنى. وهذه قاعدة لا بد من الوقوف عليها. ولو طلق لما طولب، ثم تركها حتى بانت -واليمين مُطْلقة- ثم جدد النكاح عليها، فلا شك أن اليمين باقيةٌ في باب البرّ والحِنث، -ولو قال رجل لأجنبية واللهِ لا أجامعك، ثم زنا بها، حنِث- ولكن هل نجعله مولياً حتى إذا مضت أربعة أشهر نحكم بتوجيه الطلبة عليه؟ فعلى [قولي] (1) عَوْد الحنث. فإذاً حكم البر والحنث مستمر، والقولان (2) في خاصّية الإيلاء من توجيه الطّلبة المردّدة بين الفيئة والطلاق. هذا بيان الحكم في الأصل الذي قدمناه، ونحن نعود بعده إلى مسألة الكتاب. 9398 - فإذا قال: "والله لا أجامعك خمسة أشهر؛ فإذا مضت، فوالله لا أجامعك سنة"، فإذا مضت أربعة أشهر من المدّة الأولى، وتوجهت الطلبة، فطلق، ثم راجع، فلا تتوجه الطلبة بحكم اليمين الأولى قط؛ فإنه لم يبق من مدتها إلا شهرٌ. ولو كانت اليمين مُطلقة (3 كنا نمهله أربعة أشهر، ثم نعرض الطلبةَ بعدها، فقد حَبِط أثرُ الإيلاء3) في اليمين الأولى. نعم، لو وطىء وهو غير مطالب به، وقد بقي من الشهر الخامس بقية (4)، فيلزمه كفارة يمين. 9399 - وهاهنا سؤال وجواب عنه: إن قيل: إذا فرّعنا على أن المولي لو فاء، لم يلتزم الكفارة، فإذا طلق في الصورة التي ذكرناها، ثم راجع ولا طَلِبةَ، فلو فاء، هل يلتزم الكفارة؟ الوجه عندنا أنه يلتزم، لأنه خرج عن كونه مولياً. ولا يبعد أن يقال: لا يلتزم الكفارة؛ نظراً إلى ابتداء عقد اليمين؛ فإنها لم تعقد على التزام الكفارة (5 والمولي الذي لا يلتزم الكفارة 5)، بالوطء بعد المدة [لو

_ (1) في النسختين: قول. والمثبت تصرف من المحقق، ساعدنا عليه مع السياق عبارةُ ابن أبي عصرون. (2) أي مستمران أيضاً. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (4) في (ت 2): الفية. (5) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

وطىء] (1) قبل انقضاءِ المدة لا يلتزم الكفارة، وإن لم يكن مطالباً بذلك الوطء. وهذا تلبيس؛ فإن ذلك الوطء هو الذي يطالَب به بعد المدة، ولكنه في مَهَلٍ وأجل، والدليل عليه أن الطلب ينقطع بجريانه، فهذا مسلك الكلام. والوجه عندنا ما قدمناه من أن الكفارة تجب في الشهر الخامس بعد الرجعة إذا انقطعت طَلِبةُ الإيلاء؛ فإن الدافع للكفارة ما كان في اليمين من شوب (2) الطلاق، وإذا زال حُكم الطلاق، فاليمين مستمرة على صيغتها وحقيقتها. ثم إذا مضى الشهر الخامس، ودخل أمد اليمين الثانية، فتحسب أربعة أشهر من أول الشهر السادس، ثم تتوجه الطلبة، فإن طلق، انقطع الطلب، فإن راجع، نُظر كم بقي من السنة؟ فإن كان تبقى من السنة أربعةُ أشهر أو أقل، فلا إيلاء، فإن المدة الباقية ليست زائدة على الأربعة الأشهر؛ فلا يفرض الإيلاء فيها، ولكن لو وطىء حنِث في يمينه؛ إذ لو وطئها في البينونة، لَحَنِث، فليتنبه الناظر لانقطاع حكم الإيلاء وبقاء اليمين في البر والحنث. ولو كان الباقي من السنة بعد الخمسة الأشهر أكثرُ من أربعة أشهر، فالإيلاء يعودُ، على معنى أنه إذا انقضت أربعةُ أشهر بعد الرّجعة، توجهت الطلبة، ثم لا يخفى حكم الطلب وما يتعلق به. وكل ذلك والطلاق رجعي، وقد ردها بالرجعة. 9400 - فأما إذا تركها حتى بانت، ثم جدد النكاح [فحيث] (3) لا يعود الإيلاء بالرجعة لقصر المدة لا يعود الإيلاء بعد النكاح. وحيث يعود الإيلاء بعد الرجعة، فهل يعود بعد النكاح؟ فعلى قولي عود الحنث، وقد ذكرنا في تعليق الطلاق وعَوْد الحنث أقوالاً، ورأينا أنه إذا علق الطلاق، ثم نجّز ثلاثَ طلقات، ثم نكح بعد التحلل، فالأصح أن الحِنث لا يعود، فإنه نجّز ما علق؛

_ (1) في الأصل: ولو وطىء. (2) ت 2: شرب. (3) في النسختين: فحنث.

فاقتضى ذلك انحلالَ اليمين. وفيه قولٌ آخر، ذكرناه ووجّهناه بالممكن. فإن قيل: كما فصلتم بين البينونة من غير استيفاء العَدد وبين استيفاء العدد في عَوْد الحنث في باب تعليق الطلاق، فهل تَفْصِلون في عَوْد حكم الإيلاء بين أن يتخلل استيفاء العدد وبين ألا يتخلل؟ قلنا: ينقدح الفصل هاهنا أيضاًً؛ فإن من آلى فحكم الإيلاء توجيه الطِّلِبة عليه بطلاق يملكه، فإذا استوفى الطلقات، فقد زال ملكه، فيظهر زوال المطالبة. ويجوز أن يقال: لا يظهر الفرق؛ لأن المقصود بالطلب الفيئةُ، لا الطلاق، ووجه طلب الطلاق كونهُ مخلِّصاً من الضرار والفيئة توفيةٌ للحق. وإذا نبهنا على تقابل الإمكان اهتدى من تهدَّى. 9401 - ومما نذكره متصلاً بعود الحِنث (1) أن الرجل إذا قال لأجنبية: والله

_ (1) هنا خلل في نسخة (ت 2) حيث سقط منها أربعة فصول كاملة، ومن أعجب العجب أن صفوة المذهب تابعتها على هذا الخلل. فكيف جاز على إمامٍ جليل مثل ابن أبي عصرون؟ والذي يؤكد هذا الخلل ويجعله يقيناً ما يأتي: ا- أن نسخة الأصل (ت 6) تتبع ترتيب مختصر المزني الذي التزم إمامُ الحرمين الجريَ على ترتيبه، على حين قفزت نسخة (ث 2) تاركة أربعة فصولٍ، ثم عادت فأقحمتها في غير موضعها. 2 - أن نسخة (ت 2) فيها علامة لحق واضحة جداً عند بدء هذا الخلل، وربما يكون هذا من عمل أحد المطالعين للنسخة، فلو كان من الناسخ عند معارضتها، لأضاف هذا اللحق على الهوامش كما رأيناه في نسخ أخرى، وكما هو دأب النساخ. 3 - إن أدنى تأمل في المسألة التي وقع فيها الخلل بانتقال (ت 2) إليها، نجد الموضوع مختلفاً تماماً، حيث الحديث عن عتق عبدٍ عن ظهارٍ وما يترتب على ذلك ... وهذا لم يسبق له ذكر، ولا علاقة له بموضوع الفصل، وإنما هو من الفصل الذي قفزت إليه نسخة (ت 2). ثم يبقى السؤال: على فرض أن الإمام الجليل ابن أبي عصرون كان ينظر في نسخة (ت 2) التي بها هذا الخلل، وكان يعمل مختَصَره منها، كيف لم يتنبه لهذا الخلل في السياق؟؟ ولم ينبه عليه؟ والأعجب من ذلك كيف تابع النسخة على هذا الخلل حينما عادت وأقحمت هذه الفصول التي تركتها مرة ثانية؟؟ هذه أسئلةٌ ... ولا جوابَ. والله وحده الملهم للصواب جل وعلا.

لا أجامعك، ثم نكحها، فالحنث والبرّ يجريان لا محالة، ولكن لا يثبت حكم الإيلاء، فإن اليمين ما جرت في النكاح، والمطالبةُ بالطلاق من أحكام النكاح؛ فيستحيل أن يثبت اقتضاءُ الطلاق بيمينٍ سابقة على النكاح، وكذلك لو قال: إن نكحتك، فوالله لا أصيبك، فلا يثبت الإيلاء، ولا أثر للإضافة إلى النكاح. 9402 - وكل ما ذكرناه فيه إذا ذكر يمينين مشتملتين على مدّتين متعاقبتين، فلو قال: والله لا أصيبك خمسة أشهر والله لا أصيبك سنة، فإذا مضت أربعة أشهر، وتوجهت الطَّلبة، ففاء (1)، انحلت اليمينان. فإذا فرّعنا على إيجاب الكفارة، أوجبنا كفارتين أو كفارة واحدة؟ فعلى وجهين يجريان في كل يمينين ينحلاّن بفعل واحد. وإذا قال الرجل: والله لا آكل الخبز، والله لا آكل طعام زيد، ثم أكل الخبز من مال زيد، وانحلت اليمينان، ففي تعدد الكفارة وجهان: أحدهما - التعدّد (2)؛ فإن الحنث متعدّد، وهو المحلّل (3) لا صورة الفعل، ولو قلنا: الفعلُ في [حقيقته متعدد] (4)، لم يكن بعيداً؛ فإنه أكل رغيفاً، وأكل مالَ زيد. ولو توجهت الطلبة، فطلق، ثم راجع، فكما (5) راجع ابتدأنا في احتساب الأربعة الأشهر، ولا نصْبر إلى انقضاء الشهر الخامس؛ فإنه في اليمين الثانية عقد على سنةٍ يندرج تحتها الخمسةُ الأشهر التي حلف عليها أولاً، فإذا راجع، فهو في بقية اليمين الثانية. والمسألة مفروضة فيه إذا بقيت من السنة أكثرُ من أربعة أشهر، لِما تقدم تمهيده. ولا معنى بعد هذا لتكثير الصور، والذي تجدد في المسألة الثانية دخولُ خمسة

_ (1) ت 2: فقد. (2) ت 2: العدد. (3) ت 2: الحالّ. (4) في الأصل، وفي (ت 2): في حقيقة التعدد، والمثبت من صفوة المذهب: جزء: 5 ورقة: 68 يمين. (5) فكما: بمعنى عندما.

أشهر تحت يمينين (1)، وفرضُ انحلالهما جميعاًً بالوطء في الخمسة الأشهر. وإن انقضت من غير وطء، تجرّدت (2) يمين واحدة، ولا يكاد يخفى هذا، ولسنا نترك (3) الصور في أمثال ذلك إلا بعد النظر فيها، والعلم بأنها لا تخفى على متأمل. 9403 - ولو قال: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فإذا مضت، فوالله لا أجامعك أربعة أشهر، فقد قدمنا أنه لا يكون مولياً، وذكرنا فيه الوجهَ الغريب، ولم نعدّه من المذهب، وقد شبه المحققون هذا بما لو اشترى الرجل بصفقاتٍ ألفَ وَسْقٍ في العرايا، وكل صفقة تشتمل على أربعة أوسق، فلا امتناع في ذلك، وإن كنا نمنع اشتمال صفقة واحدة على ستة أوسق، فان كان صاحبُ الوجه الغريب يسلّم هذا، ولا يشبّب (4) فيه بتخريج، فهو لازم، وإن طرد فيه التخريج، لم نملك إلا الاستبعاد (5). وقد يظهر فرق بين البابين؛ من جهة أن رعاية الضرار ظاهرة في الإيلاء، وهذا يعم الجبلاّت؛ فإن ندرت صورة، فالإيذاء باللسان وإظهار الزهد بيّن، وقد يثبت الإيلاء من المجبوب لما في لسانه من الإيذاء، وأما أمرُ الحاجة، فلا يكاد يظهر في بيع العرايا، ولهذا نصحح العريةَ من الغني صاحب البساتين، فتخيُّلُ الحاجة في العرية كتخيّل الحاجة في الإجارة؛ فينفصل من هذا الوجه البابُ عن الباب، وإذا تبين اعتبار الضرر، فالإضرار كائن في الأيمان المتوالية على وجه كونها في اليمين الواحدة. ولا خلاف أنه لو قال: لا أجامعك أربعة أشهر، ثم مكث حتى انقضت، فقال مبتدئاً: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فلا يكون مولياً، والوجه الضعيف إنما يُخرّج إذا صدرت منه الأيمان، وظهر منه قصدُ إطالة مدة الامتناع بالأيمان، وليس من الحزم التفريع على الوجوه البعيدة.

_ (1) ت 2: اليمين. (2) ت 2: تجددت. (3) ت 2: نرى. (4) ت 2: ينتسب. (5) ت 2: لم يملك الاستعباد.

فصل قال: "ولو قال: إن قربتك، فلله علي صوم هذا الشهر ... إلى آخره" (1). 9404 - إذا قال لامرأته: إن قربتك، فعليّ صوم شهر، فالذي جاء به يمين عُلّق - والتفريع على الجديد في أن الإيلاء لا يختص باليمين بالله [-ثم التفريع لا محالة- على أن الحانث] (2) ملتزم، وإذا حَنِث في يمين اللجاج والغضب، ففيما يلزمه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يلزمه الوفاء بما التزم. والثاني - أنه يلزمه كفارة اليمين. والثالث - أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء. وقد نص الشافعي على هذا القول في هذه المسألة من هذا الكتاب، ولم يُلْفَ هذا النص للشافعي إلا هاهنا. وتوجيهُ الأقوال فيما يلتزمه الحانث من يمين اللجاج، والتفريعِ عليها يأتي في كتاب النذور. وقدْرُ غرضنا منها أنه إذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم شهرٍ، فهو مولي؛ فإنه يلتزم بالجماع بعد أربعة أشهر أمراً. وإذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فهو ليس بمولٍ؛ من جهة أن هذا الشهرَ إذا انقضى، انحلت اليمين؛ إذْ لو وطىء، فلا يتصور التزام الصوم على قول الوفاء؛ فإن الصوم إذا أضيف إلى أيام، اختصّ بها، ومن التزم بالنذر صوم يومٍ، تعيّن اليومُ الذي عينه -على الرأي الظاهر- فإذا انقضى الشهر، فالوفاء غير ممكن، وإذا لم يجب الوفاء على قول الوفاء، لم تجب الكفارة. فإن قيل: الكفارة إنما تجري حيث يتصور الالتزام نذراً، فإذا تبيّن أن الحِنْث

_ (1) ر. المختصر: 4/ 97. (2) عبارة الأصل جاءت مضطربة هكذا: "ثم التفريع على الجديد في أن الإيلاء لا محالة على أن الحانث ملتزم ... إلخ".

لا يتصور بعد الشهر الأول، فليس الرجل [مولياً؛ فإن المولي] (1) من يلتزم بالجماع بعد أربعة أشهر أمراً، وقد أوضحنا أن الجماع لو فرض بعد الشهر الأول، لم يجب شيء، ولا نظر إلى إطلاق الامتناع عن الوطء عموماً، بل يجب مراعاة تقدير الالتزام بالوطء بعد أربعة أشهر، وهذا المعنى مفقود في هذه المسألة. قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فليس بمولٍ، كما لو قال: إن أصبتك فلله عليّ صوم أمس"، وغرضه في الشبه بيّنٌ واضح، وإن كان مطلَقُه محوجاً إلى التأويل؛ فإن قول القائل: إن وطئتك، فلله عليّ صوم أمس، فهذا لغوٌ لا انعقاد له في وجه. وإذا قال: إن وطئتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فاليمين منعقدة على الجملة (2)؛ فإنه لو وطىء في ذلك الشهر، كان حانثاً، ملتزماً أمراً على الأقوال الثلاثة. وإذا قال: فعليّ صوم أمس، فهذا لغوٌ لا يتعلق به التزامٌ أصلاً، وإنما شبه الشافعي رضي الله عنه هذه المسألة بالتزام صوم أمس؛ من حيث إنه لا يكون مولياً في المسألتين جميعاًً، فلا أثر لليمين بعد الأربعة الأشهر، فهذا وجه تشبيهه، وغرضُ الكلام في إثبات الإيلاء ونفيه. فصل قال: "ولو قال: إن قربتك، فأنت طالق ثلاثاًً ... إلى آخره" (3). 9405 - الشافعي رضي الله عنه أدار معظم مسائل الإيلاء على الألفاظ التي هي كناية في الجماع، كقوله: "إن قربتك". الأصحُّ أن هذا كناية، وإنما فعل الشافعي هذا لأنه مهّد القول في الصريح والكناية، ثم اللائق بحفظ المروءة الكنايةُ في هذه المعاني، فلم يُؤْثر ذكرَ الصريح، وعَلِم أن ذلك يستبان من غرضه.

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) ت 2: على الكلمة. (3) ر. المختصر: 4/ 97.

فإذا قال الرجل لامرأته: إن جامعتك، فأنت طالق، فهو مولٍ؛ لأنه لو جامع بعد أربعة أشهر التزم بالجماع الطلاقَ، والمعنيُّ بالالتزام وقوعُه، وفواتُ حق النكاح به - والتفريع على الجديد- فإذا ثبت أنه مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، توجهت الطّلبة. ثم لا يخلو إما أن يؤثر الفيئة، وإما أن يؤثر الطلاق، فإن فاء، فكما (1) غيّب الحشفةَ، طُلقت ثلاثاًً؛ فإن اسم الوطء وحكمه يتحققان بتغييب الحشفة، ثم إن غيّب وكما غيب نزع من غير مُكث، لم يلزمه حدٌّ ولا مهر، فإن التغييب وقع في ملكه، ثم لم يعرِّج (2) على أمرٍ إلا على الترك، وتركُ الشيء والانكفافُ (3) عنه ليس في معنى الإقدام عليه؛ ولهذا قلنا: من أدرك أول الفجر، فقرن به النزعَ (4) -وكان مخالطاً أهله- صح صومه. 9406 - وإن (5) استدام ومكث، أو أَوْعب ولم ينزع (6)، فإن كانت جاهلة، فقد سكت الشافعي عن وجوب المهر، ونص في الصوم على أن من كان مخالطاً أهلَه، فطلع الفجر، فمكث ولم ينزع، قال: يلزمه الكفارة. فمن أصحابنا من قال: في المسألتين قولان بنقل الجوابين: أحدهما - يجب المهر والكفارة؛ لأنه بالمكث والاستدامة مجامع، والاستدامةُ استمتاعٌ حقه أن يُتقَوَّم، وهو مناقض للصوم أيضاًً، فلا وجه لاعتبار (7) الابتداء مع العلم بأن صورة الفعل وجنسه هو المعنيُّ بالنهي (8). والثاني - لا يلزمه المهر ولا الكفارة؛ لأنهما لم يتعلقا بأول الفعل والفعل متحد، فلا يتعلقان بدوامه.

_ (1) فكما: أي عندما. (2) ت 2: يغرم. (3) ت 2: وترك الاستيلاء ناف عنه. (4) ت 2: فقرن به الشرع وليس مخالفاً أهله. (5) عَوْدٌ إلى تصوير حالة المولي، وليس الصائم. (6) ت 2: أو ادعت ولم يفرغ. (7): لاعتنائه والابتداء. (8) ت 2: باليمين.

ومن أصحابنا من لم يوجب المهر، وأوجب الكفارة في محلها، وفرّق بأن قال: إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاً، ثم وطئها، فأول الوطء يتعلق به مهر النكاح؛ فإن المهر المسمى في النكاح يقابل كل وَطْئِه، ولا بد من هذا التقدير حتى لا تعرى وطأة عن مقابل، وإذا كان كذلك، امتنع وجوب المهر؛ [لاستدامة] (1) الوطء، فإنا لو قلنا بذلك، لعلّقنا (2) بأول الوطء مهرَ النكاح، ثم علقنا بدوامه مهراً مجدّداً، ولا سبيل إلى ذلك. وأما الكفارة؛ فإنها لم تتعلق بأول الوطء الواقع في الليل، فإذا علقنا الكفارة بدوامه، لم يكن جامعاً بين كفارتين بوطء واحدٍ. ثم إن لم نوجب مهراً بالاستدامة عند فرض الجهل، فلو علم تحريم الاستدامة، فالأصح أن الحدّ لا يجبُ؛ لأن أول الفعل واقعٌ في الملك. ومن أصحابنا من ذكر وجهاً ضعيفاً في وجوب الحد، وهو مزيف لا تعويل عليه. 9407 - ولو غيب الحشفة، وحكمنا بوقوع الثلاث، ثم إنه نزع وأعاد فالذي قطع به الأصحاب أن هذا ابتداء وطء، فإن كان مع الجهالة، لزم المهر، وإن كان مع العلم، تعلّق الحدّ به؛ فإنه ابتداء فعل وإنشاء وطء. قال شيخي أبو محمد رضي الله عنه: إذا نزع ثم أعاد، فهو وطء مبتدأ لا محالة، وإن نزع ثم أعاد في (3) أزمنة متواصلة قبل قضاء [الوطر] (4)، فقد يقع مثله في الوطاة الواحدة في ترديدات [الرهز] (5)، فهل يجب مهر بما فعل؟ فعلى وجهين مرتبين على

_ (1) في الأصل: لاستقامة. (2) ت 2: أخلفنا. (3) ت 2: ثم أعاد مراراً منه متواصلة. (4) في الأصل: قبل قضاء الوطء. (5) في الأصل: كلمة غير مقروءة، وفي (ت 2): "الدهر"، ولعلّها: مصحفة عن كلمة بمعنى الوقاع، وإلا فما معنى ترديدات الدهر؟ بعد أن كتبنا هذا بسنوات، وعندها كان الكتاب ماثلاً للطبع وفي محاولة أخيرة للبحث عن معاني صور الكلمة في مختلف احتمالاتها، وجدتُ كلمة (الرعز): رعز الجارية: جامعها. وذلك في القاموس المحيط (فقط) فدفعنا ذلك إلى مزيد من البحث في معاجم المعاني وغيرها =

الوجهين في [الاستدامة] (1)، ولا شك أن هذه الصورة أولى بلزوم المهر. ولم أر هذا إلا لشيخنا، وباقي (2) الأصحاب قاطعون بأن الإيلاج بعد النزع وطء مبتدأ في [كل] (3) حكم. والممكن في توجيه ما ذكره ما أجريناه في التصوير، حيث قلنا: هذا يعدّ وطأة واحدة، ويمكن أن يشبّه باتحاد الرضعة، والصبيُّ قد يلتقم الثدي ثم يلفظه ويلهو ثم يعود ويلتقم، والكل رضعة، ولا تعويل على هذا الوجه، مع ما ذكرناه. وحيث ذكرنا المهر، فلا شك أنه مفروض في جهلها، ولا أثر لعلمه في إسقاط المهر، ومن استكره أمرأة وزنى بها، التزم الحدّ بزناه، والمهرَ لكونها محترمة. 9408 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن من علق الطلاق الثلاث بالوطء -كما صورنا- فهل يحل له الإقدام على الوطء على أن يغيب الحشفة وينزع؟ قال العراقيون: يحل له الإقدام؛ فإنه إلى حصول التغييب متصرّفٌ في محل حقه وحِلّه، وإذا ابتدأ النزعَ متصلاً بحصول التغييب، فهذا تارك، ولا معصية على تاركٍ لفعله متردد بين الوقوع في محل الملك وبين الترك. وحكَوْا عن ابن خَيْران أنه قال: لا يحل له تغييب الحشفة، فإنه لا يقدر على وَصْل

_ = فوجدنا صاحب تحفة العروس ونزهه النفوس (الأديب محمد بن أحمد التجاني وهو من علماء القرن الثامن الهجري) عقد باباً بعنوان (الرهز في الجماع) بمعنى الحركات التي تصدر عن المتناكحين، ثم وجدنا هذه اللفظة (الرهز) في اللسان، والأساس، ولم نجدها في القاموس فاستدركها عليه الزبيدي. والرهز هي الصورة الأقرب إلى ما في المخطوط من الرعز، فاثبتناها. وقد جاءت الكلمة بمعنى الوقاع فعلاً كما قدرنا. والحمد لله. (1) في الأصل: الاستدراك. (2) حكى الرافعي غير هذا عن الأصحاب، فقال: " ... إن كانا عالمين بالتحريم، فوجهان: أحدهما - أنه يجب الحد، لأنه وطء مستأنف، خالٍ عن الشبهة، وعلى هذا فلا مهر ولا نسب ولا عدّة. والثاني - المنع (أي من الحد) لأن الناس يعدّون الإيلاجات المتتابعة وطأة واحدة، ... ويحكى هذا الوجه عن أبي الطيب بن سلمة، ورجحه الشيخ أبو حامد ومن تابعه. والأول أقوى، وهو اختيار القفال، والقاضيين الطبري والروياني" (ر. الشرح الكبير: 9/ 207). (3) في الأصل: في حد حكم.

أول النزع بآخر التغييب، حتى لا يقع بينهما فصل، فإذا كان يعلم على الجملة خروج هذا عن الإمكان، فلا يجوز الإقدام. والأولون يبنون الأمر على أن يصل النزعَ بالتغييب، فالفقه صحيح في وضعه، ثم ما أطلقه من الوصل والفصل لا يتحدد بالزمان الذي لا يُحَس، وإنما تتعلق التكاليف نفياً وإثباتاً بما يدخل في الحس ويفرضُ دركه. 9409 - هذا كله تفصيل الأحكام المتعلقة بالوطء إذا كان قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم حكم الطلب فيه أن الأربعة الأشهر إذا انقضت ورفعته الزوجة إلى القاضي، فإن وطىء، سقطت الطلبة والحكم ما ذكرناه، وإن طلق [طلقة] (1) رجعية، انقطعت الطَّلِبة، ثم إن راجعها، فاليمين قائمةٌ، فنضرب مدة أخرى، فإذا انقضت، توجهت عليه الطلبة، فإن طلق، ثم راجع، ضربنا عليه مدة أخرى، ثم تعود الطلبة، فإما أن يطلّق فتحرم عليه، حتى تنكح غيره، وإما أن يطأ، فتقع الطلقة الثالثة، فلا محيص عن الطلاق ما أصرّت على الطلب إلا أن يطلقها طلقة، ويتركها حتى تنسرح بانقضاء العدة، فإذا جدد عليها نكاحاً، وقع التفريع في عَوْد الحِنْث، فقد نقول: لا تعود الطلبة، ولو وطئها في النكاح الثاني، لم تُطلَّق، تفريعاً على أن الحِنث لا يعود، فهذا هو المُخلِّصُ لا غيرُ. 9410 - وإن قال ابتداء: إن وطئتك، فأنت طالق، فعلّق طلقة واحدة وما كان دخل بها، فهو مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، فإن فاء، انحلت اليمين، ووقعت طلقة رجعية، فإن المسيس، وإن لم يكن متقدِّماً على هذه الحالة، فالطلاق غيرُ متقدم على المسيس، وقد أشرنا فيما تقدم إلى مسلكين في أن الطلاق المعلّق بالصفة يقع مترتباً على الصفة أو مقترناً بها، وأوضحنا أن أقوال الأصحاب في المسائل دالّة على ترتب الطلاق على الصفة، ولو رُدِدْنا إلى الأخذ بصيغة اللفظ، لم يبعد أن نقول: يقع الطلاق مع الصفة، وهذا مما سبق تمهيده، والغرض من إعادته الآن أنا إن جرينا على موجب الشواهد، فالطلاق يترتب على الوطء، والتغييبُ يقع في

_ (1) زيادة من (ت 2).

النكاح، فيكون الطلاق بعد الوطء، هذا معنى الترتب، وإن لطف الزمان، فيظهر الحكم بكون الطلاق رجعياً (1). وإن ذهب ذاهب إلى أن الطلاق يقع مع الصفة، فالعدّة تجب مع التغييب، والوطء يقيّد (2) النكاح عن البينونة، فيقع الطلاق على تقدير الاقتران مع المقيّد ومع العدّة، واتصال العدة على هذا الترتيب بالنكاح، وهذا واضح لاخفاء به (3). 9411 - وليس يخفى الترتيب فيه إذا لم يُؤْثر الوطءَ لما طولب، واختار الطلاق. وقد تقدم في ذلك ما فيه مقنع، وقد تطلّق ثلاثاًً بتكرر المطالبات عند تخلّل الرجعات والردّات، وهذا خلاف الرأي؛ فإنه كان لا يقع بالوطء إلا طلقة واحدة مع انحلال اليمين بها. ويلتزم بالامتناع عنها ثلاث طلقات، وهذا لرغبته عن الوطء.

_ (1) يظهر الحكم بكون الطلاق رجعياً، لأنه يقع بعد الوطء، فتصير الزوجة مدخولاً بها، فالطلقة التي تقع عليها تقع رجعية، ولاتفع بائنة لخروجها عن صفة غير المدخول بها إلى صفة المدخول بها بسبب الوطء الذي ترتب عليه الطلاق. (2) يقيّد النكاح: أي يقرره ويثبته. (3) معنى هذا الكلام أن الطلاق يقع رجعياً، مع قولنا: إن الطلاق يقع مع الصفة مقترناً بها، وليس مترتباً عليها؛ ذلك أن العدّة تجب عليها مع تغييب الحشفة، وبوجوب العدة تكون مدخولاً بها، وطلاق المدخول بها يكون رجعياً. وقد لخص الشيخ العز بن عبد السلام هذا الفرع بقوله: "إذا قال لغير الممسوسة: إن وطئتك فأنت طالق، ثم وطىء بعد التعليق، انحلت اليمين بطلقة رجعية، وإن قلنا إن الطلاق يقع مع الصفة أو يترتب عليها" (ر. الغاية في اختصار النهاية: جزء: 3 ورقة: 172 يمين). أما الرافعي فقد قال: "هذا فرعٌ ذكره الإمام -رحمه الله- في هذا الموضع، ووافقه صاحب الكتاب، (يعني الغزالي) وحظ الإيلاء منه أن يكون مولياً بهذا التعليق، فأما أن الطلاق يقع رجعياً فلا اختصاص له بالباب، وإنما كان رجعياً لأن الطلاق المعلق بالصفة إن وقع مترتباً عليها، متأخراً عنها، فهذا طلاق وقع بعد المسيس، فيكون رجعياً، وإن وقع مقارناً لها" ... فالوطء الجاري هنا يقتضي العدّة؛ فيكون الطلاق مع العدة، وذلك يقتضي ثبوت الرجعة" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/ 207).

9412 - ثم قال: "لو قال: أنت عليّ حرام ... إلى آخره" (1). هذا مما ذكرناه في كتاب الطلاق ونعيد طرفاً منه لما يتعلق بغرض الكتاب، فإذا قال: أنت عليَّ حرام، ونوى الطلاق، كان طلاقاً، وإن نوى الظهار، كان ظهاراً، وإن نوى تحريمَها في نفسها، التزم كفارة اليمين، ولو نوى عقد يمينٍ في الامتناع عن وطئها، فظاهرُ المذهب أنه لا يكون حالفاً مولياً، وفي المسألة وجهٌ بعيد أنه يصير مولياً. وهو نأيٌ عن التحقيق؛ فإنه لو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أجامعك، ثم قال للأخرى: أنت شريكتُها، ونوى أن يصير مولياً عن الثانية كما أنه مولٍ عن الأولى، لم يصر مولياً عنها؛ لأنه لم يأت في حقها بلفظ اليمين، وذِكْرِ الاسم المقْسَم به، وهذا متفق عليه؛ فإذا قال: أنت علي حرام، ونوى القَسَم بعُد الحكمُ بتحصيله كما ذكرنا. ومن أصحابنا من جعله مقسِماً، بخلاف ما لو قال: أشركتك مع التي آليتُ عنها؛ فإن التحريم مذكور في كتاب الله تعالى مع الاقتران بكفارة اليمين، فهو قريب من اليمين وإن لم يَكُنْها، فكان هذا تقريباً في وضع الشرع، ولا تعويل على ذلك ولا اعتداد به. والمذهب أنه لا يصير مولياً بقوله: حرمتك، وأنت علي حرام. وإن نوى الإيلاء. فصل قال: "ولو قال: إن قَرِبتُك، فغلامي حر عن ظهاري إن تظاهرت، لم يكن مولياً ... إلى آخره" (2). 9413 - قد ذكرنا أن مسائل الكتاب نفرعها على القول الجديد، فنقول: المولي من التزم بالوطء بعد الأربعة الأشهر أمراً، وحرّرْنا المذهب فيه بما يضبطه، وقد ذكر الشافعي رضي الله عنه فصولاً متواليةً في تعليق العتق المصروف إلى الظهار المنجّز أو

_ (1) ر. المختصر: 4/ 97. (2) ر. المختصر: 4/ 98.

الظهار المعلّق، ونحن نقدم على الفصول أصلاً، فنقول: إذا كان الرجل قد ظاهر عن امرأته، ثم قال لأخرى: إن وطئتك، فعبدي هذا حر عن ظهاري، فهو مولٍ عن هذه؛ فإنه (1) لو وطىء، وقع العتق لا محالة، فهو ملتزم بالوطء بعد أربعة أشهر حصولَ العتاقة في العبد الذي عينه، ولولا هذا التعليق، لكان العتق لا يحصل فيه، ولا نظر الآن في أن العتق هل يقع عن كفارة الظهار أم لا؟ فإن المقدار المكتفى به وقوعُ العتق بعين هذا العبد، وهو متعلِّق بالوطء المقدر بعد الأشهر، ولئن كان العتق منصرفاً إلى الظهار، فوقوعه في هذا العبد بعينه من آثار اليمين. ولو قال: إن جامعتُك، فلله عليّ أن أعتق عبدي عن ظهاري، وكان الظهار كائناً واقعاً بإحدى امرأتيه، فالقول في ذلك يستند إلى تمهيد أصلٍ، فنقول: إذا عين رجل يوماً لصوم منذور في ابتداء الالتزام، فقال: لله عليّ أن أصوم اليوم الفلاني، فالصوم يلزمه، والمذهب أنه يتعين له اليوم الذي عينه. ولو قال: لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم، لزمه الوفاء بنذره، إذا صححنا النذر - وكذلك إذا قال: لله علي أن أعتق هذا العبد -وصححنا النذر- فعليه الوفاء بتعيين ذلك العبد في الإعتاق. هذا إذا اقترن الالتزام والتعيين. فأما إذا سبق لزومٌ في الذمة غيرُ مرتبط بتعيينٍ، ثم صرفه بالتزام مبتدأٍ إلى معيّن، فقال من عليه صومٌ من قضاءٍ، أو نذر، أو كفارة: لله علي أن أوقع الصومَ المفروض في يومٍ عيّنه، فلا يلزمه الوفاء بهذا التعيين، باتفاق الأصحاب، وكذلك لو التزم صرف دراهم عيّنها إلى زكاته، أو إلى نذرٍ سابق مستقر في ذمته، فلا يلزمه التعيين، فليس كما لو اقترن التعيين بالالتزام؛ فإن التعيين يقع [لازماً] (2)، فلا يبعد أن يثبت، [وينضم] (3) إلى ذلك أن لفظه يتضمن حصرَ اللزوم فيما عينه ونفْيَه (4) عما عداه، فلو

_ (1) ت 2: فهو مولٍ عن هذه مظاهر عن هذه. (2) في الأصل، كما في (ت 2): شائعاً. والمثبت من صفوة المذهب. (3) ت 2: أو يتضمن إلى ذلك، وفي الأصل: أن ينضم إلى ذلك، والمثبت تصرفٌ وتقدير من المحقق. (4) ونفيَه: معطوف على (حصرَ).

حكمنا بأنه (1) لا يتعلق بما عينه، لاقتضى هذا أن نُلزمه ما لم يلتزمه، وهذا محال، وإحباطُ لفظه لا سبيل إليه وفاقاً. وَيرِدُ على ذلك أنه لو عين مع التزام الصلاة وقتاً لها أو مكاناً، فالصلاة تلزمه، ولا يتعين الزمان والمكان. وهذا من مشكلات المذهب في قاعدة النذر؛ لما نبهت عليه من أن لفظه لا يتضمن التزاماً مطلقاً، فإن لم يصح التخصيص، فالوجه (2) إبطال لفظه. وعن هذا أخرج بعض الأصحاب قولاً في أن اليوم لا يتعين للصوم المنذور، وإن اقترن تعيينه بالالتزام، وسيأتي هذا في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى. وإذا انتهينا إلى غائلة كتاب نحتاج في حلها إلى تمهيد أصل في ذلك الكتاب، فلا مطمع في الخوْض (3)، وليكْتف الناظر بالإحالة عليه. هذا في تعيين مالٍ بعد الوجوب أو تعيين يوم بعد لزوم الصوم. 9414 - فأما إذا قال: لله علي أن أعتق هذا العبد عن العتق اللازم في ذمتي عن نذر أو كفارة، فالذي يقتضيه النص وعليه الأصحاب أنه إذا نذر ذلك، لزمه الوفاء بنذره، حيث يصح النذر، وفرّقوا بين هذا وبين تعيين اليوم بعد لزوم الصوم بأن قالوا: لا حَقَّ لليوم في الصوم، وكذلك القول فيما تعينّ من المال، وللعبد حق في العتاقة، ولهذا يدّعي العتقَ على مولاه، ويحلف يمين الرد إذا نكل المَوْلى عن اليمين، ففي هذا حق بيّنٌ للعبد وغرضٌ ظاهر، فيجوز أن يلتزم صرف الواجب السابق إليه. وهذا مشكل؛ فإن الملتزَم بالنّذر (4) قرباتٌ بأنفسها، أما تحصيل أغراض،

_ (1) عبارة ت 2: "فإن حكمنا لا يتعلق بما عينه، لاقتضى هذا أن لا يلزمه ما لم يلتزم" وفيها أكثر من تصحيف. (2) فالوجه إبطال لفظه: المعنى هنا أنه إذا لم يصح التخصيص، فقد بطل لفظه، فلما اختار الأصحاب ذلك، عبر بقوله: فالوجه إبطال لفظه، وهذا هو صورة الإشكال. (3) في الخوض: أي في كتاب النذور. (4) ت 2: بالثأر مرتاب بأنفسها.

فيبعد (1) التزامه، وما يقتضيه قياس قول الأصحاب أنه لو نذر أن يصرف زكاته إلى أشخاصٍ من الأصناف يلزمه الوفاء، فإن طردوا القياس فيه، كان بعيداً، وإن سلّموا أنه لا يجب ذلك، فلا فرق بين تعيين العبد لعتاقةٍ مستحقةٍ قبلُ (2) وبين تعيين أشخاص من أصنافِ الزكاة. وقد قال القاضي: إذا عين مساكين لصرف زكاته وصدقاته إليهم، لزمه الوفاء بذلك، قياساً على ما لو عيّن [عبداً لصرف] (3) العتق المستحَق إليه. والقولُ الكامل فيه أن التعيين ليس من القربات الملتزَمة المقصودة بالنذر، ولا قربة في تعيين سالم عن غانم. قال المزني: الأشبه بقول الشافعي أنه لا يجب الوفاء بالتعيين، واستدلّ باليوم (4) في الصوم، كما ذكرناه، وهذا الذي ذكرناه أورده على صيغة التخريج (5) على المذهب، ويجب عندي عدُّ مثلَ ذلك من متن المذهب؛ فإن تخريجه على قياس الشافعي أولى من تخريج غيره. هذا بيان المذهب نقلاً، وتخريجاً، وتنبيهاً على الإشكال، وهذا بيان الأصل الذي رأينا تقديمه. 9415 - عاد بنا الكلام إلى مسائل الكتاب المتعلقة بالمقصود. فإذا قال: إن قربتك، فعبدي حر عن ظهاري، وكان ثبت الظهار وتقدم، فهو مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، توجهت عليه الطَّلبة؛ فإن فاء، حصل العتق، وسنتكلم في وقوعه عن الظهار في آخر الفصل، عند نجاز غرض الإيلاء، وإنما جعلناه

_ (1) قال ابن أبي عصرون: لا بُعْد فيه؛ فإن غرض العبد هو تحصيل الحرية، وهو نفس القربة (صفوة المذهب: 5 ورقة: 71 يمين). (2) ت 2: مستحقة قد وهى تعيين أشخاص ... (وهذا من أقبح وأبشع التصحيف). (3) في الأصل، وكذا في (ت 2): "قياساً على ما لو عين عند الصّرف العتق" هكذا في النسختين بوضع علامة (الشدّة) على الصاد، وبنقطة واضحة على النون في (عند). وهذا من التحريف الذي لا يكاد يدرك. (4) ت 2: واستندت باليوم والصوم. (5) ت 2: التحريم.

مولياً؛ لأن العتق يحصل بالوطء بعد أربعة أشهر، سواء انصرف إلى الظهار أو لم ينصرف. ولو قال: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن تظاهرت، فهذه المسألة مفروضة فيه إذا لم يكن تظاهر من قبل، ونحن نجريها على المذهب الظاهر لينتظم الفصل، ثم نعيده بعد ذلك في فصل آخر لغرضٍ آخر، فإذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تَظَهَّرْتُ، فلو وطئها، لم يعتق العبد، فإنه علق عتقه بالوطء والتظهّر، والعتقُ المعلّق بصفتين لا يقع بإحداهما، وهو بمثابة ما لو قال لعبده: أنت حر إن دخلت الدار إن (1) أكلت، فلا يحصل العتق بمجرد الدخول، ولو تظاهر، فلا شك أن العتق لا يحصل ما لم يطأ. فيخرج من ذلك أنه قبل أن يتظهر لا يلتزم بالوطء شيئاً، فليس مولياً إذاً [على] (2) ما نُجريه في هذا الفصل (3). ولو كانت المسألة بحالها، فتظاهر عنها، فقد صار إلى حالةٍ لو وطئها الآن، لحصل العتق، فلا جرم يصير مولياً بعد الظهار. فحصل مما ذكرناه أنه لا يكون مولياً في ابتداء أمره؛ لأن الوطء لا يحصّل العتق، فإذا ظاهر، فيصير مولياً؛ لأن الوطء يحصّل العتاقة بعد الظهار، هذا غرض الإيلاء من هذا الفصل. وقد شبَّبْنا في أثناء الكلام بخلافٍ فيه إذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرت، وسنذكر أن من أصحابنا من يجعله مولياً قبل التظهر على أصلٍ سنشرحه من بعدُ، ولكن لما كان هذا الوجه ضعيفاً لم نَبْنِ الفصلَ عليه. 9416 - ونحن نذكر التفصيل في أن العتق إذا حصل هل يقع عن الظهار؟ ونوضِّح في ذلك المذهب في الصورتين اللتين ذكرناهما، ونبدأ بالصورة الأخيرة.

_ (1) ت 2: وإن أكلت. (2) زيادة من المحقق، وهي في (ت 2). (3) في (ت 2): فليس مولياً إذاً على ما يحويه هذا الفصل.

فإذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرتُ، فإذا تظاهر، ثم وطىء، فالعتق يحصل لا محالة؛ فإنه علّقه بصفتين، وقد وُجدَتا، وأطبق الأصحاب على أن العتق لا يقع عن الظهار في هذه الصورة، وعلّل الأصحاب ذلك بعلّتين: إحداهما - أنه علق العتق قبل الظهار، ولو نجّز عتقاً عن الظهار قبل الظهار، ثم ظاهر، لم ينصرف العتق إلى الظهار يقيناً، فإذا امتنع التنجيز عن الظهار، امتنع التعليق عنه في الوقت الذي يمتنع التنجيز فيه؛ فإن صحة التعليق وفسادَه مرتبط عند الشافعي بصحة التنجيز وفسادِه. هذا بيان إحدى العلتين. ومن أصحابنا من علّل بأن قال: المولي جعل العتق موجب حنثه في اليمين، ويتخلص به، والحنث يقتضي حقاً على الحانث، فإذا كان يتأدى بالعتق حقُّ الحِنْث، فيستحيل أن ينصرف إلى الظهار؛ إذ لو كان كذلك، لتأدى حقّان بعتقٍ واحد. فهذا تفصيل القول في ذلك. 9417 - ولو كان قد ظاهر أوّلاً، ثم قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، ثم وطىء، فلا شك في حصول العتق، وهل ينصرف العتق إلى تلك الجهة وهي جهة الظهار؟ فعلى وجهين مشهورين بناهما الأصحاب على العلّتين المذكورتين في (1) الصورة الأولى: فإن قلنا: العلة في تلك الصورة أن التعليق تقدم على الظهار، فالعتق في هذه الأخيرة يقع عن الظهار؛ فإن الظهار مقدم على التعليق. وإن قلنا: العلة في الصورة الأولى أن العتق يقع عن جهة الحِنْث في اليمين، فلا يقع العتق في الصورة الأخيرة أيضاًً عن الظهار؛ فإنه تأدّى بالعتق حقُّ الحِنث في هذه الصورة. ولو كان الرجل ظاهر عن امرأته، ثم قال لعبدٍ من عبيده: إن دخلت الدار، فأنت حر عن ظهاري، فإذا دخل الدار عَتَق، وفي انصرافه إلى الظهار الوجهان؛ إذ لا فرق

_ (1) في الأصل، وكذا في (ت 2): على العلتين المذكورتين إحداهما ني الصورة الأولى. والتصرف والحذف من المحقق.

بين أن يعلّق العتق عن الظهار على وطء أو دخول دارٍ. ولكن الوجه عندنا القطعُ بانصراف العتق إلى الظهار إذا كان الظهار مقدماً على التعليق والإيلاء؛ فإن من يعلِّق عتقاً بصفة ليس يلتزم أمراً، وإنما يوقعه عند وجود الصفة، فإذا وُجد متعلَّق العتق، جُعل ذلك بمثابة إنشاء العتق عند وجود الصفة، فلا معنى لقول من يقول: تأدى بالعتق حقٌ غيرُ الكفارة؛ فإنه لا حق يُتخيل (1). نعم، قد يعترض بعد تزييف هذا الوجه أن الأمر إذا كان كذلك، فالمولي ليس يلتزم بالوطء شيئاً، والجواب عنه أنه التزم إيقاعَ ما عليه، أو تعجيلَ ما ليس متضيقاً (2)، ولا يمتنع تعجيله، وإذا استدّ النظر في ذلك، تبين للناظر أن المعجّل هو المستحق في الكفارة، والتعجيل متعلّق الإيلاء، وإنما يمتنع انصراف العتق إلى الكفارة إذا كان في عينه استحقاقٌ من وجه، وهذا بمثابة تعليل الأصحاب امتناعَ صرف عتق المكاتب إلى الكفارة؛ فإنه مستحَقٌ للمكاتب على مقابلة عوض، فامتنع وقوعه على حكم الكتابة منصرفاً إلى الكفارة. فإن قيل: هلا قلتم: يصح تعليق العتق فيه إذا قال: عبدي هذا حر عن ظهاري إن تظهرت؛ فإن التعليق صادف ملك المعلِّق، والعتق قابل للتعليق، فالوقوع مرتب على الوجوب، وهلا كان هذا كما لو قال للحائض: أنت طالق للسُّنة، وهو لا يملك الطلاق السني تنجيزاً، ولكن يكفي كونُه مالكاً للطلاق في تصحيح تعليق الطلاق السُّني؟ قلنا: السيد وإن كان مالكاً لعتق عبده، فليس يملك تأديةَ الكفارة (3)، فوقع التعليق عن الظهار تصرُّفاً في تأدية ما لا يملك تأديته، ووقع من وجهٍ تصرفاً في الملك، فمن حيث كان تصرفاً في الملك، نفذ العتقُ، ومن حيث إنه تصرف في تأدية دينٍ لا يجب ولا يملك تأديته لم يقع عن تلك الجهة؛ فإن من لا يملك شيئاً لا يملك التصرف فيه.

_ (1) لا حق يتخيل: أي لا حق هنا أصلاً غير ما علّق عليه. (2) ت 2، وكذا صفوة المذهب: ما ليس منصرفاً. وهو تصحيف واضح. والمعنى أنه التزم تعجيل واجب عليه، وهو التكفير عن ظهاره بالعتق، وهذا الواجب ليس مضيقاً، بمعنى أنه يسعه تأجيله والتراخي في أدائه، ولكنه يجوز تعجيله. (3) لأنه لم يظاهر بعدُ، فكيف يؤدي الكفارة قبل أن تستقر في ذمته.

فأما الطلاق السني والبدعي، فإنه يتعلق بالوقت والزمان، وقوله: أنت طالق للسنة بمثابة قوله: إذا طُهرتِ، فأنت طالق، فليست السُّنة جهةَ استحقاق حتى يتصرّف المالك فيها. هذا تحقيق القول في هذا الفصل. 9418 - ونحن نختتمه بصورة، فلو قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، واقتصر على هذا، قال الأصحاب: إن كان ظاهر، فقد مضى التفصيل فيه، وإن لم يكن قد ظاهر، جعلناه مقرّاً بالظهار، وفائدة ذلك في الظاهر أنا نجعله مولياً في الحال، ونجعله مظاهراً إن عين التي أضاف الظهار إليها، وأما أمر الباطن، فلا يخفى: لا نجعله مولياً باطناًً، ولا نجعله مظاهراً؛ فإن قوله هذا لا يصلح لإنشاء ظهار؛ إذ هو إخبار مصرّح به. فإن قيل: فلو ظاهر هل يصير مولياً باطناً؟ وهل ينزل هذا منزلة ما لو قال: عبدي حر عن ظهاري إن تظهرت ثم تظهّر؟ قلنا: لا معنى لهذا السؤال في الباطن، فإن نوى ما ذكره السائل وجرّد القصد إليه، فيثبت، واللفظ صالح له وإن لم يكن مستقلاً بإفادة، وقد ذكرنا في مسائل الطلاق أن ما يقع في الباطن يكتفى فيه بعُلقة من الاحتمال. فإن لم يجرد قصده الباطن إلى تقدير ظهارٍ سيكون، لَمْ يثبت حكمه في حقه لا محققاً ولا معلقاً. فصل قال: "ولو قال: إن قرِبتُك، فلله علي أن أعتق فلاناً عن ظهاري ... إلى آخره" (1). 9419 - مضمون هذا الفصل مرتب على الأصل الذي مهدناه في مفتتح [الفصل] (2) السابق الذي انتجز الآن.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 98. (2) في الأكل وفي (ت 2): الأصل، والمثبث اختيار منا.

وصورة المسألة في مقصود الفصل أنه إذا كان مظاهراً عن امرأة ثم قال لأخرى: إن وطئتك، فلله عليّ أن أعتق هذا عن ظهاري، فالظهار كائن، فإذا وطىء فهل يلزمه الوفاء بما قال؟ النصُّ وقول الأصحاب على أن هذا على الجملة مما يُلتزم، ومذهب المزني وتخريجه على قياس الشافعي أنه مما لا يُلتزم، وقد ذكرنا أن ما لا يلتزم بالنذر لا ينعقد به يمين اللجاج والغضب، فإن فرعنا على مذهب المزني، فكلام الزوج لغو، وليس بمولٍ؛ فإنه لم يُعلِّق بالوطء التزاماً. وإن فرعنا على النص وقول الأصحاب، فقد عقد اليمينَ بما يُلتزم بالنذر الصحيح، فينعقد اليمين، وفيما يجب عند تقدير الحِنث الأقوال الثلاثة، ثم نجعله مولياً، وفيما يلزمه لو حنث ثلاثة أقوال: أحدها - الوفاء. والثاني - كفارة اليمين. والثالث - التخيير، وهذا مولٍ (1) يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر أمراً، فنجعله مولياً. وفي نقل المزني في هذا الفصل خلل ظاهر؛ فإنه نقل عن الشافعي أن تعيين العبد مما يُلتزم بالنذر، وإذا ذكر في اليمين، كانت اليمين المعقودة يميناً منعقدة، ثم نقل عن الشافعي أنه قال: "ليس بمولٍ" (2) وهذا غلط صريح؛ والمنصوص عليه للشافعي في كتبه أنه مولٍ على الحقيقة. 9420 - ثم إذا بان الخطأ [وتقرر] (3) المذهب، فنفرِّع ونقول: إذا وطىء وحَنِث وفرعنا على وجوب الوفاء، فلو أعتق ذلك العبدَ عن ظهاره، فيحصل العتق ويخرج عن عهدة اليمين، وهل يقع العتق عن الظهار، فعلى وجهين، كما تقدّم ذكرهما: أصحهما -بل الذي لا يصح غيره- أن العتق ينصرف إلى الظهار.

_ (1) في (ت 2): قول. (2) نص الشافعي كما نقله المزني في المختصر: "ولو قال: إن قربتك، فلله عليّ أن أعتق فلاناً عن ظهاري -وهو متظاهر- لم يكن مولياً، وليس عليه أن يعتق فلاناً عن ظهاره وعليه كفارة يمين" ر. المختصر: 4/ 98. (3) في الأصل: وتقدير.

والوجه الثاني - أنه لا ينصرف إليه؛ لأن حق الحنث [قد تأدّى به] (1)، وهذا زللٌ عظيم؛ فإن الذي يعلق شيئاً ليس ملتزماً، وإنما هو في حكم الموقع عند الحنث، كما قدمناه. ثم إذا قلنا: العتق لا ينصرف إلى الظهار؛ فإنه يحصل لا محالة، وكأنه نذر عتقاً مطلقاً في عبْد عيّنه، ولو صح هذا الاعتبار - وهو تنزيل ما قاله على النذر المطلق مع إبطال الجهة حتى كأنه قال: لو وطئتك (2 فعليَّ أن أعتق هذا العبد، فيلزم على هذا المساق أن يقال: إذا قال: إن وطئتك 2) فلله علي أن أصوم يوماً بعينه عن القضاء الذي هو عليّ يكون هذا بمثابة ما لو قال: إن وطئك، فلله علي أن أصوم ذلك اليوم بعينه بعد الأشهر. فإذا كان الأصحاب لا يجعلون تعيين اليوم لواجبٍ سابق بمثابة نذر صوم ذلك اليوم، فقد تخبط هذا الوجه على اشتهاره، ووجب الحكم بوقوع العبد عن الظهار لا محالة، وهذا تفريعٌ على وجوب الوفاء. فإن أوجبنا كفارة اليمين (3 فلو أعتق ذلك العبدَ المعيّن عن ظهاره، فكفارة اليمين 3) باقية عليه، وإن [وجد] (4) الوفاء، فلا شك أن العبد يقع عن الظهار؛ فإنه لم يتأدّ به حق الحِنْث، ولو أعتقه عن كفارة اليمين، فلا شك أن كفارة الظهار باقية عليه؛ فإن قيل: لو أخرج كفارةَ اليمين كُسوة أو طعاماً، فهل يتعين عليه إعتاق ذلك العبد المعيّن؟ قلنا: لا؛ فإنا نُفرِّع على أن موجب يمين اللجاج الكفارة، والعبد إنما يتعين إعتاقه عن الظهار إذا فرض نذره، وهذا الذي نحن فيه يمينٌ، وليس هذا مما يخفى، ولكن إذا طال الكلام لا يضرّ التنبيه على مثل هذا. 9421 - ولو ابتدأ [ناذراً] (5) وقال: "لله عليّ أن أعتق هذا العبدَ عن ظهاري"،

_ (1) في الأصل: أنه فقد تأدى به. (2) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (3) سقط من (ت 2) العبارة التي بين القوسين. (4) في الأصل، وفي (ت 2): وجدنا، والمثبت من صفوة المذهب. (5) زيادة من (ت 2).

وجرينا على النص، فإذا أعتقه عن الظهار هل يقع عن الظهار؟ (1 وهل يخرّج ذلك الوجه الضعيف البعيد؟ قلنا: الوجه القطع بأنه يقع عن الظهار 1)؛ فإنا نصحح هذا النذر على هذا الوجه، فإذا صححناه، أوقعناه، وإذا فرعنا على قول الوفاء، فأعتقه وفاءً، فقد ذكرنا الوجهين؛ لأن الوفاء وقع تَحِلَّةً (2) للقسم، وتأديةً لحق الحِنث، وحق الحِنث يغاير الملتزَم، فإذا كان الفرض في نذر مجرد، فليس إلا تصحيحُ إيقاعه على وجه تصحيح التزامه. [فصل] (3) 9422 - إذا قال لإحدى امرأتيه: إن وطئتك، فصاحبتك هذه طالق، فهو مولٍ عن التي عينها على الجديد؛ فإنه يتعلق بالوطء طلاق ضرتها، ثم إذا توجهت الطَّلبة، ففاء، طلقت صاحبتها وانحلّت اليمين. ولو طلّق التي آلى عنها، ثم راجعها، أو تركها حتى بانت، وجدّد النكاح عليها، فمهما (4) وطئها، حكمنا بطلاق صاحبتها إذا كان النكاح مستمراً عليها؛ فإن طريان البينونة على التي آلى عنها لا يؤثر في طلاق التي حلف بطلاقها. ولو أبان التي آلى عنها، وزنا بها، طلقت صاحبتها؛ فإنَّ طلاق صاحبتها معلّق (5) بصورة وطء هذه، وهذا بيّن. ولو كانت المسألة بحالها، فأبان صاحبتها التي علق طلاقها، ثم جدد النكاح عليها، فنقول أولاً: إذا أبانها، فقد صارت إلى حالة لا تطلق، فيرتفع الإيلاء وتقديرُ الطلب فيه، فإنه لو وطىء في اطراد البينونة على الصاحبة، لما تعلق بالوطء شيء، وإذا انتهى المولي إلى حالةٍ لو فرض منه الوطء، لما التزم شيئاً؛ فإنه يخرج بالانتهاء إليها عن اطراد حكم الإيلاء.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) ت 2: كله للقسم. (3) علامة [فصل] غير موجودة في (ت 2) ولا في صفوة المذهب. (4) فمهما: بمعنى إذا. (5) ت 2: تعلّق.

فإذا عادت الصاحبة، وفرعنا على أن الحِنْث لا يعود، فقد زال الإيلاء بالكلية، وإن قلنا: يعود الحنث عليها حتى يلحقها الطلاق المعلق، فيعود الإيلاء وحكمه وتوجيه الطّلبة به. 9423 - والذي يجب التنبّه له في هذا المقام أن من آلى عن امرأته، ثم طلقها لما طولب بعد المدّة، فإذا راجعها، استفتحنا مدةً بعد المراجعة -كما أوضحنا فيما سبق- فإذا علق طلاق صاحبتها بوطئها، ثم أبان المحلوفَ بطلاقها، ثم نكحها، وحكمنا بعَوْد الحنث فيها وعَوْد الإيلاء في التي آلى عنها (1 فهل نستفتح مدةً، ونفرض بعدها طلباً، كما قدمناه فيه إذا طلق التي آلى عنها 1) ثم راجعها أو جدد عليها نكاحاً؟ الظاهر عندنا أنا لا نبتدىء ضرب مدة؛ فإنَّ طلاق التي آلى عنها من وجهٍ وفاءٌ بالطّلبة، وإن لم يكن فيئةً ورجوعاً (2) إلى حقها في المستمتع، وكان طلبها يتعلق بالاستمتاع، وهو الأصل، أو بتخليصها، فإذا طلقها، كان هذا سعياً في التخليص، فإذا تجدد حقها، أمكن أن يؤثر الطلاق السابقُ في استحداث مدة جديدة سوى المدة الماضية أوَّلاً، وهذا المعنى لا يتحقق بانقطاع أثر الإيلاء بسبب إبانة الصاحبة المحلوف بطلاقها؛ فإنه ليس في إبانتها إسعافُ التي آلى عنها بوجهٍ من وجوه الطّلبة، وبمقصودٍ من مقاصدها. وقد يتجه المصير إلى استفتاح مدة؛ فإن الزوج بإبانتها رفع (3) المانع من الوطء، فكان هذا سبباً لقطع الضرار وتسهيلاً للإقدام على الوطء. وسيأتي فصلٌ جامع في قواطع المدة؛ وما يقتضي ابتداؤها، ونعيد طرفاً مما ذكرناه، وعند ذلك يحصل شفاء الصدور. 9424 - وإذا قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي هذا حرّ، فهو مولٍ على الجديد، فلو باع ذلك العبد، انقطع أثر الإيلاء، فلو عاد إلى ملكه، ففي عود الحنث قولان،

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) ت 2: فإن لم يكن فيه فرجوعاً ... (3) ت 2: وقع.

(1 وفي عَوْد الإيلاء قولان 1) مأخوذان من ذلك، والتفصيل في العتق (2) كالتفصيل في الطلاق. فصل قال: "ولو آلى، ثم قال لأخرى: قد أشركتك معها في الأيلاء ... إلى آخره" (3). 9425 - إذا طلق الرجل إحدى امرأتيه ثم قال للأخرى: أنت شريكتها (4 ونوى بذلك تطليقها، طلقت. ولو آلى عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها 4) وزعم أنه أراد بذلك الإيلاءَ عنها، وتنزيلَها منزلةَ الأولى، لم يصر مولياً بهذا اللفظ، وغرض الفصل أن الإيلاء يمينٌ، فلا يحصل بالكناية على هذا الوجه؛ فإن عماد اليمين ذكر محلوفٍ به، وليس في لفظة الإشراك ذلك، فخاصّية اليمين زائلة، والنية بمجردها لا تعويل عليها. فإن قيل: ألستم قضيتم بأن قول الزوج: والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادةٌ كناية في الأيلاء؟ قلنا: الممتنع (5) من الحصول بالمكاني المقسم به، فأما الألفاظ التي تتعلق بمقصود اليمين، فلا يمتنع تطرق الكنايات إليها. ولو ظاهر عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، وقصد إحلالها محل الأولى في الظهار (6 فهل يحصل الظهار بهذا اللفظ مع النية؟ فعلى وجهين مبنيين على أن المغلَّب في الظهار 6) أحكامُ الطلاق أو أحكام اليمين: فإن غَلّبنا شَبَه

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) ت 2: في العين. (3) ر. المختصر: 4/ 98. (4) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (5) ت 2: المتبع. (6) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.

(1 الطلاق صيرناه مظاهراً، وإن غلبنا شبه اليمين لم نجعله 1) مظاهراً، وسيأتي شرح هذا الأصل في موضعه، إن شاء الله عز وجل. ولو قال لإحدى امرأتيه: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، فهذا مما ذكرناه في فروع الطلاق، وفيه مقنع، فلا نعيده. ثم قال: "ولو قال: إن قَرِبْتُك، فأنت زانية ... (3 إلى آخره" (2). 9426 - إذا قال: إن جامعتك فأنت زانية 3)، فلا يكون مولياً؛ فإنه لا يلتزم بجماعها أمراً؛ إذ لو وطئها لم يَصِرْ قاذفاً، والقذف لا يقبل التعليق؛ فإنه خبر صفتُه أن يكون جازماً 4)، وعلى هذا الوجه يقدح في [العِرض] (5)، فإذا تعلق خرج عن وضعه. فصل قال: "ولو قال: والله لا أصبتك في السنة إلا مرة، لم يكن مولياً ... إلى آخره" (6). 9427 - هذا الفصل يستدعي تقديم أصلٍ: فنقول: أوضحنا أن التفريع على أن المولي من يلتزم بالوقاع أمراً بعد أربعة أشهر، ثم قسمنا وجوه الالتزام: فلو كان لا يلتزم بالوقاع بعد الأشهر أمراً غيرَ أنه كان يقرُب بسببه من الحِنْث في يمين، فهل نجعله مولياً؟ [وهل نجعل القرب من الحنث] (7) في معنى التزام أمر؛ حتى نقول:

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (2) ر. المختصر: 4/ 99. (3) ساقط من (ت 2). (4) في (ت 2): خارجاً. (5) في الأصل: الغرض، و (ت 2): الفرض. والمثبت من صفوة المذهب: جزء: 5 ورقة: 47 يمين. (6) ر. المختصر: 4/ 99. والعبارة في المختصر هكذا: "ولو قال: لا أصيبك سنة إلا مرة، لم يكن مولياً". (7) زيادة من (ت 2).

يتعلق بالوطء التزامٌ، فنجعله مولياً؟ في المسألة قولان: أصحهما - أنا لا نجعله مولياً؛ فإن الوطء ليس يستعقب لزومَ أمر، والقرب ليس حكماً ثابتاً، ولا أمراً لازماً، وحاصله دنوّ توقّعٍ في لازم. والقول الثاني - أنه مولٍ، فإنه بسبب الوطء يقرب من اللزوم، وهو مما يُحاذَر، فينتصب في مقابلة الوطء أمرٌ محذور، وهو عماد الإيلاء. ونحن نفرض للقولين صورة، ثم نتبعها بصورٍ يتقرر بها الغرض: فإذا كان للرجل أربع نسوة فقال: والله لا أجامعكن. فلو جامع واحدة، لم يلتزم أمراً، وكذلك إذا وطىء الثانية والثالثة؛ فإن الحنث يحصل بوطئهن كلهن، ولكنه بوطء الأولى يقرب من الحنث، فهل نجعله مُولياً؟ فعلى ما ذكرناه من القولين. فإن جعلنا الوطء المقرّب كالوطء المحنّث، فالطلبة تتوجه والإيلاء يثبت، وإن لم نجعل الوطء المقرب كالوطء المحنث، فلا نجعله مولياً حتى يطأ ثلاثاً منهن، فإذ ذاك يصير مولياً عن الرابعة، فنُجري ابتداءَ المدة بعد وطء الثالثة، والحِنْث يتعلق بوطء الرابعة. فهذا من صور القولين. 9428 - ومما يجري القولان فيه صورة مسألة الكتاب، وهي: إذا قال لامرأته: "والله لا أصبتك في السنة إلا مرة"، فالأصح المنصوص عليه في الجديد أنا لا نجعله مولياً قبل أن يطأ، فالوطء الأول لا يلتزم [به] (1) شيئاً، وإن وطىء مرة، نظرنا إلى ما بقي من السنة، فإن كان الباقي منها أربعة أشهر أو أقل، فلا يكون مولياً؛ فإن المدة قاصرة. وإن كان الباقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، جعلناه مولياً، فإنه بعد الوطأة المستثناة، صار إلى حالةٍ لو فُرض منه الوطء بعد أربعة أشهر، لالتزم الكفارة، وهذا أصح القولين. والقول الثاني - أنه مولٍ من أول السنة؛ فإن الوطء المستئنى وإن كان لا يحنِّث، فإنه يقرّب من الحنث، فتتوجه الطلبة إذاً بعد أربعة أشهر، فإن فاء، خرج عن عهدةِ

_ (1) زيادة من المحقق.

الطلب في هذه الكرة، ثم إذا مضت أربعة أشهر فلو وطىء، التزم الكفارة، فيتوجه الطلبة، والوطء الأول لا يحل اليمين؛ فإنه كان مستثنى، والحِنْث يحصل بالوطأة الثانية. ولو استثنى عن اليمين المعقودة على السنة وطآت كثيرة، فالقولان جاريان، ولا فرق بين الوطأة الواحدة المستثناة وبين الوطآت؛ فإن التقريب يحصل بكل وطء. 9429 - ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فوالله لا أطؤك، فهذا تعليق منه للإيلاء بالوطأة الأولى، وللأصحاب طريقان منهم من قطع بانه لا يكون مولياً في الحال بخلاف الصورة المقدّمة في عقد اليمين على السنة، واستثناء ما أراد، وهاهنا علّق ابتداء العقد بالوطأة الأولى، فلا يمين قبل الوطأة الأولى، ويستحيل أن نحكم بكونه مولياً في وقتٍ لا يكون فيه حالفاً. ومن أصحابنا من أجرى القولين في هذه المسألة، وقال: إن لم يكن حالفاً بالله في حالِه، فهو في حكم الحالف (1) بالله تعالى، فكان الوطءُ مقرِّباً من الحنث، فهو يجري بعد يمين، كما ذكرت. 9430 - ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فأنت طالق إن دخلت الدار، فقد نقل بعض الأثبات عن القاضي أنه قال: نجعله مولياً في هذه الصورة قولاً واحداً، ولو قال: إن وطئتك، فأنت عليّ كظهر أمي إن دخلت الدار، فيكون مولياً قولاً واحداً، واعتلّ بأنه التزم بالوطء تعليق الطلاق والظهار، والمولي من يلتزم بالوطء شيئاً، على ما ذكرناه. وهذا غير سديد، وقطع شيخي بتخريج تعليق الطلاق والظهار على قولين، والسبب فيه أن الوطء لا يوجب وقوع الطلاق والظهار، بل يوجب انعقاد تعليقهما، فهو كما لو قال: إن أصبتك فوالله لا أصيبك، وأي فرق بين تعليق عقد اليمين بالطلاق والظهار بالوطء، وبين تعليق عقد اليمين بالله تعالى بالوطء، فلا وجه للفرق بينهما. ولعل الذي تخيّله الفارق أن الإيلاء المعهود هو الحلف بالله على الامتناع من

_ (1) في الأصل: فهو في حكم الحالف بالحلف بالله، ومثلها (ت 2) غير أنها قالت: في حكم الحالف فالحلف بالله. والمثبت تصرف من المحقق.

الوطء، فلما كان ذلك معلّقاً بالإصابة الأولى، انتظم لهذا القائل أن الإيلاء موعود معلق، وليس منجزاً، وإن كان المعلق بالإصابة الأولى طلاقاً أو ظهاراً، فليس ذلك التعليق إيلاءً في نفسه، فَحَسِبه أمراً ملتزماً، وحسِب التزامه إيلاءً، وهذا ذهول عن دقيقة نبهنا عليها وهي أن من قال: إن أصبتك، فوالله لا أصيبك، فهذا حلف بالحَلف، كما أنه إذا قال: إن أصبتك فأنت طالق إن دخلت الدار، فهذا حلف بتعليق الطلاق؛ فلا وجه إذاً للفرق. 9431 - ومما نذكره متصلاً بهذا الذي انتهينا إليه، أن الرجل إذا قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرت، فقد كنا وعدنا في ذلك ذكرَ خلاف، وها نحن نقول: الوطء قبل الظهار لا يُلزم أمراً، فكان ظاهر المذهب ألا نجعله مولياً، فإن قلنا: القرب من الحِنث يثبت الإيلاء، فإذا وطىء، فقد قرب حصول العتق، فمن أصحابنا من ألحق هذا بمحالّ القولين في القرب من الحنث، وجعله مولياً قبل الظهار على أحد القولين. ومنهم من قطع القول بأنه لا يكون مولياً، ولا يكاد يتضح الفرق. والأصح أن القرب من الحِنْث لا يثبت موجَب الإيلاء. 9432 - ومما ذكره الأصحاب في بعض مسائل الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: والله لا أصبتك إلا مرة واحدة، فلو وطئها، ثم نزع في الأثناء وأعاد، فلا يحنث بالإيلاج الأول، وإذا نزع وأعاد، حَنِث؛ فإنه وطءٌ مجدّد، وقد حكيتُ في هذا خلافاً فيما تقدّم، وأوردته فيه إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم أولج، ونزع وأعاد قبل قضاء الوطر، فالمذهب المبتوت وجوبُ المهر إذا جرى على جهلٍ، فإن هذا وطء مبتدأ، فمن أصحابنا من عدّ النزع والإعادة في حكم استدامة الوطأة الواحدة، وهذا بعيد، وإن كان يتوجه، فهو في اليمين أقرب؛ فإن وجوب المهر يتلقى من مأخذ الأحكام، وأما إذا تعرض لذكر الوطأة بالاستثناء في اليمين المعقودة، فقد يظهر الرجوع فيما هذا سبيله إلى العرف، ولو قال: والله لا آكل إلا أكلة واحدة، فقد يحمل ذلك في الأيمان على أكلة تحويها جلسة على الاعتياد، والغرض بإعادة ما ذكرناه حكايةُ قول الأصحاب في هذا المقام.

فصل قال: "ولو قال: والله لا أقربك إلى يوم القيامة ... إلى آخره" (1). 9433 - غرض الفصل تقاسيم الأيمان فيما يتعلق بامتداد [المُدَد] (2) في [الحلف] (3) على الانكفاف عن الوطء. فنقول: الأيمان، في غرض الفصل تقع على أقسامٍ: أحدها - يمين مُطْلقة في الامتناع، لا تعرّض فيها لتعليق بوقتٍ أو أمرٍ منتظر، [وسبيل] (4) هذا اللفظ الاسترسال على الأزمنة والانعقاد عليها، ولو قُيِّدت بالتأبيد، لكان التقييد بالتأبيد تأكيداً، وحكمُ هذا القسم احتسابُ مدّة الإيلاء من وقت اللفظ. 9434 - ومن الأقسام تقييد اللفظ بالوقت، وهذا مما تقدم شرحه، فإن كانت المدة أربعةَ أشهر، أو أقلَّ، فلا إيلاء، وإنما الذي جاء به يمين لا يتعلق بها حكمُ طَلِبة الإيلاء، [ولا] (5) يخفى موجَبُ البر والحِنْث، وإن ذَكَر زماناً زائداً على الأربعة الأشهر، انعقد الإيلاءُ، فالأربعة الأشهر مَهَلٌ، واشترط المزيد بسبب فرض توجيه الطلب؛ فإن الإيلاء عندنا لا يتضمن وقوع الطلاق بنفسه، وقد روي أن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه قال لحفصة: "أتصبر المرأة عن زوجها شهراً، فقالت: نعم، فقال: أتصبر ثلاثةَ أشهر فقالت: نعم، فقال: أتصبر أربعة أشهر، فسكتت، فبعث عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد، وأمرهم أن يردوا الرجال إلى أهليهم في الأربعة الأشهر" (6)، فكان ابتناء مُدَّةِ الإيلاء على ما جرت الإشارة إليه من إمكان الصبر، وظهور الضرار.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 99. (2) في الأصل: المدعى. (3) في الأصل: الحلق. (4) في الأصل: في سبيل. (5) في النسختين: فلا. (6) قال الحافظ: لم أقف عليه مفصلاً هكذا، وإنما روى البيهقي في أوائل كتاب السير من رواية =

9435 - ومن أقسام الأيمان ما يشتمل على مدة الامتناع عن الوطء إلى أمرٍ منتظر في الاستقبال، وهذا ينقسم أقساماً، فمنه ما يعلم قطعاً أنه لا يقع إلا بعد أربعة أشهر، وذلك مثل أن يقول لامرأته: والله لا أجامعك إلى إدراك الرطب، وكان إنشاء اليمين في الشتاء، والإدراكُ يقع بعد الأربعة الأشهر لا محالة، فيثبت حكم الإيلاء وفاقاً. ولو علق بما يُعدّ وقوعُه مستبعداً كخروج الدّجال ونزول عيسى، وما أشبههما من أشراط الساعة، فيثبت الإيلاء، وإذا مضت الأشهر، توجهت الطَّلِبة. ولو ذكر ما لا يبعد حصوله قبل الأربعة الأشهر، مثل أن يقول: لا أجامعك حتى يقدَمَ فلان، وكان قدومه متوقعاً قبل الأربعة، فلا نحكم بكونه مولياً في الحال، فلو مضت أربعةُ أشهر، ولم يتفق القدوم، فهل نقول: إنا نتبيّن الآن أنه كان مولياً؛ حتى تتوجه الطلبة بعد انقضاء الأشهر؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نتبين ذلك، وتتوجه الطلبة؛ فإنا كنا نتوقف لظهور توقع السبب المذكور قبل الأربعة الأشهر، والآن إذا بان بأَخَرةٍ، تبينا امتدادَ الامتناع واليمين أربعةَ أشهر. والقول الثاني - أنا نحكم بالإيلاء، فإن السبب الذي ذكره إذا كان ممكن الوجود غيرَ مستبعد الكَوْن، فلا نتحقق إظهار المضادة [لموجمب] (1) اليمين، ولَوْ لم يكن يمينٌ، فامتنع الرجل عن الوقاع، لم يثبت لها طلب؛ لأنها تزجي زمانها على التوقع، فلا تعويل إذاً على وقوع الامتناع أربعة أشهر، وإنما التعويل على إظهار الضرار، وتأكيده باليمين. وهذا القول أفقه.

_ = مالك، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر فذكره بمعناه، وفيه أنها قالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر، كذا ذكره بالشك. ثم قال الحافظ: ورواه ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن دينار فأرسله، وجزم بستة أشهر، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج، ورواه سعيد بن منصور من وجهٍ آخر، عن زيد بن أسلم (ر. السنن الكبرى للبيهقي: 9/ 29، ومصنف عبد الرزاق: 7/ 51، 152 - رقم 12593، 12594، وتلخيص الحبير: 3/ 441، 442 بعد الكلام عن الحديث رقم: 1763). (1) في الأصل: بموجب.

والذي يحقق الغرض في ذلك أنه إذا آلى مطلقاً، فلا طلبة في الحال، وإذا انقضت الأشهر طولب، فكأن صاحب القول الأول يثبت الإيلاء، والذي يحقق هذا أنه لو قال: لا أجامعك ما عشتُ، فلو مات قبل أربعة أشهر، فقد تبين أنه لم يكن مولياً، فإذا كان التبيّن يتطرق والمذكور سببٌ مستبعد، كما يتطرق والسبب قريب، فلا يبقى فرقٌ عند ذكر الأسباب، والأمر في الكل على التبيّن، ويجب لَوْ صح هذا القياس القولُ بالإيلاء، وإحالة ارتفاع الإيلاء على وقوع السبب قبل الأشهر. ولعل ناصرَ القول الأول يردّ ذلك القولَ إلى أمر في العبارة، يقول: إن كان السبب مستبعداً، أطلقنا القول بثبوت الإيلاء، فإن جرى السبب المستبعد على ندورٍ قبل أربعة أشهر، رددنا التبيُّن إلى أن الإيلاء لم يكن، وإن كان السبب المذكور غيرَ مستبعد، لم نطلق القول بحصول الإيلاء إن سئلنا عنه، فإن استأخر السبب، تبيّنا أنه كان مولياً. والقول في ذلك قريب. 9436 - ولو قال: لا أجامعك إلى أن تموتي، أو إلى أن أموت، فالإيلاء ثابت، ولو قال: لا أجامعك إلى أن يموت فلان، فالذي ذكره القاضي، وأصحابُ القفال أن الإيلاء ثابت، وموت ذلك الشخص من المستبعدات، وقال المزني: ذِكْرُ موت شخص غير الزوجين بمثابة ذكرِ قدومٍ متوقع؛ إذ ليس الموت ببعيد في الوقوع، وما لم يبعد وقوعه، لم يبعد توقعه. وذكر العراقيون مذهب المزني، واختاروه، ولم يعرفوا غيره، ونزّلوا موت الثالث بمثابة القدوم وغيره من المتوقعات، فقد حصل وجهان من الطرق: أحدهما - أن موت الثالث من المستبعدات، فيرتب فيه المذهب على حسب ما مضى من المستبعدات. والوجه الثاني - وهو اختيار العراقيين أنه لا يلتحق بالمستبعدات. 9437 - وفي لفظ (السّواد) (1) إشكالٌ ونحن ننقله على وجهه، فقال: "حتى يخرج الدّجال أو حتى ينزل عيسى بنُ مريم، أو حتى يقدَم فلان، أو يموت أو تموتي،

_ (1) "السواد" هو مختصر المزني، كذا يسميه الإمام. وقد أشرنا إلى ذلك كثيراً.

أو تفطمي ابنك" (1)، جمع الشافعي رضي الله عنه بين هذه الأسباب وهي مختلفة: فمنها مستبعد، ومنها مستقرب، وقرن بين موت فلان وقدومِه، فلا تعلّق (بالسواد) من حيث إنه جمع بين الأسباب المختلفة. ثم تصرف المزني، وقال: "حتى يقدَمَ فلان أو يموت سواء في القياس" (2) وأبان أنهما متوقعان على نسق واحد، فهذا بيان لفظ (السواد) وميلُ النص إلى أنه إذا مضت أربعة أشهر، ولم يتفق السبب المذكور، توجهت الطّلبة؛ فإنه قال بعد الأسباب المختلفة: فإذا مضت أربعة أشهر قبل أن يكون شيء مما حلف عليه، كان مولياً. وقال في موضع آخر - وهذا لفظ السواد:- "حتى تفطمي ولدك، لا يكون مولياً، لأنها قد تفطمه قبل أربعة أشهر" (3) وأما قوله: حتى تموتي أو حتى أموت، فالإيلاء محكوم به ظاهراً في الحال، ولا يؤخذ هذا من توقع الموت واستبعاده، وإنما يؤخذ من قطع رجائها عن استمتاعه ما بقيت طالبة راجية. 9438 - وحاصل جميع ما ذكرناه يرجع إلى أن السبب الذي جعله المنتهى إن كان مستبعداً، فالضرار كائن، وإن كان السبب متوقعاً، فلا نحكم بالإيلاء، فإن استأخر وقوعُ ما كنا لا نستبعده عن الأشهر، فقولان منصوصان في السواد، وفي موت الثالث من بين الأسباب نظرٌ في أنه من المستبعدات؛ أم لا، ولعل الأظهر أنه من المستبعدات؛ فإن الناس كذلك يَحْسَبون، ومدار الإيلاء على الإضرار المُظهَر باللسان. والمسألة محتملةٌ على حال. وإذا قال: حتى تفطمي، فإن أراد وقوع الفطام، وكان متوقع الكون قبل الأربعة الأشهر، فهو ملتحق بما لا يُستبعد، وقد مضى تفصيله. وإن كان أراد انقضاء مدة

_ (1) ر. المختصر: 4/ 99. (2) نفسه. (3) ر. المختصر: 4/ 100.

الرضاع وهي الحولان، نظرنا فيما بقي من المدة، وخرّجناه على التفاصيل المذكورة في المدد. وإن قال: لا أجامعك حتى تحبَلَ فلانة، فهذا من الأسباب المتوقعة على القرب، إلا أن تكون صغيرة أو آيسة، ولا يكاد يخفى ترديد النظر بعد تمهيد الأصول. ولو ذكر قدوم شخص، وكان على مسافة شاسعة ولا يتوقع رجوعه منها وقدومُه في الأربعة الأشهر، فهذا ملحق بالمستبعدات، ولو كان قدومه مستبعداً، وزعم الزوج أنه ظنه متوقعاً، فهذا فيه نظر إذا ادّعى الزوج ظنّاً بقرب موضعه: يجوز أن يقال: يُبنى الأمر على ظنه، فإن نوزع فيه حُلّف، ويجوز أن يقال: يبنى الأمر على حقيقة الحال، ولا التفات إلى ما يدعيه من الظن. فصل إذا قال: "والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس، فهو مولٍ ... إلى آخره" (1). 9439 - إذا قال: والله لا أقربك إن شئت، فهذا تعليق الإيلاء بمشيئتها على صيغةٍ تقتضي تخير الجواب، والإيلاء قابلٌ للتعليق كالطلاق؛ إذ لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فوالله لا أجامعك إن شئت، فالقول في اشتراط اتّصال لفظها على ما مضى في الطلاق. وحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثُ طرق: إحداها - اشتراط التلفظ بالمشيئة على الاتصال الزماني (2)، كما يشترط ذلك بين الإيجاب والقبول، وهذا ظاهر المذهب. والطريقة الثانية - أنا لا نشترط الاتصال في ذلك، ومتى شاءت، انعقد الإيلاء، وقوله: إن شئتِ، كقوله: إن دخلت الدار، وهذا منقاس.

_ (1) ر. المختصر:101. (2) ت 2: على الاتصال إلى ما يكون.

وتوجيه الطريقة الأولى يُحْوِج (1) إلى تكلفٍ في التقدير (2)، ولكن الطريقة الثانية (3) بعيدة في الحكاية، ذكرها الشيخ أبو علي في الشرح. والوجه الثالث (4) - أن المشيئة تتقيد (5) بالمجلس وإن طال، وهذا أبعد الطرق، ولست أعرف له توجيهاً، وإنما أخذ بعضُ الأصحاب هذا الوجهَ من لفظ الشافعي؛ فإنه قال: "وشاءت في المجلس" وذكر هذا اللفظ أيضاً في تعليق الطلاق بالمشيئة على هذه الصيغة، فظن ظانون أنه أراد المجلس حقاً، وإنما عبر رضي الله عنه عن قرب الزمان بذكر المجلس، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى اعتبار المجلس في القبول والإيجاب، وقد اعتبره أبو حنيفة (6) فيهما. وقال مالك (7): إذا قال: لا أجامعك إن شئت، فهو ليس بمولٍ، وإن شاءت؛ فإن المولي من يَجزِمُ الامتناعَ إضراراً بها، فإذا علق بمشيئتها، فقد خرج عن كونه مضارّاً، وهذا الذي ذكره غيرُ بعيد من مأخذ الفقه. واعترض عليه الشافعي بأن قال: إذا كان الإيلاء جازماً، فأظهرت الرضا به، لم ينقطع الإيلاء، ولم تنقطع المدة، وإذا رضيت بعد المدة، لم نستفتح ضرب مدّة، فدلّ أنا وإن كنا نعتبر المضارة اعتباراً كلياً، فلسنا نبني الأمر عليها؛ فإن الأمور بعد ما رسخت لا تزول بفرْض أمثال ذلك، وهذا كابتناء (8) الإجارة على الحاجة، ثم لا تتقيد (9) بها،

_ (1) ت 2: يخرج. (2) ت 2: إلى تكلف التفرقة. (3) ساقطة من (ت 2). (4) كذا في النسختين: (الوجه الثالث) مع أنه عبر عنها بالطرق الثلاث. وحتى هذا الوجه يقول عنه: (أبعد الطرق). (5) ت 2: تصل. (6) ر. فتح القدير: 5/ 461، الفتاوى الهندية: 3/ 3. (7) لم نصل إلى المسألة منصوصة عن الإمام مالك فيما رأيناه من كتب السادة المالكية، وإنما الذي رأيناه مثالاً على نفي الإيلاء لانتفاء قصد الإضرار، هو إذا حلف لا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها، فهذا يكون إيلاء لما فيه من عدم الإضرار (المدونة: 2/ 323، والمنتقى: 4/ 36). (8) ت 2: كإثباتنا الإجارة. (9) ت 2: لا تتقبل.

ولو كانت المرأة فاركة (1) زوجَها مُناها أن يهاجرها، فالإيلاء في حقها كالإيلاء في حق [الوامقة] (2)، والتي لا أرَب لها في الرجال [كالمتشوفة] (3). فهذا بيان الأصل. 9440 - ولو قال: "لا أصبتك [متى] (4) شئتِ". قال الإمام (5): هذه اللفظة محتملة، ويُرجع فيها إلى قوله: فإن قال: أردت بذلك تعليق اليمين على مشيئتها، حتى إذا شاءت، انعقدت اليمين والإيلاء، فالأمر كذلك، والفرق بين قوله: إن شئتِ وبين قوله متى شئتِ أن قوله: إن شئتِ يستدعي جوابها على الفور على ظاهر المذهب، وقوله متى شئت يقبل التأخير، كما قدمناه في مسائل الطلاق. فإن قال الزوج: أردت بقولي: "لا أجامعك متى شئتِ" أني إنما أجامعك إذا

_ (1) ت 2: تاركة. وفاركة من الفِرْكة، وهي البغضة بين الزوجين خاصة. وفعلها: فرك (بكسر العين) يفرك (بفتح العين) (المعجم). (2) الوامقة: المحبة من ومِق (بكسر العين) في الماضي والمضارع. ومْقاً ومقة. (المعجم). (3) ومعنى العبارة أن الإيلاء يستوي فيه كارهة زوجها التي تتمنى أن يهجرها ولا يقربها، والتي قعدت بها السن، فلم يعد لها أرب في الرجال يستوي ذلك مع المتشوفة والوامقة العاشقة. (4) في الأصل: حتى. (5) قال الإمام: المراد هنا والده الشيخ أبو محمد، كما صرح بذلك أحياناً، وقد اعتبر الرافعي رضي الله عنه أن لفظ الإمام هنا يراد به إمام الحرمين نفسه، كذا يفهم من عبارته في الشرح الكبير، حيث قال: "قال الإمام: ولو قال: لا أجامعك متى شئت، وأراد أني أجامعك متى أردتِ، فلا يكون مولياً، وإنما هو إعرابٌ عن مقتضى الشرع وحلف عليه ... " وقد تابعه النووي في الروضة، فحكى ذات المسألة على هذا النحو. وظني أنه وهم من الشيخين الجليلين حيث ظنا أن كلمة (قال الإمام) هي من كلام ناسخ (النهاية) وليس من كلام مؤلفها، مع أن هذا غير معهود أبداً في (النهاية). ويؤيد ما أقول ويجعله قريباً من الجزم أن ابن أبي عصرون في مختصره (صفوة المذهب) حكى المسألة بلفظ: (قيل) وهو يلتزم عبارة الإمام وألفاظه، لا يكاد يخرج عنها، فلو كان هذا من كلام الإمام ما قال فيه (قيل) وإنما يقول ذلك فيما يحكيه الإمام عن غيره، إذا لم يصرّح بذلك الغير. (ر. الشرح الكبير: 9/ 222، والروضة: 8/ 244، وصفوة المذهب: 5/ ورقة: 76 يمين).

أردتُ لا إذا أردتِ، فهذا ليس بالإيلاء وإنما هو إعراب عن موجَب الشرع ومقتضاه، وحلف عليه. ولو أطلق الزوج هذا اللفظ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه من الكنايات؛ فإنه متردد بين الوجهين الذين ذكرناهما، فإذا لم يكن نية، فاللفظ لاغٍ. ومن أصحابنا من قال: هو في الإطلاق محمول [على تعليق] (1) عقد الإيلاء بالمشيئة، حتى إذا شاءت، ثبت الإيلاء، وإن كنا نصدق الزوجَ في حمله على المحمل الآخر، وقد ذكرنا نظائر هذا في الألفاظ المطلقة والمتأوَّلة في مسائل الطلاق. ولو علق فعل الوطء بمشيئتها وأراد أنها مهما أبت أن يطأها، فلا يطؤها، فليس بمولٍ، وفي هذا المقام ينقدح مسلكُ مالك؛ فإنه علق اليمين على اتباع مشيئتها في الوطء إقداماً وامتناعاً، فإذا قال: والله لا أجامعك إن شئت، فليس يعلق الوطء على مشيئتها، وإنما يعلق عقد اليمين على مشيئتها، ثم إذا انعقدت اليمين، فلا أثر بعد ذلك لمشيئتها. 9441 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "والإيلاء في الغضب والرضا سواء" (2) وقصد بذلك الرد على مالك (3)، فإنه يقول: انعقاد الإيلاء يختص بحالة الغضب؛ فإنَّ قصد المضارّة إنما يتحقق في حالة الغضب. وهذا من ظنونه التي ينبني على أمثالها مذهبُه، وهو بمثابة تخصيص الخلع بحالة المشاقّة، ومذهبُه في الخلع أقربُ؛ لأنه يتمسك في إثباته بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ... } [البقرة: 229] والإيلاء غير مقيد بشيء من ذلك، وليس في القرآن فصلٌ. 9442 - ثم قال الشافعي: "وإن قال والله لا أقربك حتى أُخرجَك من البلد ... إلى آخره" (4).

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) ر. المختصر: 4/ 101. (3) ر. المنتقى للباجي: 4/ 36، مقدمات ابن رشد - بهامش المدونة: 2/ 331. (4) نفسه.

هذا يتحقق بالأسباب القريبة، فإن الإخراج من البلد ممكن غيرُ مستبعد، فكأنه قال: "والله لا أجامعك في البلدة"، فإن مضت أربعة أشهر، فهل نجعله مولياً؟ فيه القولان المقدمان: فإن قلنا: يصير مولياً، وتتوجه الطلبة، فإن أراد الزوج الخلاص، فالوجه أن يخرجها من البلد، وإذا أخرجها، انقطعت الطّلبة؛ فإن اليمين لم يتناول هذه الحالة، ولو وطىء، لم يلزمه الكفارة، وإذا انتهى إلى حالة لو وطىء، لم يلتزم الكفارة، فقد خرج في ذلك الوقت عن مطالبة الإيلاء، وهذا مستبين لا غموض فيه. فرع: 9443 - لو قال: إن جامعتك، فعبدي حر، فهو مولٍ على الجديد، ولو قال: إن جامعتك، فعبدي حر قبل مجامعتي إياك بشهر، قال الأصحاب: ابتداء المدة يقع بعد شهر؛ فإنه لو فرض الجماع قبل الشهر، لم يعتِق العبد؛ إذ (1) لو قدّرنا العتق، للزم أن يتقدم على الوقاع بشهر، ولو تقدم، لكان العتق واقعاً قبل اللفظ، وقد ذكرنا استحالة هذا. وإذا مضت أربعة أشهر من وقت اللفظ، فلو قدّرنا توجيه الطلبة، لم يكن على قاعدة الإيلاء؛ فهانه لا يلتزم بالوقاع -لو واقع- العتق بعد أربعة أشهر، بل لو فُرض الوقاع، لوقع العتق بعد الأربعة الأشهر. ولو باع العبد بعد انتصاف الشهر الخامس، فالطَّلِبة تتوجه بعد الشهر الخامس؛ فإنا لو فرضنا وقاعاً بعد الشهر الخامس، لاقتضى تقدّمَ العتق بشهر، ولو تقدمَ العتق بشهر، لتبيّنا بطلان البيع، ويحصل بما ذكرناه شرط الإيلاء وعماده. ولو باع العبدَ [و] (2) لم تتفق مطالبة الزوج والمسألة بحالها حتى مضى شهر كامل، فلا وجه للمطالبة، وقد انقطع أثر الإيلاء، فإنه لو فرض الوطء، لم ينعكس العتق على البيع، ولم يُفضِ إلى بطلانه، ولو اشترى العبدَ بعد البيع، فيعود التفريع في عَوْد الحنث، وبحسبه يعود التفصيل في الإيلاء، وقد تمهد هذا فيما تقدم. ...

_ (1) هنا خرم قدر صفحتين من نسخة (ت 2). (2) الواو زيادة اقتضاها السياق.

باب الإيلاء عن نسوة

باب الإيلاء عن نسوة قال الشافعي: "وإذا قال لأربع نسوة: والله لا أقربكن ... إلى آخره" (1). 9444 - إذا قال لزوجاته الأربع: والله لا أجامعكن، فالوجه أن نذكر ما يتعلق بالبر والحِنث ثم نعود إلى حكم الإيلاء: فإذا قال: لا أجامعكن، لم [يحصل] (2) الحنث بمجامعة ثلاث منهن؛ فإن اليمين المعقود على أفعال لا يتحقق الحنث فيها بالبعض، كما لو حلف لا يأكل أرغفة، فإنه لا يحنث بأكل بعضها، بل لا يحنث ما بقيت منها قطعة، وهذا ممهّد في الأَيْمان، ومعناه واضح متلقى من موجَب اللفظ، ولو ماتت واحدة منهن، انحلّت اليمين؛ فإنه يتحقق امتناع الحنث، واسم الوطء في حنث اليمين وبرّها ينطلق على غشيان الحيّة (3). ولو قال: والله لا أجامع فلانة، فماتت، فاقتحم المأثم وأتاها، لم يحنث. هذا هو المذهب. وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن البر والحنث يتعلّقان بوطء الميت. وهذا بعيد لا تعويل عليه، فلا خلاف أنه لو قال: والله لا أضرب فلاناً، فضربه بعد الموت، لم يكن ما جاء به الضربَ الذي انعقدت اليمين عليه، ولو وطىء واحدة ثم ماتت، لم يقدح موتها بعد الوطء، فإنْ وطىء الباقيات في حياتهن حنث. ولو قال لنسوته: والله لا أجامعكن، ثم طلق ثلاثاًً منهن [فبِنَّ ثم زنا بهنَّ] (4)، ثم

_ (1) ر. المختصر: 4/ 101. (2) في الأصل: يجعل، والتصويب من المحقق. (3) أي على الغشيان حالة الحياة. (4) غير مقروء في الأصل، والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون، أما (ت 2)، فقد ضلَّلَتْنا، وذهبت بعيداً حيث قالت: "ثم طلق ثلاثاًً منهن قبل قِرْبانهن".

وطىء الرابعة، حَنِث بوطئها؛ فإن اليمين لا يختص بالوطء المستباح. فهذا ما يتعلق بحكم البر والحنث، ولا شك أنه إذا جامعهن، لم يلتزم إلا كفارة واحدة، فإنْ وطئهن، حنث حنثاً واحداً، واتحاد الكفارة وتعددها يُتلقى من الحِنْث. وإذا قال: لا أجامعكن، فأتى بعضهن، أو جميعهن في أدبارهن، فالذي أراه أنه في حكم الحنث، كالإتيان في المأتى؛ فإن ذلك وإن كان يندر فعلاً، فليس خارجاً عن عرف اللسان، ولا يُرعى في الأيمان ما يجري العرف به عملاً، وإنما يُرعى ما يعدّ مندرجاً تحت اللسان، وسأصف عرف الأيمان في موضعه، إن شاء الله عز وجل. 9445 - ونحن نعود إلى حكم الإيلاء، فنقول: إذا قال لنسوته: والله لا أجامعكن، فالمنصوص عليه في الجديد أنه لا يثبت حكم الإيلاء في حق واحدة منهن؛ فإنه لا يلتزم بجماع واحدة بعد الأشهر أمراً، وفي المسألة قول قديم: أنه يصير مولياً؛ فإنه بوطء واحدة يقرب من الحِنْث، والقربُ من الحِنْث في حكم أمر ملتزم، وقد مهدنا هذا فيما تقدم -وإن فرعنا على الجديد- فلو وطىء ثالثاً صار مولياً عن الرابعة، فيبتدىء بعد وطء الثالثة ابتداء المدّة في إيلاء الرابعة، فإذا انقضت، فلها الطّلبة، [و] (1) على القديم لكل واحدة منهن الطلب؛ تعويلاً على القُرب من الحنث، ثم إن كان يطأ، فلا يلتزم بوطء ثلاثٍ (2) إلا القربَ من وقوع الحنث في حق الرابعة. ولو ماتت واحدة قبل الوطء، فالمذهب انحسام الإيلاء؛ فإن الحنث بوطئهن صار مأيوساً عنه (3). وإن أبان واحدة منهن، لم يرتفع الإيلاء في حق الباقيات؛ لأن الحنث ممكن، كما قدمناه، نعم هذه البائنة لو عادت، فهل يعود لها حكم الطَّلبة على ما يقتضيه التفريع على قولي الجديد والقديم؟ فعلى قولي عَوْد الحنث.

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) ت 2: بوطء ثبت. (3) كذا في النسختين: و (عن) تأتي مرادفة لـ (مِن).

ومن أحاط بما مهدناه في البر والحنث، لم يخف عليه كيفية التفريع على القولين في مقتضى الإيلاء. وقد نجز الغرض في هذه الصورة وهي إذا قال: "والله لا أجامعكن" ونحن نذكر بعد ذلك صورتين، ونذكر بعدهما فرعاً لابن الحداد، وعليه يتنجّز الباب. 9446 - صورة: إذا قال لنسوته الأربع: والله لا أجامع واحدة منكن، فهذا يستعمل على وجهين: أحدهما - على اقتضاء التعميم. والثاني - على تخصيص الإيلاء بواحدة منهن. فإن قال: أردت التعميمَ، فهذه اللفظة فيها لطيفةٌ يجب فهمها، ثم الخوض بعدها في الفقه، فلو قال: لا أجامعكن، فهذا يقتضي حصولَ الجماع في جميعهن، واللفظ على هذا الوجه يعمهن بتأويل اقتضاء اجتماعهن، حتى لا يحصل الغرض بمجامعة بعضهن، فهذا معنىً في العموم. وإذا قال: لا أجامع واحدة منكن على إرادة العموم، فهذا عمومُه على معنىً آخر، فإن اليمين متعلّقة بآحادهن. هذا هو وجه في العموم، ولا يقتضي تحقّقُ الحنث وطءَ جميعهن؛ من جهة أنه قال: لا أجامع واحدة (1 منكن، والمعنى جميعهن، مع تنزيل اليمين على كل واحدة 1) على طريق البدل. فإذا فهم هذا المعنى، انبنى عليه أنا نجعله مولياً عن كل واحدة منهن؛ من جهة أنه لا يقدم على وطء واحدة بعد الأربعة الأشهر إلا ويلتزم الكفارة بغشيانها، للمعنى الذي نبهنا عليه، ولو وطىء واحدة منهن وحنث وألزمناه الكفارة، فتنحلّ يمينه، ويسقط حكم الإيلاء في حق الباقيات؛ لأنه بوطء واحدة خالف جميع قوله: "لا أجامع واحدة منكن" فاقتضى ذلك انحلالَ اليمين، وإذا انحلّت، سقط أثرها في مقتضى الإيلاء. فإن قيل: ألستم قلتم: إنه مولٍ عن كل واحدة؟ قلنا: نعم هو كذلك، ولكن

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

على طريق البدل، فهذا فيه معنى العموم، وفيه معنى التخصيص، ثم جملة اليمين تنحلّ إذا وطىء واحدةً. 9447 - وهذا يبين بصورة أخرى (1) تناقض هذه الصورة، وهو أنه لو قال: والله لا أجامع كل واحدة منكن، فهذا يتضمن تخصيص كلّ واحدة بالإيلاء على وجه لا يتعلق بصواحباتها، حتى كأنه أفرد كل واحدة بيمين على حيالها. ونقل (2) بعض النقلة عن القاضي أنه جعل قوله: لا أجامع كل واحدة (3 بمثابة قوله: لا أجامع واحدة منكن، حتى قضى بأن اليمين تنحلّ بوطء واحدة 3). وهذا خطأ صريح، والخطأ محال على الناقل؛ فإن القاضي أعرف بالعادات وصيغ العبارات من أن يقول هذا. فإذاً الألفاظ المدارة في الباب ثلاثة: أحدها - أن يقول: لا أجامعكن، فالحنث لا يحصل إلا بجماع جميعهن. والثاني - أن يقول: لا أجامع واحدة منكن، وهو يبغي التعميم الذي فسرناه، فهذا تعميمٌ على البدل، ويحصل الحنث بأول امرأة يجامعها. والثالث - أن يقول: لا أجامع كل واحدة، وهذا يوجب انعقاد اليمين في حق كل واحدة، على وجهٍ لا يتعلق حكمها بحكم غيرها، وموجب ذلك أن الحنث لا يحصل في حق الجميع بوطء الواحدة. 9448 - ولو قال: لا أجامع واحدة منكن وزعم أنه أراد الإيلاء عن واحدة من جملتهن، فهذا مقبول؛ فإن اللفظ صالح لهذا، ثم يقال له: أعيّنتَها بقلبك أم لا؟ فإن زعم أنه عيّنها، قلنا له: بيّنها، والمذهب أنه يطالَب بتعيينها، كما يطالَب بتعيين المطلقة وتبيينها إذا أَبْهمَ طلقةً بين النسوة. وذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - ما ذكرناه.

_ (1) هذه هي الصورة الثانية التي وعد بها الإمام آنفاً. (2) ت 2: ونقض. (3) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

والثاني - أنه لا يطالب بالبيان، ولا يُحمل عليه بخلاف الطلاق، والفرق أن المطلّقة خارجة عن النكاح، فضبطها (1) في حِبالة النكاح من غير نكاح ممنوع، وليس كذلك الإيلاءُ؛ فإن المرأة لا تصير خارجة عن ربقة النكاح بالإيلاء، فليس في حبسها في حِبالة النكاح ما يخالف وضعَ الشرع. ثم لو ادعت واحدة منهن أنه عناها، فيجب عليه أن يجيب عن دعواها، والخلاف الذي ذكرناه فيه إذا اعترف بالإشكال، فإذا ادّعت واحدةٌ أنه عناها، طولب بالجواب، فإن قال: لم أَعْنها، حُلّف، فإن نكل، رُدّت اليمين، والتفريع في فصل الخصومة كما تقدم في الطلاق، فلا نعيد تلك التفاصيل. ولو قال الزوج: "لا أدري"، لم نقنع منه بهذا، وهذا مما تقرّر في إبهام الطلاق، فلم نؤثر إعادته. 9448/م- ومما يتعلق بالمسألة أنه لو كان قال: والله لا أجامع واحدة منكن، ثم زعم أن لفظه مطلق، وأنه لم يخطر له لا معنى العموم على التفسير المقدم فيه، ولا تخصيصُ واحدة على تأويل إبهام الإيلاء، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - أن مطلق لفظه يُحمل على عقد اليمين على جميعهن على التأويل المقدّم. والوجه الثاني - أنه يُحمل على الإبهام. والمسألة محتملة، وقد ذكرنا قاعدة أمثال هذه المسائل في كتاب الطلاق، فإذا حملنا مطلق اللفظ على العموم، فقد بان حكمه، وإن حملناه على الإبهام، فليتثبت الناظر في معناه، فإن من أبهم طلقة، ولم يعيّن بقلبه قلنا له: عيّن باختيارك تشهياً ما شئت، فإذا أبهم الإيلاء، ولم يُعيّن بقلبه -وهكذا يكون الأمر إذا حملنا المطلق عليه- فكيف الوجه؟ وما السبيل؟ هذا ينبني على أنه هل يطالب بالتعيين؟ فإن قلنا: إنه يطالب به، فليعيّن واحدةً، كما مهدناه في الطلاق. ثم ينتظم عليه أن مدة الإيلاء من وقت التعيين، أو من وقت اللفظ؟ ففيه وجهان قدمنا نظيرَهما في إبهام الطلاق، حيث قلنا: إن الطلاق يقع عند التعيين أو يستند إلى

_ (1) ضبطها: بمعنى إمساكها وحبسها.

اللفظ، وهذا كذلك، فإن جعلناه مولياً من وقت التعيين، فابتداء المدة من ذلك الوقت، وإن جعلناه مولياً من وقت اللفظ تبيُّناً (1)، فابتداء المدة من اللفظ، ولا يخرّج هذا على [اختلافٍ ذكرناه] (2) في العدة؛ فإن [المدّة قد لا يُعتدّ بها] (3) مع التباس الحال ولا يظهر مثل ذلك الأصل هاهنا. وقد نجز الكلام في الصورتين الموعودتين. فرع (4) لابن الحداد: 9449 - إذا كان للرجل امرأتان، فقال: إن وطئت إحداهما، فالأخرى طالق، فلا يخلو من أن يعيّن بقلبه واحدة منهما ويريدها بالإيلاء، فإن كانت المسألة كذلك، فالإيلاء يثبت في حق تلك المعينة بالقلب دون الأخرى، فإذا انقضت المدة والأمر مبهم عندنا، قال ابن الحداد: إذا رفعنا الزوج إلى القاضي قال له القاضي: فىء وخالف يمينك، فإن فاء، فذاك، وإن أبى، قال ابن الحداد: يُطلّق القاضي إحدى امرأتيه على الإبهام. وفرّع على أن القاضي يطلّق. وقد قال [القفال] (5): هذا غلط صريح من قول ابن الحداد؛ فإن تطليق القاضي يترتب على صحة الدعوى، ومسألة ابن الحداد مفروضة فيه إذا كانتا معترفتين بالإشكال؛ إذ لو كانت المولَى عنها معيّنة بقلبه، لدارت الخصومة في محاولة التعيين، كما نبهنا عليه، وأحلناه على ما قدمناه في الطلاق. فإذا قال ابن الحداد:

_ (1) ت 2: تعينا. (2) في الأصل: على اختلاف أمر ذكرناه. والمثبت عبارة (ت 2). (3) في النسختين: "فإن العدّة قولاً يعتد بها" وهو تصحيف عجيب اجتمعت عليه النسختان، والمثبت تصرّف من المحقق، وهو صحيح -إن شاء الله- يشهد لذلك عبارة العز بن عبد السلام في مختصره، فقد قال ما نصّه: "فابتداء المدة من حين الإيلاء أو من حين عيّن؟ فيه وجهان؛ فإن جعل من حين الإيلاء لم يخرّج على الخلاف في العدة، إذا أبهم الطلاق؛ فإن العدة قد لا تنقضي مع الإشكال، بخلاف مدة الإيلاء" ا. هـ. (ر. الغاية: 3/ 174 شمال). (4) ت 2: فصل لابن الحداد. وهو مخالف لقول الإمام أنفاً: "ونذكر فرعاً لابن الحداد". (5) في الأصل: قال الفقهاء، والمثبت من (ت 2)، ومن (صفوة المذهب) ومن (الغاية)، وأيضاًً (الشرح الكبير).

يبهم القاضي الطلاقَ، دلّ أنه فرض المسألة في اطراد الإشكال، وإذا كان كذلك، فلا تصح الدعوى من واحدةٍ منهما، وهي [معترفة بأنها] (1) لا تدري أن الزوج عناها أم لا، وهذا بمثابة ما لو قال رجلان: لأحدنا عليه ألفُ درهم، فالدعوى لا تسمع على هذا الوجه، إلا أن تكون مجزومةً، وكذلك لو قالت امرأة: آلَى عنّي زوجي أو ضربني، أو قالت: آلَى عني أو شتمني، فلا تسمع الدعوى على هذا الوجه. وهذا الاعتراض متجهٌ جداً، والعجب أن الشيخ أبا علي مع انبساطه في الإتيان بكل ما قيل، وهو من أقدم أصحاب القفال، نقل جواب ابن الحداد، ولم يورد اعتراض القفال عليه، ولم يعترض هو من تلقاء نفسه، وأخذ يفرع (2) على مذهب ابن الحداد بما سنذكره. فإن قيل: هل يتوجه مذهب ابن الحداد؟ قلنا: نعم، الممكن فيه أن المرأتين إذا اعترفتا بالإشكال، فالضرار قائم على الإبهام، فإذا امتنع عن الفيئة، فلا سبيل إلى إهمال الواقعة، ولا سبيل إلى تعيين الطلاق، فلا ينطبق على صورة الحال إلا ما ذكره. هذا هو الممكنُ، ثم إذا وقع الطلاق من جهة القاضي مبهماً، فالتعيين إلى الزوج، فإن كان عين بقلبه واحدة، صادفها الطلاقُ، فعليه التبيين، وإن لم يعين بقلبه واحدةً عند إبهام الإيلاء، فعليه التعيينُ الآن للطلاق. 9450 - فلو قال: ارتجعت من طلقت، فهل تصح الرجعة على الإبهام؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - أنها تصح بناء على الطلاق. والثاني - لا تصح؛ فإن الرجعة استحلال مضاهٍ لعقد النكاح، فلا يليق بها الإبهام؛ إذ الإبهام يناظر التعليق، فما لا يصح تعليقه لا يصح إبهامه، ولذلك أثرت الجهالة في صحة الإبراء [لمّا] (3) امتنع تعليقه، وهذا هو السديد. وإن قلنا: تصح الرجعة مبهمةً، فلا كلام، وإن قلنا لا تصح، فالوجه أن يعيّن المطلقة أولاً. ثم يبنى على تعيّنها الرجعةَ. ...

_ (1) في الأصل: معترضة فإنها. (2) ت 2: يفرض. (3) في الأصل: كما.

باب على من يجب التوقيف في الإيلاء وعمن يسقط

بابٌ على من يجب التوقيف في الإيلاء وعمن يسقط (1) قال الشافعي رضي الله عنه: "لا نعرض للمولي، ولا لامرأته حتى يطلب الوقف ... إلى آخره" (2). 9451 - إذا آلى الرجل عن امرأته، فلا طَلِبة في الأربعة الأشهر، فإنه مُمَهَّل فيها، فإذا انقضت، فلها رفع زوجها إلى مجلس القضاء، ولو لم تطلب حقها، فلا معترض عليها؛ فإنها صاحبة الحق، وهذا يؤكد أن الزوج لا يطالَب بالتعيين، فإن النكاح قائم. وينفصل هذا عن صورة الإبهام انفصالاً بيّناً، فإن الخلاف فيه إذا طلبت المرأتان التعيين لتتوصل صاحبة الحق إلى طلب حقها، فلو انقضت المدة، فذكرت أنها راضية بالمقام تحت زوجها المولي مع استمراره على الإضرار بها، فمهما أرادت المرأة أن تعود إلى الطلب، كان لها العَوْد، وهذا كما إذا أثبتنا لها حقَّ الفسخ لسبب الإعسار بالنفقة فرضيت بمصابرة زوجها على الضُرّ والعسر، ثم بدا لها، فأرادت العَوْد إلى الفسخ، فلها ذلك. ولو ثبتت العُنّة وانقضت المدّة المضروبة أجلاً للعنّين، فرضيت المرأة بالمقام، ثم أرادت أن تفسخ، فليس لها ذلك، وإنما فرضنا الكلام في العُنة عند قصد الاستفراق (3)، لأن العنة من وجهٍ ليست عيباً محضاً، فيقال: الرضا بها رضاً بالعيب، والدليل على ذلك أن الزوج لو اعترف بالعنة في ابتداء المرافعة، فإنا نمهله

_ (1) ت 2: فصل (مكان باب). (2) ر. المختصر: 4/ 103. (3) الاستفراق: طلب الفراق.

مع ذلك سنة، ومع ما ذكرناه [من] (1) الفرق ما أجريناه (2) من أنها إذا رضيت بمصابرة الزوج على الضرار (3)، فليست راضيةً بصفة كائنة، وإنما تُسقط حقها في الحال، فإن تعرضت للإسقاط في المستقبل، كانت مسقطة حقّاً لم يدخل وقته، وإسقاط الحق قبل ثبوته غيرُ سائغ، وكذلك القول في رضا زوجة المعسر بمصابرة العُسر، والتعذر في النفقة يتعلق بحق النفقة، والنفقةُ تجب شيئاً شيئاً. كذلك مطالبة الزوج بالفيئة تتعلق بطلب الوقاع، وهو مرتبط بما سيكون من الاستمتاع في مستقبل الزمان، وأما العُنّة؛ فإنها عيبٌ، فإذا رضيت به، لم تجد سبيلاً إلى الرجوع؛ فإن العنة خصلةٌ (4) واحدة. فإن عورضنا، وقيل لنا: العسر والضرارُ في النفقة والوطء (5) في حكم الخصلة الواحدة، قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإنه منبسطٌ على الأوقات لتعلقه بالحقوق المتجدّدة على مرّ الأوقات، وإذا حُقّق العُسر، لم يكن له معنىً إلا عدم النفقة، وليس ذلك صفة (6) ثابتة، بخلاف العُنّة؛ فإنها عجزٌ. 9452 - ثم حق المطالبة في الإيلاء لا يثبت إلا للزوجة، فإن كانت من أهلها (7)، فالأمر مفوّض (8) إليها، وإن كانت صغيرة، لم [ينب] (9) عنها وليها، كما ذكرناه في باب العنة، وحق الطّلب للأمة المنكوحة دون مولاها، والقول في حق الفسخ إذا أثبتناه بعذر الإعسار قد يَدِق مُدركه إذا قلنا: حق الفسخ للأمة دون المولى، مع تعلق

_ (1) زيادة من المحقق. (2) عبارة ت 2: ومع ما ذكرناه الفرق مع ما أجريناه. (3) الكلام هنا عن زوجة المولي التي رضيت بمصابرته. (4) ت 2: فإن السنة حصوله. (وهو تحريف واضح). (5) والوطء معطوف على النفقة، والضرار في الوطء هو الإيلاء كما هو واضح من السياق، وهو كما يصوّر الإمام مشبه بالضرار في النفقة، ومصابرة زوجة المعسر ورضاها أولاً ثم حقها في معاودة طلب الفسخ ثانياً. (6) ت 2: ضربة. (7) من أهلها: أي المطالبة. (8) ت 2: مفر وض. (9) في النسختين: يثبت.

هذا بصلاح مِلْك المَوْلَى؛ فإن الزوج إذا لم ينفق، احتاج السيد إلى الإنفاق استبقاءً للملك، ومع هذا لم يُثبت الأصحاب له حقَّ الفسخ، وفي هذا مباحثة وتشعيبٌ للكلام سنذكره في كتاب النفقات، إن شاء الله عز وجل. 9453 - ثم ذكر المزني فصولاً قدمنا ذكرها، فنرمز إليها للجريان على ترتيب (السواد): منها: أن الإيلاء إذا كان معقوداً على مدةٍ، فحقها أن تكون زائدةً على الأربعة الأشهر، خلافاً لأبي حنيفة (1)، وسبب الخلاف تباين المذهبين في وضع الإيلاء، فإن [وضعه] (2) عند الشافعي على أن المولي يُمهَل حتى يرجع عن المضارّة في المدة المعلومة، والمدة بجملتها له؛ فإنها مَهَلُه وأجلُه (3)، وليس الإيلاء طلاقاً، وإنما هو إظهار مضارة، فإذا انقضت المدة، تحقق إصرارٌ على المضارّة فتتوجه (4) عليه الطّلبة، ولا بد من فرض الطَّلِبة وراء المدة، ولا بد للطَّلِبة من مدّة، فهذا عقد مذهب الشافعي رضي الله عنه. وأبو حنيفة جعل الإيلاء طلاقاً معلقاً بانقضاء مدةٍ، فاكتفى بأربعة أشهر. ثم الأمر الخارج عن كل معقول قضاؤه بأن الطلاق الواقع بائن (5)، ولعله صار إلى هذا من جهة تخليصها؛ فلا تخليص إلا بالبينونة، والرجعية مستحلّة عنده. 9454 - ومما ذكره المزني: "أنه إذا حلف بطلاق [امرأته] (6) أنه لا يطأ الأخرى، فهو مولٍ" في الجديد، ثم القول في تفاصيل المسألة وما يتعلق بها من التفريع على قَوْلَيْ عوْد الحنث مستقصىً، لا حاجة إلى إعادته على قرب العهد به.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 473 مسألة 998. (2) في الأصل: موضوعه، وفي ت 2: موضعه، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء العبارة السابقة لهذه الجملة. (3) ت 2: مهلة واحدة. (4) ت 2: متوجه عليه للطلبة. (5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 473 مسألة 989، المبسوط: 7/ 20، مختصر الطحاوي: 207. (6) في النسختين: امرأتيه. والتصويب من نص المزني في المختصر: 4/ 103.

9455 - ثم قال: "والإيلاء يمينٌ لوقتٍ، فالحر والعبد فيه سواء" (1)، وأراد بهذا أن الزوج إذا كان عبداً، فمدة إيلائه أربعة أشهر، كما لو كان حراً، وخالف في ذلك أبو حنيفة (2) ومالك (3) غير أن أبا حنيفة يقول: يختلف الأمر برقها وحريتها، فلو كانت حرة، فالمدة أربعة أشهر وإن كان الزوج عبداً، وإن كانت الزوجة أمة، فشهران وإن كان الزوج حراً. وعند مالك الاعتبار برقه وحريته. وقول الشافعي: الإيلاء يمين: معناها أنها يمين عُلّقت بوقت شرعاً، فكانت كما لو علقها الحالف بالوقت، ولو كان كذلك لم يؤثر الرق والحرية. 9456 - ثم ذكر اختلافَ الزوج والزوجة في انقضاء مدة الإيلاء (4)، وأبان أن حقيقة الاختلاف في هذا يرجع إلى التنازع في وقت الإيلاء، والقول قول الزوج في وقت الإيلاء؛ [فإن المرأة إذا ادعت انقضاء المدّة، و] (5) الزوج قال: بل مضى شهران، فكأنها ادّعت تقدم إيلائه وهو منكر، وقد قدمنا نظير هذا في كتاب الرجعة. 9457 - ثم ذكر أنه لو آلى عن الرجعيّة، ثبت الإيلاء (6)؛ فإن الرجعية في حكم الزوجات، وأثر هذا أنه لو ارتجعها، احتسبنا المدة من وقت الارتجاع. ولو قال لأجنبية: والله لا أجامعك، ثم نكحها، فلو جامعها، لحنث. ولا يكلون مولياً، وإن كان يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً؛ لأنه أنشأ الإيلاء في وقت انتفاء النكاح، وحق الطلب في الإيلاء مردّد بين الوطء والطلاق، وهذا خاصيّة الإيلاء، [فلا] (7) ينعقد الايلاء في وقتٍ لا نكاح فيه، والرجعية منكوحة، أو على عُلقةٍ صالحة من الزوجية.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 105، والعبارة في النسختين مقلوبة هكذا: واليمين إيلاءٌ لوقتٍ. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 480 مسألة: 1010، المبسوط: 7/ 32، مختصر الطحاوي: 207. (3) ر. الاشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 762، والمنتقى للباجي: 4/ 37. (4) ر. المختصر: 4/ 105. (5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وزدناه من (ت 2). (6) ر. المختصر: 4/ 165. (7) في النسختين: لم.

والذي يجب نظمُه في هذا الفصل أن الطلاق حرّمها، فاقتضى ذلك انعزالَها للعدّةِ واستبراءِ الرحم، ونصُّ الشافعي رضي الله عنه في إيجاب المهر أصدق شاهد على زوال الملك، وإن كان عُرضةَ الاستدراك، والتوريثُ أصدق شاهد في بقاء النكاح، وإن تكلفنا، قلنا: الإرث يستقلّ (1) بعُلقة ثابتة؛ فإنه لا يجري إلا بعد النكاح. وكأنا نقول: ليست البائنة على عُلقةٍ من النكاح، وعِدّةُ البينونة ليست من علائق النكاح، ولهذا لا تثبت فيها النفقة للحائل (2)، والرجعية على علقة من النكاح، [ولهذا تستحق] (3) النفقة، ويحرم نكاح أختها في عدتها، ونكاح أربعٍ سواها للعُلقة المستقرّة في طريقةٍ، أو للنكاح القائم، وإذا كان تحريم الجمع متعلقاً بالنكاح، لم يبعد أن يتعلق بالعُلقة المختصة به. وهذا بمثابة امتناع الإحرام بالعمرة مع ملابسة الحج، ثم المقيم بمنى أيام منى ليس في الإحرام، ولكنه في نسك تابعٍ للإحرام مُفدٍ لو تركه (4)، فامتنع ابتداء الإحرام في الأيام المشتملة على تلك المناسك، فأما الإيلاء عن الرجعية، فمعتمده النكاح نفسه إن قلنا: إنها منكوحة أو العُلقة القائمة المسلِّطة على الرّد إلى عين النكاح الأول، وهذا لا يتحقق في البائنة. ...

_ (1) ت 2: يشتغل. (2) ت 2: ولهذا تثبت فيها النفقة للحامل. (3) في الأصل: ولهذا لا تستحق النفقة. (4) ت 2: مانع للإحرام مبرى لو نزل.

باب الوقف في الإيلاء

باب الوقف في الإيلاء 9458 - ذكر المزني مسائل هذا الباب على غاية الاختلاط، ووقعت له غلطات في النقل والترتيب، ونحن نرى من الرأي أن نصدّر الباب بفصلين: أحدهما - مشتمل على موانعَ من الوطء فيه وفيها، ثم القول يتردد في أحكامها على ما سنوضحه. والفصل الثاني - في المطالبة بعد المدة وما يمنع منها. فأما الفصل الأول 9459 - فإنا نقول: الطلاق يقطع مدة الإيلاء، وإن كان رجعيّاً، فليقع الاعتناء به، ثم لا يخفى حكم الطلاق البائن، فإذا آلى الرجل عن امرأته، وخاض في المدة، ثم طلقها في أثناء المدة، انقطعت المدة، فإذا راجعها (1)، فلا بناء على ما مضى من المدة، ويستفتح مدة جديدة بعد الرجعة، فإذا مضت، ثبتت الطلبة بعدها، ولو انقضت المدة، فطلقها، ثم راجعها ابتدأنا مدةً، فإذا مضت بكمالها، عادت الطّلِبة، وقد قرّرنا هذا وأوضحنا فقهه. فالطلاق إذاً يقطع المدة، ويُسقطُها حتى لا يُفرض البناء على السابق منها، فإذا جرى بعد المدة، ثم فرضت الرجعة فالإيلاء قائم، ولكن لا بد من افتتاح المدة مرة أخرى. 9460 - والردة إذا فرضت في ممسوسة أو في زوجها، فهي كالطلاق الرجعي في جميع ما ذكرناه، فتقطع المدةَ قَطْع إسقاطٍ يمنع البناء، وإذا زالت الردّة في مدة العدة، فلا بناءَ، بل نبتدىء المدّة. وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وإن كنا نبيّن أن الرّدة إذا زالت قبل انقضاء

_ (1) ت 2: ثم راجعها.

العدة، فكأن النكاح لم ينخرِم، بخلاف الطلاق؛ فإن الواقع منه لا يزول بالرجعة، ولكن لما كانت الردّة مؤثرة على الجملة في إزالة الملك، كانت قاطعة للمضارة بترك الوطء، والتعويل على إظهار المضارّة، فإذا فرض عودٌ، فهذا جرى قبل انقطاع قصد المضارة بترك الوطء مع استمرار الحِلّ. وليست الردّة كالإحرام؛ فإنه ليس إعراضاً عن النكاح؛ إذ النكاح في أصل الوضع يدوم معه، وهذا الفقه واقعٌ لمن تأمل. وإذا انقضت مدة الإيلاء، فارتدّ أحد الزوجين، ثم زالت الردّة، واستمر النكاح، كان ذلك بمثابة الطلاق الرجعي إذا طرأت الرجعة بعده، فلا بد من استئناف مدة، وهذا من المسائل التي تُحفظ في هذا الكتاب، وهي: مولٍ يتجدد إيلاؤه، ولا يطرأُ طلاقٌ ولا فيئة، فتنقضي أربعة أشهر فنضرب أربعة أخرى، وذلك إذا آلى، فمضت المدة، فارتد أو ارتدت، ثم فرض العود على الفور. فهذا بيان الطلاق والردة. 9461 - فأما ما عداهما من الموانع، فينظر فإن كان فيه كمرضٍ أو غيره من حبسٍ، أو غَيْبة، والموانع فيه تنقسم إلى الحسيّ والشرعي فالحسية منها ما ذكرناها وأمثالها، والشرعية كالإحرام والظهار ونحوهما، وكل مانع في (1) جانبه فلا يمنع الاحتساب بالمدة، فإذا طرأت هذه الموانع في وقت الطّلبة (2)، فسنذكر في الفصل الثاني تحصيلَ القول في الطلب، وغرضنا الآن مقصورٌ على الكلام في انقطاع المدة واستمرارها، فإذا اطردت الموانع عليه بعد المدة، ثم زالت، حقَّت الطلبة، وإذا كانت لا تقطع المدة لا توجب ابتداء المدة. 9462 - فأما إذا كانت الموانع فيها، فهي تنقسم إلى الطبيعية والشرعية، فإذا كانت محبوسة أو مجنونة لا يتأتى غشيانها، أو كانت من الصغر بحيث لا تحتمل الجماع،

_ (1) ت 2: من. (2) ت 2: الطلقة.

أو امتنع (1) وقاعها للدَّنَف (2) أو الضِّنى، أو نشزت وامتنعت من التمكين، فجملة هذه الموانع تقطع المدة، وتمنع الاحتساب بها معها، وإذا اقترنت بالإيلاء، لم نبتدىء المدّة. والسبب فيه أن الإيلاء إظهار الضرار بالامتناع عن وطئها إذا لم يكن فيها مانع، وإذا كان وأمكنت الإحالة على ما فيها من المانع، فلا وجه لتحقيق المضارة. ثم هذه المعاني فيها إذا طرأت وقطعت المدة، ثم زالت، فهل تُستأنف المدة أم يُبنى عليها؟ فعلى وجهين: أحدهما - يبنى عليها، حتى لو كان طرأ مانع فيها بعد مضي ثلاثة أشهر ثم زال، فلا مهل أكثر من شهر. والوجه الثاني - تستأنف المدة بعد ارتفاع العوارض أربعة أشهر. توجيه الوجهين: من قال بالبناء، قال: لم يطرأ ما يخرم الملك (3)، ولكن امتنع الاحتساب بالمدة؛ إذ لا تمكين (4)، فإذا زال المانع، فليس إلا استكمال المدة. ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن [المضارة] (5) إنما تتحقق إذا تتابعت أزمانها، ولم نجد لها مستنداً إلا امتناع الزوج، وهذا يوجب افتتاح المدة. ولو طرأت هذه الموانع بعد المدة، فلا شك أنها لا تطالِب مع قيام المانع، فإذا زال، فهل يعود الطلب أم نبتدىء مدةً؟ المذهبُ المبتوت أنها تعود إلى الطلب؛ فإن المضارة قد تحققت وِلاءً في أربعة أشهر، وليس كما لو طرأ المانع على المدة. وأبعد بعض الضَّعفة، فقال: إذا قلنا: تستأنف المدة، وقد طرأ المانع (6 على المدة، فكذلك تستانف المدة إذا طرأ المانع 6) بعد المدّة وزال. هذا عقد المذهب في الموانع القاطعة والمانعة.

_ (1) ت 2: امتناع. (2) الدّنف: بفتحتين: المرض المثقل، ومثله الضنى (المعجم). (3) ت 2: من قال بالبناء ما لم يخرم الملك. (4) ت 2: لا يمكن. (5) في الأصل: المضاربة. (6) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

9463 - ونحن نذكر بعد ذلك قولاً غريباً حكاه صاحب التقريب، وغلطاً للمزني في النقل، ومباحثةً تتعلق بتعليل (1) المذهب. فأما ما حكاه صاحب التقريب، فقد نقل قولاً غريباً عن البويطي عن الشافعي رضي الله عنه: أن الزوج إذا كان متمكناً من الوطء في ابتداء المدة، ثم طرأ مرضُها بعد مضي زمان الإمكان، فهذا لا يمنع [احتساب المدة، ولو كانت مريضة مع ابتداء المدة مرضاً مانعاً، فلا تحتسب المدة حينئذ] (2)؛ فإنه أنشأ اليمين وهو يصادف منها مانعاً، فأما إذا عقد اليمين على المضارّة والتمكينُ مقترن، فلا التفات على ما يطرأ. وهذا غريب لا تعويل عليه. 9464 - وأما غلط المزني فقد نقل: "أن المولي إذا حُبس، لم تحسب عليه المدة، زمانَ (3) حبسه، ثم اعترض، فقال: قد نص على أنه لو مرض مرضاً مانعاً، حسب عليه المدة، فزمان حبسه بذلك أولى" (4). فقال الأصحاب: الخطأ منك (5) في النقل، وإنما تعترض على نفسك، وقد صادف الأصحاب نص الشافعي في كتبه جازماً (6) بأن مدة حبس الزوج محسوبةٌ. 9465 - وأما المباحثة فلو قال قائل: إذا تحقق المانع في الزوج، فهلاّ عُذر؛ فإن المعتمد إظهار الضرار، وإذا تحقق المنع فيه، لم تظهر المضارة. ولم يصر أحدٌ من الأصحاب إلى تصديق المزني في نقل نصِّ الحبس ونصِّ المرض على مناقضته، والمصيرِ إلى إجراء (7) القولين بالنقل والتخريج، ولو قال

_ (1) ت 2: بتعليق. (2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2). (3) ت 2: فإنه حبسه. (4) ر. المختصر: 4/ 108. (5) الخطاب للمزني من الأصحاب. (6) ت 2: جارياً. (7) ت 2: أحد القولين.

قائل بذلك، لكان قريباً، ولكن (1) التعويل على النقل. والممكن في الانفصال عما ذكرناه أن الإيلاء صدر منه، فإذا انقضت المدة والمانع قائم، فلسنا نردده بين الوطء والطلاق، بل نكتفي منه بالفيئة باللسان، كما سنصفه على أثر ذلك، فليفىء بلسانه، فإن هذا لا امتناع فيه، وإذا كان الإيلاء ينعقد والمدة تجري، والمطلوب بالأَخَرة اللسانُ، فلا تنقطع المدة على هذا القياس وطريان المانع على الزوج، ولا يمتنع ابتداء المدة باقتران المانع به. فأما إذا كان المانع فيها، فليس من جهته أبداً مضارّة، وليس تخلو محاولة الفصل بين المانعين عن إشكال لا يخفى دركه على الفهم المنصف. وقد نجز تفصيل القول في الموانع. [الفصل الثاني] فأما الفصل الثاني وهو الكلام في المطالبة بعد انقضاء المدة. 9466 - فإذا لم يكن مانع، وأرادت المطالبةَ بعد المدة، ورفعت زوجَها إلى القاضي وطالبته، فإن فاء، فذاك، وإن امتنع، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القاضي يطلق عليه زوجته، إذا تحقق الامتناعُ منه، إلا أن يبتدر هو فيطلق؛ والسبب فيه أن الغرض دفع الضرار، وحكم الشرع أن الممتنع عن الحق المتعيَّن عليه يُستوفى منه الحق بقهر الولاية إذا أمكن، واستيفاءُ الفيئة منه غير ممكن، وترك المرأة تحت المضارّة غيرُ ممكن، وهذا لا وجه له، فالطريق أن يطلقها، ويخلّصها من دوام المضارّة، وهذا أظهر القولين، وهو المنصوص عليه في الجديد. والقول الثاني - أن القاضي لا يطلق، بل يضيق الأمر عليه بالحبس حتى يطلق. ونصَّ الشافعي في هذا القول على أن القاضي لو أراد أن يعزره، لكان له ذلك، فإنه قادرٌ على التطليق وتخليص المرأة، معاندٌ (2) بترك الطلاق الذي يُدعى إليه.

_ (1) ت 2: ولعلّ التعويل. (2) ت 2: يعاند، و (معاندٌ) خبر ثانٍ لقوله: (فإنه قادرٌ).

قال المزني: لم يذهب إلى هذا أحد من العلماء، وبالغ في تزييفه واختار القول الأول، وهو المختار. وقد ذكرنا أن المنصوص عليه في القديم في حكم المرجوع عنه. 9467 - ولو لم يمتنع الزوج عن الفيئة ولكن استمهل، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم: لا نمهله مَهَلاً معتبراً به مبالاة، فنقول له: قد أمهلناك أربعة أشهر، فلا نزيدك أجلاً آخر، ثم هؤلاء [لا] (1) يكلّفونه القيام إليها على الفور؛ فإن الفحل المتشوف إلى الوقاع قد لا توافقه الطبيعة في التسرّع إلى الوطء على هذا الحد، ولكن يقال له: شمّر (2) وتهيأ، ولك الفسحة ريثما تثوب بسطتُك وتنهض شهوتك، وهذا قد يتأتى (3) في نصف يوم. قال أصحابنا: أو في يوم، وعندنا أن الليلة تتبع اليوم؛ فإن المدافعة إلى مجلس الحكم ليلاً غيرُ مألوفة، فإن فاء، فذاك، وإن لم يفىء، وفرعنا على الصحيح، ابتدرنا الطلاق؛ فإنه لو استمهل في اليوم الثاني، لتوجّه هذا في الثالث. هذا مسلك بعض الأصحاب. ومن أصحابنا من قال: إذا استمهل نُمهله ثلاثةَ أيام، والاختلاف في ذلك يقرب من القولين في استتابة المرتد، غير أنا وإن أمهلنا المرتد، فلو ابتدره مبتدر وقتله، لكان هَدَراً، وإذا أمهلنا الزوج، فلو ابتدر القاضي وطلّق قبل انقضاء المدة -وهي ثلاثة أيام- لم ينفذ طلاقه، وهذا لا شك فيه إذا انقضت (4) منه الفيئة في المدة بعد طلاق القاضي، فأما إذا طلق القاضي، ثم بان أنه لم يفىء في الأيام الثلاثة، فالظاهر أن الطلاق لا ينفذ، وفيه شيء (5).

_ (1) ساقطة من النسختين، وزدناها رعاية للسياق والسباق. (2) ت 2: يقال له ذلك الصحة رتب. (3) ت 2: قد لا يتأتى. (4) انقضت منه الفيئة: أي حصلت منه وفاء في المدة التي أمهلناه إياها. وأقول: لعلها محرّفة، وصوابها: "هذا إذا اقتضت منه الفيئة". (5) وفيه شي: أي وفيه نظر، كما عبر بذلك ابن أبي عصرون.

وهذا عسر التصوير؛ فإن طلاق القاضي قد يستند إلى رأيه في أنْ لا إمهال، فإذا كان كذلك، ينفذ؛ اتّباعاً للاجتهاد، فإذا نفذ الطلاق، حمل (1) ذلك منه على القضاء به. وكل ذلك والزوج يَستمهِل (2)، فأما إذا أبدى الإباء، فيبتدر القاضي، ويطلّق. 9468 - ولو قالت المرأة: لست أبغي الطلاق، وإنما أطالب بالفيئة، فالقاضي هل يطلق، وهي لا تطلب الطلاق، بل تأباه وتبغي أن يَحبس الزوجَ ليطأ، فليس لها ذلك؛ لأن توحيد (3) جهة الطلب في الفيئة تكليفُ شطط؛ فإن النفس قد لا تطاوع، ولولا ذلك، لثبت للمرأة مطالبةُ الزوج بحق المستمتع، كما يثبت له مطالبتُها بالتمكين. فإذاً لا يصح منها الطَّلِبة إلا مردّدةً بين الوطء والطلاق، وإذْ ذاك تكون مطالِبةً بممكن، وهذا على ظهوره لا يضرّ ذكره؛ فإنها طَلِبةٌ لا [نظير] (4) لها في الشرع، مبناها على التردد، وإذا كان لا يصح منها الطلب إلا مردّداً، فإذا امتنع الزوج من الفيئة، تعيّن الطلاق، فإن أبت، فقد تركت الطلب، ولا يتصوّر حبسٌ لأجل الفيئة المجردة قطّ. فهذا الذي ذكرناه بيان قاعدة المذهب، حيث لا مانع طبعاً وشرعاً، لا فيه ولا فيها. 9469 - فأما إذا فرض مانع، فلا يخلو إما أن يكون المانع فيه أو فيها، فإن كان المانع فيه، لم يخل ذلك المانع من أن يكون طبيعياً أو شرعيّاً: فإن كان طبيعيّاً، كالمرض وما في معناه، فالطلبة تتوجه، والمطلوب منه الفيئة باللسان، ووجهه أن يعترف بالإساءة، [ويَعِدُ بالفيئة] (5) عند القدرة -وسنشرح فيئة اللسان بعد هذا- هذا فيئة اللسان، فليأت بها، أو يطلق، أو تطلّقُ عليه زوجته،

_ (1) في الأصل: وحمل ذلك. (2) ت 2: مستمهل. (3) ت 2: توجيه جهة الطلب للفيئة. (4) في الأصل: نظفر، وفي ت 2: تصير، والمثبت من المحقق. (5) في النسختين: وبعد الفيئة.

ولو استمهل، فلا مَهَلَ؛ فإن اللسان منطلق بما ذكرناه، وإن قال: لست أنطق بموعد ولكن أخروني إلى الاقتدار (1)، فلا [نسعفه] (2)، ولا ينبغي أن يستبعد الفقيه مطالبته بفيئة اللسان؛ [فإن أداة الإيذاء اللسان] (3). ثم إذا زال المانع، حقّت الطّلبة بالفيئة نفسِها، فلو استمهل إذ ذاك، عادت التفاصيل في الاستمهال، كما تقدم، هذا جارٍ في مسائل -يعني الإمهالَ ثلاثة أيام- استتابة المرتد، وقتل تارك الصلاة، والفسخ بالإعسار بالنفقة، والفسخ بسبب العُنة، وخيار العتق، والأخذ بالشفعة، فهذه سبع مسائل، والردُّ بالعيب على الفور بلا خلاف، ولا مَهَلَ فيه مع التمكن. هذا كله إذا كان المانع طبيعياً. 9470 - فأما إذا كان المانع شرعياً: مثل أن يكون الزوج مُحرماً، أو مظاهراً، فلا نقنع بفيئة اللسان؛ فإن الوطء ممكن حسّاً، ولا نستجيز أن نقول: جامعها، والطِّلِبةُ بالطلاق المجرد لا سبيل إليها، فالوجه أن نقول: أنت صنعت على نفسك، فإن جامعتها أسأت وأفسدت العبادة، أو ارتكبت محرّماً في الظهار، وإن تحرّجت وامتنعت، طلقنا عليك زوجتك. وسنعقد في الموانع الشرعية فصلاً في أثناء الباب -إن شاء الله- وهو ممثّل بمسألة الدجاجة واللؤلؤة (4)، كما مضى ذكرها في كتاب الغصب.

_ (1) إلى الاقتدار: أي على الفيئة بالوطء. (2) في الأصل: مسعفه. (3) ما بين المعقفين تصرف من المحقق على ضوء السياق، فالعبارة في النسختين غير مستقيمة، فهي في الأصل هكذا "فإذا عاد الإيذاء اللسان" وفي ت 2: فإن عاد الإبداء باللسان. ولم يغن في تصويب هذه العبارة (صفوة المذهب)، ولا (الغاية)، ولكن أيّد تصرّفنا هذا ما جاء في الشرح الكبير من حكاية قول إمامنا: قال: "قال الإمام (يعني إمامَ الحرمين) قدس الله روحه، ولا بُعد في المطالبة بالفيئة باللسان، فإن حكم الإيلاء مبني على الإضرار باللسان" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/ 239). (4) مسألة الدجاجة واللؤلؤة، هي أن يغصب الغاصب دجاجة ولؤلؤة، فابتلعت الدجاجة اللؤلؤة، يقال له: إن لم تذبح الدجاجة، غرّمناك اللؤلؤة، وإن ذبحت الدجاجة لاستخراج اللؤلؤة، غرمناك الدجاجة.

ولو كان يتحلل عن إحرامه في ثلاثة أيام، ورأينا أن نمهله ثلاثة أيام، فالوجه إسعافُه، ولا طريق غيرُه. ثم إذا تحلل بعد الأيام الثلاثة، فلهذا الطرف اختلاج في النفس: يجوز أن يقال: يترك حتى ينشطَ نشاطَه وتنهضَ شهوتُه، ويجوز أن نقول: إن لم يبتدر، طَلَّق عليه زوجتَه إن طلبت، وهذا فقيه حسن. والفرق بين المانع الشرعي والطبيعي أن الوطء غير ممكن وجوداً مع الموانع الطبيعية، وهو ممكن مع الموانع الشرعية، والزوج منتسب إلى التضييق على نفسه بإدخال الظهار على الإيلاء، أو بإدخال الإيلاء على الظهار، ولا نأمن أن يكون جمعه بين الأمرين نكداً (1)، فإنهما جميعاًً متعلقان باختياره. 9471 - ولو كانت المرأة حائضاً بعد المدة، لم تملك المطالبة ما استمر الحيض؛ فإن المانع فيها محقق، والحيض لا يتضمن قطعَ المدة وفاقاً، فإنه في غالب العادات يكُرّ على المرأة مراراً في أربعة أشهر، ولو كانت قاطعةً للمدة قطعاً يقتضي استئنافاً، لما انقضت مدة الإيلاء غالباً على ذات أقراء، وإن كانت تقطع ولا تقتضي استئنافاً، وذلك غالب فيهن، لوقع التعرض له في الكتاب أو السنة، فإن جرى ذكر أربعة أشهر من غير تعرض للحيض، دلّ على أنه لا اعتبار به في المدة، والحيض لا يقطع تتابع صيام الشهرين، فلأن لا يقطع تتابع الأربعة الأشهر أوْلى؛ فإن المعتمد في أنه لا يقطع تتابع صيام الشهرين أنه يغلب وجودُ الحيض في مدة الشهرين. ولو كانت مُحْرمةً أو صائمة صوم فرض، وذكرت ذلك لنا، وأرادت مطالبة الزوج بالفيئة أو الطلاق، فليس لها ذلك اعتباراً بالحيض. وكذلك لو كان فيها مانع طبيعي، فلا معنى لمطالبتها، ولا تملك (2) المطالبة والمانع فيها بفيئة اللسان.

_ (1) نكداً: بمعنى عناداً ومشاقّة، وإيذاءً، هذا معنى اللفظ هنا، ولا يصح غيره، وقد تكرر كثيراً بهذا المعنى في كتابنا هذا، ولكنا لم نجد هذا المعنى منصوصاً في المعاجم المعهودة، وأقرب معنى وجدنا هو منع صاحب الحاجة من حاجته. (2) ت 2: وتملك.

9472 - ثم قال: "ولو كان بينها وبينه مسيرة أربعة أشهر ... إلى آخره" (1). إذا غاب المولي، وكان بينه وبين المرأة مسيرةَ أربعة أشهر، وكان مع الزوج وكيل من جهة المرأة بالخصومة، فلما انقضت (2) أربعةُ أشهر والغيبةُ مانع فيه، فإنه أنشأها إذا (3) غاب عنها، فالزوج مطالب بالفيئة باللسان عند مسألة (4) الوكيل، فإن فاء باللسان، وأخذ في المسير نحوها، فذاك، وإن لم يأخذ في السير حتى مضى زمان الإمكان، فالحاكم يطلّق عليه -على القول الجديد- بمسألة (4) الوكيل، أو يضيق الأمر عليه حتى يطلق بنفسه على القول الآخر. وإذا انقضى زمان الإمكان وتوجّه الطلب من الوكيل، فقال الزوج: أبتدىء الآن في المسير (5)، فلا يَلتفت إلى قوله ويَحبسه، أو يُطلِّق عليه. وقد نجز الكلام في الفصلين: فصل الموانع، وفصل المطالبة، وأدرجنا في أثناء ما ذكرناه مسائل من الباب وتنبيهاتٍ على غلطات المزني في النقل. 9473 - وكان شيخي يقول: الصوم منها لا يقطع المدّة، ولا يمنع الاحتساب. وهذا فيه نظر، فإن كانت تصوم تطوعاً، فالأمر كذلك؛ فإن الزوج يغشاها ولا يبالي بصومها، وإن كانت تصوم الفرض في رمضان وهو من الأشهر، فهو محسوب؛ فإن في الليالي مقنعاً، ولا بدّ لها من الصوم. ولو كان عليها قضاء، والقضاء على التأخير، فإذا أرادت تعجيله من غير إذن الزوج، فهل لها ذلك؟ فعلى خلافٍ بين الأصحاب، وكذلك لو أرادت المرأة إقامة الصلاة في أول الوقت، والرجل يبغي منها مستمتعاً في ذلك الوقت، ففي المسألة اختلاف.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 108. (2) ت 2: انقطعت. (3) إذا بمعنى (إذْ). (4) مسألة الوكيل: المراد سؤال الوكيل وطلبه للفيئة. (5) أي المسير نحوها للفيئة.

وكذلك لو كانت مستطيعةً، فأرادت أن تحج حجة الإسلام، والزوج يبغي أن تؤخر، ففي المسألة اختلاف. والمسائل متناظرة، فمن اعتبر رضا الزوج تمسك بأنه لا حرج عليها في التأخير، وحق الزوج مُضيِّق عليها، ومن جوّز لها التعجيل قال: النكاح للأبد، والموت منتظر، ولا ثقة بالعمر. فإن قلنا: ليس لها أن تصوم دون إذنه، فإذا أخذت تصوم، فهي [كالمتطوّعة] (1) وقد سبق الكلام فيها. وإن قلنا: لها التعجيل، ففي المسألة احتمال؛ فإنها ممتنعة على زوجها في شطر الزمان [باختيارها،] (2) والأظهر أنه لا أثر للصوم، فإنا إذا جوزنا لها أن تبتدر، فليست على رتبة الناشزة، وفي الليالي مضطرب. وإذا نشزت فنشوزها من الموانع القاطعة للمدة، ولو كان الزوج قادراً على ردّها قهراً، فلا اعتبار بذلك، بل المنع ثابت، والضرار مندفع على الوجه الذي فرضناه وبنينا الباب عليه. 9474 - ثم ذكر الشافعي (3): "أنهما لو اختلفا في الإصابة، فزعم الزوج أنه أصابها وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج". وهذا مما ذكرناه في كتاب النكاح، ولكن نعيد ذلك الأصلَ لمزيد فائدة فنقول، مهما (4) وقع النزاع في إثبات الإصابة ونفيها، فالقول قول النافي إلا في مسائل:

_ (1) ت 2: كالمطلق، وفي الأصل: كالمقطوعة. وتشبيهها بالمتطوعة، أي في الحكم، وهو أن للزوج أن يغشاها ولا يبالي بصومها. (2) في النسختين: باختياره، والمثبت اختيارٌ من المحقق. ومعنى العبارة أننا إذا قلنا: ليس لها أن تصوم القضاء الذي عليها معجلاً من غير إذن الزوج إذا كان هذا القضاء على التأخير، إذا قلنا: ليس لها ذلك، فهذا محتمل: له وجه، وذلك أنها بصومها تكون ممتنعة على زوجها (باختيارها) شطر الزمان، أي نهار أيام الصوم. (3) ر. المختصر: 4/ 109. (4) مهما: هنا بمعنى (إذا).

إحداها - إذا ضربت مدة العنة، فلما انقضت زعم الزوج أني وطِئتُها، أو قال في ابتداء الأمر: [أنا] (1) الآن عنين، ولكن قبل هذا وطئتها، فلا تضربوا المدة، فالقول قول الزوج مع يمينه، وقد قدمنا هذا وعللناه. 9475 - ومن المسائل (2) اختلاف الزوج المولي مع المرأة، وهذه مسألة الكتاب، فإذا جعلنا القول قولَ الزوج في إثبات الوطء مع يمينه، فإن حلف على ذلك، ثم إن الزوج طلقها، وأراد ارتجاعها، فإنه قد وطئها بزعمه (3). قال ابن الحداد: ليس له أن يرتجعها؛ فإنا وإن جعلنا القول قولَه في إثبات الوطء ابتداءً، فهذه خصومة أخرى وقضية أخرى، فالقول في ذلك قولها مع يمينها، فتحلف، وتنتفي الرجعةُ عنها، كما لو كانت الخصومة ابتداء في الرجعة؛ فإن الزوج لو طلق امرأته، ثم زعم أنه كان وطئها، فيرتجعها وأبت المرأة، فالقول قولها، فإنه لا يلزمها عِدّةٌ لقول الزوج؛ فإذا لم تثبت العدةُ، لم تثبت الرجعة. فإن قيل: هذا يُبطل معوَّلكم في أن الأصل بقاء النكاح، وعليه يتم تصديق الزوج في مسألة العُنّة والإيلاء؛ فإن كان الأصل عدمَ الوطء. قلنا: إنما يصدق الزوج والنكاحُ قائم، وإذا طلق، فالطلاق يحل النكاحَ، وهو في إثبات المستدرك مدعٍ. قال الشيخ: من أصحابنا من ذكر في صورة ابن الحداد وجهاً أن الرجعة تثبت؛ فإنا صدقنا الزوج في إثبات الوطء في خصومةٍ وقوّينا جانبه واعتضد هذا أيضاًً باستبقاء النكاح، وهذا ضعيف لا تعويل عليه. 9476 - والمسألة الثالثة - أن يخلو بها وقلنا: الخلوة لا تقرر المهر، فإذا ادّعت الوطء، فهل نصدقها؟ فيه قولان ذكرناهما.

_ (1) في الأصل: أما. (2) هذه هي المسألة الثانية، وستأتي الثالثة والرابعة. (3) المسألة مصوّرة في غير المدخول بها، فهي التي لا يملك عليها الرجعة إلا إذا كان قد وطئها، ووجبت عليها العدّة.

9477 - والمسألة الرابعة - أن تدعي المرأةُ الوطءَ من غير خلوة تبغي [تقريرَ] (1) المهر، فإذا أنكر الزوج، فالقول قول الزوج في نَفَي الوطء، فلو أتت بولدٍ لزمان يلحق الزوجَ، فإنْ نَفَى الولدَ باللعان، فالذي سبق من نفي الوطء على ما سبق، والقول قول الزوج، كما مضى، وإن لم ينفه باللعان ولحقه الولد، فهل نقول الآن: القول قول المرأة؛ إذ قد ظهر تقدم وطء منه [بلحوق] (2) الولد؟ ما نقله المزني: أنا نجعل الآن القولَ قولَها في إثبات الوطء مع يمينها، فتحلف وتستحق المهر كَمَلاً. قال الشيخ رضي الله عنه: نقل الربيع ما نقله المزني، ونقل قولاً آخر: أن القول قول الزوج؛ فإنها قد تَحْبَل من استدخالٍ من غير وطء. واختلف أصحابنا على طرق: فمنهم من قال: في المسألة قولان، ومنهم من قطع بما نقله المزني، وزيف القول الثاني، وجعله من تخريج الربيع، ومنهم من قال: المسألة على حالين: حيث قال: القول قولها: [أراد إذا نشأ] (3) الاختلاف بعد الولد ولحوقه، فالقول قولها [إذ] (4) الظاهر معها، والاستدخال بعيد، وإن اختلفا قبل الولد وظهور أمره وحلّفنا الزوجَ، فقد تمت الخصومة ونفذت، فلا نجعل القول قولها. ومن سلك طريقة القولين أجراهما في الحالين، قال الشيخ: الأصح من ذلك كله القطع بما نقله المزني (5) في الأحوال كلها. 9478 - ثم ذكر المزني أنه يخلص عن عهدة الإيلاء بتغييب الحشفة، وهذا كما

_ (1) في النسختين: تقدير. (2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين. (3) ما بين المعقفين أثبتناه من (ت 2) مكان كلمات غير مقروءة في الأصل. (4) في النسختين: (إن) والمثبث من المحقق. (5) وجه ذكر هذه المسألة في المسائل الجارية على خلاف قياس الخصومات، حيث نجعل القول قولَ المثبت، لا قول النافي - وجه ذلك في هذه المسألة هو أن القول قول الزوجة في إثبات الوطء الذي ينفيه الزوج، لقوّة جانبها بالولد، وهذا هو المنصوص في رواية المزني.

ذكرناه من قبل، وإن كانت المرأة بكراً، فلا بد من إزالة العُذرة، وهي تحصل بتغييب الحشفة لا محالة، فلو ادعى العجز عن الافتضاض، كلفناه الفيء باللسان في الحال، وضربنا له مدة العُنة، ثم أجرينا حكم العِنِّين، كما مضى مفصلاً (1). 9479 - ثم قال: "لو أصابها وهي مُحْرِمة ... إلى آخره". إذا أصاب الرجل امرأته وهي مُحْرِمة، وكان قد آلى، فقد حصلت الفيئة، ولا نظر إلى انتسابه إلى العصيان بعد حصول الوطء، وانحلال اليمين (2). فصل قال: "ولو آلى ثم جن ... إلى آخره" (3). 9480 - إذا آلى الرجل، ثم جن، ووطىء في حالة الجنون، فالمنصوص عليه أنه لا يحنث؛ فلا كفارة عليه وخُرِّج فيه قولٌ آخر: أن الكفارة تلزمه، من حِنْث الناسي، وهذا له التفات على أن المجنون إذا قتل صيداً في الحرم، فهل يلتزم الفدية؟ وفيه قولان. ومما نذكره أن المولي إذا أُكره على الوطء، فوطىء مكرهاً، قال الشيخ: في وجوب الكفارة على المكره قولان مشهوران، فإن قلنا: إن الكفارة تلزمه، فلا شك في حنثه وانحلال يمينه، فإن قلنا: إن الكفارة لا تلزمه، فهل نقول: يحنث وينحل يمينه؟ فعلى وجهين ذكرهما رضي الله عنه، وهذا الترتيب يجري في المجنون: فإن ألزمناه الكفارة فقد انحلت اليمين، وإن قلنا: لا تلزمه الكفارة، فهل تنحل اليمين؟ حتى إذا أفاق، فوطىء لا تلزمه الكفارة؟ فعلى وجهين. ولا يختص ما ذكرناه بالإيلاء، ولكن كل حالفٍ وُجد منه المحلوف عليه على وجه الإكراه، وقلنا: لا يلتزم الكفارة، فهل تنحل [يمينه] (4)؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 111. (2) السابق نفسه. (3) ر. المختصر: 4/ 111. (4) زيادة من المحقق.

9481 - فإذا تمهد هذا، رجعنا إلى حكم الإيلاء في المكره (1): فإن قلنا بانحلال اليمين، ولا كفارة، فقد ارتفع حكم الإيلاء، وإن قلنا: ما انحلت بما جرى، حتى لو وطىء مرة أخرى، يلزمه الكفارة، فهل يعود حكم الإيلاء والطلب؟ فعلى وجهين، وهما يجريان في المجنون إذا قلنا: لا تنحل اليمين بما جرى في الجنون. توجيه الوجهين: 9482 - من قال يعود الطلب، قال: لأنّ اليمين قائمة ولو وطىء الرجل بعد أربعة أشهر، التزم الكفارة. ومن قال: لا يعود الطلب، احتج بأن الضرار اندفع بالوقاع الذي جرى، فكأن الإيلاء صار منحلاً في حقها، وإن كانت اليمين قائمة. قال الشيخ: وهذا الذي ذكرناه في صورة الإكراه مفرّع على المذهب الصحيح، وهو أن الإكراه على الوطء يُتصور. ومن أصحابنا من قال: لا يتصور الإكراه على الوطء، ولا يوجد الوطء إلا من مختار، وهذا القائل يقول: من حُمل على الزنا بالتخويف بالقتل، فأتى بما حمل عليه، لزمه الحد. وهذا غريب في المذهب، وإن ذهب إليه أبو حنيفة (2)، ووجهه على بعده أن المكره هو المسلوب الاختيار الذي لم يبق له أَرَب إلا الخلاص، ومن كان كذلك لم تنبسط شهوته، ولم تطاوعه نفسه، وقد ظهر أن المرعوب لا ينتشر، والمنتشر إذا تداخله خوف فَتَر. ثم زاد العراقيون في مسألة الجنون تفريعاً فقالوا: إذا قلنا: لو وطىء في جنونه، لم تنحل اليمين، وإذا أفاق ووطىء، لزمته الكفارة، وفرّعنا على أن حكم الطلب يعود، فلو وطىء في جنونه، ثم أفاق على الفور، فهل نقول: الطَّلِبة تتوجه في الحال، أم نضرب مدّة، ونقول إذا مضت، تجددت الطَّلِبة بعدها؟ فعلى وجهين:

_ (1) أي في المكره على الوطء. (2) ر. المبسوط: 24/ 88.

أقيسهما - أنا لا نعتبر مدة أصلاً، فإنه لم يتخلل طلاقٌ ولا رِدّة، والطَّلِبةُ ثابتةٌ، وقد انقضت المدة. والوجه الثاني - أنه لا بد من مضي مدة؛ لأنه قد فاء ظاهراً، فإن لم يؤثِّر ما صدر منه في الخروج من عهدة الطلب، فلا أقل من أن يستفيد الزوج به مَهَلاً. 9483 - وممّا يتعلق بما نحن فيه أن الرجل إذا آلى عن امرأته، فجاءت المرأة في نومه وصادفته منتشراً، فنزلت عليه واستدخلت ذكره، ولا عِلْم له بما جرى، فالذي نقطع به أن اليمين لا تنحلّ، فإن الذي جرى ليس بوطء، والمحلوف عليه الوطءُ، وليس هذا كوطء المكره والوطءِ في حالة الجنون. ورأيت في بعض التعاليق عن شيخي أن من أصحابنا من جعل هذا كالوطء في حالة الجنون، حتى يُخرّجَ فيه الخلافُ المقدم في انحلال اليمين. وهذا غلط صريح، لا يجوز التعويل عليه. فإذا بان ذلك، فلو وطىء في يقظته، لزمته الكفارة، وهل لها مطالبة الزوج؟ فعلى وجهين كالوجهين في المجنون إذا قلنا: وطؤه في الجنون لا يحل اليمين. 9484 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "والذمي كالمسلم فيما يلزمه من الإيلاء ... إلى آخره" (1). الذمي من أهل الإيلاء، فإذا ارتفع إلينا، ونزل على حكمنا، فحُكمنا عليه كحُكمنا على المسلم، فتتوجه عليه الطَّلِبة، وإذا فاء، لزمته الكفارة، وأبو حنيفة (2) لم يجعله من أهل الظهار؛ من حيث لم يكن عنده من أهل الكفارة، وجعله من أهل الإيلاء (3)، وإن لم يكن عنده من أهل الكفارة، والمسلم إذا آلى، وفاء، لزمته الكفارة عند أبي حنيفة (4) والإيلاء لا يختص عنده باليمين بالله (5).

_ (1) ر. المختصر: 4/ 112. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 489 مسألة 1026، المبسوط: 6/ 231. (3) ر. مختصر الطحاوي 211، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 478 مسألة 1004. (4) ر. مختصر الطحاوي: 207، المبسوط: 7/ 19، 20، فتح القدير: 4/ 42. (5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 477 مسألة 1002، المبسوط: 7/ 37، فتح القدير: 4/ 41.

ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي حر، ثم مات ذلك العبد المحلوف بعتقه، انحلت اليمين لمّا عَرِيَتْ الواقعة عن التزامٍ [عند] (1) تقدير الوطء، وهذا تناقض منه بَيّن. 9485 - ثم قال الشافعي: "العربي لو آلى بلسان العجم ... إلى آخره" (2). إذا آلى الأعجمي بلسان العرب، فإن كان يحسن العربية فهو كالعربي، فلو زعم أنه لم يفهم معنى الكلمة التي تلفظ بها، وكانت الحالة تكذّبه، فهو مكذَّب، وإن كان الأمر محتملاً، فالرجوع إلى قوله مع اليمين. وكذلك العربي إذا نطق بلسان العجم، وما ذكرناه جارٍ في كل من نطق بلغة غيره. فصل (3) كنا وعدنا أن نتكلم في الموانع، (5 الشرعية إذا اتصف الزوج بها، عند انقضاء المدة، وهذا وإن [سبق] (4) استيفاء القول فيه 5)، فقد رأيت للعراقيين ترتيباً حسناً، فرأيت اتخاذه قدوة في الفصل. فإذا آلى الرجل عن امرأته، ومضت الأشهر، وكان الزوج محرماً أو مظاهراً، فلا شك أنه لو وطىء عَصى ربَّه، وإذا توجهت عليه الطَّلبة -وهو موصوف بمانع محرِّم- فلو قال: أنا أفيء على ما بي من المانع، فقالت المرأة: لا أمكنه من الوطء، فهل تُجبر على التمكين؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها لا تجبر على التمكين إذا دعاها الرجل إلى التمكين، بل لها الامتناع؛ فإنه إذا كان يحرم عليه أن يغشاها، فالتحريم متعلق بها، ويجب من ثبوته في حقه أن يحرم عيها التمكين؛ إذ لا يتصور ثبوت

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) ر. المختصر: 4/ 112. (3) سقط من (ت 2) علامة (فصل). (4) زيادة من المحقق. (5) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

التحريم إلا متعلقاً بهما، فأشبه ما لو طلقها طلقة رجعية، وقضينا بتحريمها، فلو أراد الزوج أن يغشاها، فلها الامتناع، بل عليها الامتناعُ حتى يرتجعها، وكذلك إذا كانت حائضاً، فلها منعُ نفسها عن زوجها، وكذلك لو كانت مُحْرمة، أو صائمة. والوجه الثاني - أنه ليس لها أن تمتنع؛ فإنه لا حرمة فيها، وهي في نفسها على صفة الاستباحة، وليس لها أن تنظر في حال الزوج، وتتصرف فيما يحرم عليه ويحل له. ومن أصحابنا من فصل بين أن يكون الزوج مظاهراً، وبين أن يكون صائماً، أو مُحْرماً، فقال: لها أن تمتنع إذا كان الزوج مظاهراً، (1 وليس لها أن تمتنع إذا كان الرجل 1) محرماً أو صائماً. 9486 - وحاصل المذهب أن المطلّقة تمتنع؛ لأن الطلاق واقع بها، وإذا كان الرجل مُحِلاً وهي مُحرمة، امتنعت، وكذلك لو كانت صائمة صياماً لا يجوز إفساده عليها، فمهما (2) تحقق سبب التحريم فيها على الاختصاص، امتنعت، وإذا ظهر (3) تعلق السبب بها كالطلاق، فإنها تمتنع من التمكين. وإن اختص الزوج بالسبب المحرِّم، كما إذا كان مُحرماً أو صائماً صوماً لا يجوز إفساده، فهل تمتنع من التمكين، أو ليس لها الامتناع؟ فعلى وجهين. وإذا ظاهر عنها الزوج، فهذا مردّد بين الطلاق وبين الإحرام، وجه مشابهته للطلاق أن الظهار يحرّم المرأةَ كالطلاق، ووجه مشابهته للإحرام أن الظهار لا ينقصُ ملك الزوج، ولا (4) يخرم حقّه فيها، ولكنه لما قال زوراً وكذباًَ، عاقبه الشرع بتحريم الغشيان عليه. واختيار الشيخ أبي حامد أن الزوج إذا كان محرماً أو صائماً، فليس لها أن تمتنع عن التمكين وجهاً واحداً، وإنما الوجهان في الظهار.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) بمعنى: (إذا). (3) ت 2: فإذا ظهرت. (4) عبارة ت 2: ولا يخرم حقه لما قال.

ثم مهما قلنا: إنها تمتنع، فحقٌّ عليها أن تمتنع، وإذا قلنا: لا تمتنع، فحق عليها أن تمكن إذا دعاها زوجها. 9487 - فهذا أصل قدمناه على غرضنا من الإيلاء، ونحن نبني عليه غرضنا من الإيلاء، فنقول: إن ألزمنا المرأةَ أن تمكن، فإن مكنت، فذاك، وإلا يسقط طلبها في الوقت، وليس لها أن تقول: لا أمكِّن وأطلبُ الطلاقَ. وإن قلنا: لها أن تمتنعَ ولا تُجبرَ على التمكين، فإن مكنت ولم يطأها، فيطالب بالطلاق (1) أو تطلّق عليه زوجته. وإن أبت ولم تمكِّن، وطلبت الطلاق، وقلنا: لها الامتناع من التمكين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها لا تطلب الطلاق، بل (2) يفيء فيئة معذور إلى زوال العذر، كما [ذكرناه] (3) في المانع الحسي، فأشبه ما لو لم (4) يكن مانع، فنشزت أو مرضت. والوجه الثاني - أن الزوج يجبر على الطلاق أو يطلّق عليه؛ فإنه هو الذي ضيق على نفسه هذا التضييق. هذه طريقة [العراقيين] (5) وهي على نهاية الحسن. 9488 - وأما أصحابنا المراوزة؛ فإنهم لم يتعرضوا لوجوب التمكين عليها أو لتحريمه، بل اقتصروا على قولهم: نقول للرجل: إن وطئت عصيت، وإن لم تطأ، طلقنا عليك زوجتك، وهذا لا (6) يستقل ما لم نفصِّل المذهب على نحو ما ذكره العراقيون.

_ (1) ت 2: فإن مكنت ولم يطأها، فالطلاق ... (2) ت 2: بل هي معذورة إلى زوال العذر. (3) غير مقروءة في الأصل. (4) ت 2: فأشبه ما لم. (5) في الأصل: العراق. (6) ت 2: وهذا لم يستقل.

فصل قال: "ولو آلى، ثُم آلى، فَحَنِث في الأولى ... إلى آخره" (1). 9489 - إذا تكررت كلمة الإيلاء من الزوج: بأن قال لها: والله لا أطؤك والله لا أطؤك، حتى كرره مراراً، فألفاظه لا تخلو إما أن تكون متواصلة، وإما أن يتخلل بينها فصول، فإن كانت متواصلة، وزعم أنه نوى تكرار الألفاظ وتأكيدَ المعنى بها، ولم يرد تجديداً، فهو مصدق؛ فإنه لو والى بين كلام في الطلاق في أزمنة متواصلة (2) ولم يتخلل في أثنائها ما يمنع التأكيد، وزعم أنه أراد التأكيد، قُبل منه. وإن قال في كَلِم الإيلاء: أردت بكل كلمة يميناً معقودةً مقصودةً، فيكون الأمر كذلك، وفائدةُ تعددها أنه إذا فرض الوطء، انحلت بجملتها، ثم يختلف الأصحاب في اتحاد الكفارة وتعددها، والصحيح التعددُ، كما قدمناه. ولو أطلق الألفاظ، وزعم أنه لم ينو تأكيداً ولا تجديداً، ففي المسألة قولان. ولو قال: أنت طالق وطالق، وخلَّل بين الكلمة والكلمة فتراتٍ تُقطِّع وصْلَ الكلام ونظمَه ونضَدَه، وتمنع الحملَ على التأكيد، ثم زعم أنه أراد التأكيد، فلا يقبل منه. ولو قال: أردت تكريرَ ما قدمته وإعادتَه، قلنا: لا نقبل ذلك منك؛ فإن الطلاق إيقاع، فإذا انحسم وجهُ التأكيد، لم يبق إلا الحملُ على الإيقاع (3). 9490 - ثم هذا يجري في كل لفظٍ [فلو] (4) أقر بألفٍ لزيدٍ، ثم أقر له بعد أيام بألفٍ، وزعم أنه أراد تكرير الإقرار الأول، قبل ذلك، خلافاً لأبي حنيفة (5).

_ (1) ر. المختصر: 4/ 113. (2) عبارة ت 2: "فهو مصدق، فإنه لو الى بين تحكم في الطلاق لزمته متواصلة" وهي - كما ترى غاية في التصحيف والتحريف. (3) ت 2: الارتفاع. (4) في الأصل؛ ولو. و (ت 2): وإن. (5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 213 مسألة 1912.

وعمدة المذهب أن الخبر الواحد يكرر ليشهر ويذكر، وإذا كان (1) ذلك، ممكناً، صدقناه فيما يريده، فإن أراد نشر الطلاق الذي قدمه، فليقرّ به، فإذا لم يخبر عمّا مضى، واستقل كلامُه إيقاعاً، لم يحتمل غير الإيقاع. ولو قال: والله لا أجامعك، ثم أعاد اليمين مع انقطاع الوصل وتخلُّلِ الفصل، وزعم أنه أراد إعادة اليمين الأولى، فالذي ذكره المحققون أن هذا مقبول منه؛ فإن الحلف في الحقيقة خبرٌ مؤكد بالقَسَم، وقد ذكرنا أن الخبر يقبل التكرير، وقول الفقهاء: عقد فلان اليمينَ ليس على معنى العقود التي تُنشأ، وإنما المراد أخبر خبراً يُلزمه أمراً. هذا إذا قال: أردت تكرير اللفظ الأول، ولم يرد تجديدَ يمين. قال الأصحاب: لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، [فأنت طالق] (2)، ثم قال بعد زمان متطاول: إن دخلت الدار، فأنت طالق، وزعم أنه أراد إعادة اللفظ الأول، ولم يُرِد تعليق طلاق [مجدَّد] (3)، كان كما قال؛ فإن هذا في حكم الخبر. فهذه ثلاث مسائل أطلق الأصحاب فيها قبولَ تأويل التكرير: الإقرار، واليمينُ بالله، وتعليقُ الطلاق والعَتاق (4). ومن أصحابنا من قال: تأويل التكرير مقبول في الإقرار فحسب، وهو غير مقبولٍ في اليمين بالله، وتعليقِ الطلاق؛ فإن اليمين إنشاء وكذلك التعليق. ومنهم من قال: يقبل تأويل التكرير في اليمين بالله، ولا يقبل في الطلاق، وهذا لا بأس به؛ لأن قول القائل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق ليس بخبر، وإنما هو وضعَ الطلاقَ مربوطاً بصفة، والدليل عليه أنه لا يدخله التصديق والتكذيب.

_ (1) ت 2: ليشهر وقد ذكروا إذا كان ... (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: مجرد، والمثبت من (ت 2). (4) ت 2: والتعليق.

9491 - فخرج مما ذكرناه أن الإقرار لما كان إخباراً محضاً معرَّضاً للصدق والكذب، ظهر فيه إمكان التكرير. واليمينُ بالله خبرٌ من وجه وإنشاء من وجه، فتطرق الخلاف إليه، ودليل انحطاطه عن الإقرار قُبْحُ التكذيب فيه، ولكن للتكذيب فيه مساغٌ على الجملة. وتعليق الطلاق [إنشاء] (1)؛ إذ لا مساغ للتكذيب فيه أصلاً. ثم إذا أتى بألفاظ الأيمان أو بتعليق الطلاق مراراً، وخلّل فصولاً، فإن قلنا: لا يقبل منه تأويل التكرير، فمطلق الألفاظ محمول على التجديد، وإن قلنا: يقبل منه تأويل التكرير فإذا كانت الألفاظ مطلقة، فالمذهب أنها محمولة على التجديد. وأبعد بعض أصحابنا؛ فقال: هي محمولة على التكرير، والطلاق لا يحتمل هذا، فإذا تقطعت ألفاظ المطلق، وخرجت عن حد التأكيد، فهي على التجديد إذا صادفت محلها. ثم إن الشافعي رضي الله عنه أعاد في آخر الباب (2) مناظرةً مع أبي حنيفة في مُدّة الإيلاء، ولا غرض لنا فيها. ...

_ (1) في الأصل: متشاجر، وفي ت 2: مستأخر. والمثبت تصرّف من المحقق. (2) ر. المختصر: 4/ 113. ونصّ هذه المناظرةً: "وقد زعم من خالفنا في الوقف أن الفيئة فعلٌ يحدثه بعد اليمين في الأربعة الأشهر، إما بجماع أو فَيْءِ معذور بلسانه، وزعم أن عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر بغير فعل يحدثه، وقد ذكرهما الله تعالى بلا فصل بينهما، فقلت له: أرأيت أن لو عزم أن لا يفيء في الأربعة الأشهر أيكون طلاقاً؟ قال: لا حتى يطلق. قلت: فكيف يكون انقضاءُ، الأربعة الأشهر طلاقاً بغير عزمٍ، ولا إحداثِ شيء لم يكن ... " ا. هـ. بنصه.

باب إيلاء الخصي غير المجبوب والمجبوب

باب إيلاء الخصي غير المجبوب والمجبوب 9492 - الخصيّ إذا لم يكن مجبوباً، فآلى، فهو بمثابة الفحل يولي، وكذلك إذا جُبّ من ذكره البعضُ، وبقي ما يتعلق به الجماع التام. فأما المجبوب الذي استؤصل ذكره، أو بقي منه ما لا يتعلق به الجماع، فقد اختلف أصحابنا في إيلائه، فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - ينعقد إيلاؤه. والثاني - لا ينعقد. من قال لا ينعقد قال: إنه حلف على الامتناع عن أمرٍ يستحيل منه الإقدام عليه، فكان كلامه لغواً، وأيضاً فإن الإيلاء مبناه على قطع رجائها وإظهار الضرار من هذه الجهة، وهذا لا يتحقق من المجبوب. والقول الثاني - أنا نجعله مولياً، لأن عماد الإيلاء الإيذاء (1) باللسان، وقد تحقق ذلك منه. ومن أصحابنا من قطع بأن إيلاءه لا يصح ويلغو، وإنما القولان فيه إذا آلى وهو فحلٌ ثم جُبّ، ففي قولٍ ينقطع الإيلاء، وفي قولٍ يبقى، ويكون ما طرأ مانعاً من الوقاع، مؤدياً إلى الاكتفاء بفيئة اللسان. ومن أصحابنا من قطع بأن إيلاءه لا يصح، وإن طرأ الجب، انقطع. وهذا هو الذي لا يصح -على التحقيق- غيره؛ فإن اليمين يستحيل فرض بقائها مع استحالة الحِنْث. ولو قال: إن وطئتك، فعبدي حر، ثم إنه أنشأ إعتاقه، فالإيلاء ينحلّ بامتناع لزوم شيء عند فرض الوطء، والجبُّ بذلك أولى.

_ (1) ساقطة من (ت 2).

قال الشيخ أبوعلي: إيلاء الفحل عن الرتقاء بمثابة إيلاء المجبوب في جميع ما ذكرناه، اقتراناً وطرياناً. 9493 - ثم إذا حكمنا بثبوت الإيلاء إما في صورة الاقتران، وإما في صورة الطريان، فالطّلبة تتوجه بعد المدة بفيئة اللسان. ثم قال الأصحاب: ليقل إذا توجهت الطلبة: لوْ قدرتُ، لوطئتك، وهذا سبيل المعذور الذي يرجى زوال عذره، وما يذكر في فيئة المعذور الذي يرجى زواله شيئان: أحدهما - الاعتذار بالمانع الواقع، والثاني - وعدٌ بالإصابة عند الزوال، قال الأصحاب: لا بد منهما، والاقتصارُ على إحداهما لا يكفي، ولو [اقتصر على] (1) أحدهما، طُلّقت عليه زوجته. والرأي (2) عندنا أنه لو اقتصر على الوعد، فقال: إذا ارتفع مرضي، أصبتك، فهذا كافٍ، وإن لم يقل: لولا المرض، لأصبتك الآن؛ فإن التعويل على الوعد عند ارتفاع المانع، ولكن الأصحاب ذكروا الأمرين. أما المجبوب، فلا يتصور منه الوطءُ، وفيئتُه أن يقول: لولا المانع، لوطئتك، وهذا عندي في حكم العبث الذي لا يليق بمحاسن الشرع (3) مثله، وضرب المدة أقبح من الكُل، فإنه مَهَلٌ أثبت لمن يُرجى منه الوطء فكيف يُتخيل هذا في المجبوب. فرع: 9494 - قدمنا من رأي الأصحاب كافة أن الرجل إذا قال لأجنبية: إن وطئتك، فعبدي حر، أو قال: والله لا أجامعك، ثم نكحها، فلا يكون مولياً، وإن كان يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً؛ لأن هذا تقدَّم على الملك. وذكر صاحب التقريب وجهاً عن بعض الأصحاب أنه يكون مولياً، وهذا لا خروج له إلا على قول غريب، حكاه صاحب التقريب في أن تعليق الطلاق قبل الملك يصح،

_ (1) في الأصل، كما في (ت 2): وآلى عن أحدهما. والمثبت تصرف من المحقق. (2) ت 2: والثاني عندنا. (3) ت 2: بمجلس النزع.

كما ذهب إليه أبو حنيفة (1)، وهذا على نهاية البعد، ولم أره إلا له، ولم أذكر هذا في أثناء الكلام؛ حتى لا يُعتد به. فرع: 9495 - إذا آلى الرجل عن امرأته، فلما انقضت المدة، زعم أنه عاجز عنّين، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نضرب له المدة، ثم نحكم بعد انقضائها حُكْمَنا في العنة. وحكى العراقيون وجهاً غريباً أنه لا يقبل ذلك منه، وتطلق عليه زوجته على قولٍ أو نحبسه إن لم يطلق، وليس كما لو ظهر به مرض يغلب على الظن عجزه بسببه، وهذا الوجه لا اعتداد به، وقد نقله العراقيون ثم زيّفوه والله الموفق للصواب. ...

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 477 مسألة 961، مختصر الطحاوي: 203، طريقة الخلاف 116 مسألة 48.

كتاب الظهار

كتاب الظهار 9496 - صورة الظهار أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ومقتضاه على الجملة أن تَحْرُمَ عليه زوجته، مع استمرار النكاح، ويدوم التحريم حتى يكفّر (1). والأصل في الظهار مفتَتَحُ سورة المجادلة، وسبب النزول ما روي "أن خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت أخي عُبادة، شرعت في الصلاة، فدخل زوجها، وهمّ بقِربانها، فخالفته، وامتنعت عليه، فغاظه ذلك، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية مؤكداً، فلما قال ذلك، اغتمّت خولة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في حجرة عائشة، وكانت تمشط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت خولة: كنت شابة يا رسول الله ذاتَ جمال ومال، فلما كبر سني ونفد مالي، جعلني أوسُ على نفسه كظهر أمه فقال صلى الله عليه وسلم: "حرمت عليه"، فقالت: يا رسول الله، انظر في أمري، فإن لي معه صحبة، وإني لا أصبر عنه (2)، فقال صلى الله عليه وسلم: "حرمت عليه"، فكررت ذلك، وهو عليه السلام يقول: "حرمت عليه"، فلما أيست، اشتكت إلى الله تعالى، فنزل قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] قالت عائشة: كانت تُسارّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أسمع من كلامهما الكلمة والكلمتين، فنزلت الآيات مشتملة على قواعد الظهار" (3).

_ (1) (ت 2): بكفه. (2) عبارة (ت 2): جعلني أوس على نفسه كظهر أمه، وإني أصبر عنه. (3) حديث ظهار أوس بن الصامت رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها، وأصله في البخاري. (ر. البخاري: كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعاً بصيراً، أبو داود: الطلاق، باب الظهار، ح 2219، ابن ماجه: الطلاق، باب الظهار، ح 2063، الحاكم: 2/ 481، وانظر تلخيص الحبير 3/ 443 ح 1764.

ثم إن الشافعي رضي الله عنه، صدّر الباب ببيان من يصح ظهاره، ثم عقّبه بمن يصح الظهار عنه. فأما الفصل الأول: 9497 - فحدُّ المذهب فيمن يصح ظهاره أن يقال: من كان من أهل الطلاق، كان من أهل الظهار، وهذا يطّرد وينعكس على مذهب الحدود، ثم يتعلق الطلاق بالظهار طرداً وعكساً، كما يتعلق الظهار بالطلاق. ثم أجرى الكلامَ رضي الله عنه إلى المسألة الخلافية في الذمي وأبان أنه من أهل الظهار، كما أنه من أهل الطلاق، وخالف أبو حنيفة (1) في المسألة، وصار إلى أن الذمي ليس من أهل الظهار؛ بناء على أن الكفارة لا تصح منه ولا تلزمه، والظهار عاقبته الكفارة، ومن مذهب أبي حنيفة أن الكافر ليس من أهل التزام الكفارة، ونصّ (2) مذهب الشافعي أن الكافر من أهل التزام الكفارة المالية، وليس (3) من أهل الصوم، ولا خلاف أن الكافر الأصلي لا يلتزم الزكاة، وعَقْدُ المذهب أن الزكاة وظيفةٌ أُثبتت عبادةً على المسلم، ليس فيها معنى التغليظ، بخلاف الكفارة؛ فإنها مضاهية للحدود، ثم ليس في نفي الكفارة ما يوجب نفي تحريم الظهار، كما قررناه في (الأساليب). فالذمي إذاً من (4) أهل الإعتاق، فإن لم يجد، لم يكن من أهل الصوم، ثم لا تجزىء إلا المؤمنة عندنا، وقد نمنعه من ابتياع عبد مسلم، فلو قال [لمسلمٍ] (5): أعتق عبدك عن كفارتي، ففي ذلك وجهان، قدمنا ذكرهما في كتاب البيع؛ فإن لم نجوّزه، انحسم العتق، إلا أن يكون له عبد كافر، فيسلم، أو يرث عبداً مسلماً.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 214، مختصر اخثلاف العلماء: 2/ 489 مسألة 1026، رؤوس المسائل: 425 مسألة 296، الغرة المنيفة: 164، المبسوط: 6/ 231، طريقة الخلاف 130 مسألة 54. (2) (ت 2): ومن مذهب الشافعي أن الكافر ليس من أهل الالتزام. (3) في الأصل: فليس. (4) (ت 2): فالذمي إذا كان من أهل الإعتاق. (5) في الأصل: فلو قال المسلم.

فإن كان معسراً متمكناً من الصوم، فالذي ذكره القاضي أنه لا ينتقل إلى الإطعام، فلا يصير الكفر عذراً في حقه يجوّز له الانتقالَ إلى الإطعام، فإن أراد الخلاص من التحريم، فليسلم وليصم، وإلا استمر التحريم. وهذا فيه نظر؛ فإن الخطاب بالعبادة البدنية لا يجب على الكافر الأصلي، فكأنّ الصوم مُخرَجٌ من كفارة الذمي، وهي آيلة في حقه إلى الإعتاق والإطعام. وقد يَرِدُ عليه أن الإطعام بدلُ الصيام، ولا يجوز تقدير البدل في حق من لا يتحقق في حقه المبدل، فنُحْوَجُ عند ذلك إلى تقدير الكفر بمثابة العجز، وهذا يوجب إسقاط الخطاب؛ فإن العاجز لا يخاطَب بالصوم. والذي يؤكد ما ذكرنا أن حكمنا على الذمي بتأبد حرمة الظهار عليه بعيدٌ، وحمله على الإسلام بعيدٌ، وقد يكون في حمله على ذلك حملٌ على الإسلام، والمسألة على الجملة محتملة. فهذا تفصيل القول فيمن يُظاهِر. [الفصل الثاني] (1) 9498 - فأما التي يصح الظهار عنها، فيطرد في هذا النسق (2) اعتبارُ الطلاق أيضاً، فكل امرأة يلحقها الطلاق يلحقها الظهار، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، عاقلة أو مجنونة. والبائنة لا يلحقها الطلاق، ولا يثبت في حقها الظهار، والرّجعية يلحقها الطلاق والظهار، والمرتدة الممسوسة إذا فُرض الظهار عنها، كان كما لو فرض تطليقها، والطلاق والظهار فيها يبتنيان على الترقب، فإن استمرت على الردة حتى انقضت العدة، فلا طلاق ولا ظهار، ولو عادت قبل انقضاء العدة، فنتبين وقوع الطلاق والظهارِ.

_ (1) هذا العنوان [فصل] من عمل المحقق، بناء على تقسيم المؤلف الذي رأيناه آنفاً. (2) (ت 2): الشيء.

والإيلاءُ يجاري الطلاق والظهار، فهذه الخلال الثلاث تتلازم (1)، غير أن الأصح أن الإيلاء لا يصح من المجبوب، ولا يصح إيلاء الفحل من الرتقاء، وظهار المجبوب صحيح كطلاقه، والظهار من الرتقاء صحيح كتطليقها، والفرق أن الإيلاء يختص بالوقاع، فلا ينعقد حيث لا يفرض تصوّره. والظهار يحرِّم الوقاع وجملةَ الاستمتاعات، ولو فرض الإيلاء معقوداً بما دون الجماع من الاستمتاعات، مثل أن يقول: والله لا أُقبِّلك أو أفاخذُك، فاليمين تنعقد [ولا] (2) يثبت حكم الإيلاء. ثم إذا ظاهر عن الرجعية، لم يخل إما أن يتركها حتى تنسرح أو يرتجعها، فإن تركها حتى انسرحت، فقد ظاهر، ولم يَعُد، فلا تلزمه الكفارة. وهذا فيه وقفة؛ من جهة أن تطليق الرجعية إن كان لا يفيد مزيد تحريم؛ فإنه يقطع سلطته في الرجعة؛ من جهة أن من يملك ثلاث طلقات يفرض له رجعتان، فإذا طلق واحدة، ثبتت له رجعة، ولو طلق الثانية، قطع بها رجعة، وفيه تنقيص العُدَد، والظهار ليس فيه ما يتضمن التأثير في الملك، والرجعية محرمة، ولم يتفق عَوْدٌ فتجب الكفارة، ولا يبقى في الظهار فائدة إلا تحريم محرمة، ولكن التحريم حكم من الأحكام، وقد يَثْبت الحكم الواحد بعلل، وتحقيق هذا في الأصول. ثم إذا ظاهر عن الرجعية، وراجعها، فهل نجعل نفسَ الرجعة عوداً أم لا؟ فيه وجهان وسنذكر ذلك عند ذكرنا معنى العَوْد، إن شاء الله تعالى. فصل قال: "ولو تظاهر من امرأته وهي أَمَةٌ، ثم اشتراها ... إلى آخره" (3). 9499 - نذكر في أول الفصل رسْم العَوْد حتى إذا أردنا التفريع عليه لم يخف المراد على المنتهي إليه.

_ (1) (ت 2): ثم لزم. (2) في النسختين: فلا. (3) ر. المختصر: 4/ 116.

فالمذهب الذي عليه التفريع أن معنى العَوْد أن يمسك المظاهر امرأته زماناً، لو أراد أن يطلقها فيه، لأمكنه، فإذا ظاهر، ثم لم يطلّق مع التمكن منه، حتى مضى زمان إمكان الطلاق، فهذا مُظاهرٌ عائد، ومعنى العود في وضع اللسان إذا أردنا تطبيقه على المعنى أن الذي قال: أنت عليّ كظهر أمي أتى بلفظةٍ متضمّنها التحريم؛ فإذا أمسكها، فكأنه لم يحقق ذلك التحريمَ، فكان كالمناقِض، وسمي عائداً، على مذهب قول القائل: قال فلان قولاً، ثم عاد فيه نقضاً ورفضاً، وعاد فلان في هبته. وإذا (1) ظاهر وطلّق، قيل: مُظاهرٌ غير عائد، أي أظهر تحريماً ثم حققه. هذا معنى العَوْد على الجملة، وسيأتي تفصيله في موضعه، إن شاء الله. 9500 - فإذا بان هذا، قلنا بعده: إذا ظاهر الرجل عن زوجته الأمة، وعاد في ظهاره، والتزم الكفارة، ثم إنه اشتراها، فإنا نحكم بانفساخ النكاح بطريان الملك، وهل يستبيحها بملك اليمين؟ ظاهر المذهب أنه لا يستبيحها؛ فإن تحريم الظهار ممدود إلى التكفير، وهذا ظَاهَر والتزم الكفارة بالعَوْد، ولم يكفّر. ومن أصحابنا من قال: يحل له وطؤها بملك اليمين؛ فإن الظهار يوجب التحريم في النكاح، ويمنع الاستباحةَ به، والدليل عليه أنه لو قال لأمته: أنت عليّ كظهر أمي، لم تحرم، ولم يكن للظهار معنى، ولم تجب الكفارة، فإذا انتهى الأمر في الأثناء إلى ملك اليمين، فقد انقطع محل الظهار. وهذا يجري في مسألتين: إحداهما - أنه إذا طلق زوجته الأمة ثلاثاًً، [بعدها] (2) جرى الحكم بأنها محرّمةٌ عليه حتى تَنْكِح زوجاً غيره، فلو اشتراها، فهل يستبيح وطأها قبل أن تنكِح زوجاً آخر؟. فيه خلاف [قدمته] (3)؟ والأظهر أنه لا يستبيحها. وألحق القاضي ما لو لاَعَن عن زوجته، وحرمت عليه، ثم اشتراها، قال: في

_ (1) عبارة (ت 2): وإذا ظاهر ولم يطلق قيل مظاهر عائد أي أظهر فهماً ثم حققه. (2) في النسختين: "بعد ما" والمثبت تصرّف من المحقق. (3) غير مقروءة في الأصل.

استباحتها بملك اليمين الوجهان، فتحصلت ثلاث مسائل، والظاهر في جميعها استمرار التحريم، وذكرُ الخلاف في اللعان بعيدٌ مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتلاعنان لا يجتمعان أبداً" (1). وهذا (2) تهويلٌ، والقياس طرد الخلاف، ولكن إن حكمنا بأن اللعان لا يجري في ملك اليمين، أو قلنا: إنه يجري ولا يوجب التحريم؛ لأنه مخصوص بضرورة نفي النسب، فالخلاف الذي ذكرناه مذكور، فأما إذا قلنا: اللعان يجري في ملك اليمين ويحرّم المملوك على الأبد، فيبعد (3) ذكر الخلاف، مع العلم بأن تحريم اللعان لا ينافي (4) ملك اليمين. وهذا كله فيما يوجب تحريماً ولا يوجب محرميّة. فأما ما يوجب التحريم والمحرمية، فيستوي فيه النكاح وملك اليمين، كالنسب والرضاع والصهر. وكل ما ذكرناه فيه إذا ظاهر عن امرأته وعاد والتزم الكفارة، ثم اشتراها. 9501 - فأما إذا قال للزوجة الأمة: أنت عليّ كظهر أمي، ثم قال على الاتصال: اشتريتها، فهل نجعل هذا تحقيقاً للظهار، ناقضاً للعَوْد (5)؛ من جهة أن الملك إذا حصل، تضمن حصولَ الفراق، فإذا أعقب المظاهرُ الظهارَ بسببٍ من أسباب الفراق، لم يلتزم الكفارة إذا لم تُلتزم، فَتَحِلّ هذه بملك اليمين؟. اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب بعضهم إلى أن هذا يناقض العَوْدَ؛ من حيث إنه قاطع للنكاح، وقال آخرون: ليس ذلك مناقضاً للعَوْد؛ فإن المناقض للعَوْد هو الذي يحقق التحريمَ كالطلاق، والشراءُ وإن كان يرفع النكاح؛ فإنه سببُ استحلالٍ، فقد نقلها من سبب حلٍّ إلى سبب حل، ومن فراش إلى فراش، فإن لم نجعله

_ (1) سيأتي تخريج هذا الحديث في موضعه من كتاب اللعان. (2) وهذا تهويل: الإشارة إلى كلام القاضي الذي استبعد به الخلاف في اللعان. (3) (ت 2): فيتبعه. (4) (ت 2): لا يجري في ملك اليمين، فيما يوجب تحريماً، ولا يوجب محرمية. (5) (ت 2): فهل نجعل هذا تحقيقاً للظهار، ومناقضاً للظهار، ومناقضاً للعود.

عائداً، فقد حقّق الظهار وانتهى، وتحِل هذه بملك اليمين. وإن قلنا: لا يكون الشراء مناقضاً للعَوْدِ، فهو عَوْدٌ؛ فإنه ترك الطلاق مع القدرة عليه، ثم إذا جعلنا هذا عوداً، فيلتزم الكفارة، وفي استباحتها بملك اليمين الخلاف الذي ذكرته، وسنعيد فصل الشراء في فصل العوْد إذا خُضنا في بيانه، ثم نذكر عنده أن الاشتغال بأسباب الشراء قد ينزل منزلة الشراء. 9502 - قال الشيخ أبو علي لو ظاهر وعاد، ثم اشتراها وانفسخ النكاح، وأعتقها، ثم نكحها، لم يستحل وطأها في النكاح الثاني حتى يكفر وجهاً واحداً؟ فإن التردد الذي ذكره الأصحاب في الاستباحة بملك اليمين، فأما الاستباحةُ بالنكاح مع بقاءٍ كفارة الظهار، فلا سبيل إليه، وقد يختلج في نفس الفقيه تخريجُ هذا على عَوْد الحنث مصيراً إلى أنه بالظهار تَصَرَّفَ في النكاح الأول، وقد تَصَرَّم ذلك النكاح، فلا يبعد أن يتصرم ما فيه، وتبقى الكفارة في ذمته إلى أن يخرج عن عهدتها. والذي يوضح هذا أن الطلاق على أثر الظهار أسقط أثرَ تحريم الظهار، وهذا (1) إن ظنه ظانٌّ، فلا أصل له في قول المشايخ، والذي رأيناه القطع بما ذكرناه، فلو ظاهر الرجل عن امرأته وعاد، ثم أبانها، ثم نكحها، لم يجامعها حتى يكفر؛ ولعل السبب فيه أن الظهار يتضمن تحريماً من غير أن يؤثر في الملك، فلا يقطعه زوال الملك. وقد ذكرنا إجراء القولين في الإيلاء، والسبب فيه أن الإيلاء يتعلق عاقبته بالطلاق، وعوْدُ الحنث أصله الطلاق [وهو مشبّه به] (2). ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، ثم أبانها ونكحها، فدخلت الدار، خرج ذلك على عَوْد الحِنْث، فإنه جرى يميناً كالإيلاء وتعليق الطلاق. وينتظم من ذلك أن التعليق واليمين يجري فيهما أقوال العَوْد؛ لأن المقصود منهما مرتقب غير ناجز، والظهار إذا حَرَّم، فقد تنجز، ثم ارتفاعه معلّق شرعاً بالتكفير؛

_ (1) إشارة إلى أن قطع الملك في النكاح بالطلاق يُسقط أثر العَوْد كما يسقط أثر تحريم الظهار. (2) في الأصل: وما تشبه به. والمثبت من (ت 2).

فتجدّد النكاح وتعدّده لا يؤثر في رفع ما وقع، وهذا متجه، وهو يُقَوِّي تحريمَها بملك اليمين أيضاًً. هذا منتهى النقل والتوجيه والتنبيه، والله المستعان. 9503 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه ظهار السكران وقد استقصيت الكلام فيه في كتاب الطلاق، والذي عثرت عليه هاهنا أنا إذا قلنا: تصرّفُ السكران نافذٌ، فهذا مطّرد وهو ينطق ويخاطَب ويُجيب، فأما إذا كان في السكر الطافح، فبدرت منه كلمةٌ من حَلٍّ، أو عقدٍ، أو تحريمٍ، أو تحليل، فالذي قدمتُه أن ذلك لاغٍ، وليس يسمى كلاماً، وهذا صحيح. وحكى شيخي أن ذلك نافذٌ؛ تغليظاً وتشديداً وإن بعد هذا عند إنسان، قيل له: السكران الذي ينطق ويجيب على صورة المجنون، ثم نفذت ألفاظه، فليكن السكر الطافح كذلك. وهذا يعارضه أن ما صدر منه لا يسمى كلاماً، فليتصوّر منه نطق، ثم يقع النظر بعده في تصحيحه ورده، ويجوز أن يجاب عنه، فيقال: من كلام الناس: أن فلاناً كان يتكلم نائماً، وهذا تلبيس؛ فإن ذلك يذكر على مذهب التجوّزِ والتشبيهِ، واللفظُ الحق فيه أنه هذى وما تكلم. ***

باب ما يكون ظهارا وما لا يكون ظهارا

باب ما يكون ظهاراً وما لا يكون ظهاراً 9504 - الكلمة الشائعةُ في الجاهلية والإسلام في الظهار أن يقول: أنت علي كظهر أمي، ثم لا مناقشة في الصلات (1) إذا انتظم الكلام، فلو قال: أنت عليّ كظهر أمي، أو أنت معي كظهر أمي، أو مني كظهر أمي، فهذه الصلات كلها [شائعة] (2) لا تتغير بها مراتب الكلام. ولو لم تستعمل صلة، فقال: أنت كظهر أمي، فذلك صريح، هكذا ذكره القاضي، وإن كان يحتمل أن يريد أنها كظهر أمه في حق غيره، ولكن لا نظر إلى هذا، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت بذلك الإخبار عن كونها طالقاً من جهة فلان. 9505 - ولو شبّه امرأته بعضوٍ آخر من أعضاء الأم سوى الظهر، فقال أنت عليّ كـ (يَدِ) أمي، أو كـ (رِجل) أمي، أو كـ (بطن) أمي، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجرى في غير الظهر من الأعضاء التي لا يشعر التشبيهُ بها بالإكرام قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الظهار يثبت. والثاني - وهو المنصوص عليه في القديم أن الظهار لا يثبت. ومنشأ القولين أن الشافعي رحمه الله في الجديد قد يتبع المعنى؛ فلا يرى (3) اتباع صيغة اللفظ المعهود في الجاهلية [حقّاً] (4)، وكان في القديم لا يرى إلا الاتباعَ ومعهودَ الجاهلية، وهذا بعينه مأخذ القولين المذكورين في الإيلاء، فالجديد مبناه

_ (1) (ت 2): لا مناقضة فى الصلات. (2) في الأصل: سائغة. (3) (ت 2): ولا يرى اتباع صيغة اللفظ المعهود في الجاهلية، وهذا بعينه مأخذ القولين. (4) في الأصل: حقها.

على أن يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر أمراً، ولا يختص الإيلاء على ذلك باليمين بالله، كما سبق تفصيله، وفي القديم رأى اتّباع معهود الجاهلية، وهذا يوجب ألا يثبت الإيلاء إلا بالحلف بالله تعالى، أو بصفةٍ من صفاته، وهؤلاء من أصحابنا أجرَوْا القولين فيه إذا قال: أنت عليّ كفرج أمي، ولم يستثنوا من الأجزاء إلا ما في ذكره معنى الكرامة على ما سنصفه. وقال شيخنا أبو علي رحمه الله: إذا قال: أنت عليّ كفرج أميّ، فهذا ظهار قولاً واحداً، فإنه تصريح بالمقصود، والتشبيه بعضو آخر [تسبُّبٌ لهذا] (1)، ونحن وإن كنا نقتصر على موارد النصوص في بعض المواضع، فلا ننتهي إلى منع الإلحاق بالكلية، بل نُلحق بالمنصوص عليه ما في معناه. هذا بيان القول في تشبيه الزوجة بجزء من أجزاء الأم غيرِ الظهر، إذا كان الجزء غيرَ مشعر بالكرامة. 9505/م- ولو قال: أنت علي كعين أمي أو كروح أمي، فإن أراد ظهاراً، كان ظهاراً على الجديد، وإن أراد الكرامة، فليس بظهارٍ؛ فإن لفظه محتمل لذلك، وإن أطلق لفظه، اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من جعله كرامة، وقد حُكي ذلك عن القفال. ومنهم من جعل المطلق محمولاً على الظهار، وهو اختيار القاضي؛ فإن اسم العضو صريح في [الحرمة] (2)، والكرامةُ تعرض ضمناً إذا قُصدت، فإذا كان اللفظ مطلقاً، وجب التمسك بحمل اللفظ على العضو نفسه. وهذا الذي ذكرناه تفريعٌ على أن التشبيه بالبطن وما في معناه ظهارٌ، فإنا إذا كنا لا نجعل التشبيه بالبطن ظهاراً، فالتشبيه بالعين أولى ألا يكونَ ظهاراً. ولو قال: أنت عليّ كرأس أمي، اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: الرأس من أعضاء الكرامة كالعين، وقد سبق التفصيل فيه.

_ (1) في الأصل: تشبيب بهذا، والمثبت من (ت 2). (2) في النسختين: حرمة. والمثبت تصرف من المحقق.

ومنهم من قال: الرأس كالبطن، وقد تقدم الكلام فيه أيضاًً، والمسألة محتملة. 9506 - ولو قال لامرأته أنت كأمي، فإن نوى أنك بمحلّ أمي كرامةً وتعظيماً، فما قاله محتمل، ولا يصح الظهار، ولو أراد الظهار، فهو ظهار؛ تفريعاً على الجديد. ولو أطلق، فعلى اختلاف الجواب. قال صاحب التلخيص (1): هذا الأصلُ على مناقضة الأصول؛ فإن الطلاق إذا أضيف إلى الجملة كان صريحاًً، وإذا أضيف إلى البعض، حُمل على الصريح، بتسريةٍ أو تكلّفِ معنى آخر، والظهار إذا أضيف إلى الظهر وهو جزء من الجملة، كان صريحاًً؛ فإنه معهود الجاهلية، وإذا أضيف إلى الجملة، كان متردداً، كما نبهنا عليه. ثم ذكر صاحب التلخيص ألفاظاً تضاف إلى الأبعاض، ولا خفاء بمعظم ما ذكره، ونحن نذكر ما نرى فيه فائدة، قال: النكاحُ والرجعةُ إذا أضيفا إلى البعض، لم يصح واحد منهما، والضابط فيه أن ما لا يُعلّق لا يضاف إلى البعض، ويخرج منه أن الطلاق والعَتاق يعلّقان، فلا جرم يضافان إلى الأجزاء، والظهارُ يقبل التعليق أيضاًً، وهو في وضعه مضاف إلى عضو. 9507 - ولو قال: والله لا أجامع نصفك، فإنّا نقدم عليه [أصلاً] (2)، فنقول: لو أضاف اليمين إلى عضوٍ معيّن، فهل يكون مولياً؟. إن أضافه إلى الفرج، كان مولياً فإنه صرّح بالمقصود (3)، ونصَّ، وتعرّض للغرض، وخصّه بالذكر، فلو قال: والله لا أجامع فرجك، والله لا أولج ذكري في فرجك، فهذا إيلاء. ولو قال: والله لا أجامع بعضك قال صاحب التلخيص: لا يكون مولياً، قال الشيخ: وعندي أنه لو قال والله لا أجامع بعضك، فنوى بذلك البعض فرجها،

_ (1) ر. التلخيص لابن القاص: 540. (2) زيادة من المحقق. (3) (ت 2): فهل يكون موالياً؟ فإنه صرح المقصود ...

فيكون (1) مولياً؛ فإن اسم البعض صالح للفرج، فأما إذا ذكر جزءاً شائعاً؛ فقال: والله لا أجامع نصفك، قال الشيخ أبو علي: لا يكون مولياً إذا قصد الإشاعة، فإن اليمين (2) ليست مفهومةً على الشيوع في النصف. هذا ما ذكره الشيخ، وفيه فضل نظر، فنقول: إن أراد بالنصف أسافلها، فهو كما لو ذكر البعضَ وأراد به الفرجَ، وإن زعم أنه أراد بالنصف النصفَ الشائع حقاً، فالذي ذكره الشيخ: أن هذا ليس بإيلاء، أما أن نجعله صريحاًً، فلما ذكره وجهٌ (3)؛ فإن لفظ المجامعة مستعار في الأصل، وُضِع كنايةً، وإلا فهو من المضامّة التي تناقض المفارقة، ثم استفاضت وشاعت حتى التحقت بالصرائح، وشرط كون هذا اللفظ صريحاًً أن يستعمل على المعهود والمعتاد، فإن لم يستعمل كذلك، لم يكن مشعراً بالمعنى وضعاً ولا عرفاً 4)، وهذا تعليل [قولنا] (5): إن هذا ليس بصريح. وإن أراد أنه لو نوى بالجماع المقصودَ المحقق (6) وأضافه إلى النصف الشائع، فلا يكون مولياً، فهذا قد يتطرق إليه وجه في الاحتمال؛ فإنه إذا نوى بقلبه المقصودَ، صار ذلك المعنى كالطلاق، ثم الطلاقُ لا يصح اعتقاد وقوفه على النصف الشائع، غيرَ أنه يتعداه ويثبت في الجميع، فلو قيل بهذا في الإيلاء، لم يكن بعيداً. ويجوز أن يقال: الجماع معنى معلوم لا [يعقل] (7) إضافته إلى الجزء (8) الشائع،

_ (1) (ت 2): فنوى بذلك البعض فرجها أثم فيكون مولياً. (2) (ت 2): فإن المسألة ليست مفهومة. (3) في العبارة شيء من الغموض، ولعل المعنى: أنا إن جعلنا لفظ الجماع صريحاً، فيكون لما ذكره الشيخ وجهٌ، فإن لفظ الجماع ليس صريحاًً وضعاً، ولكنه صار صريحاًً بالشيوع والاستفاضة، وشرط كونه صريحاً أن يستعمل على المعهود والمعتاد، كأن يقول والله لا أجامعك، أما إذا استعمل على نحوٍ غير ذلك، كأن يقول: والله لا أجامع نصفك، فهنا يتوجه قول الشيخ أبي علي: أنه ليس بإيلاء. والله أعلم. (4) (ت 2): صرفاً وعرفاً. (5) زيادة من (ت 2). (6) (ت 2): التحق. (7) في الأصل: يغفل. والمثبت من (ت 2). (8) (ت 2): إلى الخمر الشائع.

والطلاق [يعقل] (1) إضافته إلى الجزء (2) الشائع، كما يعقل إضافة العتق إليه، وكما يصح إضافة البيع والرهن إليه. ثم قولنا: لا يقف على النصف حكمٌ، ومقصود الجماع فعل محسوس وإضافته إلى الجزء الشائع غير معقول. هذا منتهى المراد في ذلك. 9508 - [و] (3) مما ذكره صاحب التلخيص أنه لو قال: زنا فرجُك أو دبرك، فهو (4) صريح في القذف، وهو بمثابة قوله: زنيت. ولو قال: زنى بدنك، فهل يكون صريحاًً في القذف، فعلى وجهين ذكرهما الشيخ، ووجه الاحتمال فيه بيّن. ولو قال الرجل: زنى بدني، لم يكن ذلك صريحاً في الإقرار بالزنا، والفرق بين الإقرار وبين القذف عسر، فالوجه طرد الوجهين فيهما. 9509 - ومما ذكره الأئمة أنه لو شبه امرأته بغير أُمِّه من محارمه، مثل أن يشبهها بجدته، أو أخته من النسب، أو الرضاع، أو من تحرم عليه بالصهر، فكيف السبيل في هذه الألفاظ؟ المنصوص عليه في القديم أنه لا يكون مظاهراً إذا تعدى التشبيه بالأم، وهذا يُخرَّج على اتباعِ معهود الجاهلية، كما تقدم، واستثنى معظم الأئمة الجدةَ، وجعلوها كالأم، وحكموا بأنه يكون مظاهراً في الجديد والقديم؛ فإن الجدة تسمّى أماً. ومن أئمتنا من أجرى في الجدة القولين، فأما من عَدَا الجدات من المحرمات بالنسب، فالقولان (5) جاريان في التشبيه بهن.

_ (1) في الأصل: يغفل. والمثبت من (ت 2). (2) (ت 2): إلى الخمر الشائع. (3) في الأصل: مما. (4) (ت 2): كان ذلك صريحاً في القذف بمثابة قوله. (5) (ت 2): فالقولان جاريان في التشبيه بهن، ففيه ثلاثة أقوال.

والمحرمات من الرضاع إذا جرى تشبيهٌ بهن، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يكون مظاهراً؛ لأنه على خلاف معهود الجاهلية. والقول الثاني - أنه يكون مظاهراً إذا كانت المشبه بها مَحْرَماً حالة التشبيه. والقول الثالث - أنها إن لم يعهدها الرجل إلا محرّمة، فالتشبيه بها ظهار، فإن كانت مستحلّة في حياته، ثم طرأ التحريم برضاع طارىء، فالتشبيه بها لا يكون ظهاراً. وأما التشبيه بالمحرمات بالصهر، ففي أصله خلاف: من أئمتنا من قال: لا يكون المشبّه بالمحرمات صهراً مظاهراً؛ فإن الرضاع إن تبع (1)؛ من حيث إنه ينبت اللحم ويُنشِز العظمَ، فالصهر لا يلتحق [به] (2). ويُبعد من أصحابنا من قال: المحرمات بالصهر في التشبيه بهن بمثابة المحرمات بالرضاع، ثم تجري الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في المحرمات بالرضاع. 9510 - ولو قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أبي (3)، فقد وجدت الطرقَ متفقة على أن هذا لا يكون ظهاراً؛ فإنه اجتمع فيه أنه ليس معهودَ الجاهلية، وليس من شخص يتوقع فيه استحلال، حتى إذا لم يكن الحل وكانت الحرمة بغرض التشبيه. ولا خلاف أن تشبيه المرأة المحرمة تحريماً مؤقتاً لا يكون ظهاراً، مثل أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر فلانة، وكان طلقها ثلاثاً، وكذلك أجمعوا على أن التشبيه بالتي لاعن عنها لا يكون ظهاراً، وإن كانت الملاعَنةُ محرَّمةً على الأبد، فلا يقع الاكتفاء بالتحريم، حتى ينضم إليه المحرميّة. 9511 - ومأخذ الكلام في هذه المسائل أن الشافعي في القديم اتبع النصَّ [ومعقودَ] (4) الجاهلية، ولم ير الحيدَ (5) عنه بطريق المعنى، ورأى في الجديد اتباعَ

_ (1) (ت 2): تبقى. (2) زيادة من المحقق. (3) (ت 2): أمي. (4) في النسختين: فمعهود. والمثبت من المحقق. (5) (ت 2): الخبر.

المعنى، ولم ير الإبعاد بالكلِّيّة، وطَرْدَ التحريمِ، بل شبّه وقرّب، ولم ير التمسك بالقياس المحض من كل وجه، فإن هذا تصرّف منه في الأصل، والأقيسة لا تجول في الأصول على اتساعٍ، ولا بد وأن تكون مضبوطة بنوعٍ من الاتّباع. فإذا ترقى الناظر إلى الفروع فيتسع عند ذلك مجاله في القياس. فصل قال: "ويلزم الحنث بالظهار، كما يلزم بالطلاق ... إلى آخره" (1). 9512 - الظهار قابلٌ التعليق بالصفات والأخطار، فإذا قال: إن دخلت الدار، فأنت على كظهر أمي، تعلق الظهار، كما يتعلق الطلاق. والظهار في تفريع المسائل مردّد بين الإيلاء وبين الطلاق، كما سيأتي بيان ذلك، ثم الطلاق يقبل التعليقَ، والإيلاء يقبل التعليقَ أيضاًً، والظهار [لا يجاذبه] (2) أصل سوى ما ذكرناه. ولو قال: إذا نكحتك، فأنت عليّ كظهر أمي، خاطب بذلك أجنبية أو بائنة، فإذا نكحها لم ينعقد الظهار، كما لا ينعقد الإيلاءُ والطلاقُ قبل النكاح. هذا ما ذكره الأئمة وأطلقوه. وحكى صاحب التقريب قولاً مثلَ مذهب أبي حنيفة في الطلاق، وأعاد حكايته، في الإيلاء، وكرره في الظهار، وعزاه إلى القديم، وأخذ يُجريه في الكتاب، ويفرع عليه، وهو غريب، ولولا اعتناؤه بترديده، لما حكيته. فصل قال: "ولو قال: أنت طالق كظهر أمي، يريد الظهار، فهو طلاق ... إلى آخره" (3). 9513 - إذا قال لامرأته: أنت طالق كظهر أمي، فالذي يجب القطع به أن كلامه

_ (1) ر. المختصر: 4/ 120. (2) في الأصل: لا يحاذيه. (3) ر. المختصر: 4/ 121.

يشتمل على صريح الطلاق، إذ قال: أنت طالق، فلا مدفع للطلاق، ولا مطمع في نفيه. فإذا تبيّن هذا، بنينا عليه ما نقصد، فنقول: إن أطلق هذا اللفظَ، فهو طلاقٌ لا غير، فإن قيل: قد أتى بصريح لفظ الظهار أيضاًً، فإذا ضممنا قولَه آخراً إلى الخطاب المذكور أولاً، لكان صريحاًً؛ إذ في كلامه: "أنت كظهر أمي". قلنا: اتصل قوله: "طالق" بقوله: "أنتِ"، فاتسق الطلاق لفظاً ونظماً، وتخلل ذلك بين الخطاب وبين آخر الكلام، فخرج بالتقطع عن كونه صريحاً، واتجه فيه إيقاعُ الطلاق، وجَعْلُ لفظ الظهار تأكيدَ التحريم، فلا يقع عند الإطلاق (1) إذاً إلا الطلاق. وإن نوى الظهار بقوله كظهر أمي، نظر: فإن بانت بالطلاق، فهذا ظهار بعد البينونة، والظهار بعد البينونة مردود. وإن كان الطلاق رجعياً، فهذا ظهار عن رجعية، وحكمه ما قدمناه من الصحة، وتوقُّفِ العَوْد. 9514 - وحاصل الكلام أن ما ذكر من لفظ الظهار كناية، وما ذكر من لفظ الطلاق صريح، ثم الطلاق سابق لفظاً ووقوعاً، والظهار بعده، وهذه الجملة تتضمن التفصيل الذي ذكرناه لا محالة. ثم إذا كان الطلاق رجعياً، فقد ذكرنا أن الظهار يصح، ولا يثبت العود، وكذلك لو ظاهر عن رجعية ابتداءً، ثم إذا ارتجعها، [فنفسُ] (2) الرجعة هل تكون عوداً؟ فيه وجهان ذكرناهما: أحدهما - أنه تكون عوداً؛ لأن [إمساك] (3) المرأة بعد الظهار لحظةً من حيث يناقض التحريمَ جُعل عَوْداً، فالرجعة ابتداءُ استحلال، فهو أولى بأن يكون عوْداً.

_ (1) (ت 2): الطلاق. (2) في الأصل: بنفس. (3) في الأصل: الإمساك.

والوجه الثاني - أن الرجعة لا تكون عَوْداً؛ فإن الحلّ يحصل بها، والمناقضة إنما تتحقق بالإمساك في زمن الحل (1). 9515 - ولو قال لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ثم طلقها على الاتصال (2) طلاقاً مبيناً، ثم جدد النكاح، فقد قال الشيخ: هل نجعل النكاح عَوْداً في الظهار الذي مضى في النكاح الأول؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين المذكورين في الرجعة، والنكاحُ أولى بأن لا يكون عَوْداً، والسبب فيه أن الطلاق إذا كان رجعياً، فلا ينافي الظهار؛ فلا يقطعه، والظهار على الابتداء يوجَّه على الرجعيّة، فيصحّ، فإذا كان الطلاق المتصل بالظهار مبيناً، فقد انقطع الظهار بانقطاع النكاح، وهذا على قول عَود الحنث، وفيه كلام عريض (3) سيأتي في فصلٍ مفردٍ بعد هذا، إن شاء الله. فصل قال: "ولو قال: أنت عليّ حرام كظهر أمي يريد الطلاقَ، فهو ظهار ... إلى آخره" (4). 9516 - هذه المسألة فيها التباسٌ، ولم يعتن بنهاية الكشف فيها أحدٌ اعتناءَ الشيخ أبي علي، وذَكَر في مقدمة المسألة فوائدَ تتعلق بلفظ التحريم، ونحن نستاق كلامه على وجهه، ونذكر ما يتعلق به من مزيد فوائد عندنا. قال رضي الله عنه: إذا قال الرجل: أنت عليّ حرام، ونوى بذلك تحريمَها في عينها، فيلزمه كفارةُ اليمين، ثم قال: والمذهب أن الكفارة تلزم، وإن لم يطأها،

_ (1) في هامش الأصل أمام هذا الكلام -بدون علامة لحق- ما نصه: "أمكن ما بعدها يدل على أنه إذا أمسكها بعد الارتجاع يكون عائداً، وإنما الخلاف في أن العود يحصل بنفس الرجعة أم بالإمساك بعدها" ا. هـ بنصه. وواضح أنه لا يفيد معنى جديداً، وأن العبارة مستقيمة بدونه، فلعله تعليقٌ من الناسخ أو من أحد المطالعين بخط صادف أنه يشبه خط الناسخ. والله أعلم. (2) أي طلق متصلاً بالظهار، فلم يمسكها الوقت الذي يجعله عائداً. (3) (ت 2): عويصٌ. (4) ر. المختصر: 4/ 121.

[فمجرد] (1) لفظ التحريم يوجب الكفارة، قال: وقد غلط بعض أصحابنا، فقال: لا يلزمه الكفارةُ من غير جماع وإن لم يكن (2) قد نوى اليمين والحلف، وقد ذكر هذا الوجهَ صاحبُ التقريب، والعراقيون، وزيّفوه. 9517 - ولو قصد بالتحريم إيلاءً، فهل يصير حالفاً؟ المذهب الذي قطع به معظم المحققين أنه لا يكون إيلاء؛ فإن عماد اليمين بالله تعالى ذكرُ اسم الله سبحانه، والكنايات لا تشعر بهذا المقصود. وذكر شيخي رضي الله عنه: "أن لفظ التحريم يصير بالنّيّة إيلاء، حتى كأنه قال: والله لا أصبتك"، ولا نعرف خلافاً أنه لو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أصبتك، ثم قال لصاحبتها: أشركتك معها، ونوى عقد اليمين عليها، فلا ينعقد اليمين. ومن ذكر الوجه الذي قدمناه في التحريم، قال في التحريم مشابهةُ اليمين؛ من حيث يتعلق به كفارة اليمين (3)، قال الله تعالى في أول سورة التحريم: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فاحتمل الانصراف إلى اليمين بما له من المشابهة مع اليمين في موجبها، وهذا لا يتحقق في لفظ الإشراك وما في معناه. ثم لما ذكر الشيخ أبو علي الوجه الضعيف في وقوف وجوب الكفارة على الوطء وإن لم يكن التحريم يميناً، بنى عليه أمراً؛ فقال: إذا فرعنا على هذا الوجه، ومضت أربعة أشهر، فهل يكون الزوج مولياً، فإنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، وهذا عماد الإيلاء؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يكون مولياً لما ذكرناه، كما لو قال: إن وطئتك، فعبدي حر، والوجه الثاني - أنه لا يكون مولياً؛ لبعد لفظه عن صيغ الأيْمان، وقد ذكرنا أنا وإن كنا نتصرّف على المعنى، فلا نطمع في طرده والكلامُ (4) في الأصل، وكأنا على الجديد قد نشترط أن يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر

_ (1) في النسختين: بمجرد. والمثبت من المحقق. (2) المعنى أنه لو وطىء بعد التحريم، تجب عليه كفارة يمين، وإن لم يكن هذا يميناً، لا بالصيغة، ولا بنية قائله. (3) ومقتضى هذا أن يكون التحريم إيلاء، وعليه لا تجب الكفارة إلا بالوطء. (4) والكلامُ في الأصل. الواو هنا واو الحال. وهو يشير إلى ما مرّ آنفاً من أن اتباعَ المعنى في الأصول لا مطمع في طرده.

أمراً إذا كان حالفاً، وكان الالتزام بطريق الحلف، حتى لا يبعد عن الأَلِيّة، والإيلاء. وشبب الشيخ بمذهب (1) مالك في الظهار، وقال: إذا ظاهر عن امرأته، ومضت أربعة أشهر، فلا يمتنع أن نجعله مولياً، ونطالبه مطالبة المولين على قولنا: إن العَوْد من المظاهر هو الجماع (2)، فيتسق على هذا القول التزامُ الكفارة بالوطء. وهذا بعيد جداً، ولا يسوغ عدّه من المذهب، وما ذكره في التحريم تفريع على وجه مزيف غير معتد به، ثم لو قدرناه ثابتاً، فليس (3) التحريم كالظهار؛ فإن التحريم وإن وقعت الكفارة فيه على الوقاع، فهو لا يقتضي إيقاع تحريم، فينتظم المَهَلُ وضربُ الأجل، فإن مقتضاه التخيّر بين الوطء والترك، وهذا إنما يتحقق في التي ليست محرّمة، ولهذا حكمنا بأن الأسباب المحرَّمة فيها تمنع من انقضاء المدة واحتسابها، والظهار يتضمن التحريم، فلا يطابق الإمهال ويبعد عن وضع الإيلاء، فإن كنا نقول ونحن نفرع على أن العود هو الوطء: إن الوطء لا يحرُم بنفس الظهار، فيتجه حينئذ ما أشار إليه. وكل ذلك بُعدٌ عن مقتضى الأصول وتشويشٌ لها، فهذه فوائد أجراها الشيخ في مقدمة المسألة. ونحن نخوض بعدها فنقول: 9518 - إذا قال الرجل لامرأته: "أنت عليّ حرام"، وزعم أنه نوى بذلك الظهار، قبل منه. ولو قال: أردت الطلاق، قبل منه. ولو زعم أنه نواهما معاً جمعاً من غير فرض تقدم وتأخر في النية، فقد أجمع الأصحاب على أنهما جميعاً لا يحصلان جمعاً، قال ابن الحداد: قد حصل (4) أحد المنويّين، فنقول للزوج: اختر الآن أيَّهما شئت، فإن اختار الظهار، كان ظهاراً.

_ (1) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 765 مسألة رقم: 1407، 772 مسألة رقم: 1429. (2) مذهب مالك أن العود هو العزم على الوطء (السابق نفسه). (3) (ت 2): فهل التحريم كالظهار. (4) (ت 2): فإن ابن الحداد قد جعل.

وإن اختار الطلاق، كان طلاقاً. [فمن أصحابنا من يوافقه] (1) على ما يقول. ومنهم من يزعم أن الطلاق يتعين ويندفع الظهار؛ فإن الطلاق أقوى وأنفذ، وأثره في الملك، فكان أولى في التنفيذ. هذا إذا ذكر لفظ التحريم وزعم أنه نوى الطلاق والظهار معاً. فأما إذا قال: نويت الطلاق والظهار جميعاًً، ولكن نويت أحدهما قبل الثاني على ترتب، وأتيت بالنيّتين (2) على مساوقة اللفظ، فهذا إخبار منه عن وقوع النيتين في وقتين لطيفين، قال ابن الحداد: إن نوى الظهار أولاً، ثم الطلاق بعده، حصلا جميعاًً، وهذا رجل ظاهر ولم يعد، فإنه أعقب الظهار بالطلاق، فكان كما لو قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي أنت طالق. وإن نوى الطلاق أوّلاً، ثم الظهار، وقع الطلاق، ثم نُظر: فإن كان الطلاق بائناً؛ فإنه واقع، ولا معنى للظهار بعده، وإن كان الطلاق رجعياً، وقع، وكأنه ظاهر عن رجعية. قال الشيخ أبو علي هذا الذي قاله غلط عندي، ولا سبيل إلى تحصيل الأمرين جميعاًً؛ فإن اللفظ واحد، وإذا اتحد اللفظُ استحال تعلّق الحكمين به، ولا أثر للتقدم والتأخر، والحكم في هذه الصورة كالحكم فيه إذا نواهما معاً، ثم فيه وجهان تقدم ذكرها. 9519 - وفي هذا مزيد نظر يستدعي [تقديم] (3) وجهٍ حكاه العراقيون. قالوا: إذا ذكر الرجل كناية من كنايات الطلاق ونوى الطلاق، نظر: فإن انبسطت النية على اللفظ على قدر [الطلاق] (4)، وقع الطلاق. وإن قارنت النية بعض اللفظ وتمّت وبعضُ اللفظ باقٍ، وابتداء النية بعد ما مضى صَدْرُ اللفظ، ثم انطبق نجازها على نجاز اللفظ، ففي وقوع الطلاق خلاف حكَوْه، فإذا قلنا: لا يقع، فقياس هذا يقتضي إذا

_ (1) في الأصل: فمن أصحابنا من قال من يوافقه على ما يقول. والمثبت عبارة (ت 2). (2) (ت 2): وأثبت بالنفس. (3) في الأصل: تقويم. والمثبت من (ت 2). (4) زيادة من المحقق.

ترتّبت النيّتان في وقتين مقترنين (1) باللفظ ألاّ يقع الطلاق ولا الظهار؛ فإن واحدة من النيتين ما انبسطت على جميع اللفظ. 9520 - فنعود بعد ذلك إلى مسألة الكتاب، ونبيّن ما يجري فيها من الأقسام، فإذا قال لامرأته: أنت عليّ حرام كظهر أمّي، فالمسألة تنقسم أقساماً، ونحن نأتي عليها، إن شاء الله تعالى، ونذكر في كل قسم ما يليق به. فإن قال: أردت بقولي: "أنت عليّ حرام طلاقاً، ولم أنوِ بباقي الكلام شيئاً"، فالمذهب أن الطلاق يقع، ولا يحصل الظهار، ويكون كما لو قال؛ أنت طالق كظهر أمي، فإن لفظ التحريم مع نية الطلاق ينزله منزلة صريح لفظ الطلاق. وقد ذكر أصحابنا في المسألة قولاً آخر: أن الظهار يحصل دون الطلاق؛ فإنه صرّح بالظهار، وكنّى عن غيره، والصريح الملفوظ أقوى، وبالنفوذ أولى من المكنّى. والقسم الثاني - أن يقول: نويت بقولي: "أنت عليّ حرام ظهاراً، ولم أنو غيره"، فيصير مظاهراً بقوله: أنت علي حرام ويكون قوله كظهر أمي تأكيداً لما مضى. 9521 - والقسم الثالث - أن يقول: أردت الطلاق والظهار جميعاًً، وهذا ينقسم: فإن قال: أردتهما جميعاًً بقولي: "أنت عليّ حرام، وأتيت بالنية مع هذا اللفظ دون ما بعده"، قال الشيخ: ففي هذه المسألة ثلاثة أوجه - أحدها- أنه يقال له: اختر، فلا سبيل إلى تحصيلهما جميعاًً، ولا بد من أحدهما. والوجه الثاني - أن الطلاق ينفذ دون غيره، وقد وجهنا هذا الوجه فيما تقدم. والوجه الثالث - أن النافذَ الظهارُ في هذه الصورة؛ فإنه أقوى من الطلاق إذ في الكلام بوحٌ (2) يذكره تصريحاًً فتغليب ما فيه لفظٌ صريح في معناه أولى. * ولو قال: أردت بقولي: أنت عليّ حرام طلاقاً، وبقولي كظهر أمي ظهاراً، أما

_ (1) (ت 2): مفترقين. (2) (ت 2): ثم يذكره تصريحاًً.

الطلاق، فإنه يقع على الصحيح، وهو الذي عليه نفرّع في هذه المسألة، ثم إن كان الطلاق بائناً، فلا معنى للظهار بعده، وإن كان رجعياً، فقد ظاهر عن رجعية، فيثبت الظهار، ثم لا يكون عائداً حتى يرتجعها. قال الشيخ: من أصحابنا من قال في هذه الصورة: إنه ينفذ الطلاق، [ولا يصح] (1) الظهار أصلاً؛ لأنه قد استغرق قولَه: "أنت عليّ حرام" بالطلاق، فبقي قوله: "كظهر أمي"، وهذا كلام غير مستقل بنفسه، فلا يصلح لكونه كناية، وليس صريحاً أيضاً لنقصانه. وهذا مردود مزيف؛ فإن إشعاره بالظهار لا ينكر، والكلام منتظم على ما ذكرناه. * ولو قال: أردت بقولي: "أنت علي حرام" ظهاراً، وبقولي: "كظهر أمي" طلاقاً"، حصل الظهار، ولم ينفذ الطلاق. هكذا قال الشيخ، وعلل بأن قوله كظهر أمي صريح في موضوعه وبابه. ولو قال قائل يقع الطلاق؛ من حيث إن قوله: كظهر أمي ليس مستقلاً بنفسه، لم ينفذ، وإلى هذا أشار شيخي، والاحتمال فيه ظاهر. * ولو قال: "أردت بقولي: أنت علي حرام تحريمَ عينها، ولم أنو غيره" فإن قلنا: التحريم صريح في ذلك، كما قدمنا ذكره في الطلاق، فيثبت ما قاله لا شك فيه، ويلزمه كفارة اليمين على التفصيل المقدم، ولا يثبت الظهار أصلاً، ويكون ذلك في حكم التحريم بمثابة ما لو قال: "أنت طالق كظهر أمي"، فيقع الطلاق دون الظهار. وإن قلنا: لفظ التحريم كناية في تحريم العين (2) وإيجاب الكفارة، كما أنه كناية في الطلاق، فإذا قال: نويت به التحريم الملزم للكفارة، ولم أنو غيره، فالمذهب أن التحريم يحصل دون الظهار.

_ (1) في الأصل: فلا يصح. (2) (ت 2): المعنى بالكفارة.

وفي المسألة القول البعيد أنه يحصل الظهار دون التحريم، وتكون نية التحريم في مقتضاها كنية الطلاق، ثم لو نوى به الطلاق، ففي المسألة قول بعيد أنه يحصل الطلاق، ويحصل الظهار، فكذلك إذا نوى تحريم العين، وجعلناه كناية فيه، فيخرج فيه قول آخر أنه لا يحصل التحريم ويحصل الظهار. 9522 - ومن بقية هذه المسألة أنه لو أطلق التحريم، وقال: أنت علي كظهر أمي، ولم يَنْوِ شيئاً، فإن قلنا: التحريم صريح في تحريم العين، فتلزم كفارة اليمين، وإن قلنا: إن التحريم كناية في تحريم العين، ولم ينو شيئاً، قال الشيخ: فينبغي أن يصير مظاهراً، ويلغو قوله حرام، فيبقى قوله: أنت علي كظهر أمي، وهذا حسن فقيه. ثم قالوا لو ذكر اللفظَ على الصيغة التي ذكرناها، ثم قال: أردت به ظهاراً لا بل طلاقاً، فقد قال الأصحاب يحصلان جميعاًً، فإنه أقرّ بهما. قال الشيخ: هذا محتمل (1) عندي، فإنه يحتمل أن يجعل كأنه نواهما معاً بقوله: أنت علي حرام، وقد قدمنا في ذلك تفصيلاً. فهذا نهاية البسط على أبلغ (2) وجهٍ في البيان. فصل قال: "ولو قال لأخرى: أشركتك معها ... إلى آخره" (3). 9523 - إذا ظاهر عن واحدة، ثم قال لأخرى: أشركتك معها، أو أنت شريكتها، أو أنت كهي، فإن لم ينو الظهار، فليس بظهار، وإن نوى الظهار، فقولان. وضبط المذهب يظهر بذكر مرتبتين متعارضتين، وإيقاع الظهار بينهما. فإذا قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق، ثم قال لأخرى: أنت شريكتها، ونوى تطليقها، وقع الطلاق.

_ (1) (ت 2): هذا محتمل أن يجعل كأنه نواهما. (2) (ت 2): أجمع. (3) ر. المختصر: 4/ 121.

ولو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أجامعك، ثم قال لأخرى أنت شريكتها، ونوى الإيلاء عنها، فلا يحصل الإيلاء بما ذكرناه من أن هذا إحالة اليمين، وإزالة صيغتها بالكلية. أما الظهار، فإنه بين الطلاق والإيلاء. وقد ذكر الأئمة قولين في أنه هل يُلحَق بالطلاق في مشابهه وأحكامه أم يلحق بالإيلاء؟ وسيدور (1) القولان، ويتشعب عنهما مسائلُ [جمة] (2) في الكتاب: فإن ألحقناه بالطلاق، فلفظ الإشراك مع نية الظهار يُثبت الظهار، وإن ألحقناه بالإيلاء، فلا يحصل الظهار بلفظ الإشراك، كما لا يحصل الإيلاء بلفظ الإشراك، فإن قيل: تشبيه الظهار بالطلاق من جهة أنه يحرّم تحريمَه بيّنٌ، فما وجه تشبيهه بالإيلاء؟ قلنا: الظهار [لا يبتّ] (3) الملك ولا يؤثر فيه بالتوهين كالإيلاء، ويتعلق بكل واحد منهما كفارة. فصل قال: "ولو تظاهر عن أربع نسوة بكلمة واحدة ... إلى آخره" (4). 9524 - صورة المسألة: رجل تحته أربع نسوة تظاهر عنهن بكلمة واحدة: فقال: أنتن عليّ كظهر أمي، فإن طلقهن عقيب اللفظ، فليس عليه كفارة، فإنه ظاهر ولم يعد، وإن أمسكهن حتى مضى زمان إمكان الطلاق، ففي المسألة قولان: أظهرهما - أنه يلزمه أربع كفارات؛ نظراً إلى عدد اللواتي ظاهر عنهن. والقول الثاني - أنه يلزمه كفارة واحدة؛ اعتباراً باتّحاد اللفظ، والقولان يبتنيان على أن المغلَّب في الظهار مشابه الطلاق أو مشابه اليمين. فإن قلنا: المغلب معنى الطلاق، تعددت الكفارات، كما تتعدد الطلقات إذا قال: طلقتكن، ويلحق كل

_ (1) (ت 2): وسنذكر القولين ويتشعب عنهما مسائل في الكتاب. (2) في الأصل: جهة، وساقطة من (ت 2). والمثبت من المحقق. (3) في الأصل، وكذا في (ت 2): لا يثبت الملك. والتغيير من اختيار المحقق. (4) ر. المختصر: 4/ 121.

واحدة منهن طلقة، ولا يستقيم على السبر إلا هذا القول؛ فإنه إذا ظاهر عنهن، فقد ثبت التحريم في حق كل واحدة منهن، وهن متميزات، والتحريم في حق كل واحدة صفة شرعية لها، ويظهر بهذا تعدد التحريم، فإذا تعدد التحريم، فليتعلق كل تحريم بعَوْد وكفارة. وإن غلبنا جهة اليمين، فالواجب كفارة واحدة، كما لو حلف لا يطؤهن (1)، فإنه لا يلتزم بوطئهن إلا كفارة واحدة، وهذا القول ضعيف، وإن كان مشهوراً. ويمكن تقريب القولين بما إذا قذف جماعة بكلمة واحدة، فإن للشافعي قولين: أحدهما - يلزمه حدٌّ واحد لاتحاد اللفظ. والثاني - يلزمه حدودٌ لتعدد المقذوف وتعدد حكم التعيين والجناية على العرض، فالمعنى متعدد وإن اتحد اللفظ، وقد نُقرّب هذا بما إذا حنث في يمينين بفعل واحد، فإنا ذكرنا اختلافاً في أن الكفارة تتّحد أم تتعدد. 9525 - فهذه أصول متشابهة، وأقرب أصل بما نحن فيه شبهاً قذفُ الجماعة بكلمة واحدة، فإن قلنا: يلزمه أربع كفارات، فلو طلق البعضَ معقباً باللفظ، أو مات بعضهن على أثر اللفظ، فتسقط الكفارة التي كانت تقابل التي ماتت، وكذلك لا تجب الكفارة في حق التي طلقت على الاتصال. وإن قلنا: الواجب كفارة واحدة في ظهارهن، فلو ماتت ثلاثٌ منهن على أثر اللفظ أو طلق ثلاثاًً منهن، وعاد في الرابعة، فالكفارة تلزم، وليس كما لو حلف لا يجامعهن، فإنه لا يلزم الكفارة ما لم يجامع جميعَهن، حتى لو فات الجماع في واحدةٍ، لم يلتزم الكفارة أصلاً. والسبب فيه أن اليمين لا توجب الكفارة إلا عند تحقق الحِنث، والحِنثُ يحصل بجماعهن، وكفارة الظهار لا تتعلق بحنث، وإنما تتعلق بزور ومنكر يحُقِّقُه العَوْدُ، فإذا ظهر ذلك وثبت في واحدة وإن لم يظهر في ثلاث، فيتحقق موجب الكفارة. وقيل: الظهار وإن ألحقناه باليمين، فهو نازعٌ إلى الطلاق، وهذا كلام مطلق يشعر بعجز المقدِّر (2).

_ (1) (ت 2): لايظاهر. (2) يشعر بعجز المقدّر. هل المعنى: يشعر بعجز من يفدر الظهار طلاقاً؟

وكان شيخي يحكي في تعليل ذلك عن شيخه القفال: أن الظهار نازع إلى الطلاق، فيبقى لذلك الحكم في الحيَّة (1)، ولم تتعدد الكفارة للنزوع إلى الأيمان، وهذا شأن كل أصل يتجاذبه أصلان فيؤثر عليه (2) مقتضاهما. وهذا كلام مضطرب؛ فإن كل واحدٍ من القولين إنما ينتظم بتغليب أحد الشبهين، فإذا أردنا تغليبهما، والجمعَ بينهما، لم يستقم، وفيما قدّمته من الفرق بين اليمين وبين الظهار أكمل مقنع. وبالجملة [لا يُتلَقى اتحاد] (3) الكفارة من مشابهة الأيمان، وإنما استيفاؤه (4) من قذف الجماعة بالكلمة الواحدة كما قدمناه. وكل ما ذكرناه فيه إذا تظاهر عن النسوة بالكلمة الواحدة. 9526 - فأما إذا أفرد كلّ واحدة بكلمة، وخاطبها بظهار منفرد، فلا شك في تعدد الظهار، ثم ظهاره عن الثانية عَوْدٌ في حق الأولى (5)، والظهار عن الثالثة عوٌد عن الثانية، والظهار عن الرابعة عود في حق الثالثة، فإن عاد في حق الرابعة بأن أمسكها زمانَ إمكان الطلاق، لزمته أربع كفارات، وإن طلق الرابعة لما ظاهر عنها، فيلزمه ثلاث كفارات بسبب الثلاث المتقدّمات، إذ قد تحقق في حقوقهن الظهار والعَوْدُ جميعاًً. أما الظهار، فبيّن: مأخوذ من تعدد الألفاظ، وتعدد المحل، ولا يبقى بعد التعدد في هذين سبب مانع من الحكم بالتعدد في الظهار. أما العَوْد، فقد حققناه؛ إذ قلنا: اشتغاله بالظهار للثانية تركٌ منه لطلاق الأولى، وكذلك القول إلى الرابعة.

_ (1) الحيّة: أي الزوجة التي بقيت بعد موت الثلاث. (2) (ت 2): فيه عليهما. (3) في النسختين: "لا يُلفى الاتحاد". (4) (ت 2): اشتقاقه. (5) اعتبر عوداً في حق الأولى، لأنه أمسكها زمانا يسع الطلاق، بدليل أنه وسع ظهاره من الثانية.

9527 - ولو قال لأربع نسوة: حرّمتكن وقصد تحريمهن بأعيانهن، ففي اتحاد الكفارة وتعددها ما في تعدد كفارة الظهار واتحادها، على ما تقدم. وكل هذا فيه إذا خاطب نسوةً بكلمة أو كلمات. 9528 - فأما إذا كرر الظهار في امرأة واحدة، فقال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم قال مثلَ ذلك ثانية وثالثة إلى غير ذلك، فلا تخلو هذه الكَلِم إما أن يأتي بها متواصلة من غير تخلل فَصْلٍ، وإما أن يأتي بها متقطعة مع تخلل فواصل، فإن أتى بها متصلات وِلاءً، [و] (1) زعم أنه أراد بجميع الألفاظ ظهاراً واحداً، وإنما كررها تأكيداً، فالظهار واحد، والكفارة واحدة، إذا وجبت، كما ذكرناه في الطلاق والإيلاء، ثم إن فرغ من الألفاظ المتواصلة، وسكت عن الطلاق حتى مضى زمان إمكانه، فتلزمه الكفارة. وإن أتى بهذه الكلمات على التواصل، ثم عقبها بالطلاق، فظاهر المذهب أنه ليس بعائد، ولا تلزمه الكفارة. ومن أصحابنا من قال: تلزمه الكفارة. توجيه الوجهين: من قال تلزمه الكفارة، احتج بأنه أخر الطلاق لمّا اشتغل بالتأكيد على زعمه مع تمكنه من تعقيب الكلمة الأولى بالطلاق، فإذا لم يفعل، كان اشتغاله بالتكرير والتأكيد تركاً منه للطلاق وعوْداً. ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الكلمة إذا تكررت على شرطها في التواصل، فهي كالكلمة الواحدة، ولا يتخللها حكم بتقصير أو تأخير، وكأن المؤكِّد إنما فرغ من كلامه عند فراغه من الكلمة الأخيرة، وهذا الوجه أفقه، إن شاء الله تعالى. 9529 - ولو كرر الكلمَ، وزعم أنه أراد بكل كلمةٍ ظهاراً جديداً، فالمذهب أن الظهار يتعدد، ثم ننظر بعد ذلك في الكفارة، كما سنذكره في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى، وفي بعض التصانيف أنه وإن نوى التجديد والاستئناف؛ فيُخرَّج خلافٌ في اتحاد الكفارة وتعددها، وهذا القائل يقول: إذا تعددت الكَلِم على قصد التجديد

_ (1) (الواو) زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين.

واتحد المحلّ (1)، كان كما لو تعدد المحل واتّحدت الكلمة، فيخرج على قولين. وهذا بعيد. وحاصل المذهب أن المحالّ إذا تعددت، وتعدّدت الكَلِم أيضاًً، فالقطع بتعدد (2) الظهار والكفارة إذا تعدد العود. وإن اتحدت الكلمة وتعدد المحل، ففي تعدد الكفارة قولان. وإذا تعددت الكَلِم، واقترن بها قصد الاستئناف والتجديد، واتحد المحل، ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بتعدد الظهار والكفارات إذا تحقق العَوْد، كما سنصفه. والطريقة الأخرى - حَملُ المسألة على قولين، كما لو تعدد المحل واتحدت الكلمة. وذكر العراقيون مسلكاً (3) آخر، فقالوا: إذا ظاهر عن امرأته وعاد، ولم يكفر، ثم ظاهر مرة أخرى بعد تخلل زمان متطاول، فهل يصح منه الظهار حتى إذا عاد فيه تلزمه الكفارة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يصح [الظهار] (4) ما لم يكفر ظهارَه الأول. وهذا قريب مما ذكرناه في تعدد الكلم مع قصد الاستئناف، ولكنهم عبروا عنه بهذه العبارة، ويمكن أن يقال: مأخذه من تكرير القذف بكلم على مقذوف واحد، مع تعدد الزمان المخبَر عنه؛ فإنه إذا اتحد، فلا حكم (5) لتعدد الإخبار عنه، وإذا كنا نأخذ الظهار عن نسوة بكلمةٍ عن قذف جماعة بكلمةٍ، فلا بُعْد في أخذ الظهار عن امرأة بكلمات من قذف رجل بكلمات ونسبته إلى زَنْيات. وهذا غير سديد؛ فإن القذف يوجب الحد، ومن قضايا الحد الاندراج إذا اتحد جنس الواجب ولم يتخلل استيفاءُ الحد، وهذا المعنى لا يجري في الكفارات،

_ (1) (ت 2): واتحاد الكفارات. (2) (ت 2): فالقطع مبنية بتعدد ... (3) (ت 2): مثلاً آخر. (4) زيادة من (ت 2). (5) (ت 2): نحكم.

فالوجه أن نفرِّع على أن الظهار يتعدد [بتعدد] (1) الكلم إذا قَصَد مُطْلِقها الاستئنافَ والتجديدَ. 9530 - ثم إذا أتى بهذه الكلم المتواصلة على قصد التجديد والاستئناف، فلا يخلو إما أن يطلِّق عقيب الفراغ منها، وإما ألا يطلق، فإن طلق، فهل نجعله عائداً في الظهار الأول؛ بسبب الاشتغال بالظهار الثاني أم كيف الوجه؟ في المسألةِ وجهان: أحدهما - أنه يكون عائداً في كل ظهار يسبق إذا اشتغل بظهار بعده؛ فإنه بالاشتغال بالظهار يكون تاركاً للطلاق، وهذا أقيس الوجهين في صورة التجديد. والوجه الثاني - أنا لا نجعله عائداً، فإن كل ما يأتي به جنسٌ واحد؛ وإن كان له حكم التجديد، فما لم يفرغ عن هذا الجنس لا نجعله عائداً. وهذا ضعيف عندنا، ولكن حكاه القاضي وغيرُه، والوجه أن يرتب على صورة التكرير والتأكيد، فإن جعلنا المؤكِّد عائداً، فلأن نجعل المجدد عائداً أولى. وإن قلنا: لا يكون المكرر المؤكِّد عائداً، ففي المسألة وجهان، والفرق أن التأكيد في حكم الجزء من الكلام المؤكَّد، فكأنْ لا فراغَ عنه ما لم ينقض التأكيد، وأما التجديد، فمن ضرورته قطعُ الكلام الأول واستئنافُ آخر. فإذا فرعنا على الأصح، نظرنا في عدد الألفاظ، وجعلنا كلَّ لفظة عَوْداً في التي قبلها، ثم نظرنا إلى اللفظة الأخيرة؛ فإن استعقبت سكوتاً، فقد تحقق العَوْد فيها أيضاًً، فيجب الكفارةُ بأعداد الكلم، وإن عقب الكلمة الأخيرةَ بالطلاق، فلم يَعُد فيها، فلا كفارة عليه بسببها، وتجب الكفارات بأعداد الكلم التي قبلها. فإذاً أوضحنا أنه صار عائداً فيها على الأصح، هذا إذا واصل الكلام ونوى به تأكيد أو تجديداً. فأما إذا أطلق الألفاظ، ولم ينو تأكداً ولا تجديداً، ففي المسألة قولان كالقولين في نظير هذه المسألة من مسائل الطلاق، فإن قلنا: إن الألفاظ محمولةٌ على التأكيد، فقد مضى حكم التأكيد. وإن قلنا: إنها محمولة على التجديد، فقد مضى حكم التجديد، وكل ذلك والألفاظ متواصلة.

_ (1) زيادة من (ت 2).

9531 - فأما إذا أتى بها متقطعةً منفصلةً وتخلل بينهما من الأزمنة ما يمنع الحمل على التأكيد على العادة الجارية فيه، أما العراقيون، فإنهم أجرَوْا القولَ الضعيف الذي حكَوْه، وقالوا: لا يصح الظهار الثاني وما بعده إذا لم يتخلل تكفير، وهذا وجه مزيّفٌ لا أصل له، ولا عوْد إليه. فنقول إذاً: إذا تقطعت الكلم وقصد بكل كلمة ظهاراً، فقد تعدد الظهار، فإذا تعدد العَوْد (1)، تعددت الكفارات. ولو قال: قصدت التكرار وإعادة [عين ما تقدم،] (2) ففي بعض التصانيف أن جواب القفال اختلف في ذلك، فقال مرة: يقبل ذلك منه، وقال مرة: لا يقبل، وهذا فصلٌ قد قررناه فيما سبق عند ذكرنا أن كَلِمَ (3) الإيلاء إذا تعددت مع تخلل الفواصل يجوز أن تحمل على التكرار والاتحاد تشبيهاً بالإقرار، وفيه تردد قدمته. فاختلاف جواب القفال في الظهار ينبني -بعد التنبيه- على ما ذكرناه، وهو أن تغليب شوْب الطلاق في الظهار أغلب أم (4) تغليب شوب الإيلاء؟ فإن رأينا تغليبَ الطلاق، فلا يقبل منه دعوى التكرار، وكل لفظ يصدر منه ظهارٌ جديد، ككلم الطلاق وقد تخللتها الفواصل. وإن قلنا: شوبُ الإيلاء أغلب، فهو ككَلِم الإيلاء إذا تكررت وبينها الفواصل، هذا إذا قال: قصدت التجديد أو التكرار، وليس من الحصافة ذكرُ عبارة التأكيد في هذا المقام؛ فإن التأكيد إنما يجمُل موقعه إذا توالت الألفاظ، وهذا (5) يَذْكُر التكرارَ، وقد يثبت مذهبُ التكرار مع الفواصل، كما ذكرناه في الإقرار. فأما إذا أطلق هذه الألفاظ وقد تخلّلتها الفواصل، فالوجه عندنا حملُها على الاستئناف والتجديد، لا على التكرار.

_ (1) (ت 2): القول. (2) في النسختين: غير ما تقدم. (3) (ت 2): حكم. (4) (ت 2): من تغليب. (5) وهذا: أي القائل.

فصل قال: "ولو قال: مهما تظاهرتُ من فلانة الأجنبية ... إلى آخره" (1). 9532 - إذا كانت له امرأتان: حفصة وعمرة، فقال لحفصة: إن تظاهرت عنك، فعمرة عليّ كظهر أمي، فتظاهر عنها، ثبت الظهار عنهما جميعاً، أما حفصة فقد نجّز ظهارها، وأما عمرة، فقد كان علق الظهار عنها على الظهار عن حفصة، وقد ظاهر عن حفصة، فحصل الظهار عنهما تنجيزاً وتعليقاً. ولو قال: إذا تظاهرتُ عن إحداكما، فالأخرى عليَّ كظهر أمي، ثم تظاهر عن إحداهما، انعقد الظهار فيهما تنجيزاً وتعليقاً، كما تقدم. 9533 - ولو قال: إن تظاهرتُ عن فلانة، وسمى امرأةً أجنبيةً، فأنت عليّ كظهر أمي -خاطب زوجته- فلا شك أن الظهار عن الأجنبية لا يصح، فلو نكحها وظاهر عنها والزوجية قائمة في التي كان علق ظهارها أولاً، فيصير مظاهراً عنها؛ فإن الصفة التي علق ظهارها عليها قد تحققت. ولو قال لتلك الأجنبية: أنت علي كظهر أمي، لم يحنَث في زوجته، ولم يصر مظاهراً عنها، فإن الذي أجراه لم يكن ظهاراً، وإنما كان لفظَ الظهار، والتعليقاتُ بالعقود والحلول محمولةٌ عندنا على ما يصح منها، ولا يقع الاكتفاء بالألفاظ فيها. فإن قال: أردت بقولي إن تظاهرت عن فلانة مخاطبتَها بهذا القول، ولم أُرد غير صورة القول، فيصير مظاهراً عن امرأته حينئذ بإجراء هذا القول مع الأجنبية، فإنّ ما ذكره من الحمل على القول ممكنٌ وإن كان بعيداً، وقد ذكرنا أن المحامل البعيدة مقبولة في تحقيق الحِنْث، [وإنما نرى المحاملَ البعيدة ظاهراً] (2) في ردّ الحنث، حتى نقول: الأمر مردود إلى الباطن (3) ومقتضى التديين.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 122. (2) في الأصل: فإنا نرى المحامل البعيد تظاهراً. (3) (ت 2): الناظر.

هذا إذا قال: إن ظاهرت عن فلانة -وقد كانت أجنبية-، وهو لم يتعرّض في يمينه لذكر كونها أجنبية، فأما إذا قال: إن ظاهرت عن فلانة أجنبيةً (1)، فأنت علي كظهر أمي (2)، فقد شرط في الظهار عن المذكورة أن تكون أجنبية، وليس يخفى أن الظهار لا يصح مع الشرط الذي ذكره، قال الأصحاب: هذا تعليق بصفة لا تكون؛ فلا يحكم (3) بحصول الظهار. وقال المزني: هذا محمول على لفظ الظهار، فإذا قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، فقد (4) تحققت الصفة، وهذا كما لو قال: إن اشتريت الخمر، فأنت طالق، فإذا اشترى الخمر كما يشتري الخمر طالبوها، وقع الطلاق، والأصحاب على مخالفة المزني، ومنهم من يشبّب بموافقته، وسنذكر هذا المذهب للمزني وخوض الأصحاب معه (5) في الكلام في كتاب الأيمان، إن شاء الله عز وجل. وإذا كان قال: إن تظاهرت عن فلانة أجنبيةً، فأنت علي كظهر أمي، فلو نكح تلك المعيّنة وظاهر عنها في النكاح، صح الظهار، ولم يحصل الحنث؛ فإنه شرط في الحنث وقوع الظهار في حالة كونها أجنبية، فإذا ظاهر عنها بعد النكاح، فليس هذا الظهار الذي ذكره، ولو أنه أراد لفظ الظهار، ثم قال للأجنبية: أنت علي كظهر أمي، فيصير مظاهراً عن زوجته، كما قدمناه. ولو قال: إن ظاهرتُ عن فلانة الأجنبية، فأنت عليّ كظهر أمي، فلو نكحها، ثم ظاهر عنها، فهل يصير مظاهراً عن زوجته، وقد صح الظهار عن تلك التي نكحها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يصير مظاهراً عن زوجته، كما لو قال: إن ظاهرت عن فلانة ولم يتعرض لكونها أجنبية.

_ (1) أجنبيةً حال، أي تعرض لذكر كونها أجنبية. (2) عبارة (ت 2) فيها سقط، فهي هكذا "هذا إذا قال: إن ظاهرت عن فلانة -وقد كانت أجنبية - فأنت علي كظهر أمي، فقد شرط في الظهار .. ". (3) (ت 2): فالحكم. (4) في النسختين: وقد. (5) (ت 2): بعدُ في الكلام في كتاب الأيمان.

والوجه الثاني - أنه لا يصير مظاهراً عن زوجته، لأنه ذكر تلك المرأة ووصفها بكونها أجنبية؛ إذ قال: إن ظاهرتُ عن فلانة الأجنبية، فإذا نكحها خرجت عن كونها أجنبية، وحقيقة الوجهين تنزِع إلى أن قوله: "فلانة الأجنبية" هل يقع شرطاً أم هي للتعريف والإعلام لا للاشتراط؟ وفيه الخلاف. وقد دار الكلام على ثلاث صور: إحداها - أن يقول: إن ظاهرت عن فلانة من غير أن يتعرض لكونها أجنبية. والثانية - أن يقول: إن ظاهرت عن فلانة أجنبيةً، أو قال: إن ظاهرت عن فلانة وهي أجنبية، فهذا اشتراط. والثالثة - أن يقول: إن ظاهرت عن فلانة الأجنبية (1)، وهذا مردّدٌ بين التعريف وبين الشرط. ...

_ (1) (ت 2): وهي أجنبية.

باب العود

باب (1) العوْد قال الشافعي رحمه الله: "قال الله عز وجل {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ... } [المجادلة: 3] الآية ... إلى آخره" (2). 9534 - مضمون هذا الباب الكلامُ في العود ومعناه؛ [فإنه] (3) عز من قائل [علّق] (4) الكفارة بالظهار والعَوْد جميعاًً؛ إذ قال تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]. وقد اختلف مذاهب العلماء في تفسير العَوْد، فذهب الثوري (5) وغيره إلى أن العَوْد هو الإتيان بالظهار في الإسلام، ونفسُ لفظ الظهار عنده موجِبٌ للكفارة، ومعنى العود في الكتاب أن الظهار لفظٌ كانت العرب في الجاهلية [تستعمله، فمن استعمله في الإسلام فكأنه عاد لما كان ومعناه في الجاهلية] (6). وهذا لا حاصل له؛ فإن الله عز وجل ذكر الظهار، ورتب عليه العَوْد، فقال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وهذا يقتضي إنشاء أمرٍ هو العَوْد بعد الظهار، فلا يوافق هذا المذهبُ ظاهرَ الكتاب أصلاً.

_ (1) (ت 2): باب ما يوجب على المظاهر كفاراته. (2) ر. المختصر: 4/ 123. (3) في الأصل: أنه. (4) في الأصل: على. (5) الثوري: سفيان الثوري، أمير المؤمنين في الحديث، إمامُ العلم والعمل، كان آية في الحفظ، أعرف من أن يعرّف. توفي سنة 161هـ عن سبع وستين سنة (ر. تهذيب التهذيب 4/ 111 - 115، وتاريخ بغداد: 9/ 151، وحلية الأولياء: 6/ 356، ووفيات الأعيان: 2/ 386). (6) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) حيث سقط من الأصل.

وذهب داود إلى أن العَوْد تكرير كلمة الظهار، وهذا ركيكٌ لا أصل له. وذهب الزهري ومالك (1) في إحدى الروايتين إلى أن العَوْد هو الوطء، وهذا المذهب فيه استيضاح (2) حقيقة المعنى، فإن قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُون} [المجادلة: 3] معناه ثم يناقضون ما كان منهم؛ فإن الظهار مقتضاه التحريم، فإذا جرى شيء يخالفه ويناقضه، فهو الذي فهمه العلماء من العود، وهو بمثابة قول القائل: قال فلان قولاً وعاد فيه، أي يُتبعه بما يخالفه. ثم من فهم هذا على الصحة، اختلفوا فيما يقع [به] (3) المخالفة، فذهب الزهري ومالك إلى أن المخالفة تقع بالوطء لا غير. وقال أبو حنيفة (4) في رواية، ومالك في رواية: العَوْد هو العزم على الوطء. والرواية الصحيحة عن أبي حنيفة وعنها يذبُّ أصحابُه وبها يُفتون أن الكفارة لا تستقر في الظهار استقرار اللزوم (5)، وإنما هي مشروعة للاستحلال، فإن كفّر، استحلّ، وإن وطىء قبل التكفير (6) عصى ربَّه، ولم تستقر الكفارة أيضاًً، بل التحريم باقٍ إلى أن يكفر. وهذا وإن اختاروه مضطربٌ؛ سيّما على أصلهم؛ فإن الكفارة لا تقدّم على وجوبها، وهذا الذي ذكروه تكفير قبل الوجوب. والمذهب الصحيح للشافعي أن العَوْد هو أن يمسكها عقيب الفراغ من الكلمة زماناً يتمكن فيه من الطلاق، فإذا فعل ذلك ولم يطلق، فقد أمسكها زوجةً، وإمساكُها زوجةً في لحظةٍ يناقض ما اقتضاه الظهار من التحريم.

_ (1) ر. الإشراف: 2/ 772 مسألة 1429، عيون المجالس: 3/ 1269 مسألة 887. (2) (ت 2): استفتاح. (3) في الأصل: فيه. (4) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 485 مسألة: 1020، المبسوط: 6/ 224، 225. (5) (ت 2): الزوج. (6) عبارة (ت): هي مشروعة للاستحلال، فإن وطىء قبل التكفير عصى ربه.

والحملُ على الوطء [بعيدٌ] (1)، فإنه تعالى ذكر الظهار والعَوْد، ثم قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، فأشعر هذا بكون الظهار والعود متقدمَيْن على التماسّ، وقد قيل: للشافعي قولٌ في القديم أن العود هو الوطء، وهذا إن صح، فهو في حكم المرجوع عنه، ولا معوّل عليه. ثم إذا ظاهر الرجل، ولم يطلّق، حتى مضى زمانٌ يسع التطليق، فقد عاد، واستقرت الكفارةُ، فلو تلفظ بالظهار ومات هو عقيبه أو ماتت، فلا كفارة؛ فإن الإمساك لم يتحقق، وأيس (2) من العود. ولو طلقها، فالطلاق ينافي العود، فلا تجب الكفارة، ثم لو راجع بعد الطلاق الرجعي، أو جدد النكاح بعد الطلاق المبين، فسنفردُ في ذلك فصلاً؛ فإنه عمدةٌ (3) الكتاب. ثم ذكر المزني كلاماً لا يليق بهذا المحل، فنذكره ثم نعود إلى ما وعدناه (4) من تفصيل الطلاق والرجعة والنكاح. 9535 - قال الشافعي: "معنى قوله سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وقتٌ لأن يؤدي فيه ... إلى آخره" (5). أراد بذلك أن المظاهر يحرم عليه الجماع حتى يكفّر، فإن كان يكفر بصوم الشهرين المتتابعين، فحرام عليه أن يمَسها حتى يستكمل الصيام، فلو جامعها نهاراً في الشهرين فسد الصوم، وانقطع التتابع، ولزم استئناف صوم الشهرين، وتحريم الجماع ممتدٌّ، وليس هذا من خاصية الجماع، بل لو أفطر في اليوم الأخير من غير عذرٍ، على ما سيأتي التفصيل فيما يقطع التتابع وفيما لا يقطعه -فالحكم ما ذكرناه من فساد الكفارة ووجوب العود إلى استئناف الصوم، فلو كان يكفر بصوم الشهرين، فوطىء التي ظاهر

_ (1) في الأصل: بعقدٍ. (2) (ت 2): وليس. (3) (ت 2): غمرة الكتاب. (4) (ت 2): ثم نعود إلى ما ذكرناه من تفصيل الطلاق. (5) ر. المختصر: 4/ 124.

عنها ليلاً فالجماع حرامٌ؛ لأنه قبل تبرئة الذمة عن الكفارة، ولكن صوم الشهرين لا يفسد بما جرى، والتتابع لا ينقطع، وقال أبو حنيفة (1) تفسد الكفارة. وعبر الشافعي عن حقيقة المسألة بأن قال: الصوم مؤقت بالزمان المتقدّم على المسيس، فلو استفتح [شهرين] (2) بعد المسيس، لكان جميع الصوم وراء الوقت، فإذا مضى بعض الصوم قبل المسيس، فهذا المقدار واقعٌ في الوقت، فإيقاع البقية (3) وراء الوقت أقربُ إلى الامتثال من إيقاع الجميع وراء الوقت، والمسألة مشهورة مع أبي حنيفة. 9536 - ثم قال: "فإذا منع الجماعَ أحببتُ أن يمنع القُبَلَ ... إلى آخره" (4). قد ذكرنا أن من ظاهر وعاد، التزم الكفارة، ولا يحل له الوطء ما لم يكفر، وإذا حرمت التي ظاهر عنها، وتحقق التحريم في الوطء، فهل يحرم سائر جهات الاستمتاع، كالمسّ والاعتناق والقبلة، وغيرها من وجوه الاستمتاع عدا (5) الجماع؟ ظاهر النص (6) هاهنا أنه لا يحرم شيء سوى الجماع، ونص في رواية الزعفراني على أنه يَحْرُم جميع جهات الاستمتاع، فحصل قولان: أحدهما - ولعله الأظهر أن جميع الجهات من الاستمتاعات تَحْرُم كالوطء، وما (7) يحرّم الوطءَ من هذه الأجناس يحرِّم وجوه الاستمتاع كالعدة، والإحرام. والقول الثاني - لا يحرم إلا الوطءُ، والمسيسُ في القرآن كنايةٌ عن الجماع، والقائل الأول يقول: هو محمول على حقيقته، ولا خلاف أن قوله تعالى: {إِذَا

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 499 مسألة 1043، المبسوط: 6/ 225. (2) في الأصل: بشهرين. (3) (ت 2): النية. (4) ر. المختصر: 4/ 124. (5) (ت 2): عند الجماع. (6) (ت 2): ظاهر المذهب. (7) "وما يحرّم الوطء من هذه الأجناس ... إلخ" هذا الكلام دليل آخر للقول القائل بحرمة جميع الاستمتاعات، فالمعنى أن المعهود فيما يحرّم الوطء مثل العدّة والإحرام - أنه يحرم جميع الاستمتاعات.

نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] محمول على الوطء، فالمس في هذه الآية كناية بلا خلاف، وهي فيما عداها من الآي على التردد والاختلاف، كآية الملامسة، وكآية الظهار التي نحن في ذكر معناها. 9537 - ثم نجمع في هذا كلاماً ضابطاً، إن شاء الله، فنقول: كل ما يُحرّم الوطءَ من جهة تأثيره في الملك، فلا شك أنه يُحرِّم سائرَ جهات الاستمتاع، كالطلاق، وما لا يحرّم الملك ويُقصد به استبراء الرحم عن الغير، فهو يحرّم جهات الاستمتاع بجملتها، كالعدة تجب في صلب النكاح عن وطء الشبهة، فإنها تتضمن التحريم من كل الوجوه. وكل ما يبيح المرأة لشخصٍ، فلا شك أنه يحرمها على غيره من الوجوه كلها، كالنكاح في الأَمَة. وكل تحريم يرجع إلى الأذى كالحيض، فهو مقطوع به في محل الأذى، وهو الوطء، ولا يثبت فوق السرة وتحت الركبة، وفي ثبوته دون السرة وفوق الركبة مع توقي الوقاع الخلافُ المعروف. ثم من أصحابنا من حمل هذا الخلافَ على [التحويم] (1) على الحمى، وخشية الوقوع فيه. ومنهم من حمله على غلبة الظن في الأذى في المحل القريب. والعبادة التي حرُم الجماع فيها تنقسم إلى الإحرام، والصوم، والاعتكاف، فأما الإحرام، فإنه يحرّم التقاء البشرتين من كل وجه، وهذا تعبُّدٌ لا نلتزم تعليلَه. وأما الصوم، فيحرُم الوقاعُ فيه، وكل ما يُخشى منه الإنزال، فهو محرم، وفيه تفصيل طويل ذكرته في موضعه من كتاب الصيام، وأما التلذذ مع الأمن من الإنزال، فالصحيح أنه لا يحرم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّل، وهو صائم. ومنهم من قال: التلذذ حرام من الصائم، وإنما نُبيح القُبلة والجسَّ ممّن لا يتلذّذ.

_ (1) في النسختين: التحريم.

وهذا خطأ صريح عندنا، والتعويل فيما يحرم ويحل على الأمن من الإنزال والخوف منه. 9538 - وأما الظهار، ففيه قولان: أحدهما- أنه يحرّم كل استمتاع. والثاني - أنه لا تحرم جميعاًً، فإذا لم تحرم، فلا بأس بالتلذذ، وإن أفضى إلى الإنزال، أما الاستمتاع بما تحت السرة وفوق الركبة، ففيه تردد: يجوز أن يخرّج على الخلاف المذكور في الحائض، ويجوز أن يقال: إنه يحلّ؛ فإن التحريم فيها ليس مربوطاً بالأذى. 9539 - فأما الاستبراء، وتحريم المستبرأة، فإنا نقول فيه: إذا كانت الجارية مستبرأة، في جهة لو ثبت فيها كونُها مستولدةً للغير، لحرمت، فجميع وجوه الاستمتاع محرّم منها كما يحرّم من المعتدّة. وأما المسبية، فلو ثبت أنها أمُّ ولدٍ، لم يضر، فالاستبراء فيها تعبُّدٌ؛ فلا يحل وطؤها، وهل يحل سائر وجوه الاستمتاع، فعلى اختلاف مشهور، وسيأتي ذلك مستقصىً في كتاب الاستبراء، إن شاء الله عز وجل. 9540 - ومما أجراه الشافعي رضي الله عنه أن الذي يكفر بالإعتاق لا يطأ قبل الإعتاق، والذي يكفر بالصيام كذلك، ثم هذا (1) يطّردُ في التكفير بالإطعام، فلا يحل للذي يكفّر بالإطعام، أن يطأ قبل الإطعام، خلافاً لأي حنيفة (2)، وهذا

_ (1) (ت 2): ثم في هذا نظر. (2) ما عزاه الإمام إلى أبي حنيفة، نقله عنه الكمال ابن الهمام في الفتح، حيث قال: "وعما قلناه من عدم اشتراط الإطعام للحل، واعتبار الأطلاق في ذلك. قال أبو حنيفة فيمن قرب التي ظاهر منها في خلال الصوم: يستأنف، ولو قربها في خلال الإطعام لا يستأنف؛ لأن الله تعالى قيّد الصيام بكونه قبل التماس، وأطلق في الأطعام، ولا يُحمل الإطعام على الصيام؛ لأنهما حكمان مختلفان وإن اتحدت الحادثة" انتهى كلام أبي حنيفة (ر. فتح القدير: 4/ 259). هذا، والذي استقر عليه المذهب الحنفي فيما رأيناه في كتب السادة الأحناف غيرُ هذا، فالطحاوي يقول في مختصره (213): "ومن ظاهر من زوجته، لم يحل له قربها ولا شيء منها حتى يكفّر، وسواه كان من أهل العَتاق أو من أهل الصيام أو من أهل الإطعام" ا. هـ. وفي مختصر =

الخلاف نشأ من تقييد العتق والصيام بالمسيس، فإنه تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وقال في الصوم: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ولما ذكر الإطعام لم يقيده بالتّماسّ، فقال أبو حنيفة: يتقيّد ما قيّده ولا يتقيد ما أرسله، ورأى الشافعي حمل المطلق على المقيّد، سيّما إذا اتحدت الواقعة. فصل قال: "ولو تظهّر، ثم أتبع الظهار طلاقاً ... إلى آخره" (1). 9541 - هذا هو الفصل الموعود، وبه يظهر سر العود، وفيه نذكر عَوْد الحنث في الظهار، فالله المستعان. فنقول أوّلاً: من ظاهر عن امرأته وعاد، فإن أمسكها في زمان إمكان الطلاق، فقد لزمت الكفارة، واستقر لزومها، ثم كما استقرت الكفارة استقر التحريم المرتبط به (2)، فلا يزول التحريم إلا بالتكفير، ومن أثر ذلك أنه لو ظاهر وعاد، ثم أبان زوجته، ثم نكحها، فهي محرّمة عليه، سواء قلنا بعود الحنث أو لم نقل به، لما حققناه من استقرار التحريم، وتعلقِ زواله بتبرئة الذمة عن الكفارة، فلا خلاص من الكفارة إلا بأدائها، ولا انتهاء للتحريم إلا بالتكفير، حتى قال المحققون: إذا ظاهر

_ = اختلاف العلماء (2/ 498 مسألة 1041): "قال أصحابنا: لا يجامع حتى يُطعم، إن كان فرضه الإطعام". وقال السرخسي في المبسوط: (6/ 225): "وإن كانت كفارته بالإطعام، فليس له أن يجامعها قبل التكفير عندنا". ا. هـ. وقال الكاساني في البدائع (3/ 234): "ويستوي في هذه الأحكام جميع أنواع الكفارات كلُّها من الإعتاق والصيام والطعام، أعني كما أنه لا يباح له وطؤها والاستمتاعُ بها قبل التحريبر والصوم، لا يباح له قبل الإطعام" ا. هـ. وقال المرغناني في الهداية عند قول صاحب البداية (وكفارة الظهار عتق رقبة، وكل ذلك قبل المسيس) قال في الهداية: وهذا في الإعتاق والصوم ظاهر للتنصيص عليه وكذا في الإطعام؛ لأن الكفارة فيه منهية للحرمة، فلا بد من تقديمها على الوطء ليكون الوطء حلالاً. (الهداية مع فتح القدير: 4/ 258). (1) ر. المختصر: 4/ 125. (2) به: أي بالتكفير.

وعاد، ثم اشترى التي ظاهر عنها، فلا يستحل وطأها بملك اليمين ما لم يكفر، هذا هو المذهب الظاهر، وفيه وجه بعيد ذكرته فيما تقدم. هذه مقدمة مهدناها، ونخوض بعدها في بيان غرض الفصل. 9542 - فإذا ظاهر وطلق على الاتصال، فلا يخلو إما أن يكون الطلاق رجعياً، وإما أن يكون الطلاق بائناً، فإن كان الطلاق رجعياً، فهذا (1) يمنع حصول العَوْد، فإذا لم يحصل العود، لم يلتزم الكفارة أصلاً، فإن راجعها وأمسكها صار عائداً، واختلف أصحابنا في أنه هل يصير بنفس [الرجعة] (2) أم بالإمساك بعدها؟ وهذا مما قدمنا ذكره، وظاهر النص يدل على أن نفس الرجعة عوْدٌ، وهو القياس؛ فإن العود مخالفةٌ [لمقتضى] (3) الظهار، وإذا كان إمساك ساعة مناقضاً للظهار، فالرجعة أولى بأن تكون مناقضة للظهار. ومن فوائد (4) الوجهين أنا إن جعلنا نفسَ الرجعة عوْداً، فلو راجعها، ثم طلقها على الاتصال بالرجعة، فقد استقرت الكفارة بالظهار والعوْد وهو الرجعة، ولا أثر للطلاق بعد ذلك، وإن لم نجعل نفسَ الرجعة عوداً، فلو طلقها عقيب الرجعة، فهو غيرُ عائد، والكفارة غيرُ لازمة، هذا إذا كان الطلاق رجعياً. فأما إذا كان الطلاق بائناً، أو كان رجعيّاً فتركها حتى انسرحت بانقضاء العدة، فإذا جدّد النكاح عليها، فقد قال الأصحاب أولاً: هل يعود موجَب الظهار في النكاح الثاني على ما نفصله؟ قالوا: هذا يبتني على عَوْد الحنث، وفيه قولان منسوبان إلى الجديد والقديم، ثم بنَوْا عليه أنا إذا قلنا بعوْد الحنث، فالنكاح كالرجعة، فإن أمسك بعد النكاح، فقد عاد، ولزمت الكفارة الآن، وهل يكون نفس النكاح عوداً؟ فعلى

_ (1) لا يصح أن يفهم من هذا أن الطلاق الرجعي وحده هو الذي يمنع العود، بل البائن من باب أولى، كما سيأتي تفصيله. (2) في الأصل: الرجعية. (3) في الأصل: يقتضي. (4) المراد بفوائد الوجهين ما يعبّر بأثر الخلاف، أي ما يترتب على الفرق بين الوجهين، وقد ظهر هذا في المثالين الآتيين.

وجهين وقد قدمنا ذكرهما، ورتبناهما على الوجهين في الرجعة. هذا إذا رأينا عوْد الحنث. وإن قلنا: لا يعود فكما (1) بانت انقطع الظهار وزال أثره، فلا تحرم في النكاح الثاني ولا تلزم الكفارة. 9543 - وقد أرسل معظمُ الأصحاب ذكر القولين، ولم يعتنوا بالتعرّض للكشف، ونحن نذكر سؤالاً ينصّ على إشكال المسألة، ثم نخوض في الجواب بعدها. فإن قال قائل: إذا ظاهر عن امرأته، ثم أبانها، هلاّ قلتم: إنه بالإبانة حقق التحريم الجاهلي، ووفّى بما كانوا يَرَوْنَه ويعتقدونه، وليس كالطلاق الرجعي؛ فإنه من خواص الإسلام، ولم يعهد رجعة في الجاهلية على سبيل القهر، فإذا حقق معهودَ الجاهلية، فينبغي أن يكون هذا وفاءً بمقتضى اللفظ، ومن وفّى بمقتضى اللفظ، استحال أن يكون مخالفاً لها ناقضاً (2) لمعناها (3)؛ هذا وجه. وإن جُعل الظهار مقتضياً تحريماً مسترسلاً على الأزمان، وقيل الظهار علّة (4) الكفارة، [وللعلة] (5) شرطٌ، وهو العَوْد، فإن اتصل العود، فقد وُجدت العلةُ وشرطها، [فوجبت] (6) الكفارة، وإن ظاهر وكما (7) ظاهر أبان، ثم نكح بعد طول الزمان، فهذا النكاح مناقض للظهار الذي مقتضاه التحريم المسترسل، ومهما (8) وجدت العلّة وتخلف عنها شرطها، فإذا وجد الشرط، وجب ثبوت الحكم المعلول،

_ (1) فكما: بمعنى عندما. (2) (ت 2): مناقضاً. (3) وعود الضمير مؤنثاً هنا إما أن يكون على تقدير تأنيث (اللفظ) بمعنى (الكلمة أو اللفظة) أو عائد على (الجاهلية) فالمناقضة لمعناها في الظهار. (4) (ت 2): محلّه. (5) في النسختين: والعلة. (6) في الأصل: من حيث الكفارة. وهو من عجائب التصحيف، حيث جعل الكلمة الواحدة (فوجبت) كلمتين (من حيث). (7) وكما ظاهر: بمعنى عندما ظاهر. (8) ومهما: بمعنى إذا.

فهذا (1) المسلك لو صحّ، لوجب القطع بأن الكفارة تجب بالنكاح الثاني، ولا يخرّج (2) هذا على اختلاف القول في عَوْد الحنث. والذي يعضد هذا السبيل أن خاصّية النكاح في هذه الأبواب طلب (3) الطلاق أو الطلاق نفسه، كما يفرض (4) في تعليق الطلاق مع تخلل البينونة، أما لزوم الكفارة، فليس من خواص النكاح، فحاصل السؤال بعد هذا البسط (5) أنا إن جعلنا البينونة وفاءً بتحريم الظهار، فليقع الاكتفاء بها، حتى لا نَفْرِضَ عوداً أو لزوم كفارة، ولتقع البينونة مع الظهار موقع البرّ من اليمين. وإن لم يكن الأمر كذلك، ورأينا التحريم مسترسلاً على الأزمان، فينبغي أن يتحقق العود في النكاح الثاني قولاً واحداً، كيف فرض الأمر، كما قلنا إنه لو ظاهر وعاد، فالتحريم مسترسل على كل نكاح من غير بناء على عود الحنث. 9544 - هذا حاصل السؤال ونحن نقول: أما الطرف الأول من السؤال وهو إحلال البينونة محل البرّ في اليمين، فلا أصل له من وجهين: أحدهما - أنه لو كان كذلك، لكان إذا ظاهر، ثم طلق طلاقاً رجعياً، يُجعل عائداً لقدرته على الإبانة (6)، وآية ذلك أن الرجعية إذا انسرحت، فالبينونة تحصل مع انقضاء العدة غيرَ (7) مستندة، فالذي يطلق طلاقاً رجعياً مؤخرٌ للبينونة قطعاً.

_ (1) (ت 2): وهذا المسلك أوضح لوجوب القطع فإن الكفارة. (2) (ت 2): ولا يخرُج هذا عن اختلاف. (3) لعل المعنى أن من خواص النكاح جواز الطلاق، فلا طلاق إذا لم يكن نكاح. (4) (ت 2): كما يعرض في تعليق الطلاق تقع البينونة. (5) (ت 2): الشرط. (6) لقدرته على الإبانة: يعني بالطلاق الثلاث المبين، فهو بتطليقه طلاقاً رجعياً مؤخرٌ للبينونة، فهو إذاً ممسك: أي عائد، فهذا اعتراض على من جعل البينونة في الظهار كالبرّ في اليمين، أي تقطع آثار الظهار، فلا تعود في النكاح الثاني. (7) (ت 2): غير مستقل. ثم معنى غير مستندة، أن البينونة لا تحصل إلا مع انقضاء العدة، ولا نحكم بأنها حصلت مع أول لحظة بعد الطلاق مستندةً إلى نيته الجازمة في عدم الرجعة مثلاً. فلا بينونة إلا مع انقضاء العدة.

هذا وجهٌ في الرد على هذا الطرف. وأما الوجه الثاني - فهو أنا لم نتعبد بتحقيق التحريم ومطابقة الجاهلية، فلا ينبغي أن يكون ذلك مظنونَ فقيهٍ، ولو كان من غرض الشرع تحقيقُ الفراق، لأدام حكم الجاهلية في أن الظهار طلاق. بقي الطرف الآخر، وهو سؤال السائل في أن الكفارة ينبغي أن تُلْتزم في النكاح الثاني قولاً واحداً، وهذا موضع التوقف، ولكن تحريم الظهار وثبوت الكفارة من خصائص النكاح؛ إذ لا يفرض [الظهار] (1) في مملوكة، وإن كان تحريم عين (2) المملوكة في إيجاب كفارة اليمين كتحريم عين المنكوحة، فإذا استدعى ابتداءُ الظهار نكاحاً، يجوز أن يستدعي العودُ النكاحَ الذي جرى الظهار فيه؛ فإن الظهار مع اقتضائه -من حيث الصيغة- التحريمَ اختص بالنكاح دون ملك اليمين، وإن كانت المملوكة تُسْتَحَلُّ وتَحْرُم بأسباب، وتَحْرُم التحريمَ المقتضي للكفارة، فيجوز أن يتقيد مُطلَقُه بالنكاح الذي جرى فيه، كما (3) أن قول القائل لامرأته: "إن دخلت الدار، فأنت طالق"، فهذا من جهة الصيغة مسترسل؛ فإذا ارتفع النكاح وبقي الطلاق المعلق، فإن المرأة تعود ببقية الطلاق، ومع هذا جرى قولا عوْد الحنث، فكذلك أجرَوْا حكم العود ولزوم الكفارة على قولَيْ عوْد الحنث. وإنما ينتظم الكلام بذكر مراتب لا بد من التنبّه لها: المرتبة الأولى لتعليق الطلاق - فإنه يُعلِّق ما يملكه في ذلك النكاح، فإذا انبتَّ ذلك النكاح، ثم فُرض عودٌ، جرى قولا عَوْد الحنث في أوانهما حقَّ الجريان. والمرتبة الثانية -للإيلاء- فإنه يمين لا يستدعي نكاحاً، ولكن لما تعلّق به طلب الطلاق، انتظم فيه عَوْدُ الحنث والتخريجُ على القولين، ولعل الأظهر العودُ. والظهار ليس طلاقاً ولا يُفضي إلى طلب طلاق، ولكنه تحريم يختص بالنكاح،

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) (ت 2): غير. (3) (ت 2): كما حكمنا أن قول القائل.

ولا يجري ابتداءً إلا فيه، فلا يبعد تختلُ اختصاصِه بجميع آثاره بالنكاح الذي جرى فيه. ويخرج على هذا المنتهى أن ما ذكرناه فيه إذا لم يتم الموجَب بالعود، فأما إذا تم [واستقرت] (1) الكفارة، فلا مدفع لها بعد استقرارها، ثم ينبني على قرارها أن التحريم لا يزول إلا بإبراء الذمة عن الكفارة، وهذا يُخرَّج على الالتفات على النكاح. فإن قال قائل: يحل وطء هذه بملك اليمين، فلست أنكر أن هذا التفاتٌ منه على جنس النكاح على بُعد، ويَرِدُ عليه زوال التحريم وإن بقيت الكفارة بزوال النكاح الأول، ولا ينبغي أن تُشَوَّشَ القواعدُ (2) بالتفريع على الوجوه البعيدة. 9545 - هذا حاصل القول في عود الحنث، ولا يبقى فيه شيء إلا سؤال وجواب عنه: فإن قال قائل: من آلى عن امرأة، ثم أبانها قبل الفيئة، ثم نكحها، فإنه يلتزم بوطئها كفارةَ اليمين، وإن قلنا: إن الحنث لا يعود، فهلا قلتم: كفارة الظهار تجب في النكاح الثاني على هذا القياس؟ قلنا: لزوم كفارة اليمين لا اختصاص له بالنكاح؛ فإنه يجرى في ملك اليمين، بل في السفاح، وأما كفارة الظهار، فإنها تختص بالنكاح اختصاصَ تحريم الظهار، بل التحريمُ والكفارة مقترنان اقتران ارتباط. هذا منتهى الكلام في ذلك. 9546 - وقد يجري في نفس الفقيه الذي يطلب الغايات أن الظهار بنفسه هل يُحرِّم الوطء حتى يقال: إذا حرمنا المسّ، فلو ظاهر ومس في الزمن الذي يفرض [الإمساك] (3) فيه، فيحرم المس قبل تحقق العود، أم يقال: إنما يثبت ابتداء التحريم إذا وجبت الكفارة؟ هذا سأذكره موضحاً في فصل تأقيت الظهار، وإنما أخرته لغرض يتبين، إن شاء الله.

_ (1) في الأصل، وفي (ت 2): استقرت. (والواو زيادة من المحقق). (2) (ت 2): العوائد. (3) في النسختين: الإنسان. والمثبت تصرّف من المحقق. ثم المراد بزمان الإمساك اللحظة التي يمسكها فيها بعد الظهار قبل تحقق العود.

واختيار المزني أن الحنث لا يعود، وطردَ اختياره في الظهار، وهذا يقوّي نظرَ الفقيه في إجراء العود هاهنا. فصل قال: "ولو تظاهر منها، ثم لاعنها مكانه، بلا فصل ... إلى آخره" (1). 9547 - التفريع على ما هو المذهب، وهو أنه إذا ظاهر وأمسكها في زمان يتأتى فيه الطلاق؛ فإنه يصير عائداً ملتزماً للكفارة، فلو ظاهر عنها، ثم أراد اللعان متصلاً، فكيف السبيل فيه؟ ظاهر النص أنه يسقط حكم الظهار، ولا يكون عائداً. وهذا كلام مبهم في تصويره، فاختلف أصحابنا فيما يمنع مصيرَه (2) عائداً، فمنهم من قال: إذا ظاهر، ثم قذف على الاتصال، واشتغل (3) بالمرافعة إلى الحاكم، وتهيئةِ أسباب اللعان، فلا يصير عائداً، حتى لو تظاهر عنها، ثم قذفها على الفور، ولم يؤخر الاشتغال بأسباب اللعان، فليس عائداً، وإن بقي في ذلك إلى حصول الغرض أياماً؛ لأن هذا اشتغال بأسباب الفرقة، فَحَلَّ محلَّ الاشتغال بنفس الفرقة. ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة تصور فيه (4) إذا قدّم القذف وحصل الترافع، وتجمعت الأسباب، ولم يبق إلا إنشاء كلماتِ اللعان، فإذا قدم عليها الظهارَ، وعقَّبه بإنشاء اللعان، فهو غير عائد، وإن لم تكن كذلك، فهو عائد. ومن أصحابنا من قال: ينبغي أن يقدم كلماتِ اللعان حتى لا تبقى منها إلا كلمة اللعن؛ فإذا ظاهر، ثم أتى بكلمة اللعن، لم يكن عائداً. وهذا سرفٌ ومجاوزة حدٍّ، ولكنه اختيار ابن الحداد، ووجهه على بعده أن كل كلمة من كلمات اللعان مستقلة بإفادة معنى، ولا تستعقب واحدةٌ منها الفراق، وإنما يحصل ترك العوْد بتعقيب الظهار بكلمةٍ أو كلمات يقترن بإفادتها المعنى حصولٌ الفراق.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 125. (2) (ت 2): تصيّر. (3) (ت 2): واستقل بالمواقعة. (4) في الأصل: تصدر، و (ت 2): تصوم إذا قدم القاذف.

ثم خالفه معظمُ الأصحاب وألزموه أموراً ما أُراها مسلّمة على قياسه، وذلك أنه قيل له: لو قال المظاهر: يا زينب أنت طالق، فهذا ليس بعائد، وكان من الممكن أن يقول: طلقتك، ولا يزيد عليه، ويجوز أن يقال: إذا قال: يا زينب، فهذا اشتغال منه بما لا يَعْنيه، فيقع هذا ممنوعاً على رأي ابن الحداد. ويجوز أن يقال: المرعيُّ مقصود الكلام، وقول القائل: يا زينب أنت طالق، مقصوده التطليق، ولا تستقل كلمة مما ذكره بإفادة معنى مستقل، وللأول أن يقول: قوله: يا زينب كلام مفيدٌ، وقد عدّه النحاة جملةً مستقلة مركبةً من اسم [وحرف] (1) ينوب مناب فعلٍ، والكلامُ المفيد مبتدأ وخبر، واسم وفعل، والأظهر التسليم [بالفرق] (2). 9548 - ومما يتصل بذلك أن الزوج إذا اشترى زوجته [المملوكة] (3) -والتفريع على أنه لا يصير عائداً- فقد ادعى الأصحاب على ابن الحداد أنه جعل الاشتغال بأسباب الشراء (4) مانعاً من العود، كقوله اشتريت، فهذا ما لا أشك في كونه ممنوعاً على رأيه. وإنما النظر على الطريقة الأخرى، فإذا ظاهر، وكان الشراء ممكناً متيسّراً، فأقبل على تحصيله، ولم يقصّر، فيجوز أن يقال: من ذهب إلى أن القذف والاشتغال بأسباب اللعان يمنع من العَوْد، فالاشتغال بأسباب الشراء المتيسر هكذا يجري. ومن صار إلى أن القذف والمرافعة وغيرهما من الأسباب إلى النطق بكَلِم (5) اللعان حقُّها أن تتقدم، فلا يجعل الاشتغال بأسباب الشراء مانعاً. فأما إذا كان الشراء متعذراً، فالاشتغال بتسهيله لا ينافي العود عندي. والعلم عند الله.

_ (1) (ت 2): وحرف ينوب ثبات فعل الكلام المفيد. وفي الأصل: وصوت ... (2) في النسختين: التسليم والفرق. (3) غير مقروء في الأصل. (4) (ت 2): جعل الاشتغال بلسان الشرع. (5) (ت 2): بحكم اللعان.

9549 - وفرّع الأصحاب على مضمون الفصل، فقالوا: إذا ظاهر عن امرأته، ثم قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فهذا عائدٌ؛ لأنه أخر الطلاق مع الاستمكان من تنجيزه، فلو كان قال أولاً: إن دخلتُ أنا الدار، فأنت طالق، ثم ظاهر وعقّب الظهار بالاشتغال بالدخول، فهو بمثابة الاشتغال بالشراء المتيسر، وقد قدمنا الفصل فيه. فصل قال: "ولو تظهر منها يوماً، فلم يصبها ... إلى آخره" (1). 9550 - مضمون الفصل الكلام في الظهار المؤقت، فإذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي خمسةَ أشهر مثلاً، أو يوماً، ففي انعقاد الظهار قولان مأخوذان من قاعدة المعنى واتباع معهود الجاهلية، فمن اتبع المعهود أبطل الظهار المؤقت، ومن تمسك بالمعنى، فقد أثبت للظهار المؤقت حكماً على تردُّدٍ، سيبين في التفريع. والأوْلى أن نقول: لا ظهار على القديم، تعلّقاً بالاتباع، وفي الجديد قولان: أحدهما -البطلان أيضاًً. والثاني - الثبوت، وهذا يقرب من التردّد في أن الغالب على الظهار معنى الطلاق أو شوْب الإيلاء، ولا يكاد يخفى وجه التلقي. فإن ألغينا اللفظ، فلا كلام، وإن صححناه، ولم نُلغه، فالظهار يثبت مؤقتاً أم يتأبد؟ فعلى وجهين منطبقين على تغليب الطلاق والإيلاء، فإن غلبنا الطلاق، كان الظهار المؤقت كالطلاق المؤقت، فيتأبد، وينحذف (2) ذكر الوقت عنه. وإن غلبنا مشابهة الأيمان، [يبقى] (3) التأقيت؛ فإن اليمين إذا خصت بزمان، اختصت به، فليكن الظهار كذلك.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 126. (2) (ت 2): ومجرد ذكر المؤقت عنه. (3) في النسختين: يُنفى.

فإن قلنا: يتأبّد اللفظ المؤقت، فالعود فيه كالعوْد في الظهار المطلق على ما سبق تفصيله (1). وإن قلنا: يثبت الظهار مؤقتاً، فالعود فيه على وجهين: أحدهما - أن العود فيه كالعود في الظهار المطلق، فإذا ظاهر، ثم سكت ساعةً -وإن قلّت- فهو عائد ملتزمٌ للكفارة، هذا أحد الوجهين. والثاني - أن العود في الظهار المؤقت هو الوطء، وإن كنا نقول: العود في الظهار المطلق يحصل بإمساك ساعة تَسَعُ الطلاقَ. توجيه الوجذهين: من قال: يحصل العودُ بالإمساك في لحظةٍ، جعل الظهار المؤقت كالظهار المؤبد. ومن نصر الوجه الثاني -وهو ظاهر النص (2) - احتج بأن قال: التحريم في الظهار المؤبد متعلق بجميع الأزمان، أخذاً من صيغة اللفظ، فإذا وُجد الإمساك في لحظة، فقد ناقض التحريم الذي اقتضاه الظهار، وإن كان الظهار مؤقتاً، فعقبه الإمساكَ، والسكوتَ في لحظة، اتجه في ذلك أنه يُمسكها لينتفع بها وراء المدة (3) ولا ظهار وراءها، فلا يتجرد الإمساك للمناقضة، والوطء إيقاع المخالفة وتحقيق المضادّة؛ فإنه ليس كما يرتبط بما سيكون. هذا بيان الوجهين في العود، وسنعود إليهما بمزيد إيضاح مفرعين. 9551 - فإن قلنا يثبت الظهار المؤقت، وقد جرى العوْد على الخلاف المقدم، فالواجب على المذهب الظاهر كفارةُ الظهار، وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا تجب إلاّ كفارة اليمين، وكأنّ لفظ الظهار ينزل منزلة لفظ التحريم، وقد قال علماؤنا: إذا صححنا الظهار مؤقتاً، فلو قال لامرأته: حرمتك -وقصد تحريم العين الموجب

_ (1) في نسخة (ت 2) سقط لعدة أسطر، فعبارتها هكذا: فالعود فيه كالعود في الظهار المطلق يحصل بإمساك ساعة تسع الطلاق ... إلخ. (2) (ت 2): المذهب. (3) (ت 2): من المدة.

لكفارة اليمين- وأقّت التحريم بوقتٍ، فالأصح صحةُ التحريم، فإنه أشبه باليمين من الظهار؛ من جهة أن موجبه موجب الحنث في اليمين. وخرَّج الأصحابُ وجهاً آخر في إلغاء التحريم وإبطاله رأساً؛ لأنه ورد في الشرع مطلقاً، كما أن الظهار ورد مطلقاً. ومما نفرعه في الظهار المؤقت أنه إذا ذكر أَمَداً وحكمنا بأن الوقت يثبت، فلو طلق عقيب الظهار، فهو غير عائد (1)، وإن راجع، نُظر: فإن جرت المراجعة في المدة، عاد خلافُ الأصحاب في أن الرجعة بنفسها هل تكون عَوْداً، وهذا تفريع على أنا لا نشترط الوطء في العود، ولو تركها حتى انقضت المدّة ثم راجعها، فليس عائداً، وقد تصرم الظهار بانقضاء الوقت، ولم يبق له حكمٌ. 9552 - ومما يتعلق بتفريع الظهار المؤقت أنه لو قال: أنت عليّ كظهر أمي خمسةَ أشهر، ثم تركها وولّى، حتى مضت أربعة أشهر، قال الأئمة: إن قلنا: إن العود هو الإمساك، فلا نجعله مولياًً؛ فإن الكفارة لا يتعلق وجوبها بالوطء وإن قلنا: العود في الظهار المؤقت الوطء، فهذا شخص يلتزم بالوقاع -الكفارة- بعد أربعة أشهر أمراً بسبب أنشأه في النكاح، وهذا حقيقة المولي ونصه (2). وكان شيخي يقول: لا نجعله مولياًً، فإنه ليس حالفاً، وقد ذكرت تفصيل ذلك فيه إذا حرمها، ثم انقضى أربعة أشهر، وفرعنا على وجه ضعيف في أن الكفارة في التحريم لا تجب قبل الوطء وإنما تجب عند الوطء، فهل نجعله مولياًً مطالَباً إذا مضت أربعة أشهر؟ فعلى تردّدٍ وخلافٍ قدمته في فصل التحريم من هذا الكتاب. 9553 - ومن أهم ما يجب دَرْكُه -وقد أخّرتُه من صدر باب العود إلى هذا الفصل- الكلامُ في أن نفس الظهار هل (3) يحرِّم أم يثبت التحريم بالظهار بالعود؟

_ (1) (ت 2): فهو عائد. (2) (ت 2): ونفيه. (3) عبارة (ت 2) في غاية الاضطراب، فقد جاءت هكذا: "هل يحرّمان لا يثبت التحريم بالظهار والعود، فلا شك في تحريم الوطء والكلام في الظهار ... إلخ" فهذا سقط مع الاضطراب.

فنقول أولاً: إذا حصل الظهار والعودُ، فلا شك في تحريم الوطء، والكلامُ في الظهار المُطلق، وذلك لأن الظهار والعودَ يوجبان الكفارة، ونصُّ القرآن ناطقٌ بامتداد التحريم بعد وجوب الكفارة إلى التخلي منها، والخروج عن عهدتها، قال الله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فأوجب تقديم التكفير على المماسّة، فكان ذلك نصّاً فيما ذكرناه. فإن فرعنا على أن الظهار يحرّم اللمسَ تحريمَه الجماعَ -وإنما (1) اخترنا التفريع على هذا القول ليسهل تصوير اللمس في اللحظة (2) الخفيفة والساعةِ المختلسةِ، ثم إذا ظهر أثر قولنا في اللمس تفريعاً على تحريمه- اتّسق الحكم نفياً وإثباتاً في الوطء. [والظاهر] (3) عندي أن الظهار بمفرده لا يُحرِّم، وإنما يحصل التحريم إذا لزمت الكفارة؛ فإن التحريم مرتب على وجوب الكفارة، والخروجُ منه مرتب على أداء الكفارة، وهذه الكفارة تجري على الضد من كفارة اليمين، فإن الحنث فيها يوجب الكفارة، ووجوب الكفارة في هذا الباب يقدُم التحريمَ، هذا، والدّليل (4) عليه أن الظهار لو كان يحرّم بعينه، لحرَّم الإمساك، ولأوجب الطلاق، فلما لم يكن الأمر كذلك، وجاز الإمساك، تبين بهذا ما ذكرناه، والدليل عليه أن إمساك ساعة مناقض للظهار، ولهذا كان عوداً، فدل أن مُناقِضَه لا يَحْرُم به، فهذا ما أراه. وإذا فرعنا [على] (5) الظهار المؤقت، ورأينا العود فيه بالوقاع -على ما سنشرح ذلك على أثر هذا شرحاً واضحاً -إن شاء الله تعالى- فالوطء الذي هو العودُ يجب ألا يَحْرُم، ويكون حصولُ الوطء بمثابة حصوله والطلاقُ (6) الثلاث معلّق عليه، وقد

_ (1) (ت 2): فلما اخترنا. (2) (ت 2): في الحقيقة. (3) في الأصل كما في (ت 2): الظاهر (بدون واو). (4) (ت 2): والتعليل. (5) زيادة من المحقق. (6) والطلاق الثلاث معلق عليه: الواو واو الحال، والمعنى أن حصول الوطء هنا يشبه حصول الوطء فيما إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاً.

حكينا عن بعض الأصحاب أن من قال لامرأته: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً لا يحل له التغييب، ولا شك أن هذا الوجه يُخَرَّج هاهنا. 9554 - ثم تمام البيان في ذلك يتعلق بشرح العَوْد في الظهار المؤقت: قال الصيدلاني: إذا جعلنا العود بالوقاع، فليس معناه أنه عين (1) العود، ولكن إذا حصل الوطء، تبينا (2) أن العود حصل بالإمساك في لحظةٍ عقيب كلمة الظهار، ولكنا لا نتبين هذا إلا بالوقاع. وبيان ذلك أنا لم نجعل الإمساك عوداً -على هذا الوجه الذي نفرع عليه- لجواز أن يكون الإمساك للاستحلال بعد مدة الظهار، فإذا حصل الوطء في المدة، تبين أن الإمساك مصروف إلى الاستمتاع الذي وقع. وهذا فقيه حسن، واتجاهه من طريق المعنى ما ذكرناه، وانتظامه في ترتيب المذهب أن الشافعي في الجديد لا يجعل عين الوقاع عوداً، مع علمه بأن الظهار والعود في نص القرآن مقدّمان على الوطء والتماسّ، فإنْ نصَّ الشافعيُّ رحمه الله على الجماع نتبين أنه شرطه ليتسنَّى صرفُ الإمساك إليه لا لعينه. وذكر غيرُ الصيدلاني أن الوقاع في عينه هو العود على هذا القول، ولا نتبين حصول العود قبله؛ فإن الممسك قد يضمر بإمساكه الاستحلال وراء المدة، ثم يتفق الوقاع، فلا معنى للمصير إلى أن الوقاع ينعطف على تعيين الإمساك للاستمتاع، ونحن من طريق الحس نجد الرجل يمسك ولا يُضمر غرضاً، وإنما نجعل العود في الظهار المؤقت جماعاً لضعف الظهار، وإذا ضعف، افتقر إلى عودٍ قوي. فإذا تبين هذا، أعدنا فصلَ التحليل، وقلنا: إن كنا (3) نجعل عين الوطء عوداً من غير تقدير انعطافٍ وتبيُّنٍ، فالوجه ما ذكرناه من أن الوطأة الأولى لا تحرم. وإن سلكنا مسلك الصيدلاني في أنا نتبين بالوطء حصول العود بالإمساك المعقب

_ (1) (ت 2): غير العود. (2) (ت 2): يثبت. (3) (ت 2): إن كان يحصل عن.

[للظهار] (1)؛ فعلى هذا لا نطلق القول بتحليل الوطء؛ فإنا نتبين أن العود سابق عليه. ولو قال الرجل لامرأته: إذا وطئتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، فالإقدام على الوطء محرَّمٌ؛ فإنه لا يقع إلا بعد وقوع الطلاق. وعنينا بالوطء التغييب، فأما ما دون ذلك فليس بوطء. وقد نجز غرضنا في بيان الظهار المؤقت. ...

_ (1) في الأصل: بالظهار، وساقطة من (ت 2)، والمثبت من المحقق.

باب عتق المؤمنة في الظهار

باب عتق المؤمنة في الظهار 9555 - إيمانُ الرقبة المعتَقة شرطٌ في جملة الكفارات، فلا تُجزىء رقبةٌ كافرة في كفارة. 9556 - ولو نذر إعتاقَ رقبة، فإن عيَّن عبداً كافراً والتزم إعتاقه، جاز، وكذلك لو كان معيباً، فعيّن إعتاقَه في التزامه، جاز ولزمه الوفاء بنذره. ولو أطلق ذكر عبدٍ، فقال: لله عليّ أن أعتق عبداً، فهل يخْرُج عن موجب نذره بإعتاق رقبة كافرة، أو معيبةٍ بعيب يمنع من الإجزاء في الكفارة؟ في المسألة قولان مبنيان على أن مطلق [النذر] (1) يحمل على أقل إيجاب الله تعالى، أو على أقل ما يتقرب به إلى الله تعالى. فإن حملناه على أقل درجات الإيجاب، لم يُجزىء الكافر والمعيب، وإن حملناه على أقل درجات التقرب إلى الله تعالى أجزأ؛ فإن التقرب إلى الله بإعتاق الكافر والمعيب سائغ، وعلى هذا الأصل تخرج مسائلُ ستأتي مشروحةً في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى. 9557 - فإن قيل: لو نذر لله تعالى صوماً، فماذا يلزمه؟ قلنا: يلزمه صوم يوم. فإن قيل: أقل وظيفة واجبة من الصيام في الشرع ثلاثة أيام، وهي كفارة اليمين، قلنا: كل يوم منه فرضٌ على حياله، والأيام الثلاثة تناظر ثلاثَ رقاب. وخالف أبوحنيفة (2)، فلم يشترط الإيمان في شيء من الرقاب المعتقةِ في الكفارات إلا كفارةَ القتل، والمسألة مشهورة.

_ (1) غير مقروءة في الأصل، وقد تقرأ (النية). والمثبت من (ت 2). (2) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 493 مسألة 1033، المبسوط: 7/ 2.

9558 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كانت أعجمية وصفت الإسلام ... إلى آخره" (1). العبد الأعجمي إذا وصف الإسلام بلسان العرب، وعلمنا أنه كان يعلم معناه، فهو كالعربي، وإن كان لا يعلم معناه، فلا حكم لما صدر منه. ثم ذكر الأصحاب بعد هذا تقسيمَ الإسلام وما يحصل الايمان به، وقسّموه إلى ما يحصُل إنشاءً وابتداء، وإلى ما يحصُل تبعاً. والقول في جهات التبعيةِ، وفي الإسلام الحاصلِ به، والأحكام المتعلقة بذلك الإسلامِ مستقصىً في كتاب اللقيط على أحسن وجه وأبلغِه في البيان، فيه نصصنا على إعتاق الطفل المحكوم له بالإسلام تبعاً عن الكفارة، ثم ذكرنا إعرابه عن نفسه بالكفر بعد البلوغ، والتفصيل فيه، فلا نعيد هذا الفن. والقسم الثاني هو الإسلام الحاصل إنشاء، أما العَقْدُ، فلا مطَلعَ عليه، وإنما يعرفه خالق الخلق، وكلامنا يتعلق بالظاهر، فنتكلم فيمن يُسلم وفيما هو الإسلام. فأما المكلف، فيصح إسلامه ابتداء إذا اختار الإسلام، فإن اكره عليه وكان حربياً، فكذلك نحكم بإسلامه، والذّمّي إذا اكره، فأسلم، ففي المسألة وجهان. وأما المجنون فلا عبارة له، والصبي لا يصح منه إسلامه بنفسه على ظاهر المذهب، وذكرت فيه خلاف الأصحاب من وجوهٍ في كتاب اللقيط، فلا أعيده. 9559 - والذي أخّرناه إلى هذا الكتاب [الكلامُ] (2) فيما يصح الإسلام به: لا خلاف أنا لا نشترط أن [يُعرب] (3) من يحاول الإسلام عن جميع قواعد العقائد؛ حتى لا يغادر منها قاعدةً. فالأصل الذي اعتمده الشرع وهو من أبدع البدائع، وأعجب الأمور، وقد ذهل

_ (1) ر. المختصر: 4/ 128. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "يعرف".

عنها معظم العلماء (1) الإتيانُ بالشهادتين، وهما على التحقيق يحويان القواعدَ جُمَع؛ [إذ] (2) في التوحيد الاعتراف بالإله والوحدانية، وفيه التعرض لصفات الإلهية وتفويض الأمور إلى من لا إله غيره. والشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم تصدّقه في جميع ما أتى به. وعن هذا قال عليه السلام لما سأله جبريل عليه السلام -في الحديث المعروف- عن الإسلام، فقال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" (3). ثم إذا تبين وظهر إشارة الشرع إلى الشهادتين، فللأصحاب طريقان في المسألة: منهم من قال: لا يحصل الإسلام إلا بالشهادتين، ورأى ذلك باباً من التعبد؛ حتى قال (4). المعطِّلُ (5) إذا قال: لا إله إلا الله، لا نحكم بإسلامه ما لم يقل: محمد رسول الله. وقال المحققون: [من أتى بالشهادتين بما يخالف عقده] (6) حُكم له بالإسلام،

_ (1) (ت 2): الأئمة. (2) في الأصل: إن. وساقطة من (ت 2). (3) حديث جبريل عن الإسلام متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله، حديث رقم 5). (4) حتى قال: القائل هو فريق من الأصحاب، الذي قال عنه آنفاً: ومنهم من رأى ذلك باباً من التعبد حتى قال. (5) المعطّلُ: مبتدأ، وليس فاعلاً لـ (قال) كما ذكرنا فيما قبله. ثم المعطِّل هنا ليس المعتزلي، فحاشا الإمام أن يكفّر المعتزلة، والشائع في الاستعمال على الألسنة أن المعتزلة يسمون المعطِّلة. ولكن المعطل هنا هو الكافر الذي لا يثبت الباري سبحانه وتعالى، كذا قاله شارح المقاصد عند تقسيمه أنواع الكفر والكافرين، فقال: إن أظهر الإيمان فهو المنافق، وإن أظهر الكفر بعد الإيمان فهو المرتد، وإن قال بالشريك في الألوهية فهو المشرك، وإن ذهب إلى قدم الدهر واستناد الحوادث إليه، فهو الدهري، وإن كان لا يثبت الباري، فهو المعطل ... إلخ (ر. كشاف اصطلاحات الفنون/مادة ك. ف. ر) فهذا هو المعطل الذي يقصده الإمام هنا. وفيما سبق عند حديثه عن أقسام الكفار، في باب نكاح حرائر أهل الكتاب. (6) عبارة الأصل مضطربة، فقد جاءت هكذا: "وقال المحققون: في أتى من الشهادتين بما يخالف عقده" ... إلخ والمثبت من (ت 2).

فإذا قال المعطل: لا إله إلا الله، صار مسلماً (1)، وعرض عليه شهادة النبوة، فإن أتى بها، وإلا كان مرتداً، وكذلك إذا قال الثنوي بإثبات الإله، فليس بمسلم (2)، فإن وَحّد، حُكم له بالإسلام. وإذ قال اليهودي أو النصراني: محمد رسول الله، حكم بإسلامه (3) وإن لم يوحّد؛ فإن النصراني يثلث، واليهودي يقول العزير ابن الله. وحاصل هذه الطريقة أن من أتى من الشهادتين بما يوافق ملّته، فلا يصير مسلماً، ومن أتى من الشهادتين بما يخالف ملّته، حكم له بالإسلام، وإن لم يأت بالشهادتين جميعاًً. وهذا هو الذي قطع به معظم المحققين من الأصحاب ثم قالوا: في الناس من يعترف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يزعم أنه مبعوث إلى الأمة الأمّية، وهم العرب، فلا يقع الاكتفاء منهم بأن يقولوا محمد رسول الله. 9560 - ونحن نفرع على الطريقتين: أما الطريقة الأخيرة، فإنا نقول عليها: لو اعترف يهودي أو نصراني بصلاة من الصلوات على موافقة ملتنا، أو بحكمٍ من الأحكام يختص بشريعتنا، [فهل] (4) نحكم بإسلامه؟ فيه اختلاف: فمنهم من قال: ينبغي أن يكون ما يعترف به من الشهادتين، والذي إليه ميل المعظم من أهل التحقيق أن هذا إسلام. وضبط القاضي (5) هذا: بأن قال: كل ما إذا أنكره المسلم قيل: كفر لمّا جحده،

_ (1) لأنه أتى بما يخالف عقيدته، فأثبت الألوهية والوحدانية لله سبحانه بقوله: (لا إله إلا الله)، والمعطل أصلاً لا يثبت الباري سبحانه. (2) ليس الثنوي بمسلم إذا أثبت الإله، لأنه لم يأت بما يخالف عقيدته، فهو يثبت الألوهية الثنوية المعروفة من عقيدته، فهو يثبت إلهين: إله للخير إله للشر. (3) لأن هذا خلاف عقيدة اليهودي والنصراني. (4) في الأصل: فهذا. والمثبت من (ت 2). (5) القاضي: هل هو القاضي الباقلاني أبو بكر، فحيث أطلق إمام الحرمين (القاضي) في علم الكلام وعلم الأصول، فإياه يعني، والمسألة هنا من مسائل علم الكلام؟ أم هو القاضي الحسين، فهو المعني عند إطلاقه في مجال الفقه، وإياه يعني على طول هذا الكتاب؟ نستعير من الإمام قوله: (المسألة محتملة). ولكن صرح الإمام الرافعي بأنه القاضي حسين، حينما حكى كلام الإمام هذا في كتابه. (ر. الشرح الكبير: 9/ 299).

فما يكفر بجحده يصير الكافر المخالف به مؤمناً بعقده. ثم التصديق لا يتبعض، فإن صدق وراء ذلك بالجميع، فهو وافٍ بعقده، وإن كذب في غير ما صدق به، فهو مرتد. ومَنْ شرط من أصحابنا الشهادتين اختلفوا في أنا هل نشترط التبرِّي من كل ملة تخالف ملة الإسلام، فمنهم من قال: لا يشترط ذلك، وهو الأصح الذي لا يسوغ غيره؛ فإن عماد الشرع الاكتفاء بالشهادتين، وعليه تدلّ الأخبار والآثار. ومنهم من قال: يشترط التبري، وبضم هذه الكلمة إلى الشهادتين يصير الكلام جامعاً. هذا بيان ما يظهر الإسلام. 9561 - والأخرس يشير بالإسلام، فيحكم له به، والشاهد فيه الخبر، ثم النظر، أما الخبر فحديث الخرساء وهو مشهور. والنظرُ: اعتبار (1) الإسلام بسائر العقود؛ فإن إشارات الأخرس قائمة مقام عبارات الناطقين، وأبعد بعض أصحابنا؛ فشرط أن يضم إلى الإشارة إقامةَ صلاة، وهذا بعيد لا أصل له. وقال بعض من يُحوِّم على التحقيق: إنما لا يحصل الإسلام بإشارة الأخرس؛ لأن الإشارة فيه تُناقِض ما يجب عقدُه في أوصاف الإلهية؛ إذ الإشارة لا تتم إلا بالإيماء إلى جهة، وما يُومأ إليه جسم، فإن قال قائل كيف تستجيزون ذكر هذا وحديث الخرساء (2) في الصحيح؟ قلنا: ذاك حديث مؤوّل باتفاقِ من عليه معوّل؛ فإن فيه أنه قال لها: "أين الله" وكل حديث يقضي العقلُ بإزالة ظاهره، فلا حجة فيه. ...

_ (1) "اعتبارُ": قياسُ. (2) حديث الجارية الخرساء رواه مسلم: المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، ح 537، وأبو داود: الأيمان والنذور، باب في الرقبة المؤمنة، ح 3282، 3283، 3284. ومالك في الموطأ: 2/ 776، والشافعي في الأم: 5/ 280، وأحمد في المسند 3/ 451، 452، والبيهقي في الكبرى: 7/ 387، قال الحافظ في التلخيص 3/ 448: ليس في شيء من طرقه أنها خرساء.

باب ما يجزىء من الرقاب وما لا يجزىء وما يجزىء من الصيام وما لا يجزىء

باب ما يجزىء من الرقاب وما لا يجزىء وما يجزىء من الصيام وما لا يجزىء (1) 9562 - ذكر في صدر الباب: أن من اشترى عبداً بشرط أن يعتقه، فهل يصح العقد، وإن صح، فهل يجب عتقه حقاً لله تعالى، وإذا فرض من المشتري الإعتاقُ، ونوى صرفَه إلى الكفارة هل ينصرف إليها (2)؟، وهذا الفصل مما استقصيناه بما فيه في كتاب البيع. ثم قال: "لا يجزىء فيها مكاتَب ... إلى آخره" (3). 9563 - المكاتب كتابة صحيحة إذا أعتقه مولاه عن كفارته، نفذ العتق عن جهة الكتابة، ولم ينصرف إلى الكفارة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (4). وللأصحاب طرق في تعليل المذهب: منهم من قال: العتق يقع عن جهة الكتابة، وهو مستحَقٌّ فيها، فلا يقع عن جهة أخرى تستحق العتق فيها. ومنهم من قال: المكاتب ناقص الرق؛ فضاهى المستولدة. ومنهم من قال: إعتاقه ناقص؛ فإنه ليس إعتاقاً محضاً، وإنما هو إبراء؛ إذ لو كان إعتاقاً، لكان العتق يحصل معجلاً، فالذمة تبقى مشغولة بالعوض المسمى. وإذا كان العبد مكاتباً كتابة فاسدة، فأعتقه مولاه عن كفارته، فهذا يترتب على أن

_ (1) عنوان الباب بهذه الصورة هو ما في (ت 2) وآثرناه على العنوان المختصر (باب ما يجزىء من الرقاب) الموجود في الأصل، لموافقته الموجود في مختصر المزني. (2) هذا معنى كلام الشافعي في المختصر، وليس بألفاظه. (ر. المختصر: 4/ 129). (3) السابق نفسه. (4) ر. مختصرالطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 493 مسألة 1035.

السيد إذا أعتقه، فهل يستتبع اكسابَ والأولادَ، وفيه اختلاف وتردد، سيأتي، إن شاء الله في الكتابة. فإن قلنا: إنه لا يستتبع، فالإعتاق فسخٌ للكتابة الفاسدة، فينفذ عن الكفارة إذا نواها المعتِق. وإن قلنا: يستتبع المكاتبُ الأكسابَ والأولاد، فعلى هذا الوجه في انصرافه إلى الكفارة خلافٌ، مبني على المعاني التي قدمناها؛ فإن وقع التعويل في الكتابة الصحيحة على نقصان الرق، أو على نقصان العتق، فهذا العتق منصرف إلى الكفارة؛ فإن الرق كامل، والعتق لا يتضمن إبراء الذمة عن عوض واجب، وإن عولنا في الكتابة على وقوع العتق عن جهة الكتابة، فلا ينصرف العتق في الفاسدة إلى جهة الكفارة لوقوعها عن جهة الكتابة. 9564 - ثم قال: "ولا تجزىء أمُّ ولد في قول من لا يبيعها ... إلى آخره" (1). ظاهر هذا الكلام، يوهم تعليق القول في بيع أمهات الأولاد، وقد فهم المزني التعليق واختار منع البيع، ولم يحتجّ في اختياره إلا بنصوص للشافعي رحمه الله، قطع فيها بمنع البيع، وسكوتُه عن الاحتجاج بمعنىً ومسلكٍ في النظر من أصدق الشواهد على عظم قدره؛ فإنه لا يكاد يظهر معنىً في منع بيع المستولدة. وقال بعض الأصحاب لم يردّد الشافعي قولَه، وإنما أشار إلى مذهب بعض السلف، وقد روي عن علي كرم الله وجهه في آخر العهد أنه قال ببيع أمهات الأولاد، وذكر في أثناء خطبة: "اجتمع رأيي ورأي عمر رضي الله عنه على أن أمهات الأولاد لا يُبَعْن، وأنا أرى الآن أن يبعن، فقام عبيدة السَّلماني، فقال: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك" (2).

_ (1) السابق نفسه. (2) حديث الإمام علي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/ 291، رقم 13224) والبيهقي في الكبرى (10/ 343، 348). وانظر التلخيص 4/ 403 تحت رقم 2742، وهو آخر حديث في الكتاب.

ومن أصحابنا من أجرى في بيعهن قولين [على الإطلاق] (1)؛ بناء على أن الإجماع هل يشترط فيه انقراض أهل العصر (2)، فإن وقع التفريع على القول البعيد، فإعتاقها جائز عن الكفارة، ولا حكم للاستيلاد، وكان رحمها ظرفاً احتوى على مولود، ثم نفضه، ولا تَعتِق بالموت. وإن وقع التفريع على ما يجب القطع به، فإعتاقها لا يجزىء عن الكفارة، فإنها مستحقة العتاقة، وأبو حنيفة وافق في هذا، وإن أجاز إعتاق المكاتَب عن الكفارة. 9565 - ثم قال: "وإن أعتق مرهوناً، أو جانياً، أو غائباً ... إلى آخره" (3). قد مضى القول في إعتاق الراهن العبدَ المرهونَ، وحظُّ هذا الكتاب منه أنا إن نفذنا عتق الراهن، قضينا بانصرافه إلى كفارته، إذا نوى صرفَه إليها. فإن قيل: أليس نقصان الملك يمنع صرفَ العتق إلى الكفارة، ونقصانُ الملك وكماله يمتحنان بالتصرفات نفوذاً ورداً، قلنا: الملك في المرهون كامل، فإذا فرّعنا على نفوذ العتق، فهذا يتضمّن فكّ الرهن، ولا مانع سوى استيثاق المرتهن، فإذا كان في تنفيذ العتق ردُّه، فيصادف العتقُ ملكاً مفكوكاً عن الرهن، وليس كذلك عتق المكاتب، فإنه يقع على حكم الكتابة. وعتق الجاني يُخرَّج على هذا، وقد اختلف القول في بيعه، ثم اختلف القول -على منع البيع- في عتقه، فإن نفذنا العتقَ، جوّزنا صرفَه إلى الكفارة. 9566 - ثم قال: "وإن أعتق عبداً له غائباً ... إلى آخره". يجوز إعتاق العبد الغائب عن الكفارة إذا لم تنقطع الأخبار، فإن انقطعت الأخبار انقطاعاً يُغلِّب على القلب أنه أصابته آفةٌ هلك فيها، وذلك بأن لا نجد

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) يشير بهذا إلى تغير اجتهاد الإمام علي بعد موت عمر -رضي الله عنهما- وكان الإجماعُ قد استقر في عهد عمر على عدم جواز بيعهن. راجع اشتراط قضية انقراض المجمعين وهل تشترط في حصول الإجماع في (البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة: 640 - 643) - وهو من تأليف إمام الحرمين، ومن تحقيقنا. (3) ر. المختصر: 4/ 129.

حاجزاً (1) للأخبار، فإذا أعتقه، ففي وقوعه عن الكفارة في الحال قولان، استقصيت القول فيه في كتاب زكاة الفطر، وأتيت فيه بالمسلك الحق، فليُطْلَب في موضعه. وفائدة هذا الخلاف تظهر في كفارة الظهار: فإن حكمنا بالبناء على حياة العبد، فالإعتاق يُسلِّط على الوطء، وإن حكمنا بالبناء على وفاته واشتغال الذمة، فلا يتسلط المظاهر على الوطء، ولو منعناه، ثم تواصلت الأخبار بالحياة، تبيّنا أن الكفارة تأدّت، ووقع العتقُ موقعَه. ولو أعتق المالك عبداً مغصوباً تحت يد ظالم لا يُغالَب، فقد قال القفال: إعتاقه عن الكفارة يجزىء وفي بعض التصانيف أن أبا حامد كان يقول: لا يجزىء لأن الغرض من الإعتاق تخليصُه من الأسر، وتمكينُه من التصرف، ولهذا لا يجزىء العبد [الأقطع] (2) لنقصان عمله، فإذا كان المحبوس بَعَيْبه عن التصرف لا يجزىء، فكذلك لا يجزىء المغصوب. وهذا رديءٌ وغيرُ معتد به، ولست أراه من المذهب، ولم أطلع عليه في كتب العراق. 9567 - ثم قال: "لو اشترى من يَعْتِق عليه، لم يجزئه عن كفارته ... إلى آخره" (3). من اشترى مَنْ يعتِق عليه، ونوى صرفَ العتق الحاصل فيه إلى كفارته، صح الشراء، ونفذ العتق، ولم ينصرف إلى الكفارة، خلافاً لأبي حنيفة (4)، وهو يبني هذا على أن الشراء عقدُ عَتاقة، ووجه الرّد عليه بيّن مذكور في المسائل (5)، ومذهب

_ (1) كذا في النسختين. (2) زيادة من (ت 2). (3) ر. المختصر: 4/ 129. (4) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 493 مسألة 1035. (5) المسائل: يعني بها كتابَه (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) وذلك لأنه بناه على المسائل، فيقول بدلاً من الأبواب والفصول: مسائل الخلع ... مسائل الطلاق ... وهكذا.

الأصحاب أن من اشترى من يعتِق عليه، فإنه يملكه، ثم يحصل العتق مرتَّباً على الملك، قال أبو إسحاق المروزي: يحصل الملك والعتق معاً، وعُدّ هذا من هفواته. ولو اشترى العبدُ نفسَه من مولاه، وصححنا منه هذه المعاملة، فهل يملك نفسَه؛ حتى يترتب عتقه على ملك نفسه (1)؟ فيه تردد معروف، وسيأتي شرحه، إن شاء الله في كتاب الكتابة، وعلى الخلاف ابتنى أمرُ الولاء، فمن قال: إنه يملك نفسَه يحكم بانقطاع الولاء، ومن قال: يترتب عتقه على ملك المولى، فالولاء للمولى، وهذا يأتي مشروحاً إن شاء الله عز وجل. والفرق بين شراء الرجلِ من يعتِق عليه وبين شراء العبد نفسَه أن شراء من يعتِق عليه لا يُحيل حصولَ العتق (2) في المشترَى، ولولا ورود الشرع، لدام الملك، وكون الإنسان مالكاً لنفسه محال من طريق التصور، ومعتمد المذهب وقوع العتق من جهة القرابة، وهو مستحَق مع حصول الملك واقعٌ لا محالة. ثم إذا اشترى النصف ممن يعتِق عليه، وكان موسراً، سرى العتق إلى الباقي، وعلى المشتري الضمان، ولو ورث النصفَ ممن يعتق عليه، نفذ العتق، ولم يَسْرِ، والسبب فيه أنّا لو سرّينا العتق المرتّب على الملك المستفاد بالإرث، لأحْبطنا ملك الشريك إن سرّيناه، ولم يضمن الوارث، وإن سرَّيناه وضمّناه، كان محالاً؛ فإن تغريمه مالاً فيما لم يتسبّب إليه بوجه من وجوه الاختيار محالٌ، لا سبيل إليه،

_ (1) (ت 2): مولاه. (2) هنا معنى دقيق قد يحتاج أن ننبه إليه: ذلك أن ظاهر العبارة قد يوحي بأن صوابَها: "فإن شراء مَنْ يعتِق عليه لا يُحيل حصولَ الرق". بدليل ما بعده. ولكن الصواب ما ذكره؛ فالمعنى أن شراءه مَنْ يعْتِق عليه لا يُحيلُ ملكَ المشترَى، ذلك الملك الذي يترتب عليه -بعد حصوله للمشتري- العتقُ؛ فإن العتق لا يكون إلا عن ملك، فهو يعتِق من ملك المشتري لا من ملك البائع. أما تملّك العبد نفسَه بالشراء من سيده، فمحالٌ من طريق التصوّر أن يملك نفسه. وهذا يُرجح أن العبد يعتِق عن ملك الموْلَى، وبالتالي يكون الولاء لمولاه، وإن كان هو الذي نَقَدَه الثمنَ مشترياً به نفسَه.

والمشتري متسبّبٌ وإن لم يكن مُعتِقاً، والضمان يتعلق بالأسباب، كما يتعلق بالمباشرات، ثم يختلف التسرية باليسار والإعسار إذا اشترى النصفَ ممن يعتق عليه، كما يختلف ذلك في إعتاق أحد الشريكين نصيبه. فصل قال: "ولو أعتق عبداً بينه وبين آخر ... إلى آخره" (1). 9568 - إذا أعتق نصفين من عبدين، ولم يَسْر عتقُه بسبب الإعسار، فحاصل المذهب ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنّ ذمته تبرأ؛ فإنّ ضمَّ شَطْر إلى شَطر يتضمن مساواة الإعتاق في العبد الكامل، والأنصاف والأشقاص في نُصُب الزكوات كالأشخاص، إذا فرض الضم فيها، فعلى مالك ثمانين نصفاً من الأغنام وشريكُه فيها ذمّي ما على مالك أربعين من الغنم من الزكاة، كما لو ملك أربعين خالصاً. والوجه الثاني - أنه لا تبرأ ذمته عن الكفارة، فإنه متعبَّدٌ بإعتاق رقبة، وهو لم يعتق رقبة، وأيضاًً فالمقصود من الإعتاق حلّ رباط الرق والتخليص من أسر العبودية، وهذا المعنى لا يتحقق في إعتاق الشطرين؛ إذ كل واحدٍ منهما قد عتق نصفُه [ونصفه] (2) في الأسر والحجر. والوجه الثالث - أنه إن أعتق نصفين من شخصين نصف كل واحد منهما حُرّ ونصفه رقيق أجزأه ذلك، وبرئت ذمته، وإن أعتق نصفين من رقيقين ولم يسر عتقُه لم يُجزه، والفارق بينهما أنه في الشخصين اللذين كل واحد منهما نصفه حرّ تسبب إلى تكميل الإطلاق، وحلِّ الوثاق، وحصل بجمع النصفين ما يحصل بإعتاق الرقبة الكاملة. 9569 - ولو كان بينه وبين شريكه عبد مشترك، فأعتق هو [شِرْكه] (3) ونصيبَه، وكان موسراً، فاختلاف الأقوال -في أن العتق يحصل على الفور والبدار أم يتوقف على

_ (1) ر. المختصر: 4/ 129. (2) سقط من الأصل. (3) في الأصل: شريكه.

تأدية قيمة حصة الشريك، حتى يحصل عقيب الأداء، أم نحكم بالوقف والتبيّن- مشهور (1) وسيأتي مستقصىً في كتاب العتق، إن شاء الله عز وجل. فإذا فرضنا في الموسر، وفرعنا على الأصح، وهو تعجيل السراية باللفظ، فالعتق على الجملة يجري؛ لأنا نجعل معتق النصف معتقاً للجميع؛ فإن نصيب صاحبه ينتقل إلى ملكه في ألْطف زمانٍ ثم يعتق عليه، فيحصل جميعُ العتق في ملكه الخالص، ويكفيه النيةُ المقترنةُ بإعتاقه نصيبَ نفسه. وقال القفال: أنا أُخرِّج وجهاً آخر: أنه إذا وَجَّه العتقَ على نصيب نفسه، لم يُجْزِه العتقُ في نصيب شريكه [وإن] (2) وقع. واحتج في ذلك بأنه متعبَّدٌ بالإعتاق، وهو لا يسمَّى معتقاً للرقبة؛ إذ العتق في البعض يقع شرعاً من غير إيقاعه، ويحسن منه أن يقول: ما أعتقت العبد بكماله، وإنما أعتقت نصفه، وعَتَق الباقي [عليَّ] (3). ونُقل عنه بناء الوجهين على ما لو توضأ لاستباحة صلاة بعينها، وفيه أوجه: أحدها - أن الطهارة لا تصح أصلاً. والثاني - أنها تصحّ (4) لتلك الصلاة بعينها دون غيرها، وهذا على نهاية الضعف، وما كنت أظن أن القفال يذكر هذا الوجهَ؛ فإنه فاحش بالغ في الفساد. والوجه الثالث - أن الطهارة تصح وتصلح لجميع الصلوات. ووجه التخريج أنه في مسألتنا خص نصيبه بتوجيه العتق عليه، وإن حصل العتق في الباقي، وفي الطهارة خصص النية تخصيصاً لا يقف الشرع عنده. والأصح في المسألتين أن التخصيص لا أثر له، والطهارة تصلح للصلوات، والعتق بجملته يقع عن الكفارة. وفي هذا فضل بيانٍ سنذكره. وإذا فرّعنا على أن العتق يحصل في نصيب الشريك عند أداء القيمة، فالجواب كما

_ (1) مشهور: أي الخلاف. (2) في الأصل: فإن. (3) في النسختين: "عليه". (4) (ت 2): انعقدت لتلك الصلاة.

مضى، فإنه حيث يحصل [يحصل] (1) بسبب إعتاقه السابق، ولا حكم للمتأخر. 9570 - ولو قال من عليه الكفارة: إن دخلتَ الدار، فأنت حر عن كفارتي، فإذا دخل، عَتَق عن الكفارة. هذا ثابت في الأصل. ولكن (2) لو نوى صرف العتقِ في نصيبه إلى الكفارة، ثم نوى صرف العتق في نصيب شريكه عند أداء القيمة، فهذا لا يصح، وإن نوى عند إعتاق نصيبه صرفَ جميع العتق إلى كفارته، فأنتجز العتق في نصيبه، وتأخر في نصيب شريكه ثم حصلَ، فالنية السابقة هل تكفي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها كافية؛ فإنها ارتبطت بالعتق، ثم حصل العتق على ترتيب. والثاني - أنه لا يجوز؛ فإن تقدم النية على نفوذ العتق فاسدٌ مع القدرة على الإتيان بها مقترنة بحصول العتق. وقال الشيخ أبو حامد: ينبغي أن ينوي العتقَ كلَّه عند إعتاقه نصيب نفسه؛ فإن النية باللفظ أليق، حتى لو بعّض النية لم يجز، وهذا مما انفرد به. ومما يجب التنبيه له أنه إذا أعتق نصيب نفسه، وفرعنا على تعجيل السريان، وعلى أن العبارة عن النصف صحيحة، والعتقَ في الكل منصرف إلى الكفارة، فهذا فيه إذا نوى صرفَ الكل إلى الكفارة، فأما إذا نوى صرف العتق في نصيبه إلى الكفارة فحسب؛ فلا يبرأ عن الكفارة وفاقاً، وهذا ظاهر لا يخفى دركه؛ فإن عماد انصراف العتق إلى الكفارة النية. 9571 - ولو أعتق عبده الخالص، ونوى صرفَ نصف العتق إلى الكفارة، لم ينصرف إليها أكثرُ من النصف. ولو أعتق عبدين خالصين، ونوى صرف نصفيهما إلى الكفارة، فهذا بمثابة ما لو أعتق نصفين من شخصين، النصف من كل واحد منهما حرّ.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) عبارة (ت 2) فيها سقط، فقد جاءت هكذا: "ولكن لو نوى صرف العتق في نصيب شريكه، ثم حصل بالنية السابقة هل يكفي؟ فعلى وجهين ... إلخ".

فإن قيل: ألستم ذكرتم خلافاً في التبعيض في العبد المشترك؟ قلنا: ذلك الخلاف في اللفظ، فمن أصحابنا من قال: إذا أعتق نصفه ولم يتعرض للنصف الآخر بلفظه، ونوى صرفَ العتق كلّه إلى الكفارة يجزئه. ومنهم من قال: لا يجزئه حتى يتلفظ بإعتاق الجميع، ويقول: أعتقت هذا العبدَ عن كفارتي. هذا موقع الخلاف. وحكى العراقيون عن نص الشافعي رضي الله عنه أنه قال: "إذا لزمته كفارتان في كل كفارة رقبة، فقال: أعتقت هذين العبدين عن كفارتيّ نصفاً من كل عبد عن كل كفارة، فينفذ العتقان عن الكفارتين"، فلا شك أن هذا دالٌّ على جواز إعتاق شقصين من عبدين عن كفارة واحدة، فيعتضد إجراء الوجوه بالنص. قالوا: ومن أصحابنا من جوز هذا، وإن منع التبعيض، فإن ثمرة اللفظ حصولُ عتقه في عبدين عن كفارتين، فلا نظر إلى تقدير التبعيض، وقالوا: لو قال: أعتقت هذين العبدين عن كفارتيّ، فينفذ العتقان عنهما. واختلف أصحابنا في كيفية الوقوع: فمنهم من قال: يقع عن كل كفارة نصفا العبدين، ولا حاجة إلى هذا عندنا؛ فإن ظاهر إعتاق العبدين عن الكفارتين صرفُ عتق [عبد] (1) كامل إلى كل كفارة، ولا معنى للحمل على التبعيض، واللفظ ليس يشعر به والإعتاق المطلق لا يفهم منه في العرف التبعيض والتشقيص. فصل قال: "ولو أعتقه على أن يجعل له عشرةَ دنانير ... إلى آخره" (2). إذا قال الرجل لسيد المستولدة: أعتقها بألف، فأعتقها، صح واستحق الألفَ على من استدعى العَتاقة، وكان العتق واقعاً عن الموْلَى، وسبيل استحقاق العوض التخليص، وهذا بمثابة ما لو استدعى الأجنبيُّ من الزوج تطليق زوجته بمال، فإذا طلق، استحق المالَ على المستدعي، على التفاصيل المقدمة في الخلع.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ر. المختصر: 4/ 129.

9572 - ولو قال لمالك العبد الرقيق: أعتق عبدك عنّي بألف، فأعتقه عنه، نفذ العتق، ووقع عن المستدعي، واستحق المعتِقُ العوضَ المسمّى على الصحة. ولو قال: أعتق عبدك عنّي، ولم يذكر عوضاً، فأسعفه وأعتقه عنه، وقع العتق عندنا كما لو ذكر عوضاً، خلافاً لأبي حنيفة (1). ولو وهب المالك عبدَه من إنسان، ثم أذن للمتهب حتى يعتقه عن نفسه، فالإعتاق على هذا الوجه يكون بمثابة القبض في الهبة، فيفيد الملكَ، ويحصلُ العتقُ، وقال أبو حنيفة (2): لا يقع العتقُ قبل القبض الحسي قبضاً في الهبة، وإن صدر عن إذن الواهب. 9573 - ثم إذا صرفنا العتق إلى المستدعي عند ذكر العوض أو من غير عوض، فقد أطبق أصحابنا على أن من ضرورة صرف العتق إلى المستدعي نقلَ الملك إليه؛ إذ من المحال أن يترتب عتق المعتِق علىَ مِلكِه، ثم يقع [من] (3) غيره. ثم أشكل على الأصحاب وجهُ نقل الملك ووقتُه. قال القاضي: هذا إشكالٌ عظيم، ووجه الإشكال أنّا إن قلنا: الملك ينتقل قبل التلفظ بالإعتاق، كان ذلك تقديمَ الحكم الذي يوجبه اللفظ على اللفظ، وهذا محال. وإن نقلنا الملك بعد العتق، كان كلاماً متهافتاً، وإن قدرنا نقل الملك والعتق معاً، كان [جمعاً] (4) بين النقيضين. وقد ذكر العراقيون في حصول الملك للمستدعي أوجهاً: أحدها - أنه يتبين لنا أنه حصل له الملك مع قوله: أعتق عني. والوجه الثاني - أنه يحصل الملك بشروع المعتق في لفظ الإعتاق، فكما (5) شرع

_ (1) ر. المبسوط: 7/ 11. (2) ر. المبسوط: 7/ 11. (3) "من" ترادف "عن". (4) في النسختين: جميعاً. (5) كما: بمعنى عندما (وقد تكررت بهذا المعنى كثيراً).

حصل الملك للمستدعي، فيتم اللفظ ويعتِق ملكَ المستدعي. وكل ذلك تبيُّنٌ يقع الحكم به بعد الفراغ من اللفظ؛ فإنه لو شرع في اللفظ، ثم بدا له، فلم [يكمله] (1)؛ فلا يحصل نقل الملك. والوجه الثالث -حكَوْه عن أبي إسحاق المروزي- أنه قال: يحصل الملك والعتق معاً عند الفراغ من اللفظ، وهذا ليس بدعاً منه، وقد حكينا من أصله هذا المذهبَ فيه إذا اشترى الرجل من يعتِق عليه، ومذهبه في شراء القريب أبدع وأبعد؛ فإن تقدير الملك للحكم بانعقاد العقد لا غموض فيه. وحكَوْا وجهاً رابعاً عن الشيخ أبي حامد أنه قال: إذا فرغ من لفظ الإعتاق، حصل الملك بعده في لحظة لطيفة، ثم ينفذ العتق مترتباً عليه، وذلك في وقتين لا يُدرَك بالحسّ تفصيلُهما. وذكر شيخي وجهاً خامساً، وغالب ظني أنه حكاه عن القفال، وهو أن الملك يحصل مع آخر اللفظ والعتقُ بعده. 9574 - هذا كلامُ الأصحاب، وهو مشكلٌ كما قال القاضي، وسبب إشكاله أنه لم يقع تملّك ولا تمليك من طريق اللفظ، وإنما نُضطر إلى تحصيله ضمناً، ثم حصل (2) ضمناً لنقيض الملك، ولا حصول إلا باللفظ، ولا حكم للفظ ما لم يتم، وكل من صار إلى تقديم الملك على اللفظ، فليس من الفقه على شيء، وليس هذا كقولنا: إذا تلف المبيع في يد البائع، تبينا انتقال الملك فيه إلى البائع وتلفَه على ملكه، فإن قال قائل: التلف هو الذي يوجب هذا، فكيف يقدّم الموجَب على الموجِب؟ قلنا: إن قُدّر مثلُ هذا في الواقعات التي لا ترجع إلى الألفاظ، لم يكن ذلك بدعاً في وضع الشرع، فأما ثبوت حكم اللفظ قبل اللفظ، فلا وجه له. وكل ما ذكرناه قبلَ الوجه المحكي عن الشيخ أبي حامد فلا وجه له، وأما ما ذكره الشيخ أبو حامد، فإنه أثبتَ حكمَ اللفظ بعده، غيرَ أنه يدخل عليه أمر ضروري

_ (1) في النسختين: يكلمة. (2) (ت 2): ثم حصل ضمناً ليفتقر الملك.

لا يندفع، وهو أن اللفظ لم يستعقب حصولَ العتق، بل استعقب انتقال الملك، ثم ترتب النفوذ عليه، وسببه أن هذا ليس إعتاقاً مطلقاً، إنما هو إعتاق عن الغير، ومعنى الإعتاق عن الغير إزالةُ الملك إليه، وإيقاعُ العتق بعده. وأما ما ذكره شيخي فالذي يلوح فيه من اتجاهٍ لقربه من مذهب أبي حامد، وفسادُه من وقوعه في مذهب أبي إسحاق. وبالجملة اختلف أئمتنا في أن من طلق أو أعتق، فحكم لفظه متى يثبت: فمنهم من قال: يثبت مع آخر جزء من اللفظ، وهو حسن؛ [فإن] (1) التطليق والإعتاق إنما يحصل مع آخر جزء. ومنهم من قال: يحصل حكم اللفظ بعده على الاتصال ويعاقبه معاقبة الضدّ. فإن قلنا: الحكم يحصل مع آخر اللفظ، فيتجه ما حكاه الشيخ (2) من حصول الملك مع آخر اللفظ واستئخار (3) العتق عنه للضرورة، فيئول هذا إلى اختلاف الشيخين (4) في أن حكم اللفظ متى يحصل. فإن قلنا: حكم اللفظ يحصل بعده، فالملك والعتق في وقتين بعد اللفظ. وإن قلنا: حكم اللفظ يحصل مع آخره، فالملك يحصل في أول حصول حكم اللفظ، والعتقُ يستأخِر للضرورة. والذي [ارتأيناه] (5) أن يكون التفريع على حصول الحكم بعد اللفظ، ثم يقع القضاء في هذه الصورة بأن (6) الملك يحصل مع آخر اللفظ،. والعتق يحصل بعده، فيكون

_ (1) في النسختين: فإنه التطليق والأعتاق ولكن إنما يحصل مع آخر جزء. (2) الشيخ هنا والده الشيخ أبو محمد. (3) (ت 2): " ... مع آخر اللفظ مع استئخار العتق عنه للضرورة قبول الأمر إلى اختلاف الشيخين .. ". (4) الشيخين يعني بهما: والده الشيخ أبا محمد، والشيخ أبا حامد. وواضح أن هذا ليس مصطلحاً ثابتاً، وإنما هو حكاية أقوالٍ في مسألةٍ فردةٍ. (5) (ت 2): رتبناه، وفي الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا: (ارتفيناه) تماماً. والمثبت تقدير من المحقق. (6) عبارة (ت 2) فيها خرم هكذا: ثم يقع القضاء في هذه الصورة بأن الملك على هذا الوجه قبل أوانه.

الملك على هذا الوجه قبل أوانه، ولا فرق بين أن يقع كذلك، وبين أن يقع عند الخوض في اللفظ كما صار إليه صائرون، أو قبل لفظ العتق كما ذكره ذاكرون. هذا كله إذا قال لمالك العبد: أعتق عبدك عني. 9575 - فأما إذا قال: أعتق عبدك عن نفسك، ولك علي عشرة، فإذا أسعفه، وأعتقه كما استدعاه، فالعتق ينفذ ولا مردّ له، وهل يستحق العوض المذكور على المستدعي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحقه، كما لو استدعى منه إعتاق أم ولده، فإن العتق يقع عن المعتِق، وهو (1) يستحق العوض المذكور. والوجه الثاني - أنه لا يستحق العوض؛ فإن إيقاع العتق عن المستدعي ممكن، وبذلُ العوض على الخلاص (2) إنما يثبت للضرورة، فإذا أمكنت جهةٌ في العتق [غيرُ] (3) التخليص، لم يصح بذل العوض على التلخيص (4). ثم قال صاحب التقريب وضيخي: إن قلنا: لا يستحق العوض، فلا كلام، والعتق منصرف إلى المعتِق. وإن قلنا: يستحق العوض، فالعتق عمن يقع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقع عن المستدعي، وإن نفاه عن نفسه، وهذا على نهاية الفساد والسقوط؛ [فإن صَرْفَ العتق إليه حيث يستدعيه لنفسه على خلافٍ] (5)، فكيف يُصرفُ العتقُ إليه وهو نفاه عن نفسه. 9576 - ومن تمام الكلام في هذا الفصل: أنه لو قال: أعتق أم ولدك هذه عني، ولك عليّ كذا، فلا شك أن عتق أم الولد لا يتصوّر انصرافه إلى المستدعي، والعتق ينفذ، ولا مردّ له.

_ (1) (ت 2): وهل يستحق. (2) (ت 2): الخلاف. (3) في الأصل: "عن" والمثبت من (ت 2) ومن صفوة المذهب. (4) (ت 2): "على مذهب صاحب التلخيص" وهو وهم وشطط من الناسخ، لا ندري من أين أتى به. (5) عبارة الأصل: "فإن من صرف العتق إليه حيث يستدعيه لنفسه على غلاله" ومثلها (ت 2) إلا أن فيها "علالة" (بالمهملة) والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون.

والكلام في أنه هل يستحق العوضَ على المستدعي؟ المذهب أنه لا يستحق؛ لأنه لم يعتقها عنه، واستحقاق العوض مقرون بحصول ذلك، وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت العوض وألغى قوله عني. ولو قال: طلّق امرأتك عني ولك ألف، فالوجه إثبات العوض وإلغاء قوله عني، وحمله على الصرف إلى استدعائه، فكأنه قال: طلقها لأجلي أو بسبب استدعائي، والله أعلم. وعتق المستولدة وإن كان لا يقع عن المستدعي، فاعتقاد الانصراف إلى المستدعي منتظم إلى أن نحكم بفساده. 9577 - ولو قال لمالك الرقيق: "أعتق عبدك ولك عليّ ألف"، ولم يقل: أعتقه عني، ولا عن نفسك، فهذا نفرعه على أنه لو قال: "أعتقه عن نفسك" هل (1) يستحق العوض عليه (2) إذا أعتقه؟ فإن قلنا: لا يستحق العوض عليه لو قال: أعتقه عن نفسك، فإذا أطلق استدعاء الإعتاق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يُحمل على ما لو قال: "أعتقه عن نفسك" والثاني - أنه يحمل على ما لو قال: "أعتقه عني"، إذ هذا المعنى متأكدٌ بالاستدعاء وبذل المال، فصار بمثابة التصريح [من] (3) المستدعي بالإضافة إلى نفسه. وإن فرعنا على أنه لو قال: "أعتقه عن نفسك" فالعوض مستحَق عليه، فإذا أطلق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العتق يقع عن المستدعي. والثاني - أنه يقع عن المعتِق، وهدا ينبني على ما هو المذهب، وهو أن العتق إذا أضيف إلى المعتِق، فلا يقع عن المستدعي وإن فرعنا على استحقاق العوض. وهدا حاصل التفريع في استدعاء العَتاقة على التفاصيل التي ذكرناها.

_ (1) (ت 2): هذا. (2) عبارة (ت 2): "هل يستحق العوض عليه فإذا أطلق استدعاء الإعتاق، ففي المسألة وجهان" وواضح ما فيها من سقط. (3) في الأصل: في والمثبت من (ت 2).

9578 - ونعود الآن إلى موجب (1) الكفارة: فإن قال لمالك العبد القن: "أعتق عبدك عن كفارتي ولك ألف"، أو قال ذلك من غير عوض، فالعتق ينصرف إلى كفارة المستدعي. ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك ولك كذا، فأعتقه عن كفارة نفسه، فإن قلنا: إنه يستحق العوض، فلا ينصرف العتق إلى كفارته؛ إذ من المستحيل أن يقع العتقُ في مقابلة عوض مستحَقاً عن تلك (2) الجهة، ثم يقع قضاءً [لحق] (3) الله تعالى. وإن قلنا: إنه لا يستحق العوض إذا أعتق عن كفارته على استحقاق العوض، لم يقع العتق عن [كفارته] (4)؛ وذلك أنه وإن لم يقع مستحقاً عن تعويض ثابت، فنيّته فاسدة (5)؛ من جهة أنه لم يجردها لحق الله، والنية ركن في الكفارة وشرطها أن (6) تخلُصَ ولا تتردد، هذا ذكره القاضي ولا وجه لتقدير خلافه. فرع: 9579 - ذكرنا من أصلنا أنه إذا قال: أعتق عبدك عني ولم يذكر عوضاً، فاعتق عبده، وقع العتق عن المستدعي، قال صاحب التقريب: هل يستحق المعتِق على المستدعي شيئاً؟ فعلى وجهين مبنيين على (7) ما لو قال: اقضِ دَيْني، ولم يقل بشرط الرجوع عليّ، ثم إذا أثبتنا حق الرجوع، فالمعتق يرجع بقيمة العبد. ولا ينبغي للفقيه أن يأخذ هذا من [أن] (8) الهبة هل تقتضي العوض؟ حتى إذا أخذه من هذا الوجه ردّه إلى الخلاف في أن عوض الهبة ماذا؟ فإن هذا المأخذ يقع وراء (9) الحاجة، ونحن قد صادفنا قبله أصلاً قريباً، فإن العتق حق على المستدعي، فإذا

_ (1) (ت 2): مذهب. (2) (ت 2): ملك. (3) في الأصل: بحق. (4) في الأصل: كفارة، والمثبت من (ت 2) ومن المختصر. (5) وجه فساد نيته أنه لم يبادر بالعتق تكفيراً، وأعتق للعوض المبذول أيضاًً. (6) (ت 2): وشرطها أن لا تخلص. (7) (ت 2): مبنيين على ما قال عني. (8) زيادة من المحقق. (9) (ت 2): تقع به الحاجة.

قال: أعتق عن كفارتي، كان كما لو قال: اقض ديني، نعم، لو لم يكن عليه عِتقٌ واستدعى (1) الإعتاق عنه تبرعاً، فلا يمتنع أن يكون هذا كالهبة المطلقة، والعلم عند الله تعالى. فرع: 9580 - إذا قال: أعتق عبدك عني غداً بألف، فقد طوّل صاحب التقريب نَفَسه في هذا، ونحن نذكر المقصود منه، فنقول: إذا قال: قُل: "إذا جاء الغد فعبدي [هذا] (2) حر عنك ولك عليّ ألف"، فإذا قال ذلك: فهذا يناظر تعليق الخلع، وقد مضى في كتابه، وإن ظن الفقيه أن هذه المسألة فيها تقدير نقل ملك؛ فيبعد عن التعليق قبل هذا التقدير ضمناً، فلا يختلف به ترتيب المذهب، والعتق يحصل منصرفاً إلى المستدعي، وفي صحة المسمى وفساده خلاف، كما مضى في الخلع. ولو قال: أعتق عبدك عني على خمرٍ، فأعتقه عنه، قال صاحب التقريب: وقع عن المستدعَى وجهاً واحداً، وهذا قد [يَجُرّ] (3) إشكالاً على الناظر في ابتداء نظره؛ من جهة أنه يعتقد حصول الملك بالعوض الفاسد، وليس الأمر كذلك؛ فإن الملك يحصل بالعوض الثابت شرعاً، وهو قيمة العبد، ولكن لم يفسد الملك؛ من حيث إنه لم يقع مقصوداً، وإنما وقع ضمناً، ولذلك قُبل التعليق، وإن كان نقل الملك لا يقبل التعليق، فكأن الأصل العتقُ، والعتقُ إذا قوبل بالعوض الفاسد إيجاباً وقبولاً، حصل حصول الطلاق، ثم إن تخلف شرط من شرائط الملك، فلا مبالاة به، لحصوله ضمناً غيرَ ملفوظ به. قال صاحب التقريب: إذا قال: أعتق عبدك عني غداً، ولك ألف، فصبر المالك حتى جاء الغد وأعتقه إنشاء لمّا جاء الغد، فيقع العتق عن المستدعي ويستحق الألفَ في هذه الصورة إذا (4) لم يجر العتق على صفة التعليق، ثم قال صاحب التقريب: هذا ما ذكره الأصحاب، وفيه نظر.

_ (1) (ت 2): والمستدعي. (2) زيادة من (ت 2). (3) في الأصل: "نجّز". (4) إذا: بمعنى إذْ.

والأمر على ما ذكر؛ فإن (1) استدعاء العتق بالعوض قد يستدعي إجابة متصلة، فإذا انفصلت الإجابة، تطرّق الاحتمال. وهذه المسألة تؤخذ من نظيرتها (2) من فصل تعليق الخلع. فصل قال: "ولو أعتق عبدين عن ظهارين ... إلى آخره" (3). 9581 - النية شرط في الكفارات، ولأنها عبادة، والعبادات مفتقرة إلى النيات، فلو أعتق رقبة، ولم ينو صرفَها إلى الكفارات، لم يُحسَب العتق عنها. 9582 - وتعيين النية في الكفارات ليس شرطاً، حتى لو كانت عليه رقبةٌ واجبةٌ، لم يدر أنها عن ظهارٍ، أو يمين، أو وِقاعِ، أو قتلٍ، ونوى إعتاق الرقبة عن الواجب الذي عليه، كفاه ذلك، زاد القاضي، فقال: كذلك لو [جوّز] (4) أن تكون الرقبة منذورة، فلا بأس عليه، ويجب تعيين النية في الصلوات المفروضة والصيام، وقد مضى حكم كل صنف في كتابه. وقال الأصحاب: سبب ذلك أن العبادات البدنية تتمحّض عبادةً، فكان التعيين شرطاً فيها للإخلاص، والكفارة [نازِعةٌ] (5) إلى الغرامات؛ إذ هي عبادات مالية، فاكتفي فيها بأصل النية. 9583 - وهذا الكلام مُختلٌّ (6) غير مستقل، والوجه عندنا في اعتماد إيجاب التعيين ونفيه أن نقول: العبادات البدنية لها مناصب ومراتب وبينها تفاضل يُعقَلُ سببه

_ (1) (ت 2): على ما ذكرناه من استدعاء. (2) من نظيرٍ لها. (3) ر. المختصر: 4/ 130. (4) في الأصل: صوّر. (5) في النسختين: نازع. (6) (ت 2): متخيل، والمعنى بكونه مختلاً أنه قاصرٌ غير كافٍ.

[وقد لايُعقل سببُه] (1) فالذي يعقل (2) ما يتعلق سببه بالنَّصَب والتعب المرتبط بالوقت (3)، فإن صلاة الصبح أشق، وصلاة الظهر في القائلة صعبة، وصلاة المغرب مع التضييق وهي (4) في منتهى سفح النهار واستقبال الليل، وصلاة العتمة وقد ظهرت دواعي الدَّعة في النفوس على أقدارٍ من النَّصَب مختلفة وأجناسٍ متفاوتة (5)، وقد قال مبلّغ الشرع صلى الله عليه وسلم: "أجْرُك على قدر نَصَبك" (6)، فلاقَ بها التعيين. وكذلك القول في الصوم والعتق، لا تفاضل فيه باختلاف الأسباب الموجبة؛ إذ لا سبيل إلى الحكم بأن العتق عن كفارة اليمين (7 دون العتق عن كفارة الظهار. نعم، قد يظن الفطن أن العتق في كفارة 7) اليمين نازع إلى التطوع؛ لمكان التخيير بخلاف العتق في كفارة الظهار، وهذا لا ثبات له مع الحكم بأن الكفارة واجبةٌ. وهذا الذي ذكرناه يجري في صوم (8) الكفارات؛ فإن الصوم لا يفضُل الصومَ بتفاوت الأسباب. وما حكيناه قبلُ يَرِد عليه الصوم في [الكفارات] (9)؛ فإن الذي ذكرناه من نزوع الكفارة إلى الغرامات لا يتحقق في الصوم، ثم لا يجب في الزكاة تعيين مال عن مال للفقه الذي ذكرناه؛ فإن الزكوات لا تتفاوت مناصبها في الفضيلة باختلاف الأموال.

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) (ت 2): تعلق. (3) (ت 2): بالوقف قال صلاة الصبح. (4) (ت 2): وهي في عينهن سفح النهار. (5) (ت 2): متقاربة. والمعنى أن كلاً صلاة فيها مشقة من وجه تختلف عن الأخرى، فلا مساواة بينها ولذا يجب تعييناً بالنية. (6) حديث "أجرك على قدر نصبك" متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. البخاري: العمرة، باب أجر العمرة على قدر النصب، ح 1787، مسلم: الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح 1211). (7) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (8) (ت 2): صور. (9) في الأصل: الكفارة.

وقد يَرِدُ على هذا التباسُ (1) النذر بالكفارة؛ فإن الكفارة إن كانت لا تستدعي تعييناً لإسنادها إلى جريمة أو إلى ما هو في معنى الجريمة، وتعيينُها ذكرُ أسبابها، وهذا قد لا يتحقق في النذر؛ فإن التزام القربة قربة، والدليل عليه أن من كان عليه نذرٌ، وصومٌ آخر مفروض عن قضاء، فإنه يتعرض للنذر. وقد حكيت عن القاضي أنه قال: إذا التبس ما عليه من العتق بالنذر والكفارة، كفاه أن ينوي به العتق الواجب، فليتأمل الناظر هذا، والظن بالقاضي أن يطرد ذلك في الصوم المتردّد بين المنذور وبين الكفارة مع التباس الحال، فهذا فيه نوع تأمل على الناظر. ولو ذهب ذاهب إلى التزام التعيين لأجل النذر، فإنه يكتفي بإعتاق عبدين يجرّد نيته في أحدهما عن النذر ويبهم الآخر، والعلم عند الله. ثم إذا رفعنا (2) اشتراط التعيين في نية الكفارة، فلا فرق بين أن يتحد الجنس وبين أن يختلف، ولا فرق بين أن يكون الفرض صوماً، أو إعتاقاً، أو إطعاماً، فلو كان عليه كفارتان، فصام أربعة أشهر بنية الكفارتين أجزأه، وانصرف كل شهرين إلى كفارةٍ. [ولو صام شهرين] (3) شهراً عن هذه الكفارة وشهراً عن تلك، لم يجز، والسبب فيه أن التتابع شرط في الصيام، فإذا صام يوماً عن غير ما شَرَعَ فيه، فقد انقطع التتابع في ذلك المقدّم (4) وهذا افتتاح كفارة أخرى. ولو كان فرضه الإطعام وعليه كفارتان، فأطعم مائة وعشرين مسكيناً عن الكفارتين أجزأه. ولو كان ينوي بمُدٍّ كفارةً، وبمُدٍّ كفارةً أخرى واتخذ ذلك سجيَّة حتى أتى بما عليه، فلا بأس؛ إذ لا (5) تتابع في الإطعام.

_ (1) في (ت 2): يرد البابين النذر بالكفارة إن كانت لا تستدعي تعيناً لاستثنائها إلى جهة، وإلى ما هو في معنى الجهة. (2) (ت 2): وقعنا. (3) في الأصل: ولو صار بشهرين. والمثبت من (ت 2). (4) (ت 2): في ذلك المقام. (5) (ت 2): فلا بأس أولاً شارع في الإطعام.

ولو اختلف ما يكفر به وذلك باختلاف أحوال الملتزِم [بأن] (1) كان موسراً في كفارة، ومعسراً في أخرى، قادراً (2) على صوم الشهرين، [ومُفْنِداً] (3) عاجزاً في أخرى، فأعتق رقبة عن [كفارة] (4)، وصام شهرين عن [كفارة] (5)، [أو أطعم] (6) مطلقاً كذلك، صح منه ما جاء به، وانصرف كل واجبٍ إلى [جهةٍ] (7). 9584 - ومما ذكره الأصحاب في ذلك أَنْ قالوا: نحن وإن لم نوجب التعيين بالنية في الكفارات، فلو عيّن، فهو مؤاخذ بالإصابة (8)، وبيان ذلك: أنه لو كان عليه كفارة القتل في علم الله تعالى وتقدس، فحَسِب (9) أن عليه كفارة الظهار، فلو أعتق رقبة عن الكفارة أجزأه العتق، وإن لم يتعرّض للتعيين. ولو أعتق رقبة عن كفارة الظهار؛ بناء على ظنه، ثم تبيّن أن الواجب عليه سببُه القتل، فالعتق نافذ، وذمته لا تبرأ عمّا عليه؛ فإنه صرف الإعتاق قصداً عما عليه، فانصرف عنه. ونحن وإن كنا لا نوجب التعيين، فيشترط أن يكون الواجب مندرجاً تحت عموم

_ (1) زيادة من المحقق. (2) (ت 2): قادراً على صوم الشهرين وعاجزاً في أخرى وفيه عن الكفارة وصيام شهرين عن الكفارة الأخرى. (3) في الأصل: "مُقْتراً" من أقتر الرجل إذا ضاق عيشه، وهذا المعنى غير مراد، فالقدرة على الصيام لا يقابلها العجز عن الإطعام، وإنما يقابلها الضعف والعجز عن الصوم. (وأفْند إذا بلغ به الهرم والشيخوخة حداً أضعف رأيه). (4) في النسختين: "الكفارة". (5) في النسختين: "الكفارة". (6) في النسختين: "وأطعم" والمثبت من المختصر. (7) في النسختين: جهته، والمثبت من المحقق - وصورة المسألة: رجل عليه ثلاث كفارات، فأعتق رقبة عما عليه، ثم أعسر فصام شهرين عما عليه، ثم ظل على عسره وعجز عن الصوم فأطعم عما عليه، فتنصرف كل كفارة إلى جهة، مع أنه أوقعها مطلقة ولم يعينها. (8) (ت 2): بالإضافة. (9) عبارة (ت 2) فيها خرم، إذ جاءت هكذا: "فحسب أن عليه كفارة الظهار بناءً على ظنه ... إلخ".

النية ومقتضاها، فإذا انصرفت النية عن الجهة الثانية، لم يقع [الاعتداد] (1) بالمؤدّى أصلاً، وقد ذكرنا (2) نظائر ذلك في ربط نية الزكاة بمالٍ هو معدومٌ حالةَ إخراج الزكاة (3)، وذكرنا تعيين الإمام الذي به الاقتداء والحاضرُ غير المنوي، وذكرنا في الصلاة على الجنازة التعيين مع الخطأ، وجمعنا هذه الفصول في أقسامٍ ضابطة في باب نية الطهارة (4). فصل قال: "ولو ارتد قبل أن يكفّر ... إلى آخره" (6). 9585 - من لزمته الكفارة فارتد قبل التكفير، ثم كفّر بالعتق، قال الأصحاب: أجزأه وبرئت ذمته، ولو أسلم، لم يكن مخاطباً بإعادة التكفير، وهذا ليس بدعاً، والمرتد على علائق ثابتة في الإسلام، وأصلُنا أن الكافر الأصلي يلتزم الكفارة، ويؤديها، والمرتدّ لا يصوم عن الكفارة في حالة ردته؛ فإن الصوم عبادة بدنية غيرُ نازعة إلى غرض آخر سوى الامتحان في البدن، والكفارات المالية تنزِع إلى الغرامات، [وقد] (7) ذكرنا أن الزكاة تخرج من مال المرتد، وترددنا في وجوب الزكاة في ماله ابتداء، كما تفضل في كتاب الزكاة. ثم قال الأصحاب: العبادات المالية يتعلق بها غرض الإرفاق، وسدّ الحاجات، والتقرّب إلى الله تعالى، والغرض الأظهر منها الإرفاق، وما نيط بسببين قد

_ (1) في الأصل: الاعتياد. (2) (ت 2): نظرنا نظائر. (3) المعنى أنه لو كان له مالٌ غائب في بلد آخر، فأخرج الزكاة عنه وعينها وربط نيته بأنها عن ذلك المال، ثم تبين أنه كان تالفاً لا زكاة عليه، فلا يصح أن يعتبر هذه الزكاة عن مالٍ آخر موجود من ماله. (4) (ت 2): في باب فيه الظهار. (وهو وهم عجيب). (5) سقطت علامة (فصل) من (ت 2). (6) ر. المختصر: 4/ 131. (7) في الأصل: فقد.

[يستقل] (1) بأحدهما كالحدِّ يُمَحِّص ويزجر (2)، ثم يثبت على الكافر زاجراً، وإن لم يكن ممحِّصاً. وهذا يثبت على مراتب: فالزكاة يظهر قصد الإرفاق بها، ولكنها وظيفة وطريحةٌ للمحاويج على أغنياء المسلمين، فلا تطّرد على الكفار؛ فإنهم بالتزام الجزية، لم يتطوّقوا أن يسدّوا حاجات محاويج المسلمين؛ فلم يخاطَبوا بالزكاة، ولم يطوّقوا تحمّل كَلّ المسلمين، وليست الزكاة متعلقة بجريمة أو ما يجري مجرى الجريمة، بل هي محض حق المال، وهم (3) بالذمة صانوا أموالهم عن مطالبات الشرع، والكفاراتُ ضاهت الحدود. هذا وضع المذهب، وعلى الأصحاب تقريره. ثم لا يصح من الكافر والمرتد إلا إخراج الأموال في الكفارات فحسب، والمرتد تميز عن الكافر الأصلي لما فيه من عُلقة الإسلام، ولهذا تَخْرجُ عن ماله الزكاةُ التي وجبت في الإسلام، على الرأي الظاهر، وقد نقول: تجب الزكاة في ماله إذا لم نحكم بزوال ملكه. وهذا لا يتصوّر في حق الكافر الأصلي، وإن [شملهما] (4) الكفر؛ فإن الكافر الأصلي لم يلتزم موجب شَرْعنا في الحقوق المالية، والمرتدُّ سبق منه الالتزام، وقد يطّرد عليه حكمُه، وهذا مع اختلافٍ قدمناه في المرتد في كتاب الزكاة. 9586 - فأنتظم مما ذكرناه أن المرتد على ظاهر المذهب يُخرج الكفارة بالمال، فيُعتق ويُطعم [ولا يصوم] (5). ثم قال جمهور الأصحاب: هذا تفريع على قولنا: إن الردة لا توجب زوال الملك (6)،

_ (1) في الأصل: يستقبل. والمثبت من (ت 2). (2) (ت 2): ويؤخر. (3) (ت 2): بل هي محض حق المال وهو في الذمة صائر إلى أموالهم عن مطالبات الشرع. (4) في النسختين: شملها. (5) في الأصل: ويصوم. (6) (ت 2): المال.

فإن قضينا بأنها توجب زواله، فلا يتصور من المرتد أن يكفر؛ إذ لا ملك له، ولا يصح منه الصوم. وذهب بعض أصحابنا إلى أنا وإن حكمنا بأن الردة تزيل الملك، فإذا كانت عليه كفارة فارتد، فما تتعلق الكفارة به يُستثنى من الحكم بزوال ملكه عنه، فيُعتق عبداً من عبيده أو يُحصّل (1) عبداً بدراهمه، وإن كان بحيث يصح منه الإطعام، فيُخرج الإطعام، والحكمُ بزوال الملك يقع وراء ذلك. وهذا اختاره صاحب التقريب، ورآه الأصحَّ، ولفظه في الكتاب: إن المذهب أن الأمر كذلك ولو حكمنا بزوال ملكه، واحتج على ذلك بالديون؛ فإن من ارتد وعليه ديون، أُديت الديون من ماله وإن حكمنا بزوال ملكه. قال صاحب التقريب: هذا ما ذهب إليه الأصحاب أجمعون -يعني قضاء الديون- إلا الإصطخري، فإنه قال: إذا فرعنا على قول زوال الملك لا تُقضَى ديونُه، ويجعل كأن أمواله تلفت. وهذا إن قاله في الديون التي وجبت في الإسلام، فهو سرف عظيم، وهو خروج عما عليه الناس، وإن كان هذا يليق بتصرفاته؛ فإن من شيمه الاستجراء، وترك المبالاة، وإن كان يريد به أن الديون التي [توجد] (2) أسبابها في حالة الردة لا تؤدَّى ممّا كان مالاً له -على قولنا بزوال الملك- فهذا سديد، ولا يجب أن يخالَف فيه، ولا يصح استثناء هذا المذهب في معرض الاستبعاد. وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أنه إذا ارتد لم يُخرَج من ماله إلا أدنى الدرجات، وظني أنه قال هذا في الكفارات المخيّرة، وهي كفارة اليمين. فخرج مما ذكرناه أن الصوم [لا يصح] (3) من المرتد، والتكفير بالمال يصح إذا

(1) (ت 2): أو يحصل عليه بدراهمه. (2) في الأصل: توجه. (3) زيادة من المحقق. ومن عجب أن تسقط هذه اللفظة من النسختين، فتقلب المعنى تماماً وأعجب المعجب أن تسقط من (صفوة المذهب)، فعلى فرض أنها كانت ساقطة في النسخة التي يلخص منها ابن أبي عصرون، فكيف نصدّق ويحتمل عقلُنا أن هذا الإمام لا يكتشف هذا =

قلنا ملكه لا يزول، وإن قلنا: يزول ملكه، فهل يُخرج الكفارةَ، فعلى الخلاف الذي ذكرناه. ...

_ = الخلل الذي يحلّ حراماً معلوماً من الدين بالضرورة!!! ثم على فرض أنه تنبه لذلك وصحح العبارة، ألا يكون عجيباً غريباً أن تسقط من ناسخ مختصر ابن أبي عصرون، ومن نسختين من نهاية المطلب في وقت واحد!! الله أعلم. ونص عبارة ابن أبي عصرون هو: "فخرج أن الصوم من المرتد والتكفير بالمال يصح إذا قلنا: إن ملكه لا يزول، واذا قلنا: يزول، فعلى الخلاف المذكور" (ر. صفوة المذهب: جزء 5/ورقة: 102 يمين سطر (5) والله أعلم. وهذا يذكرنا بـ (لا) التي اجتمع على إسقاطها نسختا النهاية وابن أبي عصرون، فأجيز بإسقاطها توكيلُ الذمي في قبول نكاح مسلمة وفي تزويجها!

باب ما يجزىء من العيوب في الرقاب الواجبة

باب ما يجزىء من العيوب في الرقاب الواجبة 9587 - أجمع العلماء المعتبرون على أن العيوب في الرقاب تنقسم: فمنها ما يمنع من الإجزاء، ومنها ما لا يمنع، وقال داود: ليس فيها ما يمنع، وتعلّق باسم الرقبة. وقال الشافعي: "لم أعلم أحداً ممن مضى من أهل العلم، ولا ذُكر لي، ولا بقي أحدٌ إلاّ يقسّم العيوب ... إلى آخره" (1)، وهذا داود نشأ بعده، وعندي أنه لو عاصره، لما عدّه من العلماء. فإذا تبين أن العيوب مُنقسمة، فمذهب الشافعي أن ما يَنقُص العمل نقصاناً بيّناً، ويضر به ضرراً ظاهراً، فهو يمنع من الإجزاء، وعقْدُ الباب تخليصُ مملوكٍ من أسْر الرق؛ حتى يستقلَّ، ثم الذي يليق بهذه القُربة أن يكون مستقلاً بما يُقيمه، منبسطاً (2) في عمله؛ فيتخلصَ عن العمل لغيره، وإذا كان زَمِناً مثلاً، فالرق أجدى عليه؛ إذ عليه كافل (3) يكفيه مُؤَنَه، فأقرب معنى في الاستنباط (4) ما راعاه الشافعي رضي الله عنه، ولا يُنظر إلى العيوب المؤثرة في المالية؛ فإن العتق إزالةُ المالية، بخلاف العبد المأخوذ في غُرة الجنين؛ فإنه يُقْصد مالاً ويؤخَذ مالاً، [فيراعى] (5) فيه المقاصدُ المالية، على ما سيأتي شرحها في باب الجنين، إن شاء الله عز وجل؛ فأحرى معتبرٍ في الباب ما ذكرناه [من التأثير في العمل والإضرار الظاهر به] (6). وقد يزداد العقد وضوحاً بذكر مذهب يخالف المذهب المختار، قال أبو

_ (1) ر. المختصر: 4/ 131، وهذا معنى كلام الشافعي في المختصر وليس نصه. (2) (ت 2): مقسطاً. (3) (ت 2): تحامل. (4) (ت 2): الانبساط. (5) في الأصل: ويراعى، و (ت 2): فراعى. (6) في الأصل: "أما ذكرناه من التأثير الذي في العمل والإضرار والظاهر به". وفي (ت 2): "ما ذكرناه من التأثير في العمل اليسير والأضرار الظاهرة" والمثبت تصرف من المحقق.

حنيفة (1) كل عيب يفوّت جنساً من المنفعة أو معظمَها يمنع الإجزاء، وما لا فلا، فالذي سقطت أسنانه لا يجزىء عنده، وكذلك الأخرس، والأصم، ومقطوعُ اليد والرجل من الخلاف يجزىءُ، ومقطوعُ اليد والرجل من الوفاق لا يجزىء. 9588 - فإذا تبين أصل مذهبنا، فإنا نفصله بالمسائل: فالأعمى لا يجزىء، ومن قطعت إحدى يديه أو إحدى رجليه لا يجزىء؛ فإن النقص يظهر والضرر يتبيّن، فإذا كنا نتكلم وظهر أن المرعي بالإعتاق الإطلاقُ عن الوِثاق، ففوات المقصود ليس شرطاً في تحقيق العيب، بل نقصانُه البيّنُ كافٍ، والعورُ لا يمنع بل يجزىء الأعور؛ فإن النقصان لا يبين، وهو بفَرْد عينٍ يعمل قريباً مما يعمله [ذو العينين] (2)، وكذلك يجزىء الأحول والأعرج، إذا لم يكن قريباً من الزمانة، ولا يؤثر البَهَق والبَرَص والوكع (3) والكوع (4) والقرع، وضعفُ الرأي والخَرَق. ولو قطعت إبهامُه، أو مُسبِّحتُه أو الوسطى من يده، لم يجز إعتاقه، وقطعُ الخنصر لا يَظهر أثرُه، وكذلك قطع البِنصر، ولو قطعت الخِنصر والبِنصر، فإن قطعتا من يد واحدة، مَنَعَ الإجزاءَ، وإن كان القطع من يدين فلا يمنع؛ فإن الضرر لا يظهر. وقطعُ الأنملة لا يؤثر إلا إذا قطعت من الإبهام؛ فإن قطع أنملة منها بمثابة قطعها، وقطع أنملتين في كل إصبع بمثابة قطع ذلك الإصبع، هكذا قال العراقيون، واستهانتُهم بقطع أنملة واحدةٍ محتملةٌ من غير الإبهام، كما فصّلوا. فأما إذا قطعت الأنامل العليا من الأصابع، فلعل هذا يحوج إلى مزيد نظر، والعلم عند الله.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 494 مسألة: 1036، المبسوط: 7/ 2. (2) في الأصل: ذو اليدين. (3) الوكع: هو اعوجاج إبهام رجله وإقباله على السبابة حتى يُرى أصلها خارجاً كالعقدة، ويقال: رجل أوكع، وامرأة وكعاء، ووكع وكعاً من باب تعب (المصباح). (4) الكوَع بفتحتين مصدر من باب تعب، وهو اعوجاج الكوع، وقيل هو إقبال الرسغين على المنكبين، ويقال للرجل أكوع وللمرأة كوعاء. (المصباح).

وفقد أصابع الرجلين لا أثر له وفاقاً، هكذا ذكره القاضي وغيره. والمجنون لا يجزىء إذا كان الجنون مطبقاً، والمريض يفصّل الأمرُ فيه، فإن كان المرض المانع من العمل مرجوّ الزوال، فلا مبالاة به، وهو كالصبي؛ فإن ابن اليوم يجزىء؛ لأنا على رجاءٍ من كبره، فليكن المرض كذلك، وإن كان المرض بحيث لا يرجى زواله، فهو مانع من الإجزاء. 9589 - ثم لا بدّ وراء ذلك من مزيد. فإذا أَعْتَقَ المريضَ الذي لا يُرجى برؤه، فتمادى المرض ومات، فلا إشكال أنه غير مجزىء، وإن استبلّ (1) [وأفاق] (2)، فهل نتبيّن أن العتق مجزىء أم نقول: برؤه حادثُ نعمةٍ بعد العتق، ولم يكن مقترناً بالإعتاق؟ الرأي الظاهر الإجزاء؛ لأنا كنا نبني المنع على أنه لا يبرأ، فإن برأ، فالحكم كذلك، والمسألة من طريق الترتيب والتلقيب لا من جهة الفقه تلتفت على [المعضوب] (3) يَستأجِر على الحج ثم يبرأ. وإذا أعتق مريضاً مرجوّاً؛ ثم تمادى المرض به ومات، فهذا فيه احتمال متردّد أيضاًً، والتنبيه فيه كافٍ، ولعل الأوجه الإجزاءُ؛ نظراً إلى الرجاء المقترن بحالة الإعتاق، وحملاً لما كان من الموت على حادثِ مرضٍ. 9590 - واختلف نص الشافعي رضي الله عنه في الأخرس واضطرب الأصحاب، فأجرى بعضهم قولين: أصحهما - الإجزاء؛ لأن الخرس لا يظهر أثره في العمل. والثاني - أنه لا يجزىء، فإن مناطقته عسرةٌ، وهذا يعسّر اختلاطه بالناس، وينعطف على تعذر عمله واكتسابه، وهذا تكلفٌ، والحق يناطق الفقيه بغيره. ومن أصحابنا من نزّل النصين على حالين، فقال: حيث مَنَع أراد إذا كان لا يُفهِم بإشارته، وحيث أجاز أراد إذا كان يُفهِم بالإشارات. وذكر بعض الأصحاب طريقة ثالثة، فقالوا البكم والصمم إذا اجتمعا منعا، وهذا

_ (1) استبلّ: بَرأ وسَلِم وتعافى وشفي من مرضه. (2) في النسختين: وفاقاً. (3) في النسختين: المغصوب (بالمعجمة).

يغلب في الذي يولد أصمّ؛ فإنه لا ينطق إذا لم يسمع ولا يَفهم [ولا يُفهم] (1). ومن أجرى القولين في الأخرس طردوا القولين في الأصم الأصلخ (2)، وهو بعيد، لا يليق بقاعدة الشافعي رضي الله عنه في مراعاة العمل. ونص الشافعي على من كان يُجن ويُفيق فإعتاقه مجزىء، وهذا ظاهر إن قل زمان الجنون وكثر زمان الإفاقة، فأما إذا كان زمان الجنون أكثر، فما نرى الشافعيَّ يقول ذلك رضي الله عنه، وإن استوى الزمانان في النُّوَب، فظاهر النص الإجزاءُ، وفيه احتمالٌ من طريق المعنى. 9591 - والذي نختم الباب به أن النقصان في العمل لم [يُجْره] (3) الشافعي رضي الله عنه على قياس النقصان (4) [في] (5) المالية حيث تُرعى المالية، فإن النقصان وإن قل إذا أثر في المالية، كفى في كونه عيباً، وهاهنا شَرَطَ الظهورَ، كما شرط أبو حنيفةَ الظهورَ في عيب الصداق، والسبب فيما ذكره الشافعي أن الناس أنفسهم يتفاوتون في القوى، ثم لا يشترط أن يكون العبد المعتَق قويّاً ذا مِرّةً، فقد نجد (6) ذا مرّة ضعيفَ الكسب، ونصادف ضعيفاً قويّ الكسب، وبالجملة لا ضبط، فلو اعتبرنا أدنى النقصان من العمل، لم يكن لائقاً، فهذا الأصل [مما] (7) نبهنا عليه. و [أما] (8) المالية، فإنّ ضبطها هيّن، فاعتُبر ما ينقصها. نعم، النقصان الذي يُتغابن في مثله لا اعتبار به أيضاًً؛ من حيث إنه لا يظهر به المقصود، فالمرعيُّ ظهور الغرض في كل باب على حسب ما يليق به، والهَرِم الذي ظهر عجزه عن العمل، لا يجزىء، والصغر لا يمنع الإجزاء؛ فإنه إلى الزوال.

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) الأصلخ والأصلج بالخاء والجيم بمعنى واحد، وهو الذي ذهب سمعه (المعجم). (3) في الأصل: يجزه، و (ت 2): يجوز. (4) (ت 2): السلطان المالية. (5) زيادة من المحقق. (6) (ت 2): نصادف. (7) غير مقروءة بالأصل. وفي (ت 2): "معنا" والمثبت تقدير من المحقق. (8) زيادة من (ت 2).

9592 - ورأيت في كلام العراقيين ما يشير إلى تردد في أن إعتاق الحمل هل يجزىء، وهذا فيه إذا تحققنا وجوده مع انسلاك الروح فيه، وطريق استبانة ذلك بيّن، [فلا] (1) شك أنا لا نحكم في الحال بحصول براءة الذمة، فلا يسلّط المظاهر على الغِشيان [وإن] (2) قلنا الحمل يُعرف، هذا لا خلاف فيه؛ فإنا لا نتحقق الحياة إلا بتقدير الانفصال على حدٍّ [يستند] (3) علمُنا معه بحياة الجنين إلى وقت الإعتاق. والذي رأيت فحوى كلام الأئمة عليه في طرق المراوزة أن الحمل لا يجزىء وإن تحققنا بطريق الاستناد وجود حياته حالة الإعتاق، وهذا ما يجب التعويلُ عليه، وتركُ الاعتداد بما سواه، والله المعين. ...

_ (1) في الأصل: ولا. (2) في الأصل: فإن. (3) في الأصل: يستبد. و (ت 2): يستنفد.

باب من له الكفارة بالصيام

باب من له الكفارة بالصيام قال الشافعي رحمه الله: "من كان له مسكن وخادم لا يملك غيره ... إلى آخره" (1). 9593 - لما ذكر الشافعي في الباب المقدّم العتقَ ومايتعلق به، ثم عقبه بصفة المعتق، وذكر انقسام العيوب إلى ما يمنع من الإجزاءِ، وإلى ما لا يمنع منه، وانتجز غرضُه في العتق، استفتح باب الصيام، فإنّ كفارة الظهار مبدوءةٌ بالعتق، فمن لم يتمكن، صامَ شهرين متتابعين، فجرى على مقتضى ترتيب الكفارة، وخاض في الصوم. وأول ما يجب الاعتناء به بيانُ العجز الذي يسوغ (2) لأجله الانتقالُ إلى الصوم، قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [المجادلة: 4] هذا يشعر بالإمكان ومقتضاه التضييق، حتى إذا كان للوجدان وجه، فلا سبيل إلى الحَيْدِ عن الرقبة والتعلّقِ بالصيام، ولكن اتفق الأصحاب على ضربٍ من الاتساع لا يلائم عندي ظاهرَ القرآن، ولكنا نطرد المذهب على وجهه نقلاً، ثم ننظر فيما نبهنا عليه. 9594 - قال الشافعي رضي الله عنه: إذا ملك رقبة غيرَ أنها مستغرَقةٌ بحاجته بأن كان مريضاً زَمِناً لا يستطيع الاستقلال، فلا نكلفه أن يُعتقه، بل له الانتقال إلى الصوم، وكذلك لو كان قادراً على أن يقوم بحاجات نفسه، ويتبذلَ في تصرفاته، ولكن كان لا يليق ذلك بمنصبه، ولو انتشر بنفسه، لكان ذلك غضّاً من مروءته (3)،

_ (1) ر. المختصر: 4/ 133. (2) (ت 2): يشرع. (3) (ت 2): غضاً من ضرورته.

فله أن يُمسك العبدَ قِواماً بهذه الأمور (1)، فنزّل الأصحاب الحاجة الحاقّة في البدن، وما يؤدّي إلى غض المروءة [منزلة عدم الرقبة] (2) في قول. وأبو حنيفة خالف في هذا. ولو ملك مسكناً فسيحاً وكان يكتفي ببعضه، فعليه إن أراد الخلاص من الكفارة أن يصرف البعضَ إلى الرقبة. وإن كان لا يتأتى ذلك، والمسكنُ في نفسه على قدر الحاجة، فلا نكلفه بيعَه؛ إذ الحاجةُ إليه أمسُّ منه إلى العبد الخادم فيما يتعلق بحفظ المروءة. ولو كان المسكن ضيقاً لا يمكنه بيعَ بعضه، ولكنه كان نفيساً، ولو باعه أمكنه أن يشتري ببعض الثمن عبداً، وبالبعض منه مسكناً في محِلّةٍ أخرى، فهل نكلفه ذلك؟ فعلى وجهين، قال القاضي: أظهرهما أنا لا نكلفه، ويسوغ له الانتقال إلى الصوم؛ فإن المسكن المألوف يصعب مفارقته، ويكون ضرباً من الجلاء (3). والوجه الثاني - نكلفه ذلك؛ فإن ضرر الجلاء إنما يظهر في مفارقة البلدة وتخليف الأهلين والمعارف. ولو ملك عبداً ثميناً، وكانت الحاجةُ تمَسُّ إلى اقتناء عبد، ولو باع هذا العبدَ لأمكنه أن يشتري ببعض ثمنه عبداً يُجزىء في الكفارة، ثم كان يتسع باقي الثمن لعبدٍ يخدمه، فهل نكلفه أن يبيع ذلك العبدَ ويفعل ما وصفناه؟ فعلى وجهين مأخوذين من بيع المسكن، والجامعُ الإلفُ. ولو لم يكن ذلك العبد مألوفاً بل كان حصل له من عهد قريب، فعليه أن يفعل ما وصفناه، وكذلك القول في المسكن إذا لم يُؤْلف. 9595 - فهذا ما ذكره الأئمة، وقياسهم هذا يقتضي ضرباً من (4) التوسعة فيما

_ (1) هذا معنى كلام الشافعي، وليس بلفظه. (ر. المختصر: 4/ 133). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) (ت 2): الخلاف. والجلاء هنا معناه الهجرة والرحيل ومفارقة الوطن، فهو ضرب من ذلك. (4) (ت 2): يتبين التوسعة.

نصفه، فلو كان في يد الرجل من المال ما يستقلّ به، ولو أُخذ بعضُه، [لاسْتحق] (1) بالمسكنة، وصار بحيث يجوز صرف سهم المساكين إليه، فالذي يقتضيه قياس الأصحاب أنا لا نُلزمه هذا؛ فإن الانتقال من الاستقلال إلى اختلال (2) الحال حتى يصير بحيث لا يفي دخلُه بخرْجه عظيمُ الوقع، وهو لا محالةَ فوق ترك المروءة ومخالفةِ المنصب، مع العلم بأن معظم ما يعدّه الناس من المروءات هو عند ذوي الألباب من رعونات الأنفس. وكذلك لو كان مسكيناً، فلا نكلفه أن يشتري عبداً؛ فإنه يناله بما يخرجه ضررٌ بيّن، وهو أوقع من الانتقال [من] (3) الاستقلال إلى أول حدّ المسكنة. هذا هو الذي تحققناه نقلاً واستنباطاً من قول الأصحاب. ومما ذكره (4) أنه لو كان له مال غائب، [فأراد الانتقال] (5) إلى الصوم في الكفارة المرتبة، لم يكن له ذلك، وليس كالمسافر لا يصحبه من المال ما يشتري به ماءَ الوضوء، وكان له مال في الغيبة، فالوجه أن يتيمم، فإن الصلاة لا تقبل التأخير، وماله في الغيبة لا يُغني عنه شيئاً، وهذا لا يتحقق في الكفارة؛ فإنها تقبل التأخير، وليس وجوبُها على الفور. قال العراقيون: لو كانت المسألة مفروضة في كفارة الظهار، فلا يكاد يخفى أن تحليله زوجته يتوقف على التكفير؛ فإذا كان ماله غائباً، ولم يجد من يقرضه، فلو كلفناه أن يؤخر التكفير، لاستمرّ التحريم، فماذا يصنع والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - أنه يؤخر؛ طرداً للقياس. والثاني - أنه ينتقل إلى الصيام، فإن الضرر قد يظهر عليه بترك الغِشيان، وقد يخاف الوقوع في الوقاع قبل التكفير.

_ (1) في الأصل: لا يستحق، والمثبت من (ت 2). (2) (ت 2): فإن الانتقال إلى اختلاف الحال حتى ... (3) في النسختين: إلى. (4) الضمير هنا يعود على القاضي،. وقد ذكره آنفاً، وليس على الشافعي، فإن هذا ليس في المختصر. والله أعلم. (5) زيادة من (ت 2).

ومما نُلحقه بما ذكرناه أن زكاة الفطر لم يُرْعَ فيها إلا ما يفضل من القوت، كما مضى مفصلاً في صدقة الفطر، وقد نُحوج إلى الفرق بين صدقة الفطر وبين ترتب البدل على المُبدَل في الكفارة، ويتجه أن نقول: صدقة الفطر قريبة المأخذ (1)، قليلة المقدار، سهلة المحتمل، فلم يبعد [نزعها] (2) إلى الوجوب، وهي تجب أيضاًً على الفور، وهذا يؤكدها ويوضح الفرق بينها وبين الكفارة، وهي أيضاًً شديدة الشبه بالنفقات، ولهذا تتبعها. 9596 - وقد نجز الغرض في هذا المقام، وبقي ما أبديناه إشكالاً في أول المسألة؛ إذ نبهنا على الظاهر، وما فيه من الإشكال. والممكنُ في دفع ذلك -والله أعلم- الالتفاتُ إلى ما يحِل محلَّ الإجماع: فإن (3) الذين كفَّروا بالصيام كانوا أصحاب مساكن يأوون إليها، وهم يصومون عن الكفارة، ومن ادّعى أن أحداً لم يصم في كفارة إلا وهو خليٌّ عن ملك المسكن، فقد ادعى بعيداً. وأيضاًً، فإن البدل والمبدل في الكفارات وجدناهما في مراتب الشرع قريبين، ولعل صوم الشهرين أوْقع من إعتاق عبد على أقل المراتب، سيّما في حق أصحاب النعم، وإذا كانت لا تتفاوت، فالترتب (4) فيها يجب أن يُقرَّبَ أمرُه، وليس كترتب التيمم في الوضوء، فإن الوضوء يرفع الحدث، ويفيد النظافة، ولا معنىً للتيمم يقرُب دَرْكه بالعقل إلاّ استدامةُ تمرين النفس، فكان التيمم في حقّ الترك للوضوء (5)، وفي الكفاراتِ يفيد كلُّ بدلٍ عينَ (6) ما يفيده المبدلُ، فلا يبعد أن يَقْرُبَ الأمر في

_ (1) (ت 2): مرتبة المأخذ. (2) في الأصل: تسرّعها. والمثبت من (ت 2)، ثم معنى نزعها أي ميلها واتجاهها. (3) (ت 2): قال. (4) (ت 2): فالترتيب. (5) في حق الترك للوضوء أي بمنزلة الترك للوضوء. (وإخال الكلمة محرّفة، وصوابُها: "في حكم الترك للوضوء"). والمعنى لا يتغير بذلك. (6) (ت 2): غير.

هذا، حتى يدار الأمر على العسر واليسر، والمشقة وعدمها. فإذا تبين هذا، فالخوض بعده في بيان الصيام. 9597 - قال الشافعي رحمه الله: "إن أفطر من عذرٍ أو غيره ... إلى آخره" (1). صوم الشهرين مقيدٌ مشروطٌ بالوِلاء والتتابع في كفارة الظهار، وكفارةِ القتل، والوقاعِ في رمضان، [فيجب] (2) رعايةُ التتابع، فلو أفطر في اليوم الأخير عمداً، فسد عليه الاعتداد بجميع ما قدمه. وهل نحكم بفساد الصوم، أم نقضي بانقلابه نفلاً تبَيُّناً؟ فعلى قولين أجريناهما في نظائر ذلك، فكل من نوى عبادة مفروضة، وكان المفروض مفتقراً إلى شرط والنفلُ من قبيله ونوعه لا يفتقر إلى ذلك الشرط، فإذا تخلف الشرط، ففي حصول النفل قولين قدمناهما مقرّرين في كتاب الصلاة. وكذلك لو ترك النية ناسياً في اليوم الأخير حتى أصبح، فلا سبيل إلى الصوم في هذا اليوم. عن جهة الكفارة، ثم يتبين خروج ما مضى من الاعتداد. ولو أنشأ صومَ الشهرين في وقت يتخلله يومُ العيد، لم يصحّ صومه، وأول عقده لا ينعقد من غير حاجة إلى التبيّن، فإنه أنشاه في وقتٍ لا يتأتَّى فيه الوفاء بالتتابع، ويعود القولان في انعقاد الصوم نفلاً، كما قدمناهما. وإن كانت المرأة تصوم الشهرين عن كفارة قتلٍ، فطريان الحيض لا يقطع تتابعهما؛ فإنّ هذا الزمان لا يخلو في الغالب عن طريان الحيض. ولو طرى مرض يبيح مثلُه الفطرَ في رمضان، فأفطر لأجله، ففي انقطاع التتابع قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا ينقطع لظهور العذر، والتتابع في صوم الكفارة لا يزيد على أداء صوم رمضان في وقته؛ فإذا جاز الإفطار في رمضان بعذر المرض، وجب أن ينتهض عُذراً في ترك التتابع. والقول الثاني - أن التتابع ينقطع؛ لأن من الممكن أن يصوم شهرين من غير قطع

_ (1) ر. المختصر: 4/ 133. (2) في الأصل: ويجب.

الوِلاء، وليس هذا [بتجويز] (1) الإفطار، فإن المرض يقتضيه، ولو مَنَعْنا من الفطر، كان إرهاقاً عظيماً، والذي نحن فيه ليس من قبيل المنع والجواز، وإنما هو نظرٌ في الاعتداد والاحتساب، هذا قولنا في المرض. فأما إذا سافر، وأفطر بعذر السفر، فقد ذكر أصحابنا في ذلك قولين مرتبين على القولين في المرض، وجعلوا الإفطار بعذر السفر لقطع التتابع أولى، والرأي الظاهر أن التتابع ينقطع؛ فإن تجويز الإفطار بعذر السفر رخصة لا تناط بمشقة ولا حاجة، فكيف يجوز أن يعدّى بمثل هذه الرخصة موضعها ومحلّها. 9598 - ومما يجب التفطّن له أنا لو روجعنا، فقيل لنا: الخائض في صوم الشهرين هل يجوز له أن يتركه عازماً على أن يبتدىء صومَ شهرين بعد هذا (2)، من غير عذر؛ فإنه يجوز له تأخير الكفارة قبل الخوض، فهل يخرّج اختيار قطع الوِلاء تعمّداً على تجويز تأخير الكفارة؟ هذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: له أن يفعل هذا بأنْ لا ينوي صومَ غده، فأما إذا خاض في صوم يومٍ، فيبعد أن يتسلط على إبطاله، فأما ترك الصوم في بقية الشهرين، فليس اعتراضاً منه على عبادة بالإفساد. ويتجه أن يقال: ليس له ترك الوفاء بالتتابع؛ فإن ما قدمه يخرج عن الفرضية (3)، فيكون معترضاً على فرضٍ بالرفع، ويقوَى هذا على قولنا ببطلان (4) الصوم تبيناً (5).

_ (1) في النسختين: كتجويز. والمثبت تصرّف من المحقق. والمعنى ليس قطع التتابع هذا بتجويز الإفطار، إنما هو من جهة الاعتداد بالتتابع والتقطع. (2) القضية التي استفتحها الإمام بهذه الفقرة هي تحريم إبطال الأعمال بعد انعقادها والشروع فيها، وهل قَطْعُ التتابع، وترك الاستمرار في أداء الكفارة، عزماً على استئنافها في وقت آخر، هل هذا يدخل في باب إبطال الأعمال فيحرم أم لا؟ ينبني هذا على اعتبار صوم الشهرين عبادة واحدة أم كل يوم عبادة مستقلّة، ونترك بيان ذلك للإمام؛ فقد عرضها بأبلغ عبارة وأدق ترتيب. (3) "ما قدمه يخرج عن الوفاء بالفرضية": أي يقع وفاءً بفرضٍ، كما يظهر من الجملة بعده. (4) القول ببطلان الصوم الذي سبق -إذا قطع التتابع- تبيناً، هو أحد القولين اللذين ذكرهما الإمام آنفاً في حكم هذا الصوم قبل القطع؛ هل ينقلب نفلاً أم يبطل تبيناً. (5) (ت 2): يقيناً.

ويجوز أن يجاب عنه بأن قطعَ التتابعِ لا يفسد الفرضيةَ، بل إذا انقطع التتابعُ، تبين أن الذي مضى لم يكن فرضاً، وليس يقطع عبادة شرع فيها؛ فإن القطع (1) إفسادٌ لها بعد القطع (2) بالانعقاد. ويجوز أن يقال: ما مضى وقع حقاً عن الكفارة، ثم بطل وقوعُها عن الكفارة؛ فإن الذي ينوي الصوم عن الكفارة جازمٌ نيته، غيرَ أن ارتباط التتابع لا بد من رعايته، فإذا قطعه، بطل ما تقدم عن جهة الكفارة بطلانَ الصلاة بعد انعقادها. فإذا رأينا جوازَ تركِ الصيام؛ عزماً على افتتاح الشهرين من بعدُ، فلا كلام، وإن لم نجوّز، وقلنا: المرض لا يقطع التتابع، فيجوز الإفطار بسببه (3)، وإن قلنا: المرض يقطع التتابع، فيجوز الفطر أيضاًَ بسببه، كما يجوز الفطر في رمضان (4) على التزام القضاء من بعدُ، وكذلك يجوز الفطر بعذر السفر على التزام الاستئناف من بعدُ. وهذه الأمور على وضوحها لا يضر التنبيه لها. 9599 - ومما يليق (5) بتمام القول في هذا أنا قدمنا أن من نسي النيةَ ليلاً، وأصبح غيرَ صائم، فهذا يقطع التتابع، ولا يبعد عن القياس إلحاق هذا بالمعاذير، وإن كان تَرْكُ المأمور به لا ينتهض عذراً، وإنما النسيان عذر في مظان النهي، ولكن إذا كان السفر عذراً على رأيٍ حتى لا ينقطع التتابع بالفطر فيه، فقد يقرب بعضُ القرب ما ذكرناه، [والأظهر ما قطع به الأصحاب] (6)؛ فإن النسيان لا يقام عذراً في ترك

_ (1) (ت 2): التتابع. (2) القطع هنا ليس بنفس المعنى في الجملة السابقة، وإنما القطع هنا بمعنى التيقن، لا بمعنى إبطال العبادة والانصراف عنها، فالمعنى: أن إبطال العبادة وإفسادها هو (قطعها) بعد التيقن من انعقادها، وليس من ذلك قطع التتابع. (3) يجوز الفطر بسببه، أي ويستمر التتابع. (4) يجوز الفطر بسبب المرض وينقطع التتابع، وأثر الحكم بجواز الفطر أنه لا يأثم إثم من أبطل العبادة بقطع التتابع، فقد قطعه بما جوزناه له. (5) (ت 2): ومما يتبين. (6) تصرفنا في هذه الجملة بين المعقفين، وأخذناها من عبارة العز بن عبد السلام، حيث جاء في الأصل وفي (ت 2) معاً كلمة غير مقروءة استحال معها إقامة الجملة، ففي النسختين: =

المأمورات. ويشهد لهذا أن من نسي النية في رمضان وأصبح فيلزمه الإمساك على الرأي الأصح، وإن كان الإمساك في حكم التغليظ على من يترك صوماً مستحَقاً في رمضان، فألحقنا الناسي بالذي يتعمد إفطاراً من غير عذر. 9600 - ومن تمام القول في التتابع اختلافُ الأصحاب في أن نيّة التتابع هل تشترط أم لا؟ فمنهم من قال: لا تجب نية التتابع؛ فإنه هيئةُ (1) العبادة، ومن نوى العبادة، لم يلزمه التعرض لبيانها في نيتها. ومن أصحابنا من أوجب نية التتابع، كما يوجب نية الجمع بين الصلوات، وهذا بعيد؛ فإن الأصل إقامة الصلوات في مواقيتها، ورخصة الجمع تخالف هذا الوضع، فاشترط الأكثرون من الأصحاب قصداً (2) إلى ذلك. ثم إن شرطنا نية التتابع، فهل يجب الإتيان بها كلَّ ليلة، أو يكفي الإتيان بها في الليلة الأولى؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون. والمسألة محتملة إن صح اشتراط نية التتابع، والخلاف في ذلك عندنا يقرب من الخلاف في اشتراط نية التمتع من حيث إن النسكين مجموعان على وجه مخصوص. 9601 - ثم قال: "وإذا صام بالأهلّة ... إلى آخره" (3). إذا ابتدأ الصوم في أول الهلال، صام شهرين بالأهلة، ووقع الاعتداد بما جاء به سواء نقص الشهران أو كملا، أو نقص أحدهما، وكمل الثاني. وإن استفتح الصوم في أثناء شهرٍ، صام بقية ذلك الشهر، وصام الشهرَ الذي يليه بالهلال، ثم استكمل صومَ الشهر الأول ثلاثين يوماً، ولا فرق بين أن ينقص ذلك الشهر -أو يكمل- وقد ذكرنا هذا في مواضع (4).

_ = "والأظهر ما يقطع به الأخذ، فإن النسيان لا يقام عذراً ... " هكذا (الأخذ) بكل وضوح. وهي في (ت 2) ما (قطع) بدل (يقطع)، فهل هو تصحيف اتفقت عليه النسختان، أم هو سقط، أم هما معاً؟؟ الله أعلم. (1) (ت 2): فإن هذه العبادة. (2) قصداً: مفعول لقوله: اشترط الأصحاب. (3) ر. المختصر: 4/ 134. (4) منها السَّلم وتعليق الطلاق.

وقال أبو حنيفة (1): إذا انكسر الشهر الأول، بطل اعتبار الأهلة بالكلية، واعتلّ بأَنْ قال: لو كملنا نقص الشهر الأول بأيام من الشهر الثالث، لكان ذلك مناقضاً لقاعدة التتابع، ولأدّى إلى تخلل الشهرِ بَيْنَ كسرِ الشهر الأول وتكملته في الشهر الثالث. وهذا لا بأس به، وقد مال إليه بعض الأصحاب، وقد سبق منّا رمزٌ إليه في تعليق الطلاق بمضي الأشهر، والمذهب ما قدمناه، وهو النص، ولا اعتداد بما سواه. 9602 - ثم قال: "ولو نوى صوم يوم فأُغمي عليه ... إلى آخره" (2). أشار إلى الإغماء وحكمه، وقد سبق على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب الصوم، والذي يتعلق بهذا الكتاب أنه إذا حصل الفطر بعذر الإغماء، فهو كحصوله بسائر أنواع المعاذير، وفي انقطاع التتابع قولان، كما قدمناه. فصل قال: "وإنما حكمه في الكفارات حين يكفر ... إلى آخره" (3). 9603 - اختلف قول الشافعي في الحالة المعتبرة في صفة الكفارة المرتَّبة، فقال في قولٍ: الاعتبار بحالة الوجوب، فإن كان موسراً، كانت كفارته كفارة الموسرين، وإن أعسر من بعدُ، لم يجزه الصوم، وصار العتق دَيْناً في ذمته إلى أن يجد وفاءً به. والقول الثاني - أن الاعتبار بحالة الأداء والإقدام على التكفير، فلو كان موسراً حالة الوجوب فأعسر، وأراد التكفير، فله أن يصوم؛ نظراً إلى حالة الأداء. وفي المسألة قول ثالث أنا نراعي أغلظ الطرفين وأشدَّهما، فإن كان موسراً يوم الوجوب، ففرضه الإعتاق، وإن كان مُعسراً يوم الوجوب، وكان موسراً حالة الهم بالأداء، لم يُجْزه إلا الإعتاق. توجيه الأقوال: من قال: الاعتبار بحالة الوجوب، قال: نوع تكفير يختلف

_ (1) ر. المبسوط: 7/ 14. (2) ر. المختصر: 4/ 134. (3) ر. المختصر: 4/ 135.

بالرق والحرية، فالاعتبار فيه بحالة الوجوب كالحدود، والمعنى أنه إذا ثبت موجِب الكفارة، وجب القضاء بوجوب الكفارة، فإن الموجَب لا يستأخر عن الموجِب، وإذا قضينا بوجوب العتق، استحال الخروج عن الكفارة إلا به. ومن قال بالقول الثاني احتج بأن الاعتبار في العبادات بوقت أدائها، قياساً على الصلاة؛ فإن من فاتته صلاة في حالة عجزه عن القيام، ثم أراد إقامتها في وقت القدرة، فإنه يقيمها قائماً، ولو كان الأمر على العكس، أقام الصلاة عاجزاً قاعداً، وإن كان التزمها قادراً على القيام. قال القاضي: القولان مأخوذان من أن المغلَّب في الكفارة العبادةُ أو جهةُ العقوبة: فإن غلبنا جهةَ العبادة، شبهناها بالصلاة، فاقتضى ذلك اعتبارَ حالة الأداء، وإن غلبنا شَبَهَ العقوبات، اعتبرنا حالة الوجوب. وهذا فيه نظر مع إيجابنا الكفارة على من لا نُؤثِّمُه، وقَطْعِنا بانقطاع العقوبة عمن هو في مثل حاله. واعتبارُ الأغلظ والأشد ينزع إلى رعاية الاحتياط. التفريع على الأقوال: 9604 - إن قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، فلو كان معسراً في تلك الحالة، كفاه الصوم، ولو أيسر وأراد أن يعتق، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن له أن يعتق؛ فإن العتق هو الأصل، وهو في الرتبة العليا، والصوم دونه، فإن كان يُجزىء الأدنى فلأن يجزىء الأعلى أولى. وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الرأي. والثاني - لا يجزئه إلا الصوم؛ فإنه تعيّن في ذمته، وهذا وإن كان بعيداً في الحكاية، فإنه [يقوى بالمعنى] (1) الذي أشرت إليه في صدر الباب، من أن المبدل والأبدال ليست متفاوتة في الرتب، وإنما قُدِّم بعضُها وأُخِّر وفاقاً تعبداً، فإذا وقع الحكم بالوجوب، فلا [معدل] (2) عن الواجب.

_ (1) في النسختين: يقوّي المعنى. والمثبت من المحقق رعاية للمعنى المفهوم من السياق. (2) في الأصل: معوّل.

ومعظم الأئمة قطعوا بإجزاء الإعتاق، وحكَوْا الوجهين فيه إذا كان ملتزمُ الكفارة عبداً، وكان الواجب عليه الصوم؛ تفريعاً على أنه لا يملك، فلو عَتَق وملك، فأراد أن يعتق، فهل يُجزئه العتقُ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يُجزئه؛ فإن البدل إذا أجزاً، فالمبدل بالإجزاء أولى. والثاني - لا يجزئه؛ فإنه التزم الصوم في وقتٍ لا يتأتى منه غيرُه، فكأنه لم يكن الصوم في حقه على حقائق الأبدال؛ فإذا تعين الصوم، فلا معدل عنه. وذكر صاحب التقريب في الحرّ المعسر الوجهين، وهذا بعيد، والفرق أن العتق يتصوّر وقوعه من المعسر على الجملة، بخلاف العبد. وإذا فرعنا على أن الاعتبار بحالة الأداء، فليس يخفى تفصيله: فمهما (1) أقدم على التكفير، اعتبرت صفةُ حالة الأداء. ومن راعى الأشد، فمعناه أنه إن كان موسراً وقت الوجوب، فلا يجزئه إلا الإعتاق، ولو فقد يساره صَبَرَ إلى الوجدان، وإن كان مُعسراً حالة الوجوب ثم أيسر، فأراد الصومَ نظراً إلى حالة الوجوب، لم يكن له ذلك. هذا بيان الأقوال. 9605 - وقد قال الأصحاب: لو شرع في صوم الشهرين ثم أيسر، وقلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فلا يقطع صومَ الشهرين بعد الخوض فيه، وإنما يعتبر الأداء إذا أيسر قبل الخوض في الصوم، هذا ما وجدته للأصحاب رضي الله عنهم. وما يدور في الخَلَدِ من المسألة أنا إذا اعتبرنا الأشدّ (2) والأغلظَ، فتعتبر الطرفين في الشدة، فلو كان معسراً حالة الوجوب، وكان معسراً حالة الأداء أيضاًً، ولكن تخلل بينهما حالةُ يسار، فلم أر أحداً من الأصحاب يعتبر تلك الحالةَ المتوسطةَ، وقد يظن الناظرُ ذلك محتملاً، ولكن المذهب على خلافه. والسبب فيه أن الوجوب على الحقيقة يضاف إلى وقت وجوب الكفارة، ثم وقت

_ (1) فمهما: بمعنى: فإذا. (2) (ت 2): إذا اعتبرنا بلا شك بالأشد والأغلظ ...

الأداء منتظر، فلا يتبدل الوجوب من غير تقدير أداء؛ فإن اليسار لا يوجب شيئاً، بل إذا أدى الموسر، فينبغي أن يؤدي ما يليق بحاله. هذا بيانُ الأقوال والتفريع عليها. 9606 - وذهب أبو حنيفة (1) والمزني إلى أنه لا حكم للشروع في الصوم؛ [فلو] (2) شرع فيه ثم أيسر، وقلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، لزمه أن ينتقل إلى الإعتاق، وهذا طرده المزني (3) على أصله في وجود الماء في خلال الصلاة، حيث قطع بانقطاع التيمم وبطلانِ الصلاة، ونزّل وجدان الماءِ في الصلاة منزلةَ وجدانه قبل الشروع في الصلاة. وقد سمعت شيخي غير مرّة يحكي عن بعض الأصحاب موافقةَ المزني في مذهبه. وهذا (4) له اتّجاه، وإن كان بعيداً في الحكاية. ومما يجب التنبه له أنا إذا قلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فالتعبير عن الواجب قبل اتفاق الأداء قد يغمض؛ فإنا لو قلنا: الواجب ما يقتضيه الحالة التي عنها نُعبِّر (5) أو حالة الوجوب. فتبديل الواجب بعيد. وإن قلنا: لا تجب الكفارة (6)، كان خرقاً للإجماع. وفي نقل مذاهب العلماء في هذه المسألة ما يدل على خلاف هذا؛ فإنهم قالوا: اختلفت المذاهب في أن الاعتبار بحالة الوجوب (7) أم بحالة الأداء، فأثبتوا حالة الوجوب، فلا يتجه إذاً إلا مسلكان: أحدهما - أن نقول: تجب الكفارة ولا يتعيّن صنفها، وإنما تتعين حالة الأداء، ولا يمتنع هذا النوع من الإبهام، وهو بمثابة

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 213، المبسوط: 7/ 12. (2) في النسختين: ولو. (3) ر. المختصر: 4/ 136. (4) (ت 2): لا اتجاه له. (5) في (ت 2): "تغير". (6) أي لا تستقر في الذمة إلا عند الأداء. (7) (ت 2): في أن الاعتبار بحالة الوجوب فلا يتجه إذاً إلا مسلكان.

إيجابنا كفارة اليمين على الموسر، مع أنا لا نعيّن خصلة من الخصال الثلاث، فإذا اتفق أداء بعضها فالمؤدّى هو الواجب. هذا مسلك. ويجوز أن يقال: يجب ما يليق بحالة الوجوب، ثم إذا تبدل الحال، تبدل الواجب، وهذا ليس بدعاً، كالصلاة تجب على القادر (1)، ثم يعجز، فتتبدل صفة الصلاة. ...

_ (1) (ت 2): الكافر.

باب الكفارة بالطعام

باب الكفارة بالطعام 9607 - نصدر هذا الباب بالسبب الذي يجوّز الانتقالَ من الصيام إلى الإطعام، كما صدرنا باب الصيام بمعنى العجز عن الإعتاق، فإن عجز من فرضُه الصيام لهَرمٍ أو مرض يجوز الإفطار بمثله في رمضان، فله الانتقال إلى الإطعام. ومن أسرار ذلك أنا لا نشترط أن يكون المرض لازماً، بحيث يبعد عن الظن زواله؛ بناء على أن الكفارة تقبل التأخير، وقد يتأكد هذا السؤال بشيء، وهو أن من ماله غائب لا ينتقل إلى الصيام لعجزه عن العتق في الحال، وهذا فيه بعض الإعواص (1)؛ فإن الفرق بينهما متعذر، والمرض مرجوّ الزوال، وحضور المال والانتهاء إلى المال ليس بعيداً عن الرجاء، والكفارة ليست على التضييق. ولعل الممكنَ فيه التعلُّقُ بالظاهر، وهو المعتمد، وإليه الرجوع، قال الله تعالى في الانتقال إلى الإطعام: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، وهذا المرض الناجز والعجز العاجل غير مستطيع، وقال تعالى في الرقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] والمراد: "فمن يجد رقبة أو مالاً يشتري به رقبة"، ومن ماله غائب لا يسمى فاقداً للمال. ويجوز أن يقال: إحضار المال والمصيرُ إليه متعلق بالاختيار، والاختيارُ في [مقدمات] (2) الشيء والتسبّب إليه كالاختيار في عينه، والمرض خارج عن الاختيار، والأولى اعتماد الظاهر، كما ذكرته. 9608 - وقال الأصحاب: إذا سافر من عليه الكفارة وأراد الإطعام في سفره بسبب

_ (1) الإعواص: يقال: أعوص فلان في الكلام أتى بالعويص منه، أي بالغامض الذي يصعب فهمه (المعجم). (2) في الأصل: المقدمات.

أن السفر الذي هو ملابسه مما يجوز ترك صوم رمضان به إلى القضاء، فقد صار طوائف من أصحابنا إلى جوازِ ذلك، وتشبيهِ السفر بالمرض، وهو الذي ذكره القاضي، ولم ينقل غيرَه، وطرد ما ذكرناه من أن كل ما يجوز الإفطار به في رمضان يجوز الانتقال به إلى الإطعام. وهذا فيه إشكال؛ فإن المسافر قادرُ على الصيام، والفطرُ المثبَتُ رخصةٌ في حقه غيرُ منوطة بالعجز، والفطرُ بالمرض منوطٌ بالحاجة الحاقة، فلا يقع الاكتفاء باسم المرض، واسمُ السفر الطويل كافٍ -إذا لم يكن سفرَ معصية- في الترخّص بالرخص. والانتقالُ إلى الإطعام منوط بعدم الاستطاعة في نص القرآن، فلا وجه لهذا. والذي يدور في الخلد أن المرض الذي أطلقه الأصحاب ليس على ما أطلقوه؛ فإن الإنسان قد يطرأ عليه عارض يعلم أنه لا يدوم يوماً أو يومين، فيجوز الإفطار بمثله، ولا يجوز عندي الانتقال بمثله إلى الإطعام، ولو كان المرض بحيث يتوقع دوامه واستمراره لشهرين، فهذا هو الذي يجوز الانتقال بسببه، ثم الظنُّ يكتفى به. ولو أطعم، ثم اتفق زوال المرض، وتعجّل الشفاء على القرب، فالإطعام مجزىء والقضاء به غير ممتنع، وهذا لا بد منه. 9609 - ومما يتعلق بهذا أن الصيدلاني رحمه الله نقل عن الشيخ القفال أنه قال: قال بعض أصحابنا: الشبق المفرط والغُلْمة الهائجة عذرٌ في الانتقال إلى الإطعام، وكان يستشهد بحديث الأعرابي: إذ قال في القصة المشهورة وهل أُتيت إلا من جهة الصوم، فقال صلى الله عليه وسلم: "أطعم". [سبَّبَ] (1) الأعرابي بما ذكرناه، فقدّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عذراً، ونقله إلى الإطعام (2).

_ (1) في الأصل: شببه. والمثبت من (ت 2). والمعنى جعل الأعرابيُّ الشبقَ والغُلمةَ سبباً في الاعتذار عن إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال له: "صم شهرين" فعد ذلك صلى الله عليه وسلم عذراً، ونقله إلى الإطعام. (2) مضى تخريج هذا الحديث في كتاب الصيام.

وذكر القاضي هذا الوجهَ، ولم يذكر غيره، وذكر صاحب التقريب وجهين: أصحهما - أن الغُلمةَ لا تكون عذراً؛ فإن الليالي متخللة، وفيها مقنع ومندوحة، وقصة الأعرابي مشكلةٌ مِنْ وجوهٍ، تعرضنا لها في كتاب الصيام. وقد أجمع الأصحاب على أن فرط الشَّبَق لا يرخِّص في الفطر في رمضان، وإنما هذا التردد في الانتقال إلى الإطعام، ولعل من قال ذلك اعتلّ بطول مدة الامتناع نهاراً عنها، وهذا ينقضه طولُ مدةِ رمضان، وما أوضحناه من تخلل الليالي يُبطل هذا الخيال. وقد انتجز القول في العجز المعتبر للانتقال من الصيام إلى الإطعام. فصل قال: "ولا يُجزئه أقلُّ من ستين مسكيناً، كل مسكين مداً ... إلى آخره" (1). 9610 - القول في ذلك يتعلق بالمخرَج والمخرَج إليه، فأما المخرَج، فالكلام في مقداره وجنسِه، أما المقدارُ، فستون مُدّاً، وأما الجنسُ، فالقول فيه كالقول في صدقة الفطر. أما المخرَج إليه، فالكلام في عددهم، وصفتهم، فأما العدد، فليكونوا ستين، ولا ينقص حصة كلِّ واحدٍ عن مُدّ، فلو صرف أمداداً إلى مسكين في أيامٍ؛ صائراً إلى إقامة سدِّ الجَوْعاتِ في الشخص الواحد مقامَ أعداد المساكين، لم يجز، خلافاً لأبي حنيفة (2). وأما صفتهم فليكونوا مساكين، بحيث يجوز للمكفر صرفُ الزكاة إليهم، ولا يجزىء التغذيةُ والتعشيةُ؛ إذ لا تمليك فيها، والتمليك مرعيٌّ عندنا في إخراج الكفارة، كما نرعاه في إخراج الزكاة. ولو أحضر الطعام، وقد شهد ستون مسكيناً فقال: خذوه، فأخذوه وجَهِلْنا مقدارَ ما أخذه كلُّ واحد منهم، واستبهم الأمرُ، فلا

_ (1) ر. المختصر: 4/ 138. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 498 مسألة: 1042، المبسوط: 7/ 17.

نحكم إلا بإجزاء مُدٍّ واحدٍ، فإن واحداً منهم لا بد وأن يكون أخذ مدّاً أو أكثر، فهذا القدر مستيقنٌ، فيحصل براءة الذمة عن هذا المقدار. وهذا بيّن. فروع شذت عن الأصول نأتي بها مجموعة إن شاء الله. 9611 - إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، فالظهار مما يصح تعليقه كالطلاق، فلو أعتق عبداً عن كفارته قبل أن تدخل الدار، فقد قال ابنُ الحداد (1): تقع الكفارة موقعَها، وبنى هذا على أن تعليق الظهار أحدُ سببي الكفارة، وتقديمُ الكفارة على أحد سببيها جائز. وقد خالفه معظم الأصحاب، فقالوا: هذا تقديمٌ للكفارة على سببيها جميعاًً؛ فإن كفارة الظهار لها سببان: أحدهما - الظهار، والثاني - العودُ، ولا يحصل الظهار قبل دخول الدار. ونظير المسألة التي ذكرناها ما لو قال: إن دخلت الدار، فوالله لا أضربك، ثم قدّم التكفير على دخول الدار، لم يُجْزه. ووافقه بعضُ الأصحاب، وجعلوا تعليق الظهار بمثابة الظهار، وهذا بعيد، ثم هؤلاء لا يسلمون المسألةَ التي وقع الاستشهادُ بها في اليمين، فلو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، ثم قال: إن دخلت الدار فعبدي حر عن ظهاري، فلا يخفى تفريع المسألة على رأي ابن الحداد، والعتق ينصرف لا شك فيه إلى الظهار على طريقته، فإنه إذا جوّز تنجيز العتق قبل الدخول، فما ذكرناه أولى بالجواز. ومن خالفه من أصحابنا منع هذا أيضاًً؛ لأن تقديم [العتق] (2) قبل الظهار ممتنع، وهكذا جرى الأمر.

_ (1) (ت 2): القفال. وهو سبق قلم، والمثبت من صفوة المذهب مع الأصل طبعاً، وهو الذي يتفق مع تفصيل المسألة الآتي. (2) في النسختين: التعليق، والمثبت من عمل المحقق.

ولو قال: عبدي هذا حر عن ظهاري إذا تظاهرت، لم يقع العتق عن ظهاره، وقد مهدنا هذا فيما تقدم من المسائل. فرع: 9612 - إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ثم جن عقيب اللفظ، أو مات، فالذي أطلقه الأصحاب أنه لا يكون عائداً؛ فإنه لم يمسكها مع التمكن من الطلاقِ، تاركاً الطلاق. ولو جُن عقيب الظهار، كما صورناه، فأفاق، قال الشيخ: سمعت بعضَ الأصحاب يقول: نفسُ الإفاقة هل تكون عوداً؟ فعلى وجهين كالوجهين في أن الرجعة هل تكون عوداً، حكى هذا وزيفه، والعجب منه كيف يحكي مثلَ هذا. ولو قال لامرأته: إن لم أتزوج عليك، فأنت عليَّ كظهر أمي، فلا يثبت الظهار ما لم يتحقق اليأس من التزوج، فلو مات، فقد حصل الظهار قبل موته بلحظة، هكذا قال ابن الحداد وهو سديد، لا شك فيه، ثم قال بعده: وهو عائد يلزمه الكفارة، فإنه ظاهر ولم يطلق. وقد غلطه كافةُ (1) الأصحاب، فقالوا: أما الظهار، فقد ثبت ولم يثبت العود، فإنه عقيب الظهار مات، فإن كان يقول ابن الحداد من مات عقيب الظهار، فهو عائد، فقد خالف ما عليه الأصحاب، والموتُ لا ينحط عن الطلاق، والنكاحُ ينتهي به، وإن قال: هو لم يطلق، لم يقبل منه هذا وقد ارتفع النكاح. هذا منتهى ما أردناه، والله المستعان. ...

_ (1) (ت 2): بعض الأصحاب.

الموفق من يهتدي إلى المأخذ الأعلى، فإن مذهب إمامنا الشافعي تدواره على الأصول، ومآخذ الشريعة. الإمام في نهاية المطلب

كتاب اللعان

كتاب اللعان 9613 - اللعان عبارة عن الكلمة المذكورة في كتاب الله تعالى من قوله سبحانه: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} إلى قوله: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9]، وسميت الكلمةُ لعاناً لاشتمالها على اللعن، وإنما وقعت التسميةُ به، وهو أقل الكَلِم؛ لأنه غريب في مقام الشهادات والأيْمان، والشيء يشهر بالغريب الواقع فيه، وعلى ذلك جرى معظم تسميات سُوَر القرآن، ولم تقع التسمية بالغَضَب؛ لأن الأصل كلامُ الزوج، وقد يثبتُ دون لعانها. والأصلُ في مضمون الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآيات [النور: 6 - 9]، نزلت في عُويمر بنِ مالكٍ العجلاني، وقيل: هلال بن أمية رَمَى زوجتَه بشريك بن سَحْماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتأتينّ بأربعة شهداء، أو يُجْلدُ ظهرُك "، فاغتم به، وقال: " أرجو أن ينزل الله فيّ قرآناً يبرِّىء ظهري، فنزلت الآية، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم باللعان فتلاعنا " (1)، وحكم بالفرقة بينهما ونفى الولد. واللعان في ظاهر القرآن مرتبٌ على أن لا يجد الزوج بيّنة على تحقيق زناها؛ فإنه عز من قائل قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]، وهذا الترتيب عرفناه في منازل البينات من نص القرآن. فكان هذا خارجاً على ذلك المذهب، وإن لم يكن شرطاً، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، ثم شهادة الرجل والمرأتين مقبولة مع التمكن من إقامة شهادة رجلين، فكان قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: 282]،

_ (1) قصة لعان عويمر العجلاني متفق عليها من حديث سهل بن سعد (البخاري: الطلاق، باب اللعان ومن طلق بعد اللعان رقم 5308، مسلم: اللعان رقم 1492).

محمولاً على اتفاق شهادة رجلين، والتقدير: إن لم يتفق شهادة رجلين، فشهادة رجلٍ وامرأتين. 9614 - ثم أول ما نصدر به الكتاب أن الرجل إذا قذف زوجته وسوّغنا له أن يلاعن على ما سيأتي تفصيل ذلك في مسائل الكتاب، فلسنا نقول: اللعان من موجَبات القذف، بل موجَب القذف الحدّ أو التعزير، ولكن لو قذف الرجل أجنبية، فلا نخلّصه من القذف إلا ببينةٍ على زناها، أو على إقرارها بالزنا، وقد تُنشىء الإقرار فيتخَلّصُ. وإذا قذف الرجلُ زوجتَه المحصنةَ، فما ذكرناه من المخلِّص في حق الأجنبيةِ ثابتٌ في حق الزوِج، وله مُخلِّصٌ آخر ضمّاً إلى تلك الجهات، وهو اللعان، فقد أثبت الشرع اللعانَ مُخلِّصاً للزوج يليق بحالة الضرورة، فإن المرأةَ إذا لطّخت فراشه وتحقق ذلك عند الزوج، فلو صمت وسكت، لاطّردَ العارُ، وقد [يلحقه] (1) نسب متعرض للثبوت وهو في علم الله تعالى منفيٌّ، فخصه الشرع بمخلِّصٍ، والرجل على الجملة مبرّأٌ عن التهمة في قذف زوجته هَزْلاً من غير علم أو ظن غالب. ثم اللعان يضاهي البينة ويشابهها في رد الحد عن القاذف وإثبات الزنا عليها، وله مزية على البيّنة؛ فإنه يتضمن قضايا لا تناط بالبينة واحدةٌ منها، وهي نفيُ الولد، ووقوعُ الفرقة، وتأبُّدُ التحريم. وإذا ضممنا خصائصَ اللعان إلى ما يساوي اللعانُ فيه البينة قلنا: ما يتعلق باللعان خمسُ خصال: درءُ الحد عن الزوج، ووجوبُ الحد عليها إلا أن تلتعن، ويلتحقُ بهذا نفي الولد، ووقوعُ الفرقة، وتأبُّدُ التحريم. وأبو حنيفة (2) يجعل اللعان موجَب القذف، ويقضي بأنه عقوبة، وهو بالإضافة إلى قذف الزوجة كحدّ القذف بالإضافة إلى قذف الأجنبي. فهذا تأسيس الكتاب في ماهية اللعان.

_ (1) في النسختين: يلحق. (2) ر. المبسوط: 7/ 39، بدائع الصنائع: 3/ 237، فتح القدير: 4/ 111، اللباب: 3/ 74.

9615 - ومما يُجريه العلماء في ذكر حقيقةِ اللعان أن أصحاب أبي حنيفة يدّعون أن اللعان شهادة، وأصحابُنا يقولون: اللعان يمين، والمنصف من أصحابنا يقول: في اللعان شَوْب اليمين والشهادة، فأما شوب اليمين، فأصدق شاهد فيه صَدَرُ اللعان عمّن هو في مقام الخصومة وهو يحاول تصديق نفسه، ولا يتصور هذا في مساق الشهادات، ثم يثبت في اللعان من أحكام الشهادة قضيةٌ واحدة، وهي أن الزوج إذا لم يلتعن، ونكل، ثم رغب فأراد اللعان، فله ذلك، كما لو لم يُقم المدّعي ببينة، ثم أراد إقامتَها، وليس كاليمين في هذه القضية، فإن من نكل عن اليمين، ثم رغب فيها، لم يُمكَّن من الحلف. فصل قال: " وفي ذلك دلالة أن ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطلب المقذوفةُ حقها ... إلى آخره " (1). 9616 - الزوج إذا أراد أن يلتعن، فلا يخلو: إما أن يكون ثَمّ ولد يُريد أن ينفيه، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن له ولد، نظر: فإن كان القذف يوجب حداً على الزوج لو لم يلتعن، فله أن يلتعن وتنتفي العقوبةُ، ثم تثبتُ سائرُ قضايا اللعان، كما ذكرنا جُمْلَها، وسيأتي تفصيلها. وإن كان موجب القذف التعزير، فسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله. وإن كان لا تتوجه العقوبة عليه بسبب عفوها، أو تصديقها إياه، أو بسبب قيام البيّنة على زناها، فلو أراد أن يلتعن والحالةُ هذه، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ إذ لا ولد، ولا عقوبة، فإن أراد الخلاص منها، فالطلاق ممكن. والوجه الثاني - له أن يلاعَن؛ ليردّ العار (2) عليها؛ مجازياً إياها؛ إذ لطخت فراشه.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 143. (2) (ت 2): اللعان.

9617 - ثم قال: " ولما لم يخص الله أحداً من الأزواج ... إلى آخره " (1). غرض الفصل بيان من هو من أهل اللعان. عندنا كل من كان من أهل الطلاق، فهو من أهل اللعان، وإن أردنا الضبط بأمرٍ أخصَّ قلنا: من كان من أهل استيجاب الحد بالقذف، كان من أهل اللعان، وإن قلنا: كلُّ مكلف ملتزم، فكل هذه العبارات جائزة، فالحر، والعبد، والذمي، والمسلم، مستوون. ثم [إن] (2) تفاوتوا في أقدار الحدّ، فلا تفاوت في اللعان أصلاً وتفصيلاً. وأبو حنيفة (3) يقول: من لا يكون من أهل الشهادة، فليس من أهل اللعان، وأخرج العبدَ، والذمي، والمحدودَ في القذف، ولم يُثبت لهما اللعان. وناقض في المُعْلِن بالفسق (4)، وحكم بانعقاد النكاح بحضور محدودين، وإن كان النكاح لا ينعقد إلا بحضور من هو من أهل الشهادة. ومعتمد مذهبنا أن اللعان حجة خاصة أثبتت للضرورة، فهي لائقة بكل مضطر، فمن أراد أن يحمل اللعان على مرتبة الشهادة مع أن الملاعن يُثبت دعوى نفسه، فليس على مُسْكةٍ من البصيرة. ثم إن الشافعي رضي الله عنه رأى اللعان حجةً نادرة، فبنى أصلها على كتاب الله، وليس في الكتاب فصلٌ بين [زوج وزوج] (5)، ولكن اللعان فيه معلقٌ بالرّمْي فمن كان من أهل الرّمْي، فليكن من أهل اللعان. 9618 - ثم قال: " وسواء قال: زنت أو رأيتها تزني ... إلى آخره " (6).

_ (1) ر. المختصر: 4/ 143. (2) (ت 2): ثم فإن تفاوتوا. وفي الأصل: ثم وإن تفاوتوا. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 500 مسألة 1045، المبسوط: 7/ 39 - 41، مختصر الطحاوي: 215. (4) ر. رؤوس المسائل: 372 مسألة 248، الغرة المنيفة 135، إيثار الإنصاف: 151. (5) في النسختين: الزوج والزوجة. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق. (6) ر. المختصر: 4/ 143.

أراد بهذا الرد على مالك (1)؛ فإنه قال: يختص اللعان ببعض صيغ القذف، وأجرى الشافعي هذا على الرّمي المطلق المذكور في كتاب الله تعالى من غير اختصاص. ثم إنا نذكر بعد هذا أصلين يتعين على الناظر الاهتمامُ بهما؛ فإنهما يجريان من الكتاب مجرى الأُسّ والقاعدة: أحدهما - يشتمل على بيان اللعان حيث يجوز التسبب إليه ولا ولد. والآخر - يشتمل على ذكر التسبب إلى اللعان وثَمَّ ولد يريد الزوج نفيه. 9619 - فأما إذا لم يكن ولد، فالغرض أن نبيّن أنه متى يجوز للزوج أن يقذف ليلاعن، ومتى يحرم عليه ذلك. فنقول: إذا رآها تزني، فلا شك أن له أن يقذفَها ويلتعن، وكذلك لو سمع رؤيةَ الفاحشة ممن يثق به -سواء كان من أهل الشهادة أو لم يكن إذا كان موثوقاً به- فله التعويلُ عند حصول الثقة على قوله المجرد. ولو استفاض في الناس أن فلاناً يزني بفلانة، واتفق أنه رآه معها في الدار، فاجتمعت الاستفاضة والرؤية في الدار على ريبةٍ، فاجتماعهما بمثابة السماع من موثوق به [يخبر عن] (2) معاينة الفاحشة. والاستفاضة التي أطلقناها أردنا بها أن يلهج الناس بذلك، وليس فيهم من يخبر عن عِيان نفسه، ولو ثبتت الاستفاضة، ولم يُرَ معها على ريبة، فلا يجوز له أن يعوّل على مجرّد ذلك؛ فإنهم قد يلهجون بكلام مستنده سماعٌ من كاذب، ولو تجرّدت رؤيتُه الذي معها في الدار، فلا يجوز له أن يعوّل على ذلك؛ فإن هذا قد يكون ابتداءَ الأمر، وربما كان الرجل طالبها وهي أبيّة. هذا ما ذكره العراقيون، والقاضي رحمه الله.

_ (1) ر. الإشراف: 2/ 782 مسألة 1453، عيون المجالس: 3/ 1295 مسألة 904، حاشية العدوي 2/ 100. (2) في الأصل: مخبر على.

9620 - والقول الجامع في ذلك أن ما ذكرناه على مراتب: المرتبة العليا فيه - إذا عاين، وهذا يورث اليقين، فيجوز إقامة الشهادة بمثله، فلا خفاء بجواز القذف والحالةُ هذه، ولا حاجة إلى أن يقيم شهوداً على زناها؛ فإنه عزّ من قائل قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، فوضع اللعان حيث لا شهود (1)، ثم الغالب أن الشهود لا يطّلعون، وهذه الفاحشة تهيأ لها خلوات: قد يطلع الزوج على بعضها، فلو توقف الأمر على اطلاع الأجانب، لعظم العار، وظهر الضرار، وعسر استدراكه. وإذا لم يعاين فجواز القذف جارٍ أيضاً؛ فإن الغالب تحفّظُ المرأة عن زوجها، ولعل تصوّنها عنه يُبِرُّ (2) على تصوّنها على الأجانب، فوقع الاكتفاء بظنٍّ غالب، مستندٍ إلى أمارة لائحةٍ، أَظهرُها إخبارُ موثوقٍ به عن العيان. ثم الاستفاضة [مع أنا لا نجد مخبراً عن عِيان نفسه] (3) لا تقوى (4)؛ فإنّ المطاعن كثيرة في البرآء؛ فإذا انضم [إليها] (5) رؤية رجل معها على ريبة، ثبتت العلامة، ومجرد الاستخلاء مرة لا يورث الاستفاضة في الناس. والذي أراه أن الزوج لو رآها على استخلاء مراراً في محالّ الريبة، فهذا بمثابة انضمام الاستفاضة إلى الرؤية مرةً، ولو رأى الرجلَ [معها] (6) في شِعارٍ على النعت المكروه، ولم ير عِياناً من كل ما تتحمل الشهادة به على الزنا، فهذا أقوى من جميع ما قدمناه. فهذا هو الأصل المرعي في الباب.

_ (1) (ت 2): حيث لا يكون شهود. (2) يُبرّ: يقال: أبرّ على القوم غلبهم (معجم). والمعنى هنا يزيد تصوّنها من زوجها على تصوّنها من الأجانب. (3) في الأصل: " مع أنا لا نجد يخبر عن عيان نفسه " وفي ت: " مع أنا نجد مخبراً عن عيان نفسه " والمثبت من تصرّف المحقق. وما بين المعقفين جملة معترضة. (4) لا تقوى: خبر لقوله: ثم الاستفاضة. فالمعنى أن الاستفاضة لا تقوى وحدها مع عدم وجود مخبرٍ يخبر عن عيان نفسه. (5) في النسختين: إليه. (6) زيادة من (ت 2).

9621 - ثم حيث يجوز القذف لا نوجبه، بل نجوّزه، ونؤثر لذي الدّين (1) ألا يقذفَ ويسترَ، ولا تُستحب مصابرةُ مسافِحةٍ؛ فإنه تعريض الفراش للتضمُّخ (2)، بل الأولى أن يخلي سبيلها. ورب أصلٍ ظاهر يخوض فيه الخائضون -وهو بديعة الشرع- ولا يتفطنون [لسرّه. فَ] (3) الزوج يصرّح بقذفها على تهمة، والقذف في نفسه كبيرةٌ موجبةٌ للحد، [والطلاق] (4) ممكن -وقد يفرض هذا ولا ولد (5) - وهذا بعيد، مع أنه [جعل ليصدِّق] (6) نفسه (7) وكان يتفاقم (8) الأمر لو كان تجب العقوبة عليها وجوباً لا تجد لها دارئاً، فأثبت الشرع دارئاً من جهتها. ثم العار في طرد العرف من زنا المرأة يرجع على الرجل، ولن يغضب الرجل ويجشَم (9) بأمرٍ أعظمَ من نسبة أهله إلى فاحشة، وهذه الخصلة تمنعه من القذف من غير ثبت. هذا موضوع اللعن.

_ (1) (ت 2) لذي الزنا ألا يقذف ويستتر. (2) (ت 2): فإنه يفرض للفراش في التضمخ. (3) زيادة من المحقق حيث اضطرب نص النسختين معاً، فجاءت نسخة الأصل هكذا: " وهو بديعة الشرع ولا يتفطنون الزوج يصرّح بقذفها على تهمة، والقذف في نفسه كبيرة ... إلخ ". وفي نسخة (ت 2): "وهو ربعة الشرع ولا يتفطنون الزوج يصرح بقذفها على تهمة ... الخ". (4) في الأصل: فالطلاق، والمثبت من (ت 2). (5) ولا ولد: هذا ترجيح وتأكيد لما آثره للزوج من عدم القذف، فالمفارقة بالطلاق ممكنة، ولا ولد يحتاج لنفيه. (6) في الأصل: جعل مصدق نفسه، و (ت 2): جهل يصدق. (7) العبارة مضطربة لما فيها من سقط وتصحيف. ولعل المعنى: إن الأولى للزوج أن يفارقها بالطلاق، بدلاً من القذف واللعان ما لم يكن هناك ولد، أما أن يلاعن ولا ولد فهذا بعيد عن سرّ الأصل الذي قدمه وبدائع الشرع، ومع أن اللعان جعل سبيلاً للزوج ليصدّق نفسه، فقد كان يتفاقم الأمر لو لم يكن لها وسيلة لدرء الحد ... هذا والله أعلم. (8) (ت 2): يتقاحم. (9) يجشم: من جشم يجشم (باب تعب) الأمرَ إذا تحمله على مشقة (المعجم والمصباح).

والذي ذكرناه بيان القذف ولا ولد. 9622 - فأما إذا كان على الفراش ولد، والزوج يبغي نفيَه، فهذا الأصل يترتب ويتفصل على مراتب أيضاًً: فإن استيقن الرجل أن الولد ليس منه بأن علم أنه ما وطئها قط منذ نكحها، فإذا أتت بالولد لزمان إمكان العلوق، فللزوج أن ينفي الولد، بل حقٌّ عليه أن ينفيه. وهذا القسم يتميز في بعض صوره عن القسم الأول بما أشرنا إليه، وذلك أنا قلنا: يجب عليه أن ينفي إذا استيقن أن الولدَ ليس منه، ولا يحل للإنسان أن يستلحق دعيّاً، كما لا يحل له أن ينفي نسيباً. وفي القلب من هذا شيء، وهو أن النفي إذا كان لا يتأتى إلا باللعان، فإيجاب اللعان والتعرض للفضيحة الكبرى على رؤوس الأشهاد صعبٌ، وربما يكون الإنسان بحيث لا تطاوعه النفس على احتمال ذلك، والذي أطلقه الأئمة من المنع من استلحاق الدّعي فيه إذا اعتمد استلحاق دعيٍّ قصداً، فأما إذا أَلحقَ الفراشُ به نسباً وهو ساكت، فلست أرى إيجابَ النفي باللعان مذهباً مقطوعاً به. ويلتحق بهذه المرتبة ما لو كان يغشاها، ولكنها أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت النكاح، فالقطعُ قائم، كما ذكرناه، ومن هذا القسم ما لو وطئها، فأتت بالولد من وقت الوطء لأكثرَ من أربع سنين، والجامع بمسائلِ (1) هذا القسم حصولُ الاستيقان في انتفاء المولود. والذي أطلقه العراقيون والقاضي وجوب القذف واللعان. 9623 - ومن (2) مراتب المسألة أن لا يستيقنَ الزوجُ الانتفاءَ، وهذا ينقسم أقساماً نأتي بها على صيغ المسائل: فلو وطئها الزوج، فأتت بالولد لستة أشهر فصاعداً من يوم الوطء في النكاح، ولم يستبرئها بعد الوطء بحيضة، فأتت بالولد للزمان الذي

_ (1) (ت 2): المسائل. (2) هذه هي المرتبة الثانية.

وصفناه (1)، فليس للزوج والحالةُ هذه أن يقذف ويلاعن؛ فإن كون المولود منه ظاهر الإمكان، حتى لو جرى الأمر كما ذكرنا، ورآها الزوج على الزنا بعد وطئه إياها أو قبل وطئه والاستبراء، فلا سبيل إلى نفي الولد. ثم إذا ذكرنا هذا في معاينة الزنا، فما الظن بالتهم والأمارات التي وصفناها؟ والحاصل في ذلك أنه إذا لم يَجْر استبراءٌ بعد وطئه، وأتت بولد لزمانٍ يمكن أن يكون منه، فلا سبيل إلى نفي الولد؛ فإن العلوق من الزنا إن كان ممكناً، فالعلوق من وطء الزوج ممكن أيضاً، [ولا مُرجّحَ،] (2) وقد أمرنا بإلحاق الولد بالفراش، فلا يجوز التهجّم على نفي الولد بالإمكان، ولو فرض تساوي الإمكان حيث لا ولد، لما جاز القذف. ثم هذا الذي ذكرناه بيّن في نفي الولد. والذي ذكره العراقيون والقاضي أنه لا يقذف ولا يلاعن، ويعترض على هذا إشكالٌ وهو أن الولد إن كان لا يجوز نفيه، فالمنع من القذف واللعان لماذا؟ وقد علمنا أن القذف جائز حيث لا ولد، وذكرنا اختلافاً في جواز القذف حيث لا حدّ، ولا تعزير، فالمنع من القذف واللعان في هذا المقام بعيد عن القياس. 9624 - ونحن [نُجري] (3) بعد هذا شيئين- أحدهما - أن ما ذكره الأصحاب جرى منهم على وفاق؛ من حيث حصروا نظرهم، وردّوا فكرهم إلى الولد، ثم أجْرَوْا نفيَ القذف واللعان على مقصودهم، [فالمرأةُ] (4) لا تُقذف، ولا يُلاعِن لينفيَ الولد، فإن كان كذلك، فالأمر منتظم. [فإن أرادوا] (5) بهذا أنه إذا لحق النسبُ، فلا سبيل إلى اللعان، فلست أرى لهذا

_ (1) (ت 2): لستة أشهر فصاعداً. (2) في النسختين، ولا يرجح. (3) في الأصل: " نُخمّن " بكل وضوح: نون، فخاء، فميمٌ مشدّدة، فنون. والمثبت من (ت2). (4) في الأصل: " فالمراد " والمثبت من (ت 2). (5) في الأصل، وكذا في (ت 2): " فأرادوا " والمثبت تقدير منا صدقته (صفوة المذهب).

وجهاً؛ إلا أن يقول قائل على بعدٍ: تأَكَّدَ الفراشُ بالنسب اللاحق، [وإنما] (1) يجوز قطع النكاح حيث لا ولد؛ حذاراً من ولد سيكون، مع تضمخ المرأة بالفاحشة، فإذا وقع ما يُحذر توقّعاً، فالأصل أن لا لعان. هذا وجه ذلك، ولم أذكر هذا إلا وظني غالبٌ في أنهم أرادوا المنع من القذف حيث يَلْحقُ النسبُ، فإنك (2) لا ترى مسألة في اللعان وفيها نسب متعرض للثبوت، ثم إنه يلحق واللعان يجري، فكأن اللعان حجةُ ضرورةٍ لقطع النسب، وهو الأصل؛ [فإنه] (3) الضرورة الحاقة، أو هو لقطع فراشٍ تلطخ بفاحشة الزنا. وهذا لا يستقيم تعليله. 9625 - صورة أخرى: إذا استبرأها الزوج بحيضةٍ بعد ما وطئها، ثم أتت بولد بعد الاستبراء لزمانٍ يمكن أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فكيف سبيلُ النسب، وهل يجوز اللعان؟ ما حَصَّلْتُه من طرق الأئمة وجهان صريحان، وفي كلام الأئمة ما يدل فحواه على ثالت: أحدها - أنه لا يحرم القذف واللعان والنفي؛ فإن الاستبراء السابق أمارةٌ دالّة على [أن] (4) الولد ليس من الزوج، والدليل عليه أن وطء السيد أمته يُلحق نسب المولود الذي تأتي الأمة به لزمان الاحتمال بالسيد، ولو استبرأها بعد الوطء، انتفى النسب. هذا كذلك في ملك اليمين، وفراش النكاح أقوى، فَجُوِّز للزوج أن يُقدم على النفي باللعان بما ينتفي بعينه النسب في ملك اليمين، ثم إذا ظهر جواز النفي، كان جوازُ النفي، أقوى أمارة في جوازِ القذف، وهو أَبْيَنُ من الاستفاضة ورؤيةِ الرجل من المرأة على ريبة.

_ (1) في الأصل: فإنما. (2) (ت 2): فإنك ترى مسألة في اللعان وفيها تسبب يعرض للثبوت، ثم إنه يلحق واللعان يجري مكان اللعان حجة ضرورةٍ لقطع التسبب وهو الأصل فإنه الضرورة الحاقة ... إلخ. (3) في الأصل: فإن. (4) زيادة من (ت 2).

وقال (1) العراقيون: إن استبرأها، ولم يجر بعد الاستبراء زناً، ولا تهمةَ يسلط مثلُها على القذف حيث لا ولد، فلا سبيل إلى النفي، فإن جرى بعد الاستبراء زنا أو تهمة تسلط على القذف، فينفي النسبَ، ويُقدم على القذف. والوجه الثالث -الذي ذكرته آتي به تفريعاً -فأما من لم يشترط بعد الاستبراء سفاحاً، فقد قطع قوله بأنه لا يجب النفي، بل يجوز، ولما فَصَلَ العراقيون بين أن يجري بعد الاستبراء زناً أو تهمة، وبين أن لا يجري، قالوا: إن لم يجر، لم يجز النفي، وإن جرى، وجب النفي، وإيجاب النفي قد لا يتجه مع إمكان العلوق من الزوج -وهذا هو المسلك الثالث - كيف وقد قدّمت في صدر الفصل أن إيجاب اللعان التّهدُّفَ للشهرة والفضيحة مشكلٌ حيث يستيقن أن الولد ليس منه، فكيف إذا كان للاحتمال مساغ، واللحوق على الجملة أغلب في الشرع في فراش النكاح [من] (2) النفي. فهذا حاصل الكلام في هذا الطرف. 9626 - ومما ذكره القاضي أن المرأة لو جاءت بالولد، وهو شديد الشبه برجل، فلو أراد التعويلَ على الشبه في النفي باللعان المسبوق بالقذف، لم يجد إليه سبيلاً. ولو انضم إلى الشبه تهمةٌ يسلط مثلها على القذف لو لم يكن ولد، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن النفي جائز؛ تعويلاً على الشبه والتهمة، حيث لم يجر استبراء فاصلٌ، وذلك أن الشبه والتهمة، أو عِيان الزنا إذا اجتمعا، كانت دلالتهما أظهرَ من دلالة دمٍ [تراه] (3) المرأة، مع العلم أن الحامل قد ترى دماً، وإنما الخلاف في أن ما تراه هل يكون حيضاً أم لا. وذكر العراقيون أمراً بدعاً، فقالوا: لو كان الزوج والزوجة على نعتِ [شديدِ] (4)

_ (1) هذا هو الوجه الثاني من الثلاثة الموعودة. (2) في النسختين: في. (3) في النستخين: ترى. (4) زيادة من (ت 2).

البياضِ، فأتت المرأة بالولد أسودَ ينأى لونُه عن لون الوالدين نَأْياً بعيداً، فهل يجوز التعويل على ذلك؟ قالوا: في المسألة وجهان: ولم يقيّدوا كلامهم بانضمام الزنا أو التهمة الظاهرة، إلى ما ذكرناه. وظني بهم أنهم أرادوا ما ذكروه مع الزنا أو ظهور أمارة الزنا، وإذا كان كذلك، فهو في معنى الشبه، وإن كان يُحمل لونه البعيد على عرق نازعٍ من أحد الجانبين، فمثل ذلك ممكن في الشبه؛ فإنَّ الأجانب قد يتشابهون، وتُلقى مَشابهُ شخصٍ على شخص، وتعرُّضنا فيما ذكرناه للّون؛ إذ لا اعتبار بغيره من الخَلْق، فقد تلد حُسنى من أحسن الناس خَلْقاً ولداً مشوه الخَلْق، وقد تأتي به ناقص الخَلْق. فأما اللون البعيد، فهو الذي يثير غلبة الظن في انتفاء الولد. ولو قرب اللون، فلا أثر له، كالأُدْمة والسمرة، والشُّقرة القريبة بالإضافة إلى البياض في الأبوين، فهذا كتفاوت الخَلْق. وقد انتجز الأصلان الموعودان جرياً على أبلغ وجه في البيان، نقلأ [عن] (1) الثقة، وتنبيهاً على محالّ الإشكال. 9627 - ثم الذي نحب اختتام الفصل به أن تعويل الشرع في ظاهره على إلحاق النسب بمجرد العلوق في النكاح، وإن بعد، حتى إذا فرض الإتيان بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح، لحق النسب، وإن لم تُزفُّ الزوجةُ إلى الزوج، إذا كان التقاؤهما ممكناً. وإن لم يكن إمكان أصلاً، لم يلحق النسب، وقال أبو حنيفة (2): يكفى أن يمضي من النكاح مدةُ الإمكان، وإن قطعنا بامتناع العلوق من الزوج، بأن يكون أحدهما في الشرق والآخر في الغرب. هذا حكم الشرع، وللزوج أن ينفي بالوجوه التي ذكرناها في الأصل الثاني، ثم الشرع لا يحتكم عليه بأن يبين تلك الأسباب التي بانت له، بل هو مؤاخَذٌ برعايتها بينه

_ (1) في الأصل: على. (2) ر. حاشية ابن عابدين: 3/ 551، فتح القدير: 2/ 314.

وبين الله، وليس كذلك اللَّوثُ المعتَبرُ في القَسامة؛ فإنه ما لم يظهر للقاضي لا يبدأ في اليمين بالمدعي، وذلك أن تيك الدعوى على صورة الدعاوى في الخصومات، والقاضي لا يبدأ في اليمين (1) إلا بمن يستمسك بشيء يغلِّب على الظن صدقَه، وهذا المعنى إنما يحصل إذا ظهر اللوث عنده. فصل قال: " ولو جاءت بحملٍ وزوجها صبيٌّ دون العشر ... إلى آخره " (2). 9628 - تفصيل القول في السن التي تحيض عليه الصغيرة فتبلغ مما قدمناه في كتاب الحيض، وأعدنا طرفاً منه في كتاب الحَجْر، وكذلك القولُ في أقل الأسنان التي يُفرض احتلامُ الغلمان فيه مما قدمته. والتي تمس الحاجة إلى إعادته في هذا الفصل سنُّ البلوغ في الغلام، فنقول: إذا استكمل عشراً، احتمل العلوق بعده قطعاً، ولو فرض انفصالُ مادة الزرع في العَشْر قبل استكماله العاشرة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك لا يكون بلوغاًً. والثاني - أنه يكون بلوغاً. ثم من قال: يُتصور البلوغ في السنة العاشرة، اختلفوا: فمنهم من ذهب إلى أن الإتيان بالولد ينبغي أن يكون والغلام ابنُ العشر، حتى يُقدَّرَ البلوغُ في أثناء السنة. ومنهم من قال: يجوز أن [يحتلم] (3) على مُنْقَرض التاسعة، فتأتي الزوجة بالولد لستة أشهر، فيلحقه الولد وهو ابن تسع سنين وستة أشهر. وحكى بعض المصنفين أنه يجوز أن يُفْرضَ بلوغُه في خلال السنة التاسعة، وقد ذهب كثير من الأصحاب إليه في حيض الصغيرة، وهو غريب في الغلمان جداً، وإن اشتهر في الصبيّة.

_ (1) (في): تأتي مرادفة لـ (الباء). (2) ر. المختصر: 4/ 44. (3) في الأصل: يحتمل.

فهذا حاصل الاختلاف في أقل سنٍّ يبلغ الغلام فيه. 9629 - ونعود بعد ذلك إلى التصريح بمقصود الفصل. فإذا قبل الأب نكاح امرأةٍ لابنه الطفل، ثم استكمل عشراً، ومضى بعد العشر ستةُ أشهر، فأتت زوجتُه بالولد، وزعمت أنه منه، فالولد يلحقه؛ فإن احتمال الاحتلام على منقرض السنة العاشرة ممكن غيرُ مدفوعٍ باتفاق الأصحاب، وإن أتت بالولد عند انقراض السنة العاشرة، فهذا يخرّج على الخلاف في أن احتلامه هل يمكن في خلال السنة العاشرة. ولو أتت بالولد عند الطعن في العاشرة، فالمذهب أن الولد لا يلحق، وفيه الوجه البعيد الذي حكيته عن بعض المصنفين. 9630 - ومما يليق بتمام الفصل أن المرأة إذا أتت بالولد وهو ابن عشر، والتفريع على اللحوق في هذه الصورة، فلو لم يسبق منه ادعاء الصبيّ، فأراد وقد حقَّ الأمرُ أن يلتعن، وزعم أنه بالغٌ، فله أن يلتعن، فإن القول قولُه فيما يتعلق بهذا المعنى. ولو قال: أنا صبي وأراد أن يلتعن، لم يكن له ذلك؛ فإن الصِّبا يمنع الالتعان، فالجمع بين دعوى الصبا وبين الالتعان متناقض، ولو ادّعى الصبا، ثم قال: كذبت فيما قلت، وإنما أنا بالغ، فألتعن، فله ذلك؛ فإنَّ كذبه لا يمنع من الاعتراف بالاحتلام؛ فان الإنسان لا يؤاخَذُ بما سبق منه في صباه، فإن كان صبياً إذ قال: أنا صبي، فقوله لغو، ولا مطّلع على الصبا بقوله، وإن كان بالغاً، فيجب تصحيحُ اللعان منه، وقبولُ قوله الثاني. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه إذا أكذب نفسه فيما قدّمه من دعوى الصبا لا يُقبل ذلك منه، ووجه القبول أن يدّعي أني بلغت بعد هذا، فإن ادعى ذلك، قُبِل منه؛ فإن احتمال الاحتلام مقترنٌ بكل حال، ولا يمتنع أن يكون صادقاً في ذكر الصبا، وهو صادق الآن في طريان الاحتلام.

فصل قال: " ولو كان بالغاً مجبوباً ... إلى آخره " (1). 9631 - لا خلاف بين الأصحاب والعلماء الذين نعرفهم أن الممسوح يَنْكِحُ ويصح نكاحُه، فإذا بان ذلك فيه، فما (2) الظن بالخَصِيّ والمجبوب، فإذا أتت امرأة واحد من هؤلاء بولد [فالنصوص] (3) مضطربة والطرق على حسبها مختلفة. والذي تحصّل هاهنا في ترتيب المذهب أن الرجل إذا كان مجبوباً، وبقيت خُصيتاه، فيلحقه النسب؛ فإن الماء كائن في الفطرة، وأوعية المني باقية ببقاء الأنثيين، وليس الذكر إلا آلة مزرِّقة توصّل المني إلى الرحم، وفوات التزريق لا يمنع إمكان الاحتلام، وربما يصل الماء إلى الرحم من غير إيلاج. ولو قطعت خُصيتاه وبقي ذكره، فالذي رأيته للمحققين من الأصحاب أن النسب يلحقه أيضاًً، ولا حاجة إلى مراجعة أهل الطب في أنه هل يولد لمثله أم لا، ولا نبالي بنفيهم، وإن قالوا: قطعُ الخُصيتين يمنع إمكان الولد؛ لأن فيهما أوعيةَ المني والقوة المُحيلة للدم العبيط إلى المني الأبيض الثخين (4) الدفّاق. وقال بعض المصنفين: يُرجع إلى قول أهلِ الخبرة والأطباءِ في ذلك، فإن قالوا: لا يولد للخَصِي، لم يُلْحق به، وإن قالوا: يولد للخَصِي ألحقنا الولد به، وهذا التفصيل لا أصل له. هذا كله إذا كان مجبوباً والخُصية باقية، أو كان خَصِياً والآلة باقية. 9632 - فأما إذا كان ممسوحاً عديمَ الخُصيةِ والآلةِ: قال العراقيون: لا يلحقه النسب ولا مراجعة، وحكَوْا عن الإصطخري أنه قال: يلحقه الولد بلا مراجعة، وذكر

_ (1) ر. المختصر: 14/ 44. (2) (ت 2): فما الصبي والمجنون. (3) في الأصل: فالمنصوص. (4) (ت 2): للجنين.

القاضي هذا الذي أضيف إلى الأصطخري وصححه، وهو الذي ذكره الصيدلاني، واعتل من صار إلى ذلك بأن الماء معدنُه (1) الصُّلبُ ومنفذه ثُقبةٌ إلى الظاهر، وتلك الثُّقبة باقية. وهذا قولٌ عريٌّ عن التحصيل. وهذا مجموع ما ذكر في ذلك. فصل قال: " ولو قال: قذفتك وعقلي ذاهب ... إلى آخره " (2). 9633 - إذا قامت بيّنة على إقراره بالقذف، ثم إنه ادّعى أنه كان مجنوناً حين قذف، ففي المسألة طرق: من أصحابنا من قال: إن لم يثبت جنون القاذف في سابق الزمان، فلا يقبل قوله والقول قولُ (3) المقذوف [مع يمينه، فيحلف] (4) بالله لا يعلم جنونَه في حالة قَذْفه (5). ان ثبت أنه كان يُجنّ فيما سبق، ففي المسألة قولان: أصحهما - أن القول قولُ القاذف، فإنه إذا عُهد له جنون فيما سبق، فلا يبعد وقوع قذفه فيه، والأصلُ البراءةُ من وجوب العقوبة، فالقول قوله. والقول الثاني - أن القول قولُ المقذوف؛ فإن البينةَ شهدت على إقراره بالقذف مطلقاً، والقذف المطلقُ محمولٌ على الصحيح التام، كما لو شهد عدلان على البيع مطلقاً، فهو محمول على الصحة. هذه طريقة.

_ (1) معدِنه: أي مقره، وأساسه ومنبعه صُلْب الرجل، إشارة إلى قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7]. (2) ر. المختصر: 4/ 144. (3) (ت): والقول قول المقذوف والقاذف أن يحلف. (4) في الأصل: قول المقذوف يحلف بالله لا يعلم. (5) (ت 2): في الالتزام وإن ثبت.

ومن (1) أصحابنا من قال: إن ثبت أنه كان يجن، فالقول قول القاذف [وللمقذوف أن يحلّفه] (2) بالله تعالى ما قذفه في حالة عقله. وإن لم يعهد له جنون فيما سبق، فإن ادعى أن القذف كان منه في جنونه، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول القاذف؛ فإن الأصل براءتُه. والثاني - القول قول المقذوف؛ فإن القذف ثبت، والأصلُ عدمُ الجنون، وهذا يقرب من تقابل الأصلين. 9634 - فإذا جمعنا الطرق، انتظم منها أقوال: أحدها - أن القول قول المقذوف في كل حال. والقول الثاني - أن القولَ قولُ القاذف في كل حال. والقول الثالث - أنه إن عهد جنون، فالقول قول القاذف، وإن لم يعهد جنون، فالقول قول المقذوف. ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المقذوف، ورأينا التفريع على هذا، فلو أقام القاذف بينة أنه قذف في حالة الجنون، وأقام المقذوفُ بيّنةً أنه قذف في حالة الإفاقة، فإن كانت البينتان مطلقتين، أو كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين، أو إحداهما مُطْلَقة والأخرى مؤرخة، فليست البينتان متعارضتين، بل هما محمولان على قذفين، فيثبت القذف بالإضافة. وإن كانتا مؤرختين بتاريخٍ واحد -مع التضييق في التصوير-[فالبينتان] (3) متعارضتين، وفي البينتين المتعارضتين قولان: أحدهما - أنهما يتساقطان. والثاني - أنهما يستعملان. ثم للشافعي رضي الله عنه ثلاثة أقوال في كيفية الاستعمال إذا لم نحكم بالتهاتر (4): أحدها - قوْل القسمة.

_ (1) هذه هي الطريقة الثانية. (2) في الأصل: فالقول قول القاذف يحلف بالله ما قذفه ... إلخ. (3) في النسختين: والبينتان. (4) بالتهاتر: أي بالسقوط: سقوط البينتين بسبب تعارضهما.

والثاني - قول القرعة. والثالث - قول الوقف. فإن حكمنا بالتهاتُر، فنجعل كأن البينة لم تكن، وإن حكمنا بالاستعمال، فلا تجري القسمةُ والوقف. وحكى من يوثق به عن القاضي أن قول القرعة يجري هاهنا فنُقرع بين البينتين ونقضي بالتي خرجت القرعة لها. وهذا بعيد عندنا؛ فإن القرعة يستحيل إجراؤها في إقامة العقوبة، (1 بل الوجه حسم استعمال البينتين 1)، والقطعُ بتهاترهما وردُّ الأمر إلى الحالة التي لا يفرض فيها إقامة البينة. 9635 - ومما يتعلق بالفصل أنه لو أقر بالقذف في مجلس القضاء، ثم قال عنيت بذلك قذفاً صدر مني في جنوني أو صباي، فهذا بمثابة ما لو شهدت بينة على إقراره بالقذف، ولو أقر الرجل ببيعٍ أو غيرِه من عقود المعاملات، فلما راجعناه قال: أردت بذلك أني بعت في صباي أو جنوني، فهو بمثابة ما لو قال: قذفت، ثم ادعى ذلك على ما مضى التفصيل فيه، ثم الفرق بين أن يُعهَد جنونٌ أو لا يعهَد فيه إذا أضاف ما صدر منه إلى حالة الجنون، فإن أضافه إلى حالة الصبا، فهو كما لو أضافه إلى حالة الجنون، وقد كان منه جنون معهود. فصل قال: " ويلاعن الأخرس ... إلى آخره " (2). 9636 - قد ذكرنا أن إشارات الأخرس في عقوده وحلوله ومعاملاته تنزل منزلة عبارة الناطق، وبيّنا أن إشاراته تنقسم إلى الصريح والكناية، وأشبعنا القول في هذا في كتاب الطلاق.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) ر. المختصر: 4/ 144.

ولم يختلف أصحابنا في شيء إلا في الشهادة، فإن منهم من قال: هو من أهل الشهادة كالناطق، والأظهر أنه مردود الشهادة؛ لأن الشهادة تتعلق بالغير (1) وللشرع تعبُّدٌ باعتبار كمالٍ فيها، ولهذا لا نقبلها من الرقيق. فإذن الأخرس من أهل القذف، ثم هو من أهل اللعان عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2). ويختلج في الصدر إشكالٌ في تأديته كلماتِ اللعان، سيّما إذا عيّنا لفظَ الشهادة، ولم نُقم غيرَها مقامها، فكيف تُرشد الإشاراتُ إلى تفاصيل الصيغ. والذي ينقدح في وجه القياس، أن كل مقصود لا يتخصص بصيغةٍ من لفظٍ، فلا يمتنع إقامةُ الإشارة فيه مقام العبارة، وما يتخصص بصيغة مخصوصةٍ، فيغمضُ إعراب الإشارة عنها. ولو (3) كان في الأصحاب من يشترط في الأخرس الكِتْبة (4) إن كان يُحْسِنُها، أو يشترط من ناطقٍ أن ينطق بالصيغة ويشير إليه بها، ويقول: تشهد هكذا وهو في ذلك يقرّره، ويُقرّب (5) الإشارةَ جهده، فهذا يقرُب بعضَ القرب، فأما إشارةٌ مجردة تدل على صيغةٍ مخصوصة لست (6) أهتدي إليها. 9637 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا أشار بالقذف، وأشار بحكم اللعان إن أمكنت الإشارة بها، ثم نطق فانطلق لسانه، وزعم أني لم أُرد بالإشارة قذفاً

_ (1) (ت 2): تتعلق باللغة. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 508 مسألة 1054، المبسوط: 7/ 42، رؤوس المسائل: 432 مسألة 303. (3) ولو كان في الأصحاب من يشترط في الأخرس الكِتبة: (لو) هنا للتمني، فالإمام يتمنى لو كان هذا رأياً للأصحاب، حكى الرافعي هذا الكلام عن الإمام، ثم قال: " جاء الغزالي، فقال ما تمنى الإمام أن يكون في الأصحاب من يقوم به، وحكاه في البسيط عن بعض الأصحاب، وهو كالمنفرد بالقول به " ا. هـ كلام الرافعي (ر. الشرح الكبير: 9/ 398). (4) الكِتْبة: الكتابة (المصباح). (5) (ت 2): ويقرب الإشهاد جهته. (6) لستُ: جواب (أما) بدون الفاء.

ولا لعاناً، فلا نقبل ذلك منه، ويكون كما لو صرح بالقذف ناطقاً (1)، ثم أنكر، وهذا لعمري موجَبُ ذلك الأصل، ولكن الأصل في نفسه مشكل. ولو صرح بالقذف ناطقاً، ثم أُصمِتَ واعتُقِل لسانُه، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: نمهله رجاء أن ينطق لسانُه يومين. ثلاثة، فإن نطق، وإلا حملناه على إشارة الأخرس. ونقل بعضُ الأصحاب عن الشافعي: أنه يراجَعُ أهلُ البصيرة، فإن قالوا: سينطلق لسانُه، ولكن بعد مدة، ننتظر، ولكن في إطالة الانتظار إبطالُ حق المقذوفة. وقد اعتمد الشافعي في إشارة الأخرس ما روي أن أمامة بنت أبي العاص أصمتت، فقيل لها: " لفلان كذا، لفلان كذا، فأشارت برأسها أي نعم، فرُفِع ذلك إلى عثمان، فرأى أنها وصية " (2) وهذه تدل على أن من طرق التقريب إلى الفهم مع [اعتقال] (3) اللسان العرضُ على المُعْتَقَلِ لسانُه مع إشارتِه المتضمنة تقريباً. فصل قال: " ولو كانت مغلوبة على عقلها ... إلى آخره " (4). 9638 - نجمع بعون الله في هذا الفصل القولَ في القذف الذي يتعلق به اللعان، والذي لا يتعلق. فأما القذف الذي يتعلق به اللعان، فأصله أن يجري في النكاح غيرَ مضافٍ إلى زناً

_ (1) لم يتعرض الإمام لما لو اعترف بالقذف ولكنه قال: لم أرد لعاناً، وقد قال الرافعي: إذا قذف ولاعن بالإشارة، ثم عاد نطقه، وقال: لم أرد لعاناً بإشارتي، قبل فوله فيما عليه، حتى يلحقه النسب، ويلزمه الحد، ولا يقبل فيما له حتى لا ترتفع الفرقة، ولا التحريم المؤبد، وله أن يلعن في الحال، لإسقاط الحد، وله اللعان لنفي النسب أيضاًً إذا لم يمض من الزمان ما يسقط فيه حق النفي. ولو قال: لم أرد القذف أصلاً، لم يقبل قوله؛ لأن إشارته أثبتت حقاً لغيره ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/ 398). (2) حديث وصية أمامة سبق تخريجه في الوصية. (3) في الأصل: اعتقاد. (4) ر. المختصر: 4/ 145.

متقدم على النكاح، والقذف المطلق في النكاح ينقسم إلى ما يوجب (1) الحدَّ، وإلى ما يوجب التعزير، فأما ما يوجب الحدَّ، فيتعلقُ به جواز اللعان. ولكن المرأة لا تخلو إما أن تطلب الحد وإما أن تعفو عنه، وإما ألا تطلب الحدّ ولا تعفو، فإن طلبت، الْتعن الزوج، واندفع الحد عنه، ثم يُعرض اللعان عليها، فإن التعنت، اندفع حدّ الزنا عنها، وإن نكلت، حُدّت حدَّ الزنا، وإذا كان القذف بحيث يوجب الحدّ على القاذف، فالذي وقعت النسبةُ إليه يوجب حدَّ الزنا على المقذوفة، لو تحقق. وإن عفت عن الحد وأسقطته، فلا يخلو: إما أن يكون ثَمَّ ولدٌ متعرض للثبوت لا ينفيه إلا اللعان أو لا يكون. فإن تعرض نسبٌ للثبوت، فالزوج يلتعنُ لا محالة؛ فإن المقصود الأظهر من اللعان نفيُ النسب المتعرض للثبوت. يان لم يكن ثَمّ ولد، فهل يلاعن الزوج، [وقد] (2) عفت المرأة عن حد الزنا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يلاعن؛ فإنه ليس في اللعان غرضٌ ظاهر، وهو أُثبت في الشرع حجةً للضرورة؛ ولا نسبَ ولا عقوبةً (3)، فلا معنى للعان. والوجه الثاني - أنه يلاعن حتى [يَرْحَضَ ويغسل العارَ عن نفسه] (4)، ويرَّد العار إليها، وقد تنكُل، فتلتزم حدَّ الزنا. فأما إذا كان القذف موجباً للحد، فلم تطلبه المرأة ولم تعْف، فالفذهب الصحيح أن الزوج له أن يلتعن. وقال بعض أصحابنا: لا يثبت الالْتعان ما لم تطلب الحدّ؛ فإنّ اللعان أُثبت لدَرْء الحدّ ونفي النسب، ولا نسب في المسألة، وليس الحد مطلوباً، فيدرَأ. والأصح أنه يلتعن حتى ينقطع توقُّع طلبها. هذا كله إذا كان القذف موجباً للحد.

_ (1) (ت 2): إلى موجب الحد. (2) في الأصل: فقد. (3) أي لا ضرورة لدرء العقوبة، ولا لنفي النسب. (4) في الأصل: حتى يَرْحَضَ العار ويغسل عن نفسه.

9639 - وأما إذا لم يكن موجباً للحدّ، ولكن كان يقتضي تعزيراً، فالذي نقدمه أنه إذا كان في الواقعة نسبٌ، وهو يبغي نفيَه، فيلاعن كيف فرض الأمر، سواءٌ طلبت أو لم تطلب، عَفَتْ أو لم تَعفُ، سواءٌ كان التعزير تعزيرَ التكذيب أو تعزيرَ التأديب، على ما سنبين انقسامَ التعزير؛ وذلك أن أعظم المقاصد نفيُ النسب، كما ذكرناه، وهو ثابت، فلا مبالاة مع تعرض النسب لغيره. وإن لم يكن في الواقعة نسبٌ والقذفُ موجِبُ التعزير، فلا يخلو التعزير إما أن يكون تعزيرَ التكذيب، وإما أن يكون تعزيرَ التأديب، وتعزيرُ التكذيب هو الذي يستوجبه الرامي، وهو مكذَّب في رميه في ظاهر الشريعة، والتعزيرُ يقام لتحقيق تكذيبه، وهو نحو أن يقذف الرجل أمةً أو كتابيةً، فلا حد، ولكنه يلتزم التعزيرَ تكذيباً له. والنوع الآخر تعزيرُ التأديب، هو أن يقذف امرأةً بزنا قد ثبت عليها من قبلُ: إما ببينةٍ أو إقرار، وقد أقيم عليها حدُّ الزنا، فالرامي يستوجب التعزيرَ؛ من جهة تعرضه لها بالإيذاء، وليس المقصد من هذا التعزير إظهار تكذيب الرامي؛ فإنه مصدَّقٌ، وإنما الغرض منعُه عن معاودة مثل ذلك على طريق التأديب. فأما تعزيرُ التكذيب فنصوّر فيه ثلاثَ مسائل: إحداها - أن يكون القذف متضمناً تعزيراً والطَّلِبةُ متوجهةٌ به، وذلك مثل أن يقذف الزوج زوجتَه الأمةَ أو الذميّةَ، وطلبت التعزير، فالمذهب الذي قطع به الأئمة المعتَبَرون أن للزوج أن يلاعنَ، ويرفعَ عن نفسه التعزيرَ؛ فإنه عقوبة تتعلق بالطلب كالحد، فإذا طلبته، كان له رفعُه باللعان، وفي بعض التصانيف ذكر خلاف في هذا؛ من حيث إن الواقعة عريةٌ عن نسبٍ متعرض للثبوت، وعن عقوبةٍ لها وقعٌ، وهي الحد. وهذا مما لا يجوز الاعتدادُ به، والوجه بناء المذهب (1) على القطع بجريان اللعان إذا فرض طلبُ (2) التعزير الذي يُثبت تكذيباً من المرأة.

_ (1) (ت 2): بناء الأمر. (2) (ت 2): إذا فرض الطلب والتعزير الذي يثبت تكذيباً.

*وأما (1) إذا لم يتوجه الطلب، فهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها - أن تعفوَ المقذوفةُ عن التعزير، فإن كان كذلك، فهل يلاعن الزوج؟ فعلى وجهين قدمنا توجيههما ومأخذهما. والقسم الثاني أن تكون المقذوفةُ بحيث لا يَتأتى منها الطلب، وذلك بأن تكون مجنونةً أو صغيرةً، ولا ينوب غيرُ المقذوفةِ مقامَها في طلب التعزير وفاقاً، فإذا أراد الزوج أن يلتعن قبل أن تبلغ المقذوفة مبلغَ الطلب: بإفاقةٍ أو بلوغٍ، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا عَفَتْ المقذوفةُ، وكانت من أهل العفو، وهذه الصورة أولى بأن يثبت اللعان فيها؛ فإن الزوجَ لا يأمن توجُّهَ الطّلِبة عليه بالتعزير إذا زال المانع الذي بالمقذوفة. ولو كانت المقذوفة من أهل الطلب، فلم تعف، ولم تطلب، وسكتت، فأراد الزوج أن يلْتعن قبل أن تطلب، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا كان بها مانع من الطلب، كالصغر والجنون، وهذه الصورة الأخيرة أولى بجريان اللعان من التي قبلها؛ فإن التعزير متعرضٌ للإقامة وهي مستمكنةٌ من الطلب متى شاءت. هذا تفصيل القول فيه إذا كان القذف موجباً لتعزير التكذيب ولا نسبَ. 9640 - فأما إذا كان القذف موجباً لتعزير التأديب، وذلك مثل أن ينسب الزوج زوجته إلى زناً كان قد ثبت عليها ببيّنة أو إقرار، وأقيم الحد، فإذا نسبها الزوج إلى ذلك الزنا، استحق التعزير، من جهة انتسابه إلى إيذائها، فلو طلبت المرأة التعزير، فهل يلتعن الزوج في هذا النوع من التعزير؟ هذا مما اختلف النص فيه، فالذي حكاه المزني عن الشافعي أنه قال: " عُزّر إن طلبت ذلك، ولم يلتعن " (2) وظاهر الكلام أنه ليس له الالتعان أصلاً وإن طلبت التعزير. وحكى الربيع عن الشافعي أنه قال: " عُزر إن لم يلتعن، فأثبت له اللعان لدرء

_ (1) هذه هي المسألة الثانية أو الصورة الثانية في تعزيز التكذيب، من الصور الثلاث التي وعد بها. أما الصورة الثالثة فقد اندرجت في أقسام الصورة الثانية، وعنى بها القسم الثالث، وهو أن تكون المقذوفة من أهل الطلب، ولم تعف، ولم تطلب. (2) ر. المختصر: 4/ 146.

التعزير "، واختلف الأصحاب على طرق: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يثبت اللعان كما يثبت في تعزير التكذيب في صورة الطلب، ويحمل لعانه أيضاً على قطع النكاح ودفع العار. والقول الثاني - ليس له اللعان أصلاً؛ فإن اللعان بيّنةٌ خاصة متضمَّنُها تحقيق القذف، ولا معنى لهذا فيما نحن فيه؛ فإن الزوج مصدَّق فيما نسبها إليه، فلا يستفيد باللعان تصديقاً، ويخرج اللعان عن [وضعه] (1)، [و] (2) التعزير إنما أُثبت في هذا المقام تأديباً (3)، وهو مع اللعان [حريّ] (4) بالتأديب، فيجب ألا يكون للعان أثر في دفعه. ومن أصحابنا من صوّب المزني وغلّط الربيع، ونفَى اللعان، وهذا هو القياس الحق، وهو الذي نبهنا عليه في توجيه أحد القولين في الطريقة الأولى. ومن أصحابنا من صوّب الربيع وأوّلَ كلام المزني على ما سنصفه، وقال: الأصل في اللعان قذفٌ يصدر من الزوج يسوِّغ له الإقدامَ عليه، ليبتني عليه قطعُ النكاح باللعان الذي يتضمن غسلَ العار، وهذا المعنى متحقق فيما نحن فيه، وأوّلَ كلامَ المزني وحمله على موافقة منقول الربيع، فقال: قوله: " عزر إن طلبت ذلك، ولم يلتعن " (5 فيه تقديمٌ وتأخير، والتقدير عُزّر إن طلبت التعزَير، ولم يلتعن 5)، وهذا يقع على هذا التأويل على معرض الإخبار بأنه لا يلتعن معطوفاً على الشرط في قوله: إن طلبت، فكأنه قال: إن طلبت، المرأة، ولم يلتعن الزوج عُزِّر. وهذا لا حاجة إليه، وقصاراه حمل منقول المزني على موافقة ما لا وجه له في الصحة؛ فإن اللعان إذا كان لا يفيد تصديقاً، فهو حائدٌ (6) بالكلية عن وضعه، وتغليط

_ (1) في النسختين: وصفه. (2) (الواو) زيادة من (ت 2). (3) (ت 2): أثبت في هذا المقام ندماً. (4) كذا. ويمكن أن تقرأ (جريٌ)، وضبطت في الأصل بضمة على الحاء وأخرى على الياء المشددة، والمعنى غير مستقيم، (وانظر صورتها) عسى أن يلهمك الله قراءتها الصحيحة. (5) ما بين القوسين سقط من (ت 1). (6) (ت 2): جائز.

الربيع هو الأولى، ولا يتوجه في القياس إلا نفي اللعان. 9641 - ثم يتعلق بتمام البيان في ذلك أمران: أحدهما - أنا إن نفينا اللعان فالتعزيرُ متوجه على الزوج تأديباً، ثم اختلف جواب الأئمة في أن هذا النوع من التعزير هل يتوقف على طلب المقذوفة؟ فمنهم من قال: لا بد من طلبها؛ فإنها المقصودةُ بالأذى، فعلى هذا يسقط بإسقاطها. ومنهم من قال: لا يتوقف هذا على طلبها؛ والصادر من الزوج سوء أدب يستوجب (1) به من طريق الإيالةِ والسياسةِ تأديباً، وهو بمثابة ما لو قال الرجل: " الناس زناة "، فالسلطان يؤدبه، وإن كان لا يُفرضُ طلبُ التأديب من أحد. وهذا غيرُ مرضيّ. والوجه القطع بتعلّق التعزير بطلبها؛ فإنها مخصوصةٌ بهذا الإيذاء، ولفظ الشافعي رحمه الله مصرّح بهذا؛ فإنه قال: " عُزّر إن طلبت ذلك ". وإنما يليق التردد بصورة أخرى: وهي أن الرجل إذا قال لامرأته: زنيتِ وأنت بنت شهر، أو بنت يوم، فالذي ذكره غيرُ ممكن الوقوع تصوّراً، وهو متعرض للتعزير، وفيه ظهر اختلاف الأئمة في أن هذا التعزير هل يتعلق بطلبها؟ ووجه تخريج الخلاف أنها لا [تتعيّر] (2) إذا نُسبت إلى مُحال، وليس كذلك إذا ما جدد ذكر الزنا، فالتأذّي لاحق. فهذا بيان القول في الطلب. 9642 - ومما يتم الغرض به: أنا إذا قلنا: لا يتعلق التعزير بطلب المذكورة، فالسلطان يتولاه، وإن قلنا: لا بد من طلبها، فقد يعترض في هذا أمر، وهو أن قائلاً لو قال: ما الذي يمنع السلطان من زجر هذا عن معاودة أمثال ما نطق به تعلّقاً بالسياسة الكلية؟ قلنا: إذا رأينا ذلك متعلِّقاً بالطلب، فالوجه في هذه الواقعة ألا

_ (1) عبارة (ت 2): ومنهم من قال: لا يستوجب به من طريق إيالة والسياسة. (2) في الأصل: تتعسر، و (ت 2): تعتبر. والمثبت من المحقق.

يبادره السلطان بالتعزير، بل يصبر إلى أن يتبين (1) الطلبَ؛ لأنه لو ابتدر بالعقاب، لكان تاركاً حقَّ مَنْ له حق الطلب، وهذا إجحافٌ به، فإن الشرع إذا ربط شيئاً بطلبِ طالبٍ، فهو على غرضٍ في التردد بين الصفح والطلب، [وتفويتُ] (2) هذا عليه إبطال حقه. فإن قلنا: لا يتعلق هذا التعزير بالطلب، فلا تنقسم المسألة، وإن قلنا: يتعلق التعزير بالطلب، وفرعنا على أنها لو طلبت، لالْتعن الزوج، فلو عفت، فوجهان، ولو لم تعف، ولم تطلب، فوجهان مرتبان على النسق المقدم. وكل ذلك والقذف مُنْشأٌ في النكاح، من غير إضافة الزنا إلى ما قبل النكاح. 9643 - فأما إذا قذف امرأته بزناً أرّخه بزمانٍ متقدم على النكاح، فقال: زنيتِ قبل أن نكحتك، فلا يخلو إما أن يكون في الواقعة ولدٌ يحاول نفيه، وإما أن لا يكون ولد. فإن لم يكن، فقد قطع الأصحاب بأنه لا يلتعن (3)؛ فإنه تعرض لنسبتها إلى الفاحشة في وقتٍ لم تكن فراشَه [فيه] (4)، وإنما أُثبت اللعان للزوج في مقابلة تلطيخها فراشه. هذا متفق عليه، ولا فرق بين أن يكون القذف موجباً حدّاً أو تعزيراً. فأما إذا كان في الواقعة مولود والزوج يحاول نفيه، فإذا قذفها بزنا متقدمٍ على النكاح، ورام أن ينسب الولدَ إلى العلوق من ذلك الزنا، فهل يجوز له أن يلاعن والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يجوز -وهو الظاهر- لضرورة نفي النسب المتعرض للثبوت، والزنا وإن أرّخه قبل النكاح، فضرورة الولد حاقّة في النكاح، ونحن نُثبت اللعان لنفي الولد الكائن في نكاح الشبهة، فلا يبعد ثبوته، وإن تأرّخ الزنا بما قبل النكاح.

_ (1) (ت 2): يتبين الأمر. (2) في الأصل: وتقريب هذا، (ت 2) والقريب هذا. والمثبت من المحقق، إلهاماً من فضل الله. (3) (ت 2): بأنه يلتعن. (4) في الأصل: منه.

والوجه الثاني -وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي- أنه لا يلاعن ويلحقه النسب؛ فإن عماد اللعان قذفٌ يتضمن نسبتَه إلى تلطيخ الفراش الكائن. فإن قيل: هذا يؤدي إلى إلحاق النسب به، كان الجواب أنه المقصّر؛ إذ أرخ الزنا، ولو أطلق النسبة إلى الزنا، ولم يتعرض لتأريخه، لأمكنه أن يلتعن، وينفي النسبَ، فهو الذي فوّت على نفسه الدّفعَ الذي أثبته الشرع [له] (1). 9644 - ومما يتعلق بتتمة الفصل أنه إذا قذفها (2) بعد البينونة وارتفاع النكاح؛ فإن كان ثَمّ ولد متعرض للثبوت، فله اللعان. وإن لم يكن ثَمّ ولد، فلا سبيل إلى اللعان، سواء أطلقَ القذفَ، أو أضافه إلى النكاح المرتفع؛ فإنه لا حاجة إلى القذف، ولا فراش ولا نسب. وكذلك لو نكح امرأة (3) نكاحاً فاسداً وقذفها، فإن كان ثَمّ ولدٌ يريد نفيه، فله اللعان عندنا، ثم حيث يلتعن لنفي النسب ولا نكاح، فإذا انتفى النسب، (5 اندفع الحدّ تبعاً؛ فإن اللعان حجة [متضمنها] (4) إثبات الزنا، ويستحيل أن تقوم حجة شرعية 5) على الزنا، ويقع القضاء بصحتها، ثم يُحدّ الناسب إلى ذلك [الزنا] (6). ولو نكح امرأة وقذفها، وهو على اعتقاد الصحة في النكاح، فالْتعن [ولا] (7) ولد ثم يتبين فساد النكاح، فهل يُقضَى باندفاع الحد والحالة هذه؟ فعلى وجهين أوردهما المحققون من المراوزة: أحدهما - أن الحدّ يجب؛ فإنا تبيّنا بالأَخَرة (8 فسادَ اللعان، ولو علمنا ذلك ابتداءً، لمنعنا من الإقدام على اللعان، فإذا بان آخراً، تبيّنا 8) فساد اللعان.

_ (1) زيادة من (ت 2). (2) (ت 2): فارقها. (3) (ت 2): امرأته. (4) في الأصل: " متضمناً " وهي ضمن الساقط من (ت 2). (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (6) زيادة من (ت 2). (7) في الأصل: فلا. (8) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

والوجه الثاني - أن الحد يندفع؛ لأنه جرى في مجلس القاضي ما هو في الشرع تصديق القاذف، فيبعُد مع جريانه إقامةُ الحدّ، وإذا علمنا فساد النكاح، لم نتركه يلتعن. ثم مهما (1) جرى اللعان في بينونةٍ أو نكاح فاسد لنفي النسب، فالمرأة هل تلتعن؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنها تلتعن في مقابلة لعانه، كما لو كانت في نكاح صحيح. والثاني - أنها لا تلتعن؛ فإن اللعان حيث لا نكاح مقصوده نفي النسب، ولا حاجة إلى لعانها في نفي النسب؛ فإنها (2) تتعرض لإثبات النسب في مضادة الرجل النافي، فيبعد إثبات اللعان في حقها. فإن قلنا: إنها لا تلتعن، فلعان (3) الزوج لا يُثبت عليها الحدَّ، فينحصر الغرضُ (4) من هذا اللعان في نفي النسب، ثم يتبعه انتفاءُ الحد عن القاذف، وذلك أنا لو ألزمناها الحد، لكان ذلك إرهاقاً منا إياها إلى الحدّ على وجهٍ لا تجد له مَدْفَعاً، فهذا لا يليق بموضوع اللعان ومحاسن الشرع. وإن قلنا: إنها تلتعن، فإن امتنعت عن اللعان، حُدّت، كما لو امتنعت عن اللعان في صلب النكاح. ثم إذا جرى اللعان في بينونةٍ أو نكاح فاسد، فهل يفيد [اللعانُ] (5) [الحرمةَ] (6) المؤبدة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يفيده؛ طرداً لهذا الحكم مهما جرى اللعان على الصحة.

_ (1) مهما: بمعنى إذا. (2) (ت 2): فلها متعرض. (3) (ت 2): كلعان الزوج. (4) (ت 2): العوض في هذا اللعان. (5) في النسختين: النكاح. (6) في الأصل: الحريّة.

والوجه الثاني - أنه لا يتضمن التحريم؛ فإنه لم يرد على نكاحٍ، والحرمة المؤبدة (1) معلّقةٌ بلعانٍ يتضمن قطعَ نكاح. وقد انتجز ما أردنا جمعه في هذه القواعد، وإنما جمعناه لأنه مبثوث في الكتاب من غير انتظام، فرأينا أن يُلفى في مكانٍ واحد. 9645 - ثم نعود إلى ترتيب السواد ومسائله. فإذا قذف الرجل زوجته المجنونة، فإن كان ثَمّ ولد، فله نفيُه باللعان، وتقع الفرقة وتتأبد، ويندرىء التعزير. وإن لم يكن ثَمّ ولد، ففي جواز اللعان الوجهان المذكوران، فلا شك أنها ليست من أهل الطلب في الحال، ولا يقوم وليها مقامَها في الطلب؛ لأن هذا أُثبت ليشفيَ (2) الغيظَ ودَرْكِ الثأر كالقصاص، فلا سبيل إلى التفويت (3). فإن قلنا: لي له اللعان، [فلو لَمْ] (4) يتفق حتى أفاقت، فلها طلب التعزير، وللزوج الدرء باللعان الآن، على المذهب الذي يجب القطع به. ولو قذفها وهي مُفيقة (5)، فجُنَّت قبل اللعان، فإن كان ثَمّ ولد الْتعن الزوج، ولم يؤخّر، فإن لم يكن ولد وقد تعذر الطلب، ففي جواز اللعان الخلاف المقدم. ولو قذفها في حالة الجنون بزناً في حالة الإفاقة، فهذا القذف موجِبٌ للحد، نظراً إلى وقت الإضافة، ولا اعتبار بصفة المقذوف في الحال (6)، وهذا بمثابة قذف الميت مستنداً إلى حياته، فإنه موجبٌ للحدّ، حملاً على التأريخ بالحياة، وكذلك القول في الجنون والإفاقة، غيرَ أنها إذا كانت مجنونة، لم تطلب، ولم ينُب عنها في الطلب

_ (1) (ت 2): المترتبة. (2) (ت 2): لنفي التغيظ. (3) (ت 2): التقريب. (4) في النسختين: لو لم. (5) (ت2): معتقة. (6) (ت 2): في كل حال.

أحد، فلو ماتت المجنونة قبل الإفاقة، قام بطلب الحد من يرثها الحدَّ، وللزوج اللعان لدرء الحد بعد موت الزوجة. ولو قذفها وهي مجنونة، فموجَب القذف التعزير إذا لم يؤرِّخ الزنا بالإفاقة، فلو ماتت ورث التعزيرَ (1 من يرث الحد، ثم أَمْر اللعان على ما ذكرناه. 9646 - وإذا قذف امرأته الأمة، فطلبُ التعزير 1) إليها دون مولاها؛ لأن التعزير يجب [للاعتداء] (2) على العِرْض، ولا حق للمولى في عِرض المملوك، وإنما يملك منها ومن العبد ما يعود إلى المالية، والعِرْض والذمة خارجان عن ملك المولى، وعلى هذا قال فقهاؤنا: لو قذف السيد عبده، وجب للعبد على المولى التعزير، لأنه تصرّف فيما ليس له، وكان كما لو قذف مملوكَ الغير، وليس كالقصاص؛ فإن الجناية تَرِد (3) على الرقبة، وهي معدن المالية. ويجوز أن يقال: لا يملك العبد طلبَ التعزير من مولاه، ولكن إذا شكاه، قيل له: لا تُؤذه، فإن أبى، كان كما لو زاد على الحدّ في الاستخدام. والأوجه ما ذكره الأولون. ولو قذف زوجته الأمةَ، فماتت قبل أن تطلب، فهل لمولاها طلب التعزير بعد موتها؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإنه لا يخلفها (4)، وإنما الوارث يخلف موروثه الحرّ بسببٍ أو نسب. والثاني - له حق الطلب؛ فإنه أخص الناس به، واختصاصُه قطَع سائرَ جهات الاختصاص عنه، حتى قطع اختصاصَه بنفسه، وما الوراثة إلا ضربٌ من الاختصاص. 9647 - وكل ما ذكرناه ينبني على مذهبنا في أن حدّ القذف موروث، وهذا الأصل

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 2). (2) في الأصل: للاعتراض. وفي (ت 2): للإعراض. والمثبت اختيار من المحقق. (3) (ت 2): تردد على الذمة. (4) ت 2: لا يلحقها.

متفرّع على أن حد القذف حقٌّ للآدمي، وليس حقّاً لله تعالى، خلافاً لأبي حنيفة (1) وأقرب نتيجةٍ لهذا الأصل مسألتان: إحداهما - أن من قُذف فلم يطلب الحدّ حتى مات، ورثه ورثتُه على ما سنفصله، وعند أبي حنيفة لا يرثونه مع قوله: إن من قذف ميتاً، فلورثته طلب الحد. والنتيجة الثانية - العفوُ والإسقاط، فعندنا يسقط حدُّ القذف بإسقاط المقذوف، إذا كان من أهل الإسقاط، خلافاً لأبي حنيفة. ثم إذا قضينا بكَوْن الحد موروثاً، فقد اختلف أصحابنا فيمن يرثه: فمنهم من قال: يرثه جملةُ الورثة: من يتعلق منهم [بالنسب] (2) ومن يتعلق بالسبب. ومنهم قال: يختص وراثته بمن يتعلق بالنسب؛ فإن الذب عن العِرضِ يتعلق بالذب عن النسب، فاتجه اختصاصه بأهل النسب. ومن أصحابنا من قال: يختص بعصبات النسب، وهم الذين يثبث لهم حق التصرّف في ولاية التزويج. فإذا فرعنا على هذا، فلا شك أن الأب يستحق، وفي الابن كلامٌ: من أئمتنا من ورّثه وجعله على ترتيبه في العصوبة، وقدّمه على من عداه. ومنهم من لم يُثبت له هذا الحق، كما لا يثبت له حق ولاية التزويج. ولو فرض القذف بعد الموت (3)، فالمقذوف الميتُ، والطالب بالحد من يرثه لو وجب في حياة المقذوف. ورتب الأئمة الزوجين والقذفُ مُنشَأٌ بعد الموت عليهما والقذفُ في حالة الحياة، والصورة الأخيرة أولى بقطع الاستحقاق، والفرق أن القذف جرى في الحياة والسبب قائم وهو الزوجية، وهاهنا أنشأ القذف بعد ارتفاع [السبب] (4).

_ (1) ر. رؤوس المسائل: 436 مسألة 307، طريقة الخلاف: 219 مسألة 88، إيثار الإنصاف: 218. (2) ساقطة من الأصل. (3) ت 2: ولو فرض القذف فالمقذوف الميت ويطالب بالحد ... (4) في الأصل: النسب.

9648 - وإذا ثبت حد القذف بحق الورثة لجماعة، فعفا واحد منهم، ففي المسألة أوجه: أظهرها - أن للباقين استيفاء الحد بكماله، ولم يؤثّر عفوُ من عفا، لأنه ثبت للورثة، فلا سبيل إلى إسقاط حقوق الطالبين لا إلى عِوض، بخلاف القصاص. والثاني - تسقط حقوق الباقين، كما تسقط حقوقهم عن القصاص إذا عفا بعض المستحقين. والوجه الثالث - أنه يسقط بإسقاط من عفا مقدار حقه لو قُدّر التوزيع عليهم، حتى إذا كان الحد بين ابنين، فعفا أحدهما، سقط بعفوه أربعون جلدة، وبقي مثلها للابن (1) الذي لم يعف. وهذا الذي ذكرناه الآن تنبيهٌ على التراجم، وسنعود إلى هذا الفصل قاصدين، إن شاء الله عز وجل، فإذ ذاك نوضح الأصول والتفريعات، إن شاء الله عز وجل. ومن قذف [موروثَه] (2) فمات المقذوف، سقط الحد بوراثة القاذف، ولا يتصور فرضُ هذا في القصاص؛ فإن من جَرَح موروثَه، فمات، فالقصاص قائم عليه؛ فإنه قاتل والقاتل محروم عن الميراث. 9649 - ثم قال الشافعي رحمه الله: " ولو التعن وأبَيْنَ اللعان ... إلى آخره " (3). فَرَضَ الشافعيُّ [اللعان] (4) في جمعٍ من النسوة، والحكم. لا يختلف، ومقصود الفصل الكلامُ في امتناع أحد الزوجين من اللعان، فإن امتنع الزوج (5) -والقذف موجِبٌ للحدّ- حُدّ حدَّ القذف. وإن التعن الزوج وامتنعت، حُدّت حدَّ الزنا، ولا حاجة إلى تفصيل الحدود؛ فإنها ستأتي في كتابٍ، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) ت 2: في الآخر. (2) في الأصل: مفروضه. (3) ر. المختصر: 4/ 145. (4) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام. (5) ت 2: فإن امتنع الزوج من القذف حدّ حَدّ القذف.

فصل قال: " ولا أَجبُر الذمّيةَ على اللعان إلا أن ترغب في حُكْمنا ... إلى آخره " (1). 9650 - إذا قذف الرجل امرأته الذمية ولاعَن، عُرض اللعان عليها، فإن أبت نصّ الشافعي على أنها لا تجبر على اللعان، ولا تُحد، فإن رضيت بحكمنا، حكمنا عليها حينئذ. هذا هو النص. واختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: هذا يخرّج على القولين المذكورين في أن أهل الذمة هل يُجبرون على أحكامنا، وقد قدمنا هذا الأصلَ، وسيأتي استقصاؤه في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل. فإن قلنا: إنهم مُجْبَرون، فالذمية مجبرة على اللعان، سخطت أم رضيت، حتى إذا امتنعت، قضينا عليها بما نقضي به على المسلمة الناكلة عن اللعان. والثاني - أنها لا تجبر. ومن أصحابنا من قطع (2) القول بأنها لا تجبر على اللعان إلا أن ترضى بحكمنا، وهذا هو الذي صححه المحققون؛ لأنه لا يبقى بعد لعان الزوج إلا ما يتعلق بمحض حق الله تعالى، وحقوقُ الله تعالى مبناها على المسامحة، فلو حملناها على اللعان، لكان ذلك حملاً على أمرٍ مالُه -لو فرض النكولُ- إقامةُ حد الله تعالى، وكان هذا الطرف ليس متعلقاً بحق الزوج، وليس معدوداً من خصومة الزوج. وألحق الأئمةُ بهذا أمراً بدعاً به تَبين القاعدةُ، فقالوا: إذا كان التلاعن بين مسلمين، فالتعن الزوج، لم يتوقف عرض اللعان عليها على طلبه، حتى لو رضي بأن لا يعرض اللعان عليها، لم نبال به، وقيل لها: قام عليك حجةٌ، فادرئيها، تسْلمي، وإن أبيتِ، أقمنا عليك حدَّ الله تعالى.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 145. (2) هذا هو الطريقة الثانية.

ومن لطيف المذهب في هذا أن الخصومة إذا دارت بين المسلم والذمّي، فقد اتفق الأصحاب على أن الذمِّي محمولٌ على حكم الإسلام. وهاهنا تردُّد، والتردد الذي ذكرناه سببه انقطاع جانبها عن جانبه، فليلتعن الزوج، وليتركها. نعم، إن قذف الذمّي زوجتَه الذمية، ففي إجبار الزوج على اللعان إذا طلبت من غير أن ترضى بحكمنا القولان المشهوران في أن أهل الذمة هل يُجبرون على أحكام الإسلام؛ فإن اللعان في جانبه ومطالبته بالتعزير يتعلق بحقوق الآدميين. 9651 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " لو كانت امرأة محدودة في زنا، فقذفها بذلك الزنا ... إلى آخره " (1). وهذا هو الفصل الذي أدرجناه في أثناء الأصل الذي ذكرناه، وأتينا به مقرَّراً، فلا حاجة إلى إعادته. 9652 - ثم قال الشافعي رحمه الله: " وإن أنكر أن يكون قذفها ... إلى آخره " (2). إذا ادّعت المرأة على زوجها أنه قذفها، نُظر: فإن سكت الزوج، ولم يُحِرْ جواباً، قام سكوته مقامَ الإنكار (3) في سماع البينة عليه، فإذا أقامت شاهدين على أنه قذفها، فله أن يلتعن، فإنه لم يصرح بإنكار القذف، وإنما أقمنا سكوته مقام الإنكار في قبول البيّنة، وهو ليس بإنكارٍ على الحقيقة، والبينة تسمع لعدم الإقرار، لا لحقيقة الإنكار. ولو قال الزوج لما ادّعت القذفَ: ما قذفتُك وما زنيتِ، فأقامت شاهدين على أنه قذفها ونسبها إلى الزنا، فليس للزوج أن يلتعن، فإنه قد أنكر القذف وبرّأها؛ إذ قال: ما زنيتِ، واللعان يستدعي قذفاً. فإن أنشأ قذفاً، التعن، ثم لا يتوجه عليه الحد بالقذف الذي ثبت وأنكره؛ فإن

_ (1) ر. المختصر: 4/ 146. (2) ر. السابق نفسه. (3) ت 2: الإمكان.

اللعان يُثبت الزنا [عليها] (1) ولا يتصور مع ذلك أن نطالبه بالحد. ولو قال الزوج لما ادعت القذفَ: ما قذفتُك، فأقامت شاهدين أنه قذفها، فللزوج أن يلتعن، فإن قوله ما قذفتك يمكن حمله على أن الذي تقدم مني لم يكن قذفاً، وإنما كان قولاً حقّاً، فإذا ذكر الزوجُ هذا التأويلَ الذي ذكرناه، وأراد الالتعان من غير قذفٍ جديد، فله ذلك. ولو قال: ما قذفتك، فلما قامت عليه البينة، لم يذكر التأويل الذي ذكرناه، ولم يجدد قذفاًً، فهل له أن يلاعن؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له اللعان؛ لأنه يصير [بهذا] (2) مكذباً نفسه، وقد أنكر أصل الرّمي، وعلى إنكاره قامت البينة، فكيف يقول: " إني لمن الصادقين فيما رميتها به "- وما كان رماها (3 بزعمه. والوجه الثاني - له أن يلاعن؛ لأنه وإن أنكر القذف 3)، فقوله مردودٌ عليه بالبينة، فصار كأنه لم يكن. وشبه هؤلاء هذه المسألة بما لو اشترى شيئاً، فظهر [أنه] (4) مستحَق، وقامت الخصومة، فقال: المشتري للمستحِق في أثناء الخصومة: هذا الشيء كان ملك فلان، فاشتريته منه، فإذا قامت البينة على الاستحقاق، وانتُزِع الشيء من يده، فله أن يرجع بالثمن على البائع، وإن كان أقر له بالملك في أثناء الخصومة؛ لأن إقراره رُدّ عليه بالبينة، وأيضاًً، فإن قوله: " أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتُها " يتضمّن قذفاًً، وكأنه ابتداء قذفٍ ولعانٍ. وهذا ضعيف؛ إذ لو جاز اعتماده، لجاز ابتداء كل زوج باللعان من غير تقديم قذف. فهذا بيان الفصل.

_ (1) في الأصل: عليه. (2) في النسختين: بها. والمثبت من المحقق. (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). (4) زيادة اقتضاها السياق.

9653 - وفيما قدمنا مباحثة في شيء واحد، وهو أنا ذكرنا في أقسام المسألة أن الزوج لو قال: ما قذفتُها، وما زَنَتْ، فنفى القذفَ وبرّأها، فليس له أن يلتعن. هذا سديد لا نزاع فيه. قال القاضي: إن أراد اللعان ابتدأ قذفاً جديداً، وهذا فيه نظر؛ من جهة أن قوله: ما زنت يتضمّن الإقرار ببراءتها من الزنا، فإذا قذفها إنشاءً، فَقَذْفُه المنشأ يناقض إقراره ببراءتها من الزنا، فكيف يثبت قذفُه، وهو مناقض لقوله الأول؟ والممكن في الانفصال عن ذلك أن يقال: " ما زنت فيما سبق، وقد زنت على قرب العهد ". والذي يحقق هذا أن الرجل لو برّأ إنساناً عن الزنا، ثم قذفه، فهذا قذفٌ موجبٌ للحد. فلو قال: هذا القذفُ غير منتظم منّي، فإني قدمت الإقرار بالبراءة، قيل له: قد آذيتَ بقذفك، وتعرّضتَ للعِرْض المصون عن القذف بالحدّ، فلا يراعى في القذف، والمقذوفُ يزعم أنه كذَبَ -على كل حال- إمكانُ الصّدق. هذا هو الممكن في ذلك. والإشكال بعدُ قائم؛ فإن التبرئة مطلقةٌ مسترسلةٌ على جميع الأزمان، والقذف بعدها مناقض لها، وقوله وإن كان قذفاً في حق المقذوف، فهو مؤاخذ في حق نفسه [بسابق] (1) قوله. والذي استقر الكلام عليه أنه إذا برّأ من الزنا، لم يصح القذف منه إلا أن يتخلل زمانٌ يمكن وقوع الزنا فيه، فينشىء قذفاً ويلاعن، ولكن لا يَسقُط الحدّ الأول، إلا على مذهب سقوط حصانتها بلعانه، كما سيأتي تفصيل ذلك. وبالجملة ما ثبت من القذف بالبيّنة مع ما أنشأه بمثابة ما لو قذف أجنبيةً ثم نكحها وقذفها في النكاح، وسيأتي شرح هذه المسائل، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: يسابق.

9654 - ثم قال: " ولو قذفها، ثم بلغ ... إلى آخره " (ا). قذْفُ الصبي لا يوجب حداً ولا تعزيراً للمقذوف (2) يتعلّق بطلبه، ولكن يعزره القائم عليه لإساءة أدبه، كما يفعل ذلك به في سائر جهات التأديب والتثقيف. قال القفال: إذا همّ بتأديب المراهق، فبلغ، انكف عنه وإن كان والياً؛ فإن البلوغ أكمل الروادع، والعقل الذي قضى الشرع بكماله أَبْينُ وازع، فلا يؤدَّبُ مكلَّف على الوجه الذي يُؤدَّبُ عليه الصبي؛ فإن المكلفَ معاقَبٌ، وكل ما يقع به من إيلام، فهو عقابٌ، وما يقع بالصبيّ تأديبٌ بمثابة رياضة الدّوابِّ (3)، ولهذا نأمر الطفل بقضاء ما فات من الصلوات ما دام طفلاً، فإذا بلغ، كففنا الطلبَ عنه. 9655 - ثم قال: " ولو قذفها في عدة يملك فيها رجعتها ... إلى آخره " (4). إذا قذف الزوج الرجعيةَ، لاعن عنها، فإنها ملحقة بالزوجات، ولا يتوقف جريان اللعان على أن يرتجعها، وليس كما لو ظاهر عنها، أو آلى، فإنه إن ظاهر، لم يصر عائداً ما لم يرتجعْها، ولو آلى، لم تحتسب المدة، ما لم تراجَع، وينتجز اللعان في الرجعية انتجازه في الزوجة، وكل أصل مُقَرٌّ على خاصيته وحقيقتِه. أما العوْدُ، فمناقِضُه ترك الرجعة وهي محرّمة لا مناقضة فيه، ومدّة الإيلاء لا تحتسب، فإنها معتزلة عن زوجها، والمدة مَهَلٌ يتخير الزوج بين الوطء والترك، وهذا لا يليق إلا بحال الحِلّ. 9656 - ثم قال: " ولو بانت فقذفها بزنا ... إلى آخره " (5). ذَكَر القذفَ بعد البينونة، وهذا مما قدمنا ذكرَه في أثناء القواعدِ التي مهدناها والأصولِ التي جمعناها، ووصلنا بذلك القذفَ المؤرّخَ في النكاح بغيره، وفي غير

_ (1) ر. المختصر: 4/ 146. (2) أي من أجل المقذوف، فليس للمقذوف حقٌّ في طلب الحد أو التعزير إذا قذف الصبي، وإنما هو التأديب من وليه. (3) ت 2: بمثابة رياضةٍ للصبي. (4) السابق نفسه. (5) ر. المختصر: 4/ 147.

النكاح بالنكاح، فلا حاجة إلى إعادة ما مضى، وَوَصَلَ بما ذكره (1) من القذف بعد البينونة القذفَ في النكاح الفاسد، وهو مما تقدم أيضاًً، وفيه مَقْنع تام، وقد قدمنا قذفَ الرّجعية واللعانَ عنها. 9657 - ولو ارتد الزوج والزوجةُ مدخولٌ بها، فقذفها في الردّة، فإن لم يلاعن، وعاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، أمكنه أن يلاعن؛ فإن النكاح قائم. وإن لاعن في الردة، نُظر: فإن أصرّ (2) حتى انقضت العدّة، فقد بيّنا أن اللعان وقع في حالة البينونة، فإن كان ثَمّ ولدٌ نفاه، فاللعان ثابت، والحد يندفع بجريان اللعان، كما قدمنا ذكره. وإن لم يكن ولدٌ، فقد ذكر الأصحاب وجهين في أن الحدّ هل يندفع بذلك اللعان، وقد بيّنا أنه وقع بعد ارتفاع النكاح؟ وكان شيخي يبني هذا على تردد الأصحاب في أن الجاريةَ في العدة بسبب اختلاف الدين سبيلُها إذا بان ارتفاع النكاح سبيلُ الرجعيات أم سبيل البائنات؟ وقد ذكرنا تقديرَ ذلك في كتاب النكاح. والوجه عندنا تقريبُ هذا من الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا قذف زوجته في نكاحٍ ظنه صحيحاً، ثم بان فسادُه، وقد لاعن على ظن الصحة، ووجه التقريب بيّن. ثم الأصحاب أطلقوا القول بأن المرتد يلاعِنُ، وإن كنا نجوّز أن يصرّ على الردة. ويمكن فرض هذه المسألة فيه إذا التعن ولم نشعر بردّته، حتى يقالَ: إن علمنا كونه مرتداً، نأمرها (3) بالتوقف، ولم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، مع إمكان الاحتمال فيه. 9658 - ثم ذكر الشافعي رحمه الله: أن الرجل إذا قذف امرأته بالإتيان في الدبر، وأثبتَ اللعانَ (4)، وأخذ المزني يتعجب، وليس هذا موضع التعجب؛ فإن الشافعي

_ (1) ت 2: وَوَصَل ما ذكرناه من القذف. (2) ت 2: أخر. والمعنى أصرّ على الردة (أو أخر العودة إلى الإسلام) حتى انقضت العدة. (3) ت 2: حتى يقال: إن علمنا كونه مرتداً ولم نأمرها بالتوقف. (4) ر. المختصر: 4/ 147.

بنى هذا على الأصح في أن هذه الفَعْلةَ لو تحققت، وجب بها حدُّ الزنا، وكل ما يتعلق به حد الزنا إذا وقع يتعلق بالنسبة إليه حدّ القذف. ثم إذا كان قذفُ الزوج موجباً حدَّ القذف، [فلا استبعاد في جريان اللعان، وسيأتي الكلام في ألفاظ القذف] (1) في باب منفرد بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " ولو قال لها: يا زانية بنت الزانية ... إلى آخره " (2) 9659 - إذا قال لامرأته، وأمُّها حرة مسلمة، على ظاهر صفات المحصنات: يا زانيةُ بنتُ الزانية، فعليه حدان؛ لأنه أتى بكلمتين مختلفتين، كلُّ واحدةٍ منهما قذفٌ صريح في حق محصَنةٍ، فكان كما لو قال لزوجته: أنت زانية، وأمك زانية. ْولو قال لمنكوحتين أو أجنبيّتين: أنتما زانيتان، ففي تعدد الحدّ قولان سيأتي ذكرهما: أحدهما - أنه لا يجب إلا حدٌّ واحد، والفرقُ أن الكلمةَ متحدةٌ في المسألة (3) الأخيرة، وعلى اتحادها التعويلُ على هذا القول، ولا نظر إلى تعدد المعنى. ولو قال في مسألتنا: أنتِ وأمك زانيتان، فقد رتب أصحابنا هذا على ما لو قال لأجنبيّتين (4)، أو منكوحتين: " أنتما زانيتان ". إن قلنا: يلزمه هناك حدان، فهاهنا أولى؛ لأن موجَب القذف يختلف في الأجنبية والمنكوحة، ولا يختلف في المنكوحتين والأجنبيتين. وإن قلنا في الزوجة والأجنبية يلزمه حد واحد، فإن لم يلاعن حُدّ لهما حداً واحداً إذا اتحدت الكلمة، وإن لاعن بقذفها، سقطت طَلِبتُها، والحدُّ باقٍ للأم؛ لأن اللعان حجةٌ خاصة أثرها في قذف النكاح، فإن قيل: هلا كان لعانه شبهةً؛ فإن الحد واحد

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2). (2) ر. المختصر: 4/ 147. (3) في الأصل: أن الكلمة متحدة في " مسألة " الأخيرة، هكذا بدون [أل] وهذا أحد المظاهر الدالة على آثار عجمة قديمة في لسان الناسخ. (4) ت 2: لأختين.

لا ينقسم؟ قلنا: لم يتعرض الزوج في لعانه لزنا الأم، ولو تعرض له، لكان باطلاً، وليس اتحاد الحد على حقيقته، إنما هو على مذهب التداخل، وهذا ينافي حقيقةَ الاتحاد، وما ذكرناه فيه إذا قال لزوجته وأمها أنتما زانيتان. فأما إذا قال: يا زانيةُ بنتُ الزانية، فقد ذكرنا أن الحد يتعدد قولاً واحداً، ثم طلبُ حد الأم إليها، أو إلى من تستنيبه، وحق البنت مفوض إليها. 9660 - واختلف أصحابنا في تقديم إحداهما على الأخرى: فمنهم من قال: لا يثبت لواحدة منهما حقُّ التقديم بعد ما قذفهما. وكذلك لو قذف شخصين، فرتب أحدهما على الثاني، فإنه صار بكل قذف مستوجباً للحد، فلا أثر للتقدّم والتأخر، وهو كما لو أتلف مالَيْن على شخصين في زمانين، فلا يتقدم أحدهما، ثم هذا القائل يقول: إذا جاءتا تطلبان، فلا وجه إلا الإقراع بينهما. ومن أصحابنا من قال: الأم هي المقدمة؛ لأن حدها بعيد عن السقوط، وحدّ البنت يسقط باللعان، فكان الحد المتأكد أولى بالتقديم، واعتل بعض الأصحاب بحرمة الأم، وهذا لا حاصل له. ومن أصحابنا من قال: البنت مقدّمة، لأن الزوج بدأ بذكرها؛ إذا (1) قال: يا زانيةُ، فثبت الحد لها أولاً، ولا بُعْد في التقديم، بهذا السبب في العقوبات، ولذلك نقول: من قتل رجلين على الترتيب، فهو -[على الترتيب] (2) - مسلّم إلى أولياء القتيل الأول، وهذا [أبعدُ ترجيح] (3)؛ فإن المحل يفوت بالتسليم إلى أولياء الأول، فإذا كانت البداية تؤثر والحالة هذه، فلا بُعد في تأثيرها في حد القذف. والذي يوضح ذلك أنا إذا حَدَدْناه لا نوالي عليه، بل نمهل رَيْثما يبرَأُ جلدُه، وفيه تأخير الحد الثاني.

_ (1) إذا: بمعنى (إذْ). (2) زيادة من (ت 2). (3) في النسختين: وهذا إلى ترجيح. والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق.

ثم بنى الأصحاب على ما ذكروه أنه لو قذف أجنبيتين بكلمتين، فهل تُقدّم المذكورة أولاً بحق الحد؟ فعلى ما ذكرناه. ولو قدم ذكرَ أم زوجته، ونسبها إلى الزنا، ثم ذكر زوجته، انقدح وجهان: أحدهما - القرعة، وهو حكمٌ بالاستواء. والثاني - أن الأم مقدمة لتقدم ذكرها في القذف، ولحرمتها. ولا يكاد يخفى التفريع، وترديد الصور على من أحاط بالمعاني المعتبرة. 9661 - ثم قال: " ومتى أبى اللعان ... إلى آخره " (1). قد ذكرنا أن الشبه الظاهر في اللعان من الشهادة أن النكول عنه لا يمنع العودَ إليه، فلو امتنع الزوج عن اللعان، ثم رغب فيه لمّا همَمْنا بإقامة حد القذف عليه فليلتعن، والمرأة لو امتنعت عن اللعان، ثم رغبت فيه لما هممنا بإقامة حد الزنا عليها، فلها أن تلتعن. قال الشافعي رحمه الله: لو امتنع الزوج وأقمنا عليه معظمَ حد القذف، [ولو لم] (2) يبق إلا سوطٌ، فإذا قال: دعوني ألاعن، تركناه حتى يلاعن، وكذلك لو أقمنا على المرأة معظمَ حد الزنا، وكانت بكراً، فرغبت في اللعان تركناها. ولعلّ السببَ في ذلك -بعدَ الإجماع- أن الزوج يأتي باللعان إتيانَ المدّعي بالبينة، وإن كان لا تطلب منه، ويؤثِّر لعانُه في إثبات الحد عليها، فلما لم يقف اللعان على العرض والطلب، لم يسقط بالنكول، وشابَه البينةَ من هذا الوجه. وحق الناظر في الأشباه أن ينظُر إلى أخصها، والنكول عن اليمين امتناعٌ عن المطالبة بها، [فقرب] (3) أخذ حكم النكول من الطلب من طريق الشبه. وهذا تَرِدُ عليه أيمانُ القسامة، واليمينُ مع الشاهد، ويمينُ الرد، وللأصحاب

_ (1) ر. المختصر: 4/ 148. (2) في الأصل: " أو لم يبقَ ". (3) في الأصل: فضرب.

كلامٌ في [النكول] (1) عن هذه الأيمان؛ من حيث إنها تجري من غير طلب من الخصم [فيها] (2)، وستأتي أحكامها مشروحة، إن شاء الله عز وجل. 9662 - وإذا أقمنا حدَّ القذفِ على الزوج، فقال: أنا ألْتعن، لم يُمَكّن. قال الشيخ القفال: لم يَفْصِل الأحاب في هذا بين أن يكون ثَمّ ولد وبين ألا يكون. والصواب عندي (3) أن نقول: إن لم يكن ولد، فالجواب كذلك؛ فإنه لا فائدةَ في اللعان بعد إظهار تكذيبه بإقامة الحد عليه، فأما إذا كان ثَمّ ولد، فالوجه أن يلاعن وإن أقيم الحد عليه. فحصل إذاً في هذا [الطريق] (4) نقلُ القفال عن الأصحاب أنه لا يلاعن، ووجهُه أن القذف سقط أثره بإقامة الحد، فكأن الزوج بعد (5) الحد ليس قاذفاً، والقذف لا بد منه في نفي الولد، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل. وأختارُ (6) أن يلاعن؛ لظهور الغرض في نفي النسب، والقذفُ وإن أقيمت عقوبتُه كائنٌ، ولو قيل: تأكد القذف بالحد لم يكن بعيداً، فإن الذي يلاعن يُخرج نفسه عن كونه قاذفاً. ثم ذكر الشافعي رحمه الله بعد هذا القذفَ في النكاح الفاسد، والتفصيلَ فيه إذا كان ولد أو لم يكن، وتعرض لمحاجّة أبي حنيفة، وذكر بعده الردَّ عليه في لعان الذمي والعبد، وقد تقدم جميع هذا.

_ (1) في الأصل: النزول. (2) في الأصل: منها. (3) عندي: القائل هو القفال، وهذا حكاه عنه الرافعي متابعاً للإمام. (4) في الأصل: الطرف. (5) ت 2: بُعَيْد. (6) وأختار: يمكن أن تقرأ بهمزة الوصل، فيكون الذي اختار هو القفال الذي فصل الكلام في المسألة، ويمكن أن تقرأ بهمزة القطع، فيكون الذي اختار هو إمام الحرمين. وهذا ما رجحته، لأنه الأقرب لأسلوب الإمام عندما ينقل أو يتحدث عن شيوخ المذهب، فإنه لا يتحدث بضمير الغائب، وإنما يذكرهم بألقابهم وكناهم وأسمائهم. ثم ساعدني على ذلك ما وجدته عند الرافعي، إذ قال: إن هذا اختيار الإمام. (ر. الشرح الكبير: 9/ 392).

فصل (1) 9663 - قد ذكرنا أن النسب الذي يتعرّض للثبوت في النكاح الصحيح أو الفاسد يُنفى باللعان، فكذلك لو فرض تعرُّض نسب للثبوت بسبب وطء شبهة، فاللعان ينفيه. فأما النسب الذي يلحق بسبب ملك اليمين، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا سبيل إلى نفيه باللعان. وقال أحمد بن حنبل ألا تعجبون من أبي عبد الله، يقول: [يلاعن] (2) الرجلُ عن أم ولده، فمنهم من قال: أراد مالكاً (3)، فإنه يُكنَّى بعبد الله، ومنهم من قال: أراد الشافعيَّ (4)، وأثبت هذا قولاً عنه، وقال: للمَوْلى أن يلاعن عن الأمةِ وأمِّ الولد، فحصل إذاً قولان على رواية أحمد بن حنبل: أحدهما - لا يلاعن [عن الأمة،] وهو المذهب (5)؛ لأن نص القرآن في الزوجات والأزواج، ولا مجال للقياس. والذي يجب التنبيه له أن الشافعي في إثبات اللعان بِنَفْي النسب في النكاح الفاسد حاد عن النص (6) بعض الحَيْد، ولكنه وجَدَ مستمسَكاً قويّاً (7) في الشبه، مأخوذاً من مثل مسلكه (8) في إلحاق الشيء بالشيء لكونه في معناه، وأما ملك

_ (1) في نسخة (ت 2): (فرع) مكان فصل. (2) في الأصل: يقول: عن الرجل أم ولده. (سقط نصف كلمة يلاعن). (3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 790 مسألة 1480، عيون المجالس: 3/ 1334 مسألة 931. وحاشية العدوى: 2/ 99. (4) ومنهم من قال: أراد سفيان (الثوري) وضعَّف الروياني هذا قائلاً: روي عن أحمد: " ألا تعجبون من الشافعي " فهذا قطع للتردّد. (ر. الشرح الكبير: 9/ 379). (5) عبارة (ت 2): قولان على رواية أحمد بن حنبل أنه يلاعن عن الأمة وهو المذهب، والمثبت عبارة الأصل بزيادة (عن الأمة) من (ت 2). (6) يقصد بالنص الذي حاد عنه الشافعي نصَّ القرآن، لأن النكاح الفاسد لي بنكاح، ونص القرآن وارد في الأزواج والزوجات. (7) ت 2: قريباً. (8) ت 2: مذهبه.

اليمين، فإنه نأْيٌ عن النكاح بعيدٌ، فضَعُفَ تقدير اللعان. ثم إن لم نثبت اللعان -وهو الرأي- فإذا أقر السيد بوطء أمته، فأتت بولد لزمان يحتمل أن يكون من الوطء المقَرّ به، فالنسب يلحق، ولا دفع باللعان، وتفصيل القول في هذا سيأتي في كتاب الاستبراء، إن شاء الله عز وجل. ولو ادعى السيد أنه استبرأها بعد أن وطئها، ثم أتت بالولد لزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فتفصيل المذهب في هذا مما لا نرى الخوض فيه إذا لم يكن ملك اليمين مترتِّباً على نكاح؛ فإن ذلك يتعلق بأصول الاستبراء، والذي نذكره هاهنا يترتّب ملك اليمين على النكاح فيه إذا اشترى الرجل زوجته. 9664 - فنقول: إذا اشترى زوجتَه الأمةَ، وأتت بولد لأقلَّ من أربع سنين، ولم يُقرّ بوطئها في ملك اليمين، فله النفيُ باللعان -وإن كنا لا نرى إجراء اللعان فيما يتعلق بملك اليمين على الخصوص- والسببُ فيه أنه لو أبانها، فأتت بولدٍ، فأراد نفيه باللعان (1)، مُكِّن منه؛ فمِلْكُ اليمين لا ينقص عن زمان البينونة، وتحقيقه أن اللحوقَ [بسبب] (2) النكاح وتوقُّعِ العلوق فيه، فإذا كان اللحوق بسبب النكاح، فاللعان يترتب على النكاح. وإن هو أقرّ بوطئها في ملك اليمين، وأتت بولدٍ لأقل من ستة أشهر من يوم الوطء المقرّ به، فلا حكم للإقرار بالوطء (3)، والمسألة كما قدمناها. وإن كان لأقلَّ من أربع سنين (4)، فهو منفي عنه باللعان. فإن كان لأكثر من أربع سنين من يوم الشراء، ولأقل من ستة أشهر من وقت الوطء المقرّ به، فالولد منفي من غير لعان (5).

_ (1) ت 2: فأراد نفيه باللعان لم يكن منه. (2) في الأصل: بنسب. (3) واضح أن الكلام مبني على ما هو مقرر عند الفقهاء من أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد الوطء في ملك اليمين، فمعنى ذلك القطعُ بأنها حملت به قبل هذا الوطء، فيكون إلحاق الولدِ مستنداً إلى النكاح لا إلى ملك اليمين. فجاز نفيه باللعان. (4) جرياً على أن أكثر مدة الحمل عندنا أربع سنين ثم هي في ت2 (لأقل من سبعة أشهر). (5) لأنه لا احتمال لتعرضه للثبوت بالنكاح، نظراً لما هو مقرر من المدة المحدّدة لأقل الحمل وأكثره.

وإن أتت به لأكثرَ من أربع سنين من يوم الإقرار بالوطء، فهو منفي عنه بلا لعان (1). وإن أتت بالولد لستة أشهر فصاعداً من يوم الإقرار بالوطء، فهو ملتحق به، إلا أن يدَّعي استبراءً وتأتي به لستة أشهر من انقضاء الاستبراء، فإن أتت به لأقلَّ من ستة أشهر من يوم الاستبراء (2) ولستة أشهر فصاعداً من يوم الإقرار بالوطء، فهو ملحق، فلا حكم للاستبراء؛ لأنا علمنا أن ما رأته من الدم، كان على الحمل. 9665 - فإن قيل: إذا أقر بوطئها، فأتت بولدٍ لستة أشهر من يوم الوطء، ولأقلَّ من أربع سنين من يوم الشراء، قُلتم: يَلْحقهُ بحكم اليمين ولا يملك النفيَ باللعان، ومن الجائز أنها علقت به في النكاح قبل الشراء، فهلا (3) أثبتم النفي [باللعان] (4) لهذه الجهة من الاحتمال؟ قلنا: وإن احتمل العلوقَ في النكاح، فالوطء بعده قَطَعَ حكمَ النكاح، وصيّر المملوكةَ مفترشَة بملك اليمين، فلئن جُوّز نفيُ ولد النكاح، فالتفريع على أن ولد ملك اليمين لا ينفى، وقد ثبت فراش ملك اليمين، فَنَسَخَ هذا الفراشُ ذلك الفراشَ في المعنى الذي نحن فيه. وإذا اعتدت المرأة عن طلاقٍ، وَنَكحت زوجاً، وأتت بولد بعد النكاح الثاني لستة أشهر من النكاح الثاني، وأقلّ من أربع سنين من انقطاع النكاح الأول، فالولد ملحق بالزوج الثاني، وإن احتمل أن يكون العلوق به من الأول (5).

_ (1) للقطع عقلاً بأنها حملت به بعد الوطء الذي مضى عليه أربع سنين، فهو غير متعرّض للثبوت أصلاً. (2) فهذا يقين أنه كان حملاً مستكنّاً قبل الاستبراء، لاستحالة العلوق والولادة في أقل من ستة أشهر. (3) ت 2: فهذا أثبتم بالنفي منه الجهة من الاحتمال. (4) زيادة من المحقق. والمعنى: لمَ لا يثبت النفي باللعان في هذه الصورة ما دام احتمال كونه العلوق في زمن النكاح. (5) أتى بهذه الصورة تأكيداً وتدليلاً على صحة قوله في الصورة السابقة.

ولو أقر بوطئها في ملك اليمين، وادعى استبراءً بعد الإقرار بالوطء، فأتت بالولد لستة أشهر من انقضاء الاستبراء، ولأقلَّ من أربع سنين من وقت الشراء قال ابن الحداد: ينتفي النسب بلا لعان؛ وذلك أن فراش ملك اليمين ثبت بالإقرار بالوطء، وانقطَعَ أثرُ النكاح، ثم انقطع النسب في ملك اليمين بدعوى الاستبراء وإتيان الولد بعد الاستبراء (1) لستة أشهر فصاعداً، وتابع معظمُ الأصحاب ابنَ الحداد. قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قال: إذا انتفى النسب لأجل دعوى الاستبراء في ملك اليمين، فيلحَقُ بحكم النكاح إذا أتت به لزمانٍ يُحتَمل أن يكون العُلوق به من النكاح؛ فإن الأمة وإن صارت فراشاً بالوطء، فلا يقوى فراش ملك اليمين على نسخ حكم النكاح السابق بالكلية، والدليل عليه أن من وطىء معتدة بشبهة، فلا نقول: إذا (2) أمكن إلحاق الولد بالثاني لا نلحقه بالأول، بل يتعرض [ثبوت] (3) الولد لهما، وهو في مجال القيافة. وهذا الوجه الذي ذكره الشيخ غريب، والمذهب ما اختاره ابن الحداد. ...

_ (1) ت 2: بعد الأربع سنين لستة أشهر. (2) ت 2: فلا نقول: إذا أمكن إلحاق الولد الثاني يلحقه الأول، بل سيتعرض الولد لهما ... إلخ. (3) زيادة لإيضاح الكلام.

باب أين يكون اللعان

باب أين يكون اللعان 9666 - مقصود الباب ذكر ما يُؤَكَّدُ اللعان به، وهو أربعة أشياء: الألفاظ، والمكان، والزمان، وعددٌ من الناس. فأما الألفاظ، فهي خمسة في الجانبين، وسيأتي شرحها في بابٍ. فأما الزمان، فليقع اللعان بعد العصر فال الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106]، قيل في التفسير: أراد صلاةَ العصر، وإن لم يظهر ضررٌ في التأخير، ولم يثبت طلبٌ حثيثٌ يمنع منه، أخرناه إلى يوم الجمعة، فإنه معظَّم في النفوس، وروى أبو هريرة في حديثٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئاًً إلا أعطاه إياه " (1)، قال كعب الأحبار: هي بعد العصر، فقال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة بعد العصر " فقال كعب: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد في صلاةٍ ما دام ينتظر الصلاة "، أشار إلى أنه بعد العصر في انتظار المغرب، فهو في حكم المصلي. " وكُتب إلى عمر رضي الله عنه في جارية ادُّعي عليها القذف، فأنكرت، فكتب في الجواب: احبسوها إلى ما بعد العصر، ثم حلّفوها، ففعل فاعترفت " (2). فهذا بيانُ الزمان. وأما المكان، فليقع اللعان في أشرف المساجد وأحراها بالتعظيم، فإن كانت الواقعة في الحرم، فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة، فبين المنبر ومدفن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو الروضة، وإن كان في القدس، فعند الصخرة، وفي سائر البلاد في المسجد الجامع في المقصورة.

_ (1) حديث أبي هريرة متفق عليه (البخاري، الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، ح 935، مسلم: الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، ح 852). (2) أثر عمر رضي الله عنه لم نقف عليه.

وأما العدد فإنا نأمر بإجراء اللعان على رؤوس الأشهاد، فينبغي أن يكود الذين شهدوا غير ناقصين عن عدد بينة الزنا، وهم الذين نُؤثر أن يشهدوا حدّ الزنا، تأسياً بقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. 9667 - فأما التغليظ بالزمان والمكان، فمستحق أو مستحب؟ فعلى قولين، ولا اختصاص للقولين في المكان والزمان باللعان؛ فإن كلَّ أمرٍ له خطرٌ كالدماء، والفروجِ، والمالِ إذا بلغ نصاب الزكاة، فتغليظُ الأَيْمان في جميع ذلك في المكان والزمان يخرّج على القولين. وأما التغليظ بحضور جمعٍ من الناس، ففيه طريقان: من أصحابنا من يراه كالتغليظ بالمكان والزمان، ومنهم من قطع بأنه مستحَبٌّ غيرُ مستحَق. وقد ذكر بعض الأصحاب في التغليظ بالزمان طريقين أيضاً: أحدهما - القطع بأن التغليظ به مستحَب، فعلى هذا يجري القولان في المكان. فأما تغليظ الأيمان بالأمور الخطيرة بألفاظ اليمين، فسيأتي مشروحاً في أدب القضاء. ولا خلاف بين الأصحاب أن كَلِمَ اللعان لا بدّ منها، كما سنصفها على الاتصال بهذا. وإن كنا نحلّف كافراً، فقد قال الأصحاب: نحلفهم في البقاع التي يعظمونها، كالكنائس والبيع، فنأتيها، ونحلّفهم فيها. واختلف أصحابنا في أن المجوس هل يحقفون في بيوت النيران: فمنهم من قال: لا نحلفهم فيها، فإنه لا أصل (1) لتعظيم النيران، وبيوتها كمقارّ الأصنام. ولم يختلف الأصحاب أنا لا نأتي بيوتَ الأصنام إن أمكن تصوُّرُها في طرف بلاد الإسلام، فأما الكنائس والبيع والصوامع؛ فإنها محال العبادات على الجملة. واختلف الأصحاب في التغليظ بهذه الأسباب على الزنديق فمنهم من قال: لا معنى للتغليظ عليه، وهو لا يعبأ به شيئاً.

_ (1) ت 2: لا وقع لتعظيم النيران وبيوتها لزمان الأصنام.

9668 - ولكن لا بد من أصل كلمات اللعان لإقامة الخصومة على قاعدة الشرع، ولئن أُكِّدت (1) الألفاظ باللعن في حق المسلمين، فالزنديق به أولى. ثم إن الشافعي لما ذكر التغليظ بالمكان قال في الحائض المسلمة: تلاعن على باب المسجد، وذكر أن المشركة تلاعن في المسجد، فاعترض المزني (2) وقال: المشركة قد تكون حائضاً، وهي شرّ حالاً من المسلمة الحائض وهذا مما قدمنا الاختلافَ في أصله في كتاب الصلاة، فإن أصحابنا اختلفوا في أنا هل نمكِّن المشركَ الجنبَ من دخول مساجدنا: فمنهم من قال: لا نمكنه، ومنهم من قال: نمكنه، لأنه لا يؤاخذ بتفصيل عقد الإسلام في تعظيم الشعائر، وهذا نُجريه في المشركة، فإن علمنا كونها حائضاً، وخفنا تلويث المسجد، منعناها، وإن لم نخف التلويث، خرج على الخلاف الذي قدمناه. ...

_ (1) ت 2: ولئن اتحدت الألفاظ. (2) ر. المختصر: 4/ 151.

باب سنة اللعان ونفي الولد وإلحاقه بالأم وغير ذلك

باب سُنّة اللعان ونفيِ الولد وإلحاقِه بالأم وغيرِ ذلك 9669 - غرض الباب أن قضايا اللعان: درءُ الحد عن الزوج، ونفيُ الولد، ووقوعُ الفُرقة، وتأبُّدُ التحريم، وكل ذلك يتعلق بلعان الزوج وحده، لا حاجة في شيء منها إلى لعانها، ولا إلى قضاء القاضي، فإنا نحتاج إلى لعانها في إسقاط الحد عنها فحسب، وأبو حنيفة (1) يخالف في ذلك، وقال: قضايا اللعان تتعلق بلعانهما جميعاً وتتعلق بقضاء القاضي، وأخذ الشافعي رضي الله عنه يحتج بما قررناه في المسائل. ثم قال: وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله يعلم أن أحدكما كاذب!! فهل منكما تائب؟ " هذا مما نؤثره للقضاة. ثم إن الرسول حكم بالظاهر، ولم يتعلق بالأمارات المغلِّبة على الظنون، وكان قد ظهرت أمارةٌ دالّة على صدق الزوج، روي أنه عليه السلام قال: " إن جاءت به [أدعج العينين، عظيم الإلْيتين، خَدَلّج الساقين] (2) لا أراه إلا وقد صدق عليها "، فجاءت به على النعت المكروه، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن أمره لبيّن، لولا ما حكم الله به " (3)

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 215، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 505 مسألة 1050، المبسوط: 7/ 43، فتح القدير: 3/ 253. (2) في الأصل: أدَيْعج، وفي ت 2: أوضح. وليس في رواية الحديث لفظٌ من هذين اللفظين (أدَيْعج، أوضح)، فعند البخاري في حديث عويمر العجلاني: إن جاءت به أدعج العينين عظيم الإليتَين خدلّج الساقين، وفي حديث هلال بن أمية عنده وعند أحمد وأبي داود، بألفاظ قريبة من هذه، وهي: إن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلّج الساقين. (ر. البخاري: كتاب التفسير، ح 4745، 4747، وأحمد: 1/ 239، وأبي داود: كتاب الطلاق، باب اللعان، ح 2256) ولفظ (أديعج) مما رواه الشافعي رضي الله عنه في مختصر المزني: 4/ 152. (3) هذا من معنى حديث البخاري الذي مضى آنفاً، وهو من نص رواية الشافعي في المختصر أيضاً.

وروي أنه عليه السلام قال: " لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن " (1). ومما نؤثره تهديد النساء في أمثال ذلك، فلعلهن ينزجرن، وقال صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يُدخلها الله جنته (2)، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين "، ومما جاء في تهديد النسوة ما روي في حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم رأى نسوة معلقات بثُدُيِّهن، فسأل جبريل عن حالهن، فقال: " إنهن اللاتي ألحقن بأزواجهن من ليس منهم " (3). وقال عليه السلام: " اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، يأكل جرايتهم، وينظر إلى عوراتهم " (4) فنُؤثر للقاضي أن يذكر هذه الأشياء حالة إنشاء اللعان، والهمِّ بنفي نسب متعرض للثبوت. ...

_ (1) هذا في لفظ أحمد وأبي داود المشار إليه آنفاً. (2) حديث أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة (ترتيب مسند الشافعي: 49/ 2 ح 159، أبو داود: الطلاق، باب التغليظ في الانتفاء، ح 2263، النسائي: الطلاق، باب التغليظ في الانتفاء من الولد، ح 3481، ابن حبان، ح 4096، الحاكم: 2/ 202، وانظر التلخيص 4/ 453 ح 1774). (3) حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم رأى النساء معلقات بثديهن ... لم نقف عليه. (4) حديث اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم رواه البزار عن ابن عمر انظر: كنز العمال، ح 13002.

باب كيف اللعان

باب كيف اللعان 9670 - مقصود هذا الباب بيانُ كَلِم اللعان وكيفيةُ صيغها، وهي بيّنة في كتاب الله تعالى، فيقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، وهذا الولد ولد زنا ما هو مني، إن كان ثَمَّ ولد، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليّ إن كنتُ من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا، وتقابله المرأة فتشهدُ أربعَ شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وتقول في الخامسة: غضب الله عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به. وذهب معظم الأصحاب إلى تعيين لفظ الشهادة؛ وفاءً (1) بحقيقة الاتباع، وفي بعض التصانيف عن الشيخ أبي حامد أنه لم يُبعد إبدال لفظ الشهادة بالإقسام والحلف أو ترك هذه الصلات، فيقول: بالله إني لمن الصادقين. والمذهب الظاهر أن اللعنَ في جانب الزوج والغضبَ في جانبها، فلو استعمل الزوجُ الغضبَ، والمرأةُ اللعنَ، فالمذهب أن ذلك لا يجزىء، وحكى بعض الأصحاب جواز ذلك، وعزى (2) هذا إلى الشيخ أبي حامد. 9671 - والمذهب أيضاً أنه يجب رعايةُ الترتيب، فلا يسوغُ تقديمُ اللعن على سائر الكَلِم، وكذلك القول في الغضب في جانبها. ومن أصحابنا من جوّز ذلك، وهو يُحْكَى عن الشيخ أبي حامد أيضاً. ولا خلاف بين أصحابنا أن معظم كَلِم اللعان لا يقوم مقام الكل، وخالف أبو حنيفة (3) فيه، [فأقامه] (4).

_ (1) ت 2: وما يحققه الاتباع. (2) عَزَى: الفعل واوي ويائي. (3) ر. المبسوط: 7/ 43. (4) في النسختين: فأقام.

ثم يتعلق بإقامة هذه الكَلِم ما هو من فن التأكيد، وفي الحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأتِه على المنبر " (1) وقد تردد الأصحاب في هذا: فمنهم من قال: كان الملاعِن على المنبر؛ لظاهر الحديث. ومنهم من قال: لم يكن الملاعِن على المنبر. ثم اختلف هؤلاء في معنى الحديت: فقال قائلون: جرى اللعان على المنبر، وقال آخرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر. ومما نرعاه في التأكيد أن الرجل يلاعن قائماً، فإذا انتهى إلى كلمة اللعن أتاه آتٍ من ورائه، وقبض على فيه، وقال صاحب المجلس: اتق الله؛ فإنها موجبة. ثم تقام المرأة، فتلتعن، فإذا انتهت إلى كلمة الغضب أتتها امرأة من ورائها، وقبضت على فيها، وقال صاحب المجلس: اتقي الله؛ فإنها موجبة. فصل قال: " ولو قذفها برجل ولم يلتعن ... إلى آخره " (2). 9672 - إذا قذف الرجل امرأته برجل عيّنه، ثم لاعن وسماه، لم يجب عليه الحد لذلك الأجنبي، وإن كان محصناً على ظاهر الحال. هذا مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم لا يجب حد الزنا على الأجنبي المسمَّى في القذف؛ إذ لو أوجبنا حدّ الزنا عليه، لاقتضى ذلك إثباتَ اللعان في جانبه، وهذا لا سبيل إلى القول به، ولا وجه لالتزامه حد الزنا بلعان الزوج. ولو سمى الزوج ذلك الرجلَ في القذف، ثم لم يتعرض لذكره في اللعان، ففي

_ (1) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأتِه على المنبر، رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 398) من حديث عبد الله بن جعفر، (انظر التلخيص 3/ 461 ح 1790). (2) ر. المختصر: 4/ 156.

المسألة قولان: أحدهما - أنه يسقط حدّه كما لو سماه؛ لأنه صدق نفسه في ذلك الزنا باللعان. والقول الثاني - أنه يُحد للأجنبي لأنه قذفه، ولم يُقم عليه حجةً على تصديق نفسه. ثم إن فرعنا على هذا القول الأخير فأراد إسقاط الحد عن نفسه، فإنه يعيد اللعان بكماله، ويعيد ذكرَ المرأة قطعاً، ولا يمكنه أن يقتصر في اللعان المعاد على إثبات الزنا على الأجنبي المسمى. ثم خلاف أبي حنيفة (1) مشهور، ووجه الرد عليه مذكور، وقد صح أن العجلاني رمى زوجته بشريك بن سحماء، ولم يسمّه في اللعان، ولم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيجاب الحد عليه. وينشأ من هذا الذي ذكرناه أصلٌ، وهو أن من قذف بحضرة القاضي رجلاً، فهل يتعين على القاضي أن يُخبر ذلك المقذوفَ حتى يطلب حقَّه من حد القذف؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب التقريب وغيُره: أحدهما - أنه يجب؛ حتى لا يضيع حقٌّ مستحَق. والثاني - لا يجب ذلك؛ لأن العقوبات مبناها على الدرء. ثم تكلم الشافعي في حديث العسيف على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل، وفيه أنه قال: " واغد يا أُنيس، فإن اعترفت فارجمها " ولم يكن غرضُ الرسول صلى الله عليه وسلم ببعثه أُنيساً أن يستنطقها بما يوجب عليها حدَّ الزنا، وإنما فعل ذلك ليخبرها بحقها في حدّ القذف " فإنَّ أبا العسيف قَذَفها: إذ قال: إن ابني زنا بامرأة هذا " (2). 9673 - ثم قال: " وأي الزوجين كان أعجمياً ... إلى آخره " (3). إذا كان الزوج أعجمياً، التعن بلسانه والمترجم يترجم، ثم اختلف الأئمة في عدد

_ (1) ر. المبسوط: 7/ 49. (2) حديث العسيف متفق عليه، وسيأتي تخريجه مفصلاً في أوائل كتاب الحدود. (3) ر. المختصر: 4/ 159.

المترجم، فقال قائلون: ينبغي أن يكونوا على عدد شهود الزنا، ومن أصحابنا من اكتفى بمترجمَيْن، وسيأتي ذكر هذا في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل (1). ...

_ (1) هنا انتهت نسخة (ت 2) فهذا آخر الأجزاء الموجودة منها، وهي أجزاء متفرقة غير متتابعة. وقد جاء في نهاية هذا الجزء ما نصه: " آخر الجزء السابع والعشرون، ويتلوه -إن شاء الله- باب ما يكون بعد التعان الزوج من الفرقة ". والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.

باب ما يكون بعد التعان الزوجين من الفرقة

باب (1) ما يكون بعد التعان الزوجين من الفرقة 9674 - لعان الزوج يوقع الفرقة ويثبت الحرمة المؤبدة، فلا يحل للملاعن نكاحُ التي لاعن عنها أبداً، وهل يستحل وطأها بملك اليمين؟ فيه اختلافٌ ذكرتُه، وهو جارٍ في ثلاث مسائلَ على ثلاث مراتبَ: إحداها - إذا ظاهر وعاد، ثم اشترى التي ظاهر عنها، ففي استباحة وطئها بملك اليمين قبل التكفير وجهان. وإذا طلقها ثلاثاً، واشتراها، ففي استباحة وطئها بملك اليمين قبل التحليل وجهان. وإذا لاعن عنها، فاشتراها طريقان: أحدهما - القطع بأنها لا تستباح بملك اليمين لتأبّد الحرمة. والثانية - أن المسألة فيها على الخلاف. وخالف أبو حنيفة (2) في تأبيد الحرمة في خَبْطٍ من مذهبه معروف. وكل لعان جرى في غير النكاح لأجل نفي الولد، ففي تعلّق الحرمة المؤبّدة به وجهان، وهذا يجري في البائنةِ، والمنكوحةِ نكاحاً فاسداً، واللعانُ إذا صادف الرجعيةَ، حرَّمها على الأبد؛ لأنها [في] (3) حكم الزوجات، وهذا من أصدق الشواهد فيما ذكرناه.

_ (1) سيكون العمل بدءاً من هنا معتمداً على نسخة وحيدة (ت 6) وسنرمز إليها بـ (الأصل). (2) ر. فتح القدير: 4/ 288، مختصر اختلاف العلماء 2/ 506 مسألة: 1051. (3) في الأصل: من.

9675 - ثم قال: " وأيهما مات قبل يُكملُ (1) الزوجُ اللعان ... إلى آخره " (2). إذا مات أحدُ الزوجين قبل التلاعن، فنقول: إن مات الزوج أولاً قبل أن يستكمل كلماتِ اللعان، فالنكاح قائم والوِراثةُ باقيةٌ، ووجودُ تلك الكَلِم وعدمُها بمثابةٍ، ونَسبُ المولود الذي تعرض [لنفيه] (3) ثابت، ولو أراد ورثة الزوج أن يلتعنوا لنفي ذلك المولود، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ فإن اللعان لا يصدر قطّ إلا من زوج، فإذا امتنع اللعان منهم، استحال انتفاء النسب بلا لعان، وليس هذا كالاستلحاق؛ فإنهم يحلّفون الموروث في الاستلحاق، كما مضى ذِكْرُه في كتاب الأقارير. والنسب على الجملة يثبت على وجُوهٍ، وليس للنفي وجهٌ غيرُ ما أثبته الشرع. فإن ماتت المرأة في خلال لعانه، فإن كان ثَمّ ولد، فالزوجِ يستكمل اللعان لنفيه. وإن لم يكن ثَمّ ولد، وكان القذف في أصله موجباً للحد، فالحدّ يثبت موروثاً لولا اللعان، والزوج من الورثة، أيضاً. وهذا يخرّج على أصلٍ وهو أن من قذف زوجته، وماتت الزوجة، وقضينا بأن إرث الحد كإرث المال، فالزوج يرث قسطاً من الحد، وهل يتضمن هذا سقوطَ جميع الحد؟ هذا مُرتَّب على ما إذا عفا بعض الورثة عن حقه من الحد، فهل يَسقط حقوقُ الباقين؟ فيه خلافٌ قدمته. فإن قلنا: لا يسقط، فكأنا أثبتنا لكل واحد منهم حدّ القذف بكماله، فعلى هذا إذا ماتت الزوجة، فحد القذف يقام على الزوج -وإن كان من الورثة- فإن ما تقتضيه الوراثة سقوط حق الزوص بجهة الإرث. وإذا كان إسقاط البعض لا يُسقط الحد في الباقين، فإذا أتى التبعيض من جهة

_ (1) هذا من خصائص لغة الشافعي، حذف (أن) المصدرية قبل المضارع. وهو جائز قياساً على قول، فاختلف في إعراب الفعل حينئذٍ، فقيل بوجوب رفعه، وقيل: يبقى عمل (أن) (ر. الرسالة للشافعي: تعليق الشيخ شاكر على فقرة: 168، وترى أيضاًً شواهد على حذف أن، غير هذه). (2) ر. المختصر: 4/ 164. (3) في الأصل: لنفسه.

الاستحقاق المستفاد (1) من الوراثة، كان الجواب كذلك إذا قلنا: إسقاطُ البعض يوجب سقوطَ حقوق الباقين، فالحد يسقط إذا ماتت الزوجة؛ فإن الزوج قد ورثها (2). وغرضنا الآن أن الزوجة إذا ماتت في أثناء لعانه، ولا ولد يُنفَى، فقد ماتت على النكاح، والحدُّ موروث، فإن أسقطنا الحدَّ، تركَ الزوجُ اللعان؛ إذ لا فائدة فيه. وإن حكمنا بأن الحد باقٍ، فله أن يكمل اللعان حينئذ لدفع الحد. 9676 - ثم إن ماتت في الأثناء، وقَرُب الزمانُ وأمكن البناء، قال القاضي: يبني على كَلِم اللعان، فلا يستأنفها، فإن طال الزمان استأنف اللعان. أما البناء في قِصَر الزمان، فعلّته أن المقصود الذي بُني اللعانُ عليه [نفيُ] (3) الحد، وذلك مُسَتَمدُّه [لا] (4) تبدّل فيه -وإن انتهى النكاح نهايته- ويستحيل أن يلزَمه الحدُّ، لا محالة، وقد [أنشأ] (5) القذفَ في النكاح، فلا يجد دفعاً للحد الذي يلتزمه (6)، فبان أن المقصود واحدٌ، لم يتبدل. وهذا فيه نظر. وفي كلام الأصحاب [ ... ] (7) من قِبل أن مستحِقّ الحد قد تبدل، فكانت الزوجةُ هي المستحِقة، وانتقل الاستحقاق منها إلى الورثة. ويجوز أن يقال: اللعان لا يجري في معارضة استحقاق الورثة، وإنما يجري لدفع الحد، من غير نظر إلى من يستحِق؛ إذ لو كنا ننظر إلى المستحِق، لأبطلنا اللعان بالموت قبل تمام الكلمات من الزوج، فإذا لم نحكم ببطلان اللعان مع القطع بأن

_ (1) في الأصل: الاستحقاق من المستفاد ... إلخ. (2) فعلى هذا يترك الزوج بقية اللعان. (3) في الأصل: ففي. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: انتشأ. (6) المعنى: أنه التزم الحد بقذفٍ أنشأه في النكاح، وهذا هو الذي شرع الله اللعان لدفعه. (7) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) وقد رسمت هكذا: (تشبييت) تماماً رسماً ونقطاً.

اللعان لا يتعلق بغير الزوجة، دل أن وراثة الورثة لا تغير حكماً، ولا تثبت لكلمات اللعان حكمَ التقطع. فإذا فرض ابتداء اللعان بعد موت الزوجة، فمعتمد اللعان انتفاء الحد من أصله (1)، وليس يتضمن قطع حدٍّ وجب؛ فإن الحد الواجب لا يدرؤه إلا إبراء المستحق، فوضح أن مستند اللعان هذا، وذلك لا يختلف بتبدل المستحِق، فليقع التعويل عليه، وما عداه من الإحواج إلى ابتداء اللعان ظنٌّ من بعض الأصحاب لا يُلحَق بالمذهب. هذا إذا حصل الموت في أثناء كلم اللعان، وأراد الزوج البناء على الاتصال. 9677 - فأما إذا تخلل [فصلٌ] (2) فكبف السبيل فيه؟ نُقدم عليه [أصلاً فنقول:] (3) إن كلماتِ اللعان لو انقطعت بفصولٍ متخِّلَةٍ وِفاقيّة، فهل نحكم بتقطّعها حُكْماً وبطلانِها؛ حتى [نقول] (4): يجب إعادتُها، أم يجوز البناء [عليها] (5) والاعتداد بما مضى؟ فيه تردُّدٌ للأصحاب، وكذلك ذُكر هذا التردُّد في أيمان القسامة إذا تخللها فصلٌ بقطع تواصلها. وتحقيق القول في ذلك أن كَلِم اللعان لا بد منها، والاقتصارُ على بعضها إعراض عن طريق الاتباع؛ حيث لا مسلك إلا الاتباع. فأما إبدال لفظ الشهادة بغيره، [فقد] (6) ظن بعض الأصحاب توهينَ الأمر فيه؛

_ (1) المعنى أن غرض اللعان نفيُ وجوب الحد أصلاً، وليس قطع حدٍّ وجب للزوجة، ثم انتقل إلى ورثتها. فإن الحد إذا وجب لا يدفعه إلا الإبراء من المستحق، فاللعان دافعاً لحدٍّ وَجَبَ، نفيٌ لوجوبه أصلاً. ومن هنا كان وجه البناء على ما مضى من الكلمات إذا ماتت الزوجة. (2) في الأصل: فعل. (3) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: فيها. (6) في الأصل: فما. والمثبت من المحقق.

لقرب المعنى والمقصودِ، وهذا غير صحيح، والوجه التزام صيغ الكلم، وفاءً بحق الاتباع. وعكسُ كلمات اللعان وتركُ ترتيبها في معنى إبدال لفظ الشهادة بغيره. فأما الوِلاء، فهو الأصل، وإن فُرض تقطّعٌ فالإتيان بالكلم ظاهرٌ، وقد نفهم من الوِلاء مزيدَ تأثير في التغليظ، فكذلك القول في القسامة، فليس أثر المولاة بين خمَسين يميناً بمثابة أثر خمسين يميناً في خمسين مجلساً، فيمكن حمل هذا التردد على ما يتعلق بالتعظيم والتفخيم [كإجراء] (1) اللعان في مشهدٍ وإيقاعِه في مكان مخصوص، وزمانٍ مخصوص، ولسنا ننكر أن تأثير الوِلاء أظهرُ من تأثير المكان والزمان، لاختصاصه بعَيْن الكلم، وليس ثرك الوِلاء في معنى ترك اللفظ أو تبديله. فهذا مراتب الكلام في ذلك، ولا يستريب ذو تحصيل أن ما صورناه في التقطيع الوفاقي. فأما إذا عرض السلطان أيمان القسامة، وفُرض النكولُ عن بعضها، فهو نكول محقق، وللنكول [حكمه] (2). نعم، لا يؤثر النكول في اللعان؛ من جهة أن الزوج لو صرح بالنكول عن اللعان، ثم رغب فيه مُكِّن [منه] (3)، فلا فرق بين أن تكون الفصول الواقعة وفاقية قدَريّة، وبين أن تكون مترتبة على نكول من الزوج وعَوْد. 9678 - ثم قال: " فإن امتنع أن يكمل اللعان، حُدّ لها ... إلى آخره " (4) هذا بيّنٌ؛ فإذا كانت محصنةً وقذفها، ثم امتنع عن اللعان حَدَدْناه لها إن كان حُرّاً ثمانين، وإن كان عبداً، فأربعين، وإن قذفها برجل بعينه بكلمة واحدة، فقال: زنا بك فلان، فقد ذكرنا أن من قذف شخصين بكلمة واحدة يلزمه حدان أم حدٌّ؟ وسنعيد القولين، والتفريعُ عليهما.

_ (1) في الأصل: كأجل. (2) في الأصل: حكم. (3) في الأصل: فيه. (4) ر. المختصر: 4/ 164.

فإن قال لامرأته: زنا بك فلان، فقد قذف شخصين بكلمة واحدة، وقد رأى أصحابنا أن يُجروا القولين في هذه الصورة مرتَّبَيْن على ما إذا قذف أجنبيين أو أجنبيتين، وزعموا أن قذف الزوجة بأجنبي أولى بالاتحاد؛ فإنه نسبهما إلى فعل واحد، فاقتضى ذلك في اتحاد الحدّ تأكيداً. وقد يخطر لمن يتمسك بطرق الترجيح أن القذف في حق الأجنبي يخالف حكمُه حكمَ القذف في حق الزوج، فيعادل هذا الاختلافُ ما أشرنا إليه من اتحاد الفَعْلة، ويقتضي هذا التعادل الاستواء في المرتبة، فيقال له: اللعان كما يدفع حدّ الزوجة يدفع حدّ الأجنبي، فلا اختلاف إذاً من هذا الوجه، والأمر في ذلك قريب، بعد جريان الخلاف واطراد القولين. نعم، لو قال [لرجل] (1) وامرأة أجنبيين: زنيتَ أنت بهذه، فاتحاد الحد في هذه الصورة مرتب على ما إذا قال لأجنبيين: زنيتما؛ لما ذكرناه من اتحاد الفعل. هذا إذا امتنع الرجل عن اللعان. 9679 - فلو أكمل اللعان، وامتنعت المرأة من اللعان، فنقول: يلزمها الحدُّ إذا تحقق امتناعها، فإن كانت بكراً، جُلدتْ وغُرّبت، وإن كانت ثيّباً، رُجمت. وإذا كان حدّها بالسياط، فلا نحدُّها في شدة الحر والبرد، وهذا مطرد في كل حد هو جلدٌ، على ما سيأتي في الحدود، إن شاء الله. وإن كانت محصنة تَوَجَّه الرجمُ، ثم المنصوص عليه: أنا لا نؤخر إقامة الرجم عليها عن شدة الحر والبرد، ونص الشافعي على أن من أقر بالزنا، وكان محصناً قال: لا نرجمه في شدة الحر والبرد، بل يؤخر. وقال المرتِّبون: إن ثبت الزنا بالبيّنة العادلة، فلا توقّف؛ فإن الرجم قتلٌ، ولا محاذرة من الهلاك، ولا نبني الأمر على إمكان رجوع العدول عن شهاداتهم في أخطر الأمور، ومن ظن بهم هذا، فقد حطّهم عن رتبة العدالة، ولا ينتظم في وضع الشرع بناء الأمر الثابت بشهادة الشهود على خروجهم عن كونهم شهوداً.

_ (1) في الأصل: الرجل.

9680 - فأما إذا ثبت الرجم بالإقرار أو بلعان الزوج للشافعي (1) نصان كما حكيناهما: نصّه في اللعان أنه لا يؤخَّر، ونصه في الأقارير أنه يؤخَّر ويتوقف، فاختلف أصحابنا في المسألة على طريقين: منهم من قال: فيهما قولان بالنقل والتخريج: أحدهما - أنا نتأنى فيهما إلى مُضيّ الحر والبرد؛ لأن المقرَّ قد يصيبه أحجارٌ، فيرجع، والملاعِنُ قد يكون كاذباً ثم يشاهد المرجومة، فيرِقُّ لها، ويرى تعريضَ نفسه لحد القذف أهونَ مما يتداخله من الرقة عليها. فإن كان هذا ممكناً، لم نبتدىء الحد لتوقع ما ذكرناه، ولا يُقدّرُ مثلُ هذا في شهادة العدول. ومن أصحابنا من أقر النصّين في اللعان والإقرار قرارهما، وفَرَّق بأن المُقر هو المرجوم، فيغلبُ أن يرجع؛ فإن الرجوع عن الإقرار مما تستحث عليه الطبيعة والشريعةُ، وهذا في الجملة بيّن: أما حث الشرع، فسنذكر في الحدود أنا لا نؤثر للإنسان أن يقر على نفسه بفاحشة، وقد قال عليه السّلام: " من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله " (2)، وهذا يستحثه والمقر صادقٌ، ثم يطرد هذا في الرجوع عن الإقرار، وفيه مسألتُنا، فأما تكذيبُ الزوج نفسَه في كَلِم اللعان، فهو مما لا نستحث عليه، ولا نأمر به، هذه الطريقةُ المشهور. وذكر صاحب التقريب ما ذكرناه وطريقتين أخريين: إحداهما - طرد القولين في شهادة الشهود أيضاًً، بناء على تقدير الرجوع، سيّما وأدبُ الدين أن يحضروا موضع إقامة الحد، قال الله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} [النور: 2]، قال معظم المفسرين: أراد شهود الزنا، فلعل الغرض أن يعاينوا؛ فإنْ كان من رَيْبٍ، رجعوا إذا عاينوا. والطريقة الأخرى - القطع بأن الثابت بالإقرار لا يؤخَّر قولاً واحداً، والقولان في الثابت بشهادة الشهود واللعان؛ فإن الإنسان لا يقر بما يوجب هلاكه إلا على ثَبَتٍ

_ (1) جواب أما (بدون الفاء). (2) حديت: من أتى من هذه القاذورات شيئاً ... الحديث. رواه مالك في الموطأ (2/ 825) والحاكم في المستدرك (4/ 244، 383)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار: (6/ 358)، وانظر التلخيص: (4/ 106 ح 2039).

وتوطين نفس على ما يلقاه، فالرجوع بعيدٌ -وإن كان مقبولاً لو وقع- والشهادةُ واللعانُ في معرض الريْب، وهذه الطريقة فاسدة مخالفة لما عليه جماهير الأصحاب. فصل 9681 - ثم قال: " وزعم بعض الناس ألا يلاعن بحملٍ ... إلى آخره " (1) أراد أبا حنيفة (2) فإن من مذهبه أنه لا يجوز اللعان على الحمل. مقصود الفصل الكلامُ في نفي الحمل باللعان، والترتيبُ فيه أن الزوج إذا أبان زوجته، ثم قذفها، وثَمَّ ولدٌ متعرِّضٌ للثبوت، فقد ذكرنا أن للزّوج أن يلتعن لنفي النسب، فلو كان بها حملٌ، وقد ظهرت الأمارة، فقذفها، وأراد نفيَ الحمل باللعان، فهل له ذلك؟ فعلى قولين: أحدهما - له النفي؛ فإن حكم اللحوق يثبت في الحمل، كما يثبحت في الولد المنفصل، فأشبه الحملُ الولدَ المنفصل. والثاني - لا يلتعن؛ فإن الحمل غيرُ مستيقَنٍ، واللعان خطرُه عظيم، فلا يسوغ الإقدام عليه بما ليس مستيقناً. وبنى بعض أصحابنا القولين على القولين في أن الحمل هل يُعْرف؟ وقد أطلق الأئمة في ذلك قولين، ونحن نشرحهما في هذا المقام، ونستعين بالله تعالى. اتفق العلماء على أن الحمل غيرُ مستيقن، فكيف يفرض التردد في أن الحمل هل يعرف؟ وكم من امرأة يبدو عليها مخايل الحمل غير أنه يتبين أن الذي بها ريح غليظة مختنقة في الرحم تجد المرأة لها من [خُبْث] (3) النفس، والغثيانِ، ورُبوِّ البطن، واحتباسِ الحيض، ما تراه الحامل، ثم تنفُش (4) الريح، وينفتح [ ... ] (5) الرحم. هذا لا ننكره، وقد يتفق تورّمٌ في الرحم على نحو ما ذكرناه. فإطلاق القولين في أن الحمل هل يُعلم لا وجه له، إلا أن يُحمل على التعبير عن

_ (1) ر. المختصر: 4/ 165. وفي الأصل: ألا يلاعن الحمل. والتصويب من المختصر. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 510 مسألة 1056، المبسوط: 7/ 44. (3) في الأصل: " حيث ". (4) تنفش من نفش ينفُش: أي انتشر وتفرق بعد تماسك (المعجم). (5) مكان كلمة غير مقروءة قبل كلمة (الرحم).

الأحكام التي تنفي وتثبت، فعلى هذا تكون العبارة مائلةً عن النظم السديد؛ فإنا إذا قلنا في هذا الحكم مثلاً: الحمل هل يُنْفى باللعان؟ فعلى قولين بناء على أن الحمل هل يُعلم، رجع حاصل القول إلى أن الحمل هل يُلْحَقُ في اللعان عنه بالمعلوم أم لا؟ 9682 - فحاصل الكلام أن القولين أصلهما أن الحمل في هذا الحكم هل يلحق بالمعلومات؟ ونحن نقول: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخَلِفاتِ (1) من الإبل في الدية، وهذا حكم بثبوت الحمل والاكتفاء بالأمارة، ولا يتجه غيرُه؛ لأنا لو أوجبنا الفُصلان، لزِدْنا على العدد، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يُثبت الحمل صفةً، ثم لا فَوْت؛ فإن بان بعض الخَلِفات حوائل بدّلناها. ووجوب الإنفاق على المعتدة البائنة الحامل على طريقين: منهم من خرجه على ما ذكرناه من القولين، فقال في قول: يجب تنجيز الإنفاق، ثم إن بانت حائلاً، استرْدَدْنا [ما أنفقناه] (2)؛ فإن في تأخير الإنفاق إضراراً بيّناً ناجزاً، واستردادُ النفقة أهون من تعجيل الإضرار بالحمل على الانتظار. ومن أصحابنا من خرّج الإنفاق على قولين مَصيراً إلى أن الأصل براءة الذمة عن النفقة، وقد انقطع عصام النفقة، ولم نستيقن سبباً متجدداً، وإذا ظهرت أمارُة الحمل، لم نُقم حدّاً ولا قصاصاً محافظةً على الحمل، فلا ضرار في تأخّر العقوبة. وفي نفي الحمل باللعان تردُّد، [وهو أنا في وجهٍ نرى النسب حريّاً بالثبوت] (3) فلا نبتدر، بل نتوقف إلى وقوع الاستقلال، وفي قولٍ يجوز اللعان خيفة أن يموت

_ (1) الخَلِفة: الحامل من الإبل، وجمعها مخاض. كما تجمع المرأة: بالنساء، وهو من غير لفظها. (غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 838، والمصباح) وهنا جمعها الإمام بالألف والتاء. (2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى. (3) عبارة الأصل فيها اضطراب وغير مستقيمة، فقد جاءت هكذا: " وهو في أوانه لا نأمن وجه نرى النسب حرياً بالثبوت ".

الزوج، فيلتحق الولد الدَّعي بشجرته، [وليس] (1) منه، فالأحكام إذاً على التفاوت: لا خيفةَ (2)، فيجري بعضها على القطع بوجود الحمل، وبعضها على الاختلاف والتردّد، فأطلق بعضُ الناس قولَيْن في أن الحملَ هل يُعلم؟ 9683 - هذا كله في الحمل بعد البينونة، فأما إذا كان الحمل في قيام الزوجية، فالذي ذهب إليه المحققون أنه يجوز نفيه باللعان. وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج القولين في حمل النكاح أيضاًً، وهذا إن كان محتملاً في مسلك المعنى [، فتقريب حالة الزوجية] (3) من حالة البينونة في أن نفس النسب فيهما على وتيرة واحدة، كما أن اللحوق فيهما على وتيرة واحدة [لا] (4) سبيل إلى القول به؛ لما صح أن العجلاني لاعن عن امرأته، ونفى حملَها، ثم أتت به بعد اللعان على النعت المكروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا الإيمان، لكان لي ولها شأن "، وهذا لا دَفْع له، وفي الحديث أنه برّأ ظهره، ونفى نسبه. وقد يتجه فرقٌ من طريق المعنى؛ فإن اللعان في صلب النكاح، يجد معتمداً؛ إذ يُتصور جريانُ اللعان دون النسب [المتعرض للثبوت] (5) فلا يمتنع أن يجرى اللعان على أصله، ثم الحمل ينتفي تبعاً. والتبعيةُ ليست منكرة في الحمل، فإن الحمل قد يثبت مبيعاً تبعاً للأم. نعم، لا يفرد الحمل بالبيع، فلذلك لا يمتنع ألا يفرد بالنفي بعد البينونة، والفرق بين ما يثبت تابعاً وبين ما يثبت مقصوداً بيّنٌ في أصول الشريعة، فالثمار قبل الزَّهو لا تباع مُطْلقة (6)، فإذا بيعت مع الأشجار، بيعت مُطْلقة، وزالت التبعية إلى غير ذلك من الأمثلة.

_ (1) في الأصل: فليس. (2) كذا تماماً: " لا خيفة "!! (3) في الأصل: وتقريب الحالة الزوجية. (4) في الأصل: فلا. (5) في الأصل: لتعرض الثبوت. (6) أي بدون شرط القطع.

هذا ما أردنا أن نذكره في نفي الحمل. ثم سيأتي بابٌ في أن نفي الولد على الفور على الأصح من المذهب، ونفيُ الحمل ليس على الفور وفاقاً، لما فيه من التردد. فلئن كنا نحمل تأخير النفي في الولد على الرضا به واستلحاقه، فهذا لا يتجه في الحمل؛ [فإن الرجل ربما يبني الأمرَ] (1) على أن ما يَحسَبه حملاً ليس بحمل، فإذا لم يكن كُفي التعرضَ للشهرة والفضيحة، فلا يتجرّد في التأخير وجهُ الرضا، وهذا لم أر فيه خلافاًً. 9684 - ثم تعرض الشافعي لمحاجّة يطول ذكرها، فقال: " وزعم بعض الناس أن لو جامعها وهو يعلم حملها ... إلى آخره " (2). أراد بهذا أبا يوسف؛ فإنه قال: إذا أتت المرأة بولدٍ، أُمهل الزوج في النفي مدة النفاس: أربعين يوماً، وعند أبي حنيفة يُمهل بعد الولادة ثلاثة أيام (3)، وسيأتي أقوال الشافعي في ذلك، وإنما نَقِم في هذا الفصل مذهبَ من يقدِّر بمدة النفاس، وأطال في هذا كلامه ولسنا له [الآن] (4). وذكر محاجة أخرى في ماهيّة اللعان وأنه عقوبة أو حُجة، وتعرض للحبس في اللعان، وقد استقصينا هذه المسالك في (الأساليب). ...

_ (1) في الأصل: "فإن الرجل بما يبين الأمر". والمثبت من تصرّف المحقق. (2) ر. المختصر: 4/ 165. (3) ر. مختصر الطحاوي: 216، المبسوط: 7/ 50، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 502 مسألة 1048. (4) زيادة لإيضاخ الكلام.

باب ما يكون قذفا وما لا يكون قذفا

باب ما يكون قذفاًً وما لا يكون قذفاً قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ولدت امرأته ولداً ... إلى آخره " (1). 9685 - إذا قال الزوج وقد ولدت امرأته ولداً: هذا ليس مني، أو هذا ليس بابني، فنذكر أولاً ما في كلامه من جهات الاحتمال، ثم نبني عليها الحُكمَ، فقوله المذكور يحتمل خمسة أوجه: أحدها - أن هذا لا يشبهني خلْقاً وخلُقاً. والثاني - أن يريد نسبته إلى الزنا. والثالث - أن يريد نسبته إلى شبهة. والرابع - أن يريد نسبته إلى زوجٍ قبله. والخامس - أن يقول: ما ولدتُ هذا [الوليدَ] (2) أصلاً. والاحتمالات المتقدمة مفروضة فيه إذا سلّم ولادتها لو ثبتت ولادتُها بطريق من الطرق، ثم يقول ما يقول. ونحن نذكر الآن الاحتمالات مع تسليم الولادة في الفراش، لزمانٍ يُحتمَلُ أن يكون العلوق به حاصلاً في الفراش، ثم نذكر إنكار الزوج الولادة. فأما ما يقع مع تسليم الولادة، فيستثنى منها أنه لو فسر ما قاله بنسبتها إلى الزنا، فالذي جاء به قذفٌ؛ فإن القذف يتطرق إليه الصريح والكناية، فإذا أتى الإنسان بكنايةٍ وفسرها بالزنا، استوجب ما يستوجب المصرِّح، ومالك (3) يجعل كل ما يحتمل القذف احتمالاً ظاهراً بمثابة القذف الصريح، ويجعل معتمدَ الباب في إيجاب الحد

_ (1) ر. المختصر: 4/ 169. (2) في الأصل: الدليل. (3) ر. القوانين الفقهية: 350، جواهر الإكليل: 2/ 287.

الإيذاءَ، ويزعم أن [المكاني] (1) لا تقْصُرُ في الإيذاء [عن] (2) الألفاظ المصرّح بها. وذهب بعض العلماء إلى أن الكناية لا تكون قذفاًً مع النية؛ فإن النية لا تتضمن إيذاء. [والشافعي] (3) قسم القذف إلى الصريح والكناية، وفيه سرٌّ، وهو أن الكناية إنما تلتحق بالقذف الصريح إذا فسرها بالقذف الصريح، ثم لا يتأتى منه تفسيرها به إلا بأن يعرب عن قصده، فهذا معنى القصد. وإن قال قائل: الحدُّ هل يجب بينه وبين الله؟ قيل هو كاذب، ولكن لا يبين كذبُه في حق المقذوف ما لم يفسَّر، ولو روجعنا، فقيل لنا: يجوز أن يترك التفسير أم عليه أن يفسر ليستوجب الحد؟ كان الظاهر عندنا أنه لا يلزمه أن يفسر لو تُرك ولم يُرهَق (4) إلى البيان بالتحليف، ثم إذا لم يبيِّن، فليس بدعاً أن نقول: لا يستوجب الحد بينه وبين الله تعالى، وإن حُمل على البيان وعُرضت عليه اليمين، فلا رخصة في يمين الغموس، فإن نكل، لم يَخْفَ إجراءُ الخصومة إلى منتهاها. فحاصل القول: أن الكناية التي تُوقع حكماً مع النية كالطلاق، وتنزل منزلة الصريح باطناً، والحدُّ يجب زجراً للكاذب، والكاني [بالقذف مُؤذٍ] (5) وإيذاؤه يسلّط المقذوفَ عليه، حتى يكون أحدَ رجلين: إما أن يصرح فَيُحدَّ، وإما أن ينكل. ثم يَرجعُ النظر إلى [تورعّ] (6) المردود عليه [عن] (7) اليمين [أو إقدامه] (8) عليها. هذا مأخذ الشريعة عندنا.

_ (1) في الأصل: المكان. (2) في الأصل: على. (3) في الأصل: فالشافعي. (4) يرهق: يقال أرهق فلاناً حمله على ما لا يطيق. (5) في الأصل: والقذف. (6) في الأصل: التورعّ. (7) في الأصل: على. (8) في الأصل: أو على إقدامه.

وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الحد يجب باطناً، وليس للكاني أن يكتمه، كما ليس لمستوجب القصاص أن يكتم القصاص الواجب عليه، وهذا [مشكل] (1)؛ من جهة أن القذفَ ليس إتلافاً، ولا إنشاءَ حكم، وإنما هو إيذاءٌ بالنسبة إلى فاحشة، وهذا إن كان يحصل بالكناية، فينبغي أن يوجب الحدّ من غير مراجعة، وإن كان لا يحصل بالكناية، فالقصد لا يؤثر في مزيد الإيذاء. وقد انتهى غاية ما نحاوله. ثم إذا حلف أنه لم يقصد القذف، فالتعزير يثبت بالكناية، ولا يخلو ما جاء به عن نوعٍ من العقوبة الرادعة. 9686 - فإذا تمهد هذا الأصلُ، فليخرج من الاحتمالات تفسيرُ اللفظ الذي نحن فيه بالزنا؛ فإنه إن جرى ذلك، كان ما ذكره قذفاً، ويتعلق به أحكام قذف الأزواج. 9687 - فإن زعم أنه ما أراد نفيَ النسب، وإنما أراد أن الولد ليس يشبهني خلْقاً وخلُقاً، [فظاهر] (2) النص هاهنا أن هذا التفسير مقبول منه، وإن نازعت، فسنذكر كيفيةَ فصل الخصومة. وقال الشافعي رضوان الله عليه بعد هذا: " إذا قال رجل لإنسان لست ابنَ فلان، فنفاه عن أبيه المشهور، ثم زعم أنه أراد بذلك أنك لا تشبهه شيمةً وسجيّةً وكرماً وخيراً، فلا يقبل هذا التفسير منه، ويجعلُ قذفاًً صريحاً، فاختلف أصحابنا في قول الزوج (3) وقول الأجنبي على طريقين: فمنهم من قال: فيهما قولان نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن اللفظ صريح في القذف، ووجهه جريانُ العرف على الاطّراد بإرادة القذف بهذا اللفظ، والنسبُ لا ينفى صريحاً إلا والمراد به النسبةُ إلى الغيّ ونقيض الرشد، والصرائح إنما تؤخذ من الشيوعِ وعمومِ القذف؛ إذا لم يكن [للشرع] (4) تعبد في حصر الألفاظ.

_ (1) في الأصل: مسلك. (2) في الأصل: وظاهر. (3) أي قول الزوج لست ابني. (4) في الأصل: للشيوع.

والقول الثاني - أن هذا اللفظ ليس بصريح؛ فإنه ليس فيه تعرّض للزنا، ولا لغيره، واللفظة مؤوّلة في نفسها. [وهذا] (1) هو الأصح. ومن أصحابنا من أقر النصين قرارَهما، وقال: إن كان القائل أباً، فهذا محتمل منه بتأويل تأديب الابن والتنديد عليه، وإن كان القائل أجنبياً، ولم يكن أباً، فالمحمل الأظهر -وليس الأجنبي في محل التأديب- القذفُ الصريح. هذا بيان تردد الأصحاب في ذلك. واختيار المزني طرد القولين، وهذه عادته؛ فإنه يتشوف إلى تخريج القولين مهما اشتمل الكلام على نوعٍ من التردد. 9688 - ونحن نستتم الآن هذا الفصل فنقول: إن لم نجعل هذا اللفظ صريحاً من الأب، فإذا فسره بما ذكرناه من أن هذا المولود لا يشبهني خَلْقاً وخُلُقاً، فلو قالت المرأة: أردتَ به القذفَ، فلها أن تحلّفه، فإن حلف أنه لم يرد به القذفَ والنسبةَ إلى الزنا، وإنما أراد ما أشرنا إليه، برىء من الحد، وإن عرضنا عليه اليمين، فنكل عن اليمين، رُدت على المدّعية، فإن نكلت، كان نكولها كيمين الزوج، وإن حلفت يثبت القذفُ والحدّ. قال الأصحاب: للزوج أن يلتعن، ولم يتعرضوا لتجديد قذفٍ، والمذهبُ فيه أن الزوج إذا جدد قذفاًً بُني اللعان عليه، وانتفى الحد عنه، وإن لم يجدد قذفاًً، وأراد الاكتفاء بما مضى، فقد ذكرنا أصل هذا فيه إذا ادعت المرأة على زوجها أنك قذفتني، فأنكر الزوج، وأقامت المرأة البينة على أنه قذفها، فهل يلاعن من غير قذف جديد؛ فيه تفصيل قدمناه. ويتجدد في هذه المسألة أصلٌ آخر لا بد من التنبه له، وهو أن الزوج إذا كنى وثبتت الكناية بيمينه، فقد ذكرنا أن الكناية توجب التعزير؛ من حيث إنها تؤذي،

_ (1) في الأصل: فهذا.

وإنما يختص بالصريح وبالكناية مع النية الحدُّ، فأما التعزير، فإنه يتعلق بدون ما نحن فيه. ثم إذا [كان] (1) يَثْبتُ التعزيرُ، فهل له أن يدفع عن نفسه التعزيرَ الذي قُدّر ثبوته باللعان؟ الوجه أنه ليس له دفعه باللعان؛ فإن المدفوع باللعان عقوبةٌ تجب بالنسبة إلى الزنا، سواء كانت حداً أو تعزيراً. فأما إذا أثبت الزوج أنه لم ينسِب إلى الزنا، فاللعان لا يتعلق بكل إيذاء. فيخرج منه أنه إذا ادعى أولاً أنه كنى وما قذف، ثم ثبت بيمين الرد كونُه قاذفاً، فهو كما لو أنكر أصل القذف، وأقامت المرأة بينة على أنه قذف، فإن [أراد] (2) أن يلتعن، فقد [تصرّم] (3) القول فيه، والذي ذكرناه من إلحاق الكلام في هذا المنتهى، فذلك بيّن لا إشكال فيه. 9689 - ولو قال: أردت نفي النسب مع الإقرار بالولادة، ولكني رُمت نسبة هذا الولد إلى وطء شبهة أو إلى زوجٍ قبلي، فإن أراد فيما زعم [النسبةَ] (4) إلى وطء الشبهة، فالقول قوله مع يمينه، ثم كيفية إدارة الخصومة كما تقدم، فإن أراد نسبة الولد إلى زوج زعم أنه كان قبله، نُظر: فإن عُهد لها زوجٌ قبله، فتفسيره مقبول مع يمينه، وسياقة الخصومة على نحو ما مضى، فإن لم يعهد لها زوج قبله، فلا يقبل قوله. 9690 - وحقيقة هذا القسم ترجع إلى نفي ولادتها على فراشه، وهذا نقرره الآن في القسم الثاني، فنقول: إذا قال الزوج لزوجته: ما ولدتِ هذا الولد، بل استعرتيه (5) أو التقطتيه، فالقول قول الزوج في نفي الولادة؛ فإن الأصل عدمُها، ولئن كنا نُلحق الولد المولود على

_ (1) في الأصل: كانت. (2) في الأصل: الراد. (3) في الأصل: يضرّ. (4) في الأصل: بالنسبة. (5) استعرتيه بإثبات ياء المخاطبة، وسبق أن أشرنا إلى أن ذلك جائز وواردٌ في الفصيح وعليه شواهد من الحديث الشريف.

الفراش بالفراش لقوّته، فلا نحكم بأن الفراش يقتضي وقوعَ الولادة، فالقول إذا قول الزوج. فإن أقامت المرأة بيّنةً: أربعَ نسوة ثقاتٍ على أنها ولدت هذا الولد على الفراش، فيثبت النسب إلى أن يتكلم في نفيه، وإن لم يكن لها بيّنة، فجاءت بقائف يُلحقه بها بالشبه، [فهل] (1) ينزل منزلةَ البينة على ثبوت الولادة؟ فعلى وجهين ذكرهما بعض المصنفين: أصحهما - أن الولادة لا تثبت بهذا؛ فإنها أمر محسوس يمكن إثباته بطريق العِيان، والقيافة إنما أُثبتت شرعاً عند الالتباس وانحسام المسلك. وهذا قريب من الاختلاف في أن المولود إذا تداعى ولادتَه امرأتان، فهل يحكم القائفُ في الإلحاق بحداهما، مع إمكان إثبات الولادة بالمشاهدة على الجملة؟ وعليه ينبني أن المرأة هل لها دعوى؛ فإنها على الجملة متمكنة من إثبات الولادة؟ ولهذا قلنا: الأصح أن الزوج إذا علّق الطلاق بولادتها، فذكرت أنها ولدت، فلا يقبل قولها إلا على رأي ابن الحداد، كما قدمناه في الفروع، ولو كان التعليق على حيضها، ثبت الحيض بقولها؛ إذ لا مُطَّلَع عليه إلا من جهتها. 9691 - ونعود بعد ذلك إلى ترتيب الخصومة: فإن لم تقم بينة، ولم نجد قائفاً، أو قلنا: لا حكم للقيافة في هذا المقام، فالقول قول الزوج؛ فإن حلف، انتفت الولادةُ والنسب، وهل يَلحق المولودُ بالأم؟ فوجهان، بناءً على أن المرأة هل لها دعوى، وفيه جوابان أشرنا إليهما. فإن نكل الرجل عن اليمين، فقد نص الشافعي هاهنا على أن اليمين تردّ عليها، فتحلف، ويثبت النسب، ونص في كتاب العدة على أن المعتدة لو أتت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم طلاق الزوج، وادّعت أنه راجعها أو وطئها بالشبهة، فالقول قول الزوج، فإن نكل لا ترد اليمين عليها في دعوى المراجعة والوطء بالشبهة. واختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسالتين قولان بالنقل والتخريج:

_ (1) في الأصل: فهذا.

أحدهما - أن اليمين غيرُ مردودة على المرأة في دعوى الاستعارة ودعوى الرجعة؛ فإن النسب ليس حقَّها، فيستحيل ردّ اليمين عليها. والقول الثاني - أن اليمين ترد عليها لتغسل العار عن نفسها؛ إذ نُسبت إلى الكذب في دعوى الولادة، وللأم على الجملة حق ولاية على الولد، ولهذا جوز الشافعي لها أن تأخذ نفقة ولدها سراً، كما دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف ". فإن حكمنا بأن اليمين لا ترد عليها، فتصبر إلى أن يبلغ الطفل، فتُرد اليمين عليه. وإن قلنا: ترد اليمين عليها، فإن حلفت، ثبتت الولادة، وترتب عليها ثبوت النسب، والنسبُ لا يثبت قصداً بشهادة النسوة ولا بيمين الرد، ولكن الولادة تثبت، ثم الولد للفراش، هذا إذا حلفت. فأما إذا نكلت عن اليمين، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يوقف الأمر إلى أن يبلغ المولود ويحلف؛ لأن الحق له. والثاني - ليس للمولود أن يحلف بعد البلوغ؛ لأن يمين الرد لا ترد بهذا. 9692 - ولهذا نظائر سيأتي ذكرها في كتاب الدعاوى إن شاء الله تعالى: منها أنه لو أقرّ الراهن بأن العبد المرهون قد جنى قبل الرهن، وقلنا: لا يُقبل قوله، وجعلنا القول قول المرتهن، فإذا نكل عن اليمين ورددنا على الراهن، فلو نكل عن يمين الرد، ففي ردها على المجني عليه قولان، [وإذا] (1) أقام الوارث شاهداً واحداً بدينٍ [لأبيه] (2)، وامتنع عن الحلف معه، فقال غرماء المتوفى: نحن نحلف مع الشاهد (3) فهل لهم ذلك؟ ولعلنا نُحْوَج إلى ذكر هذا الفصل مستقصىً في القسامة، إن شاء الله. هذه طريقة. ومن أصحابنا من قال: في [مسألة] (4) الاستعارة والنكاحُ قائم: اليمينُ مردودة

_ (1) في الأصل: فإذا. (2) في الأصل: لابنه. (3) مع الشاهد: أي مع شاهدٍ واحد. (4) في الأصل: المسألة.

على الزوجة، فإذا كان النزاع في الرجعة أو وطء الشبهة بعد الطلاق، فلا ترد اليمين كما اقتضاه النصان، والفرق أن النكاح إذا كان قائماً، فادعى الزوج الاستعارة فجانبها متقويّة بالفراش الدائم، فصدقناها. وفي المسألة الأخرى صارت تدعي رجعةً ووطء شبهة والأصل عدمُ ما تدعيه، ودوام الفراش قد يدل على الغِشيان المفضي إلى العلوق. هذا منتهى الكلام في المسألة، وقد أجرينا في أثناء الفصل نسبةَ الولد إلى وطء الشبهة، ونحن نعقد الآن في هذا فصلاً جامعاً؛ فإنه من غوائل الكتاب من وجه، وهو أيضاًً من الأصول الظاهرة التي [يبتدرُ] (1) السائل ويستفصل فيها، ونحن بعون الله نأتي به موضحاً مصححاً. فصل 9693 - اللعان لا يجري إلا بعد أن تُنسبَ المرأةُ إلى وطء محرَّمٍ في النكاح، وإن أحْبَبْنا، قلنا: إلى وطٍ؛ لا نحكم بتحليله حتى لا يمنعَ [وطءُ] (2) الشبهة عن الدخول تحت موجَب الكلام، فإذا أتت المرأة بولدٍ في النكاح لمدة يُحتَمل أن يكون العلوق [به] (3) في النكاح، وتثبت الولادة بلا نزاع، فأراد الرجل أن ينفيه، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يملك نفيَه ما لم ينسبه إلى وطءٍ غيرِ حلال، فلو [ذكر زنا] (4) ونسب الولدَ والمرأةَ إليه، فهذا أصل كتاب اللعان، فليلتعن. وإن نسبها إلى وطءٍ غيرِ مُحلَّلٍ ولا مباحٍ، فحاصل القول فيه وجهان على الترتيب المرضي: أحدهما - أنه لا يصح اللعان إلا بقذفٍ صريح، حتى لو نسبها إلى وطء شبهة أو وطء استكراه، فلا سبيل إلى اللعان. وهذا الوجه ضعيف، ولكن معتمده التعلُّقُ بظاهر القرآن فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ

_ (1) في الأصل: يبتدل. (2) في الأصل: ووطء. (3) في الأصل: بها. (4) في الأصل: وإن ذكرنا دنا ونسب.

يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، والرمي في مرتبة الصريح، ثم هو مؤكد بالتعرّض لعدم الشهود، وهذا إنما يليق بالقذف الصريح. والوجه الثاني -وهو الأصح- أنه لو نسبها إلى وطءٍ غيرِ مباح، وأضاف الولد إليه؛ فإنه يلاعن، كما لو صرح بالقذف. والوجهان ذكرهما المراوزة. قال الشيخ أبو علي في التفريع عليهما: إذا قلنا: لا بد من القذف الصريح، فلا يُظنّ أنا نشترط قذفاًً يتعلق بالنسبة إليه وجوب الحد، ولكن يكتفى بأن يكون القذف في نفسه صريحاً، ثم لا يضر لو سقط الحد، بمعنىً من المعاني، فلو قذف زوجته الأمة أو الكتابية، فله اللعان ونفي الولد، وإن لم يستوجب حداً، [كما إذا] (1) نسبها إلى وطء استكراه، مثل أن يقول: أكرهك فلان، ووطئك، وهذا الولد من ذلك الوطء، ففي المسألة وجهان؛ فإنه وإن قذف الواطىء يقذفها، والنظرُ في قذفها إلى [جانبه] (2). وهذا الترتيب ساقه صاحب التقريب، وهو حسن. 9694 - وأما العراقيون، فقد ذكروا في ذلك تفصيلاً: أنا ذاكره، إن شاء الله تعالى، وذلك أنهم قالوا: إذا نسب الولدَ إلى وطء شبهة، فإن قلأرَ الواطىءَ واطئاً بشبهة وقدَّرها ممكِّنةً بشبهة، أو عالمةً زانية، فلا لعان. هكذا قالوا؛ لأنه إذا وصف الواطىء بالشبهة، فالولد يلحقه، فقد أسند الولدَ إلى شخصٍ في جهةٍ يلحق النسب فيها، وإنما يثبت اللعان إذا نَفى نسبَ الولدِ عن نفسه. وعللوا هذا بأن قالوا: إذا نسب الولد إلى وطء شبهة، فهذا مكان القيافة؛ إذ المنكوحة إذا وطئت بالشبهة في صلب النكاح، ثم تردد الولد بين الواطىء بالشبهة وبين الزوج، فالحكم أنا نُري الولدَ القائفَ، وكان من الممكن لو أريناه القائف أن ينفيه عن الزوج، وإذا أمكن نفيٌ سوى اللعان، لم يجز اللعان؛ فإن اللعان حجةُ ضرورة.

_ (1) كذا قرأناها بصعوبة. (2) في الأصل: جانبها.

وقالوا على هذا القياس: لو نسبها إلى الزنا بأن قال: كنتِ عالمة بما يجري، وإنما الواطىء بالشبهة هو الذي اشتبه عليه الأمر، قالوا: فلا تلاعن في هذه الصورة؛ ذلك لأن النسب ثابت في هذه الصورة. وحاصل كلامهم أن الزوج إذا نسب الولد إلى جهةٍ يثبت النسب فيها، فلا لعان. ولو قال لها: زنى بك فلان، واستكرهك على الزنا، فأتيتِ بهذا الولد عن هذه الجهة، فهل يلاعن؟ قالوا: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يلاعن؛ لأنه لم ينسبها إلى زنا هو زناً من الجانبين، فصار كما لو كان الواطىء بالشبهة. فانتظم من كلامهم: أنه إذا نسبها إلى ما هو زنا محض وأضاف الولد إلى تلك الجهة، فعند ذلك يلاعن قطعاً، فإذا أضاف الولد إلى جهة يثبت نسبه فيها من الأب، فلا لعان؛ فإن الجهة التي [ذكرها] (1) جهةُ نسب. وبمثله لو نسبها إلى الاستكراه، ولم ينسبها إلى الزنا، وذكَرَ الزنا في جانب الواطىء، ففي المسألة وجهان. 9695 - فإذا جمعتَ ما ذكرناه عن صاحب التقريب إلى ما ذكره العراقيون، كان مجموعُ ذلك أن الولد إذا نُسب إلى الزنا المحض، لاعن بلا خلاف. وإن نسبه إلى وطء الشبهة، والشبهة شاملة للجانبين جميعاً، فالذي ذكره العراقيون القطعُ بأن اللعان لا يجري. وفي طريق صاحب التقريب تردُّدٌ وإشارةٌ إلى خلاف، ووجه الخلاف أنا في مسلكٍ نقول: لا يلاعن أصلاً؛ فإنه لم يُضفها إلى الزنا، والإضافة إلى الزنا مشروطة في كتاب الله تعالى. والوجه الثاني - أنه يكفي في نفي الولد أن يقطعَه عن نفسه وينسبَه إلى جهة أخرى، ولا معنى لاشتراط كون تلك الجهة زنا، والذي ذكره من أن القيافة ممكنة، لا حاصل له؛ فإن القيافة إنما تجري إذا اعترف الواطىء بالشبهة، ووُجد التداعي بين الزوج وبين الواطىء بالشبهة؛ فإذ ذاك نري الولدَ القائفَ، فلا معنى

_ (1) في الأصل: ذكرناها.

للتعليل بما ذكروه والأولى التمسك بالكتاب والدعاء إلى اتباع مقتضاه. وأما فرق العراقيين بين أن ينسبها إلى الاستكراه والواطىء زانٍ وبين أن يكون الواطىء بشبهة، فحسنٌ. والأَوْلى في الترتيب أن نقول: إذا نسب الولد إلى وطء شبهة والشبهة تشمل الجانبين جميعاً، فوجهان: أحدهما - أنه يلاعن (1). والثاني - لا يلاعن، وهو الذي قطع به العراقيون. فإذا نسبها إلى الاستكراه والرجل زانٍ، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الأولى، وهذه الصورة أولى بجريان اللعان. فأما إذا قال: هذا الولد ليس مني، فإنما هو من غيري، ولم يتعرض للزنا والشبهة، فهذه صورة لم يتعرض لها العراقيون، وإنما ذكرها صاحب التقريب وحكى فيها خلافاً، وهي مردّدة بين النسبة إلى الوطء بالشبهة وبين صورة الاستكراه. قال: "ولو نفينا عنه ولدها باللعان، ثم جاءت بعده بولد ... إلى آخره" (2). فصل 9696 - إذا نفى نسبَ مولودٍ، فلا يخلو: إما أن يقع ذلك في النكاح، وإما أن يقع بعد البينونة، فإن وقع ذلك في النكاح، فإذا نفى الولدَ الموجودَ في النكاح باللعان، ثم أتت بعد ذلك بولد لأقلّ من ستة أشهر، فقد تبين أن الولدين جميعاً من حمل واحد، فإنهما توأمان، فنقول له: إن لاعنت مرة أخرى ونفيت الثاني، انتفى عنك الولدان، وإن أبيت يلتحق بك الأول والثاني. والجملة أن التوأمين لا يتبعض أمرهما، فإذا نفى الأول، لم يكف نفيُه، ولو قال: إذا نفيتُ الأول، فقد نفيتُ الثاني أيضاً، قيل له: لا، بل إذا امتنعت عن اللعان

_ (1) في الأصل: لا يلاعن. (2) ر. المختصر: 4/ 173.

عن الثاني، فكأنك امتنعت عن اللعان عن الأول، ولم تتعرض في لعانك لغير الأول، ولا سبيل إلى التبعّض. ولو جرى اللعان الأول في النكاح، كما صورناه، ولكن كان بين الولدين ستةُ أشهر، فنعلم أن الولد الثاني تجدد العلوق به بعد انفصال الولد [الأول] (1)، فإذا نَفَى الأولَ، انتفى عنه، وهو رأس أمره (2) في الولد الثاني، فإن نفاه بلعانٍ مجدد، انتفى عنه، وهذا اللعان، وإن كان مُنْشأً في حالة البينونة، فهو يتعلق بنسب متعرِّض للثبوت، والعلوقُ بالولد ممكن في حالة النكاح، فإنه [وإن] (3) نفى الولد الأول، فلعله وطىء بعد انفصال الولد وقبل إنشاء اللعان، فحصل العلوق بالولد الثاني، ثم إنه ابتدأ فنفى الأول باللعان الأول. وكل ما ذكرناه [فيه] (4) إذا نفى الولدَ الأولَ بعد انفصالٍ، ثم تخلل بين الولدين أقلُّ من ستة أشهر أو ستة أشهر فصاعداً، وقد وقع التعرض للولد. فأما إذا نفى الحملَ باللعان، ثم انفصل ولدان بينهما أقلُّ من ستة أشهر، فهما جميعاً [منفيان] (5) عنه، ولو أتت بأكثرَ من ذلك عن بطن واحدة، فاللعان الأول كافٍ؛ فإنه تعرض فيه لنفي الحمل، واسمُ الحمل ينطلق على ما اشتمل الرحم عليه واحداً كان أو أكثر. ولو نفى الحملَ كما ذكرناه، فأتت بولدين بينهما ستة أشهر فصاعداً، فنقول: ينتفي باللعان الولدُ الأول، ولا ينتفي الولد الثاني باللعان، بل ينتفي بلا لعان، والسبب فيه أن الفرقة وقعت باللعان، فلما أتت بالولد الأول، انقضت عدتها بوضع ذلك، فلا يحتمل وقوع العلوق بالولد الثاني في النكاح، وإن كان كذلك، فنسبه منتفٍ بلا لعان.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) رأس أمره: واضح أن المعنى: هو صاحب الرأي في الولد الثاني: استلحاقاً أو نفياً. (3) زادها المحقق لاستقامة الكلام. (4) في الأصل: منه. (5) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا (شنان) بهذا الرسم تماماً وهذا النقط (انظر صورتها).

هذا كله تفصيل القول فيه إذا جرى إنشاء اللعان في النكاح، ثم أتت بتوأمين عن بطني واحد، أو أتت بولدين عن بطنين. 9697 - فأما إذا أبانها بالطلاق، ثم أتت بولد، فنفاه باللعان، فأتت بولدٍ آخر لأقلَّ من ستة أشهر، قلنا له: إن [نفيته] (1) بلعانٍ آخر، فذاك، وإن [أبيت] (2)، لحقك الثاني، وإذا لحقك الثاني يلحقك الأول؛ فإن الحمل الواحد لا يتبعض، فلا يجوز فرضه من شخصين، وقد ذكرنا أنه لا ينتفي باللعان إلا من نفاه. وقد تكلف أئمتُنا في هذا كلاماً لا حاجة إليه، فقالوا: في التوأمين نفيٌ ولحوق، فالحمل الواحد لا يتبغض، فإذا اجتمع النفيُ واللحوقُ وجب تغليبُ الأقوى، واللحوق أقوى من النفي في الأولاد الذين استند العلوق بهم إلى الفراش تحقيقاً أو إمكاناً. والدليل عليه شيئان: أحدهما - أن الولد يلحق من غير استلحاقٍ إذا كان على النعت الذي ذكرناه، ولا ينتفي من غير نفي، والدليل على ذلك أيضاًً أن الولد الذي نفاه الملاعن باللعان لو استلحقه بعد النفي، لحقه، فإذا استلحق مولوداً، ثم أراد نفيه باللعان، لم يجد إليه سبيلاً. فظهر من ذلك أن اللحوق أقوى، فإذا تعارض اللحوق والنفيُ في التوأمين، وجب تغليب اللحوق. وهذا الكلام مستفاد، ولكن لا حاجة إليه في تعليل ما ذكرناه في التوأمين، وذلك أن الحمل الواحد لا يتبعض، وصورةُ ثبوت ولدين فيه إذا كثرت مادّة الزرع، فَيُخلَقُ منها ولدان، ولا يفرض اشتمال الرحم على ولد، ثم [يفرض] (3) علوق بعده بولدٍ آخر؛ فإن الرحم إذا اشتمل انسد فوهةُ الرحم، فاشتغل بتقدير الإله بتربيته، فلا يتأتى منه قبول منيٍّ آخر، فإذا كان كذلك، وقد نفى الملاعن أحد التوأمين، فلا ينتفي

_ (1) في الأصل: نفيت. (2) في الأصل: ثبت. (3) في الأصل: فرض.

الثاني؛ فإنه لم ينفه، فإذا لم ينتف واستحال التبعض، لزم اللحوق، وهذا القدر كافٍ. والدليل عليه أن اللحوق والنفيَ لو كانا متكافئين في القوة، لكان الجواب كذلك. هذا إذا أنشأ اللعان بعد البينونة، وتعرض لنفي المولود المنفصل، ثم بان توأمان. فأمّا إذا تعرض لنفي الحمل، انتفى الولدان الكائنان من بطن واحد، لما قررناه قبلُ. ولو نفى الولدَ المنفصلَ بعد البينونة، فأتت بالولد الثاني لستة أشهر فصاعداً، انتفى الولد الثاني بلا لعان؛ فإن الأول تعرض للثبوت لإمكان وقوع العلوق به في النكاح، والولد الثاني تحقق العلوق [به] (1) بعد ولادة الولد الأول، وهذا بيّنٌ. 9698 - وإذا نفى الرجل في النكاح أو بعد البينونة توأمين، إما أن يتعرض للحمل وإما أن يلاعن مرتين، فلا شك أن التوأمين أخوان من الأم، فإن اللعان لا يتضمن قطعَ أحكام الولادة من جانب الأم، وولد الزنا من أمه الزانية كالولد النسيب، فكل قرابةٍ تترتب على الأمومة، فهي ثابتة لا شك فيهما. ونسبهما ينقطع عن الملاعن، فليس أباهما حكماً، وليسا ولديه. وهل يثبت بينهما أخوة الأب؛ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا تثبت ولعله الأصح؛ فإن الأخوة من الأب مترتبة على ثبوت الأبوة والبنوة، فإذا لم تثبت الأبوة بَعُدَ أن يثبت فرعها. والوجه الثاني - أنهما يتوارثان بأخوة الأب؛ فإن الأب إنما يقْطَعُ باللعان الذي بينه وبينهما، فأما ما يثبت بينهما، فلا يؤثر اللعان في قطعه. وهذا ضعيف لا اتجاه له.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

9699 - ثم قال: "ولو مات أحدهما ثم التعن نَفَى عنه الحيَّ والميتَ ... إلى آخره" (1). إذا ولدت المرأة توأمين، ومات أحدهما أو ماتا جميعاً، فأراد الزوج نفيهما بعد الموت، أو نفي الميت منهما والحيَّ، جاز له ذلك [فإذا وُلدا معاً أو بينهما أقلُّ من ستة أشهر] (2) فيكفي فيهما لعان واحد. ولو أراد الزوج أن ينفي أولاداً أتت [بهم] (3) امرأته عن بطن واحد أو بطون مختلفة بلعان واحد، فله ذلك، ولا نكلفه أن يخصص كل مولود باللعان. ولو عدد قذفها ونسبها إلى زنيات، وأضاف كل مولود إلى زنية منها، ثم أراد اللعان، كفاه لعان واحد يشتمل على تسمية الأولاد، وسيأتي طرف من هذا بعد ذلك، وغرضنا الآن تامٌّ في المقدار الذي أوردناه. 9700 - ومن أصول المذهب أن المولودَ الميتَ يلحقه النفي والاستلحاق جميعاً؛ فإن الموت لا يقطع النسب ولا يغير أحكامَ النفي وجريانِه. فلو أتت امرأة بولدٍ ومات، فله نفيه بعد الموت، ولو لاعن عنه في الحياة، ثم استلحقه بعد الموت، لحقه، ويترتب عليه ثبوت الإرث، ولا نظر إلى ما تخيله أبو حنيفة (4) من ردّ الاستلحاق بسبب التهمة في خبطٍ له طويل. ولو نفى النسبَ بعد الموت، وقُسِّم ميراثُ الميت، ثم أراد الاستلحاقَ، فله ذلك، وتَنتقِضُ القسمةُ وتعود وراثتُه تبيناً، وقد يحجُب (5) الذين مَضَوْا، أو يزاحم (6).

_ (1) ر. المختصر: 4/ 173. والمذكور هنا معنى كلام الشافعي، وليس نصّ المختصر. (2) في الأصل: فإذا ولد فيكفي فيهما ... وهذه الزيادة، والتصرف في العبارة من عمل المحقق، نرجو أن يكون صواباً. (3) في الأصل: به. (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 515 مسألة 1063. (5) وقد يحجبُ: أي الأب، فقد صار وارثاً لولده الميت بعد استلحاقه إياه. (6) هذا هو الأصح، كما عبر بذلك الرافعي والنووي، فقد قال الرافعي: "فلو نفاه بعد الموت ثم عاد واستلحقه فيه وجهان: أصحهما - اللحوق، لأن النسب يُحتاط لثبوثه، وإذا ثبت النسب، =

وهذا خَرْمٌ عظيم لأحكام الأقارير، فإنه إذا نفاه، فقد اعترف بأنه لا يستحق تركته، فإذا عاد واستلحق، فهذا يناقض قولَه الأول، وكنتُ أود لو قلنا: إذا نفاه في الحياة ثم استلحقه بعد الموت يلحقُه، فإنه لما نفاه لم يكن ثمَّ استحقاقُ مال تقديراً، فإذا وجد النفي بعد الموت، فقد قطع استحقاق نفسه عن التركة حين ثبوت الاستحقاق للورثة، فإذا أراد العَوْد، لم يكن له ذلك (1). وقد وجدت في كلام الأصحاب رمزاً إلى هذا، فأنا أنظم بعدُ هذا التنبيهَ، فأقول: إذا نفاه حياً واستلحقه حياً، أو نفاه حياً واستلحقه ميتاً، فالاستلحاق ثابت، فإذا نفاه ميتاً واستحلقه ميتاً، فالنسب يلحق، وهل يثبت الإرث؟ فعلى التردد والاختلاف: يجوز أن يقال: لا يثبت؛ لما أشرنا إليه من أنه قطع حقه عن التركة، فلا يعود حقَّه إليها. ويجوز أن يقال: يثبت حقه؛ لأنه لم يتعرض للتركة أولاً وآخراً، وإنما تعرض لاستلحاق النسب، والنسب يلحق، ثم يترتب عليه حكمه. والدليل عليه أن من مات وخلف ابنين، وزعم أحدهما أن هذا الغلام ابنُ أبينا وأنكر الثاني، فظاهر المذهب أن المقَرَّ به لا يستحق من الميراث شيئاً وإن تضمن إقرارُ المقِر إثباتَ استحقاقٍ له فيما في يده، ولكن لما كان ذلك الاستحقاق مترتباً على النسب، والنسب لم يثبت، فلم يثبت ما يترتب عليه فالتعويل إذاً على ثبوت النسب في النفي والإثبات. فصل قال: " ولو قال لامرأته: يا زانية فقالت: زنيت بك ... إلى آخره " (2). 9701 - إذا قال لامرأته: يا زانية، أو قال: زنيتِ، فقالت: زنيتُ بك،

_ = ثبت الإرث، وعلى هذا فلو قسمت تركته، أَتبعتُ القسمةَ بالنقض". وهذه عبارة النووي نفسها تقريباً. (ر. الشرح الكبير: 9/ 414، والروضة: 8/ 359). (1) هكذا يعرب إمام الحرمين عن اختياره الوجه المقابل للأصح، ويتمنى أن لو قال به الأصحاب. (2) ر. المختصر: 4/ 175.

[فلكلامها] (1) جهاتٌ في الاحتمالات: أحدها - أن تريد نفي الزنا، وقد يعتاد مثل هذا، فكأنها قالت: لم أزن، وهو بمثابة قول القائل - وقد قال له صاحبه: يا سارق: سرقتُ معك، والمراد لم أسرق كما لم تسرق. قال الأصحاب في مسألة الكتاب: إن أرادتْ ذلك، قُبل قولُها مع يمينها، فإن حلفتْ، فلا حدّ عليها للزوج. ونحن نستتم النقلَ، ثم نرجع بالمباحثة إلى محالّ الإشكال. [فلو] (2) قالت: زنيتُ بك، وزعمتْ أنها أرادت ما مكّنت أحداً سواك، وأنت أعلم، فإن كان زِناً، فاحْسبه كذلك، فتأويلها هذا مقبول مع يمينها، كما قدمناه. ولو قالت: أردت بذلك أني زنيتُ به قبل النكاح، فهي قاذفةٌ ومقرّةٌ بالزنا، فيسقط حدُّ القذف عن الزوج [لإقرارها] (3) بالزنا، وتُحدّ هي حدَّ القذف أولاً، ثم تحدّ حدّ الزنا. فإن رجعت عن إقرارها بالزنا، نفعها رجوعُها في سقوط حد الزنا عنها، ولم ينفعها في إسقاط حد القذف؛ فإنه حدٌّ لآدمي، والعقوبات التي هي حقوق الآدميين لا تسقط بالرجوع عن الإقرار بها. والذي يجب إنعام النظر فيه أن الرجل إذا قال لأجنبيةٍ أو لزوجته: قد زنيتُ بك، فلست أرى هذا اللفظ قذفاً لها صريحاً، فإنه إذا استكرهها، فهو زانٍ بها، وليست هي زانية، وإذا لم تكن زانية، لم يكن نسبتُها إلى ذلك قذفاًً منه، فيراجَع، فإن ذكر ما أشرنا إليه، كان محتملاً، وإن فسره بكونها مطاوعةً، فالذي تقدم منه قذفٌ؛ فإنّ قوله زنيتُ بك مشعرٌ بمطاوعتها، وقد يحتمل خلاف ذلك، ولو قلنا إشعاره بالمطاوعة في مجرى العرف أغلب لم نبُعد، فكان قوله كنايةً في القذف. كذلك إذا قالت المرأة زنيتُ بك، فما جاءت به كنايةٌ في قذفه؛ فاتسع المجال في

_ (1) في الأصل: ولكلامها. (2) في الأصل: ولو. (3) في الأصل: لإقرار.

الرجوع إلى قصدها، وأما قولها: زنيتُ؛ فإنه صريحٌ في الإقرار بالزنا، وحمل هذا على التعقيدات التي ذكرناها يُحْوِجُ إلى مزيد تقرير. 9702 - وأنا أقول فيه: إذا أمكن تأويله -وإن بَعُد- فقبوله في دراء حد الزنا غير بعيد؛ فإنها [لو] (1) أقرت بالزنا الصريح، ثم رجعت قُبل رجوعُها، فإبعادها في التأويل لا يبعُد أن يُقبل. وإنما محل الإشكال أن المقذوفة إذا أقرت بالزنا، سقط حدُّ القذف، فإذا حملت كلامَها على المحمل الذي ذكره الأصحاب، فقبول قولها مع يمينها وإثباتِ حق الطلب لها في حد القذف قد يغمض، ثم لا سبيل فيه إلاّ جريانُ العرف بمثله في المهاترات والشتائم، وإذا تنبه المرء لما ذكرناه مهّد عذرنا بعد التنبيه للإشكال. وقد قال الأصحاب: إذا ادعى رجل على رجل مالاً، فقال: زِنْه هل يكون هذا إقراراً أم لا؟ فيه تردُّدٌ، ولو قال: زِن، ثم زعم أنه لم يُرد الإقرارَ، قُبل قوله، وقوله: زنه لم يبعد حمله على المهاترات، ولكن التعقيدات والمكاني بالمشاتمات أَلْيق، ولا خلاف [أن] (2) من يدعى مالاً، فلا حاجة إلى حمل الإجابة على الهُزْء. فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك. وقد ذكر الصيدلاني: أن المرأة إذا قالت: زنيتُ بك، وأرادت الاعترافَ بالزنا على نفسها، فهذا قذف منها للزوج، ومساق هذا يقتضي أن الرجل إذا قال لامرأته: زنيتُ بك، فيكون قاذفاً لها، وهذا عندي غير سديد؛ فإن القذف نسبة المقذوف إلى صدور الزنا منه، وهذا لم يتحقق في المسألتين: إذا قال الرجل: زنيتُ بكِ، أو قالت المرأة: زنيت بكَ، فما أرى هذا إلا غفلة (3).

_ (1) في الأصل: له. (2) في الأصل: على. (3) تعقب ابن أبي عصرون إمام الحرمين، وردّ عليه نسبةَ الصيدلاني بالغفلة، فقال: "قلت: والحكم بعدم السداد فيه غفلة؛ لأن قوله: زنيت بك إن كان لفظه إضافة الزنا إليه، فهو أمر مشترك بينهما، فمن ضرورته أن يكون أضافه إلى صاحبه، إلا أن يقول: كانت مكرهة أو نائمة، أما إذا لم يرد شيئاً، فالقول سديد" ا. هـ (ر. صفوة المذهب: ج 5 ورقة: 126 شمال).

فإذا تكلفنا في إقامة هذا اللفظ [جعلناه] (1) كناية - إذ ليس فيه التعرّض لنسبتها إلى الزنا. 9703 - قال: "ولو قال الرجل لزوجته يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني ... إلى آخره" (2). هذا منها لا يكون قذفاً صريحاً؛ لأنها لم تعترف بالزنا، حتى يكون قول: أنت أزنى مني إثبات زنا. وكذلك لو قال رجل لآخر: أنت أزنى من فلان، ولم يُثبت الزنا في حق المشبه به، فلا يكون هذا الذي ذكره قذفاً صريحاً. ولو قال: فلان زانٍ وأنت أزنى منه، فهذا الذي خاطب به قذفٌ، وقد قذف المشبه به، فيلزمه حدان إذا كانا مُحْصنين؛ فإنه قذفَ شخصين بالكلمتين. ولو قال: أنت أزنى من فلان، وكان ثبت زنا ذلك المشبّه به ببيّنة، قامت عليه، أو بإقرار، نُظر: فإن كان هذا القائل جاهلاً بزنا فلان المشبهِ به، فالذي صدر منه لا يكون قذفاً؛ فإنه لم يُثبت زنا ذلك الشخص أولاً حتى يكون التشبيه به قذفاً. ولو كان عالماً بأن فلاناً ثبت عليه الزنا بإقراره أو بالبيّنة. فقال: أنت أزنى من فلان، قال القاضي: هذا الآن قذف منه؛ فإنه شبه المخاطب بمن ثبت عنده زناه، فكان التشبيه مترتباً على علمه. فإن قيل: إذا لم يعلم زناه أو لم يَثبت زناه، فهلاّ جعل قوله: أنت أزنى من فلان قذفاًً في حق المخاطب ونسبة للمشبه به إلى الزنا؛ فإن من ضرورة المبالغة إثبات الاستواء في الأصل، مع تثبيت مزيّة، ثم يعبر عنه بهمزة المبالغة؟ قلنا: هذا غير سديد؛ فإن الكلام قد يجري على غير هذا النسق، وإن كان الكلام [القويم] (3) يقتضي التسوية في الأصل، والتعرضُ بعد التسوية للمبالغة وإثبات

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ر. المختصر: 4/ 175. (3) في الأصل: القديم.

المزيّة، ولكن العبارات لا تجري على النظم المختار في المعنى، بل هي مردّدةٌ بين النظم [القويم] (1) والمنهج المستقيم، وبين الحيْد [عنه] (2)، حتى يقلَّ في الناس من يرتاد النظم الأقوم، وإذا ندَرَ الخروجُ عن النظم في كلام شخص، عُدّ مُعْتَبرَ الدهر، فلا مؤاخذةَ بما يجب أن يكون بناء الكلام عليه، وإنما التعلق بالصيغ في مبانيها ومعانيها. ولو قال لامرأته: يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني، وأرادت بذلك أني زانية، وأنت أزنى مني، فهذا إقرار منها بالزنا، إن فسرت لفظها بذلك، ويجب عليها حدُّ الزنا، وحدُّ القذف، ويسقط حدُّ القذف عن الزوج (3). وإن قالت: أردت بذلك أنك الزاني، ولستُ بزانية، فإنت أزنى مني، فيقبل ذلك، وتكون قاذفةً غيرَ مقرة بالزنا؛ إذ لفظها يحتمل هذا الوجه. وهذا أورده صاحب التقريب عن ابن سُرَيْج، وذكره الشيخ أبو علي على هذا الوجه، ولا خفاء به. 9704 - ولو قال لرجل: أنت أزنى الناس، فقد أطبق الأصحاب أن هذا لا يكون قذفاًً؛ فإنه لم ينسب الناسَ إلى الزنا، ولو قال: في الناس زناة، وأنت أزنى منهم، فهذا قذف. وقد يعترض في ذلك [سؤال] (4)، فإنه إذا قال: يا أزنى الناس، فليس يخفى عليه أن في الناس زناة، وقد ذكرنا أن من علم زنا شخصٍ ببينة أو إقرار، ثم قال لرجل: أنت أزنى من فلان، فيكون ذلك قذفاً، فليكن قوله: أنت أزنى الناس بهذه المثابة. وهذا فيه تعقيد. قال القاضي: قوله: أنت أزنى الناس، تأويله أنت أعلم الناس بالزنا.

_ (1) في الأصل: القديم. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) يسقط حد القذف عن الزوج، لإقرارها بالزنا، كما هو واضح. (4) في الأصل: سؤاله.

وهذا كلام سخيف؛ فإن التعرض للزنا لا يجوز أن يُحمَلَ على العلم بالزنا، ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: إذا قال: أنت أزنى من فلان وكان عَلِمه زانياً، فلا يكون ذلك قذفاًً؛ حملاً على العلم، فلا تعلق فيما ذكره. والوجهُ أن نقول: لما ذكر الناس وليسوا زناة، فقد اعتنى بالتشبيه بالجنس، وليس يتحقق من الجنس الزنا، وإنما يتحقق من آحادهم، والآحاد من الناس ليسوا بالناس، والإشكال مع هذا قائم، ولم أر في ذلك خلافاًً للأصحاب. وغايتنا التثبت في النقل والإشارة إلى الإشكال ووجوه الاحتمال، فإن فاتنا نقلٌ نحرص على أن نذكر جهات [الإمكان] (1)، والله المستعان وعليه التكلان. فصل قال: " ولو قال لها: يا زانِ، كان قذفاًً ... إلى آخره " (2). 9705 - إذا قال لامرأة أو لزوجته: يا زانِ، فحذف ما يقتضيه النظم من (هاء) التأنيث، فالذي جاء به [قذف] (3). والصيغةُ مختلفة أو لحن - إن كان لا ينقدح لحذف علامة التأنيث سبب. والمرأة إذا قالت للرجل: يا زانية، فأتت بالهاء في خطاب من يُذكَّر، فهي قاذفة، ووافق أبو حنيفة (4) في الصورة الأولى، وخالف في الصورة الثانية والمسألة مشهورة معه. ومما يُجريه الفقهاء أن حذف الهاء محمول على مذهب الترخيم في مثل قول القائل في (عزّة) يا (عزّ) و (بثينة) يا (بثين) على اختلاف المذهبين في رفع الحرف الأخير ونصبه بعد الترخيم.

_ (1) في الأصل: جهات (الأمر كان) وهو من طرائف التصحيف. (2) ر. المختصر: 4/ 176. (3) في الأصل: وقذف. (4) ر. مختصر الطحاوي: 268، تحفة الفقهاء: 3/ 144، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3/ 476، مختصر اختلاف العلماء 2/ 516 مسألة 1067.

وهذا يُشعر بقلة الدراية بمذهب العرب في باب الترخيم؛ فإنهم إنما يرخمون الألقاب التي تجري أعلاماً، فأما الأسماء التي تجري صفاتٍ مشتقةً كالقاتل والزاني، فلا يتطرق إليها ترخيم إلا في ضرورة الشعر إذا دُفع الشاعر إلى مضائق التَّقْفِية والأوزان (1). ومما أجراه بعض الفقهاء أن [لفظ] (2) (الزانية) في مخاطبة الرجل محمولة على مذهب المبالغة، كالعلاَّمة والنسّابة، وفلان راوية الشافعي. وهذا [أمثل] (3) قليلاً من الترخيم، ولكنه باطلٌ أيضاً، فإنه وإن جرى، فلم يتمهد قياساً مطرداً، فلا يقال لمن كثر القتل منه: فلان (قاتلة) ولسان العرب ينقسم إلى ما لا قياس فيه أصلاً، وإنما المتبع فيه السماع المحض، وإلى ما يطرد فيه القياس، وإلى ما يجري فيه قياسٌ مقرون بالسماع. ولا حاجة إلى التعلق بأمثال هذا، ومعتمد المذهب أن النسبة إلى الزنا تحققت، ولا تعويلَ بعد ذلك على لحنٍ في الكلام، وعلى تحريف عن السداد، أو لحنٍ بعد تأدية المعنى (4)، ولا خلاف أن الرجل لو قال للمرأة: زنيتَ بنصب التاء، أو قالت المرأة للرجل زنيتِ بكسر التاء الضمير، فاللفظان قذفان، وإن جريا على ما لا يقتضيه التذكير والتأنيث. وقال القفال الإشارة أغلب من العبارة، فإذا أشارت إلى الرجل وقالت: يا زانية، فليقع التعلق بالإشارة.

_ (1) العجب أن يقول إمام الحرمين هذا، ونصُّ الشافعي في المختصر: "ولو قال لها (يا زان)، كان قاذفاً، وهذا ترخيمٌ، كما يقال لمالك: (يا مال) ولحارث (يا حار) ". والمعروف أن الشافعي تؤخذ منه اللغة، فهو ممن يحتج بقوله، شهد له بذلك أئمة اللغة، وقد صحح عليه الأصمعي ديوان الهذليين (اقرأ مقدمة العلامة أحمد شاكر لتحقيق الرسالة). هذا إذا لم يكن في العبارة تصرفٌ من المزني. والله أعلم. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: أشدّ. والمثبت من صفوة المذهب. (4) يظهر اللحن بعد تأدية المعنى في مخاطبة الرجل بقول: (يا زانية) فهذه اللفظة تتضمن الوصف الصحيح (زاني) وتزيد بعده الثاء. فاللحن هنا بعد تأدية المعنى.

وذكر صاحب التقريب أن الشافعي رضي الله عنه ذكر فيه إذا قال الرجل للمرأة: يا زان، أو قالت المرأة للرجل: يا زانية قولين: أحدهما - أن ذلك لا يكون قذفاً صريحاًً؛ فإن كل واحد منهما نسب صاحبه إلى زنا لا يتصور منه. وهذا غريب جداً، ولكنه حكاه عن القديم، ولم [أره] (1) لغير صاحب التقريب، ولا تعويل على مثل هذا. 9706 - ثم قال: لو قال: " زنأت في الجبل ... إلى آخره " (2). إذا قال: للرجل زنأتَ في الجبل، فهَمَزَ وذكرَ الجَبَلَ أو غيرَه مما يُرقى فيه، فليس قاذفاً؛ فإنه يقال: زنأ في الجبل أي رقا، ومنه قول القائل: وارْق إلى الخيرات زنْأً في الجبل (3). ولو قال: زنيت في الجبل، فأتى بالياء ولكن أضاف إلى الجبل، ثم زعم أنه أراد بذلك الزنوّ بمعنى الرقي، فهذا مما اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يقبل ذلك منه؛ فإن قوله (زنيت) صريح، وإضافته إلى الجبل منتظم على معنى بيان ذكر المكان، وهذا ظاهر المذهب. ومنهم من قال: يقبل ذلك منه لذكرِ الجبل، وقرب زنيتَ من زنأت، وغلبة حذف الهمزة على الألسن.

_ (1) في الأصل: لم أر. (2) ر. المختصر: 4/ 177. وفي الأصل: (زنيت) والتصويب من المختصر. (3) هذا من رجزٍ قاله قيس بن عاصم المنقري يرقِّص صبيّاً له (وهو حُكَيْمُ بنُ عاصم) وقد تناوله من أمه: منفوسة بنت زيد الفوارس. وقبل هذا قولُه: أشْبه أبا أمّك أو أشبه عملْ ولا تكوننّ كهِلَّوفٍ وكَلْ يُصبح في مضجعه قد انجدلْ وارْقَ إلى الخيرات زنأً في الجبل. [عمل: اسم رجل. الهِلَّوف: الثقيل الجافي البطين لا غناء عنده. والوكَلْ: الذي يكل أمره إلى غيره] (ر. لسان العرب: مادة: زنأ ومادة عمل) قلت: والعامة في ريف مصر يقولون: (هِلْف) مكان (هِلّوف) تماماً.

ومنهم من فصل بين أن يكون مُعْرِباً وبين أن لا يكون، وزعم أن ذلك مقبول من غير المُعْرِب، وليس مقبولاً من المُعْرب. ولو قال زنأتَ مطلقاً، فهمز، ولم يذكر الجبل، ففي المسألة أوجهٌ إذا زعم أنه أراد الرقي: من أصحابنا من لا يقبل ذلك منه؛ لأنه ظاهر في معنى الرقي، ومنهم من قال: يجعل قذفاً؛ فإن الهمزة والياء تعتقبان في الكلام، ومنهم من فصل بين المُعْرِب وغير المُعْرِب، فقال إن كان الرجل معرباً، لم يكن ذلك قذْفاً منه، فإن استعمال لفظ الزنأ ليس بدعاً من العامة، فأما إيراده لمعنى الرقي فمما يختص به أهل البصائر. فصل " ولو قال لامرأته: زنيتِ وأنت صغيرة ... إلى آخره " (1). 9707 - إذا قال: زنيتِ وأنت صغيرة، فلا يخلو عن الصغر في أول الأمر مفطور (2)، فلا يكون ما جاء به قذفاًً؛ فإن القذف مأخوذ من حد الزنا، فكل منسوب إليه لو تحقق، لكان موجباً لحد الزنا، فالنسبة إليه [توجب] (3) حدّ القذف، وإذا لم يكن المنسوب إليه مما يوجب حدَّ الزنا -لو تحقق- فالنسبة إليه لا تكون قذفاً موجباً للحد، فإذا قال: زنيتِ وأنت صغيرة، فوجود صورة الفاحشة في حالة الصغر لا يتضمن حدّ الزنا، فلا جَرَم لم يكن النسبة إليه قذفاً موجباً لحد القذف. نعم، هو إيذاء موجبٌ للتعزير. ولو قال لامرأته: زنيتِ وأنت أَمة أو مُشركة، أو مجنونة، فإن كان عُهد منها هذه الحالات، فالذي قاله الزوج ليس قذفاًً، كما إذا نَسَب إلى الصغر. وإن لم يعهد منها هذه الحالات، قلنا للزوج: إن أثبتَّ بالبيّنة منها حالةًْ من الحالات التي ذكرتها، فلست قاذفاً، [إنما أنت بريء] (4)، وإن لم تُثبت بالبينة

_ (1) ر. المختصر: 4/ 177. (2) مفطور: أي مخلوق. (3) في الأصل: موجب. (4) في الأصل غير واضحة. هكذا: (فإنها أنت ـرذى) بهذا الرسم تماماً. (انظر صورتها).

ما ذكرتَه، فالذي جئتَ به قذفٌ؛ فإنه نَسَبَ إلى الزنا، ثم ذَكَر حالةَ لم تُعرف ولم تُعهد، فسقط ما ذَكَره من الإضافة، وبقي القذفُ الصريح. وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: أنه لا يلزمه الحد أصلاً؛ فإنه لم يجرد القذف، بل أضافه، فإن صحت الأضافة، فذاك، وإن لم تصح، بطل إطلاق القذف بها. وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فليس بعيداً في الاتجاه. 9708 - ولو قال لامرأة: زنى بك فلانٌ وأنت مستكرهة، فالذي ذكره ليس بقذفٍ في حقها؛ فإن المستكرهةَ لا تكون زانية، واختلف أصحابنا في أن هذا هل يوجب إيذاءً موجباً للتعزير: فمنهم من قال: هو إيذاء موجبٌ للتعزير؛ فإنه على التحقيق آذاها صادقاً كان أو كاذباً، فصار كما لو قال: زنيت وأنت مجنونة أو صغيرة. ومن أصحابنا من قال: لا يستوجب الناسبُ إلى الاستَكراه [التعزيرَ] (1)؛ لأن المستكرهةَ لا مَلام عليها بوجهٍِ، ولا يتطرق إليها منع من مانع، والصبية ممنوعة والمجنونةُ كذلك. وهذا ساقط لا أصل له، وإن كان مشهوراً حكاه القاضي والعراقيون. ولو قال: زنى [بك] (2) فلان الممسوح، فهذا كلام غيرُ منتظم. وكذلك لو قال لرتقاء: زنيتِ، فقد نسبها إلى ما ليس ممكناً، واتفق الأصحاب على أنه يعزر لمكان الإيذاء بهذا الإسماع، ثم ذكرنا فيما تقدم التفصيل فيما يُدرأ باللعان من التعزيرات إذا جرت هذه الألفاظ في النكاح، وما يُخْتلَف فيه. فإذا نَسب المرأة إلى مُحالٍ مما ذكرناه وأثبتنا التعزير، فقد قال القاضي: لا يُدرأ هذا التعزير باللعان؛ لأن اللعان في مقابلة تلطيخ الفراش، حتى كأن الزوج يَرْحَض ويغسل بلعانه ما ألحقته به من العار، فإذاً ينبغي أن يجريَ اللعان حيث يتوقع التلويث، وحيث لا، فلا. [وقد] (3) ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - ما ذكره القاضي. والثاني - أنه يلاعن.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) مزيدة من عمل المحقق. (3) في الأصل: فقد.

وهذا بعيدٌ، ولكنه إذا جرى في تعزير التأديب اختلافُ النصوص وتخريجُ الأقوال، [لم] (1) يبعد إجراؤه هاهنا، ولكن لا وجه إلا ما قطع به القاضي؛ من جهة أن الزوج إن ذَكَر المُحالَ الذي نسبها إليه، [لا يمكنه أن يزعم صدقه بل هو محال] (2) وإن لم يذكره، فاللعان من غير ذكر التصديق فيما جرت النسبة إليه محال غير منتظم. ولو قال لها: زنيت وأنت أمة أو مشركة، أو مجنونة، وقد عُهدت هذه الأحوال منها، فقد ذكرنا أن الرجل لا يكون قاذفاً، وقال أبو حنيفة (3) إذا قال لها: زنيت وأنت أمة أو مشركة، كان قاذفاً، فإن زنا الأمة يوجب عليها حد الزنا، وكذلك زنا المشركة. وهذا غير سديد؛ فإنا نجعل القذف بالزنا المضافِ إلى الحالة السابقة بمثابة إنشاء القذف في تلك الحالة، ولو قذف أمة أو مشركة، لم يستوجب حداً، فإضافة القذف إلى حالة [الشرك] (4) والرق بمثابة إنشاء القذف في الحالتين. فرع: 9709 - إذا قال: زنى فرجُك، فهذا صريح في القذف، ولو قال: زنت يدك أو رجلك، وأضاف الزنا إلى بعضٍ من الأبعاض سوى الفرج، هل يكون ذلك صريحاًً في القذف؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون وأشار إليهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه كناية، وهو الصحيح، الذي قطع به المراوزة، فإن الزنا لا يضاف إلا إلى الفرج، أو إلى الجملة، والقذف خبر عن مخبَر، وليس مما يفرض فيه وقوعٌ وسريان، بخلاف الطلاق والعتاق، كيف وقد يضاف الزنا إلى الأعضاء، على معنى صدور مقدّماتٍ منها ومراودات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدّق ذلك ويكذبه " (5).

_ (1) في الأصل: ولم. (2) ما بين المعقفين كله من عند المحقق، حيث كانت العبارة غير مستقيمة، ولعل فيها خرماً، أو تحريفاً، أو هما معاً. فقد كانت هكذا: " إن ذكر المحال الذي نسبها إليه كان تمكينه من ذكره محال، وإن لم يذكره ". (3) ر. مختصر الطحاوي 266. (4) في الأصل: المشركة. (5) حديث "العينان تزنيان" أخرجه مسلم من حديث ابن عباس عن أبي هريرة رضي الله عنهما =

والثاني - أنه صريح؛ فإن اللفظ في نفسه صريح، والجزءُ من الجملة، فكانت الإضافة إلى الجزء كالإضافة إلى الجملة، كالطلاق. والذي يحقق ذلك أن إضافة الطلاق إلى الجزء عُدّ صريحاً قطعاً، بخلاف ما لو قال لامرأته: أنت الطلاق، وقد نقل المزني في (السواد) (1) ما يدل على الوجه الأخير، وذهب المراوزة إلى تغليطه في النقل. ولو قال: زنا يداك وعيناك، فثنَّى اليدَ والعينَ، قال العراقيون: في المسألة وجهان مرتبان على ما إذا ذَكَر اليدَ والعينَ على صيغة التفريد، وجعلوا هذه الصورة أولى بألا يكون اللفظ صريحاً؛ لأن الحديث وارد في صيغة التثنية (2)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العينان تزنيان واليدان تزنيان ". وقد ذكر الشيخ أبو علي قريباً مما ذكره العراقيون، ولم أُضف ما ذكره إلى طريقة المراوزة، فإنه كثير النقل عن العراقيين في مسائل اللعان. صورة مكررة رددها المزني ولست لها (3). فصل قال: " ولو قذفها، ثم تزوجها، ثم قذفها ... إلى آخره " (4). 9710 - قد ذكرنا الاختلاف في أن الحد هل يتعدد إذا قذف جماعةً بكلمة واحدة، وذكرنا أيضاًً الخلاف في أنه إذا قذف شخصاً واحداً بكلمتين دالّتين على زنيتين، وقرّبنا إحدى المسألتين من الأخرى ظاهراً وعبّرنا عنهما، فقلنا: إذا تعدد القذف

_ = (مسلم: ك القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره رقم 2657. وانظر التلخيص 3/ 451 رقم 1772). (1) السواد هو مختصر المزني، وانظر هذا في جزء 4 ص 184. (2) وجه الأولويّة والترجيح واضح، وهو أن الحديث الشريف وَرَدَ بالتثنية، وهو غير جار على الحقيقة، لا شك في ذلك. (3) كذا. بالإشارة إلى الصورة التي رغب عنها دون ذكرها.!! فأية صورةٍ هي؟؟ (4) ر. المختصر: 4/ 178.

والمقذوف، تعدد الحدّ، وإن اتّحد القذف وتعدد المقذوف، أو اتحد المقذوف وتعدد القذف، ففي تعدد الحد واتحاده قولان. والمعنيُّ بتعدد القذف تعدد الكلمة على شرط أن تُشعر كل كلمة بزنا. وتمام التفصيل في هذا يأتي في كتاب الحدود، وإنما نذكر منه هاهنا المقدارَ الذي يتعلق باللعان، وإلا فأصلُ الحد وتعدده واتحادُه، وبيانُ القول في مستحِقه وتفصيلُ المذهب في العفوِ والاعتياضِ [والإقالةِ] (1) يأتي في كتاب الحدود. فنقول هاهنا: 9711 - إذا قذف الرجل امرأةً ونكحها، ثم قذفها، فإن قلنا: الحد يتعدد ويتوجه عليه الطلب في الحال، فإن لاعن، سقط الحد الواجب بسبب القذف الواقع في النكاح، وبقي الحد المتوجِّهُ بالقذف السابق. وإن حكمنا باتحاد الحد، فإن لم يلاعن، لم يتوجّه عليه إلا حدٌّ واحد، وإن لاعن، لم يسقط عنه الحدّ؛ لأن استيجاب الحد سابق على النكاح، والحد الذي استقر قبل النكاح يستحيل أن يسقط بلعانٍ في النكاح، فلا يخلو القذف الثاني إما أن يُفرض في حكم الإعادة للقذف الأول، فيقع الحكم بالأصل لا بالمعاد، وإن قيل: أوجب كلُّ واحدٍ من القذفين حداً، ولكن اندرج أحدهما تحت الثاني، فإذا قدّر سقوط حدٍّ باللعان، وجب أن يبقى الأصلُ الذي تحته الاندراج. فيخرج من مجموع ما ذكرناه أنه إن لم يلاعن، ظهر الاختلاف: فإنا في قول نقيم عليه حدّين، وفي قولٍ نقيم حداً واحداً. وإن لاعن، لم يظهر أثر؛ [فإنا] (2) على القولين نقيم عليه حداً. نعم، يختلف التعليل، والحكم واحد. 9712 - ثم قال: " ولو قال: يا زانية، فقالت: بل أنت زانٍ ... إلى آخره " (3).

_ (1) في الأصل: والإقامة. (2) في الأصل: فإن. (3) ر. المختصر: 4/ 178.

صورة المسألة أن يقذف الزوج زوجته، فيقولَ لها: يا زانية، فتعارضه المرأة، وتقول: بل أنت زانٍ، فقد قذف كل واحد منهما صاحبَه، وقولُ المرأة: بل أنت زانٍ، لا يتضمن اعترافاً بالزنا؛ فإنّ (بل) معناه ردّ لما سبق، واستئنافُ الكلام بعده، ثم لا يكاد يخفى حكم القذفين: أما قذفُها، فموجبه حد القذف عليها، ولا يدرؤه إلا بيِّنةٌ تقوم على زناه، أو اعترافُه، أو انخرامُ الحصانة والعفة. وأما موجَب قذفه، فالحد، ولكن يدرؤه اللعان، فإن لم يلتعن، حُدّ كل واحد منهما لصاحبه. وليس حدُّ القذف مما يخَيّل فيه السقوط بالتقاصّ، وإن استوى القدْران، والسبب فيه شيئان: أحدهما - أن حد القذف لا يقبل المقابلة بالعوض، والمقاصّةُ باب من المعاوضة، والثاني - التماثل لا يتحقق؛ فإن الجلدات لا تتأتى رعاية التماثل فيها؛ فإن الضربات تتفاوت في أنفسها وتتفاوت. مواقعها في الأبدان، على تفاوت القوى والضعف، والتقاصّ إنما يجري بين المتماثلين. قال أبو حنيفة (1): [كل] (2) شخصين تماثلا لم يُحدّ واحدٌ منهما وعلّل، فقال: إني أستقبح أَنْ أَحُدَّ كلَّ واحدٍ منهما بصاحبه. قال الشافعي رضي الله عنه: أقبح من ذلك تعطيل حدٍّ من حدود الله، وهذا لا يليق بأصل أبي حنيفة مع مصيره إلى أن حدّ القذف يجب لله تعالى. 9713 - ثم قال " لو قذفها وأجنبيةً بكلمةٍ ... إلى آخره " (3). إذا قذف زوجته وأجنبيةً بكلمة واحدة، ففي تعدد الحد قولان مرتبان على القولين فيه إذا قذف أجنبيتين أو زوجتين، وهذه الصورة أولى بالتعدد، لاختلاف أثر القذف الذي يُفرض مضافاً إلى الزوجة والأجنبية، ثم إذا فرعنا على التعدد، فَلاعَنَ، سقط حد المرأة، وبقي [حدُّ الأجنبية] (4).

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 7/ 43. (2) سقطت من الأصل. (3) ر. المختصر: 4/ 179. (4) في الأصل: الحد للأجنبية.

وإن قضينا باتحاد الحد، فإذا لاعن عن زوجته، فللأجنبية مطالبتُه بالحد الكامل؛ فإن اللعان [لا] (1) يسقط الحدَّ الواجب للأجنبية، فإذا على قول الاتحاد إن لم يلاعن، فالحد واحد والطالبة اثنتان، فإن لاعن، فالحد واجب والطلب لواحدة، وهي الأجنبية. ثم قال: 9714 - " ولو قذف أربع نسوة له بكلمة واحدة " (2)، ففي المسألة قولان - إذا فرض الامتناع من اللعان: أحدهما - أنه يلزمه حد واحد لهن، والقول الثاني - يلزمه حدود. فإن قلنا: يلزمه حدود لو امتنع عن اللعان، فلو طالبْنه، فأراد أن يقتصر على لعانٍ واحدٍ عن جميعهن، لم يكن له ذلك؛ فإن كل واحدة منفردة بحدّها وحقّها، والخصومات منفصلة متميزة، واللعان على مثابة الأيْمان، واليمين لا يعمل في خصومتين متعددتين. ولو قُلْن: رضينا باللعان الواحد، فهذا مما يجب إنعام النظر فيه؛ فإن طلبت واحدة وأعرض الباقيات، فلا إشكال فيها، فليلتعن مع الطالبة، والخصومات عتيدة (3) مع الباقيات مهما (4) طَلَبْن، وإن أراد الزوج أن يلتعن في حقوقهن من غير طلبهن الحدّ، ففيه الخلاف الذي قدمته في أوائل الكتاب: إذا جوّزنا ذلك والتفريعُ على تعدد اللعان، فإنه يلتعن عن كل واحدة لعاناً تاماً. ولو اجتمعن، وطلبن، وادّعَيْن، ورضين بلعانٍ واحد -والتفريع على قول تعدّد اللعان- فللزوج أن يمتنع عن اللعان مع بعضهن، ثم تجري عليه أحكام الممتنعين عن اللعان، فإن كان الزوج راضياً بأن يلتعن عنهن لعاناً واحداً، [وقد] (5) رضين بذلك، فالذي نراه أن اللعان الواحد لا يقع موقعه، ولا يصح فرضه على الاشتراك بينهن؛ فإن

_ (1) زيادة اقتضاها استقامة الكلام. (2) ر. المختصر: 4/ 179. (3) عتيدةِ: مستقرة باقية ثابتة. (4) مهما: بمعنى إذا. (5) في الأصل: " فقد ".

الأيمان لا تقبل هذا الفن من التصرف، فلا يختلف الأمر بالرضا ونقيضه. فإنه لو ادّعى على رجلٍ واحد أقوامٌ حقوقاً، وزعموا أنا رضينا بأن يحلف يميناً واحداً، فهذا يخالف نظم الشريعة وترتيبَها في فصل الخصومات، فلا عهد بيمين ينفي قصاصاً ومالاً وحدَّ قذف، ونفرض أيضاً يمين الرد، فيقع التعرض لإثبات حق، وهذا مما لا سبيل إليه. وكل خصومة تنفرد بيمينها عن الأخرى، بل الخصومات لا تقام على الازدحام، ولا يُصغي القاضي إلى دعوى قبل فصل الدعوى الأولى. وإذا لم تنتظم الدعاوى، كيف يفرض عرض اليمين من الجميع؟ نعم، إذا سبقت واحدة في مسألتنا بالدعوى، واتفق أن الزوج أجرى ذكرها في اللعان، انصرف إليها، والخصومات الأخرى باقية، والدعاوى السابقة باطلة والرضا مضمحلّ، فلتدّع بعد الأولى من تدّعي بقرعة، أو رضاً بتقديمها. هذا ما نراه بالجملة، والقول في اللعان كالقول في الأيمان مع تعدد الخصوم والحقوق، فإن كان في رأي الناظر التفاتٌ إلى إشكال في تعدد الأيْمان، ففيما ذكرناه مَقْنَع. وإذا انتهينا إلى كتاب الدعاوى، وبيّنا أحكام الأيمان، ومنازلَ الحُجج والبيّنات، لاح الغرض من هذا، وقد نقول ثَمّ: لا يشهد شاهد في خصومتين بلفظةٍ واحدة، وإذا أحلنا مشكلةً على كتاب، فليُنتظر إلى الانتهاء إلى ذلك الكتاب. هذا تفريعٌ على تعدد الحد في اللعان. 9715 - فأما إذا قلنا: لا يتعدد الحد، فهل يتعدد اللعان؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتعدد، فليلتعن في حق كل واحدة منهن، وهذا هو المذهب الظاهر؛ لأن الحد، وإن كان متحداً، فالخصومات متعددة بتعدد الخصوم، وإذا تعددت الخصومات، فليتعدد أيمانها. والوجه الثاني - أنه يكفيه لعان واحد في حقوقهن، فيذكرهن ويسمّيهن في حكم اللعان، ويحصل الغرض في حق كل واحدة منهن.

وهذا القائل يحتج بأن الزوج يُثبت بلعانه عليهن (1) حقاً، هذا صيغةُ لعانه، ثم يندفع عنه حد القذف تبعاً، [واليمين] (2) إذا كانت تُثبت حقاً، فلا يمتنع أن تُثبت حقوقاً كالبينة، فإنها قد تشهد على جمعٍ من الناس لشخص واحد. وحقيقة هذا الخلاف يعود إلى أنا في أحد الوجهين ننظر إلى طلبهن الحدَّ، ونقدر الزوج مطلوباً من جهاتهن، فعلى هذا لا بد من تعدد اللعان، وعلى الوجه الثاني نقدر الزوج مُثبتاً عليهن الزنا، فعلى هذا لا يمتنع اتحاد اللعان كالبينة تشهدُ على حقوقٍ مختلفاتٍ على خصوم. فإن حكمنا بأن اللعان يتحد، فإذا اجتمعن الْتعن عنهن لعاناً واحداً، وإن لم يطلبن، وأراد الزوج أن يلتعن، وفرّعنا على أن اللعان يجري من غير طلب من جهتهن، فيكفيه أن يذكر جميعَهن في لعان واحد. فإن قلنا: لا يجري اللعانُ من غير طلب، فلو لاعن مع طالبةٍ، وأراد ذكر اللواتي تخلَّفن عن الطلب، لم يكن له ذلك، فإذا جاءت أخرى، فلا بد من التعان جديد معها، وهذا بمثابة ما لو الْتعن، فذكر واحدة، واقتصر على ذكرها، فإذا أراد أن يلْتعن مع أخرى، فلا بد من لعانٍ جديد. هذا كله تفريع على اتحاد اللعان عند فرض اجتماعهن وطلبهن. ْفأما إذا حكمنا بتعدد اللعان، فلو اجتمعن ورضين بلعانٍ واحد، فالقول في رضاهن باتحاد اللعان -والتفريعُ على تعدده- كالقول بأن اللعان يتعدد تفريعاً على تعدد الحد، وقد ذكرنا هذا في صدر الفصل. 9716 - ومما نذكره متصلاً بهذا أنهن إذا ازدحمن وتشاحَحْن، وطلبت كل واحدة منهن البداية، فيقرع بينهن قال الشافعي: " لو بدأ القاضي بواحدة منهن من غير قرعة رجوت ألا يأثم " (3) فاختلف أصحابنا: فمنهم من جعل هذا ترديد قولٍ، ثم هذا

_ (1) أي يثبت عليهن الزنا الذي رماهن به، واستحقاقهن عقوبة ذلك، حدّاً أو تعزيراً، ولا يتعرض لسقوط الحد عنه، ولكنه يسقط تبعاً. هذا معنى العبارة. (2) في الأصل: والبينة. (3) ر. المختصر: 4/ 179.

يجري في الخصوم إذا ازدحموا، كما سيأتي ذكره في كتاب أدب القاضي. ومن أئمتنا من خصص هذا التردد بالقذف واللعان في الصورة التي ذكرناها؛ من حيث اعتقد أن الأمر قريب والخصومة متجانسة. 9717 - ثم قال: "فلو أقر أنه أصابها في الطهر الذي رماها فيه ... إلى آخره" (1). إذا أراد نفيَ الولدِ المتعرضِ للثبوت باللعان، فله ذلك، كما قدمناه، فلو اعترف بأني وطئتها، ولم يدّع استبراء بعد الوطء، وقد أتت بالولد لزمان يُحْتَمل أن يكون العلوق به من الوطء الذي اعترف به، فله أن ينفي الولدَ باللعان -وإن لم يدّع بعد الوطء استبراءً- خلافاً لمالك (2)؛ فإنه قال: إذا اعترف بالوطء، لم يكن له أن يلاعن حتى يدّعي الاستبراء بعد الوطء، فإذا ادعاه، كان له الالتعان، ويكفي الدعوى، فلا حاجة إلى إثبات الاستبراء بإقامة البينة على إقرارها به. ثم لما ذكر الشافعيُّ مذهبَ مالك [قال: وقد نجد] (3) لمذهبه متعلقاً من قصة العجلاني؛ فإنه لما قذف امرأته بشريك بن السحماء، قال فيما قال: لم أقربها في الطهر الذي زنت فيه، فكان ذلك ادّعاء استبراء منه. ثم أجاب الشافعي بأن العجلاني إنما قال ما قال، اتفاقاً، لا أنه شرط، فليس كل ما أجراه العجلاني يجب أن يُعتَقَدَ شرطاً؛ فإنه سمى المدَّعَى به، وذكر أنه ما أصابها منذ أشهر، وتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوصاف المولود فقال: إن جاءت به أُدَيعج خَدَلّج الساقين، فلا أراه إلا وقد صدق عليها، وكل ذلك مما لا يشترط. ومن تمام كلام الشافعي أنه قال: ولا معنى للاستبراء في انتفاء الولد؛ فإنها قد ترى الدم على الحَبَل، وإن اختلف العلماء في أنها حيض أم فساد. فأشار بهذا إلى أن

_ (1) ر. المختصر: 4/ 180. (2) ر. القوانين الفقهية: 242، جواهر الإكليل: 2/ 287. (3) زيادة اقتضاها السياق، وعبارة الشافعي في المختصر: "وذهب بعض من ينسب إلى العلم أنه إنما ينفي الولد إذا قال: " استبرأتها "، كأنه ذهب إلى أن نفي ولد العجلاني إذا قال: لم أقربها منذ كذا وكذا" (ر. المختصر: 4/ 180).

الاستبراء وإن جرى، فلا يمتنع أن يكون العلوق من الزوج. 9718 - وهذا منتهى كلام الشافعي في التفصيل (1)، وفيه غائلةٌ عظيمةُ الوقع، وذلك أنا قدمنا أن الرجل إذا وطىء امرأته في طهرٍ، لم يستبرئها، ثم عاينها تزني في ذلك الطهر، ولم يتخلل استبراءٌ، فإذا أتت بولدٍ لزمانٍ يُحْتَملُ أن يكون العلوق به من وطئه، ويحتمل أن يكون العلوق به من الزنا، فلا يحل له نفي المولود والحالة هذه، وإنما يَنْفي المولودَ إذا استبرأها بعد الوطء، وجرى الزنا بعد الاستبراء، وأتت بالولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من وطء الزوج ومن السفاح؛ فإذ ذاك نقول: له [أن] (2) ينفي، وذكرنا تردداً في وجوب النفي وجوازه، وقد قال الشافعي في هذا الفصل ما قال. فإن حمل حامل كلامه في هذا الفصل على أن الاستبراء لا أثر له، واعتضد بقول الشافعي في آخر الفصل: " لا معنى للاستبراء في نفي الوليد "، فيكون مضمون هذا الفصل مخالفاً لما قدمناه لا محالة، ويجب على قياسه أن [يكون] (3) له النفي إذا جرى الزنا -وإن لم يتخلل استبراء- إذا أمكن أن يكون العلوق من ذلك الزنا. وهذا ليس بعيداً من جهات الاحتمال لو كان مذهباً لذي مذهب. ويجوز أن يقال: ليس يحل له أن يلتعن إذا لم يجر استبراء بين الوطء والزنا، بينه وبين الله، ولكنه إذا جاء يلتعن، فليس عليه أن يذكر أني استبرأتها؛ وذلك أنه لو ذكر هذا، لكان مدّعياً في ذكره، ولو مست الحاجة إلى ذكره، لمست الحاجة إلى إثباته، والقذف في اللعان يبتني على لوب لا يجب إظهاره للقاضي، ولكنه مرعي في حق الزوج بينه وبين الله، واللوث الذي يجب إظهاره لوثُ الدم في أيمان القسامة. والشافعي كرر في الفصل تعرضَ الزوج لذكر الاستبراء، وأبان أنه لا يجب ذلك، ولولا قوله في آخر الفصل: " إن الاستبراء لا أثر له "، لكنا نقطع بأنه أراد بما قال أن

_ (1) كذا. ولعلها: في الفصل. (2) زيادة لوضوح الكلام. (3) في الأصل: كل.

الزوج لا يلزمه ذكر الاستبراء، ولكن خَتْمُ كلام الشافعي ما ذكرناه من إسقاط أثر الاستبراء. فانتظم من هذا إشكال، والظاهر الذي ذكره الأئمة: " أنه لا يحل نفي النسب إذا جرى وطء في الطهر وزِناً بعده، ولم يتخلل بينهما استبراء "، ولكن وإن كان كذلك، فلا يجب على الزوج ذكر الاستبراء، خلافاًً لمالك، فإنه أوجب الذكر، وما احتج له الشافعي ولكن تعلق بقصة العجلاني وأنه ذكر الاستبراء. هذا هو الظاهر. 9719 - ولا [يمتنع] (1) أن يقال: يجوز نفيُ الولد، وإن لم يجر استبراءٌ؛ تعلقاً بنص الشافعي في الآخِر، ثم هذا لو كان مذهباً لا يعدِم ناصره تعليلَه بما ذكره الشافعي من أن الاستبراء لا أثر له؛ فإنه لا يفيد القطعَ، وإذا لم يُفد، فالاحتمال كافٍ في إلحاق النسب، فإن لم نشترط الاستيقان، فلا معنى لترجح ظن واستواء احتمالين في نفي النسب، مع ابتناء القاعدة على أن النسب يَعْتَمِد أدنى إمكان. ويعتضد هذا أيضاً بما نصفه، ونقول: إذا وطىء الرجل زوجته في طهر، ثم وطئها واطىء بشبهة في ذلك الطهر، فما وقع من اللبس يدرؤه القائف، فإذا جرى زناً ووطءٌ، فلا قائف، واحتمال النسب مع تلطيخ الفراش عظيم، -والانتساب إلى الآباء ليس أمراً مقطوعاً به، فلا يبعد أن يثبت اللعان-. هذا منتهى الإمكان. والتعويل على المسلك الأول. فصل قال: " ولو زنت بعد القذف أو وُطِئَت وطْئاً حراماً ... إلى آخره " (2). 9720 - هذا الفصل مضمونه التعرض للحصانة، وهو من الأصول، وقد كثر فيه الخبط على ظهوره، فنقول والله المستعان: نشترط أن يكون المقذوف بالغاً، عاقلاً، حراً، مسلمة، عفيفاً من الزنا.

_ (1) في الأصل: " لا يلتزم ". (2) ر. المختصر: 4/ 81.

هذا معنى الإحصان في المقذوف؛ فإن القذف جنايةٌ على العرض، وإنما يكمل العرض عند تجمع هذه الصفات، وغرضُنا من جميعها الكلامُ على العفة من الزنا، فنقول أولاً: إذا زنى الشخص، وثبت زناه بالبيّنة أو بإقراره، فهذا شخص لا عِرْضَ له، وكأن أصل العرض العفةُ من الزنا، وبقية الصفات في حكم التكميل له؛ فإن القذف نسبةٌ إلى الزنا، وإنما يتعيّر بالنسبة إلى الزنا عفيفٌ عنه، فأما الزاني فيخجل (1) من ذكر الزنا، فقال العلماء: من قذف زانياً، لم يستوجب الحد بقذفه. نعم، يستوجب التعزير بإيذائه. ثم ذكر القاضي أن من زنا مرة واحدة في عنفوان شبابه، ثم تاب وأناب، وصار من أعف خلق الله، وأزهد عباده، فلا حدَّ على من يقذفه، وإن تمادى الزمن، ونيّف على المائة. وكذلك القول فيما إذا زنت مرّةً ثم قُذفت. وهذا دعوى عريضة، وما أراها تَسْلَمُ عن الخلاف؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبةُ تمحو الذنبَ، وتردُّ العدالةَ، وما يخرِم المروءةَ إذا تُرك، عادت المروءة، وانجبر ما كان فيها من خرم، وإذا كنا فسّقنا الرجل لزناه، ثم لما تاب واستبرأناه، قبلنا شهادته وعدَّلناه، فهذا عَوْد إلى الاعتدال والكمال، وما العرض إلا نباهةٌ تسمى الجاه، ولا شك أن من يُخْرَم جاهُه، فقد يعود إلى ما كان عليه (2)، ولم أر هذا التصريح على هذا الوجه في شيء من كتبنا.

_ (1) كذا. ولعلها: لا يخجل. (2) جعل إمامُ الحرمين عَوْد الحصانة بالتوبة وصلاح الحال احتمالاً، ولم يجعلها وجهاً، وقد رمز الرافعي إلى كلام إمام الحرمين، ولم يصرّح باسمه، بعد ما قطع بعدم عودة العفة، ونص كلامه: " من زنى مرة، سقطت حصانته، ولم يوصف بالعفة والصلاح بعده، فلا يحد قاذفه، ولكن يعزر للإيذاء، وهذا ظاهر إن قيدَ القذف بالزنا السابق، أو أطلق، فإنه صادق في أنه زنى، فأما إذا قيد القذف بزنا متأخر، فقد استَبعَد سقوطَ الحد مستبعدون، ولم يقيموه مع ذلك وجهاًً " ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/ 352) وبمثله قال النووي موجزاً (الروضة: 8/ 325).

ثم [ادّعاء] (1) القاضي فيه الوفاقُ مع أبي حنيفة (2) [وجَرْيٌ] (3) معه في معارضات في مسألة [سنذكرها] (4) الآن. ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن العفة عن الزنا لا يُنحَى [بها] (5) نحو التعديل، فإذا كان الأمر كذلك، ثم التائب من الزنا يعدّل إذا حسنت حالته، وظهر عدالته، فكيف يسوغ القطع بتأبّد سقوط الحصانة، ولو لم يكن فيه إلا تهدّف الإنسان [لشتيمة] (6) الخلق من غير أن يحاذروا حدّاً رادعاً، لكان في هذا كفايةٌ في إيضاح ما ذكرناه من الاحتمال. 9721 - ووجدت الطرق متفقةً على أن من رأيناه يراودُ ويشبِّب ويحوّم على طلب الزنا، ولم يثبت منه الزنا، فهو مُحصَنٌ في القذف، فلا أثر للمراودَات والمقدِّمات. 9722 - ومما يليق بما نحن فيه أنه لو قذف شخصاً والتزم الحدّ في ظاهر الحكم، ثم زنى المقذوف قبل إقامة الحد، قال الشافعي: يسقط حدُّ القذف، فإنا نستبين بصدور الزنا منه سقوطَ عِرْضه، وقيل: " أتُي عمرُ بنُ الخطاب بزانٍ، وقُدِّم لإقامة الحد، فقال يا أمير المؤمنين: إن هذا مني لأول مرة، فقال: كذبتَ إن الله أكرم من أن يفضح عبده بأول جريمة " (7). هذا نصُّ الشافعي. وقال المزني: لا يسقط الحد بطريان الزنا، وكنا نقدّر هذا تخريجاً في المذهب،

_ (1) في الأصل: ادّعى. (2) ر. مختصر الطحاوي: 266، بدائع الصنائع: 7/ 40 - 41. (3) في الأصل: وأجراه معه. (4) في الأصل: فسنذكرها. (5) في الأصل: به. (6) في الأصل: بشتيمة. (7) قال الحافظ في التلخيص: هذا لم أره في حق الزاني، إنما أخرجه البيهقي (8/ 276) عن أنس أن عمر أُتي بسارق فقال: "والله ما سرقت قط قبلها. فقال: كذبت، ما كان الله ليسلم عبداً عند أول ذنب، فقطعه". وإسناده قوي. (ر. تلخيص الحبير 2/ 450).

فرأيتُ للشيخ أبي علي في شرح التلخيص أن هذا قولُ الشافعي في القديم، فانتظم إذاً قولان: أحدهما - وهو الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الحد يسقط، ولا فرق بين أن يقرب الزمان المتخلل بين القذف والزنا [وبين] (1) أن يبعُدَ ويَتَمادَى. وفي المسألة قولٌ آخر -على ما حكاه الشيخُ، وهو منسوبٌ إلى القديم- أن الحد لا يسقط. 9723 - [ولا] (2) خلاف أن المقذوف إذا ارتد، لم يسقط الحد عن قاذفه بردّته، وفي الفرق بين الردة وبين الزنا عُسرٌ؛ فإن الزنا إن دلّ على إضمار خبث فيما سبق، حيث إنه لا يتفق الهجوم على الزنا من غير إضمار [ذلك] (3) فيما تقدّم، فكذلك الردة، لا يُظهرها المرء إلا وقد سبقت منه ترددات. فمما قيل في الفرق أن الردة لا تصدِّق القاذف في معنى القذف، والزنا يصدقه في معنى القذف على الجملة، وهذا يؤول إلى أن أصل العِرض يُتلقى من عدم الزنا، وباقي الصفات تكميل للعِرض. ثم قال القاضي: الزنا المتقدم على القذف يؤثر في إسقاط الحد، وكذلك الزنا المتأخر، ولو ارتد الرجل، أو كان كافراً أصلياً، ثم أسلم، وقُذف، وجب الحد على قاذفه، فلما افترق الكفر والزنا إذا تقدما، فلا يمتنع أن يفترقا إذا تأخرا. هذا كلامُ القاضي وتصرفُه. وفي النفس شيء من الزنا المتقدم، وقد ذكرنا صدراً صالحاً فيه، ونحن نزيده إيضاحاًً وتفصيلاً، فنقول: إذا سبق الزنا، فقال القاذف: قد زنيتَ، وصرح بما سبق منه، فلا شك أنه ليس بقاذف، وإن قال: زنيتَ مطلقاً وتردّد لفظه، فالوجه القطع بأن الحد لا يتوجه عليه أيضاًً.

_ (1) في الأصل: فبين. (2) في الأصل: فلا. (3) مكان كلمة غير مقروءة. (انظر صورتها).

فإن قال: زنيتَ اليومَ، وكان تقدم منه الزنا منذ سنين، فهذا موضع النظر، فالقاضي قاطع بأن الحد لا يلزم. ويظهر عندنا الحكمُ بلزوم الحد، [إذا ظهرت] (1) التوبةُ وقُبلت الشهادة، قَبْل الزنا المذكور في صيغة القذف، وإذا كنا نذكر قولاً في الزنا بعد القذف، فهذا يهوّن أمر ارتفاع حكم الزنا السابق بالعفة اللاحقة. وكان شيخي يقول مفرعاً على أن الزنا بعد القذف يُسقط الحد: هذا دليل على أن [مقدمات] (2) الزنا إذا ظهرت، قدحت من العفة، ووجهُ الاستدلال أن الزنا المتأخر لا يدل على زناً آخر مقترنٍ بالقذف أو متقدم عليه، وإنما يدل على أن الزنا لم يقع فجأة، وإنما تقدمت عليه مقدمات. وهذا ظنٌّ لا تعويل عليه، ولم يصر أحد من الأصحاب إليه، ولكن الزنا يُسقط العفة، ويبين أن الرجل عديمُ العِرض، وإن لم تسبق منه مراودة، فهذا ما يجب تنزيل المذهب عليه. 9724 - وقد حان الآن أن نتكلم في جهات الوطء وما يؤثر منها في العفة وما لا يؤثر. والوجه أن نرسُمَ مسائلَ نأتي بها أرسالاً، ثم نذكر بعد نجازها ضوابطَ، فنقول: أما الزنا الذي يوجب الحد، فلا شك أنه يخرِم العفةَ ويُبطلها، ولو وطىء أخته من الرضاعة أو النسب في ملك اليمين، فإن قضينا بأن الحد يجب، وهو أحد القولين، فتبطل العفة لا محالة، وإن قلنا: لا يجب الحد [لشبهة] (3) الملك، ففي سقوط العفة وانهتاك العرض وجهان: أحدهما - أن العفة لا تسقط، فإن المرعيّ العفةُ من الزنا، وهذا الذي صدر منه ليس من الزنا. والوجه الثاني - أن العفة تسقط؛ فإن من وطىء أختَه على علمٍ بالمحرّم، تبين أنه

_ (1) في الأصل: وإذا ظهرت. (2) في الأصل: متقدمات. (3) في الأصل: بشبهة.

لا يتحاشى من الزنا؛ فإن النفوس أبعد عن احتمال اقتحام هذه الكبيرة مما هو زنا محض في أجنبية، فليس لمن وصفناه عِرضٌ وتماسُكٌ يحفظ عليه نباهتَه وجاهَه، أو تورعه عن هذا [التردّي] (1). وإذا وطىء الأب جاريةَ ابنه، أو وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة، والتفريع على أن لا حد، ففي بطلان الحصانة وسقوط العفة وجهان مرتبان على الوجهين المقدّمين في وطء ذوات المحارم، والصورة الأخيرة أولى بأن لا تسقطَ العفةُ فيها؛ فإن أحد الشريكين يتوصل إلى نقل ملك شريكه إلى نفسه بطريق الاستيلاد، وإذ ذاك يثبت الحِلّ، وذوات المحارم لا تستحل، وجارية الابن في حق الأب تقع في مرتبة الجارية المشتركة في حق أحد الشريكين. ولو نكح الشافعيُّ بغير وليٍّ مخالفاً عقده (2)، وألمّ بالمنكوحة، ففي سقوط الحصانة بهذه الجهة وجهان مرتبان على المسألة الأخيرة، وهذه المسألة أولى بأن لا تُسقط العفة، فإن الحل في المنكوحة بغير وليٍّ مختلف فيه، وليس في المسألة إلا أنه خالف عقد نفسه. ولو وطىء بشبهة في نكاح فاسد أو على ظن زوجية، ففي سقوط العفة وجهان مرتبان على المسألة الأخيرة قبلها، وهذه أولى بأن لا تسقط العفة فيها؛ فإن صاحب هذا الوطء ليس ملوماً في عقده، ولا تسقط عدالته بما جرى منه. فإن قيل: قد طال الترتيب، فما وجه إسقاط الحصانة والرجل معذور؟ قلنا: هذا محمول [على ترك التحفظ] (3)، وقد تعلّق بترك التحفظ ما نعلّقه بالهجوم على المحرّم، وهذا كمصيرنا إلى أن القتل المحرَّم يُحرِّم الميراثَ، ثم ألحقنا به القتلَ الواقعَ خطأً (4). وألحق أئمتنا بهذه المرتبة ما لو جرت صورة الفاحشة في حالة الصِّبا، وهذا أبعد

_ (1) ما بين المعقفين مكان كلمة تعذر قراءتها. (2) عقده: المراد اعتقاده ورأيه، وهو هنا المذهب الشافعي. (3) في الأصل: على ترك اللفظ الحفظ. (4) أي علق الحرمان من الميراث بالقتل الخطأ، لترك التحفظ.

الصور، وإن لم يكن من الخلاف فيها بدّ، فَلْترتب على وطء الشبهة من المكلّف، والفارق سقوط التكليف عن الصبيان بالكلية، فلا لوم، ولا توبيخ، والواطىء بالشبهة قد يتعرض لترك الأمر بالتحفظ. فأما الوطء في حالة الحيض والإحرام، فالذي قطع به الأئمة أجمعون أنه لا يؤثر في خرم الحصانة. وحكى القاضي فيه وجهاً غريباً أنه يخرِم عند بعض الأصحاب، وهذا بعيدٌ، لا احتفال به، وليس معدوداً من المذهب. 9725 - وإذا جمعنا المسائل وفهمنا ترتب البعض منها على البعض، فأردنا أن نجمع ما في القاعدة بمسائلها من الأقوال، فنقول: انتظم من المسائل ومراتبها أوجه: أحدها - أنه لا يُسقط العفةَ إلا ما يوجب الحد. والثاني - أنه يُسقطها ما تقدم، ووطءُ ذوات المحارم. والثالث - يسقطها ما تقدم، ووطء الأب (1) والشريك. والرابع - يسقطها ما تقدم والوطء في النكاح على خلاف العقد، وإن أحلّه بعض العلماء. والخامس - يسقطها ما تقدم ووطء الشبهة من المكلف. والسادس - يسقطها ما تقدم ووطء الصبي أيضاً. وأما وطء الحائض والوطء في زمان الإحرام، فخارج عن القانون. ولا أثر لمقدمات الوطء أصلاً، وما حكيته عن شيخي محمول على ترديد الاحتمال، فهذا قول بالغ فيما يُسقط العفة، وفيما لا يسقطها. فصل 9726 - ثم قال: " ولو لاعنها، ثم قذفها، فلا حدّ لها ... إلى آخره " (2). مضمون هذا الفصل يَبِينُ بفرض مسائلَ تقع نوعين: أحدهما - في قذف الزوج.

_ (1) أي لجارية ابنه، والشريك للجارية المشتركة. (2) ر. المختصر: 4/ 182.

والثاني - في قذف الأجنبي. أما مسائل قذف الزوج فنقول: إذا قذف الزوج زوجته وتلاعنا، فلا يخفى حكم هذا القذف، وإنما مقصود الفصل ما يقع من قذفٍ بعد هذا، فنقول: إذا قذفها بعد التلاعن، لم يخل: إما أن يقذفها بذلك الزنا الذي جرى التلاعن عليه، وإما أن يقذفها بزنية أخرى، فإن قذفها بتلك الزنية، فلا يستوجب الحدَّ؛ فإنه أقام الحجة على تصديق نفسه، ولكن انْدرأ الحدّ عنها بلعانها. نعم، يُعزّر الزوج لإيذائه إياها. ولو قذفها بزنيةٍ أخرى بعد تلك الزنية، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الحد لا يجب؛ لأن الزوج أقام الحجةَ على زناها، فسقطت حصانتها في حقه. والقول الثاني - أن الحد يجب؛ فإن تلك الحُجةَ ما أَثْبَتت الزنا على الإطلاق، وإنما أثبتت تصديق الزوج في ذلك القذف المعيّن، ثم إن انخرم عِرضُها بلعانه، فقد تداركه لعانها. ومن أصحابنا من قطع القول بوجوب الحد على الزوج إذا نسبها إلى زنية غيرِ الأولى لما ذكرناه من أن اللعان حجةُ خصوص، وإذا عورض الزوج باللعان (1)، لم يبق للعانه أثر إلا إسقاط حد القذف الأول، وإلا فلعانها في تبرئتها لا ينحط عن لعانه في نسبتها إلى الزنا. ولو قذفها بعد اللعان بزناً قبل اللعان، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه يحد؛ فإن اللعان لم ينعطف على ذلك الزنا. والوجه الثاني - أنه يعزر كما لو قذف شخصاً، ثم أقام على زناه بيّنة (2)، وهذا فيه إذا لم يَعْنِ بقذفه الزنا الذي عناه من قبلُ ولاعن عليه. ولو تلاعنا، ثم قذفها بعد التلاعن، ولم ينصّ على زنيةٍ جديدة، فهذا عندي بمثابة ما لو قذفها بتلك الزنية التي جرى التلاعن عليها، هذا إذا تلاعنا.

_ (1) إذا عورض الزوج باللعان: المعنى أن لعانها عارض لعانَه وقَذْفَه. (2) أي إذا كرر قذفه بتلك الزنية التي أقام البينة عليها، فهو وإن أسقطت البينةُ عنه الحدَّ أول مرّة، فلا يسقط عنه التعزير بتكرير القذف.

9727 - فأما إذا لاعن الزوج وامتنعت عن اللعان، وأقمنا عليها حدَّ الزنا، فلو قذفها بعد ذلك بذلك الزنا، فلا يخفى الحكم فيه، والإيذاء محقق وموجبه بيّنٌ. ولو قذفها بزنية أخرى سوى الأولى، فهذا فيه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يجب الحد؛ فإنه ثبت زناها في حقه، وأقيم الحدُّ عليها، فسقطت عفتها في حقه بالكلية. ولو قذفها الزوج وامتنع عن اللعان، فيتوجه عليه حد القذف، فإذا قذفها مرة أخرى بتلك الزنية، فالحد واحد، وإن قذفها بزنية أخرى، فهذا محل اختلاف القول في قذف شخص واحد بكلمات، وقد تمهد هذا. وانتجز ما أردناه في أحد النوعين، وهو قذف الزوج بعد التلاعن أو قبله. 9728 - فأما مسائل الأجنبي، فإنا نأتي بها على التفصيل الذي ذكرناه، فنقول: إذا تلاعنا، ثم قذفها أجنبي بزناً آخر غيرِ الذي لاعن الزوج عليه والتعنت في معارضته، التزم الحد؛ فإن اللعان لم يغيّر حصانتها في حق الأجانب، ولم يثبت عليها الزنا في هذه الصورة، فإنها مفروضة في تلاعنهما. ولو قذفها الأجنبي بالزنا الذي جرى التلاعن عليه، فالمذهبُ الظاهر أنه يلتزم الحدَّ، لما ذكرناه من أن الزنا لم يثبت، إذ عارضته بلعانها، ولكن اندفع حد القذف عنه لحجةٍ خاصة أقامها الشرع له على الخصوص، فلا يتضمن ذلك سقوطُ الحد عن الغير. ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الأجنبي الحدُّ إذا قذفها بالزنا الذي وقع التلاعن عليه؛ لأنه جرى في الواقعة حجةٌ على الزنا لأجلها انتفى الحد عن القاذف به، فلينتصب ذلك شبهة في حق الأجنبي إذا قذف بذلك الزنا. هذا إذا تلاعنا. ولو لاعن الزوج، وامتنعت من اللعان، وحُدّت حدَّ الزنا، فترتيب المذهب أن الأجنبي إن قذفها بزنا آخر غيرِ الذي نسبت إليه وحدت فيه، ففي وجوب حد القذف عليه وجهان: أظهرها - أنه يستوجب الحد؛ لأن الأحكام المتعلقة باللعان لا تعدو الزوجين والزوجية؛ من جهة أن اللعان حجةٌ خاصة، فاختص أثرها.

وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر أن الحد لا يجب على القاذف؛ فإنها حُدّت في الزنا، فإذا وقع الحد بها، فلا نظر إلى خصوص الحجة، فيبعد إقامة حد [القذف] (1) والمقذوفة محدودة في الزنا. هذا إذا وقعت النسبة إلى زناً غيرِ ما حُدت فيه. فأما إذا قذفها الأجنبي بالزنا الذي حُدَّت فيه للِعانه وامتناعِها، ففي وجوب الحد عليه وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا نسبها إلى زنية أخرى غيرِ الذي حُدت فيه، وحد القذف أولى بالاندفاع في هذه الصورة. هذا ما ذكره الأئمة. وقطع القاضي بأن الأجنبي يستوجب حدّ القذف إذا نسبها إلى غير ما حُدت فيه وجهاً واحداً. وإن نسبها إلى ما حُدت فيه وجهان: أظهرهما - وجوب الحد، وعلل هذا بتحقيق اختصاص اللعان وأثره. فهذا تفصيل القول في قذف الزوج والأجنبي بعد جريان اللعان. فصل قال: " ولو شُهد عليه أنه قذفها ... إلى آخره " (2). 9729 - فإذا ادعى محصنٌ على رجل أنه قذفه، فأنكر، وأقام المدعي شاهدين، فإن كانا عدلين، ابتدر القاضي تنفيذ الحكم، وأسعفَ الطالبَ بقامة الحد، وإن كان ظاهرهما السداد، ولكن القاضي كان جاهلاً بحقيقة الحال، فإنه يبحث عن أحوالهما ويراجع المزكِّين. قال الشافعي: " ويحبس المدعَى عليه إلى أن تبين عدالةُ الشاهدين أو جرحهما " وهذا هو الذي قطع به أئمة المذهب. ووجدت في بعض الطرق رمزاً إلى أن المدعَى عليه لا يُحبس، وسيأتي ذكره في كتاب الدعاوى، إن شاء الله، ووجهُه على بعده أن الحق لا يتوجه إلا بظهور العدالة، والحبسُ في الحال إقامةُ عقوبة.

_ (1) في الأصل: القاذف. (2) ر. المختصر: 4/ 183.

والتعويلُ على ظاهر المذهب. ولو أقام المدعي شاهداً واحداً، وهو مُشمّرٌ لإقامة شاهدٍ آخر، وطلب من الوالي حبسَ المشهودِ عليه إلى قيام الشاهد الثاني، ففي المسألة وجهان - وفي نص الشافعي تردد- نشير إليهما: أحدهما - أنه لا يحبس؛ لأن الشاهد الواحد ليس بحجة، وليس كالشاهدين إذا جهل القاضي حالَهما؛ فإن العدالة إذا بانت، تبين لظهورها قيامُ الحجة مستنداً إلى وقت الشهادة، لكن علم القاضي لم يكن محيطاً بحقيقة البيّنة، والحبس في الأمر القريب لائقٌ بمسالك السياسة صيانةً للحقوق عن البطلان، وإذا استُعدي الوالي على شخص، فالارتفاع إلى مجلسه قد يُتْعِبُه، وذلك قبل ثبوت الحق، ولكن لا بد من احتمال ذلك، فلا تقوم الإيالة دونه. والوجه الثاني - أنه يُحبس، لأن الخَصْم ساعٍ في إكمال البينة، وقد لا يتفق حضور الشاهدين معاً، ولو خلَّينا المدَّعى عليه، لولّى، وغيّب وجهه عنا، ثم إن لم يأت المدعي بالشاهد في الزمان الذي يتوقع في مثله إكمال البينة، خلّينا سبيل المدعى عليه. وهذا الفصل من أركان البينات والدعاوى، والوجهُ تأخيره إلى موضعه، ولكن التزام الجريان على ترتيب السواد قد يقتضي مرامزَ إلى مقدماتٍ، ولا ينبغي للناظر المنتهي إلى ما يُذكرُ بحق (1) السواد أن يطلب تحقيقَ الفصل منه، فهذا مما يحال على كتاب الدعاوى والبينات. 9730 - ومما نرمز إليه لانتظام الكلام أن من ادعى دَيْناً على إنسان، وأقام شاهدين وأقبل القاضي على البحث ومراجعة المزكِّين، فالمذهب أن المدّعى عليه يحبس كما إذا كان المدَّعى حدّاً: قذفاً أو قصاصاً؛ فإنا إذا رأينا الحبسَ تفريعاً على الأصح في العقوبات، وشأْنُها الاندراءُ بالشبهات، فهذا في الأموال أولى. [وقال] (2) الإصطخري: لا يحبس المدعى عليه في المال، وإن رأينا الحبس في

_ (1) بحق السواد: أي من أجل الجريان على ترتيب السواد. (2) في الأصل: فقال.

حد القذف والقصاص؛ لأن الحق المدَّعَى فيه يتعلق ببدن المدعَى عليه، فلو تركناه [والأغلبُ] (1) أن يغيّب وجهه حِذاراً [من] (2) وقوع العقوبة به -لأدى هذا إلى تعطيل الحق، وليس كذلك الدَّيْن المدعَى، فإنه يتصور استيداؤه مع غيبة المدعى عليه. ولو كان المدَّعى عيناً من الأعيان، وقد قام شاهدان، فالقاضي يحول بين المشهود عليه وبين العين المدعاة؛ فإن الحق ينحصر فيها انحصاره في بدن من ادُّعيت عليه العقوبة. ولو أقام المدعي للدين شاهداً واحداً، والتفريعُ على أن المدعَى عليه يُحبس إذا شهد شاهدان، فهل يحبس والشاهد واحد، فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا شهد شاهد واحد على قذف أو قصاص، والشهادة على المال في هذه الصورة أولى باقتضاء الحبس، والسببُ فيه أن الشاهد الواحد يتيسر ضمُّ اليمين إليه في المال، فهو أقوى من الشاهد الواحد في العقوبة. وقد يعارض ذلك أن الحلف مع الشاهد إذا كان ممكناً، فيجب أن يقال للمدعي: أنت متمكن من إثبات حقك باليمين، فإذا حلفت ثبت حقك، فافعل هذا، أو خلِّ فصل وهذا الكلام فيه فقهٌ، وإذا عارض ما قدمناه في الترتيب، أسقطه. 9731 - ولو شهد شاهدان أو شهود على موجِب حدٍّ لله تعالى، فلا يحبس المشهود عليه إلى إثبات عدالة الشهود، فإن حقوق الله في العقوبة على المساهلة، ولهذا يُقبل [رجوعُ] (3) المقِرِّ عن الإقرار بها، وقد نقول: إذا هرب من يثبت عليه الحد لا يتبع، وقد تسقط الحدود بالتوبة. وهذا الفصل سيأتي مستقصى مرتباً في كتاب الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: الأغلب. (2) في الأصل: في. (3) في الأصل: الرجوع.

9732 - ثم قال: " ولا يُكفَل رجل في حدٍّ ولا لعانٍ ... إلى آخره " (1). ذَكَر كفالةَ الأبدان في العقوبات، وقد استقصيناها في كتاب الضمان. وقال بعده: " لو قال: زنى فرجُك أو يدُك، فهو قذفٌ ... إلى آخره " (2) وهذا مما قدمنا ذكره، وذكرنا أن النص دال على أن إضافة الزنا إلى غير الفرج من الأعضاء صريح، وفيما قدمناه بيان تام. ثم قال الأئمة: الألفاظ المستعملة في هذا النوع أقسامٌ: قسم هو صريح، وهو لفظ الزنا مضافاً إلى الجملة، أو إلى الفرج، أو الألفاظ الناصّة على المعنى كالنيك، ولفظ الإيلاج مع التصريح بالوصف بالتحريم المطلَق، وانتفاءِ الشبهة. وقسم هو كناية: إن أراد اللافظُ به القذفَ، كان قذفاً، وإلا فلا. ومن جملته قولُ القائل: زنى يدُك، على الأصح. ولستَ بابنِ فلان، وكذلك إذا قال لعربي: يا نبطي، أو لنبطيّ يا عربي. ومن الأقسام ما ليس بكناية ولا صريح، ولكنه تعريضٌ، كقول القائل لمن يخاطبه: يابن الحلال، وقوله أما أنا، فلست بزانٍ، وقال مالك (3) التعريض بالقذف قذفٌ، ثم ألطف الشافعيُّ في محاجّته (4)، فقال أباح الله التعريضَ بالخِطبة، وحرم التصريحَ بها؛ فدل ذلك على أن التعريضَ خلافُ التصريح، وقال: روي أن رجلاً من فزارة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، وعرّض بأنها أتت به من زنا، فقال عليه السلام: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما لونها فقال: حُمْر، فقال: هل فيها من أسود، فقال: نعم، قال: ولم ذلك؟ فقال: لعل عرقاً نزعه، فقال صلى الله عليه وسلم: لعل عرقاً نزعه" (5) ولم يجعله قذفاً.

_ (1) ر. المختصر: 4/ 183. (2) ر. المختصر: 4/ 184. (3) ر. القوانين الفقهية: 350، جواهر الإكيل: 2/ 287. (4) ر. المختصر: 4/ 184. (5) حديت: " لعل عرقاً نزعه "، متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (البخاري: الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، ح 5305. مسلم: اللعان، ح 1500).

9733 - ثم قال: " ولا يكون اللعان إلا عند السلطان ... إلى آخره " (1) إذا تلاعن الزوجان وحدهما لا يتعلق بتلاعنهما حُكمٌ، فإن حكّما رجلاً صالحاً، [ففي] (2) أصل جواز [التحكيم] (3) قولان. وإن جوزناه، ففي تجويزه فيما يتعلق بالعقوبات وجهان، [وكل] (4) ذلك بين أيدينا؛ فلا معنى للاستقصاء فيه، وإنما فرقنا بين العقوبات وبين عفوها طلباً لدرائها. ثم العقوبات تترتب: فمنها ما يجب لله، ومنها ما يجب للآدميين. وما يجب لله تعالى أولى بأن لا يجرى التحكيم فيه، ثم إن اللعان يترتب على ما إذا كان المطلوبُ الحدَّ المحضَ، ووجه الترتيب أن اللعان قد يتعلق بثالث، وهو الولد، ومبنى التحكيم على ترتبه على رضا الخصمين. ثم إن استخلف القاضي من يُجري اللعان بحضرته، نُظر: فإن نَصب حاكماً في أمور، وكان فَوّض إليه أن يستخلف، فيجوز ذلك، وقد قام مقام قاضٍ، وإن لم يَنصب حاكماً، أو ما كان فَوّض إليه أن يستخلف، فلو استناب من يعوِّل على مثله في أمر خاص: مثل أن يقيمه مقام نفسه في طرفٍ من خصومة، أو في خصومةٍ فَرْدة، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - لا يجوز، ولا ينفذ منه ما فَوَّضَ إليه، فإنه ليس قاضياً بنفسه، وإنما ينفذ حكم الحاكم. وهذا من أصول أدب القاضي، وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله. فرع: 9734 - إذا قذف رجلاً أو امرأةً، وتوجه الحدّ، فلو قال للمقذوف: لا بينة لي على زناك، ولكنك تعلم أنك زانٍ، فاحلف بالله ما زنيتَ، فهل عليه أن يحلف؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يحلف؛ فإن القذف في نفسه موجِبٌ للحد، فإن أراد القاذف درءَ الحد، فليُقِم بيّنةً من تلقاء نفسه، وأيضاًً فالتحليف في نفي الزنا يتعلق بنفي

_ (1) ر. المختصر: 4/ 184. (2) في الأصل: في. (3) في الأصل: التحكم. (4) في الأصل: فكل.

كبيرة [توجب] (1) حداً لله تعالى، فلا معنى للتحليف فيما هذا سبيله. والقول الثاني - أن له أن يحلّف المقذوفَ لإمكان الصدق أو الكذب، وغرضُه نفيُ حدِّ القذف -عند فرض النكول- لا إثباتُ الزنا، ثم إذا نكل المقذوف، رَدَدْنا اليمين على القاذف، فيحلف على الزنا، ولا يثبت الزنا على المقذوف به، بل يندفع الحد. فرع: 9735 - ذكر الشيخ أبو علي في فصلٍ قدمناهُ وجهاً غريباً، لم أحب ذكره في ترتيب المذهب، ولست أرى أيضاًً إسقاطَه لعلُوّ قدر الناقل: فإذا قال الرجل لامرأته: زنيتِ فقالت: زنيتُ بك، وفسرته بزنيةٍ جرت لها على زعمها قبل النكاح، فقد قذفت زوجها، واعترفت على نفسها بالزنا، ولا يخفى حكمُها لو أصرت على إقرارها. ولو رجعت، قال الشيخ: أما حد الزنا، فيسقط عنها، وأما حدُّ القذف، ففي سقوطه عنها قولان: أحدهما - أنه لا يسقط، وقياسه بيّن. والثاني - يسقط؛ لأن الفعل المعتَرفَ به واحد، وإن وقع الإخبار عنه اعترافاً بالزنا من وجهٍ وقذفاً من وجه؛ فإذا فُرض الرُّجوعُ، وجب أن لا يتبعض، وقرّب هذا من إقرار العبد بسرقة نصاب؛ فإنه مقبولٌ في وجوب القطع، وفي قبوله بالمال قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى. ووجه التشبيه اشتمال الإقرار على ما لا تُهمة فيه. وهذا بعيد؛ فإنا قبلنا الإقرار في وجوب القطع، لانتفاء التهمة، وإلا فالقطع واردٌ؛ على ملك المولى، وهذا المعنى يشمل الطرفَ والمالَ المذكورَ في الإقرار، وأما الرجوع عن الإقرار، فقبوله من خصائص الزنا، ولا يشتمل هذا المعنى على حد القذف. فصل ذكر الشيخ في شرح الفروع وجهاً غريباً في مسألة لم أحكه فيها لما ذكرته الآن، وذلك أنه قال: إذا بانت المرأة عن زوجها، فقذفها بعد البينونة، ولم يكن ثَمّ ولد،

_ (1) في الأصل: موجب.

نُظر: فإن ذكر زنا بعد البينونة، حُدّ، ولم يلتعن، وكذلك إذا أطلق ذِكْرَ الزنا، ولم يؤرّخه. ولو نسبها إلى زنية، وذكر أنها جرت في النكاح، فالمذهب المقطوع به أنه لا يلتعن. وحكى الشيخ وجهاً غريباً أنه يلتعن لإسناده الزنا إلى حالة النكاح، ولو جرى ما ذكر، لكان ذلك تلطيخاً للفراش. فرع: 9736 - إذا منعنا اللعان عن الحمل، فلو قال الزوج: دعوني ألتعن، فإن وافى اللعان حملاً، نفاه، وإن لم يكن، فإذ ذاك يتبين أن لعاني كان لغواً، فقد ذكر الشيخ وجهين عن ابن سريج في ذلك، وهذا مضطرب، فإنا إذا فرعنا على منع اللعان على الحمل، ففائدته المنع منه إذا كان بعد البينونة أو في نكاح شبهة، وإلغاء أثره إذا فرض في النكاح، وما أشار إليه من إعمال اللعان على وجهٍ هو تفريعٌ على جواز اللعان على الحمل.

باب الشهادة في اللعان

باب الشهادة في اللعان 9737 - مذهب الشافعي أن الزوج لو شهد على زنا زوجته، فشهادته مردودة، وخلاف أبي حنيفة (1) مشهور في ذلك، ثم اعتمد الأئمة نكتتين: إحداهما - أن الزنا تعرّضٌ لمحل حقِّ الزوج؛ فإن الزاني منتفع بالمنافع المستحَقة له، فشهادته في صيغتها تتضمن إثباتَ جناية الغير على ما هو مستحَقٌّ له، وهذا يخالف صيغَ الشهادات. والنكتة الثانية - أن من شهد بزنا زوجته، فنفس [شهادته دالّة] (2) على إظهار العداوة، فلا شيء يستثيرُ المغيظةَ مثلُ تلطيخِ الفراش، فإذا كنا نرد شهادة العدوّ، فالشهادة التيِ صيغتُها إظهارُ العداوة لا تُقبل. ولو شهد أَبُ الزوج بزنا زوجة ابنه، فهذه المسألة لم يتعرض لها أئمة المذهب إلا شيخي فيما حكاه لي عنه بعضُ الثقات، فإنه ذكر وجهين، وقربهما من النكتتين: إن عوّلنا في رد شهادة الزوج على إشعار شهادته بإظهار عداوته، فهذا المعنى قد لا يتحقق في شهادة الأب، وإن عولنا على النكتة الأخرى، وهي التعرض لمحل الحق المستحَق [فطرْد] (3) هذه النكتة يتضمن رَدّ شهادة أبيه؛ فإن شهادة الأب للابن في حقه مردودة، كما أن شهادة الرجل لنفسه مردودة. وهذا غريبٌ لا تعويل عليه، فالوجه القطع بقبول شهادة أب الزوج. ولو شهد ثلاثة على زنا الزوجة، فشهد الزوج معهم، فشهادته مردودة على ما ذكرناه.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 515 مسألة 1064، المبسوط: 7/ 54، رؤوس المسائل: مسألة 308، بدائع الصنائع: 3/ 240، حاشية ابن عابدين: 4/ 7. (2) في الأصل: شاهدته دالّ. (3) في الأصل: وطرد.

9738 - ثم شهود الزنا إذا نقص عددهم، فقد اختلف القولُ في أنهم قَذَفَة يُحدّون، أم شهودٌ لا يتعرض لهم؟ وسيأتي ذلك في كتاب الحدود، إن شاء الله تعالى. ولهذا [إذا جاء الزوج وثلاثة يشهدون، فكيف نفرّع قوله، أنجعله قاذفاً] (1) أم كيف سبيله؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع القول بأنه قاذف؛ لأنه ليس من أهل الشهادة على هذا الزنا، ومنهم من أجرى فيه القولين، وجعل نقصان الصفة بمثابة نقصان العدد، وعلى هذا خرّج الأصحابُ شهادةَ الفسقة على الزنا إذا تبين فسقُهم بعد إقامتهم الشهادة، وسيأتي ذلك. 9739 - ثم ذكر الشافعي: " أن حدّ الزنا إذا توجه عليها وهي حامل؛ فلا سبيل إلى إقامة الحدّ إلى أن تضع ثم تَفْطِم ... إلى آخره " (2) ولسنا نخوض في هذا الفصل، فإنه مستقصًى في كتاب الجراح، وفيه تفصيلٌ بين الحد والقصاص، وتبيين ترتيب المذهب. 9740 - ثم ذكر الشافعي قيام شاهدين على الإقرار بالزنا (3)، وهذا من كتاب الحدود، والمقدارُ المقيمُ لرسم الترتيب أن القول اختلف في أن الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة عدلين؟ فإن قلنا: يثبت [فيتعلّق] (4) به وجوب الحد. فإن قال المشهودُ عليه: رجعت عن إقراري، سقط الحد، وقُبل الرُجوع، وإن قال في معارضة شهادة العدلين: ما أقررتُ وأنتما كاذبان، فلا يكون ذلك رجوعاً منه، والحدّ يقام عليه على القول الذي عليه نفرّع. فإن قال لما شهد العدلان أو العدول: ما زنيتُ. فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن هذا رجوع عن الإقرار، وذهب شرذمةٌ إلى أن ذلك في حكم التكذيب،

_ (1) عبارة الأصل مضطربة، فقد جاءت هكذا: " ولهذا الزوج فقد جاء بمجيء الشهود، فكيف نفرع قوله الجعله فإذا فاام كيف سبيله ... " (انظر صورتها). والمثبت ثصرف من المحقق على ضوء السياق. (2) ر. المختصر: 4/ 187. (3) ر. المختصر: 4/ 188. (4) في الأصل: متعلق.

ولا يصح الرجوع ما لم يعترف بالإقرار، ثم ينشىء الرجوعَ إن أراد. وإن قلنا: لا يثبت الزنا بشهادة عدلين على الإقرار بالزنا، فلو قذف رجلاً أو قذف الزوج زوجته، ثم أقام عدلين، فشهدا على الإقرار بالزنا، فهل يسقط حدُّ القذف والحالة هذه عن القاذف والتفريعُ على أن الزّنا لا يثبت؟ فعلى وجهين. 9741 - ثم قال: " ولو قذفها، وقال: [كانت] (1) أمةً أو مشركةً ... إلى آخره " (2). لا اختصاص لهذه المسألة وكثيرٍ من المسائل التي نُجريها بالزوج والزوجة. فإذا قذف الرجل شخصاً، ثم قال: أنت عبد أو مشرك، وكان مجهول الحال، فقال المقذوف: بل أنا مسلم حُرٌّ، فقد اختلف نص الشافعي في ذلك، وهذا مما استقصيناه في أحكام اللقيط، وفرضنا فيه أنه لو قُذف -ثم فرض النزاع على هذا الوجه - ففيمن يصدَّق قولان: أحدهما - أن المصدَّق هو المقذوف؛ فإن الأصل الحرية والدار تُثبت الإسلام. والقول الثاني - أن المصدَّقَ القاذفُ، فإن الأصل براءةُ ذمته، وهذا مما ذكرناه مستقصًى، فألحقناه بتقابل الأصلين، والقولان مفروضان في اللقيط إذا بلغ وقُذف، والأمر على الاستبهام. فأما إذا فرض ذلك في رجلٍ مجهول لم يعهد لقيطاً، ولكن ليس يعرف نسبه ودينُه، فقد ذكر الصيدلاني طريقتين فيه: إحداهما - طردُ القولين، كما ذكرناه في اللقيط، والأخرى - القطع بأن القول قولُ القاذف؛ فإنا إنما صدقنا اللقيط في قولٍ؛ من حيث تؤكّد الدّار ما يدعيه من الحرية والإسلام، وهذا المجهول إذا لم يكن لقيطاً في دار الإسلام لا تعلق له بمقتضى [حكمٍ] (3) من الدار. ولو قال القاذف: قذفتك وأنت مرتد، فأنكر المقذوف، فإن لم يُعهد له ردة، فقد

_ (1) في الأصل: وقال: "أنت أمة أو مشركة" والتصويب من نص المختصر. (2) ر. المختصر: 4/ 188. (3) في الأصل: فحكم.

قدمنا أنّ القول قول المقذوف، وعلى القاذف إثباتُ ما ادّعاه، وقد سبقت نظائر هذه المسألة. ولو قال: كنتُ مرتداً فأسلمت، وجرى قذفُك بعد إسلامي، فلا يقبل ذلك منه. نعم، له أن يحلّف القاذف. وكل هذا مما تمهدت أصوله فيما سبق. 9742 - ولو قال: قذفتكِ وأنت صغيرة، وأقام على قذفها في الصغر بينةً، وقالت: بل قذفتني وأنا كبيرة، وأقامت بينةً على حسب قولها، فإن كانت البينتان مطلقتين أو مؤرختين بتاريخين مختلفين، فقد ثبت قذفان، ويتوجّه الحد بالقذف الثابت في حالة الكبر. وإن وقع التعرضُ لوقتٍ واحد، وآل النزاع إلى كونها صغيرةً في ذلك الوقت أو بالغة، فلو أقامت المرأة بيِّنة على أنها كانت بالغةً في ذلك الوقت، وأقام القاذف شاهدين على أنها لم تكن بالغةً في ذلك الوقت، فهذه شهادة على النفي، فإن وقع التعرض لإثبات الحيض، فنفيه مردود والتعويل على الإثبات. وقد يعترض في هذه المسألة سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: كيف يمكن إثبات الحيض، ولا اطلاع على ذلك إلا من جهتها، إذ لو فرض اطلاع على ظهور الدّم من منفذه على صفة الحيض، فقد تعلم تلك أنه دمُ فسادٍ راجعةً إلى ترتيب أدوارٍ، وهي أعرف بها من غيرها، فكيف سبيل تصور الشهادة على الحيض؟ قلنا: ليس يبعد ذلك؛ فإن نسوة لو رأين نفوذ الدم في أول وقت إمكان البلوغ، ثم تمادى الدم إلى انقضاء أقل الحيض، فيمكن فرض العِيان على عُسرٍ فيما ذكرناه، ويمكن حمل الشهادة على إقرارها بالحيض في ذلك الوقت، والنزاع مفروض بعد انقضاء زمانٍ من تاريخ الإقرار. هذا وجه التصوير. ومما نجريه في ذلك: أنها لو أقامت بينة على أنها كانت بالغة في ذلك الوقت، وأقام القاذف بينة على أنها كانت صغيرة في ذلك الوقت، فالصغر في ظاهر الأمر صفةٌ ثابتة، ولكنه يكاد يرجع في هذا المقام إلى النفي؛ إذ المقصود منه عدم البلوغ. هذا وجه.

ويجوز أن يُحمل ثبوتُ الصغر على أمرٍ يتعلق بالسن، وتاريخ الولادة، فيرجع ذلك إلى الإثبات، والأصل حمل شهادة الشهود على الصحة، فإذا تعارضت بينتان في الصغر والكبر، على التأويل الذي ذكرناه، والوقت متعيَّنٌ باتفاق القاذف والمقذوف، فإن حكمنا بتهاتر البينتين، فلا كلام، فإن رأينا استعمال البينتين ففي الاستعمال في غير هذا الموضع أقوال، وقد زعم الأصحاب أنه لا يجري هاهنا إلا قولُ القرعة. والذي أراه وقد تلقيتُه من مرامز كلام المحققين أن قول الاستعمال لا جريان له في العقوبات، وكما يتعطل قول الوقف، وقولُ القسمة، يتعطل قول القرعة أيضاً؛ لامتناع إقامة عقوبة لقرعةٍ وِفاقيّة، فلا وجه إلا المصير إلى التهاتر. 9743 - قال: " ولو شهد عليه شاهدان أنه قذفهما وقذف امرأته ... إلى آخره " (1). إذا شهد شاهدٌ أنّ فلاناً قذفني وقذف فلاناً، فقوله مردود فيما يتعلق به؛ فإن شهادة الإنسان لنفسه مردودة، فأما شهادته على قذفه لغيره، فهي مقبولة لو تجرّدت، ولكنها أتت مقترنةً بشهادته لنفسه، فالذي صار إليه الجمهور ردُّ الشهادة للغير أيضاًً؛ لأنه بذكره قَذْفَ نفسه أقام نفسه خصماً وعدوّاً، وشهادة الخصم والعدو مردودة. ولو قال الشاهد: قذف زوجتي وفلاناً، أو قال: أشهد أنه قذف أمي وفلاناً، فشهادته لأمه غير مقبولة، وهل تقبل شهادته لغيرها والشهادتان مذكورتان في قَرَنٍ. هذا مما تردد فيه الأصحاب أيضاًً، على ما سينتظم المذهب بعد إرسال المسائل. فأما شهادة الرجل بقذف زوجته، فيبتني أولاً على شهادة الزوج هل تقبل لزوجته؟ وفيه اختلاف قولٍ، سيأتي في الشهادات، إن شاء الله. فإن قبلنا شهادة الزوج لزوجته، فهل تقبل شهادته بقذفها؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إنها مقبولة، كما لو شهد لها بقصاص، أو [مال] (2).

_ (1) ر. المختصر: 4/ 190. (2) في الأصل: خالٍ.

ومنهم من قال: لا تقبل؛ فإن الشهادة [بقذفها] (1) تتضمن إظهار عداوة القاذف. والرجل يتعيّر بقذف زوجته كما يتعير بقذف نفسه. وعن هذا الأصل نشأ الاختلاف في الجمع بين الشهادة بقذف الأم وقذف أجنبي، فإذا تبينت المسائل، حان ترتيبها: 9744 - فأما إذا شهد بقذف نفسه وقذْف أجنبي، فشهادته لنفسه مردودة، وفي ردّ شهادته للغير طريقان: من أصحابنا من قطع بالرد؛ لإظهار العداوة. ومنهم من أجرى قولين مأخوذين من أن الشهادة إذا اشتملت على شيئين رُدّت في أحدهما، فهل تُردّ في الثاني ولو قدِّر مُفرَداً، لقبلت الشهادة فيه؟ وفيه قولان. فأما إذا شهد بقذف أمه وقذف أجنبي، فهل نجعل قذف الأم إظهاراً للعداوة؟ فيه اختلاف: منهم من لم يجعله إظهاراً للعداوة، فيتجرّد إذاً البناء على قولي تبعض الشهادة. ومنهم من جعل ذكر قذف الأم إظهاراً للعداوة. وأما قذف الزوجة إذا شهد به، وضمَّ إليه قذفَ أجنبي، ففي شهادته لزوجته الكلام الذي ذكرناه، ولكن هل نجعل هذا إظهار عداوة؟ فيه اختلافٌ: فإن جعلنا ذلك عداوة، فالشهادة للأجنبي مردودة، وإن لم نجعله إظهار عداوة، فهي شهادة متبعّضة وفيه القولان. وهذا بيان قاعدة الفصل وترتيب المسائل فيه. وربما قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قطع بأن شهادته بقذف الأجنبي مردودة، إذا اقترنت بشهادته بقذف نفسه قولاً واحداً، وإذا اقترنت بشاهدته بقذف أمه فطريقان. ومنهم من قلب، وقال: إذا قرن بين ذكر الأم والأجنبي، فالشهادة للأجنبي تخرّج على قولي التبعيض لا غير، فإذا جمع بين الشهادة للأجنبي وبين الشهادة لنفسه، فطريقان.

_ (1) في الأصل: لقذفها.

وقد نعلم أن القناعة قد تقع ببعض ما نُردِّده، ولكنا نقلّب العبارات، حتى يظهر المُدرَكُ، ويستبين الغرضُ. 9745 - ومما يتعلق بتمام الفصل أن من شهد على غيره بمال أو غيره، فقذفَه المشهود عليه، فلا يصير الشاهد خصماً بذلك؛ فإنه قد لا يبغي مخاصمةَ القاذف، ولو جعلنا هذا ذريعة إلى إسقاط الشهادة، لما عجز عن ذلك مشهودٌ عليه في أمرٍ خطيرٍ يهون احتمالُ حد القذف عن (1) مقابلة اندفاعه. ولو سبق القذفُ، فشهد المقذوف على القاذف بحقٍّ من الحقوق، ولم يبد مخاصمةً في الحد وطلباً له، فشهادته مقبولة أيضاً، وِفاقاً كما لو طرأ القذف. والقول في العداوة والخصومة وما يوجب ردّ الشهادة منهما وما لا يوجب لا مطمع في استقصائه هاهنا، وموضع ذلك في كتاب الشهادات. فصل 9745/م- نقل المزني في الجامع الكبير عن الأم: أن ابنين لو شهدا على أبيهما أنه قذف ضَرّة أمهما، ففي قبول شهادتهما قولان: أظهرهما - القبول، والثاني - أنها لا تقبل؛ لتمكن التهمة، فإنهما يقصدان إثبات القذف على أبيهما، فيضطر إلى اللعان، وتبينُ الضَّرّة، وتنتفع أمهما، وهذا إبعادٌ [في] (2) التهمة، لا يجوز رد الشهادة بمثله. وألحق العراقيون بذلك ما لو شهد الابنان على أبيهما على أنه طلق ضَرَّة أمهما، ولا شك أن المسألة كالمسألة، والطلاق أوقع إن كان لهذه التهمة موقعٌ في رد الشهادة، فإن الطلاق يُنجِّز الفراق، ولا أصل لقول رد الشهادة في المسألتين؛ فإن الزوج لا ينحسم عليه مسلك التزوّج.

_ (1) (عن) جاءت هنا بمعنى (في). والمعنى: يهون احتمال حد القذف في مقابلة اندفاع المشهود عليه. (2) في الأصل: وفي.

فصل 9746 - إذا شهد شاهدان على القذف، ولكن قال أحدهما: إن فلاناً قذف فلاناً بالعربية، وشهد الآخر أنه قذف بالعجمية، فالقذف لا يثبت باتفاق الأصحاب؛ لأن المشهود عليه قذفان [لا يجتمع] (1) على واحد منهما شاهدان. وكذلك لو فُرض الاختلاف في المكان والزمان بأن شهد أحدهما أنه قذف فلاناً في الدار، وشهد الثاني أنه قذفه في السوق. وكذلك لو فرض القذفان في زمانين، فلا ثبوت. وكذلك لو شهد أحدهما على إنشاء القذف، وشهد الثاني على الإقرار بالقذف، فلا تلفّق الشهادة والإقرار بها، وهو بمثابة ما لو شهد أحد الشاهدين بأنه باع من فلان، وشهد الثاني أنه أقر بالبيع، فلا يثبت البيع، ولا يلفق الإنشاء والإقرار. ولو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية بالقذف، وشهد الآخر أنه أقر بالقذف [بالعجمية] (2) لفقنا وأثبتنا أصل القذف، ومعنى ذلك أن يكون لفظه في الإقرار بالعربية وبالعجمية والمقر به لا اختلاف فيه، ويفرض في لك بأن لا يتعرض للغة القذف، أو يتعرض على الاتحاد والاتفاق، وهذا من الأصول، فالأقارير مجموعة ملفقة. ولو شهد شاهد على [إقراره] (3) يوم السبت وشهد آخرُ على [إقراره] (3) يوم الأحد، ثبت الإقرار بالشهادتين، وكذلك [لو] (4) فرض الاختلاف في المكان، [إذا] (5) اتحد المخبَر عنه، فتعدد الأخبار غير ضائر؛ فإن الإقرار يُعْنَى للمخبَر عنه، فلا نظر إليه اختلفَت صيغتُه ومكانُه وزمانُه أو اتفقت هذه الخصال، [فالقذف في

_ (1) في الأصل: لا يجتمعان. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: إقرار. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: وإذا.

حقيقته خبرٌ] (1)، فهو مقصود في عينه وبه الجناية على العِرض؛ [فلم يعتبر فيه] (2) الاختلاف والاتفاق. ولو شهد شاهد أنه أقر أنه قذف بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر أنه قذف بالعجمية، قال المراوزة: يلفق، وقال العراقيون: لا يلفق؛ فإنه أخبر عن قذفين مختلفين، وهذا أوفق وأجرى على القياس المرتضى، والله أعلم. 9747 - ثم ذكر الشافعي إن كتاب القاضي إلى القاضي، والشهادة على الشهادة هل يتطرقان إلى حدّ القذف، وفيه اختلافُ قولٍ لا وجهَ للخوض فيه، فإنه يُستقصى في كتابه. وتعرض الشافعي للتوكيل (3)، وهو مما سبق، فالتوكيل بإثبات القذف جائز، وفي التوكيل باستيفاء الحد واستيفاء القصاص اختلاف نصوص وأقوال، وقد مضى ذكرهما في كتاب الوكالة، وسيجرى ذكرها في الجراح، إن شاء الله عز وجل. ...

_ (1) عبارة الأصل غير مستقيمة، فقد جاءت هكذا: " ... أو اتفقت هذه الخصال والقذف فإن ذلك خبراً (كدا) فهو مقصود في عينه ... إلخ ". والمثبت من تصرف المحقق بناء على السياق الواضح من الجمل السابقة مباشرة، وقد أكد هذا كلام ابن أبي عصرون، ونص عبارته: " ولو شهد واحد على إقراره يوم السبت وشهد آخر على إقراره يوم الأحد يثبت الإقرار، وكدا لو اختلفا في مكان الأقرار، لأنه إذا اتحد المخبر عنه، فتعدد الإخبار لا يضر في صيغته، وزمانه، ومكانه؛ لأنه خبر مقصود في عينه، وهو الجناية على العرض، فلم يعتبر فيه الاختلاف والاتفاق " ا. هـ بنصه (ر. صفوة المذهب: ج 5 ورقة: 136 يمين). وكذلك قال العز بن عبد السلام: " وإن اختلفت لغة الإقرار بالقذف أو زمانه أو مكانه، لفقت الشهادتان "، (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 ورقة 198 يمين). (2) في الأصل: " فاعتبر فيه " وهو خلاف ما تقرّر في الجملة قبله. (3) ر. المختصر: 4/ 191.

باب الوقت في نفي الولد

باب الوقت في نفي الولد 9748 - إذا ثبت للزوج حقٌّ نفي الولد، فقد اختلف القول في أنه على الفور أم فيه مَهَل؟ فالقولُ الصحيح المنصوص عليه في الجديد أنه يثبت على الفور؛ لأنه لدفع الضرر كالرد بالعيب، وقال في القديم يتقدّر بثلاثة أيام؛ فإنّ خطر النسب عظيم في النفي والاستلحاق، وما يعظم خطره يليق بالمراشد مَهَلٌ فيه للرّويّة، ثم الثلاث تقدّر بها مددٌ [شبيهة] (1) في مقاصدها بما نحن فيه. وحكى الشيخ أبو علي قولاً ثالثاً: أن النفي على التراخي، لا يبطله إلا الاستلحاق، وهذا قول ضعيف، لا تفريع عليه، ولا عودَ إليه، والتفريعُ على الإمهال ثلاثةَ أيام بيّنٌ، وأما الفور ومعناه، فقد ذكرناه في كتاب الشفعة على أبلغ وجه في البيان، وذكرنا فيه الإشهادَ وبلوغَ الخبر في الغَيْبة؛ فلسنا نعيد شيئاً مما مضى؛ إذ لا فرق بين البابين. والذي نذكر هاهنا: أنه لو أخبره مخبر بأن زوجتك ولدت، فأَخَّر، ثم لما روجع قال: لم أصدقه، فهو مصدَّقٌ. ولو أخبره عدلان، كان يعرفهما بالعدالة، فلا يقبل قوله: لم أصدقهما، ولو أخبره عدل واحد، كان يعرفه بالعدالة، فهذا فيه تردد مأخوذ من قول الأصحاب؛ من جهة أن الغرض الثقة، وذلك يحصل بقول الشخص الواحد؛ إذ يجب التعويل على روايته، ويجوز أن يرعى في ذلك عددٌ يتعلّق بالخصومات، وهذا كالتردد في [عدد] (2) المترجم والخارص، وما في معناهما، مما يتعلق بأطراف الخصومات، فلا تكون شهادةً محضة.

_ (1) في الأصل: تشيبهة. (2) في الأصل: عود.

ولو قال: لم يبلغني خبر أصلاً، فإن كان غائباً، صُدِّق، وإن كان حاضراً والولادة في الدار أو المحِلّة -وما جرت حالةٌ تقتضي المكاتمة- فإذا ادعى عدمَ بلوغ الخبر -والحالة هذه- لم يصدق. 9749 - ولو كانت حاملاً، فقد ذكرنا في أصول الكتاب أنا وإن جوّزنا نفي الحمل باللعان، فليس على الفور؛ لأنه ليس مستيقناً، فلو قال: أؤخر اللعان، فلعله ريحٌ تنفُش، لم يبطل حقه. ولو قال: أعلم أنها حامل، ولكني أؤخر اللعان، فعساها تُجْهِض وتُلقي جنينها ميتاً، قال الأصحاب: التأخير على هذا الوجه مع الاعتراف بالعلم ثَمَّ (1) بالحمل يُبطل حقه من اللعان على قول الفور، وإنما يكون معذوراً في التأخير إذا حُمل الأمر فيه على أن لا يكون الحمل أصلاً، ويَفْرِض ريحاً غليظة تنفشُ. ورأيت في كلام الأصحاب ما يدل على وجهٍ آخر: وهو أن الحق لا يبطل؛ لأن الحمل لا يُستقين [قط] (2)، فقوله: " أعلم الحملَ "، لا حقيقة له؛ فإن المظنون يعتقد ولا يعلم. وهذا متجه، والأظهر ما حكيناه عن الأصحاب. 9750 - ولو أخبره مخبر بمولودٍ أتت به امرأته على الفراش، وهنأه به فقال: متعك الله به، أو قال: ليهنك الفارس، أو ما جرى هذا المجرى من الألفاظ المعتادة في التهنئة عند الولادة، فإن قابل الدعاء بدعاء، ولم يصدر منه ما يتضمن تقريراً، فلا يكون مقابلة الدعاء بالدعاء إسقاطاً [لحق] (3) النفي، وهذا مثل أن يقول للمخبر: جزاك الله خيراً، أو أسمعك الله ما تُسرّ به، أو ما أشبه هذا، فهذه الدعوات لا تعلق لها بالتهنئة، وإنما جاءت مُقابَلةً للدعاء بالدعاء، ولأجل هذا لم نجعله مستلحِقاً، ولا مبطلاً حقَّ النفي.

_ (1) ثمَّ أي في هذه الصورة بخلاف التي قبلها؛ إذ ظن حملها ريحاً. (2) في الأصل: فقط. (3) في الأصل: بحق.

وبمثله (1) لو قال على أثر دعوة المهنّىء: آمين، مثل أن يقول المبشر: بارك الله لك في المولود الجديد، أو ليهنك الفارس، فإذا قال: آمين، فهذا تقريرٌ للدعاء، ومساعفَةٌ في مقتضاه، وهذا متضمَّنُه الاستبشارُ والرضا بمعنى التهنئة، فيبطل به الحق في النفي. فهذا القدر هو الذي رأينا أن نذكره. وغائلةُ الفصل في معنى الفور، والتأخير، والإشهاد، وما يتصل بهما، وقد تقدم هذا مستقصًى في كتاب الشفعة، وسبق طرفٌ صالح منه في الرد بالعيب. ولو قال: بلغني خبر المولود، ولكني لم أعلم أنه يَثبتُ لي حقُّ نفيه، وأخرت لذلك؛ فإن كان فقيهاً أو أنِساً بالفقه بحيث لا يخفى عليه مثل هذا، فلا يصدق فيما ادعاه. وإن أمكن صدقه، في دعواه، فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنه هل يبطل حقه، وبنوهما على القولين في أن الأمَةَ، إذا عَتَقَت تحت زوجها القنّ، وفرّعنا على أن خيارها في الفسخ على الفور، فلو أخرت الفسخ، ثم زعمت أنها لم تشعر بثبوت الخيار لها، ففي المسألة قولان مع ظهور الإمكان. فصل قال: " فأما ولد الأمة لا يلحق المولى ... إلى آخره " (2). 9751 - مضمون الفصل التفصيلُ في النسب الذي يَلْحق في ملك اليمين بالمَوْلى، وذِكْرُنا ما يوجب اللحوقَ، فنقول أولاً: لا خلاف أن الإمكان بمجرده لا يتضمّن إلحاق النسب في ملك اليمين بخلاف النكاح؛ فإن الإمكان فيه كافٍ في الحكم بلحوق النسب، وإن لم يوجد من الزوج

_ (1) المماثلة في التهنئة، وليس الحكم المترتب عليها، كما يتضح من باقي العبارة. (2) ر. المختصر: 4/ 198.

إقرارٌ بالوطء، بل يلحق النسب والظاهرُ عدم الوطء، فإن من نكح عذراءَ كريمةً من بيتٍ رفيع النسب، ثم أتت بولد قبل الزفاف لزمان يحتمل أن يكون العلوق به واقعاً في النكاح، فالولد يلحق الزوج، والأصلان ثابتان، ولعل المعنى الفاصل بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش " (1) أن النسب مما اعتنى الشرع بإلحاقه وتغليب أسبابه، كما سبق تقريره، ثم وقع القضاء بهذا في الجهات التي تُعنى وتُطلب لأجل النسب، وهي المناكح. فأما المملوكة، فالنسب في الغالب لا يُطلب منها، وكان المعتبرون في الأعصار يتعيّرون بإيلاد الإماء، ويذكرون في أوائل مفاخرهم أنهم بنو الحرائر، ومن الكلام الشائع للعرب: " لستُ بابن حرة إن كان كذا وكذا "، فيعدّون هذا من الألايا (2) التي يُقسم بها، ولهذا المعنى لم يُقم الشرع للإماء وزناً في القَسْم، فلم يُثبت لهن حقّاً، ولم يقع الاحتفال بمزاحمة الحرائر بهن، فهذا عُقر (3) الباب. 9752 - ثم لا شك أن ملك اليمين وإن تقاعد فيما ذكرناه عن النكاح، فيتصور لحوق النسب فيه، واختلف العلماء فيما يتضمن لحوقَ النسب: فقال أبو حنيفة (4): لا يلحق النسب إلا بالاستلحاق والدِّعوة (5) الصريحة، فلو اعترف المولى بوطء جاريته وأتت بمولود، فلا يلحقه نسبه عند أبي حنيفة ما لم يقل هذا ولدي، ثم قال: إذا لحقه نسب مولودٍ واحد، ثم أتت بعد ذلك بأولادٍ، لحقوه من غير احتياج إلى الدِّعوة، أو سبب من الأسباب غير هذا. وقال الشافعي رضي الله عنه: إذا اعترف المولى بالوطء، وأتت الجارية بالولد، لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من الوطء، فقاعدة الباب أن الولد يلحق وإن لم يوجد

_ (1) سيأتي هذا الحديث بعدُ إن شاء الله. (2) الألايا: أي الأيمان. (3) عُقر الباب: أي أصله، فالعُقر من كل شيء أصله. (المعجم). (4) ر. حاشية ابن عابدين 3/ 690، تحفة الفقهاء: 2/ 407، اللباب: 3/ 122. (5) الدِّعوة بالكسر ادّعاء الولد واستلحاقه (المصباح).

دِعوةٌ [صريحة] (1) واستلحاقٌ ناصٌّ على الاعتراف بالوطء. [فإن أتت] (2) الجاريةُ بالولد لزمانٍ لا يُحتَملُ أن يكون العلوق به من ذلك الوطء المقَرّ به، فذلك الولد لا يَلْحق؛ فإن معتمد اللحوق الوطءُ المقرّ به، فقد خرج ذلك الوطء عن كونه مستنِداً للولد الذي جاءت به. وإن أقر بالوطء، وادّعى أنه استبرأها بعد الوطء: أي حاضت بعد الوطء، فالوجه أن [نطرد] (3) أصل المذهب، ثم نُلحق به وجوهاً حائدة عن القانون، والإحاطةُ بمضمون هذا الأصل موقوفةٌ على نجازه. 9753 - فنقول: إذا اعترف بالوطء، وزعم أنه استبرأها بعد الوطء المقرّ به، فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر فصاعداً من وقت الاستبراء المدّعَى، فالولد يلحق استناداً إلى الوطء المقرِّ به؛ فإنا تبيّنا أن الذي جرى لم يكن استبراءً للرحم، وأنها رأت الدم على الحمل. وإن أتت بالولد لستة أشهر، فصاعداً من وقت الاستبراء، فالمذهب الذي عليه التعويل أن الولد ينتفي. ومرجع المذهب أنا لم نُلحق النسبَ في ملك اليمين بالإمكان المحض، بخلاف النكاح، ولم نشترط التصريحَ بالاستلحاق، بل اكتفينا بذكر سبب العلوق، وهو الوطء. ثم كما اكتفينا بما لا يكون تصريحاًً بالاستلحاق نُجري ما يناقض ذلك على حسبه، فالوطء ظاهر في الإعلاق، وجريان الاستبراء ظاهر في براءة الرحم، فيصير الواطىء - بعد الاستبراء، وقد تعارض ظاهرٌ في الإلحاق، وظاهرٌ في البراءة- في حكم المتعلق بالإمكان المحض، وقد ذكرنا أن الإمكان المحض لا يُلحق النسبَ [في] (4) ملك

_ (1) في الأصل: صريح. (2) في الأصل: فأتت. (3) في الأصل: يطّرد. (وهو غير مستقيم مع السياق). (4) في الأصل: وملك.

اليمين، بل النفيُ مترجِّحٌ لتأخر الاستبراء، فهو في حكم الناسخ لما مضى. 9754 - ولو ادعى المولى الاستبراء مطلقاً بعد الوطء، وأنكرت الأمة، وزعمت أنها لم تحض بعد الوطء، فقد أطلق الأصحاب أن الرجوع إلى قول المولى. وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الاستبراء وقوعُ الحيض، والرجوع في ثبوت الحيض ونفيه إلى النسوة؛ إذ لا مطّلع على ذلك إلا من جهتهن، فقد ذكرنا أن الزوج إذا علّق طلاق امرأته بحيضها، ثم زعمت أنها حاضت، صُدّقت مع يمينها، وجرى القضاء بوقوع الطلاق، والأصل استمرار (1) النكاح، فكيف صُدِّق المَوْلى فيما نحن فيه؟ والجواب عن هذا يُفصّل المسألةَ ويوضح الغرضَ منها، فنقول: هذه المسألة فيه إذا كانت الأمة لا تنكر جريان الحيض عليها، [وأن] (2) الزوج اعترف بالوطء، فإذا قالت: لم أحض بعد الوطء، فكأنها تدّعي وطأً بعد آخر حيض منها، والزوج ينكر ذلك الوطء، وإنما يعترف بوطء سابق على الحيض، [فيؤول] (3) الاختلاف إلى دعوى الوطء ونفيه؛ إذ أقر المولى بوطءٍ في وقتٍ عيّنه، وادعى بعد ذلك جريان حيض عليها، وأنكرت الأمة، فهذا محل النظر. والظاهر أنه يُرجع إلى قولها؛ بناء على ما قدمناه من أن الرجوع إلى قولها في الحيض، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الرجوع إلى قول المولى في هذا المقام -وإن أرّخ الوطء كما صورناه- لأنه لم يعترف بالنسب، ولا اكتفاء بالإمكان، وكأن الشافعي يشترطُ أن يعترف بوطءٍ ويعترفَ بانتفاء الاستبراء، فإن لم يعترف بانتفاء الاستبراء فلا يدّعيه. 9755 - ثم أطلق الأئمة القولَ بأنها تحلِّف المولى في دعوى الاستبراء، وليس هذا

_ (1) في الأصل: " والأصل عدم استمرار النكاح ". وهو مناقض للسياق. (2) في الأصل: وإلى. (3) كلمة غير مقروءة في الأصل.

لمخاصمتها في النسب، وإنما هو لتعلق حقها بأمية الولد، ثم ذكر الشيح أبو علي وجهين في كيفية التحليف: أحدهما - أنه يحلف بالله لقد حاضت بعد الوطء، ولم يطأها بعد الحيض حتى أتت بالولد، فإذا حلف هكذا، انتفى عنه الولد. والوجه الثاني - وهو أن (1) اختيار الإصطخري -أنه يحتاج أن يحلف بالله لقد استبرأها بعد الوطء، ولم يطأها بعد الاستبراء، وليس الولد منه، فلا ينتفي النسب بعد الإقرار بالوطء إلا على هذا الوجه. وقد يعنّ هاهنا إشكال، وهو أن الأمة لو لم تتعرض للتحليف وطلبِ الحلف، فكيف الوجه، ولا يخفى أن للشرع حقاً في تأكيد لحوق الأنساب، فلو أقر بالوطء وادعى الاستبراء ومات، فالنسب لاحق أو منتفٍ؟ الوجه عندنا الحكمُ بثبوت النسب؛ فإنه ذكر سببَ ثبوته، ولم يؤكد ما يناقضه، والاستبراء على حالٍ متعلقٌ بالأمة، فلا يعارض الإقرارَ بالوطء، ما لم يؤكَّد. ويخرج من هذا أنه لا حاجة إلى دعواها، ولو حلف دونها، كفى. وما ذكرناه من أميّة الولد صحيح في غرضها، ولكن لا حاجة إليه فيما يتعلق بالنسب. 9756 - ولو زعمت الجارية أنه وطئني فأنكر الوطء، فقد حكى القاضي أن الأمة لا تملك تحليفه، بل ليس لها التعرض لذلك، ثم قال: والوجه عندي أنها تملك تحليفه، وهذه الصورة ليست في معنى الأولى؛ فإن النسب في الصورة الأولى لا ينتفي بعد الإقرار بالوطء إلا إذا حلف على الاستبراء، كما فصلناه، وهاهنا لا حاجة إلى الحلف حتى ينتفي النسب، وهذا هو الذي أراده الأصحاب. نعم، إذا طلبت الأمة أمّية الولد، وقد ولدت، فلا يجوز أن يُتوهم خلافٌ في أنها تملك تحليفه.

_ (1) تستقيم العبارة على تقدير: والوجه الثاني مما حكاه الشيخ أبو علي أن اختيار الإصطخري ... إلخ.

9757 - ولو قال السيد: وطئتها وعزلت عنها، فالذي قطع به المحققون أن دعوى العزل لا أثر لها، ومن ادعاه بمثابة من اعترف بالإنزال. وكان شيخي يحكي وجهاً أن النسب لا يثبت إذا ادعى العزلَ، وهذا بعيد، لم أره إلا له (1)، وما رأيتُ في كتاب، ولست واثقاً بنقلي فيه (2). نعم، إذا اعترف السيد بإتيانها دون المأتى مع الإنزال، فهل يكون هذا بمثابة الإقرار بالوطء؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه لا يكون كالإقرار بالوطء. والوجه الثاني - أنه كالإقرار بالوطء؛ فإن الماء يسبق. وهذا ضعيف لا أصل له. 9758 - فإذا أتت الأمة بولد بعد الاعتراف بالوطء وجرى الحكم بلحوق نسبه وثبتت أمية الولد، فإن أتت بولد بعد ذلك لأقلَّ من ستة أشهر، فهذا الولد يلحق لا محالة؛ فإن الأول إذا لحق (3) -والثاني من ذلك الحمل- وقد ذكرنا أن الحمل الواحد لا يتبعض لحوقاً ونفياً. ولو أتت بالولد الثاني لستة أشهر فصاعداً، فلا شك أن العلوق به بعد انفصال الأول، فهل يلحق من غير اعتراف بوطء بعد الولادة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى ذلك؛ فإن المستولدة مستفرشة، وقد تأكد الفراش فيها بالولد، فيكفي الإمكان؛ فإنها خرجت عن الرّق المطلق، وانتهت إلى حالة يستفرشها المولى على ضعف ملكه فيها- مع أن حِلّ الوطء يستدعي ملكاً كاملاً، فيظهر من هذا أن للشرع غرضاً في تثبيت حرمة الفراش [للتي] (4) ولدت نسيباً،

_ (1) ولم أره إلا له: أي لم يحكه غيره. (2) لعل معنى العبارة وتصويبها: والذي رأيته في كتاب، ولست واثقاً بنقلي منه. وذلك أنهم كانوا يرون أن الأخذ عن الكتب من أدنى درجات الثقة في الرواية، فكأنه يقول: لم أسمع هذا النقل من شيوخي. والله أعلم. (3) جواب (إذا) مفهوم من الكلام. (4) في الأصل: التي.

وأبو حنيفة مع مصيره إلى أن الولد الأول لا يلحق إلا بالدعوة والتصريحِ بالاستلحاق لم يعتبر هذا في سائر الأولاد بعد الأول. ولكن (1) لا يجري على مذهب الشافعي ما أجراه أبو حنيفة في إثبات خواصّ الفراش، فإنه قال: المستولدة إذا عتَقَت، فاستبراؤها بثلاثة أقراء كالمطلقة الحرة، والشافعي يكتفي في استبراء المستولدة إذا عتَقَت بحيضة واحدة. ومن أصحابنا من قال: لا يلحق الولد الثاني إذا تحقق أنه ليس من البطن بالأول ما لم يعترف المولى به أو بوطء جديد بعد انفصال الولد الأول؛ فإنها مملوكة وليست ملتحقة بالمنكوحات، والدليل عليه أن استبراءها إذا عَتَقَت بحيضة، ولا حق لها في القَسْم، كما لاحق للرقيقة، فلا يثبت لها حكم الفراش حتى يكتفى بالإمكان المجرد. 9759 - ثم قال الأئمة: هذا الاختلاف ينبني على الاختلاف في مسألةٍ، وهي أن السيد إذا زوّج أم ولده، فألم بها زوجُها، ثم طلقها، فانقضت عدتها، فهل تعود فراشاً للمولى كما (2) تصرّمت العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - بلى تعود، حتى لو مات، أو أعتقها، يلزمها الاستبراء. والثاني - لا تعود، ولو أعتقها، لم يلزمها الاستبراء. فإن حكمنا بأنها تعود فراشاً من غير إقرار بوطء جديد، فهذا قضاء منا بان أمية الولد تُغني عن الاعتراف بالوطء، وتقتضي الاكتفاء بالإمكان. وإن قلنا: لا تعود فراشاً، فلا بد بعد التخلي من اعترافٍ بوطء. فعلى (3) هذا إذا أتت المستولدة بولدٍ، فلحق، ثم أتت بولدٍ يقع العلوق به بعد الولادة، فلا بد من الاعتراف بوطء جديد.

_ (1) الاستدراك هنا بمعنى أننا إن وافقنا أبا حنيفة في أن الأولاد بعد الولد يلحقون بالفراش وبالإمكان، لكن لا يجري مذهبنا على ما يجري عليه أبو حنيفة في الاستبراء. (2) كما: بمعنى عندما. (3) عودٌ إلى مسألة المستولدة، المشبهة بالمزوّجة.

هذا حاصل قول الأصحاب في ذلك. فإن قلنا: لا حاجة إلى الاعتراف بوطءٍ، فقد ذكر بعض الأصحاب أنه لو ادعى الاستبراء، [لانُتفى] (1) النسب، [وهذا خرقٌ عظيم، لا يلحق بالمذهب] (2)؛ فإذا كان الولد الثاني يلحق من غير اعترافٍ بوطء، فلا حاصل لذكر الاستبراء (3). وقد انتجز ما نقلناه عن الأصحاب (4). 9760 - ووراء ذلك كلِّه أمرٌ هو الأهم، فنعود على ما رسمنا مباحثين، ونقول: إذا اعترف بوطء مملوكةٍ، وادعى استبراءها بعد الوطء، أو جرى حيضُها حقاً، فإذا أتت بالولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فهو منتفٍ على النص وظاهرِ قول الأصحاب. ومن أصحابنا من قال: يلحق النسب لأن الموطوءة صارت فراشاً في قضية لحوق النسب، والتحقت في هذا المعنى على الخصوص بالمنكوحة. والسبب فيه أن حرمة النسب في ملك اليمين كحرمة النسب في النكاح، غيرَ أنّا لم نؤاخذ بالإمكان المجرد في ملك اليمين؛ من حيث إن الوطء ليس مقصوداً فيه، فإذا اعترف به، لم يغادر شيئاًً يُطْلِع عليه، والذي يستلحق النسبَ لا يعرف منه إلا الوطء،

_ (1) في الأصل: إلا بنفي النسب. (2) زيادة ذكرها بلفظها ابن أبي عصرون، وبمعناها العز بن عبد السلام. (3) عبّر عن ذلك ابن أبي عصرون والعز بن عبد السلام، فقالا: " إن ولادة الولد الأول أقوى من الاستبراء ". (4) لعلنا نؤكد صحة هذا التصرف في العبارة والزيادة فيها إذا رأينا نص اختصار العز بن عبد السلام لها، فقد قال: " ومتى ألحقنا ولد الأمة ثبتت أمية الولد؛ فإن أتت بعد ذلك بأولادٍ، فإن كانوا من ذلك البطن، لحقوا، وإن كانوا من بطن آخر، فوجهان مأخوذان من القولين فيمن زوج أم ولده، فطلّقت بعد الدخول وانقضت العدة، ففي عود الفراش قولان، فإن قلنا: يلحقون، لم ينتفوا بدعوى الاستبراء، فإن ولادة الأول أقوى من الاستبراء، وأبعد من نفاهم بذلك، وعلى الأصح لا ينتفون إلا باللعان " (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 ورقة: 199 يمين).

وهذا واقع في المعنى، فإذاً دعوى الاستبراء بعد جريان الوطء كدعوى الاستبراء في النكاح. ومن هذا المنتهى نقول: النسب على هذا الوجه تعرض للثبوت، ولا يتصور تقدير نفيه بدعوى الاستبراء على الرأي الذي أظهرناه، فنُجري فيه القولَ القديم المحكي عن أبي عبد الله (1) في أن النسب في ملك اليمين ينفى باللعان، ونحن نعلم أن النسب إذا أمكن نفيه بجهةٍ سوى اللعان لا ينتفي باللعان. 9761 - ومما ذكره الأصحاب أن المولى إذا اعترف بالوطء، فأتت الأمة بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء المعترف به، فهل يلحق بالنسب؟ ذكروا وجهين مرسلين، والوجه فيه عندنا أنا إذا قلنا: النسب ينتفي بدعوى الاستبراء، فينتفي في هذا المقام، بل هو بالانتفاء أولى؛ فإنا على قطعٍ نعلم أن الولد الذي أتت به لأكثرَ من أربع سنين بعد الوطء، ليس من الوطء، وهذا القطع لا يحصل بالاستبراء، فإن الحامل قد ترى دماً، فسبيل ذكر هذين الوجهين أن نقول: إن حكمنا بأن دعوى الاستبراء تقطع أثر الاعتراف بالوطء، فالإتيان بالولد لأكثرَ من أربع سنين بذلك أولى. وإن قلنا: دعوى الاستبراء لا تقطع أثر الاعتراف، فإذا أتت بالولد لأكثر من أربع سنين، لحق الولد، كما لو أتت المرأة بولد لأكثرَ من أربع سنين من وقت النكاح مع الإمكان. ثم على هذا لا بد من إجراء قول اللعان. وإذا قلنا: لا حاجة إلى الإقرار بوطء جديد بعد أُميّة الولد في سائر الأولاد فأنسابهم لا ينفيه (2) إلا اللعان. فهذا وجه إجراء اللعان في نسب ملك اليمين.

_ (1) المراد هنا: الشافعي، وليس مالكاً. كما هو واضح. (2) الضمير المذكر هنا على معنى المفرد (النسب).

وكنا أطلقنا قول اللعان وأحلنا تفصيله على هذا الفصل، وقد وفّينا بالموعود، وعلى فضل الله التكلان. 9762 - ثم إن الشافعي رضي الله عنه أخذ يستبعد مذهب أبي حنيفة في ملك اليمين والنكاح ويقول: " لا يُلْحِقُ النسبَ في ملك اليمين مع الإقرار بالوطء، ويُلْحِقُ النسبَ في النكاح مع انتفاء إمكان الوطء، وهذا تناقضٌ بيّن " (1) وقد قررنا ذلك في (الأساليب) (2) و (المسائل) (3) والله أعلم. ...

_ (1) هذا تلخيص ما جاء عن الشافعي في مختصر المزني (ر. المختصر: 4/ 201 - 204). (2) الأساليب: أحد كتب إمام الحرمين في الخلاف، وإنما سمي بذلك لأنه كلما انتقل من قضية خلافية إلى أخرى قال: أسلوب آخر. (3) (المسائل): لا شك أنه يريد بها (الدّرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية)؛ فإنها تُبنى على المسائل، حيث (يُعَنْوِن) كلَّ قضية خلافية بقوله: (مسألة) والدّرة بين أيدينا والمسألة منصوصة فيها (آخر مسائل اللعان) والأمل في فضل الله وعونه أن نُخرج القسم الثاني من الدرة ونلحقه بالقسم الأول قريباً، اللهم استجب وحقق أمل عبدك اللاجىء إلى حولك وقوتك، إنك واسع الفضل ونعم المولى، ونعم النصير.

كتاب العدة

كتاب العدة باب عدة المدخول بها 9763 - العِدّة من العَدد، استعملت شرعاً في معدودات مخصوصة، فجرت مجرى الصلاة والصيام والحج، ثم العِدّة تنقسم إلى ما يتمحض تعبداً، وإلى ما يشوبه رعاية الاستبراء. فأما ما يتمحّض تعبداً، فهو العدة التي لا يتوقف وجوبها على جريان السبب الشاغل للرحم، وذلك عدة الوفاة، وعن هذا الأصل تكتفي الممسوسة بها، وإن كانت من ذوات الحيض، من غير جريان حيض، وعماد تلك العدة الأربعة الأشهر والعشر، في حق الحرة، وشَطرها في حق الأمة، وقياسها ألا تتعلقَ بما يدل على براءة الرحم، ولكن ثبت بالخبر أن المتوفى عنها زوجها لو وضعت حملَها وزوجها على السرير تخلّت. فأما العدة التي يشوبها اعتبارُ براءة الرحم، فهي العدة عن طُرق قطع النكاح في الحياة، وجميعها يتوقف ثبوتها على جريان المسيس، ثم لا نشترط في وجوبها توهم شغل الرحم؛ فإن الصغيرة التي لا يحبل مثلها إذا وطئها الزوج ثم طلقها، اعتدت. وإذا قال الزوج لامرأته الموطوءة: إذا استيقنتِ براءةَ رحمك فأنت طالق، فاستيقنتها: بأن ولدت، ومضت بعد الولادة ستةُ أشهر، واعتزلت عن زوجها أكثر من أربع سنين، فإذا لحقها الطلاقُ، استقبلت العدة مع القطع ببراءة الرحم، وقد تمر على المطلقة أربعُ سنين، فلا نحكم بانقضاء عدتها (1)، وإن أفاد ما جرى من الزمان القطعَ ببراءة الرحم، فاشتراط المسيس يشير إلى اعتبار براءة الرحم في بعض الصور،

_ (1) ستأتي هذه الصورة فيمن كانت تحيض وانقطع حيضها.

ووجوب العدّة مع القطع بالبراءة يدل على أن وجوب العدة لا يتوقف على شَغْل الرحم. ثم هذه العدة تتعلق بوضع الحمل وغيره، فإذا وضعت الحمل بعد الفراق، ولم يكن الرحم مشتملاً على غير ما وضعت، فقد انقضت عدتها، قَرُبَ الزمانُ أو طال. وإن كانت حائلاً، فلا يخلو إما أن تكون من ذوات الحيض وإما ألا تكون منهن؛ فإن لم تكن من ذوات الحيض، فعدتها بالأشهر، على ما سيأتي في أثناء الكتاب. 9764 - وإن كانت من ذوات الحيض، فعدتها بالأقراء، قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. واختلف العلماء في القُرء ومعناه في الشرع، فذهب أبو حنيفة (1) إلى أن القرء الحيض، وقيل: كان هذا مذهباً للشافعي، وكان أبو عبيد (2) يعتقد أن القرء هو الطهر الذي يحتوشه حيضان، فالتقيا رضي الله عنهما وتناظرا، وكان الشافعي يورد عليه من قضايا الأحكام ما يدل على أن الاعتبار بالحيض في العِدة، وأبو عبيد يورد من قضايا اللسان ما يدل على أن القرء الطهر، فافترقا، وقد أخذ الشافعيُّ مذهبَ أبي عبيد، وأبو عبيد مذهبَ الشافعي. وهذه حكاية لا تعويل عليها؛ فإن الشافعي كان بحرَ (3) اللغة، وأبو عبيد من نَقَلَتها، وإنما كان ينقل الأئمةُ اللغة من الشافعي ومَنْ في درجته في اللسان، فلا يُعرف للشافعي مذهبٌ في القرء سوى ما يعرفه أصحابه الآن، ولو كان ذلك مذهباً له، لنقل نقلَ الأقوال القديمة. وقد اضطربت أقوال العلماء في معنى القرء في اللغة: فذهب أصحاب أيي حنيفة إلى أنه الحيض، وذهب أصحاب الشافعي إلى أنه الطهر.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 385 مسألة 890، المبسوط: 6/ 13، طريقة الخلاف: 141 مسألة 59. (2) في الأصل: أبو عبيدة. والمعني هنا هو: أبو عبيد القاسم بن سلام، وقد سبقت ترجمته في الفرائض. (3) ضبط (بحر) في الأصل بالرفع.

وقال قائلون من أئمتنا: ما يجمع على وزن فعول، فهو بمعنى الطهر، وما يجمع على وزن أفعال، فهو بمعنى الحيض، ثم زعموا أن الذي هو بمعنى الطهر على وزن الفَعْل، فالفَعْل يُجمع فعولاً كالحرب والحروب والضَّرب والضُّروب، والقَرْءْ -بفتح القاف- والقروء. وما هو بمعنى الحيض على وزن الفِعْل كالجِرم والأجرام، والقِرء والأقراء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة أيام أقرائك ". 9765 - وكل ذلك من اضطراب الفقهاء والذي صح عندنا أن القُرء والقروء بالضم والفتح من الأسماء المشتركة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك "، وقال الأعشى: . . . . . . . . . . . . . ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا (1) ومن صريح اللغة القَرْءْ بمعنى الجمع، ومنه تقول: قرأت الطعام في الشدق، والماءَ في الحوض، وما قَرَأَت الناقةُ سَلىً (2) قط، أي لم يشتمل رحمها على جنين. ومما صح النقل فيه القرء بمعنى الطلوع والغروب يقال: قرأ النجمُ إذا طلع، وقرأ إذا غرب، والقراءة يجوز حملها على الجمع، من حيث إن القارىء يجمع الحروف لنظم الكلمة، ثم يجمع الكلمة لنظم الكلام، ويجوز أن يكون بمعنى البدوّ والاكتتام،

_ (1) هذا شطر بيت للأعشى من قصيدة يمدح فيها هوذَة بنَ علي الحنفي، وقبل هذا البيت: وفي كل عامٍ أنت جاشِمُ غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيمَ عزائكا مورثةٍ مالاً وفي الحيّ رفعةً ... لمَا ضاع فيها من قروء نسائكا ومحل الشاهد للإمام أن القرء من الأسماء المشتركة، فهو في الحديث بمعنى الحيض: " دعي الصلاة أيام أقرائك " أيام حيضك. وفي البيت بمعنى الطهر، فهو يخرج للغزو كل عام، فيورّثه الغزو مالاً ورفعة عوضاً عما ضاع من استمتاعه بنسائه في أقرائهن (أطهارهن). (ر. لسان العرب: مادة: قرء، وديوان الأعشى: ص 133). (2) السَّلى: هو الغشاء الرقيق الذي يحيط بالجنين وهو في بطن أمه، ويخرج معه (المعجم). وضبط في نسخة الأصل بكسر السين، ورسم بالألف.

والكلم هكذا تنتظم بحروفها، فيطلع حرف من مخرجه ويغيب ويطلع آخر، فيتحصّل من ذلك أن القُرء من الأسماء المشتركة. وقد صح عندنا أن الاسم المشتركَ كالجون الذي يطلق على الضوء والظلمة في أصل الوضع موضوعٌ للغلس ووقت اختلاط الظلام بالضياء، ثم قد يميل العرب إلى أحد طرفي الجَوْن فتسمّي الضوءَ جوناً، وكذلك القول في الطرف الآخر، فالقرء جرى بين طوري المرأة في الطهر والحيض، فمال بعض العرب إلى طرفٍ، والبعضُ إلى الطرف الآخر. ومن علوّ قدر الشافعي رضي الله عنه أنه لم يتعلق في هذه المسألة باللغة لمّا رأى أصولَها متفاوتة، واعتقد أنه من الأسماء المشتركة، وطلب متعلّقاً من الشريعة، فاستمسك بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وإليه أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر؛ إذ قال: " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " (1)، ثم إذا استقبلت ذاتُ الأقراء العدة، فلا شك أنها معتدة في زمان الطهر والحيض، ولكن أجمع العلماء على أن الاعتداد يقع بأحد الطورين، وهو المقصود، والآخر لا بد منه؛ فإن حكم العدة لا [يتقطّع] (2)، ثم رأى الشافعي [الاحتساب] (3) في العدة [بالوقت] (4) الذي تتهيأ المرأة فيه للاستمتاع في النكاح. 9766 - هذا بيان مذهب الشافعي، وله قولٌ في القديم صح النقل فيه أن القرء هو الانتقال، ثم قال: الانتقال من الحيض إلى الطهر في اللغة كالانتقال من الطهر إلى الحيض، ولكن الشرع خصص القرء بالانتقال من الطهر إلى الحيض، ويظهر أثر هذا القول في التفريع، ثم أول حكم نبتديه تفصيل القول في الأقراء.

_ (1) سبق هذا الحديث في الطلاق. (2) في الأصل: " ينقطع ". (3) في الأصل: الاحتباس. والتصويب من صفوة المذهب. (4) في الأصل: في الوقت.

فصل قال: " ولو طلقها طاهراً قبل جماع أو بعده، ثم حاضت بعده بطَرْفةٍ، فذلك قرء ... إلى آخره " (1). 9767 - نقول: ثبت من مذهب الصاحب (2) رضي الله عنه أن القرء هو الطهر، هذا هو الأصح إلى أن نفرع [على] (3) قول الانتقال. ثم إذا وقع الطلاق والمرأة في بقيةٍ من الطهر، فإذا حاضت، فهذا قرءٌ كامل في معنى الاعتداد والاحتساب، وإن لم يكن طهراً كاملاً، حتى لو طلّقها وقد بقي من طهرها زمنٌ يسع طرفةَ عين، فإذا حاضت، كان ذلك المقدار قرءاً ولا فرق بين أن يكون جامعها في ذلك الطهر، وبين أن لم يكن جامعها، وإنما يقع الفصل بين أن يجامع وبين ألا يجامع في طلاق السنة والبدعة، كما سبق مفصلاً في موضعه من كتاب الطلاق. ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فالطلاق على القول الجديد الصحيح يصادف الطهر، ولكن لا يستعقب طهراً، بل يتصل وقوع الطلاق بأول الحيض ولا يعتد بذلك؛ فإنه لم يمضِ بعد وقوع الطلاق شيء من الطهر، ثم إذا كان كذلك، فهل نحكم بكون الطلاق بدعياً؛ من حيث إن وقوعه في هذا الوقت يتضمن تطويل العدة، أو نحكم بأنه طلاق سنة لمصادفته طهراً، على شرط أن يُفرض عارياً عن المسيس؟ فيه اختلافٌ قدمته (4). ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من حيضك، فاتصل الطهر بوقوع الفراق، وقد ذكرنا الاختلاف في أن الطلاق سني أم بدعي (5)؟

_ (1) ر. المختصر: 5/ 4. (2) الصاحب: المراد الشافعي رضي الله عنه. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) قال النووي: "المذهب والمنصوص أنه بدعي" (ر. الروضة: 8/ 5). (5) قال النووي: "الأصح أنه سني لاستعقابه الشروع في العدة" (السابق نفسه).

وجمع العراقيون الصورتين وهو إيقاع الطلاق في آخر جزء من الطهر وإيقاع الطلاق في آخر جزء من الحيض، ثم قالوا في الحكم بالسنة والبدعة في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها - أن الاعتبار بالوقت الذي يقع الطلاق فيه، فإن كان طهراً، فالطلاق سني، وإن كان حيضاً، فالطلاق بدعي. والثاني - أن الاعتبار بالوقت الذي يعقب الطلاق، فإن كان طهراً، فالطلاق سني، وإن كان حيضاً، فبدعي. والوجه الثالث -[عدم] (1) الفصل بين الصورتين، فإن وقع الطلاق في بقية الطهر - يعني الجزء الأخير-، فهو بدعي اعتباراً بما بعده، وإن وقع الطلاق في آخر الحيض، كان بدعياً اعتباراً بحالة الوقوع، والفرق (2) أن الحيض لا يمكن قلبه عن اقتضاء البدعة، [والطهر] (3) يمكن قلبه إلى اقتضاء البدعة بفرض الوطء فيه، وإذا كان كذلك، فيقاع الطلاق في الجزء الأخير يكون من الأسباب المغيرة للطهر عن مقتضاه. هذا بيان التفريع على الجديد. 9768 - فأما القول الذي نص عليه في القديم وهو أن القرء هو الانتقال، ففيه أولاً سرٌّ بديع، وهو أنه جمعٌ بين الطهر والحيض، [مال] (4) الشافعي إليه من وجهين: أحدهما - أنه وجد في اللغة القرءَ بمعنى الانتقال طلوعاً وعزوباً، والآخر - أن ن ضرورة كل انتقال الجمع بين المنتقَل منه، والمنتقَل إليه، والانتقال معنىً بينهما. ثم من آثار هذا القول أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فإذا حاضت، فقد تبين أنه مضى من عدتها قرء، وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض وعلى القول الجديد لا يعتد بشيء بعدُ، وأول ما يقع الاعتداد به الطهر بعد الحيض، وهذا

_ (1) زيادة من المحقق، بدونها لا يتحقق الفرقُ بين الوجه الثالث وما قبله، ففي كلٍّ من الوجهين قبله فصلٌ بين الصورتين. (2) المعنى أنه إذا كان هناك من فرقٍ بين الصورتين، فهو من هذه الجهة (التي شرحها) لا من جهة الحكم. (3) في الأصل: فالطهرة. (4) في الأصل: قال.

يظهر أثره إذا احتجنا القولَ في أقل ما يفرض انقضاء العدة فيه من الزمان، إذا كانت المرأة من ذوات الأقراء. ومما بناه الأصحاب على القولين في أن القرء طهرٌ أو انتقالٌ أن الصغيرة إذا افتتحت العدة في الشهور، ثم إنها حاضت في أثناء الشهور، فلا شك أنها تُردُّ إلى اعتبار الأقراء كما سيأتي، وهل يعتد بما مضى من الشهور قرءاً؟ فعلى قولين مأخوذين مما قدمناه في معنى القرء؛ فإن حكمنا بأن القرء هو الطهر المحقق، فمعناه زمان نقاء بين دمين، فعلى هذا لا يعتد بما مضى قرءاً، وإن حكمنا بأن القرء هو الانتقال، فيعتد بما مضى قرءاً؛ فإنها انتقلت. ولست أحبّ هذا البناء؛ فإن صاحب قول الانتقال يشترط الانتقال من الطهر إلى الحيض، والذي تقدم للصبية لم يكن طهراً، فالأولى أن نوجّه القولين في الصبية إذا انتهينا إليها. 9769 - وقد كنا ذكرنا الزمان الذي يفرض انقضاء العدة فيه في كتاب الرجعة، ونحن نستقصيه الآن، ونقول: الزوج لا يخلو إما أن يطلقها في زمان الطهر، أو يطلقها في زمان الحيض، فإن طلقها في الطهر، فإذا مضت تلك البقيّة، كانت طهراً، فتحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة، انقضت عدتها، وأقل زمان يفرض انقضاء عدتها فيه على الشرائط التي سنستقصيها اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان، على القول الجديد. وإن فرعنا على قول الانتقال، فاثنان وثلاثون يوماً ولحظة، ولكن إن كانت عادتها مضطربة أو كانت عادتها على الأقل، فالأمر على ما ذكرناه. فإن كانت لها عادة، فادعت انقضاء العدة لأقل من عادتها، فهل يقبل قولها؟ فعلى وجهين: أحدهما - يُقبل؛ تعويلاً على إمكان الصدق، وليس اضطراب العادة أمراً بدعاً، وقد يغلب على النسوة تفاوت [الأدوار] (1)، وهو على الجملة من فضلات

_ (1) في الأصل: الأدواء.

الطبيعة، ويجوز تفاوت نقصانها وزيادتها بالأغذيةِ، واختلافِ الأحوال، وهي مؤتمنة على الجملة. والوجه الثاني - أنه لا يقبل قولها. قال القاضي: هذا هو الأظهر، وعليه يدل نص الشافعي في (الكبير)، فإنه قال: " لو كانت لها عادات مختلفة، فادعت انقضاء العدة لأقل عاداتها، قَبِلتُ ذلك "، ومفهوم النص أنها لو ادعت الأقل من أقل عاداتها لا يقبل قولها، وهذا محل الوجهين أيضاً. 9770 - ثم تفصيل الاثنين والثلاثين واللحظتين -على قولٍ، حيث يُقبَلُ- أن يفرض الطلاقُ في آخر الطهر بحيث يستعقب لحظةً واحدة، فهذه اللحظة قرء، ثم إنا نفرض بعدها يوماًً وليلة دماً، وخمسةَ عشرَ يوماًً طهراً، ويوماًً وليلة دماً، وخمسةَ عشر يوماًً طهراً، ثم تطْعَن في الحيضة الثالثة، ومجموع ما ذكرناه اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان. فإذا فرعنا على قول الانتقال، فنفرض الطلاق معلقاً بالجزء الأخير من الطهر، فيستعقب وقوعُ الطلاق يوماً وليلة [دماً] (1)، والانتقالُ محسوب قرءاً، ثم بعد الدم خمسةَ عشرَ [طهراً] (2)، وبعدها يوم وليلة [دماً] (3)، وبعد الدم خمسة عشر يوماً [نقاءً] (4)، ثم تطعن بلحظة من الحيض، فتنقُصُ المدةُ بلحظة عما ذكرناه؛ لاحتسابنا الانتقال إلى الحيض قرءاً. هذا أقل الإمكان والطلاقُ واقعٌ في الطهر. فأما إذا وقع الطلاق في الحيض، فأقل ما تصدّق فيه على انقضاء العدة سبعة وأربعون يوماً، ثم لا بد من لحظةِ الطعنِ في الحيضة الأخيرة، وبها يتبين الانقضاء، كما سنشرح ذلك بعدُ، إن شاء الله، وذلك أنا نفرض وقوع الطلاق في اللحظة الأخيرة من الحيض، وليست محتسبة من العدة، وبعدها خمسة عشر يوماًً طهراً، ويوماًً وليلة

_ (1) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام. (2) زيادة من عمل المحقق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة لوضوح العبارة.

دماً، وخمسة عشر طهراً، ويوماًً وليلة دماً، وخمسة عشر يوماً طهراً، ثم تطعن في الحيضة الأخيرة. 9771 - وإذا قال لها: إذا ولدت، فأنت طالق، فإذا طُلِّقت بالولادة، فقد قال الأصحاب: أقل ما تُصَدَّقُ على انقضاء العدة سبعةٌ وأربعون يوماًً ولحظتان، لحظة للنفاس؛ فإنها أقل النفاس، وخمسة وأربعون يوماًً لثلاثة أطهار، ويومان لحيضتين متخللتين بين الأطهار، واللحظة الثانية لتبين انقضاء العدة. وهذا يخرّج على أحد المذاهب؛ إذ قد اختلف أصحابنا في أن المرأة إذا عاودها في مدة النفاس بعد مضي أقل الطهر حيضٌ، فذاك نفاس أو حيض؟ منهم من قال: هو حيض، فعلى هذا يخرج ما ذكرناه، ومنهم من قال: ذاك نفاس، فلا نصدقها إذاً في انقضاء العدة في هذه المدة؛ [إذْ] (1) لا يُحتسب الخمسةَ عشرَ الواقعةُ نقاء طهراً معتداً به قرءاً. وهذا تفصّل في تفريع التلفيق من أبواب الحيض. ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه في السبع والأربعين ولحظتين إذا نُفست، وقد يتصور عندنا أن تلد المرأة ولا تنفَس أصلاً، ويتصل الطهر بالولادة، فعلى هذا تسقط لحظة وضعناها لأقل النفاس. 9772 - ومما أخرناه وهذا أوان بيانه أن اللحظة التي يقع الطعن بها في الحيض، فهي (2) التي سميناها لحظةَ التبين فيها كلام، وظاهر النص أن اللحظة الواحدة كافية، وإذا ثبتت، فقد خلت عن العدة، وحلَّت للأزواج. وحكى البويطي أيضاً عن الشافعي أنه لا يقع الحكم بانقضاء عدتها ما لم يمض بها يوم وليلة؛ فإنا لا نأمن أن ما رأته من الدم دمُ فساد، وقد ينقطع على ما دون الأقل المعتبر في الحيض، فاختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) كذا: (فهي) بالفاء. وما أُراه تصحيفاً عن (الواو) فهذا معهود في لغة إمام الحرمين وغيره من أهل عصره. والله أعلم.

وهو الظاهر أن اللحظة الواحدة كافية؛ لأنها في الظاهر حيض، واليقين ليس مطلوباً فيما نحن فيه. والثاني - أنه لا يحكم بانقضاء العدة ما لم يمض يوم وليلة، ووجهه بيّن. وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً مخرجاً، وهو أنها إن رأت الدم على موجب عاداتها، فاللحظة الواحدة كافية، وإن رأت الدم على خلاف العادة، فلا بد وأن تتربص يوماً وليلة. هذا مسلك الأصحاب: منهم من قطع بالاكتفاء باللحظة الواحدة وجعل قول البويطي محمولاً على الاحتياط، والاستظهار. ثم اللحظة التي يقع اليقين بها أو اليوم والليلة [على القول البعيد] (1) هل تكون محسوبة من العدة أم لا؟ ذكر العراقيون والقاضي وجهين أحدهما -[أنها ليست من العدة] (2) وهو الأصح الذي لا يسوغ غيره؛ فإنه للتبين حتى نعلم أن الأقراء الثلاثة [انقضت، و] (2) هي من العدة بمثابة استظهار الصائم بلحظة من أول الليل وآخره، وهو [كأخذ المتوضىء جز] ءاً من رأسه في محاولة استيعاب الوجه بالغَسْل. والوجه الثاني - أنه من العدة؛ فإنـ[ـه يجب فيه] (2) الاحتباس؛ لأنه لا بد منه، وهي فيما نسميه طعناً في الحيضة الأخيرة [محتسبة في غير] (2) هذا الوجه، وقد قضَّيت العجبَ من حكاية القاضي له. 9773 - ومما نذكره في اختتام هذا الفصل أن المرأة إذا ادعت انقضاء العدة في مدة لا يحتمل انقضاءُ العدة في مثلها، فلا شك أنا لا نصدقها؛ فإنها ليست تدعي أمراً ممكناً على قاعدة الشرع، فإذا مضى من وقت دعواها زمانٌ يمكن انقضاء العدة الآن [بجَمْع] (3) ما تقدم وما تأخر، فهل تصدق والحالة هذه؟ تفصيل المذهب فيه: أنها إن كذّبت نفسها فيما قدمته من دعوى الانقضاء،

_ (1) مكان كلمات مطموسة تماماً في الأصل. وهذا تقدير منا. (2) تقدير منا مكان المطموس بالأصل. (3) في الأصل: بجميع.

وقالت: الآن انقضت عدتي؛ فإنها تصدق، ويقبل قولها، ولو أصرت على دعواها الأولى، فهل يحكم بانقضاء عدتها إذا انضم إلى الزمن الأول من الزمان ما يظهر الاحتمال فيه؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه لا يحكم بانقضاء العدة؛ فإنها ليست تدعي الانقضاء على حسب ما يُرى التصديق فيه، وما ادعته باطل، لا سبيل إلى التصديق فيه، وهذا صححه القاضي. والوجه الثاني - أنها تصدق؛ فإن إصرارها على ادعاء الخلو عن العدة بمثابة تجديد ادعاء الانقضاء، وربما كان يقطع شيخي بهذا ولا يذكر غيره، والأقيس ما ذكر القاضي (1). ولكن في هذا الوجه غائلة، وهي أنها لو أصرّت على دعواها الأولى إصرار من لا ينزل عن سابق قوله، فلا موقف والحالةُ هذه يُنتهى إليه ويُحكم إذ ذاك بانقضاء العدة، وهذا بعيدٌ إذا لم يكن قد تباعدت حيضتها، فلا وجه إلا تنزيل قولها على أقل مراتب الإمكان. وما ذكرناه يناظر مسألةً في تكذيب المخروص عليه الخارصَ على قولنا: الخرصُ حكم، فإذا ادعى المخروص على الخارص غلطاً فاحشاً يندُر وقوعُ مثله للخبير بالغرض، فهذا غير مقبول منه، ولكن إذا ردَّ قولَه فيما لا يمكن، هل يقبلُ في القدر الممكن؟ فيه اختلافٌ، والأوضح قَبُول قول المخروص عليه في القدر الذي لو لم يدع غيره، لقُبل، والخلاف وإن جرى في المسألتين، فالأصح في مسألة الخرص التصديقُ في القدر الممكن؛ لأن [عين] (2) دعواه تشتمل على القليل والكثير، فلا يبعد

_ (1) خالف في ذلك ابن أبي عصرون، وتعقب الإمام قائلاً: قلت: ويجب الحكم بانقضاء عدتها مطلقاً؛ لأنا لم نكذبها في مضي المدة، بل في إمكان حصول الأقراء فيها، وإذا مضى بعد ذلك زمانٌ مع ضمه إلى المدة الأولة يتحقق فيه إمكان الانقضاء، فلا وجه للاختلاف، ولا لتفصيل الإصرار؛ فإن المصرّ لم ينزل عما ادعاه أولاً، ولو نزل ما كان مصرّاً ". ا. هـ (ر. صفوة المذهب: جزء (5) - ورقة (141) يمين). (2) في الأصل: غير.

أن يُردّ في مقدارٍ ويقبلَ في مقدار، وهذا لا يتحقق في التي ادّعت انقضاء العدة لزمانٍ لا يحتمل؛ فإن دعواها لا تشتمل على ما ذكَرتْ وعلى ما بعده. فصل قال: " فأقل ما علمناه من الحيض يوم ... إلى آخره " (1). 9774 - تعرض الشافعي لأقل الحيض وأكثره، وأقل الطهر، وقد أجرينا فصولَ الحيض في كتابه، على نسقٍ لا نرى عليه مزيداً، فلم نغادر -فيما نظن- لطالبٍ مطلباً، فلتُطْلب هذه الأصول من كتابها. 9775 - ثم قال: " ولو طبق بها الدم ... إلى آخره " (2). وهذا خوض منه في أحكام الاستحاضة، فلا مطمع للخوض فيها، وقد جرى على بيانٍ شافٍ. والذي يتعلق بأمر العدة من جملة تلك الأحكام [أحكامُ] (3) الناسية، وتفصيل القول في أن عدتها بماذا تنقضي؟ فإن جعلنا الناسيةَ في أحكامها كالمبتدأة، فهي في عدتها كالمبتدأة، وإن أمرناها بالاحتياط في عباداتها ووجوب اجتنابها، كما تفصّل في موضعه، فالذي ذهب إليه الأئمة أنها مردودة في عدّتها إلى الأهلّة [والدم دائم] (4) عليها؛ فإن الغالب أنه لا يخلو شهر عن حيض وطهر، سيّما إذا كانت ترى الدم المستمر. ثم الذي نقله المزني أنه إذا أهل الهلال الرابع، فقد انقضت عدتها. ونقل الربيع إذا أهل الهلال الثالث، فقد انقضت عدتها. فمن أصحابنا من قال صورة نَقْل المزني إذا كان قد طلقها والباقي من الشهر خمسةَ

_ (1) ر. المختصر: 5/ 5. (2) ر. المختصر: 5/ 6. (3) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "إلى الأهلة والدائم عليها" والمثبت من تصرّف المحقق.

عشرَ يوماً، أو أقلُّ، فلا يحسب ذلك قرءاً لاحتمال أنَّ كله حيض، فإذا أهلّ الهلال، ومضى هلالان بعده، وأهلَّ الرابعُ، حكمنا بانقضاء العدة، فتتربص بقية الشهر في الصورة التي ذكرناها، وثلاثةَ أشهر بعدها، ويقع الحكم بانقضاء العدة عند استهلال الرابع. وهذا القائل يقول: صورة ما نقل الربيع: إذا كان الباقي من الشهر بعد وقوع الطلاق أكثرَ من خمسةَ عشرَ؛ فإنا نحسب تلك البقية؛ لأنا نقطع بأن فيه جزءاً من الطهر، فهذا مسلك الأصحاب. 9776 - [وهناك] (1) من قال: يحسب بقية الشهر قرءاً، وإن كان أقلَّ من خمسةَ عشرَ؛ لأن الغالب أن طهر المرأة يقع في آخر الشهر. وهذا هذيان عظيم. ويمكن ذلك بتلفيقٍ في الكلام أحسن من هذا. ثم هذا القائل زعم أن الشافعي فيما نقله المزني [عدّ] (2) الشهر الذي وقع الطلاق فيه، وقدّر كأنا استهللنا هذا الهلال التفاتاً إلى الاستهلال الواقع قبل الطلاق، ثم نحسبُ هذا وشهرين بعده، فيقع الاستهلال بعد ذلك رابعاً، وفي رواية الربيع لم يعتبره من طريق الشهر الذي وقع الطلاق فيه، واعتبر شهرين بعد ذلك، وعبّر عن الاستهلال الثالث؛ فآل الاختلاف إلى العبارة، وللعبارتين وجهان سائغان. وهذا يناظر اختلاف النص في ضبط مسافة السفر الطويل، قال الشافعي في موضع: ثمانيةٌ وأربعون ميلاً، وقال في موضع: ستةٌ وأربعون ميلاً، فحيث ذكر الثمانية عدّد الميلَ الذي هو المبدأ والميلَ الذي إليه الانتهاء وحيث ذكر الستة، لم يعتبر ميلين: المبدأ والمنتهى، واعتبر ما بينهما، والأمر في ذلك قريب. والذي تحصَّل لنا فيه الاختلاف في أن البقيةَ بعد وقوع الطلاق إن كانت أقلَّ من خمسةَ عشرَ، فهل يقع الاعتداد به قرءاً، وفيه ما قدمناه. وقد نجز ما اختاره أئمة المذهب.

_ (1) زيادة على ضوء عبارة ابن أبي عصرون، وبها يستقيم الكلام. (2) في الأصل: عند.

9777 - وقد يدور في نفس الفقيه أنا إذا تناهينا في التغليظ على الناسية في عبادتها وتحريم الزوج عليها معظمَ عمرها، فليس يليق بهذا التشديدِ أن نتساهل في أمر العدة، حتى ننتهي إلى اعتبار الأهلة والأشهر، وليست هي من اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن؟ ذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من [احتاطَ] (1) في عدة الناسية على قول الاحتياط، كما يحتاط في سائر أحكامها، ثم سبيل الاحتياط والتغليظ أن يقدِّر جميعَ ما تراه دمَ استحاضة، ويقدرَ كان الحيضة قد تباعدت، ثم القول في أن المرأة إذا تباعدت حيضتُها إلى ماذا تُردّ مذكورٌ بين أيدينا، فقد نقول: تصبر إلى سن اليأس في قولٍ، وقد نأمرها أن تتربص تسعةَ أشهر، أو أربعَ سنين على ما سنذكر ذلك على أثر هذا. وهذا الذي ذكره حسن منقاس. 9778 - والذي يجب إنعام النظر [فيه] (2) طلبُ ما رغَّبَ الأصحابَ عن هذا، وذكرُ السبب الذي منعهم عن رعاية هذا الضرب من الاحتياط، ولا يمكن حمل ما نطلبه على امتناعهم عن التناهي في التشديد؛ فإنهم [شدّدوا] (3) من وجوهٍ. فالوجه أن الدم [إن] (4) تمادى إلى سن اليأس واستمر بعده، فالاحتياطات المتعلقة بالحيض والطهر لا تنقطع (5) على قول الاحتياط، وأقصى ما يفرض في العدة انتظارُ سن اليأس، وهذا مضطرب مع اطراد الدم، وما ذكره صاحب التقريب مع هذا قائم من وجهين: أحدهما - أنا قد نأمل انقطاع هذا على سن اليأس. والوجه الأصح- ألا نبالي باستمرار الاحتياط في العدة، والذي يحقق هذا أن

_ (1) في الأصل: احتياط. (2) في الأصل: منه. (3) في الأصل: سدّدوا. (4) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (5) "فالاحتياطات المتعلقة بالحيض والطهر لا تنقطع على قول الاحتياط": أي لا تتناهى في أفانينها وضروبها، ولذا رغب الأصحاب عن قول الاحتياط.

مصيرها إلى سن اليأس في أقصى نساء العالم لا يغير الاحتياط، وكان لا يبعد عندي أن يتمسك متمسك بهذا؛ فإن سبب الاحتياط في الناسية أنا لا نجد متمسكاً. فالعلم عند الله. وقد يجوز أن يقال: لو تمادت العدة على ما وصفنا، لعظمت المؤنةُ في السكنى إن كانت بائنة، وهذا يدخل عليه تباعد الحيضة، وكان يليق بتضييق الاحتياط ألاّ تستحق السكنى؛ فإنها مخاطبة بما عليها، وهذا لا بد من إجالة الفكر فيه على الوجه الذي حكاه صاحب التقريب، وفيه احتمال بيّن، والعلم عند الله. وقد ينقدح هذا الاحتمال إذا جرينا على ظاهر المذهب، وقلنا: إنها تعتد بالأهلة. [وإذا] (1) قال قائل: لا يمتنع انقضاء عدتها بأقل من ذلك، فلا تثبتوا لها حقَّ السكنى على الزوج إلا في أقل مدة يفرض انقضاء العدة [فيها] (2). قلنا: هذا لا قائل به، والأهلّة في حق الناسية أصلٌ معتبر في العدة، يُرجع إليه [في] (3) جميع قضايا العدة، وعلى هذا يثبت للزوج حقُّ الرجعة في جميع الأهلة المعتبرة؛ فإنا اعتقدنا هذا أصلاً غير مبنيٍّ على الاحتياط، والأهلة في حقها كالأهلة في حق الصغيرة والآيسة، فهذا هو الذي رأينا ذكره من أحكام المستحاضات وما عداه مما اشتمل (سواد المختصر) (4) عليه كلِّه مستقصىً في كتاب الحيض. 9779 - ثم ذكَرَ التلفيق (5) وهو باب كبير من أبواب الحيض، وحظّ العدة منه لائح، فإذا كانت ترى يوماًً دماً ويوماً نقاءً، وفرعنا على أنها في أيام النقاء طاهرة، فلا

_ (1) في الأصل: إذا (بدون الواو). (2) في الأصل: فيه. (3) في الأصل: من. (4) هنا جمع بين لفظ (السواد) و (المختصر) فأضاف السواد إلى المختصر، ولعل هذا يرجح أن لفظ السواد معناه (المتن) أو (الأصل)، فكأنه قال: متن المختصر، أو صلب المختصر، أو أصل المختصر. والله أعلم. وقد سبق أنه ورد مثلُ هذا، وعلقنا عليه في موضعه. (5) ر. المختصر: 5/ 7.

يقع الاكتفاء بعددٍ من نُوب النقاء؛ فإن الطهر الواحد ينقطع على الحيض، والحيض ينقطع على الطهر، فإن انضبط لنا مقدار الحيض والطهر في تفاصيلِ المستحاضات، فهي مردودة في العدة إلى ما يتقدر من ذلك، وإن كانت ناسية، فليس يتبين لحيضتها ولا لطهرها مقدارٌ، وترد إلى أحكام [الناسية في عدتها] (1)، ومثل هذا مما يُستأنى به في هذه المنازل. فصل قال: " ولو تباعد حيضها، فهي من أهل الحيض ... إلى آخره " (2). 9780 - الصغيرة عدتها بالأشهر، فلو بلغت بالسن ولم تر دماً؛ فإنها تعتد بالأشهر أيضاً باتفاق العلماء وإن بلغت سنَّ إمكان الحيض وجاوزته، فالتعويل في ذلك على نص القرآن قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] وهذه من اللائي لم يحضن، وليس في القرآن تعرض للبلوغ في الاعتداد بالأشهر. ولو رأت الدم بعدما اعتدت بثلاثة أشهر، فلا حكم لما رأت، وقد جرى الحكمُ بانقضاء العدة، وإذا كان هذا قولَنا فيها، فهو إذا رأت الدّم بعد العدة قبل النكاح، فما يُظن بها إذا اعتدت بالأشهر، ونكحت، ثم رأت الدم؟ فلا حكم للدم، وما قضينا به من انقضاء العدة لا ينقضه. 9781 - فأما التي حاضت ولو مرة، ثم ارتفعت حيضتها، فبماذا تعتد إذا طُلّقت، وإلامَ ترد؟ لا يخلو ارتفاع الحيضة إما أن يكون لعلةٍ معلومة، وإما ألاّ يعرفَ له سبب وعلةٌ ظاهرة، فإن كان الارتفاع لعذرٍ من مرض، أو رضاعٍ، أو داء بباطنها، فإذا طلقت، فلا بد من انتظار الحيض؛ فإن ارتفاعه معلَّقٌ بسببٍ وعلة، وهي مُرتَقبةُ الزوال.

_ (1) في الأصل: " إلى أحكام الناسية في عدة الثانية " وهو كلام غير مستقيم. (2) ر. المختصر: 5/ 7.

فإذا كنا نتوهم عَوْد الحيض بزوال العلة، فلا وجه إلا انتظار ذلك، فإن تمادى الانتظارُ حتى انتهت إلى سن اليأس، فتعتد إذ ذاك بالأشهر، وتندرج تحت قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] الآية. 9782 - وإن ارتفعت حيضتها من غير سبب وعلة ظاهرة؛ فللشافعي ثلاثة أقاويل في اعتدادها: قولان في القديم، وقول في الجديد ونجمع الأقاويل: أولاً قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أنها تنتظر سن اليأس، ثم تعتد إذا انتهت إليه بثلاثة أشهر. والقول الثاني - أنها لا تنتظر سن اليأس، وعلى هذا القول قولان منصوصان في القديم: أحدهما - أنها تتربص تسعة أشهر، ثم تعتد بثلاثة أشهر ثم تنكِح، وروي مثل ذلك عن عمر (1): " قضى به في التي ارتفعت حيضتها "، وقلّده الشافعي في القديم، وكان يرى إذ ذاك تقليدَ أئمة الصحابة، وقال في القديم في توجيه ذلك: أمير المؤمنين قضى به بين يدي المهاجرين والأنصار، ولم ينكر عليه أحد، وأشار أيضاً إلى أن الحمل في الغالب لا يمكث في البطن أكثرَ من تسعةِ أشهر، فوقع الاكتفاء بذلك في الاستظهار. والقول الثاني - أنها تتربص أربعَ سنين، ثم تعتد بثلاثة أشهر، وتنكِح؛ إذ الحمل قد يمكث في البطن أربع سنين، فبلّغنا أمد الاستظهار مبلغاً يفيدُنا يقينَ البراءة، ثم لا بد من العدّة بعد ذلك تعبداً، فتتربص ثلاثة أشهر. ثم أنكر الشافعي في القديم على القولين الردَّ إلى سن اليأس لما فيه من المضرّة العظيمة واستمرار الأَيْمة (2) في معظم العمر، ثم إذا بلغت سنَّ اليأس، تقاعدت الرغبات عنها، ويعظم الضرر على الزوج من مؤونة العدة.

_ (1) قضاء عمر في التي ارتفعت حيضتها، رواه مالك في الموطأ (2/ 582 ح 70)، والشافعي (ترتيب المسند 2/ 58 ح 190)، وعبد الرزاق في مصنفه (6/ 319)، والبيهقي في المعرفة (11/ 190). (2) الأَيْمة: مصدر آمت المرأة: أيْماً وأُيوماً وأيمة. إذا أقامت بلا زوج، بكراً كانت أو ثيباً (المعجم).

والقول الثالث (1) المنصوص عليه في الجديد- أنها تنتظر سنَّ اليأس، واحتج بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] الآية. ثم قال: ليست هذه من اللائي يئسن، ولا من اللائي لم يحضن، فلا بد فيها من انتظار الحيض، فإن عاد، فذاك، وإن لم يعد، اندرجت -إذا بلغت سن اليأس- تحت قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ}. ثم استأنس بمذهب عبد الله بن مسعود فيما روي أن أبا الأحوص طلّق امرأته وهي من ذوات الأقراء، فارتفعت حيضتها، قال عبد الله بن مسعود (2): "أبقى الله الميراث بينكما، لا تنقضي عدتها حتى تحيض أو تأيس" وطلق حَبّانُ بنُ منقذ امرأته، وكانت من ذوات الأقراء، وكانت تُرضع ولده، فارتفع حيضتها تسعةَ عشرَ شهراً، فمرض حَبّان، فخاف أن يموت، فترثه، فسأل، فقال عثمان لعلي وزيد رضي الله عنهم: ما تريان فيهما؟ فقالا: نرى أنها لو ماتت ورثها ولو مات ورثته؛ فإنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن، قال علي: هي على عدة حيضها، فرجع حَبّان إلى الدار وانتزع الولد منها [ففقدت] (3) الرضاع، وحاضت، فلما مضى بها حيضتان مات حَبان فورثته (4). فإن قيل: القصة في انقطاع الحيضة لعلةٍ، وإن كان كذلك، فلا خلاف. قلنا: الحجة في قولهما وتعليلهما، لا في حال المرأة، وقد دل قولُهما على أن المعتبر الحيض إذا لم تكن من اللائي لم يحضن. ومعتمد هذا القول من جهة المعنى أن العدة مبتنيةٌ على التعبد، ولا يختلف الأمر فيها باستيقان براءة الرحم وعدمِ الاستيقان، فلولا أن عدة الفراق في الحياة يختص وجوبها بالممسوسات، لحسُن إطلاقُ القول بأن العدة مبنية على التعبد المحض، فإذا

_ (1) جعله (الثالث) هنا نظراً لحكاية قولي القديم قبله، وإلا فقد عده الأول آنفاً. (2) أثر عبد الله بن مسعود رواه البيهقي في الكبرى (7/ 419) والمعرفة (11/ 191)، وسنده صحيح كما قاله الحافظ في تلخيصه (3/ 469 ح 1806). (3) غير مقروءة في الأصل: والتصويب من مختصر المزني. (4) فتوى علي وزيد في امرأة حبان بن منقذ، رواها الشافعي في الأم (5/ 212)، والبيهقي في الكبرى (7/ 419) والمعرفة (1/ 190). وانظر التلخيص: (2/ 468 ح 1805).

كان ذلك كذلك، فلا وجه فيها إلا الاتباعُ، وقد أوضحنا أن فحوى القرآن يقتضي في هذه الآية ألاّ يكتفى بالأشهر، فإذا سَلّم من يخالف في ذلك انقطاعَ الحيض بعلّة، فكل شابّة ترتفع حيضتها لا ترتفع إلا بعلة؛ فإنها بخروجها عن [اعتدال] (1) البِنْية تتقاعد (2). ولما لم يكن استئخار الحيض عن البلوغ معتبراً، وكانت ملتحقة بالصبيّة، لم يفرق بين أن يكون ذلك لعلة ظاهرة وبين أن يكون لأمرٍ خافٍ، تعويلاً على قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. 9783 - هذا بيان الأقوال في الأصل، ونحن نفرع عليها، فنقول: إن رأينا أن نأمرها بالتربص تسعة أشهر والاعتدادِ بعدها بثلاثة أشهر، فلو أنها رأت الدمَ في خلال مدة التربص بالأشهر التسعة، فإنها تنتقل إلى الأقراء؛ فإن هذه المدة ضربت لانتظار الحيض، فإذا عاد، فهو المقصود، ثم إن استمرت الأقراء بها، فذاك، وإن انقطعت، وارتفع الحيض، فقد أجمع المفرعون على أنا نأمرها بأن تستفتح التربصَ تسعةَ أشهر أخرى، ثم تعتد بعد هذه التسعة الأشهر بثلاثة أشهر؛ وسبب ذلك أن الأشهر التسعة مقصودُها طلبُ الحيض؛ فإذا رأت الدم، فهو الأصل، فإذا ارتفع، احتجنا بعده إلى طلبٍ جديد، وانتظارٍ مبتدأ، هذا إذا رأت الدمَ في أثناء التسعة الأشهر. فأما إذا انقضت التسعةُ، وشرعت في الاعتداد بالأشهر، فمضى شهر مثلاً، فرأت الدم، ردّت إلى الدم، فإن استمرت الأقراء، فذاك، وإن ارتفع الحيض أطلق المفرعون إيجاب التربّص على الابتداء تسعةَ أشهر، لِما بنينا عليه الكلامَ من أن الحيض مطلوبٌ، وسبيل طلبه وانتظارِه في هذا القول ما ذكرناه. وهذا ينتظم بسؤال وجواب عنه: فإن قيل كانت التسعةُ الأشهر لاستفادة غلبة الظن في براءة الرحم؛ فإنّ الحمل لو كان، لظهر في هذه المدة، فإذا حاضت، فالعود إلى

_ (1) في الأصل: "اعتداد ". وهو تصحيف يسير في شكله، ولكنه عنّانا كثيراً في فهم العبارة، وتقليبها على وجوه عدة، إلى أن ألهمنا الله سبحانه موضع هذا الخلل. (2) تتقاعد: أي عن الحيض.

التسعة الأشهر لا معنى له؛ فإن الحيضة التي انقضت لم تخرِم ظننا ببراءة الرحم، بل أكدّته؟ قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ فإن العدة تجب مع القطع ببراءة الرحم، كما ذكرناه، فلا وجه للتعلق به، وإنما اعتمد الشافعي رضي الله عنه لهذا القول قضاء عمر. فإن ذكر ذاكر معنى طلب [البراءة] (1) فهو ترجيح [لا يعتمد إلا على خياله] (2) والذي يحقق ذلك أن الحيض إذا طرأ، ثم ارتفع، فليس لارتفاعه منتهى نتخذه موقفنا، ولا بد من الانتظار، فلا وجه إلا التعلق بالمدّة التي جرى القضاء بها. ثم إذا تربصت بعد أن رأت الحيض في أشهر العدة تسعةَ أشهر، فلم يعاود الدمُ، فنأمرها بالبناء على ما كان مضى من العدة أم نأمرها باستئناف العدة بالأشهر؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنا نأمرها بالاستئناف، كما أمرناها باستئناف عدة التربص؛ فإن العدة قد تقطعت، وطرأ عليها ما هو أولى بالاعتبار؛ فالوجه الاستئناف. والوجه الثاني - أنا نأمرها بالبناء على ما مضى، والفرق بين العدة وبين مدة التربص أن المدة التي شرعت للانتظار والتربصِ تنقطع بطريان الحيض، ويليق بهذا المنتهى افتتاح انتظار، والعدة لم تثبت لانتظارٍ. والأوجه عندنا الأمرُ باستئناف العدة؛ لأن العدة وقعت بعد مدة الانتظار، وقد وقع الشهر قبل تمام الانتظار، إلا أنها عادت إلى مدة التربص، فالوجه أن أتقع العدةُ [كلُّها] (3) بعد نجاز التربص. التفريع: 9784 - إن حكمنا بأنها تستأنف، فلا كلام. وإن حكمنا بأنها تبني، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في كليفية البناء: أحدهما - وهو المشهور أنها تبني باعتبار حساب الشهور، فإن كان مضى شهر، تربصت شهرين تكملةَ الثلاثة الأشهر، وإن كانت -قبل طريان الحيض- تربصت ثلاثة أشهر

_ (1) غير مقروءة بالأصل. والمثبت تقدير منا. (2) في الأصل: "لا يعتمد على حياله" والمثبت من عمل المحقق. (3) ما بين المعقفين مأخوذ من معنى كلام ابن أبي عصرون، بل الأحرى بألفاظه نفسها، وهو مكان عبارة الأصل المضطربة التي جاءت هكذا: "فالوجه أن يدفع كله العدة بعد نجاز التربص".

إلا يوماًً، فتكتفي بالتربص يوماً واحداً، هذا معنى البناء. والوجه الثاني - أنا نعتد بما مضى قرءاً، إن كانت رأت الدم مرة، ثم نقول: إذا تباعد الحيض، فعليها قرءان، فإذا عدمتهما، أتت ببدل قرأين وهو شهران، وعلى هذا لو رأت الدم في اليوم الأخير من الثلاثةِ الأشهر، فإذا تباعد الحيض، اعتدّت بشهرين، وكذلك لو رأت الحيضَ في اليوم الأول. وهذا بعيد لا تعويل عليه؛ فإن حاصله تحصيل العدة ملفقة من الأصل والبدل، ونحن لا نرى التلفيق من أصول، فكيف الظن بالتلفيق من أصلٍ وبدل. وبيانه أن من لزمته كفارة اليمين وكسا خمسةً وأطعم خمسةً، لم يبرأ عن الكفارة، والإطعامُ والكسوةُ أصلان متعارضان. وقد ذكرنا حالتين في طريان (1) الحيض: إحداهما - فيه إذا طرى في التسعة الأشهر، وهي مدة التربص، والثانية إذا طرأ بعد الاشتغال بالعدة، فأما إذا طرأ

_ (1) خطّأ النووي -في التنقيح- هذا اللفظَ (الطريان) قائلاً: " قوله: " الطريان " هكذا يتكرر في الوسيط، وهو تصحيفٌ صوابُه (الطرآن) بالمد " ا. هـ (ر. التنقيح في شرح الوسيط- الوسيط: 1/ 442). ولجلالة الإمام النووي ومنزلته في الفقه واللغة والحديث كَرَرْتُ على الأجزاء التي كنت انتهيت من قراءتها وتدقيقها، وتتبعت الكلمة حيث وجدتها، وغيرتها إلى (طرآن). ولكن حائكاً ظل يحوك في الصدر ويَلْفتني بعنف إلى ما تجلّى من براعة إمام الحرمين اللغوية في كتابه البرهان وغيره، فقلتُ لماذا الاستسلام للإمام النووي؟ ولم لا يكون الصواب مع إمام الحرمين؟ فأخذت أبحث في أمهات المعاجم، فإذا بها تقول: طَرَى: جاء هذا الفعل مهموزاً: طرأ = طروءاً وطَرْءاً. وجاء (واوياً) غير مهموز: طَرَا: طُرُوّاً وجاء بالياء وكسْر الراء: طَرِي. وكلها تأتي بمعنى تجدد وجاء، وهو المراد هنا (ر. لسان العرب: مادة: ط. ر. أ، ط. ر. ى) ووجدتُ الصغاني في كتابه (التكملة والذيل والصلة) يحكي عن ابن الأعرابي (باب الياء) قوله: "طَرَى يطري، وطَرِيَ يطري، وطرِي يطري: إذا مرّ، وإذا أقبل، وإذا تجدّد" وبمثله في تهذيب اللغة. (ر. التكلملة والذيل والصلة 70/ 461، وتهذيب اللغة: 4/ 8) فعدتُ كرَّةَ أتتبع الكلمة حيث وردت لأردها إلى لغة الإمام (طريان)، والله وحده يهدي إلى الصواب.

الحيض بعد انقضاء التربص والعدة، فقد قال الأئمة إن رأت الدم بعدما نكحت، فلا حكم للدم، ولا نُتْبع النكاحَ بالنقض، وإن رأت الدم بعد الأشهر والحكمِ بانقضاء العدة قبل النكاح، فهل نردها إلى اعتبار الدم؟ المنصوصُ عليه أنها مردودة إلى الدم، فإنا مهما (1) حكمنا بانقضاء العدة على الظاهر وأن الحيض قد انقطع انقطاعاً لا يعود، فإذا عاد، تبيّنا أن ما قدرناه عدة لم يكن عدة. وذكر الأصحاب قولاً آخر أن العدة قد انقضت، ولا حكم لرؤية الدم بعد ذلك، كما لو نكحت. هذا هو الترتيب الذي ارتضاه المحققون، وفيه شيء سنذكره من بعدُ. وكل ما فرعناه على قولنا: إنها مأمورة بالتربص تسعةَ أشهر يجري على قولنا بأنها تتربص أربعَ سنين، حتى لو فرض عودُ الدم في أثناء السنين، فالأمر باستفتاح السنين ابتداءً والقضاءُ بإبطال ما مضى على ما تقدم حرفاً حرفاً. وقد يطرأ في فكر الفطن شيء في هذا المقام، وهو أن التسعة الأشهر قد جرى بها قضاء عمر وليس في اعتبار أربع سنين قضاءٌ ولا فتوى، [وإنما قاله] (2) الشافعي طلباً به للقطع ببراءة الرحم، فإذا طرأ الحيض، فأي معنى لإعادة السنين مرة أخرى؟ وهذا غير سديد، وإن كان مُخيلاً؛ فإن اعتبار [أربع] (3) سنين لا يجوز حمله على طلب يقين البراءة؛ إذ لو كان محمولاً على ذلك، لما وجب اعتباره مع القطع ببراءة الرحم، ولكنَّ نظرَ الشافعيِّ يُحمل على تحويمٍ على مسالك التشبيه؛ إذ لو اتجه هذا السؤال في طلب اليقين، لاتجه مثله في طلب غالب الظن بالبراءة بانقضاء تسعة أشهر، فإذا نظمنا على ذلك القولَ [بالاستئناف] (4)، فهو يجري على القول الآخر لا محالة. 9785 - فأما التفريع على القول الجديد، وهو أنها مردودة إلى سن اليأس، فاول

_ (1) مهما: بمعنى إذا. (2) في الأصل: فإنما قال. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: الاستئناف.

ما نذكره التردُّدُ في سن اليأس، وقد ذكر المعتبرون من أئمة المذهب قولين: أحدهما - أنا نردها إلى أقصى سنٍّ في اليأس لامرأة في دهرها، فإنا إذا احتجنا إلى اعتبارها بغيرها، فليس بعض النساء أولى من بعض، وعلى هذا يستقيم طلب النهاية. والقول الثاني - أنها تعتبر بأقصى سنٍّ في قرابتها وعشيرتها، ولا يُخصَّص بذلك جانبُ الأب عن جانب الأم، بل نعتبرهما، وليس هذا كمهر المثل؛ فإنا نعتبر فيه النساء من جانب قرابة الأب؛ إذ الركن الأولى بالاعتبار في مهر المثل النسب، وجانب الأب يختص بالنسب، وإنما تأكد أمر النسب لمكان الكفاءة، وعمادها الأظهر النسب. وذكر بعض المصنفين وجهين آخرين سوى ما ذكرناه: أحدهما - أنا نعتبر أقصى امرأة في بلدتها. والثاني - أنا نعتبر أقصى سن اليأس في نساء عصبتها، كمهر المثل، وهذان الوجهان ضعيفان، أما اعتبار البلدة، فلعله مأخوذ من تأثير الهواء والبقاع والأصقاع في الخِلَق الكلّيّة، كما أنها تؤثر في قِصَر الأعمار وطولها، وفي الألوان وغيرها، ثم لعلّ المرعيَّ فيه الصُّقع والناحية ولا يختص بالبلد، ويُقرِّب [اعتبارَه] (1) ظهورُ اختلاف الأهوية والعلم عند الله فيه، فلا نُمعِنُ الفكر فيما لا أصل له. وأما اعتبار نساء العصبات فلا أصل له. وقد يُعترض على قولنا باعتبار أقصى نساء العالم إشكالٌ؛ من جهة أن ذلك لا يمكن ضبطه، مع اتساع رُقعة الدنيا، والممكنُ في الجواب عن ذلك [أنا لا يمكن أن نكلّف طَوْف العالم والفحص عن سكانه، وإنما المراد ما يبلغ خبرُه ويعرَف] (2)

_ (1) في الأصل: اعتبار. والتصرف من المحقق. (2) ما بين المعقفين، هو كلام إمام الحرمين كما نقله عنه الرافعي والنووي (ر. الشرح الكبير: 9/ 441، والروضة: 8/ 372). وأما عبارة الأصل، فقد كانت هكذا: " أن ما لم نكف في الصرود والجزوم أمكن القضاء به ". وهو -طبعاً- غير مستقيم، ولعل التصوير أو عوامل البلى ذهبت ببعض أطراف الحروف ونقطها، مع احتمالٍ كبير في السقط والتصحيف والتحريف؛ فإن ما نقله الرافعي والنووي لا شبه له بما هو في نسخة الأصل. والله أعلم بما كان.

أمكن القضاء به على خِطّة الدنيا، وليس الغرض إلا التعلقَ بمُدرَكٍ من الظن. هذا قولنا في سن اليأس. 9786 - فإن قيل: أيليق بمحاسن الشريعة حبس هذه وضَرْبُ الأَيْمة عليها ما عُمِّرت؟ قلنا: الأصل المرعيُّ في هذا أن ما يعمُّ الابتلاء به لا يبنى إلا على السهل السمح، والأصول لا تُنقض بالشاذ النادر، وتباعدُ الحيض ليس مما يعم، فإن تمسكنا فيه بطرد أصلٍ لم نُبعد؛ سيّما وقد وجدنا في غير ما نحن فيه الوفاقَ إلى الرد إلى اليأس فيه إذا انقطع الحيض، بعلّةٍ ظاهرة، كيف [ولا] (1) ينقطع الحيض إلا لعلة، وكما يرجى زوال العلة الظاهرة يرجى زوال العلة الخفيّة، ولعل ما يخفى أقربُ إلى الزوال؛ إذ لو كان أمراً متفاقماً، لظهر. وهذا يناظر بناءَنا القصاصَ على [الردع] (2) ومصيرَنا إلى أن السبب في وجوبه عصمةُ الدماء، ولولا القصاص لأدى الأمر إلى الهَرْج (3). ثم إذا قال القائل: من لا يمين (4) له يقطع أيمان الناس، ولا قصاص عليه؟ قلنا: هذه صورة نادرة، والأصول لا تنقض بالصور النادرة، ومن الأصول أنه لا يقطع باليمين إلا اليمين (5). 9787 - فإذا ردَدْناها إلى سن اليأس، كما ذكرنا، فتعتد بثلاثة أشهر، فلو رأت الدم، رُدّت إلى الدم، فإن ما تراه من بطنها على سن اليأس على ترتيب الحيض حيضٌ بلا خلاف، وإن بلغت السنَّ الأعلى -وليس كرؤية الدم على سن الصغر، كما تفصّل

_ (1) في الأصل: فلا. (2) في الأصل: " الرد " والمثبت تقديرٌ منا. (3) الهَرْج: شدة القتل وكثرته (المعجم). (4) المعنى: أن من فقد يده اليمنى، يتهجم على قطع أيمان الناس، غير هيّاب؛ إذ لا قصاص عليه؛ إذ مبنى القصاص على المماثلة، فلا يقطع باليمين إلا اليمين. (5) هنا يشبّه الإمام عدم الاقتصاص ممن ذهبث يمينه، بحالة من يفرض عليها الانتظار إلى سن اليأس، ووجه الشبه الخروج عن الأصل، وعن المعنى المرعي والحكمة المرجوّة، وكلاهما بسبب الندرة، فالنادر لا حكم له.

أقلُّ الأسنان في ذلك (1) -[فنتبين] (2) أنها ليست آيسة (3)، فماذا تفعل؟ فإن استمرت عليها الدماء (4)، تخلت عن العدة، وتخلصنا عن تفريع أمرها. وإن تباعد الحيض (5)، فما الطريق؟ وإلى متى الانتظار؟ لم أعثر في هذا المنتهى إلا على مسلكين أقْربُهما ما ذكره القاضي من أن الحيض بعد وقوعه إذا ارتفع، احتسبنا من وقت ارتفاعه ثلاثة أشهر، وقلنا: إنها خلت عن العدة، ثم قد [يتغير] (6) هذا كما سنذكره، إن شاء الله، وإنما قلنا هذا، لأنا لا نجد مردّاً نستمسك به، فليس إلا اعتبار صورة العدة، وفي بعض التصانيف: أنا على هذا القول ننتظر الحيض تسعة أشهر: أغلب مدة الحمل، وهذا -وإن كانت الحاجة ماسةً إلى متعلق- لا أصل له، ولست [أدري] (7) هل يُجري صاحبُ هذا القول الأربعَ سنين. ثم قال القاضي: إذا شرعت في الاعتداد بالأشهر، ورأت الدمَ، وبطل ما كان مرّ من الأشهر، فتستأنف ثلاثة أشهر، وجهاً واحداً، وقد ذكرنا وجهين في التفريع على أنها لا ترد إلى سن اليأس، بل تؤمر بأن تتربص إلى تسعة أشهر، أو أربع سنين، فإذا حاضت في الاعتداد بالأشهر بعد التسعة أو بعد الأربع، ثم رأت دماً، ثم تباعد، وأعادتْ مدةَ التربص، كما أوجبناه، فهل تبني على ما مضى من عدتها أم تستأنف؟ فإذا كنا نُفرِّع على أنها مردودة إلى سن اليأس، فإذا افتتحت الأشهر، ورأت الدم، ثم تباعد، استفتحت الأشهر ولم تَبْنِ وجهاً واحداً، هكذا ذكره القاضي، وفرّق بأنا على القولين القديمين لسنا نبغي قُرباً من اليقين، فضلاً عن اليقين؛ فإنا نكتفي بتربصٍ

_ (1) المعنى: أن من بلغت سن اليأس، ثم عادت، فرأت الدم على أدوار، فهو حيض بلا خلاف، ولكن الصغيرة التي لم تبلغ سنَّ الإدراك إذا رأت الدم لا يعد حيضاً، وهذا هو الفرق الذي أثبته الإمام. (2) في الأصل: يتبين. (3) أي بعودة الدم بعد بلوغها أقصى السن تبيّناً أنها ليست آيسة. (4) أي استمرت عليها الدماء ثلاثة قروء، فتنتهي عدتها، وتنقطع قضيتها. (5) أي عاد الدم وانقطع. (6) في الأصل: تغيير. (7) زيادة اقتضاها السياق.

وأشهرٍ بعده، فإذا طرأ الحيض، ثم تباعد، لم نُبعد البناء على ما كان مضى من الأشهر. والمعتمد على القول الجديد الرد إلى سن اليأس، ووقوعُ الاعتداد بعدَه، وإذا رأت الدَم، ووقع الحكم بكونه حيضاً، فقد تحققنا أن تربصها في تلك الأيام من الأشهر، كان قبل سن اليأس، فلتقع عدة بالأشهر بعد اليأس، وهذا يوجب افتتاحَ العدة، وبطلانَ المصير إلى البناء. وهذا الفرق متجِه حسن. 9788 - ومما نفرعه على هذا القول، أنا لو رددناها إلى السن الذي ظنناه سن اليأس، واعتدت بثلاثة أشهر، ثم رأت الدم قبل النكاح، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نحكم بأن ما تقدم منها، لم يكن عدة، فننظر إلى الحيض، فإن استمر حتى انتظمت الأقراء، فهو المراد، وإن لم يستمر، افتتحت الاعتداد مرة أخرى؛ لأنا تبينا أن تلك الأشهر متقدمةً على اليأس. والقول الثاني - لا نحكم ببطلان العدة؛ لأن الحكم نفذ بكونها عدة، وسلّطناها على التزوج، تزوجت أم لم تتزوج، فلا نتتبع الحكم الذي تقدم بالنقض. هذا إذا رأت الدم بعد الأشهر الثلاثة وقبل النكاح. فأما إذا نكحت، ثم رأت الدم، ففي المسألة قولان مرتبان على القولين في الصورة الأولى، والفرق أنها اتصلت بحق الغير لما نكحت، فإن الزوج استحق في ظاهر الأمر منافعَ [بُضعها] (1)، فقطْعُ هذا الاستحقاق [بعيدٌ،] (2) وإذا رأت الدم بعد الأشهر وقبل النكاح، فلم يتعلق بها استحقاق الغير. وإذا جمعنا المسألة الأولى إلى الثانية، وقلنا: إذا انقضت الأشهر، فرأت الدّم، ففي المسألة أقوال: أحدها - أنا نبطل العدة تبيُّناً سواء نكحت أو لم تنكح، ثم إذا أبطلنا العدة، وقد نكحت، فحكم بطلان العدة يقتضي لا محالة القضاءَ ببطلان النكاح.

_ (1) في الأصل: نصفها. (2) في الأصل: لعبدٍ.

والقول الثالث (1) - أن نفصل بين أن ترى الدم بعد النكاح وبين أن تراه قبله، فإن رأته قبل النكاح، تبيّنا بطلانَ العدة، وإن رأته بعد النكاح، فلا أثر لما رأت، فإن قالوا: كيف يتجه قول من يقول: العدة لا تبطل، وقد بأن أنها مضت قبل سن اليأس؟ قلنا: هذا مبني على أنا لا نشترط استيقان اليأس، بل نكتفي بظهوره، وإذا ابتنى على ظهوره مضيُّ المدة المرعية في العدة، فلا يضر ما يطرأ من بعدُ، وإن كنا نتحقق بما ظهر أن الأمر على خلاف ما ظنناه، [وبنى] (2) الأصحابُ هذا على قواعد تُبنى على اشتراط أمور، ثم إنها تظهر، ثم يتبين الأمر على خلاف المظنون، وهذا بمثابة قولنا: إن المعضوب الموسر إذا أحجَّ عن نفسه، وكان به عضب يبعُد زوالُه، فإذا حج النائب، ثم زال العضب، ففي وقوع الحج عن المستنيب قولان. ومما يقرُب من ذلك أن من رأى سواداً، فظنه عدوّاً وصلى صلاة الخوف، ثم تبين أن ما تخيله لم يكن عدواً، ففي صحة الصلاة خلاف مشهور، ويقرب من هذه الأصول أن بيع الرجل مال أبيه على ظن أنه حيٌّ، ثم تبين أنه كان مات، وانقلب المبيع ميراثاً للبائع، وصادف معه حصولُ الملك، فهذه القواعد متناظرة، فالخلاف فيها آيل إلى أنَّ الحكم فيها على قولٍ بموجب الحقيقة، ونحكم على قولٍ آخر بموجب الظاهر، وإذا أجرينا الحكم به، لم ننقضه، وإن كان الأمر بخلافه. 9789 - ومن تمام الكلام في المسألة أنا ذكرنا في التفريع على قولي القديم أنها إذا تربصت كما أمرناها، واعتدت بثلاثة أشهر، فلو رأت الدم، ففيه خلافٌ قدمناه، ولو نكحت، ثم رأت الدم، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن رؤية الدم بعد النكاح لا أثر له تفريعاً على قولي القديم، وإنما الخلاف إذا رأت [الدمَ] (3) قبل النكاح [وبعدَ] (4) انقضاء الأشهر.

_ (1) هذا هو القول الثالث، أما الثاني، فهو مفهوم من المقام، وهو قسيم الأول: أنا لا نبطل العدة نكحت أم لم تنكح. (2) في الأصل: وبين. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: وبعده.

والفرق بين القول الجديد والقديم في التفريع الذي أشرنا إليه أنا لم نَبْنِ قولي القديم إلا على ظهور أمرٍ، وهذا يتأكد بانقضاء العدة من غير دم، ولسنا نعتمد الغاية القصوى، ولهذا لا نردها إلى سن اليأس، فلم يَقْوَ إذاً الحكمُ بإبطال العدة إذا رأت الدمَ قبل النكاح، فإن نكحت واتصل أمرها بثالثٍ، بَعُد أن نَلتفت على الدم، وعلى قول اليأس إذا رأت الدمَ بعد النكاح، تبين أن اليأس لم يتحقق، وهذا يتضمن الحكم من طريق التبين [بإبطال ما] (1) مضى وانعدام ما كنا نظن. وفي بعض التصانيف ما يدل على إجراء خلاف إذا رأت الدّم بعد النكاح، وإن وقع التفريع على قولي التربص في العدة. وهذا فيه بُعْدٌ، والله أعلم بالصواب. وقد نجز القول في تباعد الحيض وما على المرأة فيه. فصل قال: " ولو مات صبيّ لا يجامِع مثلُه ... إلى آخره " (2). 9790 - إذا مات الصبيّ الذي لا يولد له، فعدة امرأته بالأشهر والعشر، ولو كانت حاملاً، فوضعت الحملَ قبل انقضاء مدة العدة، لم تنقض العدة بوضع الحمل، خلافاًً لأبي حنيفة (3)، ولا فرق بين أن تكون حاملاً من الزنا وبين أن تكون حاملاً بولدٍ من وطء شبهة، فإذا كان منتفياً قطعاً عن الزوج، فلا تنقضي بوضعه عدّتُه. وهذا يفرض ويصوّر في حالة الحياة، فإذا طلق الرجل زوجته، فأتت بولدٍ نعلم قطعاً أنه ليس من الزوج، فعدة الطلاق لا تنقضي به، وقد يفرض ارتفاع النكاح في حياة الزّوج بفسخٍ، والزوجُ صبيٌّ لا يتصور أن يولد له، وأبو حنيفة (4) يخالف في عدة الفراق في الحياة وفي عدة الممات.

_ (1) في الأصل: لإبطال لما مضى. (2) ر. المختصر: 5/ 9. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 402 مسألة 908، المبسوط: 6/ 52، فتح القدير: 4/ 323. (4) ر. المبسوط: 6/ 52، فتح القدير: 4/ 323.

ولو كان نَفَى الزوج الحملَ باللعان -على قولنا: الحمل يُنفى- ثم ولدت الملتعنةُ المنفيَّ، فالذي رأيته مقطوعاً به أن العدة تنقضي بوضعها الولدَ المنفىَّ؛ وذلك لأنا وإن حكمنا بانتفائه، فلسنا نقطع بذلك، فلا يبعد أن يكون الزوج كاذباً في النفي، والقولُ فيما يتعلق بانقضاء العدة قولُها، وهي تدعي أن ولدَ اللعان ولدُ الملاعِن، فإنه ظَلَم لمَّا نفاه، وهي مقبولة القول فيما يتعلق بأمر العدة. هذا ما رأيت الأصحاب مطبقين عليه. 9791 - وقد يلتحق بهذا [الفصل] (1) مسألةٌ نرسُمها، ونذكر شرحَها بعد هذا في فصلٍ، فنقول: إذا قال الرجل لامرأته مهما (2) ولدت ولداً، فأنت طالق، فإذا ولدت ولداً ولحقها الطلاق، ثم أتت بعد ذلك بولد لستة أشهر فصاعداً، فنعلم قطعاً أن الولد الثاني حصل العلوق [به] (3) بعد البينونة، فإذا وضعت الولد الثاني، فهل نقول: تنقضي العدة بالولد الثاني؟ هذا هو الذي نرى أن نقتصر فيه على الوعد والإحالة، وهو قريب، [سنذكره] (4) بعد هذا، إن شاء الله تعالى. 9792 - ثم ذكر الشافعي بعد هذا (5) تفصيلَ القول في الخِصيّ، والمجبوب، والممسوح إذا طلقوا، فأتت نسوتُهم بأولاد، هل نحكم بانقضاء العدة؟ وهذا أمر قد قدمنا أصله في كتاب اللعان، والقولُ الجامع فيه أنا إن ألحقنا النسب، فإذا وضعت المرأة حملاً، انقضت العدة به، فإن نفاه باللعان، فلينتفِ، [ولم] (6) يتغير أمر انقضاء العدة بسبب اللعان.

_ (1) في الأصل: فصل. (2) مهما: بمعنى إذا. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: ما سنذكره. (5) ر. المختصر: 5/ 9. (6) في الأصل: (لم) بدون واو.

فإن لم يلحق النسب ببعض هؤلاء، ولم نُحْوَج إلى اللعان، فإذا أتت المرأة بولد، لم تنقضِ العدة. ثم قال الشافعي: " وإذا أرادت الخروجَ، كان له منعها ... إلى آخره " (1). 9793 - هذا فصلٌ أورده المزني في غير موضعه، ومضمونُه طرفٌ من الكلام في سُكون المعتدة منزلَ النكاح، والقول في هذا يأتي في بابٍ، ولكنا نذكره هاهنا للجريان على ترتيب [السواد] (2) مما يليق به، فنقول: إذا كانت المرأة في العدة وكانت تستحق السكنى على زوجها، فللزوج أن يُلزمها السكونَ مسكنَ النكاح، ويمنعَها أن تبرح إلى انقضاء العدة، وكذلك إذا أوجبنا للمعتدة عدة الوفاة السكنى في تركة الزوج، فالورثة يُلزِمون المرأةَ سكونَ مسكن النكاح. وإن حكمنا بأن السكنى لا تجب في عدة الوفاة، فلو تبرع الورثة بإسكانها وتقريرِها في مسكنِ النكاح، أو ببذل المؤنة إذا لم يكن للنكاح مسكن، فالذي ذكره القاضي وشيخي والأئمة: أنه يَلزمُها [ملازمةُ] (3) المسكن، يعني مسكن النكاح، فإن لم يكن للنكاح مسكن لهم أن يُلزموها بأن تسكن مسكناً يعيّنوه. وهذا قد يعترض فيه سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: إذا لم تملك المرأةُ مطالبةَ الزوج أو مطالبةَ الورثة، فكيف يمتلك هؤلاء مطالبتَها، والإنصافُ يقتضي التسويةَ بين الجانبين في حق الطلب؟ ولكن [لا معوّل] (4) على هذا؛ وذلك أن العدة واجبةٌ عليها وجوباً لا نجد إلى درائه سبيلاً، وعليها لحق الله ورعاية حق الزوج أن تلزم مسكناً يقتضيه الشرع، كما سيأتي تفصيل ذلك؛ فإذا قطعنا المؤنة، لم يبعد أن تتخير [الزوجة] (5) في الخروج،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 10. (2) في الأصل: السؤال. وتكرر أن (السواد) هو مختصر المزني. (3) في الأصل: ما يلزمه. (4) في الأصل: لا معدل. (5) في الأصل: الزوج.

كما لو [أعسر] (1) الزوج بالنفقة، فللمرأة أن تخرج، وإذا أدرّ الزوج النفقة، حرم عليها الخروج، ولزمها لزومُ مسكن النكاح، وشرح هذا يأتي في فصول السكنى، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " ولو طلق مَنْ لا تحيض من صغرٍ أو كبرٍ ... إلى آخره " (2). 9794 - الصغيرة التي لا تحيض، والآيسة التي تباعدت عن الحيض عدتهما بالأشهر، فإن صادف الطلاقُ أول شهرٍ، وهذا إنما يفرض بتقدير وقوع الطلاق في آخر جزء من الشهر تنجيزاً أو تعليقاً، والتعليق أقرب إلى التصوّر، وذلك أن يقول لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من الشهر، فإذا كان كذلك، استقبلت الاعتداد بثلاثةٍ من الأهلة، نقصت الشهور أو كملت، أو نقص بعضها وكمل البعض. فإن وقع الطلاق أو السبب الموجب للفراق في أثناء الشهر، فذلك الشهر يُحتسب بالأيام كاملةً، وإن اتفق نقصان ذلك الشهر (3). ثم الذي صار إليه الأئمة المعتبرون: أنا نُكمل الشهرَ الأول ثلاثين، ونعتبر شهرين بالأهلة بعد بقيةِ ذلك الشهر، ثم نكمل الشهرَ الذي وقع الطلاق فيه بالأيام من هذا الواقع بعد الهلالين. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه إذا انكسر ذلك الشهرُ من الأول، واقتضى الحال تكميله، فإنا نكمل الأشهر الثلاثة ثلاثين، ولا نعتبر الأهلةَ أصلاً، وهذا مذهب أبي حنيفة (4)، وله متعلّق معنوي لا بأس به، وهو أن الشهر الأول إذا انكسر، فإكماله يجب أن يكون متصلاً به، فإذا أكملتَ الشهرَ الأول من الثاني، انكسر الشهر الثاني،

_ (1) في الأصل: اعتبر. (2) ر. المختصر: 5/ 10. (3) أي وإن صادف أن كان ذلك الشهر تسعة وعشرين يوماً، فيكمل ثلاثين ما دام قد وقع الطلاق في أثنائه. (4) ر. مختصر الطحاوي: 218، مختصر اختلاف العلماء 2/ 381 مسألة: 885.

فيجب إكماله، وهكذا القول في الثالث؛ فيلزم من مجموع ذلك إكمال الشهور. وقيل: هذا مذهب [أبو] (1) عبد الرحمن [أحمد] (2) ابن بنت الشافعي (3). والمذهبُ ما قدمناه. ثم قال الأصحاب: إذا وقع الطلاق مع أول جزء من الشهر، فالشهرُ منكسر؛ فإن العدة تجب بعد وقوع الطلاق، فلا بد من تصوير وقوع الطلاق في آخر جزء في الشهر. 9795 - ثم الصغيرة إذا حاضت في أثناء الشهر، انتقلت إلى اعتبار الحيض، وهل تعتد بما مضى قرءاً؟ فعلى قولين بناهما الأصحاب على أن القرء ماذا؟ وزعموا: أنا إذا قلنا: القرء هو الانتقال إلى الحيض، فقد حصل هذا المعنى؛ فتعتد بما مضى قرءاً، وإن قلنا القرء طهرٌ أو بقية طهرٍ محتوشٍ بحيضتين، فلا تعتد بما مضى قرءاً. وهذا الكلام فيه اختلال؛ فإن اختلاف القول في الاعتداد بما مضى قرءاً معروف، وقول الانتقال كالمهجور الذي يُذكر استغراباً، وهو في حكم المرجوع عنه. فالوجه أن نقول في التوجيه: إن قلنا: لا يعتد بما مضى، فالسبب فيه أنه لم يكن نقاءٌ بين دمين، والقرء في اللسان عبارة عن الزمان الذي يُرخي الرحمُ الحيضَ فيه على مذهبٍ، أو عن الزمان الذي يَجْمعُ فيه الحيضَ ليُرخيَه، والوصفان جميعاً مفقودان في الأيام التي مضت على الصبية قبل أن (4) حاضت.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "محمد " وقد سبق هذا من قبل، ونبهنا عليه. (3) سوّغ لنا الزيادة والتغيير في الكنية والاسم أن الإمام النووي قال: " ويقع في كتب أصحابنا اختلافٌ كثير جداً في اسم ابن بنت الشافعي وكنيته، وأكثر ما يقع في كتب المذهب أن كنيته أبو عبد الرحمن وقال أبو حفص المطوعي في كتابه في شيوخ المذهب: إن كنيته أبو عبد الرحمن، واسمه أحمد بن محمد. فخالف في كنيته والصحيح المعروف أبو محمد، فاحفظ ما حققتُه لك من نسبه وكنيته " انتهى من تهذيب الأسماء واللغات (2/ 296). هذا، ولابن بنت الشافعي كنية أخرى لم يذكرها النووي، وقد ذكرها العبادي في طبقاته وهي: أبو بكر. (ر. طبقات العبادي 30، طبقات الإسنوي: 1/ 78، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 75، 76). (4) دخلت " أن " المصدرية على الفعل الماضي، وهو جائز سائغ، وإن لم يكن شائعاً. قال تعالى: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص: 82].

ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن قال: لا يرخي الرحمُ الحيضَ عن غير جمع؛ فإذا حاضت، ألحقنا ما تقدم على الحيض الأول بالقرء؛ حتى لا يحبَط ذلك الزمان من العدة، وهذا أولى من الأخذ من الانتقال؛ فإن صاحب الانتقال يشترط الانتقال من طهر إلى حيض، [فلم تكن] (1) هذه في طهر بين حيضين، فلا بد من إلحاق ذلك الزمان بالطهر إذا التحق به، فأي حاجة إلى التفريع على الانتقال. والآيسة إذا حاضت في الأشهر [ثم انتقلت إلى الأقراء] (2)، يجب القطع بأن ما مضى يعتد به قرءاً؛ فإنه واقع بين الحيضين: الذي مضى في عمرها وبين الحيض الذي وقع، وأكثر الطهر لا نهاية له. ثم (3) تعرض الشافعي لأقل أسنان الحيض، وهذا مما تقصّيناه في مواضع، ولا حاجة إلى إعادته. فصل قال: " ولو طرحت ما يعلم أنه ولد ... إلى آخره " (4). 9796 - المعتدة إذا ألقت جنيناً ميتاً، غير منتفٍ عمن منه الاعتداد، وبرىء الرحم، حكمنا بانقضاء العدة، إذا كان قد بدأ التخليق، وشكّلت الأعضاء، ولو ألقت عَلَقة، فلا حكم لإلقائها- وإن زعمت القوابل أنها أصلُ الولد. وإن ألقت لحماً، وقالت القوابل: إنها لحمُ ولدٍ، فقد نص الشافعي على أن العدّة تنقضي به، ونص في أمهات الأولاد على أن الجارية لا تصير به أم ولد، وقال في الجنايات: لا تجب الغرّة بسببه.

_ (1) في الأصل: " فله تسكن هذه " بهذا الرسم تماماً. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء صورة الكلمات، ورعاية للسياق. (2) عبارة الأصل: إذا حاضت في الأشهر ثم حاضت انتقلت إلى الأقراء. والمثبت تصرف من المحقق. (3) ر. المختصر: 5/ 10. (4) ر. المختصر: 5/ 11.

فاختلف أصحابنا: فمنهم من نقل الأجوبة في المسائل بعضَها إلى بعض، وأجرى في الكل قولين: أحدهما - أنه يتعلق به انقضاء العدة، وتثبت أمية الولد، ويتعلق به الغرة؛ تعويلاً على قول [القوابل] (1)، فإليهن الرجوع مهما (2) أشكل شيء مما يختصصن بمعرفته. والقول الثاني - أنه لا تثبت هذه الأحكام؛ لأن الملقَى ليس ولداً، وإخبارُهن عما سيكون لا تعويل عليه، وهو بمثابة قولهن: العلَقة الملقاةُ أصلُ الولد. ومن أصحابنا من أقرّ النصوص قرارها، وسلك طريق الفرق قائلاً بأن انقضاء العدة يتعلق ببراءة الرحم بسبب وضع الحمل، والذي وضعته يسمى حملاً، قال الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، والغرّة بَدل مولود، وأمية الولد مربوط صريحاًً بالولد، واسم [الولد] (3) لا يطلق على اللحم الملقى، ثم هذا القائل يقول: لا نُلْزَمُ (4) العَلَقَةَ في جانب العدة؛ فإن التي ألقتها لا تسمى حملاً. ثم ما ذكره الأصحاب من قول [القوابل] (5) في العَلَقة تكلّفٌ؛ فإنهن لا يقطعن بذلك في دمٍ قط، بخلاف اللحم. ومما ذكره الأئمة: القاضي والعراقيون: أنها إذا ألقت لحماً، وزعمت القوابل أنه بدأ فيه التخطيط الخفي، فهذا بمثابة التشكُّل والتخلق في الأعضاء، ولا يُنكَر أن يعرفن [مِنْ] (6) ذلك ما لا ندركه حسّاً، ومحل النصوص واضطراب الأصحاب فيه إذا قلن: لم يبدأ التخطيط الخفي والجلي، ولكن الملقَى لحمُ ولدٍ، هذا محل الكلام.

_ (1) في الأصل: قول القابل. (2) مهما: بمعنى (إذا). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) " لا نُلْزَمُ العلقة " أي لا يُحتَجُّ علينا بأنه يلزمنا -على قولنا تنقضي العدة بلقاء اللحم- أن نقول: بانقضائها بالعَلَقَة؛ فالعلقةُ لا تسمَّى حملاً. (5) في الأصل: قول القائل. (6) زيادة من المحقق.

فإذا قلن: لا ندري ما هو، فلا خلاف أنه لا يتعلق به حكم [من] (1) الأحكام: لا انقضاء العدة، ولا غيره. 9797 - ولو ادعت المرأة أنها ألقت جنيناً، فالذي أطلقه الأصحاب أنها مصدَّقةٌ في ذلك، ولو ادعت أنها ولدت ولداً ميتاً، فهل يقبل قولها في انقضاء العدة؟ فعلى وجهين، نصّ عليهما الأئمة في الطرق: أحدهما - أنه يقبل منها، كما يقبل قولها في الحيض وانقضاء العدة في الزمان الممكن، والوجه الثاني - أنه لا يقبل منها، فإن الولادة مما يمكن الإشهاد عليها، والغالب أن المرأة إذا طُلِقَتْ، شهدتها القوابل، فليس كونُها مشهودةً مما يندر، بخلاف إلقاء الجنين؛ فإن ذلك يَفجؤها، فيَصيرُ دعواها فيه بمثابة دعواها في الحيض. هذا هو المسلك المشهور. قال شيخي أبو محمد: من أصحابنا من ألحق إلقاء الجنين بادعاء الولادة؛ فإن المرأة إذا أَجْهَضَتْ، لحقها من العسر قريبٌ [مما يلحق] (2) الوالدة في أوان الولادة، ثم نحن أحوج إلى أقوال القوابل في الجنين، لنعلم أنه ولد أو لحمة منعقدة لفظتها الطبيعة. وهذا الذي ذكره منقاس، ولكنه غريب (3). 9798 - ولو قال الزوج قد طلقتك في زمان الحيض، فتطولُ عدتك لذلك، وقالت المرأة: طلقتني في زمان الطهر، فقد أطلق الأصحاب أقوالهم أن القول في ذلك قولُ المرأة؛ فإنها أعرف بما كانت عليه حالة الطلاق، من حيض أو طهر. ثم ذكر الشافعي القولين في أن ما تراه الحامل من الدم في زمان الحمل على ترتيب أدوار الحيض حيضٌ أو دم فساد، وهذا مما تقدم استقصاؤه في كتاب الحيض،

_ (1) في الأصل: في. (2) في الأصل: ما يتلحق الوالدة. (3) غريب: أي في الحكاية، بمعنى أنه لم يحكه الأصحاب. وهذا المعنى اصطلاح جرى عليه الإمام كثيراً، وظهر معناه واضحاً من السياق.

والذي يتعلق باحكام العدة فيه: أنا وإن حكمنا بأنه حيض، فلا يتعلق بالأطهار المتخللة بين [تلك] (1) الدماء انقضاء العدة، ولا بد من وضع الحمل، وقد ذكرنا في كتاب الطلاق، تعليق السنة والبدعة بها، وما ذكره الأصحاب من خلاف. فصل قال: " ولا تنكح المرتابة ... إلى آخره " (2). 9799 - إذا انقضت العدة بالأقراء أو بغيرها، فارتابت المرأة في نفسها، وكانت تجوّز أنها حامل، فاستشعرت من نفسها أمارةً على ذلك، فإن بلغت المبلغ الذي يقال فيه: إنها حامل، وإن كان لا يُستَيْقَن الحملُ في أصل الجبلة، فليس لها أن تنكح. وإن ارتابت ووجدت من نفسها علامةً، ولم تبلغ مبلغاً يقال فيها: إنها حامل، فهذا محل الكلام، وهو المعنيُّ بما أطلقه الأصحاب من الارتياب، وذلك بأن تجد ثقلاً في نفسها، فينبغي أن تمتنع من النكاح إلى أن تزول الريبة. فلو نكحت قبل زوال الريبة، فالمنصوص عليه في المختصر أن النكاح موقوف، وقال الشافعي: في موضع آخر: النكاحُ باطل. واختلف أصحابنا: فمنهم من جعل المسألة على قولين، ثم اختلفوا في أصل القولين: منهم من قال: أصله وقف العقود على ما نبيّن، ومن صور هذا الأصل أن يبيع عبداً لأبيه على [تقدير] (3) حياته، ثم تبين أنه كان ميتاً، وكذلك لو كاتب عبداً كتابة فاسدة، وحسبها صحيحة، ثم باعه، وتبين أن الكتابة كانت فاسدة، ففي صحة البيع قولان. فإذا ارتابت ونكحت، فهذا [يؤخذ] (4) من الوقف عند هذا القائل.

_ (1) في الأصل: ذلك. (2) ر. المختصر: 5/ 11. (3) في الأصل: " تعدي " وهو تصحيف واضح. (4) في الأصل: يوجد.

قال بعض أصحابنا: هذا البناء غير صحيح؛ فإنه جرى ما هو انقضاء عدّةٍ في الظاهر، ولم يظهر أمر مخالف له، فلو كان مأخوذاً من الوقف، لقيل هذا العقد يصح قولاً واحداً. فالوجه أن نبني القولين على أصل آخر، وهو أن من شك في صلاته في عدد الركعات مثلاً، فإنه يبني على المستيقن ويتمادى في صلاته، ولو شك بعد الفراغ من الصلاة: أصلى ثلاثاً أم أربعاً؟ ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يلزمه الالتفات على شكه، وقد انقضت الصلاة على حقها، ثم من يُلزم تتبع الشك بعد الفراغ، فتفصيله مذكور في كتاب الصلاة. ووجه تشبيه ما نحن فيه بذلك أنها لو ارتابت في أثناء العدة؛ فإنها لا تنكح، وإن انقضت صور الأطهار على ظاهر المذهب، وكانت مؤاخذة بتلك الريبة كما يؤاخذ المصلي، فإذا ارتابت بعد انقضاء ما به الاعتداد، كانت كالمصلي يرتاب بعد التحلل عن الصلاة ظاهراً. ثم ينشأ من اختلاف الأصحاب في مأخذ القولين ما نصفه، فإن حكمنا بأن القولين مأخوذان من وقف العقود، فلو طرأت الريبة في أثناء العدة ونكحت، ثم تبين أنه لم يكن حمل، فالمسألة تخرج على القولين؛ فإن وقف العقود لا اختصاص له بصورة، وإنما هو تردد ثم تبيُّنٌ. وإن أخذنا القولين من شك المصلي، فإنا نقول: لو طرأت الريبة في أثناء العدة، ثم جرت العدة ونكحت على الريبة، ثم تبينت براءة الرحم، فلا نقضي بصحة النكاح. فانتظم مما ذكرناه أنها إذا ارتابت ونكحت، وبان أنها كانت حاملاً حالة النكاح، فلا إشكال في فساده، وإن بأن أنها بريّة، وقد تقدمت الريبة، فثلاثة أقوال: أحدها - الفساد كيف فرض الأمر، والثاني - الصحة. والثالث - الفصل بين أن ترتاب في العدة، وبين أن ترتاب بعد انقضائها، وكل ذلك طريقةٌ. ومن أصحابنا من قال: إذا تبين أنها كانت بريّة، فالنكاح منعقد قولاً واحداً، وليس ذلك من وقف العقود، فإن النكاح مستند إلى عدةٍ ظاهرة والريبة خَطْرة، فإذا بان

أنه لا أصل له (1)، فلا تعويل عليها، وليس كذلك بيع الرجل مال أبيه على تقدير أنه في الأحياء؛ فإنه ليس مبنياً على أصل ظاهر يُسلِّط على التصرف، وهذه الطريقة حسنة فقيهة موافقةٌ للنص الذي نقله المزني. 9800 - ثم قال الشافعي: " ولو كانت حاملاً بولدين ... إلى آخره " (2). إذا طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، فولدت ولداً، وكان الرحم مشتملاً على جنين آخر، فلا شك أن العدة لا تنقضي، وإنما نتبين أن الجنين حمل واحد إذا كان الزمان المتخلل بين وضعيهما أقل من ستة أشهر. 9801 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: لو خرج بعض الولد، لم نحكم بانقضاء العدة إلى الانفصال، ولذلك تصح الرجعة إذا انفصل بعض الولد، وحكم ذلك حكم الجنين المجتنّ في البطن الذي لم يظهر منه شيء. ثم قال الأئمة: لو انفصل بعضُه، فصرخ واستهلّ، وقتله قاتل، والبعض منه في البطن، فالواجب الغرّةُ لا دية، ولا يجب القصاصُ، ولو أعتقه والحالةُ هذه عن كفارته، لم يقع العتقُ عن الكفارة وإن [نوى] (3) صرفه إليها، ولو باع الأم أو وهبها، دخل الولد في البيع، وهو على الجملة في جميع القضايا والأحكام ينزل منزلة الجنين الذي لم ينفصل منه شيء. وقال بعض أصحابنا: إذا [صرخ] (4) واستهلّ، فقد استيقنّاه، فلو قتله قتلاً مُذفِّفاً، وبعضه متصل بالأم، استوجب القصاص، فإذا آل الأمر إلى المال، التزم الدية بكمالها، ويصير مستقلاً بنفسه في الإعتاق، وكل ما لا نثبته لعدم الاستيقان في الوجود والحياة فهو مثبت. وهذا وإن كان منقاساً -وقد عزي إلى القفال في بعض أجوبته- فهو ضعيف في الحكاية، ما أراه ملتحقاً بالمذهب.

_ (1) عاد الضمير مذكراً على معنى (الشك) لا على لفظ (الريبة). (2) ر. المختصر: 5/ 12. (3) في الأصل: وإن يرى. (4) في الأصل: "خرج".

ثم إن وقع التفريع على هذا الوجه الضعيف، فالعدة لا تنقضي إلا بانفصال تمامه، لا يجوز أن يكون في هذا تردد، ثم يتعلق ببقائها في العدة تصحيحُ الرجعة، وكل ما يتعلق ببقاء العدة. فصل قال: " ولو أوقع الطلاق، فلم يدر أَقَبْل ولادها أو بعده؟ ... إلى آخره " (1). 9802 - مضمون الفصل ذكر اختلافٍ بين الرجل والمرأة إذا طلقها، وولدت، ثم فُرض النزاع في التقدم والتأخر، وهذا تفصله مسائلُ: منها أن يختلفا على الإطلاق من غير تنصيص على تاريخ واحدٍ منهما، فيقول الرجل: طلقت بعد الولادة فأنت معتدة، ولي عليك الرجعة، وهي تقول: لا بل طلقتني قبل الولادة، وانقضت عدتي بها. قال الأصحاب: القول فيه [قول الرجل] (2)؛ لأن الرجعة حقُّه، والأصل بقاؤها، والأصل أيضاً عدُم الطلاق وعدم انقضاء العدة. ولو اتفقا على وقت الولادة، واختلفا في وقت الطلاق، وذلك [أن اتفقا] (3) أنها ولدت يوم الجمعة، واختلفا في الطلاق: فقال الرجل: طلقتك يوم السبت، وقالت المرأة: لا، بل يوم الخميس. قال الأصحاب: القول قوله أيضاًً، إذ الأصل عدمُ الطلاق، وبقاءُ النكاح. وإن اتفقا على وقت الطلاق، وتنازعا في وقت الولادة، فقال الرجل: ولدتِ يومَ الخميس، فلي عليك الرجعة، وقالت المرأة: يومَ السبت، فالقول قولها، لأن الأصل عدمُ الولادةِ يومَ الخميس، والرجوعُ إليها فيما يتعلق بوقت انفصال الولد.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 12. (2) ساقط من الأصل. (3) في الأصل: ببقاء، والمثبت تصرّف وتقدير من المحقق.

ولو اتفقا على وقوع الطلاق والولادة واعترفا بالجهالة في التقدم والتأخر، فقالا: لا ندري السابقَ منهما، فعليها استقبال العدة، والرجعةُ ثابتة، فإن الأصل ثبوتها، ولكن الورع ألا يرتجعَها مخافة أن يكون قد فاتت بوضع الحمل. ولكن هذا الإشكال المقترن به لا يُسقط الرجعة؛ فإن الأصل بقاءُ سلطان الزوج، والارتجاعُ من بقاء النكاح. وإن ادعت المرأة أنها ولدت بعد الطلاق، والرجل يقول: أنا لا أعلم؟ قلنا: قد ادعت المرأة أمراً جازماً، فأجِبْها، فإن لم يُجب، جعلناه مُنكراً، ثم نعرض عليه اليمين، فإن نكل، حلفت هي واستحقت ما ادعت. ولو قالت المرأة: أنا أجهل وقت السابق، وأطالب الزوج أن يبيّن، قال الققال: ليس [لها] (1) ذلك، والرجل لا يطالَب، فإنها ما أتت بدعوى صحيحة وقولٍ جازم، فلا يلزم الإجابة. 9803 - ومما يجب الإحاطةُ به في سر المذهب أنا ذكرنا طرقاً مختلفة في تداعي الزوجين في انقضاء العدة، ووقوع الرجعة، وأتينا بذلك الفصلِ مستقصىً، وجمعنا بين طرقٍ متناقضة، ومذاهبَ متباينةٍ. والذي ذكرناه من التقسيم في هذه المسألة اتفق عليه الأصحاب في طرقهم، ومساقُه ما أوردنا ولا غير، والسبب فيه أن الخلاف إذا آل إلى إنشاء الرجعة وانقضاء العدة، فيتعارض في الحكم بتصديق المرأة وتصديق الرجل أمور دقيقةُ المُدرَك، ويعترض أيضاً تنزيلُ الدعوى رجعةً، وعطفُ قول الزوجة انقضت عدتي على زمان منقضٍ، وشيءٌ من تلك المعاني لا يجري في هذه المسألة، ولا يتأتى إيضاح ما ذكرناه إلا بإعادة تلك المسألة، ومن تأمل تيك كما سقناها وتأمل هذه المسألة، استبان الفرق بينهما.

_ (1) زيادة من المحقق.

فصل قال: " ولو طلقها، فلم يحدث لها رجعة ... إلى آخره " (1). 9804 - البائنة إذا أتت بولد من يوم الفراق لأربع سنين أو أقلَّ، لَحِقَ الولدُ الزوجَ، فإنها أتت به لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، وتعتبر ابتداء مُدّة الحمل تقديراً يوم الطلاق. ولو طلق امرأته طلقة رجعية، فمن أي وقت نعتبر مدة أربع سنين في حقها؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نعتبر ابتداء الحمل من وقت انقضاء العدة، نصّ على هذا في اجتماع العدّتين، ونقله المزني في آخر الباب. والقول الثاني - أن ابتداء مدة الحمل يحتسب من وقت الطلاق، وإن كان رجعياً. توجيه القولين: من قال ابتداء المدّة يحتسب من انقضاء العدة ظاهراً، احتج بأن الرجعية حكمها حكم الزوجات، فينبغي أن يكون اعتبار أول المدة من وقت انقضاء الزوجية. ومن نَصر القولَ الثاني، احتج بأن الرجعية معتزلةٌ عن زوجها، والزوج معتزل عنها، ولا يليق بها الاستفراش، وهذا التوجيه كافٍ. [وبنى] (2) بعضُ الأئمة القولين على أن الرجعية منكوحة أم لا؟ وقد قدّمنا هذا في كتاب الرجعة، وألحقنا بذلك أمثلةً وبيّنا ما يليق بهذا، فلا نعيده. فإن قلنا: يعتبر مضيُّ أربع سنين من يوم الفراق، فحكمها حكم البائنة، وإن قلنا: يعتبر من يوم انقضاء العدة، فأي ولدٍ أتت به يلحقه، وإن مضت عشرون سنة وأكثر من يوم الفراق، ما لم تقرّ بانقضاء العدة؛ فإن العدة تتمادى على المذاهب الصحيحة إلى آمادٍ طويلة بتباعد الحيض.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 12. (2) في الأصل: وبين.

فإذا أقرت بانقضاء العدة، ومضى من ذلك الوقتِ أربعُ سنين، فلا لحوق بعد ذلك. فمن أصحابنا من قال: إذا مضت من يوم الفراق أربعُ سنين وثلاثةُ أشهر، حكمنا بزوال الفراش حتى لو إتت بولدٍ بعد ذلك، لم يلحق؛ لأن الظاهر والغالب أن العدة تنقضي بثلاثة أشهر، والحمل لا يمكث في البطن [أكثرَ من] (1) أربع سنين. وهذا الإنسان تعاظمه ما ذكرنا من لحوق النسب بعد الطلاق إلى عشرين سنة، فصاعداً، ولا معنى للحيْد عن القياس بمثل هذه الترّهات. 9805 - ثم نقل المزني في الكتاب لفظةً ملتبسةً، وذلك أنه قال: " إذا أتت البائنة بولد لأكثرَ من أربع سنين يكون منفياً عنه باللعان " ثم قال: " وهذا غلط: لا يمكن كونه منه موجِبٌ أن لا يحتاج إلى اللعان، ولعل هذا غلط من غير الشافعي " (2). وهذا من كلام المزني، ثم استدل على أنه منفي عنه من غير لعان [بأن] (3) الشافعي قال: " لو قال لامرأته: إذا ولدتِ، فأنت طالق، فولدت ولدين وبينهما ستة أشهر يلحقه الولدُ [الأول] (4) وتنقضي عدته بالثاني ويكون منفياً عنه بلا لعان " (5). قال الأصحاب: ما ذكره المزني صحيح في المعنى، ولكن الغلط جاء من جهة النقل: إمّا منه وإما من غيره، ثم التعليل الذي ذكره ليس بواضح، ولفظه معقّد.

_ (1) سقط من الأصل. (2) ر. المختصر: 5/ 13. (3) في الأصل: فإن. (4) زيادة من المحقق. (5) هذا معنى كلام الشافعي الذي نقله المزني، وليس نصه. ر. المختصر: 5/ 13، وفيه: قال المزني، وقال الشافعي في موضع آخر: "لو قال لامرأته كلما ولدت ولداً فأنت طالق. فولدت ولدين، طلقت بالأول، وحلّت للأزواج بالآخر، ولم نلحق به الآخر؛ لأن طلاقه وقع بولادتها، ثم لم يحدث لها نكاحاً ولا رجعة، ولم يقر به، فيلزمه إقراره، فكان الولد منفياً عنه بلا لعان، وغير ممكن أن يكون في الظاهر منه" ا. هـ.

9806 - وأما المسألة التي أوردها في الولدين، فهي المسألة الموعودة (1) في الفصل المشتمل على عدة امرأة الصبي: وصورتها: أن تأتي بولد، وقد كان قال الزوج: إذا ولدتِ ولداً، فأنت طالق ثلاثاً، فإذا ولدت، طُلّقت واستقبلت العدة، فلو أتت بولدٍ لستة أشهر من وقت الولادة، فلا شك أن العلوق به جرى بعد الولادة، وهو منفي بلا لعان؛ فإن العلوق به جرى بعد وقوع البينونة، وهذا بمثابة ما لو أتت البائنة بولد لأكثر من أربع سنين بعد البينونة، ثم نقضي بانقضاء عدتها بالولد الثاني مع كونه منفياً. وهل نُنزله منزلةَ الولد المنفي باللعان، وقد ذكرنا أن المرأة إذا وضعت حملها المنفيَّ باللعان، فعدتها تنقضي مع انتفاء الولد. وإنما نحكم بأن العدة لا تنقضي إذا كان الولد ولدَ زنا، كذلك [إن] (2) كان العلوق بالولد الثاني بعد الفراق، فيحتمل أن الزوج وطئها بشبهة، ولو فُرض ذلك، لتداخلت العدتان، ولجرى الحكم بانقضاء العدة بوضع الحمل. 9807 - حاصل ما ذكره الأصحاب في انقضاء العدة في هذه الصورة ثلاثةُ أوجهٍ أشار إليها القاضي وغيره: أحدها - أن العدة تنقضي كما ذكرناه في الولد المنفي باللعان. والثاني- أنها لا تنقضي؛ فإن العدة إنما تنقضي بولد يمكن تقدير العلوق به في حالة النكاح، والولد المنفي باللعان بهذه المثابة، فليس انتفى بسبب [عدم] (3) الإمكان، والإمكانُ غير زائل، وهي مصدقة فيما يتعلق بالعدة إذا لم تدع أمراً خارجاً عن الإمكان. والوجه الثالث - أنا ننظر: فإن لم تدع المرأة سبباً محترماً يفرض العلوق منه بعد

_ (1) كان قد وعد بها الإمام في الفصل الذي أشار إليه. (2) في الأصل: وإن. (3) زيادة من المحقق.

الفراق، فلا نحكم بانقضاء العدة، وإن ادعت [أنه] (1) وطئها بشبهة، فإذ ذاك نحكم بانقضاء العدة، وإن كان القول قول الزوج في نفيه، ولا حاجة به إلى اللعان، ويكفيه أن يحلف على نفي الوطء، إذا ادعته، وذلك لأن الزوج وإن نفى ما ادّعته وحلف فيمينه لا تقطع إمكان صدقها، ويكفيها في دعوى انقضاء العدة إمكان الصدق. 9808 - ثم قال الشافعي: " لو ادعت المرأة أنه راجعها أو نكحها إن كانت بائنة ... إلى آخره " (2). إذا أتت البائنة بولد لأكثر من أربع سنين من يوم الفراق، أو كانت رجعية، فأتت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم وقوع الطلاق، والتفريع على قولنا أنا نعتبر المدة في الرجعية من وقت الطلاق أيضاً، فإذا ادعت المرأة على المطلِّق أنه راجعها فألمّ بها، وحصل العلوق بعد الرجعة، وادعت البائنة أنه نكحها ووطئها والولد من الوطء الجاري في النكاح الجديد، فالقول قول الزوج لا محالة، في نفي ما تدعيه إن نفاه، فإن حلف، انتفى النسب، وكفى ذلك، وأغنى عن اللعان، وإن نكل عن اليمين، فهل يرد اليمين عليها؟ لم يتعرض الشافعي لذلك بنفى، ولا إثباتٍ. ولو زعمت المرأة أنها ولدت، وكان النكاح قائماً، فأنكر الزوج الولادة، فالقول قوله، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، قال الشافعي حلفت عند نكوله يمينَ الرد، وقد ذكرنا تصرف الأصحاب في ذلك، في كتاب اللعان، فلا حاجة إلى إعادة ما سبق. والذي نرى التنبيه [إليه] (3) هاهنا، أن الأصح الردُّ لليمين عليها؛ لأنها قيّمة في نفقة الولد مُطالِبةٌ بها، كما قال المصطفى عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " (4)

_ (1) سقطت من الأصل. (2) ر. المختصر: 5/ 14. (3) سقطت من الأصل. (4) حديث خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (البخاري: النفقات باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، ح 5364. مسلم: الأقضية، باب قضية هند، ح 1714).

فهي تستفيد إذاً بالتسبب إلى إثبات الولادة دفعَ النفقة عن نفسها، فالأصح أنها تحلف يمين الرد. ثم لم يختلف الأصحاب في أنها تبتدىء الخصومةَ ويحلف الرجل، وهذا محل سؤال الفطن!! فإن قيل: إذا فرعتم على أن اليمين لا ترد عليها، فكيف بنيتم تحليف الزوج على دعواها؟ قلنا: قد ينتصب للدعوى، وعرضِ اليمين، وطلبِ التحليف مَنْ لا يحلفُ [كالوصيّ] (1) في كثير من الخصومات المتعلقة بحقوق الطفل، وكذلك الوكيلُ بالخصومة يطلب التحليف ولا يحلف، وهذا من الأصول العظيمة في الدعاوى والبينات، وسيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. ومهما (2) انتهى كلامٌ إلى استدعاء بيانٍ في طرفٍ وموضعُ كشفه كتابٌ، فالذي يقتضيه الترتيبُ التنبيهَ عليه والإحالةَ على الكتاب الموضوع له، فيجتمع اجتناب التكرار والتنبيهُ لما يجب التنبه له. فصل قال: " ولو نكحت في العدة، فأصيبت ... إلى آخره " (3). 9809 - المرأة إذا خلت عن العدة ونكحت نكاحاً مستجمعاً لشرائط الصحة في ظاهر الأمر، وأتت بولد في الفراش الثاني، نُظر: فإن أتت به لزمان لا يُحتمل أن يكون العلوق به في الفراش الثاني، مثل أن تأتي به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت النكاح وإمكان الاستفراش، وكان العلوق به ممكناً في النكاح الأول، فالولد يلتحق بالزوج الأول، ويتبيّن بطلانُ النكاح الثاني للعالم، فإنه جرى والمنكوحة حامل بولد نسيبٍ. فإن أتت به لزمان لا يحتمل أن يكون العلوق به في الفراش الثاني، وكان لا يحتمل العلوق به في الفراش الأول، وذلك بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر في النكاح الثاني،

_ (1) في الأصل: " كالواطىء ". (2) " ومهما ": بمعنى (وإذا). (3) ر. المختصر: 5/ 14.

ولأكثر من أربع سنين من البينونة عن الفراش الأول، فالولد منتفٍ عن الزوجين، ولا يُقضى فيه بأنه ولد زنا. ولكن لا أب له، وطريق تحسين الظن حمل العلوق به على وطءٍ بشبهة. وإن أتت به لزمان يحتمل أن يكون العلوق به في النكاح الثاني، مثل أن تأتي به لستة أشهر من النكاح الثاني فصاعداً، فالولد لا يلحق الأول وإن أمكن أن يكون العلوق به من النكاح الأول، ولكن النكاح الثاني في حكم الناسخ للأول والقاطع لعلائقه واحتمالاته. وسبب هذا أنا في إلحاق الولد بالثاني لسنا نعطل النسب، فقد نظرنا للولد، ولو قدرنا الإلحاق بالأول، [لأبطلْنا] (1) النكاح الثاني؛ فإنا على هذا التقدير نتبين أن النكاح الثاني عُقد وهي حامل، والنكاح الذي جرى الحكم بانعقاده ظاهراً لا سبيل إلى الحكم ببطلانه بأمرٍ غيرِ مستيقن، فهذا هو الذي أوجب الإلحاق بالفراش الثاني، وهذا يتأكد بترجيح الاستفراش الناجز على ما مضى وانقطع أثره وخبره. ثم إذا بأن أن الولد يلتحق بالفراش الثاني بالاحتمال، وإن أمكن أن يكون من الفراش الأول، فما الظن إذا أمكن أن يكون من الثاني، ولم يمكن أن يكون من الأول؟ ولا حاجة إلى ذكر مثل هذا إلا لمحاولة استيعاب الأقسام. 9810 - وما ذكرناه كله فيه إذا خلت المرأة عن العدة في ظاهر الحال، ونكحت نكاحاً يقضي الظاهرُ بصحته. فأما إذا جرى نكاحُ شبهة، واتصل الوطء به على ظن الحِلّ من الجانبين، وذلك بأن تنكِح في بقيةٍ من العدة ظانَّة أن العدة قد انقضت، فإذا أتت بولدٍ من وقت افتراش الثاني إياها، نُظر: فإن لم يحتمل أن يكون العلوق به من الثاني، واحتمل أن يكون من الأول، التحق بالأول، وإن لم يحتمل أن يكون من الثاني ولا من الأول، انتفى عنهما، وإن احتمل أن يكون من الثاني واحتمل أن يكون من الأول أيضاًً، وذلك بأن تأتي به لستة أشهر من افتراش الثاني، ولأربع سنين من الأول أو لدون أربع سنين، فقد تردّد المولود بينهما، وهذا من محالّ القيافة.

_ (1) في الأصل: لا لطلب النكاح الثاني.

والذي يليق بغرضنا الآن أن الولد لا يلتحق بالفراش الثاني لحوقَه بالنكاح الصحيح، والسبب فيه ما قدمناه من أن الإلحاق بالأول وقد جرى نكاح ظاهره الصحة، يتضمن إفساد النكاح المحكوم بصحته ولا وجه لهذا، ولا يتحقق مثلُ هذا في النكاح الفاسد. ومن أسرار المسألة أنا ردَّدْنا في النكاح الفاسد ولداً بين النكاح الفاسد والنكاح الصحيح الماضي، ولكن لما لم يؤد إلى إفساد نكاح المتقدم، لم نُبالِ بذلك. والدليل عليه أن المنكوحة لو وطئت بشبهة في استمرار النكاح، وفرض الإتيان بولد وتردد الاحتمال بين الواطىء بالشبهة وبين الزوج؛ فإنا نُري الولدَ القائفَ، وإذا انتهينا إلى باب القيافة في آخر الدعاوى، أوضحنا في صدر الباب الصور التي تجري القيافةُ فيها. فهذا منتهى المراد في ذلك، وسياقةُ أحكام القيافة إلى منتهاها ستأتي، إن شاء الله تعالى. 9811 - ومما ذكره الأصحاب هاهنا أن المرأة إذا نكحت على الشبهة والفساد، فمتى يثبت حكم الفراش الثاني؟ ظاهر المذهب أنه يثبت بالوطء الأول، وقال القفال الشاشي (1): يثبت حكم الفراش الثاني بالعقد، وفائدة ذلك أنا من أي وقت نحتسب

_ (1) القفال الشاشي. هو محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير، فخر الإسلام، أبو بكر، تفقه بابن سريج، أول من صنف في الجدل. وهو أكثر ذكراً في كتب التفسير، والحديث، والأصول، والكلام والجدل، مذكور في المهذب في موضع واحد، وهذا أول موضع يذكر فيه في النهاية. يتفق مع القفال الصغير في الكنية؛ فكلاهما أبو بكر، ويختلفان أو يتمايزان بأشياء منها: النسبة، هذا شاشي، وذاك مروزي، ومنها اللقب فهذا الكبير وذاك الصغير، بالإضافة إلى شهرة صاحبنا هذا بالتفسير والحديث والكلام والجدل، وذاك بالفقه، وحيثما يطلق القفال في كتب الخراسانيين فهم يعنون ذاك لا هذا. ولد 291 هـ وتوفي 365 هـ. ثم هما غير صاحب التقريب، فهو قفال ثالث. (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 282، 283، والطبقات للسبكي: 3/ 472، ووفيات الأعيان: 4/ 200، 201).

زمان الحمل ليتبين الاحتمال، فعلى هذا الاختلاف [متى] (1) ينقطع حكم الفراش الثاني الثابت على الفساد والشبهة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ينقطع أثر الفراش الفاسد بالتفريق وإليه النظر، والقفال الشاشي يقول: ينقطع أثر الفراش الثاني من آخر وطأة جرت، ولا يتوقف على التفريق: فمن [راعى] (2) الوطء في الأول، اعتبر التفريق في الآخر، والقفال راعى العقد في الأول، والوطء في الآخر، وذكْر هذين الخلافين على الإرسال حسنٌ لا بأس به. فأما اعتبارُ العقدِ في الأول والوطءِ في الآخر، فكلام مختلط [حكَوْا أن اعتبار الوطء في الأول والتفريق في الآخر يوجّه بأن الوطء] (3) إذا أثبت حكمه في الافتراش، لم يبعد أن يتمادى إلى التفريق، ولهذا نظير سيأتي الشرح عليه في أثناء الكتاب. وهو أن من طلق امرأته طلقة رجعية، وكان يخالطها ولا يغشاها، فهل تنقضي العدة مع صورة المخالطة؟ فيه كلام وتفصيل، وكذلك لو فرض ذلك في البائنة على شبهة. فلا ينبغي أن نشتغل بذلك؛ فإنه بين أيدينا. 9812 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن من نكح امرأة نكاحاً فاسداً، وأتت بولد من غير فرض تردد بين نكاحين، فهل يلتحق الولد بمجرد النكاح مع تبين فساده من غير إقرارٍ من الزوج بالوطء؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا بد من الإقرار بالوطء؛ فإن الفاسد لا يكون فراشاً ما لم يمض افتراشٌ على التحقيق. ومنهم من قال: نفسُ النكاح والإمكان كافٍ، وهذا يلتفت على الخلاف الذي ذكرناه من أن المنكوحة على الفساد متى صارت مفترشة؟ وقد قدمنا الخلاف في ذلك.

_ (1) في الأصل: ومتى. (2) في الأصل: رأى عني. (3) عبارة الأصل مضطربة هكذا: " حكى من اعتبار الوطء في الأول والتفريق في الآخر لوحه لأن الوطء ... إلخ ".

ويترتب عليه أيضاً أنه إذا أقر بالوطء -على قولنا: إنه يعتبر إقراره- فلو ادعى الاستبراء، فالمذهب الأصح الذي يدل عليه النصوص أن دعوى الاستبراء لاغية، ووجه دلالة النصوص قَطْعُ الشافعي قولَه بجريان اللعان، مع العلم بأن اللعان في النكاح الفاسد إنما يجرى للضرورة الداعية إلى نفي النسب المتعرض للثبوت، وقد أوضحنا في كتاب اللعان [أن اللعان] (1) حجةُ ضرورة، وأبعد بعض أصحابنا، فجعل النكاح الفاسد كملك اليمين في دعوى الاستبراء: تؤثر فيه، وهذا بعيد عن قاعدة المذهب. فصل قال: " فإن قيل: لمَ لمْ تنفوا الولد إذا أقرت بانقضاء العدة ... إلى آخره " (2). 9813 - إذا طلق الرجل امرأته وزعمت أنه مرّ بها الأقراء الثلاثة، وادعت ذلك في زمان ممكن محتمل، واقتضى الحال تصديقَها، والحكمَ بأنها خلت عن العدة وحلّت للأزواج، فلو أتت بولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح: مثل أن تأتي به لأربع سنين فما دونها، فالولد يلحقُ، وإن جرى الحكم بتصديقها، ونتبين أنها كانت ظنت انقضاء العدة، وما كانت منقضية، هذا مذهبنا. ونكتة المذهب أن الاحتمال في لحوق النسب كاليقين في وضع الشرع، وصُور الأقراء تزاحمه، وقد اتفق العلماء، وشهدت المشاهدة على أن الحامل قد ترى الدمَ على ترتيب أدوار الحيض، وإنما الخلاف في أنه هل يحكم بكون ما تراه حيضاً في أحكام العبادات، وتحريم الوقاع ونحوه، فإذا أتت بالولد لزمان الإمكان، لحق وإن أُفحمنا حيضاً وأقراءً.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) ر. المختصر: 5/ 14. وعبارة المختصر تختلف لفظاً عن هذه، فهي: "فإن قيل: فكيف لم ينف الولد إذا أقرت أمه بالعدة".

وأبو حنيفة (1) يقول: إذا صدقناها في انقضاء العدة، واتصل ذلك بمجلس حاكم، فإذا أتت بالولد لزمانٍ يمكن أن يكون العلوق به في النكاح، لم يلحق. وهذا في التحقيق قطعُ النسب، وإبطالُ حق الولد منه بسبب إخبارها بأنها رأت دماً، فإن خبرها عن انقضاء العدة يرجع إلى ما شاهدت من ذلك. والعلم عند الله عز وجل. ...

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 404 مسألة 911.

باب لا عدة على من لم يدخل بها

باب لا عدة على من لم يدخل بها 9814 - صدَّر الشافعي رضي الله عنه الباب بقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49]. وغرض الباب أن العِدد المتعلقة بطرق الفراق في الحياة مشروطة بالمسيس، والأصل فيه الآية التي ذكرناها. ولو فرضت خَلوة خِلوَةٌ عن المسيس، فالمذهب الظاهر أن المهر لا يتقرّر بالخَلوة العريّة عن الدخول، خلافاًً لأبي حنيفة (1)، وفي المسألة قول يوافق مذهبه، وقد ذكرنا القولين في كتاب الصداق؛ فإن حكمنا أن المهر لا يتقرر بالخَلْوة، فلا تجب العدة بها، وإنْ حكمنا بأن الخَلوةَ تُقرر المهرَ، فالذي ذكره الأصحاب أنها توجب العدة. وهذا فيه أدنى غموض، وكنت أود أن نحمل تقريرَ المهر على التمكين؛ فإن التمكين من المنافع تسليمٌ، كما إذا ألقى المكري مفتاحَ الدار المكراة إلى المكتري، وخلّى بينه وبين الدار. فأما العدة، فكان لا يبعد في القياس ألاّ تجب وإن تقرر المهر؛ فإن تقرير المهر مأخوذ من قياسٍ في المعاوضة لا تؤخذ العدة من مثله، ولكن (2) لعل الأصحاب رأَوْا العدة عليها من آثار التسليم وتقرير الملك؛ فإن (3) التي تبين بالطلاق ليس النكاح مقرراً

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 348، مسألة: 842، المبسوط: 5/ 148. (2) هنا يحاول الإمام أن يوجه قول الأصحاب الذين قالوا بتقرر المهر بالخلوة، ورتبوا عليه إيجاب العدة، وقد سبق أن قال في فصلٍ عن الخلوة من كتاب الصداق قريباً مما قاله هنا، من أنه كان يودّ أن يقتصر أثر الخلوة على تقرير المهر، ولا يوجب العدة. (3) قوله: " فإن التي تبين بالطلاق ... " هذا -فيما أقدّر- عودٌ إلى الرد على الأصحاب وليس استمراراً لتوجيه قولهم بيجاب العدة، وكأنه يرى توجيه (التمكين) وتفسيره، بأنه غير كامل ولا مستمر. والله أعلم. (هذا إذا لم يكن في العبارة خرم أو تصحيف). وكل ذلك محتمل.

فيها، فكما يتقرر العوض على الزوج يتقرر النكاح على الزوجة، ومن أثر تقرره ألا ينبتّ. هذا هو [الممكن] (1) في توجيهه. 9815 - ثم إذا كان الطلاق رجعيّاً، فقد قال أبو حنيفة: لا نثبت الرجعة، واختلف أصحابنا في ثبوتها: فمنهم من وافق أبا حنيفة، وهذا يخرم الفقه الذي ذكرناه، ولا ينقدح فيه وجه خالصٌ عن الشوائب، والأوجه إثبات الرجعة إن أثبتنا العدة. ثم الممكن في توجيه نفي الرجعة أن العدة وإن ثبتت، فالرجعة تستدعي كمالاً، وليست المعتدة عن الخلوة على نعت الكمال في تربصها، فكأنها على مَرْتبةٍ بين المرتبتين، فإذا أُحْوِج الفقيهُ إلى مثل هذا الكلام، لم نُقم له وزناً؛ فإن القول يتعارض فيه. 9816 - ثم فَصَل أبو حنيفة (2) بين الخلوة الصحيحة وبين الخلوة الفاسدة، وقال: لو خلا بها وهما مُحرمان أو أحدهما، أو صائمان صوم فرض، أو أحدهما، لم يتقرر المهر، ولم تجب العدة، ولهم في صوم التطوع تردد. قال أئمتنا: إذا فرعنا على القول الضعيف ورأيْنا الخلوة مقرِّرةً، لم نَفْصل بين الخلوة الفاسدة والخلوة الصحيحة، ونقضي بتقرر المهر وثبوت العدة، ولو اعتل معتل في التسوية بإمكان الوطء حسَّاً، اعترض عليه خلوةُ المجبوب، والخلوةُ بالرتقاء، فإن الجماع غير ممكن، وقد قال أبو حنيفة: الخلوة تقرر مع هذه الموانع الطبيعية. ولو روجعنا في ذلك، فالوجه عندنا الحكم بالتقرير مع هذه الموانع؛ فإن المصير إلى أن النكاح لا يتصور فيه تقرير فيه بُعْدٌ، والذي يجرى نهايةُ الأمر. وفي القلب من الموانع الطبيعية كلام؛ فإن الإمكان مقترن بالصوم والإحرام، ولا إمكان مع الجب والرتق، ولو فصل فاصل بين الجب والرتق، صائراً إلى أن تمكين المجبوب يردّ العجز إليه، وهي في نفسها فعلت ما هو تمكين على أقصى الإمكان، ويجوز أن يقال: الرتقاء عاجزة عن التمكين، فقد جاء من جهتها العجزُ عن

_ (1) في الأصل: " التمكين ". (2) ر. مختصر الطحاوي: 203، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 348. مسألة 842.

الوفاء بالتمكين، ويعترض على ذلك أنها تستحق النفقة، وإن لم يكن الوقاع ممكناً، على ما سيأتي شرح ذلك، والمريضة التي يرجى زوالها من مرضها قد لا تستحق النفقة، فإنما أُتينا من جهة التفريع على قولٍ لا أصل له. ومعتمد مذهب الشافعي صحة الأصول، والأصول الصحيحة لا تُفضي إلى مثل هذا الخبط. 9817 - ثم ذكر الشافعي أن الزوج والزوجة إذا اختلفا في الإصابة، فالقول قول مَنْ ينفيها إلا في مسائل، منها: الاختلاف في جريان الإصابة في مدة العُنّة، فإذا ادعاها الزوج وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج، وكذلك لو فرض مثل هذا في الإيلاء. فإذا ادعت المرأة على الزوج الإصابةَ تبغي بذلك تقررَ المهر، فأنكر الزوج الإصابةَ، فالقول قوله. فإذا طلقها، وجرى التنازعُ على هذا النسق، وصدقنا الزوجَ مع يمينه، فلو أتت بولدٍ لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، فالنسب ملحق، فلا ينفيه ما تقدم من حلف الزوج على نفي الإصابة، وهذا بيّنٌ. قال الشافعي: إذا ألحقنا النسب أشعر بجريان إصابةٍ في صلب النكاح، فنعود ونقول: القول قول المرأة في ادعاء الإصابة، فتحلف، ويتقرر مهرها. قال الربيع: " وجب ألا يتقرر المهر؛ لأن كلا الدعويين محتمل، فينبغي أن يُصدّق الزوج فيما يتعلق بنفي التقرير، ويُقضى بلحوق النسب؛ لأنه يَلْحقُ بإمكانٍ وإن بعد "، ولا بأس بما ذكره. وهذا شبَّب بعضُ الأصحاب بموافقته، والمذهب ما نص عليه الشافعي، ووجهه أن القول في الدعاوى قولُ مَن الظاهر معه، وإذا كنا نحلّف صاحب اليد -مع انقسام الأيدي- للظاهر، فلحوق الولد يُظهر دعوى الإصابة. ***

باب العدة من الموت والطلاق والزوج غائب

باب العدة من الموت والطلاق والزوج غائب 9818 - مضمون الباب مسألة واحدة هي أن المرأة إذا طلقها زوجها في الغَيْبَة، أو مات عنها، ثم لم تعلم بموته أو طلاقه حتى انقضى زمان العدة، فإذا بلغها الخبر، فهي خليّة من العدة، ولا يضرّ عدمُ علمها بكونها في العدة. وعن علي رضي الله عنه: أنها تبتدىء العدة من وقت ما أحاطت علماً بطلاقه، أو وفاته، لا يعتد بما مضى. وهذا مذهب مهجور لا معول [عليه] (1). ...

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

باب عدة الإماء

باب عدة الإماء قال الشافعي رضي الله عنه: " فرق الله تعالى بين الأحرار والعبيد ... إلى آخره " (1). 9819 - الأحكام على ثلاثة أقسام: منها ما يستوي فيها العبيد والأحرار، والإماء والحرائر، كوظائف الصلوات، وأصل الإسلام، والصيام، وكثير من العقوبات، كالقصاص، وقطع السرقة، والعدة بوضع الحمل. ومنها ما لا مدخل للعبيد فيه كالولايات، والشهادات، والمواريث، وافتراض الجمعة، وحجة الإسلام. ومنها ما يشترك الأحرار والعبيد في أصله ويختلفان في الكيفية، فيَلْحَقُ العبيدَ والإماءَ فيه نقصٌ، وهذا فيما ذكره المرتبون قسمان: منه ما يكون العبد فيه على النصف من الحر وكذلك الأمة تكون على النصف من الحرة، وذلك كالحد بالجلد، والقَسْم في النكاح. ومنها ما تكون الأمة فيه على الثلثين كالأقراء والطلاق، وقد قيل: هذا أصله اعتبار النصف، ولكن لما لم يقبل القدَّ والتنصُّفَ، وكذلك الطلاق، كَمَّلْنا نصفَ طلْقةٍ طلقةً، ونصف قرءٍ قرءاً، وقال داود تعتد بثلاثة أقراء، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعتد الأمة بحيضتين " (2) وإنما ذكر الحيض لدلالته

_ (1) ر. المختصر: 5/ 18. (2) حديث تعتد الأمة بحيضتين: رواه ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً. وقد روي موقوفاً أيضاً، رواه مالك في الموطأ، والدارقطني، والبيهقي وصححه موقوفاً. (ر. ابن ماجه: الطلاق، باب في طلاق الأمة وعدتها، ح 2079، الدارقطني: 38/ 2، البيهقي في الكبرى: 7/ 369، الموطأ: 2/ 574، إرواء الغليل: 7/ 150، 201 وقد رجحه موقوفاً وضعف المرفوع).

على الطهر، هذا إذا كانت الأَمَةُ من ذوات الأقراء. فإن كانت من ذوات الشهور ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنها تعتد بشهر ونصف؛ لأن الشهر مما يتجزأ ويتبعض وإن كان القرء لا يتبعض، فينبغي أن تكون الأمة على الشطر من الحرة، كما أنها في عدة الوفاة على الشطر، منها تتربص شهرين وخمسة أيام. والقول الثاني - أنها تعتد بشهرين؛ فإن كل شهر في مقابلة قرء، وقد تأصل فيها قرءان، وروي عن عمر أنه قال: " يطلِّق العبد تطليقتين، وتعتد الأمة بحيضتين، وإن لم تحض، فشهران أو شهر ونصف " (1) ومنهم من جعل هذا شكّاً من الراوي، ومنهم من جعله ترديدَ قولٍ من عمرَ، وهذا ظاهر الرواية، وهو شاهدٌ بيّن في أن ترديد القول ليس بِدعاً (2). وفي المسألة قول ثالث - أنها إذا عدمت الحيض، تربصت ثلاثة أشهر، وقد قيل: أقلُّ زمان يدل على براءة الرحم ثلاثةُ أشهر، وما يرجع إلى الجبلة لا يختلف بالرق والحرية، وإنما خرّج هذا القولَ الثالث من الاستبراء، قال الشافعي: أم الولد إذا لم تكن من ذوات الحيض فعَتَقَت، فبماذا تستبرىء؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها تستبرىء بشهر واحد؛ فإنها لو كانت من ذوات الحيض، لاستبرأت بقرء واحد، فإذا كانت من ذوات الشهور، أقمنا شهراً مقام قرء. والقول الثاني - أنها تستبرىء بثلاثة أشهر؛ لأنه أقل زمان يدل على براءة الرحم، وخرج هذا في المطلقةِ الأمةِ إذا كانت من ذوات الشهور.

_ (1) أثر عمر رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/ 57 رقم 187، وعبد الرزاق في مصنفه (12872 وما بعده) ورواه البيهقي من طريق الشافعي بسندٍ متصل صحيح إليه، كما قاله الحافظ (ر. السنن الكبرى: 7/ 425، 426، تلخيص الحبير: 2/ 468 ح 1083). (2) لا ينسى إمام الحرمين (شافعيّته) فهو هنا يأخذ من ترديد عمرَ الحكمَ دليلاً على أن ترديد الشافعي أكثر من قولٍ في حكم واحد ليس شيئاً بدعاً يعاب به الشافعي، كما يقول خصومُ مذهبه. كيف وقد سبقه إلى ترديد القول عمرُ رضي الله عنه، وهو من هو فقهاً وفهماً.

فصل قال: " ولو عتَقَت الأمةُ قبل مضي العدة ... إلى آخره " (1). 9820 - الأمة إذا فارقت زوجها، وشرعت في العدة، ثم عَتَقَت في أثنائها، نُظر: فإن كانت بائنة، فعتقت في خلال العدة، نص في القديم على أنها تقتصر على عدة الإماء، ونص في الجديد على قولين في البائنة. وإن كانت رجعيةً، فعتقت في أثناء العدة، المنصوصُ عليه في الجديد القطعُ بأنها تُكمل عدةَ الحرائر، وفي القديم قولان، والقديمُ يميل إلى الاقتصار على عدة الإماء، والجديد [مَيْلُه] (2) إلى الإكمال، والرجعية أولى بالإكمال من البائنة، والبائنة أولى بالاقتصار من الرجعية. فينتظم من الجديد والقديم ثلاثة أقوال: أحدها - الاقتصار على عدة الإماء، رجعية كانت، أو بائنة. والثاني - الإكمال، رجعيةً كانت أو بائنة. والثالث - أنها إن كانت رجعية، أكملت عدة الحرائر، وإن كانت بائنة، اقتصرت على عدة الإماء. توجيه الأقوال: إن قلنا بالإكمال، وهو اختيار المزني، فوجهه أن المغيّر للعدة طرأ على العدة فأشبه ما لو طرأ الحيض على الأشهر، وأيضاً في العدة مشابهُ العبادات، والعبرة فيها بحالة الأداء. ومن قال بالقول الثاني - احتج بضرب من التشبيه، فقال: ذو عدد محصور يختلف بالرق والحرية، فالعبرة فيه بحالة الوجوب كالحد. ومن فصل بين الرجعية والبائنة، قال: الرجعية في حكم الزوجات، والدليل عليه أنها تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة، فلا يبعد أن يلحقها موجَبُ المغيِّر الذي

_ (1) ر. المختصر: 5/ 19. (2) في الأصل: "تحيّلٌ له".

طرأ، والبائنة لا تنتقل من عدتها إلى عدة الوفاة، فلا يبعد أن تلزم العدةَ التي حاضت فيها، ولا تنتقل عنها، ثم أطنب المزني في توجيه ما اختاره، وليس في نقل كلامه مزيدٌ مذهبيّ. فصل قال: " ولو أحدث لها رجعة ... إلى آخره " (1). 9821 - إذا طلق الرجل امرأته طلقة رجعية، ثم راجعها مرة أخرى، فإن وطئها بعد المراجعة، لم يَخْفَ أنها تستأنف عدةً إذا طلقت. وإن راجعها ولم يطأْها، وعاد وطلقها، فهل يجب عليها عدةٌ مستأنفة بعد الطلاق أم تبني على ما كان بقي من عدتها قبل المراجعة؟ في المسألة قولان مشهوران. ولو خالع امرأته، ثم جدد عليها النكاح في أثناء العدة، ثم طلقها قبل الدخول، فلا خلاف أنها تبني على بقية العدة، ولا [يلزمها] (2) عدةٌ مستأنفة، وإذا أصدقها صداقاً جديداً في النكاح الثاني، ثم طلقها قبل الدخول، فليس لها إلا نصفُ المهر الجديد. وقال أبو حنيفة (3): لها تمام مهرها في النكاح الثاني، وهي تستأنف عدةً كاملة، والمسألة مذكورة في الخلاف. فإن قيل: ما الفرق بين الرجعية تُرتَجع ثم تُطلق، وبين المختَلِعة؟ قلنا: الرجعية بالرجعة مردودة إلى أصل النكاح، وقد سبق في أصل النكاح وطء وانقطعت العدة بالرجعة، ويجوز أن يقال: إذا طلقها تستانف عدة؛ فإنها مطلقة عن نكاح جرى فيه مسيس. وأما المختلعة إذا نكحها، فهذا نكاحٌ [جديد] (4)، وهو عريٌّ عن المسيس، فإذا

_ (1) ر. السابق نفسه. وفي الأصل: حدث. والتصويب من المختصر. (2) فى الأصل: يلزمه. (3) ر. فتح القدير: 4/ 156. (4) زيادة من المحقق.

طلقها، لم يقتض الطلاقُ عدة مبتدأة. فإن قيل: فأنزلوها [منزلة الرجعية] (1) تنكِح؛ فإن العدة الأولى انقطعت بالنكاح الجديد (2). قلنا: هذا قياس لا ينكر، ولكن فيه أمر لا سبيل إلى التزامه واقتحامه، وهو أنه لو وطئها في النكاح [الأول] (3)، ثم طلقها، فلا بد من الاستبراء بالعدة، فلو نكحها على مكانتها، ثم طلقها، فلو نكحت، لكانت مشغولة الرحم بالوطء الجاري في النكاح الأول. ثم لو قال قائل: فاكتفوا باستبرائها بحيضة. قلنا: الأصول لا تغيّر لآحاد المسائل، وقد وضع الشرع استبراء المطلقات بثلاثة أقراء، فلا حطّ من هذا المنتهى بعَوْد المختلعة إذا طلقت إلى بقية العدة، لما ذكرناه. 9822 - ثم إن الشافعي ذكر القولين " في أن الرجعية إذا طلقت من غير مسيس بين الرجعة والطلاق الثاني، فهل تستأنف عدة أو تبني؟ ثم قال: من قال تستأنف، لزمه أن يقول: لو لم يرتجعها، وطلّقها في العدة تستأنف عدة جديدة، فلا يُكتفى ببقية العدة ". فاختلف أصحابنا في هذا اللفظ: فمنهم من جعله احتجاجاً، ومنهم من جعله تفريعاً، وبيان ذلك أن من يجري في الاحتجاج لمذهب قد يذكر شيئاًً -لا يجوز أن يُعتَقدَ- إلزاماً، فقول الشافعي محمول على هذا المحمل. ومن حمل هذا على التفريع -وقوله أظهر- قال: لا يليق بالشافعي: الاحتجاج بهذا مع وضوح الفرق؛ فإن الرجعية إذا ارتجعها زوجها، انقطعت العدة بالرجعة، وعادت منكوحة كما كانت من قبل، فاتجه أن يقال: الطلاق الثاني يلحق منكوحةً ممسوسة، فقد بطلت العدة، وقد نُبطل مدّةً شرعية بطريان طارىء، وإذا زال تستأنف مدة أخرى، كما ذكرناه في مدة الإيلاء إذا طرأ عليها طلاقٌ أو ردّة، ثم ارتجعت

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) أي كأنها انقضت. (3) في الأصل: الأولي.

المطلقة وزالت الردة، وإذا طلق الرجعية ولم يرتجعها، فالعدة لم تنقطع، فلا يظهر الاحتجاج. والوجه حمل كلام الشافعي على ترديد القول، فإذا طلق زوجته الرجعية، فتبني أم تستأنف؟ فعلى قولين على هذه الطريقة، مرتبين على القولين فيه إذا راجعها ثم طلقها، وهذه الصورة أولى بالبناء لما أشرنا إليه. فإن قيل: فوجهوا القولين، قلنا: من لم يوجب الاستئناف فوجه قوله بيّن؛ إذ العدة مستمرة، ويستحيل أن يقطعها الطلاق؛ فإن الطلاق يؤكد العدة، ولا يناقضها. ومن قال: تستأنف، قال: الطلاق الجديد يقتضى حَلاً جديداً، ولولا هذا التقدير وإلا لم يكن للطلاق الثاني معنى، وكل حلٍّ يستعقب تربّصاً جديداً. وهذا عندنا أولى من بناء هذين القولين وتقريبهما من القولين فيه إذا قال لامرأته: كلما ولدت ولداً [فأنت] (1) طالق، فولدت ولدين عن بطن واحد، فتخوض في العدة بوضع الولد الأول، وهل يلحقها الطلاق بوضع الولد الثاني الذي يخلو الرحم به؟ فعلى قولين قدمناهما. ووجه التقريب أنا نقدر استئناف عدة، ثم نفرض هذا الطلاق على متصل العدّتين، فكذلك نقدّر إذا طلقت الرجعية كأن عدتها نكاح، فإن طلقت، فهذا ابتداء حَلٍّ، ثم يقع هذا الطلاق بين تقدير ارتفاع ما مضى وابتداء ما وجب من العدة، وتوجيه القول على حسب الإمكان أولى من هذا البناء؛ فإن القولين في وقوع الطلاق بالولد الأخير لا أعرف لأحدهما وجهاً على ما قدمت كشفَه وبيانَه. 9823 - ثم نفرع على هذا الأصل فروعاً ونبيّنها في أنفسها، ونبين بها حقيقةَ الأصل، فلو طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، فكانت حاملاً، فراجعها، ثم طلقها وهي بعدُ حامل، فإذا وضعت حملها، انقضت عدتُها على القولين، وذلك أن بقية مدة الحمل صالحة لأن تكون عدة مستأنفة، فيؤول القولان إلى التقدير. فنقول: في قولٍ: هي في بقية الحمل في بقية العدة، ونقول في القول الثاني:

_ (1) في الأصل: قلت طالق.

بقية العدة عدةٌ مبتدأة، والدليل على ذلك [أنه] (1) لو راجعها ووطئها ثم طلقها، فوضعت حملها، كفى ذلك، ولو كان الوطء بعد الرجعة يوجب عدة مستأنفة بلا خلاف، فيتجه وجه التقدير في هذه الصورة، ونقطع بأن بقيةَ الحمل عدةٌ كاملة. وبمثله لو طلقها حاملاً ابتداء كما صورناه، ثم راجعها، فوضعت حملها في النكاح، ثم طلقها من غير مسيس، فإن فرعنا على قول الاستئناف، اعتدت بثلاثة أقراء بعد الطلاق. وإن قلنا بالبناء، ولم نوجب عدة مستأنفة، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه لا يلزمها بعد الطلاق الثاني تربصٌ أصلاً؛ إذ لا سبيل إلى إيجاب عدة مستأنفة، وقد انقضت مدة الحمل. والوجه الثاني - أنها تعتد بثلاثة أقراء؛ إذ لا بد من تربصٍ بعد الطلاق، وما جرى في حالة ردها إلى النكاح لا يقع الاعتداد به، وإذا ابتدأنا تربُّصاً، فلا موقف نقف عنده، والوجه إيجابُ التربص ثلاثةَ أقراء، فيلتقي القولان: قول الاستئناف وقولُ البناء في هذه الصورة. 9824 - ومما يتعلق بهذه الجملة أنه لو طلقها، وشرعت في الاعتداد بالأقراء، وطعنت في الطهر الثالث من عدتها، فراجعها في أثناء الطهر الثالث، ثم طلقها في الحيض، والتفريع على قولنا: إنها تبني ولا تستأنف، فعلى هذا قال القفال فيما حكاه شيخي عنه: كما (2) راجعها انقضت العدة؛ فإنها كانت في بقية طهر، فيقع الاعتداد بما مضى من الطهر. قال شيخي: هذا كلام مضطرب؛ فإن بقية الطهر إنما يكون قرءاً إذا اتصل بالحيض في زمان التربص، والنصف الأول من الطهر يستحيل أن يكون قرءاً، بل إذا طلقها بائناً، فعليها الاعتداد بقرء. وذكر العراقيون القولين في أن الرجعية إذا طلقت في العدة هل تبني أو تستأنف، ثم

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) كما: بمعنى عندما.

قالوا: لو طلقها رجعياً، ثم خالعها في العدة، وصححنا مخالعة الرجعية، قالوا: إن قلنا: الخلع طلاق، فقد ألحق الطلاقَ، ففي استئناف العدة الطريقان المعروفان للأصحاب. وإن قلنا: الخلعُ فسخ، وجب أن نقطع بأنها تبني ولا تستأنف. وهذا الذي ذكروه لا يقبله المراوزة، فإذا جرى سبب من أسباب الفراق: فسخاً كان أو طلاقاً، ففي استئناف العدة والبناء على بقية العدة الاختلافُ الذي ذكرناه، سواء كان ذلك الطارىء فسخاً أو طلاقاً، والسبب فيه أن قول الاستئناف يعتمد أن الفراق الطارىء حَلٌّ جديد، والحلّ يتضمن استعقاب العدة، وهذا الفقه يستوي فيه الطلاقُ الطارىء والفسخ الطارىء، بل هو في الفسخ أظهر؛ من جهة أن الفسخ يَحُل الملكَ، والطلاق الثاني لا يَحُلُ الملكَ، ولكنا نتكلف حلّه [مع] (1) مِلْك رده ورجعه. والمذهبُ المرتضى القطعُ بأن طريان الفراق لا يوجب استئناف العدة كيف فرض، والمرأةُ تبني على البقية، وترديد الشافعي يحمل على الاحتجاج والإلزام، لا على [التفريج] (2)، وهو كقول الشافعي في مسألة اللحمان: "من قال: اللحمان جنس واحد لاجتماعها تحت اسم اللحم، يلزمه أن يقول: الثمار جنس واحد"، ثم اتفق أصحابنا أن هذا إلزام، وليس [للتفريع] (3)؛ إذ لا خلاف أن الثمار ليست جنساً واحداً. 9824/م- ثم ذكر الشافعي (4) أن الاعتبار في عدد الطلاق بحرية الزوج ورقه، وهذا ما قدمناه في كتاب الطلاق، فأما العدة، فالاعتبار فيها برق المعتدة وحريتها وفاقاً؛ فإنها الملابسة للعدة، والقائمة بتأديتها. ...

_ (1) زيادة اضطررنا إليها لإقامة العبارة، فالمعنى الآن: أننا نتكلف القول بحلّ الملك مع أنه في الطلاق الثاني يملك ردّه ورجعَه، أي يملك إعادة (الملك). والله أعلم. (2) في الأصل: "البقاع" والمثبت من المحقق على ضوء الجملة السابقة واللاحقة التي ستأتي بعد سطور. (3) في الأصل: التفريع. (4) ر. المختصر: 5/ 21.

باب عدة الوفاة

باب عدة الوفاة 9825 - عدة الوفاة ثابتة على التي مات عنها زوجها، سواء جرى في النكاح دخولٌ أو لم يجر، وقيل: كانت العدة في ابتداء الإسلام سنةً كاملة، وكانت المرأة تجلس في شرّ بيتها في شرِّ أحلاسها، ثم كان تؤتى بكلب، وكانت ترمي إليه ببعرة، وكانت تعني بذلك: أن تفجُّعي على زوجي طول هذه السنة أهون وأيسر عليّ من رَمْي الكلب بهده البعرة. وكان في ابتداء الإسلام لا إرث للمتوفى عنها زوجها، وكان يجب الإنفاق عليها في تلك السنة من التركة، بدلاً عن الإرث، ثم نسخت العدةُ على هذه الصفة، وردّت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. وروي أن امرأة قتل زوجها فرمدت عينُها فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُستأذن لها في الاكتحال، فقال عليه السلام: "كانت إحداكنّ تقعد في شرّ بيتها في شرّ أحلاسها سنةً، أفلا أربعة أشهر وعشراً!! " (1). فنقول: إذا مات الزوج، لم تخل المرأة إما أن تكون حائلاً أو حاملاً، فإن كانت حائلاً حرة، اعتدت بأربعة أشهر وعشرِ ليالٍ. وإن كانت أمة: تربصت شهرين وخمسَ ليال بأيامها، وقال داود: الأمة كالحرة في عدة الوفاة، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: تعتد بأقصى الأجلين من ثلاثة أقراء ومن أربعة أشهر وعشر (2)، وهذا يخالف الآية؛ فإنه تعالى لم يثبت في كتابه التعرضَ

_ (1) حديت: "كانت إحداكن تقعد في شر بيتها ... " الحديث. رواه الشيخان (البخاري: الطلاق، باب الكُحل للحادَّةِ، ح 5338. مسلم: الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، ح 1488). (2) أثر عبد الله بن عمرو بن العاص لم نقف عليه.

للأقراء في عدة الوفاة، مع انقسام النساء إلى ذوات الأقراء وغيرهن، وفَصَّل العِدَدَ عن الطلاق وَذَكر الأقراء أصلاً فيها. هذا إذا كانت حائلاً. 9826 - فأما إذا توفي الزوج والزوجة حامل، فإذا وضعت حملها انقضت عدتها، وليس في كتاب الله بيان ذلك، وإنما أُخذ هذا من السنة، وروي أن سُبَيْعةَ الأسلمية أبِق لزوجها عبيد فاتبعهم ليردَّهم، فأدركهم فكرُّوا عليه وقتلوه، وكانت سُبَيْعةُ حاملاً، فوضعت لنصف شهر، فخطبها أبو السنابل بن بَعْكَك، فرغبت عنه ولم تردّه، فرآها يوماًً تتصنع للأزواج، فقال: أتتصنّعين للأزواج، لا، حتى يبلغ الكتاب أجله، وقال ذلك راجياً أن يعود أولياؤها الغُيّب، فيرغبوا ويحملوها على الإجابة، فجاءت سُبَيْعةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بقوله، فقال: "كذب أبو السنابل، بل حللتِ، فانكحي من شئت " (1). وقال عمر: إذا وَضَعَتْ وزوجها على السرير لم يدفن، حلّت (2). فوضْعُ الحمل إذاً ينقضي به كل عدة. والذي يجب التنبه له أن المتوفى عنها إذا كانت حاملاً، فممّا يدرك بمسلك المعنى أن الأربعة الأشهر والعشر إذا انقضت، والحملُ قائم، فلا سبيل إلى التزوج مع اشتغال الرحم، وإنما الذي يحيد عن القياس بعضَ الحَيْد أنها لو وضعت لدون أربعة أشهر؛ فإنها تحل. قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: لولا حديث سُبَيْعة، لكان الأخذ بأقصى الأجلين: أجل الوضع، والأربعة الأشهر والعشر قريباً من القواعد، لمِا غلب وظهر في عدة الوفاة من التعبد، حتى أنها وجبت مع العُرُوّ عن الدخول، فإذا كنا لا نرعى في

_ (1) حديث سُبَيْعة الأسلمية متفق عليه من حديثها، ومن حديث أم سلمة (البخاري: الطلاق، باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، ح 5319، مسلم، الطلاق: باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، ح 3516، وانظر مصنف عبد الرزاق: ح 11722 وما بعده، التلخيص: 3/ 465 ح 1801). (2) حديث عمر رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر (ر. الموطأ: 2/ 589 ح 84، ترتيب مسند الشافعي 2/ 53 ح 170، مصنف عبد الرزاق: 6/ 472 ح 11718، 11719، تلخيص الحبير 3/ 473 ح 1810).

وجوب العدة جريان ما يشغل الرحم في جنسه، كان لا يبعد رعاية المدة المذكورة في كتاب الله تعالى، مع حصول براءة الرحم بوضع الحمل، ولكن المتبع السنةُ، فلا معدل عنها. 9827 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه التعرض للسكنى في عدة الوفاة، ولسنا نخوض فيها الآن، فإنها بين أيدينا. 9828 - ثم قال الشافعي: " وليس عليها أن تأتي فيها بحيض " (1)، وهذا مما قدمناه، وغرضه الرد على مالك (2)؛ فإنه يقول: إذا كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة، فعليها أربعةُ أشهر وعشرٌ فيها حيضتان، وإن كانت عادتها في كل ثلاثة أشهر أن تحيض مرة، فعليها أربعةُ أشهر وعشرٌ فيها حيضة. واحتج الشافعي رضي الله عنه عليه، وقال: لا ذكر للحيض في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، والعدة قسمان: أحدهما - بالأشهر والثاني - بالأقراء، ثم ما يقع بالأقراء لا يعتبر فيه حساب الأشهر، فما يقع بالأشهر لا يعتبر فيه حساب الأقراء. ثم ذكر بعدها أنها لو ارتابت بالحمل، فهل تنكح أم لا تنكح؟ وهذا مما قدمناه مستقصًى، [وتعرّض] (3) بعد ذلك لتوريث المبتوتة في مرض الموت وحرمانها، وقد مضى ذلك مستقصًى في موضعه. فصل قال: " ولو طلق إحدى امرأتيه ثلاثاً ... إلى آخره " (4). 9829 - ذكرنا أن التعويل في عدة الوفاة على الأشهر إذا لم تكن المرأة حاملاً، فإن فرض وقوع الوفاة في الجزء الأخير من شهر، وتحقق ذلك، استقبلت التربصَ

_ (1) ر. المختصر: 5/ 24. (2) ر. عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1359 مسألة: 947. (3) في الأصل: وتفرض. (4) ر. المختصر: 5/ 26.

أربعةَ أشهر بالأهلة، فتربصت بعدها عشرةَ أيام بلياليها. فإن وقعت الوفاة في كسر شهر، وكان بقي من ذلك الشهر عشرةُ أيامٍ، من غير زيادة ولا نقصان، فقد قطع الأئمة بأنا نحتسب هذه الأيام من العشر، فنأمرها أن تتربص بعدها أربعةَ أشهر بالأهلة، ولا نقول: تُحْتَسبُ العشرُ الباقية من الأشهر حتى ينكسر الشهر الأول، ثم إذا تصرّمت الأشهر، تربصت عشرة أيام بعدها، ولكن إذا أمكن حَسْبُ تلك الأيام من حساب العشر؛ حتى لا تنكسر الشهور، فعلنا ذلك، ولا يقع العشر مع الأشهر على حكم الترتب، والغرضُ انقضاء هذه المددِ، وبعضها يقدَّر بالأهلة، وبعضها بالأيام، والغرض مُضيّها. ولو كان الباقي من الشهر أكثرَ من عشرة أيام، فينكسر الشهر الأول لا محالة؛ لمكان ما يبقى بعد العشر، وكذلك لو كان الباقي من الشهر بعد وقوع الوفاة أقلَّ من العشر، فينكسرُ الشهر الأول لا محالة، ثم الكلام في الانكسار على ما قدمنا ذكره. 9830 - ولو طلق الرجل إحدى امرأتيه على الإبهام، ومات قبل البيان، إن لم يدخل بواحدةٍ منهما، فعلى كل واحدة أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً، فإن الأمر محمول على الاحتياط في العِدّة، وما من واحدة منهما إلا ويجوز أن تكون هي الزوجة، ولكن لا دخول بواحدة منهما؛ حتى يترددَ النظر بين الأقراء وبين الأشهر والعشر. فإن كان قد دخل بهما نُظر: إن كانتا حاملين، فالعدة تنقضي بوضع الحمل؛ لأن الوضع تنقضي به العدد كلها: عِدةُ الوفاة وعِدة الفراق في الحياة، وإن كانتا حائلين، نظر: فإن كانتا من ذوات الأشهر، فتتربص كل واحدة أربعةَ أشهر وعشراً من وقت الوفاة، فإن كانت زوجة، فهذه عدة الوفاة، وإن كانت مطلقة، فعدتها بالأشهر، وفي الأربعة ثلاثة. ولو [كانتا] (1) من ذوات الأقراء، اعتدت كل واحدة منهما بأربعة أشهر وعشر، فيها ثلاثة أقراء، ويعتبر أقصى الأجلين وأبعد المدتين، لأنها مأمورة بالتربص إلى أن

_ (1) في الأصل: كانت.

تستيقن الخروج عما عليها، وكل واحدة منهما مردَّدة بين أن تكون مطلقة عدتُها الأقراء، وبين أن تكون زوجة عدتها الأشهر والعشر. فأما حساب عدة الوفاة، فمن يوم الوفاة، وحساب عدة الأقراء يخرّج على الخلاف الذي قدمناه في كتاب الطلاق: من أصحابنا من قال: حساب الأقراء من وقت الطلاق، ومنهم من قال: حسابها من وقت الموت، فإنا نستيقن انتفاء النكاح وارتفاعَه يوم الموت، وقد تمهد أصل هذا. ومعنى أقصى الأجلين أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً من يوم الوفاة على أن يمضي عليها ثلاثةُ أقراء، إما من يوم الطلاق، وإما من يوم الوفاة، فإن انقضت الأشهر والعشر، ولم تمض الأقراء، صبرت إلى انقضائها كاملة من أوّل تاريخها المعتبر. وإن أَحْببنا قلنا: تعتد بثلاثة أقراء من أول تاريخها على شرط أن يقع فيها أربعةُ أشهر وعشرٌ من تاريخ الوفاة. هذا بيان أقصى الأجلين. وإن كان قد دخل بإحداهما دون الأخرى، فالتي لم يدخل بها تعتد بأربعة أشهر وعشرٍ، والمدخول بها إن كانت حاملاً، اعتدت بوضع الحمل، وإن كانت حائلاً، فبأقصى الأجلين، كما تقدم تفصيله. 9831 - ومما ذكره القفال في آخر الباب: أن المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، فلو وضعت وزوجها على السرير لم يدفن، ونفذ الحكمُ بانقضاء العدة، وحل لها أن تنكح، فلها أن تغسّل زوجها بعد وضع الحمل؛ لأن قيام العدة ليس معتبراً عندنا في الغسل؛ لأن الرجل يغسل امرأته إذا ماتت، ولا عدّة عليه. ثم قال الأصحاب: لو وضعت، ونكَحت والزوج بعدُ لم يدفن، فلها أن تغسل الزوجَ المتوفى، ولا ينبغي للفقيه أن يرتاع من هذا؛ فإنه إذا لم يمتنع الغُسل مع انتهاء النكاح نهايته وانقضاءِ العدة، فلا أثر لنكاحها؛ فإن الزوجة لا تغسل زوجها بتقدير حِلٍّ قائم بينهما، وإنما تغسل لبقائها على عُلقةٍ من النكاح، وهذا المعنى لا يزول بالتزوج.

هذا ما بلغنا في ذلك، وكان لا يبعد أن يقال: تبقى تبعية النكاح ما لم تنكِح، كما أنا نلحق النسب بالاحتمال ما لم تنكِح زوجاً. وقال الشافعي رضوان الله عليه في مذهب له ظاهر: من فاتته ركعتا الصبح، قضاهما، فإذا زالت الشمس، وتحرّم بفريضة الظهر، انقطعت التبعيّة، وهذا تشبيهٌ من طريق اللفظ، ولكنه كلامٌ على حال. ***

باب مقام المطلقة والمتوفى عنها زوجها

باب مقام المطلقة والمتوفى عنها زوجها 9832 - ذكر الشافعي في هذا الباب السكنى، وما يتعلق بها، ومن يستحقها من المعتدات، ومن لا يستحقها. والأصل في وجوب السكنى الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ: قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، قيل في التفسير: الفاحشة الزنا، والمعنى إلا أن تزني، فتخرج لإقامة الحدّ عليها، وهذا التفسير غير صحيح؛ لأنها إذا أخرجت للحدّ، رُدّت إلى مسكن العدّة بعد استيفاء الحد، فلا يتحقق الإخراج الكلي، فالصحيح ما قال ابن عباس إن الفاحشة أن تَبْذُوَ بلسانها، وتستطيل على أحمائها، فتخرجَ من دار الزوج. وسكنى المطلقة مستفادةٌ من الكتاب. 9833 - فأما المتوفى عنها زوجها، فأمرها مستفادٌ من حديث فُرَيْعةَ بنتِ مالك: روي أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن زوجي قُتل ولم يتركني في مسكن يملكه، فقال عليه السّلام: " ارجعي إلى بيتِ أهلك، واعتدّي فيه، فلما ولّت وبلغت بعض البيوت، ناداها، وقال: اعتدي في بيتك، حتى يبلغ الكتاب أجله " (1).

_ (1) حديث فُريعةَ بنتِ مالك رواه مالك، والشافعي وأحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه كلهم من حديث سعد بن إسحاق عن عمته زينب عن الفريعة به (ر. الموطأ: 2/ 591، ترتيب مسند الشافعي: 2/ 53، رقم 175، المسند: 6/ 370، أبو داود: الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل، ح 2300، والترمذي: الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، ح 1204، والنسائي: الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، ح 3528، 3529، 3530، ابن ماجه: الطلاق، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها، ح 2031).

وفي سكنى المتوفى عنها قولان، كما سنذكرهما، وفي الحديث الذي رويناه متمسّك القولين: فمن أوجب السكنى، صار إلى أن الرسول نسخ بقوله الآخرَ قولَه الأول، ورخص لها في الخروج أولاً، ثم نسخ وأوجب السكنى بقوله: "اعتدي في بيتك حتى يبلغ الكتابُ أجلَه". و [من] (1) لم يُثبت السكنى للمعتدة عن الوفاة، استدل بأوّل الحديث، وحمل آخره على الندب والاستحباب. وحديث فاطمةَ بنتِ قيس لا بد من ذكرها في الباب، روي أن زوجها طلقها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تعتد في بيت الزوج، فاستطالت على أحمائها باللسان، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجها النبي عليه السلام من بيت الزوج، وأمرها حتى اعتدّت في بيت ابن أم مكتوم (2). وعن مروانَ أنه أخرج مطلقةً من بيت زوجها، فأرسلت إليه عائشةُ: أن اتق الله، واردُد المرأة إلى بيت زوجها، فقال مروان: أما بلغك شأنُ فاطمةَ، فقالت عائشةُ: لا عليك أن لا تذكر فاطمة، فقال مروان: إن كان بك الشر، فحسبك ما بين هذين من الشر: [أي] (3) إن كان أخرجها بعلة الشر، فهو موجود في هذه، ثم كانت فاطمةُ تسمَّى بعد قصتها في الصحابة الفتانة؛ فإنها روت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجعل لها النفقة والسكنى، وكانت لا تذكر سبب إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها من مسكن النكاح. فهذا بيان القواعد التي إليها الرجوع في مسائل الكتاب.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) حديث فاطمة بنت قيس -برواياته-، رواه البخاري: الطلاق، باب قصة فاطمة بنت قيس وقول الله عز وجل {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، الأحاديث من 1321 - 5328. ورواه مسلم: الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، ح 1480. وانظر الروايات المختلفة أيضاً في السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 431 وما بعدها. (3) زيادة يمكن الاستغناء عنها، ولكنها تعين على فهم الكلام.

9834 - ثم إنا نفتتح بعد هذا القولَ في التي تستحق السكنى، وفي التي لا تستحقها، وفي التي اختلف القول فيها. وجملة المعتدات قسمان: معتدة عن فُرقة النكاح، ومعتدة عن غير النكاح، فالمعتدة عن غير النكاح كالموطوءة بالشبهة والمنكوحة نكاحاً فاسداً، فيلتحق بهما المستولدة إذا عتَقَت بالإعتاق، أو بموت المَوْلَى عنها، فلا سكنى لواحدة من اللواتي ذكرناهن، إذا لم يكن حمل، فلا شك أن السكنى إذا انتفت، انتفت النفقة. ولو كانت واحدة من اللواتي ذكرناهن حاملاً، ففي استحقاق النفقة كلامٌ، وتفصيلٌ، واختلافٌ، سيأتي مستقصًى في كتاب النفقات، إن شاء الله عز وجل. فإن أثبتنا النفقة لمكان الحمل، فهل تثبت السكنى؟ الرأي الظاهر أنها تثبت؛ فإن السكنى أولى بالثبوت من النفقة. ومن أصحابنا من قال: لا تثبت السكنى؛ فإن النفقة الثابتةَ لأجل الحمل بلاغٌ وسدُّ حاجةٍ به قوام الحمل، ولا يتحقق هذا المعنى في السكنى. ومن صار إلى إيجاب السكنى تبعاً للنفقة، [فليس] (1) يعيّن مسكناً، وإنما يوجب القيام بمؤنة السكنى. 9835 - فأما المعتدة عن فُرقة النكاح، فلا يخلو إما أن تكون معتدة عن الموت أو عن فُرقة في الحياة، فأما المعتدة عن فُرقة في الحياة، فقسمان: معتدة عن الطلاق، وعن غير الطلاق. فالمعتدة عن الطلاق قسمان: رجعية وبائنة، أما الرجعية، فلها النفقة والسكنى، حاملاً كانت أو حائلاً؛ لأنها في حكم الزوجات، والبائنةُ لها السكنى بكل حال، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً. ثم للشافعي قولان في أن النفقة لها أو للحمل، وسيأتي توجيههما وتفريعهما في كتاب النفقات، إن شاء الله تعالى. وأما المعتدة عن فراق في الحياة غيرِ الطلاق، فالطريقة المشهورة أن النكاح إن انفسخ بفسخ أنشأته المرأة بنفسها: بعيبٍ في الزوج، أو خيارِ عتق، فلا سكنى لها،

_ (1) في الأصل: وليس.

وكذلك لو ارتضعت، وكان ذلك سببَ الانفساخ، فالكلام على ما ذكرناه. وكذلك لو انفسخ النكاح بفسخٍ أنشأه الزوج لمعنًى فيها، فلا سكنى في مثل هذه العدة، وأمرُ النفقة في الفرق بين الحامل والحائل يأتي في النفقة، إن شاء الله. فلو انفسخ النكاح بارتداد الزوج، أو بإسلام أحدهما، أو رضاعٍ من جهة أجنبي، ففي وجوب السكنى قولان، كما في المتوفى عنها زوجها؛ وذلك أن النكاح ارتفع من غير طلاق، ولا سبب متعلق بها. ومن أصحابنا من قال: يجري القولان في العدة التي تترتب على فسخها أو على الفسخ بعيب فيها، وكل معتدة عن فراق عن النكاح في الحياة، ليس ذلك الفراق طلاقاً، ففي ثبوت السكنى الطريقان في القطع، وتخريج القولين. فإن أردنا أن نفرق بين النفقة والسكنى في مجاري المذهب، [فلْنحوِّم ولا نضن بالوفاء بفرق معنًى] (1)، ولكنا نعتمد فحوى كلام الله عز وجل؛ فإنه أثبت السكنى من غير تفصيل، وفَصَّلَ الأمرَ في النفقة، فخصص وجوبَها بالحوامل، وغرضُنا الآن التعرضُ للسكنى فحسب، فأما النفقاتُ، فبين أيدينا، نفصلها في كتابها، إن شاء الله عز وجل. 9836 - والقدْرُ الذي ذكره الأصحاب أن السكنى لصيانة الماء والمعتدة على الجملة مشتغلةٌ بصيانة الماء، والنفقةُ في مقابلة تسلط الزوج،. وهذا المعنى مفقود في عدة البينونة، وليس يستمر هذا على ما ينبغي، ويَرِدُ على أحد شِقي الكلام الموطوءة بالشبهة والمستولدة في زمان الاستبراء. فأما الصغيرة التي لا تحتمل الجماع لصغرها هل تستحق السكنى؟ ذكر الأئمة وجهين في استحقاقها السكنى، وبناهما القاضي على أنها هل تستحق النفقة في النكاح؟ فإن قلنا: لا نفقة لها، فلا سكنى لها في العدة، وإن قلنا: لها النفقة في النكاح، فلها السكنى في العدة.

_ (1) عبارة الأصل: " فالمحرّم أن لا يضن الوفاء بفرق معنى " والمثبت تصرف من المحقق نرجو أن يكون هو الصواب.

9837 - وأما الأمة إذا طلقها الزوج، فلا يخلو إما إن كان السيد بوّأ لها مسكناًً مع الزوج أو لم يفعل ذلك، فإن كان عين مسكناً، فهذا يُبنى على أصلين: أحدهما - أنها هل كانت تستحق النفقة في الحياة؟ وهذا يترتب على استخدامه إياها وتركه ذلك، وتسليمه إياها إلى الزوج، فإن سلمها إلى الزوج، وكان لا يستخدمه، فلها النفقة، وعلى الكلام في أنه هل كان يجب عليه أن يسلّمها إلى زوجها حتى يسكنها حيث شاء، وفيه اختلاف قدمناه. فإن أوجبنا ذلك وتُصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها، وهي أن السيد كان لا يستخدمها، فقد اجتمع وجوب النفقة في النكاح، وسلطانُ الزوج في إسكانها مسكناًً يريده ويعيّنه، فيبتني على ذلك وجوبُ السكنى في العدة، وإن قلنا بوجوب النفقة في الصورة التي نحن فيها بَعْدُ، وفرعنا على أنه لا يجب على المَوْلى تسليمُها، ليُسكنها الزوج حيث شاء، فإذا لم يتعين مسكن في النكاح بحكم الزوج استحقاقاً، فإذا طلقها الزوج، وهي في مسكن بحكمه رضي المَوْلى به، وإن لم يكن ذلك مستحقاً عليه، فهل يتعين عليها ملازمة ذلك المسكن الذي اتفق كونها فيه حالة النكاح عن توافق وتراضٍ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يتعين؛ فإن العدة تبع النكاح، فإذا كان لا يستحق الزوج إسكانها حيث شاء في النكاح، فلا معنى لتعيّن مسكن النكاح للعدة. وأبْعد بعضُ أصحابنا، فقال: إذا اتفق مسكن في النكاح، وإن لم يكن عن استحقاق، تعيّن لزومُه في العدة، وهذا بعيد. ثم إن قلنا: مسكن النكاح لا يتعين، فعلى الزوج القيام بمؤنة إسكانها، والتعيين إلى السيد، فإنا في إثبات السكنى في العدة نلتفت إلى النكاح، وكان للمَوْلَى في النكاح أن يُلزم الزوجَ مؤنةَ السكنى، فإذا وجبت النفقة، والسكنى من المؤن التي ثبتت -على التأويل الذي ذكرناه- فيجب بقاء مؤنة السكنى، وإن زالت النفقة للبينونة؛ لما ذكرنا من أن السكنى تجب حيث لا تجب النفقة. هذا كله إذا كان السيد لا يستخدمها، فإن كان يستخدمها نهاراً، ويتركها ليلاً، ففي وجوب النفقة خلافٌ قدّمته في النكاح، فإن أوجبنا النفقة، أوجبنا السكنى في

العدة على التفصيل الذي ذكرناه الآن في أنها [هل] (1) تلزم مسكن النكاح، أو لا تلزمه؛ وإن قلنا: لا تجب النفقة في النكاح لا تلزم السكنى في العدة. 9838 - ولو نشزت الزوجة الحرة على زوجها، وسقطت نفقتها، فطلقها زوجها، أو مات عنها، ونعني بالطلاق الطلاقَ المُبينَ، قال القاضي: لا سكنى لهذه في العدة، كما لا نفقه لها في النكاح. وهذا فيه نظر؛ فإن النشوز معنًى طارىء، وأصل النكاح على استحقاق النفقة ومهما (2) تركت المرأة النشوزَ، فهي على استحقاقها، فموجب النفقة إذاً قائم في النكاح، ولكن لا تجب النفقة لانعدام محل العلة، وليس كذلك الأَمة؛ فإن القول فيها في استحقاق النفقة، وفي تعيين مسكن النكاح مضطرب، كما أشرنا إليه. فالوجه أن يقال: إذا مات زوج الناشزة أو طلقها ألبتة المبينة، فيلزمها أن تلزم مسكن النكاح؛ فإن هذا تعبّدٌ من جهة الشرع، ولقد كان لها مسكن مستحَقٌ في النكاح، فيلزمها أن تلزمه تعبّداً من الله عز وجلّ. نعم، لو لم تُلْفَ في مسكنٍ، واستمر النشوز والاستعصاء على الزوج، وعدم السكون في مسكن يعيّنه، فبانت، فهذه لم يُعهد لها مسكن نكاح، حتى يقال: إنها تلزمه إلى انقضاء العدة، ففي هذه الحالة يظهر إسقاط مسكن النكاح. ويبقى النظر في أنها لو نزلت عن نشوزها، وطلبت مسكناًً تعتدّ فيه، فهل تجاب، وقد انكفت عن نشوزها؟ وهل يتصور الرجوعُ إلى الطاعة بعد البينونة؟ هذا محتمل جداً. فأما إذا نشزت على زوجها في مسكن النكاح؛ فكانت لا تطاوعه، فقد سقطت نفقتها، وسقط أيضاًً عن الزوج مؤنة إسكانها، فإذا أصابتها البينونة، والحالة هذه، فهل تلزم مسكنَ النكاح؟ يظهر هاهنا أن تلزَمه رعاية للتعبّد والحقِّ الدّيني الذي لا يسقط بالتراضي.

_ (1) في الأصل: هذا. (2) مهما: بمعنى إذا.

هذا مجموع القول في اللواتي يفارقن أزواجهنّ في الحياة. 9839 - فأما المتوفى عنها زوجها، فلا نفقة لها حائلاً كانت أو حاملاً؛ لأن نفقة الحمل تسقط بالموت، وتسقط مؤنةُ الحاضنةِ القائمةِ بصيانة الولد. وهل تستحق السكنى؟ [فعلى قولين: أحدهما - أنها تستحق] (1) كالبائنة المطلقة. والثاني - أنها لا تستحقها؛ لأن السكنى في كتاب الله عز وجل ثابتة للمطلقات، فالمتَّبَعُ الكتابُ، في هذا الباب؛ فإن مجال القياس فيه ضيق. والموتُ عن الصغيرة والأمةِ والناشزةِ -على قولنا المتوفى عنها تستحق السكنى- يُردّ [إلى] (2) التفاصيل التي قدمناها؛ فإن الرأي إذا اضطرب في العدة عن الحي، فهو بالاضطراب أولى في العدة عن الميت؛ فإن البائنة على الجملة تستحق السكنى قولاً واحداً، وفي المتوفى عنها قولان. وقد انتجز الكلام فيمن تستحق السكنى وفيمن لا تستحقها. 9840 - ونحن الآن نخوض في تفصيل السكنى، ونقول: القول في السكنى يتعلق بركنين أبداً: أحدهما - التعرض للزوم مسكن النكاح. والثاني - الكلام في إلزام مؤنة السكنى إن لم يكن للنكاح مسكنٌ معيّن. فأما الكلام في الركن الأول: فإذا كان الزوج يساكن امرأة في مسكن مملوكٍ له، ثم طلقها البتة أو طلقة رجعية، أو مات عنها -والتفريع على استحقاق السكنى- فيتعين عليها ملازمةُ مسكن النكاح، فلو زايلته على اختيارٍ من غير اضطرارٍ، عصت ربَّها ويجب على الزوج ألا يخرجَها، ولا يزعجَها، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، أجمع المفسرون على أن المراد مسكنُ النكاح لا غير. هذا إذا كان للزوج مسكن مملوك.

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها، وهي قريبة من عبارة ابن أبي عصرون. (2) زيادة اقتضاها السياق.

ولو كان المسكن مكتَرى للزوج، وقد بقي من المدة ما يفي بزمان العِدة، فعليها أن تلزمَه وعلى الزوج ألا يزعجها. وإن كانت الدار مستعارة، فإن لم يرجع المعير، وجب عليها أن تلزمه، وعلى الزوج ألاّ يزعجها، وإن رجع المعير عن العارية، فقد فات الأمر، ولا يمكنها أن تلزم مسكنَ النكاح، وسنذكر التفصيل في الركن الثاني وهو مؤنة السكنى. 9841 - أولاً (1) نُلحق بما ذكرناه كلاماً، ونقول: إذا نكح امرأة وأسكنها مسكناًً ضيقاً لا يليق بها في درجتها، ولكنها سامحت زوجَها ورضيت، فلما طلقها، لم ترض بذلك المسكن، وطلبت مسكناً يليق بدرجتها، قال العراقيون: لها ذلك، ولا يلزمها لزومُ ذلك المسكن. ولو كان الأمر على العكس، وكان الزوج أسكنها مسكناً رفيعاً لا تستحق عليه مثلَه، فلما طلقها، قال الزوج: أنقلها إلى مسكن يليق بها، قالوا: للزوج ذلك. وما ذكروه في الطرفين ليس خالياً عن الاحتمال، فلا يبعُد أن يقال: إذا جرت مسامحةٌ منها حتى وافاها الطلاق، لزمها المصابرةُ إلى انقضاء العدة. وإذا كان الزوج هو المتبرع بالمسكن الرفيع، فلا يبعد من طريق التعبد أن يلزمَه إدامةُ إسكانها إلى انقضاء العدة، وفي كلام المراوزة رمزٌ إلى ما ذكرناه، والقياس ما ذكره العراقيون. ويخرج مما قالوه أنه إنما يلزم تعيينُ مسكنِ النكاح إذا كان على قدر استحقاقها من غير فرض مسامحةٍ منها وتبرّعٍ منه، فإذا صادفها الطلاق، والحالة هذه، تعين المسكنُ، ولم يكن متعيناً في النكاح؛ فإن الزوج لو أراد نقلها مع استمرار النكاح من مسكن إلى مسكن، جاز له ذلك، ولا تبقى خِيَرةٌ إذا وافاها الطلاق في مسكن، وهذا موضع التوطئة بعْدُ، وستأتي التفاصيل والمسائل، إن شاء الله. فهذا قول كليّ في لزوم مسكن النكاح.

_ (1) المعنى أننا قبل أن نذكر تفصيل الركن الثاني نلحق بما ذكرنا في الركن الأول كلاماً ...

9842 - فإن لم يكن للنكاح مسكنٌ معيّن، ولكن كانا ينتقلان في الدور المستعارة، ثم جرى الطلاق، واسترد المعير العاريّة، فالزوج يبذل مؤنةَ السكنى، ويكتري مسكناًً لائقاً بحالها، وإليه تعيين ذلك المسكن؛ فإن العدة منسوبةٌ إليه، والغرضُ منها حفظ مائه أو الاحتباس بسبب رعاية حرمته. هذا كلام في أصل السكنى، وانقسامِ الأمر فيه إلى الكلام في تعين المسكن الذي كان مسكنَ النكاح، والثاني في إلزام الزوج مؤنةَ السكنى إذا لم يكن للنكاح مسكنٌ متعيَّنٌ. ويتصل بذلك لا محالة أنه يجب عليها أن تَقَرّ وتسكن موضعاً إلى انقضاء العدة، إذا لم يصادفها الطلاق في سفرٍ. وإن صادفها الطلاق في سفر، فيأتي ذلك بعد هذا. ثم إنا نتكلم بعد هذا التمهيد في ثلاثة فصول: فصلٌ يتعلق بتعيين المسكن. وفصلٌ يتعلق بمنع الزوج عن المساكنة. وفصلٌ في مؤنة السكنى عند ضيق المال. [الفصل الأول] (1) فأما ما نطلبه في تعين المسكن: 9843 - إذا كان للزوج مسكن مملوك، فالمرأة لا تُزعج من ذلك المسكن حتى تنقضي العدةُ على القواعد التي قدمناها، فلو أفلس الزوجُ وأحاطت الديون به، ومست الحاجةُ إلى بيع المسكن، فالأصل المعتبر في القاعدة أنا لا نُبطل حقَّ السكنى من تلك الدار أصلاً، وإن تأخرت حقوق الغرماء. ولكن إن كانت حاملاً، فلا سبيل إلى بيع الدار؛ فإن مدة الحمل مضطربة: ربما تُجْهِض المرأةُ، وربما تلد لستٍّ أو لتسعٍ، أو لأربعِ سنين، فيمتنع البيع للجهالة التي

_ (1) العنوان من عمل المحقق.

ذكرناها، وكذلك إذا كانت من ذوات الأقراء، فلا يصح بيع الدار؛ [إذ] (1) الأقراء تختلف، ولا ضبط لأكثر الطهر. وإن كانت معتدة بالشهور، نظر: فإن كنا لا نتوقع طريان الأقراء على الشهور، فالمذهب الذي عليه التعويل أن بيع الدار قبل انقضاء الأشهر يخرّج على القولين في بيع الدار المكراة؛ وذلك لأن الدار مستحَقَّةُ المنافع في هذه المدّة، فصار كما لو كانت مستحَقَّةَ المنفعةِ للمستأجر. وذكر العراقيون وجهاً آخر أنا نقطع بمنع البيع، بخلاف الدار المكراة، واعتلوا بأن قالوا: قد تموت المعتدة في أثناء المدة، فتنقطع العدة، فهذا إذاً [يجرّ غَرَراً] (2) من هذا الوجه، وزعموا أن هذا لا يتحقق في الإجارة؛ فإن المستأجر لو مات لم يبطل حقه، بل ينتقل إلى ورثته، ولو فرض من المكتري فسخُ الإجارةِ، فقد يقول قائل: للبائع المكري إمساك الدار إلى انقضاء المدة. وقد فصلنا هذا في كتاب الإجارة والبيع. وهذا الذي ذكروه غيرُ سديد؛ فإن أمر البيع لا يحمل على تقدير الموت، وشواهدُ ذلك في بيع الأعيان والسّلم واضحة. هذا إذا كنا لا نتوقع طريانَ الأقراء على الشهور. فأما إذا كنا نتوقع طريانَها، فللأصحاب طريقان: منهم من قطع بفساد البيع لتوقع طريان القرء، ثم الأقراء لا ضبط لها. ومنهم من قال: الحكم بمقتضى الحال وهي من ذوات الشهور، فيخرج البيع على القولين، ثم إن صححنا البيعَ، فطرأ الحيض، فهذا عندنا يضاهي طريانَ اختلاط الثمار قبل القبض؛ فإنا نقول: لو كانت الثمار تختلط بطباعها لا محالة، فالبيع باطل، وإن اتفق اختلاطٌ طارىء، ففيه الخلاف المشهور في كتاب البيع، وليس هذا كطريان الإباق على العبد؛ فإن ذاك لا يبنى عليه الأمر، وطريان الحيض على مشاهدة من حكم الجبلّة كاتفاق اختلاط الثمار.

_ (1) في الأصل: إن. (2) في الأصل: "يجد عذراً" والمثبت من المحقق رعاية للسياق.

9844 - ويتم الغرض بسؤالين والجواب عنهما: فإن قيل: منعتم بيع الدار إذا كانت حاملاً، فما قولكم لو قال المشتري: منتهى مدة الحمل معلومة، وأنا آخذ بامتداد الحمل إلى أقصى مدة له، وأرضى، فنقول: هذا رضاً مع تحقق الغرر، وإذا فرض غرر مؤثر في العقد، لم ينفع الرضا فيه، وهذا بمثابة ما لو باع رجل عبداً بمالٍ، وعُلم قطعاً أنه لم يبعه بأكثر من مائة، فقال مالك الدار: بعتك الدار بما باع به فلان عبدَه، وطابت نفس المشتري بالمائة التي هي الأقصى، فلا يصح البيع. والغررُ المجتنب المؤثر في العقد ينقسم: فمنه ما يثير نزاعاً، وهو مفسد، ومنه ما لا يثير نزاعاً ولكنه غرر بيّن، فلا يمتنع أن يكون مفسداً تعبداً من الشارع، [والقواعد] (1) التعبدية في المعاملات لا ترتفع بالتراضي. 9845 - فإن قيل: هلا بنيتم الحمل على الغالب؟ أم هلا قلتم: إذا كان للمرأة عادةٌ في الحيض مطردة، فيقع الأخذ بها، حتى نحكم بالصحة على قول تصحيح بيع الدار المكراة؟ والسؤال يتأكد بشيء وهو أنه إذا لم يكن للنكاح مسكن، فقد نقول: تطلب المرأة مؤنةَ السكنى لأيام عادتها. هذا ظاهر المذهب، على ما سنذكر، إن شاء الله تعالى. فإذا كان يتعلق حقُّ طلبِ المرأة بمؤنة السكنى لمدة العادة، وإن كان في ذلك إيقاع حيلولة بين الغرماء وبين ما يفوت من المال لأجل السكنى بناء على ظاهر العادة، فهلاّ قلنا: بيع الدار وساكنُها ذاتُ الأقراء يبنى على ظاهر العادة، ويخرَّج على [قولي بيع الدار المكراة] (2)؛ والجواب: أنا لا نسلم إلى المرأةِ المالَ حتى تتصرف فيه؛ فإن حظها في السكنى، لا حقَّ لها في المال الذي تُحصّل به السكنى، وإفرازنا شيئاً من المال يغلب على الظن [تعلّقُ الاستحقاق به ليس بدعاً] (3) في قسمةٍ بين أقوام. وعلى هذا بنينا وقف أموالٍ في التركات للخناثى وللحمل المنتظر، ثم جرى

_ (1) في الأصل حرفت الكلمة إلى كلمتين هكذا: "والقول عد". (2) في الأصل: على قولي أولا بيع الدار المكراة. (3) في الأصل: " تعلق الاستحقاق وليس بدعاً " والتصرف بالزيادة والحذف من المحقق.

الوقف في تلك الأصول مع تقابل الإمكانِ من غير ترجح، فإذا وقفنا هاهنا مقداراً بناء على ظاهر العادة، لم يكن ذلك بدعاً، وقد نقف ثَمَّ شيئاًً بين من يرث قطعاً وبين من يجوز أن يحجب أصلاً، فإذاً لم نأت بأمرٍ غريب، غير أنا لم نتجاوز العادة؛ إذ لا منتهى للأقراء تقف [عنده] (1). هذا منتهى قولنا في هذا الطرف. فأما البيع [فقد] (2) تعبدنا فيه باجتناب الغرر، وامتناعُ التسليم في الحال [غررٌ] (3) ناجز، وفي زواله غررٌ، ونحن وإن قلنا: العادات قد تطرد، فيغلب فيها نقصان اليوم واليومين، وهذا القدر يظهر الغرر، فاستمر وجوب القطع ببطلان البيع، وخرج الجانب المقدم على الوقف الذي ليس بدعاً، وليس عقداً فينقدح فيه غرر، وهذا فقيه متين. فإن قيل: هلا احتُمِل ما تتوقعون من زيادةٍ ونقصانٍ احتمالَكم ذلك في بيع الدار المشحونة بالأمتعة للبائع؟ قلنا: ذاك الاشتغال غير محتفلٍ بأصله، فلا ينظر إلى تفصيله، ولذلك قطعنا القول بصحة بيع الدار المشحونة، وأجرينا في بيع الدار المكراة القولين. وقد انتجز الغرض به في هذا الفصل. فأما الفصل الثاني وهو الكلام فيما تُضارِب المرأة [به] (4) عند ضيق المال، وضرب الحَجْر. 9846 - قال الأئمة: إن كانت المرأة تعتد بالأقراء وقد أفْلس الزوج، وحُجِر عليه؛ فإنها تضارب بمؤنة السكنى لزمان عادتها الغالبة -إن كانت لها عادة-.

_ (1) في الأصل: عندها. (2) زيادة من المحقق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

ونحن نفصل ذلك، فنقول: إن كانت من ذوات الشهور، فمبلغ ما تضارب به أجرةُ ثلاثةِ أشهرٍ، وإن كانت من ذوات الأقراء وعادتُها مختلفةٌ، فإنها تضارب بأجرة أقل ما يتصور انقضاء العدة به. وإن كانت لها عادة مستقيمة، فظاهر المذهب أن مضاربتها تقع باعتبار زمانِ عادتِها. وذهب بعض أصحابنا إلى أنها تضارب بالأقل أخذاً باليقين، ولا تعويل على العادة، وهذا ضعيفٌ، وقد يَنظُر المبتدىء إليه فيهَشُّ إليه مستمسكاً باليقين، وهذا باطل؛ فإنا لسنا نسلم ما تضارب به إليها، ولا نسلطها على التصرف فيه، بل نتركه عتيداً موقوفاً، وقد ذكرنا أن الوقف مُهيّأٌ لمَظِنةِ الإشكال، فلا معنى للاقتصار على الأقل، ولولا أنا لا نجد مَرَدّاً، لو جاوزنا العادة، لكان نظرنا في مجاوزتها، من جهة أن الغرماء يتسلطون على ما يسلّم إليهم، والقدر الذي نَقِفُه لا نضيِّع فيه حقّاً، بل نرتقب ما يكون، ولكن ليس وراء العادة مَردٌّ. ولو كانت معتدةً بالحمل، فالمذهب أنها تضارب بمؤنة السكنى في تسعة أشهر، فإن هذا هو الغالب الذي إليه الرجوع، وذهب بعض أصحابنا إلى أن المضاربةَ تقع بمؤنة السكنى لمدة ستة أشهر. وهذا المسلك ضعيفٌ في الأقراء، كما ذكرناه، وهو على نهاية الضعف في الحمل؛ فإن الستة الأشهر مدةُ وضع الحمل الحيّ المستقل، ونحن نقضي بانقضاء العدة إذا أَجْهَضَت جنيناً بدأ التخطيط فيه، فينبغي أن يكون الأقل المعتبر مناسباً [لغرض] (1) انقضاء العدة، لا لبقاء الولد، ولا ضبط للأقل الذي يحصل الانقضاء به. فإن قيل: بناء الفصل على أن الوقف لا يستدعي يقيناً، فهلا وقفتم المؤنةَ، أم هلا ضاربتم بالمؤنةِ لأربعِ سنين؟ قلنا: هذا لم يصر إليه من الأصحاب صائر؛ من جهة أنه على نهاية البعد، وتنقرض العصور والمئون من السنين ولا يبقى حملٌ أربعَ سنين، وهذا يناظر لو قيل به مجاوزةَ العادة مع النظر في سن اليأس؛ أخذاً بإمكان التباعد.

_ (1) في الأصل: لفرض.

9847 - هذا منتهى الكلام في هذا الغرض، [ويُبنى] (1) عليه سؤال يرتبط به الفصلان في إشكالٍ مع الجواب عنه، فإن قيل: المضاربةُ بالمؤنة إذا لم يكن للزوج مسكن مملوك، وقلتم إذا كان للزوج مسكنٌ مملوك، فالمرأة تُقدَّم بحق السكنى، ويؤخرُ حقوق الغرماء. قلنا: الفرق بين الأصلين أنه إذا كان للزوج مسكن مملوك، فهو متعيَّن لسكنى العدة، والمرأة فيه مختصةٌ به اختصاص المرتهن بالعين المرهونة. والحقوقُ المتعلقة بالأعيان مقدمةٌ على الديون، وإذا لم يكن للنكاح مسكن متعين، فإنما يتعلق حقها بمؤونة مُطْلَقةٍ، سبيلها سبيلُ الديون التي تلزم الذِّممَ، فجرت المضاربة على نحو ما ذكرناه. فإن قيل: قد قدمتم فيما أسلفتم تردداً في تقديم حقوق الله تعالى على حقوق الآدميين، وفي عكس ذلك، فهلاّ قلتم: مؤنة السكنى في العدة من حقوق الله؟ قلنا: هذا خيال لا أصل له؛ فإن حق الله السكون؛ إذ لو تبرعت هي وبذلت المؤنة من مال نفسها، لكان ذلك ممكناً. 9848 - وتمام البيان في الفصل أن المرأة إذا كانت معتدة بالأقراء، وكانت معتادةً، لها عادةٌ مستقيمةٌ، فلو زعمت أن عدتها انقضت بدون العادة، وقبلنا قولها، فالفاضلُ من هذا القدر إلى تمام عادتها مردود على الغرماء. وإن زعمت أن عادتها زادت على ما عَهِدَتْه، فأحكام العدة باقية عليها، وذكر العراقيون ثلاثة أوجه في أنها هل تضارب بمزيدٍ في مقابلة ما ادعته من الزيادة، وجمعوا إلى الأقراء الحملَ، وطردوا فيها الأوجُهَ: أحدها - أنها لا تستحق مزيداً أصلاً، وقد انحسم الباب بما تقدم؛ إذ لو فتحنا هذا، لقدَّرنا مزيداً على ما ذكرت إلى غير ضبط، وقد تدعي تباعدَ الحيضة، ونقع في أمر لا ينفصل. والوجه الثاني - أنها مصدَّقةٌ تستحق المضاربة بما ادعته؛ إذ النسوة مصدقات فيما يتعلق بانقضاء العدة.

_ (1) في الأصل: فيبنى.

والوجه الثالث - أن ذلك إن كان في الحمل، وزعمت أنها حاملٌ بعدُ، فإنها تضارب؛ إذ للحمل أمرٌ محدودٌ على حال. وإن كانت من ذوات الأقراء، فلا تستحق مزيداً، فإنا لا نجد في الأقراء مرجعاً إلا إليها، وتصديقُها في ذلك يُفضي إلى إثبات مغارمَ عظيمةٍ بعيدةٍ عن الإمكان. وهذا الذي ذكروه فيه إذا لم يعترف الغرماء بتصديقها، فأما إذا اعترفوا بتصديقها، فلا شك أنها تضارب بالمزيد، وتسترد من الغرماء حصة تلك الزيادة. وحقيقة هذه الأوجه آيلة إلى أنها إذا ادعت مزيداً هل تصدق؟ 9849 - ولو لم تكن المسألة مفروضةً في [الإفلاس] (1) وضيق المال، وقد طلق الرجل امرأته، وجرت في العدة، فالزوج يُسكنُها على حسب ما ذكرناه، فلو كانت لها عادة، فادعت مزيداً على العادة، فالذي يدل عليه كلام الأصحاب أنها تُصدَّقُ هاهنا وجهاً واحداً بخلاف ما ذكرناه. والفرق أنا إذا قسمنا المال وبنينا المضاربة على أقدارٍ معلومة، [جرّ] (2) ذلك مناقضةً يعسر بعضها، فكان التردد لهذا السبب، وهذا المعنى لم يتحقق في حق الزوج، على أني لا أُبعد فيه أيضاً احتمالاً بسبب أنا لو صدقناها، لتمادت كذلك في دعواها إلى سن اليأس، وهذا أمر مجحف بالزوج. وأما ما ذكروه من الفصل بين الحمل وبين الأقراء، فالذي أراه أنهم إن اعترفوا بالحمل، فالأصلُ عدمُ الولادة قطعاً، ويتعين [الرجوع إلى نفيها، وعلى من يثبتها الحجةُ] (3)، وليس من حق هذا أن يدرج في الخلاف مع الأقراء، حتى يُفرضَ في الحمل والأقراءِ وجهان مطلقان، ونُفصِّلَ في الوجه الثالث بينهما. نعم، إن أنكروا كونها حاملاً أصلاً، فيتجه حينئذٍ إدراجُ هذه الصور في الخلاف، وردُّ الأمر إلى التفصيل في الوجه الثالث.

_ (1) في الأصل: الإتلاف. وهو تصحيف عجيب. (2) في الأصل: " جرى ". (3) عبارة الأصل: الرجوع إلى نفيها الولاه وعلى من يثبتها الحجة.

فأما الفصل الثالث فمقصوده القول في مساكنة الزوج المعتدةَ. 9850 - فنقول: إذا كانت تعتد في مسكن النكاح، فليس للزوج مساكنتُها، إذا كانت المساكنة تؤدي إلى المضارّة، والمضارّة إنما تُتَلقَّى من المرافق، والمرافقُ التي هي العماد، وعليها التعويل: بيتُ الماء، والمطبخ، وبئر الماء. هذه المرافقُ؛ فإذا اتَّحدت، فليس للزوج أن يسكن قُطْراً من الدار، [وإن] (1) كانت فَيْحاً متسعة الأرجاء؛ فإن المرافق إذا كانت تقع مشتركة، فالضرر يتحقق لا محالة، والتناوب على المرافق [شديدٌ غيرُ محتمل] (2) سيّما بيت الماء. وأما الممر والمجرى إلى خارج، فلسنا نرعى ذلك -والمعتدةُ حقها أن تلزم المسكن- فليس الممرُ من المرافق التي يليق بحال المرأة في العدة. ولو كان في الدار حجرة منفردة بمرافقها على ما ذكرنا في تفسير المرافق، وكان الزوج يسكن الحجرة وهي مستقلة بمرافقها، فالمرأة تسكن الدار أو على العكس، فهذا ليس بمساكنة، ولا بأس بما ذكرناه. 9851 - ومما يتعلق بالمساكنة أنه لا يحل للرجل أن يخلو بالمرأة في العدة، كما لا يحل له أن يخلو بأجنبية، وهذا يطرد في الرجعية [اطِّراده] (3) في البائنة؛ فإن الرجعية في حكم التحريم بمثابة البائنة. ثم فسر الأئمة الخَلوةَ، فقالوا: إذا اتحدت المرافق، فلا يحل للزوج سكونُ الدار معها، ولو ساكنها كان خالياً بها. ولو كان معها محرم، فليس الزوج مستخلياً بها، ولو كان مع الزوج في الدار زوجةٌ أخرى، أو كان معه واحدةٌ من محارمه، فليس

_ (1) في الأصل: إن. (2) في الأصل: غير شديد المحتمل. والتصرف من المحقق. (3) في الأصل: اطرادها.

الزوج مستخلياً بالمعتدة، وإن كانت أجنبية ووقع الفرضُ فيها من غير عدة، فلا خَلوةَ، إذا تُصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها. وكذلك لو كان في الدار جاريةٌ للزوج، فلا خَلْوةَ، ولو خلا الرجل بأجنبيتين، أو مُعتدَّتين، أو بجمعٍ من النسوة، فهذا تردد الأصحاب فيه، فمنهم من رآه خَلْوةً؛ فإن كل واحدة منهن بالإضافة إلى الزوج كصاحباتها، ومنهم من قال: هذا ليس بخَلْوةٍ؛ فإن من اجتمع مع نسوة، فاجتماعهن يمنعه من الإقدام على محذور في غالب الأمر. وهذا الاختلاف مأخوذ من تردد الأصحاب في أنه إذا اجتمعت نسوة لا محرم معهن. فهل يلزمهن أن يخرجن بأنفسهن إلى الحج، وأطلق الأصحاب من ذلك قولاً، فقالوا: إذا اجتمع مع الرجل والمرأة من يحتشمه الرجل، فلا يكون مستخلياً بها، وتفصيل هذا ما قدمناه. ولكن ينشأ فما ذكرناه الآن أنه لو كان معهما صغيرة لا تميز أو مجنونة، فلا معوّل عليها؛ فإنها لا تُحتَشَم، ولو كان معهما مراهقةٌ مميزة تعقل، وتصف، وتذكر، وتحكي، [قالوا:] (1) ظاهرٌ عندنا أن ذلك يمنع من حصول الخَلْوة، والعلم عند الله. ولو خلا رجلان بامرأة، فظاهر ما ذكره الأصحاب أن هذا خَلوة، وليس كخَلْوة الرجل بامرأتين، ولهذا لم نوجب على المرأة الفردة أن تخرج حاجّة مع جمع الرجال من غير زوج ولا محرم، وترددوا في خروج نسوة مجتمعات مع جمع الرجال. ومما يتعلق بتمام الغرض في ذلك أن الدار لو كانت مشتملة على حجرة، فسكنت المرأة حجرةً منفردةً بمرافقها، وسكن الرجل الدار ذات المرافق، نُظر: فإن كانت الحجرة يُغلق بابها، فإذا فعلت ذلك، فلا خَلوة، وإن لم يكن للحجرة بابٌ، وبابُ الدار مغلق على الدار والحجرة، فالرجل مستخلٍ بها، وإن كان لا يراها، ولو كانت الحجرة ذاتَ باب له أغلاق وأرتاج، ولكن مرافقها في الدار، ولا ثالث، فالرجل مستخلٍ بها. هذا تفصيل الخَلْوة.

_ (1) في الأصل: قال. والقائل هم الأصحاب، فسياق الحديث والحكاية عنهم.

9852 - ونحن نذكر بعد ذلك أمرين يتعلق بينهما سرُّ الفصل: أحدهما - الخَلوة، وهي محرمة لله تعالى. والثاني - المضارّة، والمرعي فيه جانبها، وبيانه أنه لو ساكنها مساكنةَ مستخلٍ عصى ربَّه، وإن رضيت، ولو كان في الدار من يمنع حضورُه الخَلوةَ، ولكن كانت المضارَّة تظهر لاتحاد المرافق، فهذا يتعلق بخالص حقها، فإن احتملت هذه المضارّة، لم يعصِ الزوجُ، وإن أبت، وجب على الزوج الخروجُ رعايةً لحقها، قال الله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، فاستبان أن المساكنة تشتمل على ما يتعلق بحق الله تعالى، وهو لا يسقط بالرضا، وإلى ما يتعلق بحقها. والله أعلم بالصواب بسم الله الرحمن الرحيم (1) 9853 - إذا (2) كان أسكنها مسكناً ضيقاً في النكاح لا يليق بها، ولكنها احتملته طلباً للأُلفة، فلما طلقها أبت أن تبقى، فالذي ذكره العراقيون أن لها أن تطلب مسكناًً، فليقع البناء على هذا؛ فإنه ظاهر. ثم قال العراقيون والقاضي: على الزوج أن يطلب لها أقربَ مسكن إلى مسكن النكاح، ورأَوْا ذلك حتماً لا يسوغ إسقاطُه، وشبه القاضي ذلك بتفريعٍ لنا على قول نقل الصدقة، وقال: إذا منعنا نقلها، فعدِم من عليه الزكاةُ المستحقين في وطن الزكاة، فعليه أن ينقلها، ثم إنه ينقلها إلى أقرب المواضع، وهذا مما قدمت ذكره في نقل الصدقات في كتاب قَسْمها. فالذي أرى القطع به هاهنا أن رعاية القرب من مسكن النكاح لا يجب أصلاً،

_ (1) هذه البسملة موجودة في الأصل. وقد تركناها تيمناً وتبرّكاً. (2) كان هنا في الأصل علامة أو عنوان (فصل) ولا معنى له هنا، فهو ذيل لفرعٍ من فروع الفصل السابق، ثم إن الإمام ختمه بما يدل على أنه ليس فصلاً مستقلاً، فقد قال: "وقد انتجز الوفاء بالفصول الثلاثة" أي التي كان وعد بها وقد مضت بموضوعاتها على ما رسم الإمام، فعدُّ هذا التعليق فصلاً تكون الفصول به أربعة وليست ثلاثة. وعندي أن هذا من عمل الناسخ، والظاهر أنه كان قد أنقطع فترة ثم لما عاد استأنف بالبسملة وكلمة (فصل). لا يصح إلا هذا. إن شاء الله.

ولست أرى لهذا متمسَّكاً في الوجوب، بل أرى له أصلاً في الاستحباب. نعم، لا سبيل إلى الخروج من البلدة، فإنها منسوبة إلى سكون البلدة، ولو علل من أوجب رعاية القرب بهذا، لكان أمثلَ، ولا أصل له. وقد انتجز الوفاء بالفصول الثلاثة. فصل قال: " وإن كانت هذه المسائل في موته ففيها قولان ... إلى آخره " (1). 9854 - وذكر الشافعي إلى هذا الموضع تفصيلَ القول في مسكن المطلقة في العدة، واستفتح من هذا الموضع تفصيل مسكنِ المعتدة عدةَ الوفاة، وقد قدمنا اختلاف القول في أنها هل تستحق السكنى أم لا، ووجهنا القولين بما وقع الإقناع به. فإن قلنا: إنها تستحق السكنى، فيتعين لسكناها مسكنُ النكاح، كما قدمنا ذلك في المطلقات، وإن لم يكن للنكاح مسكن، فالقول في مؤونة السكنى على حسب ما مضى، وإن فُرضت ديون، فالتركة في حكم مال المفلس المحجور عليه، ولا معنى لإعادة الفصول. وإن قلنا: إنها لا تستحق السكنى، فلو تبرع الوارث وأسكنها مسكنَ النكاح [أو] (2) عَيّنَ لها مسكناًً، فهل يلزمها المسكن الذي عينه الوارث؟ ما حصلتُه من كلام الأصحاب أن ذلك إن كان في عِدَّةٍ يترتب وجوبها على شغل الرحم، فيتعين على المرأة أن تسكن حيث يُسكنها الوارث، وذلك بأن يطلّق امرأته ألبتة، ثم يموتَ عنها ولا يخلِّفَ مالاً، فإذا تبرع الوارث بتعيين مسكن، لزمها اتباع حكم تعيينه، إذا لم يكن عليها ضرار من جهة ضيق المسكن. 9855 - وإن كانت العدة غيرَ مترتبة على شغل [الرحم] (3) كعدة الوفاة، نُظر: فإن كانت مشغولةَ الرحم بولد أو تقديرِ ولد مترتب على وطءٍ، فالأمر على ما ذكرناه.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 30. (2) في الأصل: لو. (3) سقطت من الأصل.

وإن لم تُزفّ إليه، فهي غيرُ مشغولة [الرحم] (1) إذا كان الحالة هذه، ففي هذا ترددٌ للأصحاب: منهم من قال: إذا لم نوجب لها السكنى، فهي بحكم نفسها، غيرَ أنه يجب عليها لله تعالى أن تسكن سكون المعتدات، وذلك إنما يتأكد حقه عند فرض صون الماء وما نحن فيه لا يستند إلى ماءٍ مصون بالعدة. ومن أصحابنا من قال: مهما تبرع الوارث بتعيين مسكن تعين عليها أن توافقه؛ فإن الوارث تارةً يدعي حرمة الماء، وتارة يدعي حرمة الزوج الذي منه العدة. فإن لم يتبرع الوارث، أو لم يكن له وارث، فليس للسلطان أن يتبرع بإسكانها من بيت المال إلا أن تحتاج وتفتقرَ، ويُلزمها الشرع أن تلزم مسكناًً، وهي لا تملك ما يفي بمؤنة المسكن، فالسلطان يتداركُها حَسَبَ ما يتداركُ المحاويج. وإن كانت تُزنّ بريبةٍ (2)، فعلى الإمام أن يحصِّنها ويعيّن مسكناًً مرقوباً، وهذا من الأسباب المؤكدة لجواز بذل مال بيت المال، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في قَسْم الفيء والغنائم، وغوائل هذا الفن تتعلّق بالإيالة الكبيرة، ولعلنا نجمع فيها قولاً يشفي العليل ونبدي ما عليه التعويل. فصل قال: " ولو أذن لها أن تنتقل ... إلى آخره " (3). 9856 - ذكر الشافعي رضي الله عنه ثلاثة فصول ونحن نأتي بها مفصلة، ونلحق بكلٍّ مسائلَه ونستعين بالله تعالى. الفصل الأول فيه إذا أذن الزوج للزوجة في الانتقال من مسكن قبل أن يطلقها، ثم يطلقها أو يموت عنها.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) تزنّ بريبة: أي يظن بها السوء. والفعل: زنّ مثل ظنّ، وزناً ومعنى، تقول: زننته زنّاً: أي ظننت به خيراً أو شراً، أو نسبته إلى ذلك، وفيه قول حسان: حصانٌ رزان ما تزنّ بريبةٍ (المصباح). (3) ر. المختصر: 5/ 31.

9857 - ومقصود هذا الفصل نفصله بمسائلَ، منها: أنها لو انتقلت إلى دارٍ أخرى والبلدةُ واحدة في جميع مسائل هذا الفصل، ولا خروجَ منها، ولا مسافرةَ، فإذا أذن لها في الانتقال، فانتقلت، ثم صادفها الطلاقُ، لزمها أن تلزم المسكن الذي انتقلت إليه؛ فإن الاعتبار بالمسكن الذي يصادفها الطلاق فيه. وهذا ظاهر. ولو انتقلت ببدنها، وخلّفت أمتعتها، وأظهرت الانتقال، ثم كانت تنقل الأمتعة بالخدم أو الأُجَراء، فإذا صادفها الطلاق، وهي في المنزل الثاني، اعتدت فيه، ولا اعتبار بالأمتعة،: خلافاً لأبي حنيفة (1)، فإنه اعتبر المتاع، وزعم أنها لو انتقلت ببدنها ومتاعُها متخلفٌ، فالاعتبار إذا طلقت بالمسكن الذي فيه أمتعتها. 9858 - ومن المسائل أنها بعد ما أذن الزوج لها في الانتقال لو أَجْرت تقدّمَ أمتعتِها إلى المنزل الثاني، وهي بعدُ قارّةٌ في مسكن النكاح، فإذا صادفها الطلاق وهي كذلك، اعتدت في المسكن الأول، وإن نقلت الأمتعة وعزمته (2)، وأبو حنيفة خالف في هذه الصورة، وينتظم من مذهبنا في الصورتين أن الاعتبار بالبدن لا بالأمتعة. ولو قدمت الأمتعةَ إلى المنزل الثاني، وخرجت تؤمّ ذلك المنزل، فصادفها الطلاق في الطريق، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: وجهان ذكرهما القاضي، وزاد العراقيون ثالثاً: أحد الوجوه - أنه يتعين عليها الانتقال إلى الثاني والاعتدادُ فيه. والثاني - أنه يتعين عليها الانقلابُ إلى مسكن النكاح؛ فإنها مقرّة على المسكن الأول ما لم تنتقل، ولم يتحقق الانتقال بعدُ. والوجه الثالث -الذي حكاه العراقيون- أنها بالخيار بين المنزلين: للأول حكم الاستدامة، والثاني حكم الانتقال، وقد تقلَّعت عن المسكن الأول بالانفصال عنه، وإذا تقابل هذان الوجهان، أنتجا تخيّراً. والذي يغمض في هذا الفصل أن الزوج لما أذن لها في الانتقال لو أخذت تنقل الأمتعةَ بنفسها، فتمرّ وتجيء، وهي في ذلك لا تقصد بكل خَرْجةٍ ألاّ تعود، ولا بكل

_ (1) ر. فتح القدير: 4/ 166. (2) كذا: ولعل المعنى وعزمت الانتقال.

دخلة أن تقيم في المنزل الثاني، غير أنها كانت تصحبُ الأمتعةَ، أو كانت تنقلها بنفسها، فكيف السبيل؟ وما الوجه؟ قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا انتقلت وقصدت الانتقال، ثم عادت إلى المسكن الأول لنقل متاعٍ، فصادفها الطلاق، فهي مضافة إلى المنزل الثاني، فلتعتدّ فيه، وهذا مفروض فيه إذا دخلت المنزل الثاني دخول منتقلة، غيرَ أنها خرجت وعادت إلى الأول لغرض النقل. فأما إذا لم تُنجز بعدُ الانتقالَ، ولكن كانت في ترددها قاصرةً حركاتها على نقل المتاع، فهذا محل قصد النظر. والرأيُ المبتوتُ أنها إذا كانت كذلك، فصادفها الطلاق في المنزل الثاني، فلا شك أنها تعتد فيه لاجتماع معنيين: أحدهما - كونُها في الدار حساً، والآخر - أنه محلّ قرارها، ولم يبق عليها شغل إلا نقلُ أمتعة، فيلحق هذا بتنجيزها قصد الانتقال، واعتقادها أنها انتقلت، وعليها شغل ستردد فيه. ولو صادفها الطلاق وهي في المنزل الأول، وقد اتفق لها دَخْلةٌ أو دخلات في النقل، فهذا فيه احتمال: يجوز أن يقال: يُعتبرُ مكان المصادفة؛ فإنها لم تُنجز بعدُ قصد الانتقال، ويجوز أن يقال: يتعين للاعتداد المنزل الثاني، فإن ما يُصوَّر تأخيره من قصد الانتقال تكلف، وإذا دخلت ذلك المنزل مرّةً، لم يبق عليها أمرٌ إلا نقل الأمتعة، فهذا ما نراه. وفقه هذا الفصل في تفصيل المسائل، وتبيين البعض منها عن البعض. هذا فصل من الفصول الثلاثة. الفصل الثاني في الإذن في المسافرة 9859 - وهذا الفصل ينقسم قسمين: أحدهما - الإذن في المسافرة من غير نُقلة. والثاني - في الإذن في المسافرة والنقلة. فأما القسم الأول - فإذا أذن لامرأته في المسافرة من غير نُقلة، فالسفر لا يخلو إما

أن يكون سفراً متعلقاً بغرض صحيح، وإما أن يكون غيرَ متعلق بغرض، ومن جملة ذلك سفرُ النزهة. فأما ما يتعلق بالأغراض الصحيحة، فكسفر التجارة، وسفرِ الحج، وسفرِ الزيارة المستحبة في الدين، فإذا أذن الزوج في السفر لغرض مما ذكرناه، أو لغرض آخر سواه. فأول ما نذكره أن الشافعي قال: " لو طلقها الزوج بعد ما فارقت المنزل، لم ترجع " فذهب الأكثرون من الأصحاب إلى أنه أراد بمفارقة المنزل مفارقةَ البلدة، وذهب شرذمة من الأصحاب إلى حمل ذلك على مفارقة مسكنِ النكاح، وإن كانت في خِطة البلدة، وأضيفَ هذا إلى الإصطخري، فحصل قولان: أظهرهما - أن المرعي مفارقةُ خِطة البلدة، وذلك أن البلدة محلُّ سكونها من طريق النسبة الكلية، كما أن منزلها محلُّ سكونها، والدليل عليه: أنه لو لم يكن للنكاح مسكن متعين، تعينت البلدة، ولم يسَع الخروج منها، فاتضح أن الشرع يعيّن البلدةَ، كما يعيّن المسكن إن كان للنكاح مسكن، فاتجه اعتبار مفارقة البلدة. ومن قال: الاعتبار بمفارقة مسكن النكاح، احتج بأنه إذا كان للنكاح مسكن متعيَّن، فحكم السكنى مقصور عليه، فإذا تعدته، كفاها ذلك. وأيضاً، فإنها إذا فارقت مشمّرة مُبْرمةً عزمَها، وقد تكون باذلة مالاً في أُهَبها، فتكليفها الرجوع إضرار بها. التفريع: 9860 - إن اكتفينا بمزايلة مسكن النكاح، فلا كلام. وإن اعتبرنا مفارقة الخِطة، فضبط هذا القول أنها متى صارت إلى مكانٍ إذا انتهى المسافر إليه، تَرخص تَرخُّص المسافرين، فقد فارقت، وتفصيل ذلك فيما استقصيناه في موضعه من كتاب الصلاة. ثم من الأسرار التي يجب التنبيه لها أن الزوج إذا أذن لزوجته في الخروج من مسكن النكاح إلى دارٍ في البلدة، لا على قصد الانتقال، فإذا لحقها الطلاق، فحقٌّ عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح، وإن كان عليها في تلك الدار شغل يضاهي التجارة في حق المسافر، وإذا أذن لها في الخروج للتجارة وخرجت -على ما فصلنا معنى الخروج-

فلها أن تمر على وجهها [آمّة] (1) إلى تحصيل الغرض. فهذان أصلان اتفق الأصحاب عليهما. والفارق أن الخارجة للسفر متقلقلةٌ عن الوطن، ملابسةٌ أمراً له وقع في المعاش، ويعسر النزول عنه، [وفَلُّ] (2) العزم فيه، فسوغ الشرع التمادي. وأما التردد في البلدة الواحدة من دار إلى دارٍ، فهيِّنٌ وليس من الأشغال الخطيرة. 9861 - فإذا تقرر في العقد (3) ما نبهنا عليه، قلنا بعده: إذا لحقها الطلاق، أو بلغها خبر الموت بعد مفارقة البلدة، انطلقت لشأنها، فإذا انتهت إلى مقصدها، قضت حاجتها من التجارة أو غيرها من المآرب، ولا بأس عليها، وإن طال الزمان، ونقصت العدة، إتماماً لما همّت به وبنته على إذن الزوج. ولو انتجزت حاجتها، لم تعرّج، ولم تقف، بل تنقلب إلى مسكن النكاح، إذا كانت تعلم أنها تدرك من بقية العدة زماناً تمكث فيه في مسكن النكاح، وإن علمت أنها بعد نجاز شغلها لو رجعت، لانقضت عليها العدة وهي في الطريق، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في هذا: فمنهم من قال: يلزمها أن تقيم في بلدة الغربة، فإنها إذا علمت أنها لا تنتهي في بقية العدة إلى مسكن النكاح، فالسكونُ أوْفق وأليق وهو أستر لها من السفر. ومن أصحابنا من قال: ترجع، فإن انقضت عدتها في الطريق، فلا حرج عليها. وهذا لا أعرف له وجهاً، فإنها إذا قطعت بأنها لا تنتهي إلى مسكن النكاح، فقصْدُها المسكنَ قصدٌ لا مقصود له. نعم، إذا جوّزت أن تنتهي إلى المسكن لو وُفِقَت لها وفاق، وجَوَّزت على حكم [الاعتياد] (4) خلافَ ذلك، فيجوز تقدير الخلاف

_ (1) في الأصل: تامة. والمثبت من المحقق. وهذا اللفظ (آمّة) -بمعنى قاصدة- استفدناه من عبارة أخرى لإمام الحرمين في مسائل عبد الحق الصقلي. (2) في الأصل: وقل (وفَلُّ أي حلُّه وصرفُه، وهو معطوفٌ على (النزول) أي يعسُر فكُّ العزم وصرفه والنزول عن الأمر الذي دخلت فيه). (3) أي إذا اعتقدت ووعيت ما نبهنا عليه. (4) في الأصل: الاعتبار.

هاهنا، ولكن ذلك الوجه الذي حكيناه على تثبُّتٍ في نقله وجدناه مشهوراً للأصحاب في الطرق، فلم نَرَ تَرْكه. ولو انتجزت حاجتها قبل ثلاثة أيام، فلها أن تستتم المكث ثلاثة أيام؛ فإن هذا المقدار في حكم السفر أثبته الشرع مدة ليتأهب (1) لعدة السفر، وليس معدوداً من الإقامة، وإن انتجزت حاجتها في ثلاثة أيام فصاعداً، لم تعرج إلا أن لا تجد رفقة؛ فإنا لا نكلفها أن تغرر بنفسها. بل، لا نكلفها أن تتحمل مشقة ظاهرة خارجة عن حد الاقتصاد في الاعتياد، وإنما يطلب منها ألا تعرّج ولا تُقَصِّر (2)، فأما أن تتكلف مشقة، وتصادم غرراً، فليس عليها ذلك، وسنخرّج في هذا قولاً بالغاً يقرب من التحديد، وإن لم يكن في محل التحديد. هذا إذا كان سفرها متعلقاًً بغرض صحيح من الأغراض. 98620 - فأما إذا لم يكن متعلقاً بغرض صحيح، فأول ما نذكره: أنها إذا بلغت المحل المقصود وكان الزوج أذن لها في أن تقيم في ذلك المحل عشرة أيام، فهل لها أن تستوفي المدة المذكورة أم يتعين عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح؟ فعلى قولين: أحدهما - يجوز لها أن تستوفي تلك المدة جرياناً على موجب الإذن. وهذا التوجيه عندنا خطأ. والوجه أن نقول في توجيه هذا القول: إذا وطّنت نفسها على الإقامة وتهيأت لذلك، فلو كُلّفت قطعَ غرضها، فقد يتعطل عليها أُهَب وأسبابٌ كانت هيأتها للإقامة، كالمطاعم، وما في معانيها، فهذا هو الذي يُوجَّه هذا القول به؛ فإنّ إذن الزوج -على تفصيله- ينقطع بالطلاق، ويرتفع أثره بالكلية؛ فإن إذنه إنما يؤثر ما استمر حكمه على الزوجة، ولهذا المعنى نقول: إذا خرجت متجرة، فإنها تمتد في الجهة التي خرجت فيها، وليس امتدادها معلَّلاً ببقاء الإذن، وإنما تعليله بما ذكرناه الآن.

_ (1) " ليتأهب ": أي المسافر. (2) عرّج بالمكان أي نزل به، ووقف عنده (معجم ومصباح) والمعنى لا تتلبّث، ولا تتمهل، ولا تقصر في التأهب للرجوع.

هذا أحد القولين. والقول الثاني - أنها تقطعُ تلك المدة، وتشمّرُ للانصراف جهدَها، وهذا القائل يعلل بخفاء الغرض في الخروج للنزهة والإقامة لها، ويزعمُ أنه لا يظهر في قصد التنزه تصميمٌ على شغل به احتفالٌ ومبالاة، فليس في قطع المدة ضِرارٌ أصلاً، فتعيّن قطعها لذلك. قال القاضي، وصاحب التقريب: إذا بلغها خبر الطلاق وهي مارّة في صوب النزهة، فهل يتعين عليها الانصرافُ حيث بلغها الخبر؟ هذا يخرج على القولين المذكورين فيه إذا بلغها الخبر في أثناء المدة. فإن قلنا: عليها أن تقطع المدة، فإذا بلغها خبر الطلاق أو الوفاة، لزمها الانصراف؛ فإنها ليست على غرض صحيح، وإن قلنا: لا يجب قطع المدة، بل يجوز استيفاؤها، فيجوز الامتدادُ في الصوب المقصود وقضاءُ الوطر منه على حسب ما كان يجوز لو استمر النكاح ولم يطرأ فراق. 9863 - ومما يتصل بما نحن فيه أنها لو كانت مأذونة في الزيارة، فقد ذكرنا أن سفر الزيارة من الأسفار المتعلقة بالأغراض الصحيحة، فعلى هذا إذا بلغها خبرُ الوفاة أو الطلاق في أثناء الطريق، انطلقت ومرت على وجهها ممتدة إلى [الزيارة] (1) التي أنشأت السفر لها بخلاف سفر النزهة، فإنا ردّدْنا فيها القول. وسفرُ الزيارة في هذا المعنى بمثابة سفر التجارة. ولو كانت بلغت موضعها والزوج قد أذن لها في أن تمكث عند من طلبت زيارته أياماً؛ فإذا بلغها خبر الطلاق، فهل يجب عليها قطعُ تلك المدة والتشميرُ للانصراف، فعلى قولين كالقولين في السفر للنزهة. والسبب فيه أن الزيارة إلمامٌ وتجديد عهدٍ، فكل ما يزيد على ذلك يتصل بقياس النزهة، وقد ذكرنا أن السفر إذا كان سفر نزهة، ففي الانصراف قبل استيفاء المدة وفي الرجوع من وسط الطريق قولان، فسوّينا بين قطع المدة وبين قطع السفر، وفي سفر

_ (1) في الأصل: زيارة.

الزيارة قطعنا بأن لها أن تمتد في زيارتها قولاً واحداً، وردَّدْنا القول في استيفاء المدة، ونحن في ذلك كله نتبع المعنى دون الصُّوَر. فأما التجارة، فالمرعي حصول الغرض فيها، فإن أذن لها في التجارة وفي الإقامة أياماً بعد انتجاز الغرض، فإذا حصل الغرض وبلغ خبرُ الوفاة أو الطلاق، فيخرّج القولان. فهذا تحصيل القول في السفر الذي ليس سفر نُقلة، وقد استوعبنا بما ذكرناه القول في أحد القسمين. 9864 - وأما القسم الثاني - وهو أن يأذن لها في سفر النقلة، فإذا خرجت وانتهت إلى المحل الذي إليه الانتقال، ثم بلغها الخبر، فلا تبرح حتى تنقضيَ العدة، والبلدةُ التي انتقلت إليها بمثابة مسكن تنتقل إليه بإذن الزوج قبل لحوق الطلاق. وإن خرجت من بلدة النكاح، ولم تنته إلى البلدة التي إليها الانتقال، فماذا تصنع إذا بلغها الخبر عن الطلاق أو الوفاة؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يلزمها المضيُّ على وجهها إلى الموضع المعين؛ لأن بلدها الذي هو مقصودُ سفرها محل سكونها؛ من جهة أن ما كان محلاً للسكون فقد تقلّعت عنه، وانقطع حكمها عن سكناه، والبلد الذي بين يديها محل سكناها في قصدها. والوجه الثاني - أنه يجب عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح، وذلك أن الطلاق لحقها قبل أن تلبَّس بتوطّن الموضع المقصود، فلترجع إلى مسكن النكاح، بناء على الاستدامة، ويخرّج في حقها الوجه الذي حكيناه عن العراقيين في التخيير، والبلدتان في سفر النقلة إذا توسطتهما بمثابة المسكنين في البلد الواحد إذا خرجت من المسكن الأول، وأمّت (1) الثاني على قصد الانتقال. ومما يجب التنبه له في هذا المقام أن الزوج لو كان أذن لها في أن تخرج إلى دار

_ (1) وأمّت: أي قصدت. قلت: الحمد لله؛ جاءت هذه الكلمة لتؤكد صحة تغيير كلمة الأصل، ووضعها مكانها منذ صفحات، فقد ثبت صحة قولنا: إن هذه اللفظة من معجم الإمام ومفرداته.

أخرى لتنزهٍ أو غيره، وكان أذن لها في أن تقيم أياماً؛ فإذا طلقها، رجعت إلى مسكن النكاح، بلا خلاف، ولو فُرض مثل ذلك في سفر النزهة، ففي الرجوع قبل استيفاء المدة الخلافُ الذي قدمناه. والفرق في ذلك أن الانتقال من دار إلى دار لقصد الزيارة ليس من الأشغال التي يبالَى بها، وليس في قطع المدة -إذا لم يكن سفر- ضرار، وقد يتصور في قطع السفر وقطع المدة المأذون فيها تفاوتٌ في ترتيب المعايش وتعطّلٌ في المطاعم، فهذا هو الذي أوجب الفرق. فأما إذا فرض الانتقال، فهو أمر مقصود يُحمل على غرض صحيح، ولا فرق في ذلك بين مسكنين في بلدة واحدة وبين بلدتين أو قريتين، فغرض الانتقال يقرب في ذلك، والعلم عند الله عز وجل. فهذا ما أحببنا التنبيه عليه. 9865 - ويتصل بهذا المنتهى أن الزوج إذا أذن لزوجته في الاعتكاف عشرة أيام تباعاً، فشرعت في الاعتكاف، ثم لحقها الطلاق، فهل يلزمها أن تقطع الاعتكافَ وترجعَ إلى التربص في مسكن النكاح؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها تستوفي ما شرعت؛ فإنها لابست اعتكافاً مفروضاً، وبنته على إذنٍ صحيح، ونحن نجوّز أن يمتد -من جهةٍ- سفرُها إذا كان السفر متعلقاًً بغرض صحيح حتى لا يلحقَها ضرر، فلا نكلفها أن تقطع فرضاً شرعت فيه. والقول الثاني - أنها تقطعه، فإن لزوم العدة ورعايةَ شرائطها أثبتُ؛ من جهة أنها تلزم شرعاً، والاعتكاف المنذور مما [يُدخله] (1) الناذر على نفسه، فلا يبلغ تأكُّده مبلغ تأكد ما يجب شرعاً، وجوباً لا دفع له. ومما يجب ذكره في هذا المقام أن قطع مدة العبادة الواجبة مع اتحاد البلد من غير فرض سفر خرج على قولين خروج المدة المضروبة للنزهة في السفر. ويتبين للإنسان بهذه المسائل افتراقُ الحضر والسفر، والأمر دائر في ذلك كلِّه على

_ (1) في الأصل: يدخلها.

مأخذ واحد، وهو النظر إلى الأغراض وتأكُّدِها. 9866 - ثم لا يتبين حاصل ما ذكرنا الآن إلا بالتفريع: فإن قلنا: إنها تقطع الاعتكاف، وتتربص في مسكن النكاح، فإذا انقضت العدة، فهل يُحكم بأنها تبني على ما مضى من الاعتكاف، أم تستأنف؟ فعلى قولين قدمنا ذكرهما في كتاب الاعتكاف، وذكرنا أمثلةَ هذا الفن. والذي أراه في ذلك أن القولين في أنها هل تقطع الاعتكاف مأخوذان من القولين في أن التتابع هل ينقطع؟ فإن قضينا بأن التتابع لا ينقطع، لزمها العود إلى مسكن النكاح، حتى إذا انقضت العدة، عادت إلى معتكفها، وبنت على ما مضى، وإن حكمنا بانقطاع التتابع، فالأشبه أن لا يلزمها الرجوع إلى مسكن النكاح؛ فإن ذلك إحباطُ ما تقدم من اعتكافها، ونحن نجوّز للمعتدة أن تخرج من مسكن النكاح في أوطارٍ لها وحاجاتٍ لا تبلغ مبلغ الضرورة. هذا حاصل القول في هذه الفصول. 9867 - ثم لما ذكر الشافعي سفر النزهة والنقلة، نقل المزني عنه لفظةً واختلفت الرواية فيها، قال: قال الشافعي: " لا تقيم في المصر الذي أَذن لها في السفر إليه، إلا أن يكون أَذن لها فيه، والنقلةِ إليه، فيكون ذلك عليها " (1) وفي بعض النسخ "فيكون ذلك لها". والروايتان صحيحتان، فمن قرأ: " فيكون ذلك عليها " رجع به إلى مسألة النُّقلة؛ فإن مصابرة المكان المنتقَلِ إليه حتم، كما قدمناه. ومن قرأ "فيكون ذلك لها" صرف ذلك إلى " ما أَذن لها في مقام مدة " فيكون هذا أيضاً على أحد القولين. وقد انتجز الغرض في هذه المعاني. 9868 - وذكر الشافعي بعد عقد هذه الأصول مسائل مقصودة في أنفسها وهي تبين القواعدَ السابقةَ، فمما ذكره أن المرأة إذا خرجت مسافرة مع الزوج، فطلقها أو مات عنها في أثناء الطريق، لزمها أن ترجع على أدراجها إلى مسكن النكاح، فتعتدَّ فيه،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 32. وعبارة النسخة التي معنا من المختصر: " فيكون ذلك عليها ".

ولا نقول تتمادى إلى مقصدها، بخلاف ما لو أذن لها الزوج في سفر يلحقها الطلاق في أثنائه، والفرق أنها إذا خرجت مع زوجها، فسفرها منوط بصحبته، فقد انقطعت الصحبة، وما خرجت مستقلة، فوقوع الطلاق بمثابة انتهاء السفر. وإذا خرجت بنفسها لغرضٍ لها، وقد تأهبت، فتتضرر بقطع ما همّت به. ومما ذكره أنها إذا أحرمت بإذن الزوج، ثم طلقها، فإن كان الوقت ضيقاً، خرجت وأنشأت السفر، وإن كان الطلاقُ لحقها وهي بعدُ مقيمة؛ فإن التحلل من الإحرام غير ممكن، وتكليفُها مصابرةَ الإحرام صعبٌ لا يحتمل، وبدون ذلك يجوز لها مفارقة مسكن النكاح، وإذا ضاق الوقت، فينضم إلى ما ذكرناه أنها لو صابرت فاتها الحج. وإن اتسع الوقت أو كانت محرمة بعمرة، فقد اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: يلزمها ملازمةُ مسكن النكاح إلى انقضاء العدة؛ إذ ليست على خشية من الفوات والعدة ناجزة لا تقبل التأخير. والوجه الثاني - وهو الذي اختاره القاضي وقطع به، أن لها أن تخرج، فإن مصابرة الإحرام مع ما فيه من وجوب التوقي عن أخذ الشعر والظفر واجتناب الطيب صعب، وفيه تعرض لالتزام مغارمَ كثيرة، وقد ذكرنا أنا بدون ما أشرنا إليه يجوز مفارقةُ مسكن النكاح. ولو كان الزوج أذن لها في الحج، فلم تخرج، فطلقها، فأحرمت بالحج، وقد لحقها الطلاق في الحضر، فلا ينبغي لها أن تخرج، فلا حكم للإذن المتقدم؛ فإنه ينقطع أثر إذن الزوج بالطلاق. نعم، إذا خرجت تؤم البيت، فطلقها، فلها أن تستدَّ على وجهها، والذي ذكرناه فيه إذا لحقها الطلاق قبل أن تخرج. وقد قدمنا فيما مضى معنى الخروج، فإنه مفارقة خِطه البلدة، ومفارقة مسكن النكاح. ثم ذكر الشافعي مسائل في حج النسوة وأنهن متى يخرجن، ومتى يلزمهن الخروج إلى الحج، وقد قررنا هذه المسائل في موضعها من كتاب الحج، وقد انتهى المقصود من الفصلين.

الفصل الثالث يتعلق بالخلاف بين الزوجين نصفه ونذكر ما فيه 9869 - إذا طلق الرجل امرأته، وكانت في دارٍ غيرِ دار الزوج، واختلف الزوجان: فقال الزوج: لم أنقلك، فارجعي إلى بيتي للعدة، وقالت: بل نقلتني!! نص الشافعي فيما نقله المزني على أن القول قولُها، وحكى المزني في الجامع الكبير عن الشافعي أنه قال: لو وقع هذا الاختلاف مع الوارث بعد موت الزوج، فقالت: نقلني أبوك. وقال الوارث، لم ينقلك، فالقول قول الوارث، وهذا يخالف ما نقله هاهنا. وترتيب المذهب في ذلك أنهما إذا اتفقا على أنه قال لها: اخرجي مسافرة: إذا كان الاختلاف مفروضاً في قريتين أو بلدتين، فالقول قول الزوج في حياته، والقول قول الوارث بعد وفاته؛ فإن الإذن باتفاقٍ مفروض في التقييد باتصاف المرأة بالمسافرة. ولو قال لها: انتقلي إلى تلك القرية أو إلى المسكن الآخر، ثم اختلفا، فالقول قولها لا محالة. ولو قال: اخرجي، أو سيري، أو اذهبي، على الإطلاق: من غير تقييد بسفر، ولا انتقال، فإذا فرض الاختلاف، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول الزوج أو الوارث؛ فإن الأصل عدم الإذن في الانتقال، ولو كان أصل الإذن متنازعاً فيه، لكان القول قولَ الزوج، فكذلك إذا فرض التنازع في صفة الإذن. والقول الثاني - أن القول قولُها، لأن الإذن محتمل، والظاهر معها؛ فإن الطلاق صادفها وهي كائنة في تلك الدار، وهذا يحل محل اليد في الخصومات، فكما يُجعل القول قولُ صاحب اليد، فكذلك يترجح جانبها لكونها في الدار الثانية. 9870 - ومما يتم به بيانُ الفصل أن كلام الأصحاب يشير إلى أن الزوج لو أنكر أصل الإذن وادعته المرأة، فالقول قول الزوج، وإنما ذكروا القولين فيه إذا كان أصل الإذن

ثابتاً والخلاف راجعاً إلى صفته، ولا يبعد تقدير خلاف إذا كان أصل الإذن متنازعاً فيه، بناء على ما لو فرض نزاع بين المالك وبين صاحب اليد في الإعارة، وقد قدمنا ذلك في كتاب العاريّة، والأصل تصديقُ من ينكر أصلَ الإذن، ثَمّ وهاهنا. فصل قال: " وتنتوي البدوية حيث ينتوي أهلها ... إلى آخره " (1). 9871 - البدوية إذا مات عنها زوجها أو طلقها، وكانت بين قوم سيّارة ينتجعون ويتبعون مواقع [القَطْر،] (2) لا يَلزمون مكاناً واحداً، فإنها تنتقل معهم حيث انتقلوا، وتعتد على انتقالها، وذلك في حقها بمثابة لزوم مسكن النكاح في حق الحضرية. وإن كانت بين قوم لزموا موضعاً لا يظعنون عنه شتاء، ولا صيفاً، فإنها تلزم لزومها ولا تخرج، كما لا تفارق الحضرية مسكن النكاح. وسر هذا الفصل أن انتقالها معهم لا يكون كلزوم مسكن النكاح، حيث [يُفرض] (3) للنكاح مسكنٌ في موضع إقامة، ودليل ذلك أنها لو انتهت في ممرها إلى قريةٍ وأرادت أن تقيم بها، جاز، وليس لها الانتقال من مسكن النكاح إلى غيره، فلا يعتقِدَنَّ الفقيه أن مسايرتَهم تلزمُها، ولكن يجوز لها اختيارُ مسايرتهم، حتى لا تستوحش بمفارقتهم، وإلا فليس الكَوْنُ معهم لزومَ موضعٍ، فيلزمَ. وليس هذا كما لو خرجت لتنتقل؛ حيث يثبت لها الانتقال، فلو لحقها الطلاق في الطريق، فأرادت أن تمكث في بلدة في وسط الطريق لتنقضيَ عدتُها، لم يكن لها ذلك، فإنها خرجت عن مسكن بانيةً أمرَها على مسكن آخر، فقد لحقها الطلاق على حالة، فتلزمها، وتلك الحالة تُفْضي إلى محل انتقالٍ وتوطّن. وأحوال البادية لا تنتهي إلى توطُّنٍ قط، وكل ذلك متفق عليه منصوص للأصحاب.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 33. (2) في الأصل: النظر. (3) في الأصل: يفوّض.

9872 - ومما يتعلق بذلك أن أهلها لو رحلوا وأقام [الأجانب] (1)، فإن كانت آمنة لو أقامت واختارت المقام، فلها ذلك، فإن الإقامة أليقُ بصفة المعتدة، وإن كانت لا تأمنُ، فحقٌّ عليها أن ترحل مع الراحلين، وإن أمنت، ولكن كانت تستوحش بمفارقة الأهل، فظاهر المذهب أنها بالخيار: إن شاءت أقامت مع المقيمين، وإن شاءت ظعنت مع الظاعنين، وجواز الظعن لما ينالها من الوحشة. ولا خلاف أن أهل المرأة المعتدة لو رحلوا عن البلدة، لم يكن لها أن ترحل وتفارقَ مسكن النكاح، وذلَك أن إقامتها مع المقيمين في البادية ليست إقامة على الحقيقة، ولذلك لم يوظف عليهم الجمعةُ، والبلدة محلٌّ للإقامة، فلا يجوز مزايلتها لوحشةٍ، ولا يبعد أن يقال: يتعين عليها الإقامة في مخيم المقيمين التزاماً لسكون المعتدات؛ فإن النقلة في النسوان تناقض التستر. ولا خلاف أنه لو أقام أهلها، لم يكن لها أن تنتقل وتفارق المخيم. هذا تمام القول في أحوال البادية. ولو خرج أقاربها ليعودوا على قرب، فلا ينبغي أن تخرج معهم، ولي لها أن تخرج معهم؛ فإن ما اعتمده جمهور الأصحاب من الوحشة لا يتحقق هاهنا. 9873 - ويتصل بهذا المنتهى امرأة صاحب السفينة إذا طلقها والسفينة في البحر، فلا محيصَ لها، فإن كانت من أقوام بحارين يعتادون التردد في البحر، فسبيلها كسبيل البادية، وإن لم يكن كذلك، وإنما ركبت لحاجة، فهي مسافرة مات عنها زوجها، وقد مضى التفصيل في ذلك، بيد أن الرجوع في البحر قد لا يمكن، فإن تيسر من غير عُسر -وقد خلَّفت مسكن نكاح- فسبيله ما تقدم. وإن كانت تلقى عُسراً وغرراً، لم تكلّف ذلك. ولو كان في البحر سفينتان بحكم الزوج، فقد يطرأُ إذاً تفصيل المساكنة: فإن كانت السفينة كبيرة تشتمل على حُجَرٍ وقطائعَ، وكل قطعة تنفرد بمرافقها، فلتنفرد

_ (1) في الأصل: الأحاديث.

بقطعة عن زوجها، وأمرُ الخَلْوة على ما تفصَّل. وإن كانت السفينة صغيرة، واستمكن الزوج من الانتقال إلى السفينة الأخرى، فحقٌّ عليه أن يفعل ذلك. ومن أحاط علماً بما مهدناه من الأصول، هان عليه درك أطراف هذه المسائل. 9874 - ثم قال الشافعي: " ولو تكارت منزلاً ... إلى آخره " (1). إذا غاب الزوج ولحقها الطلاقُ، وليس للزوج مسكن تأوي إليه المعتدة، فالقاضي يكتري لها مسكناًً يليق بها من مال الزوج، إن كان يجد له مالاً، وإن رأى الاستقراض عليه، فعل، وإن فوض إلى المرأة الاستقراضَ، جاز، ولا اختصاص لذلك بما نحن فيه، بل هو جارٍ في نفقةِ الزوجة وغيرها، وقدمنا في هرب الجمَّال مثلَ هذا. ولو شغَرَتْ البقعةُ عن الحاكم، ففيه تفصيلٌ ذكرناه في مسألة الجمَّال (2)، ولو استقلّت (3) مع إمكان [مراجعة] (4) الحاكم، فهذا أيضاً مما سبق تفصيله وسنجمع كلاماً حاوياً في كتاب النفقات -إن شاء الله- ونبين فيه انفصالَ النفقات عن السكنى، وانفصالَهما عن كراء الجمَّال، ونأتي فيه بمجامع، إن شاء الله. ثم تعرض الأصحاب هاهنا للكلام فيه إذا انقضت مدةٌ لم تتمكن فيها من مال الزوج، فهل يبطل حقها في المدة الماضية من السكنى أم يستقر حقها استقرار نفقة الزوجات؟ وهذا من أصول كتاب النفقات فأوْلى تأخيره إليه. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 34. (2) مسألة هروب الجمّال فصلها الإمام في كتاب الإجارة، باب كراء الإبل. (3) استقلت: أي استقرضت بنفسها، مع إمكان مراجعة الحاكم. (4) في الأصل: واجبة الحاكم.

باب الإحداد

باب الإحداد 9875 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " (1) ومضمون الحديث باتفاق العلماء، إيجاب الإحداد على المتوفى عنها زوجها في مدة العدة، وتحريمُ الإحداد على غيرها إلا ثلاثَ ليالٍ، ونحن نذكر من يجبُ عليه الإحدادُ أولاً، ثم نذكر معنى تحريم الإحداد، ثم نبين وصف الإحداد. والإحداد من الحَدّ وهو المنع، فالمحتدة ممتنعةٌ عن أسباب الزينة؛ وقال الأئمة: على المتوفَّى عنها أن تَحِد قولاً واحداً، فالرجعية لا تَحِد، فإنها في حكم الزوجات، فلا تحد، كما لا تحد الزوجة، والمطلقةُ البائنة هل يلزمها الإحداد؟ فعلى قولين: أحدهما - يلزمها الإحداد؛ لأنها معتدة عن الزوج لا يملك الزوج رجعتها، فصارت كالمتوفى عنها. والئاني- لا يجب عليها الإحداد؛ لأنها معتدة عن طلاقٍ فأشبهت الرجعية. والمعنى الذي يليق بهذا الأصل أن المتوفى عنها متفجعة على فراق الزوج وذلك لائق بحالها، والبائنة مجفوّةٌ بالطلاق في غالب الأمر، لا يليق بحالها تكليفُ التفجع. وهذا يناظر الترتيب المذكور في التعريض بالخطبة، فإنه جائز في عدة الوفاة، حرامٌ في عدة الرجعة، وفي جوازه في عدة البينونة قولان، وليس هذا التناظر لفظياً، ولكن بين الأصلين تناسب من جهة المعنى؛ فإن المتوفى عنها زوجها لا يليق بها وهي

_ (1) حديث "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث" رواه مسلم من حديث عائشة وحفصة رضي الله عنهما (الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، ح 1490).

مفجوعة أن تتشوف إلى الطالب قبل انقضاء العدة، فلم يحرم التعريض معها. والرجعية زوجة، وسلطنةُ الز وج مستمرة. والبائنة مجفوّة فكان صَدَرَ (1) هذا الترتيب قريباًً مما ذكرناه. والتي ارتفع النكاح عنها بفسخ، اختلف الأصحاب فيها: فمنهم من ألحقها بالمطلقة المبتوتة، ومنهم من ألحقها بالموطوءة بالشبهة، ولا خلاف أن الموطوءة بالشبهة لا تَحِدّ في العدة، وكذلك أمُّ الولد لا تحِدّ إذا مات مولاها. فكأن بعض الأصحاب رأى أن النكاح زائل بجميع آثاره في حق المفسوخ نكاحها، وهذا ميل الأكثرين. ثم إذا أوجبنا الإحداد، فلا فرق بين الحرة والأمة، والمسلمة، والذمية، والصغيرة، والكبيرة، والعاقلة، والمجنونة، وأبو حنيفة (2) لا يوجب الإحداد على الذمية، ولا يثبته في الصغيرة والمجنونة. ونحن إذا أثبتناه فيهما، أَمَرْنا الوليَّ يمنعها المحَدَّةَ (3) عنه. هذا تفصيل القول فيمن يلزمه الإحداد. 9876 - وقد ذكرنا أن الإحداد يحرم بحكم نصّ الرسول صلى الله عليه وسلم على غير المعتدات، كما فصلنا القول فيهن؛ فإنه عليه السلام قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِدّ على ميت فوق ثلاث " وهذا فيه سؤال وإشكال؛ فإن الإحداد اجتنابُ نوعٍ من الثياب، وتركُ استعمال الطيب، ولا يتحقق التحريمُ في ذلك لعينه، فالوجه صرف التحريم إلى القصد (4)، فرب فعل يقترن به قصدٌ، فيحرمُ كالسجود بين

_ (1) صَدَر: بمعنى صدور، وهو مصدر من مصادر الفعل (صدر) ولكنه غير مشهور بل غير مستعمل في لساننا الآن. وإن كان إمام الحرمين لا يستعمل غيره. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 395 مسألة 901، المبسوط: 6/ 59. (3) المحَدَّة عنه: أي الممنوعة عنه. (4) المعنى أن حرمة الطيب وهذه الأنواع من الثياب -على المعتدة- ليست لذات الطيب والثياب، وإنما لما يقترن بها من قصد، وهذا على ظهوره لا يضر ذكره، كما قال الإمام في ختام هذه الفقرة نفسها، ولكن التمثيل بالسجود للصنم يحتاج إلى كلام (انظره في التعليق الآتي).

يدي الصنم، [لو اقترن] (1) به قصد التقرب، فالتعويل على القصد، ولكن المقصود يحرم مع القصد (2). وهذا على ظهوره لا يضر ذكره. ثم رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإحداد ثلاثة أيام، فلعل السرّ في ذلك أن مخالفة الذمّي [في] (3) إظهار [التحزّن] (4) والرضا (5) بالقضاء أولى بالمؤمن. والإحدادُ في العدة ضربُ حَجْرٍ على المعتدات، حتى لا يشتغلن بالتزين للرجال. وتسويغُ التفجع على القريب والحميم في الثلاث رخصةٌ من الله؛ فإن النفوس قد لا تطاوع، واغتلامُ الحزن ينكسر في الثلاث، وهي منطبقة على أزمان التعزية، وفيها باب [ذكرناه] (6) في الجنائز، ثم هذا التحزن في هذه المدة لا يتخصص بالنسوة، ولا شك أنه رخصةٌ وتركه أولى، فإن الذي يقتضيه الدينُ استقبالُ القضاء بالرضا، والتلفّع بجلباب الصبر والاستسلام لأمر الله. 9877 - وقد حان أن نذكر الآن الإحداد ومعناه، قال الشافعي: " وإنما الإحداد في البدن ... إلى آخره " (7).

_ (1) في الأصل: ولو اقترن. (2) يفهم من كلام الإمام هنا أن المحرَّم ممن يسجد للصنم ليس فعلَ السجود بهيئته وحركاته، وإنما قصد التقرب والتعظيم للصنم، وهذا في أصله رأيٌ لأبي هاشم الجبائي المعتزلي، يقوم على أن (السجود) نوعٌ واحد من الأفعال، ومحالٌ أن يكون (الواحد) واجباً وحراماً، وطاعة ومعصية، وإنما يكون حراماً أو واجباً بحسب ما يقترن به من القصد. هذا أصل مذهب أبي هاشم. حكاه الإمام عنه في البرهان وردَّه بقوّة، قائلاً: " إنه خروج عن دين الأمة، ثم لا يمتنع أن يكون الفعل مأموراً به مع قصدٍ منهياً عنه مع آخر " ا. هـ. وإجماعُ أهل السنة منعقد على أن الساجد للصنم عاصٍ بنفس السجود والقصد جميعاً. وفي المسألة مزيد تفصيل وكلام لا يحتمله المقام. راجع: (البرهان في أصول الفقه: فقرة: 213، والمستصفى: 1/ 76، والإحكام للآمدي: 1/ 87، والمسوّدة: 84، وشرح الكوكب المنير: 1/ 390). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: تحزن. (5) معطوفة على (مخالفة). (6) في الأصل: ذكرناها. (7) ر. المختصر: /35.

أراد رضي الله عنه بما ذكر أن المرأة لو آثرت تزيين منزلها بالفرش، وكلفت خدمها تنقيته من الأذى، وأمرتهم بأن يأخذوا زينتهم، فلا بأس بشيء من ذلك، وإنما الإحداد يتعلق ببدن المرأة. والغرضُ الظاهر ألا تتزين للرجال بما يُشوِّف الرجال إليها لو رمقوها، ثم هذا يتعلق بالملابس واجتناب الطيب، فلو لبست ثوب زينة، كانت تاركةً للإحداد 9878 - ونحن نذكر الآن تفصيل القول في الثياب: والنظرُ فيه ينقسم: فيقع في الجنس، وفي اللون. أما الجنس، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنها لا تلبس ثياب الإبرَيْسم كيف فرضت، وتكون وهي مُحدّة بمثابة الرجل في اجتناب لبس الحرير، وقد ذكرنا ذلك في مواضع من الكتاب. وقال العراقيون: لها أن [تلبس] (1) الحرير إذا لم يكن مصبوغاً، واعتلوا بأن الحرير في حقها بمثابة سائر الثياب في حق الرجال، والأفقه ما ذكره المراوزة، فإنهن خُصّصن بلبس الحرير؛ لأنهن بمحل التزين للرجال، وهن في الإحداد ممنوعات عن التزين، فليرتفع ما خصّصن به للزينة. ثم قال الأئمة: يحرم عليهن استعمال الحلي، ولم أر للعراقيين فيه ذكراً، والأليق بقياسهم التحريم؛ فإن الملابس لا بد منها، والحلي لا تستعمل إلا زينةً. وما عندي أن التختم يحرُم عليهن، وهو حلال للرجال. نعم، يمنعن من التختم بخاتم الذهب؛ فإن ذلك مما خُصصن به زينةً لهن. فأما ما عدا الإبرَيْسم من أجناس الثياب، فلا يحرم عليهن لُبسه في زمان الإحداد، كالكتان والقطن، والخَزّ إن لم يكن من الحرير، وكل ما يحل للرجال لُبسه في الرفاهية من أجناس الثياب، فلا يحرم على المُحِدّة لُبسه. هذا قولنا فيما يتعلق بأجناس الثياب.

_ (1) في الأصل: تمسّ.

9879 - فأما الكلام في الألوان، فالقول الضابط فيها، أن كل لون تُصبغ الثياب به طلباً للزينة، فيحرم على المرأة لُبس الثوب المتلون به، وكل ما لا يقصد بصَبْغ الثوب به الزينةُ، فلا يحرم على المُحدّة لُبسُ الثوب المتلون به، فالأَسْود الكَمِد (1)، والاكْهب (2) الكمِد، وما في معناهما لا يمتنع صبغ المُحِدَّة به، فأما الثوب الأحمر الخضِل (3) البراق، والأصفر الفاقع، وما أشبههما [فيحرم] (4). والمعنى المعتبر المطّرد في جميع الألوان: البرّاق المستحسَنُ في الملابس، ورب لونٍ كمِد يصقل الثوبَ المصبوغَ به فيُلْفى برَّاقاً، ولا يزداد [بالصبغ] (5) إلا سماحة. ثم لا فرق فيما نمنع ونجيز بين ما يصبغ بعد النسج وبين مايصبغ غزله وينسج مصبوغاً، وإنما الممتنع ما ذكرناه من قصد الزينة، وليس ذلك خافياً في الناس. وعن أبي إسحاق المروزي أنه قال: الممنوع ما صبغ بعد نسجه، فأما ما صبغ غزله ونسج، فلا منع فيه، وإن كان حسن المنظر، وهذا الذي ذكره يُبطله الخبر، وقاعدة الباب. أما الخبر، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى المحِدّة عن لُبس عَصْب اليمن " (6)، وهي من برود حِبَرة (7)، يصبغ غزلها ثم ينسج.

_ (1) الكمد: الذي لا صفاء فيه، وفعله: كَمِد (من باب تعب) أي تغير لونه، وذهب صفاؤه. وكمِد الثوب: أخلق فتغير لونه. (المعجم والمصباح) فالمعنى الثوب الأسود الحائل السواد الذي لا صفاء فيه. (2) الأكهب: يقال: كهِبَ لونه يكهَبُ كَهَباً: علته غبرة مشربة سواداً، فهو أكهب (المعجم). (3) الخضِل: من خضِل يخضَل خَضَلاً: إذا نَعُمَ، ومن معانيه أيضاً: ندي وابتل، فالمعنى الثوب الأحمر اللامع الزاهي الناعم (المعجم). (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: بالصقل. (6) هذه الرواية في النهي عن لبس عصب اليمن جاءت في رواية البيهقي من حديث أم عطية رضي الله عنها. وقد روي حديث أم عطية من عدة طرق كلها بإباحة عصب اليمن للمحتدة؛ والنص على استئنائه من النهي، ولذا علق البيهقي على رواية النهي قائلاً: ورواية الجماعة بخلاف ذلك. (ر. السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 439). (7) حبرة: وزان عنبة. والإضافة هنا بيانية (معجم ومصباح).

وأما قاعدة الباب فالنهي عن الزينة، وهذا لا يختلف بأن يصبغ الثوب منسوجاً، أو ينسج مصبوغاً، وقد يكون المنسوج من الغزل المصبوغ أحسنَ منظراً وأكثرَ رونقاً. ولو صبغتْ ثوباً خَشِناً غليظاً [بصبغ] (1) براق، فقد تردد صاحب التقريب في ذلك، ثم حكى قولين، وما ذكره محتمل؛ فإن الصبغ في نفسه وإن كان حسناً، فلا تحصل الزينة به ما لم يكن الثوب المصبوغ به على اقتصارٍ في الغلظ، فإذا فحشت الخشونة، وإن حسن اللون، لم يعدّ لابسه متزيناً، ويجوز أن يحمل منعه على الرائي (2) من البعد، وهذا لائق بغرض الباب؛ فإن النسوة لا يخامرن الرجال، بل يَلُحْن لهم من البعد. فهذا بيان ما يتعلق بالملابس. 9880 - فأما النوع الآخر، فهو ما يتعلق باجتناب الطيب، وما يدنو [منه] (3) فالكلام في هذا يتعلق بقسمين: أحدهما - اجتناب الطيب، ولا معنى لإطالة التفصيل فيه، فنقول: يحرم على المحِدة من هذا القبيل ما يحرم على المُحرِم، وقد تفصل ذلك في كتاب الحج على أبلغ وجهٍ في البيان. والنوع الثاني - ما يتعلق بالزينة وإن لم يكن طيباً، كالاكتحال بما يَزِين، قال الشافعي: لا بأس باستعمال الكحل الفارسي، وهو فيما أظن إلى البياض ما هو (4)، قال الشافعي إنه لا يزيد العين إلا مَرَهاً (5) وقبحاً. ونص في بعض المواضع على تجويز استعمال الإثمد، وأجمع الأصحاب على أنه قال في العربيات: ويغلب على ألوانهن السواد، ولا يبين الإثمد في أعينهن؛ فإنهن

_ (1) في الأصل: يضيق. (2) المعنى أنه من على البعد يُعجب ويلفت النظر، ويسرّ الناظر بلونه، فلا تظهر خشونته إلا عن قرب، والشأن المعهود أن النساء يَلُحن عن بعد فهذا وجه المنع مع الخشونة المتناهية. (3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (4) أي شديد البياض. (5) المره: خلوّ العين من الكحل، وهو أيضاًَ مرضٌ في العين تَتَقرَّحُ منه. فالمعنى أن هذا الكحل الفارسي الأبيض لا جمال فيه، فهو عكس الكَحَل الذي تُمدَحُ به النساء، ويذكر جمالهن به. ثم إنه يزيدها تقرحاً. (قلت: لعله يسبب هيجان الدمع من العين مثل بعض الأدوية) لمزيد من معاني المره (ر. المعجم).

مع اخضرار ألوانهن على كَحَل ظاهر في الخلقة، لا يزينهن التكحّل، وإذا استعملت البيضاء الإثمد زانها (1)، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلم وهي محِدّة على أبي سلم يعرّض بخطبتها، وكانت قد اكتحلت بالصّبر (2) فقال صلى الله عليه وسلم: " ما هذا " فذكرت رمداً بعينها، وأنها عالجته بالاكتحال بالصبر، فقال عليه السلام: افعليه بالليل وامسحيه بالنهار " (3). وإن كان بالمرأة رمد واحتاجت إلى استعمال كحل [يزينها] (4) فيتحتم عليها أن تفعل ما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة. وإن مست الحاجة إلى استعمال الكحل نهاراً، فلا بأس؛ فإن المعالجة إذا مست الحاجة إليها، خرج الاتحال عن كونه تزيُّناً، وكذلك إذا مست الحاجة إلى استعمال الطيب، فالأمر على ما ذكرناه. 9881 - ولا ترجّل رأسها بالدّهن لما فيه من التزين. والنهي عن ذلك في باب الإحداد أقيس منه في باب الإحرام؛ فإن المحرم ليس ممنوعاً عما يتعلق بالتزين، وإنما يمنع من الطيب، ولا يتضح فيه معنىً. وإن قال الإنسان -على بُعدٍ-: الطيبٌ داعيةٌ إلى الوقاع ناجزاً من غير ارتقاب تفزٍّ (5) ومزيد شيء في الجبلّة، فهذا على بعده لا يجري في الترجيل. وإزالةُ الشعث والغبر

_ (1) معنى هذا أن تحريم (الإثمد) خاص بالبيضاء التي يظهر في وجهها، هكذا نقله الإمام عن (إجماع) الأصحاب، لكن الرافعي بعد أن نقل هذا عن الإمام، قال: " والظاهر عند أكثرين، أنه لا فرق بين البيضاء والسوداء، قالوا (أي الأكثرون): أثر الكحل يظهر في بياض العين، ويدل عليه إطلاق الأخبار " (ر. الشرح الكبير: 9/ 495). (2) الصبر: كحل أصفر اللون. قاله الرافعي (السابق نفسه). (3) حديث أم سلمة رضي الله عنها في الإحداد والكحل رواه أبو داود: الطلاق، باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها ح 2302، والنسائي: الطلاق باب الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر، ح 3537، ورواه البيهفي في المعرفة (4679)، وانظر التلخيص 3/ 477 ح 1819. (4) في الأصل: زنها. (5) التفزي التوقّد والنشاط: فزّ الرجل فزازة وفُززة: نشط وتوقد (المعجم).

ليست محرمة؛ فإن المُحرم [يستحم] (1) ويتدلك ويزيل الوسخ، ولكن يثبت في الآثار إلحاقُ الترجيل بالتطيب. والمرأة أمرت بالإحداد، حتى لا تتزيّن؛ فيبعد (2) نهيها عن الطيب؛ ولا تزين فيه بُعْد نهي المحرم عن الترجل ولا تطيب فيه، والبابان على الجملة يتلاقيان. ثم قال الأصحاب: المحرم ممنوع عن ترجيل لحيته بالدهن، كما أنه ممنوع عن ترجيل لِمّته، ثم قالوا: لو كان للمرأة لحية فرجّلتها بالدهن عَصَت ربها، فإن اللحية، وإن كانت تشينها، فالترجيل يغُضّ من القبح، هكذا ذكره الأصحاب. 9882 - والمرأة ليست ممنوعة من التنظف، كالمحرم ولا حرج عليها إذا أزالت الوسخ عن نفسها، ومما لا تؤاخذ به الاستحداد (3)، فإنها تتأذى لو لم تستحد تأذيها بالوسخ لو كلّفت استبقاءه، وليست هي محمولة في الإحداد على ضِرارٍ تحتمله، وإنما مقصود الإحدد أن لا تُدخل علمى بدنها تزيناً. ولو أخذت تُجَعِّدُ [الأصداغ وتُضَعِّف] (4) الطُّرَرَ، فلست أدري ما أقول فيه!! لا يمتنع أن يكون هذا من فن التزين بمثابة استعمال الحلي، وإن لم يكن من الملابس، ولا نص للأصحاب في هذا، والظاهر الاقتصار على المأخذ الذي نص عليه الأولون. والتحلي باللآلىء فيه تردد عندي؛ من جهة أنه لم يثبت تحريم استعماله على الرجال، وإنما ورد نص التحريم في استعمال الذهب، فإذا لم تكن اللآلىء من

_ (1) في الأصل: يستجمّه. (2) ننبه هنا أن البُعد ليس في نفي الحكم بتحريم الطيب على المحدّة، فقد أكد ذلك التحريم آنفاً بدون ترديد في الرأي، وإنما الاستبعاد هنا في إدراك المعنى والحكمة، أي كما نهي المحرم عن الترجل ولا تطيب فيه من غير إدراك سرّ النهي، فكذلك يقع نهيها عن الطيب ولا تزيّن فيه غير معقول المعنى. ويتضح ذلك من قوله الآتي قريباً. " وحق الناظر ألا يمشي بخطوه الوساع في أبواب التعبدات " والله أعلم. (3) نذكر مجرد تذكير أن الاستحداد هو أخذ شعر العانة وإزالته. (4) في الأصل: الأصداع، وتصنف.

خصائص زينة النساء، فليست في معنى الذهب ولكنها تزيّنٌ، وزينتها تزيد على زينة الإثمد. وحق الناظر ألا يمشي بخَطْوه الوساع في أبواب التعبدات؛ فإن المعاني الكلية وإن كانت معقولةً [مقبولة] (1)، فمحل التعبد يمنع الاسترسال في طريق المعنى. ومن بحث عن جريان الأولين في التفصيل، ورُزق التوسع في الأخبار والآثار، فلا يلقى مذهباً لأئمة السلف إلا مستنداً إلى أثر، وآثار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الباب مستندها ما فهموه من الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر بالإحداد. 9883 - ثم إذا أوجبنا الإحداد، فلو تركته، انقضت العدة، غير أنها تأثم إن اعتمدت الترك، وكيف لا يكون كذلك، ولو تبرجت وفارقت مسكن النكاح، فالعدة تنقضي عليها، مع تركها أصلَ حالة التربص. وقد انتجز غرض هذا الباب ونحن نعقد الآن فصلاً في معنى لزوم المعتدةِ المسكنَ، وما يجوز لها الخروج لأجله. فصل 9884 - المتوفى عنها زوجها والمبتوتة تلزمان مكان الاعتداد ولا يجوز للمتربصة أن تبرز لنزهة أو زيارة أو تجارة، وإنما تبرز لحاجة ظاهرة، ولا يُشترط انتهاءُ الحاجة إلى رتبة الضرورة، والزيارة في نفسها مقصودةٌ والغرض فيها واضح لائح، ولا يجوز الخروج لها، وكذلك التجارة، فلا يُعلّق جواز الخروج بالغرض، ولا يُشترط في جوازه الضرورة، والحاجة متوسطةٌ بينهما كما سنصفها، ونقرر القول فيها جهدنا، إن شاء الله. فنقول: إن احتاجت إلى الخروج لحاجة تتعلق بالمطاعم والملابس ومؤنة السكن إذا استَرَمَّ، فإن وجدت من تستنيبه، فلتفعل؛ إذ لا حاجة بها إلى الخروج بنفسها، وإن لم تجد من ينوب منابها، فلا بأس عليها لو خرجت.

_ (1) في الأصل: منقولة.

والفرضُ في البائنة أو في المتوفى عنها، فإن الرجعية مكفيّةٌ، لا حاجة بها إلى الخروج بنفسها، ولا نفقةَ لبائن حائل، ولا للمتوفى عنها حاملاً كانت أو حائلاً. فإن وجبت النفقة للبائنة الحامل، فهي في أمر النفقة مكفية، فلا تخرج، وإن ضيعها المطلّق، ومست الحاجة إلى الخروج، خرجت، وكيف لا والزوجة لو ضيعها الزوج، لخرجت، على ما سيأتي تفصيل ذلك في النفقات، إن شاء الله. والقدر الذي نذكره هاهنا أن خروج الزوجة لا يمتنع إلا لحقِّ الزوج، فإذا انقطعت النفقة، فلها أن تخرج، وإن كانت قادرةً على أن تصابر وتنفقَ على نفسها من مالها. والمعتدة المستحقة للنفقة إذا انقطع عنها إنفاق من يلزمه الإنفاق عليها، وكانت متمكنة من مصابرة مسكن النكاح من غير حاجة حاقّة، فليس لها أن تخرج؛ فإن العدة يتعلق بها حق الله تعالى على التأكد، ولذلك لا يسقط وجوب التربص وإن رضي مَنْ مِنه الاعتداد، بخلاف استقرار الزوجة في مسكن النكاح، مع استمرار الزوجية. والتي لا زوج لها، ولا عدة عليها، لها أن تبرز من غير حاجة إذا كانت لا تتعرض لآفة. هذا تأسيس القول في الحاجة. 9885 - فإن قيل: قد قدمتم في مسائل المسافرة أن المرأة إذا لحقها الطلاق بعد خروجها تاجرةً، فإنها تتمادى على وجهها حتى تقضيَ وطرها، وقلتم: ليس للمعتدة أن تخرج عن مسكن النكاح زائرةً أو تاجرة، [فأبينوا] (1) هذه الفصول وأوضحوا أن ما قدمتم تجويزه، فهو لأثر إذن الزوج، حتى لو فرض مثل ذلك الإذن في مفارقة مسكن النكاح للتجارة، لجاز لها الخروج أم كيف السبيل فيه؟ قلنا: أما الإذن، فلا يبقى عليه تعويل بعد وقوع الطلاق وحصولِ البينونة، والدليل عليه أن الرجل إذا أذن لزوجته في أن تخرج حاجّة، ثم طلقها قبل أن تخرج وتُحرم، فليس لها أن تُحْرم وتخرج، فإن أثر الإذن ينقطع بطريان الطلاق، وقد صادفها الطلاق وهي في مسكن النكاح، فالتعويل إذاً في مسائل المسافرة على أنها

_ (1) في الأصل: " فأثبتوا ".

تتأهب للسفر، فلو قطعته، لنالها ضرر عظيم، فهذا هو المعتمد في تلك المسائل، وعليه بنينا الفرق بين أن يلحقها الطلاق وهي في البلدة، أو يلحقها وقد خرجت. فهذا هو الذي عليه التعويل. 9886 - فإن قيل: [المعتدة] (1) إذا بلغها الخبر بأن مقداراً صالحاً من مالها على شرف الضَّياع لو لم تخرج إليه ولم تتداركْه، فهل لها أن تخرج بنفسها حيث يضيعُ مالُها لو لم تخرج؟ قلنا: هذا محل التردد، ونحن نبين فيه أصلاً كبيراً، ونقول: كل باب بني على معنًى، ثم فرض انخرام ذلك المعنى بشيء، يقع معتاداً، فذلك المعنى يقتضي أن يطَّرد حتى لا ينخرم، وهذا بمثابة بنائنا باب القصاص على الوفاء بالعصمة والامتناع مما يؤدي إلى الهرْج، فلا جرم كل ما يفضي إلى ذلك، فهو مردود، فإذا فرضت مسألة نادرة، فلا مبالاة بها، والتذكير في هذا كافٍ. فنقول بعد ذلك: اتفاق احتياجها إلى تدارك المال وصونِه عن الاختلال بنفسها في نهاية الندور؛ فإن الغالب أن النسوة لا يحتجْن إلى مباشرة هذه الأمور، ونائبُهن فيها أَقْومُ بها منهن، وغَنَاء الرجل المستناب أظهر من غَنائهن، والغالب أن المرأة إذا أرهقتها حاجةٌ أنابت فيها رجلاً. فإن فرض فارض صورةً نادرة [لو] (2) جرينا فيها على موجَب الحاجة، لخرجت مسافرة وتبرّجت بارزة وتركت التربصَ، وإن لزمت التربصَ، ضاع مالها، فيتردد نظر الفقيه في هذا المقام بعض التردد، ويعترض له ضياعٌ على ندورٍ وتركُ التربص، وليس كالحاجة التي تغلب؛ فإن ترك التربص بها محمول على الحاجة الغالبة في الجنس. ومما نجريه في قواعد الشريعة تنزيلُ الحاجة الغالبة العامة للجنس منزلةَ الضرورة الخاصة في حق الشخص، وأما الخاصة النادرة، ففيها النظر، ولكن ضياع

_ (1) في الأصل: المعتمدة. (2) في الأصل: " أو ".

المال شديد، والتربص وإن كان واجباً؛ فإنه من قبيل الأمورِ التابعة، والآدابِ المتأكدة المترقِّية من نهاية الندب إلى أول درجة الوجوب. فهذا وجه النظر. والذي عليه الاستقرار أن المال إذا كان يضيع، وله خطرٌ وقدر، فلا بأس لو خرجت وإن فرض الضياع على وجه الندور. والحاجةُ إذا تعلقت باستصلاحٍ، وكانت نادرة، فلا يجوز ترك التربص لها. فينتظم من ذلك أن الحاجةَ الغالبةَ إذا كانت لا تتعلق بضَياع في المال، وضرورةٍ في البدن، فيسوغ الخروج لها، والحاجة النادرة إذا كانت لا تفضي إلى ضياعٍ لا يجوز الخروج لها، وإن أدت إلى ضياع وإن كانت على الندور، فيجوز الخروج لها. هذا ما رأيناه. 9887 - ولا يجوز الخروج للاستزادَة، كالتجارة، وكذلك الخروج للعمارة التي ليس في تركها ضَياع، ويلتحق بذلك الزيارة؛ فإنها لا تبلغ مبلغ الحاجة الحاقة. والحاجةُ المعتبرة هي التي يظهر ضررها لو تركت، ولو توالت، أفضت إلى الضرورة. فهذا مجامع الكلام. فإن قيل: الرجل الأقطع اليمين يقطع الأَيْمان ولا قصاص عليه، والحاجة له مُفْضية إلى ضياعٍ في الأطراف. قلنا: نعم، ولكن يعارضها أن الهجوم على الدماء لا على القواعد الشرعية شديد، وتركُ التربُّصِ في العدة قريب، على أنا قد نقتُل الأقطع إذا أفضت جراحاته إلى الزهوق، وليس إفضاؤها إلى الزهوق بدعاً. وقد انتهى ما نريد. ورجعت مسائلُ السفر وخروجُ المرأة عن مسكن النكاح في زمن التربص إلى قاعدة واحدة، قد بانت للفطن. 9888 - ثم قال الأئمة: إذا كانت تخرج لحاجتها، فلتخرج نهاراً، وليس يحل لها أن تخرج ليلاً، مع التمكن من الخروج نهاراً، والسبب فيه أنها إذا خرجت نهاراً، كانت مرقوبةً بالأعين، بعيدةً عن التعرض، مصونةً بلحظ اللاحظين، وإذا خرجت

ليلاً بعُد [الغوث] (1) عنها [لو قُصدت] (2)، وكانت متصديةً للآفات، وإنما ذكر العلماء هذا قطعاً لوهم من يظن أن الخروج ليلاً أليق بالتخدُّر والتخفّر، والأمر على الضد من هذا. ولسنا نمنعها من الخروج ليلاً إذا وقعت حاجةٌ ليلية، وإنما ذكرنا ما ذكرنا فيه إذا ترددت بين الخروج ليلاً ونهاراً، فالحكم عليها أن تؤثر الخروج نهاراً ولزوم المسكن ليلاً، وهذا حتم على الوجه الذي ذكرناه. هذا منتهى القول فيما يجوز للمرأة أن تخرج لأجله. وفيه نجاز الباب. ...

_ (1) في الأصل: الفوت. (2) في الأصل: ولو قصدت.

باب اجتماع العدتين والقافة

باب اجتماع العدتين والقافة 9889 - العدتان لو اجتمعتا، فلا يخلو: إما أن يكونا من شخص واحد، وإما أن يكونا من شخصين. فإن كانا من شخص واحد، فلا يخلو إما أن يكونا متفقتين أو مختلفتين، فإن كانتا متفقتين، مثل أن يكونا جميعاً بالشهور أو بالأقراء، وتصوير اجتماعهما أن يطلّق الرجل امرأته طلقة رجعية، وتجرى في عدة الرجعية، وكانت عدتها بالشهور أو بالأقراء، فإذا وطئها الزوج في أثناء العدة فوطؤه وطءُ شبهة، وهو مقتضٍ للعدة، وهذا تصوير اجتماع العدتين. وكذلك لو كانت في عدة بينونة، فوطئها الزوج بالشبهة، ظاناً أنها زوجته، فالعدة تجب، والتصوير على ما قدرناه. فالذي أطلقه الأصحاب أن العدتين تتداخلان، والمعنيُّ بتداخلهما أن الذي مضى من العدة الأولى محسوب من تلك العدة على التمحّض، والذي بقي من تلك العدة يجري محسوباً عن العدتين: بقيةِ الأولى وابتداءِ الثانية، حتى إن كان مَضى قرءٌ وبقي قرءان، فجرى الوطء كما صورناه، فنحسب القرأين الباقيين من العدتين، فإذا انقضيا، فعليها بسبب وطء الشبهة قرء واحد، فإذا انقضى، فقد تخلت عن العدتين. هذا هو المذهب، وعليه التعويل. 9890 - وذكر الأصحاب تقديرين نذكرهما ونبين ضعفهما: قال قائلون: الوطء إذا ورد على العدة من النكاح، لم يوجب في الحال عدةً، وبقيّةُ العدة تمضي ممحّضةً عن الجهة الأولى، حتى إن كان بقي قرءان، فهما من عدة الطلاق، ثم تتربص الموطوءة قرءاً، ونحكم بأن الوطء الذي جرى لم يوجب إلا هذا القرء الواحد، ولا نحكم بأن القرأين الباقيين يجريان عن العدتين، والتزم هذا القائل طردَ هذا القياسَ من غير

محاشاة، وقال: إذا مضى نصفُ قرء من عدة الطلاق، وجرى الوطءُ، فالباقي من العدة يجري محضاً عن جهة الطلاق، ثم إنها تتربص وراء ذلك بعضاً من قرء، ونقضي بأن الوطء أوجب هذا المقدار. وهذا تلاعب بالأصول وتقديرٌ ينافي وضعَ الشريعة، فإنا لم نَرَ وطءَ شبهة في حُرَّة يوجب بعضَ قرء، وهذا التقدير لا يتغير به حكم، وإنما هو كلام أصدره بعضُ الأصحاب عن غير فكرٍ قويم. وقال قائلون: إذا جرى الوطء بالشبهة قبل انقضاء عدة الطلاق، انقطع الاعتداد عن الطلاق، واستفتحت عدةَ الشبهة. وهذا ساقط أيضاً، وقد أشار إليه القاضي في بعض ما نُقل عنه، والدليل على بطلان ذلك أن عدة الطلاق أثبتت لاستنادها إلى حرمة النكاح، ووطء الشبهة إنما يقتضي العدة لمشابهته الوطء في النكاح، فالحكم بانقطاع عدة الطلاق لمكان وطء الشبهة من باب رفع الأقوى بالأضعف. ثم إذا جرى وطء الشبهة طارئاً على عدة الرجعة، فالرجعة لا تنقطع، ولو ارتفعت عدةُ الرجعة، لانقطعت الرجعة، ولو شبّب مشبِّبٌ في هذا المنع، كان خارقاً لحجاب الهيبة مستجرئاً على خرق الإجماع. فلا وجه إلا ما قدمناه من تداخل العدتين على التفسير المقدم في احتساب البقية منهما، ووجوب استكمال العدة الثانية بعد انقضاء مدة الأولى، فهذا هو الأصل، وعليه التفريع، ولا عَوْد إلى غيره. 9891 - فنقول: إذا جرى وطءُ الشبهة، فللزوج المراجعةُ في بقية العدة الأولى، فإذا انقضت تلك البقية، انقطعت الرجعة؛ فإنها في تربصها الواقع وراء عدة الرجعة متربصةٌ بمحض عدة الشبهة. ولو فرضنا وطء الشبهة طارئاً على عدة البينونة (1)، فالترتيب في التداخل على

_ (1) المراد هنا البينونة بسبب غير استيفاء عدد الطلاق، وإلا فمن استوفى عدد الطلاق، لا يحق له تجديد النكاح إلا بعد أَن تنكح زوجاً غيره؛ ولذلك قال الإمام: " يجدد النكاح عليها برضاها على شرط الشرع " وإنما تكون عدة البينونة كالعدة عن الخلع مثلاً.

ما قدمناه، ويجوز للزوج أن يجدد النكاح عليها برضاها على شرط الشرع في بقية العدة، وفي المدة التي تتربص فيها وراء عدة الطلاق، والسبب فيه أنها مترددة بين عدة النكاح وعدة الشبهة، وتجديد النكاح سائغ في العدتين ممن نسبت العدة إليه، فللمطلق التجديد في عدة الطلاق، وللواطىء بالشبهة التجديد أيضاً، وليس هذا كالرجعة في الصورة الأولى، فإنها تختص بعدة الطلاق ولا تتعدى إلى عدة الشبهة، فانقسم الكلام في الرجعية نفياً وإثباتاً، واطرد جواز النكاح فيه إذا جرى وطء الشبهة على عدة البينونة، وهذا لائح لا إشكال فيه. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت العدتان من شخصٍ واحد، وكانتا من جنس واحد. 9892 - فأما إذا اختلف جنس ما به الاعتداد والشخص الذي عنه الاعتداد واحد، وذلك بأن تُفترض إحدى العدتين بالأقراء، والأخرى بالحمل، وهذا يفرض على وجهين: أحدهما - أن يصادفها الطلاق وهي حامل، فتكون عدة الطلاق بالحمل، ثم يفرض الوطء طارئاًعلى الحمل. وقد (1) يفرض الطلاق طارئاً على الحيال، فتلابسُ المطلقةُ عدة الأقراء، ثم يطرأ وطء الشبهة، ويحصلُ العلوق به، فهذا حملٌ طرأ على الأقراء. وقد ذكر الأصحاب وجهين في أن العدتين هل تتداخلان من شخص واحد وما به الاعتداد مختلف: فمن أصحابنا من قال: تتداخلان كما لو كانتا متفقتين. ومنهم من قال: لا تتداخلان، لاختلافهما، والتداخل يليق بالمتفقات، والدليل عليه أن الحدود يجري التداخل في المتَّفقات منها دون المختلفات. فإن قلنا: بالتداخل وقد طرأ حملٌ على أقراء، أو طرأ وطء على زمان الحمل، فكما (2) وضعت انقضت العدتان من غير تفصيل: عدة الشبهة، وعدة النكاح، سواء كان الحمل من النكاح أو من وطء الشبهة، ثم له أن يراجعها في جميع مدة الحمل، فإن وضعت حملها، تخلت.

_ (1) هذا هو الوجه الثاني في الفرض من الوجهين الموعودين. (2) فكما: أي عندما.

9893 - وإن قلنا: لا تداخل مع اختلاف الجنس، فإن كان الحمل من النكاح، فعليها أن تعتد عن الشبهة بثلاثة أقراء، وللزوج الرجعة ما دامت الزوجة حاملاً، فإذا وضعت حملها، استقبلت ثلاثة أقراء ولا رجعة فيها؛ فإنها واقعةٌ عن وطء الشبهة على التمحّض. فإن كانت المسألة مفروضة في عدة البينونة، فللزوج تجديد النكاح في زمَان الحمل، وفي الأقراء الثلاثة بعده؛ لأنها بين أن تكون معتدة عن نكاح، وبين أن تكون معتدة عن وطء شبهة، ولا يمتنع تجديد النكاح في العدتين جميعاً. هذا إذا كان الحمل من النكاح ووطء الشبهة طارىء. فأما إذا كان الحمل عن وطء الشبهة والتفريع على أن العدتين لا تتداخلان، فكما علقت عن الوطء بالشبهة، انقطعت عدة الطلاق حتى إن كان مضى قُرء، فعلقت، فهي معتدة عن وطء الشبهة في مدة الحمل، فإذا وضعته عادت إلى الأقراء، واستكملت ما مضى: ثلاثة أقراء. هذا [تصوير] (1) العدتين من غير تداخل. ثم الحكم أن الزوج لو صبر حتى وضعت، فله أن يراجعها في بقية الأقراء بعد وضع الحمل؛ فإنها عِدّة الرجعة على التمحّض، ولو أراد مراجعتها وهي حامل، وقد بينا أنها في مدة الحمل في عدة الشبهة، فهل تصح المراجعة؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أن الرجعة لا تصح، وهذا ظاهر القياس، ووجهه أنها ليست في عدة الطلاق. والرجعةُ إنما ثبتت في عدة الطلاق الرجعي. والوجه الثاني - أن الرجعة تصح؛ لأن عليها بقيةً من عدة الرجعة، وهي ملتزمةٌ لها إذا وضعت حملها، فيكفي التزامها لذلك في إثبات الرجعة، وهذا الوجه على اشتهاره فيه [ضعف] (2).

_ (1) في الأصل: تصدير. (2) زيادة من المحقق على ضوء السياق، وعلى ضوء المعهود من أسلوب الإمام، حيث النسخة وحيدة، ولم تسعفنا (صفوة المذهب)؛ حيث لم تتعرض أصلاً لهذه الصورة، كما لم=

9894 - ولو فرضت هذه الصورة في عدة البينونة، فتجديد النكاح سائغ في الأحوال كلها لما قدمنا ذكره. ثم إن جرى ما وصفناه في عدة الرجعة، فإذا ارتجعها حيث يصح الارتجاع، فتنقطع العدة بطريان الرجعة؛ فإنه يستحيل أن تكون مرتجعة مردودة إلى النكاح وتكون معتدة عمن هي مردودة إليه. وكذلك إذا فرض تجديد النكاح والمسألة في عدة البينونة، فينقطع العدتان. 9895 - ومما نفرعه أن الحمل إذا كان عن وطء الشبهة، وهو طارىء على عدة الرجعة -والتفريع على انتفاء التداخل لمكان اختلاف الجنس- فلو سئلنا عن لحوق الطلاق، وهي في مدة الحمل، أو عن جريان التوارث، لو فرض الموت في هذه الحالة، أو سئلنا عن الظهار الموجه عليها، فهذا كله يخرّج على الخلاف الذي قدمناه في أن الرجعة هل تصح في مدة الحمل المترتب على وطء الشبهة، فإن جوزنا الرجعة، لحقها الطلاق، وكان الإيلاء والظهار بمثابة رجعتها، وإن لم [نصحّح] (1) الرجعة، لم يلحقها الطلاق، ولغا لفظ الظهار والإيلاء. وكل ما ذكرناه فيه إذا طرأ الحمل على الأقراء، أو طرأ الوطء على الحمل الكائن في النكاح، والشخص واحد، ولم تر الدم على مدة الحمل. 9896 - فلو طلقها وهي حامل، ثم وطئها، والتفريع على ألا تداخل، فلو رأت

_ =تتعرض (الغاية في اختصار النهاية) لها أيضاًَ. وعند مراجعتنا لكتب المذهب وجدنا الرافعي والنووي يحكمان على هذا الوجه بأنه الأصح. فهل هذا موضع من مواضع مخالفة إمام الحرمين للأصحاب -على ندرة ذلك-؟ أم أن تقديرنا للكلمة الساقطة غير صحيح؟ ربما جعلنا نطمئن إلى اختيارنا للكلمة وحُكْمنا على هذا الوجه بالضعف، أن الإمام الغزالي في الوسيط ذكر الوجهين بدون ترجيح، فهل في هذا ما يشير إلى صحة اختيارنا؟ ربّما. (ر. الشرح الكبير: 9/ 459، والروضة: 8/ 385، والوسيط: 6/ 137). (1) في الأصل: تصح.

الدم على ترتيب الحيض في مدة الحمل، فإن قلنا: الحامل لا تحيض، فلا حكم لما رأت. وإن قلنا: الحامل تحيض، فإذا رأت ثلاثة أقراء في مدة الحمل، فقد قال أبو حامد في هذه الأقراء: تحتسب عن عدة الشبهة، والسبب فيه أنا لا نثنِّي العدة، ولا ننفي التداخل والشخص واحد إلا لرعاية التعبد المحض، فإذا جرت صورةُ الأقراء في مدة الحمل، فينبغي أن يقع الاكتفاء بما نراه من صور أدوار الحيض والطهر، فإذا وضعت حملَها، فقد اجتمع وَضْعُ الحمل وصُورةُ الأقراء، وهذا ما كنا نطلبه. وصحح القاضي هذا الوجه ولم يحك غيره. وكان شيخي أبو محمد يقطع بأن صور الأطهار التي رأتها في زمان الحمل لا مبالاة بها أصلاً، ووجودُها كعدمها، وكان يقول: الأقراء الموضوعة عدةً هي التي يمكن أن يقال فيها: إنها تدلّ على براءة الرّحم، فإنها في وضع الشرع أُثبتت استبراءً، ثم اطّرد ثبوتها مع يقين البراءة؛ حسماً للباب، وهذا كابتناء عدة الطلاق على الوطء؛ فإنه على الجملة شاغل الرحم، ثم لا التفات على آحاد الصور. وهذا الذي ذكره حسن بالغ، والدليل عليه أن الزوج إذا وطئها بشبهة، وقد كانت حاملاً عند الطلاق، فلو كنا نكتفي بصورة الأطهار، لكنا نكتفي ببقية الحمل، إذا لم تر دماً؛ فإن الوطء جرى وهي حامل، وليست من ذوات الأقراء إذ ذاك إذا كانت لا ترى دماً. فإذا كنا نقول: إذا وضعت، استقبلت الأقراء؛ لأنها سترى الأقراء بعد الوضع، فلأن نقول: لا يقع الاعتداد بصور الأطهار، مع قيام الحمل أولى؛ فإنها تكون جاريةً في عدتين معاً، ولكن إن التزمنا التعديد، فلا ينبغي أن نخالف هذا الأصل. وكل ما ذكرناه تفصيل القول فيه إذا كانت العدتان عن شخص واحد. 9897 - فأما إذا كانت العدتان من شخصين، فلا يخلو إما أن تكونا متفقتين أو مختلفتين. فإن كانتا متفقتين، مثل أن تكونا بالأقراء، أو بالأشهر، فلا يخلو والحالة هذه:

إما أن تسبق عدةُ الزوج، وإما أن تسبق عدة الوطء بالشبهة. فإن سبقت عدة الزوج بأن طلقها فاستقبلت الأقراء، ثم وطئها واطىء بشبهة، فالبداية بعدة الزوج؛ فتستكمل عدة الزوج ثلاثة أقراء، ثم تبتدىء وتخوض في عدة الشبهة. فإن كانت رجعية، فللزوج مراجعتها في عدة النكاح. ثم كما (1) يراجعها تنقطع عدة النكاح، وتخوضُ في عدة الواطىء بالشبهة. ولو كانت في عدة البينونة والصورة كما ذكرناه، فهل للزوج أن يجدد عليها النكاح في عدة النكاح؟ فعلى وجهين: أحدهما - للزوج ذلك، كما له أن يراجعها في عدة الرجعة. والثاني - ليس له ذلك؛ فإنه لو نكحها، لكانت محظورة عليه من كل وجه، ووضع النكاح ينافي إيرادَه على محرّمة من كل وجه، مع إمكان الاستمتاع حساً، وهذا القائل يقول: الرجعية في هذا المقام بمثابة ارتجاع المحرّمة، وهو جائز، والنكاح بمثابة نكاح المحرّمة، وهو محرم ممتنع. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت عدة الزوج أسبق. فأما إذا كانت عدة الواطىء بالشبهة أسبق [كأن] (2) وطئها في صلب النكاح، وشرعت في عدة الشبهة، ثم طلقها الزوج، والاعتداد بالأقراء ولا حمل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تبدأ بعدة الزوج، لقوة النكاح، فعلى هذا تعتد عن الزوج بعد الطلاق بثلاثة أقراء، ثم تستكمل عدة الواطىء بالشبهة: فإن كان مضى قُرء في النكاح قبل الطلاق، تربصت قرأين. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أنها تستكمل عدة الشبهة بحق السبق، ثم تستأنف العدة عن الزوج بعد انقضاء عدة الشبهة.

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) في الأصل: كأنه.

التفريع: 9898 - إن حكمنا بأنها تبتدىء عدة الزوج كما (1) طلقها، فإن كان الطلاق رجعياً، ملك رجعتها، في عدة الطلاق، ثم تنقطع العدة عن الزوج بالرجعة، وتعود إلى عدة الواطىء بالشبهة، فتكملها بعد الرجعة. وإن كانت هذه المسألة مفروضة في عدة البينونة، فهل ينكحها؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما من قبل. وإن فرعنا على أنها تستكمل عدة الشبهة، لحقِّ السبق، ثم تستأنف الاعتداد عن الزوج، فعلى هذا لا يخلو الطلاق إما أن يكون رجعياً وإما أن يكون بائناً: فإن كان الطلاق رجعياً، فلو تركها حتى تستكمل عدة الشبهة، وعادت إلى عدة النكاح، فيرتجعها في عدة النكاح، وإن ارتجعها وهي في استكمال عدة الشبهة، فهل تصح الرجعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تصح الرجعة؛ لأنها ليست في عدة النكاح. والثاني - تصح؛ لأنها ملتزمة لعدة الرجعة، فهي بسبب الالتزام على عُلقة بيّنة من الرجعة. هذا إذا كان الطلاق رجعياً. فإن كان بائناً والتفريع على تقديم عدة الشبهة بحقّ السبق، فإن تركها حتى انقضت عليها عدة الشبهة، ثم أراد تجديد النكاح عليها، فله ذلك. ولو أراد تجديد النكاح عليها قبل انقضاء عدة الشبهة، لم يجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن النكاح لو أنشأه مُصادفَ عدة الغير، فلا سبيل إلى تصحيحه. وبيانه أنا لو قدرنا صحة النكاح لما انقطعت هذه العدة، ومن المستحيل أن ينعقد نكاحٌ في عدةٍ والنكاح لا يقطعها. وجميع ما ذكرناه فيه إذا كانت العدتان متفقتين: كانتا بالأقراء [أو] (2) بالأشهر. 9899 - فأما إذا كانتا مختلفتين، فالوجه فرض اختلافهما في الحمل والأقراء.

_ (1) كما: بمعنى عندما. (وقد تكرر ذلك كثيراً، ولكن نضطر لذلك أحياناً خشية الإيهام في العبارة). (2) زيادة اقتضاها السياق.

أما إذا كانت عدة النكاح بالحمل، وعدة الوطء بالشبهة بالأقراء، أو كان الأمر على العكس، فلا شك أن العدتين لا تتداخلان، كيف وقد ذكرنا أنهما لا تتداخلان مع اتفاقهما، والاختلاف يؤكد منعَ التداخل. ثم الذي نصدّر الفصل به أن الحمل مقدّم على الأقراء، سواء كان من النكاح أو من الوطء، وسواء قُدِّر سابقاً أو قدر لاحقاً، بعد الخوض في الأقراء؛ فإن الحمل لا مدفع له، والاعتداد به يقع عمن منه الحمل لا محالة، فلا يبقى للتقدم والتأخر في ذلك موقع. ثم الصور تستوعب الغرض: فإن كان الحمل من الزوج [كأن] (1) طلقها وهي حامل، فوُطِئت بالشبهة، فالجواب أنها إذا وضعت حملها، استقبلت الأقراء على الواطىء بالشبهة. ثم إن كانت رجعية، فيرتجعها الزوج في زمان الحمل، فإنها معتدةٌ عنه، ثم إذا راجعها وهي حامل، فهل يحل له وطؤها قبل وضع الحمل؟ تردد المحققون في هذا، فصار صائرون إلى الحِلّ؛ لأن الرجعة وقعت وهي بعدُ لم تَخُض في عدة الشبهة؛ فإنها إنما تخوض في عدة الشبهة إذا وضعت حملها، فلا مانع من الحِلِّ في الحال. ومن أصحابنا من قال: هي محرّمة؛ فإنها، وإن لم تكن في عدة الشبهة، فهي على عُلْقة عظيمة، من عدة الشبهة؛ من حيث إنها ستستقبلها، ولو أحللناها لتوالى وطآن، وهذه صورة لا يستحسنها الشرع، والتردد الذي ذكرناه في حِلِّ الوطء يجري في صلب النكاح [مثله] (2) إذا كانت المرأة حاملاً من زوجها، فوطئها واطىءٌ بالشبهة، فعدة الواطىء لا تنقضي بوضع حمل الزوج، ولكنها إذا وضعت تخوض في العدة بعد الوضع، فهل يستحل الزوج وطأها ما دامت حاملاً؟ فعلى التردد الذي ذكرناه. هذا الخلاف في الحِلّ يقرب بعضَ القرب منه إذا كانت في عدة الشبهة، وكانت

_ (1) في الأصل: كأنه. (2) في الأصل: منه.

بحيث ستعود إلى عدة الرّجعة، فهل يصح من الزوج رجعتُها بناء على عُلقة عدة الرجعة؟ فيه الخلاف المقدم: فإن قلنا: يرتجعها، لأنها ستعود إلى عدة الرجعة، [فلا يستحلّ] (1) هاهنا وطأها؛ نظراً إلى انتظار عودها إلى عدة الشبهة؛ وإذا كنا ننتظر عودها إلى عدة الشبهة، فكأنها الآن في عدة الشبهة. وإن قلنا: لا يحل رجعتُها إذا كانت ستعود إلى عدة الرجعة، نظراً إلى الحال، فعلى هذا نقول: الحامل ليست في عدة الشبهة من الحال، فيحل وطؤها. ومأخذ الكلام في تحليلِ الوطء وتصحيحِ الرجعة يؤول إلى أنا نعتبر الحال أو نعتبر ما يُفضي المآل إليه؟ وفيه الخلاف الذي ذكرناه. 9900 - وإذا كانت حاملاً عن الزوج والعدةُ بالحمل مصروفةٌ إليه، فإذا وطئها واطىء بشبهة، فرأت على الحمل ثلاثة أقراء على الترتيب المستقيم، والتفريع على أن الحامل تحيض، فقد قال القاضي: قياس ما ذكره الشيخ أبو حامد: أنها إذا وضعت حملها، وقد انقضى في زمان الحمل ثلاثةُ أقراء، فنقضي بانقضاء العدتين، كما إذا كانت العدتان من شخص واحد، والتفريع على أنهما لا يتداخلان إذا اختلف الجنسان. وهذا في نهاية البعد عندنا؛ فإن احتباس المرأة في زمنٍ واحد في عدة رجلين لا يلائم مذهب الشافعي، وفي أصل هذا المذهب من البعد ما نبهنا عليه، من أن الأقراء في وضع الشرع، إنما يقع الاعتداد بها إذا كانت دالّةً على براءة الرحم، فأما ما يُصادَف منها في حالة قيام الحمل، فليست على حكم القرء الشرعي المعتد به. هذا إذا كان الحمل من الزوج. فأما إذا كان الحمل من الواطىء بالشبهة، فلا شك أن الاعتداد عنه [يتقدّم] (2)، فإذا جرى الوطء في صلب النكاح، وفُرض العلوق عن الوطء بالشبهة، ثم طلقها الزوج، وهي حامل عن الواطىء بالشبهة، فالعدة عن الواطىء بالشبهة

_ (1) في الأصل: فلا يستحيل. (2) في الأصل: " تقدم ".

[تتقدم] (1)، فإذا وضعت، استقبلت العدة عن الزوج بالأقراء. ثم إن كان الطلاق رجعياً، فهل يرتجعها في مدة الحمل؟ فعلى الوجهين المقدمين؛ فإنها في الحال ليست في عدة الطلاق، ولكنها ستصير إليها إذا وضعت، وقد تمهد الخلاف في مثل ذلك. فإن كان الطلاق بائناً (2)، فالزوج لا يملك نكاحها؛ فإنها في عدة الواطىء بالشبهة، فالعدة تمنع ابتداءَ النكاح عن غير مَنْ منه العدة، والمعتبر فيه أن كل عدة لو فرض فيها نكاح لم تنقطع العدة، فالنكاح لا يصح. والواطىء بالشبهة لو أراد أن ينكحها وهي حامل، نظر: فإن كان الطلاق رجعياً، لم يجز، فإنها في حكم الزوجات، وطريان هذه العدة عن الواطىء بمثابة طريان عدته في صلب النكاح، فإذا وطىء واطىءٌ بشبهة زوجة إنسان، فالعدة تمضي والنكاحُ مستمر، كذلك عدة الشبهة في حق الرجعية لا تخرجها عن عُلقة الزوجية، فيستحيل من الواطىء أن ينكحها. 9901 - ولو كان الطلاق بائناً، فأراد الواطىء أن ينكحها في عدة نفسه، فهذا على الخلاف، فإن الزوجية زالت بالبينونة، وهي الآن في عدة الواطىء؛ لأنها حامل عنه، لكنها ستعود إلى عدة الزوج إذا وضعت، وهذا يناظر ما لو كانت في عدة الزوج، ومصيرها إلى عدة الشبهة. فلو أراد الزوج أن يجدد نكاحها، ففي تجويز ذلك خلاف قدمناه، فلا فرق بعد البينونة بين الزوج والواطىء بالشبهة في الترتيب الذي ذكرناه، فمن نكح منهما وهي في عدة غيره، فنكاحه مردود، ومن نكح منهما وهي في عدة الناكح، ولكنها ستصير إلى عدة الآخر، ففي صحة النكاح وجهان: أحدهما - المنع. والثاني - الصحة.

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام. (2) كأن كان على مال.

وهذا إذا كان مفروضاً في الحمل يحوج إلى مزيد تأنق في الترتيب، وذلك أنا نقول: إن كان الحمل من الزوج، والطلاق رجعي، فقد ذكرنا أن الرجعة تصح، وإن كانت ستصير إلى عدة الشبهة، ولكن عدة الشبهة لا تثبت ما لم تضع الحمل، وهل يحل للزوج وطؤها قبل وضع الحمل؟ فعلى وجهين. فإذا تبين هذا، عدنا إلى ترتيب النكاح، فلو كان الطلاق بائناً، نظرنا: فإن كان الحمل من الزوج والطلاق بائن، فهل ينكحها؟ إن قلنا: لو ارتجعها والطلاق رجعي لا يحل له [وطؤها] (1) في مدة الحمل، فإذا نكحها والطلاق بائن، ففي المسألة الوجهان؛ فإن النكاح لا يستعقب حِلاً بوجه، هذا هو الذي أوجب تخريج الخلاف. وإن قلنا: لو ارتجعها، لاستحلها، فهل يجدِّد النكاحَ؟ هذا يترتب على ما إذا قلنا: إنها تحرم في مدة الحمل، فإن قلنا ثَمّ: يصح النكاح، فلأن يصح النكاح هاهنا أولى. وإن قلنا ثَمّ: لا يصح، فهاهنا وجهان، والفرق أنا لو قدرنا صحةَ النكاح، لاستعقب النكاح حلاً؛ تفريعاً على ما انتهينا إليه. فإن قيل: ما وجه فساد النكاح إذا كان يستعقب حلاً؟ قلنا: إنها ستصير إلى عدة الشبهة، وهذا فيه ضعف؛ فإن مصيرها إلى عدة الشبهة إذا لم يُوجب تحريمها في الحال ينبغي أن لا يمنع نكاحها. ثم إذا صارت إلى عدة الشبهة، فهذه عدة طارئة على النكاح. ولو طلق زوجته واستفتحت الأقراء، ثم وُطئت بالشبهة بعد مضي قرء، وعلقت عن الواطىء بالشبهة، فعدة النكاح تنقطع لا محالة، وتصير معتدة عن الواطىء بالشبهة، ثم إذا وضعت الحمل، بَنَت على ما مضى قبل العلوق، فتستكمل عدة الزوجية بقرأين، وليس المعنيُّ بانقطاع العدة إحباطَ ما مضى، ولكن المراد الانقطاعُ مع الاحتساب بما مضى.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

هذا تفصيل القول فيه إذا كانت العدتان من شخصين، وكانتا مختلفتين إحداهما بالحمل والأخرى بالأقراء. 9902 - وقد تمهد من أصل الشافعي أن العدتين لا تتداخلان [إلا] (1) من شخصٍ واحد، وقد نص الشافعي في التعريض بالخِطبة على أن الحربيّ إذا طلق زوجته، فنكحها حربيّ [آخر] (2)، ثم طلقها، فلا يجمع عليها بين عدتين. وقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال في المسألة قولان: أحدهما - أنهما لا يتداخلان من الحربيين، كما لا يتداخلان من المسلمَيْن؛ فإن لعدة الكفر حكماً لا ينكر، والدليل عليه أن الكافر إذا نكح كافرة في العدة ثم أسلما -والعدة باقية - فنحكم بفساد ذلك النكاح، إذا أدركت العدةُ زمانَ الإسلام؛ فإذا ثبت أصل اعتبار العدة، فلا وجه للفرق بين المسلمَيْن والكافِرَيْن في امتناع تداخل العدتين. والقول الثاني - أن العدتين تتداخلان من الحربيين؛ فإنه لا يثبت لهما من تأكد الحرمة ما يثبت للمسلمين، وأصل العدة مرعيٌّ والكفار في حكم الشخص الواحد. وهذا غير سديد، والأصح في القياس إذا سلكنا طريقةَ القولين، القول الأول، وعليه جرى الشيخ أبو بكر الأَوْدَني في المناظرة، فإنه أُلزم مسألةَ العدتين من الحربيين، فارتكب (3) وقضى بأنهما لا يتداخلان. ومن أصحابنا من قال: إذا نكحت الحربية حربياً وألم بها، انقطعت عدة الأول باستيلاء الثاني، وأملاك الحربيين وحقوقُهم عرضةٌ للسقوط بالاستيلاء، ولو قهر حربي حربية، وكانت زوجة لحربي، فإنه يصير بالقهر مسترقاً للحربية، ويرتفع النكاح، فإذا كان النكاح يرتفع، فلا يبعد أن تنقطع العدة انقطاعاً لا يعود، فهذا إذاً قَطْعٌ للعدةِ الأولى، وليس من تداخل العدتين في شيء.

_ (1) سقطت من الأصل، ولا يستقيم الكلام إلا بها. (2) زيادة لإيضاح الكلام. (3) ارتكب: هذا اللفظ استخدمه الإمام أكثر من مرة، ولم أجده مفسَّراً في مظانه من مجموعات وكتب المصطلحات الخاصة بالجدل والمنطق والفلسفة، والذي يتضح من السياق أن معناه هو "التعسف واللجوء إلى الوجه الذي لا أصل له فراراً من إلزامه أمراً آخر" والله أعلم.

وقد انتجز القول في تداخل العدتين من رجل واحد، ومن رجلين، ثم تكميل الكلام يستدعي ما نذكره الآن. 9903 - فنقول إذا أتت المرأة بولد لستة أشهر، فصاعداً، ولدون أربع سنين من يوم الفراق، وأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من يوم الوطء، فالولد يلحق بالزوج [وينتفي] (1) عن الواطىء. ولو أتت بالولد لأكثرَ من أربع سنين من يوم الطلاق، ولستة أشهر من يوم الوطء، فهو ملحق بالثاني. وإن أتت به لأقلَّ من أربع سنين من يوم الطلاق، ولستة أشهر فصاعداً من يوم وطء الشبهة، فيحتمل أن يكون العلوق بهذا المولود من الأول، ويحتمل أن يكون من الثاني. فإذا أشكل الأمر، فهذا [أوان القائف] (2) فنريه معهما القائفَ، ونلحقه بمن يُلحقه القائفُ به، والقول فيما يعتمده القائف، وفي إلحاقه وصوابِ منطقه وخطئه يأتي مستقصىً في آخر الدعاوى، إن شاء الله. وقد ذكر الأصحاب طرفاً صالحاً من الكلام في القائف هاهنا، فرأيت تأخيره إلى موضعه -إن شاء الله- ونذكر ما يتعلق بأمر العِدة، ونقتصر عليه فنقول: إذا تردد المولود كما وصفناه، وأَرَيْنا الولد القائفَ: فإن ألحقه بالزوج، فعدته تنقضي بوضع الحمل، والمعتبر في عدة الواطىء بالشبهة الأقراء. وإن ألحقه بالواطىء بالشبهة، فالمعتبر في عدة الزوج الأقراء. ومضى تفصيل الكلام في كل صورة من هاتين الصورتين: أوضحنا ما إذا كان الولدُ منه -نعني الزوج- وبيّنا حكم الرجعة، وتجديدَ النكاح في عدتي الرجعة والبينونة، وذكرنا الحكم في نقيض ذلك، فلا حاجة إلى الإعادة. 9904 - وإن تردد المولود بينهما، ولم نجد بياناً من القائف، وذلك بأن يُشكل

_ (1) في الأصل: يلحق بالزوج منتفي عن الواطىء. (2) في الأصل: أمان القائف.

الأمر عليه أو بأن يلحقه بهما، أو لا نجد قائفاً، فالصورة مشكلةٌ في أمر النسب، وسيأتي حكم الإشكال في مقتضى النسب. 9905 - وأما حكم العِدّة -والنسبُ مشكلٌ- كما ذكرناه- نقدّم (1) على هذا أصلاً مقصوداً في نفسه، رتبه العراقيون، والشيخُ أبو علي رضي الله عنه. ثم نرجع إلى المسألة التي نحن فيها، وإن أحببنا ذكرناها في أثناء الترتيب، فنقول: إذا وطىء أجنبي المعتدة عن الزوج بشبهة، ولزمتها عدتان، فلو أتت بولد لزمان لا يحتمل أن يكون من الأول، ولا من الثاني، وذلك بأن تأتي به كثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوطء بالشبهة، فإذا وضعت مثلَ هذا الحملَ، فهل تنقضي بوضعه عدةٌ؟ قال العراقيون: من أصحابنا من قال: لا تنقضي بوضع هذا الحمل، لا عدةُ الزوج، ولا عدةُ الواطىء بالشبهة؛ فإن من أصلنا أن وضع الحمل إنما يوجب انقضاء عدة مَن الحملُ منه، وهذا الحمل ليس ملتحقاً بالأول ولا بالثاني، فلو حكمنا بانقضاء عدة واحدة منهما على التعيين، لكان ذلك باطلاً، من وجهين: أحدهما - أن الحكم بالانقضاء مقتضاه التحاق الولدِ الموضوعِ بمن حكمنا بانقضاء عدته، والثاني - أن تعيين أحدِهما تحكُّم. والوجه الثاني - حكَوْه عن الشيخ أبي حامد، وهو أن عدة أحدِهما تنقضي لا بعينه وتعتد بالأقراء عن أحدهما. ثم رتَّب الشيخ أبو حامد ترتيباً حسناً، ذكره الشيخ أبو علي واستحسنه، وذلك أنه قال: الولد الذي لا يُحتمل لحوقُه بالزوج أصلاً لا تنقضي العدة به، وهو مثل أن تأتي زوجة الصبي، وهو ابن ثمان بولد، فلا تنقضي عدتها عنه بوضع ذلك المولود، ولو أتت المرأة بولد نسبُه ملتحق لو لم يفرض نفيه باللعان، ولكن نفاه الزوج،

_ (1) جواب أما (بدون الفاء).

[والْتعن] (1) على نفيه، فالنسب منتفٍ، والعدة تنقضي بوضعه، اتفق الأصحاب عليه؛ فإن النسب وإن انتفى باللعان، فلحوقه ممكن، وأمر انقضاء العدة يتعلق بالإمكان والرجوع فيه إلى قول المرأة، [ولئن] (2) نفينا الولد لأجل اللعان، لم نرفع الحكم بانقضاء العدة عند ظهور الاحتمال. ولو أتت المرأة بولد حكمه أن ينتفي بلا لعان ولكن يحتمل أن يكون من الزوج مع قضائنا بانتفائه من غير لعان، وذلك بأن يطلق الرجل زوجته [طلقة] (3) مبينة، فتأتي بالولد لأكثرَ من أربع سنين من وقت الطلاق المبين، فهذا ولد لا يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح؛ فلأجل هذا ينتفي عن الزوج بلا لعان؛ فإنه إنما يلحق النسبُ الذي يُحتَمل تقديرُ علوقه من النكاح، فعند ذلك يُلحِقُ الفراشُ النسبَ بصاحب الفراش، فلا ينتفي عنه من غير لعان. فأما إذا زال إمكانُ العلوق في النكاح، فالولد ينتفي من غير لعان، ولكن الإمكان غيرُ زائل بالكلية؛ إذ من الممكن تقدير وطءٍ من الزوج بالشبهة بعد الطلاق المبين، ولو فرض ذلك، لكان النسب لاحقاً، ثم تنقضي العدتان على المذهب الصحيح بوضع الحمل، على التقدير الذى ذكرناه. 9906 - فإذا تصُورت المسألة، فالذي ذكره الشيخ أبو حامد أن العدة تنقضي في هذه الصورة من الزوج لما ذكرناه من الاحتمال، [وإن كان] (4) النسب منتفياً من غير لعان. والتعليل ما ذكرناه من الاحتمال، وحققنا أن انقضاء العدة يعتمد الاحتمال، فالولد المنتفي بلا لعان إذا تطرق إليه احتمال العلوق كالولد المنفي باللعان؛ فإنهما جميعاًً منتفيان، والاحتمال شامل للمسألتين.

_ (1) في الأصل: والنفي على نفيه. (2) في الأصل: فلأن. (3) في الأصل: طلقتم. (4) في الأصل: فإن كان.

وإنما افترقت المسألتان في [السبب] (1) الذي حصل الانتفاء به؛ فإنه حصل في أحدهما باللعان، وفي الأخرى بأمرٍ متعلق بالزمان، والذي يحقق الجمع بينهما أن الملاعن لو استلحق الولد بعد نفيه، للحقه، والذي أتت زوجته المطلقة بالولد لأكثر من أربع سنين لو استلحق الولد بتقدير الوطء بالشبهة بعد الطلاق، للحقه الولد، فهما جميعاًً منفيان معرّضان للّحوق في المسألتين، وليس كما لو أتت امرأة ابن ثمان بولد؛ فإنه لا يتعرض للّحوق قط، فهو الذي لا تنقضي العدة بوضعه. وإذا تردد الأمر بين عدّتين، وأشكل مع نفينا الولدَ عن كل واحد منهما، وذلك بأن تأتي بالولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلّ من ستة أشهر من وقت الوطء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا تنقضي عدة واحد منهما؛ فإن النسب منفيٌّ عنهما، وليس أحدهما أولى بتقدير الاستلحاق من الثاني، والحكم بالانقضاء على الإبهام غير متّجه. والوجه الثاني -وهو اختيار الشيخ أبي حامد- أنه تنقضي عدة أحدهما لا بعينه، وهذا اختياره، وهو الصحيح عند أئمة المذهب؛ فإن المعتمد في انقضاء العدة الاحتمال وهو متحقق في حق كل واحد منهما، وجهه في الزوج تقدير وطءٍ بعد الطلاق، ووجهه في الواطىء تقدير وطء قبل الوطء الذي ظهر لنا، ولكن يتصور الالتحاق بهما جميعاًً فيبهم الأمر ويُقضى بانقضاء إحدى العدتين، ونأمرها بأن تتربص ثلاثة أقراء، فيقع الاعتداد بها عن أحدهما، وإذا فرغت عن الوضع والتربص، فقد تخلّت عن العدتين. هذا هو الترتيب الحسن البالغ. 9907 - ومن أصحابنا من قال: إذا أتت المطلّقة بولدٍ بعد الطلاق لزمانٍ لا يحتمل أن يكون العلوق به من صلب النكاح، ووقع القضاء بانتفائه من غير لعان، فلا تنقضي العدة بوضعه أيضاً، وهذا يضاهي أحد الوجهين فيه إذا تردد الولد بين الرجلين، والفرق بين صورة التردد وبين هذه الصورة عسرٌ، وهذا القائل يقول: إنما تنقضي

_ (1) في الأصل: النسب.

العدة بوضع ولد لاحقٍ أو بوضع ولد يلحق لولا اللعان، فأما الولد الذي ينتفي من غير حاجة إلى النفي، فلا تنقضي العدة بوضعه. وهذا وإن أمكن توجيهه، فالفقه ما ذكره الشيخ أبو حامد. فإذا تبين هذا، ألحقنا به (1) أن الولد المتردد بين الزوج والواطىء إذا التحق بالقيافة بأحدهما، فلا حكم للاحتمال في حق الثاني، بل كما يلحق الولد بمن ألحقه القائف به فكذلك يُعيّن ذلك الشخص، ونقول: تنقضي العدة عنه، فإذا قيل لنا: الاحتمال قائم في حق (2) 9908 - ولو لم نجد قائفاً، أو وجدناه ولم يبيّن، فالوجه أنه تنقضي عدة أحدهما بوضعه (3)، لا بعينه؛ لأنها أتت به لزمان الإمكان منهما. وقد ذكرنا أنها لو أتت به بحيث يحتمل أن يكون من النكاح [ويحتمل] (4) أن يكون من وطء الشبهة أنه تنقضي عدة أحدهما لا بعينه بوضعه، وإن انتفى نسبه عنهما، فمع احتمال أن يكون من كل واحد منهما وجب الحكم بانقضاء إحدى العدّتين. وإذا أشكل أمر الولد وأمر العدّة [ولم] (5) يمكن جعل العدة بالحمل من الزوج؛ فإن كان الطلاق رجعياً، فارتجعها في الحمل، فنبني على أن الحمل لو كان من الوطء، وقد طرأ على الأقراء، ففي صحة الرجعة -بناء على أنه ستعود إلى عدة الرجعة

_ (1) ألحقنا به أي بالبيان الذي بيّناه. (وفي الأصل: ألحقناه به). (2) هنا سقطٌ قدره لوحتان من المخطوط، وهو نسخة وحيدة للأسف، وهاتان اللوحتان موجودتان، ولكن ذهب بالكتابة فيهما ما ذهب، فلم يبق إلا خيال لبعض العبارات في أطراف الصفحات. وسنضع مكان هذا الذي ذهب مختصر ابن أبي عصرون، فهو يأتي بألفاظ الإمام تقريباً، وطريقته أنه يترك بعض التفاصيل في الشرح، وبعض الكلمات، ويحافظ بعد ذلك على ألفاظ الإمام، ولا نجد له إلا ألفاظاً يربط بها بين الجمل، مع شيء من التقديم والتأخير، ونادراً إبدال لفظ مكان لفظ. (3) بوضعه: أي الحمل. (4) في الأصل: ولا يحتمل. (5) في الأصل: لم (بدون الواو).

- خلاف، فإن قلنا: تصح الرجعة، والحمل للواطىء بالشبهة (1) فإذا أشكل، وارتجع، صحت الرجعة؛ لأن الحمل إن كان من الزوج، فقد ارتجع في عدته، وإن كان من الوطء، فيصح، بناءً على أن مصيرها إلى عدة الرجعة بوضع الحمل. وإن قلنا: لا يصح إذا تعين الحمل للواطىء بالشبهة، فإذا أشكل، لم نحكم بصحة الرجعة لاحتمال أن الحمل لغير الزوج، فإن أراد تصحيح الرجعة، فالوجه أن يراجعها مرتين مرة في الحمل، ومرة في الأقراء بعد الوضع؛ لأنه قد أتى برجعة صحيحة في عدته، ولو اقتصر على رجعة في أحد الحالين، لم يصح. ولو كان الطلاق بائناً، فجدد نكاحها في مدة الحمل، لم يصح؛ لجواز وقوعه في عدة الشبهة، وكذا لو نكحها في الأقراء بعد الوضع، ولو نكحها مرة في زمان الحمل، ومرّة في مدة الأقراء، فقد وقع أحد النكاحين في عدة منسوبة إليه، ولكن لم يتعين النكاح الصحيح، ففيها وجهان: أحدها - يصح نكاحٌ غير متعيّن، كالرجعة غير متعينة. والثاني - لا يصح نكاح -على إبهام أمرهما- موقوف، والنكاح لا يوقف ابتداؤه، والرجعة تقبل ما لا يقبله النكاح، ولذلك لا تصح رجعة المحرمة، وتصح الرجعة من المحرم، ولا يصح نكاح المحرم ولا المحرمة، وفي وجهٍ بعيد لا يصح الرجعة مع الإحرام كما لا يصح النكاح. 9909 - وأما النفقة؛ فإذا كان الطلاق مبيناً، والحمل يتردد بين الزوج والواطىء، فالنفقة واجبة؛ لأن البائنة تستحق النفقة مع الحمل، ولو كان الحمل من الواطىء، ففي وجوب النفقة عليه قولان، ومع الإشكال لا يطالب بها واحدٌ منهما قبل الوضع، لاحتمال أنه (1) من الشبهة، فإذا وضعت، وألحقه القافة بالزوج، أو انتسب المولود إليه بعد البلوغ، فعلى الزوج نفقة زمان الحمل، وإن ألحقه بالواطىء بالشبهة، ففي وجوبها عليه القولان، ولا تسقط النفقة بمضي الزمان، وإن أوجبناها على الزوج، وقلنا: تجب للحمل، فهو كإيجابها على الواطىء، وإن قلنا: للحامل، لم تسقط عنه.

_ (1) الرقم هنا لمختصر ابن أبي عصرون.

ولو نكحت المعتدة غالطةً نكاح شبهة، فلا نفقة لها؛ لأنها كالناشزة، وقد ثبت النشوز مع الجهل به. فصل 9910 - المطلقة الرجعية إذا وطئها أجنبي بشبهة، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فارتجعها في مدة الحمل، ثم وضعته، وألحقته القافة بالشبهة، ففيها (1) وجهان، والأولى القطع بصحتها، لأنا إن نظرنا إلى التبين (2) فتصح، والنظر إلى التردد حالة الارتجاع لا أصل له، والأولى استصحاب عدة الطلاق. نعم، في تجديد نكاحها خلاف يقرب ويتجه، وقد قدرنا فرض رجعتين إحداهما في الحمل والأخرى في الأقراء، والمذهب تصحيح الرجعة، وذكرنا في إيقاع النكاحين مرتبين وجهين. فصل 9911 - صح النقل عن الأصحاب أن الزوج إذا طلق زوجته ثم كان يعاشرها معاشرة الأزواج، فلا تنقضي العدة. وقال المحققون: هذا خارج عن القياس؛ فإن العدة انقضاء زمان، ثم على المرأة تعبدات محتومة في العدة أولاها بالمراعاة التربص، وترك التبرج، والانعزال عمن كان زوجها، وقد يتعلق بها الإحداد، ثم لو تركت جميع (3) ذلك، وانقضى الزمان، نحكم بانقضاء عدتها. هذا هو القياس، ولا يعرف فيها خلاف أنها لو كانت تخالط الرجال الأجانب تنقضي عدتها، وإن أثمت. والمنقول لم يوجد نصاً للشافعي في شيء من كتبه.

_ (1) فَفِيها: أي في الرجعة. (2) أي تبينا بعد الوضع وإلحاق القافة أنه راجعها في عدة الحمل من وطء الشبهة. (3) الرقم هنا لصفحات مختصر ابن أبي عصرون.

قال القاضي: لم يفرق الأصحاب فيما ذكروه بين البائنة والرجعية، وأرى الفرق بينهما، فأقول: مخالطة البائنة لا أثر لها في المنع من انقضاء العدة، لانقطاع علائق النكاح، فالمطلق أجنبي. والرجعيةُ إذا خالطها مخالطة الأزواج، فيجوز ألا تنقضي العدة؛ لأنها في حكم الزوجات، وهي زوجة بخمس آيات من كتاب الله تعالى، ولا يعتد بالعدة في صلب النكاح الذي منه تعتد، والقياس ألا تعتد إلا بائنة، وعدة الرجعية مع بقاء أحكام من الزوجية مشكل، فيشترط لها الاعتزال. وهذا حسن، [والاحتمال] (1) قائم؛ لأن طلاقها أعقب الاعتداد، وأثبت التحريم، فوجب أن تعتد بمضي الزمان، وما ذُكر من المخالطة مبهم، ولم يريدوا به الوطء، بل على [زعمهم] (2) يكفي أن يخلو بها، ولا يكفي دخول دار هي فيها من غير خلوة، ولو مضى من العدة شيء، ثم اتفقت خلوة واحدة، لم ينقطع ما مضى، ويمتنع الاحتساب بزمان الخلوة. ولو كان يخلو بها ليلاً، ويفارقها نهاراً، فينزل على المعتاد من معاشرة الزوجات، وليس بمعتاد امتداد الخلوة بالزوجات، فالزمان المتخلل بين الخلوتين قدر العادة لم يحتسب به من العدة، ولو خلا بها، ثم طال انقطاعه عنها، حسبت المدة الطويلة، ولا يتجه غير التلفيق. وهذا تفريع مضطرب جرّه خروج الأصل عن القياس (3) والقول بتداخل العدتين يشعر بأن الوطء لا يقطع العدة الأولى، فلا يبطل ما مضى، لكنه في لحظة، فلم يتعرضوا له، ولا يعتد بزمان الوطء من عدة الوطء بالشبهة، ولا من عدة الطلاق على قياس قول الأصحاب (4).

_ (1) في الأصل: والإحمال. (2) في الأصل: زعمكم. (3) الرقم هنا لصفحات مختصر ابن أبي عصرون. (4) إلى هنا انتهى المنقول من مختصر ابن أبي عصرون، وفي فقراته الأخيرة تكرار وتداخل مع ما بعده من نسخة الأصل من النهاية.

9912 - (1) قد ذكرتم في تداخل العدتين أن المطلِّق إذا وطىء زوجته الرجعية، ثبتت عدة الشبهة، وجرى الحكم بتداخل العدتين، وهذا يُشعر بأن الوطء لا يقطع العدة الأولى. قلنا: نعم، الوطء لا يبطل ما مضى، ولكنه في لحظة، فلم يقع من الأصحاب التعرض لها، ولو أنها غير معتد بها، ولا شك أن زمان الوطء لا يعتد بها (2) من عدة الشبهة، ولا يُعتد بها على قول الأصحاب من عدة الطلاق، فهذا ما يجب التنبه له. 9913 - ومما يتصل بهذا أن الرجل إذا نكح امرأةً نكاح شبهة، وكان يغشاها، فلا خلاف أنه لا يمضي من العدة شيء ما دام يغشاها، ولا نقول: كما (3) وطئها الوطأة الأولى، شرعت في العدة، ثم تلفق الأوقات المتخللة بين الوطآت ونقضي بأنها كالمعتدات في تلك الأوقات، غير أن الوطأة الأخيرة تستعقب عدةً كاملة. هذا لم يقله أحد، وهو يؤكد ما ذكرناه في الرجعية من أن معاشرة الزوج إياها يمنع الاحتساب بالعدة. نعم، اختلف القول في ابتداء العدة من أي وقت تحتسب. فأحد القولين- أنه يحتسب من الوطأة الأخيرة. والقول الثاني - أنه يحتسب من وقت التفريق بينهما، وهذا الأصل قد تقدم بالرمز إليه، ولم نستقصه في موضعٍ، ونحن نقول هاهنا: القولان في ابتداء العدة عن الواطىء بالشبهة مذكوران كما أوردناه الآن، فإن قلنا: ابتداء العدة من آخر وطأة، فلا كلام، وإن قلنا: من وقت التفريق، فيعترض عليه أن الشبهة لو انجلت وتبين زوالها، وكان يديم المعاشرة على علمٍ بالتحريم القاطع، فالوجه عندنا أن نقول: هذا لا يمنع انقضاء العدة. والمعنيُّ بافتراقهما انجلاء الشبهة لنا. [وفي] (4) هذا فضل نظر، سنعود إليه من بعدُ إن شاء الله.

_ (1) عوْدٌ إلى نصّ النهاية. والله المعين. (2) بها: أنث الضمير على معنى " اللحظة "، وقد تقدم التلفظ بها. (3) أي عندما. (4) في الأصل: في هذا (بدون واو).

9914 - ومما يتصل بهذا الآن أن المعتدة عن الزوج إذا نكحت نكاح شبهة على ظن أن العدة قد انقضت، وافترشها مَن نكحها على الشبهة، فالعدة تنقطع من وقت العقد، ومنهم من قال: تنقطع من أول وطأة تتفق من الزوج على الشبهة، ثم متى تعود إلى البناء على العدة الأولى؟ ذكر الأصحاب القولين اللذين ذكرناهما في نكاح الشبهة في الاعتداد من المفترش على الشبهة فقالوا: تعود إلى بقية العدة الأولى من آخر وطأة في قولٍ وتعود إليها من وقت التفريق على قولٍ، فذكروا في العَوْد إلى العدة ما ذكروه في ابتداء العدة [عن] (1) الواطىء بالشبهة إذا لم يكن نكاح الشبهة وارداً على عدة. وهذا فيه إذا لم تحبل من المفترش في العدة، فإن حبلت، فلا شك أن عدة الحبل إذا بأن الأمر مقدمةٌ على بقية العدة الأولى، كما تقدم تفصيل هذا في تداخل العدتين. فيخرج مما ذكرناه الآن ما استبعده القيّاسون من أن مخامرة الزوج المعتدةَ في العدة يمنع من انقضاء العدة ليس من البعيد، وهو خارج على هذا الأصل الذي ذكرناه الآن؛ فإن نكاح الشبهة والمخامرة بحكمه إذا تضمن منع انقضاء العدة، فمخامرة الزوج لا يبعد أن تتضمن منع انقضاء العدة. 9915 - ثم ينشأ من هذا المنتهى وجوه من الرأي من أهمها أن نقول: ما ذكره الأصحاب من أن المخامرة من الزوج تمنع انقضاء العدة يجب أن يكون محمولاً على ما إذا كان يخامرها ظاناً أن النكاح باقٍ، فيكون معاشرته إياها على مضاهاة النكاح الفاسد يطرأ على العدة، وتخرج خروجاً حسناً. فأما إذا طلقها ثلاثاًً مثلاً، وعلم أنها محرمةٌ عليه، فأخذ يعاشرها مع القطع بالتحريم، فيجب ألا يؤثر هذا النوع من المخالطة في انقضاء العدة، إذ لو فرض اختلاطها بالأجانب مع العلم بالتحريم لما أثر ذلك قطعاً، فلا يضر أن تُجعل مخالطة المطلق معتبراً (2) بمخالطة الأجانب [و] (3) يخرج منه أن مخالطة الرجعية تمنع على كل

_ (1) في الأصل: والنفي. (2) معتبراً، أي مقيسة بمخالطة الأجانب. (3) زيادة من المحقق.

حال؛ فإنها تقع على حكم الشبهة، وكيف لا، وقد صار إلى تحليل الرجعية طوائف من العلماء. ومما ينشأ من ذلك أن من نكح معتدة وافترشها ففي وقت انقطاع العدة خلاف قدّمته، فإذا خرّجنا عليه مخالطة الزوج المعتدة، ورأينا تنزيل المخالطة على الشبهة، فيجب أن نقول: نفس المخالطة تمنع انقضاء العدة من غير اشتراط وطء؛ فإن هذه المخالطة مستندة إلى وطء النكاح مترتبة عليه، وليس كذلك حكم نكاح الشبهة إذا طرأ. والذي نقله الأئمة عن الأصحاب أن نفس المخالطة من الزوج تمنع العدة، ولم يفصّلوا بين الشبهة والعلم بالتحريم، والذي ذكرته من التنزيل على حالة ظن الحلّ لست أرى منه بداً؛ فإن الزوج إذا كان يخالط المطلقة ثلاثاً أو كان يزني بها، فلست أرى الزنا قاطعاً، ولا معاشرة الزناة مؤثرة. 9916 - ومما يتصل بتمام القول في ذلك أن نكاح الشبهة إذا طرأ على العدة، واتصل به الوطء، ثم انكف الناكح وانعزل، وهو على اعتقاد الافتراش، فانقضت مدة العدة في زمان انعزاله، فالذي تقتضيه القواعد التي مهدناها أن العدة لا تنقضي إذا كان في علم الله أنه سيعود إلى وطئها، فلا ينبغي أن نغيّر القواعد بالصورة. والضابط فيه أنا لو صوّرنا نكاح شبهة من غير طريان على العدة، ثم صورنا وطأتين بينهما انعزال في مدة طويلة، فلا نحكم بانقضاء العدة عن الواطىء بالشبهة، وكل ما يمنع انقضاء العدة عن الواطىء، يمنع العوْد إلى العدة التي طرأ نكاح الشبهة عليها، وهذا هو المعتبر الحق الذي لا يسوغ الحيْد عنه. وبالجملة استمرار الشبهة واتحادها وانسحابها حكمٌ بيّن في وضع الشرع، وآية هذا أن نكاح الشبهة إذا اشتمل على وطآت كثيرة، فلا يجب إلا مهر واحد، وإن تعددت الوطآت. ولو فرض تعدد الشبهات، وتخلل الانجلاء في أثنائها، واشتملت كل شبهة على وطء، لتعددت المهور.

9917 - ومما يدور في الخلد أن من نكح معتدةً نكاح شبهة- ورأينا التفريع على انقطاع العدة قبل الوطء، فإذا نقول لو لم تزف حتى انجلت الشبهة؟ وماذا نقول إذا زفت، ولم يتفق الوطء حتى انجلت الشبهة؟ أما إذا لم تزف حتى انجلت الشبهة فلست أرى إلا القطع بأن العدة لا تنقطع؛ فإن صورة النكاح لا تُفضي إلى ملابسة، ثم كانا على ظنٍّ مجرد، فزال، فالعدة على استمرارها. هذا ما أراه. فأما إذا زُفّت، وكان الناكح على الشبهة يلابسها ولا يطؤها، فانجلت الشبهة، فهذا فيه تردد عندي: فإن كنا نفرع على أن انقطاع العدة لا يتوقف على جريان الوطء؛ من جهة أنا إنما نحكم بالانقطاع قبل الوطء إذا جرى الوطء، فنجعل ما تقدم على الوطء كالمقدمة له. والتابعُ قد يسبق وقد يلحق. فينتظم بعد هذه الشبهات صور: إحداها - أن تزف فيطأ، فالعدة تنقطع من وقت الزفاف على هذا الوجه الذي نفرع عليه، وفيه الخلاف المشهور. الصورة الأخرى - أن تزف ولا يتفق الوطء وتنجلي الشبهة، وفيه التردد الذي ذكرته. ولو لم يتفق الزفاف حتى انجلت الشبهة، فالوجه عندي القطع بأنه لا تقطع العدة، وإذا اتصل النكاح بالوطء، وفرعنا على أن انقطاع العدة قبل الوطء، فإنه تنقطع من وقت الزفاف، [أم] (1) تنقطع من وقت النكاح؟ فيه شيء لا يخفى وجه الاحتمال فيه. وأما ما كنا ذكرناه في أن الموطوءة في نكاح الشبهة من غير فرض عدة سابقة متى تبتدىء العدة من الواطىء، وأشرنا إلى القولين، ثم قلنا على قول التفريق: يعني التفريق بالذات والجسد أم انجلاء الشبهة، وإذا انجلت وأدام المخامرة، فهل تنقضي العدة، فالوجه الآن بعد تمهّد الأصول أن نجعل مخامرة الواطىء بالشبهة مع يقين التحريم بمثابة مخامرة الزوج البائنة مع يقين التحريم. فهذا نجاز القول في هذا الفصل.

_ (1) في الأصل: هل.

وقد خلطت حكمَ نكاح الشبهة والعدة عن الواطىء بالشبهة، وحكمَ انقطاع العدة بطريان النكاح، وحكمَ معاشرة الزوج خلطاً، وبيان هذا الفصل في خلطه؛ فإن هذه الفصول الثلاثة ناشئة من أصلٍ واحد والله أعلم. فرع: 9918 - إذا نكح الرجل معتدةً نكاح شبهة، ثم تبين الفساد، واجتنبها فخلت عن العدة الأولى، فللّذي نكحها على الشبهة أن ينكحها بعد التخلي من العدة. هذا هو المذهب، وعليه التعويل. وللشافعي قول في القديم: أن المنكوحة على الفساد في العدة محرّمة على الناكح أبداً. واعتمد في هذا قضاء عمر. ومعظم أقواله القديمة تخالف الأقيسةَ الجلية، وتستند إلى أقضيةٍ وآثارٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُمسك [بطرفٍ] (1) من المعنى الكلي. وقال: من نكح معتدة فقد تعجل الاستحلال قبل أوانه، فعوقب بالحرمان والتحريم المؤبد، كما يعاقب قاتل موروثه بحرمان ميراثه أبداً. ثم سبب الشافعي بشيء لا بد من التنبه له، فقال: " الناكح في العدة منتسب إلى إفساد النسب وخلط المياه لإقدامه على النكاح قبل الاستبراء "؛ فقال العراقيون: هذا الذي ذكره يوجب أن من وطىء زوجة الغير بشبهة؛ فإنها تحرم عليه على الأبد؛ فإن النكاح في العدة وهي تابعةُ النكاح الصحيح وعُلقته إذا كان توجب تحريم الأبد، فالوطء في النكاح لأن يوجب ذلك أولى. وفحوى كلام الأئمة في التفريع يدل على أن من زنى بمعتدة أو منكوحة، لم يكن زناه سبباً لتحريمها؛ من جهة أن الزنا لا يتضمن اختلاط النسب؛ إذ لا نسب لزانٍ، ولا ينتسب إلى الزاني ولدٌ، وفيه جواب: إن من نكح أجنبية خلية عن النكاح والعدة نكاح شبهة، فلا تحرم عليه ولا يجري القول القديم فيه، وإنما يجري ذلك القول في الواطىء في نكاحٍ أو عدة مترتبة على النكاح، ولا يمتنع عندنا جريان هذا القول في عدة الشبهة؛ فإن نكاح الشبهة فراش يترتب عليه النسب، كما يترتب على النكاح الصحيح.

_ (1) في الأصل: يطوف.

وبالجملة لا أصل للقول القديم، وهو مرجوع عنه، ولولا إقامة الرسم ومحاولة نقل ما بلغني، لما كنت أعد الأقوال القديمة مذهباً للشافعي. وقد يعترض من طريق المعنى أن الزنا يفسد النسب من قِبل أن الزوج إذا تحقق الزنا بزوجته تسلّط على قذفها ونَفَى ولدَها باللعان، ولكن قطع الأصحاب بأن الزنا لا يحرّم المزني بها على الزاني، وقد صح عندنا من مذهب بعض السلف أن المزنية محرّمة على الأبد على الزاني، وهذا فيما أظن رواية عن مالك (1)، والعلم عند الله. فرع: 9919 - إذا وطىء الرجل حرةً حسبها مملوكته، فوطئها على هذا الظن، فعليها أن تعتد عدة كاملة: ثلاثة أقراء، إن كانت من ذوات الأقراء، أو ثلاثة أشهر، ولا نظر إلى تفصيل ظن الواطىء، والاعتدادُ بكمالها في نفسها. والحرةُ إذا أَخذت في الاعتداد أكملت العدة. ولو وطىء أمةً وحسبها حرة: مثل أن يقدِّرها منكوحته الحرة، فإذا بأن أنها أمة، ففيما تستقبله من العدة وجهان: أحدهما - أنها تعتد بقرأين نظراً إليها وأقصى عدة الأمة قرءان إذا كانت حائلاً. والوجه الثاني - أنه يجب عليها عدة كاملة ثلاثة أقراء نظراً إلى ظن الواطىء، ويجوز أن يعتبر ظنه؛ إذ عليه تثبت حرية الولد إذا وطىء أمة الغير ظاناً أنها زوجته الحرة فنحكم بأن الولد تعلق حراً، اعتباراً بظنه، وإن كان مقتضى القياس أن يتبع الولدُ الأمّ في الرق والحرية، ولذلك أوقفنا ولد الحر من زوجته الأمة. 9920 - ثم عقد الشافعي باباً مضمونه شيئان: أحدهما - أن الرجعية إذا مات عنها

_ (1) لم نصل إلى هذه الرواية عن مالك، والمعروف من مذهبه كراهة التزوج بالزانية وجواز ذلك بعد الاستبراء. أما القول بتأبيد تحريم الزانية على الزاني فقد نسبه القاضي عبد الوهاب في (عيون المجالس) للحسن البصري. (ر. المدونة: 2/ 187، عيون المجالس: 3/ 1074 مسألة 760. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 701 مسألة 1256، 1257. الكافي لابن عبد البر: 244. القوانين الفقهية: 212. الشرح الصغير: 2/ 349، حاشية الدسوقي: 2/ 220).

الزوج تنتقل إلى عدة الوفاة بخلاف [البائنة] (1)، لأن الرجعية في معنى الزوجات يلحقها الطلاق، والإيلاء والظهار، ويجري التوارث بينهما (2) والبائنة أجنبية لكنها مستبرأة عن النكاح. والمقصود الثاني - أن الرجعية إذا ارتجعها الزوج ثم طلقها من غير مسيس بعد الرجعة، فإنها تستأنف العدة أم تبني على ما كان منها؟ فيه قولان قدمنا ذكرهما، وكذلك إذا طلق الرجعية في العدة، وأتبع الطلاق الطلاق، ففيه ترتيب مضى وتفريعات بالغة لا نعيد منها شيئاًً. وهذا مضمون الباب. ...

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (2) عبارة الأصل فيها كلمة غير مقروءة وأخرى مقحمة، هكذا: " ويجري التوارث بينهما [ ... الزوج]، والبائنة أجنبية ".

باب عدة المفقود وغيره

باب عدة المفقود وغيره 9921 - إذا غاب الرجل عن امرأته ولم ينقطع أثره، ولم يخفَ خبره، وطالت مدة الغيبة، فالنكاح قائم، والمرأة محبوسة في حِبالة الغائب، إلا أن يُفرضَ إعسارٌ بالنفقة، وذلك يأتي في كتاب النفقات، إن شاء الله. هذا قولنا وإن تضررت بسبب الغيبة؛ وهذا بمثابة ما لو انقطع الزوج عن زوجته في الحضر، واكتفى عنها بالجواري والسُّرِّيات، فليس لها إلا الاستمرار على النكاح. 9922 - وإن انقطع الخبر وخفي الأثر، وكان لا يُعلم حياتُه ومماته، فهذا موضع القولين الجديد والقديم، على ما سنذكرهما الآن، ونتأنق أولاً في التصوير، ونقول: إن خفي الأثر، وانقطع الخبر، انقطاعاً يُشعر مثله بالموت، ويغلب على الظن؛ من جهة أن الحي تنتشر أخباره وينقلها الواردون والوافدون، وفي مثل هذه الصورة نُجري القولين في أنه هل تجب فطرةُ العبد الغائب على هذا الوجه؟ ولو أُعتق عن الكفارة هل نقضي ببراءة الذمة؟ فإن كان انقطاع الخبر على هذا الوجه، فهذا موضع جريان القولين. وإن انقطع الخبر وأمكن حمله على تنائي الديار، وانتهاء الرجل في الإبعاد في الأسفار إلى مكان لا يتواصل الرفاق من [مثله غالباً] (1)، فالانقطاع على هذا الوجه لا يُغَلِّب على الظن الموتَ، وفي كلام الأصحاب تردُّدٌ في أن القول القديم هل يجري في مثل هذه الصورة؟ ظاهر الكلام أنه يجري مع احتمالٍ وتردّدٍ.

_ (1) عبارة الأصل: وانتهاء الرجل في الإبعاد في الأسفار إلى مكان لا يتواصل الرفاق من فالانقطاع. والمثبت من تصرف المحقق.

هذا [كلامنا في] (1) تصوير محل القولين. 9923 - ونبتدىء بعد ذلك ذكرَ القولين: قال في القديم: تتربص بعد انقطاع الأخبار أربعَ سنين، ثم تعتد بعدها عدة الوفاة أربعةَ أشهر وعشراً، ثم تنكِح إن شاءت. قال الشافعي: قلدت فيه عمرَ بنَ الخطاب (2)، وفيه طرف من المعنى وهو أن الضِّرار إذا عظم مدفوعٌ، وقد نفسخ النكاح بالعجز عن الإنفاق والاستمتاع وغيرهما مع تعرضهما للزوال، فإذا جاز الفسخ بهذا الضرر اليسير، فلأن يصح بالضرار المتفاحش فيما نحن فيه أولى. وقال الشافعي في الجديد: تصبر حتى يأتيَها يقينُ طلاقه أو وفاتِه، وعنى باليقين أن يثبت سبب الفراق بطريق من الطرق الشرعية وبيّنةٍ من البينات، ثم تتوقف إن استبهم الأمر ما عُمّرت، وبقيت، وقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "امرأة المفقود امرأته ما لم يأتها يقين طلاقه أو وفاته" (3). وعن علي رضي الله عنه أنه قال: " امرأة المفقود لا تتزوج " (4)، ولا عبرة بالصور، فإنه لو تحقق انتقاله إلى قُطرٍ والأخبار متواصلة، فالضرار محقق [ولا] (5) يثبت حق الفسخ. ثم إن الشافعي رضي الله عنه رجع عن قوله القديم، وغلّط (6) من يعتقد بالقول القديم، وصار إلى أنه لو قضى به قاضٍ نقضت قضاءه. وهذا المسلك يجري في معظم الأقوال الجديدة بالإضافة إلى القديمة؛ من قِبل أن

_ (1) في الأصل: كلام منافي. (2) انظر الروايات عن عمر رضي الله عنه في الموطأ: 2/ 575، السنن الكبرى: 7/ 445، كنز العمال: 9/ 695 - 699. (3) حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه رواه الدارقطني (3/ 312)، والبيهقى (7/ 445). قال الحافظ: وإسناده ضعيف (ر. التلخيص: 3/ 466 ح 1802). (4) أثر علي رضي الله عنه. رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/ 63 ح 207) والبيهقي في الكبرى: 7/ 445، والمعرفة: 6/ 72. وانظر التلخيص: 3/ 473 ح 1812. (5) في الأصل: فلا. (6) في الأصل: وغلط على من يعتقد بالقول القديم.

التعويل في [نقض] (1) القضاء على مصادفة قضاء القاضي سبباً معلوم بطلانه، وكذلك يجري الجديد مع القديم، فإنه بنى أقواله القديمة على اتباع الأثر، وتَرْكِ القياس الجلي، وتحقق عنده في الجديد أن ذلك باطل، فبنى نقضَ القضاء على معتقد إصرارٍ مقطوع به. قال أبو حنيفة (2): يلزمها أن تمكث حتى يستكمل الزوج مائة وعشرين سنة، ثم تنكِح؛ لأن هذا أقصى سن الآدميين في زماننا فيما بلغنا. وهذا الذي ذكره مخالفٌ للقياس والسنة. 9924 - فإن فرعنا على القول القديم، فأول ما يقع البداية به أن الأربع سنين هل يضربها القاضي أم كيف السبيل فيها؟ أما مدة الإيلاء، فمن وقت الإيلاء، من غير حاجة إلى الضرب من جهة القاضي، وكذلك المدد المرعية في ضرب العقل على العاقلة يعتبر ابتداؤها من وقت الجناية، كما سيأتي، إن شاء الله. ومدةُ العُنّة لا بد من استنادها إلى ضرب القاضي. وإذا قلنا في التي تباعدت حيضتها: تتربص أربعَ سنين، ثم تعتد، فلا حاجة إلى ضرب القاضي، وهذه المدّة التي نحن فيها مما ظهر فيه اختلاف الأصحاب أخذاً من فحوى كلامهم: فقال قائلون: لا بد من رفع الحكم إلى الحاكم لينظر ويرى رأيه، ثم نبتدىء ضربَ المدة، وهي أربعُ سنين. وقال قائلون: تمضي هذه المدة من غير ضربٍ من جهة القاضي. وهذا الاختلاف يقرب من تردد الأصحاب في أنا إذا أثبتنا حق الفسخ بسبب الإعسار بالنفقة، فهل [تنفرد] (3) المرأة بالفسخ إذا تحقق الإعسار، أم القاضي يتولى ذلك؟ فيه اختلاف سيأتي مشروحاً. ووجه قُرب ما نحن فيه من الإعسار أن الإحاطةَ بانقطاع الأخبار لا بد

_ (1) في الأصل: بعض. (2) ر. مختصر الطحاوي: 405، المبسوط: 11/ 35، مجمع الأنهر: 1/ 714. (3) في الأصل: تتضرر.

[فيها] (1) من اجتهاد وبحثٍ، وكذلك القول في الإعسار؛ فإنه إنما يُتوصّل (2) إليه إذا طُلب للزوج مال، فلم يوجد، فاستوى الأصلان فيما نحن فيه. ثم إذا ضُربَ المدةُ بعد ما قررناه [ومضت] (3)، واعتدت أربعةَ أشهر وعشراً، فلا يثبت موت ذلك الغائب إلا في هذه القضية، فلا يقسّم ورثتُه مالَه، ولا يقع الحكم بعتق مدبّريه وأمهاتِ أولاده. والذي اختاره القاضي أنه لا بد من حكم الحاكم في ضرب المدة، كمدة العُنَّة. 9925 - وإذا أردنا أن نوجز كلاماً على المدد، قلنا: مدة الإيلاء تستند إلى أمرٍ مقطوع به، وكذلك مدة ضرب العقل على العاقلة، ومدة العُنَّة مستندها دعاوى، وفرضُ إنكارٍ أو إقرار، والدعاوى لا تصح إلا في مجلس الحكم، وهذه المدة التي نحن فيها مستندها اجتهاد من غير حاجة إلى دعوى لما ذكرناه في الإعسار. 9926 - ثم تمام التفريع على القول القديم أنها إذا تربصت في السنين، ثم اعتدت أربعة أشهر وعشراً، ونكحت، فعاد الزوج الأول، فكيف الوجه؟ فنقول: إن لم تنكِح، فالزوج العائد أحق بها، والزوجية قائمة. وإن كانت قد نكحت، فالزوج الأول العائد بالخيار بين أن ينتزعَها من الزوج الثاني، ويغرَم له مهرَ مثلها. قال القاضي: هكذا حكى الشيخُ تفريعَ هذا القول، وهو مذهب عمر. وقد تأملت طرق الأصحاب في التفريع على القول القديم وألفَيْتُها على نهاية الاضطراب، وأنا أذكر جميع الطرق على وجوهها، ثم أسلط المباحثة عليها. فالذي حكاه القاضي في التفريع أن الزوج الأول إذا عاد، فالخيار إليه؛ فإن أقر الزوجةَ تحت الزوج الثاني، غرّمه مهرَ مثل الزوجة، واستمر نكاح الزوج الثاني. وإن أراد ردَّ الزوجةَ إلى نفسه، ثم الزوج الثاني يُغرّم الزوجَ الأولَ مهرَ مثل الزوجة.

_ (1) في الأصل: منها. (2) في الأصل: يتواصل. (3) زيادة من المحقق.

وهذا على نهاية الميل عن القياس والقواعد. وكان شيخنا والصيدلاني يحكيان هذا القولَ على نسقٍ آخر، وما [ذَكَرا فيه] (1) أمثل، قالا: إذا عاد الزوج الأول، فنقول: له الخيار، فإن اختار ردَّ الزوجةَ إليه، رددناها إليه، وقلنا: قد بان لنا أن النكاح في حقك لم يرتفع قط، والنكاح الثاني لم ينعقد أصلاً. وإن اخترتَ تركها على ما هي عليه، فنتبين أن النكاح في حق الثاني قد صح. ثم لا يثبت للزوج الأول العائد الخيارُ إلا مرةً واحدة، فإن استردها لم يغرَم للزوج الثاني شيئاً، وإن اختار تَرْكَها فعلى الزوج الثاني أن يغرَم للزوج الأول مهرَ مثل زوجته؛ فإنه قد فوّت على الزوج الأول النكاح فيها، فأشبه ذلك التزام المرضعةِ مهرَ المثل. 9927 - وحاصل هذا القول يرجع إلى أن أصل القول القديم مبني على دفع الضرار، ثم ليس الأمر مقطوعاً به؛ فإن النفقة دارّةٌ، وحقوق النكاح قائمةٌ، ولا ضرار: [إلا من جهة] (2) الانقطاع عن الاستمتاع، فلم ينفذ ارتفاع النكاح ظاهراً وباطناً، فإذا عاد الزوج فيعظم الأمر لو قلنا: ليس له استردادُ زوجته، [ولو ألزمناه] (3) الاستردادَ وقد نكحت زوجته وولدت، لعظم وقع هذا، فجرى التفريع مردَّداً ناشئاً من وقف العقود. ولكن نجَّزنا الإحلالَ للزوج الثاني، وهذا غريب على قانون الوقف، ولكنا تبينا تنجيز الإحلال على غلبة الظن في الموت، ثم انعطفنا آخراً على أصل الوقف. هذا مأخذ التفريع. ثم قلنا: إن أقر الأولُ الزوجةَ تحت الثاني، فقد بأن أن الثاني أفسدَ نكاح الأول وقَطَعه، فغرِم المهرَ، فأما إذا اختار استردادَ الزوجةِ، فتغريم الثاني الأولَ المهرَ

_ (1) في الأصل: " وما ذكر في " والمثبت من المحقق. (2) في الأصل: لا من جهة ... (3) في الأصل: وألزمناه.

بعيدٌ، ولم يُفسد الأولُ على الثاني شيئاً، ولكنه خيّب ظنَّه والظن يخطىء ويصيب. فافترق ما حكاه القاضي، وما حكيناه في المهر؛ فإن القاضي حكى التغريم من الجانبين، ونحن أثبتناه من أحدهما، وهو أقرب، ووجه ما حكاه القاضي مذهب عمر إن صح هذا التفصيل منه. 9928 - وذكر بعض المصنفين مسلكاً آخر بدعاً نأتي به على وجهه، فقال: إذا رجع الزوج الأول، [فلا] (1) خلاف أن نكاحه مفسوخ، ولا سبيل إلى استرداد الزوجة بحكم النكاح الأول، أما النكاح الثاني، ففيه وجهان: أحدهما - أن الخيار فيه إلى الزوج الأول، فإن فسخ نكاح الثاني انفسخ، وإن أَمَرَّه ولم يفسخه، بقي ولم يرتفع، ثم قال: إذا فسخه يغرَم الأولُ للثاني عند فسخه مهرَ مثل الزوجة. هذا أحد الوجهين -فيما زعم-. والوجه الثاني - أنه كما (2) ظهر الأول، انفسخ نكاح الثاني بنفس ظهوره، وقد انفسخ نكاح الأول، كما قدمناه. وهذا الذي ذكره هذا الرجل يخالف ما ذكره جميعُ الأصحاب، وما أراه إلا غلطاً محضاً؛ فإنه قطع بانفساخ نكاح الأول، ثم قال في [وجهه] (3) الأول: إذا عاد، [له] (4) حق فسخ النكاح، وهو لا يستفيد بفسخ نكاحه شيئاًً إلا أن يجدد النكاح عليها إن رضيت، ولا نظير لهذا النوع من الفسخ. فهذا نقل هذه الطريقة. 9929 - وأما العراقيون، فإنهم ذكروا مسلكاً آخر، وأتَوْا مما يقرب بعضَ القرب، فقالوا: إذا تربصت أربع سنين، ثم اعتدت عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشراً، وسلَّطْناها على النكاح، وأظهرنا القضاءَ بالفراق، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها -

_ (1) في الأصل: " ولا ". (2) كما: أي عندما. (3) في الأصل: في وجه. (4) زيادة من المحقق.

أن الفراق يقع عن الأول ظاهراً وباطناً، فعلى هذا لو عاد الأول، فتبقى الزوجة منكوحة الثاني ظاهراً وباطناً، ولا خيار لأحد، ولا تَراجُعَ ولا تغريمَ بوجهٍ من الوجوه، والفراق الواقع بهذا السبب بمثابة الفراق الواقع بالإعسار بالنفقة أو غيره من الأسباب. والوجه الثاني - أن الفراق الذي قضينا به ظاهرٌ، ولا نحكم بنفوذه باطناً على الغيب، وفائدة ذلك أن الزوج الأول لو عاد، فهي زوجة الأول، ولا خيار: لا للأول ولا للثاني، بل هي زوجةُ الأول قطعاً، والذي جرى من الثاني وطء شبهة في نكاح الغير. والوجه الثالث - أن الزوج الأول إذا عاد بعد ما قضينا بالفراق وتزوجت، فلا ننقضُ ما قضينا به، وهي زوجة الثاني ظاهراً وباطناً، ولا خيار ولا تغريم. وإن عاد الأول، وسلطنا المرأة على أن تتزوج لكنها لم تتزوج، فهي مردودة إلى الأول حتماً، ولا خيار. وهذا القائل يجعل عَوْد الزوج الأول بمثابة وجود الماء في حق المتيمم، ويجعل النكاح بمنزلة الشروع في الصلاة، ولو وجد المتيمم الماءَ قبل الشروع في الصلاة، بطل التيمم، ولو شرع في الصلاة ثم وجد [الماء] (1)، لم يكن له حكم، فالحكم بالفراق بعد التزوج مبتوتٌ ظاهراً وباطناً، وهو [قبل] (2) التزوّج على التردد. ثم لم يُثبتوا الخيارَ ولا الرجوعَ بالمهر في شيء من هذه الأوجه، بل صرحوا ببطلان الخيار والرجوعِ إلى الغرم، ثم زادوا على ذلك، فذكروا مذهبَ عمرَ في القول القديم، على ما ذكرناه في طريقة شيخنا والصيدلاني، ثم قالوا: هذا مذهب عمر والشافعي قال بأصل مذهبه، ولم يوافقه في التفريع. 9930 - هذا بيان طرق الأصحاب، وإن استقام شيء [منها] (3) فلا يستقيم إلا

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: مثل. وهو تصحيف (على قربه) أرهقنا كل الإرهاق، حتى ألهمنا الله صوابه. (3) في الأصل: عنها.

طريقةُ العراقيين، وهم أثبت النقلة نقلاً وأصحهم حكاية؛ فإن مذهب عمر في الأصل قد يعتضد بوجه من الرأي، وهو دفع الضرار، ونحن قد [نرفع] (1) النكاح بالشقاق الدائم على أحد القولين إذا اعتاص علينا فصل الخصومة، فليس ذلك بدعاً. ثم الحد الذي يجب أن ننتهي إليه في عود الزوج ما ذكره العراقيون، ومجاوزتُه إبعاد نُجعة عن أصول الشريعة. وأنا أضرب في ذلك مثلاً، وأقول: حديث المصراة والمحفّلة متفق على صحته، وأصل الخيار غيرُ بعيدٍ عن القياس، ومضمون الحديث في [إثبات مقابلة] (2) صاعٍ من التمر في مقابلة اللبن، وفيه بُعدٌ عن القياس، والأصحُّ ثَمَّ اتباعُ الخبر في الأصل والتفصيل؛ فإن الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما وافق من قضاء عمر وجهاً من النظر، لم يبعد التمسك به. فأما [ما بَعُدَ] (3) بعداً عظيماً، فلا سبيل إلى التزامه؛ فإن الخوض فيه يدعو إلى قياسٍ آخر لا عهد به في الشريعة. 9931 - ومما يتم به التفريع أن الفسخ الذي جرى القضاء به، وترتب عليه إقدامها على النكاح، هو ارتفاع النكاح أصلاً أو إنشاءُ فسخ؟ وجدتُ كلام الأصحاب متردداً في هذا من غير تصريح بنفيٍ ولا إثبات، وهو لعمري محتملٌ، يجوز أن يقال: يرتفع النكاح، ويُشعر بذلك أمرُنا إياها بعدّة الوفاة؛ فإن هذه العدة لا تليق بفسخِ يُنشأ وفراقٍ يقطع النكاحَ. هذا وجهٌ. ويجوز أن يقالَ: لابد من فسخٍ؛ فإنا لا نعرف خلافاً في أنها لو رضيت وصابرت، لاستمرت على ظاهر النكاح. ثم إذا أثبتنا إنشاء الفسخ، تردد الرأيُ في أنها تُنشئه أم القاضي على حسب التردد في الفسخ بالإعسار، كما سيأتي، إن شاء ألله تعالى؟ ثم إن حكمنا بارتفاع النكاح، فهو بعد أربع سنين ليستعقب عدةَ الوفاة، وإن

_ (1) في الأصل: يرتفع. (2) في الأصل: في مقابلة إثبات ... (3) في الأصل: يعدّ.

حكمنا بأنه لا بد من إنشاء الفسخ، ففي النفس تردد، ولعل الأشبه أنه يقع بعد الأربع سنين والعلم عند الله. 9932 - ثم قال العراقيون: إذا فرعنا على القول القديم؛ وشرعت المرأة في التربص أربعَ سنين، فلها طلب النفقة من مال الزوج الأول في السنين الأربع، وهذا تصريح منهم بأن الحكم بارتفاع النكاح بعد ذلك، فإذا استفتحت التربّص أربعة أشهر وعشراً، فليس لها طلبُ النفقة، وإن بأن لنا أنها كانت حاملاً، لأنها تربصت على نيّة عدة الوفاة، والمعتدة عدة الوفاة لا تستحق النفقة. وهذا الذي ذكروه ظاهر إذا قلنا بنفوذ الفراق ظاهراً وباطناً. وإن قلنا: الفراق لا ينفذ باطناً عند عود الزوج الأول، فإذا عاد، فقد بأن أنها كانت زوجة، فيحتمل ما قالوه من سقوط النفقة؛ فإنها كانت على اعتقاد الاعتداد، وهذا لا ينحط عن النشوز، ويحتمل أن تستحق النفقةَ إذا عاد الزوج الأول، فإنها لم تُحدث شيئاًً، وإنما أضمرت عقداً مجرداً والعقد المجرد لا يكون نشوزاً مخالفةً، كما لو أضمرت أن تبرح ووطّنت النفسَ عليه، ولكن منعها من إيقاع ما اعتقدته مانع، فلا تكون ناشزة بمجرد النية. وللأول أن ينفصل (1) ويقول: ليس الاعتداد إلا تربصاً في مسكن النكاح، وقد وُجد هذا مع انضمام القصد إليه، وإضمار التبرج (2) عزم متعلق بأمرٍ موعود غيرِ موجود. هذا تمام التفريع على القول القديم. 9933 - فأما إذا فرعنا على القول الجديد، فحكمنا عليها أن تصابر النكاحَ إلى ثبوت يقينِ الموتِ، أو الفراقِ، فإن نكحت، [فالنكاح] (3) فاسد، قال الشافعي: قضاء القاضي به منقوض، وقد بيّنا وجه ذلك.

_ (1) " وللأول أن ينفصل ": الانفصالُ هنا (من مصطلحات الجدل) ومعناه ردّ حجة الخصم ودفع ما أورده عليه من إشكالات، والمعنى هنا أن لناصر القول أو الوجه الأول أن يقول: ليس الاعتداد إلا تربصاً ... (2) التبرج: المراد هنا النشوز الذي فيه الكلام. (3) في الأصل: والنكاح.

ثم قال الأصحاب: إذا نكحت، صارت ناشزة على الزوج، وسقطت نفقتها، وهذا الذي ذكره الأصحاب بيّنٌ إذا برزت عن مسكن النكاح. فأما إذا جرى النكاح، ومضت أيام قبل اتفاق الزفاف وجريانِ الخروج من مسكن النكاح، فظاهر كلام الأصحاب أنها تكون ناشزة، وقد يتطرق إلى نظر الفقيه في هذا احتمالٌ، كما قدمته في التفريع على القول القديم عند خوضها في عدة الوفاة وتجريدها القصدَ إليها. وسقوطُ النفقة بالنكاح المجرد تفريعاً على الجديد أَوْجَه؛ إذ قد صار إلى تصحيح هذا النكاح عمرُ بنُ الخطاب، ثم طوائفُ من العلماء بعده، والنكاح أمرٌ أنشىء وظهر، وليس كالتربص على قصد الاعتداد. فهذا ما أردناه نقلاً وتنبيهاً. فلو فُرِّق بينها وبين الزوج الثاني، وعادت إلى ملازمة حكم الزوج الأول، فهل تعود نفقتُها قبل أن يبلغ الخبر زوجَها الأول، فعلى قولين سيأتي ذكرهما في كتاب النفقات -إن شاء الله- في كل نشوز يجري في غيبة الزوج، ثم يفرض تركه والعَوْدُ إلى الطاعة قبل بلوغ الخبر، إن شاء الله. 9934 - ثم قال الأصحاب: إذا نكحت والتفريعُ على الجديد، فأتت عن الزوج الثاني بولد، فالكلام في إلحاقه بالأول أو بالثاني وفي تردده بينهما على حسب ما تقدم الرمز إليه فيما سبق، واستقصاؤه في باب القائف، إن شاء الله. ثم الزوج الأول يعود، ونكاحه قائم، ويحال بين الزوجة والزوج الثاني، غيرَ أنها تعتد عن الزوج الثاني في صلب نكاح الأول عدةَ الشبهة، وفي ابتدائها القولان المقدمان: أحدهما - أنها من آخر وطأة. والثاني - أنها من وقت الافتراق. ولو كانت أتت بولد، فلحق بالثاني، وكان يحتاج إلى اللِّبأ (1)، الذي لا يعيش الرُّضَّع إلا به، فلا بد من تمكينها من ذلك، وإن لم نجد مرضعاً ذاتَ لبنٍ غيرَها، وكان الولد لو فطم، لهلك وضاع، فلا مَحال بينه وبينها، ثم نفقتُها ساقطةٌ في مدة

_ (1) اللِّبأ: وزان عنب أول اللبن عند الولادة.

اشتغالها بالرضاع إن كان يتعذّر استمتاع الزوج، فنفقتها تُدَرُّ عليها، وسيأتي تقرير هذا الأصل في كتاب الرضاع، إن شاء الله. ولو أذن الزوج الأول للزّوجة في الإرضاع الذي يتعذر بمثله الاستمتاع، فإن لم يكن الإرضاع واجباً عليها، وكنا نجد مرضعةً سواها، فإذنُ الزوج الأول في الإرضاع بمثابة ما لو أذن لها في أن تسافر في شُغل نفسها، وقد اختلف القول في أنها لو سافرت بإذن زوجها في شُغل نفسها، فهل تسقط نفقتها؟ وإن كان إرضاعُها حتماً، وكان في ترك الإرضاع ما يؤدِّي إلى ضَياع المولود، فإذا أذن الزوج، فهذا فيه تردُّدٌ عندنا: يجوز أن يقال: لا حكم لإذنه؛ فإن الإرضاع مستحَقٌ، وإذا أسقطنا أثر إذنه، ففائدتُه سقوط النفقة قطعاًً؛ فإن الإرضاع وإن كان واجباً، فهي التي تسببت إلى ذلك، وجرّت إلى نفسها الإرضاع. ويجوز أن يقال: إذا أذن لها في الإرضاع -وإن كان واجباً- فالمسألة تُخرّج على القولين المذكورين فيه إذا سافرت بإذن زوجها في شغل نفسها. ولو أذن السيد لعبده في الإحرام بالحج، لم يمكن تحليله، وأبو حنيفة يقول: له أن يحلله؛ فإن إذنه في الإحرام لغوٌ، مع تصور الإحرام منه، وتلك المسألة تنفصل عما نحن فيه؛ فإن الشافعيَّ حمل الإذن في الإحرام على استدامته، وليس يتحقق مثلُ هذا فيما نحن فيه، فإن ابتداء الإرضاع وإدامتَه جميعاً واجبان في الصورة التي ذكرناها. وقد يتصل بالتفريع على القول الجديد ما أشار إليه المزني، وهو أن الزوج في الغيبة لو مات، وتبين فساد النكاح الثاني، فيجتمع عليها عدة الوفاة، وعدة الوطء بالشبهة. وقد تمهد القول في أن العدتين لا تتداخلان، وذكرنا الفرق بين أن يتقدم موجَب العدة من جهة الزوج وبين أن يتأخر، ولا حاجة بنا إلى إعادة تلك الفصول. ***

"باب استبراء أم الولد من كتابين"

"باب استبراء أم الولد من كتابين" (1) 9935 - الأصل في الاستبراء ووجوبِه السنةُ والإجماعُ، فأما السنة، فما روي أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سبي أَوْطاس: " ألا لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائِلٌ حتى تحيض " (2) وأجمع المسلمون على أصل الاستبراء، وإن اختلفوا في التفاصيل، ثم التربص الواجب ينقسم في أصل الوضع إلى ما يجب بعد المسيس عند زوال النكاح، وإلى ما يجب في ملك اليمين. ثم ما يجب على أثر النكاح يُسمّى عِدّة لتعلقه بعَددٍ من الأطهار أو الحيض على اختلاف العلماء. والذي يجب بسبب ملك اليمين يسمى استبراءً، ومعنى الاستبراء يشمل النوعين، ولكن شُهر ما يتعلق بملك اليمين بلقب الاستبراء، وما يتعلق بحرمة النكاح بلقب العدة. أما ما يتعلق بالعدة، فقد سبق استقصاؤه. 9936 - وهذا أوان استفتاح القول في الاستبراء، وفي هذا الأصل ركنان: أحدهما - يشتمل على تفصيل القول في الاستبراء عند زوال الملك. والثاني - ينطوي على تفصيل الاستبراء عند جلب الملك، وقد عقد الشافعي في كل ركن باباً وبدأ بباب الاستبراء عند زوال الملك.

_ (1) هذا العنوان بهذا النص في (المختصر) وهو بتمامه: (باب استبراء أم الولد): من كتابين. امرأة المفقود وعدتها إذا نكحت غيره وغير ذلك ... الخ (ر. المختصر: 5/ 43). (2) حديث: "ألا لا توطأ حامل حتى تضع ... " الحديث. رواه أحمد 4/ 173، وأبو داود: النكاح، باب في وطء السبايا، ح 2157، والدارقطني: 3/ 257، والبيهقي في الكبرى: 7/ 449.

فإذا أعتق الرجل أم ولده أو مات عنها، فعَتَقت بموته، فعليها الاستبراء بقرء واحد، خلافاً لأبي حنيفة (1)، فإنه أوجب عليها أن تتربص ثلاثَ حيض، ونظر إلى كمالها بالحرية مع أول جزء من الاستبراء، ومعتمدُنا أن الزائل عنها ملك يمين، والتعويلُ في إيجاب العدة ذات العَدَد على زوال النكاح، وهذا ما قررناه في (الأساليب) (2) ومجموعات الخلاف. ثم الذي نذكره قبل الخوض في مقصود الباب أن القرء الواحد الذي أطلقناه في الاستبراء في هذا الباب الذي مضمونه زوال الملك، والقرء الواحد الذي سيأتي اعتباره في الباب الثاني، وهو جلب الملك طهرٌ أم حيض؟ ذكر الأئمة قولين وقالوا: أصحهما والجديد منهما - أنه حيض واحدٌ. والقول الثاني - أنه طهرٌ. توجيه القولين: من قال: إنه طهر، قاس على القرء المعتبر في العدة؛ إذ لا فرق بين البابين إلا في الاتحاد والتعدد، وقد بان أن الأقراء المعتبرة في العِدد هي الأطهار، فليكن الاستبراء واحداً منها، ولعل هذا يترجح في الاستبراء بشيءٍ، وهو أن التعبد في الاستبراء أغلب، ولهذا يجب الاستبراء على من اشترى جاريةً من امرأة، أو من ملكِ صبيٍّ لا يطأ مثلُه، فإذا غلب التعبدُ على الباب، لزم قطعُ النظر عن اعتبار ما هو علامة براءة الرحم. ومَنْ قال بالقول الثاني، احتج بظاهر الخبر المنقول في سبي هوازن، واحتج أيضاًً بأن قال: إذا اتحد المعتَبر هاهنا وقد تمس الحاجة إلى تبرئة الرحم عن شغل سبق،

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 406 مسألة 912، رؤوس المسائل: 442 مسألة 312، اللباب: 3/ 82. (2) (الأساليب) أحد كتب الإمام في الخلاف. وأما مجموعات الخلاف، فهي كتبه في (علم الخلاف) وله في هذا المجال. 1 - الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية. 2 - العمد. 3 - غنية المسترشدين. ولم يصلنا من هذه الأربعة إلا الدرّة المضية.

فيجب أن يكون ذلك الواحدُ المعتبر علامةً دالة على براءة الرحم، وليس كذلك الأطهار في العِدد؛ فإنها تقع محتوِشَة بالدماء، فيحصل تربصُها في الزمان الذي كان [تحل فيه] (1) لزوجها، وهو الطهر، ويحصل معه دلالاتٌ من براءة الرحم، وهذا المعنى لا يتحقق والقرء المعتبر واحد، فيجب تغليب ما يدل على براءة الرحم. وأيضاًً فإن النكاح [يُجَدّد] (2) بعد العدة، فانقضاؤها يفيد حِلَّ النكاح، فلا يضرّ أن تنقضي العدة بالطعن في الحيض؛ فإن الحيض لا ينافي صحة النكاح، وأما الاستبراء في الملك، فإنما يُعنى لاستعقابه حلَّ الوطء، فلو جعلنا الاستبراءَ بالطهر، لما حلت بالحيض. هذا توجيه القولين. التفريع: 9937 - إن حكمنا بأن الاستبراء بالحيض، فلا خلاف أن بعض الحيض لا يقع الاكتفاء به، ولو دخلت وقتَ الاستبراء، وهي في بقية من الحيض، فلتطهر، ثم لتحض حيضة كاملة، وهذه الحيضة هي المحسوبة استبراء، ثم إذا طهرت من الحيضة الثانية، فاستبراؤها الحيضةُ الثانية، [وما تقدمها من طهرٍ غيرُ معتد به] (3)، وإن كانت محرمةً فيه، إذا فرعنا على الأصح الأظهر، وهو أن الاستبراء بالحيض. فأما إذا قلنا: الاستبراءُ بالطهر، فنذكر صورتين، ونأتي فيهما باضطراب الأصحاب: الصورة الأولى - إذا صادفها العتق في الجزء الأخير من الحيض، وتربصت للاستبراء طهراً كاملاً، وطعنت في الحيض، فهل نقول: كما (4) طعنت قضينا بأنها تحل، إذا فرعنا على أن الاستبراء طهر؟ ظاهر كلام المشايخ في التفريع على هذا القول أنها لا تحل ما لم تمض الحيضةُ، حتى يحصل دليلُ براءة الرحم؛ فإنا أقمنا الأطهار في العدد أقراءً معتداً بها بجريان

_ (1) في الأصل: تحبل منه. (2) في الأصل: يجد. (3) في الأصل: وما تقدم غير معتد، وإن كانت محرمة فيه. (4) بمعنى عندما طعنت.

حيضتين أو حِيَض دالّة على البراءة، فيجري الطهر الواحد معتداً به بشرط أن ينضم إليه حيض كامل. وهذا وإن كان مشهوراً -ذكره الشيخ أبو علي [أنه] (1) المذهب- فيحتمل أن يكون الطعن في الحيض يخرجها عن الاستبراء، وهذا هو القياس، على القول الذي نفرع عليه. ولست فيه على ذِكر احتمالٍ مجرد، بل في كلام الأصحاب ما يدل عليه؛ فإنّ الحيضة [إن كانت] (2) هي المعتبرة، فهذا تفريعٌ على أن الاستبراء بالحيض، وإن كان المعتبر الطهر، فيجب الاكتفاء بالطعن في الحيض، لاستبانة انقضاء الطهر، ومحال أن يقع آخرُ التربص معدوداً من التربص. نعم، قد يقع هذا في الأول من حيث أنا ننتظر بعده ما تعتد به. ويتجه على هذا تردُّدٌ في أن الطعن في الحيض باللحظة الواحدة هل يكفي، أم لا بد من مُضي أقل الحيض استظهاراً، ليُعلَم أن ما رأته ليس دمَ فساد، وهذا قد قدمنا له في كتاب العدة نظيراً. هذا تفصيلُ القول فيه إذا جرى موجِب الاستبراء في الجزء الأخير من الحيض، ووقع الطهر الكامل بعده. 9938 - فأما إذا جرى موجِب الاستبراء في أثناء الطهر، والتفريع على أن الاستبراء بالطهر، فالذي ذهب إليه المحققون من الأئمة أن بعض الطهر طهر، كما أن بعض الطهر في العدة طهرٌ، ويعود الكلام إلى أن الطعن في الحيض هل يكفي، أم لا بد من مضي الحيضة الكاملة؟ وقد قدمنا ذلك في الصورة المتقدمة على هذه. ومن أصحابنا من قال: بعض الطهر لا يقع الاعتداد به على القول الذي نفرع عليه، بل نقول: لا احتساب بالبقية، فتحيض، ثم تطهر طهراً كاملاً، ثم تحيض، وهذا أورده المعلِّقون عن القاضي.

_ (1) في الأصل: "من" وسوغ لنا هذا التغيير الحكمُ بالضعف على مقابله. (ر. روضة الطالبين: 8/ 425). (2) في الأصل: وإن كانت.

ويمكن أن يقال في توجيهه: إنا أقمنا بعض الطهر في العدة مقام طهر كامل، لأن العدة أقراء، وهي ذات عَددٍ متعلقةٍ بالزمان، ومن شائع الكلام تسمية شيئين وبعض الثالث في الزمان بصيغة الجمع، كما قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وإنما وقت الحج شهران، وبعض من الثالث، فأما الواحد من الجنس لا (1) ينطلق على بعضه. ثم إذا اشترطنا طهراً كاملاً، فيجب القطع بأن الطعن في الحيضة الثانية كافٍ: إما بلحظة وإما بيوم وليلة، لأنه مضى حيض كامل، قبل هذا الطهر، فليقع الاكتفاء به إن كنا نطلب علامةً دالّة على براءة الرحم، بل يكفي الطعن في الحيضة الثانية. هذا بيان ما يقع الاستبراء به إن كانت المستبرأة من ذوات الأقراء. 9939 - فإن كانت من ذوات الأشهر، فقد قدمنا في المطلقة الأمة ثلاثة أقوال إذا كانت من ذوات الأشهر: أحدها - أنها تعتد بشهر ونصف. والثاني - أنها تعتد بشهرين. والثالث - أنها تعتد بثلاثة أشهر. ويجري في الاستبراء قولان: أحدهما - تُستبرأ بشهر واحد؛ فإن الشهر الواحد في مقابلة القرء، والقول الثاني - أنها تستبرأ بثلاثة أشهر؛ فإنها أقل مدة يدل مضيُّها على براءة الرحم، كما سبق تقريره في العِدد. وإن كانت المستبرأة حاملاً، نظر: فإن كانت حاملاً ممن منه الاستبراء، فإذا وضعت الحملَ، حصل الاستبراء، وهو الأصل في كل ما يتطرق إليه اعتبار براءة الرحم، قال منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا توطأ حامل حتى تضع ". هذا إذا كان الحمل عمن منه الاستبراء، فأما إذا كان الحمل عن أجنبي: زناً، فإذا وضعته في زمان الاستبراء، فالمشهور الذي ذهب إليه الجماهير أن الاستبراء ينقضي بوضعه، لعموم قوله: " ألا لا توطأ حامل حتى تضع "؛ ولأن المرعيَّ فيه قيامُ دلالة

_ (1) جواب أما بدون الفاء.

البراءة، ووضمع الحمل إذا خلا الرحم بوضعه أول الأدلة على البراءة. وذكر القاضي وجهاً آخر أن الاستبراء لا ينقضي بوضعه، قياساً على العدة، فإنها لا تنقضي بوضع حملٍ نقطع بانتفائه عن الزوج، ثم قال: الوجهان يمكن بناؤهما على القولين في أن الاستبراء بماذا في حق ذات الأقراء؟ فإن قلنا: الاستبراء بالحيض، فكأنا [نعوِّل] (1) على ما يدل على براءة الرحم، وإن قلنا: الاستبراء بالطهر، فكأنا نرعى تعبداً في الباب، فيليق بهذا ألا يحصل بوضمع الحمل العالق عن الزنا المحض. هذا كلامه رضي الله عنه. وقد انتجز ما يقع الاستبراء به ولا اختصاص لما ذكرناه بالباب الذي افتتحناه. 9940 - ونحن الآن نخوض في مقصود الباب، فنقول: إذا أعتق الرجل أم ولده، ولم يقدم على العتق استبراءً، أو عتقت بموته، ولم يتقدم على الموت الاستبراءُ، فيجب الاستبراء بقُرء، كما سبق تفصيله، ويحرم نكاحُها في زمان الاستبراء، على من يبغي نكاحها. ولو اشترى جاريةً ووطئها، ثم أعتقها، وجب الاستبراء، كما يجب في المستولدة إذا أعتقها أو عَتَقت بالموت. فأما إذا [استبرأ] (2) مالكُ المستولدة أمّ ولده، ثم زوجها، فالأصح المشهور صحةُ التزويج، على ما سيأتي في أمهات الأولاد. ولو كانت مشغولةَ الرحم منه، فأراد أن يزوِّجها، لم يجد إلى تزويجها سبيلاً، وكذلك لو وطىء جاريتَه القِنّة ثم استبرأها، فله أن يزوّجها. ولو وطئها ثم أراد أن يزوجها من غير استبراء، فالنكاح باطل عندنا، خلافاًً لأبي حنيفة (3). والأصل الذي يجب الإحاطة به أن اشتغال الرحم بالماء المحترم يمنع تسليط الغير

_ (1) في الأصل: نعود. (2) في الأصل: اشترى. وعلى قرب هذا التصحيف إلا أنه طوّح بنا في مهامه بعيدة، من تقدير خرم وسقط، ومن تقدير تصحيف آخر، وبعد معاناة طويلة ألهمنا الله سبحانه سرّ الخلل وهدانا إلى الصواب. سبحانه له الفضل والمنة. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 326 مسألة 822.

على الشغل قطعاًً، وما يفرض من تعبدات العدد وراء هذا. ثم مواقع الكلام منها تختلف، فقد يتمحض التعبد، وقد يتجه الحمل على حسم الباب، مع الالتفات على أصل الشغل، فأما التسليط على شغل رحم مشغول، فلا يتخيله ذو بصيرة في الشريعة. 9941 - فإذا تبين ما ذكرناه من صحة النكاح في دوام الملك على العتيق المستولدة إذا جرى الاستبراء، وانتظم معه الحكم بفساد النكاح قبل الاستبراء عن الشغل الواقع، فيبتني على ذلك غرضنا، ونقول: إذا جرى استبراءٌ في الملك مسلِّط على النكاح، ثم لم يتفق التزويجُ حتى عَتَقَت أم الولد، أو عَتَقَت القِنّة، ففي وجوب الاستبراء ثلاثة أوجه: أحدها - لا يجب الاستبراء؛ فإن التزويج كان جائزاً قبيل العتاقة، فليجز بعدها، فإن العتاقة أزالت الملك، وما جدّدت ملكاً حتى نقولَ: تجدُّدُ الملك على الرقبة يوجب القطع ببراءة الرحم، كما سيأتي في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى. والوجه الثاني - أنه لا بد من الاستبراء كتبدّل الحال، والتي عتَقَت ملكت نفسها بالعَتاقة، كما يملك المشتري الجاريةَ بناء على ملك البائع، وكما يملك السابي المسبيةَ بناء على الحرية الأصلية، ثم تجدُّدُ الملك على الرقبة يوجب الاستبراء، فتجددُ العَتاقة المفيدةِ ملكَ العتيقة نفسَها يوجب الاستبراء. والوجه الثالث - أنا نَفْصِل بين القِنَّة تعتِق، وبين المستولدة، فنقول: لا بد من استبراء المستولدة إذا عتَقَت فإنها على الجملة تُشابه المفترَشات، وقد ثبتت لها بعضُ أحكام الفراش في لحوق الولد، وجريان اللعان على أحد القولين. وأما القِنّة إذا عتَقَت، فليس عتقها زوالاً لفراش ولا ملكاً جديداً. هذا بيان الأوجه الثلاثة. 9942 - ولو اشترى الرجل جاريةً، ولم يدر ما كان قبل شرائه، واستبرأها، ثم أعتقها، فهذا أحد الصور المدرجة في الأوجه. ولو استبرأها البائع قبل البيع، ثم باعها، فأعتقها المشتري، ولم يطأها، فهل يجوز تزويجُها من غير استبراء؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا استبرأها

المشتري ثم أعتقها. [والصورة] (1) الأخيرة أولى بوجوب الاستبراء، وامتناعُ التزويج قبله؛ من جهة أن الاستبراء لم [يوجد] (2) قَبْلَ الملك المتقدم على العتق، والدليل عليه أن المشتري لو أراد أن يطأها تعويلاً على استبراء البائع، لم يكن له ذلك (3) وفاقاً، فإذا لم يؤثر ذلك الاستبراء في استباحته إياها بملك اليمين، وجب ألا يؤثر في تزويجها. ويتّصل بهذا أن المشتري لو أراد تزويجها، وقد تقدم الاستبراء من البائع، ففي المسألة وجهان مع دوام الملك، وسبب هذا الخلاف أن التزويج مبني على الاستبراء، والاستباحةُ بملك اليمين ليس تعتمد تقدّم شغل، بل هو تعبد محض، كما سنذكره في الباب الثاني. ولهذا نقول: من اشترى جارية من امرأة لم يستبحها بملك اليمين حتى يستبرئها، وإن لم يجر وطء. 9943 - ولن يقف الناظر على سر الاستبراء ما لم يَنْفصل له باب التزويج عن باب الاستباحة بملك اليمين. ويتم غرضنا في ذلك بسؤال وجواب عنه، فإن قال قائل: صورتم الاستبراء من البائع، وبنيتم عليه تصرفاً وخلافاً، ومعلوم أن الزوج لو استبرأ امرأته أقراءً، ثم طلقها لم يكن لذلك الاستبراء الجاري في صلب النكاح أثر، وذلك بسبب جريانه في حالة استمرار الحِل عليها، وهذا محقق في استبراء البائع؛ فإنه إذا استبرأها، فالاستحلال دائم بملك اليمين؟ قلنا: الاستبراء المطلوبُ لأجل النكاح لا يبعد جريانه في ملك اليمين أصلاً، وعليه بنينا استبراء الرجل مملوكته لزوجها، فهذا الأصل متفق عليه، فبنينا عليه استبراء البائع، وذكرنا تزويج المشتري، فانتظم الكلام على السداد، ولاح انفصال الباب عن الباب. وهو الأمر كله في هذا المنتهى.

_ (1) في الأصل: بالصورة. (2) في الأصل: "لم يَجْر" وهو خللٌ واضح. والتصويب من (صفوة المذهب). (3) لم يكن له ذلك لتجدد الملك. وهو أحد أسباب وجوب الاستبراء.

لا جرم، نقول: إذا استبرأ البائع الجاريةَ ثم باعها، لم يستبحها المشتري باستبراء البائع وجهاً واحداً، إذا أراد الاستباحة بملك اليمين، فلا أثر إذاً للاستبراء في الملك في الاستباحة بالملك، وإنما التردد في استباحة النكاح بالاستبراء الجاري من البائع. 9944 - ومن تمام البيان في ذلك أن السيد إذا أعتق المستولدةَ حيث يجب الاستبراء ويحرم التزويج من الغير، فهل يحل له أن يتزوجها في زمان الاستبراء؟ فعلى وجهين. توجيههما: من قال: يحل، قال: لأن الاستبراء عنه، فأشبه عدة الزوج وعدة الوطء بالشبهة، وللزوج أن ينكح المعتدة عنه إذا لم تحرم عليه بالثلاث، وكذلك ينكح الواطىء بالشبهة المعتدةَ عنه. ومن قال: لا يجوز، قال: تجددت عليها حالةٌ، فلا يُقدم على استباحتها ما لم يمض استبراءٌ، ونفس الإقدام على النكاح استباحة، فصار هذا كالاستباحة بملك اليمين. ولو باع رجل جارية ولم يرفع يده عنها، واستقال البائعُ فيها، فأقيل؛ فإنه لا يستبيح الوطء ما لم يستبرىء. وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى أن استباحة النكاح في مسائل الاستبراء هل يُنْحَى بها نحو استباحة الوطء بملك اليمين، وفيه الخلاف الذي قدمناه. [فإن] (1) أحببت أَخْذَ ذلك على قرب، قلت: إذا استبرأها، ثم أعتقها، فهل يحل تزويجها؟ فيه اختلاف سبق ذكره: فإن أوجبنا الاستبراء وإن كنا نجوز التزويج قبله بناء على الاستبراء الواقع، فلا محمل لهذا الاستبراء إلا التعبدُ، فعلى هذا إذا أراد السيد بعد إعتاق أم الولد والقِنّة أن ينكحها، لم يكن له ذلك، حتى يمضي الاستبراء تعبداً. وإن قلنا في الصورة الأولى: لا يجب الاستبراء، ويجوز التزويج من الغير، فإذا منعنا التزويج من الغير، فلا يبعد ألاّ يمنع السيد من التزوج وقد انكشف الغطاء بالانتهاء إلى هذا المنتهى، والله أعلم.

_ (1) في الأصل: بأن.

فصل قال: " فإن مات سيدها وهي تحت زوج أو في عدة ... إلى آخره " (1). 9945 - مسائل هذا الفصل تستدعي تقديمَ أصلين مقصودين في أنفسهما أحدهما - أن المولى إذا زوج أم ولده، حيث يجوز التزويج، ثم أعتقها وهي مزوّجة، أو مات عنها، فالمنصوص عليه أنه لا يجب الاستبراء عليها، وذلك لأن العتق صادفها مشغولةً بحق الزوج، والذي يحقق ذلك أن حق افتراش المولى زال بالزوجية، وصارت مفترشة للزوج بالنكاح، فطريان العتق لا أثر له، والنكاح منعقد، ولئن كان الاستبراء على وجهٍ شرطاً بعد العتق في ابتداء نكاح، فهو محمول على التعبد، فأما فرض تأثير العتق في دوام النكاح، ولا شغل من غير الزوج، فبعيدٌ عن مدارك الفقه. وذكر بعض أصحابنا قولاً آخر أُراه مخرجاً، ذكره الشيخ وغيرُه من أحبار المذهب: أنه لا بد من الاستبراء -كما سنصفه ونفصله-. 9946 - فإن قلنا: لا يجب الاستبراء، فإن جرى العتق في دوام النكاح، فلا استبراء، ولو كان الزوج طلقها أو مات عنها، وكانت في العدة، فجرى العتق، فلا استبراء أيضاًً. والعبارة التي استعملها الأصحاب في توجيه نفي الاستبراء: " أن العين صادف اشتغالها بزوجيةٍ أو حق زوجية، ولم يتضمن انحلالُها عن افتراش المالك، فلا يجب الاستبراء مترتباً على زوال ملكه ". فعلى هذا لو صادفها العتق وهي في اللحظة الأخيرة من عدة الزوج، فلا استبراء أصلاً. وإن قلنا: يجب الاستبراء، نظر: فإن جرى العتق وهي في العدة، كان الاستبراء بالإضافة إلى العدة بمثابة عدة من شخص يطرأ سببها على عدة الزوج، فالوجه تقدم عدة الزوج، فلتستكملْها، ثم تبتدىء الاستبراء، بعد نجاز العدة، كما تفعل ذلك إذا وُطئت بشبهة في أثناء عدة الزوج، ولم تعلق عن الواطىء.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 44.

وإن جرى العتق في أثناء النكاح، فهو بمثابة ما لو جرى وطءُ شبهة في أثناء النكاح، ولو فرض ذلك، لتعين استقبال العدة على أثر الوطء، إذ ليس للنكاح منتهى [نرتقب] (1) الانتهاءَ إليه، وزوالَ النكاح به، فلا بد من استعقاب سبب العدّة العدةَ. كذلك إذا جرى العتق في أثناء النكاح، فالوجه استقبال الاستبراء على الاتصال بالعتق. والمذهبُ الصحيح الذي عليه التعويل أن العتق في النكاح والعدّة لا يوجب الاستبراء. ولو وطئت المستولدة بشبهة، وخاضت في العدة، فأعتقها مولاها، فالأصح إجراء ذلك مجرى النكاح، والعدة عن النكاح، حتى نقول: العتق لا يوجب الاستبراء على المذهب الصحيح، وفيه القول المخرج. ومن أصحابنا من قال: يوجبُ الاستبراءَ ولا يمنع من وجوبه عدةُ الشبهة؛ فإنها ليست فراشاً ولا تابعاً لفراش، وهذا غير سديد. فهذا أحد الأصلين الموعودين. الفصل الثاني في بيان ما إذا طلق زوجُ المستولدة المستولدةَ مع بقاء الملك 9947 - فإذا طلقها بعد الدخول، واعتدت عن الزوج، ثم عتَقَت بعد العدة، فهل يجوز تزويجها من غير استبراءٍ جديد، أم لا يجوز تزويجها حتى تستبرأ؟ [في] (2) المسألة قولان منصوصان: أحدهما - أنه لا حاجة إلى الاستبراء، وفيما تقدم من العدة عن الزوج مقنع في إفادة براءة الرحم، ثم لم يوجد من المولى بعدها افتراش وشغل رحم، فليقع الاكتفاء بما تقدم. والقول الثاني - أنه لا بد من الاستبراء بعد العَتاقة؛ فإن الاستبراء بتبدل الحال إما من الرق إلى الحريّة، وإما من الحرية إلى الرق، وإما من ملكٍ إلى ملك، فلا حكم

_ (1) في الأصل: مرتب. (2) زيادة من المحقق.

لما مضى من العدة عن الزوج، والعتقُ يوجب برأسه استبراءً. وهذان القولان مأخوذان من الأصل الذي مهدناه في صدر الباب، وهو أن المولى لو استبرأ الجارية المستولدة أو القِنة، ثم أعتقها، فهل يحل تزويجها من غير استبراء؟ فيه الخلاف المقدم، ووجه التداني في المأخذ بيّن، فإنه استبرأها في الأصل الأول، ثم أعتقها، وهاهنا جرى الاستبراء عن الزوج، ثم اتفق الإعتاق. فإن قال قائل: العدة عن الزوج، والاستبراء إن يثبت، فهو عن المستولد. والأصل الذي تقدم فيه إذا استبرأ السيدُ أمَّ الولد عن نفسه، ثم أعتقها. قلنا: الأمر كذلك، ولكن سبيلُ الكشف في هذا أنه ما زوّجها إلا وقد استبرأها استبراءً معتبراً، ثم تخلل النكاح، وجرى الاستبراء عنه، فكان العتق مترتباً على الاستبراء الأول المقدم على النكاح، فلا فرق إذا بين المسألتين إلا أن نكاحاً جرى، واستبرأت العدة منه، وهذا القدر كافٍ في التنبيه على الغرض. 9948 - ومما يتعلق بتمام الغرض منه أن الزوج لو طلقها واستقبلت العدةَ، والملك مطرد عليها، ثم انقضت العدة وحصل العتق متصلاً بالانقضاء، ولم تعد إلى حكم المستولِد في لحظة بعد العدّة، فهل يجب الاستبراء لأجل التزويج من الغير؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قطع بأنه لا يجب الاستبراء، لأنها لم تعد بعد العدة إلى فراش المولى، ولكنها كانت معتدة، ثم عتَقَت. ومنهم من قال: في هذه الصورة أيضاًً قولان؛ فإنّ تبدّل الحال من الرق إلى الحرية قد تحقق. وإذا ضممنا هذه الصورة إلى ما إذا تخلّت عن العدة، وبقيت على الملك، ثم عتَقَت، انتظم من مجموع ما ذكره الأصحاب وحكَوْه في الصورتين ثلاثةُ أقوال: أحدها - أنه لا يجب الاستبراء أصلاً، والقول الثاني - أنه يجب الاستبراء، والقول الثالث - أنه يفصل بين أن يتصل العتق بمنقرَض العدة، وبين أن يقع بعدها بزمان، فإن اتصل لم يجب الاستبراء، وإن انفصل وجب. 9949 - ومما يتعلق بكشف المقصود في المسألة أنه لو زوج أم ولدٍ حيث يجوز له

ذلك، ثم طلقها زوجها قبل المسيس، فأعتقها المولى، فهل يجب الاستبراء بسبب العَتاقة؟ هذا يخرج عندنا على الخلاف الذي قدمناه؛ فإن التي تطلق من غير مسيس كالتي تطلق بعد المسيس وتستبرأ بالعدة، فلا فرق، وسبب ذلك أن التعويل على الاستبراء المتقدم على النكاح المسلِّط على التزويج، وهذا الأصل جارٍ في الصورتين، فقد تناظرت الصور، ولاحظت أصلاً واحداً، وإن اختلفت في مبانيها. وقد انتجز الموعود من تقديم الأصلين، ونحن نخوض بعدها في مسائل الفصل والله المستعان فنقول: 9950 - إذا زوج الرجل أم ولده، ثم مات الزوج والسيدُ، فلا يخلو: إما أن يقع الموتان معاً، وإما أن يتقدم موت أحدهما على الثاني، فإن ترتب أحد الموتين على الثاني، نُظر فإن تعين السابق منهما، فالحكم ما نصفه، ونقول: إن مات السيد أولاً، فالمذهب الصحيح أنه لا يجب الاستبراء، فإن العتق صادف اشتغالها بالزوجية، فلا استبراء. هذا ما عليه التفريع. ثم إذا مات الزوج بعد ذلك بزمان قريب أو بعيد استقبلت زوجتُه عنه عدة الأحرار أربعة أشهر وعشراً، وليست مؤاخذةً باعتبار الحيض لأجل الاستبراء؛ فإن العتق لم يقتَضِ الاستبراء أصلاً لمصادفته النكاح. هذا إذا سبق موت المولى. فأما إذا سبق موت الزوج، فإنها تستقبل عدة الوفاة شهرين وخمسة أيام؛ لأنها كانت رقيقة لما مات الزوج، ثم ينظر في موت السيد، فإن مات بعد شهرين وخمسة أيام من موت الزوج، فقد انقضت عدة الوفاة عن الزوج، وحصل العتق بعد تخلّيها عن النكاح والعدة، وهل يقتضي هذا استبراءً عن السيد؟ نُظر إن وطئها بعد انقضاء العدة عن الزوج، ثم عتَقَت بموته، فيجب الاستبراء، وإن لم يطأها، فعتَقَت بعد العدة، ففي الاستبراء ما قدمناه من الخلاف؛ فإنها عائدة إلى الملك، والعتقُ مترتب على العود من غير تخلل شُغل بين العود وبين العتق، وإذا أعدنا الأقوال في هذا الفصل أشعر قولٌ ثالث بالفصل بين أن يحصل الموت بعد العود

بلحظة، وبين أن يحصل الموت عقيب العود من غير فصل، ولم نُعد تلك الأقوال لا على صيغة الجمع ولا على صيغة التقسيم والترتيب، فإنا على قرب عهد بها. هذا إذا مات السيد بعد مضي شهرين وخمسة أيام من موت الزوج. فأما إذا مات السيد قبل مضي عدة الإماء، فلا يجب الاستبراء، تفريعاً على الأصح؛ فإن حصول العتق صادفها وهي مشغولة. ولكن يعود اختلاف القول في أن البائنة إذا عتَقَت في خلال العدة، فهل تكمل عدة الحرائر، أم تكتفي بعدة الإماء، نظراً إلى حالتها في ابتداء العدة، واختلافُ القول في هذا مشهور، فإذاً تُكمل أربعةَ أشهر وعشراً في قول، وتكتفي بشهرين وخمسة أيام في قول. هذا تفصيل القول فيه إذا ترتب أحد الموتين على الثاني، وعلم السابق واللاحق. 9951 - وأما إذا علمنا ترتب أحد الموتين على الثاني، ولكن أشكل علينا السابق والمتأخر، فلا يخلو إما أن نعلم أنه قد تخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام، أو نعلم أن المتخلل بين الموتين أقلُّ من هذا، أو يُشكل الأمرُ. فإن علمنا أن المتخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام، فالذي يجب العلم به قبل الخوض في التفصيل أن الاحتياط واجب المراعاة، فلا تخرج عما عليها إلا بيقين، وهذا أصلٌ ممهد في أحكام العِدد. وإذا بان ذلك، قلنا بعده: إن كنا لا نوجب الاستبراء إذا عادت إلى الملك وعتَقَت، فالواجب عليها أن تتربص أربعة أشهر وعشراً من آخر الموتين، وإذا هي فعلت ذلك، فقد [خرجت] (1) عما عليها، وإنما أوجبنا المدة الكاملة لجواز أن يكون موت السيد متقدماً، ولو كان كذلك، لم نوجب الاستبراء، وأوجبنا من موت الزوج عدة كاملة أربعة أشهر وعشراً. ولو قدرنا موت السيد متأخراً، فمقتضى هذا لو علمناه أن يُكتفى بشهرين وخمسة أيام، ولا استبراء إذا كنا نفرع على أن التخلي عن علائق النكاح والعود إلى حكم

_ (1) في الأصل: جرت.

المولى لا يوجب الاستبراء عند وقوع العتق، فإذاً لا استبراء كيف قدّر الأمر، وتجب العدة الكاملة في تقديرٍ؛ فأقصى الاحتياط الأخذ بأقصى الأمدين، واحتساب الابتداء من آخر الموتين. فأما إذا فرعنا على أن العود إلى المولى إذا ترتب العتق عليه يوجب الاستبراء عن المولى، فعلى هذا وجوب أقصى الأمرين ممكنٌ، ووجوب الاستبراء ممكنٌ، وهي مؤاخذةٌ بالاحتياط، فعليها أن تعتبر الأمدين جميعاً، فتتربص من آخر الموتين أربعة أشهر وعشراً [فيها] (1) حيضة، فإذا اتفق لها ذلك، فقد خرجت عما عليها، وإذا تربصت أربعة أشهر وعشراً، ولم تحض وهي من أهل الحيض، صبرت إلى أن يمر بها حيضة، ولو مرت الحيضة بها في أوائِل التربص، كفى مرورها إذا وقع بعد آخر الموتين. هذا بيان ما عليها، وقد أجرينا المسألة إلى هذا المنتهى مفرّعةً على أن العتق في خلال النكاح لا يوجب الاستبراء؛ فإنه المذهب المنصوص، فلم نر التفريع على مخرج ضعيف يضطرب به نظم الكلام. 9952 - وحكى الشيخ أبو علي في الشرح وجه بعيداً وحكاه العراقيون، ونحن ننقله على وجهه، قال: قال بعض الأصحاب: إذا اعتُبِر الجمعُ بين الأمد الأقصى والحيضة، فلتقع الحيضة بعد مضي شهرين وخمسة أيام من العدة المنسوبة إلى الموت المعتبر ابتداؤها من آخر الموتين، حتى لو وقعت قبل ذلك لا يعتد بها، ثم بالغ الشيخ بعد حكاية هذا الوجه في التزييف والتضعيف. وعندنا أن مثل هذا ليس وجهاً يحكى؛ إذ الوجوه الضعيفة إن كان صدَرُها عن رأي ضعيف، فقد تُذكر وتزيّف، وقد يقع منها ما هو باطل قطعاًً، ولكنه منسوب إلى [سوء] (2) النظر، والمسائل التي تعد من مسائل الاجتهاد قد يقع فيها نظر فاسد من بعض المجتهدين قطعاًً، وهذا الوجه الذي ذكره ليس من هذا الفن، بل صدَرَ عن غفلةٍ ونسيان.

_ (1) في الأصل: منها. (2) غير مقروءة في الأصل.

ونحن ننبه عليه، فنقول: لو جرت الحيضة بين الموتين، فلا اعتداد بها بوجه، وقد (1) صورنا تخلُّلَ شهرين وخمسةِ أيام بين الموتين، فنسي صاحب هذا الوجه أن ابتداء الأمد الأقصى من آخر الموتين، فكان في فكره بقية من أن الحيضة لا يعتد بها لو جرت من دوام النكاح، فقال ما قال عن هذا، فهذا إذاً عثرةٌ تقالُ، وليس وجهاً يقال (2)، ولولا اشتمال الأصول على حكايته، لما حكيته. هذا كله إذا تخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام. 9953 - فأما إذا تخلل بين الموتين أقلُّ من ذلك، فأقصى الاحتياط أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً من آخر الموتين، ولا استبراء عليها تفريعاً على المنصوص؛ فإنه إن تقدم موت السيد، صادف العتقُ الاشتغال بالنكاح، ولم يجب الاستبراء، وإن تقدم موت الزوج، صادف حصولُ العتق بموت المَوْلى بقية من عدة الوفاة، فلم يجب الاستبراء؛ إذاً كيف فرض الأمر، وأمكن تقدمُ موت المولى [أوجبنا] (3) أربعة أشهر وعشراً من آخر الموتين. 9954 - ولو لم نَدْرِ كم المتخلل من الزمان بين الموتين، فنوجب الأمرَ الأقصى مع الاستبراء، بناء على جواز تخلل شهرين وخمسة أيام فصاعداً، والتفريع على أن العود إلى حكم المولى يوجب الاستبراء عند العتق. وقد بنينا أجوبتنا على أصلٍ مقطوع به وهو أنها لا تخرج عما عليها إلا إذا قطعت [بأداء] (4) كلِّ ما يقدَّر وجوبُه. هذا كله تفريع المذهب فيه إذا ترتب أحد الموتين على الثاني. 9955 - فأما إذا ماتا معاً، فلا شك أنا لا نوجب الاستبراء؛ فإن ارتفاع النكاح وحصول العتق وقعا معاً، والاستبراء إنما نوجبه على طريقةٍ إذا عُهدت متخلية عن عُلقة

_ (1) في الأصل: قد (بدون الواو). (2) تنبه لما في العبارة من جناسٍ وسجعٍ مطبوع. (3) في الأصل: "فأوجبنا". (4) في الأصل: بعادته.

النكاح عائدةً إلى المولى ولو في لحظة، فإذا وقع الأمران معاً، فلا عَوْد ولا استبراء. ويبقى النظر في أنها تستكمل عدةَ الحرائر أم كيف التفصيل فيهما؟ قد ذكرنا قولين في أن العتق لو طرأ على العدة والمعتدةُ بائنة، فتكمل عدة الإماء أم عدة الحرائر؟ ولو قدرنا تقدم العتق على ارتفاع النكاح بلحظة، ثم فرض ارتفاع النكاح عن حرة، فلا شك أنها تعتد عدةَ الحرائر، فإنها كمُلت وهي منكوحة، ثم صادفها الفراق، فلو وقع العتق مع الفراق من غير تقدم ولا تأخر، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: نقطع بوجوب عدة الحرائر؛ نظراً إلى ابتداء العدة. ومنهم من قال: يخرج هذا على القولين في طريان العتق على عدة الإماء، وأقصى ما يسمح به ترتيب قولين على قولين. ووجه هذا أن كمال العدة يتلقى من كمال الفراش، وهذه ما كانت على الكمال في الفراش قط، فانتظم مما ذكرناه ثلاثةُ أحوال: أحدها - أن تكمل بالحرية ولو في لحظة ثم تطلّق، وحكمها كمال العدة. والأخرى أن تستفتح العدة ناقصة بالرق ويطرأ الكمال، وهذا محل القولين. والحالة المتوسطة بين الحالتين اللتين ذكرناهما- ارتفاع الكمال بالحرية مع الفراق، وفيها طريقان، وما ذكرناه من ترتيب الأحوال يجري في الموت الذي نحن في تفصيل حكمنا في الطلاق وغيره من أسباب الفراق. 9956 - ولو لم نَدْرِ أوقع الموتان معاً أو تخلل بينهما زمان، ثم لم ندر [لو] (1) تخلل الزمان كم كان قدره؟ فالوجه الأخذ بالأحوط، وهو أربعة أشهر وعشر، مع مراعاة حيضة فيها أو بعدها. وأمثال هذا لا أعدها من معاصات الفقه؛ فإن مدارها على فكرٍ، وإنما [أعواص] (2) الفقه في التفاف وجوه النظر، وتقابل معاني الأصول [ومعارضات] (3) الإحالات للأشباه القريبة على حكم المناقضة. والله المستعان في الجلىّ والخفي.

_ (1) في الأصل: " ولو ". (2) في الأصل: أحواص. (3) في الأصل: وان تعارضات.

فصل قال: " ولو وطىء المكاتَب، أمته فولدت ... إلى آخره " (1). 9957 - ليس لمقصود هذا الفصل تعلق خاص بالاستبراء، [وتحصيلهُ] (2) سيأتي مستقصًى في [كتاب] (3) الكتابة، ولكنا لإقامة رسم الجريان على ترتيب (السواد) نقول: المكاتَب إذا اشترى جارية لم يملك الانفراد بوطئها، والتسرِّي بها دون إذن المولى، وإذا أذن المولى، فهذا من باب الإذن في التبرع، وللشافعي قولان في أن تبرعات المكاتب هل تنفذ بإذن المولى؟ فإن قلنا: إنها تنفذ، حلّت له الجارية إذا أذن المولى. وإن لم تنفذ التبرعات بالإذن، لم يثبت حِلّ الوطء بالإذن، والقول فيما يكون تبرعاً من المكاتب من أصول الكتابة، وضبطُه ليس بالهين، والغرض الآن [إلحاقُ] (4) التسرِّي بالتبرعات. ثم إذا وطىء الجارية فأتت بولد، فالولد يتكاتب عليه، وليس في كتاب الكتابة أصل أعظمُ وأطمُّ من أحكام الولد المكاتب، ثم تكاتب الولد يثبت، سواء فرعنا على أن الوطء يحل أم يحرم؟ وسواء فرض الوطء قبل الإذن أو بعده، ثم إذا ثبت التكاتب في الولد، فمن آثاره أنه لا يبيعه ولكن إن رَقَّ، رَقَّ الولد، وإن عَتَقَ عَتَقَ معه. فأما القول في أمية الولد للجارية، فحاصل ما ذكره الأصحاب قولان: أحدهما - أن الأمية تثبت على نسق ثبوت تكاتب الولد. والثاني - أنها لا تثبت أصلاً. فإن قلنا: إنها تثبت، فمن آثارها ألا يملك المكاتب بيعها، كما لا يملك بيع

_ (1) ر. المختصر: 5/ 45. (2) في الأصل: وتحصيل. (3) في الأصل: في كتابه. (4) في الأصل: التحاق.

الولدِ المتكاتب. ثم إذا رَقَّ رَقَّت، كما يرِق الولد، فإن عُلقةَ الحرية في أمية الولد لا تزيد على ما يثبت للولد، وإن عَتَقَ، تأكدت أمية الولد، وعَتَقَ الولد، وإن لم تثبت أمية الولد في الحال، فمن آثار ذلك أنه يجوز [للمكاتب] (1) بيعُها في [الحال] (2). 9958 - فلو عَتَق المكاتَب، فهل تثبت أمية الولد؟ نقدم على هذا تجديدَ العهد بما إذا وطىء الرجل جارية غيره بشبهةٍ، وأتت منه بمولود حرٍّ، فلا تصير أم ولدٍ له، ولكن لو اشتراها أو ملكها بجهة من الجهات، فهل تصير أم ولد له؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله. فنعود ونقول: لو علقت الزوجة المملوكة من زوجها بولد رقيق، ثم اشترى زوجته، لم تصر أم ولد له عندنا، فإن الولد انعقد رقيقاً قنّاً [إِثْر] (3) العلوق. وإذا وطىء المكاتب جاريةَ الغير بشبهةٍ حسبها زوجة نفسه، فالقول في ولده عويص، لسنا نخوض فيه. أما إذا وطىء جارية نفسه، فالولد [مكاتب] (4)، فإذا عَتَق، والتفريع على أن أمية الولد لم تثبت في دوام الكتابة، فكيف السبيل فيها الآن؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأنها لا تثبت؛ فإنها لم تثبت عند العلوق، ولم يكن الولد العالق حراً أيضاًً، فنُجري القولين عند حصول الملك على الأم. ومن أصحابنا من ذكر في ثبوت الاستيلاد عند عتق المكاتب قولين؛ من جهة أن الولد العالق وإن لم يكن حراً لدى العلوق، فقد كان على عُلقة من الحرية، ثم انتهت تلك العُلقة إلى الحقيقة، فإن الولد يعتِق بعتقه، فلا يبعد تخريج القولين. وغوائل الفصل تأتي في كتابها، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: المتكاتب. (2) في الأصل: الحالات. (3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (4) في الأصل: " متكاتب ".

9959 - فإن قيل: أي تعلق لهذا الفصل بالاستبراء؟ قلنا: تقدم عليه المستولدةُ وحكمُها، فانجرّ الكلام إلى الاستيلاد في حق المكاتب، هذا ترتيب (السواد)، ويمكن تكلفُ وجه بربط الفصل بالاستبراء، وذلك بأن يقال: إذا قلنا: المكاتب يستبيح الجارية بإذن المولى، وقد اشترى الجارية، فالاستبراء من وقت الملك أو من وقت الإذن، وهذا أصل من الأصول، يأتي في الباب الذي يلي هذا الباب، وقد أوفينا عليه.

باب الاستبراء من كتابي الاستبراء

باب الاستبراء من كتابي (1) الاستبراء قال الشافعي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أَوْطَاس ... إلى آخره " (2). 9960 - الباب المتقدم كان مقصوراً على طريان العتق على أمهات الأولاد أو الإماء الرقيقات، ومضمونُ هذا الباب في الاستبراء الذي يجب على من يتملك جارية، ويحاول استباحتَها بملك اليمين، وقد تجري مسائلُ يمتزج فيها مضمون البابين. والأصل الذي عليه التعويل في هذا الباب أن من يثبت له ملك على رقبة جارية بشراء، أو اتهابٍ، أو وصية، أو إرثٍ، أو بسبي واسترقاق، فإنها لا تحل له حتى يستبرئَها، ثم ما يجري الاستبراء به قد مضى مستقصًى في الباب الأول، فلا حاجة إلى إعادته. والأصل في الاستبراء نداءُ منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المسبيات، ثم أجمع العلماء قاطِبةً على أن كلَّ مِلكٍ متجدد -في اقتضاء الاستبراء- ينزل منزلة الملك الثابت على رقبة المسبية، ثم الاستبراء الثابت في هذا الفن يجبُ سواءٌ كانت المملوكةُ بكراً أو ثيباً، صغيرةً أو كبيرة، حاملاً أو حائلاً، وسواء ترتب الملك على شُغل سابق، أو حصل غيرَ مرتبٍ على شغل، فمن اشترى جارية من امرأة، أو من صبي لا يطاُ مثلُه، أو من رجل وما كان وطىء فعليه الاستبراء. فإن جرى استبراء قبل البيع، فذلك الاستبراء لا أثر له في الاستبراء الواجب بسبب الاستباحةِ بملك اليمين، وقد قدّمنا في الباب الأول أن الاستبراء الجاري بالملك السابق هل يسلِّط المشتريَ على التزويج؟ فذاك الخلاف في التزويج، ولا خلاف بين

_ (1) قد مرّ مثلُ هذا آنفاً أول أبواب الاستبراء، حيث قال: (باب استبراء أم الولد - من كتابين) وهذا العنوان هنا مثل سابقه مأخوذ من مختصر المزني، غير أنه هنا فيه بعض التغيير، فهو في المختصر: " (باب الاستبراء) من كتاب الاستبراء والإملاء " (5/ 45). (2) ر. المختصر: 5/ 45.

الأصحاب في أن المشتري لو أراد استباحتها بملك اليمين، فالاستبراء الذي مضى قبل البيع لا يغني عنه شيئاًً، فليمثِّل الناظر الفرقَ بين البابين في نفسه؛ فإن التزويجَ مبناه على الشغل والبراءة، والاستبراءُ الواجب على المستبيح بملك اليمين مبناه على تجددِ الملك لا غير. ومن هذا الوجه يتأكد التعبدُ في هذا النوع من الاستبراء؛ فإنه غير مربوط بشغلٍ سابق، بخلاف العدة المترتبة على فراق يجري في الحياة؛ فإنها لا تجب إلا بوطء، كما تمهد موضوع العدة. ثم أوضح الأصحاب هذا الأصل بتصوير أملاك متجددة قد يستبعد المبتدىء وجوبَ الاستبراء عندها، فلو اشترى رجل جارية واستبرأها، ثم باعها، واستقال البيعَ بعد زوال الملك، فعليه أن يستبرئها مرةً أخرى، سواء قلنا: الإقالةُ فسخ أو بيع، فكل ما يجدد الملكَ، سواء كان بيعاً أو فسخاً؛ فإنه يوجب على من يبغي الاستباحة بالملك استبراءً جديداً، وسنعود إلى تقرير ذلك من بعدُ، إن شاء الله. 9961 - فإن قيل: هل يُتصورمسلك يسقط الاستبراء ويسلّط على الوطء دونه؟ قلنا: نذكر حكايةً مستفادة جرت للرشيد مع أبي يوسف، ونستاق الحكاية على وجهها، ثم نأخذ في أصلٍ من أصول الباب يشتمل على الجواب عن إمكان إسقاط الاستبراء. قيل: عُرضت جوارٍ على الرشيد، فوقعت واحدة منهن الموقعَ، فحَرَص على الإلمام بها قبل الاستبراء، فراجع العلماء في إمكان ذلك، فلم ير واحدٌ منهم مسلكاًَ يُسقط الاستبراءَ، وكان أبو يوسف في أخريات القوم، فقال: يا أمير المؤمنين لو رُفع مجلسي، فرفع على الكل، فقال: يا أمير المؤمنين، سيدها [يزوّجُها] (1)، ثم تشتريها مزوَّجةً، فيطلقها الزوج، فتحل لأمير المؤمنين من غير استبراء. وروي أنه قال: يزوجها أمير المؤمنين من بعض خدمه، ثم يأمره بتطليقها، فتحل له من غير استبراء، وقد شَهرَ أصحابُ أبي حنيفة الهارونية بين أظهرهم، واختلفوا

_ (1) في الأصل: يتزوجها.

فيها، فقال بعضهم: الهارونية هذه، ومضمونها التسبُّبُ إلى إسقاط الاستبراء. وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أن الرشيد غاظه شيء من بعض حظاياه، وكانت في بيتٍ، فحلف لا تخرج منه، وراجع العلماءَ، فلم يجدوا للبرّ موضعاً، فقال أبو يوسف: الوجه أن تضرب عليها خيمةً تسترها عن الغِلمة، ثم تنقض البيتَ، فتخرج، ولا يحنث أمير المؤمنين، فإنها لا تكون خارجة من البيت المشار إليه. وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أنه نظر إلى الجواري اللواتي خلّفهن عليه أبوه، فمال إلى واحدة منهن، فذكرت أن [أباه] (1) كان أصابها، فازداد حرصاً عليها، ولم يؤْثر اقتحام الحرمة، فقال أبو يوسف: لا يقبل قولُها فيما ادّعته من الإصابة (2). قال أئمتنا: أما مسألة اليمين المعقودِ على المنع من الخروج من البيت، فجوابنا فيها جوابُ أبي يوسف والسبب فيه أن الحنث والبرّ معقودان على البيت، وفي هذه انعدامُ متعلّقِ اليمين برّاً وَحِنثاً، فلا وجه إلا ما قاله أبو يوسف. وأما ادعاء الجاريةِ إصابةَ الأب، فجوابنا يوافق جوابَ أبي يوسف؛ فإن الأصل عدمُ الإصابة، والملك على الجملة مسلّط، فلا يقبل قولُها. ولا يخفى سبيل الورع على من يحاوله، ثم للتورع درجات مأخوذة من غلبات الظنون، فمهما (3) اقتضى ظاهر الشرع رفعَ الحظر، وغلب على الظن بسببٍ خفيٍّ محرِّمٌ، فلا حظر، ولكن الورع الاجتناب. ثم ترتب الدرجات في الورع على حسب ترتب الظنون، وإلى هذا أشار الرسول

_ (1) في الأصل: أباها. (2) قصة حيلة أبي يوسف للرشيد في شأن الجارية، حكاها الخطيب البغدادي في تاريخه، وكذلك ابن خلكان، ولكن الأحناف لم يذكروها فيما رجعنا إليه من كتبهم، ولا في ترجمتهم لأبي يوسف، وكأن الأحناف ينكرونها ولا يصدقونها، بل يجعلون ذلك من الادعاء عليهم، وآية ذلك أن الكوثري أنكر هذه الحكاية، وعدها مكذوبة على أبي يوسف، ومن أشنع الفرى عليه (ر. تاريخ بغداد: 14/ 250، 251، وفيات الأعيان: 6/ 384، تأنيب الخطيب: 275، مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي: ص 47 التعليق رقم (1) للكوثري). (3) فمهما: معناها: فإذا.

صلى الله عليه وسلم إذْ قال عليه السلام في القصة التي ستأتي في كتاب الرضاع: " كيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما "؟ والذي يمهد ما ذكرناه في الورع تأصيلاً وتفصيلاً قول المصطفى عليه السلام: " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " وهذا منه صلى الله عليه وسلم إحالةٌ للمتورّع على غلبات الظنون. 9962 - وأما مسألة إسقاط الاستبراء، فإنها عسرة الخروج على مذهبنا؛ فإن اشترى الرجل جارية، لم يملك تزويجها؛ حتى نبني عليه سقوطَ الاستبراء، وقد قدمنا في الباب قاعدةَ المذهب، في أن التزويج يستدعي ترتباً على استبراء، ثم ذلك الاستبراء هل يشترط جريانه في ملك المزوّج، أم يكفي جريانه في ملك البائع؟ فيه تردد مهدنا أصلَه، وأوضحنا تفريعه. وأبو حنيفة (1) يجوّز للذي يطأ مملوكة نفسه أن يزوجها عقيب الوطء، وهذا من فَضَحات مذهبه. وإن صورنا التزويج من ملك الجارية قبل بيعها، [فشرط] (2) تصحيح التزويج تقدم الاستبراء منه أيضاًً. ثم لو كان تَقَدَّم الاستبراء منه، ثم زوج (3)، واشتراها مَنْ طلبها مزوّجةً، وطلقها الزوج، ففي هذا اختلاف نصوص، واضطراب الأصحاب في الترتيب، وهو من أقطاب الباب. وإن قال من يريد البيع والتزويج: قد [استبرأتُها] (4)، فينقدح قبولُ قوله، ومن هذا الطرف ينتصب حيلةً على قولٍ سنصفه في إسقاط الاستبراء. 9963 - ونحن الآن نخوض مستعينين بالله تعالى في هذا الأصل، وننقل ما فيه من النصوص، ونذكر اختلاف الأقوال، ولا يصفو الأصلُ ما لم نُجرِ وجوهاً من الانعطاف عليها عوداً على بدء، فنقول: نص الشافعي في الأم على مسألتين، وأجاب فيهما بجوابين ظاهرهما الاختلاف والتناقض.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 218. (2) في الأصل: فنشترط. (3) كذا: (زوَّج) بحذف المفعول: (زوّجها). (4) في الأصل: استبرأها.

ونص عليهما في الإملاء، وأجاب فيهما بجوابين على الضدّ من جوابيه في الأم. قال في الأم: " من اشترى جارية معتدة عن زوج، أو اشتراها وهي مزوجة، ثم طلّقها زوجُها، فاعتدت إن كانت ممسوسة، أو تخلّت من غير عدة إن لم تكن ممسوسة، فليس على المشتري استبراء مقصود؛ فإذا انقضت بقية عدة الزوج، حلّت للمشتري، وإن تخلّت عن النكاح من غير عدة، حلت له من غير استبراء " هذا نصه في إحدى المسألتين. وقال في الأم أيضاً: " لو زوج السيد أمته حيث يصح تزويجها، فطلقها الزوج بعد المسيس، واعتدت، فعلى السيد أن يستبرئها بعد العدة، لا تحل له إلا باستبراء مقصود، يفرض جريانُه بعد انقضاء العدة عن الزوج ". هذا بيان المسألتين، ونَقْلُ جوابي الأم [فيهما] (1). وقال في الإملاء: " من اشترى معتدة عن زوج، فانقضت عدتها، لم تحلّ للمشتري إلا باستبراءٍ جديد مقصودٍ بعد انقضاء العدة ". وقال في الإملاء: " إذا زوّج السيد أمته، فمسها، ثم طلقها، واعتدت عن زوجها، حلت للسيد من غير استبراء على العدة " فجرى جواباه في الإملاء مضاداً لجوابيه في الأم. هذا نقل النصوص، وأول ترتيب نبتديه أن نذكر في كل مسألة من المسألتين قولين على الإطلاق، ونوجههما، ونفرع عليهما، فإذا نجز الغرض من ذلك، انعطفنا على أول المسألة، وتصرفنا على مأخذ النصوص، ثم ننظر بعده فيما يكون. فنقول أولاً: من اشترى جارية معتدة عن زوج، فانقضت العدة، فهل تحل للمتملّك من غير استبراء مقصود بعد العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الأم أنها تحل من غير استبراء. والثاني - وهو المنصوص عليه في الإملاء أنها لا تحل إلا باستبراء مستفتَحٍ بعد العدة. 9964 - توجيه القولين: من قال: لا حاجة إلى الاستبراء بعد مضي العدة، احتج

_ (1) في الأصل: منهما.

بأن قال: علة وجوب الاستبراء ثبوت الملك على الرقبة، وقد جرى ذلك والجارية مشغولة بالعدة، والعدةُ تُحرِّمها على مالك الرقبة من غير فرض استبراء مقصود في حق المالك، فكأن العلّة في اقتضاء الحكم استدعت محلاً، وهي فراغُ الجارية عن كل محرِّم سوى الاستبراء، وإذا كانت مشغولة، فقد فقدت العلة محلّها، وسقط أثرها، ثم الأثر الساقط لا يعود بفراغها؛ فإن العلة إذا لم تقتضِ حكمَها مقترناً بها، فقد خرجت عن كونها علة، وإذا هي فرغت، فقد مضت العلة، ولم يثبت تجددُ ملكٍ عند الفراغ. هذا وجه قول الأم. ومن قال بالقول الثاني احتج بأن قال: تجدد الملك يوجب استبراءً، فإن كانت الجارية مشغولةً، فقد تنجز بالعلة وجوب الاستبراء، وإنما تأخر أداؤه وإجراؤه، وهذا غير ممتنع، فإن من وطىء معتدة عن الزوج بشبهة ولم يحبلها، فالوطء يوجب العدة، ولكن تأدية عدة الوطء بالشبهة تتأخر إلى الفراغ من عدة الزوج. وهذا القول أفقه وأوجه، وفيما ذكرناه انفصال عما وجهنا به القولَ الأول. التفريع على القولين: 9965 - إن قلنا بقول الأم، فلو اشترى مزوَّجة ثم طلقها الزوج قبل الدخول، فلا استبراء أيضاً؛ تعويلاً على أنها كانت مشغولةً بحق الزوج عند حصول تجدد الملك، فإذا طلقها الزوجُ قبل المسيس، حلت للمشتري من غير استبراء، وعليه يُخرَّج جواب أبي يوسف موافقاً لهذا القول من مذهبنا، وليس فيه ما يخرِم أصلاً كلياً؛ فإن النكاح ترتب انعقاده على استبراء، ثم لم يوجد في النكاح شُغل رحم، فليس في إسقاط الاستبراء تسليطٌ على شغل رحم مشغول، وإنما فيه إسقاط استبراء ثبت أصله بعارضٍ اضطربت الظنون فيه. وإذا فرعنا على قول الأملاء: فلو اشترى معتدةً، فالجواب ما تقدم، ولو اشترى مزوّجةً، فحق الزوج في وضعه على التأبّد، وتجددُ الملك إن أوجب الاستبراء، فتقديرُه وقوفُ أدائه على ارتفاع النكاح يوماًً من الدهر، ولا يرتبط [ارتفاع النكاح بمدة

ينتظر انقضاؤها] (1)، فيعترض في هذه الصورة ما نبهنا عليه. ولكن إن كان كذلك، فمهما (2) خلت عن حق الزوج، لم تحلّ للمشتري إلا باستبراء مفتتحٍ مقصود، وذلك الاستبراء لا ينقضي وهي تحت الزوج، بخلاف ما لو وطئت الزوجة بالشبهة، فإن العدة عن الواطىء تعقب الوطءَ، والسبب فيه أن تسلط الزوج بعد اشتغال الرحم بماء الواطىء بالشبهة محال، فلا وجه إلا أن تشتغل بالتربص عقيب الوطء. وإذا انقضت مدةُ العدة، عادت مستحَلّة للزوج. فأما الاستبراء الثابت على المشتري، فيستحيل انقضاؤه في دوام التزويج؛ فإنه لو فرض ذلك، لم يستعقب حِلاً للمشتري، ووضعُ الاستبراء على أن يستعقب انقضاؤه الحِلَّ لمن عليه الاستبراء، فإذاً إذا اشترى مزوّجةً ومسها الزوج، ثم طلقها، فإنها تعتد عن الزوج، ثم يستبرئها المشتري، وإن لم يكن الزوج مسها، فكما (3) طلقها يستبرئها المشتري، وتحل له. هذا بيان أصل القولين والتنبيه على التفريع عليهما في مسألة واحدة. 9966 - فأما المسألة الثانية وهي إذا زوج السيد أمته، فمسها الزوج، وطلقها، واعتدت عن الزوج، فهل يتوقف استحلال السيد إياها على استبراء مقصود بعد العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الأم أنه لا بد من استبرائها. والقول الثاني - أنه لا يجب استبراؤها، بل تحل للمولى بعد انقضاء العدة من غير استبراءٍ جديد، وهذا هو المنصوص عليه في الإملاء. 9967 - توجيه القولين: من قال لا يتوقف الاستحلال على استبراءٍ بعد العدة، احتج بأن الملك المطرد على الرقبة لم [يطرأ] (4) عليه زوالٌ وتجدُّدٌ، ولكن جرى من جهة الزوج شغلٌ، ثم انقضى ما هو استبراء عنه، وهو العدة، فوقع الاكتفاء به،

_ (1) في الأصل: " ولا يرتبط الارتفاع النكاح بهذه ينتظر انقضاؤها " ففي العبارة تصحيف وآثار عجمة. (2) فمهما: المعنى: فإذا. (3) فكما: بمعنى عندما. (4) في الأصل: يطرد عليه زوال.

واطرد الحِل بعد مضيّه، وصار بمثابة ما لو وطئت زوجة الإنسان بالشبهة، فإذا انقضت عدة الشبهة، فالحل مستمر بحكم النكاح. ومن قال بالقول المنصوص عليه في الأم، احتج بأن التزويج أثبت استحقاقَ حِلِّ البضع للزوج، ثم لا يعود استحقاق السيد إلا بانقضاء العدة، فينبغي أن يقتضي تجدد الاستحقاق في حل البضع استبراءً، وهذا أخصُّ باقتضاء الاستبراء من تجدد الملك على الرقبة. هذا بيان توجيه القولين. 9968 - ويتفرع عليهما ارتفاعُ التزويج من غير فرض مسيس، فإذا فرعنا على قول الأم، فطلّق الزوج الأمةَ قبل المسيس، لم يستحلّها المالك من غير استبراء لما أشرنا إليه من عَوْد الاستحقاق بعد زواله. وإذا فرعنا على قول الإملاء، لم يجب على المالك استبراءٌ؛ لاطراد الملك على الرقبة، ولم يوجد من جهة الزوج شُغل يقتضي الاستبراءَ عنه. 9969 - وإذا ثبت ما ذكرناه من إجراء القولين في كل مسألة، رجعنا بعد ذلك إلى الكلام على النص، فنقول: النصان المنقولان عن الأم في المسألتين ظاهرهما التناقض؛ من جهة أنه أوجب الاستبراء على المالك إذا زال التزويج الطارىء على الملك بناءً على تجدّد الاستباحة بعد زوالها، وهذا التعليل يقتضي أن يقال: إذا اشترى مزوّجة، ثم تخلت عن الزوج، تعيّن الاستبراء، لأنه يستحق استباحتها بتخلّيها عن الزوج، فلئن لم يقتضِ تجددُ الملك على الرقبة استبراء، لأنه صادفها مشغولة بحق الغير، فليقتضِ تخلّيها استبراءً لثبوت حق الاستباحة. وكنت أود أن يكون تصرف الأصحاب في مسألتي الأم وجوابي الشافعي فيهما من طريق النقل والتخريج كما أشرت إليه من اختلاف الجوابين، ولم يصح عندي أن الشافعي ذكر المسألتين في الأم متواليتين، فيعسر لذلك طريق النقل والتخريج. فإن والى الشافعي بين جوابيه في المسألتين، فالممكن في ضبط الجوابين بمسلكٍ واحد أن يقال في إيجاب الاستبراء: تجدُّدُ الملك على الرقبة، وتجدُّدُ الاستحقاق في

الحِلّ في حكم [البيع] (1) الملحق بتجدد ملك الرقبة لو تجدد، فإذا اشترى الرجل جارية مزوّجة، وقد جرت العلة الظاهرة عادمةً محلَّها، ومحلُّها (2) فراغ الجارية، فإذا تعطّلت العلة الظاهرة، لم يكن لثبوت الحِل بعدها حكمٌ، وإذا زال الاستحقاق في استمرار الملك ثم تجدد، فهذا متجدد، فلا يمتنع أن يقتضي استبراءً، وهذا يناظر من أصل الشافعي تعطيله التوريث بالقرابة البعيدة بسبب القرابة القريبة إذا هما اجتمعتا لشخص واحد، وكانتا بحيث لا يجوز التوصّل إلى تحصيلهما، فالقرابة البعيدة كالمعدومة، وكأنْ لا قُرب بها مع القرابة القويّة القريبة، ولو تجرّدت القرابة البعيدة، لوقع التوريث بها. وهذا تكلُّفٌ. 9970 - فأما الجوابان المنقولان عن الإملاء، فلا تنافيَ بينهما، ولا يلتفتان على اختلافٍ، بل هما مأخوذان من أصلين؛ فإنه لم يوجب الاستبراءَ إذا زال التزويج الطارىء على أصلٍ بيّن، وهو استمرار الملك، وأوجب الاستبراء إذا اشترى المزوّجة، وانقطع التزويج وعلاقته؛ لأنه رأى تجدد الملك على الرقبة موجباً استبراء، ثم أخره عن الزوجية وحقها. 9971 - وينشأ من هذا المنتهى فصلٌ في تداخل الاستبراء، وقد قدمنا قولاً بالغاً في تداخل العدتين من شخصٍ واحد، وعدمِ تداخلهما من شخصين، ونحن نذكر ما يليق بالاستبراء من هذا الحكم، ونعتمد تصوير تعدد السبب، وفيه عسرٌ؛ من جهة أن السبب الأظهر [في] (3) إيجاب الاستبراء تجدد الملك على الرقبة، ومن ملك جارية ثم باعها قبل الاستبراء، انقطع وجوب الاستبراء عن الأول وفاقاً، وتجدد بملك الثاني سببٌ في اقتضاء الاستبراء، وليس ذلك كوطء الشبهة يطرأ على العدة؛ فإنه لا يتضمن قطع وجوب العدة الأولى، فلا جرم لا نقضي بتداخل العدتين، ونُقدِّم منهما ما يقتضي الشرعُ تقديمَه.

_ (1) في الأصل: البايع. (2) في الأصل: أو محلها. (3) في الأصل: من.

فلا يتصور إذاً من هذه الجهة اجتماع سببين من شخصين مقتضيين للاستبراء، بل السبب المتأخر ينسخ المتقدمَ، ويقطعه ويستأصلُ موجَبه، فإذاً لا يتأتى فرضُ اجتماع السببين من شخصين إلا في صورةٍ واحدة، وهي أن يكون لرجلين جارية مشتركة، فلو وطئاها، فلا شك في تحريم الوطء، فلو أرادا تزويجها وقد وُجد من كل واحد منهما ما يشغل الرحم، ولو كانت مستخلصة لواحد، ورام تزويجها بعد الوطء، لم يجد إلى ذلك سبيلاً ما لم يستبرئها، فإذا تعدد الشاغل، فهل يقع الاكتفاء بحيضة، حتى إذا مضت يسوغ تزويجُها، أم لا بد من الاستبراء بحيضتين: حيضة عن هذا وحيضة عن الآخر؟ فعلى وجهين: من أصحابنا من قال: لا بد من استبراءين لتعدد السبب والشخص، قياساً على العدتين إذا وَجَبَتَا عن شخصين. ومن أصحابنا من اكتفى بحيضة واحدة؛ فإن الغرض من هذا النوع من الاستبراء قيام علامة براءة الرحم، وهذا المعنى يحصل بالحيضة الواحدة. وقرَّب أئمة المذهب هذا الاختلافَ من تردد الأصحاب في أصل الاستبراء وما هو المعتبر منه، فمن زعم أن الاستبراء بالطهر، كان ذلك منه تغليباً لمعنى التعبد، وذلك يقتضي التعددَ إذا تعدد الشخص والسببُ، ومن صار إلى أن المعتبر في الاستبراء الحيضُ دون الطهر، لم يبعُد عنده الاقتصار على الحيضة الواحدةِ؛ فإن سبيل دلالة الحيضةِ الواحدةِ إذا جرت على ترتب الأدوار كسبيل دلالة حيضتين فصاعداً. هذا قولنا في تداخل الاستبراءين وامتناعِ تداخلهما. 9972 - وأما القول في تداخل الاستبراء والعدة، فإذا اشترى الرجل جاريةً معتدة، فانقضت العدة، فقد ذكرنا جوابي الأم والإملاء، في أنه هل يجب بعد العدة استبراءٌ على المستبيح بالملك. وقد يخطِر للفطن أن هذا يتنشأ من اندراج الاستبراء تحت العدة نفياً وإثباتاً، حتى إن حكمنا بالاندراج، لم نوجب استبراءً مقصوداً بعد مدة العدة، وإن لم نحكم بالاندراج، أوجبنا الاستبراء بعد العدة. وهذا ليس على وجهه؛ فإن الأئمة طردوا القولين في المشتراة المعتدة سواء بقي

من عدتها مقدار الاستبراء أو كان الباقي أقلَّ من مقدار الاستبراء، ولو كان ذلك مأخوذاً من التداخل، لاعتبرنا بعد الشراء مدة استبراء كامل؛ فإنا لما حكمنا بتداخل العدتين من شخص واحد، ثم فرضنا منه وطئاً، وقد بقي من العدة لحظة، فنعتبر من وقت الوطء عدة كاملة، فذلك الاختلاف مأخذه أن المشغولة إذا اشتريت، فالشراء هل يوجب الاستبراء فيها أم لا؟ والقولان جاريان أيضاًً في المنكوحة إذا لم يمسها زوجها، ثم تخلّت عن الزوجية من غير مسيس. نعم، إن أردنا تصوير التداخل بين الاستبراء والعدة، فرضنا أَمةً مطلقة جارية في العدة، وقد وطئها السيد بالشبهة، فهي لا تزوج ما لم تتخلّ، فلو كان بقي من العدة مقدار استبراء [فهل] (1) يقع الاكتفاء به أم نقول: تنقضي العدة ونعتبر استبراءً عن السيد بعدها ثم تزوج؟ فعلى وجهين مأخوذين من تداخل الاستبراءين في الصورة التي قدمناها. 9973 - هذا بيان نصوص الأم والإملاء على كماله، وقد لاح مخرج جواب أبى يوسف على قول النص عليه في الأم، كما قدمناه. ونحن بعد ذلك نعقد فصلاً يحوي مقاصد الاستبراء، ونرسم فيه أنواعاً شاملة لا نغادر فيها غرضاً، وإن انسل عن الضبط مسألة أو مسائل، رسمنا فروعاً، إن شاء الله تعالى. فصل في بقية الاستبراء يشتمل عليها أنواع 9974 - النوع الأول - في بيان ما يوجب الاستبراء وقد قدمنا في صدر الباب الأول أن ما يوجب الاستبراء ينقسم إلى ما يزيل الملكَ وإلى ما يثبت الملك، واستقصينا القولَ فيما يزيل الملك. ونحن الآن نذكر التفصيلَ فيما يجدّد الملك، فنقول: السبب الأظهر، والمعنى

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

المعتبر في ذلك ثبوتُ الملك على الرقبة ممن يتصور منه الاستحلال، فمن ملك -وهو ممن يستحل- جاريةً بمعاوضةٍ، أو تبرعٍ، أو إرث، أو عقدٍ، أو فسخٍ، أو سببي واسترقاقٍ جاريةً (1)، تعيّن عليه استبراؤها، ولا تحل له دونه. قيدنا الكلام بمن يتصور منه الاستحلال؛ فإن المرأة لو اشترت جاريةً، لم يلزم الاستبراءُ، وإذا اشترى الرجل واحدة من محارمه، فلا معنى للحكم بوجوب الاستبراء؛ فإن الاستبراء في معنى الأجل الذي إذا انقضى أفضى إلى الحلّ، فإذا لم يكن الحِلّ متوقعاً، لم يكن لتقدير الاستبراء معنى. ثم مهما (2) تجدد الملك، فحكم وجوب الاستبراء ما ذكرناه، حتى لو اشترى جاريةً واستبرأها، ثم باعها، وانتقل الملك إلى اللزوم، ورُدّت عليه، وكل ذلك [في] (3) لحظة، فعليه أن يستبرئها مرة أخرى، وإن لم يطرأ شاغل؛ نظراً إلى التجدد المتأخر، ولا التفات للاستبراء على سابق (4)، وليس يجب لأجل شغل متقدم، وإنما وجوبه يتعلق بتجدد الملك في نفسه، ثم لا فرق بين أن يكون تجدده بفسخٍ، أو بعقد كما ذكرناه. ولو فرض التّقايل، فعلى الذي ترتد إليه الجاريةُ الاستبراءُ، سواء قلنا: الإقالة فسخ، أو قلنا: إنها بيع. 9975 - وإذا باع الرجل الجاريةَ، وفرعنا على أن الملك يزول إلى المشتري في زمان الخيار، فلو فسخ البائع البيع، وارتدت الجارية إلى ملكه، فقد زال ملكه، ثم تجدد، فهل يلزمه الاستبراء، أم يشترط أن يكون زوال الملك على حكم اللزوم، والتجدُّدُ مترتبٌ عليه؟ ذكر طوائف من أئمتنا أن الاستبراء يجب؛ طرداً لما ذكرناه من النظر إلى تجدد الملك.

_ (1) جاريةً: مفعول لقوله: " ملك " وقد كررها -بعد أن ذكرها- لطول الفصل. (2) مهما: بمعنى (إذا) أو (كلما). (3) في الأصل: به لحظة. (4) أي على ملكٍ سابق.

وهذا عندي يُخرَّج على أصلٍ، وهو أن من باع الجارية ووقع التفريع على زوال ملكه، وكان الخيار ثابتاً للبائع، فهل يحل الإقدام على وطء الجارية؟ فيه كلام قدمناه في أول البيع، والمذهب الأصح أنه يحلّ للبائع وطؤها، ثم يقع الوطء فسخاً. وذهب بعض أئمة المذهب إلى أن الإقدام على الوطء لا يحل، ولست أعيد تلك التفاصيل. والغرض مما ذكرناه أنا إن حكمنا بأن الوطء يحرم على البائع، فإذا فسخ البيع، لم يمتنع وجوب الاستبراء عليه لمكان تجددِ الملك وترتبِه على تحريم الوطء. فأما إذا حكمنا بأن الوطء مباح للبائع [لوقوعه] (1) فسخاً، فهذا يخرج على أصل مقصود في نفسه، وهو أن من نكح جارية واشتراها، ففي وجوب الاستبراء عليه خلاف، والأصح أنه لا يجب؛ لأنه نقلها من حلٍّ إلى حل. ومن أصحابنا من أوجب الاستبراء؛ نظراً إلى تجدد الملك، ثم إلى اختلاف الجهة. ونقول بعد ذلك: إذا فسخ البائع البيع، فهذا يترتب على الخلاف الذي ذكرناه في شراء المزوّجة، فإن لم نوجب على الزوج الاستبراء، لم نوجبه على البائع إذا فسخ؛ فانتفاء الاستبراء في حقه أولى. وإن أوجبنا الاستبراء على الزوج إذا اشترى زوجته، ففي البائع إذا فسخ -والتفريع على أنها مستحلةٌ له قبل الفسخ- وجهان مبنيان على المعنيين اللذين أشرنا إليهما في مسألة الزوج: فإن اعتمدنا النقلَ من جهة إلى جهة، فلا استبراء على البائع؛ فإنه نقلها من ملك إلى ملك، وإن اعتبرنا ثَمَّ تجدد الملك، فهذا المعنى متحقق في البائع. هذا منتهى كلامنا في إيضاح تجدد الملك على الرقبة وبيان اقتضائه للاستبراء. 9976 - ومما يتعلق بموجبات الاستبراء أن الرجل إذا كاتب جاريته، ثم إنها عجزت ورَقَّت أو أرقت نفسها اختياراً، فقد أجمع الأصحاب على أنه يجب على السيد أن يستبرئها وإن لم يزل ملكه عن الرقبة بالكتابة، والسبب فيه أن الكتابة أثبتت لها حق الاستقلال، حتى إنها تُعامِل سيدَها معاملةَ الحرائر، ولو وطئت، فالمهر لها، فإذا

_ (1) في الأصل: لو نزعه فسخاً.

تجدد احتكام السيد عليها بالعَوْد إلى الرق، كان ذلك بمثابة تجدد الملك على الرقبة في إيجاب الاستبراء. ولهذا قال الأصحاب: إذا وطىء الرجل جاريةً بملك اليمين، وحرمت عليه أختها، فلو [ماتت] (1) التي وطئها، حلّ له وطء الأخرى، كما تحل له لو باع الأولى. ولو زوج الرجل جاريته، ثم تخلّت عن الزوج، وما كان جرى مسيس، فهل يجب على السيد أن يستبرئها، فعلى القولين المنقولين عن الأم والإملاء، ويمكن تخريجهما على أن الزوج استحق الحل منها، وانقطع ذلك من السيد، ثم إذا تخلت وعاد استحقاق [السيد] (2) فهل يكون هذا التجدد في الاستحقاق بمثابة التجدد في ملك الرقبة بالتجدد في الرق بعد الكتابة؟ فعلى قولين. 9977 - ولو ارتدت الجارية وحرمت لردتها، ثم أسلمت، ففي وجوب الاستبراء خلاف، والأولى ترتيبه على القولين في ارتفاع الزوجية. والأوجه في المرتدة انتفاءُ وجوب الاستبراء؛ فإن الردة وإن حرمتها؛ فإنها ما حلت لغير المولى، والزوجة حلت للزوج، [وثبوت] (3) استحقاقه الحل في معنى الأملاك المحققة، والردة لا تقطع الملك، وإنما تنافي الحلّ. نعم، أثرها ظاهر في قطع النكاح كما سبقت مسائله. ولو أحرمت الجارية، ثم تحللت، فقد ذكر الأصحاب خلافاًً في وجوب الاستبراء اعتباراً بالردة؛ فإن المرتدة محرمةٌ كالمُحرِمة، فلا أثر للإحرام والردة في قطع ملك اليمين وإنهاء تصرف المالك، والأصح أن الاستبراء لا يجب إذا أسلمت المرتدة، أو تحللت المحرمة. ولست أرى لترتيب المُحْرِمة على المرتدة وجهاً -وإن كان شيخي يتولع به- لأن

_ (1) في الأصل: كانت. (2) في الأصل: الزوج. (3) في الأصل: وثبت.

الإحرام يترتب على الردة في أحكام النكاح، فأما في ملك اليمين، فلا فرق بينهما، وليس الإحرام فيما ذكرناه كالصوم؛ إذ لا خلاف أن الصائمة إذا أفطرت، استحلت للمولى؛ فإن الصوم لا يحرم وجوه الاستمتاع، وإنما يحرم الوطء والتلذذ المفضي إلى الإنزال، والإحرام يحرم جميعَ وجوه الاستمتاع، فجرى الخلاف فيه على بُعدٍ، كما ذكرناه. 9978 - ومما نلحقه بهذا النوع أن الرجل إذا أسلم في جارية ووصفها، ثم سلمت إليه جارية، فلم يجدها على الصفات؛ فإن رضي بها، استمر ملكه فيها، وإن ردها، وعاد إلى المطالبة بالجارية على الصفات المطلوبة، فهل يجب على المسلَم إليه استبراء الجارية التي رُدّت عليه إذا لُقيت غيرَ مستجمعةٍ للصفات المذكورة؟ فعلى قولين مبنيين على أن ملكه هل زال عنها إذا سلمها ثم عاد، وفيه قولان ذكرناهما في كتاب البيع في مسائل الصرف، وكلُّ مقبوض عن جهة الديون إذا لم يكن على الصفات المستحقة، فردّ فهل نقول: زال الملك فيه وعاد؟ فعلى القولين، والشرط أن يكون بحيث لو رضي القابض به، لاستمر ملكه فيه؛ إذ لو لم يكن كذلك، فلا بد في تصوير ملكه من عقدٍ واعتياضٍ إن كان الدين مما يصح الاعتياض عنه. ومن المغالطات في السؤال أن يقول قائل: لو أقرض رجلٌ جارية، ثم استردها في عينها، فهل عليه أن يستبرئها إذا لم يوجد من المستقرض وطء، والجواب أن ذلك يجب. فإن قيل: هلا خرجتم هذا على أن المستقرض متى يملك ما استقرض؟ قلنا: إقراض الجواري لا يصح إلا على قولنا: إن المستقرض ملك بنفس الاستقراض [القرضَ] (1). ومن أحاط بالأصول السابقة، كفته هذه المرامز، فإن لم يقف عليها المنتهي إليها، فليطلب أصولها من مواضعها.

_ (1) في الأصل: " والقرض ".

وقد نجز الكلام في هذا النوع، وهو تفصيل ما يوجب الاستبراء. 9979 - النوع الثاني - في بيان ما ينافي الاعتداد بالاستبراء، فنقول: من ملك جارية، وتم ملكه فيها على اللزوم، وثبتت يده عليها، فإذا كانت بحيث تحل له لولا الاستبراء، فإذا مرت بها حيضة، كانت استبراء. ولو اشتراها على ما صورنا وكانت مجوسية، فمرت بها حيضة، ثم أسلمت، فهل يقع الاعتداد بتلك الحيضة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها استبراء كافٍ بجريانها في الملك التام. والثاني - أنها ليست باستبراء؛ فإن الاستبراء هو الذي يوجب تحريم المستبرأة، ولم تكن الحيضة في حق المجوسية كذلك؛ فإنها كانت محرمةً بدينها، وقد ذكرنا أن الاستبراء بالإضافة إلى الحل بعده يضاهي الآجال في الديون؛ من حيث إنها تحل بانقضائها، وتتوجه الطلبة بها عند انتهائها، والمجوسية محرمة ما دامت متمسكة بدينها، وحالها بعد الحيضة كحالها في زمان مضيها. 9980 - وطرد أصحابنا هذا الاختلاف على هذا النسق في تملك المرتدة، ومضي الحيضة في زمن الردة. وطردوه أيضاً في تملك المحرمة وانقضاء الحيضة في دوام الإحرام. ومنشأ الخلاف في هذه المسائل من قيام التحريم بسببٍ غيرِ الاستبراء. ولا خلاف أن هذه المعاني لا تنافي انقضاء العدة ومضيَّها، والفرق أن العدة تتعلق بشغلٍ سابق أو حرمةٍ متقدّمة، والاستبراء لا يتعلق بسابق، وإنما يتعلق باستجلابِ مطلوبٍ في الاستقبال. ثم ذكر بعض الأصحاب في الردة إذا طرأت على الملك، والإحرامِ إذا طرأ ثم زال خلافاًً في أنه هل يجب الاستبراء؟ وقد أشرنا إلى ذلك في النوع الأول من الفصل. والذي اختاره المحققون أن طريان هذه الأشياء ثم زوالها لا يتضمن إيجاب الاستبراء؛ فإنه لا يتحقق بزوالها تجدد ملك واستقلال، وتجدد الحِلّ لا يوجب استبراءً لتحل، وإنما يثور من فرض هذه المعاني خلافٌ في الاعتداد بالاستبراء معها، كما ذكرناه.

ومما يتعين على الناظر في حقائق المذهب أن يميز الأصولَ ومثارَ الفروع منها، إذا التفّت في المضايق. ولو اشترى الرجل جارية وبقيت في يد البائع حتى مرت عليها حيضة، فالأصح أنها تقع استبراء. وذكر الأصحاب وجهاً آخر مشهوراً في أنها لا تقع استبراء، ووجهوه بأن الملك غيرُ مستقر عليها قبل القبض، والعقدُ عرضةُ الانفساخ، وإنما يقع الاعتداد بالاستبراء إذا جرى في ملك مستقر. وهذا غير سديد مع الحكم بلزوم الملك للمشتري. 9981 - ولو اشترى جارية على شرط الخيار وقبضها، فمرت بها حيضة، فإن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع، فلا تقع الحيضة استبراء، وإن قلنا: الملك في زمان الخيار للمشتري، ففي الاعتداد بتلك الحيضة استبراءً وجهان: أحدهما - أنها تقع استبراء لمصادفتها ملكَ المشتري. والثاني - لا تقع استبراء لضعف ملكه. وهذا قريب من مأخذ الخلاف في الجارية قبل القبض؛ فإنْ خطر لمرتِّبٍ أن يجعل مسألة الخيار أولى بأن لا نعتد فيها بالحيضة؛ من جهة جواز الملك، لم يبعد ذلك، على شرط أن نقول: لو تلفت الجارية في يد المشتري، انفسخ البيع، [فتستوي] (1) المسألتان في التعرض للانفساخ، وتختص مسألة الخيار بالجواز. وإن قلنا: لا ينفسخ [البيع] (2) بالتلف في يد المشتري في زمان الخيار، اعتدلت المسألتان ولم يلح [فرقٌ به] (3) مبالاة. وإن مرت الحيضة في زمان الخيار في يد البائع، ففي وقوع الاستبراء خلاف مرتب لا يخفى إيضاحه، وإن قبض المشتري الجارية، وكان منفرداً بالخيار -والتفريع على أن الملك له- فيجب القطع بالاعتداد بالاستبراء، فإن الملك لازم للمشتري بمعنى أن الغير لا يَنْقُضُ عليه، والخيار مزيد سلطنة له.

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: برؤية مبالاة.

وإذا مرت الحيضة بالجارية الموهوبة في يد الواهب، فلا اعتداد بها؛ فإن الملك في الجارية للواهب قبل الإقباض، وإن قلنا: إذا حصل الإقباض، استند الملك تبيُّناً إلى الهبة، فالوجه عندنا القطع بأن الحيضة لا يعتد بها. وقد ينقدح على بُعْدٍ الاعتدادُ بها إذا جرت في الملك المتبيَّن. ومن أُوصي له بجارية ونفذت الوصيةُ وقبلها الموصى له، فجرت الحيضة في يد الورثة قبل قبض الموصى له وبعد قبوله، فالحيضة (1) استبراء صحيح؛ فإن الملك في الوصية لا يتوقف على القبض. وحكى صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن الحيضة لا تقع استبراء، وبالغ في تزييفه، وليس هذا عندنا في رتبة الوجوه الضعيفة، بل هو خطأ قطعاً من قائله. وقد نجز هذا النوع. 9982 - النوع الثالث في بيان ما يحرم من المستبرأة في زمان الاستبراء فنقول: جميع وجوه الاستمتاع محرمة في زمان الاستبراء، وهذا يطَّرد في كل مستبرأة. والمسبيةُ محرمة الوطء في زمان الاستبراء، وفي تحريم سائر وجوه الاستمتاع اختلاف مذكور في الطرق: من أصحابنا من طرد القولين بوجوب التحريم في جميع وجوه الاستمتاع؛ قياساً للمسبية على المستبرآت جُمَع، وهذا قياس واضح. ومنهم من لم يُحرّم من المسبية جميعَ وجوه الاستمتاع، واعتلّ بأن سبب تحريم الاستمتاعات من المستبرآت تجويزُ أن تكون أمَّ ولد لغير المشتري، ولو قدر ذلك، لكانت محرمة على غير المستولد، والحربيةُ المسبية لو تبين أنها حامل، لكان الرق جارياً عليها وعلى حملها، وإذا كانت الحرة تسبى، فالمستولدة تسبى. والاستبراء في المسبية في حكم التطهير لها، حتى تنتفض عن ماءٍ إن كان، وهذا يوجب التخصيصَ بالوطء، والذي يؤيد الكلام أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأمره في سبايا هوازن، وقال: " ألا لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائلٌ

_ (1) في الأصل: والحيضة.

حتى تحيض "، فاقتضى النداء الاقتصارَ على تحريم الوطء، وكانت السبايا مختلطات بالمسلمين، ويغلب على الظن امتداد الأيدي إليهن، فلما لم يحرم الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلا الوطءَ، مع الحال التي وصفناها، اقتضى ذلك تخصيصَ الوطء بالحظر. 9983 - ثم ينقدح عندنا في التفريع على هذا الوجه أمر بدعٌ، وهو تنزيل المسبية منزلة الحائض، حتى يجوزَ الاستمتاع بما فوق السرة وما تحت الركبة، وترددَ المذهبُ في الاستمتاع بما دون الإزار مع توقِّي الوطء، ولو كان لا يجري هذا لحق الاستبراء يجرى لحق الحيض. ثم إذا قلنا: الاستبراء بالحيض، ولا يَحْرُمُ إلا الوطءُ؛ [والاستمتاعُ] (1) بما تحت الإزار، فلست أرى لإيجاب الاستبراء معنى إلا إذا كانت حاملاً، أو سُبيت في بقيةٍ من الطهر، أو قلنا الاستبراء بالطهر. فأما إذا صادف السبيُ أولَ الحيضة، وفرعنا على أن الاستبراء بالحيض، فلا يكاد يظهر في حق السابي لوجوب الاستبراء معنى. واتفق الأصحاب على طرد وجوب الاستبراء في الأبكار من الجواري، وحكى صاحب التقريب في البكر المسبية وجهاً بعيداً أنه لا يجب استبراؤها، وخصص هذا الوجه بالمسبية، وهو مطَّرحٌ مزيّف لا اعتداد به. ثم إذا جرينا على الأصح، وحكمنا بأن الاستبراء بالحيض، فإذا انقضت حيضة كاملة، فتحريم الوطء يدوم عندنا بسبب الحيض إلى الاغتسال، فلا تحل الحائض إذا طهرت ما لم تتطهر، وسائر وجوه الاستمتاع إن كان التحريم منوطاً بالحيض حكمها حكم دوام الحيض. وإذا حرمنا وجوهَ الاستمتاع لأجل الاستبراء، ثم انقضت الحيضة، فالمذهب أن ما حرم لأجل الاستبراء يحل، ولا يبقى التحريم إلا فيما يقتضي الحيض تحريمه. وفي بعض التعاليق المعتمدة عن القاضي حكاية وجه بعيد منسوب إلى بعض الطرق

_ (1) في الأصل: "إذ الاستمتاع".

المعتمدة أن تحريم وجوه الاستمتاع لأجل الاستبراء يدوم إلى الاغتسال، وهذا ليس بشيء، وقد بحثت عن الطرق، فلم أجد لهذا الوجه ذكراً في شيء منها. فرع: 9984 - إذا ملك جارية من ذوات الأقراء والتفريع على أن الاستبراء بالحيض، فتباعدت حيضتها، كان القول فيها كالقول في المعتدة إذا تباعدت حيضتها، وقد مضى ذلك مفصلاً. ولو قالت الجارية: قد حضت، فللمولى تصديقها، ولو أراد أن يحلفها لم يكن له ذلك؛ فإن الأيْمان إنما تجري في الخصومات، ولا سبيل إلى الإجبار على اليمين، ولو نكلت لم يتجدّد بنكولها حكم، فلا معنى لتحليفها. ولو قالت: لم أحض، وقال المولى: لقد حضت، فالقول قولها؛ فإنه لا اطلاع على الحيض إلا من جهتها، فلو أراد السيد أن يحلّفها، فلست أرى لذلك وجهاً أيضاً؛ فإنها لو نكلت لم يستمكن المولى من الحلف، لما ذكرناه من أنه لا اطلاع على الحيض إلا من جهتها، فإذا استحال الإجبار على اليممن، والنكولُ لا يفيد أمراً، فلا معنى للتحليف. ولو قال المولى: قد أخبرتني أنها حاضت، فمثل هذه الواقعة لا ترتفع إلى مجلس الحكم، فإن ارتفعت الأمة متحرّجة فيما زعمت، وذكرت أن السيد يغشاها من غير استبراء، وقال السيد؛ قد استبرأتها، فهذا مشكل عندي، والأوجه تصديق السيد؛ إذ لو لم يكن كذلك، لحال الشرع بين المستبرأة وبين المولى، [كما يحول] (1) بين المعتدة وبين مَنْ منه العدّة؛ وهذا يبين أن الاستبراء بابٌ من التقوى، وظّفه الشرع على المولى، ولم يُثبت للأمة فيه خصاماً. وفي المسألة احتمال. وحقيقة القول في هذا ترجع إلى أن الجارية هل لها حق المخاصمة في ذلك أم لا؟ وقد ذكر القاضي في مسألة تقترب من هذه تردداً، وذكر أنه ذكره أصلاً، ونحن نصف ما قاله رضي الله عنه:

_ (1) في الأصل: كما لا يحول بين المعتدة وبين من منه العدة.

إذا ورث الرجل جاريةً من أبيه أو ابنه، وزعمت الجارية أن المتوفَّى كان أصابها في الحياة، فللوارث ألاّ يصدقها، والورع أن يجتنبها، وقد ذكرنا هذا في مسائل أبي يوسف، فلو أرادت الجاريةُ أن تحلِّف الوارث، فهل لها ذلك؟ تردد القاضي فيه، ثم بنى تردده على أصلٍ، وهو أن الأبرص إذا اشترى جارية، فهل لها الامتناع عن تمكينه من الوطء؟ فيه اختلاف. فإن قلنا: لها ذلك، فقد أثبتنا لها طرفاً من الحق في الوطء، إذا ساغ لها أن تتخيّر السليم عن المعيوب، وتمتنع عن قربان المعيب، فلا يبعد على ذلك أن يثبت لها [حق] (1) الخصام إذا كانت تعتقد خطراً. وهذا المسلك يجرى حيث انتهى الكلام إليه في الاستبراء. والله أعلم. فرع: 9985 - إذا اشترى الرجل جارية حاملاً من نكاح، فوضعت، فإن كان النكاح قائماً، أو كانت مطلقة، فهذه مسألة الأم والإملاء، وقد مضت على الاستقصاء. وإن كانت حاملاً من الزنا، فوضعت الحملَ، فالمذهب الظاهر أن الاستبراء يحصل بوضعها الحمل، وإن كانت العدة لا تنقضي بوضع ولد الزنا؛ وذلك أن العدة منسوبة إلى مَنْ منه العدة، فليكن الولد منسوباً إليه، وهذا المعنى لا يتحقق في الاستبراء، فليقع الاكتفاء فيه بصورة وضع الحمل. ومن أصحابنا من قال: لا يحصل الاستبراء بوضع الحمل من الزنا؛ فإن الغالب على الاستبراء التعبد لا البراءة، وولد الزنا لا حرمة له. ولا خلاف أن المسبية إذا وضعت الحمل، حلّت للسابي، ولا نبحث عن سبب علوقها تعلقاً بظاهر نداء المصطفى عليه الصلاة والسلام: " ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ". فرع: 9986 - المستبرىء إذا وطىء المستبرأة لم يلتزم بوطئها إلا المأثم ولم ينقطع الاستبراء، وليس كالعدة، فإنا قد ذكرنا من مذهب بعض الأصحاب على

_ (1) في الأصل: من الخصام.

تفاصيلَ أوضحناها أن الانعزال شرط في الاعتداد بالعدة. ثم إذا وطىء الجاريةَ وهي في أثناء الحيضة، فعلقت، فإن كان مضى من الحيض يوم وليلة، فالذي نراه أن الاستبراء تَمَّ، وإن كان يغلب على الظن أن الحيض انقطع بسبب العلوق؛ فإن الذي مضى حيض تامٌّ، فلا نظر إلى السبب الذي أوجب انقطاعه، وفائدة ما ذكرناه أنه يستحلّ وطأها في زمن الحمل، وقد انقضى الاستبراء. ولو لم يمضِ من الحيض يوم وليلة، فوطئها، فعلقت، واحتبس الحيض بسبب العلوق فيما يظن، فلا يعتد بما مضى من الدم؛ فإنه أقل من الأقل، والاستبراء إنما يقع بحيضٍ تام. ونقول في مثل هذه الصورة: لو كانت تركت الصلاة، فهي مأمورة بإعادتها، وإن كنا نظن أن سبب احتباس الحيض العلوقُ؛ فإن هذه الأمور مظنونة، ونظرُنا إلى مقدار الدم، وأسبابُ الاحتباس [مغيّبة] (1) لا تُحيط العلومُ بها، فخرج من ذلك أن الاستبراء [فيها] (2) إذا وضعت هذا الحمل. والذي أراه أن وضع الحمل استبراء؛ فإن هذا لا ينقص [عن] (3) حيضة، والعلم عند الله. 9987 - وقد جمعنا في الزوائد كلاماً لابن الحداد في الاستبراء، وقد [فَضَضْنا] (4) جميعه على القواعد، ولم يَشذّ منه إلا فرعان لا يتعلقان بالاستبراء: أحدهما - أن من نكح أَمةً ثم اشتراها، ووقع الحكم بانفساخ النكاح، فمضت ستةُ أشهر من وقت الانفساخ، وأتت الجارية بولد يمكن أن يكون العلوق به من النكاح، فالولد يلحق السيد الذي كان زوجاً، وإن لم يوجد منه إقرار بالوطء في ملك اليمين؛ وذلك أن النسب يلحق بإمكان العلوق من النكاح، والمملوكة لا تنحط عن البائنة، ولو أبان الرجل زوجته، فأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، للحق النسبُ لا محالة، ثم إذا لحقه النسب، لم تصر الجارية أم ولد له؛ لأنه لم

_ (1) في الأصل: معيّنة. (2) في الأصل: فيما. (3) في الأصل: من. (4) في الأصل: قصصنا.

يعترف بوطء في ملك اليمين، ونحن إنما ألحقنا النسب لاحتمال كون العلوق في النكاح، وهذا لا يُثبت أميةَ الولد. وحكى القفال وجهاً بعيداً أن الجارية تصير أم ولد؛ لأنه لحقه منها ولد في ملك اليمين، لزمان يحتمل أن يكون العلوق منه في ملك اليمين، وهذا ضعيف لا أصل له. 9988 - وإذا فرعنا على الأصح، وهو أنها لا تصير أم ولد، فلو أقر بوطءٍ في ملك اليمين، واحتمل أن يكون الولد منه، واحتمل أن يكون من النكاح، والتفريع على أن أمية الولد لا تثبت لو لم يقر بالوطء في ملك اليمين، فهل تثبت أمية الولد إذا أقر بالوطء في الملك؟ هذا فيه تردد عندنا؛ من جهة أن ثبوت النسب ليس متوقِّفاً على الوطء في ملك اليمين؛ إذ لو لم يقر بالوطء، للحق أيضاًً، وأميةُ الولد تبعُ الولد، ويجوز أن يقال: تثبت أمية [الولد] (1)؛ فإن الإقرار بالوطء يُثبت فراش ملك اليمين، والفراش اللاحق [ينسخ] (2) حكم الفراش السابق وإن شملهما الاحتمال. ولذلك قلنا: إذا تزوجت المرأة وأتت بولدٍ لزمان يحتمل أن يكون من الثاني، ويحتمل أن يكون من زوج قبله، فالولد يلحق الثاني، حتى لو نفاه الثاني باللعان، لم يلحق الأول أيضاً، [والأولى] (3) أن نقول: لا يقوى الافتراش بملك اليمين على فسخ أثر فراش النكاح؛ من جهة أن الإمكان كافٍ في فراش النكاح، ولا حاجة إلى الاعتراف بالوطء، بخلاف ملك اليمين، وأيضاً فالناكح والمالك واحد، والتناسخ في حقه أبعد. ولو نكح الرجل أمة، ثم طلقها قبل المسيس، فوطئها السيد، فأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون من النكاح، ويحتمل أن يكون من الوطء الجاري من السيد، فهذا فيه احتمال عندنا: يجوز أن نلحقه بالسيد، ويجوز أن نعتقده متردداً بين السيد وبين

_ (1) سقطت من الأصل. (2) في الأصل: يفسخ. (3) في الأصل: والأول.

الزوج، وهذا لما أشرت إليه من تخلف ملك اليمين في النسب عن النكاح، والله أعلم. 9989 - والثاني (1) الذي أجراه في أثناء الكلام فيما نظن أنا لم ننص عليه في مسائل العِدد: أن الرجل إذا خالع امرأته الممسوسة، وجرت في العدة، ثم جدد النكاح عليها، فلو طلقها من غير مسيس، فقد تمهد أنها تعود إلى بقية العدة (2)، فلو جدد النكاح عليها، ثم مات عنها، فعليها عدة الوفاة، وهل تكتفي بها أم يعتبر معها حصول بقية العدة التي كانت تعود إليها لو طلقت؟ هذا يخرج على الخلاف في أن العدتين هل تتداخلان من شخصٍ واحد إذا اختلفتا، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك وصورناه في الحمل والأقراء، وهذا الاختلاف محقق فيما به الاعتداد، وفي الجهة التي عنها الاعتداد. فإن قيل: كيف تجوّزون على أحد الوجهين الاكتفاء بالأربعة الأشهر والعشر، مع جواز أنها مشغولة الرحم بالوطء الأول في النكاح السابق؟ قلنا: هذا كما لو وطىء الرجل زوجته ومات عنها، فقد اكتفى الشرع بأربعة أشهر وعشر، وإن كانت هي من ذوات الأقر اء. والله أعلم وأحكم. ...

_ (1) الثاني من فرعي ابن الحداد المشار إليهما آنفاً بأنهما شذّا عن الإحاطة، فلم يعرض لهما في أثناء الباب. (2) هذه الصورة نص عليها الإمام من قبل في باب عدة الإماء (انظر ص200 من هذا الجزء) أما ما رسم له الفرع ظنّاً منه أنه لم ينص عليه من قبل -وهو صادق في ظنه- فهو ما سيأتي بعد هذا في الصورة التالية، أي إذا جدد النكاح، ثم مات عنها، فالتزمت عدة الوفاة ... إلخ.

كتاب الرضاع

كتَابُ الرَّضَاعِ 9990 - حرمة الرِّضاع (1) ثابتة بنص القرآن والسنة المتلقاة بقبول الأمة، وهي من الأصول المجمع عليها، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (2)، ثم ذهب طائفة من ضَعَفة الفقهاء إلى أن أصول المحرمات مستفادة من نص الكتاب تنصيصاً وتنبيهاً؛ فإنه تعالى نصّ على تحريم الأمهات، والتحريم المضاف إلى الأصول شملها والفروعَ، فكان ذلك ظاهراً من طريق النص والفحوى على تحريم الأصول والفروع، ثم نص على تحريم الأخوات، فدل على أن ما يقع على جانب الأصول والفصول [يضاهي] (3) في الحرمة النسَب. وهذا ليس مما يعتد به. أما تحريم الأمهات والمرتضعين منهن، فمنصوص عليه، وكذلك تحريم الأخوات، ومن زعم أن الكتاب مستقلٌّ بالدلالة على تعميم التحريم في قواعد الرضاع، فليس على بصيرة في النظر في الصيغ وما يتلقى منها، وإن كان ما ذكره هؤلاء إشارة إلى تمهيد طريق القياس، فليس القياس من فوائد الألفاظ، وليست الألفاظ مرشدةً إليه، ولا دالةً عليه، وإنما يتلقى العمل بالقياس من الإجماع، كما تقرره الأصول.

_ (1) الرّضاع: بفتح الراء وكسرها؛ ولذا لا نضبطها، فكيفما قرأْتَ صادفتَ صواباً. (2) حديث يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، متفق عليه من حديث عائشة، وابن عباس رضي الله عنهما (البخاري: الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، ح 2645، 2646، مسلم: الرضاع، باب يحرم من الرضاعة من يحرم من الولادة، ح 1444، وباب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، ح 1447). (3) في الأصل: مضاهي.

على أنا لو رُددنا إلى القياس، لم نتوسع فيه في أصول الرضاع، فإن اقتضاء الرضاع الحرمةَ والمحرميةَ ليس مما [يستدّ] (1) فيه قياسٌ معنوي أو شبهي، فلا وجه إلا القطعَ بأن الكتاب تضمّن تبيينَ أصولٍ من الرضاع، ولم يجر تخصيصه إياها على صيغةٍ تتضمن نفيَ ما عداها، فمضمون الكتاب استفتاحُ الكلام في الرضاع، واستتمامه متلقّىً من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ قال عليه السلام: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وهذا من جوامع الكلم؛ فإنه شامل لقواعد حرمة الرضاع، لا يغادر منها شيئاًً ولا يتطرق إليه تأويل، ولا مثنوية، ولا حاجة فيه إلى تتمةٍ بتصرف قائس. 9991 - ثم لما نظر الشافعي إلى مضمون الكتاب والنصِّ الشامل الكامل المنقول عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، رأى أن يعقب هذا الترتيبَ بالتصريح بإثبات الحرمةِ في جانب الفحلِ؛ فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " مستقل بإفادة التحريم في جميع القواعد. والذي يكاد يُردّ عنه نظرُ الناظر الحرمةُ في جانب الفحل وانتشارُها؛ من جهة أن اللبن ينفصل عن الأم، فذكر الشافعي على الاتصال بتمهيد القواعد لبنَ الفحل، توطئةً لأصل الكتاب، ثم عقد في لبن الفحل باباً من بعدُ، والحرمة تثبت في جانب الفحل، وتنتشر على مذاهب جماهير العلماء. والشاهد لذلك حديث خاصّ ناصٌّ يعضد موجَبَ العموم من قوله عليه السلام: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وهو ما روي أن أفلح بن أبي القُعَيْس، وفي بعض الروايات أفلح أخا أبي القُعَيْس استأذن على عائشةَ، فاحتجبت منه فقال: تَحَجَّبين مني؟ أنا عمك، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: أرضعتك زوجة أخي بلبان أخي، فقالت عائشة: إنما أرضعتني المرأة لا الرجل، ثم راجعت عائشة رسول الله فقال عليه السلام: " إنه عمك تربت يمينك، فليلج عليك " (2).

_ (1) في الأصل: يستمر. والمثبت تصرّف من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ إمام الحرمين. (2) حديث ابن أبي القعيس متفق عليه (البخاري: النكاح، باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع، ح 5239. مسلم: الرضاع، باب تحريم الرضاع من ماء الفحل، ح 1445).

وسئل ابن عباس عن رجل له زوجتان أرضعت إحداهما غلاماً، والأخرى جارية، هل تحرم المناكحة بينهما، فقال: " اللقاح واحد " (1) وأراد رضي الله عنه بذلك انتسابَ ألبان الزوجتين إلى الزوج الواحد، وذلك يقتضي الأخوةَ من جهة الأب. ونقل نقلةُ المذاهب عن عبد الله بنِ عمرو، وعبد الله بنِ الزبير، وعائشةَ أنهم كانوا لا يثبتون الحرمةَ وانتشارَها في جانب الفحل (2)، ثم لم يصحح الأئمةُ الخلاف عن عائشةَ لصحة الحديث المنقول عنها. وذهب إلى نفي حرمة الفحل الأصم (3) [وعلقمةُ] (4) وإسماعيلُ بن عُليّة (5). وهذا المذهب لا عمل به ولا صائرَ إليه، والقول فيه يتصل بما ينعقد الإجماع فيه مسبوقاً بالخلاف. 9992 - ثم إن المزني أتى بقواعد الرضاع مبددة، ونحن لا نؤثر مخالفةَ ترتيبه،

_ (1) حديث ابن عباس رضي الله عنه، رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/ 24 ح 73) والترمذي: الرضاع، باب ما جاء في لبن الفحل، ح 1149 وانظر التلخيص: 4/ 9. (2) مذهب عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وعائشة رضي الله عنهم في لبن الفحل، انظر الروايات عنهم في سنن سعيد بن منصور: 1/ 237 وما بعدها، السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 451 وما بعدها، تلخيص الحبير: 4/ 10. (3) الأصم، أبو العباس محمد بن يعقوب النيسابوري، الورّاق، المعروف بالأصم. ولد سنة 247 هـ. أخذ عن الربيع، وروى عنه كتب الشافعي. كان محدّث وقته بلا مدافعة، وعرف بالأصم لإصابته بالصمم في شبابه. توفي سنة 346 هـ. (ر. طبقات الإسنوي: 1/ 76، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 133، العقد المذهب: 50، تذكرة الحفاظ: 3/ 860، سير أعلام النبلاء: 15/ 452). (4) في الأصل: عُليّة. والتصويب من صفوة المذهب. وعلقمة هو أبو شبل علقمة بن قي بن عبد الله النَخَعي الكوفي، التابعي الكبير الجليل والفقيه البارع، أكبر أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. كان طلبته يسألونه ويتفقهون به والصحابة متوافرون، توفي سنة 62 هـ. (ر. طبقات الشيرازي: 79، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 342، سير أعلام النبلاء: 4/ 53). (5) إسماعيل بن عُليّه. الإمام أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم بن شهم الأسدي مولاهم، البصري، وعُليَّة أُمُّه. مذكور في مختصر المزني في نكاح المشرك والأضحية. توفي سنة 94 هـ وقيل 93 هـ. (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 120، 121، سير أعلام النبلاء: 9/ 107).

ولا نرى الانحدار عن صَدْر الكتاب من غير تقعيد وتمهيد، يَطّلع به الناظرُ على معظم المقاصد. وترتيبُ الشافعي أولى متبع، وقد تشوّف إلى استيعاب التمهيد؛ إذ ذكر أصول الحرمات، وتعرض للبن الفحل، فنقول: لحرمة الرضاع أصول وفروع، فالأصول ثلاثة أشخاص: المرأة المرضعة، والصبي المرتضع، والرجل الذي [أدرّ لبنَ] (1) المرأة على الولد المنتسبِ إليه، وهو المسمى الفحلَ في هذا الكتاب، والمرتضع بحكم الرضاع ولدٌ، والمرضعة أمٌّ، والرجل الذي وصفناه أبٌ، فهؤلاء أصول الحرمات. ثم الحرمات لا تقتصر على الأصول، بل تنتشر منها، وقد يتمحضُ الانتشارُ في جهةِ الرضاع، وقد يُمزَج النسبُ بها، فليعتقد الفقيهُ أن المرتَضِعَ في منزلة الولد في الحرمة والمحرميّة، ثم تنتظم الحرمةُ بينه وبين من تعتزي الأم إليه على حسب انتظامها بين الولد وبين المنتسبين إلى أم الولادة، فيحرم المرتضعُ على أمهات المرضعة، وآبائها، وأخواتها، وأخواتهم؛ فإنهم يقعون منه على مراتبِ الأخوالِ والخالاتِ. ولا تثبت الحرمة بين المرتضع وبين بني إخوة المرضعة وبني إخوتهم، فإنهم يقعون من المرتضع في مرتبة بني الأخوال، وأولاد الخالات، وهم لا يحرمون في النسب. وحرمة الرضاع في انتشارها لا تُبِرّ (2) على جهة النسب. وهذا النسق بين المرتضع وبين أب الرضاع، والمنتسبين إلى أب الرضاع، أو المتصلين به بجهة الرضاعة على حسب ما ذكرناه في المرضعة. هذا بيان أصل الانتشار من المرضعة، وأب الرضاع. 9993 - وأما انتشار الحرمة من جانب المرتضع، فكل من يحرم المرتضعُ عليه، فيحرم أولادهُ عليه، وإن تَسفّلوا.

_ (1) في الأصل: كدّر أن المرأة. وهو تصحيف بشع لا وجه له. (2) لا تُبرّ: لا تزيد.

ولا انتشار للحرمة في جانبه إلا إلى أولاده، فلو كان للمرتضع أخ من نسب أو رضاع، فإنه لا يحرم على المرضعة. فإن قيل: ألستم ادّعيتم استقلال قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الشمول والترقي عن التأويل؛ إذ قال عليه السلام: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "؟ قلنا: أجل هو كذلك؛ فإن قيل: أخ الابن وأخته يحرمان على الأب إذا كان الابن المسؤول عنه نسيباً؟ قلنا: ليس هذا من تحريم النسب، ولكن الرجل إذا كان له ابن نسيب، فأخوه ابنه أو ربيبه، فيتأتَّى التحريم من الصهر، وليس من ضرورة بنوة الرضاع اتصال صهرٍ بها، ومقتضى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما يحرّمه النسب يحرمه الرضاع، وهذا مستمر لا قصور فيه ولا استثناء فيه. 9994 - وإن بسطنا القول في انتشار الحرمة، عُدنا وقلنا: المرضعةُ أم، وأبوها جد، وأمها جدة، وأخوها خال، وأختها خالة، وأولادها إخوة، وأعمامها وأخوالها وعماتها وخالاتها كالأعمام [والعمات] (1) والأخوال والخالات الأَدْنين، وعلى هذا الوجه تنتظم حرمة النسب. وهذا القول بعينه يجري في أب الرضاع، وأولادُ المرتضع، وأحفادُه، وإن تسفّلوا بمثابة الأولاد، وإخوته وأخواته لا يحرمون؛ فإن النسب لا يحرمهم أيضاًً، وأبوه لا يحرم، فإن أب الابن زوج الأم. وقال قائلون: انتشار حرمة الرضاعة كانتشار حرمة النسب إلا أن أخت الابن النسيب محرمة، لأنها بنت الأب إن كانت أختاً من الأب، أو بنت أم الابن، فتقع ربيبةً للأب، وأختُ المرتضع لا تحرم على أب الرضاع؛ لأنه لا يلزم أن تكون مرتضعة أيضاً، ولا يلزم أن تكون ربيبة، وأم أم ابن النسيب محرّمة؛ لأنها صهره، وأم أم المرتضع لا تحرم؛ لأنه لا يلزم أن تكون صهره، فلا استثناء إذاً إلا من جهة الصهر، كما ذكرناه. 9995 - وإذا وضح الغرض على البسط، فنجمع قولاً وجيزاً يحوي القواعد،

_ (1) سقطت من الأصل.

ولا يشَذُّ منه في أصل الحرمة أصلٌ، فنقول: الأصول ثلاثة كما ذكرنا: الأب، والأم، والمرتضع، ثم كل من يحرم على الأب من النسب والرضاع، فهو محرم على المرتضع إلا بني الإخوة والأخوات؛ فإنهم محرمون عليه، وهم يقعون من المرتضع أولاد الأعمام والعمات. ونقول في المرضعة هي محرمة لأمومة الرضاع، وكل من يحرم عليها بنسب أو رضاع، فهو محرم على المرتضع إلا بني إخوتها وأخواتها، كما ذكرناه في الأب؛ فإنهم يقعون من المرتضع أولاد الأخوال والخالات. وأما المرتضع في نفسه، فيحرم أولادُه من النسب والرضاع، كما يحرم هو، ولا يحرم إلا أولادُه وأحفاده. فهذا هو الضابط الجامع. 9996 - ومما يوصَى الطالب به ألا يُغفل التفاف الرضاع بالنسب، ويجري الكلام مجرى واحداً، ونحن نضرب في ذلك مثالاً، فنقول: [أمّك] (1) من الرضاع كل أنثى أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من أرضعك -يعني الفحل- أو ولدت من أرضعتك، أو ولدت من أرضعك، أو أرضعت من ولدتك، أو أرضعت من ولدك وليعتبر الناظر التفافَ الرضاع والنسب بهذه المرتبة. ولا مزيد على ما ذكرناه نحن في عقد الجُمل. 9997 - ولما ذكر صاحب التلخيص تشبيه الرضاع بالنسب، وأراد الاستثناء -فإن مجموعه مقصور على الاستثناء- استثنى ما لا حاجة إليه، وقال: الرضاع كالنسب إلا في الميراث، والولاية، وأخذ يعدد ما لا حاجة إليه. والقول الكامل فيه أن الرضاع لا يضاهي النسب إلا في الحرمة والمحرمية، قال الأئمة: الأمهاتُ ثلات: أم النسب، وهي ذات محرمية رحم، ويجتمع فيها الحرمة والمحرمية، وأم الرضاع، ولها المحرمية والحرمة، والأم الثالثة هي التي خلفت رسول الله بالزوجية قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. وكان أمر الحرمة

_ (1) في الأصل: أمّكن.

على الأبد، ولا محرمية، وقد انعقد ما أردنا عقده، ونعود بعده إلى ترتيب (السواد). فصل قال: " والرضاع اسم جامع يقع على المصّة والمصتين ... إلى آخره " (1). 9998 - أبان الشافعي رضي الله عنه أن اسم الرضاع ينطلق على المصة والمصتين فصاعداً، وهو اسم جنس يجمع الواحد والجمع، وأراد بذلك أنه لو لم يرد في صحيح الأخبار ما يدلّ على اشتراط العدد في الرضعات، لأثبتنا الحرمة باسم الرضاع، ولكن صح أن حرمة الرضاع لا تحصل إلا برَضَعات، وأبو حنيفة (2) لم يرع العدد وأثبت الحرمة بما ينطلق عليه اسمُ الرضاع. والأخبارُ الواردة في العَدَد كثيرة، منها ما رواه ابن الزبير عن النبي عليه السلام أنه قال: " لا تحرّم المصة ولا المصتان، ولا الرضعة، ولا الرضعتان " (3) وروت أم الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تحرم الإملاجة، ولا الإملاجتان " (4) فثبت أصل العدد، ثم رأى الشافعي أن حرمة الرضاع لا تحصل إلا بخمس رضعات، واعتمد في ذلك حديث عائشة (5)، وهو مشهور مدون في الصحاح.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 49. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 314 مسألة 811، مختصر الطحاوي 222. (3) حديث ابن الزبير: " لا تحرم المصة ولا المصتان " رواه أحمد والنسائي وابن حبان والترمذي، وقال: الصحيح عند أهل الحديث من رواية ابن الزبير عن عائشة (ر. المسند: 6/ 96، 247، النسائي: النكاح، باب القدر الذي يحرم من الرضاعة، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك عن عائشة، ح 5456، 5457. الترمذي: النكاح، باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، ح 1150، ابن حبان: 6/ 214. التلخيص: 4/ 9 ح 1840). (4) حديث أم الفضل: " لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ". رواه مسلم: الرضاع، باب في المصة والمصتان ح 1451، وانظر التلخيص 4/ 9 ح 1840. (5) حديث عائشة: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرِّمْن، ثم نُسخن بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يُقرأ من القرآن " والحديث رواه مسلم: الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، ح 1452، وأبو داود: النكاح، باب هل=

وذهب ابن أبي ليلى وداود (1)، وغيرهما إلى أن حرمة الرضاع تثبت بثلاث رضعات، واعتمدوا في ذلك حديثَ ابن الزبير وأمِّ الفضل، قال المزني: أسمِع ابنُ الزبير رسول الله؛ فقال رضي الله عنه: سمعه وهو ابن تسع، وقال أئمة الحديث مات رسول الله وهو ابن تسع، فلعل الشافعيَّ أراد آخر ما سمعه في آخر العهد، ولا شك أنه ولد بعد الهجرة بسنة، فإنه لما قدم رسول الله عليه المدينة مهاجراً زعمت اليهود أنهم سَحَروا المسلمين؛ فلا يولد لهم ذكر، وانقضت سنة، ولم يولد للمسلمين ذكر، وأول مولود من الغلمان ابنُ الزبير، بعد انقضاء سنة، ولما وُلد، كبّر المسلمون. وقيل: كَبَّرَ أصحاب الحجاج يوم صلب ابن الزبير، فقالت أسماء أم ابن الزبير ذاتُ النطاقين: المكبرون عليك يوم ولدت خير من المكبرين عليك يوم قتلت. فقد اعتمد قوم حديثَ ابن الزبير في نفي الحرمة عن المصة والمصتين، وبَنْوا إثبات الحرمة على المفهوم، فإن التخصيص بالأقدار [يقتضي] (2) مخالفةَ الحكم للمقدّر المنصوص عليه. 9999 - واعتمد الشافعي الحديث الناص على الخمس، قالت عائشة: " أنزلت عشرُ رضعات يحرِّمن فنسخن بخمسٍ، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مما يتلى من القرآن". وهذا قد يعترض فيه إشكال، فإن الحديث، وإن كان مدوّناً في كل صحيح، فمضمونه أن الرضعات الخمس كانت ضمن آيةٍ تتلى من القرآن، ونحن لا نراها بين الدفتين، فلعها أرادت أنها كانت تتلى حُكماً. والقول في ذلك يطول، وليس من الحزم الزيادة على المعنى المطلوب في كل فنّ. وحمل الشافعي حديث المصة والمصتين على جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال مخصوص، وواقعة سئل فيها عن المصتين، فخرج جوابُه على وَفْق

_ =يحرم ما دون خمس رضعات، ح 2062، والترمذي: الرضاع، باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، ح 1150، ومالك في الموطأ 2/ 608. (1) ر. المحلي: 10/ 10. (2) في الأصل: يفضي.

السؤال، وهذا [يعضده] (1) ما روي عن صعصعة بن صُوحان أنه قال: [سئل] (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحرم الرضعة والرضعتان؟ فقال عليه السلام: " لا تحرم الرضعة والرضعتان " (3). وصح من مذهب عائشة اعتبارُ خمسِ رضعات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سالم: " أرضعيه خمساً يحرم عليك "، كما سنصفه بعد هذا إن شاء الله. فهذا القدر كافٍ في تأسيس المذهب. وموضع استقصائه مسائل الخلاف. 10000 - وأول ما نبتديه بعد ذلك أن الرجوع في أعداد الرضعات إلى حكم العرف، ولا نظر فيه إلى مقدار اللبن يقل أو يكثر، والمعتبر في ذلك من طريق التمثيل الأكلاتُ في موجَب البِرّ والحِنث في الأَيْمان، والرجل إذا تعاطى لقمة واحدة وأكلها، ثم انكف، فالذي صدر منه أكلة، ولو نُصبت المائدة بين يديه والألوان تختلف وتأتي على الوِلاء المعتاد في الأكلة الواحدة، فهذا وإن كثر أكلةٌ واحدة، كذلك المصّة الواحدة إذا تحقق وصول شيء من اللبن بها إلى الجوف، ثم فرض الاقتصار عليها رضعةٌ واحدةٌ. ولو التقم الصبي الثدي واستكثر من الارتضاع، وتطاول الزمن على التواصل المعتاد، فهو رضعة واحدة، ولو كان الصبي في أثناء الارتضاع يلفظ الثدي، ويلهو ثم يعود في زمنٍ لا يقطع اعتبارَ التواصل، فكل ما يجري رضعة، ولو استنفد ما في أحد الثديين، فنقلته المرضع إلى الثدي الآخر، فهذا ليس رضعة جديدة، بل [كل] (4) ما يعد نوبة في الإرضاع، فهو رضعة. والقول في ذلك ظاهر غير مُحوجٍ إلى طلب مسلك في التقريب يُعتاد؛ فإن العادة بيّنة فيما يعد نوبة من الرضاع، وإنما تنقطع النوبة بزمان يتخلل قاطعٍ للتواصل، وقد

_ (1) في الأصل: يعضد. (2) سقطت من الأصل. (3) حديث صعصعة بن صوحان رواه مسلم من حديث أم الفضل رضي الله عنها (الرضاع باب في المصة والمصتان، ح 1451). (4) في الأصل: كان.

يؤثِّر عندنا في ذلك المقصود؛ فإن الأم إذا أرضعت وانصرفت، فلم يطل الزمان فاستعبر الصبي أو نابه ما يقتضي تسكينَه، فلو عادت إليه وأرضعته، فهذا يعد رضعة ثانية، وإن كانت لو أدامت الإكباب على الإرضاع، لكان لا يبعد تخلل مثل هذا الزمان مع العود إلى الرضعة الأولى، وهذا لا ينكره من [يهتم] (1) بدرك المعارف (2). ويتخلل في الأكلة من الزمان ما لا يعتد به، فلو قام الرجل مضرباً، ثم عاد لأمرٍ اقتضى العَوْدَ وافتتح الأكل، عُدّ أكْلة واحدة، فالرجوع إذاً إلى المعارف؛ فإن بانت في الاتحاد والتعدد، جرى الحكم بحسبها. وإن تردد الرأي بين اتحاد الرضعة وتعددها، تردُّدَ إشكال، لا تردُّدَ اجتهاد، فالأصل الاتحاد، وعدم وقوع الحرمة المنوطة بالعدد، وإن تقابل اجتهادان في اقتضاء الاتحاد والتعدد، ثار الخلاف، وهذا جارٍ في كل ما يتلقى من العرف. 10001 - وقد قال العراقيون حكايةً: من أصحابنا من قال: إن الرضاع إنما ينقطع ويتعدد بإضراب الصبي، فلو لم يُضرب وقامت المرأة، ثم عادت وتكرر ذلك مراراً، فالكل رضعة. وهذا قول سخيف؛ فإن مأخذ الكلام في التعدد والاتحاد الاسمُ، وهو متلقى من العرف، فإذا قامت المرأة، وتخلل زمانٌ قاطع، ثم عادت، عُدّ ذلك رضعتين، فلا معنى للنظر إلى إضراب الصبي، والذي ذكروه [على بعده] (3) إذا دام تشوُّف الصبي إلى الرضاع في الزمان المتقطع، فأما إذا انقطع تشوفه، فهذا ملتحق بإضرابه. والأصلُ على الجملة فاسد. 10002 - ومما يتصل بالعدد في الرضاع ما نصفه، فنقول: تعدد الارتضاع من الثدي على ما وصفناه، وأما إذا احتُلب اللبنُ من الثدي، فتناوله الصبي من الظَّرف، فتفصيل ذلك أنه لو احتلب منها بدُفعة ووصل المحتلَب إلى جوف الصبي بدُفعة، فذلك

_ (1) في الأصل: من يتهم. (2) المعارف: المراد هنا الأعراف، جمع عُرف. (3) في الأصل: على بعد منه.

رضعةٌ، والمعنيّ بالدُّفعة ما وصفناه في الرضعة، فلو كان اللبن المجتمع يوجد على تواصل في الانصباب، فهو دُفعة واحدة، وإن كان يتأتى الاتحاد شيئاًً شيئاًً، فهو دُفعة، فنعتبر في اتحاد الدُّفعة ما نعتبره في اتحاد الأكْلة والشَّرْبَة. ولو احتلب من المرأة بدُفعة وأوصل اللبنَ المجموعَ بدُفعات خمس، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الرضعات متعددةٌ، نظراً إلى تقطع الوصول وتخلل التواصل، وهذا بمثابة [ما] (1) لو فرض هذا التعدد في الارتضاع من الثدي. والقول الثاني - أن الرضعة واحدة؛ فإن اللبن المجموع في الظرف في حكم الشيء الواحد، والنظر إليه، ولا حكم لتعدد تعاطيه وتناوله، وليس ذلك كالارتضاع من الثدي يتجدد حالاً على حال، والأفقهُ القولُ الأول. ولو احتلب اللبن من الثدي بخمس دفعات، على ما وصفنا التعدد، وجُمع المحلوب في كل دُفعة في ظرف، ثم أوصلت الألبان بدُفعات على أعداد الظروف إلى الصبي، فهذه رضعات؛ فإن التعدد متحقق من الجانبين ولم تختلط الألبان فتُعدَّ شيئاًً واحداً، فيجب القطع بالتعدد. ولو احتُلب اللبنُ بخَمس دُفعات، وجمعت الدُّفَع في ظرف واحد، فاختلطت، ثم أُوصلت إلى الصبي في خمس دُفعات، ففي هذه الصورة طريقان: من أصحابنا من قطع بحصول العدد؛ لتحقق التعدد في الاختلاط والإيصال إلى جوف الصبي، وليس كما لو احتُلب دُفعة، فأوصل بدُفعات؛ فإن التعدد وجد في أحد الجانبين دون الثاني. ومن أصحابنا من أجرى القولين في هذه الصورة؛ نظراً إلى اتحاد اللبن المجموع في الظرف، وإذا اتحد وكان لا يتجدد شيئاًً شيئاًً، فهو في حكم الشيء الواحد، فالاعتبار باتحاده في نفسه دون تعدد الحلب. 10003 - فانتظم من مجموع ما ذكرناه أنه إذا اجتمع ثلاثُ خلالٍ: التعددُ في الحلب، وتمييز المحلوبات، والتعدد في التعاطي، قطعنا بثبوت التعدد في الرضعات.

_ (1) في الأصل: بمثابة لو فرض.

وإن تحقق الاتحاد في هذه الجهات، قطعنا باتحاد الرضعة. وإن اتحد الحلب، وتعدد التعاطي، فقولان، وإن تعدد الحلب وتعدد التعاطي واتحد اللبن المجموع في الظرف، فطريقان، وإن تعدد الحلب واتحد التعاطي، فالقطع بالاتحاد لا غير. وحكى العراقيون في هذه الصورة وجهاً بعيداً في أن حكم التعدد يثبت إذا تعدد الاختلاف. وهذا أخرناه حتى لا يُعتَدَّ به، وعلى الفقيه ألاّ يغفل فيما أطلقناه من التعدد عن حقيقة التعدد؛ فإن من احتلب مقداراً ولها قليلاً، ثم استتم، فهذه حلْبة واحدة، وكذلك القول في التعاطي. فرع: 10004 - إذا كان للرجل امرأتان، فأرضعتا مولوداً، وتوالى الإرضاع منهما، بحيث لو فرض ذلك من امرأة واحدة، لكان رضعة واحدة، فالمذهب أن ما صدر منهما رضعتان؛ لتعدد المرضِع، وهو بمثابة تعدد المرتضِع. وذكر العراقيون وجهاً مزيفاً في أنه لا يثبت حكمُ التعدد مع تواصل الزمان في الإرضاع، ثم قالوا: إذا لم يثبت حكمُ التعدد، لم يثبت الرضاع أصلاً؛ فإن الرضعة الواحدة لا يمكن انقسامها، لتنتسب كل واحدة إلى بعض مرضعة، فالوجه إحباط الرضعة بالكلية، حتى لو صدر منهما ذلك على هذه الصفة مراراً، لم تحصل حرمة الرضاع. وهذا عندنا في حكم العبث والتلاعب بالفقه وقد نعود إلى طرف من ذلك في مسائلَ تأتي بعد هذا. فصل 10005 - لما ذكر الشافعي أن الرضاع اسمٌ جامع، وأبان أنا لو خُلِّينا والإطلاقُ فيه، لاستوى فيه القليل والكثير، والواحد والعدد، ولكن ثبت اعتبار العدد بالأخبار. قال: وكذلك إطلاق الرضاع لا يختص بزمانٍ، ولكن ورد التعبد باختصاص أثره

بمدة الرضاع، [وتبين لنا أن إرضاع الكبير] (1) لا يؤثر، ولا يحرّم. وقد روي أن سهلة بنت سهيل، قالت: كنا نرى سالماً ولداً؛ وكان يدخل علينا وإنا فُضُلٌ فراجعت رسول الله في أمره، فقال عليه السلام " أرضعيه خمسَ رضعات " (2) ففعلتْ، وكانت تراه ابناً من الرضاعة، فأخذت بذلك عائشة فيمن أحبت أن يدخل عليها من الرجال، وكانت ترى إرضاعَ الكبير مثبتاً للحرمة في حق الناس كافة؛ تعلقاً بحديث سهلةَ وسالمٍ، وأبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحدٌ من الناس، وقلن: ما نرى الذي أمر به رسول الله إلا رخصةً في سالم وحده. وروى الشافعي أن أم سلمة قالت في الحديت: هو لسالم خاصة، وفي هذا الأصل تصرّفٌ للشافعي رمز إليه المزني، ولم يستقصه؛ وذلك أن خطاب الرسول عليه السلام إذا اختص بمختصٍّ في حكاية حال، فحكم الصيغة اختصاصُ الحكم بالمخاطب، وإذا قضينا بأن الناس في الشرع شَرَعٌ، حكمنا بأن حُكْمه على معيّن حكمٌ على الناس كافة، فهذا متلقى من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإجماع، ومستند اعتقادهم في هذا ما كانوا يشاهدون من قرائن الأحوال في قصد رسول الله التعميمَ. فإذا اضطرب رأيهم في قصد التخصيص، واللفظُ في نفسه مُختص بالمخاطب، لم يجز تعميمُ الحكم؛ سيّما إذا اعتضد خلافُه بما يستقل دليلاً، وقد قال عز من قائل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ} [البقرة: 233]، فأثبت تمامَ الرضاعة في الحولين، فاقتضى مفهومُ الخطاب أن ما بعدهما ليس في حكم الرضاعة؛ إذ ليس بعد التمام أمر معتبرٌ منتظر، ولا يمكن حمل هذا على اعتياد الناس؛ فإنهم على أنحاء مختلفة. ورأيت في بعض المجموعات حديثاً رواه صاحب الكتاب بإسناده عن سفيان بن

_ (1) في الأصل: وتبين لها أن الرضاع الكبير. (2) حديث سهلة بنت سهيل: "كنا نرى سالماً ولداً .. " الحديث. رواه الشيخان (البخاري: النكاح، باب الاكفاء في الدين، ح 5088. مسلم: الرضاع، باب رضاعة الكبير، ح 1453).

عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا رضاع إلا في الحولين " (1) فتبين انحصار أثر الرضاع في الحولين واختصاص سالم بما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة سهلةَ بنتِ سهيل امرأةِ أبي حذيفة. 10006 - ولو جرت رضعات فوقع الشك في أنها هل بلغت خمساً أم لا؟ فالحرمة لا تثبت؛ فإن الأصل الحل، وانتفاء الحرمة، وسيأتي هذا من بعدُ. ولو جرت الرضعات الخمسُ، وأشكل الأمر، فلم ندر أنها وقعت في الحولين، أو بعدهما، أو واحدة منها بعدهما، فهذا يقرب من تقابل الأصلين؛ فإن الرضاع قد قامت صورتهُ وعددهُ، والأصل بقاء المدة، وهذا يعارضه أن الأصل الحِلُّ وعدمُ الحرمة، فأشبه ما لو شك الماسح في انقضاء المدة، فالأمر محمول على انقضائها ردًّا إلى إيجاب غسل الرجلين، كذلك الأصل الحِلُّ. ولعلنا نأتي بمسائل في الشكوك المتعلقة بأبواب الرضاع. فصل قال: " والوجور كالرضاع ... إلى آخره " (2). 10007 - مقصود الفصل بيان المحل المعتبر الذي يشترط وصول اللبن إليه، فنقول أولاً: ما لا يُفطر الصائم لا يتعلق به حرمة الرضاع، وقد مضى ذلك في كتاب الصوم مستقصًى، وما يُفطر الصائم من الواصلات إلى الجوف ينقسم: فمنه ما يصل إلى محل التغذية كالمعدة، ومنه ما لا يصل إلى محل التغذية، وإن كان باطناً يتعلق بالوصول إليه الفطرُ.

_ (1) حديث: " لا رضاع إلا في الحولين " روي عن ابن عباس مرفوعاً، الدارقطني (4/ 174)، والبيهقي في الكبرى (7/ 462)، وقد صححه موقوفاً. ورواه مالك في الموطأ موقوفاً (2/ 462)، وانظر التلخيص: (4/ 8 ح 1838). هذا. وهو عند الدارقطني بالسند نفسه الذي أورده الإمام مما يدل على أنه يقصد (ببعض المجموعات) سنن الدارقطني. (2) ر. المختصر: 5/ 53.

فأما ما يصل إلى محل التغذية، فيتعلق حرمة الرضاع به. وما يصل إلى الباطن، ومثله يفطر، وليس محل التغذية، ففي تعلق حرمة الرضاع به قولان، كالحقنة؛ فإنها مفطرة، وإذا حقن الصبيُّ [اللبنَ] (1)، ففي حصول حرمة الرضاع قولان: أحدهما - أنها تحصل اعتباراً بالفطر، وأيضاً فالتداوي من الأغراض المقصودة كالتغذي، ولو قيل: الأغذية في معنى الأدوية، والمقصودُ من استعمالها ردُّ الطبيعة المائلة بسَوْرة (2) الجوع إلى الاعتدال، لكان سديداً. ومن راعى مكانَ التغذية ومَظِنتَها، تشوّف إلى معنى كلي مقصودٍ بقول (3) المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن الأنساب امتشجت من وشائج الخلق وأطوار النطف، والألبانُ تؤثر في البنية قريباً من تأثير مواد الزرع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم " (4). 10008 - وأما السعوط، وهو إيصال اللبن إلى الدماغ، فلأصحابنا فيه طريقان: منهم من أجرى فيه قولي الحقنة مَصيراً إلى أن الدماغ ليس فيه قوة عادية، وإنما يستعمل السعوط تداوياً كالاحتقان، ومنهم من قطع بأن السعوط يُثبت الحرمةَ قولاً واحداً، وإليه ميلُ الأكثرين. وهؤلاء اعتقدوا إفضاء السعوط إلى التغذية، وهو لعمرنا كذلك، لأن الرأس تشارك فم المعدة، وبينهما عِرْقان لا ينتهي شيء إلى فم المعدة إلا ترقى جزء منه إلى الدماغ، ولا ينتهي إلى الدماغ شيء إلا انحدر منه جزء إلى المعدة، ولهذا يتقوّى الضعيف بالطّيب الذي يصل إلى دماغه، فإنه يردُّ جزءاً منه وإن قل إلى المعدة. وإذا وصل اللبن إلى مثانة الصبي، فهو بمعنى الحقنة وإن زُرّق اللبنُ في إحليله فلم ينته إلى المثانة، كان ذلك خارجاً على الخلاف في أن ذلك هل يفطر الصائم؟ فإن

_ (1) في الأصل: وإذا حقن الصبي الذي. (2) سَوْرة الجوع (بالسين) شدّته وحدّته (المصباح). (3) يشير إلى الحديث الشريف الآتي. تعليق رقم (4). (4) حديت: " الرضاع ما أنبت اللحم ... " رواه أبو داود: النكاح، باب في رضاع الكبير، ح 2059، 2060، وأحمد (1/ 432)، والبيهقي في الكبرى (7/ 461).

قلنا: إنه لا يفطره، فلا تتعلق الحرمة به، وإن قلنا: إنه يفطره، ففي تعلق الحرمة به القولان المذكوران في الحقنة. 10009 - وقد ذكرنا تردداً في أن الصائم إذا قطّر في أذنه شيئاًً هل يفطر؟ فإن قلنا: إنه لا يفطر، لم يتعلق بوصول اللبن إلى داخل الأذن حرمة الرضاع، وإن قلنا: إنه يفطر، فالوجه تخريج الخلاف في حصول الحرمة على قولي الحقنة، وقد ذكر الشيخ أبو علي نص الشافعي في أنه لا تتعلّق به حرمة الرضاع. ولو أصاب الصبي قَرْحٌ فوصل اللبن منه إلى الباطن، فهذا من المفطرات، ولكن إذا لم يكن ذلك الباطن محل التغذية، خرج القولان المذكوران في الحقنة. ولم يختلف الأصحاب في أن الواصل بالمسامّ لا حكم له، كاللبن يقطّر على الرأس، وقد [يُفرض] (1) غوصُه وانتهاؤه إلى الدماغ، ولكن إذا كان الفطر لا يحصل به، فيستحيل أن تحصل حرمة الرضاع به. فصل قال: " وأدخل الشافعي على من قال ... إلى آخره " (2). 10010 - مقصود هذا الفصل الكلامُ في وصول اللبن إلى محل التغذية أو الجوف المعتبر بعد أن يلحقه التغايير بامتداد الزمان، أو الخَلْط، أو الصَّنْعة، فنقول: عَقْدُ الفصل أن اللبن إذا وصل إلى الجوف المعتبر، تعلقت الحرمة به، سواء كان طريّاً، أو حائلاً بامتداد الزمان، فلو رابَ، أو جُبِّن أو أقّط، فوصل اللبن إلى الجوف، تعلقت به الحرمة. ولم يعتبر الشافعي في ذلك اسمَ اللبن اعتباره اسم الإرضاع، حيث جعل العددَ والتخصّصَ بالزمان في حكم تخصيص العام؛ فإنه رأى في الشرع الاعتناءَ بالرضاع والإرضاع، وفهم على القطع وصولَ اللبن على أي جهةٍ فُرض، ولم ير للشرع اعتناءً باسم اللبن، فلم يكترث بالتغايير التي تلحقه.

_ (1) في الأصل: يعرض. (2) ر. المختصر: 5/ 54.

وقد يعترض في ذلك أن اللبن إذا مُخض ومُيّز الزُّبد منه، فالباقي مَخيض، فلو أمكن مثل ذلك في لبن الآدميات، فكل جزء يصل إلى الباطن تتعلق الحرمة به. هذا قولنا في التغايير التي تلحق اللبن. 10011 - فأما إذا خلط اللبن بغيره، فنذكر التفصيل في خلطه بالماء، ثم نبيّن خلطَه بغيره، فإن خُلطَ بالماء، لم يَخْلُ: إما أن يكون الماء قليلاً، أو يكون بالغاً حد الكثرة. فإن كان في حدّ القِلة، واختلط اللبن به، لم يخلُ: إما أن يكون اللبن غالباًً، أو مغلوباً. فإن كان غالباً، فما وصل منه إلى الجوف المعتبر، فهو مثبت للحرمة. وإن كان مغلوباً -وتصوُّرُ ذلك منه إذا كان لا يظهر من صفات اللبن شيء لا اللون، ولا الطّعم ولا الرائحة- فهل تتعلق حرمة الرضاع بإيصاله إلى الجوف؟ فعلى قولين: أظهرهما - أن الحرمة تتعلق به. والقول الثاني - أن الحرمة لا تتعلق به، وهو مذهب أبي حنيفة (1). توجيه القولين: من قال: تتعلق الحرمة به احتج بأن اللبن في حكم المستهلَك، فكأنْ لا لبن، والدليل عليه أن التوضُّؤ بهذا الماء جائز، وإن امتنع التوضؤ باللبن. والقول الثاني - أن الحرمة تتعلق به؛ فإن اللبن واصلٌ إلى الجوف، وهو المطلوب، وإذا تحقق وصوله، وجب تعلق الحرمة به. ويقرب مأخذ القولين من أصلٍ ذكرناه في أحكام المياه، وهو أن المقدار [الذي] (2) لا يسعْ وضوءاً من الماء إذا كمل بالماوَرْد وهو مغلوب بالماء، ففي جواز التوضؤ به خلاف. ووجهُ التقريب لائح، فإنا في وجهٍ نقول: المغلوب كالمعدوم، وفي وجه نُثبت

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 222، فتح القدير: 3/ 315. (2) زيادة من المحقق.

لوجوده المحقَّقِ الحكمَ، ونقول: المتوضىء به لم يستعمل الماء الطهور في أعضاء الوضوء على تحقيق. 10012 - فإن قلنا: لا تتعلق الحرمة به لكونه مغلوباً، فلو أتى الصبيّ على جميع الماء، لم تتعلق الحرمة به. وإن قلنا: على القول الأصح، وهو أن الحرمة تتعلق به، فلو شرب الصبي جميعَه، تعلقت الحرمة بمباشرته؛ فإن اللبن وصل بشرب جميعه إلى باطنه يقيناً. وإن شرب من ذلك المختلط بعضه، والتفريعُ على القول الذي انتهينا إليه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الحرمة لا تثبت؛ لأنا لم نستيقن وصول اللبن إلى الجوف، ولسنا نُبعد أن يكون اللبن فيما بقي. والوجه الثاني - أن الحرمة تثبت؛ فإن اللبن منبثٌ في الجميع، وجميع أجزائه منبسطة على جميع أجزاء الماء، ولو لم يكن كذلك، لكان ممتازاً عن الماء، ولكان يُحَسّ امتيازُه، وليس الأمر كذلك. ثم الوجهان عندنا فيه إذا كان الباقي بحيث يمكن تقدير انحياز اللبن إليه، فإن عرفنا قطعاًً أن المقدار الذي شربه الصبي منه جزء من اللبن، قطعنا بحصول الحرمة على القول الذي عليه التفريع، وذلك بأن يكون الماء أرطالاً، واللّبن رَطلاً، فأبقى الصبي من الماء ما يعلم أن رَطلاً من اللبن يغيره لا محالة، وكان الماء صافياً، فقد أتى الصبي على اللبن، فلا يجري الخلاف هاهنا. هذا إذا كان الماء في حد القلّة. 10013 - وأما إذا كان الماء في حدّ الكثرة بالغاً قلتين، فهذا يرتب على الماء القليل؛ فإن حكمنا بأن الاختلاط بالقليل يُسقط حرمةَ اللبن، فالماء [الكثير] (1) بذلك أولى. وإن حكمنا بأن الاختلاط بالقليل لا يسقط حرمةَ اللبن، فالاختلاط بالكثير الذي

_ (1) في الأصل: "فالماء كثير" وهذا علامة على عجمة قديمة كانت عند الناسخ.

يبلغ قلتين [يجري] (1) الترتيب فيه على عكس ما ذكرناه، فنقول: إن أتى على بعض الماء على الحد الذي ذكرناه، لم يتعلق به الحرمة، وإن أتى الصبي على جميع الماء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الحرمة تثبت وإن كان اللبن مغلوباً، كالماء القليل. والثاني - أن الحرمة لا تثبت؛ فإن هذا المبلغ من الشرع (2) على قوة غالبة، ولذلك لا يحمل نجساً مع استيقان انبثاث النجاسة فيه. والأولى أن ننفصل عن هذا ونقول: أمرُ النجاسة واندفاعُها مبني على مسيس الحاجةِ والضرورة؛ فإن المياه إذا كثرت وبلغت مبلغاً لا تحويه الظروف والأوعية، فيعسر صونها عن النجاسة، ومن الأصول الثابتة العفوُ عن النجاسات التي يعسر التصوُّن منها، وهذا المعنى لا يتحقق في اللبن، فيجب أن نرعى فيه استيقان وصول اللبن إلى الجوف. وإذا كان كذلك، فلو أتى الصبي على قُلَّةٍ من الماء، وقد مازج الماءَ رَطلٌ أو أكثر من اللبن، فلا يبعد تخريج ذلك على الخلاف، فإن هذا القائل يجعل الماء الكثير كالماء القليل، ولا يربط بما فيه من القوة الدافعة للنجاسة حُكماً، فيترتب عليه إخراج حد الكثرة عن الاعتبار. 10014 - ومن تمام البيان في هذا الفصل أنا ذكرنا اللبن وكونَه مغلوباً أو غالباًً، وقد اختلف أئمتنا في معنى الغلبة، فذهب ذاهبون إلى أن المغلوب هو الذي لا يُحَسُّ له وصف، وإليه مصير الجماهير. وذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر أن المغلوب هو الذي يَخرُج بكثرة الماء عن كونه معتدّاً للتغذي؛ فإن الغلبة في كل باب تعتبر على حسب ما يليق به، والمعنيُّ بما ذكرناه أن يصير اللبن -وإن كان يحسُّ لونه مثلاً مع الماء- بحيث لا يغذي. [وهذا الذي] (3) ذكره فيه خيالُ الفقه، ولكن التصوير لا يطابقه، فإن وصف اللبن إذا كان بادياً، فلا بد وأن يكون مؤثراً جنسُه في الغذاء، وإن كان يرق، وهذا

_ (1) في الأصل: جرى. (2) الشرع: المراد هنا الماء: أي إن هذا القدرَ من الماء، اعتبر الشرعُ فيه قوةً غالبةً ... إلخ. (3) في الأصل: وهو الذي.

بمثابة قِلَّةِ القدر، فإن القَطْرةَ إذا وصلت وإن لم يظهر لها غَناء في الغذاء محسوس بمثابة المقدار الصالح منه، وإنما نَظَرُنا في أنه إذا انغمرت جميعُ الصفات، هل يسقط إثرُ الغذاء؟ 10015 - [وكل] (1) ما ذكرناه فيه إذا اختلط اللبن بالماء، فأما إذا اختلط بغيره من الأطعمة والأدوية، فجميعها على أقدارها بمثابة الماء القليل؛ فإنه لا حدّ فيها للشرع في تميز الكثير عن القليل. 10016 - ولا ثقة بدرك لُباب هذا الفصل إلا بالنظر في دقيقةٍ، وهي أن اللبن إذا اختلط بشيء اختلاطاً حقيقياً، ولم يُستيقن انبثاثُه على جميع أجزائه، وفُرض تعاطي الصبي طرفاً مما لا يستيقن انبثاثُ اللبن إليه، فالظاهر أن الحرمة لا تتعلق به؛ فإن وصول اللبن مشكوك. وجَبُن بعض أصحابنا، فأجرى حكمَ الحرمة مجرى الحكم بالنجاسة، فقد ثبت أن قطرة من البول لو وقعت في طرفٍ من ماء قارٍّ على ضَحْضَاحٍ منبسط، فيتصل بوقوعه حُكْمُنا بنجاسة الطرف الأقصى، فلا ينبغي للفقيه أن يُجري حكمَ اللبن هذا المجرى؛ فإن مدار هذه الفصول في الرضاع على استيقان وصول اللبن إلى الجوف، وإن كان مغلوباً، أو على إسقاط حكمه إذا غُلب. والنجاسةُ معظم أحكامها مبنيّ على التقذّر وعيافةِ النفوس. وهذا المعنى قد يحصل في الطرف الأقصى قبل انبثاث النجاسة حساً إليه. ومن أصحابنا من أجرى اختلاطَ اللبن مجرى اختلاطِ النجاسة إذا قلنا: لا تسقط حرمةٌ مغلوبة، وهذا غفلة عن سرّ الباب وخلطُ الأصل بأصلٍ. 10017 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن القطرة من اللبن إذا قطّرت في فم الصبي، ومازجها ريقُه، وصارت مغلوبةً بالريق، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الحرمة تثبت، وبَنَوْا ذلك على عسر النظر إلى ما وراء الشفتين، وجعلوا القطرةَ الغائبة

_ (1) في الأصل: فكل.

بالوصول إلى الفم كالقطرة التي تغيب بمجاوزة الغلصمة، وقدّروا اختلاطها برطوبات الفمّ بمثابة اختلاطها برطوبات المعدة. ومن أصحابنا من جعل الريق من حيث إنه من محلٍّ ملحقٍ بالظواهر بمثابة سائر المائعات التي يختلط اللبن بها؛ حتى يترددَ النظرُ في الغالب والمغلوب. وقد نجز ما أردناه من تغايير اللبن بالصنعة والزمان والاختلاط. 10018 - ثم ذكر الشافعي بعد هذا حكمَ لبن البهائم، فلا تتعلق به حرمة، وهذا لا غموضَ فيه، ولكنه قصد بإيراده الردَّ على عطاء؛ فإنه جعل الصبيين المجتمعين على لبن بهيمةٍ أخوين، وهذا من فَضَحات مذهبه؛ فإن الأخوةَ فرعُ الأمومة والأبوة، وأخ الإنسان ابن أبيه وابن أمه، وإذا استحال تقدير الأصل، استحال الفرع. 10019 - ثم ذكر الشافعي لبن الميتة، فإذا ماتت المرأة، فاحتُلِبَ منها بعد الموت لبن، لم يتعلق به حرمةُ الرضاع عند الشافعي، فإن انفصاله جرى والجثة منفكة عن الحرمة الثابتة للأحياء، وخلاف أبي حنيفة (1) مشهور في ذلك. ولو احتلب اللبن منها، وهي حية، فماتت، فتعاطاه الصبي بعد موتها، فالذي قطع به أئمة المذهب أن الحرمةَ تتعلق به، والسبب فيه أن الذي عليه التعويل في سقوطه [سقوطُ] (2) حرمةِ الميتة؛ [فإنها] (3) إذا ماتت واللبن في ثديها، فيتبعُ سقوطُ حرمة اللبن سقوطَ حرمة الأم؛ من جهة أنه اكتسب الحرمة من انسلاكه في مجاريها، وهي حية، فإذا لم ينفصل حتى سقط حرمتُها، فيسقط حرمةُ اللبن تبعاً، كما تثبت حرمتُه تبعاً. وهذا المعنى إنما يتحقق إذا ماتت واللبن في ثديها، فأما إذا حُلب اللبن منها في حياتها، فسقوط حرمتها إذا ماتت يستحيل أن يتعدى إلى اللبن المفصول منها. وبلّغني من أثق به أن القاضي كان يحكي وجهاً أن الحرمة لا تتعلق باللبن المحلوب

_ (1) ر. مختصر اختلاف في العلماء: 2/ 320 مسألة 814، مختصر الطحاوي: 222. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: أنها.

في الحياة إذا اتفق وصوله إلى الجوف بعد موت صاحبة اللبن، ورأيت هذا الوجه لبعض الأصحاب في طرق العراق. ووجهه -على بعده في الحكاية- أن اللبن لو أثبتَ الحرمةَ، لثبتت الأمومة بعد الموت، والأمومة أم الحرمات في الرضاع، فيبعد ثبوتها بعد سقوط الحرمة، وهذا لو كان مشهوراً في الحكاية، لكان وجهاً متجهاً، وحكايته معروفة بين الخلافيين، وهذا الوجه مخالف للنص الذي نقله المزني. فصل قال: " ولو تزوج صغيرة ثم أرضعتها أُمُّه ... إلى آخره " (1). 10020 - افتتح المزني المسائل المطلوبةَ المنسوبة إلى مغمضات الكتاب وإن كانت بيّنة عند ذوي الفطانة، وإنما فيها ما يُحوِج إلى تجديد الفكر والإكباب. [ولكني] (2) أرى أن أصدر المسائل التي بين أيدينا بأصلين: أحدهما - يتعلق بغُرم المهر: ونحن نقول فيه: إذا نكح الرجل صغيرةً رضيعة، فأرضعتها كبيرةٌ إرضاعاً يتضمن انفساخَ نكاحها، وذلك يفرض من وجوهٍ ستأتي مشروحة: منها أن تكون المرضعة أمَّ الزوج، أو ابنتَه، أو أختَه، فإن كانت أمَّه، فتصير الصغيرة أختَ الزوج، وإن كانت ابنتَه، فتصير حافدةَ الزوج، وحكمها حكم الولد، وإن كانت أختَه، صارت [بنتَ] (3) أخته، وصار هو خالها، وليس استيعاب وجوه الفساد من غرضنا الآن؛ فإنها ستأتي مستقصاةً بالصور، وفي الأصول التي مهدناها في صدر الكتاب ما يرشد إلى جميع ذلك. وغرضنا الآن التعرض للغُرم. 10021 - فإذا أرضعت امرأةٌ الصغيرةَ الرضيعةَ إرضاعاً مفسداً للنكاح، فإنها تغرم للزوج -بسبب تفويتها عليه الزوجيةَ في الصغيرة- والكلام فيما تغرمه؛ فإن الرضيعة

_ (1) ر. المختصر: 5/ 55. (2) في الأصل: والذي. (3) في الأصل: ابن أخته.

غيرُ ممسوسة، فنذكر ما تغرَمُه المرضعةُ إذا أفسدت نكاحاً قبل المسيس، ثم نذكر حكم الغرم إذا أفسدت نكاحاً بعد المسيس. فأما التفصيل فيما قبل الدخول، فالذي نصّ عليه الشافعي أن المرضعةَ تغرَم نصف مهر المثلِ قبل الدخول، ونص على أن الشهود إذا شهدوا على الطلاق قبل الدخول، ورجعوا عن الشهادة، بعد نفوذ الحكم، غرِموا تمامَ مهر المثل. واختلف أصحابنا في النصين: فمنهم من قال: فيهما قولان بالنقل والتخريج: أحد القولين- أن الواجب نصف مهر المثل على المرضعة والشهود، إذا كان [الفَرْض] (1) قبل الدخول؛ لأن الملك إذا لم يتأكد بالدخول، كان [العوض] (2) فيه على حده، ويعرف عدم تأكده بعدم تأكد عوضه؛ فإن الصداق المسمى لا يستقر منه قبل المسيس إلا شطره إذا كان الفراق بالطلاق. والقول الثاني - أنه يجب على المرضعة والشهودِ مهرُ المثل، فإن التفويت قد تحقق في ملكٍ تام لا نقصان فيه، ولولا تمامُه، لما انتظم الإقدام على الوطء، ولو فرض موتٌ قبل الدخول، كان كما لو فرض بعده. 10022 - ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وقال: على المرضعة نصفُ مهر المثل قبل المسيس، وعلى الشهود إذا رجعوا تمامُ مهر المثل. والفرق أن المرضعة قطعت النكاح بالإرضاع، فقرب تشبيه ما تلتزمه من قيمة البضع بما يلتزمه الزوج من المسمّى إذا طلق قبل الدخول. والشهود لم يقطعوا النكاح باطناً، وإنما أثبتوا حيلولةً لا مطمع في رفعها، والنكاح على زعمهم دائم والطَّلِبة بتمام المسمى متوجهة على الزوج، مع دوام النكاح قبل المسيس. ومن أصحابنا من أقر النص في الشهود، ولم يخرّج فيهم من المرضعة (3) قولاً، وخرّج في المرضعة قولاً أنها تلتزم تمام مهر المثل.

_ (1) في الأصل: الغرض. (2) في الأصل: الغرض. (3) أي لا يخرّج في الشهود قول نصف الصداق من القول الوارد في المرضعة.

وهذا أقسط الطرق؛ فإن التبعيض في الشهود [لا احتمال] (1) فيه، [وإيجاب] (2) تمام المهر على المرضعة ظاهر في القياس؛ فإن تشبيهها بالمطلّق اكتفاءٌ من المشبِّه بتلفيق لا حاصل وراءه؛ من جهة أن المطلّق هو الذي أزال ملكه قبل أن يستوفيه، فارتدت المنافع إليها بجملتها، فقابل الشرع استمكانه منها ببعض الصّداق. وأما المرضعة إذا فوتت ملكه قبل أن يستوفيه فهي أحرى بأن تلتزم الكمال. فليتأمل الناظر من كلامنا أمثالَ هذه المواضع. هذا الذي ذكرناه قاعدةُ المذهب. وقال أبو حنيفة (3) على المرضعة قبل المسيس نصفُ الصداق المسمى، وهو الذي يغرمه الزوج لزوجته التي فسد نكاحها بالرضاع، وهذا له اتجاه على حال؛ من جهة أن تقوّم البضع بقطع الملك فيه إلحاق له بالأموال المحضة، وليس هذا من قبيل استهلاك منافع البضع بالوطء، فإن تقوّمها بسبب تأكد الحرمة يضاهي تقوّم الحر إذا أتلف. 10023 - وقد حكى الشيخ أبو علي وغيره قولين آخرين في المرضعة، سوى ما قدمناه: أحدهما - مثل مذهب أبي حنيفة، ووجهه ما أشرنا إليه، فإذا قطعنا النظر عن قيمة البضع، فلا بد من تغريمها ما ضيعته على الزوج من ماله، والمضيَّعُ ما بذله الزوج، وهو نصف المسمى. والقول الثاني - أنها تغرَم له تمام المسمى؛ فإن الغرم إذا رجع إلى المسمى، فالتشطير لا يثبت إلا في حق الزوج. وهذا بعيد لا أصل له؛ فإن التفويت يتحقق فيما يبذله أو فيما يلزمه بذله، وهو نصف المسمى. ولو كان الزوج أصدقَ امرأته خمراً، واقتضى الحكم الرجوع إلى مهر المثل، فالقولان الزائدان لا يزيدان تحقيقاً، وان زادا تقديراً، فإنا في قولٍ نوجب نصف مهر

_ (1) في الأصل: لاحتمالٍ فيه. (2) في الأصل: بإيجاب. (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 313 مسألة 810، مختصر الطحاوي: 221.

المثل، وفي قولٍ نوجب تمام مهر المثل، غير أنا أجريناهما على قاعدة المذهب، فالنصف نصف قيمة البضع، والتمام تمام قيمة البضع، فإن أجرينا القولين الزائدين، فالنصف في محل نصف المسمى، والتمام في محل تمام المسمى. 10024 - فإذاً تَجَمَّعَ في المرضعة أربعةُ أقوال في نكاح لا مسيس فيه: أحدها - أنها تلتزم نصف مهر المثل. والثاني - أنها تلتزم تمام مهر المثل. والثالث - أنها تلتزم نصف المسمى. والرابع - أنها تلتزم تمام المسمى. وأما الشهود إذا رجعُوا قبل المسيس، ففيهم قولان: أحدهما - أنهم يلتزمون تمام مهر المثل، وهو الأصح. والثاني - أنهم يلتزمون نصف مهر المثل. والذي أراه أن القولين المحكيين في المرضعة في نصف المسمى، وتمام المسمى يجريان في الشهود، فإن مأخذهما عدم تقوّم البضع من غير إتلاف ولا تملّك، وليس هذا كتقويمنا البضع في مقابلة الشقص الممهور؛ فإن ذلك تقويمُ تقدير، كما سبق في موضعه. وذكر الصيدلاني وغيره من الأئمة قولاً آخر في الشهود، وهو أن الزوج إن كان بذل تمام المهر، فالشهود يغرمون التمام؛ لأنه أنكر الطلاق قبل المسيس، فلا يمكنه استرداد ما بذله، فإن كان لم يبذل من الصداق شيئاً أو بذل نصفه، لم يطالِب إلا بالنصف بعد نفوذ القضاء بالطلاق، فانتصب هذا قولاً مفصلاً خامساً. والذي أراه أن هذا يحسن إذا كنا نغرّم الشهود المسمى نصفَه أو كلَّه. فانتظم إذاً في الشهود خمسة أقوال. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان إفساد النكاح بالإرضاع قبل المسيس. 10025 - فأما إذا تسببت المرضعة إلى إفساد النكاح بعد المسيس، وهذا يُتصور على وجوهٍ ستأتي مفصلةً نذكر منها صورةً للتمثيل: فإذا نكح الرجل كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرةَ، فسد نكاحُ الكبيرة [على] (1) الرأي الظاهر، فإذا تغرم أمُّ الكبيرة لزوجها والكبيرةُ ممسوسةٌ؟

_ (1) زيادة من المحقق.

ما قطع به الأصحاب أنها تغرَم تمامَ مهر المثل قولاً واحداً؛ لأنها فوتت النكاح بعد استقراره، وتأكده بالمسيس. قال صاحب التقريب: حكى المزني في غير المختصر عن الشافعي أنه قال: لا يجب على المرضعة المفسدةِ للنكاح بعد المسيس شيء؛ لأن الزوج قد استوفى بالمسيس حقه، والوطأةُ الواحدة بمثابة وطْآت العمر، ولذلك تُقرِّر الصداقَ عليه، وبطل حق المرأة في حق حبسها نفسها، ولو ارتدت بعد المسيس، وانفسخ النكاح لإصرارها إلى انقضاء العدة، لم يسقط المسمى (1)، حكى المزني ذلك عن الشافعي، وقطع الشافعي فيما نَقَل جوابَه بهذا، وهو مذهب أبي حنيفة. ثم خرّج المزني قولاً أن المرضعة تلتزم مهر المثل، قال صاحب التقريب: كنت أقطع بهذا القول الذي خرجه، ولا أعرف غيره، حتى اطلعتُ على ما نقله المزني. فانتظم في الغرم إذاً قولان بعد المسيس: أحدهما - أنه لا يجب شيء وهو مذهب أبي حنيفة، والقول الثاني - أنه يجب المهر بكماله وهو القول المشهور المنصورُ في الخلاف. وإذا طردنا قولين في المرضعة، لزم إجراؤهما في الشهود على الطلاق بعد المسيس، إذا رجعوا عن شهادتهم. وقد نجز القول الكلي فيما يتعلق بالغرم المتوجه على المرضعة. 10026 - ونحن ننعطف على المسألة ونستفتح فيها حكماً آخر فنقول: إذا كان الإرضاع مثبتاً للغرم على التفصيل المقدم، فلا حكم لارتضاع الصبيّة، وإن كان لها فعلٌ واختيار، ولكنه في حكم المغلوب بالإضافة إلى الإرضاع. هذا ما وجدته متفقاً عليه بين الأصحاب. والممكن في تقديره أن ارتضاعَ الصبيةِ طِباعٌ، واختيارُ المُرضعة أغلبُ، وهذا يضاهي فتح القفص مع اتصال الطيران بالفتح؛ من جهة أن ابتغاء الطائر الإفلات طِباعٌ

_ (1) الأَولى في التمثيل بالمرتدة أنها لا تغرَم المهرَ للزوج بانفساخ النكاح بردّتها بعد المسيس. فبهذا استشهد النووي. (ر. الروضة: 9/ 22).

مع اتفاق الفتح، ولكن في ذلك الأصل أقوال ذكرناها. ولا خلاف أن الارتضاع لا حكم له مع اتصال الاختيار بالإرضاع، فحق هذا الذي نحن فيه أن نستشهد به في نصرة بعض الأقوال في إفلات الطائر، ولا فرق بين أن يتصل الارتضاع بإلقام المرضعةِ الصبيَّ الثديَ، وبين أن ينفصل، وفي فتح القفص نَفْصل بين الاتصال والانفصال، كما تقرر في موضعه، والفرق أن فعل الفاتح انتهى بالفتح، فلا يمتنعُ اعتبارُ انفصالٍ عنه، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن المرضعة إذا ألقمت الصبيَّ الثديَ، فإدامتها الثدي في فم الصبي من فعلها، وهو بمثابة ابتداء الإلقام. 10027 - ولو كانت المرضعة نائمة، فدبَّت الصبية إلى ثديها، والتقمت وارتضعت، فلا فعل ولا اختيار للمرضعة، فالمذهب الظاهر أن الفعل محالٌ على الارتضاع في هذه الصورة، وأثر الإحالة عليه شيئان: أحدهما - أن صاحبة اللبن لا تغرَم شيئاً؛ لأنها لم تتسبّب، ولم تنسب إلى اختيار. والثاني - أن مهر الصغيرة المسمى لها يسقط، لانتسابها إلى الارتضاع، وإحالتنا الحكم عليه، وهو بمثابة ما لو ارتدت الكبيرة قبل المسيس. هذا ظاهر المذهب. وحكى الشيخ أبو علي وجهين آخرين سوى ما ذكرناه: أحدهما - أن هذه الحالة بمثابة ما لو أرضعت الكبيرة اختياراً وارتضعت الصبية، فلا حكم للارتضاع، والغرم محال على صاحبة اللبن، وحكى هذا الوجه عن الداركي (1) من أصحابنا. وتوجيهه -على بعده- فيما نقله: أن صاحبة اللبن منتسبة إلى التقصير، وترك التحفظ؛ إذ نامت في مكانٍ وبالقرب منها مرتَضِعٌ.

_ (1) الدَّارَكي، عبد العزيز بن عبد الله بن محمد، أبو القاسم الدَّارَكي، أحد أئمة الأصحاب ورفعائهم، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وانتهى إليه التدريس ببغداد، وعليه تفقه أبو حامد الإسفراييني. تكرر ذكره في الروضة كثيراً، وذكر في المهذب في غير موضع. توفي سنة 375 هـ. والداركي، نسبة إلى دارك (بفتح الراء) من قرى أصبهان. (ر. طبقات الشيرازي: 97، طبقات العبادي: 100، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 264، وفيات الأعيان: 2/ 361، طبقات السبكي: 3/ 330، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 141).

وهذا على نهاية البعد. والوجه الآخر - أن صاحبة اللبن لا تغرَم شيئاًً لزوج الصغيرة، وللصغيرة نصف الصداق المسمى، وهذا في التحقيق إسقاط أثر الإرضاع والارتضاع جميعاًً، وهذا أوْجَه قليلاً مما حكاه عن الدارَكي. أما سقوط الغُرم عن صاحبة اللبن، فبيّنٌ متجه. وأما عدم سقوط جميع المسمى، فمعلل بحمل الارتضاع على الطباع حيث وجد، فيسقط أثره، وقد يعتضد هذا في الحسّ بأن الصبي ينفصل عن الأم، فيأخذ في الارتضاع، ولا يجوز أن يفرض له اختيار في هذه الحالة، وعليه حمل بعضُ المفسرين قولَه تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. فقد تحصّل في ارتضاع الصبية من الكبيرة النائمة ثلاثةُ أوجه: أحدها - إسقاط الغرم وإحالةُ الإفساد على الارتضاع، وهو الأول، والوجهان الآخران قد بانا، فانتظمت الأوجه. 10028 - وإذا وقع التفريع على الأصح، وهو الوجه الأول، فلو قطَرَتْ قطرةٌ من ثدي صاحبة اللبن، وطيرتها الريح وفاقاً إلى غلصمة الصبية، فلم يوجد منها إرضاع ولا منها ارتضاع، فالذي ذكره الأصحاب تفريعاً على الوجه الأول المشهور أنه لا غرم على الكبيرة، وللصبية نصف صداقها على زوجها. وإذا فرعنا على مذهب الدارَكي، فلا شك أنه يوجب الغرم على الكبيرة، وهو ضعيف لا تفريع عليه. هذا قولنا في ارتضاع الصبية من غير إرضاع. 10029 - ونحن ننعطف على المسألة انعطافاً آخر، ونأخذ في تفصيلِ أصلٍ آخر: ما رأيناه تمحيصٌ للأغراض والمقاصد في المسائل أقربُ إلى مسلك البيان من خلط الأحكام بعضها بالبعض، فنقول: إن وُجد من الصبية ارتضاعٌ، ومن صاحبة اللبن إرضاع، فلا حكم لارتضاعها، ولها نصف المسمى على زوجها. وقد يعترض هاهنا سؤال، وهو أن الصداق إنما يتشطر إذا كان الزوج هو المطلِّق، فينضم إلى تمكنه من الاستمتاع، وإن لم يستمتع رفعُه النكاحَ بالطلاق،

فيترتب عليه أن المسمى لا يسقط جميعه، وهاهنا لم يتسبب الزوج إلى رفع النكاح، وإنما ارتفع دونه قبل أن يصل إلى مقصوده. فنقول: الأمر وإن كان كذلك، فنصف المسمى ثابت؛ فإن ارتضاع الصبيةِ عديمُ الأثر، فالرفع يغرّم الكبيرة، فيبعد أن يفوز بقيمة ما فُوّت عليه، ولا يغرَم للصبية من عوض العقد شيئاً. نعم، لو قطرت قطرة من اللبن من غير قصد، ووصل إلى باطن الصبية من غير قصدٍ منها، وجرينا على الأصح في نفي الغرم عن صاحبة اللبن، فهاهنا انقطع النكاح من غير قصد من الزوج، ولم يُخلِّف انقطاعُ النكاح غرماً، فالمذهب المنقول أنه يجب على الزوج نصف المسمى كما ذكرناه، ووجهه أن النكاح لا يعرى عن شيء من العوض إذا لم يظهر انتساب المرأة إلى رفعه، ولا انتسابَ من الصبية في الصورة التي ذكرناها. وفي هذه الصورة أدنى احتمال؛ من جهة أن الزوج لم يرفع النكاح، ولم يَفُز بعوض عنه. وهذا مذهب مالك (1)، وفي مسائلنا ما يناظر هذا. وهذا احتمال. والمذهب ما قطع الأصحاب به. 10030 - فإذاً يتسق في الغرض الذي نطلبه ثلاث صور: إحداها - أن يوجد الإرضاع (2) والارتضاع، فللصبية نصف المسمى. والأخرى - أن ترتضع وصاحبة اللبن نائمة، فالمذهب سقوط مسماها، [لتجرد] (3) ارتضاعها، وحكينا عن الدارَكي وغيرِه وجهاً آخر أن لها نصفَ المسمى. والصورة الثالثة - ألا يوجد من الصبية ارتضاع- في مسألة انفصال القطرة واتصالها بباطن الصبية- فالذي قطع به الأصحاب أنه يجب لها نصف المسمى على زوجها،

_ (1) ر. حاشية الدسوقي: 2/ 505 - ، 506. (2) في الأصل: أن يوجد الإرضاع للغرم والارتضاع. (3) في الأصل: لتجدد.

وقال مالك يسقط جميعُ المسمى، وما ذكرناه من الاحتمال توجيه مذهب مالك. 10031 - ومما نختتم فصلَ الغرم به أن الرجل إذا نكح كبيرةً وصغيرةً، فأرضعت الكبيرةُ الصغيرةَ، وفسد نكاحهما، كما سنبين، أما أمر الصغيرة، فقد أوضحناه في الغرم، وأما الكبيرة؛ فإنها تسببت إلى إفساد نكاح نفسها أيضاًً بالإرضاع، وأثر ذلك أنه يسقط مسماها، ولا تغرم للزوج شيئاً، بخلاف المرضعة التي ليست بزوجة، وذلك لأن الضمان المتعلق بالمتعاقدين في المعقود عليه يختص بترادّ العوض. فهذا أثر إفسادها نكاح نفسها. وهذا فيه إشكال لا يليق استقصاؤه بالمذهب (1)، وقد ذكرناه في مسائل (2) الخلاف. وهذا نجاز أحد الأصلين المقدمين على مسائل الفصل، وهذا بيان الغرم، وما يجب وما يسقط. 10032 - وأما الأصل الثاني - فنقول: إذا اتصل الصهر بحرمة الرضاع، تعلقت حرمة المصاهرة بما يجري، ولا فرق بين أن يتفق ذلك قبل النكاح، أو في دوامه، أو بعد ارتفاعه. والأصل متفق عليه. 10033 - وبيانه بالمسائل أن المرأة إذا أرضعت صبيّةً، فنكح الصبيةَ رجل، فالتي صارت أمها بالرضاعة محرمةٌ على الزوج على التأبيد، والأمومة في هذه الصورة متقدمة على الزوجية وأم الزوجة محرمة على التأبيد. ولو نكح الرجل صغيرةً وأبانها، فأرضعتها أجنبيةٌ خمساً في الحولين، حرمت هذه الأجنبية على الذي كان زوجاً للصبية، والأمومة تثبت بعد ارتفاع الزوجية،

_ (1) بالمذهب. المراد به هذا الكتاب (نهاية المطلب) فهو يسمّى (المذهب الكبير). (2) مسائل الخلاف: المراد بها كتاب (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) ويسميه مسائل الخلاف، لأن مبناه وطريقته على ذكر المسائل الخلافية بعنوان (مسائل) فيقول: مسائل القراض - مسائل الرضاع ... وهكذا. وكلما انتقل من موضعٍ إلى موضع قال: مسألة. وهذا غير كتابه الآخر في الخلاف الذي يسميه (الأساليب) وذلك لأنه كلما انتقل من مسألة خلافية إلى أخرى قال: أسلوب آخر ... فسمي باسم الأساليب.

ولكن كانت هذه الصبية زوجة، وقد ثبتت أمومة المرضعة، فلا نظر إلى تقدم الزوجية وتاريخ الرضاعة، وهذا متفق عليه لا نعرف فيه خلافاًً. ولو نكح الرجل كبيرةً، ثم أبانها، فنكحت غلاماً رضيعاً قَبِل نكاحَها له أبوه، وكانت ذاتَ ابنٍ من الزوج الأول، فلو أرضعت زوجَها الرضيعَ بلبان الزوج الأول، فلا شك في انفساخ نكاح الرضيع؛ لأن الكبيرة صارت أمَّه، وتحرم هذه الكبيرة على الزوج الأول على التأبيد، فإنها من زوجات ابنه من الرضاع، وحليلة الابن من الرضاع محرمة على الأب، فقد أثبت إرضاعها بنوة الرضيع من الزوج الأول، وانعقد النكاح قبل ذلك، فصارت حليلة الابن. وهذا ينبني على الأصل الذي مهدناه من أنا لا نعتبر التواريخ في ترتُّب الصهر على الرضاع والرضاع على الصهر. ومما بناه الأئمة على هذه القاعدة أن رجلاً اسمه زيد لو نكح كبيرة، ونكح رجل اسمه عمرو رضيعة، ثم أبان كل واحد منهما زوجته، واستبدلا: فنكح زيد الرضيعة، ونكح عمرو الكبيرة، ثم أرضعت الكبيرة بعد الاستبدال الصغيرة، فنقول: أما الكبيرة فتحرم عليهما جميعاًً لأنها صارت أم زوجة كل واحد منهما؛ فإن الصغيرة نكحها عمرو أولاً ثم زيد، ولا نظر إلى التاريخ. وأما الصغيرة، فنقول: إن لم يدخل زيد بالكبيرة لما كانت تحته، فنكاح الصغيرة [يتأتّى] (1)، لأنها صارت ربيبة امرأة لم يدخل بها، وإن كان الأول دخل بالكبيرة، انفسخ الآن نكاح الصغيرة، لأنها صارت ربيبةَ امرأة مدخولٍ بها. ولولا إقامة الرسم وطردُ الكتاب على نسق واحد في البيان، لرأيت طرح معظم هذه الأمثلة؛ لأن الفطن يتبرّم بها، ولا يكاد يخفى مداركها على أوائل النظر، ولكني أُجريها على صيغة البيان، وهذا معذرةٌ إلى الفقيه المنتهي إلى هذا المنتهى. 10034 - قال ابن الحداد: إذا در لمستولدة الرجلِ لبنٌ على ولده المنتسبِ إليه، ثم إنه زوجها من عبد له صغيرٍ رضيع، فلو أرضعته، فلا شك في انفساخ النكاح.

_ (1) في الأصل: يأتي.

ثم حكى عن الشافعي أنه قال: لا تحرم المستولدة على مولاها، وقال معترضاً: الرأي تحريمها؛ فإن العبد الصغير صار ابناً للمولى (1)، وهذه زوجة ابنه، وحليلة الابن تحرم. فقال الأصحاب: إن صححنا النكاح، فلا شك أن الجواب المبتوت ما ذكره ابن الحداد، ولكن حمل الأصحاب النص الذي نقله على فساد النكاح. ووجهوا للفساد ثلاثة أوجه: أحدها - أن التزويج من العبد الصغير لا يجوز؛ بناء على أن إجبار العبد الصغير على النكاح غيرُ جائز؛ من حيث إنه يُلزم ذمته مالاً. والوجه الثاني في توجيه الفساد- منعُ تزويج المستولدة؛ فإنا قد نمنع ذلك في قولٍ، كما سيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله وحده. والوجه الثالث - أن من زوج أمته من عبده، فالمذهب الأشهر والمسلك الأظهر أن النكاح يصح، وحكى الشيخ أبو علي وغيره وجهاً غريباً أن تزويج أمته من عبده غيرُ صحيح، وهذا -على بعده- موجه باستحالة ثبوت المهر، وإن كان كذلك، امتنع عقد النكاح؛ من جهة استحالة ثبوت العوض بالعقد وعند المسيس، وضاهى ذلك بدَلَ البضع. ولست أدري أقدَّمنا ذكر هذا في النكاح؟ فإن لم نذكره، فقد ذكرناه الآن. وإذا أفسدنا النكاح بوجهٍ من هذه الوجوه، لم تثبت الزوجيةُ مع الابن. وإذا نكح ابنُ الرجل امرأةً نكاحاً فاسداً، ولم يطأها على الشبهة، لم تحرم على الأب، فإن النكاح إنما يحرِّم حليلة الابن على الأب وحليلة الأب على الابن إذا صح. فهذا محمل النص الذي حكاه ابن الحداد. وإن صححنا النكاح، فليس تحريم المستولدة على المولى مما يُتمارى فيه. وقد نجز ما أردناه من تمهيد الأصل الثاني. وقد حان أن نخوض في المسائل، ومعظمها منصوصة فلا يضر حفظها حتى تكون معتدة في الذكر وتتهذب الأصول بها، ونحن نأتي بها صورة صورة.

_ (1) تذكّر (لبن الفحل)، فالمولى هنا هو الفحل.

فصل قال: " ولو أرضعتها امرأة له كبيرة لم يصبها ... إلى آخره " (1). 10035 - نستغرق مقصود الفصل برسم الصور. صورة: إذا كان تحت رجل صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرةُ الرضيعةَ، نظر: فإن أرضعتها بلبان الزوج، انفسخ نكاحهما، أما الصغيرة، فقد صارت بنت الزوج، وأما الكبيرة، فقد صارت من أمهات النساء. ان كانت ذاتَ لبن من غير الزوج، فلا يخلو إما أن تكون مدخولاً بها، وإما أن لا تكون مدخولاً بها. فإن كانت مدخولاً بها، انفسخ نكاح الكبيرة والصغيرة، وحرمتا على الأبد: أما الكبيرة، فقد صارت من أمهات النساء، والصغيرة ربيبةُ امرأةٍ مدخولٍ بها. ان لم تكن مدخولاً بها، فلا شك في انفساخ [نكاحهما] (2) لثبوت البنوة والأمومة بينهما، والجمع بين الأم والبنت مستحيل، وليست إحداهما أولى بالاندفاع، وأما الكبيرة، فقد حرمت على الأبد؛ هذه العلة فيها كافية في انفساخ نكاحها؛ فإنها صارت من أمهات النساء، ولا تحرم الصغيرة على الأبد، وإنما ينفسخ نكاحها في الحال لما أشرنا إليه من الجمع، وإلا فهي ربيبة امرأة لم يدخل بها، فلو أراد أن ينكح الصغيرة ابتداء، أمكنه ذلك. ولا يضر أن نُجريَ في بعض المسائل أحكامَ الغرم، وإن مهدنا أصله، وإحالةُ الإفساد على الكبيرة، والجريانُ على الأصح، فتغرمُ للزوج نصفَ مهر الصغيرة، ويسقط مهرها إن لم يكن مدخولاً بها، كما لو ارتدت قبل المسيس، وإن كانت مدخولاً بها، لم يسقط مهرها المسمى على الرأي الظاهر، كما لو ارتدت المرأة بعد المسيس، وقد ذكرت التفصيل في ذلك.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 55. (2) في الأصل: نكاحها.

والقدر المعتبر هاهنا تنزيل الرضاع بعد المسيس منزلة الارتداد، والزوج يغرم للصغيرة نصف مسماها. 10036 - صورة أخرى: إذا كان تحت الرجل كبيرة وثلاث صغائر، فأرضعتهن الكبيرة، لم يخف الحكم، إذا كان الإرضاع بلبان الزوج؛ فإنهن يصرن بناتِه. وإن كانت ذاتَ لبن من غير الزوج، نظر: فإن كانت مدخولاً بها، حرمت، وحرمن على الأبد من غير تفصيل؛ فإن الصغائر [يصرن] (1) ربائبَ امرأة مدخول بها، وتصير الكبيرة أمَّهن. وإن كان الرضاع بغير لبن الزوج، وكانت الكبيرةُ غيرَ مدخولٍ بها، فهذا القسم يفصّل، فإن أرضعتهن أربعاً أربعاً على ما يتفق من جمعٍ وترتيب، ثم احتُلب اللبنُ وجعل في ثلاثة ظروف، وأوصل الرضعة الخامسة إلى أجوافهن معاً من غير ترتيب، فيرتفع نكاحهن. أما الكبيرة، فتحرم على الأبد؛ لأنها من أمهات النساء، والصغائر لا يحرمن على الأبد؛ لأن الكبيرة غير مدخول بها، فهن ربائب امرأة لم يتفق الدخول بها، ولكن ينفسخ نكاحُهن لثبوت الأُخوّة بينهن في حالة واحدة، والجمع بين الأخوات مستحيل. ثم يغرَم الزوج نصف المسمى لكل صغيرة، ويسقط مهرُ الكبيرة، كما لو ارتدت قبل الدخول، وهذا حظها في نفسها من عهدة الإرضاع، وتغرم هي على الرأي الظاهر نصفَ مهر مثل كل صغيرة للزوج. ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت قبل الدخول بغير لبان الزوج الصغائرَ الثلاث ترتيباً: الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فنقول: أما نكاح الكبيرة، فلا شك في ارتفاعه، وهي محرمة على الأبد، وإنما النظر في الصغائر، فإذا أرضعت الأولى خمساً، انفسخ نكاحها لاجتماعها مع الأم وقد تثبت الأمومة والبنوة من غير ترتيب، فلما أرضعت الثانية، لم ينفسخ نكاح الثانية؛ من جهة أنها لا تحرم على الأبد،

_ (1) في الأصل: تصرفن.

والكبيرة أقدمت على إرضاعها بعد انفساخ نكاحها، فلا يحصل الجمع. فلما أرضعت الثالثة رضاعاً محرِّماً، انفسخ نكاح الثالثة، لا محالة؛ لأنها صارت أختاً للثانية وقد ثبتت الأخوة [بينها وبين] (1) الثانية في النكاح، والجمع بين الأختين ممتنع. هذا قولنا في الثالثة. فأما الثانية، ففي ارتفاع النكاح قولان: أصحهما وأقيسهما - أنه لا ينفسخ نكاح الثانية، وعبر الأئمة عن القولين، فقالوا: الأخيرة التي ينفسخ نكاحها بسبب الاجتماع مع المتقدمة تصير مع المقدّمة كالمنكوحتين في عُقدةٍ واحدةٍ أم الأخيرة كالمُدخلة على المتقدمة؟ فعلى القولين: فإن جعلناهما كالمنكوحتين دفعة واحدة، فلا وجه إلا الحكم بانفساخ نكاحهما جميعاًً، وإن جعلنا الأخيرة كالمُدخلة على الأولى، فينفسخ نكاح الأخيرة فحسب. توجيه القولين: وجه القول الأصح أن الأُخوّة لا تقبل في ثبوتها الترتيب، ولا يتصور ثبوتها إلا بين شخصين، والأخوّة هي المفسدة، وإذا لم يكن فيها ترتب، وجب القطع بانفساخ النكاح فيهما جميعاً. ووجه القول الثاني - أن الرضاع تمّ في الأولى، ولم يوجب انفساخاً، ثم الرضاع في الثانية بكماله، لم يتعلق بالأولى منه [فعل] (2)؛ فكان ترتب الرضاع على الرضاع كترتب النكاح على النكاح. وهذا ما لا [أشتغل] (3) بتقريره، وإنما هو تخييلٌ لا حاصل له. ثم قال الأئمة: مهما (4) فرضنا امرأتين، وقد تمهد في أحدهما سببٌ، ثم جرى في الثانية سبب آخر حصل به جمعٌ محرِّم، فينفسخ نكاح الثانية، وفي انفساخ نكاح الأولى القولان.

_ (1) في الأصل: وقد ثبتت الأخوة منها والثانية. (2) في الأصل: فعلى. (3) في الأصل: أستقلّ. (4) مهما: بمعنى إذا.

10037 - واختلف الأصحاب في صورة نذكرها، وهي أن الرجل لو كان تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعت أمُّ الكبيرةِ الصغيرةَ، فقد صارت الصغيرة أختاً للكبيرة؛ وإنما انتظمت الأخوة بينهما؛ لأن الكبيرة بنتُ المرضعة بالنسب، وهذا متقدم متمهد على إرضاع الصغيرة، فاختلف أصحابنا على طريقين: فقال الأكثرون: في انفساخ نكاح الكبيرة قولان، جرياً على القاعدة التي قدمناها؛ فإن البنوة بالنسبة متقدمة، والرضاع الذي تم به الأخوة متأخر، وكان كما لو أرضعت الزوجة الكبيرة صغيرة، ثم أخرى، ثم أرضعت الثالثة، فقد صارت أم الثانية بالرضاع، وتثبت الأخوة بين الثانية والثالثة بسبب تقدم بنوة الرضاع بين الكبيرة وبين الثانية، فلا فرق. ومن أصحابنا من قطع بأن الكبيرة تحرم قولاً واحداً، إذا أرضعت أمها الصغيرة، لأن البنوة في الكبيرة تثبت لا بجهة الرضاع، فليس في الرضاع ترتب. وهذا ليس بشيء، والوجه القطعُ بجراء القولين. 10038 - عاد بنا الكلام إلى كبيرة وثلاث صغائر والكبيرة غير مدخول بها، والإرضاع ليس بلبان الزوج، فلو أرضعت واحدةً من الصغائر، ثم أرضعت ثنتين، فأوصلت الرضعة الخامسة إلى أجوافهما معاً، فيبطل في هذه الصورة نكاح الصغائر الثلات: أما الصغيرة الأولى، فقد فسد نكاحها بسبب الجمع بين الأم وابنتها، وفسد نكاح الأخريين بحصول الأخوة فيهما معاً برضاعٍ جامع لا ترتب فيه. ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت صغيرتين جميعاً، كما صورنا الجمع، ثم أرضعت الثالثة وحدها خمساً، فيرتفع نكاح الصغيرتين الأوليين المجموعتين لعلتين في الجمع: إحداهما - الجمع مع الأم، [والثانية] (1) - الاجتماع في الأخوة، ولا يبطل نكاح الصغيرة الثالثة؛ فإن رضاعها يجري ونكاحُ الكبيرة زائل، وكذلك نكاح الصغيرتين الأوليين، وليست هي ربيبة امرأة مدخول بها. ولا يكاد يخفى حكم الغُرم إذا لاح فسادُ النكاح.

_ (1) في الأصل: الثاني.

10039 - صورة أخرى: إذا نكح رجل أربع صغائر، فجاءت أجنبية وأرضعتهن أربعاً أربعاً، ثم أوصلت الرضعة الخامسة إلى أجوافهن معاً، فيفسد نكاحهن للاجتماع في الأخوة برضاعٍ لا ترتب فيه، والنظر في الجمع والترتيب إلى الرضعة الخامسة. ولو أرضعت اثنتين معاً، ثم أرضعت الأخريين معاً، فسد نكاحهن لتحقق الجمع بين الأوليين وبين الأخريين. ولو أرضعتهن على الترتيب، فلا ينفسخ نكاح الأولى لو اقتصرت على إرضاعها، فلما أرضعت الثانية، صارت أختاً للأولى، وانفسخ نكاح الثانية، وهل ينفسخ نكاح الأولى؟ فعلى القولين؛ لأن الرضاع قد تم فيهما، فإن جعلنا الثانية كأختٍ تدخل على أختٍ، فينفسخ نكاح الثانية ولا ينفسخ نكاح الأولى، وإن جعلناهما كالمجموعتين في نكاح واحد، بطل نكاحهما بالتدافع، فلما أرضعت الثالثةَ، فإن حكمنا بانفساخ نكاح الأولى والثانية، فلا ينفسخ نكاحُ الثالثةِ الآن؛ فإن الأخوة فيها لا تصادف [أُختاً منكوحة] (1)؛ إذ قد ارتفع نكاح الرضيعتين قبلهما. وإن فرعنا على القول الثاني، وهو أن نكاح الأولى لا ينفسخ، فينفسخ نكاح الثالثة؛ فإن الأخوة تثبت بينها وبين الأولى وهي في النكاح، فبطل نكاح الثالثة، ولما أرضعت الرابعة، فنكاح الرابعة ينفسخ لا محالة على القولين؛ فإنها صارت أختَ الأولى، وأختَ [الثانية] (2)، والثالثةُ على القول الصحيح كانت منكوحة لما تم الرضاع في الرابعة، والأولى كانت منكوحة في القول الثاني لما تم الرضاع في الرابعة، فيفسخ نكاحها على القولين. وتخرّج من خاتمة الأم (3): إذا أرضعتهن ترتيباً أن نكاح الأربع ينفسخ آخراً على أصح القولين، وترتيبه أن ينفسخ نكاح الأولى عند تمام الرضاع في الثانية وينفسخ نكاح الثانية لا محالة، ثم ينفسخ نكاح الثالثة عند تمام الرضاع في الرابعة، وينفسخ نكاح الرابعة لا محالة.

_ (1) في الأصل: " أخت المنكوحة " والمثبت من صفوة المذهب. (2) في الأصل: "والثالثة" والمثبت من (صفوة المذهب). (3) وتخرج من خاتمة الأم: أي يستخلص من خاتمة المسألة الأم.

وعلى القول الثاني ينفسخ نكاح الثانية، والثالثة، والرابعة، ويبقى نكاح الأولى. ولو غيرنا الصور في الترتيب والجمع، وصورنا الجمع في ثلاث، ثم إرضاع الرابعة، أو عكس ذلك، لم يخف حكمه، فإذا أرضعت ثلاثاًً جمعاً، انفسخ نكاحهن، فإذا عادت فأرضعت الرابعة، لم ينفسخ نكاحها؛ إذ لا اجتماع لها مع أختٍ. ولو أرضعت واحدةً، ثم أرضعت ثلاثاً جمعاً: أما الأولى لا ينفسخ نكاحها لو فرض الاقتصار على إرضاعها، وأما الثلاث، فينفسخ نكاحهن، وهل نعود فنقول: ينفسخ نكاح الأولى، فعلى القولين السابقين. 10040 - صورة أخرى: إذا كان تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث خالات للزوج من أب وأم، هن أخوات أمه من أبيها وأمها، وأرضعت كل واحدة منهن صغيرة، فلا يحرمن على الزوج؛ فإنهن يصرن بنات خالاته، ولا امتناع في نكاح بنات الخالات. فلو كانت المسألة بحالها، وقد جرى الإرضاع من الخالات كما صورنا، فجاءت أم أم الزوج وأرضعت الصغيرة الرابعة، فقد صارت هذه خالة الزوج؛ لأنها تصير أخت أمه؛ فتحرم هي، وكما تصير خالة للزوج تصير خالة للصغائر الثلاث اللواتي أرضعتهن الخالات من قبل؛ وذلك لأنها كما (1) صارت أختَ أم الزوج، وصارت لذلك خالةَ الزوج، كذلك صارت أختَ الخالات المرضعات، والخالاتُ المرضعات قد صرن أمهات الصغائر الثلاث، وأختُ الأم خالة، وإذا صارت الرابعة خالةَ الصغائر الثلاث، صارت الصغائر الثلاث بنات أخوات الرابعة، ولا يجوز الجمع بين الخالة وبنت أختها، ولكن هذا حصل برضاع مترتب، فبطل نكاح الرابعة للخؤلة مع الزوج، والجمع مع بنات الأخوات، وهل يبطل نكاح الصغائر الثلاث؟ فعلى القولين السابقين؛ لأن ذلك حصل برضاع مرتب. ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت ثلاثُ خالاتٍ للزوج من الأب والأم ثلاثَ

_ (1) كما بمعنى عندما.

صغائر، فجاءت زوجة أب أم الزوج، وأرضعت الرابعة بلبان أب الأم، فإنها تصير أختاً لأم الزوج من أبيها، فتكون خالة للزوج من الأب، وتصير أختاً للخالات المرضعات من جهة الأب؛ فإنهن كن أخوات الأم من الأب والأم، وتصير الصغائر الثلاث بنات أخوات الرابعة، كما قدمنا ذلك. أما الرابعة فتحرم، وفي الثلاث القولان المذكوران. وبمثله لو جاءت ثلاثُ خالاتٍ للزوج من الأم فأرضعن ثلاثَ صغائرَ، ثم جاءت زوجة أب أم الزوج، وأرضعت الرابعة، فتصير الرابعة خالة للزوج من قِبل الأب؛ فإنها أخت أمه من أبيها؛ إذ زوجة أم الأب أرضعتها بلبان أب الأم، ولا تصير الرابعة أختاً للخالات المرضعات؛ فإنهن كن أخوات الأم من الأم، والرابعة صارت أخت الأم من الأب، فلا تثبت الأخوّة بين الرابعة، وبينهن؛ لأنه لم يجمعهن أبٌ ولا أم، والأخوّة إنما تنتظم إذا انتسب شخصان إلى أب واحد ببنوة الرضاع [أو انتسبا] (1) إلى أمٍّ واحدة بهذه الجهة، فإذا لم يتحقق انتماء إلى أب ولا إلى أم، فلا أخوّة. وإذا [كان] (2) لرجلٍ أخٌ من أبيه، وكان لذلك الأخ أخت من أمه، فأخته من أمه أجنبية من الرجل الأول الذي فرضنا الكلام فيه، وأخت الأخ حيث تحرم لا تحرم لأنها أخت الأخ، وإنما تحرم لأنها بنت الأب أو بنت الأم؛ لأن الأخوّة المحرِّمة حرمت من حيث إنها تفرعت على الأبوة أو على الأمومة، أو عليهما. وهذا واضح. ولو كانت الخالات الثلاث عن أب، فجئن، وأرضعن ثلاثَ صغائرَ، ثم جاءت أم أم الزوج، وأرضعت الرابعة؛ فإنها تصير خالة للزوج، كما تقدم، ولا تصير أختاً للخالات المرضعات لما ذكرناه، ووضوح ذلك يغني عن مزيد البسط فيه. 10041 - ولو كانت تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث عمات للزوج من أب وأم وأرضعن ثلاث صغائر، ثم جاءت أم أب الزوج وأرضعت الرابعة، فنقول: أما الثلاث؛ فإنهن صرن بنات عمات، فلو وقع الاقتصار [عليهن] (3) في الإرضاع- فعلى

_ (1) في الأصل: إذا انتسبا إلى أم واحدة. (2) سقطت من الأصل. (3) سقطت من الأصل.

ما مضى- لما ضرّ شيئاً؛ لأنهن صرن بنات عمات، وذلك غير ضائر، فلما أرضعت أمُّ الأب الرابعة، صارت عمةً للزوج؛ لأنها صارت أخت أبيه، فلا شك في فساد نكاحها، وكما صارت عمةً للزوج صارت أختاً للعمّات المرضعات، وصارت الصغائر الثلاث المرتضعات بنات أخوات الرابعة، فيحصل الجمع بين العمة وبين بنات الأخوات، ولكن حصل ذلك برضاع مرتب؛ إذ تم الرضاع في الثلاث الأُوَل، ثم حصل الإرضاع في الرابعة، فتحرم الرابعة بعمومة الزوج، وبعلة الجمع. وهل تحرم الثلاث الصغائر المتقدمات؟ فعلى القولين الممهدين في أن الأخيرة كالمُدخلة على الأوائل أم هي مع الأوائل كالمجموعات في عقد؟ وهذا الذي ذكرناه فيه إذا جاءت أم الأب وأرضعت الرابعة بلبان الأب، فالجواب كما تقدم؛ فإن في العمات المرضعات قرابة الأمومة، وقرابة الأبوة جميعاًً، فتحصل الأخوة بأحد الطرفين. ولو كانت العمات المرضعات من جهة الأب فجاءت أم الأب، فأرضعت الرابعة، لا بلبان أب الأب، فلا تثبت الأخوّة بين الرابعة وبين العمات، وكذلك لو كانت العمات من جهة الأم، فجاءت زوجة أب الأب وأرضعت الرابعة، لم تصر الرابعة أختاً للعمات، ولم تصر المرتضعات بنات أخوات، كما تقدم تصوير ذلك على التقرير التام في مسألة الخالات. 10042 - ولو كان تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث خالات متفرقات، وهن أخت الأم من أبيها وأمها، وأختها من أبيها، وأختها من أمها، وأرضعن ثلاث صغائر، ثم جاءت أم الأم وأرضعت الرابعة، فالقرابة التي تحرّم الجمع تثبت بين الرابعة وبين التي أرضعتها الخالة من الأب والأم والخالة من الأم، ولا يثبت بينها وبين التي أرضعتها الخالة من الأب ما يُحرِّم الجمع. ولو كانت المسألة بحالها، فجاءت زوجة أب الأم، فأرضعت الرابعة بلبان أب الأم، ثبت النسب المانع من الجمع بين الرابعة وبين التي أرضعتها الخالة من الأب والأم والخالة من الأب، ولم يثبت بينها وبين التي أرضعتها الخالة من الأم سببٌ مانع.

وإذا فرضنا إرضاع الثلاث من عمات متفرقات، انتظم مثل ما ذكرناه فيه، إذا جاءت أم أب الزوج وأرضعت الرابعة لا بلبان الأب، وكذلك إذا جاءت زوجة أب الأب وأرضعت الرابعة، ثم حيث ينتظم السبب المانع، فالرابعة تحرم من كل وجه للعمومة والجمع، وهل يحرم اثنتان من الصغائر الثلاث على ما يقتضيه الترتيب؟ فعلى القولين، وعلى هذا فقِسْ إن شاء الله. فصل قال: " ولو تزوج رجل كبيرتين وصغيرتين ... إلى آخره " (1). 10043 - إذا نكح الرجل كبيرتين وصغيرتين، فأرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرتين على الترتيب، بأن أرضعت الأولى خمساً، ثم أرضعت الثانية خمساً، ثم جاءت الكبيرة الأخرى وأرضعت الصغيرتين على ترتيب إرضاع الكبيرة الأولى، فإن كان الإرضاع بلبان الزوج، فقد حرمت الكبيرتان والصغيرتان على الأبد، غير أن الكبيرة الأولى لما أرضعت الصغيرة الأولى، فسد نكاحها ونكاحُ تلك الصغيرة؛ فإنها صارت بنت الزوج وصارت الكبيرة من أمهات النساء، فلما أرضعت الصغيرة الثانية، فسد نكاحها أيضاًً، لأنها تصير بنت الزوج، فقد حصل فساد نكاح الصغيرتين بإرضاع الكبيرة الأولى. وحكم الغُرم أن الكبيرة الأولى مدخول بها، وإذا (2) كانت ذاتَ لبنٍ من الزوجِ، واللبن دَرّ في النكاح، فلا يسقط مهرها بعد المسيس، كالردة بعد المسيس، وتغْرمَ نصفَ مهر مثل كل صغيرة على الرأي الظاهر. والكبيرة الثانية لا تغرم شيئاًً، ولا يسقط من مهرها شيء؛ لأنها لم تتسبب إلى إفساد نكاح واحدة من الصغيرتين، وإنما أفسدت نكاح نفسها بعد المسيس. وإن لم يكن إرضاع الكبيرتين بلبان الزوج، فلا يخلو إما أن كان دخل بهما أو لم

_ (1) ر. المختصر: 5/ 58 (ثم هو بمعنى كلام المختصر، لا بلفظه). (2) في الأصل: إذا كانت (بدون واو).

يكن دخل بهما، فإن كان دخل بهما، حَرُمْن كيف فرض الأمر، فإن الصغيرتين تصيران من ربائب [امرأة] (1) مدخولٍ بها، فتثبت الحرمة على الأبد بسبب الصهر، وتصير الكبيرتان من أمهات النساء في كل وجه. وإن لم يكن الإرضاع بلبان الزوج، وما كان دخل بالكبيرتين وجرى الإرضاع في الصغيرتين من كل كبيرة: أما الكبيرتان، فتحرمان على الأبد، لأنهما من أمهات الزوجات. وأما الصغيرتان، فلا تثبت فيهما حرمةٌ على التأبيد، وإنما يلحقهما الخللُ من جهة الجمع. فنقول: إذا أرضعت الأولى إحدى الصغيرتين [أَكْملَ] (2) الإرضاع، ثم أرضعت الثانية، فيرتفع نكاح الأولى للاجتماع مع الأم المرضعة، وأما الثانية، فلا يرتفع نكاحها؛ لأنها لا تجامع أُمَّاً في النكاح، وقد تقدم فساد نكاح الكبيرة [الأولى. وأما الكبيرة] (3) الثانية، فإن أرضعت [الصغيرة] (4) الأولى على الترتيب الأول، حرمت الكبيرة في نفسها على الأبد، لأنها من أمهات النساء، ولا نظر إلى التاريخ، للأصل الذي مهدناه من قبل، فإذا أرضعت الثانية، لم ينفسخ أيضاًً نكاح الثانية؛ لأنه لم يتحقق فيها محرمية ولا جمع. ولو ابتدأت الكبيرة الثانية بالصغيرة الثانية على العكس من ترتيب الكبيرة الأولى، فيبطل نكاح الصغيرة الثانية للاجتماع مع الأم. ثم حكم الغرم لا يخفى، فيسقط مهر كل كبيرة بجريان الإرضاع قبل المسيس، ثم النظر في فساد نكاح الصغيرتين، فكل كبيرة تسبّبت إلى إفساد نكاح صغيرة التزمت نصف مهر مثلها -على الرأي الظاهر- لزوجها، والزوج يلتزم نصف المسمى للصغيرة التي فسد نكاحها، فإنا لا نحيل على ارتضاع الصغيرة أمراً، كما تقدم.

_ (1) زيادة لإيضاح الكلام. (2) في الأصل: " وأكمل ". (3) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (4) زيادة لوضوح العبارة.

فصل قال: " ولو كانت للكبيرة ثلاث بنات مراضع من نسب أو رضاع ... إلى آخره " (1). 10044 - إذا نكح الرجل كبيرة وثلاثَ صغائرَ، وكان للكبيرة ثلاث بنات مراضع فجئن، وأرضعن الصغائر، نُظر: فإن كانت الكبيرة مدخولاً بها، فيفسد نكاح الأربع في كل وجه؛ لأن الكبيرة تصير جدة الصغائر، فهي من أمهات النساء، وتصير الصغائر ربائبَ مدخولٍ بها؛ فإن الحافدة ربيبةٌ كالبنت، وإذا حرمن على الأبد -كيف فرض الرضاع على ترتيب أو جمع- فالتفصيل في الغرم. فإن أرضعن ترتيباً، فالتي أرضعت الأولى تلتزم نصف مهر مثل الصغيرة الأولى لزوجها، وتلتزم تمام مهر مثل أمها؛ فإنها أفسدت نكاحها بعد المسيس، هذا هو المذهب الظاهر وعليه التفريع. ولسنا نفرع على ما حكاه صاحب التقريب عن المزني في غير المختصر، وقيل: نقل المزني ذلك القولَ في المنثور، فلا ينبغي أن يكون إليه عَوْدٌ في كل مسألة. فلما أرضعت البنتَ الثانيةَ، ثم البنتَ الثالثة، فسد نكاح الصغيرتين الأخريين للمحرمية، واختصت كل مرضعة بغرامة نصف مهر المثل للتي أرضعتها؛ وتختص مرضعة الأولى بغرامة مهر مثل الكبيرة؛ لأنها المفسدة لنكاحها. 10045 - ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها، فجاءت بناتها المراضع وأرضعن الصغائر، فهذا يُفرض على الجمع والترتيب: فإن جمعن الرضاع المحرِّم في الصغائر وأوقعنه معاً -وذلك يفرض في الرضعة الخامسة؛ فإنها لا حكم [للرضعات] (2) قبلها- فإذا حصل الرضاع على الجمع، فيفسد نكاح الصغائر بسبب الجمع بينهن وبين الكبيرة التي صارت جدة، والجدةُ أمٌّ في

_ (1) ر. المختصر: 5/ 58، ونص عبارته: ولو كان للكبيرة بنات مراضع، أو من رضاع ... (2) في الأصل: المرضعات.

هذه الأبواب، [ثم] (1) تنفرد كل بنت بغرامة نصف مهر التي أرضعتها، ويشتركن في غرامة مهر الكبيرة؛ فإن أفعالهن لم تترتب، وقد صدر من كل واحدة ما لو انفردت، لكان ذلك محرِّماً للكبيرة، فالغرم الواجب بسبب الكبيرة مفضوضٌ عليهن. هذا إذا حلبن ألبانهن وحصَّلن الرضعة الخامسة معاً، وكذلك لو ألقمنهن الثديَ، وتحقق وصول اللبن إلى الأجواف معاً. ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها وجرى الإرضاع من البنات على ترتيب، فإذا أرضعت واحدةٌ واحدة إرضاعاً تاماً، بطل بذلك نكاح الكبيرة والصغيرة للجمع والمحرمية: أما المحرمية، فتحصل في الكبيرة، لأنها تصير [من] (2) أمهات النساء، وأما نكاح الصغيرة فيبطل بالجمع، ولا تثبت المحرمية. فإذا جاءت البنت الثانية، وأرضعت صغيرة، ثم أرضعت الثالثةُ الثالثةَ، لم يبطل نكاحهما، إذ لا محرمية، والكبيرةُ غيرُ مدخول بها، ولا جمع أيضاً، ولا يثبت بين الصغيرتين سببٌ يُحرِّم الجمع؛ إذ تصير كل واحدة بنت خالة الأخرى، والجمع بين بنات الخالات لا يمتنع. ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها، فأرضعت بنتان صغيرتين جمعاً، كما صورنا الجمع، وأرضعت الثالثةُ الثالثةَ من بعدُ، أما نكاح الكبيرة، [فيرتفع للمحرمية] (3)، لا شك فيه، ويرتفع نكاح الصغيرتين للجمع مع الأم. وحكم الغرم أن كل مرضعة منهما تختص بغرامة نصف مهر مثل التي أرضعتها، ويشتركان في غرامة نصف مهر مثل الكبيرة؛ لأنهما اشتركتا في إفساد نكاحها. ولما جاءت البنت الثالثة، وأرضعت الصغيرة الثالثة، فلا أثر لإرضاعها؛ فإنها لم تثبت في الصغيرة الثالثة محرمية؛ إذ لا دخول بالكبيرة، ولم يتحقق فيها جمع؛ فإن نكاح الكبيرة قد تقدم ارتفاعه. وإن صورنا الأمر على الضد من ذلك، فأرضعت بنتٌ صغيرةً، وجمعت بنتان

_ (1) في الأصل: لم تنفرد. (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: فترتفع المحرمية.

الرضعة الخامسة للصغريين الأخريين، فيرتفع نكاح الكبيرة بالمحرمية، ونكاح الصغيرة الأولى بالجمع، ولا يؤثر إرضاع البنتين الأخريين؛ فإنه لا يُثبتُ محرميةً ولا جمعاً، وهذه الصورة في نهاية الوضوح، وإنما نوردها لاشتمال (السواد) عليها. 10046 - ثم ذكر ابن الحداد صوراً في الرضاع وما ينتظم منه من الحرمات ولست أرى ذكر واحدة منها لوضوحها، ولولا التزامنا ذكر مسائل السواد، لما أوردنا معظم الصور التي ذكرناها، اكتفاء بالأصول الممهدة، ولكن ذكر ابن الحداد فروعاً تتعلق بالمغارم مستفادة، منها أنه قال: إذا كان للرجل ثلاث نسوة مرضعات وصغيرة، فأرضعت إحداهن الرضيعة رضعتين، وكذلك الأخرى أرضعتها رضعتين، وأرضعت الكبيرةُ الثالثةُ الرضعةَ الخامسةَ، فلا تصير واحدةٌ من الكبيرات المراضع أماً؛ فإن واحدة منهن لم تُكمل الرضعاتِ الخمسَ. ولكنا نُصوِّر لبانَهن من الزوج ونقول: هل يصير الزوج أباً؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، سيأتي شرحه بعد هذا -إن شاء الله- أحد الوجهين- أنه يصير أباً لانتساب خمس رضعات إليه. والثاني - أنه لا يصير أباً، لأن الأبوة تبعُ الأمومة وسيأتي هذا. فليقع التفريع على ثبوت الأبوة، وتحرم الصغيرة على ذلك؛ لأنها صارت بنت الزوج على الوجه الذي عليه التفريع. والكلام في الغرم بعد ذلك، فنقول: لم يتعلق بالرضعات الأربع الصادرة من الكبيرتين الأوليين إفساد النكاح، وإنما تم الرضاع بالخامسة الصادرة من الكبيرة الثالثة، فالذي رأيته منصوصاً للأصحاب القطعُ بأن الكبيرةَ الثالثةَ التي هي صاحبة الرضعة الخامسة تختص بالغرم؛ فإنها المفسدةُ. ولا شك أن نكاح واحدة من الكبيرات لا ينفسخ؛ فإن الأمومة لم تثبت لواحدة. وليس يبعد عندنا عن الاحتمال تشريكُ الكبيرتين الأوليين؛ فإن الرضعة الخامسة

إنما وقعت خامسةً لتقدم أربع قبلها، ولا حاصل لقول من يقول: الحرمة بالخامسة، قالت عائشة: " فنسخن بخمس يحرّمن ". وهذا يضاهي مسألةً للأصحاب سيأتي ذكرها في مسائل أسباب الضمان من كتاب الديات، وهي أن من شحن سفينة شِحْنةً على اعتدال، فجاء آخر ووضع فيها عِدْلاً (1)، رسبت السفينة بسببه [وغرقت، فكم يغرم] (2) هذا الواضع؟ فيه تفصيل، وقد ذهب ذاهبون من أصحابنا إلى التوزيع، وهذا الذي ذكرناه في الرضاع احتمال، يعتضد برجوع الشهود؛ فإنه لو شهد أربعة على الطلاق، وجرى الحكم، ثم رجعوا عن الشهادات واحداً واحداً، فالغرم على جميعهم، وإن كان انتقاص العدد المشروط يحصل برجوع الثالث، والمذهب ما نقلناه، وهذا احتمال أبديناه، وهو [دافعٌ] (3) لا بأس به. 10047 - ولو كانت المسألة بحالها: ثلاث كبيرات وصغيرة، فأرضعت واحدةٌ الصغيرةَ رضعة، وأرضعت الثانيةُ رضعة، ثم احتلبتا لبنيهما، واحتلبت الكبيرة الثالثة لبنها، وجمعن هذه الألبان في ظرف، وأرضعن الصغيرة، فقد حصل بما صورناه خمسُ رضعات؛ فإن الأوليين قدمتا رضعتين، ولما جمعن ألبانهن، فكأنَّ كل واحدة أرضعت رضعة، فيحصل ثلاثُ رضعات بهذا اللبن المجموع، والتفريع على تحريم الصغيرة، وثبوت الأبوّة. وغرضنا الكلام في الغرم، ولا شك أنهن يشتركن في الغرم بسبب الاشتراك في الرضعة الأخيرة، وذكر الشيخ أبو علي وجهين في كيفية فضّ الغرم عليهن: أحدهما - أن الغرم بينهن أثلاثاً؛ فإنهن اشتركن آخراً عند حصول التحريم، فالوجه فضُّ الغرم عليهن أثلاثاًً.

_ (1) عِدْلاً: عدل الشيء مساويه في الوزن والقدر، والعدل أيضاً نصف الحمل يكون على أحد جَنْبي البعير، وهو الجُوالق، أو الغِرارة، وهو المراد هنا (المعجم والمصباح). (2) في الأصل: وغرمت وكم يغرم. (3) في الأصل: واقع.

والوجه الثاني - أنا نوجب على كل واحدة من الأُوليين [خُمسي] (1) الغرم، ونوجب على الثالثة خُمسَ الغرم، وحقيقة هذا الاختلاف يرجع إلى أنا هل نُدرج ما تقدم من الرضعتين من الكبيرتين في الحساب الذي عليه نَفُضُّ الغرمَ، فمن أصحابنا من لم يدرجهما، ولم يعتبرهما، ونظر إلى الاشتراك في الرضعة الخامسة. ومن أصحابنا من أدرج الرضعتين السابقتين، وقال: إنما لا تعتبر الرضعات السابقة إذا انفردت الثالثة بالرضعة الخامسة على رأي الأصحاب، فأما إذا وجد من الأُوليين -وقد صدرت منهما الرضعتان- مشاركةٌ في الخامسة، فنُدخل ما سبق في الاعتبار، وهذا كما إذا انفردت بخمس رضعات محرمات، فالغرم محال على الرضعات الخمس. وما ذكرناه تفريع على أن صاحبة الرضعة الخامسة إذا انفردت، انفردت بالغرم. 10048 - صورة أخرى لابن الحداد في المغارم: رجل تحته كبيرتان وصغيرة، وكانتا ذات لبن من غير الزوج، وما دخل الزوج بهما، فأرضعت كل واحدة منهما الصغيرة أربعَ رضعات، فلا يتعلق بما صدر منهما حرمة؛ لأن واحدة لم تكمل الرضاع، فتصير أمّاً، وليس اللبن من الزوج، حتى يختلف الأصحاب في ثبوت الأبوة بخمس رضعات ملفقات من رضاعهما، فلو احتلبتا ألبانهما، فأوجرتا الصغيرة [فلا] (2) تثبت الحرمة المؤبدة في حق الصغيرة؛ لأنا فرضنا المسألة فيه إذا لم يدخل الزوج بالكبيرتين، فليست ربيبةَ مدخولٍ بها، ولكن يبطل نكاح الصغيرة بسبب الجمع مع الأم. ثم تشترك الكبيرتان في غرامة نصف مهر مثل الصغيرة للزوج. وأما الكبيرتان ففيهما نظر يبين الغرض فيه بعد التنبُّه لما قدمناه من أن الكبيرة إذا أرضعت بنفسها، وفسد نكاحُها ونكاحُ الصغيرة، فهي لا تغرم بسبب فساد نكاحها في نفسها للزوج شيئاً، ولكن إن كانت غير ممسوسة، سقط مهرُها، فهذا أثر إفسادها

_ (1) في الأصل: "خمس" ولا يستقيم المعنى بهذا. والمثبت من تصرّف المحقق. (2) زيادة من المحقق، يفسد الحكم بدونها.

نكاح نفسها، وإن كانت ممسوسة، فالرأي الظاهر أنه لا يسقط من مهرها شيء لاستيفاء الزوج مقابل المهر. فإذا تجدد العهد بهذا، فكل واحدة من الكبيرتين ساعية في إفساد نكاح نفسها، ويرتفع نكاح صاحبتها أيضاً، فهل تغرم إحداهما للزوج مهر صاحبتها الكبيرة، أم كيف السبيل فيه؟ قال الشيخ أبو علي: اجتماعهما على الرضعة الخامسة، واشتراكهما فيها يوجب إحالة انفساخ نكاح كل واحدة منهما عليهما جميعاًً، هذا موجَب الاشتراك. فإذا كان كذلك فسَعْيُ كل واحدة في فسخ نكاح نفسها يوجب إسقاط المسمى، وسعي الأخرى في إفساد نكاحها يوجب الغرم للزوج، فالوجه أن نوفر على السببين موجَبَهما، ونقول: المسألة مفروضة فيه إذا لم تكونا ممسوستين، وقد تحقق الاشتراك، كما ذكرنا، فنسقط نصف المهر المسمى بسبب ارتفاع النكاح قبل المسيس، ويقع التصرف في النصف الباقي، فيرجع من النصف الباقي نصف وهو الربع، وتغرم كل واحدة لزوجها ربع مثل صاحبتها الكبيرة، فتستحق كل واحدة ربع المهر المسمى لها، وتغرم ربع مهر مثل صاحبتها. قال الشيخ: هذا مما قلتُه تخريجاً، ولم يتعرض له أحد من الأصحاب، وهذا قد نقله شيخي عن القفال على هذا الوجه بعينه، وشبَّه تدافعَ النكاحين بين الكبيرتين باصطدام الفارسين، وذلك يقتضي التشطير، كما سيأتي مقرراً. 10049 - قلت: هذا الذي ذكره الشيخ حسنٌ، ولكن لا يقف عليه الطالب إلا بالاطلاع على التفصيل، فإن أحاط به الشيخ ولم يذكره، فقد أخلّ، وإن لم يحط به، فإطلاقه على هذا الوجه خطأ صريح. والغرض من هذا الفصل يبين بتقديم أصلٍ بيّنٍ، وهو أن الكبيرة لو أرضعت الصغيرةَ، وهما تحت زوج أربع رضعات، ثم احتلبت اللبن في ظرف، فتقدم إلى الظرف إنسان وأوجره الصبية، فالغرم على الموجِر لا على صاحبة اللبن. فإذا تبين هذا، عدنا إلى التفصيل المقصود في المسألة، في مسألة الكبيرتين والصغيرة، فإذا أرضعت كل واحدة منهما الصغيرة أربع رضعات، نظر بعد ذلك، فإن

احتلبت كلُّ واحدة لبن نفسها في ظرف، ثم أوجرتا الصبية بحيث أوصلتا اللبن إلى جوفها من غير خلط، وأقلت كل واحدة لبن نفسها، فيجب القطع في هذه الصورة بأن [كل] (1) واحدة من الكبيرتين لا تغرم شيئاً من مهر الكبيرة الثانية؛ فإن كل واحدة إنما فسد [نكاحها] (2) بثبوت الأمومة، وأمومة كل واحدة تثبت بإيجارها الرضعة الخامسة، ولو انفردت إحداهما بإرضاع الصغيرة خمساً بلبان غير الزوج، فلا تحرم الكبيرة الأخرى، ولا أثر إذاً لواحدة منهما في نكاح الأخرى في الصورة التي ذكرناها، فلا اشتراك، [وكلُّ] (3) واحدة منفردة باثبات أمومة نفسها، فيسقط مهر كل واحدة منهما، ولا تغرم إحداهما للزوج شيئاً من مهر الكبيرة الأخرى. وكذلك لو ألقمتا ثديهما الصبية في الكرة الخامسة، وتحقق وصول اللبن إلى الجوف معاً، فالجواب كما ذكرنا، وإن كنا نتحقق أن اللبنين كانا يختلطان في فُغُرات (4) الصبي، ثم إن كانت تجرعه مختلطاً، فلا نظر إلى الاختلاط، والتعليل كما تقدم. ولو احتلبتا لبنيهما في ظرف واحتملت إحداهما الظرفَ وأوجرت [الصبية] (5)، فالجواب أن الموجرة يسقط مهرها، وتغرَم نصف مهر مثل الكبيرة الأخرى، لما مهدتُه قبلُ [من] (6) أن الغرم على الموجِر. ولو اشتركتا في حمل الظرف وفيه اللبنان، وأوجرتا، فالاشتراك يأتي من قِبَل أن هذه حملت لبن تيك وتيك حملت لبن هذه، فيظهر الاشتراك؛ فإن لبن كل واحدة منهما يضاف حمله إليهما، وإحالة الغرم على الحمل وتعاطي الإيجار، فيتجه على هذا في هذه الصورة ما قاله الشيخ، ولا يتجه غيره. هذا حقيقة المسألة ومنتهاها.

_ (1) زيادة لوضوح العبارة. (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: في كل واحدة. (4) فغرات: جمع فُغرة، والفغرة فمُ الوادي، والجمع فُغَر (المعجم) والمراد هنا فم الصبية في حركاته أثناء التقام الثدي. (5) زيادة لإيضاح الكلام. (6) في الأصل: في. ومع أن ابن هشام نصَّ على أن (في) تأتي مرادفة لـ (مِن) إلا أننا آثرنا تغييرها للإلف والعادة في زماننا هذا. والله أعلم.

فصل 10050 - إذا نكح الرجل صغيرة وكانت له خمسٌ من أمهات الأولاد، وذوات ألبان منه، أو كانت له زوجاتٌ مطلَّقات ذواتُ ألبان منه، والغرض تصوير مرضعاتٍ خمسٍ بألبان منتسبة إلى الرجل، فإذا أرضعت كل واحدة منهن الصغيرةَ رضعة، فحصلت خمسُ رضعات من خمس مراضع، فلا شك أن واحدة منهن لا تصير أُمّاً؛ إذ لم يصدر من [كل] (1) واحدة إلا رضعةٌُ واحدة، ولكن هل تثبت الأبوّة للرجل الدي انتساب الألبان إليه؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أن الأبوة لا تثبت؛ إذ هي تبعُ الأمومة ولم تثبت الأمومة، فلا تثبت الأبوّة. والوجه الثاني - أن الأبوة تثبت لتعدد الرضعات، والألبان منتسبة إلى الرجل، فيجب ثبوت الأبوة، وإن لم تثبت الأمومة. فلو كان لزوج الصغيرة خمس بنات مراضع، فأرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة واحدة، فلا تصير واحدة منهن أمّاً، وهل تثبت الجدودة للزوج؟ فعلى الوجهين المقدمين. وكذلك لو كان للزوج خمس أخوات مراضع، فأرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة واحدة، فالمسألة على الخلاف. وقد قال الأئمة: إذا اتحد الجنس في المراضع، فكن أمهات، أو زوجات= والزوجات مع أمهات الأولاد في حكم الجنس الواحد؛ فإن النظر إلى انتساب الولد- أو كن بنات الزوج، أو أخواته، فالخلاف في كل حال على نسق واحد، من غير ترتيب. والذي أراه أن الألبان المنتسبة إلى الزوج أَوْلى (2) الصور بحصول الأبوة؛ لحقيقة الانتساب، حتى كأن الزوج هو المرضع، وهذا المعنى لا يتحقق والمراضع بنات الزوج أو أخواته؛ فإن الألبان لا تنسب إلى الزوج، ولم يوجد إلا صَدَرُ خمس

_ (1) سقطت من الأصل. (2) في الأصل: أو إلى الصور.

رضعات من بنات شخصٍ واحد، فكأنهن في وجه كبنت واحدة في حق هذا الزوج. وهذا تكلف، والترتيب يحسن بدون هذا، فلنقل: إذا أرضعت الزوجات وأمهات الأولاد رضعة رضعة، ففيه الخلاف، ولئن أرضعت خمسُ بنات، فهذا يترتب على المسألة الأولى، وهذه الصورة أولى بأن لا تثبت الحرمة فيها، والفرق ما نبهنا عليه. وإذا كانت المراضع أخوات، فانتسابهن ليس إلى الزوج، وإنما ينتسبن إلى أب الزوج فيجري مع أب الزوج الخلاف الذي جرى في بنات الزوج من غير ترتيب. ثم إذا ثبتت الحرمة في حق أب الزوج تعدت إلى الزوج، فمسألة الأخوات كمسألة البنات، ولكن بَعْد فَهْم ما نبهنا عليه. 10051 - ولو أرضعت الصغيرةَ خمسُ مراضع من جهات مختلفة وكانت كل واحدة لو استتمت الرضاع خمساً، لحرمت الصغيرة، فإذا أرضعت الصغيرةَ رضعةً زوجةٌ، وبنتٌ، وأمٌّ للزوج، وأختٌ، وجدةٌ، فقد ذكر الأصحاب وجهين في أن الصغيرة هل تحرم على الزوج؟ والوجه عندنا ألا تحرم؛ فإنه ليس ينتظم من اجتماعهن جهةٌ مسماة في القرابة؛ فإنه لا تثبت لواحدة منهن حرمة في نفسها، ولا يتأتَّى نسبة الجهات المختلفات إلى أصلٍ، فتعين لذلك ترتيب الخلاف في هذه المسألة على آخر مسألة ذكرناها، ورأيناها مرتبة على ما قبلها. والفارق ما أشرنا إليه من أن الجهات إذا اختلفت، لم يتسق عن مجموعها جهةٌ معلومة مُقتضية للحرمة، وإذا اتحدت الجهة، انتظمت العبارة، [واستدّت] (1) النسبة. فإن قيل: هذا بيّن، فما وجه التحريم؟ قلنا: كل واحدة من اللواتي ذكرناهن، لو استتمت الرضعات الخمس، لثبتت الحرمة، وفسد نكاح الصغيرة، فإذا وجدت من كل واحدة منهن رضعة، قدرنا الرضعات الخمس على الوجه الذي نتكلف توجيهَه

_ (1) في الأصل: واشتدّت. والمثبت اختيارٌ منا على ضوء المعهود من عبارة الإمام. ومعنى: (استدّت): استقامت.

[مقتضية] (1) حرمةَ قرابةٍ، لسنا نسميها، ولا ننسبها إلى جهة ولا نَعْزيها، وليس الغرض إثباتَ الأسماء، ولكن عدد الرضعات من نسوة لو استكملت كل واحدة الرضاع، لثبتت الحرمة، وهذا من هذا الوجه يمكن تقريره. 10052 - وذكر صاحب التلخيص في كتابه مسألة أجمع الأحاب على تغليطه فيها، وذلك أنه قال: لو نكح الرجل صغيرةً، فأرضعتها ثلاثُ بناتٍ للزوج مراضعَ رضعةً [رضعة] (2)، ثم جاءت عمةٌ للزوج وخالةٌ، وأرضعتها كل واحدة منهما رضعة، قال: في تحريم الرضيعة وجهان، وهذا مما لا يخفى غلطه فيها؛ لأن العمة لو استكملت الرضاع، لم يتعلق به فساد نكاح الصغيرة، وكذلك الخالة. وإنما يتجه التحريم على البعد إذا صدرت الرضعات من نسوة لو استكملت كلُّ واحدة منهن العددَ، لفسد النكاح، وإرضاعُ العمة والخالة لا أثر له، وهو بمثابة ما لو أرضعت الصغيرةَ ثلاثُ بنات للزوج، ثم جاءت أجنبيتان، وأرضعتها كل واحدة منهما رضعة، ولست أدري كيف يقع لمثل هذا الرجل المرموق مثلُ هذا الغلط، والذي يتفق وقوعه للأكبر الجوابُ على مذهب بعض العلماء على حسبان أنه جواب صاحب المذهب، ولا يبعد أن يميل النظر من قياس إلى قياس، فأما العمة والخالة، فلا أثر لإرضاعهما بإجماع الأمة، وليس هذا مما يُحمل الغلطُ فيه على زلَّة الفكر إذا اضطر إلى المضايق، فإن الحكم على خلاف ما ذكره مرتَجلٌ بأوائل الفهم، والله أعلم. 10053 - ومن بقية الكلام في هذه المسألة أنه إذا أرضعت الصغيرةَ خمسُ بنات للزوج، فإن وقعت الرضعات متفرقات في أزمنة يتخللها فصول، بحيث لو فرض أمثالها والمرضعة واحدة، لكانت رضعات، فالجواب في هذا ما قدمناه، وخلاف الأصحاب على ما وصفناه. وإن توالت الرضعات منهن في أزمنة متواصلة والارتضاع من الصبية دائم، فقد اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: النظر إلى المرضعات، وهن خمس،

_ (1) في الأصل: تقتضيه. (2) زيادة لإيضاح العبارة.

فالرضعات خمس، ولتعدد الأشخاص أثرٌ في الحكم بتعدد ما يصدر منهم، كما للاتحاد أثرٌ في الإيجار. هذا ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: إذا تواصلت الأزمنة، لم يثبت العدد وحكمُه. فإن فرعنا على الوجه الأظهر، فالكلام كما تقدم. وإن فرعنا على أن ما صدر منهن لا يثبت له حكم العدد، فلو أرضعت واحدة منهن الصغيرة أربعَ رضعات بعد ما تقدم منها، فهل تثبت الحرمة؟ فعلى وجهين؟ أحدهما - أنها لا تثبت؛ فإنا إذا لم نحكم بعدد الرضعات، فكأن الصادر منهن في حكم الرضعة، وهي مفضوضة على جماعتهن تقديراً، ويلزم من ذلك نسبة بعض رضعة إلى كل واحدة، والواحد لا بعض له، فالوجه [إحباط] (1) تلك الرضعات، والمصيرُ إلى أنها وإن وقعت كأنها لم تقع، وكذلك لو تكررت الرضعات منهن على هذه الصفة مراراً عدة، فالجواب كما قدمنا ذكره. هذا وجه وقد ذكرنا لهذا نظيراً في صورة تقدمت من كلام العراقيين. والوجه الثاني - أن الواحدة منهن إذا أرضعت أربعاً بعد ما جرى -بينهن على الجمعِ ما جرى، فنحكم بثبات الحرمة، لأنها أرضعت رضيعةً في الحولين خمساً، ومثل هذا لا سبيل إلى [درائه بالوساوس] (2)، والتقديرات. وهذا هو الذي لا ينقدح غيره. فإن قيل: فإذا كنا نحتسب ما صدر من كل واحدة رضعة، فقد تعدّدت الرضعات. قلنا: نعم، هو كذلك، ولهذا كان الأصح أن الصادر منهن رضعات، ولكن يجوز أن يقال على الوجه الضعيف: هن بمثابة بنت واحدة تُرضع في دفعة لبناً كثيراً، فإذا رُدِدنا إلى اعتبار كل واحدة في نفسها، ردَّدْنا النظر إلى فعلها وإرضاعها. هذا منتهى القول في هذا الفصل.

_ (1) في الأصل: احتياط. (2) في الأصل: وهذا لا سبيل إلى وراه بالوسايس. والمثبت تصرف من المحقق.

10054 - ثم أعاد المزني فصولاً ذكرناها في مقدمات الأصول الممهدة: منها أنه قال: لو نكح الرجل كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة، فقد صارت الكبيرة والصغيرة أختين، وهذه المسألة التي اختلف أصحابنا فيها على طريقين: فمنهم من قطع القول بانفساخ نكاح الكبيرة والصغيرة، ومنهم من أفسد نكاح الصغيرة وخرّج الكبيرة على قولين. ولو أرضعت جدةُ الكبيرة الصغيرةَ، فسد نكاح الصغيرة وصارت خالةَ الكبيرة والكبيرةُ بنت أختها والطريقتان جاريتان في الكبيرة، كما قدمنا، ولا حاجة إلى شرح ذلك. وقد انتهى الكلام إلى هذا المنتهى. وذكر بعده ما قدمنا ذكره من امتياز الرضاع عن النسب في مسائل تتعلق بالصهر وقد قررنا ذلك عند قوله " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ". ***

باب لبن الرجل والمرأة

باب لبن الرجل والمرأة قال: " اللبن للرجل والمرأة كما الولد لهما ... إلى آخره " (1). 10055 - قد قدمنا في صدر الكتاب ثبوتَ حرمة اللبن في جانب الفحل، وانتشارها منه، وأوضحنا أن الولد إذا كان يُعزَى إلى الأم بالولادة وينتسب إلى الأب، فاللبن الدارّ عليه منسوب إليهما أيضاً، واللفظ الذي نقله المزني على [إيجازه] (2) ناصٌّ على المغزى، نعني قولَه: " اللبن للرجل والمرأة كما الولد لهما " وحاصل القول أن اللبن تبعُ النسب، ثم ينتشر انتشارَه، ويمتزج بالنسب، ويختلط النسب به، كما قدمنا ذكره، فإن زنت المرأة، [فولدها] (3) من الزنا معْزِيٌّ إليها في جميع الأحكام كولد الرِّشدة، وهو غير منسوب إلى الزاني، وقد أوضحنا أن الزاني ينكح بنت الزانية، وإن غلب أن العلوق منه، وإن تحقق ذلك، ففيه اختلافٌ، والأقيس طرد الباب. ثم النكاح وإن لم يكن محظوراً، فهو مكروه، وفيما نقله المزني ما يدل على أن للشافعي قولاً مطلقاً في منع نكاح ولد الزانية في حق الزاني إذا غلب على الظن أن العلوق منه، وهذا لم يقبله الأصحاب، ورأَوْا القطعَ بأن النكاح لا يحرم، والكراهيةُ ثابتةٌ، وردّ الشافعيُّ على من لا يكره للزاني نكاحَ بنت الزانية، وظن المزني أن ما ذكره تحريمٌ، وليس الأمر كذلك. فإذا تجدد العهد بولد الزنا، فاللبن يتبعه، فإذا أرضعت الزانية باللبن الدارّ على ولد الزنا، تثبت الحرمة من جهتها؛ لأن ولدَها منسوبٌ إليها زانيةً كانت، أو منكوحة، أو موطوءةً بشبهة، ولا يحرم المرتضع منها على الزاني؛ فإن اللبن يتبع

_ (1) ر. المختصر: 5/ 59. (2) في الأصل: على الجارة. (3) في الأصل: فولده.

النسب، وهو غير منسوب إلى الزاني، فاللبن الدارّ عليه غير منسوب إليه. ولو وطىء الرجل امرأة بشبهة، فأتت منه بولد، والتحق النسب بالوطء، فاللبن الدارّ على الولد النسيب في أصل المذهب وقياسِه منسوب إلى الواطىء، فإذا حصل الإرضاع به، انتشرت الحرمة إليه انتشارها إلى الزوج. وذكر صاحب التلخيص في ذلك قولين: أحدهما - أن حرمة الأبوة لا تثبت، وإذا لم تثبت الأبوة، فلا انتشار. والقول الثاني - أن الحرمة تثبت وتنتشر. قال الشيخ أبو علي: استبعد بعض الأصحاب القولين، وقد رأيتهما لصاحب التقريب، ورأيتهما في الجامع الكبير للمزني، فهما يقربان من الاختلاف الذي كان يحكيه الأستاذ أبو إسحاق، في أن حرمة المصاهرة هل تثبت بوطء الشبهة، وكان من لا يثبت أبوة الرضاع وحرمة المصاهرة يقول: إثبات النسب ضرورة، وتبرئة الرحم بالماء المحترم بالعدة ضرورة، ولا ضرورة في إثبات المصاهرة، ولا في إثبات أبوة الرضاع. ولا شك أن المذهبَ المعتبرَ الذي عليه التعويل إتباعُ اللبن النسبَ، والتسويةُ بين وطء الشبهة والوطء الحلال فيما يتعلق بحرمات اللبن؛ فإنّ قطع اللبن عن النسب يهدم الأصل الذي عليه تأسيس الكتاب، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ". 10056 - ومما يتعلق بما نحن فيه الكلام في الولد المتردد [بين الزوج والواطىء بالشبهة واحتيج فيه إلى القافة] (1) والتفريع على أن اللبن الدارّ على الولد [الآتي] (2) من وطء الشبهة كاللبن الذي يدر على ولد النكاح -ولا عَوْد إلى ذلك القول القديم-. فإذا نكحت المرأة في العدة نكاحَ شبهة، وغشيها الزوج الثاني على الفساد

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، ولا يستقيم الكلام بدونها، وأثبتناها على ضوء عبارة (صفوة المذهب) جزء (5) ورقة: 197 شمال. (2) في الأصل: اللائي.

والشبهة، وتردد الولد بين الزوج المطلِّق وبين الواطىء على الشبهة تردُّداً يقتضي الرجوعَ إلى القائف، فإذا أرضعت المرأة باللبن الدارّ على هذا المولود المتردد، ففي الأصل قولان: أحدهما - وهو الأصح أن حكم اللبن حكمُ الولد، فإن ألحقه القائف بالمطلّق، فهو أب الرضاع، كما أنه أب النسب في المولود، فنقطع حرمة الرضاع عن الواطىء بالشبهة. وإن لم نجد القائف، أو وجدناه، فتبلّد وتردَّد، ورددنا الأمر إلى انتساب المولود، فإن انتسب إلى الزوج، فأبوّة الرضاع له أيضاً، وإن انتسب إلى الواطىء بالشبهة، فأبوة الرضاع له، كما أن أبوة النسب في المولود له. هذا أحد القولين، وهو الأصل وبه الفتوى، وهو معتضِدٌ بما أصلناه من إتباع اللبن [نسب] (1) المولود. والقول الثاني في أصل المسألة - أن الحرمة تثبت للزوج المطلِّق والواطىء بالشبهة جميعاً؛ فإنه لا يمتنع في الرضاع ثبوت آباء، والأمر مشكل، والنسبة إلى كل واحد منهما كالنسبة إلى الآخر، فلا معنى لقطع هذا التساوي بانتسابٍ وقول قائف. وأما انتساب شخص إلى أبوين في النسب، فمستحيل الكون، فاضطررنا فيه إلى التعلق بشيء في تعيين الأب. وهذا القول ضعيف، وإن كان مشهوراً. التفريع على القولين: 10057 - إن قلنا: حرمة الرضاع وأبوّته ثابتة لهما، فلا كلام، ولا ينقطع ذلك بأن يُلحق القائف المولودَ بأحدهما، أو ينتسبَ المولود إلى أحدهما، بل يستمر هذا الحكم. ولعل هذا القائل يُجري هذا في الظاهر؛ إذ لا سبيل إلى المصير إلى أن الأبوّة تثبت من جهة الرضاع باطناً لهما، والله عليم بأن الولد لأحدهما، ولكن هذا من

_ (1) في الأصل: بسبب المولود.

المسائل التي لا يتوصل فيها إلى درك الباطن، ولا ينقطع الحكم الذي جرى في الظاهر. وإذا كان كذلك أطلق الفقيه القول بموجب الظاهر؛ من جهة أنه لا مطمع في ارتفاع هذا الحكم، وهذا بمثابة قولنا في مسألة الطائر، وقد قال زيدٌ: إن كان غراباً فامرأتي طالق، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق، وفات الطائر، وأُيس من الإحاطة به، فالحكم الذي يُجريه الفقهاء قاطبة أنه لا تطلّق زوجة واحد منهما، وهذا حكم متعلق بالظاهر، وإلا فزوجة أحدهما طالق في علم الله تعالى، غير أنه انحسم علينا مسلك الوصول إليه، وأيسنا من الإحاطة به، فأطلقنا الحكم بانتفاء وقوع الطلاق. هذا حقيقة القول. 10058 - وإن فرعنا على القول الثاني وهو أن اللبن يتبع نسب المولود في القيافة وانتسابِ المولود، فلو لم نجد قائفاً، ومات المولود الذي كنا نتوقع انتسابه، وقد أرضعت الأم باللبن الدار على الولد المتردد مولوداً، فما حكمه؟ أحسن مسلك في ذلك ما ساقه صاحب التقريب، فقال حيث انتهى التفريع إليه: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - أن ولد الرضاع ينتسب [وينتمي] (1) إلى من شاء منهما. والقول الثاني - أنه يحرم عليهما. والقول الثالث - أن الأمر موقوف. من قال: ينتسب ولد الرضاع اعتبره بولد النسب، فإنه ينتسب إذا تعذر القيافة، ومن قال: يحرم عليهما، قال: الانتساب في الولد النسيب محمول على نزوع النفس، وما يجده المولود من الميل الذي جبلت النفوس عليه لا يجده المرتضع، فلا وجه إلا إثبات التحريم من الجانبين. فإن قيل: هذا هو القول الذي حكيتموه في أصل المسألة: أن حرمة الأبوة من جهة الرضاع تثبت من الجانبين. قلنا: ليس كذلك، فإن ذلك القولَ المذكورَ في أصل

_ (1) في الأصل: وينتهي.

المسألة يتضمن ثبوت [الحرمة] (1) من الجانبين، وإن ألحق القائف الولد بأحدهما أو انتسب المولود النسيب إلى أحدهما، وهذا القول الذي ذكرناه في إثبات الحرمة من الجانبين إنما يجري إذا تعذر تعيين أب النسيب بفقدان القيافة، وانتساب الولد النسيب، فإذا انحسم مسلك التعيين، جرى هذا القول، والقول الأول في أصل المسألة متضمنه إثبات التحريم من الجانبين مع إمكان القائف أو جريان الانتساب عند عدم القائف. ومن قال بالوقف فإنما حمله عليه امتناع انتماء ولد الرضاع، وعسر عنده أيضاًً الحكم بإثبات الحرمة من الجانبين، فأطلق الوقفَ على ما سنبين حكمه. قال صاحب التقريب: إن فرعنا على قول الوقف، فإذا يصنع هذا المرتضع، وكيف حكمه في الحل والحرمة إذا أضيف إلى الزوج أو الواطىء؟ قال: على هذا القول ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يخير المولود، فإن أراد أن يستحل مواصلة أحدهما، فعل، [ولا يواصلهما] (2) على الجمع، ولكن إن واصل أحدهما على مقتضى الاستحلال، ثم انقطع عنه، وأراد مواصلة الثاني، فله ذلك، ثم لو أراد العَوْدَ إلى الأول، فله ذلك، فيدور عليهما، ولا يجمع بينهما في الاستحلال، كالسيد إذا اشترى أختين، فإنه لا يجمع بينهما في الاستحلال، ولكن إذا وطىء واحدة، حرمت عليه الأخرى، فإن أراد استحلال التي حرمت، حرَّم الأولى، واستحل الثانية. وهذا القول ضعيف، ووجهه الممكن أن تعميم التحريم لا سبيل إليه، ولا مطمع في تعيين جانبٍ، فإذا امتنع تعميم التحريم، وتحقق استواء الجانبين، لم يمتنع التردد بينهما، ويُرَدُّ أثر التحريم إلى المنع من الجمع، وهذا أضعف الأقوال؛ فإنّ ما تمهد من تغليظ الحكم في التحريم لا يحتمل التردد في حكم التخير والدوران من جانب إلى جانب؛ فإنه إذا دار على الجانبين، فقد اقتحم التحريم قطعاًً، فلا سبيل إليه.

_ (1) في الأصل: الحرية. (2) في الأصل: ولا يواصلها.

والقول الثاني - أنه يواصل بالاستحلال أحد الجانبين، ثم لا ينزل عنه، ويتعين عليه ملازمة [ما اختاره] (1). والقول الثالث -وهو الأصح- أنه لا يواصل واحداً من الجانبين؛ فإن التحريم كائن والتعيين ممتنع (2)، ومحل الحِلّ والحَظْر محصورٌ، والاجتهاد محسوم، والتحريم غالب، وهذا القول لا يمكن تمييزه عن القول الذي ذكرناه قبل قول الوقف في تعميم التحريم إذا انسدّ مسلكُ القيافة وانتسابُ المولود النسيب، فمقتضى القولين واحد، وهذا في حكم المعاد. 10059 - وينتظم من مجموع ما ذكرناه -بعد التنبيه لتكرر هذا القول- أن التعيين بالقيافة والانتساب إن كان ممكناً، فقولان، كما مضى. فإن انحسم إمكان التعيين، فأقوال: أحدها - تعميم التحريم. والثاني - التخيير في المواصلة مع تجويز التدوار على الجانبين على البدل. والثالث - تجويز مواصلة أحد الجانبين على شرط ملازمة الجانب الذي يواصله. وما ذكره صاحب التقريب من قول الوقف ليس يتحصّل، وإنما الحاصل ما ذكرناه، وتمام التهذيب يتضح بنجاز الفصل. 10060 - أما ما ذكرناه من المواصلة، فأهون تصويرٍ فيها أن يكون المرتضع غلاماً وهو يناكح بنت أحد الأبوين، فهذه هي المواصلة. وقد أطلقنا فيما أجريناه قولاً أنه إذا اختار جانباً، [فله ذلك] (3)، ولم نُرد قوله: اخترت، وإنما أردنا إيقاعَ عقد المواصلة. ووراء ذلك تمام البيان. والذي ذكره صاحب التقريب والشيخُ ومعظم المحققين أن التخير الذي ذكرناه في الولد الرضيع ليس صادراً عن اجتهاد، وإنما هو اختيار على حكم الإرادة؛ فإن

_ (1) في الأصل: ملازمة فاختاره ... (2) في صفوة الذهب: " محتمل ". (3) في الأصل: له ينزل.

الاجتهاد لا مساغ له في ذلك، ومن ادعى أن المرتضع يجد من نفسه ميلاً إلى أب الرضاع، فالذي يأتي به خُرْقٌ؛ فإن الميل لا يتحقق إلى المرضعة إلا عن إلفٍ ينشأ الصبي عليه، فإن ذلك ليس من آثار الرضاع، وفي بعض التصانيف: " أن الولد المرتضع في أوان الانتساب لا يتبع الإرادة وإنما نتبين انتسابه إلى أحد الرجلين في جهة الرضاعة على اجتهاد " هذا لفظه، فلست أدري أنه أراد به ما يجده بزعمه من ميل النفس، أو أراد بالاجتهاد التمسك بسببٍ يغلّب على الظن أن الولد للأول أو للثاني، وعلى أي وجه حُمل، فلا أصل له؛ فإن الميل باطل، والاجتهاد لا أصل له في هذا الباب؛ إذ لو كان عليه مُعوّل، [لعلّق] (1) الشرع النسبَ به من غير انتساب المرتضع. ولست في تزييف هذا مختاراً لوجه التخير، ولكن الرأي عندي تعميم التحريم، وإبطال التخيّر والانتساب بالارتياد والاجتهاد. 10061 - ومما يجب التنبيه له أن الأصحاب أطلقوا في الكتب أن الرجل إذا علم أن واحدةً من امرأتين أو نسوةٍ معدودات أختُه من الرضاعة، فلا يحل له أن ينكح واحدةً منهن، وإنما ينكح إذا اختلطت بنسوة يعسر حصرهن، وقد مهدنا ذلك في كتاب النكاح. والفرق بين هذا الذي ذكروه، وبين تردد المرتضع بين الأبوين مشكل، ولهذا اخترنا تعميم التحريم عند اليأس من تبيّن النسب بقول القائف، أو انتساب الولد النسيب. وعند ذلك نقول: من أصحابنا من جوز نكاح إحدى المرأتين إذا كانت إحداهما أختاً؛ أخذاً من القول الذي يجوّز للمرتضع مع انحسام اليقين في النسب أن يواصل أحدَ الرجلين، وهذا القائل يقول: التي تزوجها لم يتحقق فيها تحريم عنده، والأصل عدمُ الأخوَّة، وهؤلاء يقولون: إذا كان مع الرجل إناءان في أحدهما ماء نجس، وفي الآخر ماء طاهر، فيجوز استعمال أحدهما من غير اجتهاد. وهذا المسلك مزيف، والمذهب القطع بتحريم نكاح إحدى المرأتين، مع اطّراد الإشكال.

_ (1) في الأصل: تعلّق.

ثم الوجه أن يضعّف بهذه المسألة قول التردد في الولد المرتضع، والممكن في الفرق أن الولد إذا تردد بين رجلين، قلنا: يُقطع بثبوت النسب من أحدهما أيضاً، فإن الانتساب إلى الرجال مشكل، ومسألة الأخت مفروضة فيه إذا ثبتت الأخوّة قطعاًً، حتى لو تردد المرتضع بين امرأتين قد أرضعته إحداهما، فهذه مسألة الأخت، وكذلك لو كان تردد الولد بين والدتين، فيجب القطع بإبطال قول التخيير في المرتضع. 10062 - ومما يتم به البيان، ويكمل به التفريع [أنا] (1) إذا أثبتنا الحرمة من الجانبين، فالوجه عندنا ألاّ نثبت المحرمية؛ فإن الغالب التحريم، والذي يغلّب الحرمة هو بعينه يقتضي ألاّ تثبت المحرمية إلا بتحقيق؛ فإن المحرمية تقتضي مداخلةً واستحلالَ خُلوة، وهذا محدّور إذا التبس الحلال بالمحظور. واختتام الكلام أنا إذا رأينا -عند عدم القائف- للولد النسيب أن ينتسب، فليس ذلك تشهيّاً واختياراً، وإنما هو رُجوعٌ إلى تخير النفس وما جبلت عليه من الحَدَب والميل، وسنستقصي هذا في باب القائف، إن شاء الله. فلئن كان في اختيار المرتضع تردُّدٌ في أنه اختيار إرادة أو اختيار اجتهاد، فلا تردد في انتساب الولد النسيب. وهذا نجاز الفصل، لم نغادر فيه فيما نظن طرفاً تَمَس الحاجةُ إليه. 10063 - ومما أورده في (السَّواد) ولد اللعان، فإذا نفى الرجل ولداً باللعان، انتفى عنه اللبن الدارّ عليه أيضاًً، كما انتفى الولد، فإن عاد، فاستلحق الولد المنفيّ، لحقه الولد، ويلحقه اللبنُ أيضاًً، ومن قال: في اللبن النازل على الولد المتردد بين رجلين إنه يلحق بهما، فلست أدري ماذا يقول إذا لاعن ونفى النسب؛ فإنه خالف بين اللبن وبين النسب، فألحق الولد إلحاقاً لا يتصور إلحاق النسب بجنسه، فقد لا يبعد ألا ينتفيَ حرمة اللبن وإن انتفى النسب. ويجوز أن يقال: قد أثبت الزوج باللعان أن الولد الذي جاءت به ولد الزنا، ولا حرمة للبن النازل على ولد الزنا في جهة من انتفى النسب عنه.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

فصل قال: " ولو انقضت عدتها بثلاث حِيض وثاب لبنها ... إلى آخره " (1). 10064 - مضمون هذا الفصل القول في امتداد اللبن في دروره والتحاقه بمن التحق به أول مرة، وكيف الحكم لو طرأ طارىء يوجب لبناً جديداً؟ ونحن نقول: إذا انتسب المولود إلى شخص، وألحقنا اللبن النازل عليه به على ما تمهد، ثم طلق الزوج زوجته تلك، وتمادى الزمن واللبنُ دائمٌ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن اللبن منسوب من جهة الأبوة إلى الرجل الأول الذي انتسب الولد إليه، وإن امتد الزمان، واعتقبت السنون، وهذا الحكم يطّرد وإن دام اللبن عشر سنين، فصاعداً، ما لم تحبَل المرأة. ولو انقطع لبنها، ثم [عاد] (2) اللبن من غير تجدّد حمل، فهو منسوب إلى الأول، كما لو استمر ولم ينقطع في الأثناء. وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب أن انتساب اللبن يبقى بعد الطلاق أربعَ سنين، وهي المدة التي يُتصوّر فيها انتساب الولد إلى النكاح المتقدم، وإذا انقضت هذه المدة، انقطع انتسابُ اللبن. وهذا قول مزيف، لا أصل له، وهو من نوادر خواطر من لم يُحط بالفقه؛ فإنه بان [بالمسلك] (3) المعتبر أن الولد لا يبقى أكثر من أربع سنين، فينقطع إمكان العلوق في النكاح إذا انقضت هذه المدة بعد الفراق، وأما إمكان تمادي اللبن، فلا أمد له، وقد يدرّ للمرأة لبن على ولد ويدوم ذلك اللبنُ منها عشرَ سنين أو أكثر، فلا وجه لاعتبار أحد البابين بالآخر بالتمسك باللفظ، فلا عَوْد إلى هذا الوجه الغريب.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 61. (2) في الأصل: ثم بان اللبن. (3) في الأصل: المسلك.

والذي [نقطع] (1) به في تفريع المسائل بعد ذلك أن اللبن منسوب إلى من انتسب الولد إليه في الأول، وإن تمادت المدة، ولا ضبط لها في الكثرة، كما لا ضبط لأكثر الطهر، ولا فرق بين أن تتواصل الألبان، وبين أن تنقطع ثم تثوب. ولو نكحت زوجاً، فالنكاح لا يقطع انتسابَ اللبن؛ فإنه لا أثر له في تغيير اللبن بالقطع، وتجديد لبن بسبب جهة أخرى. نعم، إذا حَبلَتْ عن الزوج الثاني أو حبلت عن واطىء بشبهة، [فالحمل] (2) مما يقتضي درورَ اللبنَ على [التجدّد] (3)، فإذا اتفق ذلك واللبن ثابت مع الحمل، راجعنا أهل البصيرة، وقلنا: هل حان وقت درور اللبن على الحمل الجديد؟ فإن قالوا: لم يدخل بعدُ وقتُ درور اللبن على الحمل الجديد، فاللبن مصروفٌ إلى الجهة الأولى، لا خلاف فيه، ولا فرق بين أن يكون متمادياً [و] (4) بين أن ينقطع ثم يرجع مهما (5) قطع أهل البصر بأنه لم يدخل وقت درور اللبن على الحمل الجديد. وإن قال أهل البصر: قد دخل وقت درور اللبن على الحمل الجديد، فنذكر صورتين، وتفصيلَ المذهب فيهما، وننبِّه على دقيقة، ثم نتجاوز هذا الحدَّ. 10065 - إحدى الصورتين: أن ينقطع اللبن، ثم يعود في وقت يجوز درور اللبن فيه على الحمل الجديد، وفي هذه الصورة ثلاثة أقوال: أحدها - أن اللبن للرجل الأول، ولا مبالاة بالحمل، ولا بانقطاع اللبن وعوده، ولا بمصير أهل البصيرة إلى أن هذا وقت درور اللبن على الحمل الجديد، واللبن مضاف مع ذلك كله إلى الجهة الأولى، والحكم مستمر كذلك إلى أن تلد وينفصلَ الحملُ الجديد. ووجه هذا القول أن الحمل، وكل ما وصفناه معه لا يوجب انقطاع اللبن عن الجهة الأولى بأن لا يمتنع دوام ذلك اللبن، فلا ينقطع ذلك الأصل بتجويز.

_ (1) في الأصل: قطع. (2) في الأصل: والحمل. (3) في الأصل: على التجرد. (4) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق. (5) مهما: بمعنى إذا.

والقول الثاني - أن اللبن ينقطع عن الجهة الأولى، ويضاف إلى الحمل الثاني، وإلى من منه الحمل؛ فإن اللبن الأول قد انقطع، واعترض وثبت سببٌ آخرُ يجوز درورُ اللبن عليه يستفتح الإضافة إلى هذه الجهة ويقطع الأولى. والقول الثالث - أن اللبن مضاف إلى الجهتين؛ فإنه لا يمتنع تواصل اللبن الأول مع ازديادٍ بسبب الجهة الثانية، ولا وجه لإسقاط جهة وقطعها، ولا يمنع ما ظهر تجدُّدَه، [فالوجه] (1) الإضافة إليهما جميعاًً هذا بيانُ صورةٍ. الصورة الثانية: ألاّ ينقطع اللبن، ويقول أهل البصر: قد دخل وقت نزول اللبن على الحمل الجديد، ففي هذه الصورة ثلاثة أقوال: أحدها - أن اللبن للجهة الأولى، والثاني - أن اللبن للجهتين جميعاًً. والثالث - أنه إن زاد، فهو لجهتين، وإن لم يزد، فهو للجهة الأولى، ولا يخرّج هاهنا قول أن اللبن للجهة الثانية وهو مقطوع عن الجهة الأولى، لأنه لم يتخلل انقطاع اللبن ثم عوده. ومما يجب التنبه له في التصوير أنه لو انقطع اللبن في أول العلوق، وفي وقتٍ لم يدخل فيه وقت نزول اللبن على الحمل، ثم عاد في وقت لم يدخل بعدُ وقتُ النزول على الحمل الجديد، فلا حكم لذلك الانقطاع، وسبيله كسبيل ما لو تواصل اللبن. وإذا انقطع، ثم امتد الانقطاع، وعاد في وقتٍ، فقال [أهل البصر] (2): يجوز نزول اللبن في هذا الوقت على الحمل الجديد، فهذا هو الصورة الأولى، وفيها الأقوال الثلاثة: أحدها - أن اللبن مقطوع عن الجهة الأولى، ملحق بالجهة الثانية، فهذا بيان الصورتين، وتفصيل الحكم فيهما. 10066 - وأما الدقيقة التي وعدنا بيانَ أمرها، فهي أنا قلنا: إذا قال أهل البصر: يجوز درور اللبن على الحمل، فحكمه ما وصفناه، فليعلم الناظر أنه لا ينتهي الأمر في زمان الحمل إلى القطع بأن اللبن نازل على الحمل الجديد، وإنما تنتهي خبرة [أهل البصر] (3) إلى الحكم بتجويز النزول، نعم، يطلقون القول في أوائل مدة الحمل بأن

_ (1) في الأصل: والوجه. (2) زيادة لإيضاح العبارة. (3) في الأصل: وإنما ينتهي خبرة البصير. والمثبت تصرّف من المحقق.

اللبن لا ينزل بعدُ على هذا الحمل، فهذا مما يمكن إطلاقه، فأما إطلاق القول بأن اللبن ينزل على الحمل في هذا الوقت، فهذا مما لا سبيل إليه، وقد تلد المرأة ولا ينزل لها لبن، ثم ينزل اللبن بعد الوضع. هذا كله قبل الولادة، فإذا ولدت، فاللبن مقطوع عن الجهة الأولى بلا خلاف، ملحق بالولد الثاني منسوب إلى من ينتسب إليه، فانتظم إذاً طرفان على النفي والإثبات، وواسطتان بينهما: فأما الطرف الأول، ففيما قبل العلوق، [فاللبن] (1) مضاف إلى الجهة الأولى، والطرف [الآخر] (2) إذا ولدت ولداً منتسباً إلى آخر [فكل] (3) لبن يدرّ بعد ذلك منسوب إلى الولد الثاني مقطوع عن الجهة الأولى، فهذان الطرفان. والواسطتان تقعان في زمان الحمل، فاللبن في أوائل الحمل قبل دخول وقت نزول اللبن على الحمل ملحق بالطرف الأول، وإذا دخل وقت إمكان نزول اللبن على الحمل، فالواسطتان الصورتان اللتان ذكرناهما. وهذا نجاز الفصل عقداً وتفصيلاً. ...

_ (1) في الأصل: واللبن. (2) في الأصل: الأخير. (3) في الأصل: وكل.

باب الشهادة في الرضاع

باب الشهادة في الرضاع قال الشافعي: " وشهادة النساء جائزة ... إلى آخره " (1). 10067 - الرضاع يثبت بشهادة أربع نسوة عدول، وقال أبو حنيفة (2): لا يثبت الرضاع بشهادة النساء المتجردات ويثبت بشهادة رجلين وشهادة رجل وامرأتين، وحكى صاحب التقريب عن الإصطخري أنه كان يقول: لا يثبت الرضاع ولا عيوب النساء والأمور الباطنة منهن بشهادة الرجال، وإنما يثبت بشهادة النساء المتمحّضات، وهذا متروك عليه، غيرُ معتدٍ به، ثم شهادة الرضاع تفرض على الحسبة، كالشهادة على الطلاق، [و] (3) تفرض متعلقةً بالدّعوى كالشهادة على الطلاق، وسيأتي بيان هذه المراتب على حقائقها في كتاب الشهادات، إن شاء الله. ثم قال الأصحاب: الكلام فيمن هو من أهل الشهادة، وفي كيفية تحمل الشهادة، وفي كيفية إقامة الشهادة: 10068 - فأما من هو من أهل الشهادة، فالغرض أن نذكر أن أم الزوجة وابنتها لو شهادتا على رضاع يحرمها على زوجها، فالقول في ذلك مفصّل، فإن ادعت المرأة الرضاع وأنكر الزوج، فلا يُقبل شهادةُ أمِّها وابنتها، فإن هذه شهادةٌ لها وشهادة الأمهات والبنات مردودة للأولاد والأصول. ولو ادّعى الزوج الرضاع، وأنكرته المرأة لغرض المهر، فشهد على الرضاع أمها وابنتها، فالشهادة مقبولة، فإن شهادة الفروع والأصول مقبولة على الشخص وإن لم تكن مقبولة له.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 63. (2) ر. مختصر الطحاوي: 221، المبسوط: 5/ 137. (3) زيادة اقتضاها السياق.

وإن لم توجد دعوى الرضاع من الرجل ولا المرأة، ولكن شهدت الأم والبنت على الرضاع المحرم حسبةً، فالوجه عندنا قبول هذه الشهادة؛ فإنها ليست بأن يقال: هي لها أولى من أن يقال: هي عليها، والوجه أن يقال: ليست لها ولا عليها، وإنما هي شهادة أقيمت لله تعالى، فهذا المقدار غرضُنا من هذا الفصل. 10069 - فأما القول في تحمل الشهادة، فينبغي أن يكون التحمل على علم وبصيرة، فإذا رأت المرأةُ أو الرجلُ الرضيعَ قد التقم الثديَ من ذات لبن، وهو يمتص والصبي ينهش والحنجرة تترقى وتنخفض، وقد ينضم إليه جرجرةٌ عند البلع والتجرع، فهذا القدرُ يفيد العلمَ بوصول اللبن إلى الجوف، ومن ظن أن هذا اكتفاءٌ في التحمل بغلبة الظن، فليس على بصيرة في الباب؛ فإن القرائن التي ذكرناها تُثبت العلم الحقيقي بوصول اللبن، نعم، قد يكتفي الشاهد بالظنون الغالبة فيما لا يتصور فيه العلم، ثم يسوغ له أن يجزم الشهادة، وعلى هذا النحو يتحمل الشاهد الشهادة إذا شاهد اليد والتصرف على ما يقرّر في موضعه، وهذا لا يفيد العلم بالملك، ولكن يجوّز الشهادة على الملك إذا اجتمعت هذه الأسباب. 10070 - فأما القول في صيغة الشهادة المقامة على الرضاع، فلتكن الشهادة مجزومة، ولو وصف الشاهد أو الشاهدةُ [الأحوالَ] (1) التي وصفناها عند التحمل، لم تصح الشهادة. فإن قيل: هلا صحت والشهادةُ لا تعتمد غيرها؟ قلنا: نعم تلك الأحوال تفيد العلم لمن يعاينها، [ويدرك بالعيان منها أموراً] (2) دقيقةً هي المفيدة للعلم، والعبارات لا تدركها، فلا بد من جزم الشهادة، كما وصفتُها. ثم في هذا الطرف تردُّدٌ في أمر أصفه، وهو أنا هل نشترط أن يصرح الشاهد بوصول اللبن إلى جوف الصبي، أم يكفي أن يقول: أشهد أن فلانة أرضعته خمساً في الحولين؟ هذا مما يتردد فيه فحوى كلام الأئمة ويظهر أثر التردد على تفصيلٍ.

_ (1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (2) في الأصل: ويدري العيان منها أموراً. والمثبت من صفوة المذهب.

فإن وقع التصريح بذكر وصول اللبن إلى الجوف، فهو المراد. وإن ذكر الشاهد أو الشاهدة لفظَ الإرضاع، واستراب القاضي، وجوّز أن يكون الإرضاعُ غير مفضٍ إلى وصول اللبن إلى الجوف المعتبر، فله أن يستفصل الشاهدَ، هذا لا خلاف فيه، وسيأتي كشفه في موضعه من الشهادات، إن شاء الله. ولو فرضت الشهادة على الإرضاع، ثم مات الشاهد قبل الاستفصال، وفات إمكان الرجوع إليه، فهل يجوز التوقف في الشهادة والحالة هذه؟ هذا هو الذي يظهر فيه تردد الأصحاب، وقد يعتضد وجوب الحكم بالإرضاع وإن لم يَجْرِ للوصول إلى الجوف ذكرٌ بما قدمنا ذكره من أنه يجوز الاقتصار على معاينة الأحوال التي وصفناها في تحمل الشهادة على الإرضاع، وإن كان معاينة وصول اللبن إلى الجوف ممكنة بخلاف تحمل الشهادة على الزنا، فإن من عاين أحوالاً تماثل أحوال المرضع والمرتضع، لم يجز له أن يعتمدها في الشهادة على الزنا، حتى يعاين ذلك منه في ذلك منها، كالمِرْود في المُكْحلة والشَّطَنُ في البئر، والذي يعضد ذلك أن اشتراط هذا التأكيد في التحمل في الزنا، واشتراط التصريح في صيغة الشهادة، وإثبات مزيد العدد، كل ذلك يشعر بأن للشرع غرضاً في دفع الزنا ودفع حَدِّه، والأمر في الرضاع على التغليظ، والحظرُ على التغليب. فانتظم إذاً وجهان: أحدهما - أن الشهادة لا تثبت ما لم يصرح الشاهد بوصول اللبن إلى الجوف، [وهذا] (1) ما ذكره الصيدلاني. والثاني - أن الرضاع يثبت بالشهادة على الإرضاع والارتضاع إذا عسر الاستفصال، كما سبق تصويره. 10071 - ومما يتعلق بهذا الفصل وله ارتباط بالأصل الأول أيضاً، وهو أن التي أرضعت لو شهدت على وصول اللبن إلى جوف الصبي على الحد المحرِّم عدداً وزماناً، فشهادتها مقبولة عندنا، وهو مذهب جماهير العلماء. فإن قيل كيف يقبل شهادتها وهي تثبت فعل نفسها، وتتعرض للإخبار عنه؟ قلنا:

_ (1) في الأصل: فهذا.

ليس الغرض من شهادتها فعلُها، وإنما الغرض وصول اللبن إلى جوف الصبي، وإذا كان قد يتفق الوصولُ إلى جوفه من غير صاحبة اللبن، فلا أثر لإرضاعها، ولا يختلف به حكم كان أو لم يكن. وليس كما لو شهد القاضي بعد الانعزال على أنه قضى لفلان؛ فإن شهادته مردودة لتضمّنها إثباتَ فعله، والمعوّل على قضائه وتنفيذه، فكانت الشهادةُ من القاضي على ثبوت القضاء مردودة، فإن تنفيذ القضاء هو المطلوب، ووجه تعلق ما ذكرناه في المرضعة بهذا الفصل أنها لو قالت: أشهد أني أرضعت فلانة، أو أوصلت اللبن إلى جوفها، فشهادتها مقبولة على هذه الصيغة. وفي بعض المصنفات أنها إن قالت: أشهد أن فلانة ارتضعت منِّي، فالشهادة مقبولة، لأنها في صيغتها لم تتضمن إثبات فعل مضاف إلى الشاهدة، ولو قالت: أشهد أني أرضعت فلانة، فهذه الشهادة مردودة، فإنها تضمنت إثبات فعلٍ مضافٍ إلى الشاهدة. وهذا غلط محض، لم يتعرض له أحد من الأصحاب، وقد ذكرنا أن الإرضاع لا أثر له، وإنما الأثر للوصول، فلا يضر التعرض لما لا يتعلق الحكم به. فصل قال: " وذكرت السوداء أنها أرضعت رجلاً ... إلى آخره " (1). 10072 - مضمون الفصل أن الرضاع إذا كان مشكوكاً فيه أصلاً، أو كان تمام العدد مشكوكاً فيه، فلا يقع القضاء بالتحريم، ولكن يتأكد استحثاث الشرع على التورعّ؛ فإن الرضاع لو ثبت، تأبدت حرمته، وعظُم وقعُه، [فالتمادي] (2) على خلاف الورع مصادمة خطر عظيم. واستدل الشافعي على تأكيد الأمر بالتورّع بما روي أن رجلاً تزوج بابنة أبي إهاب بن

_ (1) ر. المختصر: 5/ 64. (2) في الأصل: بالتمادي.

عزيز، فجرت بينها وبين امرأة سوداء في جوارها خصومة، فأشاعت السوداءُ الخبرَ في الجيران: أني أرضعتُها وزوجَها، فسمعه الرّجل وساءه ذلك، فسأل أهلَه وأهلها، فقالوا: لا نعلم أنها أرضعتك، وذلك بمكة، [فركب] (1) إلى المدينة، وقال: يا رسول الله إني تزوجت بابنة أبي إهاب بن عزيز، وزعمت امرأة سوداء أنها أرضعتني وإياها، فوالله ما أرضعتني ولا أخبرتني قبل ذلك، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فأعادها، فقال في الثالثة أو الرابعة: " كيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما " وفي رواية: " فكيف وقد قيل " (2) فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه، ونكحت زوجاً غيره. والحديث دل على فوائد: إحداها - أن الرّضاع لا يثبت بالإمكان، والدليل عليه إعراضُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتردده، وتركُ جزم القول بالتحريم، ثم دلت حالُه ومقاله على تأكيد الأمر بالتورّع، ثم فهم الرجل وجهَ الاحتياط في ذلك المجلس أو كان عَلِمه من قبل، فطلقها، وسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جرى دليلٌ آخر على أن الرضاع لم يكن محكوماً به؛ إذ لو كان، لما كان للطلاق معنىً، ودل أن مقتضى الورع التطليق، فإنها لو تركت تحت الإشكال والاحتمال، لأضرّ ذلك بها، ولو سُيِّبت، لم يحل لها أن تَنْكِح. 10073 - ثم ذكر أن الزوجين لو تقارّا على الرضاع، ثبت وابتنى عليه فسادُ النكاح (3)، ثم لا يخفى حكمه، ولو رجعا عن الإقرار، لم يُقبل رجوعهما، وقد ذكرنا في كتاب الطلاق والرّجعة أن المرأة لو ادعت انقضاءَ العدة، حيث تُصدَّق وأبطلت رجعةَ الزوج، فلو رجعت عن قولها، [فهل] (4) يقبل رجوعها، وذكرنا

_ (1) في الأصل: وكتب إلى المدينة. (2) حديث زوج ابنة أبي إهاب رواه البخاري (الشهادات، باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، وقال آخرون ما علمنا بذلك، يُحكم بقول من شهد، ح 2640) وانظر التلخيص 4/ 11 حديث رقم 1843. (3) ر. المختصر: 5/ 65. (4) في الأصل: فقد.

تفصيل المذهب فيه إذا أقر الرجل بالطلاق الثلاث، ثم رجع، أو زعمت المرأة أن زوجها طلقها ثلاثاًً، وذكرت ذلك بعد البينونة، ثم كذبت نفسها، وأرادت أن تعود إلى الزوج، ففي ذلك كلام قدمناه على الاستقصاء، فلا نعيده. 10074 - ثم ذكر الشافعي التداعي بين الزوجين في الرضاع نفياً وإثباتاً، وقال: " إذا ادعى الزوج جريان رضاعٍ وقَصْدُه إسقاطَ المسمى، فأنكرت المرأة، فالأصل عدمُ الرضاع، وهي تحلف بالله: لا تعلم أن رضاعاً جرى وإذا كانت تنفي فعل الغير فيمينها على النفي " (1). فإن قال قائل: ألستم قلتم: مطلوبُ الرضاع بالشهادة إثباتُ وصول اللبن إلى جوفها، ولا أثر للإرضاع كان أو لم يكن، وهذا يتضمن أن تنفي هي وصولَ اللبن إلى جوفها، أو تنفي ارتضاعَ نفسها، ولو كان كذلك، فالقياس يكون اليمين على البت. قلنا: لا حكم لارتضاعها، ولا يتصور أن تكون على علمٍ في وصول اللبن إلى جوفها في الوقت المعتبر، فإن التمييز يبتدىء بعد مدة الرضاع بسنتين؛ فتكليفها بتّ اليمين لا معنى له، وإذا كنا نكتفي بنفي العلم في فعل الغير بسبب تعذر الاطلاع على نفي فعل الغير، فهذا المعنى أظهر فيما فيه الكلام، فإذا آل الأمر إلى اليمين، فلا أثر لارتضاعها، ولما يثبت منها، لما أشرنا إليه، ومعتمد اليمين نفي الإرضاع، وصيغة اليمين في مثل ذلك تجري على نفي العلم، فإن حلفت على ما وصفناه، فلا كلام. وإن نكلت عن اليمين، رددنا اليمين على الرجل، فيحلف على البتّ أن الرضاع المحرّم كان، وحكى الصيدلاني أن القفال، كان يقول: إذا ارتدت اليمين على الزوج، فالأولى أن يقول: " بالله أني أعلم أن الرضاع المحرِّم قد كان " وقصد بهذا أن يكون يمين الرد على الضد من يمينها؛ فإنها لو حلفت، لقالت: لا أعلم أن الرضاع كان، فليقل الزوج: أعلم أنه كان، فظاهر ما نقله الصيدلاني أن هذا من طريق الإمكان، وفي بعض التصانيف عن القفال ما يدل على اشتراط ذلك.

_ (1) هذا معنى قول الشافعي في المختصر: 5/ 65. وليس بلفظه.

وهذا عندي كلام [منحرِفٌ] (1) عن الصواب، سواء قدر اشتراط ذلك، أو قيل: الأَوْلى ذلك؛ فإن الزوج إذا قال: بالله لقد كان الرضاع، فهذا إخبار منه على علمه بكون الرضاع، فأي أثرٍ لقوله: " أعلمه ". فإن حُمل على الأوْلى، فلست أرى فيه وجهاً يقتضي هذا من طريق الأَوْلى، والمعنى هو المتبع. ثم لا يختص هذا المحكي عن القفال بهذه الصورة، بل كل يمين هو في جانب المدعى عليه على نفي العلم، وفي جانب المردود عليه على البت، فهو جارٍ على النحو الذي وصفناه. ...

_ (1) في الأصل: محرّف.

باب رضاع الخنثى

باب رضاع الخنثى قال الشافعي: " إن كان الأغلب من الخنثى أنه رجل ... إلى آخره " (1). 10075 - الرجل إذا درّ له لبنٌ وأرضع به، فالمذهب الصحيح أنه لا تعويل عليه، ولا حكم له؛ فإن الرضاع يتبع الولد، وإذا لم ينزل اللبن ممن يتصور منه الولادة، فوجوده وعدمُه بمنزلة. وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً أن الحرمة تتعلق بلبن الرجل قياساً على لبن المرأة، وسيتجه هذا [بعضَ] (2) الاتجاه بالمسائل التي سنذكرها بالبكر والثيب التي لم تلد قط إذا در لهما لبن، ففي تعلق الحرمة بذلك اللبن وجهان ظاهران: أحدهما - أن الحرمة تتعلق به نظراً إلى الجنس. والثاني - أن الحرمة لا تتعلق به؛ فإنه لم يتبع مولوداً، فلا حكم له. ولو أَجْهَضَت المرأةُ جنيناً يُحكم بكونه ولداً، ودرَّ اللبنُ، ثبت الحكم. والصبية إذا نزل لها لبن؛ فإن كانت على سن يُتصوّرُ بلوغُها فيه، فلبنها كلبن البالغة التي لم تلد، ونزل لها لبن. ومن أسرار المذهب أن اللبن إذا جرى الحكم به، فهو على تقدير إمكان البلوغ، ولكنا لا نحكم بالبلوغ في سائر القضايا التي يشترط البلوغ فيها، ولا نقول: اللبنُ علامةُ البلوغ، وكيف يقدر ذلك والغالب أن اللبن لا ينزل إلا على ولد، ولا ولد قطعاًً في الصورة التي ذكرناها. والتحقيق فيه أنا نثبت اللبنَ بإمكان البلوغ، ولا نعلِّق به الحكمَ بالبلوغ، وهذا كما أنا نلحق ولد الزوجة بالزوج إذا كان استكمل عشراً بإمكان البلوغ في أثناء السنة

_ (1) ر. المختصر: 5/ 65. (2) في الأصل: بعد.

العاشرة، ثم إذا جرى حُكمنا بذلك، لم يصر هذا حكما بالبلوغ في سائر الأحكام؛ فإن الحكم بالنسب لا يستدعي العلم بالبلوغ، بل يُكتفى بإمكان البلوغ، ثم إمكان الشيء لا يتضمن وقوعَه قطعاًً. ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو نزل لابنة الثمان لبن، فالبلوغ غير ممكن، وقد اختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أنه لا حكم له، وقال آخرون هذا بمثابة [لبن] (1) الرجل؛ فإن هذا اللبن من غير إمكان الحمل، فصار كلبن الرجل. 10076 - وأما الخنثى إذا نزل له لبن، فإن كان قد بأن كونه ذكراً أو أنثى، فلا يخفى حكم اللبن على موجَب الأصول المقدمة. وإن كان على الإشكال، فلا نحكم للّبن بحكمٍ مبتوت. وكان يحتمل أن يقال: الغالب أن اللبن إنما ينزل للنساء [فَنُنزِل] (2) اللبن -إذا نزل- منزلةَ نهودِ الثدي، وفي دلالته اختلافٌ قدمناه في مواضعَ، فإن جعلنا نزول اللبن علامة معتبرة، فيفيد اللبن ثبوتَ الأنوثة، ثم يتعلق به ما يتعلق بلبن المرأة إذا لم تحبَل. وإن لم نجعله علامةً على الأنوثة، فلا تثبت الحرمة مع الإشكال، إلا إذا علقنا الحرمة بلبن الرجل. فهذا بيان مسائل الباب، وانتظم من مجموعها أن اللبن [الدارَّ على] (3) الولد هو الأصل، واللبنُ من المرأة من غير ولد على الاختلاف، والأظهر أنه تتعلق الحرمة به. ولا حكم للبن الرجل، وفيه وجه غريب غيرُ معدودٍ من المذهب. واللبن على سن إمكان البلوغ كاللبن بعد البلوغ، ولبن الخنثى المشكل مجرًى على الإشكال؛ فإن الحرمة لا تثبت مع التردد، والله أعلم. ...

_ (1) في الأصل: اين الرجل. (2) عبارة الأصل: ... الغالب أن اللبن إنما ينزل للنساء فيتنزل اللبن اللبن إذا نزل ... (3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

كتاب النفقات

كِتَابُ النَّفَقَاتِ 10077 - الأصل في النفقات الكتاب، والسنة، والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]، قيل: معناه ذلك أدنى أن لا يكثر عيالكم، فلا تستقلّوا بالنفقات. وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه، وقال: " يا رسول الله معي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على [خادمك] (1)، فقال: معي آخر، فقال: افعل به ما شئت " (2). وجاءت هند بنت عتبة لما فُتحت مكةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من النسوة من قريش ليبايعنه فقال عليه السلام: " أبايعكن على أن لا تسرقن " فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرّاً، فهل علي في ذلك شيء، فقال عليه السلام: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " (3)، وروي أنه لما عرفها قال: " إنك لهند "، قالت: نعم، والإسلام يجُب ما قبله. وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: " أبايعكن على أن

_ (1) في الأصل: ذلك، والتصويب من عبارة المختصر للمزني. (2) حديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: معي دينار ... الحديث. رواه الشافعي وأحمد والنسائي وأبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة (ر. ترتيب مسند الشافعي 2/ 63 ح 209، أحمد: 2/ 251، 471، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر (7413، 10088). أبو داود: الزكاة، باب في صلة الرحم، ح 1691، النسائي: الزكاة، باب: تفسير ذلك، ح 2535. ابن حبان: 4219، الحاكم: 1/ 415 وصححه ووافقه الذهبي، وانظر التلخيص: 4/ 17 ح 1853). (3) هذا الجزء من حديث هند بنت عتبة متفق عليه من حديث عائشة، وله عندهما ألفاظ (البخاري: النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، ح 5364. مسلم: الأقضية باب قضية هند، ح 1714).

لا تزنين، قالت: أيْ!! أوَ حُرَّةٌ تزني، فقال: أبايعكن على أن لا تقتلن أولادكن، فقالت: ربيناهم صغاراً، فقتلتموهم كباراً " (1) وأجمع المسلمون على أصول النفقات. ثم الأسباب الموجبة للنفقة على الخصوص: الزوجيةُ، والقرابة، والملك فالزوجية توجب النفقة للزوجة على الزوج، والملك يوجب نفقة المملوك على المالك، وأما القرابةُ، فيتصور وجوب النفقة بها من الجانبين على البدل، فالابن الفقير يستحق النفقةَ على الأب الغني، والأب الفقير يستحق النفقةَ على الابن الغني. والمملوك لا يجب عليه الإنفاق بالقرابة، وإنما يجب عليه الإنفاق بسبب الزوجية على الزوج، وقد نقول: المكاتَب ينفق على ولده المكاتَب، وليس ذلك للولادة، وإنما هو لأن ولده في حق المملوك له، وإن كان لا يبيعه [و] (2) يستكسبه، كما يستكسب المماليك، والقول في ولد المكاتب والمكاتبة من أعظم أقطاب الكتابة، وسيأتي مستقصىً، إن شاء الله عز وجل. ...

_ (1) الحديث بتمامه على نحو ما ساقه الإمام رواه ابن سعد في طبقاته بسند صحيح ومرسل عن الشعبي وعن ميمون بن مهران. قاله الحافظ في الإصابة في ترجمة هند (ر. طبقات ابن سعد: 8/ 9، الإصابة: 4/ 425). (2) زيادة لاستقامة الكلام.

باب قدر النفقة من ثلاثة كتب

باب قدر النفقة من ثلاثة كتب 10078 - قال الشافعي: " النفقة نفقتان، نفقة الموسِعِ ونفقةُ المُقْتِر ... إلى آخره " (1). صدّر الشافعي الكتاب (2) بنفقة الزوجات ومؤنهن، فلتقع البداية بالنفقة، والقولُ فيها يتعلق بأصولٍ: أحدها - في المقدار، والثاني - في الجنس، والثالث - في نفقة الخادمة، والرابع - في الأُدُم (3)، والخامس - في كيفية إيصال النفقة إلى [الزوجة] (4). فأما القول في المقدار، فقد ذهب أبو حنيفة (5) إلى أن نفقة الزوجة لا تتقدر، وإنما الواجب كفايتها، وذلك يختلف بالرَّغابة، والزهادة، وإن وقع نزاع، رُد مقدار الكفاية إلى اجتهاد القاضي وفرضِه، وقد ثبت عند الشافعي بطلانُ المصير إلى الكفاية؛ فإن المرأة لو كانت لا تحتاج إلى النفقة في يوم أو أيامٍ لعارضٍ بها، فلها طلب [حقها] (6) من النفقة، ولهاطلب التملك، ثم تصنع بالنفقة ما تشاء. ولو أكلت من مالها، لم يسقط حقها من النفقة، وكل ذلك ينعكس بنفقة الأقارب والمماليك، فلما تحقق عند الشافعي بطلانُ اعتبار الكفاية، ولم يجد في الشرع توقيفاً في تقدير نفقة الزوجات، ولم يجد مسلكاً بعد بطلان الكفاية إلا التعلُّقَ بالتقدير، ولا سبيل إلى الاحتكام به. فإذا عسر النظر إلى الكفاية؛ لأن أقدار الكفايات تختلف باختلاف الأشخاص،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 69. (2) في الأصل: صدر الشافعي به الكتاب. (3) جمعُ (الإدام). (4) في الأصل: الزوج. (5) ر. البدائع: 4/ 23، فتح القدير: 4/ 379. (6) في الأصل: فلها طلب وحقيقتها من النفقة.

وتختلف الحاجات، وقد ينتفى أصلها، فرأى الرجوعَ إلى الطعام الشرعي، وهو ما أوجبه الله في الإطعام في الكفارات، ولسنا ننكر أن الشارع رأى هذا قصداً وسطاً في الكفاية على الجملة، فكان التعلُّقُ به أولى متعلَّق. ثم قال الشافعي: " في نص القرآن ما يدل على الفرق بين الموسع والمقتر " (1)، فإنه عز من قائل قال: {يُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فاقتضى مضمونُ هذا الخطابِ الفرقَ في الإنفاق بين الموسع والمقتر، ثم نزّل الشافعيُّ نفقةَ المعسر على المدّ؛ فإنه أقلُّ مبلغٍ في الإطعام الشرعي، وطلب للموسع [متعلّقاً] (2) شرعياً، [ورأى في فدية الأذى صرفَ مدّين] (3) إلى كل مسكين، فاتخذه معتبره، ثم خطر له توسطٌ بين الموسع والمقتر؛ فإن ما يختلف باليسار والإقتار يجب أن يؤثر التوسُّطُ فيه، وهذا يظهر تقديره، فلم يجد في التوسط مستنداً شرعياً، فقال: مقدار النفقة على المتوسط للزوجة مُدٌّ ونصف. هذا تأسيس مذهبه، فانتظم من نصوصه التي نقلها المزني وغيرُه أن على المعسر مُدّاً، وعلى الموسع مدين، وعلى المتوسط لزوجته مد ونصف. 10079 - وإن كانت المرأة مخدومةً على ما سنصف ذلك في الفصل المعقود له، فعلى المعسر والمتوسط مُدٌّ للخادمة، وعلى الموسر مدٌّ وثلث. هذا الذي نقلناه أصل المذهب. 10080 - وقد حكى شيخي أبو محمد قولاً غريباً للشافعي مثلَ مذهب أبي حنيفة في أن الاعتبار بالكفاية، والرجوعُ عند فرض النزاع إلى اجتهادِ القاضي وفرضِه. وهذا لم أره إلا لشيخي. نعم، حكى صاحب التقريب والشيخُ أبو علي في نفقة المتوسط والزيادة على المد في نفقة الخادمة في حق الموسر أنه لا تقدير في الزيادة، وإنما النظر إلى اجتهاد القاضي، هذا وإن كان بعيداً في النقل، فالحاجة ماسة إليه

_ (1) ر. المختصر: 5/ 69. (2) في الأصل: مبلغاً. والمثبت من صفوة المذهب. (3) في الأصل: ورأى في مدته الأذى ضرب مدّين ... إلخ وهو تصحيف مضلّل.

لدقة مأخذ التقديرين، كما سنخوض فيه الآن. فإن أصل المذهب أن المد والنصف تقدير في حق المتوسط، والمد والثلث تقدير في حق الموسر في نفقة الخادمة، وهذا عسر؛ فإن الشافعي يُطنب في الوقيعة فيمن يتحكم بالتقدير من غير ثَبَت، ولئن وجدنا مستنداً في المد والمدين معتضداً بنصِّ القرآن في الفرق بين الموسع والمقتر، فالمدّ والنصف، والمد والثلث، لا نجد لهما مستنداً قويماً. ثم الأصحاب ذكروا وجوهاً رأَوْها أقصى الإمكان في المُدّ والثلث في حق الخادمة، والذي دل عليه فحوى كلامهم في المد والنصف في حق المتوسط أنه على تردد بين المعسر وبين الموسر، فلا يبعد أن يقتضي تردده بينهما، تنصيف المُدّ، حتى كأنه من وجه يلتفت إلى المقتر، والإقتار يوجب الإسقاط، ويلتفت إلى الموسر من وجه وذلك يوجب الإثبات، فوزعنا المدَّ الزائد في حق الموسر على الإيجاب والإسقاط، فاقتضى ذلك إيجابَ نصفٍ وإسقاط نصف، وهذا على حالٍ كلام منتظم. 10081 - فأما إيجاب المد والثلث للخادمة تقديراً جازماً، فمشكل وقد ذكر أصحابنا فيه وجهين: أحدهما - حكَوْه عن القفال الشاشي أنه قال: من أصناف القياسِ القياسُ المقرّب، وهو عندنا إن صح من أقسام الأشباه. ثم قال: الأب والأم [في الميراث] (1) لهما حالتان: حالة نقصان وحالة زيادة، فإذا كان في الفريضة ابن، فللأبوين السدسان، وإن كان وضع الفرائض يقتضي حطَّ الأم، ولكن إذا رُدَّ الأب إلى السدس، فكأنا نعتقد أن لا أقل منه في فرض الأبوين، فللأم السدس، وهذه الحالة تناظر حالة الإعسار، والأم بمنزلة الخادمة والأب بمنزلة الزوجة، فتستوي الخادمة والزوجة؛ إذ لا نقصان من المد. فإن لم يكن في الفريضة ابنٌ، فللأب الثلثان بالتعصيب، وللأم الثلث، فنزيد للأب ثلاثة أمثال ما كان للأم في حالة النقصان، أو ثلاثةَ أمثال ما نزيد للأم، وهذا

_ (1) زيادة من المحقق.

محل تعلقنا، فكذلك إذا فرض اليسار ينبغي أن نزيد للزوجة التي هي محل الأب ثلاثةَ أمثال ما نزيد للخادمة التي هي بمحل الأم، وذلك يقتضي أن نزيد للزوجة مداً، وللخادمة ثُلث مد، هذا ما حكوه عن القفال الشاشي. 10082 - وذكر بعض الأصحاب مسلكاً آخرَ مأخوذاً من نفقة المتوسط؛ فإنه يلتزم لزوجته مداً ونصفاً، والموسر يلتزم مدين، فيزيد ما عليه على ما على المتوسط بمثل ثلثه، [وعلى] (1) المتوسط مد ونصف، كذلك يزيد للخادمة في حال اليسار مثل ثلث ما كان لها في حالة التوسط، وللخادمة على المتوسط مُدّ بلا مزيد، فلها على الموسر مثل ما لها على المتوسط ومثل ثُلثه، وذلك مدّ وثلث. وهذا عندي -وإن ذكره كافة الأصحاب- مما لا يسوغ اعتماده والتعويل على مثله، ولست أرى ما حكيته في درجةٍ من درجات الأقيسة، ولا معنى للإطناب في البينات، والوجه عندي أن نقول: ما ذكره الأصحاب في نفقة المتوسط قريب لائق بهذا الأصل، فليقع الاكتفاء به، وأما المد والثلث، فأقرب مسلكٍ فيه أن نقول: إذا اتسعت نعمة الله، لم يمتنع التوسع على الخادمة، ثم لا ضبط يصار إليه، ولا وجه لتبليغ الزيادة [مبلغ] (2) ما نزيد للزوجة في حالة التوسع، والثلث مما يقرب النظر إليه اعتباراً بثلث المال في الوصايا؛ فإن الرسول عليه السلام قال: " إن الله تعالى زادكم في آخر أعماركم ثُلثَ أموالكم زيادة في أعمالكم " (3) وهذا وإن لم يكن بالبيّن، فهو أولى مما قدمناه، وفي نص الشافعي في المختصر (4) ما يشبر إليه، هذا منتهى قولنا في التقدير. 10083 - ونحن نختتمه بالكلام على المعسر ومعناه، والمتوسط، والموسر، ولست أدري كيف طاب للمصنفين تخطي أمثالَ هذه المغمضات من غير التفاتٍ على

_ (1) في الأصل: أو على المتوسط. (2) في الأصل: ومبلغ. (3) سبق تخريج الحديث في أوائل الوصايا. (4) ر. المختصر: 5/ 71. والنص المشار إليه هو قول الشافعي: " وأجعل لخادمها -أي زوجة الموسر- مدّاً وثلثاً؛ لأن ذلك سعةً لمثلها ".

محاولة شرح فيها، مع العلم بأن هذه الأسماء مشتركة، وهذا مما تمس الحاجة إلى النظر فيه، في أوائل المراتب إذا رفعت الوقائع إلى المفتين، أو إلى الحكام. فأما المعسر، فإن كان على رتبةٍ تستحق سهمَ المساكين، فهو معسر، ومن لا يملك شيئاً تستقر نفقةُ الزوجية في ذمته. ومن جاوز حد المسكنة، فكيف السبيل فيه؟ [هل] (1) نقول: هو من المتوسطين؟ فإن قال بذلك قائل، فليس على علم بالباب؛ فإن الإنسان قد يخرج باكتسابه عن حد المسكنة، إذا كان قادراً على تحصيل القوت يوماً بيوم، ولست أرى مثل هذا الشخص من المتوسطين في نفقة الزوجات، بل هو معسر [ونفقتُه] (2) نفقة المعسرين، وهذا مما لا أتمارى فيه، فأما إذا كان يخرج بملك مالٍ لا بقدرةٍ على الكسب عن حدِّ المسكنة، فالذي أراه أنه في حد التوسط، وإن كان على اقتدارٍ وتوسع في الاكتساب بحيث يَرُدُّ عليه الكسبُ -على يسرٍ-[أضعافَ] (3) ما يحتاج إليه، فقد يتردد الفطن في هذا: أما إلحاقه بالموسرين، فلا سبيل إليه، وإنما تردد النظر في إلحاقه بالمتوسطين. وأنا أقول بعد هذا التنبيه: هو معسر؛ فإنه يبعد تكليفه المزيد على قدر الحاجة بالاكتساب والله أعلم. وأما المتوسط الذي يملك ما يرقِّيه عن حد المسكنة، فلي فيه نظر: فأقول: أرى المتوسط رجلاً يؤثِّر الإنفاق في ماله إذا زاد على الأقل الذي قدمناه، فكأنه لو أخرج مُدَّين أوشك أن ينحط إلى الإعسار، والموسر لا ينحط بمدّين إلى المتوسط فضلاً عن الإعسار، وهذا يؤخذ من التشطير في المد، حتى كأنه بإخراج الزائد، وهو نصف مدٍ لا ينحظ إلى الإعسار، وبإخراج المد يوشك أن ينحط إليه، وأقرب المآخذ ما يداني الحكمَ، فالحكمُ تشطير المد الزائد، فليكن التوسط مأخوذاً منه. ومما يحق الاعتناء به أن اليسار لا ينظر فيه إلى المال فحسب، بل يُضَمُّ إلى اعتباره

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: بنفقته. (3) في الأصل: أصناف.

رخاءُ الأسعار وانخفاضُها وارتفاعها، فالرجل في المكان الذي تتّسع الأقوات فيه يتبلّغ بمقدارٍ من المال لا يتبلّغ بمثله في موضع تغلو الأسعار فيه، [ولن] (1) يكون الطالب واقفاً على دَرْك اليسار والإعسار والتوسط ما لم نمزج ملكَ المال بما أشرنا إليه من رخاء الأسعار وغلائها؛ فإن الغرض في كل باب من الإعسار واليسار على حسب ما يليق بالمقصود منه، فإذا كنا نبغي الكلام في أقدار النفقات ثم دُفعنا إلى النظر في المراتب، فالوجه اعتبار اليسار على وجهٍ [لا يُنافي] (2) النفقة الدارّة، ومن ضرورة ذلك ما أشرنا إليه من اعتبار الأسعار رخاءً وغلاء. فانتظم مما ذكرناه أن الموسر من لا يتأثر بالمُدَّين، والمتوسط من يتاثر بالمُدَّين ولا يتأثر بالمد والنصف، والمعسر مخرّج على ما قدمناه. وهذا نجاز الكلام في أقدار النفقات. 10084 - فأما الكلام في الجنس المخرَج (3)، فإن كان في البلد الذي فيه الكلام قوتٌ واحد غالب يستوي في اقتياته أهل الموضع على اختلاف درجاتهم، فلا شك أن المعتبر ذلك الجنسُ، ولا يتأتى هاهنا أن نقول: يعتبر القوت الغالب، أو يعتبر قوت كل شخص؛ فإن القوت إذا عم طبقاتِ الخلق، على ما صورنا، فقوتُ كل شخص هو القوت الغالب. وإن لم يكن في الموضع قوتٌ غالب نحكم بغلبته، ولكن كانوا يقتاتون على حسب الدرجات أقواتاً مختلفة، فلا وجه -والحالة هذه- إلا وأن نعتبر في حق كل شخص قوتَه جنساً؛ إذ لا غالب، والأقوات متعارضة، ولا بد من متعَلَّق، ونحن مدفوعون إلى مسالك ضيّقة، نقنع فيها بأدنى متعلَّق، فيكون الجنس في اعتبار حال الزوج معتبراً بالقدر، وقد ذكرنا أن النظر إلى حال الزوج في يساره، وتوسطه، وإعساره في المقدار، فليكن النظر إليه في جنس القوت.

_ (1) في الأصل: فلو. (2) في الأصل: لا يتأتى. (3) هذا هو الفصل الثاني من الفصول التي وعد بها الإمام في صدر الباب.

ولو كان في البلد قوت يمكن أن يوصف بالغلبة، ولكن الفقراء قد يعتادون اقتياتَ غيره، فهذا موضع التردد: يجوز أن يقال: الاعتبار بالقوت الغالب، ويجوز أن يقال: يعتبر قوتُ ذلك المعسرِ، وإن كان الغالب في البلد غيرَه، وهذا إذا كان يعد اقتياتُ مثله الشعيرَ مثلاً نادراً في حال مثله، وقد ذكرنا مثل هذا الترددَ في الجنس الذي يُخرج في صدقة الفطر. ومما يتعلق بذلك أن المخرَج يجب أن يكون حَبّاً أو تمراً، هذا هو الأصل، فإن أخرج خبزاً، فللمرأة ألا تقبلَه، وإن رضيت بقبوله، ففيه تفصيل سيأتي في بعض الفصول الموعودة، إن شاء الله. 10085 - فأما الكلام في نفقة الخادمة، فحقه أن يُصدَّر بمراتب النسوة؛ فإن نفقة الخادمة لا تثبت لكل زوجة، والمقدار الذي ذكره الأصحاب أن المرأة إذا كانت تُخدَم في العرف، ولو كلفت الاستقلالَ بحاجات نفسها، لكان ذلك غضّاً من قدرها، وحطّاً من منزلتها، فهذه مخدومة وإن كانت [لو خدمت] (1) نفسها، لم ينلها ضرر لكمال مُنّتها، واعتدال بنيتها. وهذا يناظر ما ذكرناه في الكفارات في العبد الذي يَخدِم ملتزمَ الكفارة. ولو كانت في العادة لا تعدّ على مرتبة المخدومات، فلا تستحق نفقة الخادمة. ولو كانت تُخدم، ومنزلتُها لا تقتضي ذلك، بل تُعدّ مجاوِزةً قدرَها، فلا تُخدم في النكاح، ولو لم تكن على منزلة من المروءة يُخدم أهلها، ولكن كانت على ضعفٍ في بنيتها، فإن كان ذلك مرضاً عارضاً، فلا تستحق على الزوج إقامةَ مُمرِّضٍ متفقّد، كما لا تستحق عليه المعالجةَ والقيامَ بمؤنِ الأدوية. وإن كانت على ضعفٍ لازم لبنيتها، ففي المسألة احتمالٌ ظاهر من جهة مشابهةِ الخادمةِ الممرّضةَ والمعينةَ على المعالجة، ويظهر عندي أن تستحق نفقةَ الخادمة؛ لأن الحاجة الدائمة أولى بالاعتبار من غضٍّ في المروءة، وقد ذكرنا في الكفارات أن من

_ (1) في الأصل: وإن كانت خدمة نفسها.

كان له [عبد] (1) وهو يحتاج إلى خدمته لعجزه اللازم له، فلا نكلفه أن يعتقه، كما لو كان يحتاج إليه في حفظه مُروءته. هذا قولنا في التي تُخدَم، والتي لا تُخدَم. 10086 - فإذا كانت مخدومة، فالذي قطع به الأئمة أن على الزوج القيامَ بمؤونة الخادمة، وقد ذكرنا من مؤنها النفقةَ، وسنذكر الباقي، ونقل بعض أصحابنا عن الشافعي أنه قال في عِشرة النساء: " ويشبه أن يكون عليه نفقةُ خادمها " فردد القول في ذلك، وقد جعل المزني المسألة على قولين في نفقة الخادمة، وهذا نُقل عنه في غير المختصر، وخالفه معظم الأصحاب في إجراء القولين. ومن أصحابنا من ساعده وأجرى قولاً أن نفقة الخادمة لا تجب على الزوج قط، وهذا بعيدٌ جداً، ولكن ذكره صاحب التقريب، والشيخُ أبو علي، ومعظم الأئمة مع إطباقهم على تزييفه. فإذا أوجبنا نفقةَ الخادمة، فإن استأجر الزوج حرّة أو أمةً لتخدِم الزوجة، فالذي يبذله أجرةٌ، وليس نفقةَ الخادمة. وإذا أخدمها الزوجُ جاريةً من جواريه، سقط حق الخدمة بذلك، وليس هذا من نفقة الخادمة في شيء؛ فإن الزوج يُنفق على أمته بحق الملك. وإن [كان للزوجة] (2) أمةٌ، وكانت تخدِمها، وأراد الزوج الإنفاق عليها، ورضيت المرأة بذلك، فهذه النفقة نفقةُ الخادمة، وهي التي تتقدر بالمد، والمد والثلث، على التفاصيل المقدمة، ولا يتصور نفقة الخادمة إلا في هذه الصورة؛ فإنا إذا صورنا استئجاراً، كان ذلك إخداماً بأجرة، ومقدارُ الأجرة على حسب التراضي. وإن لم يكن لها أمةٌ، فلا يكلف الزوج أن يستأجر حرة أو أمة بأكثرَ من النفقة التي أثبتناها للخادمة؛ فإنه ربّما لا يجد من يخدِم بمدٍّ وأوقية زيت. ولو قلنا: يجب أن يكفيَها الخدمةَ، فهذا وقوعٌ في مذهب أبي حنيفة في اعتبار

_ (1) في الأصل: عذر. (2) في الأصل: وإن كانت الزوجة أمة.

الكفاية، وأقرب لازم على هذا الأصل أن يلزمه أن يكفيها ما يسد جوعتَها إذا كانت رغيبة لا تكتفي بمدٍ، فإذا كنا لا نُلزمه ذلك، فلا يَلزمُه في جهة الخدمة إلا ما ذكرناه. فلو كانت تجد حرة تخدِم بالمدّ وما [يُلحَق] (1) به، فلا يتصور أن تُلزم الحرةُ بغير طريق الاستئجار، ولكن القدر الذي علينا [أن نوضحه] (2) أن على الزوج تحصيل هذا القدر، فإن تيسر به استخدامُ حرة، فليس على الزوج النظر في التفاصيل. ولو قالت المرأة: أنا أخدم نفسي فسلِّم إليّ نفقةَ الخادمة، فلست أرى لها ذلك؛ فإنها أسقطت مرتبة نفسها، والله أعلم، فلينظر الناظر في هذا الموضع. 10087 - ومما يتعلق بذلك أن الرجل إذا نكح أمة، وكانت تُخدَم لجمالها، فهل يجب عليه نفقةُ الخادمة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يجب على الزوج نفقةُ الخادمة؛ فإن الرق ينافي هذه المنزلة، والرقيقة تَخدِم ولا تُخدَم. والوجه الثاني - أنها تستحق نفقة الخادمة؛ لأن ذلك غيرُ مستنكر في العرف، ولا محمولٌ على الرعونة ومجاوزة الحد، والمحكّم في ذلك العاداتُ. 10088 - ولو قال الزوج لزوجته المخدومة: أنا أخدمك بنفسي، فلا تكلفيني نفقةَ الخادمة، فقد قال الأصحاب: الأمور التي لا تستحي المرأة من تعاطي الزوج إياها يتعاطاها الزوج، كالخروج وكنس البيت وغيرها من أشغال المهن، فيجوز أن يقوم بكفاية هذه الأمور، وأما خدمتها الخالصة كحمل الماء إلى بيت الماء، [وما في معناه] (3) من الأمور التي تستحي النساء من إظهارها للأزواج، ويؤثرن الاختفاء بها، فالمذهب الأصح أن الزوج لو قال: أتعاطى ذلك أيضاًً -والمرأة تأبى- فليس للزوج ذلك، فإنا إذا كنا نقيم الخادمةَ محافظةً على مروءتها، فالذي ينالها من إظهار هذه الأمور للزوج أعظم مما ينالها من غضّ المروءة وتعاطي الخدمة. 10089 - هذا نجاز الفصل. وفي القلب منه غائلة وغُصّة، وذلك أن الأصحاب

_ (1) في الأصل: وما يليق به. ومعنى ما يلحق به: أي وما يتبعه من أُدْمٍ، زيتٍ أو نحوه. (2) في الأصل: أن نوضح. (3) في الأصل: وما في معنا فيه من الأمور.

ذكروا أن الخادمة تُملّك الحَبَّ، وترددوا في الأدم، فكيف يتصور ذلك؟ فإن الإجارة لا ضبط للأجرة فيها، ومملوكة الزوج لا تملّك شيئاًً وإنما الإنفاق عليها من فن الكفاية. فالذي أراه أن الزوجة لو رضيت بأن تخدمها حرة، ورضيت الحرة بأن تخدِم بالنفقة، فإنها تستحق نفقةَ الخادمة، ولكن مهما (1) شاءت فارقت؛ إذ لا ضبط ولا عقد على اللزوم يُلزمها الاستمرارَ، والنكاح لا يشملها، فيجب القطع بعد [الاستخارة] (2) وإطالة الفكر بأنها إذا خدمت يوماً، استحقت وظيفة الخادمة. ثم الظاهر عندي أن استحقاقها يكون على حسب استحقاق الزوجة نفقتها، فلها وظيفتها في صبيحة كل يوم، كما للزوجة وظيفتها، ثم لا نجعلها بأخذ الوظيفة ملتزمةً [للخدمة] (3)، فإن بدا لها، ردّت الوظيفة وتطلقت (4)، وإن أرادت استكمال الخدمة، فعلت؛ فحقها مأخوذ قبل العمل، مستقر بالعمل، وحق الزوجة يُداني ذلك من وجهٍ، وإن كان يخالفه من وجهٍ، كما سنصف بعد ذلك، إن شاء الله. وهذا شاذ لا أرى له نظيراً ولا أجد من القول به بُدّاً. 10090 - ثم الخادمة في الابتداء إلى تعيين الزوج (5)، [فأمَّا] (6) إذا كانت قائمةً بالخدمة، فإن هي ألفت خادمةً، وأراد الزوج أن يبدلها، فإن رابه منها أمرٌ،

_ (1) مهما: بمعنى (إذا). (2) في الأصل: الاستجارة. (3) في الأصل: خدمة. (4) وتطلّقت: المعنى أنها صارت مطلقة غير ملتزمة بالخدمة، والمراد من العبارة تقرير وإثبات أن هذا الاستخدام ليس عقداً لازماً ملزماً لها، بل لها أن ترد الوظيفة ولا تقوم بالخدمة. (5) في صفوة المذهب: الزوجة. وفي المسألة وجهان: أظهرهما أن تعيين الخادمة في الابتداء إلى الزوج، وهو الذي ذكره الإمام، ولم يذكر غيره، والثاني - أن تعيينها إلى الزوجة، وهو الذي ذكره ابن أبي عصرون، ولم يذكر غيره، والذي رجحه الرافعي والنووي وجعلاه (الأظهر) هو ما ذكره إمام الحرمين: أنه إلى الزوج (ر. صفوة المذهب - جزء (5)، ورقة: 204 يمين، والشرح الكبير: 10/ 12، والروضة: 9/ 46). (6) زيادة اقتضاها السياق.

فليفعل، ولا يكلَّف في مثل ذلك إقامةَ حجة، ولا ينتهي الأمر إلى محاكمة ومخاصمة، وإن أراد إبدالها -والزوجةُ قد ألفتها- من غير خيانة وريبة، فالذي رأيته للأصحاب أنه ليس للرجل ذلك من غير غرض؛ فإن انقطاع [النفس] (1) عن المألوف شديد، وربما انبسطت إليها، وستلقى عُسراً أن تنبسط مع أخرى، وهذا بيّن من هذا الوجه. 10091 - ومن تمام القول في ذلك أن الزوج لو قام بالأشغال الظاهرة وترك الأمور الخفية على خادمة، فهل تستحق تلك الخادمةُ الوظيفةَ التامة، ومعظم الأشغال مكفية؟ هذا يقرب عندنا من تردد الأصحاب في أن السيد إذا زوج أمته، وكان يستخدم الأمة نهاراً ويردها إلى الزوج ليلاً، فهل على الزوج كمالُ النفقة؟ فيه اختلاف قدمناه في كتاب النكاح: من أصحابنا من قال: يجب تمامُ النفقة، ومنهم من أوجب نصفَها، ومنهم من لم يوجب عليه شيئاًً. ويخرج عندنا في الخادمة وجهان خروجاً ظاهراً: أحدهما - أن للخادمة نصف الوظيفة، ولا توزيع على أقدار الأعمال كالليل والنهار. والوجه الثاني - أن لها تمامَ الوظيفة؛ فإن الخادمة في الأمور السرّية لا بد منها، وهي تحتاج أن تتربص في جميع الأزمان لمسيس الحاجة إلى تلك الأشغال، ولا ترضى بأقلَّ من الوظيفة، والزوج هو الذي تجشم من عملها ما تجشم. وهذا الوجه أفقه وأليق. ولا يمتنع عندنا أن توزع الوظيفة إذا فتحنا بابَ التقسيط، بخلاف الليل والنهار في نفقة الأمة المزوجة؛ فإن الليالي والأيام جعلها الله خِلْفة، وهي تتناوب على نسب مستويةٍ في الطول والقصر، وأما الأعمالُ البادية والخفية؛ فإنها متفاوتة ليست متناسبة. فأما إذا قلنا: لا تستحق الأمةُ شيئاًً من النفقة إذا لم يسلمها السيد إلى زوجها ليلاً ونهاراً، فلست أرى لهذا الوجه خروجاً هاهنا؛ فإن الخادمة لا بد منها على الوجه

_ (1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

الذي عليه نفرّع، والزوجة لا تجد خادمة متبرعةً بالخدمة، ففي إسقاط حقها تعطيلُ الخدمة في الأمور الخفية. 10092 - فأما القول في الأُدْم، فقد قال الشافعي: " لزوجة المعسر كلَّ يومٍ مكيلةُ زيتٍ أو سمن " (1) ولم يختلف علماؤنا في أن الأُدم ليس يتقدّر، وذلك أنا اعتمدنا في تقدير القوت ما وجدناه في أصل الشرع في المُدّ والمدين، ثم سلكنا مسالك في التقريب بينهما، فأما الأُدم، فلسنا نجد له أصلاً في الشرع مقدّراً. والأُدم ثابتٌ مستحَقٌّ للزوجة، فلا سبيل إلى التقدير، ولكن أمره مبني على ما يكفي أُدماً لمدٍّ، وإن كانت النفقة مدّين، فما يكفي أُدماً لمدين، ولا شك أن الأُدم على الموسر يزداد استحقاقاً؛ على حسب ازدياد القوت، فإذاً الأدم تابع للقوت. ثم ذكر الشافعي المكيلةَ والمكيلتين، والمكيلةُ مجهولة، وإنما أراد تقريباًً، وقد يُلفَى له ذكر الأوقية والأوقيتين، والأمر في ذلك مرتبط بما ذكرناه. هذا كلامه في تقريب مقدار الأُدم. وأما الجنس، فقد ذكر الشافعي الزيت أو السمن، ولم يعين جنساً تعيين إيجاب، ولكن الأُدم الغالب في كل موضع يُرْعى. ثم إن تبرمت المرأة بالزيت والسمن، وأرادت جنساً آخر قيمته كقيمة ما يغلب أُدماً، فهذا فيه تردد بيّن: يجوز أن يقال: الرجوع في هذا إلى الزوج، ثم إن أرادت المرأة جنساً آخر، تصرفت بنفسها، أو تصرفت خادمتها لها. وهذا كقول الشافعي: إن أرادت المرأة مزيداً في القوت، زادت من أُدمها في قوتها، وإن أرادت مزيداً في الأُدم زادت من قوتها في أدمها. ويجوز أن يقال: تعيين الأُدم إليها؛ إذ لا ضرار على الزوج في إسعافها، ويظهر تضررها بالمواظبة على أدم واحد، وقد تتضرر بصرف أدم في أدم. ويظهر هذا الذي ذكرناه منه إذا لم يكن في البلد أدم غالب، فإن كان في البلد أدم غالب، فقد يخرج فيه وجه أن الرجوع إلى الغالب، ويجري الوجهان المقدمان.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 70. ونذكّر هنا أن القول في "الأُدم" هو الفصل الرابع في الباب.

هذا قولنا في مقدار الأدم وجنسِه كلَّ يوم. 10093 - قال الشافعي: " يشتري لها في الأسبوع رطلَ لحم إن كانت الوظيفة في القوت مداً، وإن كانت الوظيفة مدين اشترى لها في الأسبوع رطلين ... إلى آخره " (1). قال العراقيون: هذا قاله الشافعي على عادةٍ ألفها في دياره؛ فإن أهل [مصر] (2) قد يستقلون من اللحم، وإذا فرضت عادة على خلاف ذلك في بعض البلاد، فلا [اقتصار] (3) على رطل ورطلين، ولكن المتبع العادة، فنقول: أي قدر يليق بنفقةٍ قدرها مُدّ؟ وكيف السبيل والنفقة مدان؟ ويختلف ذلك بالأصقاع والبقاع، وهو قول العراقيين، وهو حسن متجه، وكان شيخي [يحكي] (4) عن شيخه القفال اتباع الشافعي فيما ذكرناه [من أن المطاعم] (5) والملابس، تدور على سِدادِ الحاجة، ولا تنتهي إلى النعمة والترفه وانبساط بني الدنيا، والدليل عليه أنه أثبت مُدَّين على الملك العظيم، وإن كان هذا نزراً وتْحاً (6) في حق [الموسر في حكم العادات] (7). ويجوز للعراقيين أن يقولوا: ذلك تقدير، والتقدير لا يزول عن وضعه، وما يليق بالكفايات يجب الرجوع فيه إلى موجَب العادات. ومما يجب التنبيه له أن المرأة إذا كانت تتزجَّى بالحَب القفر (8)، وكانت لا تأتدم، فحقها من الأُدْم لا يسقط، فهذا بمثابة استحقاقها أصل النفقة، ولو كانت قد لا تحتاج إليها في بعض الأحوال.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 70. (2) في الأصل: (الجروم) وفي صفوة المذهب (الحروج). والمثبت من (الشرح الكبير: 10/ 8، والروضة: 9/ 42). (3) سقطت من الأصل. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: في المطاعم والملابس. (6) الوتح: مثلثة التاء: القليل التافه (المعجم). (7) ما بين المعقفين مكان عبارة الأصل: " المقترن في حكم العالم ". (8) أي تتطعم النفقة من الحبوب بغير إدام.

10094 - فأما أُدْم الخادمة، فالذي تحصل لنا من كلام الأصحاب وجهان في أنها هل تفرد بأُدم؟ منهم من قال: تفرد بالأُدم كل يوم؛ فإن الأُدم يتبع النفقة ولا تخلو نفقة عنه، وكما أفردت بالقوت، وجب أن تفرد بالأُدم. والوجه الثاني - أنها لا تفرد بالأُدم، ولكنها تكتفي بما تُفْضِله المخدومة من الأدم، إذ العادة قد تقتضي الإفراد بالقوت مع الاختلاط في الأدم، فإن فرّعنا على هذا الوجه الأخير، فيجب أن نزيد للمخدومة في الأدم، ونُثبت لها من الأُدم أكثرَ مما نثبته للتي ليست مخدومة، ثم قد لا ننتهي إلى مقابلة مد الخادمة بمكيلة أوقية، فإن أُدْم الخادمة أقل. وإذا فرعنا على الوجه الأول ملّكنا الخادمةَ أُدمها، واعتقدناه ركناً مستحقاً لها في وظيفتها. ثم الغالب على الظن أن من أثبت لها كلَّ يوم أُدماً لا يخصصها باللحم في أوان اللحم، والعلم عند الله. ثم يزيد لحم المخدومة على لحم التي ليست مخدومة. ولا خلاف أن قوت الخادمة من جنس قوت المخدومة، أجمع على ذلك الأصحاب في الطرق، وذكر العراقيون وجهين مفرعين على أنها مخصوصة بالأُدم في أن أُدمها هل يكون من جنس أدم المخدومة، أم يجوز أن يكون دون أدم المخدومة في الجنس؟ وهذا الاختلاف منقدح، وهو مأخوذ من العادات؛ فإن جنس القوت يتحد وأجناس الأدم تختلف. وقد انتهى الكلام في الأُدم. 10095 - فأما القول في كيفية صرف النفقة إلى الزوجة (1) فنقول: أجمع الفقهاء على أن الزوج يتعين عليه تمليك زوجته النفقةَ، وأبو حنيفة وإن بنى مذهبه على الكفاية، وافق في أن المرأة إذا طلبت التمليك، أجيبت إلى غرضها، ثم قد ذكرنا أن حقها المتأصل الحَبُّ، كما مضى، فإذا ملكها الحَبَّ، فطالبته بالقيام بمؤن إصلاح الحب طَحْناً وخبزاً، فلها ذلك، وينتظم من هذا أن لها طلبَ تمليك الحب، ثم لها طلب مؤن الإصلاح.

_ (1) هذا هو الفصل الخامس والأخير من الفصول التي وعد بها الإمام في صدر الباب.

ولو أخذت الحبَّ وملكته، واستعملته بذراً، أو باعته، فلو أرادت مطالبةَ الزوج بمقدار مؤنة الإصلاح، فهذا أراه محتملاً: يجوز أن يقال: لها ذلك؛ فإنها قد تبغي إصلاح [مُدٍّ] (1) عندها، وتُصيِّره خبزاً، وتتملّك ذلك؛ فإنه من حقها، وكأنا نقول: لها البرُّ والأُدم، والمقدارُ الذي يُصلح الطعام. ويجوز أن يقال: إذا كانت لا تحتاج إلى الخبز، لم تملك المطالبة، بالمؤن التي تُنهي الحبَّ إلى الخُبز، فإن الإصلاح ليس من الأركان والوظائف [القائمة، وإنما هو إصلاح عند الحاجة.] (2) نعم، إذا كانت تحتاج إلى إصلاح البرّ، وقد أخرجت البرّ الذي قبضته، فيجب القطع بأنها تكلِّف زوجها ذلك، فأما إذا كانت لا تحتاج إلى الخبز في يومها، ففيه الخلاف والتردّد الذي أشرت إليه. ولو اعتاضت المرأة عن البُرّ الثابت لها في ذمة الزوج [دراهمَ] (3)، أو ما أرادت من عِوض، فقد ذكر أصحابنا فيه وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز؛ فإنه اعتياضٌ عن طعام ثابت في الذمة، بحكم عقد، فأشبه الاعتياض عن المسلم فيه. والوجه الثاني - أنه يجوز، كما يجوز الاعتياض عن قيم المتلفات، وهذا الخلاف يقرب مأخذه من مأخذ القولين في جواز الاعتياض عن الثمن الثابت في الذمة، وقد سبق ذكرهما في كتاب البيع. ولو اعتاضت المرأة عن الحب خبزاً، فقد ذكر بعض الأصحاب فيه خلافاً، وهذا يتطرق إليه تجويز بيع البُرّ بالخبز، وهو ممتنع في البيع وفاقاً، ولكن من جوّز هذا فيما نحن فيه، فوجهه -على بُعده- أنها تستحق الحَبَّ والإصلاحَ، فإذا رضيت بطعام مهيَّأ مُصْلَح، فكأن ما قبضته حقُّها؛ وليس عوضاً عن حقها، [فإنه كان لها أن تطلب الحَبَّ] (4)، ثم تكلِّف زوجَها إصلاحه، وهذا مما لم يختلف فيه أصحابنا.

_ (1) في الأصل: بدّ. (2) ما بين المعقفين تقدير منا، لما ذهب من عبارة الأصل بسبب امّحاء أطراف الكلمات والحروف. (3) مطموسة في الأصل. والمثبت من صفوة المذهب. (4) في الأصل: وإن كان لها أن تطلب الحب.

10096 - ومما أجراه الأصحاب في الخلاف والمذهب أنها لو رضيت بأن تأكل مع زوجها من غير إجراء تمليك وتملّك واعتياض، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من جرى على قياس المذهب، ولم يُسقط النفقةَ بهذا، وإن كان الزوج يرى إطعامها عوضاً عن حقها عليه، فما يتعاطاه سحتٌ. ومن أصحابنا من أجاز ذلك، وبناه على مذهب المسامحة والاتباع؛ فإن الأولين كان يعمّ هذا الاعتيادُ منهم من غير إجراء اعتياض. وحاصل هذا [أنا] (1) إن أردنا تخريجه على قاعدة المذهب، [قلنا] (2) إن المرأة تستحق النفقة تمليكاً إذا لم تَطْعم مع زوجها، فإذا طَعِمت معه واكتفت، سقط حقها من طلب التمليك، وإن لم يكن هذا على حقائق الأعواض، وكأن نفقتها على [هذا] (3) الرأي بين الكفاية إن أرادت وبين التمليك، على قياس الأعواض إن طلبت. وهذا حسنٌ غائصٌ. ومما نوصي به من يطلب التحقيق أن يؤثر ما يليق بالباب على القياس الجلي الذي يستند إلى غير الباب. وما ذكرناه من الرضا بالتطعم لائق بباب النفقة، غيرَ أنها إذا آثرت الطلب، لاقَ بما تطلب التمليكُ والقدرُ (4). 10097 - ولو قدم الزوج لزوجته نفقة أيام، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنها هل تملك ما قدمه الزوج على نفقة يومها؟ أحد الوجهين - أنها تملكه، كما يملك مستحق الدين المؤجل ما يعجّل له قبل الأجل. والثاني -وهو الأظهر- أنها لا تملك؛ فإن الدين المؤجل ثابت، [وإنما] (5) المنتظر الحلول وانقضاءُ الأجل [لتوجيه] (6)

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة اقتضاها استقامة الكلام. (3) زيادة من المحقق لا يتم الكلام إلا بها. (4) والقدر: أي التقدير والتحديد بالمدّ والمدّين ... إلخ. (5) في الأصل: فإنها. (6) في الأصل: توجيه.

الطَّلِبة، والنفقةُ تجب يوماً يوماًً، فلا يقع المقدَّمُ مستحقاً. ثم قال الشيخ: إن قلنا: إنها تملك ما يقدم لها، فتملك التصرف فيه، وإن قلنا: إنها لا تملكه، لم تملك التصرفَ فيه، والأمر على ما فرعه، وليس ذلك كالقرض- على قولنا: إن المقترض لا يملكه بمجرد القبض؛ فإنا مع ذلك [نسلّطه] (1) على التصرّف، فإنا نقول: يتوقف جريان ملكه على تصرّفه، وإذا جرى منه التصرف، تبيّنا انتقال الملك إليه قبيل التصرف، فالتصرّف على هذا القول شرطُ جريان ملكه، فيستحيل أن يمتنع التصرف. 10098 - وتمام هذا الفصل أن المرأة تملك على زوجها نفقة كل يوم مع [أول] (2) جزء من اليوم، فكما (3) طلع الفجر ملكت النفقة، وطالبت بها، وتصرفت تصرف الملاك، إما فيما في الذمة وإما فيما تقبض. ثم قال الشيخ أبو علي: إذا قبضت المرأة نفقة يوم وماتت في أثناء اليوم، لم يسترد النفقةَ، وهذا متفق عليه بين الأصحاب. ولو كان قدم الزوج لها نفقة أيام، وقلنا: إنها لا تملك ما يزيد على نفقة اليوم، فإذا ماتت، تركنا عليها نفقةَ يوم الموت، واسترددنا منها نفقاتِ الأيام بعد ذلك. وإن قلنا: إنها ملكت ما قدمه الزوج لها، فهل يسترد من تركتها تلك النفقات الزائدة على نفقة يومها الذي ماتت فيه؟ فعلى وجهين- ذكرهما الشيخ: أحدهما - أنه [يستردّها] (4) وهو ما قطع به العراقيون؛ فإنها إنما ملكت على تقدير بقاء الزوجية، فإن انتهت الزوجية نهايتَها قبل الأيام التي قدّم الزوج نفقتها، يجب القضاء بانتقاض ملكها. والوجه الثاني - أنا لا نستردّ ما قدمه الزوج، فإنما نفرع على أنها ملكته، فأشبهت نفقةَ اليوم إذا أخذتها ثم ماتت في صبيحة ذلك اليوم، فمعظم أوقات اليوم باقية، ثم النفقة غيرُ مستردة.

_ (1) في الأصل: نسلطها. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) فكما: بمعنى عندما طلع الفجر، أو كلما طلع الفجر ... (4) في الأصل: أنه مسترد.

ولا خلاف أنها إذا أخذت نفقة يومها، ثم نشزت، لم نترك عليها النفقة. فانتظم من هذا أن نفقة اليوم لا تسترد إلا من ناشزة، وأما إذا ماتت، فلا، ونفقةُ الأيام المستقبلة تستردّ من الناشزة، وهل تسترد من تركة الميتة؟ فعلى الخلاف المقدم. 10099 - ومن تمام البيان في ذلك أنها لو كانت مطيعةً في بعض اليوم ناشزةً في بعضه، فهل تستحق النفقة لزمان الطاعة؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، قريبُ المأخذ من مسألة الأمة المزوّجة إذا سلمها السيد ليلاً واستخدمها نهاراً، ولكنا ذكرنا ثلاثة أوجه ثَمّ: أحدها - أنه يثبت تمام النفقة على الزوج، وهذا الوجه لا يخرّج إذا انقسمت الطاعة والنشوز في اليوم الواحد، بل لا يجري هاهنا إلا وجهان: أحدهما - أنها تستحق قسطاً من النفقة، وهذا هو الأوجه هاهنا. والثاني - أنها لا تستحق شيئاً؛ فإن النفقة لا تتبعض. ثم إن فرض النشوز في أحد الجديدين (1) على الاطراد والطاعةُ في الآخر، فالبعض الذي أطلقناه نصف النفقة. وإن كان انقسام الطاعة والمخالفة على نسبةٍ أخرى من الزمان، فلا وجه إلا اعتبارُ الأزمنة والتقسيط عليها. وهذا نجاز القول في الفصول التي وعدناها في النفقة. فصل في الكسوة 10100 - الزوجة تستحق على زوجها الكسوة، والكلام في قدرها، وجنسها، وجهة تسليمها. فأما القدر، فلا قدرَ، والكُسوةُ مبناها على الكفاية، بخلاف النفقة، والدليل عليه

_ (1) الجديدان: الليل والنهار، والمعنى الحرفي هنا غير مراد، وإنما المعنى: إذا فرض نشوزها يوماً وطاعتها يوماً على الاطراد، أو فرض نشوزها آناً بعد آن على التبادل، هذا هو المعنى المقصود.

أن الطعام مقدَّرٌ في الكفارة، والكُسوة مقدّرة ولكنها محمولة على دراهم في تفاصيلَ ستأتي مشروحةً في كفارة الأَيْمان، ولا يمكن الاكتفاء بالاسم فيما نحن فيه، فإن ستر المرأة من فوقها إلى قدمها محتومٌ إلا فيما يظهر منها ويبدو في الصلاة، فحقٌّ على الزوج القيامُ بالكُسوة. ثم الجثث والقُدود تتفاوت تفاوتاً عظيماً، [والقوت] (1) الذي يقع غنيةً وبلاغاً وقد يعم معظمَ طبقات الخلق (2). هذا هو القول في الأصل المرعي في ذلك. 10101 - فأما الجنس فقد قال الشافعي: الكسوة على المعسر من غليظ البصرة، يعني الكرباسَ الغليظ، وهي على الغنيِّ من ليِّن البصرة، يعني الكرباس الليّن الرقيق، والمتوسط بين المعسر والغني. وإذا كان الأصل مبنياً على الكفاية، فالقول في التفصيل يجري على التقريب لا محالة. قال العراقيون: هذا الذي ذكره الشافعي محمول على ما عهده في زمانه، ولعل أهله كانوا يكتفون بالليّن والغليظ، فأما إذا عمّت العادات في زمان بإلباس المرأة الحريرَ، والخزَّ، والكتان، وما في معانيها، وكان ذلك لا يعدّ سرفاً ومجاوزةَ حدٍّ، فيجب إلباس المرأة هذه الفنون، إذا هي طلبتها على شرط الاقتصاد والجريان على الاعتياد. وعلى هذا لا منتهى للجنس، ويجب أن لا يعرض (3) موقف، حتى لو عظم يسار الرجل، ازداد شرفُ الأصناف التي يكسوها زوجاته.

_ (1) في الأصل: والقوة. (2) المعنى أن الكسوة تختلف عن النفقة، فالقدر الذي يعتبر غُنيةً وبلاغاً قد يتساوى فيه جميع الخلق، أما الكُسوة فلا يمكن اعتبار قدرٍ محدّد فيها لتفاوت الأشخاص جسامةً وطولاً، ونحافة وقصراً. (3) المعنى أنه يجب ألا يوضع حدٌّ يوقف عنده، بل كلما زاد يسار الرجل، ازدادت قيمة الأصناف التي يكسوها زوجته.

وكان شيخي يقول: ما رآه الشافعي لا مزيد عليه، وهو لبس الدَّيِّن (1)، فأما ما عداه، فاعتياده من شيم [المترفين] (2). هذا قولنا في جنس الكسوة. ولا خلاف أن الخادمة في كُسوتها محطوطةٌ عن المخدومة، والجنس في القوت لا يختلف، وفي الكسوة يختلف، وفي الأُدم خلافٌ قدّمناه. ثم على الزوج أن يكسو امرأته في الصيف خماراً وقميصاً وسراويل، على حسب ما يليق، كما تقدم التفصيل، ثم يُلبسَها في الشتاء جُبةً تُدفئها على حسب مسيس الحاجة إلى الإدفاء، وقد يكون للخادمة فروةٌ على ما تقتضيه العادة في المغايرة، والقميص الواحد يبلى ولا يدوم السنة. ثم ذكر العراقيون في ذلك مسائل نذكرها في آخر الفصل. 10102 - فأما جهةُ الكُسوة، فقد اختلف أصحابنا فيها: فذهب بعضهم إلى أنها إمتاع ولا يجب التمليك فيها، فعلى هذا لو استأجر الزوج ثياباً وكَسَتْ (3) بها، كفى ذلك، وكذلك لو استعار. والوجه الثاني - أنها تستحق تمليكَ الكُسوة، كما تستحق تمليكَ النفقة، وهذا قد يشهد [له] (4) العادة. فإن قلنا: المستحق في الكُسوة إمتاعٌ، فلو سلم ثوباً إليها ولم يملِّكها، فتلف الثوب في يدها من غير تقصير منها، فالوجه عندنا القطع بأنها لا تضمن؛ فإنها تستحق أن تكسى ويدُ الاستحقاق في الانتفاع لا تُثبت الضمانَ في العين، ولو كنا نضمنها ما يتلف في يدها من الثياب، لتفاقم الضرر عليها، ولكانت على غرر طول زمانها، وعلى خطرٍ في شأنها.

_ (1) عند ابن أبي عصرون: "اللين". (2) في الأصل: المستريبين. والمثبت من صفوة المذهب. (3) كست بها: أي لبستها، تقول: كسِيَ يكسَى: لبس الكسوة، فهو كاسٍ. (المعجم). (4) زيادة من المحقق.

وإن قلنا: إنها تُملَّك، فلا يخفى التفريع. ثم [القول] (1) في تمليك الخادمة وإمتاعها كالقول في الزوجة سواء بسواء. 10103 - وهذا أوان الوفاء بما ذكره العراقيون. ونحن [نُجري] (2) مسلكاً نراه أضبط وأجمع، ونذكر في أثنائه كلامَ العراقيين، فنقول: إذا [سلّم] (3) إلى المرأة كُسوةَ الصيف مثلاً، فتلفت في يدها، فإن قلنا: الكُسوة إمتاع، ولم تُقصِّر، فعلى الزوج أن يجدد إمتاعَها بكُسوة أخرى، فإن إدامة الإمتاع محتومةٌ. وإن قلنا: جهةُ الكسوة التمليكُ، فإن ملكها وظيفةَ الصيف، فتلفت في يدها من غير تقصير، ففي المسألة وجهان: أقيسهما - أنه لا يجب على الزوج تجديد الكُسوة؛ فإنه وفاها حقها ملكاً، وأقام لها حقها المستحَقَّ، فأشبه ما لو أعطاها النفقة وملّكها ثم تلفت في يدها. والوجه الثاني - أنه يلزم التجديد؛ فإن الكسوة وإن كانت على التمليك، [فإنها] (4) على الكفاية، وهذا ضعيف لا اتجاه له، ولا خلاف أنه لو انقضت نوبةُ الكُسوة، والكُسوة معها (5)، فلو حكمنا بأن الكسوة إمتاع، لم يجب التجديد، وإن حكمنا بأن جهة الكسوة التمليك، فيجب الوظيفة. 10104 - ومما يتعلق بذلك ما ذكره العراقيون في النفقة والكسوة عند طريان الموت، قالوا: إذا أعطى زوجتَه نفقة يومها فماتت، لم يسترد نفقة ذلك اليومِ، وقد ذكرنا ذلك. وإن قدم لها نفقة أيام، استرد الزائدَ على نفقة ذلك اليوم، هذا ما قطع العراقيون به، وفيه خلاف ذكرناه. وإن وفاها كُسوة الصيف، فماتت في أثناء الصيف، ذكر العراقيون في استرداد تلك الكسوة وجهين في ترتيبهم.

_ (1) مطموس في الأصل، والمثبت تقدير من المحقق. (2) في الأصل: نحوي. (3) كذا قدرناها مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (4) مطموسة بالأصل، والمثبت من تصرّف المحقق واختياره. (5) أي ما زالت الكُسوة باقية.

والذي نراه أن الكسوة إن كانت إمتاعاً، فهي مستردة؛ فإنها [ما] (1) ملكتها إلا أن يكون وهبها الزوج منها. وإن كان التفريع على أن جهة الكُسوة التمليك، فالصيف في كسوة الصيف كاليوم الواحد في النفقة. وما أطلقوه من الوجهين يخرجان على الإمتاع والتمليك، كما قدمناه. 10105 - ومما يتم به البيان أنا إذا جعلنا الكسوة إمتاعاً، فلو أتلفتها، فلا شك في وجوب الضمان، وهل تستحق كُسوةً جديدة إمتاعاً بها؟ الوجه الظاهر أنها تستحقها إدامةً للإمتاع، وفيه احتمال مأخوذ من إعفاف الابن أباه؛ فإنه إذا أعفه بزوجة فطلقها، فهل يجب على الابن أن يعفه مرة أخرى؟ فيه خلاف ذكرناه في موضعه، والوجه في الكسوة إيجاب التجديد. وإن أتلفت وفرطت، فإنها تضمن، فكأنها ردّت ما أخذت. نعم، يجوز أن يقال: هذا الخلاف يجري في التقديم والتأخير، حتى إذا أرادت المطالبة بتجديد الكسوة قبل أن تغرَم للزوج قيمةَ ما أتلفت، فهل لها ذلك؟ هذا يخرج فيه الخلاف خروجاً مستدّاً وقد نجز القول في الكُسوة. 10106 - وما يتصل بهذا القولُ في الشعار، والدثار، وما يفرش. قال الشافعي: " لها مِلْحفةٌ ووسادة ومُضَرَّبةٌ وثيرة " (2)، ويختلف ذلك بالغنى والفقر اختلاف الكسوة. وللخادمة ثياب ليلها على قدر الكفاية، مع التفاوت الظاهر في المرتبة، حتى قال الشافعي: ثوب ليل الخادمة في حق المعسر كساءٌ. ثم الكلام فيما يفرش: قال العراقيون: تحت المضرَّبة لِبدٌ أو حصيرٌ، وهل لها زِلّيّة (3) تفرشها بالنهار؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون - واقتصروا في الفرش على

_ (1) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام إلا بها. (2) ر. المختصر: 70، 71 (وهذا معنى كلام الشافعي وليس بلفظه). (3) الزلّية: نوعٌ من البُسط (المعجم) وما زال أهل العراق والجزيرة العربية عموماً يطلقون على =

هذا القدر، ولم يردّوا الأمرَ إلى العادة، ونحن نعلم أن الفقير الذي نفقته في اليوم مدٌّ [يكفي] (1) مسكنَه فرشٌ يستر أبنيةً أو بناء واحداً (2). ثم لم يرَوْا اعتبار هذا في حق الغني، [وردّدوا] (3) الخلاف في الزِّلّية، وتوسعوا في الكُسوة، وحملوا نص الشافعي حيث ذكر ليّن البصرة في حق الغني على عادة زمانه، وأثبتوا في عادات زماننا الخز والحرير. وهذا في ظاهره تناقض منهم، تبيّن به أن الوجه اتباع ما لا بد منه، وما عداه تجملٌ وزينة لا يتعلق الاستحقاق به، ويمكن أن يقال: ما اعتبره الشافعي من ليّن البصرة على الغني لم يثبته زينةً، وإنما أُثبت إمتاعاً بالثوب الذي يلين حسّه ولا تتأثر البشرة به، وهذا ما أردنا التنبيه عليه. 10107 - والمسكن في النكاح لا بد منه، ثم رأيت للأصحاب في أبواب العِدد عند ذكرهم مسكن النكاح أنه يُسكنها مسكناًً يليق بها، فاعتبروا في ذلك جانبها، ولم يعتبروا في جنس القوت جانبها، وإنما اعتبروا فقر الزوج وغناه، كما قدمناه. وقد يعترض في هذا سؤالٌ من جهة أن المرأة وإن كانت رفيعة المنصب والزوج يحصرها وحدها أو مع خادمة في الدار، وله أن يمنع أهليها من مداخلتها، وقد نوجب على الفقير أن يُخدِم زوجتَه، واتساعُ المسكن إنما تمس الحاجة إليه لكثرة الساكنين، فما وجه ذلك والطرق متفقة على أن المساكن تختلف باختلاف أقدار الزوجات؟ والأصل في هذا أن الكبيرة المنصب إذا كانت ألفت مسكناًً فسيحاً ينسرح الطرف فيه، فلو رُدّت إلى حجيرة منخفضةِ السقوف ضيقةِ الأبنية، كان ذلك بالغاً في الإضرار بها، وهذا واضح في العادات، ولذلك أطبق أهل المروءات على التباهي بالمساكن وارتياد

_ = ما يسمّيه أهل مصر (السجّاد) يطلقون عليه (الزَّلّ) بفتح الزاي، وهو ما يفرش من البسط بأنواعه وأشكاله. (1) في الأصل: ففي. (2) كذا. ولعل المعني بالبناء الحجرة. (3) في الأصل: وردّوا.

ما يليق بأحوالهم منها، حتى إذا فرض مسكنٌ محطوطُ القدر عُدّ الاكتفاء به نُكراً في العرف، وخَرْماً للمروءة. والذي ينتظم عندنا في هذه الأبواب أن ما يكون إمتاعاً في حقوق الزوجة يجب أن يُرعى فيه منصبها وحالها، وما يكون مبناه على التمليك، فلا فرق فيه بين أن تكون رفيعةً أو خاملة، وإنما يختلف القدر فيه بتوسع الزوج في الثروة أو نقيض هذه الحالة تعلّقا بقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، وقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، وما أشار إليه العراقيون من التردد في الكُسوة أُدراه مبنياً على أنها إمتاع أو تمليك، والعلم عند الله. فإذاً لا تمليك في المسكن، ولا في المفارش، وثياب الليل ملتحقةٌ بالفرش؛ إذ يبعد أن يجب عليه تمليكُهَا ثيابَ الليل، ثم يضاجعها في ثيابها، والنفقة والأُدم على التمليك، وفي الكُسوة الخلاف الذي قدمناه. 10108 - ثم قال الشافعي: " على الزوج أن يُهيىء لها عتادها في التزين والتنظف فيشتري لها مشطاً، وما يليق به إن كانت تحتاج إلى مزيد ... إلى آخره " (1). ثم قال الأئمة: للخادمة أصل النفقة والأُدم تبعاً وأصلاً، كما تقدم، وهي تُمتَّع بالمسكن تمتعَ الزوجة، ولا بد لها مما يدفئها ليلاً على قدرها، وهي محطوطة عن المخدومة، وليس لها آلةُ التنظف كالمشط وغيره، ولها خُفان إن كانت تحتاج إلى الخروج، ثم كُسوتها في التمليك والإمتاع ككسوة الزوجة، وأرى خفَّها في معنى كُسوتها. وللزوجة المشط والدهن الذي تترجل به، فإن كانت تبغي مزيداً تتزين به كالكحل والطيب، فلا تستحق شيئاًً من ذلك، والأمر فيه مفوّض إلى الزوج، والزوج يجنبها ما يتأذى به إذا تعاطته كالأطعمة التي لها روائحُ كريهة. ولو كانت تتعاطى من الأطعمة ما يغلب على الظن أنه يُمرضها، فهل للزوج أن يمنعها منه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يمنعها؛ فإن المرض غيبٌ

_ (1) ر. المختصر: 5/ 71.

ولا تتأذى في الحال، ولو فتحنا هذا الباب، لطال نظرنا في منع الزوج إياها من مزيدٍ في القدر تتعاطاه من الطعام، وفي تكليفها أموراً ظنيّة، وإن كان ما تتعاطاه مما يؤثر تأثير السموم، فلا شك في أنه يمنعها، كما يمنعها أن تقتل نفسَها. ومما تعرض له الأصحاب في الخادمة أنها إذا احتاجت إلى إزالة الوسخ عن نفسها، ولو لم تفعل ذلك، لتأذت بالهوامّ والوسخ، ثم تأذت المخدومة بها إذا كانت [تخامرها] (1)، فيجب على الزوج أن يكفيَها ذلك، وقد يكون من حاجتها المشط، هكذا ذكره الصيدلاني، وهو حسن متجه. وفي بعض التصانيف ليس لها المشط، فإنها إن تأذت، كان تأذيها بمثابة تأذيها بأمراضها، وليس على الزوج معالجةُ أمراضها فيما تتأذى به، وإنما عليه أن يهيىء لها ما سبق تمهيده. والأصح ما ذكره الصيدلاني، وليس تأذيها بالوسخِ من قبيل الأمراض؛ فإن الأمراض وإن كان يغلب طريانها في المدد، فليس مما يُقضى فيها بأنها ستكون لا محالة، وركوب الدرن والوسخ وتلبد الشعر، ووقوع الهوام، مما يقع وقوعَ الجوع، فيجب أن تُكفَى هذه الجهة، كما تُكفَى الحر والبرد. 10109 - فأما إذا طلبت المرأة الدهن لتترجل به، فقال الرجل: أما ما تتأذَّيْن به من وسخ، فعليّ أن أهيىء لك ما تستعينين به على إزالة ذلك، وأما الزينة بالترجل، فلست أبغيها منك، وهي حظِّي وليس من ضرورتك، فظاهر كلام الأصحاب أنه يجب عليه إقامة آلة الزينة لها، وليس يبعد من طريق الاحتمال ألاّ يجب ذلك لما أومأنا إليه، ولها الطيب، [ولم] (2) يوجب أحد على الزوج بذلَه لها ما يقطع الروائح الكريهة، ولا يتأتى قطعها إلا به كالَمْرتَك (3) في قطع الصِّنان، فهذا فيه نظر؛ فإن الماء قد يكفي فيه، مع استعمال ترابٍ أو غيره، فإن كان لا يتأتى القطع إلا بما ذكرناه، فنقطع

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (2) في الأصل: فلم. (3) المرتك: وزان جعفر، ما يعالج الصنان. معرّب، ولا يكاد يوجد في الكلام القديم (المصباح).

بتحصيله لها، فإن هذا مما [يؤذيها] (1) في نفسها، وعلى الفقيه ألاّ يَغفُل نظرُه عن الرواتب من هذه الأمور، وعما يطرأ بعارض. والكحل لم يوجبه أحد وألحقوه بالطيب، ولم يختلفوا أنه لا يجب على الزوج مؤن المعالجة، كالأدوية ومؤنة الحجامة والفصد، وما في معانيها. 10110 - ومما يجب إعداده ماعون الدار كظروف الماء، والقِدْرِ للطبخ، وما في معناه من المغارف وغيرها مما يظهر التضرر بسبب فقدها، ثم ظروف الماء قد تكون خزفية، وقد تكون نحاسية، والسبيل فيها الإمتاع، كما ذكرناه في المسكن والمفارش، ويتجه أن تكتفي الخاملة بظروف الخزف، والشريفة تبغي النحاسية. ويجوز أن يقال: طلب أواني النحاس من رعونات الأنفس، وليس كالمسكن، فإن المسكن الضيّق يغُمّ ويضر إضراراً بيّناً، والعلم عند الله. وإذا تعلق الكلام بالكفايات، وأثبتت على خلاف المراتب، لم يكن استيعاب المقاصد منها بالمسائل، وإنما الممكن تمهيد الأصول على أقصى الإمكان في التقريب، والله المستعان. فصل 10111 - المكاتب وإن كان موسعاً عليه، فنفقته نفقة المعسرين؛ فإن ملكه غيرُ تام، ولهذا قبض الشرع على يديه، ومنعه من الاستقلال بالنفس في التبرعات، وردّد الشافعي القولَ في نفوذ تبرعاته بإذن المولى. والعبد ينفق نفقةَ المعسرين سواءٌ كان محجوراً عليه أو مأذوناً له في التجارة، وسواء ملكه المولى وفرعنا على أنه يملك بالتمليك، وسواء أذن له في إتلاف (2) جميع ما ملكه أو لم يأذن. فأما إذا كان بعضه رقيقاً وبعضه حراً، وقد كثرت أمواله،

_ (1) في الأصل: يرزيها. (2) المراد بالإتلاف هنا الإنفاق.

[بالبعض] (1) الحر منه، فالذي أطلقه الأصحاب أن نفقته نفقة المعسرين لما فيه من نقص الرق، وكل ما يبنى على كمال، فمن بعضه رقيق فيه ملتحق بالأرقاء، كالشهادات والولايات. وقال المزني: إذا كان غنياً ببعضه الحر، نظرنا إلى الرقيق منه والحر، فإن كان النصف منه رفيقاً، فيخرج نصف نفقة المعسرين، وهو نصف مُدّ ويخرج نصف نفقة الموسرين وهو مد، فيجتمع مد ونصف بهذا الاعتبار، وإن تفاوت مقدار الرق والحرية، فيتفاوت الحساب، والمتبع الاعتبار الذي ذكرناه، وهذا المسلك مشهور للمزني، ومعظم الأصحاب على مخالفته. وذهب بعض أصحابنا إلى اتباعه واختيار مذهبه، وإلحاقه بمذهب الشافعي رضي الله عنه. ...

_ (1) في الأصل: فالبعض.

باب الحال التي تجب فيها النفقة

باب الحال التي تجب فيها النفقة قال الشافعي: " إذا كانت المرأة يجامَع مثلُها ... إلى آخره " (1). 10112 - النكاح في القواعد معدود من موجِبات النفقة، كالقرابة، وملك اليمين، ثم اشتهر في الطرق من الأصحاب ذكرُ قولين في أن النفقة تجب بالعقد أم بالتمكين، وهذان القولان مستخرجان من معاني كلام الشافعي وتعاليله في المسائل على ما قد ننبه على بعضها، على حسب مسيس الحاجة. والغرض من منشأ القولين يتبيّن بما ننبّه عليه، فنقول: النفقات الدارّة لا تجري مجرى الأعواض على التحقيق، وإنما هي [كفاية] (2) في مقابلة ارتباط المرأة بحِبالة الزوجية؛ فإن للزوج سلطانَ منعها عن التبسط، فقابل الشرع ما أُثبت له من الاحتكام عليها بإيجاب كفاية مؤنها عليه، والصداق هو المذكور على صيغة [الأعواض] (3) في مقابلة البضع، ثم صح عند المحققين أنه خارج عن حقائق الأعواض، فإذا كان لا ينتصب الصداق عوضاً محققاً، فالنفقات لا يتخيل ثبوتها عوضاً في العقد، ولكن انقدح معنيان: أحدهما - احتباسها بالعقد على الزوج، والآخر - تمكينها الزوجَ من الاستمتاع. ولم يختلف العلماء أنها لو نشزت، فلا نفقة لها في زمان النشوز، فلما لم تكن النفقة عوضاً لمنافع البضع حتى يتوقف استقرارها على توفية المنافع، كما يتوقف استقرار الأجرة على توفية المنافع المقابَلَةِ بها مقابلةَ الأعواض على التحقيق، فقال قائلون: النفقة تجب بالعقد: معناه أنها تجب بالاحتباس الذي أوجبه العقد، وذلك

_ (1) ر. المختصر: 5/ 73. (2) في الأصل: كناية. (3) في الأصل: الأعراض.

مشروط بعدم النشوز، وللشافعي لفظ في (السواد) ينطبق على هذا، وهو أنه قال في نفقة الصغيرة: " ولو قال قائل ينفق لأنها ممنوعةٌ به من غيره، لكان مذهباً " (1) وهذا تعلق منه رضي الله عنه بما يقتضيه النكاح من المنع، وإشارة إلى أن سبب وجوب النفقة ذلك. ثم هذا يعتضد بقواعدَ لا خلاف فيها، وهي أن المريضة التي لا تؤتَى تستحق النفقة، وإن انحسمت جميع وجوه الاستمتاعات بها، والرتقاء تستحق النفقة، وإن عسر مقصود النكاح عُسراً يُثبت الاطلاع عليه الخيارَ في فسخ النكاح، غير أنها إذا نشزت وامتنعت على زوجها، أسقط الشرع نفقتَها؛ استحثاثاً لها على الطاعة، ودُعاءً إليها كما بين الله تعالى في لطيف كتابه، [ردّهن] (2) بالموعظة، والهجران في المضجع، والضرب إلى الطاعة. وصاحب القول الثاني يقول: إيجاب المؤن على الزوج على مقابلة التمكين من الاستمتاع، فالتعويل على التمكين، ولا يُفرض التمكين على الحِلّ إلا في عقد. ويتبين القولان بشيئين: أحدهما - أن الزوجين لو اختلفا: فقال الزوج: لم تمكّني، وقالت: مكنتُ، وذكرا على مُوجَب النزاع مدةً، وحاول الزوج سقوطَ النفقة بها (3)، وأرادت المرأة استقرارها في تلك المدة، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن القول قول الزوجة. والثاني - أن القول قول الزوج. ولا خروج لهذين القولين إلا على القولين المذكورين في موجَب النفقة. فإن قلنا: النفقة تجب باحتباسها في حِبالة النكاح، ودوامُها مشروط بعدم النشوزَ، فكأن الزوج يدّعي عليها النشوزَ، والأصل عدمُه، ولا حاجة بها إلى ادعاء التمكين، وإنما [تنفي] (4) النشوز. وإن قلنا: موجِب النفقة التمكينُ، فهي تدعي صدورَ التمكين منها، والأصل

_ (1) ر. المختصر: 5/ 73. (2) في الأصل: وُدّهن. (3) الباء تأتي مرادفة لـ (في). (4) في الأصل: يبقى.

عدمه، فالقول قول الزوج. فهذا أحدُ ما يبيّن القولين. والثاني - إن نكح امرأة ولم يطلب زفافَها، ولم تُظهر المرأة وأهلُها امتناعاً، وتمادى على ذلك الزمنُ، فهل تستقر النفقة في زمان السكوت؟ على القولين المقدّمين، لست أشك في سماعهما من شيخي. وقطع العراقيون بأن النفقة لا تثبت في زمان السكوت، وليس من الممكن القطع بهذا مع إجراء القولين في الاختلاف الدائر بين الزوجين، فنقول: إن قلنا: موجب النفقة العقد ولا تسقط إلا بالنشوز، فلم يصدر منها نشوز، فاستمرّت النفقة، واستقرت لقيام موجِبها، وانتفاءِ مسقِطها. وإن قلنا: النفقة تجب بالتمكين كما تستقر الأجرة بالتخلية والتمكين، فلم يوجد من المرأة تمكين، كما لم يوجد منها نشوز، فلا تستحق النفقة. هذا ما رأينا تصدير الباب به. 10113 - ثم إن الشافعي ذكر نفقة الصغيرة المنكوحة، وذكر النفقةَ على الزوج الصغير، والمسلك الذي نراه أقربَ إلى البيان وإيضاحِ الغرض، تفصيلُ الصور، ثم جمعها، فإذا نكح الرجل صغيرة لا يؤتى مثلُها لصغرها، فهل تثبت نفقتها؟ فعلى قولين منصوصين للشافعي، وتوجيه القولين يعسر افتتاحه، مع القطع بأن المريضة المُدنِفة تستحق النفقة، لا نعرف في ذلك خلافاً، فإذا تعلق موجِب النفقة بذلك، عسر على ناصر القول الثاني الفرق، وليس على قول من يقول: [لا تنحسم جميع وجوه الاستمتاع في حق المريضة معوّلٌ؛ فإن التصوير الحاسم لجميع وجوه الاستمتاع ممكنٌ في حق المريضة] (1). والوجه في تنزيل القولين أن نقول: الصبا المانع، ثم الكبر الذي يتهيأ معه الوقاع مما يترتب على ترتيب الخلق وأطوار التردد، فكأن الصبية في نوبة من عمرها لا تقصد

_ (1) في الأصل: معوّل في حق المريضة. وفي عبارة الأصل خلل ظاهر، هكذا: لا تنحسم جميع وجوه الاستمتاع معول، في حق المريضة؛ فإن التصور الحاسم لجميع وجوه الاستمتاع معوّل في حق المريضة، فإن التصوير الحاسم ممكن، والوجه تنزيل ...

للاستمتاع، وإنما يعتقد أوان الاستمتاع بعد الترقي عن الصغر المفرط، والأمراض عوارض لا ترتّب لها، ولا تعدّ من الأطوار التي يقع عليها أدوار النشوء، فلم ير الشرع اعتبارَها، وأمّا الرتَق، فأمر دائم لا يزول، وهو من ضرورة الخلقة، والنكاح يدوم، فلو أسقطنا نفقتها، لأدمنا حبسها من غير كفاية. فإذا وقع التنبه لهذا، وظهر تميز الصغيرة عن المريضة، والرتقاء، فنوجه القولين بعد ذلك ونقول: تستحق النفقة للاحتباس، وهذا تعليل الشافعي وينطبق هذا بعد التحرز عن المرض والرتق- على ما ذكرناه من القولين في أن النفقة تجب بماذا؟ ومن لم يوجب النفقة لم يعتبر الصّغر بالمرض، واعتضد بأن الصغيرة لا تعدّ في العرف محتبسة بالزوجية، بل هي محتبسة بصغرها، والاستمتاع مرقوب ودرور النفقة موقوف على أوان الاستمتاع. هذا إذا نكح الرجل صغيرة. 10114 - فأما إذا زُوِّجت امرأةٌ من صغير لا يتأتى الاستمتاع منه، ففي المسألة قولان أيضاًً، أما وجه وجوب النفقة، فبيّنٌ؛ فإن المانع في الزوج، والمرأةُ [متهيئة] (1)، وأما من أسقط النفقة، فتعويله ما قدمناه، من أنّ الصغر لم يعدّ في عرف أهل الدين من نُوب المطالبات بالنفقة، والأولى ترتيب القولين في صغره على القولين في صغرها، فإن قلنا: صغرها لا يسقط النفقة، فلأن لا يسقط صغره النفقةَ أولى. وإن قلنا: صغرها يسقط النفقةَ بخلاف مرضها، ففي صغره قولان، والفارق أن الصغر من جانبها مانع في محل التمكين، بخلاف الصغر في جانبه. ولو زوجت صغيرة من صغير، والصغر من كل واحد منهما مانع فالقولان في النفقة جاريان، وهما مرتبان على القولين في صغره. وإن أحْبَبْتَ رتبتهما على القولين في صغرها والزوج كبير. 10115 - وإن جمعنا الصور وأردنا أن نجريَ الأقوالَ في جميعها، قلنا: أحد الأقوال - أن الصغر ينافي وجوبَ النفقة في أي جانب فرض، والثاني - أنه لا ينافي

_ (1) في الأصل: متهمة.

وجوب النفقة في أي جانب كان، والثالث - أن الصغر فيها ينافي وجوب النفقة، والصغر فيه لا ينافي وجوب النفقة. ويجري قول رابع أن الصغر فيهما ينافي وجوب النفقة، والصغر في أحدهما لا ينافي الوجوب. وسرّ هذا الفصل في تمييز الصغر عن البرص والرتق، وتنزيل القول فيه على نوب الخلقة، أو على احتباس المرأة بالعقد. واختار المزني أن صغرها يسقط النفقة وصغر الزوج لا يسقط النفقة، إنما ذكرت اختيار المزني؛ لأن الفطن قد يرى إسقاط النفقة لصغر المرأة على خلاف القياس، وإذا اعترض مثلُ هذا الظن ورأينا المزني على مخالفته، قوي الاعتضاد بمذهبه. وفي بعض التصانيف أن البالغة إن نكحت صغيراً على علم، ففي نفقتها قولان، كما ذكرناهما، وإن نكحت ولم تعلم صغر الزوج، استحقت النفقةَ قولاً واحداً. وهذا التفصيل لم أره لأحد من الأئمة المعتبرين، وما يُسقط النفقة لا يختلف بالجهل والعلم. [والعلم] (1) عند الله. فصل في التمكين ومعناه والنشوز المسقط للنفقة، والأسباب المانعة من الاستمتاع التي تجب النفقة معها. 10116 - وأما التمكين، فإذا قالت المرأة المستقلة، أو قال أهلها -إن كانت محجوراً عليها- مهما سُقْتَ الصداقَ، زففناها، فهذا تمكين، فإذا أعرض الزوج، وامتدت المدة، استقرت النفقة، فإن نفقة الزوجية لا تسقط بمرور الزمن بخلاف نفقة القرابة، ولا يتوقف استقرارها دَيْناً في الذمة على قضاء القاضي وفرضِه،: خلافاً لأبي حنيفة (2)، هذا تصوير التمكين، ولو فرض السكوت، فقد أثبتنا جريان القولين في صدر الباب.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) ر. مختصر الطحاوي: 223، فتح القدير: 4/ 394.

ولو كانت صغيرة لا يتأتى وقاعها، ورأينا إيجاب النفقة للصغيرة، فلا حاجة في تقرر النفقة في الصغر على وعدِ الزفاف عند إمكان الاستمتاع، بل تستقر النفقة في الصغر مع السكوت وترك التعرض وفاقاً، وإذا حان زمان الإمكان، [فتصوير] (1) التمكين والسكوت على ما مضى، ولا يتوقف إمكان الاستمتاع على البلوغ؛ فإن الاستمتاع ممكن قبله، وكذلك لا يتوقف تمكن الزوج من الاستمتاع على بلوغه، فإن الصبي ينتشر ويجامع. ولو كانت المرأة مريضة لا يتأتى وقاعها، فنفقتها دارّة وإن امتنعت عن الاستخلاء بالزوج، ولو قال الزوج: زفوها إليّ، وأنا أمتنع عن وقاعها إلى أن [تشتد] (2)، لم يؤتمن عليها، هذا إذا ثبت المرض المانع، وإن أنكر الزوج امتناع الوقاع، فشهدت أربع نسوة على المانع، ثبت [المرض] (3) وقرت النفقة. وإن شهدت امرأة واحدة، ففي بعض التصانيف في ذلك وجهان، ذكرهما العراقيون، وتحصيل القول فيهما يؤول إلى أنا هل نكتفي في هذا المقام بخبرِ من يوثق به، وتقبل روايته؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه، والسبب في هذا التردد طريان العوارض عند فقدان أربع [يشهدن] (4). ولو لم يكن بالحضرة شاهدة، وكانت في بيتها على ظاهر الصّحة، فادعت سبباً باطناً لا يبعد صدقها فيه، وزعمت أنه ينالها من الوقاع شدةُ ضرر، فلا تصدّق، ولها أن تحلّف زوجها على نفي العلم. ولو كانت على دَنَف ومرض ظاهر، ولكن كان لا يثبت ما ينالها من الضرر بمجرد ما يشاهَد منها، فهو كما لو كان ظاهرها الصحة. هذا قولنا في التمكين، وما يليق به. 10117 - وأما النشوز، فإذا توفر عليها حقها، ووجب عليها تسليمها نفسها، فأبت، فهي ناشزة، ولا نفقة لناشزة بالاتفاق.

_ (1) في الأصل: بتصوير. (2) في الأصل: تستبد. والمثبت من صفوة المذهب. (3) في الأصل: الغرض. والمثبت من تصرّف المحقق. (4) في الأصل: شهدن.

ولو امتنعت، فكان الزوج قادراً على ردّها إلى الطاعة، فنفقتها تسقط، ولا نكلِّف الزوجَ معاناةَ ردّها وإن قدر عليه. ولو امتنعت على زوجها في دار زوجها، فهي ناشزة، إلا أن يكون ذلك [محاولَة] (1) دلال يغلب جريانه من اللواتي لا امتناع بهن، ولا يخفى تمييزه عن النشوز. ومن القواعد أنها لو فارقت مسكن النكاح غاضبة، فهي ناشزة، ولو فارقته بإذن الزوج في شغلِ الزوج، أو سافرت كذلك في شغله، فنفقتها دائمة، ولو خرجت أو سافرت بإذن الزوج في شغل نفسها، ففي سقوط النفقة قولان: أحدهما - أنها لا تسقط لإذن الزوج واتصافها بنقيض المخالفة. والقول الثاني - أن النفقة تسقط؛ فإنها استبدلت عن تمكينها شغلاً لها، فيبعد أن يجتمع لها قضاء وطرها من شغلها ودرور النفقة، وهذا الاختلاف له التفات على القولين المذكورين في صدر الباب: فإن قلنا: النفقة لا تسقط إلا بالنشوز، فهذه ليست بناشزة، وإن قلنا: لا تجب النفقة إلا بالتمكين، فهذه ليست ممكنة. 10118 - فهذا قواعد الكلام في التمكين والنشوز، والأعذار العارضة، ونحن نفضّ عليها مسائل مقصودة في أنفسها، وهي تفيد تمهيدَ الأصول. فمما ذكره المزني إحرام المرأة، والقول في ذلك يتفصّل، فنذكر التفصيل فيه إذا أحرمت بإذن الزوج، ثم نذكر التفصيل فيه إذا أحرمت بغير إذنه. فأما إذا أحرمت بإذن الزوج، فلا يملك الزوج تحليلها لصَدَر الإحرام عن إذنه، ثم لها حالتان: حالة إقامة، وحالة ظعن: أما إذا ظعنت مسافرة آمّة بيت الله، فهي مسافرة بإذن زوجها في شغل نفسها، ففي سقوط نفقتها في هذه الأيام قولان جاريان إلى أن تقضي نسكها، وتؤوب إلى زوجها. فأما إذا أحرمت وبقيت في مسكن النكاح أياماً إلى اتفاق الخروج، فالذي تحصّل

_ (1) في الأصل: بجانبة دلال. والمثبت تصرف من المحقق.

لنا من طرق العراق وغيرها طريقان: ذهب الأكثرون إلى وجوب النفقة؛ فإنها تحت يد الزوص وامتناع [الوقاع] (1) صادر عن إذنه. ومنهم من قال: في سقوط نفقتها قولان، كما لو خرجت؛ فإن الوقاع قد امتنع، وتبعه امتناع جميع وجوه الاستمتاع، فلا أثر لكونها في المسكن، ولا فرق بين إقامتها وظعنها، وهذه الطريقة أقيس، وطريقة القطع أشهر في الحكاية. ولو أحرمت بإذن الزوج، وهمت بالخروج فنهاها الزوج عن الخروج، فالذي حكاه الصيدلاني عن القفال أنه كان يقول: تسقط النفقة إذا خرجت على مخالفته قولاً واحداً، والذي يقتضيه كلام الأئمة في الطرق إجراء القولين، وقد حكاهما الصيدلاني عن الأصحاب، والوجه فيه أنها إذا لابست الإحرام، فلا خلاص لها ما لم تلْقَ البيتَ، فكأن الزوج ورطها في ذلك، والوجه ما ذكره الأصحاب. وكل ذلك وإحرامها بإذن الزوج. 10119 - فأما إذا أحرمت بغير إذنه، فللشافعي قولان في أن الزوج هل يملك تحليلها، وهل يفصل بين حج الفرض وحج التطوع؟ فيه تفصيل ذكرناه في باب الحصر من كتاب الحج، فإن قلنا: يملك الزوج تحليلها، فإن حللها، استمرت النفقة وزال المانع، وإن لم يحللها، فالذي ذهب إليه الجماهير أن نفقتها لا تسقط ما دامت مقيمة؛ فإنها في قبضته والزوج مقتدر على تحليلها، وفي بعض التصانيف حكايةُ وجهٍ أن نفقتها تسقط؛ فإنها فعلت ما يتصور منها، والإحرام على الجملة مانع، وقد ترتاع نفس الزوج عن تحليلها، ويمكن أن يقال: قدرته على تحليلها بمثابة قدرته جملى رد الناشزة عن استعصائها. ولو خرجت، لم يخْفَ أنها ناشزة. هذا إذا قلنا: يملك الزوج تحليلها. فأما إذا قلنا: لا يملك الزوج تحليلها، فلا يملك أيضاًً منعَها من الخروج، فلا نفقة لها إذا خرجت؛ فإنها لم تستأذن زوجها، وهل لها النفقة ما دامت مقيمة إلى الخروج، فالوجه عندنا القطع بأنها لا تستحق

_ (1) في الأصل: الوفاق. والمثبت تصرف من المحقق.

النفقة. وذكر الصيدلاني في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - تستحق النفقة؛ فإنها لو أرادت التحلل، لم يمكنها، وإنما يُقضَى عليها بالنشوز إذا تمادت ي امتناعٍ هي [قادرة] (1) على النزول عنه والرجوع إلى الطاعة (2). وهذا يقرب بعضَ القرب من مسائل ذكرناها في كتاب الصلاة: منها أن من ردَّى نفسه من شاهق، وانخلعت قدماه، وصلّى قاعداً أياماً ثم [استبل] (3)، فهل يلزمه قضاء الصلوات التي أقامها قاعداً؟ فيه تردد. والوجه عندنا ما قدمناه من إسقاط النفقة؛ فإن الامتناع إذا نسب إليها، كفى ذلك في سقوط ما تستحق على مقابلة التمكين. فأما الرخص؛ فإنما يمتنع ثبوتها بسبب العصيان، والعصيان يتحقق في الأفعال الاختيارية، وقد انقضى عصيان المُرْدي نفسه. ولم أر هذين الوجهين إلا للصيدلاني. 10120 - ومن المسائل التي نذكرها صيام المرأة: أما الصيام في رمضان فلا يُسقط نفقتها، وهو بمثابة اشتغالها بوظائف الطهارات والصلوات في أوانها، ويعترض في ذلك أنا إذا جوزنا للمرأة أن تخرج لحجة الإسلام، وإن كان لا يحرم عليها التأخير، فهل تستحق النفقةَ كما تستحق في أيام رمضان، أم كيف السبيل فيه؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أن الحج لا نوجب ابتداره على الفور. ونحن وإن جوزنا لها الخروج لتتخلص من [الغرر] (4)، فيبعد أن تستفيد ذلك، وتترك ناجزَ حق الزوج، ونفقتُها دارّة، ويجوز أن يقال: هي مقيمة فرضَ الإسلام، ولم نمنعها من إقامته على القول الذي انتهى التفريع إليه.

_ (1) في الأصل: نادرة. (2) المعنى أنها ليست ممتنعة على الزوج بإرادتها فهي غير قادرة على التحلل، وأما النشوز فهو الامتناع مع القدرة على الإجابة. (3) في الأصل: استبدّ. واستبلّ: أي شفي وتعافى. (4) في الأصل: العذر. والمثبت تقدير من المحقق. ثم المقصود بالغرر هنا الخطر في تأجيل الحج ومفاجأة الموت.

ولا ينبغي أن يعتمد الفقيه في الفرق بين الصوم وبين الحج تخلل الليالي، فإنها لو كانت تنشز نهاراً وتمكِّن ليلاً، لم يُطلق القول بثبوت نفقتها، وقد أجرينا في هذا اختلافاً [وتردّداً] (1)، ولا خلاف أن نفقتها لا تسقط في صوم رمضان. ولو كانت صائمة تطوّعاً أو نذراً لم يصدر عن إذن الزوج: أما صوم التطوع، فللزوج قطعه عليها، وفي صوم النذر ترتيب: فإن نذرت في الزوجية من غير إذنه، كان له قطعه عليها، فنقول: إذا كان يملك القطع، فقد ذكر العراقيون أنه لا تسقط نفقتها، وهو مما كان يقطع به شيخي. وفي بعض التصانيف وجهان، وقد ذكرنا نظيرهما في الإحرام على قولنا: للزوج أن يحللها إذا أحرمت بغير إذنه. والوجه عندنا ترتيب الصوم على الإحرام؛ وذلك أن الزوج يُقدِم على الاستمتاع بالصائمة من غير تقديم أمرٍ، ويكون استمتاعه بها تحليلاً، وهذا لا يتحقق في الإحرام؛ فإنه يجب عليه أن يحللها أولاً، ثم يستمتع بها، فإن لم يكن من إجراء الخلاف بدّ على ما ذكره بعض المصنفين، فالوجه ترتيبه على الخلاف المذكور في الإحرام، وطريق العرف (2) ما أشرنا إليه. هذا إذا أصبحت صائمة والزوج قادر على الاستمتاع، وقد ساغ له قطع الصوم عليها. وأما إذا حاول إفساد الصوم عليها، فامتنعت، فقد ذكر العراقيون وجهين في أن نفقتها هل تسقط في ذلك اليوم، ولعلهم قالوا هذا في يومٍ أو أيام قلائل مفرقة على كُثر الأيام وسأبيّن أصله. فأما إذا أكثرت الصيام، وامتنعت لأجل الصيام على الزوج نهاراً، فيجب القطع بتنزيل ذلك منزلة النشوز منها في تلك الأيام مع التمكين ليلاً، ثم لا يخفى التفصيل. 10121 - ونحن الآن نجمع فصولاً تَمَس الحاجة إليها فنقول: لا شك أن الزوج

_ (1) في الأصل: مترداً. (2) كذا. ولعلها طريق (القطع): أي القطع بعدم سقوط النفقة. والله أعلم.

لا يمنع الزوجة من وظائف الشريعة المفروضة، ولو أراد أن يمنعها عن إقامة الصلاة في أول الوقت، ففيه اختلاف مشهور بين الأصحاب. وكذلك لو منعها من إقامة السنن الرواتب، ففيه الخلاف أيضاً؛ فإن في تعجيل الصلاة فضيلة، والزوج بتكليفها التأخير يفوّتها عليها. وكان شيخي يجري الخلاف في صومها في يوم عرفة وعاشوراء؛ فإن الأخبار المُرغِّبة فيها ظاهرة، فنزل صومها منزلة اشتغالها برواتب السنن. وأما إذا كانت تعتاد صوم الأثانين والخمايس، فللزوج منعها من المواظبة على ذلك؛ فإنها لو [فعلت] (1) هذا على مخالفة الزوج، لكانت معطِّلة عليه أياماً من الشهر، وما حكيناه من خلاف العراقيين في صوم يومٍ هو بالإضافة إلى الأيام بحيث لا يعد قادحاً في استمرار الاستمتاع. ولست أردّ فكري إلى ضبطٍ فيه، ومعتقدي أنها ناشزة إلا في صوم عرفة وعاشوراء، ثم في صومها الخلاف الذي ذكرته في رواتب السنن. هذا إذا كان الزوج يرهقها (2)، وأما إذا أتت بما يبدو لها من صوم في غيبة الزوج، فلتفعل من هذا ما بدا لها، ولو أرادت أن تحج، فتفصيله في كتاب الحج. وإن فاتتها أيام من رمضان، فوقتُ القضاء السنةُ، فإن أرادت ابتدارَها، وأراد الزوج منعها من الابتدار، فهذا على الخلاف في تعجيل الصلاة وتأخيرها. فإن قلنا: لها أن تعجل القضاء، فالأولى أن نفقتها لا تسقط بخلاف الحج؛ فإنا وإن جوزنا الخروج فيه، فهو انقطاع عن الزوج إلى اتّفاق الأوبة. هذا منتهى الغرض في هذه المسائل. فرع: 10122 - إذا فارقت المرأةُ مسكنَ النكاح في غيبة الزوج ناشزةً، سقطت نفقتها بنشوزها، فإن عادت إلى المسكن، واستمرت على الطاعة، فهل نقول: تعود

_ (1) في الأصل: " ملكت ". (2) يَرْهقها: أي يقيم معها.

نفقتها بعودها إلى الطاعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن نفقتها تعود كما (1) عادت؛ فإن علة سقوط النفقة [النشوز] (2) وقد زال. ومن أصحابنا من قال: لا تعود نفقتها بنفس العَوْد إلى الطاعة، حتى يعلم الزوج عودَها إلى الطاعة على ما سنصفه الآن، فإن حكمنا بعَوْد النفقة، فلا كلام، وإن حكمنا بأن النفقة لا تعود بنفس العود إلى الطاعة، فلو جاءت إلى القاضي وأخبرته، والتمست منه أن ينهي إلى البلدة التي بها الزوج عودَها إلى الطاعة، فإذا فعل القاضي ذلك، ومضى زمان بعد بلوغ الخبر لو أراد الزوج الرجوع فيه، لرجع، فإذا مضت هذه المدة، فتعود نفقتها حينئذ. وذكر الأصحاب إعلامَ (3) الزوج القاضيَ ورفْعَ الأمر إليه، ولست أرى الإعلام مقصوراً على القاضي، [فلو] (4) حصل الإعلام من جهة أخرى لا يمتنع أن يكفي، ولكن فحوى كلام [الأصحاب] (5) يشير إلى أنه لا بد من حكم الحاكم بعودها إلى الطاعة، وهذا يبعد اشتراطه. 10123 - ومن تمام البيان في ذلك أن المرأة لو ارتدت بعد المسيس في غيبة الزوج، ثم عادت، فالمذهب أنها لا تستحق النفقة في زمان الردة. ومن أثبت من أصحابنا للمشركة المتخلفة عن إسلام الزوج النفقة إذا هي أسلمت في العدة في أيام شركها، خرّج وجهاً في أن المرتدة تستحق النفقة إذا عادت قبل انقضاء العدة، وهذا بعيد جداً، والجريانُ على أن نفقتها تسقط بالردة. فإذا أسلمت قال العراقيون: عادت نفقتها، وإن لم يبلغ الخبرُ الزوجَ، وأما أئمتنا المراوزة، فإنهم لم يفصّلوا بين أن يكون سقوط النفقة بالردة، وبين أن يكون سقوطها بالخروج من مسكن النكاح.

_ (1) كما عادت: أي عندما عادت. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "في إعلام الزوج". (4) في الأصل: ولو. (5) زيادة اقتضاها السياق.

والذي أرى نظمَه بعد ذلك أن نشوزَها إن ظهر وانتشر، فتَركَتْه ورجحت إلى الطاعة، ففي عَوْد النفقة واشتراط [الإعلام] (1) الخلافُ الذي ذكرتُه، والظاهر في النقل اشتراطُ الإعلام، وانقضاءُ مدة الرجوع. وإن جرى نشوز خفي من غير إظهار، ثم فُرض العَوْد إلى الطاعة، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بأن لا اشتراط للإعلام، بخلاف النشوز الظاهر، ومنهم من أجرى الخلاف. هذا هو التفصيل في ذلك. فصل قال الشافعي: " ولا يبرىء الزوج من نفقتها ... إلى آخره " (2). 10124 - أشار إلى ما قدمناه من أن استقرار نفقة الزوجية لا يتوقف على فرض القاضي، فلو مرت الأيام، والنفقة منقطعة واستحقاقها دائم، فتصير وظائف تلك الأيام دَيْناً، ولا شك أن هذا فيما يشترط التمليك فيه، فأما ما يستحق فيه الإمتاع، فالإمتاع في الزمن الماضي لا يتصور استدراكه. ثم ذكر الشافعي أن الزوج والزوجة إذا اختلفا، فأنكرت المرأة قبضَ النفقة، وادّعى الزوج تسليمها، فالقول قول المرأة، فإن الأصل عدمُ القبض، قياساً على الديون، ولا فرق بين أن يكون الزوج غائباً أو حاضراً، وقصد بهذا الرد على مالك (3)، فإنه قال: إذا كان الزوج حاضراً، فالقول قوله، وزعم أن الغالب أنه ينفق، وهذا إنما قاله والزوجة معه في الدار، ونحن لا نفرق. ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول في نفقة الكافرة إذا تخلفت عن إسلام الزوج، ثم أسلمت في العدة، وقد ذكرنا ذلك مستقصىً في نكاح المشركات وذكر طرفاً من نفقة زوجة العبد، وقد تقدم استقصاء جميع ذلك، ولله الحمد والمنة. ...

_ (1) في الأصل: الأعمال. (2) ر. المختصر: 5/ 74. (3) ر. المدونة: 2/ 192، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1398 مسألة 979.

باب الرجل لا يجد النفقة

باب الرجل لا يجد النفقة قال الشافعي: " ولما دل الكتاب والسنة على أن حق المرأة على الزوج أن يعولها ... إلى آخره " (1). 10125 - إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته، وتحقق ذلك، فالمنصوص عليه في معظم الكتب أنه يثبت حقُّ رفع النكاح، وقال الشافعي في تحريم الجمع: لا يثبت حق رفع النكاح، ففي المسألة قولان إذاً، وتوجيههما مستقصىً في طيول المسائل، ولكنا نذكر المقدار الذي يُقْنع، ويتعلق بضبط المذهب: من قال: لا يثبت لها حق رفع النكاح احتج بأن النفقة من التوابع، ومقصود النكاح المستمتع، وهو بعيد عن الفسخ، والمطالبةِ بالرفع، فلا يجوز طلبُ رفعه بتعذرِ تابعٍ، ويتبين كون النفقة تابعة بكونها غير معقودٍ عليها. ومن نصر القولَ الثاني اعتقد كفايةَ المؤن في جانبها حقَّها المطلوب؛ فإن استحقاق الاستمتاع للرجل، ولا استحقاق للمرأة إلا في كفايتها، ثم تعذرُ الاستمتاع -التي هي تابعة فيه غير مستَحِقة- يُثبت لها حقَّ الفسخ، فلأن يثبت لها حق الفسخ بتعذر ما هو مقصودها المطلوب، وحقها الذي يوصف باستحقاقِه وملك طلبه أولى. ثم الكلام بعد هذا التمهيد في فصول: أحدها - في تفصيل التعذر الذي يناط به حق الرفع. والثاني - فيما يتعذر من المؤن. والثالث - في تفصيل الرفع وكيفيته. والرابع - فيمن يثبت له هذا الحق، ثم إن شذت مسائلُ عن مضمون هذه الفصول، رسمناها فروعاً. 10126 - فأما القول في معنى التعذر: فإن كان الزوج ينفق يوماً فيوماً، فلا تعذر

_ (1) ر. المختصر: 5/ 76.

والنكاح على استمراره، وإن كانت تعتقد أن كسبه إنما يفي بحاجات [الصّيف] (1) وهي [تظنّ] (2) أنها لو أخرت الفسخ إلى الشتاء، لم تُخطب ولم تطلب (3)، فهذا من [الوساوس] (4) وللأحوال تحوّل، فلا يثبت حق الرفع قبل وقوع التعذر. ولو لم يجد ما ينفقه، ولم يستمكن من كسبِ يجمع القوتَ، فهذا هو الإعسار. ولو كان غنياً، ولكنه امتنع عن الإنفاق، فللأصحاب طريقان: فمنهم من قطع بأن حق [الرفع] (5) لا يثبت، ولكنها تحرص على تحصيل حقها من زوجها، فإن تمكنت، فذاك، وإلا استعاذت بمن إليه الأمر. ومن أصحابنا من جعل في الامتناع قولين؛ فإن النظر إلى التعذر، وقد تحقق التعذر. والذي يجب القطع به أنها إذا قدرت على تحصيل حقها بأخذ طائفة من ماله، أو كان التحصيل ممكناً بالوالي على قُرب، فهاهنا [نقطع] (6) بأنه لا يثبت الفسخ، وإن كان لا تمتد يدها إلى ماله، وكان التحصيل بالوالي عسراً، فهذا محل الطريقين. فإن قيل: خصصتم حقَّ فسخ البيع والرجوع إلى المبيع بإفلاس المشتري. قلنا: إذا امتنع عن توفية الثمن، ففي إثبات حق الفسخ كلام ذكرناه في البيع، ثم في الإفلاس. ولو كان الرجل كسوباً، ولم يكن ذا مال، فامتنع من الاكتساب، فهذا إعسارٌ

_ (1) في الأصل: المضيف. (2) في الأصل: تضمن. (3) المعنى أنها تريد رفع النكاح من الآن (الصيف) مع أن زوجها يملك نفقة الصيف بطوله، وهي تخشى إن أخرت إلى حين تحقق الإعسار في الشتاء، أن تضيع منها فرصة الخاطب الطالب للزواج منها. فلا يحق لها ذلك، فإن هذا من الوساوس، والأحوال قد تتبدّل وتتغير، ويصبح زوجها واجداً لنفقة الشتاء وما بعده. (4) في الأصل: المساوس. (5) في الأصل: حق الزوج. (6) في الأصل: فقطع.

بالنفقة على التحقيق، وإن كان متمكناً من تحصيل النفقة بالكسب، [وسيأتي] (1) فصلٌ جامع في أنا هل نوجب على الرجل أن يكتسب لينفق على غيره، وقدر غرضنا الآن ما نصصنا عليه. 10127 - فأما القول فيما يتعلق حق الرفع بتعذره (2)، فالقوت هو الأصل، فإذا تعذر كله، ثبت حق الرفع، وكل هذه الفصول وما يتبعها من الفروع تبنى على إثبات حق الرفع لا محالة. 10127/م- وإذا بأن ما ذكرناه في القوت، فأول مذكور بعده الإعسار بالصداق، فإذا أعسر الزوج بالصداق، لم يخل إما أن يكون ذلك قبل المسيس وإما أن يكون بعد المسيس، فإن كان قبل المسيس، ففي المسألة طريقان: إحداهما - أن المسألة تخرّج على قولين في حق الرفع قياساً على الإعسار بالقوت. والطريقة الأخرى وهي المرضية أنه لا يثبت حق الرفع؛ فإن الصداق ليس على حقائق الأعواض؛ إذ رده لا يوجب ارتدادَ النكاح وفسادَه، فتعذره ينبغي أن لا يسلِّط على رفع النكاح، وليس الصداق مؤونةً دارّة وكفاية عامةً بخلاف النفقة، فإذا خرج عن كونه كفاية، وعن كونه عوضاً محققاً، بَعُد أن يُثبت الإعسارُ به حقَّ الرفع. هذا إذا لم يجر المسيس. فإن جرى دخولٌ ومسيس، فقد تقدم في أحكام الصداق أن المرأة، إذا مكنت مرة، لم يكن لها منعُ نفسها عن زوجها ليوفر الصداق، بل تسليمُها نفسَها مرة يُلزمها التسليمَ أبداً. ولو استكرهها الزوج أول مرة ووطئها، فقد استقر مهرها، وهل يبطل حقها في حبس نفسها عن الزوج؟ فعلى وجهين تقدم ذكرهما فيما تقدم. وإذا تجدد العهد بهذا، فلو فُرض الإعسار بالمهر بعد المسيس، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يثبت لها حق الفسخ قولاً واحداً.

_ (1) في الأصل: فسيأتي. (2) هذا هو الفصل الثاني.

وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يطرد القولين بعد المسيس، وهذا غلط صريح غير معتد به؛ من جهة أنا لو أثبتنا حقَّ الفسخ بالإعسار بالمهر بعد المسيس، [لزمنا] (1) أن نثبت لها حق منع النفس إذا مكنت مرة، وهذا أهون من التسليط على رفع النكاح. فإن تشبّث من يطرد القولين بخلافٍ في منعها نفسها، لم يقبل ذلك [منه] (2)، وكان كلاماً مسبوقاً بإجماع الأصحاب. وإن سلم أن حق الحبس لا يثبت بعد جريان وطئه، فلا مطمع في الفرق. ومما يتصل بهذا الفصل الكلامُ في المفوّضة، فإذا رضيت المرأة إسقاط المهر من النكاح، فالقولان في أنها هل تستحق المهر بالنكاح مذكوران على أكمل وجه في البيان. فإن قلنا: لا يثبت للمفوضة مهر مثلها، فلها حق طلب الفرض، ثم إذا فرض لها وتحقق الإعسار، التحق تعذر المفروض بتعذر المهر المسمى. وإن قلنا: إنها تستحق بالعقد المهرَ، وتحقق التعذر، فهل يتوقف حق الفسخ -إذا أثبتنا حقَّ الفسخ في المهر- على أن يفرض لها أم تملك الفسخ قبل الفرض؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما على من أحاط بأسرار التفويض، ولم يخف عليه أصل الباب. هذا قولنا في المهر. 10128 - ولو كان الزوج موسراً فأعسر، [فنفقتُه] (3) نفقةُ المعسرين، ولا نقول: تعذر المُدّ الزائد، بل رجعت وظيفة النفقة إلى هذا المقدار. ولو كان يَقْدِر كلَّ يوم على نصف مدّ، وأقل النفقة مد، فهل يثبت للمرأة حقُّ الفسخ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبت، وإليه صار الجماهير. والثاني - وهو مذكور في بعض التصانيف أنه لا يثبت لها حق الرفع؛ فإن نصف القوت كفافٌ على حالٍ. ولو كان يقدر على تحصيل ثلث المد، فلها حق الرفع، والذي ذكرناه من الخلاف

_ (1) في الأصل: لزماً. (2) في الأصل: منها. (3) في الأصل: فنقصه.

مخصوص بالنصف، وهو مأخوذ من عرف متأيد بقول الشارع، وذلك أن القوت الكافي إذا شارك الرجلَ فيه مؤاكل، فبالحري أن يمكن [تزجية] (1) الوقت به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طعام الواحد يكفي الاثنين " (2). وهذا بعيدٌ؛ فإن النفس في الغالب لا تقوم بنصف مد، وإن تَزجّى يومٌ على هذا، لم يحتمل استمراره. فأما الإعسار بالأُدم، فالذي عليه الأئمة أنه لا يُثبت حقَّ رفع النكاح، قال الشيخ أبو حامد: لست أقول غير هذا [و] (3) إن قاله غيري، وهذا تشبيبٌ منه بخلافٍ في الأُدم، هكذا حكاه الشيخ أبو علي عنه، ثم قال: يحتمل عندي احتمالاً ظاهراً أن يثبت حق الفسخ، بتعذر الأدم، لأنه من النفقة، ولا يخلو عن استحقاقه نكاح، وليس كنصف المدّ في حق المتوسط، ولا كالمد الزائد في حق الموسر؛ [فإنه] (4) إذا أعسر، سقط وجوب الزائد، ورجعت وظيفة النفقة إلى المد، والأُدم لا يسقط بحال، وإن تعذر، صار ديناً ملتزماً في الذمة، فكأنه جزء من القوت. 10129 - ومما اختلف الأصحاب فيه تعذُّر الكسوة والمسكن: فمن أصحابنا من أثبت حق رفع النكاح [بتعذرهما] (5)، لما في عدمهما من الضرر. [ومنهم] (6) من لم يُثبت حقَّ الفسخ بهما؛ فإن النفس تقوم دونهما، وهذا لا يؤخذ من التردد في أن التمليك هل يراعى في الكسوة؛ فإن هذا إن كان يجري في الكسوة، فلا تردد في المسكن، والخلاف فيهما مطرد، ثم التمليك واستحقاقه

_ (1) في الأصل: توجيه. (2) حديث " طعام الواحد يكفي الاثنين " رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه (مسلم: الأشربة، باب فضيلة المواساة في الطعام القليل وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، ونحو ذلك، ح 2059، الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء طعام الواحد يكفي الاثنين، وابن ماجه: الأطعمة، باب طعام الواحد يكفي الاثنين، ح 1820). (3) الواو زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: فإنها. (5) في الأصل: وتعذرهما. (6) في الأصل: فمنهم.

لا يُثبت حق الرفع، وإنما يُتلقى حق الرفع من الضرار العظيم، الذي لا تستقل به، سواء كانت إزالته بإمتاع أو تمليك. وقد يتلقى مما ذكره الشيخ أبو علي وهو أنه لا يخلو عن استحقاقه نكاح. وقد يعترض على هذه الطريقة نكتة لطيفة وهو أنا إذا جعلنا الكسوة إمتاعاً، فإذا عجز الزوج عنها، استحال أن نلزمه ما لا يقدر عليه، والإمتاع لا يقرّ ديناً في الذمة. فينتظم من مجموع ذلك أن نكاح العاجز عن الكسوة خالٍ عن وجوبها، فليتأمل الناظر ذلك، وليردّ اعتماده إلى الضرار الذي ذكرناه. واختلف أئمتنا في أن الإعسار بنفقة الخادمة هل يُثبت حقَّ الفسخ؟ وهذا قريب المأخذ من الإعسار بالكسوة والمسكن، فإن ضرر المخدومة يظهر بانقطاع الخدمة عنها. فقد تحصَّل من مجموع ما ذكرناه تفصيلٌ في المذهب [يقطع] (1) عما نريد أن نذكره بعده. ثم الإعسار بأقل النفقة مثبتٌ لحق الرفع، والخلاف الذي حكيناه في نصف المد بعيدٌ غيرُ معتد به، والزائد في حق المتوسط والموسر يسقط وجوبه أصلاً. وفي الأُدم تردد، والأظهر أنه لا يتعلق بالإعسار به حق الرفع. وفي الكسوة والمسكن خلاف ظاهر متأصل في المذهب؛ لأنه ضرار ظاهر، وإن كان النفس قد تقوم دون الكسوة والمسكن، فمن الممكن فرض حالة يُهلك العُريُ فيها، ويقرب من الكسوة المسكنُ. والخلاف في نفقة الخادمة أظهر؛ فإن سقوط الخدمة محتمل على الجملة. فهذا قواعد القول فيما يتعلق حق الرفع بالإعسار به، تفصيلاً وعقداً. 10130 - فأما الكلام في رفع العقد وجهته (2)، فهذا يتشعب ويتعلق بأطرافٍ: منها الكلامُ في ماهية الرفع، ومنها الكلام فيمن يرفع، ومنها الكلام في وقت الرفع.

_ (1) في الأصل: مقطع. (2) هذا هو الفصل الثالث من الفصول التي وعد بها الإمام أول الباب.

فأما القول في ماهية الرفع، فالظاهر أنه فسخ، فإنه منوط بتعذر حقٍّ مستحَق بالعقد، فكان فسخاً؛ اعتباراً بما يضاهي ذلك من الفسوخ، المتعلّقة بتعذر الحقوق. وذكر بعض الأئمة قولاً آخر في المسألة: أن النكاح يُرفع بالطلاق. فإن قلنا: الرفع فسخ، فهو إلى [المرأة] (1)، ولكن قال المحققون: ليس لها أن تفسخ ما لم تُثبت الإعسار أو الامتناع في مجلس الحكم، فإذا ثبت ذلك ببيّنة مقامة أو بإقرار الزوج، فحق الفسخ يثبت للمرأة. وتمام هذا إذا أوضحنا الوقتَ والأجلَ إن كنا نرى ضربه (2)، ولكن حق الناظر أن يأخذ الكلام مرسلاً، ثم تفصيله موقوف على نجاز الفصل. ثم إذا أثبتنا للمرأة حقَّ الفسخ، وقد ثبت الإعسار في مجلس الحكم، فالذي اقتضاه كلام المحققين أنها تنفرد بالفسخ في غير مجلس الحكم؛ فإن الذي يتعلق بمجلس الحكم إثباتُ علة الفسخ، [وسبيل] (3) ذلك إقامة البينات أو الأقارير الثابتة، والبيّنة لا تقام إلا في مجالس الحكام، والإقرار وإن كان يثبت في غير مجلس الحكم، فلا يُفضي إلى الغرض ما لم يثبت في مجلس الحكم، بأن يسمعه الحاكم أو تقوم بينة عليه، فإن المقر في غير مجلس الحكم قد يجحد، فلا يفيد ما سبق من الإقرار ثبوتاً. فإذا تقرر الإعسار، فلا حاجة إلى الحكم والحاكم في إنشاء الفسخ. ولو تحقق الإعسار، ففسخت المرأة قبل إظهار الإعسار في مجلس الحكم، ففي نفوذ الفسخ باطناً تردد وتقابلٌ في الاحتمال، ويظهر أثر هذا بأنها إذا ثبت التعذر أمس وقد فسخت، وثبت في مجلس الحكم الإعسار المتقدّم على فسخها، فهل نقول: تبين نفوذ الفسخ باطناً أمس، ثم يظهر ذلك الباطن بقضاء القاضي بالإعسار السابق، حتى لا تحتاج المرأة إلى إنشاء فسخ. هذا محل التردد: فيه احتمالٌ ظاهرٌ لا ينكره الفطن، ولا يتجه مثل هذا في

_ (1) في الأصل: المردة. (2) المعنى أن هذا الكلام لا يتم إلا إذا أوضحنا وقت الفسخ، وحكم الأجل. (3) في الأصل: أو سبيل ذلك.

الفسخ بالعُنة، فإن الفسخ لا يثبت بثبوت العنة؛ إذ الزوج إذا أقر بالعنة أُمهل مع إقراره سَنَة، ثم تلك المدة لا حكم لها ما لم يضربها الوالي. فانتظم من ذلك أن ما يقتضيه كلام الأئمة أن الفسخ لا ينفذ ظاهراً وباطناً ما لم يثبت الإعسار في مجلس الحاكم. ومن الأصحاب من أظهر تردداً في الظاهر والباطن على الترتيب الذي سقناه. وهذا عندنا يحتاج إلى مزيد كشف، فإن لم يكن في الصُّقع حاكم ولا مُحَكّم، فيظهر ملك المرأة الفسخَ عند تحقق التعذر، وإن كان حاكمٌ، ففيه التردد، ولا نعدَم نظائرَ هذا في المسائل التي ترفع إلى الحكام إذا أمكن الرفع، ويثبت الحكم من غير حاكم إذا شغرت البقعة. هذا كله تفريع على أن الرفع طريقه الفسخ. 10131 - فأما إذا قلنا: الرفعُ طريقه الطلاق، فهذا موجه بالتشبيه بالإيلاء؛ فإن المدة إذا انقضت وظهر الضرار، فالزوج يُرفع إلى الحاكم ليفيء، فإن لم يفعل، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القاضي يطلّق. والثاني - أنه يحبس حتى يطلّق، وقد مضى القولان وتفريعهما في الإيلاء، فقال قائلون: ليكن رفع النكاح بالإعسار على هذا النسق إلا فيما نستثنيه. وهذا قول ضعيف يبين ضعفه بالمعنى واضطراب التفريع، [فأما] (1) المعنى فالإعسار بالنفقة يتعذر به حقٌّ مستَحَقٌّ، هو القوام، وعليه تعويل المرأة في احتباسها في حِبالة النكاح، وليس الوطء مستحَقاً على الزوج، فإنه لو لم يُولِ، لم يكلّف الطلاق، وإن امتنع عن [الوقاع] (2) سنيناً (3) وأعواماً. وأما فساد التفريع، فنقول: أولاً قول حبس الزوج ليطلّق لا يخرّج، فإن الضرار

_ (1) في الأصل: وأما. (2) في الأصل: الطلاق. وهو سبق قلم من الناسخ. (3) " سنيناً " وهو صحيح؛ قال ابن مالك عن هذا الباب: " ... مثلَ (حينٍ) قد يرد بابُه وهو عند قومٍ يطردّ" وجاء عليه دُعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلها عليهم سنيناً ... " في روايةٍ.

يشتد بانقطاع النفقة، وليس كالضرار بانقطاع الوقاع، فبقي أنه إن لم يطلِّق، طلق القاضي، ثم في المُولي يكفي الطلاق الرجعي، وهاهنا لو طلقت طلقة رجعية، لكانت مستحقة للنفقة مع وقوع الطلاق، كما تستحق النفقةَ في صلب الزوجية. ولكن إذا فرعنا على هذا القول، فلا وجه إلا احتمال هذا، فإن العدّة لا بد منها وإن جعلنا الرفع فسخاً، غير أنها إذا فسخت تخلصت، وإذا طلقها القاضي طلقة رجعية، فللزوج الرجعة، ولكن إن راجعها ولا نفقة، طلقها القاضي طلقة أخرى، فإن عاد، فراجع، استتم القاضي الطلقات الثلاث. هذا منتهى التفريع على خبطه. 10132 - وقد انتجز ماهيّة الرفع ومن يرفعُ في قَرَنٍ، وبقي الكلام في الطرف الثالث، وهو أن من أعسر وثبت إعساره، فهل يُمهلُ أم يثبت حقُّ الرفع من غير إمهال؟ ذكر الأصحاب في ذلك قولين: أحدهما - أنه لا إمهال. والثاني - أنه يمهلُ ثلاثةَ أيام، وقرب المرتبون هذا من إمهال المرتد ثلاثة أيام في الاستتابة، فإنا نرتجي أن نرادّه بالحجاج، ونحل ما اشتبه عليه كما نرتجي للزوج أن يجد ما ينفقه، والمأخذان قريبان، والثلاثةُ على حالٍ مدةٌ معتبرة في أمثال هذه الأشياء، وهذا الطرف تهاون به الباسطون والمتعمقون، فضلاً عمّن يُؤثرِ أن يَروِي أطرافَ الكلام ويقنع بظواهرها، ونحن نستفرغ الوسعَ في ذلك [ونبرأ] (1) عن الحول والقوة، فنقول: أما من أطلق ترك الإمهال، فلست أرى هذا الإطلاق سديداً؛ من جهة أنا قدمنا أن للمرأة أن تطلب النفقة في صبيحة كل يوم، وإذا أطلقنا أول اليوم عنَيْنا وقت طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر يوماًً وطلبت النفقة، فإن قال الزوج: إذا أصبحنا حصّلتُ النفقة، فلا يجوز أن يُعتقَد أنها تملك الفسخ، وإن جرى ذلك في مجلس الحاكم، حتى لا ينتشر في مسلك التصوير، والدليل عليه أن من أقر بدين في مجلس الحكم للمدَّعي، فطلب المدعي حبسَه، فقال: أَدخلُ السوقَ [فأَزِن] (2)، أو أُحضر من

_ (1) في الأصل: وندْرأ. (2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها).

مخزني، وقد يكون من مجلس الحاكم إلى المخزن مسافة، فلا يُحبس، ولكن للمدعي أن يستدعي من القاضي أن يوكِّل به من يدور معه، على ما سيأتي هذا في أدب القضاء، إن شاء الله. فلو قالت المرأة: لا نُخلِّيك، فانطلِق وحصِّل، ولكن يوكِّل القاضي بك من يدور معك، فليس لها ذلك، ولا يجوز أن نعتقد في هذا الطرف خلافاًً؛ فإن شطر البريّة يصبحون ويأخذون في التمحل إما من رؤوس الأموال، وإما من الحرف والأكساب، ولا يُوكَّل بأحد في تحصيل النفقة، وهذه الأمور تحمل على مقتضى العادات. 10133 - فإذا انحسم ما ذكرناه من اعتقاد السرف في البدار، فنحن [نخوض] (1) وراء هذا في البيان: قد يخطر للفقيه أنها لا تفسخ ما لم ينقضِ اليومُ؛ فإن استقرار النفقة بانقضاء اليوم؛ إذ هي وظيفة اليوم، فإن صار إلى ذلك صائر، فالمهلة مقولٌ بها، ولكن الخلاف في مقدارها. ويظهر أثر هذا بنقيضه، وهو أنا إن لم نر إمهال المرتد، فلا مزيد على الاستتابة بكلمة، فإن أبى، طيّرنا رأسه، فكأنا نقول في النفقة على الرأي الذي أظهرناه: إذا استقرت نفقة يوم واستمر الإعسار والتعذر، فلها حق الفسخ، وهذا بعيد جداً. ثم ينقسم الكلام فيه: فيجوز أن يقول القائل: إذا غربت الشمس، انحسم المضطرب، وملكت الفسخَ، وإن كانت النفقة لليوم والليلة، ويجوز أن يقال: لا تفسخ حتى تنقضي الليلة؛ فإنها بالفسخ لاتملك متعلقاًً في الليل، فلتسكن، والليلة تتبع النهار في أحكام. هذا مسلكٌ. ويجوز أن يقال: إذا تأخر الغَداء تأخراً يظهر منه الضرار في حق من لم يتهيأ للصوم، حان وقت الفسخ. وهذا بعيد، ولو اعتبر معتبر انقضاء النهار؛ فإن جَوْعة الصوم محتملة في الشرع، لكان قولاً.

_ (1) في الأصل: نحرض.

10134 - وكل ذلك باطلٌ دالٌّ ببطلانه على فساد الأصل؛ فإن الأظهر الإمهال، كما سنصفه. وإن لم نر الإمهال، فلا يتجه إلا اعتبارُ انقضاء اليوم والليلة، والعلم عند الله. ولو اعتاد الزوج -والتفريع على ترك الإمهال- ألاَّ يأتي بالطعام إلا ليلاً، فهو ممنوع عن هذا، فإنه في التحقيق [يكلفها] (1) صومَ الدهر، وليس كل (2) ما لا يُثبت حقَّ الفسخ اتفاقُه وندوره إذا تكرر لم يثبت حق الفسخ، والوجه اعتبار ظهور الضرار. على أن الطعام إذا كان يأتيها ليلاً، فيمكنها أن تكتفي في الحال بسِدادٍ وتؤخِّر من طعامها شيئاً إلى غدها، فإن كان ذلك ممكناً، فلا ضرار، وإن كانت رغيبة والقوت مدٌّ، ولو قطّعته، لم تنتفع به، فقد كلّفت الصومَ. ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أن المرأة إذا كانت لا تملك إرهاقَ الزوج عند طلوع الفجر، ولا تملك أن تستدعيَ التوكيلَ به، فليس يتحقق الوجوب على التضييق. ولست أشبه ما أطلقه الأصحاب من الوجوب في هذا إلا بقولنا: تجب الصلاة بأول الوقت وجوباً موسّعاً. والذي أراه أن الزوج إن قدر على إجابتها، فهو حتم لا يسوغ تأخيره وإن كان لا يُحبس، ولا يُوكَّل به، ولكنه يعصي [بمنعه] (3). وإن لم يكن في يده، أو كان يلقى عسراً، فله أن يتوسع (4) على الاعتبار. ولو طلبت النفقةُ في صبيحة اليوم في مجلس القاضي، فقال الزوج: لست أملك شيئاًً، وأنا معسر حقاً، ولست على ظنٍّ في تحصيل القوت- والتفريع على [أنْ

_ (1) مكلفها. (2) المعنى: أن ما يحتمل نادراً، ليس يحتمل إذا تكرر وكثر. (3) في الأصل: ويمنعه. (4) أن يتوسع في الوقت، فلا تجب النفقة وجوباً مضيقاً في حقه، ومعنى "على الاعتبار" أي على القياس.

لا إمهال] (1)، وقد ذكرنا أن الزوج إذا كان يستمهل لينبسط (2)، أُمهل على حالٍ، والتفصيل في مقدار الإمهال ما قدمناه في ذكر وجوه الاحتمال. فإذا قال: لست أنبسط ولست أملك شيئاًً، فهل تملك المرأة مبادرة الفسخ مع اجتماع هذه الأصول؟ فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: إنها تملكه، ويجوز أن يقال: لا تملك ما لم يَنْقَضِ الزمان الذي اعتبرناه في حق من يقول: أنبسط. وكل هذا تفريع على أنْ لا إمهال. 10135 - فأما إذا قلنا: يمهل الزوج ثلاثةَ أيام بلياليها، فتنقسم الأحوال وتتشعب الفصول، ونحن نأتي بما يحضرنا. فأول ما نبدأ به أنه إذا وجد النفقةَ في اليوم الثالث، وعَدِمَها في الرابع، فهل يفتتح ثلاثة أيام لتخلّل الإنفاق؟ ظاهر المذهب أنا لا نفتتح ثلاثة أيام، ولكن نكمل المدة باليوم الرابع الذي عسر عليه الإنفاق فيه، وقد تمت المدة، ثم نرى بعد هذا رأينا، كما سيأتي. وفي بعض التصانيف وجه بعيد أنا نستفتح المدة، فمهما (3) تخلل الإنفاق في يوم، فإن الإنفاق يقطع ما يقدّر من العسر، وهذا ضعيف مزيف، ومآله يؤول إلى تحلُّلٍ غيرِ محتمل، وهو أن ينفق يوماًً ويترك الإنفاق ثلاثة أيام، ويتخذ ذلك عادته، وهذا يجرّ ضراراً عظيماً. وما عندي أن صاحب ذلك الوجه الضعيف يسمح بهذا، وإنما يقول ذلك إذا لم يتكرر ولم ينته [إلى الاعتياد] (4)، ولستُ لضبط ما أقطع ببطلانه؛ فإن بين أيدينا في هذا الفصل أموراً مهمة. 10136 - ونقول بعد ذلك: إذا انقضى المهل في الأيام الثلاثة مع استمرار الإعسار، وأصبحت المرأة في اليوم الرابع متشوفة إلى الفسخ، فقال الزوج: مهلاً

_ (1) في الأصل: على أن الإمهال. (2) لينبسط: المعنى ليتردّد في طلب النفقة وتحصيلها. (3) فمهما: بمعنى: فإذا. (4) في الأصل: ولم ينته أن الاعتبار.

حتى نصبح وأنبسط وآتيك بالنفقة في وقت العادة، فلا يجاب الزوج إلى هذا؛ فإن الإعسار قد تحقق، فلو لم نقُل هذا، لزدنا المَهَل، ثم هذا يجر مثلَ ذلك في اليوم الخامس. نعم، إذا جاء الزوج بالنفقة صبيحة اليوم الرابع، لم تفسخ، وليس لها أن تقول: ائتني بنفقة الأيام الثلاثة وإلا فسخت، ولست أكتفي بنفقة اليوم الرابع؛ فإن نفقة الأيام الثلاثة صارت دَيْناً، وليس لها فسخ النكاح بالإعسار بالنفقة التي صارت ديناً في مقابلة ما مضى من الزمان، ونحن لا نضرب المَهَل حتى يثبتَ حقُّ الفسخ لأجل تعذر النفقة في مدة الإمهال، وإنما اعتبرنا الإمهال ليتحقق الإعسار بها، ويزول توقع البسط، وسيزداد هذا وضوحاً في أثناء الكلام، إن شاء الله. وليس للمرأة أن تقول: أقبض ما جئتَ به عن نفقة ما مضى، وأطالب بنفقة اليوم؛ فإن الرجوع فيما يؤديه مَنْ عليه الحق إلى قصده، لا إلى قصد القابض. هذا إذا أتاها بالنفقة في صبيحة اليوم الرابع. فإن أتاها كذلك بالنفقة في صبيحة اليوم الخامس والسادس، فلا كلام. وإن قال في اليوم الخامس: نعود إلى اعتياد الإنفاق، فاتركي الإرهاق إلى المطالبة بالنفقات في صبيحة اليوم، فكيف السبيل؟ إن قلنا: الرجل يجاب إلى ما ذكر، فهذا إمهالٌ آخر. وإن قلنا: لا يجاب الرجل، فإلى متى وأين الموقف؟ وهل يحبس [إلى] (1) أن يلتزم؟ إن الإعسار إذا اطرد ثلاثة أيام، فقد ثبت للمرأة حقُّ الفسخ في كل [مرة] (2) إذا لم توافها النفقة. هذا سؤال عن ضربٍ من الإشكال. 10137 - ويتصل به أنا إذا فرعنا على الأصح، فلو استمر الإنفاق بعد المَهل المنقضي ثلاثةَ أيام أو أكثر، ثم فرض الإعسار، فلا نعودُ إلى ضرب المدة قط، ونقول: لا مهلة للإعسار إلا مرة واحدة في النكاح، هذا موقف لا يجوز للفقيه

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: عزرة.

فيه الاكتفاء [بالاتباع] (1) ولا يسوغ أن يخطوَ بالخطو الوِساع، ونحن نقول والله المستعان: هذا لا يُحَلُّ (2) إلا بالنظر إلى حال الرجل، فإن استمر الإعسار في الثلاثة الأيام المضروبة أجلاً ومَهَلاً، ثم فُتح له قوت يوم، فلا فسخ، ولو فتح له كذلك في يوم الخامس، وليس على اعتمادٍ في مُنَّته، ولا في مال، وإنما يجري ما يجري على الوفاق والفتوح، فلو تمادى الزمن ما تمادى، فإذا لم تُفرض النفقة في يومٍ، فلا مَهَلَ أصلاً. وأنا أقول قولَ قاطع لا يرتاب: إنه لو كان كذلك في أول الأمر، فلا يمهل مثله، وإنما التردد الذي ذكره الأصحاب في الإمهال إذا كان على وثيقةٍ من مال أو استغلال وقفٍ، أو الرجوع إلى قدرةٍ على الكسب، ثم تُفرض آفة تعد من جوائح الدهر، فمثل هذا يمهل. أما من لم يكن قط راجع إلى عُدّة ومُنّة، فلا معنى لإمهال مثلِه؛ فإن أصله الإعسار، فإن اتفق شيء فهو يدرأ الإعسار، وإن لم يتّفق، فصفة الرجل الإعسار، وأنا أقول بحسب هذا: إذا أمهلنا صاحب الجائحة، فإن وجد شيئاًً موثوقاً به، ثم فرض طريان اجتياح، فالاختلاف في الإمهال يعود، وإن لم تدم تلك العُدة يوماً. فهذا هو المعتبر لا غير. والآن، لا ضبط ولا موقف ينحصر الفكر فيه، فإن قيل: هل من ضبط فيما يتجدد له من مال؟ قلنا: إن كان بحيث يغلب على الظن التبلّغ به عند فرض تصرفٍ فيه من غير أن يقال: هذا ينقطع لا محالة إلى مدةِ كذا، فهذا نقيض الإعسار بالنفقة، وإن كان ذلك القدر ينقطع لا محالة، فهو ملتحق بالفتوح، وقد يكون ما ينفتح على الإنسان ليوم، وقد يكون لأسبوع، فهذا منتهاه. وإذا حركنا وجوه الإشكال، فالرأي مشترك على شرط أن يكون الزائد على ما نذكره خيراً منه.

_ (1) في الأصل: الإقناع. (2) كذا. ولعلها: لا يتضح، أو يتم، أو نحو ذلك.

10138 - وعلينا بحثٌ آخر أجريناه في أثناء الكلام ولم نجب عنه، وذلك أنا قلنا: للمرأة مبادرةُ الفسخ صبيحةَ اليوم الرابع، ثم قلنا: هل لها ذلك صبيحة اليوم الخامس؟ وهذا وإن لم نبح به، فهو مندرج تحت ما مهدناه؛ فإن حدث للرجل بعد المهل عُدَّة (1)، عادت الطّلبة والمضايقة إلى موجب العادة، ويجب طلب هذا أيضاًً إذا علمت المرأة ظهورَ عُدَّة في اليوم الرابع إذا لم يبدُ من الرجل تقصير. وإن لم يظهر للرجل عُدّة، وإنما فُتح له في اليوم الرابع شيء، وكان على انتظار مثله في اليوم الخامس، فالذي أراه أنه في اليوم الخامس بمثابته في أول يوم قبل المهل، إذا فرعنا على أنه لا إمهال، وقد أوضحنا أن صاحب الفتوح الذي لا يرجع إلى عُدّة لا معنى لإمهاله، فإن قيل: فاطردوا هذا في اليوم الرابع. قلنا: الأيام الثلاثة قبله كالحَمْل على الاعتياد في اليوم الخامس، ولو لم أقل هذا في الخامس، لزمني أيضاًً أن أثبت حق الفسخ في صبيحة السادس، ثم إلى متى وينحل انحلالاً لا ينضبط، فهذا غايتي في هذا الفصل. ولست أدّعي الاستيعاب في وجه الصواب، ولكني استوعبت التنبيه على وجوه الإشكال، ثم استفرغت الوسمعَ في حلّها، وأرخيتُ طِوَل مَنْ بعدي للنّظر السديد. 10139 - وهذا نجاز هذا الفصل. ويتصل به شيء قريب المأخذ به، وهو أن المَهَل إذا انقضى، وثبت حق الفسخ، فرضيت بالمقام تحت المعسر، ثم بدا لها، فهي على طلبها وحقها، وإبطالُها حق الفسخ يختص بما ثبت لها، والضرار متجدد عليها حالاً على حال. فيخرج من مجموع هذا أن ما أبطلته نفذ إبطالها فيه، ولكن تجدد لها حق في الزمان المستقبل، وليس هذا كما لو رضيت بالعُنّة والمقام تحت العنين، ثم بدا لها؛ فإنا لا نملكها الفسخَ، والسبب فيه أن [العُنّة] (2) في حكم الخَصْلةِ الواحدة، وهي عيب قائم، فإذا رضيت به، فالعُنة لا تتجدّد، بل يناظر ما نحن فيه رضا امرأة المولي

_ (1) في صفوة المذهب: جِدَة. (2) في الأصل: العقد.

بالمقام تحت زوجها بعد انقضاء المدة، وإذا صدر ذلك منها، ثم بدا لها أن تعود إلى الطلب، فلها ذلك؛ فإنها ما رضيت بعيبٍ في زوجها، وإنما رضيت بما لحقها من الضرار، وهو متجدد عليها في الزمان المستقبل. وسر هذا الفصل يوضحه ما نصفه، فنقول: الحقوق التي لا مقدار لها، ولا انحصار، لا يصح إسقاطها. نعم، اختلف القول في أن ما لم يجب، وثبت سببُ وجوبه، هل يصح الإبراء عنه على شرط التقدير، وكذلك اختلف القول في ضمان ما لم يجب، وثبت سببُ وجوبه. فلا جَرَم نقول: لو أبرأت المرأة زوجها عن نفقة خمسين سنة من السنين المستقبلة، فليس لها حق الفسخ بالإعسار حتى تنقضي هذه المدة، ولو قالت امرأة المولي: أسقطت حقي من طلب الفيئة سنة، فلست أرى لهذا الإسقاط حكماً، والإبراء إنما يصح في حقوق ثابتة، ولا حق للمرأة على الزوج في الاستمتاع، وإنما يثبت لها طلب الفراق للضرار، فإلى ماذا يضاف الإبراء، وحاصل قولها يؤول إلى بذل اللسان بمصابرة الزوج مع إضراره، ولا حاصل لذلك. ومما يتصل بهذا أنا إذا فرعنا على الأصح، وانقضت المدة، فرضيت، ثم عادت إلى الطلب، فقد قال الصيدلاني: لا بد من ضرب مدة أخرى، وإن كنا نرى أن المهلة لا تجدّد، كما تفصّل المذهب، واعتل بفقه حسن، فقال: رضاها يُسقط ما تقدم، فإذا عادت فكأنها مطالِبة على الابتداء فيعتبر المَهَل، ثم طلب أن يفرق بينها وبين امرأة المولي؛ فإنها بعد انقضاء المدة [لو رضيت] (1) بالمقام تحت الزوج، ثم بدا لها، لم نَضرب مدةً أخرى أربعة أشهر، بل هي على حقها الناجز، فقال: تلك المدة اقتضى النص ضربها غير متعلّقة بطلبها، والمهل في الإعسار بالنفقة يتعلّق بطلبها، فإذا رضيت، سقط أثر المهل. وليس يبعد عندي أن يقال: لا يُضرب مهلٌ آخر في الإعسار، حيث انتهى التفريع إليه كالإيلاء، والفرق ليس بالواضح؛ فإن امرأة المولي رضيت بما لحقها من الضرار في المدة.

_ (1) في الأصل: ولو رضيت.

ثم هاهنا فقهٌ، وهو أنها مع تحقق الإعسار رضيت بأن لا تفسخ، وتحقق الإعسار لا يزول برضاها، والفقه ما ذكره الصيدلاني، فليتأمله الناظر. 10140 - ومما يتصل بذلك أنها لو نكحت معسراً عالمة بإعساره، فهي على حقها من الفسخ إذا ثبت الإعسار بعد النكاح، واستمر، ولا حكم في حقها لاستمرار الإعسار قبل النكاح، وغرضُ هذا أن علمها بإعساره لا يُبطل حقَّها، على الترتيب الذي تقدم، بخلاف ما لو نكحت مجبوباً وعلمت بذلك منه، فليس لها حق الفسخ. وقد نجز الغرض من هذا الفصل. 10141 - فأما الكلام فيمن يثبت له حق الطلب (1)، فليس هذا من الصنف الذي تقدم في أنها هي الفاسخة أم القاضي يطلق، بل غرض هذا الفصل بيان من إليه حق الطلب حتى ينتهي إلى الفسخ أو إلى الطلاق، فنقول: إذا كانت الزوجة حرةً مستقلة، فلها حق الطلب، ولو رضيت بالمقام، فلا اعتراض لأحد عليها. ولو كانت صغيرةً أو مجنونة، فلا يقوم الولي مقامها في الطلب، وإن تناهى الضرر، وقد يفرض هذا في سنين الجدب والأزم، ولو كانت خليّة، لخُطبت وطُلبت، وكُفيت المؤن، ومع هذا هي في رباط الزوجية، فإن افتقرت، [فهي] (2) فقيرة من فقراء المسلمين، لا نعرف في ذلك كله خلافاًً. 10142 - ولو كانت الزوجة أمةً، فإذا أعسر الزوج بالنفقة، والتفريعُ على ثبوت حق الرفع (3)، فللأمة حق الرفع، لم يختلف الأصحاب فيه. ولو قال السيد: قَرِّي تحته، وأنا أنفق عليك، فلها الفسخ؛ فإن المَوْلى فيما قاله

_ (1) هذا هو الفصل الرابع والأخير. (2) زيادة من المحقق. والمعنى أنها في رباط الزوجية: فقيرة من فقراء المسلمين، تجب نفقتها على من كانت تجب عليه لو كانت خلية. (3) المراد -كما هو واضح- رفع النكاح.

بمثابة [الأجنبي] (1) في هذا المقام، وإن [ثار] (2) نفس الفقيه، فليتئد، [فالبيان] (3) بين أيدينا. فتحصّل مما ذكرناه أن الأمة تفسخ على السخط من السيد. ولو أبرأت زوجها عن النفقة، لم يصح إبراؤها؛ فإنها ليست مالكة للنفقة، وإنما يصح الإبراء ممن يملك ما يبرىء عنه. وهذا أيضاًً متفق عليه. ثم ما ذكره الأصحاب: أن السيد لا يملك الفسخَ بوجهٍ؛ فإنه إذا ثبت استقلال الأمة بالفسخ من غير حاجة إلى مراجعة السيد، فانفراد السيد بالفسخ بعيدٌ. وقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في الأمة المجنونة أولاً، وفي الصغيرة إذا فرض إعسار الزوج بنفقتها: أحدهما - أن السيد يفسخ؛ فإن الضرار يلحقه؛ فإنه بين أن ينفق على أمته؛ فيصير غارماً للنفقة مع قيام الزوجية، وبين أن يضيّعها فتهلك، فإذا كان الضرار يلحقه، فينبغي أن يثبت له حقُّ الفسخ، وليس كالفسخ بسبب العُنة، فإن ذلك يتعلق بمحض حظّ المرأة. والوجه الثاني - أنه لا يثبت للسيد حق الفسخ، فإن الأمة لو عقلت أو بلغت، فلها الفسخ، فإذا كان حق الفسخ ثابتاً لها، فيجب أن لا تشارَك. فأما إذا كانت الأمة بالغة عاقلة متمكنة من الفسخ بنفسها، فإذا لم تفسخ، فهل للسيد الفسخ؟ ذكر الشيخ وجهين أيضاًً مرتبين على الوجهين المقدمين في المجنونة والصغيرة، ووجه الترتيب لائح، وتوجيه إثبات الفسخ له [ما ذكرناه] (4) من التحاق الضرار به عند امتناعها من الفسخ، فلا فرق بين أن تمتنع من الفسخ وبين أن يمتنع الفسخ بالجنون والصغر، فإذا أثبتنا حق الفسخ بالمهر، فلا خلاف أن حق الفسخ مخصوص بالسيد، وهو مستقلٌّ به، لا مشاركة للأمة فيه، [فإن] (5) السيد هو مستحق

_ (1) غير مقروءة بالأصل. (2) كذا قرأناها بصعوبة. (انظر صورتها). (3) في الأصل: بالبيان. (4) في الأصل: وما ذكرناه. (5) في الأصل: بأن السيد.

المهر، وليس للأمة فيه حق من طريق الإمتاع، أما الملك، فلا وجه لتصويره، والنفقة تتعلق باستمتاعها، وإن كانت لا تَمْلِك. فهذا قواعد المذهب. 10143 - ثم إنا نُخرج بالمباحثة منها أموراً لا بد من الإحاطة بها، منها: أن نقول: إذا زوج السيد أمته، ووجبت النفقة، فقاعدة النفقة على التمليك، والأمة لا تملك، فحق الملك هل يثبت للسيد أم كيف السبيل فيه؟ هذا ما يجب إنعام النظر فيه، والذي يميل إليه ظاهر الرأي أن السيد يملك النفقةَ، ويخرج فيه [أنه] (1) لو أراد إبدال ما يبذله الزوج بمثله، فعل ذلك، ولو أراد أن يأخذ من الزوجة ما بذله الزوج، فللأمة أن تستمسك به حتى يأتيَها ببدلٍ، فإن حقها متعلق بالنفقة على الاختصاص، ولها طلب النفقة، ولها الفسخ بتعذر النفقة، واختصاصها كالاستيثاق، وهذا بمثابة قولنا: إن نكح العبدُ، فالنفقة تتعلق بكسبه، ومنافعُه ليست خارجةً عن ملك المولى، والزوجة لا تملك منافعَ زوجها. ولو بذل السيد النفقة من ماله، ومنع العبدَ من الاكتساب، فلا حرج عليه، ثم يبتني على هذا أن السيد لو أبرأ عن النفقة، فكيف الوجه؟ قد ذكرنا اختصاص الزوجة بالنفقة من جهة الزوج، وإن لم يكن لها ملك، فحق الاختصاص إذا لزم، منع تصرف المالك بالإسقاط، وتردُّدُ الأقوال في إعتاق الراهن لمكان قوة الملك وسلطانه، والإبراء ليس كالعتق. نعم، لو أنفق على الأمة من عند نفسه، فالنفقة تؤخذ من الزوج، وهذا يفتح حدقةَ البصيرة في أن السيد مالكٌ للنفقة، والذي يعترض فيه أن السيد لو غاب، فالزوج منفق على الأمة ولا تمليكَ، ولكن السيد هو المملَّك، وهو المستحق لتلك النفقة، وهو مأذون من جهة السيدِ والشرعِ في صرف ما يجب عليه من النفقة يوماً يوماًً إلى الزوجة، فهذا ما أفضى إليه مساق البحث السديد. 10144 - وإذا زوج السيد أمته من عبده، فعلى العبد أن ينفق على الأمة، وهذا

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام.

إنفاق لا تمليك فيه. نعم، هو إنفاق عن ملك السيد؛ فإن ما يكتسبه يقع ملكاً للسيد، ثم هو مستحق الصرف إلى الأمة. هذا ما أردنا بيانه في ذلك. وقد ذكرنا في كتاب النكاح أن السيد لو أذن لعبده في النكاح، فتزوج وصار كسبه متعلَّقاً للنفقة، فلو أراد السيد أن يستخدمه أو يسافر به، فله ذلك على الجملة، وقد يختلج في النفس من هذا شيء، وكنت على فكرٍ غائص منه قديماً، وهذا أوان إظهاره: يجوز أن يقال: ليس للسيد أن يستخدمه، فقد صارت منفعته متعيّنة للنفقةِ والمهرِ ما لم يبذل (1) حقَّ المرأة. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه يُقدِمُ على الاستخدام، ثم يلتزم ما سبق تفصيله، وسنشير إليه. وذكر العراقيون وجهاً أنه لا يستخدمه ما لم يضمن ما يجب ضمانه، أما إيجاب تعجيل ما يجب للمرأة، فخارج على القياس الذي قدمناه من أن ما تعين لحق الزوجية لا يجوز التصرف فيه قبل توفية الحق، كالنفقة التي يعجلها الزوج لا يتصرف فيها السيد، ووجه ما صار إليه معظم الأصحاب أن المنفعة ليست أشياء عتيدة حتى يتحقق الاستيثاق فيها، ولكن حق السيد مقدم على شرط أن يَضْمن. وصاحب الوجه الذي حكاه العراقيون قابلوا (2) توقع وجود المنافع بوعدٍ لازم، وهو الضمان، وهذا فقيه حسن. وأما ما تشبثنا به من إيجاب [تعجيل] (3) ما يجب، فهذا يستدعي تجديدَ العهد بما يجب على السيد إذا استخدَم، وفيه قولان: أحدهما - أنه يجب أقل الأمرين من أجر المثل لذلك الزمان، أو النفقة والصداق، والقول الثاني - أنه يلتزم باستخدام العبد في ساعةٍ (4) المهرَ بالغاً ما بلغ، وفي النفقة خبط ذكرته في النكاح، ولست لإعادته.

_ (1) المعنى: ما لم يبذل السيد حق المرأة من المهر والنفقة. (2) " قابلوا توقع وجود المنافع " الواو للجماعة الذين هم أصحاب الوجه الذي حكاه العراقيون، وإن عبر عنهم بلفظ (صاحب) فهم جمع، ولذا قال: قابلوا. (3) في الأصل: تحصيل. والمثبت من صفوة المذهب. (4) المعنى: أنه باستخدامه العبد مجرد استخدام لأي مدة طالت أو قصرت، عليه أن يلتزم المهر بالغاً ما بلغ.

فإذا قلنا: يعجل ثم يستخدم، وجرينا على الأصح، وهو إيجاب الأقل، فلا يقدِّم إلا نفقةَ اليوم، وإن كان قد يستخدمه في غَرْمه (1) أياماً؛ فإن إيجاب تعجيل ما لم يجب محال، وقد ذكرنا أن نفقة كل يوم تجب من صُبحه. وهذا القدر من التفريع كافٍ منبهٌ على الغرض، على أني لست على اعتقاد سديد في إيجاب التعجيل، ولا أوثر أن يُلحق بالمذهب، وإنما الملتحق بالمذهب الوجهان الآخران، وليس كالنفقة ينقدها الزوج فلا يملك السيد التصرف فيه قبل الإتيان ببدله؛ فإن ذلك المنقود شيء موجود تعلق به وثيقة الزوجة. 10145 - ومما أجراه العراقيون في أثناء الكلام أن قالوا إذا أعسر العبد بنفقة زوجته، وعجز عن الكسب، فهل تتعلق النفقة برقبته؟ ذكروا في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يتعلق بالرقبة، وهذا لا يعرفه المراوزة، وهو ساقط؛ من جهة أن النفقة والمهر من حقوق المعاملات المتعلقة بالعقود، وحقّ ما هذا سبيله ألاّ يتعلق إلا بالكسب، ولست أرى لهذا الوجه الغريب الذي حكاه العراقيون وجهاً إلا التحاقَ العقد بأروش الجنايات، وقد ذكرنا في النكاح الفاسد قولاً أن مهر المثل يتعلق بالرقبة، وإن صدر النكاح عن إذن من له المهر. فإن قلنا: النفقة لا تتعلق بالرقبة، فإذا تحقق الإعسار، ثبت الفسخ، فلو قال السيد: لا تفسخي حتى أنفق، فهل لها أن تفسخ؟ أوَّلاً - إذا أعسر الحر بنفقة زوجته، فتبرع أجنبي بالنفقة، لم يمتنع حقُّ الفسخ على الزوجة. وإن تبرع على الزوج، فهو الممنون عليه، ثم الزوج ينفق، فلا تفسخ، ولا شك في هذا. أما السيد إذا تبرع بالنفقة، ففيه تردد ظاهر، وسببه أن المنافع ملكُ السيد، وكان للسيد أن يستخدم العبد ويؤدي النفقة من خاص ماله، فإذا أدى الآن، فليس على حكم المتبرعين. هذا وجه. ويجوز أن يقال: لا يجب على السيد أن ينفق إذا أعسر العبد، فهو إذا بذل عند إعسار العبد متبرعٌ.

_ (1) المعنى: أنه لا يقدّم إلا نفقة اليوم، مهما كان عدد الأيام التي استخدمه فيها قبلاً.

ويتصل بهذا المنتهى أن الأمة لو أرادت الفسخ، وقد أعسر الزوج بنفقتها، فقال السيد: لا تفسخي حتى أنفق، فظاهر كلام الأصحاب أن لها أن تفسخ، وليست هذه المسألة خاليةً عن احتمال جلي؛ من جهة أنا ذكرنا في قاعدة المذهب أن حق الملك في النفقة للسيد، فلا يبعد أن يقول لأمته: إنما حقك الاستمتاع بالنفقة، وليست ملكَك شرعاً، فإني مالك الرقبة ومالكٌ لأصل النفقة. وهذا منتهى ما حضرنا. فرع: 10146 - إذا أعسر الرجل بنفقة مملوكه، لم يترك المملوك في الضرار، وكُلِّف المالك البيعَ، فإن أبى، بيع عليه المملوك، وسيأتي تفصيل هذا في باب نفقة المماليك، إن شاء الله. ولو أعسر بنفقة أم ولده، ولا سبيل إلى بيعها -على ما عليه علماء العصر من منع بيع أمهات الأولاد- ثم إذا ظهر الضرار، فالمذهب الذي عليه التعويل أنها لا تعتِق، فإن الإعتاق على خلاف رأي المالك لا نظير له في الشرع، والفسوخ والحَلّ بطريق الطلاق متمهد في مواضع، وصار بعض أصحابنا إلى أنها تعتِق، ثم الذي بلغنا أن القاضي يعتقها، ولم أر أحداً من الأصحاب يقول: هي تُعتِق نفسَها قياساً على الزوجة إذا ملكناها فسخ النكاح، وهذا لأنا لا نجد مملوكة تُعتق نفسَها، ولست ألتزم فرقاً من طريق المعنى بين الفسخ وبين إعتاق أم الولد نفسها، ولكن إذا ضعف أصل الوجه، فلا معنى لتضعيف الضعف بالتفريع، ولكن الوجه الاختصار على المنقول، والتنبيه على الاحتمال. فإن قلنا: يعتقها القاضي، فلا كلام. وإن قلنا: لا يعتقها، فالوجه تسييبها لتكتسب، ثم إن لم تتمكن من اكتساب القوت، فهي فقيرة من المسلمين. فرع: 10147 - إذا فرعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه العراقيون في أن النفقة تتعلق برقبة الزوج المملوك إذا أعياه تحصيلها من الكسب، فلا يُفضي الإعسار إلى الفسخ، ولكنا نبيع من رقبته شيئاً شيئاًَ على حسب مسيس الحاجة إن لم يَفْدِه السيد، وإن استوعبنا بيعه، فنأخذ في بيعه على المشتري، ولا يؤدي والحالة هذه الإعسار

إلى الفسخ، وهذا الاضطراب في التفريع يدل على [فساد] (1) الأصل. فصل 10148 - إذا أعسر الزوج بالنفقة وقلنا: لا يثبت حقُّ رفع النكاح، فقد أطلق الأصحاب أن للمرأة أن تخرج وتكتسب. وهذا مفصل عندنا: فإن كان لا يتأتى منها تحصيلُ القوت إلا بالخروج، فلا شك أنها لا تُمنع منه، وإن كانت موسرة قادرة على الإنفاق من مالها، وكانت مكَّنَتْ ووطئها الزوج، وبطل حق امتناعها بسبب المهر، فهل يلزمها أن تلزم مسكن النكاح، أم ينحلّ حق احتباسها في المسكن؟ [تردّد] (2) الأصحاب في هذا، فقال قائلون: لها أن تخرج، وليس للزوج أن يمنعها. وقال آخرون: حقٌّ عليها أن تلزم مسكن النكاح، وهذا هو الأفقه عندنا. وكذلك تردد الأصحاب فيه إذا كانت قادرة على أن تحصِّل قوتها بحرفة تعانيها في المسكن من غير مفارقة، فهل يلزمها الملازمة أم لا؟ فعلى ما ذكرناه. فإذا قلنا: يثبت لها حق فسخ النكاح، ولكنها لا تبتدره، بل تمهل الزوجَ، على التفصيل المقدم، فينحلّ حق الاحتباس عنها في مدة المَهَل على الرأي الظاهر، وإن كانت موسرةً، أو محترفةً، وفيه [وجه] (3) بعيد، وإن اضطرت إلى الخروج، خرجت كيف فرض الأمر. ...

_ (1) في الأصل: يسار. (2) في الأصل: فتردد. (3) في الأصل: " شيء ".

باب نفقة التي لا يملك زوجها رجعتها

باب نفقة التي لا يملك زوجها رجعتَها قال الشافعي: " قال الله تعالى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الآية [الطلاق: 6] ". 10149 - مضمون الباب الكلام في نفقة المعتدات، والمعتدة لا تخلو: إما أن تكون رجعية، وإما أن تكون بائنة، فإن كانت رجعية، فهي بمثابة الزوجات في استحقاق النفقة والسكنى، وسائرُ حقوق النكاح دارّةٌ عليها إلا ما يتعلق بالاستمتاع، كالقَسْم. ولو طلقها الزوج طلقةً رجعية -وكانت من ذوات الأقراء- فجرت في العدة ووطئها واطىء بشبهة، وعلقت عن الواطىء بولد يقتضي الشرعُ إلحاقه به، فعدة الواطىء مقدمة على الضرورة؛ فإن عدته بالحمل، وهو موجود حسّاً لا يمكن تأخير الاعتداد به. ثم للأئمة طريقان في نفقتها، وأنها هل تجب على الزوج، واختلافهم يستدعي تجديدَ العهد بأصلٍ سابق، وهو اختلاف الأصحاب في أن الزوج هل يملك رجعتها وهي حامل عن الواطىء؟ فهذا ما قدمنا فيه وجهين، وفرعنا عليهما ثَمَّ تردُّدَ الأصحاب في مقصودنا من النفقة، فقال قائلون: إذا حكمنا بأن الزوج يرتجعها، فيجب عليه الإنفاق عليها وجهاً واحداً. وإذا قلنا: لا يملك ارتجاعَها ما دامت حاملاً، فهل يجب عليه الإنفاق عليها من جهة أنها ستعود بعد وضع الحمل إلى بقية عدة الرجعة؟ فعلى وجهين. هذه طريقة. ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: لا يرتجعها، فلا يجب عليه الإنفاق عليها، وإن قلنا: يرتجعها، ففي وجوب الإنفاق عليها وجهان، وهذه الطريقة لها رسوخ في الفقه، لا يبين إلا بذكر مسألة [ومباحثة] (1) بعدها.

_ (1) مطموسة بالأصل، والمثبت تقدير من المحقق على ضوء السياق.

10150 - أما المسألة فإذا وطئت المنكوحة بالشبهة، وعلقت من الواطىء، فلأصحابنا تردد في وجوب النفقة على الزوج: قال قائلون: لا نفقة عليه، فإن الاستمتاع بها تعذر على الزوج بسببٍ هي [متسببة] (1) إليه، فصارت كالناشزة، وإن لم تنتسب إلى قصدٍ وعصيان، وهذا بمثابة إسقاطنا النفقة عن الزوج بسبب امتناع المجنونة، وإن كان التكليف محطوطاً عنها. وقال قائلون: نفقتها دارّة؛ فإنها لم تعتمد نشوزاً. والأولى عندنا تفصيل ذلك، فإن وطئت في حالة [نوم] (2) أو وطئت وهي مضبوطة كرهاً، والواطىء على اشتباه في نفسه، فالوجه القطع بثبوت نفقتها على الزوج، والمصير إلى إلحاق المنع الطارىء بالمرض والحيض. ولو مَكَّنت على ظن أن الواطىء زوجُها، فهذا فيه التردد الذي ذكره الأصحاب؛ من جهة أنها بتمكينها [متسببة] (3) على الجملة، فإن لم نعصّها، لم ننكر فعلها، وإذا تسببت المرأة، فأمرضت نفسها، ثم استمر المرض، فهذا فيه التردد الذي ذكرناه في إحرامها، على قولنا: لا يملك الزوج تحليلَها، وما ذكرنا من طريان العدة على صلب النكاح إن فرض من غير حمل، فهو واضح، والبيان المقدم فيه كافٍ، وإن علقت بمولودٍ في صلب النكاح، فهي معتدة ما دامت حاملاً. وقد يعترض في هذه الصورة أصلٌ سيأتي مشروحاً، ولكنا لا نجد بُدّاً من الرمز إليه الآن لتنجيز غرضٍ في هذه المسألة، فنقول: إذا وطىء الرجل أجنبية بشبهة، وعلقت منه بمولود، ففي وجوب نفقتها على الواطىء قولان، سيأتي ذكرهما -إن شاء الله- بناء على أن النفقة للحمل، أو للحامل؟ فإن قلنا: لا نفقة للمعتدة عن الواطىء في صلب النكاح، فلا كلام. وإن قلنا: للمعتدة في صلب النكاح النفقة على الزوج إذا لم تحبل من الواطىء، فإذا حبلت منه، وقلنا: لا نفقة على الذي يطأ أجنبية

_ (1) في الأصل: منتسبة. (2) في الأصل: يوم. (3) في الأصل: منتسبة. والمثبت من صفوة المذهب.

بشبهة وإن علقت منه، فالنفقة على الزوج إذا اتفق العلوق عن الواطىء في صلب النكاح. وإن قلنا: على الواطىء بالشبهة النفقةُ للأجنبية التي حبلت عنه، فماذا نقول والزوجية توجب النفقة، حيث انتهى التفريع إليه، والحمل يوجب النفقة على الواطىء، ولا سبيل إلى الزيادة على نفقة واحدة، ويبعد إيجابها عليهما من حيث إنها في حالة الزوجية والحمل عن الواطىء؟ والذي يظهر عندنا في هذه الصورة إيجاب النفقة على الواطىء؛ فإن النفقة لا تجب عليه إلا تخريجاً على أن النفقة للحمل، فكأنه استعمل رحمها واستعملها في نفسه لحفظ مائه، وهذا متجدد ناجز، وقد تحقق انقطاع حق الزوج عنها؛ فالوجه إيجاب نفقتها على الواطىء. فإن لم تكن ناشزة، فقد استبدلت عن نفقة الزوجية، فلا ضرار، فهذا ما أردناه. 10151 - ونعود بعد ذلك إلى الرجعية التي حبلت عن الواطىء بالشبهة في أثناء العدة، فإن قلنا: يجب على الواطىء النفقة لمكان الحمل، فلا وجه إلا إسقاط النفقة عن المطلّق، وإن قلنا: لا نفقة على الواطىء لمكان الحمل؛ فإذ ذاك يجري ما قدمناه من اختلاف الطريق. وهذه هي المباحثة الموعودة، وعليه يخرّج أنا وإن أثبتنا للزوج حق الرجعة، فلا نفقةَ عليه، مع إيجابنا النفقةَ على الواطىء، على القياس الذي مهدنا في جريان الحبل عن الواطىء في أثناء النكاح. ثم إذا أوجبنا للرجعية النفقة، أوجبنا لها الكسوة، وهي لازمةُ مسكن [النكاح] (1) والإدام تابع للنفقة، وينحط من حقوقها ما تتزين به؛ فإنها منعزلة، والطلاق قد حرّم الاستمتاع بها. هذا كله إذا كانت رجعية. 10152 - فأما إذا كانت بائنة، فلا يخلو إما أن تكون حائلاً وإما أن تكون حاملاً،

_ (1) مزيدة من صفوة المذهب.

فإن كانت حائلاً، فلا نفقة لها عند الشافعي، والسكنى ثابتة. وقد صدّر الشافعي الباب بأمر يحسبه الشادي رجوعاً منه إلى الظاهر ووراءه ما يشعر بدَرْك الغايات؛ وذلك أن الفرق من طريق المعنى لا يكاد يتضح بين النفقة وبين السكنى، ولا تعويل على كلام ملفّق للخلافيين، فالاعتمادُ على نصّ القرآن، كما أشار إليه إمام المسلمين رضي الله عنه، فإنه عز من قائل أطلق السكنى، ولم يشترط فيها الحمل، وقال: ({أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ثم لما انتهى البيان إلى النفقة خصص ثبوتها بالحمل، فقال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} فالوجه إطلاق ما أطلق وتقييد ما قيد، وإذا لم تكن البائنة حاملاً، فلا نفقة سواء كانت البينونة عن فسخ، أو طلاق، أو فُرقة لعان، وأما السكنى، فقد فصلناها في كتاب العدد، فلا نعيدها. 10153 - وأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو إما أن تكون بينونتها بسبب الطلاق، وإما أن تكون بسبب آخر: فإن كانت البينونة بسبب الطلاق، فلا خلاف أنها تستحق النفقة. ثم أطلق الأئمة قولين مأخوذين من معاني كلام الشافعي: أحد القولين - أن النفقة تجب للحمل. والقول الثاني - أنها تجب للحامل. توجيه القولين: من قال: إنها تجب للحمل، احتج بأنها بائنة في ففسها، فلا تستحق النفقة بنفسها، ولم يطرأ إلا الحمل، فلتكن إضافةُ الاستحقاق إليه، وإذا وجبت النفقة بسببه، فالنفقة للحمل إذاً. ثم لا نظر إلى قول من يقول: الحمل يكتفي بالشمة والمقدار النزر؛ فإنه لا يتوصل إليه ما يبقى به إلا بعد اكتفاء الأم، وأيضاًً؛ فإن مؤونة الحمل واجبة، ولو انفصل المولود، فمؤونة الحاضنة واجبة، واستقلالُ الحامل بالحمل لا ينحط عن قيام الحاضنة بحفظ الولد وإرضاعه، والغرض إحالة الوجوب على الحمل. ولا يتم بيان الفصل إلا بنجازه. ومن نصر القول الثاني، احتج بأن النفقة لو كانت تجب للحمل، لسقطت بمرور

الزمن، ولما كانت متقدّرة، ولاختلفت بالزهادة [والرغابة] (1) بناء على اعتبار الكفاية؛ فإن المرعي في مؤن المولود الكفاية. وما ذكرناه من توجيه القولين استفتاحٌ، وإلا فالبيان بين أيدينا، ثم الذي نراه من الرأي أن نجري على ترتيب الأصحاب في إرسال مسائلَ بنَوْها على هذين القولين، فإذا انتجزت، انعطفنا عليها، وربطناها بروابط الفقه على حسب ما يليق بها. 10154 - فمما فرّعه الأصحاب أن المطلَّقةَ البائنةَ الحامل لو كانت مملوكة، فمعلوم أن ولدها مملوك، ولو انفصل، لكانت نفقته على مالكه، قالوا: المسألة خارجة على أن النفقة للحامل أو للحمل، فإن قلنا: النفقة للحمل، فهي على السيد، وإن قلنا: النفقة للحامل، فهي على الزوج، قياساً على نفقة الزوجية؛ فإن النكاح ولو زال، فعَلْقته إذا أوجبت النفقةَ بمثابته. ومن المسائل: أن الزوج لو كان عبداً، والزوجة حرة بائنةٌ حامل، فإن قلنا: النفقة للحمل، فلا نفقة على الزوج؛ فإن المملوك لا يلتزم نفقة ولده، وإن قلنا: النفقة للحامل، فتجب النفقة على العبد، كما تجب عليه نفقة الرجعية، والنفقة في حالة الزوجية. 10155 - ومما ذكره الأصحاب أن النكاح لو ارتفع بالفسخ، وذلك بأن تفسخ المرأة النكاح بعيبٍ في الزوج، أو يفسخ الزوج النكاح بعيبٍ فيها، فإذا كانت حاملاً، قالوا: في النفقة قولان مبنيان على أن النفقة تضاف إلى الحمل أو إلى الحامل، فإن قلنا: هي مضافة إلى الحمل، فالنفقة واجبة على الزوج الحر إذا كان الولد حراً، وإن قلنا: النفقة للحامل، فلا نفقة. وهذا فيه غموض؛ من جهة أن المفسوخ نكاحها كما لا تستحق النفقة، فالبائنة بالطلاق لا تستحق النفقة أيضاً. وهذا مما يعسر الفرق فيه، ولم يذكر أحد من الأصحاب فيه كلاماً يقرُب مأخذه من الفقه إلا الصيدلاني، فإنه رمز إلى ما يكاد أن يكون فقهاً، فقال: الطلاق إلى

_ (1) في الأصل: والرعاية.

الزوج تجنيسه وتصنيفه، بدليل أنه إن أوقعه رجعياً، كانت المرأة على عُلقة من الزوجية واضحة، وإن أوقعه على وجه البينونة، فالأمر إليه، وإن أوقعه قبل المسيس تعلقت البينونة، وهذه الجهات مضافة إلى تصرف الزوج بالتفهيم (1) والتأخير واستبقاء العود والإنفاء منه، فيجوز أن يقال: إذا طلقها مبيناً وهي حامل، فقد اختار استبقاء استعمالها في مقصود النكاح وعُلقته، فتجب النفقة لها، وإن كانت بائنة، وأما الفسخ، فلا انقسام فيه حتى يضاف إلى إيثار الزوج، ولا يقع الفسخ إلا [باتَّاً] (2) مبيناً. وهذا تخييل لا تحصيل وراءه عندي، ولكن لم يختلف الأصحاب في إيجاب النفقة للبائنة بالطلاق الحامل، ورددوا القولين في المفسوخ نكاحها، وما أطلقوه من المسائل في المملوكة، والزوج المملوك ففيها قياسٌ جارٍ على حالٍ. وإنما الغموض في محاولة الفرق بين البينونة الحاصلة بالطلاق وبين البينونة الحاصلة بالفسخ، والذي أراه في المسائل إذا غمضت مآخذها وضاقت مداخلها ومخارجها أن أرجع إلى القانون الذي [عوّل] (3) عليه الصاحب (4)، وقد لاح إلى أن معتمده القرآن، ولولا تنصيص الكتاب على إثبات النفقة للحامل، لقلنا من طريق القياس: في البائنة المطلقة الحامل قولان مبنيان على أن النفقة للحمل أو للحامل، ولو جرينا على المسلك الحق، لأوجبنا النفقة لكل حامل، تجب النفقة على صاحب الحمل إذا انفصل الحمل لاستعمال المرأة بالاستقلال بالحمل، ولكن الشافعي رأى النفقة ثابتة للحمل، والآيات مسوقة في الطلاق، والطلاق ثابتٌ على الإطلاق من غير فرق بين المبين منه وبين الرجعي، فلا معول إلا على نص الكتاب. والمفسوخ نكاحها ليست مطلّقة، وحكم الفسخ يمتاز عن حكم الطلاق في

_ (1) كذا. ولعلها (بالتعجيل) أو (بالتقديم). (2) في الأصل: إلا باقاً مبيناً. (3) في الأصل: عود. (4) الصاحب: المراد به الإمام الشافعي إمام المذهب.

وجوه، فلم يبعد أن يُردَّ الرأي في الفسوخ إلى النظر، ويخصص وجوب النفقة للمطلَّقة بحكم القرآن. وقد ينقدح وجه آخر، وهو أن الفاسخة هي التي تسببت إلى رفع النكاح، ولذلك سقط مهرها قبل المسيس، وقد تمهد أن فسخ الزوج بعيبها كفسخها بعيبه، فيجوز أن يستعمل هذا في قطع الفسخ عن الطلاق، من غير أن نلتزم إبداء معنىً في استحقاق المطلقة، فهذا ما أردنا ذكره. 10156 - ومما يتعلق بذلك أن كلَّ انفساخ يشابه الطلاقَ في اقتضاء التشطير، فهو في معنى الطلاق باتفاق الأصحاب، وذلك كارتداد الزوج؛ فإن النكاح وإن كان ينفسخ به، فالصداق يتشطر، وسبيله كسبيل الطلاق، وارتدادها بمثابة إنشائها الفسخ فليتخذ الناظر ما ذكرناه معتبراً. 10157 - وإذا لاعن الزوج عن زوجته [وانبتَّ] (1) النكاحُ، فإن كانت حائلاً، فلا شك أنها لا تستحق النفقة. وأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو الزوج: إما أن ينفي الحمل باللعان -إذا رأينا نفيه - وإما ألا ينفيه، فإن لم ينف الحمل، [ولحقه] (2) النسب، فهذا نكاح انفسخ، ونسبُ الحمل لاحق، وقد اختلف أصحابنا في هذا الانفساخ، على طريقين: فمنهم من ألحقه بفسخ الرجل النكاحَ بعيبٍ فيها، حتى يخرَّجَ على القولين، كما قدمناه في الفسوخ. ومنهم من ألحق ارتفاع النكاح بهذه الجهة مع لحوق الحمل بارتفاعه بالطلاق؛ من جهة أن الزوج إذا فسخ النكاح بعيبٍ فيها، فهي مسلِّمة أن الزوج يستحق سلامَتها عن العيوب. وأما اللعان؛ فإنه مبني على نسبة الزوج إياها إلى ما هي بزعمها متبرئة عنه، فلا يمتنع أن يكون اللعان من هذا الوجه كالطلاق. وهذا هو المذهب الصحيح، وإن جرى الاختلاف في هذا؛ وجب بحسبه التردُّدُ

_ (1) في الأصل: وأثبت. (2) في الأصل: ولحقها.

في أن فُرقة اللعان هل تشطِّر الصداق، فإن نظرنا إلى جانبها، وجب القضاء بالتشطر، وإن نظرنا إلى إثبات الزوج ما نسبها إليه بحجة اللعان، فهذا بمثابة تمهيد عذر يقطع فراق اللعان عن الطلاق، هذا إذا لم ينف الزوج الحمل ولحقه. فأما إذا نفى الحمل، فلا نفقة عليه أصلاً، فإن نظرنا إلى النسب، فهو منتفٍ عنه، وإن نظرنا إلى المرأة، فليست حاملاً عنه بولد منتسب إليه، فهي في حقه بمثابة [الحائل] (1)؛ فينتظم منه أنها لا تستحق النفقة قولاً واحداً. وهذا قد يعترض فيه إشكالٌ واقع، وهو أن الزوج إذا كان عبداً، وقد طلق امرأته الحامل طلاقاً مبيناً، فقد خرّجنا وجوب النفقة عليه على قولين، وقلنا: إن صرنا إلى أن النفقة للحمل، فلا نفقة على المملوك، وإن قلنا: النفقةُ للحامل، لزمته. فلو قال قائل: ما وجه إلزامكم إياه النفقة مع العلم بأنا وإن أضفنا وجوب النفقة إلى الحامل، فهي بسبب الحمل، وليس هذا الزوج المملوك مما (2) يلتزم نفقةَ المولود، فينبغي ألاّ يلتزمَ نفقةً بسبب المولود، فإن ذلك النسب وإن كان ثابتاً ينبغي أن لا يؤثر إذا كان لا يوجب النفقةَ فأي فرقٍ بين نسب ثابت لا يوجب النفقة وبين نسب منتفٍ باللعان، وهذا غامض جداً. أما قطعنا بسقوط النفقة في مسألة اللعان فمنقاس، وأما ترديد القول في الزوج المملوك، فمشكل، وكذلك القول فيه إذا كانت الزوجة مملوكة وكانت حاملاً [فولدها] (3) مملوك، ولكن النقل عن الأصحاب ما ذكرناه، ولعلنا ننعطف بالبحث انعطافاً [يوضح] (4) بعضَ الإشكال على حسب الإمكان. 10158 - وإذا انتهينا إلى اللعان، فنستتم ما ذكره الأصحاب فيه، فنقول: إذا نفى الحملَ ونفينا النفقة، فولدت المرأة، وأخذت تنفق على ذلك المولود، فإن انتماءه

_ (1) في الأصل: الحامل. (2) كذا، وقد ترد (ما) للعاقل. (3) في الأصل: فولد مملوك. (4) في الأصل: نوع بعض الإشكال.

إليها ثابت، فلو أن الزوج [أكذب] (1) نفسه، واستلحق الولد، فالولد يلحقه لا محالة، ثم يقع الكلام بعد هذا في النفقة التي أخرجتها المرأة. قال الأصحاب: ظاهر المذهب أن المرأة ترجع على الزوج بما أنفقته على المولود على اقتصادٍ، وهذا يخالف قياساً كلياً، من جهة أن من لم ينفق على ولده أياماً ظلماً وضيْعةً، فلا تصير نفقة الأيام الماضية ديناً عليه، بخلاف نفقة الزوجية، هذا هو المذهب الذي عليه التعويل، وسنذكر في بعض الصور خبطاً من بعض الأصحاب، وإنما جرياننا الآن على ما هو المذهب المعتمد. فإذا تمادى الزوج على نفي المولود بعد الانفصال، فأنفقت المرأة، فحكم ما أشرنا إليه من القياس [ألاّ تجد] (2) المرأةُ مرجعاً، ولكن سنذكر في نفقات القرابة أن الأم تملك الاستدانة على الأب في نفقة المولود، وهذا من ولايتها، كما سيأتي موضحاً بعد ذلك، إن شاء الله، فالذي أخرجته في تمادي الزوج محمول على سلطانها، فإذا اكذب الزوج نفسه، ثبت حق الرجوع. وذكر الشيخ أبو علي وجهاً أنها لا ترجع، وهذا يعتضد بالقياس الذي ذكرناه، وفي كلامه تشبيبٌ بأن الأم لا تملك الاستدانة على الزوج، وإن استدانت من غير مراجعة القاضي، لم تجد مرجعاً، وسنوضح هذا، إن شاء الله. وهذا القائل يقول: قول رسول الله صلى الله عليه: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " قضاء منه لها، وهو سيد السادة وقاضي القضاة، فإن طردنا هذا الباب، فلا كلام، وإن قلنا: للأم الاستقراض في الولد الملتحِق، فصاحب الوجه الضعيف في مسألة اللعان قد يقول: هي ما أخرجت النفقة لترجع بانية أمرَها على تكذيب الزوج نفسه، إذا كان الأصل ألا يُكْذِبَ [نفسه] (3) بعد اللعان، فإنفاقها محمول على التبرع بالإنفاق، وهذا المعنى لا يتحقق [في] (4) الولد الملتحق.

_ (1) في الأصل. كذب. (2) في الأصل: "أن تجد" وهو خطأ لا يستقيم الكلام معه. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: إلى.

10159 - ومما يتعلق بهذه المسائل أن الرجل إذا وطىء امرأة خليّةً عن النكاح بشبهة، وعلقت عنه بمولود، وزمانُ الحمل عِدتُها، [فقد] (1) قال الأصحاب: في استحقاقها النفقة على الزوج (2) قولان مأخوذان مما تمهد من قبل، وهو أن النفقة للحمل أو للحامل، فإن قلنا: إنها للحمل، فعلى الواطىء النفقة إذا كان ممن يستوجب نفقة القريب، وإن قلنا: النفقة للحامل، فلا نفقة لها؛ فإنها ليست في عُلقة نكاح. وهذا مشكل؛ من جهة أن الرجل إذا كان من أهل التزام نفقة الولد، فيجب القطع بالتزام نفقة الأم لقيامها بحفظ الولد، واستقلالها بحمله، كما نوجب عليه نفقةَ المرضعة والحاضنة بعد انفصال المولود، فهذا من مواضع النظر. 10160 - فقد أدينا ما بلغنا من قول الأصحاب في محل الوفاق والخلاف، ونقلنا ما ذكروه على تثبت، وهذا أوان الانعطاف على ما سبق، ونحن الآن نذكر مسلكين: أحدهما - في ضبط المسائل وترتيبها بعقدٍ جامع، والآخر - في تتبع العلل على مبلغ الوسع. أما الترتيب فنقول: الكلام في الحامل: فإن لم ينتسب الحمل كما قدمناه في الحمل المنفي باللعان، فلا نفقة أصلاً، وإن كان منتسباً إلى الزوج، وهو ممن يلتزم (3) نفقة الولد [والفراقُ] (4) طلاق، فهذا موضع القطع بوجوب النفقة. وإن انتسب الولد والزوج ممن لا يلتزم نفقتَه منفصلاً والفراق طلاق، فقولان، وهذا يشمل صورتين: أمة حامل بولدٍ مملوك، والزوج حر، وحرة حامل والزوج مملوك.

_ (1) في الأصل: ثم قال الأصحاب. (2) على الزوج: أي الزوج الذي خلاّها. (3) قيّد بمن يكون من أهل الالتزام بالنفقة، ليخرج المملوك مثلاً، فإنه ليس من أهل التزام النفقة لولدٍ ولا قريبٍ كما سيذكر في الأسطر الآتية. (4) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

وإن كان ارتفاع النكاح بالفسخ الذي يُسقط المهر قبل المسيس، والولد منتسبٌ، والزوج ممن يلتزم نفقةَ المولود، فقولان. وإن كان الولد منتسباً والزوج ممن لا يلتزم نفقة المولود -كالصورتين في المملوكة والزوج المملوك- فالقطع بسقوط النفقة؛ لأن النفقة إن أتت، أتت من قبل الولد، فإن انتفت من جهته، فلا نفقة، بخلاف ما إذا كان الفراق بالطلاق. وفي الفراق الحاصل باللعان مع انتساب الولد وكون الزوج ممن يلتزم نفقة المولود الخلافُ الذي قدمناه، والواطىء بالشبهة إن كان ممن لا يلتزم نفقة المولود، لا يلتزم النفقة التي حُملت عنه، وإن كان ممن يلتزم نفقة المولود، ففي المسألة قولان. فهذا ترجمةٌ لما قدمنا مفرقاً. 10161 - ونحن بعد ذلك نفتتح حَلَّ ما يشكل على حسب الإمكان، والله المستعان فلنرجع القهقرى، ولنبتدىء بالواطىء بالشبهة، حيث أجرى الأصحاب القولين، فكان الوجه القطع بيجاب النفقة، لما نبهنا عليه، ولكن حاصل هذا الخلاف عندي يؤول إلى أن مَنْ منه الحمل، ولا علقة سواه، هل يلتزم مؤنتَه قبل وضعه؟ فيه قولان: أحدهما - أنه يلتزم، وقياس ذلك بيّنٌ. والثاني - لا يلتزمها؛ فإنه جزء منها ملتحق بها، ولا يثبت التزام مؤنته إلا إذا انفصل عنها، واستقل بنفسه، وهذا كما أنا لا نثبت على الأب إخراجَ فطرةِ حمل، ولا نوجب الزكاة في ماله -إن كان له مال- على الرأي الظاهر، ولا يجوز إعتاقه عن الكفارة، فهذا هو الوجه في تخريج هذا الخلاف، وأما النظر إلى الحمل والحامل، فلا يشفي الغليلَ في هذا المقام. وأما ما ذكرناه في المفسوخ نكاحُها، فهو يخرّج على هذا النَّسق؛ فإنها في نفسها -وقد بانت بالفسخ- لا تستحق النفقة لعلقة النكاح، فلا يبقى إلا النظر في الحمل، فالقولان يرجعان إلى أن مؤنة الحمل هل تجب على من ستجب نفقة المولود [عليه] (1) إن انفصل، وفيه ما بيّناه الآن من القولين. 10162 - وأما المطلَّقةُ المملوكةُ الحاملُ، والحرة المطلقةُ تحت العبد المملوك

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

أجرى (1) الأصحاب في وجوب النفقة على الزوج في المسألتين قولين، وكان ترتيبهم ما نقلناه عن الأصحاب، فنجدده، قالوا: إن قلنا: النفقة للحمل، فلا نفقة على الزوج في المسألتين؛ فإن ولد المملوكة مملوك، ونفقته على مالكه، لا على أبيه، وإذا كان الزوج مملوكاً، لم يلتزم نفقة ولده الحر. هذا إذا قلنا النفقةُ للحمل. وأما إذا قلنا: النفقة للحامل، والحامل مطلَّقةٌ في المسيس، فيجب على الزوج النفقة، وهذا مشكل؛ لأنها إن اعتبرت في نفسها، فهي بائنة، فكانت مع رفع الحمل من [البين] (2) بمثابة الحائل، ولو كانت حائلاً، لما وجبت النفقة، ولا يخرج قياس الكلام في هاتين الصورتين على القاعدة المقدمة في الموطوءة بالشبهة، والمفسوخ نكاحُها؛ فإنا قلنا: إذا أوجبنا على الوالد نفقة الولد عند الانفصال، فهل نوجب القيام بمؤنة الحمل وتربيته قبل الانفصال؟ فعلى ما ذكرنا من القولين، وهاهنا لا يجب على الزوجين نفقةُ الولد إذا انفصل قولاً واحداً، والبائنة في نفسها لا تستحق النفقة قولاً واحداً لو قدر انعدام الحمل، فلا مطمع في تخريج المسألتين على ما ذكرناه قبل. 10163 - ولو ظن ظان أنه ينقدح في هذا معنىً يعوّلُ على مثله في مجاري الأحكام، فظنه خائب، ورأيه غير [صائب] (3)، ولكن تثبت نفقة الحامل [المطلَّقةِ] (4) بنص القرآن؛ فإنه عز من قائل قال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فيثبت بالنص نفقةُ الحامل على الزوج، وليس في القرآن فصلٌ بين الزوج المملوك والزوج الحر. وليس في مساق الخطاب فرقٌ بين أن تكون المطلقة أمةً أو حرة، ولكن الظاهر

_ (1) جواب أما بدون الفاء، وهو لغة كوفية جرى عليها الإمام كثيراً. (2) في الأصل: "اليمين" والمثبت تقديرٌ من المحقق؛ فهذا اللفظ يستعمله في مثل هذا السياق غالباً. (3) في الأصل: غير صاحب. (4) في الأصل: المطلق.

إجراء ظاهر الخطاب على المعتاد الغالب، وتوجيهُ الخطاب على الأزواج بالإنفاق من الوُجد يصرِّح بوصف الأحرار، ومخاطبةُ الحرائر بملازمة مسكن النكاح، ورفع الحجر عنهن بطريق المفهوم عند انقضاء آماد العِدد، يدلى على أن الكلام منزّل على الحرائر، كيف والشافعي يرى الإماء مستثنيات عن قاعدة النكاح، وعلى ذلك بنى مسائله في منع الحر القادر على طَوْل الحرة من نكاح الأمة، فظهر أن الآيات منزلة على الحرّ مطلِّق الحرة. ثم اعترضت المسألتان: إحداهما - في المملوك يطلق الحرةَ الحاملَ، والأخرى - في الحر مطلِّقِ الأمةِ الحامل، فتردد فيهما الكلام؛ من حيث إنه ليس في القرآن نص على الحرّ والحرّة، وإنما الذي ذكرناه إجراء على غلبة الاعتياد، وتحويمٌ على تلقٍّ من قرينة، فأمكن إجراء النفقة، حتى كأنها نفقة النكاح، وعارض هذا ما أشرنا إليه من القرائن، وبعُدَتْ المسألتان من جهة سقوط نفقة الولد عن كونهما في معنى الحر مطلِّقِ الحرةِ الحامل، فكان التردد مأخوذاً من هذا المأخذ، من غير تمسكٍ بطردِ معنىً وعكسه. 10164 - فهذا ما نراه، [ولا يستدّ] (1) على قوانين الشافعي [غيرُه] (2)، فلتقع المسائل التي ذكرها الأصحاب [نوعين] (3): أحدهما - يشتمل على ما يدار على نفقة المولود، وهو مسألة الواطىء بالشبهة ومسألة المفسوخ نكاحُها، والنوع الثاني - يشتمل على الحر مطلِّق الحرة، وهو منصوص عليه في القرآن قطعاًً، والمسألتان الأخريان في الحرِّ مطلِّق الأمة الحامل [والمملوكِ] (4) مطلِّق الحرة الحامل مردَّدتان في الإلحاق بالحر مطلّق الحرة على النسق الذي ذكرناه، من غير تمسك باعتبار نفقة الولد.

_ (1) في الأصل: ولا يستمرّ. وهو تصحيف تكرر كثيراً. ومعنى لا يستذ: أي لا يستقيم، وهذا اللفظ معهود في لغة الإمام كثيراً. (2) في الأصل: عنده. (3) في الأصل: " فلتقع المسائل التي ذكرها الأصحاب لو عين ". وهو تصحيف مضلل. (4) في الأصل: المملوك (بدون الواو).

وهذا ليس أمراً نتكلفه، ولكنه تصرف في لُباب مذهب الشافعي واقتصاصٌ لآثاره في بناء مسائل الباب على الآية، وبها صدّر أولَ مسائل الباب. وقد نجز بهذا المسلكان الموعودان في الترجمة والمباحثة [ورَدُّ] (1) المسائل إلى قواعدها. 10165 - ونحن بعد ذلك نذكر قاعدةً تلتحق بالأصول، وتقع تتمةً لها، ونذكر ما يتصل بها، ثم نختتم الكلام بمسائلَ بعضها منصوصة، وبعضها نجريها فروعاً، فنقول: إذا أوجبنا النفقة للحامل: إما في جمورة القطع، وإما على أحد القولين في صور الخلاف، فقد أطلق الأئمة وراء ذلك قولين في أنا هل نوجب تعجيل النفقة إذا ظهرت أمارات الحمل، أم نقول: لا يجب تعجيلُها، ونتوقفُ، وقد يكون ما نتخيله ريحاً فتنفُشُ، فإن وضعت الحملَ، أوجبنا حينئذ نفقةَ زمان الحمل؟ أحد القولين - أنه يجب التعجيل، والقول الثاني - أنه لا يجب التعجيل، وبنى الأصحاب هذين القولين على قولين اشتهر ذكرهما في أن الحمل هل يُعرف؟ وقالوا: إن قلنا: الحمل لا يعرف، فلا يجب التعجيل، وإن قلنا: الحمل يعرف، فيجب التعجيل في الحال. وهذا عندي اكتفاء بظاهرٍ من غير تشوّفٍ إلى درْك حقيقة؛ فإن القول لا يختلف في أن الحمل لا يُقطع به، ولا ينكر أحدٌ كونَه مظنوناً، ثم لا ينكرون أن الظنون تتفاوت: فهي على حدٍّ في أوائل العلامات، وإذا توافت، ورَبَا البطنُ، وانضم إلى الرّبُوّ اختلاجُ المولود، فهذا يكاد يقرب من اليقين، فكيف يسوغ إطلاق القول بأن الحمل [هل] (2) يعرف؟ نعم، إذا بدت العلامات، فقد نقطع في بعض الأحكام بتقدير الحمل، وقد نتردد في بعضها، ومواضع القطع تتميّز عن مواضع التردد بطرق فقهية، وقد ألحق الأصحاب هذا الحكم الذي فيه نتكلم بمواضعِ التردد. ونحن نُجري ما ذكره الأصحاب بطريق توجيه القولين، فنقول: من لم يوجب

_ (1) في الأصل: ويردّ. (2) زيادة اقتضاها السياق.

التعجيلَ، قال: النكاح منبتٌّ، ولقد كان سبباً لإيجاب النفقة، فزال، ولم يتحقق الحملُ، والأصل براءةُ الذمة، فلا وجه للمصير إلى تنجيز النفقة إيجاباً. ومن نصر القول الثاني، وهو الأصح، بل حُكم أصل الشافعي القطعُ بإيجاب التعجيل؛ فإنه تلقى وجوبَ النفقة من ظاهر القرآن، وقد قال عز من قائل: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فصرّح الخطابُ باستفتاح الإنفاق وامتداده إلى وضع الحمل، ومن أخر الإنفاق، فهو في حكم المخالف لنص القرآن، وهذا المسلك في التمسك بظاهر القرآن يضاهي تعلُّقَنا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الدية المغلّظة: [إذ قال] (1): " وأربعون خلفة في بطونها أولادها " فاقتضى فحوى قول المصطفى الحكمَ بتقدير الأجنة في بطون الأمهات إذا ظهرت العلامات، فكان الحمل في هذا في حكم المعلوم المقطوع به. ويتأيد هذا القولُ بمسلكٍ آخر عليه ابتناءُ النفقات، وهو أنها لو أُخرت النفقة عنها قد تتضرّر، وقد يُفضي الأمر إلى الإجهاض، فلا يليق بمحاسن الشريعة تجويزُ تأخير الإنفاق، والغرض من الإنفاق تربية الحمل. فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه من التعلق بالقرآن والمعنى مرتفعٌ عن درجة الظنون؛ فأي متعلَّقٍ يبقى للقول الآخر؟ قلنا: لعل ذلك القائل يجعل فحوى الخطاب في الكتاب لتقدير مدةِ النفقة لا للتعجيل، وليس هذا كقوله عليه السلام في الديات: " الأربعون خلفة "؛ فإنه قال: " في بطونها أولادها " فإن الأولاد إذا انفصلت، وصارت فُصلاناً وأَحْوِرة (2)، فليست هي خَلِفات، وليس في بطونها أولادها، فلا يتطرق إلى ذلك إمكان التأويل، ولو انفصلت أولادُها واستُحِقت تابعةً، [لزاد] (3) العدد على المائة بخلاف ما نحن فيه. وأما إفضاء تأخير الإنفاق إلى إهلاك الجنين، فليس بذاك؛ فإنها ستنفق من مال نفسها، وإن لم تجد، لم تضِع في وضع الشرع،

_ (1) في الأصل: أن قال. (2) الفصلان والأحورة: جمع فصيل وجمع حُوار، وهما من أسماء الإبل في أول عمرها. ثم هي في الأصل (أجورة). (3) في الأصل: أراد العدد.

ويؤول الكلام إلى الرجوع والاسترداد عند تبيُّن الأمر. ولسنا ننكر -مع هذا التكلّف- أن الأصح تعجيلُ النفقة. وفيه دقيقةٌ سيأتي التفريع عليها -إن شاء الله- وإذا انتهينا إليها، نبّهنا على بديعةٍ هي سر المذهب. التفريع على القولين: 10166 - إن قلنا: يجب تعجيلُ الإنفاق، فإن أنفق، لم يخل: إما أن يَبِينَ أنها حامل، وإما أن يَبِين أن ما بها ريحٌ [قد نَفَشت] (1). فإن بان أنها حامل: فقد وقعت النفقة موقعها، ويجب على الناظر أن يعلم أنا لا نوجب استفتاح الإنفاق ما لم تشهد نسوةٌ من ذوات الخبرة على كونها حاملاً، وإنما خصصناهن بالذكر لمسيس الحاجة إلى الاطلاع على ما لا يظهر إلا في وقت الحاجة من النساء، ولا ننكر إحاطة الرجال بذلك. فلو جئن وقلن: إنها حامل، وهن أثبات، فذاك، وإن قلن: لا سبيل إلى القطع بذلك، ولكن توافت علاماتُه، فهل يثبت الحمل بهذا أم لا؟ هذا فيه تردد عندي: يجوز أن يقال: لا بد وأن يَجْزِمْن إقامةً لمراسم الشهادات المقامة في مفاصل الخصومات، وهذا كما أن الشهود يجزمون شهاداتهم بالملك، وإن كانوا على القطع لا يستندون إلى ما يقتضي العلمَ، ولو أبدَوْا ترددَهم، بطلت شهادتهم، فلتكن شهادات النسوة على الحمل بهذه المثابة. ويجوز أن يقال: إذا أخبرن بحقيقة الحال، كفى ذلك، وهذا يمكن تقريبه مما ذكر من أن الحمل هل يعلم؟ حتى تكون فائدة هذا أنا هل نكلّف الشهود [الألفاظ] (2) المشعرة بالعلم أم يكتفى بما يدل على الظنون الغالبة، ومن يكتفي بما يدل على الظنون الغالبة يستشهد بشهادة العدل الرضا الذي هو من أهل مخالطة الرجل على الإعسار، فإنه لو قال: خبرت ظاهره وباطنه، فظهر لي إعساره، ولا أعلم له مالاً، فقد يُكتفى

_ (1) في الأصل: فرا نفشت. (2) زيادة اقتضاها السياق، وساعد عليها معنى كلام ابن أبي عصرون.

بهذه الصيغة في إثبات الإعسار. وكذلك إذا شهد الشاهد حَصْرَ الورثة، فيكفي أن يقول: لا أعلم له ورثة سوى هؤلاء. وأما الشهادة على الملك، فيعسر الانفصال عنها، ولكن حقيقة الملك ترجع إلى ملك التصرف، ومن تحقق عنده تسلط إنسان على تمادي الزمان من غير ظهور منازع، فيمكن أن يحكم له بملك التصرف، ولا معنى للملك -وإن جزم- إلا الاقتدار على التصرف. فهذا ما أردنا أن نذكره. وحقائق القول في مراتب الشهادات وخواصها ستأتي في موضعها، إن شاء الله. هذا إذا أوجبنا عليه تعجيل النفقة. 10167 - فلو أخذ في الإنفاق فأَجْهَضَت المرأةُ جنينَها بعد بُدوّ التخليق والتخطيط، فالنفقة واقعةٌ [موقعها] (1) وإن لم ينفصل الحمل حياً، وذلك أنا نوجب كفاية الحمل، ولا ننظر إلى خروجه حياً، فإن اتفق إجهاضٌ لعارضٍ عرض، فتلك المؤنة مصادفةٌ حقها. فأما إذا بأن أنها لم تكن حاملاً، وقد أنفق الزوج على تقدير الحمل، فهذا موضعٌ يتعين صرف الاهتمام إليه، والغرض منه تفصيل القول في أن الزوج هل يرجع فيما أخرجه قائلاً: قد أنفقت على ظن الحمل، فإذا بأن أن لا حمل، ولا نفقة للبائنة الحائل، فأسترد ما أنفقته: سبيل الكلام في ذلك أن الزوج إذا كان يرى تعجيلَ النفقة قبل وضع الحمل مستحَقاً؛ فإنه يرجع إذا بان عدمُ الحمل، وكذلك إذا كان لا يرى التعجيل مستحقاً، ولكن ارتفعت الواقعة إلى مجلس حاكم يعتقد إيجابَ التعجيل، فإذا ألزمه التعجيل، فاتّبع إلزامَه وارتسم أمره، ثم تبين انتفاء الحمل، فيثبت الرجوع. هذا إذا فرعنا على قول إيجاب التعجيل. 10168 - وأما إذا فرعنا على القول الآخر، وقلنا: لا يجب الإنفاق ما لم تضع

_ (1) في الأصل: " موتها ". وهو تصحيف قريب إدراكه.

المرأة الحملَ، فيتفرع على هذا القول أمران: أحدهما - تتمة فصلٍ ابتدأناه والأوْلى تقديمُه، وهو أن الزوج إذا عجل النفقة على قولنا لا يلزمه التعجيل - وكان لا يعتقد هو في نفسه وجوب التعجيل، ولم يحمله قاضٍ عليه، ولكنه تبرع، فعجّل، فإن بان أنها حامل، وقع ما عجله موقعه، وإن بأن أنَّهَا حائل، ففي هذا اختباط الأصحاب، ونحن نجمعه مع ما قدمناه في ضبط حاوٍ، إن شاء الله. فنقول: كل من أخرج مالاً على اعتقاد أنه واجب عليه في الحال، ثم تبين أنه لم يكن واجباًً عليه، فله الرجوع فيه، بلا خلاف، سواءٌ ذكر الجهةَ التي أخرج المال فيها أو لم يذكرها وأطلق الإخراج، فلو أدى إلى إنسان مالاً على ظن أنه يَستَحِقُّ عليه دَيْناً، ثم بأن أنه لا يَستحِق عليه شيئاًً، فيسترد ما دفعه إليه، وإذا كان للرجل مال غائب، فحسب بقاءه، وأخرج زكاتَه بعد حولان الحول، ثم تبين أن ذلك المالَ هالكٌ، فالذي أخرجه يسترده، فإنه أخرجه على قصد الوجوب، ثم تبين أن الزكاة ليست واجبةً عليه. ولو كان يتوقع وجوباً، فعجل قبل تحقق الوجوب، ثم لم يثبت الوجوب المنتظر، فهل يرجع فيما أخرجه؟ هذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يكون وقوع الوجوب متأخراً لا يستند إذا ثبت إلى الحالة الراهنة، وقد لا يقع الوجوب في الاستقبال، وهذه كالزكاة تعجل قبل حلول الحول، فالزكاة تجب عند انقضاء الحول إن توافت الشرائط، فإذا فرض التعجيل، ثم امتنع وجوب الزكاة، فهل يملك الرجوع فيما قدمه؟ [ذكرنا] (1) تفاصيلَ موضحةً في باب التعجيل من كتاب الزكاة، لا نجد بدّاً من رمزٍ إليها، وإلى تراجمها: فإن قال عند الإخراج: هذه زكاتي المعجلة فإن لم تجب، رجعتُ فيها، فله الرجوع. وإن قال: هذه زكاة مالي المعجلة، ثم لم تجب الزكاة، ففي الرجوع كلام، والظاهر الرجوع.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

وإن قال: هذا صدقة مالي أو زكاة مالي، ولم يقيّد بالتعجيل، ثم تبين الأمر، ولم تجب الزكاة، ففي ثبوت الرجوع خلاف مرتب، وهاهنا أولى بأن لا يثبت الرجوع. ولو أطلق الإخراج، ولم يتعرض لذكر شيء، فالظاهر هاهنا أنه لا يرجع، وفيه خلاف. فإذا تبينت هذه المراتب في هذا القسم، ابتدأنا بعده القسم الثاني، وهو مقصودنا، فإذا عجل النفقةَ، فلو تبين الحملُ، لترتب عليه أن النفقة أُخرجت في وقت وجوبها، فإن الوجوب يستند (1)، وإنما لا نوجب التعجيل على هذا القول الذي نفرع عليه، لأنا لسنا نتبين الحمل، ولا نرى الإخراج من غير ثبت. 10169 - فإذا تُصوِّر هذا القسم وتميز عن القسم المذكور قبله، فنذكر ما أرسله الأصحاب فيه، ثم نوضّح الأصل الذي عليه التعويل. قال الأصحاب: إن عجل النفقة، وشرط الرجوع، ثم بان انتفاءُ الحمل، رجع. وإن لم يشترط الرجوع، ثم بان انتفاء الحمل فهل يرجع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع؛ لأنه أخرجه على تقدير الوجوب، فإذا بان أن لا وجوب، ثبت له حق الرجوع، كما لو دفع مالاً إلى إنسان، وهو يعتقد أنه يستحق عليه دَيْناً، ثم بان أنه لا حقّ له، فالباذل يرجع. والوجه الثاني - أنه لا يرجع؛ لأنه متبرع بالإخراج في الحال، فإن لم يثبت الوجوب، حمل ما أخرجه على التبرع، وما قدمناه من المراتب في الزكاة المعجلة لا حاجة إلى ذكرها هاهنا؛ فإنها تَعلم أن النفقة تأتيها من قِبل ظن الحمل، والعلم (2) في هذا بمثابة الزكاة، والمسكين إذا جاءه مال عن ذي ثروة، فيجوز أن يكون متصدقاً عليه على سبيل التطوع، فالتفصيل الذي لا بد منه هاهنا ما ذكرناه من شرط الرجوع والسكوتِ عنه. هذا ما تمسّ الحاجة إليه في هذا القسم.

_ (1) يستند: أي يقع مستنداً إلى تحقق الحمل الذي لم يكن محققاً وقت إخراج النفقة. (2) أي علم الزوجة التي تتلقى النفقة يكون بمثابة المسكين الذي يتلقى الزكاة.

10170 - والسر الموعود الذي به بيان التفاصيل أن من أعطى على اعتقاد الوجوب وظنِّ توجّه الطَّلِبة، ليس يخطر له التبرع بوجهٍ، فلا جرم إذا لم يقع عن الجهة المعيّنة، فلا وجه إلا الاسترداد؛ فإن الرجوع إلى قصد المعطي، فإذا جرّد قصده وحملَه على عقدٍ لا تردد فيه عنده، ثم بان بطلانُ القَصْد، والعَقْدِ، فيبقى مجرد البذل، ومجرد البذل لا يملّك القابض؛ إذ تسليم المال يقع على وجوهٍ، والمملّك منها بعضُها، فإذا بطل ما قصد، ولم يثبت مملِّك، وصورةُ الإقباض لا تملّك، فلا يخفى ثبوت الاسترداد. واستدل الأصحاب على هذا مع وضوحه بحديث أُبي بنِ كعب، قال رضي الله عنه: كنت آتي بعضَ الأنصار، فأقرئه وأعلِّمه القرآن، فأعطاني قوساً، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه، وقصصت عليه القصة، فقال عليه السلام: " أتحب أن يقوّسك الله بقوس من نار؛ فقلت: لا، قال: فارددها " (1) وقد يستدل أصحاب أبي حنيفة بهذه القصة إذا قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهذا لعدم إحاطتهم بمعنى الحديث؛ فإن أُبيّاً رضي الله عنه، ما كان يعلّم الأنصاري بأجرة، وإنما كان يتقرب إلى الله بتعليمه، فظن الأنصاري المتعلم أنه يستحق عليه أجراً، فأعطاه القوسَ ظاناً أنه باذلٌ حقاً عليه، فلما اطلع رسول الله على حقيقة الحال أمره بردّ القوس؛ فإنه لم يقع حقاً مستحَقّاً على ما ظنه الأنصاري، ولو كان الأنصاري متبرعاً، فالتبرع [غيرُ] (2) مردود باتفاق المذاهب. هذا إذا اتحد القصد والعَقْدُ، ثم بأن خلافه. 10171 - فأما إذا علم الباذل أنه لا حق عليه في الحال، وكان لا يتوقع وجوباً في المآل، وهو فيما بذله على قصد تعجيله، فبذْلُه تبرع، فإن كان هبة، فقد نقول:

_ (1) حديث أبي بن كعب أنه علم رجلاً القرآن ... الحديث. رواه ابن ماجه (التجارات) باب: الأجر على تعليم القرآن، ح2158، والبيهقي في الكبرى (6/ 126) من رواية عبد الرحمن بن سلم عن عطية الكلاعي عن أبي به. وقد أعل الحديث بوجهين، أطال الحافظ في مناقشتهما (ر. التلخيص: 4/ 13 ح1849). (2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.

لا حاجة إلى اللفظ فيه إذا لم يكن معتاداً، وقد نُحْوَج إلى اللفظ فيه على [ما] (1) تمهد في كتاب الهبات. وإن قصد الصدقة [فالرأي] (2) الظاهر أنه لا حاجة إلى اللفظ، ثم لا رجوع [في] (3) الصدقة. وإذا كان لا يجب إخراج شيء في الحال، فأخرجه على قصد أن يكون عما سيجب، فللأصحاب تردُّدٌ وتفصيل في أن الزكاة إذا لم تجب في المآل، فهل يملك هو الرجوع؟ وسبب هذا التردد أنه يملِّك ذلك القابض، ويبعد تنجيز الملك عن واجبٍ، ولا واجبَ، وإذا ثبت للقابض تصرفُ الملاك ناجزاً، فليتنجز له مملّكٌ، وإنما يتحقق هذا بأن يقال: إن وقع عن الواجب فذاك، وإلا وقع عن جهة أخرى مملّكة؛ فإن القابض ليس مستقرضاً، فإذا أعطى المعجّل عن خِيَرة وتسلط [القابض] (4) على التصرف في الحال، أثبت هذا منعَ الرجوع على تفاصيلَ عند بعض الأصحاب. فهذا هو الذي أوجب تردد الأصحاب، وإذا قيّد بالرجوع، رجع، وهو يوهي التعليل الذي ذكرناه من تنجيز التسليط على التصرف، ولكن إذا قيَّدَ، لم يُبق إمكاناً، وحمل جوازُ تصرف المسكين على الحاجة الحاقّة الناجزة، وعليها بناءُ الاستحثاث على التعجيل. وأما تعجيل النفقة في مسألتنا، فالرجوع فيه أولى وأقرب؛ لأن الوجوب يستند إلى حال الإخراج إذا بان الحمل، وكلما كان الوجوب أظهر وأوقع، كان الرجوع إذا لم يتحقق الوجوب أوْلى. ثم إذا كنا نثبت الرجوع، فجواز تصرّف المرأة محمول على حاجتها الناجزة، كما ذكرناه في تعجيل الزكاة، ولا حاصل لقول من يقول: قد تكون موسرة بمال نفسها؛

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: بالرأي. (3) في الأصل: إلى. (4) زيادة اقتضاها السياق.

فإنّ قبضها ما يُستَحَق وتصرفها فيه وإن كانت مستغنية عنه بمثابة قبض المسكين حقَّ نفسه. فهذا بيان هذه المنازل. 10172 - وقد يعترض على الترتيب الذي نظمناه شيء، وهو أن من أخرج زكاةَ ماله الغائب بعد انقضاء الحول، على ظن بقاء المال، فالقاعدة التي استثنيناها تقتضي القطعَ بثبوت الرجوع في هذه الحالة؛ فإن مُخرج الزكاة مُجَرِّدٌ قصدَه إلى جهة الوجوب ظانٌّ أن الزكاة واجبة منتجزةٌ في الحالة الراهنة، ولكن ذهب طوائف من الأصحاب إلى ترديد القول في أنه هل يملك الرجوع، وهذا يكاد يخرِم ما ذكرناه، ووجه ما ذكره هؤلاء أنا لا نوجب عليه إخراج الزكاة عن ماله الغائب ما لم يكن على تحقُّقٍ من بقائه، فلعل الترددَ في الرجوع محمولٌ على هذا، ووجه القياس إثباتُ الرجوع بخلاف تعجيل الزكاة، وبخلاف تعجيل النفقة فيما نحن فيه. هذا تمام المراد في أحد المقصودين، وهو أنه هل يملك الرجوعَ إذا عجل وقلنا: لا يلزمه التعجيل، ثم بأن أنْ لا حمل. 10173 - فأما المقصود الآخر فنقول: مبنى نفقة القرابة على السقوط بمرور الأيام، كما سيأتي شرح ذلك في نفقة القرابة -إن شاء الله- فإن قلنا: النفقة للحامل، ظهر إلحاقها بنفقة الزوجية، وهي لا تسقط بمرور الزمن، وكذلك نفقة الرجعية، وإن قلنا: النفقة بحال وجوبها على الحمل، ثم قلنا: لا يجب التعجيل، فإذا وضعت حملَها، لم يختلف الأصحاب -حيث انتهى التفريع إليه- أنه لا تسقط النفقة بمرور زمان الحمل، وإن كان الوجوب تبيّن مستنداً إلى ما تقدم، وذلك أنا لو أسقطنا النفقة بمضي الزمان، وقلنا لا يجب تعجيل الإنفاق إلى الوضع، فهذا إسقاط النفقة قصداً، فيتعين القطع بأن النفقة لا تسقط بمضي زمان الحمل، وإن قلنا: النفقة للحمل. وأما إذا أوجبنا تعجيلَ الإنفاق كما (1) بدا الحمل ووضحَ بطريق وضوحه، فإن

_ (1) كما: بمعنى عندما.

قلنا: النفقةُ للحامل، لم تسقط بمرور الزمان، حتى لو أخرها، ولم يخرجها حتى وضعت المرأة الحملَ- استقرت النفقة في ذمته دَيْناً. وإن قلنا: النفقة للحمل، وأوجبنا تعجيلَها، فلو أخرها حتى وضعت المرأة، ففي سقوط النفقة وجهان في هذا المنتهى، سنعيد ذكرهما من بعدُ، إن شاء الله. 10174 - ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل أنا إذا قلنا: النفقةُ للحمل، فلو كانت المرأة لا تكتفي بالمُدّ أو بالمدّيْن -والغرض تصوير حاجتها إلى مزيدٍ على نفقة الزوجية- فهل نزيد ترقّياً إلى الكفاية؟ اضطرب الأصحاب في ترتيب هذا الفصل: فقال قائلون: إن قلنا: النفقة للحمل، فالواجب الكفاية، زادت على حقيقة النكاح أو نقصت، وإن قلنا: النفقة للحامل، فوجهان: أحدهما - الكفايةُ مرعية، فإنا لو لم نكفها، لأضررنا بالحمل. والثاني - أنه لا مزيد على نفقة النكاح، وإن فرضنا إضراراً، كما أن الاقتصار على المُدّ قد يضرّ بها، ثم لا مبالاة بذلك. ثم إن كانت تكتفي بدون المدّ، فلا نقصان من نفقة النكاح، وإنما هذا التردّد على هذا القول في الزيادة. ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إذا قلنا: النفقة للحامل، فلا مزيد على مقدار النكاح، وإذا قلنا: النفقة للحمل، فهل تعتبر الكفاية أم يلزم التقدير؟ فعلى وجهين، وسبب هذا التردد أنا إذا قلنا: النفقة للحمل.، فلسنا نُخلي قولَنا عن رعاية حق الحامل، وإذا قلنا: النفقة للحامل، فلسنا نخلي قولَنا عن الالتفات على الحمل، وكأن الحمل في المطلّقة يُبقيها في عُلقةٍ تضاهي علقةَ الرّجعة في استحقاق النفقة. والعلم عند الله. ولم يختلف أصحابنا في أن المرأة إذا حملت في صلب النكاح، لم نزدها على مقدّر النكاح شيئاً، والتردد الذي ذكرناه في حالة البينونة، فإنَّ عصام النكاح قد زال، فعظم النظر في الولد، فهو المتعلَّق. وإذا كان النكاح قائماً، فلا مزيد على حق النكاح، وإن خطر لناظرٍ أنها ازدادت بالحمل إقلالاً له واستقلالاً به، فكأنها منكوحةٌ حاضنة، فهذا فقهٌ على حال. ولكن

لم [يعتبره] (1) أحدٌ من الأصحاب؛ فإن الحمل لا يمكن اعتباره على حياله، ومنه التفّ أحد القولين بالثاني في أن النفقة للحمل أو للحامل. وهذا نجاز الكلام في هذا الفن الذي رأيناه قاعدةً في الباب، ولم يبق بعد نجازه إلا فصلٌ منصوصٌ عليه للشافعي تخبط المزني في فهمه، ثم في الاعتراض عليه، ونحن نذكره، ونبيّن وجهَ الصواب فيه، ثم نذكر بعده فروعاً متفرقة. فصل قال: " ولو كان يملك الرجعةَ، فلم تقر بثلاث حِيضٍ ... إلى آخره " (2). 10175 - والوجه أن نذكر مراد الشافعي ووجه الصواب حتى إذا انتهى الحظّ الفقهي، رجعنا إلى ظن المزني واعتراضه، وبيان خطئه. فلتقع البداية بتصوير المسألة: إذا طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، ومرّت عليها ثلاثةُ أقراء، ثم بدا بها حمل، ولو وضعت دون أربع سنين لَلَحِقَ الحملُ، ولاعتقدنا أن ما رأته من الدماء كانت في زمان الحمل، ثم التردد في أنها حيضٌ أو دمُ فساد، فلو لم تضع الحملَ حتى مضت أربعُ سنين على وجهٍ يقتضي الشرعُ نفيَه عن الزوج، فيقدّر العلوق به وراء الأقراء، ويُقضَى بانقضاء العدة بمضيها. هذا هو الأصل. فإن زعمت المرأة أن أقراءها انقضت في أربعة أشهر مثلاً، وما قالته محتمل، فتستحق النفقة لهذه المدة على زوجها، وإن اتهمها الزوج، حلَّفها، فإنهن مؤتمنات في أرحامهن، والرجوع في آماد العِدد إليهن. ولو قالت المرأة: لست أدري في كم انقضت أقرائي، فهي لا تخلو إما إن كانت على عادة معلومة في أدوارها، وكانت تعلم عادتَها، ثم جوزنا لما سألناها ازدياداً أو نقصاناً، فإن كان كذلك، فقد قال الأصحاب: لها النفقة أيام عادتها.

_ (1) في الأصل: لم يعتبر. (2) ر. المختصر: 5/ 80.

وإن زعمت أن عاداتها مضطربة، وكانت لا تعرف أقل عاداتها، فهي محمولة على أقل ما يتصور انقضاء الأقراء فيه، ولا تستحق النفقة إلا لأقلِّ زمنٍ يُتصور انقضاء عدتها فيه؛ فإن هذا القدرَ هو المستيقن، ولا متعلّق معنا من عادتها، حتى نتخذه أصلاً مرجوعاً إليه. ولو كانت تعرف أقل عاداتها، وكان ذلك أكثرَ من الأقل الذي وصفناه، فقد قال الأصحاب: ليس لها إلا نفقةُ أقلِّ عاداتها، ويحتمل أن يقال: إذا كانت عاداتها مستقيمة، ولم تدّع أن الأقراء جرت على حسب العادة التي ألفتها قديماً، بل ادعت الجهالة، فليس لها إلا نفقة أقل الأزمان؛ فإن هذا هو المستيقن، وهي ما ادعت مزيداً، فتُصَدَّق، وليست الأدوار وإن تكررت بعيدة عن الزيادة والنقصان، وهذا الوجه يجري إذا كانت عاداتها مختلفة، وكانت تعرف أقلّها، فيتجه أن لا نوجب لها إلا الأقلَّ الذي لا أقل منه؛ لأنها لم تدع، بل ردّدت قولها، وليس النقصان ولا الزيادة مستنكَرَيْن في أدوار الحيض والطهر. هذا فقه الفصل وبيانُ مراد الشافعي، وتفصيل الأصحاب على سَنَن الصواب. 10176 - وأما المزني، فإنه ظن أن الشافعي صور المسألة فيه إذا ادعت المرأة أن أقراءها [انقضت] (1) في زمان ذكرته، ثم قال: لا تُصَدّقُ فيه. فأخذ يعترض قائلاً: إنهن مؤتمنات في أرحامهن، فكيف لم نصدقها، واستشهد بالرجعة عند فرض التنازع في انقضاء العدة في كلامٍ يطول (2)، ولا حاصل لما جاء به؛ فإن اعتراضه غير واقع على تصوير الشافعي، فإنه رضي الله عنه صوّر الكلام فيه إذا لم تدع المرأة مدةً، وأبهمت قولَها، ثم تفصيل المذهب في اضطراب عاداتها واستقامتها كما ذكرناه. فأما إذا ادعت المرأة وقوع أقرائها في زمن ذكرته، فهي مصدّقة مع يمينها، لا خلاف فيه. هذا بيان مقصود الفصل.

_ (1) في الأصل: نقصت. (2) ما رأيناه في مختصر المزني إشارة عابرة إلى المسألة، وليس "كلاماً يطول" فهل ذكره المزني في جامعه الكبير مثلاً، أم في غيره (ر. المختصر: 5/ 80) لترى إشارة المزني الموجزة جداً.

فرع: 10177 - إذا طلق الرجل امرأته الحامل طلاقاً مبيناً، فنفقتها واجبة، كما ذكرناه، فلو مات الزوج في أثناء العدة، استكملت المرأة عدة الطلاق، ولم تنتقل إلى عدة الوفاة. قال ابن الحداد: إذا مات الزوج كما صوّرنا، سقطت النفقة في بقية العدة، لأنا إن قلنا: النفقة للحمل، فلا تجب نفقة القرابة في تركة الميت، وإن قلنا: النفقة للحامل، فهي في محل الحاضنة، ولا يجب مؤونة الحاضنة في تركة المتوفَّى. قال الشيخ أبو علي: الصّواب غيرُ ما ذكره ابنُ الحداد، فإن نفقة العدة وجبت لمكان الحمل دُفعة واحدة، والتحقت بالديون؛ فطريان الموت لا يُسقطها، واحتج على ذلك من جهة النص، بأن قال: نص الشافعي على أن [مؤنة] (1) سكناها في بقية العدة مأخوذة من التركة، وقطع قوله به، ثم ردد قوله في أن المتوفى عنها زوجها في غير هذه الصورة هل تستحق السكنى؟ فقَطْعُه القولَ بإثبات السكنى للمطلقة الحامل دليلٌ على أن ما يجب لها لا يسقط بطريان الموت. وهذا الذي ذكره الشيخ أبو علي من تغليط ابن الحداد إن كان من كلامه، فهو بعيد عن الصواب، والصواب ما ذكره ابنُ الحداد، وإن نقله عن الأحاب، فالأوجه ما ذكره ابن الحداد؛ وذلك لأن نفقة الحامل في العدة لا تجب دفعة واحدة، وإنما تجب يوماًً يوماً، كنفقة الزوجية، فإذا فرض الموت، فإيجاب النفقة ابتداءً على ميتٍ لحاملٍ بعيدٌ عن قياس المذهب، [وإنما] (2) وقع لهؤلاء ما وقع؛ من جهة أن النكاح ينقطع بالموت، فلو مات الرجل عن زوجته الحامل، فلا نفقة لها، لأن النكاح قد زال، ونفقة القرابة لا تجب في تركة ميت، وعِدة المطلقة لا تنقطع بالموت إذا كانت بائنة. فقال من خالف ابنَ الحداد: المعنى الذي أوجب النفقة قائم، لم ينقطع؛ لأن المرأة مستبرأة بها، والنفقة لا تجب لصورة العِدة، وإنما تجب للحمل أو لحضانة

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: أنا وقع لهؤلاء ...

الحمل، بدليل أن الحائل البائنة لا تستحق شيئاًً، [ولا] (1) وجه عندنا إلا ما ذكره ابن الحداد. فرع: 10178 - إذا وضعت المرأة حملها، وكان الزوج طلقها طلاقاً رجعياً، فاختلف الزوجان في تاريخ الطلاق، فللمسألة صورتان متعارضتان: إحداهما - أن الزوج لو قال: طلقتك بعد الوضع، فاستقبلتِ عدة الطلاق الرجعي، فلي الرجعة، وقالت المرأة: بل طلقتني قبل الوضع، فانقضت عدتي بوضع الحمل. قال الأصحاب: القول قول الزوج في أنه يلزمها استقبال العدة، وتثبت الرجعة في أمد العدة بعد الوضع؛ فإن الزوج هو المطلق، والمرأة تدعي عليه تطليقاً قبل الوضع، والقول قوله في نفيه، ولكن لا نفقة للمرأة، فإنها مؤاخذة في حق نفسها بقولها، وهي زاعمة أنها بائنةٌ حائل. الصورة الثانية - أن يقول الزوج: طلقتك قبل الوضع، فإذا وضعتِ، انقضت عدتك، فلا نفقة لك ولا رجعة لي، وقالت المرأة: بل طلقتني بعد الوضع، فنفقتي ثابتة، قال ابن الحداد: النفقة لا تسقط، فإن الزوج يدّعي سقوطها بوضع الولد، والأصل بقاؤها، ولكن لا رجعة له؛ لأنه مؤاخذ بقوله، وهذا ظاهر. ويتطرق إليه احتمال؛ من جهة أن الزوج يقول: أنا المطلق، وأنا أعرف بتاريخ الطلاق، فليكن الرجوع إليّ، وهذا ظاهر. ومن أحاط بالفصول التي ذكرناها في اختلاف الزوجين في كتاب الرجعة، لم يَخْفَ عليه ظهور هذا. فرع: 10179 - إذا نكح الرجل امرأة نكاحاً فاسداً، على ظن الصحة، وكان ينفق عليها، ثم تبين له [فساد] (2) النكاح، ومعلوم أن النكاح الفاسد لا يوجب النفقة للمرأة، فالذي رأيته للأصحاب أنه لا يرجع فيما أخرجه في نفقتها، وهذا يكاد يعترض على بعض أطراف الكلام في الفصل الجامع القريب منا؛ حيث [ذكرنا ما يَثبت

_ (1) في الأصل: فلا. (2) في الأصل: بفساد.

الرجوعُ به، وما لا يَثبت الرجوعُ به] (1) وذلك أن من قواعد ذلك الفصل أن من أخرج شيئاً على اعتقاد الوجوب، ثم بان عدم الوجوب، فإنه يملك الرجوع، والأمر كان كذلك في النكاح الفاسد. والذي اعتمده الأصحاب فيما قطعوا به أن قالوا: كان الزوج متسلطاً عليها في ظاهر الحال بناء على ظن الصحة، فوقعت النفقة على مقابلة سلطانه عليها ظاهراً. وهذا فيه إشكال؛ فإن ذلك السلطان كان منوطاً بظن وبحسبان، فإن [بان] (2) الأمر على خلاف ما حسبه، فليس يبعد عن الاحتمال أن يثبت له حق استرداد ما أخرجه، ولكن لم أر للأصحاب إلا القطعَ بأنه لا يملك الرجوع. وكان شيخي يقول: لو قال الناكح: [هذا الذي أقدمه أقدمه] (3) وأنا على اعتقاد صحة النكاح، فإن بان فساده، رجعت به، فلا يملك الرجوع إذا بأن الفساد. هذا ضمُّ إشكالٍ إلى إشكال، والاحتمال جارٍ، وجريانه في الصورة الأخيرة أظهر. والممكن في توجيه ما ذكره الأصحاب ضمّاً إلى السلطان الذي اعتمدوه أن العادات مطردة أن من ينكح، ويتسلط وينفق لا يضمر الرجوع، هذا ما عليه دأب الخلق، سواء بان الفساد أو الصحة، فهذا إذاً بذلٌ يقع متجدِّداً على وجهٍ لا يضمن الرجوعَ معه، وهذا إنما يجري إذا لم يقيَّد بالرجوع، والعلم عند الله. فصل 10180 - كان يليق بالفصل الذي جمعنا فيه القول فيمن يرجع بما ينفق وفيمن لا يرجع، وليس بعيداً عن هذا المنتهى، قال الصيدلاني: كان القفال يقول: من دفع

_ (1) عبارة الأصل: " حيث ذكرنا ما يثبت الرجوع به، إذا تبين الأمر بخلاف الظن، وما لا يثبت الرجوع به " وواضح ما بها من حشو وخلل. (2) في الأصل: ابتنى. (3) عبارة الأصل: " هذا الذي قدمته وأنا علي اعتقاد صحة النكاح " وسوّغ للمحقق هذا التصرف وهذه الزيادة، أن عبارة الأصل ليس فيها فرق بين الصورة الأولى. وهذه التي اشترط فيها الرجوع والسياق يشهد لهذا التعديل وهذه الزيادة. والله أعلى وأعلم.

إلى دلاّل [عَرْضاً] (1) حتى يبيعه، فباعه، فأجرته على الذي أمره، إن ذكر الأجر، وإن أطلق فعلى تفصيلٍ معروف مذكور في موضعه، ولا شيء على المشتري؛ فإنه لم يأمر الدَّلاَّل بشيء. والمسألة مفروضة هاهنا، فلو وهب المشتري شيئاً من الدلال على اعتقاد أنه يستحق عليه شيئاً، فله الرجوع فيما وهبه؛ [لأنه] (2) اعتقده واجباًً، فإذا بأن خلافُ [ما] (3) يعتقده، رجع. وهذا فيه نظر على حالٍ، لأن المسألة مفروضة فيه إذا وهب من الدلال، والهبة عقد تمليك، والظنون لا تغيّر مقتضيات العقود، ويمكن تخريج هذا على أن النظر إلى المقصود أو إلى [مقتضيات] (4) الألفاظ في العقود، فإن نظرنا إلى المقصود، فالكلام على ما ذكره القفال، وإن نظرنا إلى صيغة العقد، فالهبة مملّكة، فإذا اتصل القبض بها، فلا رجوع؛ إذ لا يرجع واهب فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لولده. ...

_ (1) في الأصل: عوضاً. (2) في الأصل: لا مما اعتقده واجباًً. (3) سقطت من الأصل، وزادها المحقق. (4) في الأصل: قضيات الألفاظ.

باب النفقة على الأقارب

باب النفقة على الأقارب قال الشافعي: " في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ... إلى آخره " (1). 10181 - نفقة القرابة ثابتة، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وروى أبو هريرة: " أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: معي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر. فقال: أنفقه على ولدك، فقال معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على خادمك، فقال: معي آخر، فقال: افعل ما شئت " (2) قال أبو هريرة: " ولدك يقول: أنفق عليّ، إلى من تكلني؟ وزوجتك تقول: أنفق عليّ أو طلقني، ويقول خادمك: أنفق عليّ أو بعني " ثم كان يقول: هذا من كَيْس أبي هريرة، وقال رسول الله صلى الله عليه لهندٍ: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". وأجمع المسلمون على ثبوت نفقة القرابة. ثم القرابة المقتضية للنفقة عند توافي الشرائط المرعية في وجوب النفقة هي البعضية عندنا على القُرب والبعد، فتستوجب [على] (3) الموسر -على ما سنصفه إن شاء الله - نفقةَ بعضه: دنا أو بَعُدَ، وتستوجب نفقةَ أهله: دنا أو بعد، ولا نظر مع قيام البعضية إلى اختلاف الدِّين، فيجب على الإنسان نفقة قريبه إذا كانت قرابتهما بعضية سواء كانا على دين واحد أو اختلف الدِّين بينهما، ولا يعتبر في استحقاق أصل القرابة الإرث، وإن كنا قد نرعاه في التفصيل وفي التقديم، على خلافٍ للأصحاب مشهور

_ (1) ر. المختصر: 5/ 81. (2) سبق تخريج هذا الحديث. (3) زيادة من المحقق.

سيأتي، إن شاء الله: فتثبت نفقة أبي الأم، وبنت البنت مع انتفاء الإرث. [وأبو حنيفة جعل الاستحقاق باجتماع الرحم والمحرمية] (1) ولم يخصصه بالبعضية (2)، ثم شرط في ثبوت النفقة بالقرابة التي ليست بعضية الاتفاق في الدين، ولم يشترط الاتفاق في الدين بين شخصين بينهما بعضية. فهذا هو الأصل. 10182 - ثم إذا أوجبنا نفقةَ الابن الصغير على الأب، فيشترط كونُ الابن معسراً، حتى لو كان في ملكه ما ينفق عليه، لم تجب نفقتُه على أبيه، ولا يشترط أن يكون عاجزاً عن الكسب، بل اتفق الأصحاب على أن استكسابه وإن كان يَرُدّ مقدارَ نفقته، فعلى [الأب] (3) الإنفاقُ عليه. وينشأ من هذا أصلٌ قد ينسلّ عن فكر الفقيه القيّاس، وبانسلال أمثالها تُظلِمُ أرجاء مسالك الفقه، وذلك أن الأب إليه استصلاحُ ولده، فلو رأى أن يحمله على الكسب، لم يبعد في النظر أن يجوز له، ولو جُوّز له ذلك، ففيه إسقاط النفقة معه، ولا ينتظم مع هذا إطلاقُ القول بأن النفقةَ تجب على الأب وإن كان الصبي المراهق كسوباً [فكيف التصرف في هذا؟] (4). أولاً - لا خلاف أن الأب لو أراد أن يعلّمه بعض الحرف لاستصلاح معاشه والنظرِ في عاقبة أمره، فله ذلك، وإذا علّمه حرفة، فكيف ينتظم في النظر له تعطيلها؟ وقد ينساها إذا تركها؟ وإذا كان يتجه هذا الرأي [وإعمالُه] (5)، فأيُّ معنى لإحباط منفعته؟ وإذا تجمع مما ذكرناه أنه يحمله على الاكتساب، فكيف يتسق مع هذا إيجاب النفقة على الأب للابن المحترف؟ ولو عمل، لرَدَّ بيومٍ قوت أيام. هذا وجه التنبيه على غامضة يجب إنعام الفكر فيها، وقد رأيت لبعض الأصحاب

_ (1) في الأصل: وأبو حنيفة على استحقاق باجتماع الرحم والمحرمية. (2) ر. مختصر الطحاوي: 224، فتح القدير: 4/ 419. (3) زيادة من المحقق. (4) عبارة الأصل: فكيف التصرف فيه في هذا. والمثبت تصرّف من المحقق. (5) في الأصل: إعماله (بدون الواو).

[أنه] (1) ليس للأب أن يجشم ولده الكسب، وهذا غفلة عظيمة. نعم، لا يمتنع في هذا تفصيلٌ فيقال: إن كان يليق بذلك الولد حفظ المروءة ولو استكسبه الأب لغضَّ ذلك من قدره، وصارت عبرة لا تنسى على طول عمره، فليس من النظر له الاستكسابُ، ويجوز أن يقال: ليس من النظر لمثله أن يعلّمَ الحرفَ. وأما إذا كان يليق به [وببنيته] (2) الاستكسابُ، فلا وجه لمنع الأب من استكسابه، وعلى الجملة لا يَخْرجُ الاستكساب في بعض الأشخاص والأحوال عن كونه وجهاً من وجوه النظر، ولكن يبقى ما اتفق الأصحاب عليه من وجوب نفقته على الأب مع كونه كسوباً. وأثره يظهر فيما نصفه، وهو أن الصغير إذا عطّل الكسب يوماًً وغيب وجهه عن أبيه، أو لم يُطعه جمع تكليفه، ولما جاع، عاد طالباً للنفقة، فعلى الأب الموسر الإنفاقُ عليه، والابن [البالغ] (3) قد يشترط في استحقاقه النففة ألا يكون كسوباً، حتى لو اقتدر على الكسب وعطله لم يستحق النفقة. هذا طرف من الكلام في نفقة الصغير. 10183 - وأما الابن البالغ، فيشترط في استحقاقه النفقة على أبيه كونُه فاقداً لما ينفقه، وهل يشترط ألا يكون كسوباً؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يشترط ذلك، ويستحق النفقة على أبيه الموسر، وإن كان كسوباً، كما ذكرناه في المراهق، وجه هذا القول أن الغرض في إيجاب النفقة كفُّ الضرار، وتكلفُ الكسب وتحصيلُ القوت بالكدّ مضرٌّ مع اتساع مال [الوالد] (4)، ومبنى الإنفاق على الإرفاق. والقول الثاني - أنه لا يستحق النفقة إذا كان قادراً على كسبٍ يردّ قوتَه؛ [فإنّ استحقاق النفقة يتعلق بالحاجة] (5)، كاستحقاق سهم المساكين في الزكاة، ثم كون

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) غير مقروءة بالأصل إلا بصعوبة بالغة. (3) في الأصل: النابع. (4) في الأصل: الولد. (5) في الأصل: فإنه استحقاق لنفقة يتعلق بالحاجة.

الشخص كسوباً يخرجه عن استحقاق سهم المسكنة، فليخرجه عن استحقاق النفقة، وهذا القائل ينفصل عن المراهق، ويقول: [إلزامه] (1) شرعاً ولا تعلق للتكليف به بعيد، ومعاقبتُه بقطع الإنفاق إذا لم يكتسب بعيدٌ، والبالغ العاقل معرض لتوجيه الأمر عليه أولاً، ومعاقبتُه بقطع النفقة عنه إذا لم يمتثل الأمر آخراً. وللقائل الأول أن ينفصل عن سهم المسكنة، ويقول: ذلك مخصوص بذوي الحاجات الحاقة، ولو شاركهم في ذلك المكتسبون، لتقاعد سداد الحاجة عمن اشتدت حاجته. التفريع: 10184 - إن حكمنا بأن الكسوب يستحق النفقة على الموسر، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الكسوب لا يستحق، فهل يشترط أن يكون امتناع الكسب بزمانَةٍ أم لا يشترط ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نشترط الزمانة، وفي معناها المرض اللازم المعجز مع صحة الأعضاء، فإن الصحيح السليم لا يخلو عن التمكن من نوعٍ من الكسب. ومن أصحابنا من لم يشرط الزمانة، واكتفى بألاّ يكون مستقلاً بتحصيل قوته، وقد ذكرنا مثلَ هذا التردد في استحقاقه سهمَ الفقراء، ثم انتهينا في التفريع على أحد الوجهين إلى اشتراط العمى، ولم ينته إلى اشتراطه أحد من الأصحاب في النفقة. ومما يتعلق بتمام ذلك أنه لو كان يقدر على تحصيل مقدار من القوت، فذاك القدر لا يستحقه، ويستحق ما يعجز عنه، إذا اشترطنا ألا يكون كسوباً، فهذا مما يجب التنبه له، وكل ما ذكرناه في نفقة الولد على الوالد الموسر. 10185 - فأما إذا كان الولد موسراً والأب معسراً، فهل يشترط ألا يكون كسوباً؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأنا لا نشترط ذلك في حق الأب قولاً واحداً؛ فإن إحالة الابن الموسر أباه الطاعن في السن على العمل في الطين (2)،

_ (1) في الأصل: التزامه. والمثبت من عمل المحقق. والمراد بإلزامه هنا إلزامه الاكتساب. (2) كذا. وفي صفوة المذهب: على العمل الدني.

لا يليق بما أوجبه الله تعالى من احترام الآباء والإحسانِ إليهم، ولا يبعد عن الأب إحالة ابنه على الكسب، كما لا يبعد منه استخدامُه. ومن أصحابنا من أجرى القولين في جانب الأب المعسر، كما ذكرناه في الابن المعسر، وهذا وإن أمكن توجيه القياس فيه، فالمذهب المعتدُّ به القطعُ بأن ذلك ليس شرطاً في الأب. وقد يتصل بهذا الفصل النظر في تفاصيل الكسب؛ فإن الرجل ذا المروءة لو تكلف نقل القاذورات وشَيْل الكناسات، فقد يجتمع له ما يقوته، ولكن ذلك [يحطّ] (1) من مروءته [فكيف] (2) الطريق فيه؟ هذا عندنا يخرج على اشتراط الزمانة: فمَن شَرَطَها، فموجب مذهبه أن لا فرق بين كسب وكسب، إذا فُرض الاقتدارُ عليه، ومن لم يشترط الزمانة، فالرأي على التردد في رعاية ما أشرنا إليه من اعتبار المروءة والنظر إلى أقدار المناصب. ولا خلاف أن عبد الرجل مبيعٌ في نفقته، وإن كان ذلك يلجئه إلى التبذل والتبسط بنفسه في الحاجات الدنيّة كاستقاء الماء وما يشبهه. وقد تنجز أصلٌ من أصول القول في ذلك. 10186 - ونحن نأخذ من هذا المنتهى في أصلٍ آخر، ونقول: لا خلاف أن نفقة القريب مبناها على الكفاية، وليست متقدَّرة، بخلاف نفقة الزوجية، فإن اكتفى في يومٍ ولم يحتج لعارضٍ، فلا نفقة له، وإن كان رغيباً، لزمت كفايته، وإن كان زهيداً، فعلى قدر حاجته. ولا يضرّ أن نصرف الاهتمامَ إلى بيان الكفاية، فنقول: لا ينتهي الإنفاق إلى رد النهم والقَرَم (3) وحَسْم الشهوة، ولكن الكفاية المطلقة ما [يقي] (4) البدنَ ويدرأ عنه الضرار في الحال والمآل.

_ (1) في الأصل: يحطه. (2) في الأصل: أم كيف. (3) القَرَم: شدةُ الشهوة إلى أكل اللحم. (4) في الأصل: " يقلّ ". والمثبت من تقدير المحقق.

وبيان ذلك أنه إذا كان [يغضُّ] (1) المقدارَ النزرَ من كفايته، فقد لا يظهر أثر هذا في يوم، ولكن لو فرض التمادي عليه، لظهر إضراره. فالذي أراه أنه لو كان يسد جوعته ويستأصل نَهْمتَه، ثم أراد في بعض الأيام أن يقتصر على ما يقع به الإقلالُ في اليوم، ثم يتداركه في غده - أن هذا غيرُ سائغ؛ فإن هذا جزء من الضرر، والغدُ غيب. ثم يجب أن يُطعَم ما يأتدم به؛ فإن الخبز القفار يحُلّ القوى، والمرعي في الأُدم الأصل الممهّد في نفقة الزوجات، غير أن المرعي في القوت الكفاية [فالأُدْم] (2) على قدرها. والكُسوة واجبة، وقد وَضَحَتْ في مؤن الزوجات، والمطلوب إزالة الضرر، والقيام بالكفاية. ثم ما يبتني على الكفاية، فلا يشترط التمليك فيه، بل يكفيه أن يقول لقريبه الذي يستحق الإنفاق عليه: كُلْ معي. 10187 - وإذا مضت أيام لم يتفق الإنفاق فيها، سقطت نفقتها، ولم تثبت ديناً بخلاف نفقات الزوجات، فإن ما لا يجب التمليك فيه، وابتنَى على الكفاية، استحال مصيره دَيْناً في الذمة. هذا أصل المذهب وقاعدته. ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهين في أن نفقة الولد الصغير هل تسقط بمرور الزمان، أم تصير ديناً في ذمة الأب الموسر؟ أحدهما - أنها تسقط، وهذا القياس الحق، وتوجيهه ما أوضحناه من اعتبار الكفاية وسقوط التمليك. والثاني - أنها تثبت في الذمة، وهذا الوجه على ضعفه موجّه عند الصائر إليه بأن نفقة المولود محمولةٌ على نفقة الزوجية، فإنها من أتباع النكاح، وإن كان المطلوب منها الكفاية، حتى يكون احتباسها مقابلاً بكفاية الزوج إياها لا يسقط بمرور الزمان،

_ (1) في الأصل: نعص. (2) في الأصل: فلازم.

فلتكن نفقة المولود بهذه المثابة؛ إذ الولد المضاف إلى النكاح من آثار الاستمتاع، وأيضاً اهتمام المرأة بولدها من زوجها يقرب من اهتمامها بنفسها، فلو كانت نفقة المولود تسقط بتعطيل الزوج إياها، وهي لا تعطّل ولدَها، فيقرب تضررها بسقوط نفق مولودها من تضررها بسقوط نفقتها في نفسها. وهذا الوجه ضعيف لا أصل له، ولا ينبغي أن يعتدّ به، ولولا علوّ قدر الحاكي، لما استجزت حكايته؛ لما حققته من أن نفي التمليك وإثباتَ الكفاية مع المصير إلى أنه يجب تداركُ ما مضى أمسِ كلامٌ متناقض؛ فإنه يستحيل أن يكْفى الإنسانُ أمرَ أمسه، والماضي لا مستدرك له. نعم، إذا أثبتنا النفقة للحامل البائنة، وقضينا بأن النفقة للحمل، فيترتب عليه أنا إن لم نوجب تعجيل النفقة، وقضينا بأن الزوج يُخرج نفقة زمان الحمل يومَ الوضع، فهذه نفقة منسوبة إلى القرابة، وليست ساقطةً بمضي الزمن. وإن قلنا: يجب تعجيل النفقة، فلو لم يتفق تعجيلُها حتى وضعت المرأة الحملَ، فهل نقضي بسقوط نفقة أيام الحمل -والتفريع على أن النفقة للحمل-؟ فعلى وجهين معدودين من أصل المذهب، وإنما اتجه عدمُ سقوط النفقة بمضي الزمان لاتصالها باستحقاق الحامل؛ فإن انتفاعها بها سبق انتفاعَ الحمل، وإن أضيفت إلى الحمل، فالمرأة مستحقتُها، فكان انتظام الوجهين لهذا، وفيه يتجه ما أطلقناه من التبعية، ثم هذا في الحمل، أو في الولد الصغير على ما حكاه الشيخ. فأما نفقةُ الولد البالغِ، ونفقةُ كل قريب يستحق النفقةَ سوى الولد الصغير تسقط (1) بمرّ الزمان ولا تصير ديناً قط. 10188 - وهذا نجاز هذا الأصل، ونأخذ بعده في أصل آخر، فنقول: الزوجة إذا كان لا يتوصل إليها نفق مولودها، وكان الأب حاضراً ممتنعاً، أو غائباً، والطفل فقير لا مال له، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن لها أن تأخذ نفقة ولدها من مال زوجها إذا كانت يدها تمتد إليه، واحتجوا في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) تسقط: (جواب أما بدون الفاء).

لهند: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وقال عليه السلام ذلك، لما شكت إليه شُحَّ أبي سفيان وامتناعَه عن الإنفاق عليها وعلى ولدها. وهذا خارج عن قياس الأصول؛ من جهة أن الأم لا تلي على الرأي الظاهر، ومن ولاّها من الأصحاب فذاك إذا لم يكن للمولود والد، وإثبات الولاية لها مع الأب ليس على قاعدة القياس، ولكن رأى الأصحابُ الاستمساك بالحديث [وتقديمَه] (1) على القياس، وفيه مصلحة لائقة بالحال؛ فإنها لو كانت تحتاج إلى مراجعة القاضي في نفقة الولد، لعسر ذلك عليها، وإذا كانت تنفق من مال زوجها بالمعروف على ولدها، فقد تتزجّى الأيام وتنطوي عريةً عن نزاع وضرار. وأبعد بعض الأصحاب، فلم يثبت لها ذلك، إلا أن [يفوض] (2) القاضي إليها، ورأى هؤلاء قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم تسليطاً منه إياها على الأخذ بمثابة [تسليط] (3) القاضي، ولم يَروْا ذلك حكماً ثابتاً شرعاً على وجه الفتوى، وهذا بعيدٌ. ثم إذا جوزنا للأم أن تأخذ من مال الزوج من غير إذنه، فلو لم تجد لزوجها مالاً واستقرضت عليه، فإن قلنا: ليس لها أن تأخذ مالَ الزوج إذا وجدته، فليس لها أن تستقرض عليه، وإذا قلنا: لها أخذُ مال الزوج، فهل لها الاستقراض عليه من غير تفويض القاضي إليها؟ فعلى وجهين: أحدهما - لها الاستقراض؛ لأن الشرع أثبت لها ولاية الاستقلال في نفقة المولود، ومن نتائج [الولاية] (4) الاستقراضُ. والثاني - ليس لها ذلك؛ فإن الأخذ من مال الزوج مأخوذ من فحوى الحديث، على خلاف أصول القياس، فالوجه الاقتصار على مورد الخبر من غير مزيد، وهذا مسلك الكلام في كل حكم تضمن الخبرُ إثباتَه على خلاف أصول القياس. 10189 - ولو نفى الرجل نسب مولوده باللعان، واضطرت المرأة للإنفاق عليه،

_ (1) في الأصل: وتقديم. (2) في الأصل: يفرض. (3) في الأصل: تسليطه. (4) في الأصل: الولادة.

ثم إن الزوج أَكْذبَ نفسَه [واستلحق] (1) النسبَ الذي نفاه، فهل ترجع المرأة على الزوج بما أنفقته من مال نفسها؟ هذا يستدعي تقديمَ مسألة أخرى ملتحقةٍ بما تقدم، وهي أن الزوجة لو لم تصادف مالَ الزوج، ولم تجد من يقرضُها على الزوج، فأنفقت من مال نفسها، فهل ترجع على الزوج؟ هذا يترتب على الاستقراض، فإن منعناه، فامتناع الرجوع على الزوج إذا أنفقت من مال نفسها أوْلى؛ فإنها تكون في مقام المقرضة لزوجها من غير استقراض منه، فكأنها المقترضة والمستقرضة، وهذا بعيد. وانتظمت ثلاثُ مراتبَ: إحداها - أخذ مال الزوج من غير رضاه، والظاهر الجواز للخبر. والثانية - في الاستقراض على الزوج من غير تفويض من القاضي، وفيها الخلاف، والثالثة - في إنفاقها من مال نفسها، وطلبها الرجوعَ على الزوج. ونقول بعد ذلك: إذا أنفقت المرأة على الولد المنفي باللعان، ثم اكذب الزوج نفسَه، ففي رجوعها وجهان مرتبان على الوجهين فيه، إذا [أنفقت] (2) المرأة على الولد النسيب من مال نفسها، والصورة الأخيرة أولى بألاّ يثبت الرجوع فيها؛ لأنها فعلت ما فعلت بانيةً على ظاهر النفي، وهي موطّنةٌ نفسَها على الانفراد بالإنفاق من غير تقدير مرجع. ومما يتم به البيان في هذه المسائل أنا إذا أثبتنا للمرأة الرجوعَ على زوجها إذا أنفقت من مال نفسها، فذاك فيه إذا لم تقصد التبرعَ، وأما إذا قصدت التبرعَ، فلا مرجع، ويجب أن يقال: إنما ترجع على أحد الوجهين إذا قصدت الرجوع. 10190 - وممّا يتعلق بتتمة ذلك أنه أولاً إذا كان للمولود مال، وكانت نفقته من ماله، وله أب من أهل الولاية، فلا شك أن الأب هو الذي يلي مال الطفل، ولو أرادت الأم أن تنفق على الولد من مال الولد، فالوجه عندي أن يكون هذا أولى

_ (1) في الأصل: وستلحق. (2) في الأصل: انتفت.

بالجواز من إنفاقها عليه من مال الزوج، فإذا تسلطت على إنفاق مال الزوج عليه، فلأن تتسلط على إنفاق مال الطفل عليه أولى. ثم إذا كانت متمكنةً من طلب نفقة الولد من الزوج وتحصيلها من جهةٍ، فأرادت الاستبداد بالأخذ (1)، فالوجه أن ذلك لا يجوز، وإنما يسوغ الأخذ من مال الزوج عند ظهور تعذر الاستيداء منه، ويشهد لذلك الحديث؛ فإن هنداً قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخبارها هذا ما قال. وقد استدل الشافعي في كتاب الدعاوى على أن لمن تعذر حقُّه أن يأخذ من مال مَنْ عليه الدين قدرَ حقه، بحديث هند، ثم ينتظم في هذا أنها تملك مطالبةَ الزوج بنفقة الولد، وكل هذا والولد طفل. 10191 - ونحن نذكر بعد هذا تفصيلَ القول في الذين يستحقون النفقة بالبعضية في هذا الغرض الذي نحن فيه، ونقول: كل من يستحق النفقة على قريبه؛ فإنه يطالبه بها مطالبة الدُّيون، فإن امتنع ووجد مستحقُّ النفقة من جنس النفقة، أَخَذَ الكفايةَ مما وجده، وإن وجد من غير جنس النفقة، فعلى القولين في الظفر بغير جنس المال عند تعذر استيفاء الديون. ولو أراد الابن البالغُ المعسر أن يستقرض على أبيه الموسر مقدارَ نفقة نفسه، فليس له أن يستبد بهذا، وكذلك القول في الأب الفقير مع الابن الموسر، ولكن يرفع مستحقُّ النفقة أمرَه إلى الحاكم، وللحاكم أن يستقرض على من عليه النفقة، فإن فعل، فذاك، وإن أذن لمستحق النفقة أن يستقرض عليه، جاز. وإن استقرض عليه بنفسه من غير مراجعة القاضي -مع القدرة عليها- لم يلزم ذلك القرضُ ذلك الإنسانَ، ولو عدِم مستحق النفقةِ الحاكمَ، ومست الحاجةُ، فاستقرض على من عليه النفقةُ، ففي المسألة وجهان مأخوذان من مسألة الجمّال، وقد سبقت مستقصاة. 10192 - ومما يتعلق بهذا أن أبَ الطفل إذا غابَ وحضر الجدُّ، فقد ذكر الشيخ

_ (1) أي من مال الزوج بغير إذنه.

أبو علي وجهين في أنه هل يستبد الجدُّ بالاستقراض على الغائب من غير مراجعة القاضي مع القدرة عليها، ولست أرى لجواز الاستقراض عليه من غير مراجعة القاضي وجهاً أصلاً؛ فإن الجد لا يلي في غيبة الأب، وما أثبتناه في الأم، فمعتمدنا فيه الخبر، فلعل الشيخَ نزَّل الجد في الغيبة منزلة الأم، وليس هذا من مواضع القياس، بل القاضي يلي الطفل في غيبة الأب. وقد انتهى هذا الغرض. 10193 - ونحن نبتدىء مقصوداً آخر منعطفاً على ما تقدم، فنقول: من ملك عقاراً، فهو مبيع على قدر الحاجة في نفقة من يجب نفقته، وكل ما يباع في الديون، فهو مبيع في النفقات، وسنوضح في أثناء الكلام أن النفقة مقدمةٌ على الدين. 10194 - فإذا لم يملك الرجل شيئاًً يباع في دين، ولكنه كان كسوباً قادراً على أن يحصّل قوتَ نفسه وقوتَ قريبه، فهل يجب عليه أن يكتسب، وكيف السبيل فيه؟ قال الأئمة: إذا قدر على الكسب، فهل له أن يتكفف ويسال الناس إلحافاً؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب عليه أن يكتسب، ويتركَ التعرّض [للناس] (1)، وهذا يعتضد بقول المصطفى صلى الله عليه، إذ قال: " المسألة حرام إلا على ثلاثة الحديث " (2) ولولا الحديث، لما كان ينقاس تحريم المسألة والتعرض للناس بالسؤال. ومن أصحابنا من لم يحرّم السؤالَ -مع القدرة على الكسب، وحمل قول رسول الله

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) حديت: " لا تحل المسألة إلا لثلاث " رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والشافعي في الأم والدارقطني في سننه، كلهم من حديث قَبيصة بن مُخَارق رضي الله عنه (ر. مسلم: الزكاة باب من تحل له المسألة، ح 1044، أبو داود: الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة، ح 1640. النسائي: الزكاة باب الصدقة لمن تحمل بحماله ح 2580، 2581، وباب فضل من لا يسأل الناس شيئاً، ح 2592. الأم: 2/ 62، الدارقطني: 2/ 119، 120) وتمام الحديث " رجل تحمل حمالة، فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة ... " وهذا لفظ مسلم.

صلى الله عليه وسلم على الكراهية، والحرام هو المحظور، والمحظور الممنوع، والمنع ينقسم إلى الكراهية وإلى التحريم المحقق، وكما ترد الكراهيةُ على إرادة التحريم، يرد التحريم على إرادة الكراهية. هذا قولنا في حقه (1). فأما إذا قدر على الكسب، فلم يكتسب، وعطل قريبَه، فهل له ذلك؟ [هذا مما يجب الاهتمام به] (2)، فنقول أولاً: لا يجب على الإنسان أن يكتسب لأداء الديون المستقرة في ذمته، وهل يجب أن يكتسب لينفق على قريبه، فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب ذلك، كما لا يجب لأداء الدّين. والثاني - يجب؛ لأن النفقاتِ من الحاجات المتواصلة، والاكتساب على قدرها، ولعل السببَ في منع إيجاب الكسب للدين كونُه مستغرَقاً بالحاجات المتواصلة في غالب الأمر. وفي وجوب الاكتساب للإنفاق على الزوجة وجهان مرتبان على الوجهين في نفقة القريب، ولأَنْ لا يجب الاكتساب لنفقة الزوجة أولى؛ لأنها مشابهة للديون، ومذهبنا الصحيح أنها تجد مخلصاً إذا أعسر الزوج بالنفقة وهذا لا يتحقق في القريب. فإذا تحقق ما نعتبره في حق من يُنفق، فكل ما يباع في نفقة القريب فإذا ملكه القريب بنفسه، لم يستحق النفقةَ معه، وينتظم بحسب هذا أنا إذا أوجبنا الاكتساب بنفقة القريب لا نوجب النفقة للقريب الكسوب، وإنما يجري ما قدمناه من الخلاف فيه إذا كان من له النفقة غيرَ كسوب، ومن فيه الكلام كسوباً. هذا منتهى الغرض من ذلك. 10195 - ومن الأحوال المنعطفة على ما تقدم أنا لا نوجب النفقةَ على البعيد مع القريب الموسر، وسيأتي فصلٌ في ترتيب من يستحق عليه النفقة، وهو غمرة هذه الأصول.

_ (1) أي هذا قولنا في اكتسابه لحق نفسه ونفقة نفسه. (2) في الأصل: هذا قولنا في حقه مما يجب الاهتمام به.

ومقدار غرضنا الآن أنه إذا كان للولد أبٌ موسر وجدٌّ: أبُ أبٍ موسرٌ، فلا شك أن النفقة على الأب، فلو فرضت غيبة الأب، ولم نجد مُضطرَباً، ولم نستمكن من الاستقراض على الغائب، [فالطفل] (1) لا يُلحق بمحاويج المسلمين؛ حتى ينفق عليه من بيت المال مع حضور الجدّ الموسر، بل على الجدّ أن ينفق، فإن راجع القاضي حتى أذن له بالإنفاق على شرط الرجوع، أنفق ورجع، وإن لم يراجع القاضي مع القدرة، وأنفق، فهذا ما تقدم ذكره، والمذهب أنه لا يرجع. وإن لم يجد قاضياً، فأنفق على قصد الرجوع، فهل يرجع على الغائب؟ فعلى الوجهين. والمقصود مما ذكرناه أن الجد يلزمه القيام بهذا المهم، ثم الكلامُ في الرجوع على ما قدمناه، فإذا تمكن القاضي من التصرف والاستقراض على الغائب، فهو ولي الطفل في غيبة الأب، فليس له تركُ النظر مع القدرة عليه. فإن لم يجد مُقرضاً، كان كما لو لم يكن (2) قاضٍ، وكذلك إن لم يتفرغ إليه، وحاصل الكلام في هذا أن التصرف إلى القاضي، وليس له أن يلزم الجدَّ، كما ليس له أن يلزم آحاد الناس، فإن لم يكن قاضٍ، فالجد لا يعطِّل الطفلَ، ثم الكلام في كيفية الرجوع على ما قدمناه. وقد انتجزت القواعد التي أردنا تقديمها في نفقة القريب. فرع: 10196 - إذا كان الأب كسوباًً وقلنا: يجب على الابن الموسر أن ينفق عليه -على وجهٍ لبعض الأصحاب- فهل يجب عليه أن يعفّه إذا كان لا يستمكن من التعفف بنفسه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أصحهما - أنه يجب على الابن ذلك، فإن الإعفاف من الحقوق الواجبة، وقد تحقق احتياج الأب إليه، وكسبه غير وافٍ به. والوجه الثاني - أنه لا يجب عليه أن يعفه؛ فإن الإعفاف إنما يجب لمن تجب له النفقة، فإذا سقطت النققة، سقط الإعفاف. وهذا ركيك لا اتجاه له.

_ (1) في الأصل: والطفل. (2) لو لم يكن: أي لو لم يوجد (كان تامّة).

فرع: 10197 - [كما يجب] (1) على الابن الإنفاقُ على أبيه يجب عليه الإنفاق على زوجة أبيه، فلو كان له زوجتان، لم يجب الإنفاق عليهما، وذكر العراقيون وجهين في هذا المنتهى: أحدهما - أنه يسلم نفقةَ زوجةٍ إلى أبيه، ثم إنه يفضّ عليهما، وليس للابن أن يحتكم بتعيين واحدةٍ منهما. والوجه الثاني - أنه لا يجب عليه الإنفاق أصلاً على واحدة من الزوجتين؛ لأن التعيين لا وجه له؛ إذ ليست إحداهما أولى من الأخرى، والإنفاق عليهما غيرُ واجب، فإذا عسر تفصيل المذهب، انتفى الأصل. ْوهذا لا أصل له، والعراقيون يتولّعون بأمثال هذا في كثير من المسائل. فصل يشتمل على اجتماع الأقارب أصحابِ البعضية، وهم موسرون، ولهم قريب معسر على شرائطِ استحقاق النفقة، فمن الذي يقدّم بالتزام النفقة؟ وكيف طريق التقديم لمن يلتزم؟ 10198 - وهذا الفصل من الفصول المنعوتة (2)، وقد تقطّع مهرةُ الفقهاء في إيضاح المقصود منه، ونحن نرى أن نذكر اجتماع الأولاد الموسرين، ثم نذكر اجتماعَ الأصول الموسرين، ثم نذكر اجتماع الأصول والأولاد الموسرين، ونذكر في كل فصلٍ ما يليق به، ونوضحه إيضاحاً لا يغادر إشكالاً وتعقيداً، إن شاء الله عز وجل. 10199 - فأما الكلام في الأولاد، فالرأي ذكر طرق الأصحاب على الجملة، ثم فضُّ المسائل عليها: اختلف أئمتنا في المعنى المعتبر في التقديم، فقال المحققون: الاعتبار بالقرب، فمن كان أقرب من الأولاد أولى بالتزام النفقة، حتى إذا وجد شخصان أحدهما أقرب وليس وارثاً، والثاني أبعد، وهو وارث، فالنفقة على

_ (1) في الأصل: لا يجب. (2) المنعوتة: المعنى المعروفة بالصعوبة والدّقة، وقدا تكرر هذا الوصف من الإمام لفصول أخرى من قبل.

الأقرب، وذلك مثل: بنت بنت، وبنت ابن ابن، النفقة على بنت البنت، ولا نذكر مسلكاً آخر ما لم نسْتقص القول في هذا. فإذا لاح تقديم الأقرب فلو وجد من الأحفاد شخصان مستويان في القرب، وأحدهما وارث دون الثاني، فهل يقدم الوارث مع الاستواء في القرب؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نقدم الوارث لا للإرث في صورته، ولكن لدلالة الإرث على القرابة. والوجه الثاني - أنا لا نعتبر الإرث أصلاً، ولكنا نقول: إذا استويا في القرب، فالنفقة عليهما جميعاً وإن كان أحدهما وارثاً والثاني غير وارث، وذلك بمثابة بنت بنت وبنت ابن، أو ابن ابن. وينشأ من هذا التردد أصل آخر على هذه الطريقة، وهو أنهما لو استويا في القرب، وكانا جميعاً وارثين، [ولكن] (1) حصة أحدهما من الميراث أكثر، فالنفقة عليهما للاستواء في القرب وأصل الميراث، ولكن نفض النفقةَ عليهما بالسوية، أو نفضها عليهما على أقدار استحقاقهما للميراث؟ فعلى وجهين مشهورين، وذلك مثل: ابن، وبنت، فهما مستويان في القرب وأصل الإرث، ولكنهما متفاوتان في مقدار الإرث، ففي وجهٍ نقول: النفقة عليهما بالسوية، وفي وجه نقول النفقة عليهما أثلاثاًً، على حسب قسمة الميراث. هذا بيان طريقة واحدة للأصحاب تعرف باعتبار القرب. 10200 - طريقة أخرى لبعض الأصحاب في اجتماع المولودين، وهي أن الاعتبار في التقديم بالإرث، لا بالقرب، فإذا اجتمع اثنان بعيد وارث، والآخر قريب غير وارث، فالنفقة على البعيد الوارث، مثل ابن ابن ابن وبنت بنت، فالنفقة على ابن ابن الابن. ولو كانا جميعاً وارثين، ولكن أحدهما أقربُ، فهؤلاء لا يقطعون بأن النفقة

_ (1) في الأصل: ولكنه.

على الإرث، وذلك مثل بنت وبنت ابن، فالميراث ثابت لهما، وبنت الصلب مختصة بالقرب، فالنفقة عليها. وينتظم من هذا أنا على الطريقة الأولى نقدم بالقرب، وهل نرجّح بالإرث مع الاستواء في القرب؟ فعلى وجهين. وعلى الطريقة الثانية نقدم بالإرث، فإذا استويا في الإرث واختصاص واحد بالقرب، رجّحنا بالقرب وجهاً واحداً. والطريقة المرضيّة هي الأولى؛ فإن الأصل القرابة في هذا الباب، ولم يعلّق الشافعي استحقاقَ النفقة بالقرابة المورّثة؛ إذ لو علق بها، لأوجب النفقة بالأخوّة وغيرها من القرابات المورِّثة. وأوجب (1) النفقةَ على القريب الذي لا يرث وهو أب الأم، وتجب النفقة مع اختلاف الدين، وإن كان الإرث منقطعاًً، وأبو حنيفة [مع] (2) مجاوزته قرابةَ البعضية لا يعتبر الإرثَ أيضاً، فإن ابن العم يرث، ولا يلتزم النفقة. والفقه بعد هذا الاستشهاد أن عماد الأمر البعضية الدائرة بين الأصل والفرع، والإرث مبني على قاعدة أخرى، فلما كان كذلك، اتجهت الطريقة الأولى، ولأجل ما ذكرناه اتفق الأصحاب على اعتبار القرابة، فاعتبرها الأولون في التقديم، واعتبرها الآخرون في الترجيح، فهذا نراه قاعدة المذهب. 10201 - وذكر الشيخ أبو علي وجهاً عن بعض الأصحاب، أَخَّرته، ولم أمزجه بقواعد المذهب، وأنا أذكر ما ذكره، [وأوضح ما فيه: قال:] (3) إذا اجتمع الابن والبنت، فالمذهب اشتراكهما في الالتزام، كما قدمته، والخلاف في التسوية والتفاضل على قدر الإرث، قال: ومن أصحابنا من قدم الابن للذكورة، والعصوبة، وقال: الرجال أقدر على الاكتساب ولهذا أقامهم الله قوامين على النساء. وهذا الوجه الغريبُ سيأتي له نظير في اجتماع الأصول في القسم الثاني مما ذكره

_ (1) قوله: وأوجب النفقة على القريب الذي لا يرث ... إلخ. الواو هنا ليست عاطفة، فليس هذا الكلام واقعاً جواباً لقوله: (لو علق) وإنما هو كلام مستأنف. (2) مزيدة من صفوة المذهب. (3) عبارة الأصل: وأوضح فيه ما قال.

الأصحاب، فليس هذا الوجه إذاً عديمَ النظير، ثم الذي تحصّل لي منه ما يجب الثقة به، فالقرب مقدم على الذكورة، والوراثة مقدمة على الذكورة، وإذا وُجد الاستواء في القرب، وتحقق الاستواء في الوراثة ثبوتاً أو سقوطاً، وكان واحد ذكراً، فهل يكون أولى بالالتزام للذكورة؟ المذهب أنه لا أثر للذكورة، وفيه الوجه البعيد الذي حكاه الشيخ. فهذا تمهيد طرق الأصحاب [في] (1) اجتماع الأولاد. 10202 - ولو اكتفينا بذلك، لم يَخْفَ تخريجُ المسائل عليه، ولكني أرى أن أفضّ المسائلَ على الطرق؛ حتى تزداد إيضاحاً: ابن وبنت: المذهب أنهما يشتركان في الالتزام، ثم يستويان أم يتفاوتان على حسب التفاوت في الإرث؟ فعلى وجهين، وفي المسألة الوجه الغريب، وهو أن الابن يختص بالالتزام. صورة أخرى - بنت بنت، وابن ابن: من اعتبر الميراث أو رأى الترجيح بالذكورة، قال: ابن الابن أولى بالالتزام، ومن رأى التعويل على القرب ذكر وجهين: أحدهما - أنهما يستويان في الالتزام للاستواء في القرب. والثاني - أن ابن الابن أولى بالالتزام للاختصاص بالإرث. صورة أخرى - ابن ابن ابن، وبنت بنت: من راعى القرب ضرب النفقة على بنت البنت، ومن راعى الإرث ضربها على ابن ابن الابن. صورة أخرى - بنت وبنت ابن: النفقة على البنت على [الاتفاق] (2)؛ فإن من راعى القرب قدّمها، ومن راعى الإرث رجحها بالاختصاص بالقرب. صورة أخرى - بنت بنت، وابن بنت: هما مستويان في القرب، ولا ميراث لهما، المذهب استواؤهما في الالتزام، وصاحب الوجه الغريب يقدم ابن البنت للذكورة. وهذا القدر كافٍ، وبه نجز الكلام في اجتماع المولودين، ومن يُقدَّم منهم.

_ (1) في الأصل: فمن. (2) غير مقروءة في الأصل، لذهاب معظم الحروف.

10203 - فأما الأصول الموسرون إذا اجتمعوا، ومستحِق النفقة فرعهم، فالوجه أن نبدأ باجتماع الأبوين أولاً، فإذا كان للابن الفقير أب وأم موسران، فالابن لا يخلو: إما أن يكون صغيراً وإما أن يكون بالغاً، فإن كان صغيراً، لم يختلف الأصحاب في أن الأب يختص بالالتزام للإنفاق عليه، وهذا من الأصول المتفق عليها بين الأصحاب، وفيه عضد لما أجريناه في أثناء الكلام من أن نفقة الطفل من أتباع مؤن الزوجية. وإن كان الابن بالغاً، فللأصحاب أوجه: منهم من قال: الأب أولى استدامةً لما مهدنا في حالة الصغر، ومنهم من قال: النفقة مضروبة على الأب والأم؛ فإن الأب كان مختصاً بالولاية على الصغير، وقد استقل المولود، وهما أبوان لو انفرد كل واحد منهما لالتزم النفقة عند انفراده. ثم إن قلنا: النفقةُ عليهما، فهي مقسومة بالسويّة بينهما أم هي مفضوضة عليهما ثلثاً وثلثين على قدر اشتراكهما في الميراث إذا انفردا باستحقاق التركة؟ فعلى وجهين، كما تقدم ذكرهما في اجتماع المولودين، ونصُّ الشافعي دال على أن الأب أولى بالتزام النفقة. هذا منتهى الكلام في اجتماع الأبوين لا غير. 10204 - وأما اجتماع الأجداد والجدات من يرث ومن لا يرث، فكيف السبيل فيهم؟ ومن المقدّم بالالتزام منهم؟ فنقول: مما لا يخفى -ونقدمه حتى لا يختلط بمزدحم الخلاف- أنه إذا اجتمع قريب وبعيد من جهةٍ واحدة، فالنفقة مضروبة على القريب لا يُتخيل [فيه] (1) تردد، وذلك مثل أب وأب أب. وأم، وأم أم، وهذا واضح مستبين عما نريد الخوض فيه. وأما إذا فرض اجتماع جماعة من الأصول، فنذكر طرق الأصحاب على الجملة فيهم، كما ذكرناه في الأولاد ثم نأتي بالمسائل أمثلةً وصوراً، ونخرجها على الطرق.

_ (1) في الأصل: منه.

فنقول: من أصحابنا من اعتبر القرب، فقدم به وسوّى به، ثم هؤلاء قالوا: لو فرض من الأصول مستوِيان في القرب، واختص أحدهما بالإرث، فهل يقدّم المختص بالإرث أم لا أثر للإرث مع الاستواء في القرب؟ فعلى وجهين، وقد تقدم ذكرهما في الأولاد. هذه طريقة، وهي غير الطريقة الأولى المحكية في الأولاد، ولو اجتمع على هذه الطريقة قريبان مستوِيان في القرب، وكانا وارثين، فالنفقة عليهما بالسوية أم هي على مقدار الإرث؟ فعلى الوجهين المذكورين. طريقة أخرى - من أصحابنا من قال: الأصل المعتبر في التقديم الإرثُ، فلو اجتمع بعيدٌ وارثٌ وقريب ساقط، فالنفقة على البعيد الوارث، وإن استويا في الميراث وأحدهما أقرب، قُدم الأقرب، وإن استويا في سقوط الميراث والقرب، استويا في الالتزام للاستواء في القرب، وهذا بعينه مذكور في اجتماع الأولاد. طريقة أخرى - من أصحابنا من قال: التقديم بالولاية، فإذا اجتمع من الأصول اثنان أو طائفة، وكان الولي واحداً منهم، فهو المختص بالنفقة؛ لأن الولي يسوس المَوْليَّ عليه، ويقدَّمُ بالنظر له، فهو من هذا الوجه قائم بتربيته، فيليق بمنصبه أن [يختص] (1) بالإنفاق عليه، وهذا القائل يقول: الولي وإن كان بعيداً يلتزم النفقة. فإن لم يكن في الأصول المجتمعين وليٌّ، تصدّى لهذا القائل الطريقان المتقدمان: اعتبار القرب أو اعتبار الوراثة، فكأنه زاد الولاية وجعلها مقدمة على كل معتبر، فإن لم تكن ولاية اعترض طريقان للأصحاب فأيهما رآه قال به. 10205 - وحكى الأصحاب عن الشيخ أبي حامد مسلكاً رابعاً ننقله على وجهه، ثم ننقّح الطرق على ما ينبغي. قال رضي الله عنه: تعتبر الذكورة والإرث في اجتماع الأصول، وعبر عن الذكورة بالكسب، هكذا توجد المنقولات عنه، ثم قال: إذا وجد شخصان مثلاً في أحدهما ذكورة ووراثة، وفي الثاني ذكورة ولا وراثة، أو وراثة ولا ذكورة، فمن اجتمع فيه

_ (1) في الأصل: يختصر بالإنفاق.

المعنيان مقدم في الالتزام، ولا يتصور أن يجتمع في كل واحد الذكورة والوراثة معاً؛ فإن الذكورة والوراثة إنما تثبتان للأب أو الجد أب الأب، ولا يتصور اجتماع الاثنين على هذا الوصف، ولو اجتمع ذكر غير وارث، وأنثى وارثة، [فهما] (1) مستويان، فالنظر وراء ذلك إلى القرب، فمن كان أقرب، كان أولى. وحاصل هذا المسلك يرجع إلى اعتبار معنيين، والحكم بتعادلهما: إذا وجد أحد المعنيين في شخص ووجد المعنى الآخر في شخص، ثم إذا فرض التساوي إما بانتفاء المعنيين عن الجانبين، وإما بوجود المعنيين في كل واحد من الجانبين، وإما بوجود أحد المعنيين في أحد الجانبين، ووجود المعنى الآخر في جانب الآخر. وإذا فرض الاستواء على جهة من الجهات التي عددناها، فالنظر في القرب، فإذا فرض الاستواء في القرب، مع الاستواء الذي صورناه، فهذا يقتضي الاشتراك في الالتزام. ولو فرض من جانب ذكورةٌ وإرثٌ، ومن جانبٍ قربٌ، فالمعنيان مقدمان على القرب، ولو فرض من جانب ذكورةٌ محضة، ومن جانب قربٌ، فالذكورة مقدمة، ولو فرضت وراثة من جانب ومن جانب مزيدُ قرب، فالوراثة مقدمة. هذا حاصل هذه الطريقة. 10206 - ومما ننبه عليه في هذا المنتهى أنا ذكرنا في اجتماع المولودين أن من أصحابنا من اعتبر القرب، وقدم به، ومنهم من اعتبر الإرث وقدم به، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أن القرب إذا وجد في جانب والإرث مع البعد إذا وجد في جانب آخر أوجب ذلك اعتدالاً، كما ذكر الشيخ أبو حامد أن الذكورة في جانب والإرث في جانب يُوجب اعتدالاً. والسببُ فيه أن من رأى التمسك بالقرب لم يقدم عليه الوراثة؛ فإن القرب هو الأصل، وأما الذكورة والإرث، فلا يبعد اعتقاد تعادلهما. 10207 - طريقة أخرى - لبعض الأصحاب- ذهب طائفة إلى اعتبار الذكورة المحضة من غير ضم الإرث إليها، وقدمها على الوراثة، قائلاً: لو كان في جانب ذكورة،

_ (1) في الأصل: منهما.

وفي جانب إرث ولا ذكورة مع الإرث، ولا إرث مع الذكورة،. فالذكر مقدم، وقال: الذكورة مقدمة على القرب، والذكر البعيد مقدم على الأنثى القريبة، وهذا أبعد الطرق؛ فإن الذكورة المحضة يبعد تقديمها على الإرث. فهذا بيان ذكر الطرق في اجتماع الأصول في معرض عقد التراجم وتمهيد القواعد. 10208 - ونحن نتتبع أولاً مآخذ هذه الطرق على ما ينبغي، ثم نذكر ما انفصلت به تصرفات الأصحاب في اجتماع الأصول عن تصرفاتهم في اجتماع المولودين، ثم نختتم الكلام بذكر المسائل في الأصول وتخريجها على الطرق. 10209 - فأما تتبع الطرق [فالقرب] (1) لا حاجة إلى تكلّفٍ في اعتباره، ولو قلنا: هو أوْلى الطرق، لم نكن مُبعدين؛ فإن مدار النفقة على البعضية، وهي من طريق القرابة أقربُ من التفرّعِ والتشعّب، والوقوعِ على الجوانب من عمود النسب، ثم يُثبت وجوبَ النفقة من غير إرث، كما تقدم تقريره. وسرّ التقديم يؤول إلى الترجيح، وأَحْرى وجوه الترجيح ما ينشأ من مأخذ الأصل، ثم إن ذكر ذاكر مع الاستواء في القرب الترجيحَ بالإرث، لم يُبعِد، فيقع الإرث في المرتبة الثانية من القرب؛ فإن القرب هو الأصل، والإرث متلقَّى من صفة القرب. وأما من اعتبر [الإرثَ] (2)، فقد أوضحنا أنه حائد، وقررنا ذلك في اجتماع المولودين. والولايةُ فيها على حالٍ تعلقٌ بقيام الولي بتربية المَوْليِّ عليه. والذكورة التي ذكرناها آخراً اعتمادُها أضعف الطرق؛ فإنه ليس في الذكورة إلا القدرة على الكسب، وأين يقع هذا من القرب، ثم أين وقوعها عن قوة القرب التي تفيد الوراثة.

_ (1) في الأصل: بالقرب. (2) في الأصل: الأرض.

والشيخ أبو حامد جمع بين الذكورة والوراثة، فاشتمل كلامُه فيما نقله الناقلون على الأمر [المنكر] (1) الغث الذي قدمناه؛ فإن مساق التفريع يؤدي إلى تقديم الذكورة على القرب، وهذا هو الغاية المحذورة عندنا؛ فإن القرب أولى [معتبر] (2) والذكورة أبعد معتبر، فمن باح بتقديم الأبعد على الأقرب، لم يغادر من الرّداءة شيئاًً. نعم، لو قال: الوراثة لا تقدم على القرب، والذكورة لا تقدم على القرب، ولو اجتمعا في شخص قدمتا على القرب، لكان هذا قريبَ المأخذ، ولكن ما صح عندنا في النقل عنه ما ذكرناه. ولا سبيل إلى أن نطوّقه ما لم يعتقده، ونتقوّل عليه. ولا أرغب أيضاًً في تقديم الوراثة مع الذكورة على القرب، حتى أرى هذا وجهاً من وجوه الاحتمال. وإذا أردنا الاطلاع على منازل الكلام، فالقرب يقع أولاً، والمتمسِّك [به] (3) معتصِمٌ بأفضل الطرق، ثم يليه الوراثةُ، ويلي الوراثةَ الولايةُ. والذكورة، [واعتمادها في التقديم- على ما قدمناه من الأسباب باطل. وجَمْعُ الشيخ أبي حامد بين الوراثة والذكورة كلامٌ مختبط] (4) وليصرف الناظر فهمه إلى أول الكلام، فإن اعتبرنا القربَ، لم يبعد حينئذ مع الاستواء فيه التردد في الوراثة، فإذا فرض الاستواء في القرب والوراثة، لم يبعد بَعْد الاستواء فيهما التردد في الترجيح بالوراثة، والتردد في الوراثةِ والترجيحِ بها أقرب من التردد في الترجيح بالولاية. وإذا فرض الاجتماع في القرب والوراثة ولا يتصور الاجتماع في الولاية (5)، فلو

_ (1) في الأصل: كلمة غير مقروءة صورتها هكذا: (المتكدة) والمثبت تصرف من المحقق. (2) في الأصل: معتبرة. (3) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام. (4) عبارة الأصل فيها خلل وحشو واضطراب وتكرار، هكذا: واعتماده في التقديم على ما قدمناه من الأسباب باطل، وجمع الشيخ أبي حامد بين الوراثة والذكورة واعتمادها في التقديم على ما قدمناه من الأسباب باطل، وجمع الشيخ أبي حامد بين الوراثة والذكورة كلامٌ مختبط ... إلخ" والمثبت من حدّفٍ وترتيب، تصرّف من المحقق. (5) أي لا يتصور أن يجتمع أكثر من شخص كل واحد منهم وليٌّ، فالولاية لا تكون إلا لواحدٍ يجبّ من دونه.

انتفت الولاية، فالترجيح بالذكورة [محتمل على حالٍ] (1) وهو أبعد ما يرجّح به، وإنما يحتمل الترجيح به بعد ما قدمنا من التقديم بالأسباب التي اختلف الأصحاب فيها. هذا تنقيح الطرق وتنزيل القول في تعاليها، وبيان سقوط بعضها، وبيان وضوح بعضها، وبيان الاحتمال على البُعد في بعضها. 10210 - وما ذكرناه يُغني عن ذكر ما التزمناه من بَعدُ، ولكن لا يضرّ الوفاء بالموعود، وتقريب المآخذ على الشادي الفطن، فنقول: استعملنا في المولودين القربَ والوراثةَ، والذكورة على وجهٍ بعيد، ولم نصادف منها ولاية فنذكر بحسبها طريقة. وأما الجمعُ بين الذكورة والوراثة، فلست أراه طريقةً يُحتَفل بها، وحق الشيخ أبي حامد أن يطرد طريقته في المولودين. 10211 - وأما المسائل، فقد قدمنا الكلام في الأب والأم، ونحن نأتي بصورٍ في الأجداد والجدات: أب أب، وأم أم: من اعتبر القرب أوجب النفقة عليهما، وفي كيفية الفض وجهان: أحدهما - التسوية، والثاني - اعتبار مقدار الإرث. ومن اعتبر الإرثَ فَضَّه عليهما على حسب الإرث، فإنه إذا اعتبر الإرثَ في أصل التقديم اعتبره في التفصيل. ومن اعتبر الولايةَ أو الذكورةَ أوجب على الجد، ولم يوجب على أم الأم شيئاً. صورة -أب أب، وأم- من اعتبر القرب أوجب النفقة على الأم، ومن اعتبر الوراثة فضّ النفقةَ على أب الأب والأم على حسب الميراث بينهما، ومن اعتبر الولاية أو الذكورةَ أوجب النفقة على الجد. وقيل: للشافعي نصٌّ في أن النفقة على الجد دون الأم، وهذا لم يصححه أئمة المذهب نقلاً، فإن صح، فلا خروج له إلا على اعتبار الولاية، وإن أحببنا عبّرنا عنه، وقلنا خروج النص على تنزيل الجد عند عدم الأب منزلة الأب.

_ (1) في الأصل: محتمله على مال.

صورة - أب أب وأب أم: من اعتبر القرب، ولم يرجح بالإرث سوى بينهما، ومن اعتبر القرب، ورجح بالإرث أوجب النفقة على أب الأب، ومن اعتبر الإرث أو الولاية قدم أب الأب. صورة - أم أب الأب، وأب أم الأم: من اعتبر القرب، ورجح بالوراثة أوجب النفقة على أم أب الأب، ومن لم يرجح بالوراثة سوى بينهما، ومن اعتبر الذكورة قدم أب أم الأم. وهذا أخس الطرق، وهو مما يجب القطع ببطلانه؛ فإن تقديم الذكورة على الوراثة لا اتجاه له. وما (1) عندي أن من وفق للإحاطة بما قدمناه، لم يحتج إلى مزيد في التصوير، والازديادُ على الكفاية في البيان يَجُرّ المللَ، ويورث الخللَ. 10212 - ونحن نختتم هذا المنتهى بشيء حقه أن يخرج عن الضوابط، قال من اعتبر الولاية: إذا فرض شخصان ليسا وليَّيْن، ولكن أحدهما مُدْلٍ بولي، فهو مقدم، وهذا إذا استعمل في التقديم بالغٌ في الخسة، وإن استعمل في الترجيح، كان بعيداً في مسالك الظنون، وقد ذكر من اعتبر الذكورة الإدلاء بالذكر أيضاً، وهذا مبلغٌ يكلّ عنه لسان الموبِّخ (2). وقد انتجز القول في اجتماع المولودين، ثم في اجتماع الأصول. 10213 - ونحن نذكر الآن اجتماع الأصول والمولودين، فنقول: إذا اجتمع الأب والابن الموسران، فللأصحاب أوجه، والاحتمالات فيها. متعارضة: منهم من قال: الأب أولى استصحاباً [لوجوب] (3) الإنفاق عليه في صغر المولود. وقد يتأكد هذا بتربية الأصل فرعه. ومنهم من قال: النفقة على الابن؛ فإن حق الإنسان على ولده آكد من حقه على

_ (1) وما عندي: ما هنا اسم موصول بمعنى الذي. (2) كذا قرأناها بصعوبة بالغة لعدم النقط، ولعدم الوضوح. ولكنه جارٍ تماماً مع السياق والسباق. (3) في الأصل: بالوجوب.

والده، وحقوقه في مال الولد أثبت، ولذلك اختص استحقاقَ الإعفاف من مال ولده، وقال المصطفى صلى الله عليه: " أنت ومالك لأبيك " (1). والوجه الثالث - أن النفقة مضروبة عليهما لاستوائهما في القرب واتصاف كل واحد منهما بالالتزام عند الانفراد، ثم إذا ضربنا النفقة عليهما، ففي كيفية الضرب وجهان: أحدهما - أنا نسوي بينهما، والثاني - أنا نضرب النفقة عليهما على مقدار استحقاقهما للإرث، وقد تقدم هذا فيما سبق. [فلو] (2) كان في المسألة أمٌ، وابنٌ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بأن الابن أولى بالالتزام. ومنهم من أجرى الابن مع الأم مجرى الابن مع الأب، ثم يعترض في هذا القسم الذي انتهينا إليه صورٌ في القرب والبعد، فيستخرج الفطن مما مهّدناه قبلُ اختلافَ الطرق فيه. فلو اجتمع الأب وابن الابن، فيعترض في ذلك ما نشير إليه: مَنْ نظر إلى الاستصحاب، وقدم الأب، فلا شك أنه يقدمه هاهنا ومن نظر إلى تأكد الحق على الولد، اعترض له هاهنا اعتبار هذا التأكد في مقابلة اعتبار القرب، فمن راعى التأكد قدّمه على القرب، ومن راعى القرب أو الاستصحاب قدَّم الأب. ولو فرضنا جداً عالياً وابنَ دِنْية (3)، فمن اعتبر القربَ أو تأكُّد الحق على الولد، قدم الابن.

_ (1) حديت: " أنت ومالك لأبيك " رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وابن حبان والطبراني في الصغير والطحاوي في شرح معاني الآثار، والبيهقي في الكبرى (ر. أبو داود: البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده، ح 3530، ابن ماجه: التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، ح 2291، 2292، أحمد: 2/ 179، ابن حبان: ح 410، 4262، المعجم الصغير للطبراني: 1/ 23، 24 رقم 2، شرح معاني الآثار: 4/ 158، السنن الكبرى: 7/ 481). وانظر التلخيص: 3/ 383 ح 1670. (2) في الأصل: ولو. (3) دنية: أي قريب لاصق، يقال هو ابن عمي دِنياً ودنياً ودُنيا أي قريب لاصق النسب (المعجم).

ومن اعتبر الإرث في الطرق المقدمة، أثبت النفقةَ على الجد والابن على حسب قسمة الميراث بينهما. ومن أثبت الولاية فالجد أولى بالولاية. 10214 - والجملة المغنية عن التفصيل أنه ازداد في اجتماع الأصول والفروع رعايةُ تأكد الحق على الولد، وباقي وجوه الاعتبار على ما تقدم، حرفاً حرفاً، ومن لم يعتبر ما مهدناه لا يزداد بتكثير التصوير إلا عَمايَةً [وتدوّخاً] (1). وقد لاح أن تلك المعاني لا تختلف في هذا القسم، بل زاد معنى آخر، وقد نبهنا عليه، وكل ما ذكرناه بيان ازدحام من يلتزم النفقة، وذِكْرُ من يُقدَّم ويؤخر، والذي يسوّى بينهم. ونحن الآن نعقد فصلاً يحوي كلاماً وجيزاً في اجتماع من يستحق النفقة مع ضيق النفقة عن جميعهم. فصل 10215 - إذا فضل عن قوت الرجل في يومه كفايةُ شخصٍ مثلاً، وازدحم عليه الأهل، والمولودون، والأصول، فإلى من يصرف ذلك المُدّ الفاضل؟ ما رأيته أن الزوجة مقدّمةٌ، ولم أر ما يخالف هذا، ورأيت كثيراً من الطرق عريّةً عن التعرض لهذا، واعتل الذين قدّموا نفقة الزوجية بأن قالوا: في نفقة الزوجة رعاية معنى الكفاية على الجملة؛ على مقابلة احتباسها في رِبقة الزوجية، وهي أثبت النفقات؛ من جهة أنها لا تسقط بمرور الزمن، ولا تسقط باستغناء الزوجة، فاقتضى ما ذكرناه من التأكد تقديمَها على سائر الجهات، وهذا فيه احتمال معترضٌ، لا نقل عندي فيه. والاحتمال يتضح بتجديد العهد بأصلٍ قدمناه في كتاب التفليس، وهو أن النفقات التي حقَّت وحلّت مقدمةٌ على الديون، وما دام القاضي يمهد بيعَ عروض المفلس، فنفقة المفلس، ونفقةُ أهله وأقاربه مؤداةٌ من تلك الأموال، وإذا فرض بيعها، فيجب

_ (1) في الأصل: ونذوخا. وهو تصحيف مضلّل.

توفية نفقات ذلك اليوم على مستحقها، ويصرف الفاضل [عن] (1) وظائفِ ذلك اليوم إلى الديون، وإنما لا ينتظر مجيء الغد؛ فإنه غيبٌ في حقوقهم، ونفقة الغد لا تجب في اليوم، ووجوب الديون ناجزٌ، وقد ذكرنا أن الإنسان لا يستكسب في ديونه، وذكر طوائف من أئمة المذهب أنه يستكسب لينفق. فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن نفقة الزوجة إنما لا تسقط بمرور الزمن، وتستقرّ في الذمة لما فيها من الدّينيّة ومضاهاة أحكام العوضية، ولهذا لم يلتفت الشافعي فيها إلى الكفاية، وأجمع العلماء على وجوبها للمستغنية، فالذي ذكره الأصحاب في تأكيد نفقة الزوجية، يحقق فيها مَشابِهَ الديون، والنفقاتُ المحضة المدارة على الكفاية والحاجة الحاقّة أولى بالتقديم (2)، وإن فرضت حاجة في الزوجة، فليست هي علة استحقاق نفقتها، فلا أثر لها، ولا وقع. وهذا الاحتمال يتأكد بحديث أبي هريرة في الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه فقال: " معي دينار فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على ولدك، فقال معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك " وظاهر الحديث -إلى أن [يستدّ] (3) فيه تأويل- يدلّ على تقديم الولد على الأهل. فهذا منتهى الكلام في ذلك. والذي صح النقل فيه تقديم نفقة [الزوجة] (4)، ولم أر في الطرق ما يخالف ذلك، لا تصريحاًً ولا رمزاً. 10216 - وإذا بأن ذلك، ذكرنا بعده التفصيل في اجتماع أصحاب البعضية. والقول الجامع فيه أن ازدحامهم، وهم مستحقون -مقيسٌ على ازدحامهم، وهم

_ (1) مطموسة في الأصل. (2) أولى بالتقديم بناء على الأصل الذي أشار إليه من كتاب التفليس، حيث تقدّم النفقات الحاقة الدائرة على الكافية (نفقة القرابة) تقدّم على الديون، ونفقة الزوجية أخص صفاتها مشابهة الديون. (3) في الأصل: يستمر. وهذا تصحيف جرى عليه الناسخ في كل مرة يأتي فيها لفظ (يستدّ). (4) في الأصل: الزوج.

ملتزمون، وقد سبق الترتيب في ازدحامهم وهم ملتزمون، فكل من يقدّم بالالتزام، فإذا وقف موقفَ الآخذ، قُدّم بالاستحقاق، وإذا فرض استواء جماعة في الالتزام، ثم قدّر اجتماعهم في الطلب والاستحقاق سوّي بينهم فضّاً عليهم، كما يُسوّى بينهم في الالتزام. وبين القاعدتين فرقان يختلف المذهب بينهما: أحدهما - أنا في ازدحام الملتزمين، حكينا عن بعض الأصحاب تقديم الذكورة لأنهم أقدر على الاكتساب، وحكينا عن البعض الترجيح بالذكورة، وإذا فرض الازدحام في الأخذ والاستحقاق، فالخلاف يجري على العكس مما تقدم، حتى إذا اجتمع الأبُ والأمُّ والفاضل من نفقة الإنسان مُدٌّ، فمن أصحابنا من يقدّم الأم للأنوثة والضعف، ومنهم من يرى التسوية، فإذا كان الكلام في الأخذ والاستحقاق، فالأنثى عند بعض الأصحاب أولى وأحق لضعفها، كما [أن] (1) الذكر أولى بالالتزام لقوّته، وقدرته على الاكتساب. وقد يخطر للفقيه أمر في ذلك، فيقول: إذا كان المزدحمون في الالتزام موسرين، فلا أثر للقدرة على الاكتساب، وإذا لم يكن لهم أموال، فيجوز اعتبار [الذكورة] (2) إذا كنا نوجب على الإنسان أن يكتسب لينفق. هذا أحد الفرقين، فقد جرت الأنوثة في هذا الفصل مجرى الذكورة في هذا الفصل. والثاني - أن أصحابنا اختلفوا في ازدحام الملتزمين حيث يضرب عليهم أنا هل نعتبر أقدارهم في الميراث أم نضرب على الرؤوس؟ والذي ذهب إليه الأكثرون في ازدحام المستحقين الآخذين أنا لا ننظر إلى الميراث، فإن الحاجة هي المرعية هاهنا. وليس يبعد عندنا إجراء ذلك الخلاف؛ فإن اعتبار أخذ النفقة بأخذ الميراث قد يقرب بعض القرب. 10217 - ومما يتصل بتمام البيان في هذا الفصل أن الآخذين إذا اجتمعوا، وكثروا

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: الزكاة. وهو تصحيف مضلل أرهقنا كثيراً، إلى أن أُلهمنا صوابه.

واقتضت الحال التسوية على وفاقٍ أو على خلاف، والفاضل مد، ولو فُضّ عليهم لخصّ كلَّ واحد منهم حفنة لا تسد مسداً ولا تقع موقعاً، فالذي أراه في ذلك أن يقرع بينهم، وإن كان ما يخص كل واحد يسد مسداً، فذ ذاك لا ينقدح إلا القسمة. والعلم عند الله تعالى، وقد تلتفت القضية إلى قسمة الماء على المُحْدِثين، ولكن هذا تشابه الألفاظ، فليعرف [كل أصلٍ] (1) على ما يليق به. فصل قال: " ولا تُجْبر امرأةٌ على إرضاع ولدها، شريفةً كانت أو دنيئة، موسرة كانت أو فقيرة ... إلى آخره " (2). 10218 - إذا ولدت المرأة ولداً، وكانت غيرَ مشتغلة بحق الزوج لبينونة، فإذا طلبت [إرضاعه] (3)، كانت أولى به على الجملة من غيرها. ولو أراد الأب أن يضمه إلى حاضنة من الرضاع، لم يكن له ذلك، إذا كانت الأم متبرعة. ولو طلبت أجرةً، وكان الأب لا يجد مُرضعةً إلا بأجرة، وكانت الأم لا تطلب مزيداً، فالأم أولى، ويتعين ضمُّ المولود إليها. ولو كانت الأم تبغي أجرتَها، وكان الأب يجد متبرعة من المراضع، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يجب عليه التزامُ الأجر وضمُّ الولد إلى [الأم] (4)؛ فإنه يتمكن من تحصيل الرضاعة من غير احتياج إلى بذل مال. والقول الثاني - أنه يجب عليه بذل الأجر؛ فإنَّ تحنّن الأم وحدَبَها لا يسوغ تفويته

_ (1) في الأصل: " فليعرف كان أهل على ما يليق به " والمثبت من تصرف المحقق، نرجو أن يكون صواباً. (2) ر. المختصر: 5/ 82. والمثبت من نص المختصر، حيث العبارة غير مقروءة -في جملتها- في الأصل. (3) في الأصل: طلبت لرضاعه. (4) في الأصل: الإمام.

على الولد، وليس هو خفي الأثر، والأجنبية لا تسد مسدّها في ذلك، والقولان يجريان والأجنبية تحابي وتسامح، والأم تطلب تمام الأجر. ولا خلاف أن الأم لو كانت تطلب أكثر من أجر مثلها، فلا يلزم الأب التزام الزائد؛ إذ لا ضبط له ولا منتهى يوقف عنده، على أنه غبينة، وهي غير محتملة في الشرع، والدليل عليه أن الماء المفروض بثمن مثله يشتريه المسافر، وإن كان يباع بغبينة، تحوّل إلى استعمال التراب. 10219 - ثم تولّع الأصحاب رضي الله عنهم بأمرٍ واتفقوا على إجرائه في تفاصيلِ المذهب، ونحن نذكر ما ذكروه، فنقول أولاً: إن لم نجد للولد مرضعاً سوى الأم، تعيّن عليها الإرضاع بالأجر، ومؤونة الإرضاع على الأب بالاتفاق؛ فإنا قدمنا أن نفقة الصغير على الأب، ومؤونة الإرضاع مفتتحُ ما يلتزمه من النفقة، ولو لم نجد إلا أجنبية، ألزمناها أن ترضع الولد، إذا كان في ترك إرضاعه إشفاءُ على الهلاك، وهذا من إنقاذ الهَلْكَى، وهو يتعين على من يتمكن منه، إذا كان لا يوجد غيره، على ما سنذكر ذلك في تقاسيم فروض الكفايات في كتاب السير، إن شاء الله. والذي أجراه الأصحاب أن قالوا: إذا وجدنا حاضنة مرضعة أجنبية، فلا يجب على الأم الإرضاع، ولكن يلزمها أن ترضعه اللِّبأ؛ فإن الولد لا يحيا دونه، وهو أوائل ما ينزل من اللبن. هذا ما رأيته للأصحاب، ولم أر له تحقيقاً عند أهل البصائر، وكم من أم تُطْلَقُ وتموت في الطلْق، فتخلفها حاضنة في الإرضاع ويحيا المولود، ولكن ما ذكره الأصحاب هو المذهب وعليه التعويل، وقد يغلب موت ولد المطلوقة، وإن [احتضنه] (1) مراضع، وهذا من آثار انقطاع أوائل اللبن، والعلم عند الله تعالى. وتمام البيان في ذلك أنا لا نشترط فيما نُلزمه من ذلك القطعَ بهلاك المولود، ولكن إذا ظننا هلاكَه، وووقعَه في سبب يُفضي إلى الهلاك بدرجة، فيجب السعي في دفعه، وإذا ظهر الضرار، وجب الدفع: فرضَ عين، أو فرضَ كفاية، فإن كان منعُ

_ (1) في الأصل: احتضنها.

اللِّبأ مضراً، ونعتقد أن الأمر كذلك لاتفاق الأصحاب، فيتعين على الأم أن تسقي الولد اللِّبأ، ثم لا نكلفها التبرع بذلك، إذا كان لسقي اللِّبأ أجرٌ. فانتظم من المسائل التي أرسلناها بدداً أن الأم لا يلزمها الإرضاع، والأب يجد غيرَها، فإن طلبت، فهي أولى إن كانت متبرعة، وهلم جراً إلى تمام التفصيل. وفي اللِّبأ ما ذكرناه، فالمؤنة إذاً على الأب، وحق [الاحتضان] (1) للأم إن أرادته، وكل هذا وهي فارغة عن رعاية حق الزوج. 10220 - وأما إذا كانت منكوحة فولدت، وطلبت أن تُرضعَ الولد، وطلب الزوج منها الاستمتاع في أوقات همّها بالرضاع، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن حق الزوج مُتّبع، وليس لها أن تشتغل بالإرضاع عن حقه، وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن لها أن تُرضع الولد، وإن كانت تنقطع عن توفية حق الزوج لزمان اشتغالها. وهذا الوجه بعيد، ولكن يمكن أن يقال: إنه خارج على القولين في أن الأم إذا طلبت الأجر على الإرضاع، ووجد الأب حاضنة متبرعة أو راضية بدون أجر المثل، فهل يجب على الأب بذلُ الأجر للأم؟ فعلى ما قدمناه. فإن قلنا: لا يجب عليه تعطيل حظّه من المستمتع بها إذا كان يجد مرضعاً أجنبية، كما لا يجب عليه تعطيل ماله، وهو يجد متبرعة، فإن قلنا: يجب على الأب بذلَ المال للأم مع وجدان متبرعة، فلا يمتنع أن يجب عليه تعطيل حظه من المستمتع، حتى لا ينقطع عن الولد شفقتُها وحدَبُها. وهذا يحتاج [إلى مزيد تفصيل، وهو إن كان ولدها من غير الزوج، لم يجب على] (2) الزوج تعطيل حقه من الاستمتاع، وإن كان الولد منه، فعلى القولين؛ لأنه يجب عليه القيام بمصلحة ولد نفسه، ومن مصلحته أن تكون الأم قوّامةً عليه. فهذا نجاز الفصل، وقد انتهى به القول في النفقات والله المحمود. ...

_ (1) في الأصل: الاختصاص. والمثبت من المحقق استرشاداً بعبارة صفوة المذهب. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وزدناه من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 230 يمين.

باب أي الوالدين أحق بالولد

باب أي الوالدين أحق بالولد (1) روى الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه (2). 10221 - الحضانة من الأحكام التي يجب صرف الاهتمام إليها، ويقلّ في العلماء من يستقلّ به (3)، فإنه جمع إلى غموض الأطراف انتشار المسائل، [والتفاف] (4) الكلام عند فرض الازدحام، واضطراب العلماء فيما يعتبر في التقديم والتأخير، ونحن بعون الله وحسن توفيقه [تقدّم] (5) قواعدَ في الحضانة ونذكرها أرسالاً، ومتواصلة، ثم نخوض في بيان الازدحام، وهو غمرة الباب. فنقول: الحضانة حفظُ الولد، والقيامُ عليه بما يحفظه، ويقيه، ويستصلحه، وأول ما نبتدىء به أن الولد الرضيع والفطيم إلى أن يبلغ سنَّ التمييز إذا دار بين الأب والأم وهي بائنة عن الزوج، منعزلةٌ عنه، فالأم أولى بحق الحضانة إذا هي طَلبتْها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب. ثم إنما تكون مستحِقة للحضانة إذا استجمعت أوصافاً: أحدها - الحرية. والثاني -

_ (1) هذا الباب يتعلق بالحضانة، وقد جرى الإمام على ترتيب المختصر فلم يسمّه (كتاب الحضانة) ولكن جعله باباً من كتاب النفقات (برغم قوله آنفاً: "انتهى القول في النفقات". وعلى هذا النسق جرى الإمام الرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة، إلا أنهما نصا على أن الباب في الحضانة. وخرج عن ذلك ابن أبي عصرون في صفوة المذهب فقال: (كتاب الحضانة) أما العز بن عبد السلام، فجعله باباً بنفس عنوان نسخة الأصل: (باب أي الوالدين أحق بالولد). (2) ر. المختصر: 5/ 83. وسيأتي آنفاً مزيد تخريجٍ للحديث. (3) أعاد الضمير إلى مذكر على معنى (باب الحضانة). (4) في الأصل: والتفات. (5) زيادة اقتضاها السياق.

الاستقلال بالعقل. والثالث - الأمانة. والرابع - الفراغ. والخامس - الإسلام إذا كان الولد مسلماً. أما الحرية إنما شرطناها لتتفرغ إلى الحضانة؛ فإن الرقيقة مستوعَبَةُ المنافع، والحضانةُ ضرب من الولاية، وإن كانت المرأة تستحقها، والرقُّ يباين الولايات، وأما الاستقلال، فهو الأصل، وكذلك الأمانة. 10222 - وأما الفراغ، فالمعنيّ به أن لا تتزوج زوجاً غيرَ أب المولود، فإذا نكحت، بطل حقها من الحضانة وفاقاً، ولو رضي الزوج بأن تحتضنه، فلا يعود حقها لرضا الزوج باحتضانها، كما لا يثبت حق الحضانة للرقيقة [وإن] (1) رضي مولاها، فلو طلقها الزوج، نظر: فإن أبانها، عاد حقُّها في الحضانة، خلافاً لمالك (2) رضي الله عنه، فإنه قال: إذا بطل حقها من الحضانة بالنكاح، لم يعد بالإبانة، ولا خلاف أنها لو جُنت، ثم أفاقت، فحقها يعود بالإفاقة. هذا إذا طلقها الزوج طلاقاً مبيناً، وأما إذا طلقها طلاقاً رجعياً، فالمنصوص عليه للشافعي رضي الله عنه أن حقها يعود بالطلاق الرجعي؛ فإن الرجعية تنعزل عن زوجها، وتتربص للاعتداد، فإذا انقطع عنها شغل مستمتع الزوج، كانت في الغرض المطلوب بمثابة البائنة. وذهب المزني إلى أن حقها لا يعود؛ فإن سلطان الزوّج مطرد عليها: يرتجعها متى شاء، وهي في حكم الزوجات، فيبعد أن يعود حقها من الحضانة، وهي بعدُ على حكم الزوجية، وقد خرج ابن سريج وغيره قولاً موافقاًً لمذهب المزني، وهو منقاس حسن، ووجهه ما ذكرناه. ثم مما يجب التنبّه له أن البائنة لو كانت في مسكن الزوج، وكانت تعتد فيه، فللزوج أن يمنعها من إدخال ذلك المسكن الولدَ، وكذلك لو كانت رجعية، ولو كان اتفق النكاح في مسكن المرأة، وكانت تعتد فيه، فحينئذ حكم عود الحضانة على

_ (1) في الأصل: فإن. (2) ر. المدونة: 2/ 244، عيون المجالس: 3/ 1407 مسألة 988، القوانين الفقهية: 223.

ما ذكرناه، ولو كان المسكن للزوج ورضي بإدخال الولد المسكنَ، فحق الولد ثابت في الحضانة، وليس كما لو رضي بأن تحتضن الولد مع قيام الزوجية، فإن حقها لا يقوم فإن الزوجية رقٌ، وإذن الزوج كإذن المولى للرقيقة، وأما ما يتعلق بالمسكن والرضا بإدخال الولد إياه، فهذا محتمل، وهذا كما لو كانت المرأة استعارت مسكناًً، وكانت خليّة، فأخذت تحتضن الولد في الدار المستعارة، فلها حق الحضانة، وإن كان من الممكن أن يسترد المعير العارية، وإذ ذاك لا تتمكن من الحضانة، فلا نظر إلى أمثال هذا، والعلم عند الله تعالى. 10223 - ومما يتعلق الكلام به أن الرجعية مستحقةٌ للنفقة، فلو أخذت تحتضن من غير استرضاء المطلِّق، وكان المسكن لها، كما تقدم التصوير، فالمذهب أن نفقتها لا تسقط؛ فإنها باشتغالها بالاحتضان ليست ناشزة على زوجها؛ فإن الناشزة هي المانعة حقاً لزوجها. قال الشيخ أبو علي رضي الله عنه: الظاهر عندنا أن نفقتها تسقط، كما لو كانت في صلب النكاح، فإن الرجعية تستحق نفقة الزوجية، فتسقط نفقتها بما يسقط به نفقة الزوجات. وهذا عندي هفوة؛ فإن الزوجة في غيبة الزوج لو احتضنت الولد أو أخذت تحترف على وجهٍ لو اشتغلت بمثله في حضور الزوج وزاحمت حقه، لكانت ناشزة، فلست أراها ناشزة في الغيبة. نعم، إن خرجت من مسكن النكاح في الغيبة، فقد انسلت عن الخدر، وفارقت رباط الزوج على خلاف ما يبغيه الرجل في الغيبة والحضور، فذاك يؤثِّر. هذا منتهى الكلام فى تزوج المرأة، وما يفرض من طريان الطلاق المبين وغيرِ المبين. 10224 - وأما اشتراط إسلامها فبيّنُ [التعليل] (1) إذا كان الولد مسلماً تبعاً لإسلام الأب، فإن تسليمه إليها يجرّ خبلاً على دينه، وليس يخفى أثر المربية والمربي في حق

_ (1) في الأصل: فبين التعديل.

الطفل فيما يتعلق بدينه، وبحقٍّ قيل: التلقُّف في الصغر كالنقش في الحجر. ؤقال أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا: لا يشترط إسلام الأم، واحتج على ذلك بما روي " أن أباً مسلماً وأماً كافرة تنازعاً مولوداً بينهما، ولم يكن المولود مميزاً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضاره، وقال للأبوين: ادعواه، وقال عليه السلام في نفسه لما دعواه: " اللهم اهده "، فانسل الصبي إلى أبيه " (1) ولو لم يكن للكافرة حظ (2)، لبتَّ عليه السلام قوله في الإلحاق بالأب. ومذهب الأصطخري لا ينطبق على مضمون الحديث، وقد يقول: إنما نخاف على دين الطفل إذا كان مميزاً، ولست أرى ما يقول إذا ميّز الصبي بين أمه الكافرة وأبيه المسلم، فإن قال: " يخير "، فقد ظهر تعريض دينه للفتنة، وإن قال: لا يضم إلى الأم إذا ميز، اضطرب أصله وتخبط مذهبه، والجملة أن ما قاله ليس معتداً به، والمذهب ما ذكرناه. وكل ما أشرنا إليه فيه إذا لم يبلغ الولد مبلغ التمييز. 10225 - فإن بلغ سنَّ التمييز مميِّزاً وهو سبعٌ أو ثمان ولا ضبط في هذا السن، وقد يتقدم التمييز على السبع، وقد يستأخر عن الثمان، والغرض حصول التمييز، فإذا صار الصبي مميزاً، خيّرناه بين الأب والأم ونضمه إلى من يختار من الأبوين إذا كان كل واحد منهما أهلاً للحضانة، ولا فرق بين أن يكون غلاماً أو جارية، وأبو حنيفة (3)

_ (1) حديث: " أن أباً مسلماً وأماً كافرة تنازعا ولداً ... " الحديث. رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني من حديث رافع بن سنان. قال الحافظ: وفي سنده اختلاف كثير وألفاظ مختلفة (ر. المسند: 5/ 446، 447، النسائي: الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد، ح 4395. أبو داود: الطلاق، باب إذا أسلم أحد الأبوين مع من يكون الولد ح 2244. ابن ماجه: الأحكام، باب تخيير الصبي بين أبويه، ح 2352. مستدرك الحاكم: 2/ 206، الدارقطني: 4/ 43. تلخيص الحبير 4/ 20 حديث رقم 1857). (2) هذا وجه الاستدلال بالحديث، فالمعنى أنه لو لم يكن للكافرة حق في الحضانة، لما كان التخيير. (3) ر. مختصر الطحاوي: 227، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 456 مسألة 975، فتح القدير 4/ 367 وما بعدها.

يضم الجارية إلى الأم على سن التمييز، والغلام إلى الأب، ونحن لا نفصل بينهما. واعتمد الشافعي الخبر والأثر، فروَى في صدر الباب بإسناده عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر غلاماً بين أبيه وأمه" (1) وروى عن عمر رضي الله عنه " أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه " (2) ونحن إذا أطلقنا القول بتقديم الأم في الحضانة، أو تقديم غيرها من الإناث، أردنا بذلك القيام بالحضانة قبل بلوغ الصبي سنَّ التمييز، وليس هذا مما يتطرق إليه القياس؛ فإن عبارة الصبيّ مستلبة، وإنما يظهر في مسلك المعنى اعتمادُ عبارته فيما يتعلق [بإعرابه عن] (3) حاجات نفسه؛ إذ لا اطلاع عليها إلا من جهته، فلا رجوع إلا إليه، فأما الاختيار بين الأبوين، فليس من هذا الفن، والقياس يقتضي إدامة حق الحضانة للأم، ولكن لا مبالاة بطرق القياس المظنون مع صحة الخبر. ثم ليس هذا اختياراً من الصبي لازماً أو ملزماً، فلو اختار أحد الأبوين، ثم بدا له واختار الثاني، رددناه إلى الثاني، ولو عاد إلى الأول، لتبعنا اختياره، وليس هذا كاعتراف خنثى بكونه ذكراً أو أنثى، فإنه مؤاخذ بموجب اعترافه، لا يقبل رجوعه عنه. وإذا تعذرت القيافة والإلحاق بها، فانتسب الولد إلى أحد المدعيَيْن، فذلك لازم، لا سبيل إلى الرجوع عنه. قال الأصحاب لو تردد الصبيّ المخيَّر بين الأبوين تردداً كثيراً دالاً على خبلٍ به فنتبين أنه ليس مميزاً.

_ (1) حديث أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه وأمه". رواه الشافعي في الأم: 5/ 82، وأحمد (2/ 246) وأبو داود: الطلاق، باب من أحق بالولد ح 2277، والترمذي: الأحكام، باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا، ح 1357 وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: الأحكام، باب تخيير الصبي بين أبويه ح 2351. وانظر التلخيص 2/ 23، 24 حديث رقم 1859. (2) حديث أن عمر خير غلاماً بين أبيه وأمه. رواه البيهقي في الكبرى: 4/ 18. وانظر التلخيص 2/ 24. (3) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها).

ولو كان بالصبي خبل، فهو مُقَرٌّ في حضانة الأم كحالته قبل التمييز. وهذا فيه نظر، فإنه لا ينكر في جبلّة الصبي وإن كان على كيْس تامٍ وتمييزٍ أن يقيم عند أحد الأبوين زماناً، [ويتشوق] (1) إلى الثاني، وتكرُّر ذلك ما أراه شاهداً على [الخبل] (2) والكلام عندي في أنه إذا كان يفعل ذلك، فلا وجه إلا اتباعه على شرط أن لا يتعطل أركان الحضانة بالتردد. ولو خيرنا المميز، فسكت، ولم يُحِرْ جواباً، ولم يختر واحداً من الأبوين، فهذا أيضاًً غير مستنكر من الكيِّس المميز. والظاهر عندنا أن يبقى في حضانة الأم؛ فإن أصل الحضانة لها، ما لم يقطعها اختيار من المولود للأب في حالة التمييز. ولو كان الصبي مخبَّلاً أو بلغ [مخبلاً، فحضانة] (3) الأم دائمة، فلو كانت الأم لا تستقل بحفظ المجنون الكبير، فالأب حينئذ؛ فإن الكلام فيمن يكون أولى بالحضانة مشروط بأن تُتصوّر الحضانة منه. 10226 - ولو بلغ الطفل عاقلاً رشيداً، فقد استقل بنفسه، ولم يبق عليه مراقبة إذا كان غلاماً. وأما الجارية إن كانت بكراً، فظاهر المذهب أنها وإن كانت عاقلةً ظاهرةَ الرشد، فللأب أن يُسكنها حيث يستصوب، وليس لها أن تقوم بنفسها، وتكون حيث تشاء؛ وذلك أنها وإن استقلت لبلوغها ورشدها بسائر أحكامها، فالأب يجبرها على النكاح، فلتكن لهذا الوجه في ضبط الأب، وينقطع عنها سلطان الأم. وحكى صاحب التقريب وجهاً أن البكر إذا كانت مأمونة ظاهرة الرشد، فلا معترض للأب عليها، ولها أن تسكن حيث تشاء، وهذا الوجه وإن كان غريباً متجهٌ في القياس؛ من جهة أنها [مستقلة] (4) بجميع أحكامها إلا النكاح؛ فإن الأب يجبرها على النكاح بحكم الجبر، وليس المسكن من النكاح في شيء.

_ (1) في الأصل: ويتشرق. (2) في الأصل: الخبر. (3) في الأصل: مختلاً بحضانة الأم. (4) في الأصل: مشتغلة.

ثم من قال: يسكنها الأب حيث يشاء يخصّص ذلك بالأب، والجدُّ في معنى الأب؛ فإنه يجبر على النكاح إجبار الأب. فأما من عدا الأب والجد، فلا يملكون الاحتكام على البكر البالغة الرشيدة، فإن نوبة الحضانة قد انتهت، [وليس] (1) لهم إجبارُها على النكاح، فهي بمثابة الثيب في حقوقهم. ولا خلاف أن الثيب إذا كانت مأمونة، فلا اعتراض للأب ولا لغيره [من] (2) العصبات عليها. وإن كانت المرأة بحيث تُزَنّ بريبةٍ (3)، فللأب والجد، ومن سواهما من عصبات النسب أن يحضنوها في مسكنٍ يسهل عليهم مراقبتها فيه، وإنما أثبتنا لهم ذلك، حتى لا يلحقهم العار، وقد جوزنا لهؤلاء الاعتراض على نكاحها، إذا زوجها بعضُ الأولياء [ممّن] (4) لا يكافئها. ولو ادّعى الولي ريبة، فإن أظهرها، فله الاحتكام، وإن عجز عن إظهارها، فهذا فيه بعض النظر، فإن الرِّيب قد تخفى حتى لا يدركها إلا من تبطّن من أهل القرابة، ولا يمتنع ألاّ يكلفَ من له حق الاعتراض أن يُظهر الريبة، وقد يكون وجه الرأي في الإخفاء؛ حتى لا تشاع فاحشة على المرأة. هذا وجهٌ من الرأي، في الثيب والبكرِ في حق غير الأب والجد. ويعترض على هذا أنه يُفضي إلى تمليك الولي الاحتكام على المرأة المستقلّة من غير حجة وإظهارِ موجِبٍ ومقتضٍ، والعلم عند الله تعالى.

_ (1) في الأصل: وليت. (2) في الأصل: في. (3) تُزنّ بريبةٍ: أي تتهم بسوء، من قولهم: زنَّ فلاناً زنّاً: اتهمه بسوء أو غيره (المعجم). ونشير هنا إلى أن إمام الحرمين متأثر في عبارته بشعر حسان رضي الله عنه في مدح عائشة أم المؤمنين المبرّأة رضي الله عنها حيث قال: " حصانٌ رزانٌ ما تُزَنّ بريبةٍ " مما يشهد للإمام بالإحاطة بدواوين اللغة والأدب. (4) في الأصل: فمن.

فرع: 10227 - ذكرنا أن المرأة إذا تزوجت، بطل حقها من حضانة المولود، وقد استثنى الأئمة من هذا الفصل أن تنكح الأم عمَّ الطفل، وقد يسهل تصوير ذلك، وقد تنكح جد الطفل، فقال الأصحاب: الأم إذا نكحت من له حقٌّ في الحضانة، لم يسقط حقها من الحضانة، وإن كان زوجها مؤخراً في استحقاق الحضانة عن الأب على ما سيأتي ترتيب ذلك من بعد، إن شاء الله. وذكر الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن حق الحضانة للأب. توجيه الوجهين: من قال: الحق للأب، قال: لأنها اشتغلت بالنكاح، فبطل حقها، وبقي الجد والأب، أو العم والأب، والأبُ مقدّمٌ على من هو زوجها. [ووجهُ] (1) الوجه الثاني، وهو الذي صار إليه معظم الأصحاب أن حقها لا يسقط من الحضانة؛ لأنها انضمّت بالزوجية إلى من له حق الحضانة، فلا تصير مشغولة بهذا التزوج، وهي بمثابتها لو كانت خليةً عن الزوجية. والذي لا بد منه في إتمام ذلك أن المسألة مفروضة فيه إذا كان زوجها (2) طالباً للحضانة، فيتحقق ما ذكرناه، وتصير المرأة معتضدة [في معنى الحضانة] (3) ويزيدها النكاح إعانة. وأما إذا كان زوجها لا يطلب الحضانة ويبغي منها التفرغَ له، والتهيؤ لحقوقه، فهي مشغولة والحالة هذه بالزوجية، فيستحيل أن يثبت لها حق الحضانة والحالة هذه.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) ننبه أن المراد (بزوجها) هنا، هو الزوج الذي تعيش معه (عم أو جد الطفل) فلا ينصرف الذهن إلى الزوج الأول، الذي هو أب الطفل. (3) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) والمثبت من صفوة المذهب.

فصل 10228 - قد ذكرنا أن الأم أولى بالحضانة قبل بلوغ الطفل مبلغ التمييز، واستثنى الأئمة من هذا الفصل [ما إذا أراد الأب أن يسافر] (1) سفر النُّقلة، ونحن نقول فيه: إذا أراد الأب المسافرة والانتقال إلى بلدة أخرى، فيبطل اختصاصُ الأم بالحضانة إذا كانت تؤثر الإقامةَ، والسبب فيه أن الأب إذا انتقل إلى ناحية أخرى، وترك الولد في حضانة الأم [فقد] (2) يُفضي هذا إلى أن يندرس وينمحق نسبه، وهذا يظهر أثره ووقعه في الحال والمآل؛ فإن اشتهار الأنساب بالرجال، والنسوة لازماتٌ خدورَهن، لا يظهر من تفاوضهن أنساب المولودين. ثم الظاهر الذي مال إليه ذوو التحقيق أن هذا فيه إذا كان بين مكان الأم وبين الموضع الذي ينتقل الأب إليه مسافة إلى حد الطول، وأقل مراتب السفر الطويل مرحلتان، فإن كان الموضع الذي ينتقل إليه الأب دون هذه المسافة، فليس له أن ينتزع الولد من الأم؛ فإن النسب لا يخفى مع قرب الأب، ووقوعه من الولد على مسافة قصيرة؛ فإن طروق الوافدين والواردين من إحدى الناحيتين على الأخرى يُديم إشاعة النسب، وإنما يفرض الخفاء عند طول المسافة، ثم لا مرجع يُنتهى إليه ويتمسك به في الطول والقصر إلا ما ذكرناه. وفي طرق بعض الأصحاب ما يدل على أن الانتقال يُثبت للأب حق انتزاع المولود وإن لم تبلغ المسافة حدَّ الطول، وهذا قد يمكن توجيهه بانقطاع نظر الأب عن رعاية المولود؛ فإنه إذا كان حاضراً، وكان الولد بمرأىً منه ومسمع، فالأم كالمستنابة في الحضانة ولحاظُ الأب دائم، وهو قائم عليه بالتأديب والذّبّ عند الحاجة، وكأن الاستقلال في تربية الولد دون رجل في حكم التعطيل، وإذا كان الرجل حاضراً، فكأنه الأصل والأم معتضدة به، وهي قائمةٌ بطرفٍ واحد من مصلحة المولود، كغسله وتنقيته ووقايته من المخاوف.

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (2) في الأصل: وقد.

وهذا كله إذا كان السفر سفر نُقلة، فلو هم الأب بالانتقال، وأرادت المرأة أن تستديم الحضانة، فانتقلت معه، فحقها يدوم، فإن الغرض عدم انقطاع المولود عن الوالد. ولو كان السفر سفر تجارة أو نزهة، فإن كان ظاهرُ الأمر على أنه يعود على القرب، فلا ينتزع في هذه السفرة الولد من الأم، ونبني الأمر على إسراع الكرة، والأمر كما وصفناه، وإن طالت المسافة. ولو كانت السفرة على حدٍّ من الطول أو الشغل فيه ثقيل لا ينتجز إلا في زمان طويل، يفرض في مثله نسيان الأنساب، سيّما في أصحاب الخمول، فالذي ذهب إليه الأصحاب في الطرق طردُ القياس في إدامة الحضانة؛ فإن بناء السفر على إضماره الكرّة، وحق الحضانة إنما يُقطَع بأمرٍ ظاهر الوقع. وكان شيخي أبو محمد يقول: له المسافرة بالمولود إذا كان يطول أمر السفر على حدٍّ يظهر ضرره وأثره، والعلم عند الله. فصل 10229 - إذا كان الولد مضموماً إلى الأم، فحق على الأب ألاّ يكله إليها فيما يعلم أنها لا تستقل فيه برعاية مصلحة المولود، وذلك كتأديب الطفل عند مسيس الحاجة، وحملِه إلى المكتب وردِّه، أو إلى من يعلّمه الحرفةَ إن كانت تقتضي ذلك؛ فإن هذه الأمور لا يتأتى من النسوة الاستقلالُ بها. ولو ضممنا المولود إلى الأب عند اختيار الولد المميز للأب، فلا يجوز قطع الأم عنه؛ فإن ذلك [يؤذي] (1) الصبي ويبلغ به المبلغ العظيم، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تولّهُ والدة بولدها " (2).

_ (1) في الأصل: " يوفي " والمثبت من (صفوة المذهب). (2) حديث: " لا توله والدة بولدها " رواه البيهقي: 8/ 5، وانظر كنز العمال: 14023، 25023.

فصل 10230 - ألحق الفقهاء رضي الله عنهم حقَّ الحضانة بالولايات، ولذلك قُدّم القريب على البعيد، غيرَ أنها تثبت للإناث، بل الإناثُ بها أولى على الجملة، كما سيتضح ذلك في التفاصيل، والولايات في غير ذلك مختصة بالرجال، والسبب فيه أن مقصود الولايات يليق بالرجال لتعلقه بالتصرف والتبسط، وهذا لا يتأتى من النساء، وحقهن أن يلزمن خدرهن ويُفوّضن إلى الرجال أمورَهن. وأما الحضانة، فالنساء بمصالحها أعرف، [ولو حاولها] (1) الرجل، لأعياه أمرها ما لم يستعن بامرأة، فانفصلت الحضانة عن الولايات، لما ذكرناه. واشتراطنا الصفات التي ذكرناها في الحاضنة والحاضن يشهد لالتحاقها بالولاية. ثم من قولنا في الولاية: إن القريب المستحِق لها لو غاب وحضر البعيد الذي هو من أهل الولاية لولا القريب، فالولاية لا تنتقل إلى البعيد، بل يقوم بها السلطان -إن مست- قيامَ نيابة قهرية، كما قدمنا تقرير ذلك في كتاب النكاح. وما ذكرناه يجري في ولاية التزويج والإنكاح إذا غاب الأقرب وهو الأبُ، وشهد الجدُّ أبُ الأب، ويمكن فرض ما ذكرناه في غير الأب والجد من العصبات، إذا كان الكلام في ولاية التزويج. 10231 - فأما الحضانة فإذا غاب عنها القريبُ المقدمُ لو حضر، وشهد البعيدُ المستحق لو لم يكن القريب، فالذي قطع به أئمة المذهب أن حق حضانة المولود يثبت للبعيد بخلاف سائر الولايات، وفرّقوا في ذلك فرقاً واضحاً، فقالوا: النظر في التزويج وحفظ المال يتهيّأ من السلطان بنفسه أو بإقامته غيرَه مقام نفسه. وأما الحضانة فمبناها على الشفقة المستحَقَّة على إدامة النظر؛ إذ الصبي غير المميز يحتاج في كلاءته إلى شفيق به، وقد قلنا: لا يزوج السلطان الصغيرة؛ لأن مبنى تزويجها على كمال الشفقة، ويلي مالَها؛ لأنه لو خُلِّي عن النظر، لتعطل، ولو بُلي

_ (1) في الأصل: ولو حار لها.

السلطان بحضانة طفل، لكان طريقه أن يستعين فيها بذي قرابة له إن وجد، وليس من النظر أن يسلّمه إلى أجنبي، أو أجنبية، وهذا الذي ذكرناه مما يجب، وليس أمراً يوصف بالاستحباب. وإذا كان كذلك، فالوجه التسليم إلى القريب. وقد أشاع الخلافيون وجهاً أن القريب إذا غاب، فحقّ النظر يتعلق بالقاضي قياساً على سائر الولايات، ولست أحكي مثل ذلك ليلحق بالمذهب، ولكني أذكره ليتبين أنه لم يذكره المعتمدون، فيقطع عن المذهب. فصل: " وإذا اجتمعت القرابة من قِبل النساء وتنازعن المولود ... إلى آخره " (1). 10232 - مضمون هذا الفصل غمرة الحضانة، وهو الذي يجب صرف الاهتمام إليه، والله المعين. وغرضه الجُملي الكلامُ فيمن يكون أولى بالحضانة إذا فُرض [اجتماع] (2) أصحاب الحقوق، وحاصله يتعلق بنوعين: أحدهما - في ضمن التنازع في طلب الحضانة، والنوع الثاني - في التدافع في الحضانة. فأما النوع الأول - فيشتمل على فصولٍ: أحدها - في اجتماع النسوة المنفردات. والثاني - في اجتماع الرجال المنفردين. والثالث - في اجتماع الرجال والنساء. وقاعدة الفصل أن الحضانة ليست كوجوب النفقة؛ فإن وجوب النفقة يختص بالبعضية، والحضانةُ تتعداها لا محالة، وهي تتعلق بالقرابة والمحرميّة وفاقاً، إلا في

_ (1) ر. المختصر: 5/ 86. (2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

الجدات الفاسدات، وفيهن كلام سيأتي في التفصيل، وتتعلق بالقرابة والعصوبة من غير محرمية. والقرابةُ المحضة التي لا محرمية معها، ولا عصوبة، ولا إرث فيها كلامٌ واختلافٌ. هذا قواعد المذهب على الجملة. ويخرج منها أنا في وجهٍ ظاهر نُعلّق الحضانةَ بالقرابة المحضة، وإن كنا نقدم القريب على البعيد، ومن يتمسك بقوة في القرابة على من لا يتمسك بها. 10233 - ونحن الآن نبتدىء بعون الله وتوفيقه القول في النسوة المتجردات إذا اجتمعن، وتنازعن الحضانة. وللشافعي في تأسيس المذهب مسلكان نطردهما أولاً، ثم نذكر ما نراه أَوْلى الطرق المفضية إلى البيان. قال الشافعي في الجديد: أوْلى النساء بالحضانة الأم وأمهاتها، ما لم يتخلل بينهن ذكر، والقربى منهن أولى من البعدى. ثم بعدهن أمهات الأب وإن علون، ما لم تدلين بمن لا يرث، والقربى منهن أولى من البعدى. فإن لم يكن، فأمهات الجد وإن علون على الحدّ الذي ذكرناه في أمهات الأب، ثم بعدهن أمهات أب الجد على الترتيب الذي تقدم، والجدة البعيدة المدلية بمحض الأمهات إلى الأب، مقدمة على أم أب الأب؛ فإن الدرجة إذا تقدمت على الدرجة لم يُرْع بين الشخص الواقع في الدرجة القريبة وبين الشخص الواقع في الدرجة البعيدة التفاوتُ في القرب والبعد ممن يطلب القرب منه في الأصل، فإن الدرجة إذا قدمت قدم من فيها -وإن بعدوا- على من في الدرجة الأخرى البعيدة، وعلى ذلك يجري أصل الميراث والعصوبة وما يتعلق بها، ولذلك يقدم ابن ابن الأخ وإن سفل وتناهى بُعْدُه على العم. ثم إن لم يكن للمولود واحدة من الجدات من قِبل الأم ولا من قبل الأب، فالرجوع بعدهن في الترتيب الجديد إلى الأخوات، ثم هن يترتبن: فالمقدمة الأخت من الأب

والأم، وبعدها الأخت من الأب، وبعدها الأخت من أم. والرجوع بعد أخوات المولود إلى خالاته، وهن يترتبن ترتُّبَ الأخوات، فإنهن يقعن من أم المولود موقع أخوات المولود. وبعدهن العمات وترتيبهن كترتيب الأخوات والخالات. هذا هو الترتيب المنقول عن الجديد. وقال في القديم: تقدم الأم وأمهاتها المدليات بالإناث، فإن لم يكن، فالأخوات، ثم الخالات، وهن مترتبات كما ذكرنا في الترتيب الجديد، وبعدهن أمهات الأب، وبعدهن العمات. 10234 - وأول ما نذكره بعد نقل الترتيبين الجديد والقديم محل اتفاق النصين ومحل اختلافهما، فالأم وأمهاتها مقدماتٌ على من عداهن جديداً وقديماً، والعمات مؤخرات عن الجميع في الترتيبين، والأخوات مقدمات على الخالات في القولين. ومحل الخلاف أن القول الجديد يقتضي تقديم أمهات الأب إذا لم يكنّ فاسدات على الأخوات والخالات، وترتيب القديم يقتضي تقديم الأخوات والخالات على أمهات الأب. هذا موضع اختلاف القولين، وبيان الترتيبين. 10235 - وإذا اتضح هذا، فالوجه أن [نذكر بعده] (1) متمسَّك القولِ الجديد، ومتعلَّق القول القديم، ونقدّم على رسم التوجيه التنبيهَ على ما يجب أن يكون معتبراً في هذا الباب، فنقول: مقاصد الأبواب تناسب عِللَها، وعللُها تلائم مقاصدَها، ومعلوم أن المقصود من الحضانة القيامُ بحفظ مولودٍ غيرِ مستقل، ثم الأمر في حفظه ليس مما يقبل الفترات، فإن المولود في حركاته وسكناته لو لم يكن ملحوظاً من مراقِب لا يسهو ولا يغفل، لأوشك أن يهلَك، وهذا يستدعي شفقةً تامةً تحمل على المراقبة بالعين الكالئة.

_ (1) في الأصل: "نذكره بعد".

فهذا هو المعتبر [ولا شك] (1) [وهذا] (2) الأصل مع اختلاف المذاهب واحد، وهذا [كما أنا رأينا] (3) اعتبار القُرب في النفقة أولى المسالك. ثم إن اتجه التَّدْوار على هذا المعنى، طردناه، وإن بعدت الدرجات ودقّ النظر في التفاوت في الشفقة، امتزج بالكلام اعتبار قوة القرابات، ويثور إذ ذاك وجوه التردد. ومن الأصول اللطيفة أن النفقة اختُصَّت بالبعضية؛ إذ ليس في قطع تعلقها بالقرابة العامة ما يؤدي إلى تعطيل، فإن لأصحاب الحاجات أموالاً معتدة من جهات، والحضانة يعسر إقامة الأجانب والأجنبيات بها، فحَسُنَ ألاّ تُقْصَر على جهة في القرابة؛ فإن القريب وإن بعد أولى بالحدب من الأجنبي. 10236 - وإذا تمهد هذا، فالذي اعتبره في الجديد -مأخوذاً من الشفقة- أن الأمهات أولى النساء بالشفقة، والجدات من قِبل الأب رآهن -في الجديد- لمكان الأمومة والبعضية القائمة والاستنادِ على عمود النسب أولى من الأخوات بالشفقة، وهذا يبعد إنكاره في أحكام العادات، وموجَب الجبلاّت، ثم صوّر عدمَ الجدات، ولم يصادف على عمود النسب غيرَهن، فمال إلى الواقعات حاشيةً، ورأى الأخوات مقدماتٍ؛ لأنهن أشفق على المولود من الخالات، وهن أقرب، وقرابتهُن أقوى، ثم اعتبر الخالات، ورآهن مقدّمات على العمات لإدلائهن بالأمهات، فهن من الأمهات كأمهات الأم، والعمات كأمهات الأب. فهذا سبيل تعليل القول الجديد. وأما وجه القول القديم، فينشأ من القاعدة التي ذكرناها أيضاً، لكنه قدم الأخوات والخالات؛ لأنهن متصلات بقرابة الأم، فرأى قرابةَ الأم أحق بالشفقة، فاستوعب المتصلات بها، ثم رجع بعدهن إلى أمهات الأب، وأخَّر العمات عنهن؛ فإنهن يقعن حاشية.

_ (1) في الأصل: ولا ننكر. (2) الواو زيادة من المحقق. (3) في الأصل: كما أنا إذا رأينا.

وهذا غير سديد، أولاً في وضعه؛ لأن اسم القرابة لا يراعى، وإنما يراعى الشفقة، ونحن لا نشك في أن أم الأب في الغالب أشفق على المولود من أخته وخالته، وهذا على ظهوره قد لا ينتهي إلى القطع، والوجه الذي يَفْسُد القولُ القديم به ويخرج سلسلة النظام أنه قدم الأختَ من الأب على الأخت من الأم، ولا إدلاء للأخت من الأم إلا بالأم، فاضطرب بهذا تقديم الاتصال بجانب الأم، ثم الأخت من الأب بنت أب المولود، وأم الأب أم أب المولود فإدلاؤهما جميعاًً بالأب، وتقع إحداهما بالنسبة إلى المولود أصله، وتقع الثانية بالنسبة إليه حاشية من نسبه. فلاح بمجموع ذلك إيضاح وجه القول الجديد، واضطراب القديم. ولما ظهر التناقض في تقديم الأخت من الأب على الأخت من [الأم] (1) في القول. القديم خرّج طائفة من الأصحاب في التفريع على القديم وجهاً أن الأخت من الأم مقدمة على الأخت من الأب، لمكان الإدلاء بالأم. هذا أصل القولين. 10237 - ويتعلق باستيعاب الكلام عليهما أطرافٌ، ونحن نتبعها واحداً واحداً: فمن أهمها، وهو معضلة الباب، والمشكلة التي لا حل لها أن المزني نقل عن الشافعي في المختصر أنه لا يثبت لأم أب الأم حقّاً في الحضانة (2)، وكذلك لم يُثبت الحضانة لكل جدة ساقطة من جانب الأب، وهن الجدات المسميات الفاسدات ويجمعهن أن على طريق إدلائهن ذكَر مُدلٍ بأنثى. وهذا وإن كان منصوصاً عليه، وهو الذي أثبته أئمة المذهب واستمروا عليه، وطاب لهم مأخذه، [فهو] (3) في نهاية الإشكال؛ من جهة أنها (4) على عمود النسب، وهي أصل المولود، وذلك حكم نيط بالبعضية، فهو متعلق بهما (5) كاستحقاق النفقة

_ (1) في الأصل: من الأب. (2) ر. المختصر: 5/ 87. (3) في الأصل: فهن. (4) أنها: أي الجدة الفاسدة. (5) بهما: أي البعضية والقرابة.

والعتقِ عند جريان الملك على الرقبة، ورد الشهادة النافعة، وإن نظرنا إلى سقوطهن عن استحقاق الإرث، فالخالات ساقطات عند من لا يورث بالرحم، ولا خلاف أنهن يستحققن الحضانة، وإن قيل: الخالة ترث الأم فأم أبيها ترثها أيضاً، فكان هذا بالغاً في الإشكال. وقد حكى الشيخ أبو علي رضي الله عنه أن الجدات الفاسدات تثبت لهن الحضانة بعد الوارثات، وهن في الترتيب الجديد مقدمات على الأخوات والخالات، وهذا متجه حسن. وذكر بعض الأصحاب وجهاً ثالثاً أنهن مؤخرات عن كل أنثى مستحقة للحضانة، وإذا لم نصادف سواهن، فنُثبت لهن حق الحضانة حينئذ. فانتظم فيهن ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا حق لهن أصلاً، وهذا ظاهر النص. والثاني - أنهن مؤخراتٌ عن الجدات الوارثات مقدّماتٌ على من يترتب على الجدات، وهذا هو القياس، حكاه الشيخ أبو علي. والوجه الثالث - أنهن مؤخراتٌ عن الجميع، فإذا لم نجد أنثى حاضنة، فلهن حق الاحتضان. وتوجيه هذه الطرق سيأتي في أثناء الفصل -إن شاء الله- إذا تمهد ما يفتقر التوجيه إليه. هذا أحد الأطراف. 10238 - ومما يتعلق بالتفريع أنا في الجديد قدمنا الأخت من الأب؛ لأنه لم يتضح لنا تفاوت بينهما (1) في الشفقة، ولا حاصل لقول من يقول: إذا كانت الأم أشفق، فالأخت من الأم أشفق؛ فإن هذه المعاني لا تدرك بالألقاب ونظم العبارات، فلما لم يتجه للشافعي تفاوت بينهما في الشفقة، ورأى الأختَ من الأب أقوى في قرابتها، مزج اعتبار قوة القرابة بالأصل المستند إلى الشفقة، وقدم الأخت من الأب؛ فقال أئمتنا: إن اتجه هذا في أخت المولود، لم يتجه في الخالة من الأب، إذ لا إرث ثَمَّ، والخالة من الأب بنت أبي الأم، فقد ذكروا وجهين: أحدهما - أنا نقدم الخالة

_ (1) المراد الأخت من الأب والأخت من الأم.

من الأب على الخالة من الأم، على قياس أخوات المولود. والثاني - أنا نقدم الخالة من الأم على الخالة من الأب، وقطع به الصيدلاني؛ فإنها بنت أم الأم، وأم الأم أصل الحضانة، فالإدلاء بها أولى بالاعتبار، وإذا كان ينقدح هذا التردد في الترتيب الجديد، فهو في الترتيب القديم أوجه؛ لأن تعويله على اعتبار قرابة الأم، والتفصيل الذي ذكرناه منقدح في رعاية قرابة الأم. 10239 - ومما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك القولُ في بنات الإخوة والأخوات، وبنات الخالات والعمات. قال بعض المصنفين: بنات الإخوة والأخوات مقدمات على العمات، والعمات مقدمات على بنات الخالات، وبنات الخالات مقدمات على بنات العمات، فأجرى هذا مطلقاً من غير تخصيص بالجديد أو القديم، واعتل بأن قال: بنات الإخوة والأخوات يقدّمن، كما يقدم بنو الإخوة على الأعمام، والعمات مقدمات؛ فإنهن محارم، فكن مقدمات على بنات الأخوال والخالات، وبنات الخالات مقدمات على بنات العمات، كما أن الخالات مقدمات على العمات. وهذا فيه اختلاطٌ عندنا، كما سنصفه: أولاً - كيف يطيب إثبات بنات الخالات وبنات العمات حاضنات، مع إسقاط الجدات الفاسدات، ولا محرمية لبنات الخالات وبنات العمات، والمحرمية والأمومة والبعضية ثابتة للجدات الفاسدات؟ فمن أسقط الجدات الفاسدات، لزمه قطعاًً إسقاط بنات الخالات، وبنات العمات، وأما بنات الإخوة والأخوات، فهن مُدليات بأصول من الذكور والإناث، يثبت لهم حق الحضانة، وهن على قرابة تقتضي المحرمية. وقد تبيّن من ترتيب كلام الأصحاب، بعد استثناء الجدات الفاسدات مع النص فيهن أن كل أنثى قريبة لها محرمية مع المولود، فلها حق الحضانة، والكلام في تقديمها وتأخيرها، وكل [أنثى] (1) لا محرمية بينها وبين المولود، وكانت قريبة منه، فلا حضانة لها ومعها أنثى محرّمة، فإن انفردت، فهل يثبت لها حق الحضانة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبت للقرابة والشفقة المتوقعة منها. والثاني - لا يثبت؛ لأن

_ (1) في الأصل: ابن.

المحرمية تناسب الاختلاط وتأمّلَ الظواهر والبواطن في الحفظ، فإذا انعدمت المحرمية، اختل هذا المعنى. وسنذكر في ترتيب الذكور إذا انفردوا أن الذكر القريب الذي ليس عصبة، ولا محرماًً، لا شك أنه يتقدم عليه الوارث من الذكور الأقارب، ويتقدم عليه المحرم القريب، وإن لم نجد من الأقارب وارثاً ولا محرماًً، فهل يثبت له حق الحضانة والمولود غلام، أو صغيرة لا تُرمق بعدُ، فيه طريقان: ذهب الأكثرون إلى أنه لا حق له. وأجرى مجرون فيه خلافاً في الاستحقاًق؛ فإنه على حالٍ أولى من الأجنبي. وإذا ضممنا الذكر الذي ليس محرماًً ولا وارثاً إلى الأنثى التي ليست وارثة ولا محرماً، انتظم فيهما ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا حق لهما. والثاني - أنه يثبت لكل واحد منهما الحق عند الانفراد إذا لم نجد من نقدمه عليه، وعلى ذلك [يستدّ] (1) إطلاق القول بتعليق الحضانة بالقرابة. والثالث - أن الأنثى تستحق إذا انفردت، والذكر لا يستحق؛ لأن للأنوثة أثراً في استحقاق الحضانة، كما سيأتي شرح ذلك في اجتماع الذكور والإناث. 10240 - فإذا ثبت هذا ننعطف على الاتصال به إلى توجيه الوجوه في الجدات الفاسدات، أما إثبات الحق لهن، فبيّن منقاس، وأما إسقاطهن بالكلية، فلا خروج له إلا على مسلكٍ، وهو أن الذكر الذي ليس وارثاً، فقد نقول: لا حق له في الحضانة، وإن كان محرماً. وأم أب الأم مُدلية بأب الأم، ونحن لا نثبت لأب الأم حقاً، فلا نثبت للمدلية به حقاًً، ومن أثبت لها حقاًً بعد أن لا يجد حاضنة مستحِقة، فهو خارج على إثبات حق الحضانة للذكر المحرم الذي ليس وارثاً، فتكون المُدلية به بمثابته. هذا منتهى القول في اجتماع الإناث المتمحّضات، ولا ذَكَر معهن، فإن قيل: هل تعتبرون القرب والبعد؟ قلنا: نعم مع اتحاد الجهة، فإن القربى في كل جهة تُسقط البعدى من تلك الجهة، ويعتبر تقديم الدرجة القريبة على الدرجة البعيدة، كما ذكرنا

_ (1) في الأصل: يستمر.

في أمهات الأب مع أمهات الجد، إلى حيث يتفق الالتقاء، وتقديمنا أخوات المولود على خالاته قد يخرّج على اعتبار القرب، فإنهن أقرب إليه من الخالات. 10241 - فأما الكلام في اجتماع الذكور المتمحضين، فالأب أولاهم، ثم الجد أب الأب وإن علا -ما لم يُدل بأنثى- أَوْلى، لمكان البعضية، وقوة الولاية، وقد مضى أن الحضانة ضربٌ من الولاية، وكل ذلك إبعادٌ، وأوْلى معتبرٍ الشفقةُ، وإن كنا نرعى معها قوة القرابة. ثم الكلام بعد الأب وآبائه يقع في أصنافٍ من الذكور، وهم أقسام: منهم العصبات المحارم، ومنهم المحارم الذين ليسوا عصبة، ومنهم العصبات [ولا محرمية] (1)، ومنهم أقارب بلا محرمية ولا عصوبة. فأما العصبات المحارم، فمقدمون على من عداهم، فالعصبة المحرم مقدّم على من اتصف بالمحرمية دون العصوبة، أو بالعصوبة دون المحرمية، ثم هؤلاء الواقعون في هذا القسم يترتبون ترتُّبَهم في عصوبة الإرث، ويتصل بذلك أنا نعتبر لا محالة الأقرب فالأقرب، كما مضى ترتيب العصبات في المواريث، فأَفْرِدْ منهم المحارم ورتّبهم ترتيب المواريث: فالأخ من الأب والأم، ثم الأخ من الأب، ثم ابن الأخ من الأب والأم، ثم ابن الأخ من الأب، ثم العم من الأب والأم، ثم العم من الأب، ولا مزيد عليهم. فأما العصبات بلا محرمية، فيثبت لهم حق حضانة الغلمان، وحق حضانة [الصبيّة التي] (2) لا تُرمق ولا تشتهى. ثم لا ذكَر من المحارم من غير عصوبة مع استحقاق الإرث إلا الاخ من الأم، فلو فرض اجتماع ابن العم وهو عصبة غير محرم، والأخ من الأم، وهو محرم وارث، وليس بعصبة، فكيف السبيل؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قدّم العصوبة؛ لأنها تناسب الولايات على حالٍ، والحضانةُ ولاية، فيجب تقديم ابن العم، كما يجب تفويض ولاية التزويج إليه.

_ (1) في الأصل: فلا محرمية. (2) في الأصل: الصبي الذي.

ومنهم من قال: الأخ من الأم أولى؛ لأنه أقرب وبالحريّ أن يكون أشفق، ولعل الأظهر هذا. ثم العصبات بلا محرمية يرتبون ترتيبهم في الميراث فيتقدم الأقرب على الأبعد منهم، وتتقدم الدرجة على الدرجة. وأما القريب الذي هو محرم، وليس بوارث، فالخال، والعم من الأم، وأب الأم، وبني الأخوات، فهم مؤخرون عن الورثة الذكور، فإذا لم يوجد غيرهم، فلا شك أن السلطان يؤثر تسليم المولود إليهم، وهذا استحباب، أو استحقاق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه استحقاق القرابة والمحرمية. والثاني - أنه استحباب. والخلاف وإن جرى متجهاًً في الذكور الذين ليسوا ورثة، فلا جريان له في المحارم من الإناث، كالخالة، والعمة؛ لأن الأنوثة إذا انضمت إلى القرابة والمحرمية، أكدت استحقاق الحضانة، وهذا ينخرم بالجدة الفاسدة، ولكن سبب خروجها إدلاؤها بذَكَر من القرابة غير وارث. وهذا ينتقض بالخالات؛ فإن إدلاءهن بأب الأم، وإن كان لما ذكرناه في الجدات ثبات، فمن ضرورته أن يخرج الخالة من الأب عن استحقاق الحضانة؛ فإنه لا إدلاء لها إلا بأب الأم. هذا منتهى الكلام في الإناث المتمحضات، والذكور المتمحضين. وإذا أخرجنا الخال أخرجنا ابنه، وإن أثبتنا الخال، فالمذهب الذي يجب قطع القول به أنه لا حق لابن الخال؛ لاجتماع الذكورة، وسقوط المحرمية، وانتفاء الميراث. وفيه شيء بعيد لا يعتد به. نعم، في بنت الخال خلاف معروف، وكذلك في بنات الخالات والعمات، كما تقدم ذكره، وذلك لمكان الأنوثة مع القرابة. 10242 - وأما اجتماع الذكور والإناث فنقول في مقدمة هذا الفصل: إذا تبين أن الحضانة تتلقى من مقصودها وهي القيام بحفظ المولود، فلا شك أن النساء أقومُ به وأهدى إليه، وأصبرُ عليه، وهن يلزمن البيوتَ، والرجالُ ينشطون للتصرفات، ومن

رام منهم القيامَ بحفظ مولودٍ، فقد لا يستقل به دون الاستعانة بامرأة، فخرج من ذلك أن الإناث على الجملة أولى بالحضانة. فإذا تمهد هذا فنقول: الأم وأمهاتها على الوصف المقدم مقدماتٌ على الأب، فالجدة العالية من قبل الأم مقدمة على الأب، باتفاق الأصحاب، وإذا قُدِّمت على الأب، لم يخْفَ تقدمُها على الجد وسائر الذكور. وأما الجدات من قبل الأب إذا اجتمعن مع الأب، فظاهر النص الذي نقله المزني أن الأب مقدم عليهن. قال الشافعي: " لا يقدم على الأب إلا الأم وأمهاتها " (1)، فالأب إذاً على هذا مقدم، ووجهه أن الجدات مُدْلياتٌ به، فيبعد تقدم المُدْلِية على أصلها. وحكى بعض أصحابنا قولاً آخر مخرّجاً أن أمهات الأب مقدمات -وإن بعدن- على الأب، لمكان الأنوثة والأمومةِ والاستقلالِ التام بمقصود الحضانة، ولا نظر إلى الإدلاء مع ما أشرنا إليه من المزيّة التي تنبني الحضانة عليها، وهي الشفقة والتهدّي، والإناث أشفق وأهدى، كما قدمنا. ولو اجتمع مع الأب الأخواتُ والخالاتُ، فكيف السبيل فيه؟ نبدأ بالأخوات ونقول: إن جرينا على الترتيب الجديد في الإناث، فالجدات من قبل الأب مقدمات على الأخوات. فإن قدمنا الأبَ على الجدات، فلأن نقدمه على الأخوات أولى، وإن قدمنا الجداتِ على الأب، فهل نقدم الأخوات على الأب؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - أنا نقدمهن [للأنوثة] (2) وقوة القرابة، كما قدمنا أمهات الأب، وإن كن مُدْلِيات بالأب. والثاني - نقدّم الأبَ عليهن؛ لأنه أصل، وهن فروع. والوجه الثالث - أنه تقدم أخت الأب والأم، وأخت الأم، ولا تقدم أخت الأب، لأنه لا تعلق لها إلا بالأب، وهي فرع لا أمومة لها.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 87. (2) في الأصل: كالأنوثة.

فأما القول في الخالات مع الأب، [فلَسْن] (1) مدليات بالأب، ولكن الأخوات مقدمات عليهن، فإن قدمنا الأب على الأخت، قدمناه على الخالة وأَوْلى، وإن لم نقدم الأبَ على الأخت، وقدمنا الأخت على الأب، ففي الأب والخالة وجهان، ولا ينقدح الوجه الثالث؛ فإن الخالة من الأب ليست مدلية بهذا الأب، وإنما إدلاؤها بأب الأم. وإن كنا ذكرنا على الجملة أن الخالة من الأب ضعيفة. 10243 - فإذا جمع الجامعُ هذه المسائل، قال: الأب في قول يقدم على كل أنثى إلا الأم وأمهاتها، وفي وجه يقدم [عليه] (2) كل أنثى حاضنة إلا العمة، فإنه لا خلاف في تقديم الأب عليها، وفي وجه يقدم على الأخوات والخالات، ولا يقدم على الجدات من قبل الأب، وفي وجهٍ يقدم على الأخت من الأب، ولا يقدم على الأختين الأخريين، وقد يجري من ترتيب الخالات على الأخوات وجهٌ متلقًّى لا يخفى. وقد تناهى وضوح ما أردناه، وكل ذلك إذا جرينا على ترتيب الإناث في الجديد. 10244 - فإن قدمنا الأخوات والخالات على أمهات الأب في الترتيب القديم، فإذا اجتمع الأب معهم، انتظم الخلاف في الترتيب القديم معكوساً؛ فإن أمهات الأب في القديم يقعن آخراً، فمن هذا الوجه [ينشأ] (3) من الترتيب ومما يقع تتمة لذلك أنه إذا اجتمع جدٌّ عالٍ من قبل الأم وأم الأب القريبة، فأم الأب أولى بلا خلاف؛ لأنها ليست مُدْليةً بالجد العالي، وهي مختصة بالقرب والأمومة. والجدات من قبل الأم والأب مقدمات على كل ذَكَرٍ من الأقارب، فإذا اجتمع أخ من أب وأم، وأم أب أو أم أب أب، فالذي عليه التعويل ويجب القطع به أن الجدة مقدمةٌ للأمومة، مع أنها ليست فاسدة. 10245 - فأما إذا فرض اجتماع الذكر والأنثى في جوانب النسب، فالقول الجامع أنهما إذا استويا في القرب والدرجة والإرث، فالأنثى أَوْلى: كالأخ والأخت، ولو

_ (1) في الأصل: فليس. (2) في الأصل: عليها. (3) في الأصل: (سا) هكذا بدون نقط.

كان الذكر قريباً والأنثى بعيدة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الذكر أَوْلى نعني الذكر الذي هو من أهل الحضانة. والثاني - أن الأنثى أولى، نعني الأنثى التي هي من أهل الحضانة لو انفردت. وإذا فرض ذكر من درجة قريبة، وأنثى من درجة بعيدة، فالوجهان جاريان، كالأخ والخالة، ولو روجعنا في [خاتمة] (1) الكلام في ذكورِ أرحام ليسوا ورثة، وهم أصحاب محرمية، كالخال والعم من الأم، فالوجه أن نقول: نقدرهم إناثاً، ونقدم منهم من كنا نقدمه لو كان أنثى. وكل ذلك في نوع واحد: وهو أن يتنازع المجتمعون في الحضانة، والمعنيّ بالحضانة في جميع ما ذكرناه حفظ الولد قبل التمييز. وفيه مجرى تقديمنا وتأخيرنا. 10246 - فأما إذا ظهر تمييز المولود، فقد مهدنا في أصل الباب أنه يتخير بين الأم والأب، مع القطع بأن الأم مقدمة على الأب في حفظ المولود قبل التمييز. فلو فرض عم وأم، وقد ظهر تمييز المولود، فهل نخيره بين الأم وبين العم، أو الأخ، وكل ذكر يقع حاشية؟ في المسألة وجهان: أظهرهما - أنا نخيره، وإن كانت الأم مقدمة في أصل الحضانة قبل التمييز، كما خيرناه بين الأب والأم، واستدل الشافعي في صدر الباب بما رَوَى عن عمارةَ الجرمي " أنه قال: خيرني عليٌّ بين عمي وأمي، ثم قال لأخٍ لي أصغر مني: وهذا لو بلغ خيّرته " (2). وقال في الحديث: وكنت ابن سبع أو ثمان. والوجه الثاني ذكره الشيخ والعراقيون- أنا لا نخيره، ويجعل كأن الأم منفردة؛ فإن التخيير بين الوالدين قد يَقْرُبُ، [فأما الأم] (3) -وهي الأصل- والعم، فيبعد التخيير بينهما. وأصل التخيير مأخوذ من الخبر، وحديث الرسول صلى الله عليه في التخيير بين الأبوين.

_ (1) غير واضحة بالأصل، وهكذا قدرناها على ضوء ما بقى من أطراف الحروف. (2) حديث عمارة الجرمي " خيرني علي بين عمي وأمي ... " الحديث. رواه الشافعي في الأم (5/ 92). وانظر التلخيص: 4/ 24 ح 1861. (3) في الأصل: فأم الأم.

وإذا قدمنا الأبَ على الأخت، أو على الخالة، على الترتيب المقدم، فإذا ظهر تمييز المولود، ففي تخييره بين الأب والأخت من الخلاف ما في تخييره بين الأم والأخ (1). وقد نجز الكلام في نوع واحد وهو التنازع في الحضانة. 10247 - فأما النوع الثاني وهو الكلام في التدافع، فإذا اجتمعت النسوة أو الرجال الذكور، أو الرجال والنساء، والحاجة ماسة إلى حضانة الطفل، فإذا امتنع عن القيام بها من جعلناه أهلاً لها، فهذا ينحو نحو النفقة، فكل من يجب عليه النفقة يجب عليه القيام بالحضانة؛ فإنها من المؤن المتعلقة بالكفاية، وعلى الأب نفقة المولود الصغير، فإذا تردد المولود بين الأب وبين الأم، وأبت الأم أن تحتضنه، فعلى الأب الاحتضان لما ذكرناه من أن إيجاب ذلك يتبع إيجاب النفقة. فانتظم منه أن الأم، إذا طلبت الحضانة مع الأب، قُدّمت، وإن أبت، [وجب] (2) على الأب القيام بها، وإن لم يكن أب، على الأم حينئذ القيام بالحضانة على الترتيب المقدم في النفقات، وازدحام من يلتزمها. ويخرج منه أن أب الأم لو طلب الحضانة، لم يُجَب إليها، وإذا احتاج الطفل إلى الحضانة ولم تطلبها الأم، فهي واجبة، على أب الأم؛ لأن النفقة تجب على أب الأم بحكم البعضية، ومؤونة الرضاع والحضانة جزء من النفقة. ويخرج من ذلك أن العم والأخ، والذين يقعون على حاشية النسب لا يلزمهم الحضانة، كما لا يلزمهم النفقة؛ [فإنّا] (3) أوضحنا أن وجوب الحضانة يتبع وجوب النفقة ولم نستثن منه شيئاًً، وقد تبين فيما تقدم من يجب عليه النفقة ومن لا يجب عليه، وقد أبنّا حُكمَ وجوب الحضانة في الطرد والعكس. 10248 - ولو طلبت الأم الحضانة، وطلبت أجراً عليها، فهو بمثابة طلبها الأجرَ

_ (1) كذا في الأصل، وفي صفوة المذهب، ولعل الصواب: ما في تخييره بين الأم والعم. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: وإذا أوضحنا.

على الإرضاع، ولكن إذا كان يتأتى من الوالد أن يتولى الحضانة بنفسه، ولا حاجة إلى الإرضاع، [فنمكنه من تولي الحضانة، وهل ينزل منزلةَ وجدانِه متبرعةً] (1) بالإرضاع والأم تطلب الأجرة على الإرضاع؟ فيه تردد بين الأصحاب: يجوز أن يقال: إنما نُجري القولين في تقديم الأم مع أنها تطلب الأجر في الإرضاع، أما الحضانة، فهي منها ومن غيرها على وتيرة واحدة، ويجوز أن تجعل الحضانة تابعةً للإرضاع، حتى نجري القولين في أن الأم هل تكون أولى بها أم لا؟ ثم تعبُ الرجل في حضانة الولد هل يكون كوجدان حاضنة بأجر، أم يكون كوجدان متبرعة حتى يجري الترتيب المقدم؟ هذا فيه احتمال، ولعل الظاهر أن ما يناله من التعب بمثابة الأجرة التي تطلبها الأجنبية، ولا يكون هذا كوجدان متبرعة، والعلم عند الله. فرع: 10249 - قد ذكرنا أن الجدة أم الأم أولى بالحضانة من الأب، فلو فرضنا أباً، وأماً، وأم أم، ثم جُنت الأم أو فسقت، فولاية الحضانة تنتقل لا محالة إلى الجدة، ثم إن أفاقت الأم أو رجعت عن فسقها، عادت ولايتها في الحضانة، ولو تزوجت الأم، انتقلت الولاية إلى الجدة أيضاً؛ فإن موضع النكاح على التعبد، ثم إذا طُلّقت، عاد حقها. ولو امتنعت الأم عن الحضانة، فالامتناع منها أولاً بمثابة عَضْل الولي الأقرب عن التزويج، ولو عَضَل الولي القريبُ، لم تنتقل الولاية إلى البعيد، بخلاف الأسباب القاطعة للولاية، فإنه مهما (2) أراد أن يزوج زوّج، وإنما السبب [البات] (3) للولاية هو الذي يبطل خِيَرَة الولي. فإذا امتنعت المرأة عن الحضانة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: حق الحضانة في حالة امتناعها للجدة؛ فإن الحضانة لا تقبل التأخير، وهذا بمثابة مصيرنا إلى أن القريب إذا غاب، فحق الحضانة للبعيد، ولا ينتقل إلى السلطان، فليكن امتناع الأم بمثابة غيبتها.

_ (1) عبارة الأصل: "فيمكنه من تولي الحضانة هل نزل منزلة وجدانه متبرعة". (2) مهما: بمعنى إذا. (3) في الأصل: الثاني.

ومنهم من قال: الحق للأب إذا امتنعت الأم، وذلك أن الجدة إنما تتولى الحضانة إذا بطل حق الأم، وهي وإن كانت ممتنعة، فحقها قائم متى تشاء، والأب في القيام بالحضانة بمثابة السلطان في القيام بولاية التزويج عند [عضل] (1) القريب؛ إذ سلطان القاضي عامّ، وسلطان الأب في المال والبدن والحضانة عام، غير أن الأم اختصت بالحضانة، فإذا امتنعت، قام الأب مقامها. والأقيس عندي الوجهُ الأول، وهذا الوجه الأخير ذكره الصيدلاني، وقطع به وأجرى الشيخ أبو علي الوجهين. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا حق لمن لم يكْمُل في الحرية ... إلى آخره " (2). 10250 - قد ذكرنا أن الرقيقة لا حضانة لها، وكذلك الرقيق، ومن بعضه حر وبعضه رقيق، فلا حق له في الحضانة أيضاًً؛ فإن الجزء الرقيق يمنعه عن الاستقلال، والحضانة تقتضي الاستقلال، فكانت ولايةً، أو كالولاية، وكما لا يلي الرقيق لا يلي من لم يكمل فيه الحرية. ويعترض من الناظر طلبُ الكلام في أنه هل يجب عليه النفقةُ للقريب؟ أما نفقة الزوجة، فتجب، والكلام في أنا نوجب نفقة المعسرين، أم نبعّض إذا كان موسراً ببعضه الحر، فنوجب قسطاً من نفقة الموسرين، وقسطاً من نفقة المعسرين؟ فيه خلافُ المزني، وتردّدُ الأصحاب، فإذا رددنا النظر إلى نفقة الأقارب وهو موسر ببعضه الحر -وليس إخراج النفقة من قبيل الولايات، بل هو من الغرامات- فلا يبعد أن نوجب قسطاً من نفقة القريب على مقابلة الجزء الحر منه، ونُسقط من النفقة المقدارَ الذي يناسب الجزءَ الرقيقَ منه، وهذا يظهر إذا وزعنا نفقة الزوجية في اليسار والإعسار على جزأيه.

_ (1) في الأصل: عقل. (2) ر. المختصر: 5/ 86.

ويجوز أن يقال: يجب عليه أن يخرج تمامَ نفقة قريبه لتحقق يساره، كما لو ملك مالاً وطائفة من البنين، فإن من [يُسقط] (1) يوجب عليه أنصافَ نفقات، فإذا لم يَبْعُد إيجابُ نصفي نفقتي ابنين، لم يبعد إيجاب نفقة تامة لابنٍ (2). ويجوز أن يقال: كل شخص متميز عن غيره، فليقع إنفاقه عليه على قدر إنفاقه على نفسه، ومعلوم أنه إنما ينفق على نفسه بقدر ما فيه من الحرية. وقد عنّ لي أن أجمع أحكام من بعضه حر وبعضه رقيق في كتاب العتق، وأجمع فيه كل ما بدّده الأصحاب في الكتب، والله ولي التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق. ولو نكح حرّ أمة نكاح غرور، فولده منها حرٌ، ولا حضانة للأم؛ فإنها رقيقة، ولو كان على علم برقّها، فالولد رقيق، ولا حق للأب في الحضانة؛ فإن المالك أولى به، وحق الملك يتقدم على حق القرابة. ولو فرضنا [ولداً بعضه حر وبعضه رقيق] (3) فحق الحضانة في القدر الرقيق لمالكه، وحق الحضانة في الجزء الحر منه للأم إن كانت الأم حرة، أو للأب إن كانت رقيقة، فإن اتسق بين المالك وبين من له حق الحضانة مهايأة في الحضانة، جاز، وإن اتفق التراضي على أن ينفرد أحدهما، ساغ، وإن امتنعا من المهايأة ولم يتراضيا، فالسلطان ينصب حاضنةً، ويوجب مؤنتها على من يجب عليه النفقة. ...

_ (1) في الأصل: يقسط، والمثبت من صفوة المذهب، والمعنى من يسقط من النفقة بمقدار جزئه الرقيق. (2) المعنى أنه إذا يملك مالاً بنصفه الحر وعنده طائفة من البنين، فيجب عليه -عند من يُسقط- أن يعطي نصف نفقةٍ لكل واحد من البنين، فإذا وجب عليه عدة أنصاف نفقة ألا يَجوز أن يقال: يجب عليه نفقة كاملة إذا كان عنده ابنٌ واحد، وهي لا تزيد على إيجاب أنصاف نفقات. هذا وجه هذا الجواز. (3) عبارة الأصل: ولو أبعضه حر وبعضه رقيق.

باب نفقة المماليك

باب نفقة المماليك 10251 - نفقة المماليك واجبة على السادة إذا لم يستقلّوا بالكتابة، والأصل فيها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "وللملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يُطيق" وتمام الحديث ما روي أن أبا ذرٍ رُئي بالربذة وعليه حُلة، وعلى غلامه حُلّة، فقيل له: أكسوت غلامك مما تلبس، فقال: إني ساببت غلاماً لي، فرفعت يدي لأضربه، فلم يَفْجَأني إلا رجل أخذ بيدي، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل إلا ما يطيق " (1). واتفق العلماء على إيجاب النفقة للمملوك على الموْلى، ثم تلك النفقة كفاية، وليست مقدرة، كما ذكرتها في نفقة القريب وفسرتُ الكفاية. ثم وجب عليه أن يكسوَ عبده. ثم اختلف أصحابنا في أن الكُسوة هل تختلف في جنسها باختلاف أقدار المماليك؟ فمنهم من قال: نعم، يختلف جنسها باختلافهم، فكُسوة العبد الخسيس المستخدم في سياسة الدواب دون كُسوة العبد النفيس. ومن أصحابنا من قال: لا فرق بينهم، وتفاوتهم في قِيَمهم لا يوجب تفاوتَهم في الكُسوة. ومنهم من فرّق بين الجواري والعبيد، وقال: العبيد يجوز التسوية بينهم، وأما

_ (1) حديث أبي ذر متفق عليه (البخاري: العتق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: العبيد إخوانكم، فأطعموهم مما تأكلون، ح 2545. مسلم: الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، ح 1661).

الجواري اللواتي يكنّ بمحل التسرِّي يجب (1) التفاوت بينهن. هذا كلام الأصحاب، وتمام البيان فيه عندنا أن اللباس الذي يكسوه عبده يجب ألاّ يكون مُضرّاً به، كالثوب الخشن الذي تتأثر البشرة به، ولا يشترط أن يكون مفيداً بدنَه تنعماً وترفّهاً، والعبد لو اقتصر مولاه على إزارٍ يستر ما يجب ستره منه، وكان لا يتأذى في بدنه من مصادمة الهواء والحرّ والبرد، فلست أرى جوازَ الاقتصار على هذا؛ فإن هذا إهانةٌ وإذللٌ على حدٍّ بيّن لا يعتاده أحد من طبقات الخلق، وإن فعله فاعل، تطرقت إليه المطاعن وتوجّه عليه التوبيخ. والذي اختلف الأصحاب فيه هو أن يكسو عبداً كُسوةً قد يجري مثلُها من مقتصد، أو ممن يُعرف من التقتير والتشوف إلى الشح، فهذا مما تردد فيه الأصحاب. 10252 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصرف فيه، وهو قوله عليه السلام: " إذا كفى أحدَكم خادمُه طعامَه، حرَّه ودخانه، فليُجلسه معه، فإن أبى فليروِّغ (2) له لقمة وليناولها إياه " (3) وروي أن رسول الله صلى الله عليه قال في المماليك: " إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن ملك مملوكاً، فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل إلا ما يطيق " وظاهر هذا الحديث يدل على أنه يجب على السيد أن يسوّي بين نفسه وبين عبده في الملبس والمطعم. قال الشافعي: هذا الحديث [قاله] (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعراب

_ (1) يجب التفاوت: جواب (أما) بدون الفاء. (2) يروغّ له لقمة: أي يطعمه لقمة مشربة من دسم الطعام (النهاية في غريب الحديث). (3) حديث: " إذا كفى أحدكم خادمُه طعامَه: حرَّه ودخانه ... " الحديث. رواه الشافعي بهذا اللفظ (الأم: 5/ 101)، والبيهقي (8/ 8) وصحح الحافظ إسناده. والحديث متفق عليه بألفاظ أخرى مقاربة (البخاري: العتق، باب إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، ح 2557. مسلم: الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، ح 1663). وانظر تلخيص الحبير: 4/ 25 ح 186. (4) في الأصل: قال.

أصحاب البوادي ولباسهم خشن، وطعامهم [خشن] (1) ولو فرض حط العبيد عن ملابسهم ومطاعمهم انتهى الأمر إلى الضرر، وقد ذكرنا أن الإضرار بالمملوك غيرُ سائغ. وأما الحاضرة وأصحاب النعمة والترفّه، فمن ملابسهم الخُزُوز الفائقة، ورقيقُ الكتان والحرائر، فيلبسن نفائسَ الديباج، فلا نكلف هذه الطبقة أن يُلبسوا عبيدهم من جنس ما يلبسون (2). وكذلك قد يعتاد هؤلاء أطايبَ الأطعمة [وصدورَ الدجاج] (3) ونفائسَ الحلاوات [فلا نكلّفهم] (4) أن يُطعموا عبيدهم من هذه الأجناس. ثم أخذ رضي الله عنه في الكلام على الحديث (5) المشتمل على [إجلاس] (6) العبد وإطعامه لقمة مُروَّغة، وقد روينا الحديث، ومعناه مفهوم، قال الشافعي رضي الله عنه: وهذا أولاً مخصوص بالذي يتولى إصلاح الطعام ويُصادِمُ حرَّ النار ودخانَها، فإذا هيأ الطعام، فمقتضى الحديث الأمرُ بإجلاسه ليأكل مع المولى، وفيه أن ترويغ لقمة وتسليمَها إليه يُغني عن إجلاسه، ثم تردد، فقال: يجوز أن يكون الأمر محمولاً على الوجوب ويجوز أن يكون استحباباً محمولاً على مكارم الأخلاق. وإذا كانت القاعدة على الكفاية، ودفع الضرر، واجتناب الإهانة، فما يجريه الشارع زائداً على هذا فيظهر أن الغرض الحثُّ على وطأة الخُلُق والاستكانة، واجتناب استعلاء الملاك. ثم ذكر رضي الله عنه على تقدير حمل الأمر على الوجوب شيئين: أحدهما - أن الواجب أن يخصص بلقمة، هذا القدر هو المحتوم، وإن أجلسه، فهو أفضل،

_ (1) غير مقروءة في الأصل. (2) كذا بنون النسوة، ولا يعجز من تعاطَى علمَ النحو عن تقديرٍ وتخريج. (3) في الأصل: وصدور الترجح (انظر صورتها) والمثبت من صفوة المذهب. (4) في الأصل: ولا نكلفهم. (5) ر. المختصر: 5/ 89، 90. (6) في الأصل: أجناس.

ويحتمل أن يكون الواجب أحدَهما أو أيهما أقدم عليه أدّى الواجب به. فينتظم إذا أردنا الجمعَ ثلاثة أقوال. ثم اللقمة ينبغي أن تكون تامة مشبعة مروّغة بحيث تسدّ مسداً وتحط قَرَماً ونَهَماً، فإنها إن صغرت هاجت الشهوة وصار العبد بذوقه أشدَّ حالاً ممن لا يتعاطى من الطعام شيئاً. فصل قال: " وليس له أن يسترضع الأمةَ غيرَ ولدها ... إلى آخره " (1). 10253 - إذا أتت أمة الإنسان بولد مملوك، فليس للسيد أن يحولَ بينها وبين ولدها، وليس له أن يكلّفها إرضاعَ ولدٍ آخر؛ فإن ذلك يضر بالولد [ويكدّر] (2) قلب الأم، [ويُفضي إلى الوَلَه] (3) الذي نهى الرسول صلى الله عليه عن التسبب إليه، وقد ذكرنا أن الزوج لا يفرق بين الولد وأمّه، غير أنا ذكرنا أنه إذا كان يبغي الاستمتاع بها في أوقات الرضاع، وعَسُر الجمع بين توفية الاستمتاع وإدمان الرضاع، فللزوج أن يضم الولدَ إلى مرضع، والأم لا تُمنع منه في الفترات والغفلات. هذا ظاهر المذهب. وحكينا فيه وجهاً آخر. ولو كان السيد يبغي الاستمتاع بالأمة، وذاك كان يعطل إرضاعها، كما صورناه في الزوجة، فالذي أراه أنها تنزل والحالة هذه منزلة الزوجة، فإن خطر لمن لا يغوصُ فرقٌ بأن الاستمتاع ليس مقصوداً من الأمة، فليس هذا أوان هذا الكلام؛ فإنّ حق

_ (1) ر. المختصر: 5/ 91. (2) في الأصل: ويكدّ. (3) في الأصل: ويفضي إلى الولد. (4) وهو يشير إلى حديث الرسول صلى الله عليه: " لا تولّه والدة بولدها " والوله ذهاب العقل والتحيّر من شدة الوجد.

السيد في الاستمتاع بها كامل، لا سبيل إلى دفعه، فإن كان لا يستمتع، فليس له أن يمنعها من إرضاعه، ويخرّج فيها عند قصد الاستمتاع الوجه الذي حكيناه في الزوجة. 10254 - ثم قال الأئمة: للأم الحرة حقٌّ متأكد في الولد الحر لا يثبت مثله في الأمة؛ فإن الأب لو أراد فطام الولد قبل الحولين، لم يكن له ذلك دون رضا الأم، ولو أرادت الأم أن تفطمه، لم يكن لها ذلك دون رضا الأب، فإن توافقا على الفطام قبل الحولين، وكان لا يضر الفطام بالولد في غلبة الظن، فحينئذ يجوز. هكذا قال الأصحاب، وتمسكوا فيه بظاهر قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233]، وظاهر الآية أن الأم إذا أرادت استكمالَ الرضاع حولين بنفسها، أو بإرضاع ظئر، فليس للأب الفطام، وعليه مؤونةُ الرضاع إلى انقضاء الحولين. وعندي أن هذا وما قاله الأصحاب فيه إذا كان الرضاع ينفع المولود، وفَطْمُه قد يؤثر في إنهاكه، وإن كان يغلب على الظن سلامته، فلا بد من رضا الوالدين، وإن كان بحيث لا ينهكه الفطام، وقد صار الصبيّ مضرباً عن الرضاع لاهياً، فليس يبعد أن يقال: للأب ألاّ يلتزم المؤونة والحالة هذه. وفي القلب من الصورة الأولى شيء إذا كان يجوز لأحد الأبوين لو انفرد أن يفطم، ويجوز لهما أن يفطما، فليس يبعد حمل ما ذكرناه على الأوْلى، حتى يكون صَدَر الفطام عن شفيقين، فهذا ما يظهر عندي، ولكن ما رأيته للأصحاب ذاك الذي قدمته. وإن كان الولد يتضرر بالفطام. ثم قال من ربط الفطام دون الحولين برضا الأم: لا يُربطُ الفطامُ برضا الأَمَةِ الوالدة؛ فإنه لا حق لها في طلب حق المولود، وطلب حق المولود طرفٌ من الولاية، وقد ذكرنا أن للأم أن تطلب نفقةَ المولود، ولها أن تستقرض على الأب، وهذا ممتنع مستحيل من الأم الرقيقة. ثم ذكر الشافعي أنه كما يجب على السيد الإنفاق على أمّ ولده يجب عليه الإنفاق

على أولادها من السفاح، والنكاح؛ فإن ملكه فيهم بمثابة ملكه في الأم، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل. 10255 - ثم قال: " ويمنعه الإمام أن يضرب على أمته خراجاً إلا أن تكون في عمل واجب " (1). ضربُ الخراج على المملوك حقيقةُ استكسابه، وللسيد أن يستكسب عبده على شرط ألاّ يكلفه من العمل ما لا يُطيق، فإن وظف عليه مقداراً كلّ يوم، لم يكن لذلك التوظيف حكم، وليس ضرب الخراج معاملةً توصف بالجواز واللزوم، ولكن على العبد ألا يألوَ جهداً، والمقدرات الموظفة على أقدار الاستمكان، وإنما ذكر الشافعي المخارجة لاعتياد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، حتى قيل: كان للزبير ألف عبد يؤدون الأخرجة، وكان يصرف إلى كفايتهم قدر الحاجة، ويتصدق بالباقي، لا يتأثَّلُ منها درهما، ولا ينفق على خاصته درهماً. ثم إن جرت المواضعة على أن ينفق العبد مما يكتسب، فعل ذلك إن وفَّى كسبُه، وإن لم يتفق في بعض الأيام أو في أيام كسبٌ، فنفقته دارّة. وبالجملة لا تغيّر المخارجة حكماً، ولا تُلزم العبدَ إلا بذل المجهود في الكسب. قال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: " لا تكلفوا الصغير الكسبَ فيسرق، والجارية غير الصَّنِعَة فتكتسبَ بفرجها " (2)، وهذا مما يجب مراعاتُه، وليس بعد الوضوح للازدياد وجه. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 92. (2) رواه الشافعي في المختصر: 5/ 92.

باب نفقة الدواب

باب نفقة الدواب 10256 - ذوات الأرواح محترمة، وحقٌّ على مالكها أن يقيها الرَّدى والهلاكَ إلا في الوجوه المستباحةِ المستثناةِ شرعاً، كالذبح للمأكلة، والإكدادُ بتحميل الأثقال قد يَكُدُّها ويهُدُّها ويُفضي إلى هلاكها، ولكن ذلك على الاقتصاد اللائق بمثله مسوَّغٌ، ويجب القيام بكفايتها في العلف والسقي. وإن كانت منسرحة سائمة، فإن كان في العُشب مَقْنع، فذاك، وإن أجدبت الأرض، [وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي، وما تصادِف من رعي الأرض، فيجب علفها] (1) إلى أن ينتهي الأمر إلى الاكتفاء. ومما يجب الإحاطة به أن البهائم وإن كانت محترمة الأرواح [فحرماتها] (2) محطوطة عن حرمة الآدمي، ولهذا يقتلها المضطرُّ ويأكلُها، وإن كانت محرّمة اللحم، وفي إباحة ذبح ما يؤكل منها لظهور الحاجة إلى اللحوم ما يوضّح أنها عرضة لحاجاتٍ لا تبلغ مبلغ الضرورات. ولا يجوز أكل ما لا يحلّ أكله لحاجةٍ [لا] (3) لحرمة روح ذلك الحيوان، ولكن لأن المحرمات في حكم الله مستخبثات. وقال الأصحاب: إذا كان مع المسافر ماء ومعه ذو روح محترم مُشفٍ على الهلاك عطشاً، فليسقها، ولْيتَيَمّم، والمذهب الأصح أنه يجوز غصْبُ العلف للدابة الموفية على الهلاك، وكذلك يجوز غَصْب الخيطِ لخياطة جُرح البهيمة المحترمة، [و] (4) في المسألتين خلاف، والأصح ما ذكرناه.

_ (1) عبارة الأصل: " وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي، وما تصادف من رعي الأرض وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي فيجب علفها ". (2) في الأصل: فخدماتها. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة من المحقق.

ثم إذا ظهر لمن إليه الأمر إضرار مالك الدواب بها، راجعه فيها، [وكلفه] (1) في عاقبة الأمر القيام بكفايتها أو بيعها. واللبون من البهائم لا يجوز نزف ألبانها حَلْباً؛ إذا كان يَهلِك أولادُها الرضع، والمعتبر فيها كالمعتبر في أمهاتها. وهذا نجاز الربع (2). وإلى الله صدق الابتهال في تيسير الإتمام، وبسط النفع به وجعله خالصاً لوجهه الكريم (3). ...

_ (1) في الأصل: وكأنه. (2) كذا (الربع) بدون وصف ولا إضافة، فلم يقل: (الربع الثالث) ولم يقل: (ربع المناكحات). (3) في خاتمة نسخة الأصل: الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وآله أجمعين. يتلوه إن شاء الله كتاب الجراح.

وإذا عسر عليَّ في فصل تخريج المذهب المنقول على قياس، أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعاب وجه الإشكال، وإيضاح الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات. الإمام في نهاية المطلب

كتاب الجراح

كتابُ الجراح (1) قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] ... إلى آخره" (2). 10257 - صدر الشافعي رضي الله عنه الكتاب بآياتٍ متضمنها تعظيم الوعيد على من يقتل نفساً عمداً بغير حق، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} [الإسراء: 33]. وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]. والكلام على هذه الآية نقلاً وتأويلاً يطول، وليس هو من غرضنا وقد قيل: "إنها نزلت في مِقْيَس بن صُبابة (3)، وكان أسلم، ثم ارتد واستاق إبلاً، ووثب على الراعي، والتحق بدار الحرب، وقال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "اقتلوا مِقْيَس بنَ صُبابة، وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة، فصودف كذلك، فقتل" (4). وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا إحدى ثلاث: كُفْر بعد إيمان، وزناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس" (5)، فاحتج عثمان بهذا الحديث يوم الدار.

_ (1) نبدأ هذا الجزء عن نسخة وحيدة (ت 3) مستعينين بالله وحده راجين أن يشرح صدورنا وأن يلهمنا الصواب. (2) ر. المختصر: 5/ 93. (3) في الأصل: ضبابه، بالضاد المعجمة. وكذا في البسيط للغزالي، ولكن وجدنا في سنن الترمذي، والنسائي، والمغازي للواقدي، ودلائل النبوة للبيهقي، وتاريخ الطبري، وتاريخ الإسلام للذهبي، والمغني في ضبط أسماء الرجال كلهم بالصاد المهملة (صبابة). (4) خبر إهدار دم مِقْيَس بن صُبابة يوم فتح مكة رواه النسائي: المحاربة، باب الحكم في المرتد، ح 4062. والترمذي مختصراً، ورواه البيهقي في دلائل النبوة مطولاًَ: 5/ 59 - 63. (5) حديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ... " روي من حديث عثمان، وابن مسعود، وعائشة رضوان الله عليهم. وحديث ابن مسعود متفق عليه، ورواه الأربعة أيضاً. =

وقال صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من سفك دم امرىء مسلم" (1). وقال عليه السلام: "من سعى في دم مسلم ولو بشَطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه الآيس من رحمة الله" (2). ذكر الشافعي الأصلَ في القصاص من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْل} [الإسراء: 33] فقيل: معناه لا يقتل غير القاتل، وقيل معناه النهي عن المثلة، وقال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَاب} [البقرة: 179] وهذا من إيجازات القرآن، وهو المعنِيُّ [بقول العرب] (3): "القتل أنفى

_ = وحديث عائشة رواه مسلم وأبو داود، وحديث عثمان رواه الشافعي وأحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي أمامة بن سهل عنه (البخاري: الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس} [المائدة: 45]، ح 6878. مسلم: القسامة، باب ما يباح به دم المسلم، ح 1676، أبو داود: الحدود، باب الحكم فيمن ارتد، ح 4352، الترمذي: الديات: باب ما جاء لايحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث، ح 01402 النسائي: المحاربة، باب ذكر ما يحل به دم المسلم، ح 04021 ابن ماجه: الحدود، باب لا يحل دم امرىء مسلم إلا في ثلاث، ح 2533، 2534 0 الأم للشافعي: 6/ 3، أحمد: 1/ 61، 63 وصححه الشيخ شاكر (ح 437، 438) 0 الحاكم: 4/ 350 0 التلخيص: 4/ 27 ح 1868). (1) حديث "لزوال الدنيا أهون ... " رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو، ورواه ابن ماجه من حديث البراء (الترمذي: الديات، باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن، ح1395، النسائي: تحريم الدم، باب تعظيم الدم، ح 3986 - 3989، ابن ماجه: الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلماً، ح 2619). (2) حديث: "من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة ... " رواه ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة، وقد ضعف الحافظ إسناده، كما عدَّ ذكر ابن الجوزي له في الموضوعات من المبالغة (رواه ابن ماجه الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلمأ، ح 2620، السنن الكبرى للبيهقي: 8/ 22، ثلخيص الحبير: 4/ 28 ح 1870). (3) في الأصل: "بقوله صلى الله عليه وسلم". وهو سبق قلم من الناسخ (أو من الإمام) - لا شك في ذلك، وكنا نودّ أن نقصر ذلك على الناسخ وحده، لولا أننا وجدنا الغزالي في (البسيط) تابعَ (النهاية) في ذلك، فدل على أنه شيء قديم، وعلى احتمال كونه من الإمام. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ثم الأصل في عمل المحقق أن يُبقي النص على ما هو عليه، وإن كان فيه من خلل، أو خطأ، فليس له إلا أن يعلق عليه في الهامش، ليبقى النصُّ كما أراده مؤلفه، وليخلص عمل المؤلف له، فليس التحقيق تحسيناً ولا تصويباً، واستُثني من ذلك القرآن الكريم فقط، فلحرمة النص القرآني وقداسته يجب أن يصوّب في المتن، إن أخطأ في إيراده المؤلف، أو الناسخ. ولكن سوّغ لنا هنا تغيير العبارة في الصلب إيمانُنا الجازم بأن هذا سبقُ قلم، غير معمودٍ ولا مقصود، وباستحالة أن يريد المؤلف نسبة ذلك القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليلنا على هذا الجزم والقطع عدة أمور نوجزها فيما يأتي: أولاً - إن إمام الحرمين من الذين يُحيطون بالأدب العربي شعره، ونثره، وأمثاله، وحِكمه، يظهر هذا في أسلوبه، وتضمين كلامه جملاً مأثورة، وأمثالاً مشهورة، وحكماً شائعة، وأشطاراً -من الشعر- ذائعة، فكيف يقع في هذا الخلط الخطير، والوهم الغليظ، فينسب هذه الحكمة المشهورة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.!!! ثانياً - إن الذين كتبوا عن إمام الحرمين ومعرفته بالحديث أخذوا عليه مواضع كثيرة من كتابه هذا، واشتد نكيرهم عليه في أشياء دون هذا بكثير: من مثل قوله عن حديث معاذ في الاجتهاد - "إنه مدون في الصحاح"، والذي يقرأ البدر المنير لابن الملقن وهو من هو منزلة في المذهب وإحاطة به يشر بأنه قرأ النهاية كلمة كلمة ويتتبعه في الأوهام الحديثية، ويسجل عليه دقها وجليلها، فكيف يفوته هذا الوهم الغليظ؟ وكذلك نجد الحافظ في تلخيص الحبير يتتبع إمام الحرمين، ويعنف به، ويُغلظ له كلما رأى وهماً أو تساهلاً في مجال الحديث، فكيف لم يعقب على هذا؟ ولايظنن ظان أن الحافظ ربما لم يقع على هذا الموضع في النهاية، لا يقولن أحد ذلك؛ فالذي يقرأ الحافظ في التلخيص، وفي الفتح يتأكد لديه أنه قرأ النهاية، فالحافظ هو أيضاً من هو منزلةً في المذهب، وإحاطةً بكتبه. وكذلك ابن الصلاح والنووي، وغيرهما من الذين سجلوا مآخذ وأوهاماً حديثية على إمام الحرمين لم يذكر أحد منهم هذا، ولا يستطيع أحد -له إلفٌ بكتب النووي، ومعرفةٌ بالمذهب - أن يزعم أن النووي لم يقرأ النهاية كلمة كلمة، إن لم نقل: إنه كان يحفظها عن ظهر قلب. ثالثاً -قد اختصر النهاية-فيمن اختصرها- العز بن عبد السلام، وبالقطع قرأها كلمة كلمة، ولم نجده أشار إلى هذه الطامة، ولم يتعقب الإمامَ فيها، مع أنه تعقبه فيما دون ذلك بكثير. رابعاً - قد تعقب إمامَ الحرمين كثير من خصومه وشانئيه من رجال المذهب، وغير المذهب ولم يشر أحد إلى هذه الطامّة، ولا يحتمل ذلك إلا أمرين - لا ثالث لهما: الأول - أن نسخ النهاية التي وقعت لهم لم يكن فيها هذا الخلل. الثاني- أنهم رأوه، وحملوه على أنه سبق قلم -مما قد يقع فيه كل أحد- فلا يؤاخذ به من وقع فيه، فلم يحملوه على الإمام، ولم يؤاخذوه به، ولم يشيروا إليه. =

للقتل" (1) والمعنَى أنّ قتلَ القاتل وإن كان [إزهاقَ] (2) روح، ففيه إفادةُ [انزجار] (3)

_ = وبين يديّ الآن واقعةٌ قائمة تشهد بصحة ما أقول، حيث تحقق فيها الاحتمالان معاً، فقد وجدنا الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير، يقع على وهم غليظ للرافعي في (الشرح الكبير)، فيحسن الظن به، ولا يؤاخذه بمقتضاه. وتفصيل ذلك: أن ابن حجر نقل عن الإمام الرافعي في كتاب الأطعمة من (الشرح الكبير) قوله "وفي النهي عن قتل الوزغ دليل على تحريم أنواع الحشرات" ثم عقب الحافظ قائلاً: "هذا من أعجب المواضع التي وقعت لهذا المصنف مع جلالته؛ فإنه خلاف المنقول، ففي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وسماه فويسقاً" وللبخاري ومسلم عن أم شريك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ" ... ثم عقب قائلاً: "ولعله رحمه الله أراد أن يكتب وفي الأمر بقتله، فكتب وفي النهي عن قتله" (ر. تلخيص الحبير: 4/ 285، 286). فالحافظ يحمل الأمر على سبق قلمٍ غير مرادٍ. خامساً - لقد علّمنا إمام الحرمين أن نتوقف في مثل هذا، ولا نؤاخذ به قائله، فقد رأيناه في كتابنا هذا كلّما نقل كلاماً ظاهرَ الخطأ عن أحد الأئمة، يقول: "وهذا زلل في النقل، فقدرُ الرجل عندي أجلُّ من أن يُنْسَب إليه هذا" وأحياناً يجعلها قاعدة عامة وقانوناً متبعاً، فيقول: "وليس يليق نسبة أحد من المرموقين إلى نحو هذا، بل يجب الحمل على الخلل في النقل" تكرر هذا منه عشرات المرات، وآخر ما رأيته من ذلك ما بين يدي اليوم قوله: "ورأيت في نسخة من نسخ الصيدلاني إلحاقَه المبعَّضَ بالمدبّر وأم الولد، وهذا خطأ صريح، وأحسَبه من خلل النسخة، وسأراجع نسخة أخرى إن شاء الله تعالى" ا. هـ. بنصه من كتاب الحدود في مسألة إقامة السيد الحد على مملوكه. فهو - يعلّمنا أن مثلَ هذه الأخطأء الصريحة لا يصح أن تحمل على الأئمة. (1) في الأصل: "القتل نفي القتل" والمشهور المعروف ما أثبتناه، أورده الميداني في مجمع الأمثال (ر. معجم الأمثال العربية: 3/حرف القاف). وقد جرت واحدة من كبريات المعارك الأدبية في العشرينيات (1923) حول هذه العبارة، حيث ادعى أحدهم أنها أبلغ من الآية الكريمة "ولكم في القصاص حياة" وجلّى في هذه المعركة عملاق الأدب العربي الأصيل مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وهو من الذين عُمِّيت أخبارهم وعُفِّي على آثارهم؛ فحرمت الأجيال من نبعٍ صافٍ أصيل وبقيت تشرب الكدر والدُّرْدي. والله المستعان على كل بليّة. إن شئت راجع طرفاً من هذه المعركة في وحي القلم للرافعي (3/ 397). (2) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (3) في الأصل: أثر جاد.

المعتدين، وهي سبب استمرار الحياة. وقال صلى الله عليه وسلم: "العمد قَودٌ" (1) وقال عليه السلام: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيلَ من هُذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل منكم قتيلاً بعد هذا، فأهله بين خِيرتين إن أحبوا قَتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقلَ" (2). ثم لما ذكر رضي الله عنه التحريمَ والأصلَ في القصاص، استفتح بعدُ القولَ في اشتراط الكفارة وفي وجوب القصاص). ونحن نقول: أصلُ استيجاب القصاص يستدعي البلوغَ، فلا قصاص على صبي، والعقلَ، فلا قصاص على المجنون؛ فهذا ما ذكره الأصحاب [في التزام] (3) أصل القصاص، ولو ضُم إلى هذا [التزام] (4) الأحكام، لاتجه؛ فإن الحربي [أصلاً لا] (5) يلتزم القصاص، حتى لو عقدت له ذمة وأسلم فلا نقتله بالقتل الذي سبق منه في حالة كونه حربياً. 10258 - ثم قال الشافعي: "وإذا نكافأت الدماء من الأحرار المسلمين ... إلى آخره" (6). فنقول: لا يقتل الإنسان بكل أحد، والتفاوت في الصفات على الجملة مؤثر في

_ (1) حديث: "العمد قود" رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنه في حديث طويل. قال الحافظ: واختلف في وصله وإرساله، وصحح الدارقطني في العلل الإرسالَ. (ر. ترتيب مسند الشافعي 2/ 100 رقم 330، أبو داود: الديات، باب من قتل في عمياء بين قوم. ح 4539، 4591 النسائي: القسامة، باب من قتل بحجر أو سوط ح 4789، 4790، ابن ماجه: الديات، باب من حال بين ولي المقتول وبين القود أو الدية ح 2635. تلخيص الحبير: 4/ 42 حديث رقم 1890). (2) حديث "ثم أنتم يا خزاعة ... الحديث" متفق عليه (البخاري: العلم: باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب ح 104. مسلم: الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، ح 1354). (3) مطموس تماماًً في الأصل، والمثبت تقدير منا. (4) في الأصل: إلزام. والمثبت تقدير من المحقق نرجو أن يكون صواباً. (5) مكان المطموس تماماً في الأصل. (6) ر. المختصر: 5/ 93.

[دفع] (1) القصاص عن القاتل يقتُل المفضولَ، ثم لا يعتبر في المكافأة جملة الصفات، وإنما يعتبر بعضُها، فالمؤثر فيها: الاختلافُ في الدين إسلاماً وكفراً، والحريةُ والرق، وألحق الأئمة بهذا ما بين الوالد والولد من التفاضل، وعدّوا امتناع وجوب القصاص عن الوالد من باب اختصاصه بفضل الأبوّة، وقال قائلون: الولد والوالد متكافئان، وإنما اندفاع القصاص عن الوالد بتوقيفٍ، أو طرفٍ من المعنى سوى المكافأة، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله، وهذا الخلاف قليل الجدوى والفائدة. 10259 - ونحن الآن نذكر التفصيل في اختلاف الدين، ثم نذكر بعده اختلاف القاتل والمقتول بالرق والحرية، ثم نذكر انتفاء القصاص عن الأب إذا قتل ولده، ونذكر في كل أصل ما يليق به. ونُقدِّم على الخوض في التفاصيل طرقَ الأصحاب في الضبط: قال قائلون: المؤثر في كفاءة الدم الشبهات (2)، فالمسلم إذا قتل ذمياً، والكفر في الذمي شبهة؛ فإنه كان مبيحاً لدمه قَبْل الذمة، وهو قائم مع الرق والذمة، والرقُّ من آثار الكفر، والوالد شبهة في ولده؛ فإنه [بعضه] (3)، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك". وهذا المسلك لا يستقيم على السبر ولا يصبر على المباحثة. أما ما ذكر في الكافر فينقضه [أن الذميّ يقتل بالذمي] (4) ولا ينفع الاحتيال في دفعه، وينقضه أن المسلم يقطع بسبب مال الذمي، والشبهةُ في المال تدرأ القطعَ، ولا مبالاة بما ذكره الأصحاب في دفع ذلك.

_ (1) في الأصل: "مؤثر في دماء القصاص عن القاتل يقتل المفضول" والتصرف من المحقق. وتمام المعنى كما في الشرح الكبير والروضة: "يقتل المفضول بالفاضل، ولا عكس" الشرح الكبير: 10/ 159، والروضة: 9/ 150. (2) أخذاً من الحديث الشريف: "ادرؤوا الحدود بالشبهات". (3) في الأصل: تعصية. (4) في الأصل: أن الذي يعتلّ بالذمي.

وأما المصير إلى كون الرق من آثار الكفر، فكلامٌ عريٌّ عن التحصيل، ومن اعتقد أن الأب شُبْهة [بالابن] (1)، فليس من [أحزاب] (2) الفقهاء، وإن كان الرسول يقول عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" فهذا كلام أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً (3)، ولو شاع اعتقاد ظاهره والتعويل عليه، للزم أن يقال: إذا فجر الرجل [بامرأة ابنه] (4) لا يلزم الحد، فهذه طريقة مزيّفة. وقال آخرون: قياس الباب أن تعتبر العصمة والتساوي فيها، [وقال: إن] (5) القصاص أثبت تحقيقاً للعصمة فيما نبهنا عليه. والمسلم والكافر متفاوتان في سبب العصمة، فاعتصام المسلم بالإسلام،

_ (1) مكان كلمة مطموسة. (2) في الأصل: أحرار. (3) قوله أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، أي يقصد به الحث والوعظ، وإمام الحرمين يفرق في نظره إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ما قال عنه أنه سيق للحث والوعظ والترغيب، وبين ما سيق في بيان القواعد والأحكام، ذكر هذا في أكثر من موضع في أكثر من كتاب من كتبه، من ذلك ما ذكره في كتابه (الأساليب) وحكاه عنه النووي في المجموع، حيث ردّ استدلال الأحناف على رأيهم في وقتي الظهر والعصر بحديث: "إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ... إلخ، فقال إمام الحرمين: عمدتُنا حديث جبريل (في المواقيت) ولا حجة للمخالف إلا هذا الحديث الذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسعات والمجاز" وكذلك ما قاله في كتابه هذا عند فضل التبكير إلى الجمعة، فذكر حديث: "من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى، فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ... الحديث" قال الإمام بعد أن ذكر ما قاله أئمة المذهب عن المقصود بالساعات: "وهذا غلط، فإن الماضين ما كانوا يبتكرون إلى الجامع في الساعة الأولى، ثم الساعة الخامسة في النهار الصائف تقع قبل الزوال، وفي اليوم الشاتي تقع قريبة من العصر، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالساعات ما يذكره أصحاب الثقاويم، وإنما أراد عليه السلام الاستحثاث على السبق والتقديم، وترتيب منازل السابقين واللاحقين" (ر. المجموع: 3/ 24، والنهاية كتاب الجمعة) فالإمام هنا يردّ استشهاد الأصحاب بهذا الحديث، بأنه للحث والوعظ وليس للحكم، فظاهره غير مراد. (4) في الأصل: "بامرأته". (5) في الأصل: وإن قال.

واعتصام الذمي بذمةٍ عوضها في السنة دينار، وهو متوعد في استدامتها [وترك] (1) الإسلام بوعد الأبد، ولو خالف موجَبَ الذمة، انتقضت، والمسلم إذا خالف شرائعَ الإسلام لم ينتقض عصامه، ولم يزايله إسلامه، فهما متفاوتان في سبب العصمة تفاوتاً يزيد على تفاوت الحنطة الجيدة والرقبة (2)، والماليةُ في الأموال كالعصمة في الدماء. وعصمة الرقيق أضعف من عصمة الحر؛ من جهة أن الحر يتوصل إلى إقامة كل عبد مقامَ الإهدار بتملكه، فيصير مهدر الدم في حقه، والذكورة والأنوثة، وما عداهما من المناقب ونقائضهما، لا تؤثر في التفاوت في العصمة، وهذا القائل لا يعد الأبوة والبنوة من أركان الكفاءة. وهذه الطريقة، وإن كانت أحرى من الأولى، فالوفاء بتقريرها عسر، ولا يليق الخوض فيه، بهذا المجموع. والذي نعتمده ونعتقده، أن الصفاتِ المرعيةَ في كفاءة الدم لا تندرج تحت معنى ضابط [يجري وينعكس] (3)، ولكن معتمد اندفاع القصاص عن المسلم إذا قتل الذميَّ الحر [الخبرُ] (4) [بحسب ما قررناه] (5) في مجموعات الخلاف (6)، ومعتمد اندفاع القصاص عن الحر بقتل العبد تشبيه النفس بالطرف، ولا مزيد على صاحب المذهب، وهو رضي الله عنه، لم يتعرض لمعنىً جامع، ولم يعتمد في مسألة قتل المسلم بالذمي

_ (1) في الأصل: بترك. (2) الرقبة: في لسان العامة من المزارعين في ريف مصر يعنون بها أردأ ما يكون من الحنطة لكثرة الشوائب بها مع رداءتها في نفسها، فهل هذا هو المعنى المقصود هنا؟ أُرجح ذلك. وإن كنت لم اْجده منصوصاً فيما هو مشهور من المعاجم. ولعله معرّبٌ. وربما كانت مصحفة عن كلمة (الردية). (3) في الأصل: مجرى ونعكس. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: بحسب على ما قررناه. (6) مجموعات الخلاف: المراد كتب الخلاف، وللإمام منها كتاب: (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) وقد أعاننا الله على تحقيقه وإخراج قسم منه والباقي قيد الإعداد (وليست هذه المسألة واردة فيه)، وله ثلاثة كتب أخرى في الخلاف مفقودة، لما نصل إلى خبرٍ عنها، هي (الأساليب) و (العمد) و (غنية المسترشدين).

إلا الخبرَ، كما لم يعتمد في مسألة قتل الحر بالعبد إلا الشبه بالطرف، فهذه هي الطريقة المرضية. 10260 - وقد حان أن نخوض في التفاصيل فنقول: إذا قتل مسلم ذمياًً، لم يستوجب القصاص بقتله، ولو قتل ذميٌّ ذمياًَ، ثم أسلم القاتل، لم يسقط القصاص عنه بطريان الإسلام، باتفاق الأصحاب، فإن العقوبات إذا وجبت، لم تغيّرها الصفات الطارئة على مستوجبها. ولو جرح ذمي ذمياً، ثم أسلم الجارح، ومات المجروح، بعد إسلام الجارح، ففي وجوب القتل قصاصاً على الجارح وجهان معروفان: أحدهما - أن القصاص لا يجب؛ فإنه لو وجب، لوجب بزهوق روح المجروح، والمجروح مات كافراً، والجارح إذا أسلم، فلو أوجبنا القصاص في النفس، لتضمن ذلك إيجابَ القصاص ابتداءً على مسلم بسبب زهوق روح كافر. والوجه الثاني - أن القصاص يجب اعتباراً بحالة الجرح؛ فإنه الفعل الداخل تحت الإيثار، والسريان وما يفرض من زهوق الروح ليس من أفعال الجارح، ولكنه يعد جزءاً من فعله؛ لأنه ترتب عليه. والأصح الوجه الأول، فإنا في أحكامٍ نعتبر المآل، والقصاص أولى الأحكام باعتبار المآل، فيه. 10261 - ولو قتل عبد مسلم عبداً مسلماً لكافر، ففي وجوب القصاص على العبد القاتل وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يجب؛ لأن القاتل والمقتول متكافئان، ومالُ السيد لا يُعصم بالقصاص، وإنما العصمة لحرمة الدّمّية، والتساوي بين [الدّمين] (1) قائم. والوجه الثاني - أن القصاص لا يجب؛ لأنه لو وجب، لوجب لكافر على مسلم؛ فإن مستحق القصاص سيد العبد، ولا يثبت للعبد قصاص تقديراً ولا تحقيقاً، والدليل

_ (1) في الأصل: الذميين.

عليه أن عبداً لو قطع يدَ عبد، فالاقتصاص لمولاه، فلو عفا العبد، لم يسقط القصاص، بل إلى السيد الاستيفاءُ، والإسقاطُ، [ثم هذا القائل فرّق بين أن يكون العبد القاتل لمسلم] (1) أو لكافر؛ فإن القصاص على العبد لا على مولاه، وهو لسيد العبد المقتول لا للعبد. 10262 - والذمي مقتول بالذمي وإن اختلفت الملّتان، والنصراني مقتول بالمجوسي. وأطلق الأئمة أقوالهم بأن الذمي مقتول بالمعاهد، وفي النفس من هذا ترددٌ؛ فإني رأيت للأصحاب في كتاب السرقة نَقْلَ نصوصٍ في أن المعاهَد لو سَرَقَ هل يُقطع؟ [ويترتب عليه تردّدٌ في أنه لو سُرق مالُه هل يُقطع السارق؟] (2)؛ إذ من المستحيل ألا يُقطع إذا سرق من مال مسلم، ويقطع المسلم إذا سرق من ماله، وينشأ من هذا [تردُّدٌ في] (3) أنه إذا قَتل لا يقتل قصاصاً. نعم، يجوز أن ينتقض عهده ويقتل؛ لأنه حربي، لا عهد له. وإن فصل فاصل بين حد السرقة من حيث إنه حق [الله] (4) وبين القصاص لأنه حق الآدمي، [فهو -للعفو عن الدم- من حقوق الآدميين] (5)، لم يتجه هذا؛ فإن عصمة المال [بالحدّ] (6) تتعلق بطرف من حقوق الآميين.

_ (1) في الأصل: "ثم هذا القائل أن كون العبد القاتل لمسلم ... ". (2) عبارة الأصل: "وتترتب عليه أنه لو سرق يقطع السارق". والمثبت من الشرح الكبير، حيث نقل هذا عن الإمام، ولعل الأَوْلى أن نذكر عبارته بتمامها، قال: "وأبدى الإمام (إمام الحرمين) تردداً في قتل الذمّي بالمعاهد، وإن أطلقه الأصحاب، قال: لأني رأيت نصوصاً نقلت في أن المعاهد إذا سرق، هل يقطع، ويترتب عليه تردُّد في أنه لو سُرق ماله هل يجب القطع، وينشأ منه تردّدٌ في القصاص" (ر. الشرح الكبير: 10/ 170). (3) زيادة مأخوذة من معنى ما نقله الرافعي في الشرح الكبير. (اقرأ التعليق السابق). (4) في الأصل: حق أبيه. (5) في الأصل: وهو لعهد الدم حقوق الآدميين. (6) في الأصل: "بالحر".

وهذا الذي ذكرناه [إبداء] (1) احتمال، والذي رأيناه للأصحاب القطعُ بوجوب القصاص على الذمي بقتل المعاهَد. ولم يختلف أئمتنا في أن دية المعاهَد النصراني كدية الذمي النصراني، وهذا شاهد صدق في التسوية بين الذمي والمعاهد النصراني. وإن كنا لا نتعلق بالدية في القصاص، ويجري القصاص مع التفاوت [في قيمة] (2) الدية. 10263 - وإذا قتل ذمي مرتداً، فقد ذكر العراقيون ثلاثة أقوال: أحدها - أن القصاص لا يجب بقتل المرتد؛ فإن المرتد مهدر الدم، وإيجاب القصاص على القاتل المعصوم بقتل المهدر بعيد. والقول الثاني - أنه يجب القصاص [للاستواء، في الكفر، وفي المرتد مزية] (3)، وهو عُلقة الإسلام، ولأجلها يُدعى إلى الإسلام قطعاً [ألردّته] (4)، ويخاطَب بتفاصيل أحكام الإسلام. والقول الثالث - حكاه العراقيون عن تخريج الإصطخري [أن الذمي] (5) يستوجب القصاص [بقتل المرتد] (6) إذا قتله عمداً. وإن قتله خطأ، لم يلزم المال، فأقام إهدار العوض فيه (7)، وأوجب القصاص

_ (1) في الأصل: "ابتداء". (2) في الأصل: "في قلة الدية". (3) عبارة الأصل: "للاستواء وفي الكفر في المرتد مزية" والمثبت من تصرّف المحقق. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "أن الذي". (6) في الأصل: "لا يقتل المرتد". (7) المعنى: "أنه لا قيمة لدمه؛ لأنه مهدر الدم، وإنما أوجبنا القصاص لأن الذمي يقتله عناداً، لا تديناً" هذه عبارة الرافعي (ر. الشرح الكبير: 10/ 162). تنبيه: تذكر أن نسخة الأصل وحيدة، فما تراه في الحواشي ليس فروق نسخٍ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وبحثه. نسأل الله أن يلهمنا الصواب.

على الذمي؛ [لأن قتل المرتد] (1) عقوبةُ حدّ، والكافر ليس من [أهل] (2) استيفاء الحد (3)، ونحن قد نوجب القصاص في النفس حيث لا نُثبت مالاً، والدليل عليه أن من قطع يدي رجل، ثم قتله، فقصاص الطرف لا يندرج تحت النفس، ولو [اقتص] (4) الولي من الجاني في يديه، فإن له القصاص في النفس، ولا مال له، على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل، ثم يقول الإصطخري: لو قتل الذمي المرتدَّ عمداً، ثم آل الأمر إلى المال، فلا مال. ولو قتل المرتد الذميَّ، فهذا يبتني على قتل الذمي المرتدَّ على العكس، فإن قلنا: الذمي لا يقتل بالمرتد؛ لأن المرتد مهدر، فالمرتد مقتول بالذمي. وإن قلنا الذمي مقتول بالمرتد، فهل يقتل المرتد بالذمي؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يقتل به للاستواء في الكفر. والثاني- لا يقتل به، لما [تميّز] (5) به من عُلقة الإسلام. ومما [يدار] (6) في أثناء ذلك أن قتل المرتد ليس يُقطع القول بأنه حد، بل [هو] (7) إرهاقٌ، وحملٌ على الإسلام، وسيأتي أثر هذا في كتاب الحدود، إن شاء الله. ومما يتعلق بهذا أن الذمي إذا قتل ذمياً، قُتل به لاستوائهما. ولو قتل مرتد مرتداً، فظاهر (8) المذهب أنه مقتول به؛ لاستوائهما في كل معنى. وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا قصاص عليه؛ لأن المقتول [هدرٌ] (9)، وهذا

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام. (3) راجع الشرح الكبير: 10/ 162، 163 لترى أن تصرف المحقق في العبارة مأخوذ من معنى كلام الرافعي. ثم إن الإمام الرافعي قال: إن الأصح القول الأول، وهو عدم وجوب القصاص. (4) في الأصل: "اقتصر:. (5) يْر الأصل: "لما مرّ". (6) في الأصل: "ومما يدرا". (7) في الأصل: "بل وهو إرهاق". (8) جعله الرافعي الصحيح. (ر. الشرح الكبير: 10/ 162). (9) في الأصل: "أن المقتول هرب".

له اتجاه وإن كان بعيداً، وقد يقرّب موت المقتول -لو لم يُقتل- مرتداً، ويفرض عَوْد هذا إلى الإسلام. ولو قتل ذمي مرتداً وأوجبنا القصاص فمن يستوفيه؟ قال الشيخ أبو علي: يستوفيه الإمام أو من ينوب عنه، وحَكَى قولاً بعيداً أن حق الاستيفاء يثبت لقريبه المسلم الذي كان يرثه لو كان مسلماً، وهذا قد يمكن تخريجه من مسألة ستأتي، وهو أن المسلم لو قطع يدَ مسلم، ثم ارتد المجروح ومات مرتداً، فقال الشافعي: "لوليه القصاص في الطرف" وسنذكر غائلة هذا الفصل ثَمَّ، إن شاء الله عز وجل. 10264 - وقال أئمة العراق: الذمي إذا قتل مسلماً محصناً [قد] (1) زنا واستوجب الرجم، وجب القصاص عليه، بلا خلاف، فإن الواجب على المسلم حدٌّ، وهو حق الله تعالى يستوفيه المسلمون، ولكن عَسُر [قيامهم] (2) باستيفائه [فيستوفيه] (3) النائب عن المسلمين (4). وقالوا: لو [قتل] 5) مسلم مسلماً زنا وهو محصن، هل يجب القصاص عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب، وهو القياس، وبه قطع المراوزة؛ فإن القاتل من المسلمين، والرجم ثابت لله تعالى. والثاني- يجب القصاص؛ فإن استيفاء الحد مفوّضٌ إلى الإمام، وأيدي الكافة مصروفة مكفوفة عنه، كما أن استيفاء القصاص مفوض إلى مستحقه، فلو قتل ملتزمَ القصاص من لا يستحق القصاص، التزم القصاص. هذا قولنا في اختلاف الدين.

_ (1) في الأصل: "فقد". (2) في الأصل: "عسر قتالهم". (3) في الأصل: "فاستوفاه". (4) النائب عن المسلمين هو السلطان، والمعنى أن الذمي يقتل به لأنه ليس نائباً عن المسلمين، وليس له استيفاء الحد. وقد علل الرافعي عدم سقوط القصاص باختصاص الزاني المحصن بفضيلة الإسلام. (5) في الأصل: قاتل.

10265 - ورأيت لأئمة المذهب تردداً في مسألة أَصِفُها، وهي أن الذمي لو قتل ذمياً، ثم أسلم القاتل، فالقصاص لا يسقط، كما قدمناه، ويتولى استيفاءَ القصاص [بعد الرفع] (1) إلى السلطان أولياءُ القتيل، وإن كانوا كفاراً (2)، فلو مات ولي الدم، وخلفه كافر، فهل يرث القصاص الذي وجب له على مسلم في صورة الدوام؟ ذكروا في ذلك وجهين: أقيسهما - أنه يرث ويحل محل الموروث، وقد كان كافراً. والثاني - لا يرث القصاص؛ فإن هذا استحقاق قصاص على الابتداء على مسلم، ويستحيل أن نثبت لكافر على مسلم قصاصاً ابتداء. وهذا بعيد، والأصح الأول، وسنعيد هذا عند كلامنا في قتل الوالد ولده. وقد انتجز القول في اختلاف الدين إسلاماً وكفراً. 10266 - فأما الرق والحرية، فإذا قتل الحر رقيقاً: مكاتباً أو مستولدةً أو من بعضه رقيق، لم يستوجب القصاص بقتله ابتداء. ولو قتل عبد عبداً، ثم عَتَق القاتلُ، لم يسقط القصاص عنه بالعتق الطارىء، قياساً على الإسلام الطارىء بعد القتل. ولو جرح عبد عبداً، ثم عَتَق الجارح بعد موت المجروح [وجب القصاص، ولو جرح عبد عبداً، ثم عتق الجارح] (3)، ثم مات المجروح على الرق، فيجري الوجهان في هذه الصورة. ولو قتل من نصفه حر ونصفه عبد شخصاً على مثل حاله في الرق والحرية، فالذي ذكر العراقيون أن القصاص يجب لمساواة القاتل والمقتول في الصفة.

_ (1) في الأصل: "بمعنى الدفع". (2) عبارة الرافعي: "ثم القصاص فيما إذا طرأ إسلام القاتل بعد القتل، وفيما إذا طرأ الإسلام بين الجرح والموت، وإن أوجبناه يستوفيه الإمام بطلب الوارث، ولا يفوّضه إليه؛ تحرزاً من تسليط الكافر على المسلم إلا أن يسلم فيفوّضه إليه" (الشرح الكبير: 10/ 160، 161). (3) زيادة اقتضاها السياق.

وقطع الققال والأئمة [المراوزة] (1)، بأن القصاص لا يجب (2)، [واعتلّوا] (3) بأنا لو قتلنا هذا الشخص بذلك، لقابلنا حريةً برق؛ فإن الاستيفاء يقع على الإشاعة لا على التقطيع، فهذا إن قيل، [فكل جزء منه مستوفىً في مقابلة الرق والحرية، ومقابلة حرّ بحر ورقيق، بمثابة مقابلة حر برقيق،] (4) والدليل على الشيوع في المقابلة أن من نصفه حر ونصفه رقيق إذا قتل شخصاً مثله، وآل الأمر إلى المال، فلا نقول: مقدار القيمة من الجزء الرقيق يتعلق بالمقدار الرقيق من الجاني (5)، ومقدار الدية يتعلق بالذمة (6) في مقابلة الحرية، بل يتعلق قسط من القيمة وقسط من الدية، [بالرقيق على ما تقتضيه نسبة الحرية] (7) في القسمة، فنتبين أن التقابل على هذا الوجه يقع، فلو اقتصصنا، لأدى إلى مقابلة الحرية بالرق لا محالة. ثم يتفرع على هذين الوجهين أن القاتل لو كان عشرة أجزاء (8)، فلا قصاص على طريقة المراوزة؛ لأن من ضرورة المقابلة ما ذكرناه.

_ (1) في الأصل: "والأئمة والمراوزة". (2) هذا هو الأظهر في المذهب (ر. الشرح الكبير: 10/ 164). (3) في الأصل: "واعتدوا". (4) عبارة الأصل: "فكل جزء منه مستوفًى في مقابلة الرق والحرية مقابلة الرق والحرية، ومقابلة حر بحر رقيق بمثابة مقابلة حر برقيق". والتصرف بالحذف والزيادة من عمل المحقق. (5) أي برقبته. (6) عبارة الرافعي: "فلا نقول: نصف الدية في مال القاتل، ونصف القيمة يتعلق برقبته يفديه السيد، إن شاء، بل يجب ربع الدية، وربع القيمة في ماله، ويتعلق ربع الدية، وربع القيمة برقبته، وإذا وقع الاستيفاء شائعاً، لزم قتل البعض الحر بالبعض الحر والرقيق معاً" (ر. الشرح الكبير: 10/ 164، 165). (7) في الأصل: فالرقيق عاماً يقتضيه نسبة الحرية. (8) المعنى أنه مهما كانت النسبة في الصغر -وضَربَ العشرة مثلاً- فلا قصاص على طريقة المراوزة، لأن القصاص على الشيوع، ومن ضرورة مقابلة جزء من الرق والحرية -مهما ضؤل - بجزء من الرق والحرية، فيؤدي إلى ما ذكره من وقوع مقابلة (شيء) من الحرية (بشيء) من الرق. فلو فرضنا عبداً عُشره حُرّ قتل عبداً عشره حر، أو عشره رقيق قتل آخر عشره رقيق، فلا قصاص -عند المراوزة- لما يترتب من المقابلة التي ذكرناها.

والعراقيون يشترطون في إجراء القصاص أن يكون الجزء من القاتل مثل الجزء من المقتول. وإن كان المقدار الحر من المقتول أقل، والمقدار الحر من القاتل أكثر، فلا يَجْر القصاص للتفاوت الظاهر في الحرية، والفضيلةُ الزائدة المعتبرة في القاتل تمنع وجوب القصاص لا محالة. والمستولدة مقتولة بالرقيقة القنة، والمكاتب مقتول بالعبد القن، ولا نظر إلى ما كان يتوقع فيهما من حرية. ولو قتلت مستولدةٌ رقيقاً، ثم لم يتفق الاقتصاص حتى عَتَقت، فلقد كانت مستحقة العتاقة لما قتلت، وقد تحقق الآن ذلك العتق، [فالقصاص] 1) لا يسقط بالعتق الطارىء، ولا نظر إلى كون العتق مستحقاً؛ فإن هذا لو كان معتبراً، لمنع استيفاء القصاص، وإن لم يتحقق العتق. ولو قتل حر ذميٌّ عبداً، ثم نقض العهد، والتحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وأُرق، فلا قصاص عليه؛ نظراً إلى حريته حالة القتل. 10267 - ومما نختم به هذا الفصل أن الفاضل من الصفات المرعية لا يقتل بالمفضول، والمفضول يقتل بالفاضل. والكافر يقتل بالمسلم، والعبد يقتل بالحر. ولا يتطرق الجبر إلى الصفات المعتبرة، فلو قتل حرٌّ كافر عبداً مسلماً، لم يقتل به، ولو قتل عبد مسلم حراً كافراً لم يقتل به، وهذا وإن كان من الجليات، فهو غريب في المسائل: شخصان يتفاضلان لا يجري القصاص بينهما في الطرفين (2) جميعاً، وسبب ذلك أنا لم نجبر نقيصةً بفضيلة فيما نحن فيه، وقد ذكرنا في كفاءة النكاح في بعض الصفات أن الجبر قد يتطرق إليه. وهذا لا يجري في هذا الفصل.

_ (1) في الأصل: والقصاص. (2) المراد بالطرفين هنا الحرية والرق، والإسلام والكفر.

فصل قال: "ولا يقتل والد بولد ... إلى آخره" (1). 10268 - الوالد لا يقتل بولده. وقال مالك (2): إن حذفه بالسيف، لم يلزمه القصاص وإن أضجعه وذبحه، التزم القتل حدّاً، ثم معتمد الشافعي الخبرُ، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل والد بولده" (3) ثم لا خلاف أن الأم بمثابة الأب في أنها لا تستوجب القصاص بقتل ولدها، واتفق الأصحاب في طرقهم على أن الأجداد وإن علَوْا، والجدات وإن علَوْن بمثابة الأب والأم، فمن قتل ولده أو حافده، لم يستوجب القصاص. وقد ذكر صاحب التلخيص قولاً أن اندفاع القصاص يختص بالأبوين: [الوالد] (4) والوالدة، ويجب القصاص على الأجداد والجدات إذا قتلوا أحفادهم، وهذا قولٌ غريب ردّه الأصحاب، ولم يقبلوه منصوصاً ولا مخرّجاً، ولعله استنبط هذا من قول الشافعي رضي الله عنه في الرجوع في الهبة: "يختص به الأبوان ولا يثبت لغيرهما" وهذا ليس على وجهه؛ فإن الذي يليق بالهبة منع الرجوع، والاقتصارُ على مورد الخبر، والذي يليق بالقصاص إذا تمهد فيه دافعٌ يدرأ العقوبة ألا يخصص (5).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 96. (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 814 مسألة:: 155، المعونة: 3/ 1، 13، القوانين الفقهية: 341. (3) حديث "لا يقتل والد بولده" رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والدارقطني والبيهقي من حديث عمر، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم من حديث ابن عباس (ر. الترمذي: الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه يفاد منه أم لا؟ ح. 140، 1401، ابن ماجه: الديات، باب لا يقتل الوالد بولده ح 2661، 2662، أحمد: 1/ 16، الدارقطني: 3/ 140،141، الحاكم: 4/ 410، البيهقي: 8/ 38، 39، تلخيص الحبير: 4/ 33 ح 1878، إرواء الغليل للألباني، وقد صححه: 7/ 269). (4) في الأصل: والوالدين. (5) هذه من المسائل الكثيرة التي نقلها الرافعي عن الإمام بألفاظه نفسها تقريباً. (ر. الشرح الكبير: 10/ 166).

واعتمد الشافعي في هذا الأصل ما روي "أن رجلاً من بني مُدْلِج حذف ساقَ ابنٍ له بالسيف، [فأَطَنَّه] (1)، فنزف الدم ومات، فجاء سراقةُ بنُ مالك بن [جُعشم] (2) سيد بني مدلج إلى عمرَ رضي الله عنه وأخبره، فقال عمر: اعدُدْ لي على [ماء قُديد] (3) مائة وعشرين من الإبل، لأَعْدُوَ، فعدا عليهم وأفرد منها مائةً، ثم قال: أين أخ المقتول؟ فقال: ها أنا يا أمير المؤمنين، فقال: خذها إليك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقاد والدٌ بولد، وليس للقاتل من الميراث شيء" (4) وقوله: لا يقاد والد بولد يعمّ كلَّ قتلٍ [من غير فصلٍ وفرقٍ] (5). 10269 - والابن مقتول بأبيه وفاقاً، ولا يُقطع واحد منهما بسرقة مال صاحبه، والابن محدود بالزنا بجارية أبيه، والأب مخصوص باندفاع الحد عنه إذا وطىء جارية ابنه، وسبب اندفاع القطع من الجانبين ثبوت حق النفقة لكل واحد منهما إذا أعسر وصاحبه موسر، وسبب اختصاص الأب بانتفاء الحد عنه، إذا وطىء جارية ابنه [أن له] (6) في مال ابنه حقَّ الإعفاف. وأما القصاص، [فلا يستدّ] (7) فيه معنى معتبرٌ، والمعوّلُ فيه الخبر. ثم المذهب الذي عليه التعويل: أن القصاص لا يجب على الأب. وذكر بعض أئمة المذهب أن القصاص يجب عليه ويسقط، وزعموا أن سبب

_ (1) في الأصل: فأطبه. والتصويب من المحقق. ومعنى (أَطَنَّه): أي قطع ساقه. (المعجم). (2) في الأصل: جشعم. (3) في الأصل: على بابه. والتصويب من ألفاظ الحديث. (4) حديث سراقة المُدلجي رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وابن ماجه مختصراً والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، وقد روي عنه منقطعاً وموصولاً وقد صححه الألباني في الإرواء. (ر. الموطأ: 2/ 867، الأم: 6/ 34، المسند: 1/ 49، ابن ماجه: الديات، باب القاتل لا يرث، ح 2646، السنن الكبرى للبيهقي: 8/ 38، 72، ومعرفة السنن والآثار: 4829. إرواء الغليل: 7/ 72 ح 2215). (5) عبارة الأصل: من غير فصل وفرق وفصل. (6) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (7) في الأصل: فلا يستمرّ.

الوجوب التساوي مع كَوْن القتل موجباً للقصاص؛ [ولذلك] (1) يجب القصاص على شريك الأب دون شريك الخاطىء (2) - ولكن يتعذر استيفاؤه؛ فإن الإقدام على قتل الأب بسبب الابن نهايةُ الإهانة، فسقط القصاص بتعذر الاستيفاء. وهذا حشوُ الكلام، ولست أحكي مثله إلا مع المبالغة في التنبيه على سقوطه، حتى لا يجري كل منقول على نسقٍ واحد، فإذا كان الاستيفاء متعذراً، وهذا مقترن بالقتل، فاقتران المُسْقط يمنع الوجوبَ، ثم ما ذكره هذا القائل تحكُّم، ولو وجب القتل لاستُوفي. 10270 - ثم كما لا يجب على الأب القصاصُ بقتل ابنه، وإدن كان مستحقُّ القصاص غيرَ الابن، [فكذلك لو قتل مَنْ وارثه ابنُه،] (3) لم يجب القصاص عليه، فكما يمتنع وجوب القصاص بقتل الابن يمتنع وجوب القصاص بقتل مَنْ وارثه الابن، ولو كان للمقتول ورثةٌ أحدُهم الابنُ، لم يجب القصاص أيضاً، فإن وراثته من المسقطات، فإذا اجتمع المسقط والموجِب، [مع اتحاد القصاص غُلّب المسقط] (4) وينزل هذا منزلة ما لو ثبت القصاص لجمعٍ، فعفا واحد منهم، وأصرّ الباقون على طلب القصاص، سقط القصاص بعفو من عفا، وآل الأمر إلى المال. ومما يليق بذلك أن القصاص لو وجب، ثم طرأت وراثة الابن فيه، سقط

_ (1) في الأصل: فكذلك. والمثبت من تصرف المحقق. (2) المعنى أنه إذا اشترك اثنان في قتل شخص بأن أصابه كل منهما إصابة لو انفردت لقتلته، وأحدهما عامد والآخر خاطىء، فلا قصاص على الخاطىء بداهة، لكونه خاطئاً، ولا قصاص على العامد، بل عليه نصف دية العمد؛ لأن القصاص لا يتبعض. أما إذا اشترك الأب والأجنبي في قتل الابن، على النحو الذي شرحناه، فيجب القصاص على شريك الأب؛ لأنه استقر عليهما، ولكن تعذر استيفاؤه من الأب. بهذا استدلّ من قال: إن الأب إذا قتل ابنه يجب عليه القصاص، ثم يسقط. وهذا غير مرضي عند الإمام. (3) في الأصل: وكذلك لو قتل من وارث أبيه. (4) في الأصل: "مع اتحاد القصاص عليه لم يسقط" وهو لا يستقيم مع السياق، ولا يصح عليه المعنى، والمثبت من عمل المحقق، ومع التأمل والتأني تدرك كيف تم التصحيف. والله المستعان.

القصاص بطريان وراثة الابن فيه، مثل إن قتل (1) ابنَ معتَقِ ابنهِ، ووجب القصاص [لعتيق] (2) الابن، فلو مات معتَقُ الابن [وورثه الابن] (3)، فيسقط القصاص. وهاهنا لطيفة في المذهب، وهو أن الوجه أن [نقول] (4): ورث القصاصَ وسقط؛ فإنه لو لم يرث، لما سقط القصاص، فإن الابن يخرج عن كونه وارثاً على هذا التقدير، وإذا لم يرث ورث غيره، ثم كان يستوفي القصاص. فمن قال: يجب القصاص على الأب بقتل الابن ويسقط، قد يتعلق بهذا؛ فإن الابن يستحق القصاص، ولكن يقال له: سبب سقوط القصاص استحقاقُه، وهو بمثابة جريان ملك الرجل على قريبه الذي يَعتِق عليه، لمّا لم يتصور العتق إلا في الملك، ثبت الملك، ليترتب عليه العتق، وهذا لا يتحقق في قتل الوالد ولده، فإنا لو أوجبنا القصاص ومستحقُّه ليس ابناً [لاسْتقر] (5) الوجوب. نعم، إذا قتل من وارثه الابن، فالوجه هاهنا أن يقال: يجب ويسقط، فإن السقوط يستدعي الثبوت، ولو لم يثبت أصلاً، لخرج الابن عن كونه وارثاً. ولو قال قائل: يمتنع ثبوت القصاص [لانسداد] (6) طريق الإرث فيه مع أن الابن من أهل الإرث، لما انتظم الكلام، ولوجب إقامةُ غيرِ الابن [في الوراثة] (7) مقامه، وكان شيخي يميل إلى أن من قتل مَنْ وارثه الابن، لم يجب القصاص، لامتناع الوراثة، مع استجماع الابن شرائطَ الوراثة. 10271 - ومما نذكره [متصلاً] (8) بهذا أن من وجب عليه القصاص، ثم مات مستحق القصاص، وكان هذا القاتل وارثَ ولي المقتول، فيسقط القصاص؛ فإنه

_ (1) قتل ابنَ معتق ابنه: أي قتل الأب ابن عتيق ابنه. (2) في الأصل: "يعتق". (3) في الأصل: "فلو مات معتق الابن ووراثه فيسقط ... ". (4) في الأصل: "أن ننزل". (5) في الأصل: "لا يستقرّ". وهو مخالف للسياق والحكم. (6) في الأصل: "لاستداد". (7) في الأصل: "والوراثة". (8) في الأصل: "مفصلاً".

يصير مستحقَّ دمَ نفسه، وإذا كان طريان إرث الابن يُسقط، فطريان إرث من عليه القصاص أولى بإسقاط القصاص. ثم ليت شعري ماذا نقول في هذا الطريان؟ أيصير مستحقاً لقتل نفسه ثم يسقط؟ أم يسقط القصاص بامتناع الوراثة؟ الوجه أن نقول: يستحق ويسقط، وهذا كما لو اشترى العبد نفسَه من مولاه، فقد قيل: يملك نفسه، ويترتب العتق عليه، ثم اضطرب الرأي في الولاء، فذهب الأكثرون إلى أن الولاء للسيد البائع؛ [إذ] (1) يستحيل أن يثبت لإنسانٍ الولاء على نفسه، ومن شأن الولاء أن لا ينقطع، بخلاف الملك، ولا بد من إثبات الولاء. وذهب ذاهبون إلى أن الولاء لا يثبت أصلاً؛ فإنه يثبت لمن حصل العتق في ملكه، والعبد عَتَقَ من حيث ملك نفسه، ولو ثبت الولاء، لثبت له الولاء على نفسه، في تصرفٍ سيأتي في موضعه، إن شاء الله. 10272 - فإذا تمهدت هذه الأصول، فإنا نفرع عليها فرعاً يهذبها، فنقول: أخوان لأب وأم، قتل أحدهما أباهما، والثاني أمهما، فالمسألة تتصوّر على وجهين: أحدهما - أن تكون الأم زوجة الأب، والأخرى ألا تكون زوجته. فإن كانت زوجته، فالفتوى أن القصاص يسقط عن قاتل الأب، ويجب له على قاتل الأم القصاص بقتل الأم، وليقع الفرض فيه إذا تقدم قاتل الأب بالقتل، والتعليل أن القصاص وجب على قاتل الأب ووَارِثُه الأمُّ والأخُ، وهو لا يملك [من دم أبيه] (2) شيئاً؛ فإنه قاتل، والقاتل لا يرث، فلما قتل الثاني الأمَّ، فقاتل الأم لا يرث من القصاص شيئاً، ويستوجب القصاص، وقاتل الأب يرث الأم لا محالة، ومن جملة حقوقها القصاص الذي وجب على قاتل الأب، فيصير وارثاً لبعض دم نفسه، وقد تمهد أن من ورث دم نفسه أو بعض دم نفسه، فيسقط القصاص عنه. ولو سبق قاتل الأم، ثم صدر القتل من قاتل الأب والزوجيةُ قائمة، انعكس

_ (1) في الأصل: "إن". (2) في الأصل: "من دم نفسه".

الترتيب، وطريق الجواب إسقاط القصاص عن السابق، ثم يجب للأول على القاتل الثاني القصاص؛ لأنه يرث المقتول الثاني وقاتله لا يرثه. هذا إذا كانت الزوجية قائمة أما إذا لم يكن بينهما زوجية، وترتب القتل على ما ذكرناه، فيجب لكل واحد من الأخوين القصاص على صاحبه. ثم قال الأصحاب: إذا سبق أحدهما بقتل الأب، فنبدأ في استيفاء القصاص به لأنه بدأ بالقتل، وسبق إلى التزام القصاص، ثم إذا استوفى قاتل الأم القصاص من قاتل الأب، فهل يرث هو منه أم لا؟ فعلى وجهين؛ فإنه مقتصٌّ وإن كان قاتلاً (1)، وقد نقل الأصحاب قولين في المسألة: [فأنبه عليهما وأعبر عن مرادي بما يناسب] (2)، فإن قلنا: إنه يرثه، فمن حقوقه دم هذا المقتص، فيرث بعضَ دم نفسه أو تمامَه، فيسقط عنه القصاص. [وإن قلنا: لا يرث] (3)، فلا يسقط عنه القصاص، فيستوفي وارثُ قاتلِ الأب القصاصَ من قاتل الأم. هذا ما ذكره الأصحاب. 10273 - وفيما ذكرناه تأمل على الناظر، وذلك أنا إذا قلنا: إذا سبق أحدهما بالقتل، فالبداية في استيفاء القصاص به، ويعترض على هذا أنه [لو قَتَلا الأبوين كذلك] (4)، فقد تحقق القصاص عليهما جميعاً، وتقدُّم أحد الحقين بالوجوب لا يوجب التقديمَ؛ فإن من أتلف مال رجل، ثم أتلف مال آخر، وضاق ماله عن الغُرمين، لم يقدم أولهما. نعم، إذا قتل رجل جماعة ترتيباً، فحق طلب القصاص لأولياء القتيل الأول، [وهو أحق في التقدم، والسببُ فيه] (5) أن دمه صار في حكم

_ (1) أي إن قلنا: إن القاتل بحق يرث، وفد نقول: لا يرث. (2) ما بين المعقفين مكان عبارة غير مقروءة في الأصل: "فبينه وعبر عن مرادي بما سبب" هكذا تماماًَ. (3) في الأصل: "وإن قلنا: يرث". (4) عبارة الأصل: " لو قتل بمكان كذلك" كذا تماماً. والمثبت من تصرف المحقق. (5) عبارة الأصل: "وهو أحق في التقدم يستحق والسبب فيه ... إلخ".

المرتهَن بقصاص القتيل الأول، وفي مسألتنا وجب قصاصان على شخصين، وهذا محل التأمل. فالذي ذكره بعض المصنفين: "أن حق الطلب لمن سبق استحقاقه، فالمطلوب من سبق منه القتل". ولهذا وجهٌ على حال؛ فإنا لو لم نقل بهذا، لثبت الطلب لكل واحد منهما على صاحبه، ويستحيل أن نقف [في موقف القائلين بالوقف في القتل] (1)، وإذا عَسُر هذا ولا وجه لإسقاط القصاص، فلا ينقدح فيه إلا القرعة، وللقرعة جريانٌ في التقديم والتأخير، وهي في هذا المقام من الأصول التي تطّرد. ولو قتل رجل جمعاً دفعة واحدة، فلا نسلمه إليهم، بل نَقْنع بالقرعة [بين] (2) الأولياء. وإذا تمهد هذا، ترتب عليه أن ما نقدم القرعة فيه عند الاجتماع، يجوز أن نقدم فيه السبق، [كالازدحام] (3) على مجالس القضاة؛ فإن السبق لمن سبق، وإن فرض ازدحام، فالتقدم لمن تخرج القرعة له. هذا وجه. وإن استعظم الفقيه هذا لما فيه من الخطر العظيم؛ فإن السابق يُقتل، ثم يسقط القصاص عن اللاحق. قلنا: نعم هو كذلك، وليس يلتزم مثله في القرعة، فإذا كانت القرعة تؤدي إلى ما استنكره هذا القائل، فليُحْتَمل مثلُه فيما ذكرناه. وذهب ذاهبون إلى أن السبق لا أثر له في الباب، وإليه إشارة القاضي، ونفْيُ أثر السبق بيّنٌ في القياس، وإذا قوبل هذا القائل بالقرعة، كان من جوابه عنها: إن القرعة تُبطل الاختيار في التقديم والتأخير، فنتبعها في الضرورة. وحيث أقمنا للسبق أثراً، أو رُددنا إلى القرعة، ثم أقرعنا، [وتبين] (4) المطلوب، وتعين الطالب بأحد المسلكين، [فابتدر] (5) المطلوبُ وقتل الطالبَ، وقع

_ (1) عبارة الأصل: "في موقف القائلين من يوقف فيقتل". كذا تماماًً. (2) في الأصل: "بعض الأولياء". (3) في الأصل: "بالازدحام". (4) في الأصل: "أو تبين". والمثبت من عمل المحقق. (5) في الأصل: "فاقتدر".

[قتله إياه] (1) قصاصاًً، فانعكس الأمر، وثبت لهذا القاتل ما كان يثبت له لو كان هو الطالب؛ فإن القرعة لا تقلب الاستحقاق، ومن قتل جماعة على الترتيب، وصرنا إلى أنه مسلّم إلى أولياء الأول، فلو ابتدر أولياء القتيل [الأخير] (2) وقتلوه، [كان] (3) قتلهم إياه قصاصاً مستحقاً، ويتعرضون للتأديب [إذا] (4) فارقوا ما رُسم لهم. 10274 - ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن الأخوين إذا ابتدرا قتل الوالدين معاً، فسواء كانت الأم تحت الأب، أم لم تكن، فيجب القصاص لكل واحد منهما على صاحبه، وذلك أن المقتولَيْن -وإن كانا على الزوجية- فإذا وقع موتهما معاً لم يتوارثا، فلا فرق بين أن ينقطع الميراث بينهما بهذا السبب وبين أن ينقطع بعدم الزوجية، ثم القول في وجوب القصاص عليهما على ما رتبناه، ثم الكلام فيمن به البداية على ما سبق. ورأيت في مرامز كلام الأصحاب ما يدل على الإضراب عن القرعة، والقاضي (5) لم يذكرها، واقتصر على أن قال: لو ابتدر أحدهما وقتل صاحبه، كان كذا وكذا،

_ (1) في الأصل: "وقع مثله أناة قصاصاً". (2) في الأصل: "الأول". (3) في الأصل: "وكان". (4) بمعنى "إذْ". (5) المعروف من أسلوب إمام الحرمين أنه إذا أطلق لفظ (القاضي) فالمراد به القاضي الحسين، وهو المراد هنا، وهو لم يتعرض للقرعة وأضرب عن ذكرها، مما جعل الإمام يصف هذا بأسلوبه العالي بأنه فرار من الزحف، وكلام الإمام الذي ذكره آنفاًَ فيه إشارة -وإن كانت بعيدة- إلى أن القاضي يميل إلى القرعة، فقد قال: "وذهب ذاهبون إلى أن السبق لا أثر له، وإليه إشارة القاضي" فنَفْيُ أثر السبق فيه ميلٌ إلى القول بالقرعة، وقد كانت عبارة الرافعي دقيقةً حين قال: "ويكون التقديم بالقرعة أو يقدم للقصاص من ابتدأ بالقتل؟ فيه وجهان: ميل الإمام (إمام الحرمين) والقاضي الحسين الأول منهما" أي القول بالقرعة، وأما (القاضي) أبو الطيب، قطع بالثاني (أي عدم القرعة)، ذكر ذلك النووي في الروضة، كل هذا يؤكد أن (القاضي) هنا المراد به القاضي الحسين. (ر. الشرح الكبير: 10/ 169، الروضة: 9/ 154).

وهذا فرار من الزحف، فإذا جاءا وكُلٌّ بطلب صاحبه، فما الجواب؟ ولا سبيل إلى تسليطهما على أن يتناجزا بالسيف، ولا سبيل إلى إسقاط القصاص، وإذا قلنا: من ابتدر منكما وقتل، فحكمه كذا، فيبتدر كل واحد منهما إذا علم المبتدر أنه الفائز، فلا وجه عندنا إلا القرعة. والعلم عند الله. فصل 10275 - مولودٌ مشكلُ النسب ادعاه رجلان، واحتمل أن يكون من كل واحد منهما، فإذا لم نجد [القائف] (1)، وانحسم مسلك البيان، فلو قتله أحدهما في حال قيام الإشكال، فلا قصاص، لاحتمال أن يكون أباه، وقد صدر من كل واحد منهما [ما يثبت الأبوة لو انفرد] (2) وهو الدِّعوة (3)، وقد ثبتت أبوّة مبهمة وأشكل الأمر. ولو جرى القتل من أحدهما، ثم تبين بقول القائف، أن الأب هو الثاني، نوجب القصاص على القاتل؛ لأن الأبوة إذا ثبتت في حق أحدهما، انتفت في حق الثاني. وقد تتفرع صور ناشئة من لحوق النسب، في التناكر والتداعي وإقرار أحدهما مع إنكار الثاني، وهي بجملتها مضمونُ باب الدِّعوة، وحظ هذا الفصل منها أن من ثبت نسبه، انتفى القصاص عنه، إذا كان قاتلاً، وإن استبهم الأمر، انتفى القصاص أيضاً عند ثبوت سبب النسب، وقد يكون دِعوة وقد يكون فراشاً. ولو اجتمعا عليه فقتلاه، فلا قصاص على واحد منهما، ولو بان أن الأب أحدُهما بعد القتل، فلا قصاص على الأب منهما، وعلى الثاني القصاص؛ فإن شريك الأب يلزمه القصاص، كما سيأتي شرح أحكام الشركاء.

_ (1) في الأصل: "العامل". (2) في الأصل: "ما يثبت الأبوة ولو انفرد". (3) الدِّعوة: بكسر الدال، قال الأزهري: الدعوة بالكسر ادعاء الولد الدعي غير أبيه، يقال: هو دعي بين الدعوة بالكسر إذا كان يدّعي غير أبيه، أو يدّعيه غير أبيه. (المصباح).

فصل 10276 - الرجل مقتول بالمرأة والمرأة مقتولة بالرجل، ولا أثر للذكورة والأنوثة في القصاص، وإن كانا يؤثران في تفاوت البدل، ولو كان للقياس مضطرب في الباب، لكانت الأنوثة والذكورة مؤثرتين في القصاص [كأئرهما] (1) في البدل، سيّما على مذهب من يرعى الكفاءة بين القاتل والمقتول، ولا يرى قتل الفاضل بالمفضول، ولمّا قابل الله تعالى الحرّ بالحر والعبد بالعبد، قابل الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا قتل الرجل المرأة تخير أولياؤها بين أخذ ديتها، وبين أن يُعطُوا نصف دية القاتل [ويقتلوه بها، وإن قتلت المرأة الرجل، تخير أولياؤه بين أن يأخذوا جميع ديته] (2) وأن يأخذوا نصف دية الرجل مع القصاص، وجعل التفاوت في البدل في هذا [أقيس] (3) كالتفاوت في أصابع اليد، ونحن قد نجمع بين استيفاء القصاص وبين الدية فيما لا نجده من يد الجاني المقتص منه، على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله عز وجل. والممكن في الباب أن القصاص وإن كان حقا ثابتاً للآدمي، فليس هو [على] (4) قياس الحقوق؛ فإن من أتلف على إنسان مالاً يغرَم له ما يجبر الفائت، فإذا قتل القاتلَ، فلا جبران فيه، وهو على التحقيق يناظر حقاً للآدمي تعلّقُه بطلبه، وسقوطه بإسقاطه، وحظُّه الخاص منه شفاء الغليل، والغرض الأظهر منه الزجر وإقامة العصمة وتحقيقها، والذكورة والأنوثة لا يوجبان تفاوتاً في العصمة بخلاف الكفر والإسلام والرق والحرية.

_ (1) في الأصل: "فأثرهما". (2) ما بين المعقفين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها. وهي من معنى ما رواه الرافعي عن الإمام علي والحسن البصري وعطاء (ر. الشرح الكبير: 10/ 172). (3) في الأصل: "أسبق". (4) في الأصل: "حلى قياس".

فصل قال: "وفي العبد قيمته، فإن تلفت ومات ... إلى آخره" (1). 10277 - من قتل عبداً خطأ، أو قتله عمداً، وآل الأمر إلى المال، فالواجب قيمة العبد بالغةً ما بلغت، وإن بلغت دياتٍ، خلافاً لأبي حنيفة (2)، ومعتمد المذهب أن من يُتلف الماليةَ ملتزمٌ جبرانها، وسبيل الجُبران التزامُ ترك ما فات بكماله. ثم قد قال بعض أصحابنا: إن قُتل العبدُ [قَتْل] (3) القصاص واستُوفي القصاص من القاتل، فالعبد مضمون بالدّمية، فإن آل الأمر إلى المال، انقلب الضمان إلى المالية وكان المضمون منه وهو مملوكٌ ماليةً، كما لو [تلف] (4) تحت يد غاصب، وهؤلاء يزعمون أن العبد فيه الدّم والمال، فإذا أفضى الأمر في ضمانه إلى المال، زال معنى [الدّمّية] (5) وتمحض معنى المال. وذهب المحققون من الأئمة إلى أن العبد المقتول مضمون ضمان [الدّمية] (6) بدليل وجوب الكفارة ووجوب القصاص، وإذا كان مضموناً بالقصاص لو قتل عمداً، فالخطأ دمية أيضاًً اعتباراً بالحر يقتلُ عمداً وخطأ، ثم هذا القائل يقول: دمه مملوك، فيضمن لمالكه بقيمته بالغة ما بلغت، وتقرير ذلك في (الأساليب) وغيرها من مصنفاتنا.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 95. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 198 مسألة 2297، رؤوس المسائل: 459، مسألة 324، طريقة الخلاف: 506، مسألة 201. (3) في الأصل: "قبل". (4) في الأصل: "تلفت". (5) في الأصل: "الوصية". (6) في الأصل: "الذمية".

فصل قال: "ومن جرى عليه القصاص في النفس ... إلى آخره" (1). 10278 - كل شخصين جرى بينهما القصاص في النفس جرى بينهما القصاص في الطَّرَف، مع التساوي في الخِلقة والسلامة، وغرض الفصل أن تفاوت الشخصين في الدية إذا كان لا يمنع جريانَ القصاص بين النفسين لا يمتنع به جريان القصاص بين الطرفين، فيد الرجل مقطوعةٌ بيد المرأة، ويد المرأة مقطوعة بيد الرجل، كما أن كل واحد منهما مقتول بالثاني. وعمدة المذهب أن الأطراف في توقيف الشرع وتقديره منزّلة على [نِسب] (2) جزئية، فاليدُ محلُّ نصف الجملة واليدان في مقابلة تمام الجملة، فإذا ثبت ذلك توقيفاً، والجملة مقابلة بالجملة، فالأجزاء ينبغي أن تكون مقابلةً بالأجزاء؛ فإن من المقاييس الظاهرة [في النِّسب أن] (3) الجملة إذا قابلت الجملة، فالنصف يقابل النصف، واليد السليمة من المرأة لا تقطع باليد الشلاّء من الرجل، وإن كان حكومة الشلاّء مثل دية اليد السليمة من الرجل؛ فإن النسبة متفاوتة، فإن اليد السليمة من المرأة نصفُها، واليد الشلاء من الرجل ليست نصفه. فهذا غرض الفصل. ومذهب أبي حنيفة مضطرب في الأطراف، وليس يليق بذكره غرضٌ في مذهبنا، والقول في سلامة الأطراف وشللها وتفاوت خَلْقها بين أيدينا، وهي عمدة الكتاب وستأتي على أحسن وجه في البيان، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 96. (2) في الأصل: "سبب". (3) في الأصل: "في النسيان".

فصل قال: "ويقتل العدد بالواحد ... إلى آخره" (1) 10279 - إذا تمالأ طائفة على شخص، وقتلوه، وكل واحد من الجناة بحيث لو انفرد بالقتل استوجب القصاص، فيقتلون قصاصاًً على مذاهب جمهور العلماء، وروي أن سبعةً، أو خمسة اشتركوا في قتل رجل فقتلوه غيلة، فقتلهم عمر رضي الله عنه، وقال: "لو تمالأ على قتله أهل صنعاء، لقتلتهم به" (2). ثم الذي ذهب إليه طوائف من أصحابنا أن قتلهم بالمقتول خارجٌ عن القياس، وقال محمدُ بنُ الحسن: "لو رُددنا إلى القياس، لما قتلنا جمعاً بواحد، ولكنا اعتمدنا فيه مذهب عمرَ رضي الله عنه" وتحقيق ذلك: أنا نعتبر الكفاءة في الصفات مع الاستواء في العصمة، فإنه لا نقتل إلا قاتلاً، وكل واحد من الشركاء ليس قاتلاً؛ فإن القتل [لا يتعدّد] (3) هذا وجه خروجه عن القياس. وقال بعض أصحابنا: قتل الجماعة بالواحد خارج عن القاعدة الكلية المرعيّة في أصل القصاص؛ فإن القصاص لم يثبت على قياس الأعواض والضمانات [الجابرة] (4)، وإنما الغرض الأظهر من القصاص الزجرُ ومنع الهرْج، ولو لم نقتل الجماعة بالواحد، لم نمنع الجناةَ التعاونَ على الجناية، ويصير ذلك ذريعةً عامة ممكنةً مُفضيةً إلى الهرْج، وتقدير هذا ودفع الأسئلة مذكور في (المسائل) (5).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 96. (2) أثر عمر: أن سبعة أو خمسة اشتركوا في قتل رجل ... رواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب (2/ 871). والبيهقي عن المغيرة بن حكيم الصنعاني عن أبيه (8/ 41). والحديث رواه البخاري من وجه آخر من حديث ابن عمر: الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم، ح 6896، وانظر التلخيص ح 1889. (3) في الأصل: "لا نبعد" والمثبت تصرف من المحقق. (4) في الأصل: الجائزة. (5) المسائل: المراد بها كتابه (الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية). ووجه تسميته بالمسائل أنه كلما انتقل من باب إلى باب قال: مسائل كذا (القصاص مثلاً) ثم يعرض =

والذي يحقق الغرض في ذلك أن القواعد الكلية لا تزحمها الأقيسة الجزئية، وإن كانت جلية. وقال مالك (1): إذا قتل جماعةٌ [واحداً] (2) لم يقتلوا به، ولكن لأولياء القتيل أن يختاروا واحداً من الشركاء ويقتلوه، ولا مزيد على ذلك، وأُضيفَ هذا المذهبُ إلى الشافعي قولاً في القديم، وليس يليق بقاعدة مالك مذهبُه في هذه المسألة؛ فإنه مائل إلى السياسات، وقد يرى القتل تعزيراً، ومتعلّقه في هذا الفن أقضية عمر وسياساته، وقد روينا عن عمر قتلَ الجماعة بالواحد، فالتخيّر أقصى وأبعد في القتل من ذلك، ثم من يُقْتَل لم يصدر منه القتل بكماله، [ثم قَتْلُ هذا في التحقيق مقابلة قتلٍ حاصل بجزءٍ من القتل] (3). ثم ذهب الأصحاب قاطبةً أن الجماعة إذا قُتلوا بالواحد، فكل واحد منهم مقتول قصاصاًً، وقال الحليمي: إذا قتل عشرةٌ رجلاً، فالقصاص مفضوضٌ عليهم، والمستحق قصاصاًً من كل واحد منهم عُشر دمه، [وتسعةُ] (4) أعشار دم كل واحد [مُهدرٌ] (5) في استيفاء المقدار المستحق. قال: ولا يمنع أن تُتلف على المتعدي ما لا يستحق عليه توصّلاً إلى استيفاء المستحَق؛ فإن من غصب شيئاً وأدخله داره وأغلق

_ = القضايا الخلافية داخل الباب تحت عنوان (مسألة) وكلما انتهى من قضية قال: (مسألة)؛ من أجل هذا يسميه (المسائل). والمسألة مبسوطة في (الدرّة المضية) في القسم الذي مازال قيد الطباعة. (1) الذي رأيناه في كتب المالكية أن الجماعة تقتل بالواحد إذا تمالؤوا عليه، أما إذا لم يكن تمالؤ فيقتلون أيضاًً، لكن بشروط لا نطيل بذكرها، فإذا لم تتحقق هذه الثروط فللأولياء القسامة على واحد معين، وقتله وحده، ويعاقب الآخرون (ر. الشرح الصغير: 4/ 344، حاشية العدوي: 2/ 565، حاشية الدسوقي: 4/ 245، 249، جواهر الإكليل: 2/ 257، شرح الحطاب: 6/ 241، منح الجليل: 9/ 25). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) عبارة الأصل: "ثم قتل وهذا في التحقيق مقابلة قتلٍ حاصلٍ يجوز من القتل". (4) في الأصل: "سبعة أعشار دم كل واحد منهم". (5) في الأصل: "مؤثر". وهو تصحيف مضلّل.

الأبواب وامتنع المصيرُ إلى المستحَق إلا بقلع الأبواب، فإنها تقلع للتوصل إلى استرداد المغصوب. وهذا المذهب ساقط غير معتد به، فإن إراقة تسعة أعشار الدم من غير استحقاق من القصاص [محال] (1)، ولو قطع رجل يدَ رجل من نصف ساعده، فلا يجري القصاص فيه مخافة أن يزيد الاقتصاص على الجناية بجزء -وإن اعتدى الجاني- فكيف يجوز إراقة الدم من غير استحقاق القصاص، وإن تمسك الحليمي بالدية، فإنّ الأمر لو آل إليها، فعلى كل واحد من العشرة عُشر الدية، وهذا لا تعويل عليه، فإن كل واحد من الجناة وإن كان يغرَم عُشرَ بدل المقتول، فكل واحد من الجناة يقابِل كلُّ دمه عُشرَ دم القتيل، كما يقابل الرجلُ في القصاص المرأة، وإن كان يغرَم ديةً ناقصة إذا آل الأمر إلى المال. 10280 - وممّا يتعلق في الفصل بيان الاشتراك وما يُرعى ضرورةً من كل واحد، فإذا جَرَحَ واحدٌ منهم جراحاتٍ، وجَرَح واحدٌ جراحةً، فهم مشتركون، ولا أثر لعدد الجراحات، ولو فرض من بعضهم [ضربةٌ] (2) بسوط، ومن الآخرين ضربات بسياط، فهذا الفن يأتي -إن شاء الله عز وجل- مشروحاً في بيان الشركة وانقسامهم إلى العامدين والمخطئين، وعند ذلك نوضح أفعال الشركاء، إن شاء الله عز وجل. وما ذكرناه في قتل جماعةٍ واحداً، فأما قتل واحد جمعاً، فسيأتي بعد ذلك. فصل قال: "ويُجْرحون بالجرح الواحد ... إلى آخره" (3). 10281 - إذا قطع جماعة على الاشتراك طرفَ إنسان، قُطعت أطرافهم اعتباراً للطرف بالنفس، فكما يُقتل أشخاصٌ بشخص تُقطع أطرافهم بطرفه، ولكن إذا تحقق

_ (1) في الأصل: بحال. (2) في الأصل: ضرب. (3) ر. المختصر: 5/ 97.

الاشتراك، وهو بأن يضعوا حديدة على يده ويتمالؤوا فيتحاملوا على الحديدة، والمعتبر في ذلك ألا يكون في الطرف جزء ينفرد بالجناية عليه بعض الجناة، فلو قطع جانٍ [بعضَ] (1) يد المجني عليه، وقطع آخر التمامَ (2)، فلا يستوجب واحدٌ قطعَ يده كاملأ؛ فإنَّ فِعْل كلِّ واحد منهما متميز عن فعل شريكه، وليس كما لو جرح بعضُهم جراحة، ثم جرح آخر؛ فإن زهوق الروح يحصل بالسرايات، وهي مختلطة لا تميز فيها، [وإبانة] (3) اليد تحصل بالقطع المحسوس، والقطع متميز عن القطع. وهذا يكاد يخرم تحقيق تشبيه الطرف بالنفس؛ فإن سبيل التشبيه أن النفس [صِينت] (4) بالقصاص في الاشتراك والانفراد، فليكن الطرف كذلك، وسر الفصل ينتهي إلى [حسم] (5) الذريعة المفضية إلى الهَرْج، فيلزمه على [خوف] (6) الهرج [اعتبار] (7) الاشتراكِ مع انفصال القطع عن القطع (8). وقد قال صاحب التقريب: يقطع من يد كل جان مقدار ما قطع [مع] (9) الاقتصار على القدر المستيقن، وهذا أخذه من قول الشافعي: في أن القصاص هل يجري في المتلاحمة من شجاج الرأس. ووجه التشبيه أن القصاص يجري في الموضحة، والمتلاحمةُ بعضُها، [فالإبانة] (10) كالإيضاح، وقطع بعض اليد بمثابة المتلاحمة، وهذا الذي ذكره ظاهر

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) التمام: ما يتم به الشيء (المعجم). (3) في الأصل: "وأمانة". (4) في الأصل: "صين". (5) زيادة من المحقق. (6) مزيدة لإيضاح الكلام. (7) زيادة لاستقامة الكلام. (8) المعنى أننا إذا أدركنا سرّ الفصل، لم ينخرم تشبيه الطرف بالنفس، وأدركنا لماذا حكمنا بقطع أطراف المشتركين مع إمكان تميز عمل كل واحد منهم عن الآخر. (9) في الأصل: "من". (10) في الأصل: "فالأمانة".

في التقريب والبناء، لمن لا يتفطن [الأسرار في الأعواض] (1)؛ وذلك أن جلدة الرأس وما عليها من لحمٍ، أجزاؤها متساوية؛ فإنها جلدٌ ولحم، فليس فيها أعصاب وعروق، وهي جداول الدم، والعروقُ الرقاق لا معتبر بها أصلاً، فيتأتى رعاية القصاص فيها، ومعصم اليد مشتمل على أعصاب ملتفّةٍ وعروقٍ ساكنة وضاربة، ويختلف وضعها في الأيدي، فلا يتأتى إجراء [التماثل] (2) فيها. وسأعيد ذكر هذا في الأطراف وقصاصها -إن شاء الله عز وجل- وما ذكرناه يوضح قدر الحاجة الآن، ويُبطل مسلك صاحب التقريب. ولو وضع أحد الجانيين الحديدةَ من أحد جانبي اليد، ووضع آخرُ [حديدةً] (3) من الجانب الثاني، فالقطع منفصل عن القطع. ولو كانا يُمرّان حديدةً واحدة إمرار المنشار، فهذا يصور على وجهين: أحدهما - أن يتحامل الشريكان في كل مرة، والآخر أن [يفتر] (4) أحدهما في الجذب في جهة صاحبه، ثم يجذب في جهة نفسه، كما يفعله المتعاونان في المنشار، فإن كان كذلك، فلا يجب القصاص على واحد منهما، ولا تعويل على ما ذكره صاحب التقريب، [فإنه غير ممكن أيضاً وما ذكرناه] (5) كلامٌ في قطع أطراف من [مشترِكين] (6) في الجناية بطرف. فأما إذا قطع رجل أطرافاً، فسيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل. 10282 - ثم قال الشافعي: ولا يقتص إلا من بالغ عاقل، وهذا قد قدمنا ذكره في

_ (1) في الأصل: "إلا سراب والأعواض". (2) في الأصل: "فلا يتأتى إجراء القاتل". (3) في الأصل: "الحديدة". (4) في الأصل: "أن يعتر". (5) في الأصل: "ولا تعويل على ما ذكره صاحب التقريب غير ممكنة اتصاف ما ذكرناه كلام في قطع أطراف ... إلخ" وفيها خلل وتصحيف، أما التصحيف ففي قوله "اتصاف ما ذكرناه" فقد تحوّلت الواو إلى فاء، والصواب " ... أيضاً وما ذكرناه" وأما الخلل، فظاهر، وقد حاولنا تصويبه، ولا نستطيع الزعم بأننا وقعنا على ألفاظ الإمام". (6) في الأصل: "مشركين".

صدر الكتاب، وأوضحنا أن سقوط التكليف بالصبا والجنون ينافي وجوبَ القصاص، وهو متفق عليه. أما المجنون، فلا [يتأتى] (1) زجره، وتقديرُ القصاص عليه كتقديره على البهائم. فأمّا المراهقون، فإنهم ملتحقون بالمجانين في العقوبات. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا عمد رجل رجلاً بسيف أو خنجر ... الفصل" (2). 10283 - الجنايات في القتل والجرح ثلاثة أقسام: أحدها - ما يتمحض عمداً، وهو الموجب للقصاص. والثاني - الخطأ المحض، وموجبُه الديةُ المحققةُ المضروبةُ على العاقلة. والقسم الثالث - شبهُ العمد، وموجبه الدية المغلظة على العاقلة، والذي يتعلق بغرضنا في الباب بيان العمد المحض، وقد يتعلق بأطراف الكلام شبهُ العمد، فأما الخطأ المحض، فليس من مقصودنا، وسنصفه بما يضبطه ويميزه من القسمين: العمد وشبه العمد، في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل. والكلام في العمد أطلقه الأصحاب وتخطَّوْه، ولم يَشْفوا الغليل فيه، وليس الكلام فيه بالهيِّن، ونحن بعون الله وحسن توفيقه لا نألو جهداً في بيانه وكشفه. والتقسيم الأوّلي فيه أنه ينقسم إلى قتلٍ [مذفِّفٍ] (3)، وإلى سبب سارٍ، فأما القتل [المذفِّف]، فلا يُحوج إلى الإمعان في الوصف، وهو كضرب الرقبة والتوسيط (4)،

_ (1) في الأصل: "فلا ينافي". (2) ر. المختصر: 5/ 97. (3) في الأصل: "الموقت" .. والمذفف أي المُجهز: من قولهم. ذفف على الجريح: إذا أجهز عليه، ومثلها: أذفه. (المعجم). (4) التوسيط: وسّطه: قطعه نصفين (المعجم).

وإبانة الحشوة (1)، ومِنْ حاله أن يُنهي المجني عليه إلى الانطفاء وقبض النفس، وقد يجمد، وقد يبقى فيه ارتعاصُ (2) مذبوح، ويلتحق به أن يكب الجاني على المجني بآلةٍ جارحة أو غيرها، متوالياً عليه بها إلى [الحزّ] (3). 10284 - فأما الأسباب السارية، ففيها الكلام، ولأجلها عُقد الفصل، والتوصية بصدق الاهتمام. فنقول أولاً: ما يقع عمداً محضاً منها لا يختص بما يجرح ويشُقُّ، بل المثقَّلات، والتخنيق، والتغريق، كلُّها داخلةٌ في أجناسها تحت العمد، خلافاً لأبي حنيفة (4)؛ فإنه قال: لا عمد إلا فيما يجرح، ولا يجب القصاصُ بغير الجرح، ثم لم يخصص وجوبَ القصاص بالجَرْح [على] (5) من يُوجب اعتقادَ تعمد، بل زعم أن التعمد لا يتحقق إلا بالجَرْح، وزعم أن القتل بالخنق شبه عمد، وضَرَب الدية على العاقلة، وأوجب [الكفارة] (6)، ولا تجب عنده في العمد المحض، وهذا خروج عظيم عن المعقول وانتهاء إلى مسالك السفسطة. ومن أنكر التذفيف في الخنق، والموالاة بالمثقلات، فقد عاند بديهة العقل، وإذا ثبت التذفيف، فكيف يعقل الإقدام على التذفيف والتجهيز (7) مع الحكم بأن هذا ليس

_ (1) الحُُِشوة: كل ما في البطن غير الشحم وهي مثلّثة الحاء (المعجم). (2) ارتعاص: ارتعاش وارتعاد، ارتعص: اهتز، واضطرب، وانتفض، وتلوى (المعجم). (3) في الأصل: "الحرد" ولم أجد لها معنىً مناسباً على كل صور حروفها ونقطها، من خاء إلى جيم، إلى دالٍ وذال. والمثبت من تصرّف المحقق، والحزّ معناه القطع، يقال: حزّه حزاً إذا قطعه ولم يفصله. (المعجم). (4) ر. مختصر الطحاوي: 232، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 85 مسألة: 2216، تحفة الفقهاء: 3/ 143 وما بعدها، والاختيار: 5/ 22 وما بعدها. وقد خالف في ذلك أبو يوسف ومحمد. (5) في الأصل: "عن". (6) في الأصل: "الكفا". (7) التجهيز: جَهَز على الجريح (بالتخفيف) أسرع في قتله وتمّم عليه، وجهّز (بالتضعيف) للتكثير والمبالغة (المعجم، والمصباح) فالتجهيز مصدر هذا الفعل مضعّفاً.

بعمد؟ ثم تولّع بالجَرْح والجرحُ تقطيع، ولو والى بالمثقلات على إنسان حتى ترضضت عظامه وراء الجلد، فقد حصل التقطّع، وبالجملة مذهبه خارج عن مسالك العقول. 10285 - فأما ضبط مذهبنا، فالكلام ينقسم في [الأسباب] (1) غير [المذفِّفة] (2): إلى ما يتعلق بالظواهر ولا يجرح، وإلى الجراحات. فأما ما يتعلق بالظواهر، فالذي أطلقه الأصحاب فيه أن كلَّ ما يُقصد به القتلُ غالباً، فهو العمد إذا تجرد القصد إليه، ثم سنوضح أن هذا يختلف باختلاف الحال والأشخاص والأوقات. وما لا يقصد به القتل غالباً، فليس بعمد، وإنما هو شبه عمد، وكان شيخي يقول: العمد المحض في هذه الأسباب يتحقق فيما يكون القتل مقصوداً به، وشبه العمد [ما لا يكون القتل مقصوداً به] (3)، ثم قد يفضي إلى القتل، وهذا كلام منتظم في هذا القسم، ولم نذكره لنعوّل عليه، وبيان الفصل موقوف على نجازه. فأما الجراحات، وفيها معظم المقصود، فقد أطلق الأصحاب أن من قطع إصبعاً أو أنملةً، وسرت الجراحةُ، وترامت السراية إلى الزهوق، فالقصاص واجب في النفس، ونحن نعلم أن إفضاء قطع أنملة إلى الروح لا يعد [مما] (4) يغلب، بل هو [نادرٌ] (5)، فلا يطَّرد إذاً في الجراحات ما ذكرناه من الأسباب المتعلقة بالظواهر من قصد القتل غالباًً، وهذا مما يتمسك به أصحاب أبي حنيفة في مسألة القتل بالمثقل، [ولا شك] (6) أن أمثال ما ذكرناه في الجراحات ليس مما يقصد به القتل، وتعلّقَ القصاصُ به، فتبين أن القصاص نيط بالجرح بعينه، وأنه سبب القصاص لا غير،

_ (1) في الأصل: "الأنساب". (2) في الأصل: "المدقعة". (3) في الأصل: "وشبه العمد ما يكون الفعل مقصوداً به". (4) في الأصل: "بما". (5) في الأصل: "ناكر". (6) في الأصل: "فلا سهم".

وهذا مما استقصينا الكلامَ عليه في (المسائل) (1). وكان شيخي يقول فيه: خص الشرع الجرح بمزيد احتياط لما فيه من الإفضاء إلى السرايات الباطنة التي لا يدرك منتهاها، وأوجب القصاص في قتيل الجرح الذي يسري؛ ردعاً للجناة وتغليظاً عليهم، وكأن الجرح الساري لم يُرع فيه قصدُ القتل [لاختصاصه] (2) بمزيد الغرر والخطر، [وفيما] (3) يتعلق بالظاهر يُرعى فيه قصد القتل بما يقتل غالباً. هذا ما كان يذكره. وفيه فضل نظر؛ من جهة أن القصاص يتعلق بالعمد بالإجماع، والعمد بالفعل المحض غيرُ كافٍ، ولا بد من العمد في القتل، ويستحيل أن يختلف هذا بالأسباب؛ فإنه أمر متعلق بالحسّ والأحكام [منوطةٌ] (4) بالمحسوسات، وإيجاب القصاص [بقطع] (5) أنملة لا توقيف فيه من الشارع، وإنما تلقاه العلماء من تصرفهم، في العمد، فلا بد من ضبطٍ آخر سوى هذا. والذي تحققناه من نص الشافعي في (السواد) (6)، ومن تصرف المحققين ما نصفه في الجراحات أولاً، ثم ننعطف على الجنايات المتعلقة بالظواهر، ونبين اندراج جميع الأسباب تحت ضبطٍ واحد. 10286 - أما الجرح، فكل ما أفضى إلى القتل، [وبانت] (7) سرايته، وظهر تقاذف أثره، وتراقي سرايته إلى الهلاك، فهذا جرح نعلم أن القتل حصل به، وقد وقع عمداً، وصار قتلاً، والسراية تكسب معه الجناية [إذا تحققنا] (8) أنه القاتل، وقد

_ (1) المسائل: يعني كتابه في الخلاف المسمى (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية). (2) في الأصل: "اختصاصه". (3) في الأصل: "ومما". (4) في الأصل: "مسبوقة". (5) في الأصل: "بقتل". (6) السواد هو مختصر المزني كما نبهنا مراراً. (7) في الأصل: "بانت" (بدون واو). (8) في الأصل: "إذا تحققت".

انتظم أن يقال: قَتَل [، وأوقع] (1) الفعلَ عمداً. وهذا يناقض ما مهدناه من قبل من كون الشيء مفضٍ إلى القتل غالباًً، ونحن ننقل لفظ الشافعي رضي الله عنه في ذلك، قال الشافعي: "فجرحه جرحاً كبيراً أو صغيراً، فمات منه، فعليه القود" (2) وقوله: "فمات منه" ظاهرٌ في أن المطلوب أن يُعْلَم أنه مات منه. فإذا بان هذا في الجرح، انقلبنا إلى الأسباب المتعلقة بالظاهر، كالضرب بالسياط، فنقول: إذا ضرب الرجلُ الرجلَ ضربات، واتفق الموت، لم يظهر الحكم بوقوع الموت، من تلك الضربات، وإذا كثرت الضربات، وورّمت المواضع أو [قيَّحتها] (3) وترامت الآثار، كما وصفناه في الجرح؛ فإذ ذاك نعلم أن الموت بها. ومن العبارات الرشيقة في ذلك: "أن سرايات الجروح باطنة والجرح في نفسه ينتهي إلى الباطن، وأثره ظاهر، ووقوع القتل به [بيّن] (4)، والأسباب على الظواهر ظاهرة، وغَررُها باطن" على معنى أنا لا نقطع على وقوع الموت بها إلا إذا تفاحشت. فخرج من مجموع ما ذكرناه أن المرعي في الجَرْح، والسبب المتعلق بالظاهر أن نعلم بوقوع الموت به. 10287 - وهذا لا يصفو عن الكدر إلا بشيئين: أحدهما - أنْ نصف شبهَ العمد؛ حتى يتضح في نفسه مقصوداً، [ونَعْبُر إلى العلم بالعمد] (5). فإذا جرى سببٌ على عمد، ولا يمتنع وقوع الموت به مترتِّباً عليه، ولكنا لم نعلم ذلك، ولم نُبعده، ولم يحدث سببٌ غيرُ الجناية نحيل الموتَ عليه، فهذا أمر

_ (1) في الأصل: "فأوقع". (2) ر. المختصر: 5/ 97. (3) في الأصل: "قيّحته". (4) في الأصل: "فبين". (5) في الأصل: "أو نعبر على العلم بالعمد" والمثبت من تصرفات المحقق. والمعنى أننا نوضح معنى شبه العمد، ونعبر (من العبور) إلى العلم بالعمد. وقد يكون فيها تصحيف لم ندركه. والله أعلى وأعلم.

مشتبه، والضمان في الجنايات يجب مع الشبهة، [ويحال] (1) على الجناية، ومن جنى على امرأة فأَجْهَضَت جنينها، فلسنا نعلم أن الإجهاض بالجناية، ونوجب الغُرّةَ إحالةً على الجناية إذا لم يظهر سببٌ غيرُها. هذا أحد الأمرين. والثاني - ذكر مسائل توضح ما مهدناه، منها: أن من غرز إبرة في إنسان، قال الأصحاب: إنْ غرزها في مقتل كثُغرة النحر، والأَخْدَعَين، والمثانةِ، والعِجَان (2)، وما في معانيها، فهذا مما يوجب القصاص. وأما غرز الإبرة في غير مقتل [كأن] (3) كان في جلدة غليظة، فلا أثر لها. ومما يتعين ذكره لتمام البيان أن ما يعلم قطعاً أن الموت لا يترتب عليه في مستقر العادة، فإذا قارنه الموت لم يُحَلْ الموتُ عليه، وإنما هو قضاء تداركه وفاقاً، ولا يتعلق بهذا القسم قودٌ، ولا ضمان. 10288 - فالأفعال المعهودة ثلاثة أقسام: منها ما يعلم أن الموت حصل به، وهو القتل الموجب للقصاص. ومنها ما هو معهود، والموت به ممكن، ولكنا لم نعلمه، ولم يظهر سببٌ سوى الجناية، [فالضمان] (4) واجب، وحكم الشرع إحالةُ الموت على الجناية. ومنه ما يعلم أنه لا يقع الموت به، فهو مهدر: لا يتعلق به قودٌ، ولا ضمان. وإن اتفق اتصال الهلاك به، عُدّ ذاك من موافقة القدر، ولم يُنَط به حكم. وغرز الإبرة في الجلدة بهذه [المثابة] (5). وإن غُرزت في لحمٍ، فقد قال الأصحاب: إن تورّم موضع الغرز، واتصل الموت به، وجب القصاص، وإن لم يتورّم موضع الغرز، واتصل الموت، وكان يجد

_ (1) في الأصل: "ومحال". (2) العجان: وزان كتاب، ما بين الخصية وحلقة الدبر (المصباح). (3) في الأصل: "إن". (4) في الأصل: "والضمان". (5) في الأصل: "الجناية".

المغروز فيه ألماً شديداً، ففي وجوب القصاص وجهان. وقال بعض الأصحاب: الغرز في غير المقتل [يعني غرزَ] (1) الإبرة إذا اتصل الموت [به] (2)، [وكان] (3) قد جاوزت الإبرةُ الجلدةَ، وتوغلت في اللحم، هل يوجب القصاص؟ فعلى وجهين من غير فصلٍ بين أن يتورم وبين ألا يتورم. ونحن نقول: سبب اضطراب الأصول وتشوشها على الآخذين إرسالُ المسائل في الوفاق والخلاف من غير تعرضٍ لبيان مَنْشَئها من القواعد، وذكرُها دون ما ذكرناه يحسم بابَ النظر في الأصول، وما ذكرناه أصدق شاهد فيما أشرنا إليه. والوجه أن نقول: ذكر الأولون التورّمَ، وعنَوْا به تقاذفَ السراية، وظهورَ ذلك للناظر، وهذا الذي قلنا فيه: إنه يُعْلَم حصولُ القتل به، فإن [كان] (4) كذلك، تعلّق القصاص [به] (5)، ومحل التردد أن الإبرة قد تصل إلى عصبة، فتؤلم، ولا يتسع الجرح حتى يظهر التورم، فهل يكون [الألم الشديد] (6) من غير ظهور التورم -إذا لم يظهر سوى الغرز- بمثابة السراية في الحس، مع العلم بأن الآلام الشديدة قد يُقتل بها ويموت من تُعصر خصيته. هذا محل التردد. وإن لم يظهر تورّمٌ ولا ألم شديد، فليس إلا القطع بانتفاء القصاص. وهذا تحقيق محل الوفاق والخلاف. ولو أُبينت جِلْفةٌ (7) من اللحم خفيفة، فهي كغرز الإبرة.

_ (1) عبارة الأصل: يعني عن غرز الإبرة. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "ومن كان قد جاوزت ... ". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) مزيدة لإيضاح العبارة. (6) في الأصل: "فهل يكون إلا ألم شديد من غير ظهور التورّم". (7) في الأصل: "خلقة"، والمثبت تصرّف من المحقق. والجِلفة القطعة من كل شيء (المعجم).

10289 - وقد انتجز تمام البيان في ذلك ولا يعترض عليه شيء به احتقال إلا نصُّ الشافعي رضي الله عنه في الأطراف، فإنه قال: "لو جرح رجل يد رجل، أو أبان بعضها، فتأكّلت الجراحة، وأفضت إلى سقوط اليد، فلا قصاص" (1) "ونصّ على أن من أوضح رأس رجل، فذهب ضوءُ عينه وجب القصاص" (2). فنصّه في نفي القصاص على الجرح المفضي إلى تأكّل العضو ينافي ما اعتمدناه في الجراحات، حيث قلنا: إذا تحققنا حصول الموت بالجرح، أوجبنا القصاص، وقد تيقّنا أن [سقوط اليد ترتب] (3) على الجرح. والذي أطلقه الأصحاب في ذلك أن أجرام الأعضاء لا تُقصد بالتأكّل [كالروح تقصد بسراية الجراحات،] (4) والْتحق ضوء المناظر بالروح لمّا لطُف، وهذا مسلك [رديءٌ]، (5) جدّاً. وقد قال الشيخ أبو علي والعراقيون: من أصحابنا من [جعل] (6) في سقوط الطرف وذهاب ضوء العين قولين: نقلاً وتخريجاً: أحد القولين - أن القصاص يجب فيهما، والقول الثاني - لا يجب القصاص فيهما. ولا يوافقُ الأصلَ الذي مهدناه، وأردنا تنزيل المسائل عليه إلا إيجابُ القصاص في الأطراف واللطائف، جرياً على ما تقرر؛ وذلك لأن الأطراف معصومةٌ بالقصاص، قصداً، لا على سبيل التبع، ولذلك شبهها بالنفس في إيجاب القصاص على المشتركين وإن لم يصدر من واحدٍ منهما تمامُ الجناية، وتعلّقُ سراية الجراحة بجرح الجارح أعظم من تعلّق فعل الشريك بالشريك.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 119، والعبارة هنا بمعنى كلام الشافعي، لا بألفاظه. (2) ر. المختصر: 5/ 118. (3) عبارة الأصل: "وقد تيقنا أن حصول اليد يترتب على الجرح". (4) في الأصل: "بالروح يقصد سراية الجراحات" والمثبت من تصرف المحقق. (5) زيادة من المحقق على ضوء السياق، والمعهود من ألفاظ الإمام. (6) في الأصل: "حصل".

وإن قال قائلٌ: الأعضاء لا تقصد بالسراية، [ويتيسر] (1) فرض قطع الأطراف على الاشتراك، فهذا الكلام وإن استقل [يعضّد] (2) قطعَ الأنملة إذا أفضى إلى الروح، وإن قيل: الروح لطيفة، فأي فقه في لطفها وهي لا تقصد بقطع الأنملة غالباً؟ وليس تأكّل الجرح بأبعدَ من سريان قطع الأنملة إلى الروح، فإن كان الصحيح أن أجرام الأطراف لا تُضمن بالقصاص إذا سقطت بسراية الجراحات، فهذه غُصّةٌ في القلب، وحَسَكة (3) في الصدر. وقد انتهينا إلى منتهى الفكر، [وعـ ـر بأصل النظر] (4). 10290 - ونحن نذكر مسائلَ معظمها منصوصة بعد إتمام هذا، فنقول: معتمدنا في زهوق الروح بالجرح رؤيةُ السراية، وظهورُ التأكّل، [فالزهوق؟ (5) إذا [كان] (6) مسبوقاً بالتأكّل [في بعض] (7) العضو، فكيف لا يكون العضو مضموناًً بالتعفن؟ وهو طريق الموت. ومما انتهى الفكر إليه، ثم لم يستقم أن قائلاً لو قال: المرعيُّ أن يخطر للجاني قصدُ القتل، وإن كان لا يغلب؛ فإنّ قطع اليد يمكن تنزيله على هذه المرتبة، فإنه وإن كان لا يغلب منه الموت، فليس يندر منه، وما كان كذلك لم يبعد قصد القتل [به] (8)، ولكن قطع الأنملة لا يصدر من ذي عقل وهو يقصد به قتل المقطوع منه. 10291 - ومن المسائل التي نذكرها: الإلقاء في الماء، والغرضُ منه يفصّله

_ (1) في الأصل: "وتيسّر". (2) في الأصل: "بعضه". (3) الحسكة: واحدة الحَسَك، وهو شوك شديد حادّ، يضرب به المثل في الإيلام والإقلاق. (4) ما بين المعقفين صورة ما هو بالأصل. ولمّا نُلهم تقدير صوابه، وإدراك خلله، وقد تُقرأ على غير هذا الوجه (انظر صورتها) والسياق مفهوم بدونها على أية حال، وعلى أي وجه قرئت. (5) في الأصل: "بالزهوق". (6) مكانها بياض بالأصل. (7) في الأصل: "وبعض العضو". (8) زيادة من المحقق.

تقسيمٌ، فنقول: لا يخلو الإلقاء إما أن يكون في ساحل (1) [يفرض] (2) الخلاص منه [وإما أن يكون في غمرةٍ ولُجة] (3) لا يفرض الخلاص منها، فإن كان الإلقاء في ساحلٍ، انقسم [إلى] (4) ما لا يُغرق، وهو الضحضاح [المخيض] (5) وإلى ما يُغرِق من لا يسبح. فأما إذا كان الإلقاء في ضحضاح، نُظر: فإن كتّفه وشدّ أطرافه وألقاه على هيئة يعلوه الماء ويُلجمه، فهذا إهلاك، وإن لم يكن كذلك، [فاضطجع] (6) الملقَى أو استلقى، [فقد] (7) قتل نفسه، ولا ضمان على الملقي، وسنعيد هذا الطرف في أثناء الفصل عند ذكرنا السباحة وتركها، وترك معالجة الجرح، إن شاء الله عز وجل. ولو كان الساحل مُغرقاً، وكان النجاة منه ظاهرة الإمكان في حق من يسبح، فينظر في الملقَى، فإن كان ممن لايحسن السباحة، فغرق، فملقيه قاتلٌ على عمد؛ مستوجبٌ للقصاص، والجنايات تختلف باختلاف من يتصل بالجناية، فإن الصبي قد تقتله ضربات يستهين بها [الأيّد] (8) والمُدنِف يهلك بما لو فرض في صحته، لكان شبه عمد في حقه. وقد تختلف الجنايات بالأوقات، فيكون لوقوعها في حرارة القيظ أو شدة البرد قدرٌ يخالف مقدارها في اعتدال الهواء. وهذا بيّن. وإن كان الملقَى ممن يحسن السباحة، فتخاذل ولم يسبح حتى غرق، فالذي

_ (1) يستخدم لفظ (الساحل) بمعنى الماء إذا لم يكن لجةً وغمرة لا نجاة منها، ولم يكن ضحضاحاً لا عُمقَ له، وما عدا ذلك من الماء فهو ساحل، نهراً أو بحراً أو بحيرة، ولم أر هذا المعنى في المعاجم المتاحة، ولما أعرف له وجهاً. (2) في الأصل: "يعرض". (3) في الأصل: "ولها أن تكون في غمرة ولجة". (4) في الأصل: " إلا". (5) في الأصل: "المختص"، وهي مصحفة عن المخيض. (6) في الأصل: "فالضجع" (بهذا الرسم تماماًً). (7) في الأصل: "وقد". (8) في الأصل: "يستهين بها الأثر".

تحصّل لنا من قول الأصحاب في ذلك وجهان في وجوب الضمان: أحدهما - أنه لا ضمان؛ فإنه هو الذي أتلف نفسه بتركه السباحة. والثاني - أنه يجب الضمان؛ فإن إلقاءه جناية، والسباحةُ حيلة في الخلاص، فهي مشبهة بما إذا ترك المجروح معالجة الجرح، وللأول أن ينفصل ويقول: إفضاء المعالجة في الجرح إلى البرء مظنون، والسباحة منجية على تحقيق في الساحل، وهذا موضع تثبت للوقوف على هذا الفن. 10292 - وأنا أرى في إيضاح ذلك أن أذكر مراتب. المرتبة العالية في الدفع تُناظر أكلَ الجائع الطعام العتيد بين يديه، وهو محبوس، فإذا امتنع عن الأكل حتى هلك، فهو قاتل نفسه، وشرط هذه المرتبة ألا يعد السبب الصادر من الساعي في الأمر إهلاكاً أصلاً، ويكون رفع الضر هيّناً محصلاً لدفع الضرار قطعاً، ويلتحق بهذا الإلقاءُ في الضحضاح مع التخاذل فيه، إذا كان [لا يجرح] (1)، فإن الإلقاء في مثله [يعد عبثاً] (2) والخروجُ من الأفعال المعتادة. والمرتبة التي تعارض هذه معالجةُ الجرح، فالجرح في نفسه جناية مهلكة، والمعالجة ليست بالهيّنة، وحصول الخلاص بها مظنون، فلا جَرَم لا يؤثر عدمُ العلاج وتركُه في درءِ الضمان. وبين هاتين المرتبتين ترك السباحة؛ فإن الإلقاء في المغرقة جناية، والسباحة وإن كانت مُنجية، فقد يعرض من الملقَى دَهَش، وكم من سابح يطرى عليه ما يمنعه عن السباحة، وإن كان الغالب يخالف ذلك، فهذا موضع التردد. ويتصل عندي بهذا الفن ترك تعصيب الجرح حتى يؤدي إلى النزف. وقد يتصور ما أرى إلحاقه بالمرتبة الأولى، وهو إذا فتح رجل عِرْق إنسان فتركه المجني عليه [يزرُق] (3) حتى يُفضي إلى النزف، فهذا من باب ترك الأكلِ والطعامُ عتيد.

_ (1) في الأصل: "لا يحوج". (2) في الأصل: "يعد عيباً". وعبثاً: أي مداعبة كما عبر بها الرافعي والنووي. (3) في الأصل: "بين رق" (هكذا تماماًَ) ثم هي من بابي قتل وضرب.

ثم إن لم نوجب الضمان في مسألة ترك السباحة، فلا كلام، وإن أوجبنا الضمان، فالأظهر أن القصاص لا يجب للشبهة، ومن أصحابنا من أوجب القصاص، وقال: إن كان على ترك السباحة معوّل، فموجبه إسقاط الضمان أصلاً، وإن لم يكن عليه معوّل، فينبغي أن يصير العالم بالسباحة إذا تركها والماء مغرق بمثابة ما لو كان لا يحسن الملقَى السباحة. ومما يتصل بذلك أنه لو ألقى رجلاً في النار وكان من الممكن أن يتخطأها ويتعدّاها، فلبث حتى أحاط به الوهجُ واللّفحُ، فالذي ذكره الصيدلاني وطوائف من أصحابنا أن القصاص يجب بخلاف ما لو ألقى في الماء سابحاً، والفرق أن الناركما (1) تَلقَى تحرق، فيصير الملقَى فيها مجنياً عليه بأول الملاقاة، وقد يمنعه التألم الذي أصابه [باللفح] (2) الأول من اختيار الخروج، بخلاف الإلقاء في الماء. وذكر القاضي أن الإلقاء في النار بمثابة الإلقاء في الماء مع التمكن من السباحة، وليس يستقيم على المعنى إلا ما ذكره القاضي. ثم الوجه أن نقول: إن كان اللفح الأول يعجزه عن الخروج، فليست المسألة على ما صورناها، وإنما مسألتنا فيه [إذا كان الخروج من النار ممكناً، فإن كان لوقع اللفح الأول أثر] (3)، فذاك يفرد بضمانه، كما ستأتي حكومات الجنايات، إن شاء الله عز وجل. هذا كله إذا كان الإلقاء في الساحل. [وكان] (4) الخروج ممكناً، فمكث حتى هلك. 10293 - ولو ألقاه في الساحل ولم يكن مغرقاً، أو كان مغرقاً، وكانت السباحة

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) في الأصل: "باللقح". (3) عبارة الأصل: "إذا كان الخروج من النار ممكناً إن كان الخروج من النار ممكناً لوقع اللفح الأول أثر". (4) في الأصل: "وإن كان".

ممكنة، والملقَى يحسنها، ورأينا [من يتركها] (1) مُهدَراً، فلو اتفق أنه كما (2) لاقى الماء، التقمه الحوت، أو قطّعه وأهلكه، فهذا من أصول الباب، ونحن نقدم عليه أنه لو ألقاه في غَمْرة (3) من الماء [وكما] (4) أصاب الماء، التقمه الحوت، فالمنصوص للشافعي أن القصاص يجب على الملقي، وخرّج الربيع قولاً آخر: أن القصاص لا يجب، وشبه هذا بما لو ألقى رجل رجلاً من شاهق جبل، فلما انتهى الملقَى إلى قرب الحضيض وافاه رجلٌ وسيفه مسلول، فقدّه، أو ضرب رقبته، فلا يجب على الملقي القود. وهذا من تخريجات الربيع، ولم يرتضه معظم الأصحاب. ونحن نوجه القولين وننبه [مع] (5) التوجيه على أصلٍ في المذهب: أما وجه القول المُخَرَّج فما أشرنا إليه، ووجه القول المنصوص الصحيح أن الإلقاء في الماء إهلاك، والملقَى هالك، سواء فرض ثَمّ [حوتٌ] (6) أو لم يفرض، ولو [لم يتم] (7) إلقاؤه، لما انتهى إلى الحوت، فالمرعي أنه ألقاه في هَلَكَة، فلا ننظر إلى السبب الذي به هلك. ولا يتم التوجيه ما لم يُقيَّدُ الكلامُ بأن السبب الذي جرى الهلاك به لا يُنْسب إليه اختيار، وبهذا رفع الاتصال عن الذي [يقدّ] (8) الملقَى من الجبل؛ فإنه فاعل مختار، لا يفعل ما يفعله بطباعه، وإنما يفعل بإرادته ومشيئته، وإذا فرض قاتل مختار، انقطع ما كان من السبب قبله، لا فرق بين أن يكون الواقف [القادّ] (9) ممن يضمن، وبين أن يكون ممن لا يضمن، كالحربي؛ فإن التعويل على الاختيار، وصَدَرُ القتل عن المشيئة دون الطباع.

_ (1) مكان كلمة واضحة الرسم ولكن تعذر قراءتها (انظر صورتها). (2) كما: بمعنى عندما. (3) غمرة من الماء: الغمرة كما ذكر آنفاًً هي الماء الذي لا يفرض النجاة لمن ألقي فيه. (4) في الأصل: "وكان". و (كما) بمعنى عندما. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: "وجوب". (7) زيادة من المحقق مكان بياضٍ بالأصل. (8) في الأصل: "يعدّ". (9) في الأصل: "العارّ".

ولو كان في أسفل الجبل حيّة تعدو بطبعها أو نمر شرس ضارٍ، فأهلكه، يجب الضمان على المُلقي، والضبط المرعي في ذلك أن ما يعدو بطبعه فيعدو في أوان العدوان لا محالة، كما يضرى السيف إذا صادف مضْرِبه؛ ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: "لو ألقى رجلاً في بيتٍ فيه سباعٌ ضارية، وافترسته، التزم القود". وهذا يبين بأصلٍ وهو أن من أمسك رجلاً حتى [قطع رجلٌ عنقه] (1) فلا ضمان على الممسك، سواء كان القاتل ممن يضمن أو كان ممن لا يضمن كالحربي، ولو هدّف رجل رجلاً لوثبة أسد يضرى على العدوان بطباعه، فيجب على المهدِّف الممسك القصاص، فهذا هو الأصل المعتبر في الباب. ولو كان [القادّ] (2) الواقف في سفح الجبل مجنوناً، فإن كان على طباع السباع وضراوتها يجب الضمان على الملقي، وإن لم يكن ضارياً بالقتل، فالمجنون كالعاقل في إسقاط الضمان على الملقي. 10294 - هذا توجيه القولين، وفيه التنبيه على أصلٍ، وهو أن من ألقى إنساناً في مهلكة، ثم اتفق الهلاك بغير السبب الظاهر، فإن لم يكن ذلك السبب يعزى إليه اختيار وفعل أصلاً، فالضمان يجب على الملقي، وهذا كما لو ألقى رجلاً في بئر عميقة يقصد بالإلقاء فيها الهلاك، فلما انتهى الملقَى إلى قعر البئر، فإذا في القعر سكاكينُ منصوبة أو رماحٌ مشرعةٌ، فجرحته الأسنة والنصول، فيجب القصاص على الملقي. وإن كان السبب الذي حصل الهلاك به منسوباً إلى فعل حيوان، فهذا ينقسم إلى ما يفعل بطباعه ضراوةً، كالسبع يفترس طبعاً، والحية تلسع. والمنصوص للشافعي وجوبُ القصاص، وتخريج الربيع أن القصاص لا يجب، والتقام الحوت أصل هذا الفن، حيث وقع تصويره. وإن كان الفعل صادراً من ذي اختيار لا يفعل بطبعه، وإنما يفعل بمشيئته، فهذا مسألة الشاهق [والقادّ] (3).

_ (1) ما بين المعقفين مكان عبارة غير مقروءة، هكذا: "قطعت رجل محتان" (انظر صورتها). (2) في الأصل: "العادّ". (3) في الأصل: "والغار".

فليضبط الطالبُ هذه القواعدَ. 10295 - ثم قال الربيع: لا قصاص، وأوْجَب الدية، واعتقد ما يجري من الهلاك منسوباً إلى الملقي، ولكنه لما لم يعلمه، ولم يقصده، انتهض ما جرى شبهة في درءِ القصاص، من حيث إنه سببٌ لم يتعلق به قصد الملقي، وإن كان هو المتسبب. وهذا الذي ذكره يُبطل استشهاده بمسألة [القادّ] (1)؛ فإنه لا يجب على الملقي من الشاهق شيء إذا تلقى الملقَى الرجلُ الواقفُ بسيفه، [فقدّه] (2)، وإذا اقترن الأصلان في أصل الضمان، بطل مسلك الاستشهاد. وما ذكره من الشبهة لا أصل له مع تسبب الملقي إلى قصد الإهلاك، وهذا بمثابة ما لو وجأ رجلٌ رجلاً بسكين، فهلك الموجوء، ثم بان أن سبب هلاكه كونُ السكين مسموماً، فالقصاص يجب على الجارح، وإن كان جاهلاً بصفة السكين؛ فإن الجرح بالسكين مهلك وإن لم يكن مسموماً. ولو ألقى رجل رجلاً في الساحل، وإذا فيه حوت، فالتقمه أو قطّعه، فهذا سبب هلاكٍ، لم يشعر به الملقي، ولم يكن إلقاؤه إياه من المهلكات، فلا قصاص على الملقي والحالة هذه؛ فإن نفس فعله ليس مهلكاً، وسبب هلاكه لم يكن معلوماً للجاني، وهذا بمثابة ما لو دفع رجلٌ رجلاً دَفْعاً خفيفاً، فألقاه فإذا في موضع سقوطه سكين، فجرحه السكين وأهلكه، فلا يجب القصاص على الملقي، ولكن يجب الضمان في مسألة السكين والتقام الحوت في الساحل. 10296 - فخرج من مجموع ما ذكرناه أن السبب إن كان مهلكاً، واتفق الهلاك بسببٍ آخر، فهذا يتفصَّل وينقسم إلى الحيوان وغيره، كما مضى، وإن لم يكن السبب مهلكاً، فاتفق الهلاك بسببٍ لم يشعر به الملقي، فلا قصاص، وإن كان عالماً به كالذي يعلم أن وراء القائم الذي بين يديه سكين منتصب، فإذا ألقاه عليه وقتله،

_ (1) في الأصل: "الغار". (2) في الأصل: "فحذفه". والمسألة معروفة بمسألة القادّ، وهذا الذي سوّغ للمحقق هذا التغيير. من حذفه إلى قدّه.

فيجب القصاص، وأما الضمان، فإنه يجب [إن لم يكن السبب مهلكاًَ] (1) أو لم يكن الملقي عالماً بالسبب المهلك. وعلى الناظر أن يتدبر هذا، ويلتفتَ قليلاً إلى ما ذكرناه في فصول الجراح، حيث قلنا: إن من قطع أنملة إنسان، فأدت السراية إلى الموت، وجب القصاص على القاطع وإن لم يقصد القتل، كما أن الملقي لم يقصد الإلقاء على السكين، ولكن حصل أثر السكين بسبب الإلقاء، فهلا كان كما إذا حصلت السراية بالقطع حتى كأنها جزء من القطع والقطعُ جزء منها، وليس [القتلُ] (2) إلا بالسيف أو بالسكين متصلاً بسبب القطع؛ قلنا: الفرق أن السراية متصلة بالإلقاء، ولكنه وفاقٌ جرى، فانفصل عن الإلقاء، فإذا لم يكن معلوماً، لم يجب القصاص، وإن قصد الإلقاءَ على السكين، [فالإلقاء مخرَج] (3) من البين، والعمل مقصور على جرحه بالسكين. ونقل المعلّقون عن القاضي أنه قال فيما يقتل: إن [التقمه الحوت قبلَ أَنْ أصاب الماء،] (4) كان أخرج رأسَه من الماء، فلا يجب القود على الملقي، بخلاف ما لو مس الماء، فالتقمه الحوت، وقرر أنه إذا مس الماءَ، فقد صادف السببَ المهلك، فلا التفات على الالتقام إلا على قول الربيع إذا اختطفه الحوت قبل أن يلقى الماء، فلم يحصل من السبب الذي قصده شيء، وإنما جرى سبب آخر، وهذا حكاه القاضي عن الأصحاب، ولم أر لهذا التفصيل ذكراً في شيء من الكتب. والوجه عندنا القطع بوجوب القصاص، أو تنزيل هذا منزلة ما لو [لقي] (5) الماءَ ثم التقمه الحوت، وذلك أن الملقَى لم يبق منه اختيار أصلاً، ولا أثر لمصادفة الماء، فإن الماء بنعُومته ولينه لا يقتل من يصادمه، وإنما القتل بالغرق، أو بسبب آخر بعد

_ (1) في الأصل: "فإنه يجب وإن لم يكن السبب مهلكاً". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "بالإلقاء فخرج". (4) عبارة الأصل: "إن أصاب الماء التقمه الحوت كأن أخرج رأسه ... إلخ". وواضح ما فيها من خلل، فهو يصوّر التقام الحوت قبل الوصول إلى الماء. ولذا ساغ لنا هذا التغيير. (5) في الأصل: "ألقى".

ملاقاة الماء، فلا فرق إذن بين أن يلتقم الحوت قبل أن يَلقى الملقَى الماء، وبين أن يحصلجب أن الالتقام بعد ملاقاة الماء. ثم العجب أن القاضي حكى هذه عن الأصحاب -كما ذكرناه- واختاره، ثم حكى عنهم سقوط الضمان [وشبهه] (1) بمسألة التردية من الشاهق وإلقائه ثم انقطعت على الضمان، وقال: الوجه إيجابه، وأخذ يفرق بين إلقائه والحوت بما ذكرناه من الاختيار [وعدمه] (2)، وهذا كلام مختلِط، ومساق نفي الضمان يقتضي أن يقول الربيع: لا ضمان أيضاًً إذا مس الماء، فالتقمه الحوت، وهذا خبل لا يجوز أن يطّرّق مثله على قواعد المذهب. وقد ذكرنا ما يضبط المذهب. 10297 - ومن المسائل الملتحقة ببيان العمد وما يقدح فيه أن من حبس إنساناً في مكان، فمات منه عطشاَّ أَو جوعاً، فلا يخلو إما أن يكون معه في المكان طعام وشراب، وإما ألا يكون معه. فإن كان معه في مكان الحبس ما يتبلّغ به وامتنع عن أكله وشربه حتى هلك، فالقتل لا ينسب إلا إليه، وهو الساعي في إهلاك نفسه، وكذلك لو لم يكن الطعام حاضراً، ولكن كان قادراً على تحصيل الطعام بنفسه، أو بمن يأمره، فإذا حصل الهلاك، لم يجب على الحابس الضمان، كما لو كان الطعام عتيداً، ولو عسر عليه الاستنابةُ في تحصيل الطعام، ولكن كان ممكَّناً من التردد لتحصيله، فإذا لم يفعل، فالجواب كما ذكرناه. وقد ألحقنا هذا بالأصل الممهد قبلُ، إذ ذكرنا الحيل في الخلاص من الأسباب المفضية إلى الهلاك. 10298 - ولو حبسه ومنعه الطعامَ والشرابَ أو أحدَهما فهلك، فلا يخلو -إن حُبس- إما أن يكون جائعاً وإما أن يكون شبعان، فإذا كان على الشِّبع، والذي يطرَى ابتداءُ العطش والجوع في الحبس، ثم أفضيا أو أحدهما إلى الهلاك، فالذي حبسه على هذا

_ (1) في الأصل: "وسببه". (2) في الأصل: "وعرفه".

الوجه قاتلٌ على حكم العمد، مستوجبٌ للقصاص عند تجمع الشرائط المرعية. 10299 - ولو كان به جوع لمّا حبسه ومنعه الطعام، [فأدى ذلك] (1) الجوعُ [إلى ضَعْفه] (2) وأفضى إلى الهلاك، فالطريقة المثلى في تمثيل المذهب أن نقول: إن كان الحابس عالماً بجوعه، فحبسه وهلك، فالذي جرى من الحابس قتلٌ عمد موجب للقصاص. فإن قيل: قد هلك بالجوع، وإنما تحقق (3) في الحبس، فلم جعلتموه قاتلاً؟ وهلا نزلتم هذا منزلة ما لو كان مجروحاً [فجرحه] (4) جانٍ ومات من الجرحين، وإذا جرى ذلك، فالجاني شريك جارح نفسه؟ وسنذكر شرح ذلك وتفصيلَ أحوال المشتركين بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل. قلنا أولاً: لو والى بالسياط على مريض مُدْنَف وهلك، وجب القصاص على الضارب، وإن كان هذا الشخص لو فرض صحيحاً، لما مات بالضربات التي جرت غالباًً، ولا حكم [للمرض] (5) الذي صادفه الجاني، والجوع إن كان مؤثراً، فلا يزيد في مرتبته على [المرض] (6) والدَّنَف، بل مقدماتُ الجوع لا تعدُّ من أسباب الضرار، ولا يعد الجائع مريضاً، فإذا كان ضَرْبُ المريض موجباً للقصاص، والأغلب على الظن أنه كان لا يموت لولا الضرب، فالحبس على الجوع بهذا المعنى أولى، وقد يكون قليلُ الجوع مقصوداً لمن يطلب (7) الأحوال الصحيحة ويستظهر بتحقق الجوع ليأكل. هذا قولنا فيه إذا حبسه عالماً بجوعه، ولا نُلزَم على ذلك ما لو [جَرَح] (8) من كان

_ (1) في الأصل: "فإذ ذلك". (2) مكان بياض بالأصل. (3) المعنى: أن الحبس لم يهلكه، وإنما كان ظرفاً تحقق فيه الهلاك بسبب الجوع. (4) في الأصل: "لجرحه". (5) في الأصل: "للمريض". (6) في الأصل: "المريض". (7) في الأصل: "لا يطلب". (8) في الأصل: "خرج".

جرح نفسه، فإنّ حكم ذلك نذكره مستقصىً في فصل الشركاء وتقاسيم أحوالهم، ولو كان [بالإنسان قرح] (1) في صورة جُرح، [فلو،] (2) جرحه، فالإحالة على الجناية لا على القرح، وما يضاف إلى الآفات [المقدّرة لا تقدر] (3) الشركة بها، ووراء ذلك سرٌّ سنوضحه في فصل الشركة، ولا مزيد على ما ذكرناه الآن. ثم إذا أوجبنا القَوَد، فلا شك أنه إذا آل الأمر إلى المال، وجب تمامُ الدية، فإنه إذا وجب القود، فالدية أوْلى بالوجوب. 10300 - ولو حبسه جاهلاً بما به من الجوع، فمات، ففي وجوب القود قولان: أحدهما - يجب، كما لو كان عالماً بجوعه، ولا أثر للعلم والجهل بعد ما تقرر أن الجوع المتقدم لا اعتبار به، وجهلُه بالجوع بمثابة جهله بمرض المضروب، ولو ضرب مريضاً وكان عُمْرَه صحيحاً، وبنى الأمر في ضربه على أنه لا يموت، فمات للمرض الذي به، وجب القصاص، فليكن الأمر كذلك في الجاهل بالجوع. ثم قال القاضي رضي الله عنه: إذا قلنا: يجب القصاص، فتجب الدية الكاملة في محل وجوبها، وإن قلنا: لا يجب القصاص، ففي مقدار ما يجب من الدية وجهان: ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يجب تمامُ الدية، فإنا إذا أسقطنا القصاص لشبهة الجهل، فلا معنى لإسقاط شيء من الدية، ولو كان الجوع الأول معتبراً في [تبعيض] (4) البدل، لاعتبر مع العلم؛ فإن العلم والجهل لا يؤثران في تغيّر البدل في المقدار، وإن أثر الجهلُ، أَثَّر في التغليظ والتخفيف. هذه طريقة، والذي لا يصح منها على السبر المصيرُ إلى تبعيض الدية، والباقي سديد، لا خلل فيه. 10301 - وقال بعض أصحابنا (5): إذا حبسه عالماً بجوعه، ففي وجوب القصاص

_ (1) في الأصل: "الإنسان يمدح" كذا تماماًً. (2) في الأصل: "ولو". (3) في الأصل: "القدرة ولا تقدر". (4) في الأصل: "مقبض البدل". (5) هذه طريقة ثانية مقابلة للطريقة التي سماها المثلى في تمثيل المذهب، وشرحها آنفاً، وخلاصتها أنه إن كان عالماً بجوعه، فهو قتلُ عمد، وإن كان جاهلاً، فقولان.

قولان، كالقولين فيه إذا كان جاهلاً بالجوع، ذكره بعض المصنفين وأشار إليه شيخي رضي الله عنه. 10302 - وهذا أوان إيضاح [الغرض] (1): فليعلم الناظر أن الجوع خصلة واحدة يبدأ ابتداؤها، ثم تزداد حتى تُفضي إلى الهلاك، والحابس لم يُحدث في المحبوس أمراً، وليس كما لو ضرب مريضاً، أو جرح قريحاً؛ فإن هذه جنايات ابتدأها، فكانت حوالةُ الهلاك عليها، وإذا حبس إنساناً، فجاع، فالهلاك [محال] (2) على الجوع، لا على الحبس، وقد كان شيء منه قبل الحبس، [وهذا] (3) أثار الاضطراب بين الأصحاب، فقالوا: إن كان كلُّ الجوع في الحبس، فالحابس سبَّبَ إلى إيقاعه مع المنع عن دفاعه (4)، وإن لم يكن الكل في الحبس، فالموت [به يُردِّدُ] (5) النظرَ، وانفصل عما قدمناه من ضرب المريض عند العلم أو الجهل بالمرض. ثم من طرد القولين في صورة [العِلْم] (6)، فسيقول: إذا آل الأمر إلى المال، ففي وجوبه وسقوط بعضه الخلاف الذي ذكرناه. 10303 - ونحن نذكر على الاتصال بهذا مسألة مستفادة حسنة، وهي أن الرجل إذا شحن سفينةَ نفسِه بطعام أو شِحنة أخرى، واقتصد مثلاً، فجاء إنسانٌ، فوضع فيها عِدْلاً، فغرقت به، فكيف يكون الوجه في هذا، والغرق لا يحصل بالعِدل الأخير، وإنما يحصل به وبما يسبق من الأعدال والأثقال؟ وهذا فصلٌ يُديره الفقهاء مع أبي حنيفة في أقداح الشراب المسكر. وقد ذكر القاضي في هذه المسألة تردداً مأخوذاً من أصلٍ، فقال: لو رمى رجل إلى صيدٍ، فلم [يُزمنه] (7)، فرمى آخرُ فأزمنه، وقيل: لولا جرح الأول، لما أزمنه

_ (1) في الأصل: "الفرض". (2) في الأصل: "محتال". (3) في الأصل: "وهذه". (4) المراد دفع الجوع. (5) في الأصل: "له تردد النظر". (6) في الأصل: "العمد". (7) في الأصل: "يرميه".

الثاني، فالصيد لمن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه للثاني المُزْمِن؛ فإنّ رميه استعقب الإزمان والإحالة عليه، والملك مخصوص به. والثاني - أن الصيد بينهما. قال: فلتخرّج مسألة السفينة على هذا. فإن قلنا: الصيد للمزمن، فغرق السفينة محال على وَضْع العِدْل الأخير، فيلزمه ضمان السفينة وما فيها، وإن قلنا: الصيد بين الراميين: [الأول] (1) والثاني المزمن، فغرق السفينة محال على ما سبق ولَحِق من الأعدال والأثقال، ولا ينبغي أن يخرج من الاعتبار ثقل السفينة في نفسها، فإنه يؤثر في [تغويصها] (2). ثم إن أحلنا الغرق على الأخير، فلا كلام. [وإن] (3) أحلنا على الكل، ففي كيفية التوزيع وجهان مبنيان على ما لو زاد الجلاد سوطاً، فحصل الهلاك، وأردنا التوزيع، ففيما نوجبه على الجلاد قولان: أحدهما - أنا نوجب عليه نصفَ الضمان، ونجعل سوطاً واحداً في مقابلة سياطٍ كجُرحٍ في مقابلة جراحات، فلو جَرح رجلٌ رجلاً جراحاتٍ، وجرحه آخر جراحةً واحدة، وحصل الهلاك، وآل الأمر إلى المال، فالدية بينهما نصفان. والقول الثاني - أن الضمان يتوزع على الجلدات المستحقة في الحد والجلدة الزائدة، فإن كان الحد ثمانين جلدة، وزاد الجلاد جلدة، فعليه جزءٌ من واحد وثمانين جزءاً من الدية، وهذا القائل يقول: الجلدات متساوية في الصفات والجراحاتُ لا تدرك أغوارها، وقد يكون غَوْرُ جرع واحدٍ أكثرَ من أغوار جراحاتٍ [غيره] (4)، وهذا فَتْحُ بابٍ عظيمٍ من الإشكال؛ فإن قائلاً لو قال: من جُلد ثمانين، فقد تهيأ للموت بالجلدة الزائدة، فهلا وقعت الحوالة عليها؟ وهذا ليس بالهين، وسأشرحه في فصل الشركة عند ذكري اجتماعَ أقوام على رجل بالسياط، فإن كان يدور في خلد الناظر طلبُ التمام في هذا، فليطلبه في فصل الشركة، وليكتفِ الآن بما نلقيه إليه.

_ (1) في الأصل: "فالأول". (2) في الأصل: "تفويضها". (3) في الأصل: "فإن". (4) في الأصل: "غيرها".

فإن قلنا: الجلاد يضمن نصفَ الدية، فصاحب العِدل الأخير يضمن نصفَ ما هلك من السفينة وشِحنتها. وإن قلنا: الجلاد يضمن جزءاً من أحدٍ وثمانين، فصاحب العِدل الأخير يضمن جزءاً من أجزاء، فنضبط أقدار الأثقال فنوزع عليها. فهذه مسألةٌ اعترضت من حيث إنها تشابه مسألةَ الجوع؛ فإن ابتداءه لا يعد من أسباب الهلاك، بل قد يكون من أسباب استصلاح البدن، ولكن يحصل الهلاك بما يزيد من الجوع بسبب تقدم ما تقدّم، ومما يؤكد التشبيه أن الأعدال في السفينة في جهة التثقيل متجانسة والجوع إلى الجوع في حكم الجنس الواحد، وليس كضربٍ بعد مرضٍ. هذا منتهى قولنا في الجوع وإفضائه إلى الهلاك. 10304 - [ومما] (1) نلحقه بالأصل المقدم في العَمْد وما [يعدّ منه] (2) القولُ في السّم وإيصالِه إلى باطن الإنسان، فنقول: إن كان السم مذفِّفاً مُجهزاً، نُظر: فإن أَوْجَره [إنساناً] (3)، فهلك الموجَر، وجب القصاص على الذي أَوْجره، وإن أكرهه حتى شرب بنفسه، نُظر: فإن كان الشارب جاهلاً بكونه سماً، فعلى الذي سقاه السم القصاص؛ فإن الإكراه إذا تحقق من الأسباب الموجبة للقصاص على المكرِه، كما سيأتي ذلك -إن شاء الله عز وجل-. وإن كان المكرَه عالماً بأن الذي يتعاطاه سم، [فلا قصاص] (4) على المكرِه؛ فإن الإكراه لا يتحقق على هذا الوجه، وسنبين أن من اكره رجلاً حتى قتل نفسَه، فلا قصاص على المكرِه؛ إذ صورة الإكراه أن يُؤْثر المكوَه خلاصَ نفسه بتحصيل ما هو مكرَهٌ عليه، وهذا المعنى لا يتحقق مع كونه [مقتولاً] (5) لو أمضى مراد المكرِه، وسيأتي هذا في موضعه، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: "مما" (بدون واو). (2) في الأصل: "وما يخدمه". (3) في الأصل: "إنسان". (4) في الأصل: "فالقصاص". (5) في الأصل: "مقبولاً".

وإن كان السم بحيث [لا نقطع بأنه] (1) يقتل، وكان لا يغلب أيضاً على الظن هذا، فإذا اتصل الهلاك به، فهذا فيه نظر؛ فإن [غرره] (2) باطن. والذي حصّلته من قول الأصحاب فيه أنه بمثابة غرز الإبرة في غير المقتل، وفيه التفصيل الذي تقدم، وكنت أود لو كان كقطع أنملة أو إصبع، ولكن للعلماء تعظيمٌ عظيمٌ لأمر الجراحات؛ من حيث إنها تقطع وصلَ البنية [وتفتق محبس] (3) الروح، والسم يلقَى ظواهر الأعضاء الباطنة، [فكان] (4) كما يلقى ظوَاهر البدن من [وجهه] (5)، ولكن من حيث يغيب [عن] (6) البصر. وما أطلقناه من السّم الذي لا يقتل [تذفيفاً مجازٌ] (7)؛ فإن ما كان كذلك لا يسمى سماً، [ومن] (8) كلام أهل الصناعة (9): "إن الغذاء ما تحتكم الطبيعة عليه والتأثير (10) ولا يؤثر في الطبيعة، والدواء ما يتأثر بالطبيعة، ثم ينقلب على الطبيعة ويؤثر فيها، والسم ما يضاد القوّة الحيوانية" (11)، ولسنا للإطناب في هذا، والتنبيه كافٍ. وذكر الأصحاب على الاتصال بهذا تقديمَ الطعام المسموم، وأنا أرى أن أعقد فيه فصلاً بعد استيفاء المسائل الباقية الموعودة.

_ (1) في الأصل: "لا نقطع عليه بأنه". (2) في الأصل: "عوده". والمعنى أن خطره غير ظاهر. (3) في الأصل: "ويعتق لحبس الروح" بهذا الرسم تماماً. والمثبت محاولة منا لقراءتها على ضوء أسلوب الإمام وميله إلى التصوير الأدبي في مثل هذه العبارات. وقد حاولنا في هذه القراءة وأمثالها أن نظل أقرب ما نكون لصورة الأحرف والكلمات الموجودة بالأصل، ونرجو أن نكون قد وقعنا على عبارة الإمام، والله الموفق. (4) في الأصل: "وكان". (5) في الأصل: "من واجه". (6) في الأصل: "في". (7) في الأصل: "تدقيقاً مجازاً". (8) في الأصل: "من" (بدون الوأو). (9) أهل الصناعة: المراد صناعة الصيدلة والطب. (10) كذا. ولعلها مقحمة. أو لعل المعنى: وعلى تأثيره. (11) يستشهد بهذه العبارة من كلام أهل الصناعة على صحة قوله: إن ما لا يقتل تذفيفاً لا يسمى سماً.

10305 - فنقول: إذا أنهش الرجلَ حيةً أو عقرباً، قال الشافعي: إن كان مثل حيات مصر وعقارب نصيبين، وجب القود، والغرض أن الحيّة في نفسها إذا كانت قتالة بنفسها، أو العقرب، فإذا فعل ما وصفناه، فالذي جاء به عمدٌ محض يُقصد به القتل، وهو خارج عن محل النظر المشكل في الجراحات التي لا تؤدي إلى الهلاك. وإن كانت الحية لا يغلب القتل منها -وكذلك يكون العقرب في معظم البقاع- فقد قال الأصحاب: إذا سعى على الوجه الذي ذكرناه حتى نهشته حية لا يغلب القتل منها، أو لسعه العقرب، فقد قال الأصحاب: هذا بمثابة ما لو غرز فيه إبرة، وقد سبق تفصيلها. وهذا حسنٌ؛ فإنّ جلده [مما] (1) يؤلم ويرقب منه [غررٌ] (2)، فهذا تفصيل القول في ذلك. ويتصل به الإلقاء في [الماء] (3)، ومكان الحيات، وإشلاء السباع في المضايق، والمكان [المستع] (4). 10306 - ونحن نذكر في هذا ما نقله الأصحاب، ثم نتبعه بالبحث. قالوا: إذا أغرى بإنسان كلباً ضارياً، أو سبعاً، فإن كان في المضيق لا يفرض الخلاص منه، فإذا افترسه السبع، وجب القصاص؛ فإن ذلك يعد من الأسباب المهلكة، ولو أغرى به السبع في صحراء، فقد قال الأصحاب: إذا اتفق الهلاك، فلا قصاص، فإن ذلك الشخص كان متمكناً من الهرب والاضطراب في محاولة الدفع عن الروح. أما ما ذكره الأصحاب في المضيق، فهو جارٍ على القياس وسَبْر التحقيق، وأما الإغراء في الصحراء، فما أطلقوه من أنه يقدر على الإفلات يجب أن يُفَصَّل، فإن كان السبع بحيث يدرك من يتبعه لا محالة، فالصحراء، والمضيق بمثابة، وهذا على

_ (1) في الأصل: "بما". (2) في الأصل: "عود". (3) في الأصل: "المائع". (4) في الأصل: "المسبع".

شرط أن كون السبع [المشلَى] (1) ضارياً بالإنسان، ويقل هذا في طباع السباع، [ولا يضرَى] (2) منها إلا الكَلِب، فإنه [يستأسد] (3) ويستشلَى على كل من كان يُغرَى به، ولست أظن أن الأصحاب ينكرون ما أشرنا إليه. وقد ذكر القاضي ما ذكرناه على هذا النسق، بعد أن نقل ما نقلته مطلقاً، وذكر كلامه استدراكاً، وليس هذا محلَّ خلاف، ودقةُ النظر في حمل كلام الأصحاب على محملٍ. 10307 - والذي أراه في ذلك أنهم فصلوا بين المضيق والمتسع، [وبنَوْا كلامهم] (4) على أن السباع لا تضرى بالآدمي ضراوة الكلب بالصيد، ولو اعترض لها آدمي في مضيق [استشعرت] (5) منه قصداً [وتوثّبت] (6) عليه توثُّبَ الدافع، وهذا لا يتحقق في الصحراء، حتى لو صُوّر كلب ضارٍ، كان المضيق والصحراء بمثابة، والدليل عليه أن ما يأخذه الكلب من الصيد ممسَكٌ على صاحبه، ولا فرق بين أن يكون في الصحراء والمضيق لما صحت ضراوتُه بالصيد، فلو وجد مثل هذا في حق الآدمي [لاسْتوت] (7). الصحراء والمضيق. ومما ذكره الأصحاب أن قالوا: لو جمع بين إنسان وبين سَبُعٍ في بيت، فتوثب السبع عليه، وأهلكه، وجب القصاص على من ألقاه في البيت، ولو كان بدل السبع حية أو حيات، فإذا هلك الملقَى [بينها بنهشها] (8)، فلا قصاص، وفرقوا بأن السبع

_ (1) في الأصل: "المثلى". (2) في الأصل: "يطرى". (3) في الأصل: "سيتأسد". (4) في الأصل: "بنى كلامه". (5) في الأصل: "استشعر". والمراد السباع لا الكلب. (6) في الأصل: "وتوثب". (7) في الأصل: "لا تستوي"، وهو مخالف للسياق. تنبيه: تذكر أن نسخة الأصل وحيدة، فليس ما تراه في الحواشي فروق نسخ، وإنما المثبت في الصلب من عمل المحقق محاولة منه لإقامة العبارة واستكناه الصواب. (8) في الأصل: "بينهما بنهشهما".

يثب بطبعه والحية [تنفر] (1) بطبعها، ولا تنهش إلا إذا وطئت، أو [الْتُمست] (2). وهذا مما ينقسم الأمر فيه؛ فإن من الحيّات ما يَقْصد، ومن السباع ما ينفر، والتحقيق فيه أن السبع النافر يدفع عن نفسه في البيت، ويضر الكائن معه وحده، فيثور عليه، والحية في المضيق والمتسع لا تدفع عن نفسها إلا أن تمس أو توطأ، فإذ ذاك تدفع. فلنُنزل الصورَ على هذه القواعد. وقد ذكر صاحب التقريب قولين في أن المحبوس مع السبع إذا قتله السبع هل يجب القصاص على حابسه، وليس هذا عندي من [محال] (3) القولين؛ فإن الأحكام في هذه المنازل تتبع الصور، ثم لا مطمع في إيجاب القصاص المتلقى من العَمْدية إلا مع القطع بها، وإن تطرق شك في العمدية، لرُفع القصاص. 10308 - ومما يتصل بهذا الفصل أنه لو أغرى سبعاً أو كلباً بإنسان، فأمكنه أن يهرب فمثُل بين يديه، حتى مزقه، فأين يقع هذا من الحيل المخلّصة؟ وقد ذكرنا مراتبها في الفصل السابق. وليس يبعد عندي تنزيله منزلة السباحة في الماء الذي تُنجّي السباحةُ منه، ووجه التشبيه أن الفرار يُنجي [كالسباحة] (4)، والدهشة ممكنة في ثوران السبع وملاقاة الماء، وفرْضُ عوائق تطرى وتمنع من الخلاص ممكن في الوجهين، [وقد] (5) نظرنا في ذلك، وليس كترك الأكل من الطعام العتيد. والعجب أن أصحابنا قالوا: إذا كان الفرار ممكناً في الصحراء، فلا قصاص فيها بالإغراء، [وإني لأتمنى] (6) أن يكون هذا من تصرف بعض المتأخرين الذين قنعوا

_ (1) في الأصل: "تبغي". (2) في الأصل: "التبست". ومعنى التُمست أي طُلبت. (3) في الأصل: "عال". (4) في الأصل: "بالسباحة". (5) في الأصل: "فقد". (6) في الأصل: "وانى لا مسى" بهذا الرسم تماماً (انظر صورتها) والمثبت من تصرف المحقق، وفي هذه المرة لم أستطع أن ألتزم صور الحروف والكلمات، وآتي بما يشبهها ويمكن أن تكون مصحفة عنه.

بالظواهر، وتركوا الغوص على الأسرار، فإن الفرق بين الصحراء والمضيق مما [مهّدته] (1) من عدم ضراوة السباع وحَمْل ثورانها في المضيق على الدفاع عن أنفسها، وإلا فكيف الخلاص من وثبات الفهود التي تدرك الظباء في لحظات مختلَسة، فلهذا لم أعتمد الفرار، وأخرجته عن السباحة، فإن من ذكر الفرار لم يخرجه عن ثبتٍ فأعتمدَه. 10309 - فهذا أقصى ما في الوسع من إيضاح المشكلات، وتنزيل المسائل على مقتضى القواعد. وينبغي أن تشتد عناية الطالب بمعرفة العَمْدية، فإن معظم مسائل القصاص عليها تدور، ونحن بتوفيق الله تعالى نأتي (2) بقواعد الكلام، ونبهنا على تغشّيها من اللبس، في رَمْزٍ من الفقه فيه وتولّعٍ بَنَوْه بالتشجيعات (3) والترصيعات التي مجّتها الأسماع ويأباها طلبة المعاني. 10310 - ومما نذكر متصلاً به، أنه لو أغرى سبعاً بإنسان في [متسع] (4)، حيث نحكم بأن القصاص لا يجب، فلو فرض توثب السبع على ذلك الإنسان وقتله، ودرأنا القصاص، فهل تجب الدية أم لا؟ فهذا فيه تأمل ونظر، من جهة أن السبع إذا لم يكن ضارياً بطبعه، فلا أثر للإغراء فيه، وإنما يتوثب وفاقاً، ثم لا يسند فعله إلى المغري، والدليل عليه أنه لو أغرى كلباً غير معلّم بصيد، فاتفق أنه انطلق إليه وقتله، فهو ميتة، ويكون كما لو انطلق بنفسه من غير إغراء؛ فإن اختيار الحيوان له حكم إذا لم يكن معلّماً. والأصحاب بنَوْا أمرهم في نفس القصاص على إمكان الفرار في الصحراء، وإذا كان كذلك، فقد تُفرض دهشة من ذلك الإنسان، كما فرضناه في ترك السباحة، حيث تفرض النجاة بالسباحة، ثم ميل الأصحاب إلى وجوب الضمان، كما قدمنا ذكره. والوجه عندنا في ذلك أن نقول: إن كان السبع مطلقاً، ولم يوجد من الساعي إلا

_ (1) في الأصل: "مهر به". (2) نأتي بقواعد الكلام: الفعل هنا بمعنى الماضي (أتينا) فهذا دأبنا وعادتنا. (3) كذا. ولعلها بالتوشيحات. (4) في الأصل: "مسبع". وهو تصحيف واضح.

الإغراء، [والسبع] (1) غير ضارٍ، فلست أرى للإغراء، والحالةُ هذه أثراً ووقعاً، إذا لم يكن ذلك في مضيق، كما تقدم التفصيل فيه. وإن كان السبع في رباط [فحلّه] (2) وأغراه، فانطلق في مسبع صحراء واتفق الهلاك، ففي وجوب الضمان التردد الذي ذكرناه: فإن بنينا الأمر على عدم ضراوة السبع، فالوجه نفي الضمان، وإن بنيناه على إمكان [الإفلات] (3) فهو سببه [كالسباحة] (4) إذا تركها الملقَى في الماء. هذا وجه الكلام في الضمان، والله المستعان. 10311 - ومما يتصل بهذه الفصول التغرير بتقديم السّم، فإذا أدخل الرجلُ السمَّ في طعام وقدمه إلى إنسان [مغرياً] (5) إياه على ما يعتاد في مثله، فأكله الضيف، وهلك، ففي وجوب القود قولان: أحدهما - وهو الأقيس أنه لا يجب؛ فإنه أكل باختياره، وأكلُه أولى با لاعتبار من تغرير الضيف، والمباشرةُ الصادرةُ عن اختيار تقطع الأسباب. والقول الثاني - القصاص يجب؛ فإن التغرير على هذا الوجه يُفضي إلى الهلاك غالباًً، فإن الناس لا يمتنعون عن الاكل، فهو إذاً واقع إذا اتصل به التغرير، فيصير المغرور في حكم المحمول المكره، فإن قلنا: يجب القصاص على الغار المقدِّم، فلا شك في وجوب الدية إذا آل الأمر إلى المال. وإن قلنا: لا يجب القصاص، فهل تجب الدية؟ ذكر شيخي رضي الله عنه قولين في وجوب الدية: أحدهما - أنها تجب وهو الذي قطع به القاضي وغيره؛ لأنا إن درأنا القصاص للشبهة، فلا سبيل إلى إحباط فعل المقدِّم بالكلية؛ فإن هذا في مستقر العادة يسمى قتلاً من المقدِّم.

_ (1) في الأصل: "والصيد". (2) في الأصل: "يحله". (3) في الأصل: "الإقلاب". (4) في الأصل: "بالسباحة". (5) في الأصل:، مصرفاً".

والقول الثاني - أن الضمان لا يجب تغليباً لمباشرة الآكل، كما ذكرناه، وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فهو متجه في المعنى. وما ذكرناه فيه إذا قدم الطعام إلى إنسان ودعاه إلى أكله بمقاله أو بقرينة الحال. فأما إذا أدخل السم في طعام الغير من حيث لا يشعر، فأكله صاحب الطعام، ولم يوجد من الساعي في ذلك تقديم، ولكنه بنى الأمرَ على أنه سيأكل الطعام، فهذا مما اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هذا بمثابة ما لو قدم الطعام إلى إنسان، ودعاه إلى أكله، ولا يخفى توجيه الطريقين، ثم الأصحاب قطعوا في صورة التقديم بوجوب الضمان، وذكروا القولين في وجوب القصاص، ولم يذكر القولين في الضمان في صورة التقديم إلاّ شيخي. وكنت أود أن [أجمع] ُ (1) الأسباب التي لا تتصل فيها الجناية من الجاني بالمجني عليه وأقسمها إلى القوي والضعيف وأوضح ما يتعلق القصاص به، وما يختلف المذهب فيه، [وما اتفق تفصيل الضمان فيه] (2). وسأجمع ما يتعلق القصاصُ به في فصل الإكراه، وأذكر ما يتعلق الضمان به في باب حفر البئر في محل العدوان -إن شاء الله عز وجل- فهذه مسائل ذكرتها في تحقيق العمد، [وما يتم به] (3). 10312 - وأنا أختم الفصل بضبطٍ يجري مجرى الترجمة المذكورة، ولا شيء في انتشار المسائل وتعارض الأصول أنفع من اختتام الفصل بالترجمة، فأقول: أما القتل فقد قسمناه إلى [الوجء المذفِّف، وإلى ما هو مذفّفٌ يتعلق بالأسباب] (4)، ثم قسمنا الأسباب إلى ما يتعلق بالظاهر، وإلى الجرح الذي يتعلق بالبواطن، ثم ذكرنا بعد ذلك

_ (1) في الأصل: "أسمع". (2) في الأصل: "واتفق تفصيل الضمان". (3) في الأصل: "وما يقدم به". (4) في الأصل: "الوحى الموقف، وإلى ما يتوقف بتعلق بالأسباب" والمثبت من تصرف المحقق.

قواعدَ: أحدها - في التمكن من الحِيل وما ذكرنا فيه مراتب [وفضضنا] (1) عليها لو تَركَ الأكلَ، وترك السباحةَ، وترك مداواةَ الجرح. ومن القواعد أن الجاني إذا قصد الإهلاك بسببٍ، فاتفق سببٌ آخر، لم يعرفه الجاني، وفيه ذكرنا الْتقام الحوت والإلقاءَ من الشاهق، وتصويرَ [القدّ] (2) من واقفٍ في الحضيض. وفيه ذكرنا ما إذا لم يكن السبب مُهلكاً، فاتفق عنده مُهلك، مثل أن يدفعه دفعاً على أرضٍ مستوية، ويلقيه في حفرة قريبة العمق، فيتفق سقوطه على سكين. ومن القواعد إغراء السباع وإنهاش الحيات، والكلام في المضيق والمتسع، وردّ الأمر إلى طباعها في الضراوة وعدمها، أو إلى المفارّ، أو إلى إمكان الفرار. ومما يجب الاعتناء به في أثناء المسائل، أنا إذا درأنا القصاص عنها، فهل نوجب الضمان، أم نُردّد القولَ فيه، أم ننفيه؟ ومأخذ هذا أنا حيث نتحقق أن القتل حصل بالجناية، ولكن لم يتحقق العمد فيه، فوجب الضمان من حيث ثبت فعلٌ من المجني عليه، ورأينا إحالةَ الهلاك عليه، أو رأينا إحالته على حيوان ذي اختيار غيرِ محمول ولا مكرَه، فقد ندرأ الضمان، وقد نجعل ترك الاختيار بمثابة فعلٍ من المُهلَك كترك الأكل، وقد نختلف في ذلك. فهذا بيان القواعد وسنعيد التغرير في الأسباب عند ذكرنا الإكراه وكونَه سبباً في التزام القود، وإن لم يكن فيه مباشرة من المتعلق بالسبب. فصل قال: "ولو قطع مريئه أو حلقومه، أو قطع حشوته ... إلى آخره" (3). 10313 - في نقل المزني غلط؛ فإنه قال: "لو قطع حلقومه أو مريئه" على

_ (1) في الأصل: "وقصصنا". (2) في الأصل: "الغر". (3) ر. المختصر: 5/ 97.

الترديد وكان الوجه أن "يقول: لو قطع حلقومه ومريئه" (1)؛ فإنه رام أن يذكر القتل المُوقِف (2) الذي لا يَبقى بعده حياة، وهذا لا يحصل بقطع أحدهما، ومقصود الفصل بعد هذا التنبيهُ [إلى] (3) أن من قطع حلقوم إنسان ومريئه، فالمجني عليه مقتول، [وإن] (4) كان يتحرّك [حركة مضطربة] (5) متقاربة، فذاك حركة مذبوح، ولا حكم لها، ولو فرضت جناية بعد ما ذكرناه، وإن كانت في دوام تلك الحركات، فهي جناية على ميت، ولا يتعلق بها حكم إلا التعزير؛ من جهة هتك حرمة ميت محترم، وهو بمثابة ما لو أقدم على ميت وقطع أطرافه. ويترتب على ما ذكرناه أنه إذا سبق سابق بالقتل، كما ذكرناه، ثم تلاه آخر بقطع طرفٍ أو غيره، ففعْلُ الثاني هدرٌ، لا يتعلق به موجَب الضمان. وبمثله لو جنى الأول جناية لم تزُل الحياة بها، وأتى الثاني بما هو مُوقفٌ (6) في نفسه، فيعتبر فعل الثاني حينئذ مع اعتبار فعل الأول. وبيانه أن الأول لو شق بطنه وخرق مِعاه، فالمجني عليه سيهلك بهذا السبب لا محالة، وليس هذا مما يتوقع فيه برءٌ وتدارك، ولكن تبقى معه حياة مستقرة، ثم ينتهي، وقد خُرق مِعى عُمر رضي الله عنه، فأوصى لمن بعده وجَعل الأمرَ شورى، وبقي أياماً، فلو جرى مثلُ ما وصفناه، ثم جاء ثانٍ، وقدّه بنصفين أو ضرب رقبته، فالقاتل هو الثاني؛ فإنه الآتي بالسبب [المذفّف،] (7) والجنايةُ الأولى كانت تقتل بطريق السراية لو تركت، والتذفيف يقطع أثر السراية وإمكان جريانها وإفضائها إلى الهلاك.

_ (1) في نسخة المختصر التي بيدنا: "مريئه وحلقومه"، فهي صحيحة كما يقول الأمام. (2) كذا. وكنت غيرتها من قبلُ مرات إلى (المذفف) وأكتفي هنا بالتنبيه، فقد يكون لها وجه. وإن كنت لم أجد في المعاجم (الموقف) بمعنى المثبت المهلك المميت. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل "إن" (بدون واو). (5) في الأصل غير مقروءة، صورتها هكذا: "من ارضه". (6) كذا. ولعلها: مذفّف، كما غيرناها أكثر من مرة. (7) في الأصل: "الموقف".

وقال مالك (1): إذا كانت الجناية الأولى تُفضي إلى الهلاك لا محالة [لو] (2) فرض الاقتصار عليها، فالمجني عليه هالك بمثابة المنتهي إلى حركة المذبوح، وذكر الشافعي في الرد عليه قصة عمر رضي الله عنه، وأراد بذكرها أن يوضح أن المجروح حي، ثم نبّه بذلك على أن الثاني قاتلٌ [لا جارح] (3). 10314 - ثم يتعين الاهتمام بفهم ما نورده، والاعتناء بدرك منازل الحياة، فنقول أولاً:- ما نسميه حركةَ المذبوح يوجب القطعَ [بالحياة] (4)؛ فإنه من آثار الحياة، [وليس] (5) كتلوي عصبة في عضو بحيث [يتشنج] (6)؛ إذ قد يفرض مثل ذلك في ميت قد جَمَد إذا عرض عارض في عصبة أو غيرها، ولكن هذه البقية من آثار الحياة، [لا معوّل عليها] (7) في العادات، وأهلها يسمون المنتهي إلى هذا المنتهى [ميتاً حقّاً] (8)، ولا يرون هذا من المجاز المحمول [على ما سيكون] (9) لا محالة، كما يقال في المجروح المأيوس منه الذي سيموت لا محالة [لهول ما به] (10): إنه مقتول، والمراد أنه سيهلك لا محالة على قرب. وقطعُ الحلقوم والمريء قتلٌ لا محالة؛ فإنه لا يبقى بعدهما إلا ما سميناه حركة المذبوح.

_ (1) ر. الإشراف: 2/ 822 مسألة 1570. (2) في الأصل: "ولو". (3) في الأصل: "أو جار". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "وليست". (6) في الأصل: "ينشج". (7) في الأصل: "ولا معوّل عليه". (8) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: "سلاحقا" (انظر صورتها) والمثبت من المحقق. (9) في الأصل: "عليها سيكون". (10) في الأصل: "وهو لما به" كذا قدرنا هذه اللفظة (لما به) هنا، ولكنها تكررت عدة مرات بهذا الرسم وبهذا المعنى في هذا السياق. مما جعلنا نستبعد التصحيف وإن كنا لم نصل بعد إلى أصلها واشتقاقها.

ومما يدور في الخَلَد أن من ضرب إنساناً بسيفٍ [قُرب الحِقْو] (1) ومَعْقدِ [النطاق] (2) وقدّه بنصفين على الوضع الذي ذكرناه، وَتَرك حُشوته (3) في النصف الأعلى، فقد يفرض ممن فُعل به هذا أن يطرِف وينظر إلى شيء ويبصره، أو يتكلم بكلمات، ثم [يجمُد] (4) بعد ذلك. وقد قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا كان بحيث يتكلم أو ينظر، فهو حي، وإن كان ذلك يزول على القرب، ولا يطول زمانه، فلو ابتدر له مبتدر وضرب رقبته في الحالة التي وصفناها، فالقاتل هو الأول، أم الثاني، أم كيف السبيل فيه؟ فنقول: رب إسرافٍ في التصوير يُفضي إلى تقدير ما لا يكون، فإذا فرض قدُّه من الموضع الذي ذكرناه، فلا يجري كلام منتظمٌ بعده، والمجنيُّ عليه يُعدّ قتيلاً، [ولو صوّبت السهام بمثله، فيموت المصاب] (5) في لحظة، فكيف الظن وقد قدّ من الوسط. 10315 - ومما يتعلق بذلك أن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت، وبدت مخايل الموت، وتغيرت الأنفاس في الشراسيف (6)، فلا نحكم للمريض بالموت، وإن انتهى إلى حالة يَظن الظان أن الموسَّط (7) المقدود على مثل حاله؛ وذلك أن مثلَ هذا مما لا يؤثر به، وكم من مُدْنَفٍ تُشَقّ الجيوب عليه، ويشد حنكه، ويسوَّى كفنه، ثم تثور قوّته ويعود، فينطق، فلا يتصور الحكم بالموت على ثقة ما لم يجْمُد

_ (1) في الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا: فدنوا بحعو (تماماًَ) انظر صورتها. والمثبت اختيار منا على ضوء هذه الحروف التي لا تقرأ. (2) في الأصل: "التطلق". (3) الحُُِشوة: (بضم الحاء وكسرها) الأمعاءُ. (4) في الأصل: "عمد". (5) في الأصل: "وقد نصت السهم المثلية فيموت المصاب ... " والمثبت محاولة لأداء المعنى بألفاظ قريبة في صورتها من الألفاظ الموجودة بالأصل. والمعنى: أن من صوبت السهام لمثل هذه المواضع من جسده، (الحقو وموضع النطاق) يموت في لحظة، فكيف يعتبر حيّاً من قدّ نصفين؟ (6) الشراسيف: جمع شُرسُوف: الطرف اللين من الضلع. والمعنى تغير الأنفاس بين الضلوع. (7) الموسّط: الذي قدّ نصفين من وسطه.

وتحبِط نفسه، فإذا ضرب ضارب رقبته وهو يتنفس، فنجعله قاتلاً على التحقيق، والذي أُبينت حُِشوته قتيلٌ على قطع، بحيث لا يفرض انتعاشٌ. فالمتبع في ذلك في النفي والإثبات [الثقةُ] (1) بأنه قتيل، والقتيل من لا يَلْحظ (2)، ولا يتكلم على نظمٍ يُعد كلاماً، ولا يتحرك حركةً اختيارية، والحياةُ التي يُثبتها أرباب العقول لا اكتفاء بها؛ فإنها ثابتة للمذبوح إلى أن يجمد، وإنما التعويل على أن يعد المجني عليه قتيلاً، ولا يقع الاكتفاء بالحكم بأنه هالك؛ فإن معناه أنه سيهلك. فهذا بيان المراد في ذلك كله. 10316 - ومما يتصل بهذا أن من قطع حلقَ إنسان، ولا يقطع مريئه، فقد ذكرنا أن هذا فعلاً يكون قتلاً، ولا يُفضي إلى حالة المذبوح في أول الأمر، ولكن لو تمادى، فقد يؤدي إلى المصير إلى حركة المذبوح، وهذا قد يشتبه بالمريض [ينتهي] (3) إلى السكرات، ولكن المريض كما ذكرناه لا تؤثر حقيقة حاله ما لم يجمد، والذي قُطع حلقومه يُفضي إلى حركة المذبوح، وإن عاش زماناً، والمريض لا ينتهي إلى هذه الحالة، والأحكام تتبع الصور. ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخف عليه تتبع الصور إذا تثبت فيها، ولم يقبل كل ما يُرعى من الصور. ثم ما ذكرناه من [التفصيل] (4) يجري في الذبح وافتراس السبع، فالأصل أن السبع إذا افترس شاة، فإن صادفناها وهي في حركة المذبوح، فهي ميتة، وإن كانت فيها حياة مستقرة، فذبحناها، فهي ذكيّة. وفي ذلك مزيد تفصيل يليق بحكم [الذكاة] (5)، وسنذكره في كتاب الصيد والذبائح، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) غير مقروءة بالأصل إلا مع عسر عسير. (2) اْي لا ينظر ولا يرى. (3) في الأصل: "فينتهي". (4) في الأصل: "القصاص". (5) في الأصل: "الذكورة".

فصل قال: "ولو جرحه جر احات، فلم يمت حتى عاد إليه ... إلى آخره" (1). 10317 - إذا قطع يدي رجلٍ، ورجليه، وفقأ عينيه، فاندملت إحدى الجراحات، ففيها القود، على ما سيأتي تفصيل القصاص في الأطراف، إن شاء الله عز وجل. وإذا آل الأمر إلى المال، ففيها ديات. ولو سرت الجراحات، وأفضت إلى الموت، [فالقصاص] (2) باقٍ في الأطراف؛ [لأنها] (3) إذا سرت، صارت نفساً، والواجبُ بدلُ النفس، لا بدلُ الأطراف، فتندرج الأطراف تحت النفس في الدية، ولا تندرج تحتها في القصاص، وإن سرت وأدت إلى الموت. ولو قطع الأطرافَ كما صورنا، ثم عاد، فقتل المجني عليه صبراً، والجراحات بعدُ ساريةٌ، فالمنصوص عليه للشافعي أن الأطراف تندرج تحت النفس في الدية، كما لو سرت بأنفسها [وأفضت] (4) إلى الهلاك، والقصاصُ باقٍ في الأطراف [لا يندرج تحت النفس] (5)، ويجب فيها أروشها ودياتها. [أما] (6) لو اندملت، ثم عاد فقتله، ففي النفس عند ابن سريج ديتها، وفي الأطراف دياتها، وللشافعي رضي الله عنه ما يدل على موافقة ابن سريج (7)، كما سنذكره.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 98. (2) في الأصل: "والقصاص". (3) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام. (4) في الأصل: "أفضت" (بدون الواو). (5) في الأصل: "لا تندرج في الدية تحت النفس" فكلمة (في الدية) مقحمة. (6) في الأصل: "كما". (7) أي موافقته في عدم الاندراج إذا اندملت الأطراف.

فقد حصل في المسألة قولان في اندراج ديات الأطراف تحت دية النفس: أحدهما - أنها لا تندرج، وهو اختيار ابنِ سريج، والقياسُ أنها لا تندرج، وفيها أروشها، وفي النفس ديتها؛ لأنه لما عاد فقتله صبراً، فقد انقطعت سراية الجراحات بالقتل، وتبين أنها لم تسْر، ولم تصر نفساً ومسلكاً في إزهاق الروح، فصار انقطاع السراية بهذه الجهة بمثابة انقطاع السراية بالاندمال، وهذا قياس بيّن جلي. والقول الثاني - وهو ظاهر النص أنها تندرج، [والواجب دية النفس] (1)؛ فإن القتل جرى قبل الاندمال، وإذا كانت السراية غيرَ منقطعة، والأفعال وإن انفصلت بمثابة المتصلة، ومن والى بالسيف على إنسان، [وطعنه] (2) متحاملاً عليه، حتى مات، فيعدّ ما جرى منه قتلاً واحداً، ولا نظر إلى تعدد الضربات والجنايات، والذي يحقق ذلك أن الديات في الأطراف إنما تستقر إذا انتهت نهايتها واندملت، فإذا لم تندمل حتى عاد ذلك الجاني بعينه وقتل، فلا حكم لها أصلاً. والأصح في القياس اختيارُ ابنِ سريج. ولا خلاف أن من قطع أطراف إنسان، ثم قتله رجل آخر، فلا تداخل، ولا اندراج، وفي الأطراف دياتها، وعلى قاتل النفس ديتها. 10318 - واختلف نص الشافعي رضي الله عنه فيه إذا قطع الأطراف خطأً، وعاد، فقتل عمداً، أو قطع الأطراف عمداً، وعاد فقتل خطأ، فاختلفت صفة الجنايتين في الأطراف والنفس عمداً، فقد نُقل عن الشافعي نصان فيما ذكرناه: أحدهما - أنه قال: "إذا قطع يداً واحدة خطأً، ثم قتل عمداً، فيجب نصفُ ديةٍ مغلظةٍ في حالة إذا كان القطع عمداً، وديةٌ مخففة في النفس مضروبة على العاقلة، وإن كان التصوير في العمد والخطأ على الضد، فالجواب على العكس" هذا نص. والثاني - أنه قال: "يجب في اليد الواحدة والنفس الواحدة دية واحدة: نصفها مخفف على العاقلة، ونصفها مغلّظ في مال الجاني" فانتظم قولان منصوصان إذا اختلفت الجناية، كما ذكرناه.

_ (1) في الأصل: "وهو الواجب دية النفس". (2) في الأصل: "فقطعه".

10319 - وإذا رتبنا المذهب قلنا: إذا اتفقت صفة الجناية [واتحد] (1) الجاني، ولم يتخلل الاندمال، فقولان: أظهرهما في المذهب والنص -الاندراج. وأقيسهما- وهو المعروف بالمخرّج واختيار ابن سريج- أنها لا تندرج. وإذا اختلفت صفة الجناية، ففي المسألة قولان منصوصان مرتبان على القولين فيه إذا اتفقت صفة الجنايات، وصورة الاختلاف أولى بألا تندرج؛ فإنها إذا اختلفت وتباينت، عسر القضاء بالاندراج، كما سنوضح ذلك في التفريع. ويجوز أن يقال: اختلاف الصفة في الجناية بمثابة تعدد الجاني، وكل ما نذكره في محاولة الحكم بالاندراج، فهو تكلف في التعليل بمثابة الاحتيال الذي لا ثبات له، فإن قضينا بأنه لا يثبت الاندراج، فلا كلام، وإن حكمنا بالاندراج، والمقطوع يدٌ واحدة، ففي هذا حيث انتهينا إليه نظر؛ فإن حقيقة الاندراج مصيرٌ إلى سقوط الطرف، واكتفاءٌ بموجب النفس، هذا معنى قول العلماء: صارت الجراح نفساً. وإذا كان كذلك فلو قطع اليدَ خطأً، وقتل عمداً، وقلنا: تجب دية واحدة، فقد نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: يجب نصف الدية مخففاً على العاقلة ونصفه مغلظاً في مال الجاني. والوجه عندي أن يقال: تجب دية كاملة في مال الجاني؛ نظراً إلى القتل الواقع عمداً، وكأن قطع اليد لم يكن، فكأن أثر الطرف يسقط عند جريان القتل، وكذلك إذا وقع قطع الطرف عمداً والقتل خطأ، فالوجه النظر إلى صفة القتل لا غير، وإيجاب الدية كاملةً مخففةً على العاقلة. وقد أشار إلى ما ذكرناه أنا إن قلنا: لا يندرج الطرف تحت النفس عند اختلاف صفة الجناية، فتنفرد [كل واحدة من الجنايتين] (2) بحكمها، ونضرب موجَب ما كان عمداً على مال الجاني، وموجب ما كان خطأ على العاقلة، فإن رأينا الإدراج والرد إلى دية واحدة مع اختلاف الجنايتين، ففي المسألة وجهان: أقيسهما - النظر إلى القتل وصفته وإسقاطُ الطرف وترك اعتبار كيفية الجناية عليه.

_ (1) في الأصل: "فاتخذ". (2) في الأصل: "كل واحد من الجانبين".

والوجه الثاني - أنا نوجب ديةً واحدة، ثم نجعل شطرها مخففاً -لجريان الخطأ- على العاقلة، ونوجب شطرها على القاتل في ماله. ثم ما ذكرناه مصوّرٌ فيه إذا قطع يداً، ثم قتل، مع اختلاف الجنايتين، فأما إذا قطع يدي رجل خطأ، وقتل عمداً أو على العكس، وفرعنا إلى اتحاد الدية مع النظر إلى الخطأ والعمد جميعاً، فالوجه التنصيف لا غير كما قررناه. ولو قطع يديه ورجليه خطأ، وقتله عمداً أو على العكس، فكيف الوجه في كيفية التبعيض في التخفيفِ والضربِ على العاقلة، والضربِ في مال الجاني؟ القولُ: نُنَصِّفُ ونقضي بالاختلاف تخفيفاً وتغليظاً وضرباً على العاقلة وفي ماله. 10320 - ولو قطع أصبعاً خطأ، ثم عاد وقتل عمداً [فنُجري] (1) التنصيف معتبراً، أم نعتبر مقدار الأرش من الطرف؟ وهذا مما يجب الاعتناء به. فنقول وبالله التوفيق: هذا التفريع خارج على اندراج الطرف تحت النفس، ومعنى اندراجه أنه يصير نفساً، ولكن الشافعي رضي الله عنه اعتبر الخطأَ والعمدَ الواقعين من الأطراف، والسبب فيه أنه جعل اتصال [القتل] (2) بالقطع بمثابة سريان الجراح إلى النفس، ولهذا لم يفردها بأروشها، ثم القتل على هذا التقدير كأنه جرح، وكأن ما تقدم من الجراح مع حر الرقبة بمثابة جراحات مؤثرة في إزهاق الروح، ثم إذا اختلفت الجهتان في الجراح خطأً وعمداً، وُزّعت ديةُ النفس على الجهتين، وهذا يقتضي تنصيف الدية عليهما، سواء كثرت الجراح أو قلت، ولا نظر إلى أفراد الأروش، وهذا بمثابة ما لو تعدد الجارح، فلو جرح أحدهما مائة جراحة، وجرح الثاني جراحة واحدة، فالدية إذا سرت الجراح عليهما نصفان. وإن ظن ظان أن تقسيم الدية يؤخذ من أرش الجراح، فليس على بصيرة من المسألة، فإن النظر إلى أقدار أروش الأطراف مصيرٌ إلى ترك إدراجها، والأطراف إذا

_ (1) في الأصل: "فيحر". (2) في الأصل: "القتيل".

اندرجت، سقطت، والواجب دية النفس فحسب. ونصُّ الشافعي في قطع يدٍ وقتلٍ يدل على أن نسبة أرش الطرف ليس معتبراً، فإنه قال: "لو قطع يداً خطأ، وقتل عمداً، فالواجب ديةٌ نصفها مخففة ونصفها مغلظة" ولو كان ذلك على شبه الأرش، لقيل: موجَب النفس دية، وموجَب الطرف نصف دية، فتوزع الدية على دية ونصف أثلاثاً، [ولمّا لم يقل ذلك] (1)، دلّ على أن التعويل على التنصيف كيف فرض الجرح. هذا تفريعٌ على اعتبار صفة الطرف مع النفس. فإن قلنا: الاعتبار بصفة النفس كيف فرض الأمر، فهو قياس سديد، كما قدمنا ذكره. وقد انتجز الغرض من هذا الطرف. 10321 - ومما نفرعه على النص أنه إذا قطع يدي رجل عمداً، ثم عاد وقتله عمداً أيضاًً، فالنص أن الواجب دية واحدة، والقصاص لا يتداخل، ثم إذا اختار الولي القطعَ، قطع اليدين، وله القتل بعد القطع، ثم إن أراد العفو، سقط القصاص، ولم يثبت المال أصلاً، فإن القصاص في الطرف قابَلَ ديةً كاملة، فكأنه استوفى تمام الدية، وقد ذكرنا أن الواجب دية واحدة، وهذا من غرائب المذاهب، [فإنا أثبتنا] (2) القصاص في النفس بعد استيفاء الطرف، ثم لم نثبت مرجعاً إلى الدية. هذا ظاهر المذهب، وحقيقته ترجع إلى أن القصاص لا يندرج، والدية واحدة واليدان يقابِلان ديةً كاملة، فإذا استوفاهما، ثم أراد الرجوع إلى المال، لم يجد إليه سبيلاً، فإن في ذلك إحباطَ القصاصِ المستوفى في اليدين، وعلى هذا لو استوفى القصاص من إحدى اليدين وعفا ليس له إلا نصف الدية، فإنه استوفى ما يقابل نصف الدية. وهذه التفريعات فيها تعقُّد، وسببه ما في أصله من الإشكال؛ فإن القياس [ما] (3) اختاره ابن سريج في أصل المذهب.

_ (1) في الأصل: "ولم يقل ذلك". (2) في الأصل: "فا أثبتنا". (3) في الأصل: "كما".

وقد قال صاحب التقريب: من أصحابنا من قال في التفريع على النص: إذا قطع وليُّ القصاص اليدين، وبقي حقه في النفس، فله الرجوع إلى الدية الكاملة، ولا يقع القصاص [في اليدين] (1) موقع الدية، وليس في المصير إلى ذلك ما يخالف القياسَ؛ فإن القصاص على النص لا تداخل فيه، فهو يجري على موجبه، والدية تجب في النفس بكمالها، وإذا أراد العفوَ والأطرافُ ساقطة الاعتبار في الدية، وهي مرعية في القصاص، فليقع القصاص فيها عن جهة القصاص، ولتبق الدية الكاملة إذا فرض العفو عن النفس. وهذا منقاس فقيه، [ولعلي] (2) أعيده في أحكام موجب العمد إن شاء الله. فصل قال: "ولو تداوى المجروح بسمّ ... إلى آخره" (3). 10322 - هذا الفصل مشتمل على مراتب الشركة في القتل، وهو من أصول الكتاب، وقد قدمنا أنه إذا اشترك جماعة، فقتلوا شخصاً عمداً، وجب القصاصُ عليهم، ولو جرح رجل رجلاً خطأ، وجرحه آخرُ عمداً، فلا قصاص على العامد الذي شريكه خاطىء، خلافاً لمالك (4)، فإنه أوجب القصاص على العامد، وقدّره كأنه منفرد بالجرح؛ إذ لو لم يكن كذلك، [لما وجب ولا التُزم القود] (5)، وهذا مذهب المزني واختياره. وكنت أود لو كان هذا قولاً معدوداً من المذهب. ولو اشترك في القتل أبُ القتيل وأجنبي، فيجب القصاص على شريك الأب

_ (1) زيادة من المحقق، لا يتضح المعنى إلا بها. (2) في الأصل: "ولعل". (3) ر. المختصر: 5/: 98. (4) ر. الإشراف: 2/ 819 مسألة 1563، عيون المجالس: 5/ 1998 مسألة: 1429، المعونة: 3/ 310، القوانين الفقهية: 341. (5) في الأصل: لما وجب لا لتزم القود.

عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1) والمسألة مشهورة في الخلاف. فإذا كان شريكه عامداً غيرَ ضامن، مثل أن يجرح الشخصَ حربي جراحة، ثم يجرحه ضامنٌ جراحةً، ففي وجوب القصاص على الضامن قولان، فعماد المذهب أن شريك الخاطىء لا قصاص عليه، ويجب القصاص على العامد الضامن الذي هو من أهل استيجاب القصاص إذا كان شريكه عامداً ضامناً، وإن لم يكن من أهل استيجاب القود كالأب. وإن شارك من يستوجب القودَ عامداً ليس من أهل الضمان أصلاً، ففي المسألة قولان. ثم الصور تصدر عن هذه القواعد، ونحن نذكرها مرسلة، ونلحق كل صورة بأصلها، ثم نرتبها، ونذكر صوراً فيها تردد ونستعين بالله. 10323 - فإذا شارك العبدُ حُرّاً في قتل عبد وسقط القصاص عن الحر، فيجب على العبد؛ لأن شريكه ضامن عامد. وكذلك إذا شارك الذميُّ مسلماً في قتل ذمي، وكذلك إذا شارك الأجنبيُّ الأب في قتل ابنه، فالقصاص يجب على الشريك في هذه الصورة. ولو جرح رجل مرتداً، فأسلم المرتد، فجرحه رجل آخر في الإسلام، ومات [من] (2) الجراحتين، فالذي جرح في الإسلام شاركَ عامداً غيرَ ضامن؛ فإن الجراحة في الردة لا يتعلق بها ضمان، ففي وجوب القود على الجارح في الإسلام قولان. وكذلك لو جرح حربياً، ثم أسلم فجرحه بعد الإسلام من يلتزم القود، فمات من الجراحتين، فقولان. وكذلك لو قطع الإمام يد السارق، ثم جرحه عامدٌ من أهل التزام القصاص عمداً، فمات من الجراحتين، وكذلك لو قطعت يده قصاصاًً، ثم جرحه آخر عمداً ظُلماً، وكذلك لو جرح ذمّي حربياً، فعقدنا للمجروح الذمةَ، فجرحه بعد الذمة ذميٌّ ظلماً عمداً.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 231، رؤوس المسائل: 460 مسألة 325، طريقة الخلاف 469 مسألة 188. المبسوط: 26/ 94. (2) في الأصل: "في".

فهذه صورة القولين. ولو جرح عبد عبداً، وجرحه مولاه جرحاً، فمات من الجرحين، فالسيد ضامن للكفارة، ولا يضمن غيرها، وقد اختلف أصحابنا في ضمان الكفارة، فمنهم من ألحقه بضمان الدية، فعلى هذا يجب على شريك السيد القودُ قولاً واحداً، ومنهم من لم يعتبر ضمان الكفارة، فعلى هذا شارك من ليس ضامناً معتبَراً، فتخرج المسألة على قولين. ولو جرح إنساناً جُرحَ قصاص، فجرح المجروح [نفسَه] (1)، فنقول أولاً: 10324 - من قتل نفسه هل يلتزم الكفارة؟ فعلى وجهين سيأتي ذكرهما في الكفارات -إن شاء الله عز وجل- فإن قلنا: لا يلتزم الكفارة، فمن شاركه، فقد شارك عامداً غير ضامن، فتخرج المسألة على قولين. وإن قلنا: يلتزم قاتلُ نفسه الكفارةَ، فهذا يخرج على أن ضمان الكفارة هل يعتبر؟ فإن قلنا: هو معتبر، قطعنا بوجوب القصاص على شريكه، وإن لم نعتبر ضمانَ الكفارة، ففي المسألة قولان، كما قدمنا. وشريك الخاطىء لا قصاص عليه قولاً واحداً. وفي شريك السبع -وهو الذي يجرح مَنْ جرحه سبعٌ - طريقان: من أصحابنا من قال: هو شريك عامدٍ غيرِ ضامن، فتخرج المسألة على قولين. ومنهم من قطع بنفي القصاص، فإن حقيقة العمد لا تثبت للسبع، وهذا ما ارتضاه القاضي وكلُّ محقق. ومن جرحه صبي، وجرحه مَنْ هو من أهل التزام القود، فأمره يُبنى على أن الصبي هل له عمد؟ فإن جعلناه عمداً، كما سيأتي شرح ذلك، فعلى شريكه القود؛ فإنه شارك عامداً ضامناً، وإن قلنا: لا عمد له، فلا قصاص على شريكه قولاً واحداً. 10325 - وما صورناه في شريكين يمكن تصويره في شخص واحد يصدر منه جرحان على وجهين مختلفين، فنقول: إذا جرح رجل رجلاً جراحةً خطأ، وجرحه

_ (1) في الأصل: "نصيبه".

جراحةً عمداً، فمات بالجُرحين، فلا قصاص في النفس، ويجب نصف الدية مخففاً على العاقلة، [ونصفها] (1) مغلظاً في ماله. ولو جرح السيد عبده [عمداً] (2)، ثم أعتقه، وجرحه في الحرية، ومات بالجرحين، فلا قود قولاً واحداً، ولا نقول: الجراحة الثانية عمد مُضمِّن، والأولى غيرُ مضمِّنة، ولكنها عمد [فتخرج] (3) على قولين، كما لو تعدد الجارح وأحدهما غير ضامن (4)؛ فإنه إذا صدر من شخصٍ واحد جراحتان، ولا ضمان في إحداهما، فينتهض ذلك سبباً في درء القصاص عنه لا محالة، فليتأمل الناظر ما ينتهي إليه، [ففعله] (5) إذا انضم إلى فعله، امتزجا. وكذلك لو جرح مرتداً، ثم أسلم المجروح، فجَرَحه في الإسلام، وكذلك لو جرح حربياً، فأسلم المجروح، فجَرَحه ذلك الجارح في الإسلام مرة أخرى، فلا قصاص في [هذه] (6) المسائل. وكذلك لو قَطع يده قصاصاًً، وجرحه جرحاً آخرَ ظلماً، فمات منهما، فلا قصاص في [النفس] (7)، ولا نجعل الإنسان بأحد فعليه شريكاً لنفسه في الفعل الآخر (8). ولو جرح مسلم ذمياًً، فأسلم المجروح، فجَرَحه المسلمُ جرحاً آخر، فمات من الجرحين جميعاً، فلا قصاص في النفس، فإن كان الجرح الأول عمداً مضموناًً، فقد

_ (1) في الأصل: "وبعضها". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "فخرج". (4) إلى هنا انتهى مقول القول لقوله: ولا نقول. (5) في الأصل: "بفعله". (6) زياة لاستقامة العبارة. (7) في الأصل: "النقص". (8) لا تختلط هذه المسألة بالمسألة السابقة التي قطع فيها الإمامُ اليدَ قصاصاًً، ففيها قولان في وجوب القصاص، أما هنا فالذي قطعَ اليدَ هو مستحق القصاص وهو الذي جرح، فلا فصاص في النفس قولاً واحداً.

ذكرنا أن من شارك عامداً ضامناً لا قصاص عليه، فالشريك ملتزم القصاص، إذا كان من أهل التزامه، وإذا اتحد الجارح، انتفى القصاص لا محالة. 10326 - فانتظم مما ذكرناه أن الجرحين من شخص واحد إذا كان لا يتعلق القصاص بأحدهما، فلا يجب القصاص على الجارح إذا كان الزهوق بالجرحين جميعاً قولاً واحداً، سواء كان أحدُ الجرحين خطأ أو عمداً، وسواء كان الواقع عمداً موجِباً للضمان أو غيرَ موجِب له. وإذا تعدد الجارح وأحدهما مخطىء، فلا قصاص على الثاني. وإن كان الشريك عامداً ضامناً للدية غيرَ مستوجب للقود، فالقود يجب على الشريك الذي يلتزم القود. وإن كان الشريك عامداً غير ضامن، ففي شريكه قولان. وإن كان ضامناً للكفارة، فطريقان. هذا بيان المسائل في الشركة، وترتيبها. 10327 - ولو جرح رجلاً، فداوى نفسَه بسمّ، وهذا مسألة الكتاب، فنقول: أولاً إذا كان السم مذففاً مُجْهزاً، وحصل الموت به وحده، فلا قصاص على الجارح، وإنما عليه أرشُ الجراحة فحسب، فإنه لم يشارك في النفس قطعاً، وإن لم يكن السم مُجْهزاً، وأمكن أن يقال: يحصل الموت [بالجرحِ واستعمالِ السم، فالجارح شريك في النفس] (1)، وفيه التفصيل الذي ذكرناه. ومنهم من قال: إذا قصد المداواةَ، فإنما صدر منه ما صدر استصلاحاً، فيكون في رتبة الخطأ، فلا قصاص على الشريك قولاً واحداً كشريك الخاطىء، فإن المتداوي بعيدٌ عن الظلم والعدوان، وعلى هذا شريك من قطع يداً حدّاً أو قصاصاًً، ينبغي ألا يلتزم القود قولاً واحداً؛ فإنه شريكُ مُحِقٍّ، فيخرج في هذا النوع طريقة في القطع بنفي القصاص عن الشريك.

_ (1) عبارة الأصل فيها أكثر من تصحيف. هكذا: "بالجرحين فاستعمال السم بالجارح شريك في النفس".

ولو جرح رجلاً، فخاط المجروح جرحه في لحمه الحيّ، وحصل الموت من الجرح والخياطة في ظاهر الأمر، فهذا شريك [في] (1) النفس، ولكن إذا قصد المعالجة، فتخرج الطريقةُ الأخرى التي ذكرناها، وإن خاط ووقع الخيط في لحمٍ ميتٍ، فلا أثر لذلك أصلاً. 10328 - ومما يتعلق بفصول الشركة، وهو من أهمّ ما يجب الاعتناء به تفصيلُ المذهب [فيه] (2) إذا تمالأ أقوام على رجل وضربه كل واحد منهم سوطاً خفيفاً، وكانت جملةُ السياط بحيث يقصد بها القتل غالباًً، فنتكلم في القصاص، ثم نبني عليه حكمَ الضمان في هذه الصورة. 10329 - ونذكر أولاً إلزام أصحاب أبي حنيفة إيانا هذه المسألة في القتل بالمثقل؛ فإن معتمدنا في المسألة نِسبتنا إياهم إلى هذه القاعدة في القصاص، فإنه شرع لدفع الهرْج وحقن الدماء، وما ذكروه تسهيل الوسيلة إلى إهدار الدماء وسفكها، فألزمونا المسألة التي ذكرناها، وقالوا: إن درأتم القصاص، بطل معوّلكم في إلزامنا الهرْج، وإن أوجبتم القصاص، أدّى إلى مذهب فاسد؛ فإن كل واحد منهم، لم يصدر منه ما لو انفرد، [لاستوجب] (3) به القصاص. وقد اضطرب أصحابنا في المسألة، فقال بعضهم: يجب القصاص من غير تفصيل، حتى لا يؤدي إلى ما ذكروه من الهرْج. وقال آخرون: لا يجب القصاص أصلاً لما أشعروه، كما أشرنا إليه وسنزيده كشفاً. وقال بعضهم: إن كان هذا عن تواطؤ، وجب القصاص عليهم، وإن لم يكن بينهم تواطؤ، فلا قصاص أصلاً، وهذا اختيار القاضي. 10330 - ولست أرى شيئاًً مما ذكرته من المذهب، وإن اشتهرت الحكاية فيها،

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "منه". (3) في الأصل: "لا يستوجب".

والوجه القطع بأنه إذا لم يكن مواطأة، فلا قصاص عليهم أصلاً، والسبب فيه أن فعل كل واحد في نفسه ليس عمداً مقتضياً للقود، فإذا فرضنا ذلك من جميع، فلا جمعَ نفرض الكلام فيهم من هؤلاء إلا وهم شركاء واحدٍ يشار إليه، وفعلُه ليس عمداً في نفسه، ولا قصاص على شركاء الخاطىء، ولا على شركاء صاحب شبه العمد، فكيف ينساغُ تقدير [العمد فيما ذكرناه] (1)، ولا يصير إلى إيجاب القود من غير تواطؤ إلا مستهينٌ [بقواعد] (2) المذهب، أو غيرُ دَرِب بها. فأما إذا تواطؤوا، فيجب أن يكون في وجوب القود وجهان: أحدهما - أنه لا يجب القصاص، وهو القياس؛ لأن إيجابه يؤدي إلى إيجاب القصاص على شركاء شبه العمد، وهذا [لا دراء له] (3)، وليس كما لو جرح كلُّ واحد جراحةً؛ فإن القصاص إنْ وجب عليهم، فكل واحد منهم عامد، وشركاؤه عامدون مشاركون عامداً، ولا بُعد في إيجاب القصاص على شريك العامد. ومن صار إلى أن القصاص يجب عليهم إذا [تواطؤوا] (4)، احتج بأن هذا قصدٌ من جميعهم -بطريق التواطؤ- إلى القتل، فصاروا كالقاصد الواحد إذا والى عليه بالسياط، وقد يتعلق هؤلاء أيضاًً بالقاعدة الكلية في إفضاء نفي القصاص عنهم إلى الهرْج. وهذا قد يجاب عنه بأن تواطؤ مائة أو مائتين على أن يضرب كل واحد سياطاً معدودةً غريب في التصوير، والذريعةُ هي التي يسهل تصورُها ويهون إمكانها، ويعم وقوعها. وما ذكرناه من أن التواطؤ يجعل المقصود كالقصد الواحد يعضده ويؤيده أن الرجل [لو والى بين] (5) السياط حتى يفضي إلى الإهلاك، فالقصاص يجب وفاقاً، وكل ضربة لا تتصف بكونها عمداً محضاً في القتل.

_ (1) في الأصل: "العود ما ذكرناه". (2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (3) في الأصل: "لا داكه". (4) في الأصل: "إذا باطوا" بهذا الرسم. (5) في الأصل: "ولو دابين" (كذا تماماًً).

ومن جرح خطأ، ثم عاد فجرح عمداً، وسرت الجراحتان، فلا قصاص، ثم جعلت الأفعال عندنا كالفعل الواحد، فليكن الأمر كذلك من طائفةٍ متواطئين. هذا منتهى الغرض في ذلك. ثم إن أوجبنا القصاص عند التواطؤ، فيصير كل واحد منهم في حكم العامد في القتل بسبب الشركة، وإن لم يوجد منهم ما هو عمد -في القتل- محضٌ، وهذا بمثابة إيجابنا القصاص على الجارحين جميعاً، وتقديرِنا كلَّ واحد منهما قاتلاً، مع القطع بأنه ليس ينفرد بالقتل. 10331 - ثم إن لم نوجب القصاص، فنوجب الضمان لا محالة، وربما يكون فعل كل واحد منهم بحيث لا يتعلق به لو انفرد قصاص ولا ضمانٌ أصلاً، ولكن إذا اجتمعت، حصل الإهلاك بالكل، فيصير الفعل بسبب المشاركة مضمِّناً، وإن كان لو انفرد، لم يتعلق به حكم أصلاً، فإذا اشتركوا بالجراحات، فيصير كل واحد كالمنفرد بالقتل، وإن لم يكن كذلك. فإن أوجبنا القصاص على المشتركين، فيصير كل واحد منهم بسبب الشركة عامداً، وإن كان فعله لا يصلح للعمد لو انفرد، وإن لم نوجب القصاص، فنوجب الضمان، ونجعل فعلَ كل واحد منهم مؤثراً، وإن لم يكن مؤثرأ أصلاً لو فرض انفراده. فهذه مراتب تأثير الشركة. 10332 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن قائلاً لو قال: إن كنتم تتماروْن في الأوّلين (1)، فالذي يضرب [آخراً] (2) مثلاً يصادف ضرْبُه مَنْ ضَعُفَ بالضربات الأولى، فيكون هذا الضربُ في هذا المحل مما يُعمَدُ به القتلُ غالباً. قلنا: وإن كان كذلك، فالضربات الأولى خطأ أو شبه عمد، والمتأخر، وإن وقع فعله بضعيفٍ، فقد شاركه من وقع فعله شبهَ عمد.

_ (1) أي الأولين من الذين اشتركوا في الضرب بالسياط، أي الذين ضربوا أولاً، وهو في تمام عافيته، فلا خطر في ضربهم. (2) في الأصل: "أحداً".

وإن فرض هذا السؤال في غرضٍ آخر -وهو أن الأول صدر منه ما لا يؤثر- قلنا: قد صيّره الأولُ بفعله بحيث يقتل التأثيرُ بالضرب المتأخر، فتحقق الاشتراك من الكل، بهذا الوجه الذي ذكرناه، وقد انتجز المقصود من الفصل. فصل 10333 - إذا جرح رجل رجلاً جراحة، وجرحه الثاني جراحتين، وسرت الجراحات إلى الموت، وآل الأمر إلى المال، فالتوزيع يقع على الجارحَيْن، والدية تجب نصفين، ولا ننظر إلى أعداد الجراحات. ولو جرحه أحدهما وأشلَى عليه الآخر سبعاً، فعضه عضة غير [مذفِّفة] (1)، وأنهشه الآخر حيّةً غيرَ مُجْهزة، فهذان السببان منه بمثابة جرحين، ولا اعتبار بالتعدد فيهما، وإنما النظر إلى اتحاد الجاني بهما. ولو جرح رجل رجلاً جراحة، وعضه سبع عضة من غير إشلاء من أحد، ونهشته [حية] (2) من غير إنهاشٍ من أحد، فالجارح شريك [السبع] (3) والحية، فإذا آل الأمر إلى المال، ففيما يجب على الجارح وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن الواجب عليه ثلث الدية، فإنه شارك شخصين: سبعاً وحية، فصار كما لو شارك رجلين. والثاني - أنه يلتزم نصف الدية، وإذا لم يكن الشريك آدمياً، فلا نظر إلى عدد الأسباب، بل الجميع منها بمثابة سبب واحد في مقابلة جرحٍ من الآدمي. وهذا الخلاف يمكن أن يُتلقى مما ذكرناه من التردد في أن صفة فعل السبع [هل] (4) تراعى؟ وقد ذهب طائفة، وهم الأكثرون إلى أنه يراعى صفة فعل السبع والحيّة؛ حتى لو تعمد، فالإنسان شارك عمداً محضاً غير مضمون، ففي القصاص قولان. وإن اتفق سقوط السبع على إنسان من غير قصد منه، فالرجل شارك خاطئاً، فلا قصاص عليه قولاً واحداً.

_ (1) في الأصل: "مرفقة". (2) زيادة من المحقق. (3) مكان بياض بالأصل. (4) في الأصل: "قد".

وذهب المحققون إلى أن عمد السبع لا مبالاة به، وهو كالخطأ كيف فرض الأمر، فإن كانت أفعال السبع لا تختلف، [فلا نعتبر] (1) أعدادها، وإن كانت تختلف، فلا [ننكر] (2) اعتبارَ أعدادها. والله أعلم. فصل قال: "ولو قطع يد نصراني، فأسلم، ثم مات، لم يكن فيه القود ... إلى آخره" (3). 10334 - مضمون الفصل الكلام في التغايير التي تلحق المجني عليه، والكلام في الجرح وما يقع [بعده من] (4) تغيّرٍ في المجروح، وفي [الرمي] (5) وما يقع من تغيّر المرميّ قبل وقوع السهم، فنذكر الجرحَ ونستقصي ما فيه، ثم نذكر الرميَ إن شاء الله عز وجل. فنقول: إذا تغيرت حالةُ المجروح بعد وقوع الجرح به، وسرت الجراحة، وأدت إلى الموت، فلا يخلو إما أن يجرح في حالة الهدر، فيصيرَ إلى حالة الضمان، أو يجرحه في حالة الضمان، فيصير إلى حالة الهدر، أو يجرح في حالة نقصان الضمان، فيصيرَ إلى حالة الكمال. فإن جرح في حالة الهدر، ثم صار إلى حالة الكمال، وسرت الجراحة إلى النفس، فلا شيء على الجارح في هذه الحالة، وذلك، مثل أن يجرح مرتداً فأسلم، ثم سرى إلى النفس، أو جرح حربياً فأسلم، وسرى إلى [النفس] (6).

_ (1) في الأصل: "ولا". (2) في الأصل: "نعتبر" والمثبت من المحقق، محاولاً اختيار أقرب لفظٍ لصورة الكلمة المصحفة، مع مناسبة المعنى والسياق. والله أعلم. (3) ر. المختصر: 5/ 99. (4) في الأصل: "عند في". (5) في الأصل: "الذمي". (6) في الأصل: "الجرح".

وكذلك لو جرح حربياً، فعقدنا له الأمان، وسرى ومات. وكذلك لو جرح حربي مسلماً أو ذمياًً، ثم أسلم الجارح أو عُقد له عقدُ الأمان، ثم سرى إلى النفس، فهذا التغير وإن كان في الجارح، فمقتضاه الضمان بعد الهدر. وكذلك لو جرح السيد عبده، ثم أعتقه وسرى الجرح، أو جرح مستحقُّ القصاص من عليه القصاص، ثم عفا عنه، فسرت الجراحة. فهذا بيان التغير من الهدر إلى الضمان تصويراً. والحكمُ في ذلك ما قاله المراوزة؛ فإنهم قطعوا بأن الضمان لا يتوجه في هذه الصورة أصلاً؛ اعتباراً بحالة وقوع الجراحة؛ فإنها وقعت في حالة الهدر، فلا أثر لما يطرى من بعدُ. وذكر العراقيون فيه إذا جرح مرتداً، ثم أسلم ومات، أو جرح حربياً وأسلم المجروح ومات، فلا يجب القصاص على الجارح. وفي وجوب الضمان وجهان: أحدهما - أنه لا يجب، كما حكيناه عن طريق المراوزة اعتباراً بحالة الجراحة. والثاني - أنه يجب اعتباراً بالمآل، وهذا مما انفرد به العراقيون، وإنما أثبت المراوزة الخلافَ في الضمان إذا جرى مثلُ ذلك في الذمي، كما سنصف ذلك في فصل الذمي، إن شاء الله عز وجل. 10335 - وذكر الشيخ أبو علي رضي الله عنه الوفاق في مسألة المرتد والحربي إذا أسلما بعد وقوع الجرح بهما، كما ذكرناه عن المراوزة، وذكر نصَّين مختلفين في المولى والمملوك، ونحن نسوقهما ونذكر مسلكه فيهما، قال (1) رضي الله عنه: "على أن السيد إذا جرح عبده، ثم أعتقه ومات مجروحاً، فلا ضمان على السيد الجارح أصلاً" ونصَّ الشافعي في عيون المسائل على أنه إذا كان بين شريكين جاريةٌ مشتركة، وكانت حاملاً بولد رقيق من نكاح أو سفاح، فضرب أحد الشريكين بطنَ الجارية، ثم أعتقها وسرى العتق وغرِم قيمةَ نصف صاحبه، فإذا ألقت الجنين ميتاً من

_ (1) أي الشافعي.

الجناية، قال الشافعي فيما نقله الربيع عنه: "يجب على الجاني في الجنين غرة كاملة". وإيجابه الغرة يخالف النصّ الذي حكيناه في الجناية على المملوك مع إعتاقه؛ فإن الجنين حالة الجناية كان مملوكاً للشريكين، فقد صادفت جنايته نصفه مملوكاً له، ثم طرى العتقُ من بعدُ، فقياس ما قدمناه أنه لا يغرَم إلا نصفَ الغرة، وهو الذي كان مملوكاً للشريك. قال الشيخ: اختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين: فمنهم من قال: في المسألتين قولان نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن السيد لو جرح عبده، ثم أعتقه، فمات [يغرَم،] (1) ديته كاملة لورثته. وإذا جنى على جنين مملوك، ثم عَتَق وسقط غَرِم الغرة كاملة. والقول الثاني - أنه لا يجب الضمان لا في العبد إذا عتق، ولا في الجنين. توجيه القولين: من قال: لا يجب الضمان في المسألتين -وهو القياس- احتج بأن الجراحة صادفت حالةَ الإهدار، فوجب إهدارها، والسراية بمثابتها، فصار كما لو جرح مرتداً أو حربياً، ثم أسلما. هكذا احتج الشيخ. ومن قال بالقول الثاني احتج بأن قال: الجراحة وقعت محظورة، والاعتبار بالمآل في قدر الضمان، كما سنصفه، فليكن الاعتبار بالمآل في أصل الضمان، وليس ذلك كجرح المرتد والحربي؛ فإنهما مهدران عموماً، والجراحة فيهما لا تكون محظورة بعينها. ومن أصحابنا من أقرّ النصين، وطلب الفرق بينهما، فقال: الجرح صادف العبد تحقيقاًً، ثم عَتَق، ولا تتحقق إصابة الجرح الجنين، فإنه مغيب، فنعتبر حالةَ انفصاله، ونجعل ما تقدم بمثابة [رميٍ] (2) وحالةُ الإصابة حالةُ الانفصال، كما سنوضح تفصيل المذهب فيه إذا [رمى] (3) إلى عبده، فأعتقه وأصابه السهم حُرَّاً.

_ (1) في الأصل: "فغرم". (2) في الأصل: "وهي". (3) في الأصل "ادعى".

وهذا غير سديد؛ فإن الانفصال ليس حالة الجناية، وإنما الجنايةُ سابقة، والانفصال بسببها. قال الشيخ: هذا بيّن، ولكن النصّ في الجنين مشكل. 10336 - فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه أن [الجارح] (1) إذا أصاب المرتد والحربي ثم أسلما، فالمراوزة قاطعون بنفي الضمان، والعراقيون ذكر وا وجهين. وإذا جرح عبدَه أو جنى على جنينه المملوك، ففيه التصرف الذي حكيناه عن الشيخ أبي علي رضي الله عنه. 10337 - ومما نذكره أنا إذا جرينا على ما حكاه العراقيون، ثم فرعنا على أن الضمان يجب إذا جرح حربياً، ثم أسلم ومات، وكذلك نظيره، فالدية مخففة مضروبة على العاقلة، والجناية ملتحقة بالخطأ المحض، وينزل ذلك منزلةَ ما لو رمى إلى صيد، فاعترض [آدميٌّ] (2) فأصابه وقتله، فالقتل خطأ محض. هذا ما أرى القطعَ به، وهو مطرد في السيد وعبده إذا أوجبنا الضمان. وكل ما ذكرناه فيه إذا أصاب الجرحُ حالةَ الإهدار وطرى سببُ الضمان، من بعد الجرح. 10338 - فأما إذا صادفت الجراحةُ حالة الضمان، ثم طرى السبب المهدِر من بعدُ، مثل أن يجرح مسلماً، فيرتد، ثم تسري الجراحة ويموتُ مرتداً، وكذلك لو جرح ذمياًً، ثم ينقض العهد، ويموتُ حربياً، فعلى الجارح ضمان الجرح، فحسب. وسيأتي هذا مشروحاً بعدُ في فصل مفرد، إن شاء الله عز وجل. 10339 - فأما إذا جرى الجرح في حالة نقصان الضمان، ثم انتهى إلى حالة الكمال، مثل أن يجرح ذمياًً، أو مملوكاً لغيره، ثم يُسلم الذمي ويعتِق العبدُ، فيجب البدل الكامل اعتباراً بالمآل، وهذا متفق عليه بين الأصحاب؛ فإن الجراحة صادفت محلّ الضمان، ثم أقدار الأروش تَبِين بالنهايات [استقراراً؛ فالنظر إلى

_ (1) في الأصل: "الجراحة". (2) في الأصل: "إذ رمى".

المآل] (1) في ذلك، وعليه تخرج سراية الجراحات، ولو قطع يدَ إنسان، فسرى ومات، وجب ديةٌ كاملة، ولو قطع يديه ورجليه، فسرت الجراحات، ومات، لم يجب إلا دية واحدة، وهذا أصل متمهد في الجراح. وقد انتجز بما ذكرناه القول في الجراحات إذا وقعت، ثم تغير المجروح بعدها. 10340 - فأما الفصل الثاني (2) وهو الكلام في الرمي وما يحدث بعده من تغيّر على ما نصفه. قال الشافعي: "ولو أرسل سهماً، فلم يقع على النصراني حتى أسلم ... إلى آخره" (3). فنقول: إذا أرسل السهمَ فتغيرت حالةُ المقصود، ثم أصابه السهمُ، فلا يخلو إما أن يرسل السهم في حالة الإهدار، فصار إلى حالة الضمان، فأصابه السهم، أو كان في حالة الضمان عند نفوذ السهم، فيصير إلى حالة الإهدار، فيصيبه السهمُ. فأما إذا كان مضموناًً حالة الإرسال، فصار هدراً، فأصابه السهم، وفيه المعنى المهدِر، فلا يجب الضمان أصلاً؛ اعتباراً بحالة الإصابة، وذلك أن يرسل السهم على مسلم، فيرتد، ويصيبه السهم مرتداً، وكذلك لو أرسل على ذمّي، فنقض العهد وأصابه السهمُ حربياً، فالجواب ما ذكرناه. والأوْلى فرضُ ما ذكرناه فيه إذا كانت الجراحة [مذفِّفة] (4)، فيخرج الجواب كما ذكرناه، وكذلك لو لم تكن مذففة، ولكنه بقي حربياً أو مرتداً إلى الموت، فالجواب ما ذكرناه. 10341 - فأما إذا كان المقصود هدراً عند الإرسال، ثم صار مضموناً فأصابه

_ (1) في الأصل: "تبين بالنهايات استقراراً ما النظر إلى المآل". (2) لا يعني الإمام بهذا الفصل المعهود في تقسيم الأبواب، فكلامه هنا داخل ضمن واحد من هذه الفصول. (3) ر. المختصر: 5/ 99. (4) في الأصل: "مرفقة".

السهم، فإن كان مرتداً عند الإرسال أو حربياً، فأسلم، فأصابه السهم، ففي وجوب الضمان ثلاثة أوجه: أحدها - يجب الضمان اعتباراً بحالة الإصابة؛ فإنها الجناية على التحقيق، [والرميُ] (1) سببٌ إليها، والاعتبار بوقت الجناية. والوجه الثاني - أنه لا يجب الضمان؛ فإن الفعل الداخل تحت الاختيار هو إرسال السهم، وما بعد ذلك لا يدخل تحت اختيار الرامي، فكان [اعتبار] (2) حالةِ الإرسال أوْلى. والوجه الثالث - الفرق بين الحربي والمرتد، فإن كان المقصود حربياً عند الإرسال، فلا ضمان؛ فإن هذا الرمي مأمور به محثوث عليه، وهو مما يثبت لآحاد الناس، ولا يختص بالولاة، وأما رمي المرتد، فغير سائغ من وجهين: أحدهما - أن قتله [مفوّض] (3) إلى صاحب الأمر. والثاني - أنه يقتل بالسيف صبراً، ولا يسوّغ أن يرشق بالنشاشيب، [وإن كان خرج] (4) من الملة، فإذا كان [الرمي] (5) منهياً عنه، ثم تحقق الضمان حالة الإصابة، أوجبناه. ولو رمى إلى عبد نفسه، ثم أعتقه، فأصابه، فهذا يخرّج على الخلاف أيضاً؛ فإنه كان مهدراً في حق الرامي عند الإرسال. وكذلك لو رمى إلى قاتل أبيه ثم عفا عن القصاص. والأولى أن ترتب هذه المسائل بعضها على بعض، فنقول: إذا رمى إلى حربي، فأسلم، فأصابه، ففي الضمان وجهان. ولو رمى إلى مرتد فأسلم وأصابه، فوجهان مرتبان، وهذه الصورة أوْلى بالضمان، وإذا رمى إلى مَنْ عليه القصاص في ديةٍ، ثم عفا، فوجهان، والصورة الأخيرة أوْلى بالضمان من المرتد؛ فإن الإهدار الذي يتحقق في المرتد لا يتحقق فيمن عليه القصاص، وإذا رمى إلى عبد نفسه، فأعتقه، فأصابه السهم، فهذا أولى الصور بوجوب الضمان، وفيها وجهان، وسبب الترتيب أن

_ (1) في الأصل: "والذمي". (2) في الأصل: "الاعتبار". (3) في الأصل: "مفضوض". (4) في الأصل: "فإن كان ضرب". (5) في الأصل: "الذمي".

العبد مضمون بالكفارة على مولاه، ولا حاجة إلى الكشف في ذلك، والمرامزُ كافية. فإن قيل: قد ذكرتم أنه لو جرح من هو مرتد، ثم تغيرت صفته، فصار مضموناً، وسرت الجراحة، فلا ضمان إلا على طريقة العراقيين، وقلتم: في الرمي أَوْجُهٌ على طريق المراوزة؟ قلنا: سبب ذلك أن الجرح جنايةٌ مستقرة؛ فقد ثبتت الجناية ووقعت والمجني عليه هَدَر، ويُظهر الإهدارَ، وإذا رمى، فالجناية لم تقع إلا والمقصود مضمون، فهذا هو الذي أوجب الفرق بين الأصلين. وكل ما ذكرناه إذا كان المقصود هدراً عند الإرسال مضموناً عند الإصابة. 10342 - فأما إذا كان الأمر على العكس من هذا، فكان مضموناً عند الإرسال هدراً عند الإصابة، فلا يجب الضمان أصلاً، [وذلك مثل أن يرمي مسلماً] (1)، فيرتد، فيصيبه السهم مرتداً، أو يرمي ذمياًً، فيصيبه السهم وقد نقض عهده وصار حربياً، فلا شك في انتفاء الضمان في هذه المنازل، والتعليلُ بيّن. 10343 - فأما إذا أرسل السهم في حالة نقصان الضمان، فأصاب السهمُ في حال كمال الضمان، فالاعتبار بحالة الإصابة باتفاق الأصحاب، وذلك إذا رمى إلى ذمي فأسلم، فأصابه السهم، أو رمى إلى عبدٍ لغيره، فأعتقه مولاه، فأصابه السهم، فالاعتبار بحالة الإصابة؛ فنوجب في مسألة الذمي ديةَ مسلمٍ، وفي العبد إذا أعتق ديةَ حرٍّ لورثته. وأبو حنيفة (2) اضطرب مذهبه في أطراف هذا الأصل، فقال: إذا رمى إلى عبد فَعَتَق، ثم أصابه، قال: لا تجب دية حر، وإنما تجب القيمة؛ نظراً إلى حالة الإرسال، ووافق أنه لو رمى [إلى] (3) حيٍّ، فمات، فأصابه السهم ميتاً أنه لا يجب شيء، وكذلك قال: لو رمى إلى عبدٍ فانتقصت قيمته، فأصابه السهم، وهو ناقص القيمة، فالاعتبار بحالة الإصابة.

_ (1) في الأصل: "وذلك يرقى مسلماً" والزيادة والتصويب من المحقق. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء 5/ 153 مسألة 2268. (3) زيادة اقتضاها السياق.

ولا خلاف أنه لو جرت أسباب غيرُ متصلة بالإهلاك، ثم جرى الهلاك، فلا تُعتبر حالةُ وجود الأسباب: فلو حفر بئراً في محل عدوان، وكان في الموضع مرتد أو حربي، أو كان له عبد، فأسلم الكافر وعتَقَ العبدُ، وفُرض التردِّي، فالضمان يجب اعتباراً بحالة التردي، وكل ما ذكرناه في الضمان. 10344 - وقد بقي علينا تفصيل القول في القصاص، فحيث نقول: لا يجب الضمان، فلا شك أن القصاص لا يجب، وإذا أوجبنا الضمان على التفاصيل المقدمة، فقد قال الأئمة إذا اقترن [مُسقطُ] (1) القصاص بالرمي، أو بالإصابة، أو تخلل بينهما، انتفى القصاص [تغليباً] (2) للدَّرء، فلو رمى إلى مرتد، فأسلم فأصابه السهم، فلا قصاص، ولو كان مسلماً [عند الرمي] (3) مرتداً عند الإصابة، فلا شك في انتفاء القصاص؛ فإن الضمان [ينتفي] (4) في هذه الصورة. ولو رمى إلى مسلم، فارتد بعد الإرسال، وقبل الإصابة، ثم عاد وأسلم، فأصابه السهم، قالوا: لا يجب القصاص، وإن وجد الإسلام [في] (5) الطرفين: عند الإرسال وعند الإصابة؛ لأنه قد تخلل بينهما المسقط والدرءُ أغلب. هذا ترتيب القصاص، وفي أصل الضمان الخلاف المقدم، وفي المقدار مع ثبوت الضمان في الطرفين الاعتبار بحالة الإصابة. 10345 - ثم قال الأئمة: ضرب [العقل] (6) على العاقلة نجريه في الترتيب نحو القصاص في أنه نعتبر فيه الأحوالَ الثلاثة، كما ذكرناها في القصاص. وبيان ذلك أنه لو رمى إلى صيدٍ وأسلم الرامي، فأصاب إنساناً، فالدية في مال

_ (1) في الأصل: "فسقط". (2) في الأصل: "فصلتنا". (3) في الأصل: "عبداً لذمّي". (4) في الأصل: "يبقي". (وهو عكس المعنى المراد). (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: "الفعل".

الرامي، [ولا نضربها] (1) على عاقلة الرامي؛ لأنا إن ضربناها على عاقلته المسلمة، لم [يجز] (2)؛ لأنه كان الرامي كافراً عند الإرسال، فالدية مضروبة عليه في ماله. ولو رمى وهو مسلم إلى صيد، ثم ارتد الرامي، ثم أسلم، وأصاب [سهمُه] (3) إنساناً مضموناً، فالدية في مال الرامي لتوسط [الردة] (4) بين الإرسال والإصابة، وهذا على القياس الذي ذكرناه في درء القصاص إذا (5) اعتبرنا الطرفين والواسطة. ولكنا صورنا التغايير في الجاني؛ فإن الغرض في المقصود الذي نحن فيه يتغير به لا محالة. 10346 - هذا ما ذكره شيخي، والقاضي، وجماهير الأصحاب. وذكر الشيخ أبو علي رضي الله عنه في توسط [الردّة] (6) من الرامي بين الرمي والإصابة قولين في أن الدّية على من تضرب: أحدهما - أن الدية مضروبة على العاقلة؛ اعتباراً بالطرفين، ولا تعويل على ما توسط من الردّة بينهما. والقول الثاني - أن الدية في مال الرامي كما حكيته عن الأصحاب. قلت: لم يتعرض للقصاص، والذي أراه أن المسألة إذا كانت على قولين في أمر العاقلة، فيجب طرد القولين في القصاص أيضاًً، في نظير الصورة التي ذكرناها، حتى نقول: إذا رمى إلى مسلم، فارتد المقصودُ بعد الإرسال، وقبل الإصابة، ثم أسلم، فأصابه السهم، فهل يجب القصاص على الرامي؟ فعلى قولين، [فإن] (7) ضرب العقل على العاقلة خارج عن قياس التصرفات بجملتها، وإذا كان معدولاً عن القياس منزوعاً عن مقتضى الأصول، فالوجه أن نحتاط فيه احتياطَنا في القصاص. ثم إذا جرى فيه قولان، فلا بد من إجرائهما في القود، والدليل عليه أن من جرح

_ (1) في الأصل: "ولا يصير به". (2) في الأصل: "نجد". (3) في الأصل: "سهم". (4) في الأصل: " الدية ". (5) "إذا" بمعنى (إذْ). (6) في الأصل: "الدية". (7) في الأصل: "وإن".

مسلماً، ثم ارتد المجروح، وأسلم ومات، فسنذكر أن القصاص يجب على الجارح في قول، وإن [طرأت] (1) الردة في [الأثناء] (2)، وقد تكون الجراحة ساريةً [حيث يرتد، ولو وقع هذا خرج قولٌ في وجوب القصاص] (3)، نظراً إلى حالة الجرح والموت، [فمسألة الرمي] (4) لهذا أولى، وسنذكر مسألة طريان الردة على المجروح ونأتي بما ذكره الأصحاب فيه. هذا بيان ما ذكره الشيخ أبو علي. 10347 - ثم نعود إلى ذكر مسائل في تحمل العاقلة، فلو جرى الجرح خطأً من ذمّي، ثم أسلم الجارح، ثم سرى الجرح وأفضى إلى الموت، قال الأئمة: أما ضمان الجرح، فنضربه على العاقلة الكافرة، لأن الجرح قديم في حالة الكفر، وتأتي الدية في مال الجارح لا يحتمله الكفار؛ لأن السراية وقعت في الإسلام، ولا يتحمله المسلمون لأنها سراية جناية جرت في الكفر، فإذا كان كذلك، فالوجه ضرب ما يزيد على أرش الجرح على الرامي. وهذا فيه إذا كان أرش الجرح أقلَّ من الدية، فإن الدية، بكمالها مضروبة على العاقلة الكفار، ووجهه بيّن. ومما يذكره الأئمة في ذلك أنه لو قطع ذمي أصبع إنسان، فسرى إلى الكف، ثم أسلم الجارح، وسرى إلى النفس، فدية الإصبع والكف على عاقلته الكفار؛ لأنها

_ (1) في الأصل: "اطردت". (2) في الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا: "الاما". (3) العبارة في الأصل مضطربة، وغير مقروءة، فقد جاءت هكذا: حيث يرت وهو وقع هذا حرح فنقول في وجوب القصاص ... إلخ (بهذا الرسم تماماًً) والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق، وصور الألفاظ والكلمات المصحفة المحرفة، وبمساعدة ما قاله الرافعي والنووي في الشرح والروضة، مع التزامنا بأقرب ما يكون لصور الكلمات والأحرف الموجودة. والمعنى: أنه إذا خرج قولٌ في وجوب القصاص، فيما إذا جرح مسلماً ثم ارتدّ، وعاد إلى الإسلام، ومات مسلماً من سراية الجرح، فهذه السراية استمرت في جزء منها أثناء الردة، فإنا قلنا بهذا فمسألة الرمي أولى، نعني إذا رمى مسلماً، فارتد، وعاد إلى الإسلام، ووقعت الإصابة وهو مسلم، ووجه الأولوية واضح، وهو أنه لم يحدث فعلٌ ولا أثر أثناء الردة. (4) في الأصل: "فسبيله الذمي لهذا".

استقرت في حالة الكفر، وذلك نصف الدية، والنصف الآخر في مال الجاني؛ لما تقدم تقريره؛ فإنه اشترك فيه الكفر والإسلام. ومما ذكروه أنه لو قطع أصبعاً (1) في الشرك خطأ، ثم أسلم، ثم قطع أصبعاً أخرى ثم سرى إلى النفس، فالسراية تضاف إلى القطعين، وموجب ذلك أن نوجب نصف الدية على عاقلته المسلمين؛ لأن إحدى الجنايتين جرت في الإسلام، فأما النصف الآخر؛ فإنا نقول فيه: أما أرش الإصبع المقطوعة في الشرك، فمضروب على الكفار لاستقرار الجناية عليها في الشرك، وما زاد على أرش الإصبع إلى تمام نصف الدية، فهو في مال الجاني؛ لأنه اشترك فيه الكفر والإسلام [؛ إذ وُجدت] (2) سراية واقعة في الإسلام عن [جناية] (3) حصلت في الكفر، وأنا أعيد هذه المسائل إذا [انتهينا] (4) -إن شاء الله عز وجل- إلى باب العواقل والضرب عليهم. فصل قال: "لو جرحه مسلماً، فارتد، ثم أسلم، فالدية والكفارة، ولا قودَ؛ للحالة المتخللة ... إلى آخره" (5). 10348 - إذا جرح مسلماً فارتد المجروح، ثم عاد إلى الإسلام، ومات مسلماً بسراية الجناية، فالمنصوص عليه أن القود لا يجب للحالة الحادثة، وهي الردة الطارئة، وذكر الصيدلاني نصاً للشافعي يخالف هذا النص في مسألة تناظر هذه، وهي أن ذمياً لو جرح ذمّياً، فنقض الذمي المجروحُ العهدَ، والتحق بدار الحرب، ثم عاد إلى الذمة، فعقدناها له، والجراحة به، فسرت وأدت إلى الهلاك، قال الشافعي

_ (1) في الإصبع عشر لغات؛ فالهمزة مثلثة، وكذلك الباء، فهذه تسعُ لغاتٍ، والعاشرة: أُصبوع. ثم هي مؤنثة، وقيل: يجوز فيها التذكير على قلة. (المصباح). (2) في الأصل: "إذا وجب". (3) في الأصل: "عناية". (4) في الأصل: "انتهت". (5) ر. المختصر: 5/ 99.

فيما نقله الصيدلاني: "يجب القصاص على الذمي الجارح" ولا شك أن هذه المسألة تناظر طريان الردة؛ فإن انتقاض العهد مُهْدِر كالردة، فقد وجد في المسألتين في الطريقين شرطُ التزام القود، وتوسط فيهما جميعاً مُهدر. وقد اختلف أصحابنا فمنهم من قال: في المسألتين جميعاً قولان في وجوب القصاص: أحدهما - أنه يجب؛ نظراً إلى حالتي الجرح والموت. والثاني - وهو الأقيس أنه لا يجب؛ فإن المهدِر قد تخلل، والجراحة سارية، والقصاص يسقط بالشبهة، فيبعد والحالة هذه إيجابُ القصاص. ومن أصحابنا من قال: نُنزل النصين في المسألتين على حالين، فحيث قال في مسألة الردة: لا يجب القصاص، صوّر فيه إذا طال الزمان والجراحة سارية، فنعلم أن للسراية الواقعة [في الردة] (1) وَقْعاً في الإهلاك، فعند ذلك لا نوجب القصاص. وحيث أوجب القصاصَ فُهم [منه] (2) إذا طرى المُهْدِر وزال في زمانٍ خفيف، لا يظهر في مثله للسراية وقعٌ محسوس، فلا يمتنع القضاء بوجوب القصاص، والحالةُ هذه؛ إذ لا أثر للسراية المقترنة بالمُهدِر في الحالة اللطيفة، وقد نفرض إقبال الجراحة على الاندمال في حالة [اعتراض] (3) المهدِر، ثم نفرض انتقاضها عند العَوْد إلى الإسلام، والغرض ألا يكون للسراية موقع محسوس من الهلاك. والرأي عند [المحققين] (4) في ذلك أن السراية إذا كانت محسوسة، وقد تمادى زمان المهدِر، فيجب القطع بانتفاء القصاص. وإن قصر الزمان بحيث لا يظهر للسراية فيه أثر، ففي القصاص قولان. ويتبيّن مما انتهى التصوير إليه أن ما ذكرناه في تخلل المهدِر بين إرسال السهم والإصابة من الاحتمال، فهو متجه، بل هو بالاتجاه أولى؛ من حيث إن الجراحة لم تكن واقعةً بعدُ.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "فيه". (3) في الأصل: "الاعتراض". (4) في الأصل: "المخلصين" والمثبت تقدير منا، نرجو أن يكون هو الصواب.

10349 - ثم إذا أوجبنا القصاص في المسألة التي نحن فيها، فلو آل الأمر إلى المال، وجبت الدية بكمالها، لا شك فيه. وإن [أسقطنا] (1) القصاص، لمكان اعتراض المهدِر، وآل الأمر إلى المال، فظاهر النص أنه يجب الدية الكاملة. وخرج ابن سريج قولاً آخر أنه يجب ثلثا الدية، والدية موزعة على الأحوال، وهي حالتا ضمان، وحالة هدْر. وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً، وهو أن الواجب نصف الدية، فنضم حالتي الضمان ونجعلهما حالة واحدة، ونوزع الدية على حالتي الهدر والضمان. ومما يتفرع على هذه النهاية أنا إذا أسقطنا القصاص عند اعتراض المهدر، [إن] (2) قرب زمانه، ولم [يُحسّ] (3) موقع السراية، فمن أصحابنا من قطع هاهنا بإكمال الدية وردَّ المسالكَ الثلاثةَ والخلافَ إلى ما إذا طال الزمان، وكانت السراية محسوسةً مع المهدر. ومن أصحابنا من طرد الخلاف في قرب الزمان وتماديه، ولم يُفَصِّل؛ فإن السراية وإن كانت غائبة ولم تحس، فليس ذلك للحكم [بانتفائها وعدم وجودها، ولكن غَوْرها يَبْعُد بها عن الحس] (4)، ولا شك فيها. هذا تمام الكلام في المسألة. 10350 - وقد حكى الصيدلاني في مصنفه مسلكاً عن الققال لا يليق بمنصبه ونحن نذكره على وجهه، ثم ننبه على الخلل فيه. قال: قال الققال: القولان في القصاص مبنيان على ما إذا زَهَقت الروح بجناية

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة. (2) في الأصل: "وإن" (بزيادة الواو). (3) في الأصل: "نخش". (4) عبارة الأصل: "بانتفائها ولعلها، ولكن عوورها بتعديها عن الحس" والمثبت محاولة لأداء المعنى المقصود من الإمام بأقرب الألفاظ صورة لألفاظ الأصل.

مضمونة واقعةٍ عمداً، وجنايةٍ واقعةٍ عمداً غير مضمونة، كما قدمناه في شريك الحربي أو شريك السبع، ووجه التقريب أن السراية في حالة الهدر لها حكم العمد، ولكن لا ضمان فيها، والجراحة والسراية في الطرفين لهما حكم [العمد] (1) والضمان. وهذا إن صح النقل فيه هفوةٌ عظيمة؛ من جهة أنا إنما نردد القولين في الجانبين إذا كان أحدهما ضامناً عامداً، وكان الثاني عامداً ولم يكن ضامناً، [فأما إذا صدرت الجراحتان من جارح واحد، فلا قصاص على الجارح] (2)، سواء كانت تلك الجراحة مضمونة أو لم تكن؛ والسبب فيه أنه إذا صدر المُسقِط والموجب من شخص واحد، فلا بد من إثبات أثر المسقط، والمحلُّ واحد، فيغلب السقوطُ الثبوتَ، وإذا تعدد الجانيان أمكن إثبات أثر الإسقاط والإيجاب جميعاً، فندرأ القصاصَ عمن لا يستوجبه ونُثبته على من يستوجبه، وفي ذلك توفية الموجِبين، والوفاء بحق الجنايتين. [فلو] (3) عدنا إلى مسألتنا: السراية في حالة الردة، [فهي] (4) بمثابة جناية تصدر من ذلك الجارح بعينه، فكيف ينتظم هذا فيها، ولو كان الناقل غيرَ موثوق به، لقطعت بتغليطه، ولكن الناقل [معتمدٌ] (5)، وقد عزّ من لا يهفو. هذا تمام المراد في المسألة نقلاً [وتخريجاً] (6) وبحثاً. 10351 - ومما ذكره العراقيون أنا إذا أوجبنا الدية وكانت الجناية خطأ، [فهل] (7) تُضرب على العاقلة؟ ذكروا فيه وجهين: أحدهما - أنه لا يضرب على العاقلة إلا نصف الدية، فإنه قد جرى ارتداد في الأثناء. وهذا زلل غيرُ معتد به؛ فإن الردة لو اعتبرناها، لما أوجبنا الدية بكمالها، فإذ

_ (1) في الأصل: "الهدر". (2) عبارة الأصل فيها خلل بكلام مقحم هكذا: "فأما إذا صدرت الجراحتان من جارح واحد، ولا قصاص من أحدهما، ولا قصاص على الجارح ... ". (3) زيادة لاستقامة الكلام. (4) زيادة لاستقامة الكلام. (5) في الأصل: "يعمد". (6) في الأصل: "وتصريحاً". (7) في الأصل: "فلم".

قلنا: تجب الدية الكاملة، دلّ أنا لم نعتبر الردة أصلاً، وأسقطنا أثرها بالكلية. والثاني - أنه تضرب الدية بكمالها على العاقلة. وهذا هو الذي لا يجوز غيره. فصل قال: "ولو مات مرتداً، لكان لوليه المسلم أن يقتص بالجرح ... إلى آخره" (1). 10352 - إذا جرح مسلماً، فارتد المجروح، ومات على الردة من ذلك الجرح، فلا شك أن القصاص لا يجب على القاتل في النفس، وكيف يجب القصاص في النفس ولا ضمان في النفس، وقد مهدنا ذلك فيما سبق. أما ضمان الجرح بالمال إذا كان النظر فيه، فهو ثابت، وأما القود في الجرح، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: "لوليه المسلم أن يقتص منه". وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه أراد بالولي الإمام؛ فإنه إذا مات مرتداً، فالمسلم لا يرثه أصلاً، وإذا لم تكن وِراثة، ولا طريق في استحقاق القود غيرُ الوراثة، استحال أن يستحق القصاصَ؛ فالولي عبارة عن الإمام أو عن نائبه. وهذا التأويل فيه بُعد، وإن كان المذهب سديداً. ومن أصحابنا من قال: أراد بالولي قريبَه المسلم الذي كان يرثه لو مات مسلماً، ولفظ الشافعي صريح في هذا المعنى؛ فإنه قال: "لوليه المسلم"، فإن أمكن حمل الولي المطلق على الإمام على بُعدٍ، [فتَقْييد] (2) الولي بالمسلم نصٌّ في أن المراد به القريب الوارث. ولكن توجيه هذا الوجه عسر، والممكن فيه أن المقصود من القصاص التشفِّي

_ (1) ر. المختصر: 5/ 99. (2) في الأصل: "فيفسد". والمثبت من عمل المحقق.

ودَرْكُ الثأر، وهو [بالقريب] (1) وإن كان مسلماً أولى، [فإذا عفا] (2)، وآل الأمر إلى المال، فالولي الخاص المسلم لا يرث، فالذي ذُكر من الجواب عنه أنه لا يمتنع أن يَتَصرف في القصاص من لا يتصرفُ في المال؛ فإن من قُتل [ظلماً] (3) وعليه ديون وللوارث أن يقتص، [فلو] (4) عفا، فالمال مصروف إلى الديون (5)، (وقد يفرض من الوصايا من الثلث من الديون) (6). وهذا لا يثبت على المساق الذي نريده ونبني هذا المجموع عليه. 10353 - ثم ينتظم من مجموع ما ذكرناه أنا إن لم نُثبت حقَّ الاقتصاص للولي الخاص، ووكلناه إلى الإمام، فللشافعي قولان في أن من قُتل أو قطعت يده، ثم مات وليس له وارث خاص، فهل يثبت القصاص [ممّن] (7) قتله؟ أحدهما - لا يثبت القصاص؛ لأنه لو ثبت، لاستحقه كافة المسلمين وفيهم الصبيان والمجانين، ولا يسوغ استيفاء القصاص وفي الأولياء من وصفناهم. والقول الثاني - أنه يثبت القصاص، [ولا أصل] (8) لما ذكره ناصر القول الأول؛ فإن القصاص يثبت بجهةٍ مخصوصة، ولا يُنظر فيها إلى آحاد المسلمين، وعلى الإمام أن يصرف ما يأخذه من ميراث من ليس له وارث حاضر إلى [الذين] (9) ولدوا بعد موته، فاستبان أن هذا التوريث لا يتعلق بالأشخاص، وإنما يُعزى إلى جهة المصالح فحسب.

_ (1) في الأصل: "بالعدر". (بهذا الرسم تماماًً). (2) في الأصل: "وإذا قل" (كذا). (3) في الأصل: "قصاصاًً". وهو سبق قلم من الناسخ. ويمكن أن يكون المعنى -على بُعدٍ - أنه قتل قتلاً يستوجب القصاص على قاتله. (4) في الأصل: "ولو". (5) المعنى أنه من حقه أن يتصرف في القصاص، وليس له أن يتصرف في المال. (6) العبارة بين القوسين بهذا الرسم تماماً، ولما أدر لها موقعاً ولا معنى. ومع ذلك فالسياق مفهوم كيف فرضت، وأياً كان معناها. (7) في الأصل: "عن من". (8) في الأصل: "ولا فاصل". (9) في الأصل: "الذي".

والوجه أن نقول: [في] (1) إيجاب القصاص معنيان: أحدهما - الزجر والتشفي ودرك الغيظ، فإن راعينا الزجر، أثبتنا القصاص، وإن راعينا معنى التشفِّي، لم نثبته. 10354 - فخرج من مجموع ما ذكرناه أن أصل القصاص في المسألة التي نحن فيها مختلف فيه: فمن الأصحاب من لم [يثبته] (2) أصلاً. ومنهم من أثبته، [ثم فيمن] (3) يثبت له حق الاقتصاص خلاف. ولا وجه لإثبات القصاص للولي الخاص، وإن كان النص يخالفه والله أعلم. 10355 - ذكر العراقيون ترتيباً في أرش الطرف، فقالوا إن قلنا: لا يجب القصاص [في الطرف] (4) المقطوع في حالة الإسلام، فهل يجب الأرش؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يجب الأرش، ولا قصاص فيه ولا أرش. وهذا بعيد، لا اتجاه له، والممكنُ فيه أن الأطراف تندرج تحت النفس، وإذا مات مرتداً بسراية الجناية، وجب اندراجها في حكم الإهدار تحت النفس. وهذا الوجه إنما يجري إذا مات مرتداً بسراية الجناية الجارية في الإسلام. والوجه الثاني - أنه يجب الأرش؛ فإنها جناية جرت في حالة الإسلام، فيستحيل إهدارها، فإذا قلنا: يجب الأرش، [فإن] (5) كان الأرش مقدارَ الدية أو أقل، فإنه يجب ويصرف إلى مصرف الفيء، ولا يدفع إلى قريبه الخاص الذي كان يرثه لو مات مسلماً؛ فإن المسلم لا يرث المرتد أصلاً. وإن كانت الأروش أكثر من الدية مثل إن كان قطع الجاني يديه ورجليه، فأروشها ديتان، ففي الواجب وجهان: أصحهما - أنه لا يجب أكثر من الدية، فإنه لو مات مسلماً، لما وجب أكثر من الدية، فيستحيل أن

_ (1) في الأصل: "من". (2) في الأصل: "يثبتها". (3) في الأصل: "ثم ضمن". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "وإن".

[يزيد] (1) الضمان بسبب موته مرتداً والمسألة مفروضة فيه إذا مات بسراية الجراحات. [والوجه الثاني - أن الأروش تجب بجملتها] (2) بالغةً ما بلغت، وإن زادت على دياتٍ، وهذا اختيار الإصطخري، ووجهه أن الأروش إنما تعود إلى مقدار الدية بسبب الاندراج تحت النفس، والنفسُ مهدرة في هذه المسألة، فلا سبيل إلى الإدراج، وإذا تعذر المصير إليه كما ذكرناه، فلا وجه إلا إفراد الجراحات بأروشها، ويصير تعذّر الإدراج بسبب الردة بمثابة ما لو اندملت الجراحات، ومات هو مرتداً بسببٍ آخر، [أو قتل] (3) لردته، ولو كان كذلك، لوجبت الأروش، وإن بلغت دياتٍ، فهذا ترتيب المسألة في القصاص والأروش. فصل 10356 - إذا قطع يدي نصراني ورجليه مثلاً، فتمجس ومات من سراية الجرح، فهذا يتفرع على أن الذمي إذا تنقل من دينه إلى دين آخر سوى الإسلام، فهل يُقرّ عليه أم لا؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما في النكاح. فإن قلنا: إنه لا يُقر عليه، فهو في تمجسه [هذا كالمرتد] (4)، فتفصيل القول فيه على هذا القول كتفصيله فيه إذا قطع يد مسلم، ثم ارتد ومات من الجرح مرتداً. فإن قلنا: إنه يقرّ على ما انتقل إليه، فقد انتقصت ديته، واندرجت أطرافه تحت نفسه، فلا يجب إلا دية مجوسي. وإذا تقرر أنا نعتبر في مقدار الدية المآل، فما ذكرناه قياس الأصول، وسنذكر أن من قطع يدي عبد قيمته دياتٌ، وعَتَق ومات حراً من السراية، فلا يجب إلا ديةٌ واحدة. هكذا ذكر العراقيون هذا الفرع.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وهو من تصرف المحقق، ولا يصلح الكلام إلا به. (3) في الأصل: "وقتل". (4) في الأصل: "هدراً للمرتد".

فصل قال: "ولو فقأ عين عبد قيمته مائتان من الإبل ... إلى آخره" (1). 10357 - هذا الذي ذكره رضي الله عنه تقدير، فإن قيمة العبد تعتبر تحقيقاًً بالدراهم والدنانير، والمعنيّ بقوله: "إن العبد لو كانت قيمته" بحيث لو صرفه إلى الإبل، لبلغت مائتين. ونعود إلى الغرض، ونقول: إذا جرح عبداً قليلَ القيمة، فعَتَق وسرت الجراحة إلى النفس، وأهلكته، فيجب على الجاني ديةُ حر؛ اعتباراً بالمآل. وهذا أصلٌ متمهد على مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة (2): لا يلزمه إلا قيمةُ العبد، ولو كانت قيمة العبد أكثرَ من دية حر وبلغت مقدارَ ديتين، فإذا جنى جانٍ وقطع يديه، فعَتَق ومات، فمذهب الشافعي أنه يجب دية الحر، ولا مزيد؛ اعتباراً بالمآل. وقال المزني: يجب على الجاني أرشُ اليدين، وإن بلغ مقدار ديتين، وهذا بعيد عن مسالك المزني؛ فإنه لا يرتضي إلا الأقيس وما يعضده أجْلى النظر، فلعله رضي الله عنه قال ما قال عن أصلٍ، وهو أن المولى يستحق الأرش على التفصيل الذي سيأتي ذكره على أثر هذا، فيستحيل أن يُصرف إلى السيد دية حر؛ فإنه لا يستحق إلا أرش ما يرد على الرق، فلما استحال حِرمان المولى، واستحال أن يصرف إليه من دية الحر، فالوجه قطع أثر الحرية، والمصيرُ إلى إيجاب أرش الجراح الجارية في الرق، فينقطع أثر السراية في هذا المسلك. وهذا يناظر الوجه الذي حكيناه عن الإصطخري فيه إذا قطع يدي مسلم ورجليه، فارتدّ المجروح، [ثم عاد مسلماً] (3)، فإنه قال: تجب أروش الجراحات وإن زادت على ديات، فإنه لو نظر إلى السريان، لوجب الإهدار، فإذا امتنع الإهدار، وعسر

_ (1) ر. المختصر: 5/ 99. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 201 مسألة 2299. مختصر الطحاوي: 236. (3) زيادة اقتضاها صحة المعنى.

تفريع السريان، رأى اعتبارَ الأطراف. كذلك سلك المزني هذا المسلك، وكان شيخي يقول: من سلك مسلك الإصطخري من أصحابنا، لم يُبْعد أن يوافق المزني في مذهبه. وهذا بعيد غير معتد به. والمذهب ما قدمناه من إيجاب دية حر، من غير مزيد، وتمام البيان في هذا الفصل يتصل بالفصل الذي يليه، وها نحن نبتديه. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قطع يدَ عبد، فأُعتق ... إلى آخره" (1). 10358 - صورة المسألة: إذا قطع يد عبد [فعَتَق] (2) وسرى إلى نفسه، فمات، وجب عليه دية كاملة، كما تمهد ذكره من اعتبار المآل في المقدار، ثم غرض الفصل أن نبيّن ما يصرف إلى السيد، وما يصرف إلى ورثة القتيل؛ فإنه مات حرّاً موروثاً. والمسألة مفروضة فيه إذا قطع الجاني يداً واحدة، فالمنصوص عليه في هذه المسألة أنه يجب للمولى أقلُّ الأمرين من أرش الجناية على الملك، لو قُدِّر اندمالُها، ومما التزمه الجاني على الملك، فإن كان أرش الجناية على الملك أقلَّ من الدية، فيستحيل أن يستحق السيد مزيداً بسبب الحرية. فإنه لا يستحق إلا جبرانَ ملكه، فأما ما زاد بسبب الحرية، فلا حظَّ له فيه. وإن كانت دية القتل أقلَّ من الأرش لو قدر الاندمال في الرق، فلا وجه لإثبات مزيد على الجاني؛ نظراً إلى المآل، كما ذكرناه، وإذا لم نزد شيئاًً على الجاني، فلا يستحق السيد إلا ما التزمه الجاني. هذا بيانُ هذا القول ووجهُه. [وفي] (3) المسألة قول آخر مأخوذ من نصّ الشافعي في مسألة أخرى سنذكرها على

_ (1) ر. المختصر: 5/ 100. (2) في الأصل: "معتق". (3) في الأصل: "في" بدون واو.

أثر هذه، وهو أن المولى يستحق أقلَّ الأمرين من دية القتيل، وتمامِ قيمة العبد المجني عليه. فإذا كان قَطَع الجاني يداً واحدة من العبد، ثم عَتَق ومات، فللمولى أقل الأمرين من تمام دية القتيل، أو تمام قيمته. وتوجيه هذا القول: أن هذا الشخص إنما مات بسبب الجناية عليه في الرق، وإذا وجب اعتبار السريان، ولم [يجْر] (1) تقديرُ الاندمال، وقد تحقق السريان، فنقدر القتيل ميتاً رقيقاً، ونقدره ميتاً حراً، ونوجب للسيد أقل العوضين، فإن كانت الدية أقلَّ، فليس للسيد إلا ما أوجبناه على الجاني، وإن كانت القيمة أقلَّ، فالزيادة تثبت بسبب الحرية، فيستحيل أن يستحقها، أو يستحقَّ شيئاًَّ مَنها السيدُ. فرجع حقيقةُ القولين وتوجيههما إلى أنا نقول في القول الأول؛ نعتبر أرش الجناية مع الرق، أو ما يلتزمه الجاني على الملك، ثم نقول: للسيد أقلُّ الأمرين، ولا نعتبر السريان على الرق؛ فإن هذا تقدير على خلاف ما وقع تحقيقاًً. وناصر القول الثاني يقول: الجراحة على الملك قد سرت حساً، وما ذكره الأول من أنها ما سرت على الرق يعارضه أن ما يصرف إلى السيد في كل وجه إنما هو جزءٌ من دية حر، فإذا لزم ذلك واحتُمِل، فتقدير الموت على الرق لا يبعد. هذا بيان القولين وتوجيههما. 10359 - فإن قيل: إذا كان الواجب ديةَ حر، فكيف يستقيم صرفها أو صرف شيء منها إلى السيد، وأثبتوا هذا الأصل؟ ثم الكلام في المقدار متفرع على ثبوت هذا الأصل، وهلا قلتم: إذا أعتق السيد العبدَ المجني عليه، فيكون إعتاقُه إياه إسقاطاً لحقه من الأرش بالكلية، وأنه إنما يستحق ما يستحقه بحق الملك واستحقاق الرق، فإذا أَسقَطَ حقَّ الرق، فقد أسقط الأصلَ الذي منه صدر استحقاقه للأرش؟ قلنا: الإعتاق إزالة للملك، واليد المقطوعة لا يبقى عليها الملك، ولا ينصرف إليها العتق، ولا ينعطف على المستحَق بها إسقاطٌ، ثم لا مرجع إلا على الجاني

_ (1) في الأصل: "نجد".

ولا شيء على الجاني إلا ديةُ الحر، فاضطررنا إلى إثبات حق المولى من الدية، ويثبت على الجاني. وسأعود إلى تحقيق ذلك في آخر الفصل، عند نجاز المسائل، فإذا كان قَطَع الجاني يداً من العبد، ثم عتق ومات من السراية، فقد ذكرنا القولين وتوجيههما. 10360 - ثم [حرر] (1) المراوزة عبارتين عن القولين نذكرهما لنجري عليهما الصور التي سنذكرها، فالعبارة عن القول الأول: أن للسيد أقلَّ الأمرين من أرش الجناية على الملك، أو ما التزم الجاني بسبب الجناية على الملك، وأرشُ الجناية على الملك نصف القيمة، وما التزم الجاني دية كاملة، فللسيد الأقلُّ منهما. والعبارة عن القول الثاني: أن للسيد أقلَّ الأمرين ممّا التزم الجاني [بالجناية] (2) على الملك، أو مثل نسبته من قيمته، وما التزمه الجاني بسبب الجناية على الملك [الديةُ، ومثل نسبته] (3) من القيمة تمامُ القيمة، فللسيد أقلُّ الأمرين من تمام الدية، أو تمام القيمة. ونحن نرسم بعد ذلك صوراً ونُخرِّجها على القولين، ثم نختم الفصل بما ذكرناه. 10361 - صورة لو قطع يد عبدٍ فعتَق، ثم جاء آخر وقطع بعد الحرية رجله، ثم جاء ثالث، وقطع يده الأخرى، فقد اجتمع ثلاثةٌ من الجناة، فالوجه أن نقول: الواجب دية كاملة، وهي أولاً موزّعة على هؤلاء، فإن الجناة إذا اجتمعوا، لكان التوزيع على رؤوسهم، فعلى الجاني في الرق ثلث الدية، والمولى يستحق ما يستحق من جهة الجاني على الملك؛ فإن الجنايتين الأُخريين جنيا بعد الحرية، فلا تعلق للسيد بهما، ثم كم للسيد مما التزمه الجاني على الملك؟ فعلى ما قدمنا من القولين: أحدهما - أن للسيد أقلَّ الأمرين من أرش الجناية على الملك، وهو نصف القيمة، أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك، وهو ثلث الدية، فيصرف إلى السيد أقلُّ الأمرين مما ذكرناه.

_ (1) في الأصل: "جوّز". (2) في الأصل: "فالجناية". (3) في الأصل: "ودية مثل نسبته".

وتحقيقه على التوجيه أنا نعتبر الأرش من غير تقدير السريان، أو جميعَ ما يلتزمه الجاني بسبب الجناية على الملك. والقول الثاني - أن للسيد أقلَّ الأمرين من ثلث الدية، أو ثلث القيمة، نصّ الشافعي على هذا، في هذه الصورة، فخرّج الأئمة ذلك في الصورة الأولى، وفي كل صورة تفرض. والعبارة عن القولين أنا نقول في قولٍ: للسيد أقلُّ الأمرين من أرش جناية الملك، أو ما يلتزمه الجاني بالجناية على الملك. وأرش الجناية نصف القيمة، [وما التزمه] (1) الجاني ثلث الدية، وللسيد الأقل منهما. ونقول في القول الثاني: للسيد أقلُّ الأمرين مما التزمه الجاني بسبب الجناية على الملك، وهو ثلث الدية، أو مثلُ نسبته من قيمته، وهو ثلث القيمة، فللسيد الأقل منهما. 10362 - صورة أخرى: لو قطع رجل يد عبد، ثم عَتَق، فجاء جانٍ وقطع يده الأخرى، وجاء ثالث وقطع إحدى رجليه، ثم جاء الجاني الأول الذي جنى في الرق، وقطع رجله الأخرى، فالجناة ثلاثة، والواجب دية حر، وهي موزعة على رؤوسهم أثلاثاً؛ فإن هذا التوزيع لا يختلف بأن يَكْثر [الجرمُ أو ينقص] (2) وإنما النظر إلى رؤوس الجناة. ثم نقول بعد ذلك: على الذي جنى في الرق والحرية ثلثُ الدية، ثم له حالان: حالُ جنايةٍ على الرق وحالُ جنايةٍ في الحرية. فيوزع الثلث الذي عليه على حاليه: فيخص حالَه في الرق سدسُ الدية، وحاله في الحرية سدس الدية، ثم نُجري القولين، فنقول في أحد القولين: للسيد الأقلُّ من أرش الجناية على الملك، وهو نصف القيمة، أو ما التزمه الجاني على الملك، وهو سدس الدية؛ فإن ما التزمه بالجناية على الملك هذا المقدار.

_ (1) في الأصل: "أو ما التزمه". (2) في الأصل: "الجرام من النقص".

فإن قيل: ألستم لم تعتبروا عدد الجراحات، ولم تفصلوا بين أن تكثر أو تقل؟ قلنا: هذا كذلك إذا أردنا التوزيع على الجناة، فإنا نجوز أن يكون الجرح الواحد من بعضهم أعظمَ أثراً من جراحات، فهذا ما بنينا أصلَ التوزيع على الرؤوس. وإذا [أدرنا] (1)، نظرنا إلى من فيه كلامُنا، وقد خصه من الغرم الثلث، وصدر منه جرحان: أحدهما - على الملك. والثاني - على الشخص الحر، فلا بد وأن نثبت لجرحه في حالة الحرية أثراً، ويستحيل [أن نلغيه] (2)، فيتعين المسلك الذي ذكرناه. هذا أحد القولين. والقول الثاني - أن للسيد أقلَّ الأمرين مما التزمه بالجرح الواقع على الملك [السدسُ] (3) أو مثلُ نسبته من قيمته، وهو سدس القيمة. وإذا وجهنا القولين في الابتداء مرة، كفانا في تفريع المسائل اتباعُ العبارة المحررة، وإن رمزنا في هذه المسألة إلى التوجيه، كان سبباً في [رسوخ] (4) المعنى في الفكر، كأن أحد القائلَين يعتبر أقل الأمرين من الأرش لو فرض الاندمال أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك، والثاني - يعتبر الموت والسرايةَ في جانب الأرش؛ فإن الموت واقع في الواقعة، ثم ينتظم من هذا المقصود الأقلُّ من الملتزَم أو مما يناسبه من القيمة، فإن النسبة تتحد؛ إذ الساري هو الذي يوجب قسطاً من الدية، ثم ننظر في مثله من القيمة، ثم العبارة المحررة تَهدي إلى المقصد. ويجب التنبه لتقييد الكلام بالجناية على الملك؛ فإنه قد يفرض من الغارم للسيد جرحان: أحدهما - في الرق، والثاني - في الحرية، ولا حظ للمولى إلا فيما يقابل الجناية على الرقيق سواء قدر جزءاً من الدية -إذا كان هو الأقل- أو جزءاً من القيمة. وبيان الفصل عند نجازه. 10363 - صورة أخرى: إذا أَوْضح رأس عبد، فعَتَق، فجرحه آخر، ومات من

_ (1) في الأصل: "أردنا". (2) في الأصل: "يكفيه". (3) في الأصل: "بالثلث". والمراد هنا سدس الدية. (4) في الأصل: "رسوم".

الجراحتين، فالدية عليهما نصفين قسمةً على الرؤوس، ثم فيما للسيد قولان: أحدهما - له أقل الأمرين من أرش الجناية، وهو نصف عشر القيمة، أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك وهو نصف الدية. والقول الثاني - أن للسيد أقلَّ الأمرين مما التزمه الجاني بالجناية على الملك، وهو نصف الدية أو مثل نسبته من قيمته وهو نصف القيمة. 10364 - صورة أخرى لو أَوْضح رأس عبد، فعَتَق، فجرحه آخر بعد العتق، فعاد الموضح في الرق، فجرحه أخرى، فمات، فالدية بينهما نصفان، ثم للجاني في الرق حالان كما تقدم، فيخص الجناية على الرق ربع الدية، ففي أحد القولين: للسيد أقلّ الأمرين من أرش جناية الملك، وهو نصف عشر القيمة، أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك وهو ربع الدية، والقول الثاني - أن للسيد أقلَّ الأمرين مما التزمه الجاني بالجناية على الملك وهو ربع الدية أو مثل نسبته من قيمته وهو ربع القيمة. وما عندي أنه يخفى إخراج القولين في صورةٍ بعد تمهيد ما ذكرناه. 10365 - وأورد المزني [مسألةً نذكرها] (1)، ولكن مذهب المزني خارج عن القولين جميعاً؛ فإن مذهبه أن الجاني يلتزم للمولى أرش الجناية أبداً، ولا يتغير ذلك، وهذا تركٌ للنظر إلى السراية، وقرارِ الجنايات على الأطراف. ولا خلاف أنه لو قطع أطراف حرٍّ موجَبُها ديات، [ولو] (2) انتقلت فسرت وزَهَقَت الروح، فلا تجب إلا ديةٌ واحدة؛ اعتباراً بالمآل. فأما المسألة التي [أوردها] (3)، فصورتها: عبد قيمته عشرون بعيراً تقديراً، فأوضح رأسه، فعَتَق، فشاركه تسعةٌ في الجراحة، ومات العتيق، فالواجب ديةٌ، على كل واحد عُشرها، وهو عَشرٌ من الإبل، ثم فيما للسيد قولان: أحدهما - أن له بعيراً واحداً (4)،

_ (1) في الأصل: في "مسألة نذكرها". (2) في الأصل: "لو". (بدون واو). (3) في الأصل: "أوردتها". والضمير يعود على المزني. (4) ذلك أن قيمة العبد في هذه الصورة عشرون بعيراً، وأرش الموضحة في الحر خمسٌ من الإبل، أي نصفُ عشر الدية، والواجب في الجناية على الرقيق فيما دون النفس، إن كان مما =

وهو أرش الجناية؛ فإنه أقل مما التزمه الجاني بالجناية وهو عَشرٌ من الإبل. والقول الثاني - أن للسيد بعيرين، وهو عُشر القيمة، وهو أقل من عُشر الدية، هذا بيانٌ مقصودٌ (1). 10366 - وقد كنا تعرضنا في ابتداء الفصل لأمر، ثم رأينا تأخيره، فنقول: الآن نوضّح [غرضنا في اتحاد الجاني] (2) ثم لا يخفى ما يرد بعده، فنقول: إذا قطع يدي عبد، فعتق، ومات، وكانت قيمة العبد مقدار مائة من الإبل، وقد مات المجروح حرّاً، فالبدل بكماله مصروف إلى السيد في هذه الصورة، على القولين. وهذا بيّنٌ لمن فهم ما قدمناه. ثم الذي يقع المباحثة فيه أن الواجب دية حر، ولا حظّ للسيد في بدل الحرية، وقد ذكرنا طرفاً مما فيه جوابُ هذا، وقلنا: إذا [كان] (3) أرش الجناية على الملك لا سبيل إلى إبطاله أصلاً؛ فإن الإعتاق لا يُسقط الأرش المتعلق بالجناية، ولكن تخللت الحرية والسراية، وعسر الأمر لتركبه من الرق والحرية، وآل حاصل الكلام إلى أنا نؤدِّي حق الجناية على الملك من بدل الحر؛ فإن الموت حصل بالجناية الجارية على الرقيق. ولا يتضح الغرض في ذلك إلا بعَرْض الكلام فيما [يصرفه] (4) الجاني. فإن قيل: كل ما على الجاني في الصورة التي ذكرتموها مصروفٌ إلى السيد، وقيمة الأرش مقدار مائةٍ من الإبل؛ فإن المجني عليه مات حراً، فلو جاء بمائة من

_ = له في الحر بدلٌ مقرر، كالموضحة هنا - فأرشها يقع من قيمة العبد بنسبة الواجب في الحرّ إلى الدية. وهو هنا نصفُ العشر (خمسٌ للحر وواحد لهذا العبد). (1) لم يذكر الإمام مذهب المزني في المسألة التي أوردها، واكتفى ببيان المعتمد في المذهب، فهل ترك ذلك لظهوره وهو أنه يجب أرش الجناية قولاً واحداً، وهو بعير واحد هنا، وفي كل مسألة يجب الأرش بحسبها، ولا نظر إلى نقصه أو زيادته، أو إلى ما التزمه الجاني؟ (2) في الأصل: "عرضا في الحار الجاني" بهذا الرسم تماماًً (انظر صورتها)، والمثبث من المحقق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "يعرفه".

الإبل، فقال السيد: أريد الدراهم، وهي النقد الغالب، وقال الجاني: ليس عليّ إلا الإبل، فإن ألزمنا السيد قبول الإبل، كان ذلك قبول الحيوان قيمةً، وإن ألزمناه الدراهم والقتيل حر، كان ذلك مخالفاً للأصل الذي مهدناه في أن الاعتبار بالمآل؟ قلنا: قد يتقدم في ذلك أن الواجب مائة من الإبل، فلا معدل عنها، ومن أراد طلب غيرها لم يمكّن إلا أن يقع التراضي على العدول. وهذا موجه بما ذكرناه؛ فإن جميع ما على الجاني مصروف إلى السيد، وإنما عليه الإبل، فتكليفه بيعَها لا وجه له. وإن أراد هو أن يأتي بالدراهم، فالسيد يقول: لم تفعل هذا والواجب المحتوم عليك الإبل؟ وليست الإبل في حكم المرهون عندك، ولا حق لغيري فيما عليك، فسلم إليّ ما عليك. هذا وجهٌ لا بأس به. ولو قال السيد: لا أبغي منه إلا الدراهم، [فما أمكن] (1) يغرم لي بحق ملكي، [ومن] (2) جنى على ملكٍ، لم يغرَم الإبل، فهذا محال، والسيد لا يجاب إليه؛ فإن القتيل حر، وإذا كنا نرد الأروش -وإن زادت على الديات- إلى دية حر، وفيه تنقيص المقدار؛ نظراً إلى المآل، فلا يبعد أن يرجع الأمر إلى جنس الإبل، وإن كان أرش الجناية على الملك الدراهم؛ نظراً إلى المآل. 10367 - والوجه السديد عندي أن يقال: إن جاء الجاني بالدراهم، وجب [إجبار] (3) المولى، فإن قال: أريد الإبل، قيل: هذا من أثر الحرية، ولا حظّ لك فيما تقتضيه الحرية، وإن جاء بالإبل، وجب أيضاً إجبار المولى على القبول؛ فإن الجاني يقول: هذا هو الذي يلزمني، فخرج منه أن الخيار إلى الجاني/، ولا تحكّم للمولى، وهكذا يتركب إذا مست الحاجة إلى أداء قيمةٍ من دية. فإنتظم إذاً مما ذكرناه وجهان: أحدهما - أن الإبل [تتعين] (4)، فلا تعدّل إلا

_ (1) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (2) في الأصل: "وقد". (3) في الأصل: "اختيار". (4) في الأصل: "تتغير".

بالتراضي، ووجهه أنه هو الواجب، وهو مصروفٌ إلى السيد، فلا وجه للتصرف فيه. والثاني - أن الخيار إلى الجاني، وهذا أفقه وأغوص. 10368 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن السيد في الصورة التي ذكرناها، لو أبرأ الجاني عن حقه، برئت ذمةُ الجاني، ولا يبقى للورثة حق؛ فإنه ليس يثبت حق للسيد والورثة على الازدحام، حتى يقال: إذا سقط أحد المزاحِمَيْن، وكان مقدَّماً، ثبت حق الثاني، بل ما يثبت للسيد يسقط بإسقاطه، وتبرأ ذمة الجاني عنه. وقد انتجز الغرض، ولم نغادر شيئاً رأيناه مشكلاً إلا أوضحناه إن شاء الله. 10369 - ومما [بقي من] (1) الصور أن ذميّاً لو جرح ذمّياً، فلحق المجروح بدار الحرب، ونقض العهدَ، ثم وقع في الأسر واستُرق والجراحة سارية، ومات رقيقاً، ولا سبيل إلى الخوض في هذه المسألة، فإنها تستدعي الكلام في أن الحربي إذا كان له أموال، فاسترق، فما مصرِف ماله؟ ولو أودع عندنا أموالاً حين كان ذمياً، ثم نقض العهد، واستُرق، فماذا نفعل بودائعه؟ وهذا من الفصول المنعوتة في كتاب السير، فسنذكره إن شاء الله عز وجل في موضعه، ونذكر هذا الفرع في آخره، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "وعلى المتغلب باللصوصية ... إلى آخره" (2). 10370 - مقصود الكلام والفصل أن من أكره رجلاً على قتل من يكافئه، فقتله، فالقصاص على من يجب؟ [ومن أركان الفصل] (3) الكلامُ في حدّ الإكراه، وقد أجريناه مستقصىً في كتاب الطلاق على أبلغ وجهٍ في البيان.

_ (1) في الأصل: "يقابل". (2) ر. المختصر: 5/ 101. (3) في الأصل: "واعمض إن كان الفصل" بهذا الرسم تماماً (انظر صورتها).

والذي نذكره هاهنا في ذلك التفصيل فيما يحل بسبب الإكراه، وفيما يبقى على الحظر: أما القتل، فإنه يبقى محظوراً، ولا يؤثر الإكراه في إباحته. وأما الإكراه على الزنا، ففي أصحابنا من يقول: لا يتصور الإكراه عليه، وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحاب أبي حنيفة، وهذا مما قدمناه [في ثنايا] (1) الإيلاء والظهار، ووجهه -على بعده- أن الزاني منتشر، ولا يتأتى الانتشار إلا مع [نشطةٍ] (2) في النفس [وانبساط] (3) في الشهوة، وهذا ينافي الإكراه. والأصح أن الإكراه متصوّر فيه؛ فإن الانتشار لا اختيار فيه، والزنا هو الإيلاج، والإكراه عليه ممكن. ثم إن تُصوِّر الإكراه، فلا يحل، بل الحظر فيه قائم؛ فإن فيه اهتتاك الحرمة الكبرى. والإكراه على شرب الخمر يقتضي وجوبَ الشرب عندي؛ إذ من غُص بلقمة، ولم يجد إلا خمراً يُسيغها، فيجب استعمال الشراب لذلك، فالإكراه بهذه المثابة. والله أعلم. فأما الإكراه على كلمة الردة؛ فإنه يبيح النطق بها، بنص القرآن، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} [النحل: 106] ثم في الفقهاء من يقول: يجب التلفظ بالردة لتخليص المهجة، والذي ذهب إليه الأصوليون من أئمتنا أن المكرَه [عليه] (4) أن يصابر الحقَّ والسيفُ مسلول على رأسه، وهذا هو الذي لا يجوز عندي غيره، وإذا كانت النفوس تُعرَّض للقتل [في] (5) الجهاد، والذب عن الدين، فكيف يجب النطق بالردة، وما المانع من مصابرة الدين وإظهار [الثبات] (6) وبذل الروح دونه.

_ (1) في الأصل: "في ثبات". (3) في الأصل: "بسطة". والمثبت من المحقق رعاية لطلاوة العبارة المعهود من الإمام. (3) في الأصل: "والنشاط". (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "من". (6) في الأصل: "الباب".

فأما شرب الخمر، فليس في هذه المرتبة، فإن من اضطر في عطشٍ إلى شربٍ، وجب شربها، كما يجب تعاطي الميتة في شدة المخمصة. فإن قيل: أليس ظاهر المذهب أن التداوي بالخمر غيرُ جائز؟ قلنا: لأن إصابة الشفاء غيرُ موثوق به. فإذا اكره الرجل على إتلاف مال غيره، وكان يخاف على روحه، فيجب عليه أن يُتلفه، كما يجب عليه تعاطي طعامِ غيره في شدة المخمصة، فهذا ما ذكرناه في ذلك. 10371 - ونحن الآن نبتدىء ذكرَ أحكام الإكراه على القتل، ثم نذكر بعده ما يتصل به، فإذا أكره رجل رجلاً على قتل إنسان، وتحقق الإكراه، كما وصفناه، فقتله المُكرَه، فقد اختلفت مذاهب العلماء: فذهب زُفَرُ وأبو يوسف (1) في روايةٍ إلى أن القصاص يجب على المكرَه دون المكرِه، وهذا مذهبٌ معتضد بالفقه والقياس؛ فإن المكرَه باشر القتلَ إثماً غيرَ معذور، والمباشرةُ تغلب السبب، وإذا كان الإكراه لا يسلط المكرَه، ولا يدفع الإثم عنه، ولا يرفع الحظر، وقد تحققت المباشرة، فالوجه إعدام أثر الإكراه بالكلية. واتفق الشافعي وأبو حنيفة على أن القود يجب على المكرِه، وقال أبو حنيفة: لا قصاص على المكرَه أصلاً، وفعله منقولٌ إلى المكرِه، وهو حالٌّ محلَّ آلته وسيفه، ووافق أنه يأثم بالقتل، ويستمر الحظر عليه. واختلف قول الشافعي رضي الله عنه في ذلك، فقال في أحد قوليه: يجب القصاص على المكرَه، وحقيقة قولنا يجب القصاص عليهما، تقديرهما شريكين، فإن أحدهما ملجىء مستمسك بأقوى الأسباب المفضية إلى القتل غالباًً، والثاني مباشر آثم، وتوجيه القولين مستقصًى في (المسائل) و (الأساليب) (2). ثم إن قلنا يجب القصاص على المكرِه والمكرَه، فهما شريكان.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 409، بدائع الصنائع: 7/ 179. (2) (المسائل والأساليب) هما كتابان في الخلاف لإمام الحرمين، وقد سبق التعريف بهما مراراً.

وإذا آل الأمر إلى المال، فالدية بينهما، وعلى كل واحد منهما كفارةٌ، وإن قلنا: لا يجب القصاص على المكرَه، فهل تجب الدية عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تجب الدية، وفعله كالمعدوم. والثاني - أنه يجب عليه نصف الدية؛ فإن القصاص إن سقط بالشبهة، فلا وجه لإسقاط الدية مع العلم بأنها تجب مع الشبهة، فإن قلنا: يجب نصف الدية، فهو عامد، فهل تضرب على عاقلته أم تضرب عليه في ماله؟ هذا فيه تردد عندي: يجوز أن يقال: في ماله؛ لما نبهنا عليه، وليس كشبه العمد؛ [فإن الفاعل في شبه العمد] (1) ليس عامداً في القتل، وإنما عمده في الفعل، والمكرَه عامد في القتل نفسه. ويجوز أن يقال: تضرب على عاقلته لسقوط اختياره؛ إذ لو تحقق عمده، لوجب القصاص. والتفريع على أنه لا قصاص على المكرَه. فإن قلنا: يجب نصف الدية، فلا كلام، وتجب الكفارة، ويتعلق بقتله حرمان الميراث. وإن قلنا: لا تجب الدية، فهل تجب الكفارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تجب؛ لأن فعله كالمعدوم. والثاني - تجب الكفارة؛ فإنه قاتل تحقيقاًً، وإذا كنا نوجب الكفارة على من يرمي سهماً إلى الكفار، فيصيب أسيراً من وراء الصف لا يشعر بمكانه، فالإثم بالقتل [بالإكراه] (2) أولى. فإن قلنا: تجب الكفارة، فيتعلق بقتله حرمانه الميراث، وإن قلنا: لا يلزمه الكفارة، فهل يحرم الميراث؟ فعلى وجهين، وهذا يتعلق ببابٍ في الفرائض في ترتيب [القتل] (3) الحارم للميراث، فهذا [قاعدة حكم الإكراه] (4). 10372 - ونحن نرسم مسائلَ نأتي بها أفراداً، ولا نترك إن شاء الله شيئاً من الأطراف، ثم نختم الفصل بقولٍ في الأسباب الموجبة للقصاص، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: "فإن الفاعل ليس في شبه العمد ليس عامداً ... ". (2) في الأصل: "فالإثم بالقتل بالكفارة أولى". (3) في الأصل: "القائل". (4) في الأصل: "ما عده الإقرار".

فنقول: لو أكره رجلاً على قتل ولده (1)، فالقصاص يجب على المكرِه؛ فإنه لو شارك الأبَ في قتل ولده، وجب القصاص عليه، وإن سقط عن الأب، ولذلك لو أكره [عبد حرّاً] (2) على قتل [عبد] (3)، وجب القصاص على المكرِه، وإن سقط عن الحر المكرَه (4). وكذا لو اكره ذميٌّ مسلماً على قتل ذمّي، وجب القصاص على المكرِه. ولو اكره الأبُ أجنبياً على قتل ولده، فلا شك أن القصاص لا يجب على الأب، وهل يجب على الأجنبي المكرَه؟ فعلى قولين. وكذلك إذا أكره مسلم ذمياًً على قتل ذمي، فلا قصاص على المسلم، وهل يجب القصاص على الذمي المكرَه؟ فعلى قولين. ولو قال: إن قتلتني وإلا قتلتك، فهذا إذنٌ منه في قتله، ومن أذن في قتل نفسه، فقتله المأذون له، فالطريقة المشهورة أن القصاص لا يجب على المأذون، وفي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تجب له [ثم] (5) تنتقل إلى ورثته، أم تجب الدية للورثة ابتداء؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما في الديات -إن شاء الله عز وجل- وإنما أسقطنا القصاص [لتعرضه للاندفاع] (6) بالشبهات. ونُقل عن الشيخ الإمام سهل (7) رحمه الله تخريجٌ في [وجوب] (8) القصاص بناء على ما ذكرناه من أن القصاص يثبت للورثة ابتداء، فهو حقهم، فلما [قلنا] (9): لا تسقط

_ (1) المراد ولد المكرَه (بالفتح) فإن الصورة الأخرى ستأتي قريباً. (2) في الأصل: "عبدا حرّ" وهو مخالف للسياق، كما سيتضح من المسألة التي تليها. (3) زيادة اقتضاها السياق، ولا يتم التصوير إلا بها. (4) وجب على المكرِه -وإن قلنا: القصاص على المكره والمكره جميعاً-، لأن المكرَه غير مكافىء؛ فهو حر، والمقتول بإكراهه عبد. (5) في الأصل: "أم". (6) في الأصل: "لعرضه الاندفاع". (7) الإمام سهل الصعلوكي سبقت ترجمته. (8) زيادة اقتضاها وضوح الكلام. (9) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

الدية بإذنه؛ فكذلك وجب أن [لا] (1) يسقط القود. وهذا التخريج متجه؛ فإن قول القائل: القصاص يسقط بالشبهة لا يُقبل ما لم يُبيّن وجْهَ الشبهة، وإذا كان الحق لغيره على القول الذي ذكرناه، فلا أثر لإسقاطه. ولو قال: إن قتلت نفسك وإلا قتلتك، فأكرهه على قتل نفسه، فهذا ليس بإكراه على الحقيقة، فإن الإكراه إنما يتحقق إذا كان المكرَه يتخلص من التخويف بفعل ما يطلب منه، وإذا كان المخوف القتل، والمطلوب [عين] (2) ذلك القتل، فليس هذا إكراهاً، والذي قتل نفسه سبيله سبيل المختار في قتل نفسه. 10373 - وإذا أكره بالغٌ صبياً مميزاً على قتل إنسان، فقتله، فهذا يُبنى على القولين في أنّ المكلف البالغ إذا أكرِه على القتل هل يلتزم القصاص أم لا؟ فإن قلنا: يجب القصاص على المكرَه، فهذا على تقدير المكرِه والمكرَه شريكين كما قررناه في (الأساليب) وأشرنا إليه في قاعدة المذهب. فنقول إذاً: أما الصبي فلا يخفى انتفاء القصاص عنه، والمكرِه يخرّج على أن الصبي هل له عمد أم لا؟ فإن قلنا: فعله خطأ، فالمكرِه مشارِكٌ مخطئاً، فلا قصاص عليه. وإن قلنا: للصبي عمد، فالمكرِه شارك عامداً ضامناً، فيجب القصاص عليه لا محالة. وإن آل الأمر إلى المال، فالدية بينهما نصفان، والنصف الذي يقابل الصبي في ماله. هذا كله إذا فرعنا على أن المكرَه يلزمه القود لو كان بحيث يلتزم القود (3). فأما إذا فرعنا على أن القود لا يجب على المكرَه أصلاً، فإذا كان المكرَه صبياً،

_ (1) زادها المحقق لضرورة إقامة المعنى وتصويبه. (2) في الأصل: "غير". (3) " بحيث يلزم القود" أي ينتفي ما يمنع التزام القود بأن يكون المقتول غير مكافىء مثلاً. ثم المراد هنا أن المكرِه (بالكسر) يلزمه القود على القول بأنهما شريكان في وجوب القود عليهما، كما صرح بذلك الرافعي نقلاً عن الإمام (ر. الشرح الكبير: 10/ 141).

فهل يجب القصاص على المكرِه؟ إن قلنا: للصبي عمد، فيجب القصاص على المكرِه، ولا أثر لسقوط القصاص عن الصبي [ولو] (1) باشر مختاراً؛ فإن إلمكرِه لو كان مكلفاً، لأسقطنا القصاص عن الصبي. وإن قلنا فعل الصبي خطأ، ففي وجوب القصاص على المكرِه تردُّدٌ للأصحاب، وقد أشار القاضي إلى الخلاف فيه، وحقيقة هذا التردد ترجع إلى أنا هل ننقل تقدير فعل المكرَه إلى المكرِه على صفته (2) أم نجعل المكرَه كالمباشر القتل، ولا ننظر إلى صفة فعل المكرِه؟ وعلى هذا يخرج ما لو أجبر إنسانٌ على أن يرميَ إلى ما يحسبه هو -يعني المكرَه- صيداً وهدفاً، وكان المكرِه يعلم أنه إنسان، فإذا رماه مكرهاً، فللأئمة تردد (3) في وجوب القصاص على المكرَه. ولو أكره صبي بالغاً على قتلٍ، فلا يخفى أن الصبي لا قصاص عليه، فأما البالغ، فأمره يخرّج على أن المكرَه هل يجب عليه القود أم لا؟ وفيه القولان. فإن قلنا: لا قصاص على المكرَه، فلا كلام. وإن قلنا: يجب القود على المكرَه، ففي هذه الصورة نفرع أمره على أن الصبي هل له عمد أم لا؟ فإن قلنا: لا عمد له، فلا قود على المكرَه، فإنا نوجب القصاص على المكرَه بتأويل الشركة، فإذا كان الشريك صبيّاً، لم يجب القصاص. فإن قلنا: للصبي عمد، فقد شارك المكرَه عامداً ضامناً، فيلزمه القصاص، وإن لم يجب على شريكه العامد الضامن.

_ (1) في الأصل: "لو" بدون الواو. والمعنى أنه لو اشترك بالغ مع صبي مميز ٍ-وقلنا للصبي عمد- فيجب القود على شريك الصبي ولو باشر فعله مختاراً بغير إكراه، فإنه شارك عامداً، والمذهب أن القود يجب على المكرِه والمكرَه باعتبارهما شريكين. (2) المعنى أننا هل ننقل فعل المكره (بالفتح) على صفته إلى المكرِه، أي إن اعتبرنا فعل الصبي خطأ فهل ننقله إلى المكرِه بهذه الصفة (خطأ)، فلا قود إذاً، أم أننا ننقل الفعل إلى المكرِه ونعتبر الصبي آلة، فهنا يجب القود. (3) سبب التردد أن فعل المكرَه صورته شبه عمد، فالمكرِه إن نقلنا إليه الفعل بصفته لا يجب عليه القود، وإن قلنا: إنه شريك المكره، فقد شارك غير عامد.

10374 - ولو أكره رجل رجلاً على أن يُكره ثالثاً على قتل رابعٍ، فإذا نفذ الأمر، وجب القصاص على المكرِه الأول لا محالة، وفي وجوب القصاص على المكرِه الثاني والثالث القاتل قولان، فإنهما جميعاً مكرهان. 10375 - ولو أكرهه على أن يقتل زيداً أو عمراً، وجعل إليه الخِيَرة في قتل من شاء منهما، فإذا قتل أحدَهما، لزمه القود، قولاً واحداً؛ فإن الإكراه لا يتحقق مع التخيير، وهذا كذلك حقاً. وفيه أدنى إشكال لا بد من التنبيه له، وهو أن المكرَه لو لم يقتل واحداً منهما، لخاف وقوع القتل به، وإذا قتل أحدهما، [تخلّص] (1) في ظاهر الظن، ولكن وإن كان كذلك، فإنه لا يقدم على قتل واحدٍ منهما [إلا] (2) وهو مختار فيه؛ إذ لو فرض إقدامه على قتل الثاني يرجو التخلص منه أيضاًً؛ [فعين] (3) القتل يقترن به اختياره، والمكرَه هو المحمول على قتل معينٍ، لا يتوقع عنه محيصاً، وكذلك لو أكرهه على طلاق حفصةَ أو عمرةَ، فإذا طلق إحداهما، لم يكن مكرَهاً، ووقع الطلاق للمعنى الذي ذكرناه من اقتران الاختيار بالطلاق الذي يُقدم عليه، وهذا حسن لا يسوّغ في مسلك الفقه غيره. 10376 - ولو أكرهه على إتلاف مالِ إنسانٍ فأتلفه، فالذي ذكره الأئمة أن قرار الضمان على المكرِه، ولكن هل يطالَب المكرَه حتى إذا غرم، رجع بما يغرمه على المكرِه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا تتوجه الطلبة على المكرَه المحمول أصلاً؛ فإنا إذا كنا نسلِّط المكرَه على الإتلاف بل نوجبه عليه، فالمكرِه حامله وملجئه، فيُرفَع حكمُ المكرَه من البيْن. والوجه الثاني - أنه يجوز لمالك المال مطالبةُ المكرَه المتلِف [لصدور] (4) الإتلاف منه، ثم هو يرجع على المكرِه.

_ (1) في الأصل: "فخلص". (2) في الأصل: "الأول وهو مختار". (3) في الأصل: "بغير". (4) في الأصل: "بصدور".

فهذه مسائل تهذب الأصول وتنبه على مجال النظر والتأمل، ولم يبق من الفصل إلا النظر فيما يكون إكراهاً، وقد مضى القول البالغ فيه. 10377 - والذي ذكره الأصحاب هاهنا: أن أمر السلطان هل يكون إكراهاً أم لا؟ فعلى وجهين. وهذا الخلاف مشهور، وفيه مباحثة، وهي أن السلطان إذا أمر بقتل إنسان، وكان المأمور لا يعلم كونَ السلطان مبطلاً؛ فإذا قتل، فلا يتعلق به ضمان أصلاً، ورأيت مشايخ المذهب مطبقين على هذا، وإن كان الجلاد يجد محيصاً [عن إنفاذ أمره، ولم يكن محمولاً بهذا على القتل] (1)، والسبب فيه أنا لو علقنا الضمان بالجلاد، لما انتظمت السياسات، ولخاف كل من يتعاطى القتل مغبةَ الأمور. هذا إذا قَتَل وهو لا يدري كونَ الإمام مبطلاً. فأما إذا علم أن الإمام مبطل، فعند ذلك ذكر الأصحاب خلافاً في أن أمر السلطان هل يكون إكراهاً أم لا؟ وهذا فيه نظر؛ فإن كان أمره بحيث لو لم يمتثل، لظهر الخوف [من إهلاكه، فهذا إكراه] (2) في الحقيقة. وإن لم يظهر ذلك في الظن، فلست أرى للخلاف في أن الأمر هل يكون إكراهاً وجهاً أصلاً، ولكن الكتب مشحونة بذكر الوجهين في أن أمر السلطان بمجرده هل يكون إكراهاً؟ فلست أرى له اتجاهاً إلا من جهةٍ واحدة، وهو أنه [إن] (3) كان يسطو بمن يخالفه [واعتيد] (4) ذلك منه، [ولا] (5) يبلغ توقع ذلك مبلغ توقع المخوف لو صرح بالتوعد به، فليقع تنزيل الخلاف على هذا الوجه، والفرض فيه إذا علم كونَ القتل باطلاً، وكان يظن سطوته لو خولف، فهذا هل يكون كما لو توعد؟ هذا وجه في تنزيل الوجهين. وقد أشار بعض الأصحاب إلى مسلك آخر وهو أن المأمور وإن كان يعتقد كونَه مبطلاً، فقد لا يكون كذلك؛ فإنه لا يطلع على حقيقة كونه مبطلاً، ثم نعرض الأمرين

_ (1) في الأصل: "عن إمساك أمره، ولم يكن محمولاً فهذا القتل" والمثبت من عمل المحقق. (2) في الأصل: "في إهلاكه مخالفة، فهذا إكراه". (3) في الأصل: "وإن". (4) في الأصل: "فاعتيد". (5) في الأصل: "فلا".

ونقول: هل ينزل منزلةَ الإكراه، من جهة أن أمر الإمام محمول على الحق. وهذا كلام مضطرب؛ فإن الإمام إذا اعترف بكونه مبطلاً، وأمر بالقتل، فكيف تخريج الخلاف؟ وإن [خُيّل] (1) لإنسان [أنه] (2) يخرُجُ عن الإمامة، فهذا اقتحامُ تيّارِ بحرٍ مغرق، ثم إن كان كذلك، [فقول] (3) الأصحاب: هل يكون أمره إكراهاً؟ غيرُ سديد، إذ لو حمل على إمكان الحق، فلا وجه إلا نفي الضمان [عن] (4) الجلاد؛ بناء على ما ذكرناه، ولكن تخصيص الأصحاب الخلاف بالسلطان يشير إلى هذه الطريقة؛ إذ لو حملناه على أمر من يسطو على من يخالفه، فقد يفرض هذا من متغلب ليس [وليَّاً] (5) فيرجع [الكلام] (6) بعد ما ذكرناه إلى أن الجلاد إن لم يعلم حقيقةَ الحال، فأمر السلطان يُخرِج فعلَه عن كونه معتبراً بالكلية. فإن ظهر عند الجلاد كونُ الإمام مبطلاً، ولم يكن مكرهاً، وكان حمله على الحق ممكناً، فالأمر والحالة هذه هل يبرئه؟ فعلى الخلاف. هذا وجه الكلام في ذلك. 10378 - ومما نختم الفصل به الكلام في الأسباب الموجبة للقصاص: أما المباشِرات، فقد سبق استقصاء القول فيها، وأما الأسباب، فالإلجاء والإكراه إذا تحقق يوجب القصاص على المكرِه، ويلتحق به شهادة شهود الزور على القتل، كما سيأتي مشروحاًً في موضعه، والسبب فيه أن الشهادة [تُحصِّل قتلَ] (7) المشهود عليه لا محالة، وهو أبلغ من الإكراه، فإن المكرَه قد يتحرج ويؤثر هلاك نفسه، وقد

_ (1) في الأصل: "سيل". (2) في الأصل: "بأنه". (3) في الأصل: "فنقول". (4) في الأصل: "على". (5) في الأصل: "إليها" (كذا تماماً). (6) في الأصل: "بالكلام". (7) في الأصل: "تحصُل قِبَل". تنبيه: ما تراه في هذه الحواشي ليس فروق نسخ؛ فالنسخة وحيدة، وإنما المثبت من استكناه المحقق وتوسمه. نسال الله أن يلهمنا الصواب.

ينعطف على المكرِه [بأي وجه] (1)، [وليس] (2) للقاضي محيص عن الحكم بشهادة العدول، وإن توقف قاضٍ، لم يندفع الحكم؛ إذ قد يقوم به آخر، وتفصيل الشهادة يأتي إن شاء الله عز وجل، فقد جرى الإكراه والشهادة على عمد مجرىً واحداً. والتغرير في تقديم الطعام المسموم هل يكون بمثابة الإكراه في إيجاب القصاص على الغارّ؟ فيه قولان قد قدمنا ذكرهما في أول الكتاب، ويُنْتَحَى بهذا ما لو حفر بئراً في مضيق، وغطاها، واستدعى حضور إنسان في تلك الجهة، ويغلب على الظن أنه يأتي تلك البئر، ثم لا [يجد] (3) محيصاً عن التردي، على ما سيأتي تصوير ذلك على وجهه في مسألة احتفار البئر، فهذا من قبيل التغرير. وإن كان قد احتفر البئر في ملك نفسه، ودعا من دعا؛ فإن الاعتماد في ذلك على التغرير، والتغريرُ يتحقق وإن وقع الحفر في ملكه، فلا مزيد في الأسباب المفضية إلى الهلاك، على ما ذكرناه، والله المستعان. 10379 - مسألة: قال: "وعلى السيد القود ... إلى آخره" (4). إذا كان للإنسان عبد أعجمي، فكان إذا أشار عليه سيده بأمر، استرسل فيه لا محالة، [ولم يكن ذا عقل وتمييز] (5)، فإذا أمره بقتل إنسان، فقتله، فالسيد في محل المكرِه؛ فإن الذي جرى منه سببٌ يُفضي إلى القتل غالباًً، وهو في معنى إغراء سبع ضارٍ في مضيق، على ما قدمنا التفصيل فيه في أول الكتاب، فيخرج القود على السيد في محل القود، والعبد لا قود عليه، فإنا صورناه غير مميز على صورة سبع ضارٍ، وقولنا على ما جرى من السيد يجري مجرى إغراء في سبع. وإذا رجع الأمر إلى المال، فلا شك أن السيد مطالب به، ولكن هل يتعلق برقبة

_ (1) مكان كلمة ذهب معظم حروفها، والمثبت تقديرٌ منا نرجو أن يكون صواباً؛ فإنه أقرب ما يكون لما بقي من أطراف الحروف. (2) في الأصل: "فليس". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) ر. المختصر: 5/ 102. (5) في الأصل: "ولا يكن ذا عقل وتميز".

العبد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يتعلق؛ فإنه إذا لم يكن مميزاً، فهو بمثابة سبع، ولو أغرى بهيمةً صائلة على إنسان فأتلفه، أو على مالٍ، لم يتعلق الضمان برقبة البهيمة. والثاني - أن الضمان يتعلق برقبته؛ فإنه عبد مملوك صدر منه إتلاف. ثم إن قلنا: يتعلق الضمان برقبته، فإن سلمه، فبيع في الجناية، وفضل شيء، فهو متعلق بالسيد، ولا ينزل هذا منزلةَ الأرش المتعلق برقبة العبد المختار إذا جنى جناية؛ فإن المتلِفَ على الحقيقة السيدُ، فكان الضمان متوجّهاً [عليه] (1)، وليس هذا التعلّق الذي نفرعه بمثابة تعلق الأرش برقبة الجاني المختار، حتى لا يلزمه إلا تسليم العبد، وهذا بيّنٌ للمتأمّل؛ فإن الفعل منسوب إلى السيد، كما ذكرناه. ولو أمره أجنبي بقتلٍ، وكان لا يخصص جريانه على الموافقة لسيده، بل كان يسترسل بإغراء الأجنبي، فالكلام في الأجنبي وإلزامِه القودَ كالكلام في السيد إذا تُصور انقياده للأجنبي على الوجه الذي يتصور مثله مع السيد. 10380 - ولو أمر صبياً [حُرّاً] (2) أو مجنوناً طِباعه ما وصفناه، فقتل إنساناً، فهذا يوجب القصاص لا محالة على الساعي فيه، ثم إذا أتلف مثلُ هذا الصبي بنفسه شيئاً وكان ذا مال، فهل يتعلق الضمان بماله، إذا لم يصدر فعله عن إغراء، أو استحثاث أم لا يلزمه في مالِه شيء؟ قال شيخي: هذا مخرج على الخلاف في أنه هل يتعلق برقبته لو كان رقيقاً؟ وكذلك لو فرض في العبد ما ذكرناه من غير أمر، فهل يتعلق برقبته ولا تمييز له؟ فعلى الخلاف. وهذا متوجه؛ فإنه بمثابة بهيمة تعدو بطباعها، وليس بذي فعل على اختيار، فالمسألة على الاحتمال. ولو أمر أجنبي مثلَ هذا العبد بإتلافٍ، فامتثل، وفرعنا على أنه يتعلق برقبته، فعلى الأجنبي تخليصه؛ فإنه سعى في تحصيل الإتلاف به سعياً يتعلق به وجوب

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "حيّاً".

القصاص عليه لو فرض في الجناية الموجبة للقصاص؛ فإنه بمثابة الآلة، وإن قلنا: موجب الجناية يتعلق برقبته. ولو كان الصبي أو المملوك مميزاً، ولم يكن بحيث يُستشلى استشلاء السبع، فإن لم يوجد إكراه، لم يتعلق الضمان [بالآمر] (1)، وتعلق موجب الإتلاف برقبة العبد لا محالة، وإن اكره مثلَ هذا الشخص، وتحقق الإكراه والقتلُ قتلُ قود، فيجب القصاص على المكرِه، ثم إن كان القاتل عبداً مملوكاً صبياً، [فهل يتعلق موجب الجزاء برقبته؟] (2) هذا عندنا مفرع على أن المكرَه هل يلتزم شيئاًً من الدية، فإن قلنا: إنه يلتزم لو كان حراً، فصدور هذا من العبد بمثابة فعل مختار منه في التعلق بالرقبة. وإن قلنا: لا يلتزم شيئاًً أصلاً، وهو بمثابة آلته، فينزل منزلة العبد الذي لا اختيار له أصلاً، ولا تمييز، وقد ذكرنا الخلاف في أنه إذا كان كذلك، فهل يتعلق برقبته موجَبُ إتلاف أم لا؟ ولا حاجة إلى مزيد في التصوير، فإن من أحاط بما ذكرناه، [هان عليه ترك ما سواه] (3). فصل "ولو قتل مرتدٌّ نصرانياً ... إلى آخره" (4). 10381 - قد ذكرنا فيما تقدم الترددَ في أن المرتد هل يستوجب القود بقتل النصراني الذمي، وذكرنا في قتل النصراني المرتدَّ الخلافَ أيضاًً، فأجرينا اختلاف الطرق في قتل المرتد، وقد قدمنا التفصيل في قتل الزاني المحصن، وأتينا بتمام البيان، ولو قتل زان محصن مسلم كافراً ذمياً أو مرتداً، فلا قصاص عليه، وإن كان مباح الدم؛ لأنه يفضُل مقتولَه بالإسلام، ويستحيل عندنا إيجابُ القود ابتداء على مسلم بقتل كافر، على أي وجه فرض وقدُّر.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "فهذا يتعلق بموجب الجزاء به برقبته" والتغيير والتعديل من المحقق. (3) في الأصل: "فإن عليه ترك ما سواه". (4) ر. المختصر: 5/ 103.

فصل قال: "ويقتل الذابح دون الممسك ... إلى آخره" (1). 10382 - قصد رضي الله عنه الرد على مالك (2)؛ إذ جعل الممسكَ شريكاً في القتل، وقاعدةُ المذهب أن الأسباب في القتل يسقط أثرها مع المباشرة الصادرةِ عن الاختيار التام من المباشر، وتقع الإحالة إليها، وتزول آثار الأسباب معها، إلا فيما يتعلق بالمأثم، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سعى في دم أخيه المسلم ولو بشق كلمة، حشر يوم القيامة ومكتوب على جبينه: الآيسُ من رحمة الله" (3) والمكرَه على القتل مباشر، ولكن اختيارَه ليس بمستقل؛ من جهة أنه [ملجأ] (4) إلى اختياره (5)، والإكراه مشتبه بالمباشرة، من حيث إنه يُفضي إلى حصول

_ (1) ر. المختصر: 5/ 103. (2) ر. الإشراف: 2/ 817 مسألة 1556، عيون المجالس: 5/ 1990 مسألة 1422، القوانين الفقهية: 340، حاشية الدسوقي: 4/ 245. (3) حديث: "من سعى في دم أخيه المسلم ولو بشق كلمة" سبق تخريجه في أول كتاب الجراح. (4) في الأصل: (ملجى) هكذا تماماًً. ولعلّ المعنى أنه وإن كان مختاراً في مباشرة القتل فهو مضطر مكره إلى أن يلجأ إلى هذا الاختيار، فاختياره ليس مستقلاً. (5) هذه المسألة من الغوامض المعوصات، فمذهب الشافعي أن القصاص يجب على المكرَه (بالفتح) لأنه مباشر، والمباشرة اختيار، وقد وضّح الغزالي هذه المسألة في مقدمة المستصفى، وجعلها مثالاً للغلط في الاسم المشترك، الذي جعل منه (الاختيار) فقال: "قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة المكره على القتل: "يلزمه القصاص، لأنه مختار" ويفول الحنفي: "لا يلزمه القصاص لأنه مكره وليس بمختار" ويكاد الذهن لا ينبو عن التصديق بالأمرين، وأنت تعلم أن التصديق بالضدين محال؛ وترى الفقهاء يتعثرون فيه، ولا يهتدون إلى حله، وإنما ذلك لأن لفظ (المختار) مشترك؛ إذ قد يجعل لفظ المختار مرادفاً للفظ القادر ومساوياً له إذا قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة، كالمحمول، فيقال: هذا عاجز محمول، وهذا قادرٌ مختار. ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل وتركه، وهو صادق على المكره، وقد يعبر بالمختار عمن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته بلا تحرك دواعيه من خارج، وهذا يكذب على المكره ونقيضه، وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه، فإذا صدق عليه أنه مختار وأنه ليس بمختار، ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت، ولهذا =

القتل غالباًً، وقد مضى تأصيل المذهب وتفصيله في المكرِه والمكرَه. والمباشِر مع الممسك كامل الاختيار، وليس محمولاً على اختياره، فيسقط حكم الإمساك لقوة المباشرة. وإذا [باع] (1) رجل طعاماً مسموماً إلى من يغلب على القلب أنه يأكل منه، فهذا محطوط عن رتبة الإكراه؛ من حيث لا إجبار، ولكنه من جهة إفضائه إلى الهلاك يضاهي الإكراه، والمتناول مباشر مختار، [وفي منزلة ما جرى من السبب] (2) قولان تقدم ذكرهما، فالمراتب في مطلوبنا ثلاثٌ: مباشرة تامة مع سبب لا يتضمن حملَ المباشر على المباشرة. ومباشرة مع سبب يقتضي [حمل المباشر حملَ إجباراً] (3). ومباشرة مع سبب يقتضي حمل [المباشر] (4) من طريق الاغترار. ولو أمسك الممسك عبداً، فقتله قاتل، [فقرار] (5) الضمان على القاتل، والطَّلِبة تتوجه على الممسك لمكان اليد الضامنة. وهذا من قواعد الغصب، وقد مضى القول فيها. ولو أمسك محرمٌ صيداً، فقتله محرم آخر، فالمذهب تنزيل هذا منزلةَ إمساك العبد وقتلِه، فالقرار على المحرم القاتل، وتتوجه الطّلبة على الممسك؛ فإن صام، لم يرجع، وإن بذل مالاً في الجزاء، رجع على المحرم القاتل الممسكُ. وذكر العراقيون وجهين أن الممسك في الصيد بمثابة الشريك، وهذا بعيد، ووجهه -على البعد- أن الجزاء فيه مَشَابه [من] (6) الكفارات، وقد ثبت تعلق الضمان

_ = نظائر في النظريات لا تحصى، تاهت فيها عقول الضعفاء فليستدل بهذا القليل على الكثير" (ر. المستصفى: 1/ 33). (1) في الأصل: "بيع". (2) في الأصل: "وفي منزله مع ما جرى من السبب". (3) في الأصل: "حمل المباشر على الاختيار". (4) في الأصل: "المباشرة". (5) في الأصل: "فقر أن الضمان على القاتل". (6) زيادة من المحقق. والمعنى أن الجزاء بشبه الكفارات من أكثر من وجه.

باليد، والرجوع في الكفارة بعد ثبوت الضمان بعيد. وهذا غير سديد، وقد تقدم شرح ذلك في كتاب الحج. فصل قال: "ولو ضربه بما الأغلب أنه يقطع عضواً ... إلى آخره" (1). 10383 - غرض الفصل أن الجناية على الأطراف تنقسم إلى العمد المحض، والخطأ، وشبه العمد، كما تفصل، فإن ضرب رأس إنسان عمداً بما الأغلب أنه يوضحه، فهذا عمد محض، وإن ضرب رأسه بسوط لا يُقصد الإيضاح بمثله، فحصل الإيضاح وفاقاً، فالذي جرى شبه العمد، وإن قصد جداراً أو هدفاً بضربٍ، فاعترض إنسان وأصاب الضربُ رأسه، فأوضحه، فهو خطأ محض، وقد تختلف مراتب الأفعال بالأعضاء، فالعين تقصد بنخسةٍ بأصبع، فالرجوع في التقاسيم إلى ذوي العقول والعادات، وسيأتي في باب الجناية على الأطراف تفصيلٌ بالغ في أن الأطراف هل تقصد بالسرايات؟ وكيف السبيل فيها؟ فصل "وإن كان الجاني مغلوباً على عقله ... إلى آخره" (2). 10384 - لا قصاص على الصبيان والمجانين، أما المجانين، فكالبهائم لا يفيد إجراءُ القصاص في بعضهم ردعَ الباقين، وأما الصبيان، فقصودهم ثابتة، ولكن الشرع حطّ حكمَها، ووقع الاكتفاء باستيلاء أيدي [القوّام] (3) عليهم، وقد مضى تفصيل الطرق فيه في كتاب الطلاق، وذكرنا أن الطريقة المثلى تخريج أحكامه فيما له وعليه في الأقوال والأفعال على قولين، ولا خلاف أن السكر ينزل منزلة الإغماء في إسقاط الصلوات التي تمر مواقيتها في السكر.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 103. (2) ر. المختصر: 5/ 104. (3) في الأصل: "العوام".

واختلف الأصحاب في أن السكر هل هو حدث كالإغماء، فمنهم من التفت إلى تخريج ذلك على القولين في السكران، والوجه جعله حدثاً؛ فإن باب الأحداث مبناه على وجود الحدث كيف فرض، مقصوداً أو غير مقصود، فهذا جوامع القول في ذلك، ولم نر الإطناب في تقرير كل قاعدة؛ فإن القواعد قد مضت في مواضعها. فصل قال: "ولو قطع رجلٌ ذكرَ خنثى مشكل وأنثييه وشُفريه ... إلى آخره" (1). 10385 - الخنثى إذا بقي على إشكاله، فقطع رجل ذكره وأنثييه وشُفريه، فإن رضي المجني عليه بأن يتوقف إلى أن يتبين أمرُه، وكان ينتظر حيضاً أو إمناءً، توقفنا، ثم لا يخفى حكم البيان في المستقبل: فإن بان رجلاً، وجب القصاص على الرجل الجاني في ذكره وأنثييه، وللخنثى الحكومة في شُفريه، ولا يخفى المال إن آل الأمر إليه. وإن بان أنثى، فلا قصاص، ولها الدية في الشُّفرين، وحكومةٌ [في] (2) الذكر والأنثيين. وإن جَنت امرأةٌ ثم تبين أمرُ المجني عليه، لم يخْفَ حكم البيان. ولو قال المشكل: لست أقف، ولكني أعفو عن القصاص إن كان لي قصاص، فليعطني الجاني حقي من المال، فالذي نقله المزني أن المشكل له دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين، ثم قال: لأن هذا أقلُّ، ولا شك أن المعتبر في الفصل [أنا] (3) لا نوجب شيئاً إلا بيقين، فذكر المزني أن دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين [مبلغٌ] (4) مستيقنٌ؛ [فإن] (5) دية الشفرين خمسون من الإبل؛ نظراً إلى دية المرأة،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 104. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "أن". (4) في الأصل: "فبلغ". (5) في الأصل: "بأن".

وحكومة الذكر والأنثيين تنقص عن مائة؛ فإن حكومة كل عضو محطوط عن دية صاحب العضو، وإذا أوجبنا دية الشُّفرين باعتبار الأنوثة، فنعتبر حكومة كل عضو بدية أنثى. وذكر بعض المصنفين أنا نوجب في كل عضو حكومةً؛ فإنا لا نقرر ديةً في عضو إلا ويجوز [أنه] (1) عضو حكومةً؛ فنعتبر في كل عضوٍ أقلَّ ممكن [فيه] (2). وهذا ضعيفٌ لا أصل له، فإن [المغروم] (3) هو المال، والمقدار الذي ذكره المزني مبلغٌ مستيقَن، فلْيَجِبْ، ولا التفات على السبب والتقديرات، والمتلزَم متحد. نعم، إنما يتوجه ما ذكره هذا المصنف [إذا] (4) تعدد الجاني فقطع قاطع ذكراً وأنثيين، وقطع آخرُ الشُّفرين، وعفا المجني عليه عن القصاص، فلا يلزم كل جان إلا أقلُّ حكومة. 10386 - ولو قال المجنيّ عليه: لست أقف، ولست أعفو عن القصاص، وقد علمتم أن القصاص غير متوقع في جميع ما وقع (5) مني، فليعطني الجاني شيئاًً في العضو الذي لا قصاص فيه. قلنا: حاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يجب أقلُّ حكومتين في تقدير الذكورة والأنوثة: إما حكومة الشُّفرين على تقدير الذكورة، وإما حكومة الذكر والأنثيين على تقدير الأنوثة؛ فإن ما زاد على ذلك شك، ثم هذا القائل يقول: إن زادت إحدى الجهتين على الأخرى، لم نوجب إلا الأقلَّ، ولو كانت حكومة الذكر والأنثيين مائةً إلا بعيراً وحكومة الشفرين مع تقدير الذكورة خمسين مثلاً، فنوجب الخمسين.

_ (1) في الأصل: "أنها". (2) في الأصل:، فيها". (3) في الأصل: "المعدوم". (4) في الأصل: "وإذا". (5) ما وقع مني: المعنى: ما وقع من عدوان على أعضاء مني.

وهذا الوجه مزيف ضعيف، ويبينُ تضعيفه بذكر الوجه الثاني -وهو المختار- فنقول: كل عضو يتوقع فيه جريان القصاص، فلا يُعطَى المجنيّ عليه [فيه] (1) شيئاً؛ فإن الجمع بين المال وإمكان القصاص محال، وليس القصاص مما يفرض فيه حيلولة مضمِّنةٌ مالاً، بخلاف الأموال؛ فإنها تُضَمَّن بالتقريب (2) تارةً، وبالحيلولة أخرى، فإذا توقفنا في الاقتصاص [من] (3) [القاتلة] (4) الحامل، لم نُلزمها لتعذر الاقتصاص مالاً، فكذلك القول في تعذّر الاقتصاص بالإشكال. وستأتي مسألة تشير إلى مناقضة هذا الأصل، وهو أن مستحق القصاص لو كان مجنوناً، فالولي لا يقتصّ له، ولكن قال الشافعي: له أن يرجع إلى مالٍ، [وليس هذا عفواً] (5) عند بعض الأصحاب، وشرْحُ تلك المسألة يأتي، وغرضنا الآن فصلها عما نحن فيه؛ فإن الجنون لا منتهى له، والعفو غير ممكن، ففي منع أخذ المال تعطيل، والمجني عليه في مسألتنا يتمكن من العفو، ولوضع الحمل أمد منتظر. فإذا كان الجاني رجلاً، فلا مال في الذكر والأنثيين لإمكان القصاص، وللمجني عليه حكومة الشُّفرين بتقدير الذكورة؛ فإن القصاص لا يتوقع جريانه في الشُّفرين والجاني رجل. والمال وإن أضافه الأصحاب في هذا الوجه الصحيح الذي لا يتجه غيره إلى الشُّفرين، ففي تهذيب الكلام فضلُ نظر لا بد منه، فنقول: إن كانت حكومة الشُّفرين بتقدير الذكورة مائةً إلا بعيراً، فقد زادت حكومة الشفرين الزائدين على دية الشُّفرين من المرأة، ولكن لا مبالاة بهذه الزيادة مع تقدير الذكورة، وقد يمتنع من لم يُحط بحقيقة هذه المسألة عن إيجاب ما يبلغ ديةَ الشفرين من امرأة، فضلاً عن الزيادة عليها، ولا امتناع في إيجاب ذلك؛ فإنه إن كان امرأة، فالواجب ديةُ الشفرين، وإن

_ (1) في الأصل: "فيها". (2) كذا. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "العاقلة". (5) عبارة الأصل: "وليس هذا من عفوا".

كان ذكراً فلا يمتنع زيادة حكومةُ عضو من الرجل على دية المرأة. فالوجه المرتب، والمسلك المهذب أن نقول: نعتبر حكومة الشُّفرين بتقدير الذكورة، ونضبط مبلغها، ثم نرجع، فنقدر دية الشفرين بتقدير الأنوثة وحكومة الذكر والأنثيين بتقدير الأنوثة، ونضم حكومة الذكر والأنثيين إلى دية الشُّفرين، ونقابل المبلغ بحكومة الشفرين على تقدير الذكورة، فأي المبلغين كان أقلَّ، فهو الواجب؛ فإنا على اليقين نجوِّزه وإياه نطلب، وهذا القدر مستيقن، وإن فرض جريان القصاص. ولو كان الجاني امرأة، فالقصاص موهوم (1) [في الشفرين] (2) دون الذكر والأنثيين، فلا نوجب دية الشفرين، ونوجب حكومة الذكر والأنثيين بتقدير الأنوثة، ولا ينقدح فيه تقديرآخر؛ فهو الأقل مع الوفاء بالامتناع من إيجاب المال فيما يتوقع القصاص فيه. وقد ذكرنا وجهين من الأوجه الثلاثة. 10387 - والوجه الثالث الذي حكاه الصيدلاني عن الققال - أنا لا نوجب شيئاً إذا قال: لا أعفو ولا أقف؛ فإنا لو أوجبنا شيئاًً، لم ندر أنه وجب [عن ماذا] (3)، وهذا يلتفت على خلاف الأصحاب فيه إذا اتفق زيد وعمرو أن لعمرو على زيد ألفاً واختلفا في جهة استحقاقه؛ فإن في الأصحاب من يقول: لا يثبت الاستحقاق أصلاً مع الاختلاف في الجهة حتى تتعين. وهذا ضعيف، ولكن ظاهر [نصّ] (4) المزني يدل على هذا الوجه، والمزني نقل عن الشافعي في مسألة الخنثى: "فأما إذا رضي بالتوقف" ثم ذكر بقيةَ المسألة من عند

_ (1) كذا بهذا الرسم تماماً. والمعنى أن القصاص في الشفرين ممكن، وعبارة الإمام عن هذا المعنى في أول المسألة "فإن الجمع بين المال وإمكان القصاص محال" فهل وضع الإمام كلمة (موهوم) مكان (ممكن) أو (محتمل) أم صحفها الناسخ؟ الله أعلم. (2) في الأصل: "والشفرين". (3) في الأصل: "عمادى". (4) زيادة أقتضاها السياق.

نفسه، [فيما] (1) إذا قال: "عفوتُ عن القصاص" وبيّن: "أن الأقل فيه دية الشُّفرين وحكومة الذكر والأنثيين" (2) كما ذكرناه، وهو الحق، وما عداه خيال. ثم صورةَ (3) ما إذا قال: "لا أعفو ولا أقف" وقال في الجواب: بل "لا يجوز أن يُقَصّ مما لايُدرَى [أي القِصاصين] (4) لك، فلا بدّ لك من أحد الأمرين على ما وصفنا" (5)، ومعناه لا بدّ لك من العفو ليكون الجواب كما ذكرته، أو من الوقف ليكون الجواب كما نقلته عن الشافعي. وظاهر هذا يدل على أنه لا يُعطى [شيئاًً من] (6) المال إذا قال: لا أعفو ولا أقف، وهذا هو الوجه الثالث، الذي حكيناه، وهو ضعيف لا أصل له. 10388 - ومما يجب الإحاطة به أن من مسائل الفقه ما يكون مأخذ القول فيه ظنوناً متعارضة، فينقدح الخلاف فيها، ومنها ما يُسْنَد إلى أصول في الحكم قطعية لا خلاف فيها، ولكن [تشوبه] (7) أمور تقديرية حسابية، وقد يتفق فيها هفوات، ولا وجه [لعدّ] (8) الهفوات من المذهب، ولا طريق لترك نقل ما قيل، فالوجه [نقلُه والحكمُ بخطئه.] (9). 10389 - فالذي تحصّل إذاً في أقسام المسألة مذهباً مبتوتاً أنه إن عفا عن القصاص، فله دية الشفرين، وحكومة الذكر والأنثيين، وإن قال: لا أعفو

_ (1) في الأصل: "ما إذا". (2) ر. مختصر المزني: 5/ 104 ونص عبارته: "بقية هذه المسألة في معناه أن يقال له: وإن لم تشأ أن تقف حتى يتبين أمرك وعفوت عن القصاص وبرأت، فلك دية شفري امرأة، وحكومة في الذكر والأنثيين". (3) "ثم صورةَ" معطوف على قوله: "بقيةَ المسألة". (4) في الأصل: "أن القصاصين". والتصويب من نصّ المختصر. (5) هذا كلام المزني بنصه. ر. المختصر: 5/ 104. (6) في الأصل: "مسافر" وهذا من بدائع التصحيف، فقد صارت كلمة شيئاً = (مسا) وصارت من (فر) فأصبحت: مسا+ فر= مُسافر. (7) في الأصل: "تسوية". (8) في الأصل: "بعد". (9) في الأصل: "فعله والحكلم بخطأبه".

ولا أقف، فالوجه القطع بأنه لا يأخذ من عضو القصاص على التخصيص شيئاًً، وله أقل مقدّر يفرض مع تقدير القصاص عند البيان. 10390 - ولو قطعت امرأة شفري خنثى وقطع رجل ذكره وأنثييه، ثم قال: لا أعفو ولا أقف، فلا شيء له؛ فإنه لا يطالب واحداً منهما إلا وله أن يقول: القصاص بيننا ممكن. ولو قطعت امرأة ذكره وأنثييه، وقطع رجل شفريه، فقال: لا أعفو، قلنا: لا حاجة إلى عفو، فلا قصاص، وله مطالبة كل واحد منهما بحكومة ما جنى عليه، على التعليل الذي وصفناه. 10391 - ولو جنى خنثى على خنثى، فقطع ذكره وأنثييه، وشُفريه، فليس يخفى حكم التوقف، وحكم العفو عن القصاص، فالأمر لا يختلف في هذين. ولو قال: لا أعفو ولا أقف، قال الققال: الذي تلقيناه من السماع أن له أقل الحكومتين؛ لأن كل واحد من الجهتين [يفرض] (1) أن يكون فيها القصاص. ثم قال: وهذا غلط؛ فإن إمكان القصاص جارٍ في الجميع بناء على أصلٍ سيأتي في الجناية على الأطراف، وهو أن الأعضاء الزائدة يجري القصاص فيها، فيحتمل أن يكونا ذكرين، فيجري القصاص في الذكر والأنثيين من جهة أنهما أصليان، ويجري أيضاًً في الشفرين بناء على إجراء القصاص في الزوائد، والوجه ألا يثبت له شيء لإمكان جريان القصاص من الكل، والأمر على ما ذكره إذا تشابهت الأعضاء، وهذا موضع استدراكه، وسيأتي الكلام في الأعضاء الزائدة وما يُرعى فيها. وقد نجز الكلام في المسألة، ولم نغادر أمراً إلا نبهنا عليه، فكل صورة يأتي بها متكلِّف، ففيما مهدناه جواب عنها والله أعلم. 10392 - ومما يتصل بتمام ذلك أن الجاني لو كان رجلاً مثلاً، فقال (2): أقررتَ بأنك امرأة، فأنكر المقطوع وقال: بل أقررتُ بأني رجل، نص الشافعي في مواضع أن

_ (1) في الأصل: "يعرض". (2) أي قال الجاني للمجني عليه.

القول قول القاطع؛ لأن الأصل أن لا قصاص، وحكى ابن سريج قولاً عن الشافعي أنه قال في كتاب التعريض بالخطبة القولُ قول الخنثى. وتهذيب القول في هذا أن العلامات إذا عَدِمْناها ورجعنا إلى قول الخنثى، فأخبر عن نفسه بأنه رجل، ثم جرت الجناية بعد هذا، فنأخذ بموجب قوله؛ فإن الحكم قد وقع بقوله، واستقر، فيجري أمر القصاص بناء على ما يثبت ولو جرت الجناية، ثم قال: إني رجل، فظاهر المذهب أنه لا يقبل قوله، لإيجاب القصاص على الرجل الجاني. ومن أصحابنا من قال: يقبل؛ فإنه أعرف بنفسه. وهذا مزيّف لا أصل له، والوجه القطع بأن قوله غير مقبول بعد الجناية إذا كان يتضمن ثبوت حقٍّ لولاه لما ثبت: مالاً كان، أو قصاصاًً؛ لأنه متهم، [والبناء على ما ثبت له أمثلةٌ في الشريعة] (1): منها أنه لو ثبت غصبٌ بشاهد وامرأتين، وقضى القاضي، ثم قال المحكوم المقضي عليه: إن [غصبتُ] (2)، فامرأتي طالق ثلاثاً، فالطلاق يقع؛ فإن الغصب تمهد، ثم انبنى [التعليق] (3) عليه. ولو أنكر الغصب أولاً، وحلف على نفيه بالطلاق، ثم ادُّعي عليه الغصب، وأُثبت بالشاهد واليمين، واتصل القضاء به، ففي وقوع الطلاق خلافٌ، سنذكره في الدعاوى والبينات، والأظهر أن الطلاق لا يقع. ...

_ (1) عبارة الأصل: "والبناء على ما ثبت مثله في الشريعة". (3) في الأصل: "عصيت". (2) في الأصل: "التعلق".

كتاب الديات

كتاب الديات 10393 - ذكر الشافعي رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هُذيل وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلاً، فأهله بين خِيَرتَيْن إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل" (1) فمذهبنا أن ولي الدم بالخيار بين القصاص وبين الدية، فأي الأمرين طلب كان له، من غير حاجة إلى رضا مَنْ عليه القصاص. وقال أبو حنيفة (2): لا يختار الدية دون رضا الجاني، ثم عندنا إذا فات محل القصاص، تعيّن المال، وحقَّت الطلبة فيه، ولأبي حنيفةَ خبط في فوات محل القصاص. 10394 - ثم اختلف قول الشافعي وراء ما ذكرناه في أن موجب العمد القودُ لا غير ومستحِقه يملك إسقاطه إلى مال، أو الموجَب أحدُ الأمرين: القصاص أو المال. فأحد القولين - أن موجَبه القود؛ لقوله عليه السلام: "العمد قود". والثاني - أن الواجب أحدُ الأمرين، كما أن الواجب على الجاني أحدُ الأشياء الثلاثة. فإن قلنا: الموجَب أحدُهما، فلو عفا عن القصاص مطلقاً، ثبت المال، وتعين. ولو قال: عفوت عن القصاص والدية، سقط حقه بالكلية. ولو قال: عفوت عن المال، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن المال سقط

_ (1) ر. المختصر: 5/ 105. حديث: "ثم أنتم يا خزاعة ... الحديث" سبق تخريجه في أول كتاب الجراح. (2) ر. مختصر الطحاوي: 232، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 169 مسألة 2281، رؤوس المسائل: 458 مسألة 323، طريقة الخلاف: 466 مسألة 187.

بالكلية، حتى لو أراد الولي إسقاط القصاص على مال، لم يجد إليه سبيلاً، فهو بالخيار بين أن يقتص وبين أن يُسقط القصاص ولا مال له، وهذا كما أنه لو عفا أولاً عن القود، لم يتصور رجوعه إليه، وتعين حقه في المال. والوجه الثاني - أنه لا معنى للعفو عن المال مع بقاء القود، فالذي جرى منه لغوٌ، وهو على خِيَرته، وكأنه لم يعف، والسبب فيه أنا وإن كنا نثبت المال أصلاً، فهو على قضية التبعية للقود، فيستحيل أن ينبتّ أثر المال مع بقاء القود. والوجه الثالث - وهو اختيار شيخي أن العفو عن المال يُلحق هذا القول بقولنا: موجَب العمد القودُ المحض، وفائدة هذا أنه يملك [العفو عن] (1) القود إلى المال. فلو رضي الجاني، واصطلحا عن القصاص على مالٍ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجوز المصير إلى المال مع التراضي، كما لا يجوز المصير إلى المال في حد القذف. والثاني - يجوز. وهو موافق لمذهب أبي حنيفة، ولعله الأصح، ووجهه أن القصاص في مقابلة [متقوِّم] (2) بالمال على الجملة وهو النفس، والتلف به يُتقوّم وليس كذلك [العرض] (3) في القذف، وإذا جاز بذل العوض في بدل الخلع للأجنبي، فهذا في الدم أجوز، مع ترغيب الشارع في إسقاطه. ومما نفرعه على هذا القول أنا إذا قلنا: الواجب أحدهما، فلو قال: عفوت عن الدم والمال، فقد عفا عن حقه، ولو قال: عفوت عن الدم على أنْ لا مال لي، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يسقط كما لو عفا عنهما. والثاني - لا يسقط؛ فإن قوله على أن لا مال شرط انتفاء وليس بنفيٍ على الحقيقة، وهذا ما إليه ميل كلام الصيدلاني. وقال العراقيون في التفريع على هذا القول: لو قال: اخترت الدية، فقد تعينت الدية، فلا رجوع إلى القصاص، وهذا [قالوه] (4) قياساً، ثم قالوا: لو [قال] (5):

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "فنقدم". (3) فى الأصل: "الفرض". (4) زيادة من المحقق. (5) زيادة اقتضاها السياق.

اخترت القصاص، فلو أراد الرجوعَ إلى الدية، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك كعكسه المقدم. والوجه الثاني - له الرجوع إلى المال؛ فإنه أدنى، ولا يبعد الرجوع من الأعلى إلى الأدنى. وهذا الذي ذكروه يجب أن يفرع على التصريح بإسقاط المال. فإن قلنا: العفو عن المال لغو، فلا معنى [لقوله] (1): اخترت القصاص. وإن قلنا: العفو عن المال حكم، فقوله: اخترت القصاص هل يفيده؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما. 10395 - فأما إذا قلنا: موجب العمد القود المحض، فالتخير على هذا القول قائم، على معنى أن ولي الدم لو أراد المال، لم يحتج إلى رضا الجاني، ولو عفا عن القصاص على مال، ثبت المال. ولو عفا مطلقاً، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن المال يثبت، والثاني - لا يثبت. توجيه القولين: من قال لا يثبت، احتج بأن التفريع على أن لا واجب إلا القود، وقد أسقطه، ومن ثَم [لا] (2) يثبت المال، [فإن العفو إسقاطُ ثابت لا إيجابُ ما ليس بثابت] (3) [ومن قال: يثبت المال، قال: إن المقصود بقولهم: إن موجب] (4) العمد القود أنه الأصل، ولا يثبت المال معه. كما لا يثبت البدل مع المبدل إذا ترتب البدل على المبدل، فإذا سقط القصاص، [حان] (5) وقت البدل، فيثبت المال ثبوتَ الأبدال عند سقوط المبدلات. 10396 - والذي أراه أن هذين القولين في الأصل والتفريع عليهما على ما رسمناه

_ (1) في الأصل: "لقولنا". (2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها. (3) زيادة مأخوذة من ألفاظ الرافعي والنووي، ولا يستقيم الكلام إلا بها (ر. الشرح الكبير: 10/ 294، والروضة: 9/ 241). (1) هذا هو الأصح عند الرافعي، وهو المذهب عند النووي (السابق نفسه). (4) زيادة من المحقق سدّاً لهذا الخرم في الكلام. (5) في الأصل: "جاز".

تكلّفٌ، فإنا إذا [خيّرنا] (1) الولي على القولين ورجعنا إلى المال عند فوات المحلّ على القولين، فلا معنى لترديد القول أولاً في أن موجب العمد ماذا، بل الصيغة الناصّة على الغرض: أن القتل يقتضي ثبوت المال لا محالة، ولكن يقتضيه أصلاً [معارضاً (2) للقصاص أم يقتضيه على قضية من التبعية؟ وعليه يخرّج القولان من العفو المطلق، وما قدمناه من التفاصيل. 10397 - ثم قال العلماء: هذا تفريع على عفوِ مُطلَقٍ. فأما المحجور عليه إذا عفا، فإن كان مسلوب العبارة كالصبي والمجنون، فلا أثر لقوله، ولا حكم لعفوه. وإن كان محجوراً عليه صحيح العبارة، لم يخل: إما أن يكون الحجر عليه بسبب غيرِه، وإما أن يكون الحجر عليه بسببه في نفسه، فإن كان الحجر عليه بسبب غيره، فالمحجور عليه بالعكس، فإن أراد الاقتصاص، فله ذلك، وإن أراد العفو عن القصاص، فلا شك في سقوط القصاص. فأما المال قال (3) الأصحاب: إن قلنا: موجب العمد أحدُ الأمرين، فليس له العفو عن المال، فإن اقتصّ وإلا فمهما (4) عفا، فالمال مصروف إلى غرمائه، ولا نكلفه تعجيلَ الاقتصاص أو العفو، بل إن أراد التوقف، توقفنا. وإن قلنا: موجب العمد القود المحض، فإن عفا على مال ثبت، وإن عفا مطلقاً، وقلنا: العفو المطلق يُثبت المالَ، ثبت المالُ. وإن قلنا: العفو المطلق لا يُثبت المالَ من الرجل المطلَق الذي لا حجر عليه، [فلا يُثبته ممّن عليه الحجر]؛ فإن ما لا يقتضي المال من المطلق لا يقتضيه من المحجور.

_ (1) في الأصل: "اخترنا". (2) في الأصل: "متعارضاً". ومعنى (معارضاً) أي موازياً وموازناً، كما نقله الرافعي عن الإمام (الشرح الكبير: 10/ 292). (3) جواب (أما) بدون الفاء. (4) فمهما: بمعنى (فإذا). (5) عبارة الأصل: "لا يثبته من عليه الحجر".

ولو قال المفلس: عفوت على أن لا مال، وقلنا: مطلق العفو لا يوجب المال، فمقيّده أولى ألا يوجبه، [وإن] (1) قلنا: مطلق العفو يوجب المال، فمقيَّدُه بالنفي لا يوجب المال من المطلَق، وهل يوجبه إذا صدر من المحجور؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن المال يجب، فإنه لو أطلق العفو، لوجب، فنفيه المالَ إسقاطٌ منه [لما] (2) له حكم الوجوب. والثاني - لا يجب المال؛ فإن العفو على أن لا مال من المطلق لا يقتضي مالاً، فلو كلفنا المفلس الإطلاق حتى يُثبتَ المالَ، كان ذلك تكليفَ نوعٍ من الكسب. وعبّر الأئمة عن هذين الوجهين، بأن قالوا: إن قلنا: العفو على أن لا مال إسقاطٌ أم منعٌ للوجوب، ولا خلاف أن المفلس لا يكلّف [قبولَ] (3) الهبة. هذا قولنا فيمن حُجر عليه بسبب غيره. 10398 - والمريضُ [في] (4) الزائد على الثلث في تفريع ذلك [كالمفلس] (5). والورثة إذا عفَوْا عن قصاصٍ لهم استيفاؤه، والتركة مستغرَقة بالديون - ينزلون منزلة المفلس. 10399 - فأما المبذر، فالحجر عليه بسبب النظر له في نفسه، والقول الجامع فيه أن الأئمة اختلفوا، فذهب بعضهم إلى أنه كالمفلس في الترتيب المقدّم، وذهب آخرون إلى القطع بأنه يَثْبتُ المال، [مهما] (6) عفا عن القصاص على الأقوال كلها، وهذا هو الذي قطع به الصيدلاني، ولا وجه غيرُه؛ فإن الأئمة قالوا: لو وُهب له شيء أو أوصي له بشيء فَرَدَّ، لم يصح ردّه، وللولي أن يقبل الهبةَ والوصيةَ للمبذر.

_ (1) في الأصل: "فإن". (2) في الأصل: "مما". (3) في الأصل: "قول". (4) في الأصل: "على". (5) في الأصل: "بالمفلس". (6) في الأصل: "فمهما" (وهي بمعنى إذا).

وفي القلب من هذا أدنى احتمال. وإذا صرح من يملك الطلاقَ وتصلح عبارته للعقود بردّ وصيةٍ أو هبة، فالذي نقله الأئمة ما ذكرناه. 10400 - فرع: إذا قال المُطْلَق الّذي لا حجر عليه لمن عليه القصاص: عفوت عنك. فإن قلنا: موجب العمد القود المحض، فيسقط القصاص في هذه الصورة بلا خلاف، وينزل قوله هذا منزلة ما لو عفا عن القصاص مطلقاً، وفيه القولان المقدمان في ثبوت المال: فإن قلنا: موجَب العمد أحدُهما لا بعينه، فإذا قال: عفوت عنك. ولم يتعرض لشيءٍ، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أنه يسقط القصاص ولا يُرجَع إلى تفسيره، حتى لو قال: أردت بذلك العفوَ عن الدية، فلا يُقبل ذلك منه في استيفاء القصاص، بل نحكم بسقوطه. والوجه الثاني - أنه يُرجع إلى [نيته] (1)، وهذا هو الذي قطع به الشيخ أبو علي، ووجهه بيّن؛ فإن الموجب مترددٌ، والعفو مُطلَق، فإن قال: أردت بذلك العفوَ عن الدية، قُبل ذلك منه، وعاد التفريع إلى العفو عن الدية، وقد مضى. فإن قلنا: يُرجع إلى نيته، فلو قال: لم تكن لي نية، فقد حكى الشيخ وجهين في [هذه] (2) الصورة، وأشار إليهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يصرف العفو المطلق إلى القود؛ فإنه المتعرض للسقوط بأقرب الأمور. والثاني - أنه يقال له: إن كنت لم تنو شيئاً، فاصرف الآن نيتك إلى [ما شئت منهما] (3) ويلزمك ذلك. وهذا إذا قلنا العفو عن الدية لا يلغو. فإن قلنا: العفوُ عن الدية لاغٍ على هذا القول، ثم سوغنا له أن يصرف إلى ما شاء، فإذا صرفه إلى جهة الإلغاء، لم يكن للفظه حكم، فالأمر إذاً إليه.

_ (1) في الأصل: "إلى ثلثه". (2) زيادة لاستقامة الكلام. (3) في الأصل: "إلى الأخرى بسبب" وهو تصحيف مُبعد. والمثبت من ألفاظ الرافعي والنووي.

فصل "ولم يختلفوا أن العقل موروث ... إلى آخره" (1). 10401 - الدية مال من التركة مقسوم على فرائض الله تعالى، وكان عمر رضي الله عنه متوقفاً في توريث أحد الزوجين من دية صاحبه، حتى روي له: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورّث امرأة أَشْيَم (2) الضِّبابي من دية زوجها" (3). وأما القود، فهو بَيْن الورثة لا يختص به الأقارب والعصبات، ويشارك في استحقاقه الزوج والزوجة، ويثبت للصغير والكبير. 10402 - ثم مذهب الشافعي أنه إذا كان في الورثة صغير يُنْتظر بلوغُه، [ولم يجد للبالغين سبباً للاستبداد بالقصاص، والخلاف] (4) فيه مشهور مع أبي حنيفة (5)، ولا اتجاه لمذهبه مع الاعتراف بثبوت القصاص للطفل، ولا بد منه، فإن البالغين في صورة الخلاف لا يلون الطفل، فاستيفاء [الحق] (6) من غير ولايةٍ محال، فالاستبداد بالحق مع مشاركته لا وجه له، ومن أصلنا أن القصاص لا يدخل تحت تصرف الولاة، فلو ثبت القصاص للطفل، لم يكن لوليه أن يستوفيه له، ولم يكن له العفوُ والرجوعُ إلى المال. وفي المجنون الذي يبعد أن يُفيق كلام سيأتي بعد ذلك. فإذاً القصاص في الخروج

_ (1) ر. المختصر: 5/ 155. (2) أشْيم وزان أحمد. الضبابي بكسر الموحدة بعدها باء. (3) حديث توريث زوجة أشْيم الضبابي من ديته رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي (الأم: 6/ 88، 89. أبو داود: الفرائض، باب في المرأة ترث من دية زوجها، ح 2927. الترمذي: الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها، ح 2110. ابن ماجه: الديات، باب الميراث من الدية، ح 2642. الدارقطني: 4/ 77، البيهقي: 8/ 134). (4) في الأصل: "ولم يجد للبالغين الاستبداد مسبباً بالقصاص فالخلاف". (5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 130 مسألة 2248، رؤوس المسائل: 462 مسألة 327، طريقة الخلاف 486 مسألة 194، المبسوط: 26/ 174. (6) في الأصل: "الجواد".

عن تصرف الولي كالطلاق عندنا، فإذا ثبت حق القصاص لطفلٍ أو مجنون: أما المجنون، فلا يمكّن من استيفاء القصاص، وكذلك الطفل، فلو وثب الطفل أو المجنون على الجاني واقتص، هل يقع ذلك قصاصاًً؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقع قصاصاً؛ فإنه وإن مُنع من الاقتصاص، فهو المستحق للقصاص دون غيره، وأقرب المحامل لفعله أن يُصرف إلى جهة استحقاقه، ولا سبيل إلى إحباطه. والوجه الثاني - أنه لا يقع قصاصاًً؛ فإنه ليس من أهل استيفاء الحقوق، وقد مضى تفصيل القول في قبض الصبيان الحقوق المالية، وقبضِهم المبيع وإتلافِهم إياه في كتاب البيع. فإن قلنا: ما استوفاه يقع قصاصاًً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يقع قصاصاًً، فلا [يُهدر] (1) بل يجب بدلُ ما استوفاه مالاً، إما متعلقاً بماله، إن جعلنا له عمداً أو بعاقلته (2)، وقد فات محلّ القصاص بالقطع أو القتل، فعلى الجاني الأرشُ، أو الديةُ إن كان الكلام مفروضاً في [النفس] (3) وقد [تثبت] (4) أقوال التقاصّ إذا علقنا الضمان بمال الصبي والمجنون. قال العراقيون: هذا إذا لم يكن ما جرى باختيار الجاني الذي عليه القصاص، فلو أخرج الجاني يده ومكن المجنون أو الصبي من قطعها، قالوا: فلا يقع قصاصاًً قولاً واحداً؛ فإن التفريط من الذي أخرج يده، ثم قالوا: فإذا لم يقع قصاصاًً، فيكون هدراً من فعل المجنون غيرَ مضمون، وعلى الجاني المالُ إذا فات محل القصاص بما جرى (5). هكذا رتبوه، ولم أر ذلك في طرقنا، وظاهر ذلك ما ذكروه. فإذا ثبت أن حق القصاص إذا ثبت لصغير وكبير، لم ينفرد الكبير بالاستيفاء ويتعين انتظارُ بلوغ الصبي.

_ (1) في الأصل: "فلا يهزم". (2) أي إن جعلناه خطأ. (3) في الأصل: "في التقصير". (4) في الأصل: "ثبت". (5) أي أنه جنى بقطع اليد مثلاً ثم عرض يده للصبي أو المجنون فقطع يده، فلا يكون ذلك قصاصاًً، بل هدراً غير مضمون، ثم على الجاني المال لفوت محلّ القصاص.

فهذا قولنا فيه إذا كان منهم مجنون، وإن كان قد لا يظن إفاقته، فلسنا نحرص على استيفاء القصاص، وليس لولي المجنون أن يستوفي القصاص له، وإنما التردد في أنه هل يأخذ المال أم لا؟ [سرُّ ذاك] (1) سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل. 10403 - ثم إذا توقفنا في الاقتصاص، لم نترك من عليه القصاص مطلَقاً [بل] (2) نحبسه، ولا يُنظر إلى طول أمد الحبس؛ فإن الحبس بالإضافة إلى القتل غيرُ معتد به، وإن تبرم المحبوس به، قلنا: [ليكن] (3) في مقابلة [مَهَلِ] (4) الحق، [فالحبس] (5) لا يكون عقوبة مع هذا التقدير، ولا سبيل إلى غيره. وإذا كان في الورثة غائب، انتظرناه وحبسنا الجاني في الانتظار إلى حضوره. ولا ينتظم في المال مثلُ هذا؛ فإنه إذا ثبت حق المال لغائب وحاضر، فالحاضر يستمكن من استيفاء حقه، ولا حبس، وفي مسألتنا حق الحاضر [غير] (6) ممتنع، وإن يثبت لغائب حق، فقد يتصور أن يُستأدَى ويحفظ له إن اقتضى الحال ذلك، كما سيأتي في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل، فإذاً لا وجه إلا الحبس في القصاص. [فصل] (7) قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ... إلى آخره".

_ (1) كذا قرأناها بصعوبة بالغة، وهي صحيحة إن شاء الله. (2) زيادة من المحقق لاستقامة العبارة. (3) في الأصل: "لكن". (4) في الأصل: "فهل". (5) في الأصل: "بالحبس". (6) زيادة من المحقق. (7) مكان بياض بالأصل. وهنا عاد الإمام إلى أحكام القصاص بعد أن ترجم لكتاب الديات، وهذا من أثر الالتزام بترتيب السواد. (8) ر. المختصر: 5/ 107.

10404 - قيل: الإسراف أن يقتل غير القاتل، [وقيل] (1): هو أن يفعل بالجاني ما لم يَفْعل من المَثُلة (2). ومقصود الفصل الكلامُ فيمن يستحق ويستوفي القصاص. ليس لمستحق القصاص أن يستبد باستيفائه، بل يتعين عليه رفع الأمر إلى مجلس الوالي؛ فإن الاستقلال بأمور الدماء لا يتسلط آحاد الرعايا [عليه] (3)، ولو استبدّ، وقعَ القصاصُ موقعَه، ولكنه يتعرض للتعزير لإقدامه على ما حُرّم عليه الاستبداد فيه بالنفس (4)، فإذا ارتفعت القصة إلى مجلس الوالي، وكان في أولياء الدم من يتأتى منه تعاطي الاقتصاص، فإذا استدعاه، وجب إسعافه، مع تقديم الاحتياط، كما سنصفه. هذا في القصاص في النفس. فأما القصاص في الطرف، فقد اختلف أصحابنا فيه: منهم من أوجب تفويضه إلى مستحقه إذا استدعاه، قياساً على القصاص في النفس. ومنهم من لم يجوّز ذلك؛ فإن مستحق القصاص متهم بمجاوزة الحد في كيفياتٍ خفيّة، كترديد الحديدة، ونحوه، والمستحَق الطرفُ لا غير، [فأما] (5) القصاص في النفس، [فالمحذور] (6) فيه [المَثُلَة] (7)، [وترديد الحديدة يترتب] (8) عليها زهوق النفس، وهو مستحق (9).

_ (1) زيادة من المحقق. (2) المثلة: بفتح الميم وضمها. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) كذا. ولها وجه، مع قلق في العبارة. (5) في الأصل: "فإن". (6) في الأصل: "المحدود". (7) في الأصل: "مثلة". (8) زيادة اقتضاها السياق، نرجو أن تؤدي المعنى، وإن كنا نراها لا تبلغ مبلغ عبارات المؤلف. (9) والمعنى أن هناك فرقاً بين الطرف والنفس، فلا يخشى في القصاص في النفس ترديد الحديدة كما يخشى في القصاص في الطرف، فإن أثر المخوف في هذا مطلوب في ذاك.

10405 - والنسوة ليس من أهل التعاطي وكذلك الضعيف من الرجال الذي نعلم أنه لا يستقلُّ بالأمر. وإذا كان في الأولياء جماعة يتأتى منهم الاقتصاص؛ فإن سلّموا لواحدٍ أن يتعاطى، فذاك، وإن تنازعوا أُقرع بينهم. والضعيف الذي لا يستقلّ لا بد وأن يراجَع، فلا يسوّغ القتل دون إذنه ورضاه. ولكن هل يدخل في القرعة حتى إذا خرجت القرعة عليه، استناب من شاء من الأولياء أو من الأجانب؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يدخل؛ فإنه لا فائدة به إذا كان لا يتعاطى، ولئن كان في التعاطي حظ بيّن في شفاء الغليل، فلا غرض في الاستنابة، وما ذكرناه يطّرد في المرأة. 10406 - ثم إذا تعين تعاطي واحد، فلا بد وأن يحتاط الوالي، فينظر في الآلة. قال الشافعي: ينبغي أن يقع الاقتصاص بأحدّ سيفٍ وأحدِّ ضربة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الإحسان في كل شيء، حتى في القتل، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحَ، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" (1). ومما يتفقده أن لا تكون الحديدة مسمومة إذا كان القصاص في الطرف. وإن كان القصاص في النفس، فمن أصحابنا من قال: لا بأس باستعمال المسموم [لأنه ليس فيه زيادة عقوبة. ومن أصحابنا من قال: لا يقتص باستعمال المسموم] (2) محافظةً على حفظ

_ (1) حديث "إن الله كتب الإحسان في كل شيء ... الحديث" رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد من حديث شداد بن أوس (مسلم: الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، ح 1955، أبو داود: الأضاحي، باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة، ح 2815، النسائي: الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة وباب ذكر المنفلتة التي لا يقدر عليها أحد وباب حسن الذبح، ح 4405، 4411 - 4414. ابن ماجه: الذبائح باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ح 3170. المسند: 4/ 123، 125. تلخيص الحبير: 4/ 37، ح 1881). (2) ما بين المعقفين زيادة لا يمكن أن يستقيم المعنى بدونها، وهي من المحقق ناظراً إلى ألفاظ الرافعي رضي الله عنه (ر. الشرح الكبير: 10/ 267).

الجثة؛ فإن السم إذا نفذ قد يتسرع البلى إلى الجثة، وجسد الميت محترم على الوجوب، ولعل الأصحَّ الأولُ. ولو سلمنا السيف إلى ولي القصاص، فضرب غير الموضع المقصود فإن كان يضرب الرقبة فيما زعم، فلم يصبها السيف، نُظر: فإن بان تعمده بضرب الرِّجْل أو غيرها، والسيف لا يتعدى الرقبة إلى الرجل، فإنا نعزّر الوليّ بما يراه الوالي. ثم قال الشيخ أبو بكر (1): لا يصرفه عن ذلك، ولكن يعزّره ويهدده بمزيد التشديد عليه لو عاد إلى مثل ما بدر منه. وقال بعض أصحابنا: يأخذ السيفَ منه؛ فإنا لا نأمن أن يفعل ثانياً مثلَ ما فعل أولاً، والأوجه ما ذكره الصيدلاني؛ فإن حقه في التعاطي ينبغي ألا يبطل بعدُ، وإن صدر منه [ما صدر] (2)، كما لو جرحَ الجاني قبل الارتفاع إلى مجلس الوالي، فيبعد أن لا يسلم السيف إليه لما تقدم منه من الجرح والمَثُلة. ولو ظهر لنا أنه أخطأ في الضرب، ولم يتعمد، وقد يبينُ ذلك بأن يتعدى السيف من الرقبة إلى الكتف، أو إلى القَمَحْدُوة (3)، فإذا أخطأ، لم يعزر، ولكن قال الشيخ أبو بكر: يُعْزل ويؤخذُ السيف منه، ويقال له: استنب، وليس [كالعامد] (4) والفرق أن العامد لم يبن لنا خُرقه في الأمر، ولكنه اعتدى، فنهيناه، ونحن له -إن أعاد- بالمرصاد. وأما المخطىء، فتبين أنه ليس يحسن الأمر، ولا ينفع زجره. وذهب بعض الأصحاب إلى أن المخطىء لا يعزل، بل يعزّر، وهؤلاء هم الذين قالوا: العامد يعزل. 10407 - ولا بد في تمام الفصل من استدراكات في مواضعَ: أقربُها أن ما ذكره الشيخ أبو بكر في الخطأ من العزل يجب أن يكون فيمن لم نعرفه ماهراً بضرب الرقاب، والماهر قد يخطىء ولا يضرب، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف. ومن قال: المخطىء

_ (1) أبو بكر: أي الصيدلاني، كما سيصرح به بعد أسطر. (2) زيادة من المحقق. (3) القَمَحْدُوة: عظمة بارزة في مؤخر الرأس فوق القفا، الجمع قماحد. (المعجم). (4) في الأصل: "كالعاقد".

لا يُعزل؛ فإنما يقول ذلك إذا لم يبن خُرْقُه، فإن ظهر ذلك، فلا بد من صرفه. وما ذكره الشيخ من أن العامد لا يُصرف، فما أراه يقول ذلك إذا تكرر ذلك منه، وإنما هو في المرة [الأولى] (1). ومما نستدركه أن السيف إذا كان مسموماً بحيث تتقطع الجثة به، [فيعسر الغسل] (2) والدفن على [هيئة الاحترام] (3)، فلا يجوز استعمال مثل هذا السيف في القتل، فإن كان الأمر كذلك، فلا خلاف، وإنما الخلاف إذا لم يظهر ذلك، وكنا نحاذر تسرع البلى بعد الدفن، ويخرج من ذلك أن البحث لا بد منه، ثم المذهب يتفصّل كما ذكرناه. فصل قال: "ولو أذن لرجل فتنحّى به، فعفا الولي ... إلى آخره" (4). 10408 - قد ذكرنا في كتاب الوكالة اختلافَ قول الشافعي في التوكيل باستيفاء القصاص في غيبة الموكِّل، والقول في هذا الفصل غيرُ مفتقر إليه؛ فإنه مفروض في الاستنابة بحضرة المستنيب، وهذا جائز لا خلاف فيه، إذا استناب مستحقُّ القصاصِ من يستوفيه له، فيتنحى المستناب بمن عليه القصاص ليقتله، وكان بمرأى ومسمع من المستنيب، فلو عفا مستحقُّ القصاص، وقتل المستناب، نُظر: فإن وقع العفو بعد وقوع القتل، [فهو] (5) لغو. وإن أشكل الأمر، فلم يُدْر أوقع العفو قبل القتل أو بعده؟ فالأصل أن لا عفو، والقتل واقع قصاصاً، اتفقت الطرق عليه. وإن تحققنا تقدم العفو واستئخار القتل، ولكن وقع القتل على جهل من القاتل

_ (1) زيادة من المحقق. (2) مكان كلمتين غير مقروءتين. (3) في الأصل: "هبة الاحرام". (4) ر. المختصر: 5/ 108. (5) في الأصل: "وهو".

بجريان العفو، فلا قصاص على القاتل، إجماعاً، وليس كما لو قتل رجل رجلاً في دار الإسلام عمداً، ثم راجعناه، فزعم أنه حسبه مرتداً أو حربياً، ففي وجوب القصاص قولان، وستأتي هذه المسألة ونظائرها. وغرضنا [الفرق] (1) الآن، فالمستناب إذا قتل، كان معذوراً، وكان عذره ظاهراً، والذي يدّعي الردة [يستند] (2) في قتله إلى أمر [بعيد] (3)؛ فإن المرتد لا يترك مُسيَّباً، والحربي يبعد اجتراؤه على دخول دار الإسلام من غير ذمام. وإذا ثبت ما ذكرناه، فقد يُدعى على المستناب أنه قتل عالماً بالعفو، قالقول قوله مع يمينه في نفي العلم. 10409 - فإذا وضح انتفاء القصاص، ففي وجوب الدية على هذا القاتل قولان. واختلف أصحابنا في مأخذهما: فمنهم من قال: هما مأخوذان من اختلاف قول الشافعي في أن الوكيل إذا عزله الموكل ولم يبلغه الخبر، فهل نحكم بانعزاله؟ وقد مضى القولان في الوكالة، قال هؤلاء: إن حكمنا بأن الوكيل لا ينعزل، فقتْلُ المستناب واقعٌ بحقٍّ، فلا دية، وإن حكمنا بأنه ينعزل، فالقتل غير واقع بحق، فتجب الدية. وهذا مسلك باطل، وقد أورده الصيدلاني، وبنى المسألة عليه، ووجه بطلانه أنا وإن حكمنا بأن الوكيل لا ينعزل، فتصرف ذي الحق نافذ في حقه، فإذا نفذ وتضمّن نفوذه عزلاً للوكيل، انعزل قطعاً. ولو وكل الرجل رجلاً ببيع عبده، ثم إن الموكل أعتقه، ثم باعه الوكيل، فالبيع مردود؛ فإن العتق لا بد من تنفيذه، وفي تنفيذه رد [بيع] (4) الوكيل، والعفو في مسألتنا من مستحِق القصاص مشبّه بالعتق في الصورة التي ذكرناها، فلا وجه لرد

_ (1) في الأصل: "العرو" (بهذا الرسم تماماًً). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "يعمد". (4) في الأصل: "مع".

العفو، وإذا سقط القصاص، فلا معنى لبقاء الاستنابة مع سقوط أصل الحق، فقد ظهر فساد أصل هذا المأخذ. ومن أصحابنا من قال: القصاص ساقط بالعفو لا محالة، والوكالة زائلة، والقولان في وجوب الدية مأخوذان من أصلٍ آخر، وهو أن من قتل إنساناً عمداً في دار الحرب، وجرد القصد إليه وألفاه في صف المشركين، ثم تبين أنه كان مسلماً [مأسوراً] (1)، فلا شك في انتفاء القصاص، وفي وجوب الدية قولان؛ من جهة ظهور العذر في الإقدام على القتل، فالمستناب إذا قتل بهذه المثابة؛ من جهة أنه بنى أمره على قصاصٍ [ثابت] (2) واستنابةٍ صحيحة، وهذه الطريقة [مثل] (3) قليلاً، وإن كان يتضح الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الأسير؛ فإن القاتل لا يبعد نسبتُه إلى التقصير وترك التحفظ، من جهة اقتداره على أن يقتل والمستحِق واقف عليه، ولا يستمكن الغازي من العلم بالمصطفّين في صف الكفار، وهو مأمور بقصدهم بأسباب المنايا. 10410 - ثم إن قلنا: تجب الدية على المستناب، فلا شك في وجوب الكفارة، وإن قلنا: لا تجب الدية، فظاهر نص الشافعي أن الكفارة لا تجب. ومن أصحابنا من قضى بوجوبها، وهو مذهب المزني، ولا وجه في انتفاء الكفارة إلا المصير إلى تقدير بقاء القصاص ووقوع القتل حقاً؛ فإن (4) الكفارة تثبت على من قتل أسيراً بسهم غَرْب (5) على العاقلة (6).

_ (1) في الأصل: "مأموراً". (2) في الأصل: "راتب". (3) في الأصل: "أميل". (4) في مقام التعليل لوجوب الكفارة على المستناب، حتى ولو لم تجب الدية، والمعنى: أن الكفارة إذا كانت تجب على من قتل أسيراً مسلماً في صفوف الكفار، بسهم لا يدري أنه يقع على مسلم فمن باب أولى تجب على المستناب الذي قتل بعد العفو جاهلاً بالعفو. (5) سهم غرب: لا يُدرَى من رمَى به (المعجم) والمعنى هنا أنه رمى بسهم على كافرٍ لا يدرى كونه أسيراً مسلماً. (6) متعلق بقوله: "من أصحابنا من قضى بوجوبها" أي الكفارة على المستناب الذي يقتل جاهلاً بعفو مستحق القصاص.

ومن أصحابنا من قال: إنه يرجع بها (1)، [بالمعنى] (2) الذي يرجع بالدية إذا غرمها. [والغائلة] (3) العظمى في المسألة أن الأصحاب قالوا: إن حكمنا بأن الضمان يجب على القاتل المستناب، فللعافي دية قتيله من تركة من قتله المستناب، وهذا لائح. وإن قلنا: لا غرم على المستناب، فلا حق للعافي في تركة القتيل، فإنا لو أثبتنا الدية في تركته، وأهدرنا ديته، كان ذلك بعيداً. وهذا ليس بشيء والوجه أن نقول: إن حكمنا بوقوع القتل قصاصاًً -وهو بعيد عن القياس- فلا شك أنه لا يثبت في تركته ضمان، فإن أخذنا المسألة من نفوذ العفو، وتمهيد عُذر المستناب وتنزيل ما جرى منه منزلة قتل الأسير في دار الحرب، فالوجه القطع على هذه الطريقة [بأن] (4) العافي يستحق الدية في تركة القتيل المقتول بعد العفو عنه، ثم يقع قتله هدراً من جهة وقوعه والقاتلُ معذور، كما ذكرناه في الأسير، حتى كأنه مات حتف أنفه، ولا نظر إذا لاح مسلك القياس إلى الاستعارات التي لا حاصل لها. فإن قيل: إذا أوجبتم الدية في مال المستناب، فهي حالّة أم مؤجلة؟ قلنا: اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هي حالة، فإنها مقتطعة عن قياس دية الخطأ وشبه العمد، وكذلك لم تضرب على العاقلة، ومنهم من قال: هي مؤجلة؛ فإن الدية إنما تتعجل إذا وجبت بسبب عدوان هو عمد محض، ولا ينسب المستناب إلى العمد المحض على وجه العدوان، وسنبين هذه القواعد في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) بها: أي الكفارة. (2) في الأصل: "فالمعنى". (3 في الأصل: "والعاقلة". (4) في الأصل: "فإن".

فصل قال: "ولا تقتل الحامل حتى تضع ... إلى آخره" (1). 10411 - المرأة إذا استوجبت القصاص وكانت حاملاً، لم يُستوفَ القصاصُ منها حتى تضع حملها، ولا فرق بين أن يكون القصاص في النفس أو في الطرف؛ فإنه إذا كان في النفس، ففي قتلها قتلُ الجنين، وإن كان في الطرف، فلو قطعت لأَجْهَضَتْ جنينَها، ولئن كان إليها سبيل، فلا سبيل لنا إلى جنينها. [وإذا] (2) وضعت فقد تولّع الفقهاء بذكر اللِّبَأ، واعتقدوا أن الولد لا يعيش دونه، وهو أوائل [اللبن] (3) بعد انفصال المولود، وحظُّ الفقه من ذلك أنه إن تحقق أن الولد لا يعيش دونه، [لم] (4) نقتل الأمَّ حتى تُرضع ولدها اللِّبَأ، ثم إن وجدنا ذات لبن غيرها، قتلناها قصاصاً، ولم نمهلها مدة الإرضاع، اتفق أصحابنا عليه؛ فإن الذي يفوت الولدَ منها مزيدُ إشفاق وحدب، ولا يقع هذا موقعاً في مقابلة حقّ الآدمي يؤخّر. هذا قولنا فيه إذا استوجبت القصاص، فأما إذا استوجبت الرجم، وهي حامل، لم نقتلها أو تضع، ولا نقتلها حتى ترضع ولدها، وإن وجدنا مرضعة سواها، ثم إذا انقضت مدة الإرضاع، فلا نقتلها أيضاًً حتى تكفل ولدها؛ فإن الولد لا يستقلّ بعد الفطام إلا بكافل، وحديث [الغامديّة] (5) نصٌّ في الترتيب الذي سقناه. والفارق في وضع الشرع بين القصاص وبين الحدّ ما تحقق من ابتناء حقوق الله المحضة على المساهلة، ولذلك يُقبل الرجوع عن الإقرار فيها، ولا سبيل إلى تقدير ذلك في القصاص وحقوقِ الآميين، وكأنا قدمنا حقَّ إشفاق الأم في الإرضاع على استيفاء حد الله تعالى.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 109. (2) في الأصل: "إذا" (بدون واو). (3) في الأصل: "الولد" وهو سبق قلم من الناسخ. (4) في الأصل: "ولم". (5) في الأصل: "العامرية".

10412 - وإذا تمهد ما ذكرناه، ابتنى عليه أمور: أولها فيه إذا نُهينا عن قَتْلها، فقُتلت وأَجْهَضَتْ جنينها، والقصة مرفوعة إلى مجلس السلطان، والنصوص وطرق [الأصحاب] (1) مضطربة جدّاً، ونحن نأتي بجميعها ونختار أميلَها إلى القياس، ونذكر ما يميل إلى موافقة النص، ونفرض الكلام فيه إذا فوّض الوالي قتلها إلى [ولي الدم] (2)، والكلام في ذلك يتشعب وينقسم، فإن كان الإمام عالماً بالحمل عِلْم مثله (3) وكان [الولي] (4) عالماً أيضاً، فقتل الوليُّ بإذن الإمام، فقد أساءا وظاهر النص الذي نقله المزني أن الضمان يتعلق بالإمام؛ إذ إليه الأمر، وكل فاعل في مجلسه بإذنه في حكم الآلة له، وكذلك اتفق العلماء في أنه لا يتعلق بجلاد الإمام ضمان وإن كان مختاراً فيما تولاه من القتل، ولو أعرض وولَّى لم نتعرض له، وسيكون لنا إلى حكم الجلاد استتمام في آخر الفصل. قال معظم أصحابنا: الضمان يتعلق بالولي؛ فإنه المباشر، ولم يكن محمولاً على مباشرته، بل كان مندوباً إلى العفو والصفح، ولا أثر لإذن الإمام مع قوة مباشرة الولي في حالةٍ نهيناه فيها عن القتل. وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً أن الضمان ينشطر بين الوالي والولي؛ لتعلق كل واحد منهما بأمر معتبر. وهذا غريب لم أره لغيره. التفريع: إن علّقنا الضمان بالإمام، فلا نضربه على بيت المال؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا علم الحملَ علماً يليق به. نعم، الضمان على عاقلته الخاصة، والكفارة تجب في خاصّ ماله. وإن علّقنا الضمان بالولي، ضربناه على عاقلته، فإن

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "ولي الله". (3) علم مثله: يعني غلبة الظن أو الظن المؤكد، بهذا فسّر الرافعي عبارة الإمام، حيث قال: واعلم أنه ليس المراد فيما أطلقنا من العلم بالحمل وعدم العلم حقيقة العلم، وإنما المراد الظن المؤكد لظهور مخايله، وعبر عنه الإمام بأن قال: إن كان عالماً بالحمل عِلْم مثله. (ر. الشرح الكبير: 10/ 275). (4) في الأصل: "الوالي".

العمد لا يتحقق في إهلاك الأجنة، ولا يخفى حكمُ التشطير على ما بيّنا حكمَ الكل في الوجهين. 10413 - هذا إذا كانا عالمين، فلو كان الوالي عالماً والولي جاهلاً؛ فإن علّقنا الضمان بالوالي إذا كانا عالمين، فلأن نُعلّق الضمان في هذه الصورة أولى. وإن علقنا الضمان بالولي في الصورة الأولى لقوة مباشرته، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن الضمان يتعلق بالولي؛ فإنه المباشر المختار، وهذا الخلاف حيث انتهى التفريع [إليه] (1) يقرب من الخلاف في تقديم الغاصب الطعامَ المغصوبَ إلى ضيف جاهلٍ بالغصب، ففي قرار الضمان خلافٌ مضى في كتاب الغصوب. ولو كان الولي عالماً والوالي جاهلاً، فإن قلنا: لو كانا عالمين، فالضمان يتعلق بالإمام مع قوة المباشرة من الولي، فإذا كان الإمام جاهلاً، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أن الضمان لا يتعلق بالوالي؛ فإنه اجتمع عدم مباشرته وجهله، وعارضها علمُ الولي وقوة مباشرته. وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن الضمان يتعلق بالإمام، كما يتعلق به إذا كان عالماً، وهذا غريب لم أره لغيره. فإن قلنا: الضمان [يتعلق] (2) بالإمام، فهو الآن على عاقلته الخاصّة أم على بيت المال؛ فعلى قولين سيأتي ذكرهما بعد هذا. فإن قلنا: الضمان على عاقلته [فالكفارة] (3) تجب في ماله، وإن قلنا: الضمان في بيت المال، ففي الكفارة وجهان: أحدهما - أنها في خاصّ ماله؛ [فإنها] (4) قربة لا يتطرق إليها التحمل. والثاني - أنها في بيت المال؛ فإن المعنى الذي أوجب الغرامات المتعلّقة بنظره في بيت المال، ذلك المعنى يوجب طردَ ذلك في الكفارة، فإن الوقائع تكثر على الأئمة، ثم الكفارات تُجحف بهم إجحافَ الأروش والديات.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "لا يتعلق". (3) في الأصل: "والكفارة". (4) في الأصل: "فإنه".

ولو كانا جاهلين، ففي المسألة الأوجه الثلاثة المذكورة فيه إذا كانا عالمين. وكان شيخي يقول: الإمام في هذه الصورة أولى بأن يكون متعلَّقَ الضمان؛ لأن النظر له، وهو المنتسب إلى التقصير. فهذا استيعاب الأقسام. وما قدمناه قبلُ من أن يَظُن [نعني به] (1) الظنَّ الذي يسمى علماً في الإطلاق، فإن ظن، ولم يستيقن، [كان] (2) كما إذا علم الحمل في الصورة التي ذكرتها. 10414 - [وفي] (3) تعلق الضمان بالجلاد خلاف مرتب على ما ذكرناه [في] (4) الولي العالم بمخايل الحمل، والجلاد أولى بالا يضمن؛ فإنه لم يستوف لنفسه، وإنما امتثل أمرَ السلطان، [والولي] (5) استوفى حقَّ نفسه. هذا إذا ظن الجلاد ظنّاً يسمى علماً، ولم يستيقن، فأما إذا استيقن خطأَ الإمام أو تَعمُّدَ ظُلمه، فقتل، وكان قادراً على ألا يقتل، فالذي نراه القطعُ [بتقرير] (6) الضمان. وإن كان المحل محلَّ القصاص، استوجبَ القصاصَ؛ فإنه مباشر مختار على [استيثاقٍ] (7) من الحال. وقد ذكر بعض أصحابنا في فصل الإكراه خلافاً في أن مجرد أمر السلطان هل يكون إكراهاً، حتى إذا قُدٍّر إكراهاً نُزّل [الجلاّد] (8) منزلة المكرَه. هذا لست أراه جارياً مع اختيار الجلاد [وعلمه] (9) بأنه لو أعرض أمكنه الإعراض، وإنما خلاف الأصحاب في

_ (1) زيادة من المحقق. (2) سقطت من الأصل، وزادها المحقق. (3) في الأصل: "ففي". (4) في الأصل: "على". (5) في الأصل: "فالولي". (6) في الأصل: "بتقديره". (7) في الأصل: "استيثار". (8) في الأصل: "الخلاف". (9) في الأصل: "وعلقه".

أمره المطلق، وكان المأمور لا يأمن سطوتَه وغائلته وبطشَه به لو لم يمتثل. فأما إذا لم يعلم الجلاد خطأ الإمام، [ولم] (1) يظنه، وجرى على ظاهر الامتثال، فلا يتعلق الضمان بالجلاد، وإن كان مختاراً، وعند ذلك يظهر قول الأصحاب: إن الجلاد آلةُ الإمام، ونصوا على أن الكفارة لا تلزمه في القتل الواقع بغير حق، مع العلم بأن الكفارة تلزم الغازي إذا أصاب سهمُه اْسيراً من المسلمين وراء الصفوف، ولم أعثر فيما ذكرته في الجلاد على خلاف الأصحاب إلى الآن. وقد نجز هذا المقصود من الفصل. 10415 - ومما نذكره أن المرأة إذا استوجبت القصاص، ووضعت حملها، ووجدنا مرضعات، ولكنهن امتنعن عن إرضاع المولود، فظاهر النص أن المرأة المستوجبةَ للقصاص مقتولةٌ، والإمام يجبر واحدةً من النساء على الإرضاع بالأجر؛ فإن قيل: [أجبرتم] (2) أجنبيةً على العمل لتوفية القصاص، ولو صبرتم حتى تُرضعَ الأم، لكان ذلك أوجه وأقرب؟ قلنا: هذا قول من لا يتعدّى نظره الظواهرَ؛ فإذا وضعت هذه حملها، وأرضعت اللِّبَأ إن كان له أصل، فإرضاع المولود من الممكنات، فتُقتل هذه قصاصاً، ثم نبتدىء نظرنا في الإرضاع بعد هذا، ونقول: طفل لو لم [يُرضَع] (3) لضاع، فنُجري حكمه على واجبه. 10416 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الحامل تحبس إلى أن تضع، فإنا لو أطلقناها، لم نأمن أن تهرب، فحبسها للمحافظة على القصاص، حتى تضع. وإذا زنت حاملاً، واستوجبت الرجمَ، فظاهر المذهب أنها لا تحبس، والأصل فيه حديث الغامدية؛ فإنها لما اعترفت بالزنا حاملاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حتى تضعي"، ثم لما وضعت "حتى تفطمي"، ولم يحبسها في هذه المدد، وحق الله على المسامحة، ولذلك يقبل فيه الرجوع عن الإقرار، وذهب

_ (1) في الأصل: "لم" (بدون واو). (2) في الأصل: "اخترتم". (3) مكان بياض بالأصل.

ذاهبون إلى أن من استوجب حد الله وهرب، لم يُتّبع مع إمكان اتباعه، كما سنذكره في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل. ومن أصحابنا من قال: تحبس الحامل لأجل الحد، كما تحبس للقصاص، وإطلاق هذا بعيد، والأقرب إن قيل بذلك أن الحد إن ثبت بالإقرار، فلا معنى [للحبس مع العلم بأنه] (1) مهما (2) رجع سقط الحد في ظاهر الحكم. فإن ثبت بالبينة، فالحبس قد يتجه، والأصح ما قدمناه. 10417 - ومن تمام القول في ذلك أن الرجل إذا قتل رجلاً قَتْل قصاص، وكان أولياء القتيل أغنياء، فرأى السلطان حبس القاتل، ومراجعةَ الأولياء، فله ذلك [فإنه يحبس من يسيء أدبه مؤدباً،] (3) ويحبس من يخاف غائلتَه على المسلمين، فكيف يُطلِق من يقتل [قاتلَ] (4) غيره (5)، وليس هذا كالحبس في دَيْنِ غائبٍ دون استدعائه؛ فإن ذلك لا يتعلق بالسياسة، بخلاف ما ذكرناه. 10418 - [ومن] (6) مقاصد الفصل أن الحامل كما لا تقتل حداً وقصاصاًً لا تقطع يدها، ولا يقام عليها حد بالجلد، فإن ذلك كله يُفضي إلى الإجهاض في الغالب. وتمام الغرض أن المرأة إذا استوجبت القصاص، ثم ادعت أنها حامل أننكف عنها

_ (1) في الأصل: "للحشر مع العلم فإنه". (2) مهما: بمعنى إذا. (3) عبارة الأصل: "بأنه يحبس بس أدبه فإنه" كذا تماماً. والتصويب والزيادة من المحقق. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) صورة المسألة أن الرجل إذا سبق أولياء الدم، وقتل من عليه القصاص المستَحِق القتل قصاصاً، فعليه القصاص، ولا نقول: قتل من هو مستَحِق القتل، والقصاص لورثة المقتول، لا للذين كانوا يستحقون القصاص عليه؛ لأن القصاص للتشفي ودرك الثأر، ووارثه هو الذي يحتاج إليه، ولو عفا ورثته عن القصاص إلى الدية، فهي لهم على الصحيح، وليست لمن كان له القصاص. فهؤلاء لهم الدية على ورثة ذلك القتيل لفوات محل القصاص. والكلام هنا في حبس هذا القاتل لحين مراجعة الأولياء الذين يستحقون دمه، أيقتلونه أم يعفون إلى الدية، أم عن الدية أيضاً؟ (6) في الأصل: "من" (بدون الواو).

بدعواها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا لا ننكف عنها ما لم تَقُم بينةٌ على ظهور مخايل الحمل بها، وهذا اختيار الإصطخري. والوجه الثاني - أن ننكف عنها؛ لأنها أعرف بذلك من نفسها، وقد تستشعر الحمل من ذاتها، وتظهر العلامات بعد مدة، وإذا كان كذلك، فالهجوم على ما يُفضي إلى الجناية على الجنين لا وجه له، ولعل الإصطخري يقول: لا حكم للنطفة -وهي تستشعرها [مدّة] (1) - وإنما [الحمل] (2) هو الذي لا نهجم عليه، والعلم عند الله. ثم إذا رجعنا إلى قولها، فلست أدري أن هؤلاء يصبرون إلى انقضاء أقصى مدة الحمل، أم يقولون: نحبسها إلى مدةٍ تظهر في مثلها العلامة لو كان حمل؟ وهذا هو الأشبه؛ فإن تأخير القصاص أربعَ سنين من غير ثبت -بل على خلاف الظاهر- بعيد. ومن لا يشترط ظهور علامة الحمل لست أدري ما مذهبه فيه إذا استوجبت المرأة القصاص، ثم وطئت والوطء [عِلّة] (3) الإعلاق؟ ولو اعترف السيد بالوطء، ترتب عليه طرق (4) نسب المولود الذي تأتي به. فهذا مسالك المنقول. ما قدمته. فصل "ولو قتل نفراً، قُتل بالأول ... إلى آخره" (5). 10419 - الواحد إذا قتل جماعة، وكان بحيث يستوجب القصاص بقتل كل واحد منهم، فمذهب الشافعي أنه يقتل بواحدٍ، وللأولياء الباقين الدياتُ في تركته. ثم لا يخلو إن كان قَتَلَهم ترتيباً، قُتل بالأول، فإن عفا ولي الأول، قتل بالثاني، وإن عفا ولي الثاني، قتل بالثالث، وهكذا إلى تمام العدد. ولو لم يعف ولي القتيل

_ (1) في الأصل: "هذه". (2) في الأصل: "الحول". (3) في الأصل: "على الإعلاق". (4) كذا تماماً. وهل هي ثبوت؟ ثم ما موقع الجملة كلها؟ وهل يعني إذا كانت الجناية من أم ولد؟ (5) ر. المختصر: 5/ 109.

الأول، ولم يقتص، وأخر الأمر، فلا معترض عليه، وليس لولي القتيل الثاني أن يبادره [فيقتله] (1). هذا إذا قتل جماعةً ترتيباً. وأما إذا قتلهم جمعاً بسبب يجمعهم، فلا نقتله بهم، بل نقتله بواحد، والسبيل إذا تنازعوا أن نُقرع بينهم، فمن خرجت قرعته، قُدِّم، وهذا التقديم استحقاقٌ، ويحرم على من لم تخرج له القرعة مبادرتُه بالقتل، كما يحرم بسبب الترتيب على ولي الثاني أن يقتل ما لم يعف ولي القتيل الأول. ولو قتل جماعةً معاً، فرضي أولياء القتلى بتقديم واحد، جاز؛ فإن الحق لا يعدوهم، ولو قدموه، ثم بدا لهم، رُدّوا إلى القرعة، ثم القرعة متبعة، كما تقدم. ولو رضوا بأن يُقتل القاتل بهم، ويرجعوا إلى ما تبقّى لكل واحد من الدية عند فضّ القصاص عليهم، [واستنابوا نائباً] (2)، فلا يجابون إلى ذلك، لم يختلف المذهب فيه (3). 10420 - وإن جرى القتل ترتيباً، وقد تمهد أن ولي القتيل الأول يتقدم، فلو ابتدر ولي الثاني وقتله، فهل يغرم لولي القتيل الأول ديةَ قتيله؟ فوجهان ذكرهما القاضي: أحدهما - يغرم، ثم هو يتبع [تركة] (4) الجاني بدية قتيل نفسه. والثاني - لا يغرم، ويقع قتلُه عن القصاص في حقه، والأول يتبع الجاني بدية قتيله. وهذا هو المذهب، والوجه الأول مزيفٌ، لا أصل له، ثم فيه تضمين القصاص؛

_ (1) في الأصل: "فيثبت له". (2) في الأصل: "استنابوا" (بدون واو) والمعنى: استنابوا نائباً يستوفي القصاص نيابة عنهم، كما يفعل ذلك أولياء القتيل الواحد إذا تعددوا. (3) نقل هذا الرافعيُّ عن الإمام بنفس ألفاظه، معتمداً عليه قائلاً به. (الشرح الكبير: 10/ 262). (4) في الأصل: "دية الجاني". ولا صواب إلا هذا - إن شاء الله.

فإن وليّ الثاني فوّت بقتله حقَّ القصاص الثابت لولي القتيل الأول، فأحلنا عليه دية قتيله؛ [تقويماً] (1) للقصاص عليه. ويلزم من مساق هذا أن يقال: إذا قتل الأجنبيُّ شخصاً لزمه القصاص في نفسه، يغرَم بما جرى منه ديةَ قتيلِ مستحِق القصاص. وسر المذهب في هذا، وفي كل ما يتصل به يبين في فصلٍ بين أيدينا، وهو إذا قتل أحد الأولياء [لقتيلٍ] (2) واحد الجانيَ، فكيف سبيله؟ والمذهب الذي عليه التعويل في هذا الفصل أن من بادر وقتل الجاني من أولياء القتلى، وقع القصاص عن حقه وللباقين الديات في تركة القتيل، [فكل] (3) واحد من الأولياء مستحِقٌّ للقصاص التام، ولكن المحل لا يفي بعددٍ من القِصاص، فإن قدمنا بعض الأولياء، فذاك بحق تقديمٍ وأصل استحقاقٍ قائم في حق كافة الأولياء. 10421 - ولو ازدحم الأولياء وتمالؤوا على الجاني وقتلوه، ففي وقوع القتل وجهان: أحدهما - أنه [يقع عن الأولياء] (4) مفضوضاً عليهم، ولكل واحد الرجوع إلى حصته من الدية على ما يقتضيه التقسيط والتوزيع، [ووجهُ] (5) هذا الوجه أن القتل وقع عن جميعهم، ويستحيل أن ينسب مستحِق القصاص إلى القتل، ثم لا يقع غيرُ ما انتسب إليه؛ فإن كل واحد لو قدر منفرداً بالقتل، لكان ما صدر منه واقعاً عن حقه على المذهب الذي عليه التفريع، ولا عوْد إلى غيره، فإذا انتسبوا إلى القتل، وجب صرف القتل إلى الجمهور (6).

_ (1) في الأصل: "تقويم". (2) في الأصل: "بقتيل". (3) في الأصل: "وكل". (4) في الأصل: "لا يقع عن الأولياء، وهو خطأ صريح". (5) في الأصل: "ووجهه". (6) الجمهور: أي مجموع الأولياء الذين يستحقون القصاص عن قتلاهم. ومعنى فض الفعل عليهم ورجوع كل واحد إلى قسطه من الدية، أن القتلى إذا كانوا عشرة مثلاً، فيستحق أولياء كل واحد عُشر القصاص من هذا الجاني الذي اجتمعوا عليه وقتلوه، ويبقى لكل واحد منهم تسعةُ أعشار الدية في تركة هذا الجاني.

والوجه الثاني - أن القتل يصرف بالقرعة إلى واحد منهم؛ إذ لا سبيل إلى توزع القتل؛ فإنه مما لا ينقسم، وهذا مشهور في الحكاية، ولكن لا اتجاه له. فهذا ما حكاه أئمة المذهب. وحكى شيخي عن الحليمي وجهاً ثالثاً، وهو أن القتل يقع عن جميعهم، ثم يُكتفى بالقتل، فلا يرجع واحد منهم إلى الدية، واعتل بأن قال: لو قتل جماعة معتدين [واحداً] (1)، لجعلنا كلَّ واحد منهم كالمنفرد بالقتل [في] (2) استيجاب القصاص، فنجعلهم في الاستيفاء كذلك. وهذا لا أعتد به من المذهب، فإن قتل الجماعة بالواحد ليس هو على قياس المقابلة، وإنما سببه أمرٌ جَليّ [لا تعتريه] (3) الأقيسة الجزئية، ولو قتل جماعةٌ [جماعةً] (4)، فاجتمع الجمع على كل واحد من المقتولين؛ فإن ترتب الأمر، قتلوا بالأول، كما يقتل الشخص الواحد، وإن جرى ذلك منهم على صورة الاجتماع من غير ترتيب، أقرع بين أولياء القتلى، فمن خرجت قرعته قتل الكلّ بقتيله؛ فإن الكل في حق كل قتيل كقاتلٍ واحد. 10422 - ولو قتل جماعةً عبدٌ، فالمذهب أنه يقتل بواحد منهم على الترتيب المقدم، وديات الباقين في ذمته، وهو كالحر المعسر. وذهب بعض أصحابنا إلى أن العبد يقتل بالجميع؛ إذ لا مرجع إلى شيء بعد رقبته، وزعم هؤلاء أن هذا يخرّج على خلافٍ سيأتي ذكره في أن العبد هل له ذمة في الجنايات. 10423 - وإذا قتل المحاربُ جماعةً في المحاربة، فلا شك أن قتله محتوم، ثم

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "من". (3) في الأصل: "لا تعتر به". والمراد بالأمر الجلي الذي لا تعتريه الأقيسة الجزئية هو أن قتل الجماعة بالواحد، للزجر، وقطع الهَرْج. (4) زيادة من المحقق.

فيه قولان: أحدهما - أنه يقتل بجميعهم، والثاني - أنه يقتل بالواحد قصاصاً، وللباقين الديات، وهذا يخرج على قولين استنبطهما ابن سريج في أن من قتل في الحرابة هل يتعلق حق الآدمي بقتله أم قتله متمحّض لله تعالى كالحدود؟ فإن جعلناه حدّاً محضاً، [فلا] (1) معنى لصرف قتله إلى واحد، ولا حقيقة لصرفه إلى الجميع إلا على مذهب إضافة الحد إلى الزنا، وإن لم يكن [الحدّ] (2) عوضاً عن الزنا، وإن أثبتنا للآدمي حقاً في القتل، قلنا: [يقتل] (3) المحارب بواحد وللباقين الدياتُ في تركته. فهذا منتهى القول في ذلك. فصل قال: "ولو قطع يدَ رجلٍ وقتلَ آخر ... إلى آخره" (4). 10424 - نذكر في مقدمة مقصود الفصل تفصيلَ القول في سراية القصاص، فنقول: من قطع طرفاً قَطْع قصاصٍ، واستوجب القصاصَ في طرفه، فإذا اقتصصنا من الجاني، فسرى القصاصُ إلى نفسه وهلك [منه] (5)، واندمل الجرح الواقع بالمجنيّ عليه أولاً، فسراية القصاص مهدرة لا يقابلها ضمان، خلافاً لأبي حنيفة (6). ولو قطع يد إنسان، فمات المجنيّ عليه، فقطعنا يد الجاني قصاصاًً، فمات هو أيضاًً، فالنفس بالنفس، وكأن القطع الأول لم يكن جناية على الطرف، وإنما صار طريقاً في القتل، كذلك لما قطعنا يدَ الجاني، ثم أفضى إلى قتله بعد هلاك المجني عليه، فقد صار قطع اليد طريقاً في الاقتصاص، كما كان قطع يد المجني عليه طريقاً في القتل، على سبيل العدوان، وهذا بيّن فيه إذا جنى بالقطع، فمات المجني عليه،

_ (1) في الأصل: "ولا". (2) في الأصل: "للحر". (3) زيادة من المحقق. (4) ر. المختصر: 5/ 110. (5) في الأصل: "فيه". (6) ر. رؤوس المسائل: 465 مسألة 330، مختصر الطحاوي: 240، طريقة الخلاف: 484 مسألة 193.

فابتدأنا بعد موت المجني عليه قطع يد الجاني، فأدى إلى هلاكه. ولو قطع الجاني اليد، فقطعنا يده قصاصاًً، ثم مات المجني عليه، ومات بعده المقتص منه، فالنفس بالنفس أيضاً، وإن وقع القصاص قبل زهوق روح المجنيّ عليه، والمرعيّ فيما نرتبه أن يستأخر موت الجاني المقتص منه عن موت المجني عليه، حتى يكون القصاص المحكوم به بعد موت المجني عليه. ولو قطع اليدَ، فقطعنا يده، فمات المقتص منه أولاً، ثم مات المجني عليه آخراً ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن نفس المقتص منه بنفس المجني عليه، كالصورتين المذكورتين قبل هذه. والوجه الثاني - أن النفس لا تقع بالنفس؛ [فإن] (1) زهوق روح الجاني تقدم على هلاك المجني عليه، والقصاص يستحيل وقوعه قبل وجوبه. ومن قال بالوجه الآخر، انفصل عن هذا، فقال: لا ننظر إلى ترتيب المرتِّبين؛ فإن الموت خارج عن الاختيار، وهو من فعل الله تعالى، فلا نظر إلى التقدم والتأخر فيه، والذي يتعلق بالاختيار هو القطع، وقد جرى مرتباً، إذ سبق القطع ظلماً، وترتب عليه الاقتصاص. ويمكن بناء هذا الخلاف على أنا هل نجعل الجرح قتلاً إذا أدى إلى القتل؟ وهذا قد سبق ذكره في أول الجراح في صورٍ: منها أن العبد إذا جرح عبداً، ثم عَتَق العبدُ الجارح قبل زهوق روح المجروح المظلوم، فهل نجعل العتق بعد الجرح قبل الموت كالعتق بعد [القتل] (2) المجهز؟ فعلى وجهين. وكذلك القول فيه إذا جرح كافر كافراً ثم أسلم الجارح، ومات المجروح. 10425 - فإن قيل: قد تمهد من أصلكم أن سراية القصاص غيرُ مضمونة، وأن قَطْع يد المظلوم لو اندمل، وسرى قطعُ يد الجاني قصاصاً، فالسراية مهدرة، فلم أوقعتموها قصاصاًً في بعض الصور التي قدمتموها؟ قلنا: وقوع السراية [هدراً] (3) ليس أمراً مستحَقاً؛ فإن جرى لنا على القياس صرفُ

_ (1) في الأصل: "قبل". (2) في الأصل: "العتق". (3) في الأصل: "وهدراً".

تلك السراية إلى قصاصٍ، لم نمتنع من صرفها إليه، وإن عَدِمنا صرفَها إلى القصاص، فلا سبيل إلى تبقيتها مضمونة؛ فإنها في الأغلب تقع ويستحيل التسليط على ما يقتضيها غالباًً بشرط الضمان فيها؛ فإن هذا لو [قيل] (1) به، [لأدّى إلى عسر الاقتصاص، وتخويفِ المقتص] (2) وتعريضه للخطر الذي يغلب وقوعه. 10426 - فإذا ثبت ما مهدناه في السراية قلنا: إذا قطع رجلٌ يد رجل ظلماً، وسرى إلى نفسه، فقطعنا يد الجاني قصاصاً، فإن سرى القطعُ، فالنفس بالنفس كما قدمناه، وإن لم يسر، بل اندمل، فلوليّ المظلوم أن يضرب رقبة الظالم، فإن فعل، فذاك، وإن عفا على مال، لم يثبت له إلا نصف الدية؛ فإن اليد التي استوفاها قصاصاًً تقابل نصفَ الدية. وقد يعرض لما نحن فيه أمران: أحدهما لا اندراج فيه - وهو ما يتعلق بالقصاص. والثاني مبناه على الاندراج - وهو ما يتعلق بالدية على ما سيأتي شرح ذلك من بعدُ، فإذا أراد القصاص، فالطرف والنفس (3)، وإذا أراد المال، فلا يجب في الطرف والنفس، وقد صار الجراح نفساً [فلا يجب] (4) في المظلوم إلا ديةٌ واحدة، واليد التي استوفاها تقابل نصف الدية، ولا سبيل إلى إهدار ما قبض عوضاً، فيقتضي مجموع ذلك نصفَ الدية عند العفو عن القصاص في النفس. ولو قطع الظالم أولاً اليدين، وسرى قطعهما إلى النفس، فقطع الولي اليدين من الظالم قصاصاًً فاندمل قطعهما، فإن أراد الولي القصاص، ضَرَب رقبةَ الظالم، وإن أراد الرجوع إلى مال، فلا مال له؛ [لأنه] (5) استوفى ما يقابل الدية الكاملة، وهو

_ (1) في الأصل: "قتل". (2) عبارة الأصل فيها خرم أو تصحيف بعيد لم ندركه، فقد جاءت هكذا: "فإن هذا لو قتل به ـع الدم وتعريضه للخطر" هكذا تماماً. والمثبت تصرف من المحقق كان لا بد منه لاستقامة العبارة. (3) أي في الطرف والنفس. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) زيادة من المحقق.

القصاص في اليدين، فهذا قصاصٌ ثبت في النفس، ولو أسقطه مستحقه، لم يرجع إلى مال، ويشبه ما رتبناه من مخالفة أمر المال للقصاص وابتنائه على التداخل بخلاف القصاص. وقد ذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من جوز لمستحقي القصاص في النفس الرجوع إلى مال، فهذا وهذا قد قدمناه في تفريع القول في أن موجب العمد [ماذا؟] (1). 10427 - وحقيقة هذا ترجع إلى أن القصاص لا يحسب من المال إذا آل الأمر إليه. وهذا أثر قولنا: لا يندرج القصاص، فإن جرينا على هذه الطريقة البعيدة، فالنفس في هذا المقام تقابل بالدية الكاملة. 10428 - وإن جرينا على ظاهر المذهب، فلو أراد من له القصاص أن يصالح عن حقه من القصاص على مالٍ، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين من المصالحة عن حد القذف، فإن جوزنا المصالحة عن الحد على مال، فالقصاص بذلك أولى، وإن لم نجوّز ذاك، ففي القصاص وجهان، والفرق أن الأعراض ليست متقوّمة شرعاً، بل لم تتلف بالقذف بدليل تصور قذف بعد القذف، ولا قتل بعد القتل. فإن جوزنا لمستحق الدم أن يصالح من عليه القصاص، فهل يجوز لأجنبي أن يصالح مستحقَّ القصاص بمالٍ يبذله، فعلى وجهين: أصحهما - المنع، ومجوزها يلتفت على [مخالعة] (2) الأجنبي الزوجَ في طلب تخليص المرأة، ولعل المصالحة عن الدم أقربُ إلى المصلحة؛ [فإن] (3) إسقاط القصاص على كل حال محبوب محثوث عليه، وجواز خلع الأجنبي لا يختص بضرار يلحق الزوجة من زوجها. 10429 - ومما يتعلق بمنتهى الكلام أنا إذا قلنا: موجب العمد القود أو الدية، فلو

_ (1) في الأصل: "يتأدى". (2) في الأصل: "مخالفة". (3) في الأصل: "وإن".

جرت مصالحة عن تراضٍ على مائتين من الإبل، فهي باطلة؛ فإن المال [متأصل] (1) على هذا القول، فترجع حقيقة المصالحة إلى المصالحة عن مائة على ما نبين. وهذا لا امتناع له. وإن قلنا: موجب العمد القود المحض [فلو جرت] (2) المصالحة عن تراضٍ على مائتين [من] (3) الإبل، ففي صحة المصالحة وجهان: أحدهما - الصحة؛ فإن المصالحة وردت على الدم، ووقع المال بدلاً عنه، فلا يبعد أن يزيد المالُ المبذول على أصل الدية. والثاني - يمتنع ذلك؛ فإن المال على حالٍ يتطرق إلى الجناية وإن كانت عمداً. وهذا الخلاف متردد بين أصول: منها أن ما ذكرناه من أن القصاص المحض الذي لا يرجع مستحقه إلى مال باختيار نفسه هل يجوز المصالحة عنه. والثاني - أن العفو المطلق هل يوجب المال، على قولنا إن موجب العمد القودُ المحض؟ 10430 - ومما نجريه في تمام الفصل أن رجلاً لو قطع يدي رجل ظلماً وقتل آخر، [فإنا] (4) نقدم القصاص في الطرف على القصاص في النفس، [ولا] (5) نقدم القتلَ الموجب للقصاص في [النفس] (6)؛ وذلك أنا لو قدمنا القصاص في النفس، أسقطنا القصاص في الطرف، فلا ينبغي أن نسعى لأجل تقديم وتأخير في إسقاط قصاصٍ مقصود في الشرع، فنقطع اليدين منه، ثم نقتله على أثر قطعهما بمن قتله. وغرضنا بما ذكرناه الآن تركُ قياس التقديم والتأخير فيما قصصنا عليه. 10431 - ولو قطع أصبعاً من إنسان وقطع يداً كاملة من آخر، فنقدم القصاص في الأصبع لتقدّمه، وإن قطع اليد الكاملة أولاً، ثم قطع أصبعاً، فنقطع يده باليد

_ (1) في الأصل: "المتأصل". (2) في الأصل: "ولو". (3) في الأصل: "في". (4) في الأصل: "وأما". (5) في الأصل: "وإن". (6) في الأصل: "الطرف".

الكاملة، ولا نقطع [منها] (1) الأصبع، [لمكان] (2) الأصبع [ويُرعَى] (3) في ذلك التقديم والتأخير وليس كمسألة الروح والطرف؛ فإن النفس لا تنتقص بقطع طرف منها، والمستحق في اليد [اليدُ] (4) كاملةَ الأصابع والكف، وهذا بيّن. 10432 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لو قتله عمداً ومعه صبي أو معتوه ... إلى آخره" (5) فتعرّض لأحكام الشركة، وقد قدمنا ذلك عند ذكرنا معالجةَ المجروح نفسه بخياطة جرحه، وتنزيلنا إياه شريكاً في دم نفسه، فثمَّ نظمنا تقاسيم القول في الشركة، فلا نعيده. فصل قال: "ولو قتل أحدُ الوليين القاتل بغير أمر صاحبه، ففيها قولان ... إلى آخره" (6). 10433 - إذا خلَّف القتيل ظلماً وليّين والقصاصُ واجب على من ظلمه بالقتل، فليس لأحد الوليين الانفرادُ بقتله دون رضا صاحبه؛ فإن القصاص واحد في هذا المقام، وهو من جهة التقرير مفضوض على الورثة، ولو كان مُشَقَّصاً (7)، لقيل: [لكل] (8) واحد من الورثة حصته، فالأمر كذلك، وإن عسر تقدير التبعيض في الاستيفاء.

_ (1) في الأصل: "فيها". (2) في الأصل:، فكان". والمعنى لمكان الأصبع من اليد وحاجتنا إليه، لأن اليد المستحقة قصاصاً يدٌ كاملة الأصابع. وللآخر دية الأصبع، فإن عفا مستحق اليد، كان للآخر قطع الأصبع إن شاء وردّ الدية. (3) في الأصل: "ويرتقي". وهو تحريف واضح. (4) زيادة من المحقق. (5) ر. المختصر: 5/ 110. (6) ر. المختصر: 5/ 112. (6) كذا قرأناها بصعوبة بالغة، وهي كذلك - إن شاء الله. (7) في الأصل: "لكان".

ولو عفا أحد الأولياء عن القصاص، سقط حقه وترتب عليه سقوط حقوق الباقين؛ فإن القصاص واحد، فإذا سقط بعضه، استحال استيفاء باقيه [مع] (1) الاقتصار على القدر المستحق، والسقوط أغلبُ في العقوبات إذا اجتمع فيها المسقط ونقيضه. وذهب طائفة من علماء المدينة إلى أن القصاص من حقوق الورثة ينزل منزلة حد القذف، فلو ابتدره واحد منهم دون مراجعة أصحابه، جاز، ووقع الموقع، ولو عفا جميع الورثة إلا واحداً منهم، فله الانفراد باستيفاء القصاص، اعتباراً بحد القذف في مثل هذه الصورة. وإنما ذكرنا مذهب هؤلاء لمسيس الحاجة إليه في ترتيب مذهبنا. فلو قتل أحد الوليين قاتلَ أبيه منفرداً، ولم يراجع أخاه، لم يخل: إما أن يفعل ذلك قبل عفو أخيه عن القصاص، وإما أن يفعله بعد عفوه عن القصاص، فلو ابتدر واقتصّ قبل العفو، فقد نص الشافعي على قولين في أن القصاص يجب عليه؛ فإن استيفاء حق نفسه من القصاص غيرُ ممكن، ولا سلطان له في استيفاء حق أخيه، فلا يمكن [أن] (2) يقع قتله عن جهة الاستيفاء، لا في حقه، ولا في حق أخيه، وإذا لم يقع عن جهة القصاص، فإن قتله إياه بمثابة قتل أجنبي، ولو قتل أجنبي رجلاً استوجب القصاصَ، وجب القصاصُ عليه بقتله؛ فليكن الولي كذلك. القول الثاني - وهو الأصح أنه لا يجب القصاص على الولي [المبادر] (3) القاتل، لمعنيين: أحدهما - أن القتل قصاصاًً مشترك بينه وبين أخيه، ولو كان الكل مستحَقاً لهذا المستوفي، لكان مستوفياً حقّ نفسه، فإذا ثبتت الشركة، فلا أقل من أن تنهض الشركةُ شبهةً في إسقاط القصاص عنه. هذا أحد المعنيين، وهو أظهرهما. والمعنى الثاني - التعلق بمذهب فقهاء المدينة [وهو] (4) أنهم جوزوا لكل واحد من

_ (1) في الأصل: "على". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "المبدر". (4) في الأصل: "وذهب".

الورثة أن ينفرد بالقتل، فينبغي أن ينتهض بمذهبهم شبهة في درء القصاص عن هذا المبتدر. التفريع على القولين: 10434 - إن حكمنا بأن القصاص يجب على الولي المبتدر، فلا يخلو ولي القاتل المقتول من أن يقتص منه أو يعفو، فإن اقتص من هذا الولي، فدية المقتول الأول ظلماً تتعلق بتركة القتيل القاتل: نصفها للولي [الثاني] (1) ونصفها لورثة الولي المبتدر. فإن عفا ولي القتيل القاتل عن الولي المبتدر على مال، تعلقت دية القتيل المظلوم بتركة القتيل القاتل: النصف منها للولي الذي لم يقتل، والنصف للولي الذي قتل، وعلى الولي [المبتدر] (2) لورثة القتيل القاتل تمام الدية: النصف منها يرتفع بالنصف قصاصاًً والنصف الآخر على الولي المبتدر. وقد تختلف الأقدار باختلاف أقدار الدية في القتل في القتيل القاتل والقتيل ظلماً، بأن يكون المظلوم رجلاً والمرأة قاتلة وهي القتيلة القاتلة، وقد يكون الأمر على الضد، فلينظر الناظر، وليجر على ما يقتضيه الحال. هذا تفريعٌ على أن القصاص يجب على الولي المبتدر، وكل ما ذكرناه يأتي من تنزيل قتله منزلةَ قتل الأجنبي، والحكم بأنه ليس استيفاءً، لا لحق المبتدر ولا لحق أخيه. 10435 - فأما إذا فرعنا على القول الآخر، وهو أن القصاص لا يجب على الولي المبتدر، فكيف الكلام في الدية؟ وعلى من يرجع الأخ الذي لم يأمر بالقتل؟ فسبيل افتتاح الكلام في هذا أن بعض القتل يقع عن حق المبتدر على هذا القول الذي نفرع عليه، فهو إذاً مستوفٍ حقَّ نفسه بطريق الاقتصاص. والنظرُ في حق أخيه، وفيه قولان: أحدهما - أن حقه يتعلق بتركة القتيل القاتل،

_ (1) في الأصل: "الباقي". (2) زيادة من المحقق.

فلا رجوع له على أخيه، والقول الثاني - أن حقه يتعلق بأخيه المبتدر. قال الأصحاب: القولان مبنيان على [المعنيين] (1) اللذين ذكرناهما في توجيه إسقاط القصاص عن المبتدر، فإن قلنا: المعنى شبهه [بالشركة] (2)، فمقدار حقه واقع له، وهو في الزائد [معتدٍ] (3) غيرُ مستوفٍ؛ فإن مستحق الحق لم يستنبه، والشرع لم ينصبه [وليّاً] (4) عليه، [فوقع] (5) قتله في حق صاحبه إتلافاً، فعلى هذا يرجع أخوه على تركة القتيل القاتل؛ فإنه بقتله في حق أخيه ينزل منزلة الأجنبي إذا قتله. وإن عللنا مذهب أهل المدينة، فكأنا نقول: القتل وقع استيفاء بكماله، ولكن المبتدر لما استبد بنفسه، كان مفسداً على أخيه حقه، فيضمنه له. هكذا كان يرتبه شيخي. ولست أرضى هذا المسلك، ولكن الوجه أن نقول: هذا المبتدر استوفى حق نفسه، والقتلُ لا يتبعض، فينشأ القولان من هذا من غير بناء على المعنيين، فالقول المنقاس حملُ القتل على [التبعيض] (6) وصَرْفِ بعضه إلى جهة الظلم، فيكون المبتدر كالأجنبي فيه، وموجب هذا تضمين المبتدر لورثة القتيل القاتل، وإيجاب حق الأخ الآخر في تركة القتيل القاتل؛ قياساً على ما إذا كان القاتل أجنبياً. ووجه القول الثاني: أن القصاص لا يمكن تبعيضه، فيُجْعل المبتدر [مستوفياً] (7) لحق أخيه، وليس [كالأجنبي] (8)، فإن أصل قتله ظلم، وليس القصاص مما يغرم

_ (1) في الأصل: "المعتدين". (2) في الأصل: "الشركة". (3) في الأصل: "معتبر". (4) في الأصل: "ولنا". (5) في الأصل: "موقع". (6) في الأصل: "البعض". (7) غير مقروءة بالأصل، رسمت هكذا تماماً (معويا). تنبيه: نذكر أن نسخة الأصل وحيدة، فليس ما تراه في الحواشي فروق نسخ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وتوسمه. والله الهادي إلى الصواب. (8) في الأصل: "بالأجنبي".

غرامة المتقوّمات، فاتجه على بُعدٍ تضمين المبتدر؛ من جهة أنه يبعد تبعّض القتل قصاصاًً وظلماً، فيبعد الحكم بوقوع القصاص [لمن لم يأذن فيه] (1) فاضطررنا في هذا المقام إلى تضمين المبتدر لأنه في حكم من قبض [حق] (2) غيره، ولم يوفِّه عليه، فهذا هو الوجه عندنا في توجيه القولين. التفريع عليهما: 10436 - إن قلنا: رجوع الولي الذي لم يأذن على تركة القتيل القاتل، فيرجع بنصف دية أبيه، ثم هم يرجعون بنصف دية القتيل القاتل على الابن المبتدر؛ فإنه في هذا النصف ظالمٌ بالقتل غيرُ مستوفٍ، ثم قد تختلف أقدار الديتين كما نبهنا عليه. فإن قلنا: رجوع الابن الذي لم يأذن على أخيه المبتدر، فلا طلبة على تركة القتيل القاتل، ويطالِب من لم يأذن أخاه المبتدر بنصف دية أبيه المقتول ظلماً أولاً، ثم إذا غرم هذا المبتدر لأخيه، فلا يرجع بما ضمنه على تركة القتيل القاتل، فإنا نزلنا [قتله] (3) استيفاءً، فكيف نجمع بين القتل المحكوم بكونه استيفاء، وبين الرجوع في المال؟ وقد جرى في أثناء الكلام قَطْعُ الأصحاب أولاً بأن الأجنبي إذا قتل مَنْ عليه القصاص، فليس القصاص مما يُضمن بالتفويت، فإن قيل: ألستم ذكرتم وجهين فيمن قتل جماعةً ترتيباً، وجعلنا حق استيفاء القصاص لولي الأول فابتدره ولي الثاني وقتله - في أن هذا الولي هل يغرم لولي الأول ديةَ قتيله؟ قلنا: ذاك بعدُ لا اتجاه له، وإنما أشار إليه بعض أصحاب القاضي، ولا ينبغي أن [تشوش] (4) قواعدُ المذهب بمثل ذاك الوجه. ثم هو على بعده منفصل عن الأجنبي؛ من جهة أن قتله وقع مستحَقاً له، فكان تفويته من جهة الاستيفاء، لا من جهة الإتلاف المحض. فهذا ما أردناه في ذلك. وكل هذا في ابتدار أحد الوليين قبل عفو الثاني.

_ (1) في الأصل: "من لم يأذن فيه". (2) في الأصل: "بحق". (3) في الأصل: "فله استيفاء". (4) في الأصل: "تشق بين"، وهو تصحيف جعل الكلمة الواحدة كلمتين.

10437 - فأما إذا عفا أحد الوليين، فابتدر الثاني، وقتل، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك [بدون العلم] (1) بالعفو، وإما أن يكون عالماً به، فإن كان مع العلم بالعفو، ففي وجوب القصاص على هذا المبتدر قولان مرتبان على القولين فيه إذا ابتدر أحدهما وقتل قبل عفو الثاني، ثم القولان بعد الترتيب مبنيان على المعنيين المذكورين في توجيه أحد القولين. فإن قلنا: المسقط للقصاص عن المبتدر الشركة، فهي زائلة بالعفو، وإن قلنا: المسقط خلاف العلماء، فهو قائم؛ فإن الذين صاروا إلى جواز انفراد أحد الوليين باستيفاء القصاص [نحَوْا به نحو حدّ القذف] (2) وزعموا أنه لا يسقط حق من لم يعف بعَفْو من عفا. وكان شيخي يقول: الخلاف في نفس الشيء لا يوجب درءَ العقوبة سواء كانت لله أو للآدمي، فإنا لو جعلنا الخلاف في ثبوت العقوبة وانتفائها شبهةً دارئة للعقوبة، لما تصور الخلاف [في] (3) العقوبة، ولاقتضى إيجاب العقوبة مدركاً مستيقناً حتى لا تفرض عقوبة في مجال الظن. فأما إذا كان الخلاف في إباحة السبب، فالمذهب الأصح أنه إذا كان (4) مساغٌ ولم يصادم أمراً مقطوعاً به، فإنه يدرأ العقوبة الثابتة لله، وهذا كخلاف ابن عباس في إحلال المتعة، وإن كانت العقوبة للآدمي كالقصاص في الصورة التي نحن فيها، فالخلاف هل يدرأ العقوبة؟ فعلى قولين؛ فإن حقوق الآميين أبعد عن السقوط من حقوق الله تعالى، ولا [يعدم] (5) الفقيه تقدير هذا. ومما [نؤثر للفقيه] (6) التنبه له أن إسقاط القصاص مع العلم بالعفو في الصورة التي نحن فيها أقرب مأخذاً من إيجاب القصاص على المبتدر إذا لم يكن عفوٌ.

_ (1) غير مقروءة في الأصل: ورسمت هكذا: " ـعدا بعلم ". (2) عبارة الأصل: ونحواً به لحد القذف. (3) في الأصل: "من". (4) (كان) هنا تامة بمعنى (وجد). (5) في الأصل: "يقدم". (6) في الأصل: "يؤثر الفقيه".

هذا إذا كان القاتل عالماً بعفو أخيه. 10438 - فأما إذا ابتدر ولم يعلم بعفوه، فهذا يترتب على ما إذا علم بالعفو، فإن لم يلزمه القصاص مع العلم، فلأن لا يلزمه إذا كان جاهلاً أولى، وإن ألزمناه القصاص في حالة كونه عالماً، ففي حالة الجهل قولان مبنيان على أصلٍ سيأتي تمهيده، وله صور: منها أن من رأى مرتداً [وتعدى] (1)، ثم رآه بعد زمان، فحسبه مصراً على ردته وقتله، ثم تبين أنه كان أسلم، ففي وجوب القصاص على قاتله قولان، ووجه [التشبيه] (2) أن المقتول معصومٌ، والقاتل غير عالم بعصمته، وليس هو معذوراً في الإقدام على قتله، وادعاء القاتل هذا الأمر على إباحة قتله ظاهر، فانتظم القولان [وفي هذا الأصل معاصات سننبه عليها] (3)، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ولو قطع يده من مفصل الكوع، فلم يبرأ القطع حتى جاء آخر وقطع ذلك الساعد من المرفق، ثم مات المجني عليه ... إلى آخره" (4). 10439 - فمذهب الشافعي أن القصاص في النفس يجب على القاطعين جميعاً، وأوجب أبو حنيفة (5) القصاص على الثاني، واعتقد أن سراية القطع الأول انقطعت بزوال محل القطع. فإذا ثبت من أصلنا وجوب القصاص عليهما، فالولي يقطع يدَ الأول من مفصل الكوع، ويُنظر في الثاني، فإن صادف له ساعداً بلا كف، قطع يده من المرفق، فإن

_ (1) في الأصل: "وتعدا" كذا تماماً. وهي في غير موضعها سواء كانت بالألف أم بالياء ولما أدر عن أي كلمة صحفت أو على أي وجه تُقرأ. (2) في الأصل: "التنبيه". (3) عبارة الأصل: "فانتظم القولان في هذا الأصل معاصاة بسببه" والزيادة والتعديل من المحقق ونرجو أن يكون صواباًً. (ومعاصات) من عَوِص وعاص الكلامُ إذا خفي معناه، وهي جمع لاسم المكان. (4) ر. المختصر: 5/ 114. (5) ر. الفتاوى الهندية: 6/ 15.

صادف يد الجاني مع الكف، فهل يقطع يده من المرفق؟ اختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال: له ذلك، وهو الأظهر؛ فإن نفس هذا الجاني مستحَق، وقطع يده من المرفق طريقٌ في قتله، وليس في القطع من المرفق مزيد مَثُلة، وإن كان عليها كف، فلا جُنّة بالكف، فإنها هالكة بالقتل المستحق. ومن أصحابنا من قال: لا نقطع يد الجاني وعليها الكف من المرفق. وليس لهذا الوجه اتجاه عندي إلا من جهة أنا نقدّر العفو عن النفس من المستحِق، ولو فرض ذلك، لكان القطع من المرفق مع الكف زيادةً غيرَ مستحَقه. وحمل بعض أصحابنا هذين الوجهين على وجهين سيأتي ذكرهما في أصلٍ قريب مما نحن فيه، وهو أن من أجاف غيره وقتله، فالجائفة لو اندملت، فلا قصاص فيها، وإذا حصل القتل بها، فهل يجوز الاقتصاص بالإجافة عن النفس؟ فعلى وجهين، ووجه [الشبه] (1) أن الجائفة لو لم يحصل القتل بها لا قصاص فيها، ولا يُقطع مرفق وعلى الساعد كف بساعدٍ قُطع من المرفق ولا كف عليه، فإذا حصل القتل بهما، وصارت الروح مستحقة، فالأمر على الخلاف، وهذا التشبيه ليس [بمرضيٍّ] (2) عندي؛ فإن سبب الخلاف في الجائفة أنها غيرُ منضبطة، فلا نأمن أن يتعدى إلى الحد مَثُلة؛ هذا هو الذي أثار الخلاف ثَمَّ، وهذا المعنى مفقود في قطع المرفق، فالطريق في التوجيه ما نبهنا عليه في [توقع] (3) العفو. فصل قال: "وإذا تشاحّ الولاة ... إلى آخره" (4). 10440 - إذا ثبت القصاص بين جماعة ورفعوا أمرهم إلى السلطان، فرآهم السلطان أهلاً لاستيفاء القصاص، فإن فوضوا الأمر إلى واحد منهم حتى تعاطى

_ (1) في الأصل: "السبب". (2) في الأصل: "مرضي". (3) في الأصل: "ترفع". (4) ر. المختصر: 5/ 114.

الاقتصاص، جاز، وإن تشاحّوا، فالوجه أن يُقرع بينهم، فإذا خرجت القرعة لواحد، فهل يجوز له أن يبتدر الاقتصاص دون رضا أصحابه؟ فعلى وجهين ذكرهما مشايخنا: أحدهما - أنه لا ينفرد ما لم يرضَ أصحابُه (1)، فإن الانفراد بالاقتصاص غير سائغ عندنا. والوجه الثاني - أنه يجوز له أن يبتدر، فيقتصَّ؛ إذ لو لم نقل ذلك، لما كان للقرعة معنى وفائدة، ولرجع الأمر إلى امتناع الاقتصاص حتى يعينوا واحداً، ولو عينوا واحداً، فلا حاجة إلى القرعة. وهذا يحتاج إلى فضل نظر: فإن خرجت القرعة، فصرح الذين لم تخرج [القرعة] (2) لهم بالمنع من الاقتصاص، [فهذا] (3) غير جائز (4)، وإن ظهر منهم قصد القتل قصاصاً، وردّوا نزاعهم إلى [تخيّر] (5) من يقتل، فحكّمنا القرعة، ولم يُبْد أحد منعاً، فهل يجوز لمن خرجت قرعته الابتدار بناء على ما ظهر من حالهم من قصد القتل؟ فيه الخلاف الذي قدمناه (6). وليس اختلاف الولاة في القصاص بمثابة اختلافهم في التزويج؛ فإن الولاة في [حقه] (7) إذا اختلفوا فيمن يزوج المرأة واقترعوا، فمن خرجت قرعته لا يحتاج إلى مراجعة أصحابه إذا رضيت المرأة ذلك، والأصل على الجملة بعيد [عن] (8)

_ (1) المعنى: ما لم يرض أصحابه بالابتدار، يعني إذا رأوا التأخير، فليس له الابتدار، وذلك أن القصاص مبناه على الإبراء والإسقاط، وهذا بخلاف التزويج، فالنكاح مبني على التعجيل. (2) في الأصل: "بالقرعة". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) نص الرافعي على خلاف ذلك، فقال: "ولا شك أنه لو منع أحدهم من خرجت له القرعة من الاستيفاء لم يكن له الاستيفاء" وبمثله قال النووي. (ر. الشرح الكبير: 10/ 257، والروضة: 9/ 215). (5) في الأصل: "غير". والمثبت من المحقق، مع محاولة الالتزام بأقرب الألفاظ صورة لما هو موجود في الأصل. (6) هذه طريقة للإمام جعل الخلاف في جواز الابتدار والتأخير، فأما إذا اتفقوا على الاقتصاص، وأقرعوا بينهم، فلا يجوز -عنده- الرجوع عن الاقتصاص. (7) في الأصل: "حرحه" (هكذا تماماً وبدون نقط) (انظر صورتها). (8) في الأصل: "على".

القصاص؛ فإن من لم تخرج قرعته لو ابتدر، فزوج بالإذن، نفذ، وإنما القرعة استحسان محضٌ في ازدحام ولاة النكاح، فهذا منتهى المراد في ذلك. [فصل] (1) قال: "ولو طرحه في نار حتى يموت ... إلى آخره" (2). 10441 - المماثلة عندنا مرعية في استيفاء القصاص إذا لم يكن فيها اهتتاك حرمة. هذا أصل الباب، وتعليله أن [مبنى] (3) القصاص على التشفي ودَرْك الغيظ، ولا اختصاص للولي به إلا من هذه الجهة؛ فإن ما فيه من معنى الزجر [لا يختص] (4) بالولي، بل فيه مصلحة عائدة على الكافة؛ من حيث يتضمن زجر الغواة أجمعين، فإذا كان أصل القصاص على التشفي، اقتضى ذلك المماثلةَ في الجهة. ثم معتمد الفقهاء أن القتل بالسيف [أوحى] (5) جهاتِ القتل وأسهلُها، وسيظهر أثر هذا في أثناء الكلام، إن شاء الله عز وجل. فإذا حرّق رجلاً [اقتُصّ] (6) منه بالتحريق، وكذلك إذا غرّق أو خنّق. فالوجه أن نقسم جهات القتل تقسيماً ضابطاً، فنقول: هي تنقسم إلى ما يقتل لا بطريق السراية، وإلى ما يقتل بجهة السراية. فأما ما يقتل لا بجهة السراية، فينقسم إلى ما ليس فاحشة في أصل الشرع، وإنما سبب تحريمه رعاية حق المقتول المعصوم، وإلى ما هو فاحشة. فأما ما ليس فاحشة فيه كالقتل بالخنق، والتغريق، والتحريق، [والوُجور] (7)

_ (1) مكان بياض بالأصل. ولعله كان بلون أحمر فلم يظهر في التصوير. (2) ر. المختصر: 5/ 114. (3) في الأصل: "حى" (بدون نقط). (4) في الأصل: "ولا يختص". (5) في الأصل:، "أوفى". وأوحى: أي أسرع. (6) في الأصل: "اقتضى". (7) في الأصل: "والوتر".

والموالاةِ بالضرب، [والمثقلات] (1)، والترديةِ من عُلوّ، فالقتل بهذه الجهات ليس من الفواحش. وآية ذلك أنا قد نقتل بها الكفار، فالمماثلة جارية في هذه الجهات. 10442 - ثم الوجه أن نقول: [إذا قتل الجاني بالإحراق، عمدنا إلى إيقاد نار مثلِ نار الجاني] (2) وألقيناه فيها، فإن مات الجاني بالكَوْن في النار في المدة التي مات المظلوم فيها، [فلا كلام] (3)، وإن لم يمت في مثل تلك المدة، فهل على الولي أن ينتقل إلى السيف؟ نُظر: فإن كان قَتْلُه بالسيف أهونَ [من] (4) تبقيته في النار، ضرب الوليُّ رقبته، فلو أراد الجاني أن يُترك في النار، لم يترك فيها. ولو أراد الولي أن يتركه، وقال الجاني: اضربوا رقبتي، ضربت رقبته إن أراد الولي الاقتصاص، ويظهر الغرض في مبدأ هذا الفصل بما ذكرناه أولاً، وهو أن الولي إذا أراد ضرب رقبته، أجيب إلى ذلك. ولو قال الجاني: لو تركتموني [أُحرّق] (5) مدة بقائي! [فاتركوني] (6)؛ فإن البقاء مع العذاب أحب إليّ، قلنا: ليس لك هذا، وحق القصاص على الفَوْر ولا تؤخَّر لتبقى. وإن قال: إذا ضربتم رقبتي بالسيف جمعتم عليّ بين نوعين، قلنا: لا مبالاة بهذا؛ إذ كان القتل بالسيف أوْحَى (7). ولو رضي بالتبقية في النار، فهاهنا ذكر شيخي خلافاً، والأظهر أنه لا أثر

_ (1) في الأصل: "والمقلات". (2) عبارة الأصل غير مقروءة في بعض كلماتها، ومضطربة في بنائها، والمثبت من المحقق، مع محاولة الالتزام بأقرب صورة لما هو موجود من كلمات الأصل وحروفه، التي جاءت هكذا: "إذا قتل الجاني فالإحراق ـعمد ـالد ـار مثل تلك نار الجاني" انظر صورتها. (3) مكان بياض قدر كلمتين، وقدرناهما على ضوء أسلوب الإمام في التفريع. (4) في الأصل: "في". (5) في الأصل: "أمرت". (6) في الأصل: "ما تركوني". (7) أوحى: أسرع. والوحا السرعة يمد ويقصر، ويقال: موتٌ وَحِيّ مثل سريع وزناً ومعنى، فعيل بمعنى فاعل (المعجم والمصباح).

لتراضيهما، فإن منع المَثُلة متعلق بحق الله تعالى. ومن أصحابنا من قال: لا يُمنع إدامةُ الجنس الأول، [لما] (1) في النفوس من استشعار مزيد العقوبة عند فرض الانتقال من [جنس إلى جنس] (2)، والكلام مفروض في الأسباب الموجِبة، فلا يظهر أثر المَثُلة عند استمرار السبب [الموجِب] (3) زماناً. هذا إذا [كان ضرب الرقبة] (4) أهون. فأما إذا كان الإبقاء في النار أهون، هذا مما صوره المحققون وأطلقوه، وكان شيخي [يأبى] (5) تصور هذا، ويقول: القتل بالسيف أهون في حق كل أحد من سائر الجهات، ويمكن أن يقال: هذا مفروض فيه إذا كان لا يتأتى قتله بالسيف وهو في النار، وإذا طلبنا إخراجه، عظُم شقاؤه، وإذا تُرك يرجى هلاكُه، وليس يبعد تصوير ذلك على هذا الوجه. فإذا أخذنا بتصوير هذا، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أنه يبقى في النار، لأنه أسهل عليه، والثاني - لا يبقى بل يُخرج وتحز رقبته: أما وجه إبقائه في النار، فبيّن، وهو رعايةٌ لحقه والتوحِّي، وينضم إليه اتحاد جهة العقوبة، فأما من قال: إنه يقتل بالسيف، مع الاعتراف بأن القتل بالسيف أشق، فلا وجه لهذا إلا إذا صور أن القتل بالسيف أقربُ من جهة الزمان، فيقول مستحق القصاص عجّلوا لي حقي، فإن كان يفرض القتل بالإبقاء أوْحى، أو كان في مثل [مدة] (6) القتل بالسيف، فلا اتجاه أصلاً -مع انتهاء الكلام إلى هذا المنتهى-[لقول] (7) من يقول: إنه يقتل بالسيف. نعم، غاية الإمكان في توجيه هذا الوجه أن يقال: الوَحِيّ (8) بالسيف

_ (1) في الأصل: "بما". (2) في الأصل: "من حسن إلى حسن". (3) في الأصل: "الموحي". (4) في الأصل: "كان استمر ضرب الرقبة أهون". (5) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (6) في الأصل: "هذه". (7) في الأصل: "كقول". (8) الوحِيّ بالسيف: أي القتل الوَحي، والوحي: السريع وزناً ومعنىً، فعيل بمعنى فاعل.

لا شك فيه، ودرك التوحى بعده غير منضبط، فكان السيف مقدماً لذلك، [فتوجيه] (1) الوجهين يؤول إلى التردد في التصوير لا محالة. 10443 - ولو قتل رجل رجلاً [بالخنق] (2)، فأراد ولي القصاص أن يقتله بالسيف، فقد قطع شيخي بأن له ذلك، [ومال] (3) إلى أن القتل بالسيف أوحى وأيسر، وفي [الطرق] (4) رمزٌ إلى مخالفة هذا، [فيمكن] (5) أن يؤثر المرء [الخنقَ] (6) ويراه أَوْحى وأقربَ إلى إزالة الحس الذي به درك الألم، والضرب بالسيف يختلف من المهرة؛ فإنه يتعلق بحركات [اختبار] (7) وأمورٍ يدق مُدركها عند أهلها، ولا ينبغي أن يستبعد هذا (8)، وقد ذكرنا وجهين في الإبقاء وضرب الرقبة بالسيف. 10444 - ولو قتل الجاني بالحبس في البيت [والتجويع] (9)؛ فإنا نجوّز للولي أن يقتل بمثله، ولا شك أن الولي لو أراد القتل بالسيف، كان له ذلك في هذه الصورة، فإنه أوحى وأيسر، فلو قال: الجاني: اقتلوني بمثل ما قتلت به، وأمتعوني ببقاء أيام. قلنا له: هذا يعارضه أن القصاص إذا وجب، وجب على الفور، ومن أتلف

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (2) في الأصل: "بالحق". (3) مكان كلمة غير مقروءة رسمت هكذا "وحان". (4) في الأصل: "الطرف". (5) في الأصل: "ويبعد" وهو عكس المعنى المفهوم من السياق. (6) في الأصل: "الخير". (7) في الأصل: "اختياره". والمثبت من تصرّف المحقق، والمراد بحركات الاختبار، ما يكون من الضارب أولاً من هزّ السيف، وتحريكه نحو المضروب حتى يعرف أين تقع ضربته. (8) ربما كان من الأولى أن نذكر هنا عبارة الرافعي عن هذه المسألة، فقد نقلها عن النهاية وعبر عنها بألفاظه، فقال: "وفي (النهاية) أنه لو قتل بالتخنيق، فأراد الولي أن يقتله بالسيف، فقد قطع الشيخ أبو محمد بأن له ذلك، وفي الطرق رمز إلى خلافه؛ لأن الخنق قد يُظن أنه أقرب إلى إزالة الحس المدرك للألم، والضرب بالسيف يختلف باختلاف الضاربين والمشهور الأول" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 10/ 277). (9) في الأصل: " والـ حر مع ".

مقداراً في مُددٍ، غَرِم على الفور، فإن [قال] (1): الموت بالجوع أهون، كذبناه، فهذا منتهى ما أردناه. 10445 - ومما يجب الاعتناء به أنا إذا كنا نرعى طريقَ المماثلة، فيجب الاحتياط به، حتى إن كان أحرق بنار، [راعينا قدرها، وكلما عظمت النار] (2)، كان الموت بها أوحى. وإذا قتل بالتردية، اعتبرنا مثلَ ذلك البعد في المَهْوى وصلابة الموقع. وإن كان قتل بالضربات، فإنا نضربه بمثل تلك الآلة، ونرعى مثل تلك العِدّة، فإن مات، فذاك، وإن لم يمت، فيبعد تصوير القتل بذلك الجنس أوحى من القتل بالسيف، فيتعين العدول إلى السيف. ولو قتل [نحيفاً] (3) بضربات يُقصد بها قتلُ مثله، واستوجب القصاصَ لذلك، وعلمنا أو ظننا ظناً غالباً أن [الجاني] (4) في جثته وقوته لا يهلك بتلك الضربات، وقد نظن أنه لا يهلك بأضعافها، فالوجه عندنا القطعُ بأنه يقتل بالسيف؛ فإن الضرب ليس قاتلاً له، مع الاقتصار على القدر الذي جرى، فليس في إيقاعه به إلا تعذيبٌ محض، ثم العدول إلى السيف، ونحن إنما نرعى المماثلة في الجهة إذا كنا نظن [القتل] (5) بها قصاصاًً مع رعاية المساواة، فليس كل جناية مقابلةً بالمماثلة، وهذا بيّنٌ لا خفاء (6) به. 10446 - وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى القتل بما ليس بفاحشة في نفسه، وأما إذا

_ (1) في الأصل: "قلنا". (2) في الأصل: "وراعينا قدر ما وكل ما عظمت النار". (3) في الأصل: "محرماً". والمثبت من الشرح الكبير حيث نقل الرافعي العبارة عن الإمام. (4) في الأصل: "الحاز" (كذا تماماًَ). (5) في الأصل: "القتلة". (6) نذكر هنا عبارة الرافعي، فقد نقل المسألة عن الإمام بألفاظه، فقال: "قال الإمام: ولو قتل نحيفاً بضربات تقتل مثلَه غالباًً، وتيقنا أو ظننا ظناً مؤكداً أن الجاني في جثته وقوته لا يهلك بتلك الضربات؛ فالوجه القطع أنه لا يُضرب تلك الضربات؛ لأنها لا تقتله، وإنما تراعى المماثلة، إذا توقعنا حصول الاقتصاص بذلك الطريق." (ر. الشرح الكبير: 10/ 278).

جرى بما هو فاحشة مثل أن يلوط بصغير، فيهلكَ به، أو يوجِرَ إنساناً خمراً حتى يموت، فلا شك أن المماثلة ممتنعة، والذي ذهب إليه الأصحاب أن العدول إلى السيف مع الاقتصاص. وقال أبو سعيد الإصطخري: [يوجر] (1) الجاني ماءً إذا كان أوْجر خمراً، ويدس في [اللائط] (2) خشبة على قدر الآلة. قلت: وهذا فيه إذا كان يظن أنه يهلك به، فإن لم يكن كذلك، التحق بالضربات في حق النحيف والجاني لا يهلك بها. 10447 - وفي لفظ الشافعي تردد وإشكال في بعض أطراف المسألة؛ فإنه قال رضي الله عنه: "إذا شدخ رأسه بحجر يوالَى بذلك عليه إلى أن يموت" هكذا نقله المزني (3)، [وظن أن الشافعي يرى أنه إذا لم يمت الجاني بالضربات] (4) التي سبقت منه، فنزيد في الضربات، ولا نعدل إلى السيف، وإنما وقع له هذا من قول الشافعي: "قال بعض أصحابنا: إن لم يمت من [عدد] (5) الضرب، قتل بالسيف" (6)، فاعترض (7) وقال: هذا خلاف أصله، وأصلُه في التعطيش والتجويع؛ فإنه يقول فيه: "لا يوالى عليه إلى أن يموت". قلنا: مذهب الشافعي أنه إذا فعل به مثلَ ما فعل بالضرب ولم يمت، تحزّ رقبتُه؛ فإن حزّ الرقبة أهون، ولم يبق لمستحق القصاص بعد ما عاقب بالجهة التي جرت الجناية [بها] (8) إلا القتلُ على أوحى الوجوه، والشافعي قد يعني نفسه بقوله: "ذهب

_ (1) في الأصل: "يوجه". (2) في الأصل: "الإبط". (3) ر. المختصر: 5/ 114. (4) عبارة الأصل: "وظن الشافعي أنه إذا لم يمت الجاني بالضربات ... إلخ" والتصرف بالزيادة من المحقق. (5) في الأصل: "عرر". والمثبت من نص المختصر. (6) السابق نفسه. (7) أي المزني. والمذكور هنا معنى كلامه، لا ألفاظه ونصه. (8) في الأصل: "فيها".

بعض أصحابنا" [إشارة] (1) إلى مذهبٍ له، فهو يخالف القطع، ونحن [نرعى] (2) من مذهبه القطعَ بالعدول إلى السيف، ففي اللفظ ما فيه. وقد سمعت شيخي رضي الله عنه يحكي مطلقاً قولاً: أنا لا نعدل إلى السيف، بل نتمادى [على] (3) الجنس الذي وقع القتل به، وغالب ظنّي أنه كان يقول ذلك في النار، والتغريق، وإطالة مدة التجويع والتعطيش، فأما الزيادة على أعداد الضربات، فليس عندي في هذا سماع، وإن صح ما نقله، فهو لائق بالنص، وإن كان مشكلاً في المعنى، ثم يجب طرده في الزيادة على أعداد الضربات، ففيها اللفظ المشكل المنقول عن الشافعي، وهذا القول المرسل لا يتوجه عندي إلا بردّ الأمر إلى استشعار النفس [الخوفَ] (4) من النقل من جنس إلى جنس، وهذا لا أصل له، فإن ضربةً بسيف، أقربُ من مائة ضربة بجنسه. فهذا منتهى الإمكان نقلاً وتصريحاً، ولم أنقل القول المطلق حتى تَمهَّدَ المذهبُ نفياً [وإثباتاً] (5) كما سبق، ثم ربطته بالنص؛ فإنه عاضَدَه. 10448 - ونحن نختم هذا الفصل بالتنبيه على معنىً بدعٍ [نخرِّج] (6) عليه قولاً لم يصححه الأصحاب، ئم نجمع مناظم المسائل في تراجم، [فليُقبل] (7) الناظر عليها، وليقدّر ما يقدّر جارياً على مسلكنا في طريق المباحثة، فنقول: إذا لم يمت الجاني بمثل صنيعه، [بالمجنيّ] (8) عليه، فسبب ذلك أن [جنايته] (9)

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) في الأصل: "ندعي". (3) زيادة من المحقق. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) زيادة على ضوء أسلوب الإمام في هذا التعبير الذي يتكرر كثيراً. (6) في الأصل: "الحرج". (7) في الأصل: "فلنقول". (8) في الأصل: "فالمجني". (9) في الأصل: "جناية".

وقعت من المجني عليه موقعاً عظيماً، لضعفه، فهدمت بنيته، وهذا القدر لم يقع من الجاني موقع جنايته من المجني عليه، فإذا نحن زدنا من ذلك الجنس، فكأنا لم ننظر إلى قدر الفعل، وإنما طلبنا في [موضوع] (1) طريقِ المماثلة موقعَ الجناية لا صورتَها، ولا وصول إلى الموقع إلا بالزيادة في صورة الجناية، فاللطمة تقع من الطفل موقعاً تُهلكه، أو تدنيه من الهلاك، ولا موقع لها من الأيّد، وإذا [زيد] (2) في الجنس وبلغ جنسُ اللَّكم من القوي مبلغاً [يكون] (3) وقعه عليه كوقع اللكمة من الطفل، فهذه هي المماثلة، وقد يُضّطر إلى هذا في السيف، فإن النحيف تحذف رقبته [بضربةٍ واحدة] (4) بالسيف [والعُتلّ] (5) يوالى عليه بالضربات، ويُحتَمل ذلك. وهذا [يصل بنا] (6) إلى أمرٍ هو تمام الكلام، هو أن المَوْقع (7) لا إشكال فيه، إذا حصل القتل، فلا نزال نزيد إلى الموت، وعنده يتبين آثار [رعايتنا] (8) المماثلة. وإنما قررنا هذا لأن النص مائل إليه. ثم هذا الذي ذكرناه يرد عليه سؤال وجواب عنه، وهو قُصارى الغرض، فإن قيل: قد قلتم إذا حصل القتل بضربةٍ في رضيع، فلا يوالَى على الجاني الأيّد بالضربات حتى يموت، وصرتم إلى أن المماثلة إنما نرعاها إذا تصور أن يكون قدر الجناية قتلاً للجاني، فإن لم يتفق [إلا مع الزيادة، فكيف الكلام] (9)؟ قلنا: ذلك منه [ارتماءٌ] (10) في رجم الظن؛ ولسنا نُبعد الآن أن نقتل الأيّد بالضرب، نظراً إلى

_ (1) في الأصل: "موضع". (2) في الأصل: "ارتدّ". (3) في الأصل: "ويكون". (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "القتل". (6) زيادة من تصرف المحقق. (7) المراد التماثل في موقع الجناية لا صورتها. (8) في الأصل: "اعتناء". (9) في الأصل: "فإن لم يتفق مع الزيادة الكلام". والتصرف في العبارة من المحقق. (10) غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها).

ما ذكرناه من فقه الموقع. نعم، إن كنا لا نرى الزيادة على قدر الجناية من جنسها، وعلمنا قطعاً أنه لو ضُرب ذلك المقدار، لم يمت، ولم نر الزيادة، فلا معنى لتعذيبٍ لا يتوقع منه القتل، والضربة الآن -حيث انتهى التفريع- ليست من القتل، وليست قتلاً. 10449 - والآن نعيد المسائل المرسلة تراجمَ وننظمها في سِلْكٍ، فنقول: إن مات الجاني بالقدر الذي وقع [على] (1) المجني عليه، فلا كلام، وإن لم يمت بذلك القدر، لم يخل: إما أن يكون السيف أهونَ منه، [فالذي] (2) ذهب إليه معظم الأصحاب أنه يُعدل إلى السيف. وذكر شيخي قولاً ثالثاً: أنا نتمادى على جنس الجناية، والنصُّ يشهد لهذا، وهو معلل بفقه الموقع. وإن كان إبقاؤه أو التمادي في جنس الجناية أهونَ، ذكر الأصحاب وجهين هاهنا، وهذا [مُستدٌّ] (3) إذا كان القتل [بسببٍ] (4) غيرِ منقطع كالبقاء في النار، وفي ضيق التجويع والتعطيش. وإن كان جنس الجناية مما يتعدّد، لم يخل: إما أن يكون ضرباً، وإما أن يكون جرحاً بالسراية، فإن كان ضرباً، فالزيادة في الضربات إلى الموت أبعد عند الأصحاب من الإبقاء في النار وما في معناها، وكان شيخي يطرد الخلاف، وهو مصرَّح به في النص؛ فإنه مفروض في الشدخات والضربات بالحجر. وإن كانت الجناية جرحاً، لم يخل: إما أن يكون بحيث يتعلق القصاص به لو اندمل، كقطع الأيدي والأرجل، وإما أن يكون بحيث لا يتعلق القصاص به لو انفرد، فإن كان جرحَ قصاص، فلا زيادة من جنس الجناية، فلو قطع يدي رجل، فمات المجني عليه، قطعنا يدي الجاني، فإن لم يمت، لم نقطع رجليه، بل عدلنا إلى ضرب الرقبة، وهذا متفق عليه؛ فإن الزيادة في هذا القبيل ليست زيادةً في جنس

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "والذي". (3) في الأصل: "مستمرّ". (4) في الأصل: "سببا".

وإنما هي عدول عن جنس الجناية، فإذا كنا نعدل، فضرب الرقبة أولى. وإن كان الجرح بحيث لا يتعلق القصاص به لو اندمل [كالجائفة] (1)، فهل نجيف الجاني كما أجاف؟ في المسألة قولان: أحد القولين - نجيفه جرياناً على المماثلة، كما نقتله بالضرب والشدخ. والثاني - لا نفعل ذلك؛ فإن الجوائف لا يُضبط مبالغ الإيذاء فيها، وليست موحيةً، بخلاف الإغراق والإحراق والخنق والضربات التي ترد على الظاهر، [فهي] (2) مضبوطة أو قريبة من الضبط. فلينظر الناظر في الإيحاء أو في ظهور الأسباب، فإن قلنا: لا نجيف الجاني، فلا كلام، وإن قلنا: نجيفه، فالأصح أنا لا نزيد من جنس الجوائف، كما لا نقطع الرجلين بعد قطع اليدين؛ فإن الجوائف مختلفة الأجناس، إذا اختلفت محالها. وأبعد بعضُ أصحابنا، فخرَّج التمادي على الإجافة على الخلاف، قياساً على الضربات، وقال: إذا جرت المماثلة في الأصل، لم يبعد جريان الخلاف في الزيادة، وهذا يرد عليه قطع الأطراف. فهذا منتهى المراد. وقد ذكرنا قتلَ الطفل بالضربة والجاني أيّدٌ، وأجرينا فيه ما ينبغي، فلا نعيده. 10450 - ومن تمام القول في ذلك أن من قطع يديْ رجل، فمات، فقطعنا اليدين من الجاني، فلو قال: أمهلوني مدة بقاء المجني عليه، فلعلي أموت بهذا القطع، وهذا هو المماثلة، لم نُجبه إلى ذلك، وقتلناه بالسيف؛ لأن حق القصاص ناجز، واليد المقطوعة مقصودة بالقصاص، ولو أراد ولي القصاص أن يُمهل الجاني، فقال: ادعوني واقتلوني واعطفوا عني (3)، لم يكن له ذلك، والأمر إلى مستحق القصاص. والله أعلم. وقد أتينا على القتل بالأسباب السارية. وهو أحد قسمي الكلام.

_ (1) في الأصل: "بالجائفة". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) كذا تماماً، والجمل الثلاث معناها واضح. فهو يقول: اطلبوني للقتل، واقتلوني، وميلوا عني، وأريحوني من وجوهكم.

[فصل] (1) قال:"والقصاص دون النفس شيئان جرح يشق وطرف يُقطع ... إلى آخره" (2). 10451 - القصاص ضربان: أحدهما - في النفس، وقد مضى معظم المقصود منه. والثاني - في الأطراف، ومعظمها على الجملة مصونةٌ بشرع القصاص فيها كالنفس. ثم القصاص في الطرف ضربان: جرح يشقّ، وطرفٌ يُقطع، فالجروح تنقسم إلى ما يقع منها بالرأس والوجه، وإلى ما يقع بسائر البدن، فأما ما يقع منها بالرأس والوجه، فهي التي تسمى الشِّجاج، ولها مراتب عشرٌ ذاتُ أسماء: [الحارِصة] (3): وهي التي تحرِص الجلد أي تشقه، ومنه قولهم: حَرَص القصّار الثوب إذا شقه. والدامية: وهي التي يسيل منها الدم (4)، والباضِعة: وهي التي تبضَع اللحم

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) ر. المختصر: 5/ 117. (3) في الأصل: "الجارحة". (4) خطّأ النووي الإمامَ والغزالي في تفسيرهما (الدامية) بأنها التي يسيل منها الدم، قال: "الدامية وهي التي يدمَى موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، هكذا نص عليه الشافعي وأهل اللغة، قال أهل اللغة: فإن سال منها دم، فهي الدامعة -بالعين المهملة- وذكر الإمام والغزالي في تفسيرها سيلان الدم، وهو خلاف الصواب." انتهى بنصه. (ر. الروضة: 9/ 179). قلتُ: عبد العظيم: ما رأيناه يشهد بأن الصواب مع الإمام والغزالي، وأهل اللغة يشهدون لهما لا للإمام النووي، فهذا أبو منصور الأزهري يقول: "جملة ما أفسره في هذا الباب من كلام الشافعي، ومما جمعه أبو عبيد للأصمعي وغيره ومن كتاب شَمِر في غريب الحديث: فأول الشجاج عندهم: الحارصة: وهي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلاً ... ثم الدامعة: وهي التي تدمع بقطرة من دم. ثم الدامية: وهي أكثر من الدامعة ... إلخ". (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 815 - 818).=

وتقطعه، ومنه مِبْضع الفصّاد، والبِضعة القطعة ومن ذلك بضعةَ عشرَ، والمتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم غوصاً بالغاً (1). والسِّمحاق: [وهي التي تغوص في اللحم إلى نهايته، وتصل إلى الجلدة التي بين اللحم والعظم ولكنها لا تقطعها، وهذه الجلدة تسمى السمحاق. والموضِحة:] (2) وهي التي توضِح العظم وتَنْدُره (3)، والهاشمة: وهي التي تهشم العظم، والمُنَقِّلة: وهي التي تكسر العظم وتنقل القِطَع منها عن أماكنها، والمأمومة: وتسمى الآمّة، وهي التي تبلغ أم الرأس (4)، ولا تخرق الخريطة، والدامغة: وهي التي تخرق الخريطة وتصل إلى الدماغ، وليست من الجراحات؛ فإنها مذفِّفة مُجْهزة كضرب الرقبة. فهذه مراتب الشِّجاج. ونحن نذكر مواضع الشجاج، ثم نذكر ما يجري القصاص

_ = فهذا أبو منصور الأزهري ينقل عن الشافعي وأهل اللغة: "أن الدامعة تدمع بقطرة من دم، أي يسيل منها الدم قليلاً، كقطرة الدمع. ثم يقول: الدامية أكثر من الدامعة، وهي التي تليها في الترتيب، ولا معنى للكثرة إلا أن الدم الذي يخرج من الدامعة كقطرة الدمع يخرج بصورة أكثر من الدامية: أي يسيل. والله أعلم. ثم وجدنا الثعالبي في فقه اللغة يقول بمثل ما قال الأزهري (فقه اللغة: ص 242). وتتمة لهذا الأمر نؤكد أن ما قاله الإمام النووي له سنده من أئمة اللغة وبعض المعاجم المعروفة، ولكننا رجحنا ما قاله الأزهري باعتباره جرّد قصده لشرح غريب ألفاظ إمام المذهب. (1) تغوص في اللحم غوصاً بالغاً، ولكنها لا تبلغ الجلدة الرقيقة التي تكون بين اللحم والعظم، وهذه الجلدة تسمى السمحاق. (2) ما بين المعقفين سقط من نسخة الأصل، ولا يستقيم الكلام بدونه، فقد قال: إن الشجاج عثر مراتب، ثم لم نجد إلا تسعاً، ثم إنه سيتكلم فيما بعد عن حكم (الموضحة) ولم تكن سبقت. وقد أخذنا هذه الزيادة من معنى كلام الإمام النووي. (ر. الروضة: 9/ 180). (3) تندره: أي تُظهره وتبرزه، يقال: ندر الشيءُ: خرج من غيره وبرز، ومنه نادر الجبل، وهو ما يخرج منه ويبرز، ويقال: ندر العظم من موضعه: زال (المصباح والمعجم) والمعنى هنا: ظهر وانكشف، وذلك لا يكون إلا بقطع الجلد الذي بين اللحم والعظم، وبهذا تزيد الموضِحة عن السمحاق. (4) أم الرأس: هي الخريطة التي فيها الدماغ. كذا قال ابن شميل، وحكاه عنه الأزهري في (غريب ألفاظ الشافعي) فقرة: 827. والخريطة في الأصل شبه كيسِ يُشرجُ من أديم أو نحوه (المعجم والمصباح) والمراد هنا العظم الذي يحوي الدماغ، وهو المعروف بالجمجمة.

فيها، ثم نبيّن أقدار الأروش ومتعلقاتها، ثم نذكر بإرسال المسائل ما يستوجب الغرض. 10452 - فالشجاج التي وصفناها تتحقق في الرأس، وتجري بجملتها في [الجبهة] (1) جريانَها في الرأس، وهي جارية في الوجهِ واللِّحيين، وقصبةِ الأنف، وكل ما يصل إلى باطن الفم، ففي ثبوت حكم الجائفة (2) ومقدارها وجهان: أحدهما - لا يثبت؛ فإن داخل الفم في حكم الظاهر. والثاني - يثبت؛ لأن الأحكام منقسمة في داخل الفم. والرأي عندي ألا نوجه الوجهين بهذا المسلك، بل نقول: من لم يُثبت حكمَ الجائفة، احتج بأن أرش الجائفة لغَوْرها وغائلتها وعظم أثرها في البنية، ومن قال: يثبت حكم الجائفة، قال: هي مفسدة لحكم [طبيعة] (3) الوجه واستتار الغلصمة ومجاري التنفس بالسواتر الخلقية، والجوائفُ مختلفة الأقدار في الآثار، فمنها ما يذفف (4)، ومنها ما يُدني من الردى، والمقدَّر (5) واحد. والقول فيما يصل إلى داخل الأنف، كالقول فيما يصل إلى داخل الفم. وكان شيخي يُجري خرقَ الأجفان على الخلاف إذا نفد الخرق إلى بيضة العين. فإن قيل: لم اختصت هذه المقدَّرات بالرأس من جملة البدن؟ قلنا: الرأس والوجه مجتمع المحاسن، فيعظم وقعُ الشجاج فيها في النفوس، ثم لم نقل ما قلنا عن

_ (1) في الأصل: "الجهة". (2) الجائفة: "هي الجراحة الواصلة إلى جوفٍ فيه قوة محيلة، كالبطن وداخل الصدر" كذا عرفها الغزالي. (الوسيط: 6/ 335) وهي ليست من جراحات الوجه والرأس، ولم يسبق للمؤلف تعريفٌ بها، ولكنه أشار هنا إلى أن الجراحة التي في الوجه إذا نفذت إلى داخل الفم، فقد تنازعها اعتباران أو نظران: أينظر إلى جوف الفم، فتعتبر جائفة، أم إلى أنها في الرأس والوجه، فتعتبر من الجراح العشرة. (3) في الأصل: "ظنه" بهذا الرسم تماماً. (4) كذا قرأنا بصعوبة بالغة، وهي صحيحة إن شاء الله. (5) أي المقدّر في جزائها.

رأي، بل المقدَّرات التي نصفها معظمُها منقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صحائفَ ضمّنها أُروش الجراحات. هذا بيان محالّ الشجاج. 10453 - فأما القول فيما يتعلق القصاص به من هذه المراتب، فلا خلاف أن القصاص يتعلق بالمُوضحة على ما سنفصل القول فيه، ولا قصاصَ فيما يزيد على الموضحة. أما الهاشمة؛ فإنها تكسر العظم وإجراء القصاص في العظام غيرُ ممكن، [أما] (1) الأسباب، فإنها ستأتي مفصلة، وإذا لم يجر القصاص في الهاشمة، فلا مطمع في إجرائه في المُنقِّلة، والآمّة جائفة، ولا قصاص في الجوائف، ولو صح القول بأن الجرح النافذ داخل الفم جائفة، [فلا بُعْد] (2) عندي في إجراء القصاص فيه؛ فإن سبب الامتناع عن القصاص في الجوائف [تباين] (3) أغوارها واختلاف أقدارها، وهذا لا يتحقق فيما نحن فيه، وسنعود إلى ذلك. فأما الجراحات التي تنحط عن الموضحة كالمتلاحمة والباضعة، فقد ظهر اختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في إجراء القصاص فيها، وبنى صاحب التقريب القصاصَ في بعض الطرف على ذلك، وقاس الموضحة بالقطع المبين، والمتلاحمة [بالقطع] (4) الذي يغوص في العضو ولا ينتهي إلى الإبانة، وأشار معظم أصحابنا إلى إجراء القصاص في القطع الذي يغوص في الأذن. 10454 - وأنا أرتب هذا بعون الله تعالى، فأقول: المتبع في الباب إمكان المساواة؛ فإن القصاص غيرُ منوط بكون الجرح مقدرَ الأرش، وهو غير معتبر في [النفي] (5) والإثبات، فإن الجائفة مقدرةُ الأرش، ولا قصاص فيها، والأصبع الزائدة

_ (1) في الأصل: "إلا". (2) في الأصل: "فلا يبعد". (3) في الأصل: "يتأتى". (4) في الأصل: "في القطع". (5) في الأصل: "النص".

فيها حكومة، وهي مقابلة بمثلها من الجاني، فالقاعدة ما وصفناه إذاً، ورعاية المساواة في بعض اليد والرجل بعيدة، فإنها مجمع العروق، وفيها تلافّ (1) الأعصاب والرُّبُط، ولا يستوي الخلق فيها؛ فإنا نرى [وضع] (2) العروق مختلفاً في بدين [يُيَسِّر] (3) الفِصاد (4)، [فيصادِف] (5) من [العُتلّ] (6) الأكحلَ والقيفالَ (7) ولا يصيب من المُنْحَف إلا الباسليق (8)، وإذا كان كذلك، فلا يتأتى الاستواء [في] (9) البعض أصلاً. والأذن صدفةٌ غضروفية [ليس] (10) على مركبها (11) عروق بها مبالاة، وكذلك لحمة الرأس لا تشتمل على مثل ما وصفناه في اليد والرجل، ولكنا نحتاج في إجراء القصاص في المتلاحمة إلى [نِسَبٍ] (12) كما نصفها، وقد أشار الأصحاب إلى الخلاف فيه، والقول الجامع أن نرتبها ثلاث مراتب: المرتبة الأولى - في الأذن وفي معناها

_ (1) تلافّ: من الالتفاف. والربط جمع رباط مثل: كتاب وكتب، وتلافّ: مضارع حذفت منه تاء المضارعة. (2) في الأصل: "منع". (3) غير مقروءة في الأصل. (4) الفِصاد: بكسر الفاء الاسمُ من فصد (المصباح). (5) في الأصل: "ويصادف". والفاعل هو الفصّاد. (6) في الأصل: "القتل". (7) الأكحل، والقيفال (بكسر القاف) عرقان في الذراع، يقع الفصد فيهما (المصباح). (8) الباسليق. كذا تماماًَ، ولم أصل إلى تعريف له في المعاجم، وواضح من السياق أنه عرق في الذراع. ومعنى العبارة: أن الخلق لا يستوون في البدانة والنحافة، ولذا يصعب القصاص في بعض اليد؛ حيث لا يمكن المساواة. وعبارة الغزالي في البسيط: "وقد يصادف الفصّاد الأكحل والقيفال من العتل وقد لا يصادف من النحيف إلا الباسليق". (ر. البسيط: 5/لوحة رقم: 23 شمال). وأخيراً، والكتاب ماثل للطبع جاءنا من يستحق الشكر والتقدير بتفسير (الباسليق) في فقه اللغة للثعالبي بأنه: عرقٌ في اليد، وهو عند المرفق في الجانب الإنسي مما يلي الآباط (ر. فقه اللغة: 134). (9) زيادة من المحقق. (10) في الأصل: "لين". (11) كذا. (12) في الأصل: "سبب"، وسيتضح المقصود بمعنى النسب.

المارن، فقطع البعض من غير إبانة يوجب القصاص على الأصح، وفيه قول آخر - إنه لا يجري القصاص فيه. المرتبة الثانية - المتلاحمة وهي أبعد من الأذن لمسيس الحاجة إلى ضبط النسبة. والمرتبة الثالثة - في بعض اليد والرجل، وهي أبعدها عن القصاص، كما نبهنا عليه. 10455 - وقد عاد بنا الكلام إلى الشِّجاج واطراد القولين في المتلاحمة والباضعة والسمحاق. فأما الحارصة، فلا قصاص فيها؛ فإنها غير منضبطة ولا وقع لها، ولا يفوت بها شيء، وتردد جواب شيخي في الدامية، فزعم أن ميل الققال إلى القطع بأنه لا قصاص فيها كالحارصة. ثم إذا أوجبنا القصاص في المتلاحمة، فطريقُه النسبةُ لا صورةُ المقدار؛ فإن بلغت متلاحمة الجاني إلى نصف سمك رأس المجني عليه، أوصلنا جراحة القصاص إلى نصف سمك رأس الجاني، وقد يختلف المقداران حسّاً مع التساوي في النسبة، وذلك بأن يكون سمك اللحم على رأس الجاني شَعِيرة (1) إلى العظم، وسمك اللحم على رأس المجني عليه شعيرتان، فإذا شق الجاني شعيرة، وانتهى إلى نصف سمك رأس المجني عليه، فنكتفي بنصف شعيرة من رأس الجاني، نظراً إلى النسبة ولو راعينا القدر، لشققنا شعيرة من رأس الجاني، وهذا يُفضي إلى إيضاحه، فلا بد إذاً من اعتبار النسبة. وهذا لا يتأتى الوصول إلى دركه من غير أن يُفرض على رأس الجاني والمجني عليه موضحتان؛ فإنا منهما نستبين قدر السمك [بالشجاج] (2)، وليكونا طريين؛ فإنهما إذا عَتَقَتا (3)، لحق الاستحشاف أطرافهما. وقد ينبت مزيد لحم. فإن أمكن اعتبار

_ (1) شعيرة: المراد بسمك شعيرة من حبات الشعير المعروف، وهي وحدة قياس كانت معروفة ومتداولة عندهم. (2) في الأصل: "بالمنشار". ولا معنى لها. والمراد بالشجاج أي الجرح الموجود على رأس كل منهما. (3) عتقتا: من باب ضرب وقرب، وهي من قولك عتقت الخمر إذا قدُمت (المعجم والمصباح).

النسبة، فذاك، وإن لم يمكن، أجرينا القصاص في قدر الاستيقان، وكففنا عن محل الإشكال. هذا ما أردناه فيما يتعلق القصاص به. وإذا نفذت الجراحة في الخد إلى الفم، ولم نرها جائفة، فلا يمتنع إجراء القصاص فيها على قولنا بإيجاب القصاص من المتلاحمة؛ فإن هذا ينضبط، فله مَردٌّ بيّن، بخلاف المتلاحمة. ولولا ما بلغني من تشبيب (1) الأصحاب بذكر الخلاف فيه، وإلا لاقتضى القياس القطع بإيجاب القصاص. [وسنبين ذلك] (2) في استرسال الكلام في الفصل. هذا بيان ما أردناه في أصل القصاص. 10456 - ونحن نفصل الآن القصاص وكيفيةَ إجرائه في الموضِحة: فإذا أوضح رجل رأس رجل، أوضحنا رأس الجاني، والمرعي في الموضِحة الاسمُ والمساحة، فهذان المعتبران هما الأصل، وبينهما في الاعتبار تعيّن المحل، فأما الاسم، فإذا وضح المعظم، فقد تحقق الاسم، واللحمُ المشقوق فوق العظم لا اعتبار به في الموضحة، وتفاوت قدره من الجاني والمجني عليه كتفاوت اليدين في [حجمهما عَبالة] (3) ونحافة، فيد العتلّ مقطوعة [بيد النحيف] (4)، كذلك شق رأس الجاني، وإن كان لحم رأسه أكثر، هذا هو الذي أجمع الأصحاب عليه. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: يراعى تساويهما في السمك والعمق، فلا يشق [شعيرتين بشعيرة] (5). وهذا غلط صريح، لم أُخل الكتاب عن حكايته، ولا عوْد إليه.

_ (1) تشبيب: يتردد هذا اللفظ كثيراً في كلام الإمام، وهو هنا بمعنى (التولّع)، الذي يستخدمه الإمام أيضاًً. (2) في الأصل: "وسنبين في ذلك". (3) في الأصل: "حجمتهما عادة". (4) في الأصل: "من النحيف". (5) في الأصل: "شعرتين بشعرة".

هذا قولنا في الاسم. 10457 - فأما المساحة، فلا بد منها، فإذا أوضح الجاني مقداراً من رأس إنسان، لم نزد عليه ولم ننقص منه. وأما تعيّن المحل، فإذا أوضحت الجناية [ناصية] (1) المجني عليه، أوقعنا القصاص بناصية الجاني. هكذا القول في جميع أجزاء الرأس، ولو استوعب الرجل رأسَ رجل بالإيضاح، فإن كان رأس الشاج مثلَ رأس المشجوج في المساحة، استوعبنا رأس الشاج. [وإن كان رأس الشاج] (2) أصغرَ من رأس المشجوج في المساحة، استوفينا رأس الشاج إيضاحاً، وأثبتنا للمجني عليه الرجوع إلى قسط من الأرش، على ما سنذكر تفصيلَه في فصل الأروش. ولو كان رأس الشاج أكبرَ من رأس المشجوج، لم نستوعبه بالإيضاح، بل نقتصر على قدر مساحة رأس المشجوج، فليس صغر الرأس وكبره بمثابة عبالة اليد ونحافتها؛ فإن التعويل على اعتبار المساحة في الموضحة، وتمام بيان الفصل في نجازه. ثم إذا أردنا أن نوضح رأس الشاج مثلَ مساحة رأس المشجوج، ففي الموضع الذي نذهب إليه، ونبتدىء القصاص منه نظر، ذهب بعض الأصحاب إلى أن الاختيار في ذلك إلى مستحِق القصاص، فيأخذ في أي جهةٍ وصوبٍ شاء، على شرط أن يكون ما يأتي به موضِحةً واحدة، لا انفصال ولا تقطعَ فيها. وذهب القاضي إلى أنا نبتدىء في القصاص بالجهة التي ابتدأ الجاني بالجناية منها، ثم نأخذ في الإيضاح إلى أن نستوفي مقدار [رأس] (3) المشجوج، وهذا عسر، وقد تُفرض الجناية مُطبقةً بالرأس [والوجه] (4) معاً بآلةٍ يتأتى بها ذلك.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (3) في الأصل: "أرش". (4) زيادة من المحقق.

ثم من أصحابنا من فرض الخِيَرة إلى الجاني حتى يمكَّن من الاقتصاص في أي جانب شاء، وهذا متجهٌ، لا بأس به. وقد تحصّل أوجهٌ: أحدُها - رد الأمر إلى المقتص (1). والثاني - ردّه إلى المقتص منه، والثالث- اعتبار مبدأ الجناية والذهاب في صوبها إلى الاستيفاء. ولو كان رأس الشاج أكبرَ من رأس المشجوج، ولكن كان أُوضح من رأس الشاج شيء، والباقي من جلدة رأسه على قدر رأس المشجوج، فإنا نستوفيه برأس المشجوج، ولا خيرة. ولو استوعب الشاج ناصية المشجوج، وكانت ناصيةُ الشاج أصغرَ من ناصية المشجوج، فالذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أنا نكمل مساحة القصاص من سائر أجزاء الرأس. ومن أصحابنا من قال: يقتصر على الناصية، ونرجع فيما عدمناه إلى حصة من الأرش، وهذا اختيار القاضي، ومأخذه فيما ذكرناه من تعيّن الأجزاء في الإيضاح، فكل جزء في أنه لا يُتعدَّى بمثابة الرأس في أنه لا يتعدى منه إلى غيره. وقد اتفق أصحابنا في أن رأس الشاج إذا كان أصغر لم يستكمل مقدارُ رأس المشجوج من [جبهة الشاج] (2)، لتباين المحلَّين واختلاف الاسمين. 10458 - ولو أوضح رجل رأسَ رجل وهشمه، جرى القصاص في الموضِحة، ولا قصاص في الهشم، ولا يمتنع عندنا أن يتعلق القصاص ببعض الجناية دون بعض، وسيأتي نظائر ذلك في قطع الأطراف. ثم ينبغي للمقتص أن يحتاط ويَحْلِق موضع الإيضاح من الجاني، ويستعملَ حديدة حادّة، ولا يُقَصِّر في الاقتصار على القدر المستحَق.

_ (1) قال النووي: الصحيح: الاختيار إلى الجاني، وقال الرافعي: إنه الأظهر. (ر. الشرح الكبير: 1/ 224، والروضة: 9/ 190). (2) في الأصل: "جهة المشاج".

ولو جرى الإيضاح بخشبة، [فلا يتصور] (1) رعايةُ المماثلة في الآلة، بل الاقتصاص بالحديدة (2)، بخلاف القصاص في النفس [فإن الضرب بها ممكن] (3). فهذا تفصيل القول فيما يتعلق بالقصاص. 10459 - ومن مسائل هذا ما نجريه في الفصل الثالث، وهو الأرش، فنقول: أرش الموضِحة ممن ديته كاملةٌ خمسٌ من الإبل، وهو نصف عشر الدية من كل شخص، يكمل بكمال الدية، وينقص بنقصانها. وفي الهاشمة في صورة الكمال عشرٌ من الإبل، وفي المنقِّلة خمسةَ عشرَ، ونص الحديث (4) وارد في الموضِحة والهاشمة، والمنقِّلةُ مقيسةٌ على الهاشمة في مقدار

_ (1) في الأصل: "ولا يتصور". (2) عبارة الرافعي في هذا أكثر وضوحاً وتفصيلاً؛ إذ قال: "ويوضَح (أي الجاني) بحديدة حادة كالموسى، ولا يوضَح بالسيف، وإن كان قد أوضح به، لأنه لا تؤمن الزيادة، وكذلك لو أوضح بحجر أو خشب يوضَح بالحديدة، ذكره الفقال، وغيره، وتردد فيه القاضي الروياني" (ر. الشرح الكبير: 10/ 223). وتردد الروياني فيما إذا خيف الحيف والزيادة، عبر عن هذا ما نقله قليوبي في حاشيته عن الخطيب، فقال: قال الخطيب: يوضَح بالموسى، وإن جنى بغيرها من سيف أو حجر، لاحتمال الحيف، فإن أمن الحيف، جاز. انتهى بمعناه. (ر. قليوبي وعميرة: 4/ 116). (3) في الأصل: "فإن القريب ممكن". والمثبت تصرف منا مع محاولة الالتزام بأقرب صورة للكلمة. (4) يشير إلى كتاب عمرو بن حزم المشهور في الدياث، والذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن. والحديث رواه مالك، والشافعي، والنسائي، وأبو داود في المراسيل، والدارمي، وعبد الرزاق، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي. وقد روي مطولاً ومختصراً، وموصولاً، ومرسلاً. قال ابن عبد البر: "هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغني بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة". ا. هـ وقد أفاض الحافظ في الحديث عن هذا الكتاب، ونقل اختلاف أهل الحديث في صحته. (ر. النسائي: العقول، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين عنه (4853 وما بعده). الموطأ: 2/ 849، الدارمي: 2/ 249، عبد الرزاق: ح 6793، الدارقطني: 1/ 122، الحاكم: 1/ 395 - 397، ابن حبان: 6525، المراسيل لأبى داود: ح 257، البيهقي في الكبرى: 8/ 28، ومعرفة السنن والآثار: ح 4979، التلخيص: 4/ 34 - 36 ح 1879).

الزيادة، فكما فضلت الهاشمةُ الموضِحةَ بخمس، فضلت المنقِّلةُ الهاشمةَ بخمس. وفي الآمّة أرشُ جائفة، ولا تنسب إلى ما تقدّم. فهذا قولنا في الموضحة، فما يزيد عليها. 10460 - فأما ما دون الموضِحة، فالأمر في أرشه يبنى على القصاص، فما أوجبنا فيها مقداراً منسوباً إلى [أرش] (1) الموضِحة، فإن شقت حديدة الجاني نصف السمك، أوجبنا نصف أرش الموضحة، وهكذا القول فيما يتفق. وإن لم نوجب القصاص، فالرجوع إلى الحكومة. فإن قيل: إذا كنا نوجب الحكومة، فسبيل التقريب فيها بالاجتهاد، وأعتبار ما زاد وبقي من السمك، فكيف يفترق القولان؟ قلنا: يفترقان بدقيقةٍ لا يقف على الفصل من لم يقف عليها، وهي أنا إذا جعلنا المتلاحمةَ جرحَ قصاص، فاعتبار نسبة السمك محتومٌ في الأرش، وإن لم نجعلها جرحَ قصاص، فلا نجعل ذلك حتماً في نظر المجتهد، فقد يرى ما بقي أفضل مما زال، وقد يرى ما زال أفضل مما بقي، ولئن كان السمك آخرَ ما ينظر فيه واضع الحكومة، فليس معتبره المحتوم. 10461 - ومما يتصل بالأرش أن الموضِحةَ الصغيرةَ فيها ما في الموضِحة الكبيرة، ولو استوعب الرجل رأس رجل بالإيضاح، لم يلتزم إلا ما يلتزمه بموضحة قدرها مغرز إبرة. ومما يجب قطع الوهم فيه أن من غرز إبرة في رأس إنسان، وأنهاها إلى العظم، فالجرحُ موضِحة، وإن كان العظم لا يظهر للناظر، فالمعتبر في تكميل الأرش وإيجاب القصاص الشق إلى العظم. ولو أوضح مواضعَ من رأس إنسان، وبين الموضحات حواجز كاملةٌ، ففي كل موضحة خمسٌ من الإبل؛ فإن المتبع في الباب الاسمُ. ولو أوضح مواضع وبينها الحواجز، فتأكَّلت وزالت الحواجز، عاد الأرش إلى

_ (1) في الأصل: "رأس".

واحد، وكان ذلك فيها بمثابة ما لو قطع يدي رجل ورجليه، ثم عاد فقتله قبل اندمال الجراحات، فالمنصوص إيجابُ الدية، وعودُ الأروش إليها، ونُزول الواقعة منزلةَ ما لو جرى ما وصفناه بالسراية. وذهب ابن سريج في قطع الأطراف وقتل النفس بعدها إلى تعدد الأروش والدية، ومذهبُه في رفع الحواجز هذا أيضاًً، فالأروش لا تنقص، ورفعُ الحواجز جناية جديدة يتعلق بها حكمها. والقول الوجيز المحيط بمذهب ابن سريج أنا نجعل عَوْد الجاني ورفعَه الحواجزَ بمثابة ما لو رفع أجنبي الحواجز، ولو كان كذلك، فالأروش على تعددها في حق الجاني الأول، وعلى الجاني الثاني أرش جناياته. ونحن نُفصِّل ذلك الآن، فنقول: لو أوضح الأول موضِحتين، وترك بينهما حاجزاً فجاء آخر، ورفع الحاجز، فعلى الأول أرش موضحتين عشرٌ من الإبل، وعلى الثاني في رفع الحاجز خمسٌ من الإبل. ولو أوضح الأول ثلاث موضحات بينها حاجزان، فجاء ثانٍ، ورفع الحاجزين، فعلى الأول ثلاثة أروش، وعلى الثاني أرشان. وهذا يظهر بما نصفه، فنقول: لو ابتدأ رجل، فأوضح مقدمة الناصية من رأس إنسان، ثم جاء جانٍ آخر، وابتدأ فأوضح من منتهى جناية الأول، ثم هكذا حتى [استوعب] (1) مائةٌ مثلاً الرأس شجّاً، على الترتيب الذي وصفناه، فعلى كل واحد أرشُ موضِحة؛ فإنّ فعل كل واحد لا يتعلق بفعل غيره، وكل فعل إيضاحٌ في نفسه. 10462 - ولو أثبتنا القصاص في موضحةٍ، وأَحدَّ [من له] (2) القصاصُ الحديدةَ، واقتص وزاد: فإن زاد عمداً، وجب القصاص عليه، وإن اضطربت يده، فحصلت الزيادة خطأ، وجب في مقابلة الزيادة ضمانٌ، وفي [قدره] (3) وجهان: أحدهما - أنه

_ (1) في الأصل: "استوجب". (2) في الأصل: "له من". (3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.

يجب فيه أرشٌ كامل؛ لأن الجارح وإن اتحد واتحدت الجراحة، فالحكم مختلف؛ فإن الزيادة ظلم أو خطأ، فكان اختلافهما بمثابة تعدد الجانيين، هذا وجهٌ. ومن أصحابنا من قال: نوزع أرشاً تقديراً على الموضحة التي جرت، ونسقط ما يقابِلُ [منه] (1) القصاصَ، ونوجب [أرش] (2) الباقي. وهذا القائل ينظر إلى اتحاد الجراحة والجارح، والأصح الأول، وهو الذي استقر عليه جواب الققال. ولو وجب القصاص في موضحة، فأراد من له القصاص أن يقتص من بعضها، ويرجع إلى قسط من الأرش في الباقي، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ليس له ذلك؛ فإن الموضِحة جرحٌ واحد، فلا يتبعض حكمه، وليس كما لو قطع رجل أصبعين من رجل آخر، فللمجني عليه أن يقتص من إحدى الإصبعين، ويرجع في الأخرى إلى المال؛ فإنهما قطعان، لكل واحد منهما حكم التميز عن الآخر. والوجه الثاني - أن له أن يرجع في البعض إلى قسط من الأرش؛ فإن القدر الذي يقتص منه يتصور ثبوت القصاص فيه وحده، فلا يبعد التبعيض على الوجه الذي وصفناه. ويخرج على هذا التردد أنه لو قال مستحق المَصاص: عفوت عن القصاص في نصف هذه الجراحة، فهل يتضمن هذا إسقاطَ القصاص في الجميع؟ فعلى ما ذكرناه. ولو وقع ابتداء الإيضاح خطأ، ثم تمادى الجاني واعتمد وزاد، فلا أعرف خلافاً أن القصاص يجب في محل العمد، وإن [اتّحدت] (3) الجراحة. 10463 - ولو أوضح مواضع من رأس إنسان وترك في خلل قطع العظام لحوماً لا جلود عليها، فظاهر المذهب أن الكل في حكم الموضحة الواحدة، فإن الجراحة شملت جميع الموضع، فكانت في بعضها إيضاحاً، وفي بعضها متلاحمة، ولو كان

_ (1) في الأصل: "فيه". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "انجرت".

إيضاحاً، لم يجب إلا خمس من الإبل، والإيضاح أعظم من المتلاحمة. ومن أصحابنا من قدر اللحوم حواجز إن ثبتت (1)، وأوجب أعداداً من الأروش. ولو أوضح الجاني خطأ مستديراً وفي وسط الخط لحم وجلد، فالموضحة واحدة، وذلك الكائن في الوسط ليس حاجزاً معدِّداً للموضحة؛ فإن الجراحة متواصلة لا حاجز فيها. ولو أوضح مواضع وبين الموضِحات جلود لا لحوم، ولا سِمحاقَ تحتها، فالمذهب القطع بأن الكل موضحةٌ واحدة؛ فإن العظم بادٍ وبدوّه متواصل ولا حاجز، وليس كما اللحمة؛ على أنا قدمنا أن الأصح أنها ليست حاجزة أيضاً. هذا تمام القول في شجاج الرأس والوجه. 10464 - وقال الأصحاب: إذا نفذت جراحةٌ من الوجْنة إلى الفم، ولم نجعلها جائفة، ففيها أرشُ منقِّلة وزيادة حكومة، وجعلوا النفوذ أبلغ من التنقيل. ولو وقع الجرح على لحم الجلد، ونفذ إلى داخل الفم، فالواجب أرش متلاحمة وزيادة حكومة إذا لم نجعل الجراحة جائفة. وكان شيخي يرى أن [ينقص] (2) الأرشُ عن أرش موضِحة، والعلم عند الله (3). 10465 - ولو اشترك جماعة في إيضاح رأس، بأن تحاملوا على [آلة وأجروها معاً] (4) حتى استوعبوا الرأس بالإيضاح، فالكلام يقع في القصاص والأرش: أما

_ (1) عبارة الأصل: "ومن أصحابنا من قدر اللحوم حواجز إن ثبتت حواجز". (2) في الأصل: "بعض". (3) في الأصل: "والعلم عند الله فيه" وكلمة فيه مقحمة لا معنى لها، فالعلم عند الله فيه وفي غيره. (4) صحف ما بين المعقفين تصحيفاً بدعاً، يستحق أن نسجله هنا، فقد جاءت هكذا: "بأن تحاملوا على الرواحر وتـ ـا ـعاً". هكذا في كلمتين بهذا الرسم وبدون نقط، وجاءت كلمة (الرواحر) في آخر السطر، وكلمة (وـ ـ ـا ـعاً) في أول السطر التالي، وتمّ هذا التصحيف كالآتي: تحولت كلمة (آلة) إلى (ألر) ألف. لام. راء. وضمّ إليها النصف الأول من كلمة (وأجروها) (واحر) فصارت: (الرواحر) ثم ضم ما بقي من كلمة وأجروها، وهو (وها) =

القصاص، فمحتمل جداً، يجوز أن يقال: يوضَحُ رؤوسُهم (1) كما لو اشتركوا في قطع [يد] (2) تقطع أيديهم، فإنه لا جزء من الرأس إلا ولكلّ جانٍ فيه جناية، ولا تميز. ويجوز أن يقال: إذا استوت أعمالهم، فعلى كل واحد القصاصُ في جزءٍ، [لو فُضّ الرأس] (3) على الأعمال، لكان يقابل كلَّ واحد ذلك المقدار. وإنما ينشأ هذا الخلاف من إمكان إجراء القصاص في الأجزاء، وهذا غير ممكن في اليد. والذي ذهب إليه صاحب التقريب من إجراء القصاص في بعض اليد، [في حكم] (4) الخطأ الذي [لا] (5) [يعتد] (6) به. والنفسُ على الدرجة العالية من حيث لا يتصور فيها الانقسام، وقطعُ صاحب اليد دونه لتصور الانقسام فيه، وهو مثله، من جهة أن القصاص فيه لا ينقسم، والرأس لا يتطرق إليه الانقسام تصوّراً في الفعل والقصاص جميعاً، ولا تعويل على اتصال فعل كل واحد بكل جزء (7)، فإن هذا يتحقق في اشتراك جمع في إتلاف مال، ثم الغرمُ مفضوض عليهم.

_ = بعد تصحيف (ها) وتحولها إلى (ـ ـا) فصارتا: (ـ ـا) ضم ذلك إلى كلمة (معا) بعد أن تغيرت الميم إلى (ب) فصارتا (وـ ـ ـا ـعاً) وسبحان ملهم الصواب. (1) أي يوضح كل واحد منهم بقدر تلك الموضحة. (2) في الأصل: "قد". (3) في الأصل: "لرفص". (4) في الأصل: "وحكم" وقد أجهدنا هذا التصحيف الإجهاد كله إلى أن ألهمنا الله صوابه. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) كذا قرأناها تقديراً للسياق، وإلا فقد تقرأ على غير هذا الوجه، فقد رسمت هكذا: (تعهد) (تاء وعين) ثم (هاء أو ميم) ثم دال. (انظر صورتها). (7) المعنى أن التعويل في اختيار إيجاب موضحة على كل واحد منهم، ليس "على اتصال فعل كل واحد بكل جزء" وإنما على "أن الرأس لا يتطرق إليه الانقسام تصوّراً في الفعل والقصاص جميعاً".

وقد [يسنح] (1) في هذا الفصل (2) إنْ بعّضنا القصاصَ الكلامُ فيما يؤخذ من رأس كل واحد: أما القدر، فعلى ما أشرنا إليه، وأما المحل، فمشكلٌ، ونضّطر إلى رد الأمر إلى اختيار المقتص منه أو المقتص، وقد سبق لهذا نظير. فأما القول في الأرش [فيقرُب] (3) من القول في القصاص، فيحتمل [أن نفض أرشاً واحداً عليهم] (4) ونجعلهم كالجارح الواحد، ويجوز أن نوجب على كل واحد [أرشاً] (5)، وهذا أقربُ؛ نظراً إلى عدد الجناة. فلينظر الناظر، فالرأي مشترك، وكل ما ذكرناه في جراحات الرأس والوجه. 10466 - فأما الجرح على سائر البدن، فلم [يعلّق] (6) المراوزة القصاص بشيء منها. وقال العراقيون: كل جرح انتهى إلى عظم، فالمذهب أن القصاص يجب فيه. قالوا: [وغامر] (7) بعض أصحابنا، فنفى القصاص فيه. والذي رأوه غلطاً هو الذي اتفق المراوزة عليه، وتعلقوا (8) فيما ارتضَوْه بخبرٍ أولاً، فقالوا: "رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان طَعَنَ أحدهما فخذَ الآخر، وانتهى الجرحُ إلى عظمه، فاقتص المجروح من الجارح" (9) واعتمدوا في المعنى إمكان المساواة، وقربوا هذا من نص الشافعي [في] (10) إجراء القصاص في الأعضاء الزائدة، ووافقوا المراوزة في

_ (1) في الأصل: "سنح". (2) هذا الفصل: المراد هنا هذه المسألة، مسألة الاشتراك في الموضحة. (3) في الأصل: "فيفوت". فانظر ماذا يصنع التصحيف، والنسخة وحيدة. (4) في الأصل: "أن بعض إن شاء واحد عليهم". (وسبحان ملهم الصواب). (5) في الأصل: "إن شاء". (6) في الأصل: "فلم ينقلوا المراوزة". (7) في الأصل: "وغادر بعض أصحابنا". (8) وتعلقوا: يعني العراقيين. (9) حديث "رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان طعن أحدهما فخذَ الآخر .. " رواه البيهقي في الكبرى (8/ 67). (10) في الأصل: "من".

نفي القصاص في الجوائف لما فيها من تفاوت [الأغوار] (1)، ثم قطعوا بأن الجرح الذي يشق، وينتهي إلى العظم موجبه الحكومة؛ فإن التقديرات مأخذها من التوقيفات. وقد نجز القول في الجُرح الذي يَشُق، ونحن نبتدىء بعد ذلك التفصيلَ فيما يقطع. فصل قال: "وتقطع اليد باليد والرجل بالرجل من المفاصل ... إلى آخره" (2). 10467 - وقد تقدم القول في القصاص في الجرح الذي يشق، وهذا الفصل في تفصيل القطع المبين، فكل قطع يُبين مِفصلاً، فهو موجب للقصاص، إن لم يمنع منه مانع، كما سيأتي الشرح عليه، [والمفصل عبارة عن متَّصَل عضو بعضو] (3) على منقطعي عظمين، ثم قد يكونان متجاورين، وقد يكونان متداخلين. ولا يختص وجوب القصاص بالمفاصل، ففي البدن أعصاب ولحمات يجري القصاص فيها، كالمارن، والذكر، والأنثيين، والأجفإن، والشفتين، والشُفرين، فالمرعي إذاً إمكان إجراء التساوي، وهذا لا يختص بالمفاصل. [فلو] (4) قطع الجاني فِلقةً من لحم الساق أو الفخذ، فلا قصاص؛ فإن ذلك لا ينضبط، ولو قطع من المارن، أو الحشفة، أو اللسان، أو الأذن، جرى القصاص إذا أمكن ضبط النسبة [والجزئية] (5)، ولا يخرّج ما ذكرناه على الخلاف في المتلاحمة؛ فإن النسبة فيها غائرة، وليس جميع لحم الرأس مشاهداً حتى يُفرضَ ضبط منتهى الشق على بصيرة.

_ (1) في الأصل: "الأعذار". (2) ر. المختصر: 117. (3) في الأصل: "والفصل عبارة عن مفصل عضو بعضو". (4) في الأصل: "ولو". (5) في الأصل: "والحرية". وهو تصحيف واضح.

ففي الأنملة إذاً قصاص، وكذلك في الكوع، والمرفق، وفي مَرْكَب (1) اليدين الكتفَ، وكذلك القول في القدم، والركبة، ومركَب الفخذ من الحِقو إن أمكنت المساواة، والقصاصُ جارٍ في الأجفان، والأذن، والمارن والشفتين، والذكر، والأنثيين والشُّفرين، ولا قصاص في إطار [استه] (2)، فإنه لا ينضبط، واختلف جواب الأئمة في [المأكمتين] (3) وهما العجيزتان، والظاهرُ إجراءُ القصاص (4)،

_ (1) مركب: اسم مكان: موضع ركوب اليدين الكتف. (2) غير مقروءة في الأصل، ففد طمست بحروف كلمة أخرى -من أثر بلل- فتداخلت الكلمتان؛ وتراكبت الحر وف. وقدرناها هكذا على ضوء السياق والسباق، فحيث ذكر الشُّفرين والقصاص فيهما، وهما إطار القبل، ناسَب أن يذكر حكم إطار المنفذ الآخر، وأنه لا قصاص فيه والله أعلم. ومن باب التحدث بنعمة الله أنني بعد كتابة هذا التعليق -الذي تأنيت به كثيراً على أمل أن أجد أيةَ إضاءة في أحد مصادر التحقيق ومراجعه- وجدت الرافعي في الشرح الكبير يقول: "ولا يجب القصاص في إطار الشفة، وهو المحيط بها، لأنه ليس له حد مقدّر"، انتهى كلام الرافعي، ووجدت صاحب (القوت) أبا طالب المكي يتعقب الرافعي قائلاً: "الصواب" إطار استه"، وهو الدبر كذا قاله الإمام إثر قوله: ويجب في الشفرين القصاص، ونقل الرافعي الفصل عنه" انتهى كلام أبي طالب المكي. (ر. الشرح الكبير: 10/ 212، وهامشها رقم (1). (3) في الأصل: "الناكمين"، ووجدنا أقرب صورة لها (المأكمتين) من أسماء العجيزتين، مما أورده صاحب المخصص، وفي اللسان أيضاًً: المأكمة: العجيزة، وكذا في المعجم الوسيط: المأكمة: الكَفَل، وهو أيضاً العجيزة، وفي مختصر المزني عرّف الشافعي (الأليين) "بأنهما ما أشرف على الظهر من المأكمتين إلى ما أشرف على استواء الفخذين" (المختصر: 5/ 133). (4) جعل الإمام هنا إجراء القصاص هو الظاهر، وعبر النووي (بالأصح، فقال في الروضة: "والقصاص في الشفرين، والأليين على الأصح عند الأكثرين" وقال في المنهاج: "وكذا أليان وشفران في الأصح" (ر. الروضة: 9/ 182، والمنهاج (بهامش قليوبي وعميرة): 4/ 113) وأما الرافعي، فاكتفى بالقول في أن فيهما خلافاً، ولم يرجح أي وجه، وذلك قوله: "وفي الشفرين والأليين وجهان من الخلاف المذكور في الشفة واللسان، لكن الخلاف فيهما أشهر وأظهر" (الشرح الكبير: 10/ 212). ولكن وجدنا الإمام في الديات -وهي ستأتي قريباً- يقول: "اتفق الأصحاب على أن القصاص لا يجري في الأليين؛ فإنه ليس مِفصلاً يتأتى فيه مراعاة المساواة، وليس له مردٌّ من عَظْمٍ وراءه" ا. هـ. =

ومنهم من منع لظهور التفاوت وكبر العجيزتين، وذلك يُعسّر إجراء المساواة. [وفي] (1) بعض التعاليق [عن شيخي] (2) وجه بعيد في المِرفق وأن القصاص هل يجري فيه، وهذا أحتسبه غلطاً من المعلِّق، وإن صح، فلعل السبب فيه تداخل العظمين وهذا يعسِّر طريقَ المساواة، وليس كمفصل الكوع، فإن اتصال عظمي [الكف] (3) والساعد بالتجاور لا بالتداخل، والركبة كالمرفق، ولا اعتداد بهذا الوجه الضعيف. والقطعُ من الكتف موجبٌ للقصاص إن أمكن اعتبار المساواة. 10468 - فإن كان قَطْعُ الجاني غيرَ مُجيف، وظهر في الظن أن ذلك وفاق، والغالب أن مثله يُجيف، فلا نوجب القصاص في القطع من الكتف خيفة أن يُجيف. وكذلك القول في قطع الفخذ من الحقوين. [وإن] (4) قطع الجاني وأجاف، فقال أهل هذا الشأن: يمكننا أن نقطع يد الجاني ونجيفه مع [الاقتصار] (5) على مثل تلك الجائفة التي جرت منه في الجناية، [فالذي] (6) ذكره الأصحاب في الطرق أنا نستوفي القصاص، وليس هذا إجراء قصاصٍ في الجائفة، وإنما محلُّ القصاص اليد، وليست الجائفة مقصودةً بالقصاص، وإنما الممتنع انفراد الجائفة بالقصاص. وهذا يتطرق إليه إشكال؛ من قبل أن الجائفة لم يجر القصاص فيها؛ من حيث إن

_ = وتابع الغزالي في البسيط شيخه الإمام، فقال: "ولما تطرّق إليه الاضطراب، ولم يكن له مفصل معلوم، لم يجر المَصاص فيه" (ر. البسيط- جزء (5) ورقة: 59 يمين) وحكى الرافعي عن الإمام هذا القول باتفاق الأصحاب على عدم إجراء القصاص في الأَلْيين، قائلاً: "وادّعى الإمام -في الديات- اتفاق الأصحاب عليه" (ر. السابق نفسه). (1) في الأصل: "في بعض" (بدون الواو). (2) في الأصل: "وعن شيخي". (3) في الأصل: "بالكتف". (4) (الواو) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "الاقتصاد". (6) في الأصل: والذي.

ضبطها غير ممكن، وإذا عسر [المساواة] (1) في طريق الاستيفاء، وجب أن يكون ذلك سببأ في منع القصاص، وإن كان المقصود غيرَ الجائفة. وأقصى الممكن في هذا أن اليد إذا [قطعت] (2) من الكتف، فليس في رفعها تغويص حديدة في الباطن، ولكن قد تحصل الجائفة برفع طبقة، وهذا لا تفاوت فيه على وجهٍ لا يحتمل، وإنما تفاوت الجوائف في تغويص الحديدة. وقد يرد على هذا إيجاب القصاص في جوائفَ تحصل برفع الطبقات البادية من غير [غوص] (3) حديدة، ولا قصاص في شيء من الجوائف، كيف فرض الأمر. وكان شيخي يقطع بأن قطع اليد من الكتف إذا كان يُجيف، فلا اقتصاص، وإنما احتملَ [الجائفةَ] (4) على طريق التبعية الصيدلانيُّ، ومن سلك طريقه. فهذا منتهى القول في ذلك. 10469 - وإذا بان أصل القول فيما يجري القصاص فيه من الأطراف، فيقع الكلام وراء ذلك في الطرف الذي وجب القصاص [فيه] (5)، وفي تفاوت الأطراف في السلامة والشلل، والزيادة والنقصان، ونحن [نأتي بها مفصَّلةً] (6)، إن شاء الله تعالى. فأما ما يوجب القصاص، فينقسم إلى ما [يفوّت] (7) الأعضاء بالفصل والإبانة، وإلى [ما يُفسد] (8) معانيها، فأما الأجرام، فإنها تُقصد بالقطع، وإن وقعت الجناية

_ (1) غير مقروءة بالأصل، وهكذا قدرناها على ضوء ما ظهر من بقايا الحروف المطموسة. (2) في الأصل: "وقعت". (3) كذا قدرناها مكان كلمة غير مقروءة. (4) كذا قرأناها بصعوبة بالغة. (5) زيادة من المحقق. (6) ما بين المعقفين مكان ثلاث كلمات استحالت قراءتها بالأصل، وقدرناها من عندنا على ضوء السياق. (7) مكان كلمة غير مقروءة. (8) مطموسة بالأصل.

بحديدة، فلا شك أن القصاص كذلك يقع، ولكنا نرتاد [أحدَّ] (1) حديدة وأحراها بأن توحي (2). وإن وقعت إبانة [العضو بفتل وترها] (3) وقطع رُبُطها (4)، فلا يجري القصاص إلا بالحديدة، كما قدمناه في الموضحة. 10470 - وإن قطع الجاني بعض العضو، فسرت الجراحة وتأكّلت، وسقط العضو، فالمنصوص عليه للشافعي أن القصاص لا يجب فيما يسقط بالسراية، ونصّ على [أن] (5) من أوضح رأس إنسان، فأذهب ضوءَ بصره، فإنا نوجب القصاص في لطيف البصر، فإن زال البصر بمثل الجراحة التي صدرت من الجاني، فذاك، وإن لم يزل واستمكنَّا من إزالة البصر بطريقٍ لا نفسد فيه الحدقةَ، ونتركها قائمة، أزلناه، هذا نص الشافعي. والذي ذهب إليه الجمهور تقرير النصين قرارهما والقطعُ بأن القصاص لا يجب في أجرام الأعضاء بطريق السراية، ويجب القصاص في لطيفةِ البصر بالسراية، والفرق أن الأجرام لا تقصد بالسراية غالباًً، بخلاف لطيفة البصر؛ فإنها مقصودة بالسرايات، فكانت كالروح التي تقصد بالسراية [تارة] (6) وبماشرة الجنايات المُجهزة أُخرى. هذه هي الطريقة المشهورة، وقد ذكرها الشيخ أبو علي، وذكر معها طريقة أخرى، فقال: من أصحابنا من قال: ننقل النصين [ونصرف] (7) أحدهما بالآخر، ونخرّج في البصر، وفي أجرام الأعضاء قولين: أحدهما - أن السراية لا توجب القصاص في غير الروح؛ فإن البصر يندُر إزالته من غير قصد الحدقة، وإن وقع زواله

_ (1) في الأصل: "آخر". (2) توحي: أي تعجل وتسرع. (3) مكان ثلاث كلمات غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها) والمثبت أقرب ما يكون لصورة الكلمات، وأوفق ما يكون للسياق. (4) جمع رباط مثل كتاب وكتب وإعادة الضمير مؤنثاً لا يبعد تأويله. (5) زيادة من المحقق. (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) كذا تماماً.

بجرح، كان نادراً، وقد يقع التأكّل وسقوط الأجرام، هذا أحد القولين. والقول الثاني - إن السراية فيهما جميعاً موجبةٌ للقصاص؛ طرداً للقياس في منتهى سرايات الجراحات، والدليل عليه أن زهوق الروح بقطع الأكلة ليس بالعام الذي يحكم بأنه الغالب، ثم إذا أفضت الجراحة التي وصفناها إلى زهوق، الروح، تعلق وجوب القصاص بها (1). 10471 - فإن جرينا على ظاهر المذهب، وفرّقنا بين لطيف البصر وبين جِرم الأعضاء، فقد كان شيخي يتردد في بطش الأطراف التي فائدتها البطش، فيقول: يجوز أن يجعل [كلطيفة البصر] (2) حتى يقال: إذا أذهبت الجناية بطشَ عضوٍ، جرى القصاص فيه، كما يجري في لطيفة البصر، وقد نص على ذلك صاحب التقريب في كتابه، وكان شيخي لا يُبعد أن يُفرّق بين البطش وبين لطيفة البصر، فقال: إزالة البطش بالسراية يعسر عسر إزالة الأجرام، بخلاف لطيفة البصر؛ فإنها ألطف المعاني وأحراها بأن تؤثر النكايات فيها، ونزّل الأصحاب لطيفةَ السمع منزلة لطيفة البصر، ولا يبعد أن تُلحق بهما منفعةُ الكلام. ثم للأئمة تردد في العقل إذا أزاله الجاني، وسبب التردد أنه من وجهٍ لطيفةٌ، ومن وجه يبعد تناوله والاستمكانُ من إزالته، وأحرى اللطائف البصر والسمع، وبينهما الكلامُ، ويلي الكلامَ البطشُ، وأبعدُ المعاني عن الإزالة العقلُ. والأصحاب مترددون في جميعها، بعد ما قدمناه من القول في أجرام الأعضاء، فإن لم يكن من ذكر الخلاف بُدٌّ، فليرتبها الفقيه على المراتب التي ذكرناها. هذا تفصيل القول فيما يوجب القصاص في الأطراف.

_ (1) حكى الرافعي طريقة ثالثة نسبها إلى العراقيين حكوها عن أبي إسحاق وهي: "تخريج قولٍ من نصه على أن سراية الأجسام لا تضمن بالقصاص من الضوء، والامتناع عن التخريج في الأجسام من الضوء" انتهى بنصه. والمعنى: في البصر قولان وفي الأجسام المنع لا غير. (ر. الشرح الكبير: 10/ 218). (2) في الأصل: "كل طيفة البصر".

10472 - وتتمة الكلام فيه أن الروح لما كانت مقصودة بالسراية، فإذا جنى الرجل جناية يقصد بها القتل، فأدت إلى الزهوق، [وأجرينا] (1) القصاص في تلك الجناية فسرى جرحُ القصاص إلى نفس المقتص منه، فالنفس بالنفس. وينتظم مما ذكرناه أن السراية في الروح يجب فيها القصاص، ويقع بها القصاص، وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن السراية لا توجب القصاص في ذوات الأعضاء وأجزائها. فلو قطع يدَ رجل، فقطع المجني عليه أصبعاً من يد الجاني، فسرى القطع، وتأكّلت اليد، وسقطت، فهل يكون سقوط يد الجاني بطريق السراية واقعاً عن جهة القصاص؟ فعلى قولين مأخوذين من معاني [قول] (2) الشافعي، وعبر الأئمة فيهما، فقالوا: ما يجب القصاص فيه بالسراية يقع القصاص فيه بالسراية، كالروح، والبصرُ في ظاهر المذهب ملحق بالروح، وكذلك السمع. وما لا يجب القصاص فيه بالسراية كأجرام الأعضاء هل يقع فيها القصاص بالسراية؟ فعلى قولين. وهذا فيه فضل نظر: فإن قلنا: يقع القصاص بالسراية، فلا كلام. وإن قلنا: لا يقع القصاص بالسراية، فاليد التي قطعها الجاني [حكمها أنها لم يُستوف منها إلا الإصبع] (3)، وأما السراية التي ترتبت على قطع الإصبع، فهي مشكلة على هذا القول؛ فإنا إن أهدرناها، كان بعيداً، من حيث قطَع الإصبع، ولم يكن له قطعها، وقد يعارض هذا أن اليد له، والجراحات الواقعة بها، وإن كانت على خلاف الشرع مهدرة، كما لو استحق رجل نفسَ إنسان، ولم يكن له إلا ضرب رقبته، فلو قطع أطرافه عصى، ولكن لا يضمن. وَيرِد على ذلك أن جراحاته لو سرت لم تهدر سرايتها، فالإهدار على حالٍ مشكل،

_ (1) في الأصل: "فأجرينا". (2) زيادة من المحقق. (3) عبارة الأصل: "حكمها يأتي عليه لم يستوف منها إلا الإصبع" والتصرف من المحقق. نرجو أن يكون صواباً.

والمصير إلى أنها لا تقع قصاصاًً، وتكون مضمونة على المقتص لا سبيل إلى القول به أصلاً. 10473 - وأنا أذكر الآن منشأَ تردد الأصحاب وأنبه إلى ما يظهر عندي فيه، فأقول: إنما اختلف الأصحاب من نصٍّ نقله المزني عن الشافعي قال: قال الشافعي: "لو أوضح رأسه وتمعّط شعره، وذهبت عيناه، فأوضحنا رأس الجاني قصاصاًً، فإن لم ينبت شعره وذهبت عيناه، فقد استوفى مستحق الحق حقَّه، وإن نبت شعره، ولم تذهب عيناه، فعليه دية العينين وحكومة الشعر" (1) هذا نص الشافعي رضي الله عنه، وهو دال (2) على أن القصاص لا يقع بالسراية، وغلط المزني في ذكر الشعر، ولم يصح نقله عن الشافعي في خبط سوى ما ذكرناه. وهذا محلٌّ يقضي الناظرُ [فيه] العجبَ [من إطلاق الأصحاب] (3) وترك التعرض للتفصيل، والنصُّ الذي حكاه المزني في جراحة يتعلق القصاص بعينها، وهي الموضِحة، ومنها تصوير السريان إلى لطيفة البصر، [وميل] (4) الأصحاب إلى إجراء القصاص فيها وجوباً ووقوعاً. نعم، في النص تعرض لتمعّط الشعر، وهذا موضع

_ (1) ر. المختصر: 5/ 118. (2) وجه دلالته على أن القصاص لا يقع بالسراية أنه جعل في ذهاب العينين والشعر، الدية للعينين، والحكومة في الشعر، ولم يجعل فيهما القصاص. هذا وقد مرّ آنفاً إشارة الإمام إلى قولٍ للشافعي في وجوب القصاص في ذهاب البصر بالسراية، حيث قال: "فالمنصوص عليه للشافعي أن القصاص لا يجب فيما يسقط بالسراية (أي من الأعضاء) ونص على أن من أوضح رأس إنسان، فأذهب ضوء بصره، فإنا نوجب القصاص في لطيف البصر، فإن زال ضوء بصره بمثل الجراحة التي صدرت من الجاني، فذاك، وإن لم يزل واستمكنا من إزالة البصر بطريقٍ، لا نُفسد فيه الحدقة، ونتركها قائمة أزلناه. هذا نص الشافعي" انتهى بنصه. ومثل هذا نقله الرافعي (الشرح الكبير: 10/ 217) (ثم نقل نص المختصر في صفحة: 219) فهما إذاً نصان للشافعي. وعن النص الأول كان ظاهر المذهب القطع بأن القصاص يجب بالسراية إلى لطيفة البصر، والقطع أيضاً بأن القصاص لا يجب بالسراية في أجرام الأعضاء. (3) عبارة الأصل: من إطلاق العجب لأصحاب. (4) في الأصل: "وسبيل".

استنباط الأصحاب؛ فإن [منابتها] (1) في حكم أجرام تفوت [بالسراية] (2) إليها ابتداء وأخيراً، والشعور لا قصاص فيها، ولا في منابتها، فكيف ينتظم بناء القول في الأعضاء التي يجري القصاص فيها [على نصٍّ في شيء لا يجري القصاص فيه] (3)؟ فلا وجه عندنا إلا القطعُ بأن من قطع يد إنسان واستوجب القصاص، فقطع المجني عليه بعضَ يده، وأتلف أو قطع أصبعاً من أصابعه، فسرت الجراحة، فالوجه نسبة السراية إلى [فعل] (4) الجارح، وإذا انتسب إلى فعله، والذي جرى منه، كان من القصاص، فلتكن السراية كالجراحة. أما ما لا يجب القصاص فيه إذا ضمن الجاني أرشه كالشعر، فلما اقتصصنا منه فيما يجري القصاص فيه، [وأدى] (5) القصاص إلى مثل ما أدت الجناية إليه، فهل تقع السراية في جهة القصاص في مقابلة السراية في جهة الجناية؟ هذا موضع النص، وهو حري بالتردد؛ فإن قيل: زيدوه شرحاً، أتعنون بما ذكرتموه أن الحكومات التي وجبت في دية الجاني تقع قصاصاًً؟ فالحكومة التي وجبت بقدر في جهة الاقتصاص حتى يكون هذا خارجاً على أقوال القصاص. قلنا: [لا نعني] (6) هذا، ويظهر أثر ما نريده بتقدير تفاوت الحكومتين لتفاوت الديتين، فإذا كان الجاني مسلماً والمجني عليه ذمياًً، والجراحة كما نقلها المزني، فإن جعلنا الشعر بالشعر، فلا مطالبة، وإن كان قدر الحكومة يتفاوت، وهذا كما أن القصاص بالقصاص مع التفاوت في البدل المالي. فالوجه أن نقول: إذا استحق القصاص في عضوٍ، فالسراية فيه قصاصٌ، وإن لم يكن مما يُستَحَق فيه القصاص، فإن أفرد بالجناية، ثم فعل بالجاني مثل ما فعل، والشرعُ لم يقض بوجوب القصاص، فلا يكون الجرح بالجرح ولا السراية بالسراية قصاصاًً، ولكن المبتدىء والمجازي جانيان، وعلى كل واحد منهما أرشُ جنايته،

_ (1) في الأصل: "مبانيها". (2) في الأصل: "السراية". (3) عبارة الأصل: "على فلا نص في شيء لا يجري القصاص فيه". (4) في الأصل: "نقل". (5) في الأصل: "أدى" (بدون واو). (6) في الأصل: "لا يغني".

ثم يقع ذلك في أقاويل [التقاصّ] (1) في الأموال، وقد تختلف أقدار الحكومات مع اتفاق صور الجراحات. فأما إذا جرت جراحة فيها قصاص، وسرت إلى ما لا قصاص فيه، فأجرينا القصاص فيما فيه القصاص، فسرى القصاص إلى مثل ما سرت إليه الجناية، فهل نجعل الزائد بالزائد قصاصاًً، تبعاً للجرح الذي جرى القصاص فيه؟ هذا موضع التردد، ولكن الأصحاب استنبطوا من هذا قولين في أن اليد إذا سقطت بسبب قطع بعضها، فهل يقع قصاصاًً؟ وفيه ما لا يخفى دركه بعد هذا التنبيه. وإن قيل: القصاص زجر، وشرط الزجر أن يكون معموداً، فإذا لم تكن السراية في الطرف موجبةً للقصاص، فكيف يتحقق [تعمد] (2) الزجر بها؟ 10474 - وهذا الكلام ينشأ [منه] (3) مسألة، وهي أن من قتل رجلاً، ثم ضرب وليُّ الدم الجانيَ، [بسوط] (4) خفيف، فمات، فكيف القول في هذا؟ [والضرب] (5) بالعصا لا يوجب القصاص، ولا يقصد به القتل؟ هذا على ما ذكره الأصحاب محتمل؛ من حيث إنه لا يقصد به القتل، كما لا يقصد جرْم الطرف بالسراية، ولا بد من تخريج هذا على ما ذكره الأصحاب. ثم إن أوقعنا القتل الحاصل قصاصاًً، فلا كلام. وإن لم نوقعه قصاصاًً، فالكلام في إهدار الجاني فيه عسر؛ فإن الكلام [في أن] (6) الذي جرى [ليس] (7) طريقاً في الاقتصاص، ثم الحكم بإهداره، وضمان (8) الدم باقٍ

_ (1) في الأصل: "الخاص في الأموال". (2) في الأصل: "يتعمد". (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: "بشرط". (5) في الأصل: "أو الضرب". (6) زيادة من المحقق. (7) زيادة اقتضاها السياق. (8) المعنى أنه إذا مات الجاني (بضرب السوط) فقد فات محل القصاص، فإن أهدرناه ولم نجعله قصاصاًً، بقي ضمان الدم ديةً في تركته.

عليه، وفي تركته عَسِرٌ، [وإيجاب] (1) الضمان لا عن جهة الوقوع قصاصاً عَسِرٌ، والنفس مستحَقَّة له، فلا ينتظم في هذا قول. والسبب فيه فساد أصله، فإن فرع الفاسد فاسد، والوجه القطع بوقوع القتل -على أي وجه فرض- قصاصاًً، ولا ينبغي أن يُتختل خلافٌ في أن من استحق دم إنسان، ثم رمى إليه مخطئاً [فقتله] (2) أن القتل يقع قصاصاًً. هذا منتهى الفكر في ذلك والله المستعان. وقد هان ترتيب الفصول على من يقنع بظواهرها، وعظم الخطب على طالبي [الغايات] (3) في كل فن. وقد نجز القول فيما يوجب القصاص في الأطراف. 10475 - ونحن نبتدىء الآن بفصل القول في التفاوت بين الجاني والمجني عليه، فنقول: إذا استوى طرف الجاني والمجني عليه في الخِلْقة والسلامة، قُطع طرف الجاني بالطرف المقطوع من المجني عليه، إذا كان يُقتل الجاني به لو [قتله] (4)، وتفاوت [الأرش] (5) في الأصل لا يمنع جريان القصاص في الطرفين مع الاستواء في أصل النسبة، وهو أن يكون نسبة الطرف المقطوع من المجني عليه كنسبة طرف القاطع منه، فيد الرجل مقطوعة بيد المرأة، وكذلك يد المرأة مقطوعة بيد الرجل؛ فإن [جزئي] (6) الجملتين تقابَل بالجملة الأخرى، فتقابَل إحداها بأخراها. وإن تفاوت الطرفان في الخِلقة أو السلامة تفاوتاً يوجب تغيير النسبتين، لم يستوف والحالة هذه كاملاً، وليس ذلك لتفاوت البدلين، وإنما هو لتفاوت النسبتين، وبيان ذلك أن يد الجاني إذا كانت سليمة، واليد المقطوعة من المجني عليه شلاّء، فلا تقطع

_ (1) في الأصل: " وا ـحار ". (كذا تماماً بدون نقط). (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "العمامات". (4) في الأصل: "لو مثيله". (5) في الأصل: "الرأس". (6) في الأصل: "جرى".

يد الجاني بيد المجني عليه؛ فإن يد الجاني في وضع الشرع نصفُه، وليست اليد الشلاء نصفاً من صاحبها، فالرجوع إذاً إلى حكومة اليد الشلاء، ولا قصاص. ولو رضي الجاني بأن تقطع يده السليمة باليد الشلاء، لم يرض الشرع بها، ولله تعالى حكمٌ في الدماء يعدُّه الفقيه حقّاً لله لازماً. فإن قيل: لو قطع المجني عليه اليد السليمة، فهل تقولون: يقع القطع موقع القصاص، مع الانتساب إلى المعصية؟ قلنا: لا نقول ذلك أصلاً، فاليد السليمة في مقابلة الشلاء بمثابة المسلم في مقابل الذمي والحرّ في مقابلة العبد، ويمكن أن يقال: الشلاء في مقابلة الصحيحة كاليسار في مقابلة اليمين. ولو كانت يد الجاني كاملة الأصابع، ويد المجني عليه ناقصة بإصبع، فلا تقطع اليد الكاملة باليد الناقصة، ولكن لو اتفق قطعها، [وقع] (1) القصاص في مقدار الاستواء موقعه. فإن [كان] (2) يدُ الجاني شلاء، ويد المجني عليه سليمة، فلو قنع باليد الشلاء، جاز، ويقع القصاص موقعه، اتفق الأصحاب عليه، وهذا يُبطل التشبيهَ باليمين واليسار، واليدَ السليمة مع الشلاء بالكامل بالإسلام والحرية مع الكافر والرقيق. ثم إن كان لا يقع قتل المسلم قصاصاًً عن الكافر، فقتل الكافر يقع قصاصاًً عن المسلم، وكذلك القول في الحر والعبد. ثم شرط الفقهاء في الاقتصاص من الشلاء ألا يُخاف من الشلاء نزفُ الدم؛ فقد قيل: لو قطعت الشلاء، استرخت العروق نضاحة بالدم إلى النزف ولا يتماسك، فإن صح ذلك، لم يَجْرِ الاقتصاص، وإن لم يصح ورضي المجني عليه، اقتصصنا، ثم لو أراد الرجوع إلى مزيد مالٍ، لم يكن له ذلك، إذا كان التفاوت يرجع في اليدين إلى المعنى، لا إلى نقصان الخلقة، وشبه الأصحاب بأجمعهم هذا بتعييب العبد في يد البائع، فليس للمشتري إذا جرى ذلك إلا ردُّ العبد واستردادُ الثمن [أو] (3) الرضا بالعيب بجميع الثمن.

_ (1) في الأصل: "وقطع". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "أما".

والشلاء مقطوعة بالشلاء، كما السليمة مقطوعة بالسليمة. 10476 - ثم سرّ المذهب في هذا يبين بمقدمة مقصودة في نفسها، [وهذا] (1) ما نحاول في ذلك فنقول: نصَّ الشافعيُّ رضي الله عنه وأجمع الأصحاب على أن القصاص يجري في الأعضاء الزائدة مع التساوي، وعلينا الآن أن نصف التساوي، فنقول: العضوان الزائدان إن اختلفت محلاها (2)، لم يجر القصاص بينهما، فإذا فرضت إصبعٌ زائدة مبدلة من خنصر رجل، وفرضت زائدة أخرى مبدلة من إبهام آخر، فإذا قطع أحدهما من صاحبه إصبَعه (3) الزائدة، لم يقطع إصبعَ القاطع الزائدة. وإن اتفق محلاهما واتفقا في [الحجم] (4) والصفة، فيجري القصاص بينهما. وإن اختلف حجماهما كبراً وصغراً وطولاً وقصراً، ففي جريان القصاص وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يجري القصاص لمكان التفاوت المؤثر في النسبة؛ فإن حكومة إحدى الإصبعين إذا كانت أكبر، وحكومة الأخرى أقل، [فنسبة] (5) إحدى الحكومتين تخالف نسبة الأخرى، وهذا هو الأصل المعتمد في الباب. والوجه الثاني - أن القصاص يجب، ولا نظر إلى تفاوت الحجمين، كما لا نظر في تفاوت اليدين السليمتين في الضخامة ونقيضها. وهذا بعيدٌ عن الحقيقة، واكتفاءٌ بظواهر الصور، وليس ينقدح مع تفاوت الحكومتين لقول من أجرى القصاصَ [بين] (6) الطرفين وجهولٌ (7). والذي أراه أن اختلاف الأصحاب فيه إذا اختلف الزائدتان في الصورة، ولم يظهر

_ (1) في الأصل: "من هذه إلى ما مخاول ... ". (2) أي اختلفت مواضع العضوين. (3) الإصبع فيها عشرُ لغات؛ فالهمزة مثلثة، والباء مثلثة، فهذه تسع لغات، والعاشرة: أصبوع، ثم هي مؤنثة، وقيل: إنه الغالب، أي يجوز فيها التذكير (المصباح). (4) في الأصل: "الحج". وهو تصحيف واضح. (5) في الأصل: "تسبب تخالف تسبب". (6) في الأصل: "من". (7) وجهٌ: فاعل لقوله: ينقدح.

لاختلافهما أثر في الحكومة، فينقدح النظر إلى الاستواء في النسبة، ويتجه النظر إلى صورة الضخامة، فإن العضو ليست أصلية، فيتعين التناهي في رعاية المساواة خلقة وصورة. ثم ما ردّدنا القولَ فيه من الاختلاف في الحجم يجري عند الاختلاف في اللون وغيره من الصفات، إن كنا نرى إجراء الاختلاف مع التفاوت في الحكومة، وإن كنا لا نرى، فاللون لمجرده لا أصل له مع التساوي في الحكومة، بخلاف التفاوت في الجِرْم، فليفهم الناظر ما يضطر إليه من مضايق الكلام. 10477 - وتمام القول في هذا أن الإصبع الزائدة قد لا تكون لها حكومة؛ فإن الحكومات معناها اعتبار الرق مع صفةٍ وضبط القيمة معها، ثم النظر إلى القيمة دونها، والإصبع الزائدة ما نراها تزيد في القيمة، بل قد تؤثر في نقصان القيمة، فإن كانت كذلك، جرى القصاص بينهما، ويطرد [حينئذٍ] (1) ما ذكرناه من الاختلاف في تفاوت الحجم، فإن كانت إحداهما لكبرها تؤثر في نقصان [رطل] (2) والأخرى تُثبت نقصاناً دونه، [فلا] (3) أثر للتفاوت في هذه الجهة، فإنهما خارجان عن اعتبار النسبة بالكلية، فلا نظر إلى اختلاف النقصان، والنسبة المعتبرة تسوى وتتفاوت فيما له قيمةٌ وقدر من الجثة. فهذا ما أردناه في هذه المقدمة. 10478 - والآن نعود إلى القول في [الشلل] (4) قال العلماء: إذا كان الشلل في اليد المقطوعة أظهرَ وأبين، وكان الشلل في يد الجاني دونه، فلا تقطع اليد التي لم يظهر ذبولها ونحولُها واستحشافها باليد التي ظهر فيها ما ذكرناه، وليس التفاوت فيما أشرنا إليه بمثابة التفاوت في بطش اليدين السليمتين عن الشلل؛ فإن التفاوت لا أثر له في

_ (1) في الأصل: "حبس". (كذا تماماًَ.). (2) في الأصل: "في نقصان طل". والمراد رطل من الدراهم. فإن الدراهم كانت توزن، كما كانت تعد أيضاًَ. (3) في الأصل: "ولا". (4) في الأصل: "الشكل".

البدل والنسبة؛ فيد الشاب الأيّد مقطوعةٌ بيد الشيخ الفاني الهرم، والسبب في ذلك أن التفاوت في الشلل يوجب التفاوت في البدل، وذلك يغير النسبة، وهذا الذي اتفق الأصحاب فيه يؤكد ما قدمته في تفاوت العضوين الزائدين إن كان [لجِرْمهما] (1) أثر في نقصان البدل. 10479 - ولا تصفو هذه المسائل وما يأتي بعدها عن كدر التردد، ما لم نذكر الشلل ومعناه، فيد المرتعش وإن ازدحمت عليها الحركات الضرورية كاليد السليمة، فما الضبط في ذلك؟ الوجه أن نقول: الشلاء هي التي لا حراك بها أصلاً، وإن [أعملها] (2) صاحبها [بتحريك] (3) الساعد إياها، فسبيل إعماله إياها كسبيل إعماله آلة من الآلات. وكان شيخي رضي الله عنه يقول: الشلل ينافي الحس والحركة، ولست أرى الأمر كذلك، ولا يبعد أن يبقى الحس بعض البقاء مع تحقق الشلل، والتعويل على ما ذكرناه من سقوط [العمل] (4). ثم أطلق الأصحاب أن الشلل مما يتصور زواله، وفرعوا عليه مسائل عندهم، وهذا يُبيِّن أن [الشلل] (5) ليس موتَ العضو، وليست الشلاء [ميتة] (6) قطعاً، ولو ماتت وانقطع روح الروح عنها، لأنتنت [وعَفِنت] (7)؛ فإنها ليست كالشَّعْر المخلوقة (8) على [الخُشارة] (9) وقلة الرطوبة.

_ (1) في الأصل: "لغرمهما". (2) في الأصل: "أعلمها". (3) في الأصل: "بإملاك". (4) في الأصل: "العبد". (5) في الأصل: "السالم". (6) في الأصل: "منه". (7) في الأصل: "وعفت". (8) كذا بعلامة التأنيث، والتأويل ممكن غير عسير. (9) هذا هو أقرب لفظ يؤدي المعنى المراد، فالخشارة هي قشور الشعير الجافة، هذا ما قدّرناه على ضوء أقرب صورة للأصل. وإلا فهي قد رسمت بالحاء، والسين، ويمكن أن تكون بالصاد. (الحصارة أو الحسارة).

وإن قيل هلاّ اعتبرتم البطش [بحيلة] (1)، ثم حططتم قدراً من الدية بزوال بعضه كدأبكم في البصر، فإنكم ستصفون في مسائل الديات أن البصر قد يضعف بالجناية، وسبيلَ (2) [قياس] (3) النقصان بما كان في حالة الكمال، على ما سيأتي شرح ذلك في الديات؟ قلنا: لا فرق بين القاعدتين في الأصل، وآية ذلك أن الجناية المنقِصة للبصر توجب غُرماً على الجاني والجناية المنقصة للبطش توجب [غرماً] (4) أيضاًً، فلا فرق في هذا الأصل؛ فإن الغرم وإن سمي حكومةً جزء من الدية، وإذا أُخذ جزء من الدية من الجاني في مقابلة نقصان معنى مطلوب في المجني عليه، فلا بدّ وأن يكون لفوات ذلك الجزء أثر، ولا بد والحالة هذه من أن نقول: من غَرِم الجاني بدلَ بعض بطشه، فلو قطع رجلٌ كاملُ البطش هذه اليدَ التي وصفناها، فلا وجه لقطع تيك اليد بهذه. ولو فرض نقصان البطش بآفة سماوية، فلا أثر له، وعليه بنينا قطع يد الشاب بيد الشيخ؛ فكأنا في وجوه الخلل [الخِلْقية ننظر] (5) [إلى] (6) غايته، وغايةُ نقصان البطش الشلل، والشلل تبدّلٌ في الخلقة، وليس في حكم تحوّل من طور إلى طور. فإن قيل: اليد التي نقص بطشَها الجنايةُ، وغرم أرشَها، ولم تنته [إلى] (7) الشلل، لو قطعت هل يجب على قاطعها تمامُ دية اليد؟ قلنا: لا يجب التمام على الأصح، إذا استمر الضعف، وسيأتي تفصيل ذلك في العين، والبطش، والشَّيْن، وشبه الفقهاء هذا المسلك بوقوع إنسان في [السكرات] (8)، ومصيرِ آخر إلى حركة

_ (1) اعتبرتم أي قستم (من القياس) وسيأتي طريقة قياس البصر، وما يتبع فيها من حيل. (ثم إننا قرأناها هكذا بصعوبة). (2) (وسبيل) معطوف على مفعول الفعل (وستصفون). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: (عـ ـا) بدون نقط. (5) في الأصل: "الخليقة ننتظر". والمثبت تصرف من المحقق. (6) زيادة من المحقق. (7) زيادة لوضوح الكلام. (8) في الأصل: "السكران".

المذبوح بفعل فاعل، والصائر إلى حالة المحتَضَرين حيٌّ في حكم الجناية، حتى لو حزّ جانٍ رقبته، وجب عليه القصاص، ولو صار إلى مثل هذه الحالة بفعل فاعل، فالأمر بخلافه. هذا منتهى ما أردناه في بيان الشلل، والبطش، وتنخّل منه أن ما تفاوت الشلل [فيه] (1) يرجع إلى نضارة العضو واستحشافه، وحُسنه في المنظر وقبحه، وإلا [فلا عمل] (2) مع الشلل. وكان شيخي يقول في مجلس الإلقاء: إذا سقط معظم العمل، ولم يبق إلا أدنى حركة، فلست [أخشى] (3) أن أقابل بهذه اليد يداً باطشة. وهذا عندي خبل (4) لا أصل له، وبين أيدينا مسألة سأعيد فيها بعض هذه المباحثة، فإن الشافعي قال: إذا بدا الجذام بالأنف، فإن لم يأخذ في التقطع، فالعضو كالسليم وإن أخذ في التقطع، كان كاليد الشلاء، وسنذكر حقيقة هذا في موضعه. وكل ما ذكرناه إذا تفاوتت اليدان في الشلل والسلامة، مع الاستواء في الصورة، والخلقة. 10480 - فأما إذا كان التفاوت راجعاً إلى الخلقة، فذلك يختلف، فقد تكون [إحدى] (5) اليدين على الخلقة التامة، والأخرى ناقصة عنها نقصاناً معتبراً. وقد يكون التفاوت باختصاص إحدى اليدين بزيادة في الخلقة على الخلقة المعهودة في الاعتدال. فأما إذا كان التفاوت في نقصان إحدى اليدين، وكون الأخرى على الاعتدال، فإن كانت إحداهما ناقصة بإصبع والأخرى على كمال الخلقة المعتدلة، فإن كان النقصان في يد القاطع، وكانت يده ناقصة بإصبع ويد المقطوع كاملة، فالمجني عليه يقطع يد

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "ولا". (3) في الأصل: "أحسن". (4) المراد بالخبل هنا: التقصير والفساد في الرأي. (5) في الأصل: "أجزاء".

الجاني ويرجع إلى أرش إصبع، وقد ذكرنا أن هذا من نقصان [الجزئية] (1)، وليس كما لو كانت يد القاطع شلاء وصور الأصابع والكف ثابتة، ولكنها منعوتة بالشلل. وإذا قطع المجنيُّ عليه -وكانت يده كاملة- يدَ الجاني قصاصاًً، ويد الجاني ناقصة، لم يرجع إلى مزيد أرش في مقابلة نقصان الإصبع من يد الجاني. ولو كانت يد الجاني كاملة الأصابع، فقطع يداً ناقصة بإصبع، فلا سبيل إلى قطع يد الجاني من الكوع؛ فإن في ذلك -إن قلنا به- زيادة على القدر المستحق؛ فإن يد الجاني كاملة في اعتدال الخلقة، ثم لو قال المجني عليه: مكّنوني من استيفاء القصاص من أصابعه الأربع، أجبناه إلى ذلك، ومكّناه أن يلقطها ونترك [الإصبع] (2) التي [ما مُكّن منها للمجني عليه] (3)، ونترك الكف لا محالة لمكان تلك [الإصبع] (4)، وأبو حنيفة (5) يأبى هذا النوعَ من القصاص، ولا يجيز أن تلقى حديدةُ القصاص مَوْضعاً غيرَ الموضع الذي لقيته حديدةُ الجاني من المجني عليه. 10481 - ثم طرد أئمتنا الأصل الذي انتهينا إليه، وقالوا: إذا قطع الجاني يد إنسان من نصف الساعد، فلا نقطع يد الجاني من ذلك الموضع، لما قدمناه من أن إجراء القصاص في العظم عسر، ولا يتأتى الوفاء فيها برعاية المماثلة، ولكنا نجوّز للمقطوع يده من نصف الساعد أن يقطع يد الجاني من الكوع، [ثم] (6) يرجع بحكومة الساعد. وكذلك لو قطع الجاني من نصف العضد، فللمجني عليه قطع يد الجاني من المرفق، ثم إذا فعل ذلك رجع بحكومة العضد. وإذا أبان الجاني يد المجني عليه من [الكتف] (7) وخفنا الإجافة في القصاص؛

_ (1) في الأصل: "الحرّية". (2) في الأصل: "الأصابع". (3) عبارة الأصل: "ما يمكن للعنى عليه." والتصويب والزيادة من المحقق. (4) في الأصل: "الأصابع". (5) ر. الهداية مع تكملة فتح الفدير: 9/ 171. (6) في الأصل: "لم". (7) في الأصل: "الكف".

فمنعنا الاقتصاص من الكتف، فللمجني عليه القطع من المرفق، والرجوع إلى حكومة العضد. ولو وقع القطع من [المرفق] (1) وقد أوضحنا أن القصاص يجري فيه، فلو أراد المجني عليه أن يقطع من الكوع، لم نمكنه من ذلك، فإنه قادر على وضع حديدة القصاص في الموضع الذي وضع الجاني حديدة الجناية عليه، فإذا أمكنت رعاية المساواة، فلا معدل عنها، ومستحِق القصاص مخير بينها وبين ترك القصاص [إحساناً] (2). ولو قال من قطعت يده، وقد تمكن من قطع يد الجاني: مكنوني من قطع أنملة من يد الجاني وأنا أقنع بهذا، فلا يجاب إلى ذلك. ثم إذا كان قَطَعَ الجاني من المرفق، وأمكن إجراء القصاص فيه، فابتدر المجني عليه، وقطع يد الجاني من الكوع، فقد أساء، ولكن وقعت اليد قصاصاًً، فلو قال: مكنوني الآن من القطع من المرفق، فإني كنت مستحقّاً لذلك، لم نسعفه بذلك أصلاً، ولو قال: إذا أبيتم هذا فأثبتوا لي حكومة الساعد، لم نثبتها، وقلنا له: أنت تركت حقك مع القدرة عليه، ورضيت ببعض حقك. هكذا قال الأصحاب. 10482 - ولو وقع القطع من نصف الساعد، فقد ذكرنا أن للمجني عليه أن يقطع يد الجاني من الكوع، [فلو قال] (3): ألقط أصابعه، لم نمكنه، لتعدد الجراحات، وهذا عظيم الموقع، وهو متمكن من القطع من الكوع، وهو أهون وأكمل. ولو وقع القطع ابتداء من نصف العضد، فأراد المجني عليه أن يقطع من الكوع، مع تمكينه من القطع من المرفق، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن المرفق أقرب إلى محل الجناية. والوجه الثاني - له ذلك، فإن حديدة

_ (1) في الأصل: "ولو وقع القطع من القطع." وهو سبق قلم من الناسخ. (2) في الأصل: "إحسا" هكذا تماماً بدون نقط. والمثبت أقرب ما يكون لصورتها ولأداء معنى مناسب للسياق، وهو من عمل المحقق طبعاً. (3) في الأصل: "فلو أراد قال" والتصرف بالحذف من المحقق.

القصاص إذا [جازت] (1) عن محل الجناية ضرورةً، والقطع من الكوع أهون من المرفق، فلا يمتنع القطع الذي يتضمن ترك بعض الحق من غير تعديدٍ في القطع يتضمن المثلة، كما ذكرناه في طلب لقط الأصابع. ثم إذا قطع الكوع إما مبادراً، وإما بأن سوغنا له ذلك، فهل يجوز له الرجوع إلى حكومة الساعد، والقدرِ المقطوع من العضد؟ هذا ينبني على الخلاف في جواز القطع من الكوع، فإن منعنا ذلك، فليس له حكومة الساعد، وإن جوزنا القطع من الكوع، ففي سقوط حكومة الساعد وجهان: أحدهما - أنه يسقط؛ من جهة أنه أعرض عن حقه، مع التمكن منه. والثاني - له حكومة الساعد، وترْكُه لحقه في الساعد بمثابة عفوه عن القصاص، ولو عفا عن القصاص، لثبت له الرجوع إلى المال. فإن قيل: هلا قلتم: له الرجوع إلى حكومة الساعد، وإن فرعنا على منعه من القطع من الكوع، لأنه تاركٌ حقَّه في قطع المرفق، ومستحقُّ القصاص يرجع إلى المال؟ فهذا [عفوٌ] (2) على كل حال؟ قلنا: لا ننكر كونَ هذا قياساً، ولكن أجرى الأصحاب إسقاط الحكومة تغليظاً على المقتص إن فعل ما ليس له أن يفعله، وأما الحكومة في مقابلة بعض [العضد] (3)، فإنها ثابتة في كل حساب؛ فإن التعذر في الاقتصاص محقق شرعاً، لا ينسب المقتصَّ إلى تركٍ. واستشهد القفال لسقوط الحكومة في الساعد في صورة الوجهين بمسألة من القسْم تقْرُب فقهاً؛ وإن كانت تبعد تصويراً: [فللثَّيب إذا أرادت ثلاثةُ العقد] (4)، لا تحسب عليها من أدوار القَسْم، فلو أرادت أن يقيم الزوج عندها سبعاً -وهي مدة الأبكار- أجابها الزوج، وقضى السبعَ للباقيات، وبطل اختصاصها بالثلاث؛ لأنها تعدّت محلّ حقها، وحدَّ استحقاقها.

_ (1) في الأصل: "حارت". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "العبد". (4) في الأصل: "فليثبت إذا رتب ثلاثة العقد ... إلخ وواضح ما فيها من تصحيف". وتصح (ثلاثة) على تقدير إرادة الأيام.

وهذه المسألة شاذّةٌ عن القياس، والمعول [فيها] (1) الخبر؛ فلا ينبغي أن يستشهد بها، وسبيل التوجيه أن نقول: إذا قدر على القطع من المرفق، فقطع من الكوع، فكأنه أقام هذا القطعَ من الكوع مقام هذا القطع من المرفق، فقام مقامه وليس [كالعفو] (2) عن القصاص أصلاً مع الرجوع إلى الدية. هذا منتهى النظر، والله أعلم. 10483 - ومما يتعلق بذكر التفاوت بين يدي الجاني والمجني عليه أن يد المجني عليه لو كانت على الخلقة المعتدلة، وكانت يد الجاني [مختلَّة] (3): إصبعان منها شلاّوان، وثلاثٌ صحيحة، فإن قنع المجني عليه بيد الجاني كما صادفها، جاز، ولا مرجع إلى الأرش، وقد ذكرنا ذلك في اليد الشلاء، فما الظن بها إذا كان الشلل في بعض أصابع الجاني؟ ولو قال المجني عليه: لست أقنع بيد الجاني، ولكني ألقط الأصابع الثلاثَ الصحيحة، أجبناه إلى ذلك، ويرجع إلى الأرش فيما لم يستوفِ. والتفصيل فيه أن نقول: يرجع بدية أصبعين لا محالة، وبقي الكلامُ في حكومة الكف، فأما ما يقابل الأصابع الثلاثة التي اقتص فيها، وهو ثلاثة أخماس حكومة الكف، فهل يطالِب بها أم تندرج تحت القصاص في الأصابع الثلاث، فعلى وجهين: أحدهما - أنها تندرج تحت دياتها؛ فإن دية الأصابع الخمس من الرجل الكامل خمسون من الإبل، ودية اليد إذا قطعت من الكوع خمسون من الإبل، فالكف إذاً في الاعتبار الذي ذكرناه مندرجة تحت الأصابع في الدية، والقصاص أحدُ البدلين؛ فلتستتبع الأصابع فيها مغارسَها من الكف. والوجه الثاني - أن الحكومة لا تتبع القصاص؛ فإن القصاص في [وضعه] (4) مماثلة

_ (1) في الأصل: "منها". (2) في الأصل: "كالعقد". (3) في الأصل: "مختلفة". (4) في الأصل: "وصفه".

محسوسة، والديات أبدال [تحكّميّة] (1)، فإذا جرى القصاص في الأصابع دون الكف، وقد قطع الجاني منه الكف، فمقابلة الكف والأصابع بالأصابع المحضة يخالف المماثلةَ المرعيةَ في [قضية] (2) القصاص والأروش، ولا يغني [القصاص] (3) على هذا. هذا قولنا فيما يقابل الأصابع المقطوعة قصاصاًً في حكومة الكف. [فأما الخمسان] (4) المقابلان للأصبعين اللذين يرجع فيهما إلى الدية، فالمذهب الذي قطع به معظم أئمتنا أنه لا يرجع بما يقابل الأصبعين في حكومة الكف، لما قدمناه من أن دية الأصابع الخمس [هي دية اليد المقطوعة من الكوع] (5)، فإذا اندرجت جملة الكف تحت ديات الأصابع، فليندرج البعض فيها تحت البعض؛ فإن الكل متركب من الأجزاء، والحكم الثابت للكل ينقسم على أجزائه. وذهب بعض أصحابنا إلى أن له المطالبةَ بما يقابل الإصبعين، وهذا بعيد، وإن حكاه معتمدون، ووجهه على بعده: أن كل الأصابع إن استتبعت الكف، فلا يمنع ألا يجرى ذلك في بعضٍ، ويقال: إذا وجب بعض حكومة الكف يجب تمام حكومتها، وما ذكرناه في الأصبعين اللذين ثبت ديتهما يرتب على ما يقابل الأصابع الذي جرى القصاص فيها، فإن قلنا: القصاص يستتبع، ففي الدية الخلاف الذي ذكرناه. فهذا كلام أرسلناه، وتمامُ بيانه في آخر الفصل. 10484 - ولو كان يد المجني عليه [مختلّة] (6): فكانت إصبعان شلاوان وثلاث صحيحة، ويد الجاني معتدلة الخلقة، فلا شك أنا لا نقطع يدَ الجاني من الكوع،

_ (1) في الأصل: "بحكمته". (2) في الأصل: "قصة". (3) في الأصل: "ولا ـعـ ـى على هذا" والمثبت من الزيادة والتصرف من عمل المحقق. والمعنى لا يغني القصاص عن الحكومة في الكف. (4) في الأصل: "فالخمسان". (5) عبارة الأصل: "هي دية الأرش اليد المقطوعة من الكوع. " والتصرف بالحذف من المحقق. (6) في الأصل: "مختلفة" وما أثبتناه هو الأوفق للسياق والمعنى إن شاء الله.

وللمجني عليه أن يقتص من ثلاث أصابعَ ويلقطَها، من يد الجاني، ويرجعَ إلى حكومة الإصبعين الشلاوين. ويبقى الكلام في حكومة الكف: أما ما يقابل القصاص، فعلى الخلاف المشهور، وأما ما يقابل الإصبعين الشلاوين، فالمذهب أنه يرجع بذلك القدر من حكومة الكف، [وهو] (1) خمسا حكومة الكف، [وأبعد] (2) بعض الأصحاب وزعم أن الأصبعين الشلاوين يستتبعان ما يقابلهما من حكومة الكف، وهما خُمسا الحكومة، وهذا الخلاف يرتّب على ما ذكرناه في الدية؛ فإن قلنا: الدية لا تستتبع، فلأن لا تستتبع الحكومةُ أولى. وإن قلنا: الدية تستتبع، ففي الحكومة وجهان: أصحهما- أنها لا تستتبع، والفرق أن الدية أصلٌ والحكومة فرع، فلا يبعد أن يستتبع الأصل الفرعَ، فأما الحكومة، فيبعد أن تستتبع الحكومةَ. وضبط القول فيما ذكرناه من الاستتباع يقتضي التنبه لأمور: منها أن الدية حَرِيةٌ بأن تستبع الحكومةَ، والحكومة بعيدة عن استتباع الحكومة، والقصاص على التردد [من] (3) حيث إنه أصل، كما أن الدية أصل، ولكنه [مخالف] (4) في وضعه للمال، فاقتضى ذلك تردداً فيه. ومما يتعين ذكره أن الاستتباع في جملة الأصابع متجه واقع، وهو في البعض أبعد، ويتبين الآن ما أشرنا إليه بالتفصيل. فإذا كان يد المجني عليه كاملةً معتدلة، وكانت يد الجاني زائدة بإصبع، فلا سبيل إلى قطع يد الجاني، فإذا قال المجني عليه: اغرم لي ديات أصابعي، كان كما لو قال: اغرم لي دية يدي، ولا يبين نظرٌ في الاستتباع لمكان اجتماع الدية مع فرض الكلام في جملة الأصابع.

_ (1) في الأصل: "وهما". (2) في الأصل: "فأبعد". (3) في الأصل: "في". (4) في الأصل: "يخالف".

ولو طلب المجني عليه القصاصَ في الأصابع الخمس، ففي الاستتباع وجهان، ولكن الاستتباع هاهنا أظهرُ، لجريان القصاص في جميع الأصابع. وإذا جرى تغريم الدية في بعض الأصابع، ظهر هاهنا أوّلُ الخلاف في الاستتباع، والأظهر الاستتباع. وأما الحكومة؛ فإنها بعيدة عن الاستتباع. هذا تمام الغرض فيما ذكرناه. والقول في مقدار حكومة الكف مؤخر إلى كتاب الديات، ففيها نستقصي الحكومات، وسبيلَ الاعتبار فيها. 10485 - ولو اشتملت يد الجاني والمجني عليه على الشلل في بعض الأصابع، فإن كان ذلك على الاستواء، جرى القصاص [من] (1) الكوع، مثل أن يكون المُسبِّحة من يد كل واحد منهما شلاء، ولو اختلفت اليدان فيما ذكرناه لم يجرِ القصاصُ من الكوع، وذلك بأن تكون المُسبِّحة من إحدى اليدين شلاء، [والوسطى من الأخرى] (2)، فلا يجري القصاص من الكوع، ولا تجزىء الصحيحة من يدٍ الشلاءَ من الأخرى. وقد نجز ما أردناه من تفاوت اليدين في الزيادة، والنقصان، والخروج عن الاعتدال، وبقي منه فصل في نهاية الإعضال، وهو القول في زيادة الإصبع، ونحن نفرد هذا بفصلٍ بعد هذا، جرياً على تفصيل [السواد] (3). فصل قال: "لو سأل القودَ ساعةَ قُطع أصبعه أقدتُه ... إلى آخره" (4). 10486 - من قطع طرفاً أو أطرافاً من إنسان، واستوجب القصاص فيها،

_ (1) في الأصل: "في". (2) في الأصل: "والأخرى من الوسطى من الأخرى". (3) في الأصل: "الشواذ". وهو تحريف واضح، وقد سبق مراراً أن المراد بقوله (السواد) هو مختصر المزني. (4) ر. المختصر: 5/ 118.

[فسأل] (1) المجنيُّ عليه القودَ من ساعته، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه يجاب إلى ذلك، ويمكّن من الاقتصاص على [جزئه] (2)، وذلك أن القصاص لا يسقط في الأطراف بتقدير سِراياتها إلى النفس، وقد مهدنا في أول الكتاب أن القصاص لا يندرج تحت القصاص في النفس، وإنما تندرج الأطراف تحت النفس في الدية، وإذا كان كذلك، فالوجهُ إسعافُ طالب القصاص بحقّه على الفور. قال شيخي: قلنا للققال: إذا قطع الجاني اليد في المساء، فطلب المجني عليه القصاص في حَمارّة [القيظ] (3)، وقد يغلب على الظن أن ذلك مهلك في هذا الوقت، فهل نجيب طالب القصاص، أو نؤخر حق الاقتصاص إلى مثل الزمان الذي جرت الجناية فيه؟ فتردد القفال، واستقر جوابه على أنا لا نؤخر ولا نبالي بما يؤدي القطع إليه. ولو قطع رجل يدي رجل، وتركه حتى اندمل ما به من جرح، ثم قطع رجليه، ثم تركه [حتى اندمل، ثم والى القطعَ حتى ما] (4) فضل منه أعضاء مع تخلل الاندمال، فإذا جاء المجني عليه يطلب القصاص، أسعفناه بما يطلبه، ومكّنّاه من استيفاء القصاص [وِلاءً] (5) في الأطراف، وإن جرت الجناية مفرقة (6). وقال بعض أصحابنا: من جنى على طرف أو أطراف لم نقصّ المجني عليه ما لم تندمل تلك الجراحات، كما سنذكر مثل ذلك في الدية.

_ (1) في الأصل: "قبل". (2) رسمت في الأصل هكذا: "حروه" بدون نقط. (3) في الأصل: "الفيض". وحمارة القيظ: شدّته (بتخفيف الراء وتشديدها) (المعجم). (4) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (5) في الأصل: "تناولا". والمثبت أقرب صورة إليها، وأقرب إلى ألفاظ الإمام، وإلى المعنى المطلوب. فهي هي كلمة الإمام إن شاء الله. (6) لم يذكر الإمام هنا إلا هذا الوجه. وقال الرافعي: "وفيه وجه أنه إذا قطعها متفرقة يقتص منه كذلك، لما في الموالاة من زيادة الخطر" وجعل الأول الذي اقتصر عليه الإمام هو الأظهر. (ر. الشرح الكبير: 10/ 270) وأما النووي، فقد جعل الوجه الذي اقتصر عليه الإمام هو الصحيح (ر. الروضة: 9/ 225).

وهذا بعيد لا أعرف له وجهاً، ولكن حكاه معتَمدٌ في الحكاية والنقل. 10487 - ثم لو آل الأمر إلى المال، فطلب المجني عليه المالَ، فظاهر النص للشافعي في الكتب: أنا نتوقف إلى الاندمال، وقال في السيد إذا جنى على مكاتَبه: "إن الأرش يتعجل على المولى، ليصرف إلى جهة التحرير"؛ فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: في [المسألة] (1) قولان: أحدهما - التعجيل وإسعاف الطالب بحقه من المال؛ قياساً على القصاص في المذهب الظاهر. والقول الثاني - أنا نتوقف؛ فإن الجراحات قد تسري، فتصير نفساً، فيختلف قدر المال، فالوجه التوقف إلى أن يبين حكمُ المال. فإن قلنا: نقدم له ما يطلبه من حق المال، [ففي] (2) القدر الذي نُكلّف الجاني تعجيلَه قولان: أحدهما - أنا نكلفه تعجيلَ ديات الأطراف، فإن سرت وأدت إلى الهلاك، استرددنا حينئذٍ ما يزيد على الدية الواحدة، وليس ذلك بدعاً في أصول الشريعة، فإنا قد نغرّم المعتدي قيمة عبدٍ غصبه إذا أبق؛ للحيلولة الناجزة، ثم إذا آب العبد، رددنا القيمة واسترددناه، فإذا كنا نغرّم القيمة لتنجُّز الحيلولة، فلأن نغرّم أروشَ الأطراف، وقد تنجز فواتُها أولى. والقول الثاني - أنا لا نعجل إلا ديةً واحدة؛ فإن الجراحات سارية، وهي محمولة على السرايات إلى الزهوق. وإذا جمعنا [ما أخّرنا] (3) إلى ما قدمنا، انتظم منه أقوال: أحدها - أنّا نقدّم الأروشى كلَّها، ثم ننظر ما يكون. والقول الثاني - أنا لا نقدّم إلا ديةَ النفس. والقول الثالث- أنا لا نقدّم الأرش ما لم تندمل الجراحة. فإن قيل: ما وجه هذا القول، وما محمله والأروش لا تنحط عن الدية؟ قلنا: قد [يشارك] (4) هذا الجاني أعدادٌ من الجناة، ثم تسري الجنايات إلى الموت، فلا

_ (1) في الأصل: "المسائل". (2) في الأصل: "ومن". (3) في الأصل: "ما أخذنا". (4) في الأصل: "شارك".

يخص الجاني إلا جُزءٌ من مائة جزء مثلاً، وإذا أمكن تقدير هذا، ولا ضبط ولا مردّ، فالوجه التوقف في [الجميع] (1). فأعدل [الأقوال] (2) إجابة الطالب إلى دية واحدة، فإن [حَمْلَه] (3) السريان على الزهوق [ليس] (4) بدعاً، وتصوير الاشتراك نادر، ولا وجه للحمل على النوادر، فإن هذه طريقة الأصحاب. ومن أئمتنا من أقر النصوص في مواضعها، ولم ير تعجيل شيء من الدية قبل الاندمال إلا في مسألة المكاتَب، والسبب فيه أن الكتابة موضوعُها على تعجيل [عَتاقة] (5) المكاتَب، ولذلك قطعنا بأنه لو جاء المكاتَب بالنجم قبل محِله، أُجبر السيد على قبوله. [وإذا] (6) جاء من عليه الدين المؤجل بالدين قبل محِله، ففي [إجبار] (7) مستحقه على القبول قولان، والفارق ما أشرنا إليه. [ومن] (8) سلك هذا المسلك اختلفوا في تنزيل هذا الكلام [في] (9) المكاتب: فمنهم من حمله على النجم [الأخير] (10) وفرض أرشا يكمل به النجوم، حتى لو لم يكن كذلك، رُدّ الأمر إلى التفصيل المذكور في [الإجبار] (11). ومن أصحابنا من طرد هذا في جميع [الأقساط] (12) والنجومِ، وهذا ظاهر النص. فإن قيل: أي فائدة لتعجيل أرش المكاتب، ولو كانت الأروش زائدة على

_ (1) في الأصل: "الجمع". (2) في الأصل: "الأفعال". (3) في الأصل: "جملة". (4) في الأصل: "وليس". (5) في الأصل: "ساقة". (6) في الأصل: "فإذا". (7) في الأصل: "اختيار". (8) في الأصل: "في سَلكَ هذا المسلك". (9) في الأصل: "من". (10) في الأصل: "الآخر". (11) في الأصل: "الأخبار". (12) في الأصل: "الأقدار".

القيمة، فأدت [السراية] (1) إلى الهلاك، رجعت إلى القيمة، وبيّنا أن ما حكمنا به في الزائد على القيمة منقوص، وإنما يقع الحكم بموجَب المآل؟ قلنا: نعم، الأمر كذلك، ولهذا لم يُصحح الأئمة إلا طريقة الأقوال مع الاطراد في الحر والمكاتب. 10488 - ومن تمام الفصل أن الجراحة لو كانت جراحةَ حكومة، لم يختلف أصحابنا المعتبرون في التوقف إلى أن تبين عاقبة الأمر، والسبب فيه أنها غيرُ مقدّرة، ولا يبين أمرها إلا عند منتهاها. وحكى شيخي أن من أصحابنا من قال: يُسعَفُ المجني عليه بأقلِّ حكومة تعرض، وهذا يُعتمد. وسيكون [لنا] (2) على حال إلى هذا الفصل عودة في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "ولو كان للقاطع ست أصابع ... إلى آخره" (3). 10489 - مضمون الفصل كلامه في الإصبع الزائدة، ونحن نذكر حكمها، لو كانت على يد الجاني مع اعتدال خَلْق المجني عليه. وحكمَها لو كانت على يد المجني عليه مع اعتدال خَلْق الجاني. فإن كانت على يد المجني عليه، فقطعها الجاني من الكوع، قطعنا يد الجاني، وغرمناه أرش الإصبع الزائدة. ولو كانت على يد الجاني، لم نقطع يده؛ لمكان تلك الزيادة. ولو أراد المجني عليه أن يلقط أصابعه الأصلية، نظر: فإن كانت الزيادة مائلةً عن

_ (1) زيادة من المحقق. * تنبيه: نذكر أن نسخة الأصل وحيدة، وما تراه في الحواشي ليس فروق نسخ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وبحثه. نسأل الله الصواب. (2) زيادة اقتضاها المقام. (3) ر. المختصر: 5/ 120.

سمت منابت الأصليات، تركناها وقطعنا الأصابع الأصلية قصاصاًً. وإن كانت الإصبع الزائدة على سَنَن الأصليات واستواء منابتها، فإن كانت غيرَ ملتبسةٍ بالأصليات، وكان استيفاء الأصليات مع إبقائها ممكناً، فللمجني عليه استيفاؤها، [وفي] (1) حكومة الكف من التفصيل ما قدمناه، لمّا ذكرنا الاختلاف في أن القصاص في الأصابع هل يستتبع [أقدارها] (2) من حكومة الكف. وإن كان قطْعُ بعض الأصليات يؤدي إلى فسادٍ للزيادة، لم يجر القصاص فيما يؤدي قطعه إلى إتلاف الإصبع الزائدة. وكل ذلك بيِّن في الأصول التي سبق تمهيدها. 10490 - [وإنما] (3) المشكل من هذا الفصل صورتان: إحداهما - أن الجاني لو كانت له ست أصابع، وقال أهل البصر: لا ندري أن أصبعاً واحدة زائدة فيها، وهي ملتبسة بها، أو الأصابع الست أصليات، والطبيعة قسمت مادةَ الأصابع بتقدير العزيز العليم ستةَ أجزاء على استواءٍ في القوى والعمل، وهي على الاعتياد تنقسم من غير هذا الشخص خمسةَ أقسام، هذه صورة. الصورة الأخرى - أن يحكم أهل البصائر أنها أصليات، انقسمت ستةَ أقسام. ونحن نتكلم في كل صورة بما يليق بها، إن شاء الله عز وجل. 10491 - فأما إذا جوزنا أن تكون واحدة زائدة، وخمس أصليات، وجوزنا أن يكنَّ أصليات، فإذا كان الجاني بهذه الصفة، وكان قطَعَ يداً معتدلة من الكوع، فلا نقطع هذه اليدَ من الجاني، قال الأئمة: لا نمكّن المجنيَّ عليه من لقط خمسِ أصابعَ من يد الجاني، لأصلٍ متفق عليه بين الأصحاب، وهو أن الإصبع الزائدة لا تقطع بأصلية، وإن تدانيا في المنبت، ولا تقطع بها أصلية، وليست الزائدة كالإصبع الشلاء، والسبب في ذلك أن الاختلاف في الأطراف يمنع إجراء القصاص، ولهذا لا نقطع خِنصراً ببنصر، ويُسرى بيُمنى، وليست الزائدة كالشلاء؛ فإن الشلاء أصلية

_ (1) في الأصل: "في" (بدون واو). (2) في الأصل: "إقرارها". (3) في الأصل: "وأما".

نابَها الشّلل، واختلاف الصفة لا يوجب اختلاف الجنس. فإذا تقدم ذلك، فنحن نجوّز أنا لو قطعنا خمساً من أصابع الجاني أن تكون واحدة منها زائدة، ولا تكون [مجزئةً] (1) في مقابلتها بأصلية. هذا هو السبب في المنع عن الإقدام على قطع خمس أصابع، فإن كل واحدة يُفرض الإقدام عليها [يصدق] (2) أن يقال: إنها الزائدة، وهذا بيّن. ثم بنى الأصحاب على هذا، فقالوا: لو ابتدر المجني عليه في هذه الصورة، وهي صورة الإشكال، فقطع خمسَ أصابعَ [وِلاءً] (3)، ثم قلنا: الأصابع التي قطعتها هي أصابعك من غير زيادةٍ هي ولا نقصان؛ فإنا نجوّز أن تكون أصلية، والزائدة [هي] (4) التي أبقيتها، ويجوز غيرُ ذلك، فلا لك ولا عليك. فإن قال: [لم تقطعوا له حقي عليه في الكف الذي عليه الأصابع] (5)، والأصل بقاء استحقاقي. قلنا: نعم، ولم نأمر؛ إنك استوفيت حقك، وأنت جَرَرْتَ إلى نفسك هذا؛ فإن قدرناك غير مستوفٍ حقك وقد قطعت -والشرعُ لا يعطل القطع- عارضه إمكان القطع موفياً حقك، فلا وجه إلا ردُّ الأمر إلى النظر في حكومة الكف، وقد مضى القول فيه. 10492 - فأما إذا قال أهل البصيرة: الأصابع أصلية، ولكنها انقسمت ستة أقسام، فقد قطع أئمتنا بأن القصاص يجري فيها؛ فإن التفاوت في الانقسام مع الحكم بتأصل الأصابع لا يوجب اختلافاً في الجنس، وسنذكر بعد هذا أن الإصبع إذا كان على رأسها أنملتان مستندتان، وعاملتان، فهما أصليتان، فلو قطعهما معتدلٌ في الخلقة، قطعنا الأنملة العليا منه، وألزمناه زيادة حكومة.

_ (1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (2) في الأصل: "بصدد". (3) في الأصل: "ونحاه" كذا تماماً. والمثبت من عمل المحقق. مثل كل ما سبق في هذا المجلد؛ فهي نسخة وحيدة. والله المستعان، والملهم للصواب. (4) في الأصل: "في". (5) عبارة الأصل: "لم تقطعوا له في حقي علي في الأصابع" والتعديل والحذف من المحقق.

وقالوا: لو كان هذا الانقسام في الأصابع في يد المجني عليه ويدُ الجاني معتدلة، قطعنا يد الجاني بيد المجني عليه، وألزمناه زيادة الحكومة، فقد تحقق أن الانقسام لا يُثبت اختلافاً يمنع من التقابل في حكم القصاص. فنعود بعد هذا إلى فرض هذه الزيادة في يد الجاني، فنقول: إذا أراد المجني عليه أن يقطع خمس أصابع من يد الجاني، فله ذلك، سنصف ونقول: ينبغي أن يكون قطع هذه الخمسة على وِلاء، فيقع واحدٌ منها على الطرف لا محالة، والذي يختلج [في النفس] (1) لا محالة، فمن [دقّة النظر] (2) إيثار منع القصاص، فإن الأصابع الست انقسمت على [نظمٍ] (3) يخالف نظمَ الخمس المعتدلة، فالقطع منها يغمض. نعم، لو قطعها قاطع، لم يغمض قطع الخمس بها، كما ذكرناه في قطع أنملة معتدلة بالأنملتين. وهذا هو الذي يختلج في الصدر، والاحتمال فيه واقع. ولكن ما رأيناه للأصحاب، هذا الذي نقلناه. ثم إذا تعدينا هذا الكلام بعده في الرجوع بمزيد، فإذا قطع المجني عليه خمسَ أصابع من يد الجاني، فلا شك أن حقه لم يتوفر عليه، وليس كالصورة التي قدمت، وهي إذا قطعنا أن واحدة زائدة وخمساً أصلية؛ فالأصابع الخمس تقع خمسة أسداس، وأصابع المجني عليه كانت على كمالها، فنُثبت له مع قطع الخمس رجوعاً إلى شيء،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "قلة الفطرة" وقد جاءت هاتان الكلمتان في الفصل الآتي بعد هذا هكذا: "وإن يعترض في [وله العطر] شيء ... إلخ" هكذا بدون نقط. فترجح لدينا أنها (دقة النظر). وتصحفت على الناسخ بهذه الصورة. ولقد نقل الرافعي هذا النص، فقال: "قال الإمام: ويختلج في النفس أن يقال: ليس له لقط الخمس؛ لوقوع الست على نظم يخالف نظم الخمس المعتدلة، وغموض القطع منها، ثم حقه لا يتوفر بقطع الخمس منها؛ لأنها خمسة أسداس اليد، ويده مقطوعة بكمالها، فله مع ذلك سدس الدية، لكن يحط من السدس شيء؛ لأن الخمس الملقوطة، وإن كانت خمسةَ أسداس، فهي في صورة الخمس المعتدلة، والأمر في قدر المحطوط مفوّض إلى رأي المجتهد ونظره." ا. هـ بنصه (ر. الشرح الكبير: 10/ 242). (3) في الأصل: رسمت هكذا "لقط" وبدون نقط.

وظاهر هذا التقدير يقتضي أن نثبت مع قطع الخمس دية [الإصبع] (1) ونحن نقدر هذا ونحط منه بالاجتهاد؛ فإن الأصابع التي قطعناها من يد الجاني خمسٌ في الصورة مشابهةً خمساً معتدلة، فكان ذلك مقتضياً مزيةً وزيادةً على نسبة التسديس، وسنذكر لهذا نظائر في الأنامل، والذكرين، وغيرها، ثم ذلك الذي نحطّه من السدس مفوّض إلى رأي المجتهد. هذا تمام المراد ونحن نهذبه بمسائل: 10493 - فإذا قطع مَنْ أصابعه منقسمة ستةَ أقسام إصبعاً أصلية، قطعنا من تلك الجهة إصبعاً من أصابعه، وألزمناه ما بين الخُمس والسدس مع حطيطةِ مقدارٍ لما نبهنا عليه. ولو قطع رجل معتدل الخلق إصبعاً من هذه الأصابع الست، لم نقطع أصبعاً من الجاني وتعليله بيّن، ولكنا نُلزم الجاني سدس دية اليد مع [مزيدٍ لزيادة] (2) الخلقة في الصورة، وستأتي أمثلة ذلك في الأنامل وغيرها. ولو قطع المعتدل إصبعاً من الأصابع الست، فقد ذكرنا أنه لا تقطع إصبع من أصابع هذا المعتدل، فلو ابتدرها المجني عليه وقطعها، كان هذا عندنا بمثابة ما لو كانت إصبع المجني عليه شلاء وإصبع الجاني سليمة، فابتدر المجني عليه الإصبع السليمة، وقطعها، فهل يقع قصاصاًً، وكيف الحكم؟ هذا مما تقدم ذكره. وقد انتهى الكلام في الفصل ولم يبق فيه إشكال في النقل، وفي الاحتمال ما نبهت عليه. فصل 10494 - إذا كان لإصبعٍ أربعُ أنامل، نظر فيها، وقيل: إن لم يزد طولها على طول الأصابع، فلا زيادةَ في الخلقة، وإنما الزيادة في تفصيل المفاصل، وتعدد الأنامل، فإذا قطعَ هذا الشخص إصبعَ إنسان، وكانت مثل إصبعه، فإن كانتا

_ (1) في الأصل: "الأصابع". (2) في الأصل: "مزيد الزيادة".

مسبّحتين مثلاً [فإنا] (1) نقطع الإصبع من الجاني، وإن زاد عدد أناملها؛ فإنه لا زيادة، ولكن انقسمت إصبعه أرباعاً، وانقسمت إصبع الرجل المعتدل أثلاثاً، فلا تفاوت في أصل الخلقة وإنما التفاوت في أعداد الأقسام، وكيفية الانقسام. [والذي] (2) صار إليه الجمهور أن الإصبع المربعة إذا كانت في يد الجاني، فقطع أنملة من إصبع معتدلة، قطعنا أنملة من إصبعه، وألزمناه مع القصاص مزيداً، وهو ما بين الربع إلى الثلث من دية إصبع، فإن قطع أنملتين من إصبع معتدلة، قطعنا أنملتين من إصبعه المربعة، وألزمناه مع القصاص ما بين النصف إلى الثلثين من دية إصبع، فإن استأصل الإصبع المعتدلة من أصلها، قطعنا إصبعه المربعة، فاكتفينا بالقصاص؛ فإن جملة الإصبع الآن تقابل جملة الإصبع من يد المجني عليه، وأربعة الأرباع تعدل ثلاثة الأثلاث، وإنما كان يطرأ التفاوت والقطعُ (3) في الأجزاء، فإذا رجع الأمر إلى مقابلة الجملة بالجملة، زال التفاوت (4). وإذا جنى مَنْ إصبعه معتدلة، على من إصبعه مربعة، فإذا قطع الأنملة العليا، لم نقطع الأنملة العليا من إصبع الجاني؛ فإنا لو فعلنا هذا كنا مقابلين ثلثاً بربع، فإن قطع أنملتين من الإصبع المربعة، قطعنا أنملة من إصبعه المثلثة، وألزمنا الجاني ما بين الثلث إلى النصف، وهو سدس دية الإصبع. وإن قطع ثلاثة أنامل من الإصبع المربعة، قطعنا أنملتين من إصبع الجاني وألزمناه ما بين الثلثين إلى ثلاثة أرباع، وهو نصف سدس دية إصبع. وإن قطع الجاني الإصبع المربعة من أصلها، قطعنا إصبعه، واكتفينا؛ فإن جملة [الإصبع مقابلة بجملة الإصبع] (5) الأخرى، وإنما التفاضل بين الأجزاء، كما سبق.

_ (1) في الأصل: "فأما". (2) في الأصل: "فالذي". (3) "والقطع في الأجزاء" الواو واو الحال، والجملة حالية. (4) حكى صاحب (التهذيب) وجهاً آخر، هو المنع من القصاص للزيادة في عدد الأنامل، وجعله الأصح، كما لا تقطع اليد التي فيها ست أصابع بيد المعتدل (ر. التهذيب: 7/ 114)، ونقله عنه الرافعي (ر. الشرح الكبير: 10/ 244) ولم يرجح أي وجهٍ منهما. (5) في الأصل: "الأصابع مقارنة لجملة الإصبع." والمثبت تصرف من المحقق.

10495 - وكل ما ذكرناه فيه إذا انقسمت الإصبع أربعةَ أقسام، ولم يزد طولها، فإن زاد طولها، ظهر في الظن أنها إصبع وزيادة أنملة، فيجب الحكم بزيادة ذلك، ثم الأنملة الزائدة قد تساوي بقية الأنامل في [النضارة والانصياع] (1) للعمل، وقد تكون الأنملة العليا [مستحشفة] (2) ساقطةَ العمل، أو ضعيفة العمل، فيظهر أنها شلاء، أو زائدة على التعين، ولا شك أنا إذا اعتقدنا مزيداً نوجب في الإصبع إذا قطعت دية إصبع وزيادة. ولو قطع صاحب هذه الإصبع إصبعاً معتدلة، لم نقطع إصبعه من أصلها بالإصبع المعتدلة، لمكان الزيادة التي اعتقدناها، ولو قُطعت هذه الإصبع، فالقول في الزائد على دية إصبع يختلف، [كما نبهنا] (3) عليه: فإن كانت الزيادة ضعيفة [مستحشفة] (4)، فالزيادة على قدرها، وإن كانت قوية، كانت الزيادة أكثر، وإذا لم يكن فرقٌ، استوت الأنامل ونزلت منزلةَ الأصابع الست، التي اعتقدناها أصلية، وقدرنا مادةَ الأصابع منقسمة ستة أقسام، فلو قطعت أنملة من الأنامل الأربع، وهي متساوية، أوجبنا ربعَ دية إصبع وزيادة، وهكذا إلى الاستيعاب، كما نوجب في إصبع من الأصابع الست التي استشهدنا بها سدس دية يدٍ، وزيادة. ولا يبعد أن نقول: صادفت القوة المدبرة بإذن الله تعالى مزيد مادة [فزادت الإصبع] (5) قسماً، ثم لا فائدة في قول القائل: [الزائدة] (6) في الأنامل [أيتها؟] (7)؛ فإنه [إن] (8) أراد بذلك طلب حكم في القصاص والدية، [فلا فرق] (9)

_ (1) في الأصل: "في النضاه والانطباع". (2) في الأصل: "مستحقة". (3) في الأصل: "بما نبهنا". (4) في الأصل: "مستحقة". (5) هذه الزيادة من الرافعي، حيث نقل عبارة الإمام بنصها. (ر. الشرح الكبير: 10/ 243). (6) في الأصل: "الفائدة"، وهو سبق قلم من الناسخ. (7) كذا قرأنا بصعوبةٍ بالغة. (8) زيادة اقتضاها السياق. (9) في الأصل: "ولا فرق".

بين أنملة وأنملة، وإن أراد اطلاعاً على حقيقة الخلقة قيل له: لا فرق بين الأنامل في الخلقة، ولا سبيل إلى [تعيين] (1) واحدة للزيادة. فهذا منتهى المراد في ذلك. 10496 - ولو تصورت الإصبع بالصورة التي ذكرناها وهي الزيادة في العدد والطول، فلو قطع صاحبها أنملة من إصبع معتدلة، قطعنا أنملة منه؛ فإن أنملته لا تزيد على [ثُلث إصبع] (2) وإن كان يعترض في [دقة النظر] (3) شيء، فهو كما ذكرناه من مقابلة إصبع معتدلة بإصبع من الأصابع الستة، وقد قدمت النقلَ والاحتمال. ولو قطع صاحب الإصبع الموصوفة بالزيادة إصبعاً معتدلة، فلا تقطع الإصبع التي وصفناها من أصلها؛ فنكون زائدين في الاقتصاص على قدر الجناية. ولكن هل [نقطع] (4) ثلاثَ أنامل، ثم ننظر إلى التفاوت (5)؟ هذا موضع النظر عندنا؛ فإن محل القطع متفاوت؛ فإن الجناية اتصلت بمركب الإصبع من الكف، والأمر في هذه الإصبع بخلاف تلك، ولكن الأصل أن نقطع ثلاث أنامل من إصبعه، ونرجع إلى مزيدٍ، فنسلمه إلى المجني عليه. وإن كان المحذور اختلافَ [موقع] (6) الحديدة، فهذا سائغ في مذهبنا؛ فإنا نقول: إذا كانت يد الجاني زائدة بإصبع، لقطنا أصابعه الخمس، ولم نقطع يده من الكوع، لمكان الإصبع الزائدة. 10497 - ومما يطرى في المسألة أنا لو صادفنا إصبعاً فيها أنملتان، ولكنها على طول الأصابع، فيجوز أن يقال: إنها إصبع واحدة، انقسمت بنصفين. والمقصودُ في ذلك لا يتبين إلا بشيء هو في نفسه من أغراض الفصل، وذلك أن

_ (1) في الأصل: "نفس". (2) في الأصل: "ثلاثة أصابع". (3) في الأصل: "ـله الـ طر" كذا تماماً وبدون نقط، وسبق ورود هاتين الكلمتين، وصحفتا بنفس الطريقة، والسياق هنا وهناك يشهد لصحة اختيارنا إن شاء الله. (4) في الأصل: "ينقطع". (5) في الأصل: "تفاوت". (6) في الأصل: "فيوقع".

إصبعاً من الأصابع لو كانت أعداد أناملها على الاعتدال، ولكنها كانت أقصرَ من سائر الأصابع، وهي عاملة، فما نبهنا [عليه] (1) [أن قصر] (2) الأنامل لا يَنْقُص ديتَها عن أرش إصبع نظراً إلى تمام العدد، وحصول العمل. ولو كانت الإصبع مثلّثة، ولكن أناملها طوال، [فالإصبع] (3) زائدة في الطول؛ لا لزيادة أنملة، ولكن لزيادة طول الأنامل، فالوجه ألاّ نزيد حكومةً لهذا السبب. وإذا بان هذا، قلنا: إذا صادفنا إصبعاً بأنملتين اعترض لنا خاطران: أحدهما - أنه إصبع ذو قسمين؛ فإنه على طول سائر الأصابع. والثاني - أنهما أنملتان طويلتان، وقد ذكرنا أن طول الأنملة لا يُثبت مزيداً، وإذا اعترض هذان، فالأظهر منهما أنها إصبع تامة [ما نقص قسم منها] (4)، فكانت كإصبع مربعة، ثم تربعُّ الإصبع مع المساواة في الطول، لم يقتض مزيداً؛ فتنصّفُه (5) مع الطول المساوي لا يقتضي نقصاناً. وأبو حنيفة لما اعتقد الإبهام [ذا أنملتين] (6)، أوجب في كل أنملة نصف دية الإصبع (7). ويحتمل غير ذلك بتأويل الحمل على نقصان الإصبع بأنملة، وازدياد الأنملتين الكائنتين طولاً، وينضم إليه الاستمساك ببراءة الذمة (8)، وليس معنا في هذه الصورة نقل مُحصِّل. والأظهر تكميل الدية، نظراً إلى الطول.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "من قصد". (3) في الأصل: "والإصبع". (4) عبارة الأصل: "فالأظهر منهما أنها إصبع تامة نقصاً منها" والمثبت من تصرف المحقق، والسياق يشهد لصحة هذا التصرف إن شاء الله. (5) فتنصفه: أي الإصبع، وقد أشرنا إلى أنها قد تذكر. (6) في الأصل: "فإن أنملمتين". (7) يستدلّ بذلك على أن الإصبع إذا خلقت ذات أنملتين مستوفية طولها، فهي إصبع كاملة. (8) المراد براءة ذمة القاطع، فحيثما قطع هذه الإصبع ذات الأنملتين الطويلتين، لا تقطع إصبعه المثلثة المعتدلة، إلا بيقين لبراءة ذمته في الأصل، ولا تشغل بقدرٍ من الدية إلا بيقين.

فإن قيل: ظهر سقوط منفعةٍ بنقصان أنملة (1)؟ قلنا: قد نتخيل سقوط منفعة الاستداد في تربع الأنامل؛ فإن كمال الخلقة إذا كان يقتضي تثليثاً، فالتربيع يَنْقُصُ معنى مقصوداً كالتنصيف. فهذا منتهى النظر في ذلك. 10498 - ولو فرضنا أصبعاً لا [تفاصيل] (2) فيها، فالأظهر عندي نقصان شطرٍ من الدية؛ فإن الانثناء بالكلية إذا زال، سقط معظم منفعة الإصبع في الاحتواء والقبض، وهذا يسهل سبيل [التنقيص] (3) في انقسام الإصبع نصفين. والعلم عند الله. وفي بعض التصانيف تردد في شيء لا بد من التنبه له، وهو أن الإصبع إذا كانت مربعة وطولها كطول الأصابع؛ فإنها لا تقطع بالإصبع المثلثة المعتدلة، وهذا لم أره لأحد (4)، ثم في كلامه تناقض، فإنه أَثبت في كل أنملة رُبعَ دية الإصبع، وهذا يناقض ما ذكره في الامتناع عن مقابلة هذه الإصبع بالإصبع المثلثة، وهذا التناقض يحدث، ويقال بعده: لا يمتنع في مسالك الظنون أن يقال: الإصبع المربعة زائدة بأنملة، ولكن أناملها قصار، وهذا وإن كان خلافَ ما قاله الأصحاب، فهو إلى حالٍ يشير إلى مسلكٍ في الظن، لو ساغ القول به [لعُدّ] (5) وجهاً بيناً (6)، ولكن الجمع

_ (1) جملة خبرية في معنى الاستفهام، والمعنى: هل ظهر سقوط منفعة بنقصان أنملة؟ (2) في الأصل: "تفاضل". (3) في الأصل: "النقيص". (4) هذا الوجه الذي يقول عنه الإمام: لم أره لأحد، حكاه صاحب التهذيب، وقال: إنه الأصح، وأشار الرافعي إلى كلام صاحب التهذيب، وحكى قبله كلام الإمام، ولم يتعرض للاختيار بين الوجهين، بل اقتصر على حكايتهما، وحُكْمَ الإمام وصاحبِ التهذيب عليهما. قلتُ: مراد الإمام أنه لم يره لغير (الفوراني) [فهو المعبر عن كتابه ببعض التصانيف، وعنه ببعض المصنفين] فيكون البغوي [561 هـ] صاحب التهذيب قد أخذه عن الفوراني، أو مَنْ بعد الفوراني، وعليه يكون مبدأ هذا الرأي في المذهب من عند الفوراني، ثم انتشر عنه. والله أعلم. (5) في الأصل: "بعد". وهو تصحيف قريب المدرك. (6) لقد صدق تقدير الإمام، فقد صار هذا (وجهاً بيناً) جعله صاحب التهذيب (الأصح) وإن كان من تعليقٍ هنا: فهو ما يشهد بإنصاف الإمام (للفوراني)، فمع أنه "كثير الحط عليه" =

بين هذا الاعتقاد وبين مقابلة كل أنملة بالربع من غير مزيدٍ تناقض [محذوف] (1). وقد نجز تمام الغرض في الفصل بحثاً ونقلاً. فصل قال: "ولو قطع أنملة لها طرفإن ... إلى آخره" (2). 10499 - إذا كان على رأس إصبع إنسان أنملتان، فإن كانت إحداهما أصلية [مستدّة] (3) عاملة، والأخرى زائدة مائلة، ففي الأصلية الأرش الكامل، وفي الزائدة الحكومة، ثم إذا قطع صاحبُ هذه الإصبع الأنملة العليا من معتدل، اكتفينا بقطع أنملتِه الأصلية، ولو قطع معتدلٌ أنملته المعتدلة، [قُطعت أنملته بها، وإن انتقل الأمر إلى المال، ففيها الأرش الكامل] (4). وإن كانت الأنملتان منتصبتان عاملتان لا تتميز إحداهما عن الأخرى، فالقول فيهما يقرب من القول في الأصابع الست الأصلية، التي حُمل المزيد في عددها على زيادة الانقسام، فإن قطع معتدلٌ إحدى الأنملتين، لم تقطع أنملته، وإن قطعهما، قطعنا أنملته، وألزمنا مزيداً لزيادة الخلقة، وقد سبق نظير ذلك في الأصابع الست. ولو كان الجاني صاحب الأنملتين، فإذا قطع الأنملة العليا من معتدل، لم نقطع [أنملتيه] (5) لمكان الزيادة، ولكنا نقطع أنملة واحدة من الأنملتين، ونلزمه مع

_ = ولا يذكره باسمه أبداً، ومع أنه بدأ الحديث عنه هنا بحدَّة معهودة ظاهرة تنطق بها ألفاظُه، وعباراتُه، إلا أنه لم يملك أخيراً إلا التسليم بأن هذا يشير إلى مسلك في الظنون يمكن أن يعد وجهاً بيناً" رضي الله عنهما وعن كل مشايخنا وأئمتنا ونفعنا بعلمهم، وألحقنا بهم في الصالحين. (1) في الأصل: "محدوق". والمثبت أقرب صورة لما هو بالأصل. والمحذوف هو المتروك الساقط، فعسى أن يكون اختيارنا صواباًً. (2) ر. المختصر: 5/ 120. (3) في الأصل: "مشتدة". ومعنى مستدّة: مستقيمة. (4) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق تكملة للصورة، جواباً لقوله: "ولو قطع ... " وقد اعتمدنا في هذا على ما قاله النووي (ر. الروضة: 9/ 207). (5) في الأصل: "أنملته".

القصاص شيئاًً من الأرش. فإن قيل: تُبلِّغون ذلك الشيءَ نصفَ أرش أنملة؟ قلنا: لا نرى ذلك، بل نقول: ننقص من نصف الأرش، والسبب فيه أن الذي قطعناه قصاصاًً على صورة أنملة، فاقتضى ذلك مزيداً على الشطر، وإذا كان كذلك، فقد زاد القصاص على شطر الأنملة المعتدلة، فكان الباقي أقلَّ من الشطر، [فناسب] (1) إلزامه شيئاًً يقل عن نصف أرش الأنملة المعتدلة، والنظر فيه إلى المجتهد. ومن عجيب ما يعن في هذه المسألة أنا إذا كنا نجري القصاص في إحدى الأنملتين، فنرى الأمر على الخيار في هذا؛ إذ ليست إحدى الأنملتين أولى من الأخرى، والأنملة المعتدلة ذات شطرين، وكل أنملة من الأنملتين يضاهيها شطر، فإذا استوى الأمران، فليت شعري يُخيّر المقتصُّ أم المقتص منه؟ وكيف النظر فيه؟ الوجه عندنا يخيّر المقتص المستوفي؛ لأن استحقاقه متعلق بهما على البدل، وإنما الممتنع استيفاؤهما. وما ذكرناه في الأنملتين فيه إذا [نبتتا] (2) على رأس الأنملة الوسطى. 10500 - ولو لقي رأسَ الأنملة الوسطى عظمٌ، ثم [انشعب] (3) بعد الاتحاد، فهذه صورة أخرى، فإن كان مركب الأنملة المشعَّبة عظماً واحداً ولم يكن له شعبة (4) تنفصل على مركبه، فلا يتصور إجراء القصاص؛ فإن العظام لا تقطع في القصاص وإن كان [لكلّ] (5) شعبة مفصل من مركبه، فذلك المركب الحائل بين الشعبتين وبين الأنملة الوسطى أنملة زائدة، فيتصل الكلام بإصبع ذات أربع أنامل في الطول، وأنملته العليا متشعبة، وإذا أدخلناها في العدد، قلنا: ذات خمس أنامل (6).

_ (1) في الأصل:" فاسبق" كذا تماماً. (2) في الأصل:"بنيتا". (3) في الأصل:"اتسعت"، والمثبت من (الشرح الكبير: 10/ 245). (4) أي أن العظم المتصل برأس الأنملة الوسطى الذي نبت عليه الأنملتان إذا كان قطعة واحدة ليس فيه مفصل، فلا يمكن إجراء القصاص في هذه الصورة. (5) في الأصل."أقل". والمثبت من الشرح الكبير. (نفسه). (6) أخذ الرافعي هذا الفرع من كلام إمام الحرمين، وربما كان من المناسب أن نذكر الصورة الأخيرة فقط من سياقة كلام الرافعي، لما في ذلك من مزيد إيضاح، قال: "فلو لقي رأسَها =

ولا يبقى مع ما مهدناه إشكال، إن شاء الله عز وجل. 10501 - ولو كان على الساق قدمان، فالقول فيهما كالقول في الأنملتين، فإن كانت إحداهما أصلية والأخرى زائدة، لم يخف الحكم، وإن كانتا عاملتين ولا تميز بينها كالأنملتين، [فواجبهما] (1) نصف الدية وزيادة، كما أن موجب الأنملتين ثلث دية إصبع وزيادة. ثم التفاصيل في الاقتصاص وتقدير الأرش على حسب ما تقدم في الأنملتين، غير أن المعتبر ثمَّ ثلثُ دية الإصبع، والمزيد منسوب إليه، والمعتبر هاهنا نصفُ دية النفس، والمزيد منسوب إليه، [والكفان] (2) على ساعدٍ [على] (3) هذا النحو، فلا حاجة إلى الإعادة. فصل قال: "ولو قطع أنمل من طرفٍ، ومن آخَر الوسطى ... إلى آخره" (4). 10502 - صورة المسألة أن يقطع الأنملة العليا من [شخص، والوسطى من] (5) آخَرَ لا عليا له، فيجب القصاص مع إمكان الاستيفاء في أنملته العليا، مهما (6) طالب

_ = (الأنملة الوسطى) عظمٌ، ثم انشعب الطرفان من ذلك العظم، فإن لم يكن مفصل بين العظم وبينهما، فليس ذلك موضع فصاص. وإن كان لكل طرف مفصل هناك، فالعظم الحائل بين الشعبتين. والأنملة الوسطى أنملة أخرى، فهي إصبع لها أربع أنامل، والعليا منها ذات طرفين.". انتهى كلام الرافعي ثم عقب قائلاً: "هكذا رتب الإمامُ الفرعَ، وهو أحسن ترتيب فيه" (ر. الشرح الكبير: 10/ 245). (1) في الأصل: "يوجبهما". (2) في الأصل: "والكفاه". (3) زيادة من المحقق. (4) ر. المختصر: 5/ 120. (5) عبارة الأصل: "أن يقطع العليا من سبعة آخر لا عليا له" والتصويب والزيادة من المحقق. (6) مهما: بمعنى إذا.

صاحب الأنملة العليا أجيب، فاقتصّ، وصاحب الوسطى لو أراد الابتداء بالمطالبة، لم يُجَب؛ فإن الوسطى منه قطعت ولا عليا عليها، ولو قطعنا الوسطى من الجاني قبل استيفاء العليا، كنا متلفين أنملتين في مقابلة أنملة، ولا سبيل إلى هذا. والوجه أن نذكر مسلك الأصحاب، ثم نختتم الفصل بمباحثة القفال رضي الله عنه، فنقول: إن قطعنا الأنملة العليا قصاصاًً، ثم قطعنا الوسطى عن الوسطى قصاصاًً، فقد ترتب الأمر. وإن لم يطلب صاحب العليا، وطلب صاحبُ الوسطى، لم نجبه إلى ذلك، فلو قال: إذ حُلْتم بيني وبين القصاص، فادفعوا إليّ المال للحيلولة، فهل يجاب إلى المال؟ فيه خلافٌ مشهور بين الأصحاب، وقد ذكروا رضي الله عنهم أحكاماً، وصاغوا لها صيغاً وطردوا الاختلاف فيها، وجميعها تدور على معنى واحد: قالوا: لو أخذ المال، ثم سقطت الأنملة العليا، فهل يردّ المال ويطلب القصاصَ؟ فعلى وجهين، سبقت لهما نظائر في الغرامات، والمراجعات في أرش العيب القديم في المبيع، فلا حاجة إلى إعادتها. قالوا: وهل له طلب المال من غير عفو؟ فعلى وجهين. وقالوا: نفس أخْذ المال هل يكون عفواً منه عن القصاص؟ فعلى وجهين، وجميع ذلك يرجع إلى ما ذكرناه من أن الحيلولة في القصاص هل تُثبت حق الرجوع إلى المال؟ فإن لم تَثْبُت الحيلولةُ مقتضيةً لذلك، لم يُجب إذا طالب، وإن قنع بالمال، لم يرجع إلى القصاص، [وأَخْذُه المطلق] (1) للمال عفو. قال الشيخ أبو بكر (2): إذا قَتَلت المرأةُ، واستوجبت القصاص وهي حامل، فهل [لمستحق] (3) القصاص طلبُ المال للحيلولة؟ قال: فيه احتمال، كمسألة الأنملة التي نحن فيها.

_ (1) في الأصل: "وأخذ المطلق". والمعنى أن الأخذ للمال مطلقاً عفوٌ، بغير قيد العفو. (2) الشيخ أبو بكر: هو الصيدلاني. (3) في الأصل: "يستحق".

والذي يقتضيه الترتيب اتخاذ نص الشافعي أصلاً في الباب، ثم تنزيل المسائل على مراتبها. قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قُتل إنسان وخلف [ابناً] (1) مجنوناً، فلا سبيل إلى استيفاء حقه من القصاص في حالة الجنون؛ فإن استيفاء القصاص لا يدخل تحت الولايات"، ثم قال الشافعي: "لو أراد ولي المجنون أن يأخذ المال، كان له ذلك". هذا هو النص، وذكر بعض الأصحاب فيه تخريجاً. وما ذكره الشافعي متجه، من جهة أن [الجنون] (2) ليس له [حدّ] (3)، وقد ينتهي إلى اليأس من الزوال، ولو لم نجوّز أخْذَ المال، ولا سبيل إلى استيفاء القصاص، لكان هذا قريباً من التعطيل. هذا وجه النص، ثم إذا جرينا عليه، وأثبتنا تغريمَ من عليه القصاص المالَ، فلو زال الجنون، ففي العَوْد إلى القصاص وردّ المال خلاف مشهور. ولو كان القصاص ثابتاً لصبي، فبلوغه منتظر، ثم الذي ذكره الأصحاب أن الولي لا يطلب المال، فإن [الصِّبا له حدّ] (4)، وما ذكره الصيدلاني في الحامل يضاهي ما ذكرناه في الصبي؛ فإن وضع الحمل منتظر كزوال الصبا. ومسألة الأنملة العليا والوسطى دون الجنون، من قِبل أن الجنون لا يتعلّق بزواله انتظار ثابت، وثبوت الاقتصاص في الوسطى متعلق بضربٍ [من] (5) الترقب؛ فإن الظاهر أن صاحب القصاص في العليا يطلب حقه، ولكن ليس له [مردّ] (6) بخلاف الحمل والصبا، وليس [ببعيدٍ] (7) عن الترقب، بخلاف الجنون. نعم، لو عفا

_ (1) في الأصل: "أباً". وهو خلاف المفهوم من المسألة. (2) في الأصل: "المجنون". (3) في الأصل: "أخذ". (4) في الأصل: "الصبي له أجر". (5) في الأصل: "في". (6) في الأصل: "أمر". (7) في الأصل: "يبعد".

صاحب الأنملة العليا، التحقت المسألة في الوسطى بمسألة المجنون؛ إذ لا ترتب إلا من جهة سقوط الأنملة العليا بآفة، وسبيل الانتظار في هذا كسبيل الانتظار في زوال الجنون، فلئن انقدح طلب المال في مسألة الحامل، فلا بد من طردها في الصبي، ثم لا يخفى بعد ما ذكرناه ترتيب المراتب وتنزيلها على حقائقها. هذا استقصاء ما ذكره الأصحاب. 10503 - فأما المباحثة التي جرت للقفال، قال شيخي: قلنا للقفال: إذا قَطَع الوسطى ممن لا عليا له، وإصبع الجاني سليمة، فلا نجيب المجني عليه إلى طلب القصاص، ولو سقطت الأنملة العليا، فهل نقول: لا قصاص الآن أيضاًً؛ فإن الجناية جرت والقصاص غيرُ ممكن حالةَ جريانها؟ فقال: المسألة محتملة، فلا يبعد أن يسقط القصاص رأساً، بخلاف ما إذا جنت الحامل؛ فإنا ننتظر وضعها، إذ الحمل كان [طارئاً] (1) على الخلقة، والأنملة العليا من أصل خلقة الجاني. وهذا التردد الذي ذكره القفال رضي الله عنه فيه إذا لم يقطع إلا الوسطى وأصبعه كاملة، فأما إذا قطع العليا، ثم قطع الوسطى ممن لا عليا له، فليس هذا موضع تردد القفال، فإن العليا كأنها مقطوعة، من جهة أنها مستحَقة لصاحب العليا. قال شيخي: لو قطع رجل سليمُ اليدين يداً شلاء، فلا قصاص، ولو شَلّت يد القاطع [وساوت] (2) اليدَ المقطوعة، فقال المقطوع: الآن أطلب القصاص، فهل له ذلك؟ قال (3): القفالُ [خرّجه] (4) على الوجهين المذكورين في الأنملة الوسطى، ثم رجع عن هذا التردد، وقطع القولَ بأن اليد التي شَلَّت، وكانت سليمة عند الجناية لا تقطع، فإن الكمال بالسلامة مَنَع وجوب القصاص، فإن الصفة لا يقدّر تميّزها عن الموصوف، والأنملة العليا ليست صفة للوسطى. ولو قتل حر كافر ذميٌّ عبداً كافراً، ثم نقض العهدَ الذميُّ، فأُرق، لم يجرِ

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "فسارت". (3) القائل الشيخ أبو محمد، شيخ الإمام. (4) في الأصل: "أخرجه".

القصاص عند طريان الرق، وإن حصلت المساواة. [ولا وجه] (1) إلا تخصيص الخلاف بالأنملة في الصورة التي [قصصناها عليك] (2)، وما ذكره في الشلل لا يعتدّ به، ولا يعدّ من المذهب (3).

_ (1) في الأصل: "فلا" ولا معنى للفاء هنا؛ فإنها ترتب وتسبب ما بعدها على ما قبلها، وهذا الترتيب عكس المعنى المقصود. (2) في الأصل: "قصصنا عليها" والمقصود الصورة التي يقطع الجاني فيها الأنملة الوسطى، ولا تكون الأنملة العليا منه مستحقة، بل تكون معصومة. هذه هي الصورة التي ردّد فيها حكمَ القصاص القفالُ فيما حكاه عنه الشيخ أبو محمد، أما إذا كان قطَعَ الأنملة العليا ثم قطع الوسطى ممن لا عليا له، فليس هذا موضع تردّد القفال، لأن العليا في حكم المقطوعة؛ من جهة أنها مستحقة. وسرّ التردد في الأنملة وفي اليد الشلاء هو: هل يثبت وجوب القصاص وتحول الأنملة العليا لعدم إمكان التوصل إليه، وتحول سلامة اليد لعدم المماثلة أم لا يثبت الوجوب أصلاً؟ فإن قلنا بعدم الثبوت، فلا يعود الوجوب إذا زالت الأنملة وشلّت اليد السليمة. (3) هنا أمران: الأول - في تمييز كلام القفال عن غيره: هل التعليل لما انتهى إليه من عدم قطع اليد التي كانت سليمة ثم شلَّت، هل التعليل بأن السلامة صفة لليد لايمكن تميزها عن الموصوف والتفريق بينها وبين الأنملة الوسطى بأن العليا ليست صفةً للوسطى، وكذا الاستشهاد بعدم قتل الحرّ الذمي الذي نقض العهد فأُرق بالعبد الذي قتله عندما كان معاهداً. أهذا من كلام الفقال يحكيه عنه تلميذه الشيخ أبو محمد، أم من كلام الشيخ أبي محمد انتصاراً لشيخه القفال؟ ولا يمكن أن يكون من كلام إمام الحرمين؛ لأنه على خِلاف الوجه الذي يقول به، فتعليق الإمام بدأ بقوله: "ولا وجه إلا تخصيص الخلاف بالأنملة في الصورة التي قصصناها عليك ... إلخ". ومما ينبغي أن يسجل أن الغزالي في البسيط نسب كلام القفال إلى الشيخ أبي محمد، ولم يجعله حاكيا له. الثاني - قول الإمام عن القفال: "إن ما ذكره في الشلل لا يعتد به، ولا يعدّ من المذهب" معناه - كما هو واضح -أنه يقول بعكس ما انتهى إليه القفال- أي يقول بالوجه الآخر القائل بأن اليد السليمة إذا شلت تقطع بالشلاء التي قطعها الجاني قبل أن تشل يده. وقد رأينا البغوي في التهذيب، يقول بما اختاره الإمام وإن لم ينسبه إليه، ولكن الرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة نقلا عن إمام الحرمين عكس هذا، حيث قالا بعد نقل كلام القفال: "وهو الذي رآه الإمام مذهبا". فكيف يتفقان على هذا؟ هل وقع في بعض نسخ النهاية اختلاف، ونُسب إلى الإمام وجهٌ غير هذا الوجه؟ وهذا -على بعده- ممكن!! وقد سجلنا شيئاًً منه في كتاب الطهارة، وإن لم يكن في اختلاف الوجوه، وإنما كان اختلافاً =

10504 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أُقيد يمنى بيسرى"، وهو [كما قال] (1)، والسبب فيه بعد الإجماع أن الاتفاق في المحل والاسم لا بد منه، ولهذا لم يُقطع الإبهام بالسبابة والخنصر بالبنصر، وهذا واضح. فصل قال: "ولو قَلَع سنه، أو قطع أذنه ثم إن ذلك المقطوع منه. ألصقه ... إلى آخره" (2). 10505 - مضمون هذا الفصل ثلاثةُ أشياء، سبق أهمُّها، ونحن نقتصر على إشارة إليه. [والثاني] (3) يتعلق بأمرٍ تقدم استقصاؤه [في] (4) كتاب الصلاة. والثالث - متعلق بأمرٍ سيأتي في أحكام الجنايات. فأما الأول، فلو قطع البعضَ من أذن إنسان، فإن أبأنه، أوجبنا القصاص فيه،

_ = على حال، والأبعد من هذا أن يكون الإمام قاله في غير النهاية، في مختصرها مثلاً، وتظل المسألة معلّقة. والعلم عند الله. وإتماماًً لأطراف المسألة نذكر توجيه البغوي في التهذيب لما اختاره، وردّه للوجه الآخر، قال: "ولو شلّت يد القاطع بعد ما قطع يداً شلاء، نقتصّ منه ... بخلاف ما لو قطع حرٌّ ذمي يد عبدٍ، ثم نقض العهد، فاسترق، لا يقطع، لكونه حراً حالة القطع". والفرق أن امتناع القصاص -هناك- لعدم التكافؤ، وفي اعتبار التكافؤ تعتبر حالة الجناية، بدليل أنهما لو كانا متكافئين حالة الجناية بأن كانا عبدين، أو ذميين، ثم عَتَق العبد أو أسلم الذمي، يقتص منه. وهاهنا امتناع القصاص لزيادة محسوسةٍ في يد القاطع، فإذا زالت، قطعت، اعتباراً بحالة الاستيفاء، ألا ترى أن الأشلّ إذا قطع يداً شلاء، ثم صحت يد القاطع، لا يقتص منه لحدوث الزيادة فيه، وإن كانتا متساويتين حالة القطع، وكذلك لو قطع يداً لا أظافير عليها، لا تقطع يد القاطع الصحيحة". (ر. التهذيب: 7/ 109) وانظر أيضاًً (الشرح الكبير: 10/ 229) لترى أن الرافعي أخذ كلامَ البغوي بنصه تقريباً، وانظر (الروضة: 9/ 194). (1) في الأصل: "كما لو قال". (2) ر. المختصر: 5/ 121. (3) في الأصل: "التي". (4) في الأصل: "وفي".

ونسبنا المقطوعَ إلى الباقي؛ فإن كان المقطوع نصفاً، قطعنا النصف من أذن الجاني على ذلك الحدّ، لم يختلف الأصحاب فيه. وإن قطع الجاني البعضَ، ولم يُبن، فقد ذكرتُ ذلك في المراتب السابقة، وبقي ثلاثٌ: منها قطع بعض الأذن، ومنها المتلاحمة، ومنها قطع بعض اليد والرجل وغيرهما. هذا هو الذي تقدم. 10506 - وأما ما يتعلق المقصود منه بكتاب الصلاة، وفيه غرض بيّن من القصاص، فهو أن الرجل إذا أبان أُذنَ إنسان، فألصقها المجني عليه في حرارة الدم، فالتحمت، فكيف الحكم؟ هذا أولاً لا يتصور قطعاً، ولكن صور الفقهاء الكلامَ عليه (1)، فنقول: إذا وجب القصاص بالإبانة، لم يُزل القصاص بما فرض من الالتصاق؛ فإن هذه الأذن وإن التصقت، فهي مستحِقة الإزالة، ولا حكم لما اتفق من الالتصاق، ولو قطع قاطع تلك الأذن، لم يستوجب القصاص بقطعها، لما ذكرناه من أنها مستحَقة للقطع، ثم سبب استحقاق القطع تنحية النجاسة لأجل الصلاة؛ فإن الأذن لما بانت، حكمنا بنجاستها، ولا يزول الحكم بالالتصاق. [وحظّ] (2) الصلاة من هذا أنا [إن] (3) لم نخف على صاحب الأذن، قلعنا أذنه، وإن خفنا عليه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا لا نقلعها [حفظاً للروح] (4) والثاني - نقلعها، ونؤول (5) بما يجري من التلف على الملصق، ونحن نقتل تارك (6) الصلاة.

_ (1) هنا في الأصل: بياض قدر كلمة بعد كلمة (عليه) والسياق مفهوم بدونها على أية حال. (2) في الأصل: "حظ" (بدون الواو). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "حفظ للروصه". (كذا تماماً وبدون نقط). (5) أي نرجع بما يجري من التَّلف على الملصِق، أي يكون هو الذي جنى على نفسه، بسبب لصقها. (6) هذا في مقام التعليل للوجه القائل بقطع الأذن الملصَقة مع توقّع السريان إلى النفس؛ فالمعنى أنا إذا كنا نقتل تارك الصلاة، فلا مانع من فطع الأذن الملصقة -التي تحول بين صاحبها والصلاة الصحيحة- مع توقع السريان. ولكن الإمام في كتاب الصلاة مال إلى غير هذا، بل قطع به، فقد قال عند الحديث عما إذ وصل عظمَه بعظم نجس، وخفنا إزالته، قال عن الوجه القائل بالإزالة مع الخوف: "وهذا =

وهذا استقصيناه في باب الصلاة بالنجاسة عند ذكرنا [وصلَ] (1) الإنسان عظمَه بعظم نجس. وقد يعترض على من يطلب التمام أنا إذا لم نحكم بنجاسة الآدمي بالموت، وجب ألا نحكم بنجاسة أجزائه إذا أُبينت، وإذا كان كذلك، فلا حاجة إلى فصل الأذن، ووجه الكشف فيه أنا مع الحكم بطهارة الآدمي على تردّد [في] (2) طهارة ما يبان عنه في حياته، فإن حكمنا بالنجاسة، استمر عليه ما ذكرناه، وإن حكمنا بالطهارة، اعترض لنا بعد ذلك أنه قد يلتحم على دمٍ ظَهَرَ، وحكمنا بنجاسته ووجوب إزالته، فيعود الترتيب إلى ما ذكره الأصحاب، والأظهر أن الدم إذا استتر بما التحم عليه، سقط التكليف بإزالته. فهذا كلام لا يتعلق بما نحن فيه، ولكن طالب الغايات قد يخرج عن مقصوده بعضَ الخروج. ومما يتصل بهذا الفصل من حكم القصاص أن الأذن إذا التحمت وخفنا من قلعها على الملصِق، [وجرينا] (3) على أنها لا تُقلع، فلو قلعها إنسان وأدى القلع إلى الهلاك، فقد قال المحققون: على القالع القصاصُ في النفس، وقد يعترض فيه أن جواز القطع أو وجوبه مختلف فيه، فلا يمنع أن يصير خلافُ العلماء شبهةً في دفع القصاص، كما قدمناه في انفراد أحد الوليين بالقتل والإشارة إلى خلاف بعض أهل المدينة، فهذا ما أردناه في ذلك. 10507 - والمقصود الثالث - يتعلق بشيء استقصاؤه بين أيدينا، وهو أن من قطع

_ = بعيد عن القياس؛ فإن المحافظة على الأرواح أهمُّ من رعاية شرط الصلاة ... ثم أكد ذلك مجيباً على اعتراضٍ يعترض، قائلاً: وهذا عندي تكلف، والقياس القطع بأنه لا ينزع العظم إذا خيف الهلاك؛ فإنا نحرّم إمساسَ الجرح ماء لإزالة نجاسة عليه، وإن كان في إبقائها حملٌ على إقامة الصلاة مع النجاسات، وكل نجاسة يعسر إزالتها والاحتراز عنها، فإن الشرع يعفو عنها، كما مضى التفصيل فيه" ا. هـ (1) في الأصل: "فصل". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "وخدعناه".

النصف من أذن إنسان، وأجرينا القصاص فيه، فالتحم أذنُ المجني عليه، فقد قال القفال: لو قطعت هذه الأذن، وجب القصاص على قاطعها، وقد أجرينا القصاص في نصفها. وهذا الفصل ليس بالهيّن، وهو يشتمل على مراتبَ منها: عود البصر بعد ظن الزوال، ومنها التحام الموضحة، ومنها نبات اللسان، ومنها عود [السِّن المثغورة] (1)، ولكل مرتبة من هذه المراتب وضعٌ في الوفاق، والخلاف. وسيأتي شرحنا عليها، إن شاء الله. ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن من استأصل أذن إنسان إلا جلدةً منها، قالوا: القصاص يجري في المقطوع، ومالوا إلى القطع بإجراء القصاص في هذه الصورة، بخلاف ما لو انتهت الحديدة إلى نصف الأذن مثلاً، وأبقت من أصل العضو شيئاًً سوى الجلدة، وسبب قطع الأصحاب أن رعاية المماثلة ممكنة لا عسر فيها، إذا لم يبق إلا جلدة، ولا شك أنا نبقي في القصاص مثلَ تلك الجلدة. فلو ألصق المجني عليه الأذن، فالتصقت، فليست مستحَقةً للجاني، فإنها لم يثبت لها حكم الانفصال، ثم الكلام في قطعها ثانياً ووجوب القصاص على قاطعها، كالكلام فيه إذا جرى القطع في نصف الأذن ثم التحم، والقول في هذا يتعلق بالمقصود الأخير الذي أشرنا إلى انقسام مراتب الكلام فيه. فصل 10508 - إذا قطع رجل أذناً مثقوبةً، قال العراقيون: إن كان الثقب يَزينُ ولا يَشين، فلا مبالاة به، ويُقطع بها الأذن التي لا ثقب بها. ولو كان أذن القاطع مخروماً (2)، قد أزيلت منها قطعة، وبقي الخرم، وقد قطع

_ (1) في الأصل: السن المنقور. والسن المثغورة: من قولهم: ثُغر الصبي إذا سقطت ثنيتاه، والمراد هنا بالسن المثغورة السنّ الدائمة، ومن طبيعتها إذا سقطت لا تعود. (2) مخروماً: المراد هنا مشقوقاً، كما سيتضح ذلك من السياق، وليس معنى الخرم هو الئقب كما قد يتبادر إلى الذهن، حقاً من معاني الفعل (خَرَم) الثقب، لكن من معانيه أيضاً، الشق والقطع، والمراد هنا الشق (ر. المعجم).

أذناً لا خرم بها، قطعنا الأذن المخرومة، ورجعنا إلى قسطٍ من الأرش. ولو كان الخرم بالمجني عليه، [فهل] (1) نقطع أذن الجاني [ولا] (2) خرم بها، وهل نقطع [من] (3) أذن الجاني مقدار المساواة؟ هذا يخرّج على إجراء القصاص في بعض الأذن، وقد تفصل المذهب فيه. ولو كان القطع -[بأذن] (4) المجني عليه-[خرماً يسيراً] (5)، ولم [يفصل قطعةً] (6) من أذنه (7)، قال العراقيون: [لا تقطع] (8) الأذن التي لا خرم بها بهذه، [إن] (9) لم ينفصل بالخرم الذي ذكرناه جزء. [ولست] (1) أرى الأمرَ كذلك؛ فإنه إذا لم يزُل من الجِرْم شيء، فرعاية [الصفات] (11) مع التساوي في الذات والصحة بعيد، وإنما يؤثِّر في الأطراف التفاوتُ في القدر، والسلامة والشلل (12)، ئم خصصوا هذا [بالأذن] (13) ولم يطردوه في

_ (1) في الأصل: "لو". (2) في الأصل: "فلا". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "بيد". (5) في الأصل: "خرم يسير". (6) في الأصل: "ولم يقصد قلعه". (7) سوّغ لنا وأعاننا على كل هذا التغيير والتبديل في ألفاظ الأصل -بجانب رعاية السياق- أن هذه الصورة حكاها الرافعي عن إمام الحرمين، فقال: "وإن شقت الأذن من غير أن يبان منها شيءٌ، فقد نقل الإمام عن العراقيين، أنه لا تقطع الصحيحة بها أيضاً لفوات الجمال فيها، قال: ولست أرى الأمر كذلك، لبقاء الجرم بصفة الصحة" انتهى بنصه (ر. الشرح الكبير: 230، 231) فأنت ترى أن ما نقله الرافعي هو عين ما بدَّلنا العبارة وغيرناها إليه. (8) في الأصل: "لا نقلع"، والمثبت من الشرح الكبير، حيث قال الرافعي: حكى الإمام عن العراقيين أنه لا تقطع الصحيحة بالمخرومة وإن شقت من غير أن يبان منها شيء. (السابق نفسه). (9) في الأصل: "وإن" (بزيادة الواو). (10) في الأصل: "لست" (بدون واو). (11) في الأصل: "الصغار" تأمل كيف يصنع التصحيف. (12) قال النووي في زوائده على الروضة: "هذا الذي قاله الإمام ضعيف" (ر. الروضة: 9/ 1960). (13) في الأصل: "الأذن" (بدون الباء).

غيرها من الأعضاء، فلعلهم تخيلوا التعويل -في الأظهر في الأذن على الجمال؛ فإنها خَفِيةُ المنفعة، ولما أُمِرنا في الضحايا باستشراف العين والأذن (1)، منعنا على تفصيلٍ الضحيةَ بالشَّرْقاء (2) والخَرْقاء (3) والعلم عند الله. 10509 - ثم قال العراقيون: إذا قطع رجلٌ يدَ رجل، والأظفارُ من يد المجني عليه مُخْضرَّة [زائلةُ] (4) النضارة، قطعنا يدَ الجاني، وإن كانت أظفاره سليمة، وهذا يدل على ما أشرنا إليه من النظر إلى جمال الأذن، والتعويلُ على منفعة اليد. ثم لو لم تكن لأصابع المجني عليه أظفار، لم تقطع يد الجاني، ونقلوا هذا عن نص الشافعي، وهذا محتملٌ (5) جداً، والقياسُ (6) إجراء القصاص؛ فإن الأظفار

_ (1) يشير إلى حديث علي رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ... " وسيأتي مخرجاً في أول كتاب الضحايا. ومعنى استشراف العين والأذن أن تتفقد وتتأمل فعلَ الناظر المستشرف، أو تطلبا شريفتين بسلامتهما من العيوب (ر. أساس البلاغة). وكأن الإمام بهذا يتابع توجيه ما قاله العراقيون، وتعويلهم على الجمال في الأذن، لا المنفعة. (2) الشرقاء: يقال: شرقت الشاة شرقاً (من باب تعب) فهي شرقاء: إذا كانت مشقوقة الأذن. (المصباح). (3) الخرقاء: هي مخروقة الأذن، من قولك: خرِقت الشاة تخرَق خَرَقاً (من باب تعب) فهي خرقاء (المصباح). (4) في الأصل: "زائدة"، وهو خلاف المعنى المقصود، يؤيد ذلك عبارة الرافعي، إذ يقول: "ولا اعتبار باخضرار الأظفار واسودادها، وزوال نضارتها" (ر. الشرح الكبير: 10/ 228). (5) هممتُ أن أبدل هذه الكلمة، لتصير العبارة هكذا: "وهذا مختلٌ جداً"، فهي أقرب إلى المعهود من لفظ الإمام أولاً، وثانياً، لأنها الأوفق والأنسب للسياق، وثالثاً؛ لأن وصف الاحتمال بـ (جداً) غير مألوف ولا معهود، على حين يسوّغ ذلك تماماً في وصف الاختلال، ولكن ردّني عن ذلك ما نقله الرافعي عن الإمام في هذه المسألة، ووَصْفُه أحدَ الوجهين (بالاحتمال) وإن كان نفسه محل احتمال، لما أبديناه في التعليق التالي من أن نسخة (النهاية) التي نقل عنها الرافعي كانت مختلة. (والعلم عند الله). (6) واضح من كلام الإمام أنه جعل الوجه القائل بأنه لا تقطع اليد التي لأصابعها أظافر بيد المجني عليه إذا لم يكن على أصابعها أظافر، وهذا هو الوجه الذي حكاه عن العراقيين، أقول: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = واضح أنه جعل هذا الوجه احتمالاً، وأن ميله، بل اختياره هو الوجه الآخر -القائل بإجراء القصاص- يظهر ذلك من قوله: "إنه القياس"، ومن تعليله وتوجيهه إياه، هذا واضح تماماًَ من عبارة الإمام. ويؤكد هذا أن الغزالي -تلميذ الإمام- جرى على هذا الوجه القائل بإجراء القصاص، وترك الوجه الآخر الذي جعله الإمام احتمالاً - قال ذلك في الوجيز، ونص عبارته: "ولو كان أظفار المجني عليه متقرعة أو مخضرّة، أو مقلوعة، قُطع بها الصحيحةُ؛ نظراً إلى كمال أرش الأنملة من غير ظفر". (ر. الوجيز: 2/ 132)، أما في البسيط، فقد قال: "قال العراقيون: لو كانت الأظفار مقلوعة لا تستوفى يدٌ ذات أظفار بها، وهذا أيضاًَ فيه بُعد؛ لأن الجمال أظهر في الأظفار من المنافع، ويلزم عليه أن ينقص قدرٌ من دية الإصبع بفقد الظفر، ولا قائل به" (ر. البسيط: 5/لوحة رقم 27 يمين) فهذا كلام مبين في أن إجراء القصاص هو الوجه الأصح، (والآخر فيه بعد) وهذا مأخوذ عن شيخه إمام الحرمين، ويؤكد ما تنطق به عبارة الإمام التي بين أيدينا. قلت: نقل الإمام الرافعي عن إمامنا عكس هذا، وهاك نص كلامه: "وأما التي لا أظفار لها، فالذي ذكره أصحابنا العراقيون وغيرهم: أنه لا تقطع بها السليمة الأظفار، وأنها تقطع بالسليمة. وكذلك حكاه الأمام عنهم منسوباً إلى النص، وهو موافق للنص الذي حكيناه فيما إذا اختص رأس الشاج بالشعر على موضع الموضحة، (يريد النص بأنه إذا كان على رأس الموضِح شعر دون رأس المجني عليه فلا يمكن القصاص؛ لما فيه من إتلاف الشعر الذي لم يتلفه) ثم قال الرافعي: "قال الإمام على سبيل الاحتمال: القياس جريان القصاص، وإن عدمت الأظفار؛ لأنها زوائد، ولو لم يجر القصاص، لما تمت دية اليد، ولا الإصبع الساقطة الظفر" ا. هـ (الشرح الكبير: 10/ 228، 229). فهذا نص الرافعي أمامنا ينطق ناسباً للإمام عكسَ ما هو واضح تمام الوضوح من عبارته حيث جعل ما قطع به احتمالاً!! وكان من الممكن أن ننسب هذا إلى خلل في نسخة كتاب الرافعي، أو في قراءة من حققه وأخرجه، ولكنا وجدنا الرافعي يزيد هذا تأكيداً، لا يقبل الشك، عندما عرّض بالغزالي قائلاً: "وجرى صاحب الكتاب (أي الغزالي) على ما أبداه الإمام احتمالاً، وترك المنقول الظاهر" (السابق نفسه) والذي أبداه الإمام احتمالاً هو الوجه الآخر، القائل بعدم جريان القصاص، كما بيناه في صدر هذا التعليق. هذا. وقد قال البغوي بالوجه المحكي عن العراقيين، من غير إشارة إلى الحكاية عنهم، ولم يشر إلى خلاف إمام الحرمين، واكتفى بالقول: " ... وكذلك لو قطع يداً لا أظافير عليها، لا تقطع يد القاطع الصحيحة" (التهذيب: 7/ 109) وبمثله قال العِمراني (ر. البيان: 11/ 383).=

لا تظهر منافعها إلا مع الاحتيال (1)، ويلزم على قياس النص أن لا تكمل دية إصبع سقط ظفرها، وهذا بعيد، وليس له ذكر في طريق المراوزة. فصل قال: "ويقاد بذكر رجلٍ وشيخٍ ... إلى آخره" (2). 10510 - الذكر عضو قصاص، وذكر الفحل يقابله ذكر الخَصي، والعنّين، والصبي، والشيخ الهرم؛ فإن التفاوت في مراتب الانتفاع لو أسقطَ القصاصَ، لجرّ ذلك عمايةً، ونزاعاً دائماً في مَدْرأة القصاص، وظهورُ هذا مُغنٍ عن كشفه، ولا نقطع ذكراً سليماً لا شلل به [بذكرٍ أشلّ] (3). وقيل: الذكر الأشل هو الذي ينقبض [ولا ينبسط] (4)، وينبسط، فلا ينقبض، وهذا فيه فضل نظر، فقد [بلغنا] (5) في قول أهل البصائر أن الذكر الذي يتقلّص بالبرد ويسترخي بالحرّ ليس بأشلَّ، وإن كان لا ينتشر. والذي لا يلحقه التقلص والاسترخاء، هو الذي لا يتوقع انتشاره، فلست أدري أن الفقهاء عنَوْا بالانقباض والانبساط الاسترخاءَ [والتقلصَ] (6) في حالتي الحر والبرد، [أم عَنَوا]، (7) به الانتشار ونقيضه.

_ = وأقول: إذا وضح أمامنا اختيار الإمام من نص عبارته، ومن متابعة الغزالي له، فكيف حدث هذا من إمام جليل كالرافعي؟ وكيف تابعه النووي (في الروضة: 9/ 195)؟ أكاد أجزم بأن ذلك نتيجة خلل في نسخة (النهاية) التي وقعت لهما، وقد رأينا نقولاً عن بعض الأئمة، نقلها معتمدون علماء، ولكنها غير صحيحة، لما كان من الخلل في الأصل الذي نقلوا عنه. وقد أثبتنا شيئاً من ذلك عن كتابنا هذا نفسه فيما سبق. والله أعلم. (1) كذا (تماماً) بالرسم والنقط. ولها وجه على بُعد. (2) ر. المختصر: 5/ 121. (3) عبارة الأصل: "لا شلل به مذكراً. وقيل". (4) في الأصل: "ولا ينشط". والمثبت مأخوذٌ من الجملة بعده. (5) في الأصل: "بلغا". (6) في الأصل: "أو التقلّص". (7) في الأصل: "وعنوا".

والذي يجب القطع به الحملُ على التقلّص والاسترخاء؛ فإن العضو إذا كان كذلك، فلا خلل به ولا شلل، والانتشارُ تُسبّبه قويً روحية، ومن أصولنا أن العضو إذا لم تحلُّه منفعة، ولكن كان سبيلاً لتلك المنفعة، ومحلُّ المنفعة عضوآخر، فإذا أردنا تبيّنَ صحةِ العضو وشللِه، لم ننظر إلى تلك المنفعة التي هي في محلٍّ آخر، ولهذا جعلنا أذنَ الأصم كأذن السميع، وإن كانت الأذن آلةً في السماع [لا تنوب عن] (1) لطيفة السمع. وأما تبيُّنُ صحة العضو فيما نحن فيه، فنقول: الأعصاب المتلفة للتغايير في التقلص والاسترخاء، وسقوط الباه، قد تكون من انقطاع مادة الزرع، وقد تكون من ضعف الدماغ، فلا ينبغي أن يكون بالانتشار اعتبار، وقد أطلق الشافعي إثباتَ القصاص في ذكر العنّين، والغالب عليه ألا ينتشر، وأطلق أيضاً القصاصَ في ذكر الخَصي مع العلم بأن الانتشار قد يسقط مع [سَلِّ] (2) الأنثيين. ثم إذا أثبتنا القصاص على الفحل بسبب قطع ذكر العنين والخَصيّ والأشل، [فإنا] (3) نكمل الدية في ذكر العنين والخَصي، وأبو حنيفة (4) لا يوجب القصاص، ولا يكمل الدية في حق الخَصي، وقال بحسب هذا: لا تكمّل الدية في الذكر ممن [سُلّ] (5) أنثياه، وكمال الدية في العضوين ثابت على حكم التعلق، ولا يستقل أحدهما عنده بكمال الدية، وقال مفرعاً: لو قطع الجاني الذكر [من] (6) أعلى مثلاً، وانتهت الحديدة إلى الأنثيين، فقطعهما، فيجب في الذكر دية كاملة، وفي الأنثيين

_ (1) في الأصل: "آلة في السماع عنه تنوب لطيفة السمع". وعبارة الرافعي: "تقطع إذن السميع بأذن الأصم، وبالعكس، لأن السمع لا يحلّ جرْمَ الأذن، وإنما هو سبيل السمع وآلته" (الشرح الكبير: 10/ 230). (2) في الأصل: "شل". (3) في الأصل: "إنّا". (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 137 مسألة 2255، رؤوس المسائل: 469 مسألة: 334، المبسوط: 26/ 80. (5) في الأصل: "شُل". (6) في الأصل: "في".

حكومة؛ فإن الحديدة انتهت إليهما والمجني عليه مجبوب (1)، وكذلك لو أتى القطع من أسفل، فأبان الأنثيين، ثم [مرقت] (2) الحديدة منهما إلى الذكر، [قال: يجب دية الأنثيين والحكومة في الذكر (3)] (4). وإن صادفت الحديدة العضوين معاً، بأن فرض وضعها على أحد الجانبين واحتوت على الذكر والأنثيين، فعند ذلك يجب ديتان، هذا أصله. ونحن نوجب الديتين في الذكر والأنثيين كيف فرض القطع؛ بناء على ما مهدناه في استقلال كل عضو بنفسه، وامتناعِ اعتباره بغيره، أو بمنفعة غيره. فإن قيل: الذكر الأشل لم توجبوا فيه كمالَ الدية، والمنفعة العظمى منه انسلال البول [منه] (5)، وهذا باقٍ؛ فإن سقوط بعض المنفعة من العضو لا يسقط ديتها. قلنا: المنفعة المقصودة في هذا العضو تهيؤه للوقاع الذي بسببه بقاء الزرع، وأما انسلال البول فيبقى مع القطع، ويخرج البول من [الثُّقبة] (6) في أصل الذكر خروجَه من فرج [النساء] (7)؛ ولو كانت صورة الذكر محتاجاً إليها في البول، لنبتت للمرأة نبوتَها للرجل لاستوائهما في الاحتياج، اعتباراً بسائر الأعضاء، فظهر أن الغرض الأظهرَ ما ذكرناه، ثم فصلنا عن العضو الخلل الواقع في القلب وغيره من الأعضاء الرئيسة، فانتظم لنا المراد في ذلك.

_ (1) حكى الرافعي عن أبي حنيفة غير هذا، إذ قال: "وعن أبي حنيفة ... أنه إن قطعهما معاً، وقطع الدكر قبل الأنثيين، فعليه ديتان" (ر. الشرح الكبير: 10/ 383). (2) في الأصل: "فرقت". (3) عبارة الأصل قال: "يجب دية الدكر والأنثيين، والحكومة في الذكر". (4) لأن قطع الذكر جاء بعد الأنثيين، وعنده في ذكر الخصي حكومة (ر. مختصر الطحاوي: 247). (5) في الأصل: فيه. (6) في الأصل: "البقية". (7) في الأصل: "النار".

فصل قال: "فإن قال الجاني: جنيت عليه وهو موجوء ... إلى آخره" (1). 10511 - فإذا اختلف الجاني والمجني عليه في صفة العضو المقطوع، فادعى المجني عليه أنه كان سليماً، فقطعه على السلامة، وادعى الجاني أنه كان أشل، وغرضه درء القصاص، أو تنقيص البدل، فالذي ذكره المرتبون: أن الأعضاء تنقسم إلى الأعضاء الظاهرة، وإلى الأعضاء الباطنة، ثم قالوا: إن كان الخلاف في الأعضاء الظاهرة، لم يخل الأمر من شيئين: أحدهما - أن لا يسلم الجاني للمجني عليه أصلَ السلامة في عضوه، والآخر أن يسلّم أصل السلامة ويدّعي زوالها بشللٍ طارىء، فإن لم يسلّم أصلَ السلامة وأنكرها، فظاهر المذهب أن القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته، والأصل عدم السلامة أيضاً. هكذا ذكره الأصحاب. أما قولهم: الأصل براءة الذمة، فسديد، والأولى أن نعبر عن المعنى بعبارة أخرى فنقول: ادعى المجني عليه أن الجاني أتلف عنه السلامة وفوّتها، والأصل أنه لم يفعل. هذه العبارة أمثل. وذكر بعض أصحابنا قولاً بعيداً أن المصدّق المجنيُّ عليه؛ فإن الأصل في [الاعتياد] (2) سلامة الأعضاء، والمصدَّق في الشرع من يظهر صدقُه في الظنون، وعلى هذا بنينا ثبوت حق الرد بالعيب مع إطلاق البيع؛ من جهة أن الغالب السلامة. وهذا القول ضعيف؛ فإن إلزام الذمم وتثبيت الجناية بناء على اطرادٍ في العادة بعيد، والرد بالعيب ليس مما نحن فيه بسبيل، وقد ذكرنا مأخذه في (الأساليب) وغيرها. وهذا إذا لم يسلِّم الجاني أصل السلامة. فأما إذا سلم الأصل وادعى طريان شلل، ثم زعم أنّ قطعه كان بعد الشلل، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن القول قول الجاني، لما ذكرناه من استصحاب

_ (1) ر. المختصر: 5/ 121. وعبارة الأصل: "جنيته علي". والتصويب من نص المختصر. (2) في الأصل: "الاعتبار".

براءة ذمته، ولما ذكرنا [من] (1) أن الأصل عدمُ تفويته للسلامة. والقول الثاني - أن القول قولُ المجني عليه، لأن الجاني واقف موقف المدعين في ذكر طريان الشلل بعد تسليم السلامة. هذا إذا كان النزاع في الأعضاء الظاهرة. 10512 - فأما إذا كان في الأعضاء الباطنة، فقد ذهب طوائف من أصحابنا إلى طرد القولين، سواء سلّم الجاني السلامة الأصلية، وادعى الخلل الطارىء، أو أنكر أصل السلامة، [ففي] (2) قولٍ: القول قول الجاني لما سبق تقريره في القسم الأول، وفي قولٍ: القول قول المجني عليه، وتوجيه هذا القول مبني على أصلٍ يتعلق بالمصلحة، ويميل عن اعتبار استصحاب الأصول، وذلك أنا نقول: إقامةُ الشهادة على صفات الأعضاء الظاهرة ممكنة، لا عسر فيها؛ فإن الأعضاء التي تظهر من الإنسان يطلع عليها الناس غالباًً، وإذا استُشهدوا فيها شهدوا، ولئن لم نصدِّق المجني عليه، فسببه تمكنه من إثبات مراده لو كان صادقاً، وهذا عسر في الأعضاء الباطنة، فإذا انسدّ مسلك الإشهاد، لم يبعد الرجوع إلى قول المجني عليه مع يمينه (3). وهذا يقرب من تصديقنا المودَع في رد الوديعة وتلفها؛ فإن مصلحة الائتمان تقتضي هذا، كما ذكرناه في أحكام الأمانات والودائع. وجمع صاحب التقريب الأعضاءَ الظاهرةَ والباطنةَ، وأرسل الخلاف عليها، وحصل من مجموعها أربعة أقوال: أحدها - أن القول قول الجاني من غير فصل. والقول الثاني - أن القول قول المجني عليه من غير فصل. والقول الثالث- أنه يفصّل بين الأعضاء الظاهر والباطنة، فقال: القول قول الجاني [في] (4) الأعضاء الظاهرة،

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "في". (3) المعنى: أننا في الأعضاء الظاهرة إذا لم نصدق المجني عليه وجعلنا القول قول الجاني، فيستطيع المجني عليه -لو كان صادقاً- أن يثبت مراده بالإشهاد، أما في الأعضاء الباطنة، فقد انسدّ مسلك الاشهاد، فكان القول قوله. (4) في الأصل: "من".

والقول قول المجني عليه في الأعضاء الباطنة. والقول الرابع - أنه يفصل بين أن يسلّم الجاني أصل السلامة ويدّعي الخلل بعدها، وبين ألا يسلم أصل السلامة. هذا بيان ما قيل، ووراء ذلك بحثٌ واستدراك. 10513 - فأما البحث، فقد أطلق أصحابنا ذِكْر الأعضاء الظاهرة والباطنة، ولم يفصلوا، فتلقيت من مرامز كلام الأصحاب وجهين: أحدهما - أن الباطن ما هو عورة يجب ستره عن الأعين. والوجه الثاني - أن الباطن ما يعتاد ستره إقامة للمروءة، وهذا أليق بفقه الفصل من التعويل في الكلام على الظاهر والباطن، وما ذكرناه من [يسر] (1) إقامة الشهادة لظهور العضو، فما لا يُظهره الإنسان غالباً لا يتعذر إقامة البينة فيه على [يسر] (2)، والدليل عليه أن الحاجة لو مست إلى استشهادٍ، جاز الاطلاع على العورات بسببها. هذا هو البحث. فأما الاستدراك، فقد أطلق بعض أصحابنا الخلاف في أصل العضو، وقالوا: إذا قال الجاني: ما خُلقت لك اليد، فقال المجني عليه: خُلقت وقطعتها. أو سلّم الجاني أصل الخلقة، وادعى سقوطها قبل الدعوى عليه، وهذا فيه استدراك؛ فإنه إذا أنكر [الجاني] (3) أصلَ العضو خلقة، أو زعم أنه كان، فبان بسبب [آخر، فهو مُنكِر] (4) لأصل الجناية؛ ومن ادعيت عليه جناية، فأنكرها، فالقول قوله في إنكارها. نعم، لو فرض قطع الكف، ورُدّ النزاع إلى وجود الأصابع، فلا يندرج هذا تحت الأقوال والتفاصيل. وليس هذا الذي ذكرته إلا تحقيقاً لمراد الأصحاب، فإني لا أشك أن ما ذكره

_ (1) في الأصل: "سبر". (2) في الأصل: "سبر". (3) في الأصل: "الآن". (4) زيادة اقتضاها السياق. على ضوء ما نقله الرافعي عن الإمام، حيث قال: "وإذا اختلفا في أصل العضو، فعن بعضهم إطلاق الخلاف في أن المصدق أيهما؟ واستدرك الإمام، فقال: من أنكر أصل العضو أنكر الجناية، فيُقطع بتصديقه" (ر. الشرح الكبير: 10/ 251).

الأصحاب مفروض فيه إذا جرت جناية، ثم فرض النزاع بعدها. 10514 - ولو جنى على الذكر، أو الأنثيين، أو عليهما، فقال المجني عليه: قطعهما، وقال الجاني: بل قطعت أحدهما؛ فإنا نقطع بأن القول قولُ الجاني، وإن المعترِفَ به ثابت، والزائدُ عليه دائر بين النفي والإثبات، وهو محل الخصومة، والقول قول من ينفي الجناية، وليس الذكر مع الأنثيين بمثابة الأصابع مع الكف، فإن قطع الكف يُسقط الأصابع إن كانت، وليس كذلك الذكر مع الأنثيين. 10515 - وفي لفظ (السواد) إشكال سهلُ المُدرك لا بد من التنبيه عليه، قال الشافعي على أثر الكلام في الذكر والأنثيين: "فإن قال الجاني: جنيت عليه وهو [موجوء] (1)، وقال المجني عليه: بل صحيح، فالقول قول المجني عليه [مع يمينه] (2)، لأن هذا يغيب عن أبصار الناس" (3)، والموجوء هو المرضوض، والوجأ في الأنثيين رضهما، وهذا إذاً خلاف [في] (4) صفة الأنثيين مع الاتفاق على قطعهما، وفي الحديث: "معاشر الشباب عليكم بالباءة من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فمن لم يستطع، فعليه بالصيام، فإن الصيام له وجاء" (5). 10516 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرجل إذا خرم (6) [ملفوفاً] (7) في ثوب بنصفين، فقال ورثة المجني عليه: كان حياً فقتلته، وقال الجاني: كان ميتاً فقددتُه،

_ (1) في الأصل: "مرجو". والمثبت من نص المختصر، والموجوء: من: وجأتُه إذا طعنته بسكين ونحوه في أي موضع كان، ويطلق الوجاء أيضاً على رضّ عروق البيضتين حتى تنفضخا من غير إخراج، فيكون شبيهاً بالخصاء -وهو المراد هنا- (المصباح). (2) في الأصل:، مع هذا". والتصويب من نص المختصر. (3) ر. المختصر: 5/ 121. (4) في الأصل: "من". (5) حديث ابن مسعود: "معاشر الشباب عليكم بالباءة" رواه بهذا اللفظ (عليكم بالباءة) الترمذي: النكاح، باب ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، ح 1081. والنسائي: الصيام، باب فضل الصيام، ح 2239. والطبراني في الكبير: ح 10027، 10170. (6) خرم: أي قدّ وقطع. وسبق أن من معاني الخرم: الثقب، والشق، والقطع. (7) في الأصل: "مكفوفاً".

ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءةُ الذمة، والقول الثاني - قول ورثة المجني عليه؛ فإن الأصل الحياة. وهذه الصورة تناظر الاختلاف في الأعضاء الظاهرة مع تسليم أصل السلامة، وذكر بعض الأصحاب فرقاً بين أن يكون ملفوفاً فيما هو على صورة [الكفن، وبين أن يكون ملفوفاً فيما هو على صورة] (1) ثياب الأحياء. وهذا لا أصل له، والتعويل على ما ذكرناه في قاعدة التوجيه. فصل قال: "ويقاد أنف الصحيح بأنف [الأجذم] (2) ... إلى آخره" (3). 10517 - [الجذام علةٌ] (4) تظهر بالأطراف، ويغلب وقوعها -إذا كانت-[بالأذن] (5) والأنف، ففرض الشافعي حلولَها بالأنف، ثم معنى كلامه أن الأنف وإن اعتلّ [بالجذام] (6) حتى احمرّ، ثم اسودّ بعد الحمرة، فلا يخرج عن كونه عُضوَ قصاص، وإن استحكمت العلة، وقَطَع أهل البصائر بأنها لا تُدفع بعلاج؛ فإن العلل السماوية لا تؤثر وإن صارت مأيوسةَ الزوال، ومن انتهى بسبب علةٍ به إلى حالةٍ قطع أهل الخبرة أقوالهم بأنه -لِما به (7) -[لا] (8) يُتصور خلاصُه، ولو قتله أيّدٌ في عنفوان

_ (1) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق، على ضوء عبارة الرافعي التي قال فيها: "وعن بعض الأصحاب أنه يفرق بين أن يكون ملفوفاً على صورة الكفن، وبين أن يكون ملفوفاً في ثياب الأحياء، قال الإمام: وهذا لا أصل له" (ر. الشرح الكبير: 10/ 248). (2) في الأصل وفي نص المختصر: الأخرم. والتصويب من المحقق على ضوء السياق الآتي من شرح المسألة وتفصيلها. (3) ر. المختصر: 5/ 121. (4) في الأصل: "انخرام عليه". والتصويب من المحقق على ضوء السياق. (5) في الأصل: "بالأنف والأنف". والمثبت من المحقق حتى يستقيم الكلام. (6) في الأصل: "بانخرام". (7) (لما به) تكررت هذه اللفظة عدة مرات بهذا الرسم وبهذا المعنى في مثل هذا السياق، وهو ما يجعلنا نستبعد التصحيف فيها، وإن كنا لم نصل بعد إلى أصلها واشتقاقها. (8) في الأصل: "فلا".

شبابه، قتل به؛ فالعضو مع ما به من علّة كالنفس العليلة، غيرَ أن العضو [الأشل] (1) لا يقابله عضو صحيح في القصاصِ، ومقدارِ الأرش، كما تمهد القول في ذلك. فلو قال قائل: فهلا كان [الجذام] (2) المستحكم في الأنف بمثابة الشلل في اليد، وزوالُ الشلل مرجوّ [على بُعدٍ أَوْ قُرب؟] (3) قلنا: الشلل يجرّ إسقاط منفعة العضو، والعضوُ يُعنَى لمنفعته؛ هذا سبب ردّ اليد الشلاء إلى الحكومة، ومنفعة الأنف لا تسقط بالجذام. وانتهى نظر الأئمة في هذا الباب إلى أن ذكروا في الأذن المستحشفة الساقطةِ الحسّ وجهين في أن الدية تكمل فيها أم لا؟ وسبب ذلك ما أشرنا إليه من أن المنفعة المعقولة في الأنف والأذن لا تزول بالاستحشاف، بخلاف اليد؛ فإن منفعتها البطش، وهذا يزول بالشلل. [والذي] (4) يجب ضبطه في ذلك أن الأنف ما دام على نعت الحياة، فله حكم الصحة في إيجاب القصاص على القاطع، وتكميل الدية، فإن قيل فيه: إنه قد زايلته الحياة، وهو إلى [العفن] (5) والسقوط على القرب، ولم يبق إحساس، وتحقق اليأس من العَوْد إلى الصحة، [فهذا] (6) هو الاستحشاف الذي أشرنا إليه في الأذن. 10518 - وقد قال الشافعي رضي الله عنه: "لو سقط بالجذام من الأنف شيء، لم يقطع به الأنف السليم" وسبب ذلك أنا لو قطعنا الأنف السليم به، لقطعنا الشيء الكاملَ ببعضه، وقد ذكرنا أن القصاص يجري في أبعاض الأنف، كما يجري في الأصابع، فإذا سقط من الأنف ما يتعلق القصاص بمثله لو قُطع، فلا بد وأن يكون سقوطه معتبراً، وهو بمثابة ما لو سقطت إصبع من اليد بالجذام. [فإذا سقط جزء من

_ (1) في الأصل: "الأصل". وهو تصحيف واضح. (2) في الأصل: "الجراح". (3) في الأصل: "على هذا وقرب". (4) في الأصل: "الذي" (بدون الواو). (5) في الأصل: "العفو". والمثبت من المحقق. (6) في الأصل: "وهذا".

أنفه] (1)، فقطعه رجلٌ أجدع، قد قُطع ذلك الموضع من أنفه، فيجب القصاص عليه لإمكان المساواة، وهو كما لو قطع رجلٌ [يدُه] (2) ناقصةٌ بإصبع [يداً مساويةً يده] (3) في النقصان، فالقصاص [جارٍ] (4)، فظن بعض أصحابنا أن الشافعي أسقط القصاص عن الأنف إذا سقط شيء منه بالجذام؛ من جهة أنا إذ ذاك نعلم استحكام الجذام، ومساق هذا الظن يقتضي أنا لا نقطع أنفاً [جُدع] (5) بعضه به وهو سليم في باقيه، وهذا غلط، وإنما التعويل على ما ذكرناه. وإنما نحكي أمثال هذا حتى [لا] (6) نُخلي الكتاب عما مر بنا سماعاً أو نظراً في تصنيف، ثم لا نقصر في التنصيص على ما هو المسلك الحق. 10519 - ثم قال الشافعي: "ويقطع أُذن السميع بأذن الأصم، وأنفُ المدرك بأنف الأخشم" هذا صحيح لما مهدناه من أن حكم العضو لا يختلف بسقوط منفعةٍ ثابتة في غيره، وإن كان ذلك العضو سبيلاً إلى تلك المنفعة، وقد تعطل معظمُ المنفعة بتعطل السبيل، فالتعويل على النظر إلى [عين] (7) العضو وما يحله من منفعة، وما ذكره الشافعي رضي الله عنه في أذن الأصم وأنف الأخشم خارجٌ على هذا الأصل خروجاً بيّناً. ونحن نشير إلى جوامع القول في ذلك: أطلق الفقهاء القولَ بأن النظر في العين، كما أن البطش في اليد والرِّجل، وهذا قد يبعد عن قانون الأطباء بعضَ البعد؛ من جهة أن لطيفة البصر عندهم في الطبقة المسماة الجليدية، وهي وراء طبقات من الحدقة، ولكن الحكم الشرعي لا يُلحق بالأمور الخفية، بل يُحمل على ما تبتدره

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "إصبعه". (3) في الأصل: "يداً سبايه يده" كذا تماماًً رسماً ونقطاً. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "حدعا". (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: "غير".

الأفهام، ويظهر في طبقات الخلق، ومما ظهر أن [ضوء] (1) الباصرة من العين، والكلام في اللسان، كما سنصف حكمه في كتاب الديات -إن شاء الله عز وجل- ولا حاجة إلى تعديد جميع الأعضاء؛ فما ذكرناه يُعدّ تمهيدَ الأصول. وقال الأئمة: [الأنثيان] (2) تجريان من [المني] (3) مجرى الأذن من السمع، والأنف من الإدراك، وإن كانت أوعية المني وعصبُها [اللحمة] (4) [الغروية] (5) البيضاء من الأنثيين، فلو قطع أنثي رجل وانقطع ماؤه، يلزمه ديتان جرياً على ما ذكرناه، ولو كسر صلبَ إنسان، فزال مشيُه وماؤه، لزمته دية واحدة بسبب كسر الفقار وتعطيل المشي، واختلف أصحابنا في أنه هل يجب بسبب إزالة الماء ديةٌ أخرى؟ قال بعضهم: لا تجب؛ فإن محل الماء الظهر، والأصح أنه تجب دية أخرى؛ فإن الماء لا يختص بمحلٍّ من البدن وإنما هو مادة تسيل من جملة الحيوان، وكذلك تكون مادة الحيوان. ولو قطع رَجُلٌ يدي رَجلٍ، فزال عقله، فالمذهب إيجاب ديتين، وفي المذهب قول آخر: أنا ندرج دية العقل تحت دية اليدين، وسيأتي في هذا تفصيلٌ في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "فإن قلع سن من قد أثغر ... إلى آخره" (6). 10520 - إذا قلع الرجل سنَّ من لم يُثغر، فلا نوجب في الحال قصاصاً ولا ديةً، لأنها تنبت غالباً؛ فإن نبتت، فلا قصاص ولا دية، ثم إن أعقبت [شَيْناً] (7)، وجبت

_ (1) في الأصل: "الضوء". (2) في الأصل: "الأشل". وهو تصحيف واضح. (3) في الأصل: "اليمين". (4) في الأصل: "واللحمة". (5) في الأصل: "العدوية". (6) ر. المختصر: 5/ 122. (7) في الأصل: "سبباً".

الحكومة، فإن لم تُعقب شيناً، فوجهان سنجريهما في نظائر ذلك في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل. وإذا قلع سن من قد ثُغر، لزم القصاصُ أو الدية، وفصول الأسنان ستأتي مستقصاةً في الديات، فإن لم تنبت، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن السن المثغورة إذا عادت، فلا حكم لعودها، وهو متجه، [فهي نعمة] (1) مبتدأة، فلا يتغير بعودها حكمٌ مضى، والقول الثاني -أن عودها- وإن كان نادراً بمثابة عود سنِّ من لم [يُثعر] (2). ثم إن لم نثبت للعَوْد حكماً، فإن عاد من المجني عليه، لم يسقط القصاصُ ولا الدية، واستوفينا القصاص، [ولم] (3) يتغير حكمه. وإن قلعنا سنَّ الجاني، فعاد [فلا] حكم للعود، وقد تم استيفاء القصاص. ولو قلعت السنّ العائدة، تعلق القصاص بقلعها، وكذلك لو عادت مراراً، وهو يقلع في كل مرة، فيجب القصاص في قلعه. وإن جعلنا العَوْد معتبراً، فلو لم نستوف القصاص حتى عاد السن من المجني عليه، سقط القصاص والدية، وبقي الكلام في الحكومة، كما ذكرناه [في سنّ من لم] (4) يُثغر. فإن عاد سن المجني عليه بعد ما قلعنا سن الجاني قصاصاًً، تبينا أن الذي مضى لم يكن قصاصاًً، [فإن] (5) لم يعد من المقتص منه، ضَمِنَّا [سنّه] (6) بالدية، وبقي النظر في الحكومة التي تتعلق بقلع سنٍّ عاد بعد [القلع] (7). ولو لم يعد سنُّ المجني عليه، ولكن لما اقتصصنا سنَّ الجاني، عاد سن المقتص منه، ولم يعد سنُّ المجني عليه، فالقلع الأول لا يقع قصاصاً، واختلف أصحابنا في

_ (1) في الأصل: "من أمد". كذا. والمثبت من معاني كلام الرافعي والنووي في الشرح والروضة. (2) في الأصل: "يبعد". (3) في الأصل: "لم" (بدون واو). (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "وإن". (6) في الأصل: "سن". (7) في الأصل: "القطع".

أنا هل نقلع سنه مرة أخرى؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نقلع، وكلما عادت، عدنا، إلى فساد المنبت. والوجه الثاني - أنا لا نقلع، ولكن نعود إلى الدية، ثم لا يخفى النظر في الحكومة؛ فإن القلع الأول لم يقع عن جهة القصاص، وشفاءُ الصدر في هذا يأتي في كتاب الديات. ثم إن لم نجعل للعود حكماً، ابتدرنا القصاص، ولم نؤخره، وإن جعلنا للعود حكماً، لم نستوف القصاص إلى تحقق فساد المنبت من المجني عليه. 10521 - قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن اقتص بغير سلطان عُزِّر" (1). قد ذكرنا أن مستحق القصاص لا يستبد باستيفائه، بل يتعين عليه رفعه إلى السلطان، فإن استبد ورأى الإمام تعزيره عزَّره، ووقع القصاصُ موقعه. ثم ذكرنا أن القصاص في النفس يجوز أن يكله الإمام إلى الولي. وفي القصاص في الطرف خلافٌ، وقطع الأئمة بأنه لا يكل حدَّ استيفاء القذف إلى المقذوف؛ فإن التفاوت في الجلدات عظيمٌ، فالمراتب إذاً ثلاث: نفسٌ، وقطعُ طرف، وجَلْد. ولكل مرتبة حكمها. ومن عليه القصاص إذا أتى بصورة العقوبة من نفسه، فإن كان بغير إذن المستحِق، لم يقع الموقع، وإن كان بإذنه، ففي وقوع القصاص الموقعَ وجهان، ولعل الأصح وقوعه موقعه، ولو استناب المستحقَ بالحضرة أجنبياً، [فمن] (2) زعم أن القصاص لا يقع الموقع، قال: فهَلْكُ نفسه يخرج عن كونه نائباً لغيره، وما يظهر منه يقع على حكم الاستبداد (3)، وينمحق فيه أثر الإذن. وشبه الأصحاب هذا بما لو قال المكرِه: إن قتلت نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، لم يكن مكرهاً، وهذا تشبيه باطل؛ فإن معنى الإكراه أن يُحمَل المرءُ على أمرٍ بسبب عظيم الموقع عنده، وهو يبغي الخلاص عما خُوِّف به، وإذا كان التخويف بالقتل والمستدعَى القتل الذي به التخويف، لم يتحقق الإكراه.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 122. (2) في الأصل: "ومن". (3) أي كأنه قتل نفسه من غير إذن مستحق القصاص، فحكمه أن فعله هذا لا يقع الموقع.

فصل قال: "ولو قال المقتص: أخرج يمينك، فأخرج يساره ... إلى آخره" (1). 10522 - إذا قال مستحق القصاص لمن عليه القصاص في يمينه: أخرج يمينك أقطعْها، فأخرج يساره، فقطعها، فالمسألة يأتيها الانقسام" من جهة قصود المخرج، ومن جهة قصود القاطع، والأَوْلى أن نجعل قصود المخرج أصولَ الصور، ويتشعب عن كل قصد [للمخرج صور] (2) تتعلق بقصد القاطع، ونأتي على مقصود الفصل بهذا الترتيب، إن شاء الله عز وجل. فإن قال المخرج: قصدت بإخراج اليسار إباحةَ قطعها ابتداء، قلنا للقاطع: بان لنا قصدُ المخرج [فما] (3) قصدتَ؟ فإن زعم أنه استباح يدَه اليسرى، فقد أجمع الأصحاب على أن قطع [اليسار] (4) يقع هدراً، والقصاص باقٍ في اليمين. فإن قيل: كيف أثبتم الإباحة، ولم يتلفظ [بها] (5) المخرج، وقرائنُ الأحوال يبعد أن تؤثر في الأمور الخطيرة؟ كيف وإخراجه ليس قرينة دالة على قصده في الإباحة؟ وهذا فيه إشكال كما ترى، وهو متفَقٌ عليه بين الأصحاب، والنص في [السواد] (6) وغيره على موافقة الإجماع من الأصحاب؟ قلنا: القرينة أوّلاً كافية في هذا الباب. ولو قال الرجل لمن لا قصاص عليه: أخرج يدك أقطعها، أو قال: ملكني قطعها، فلو أخرج يده، ولا إكراه، فالذي جرى إباحةٌ منه. فإن قيل: حكيتم في باب الوليمة وجهاً أن الضيفان لا يستبيحون الطعام ما لم يتلفظ بالإباحة، وهذا القائل ليس يكتفي بقرائن الأحوال. قلنا: لا تعويل على مثل هذا الوجه، وسبيل المتدرب

_ (1) ر. المختصر: 5/ 122. (2) في الأصل: "للخرج صوراً". (3) في الأصل: "فيما". (4) في الأصل: "القصاص". (5) في الأصل: "به". (6) في الأصل: "الشواذّ". وانظر المختصر: 5/ 122، لترى النص فيه واضحاً.

في المذهب أن يستدلّ بموضع الوفاق على فساد الوجوه الضعيفة، ولا يعترض بالوجوه الضعيفة على محالّ الوفاق، وكيف وذلك أظهر والإجماعُ فيه عملاً أشهر؟، ولا يأمن أن يَطْرد صاحبُ ذلك الوجه مذهبه الفاسد فيما ذكرناه. ولا عود إلى هذا بعد التنبيه عليه. وقال الأئمة: إذا قصد الرجل قَطْع يد الرجل ظلماً، وقلنا: لا يجوز له أن يستسلم [فإذا استَسْلم] (1)، ولم [يدفع] (2)، [فهل] (3) يكون سكوته بمثابة الإباحة؟ فعلى وجهين مأخوذين من تردد الأصحاب في أن الزانية لا تستحق المهر، ولم يوجد منها إلا التمكين المجرد. فمن الأصحاب من قال: سبب سقوط المهر سقوط الحرمة، [والبُضع] (4) لا يتقوّم إلا إذا كان محترماً من جهة الموطوءة، ومهر البغي يُحطّ بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أصحابنا من قال: سبب سقوط المهر أن التمكين رضاً منها في حكم العرف منزلٌ منزلة الإباحة، على هذا الخلاف خرّج الأصحاب وجهين في الجارية المغصوبة إذا طاوعت الغاصب حتى زنا بها، فمن أسقط مهر البغي لعلّة سقوط [الحرمة] (5)، لم يثبت المهر لمالك الجارية، ومن علل سقوط المهر بنزول التمكين منزلة الرضا، قال: يجب مهر المغصوبة [فإنها] (6) لا تملك إسقاط حق المولى. فقال الأئمة: إذا وجد التمكين من قطع الأطراف -والتمسك بمذهب الاستسلام-[فالتمكين] (7) هل يكون كالرضا؟ فيه خلاف، والمسألة محتملة؛ فإن التمكين من الزنا لا محمل له إلا الرضا في عادة الخلق، والسكوت على الجناية لا يتجرد هذا التجرد.

_ (1) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها. (2) في الأصل: "يرفع". (3) في الأصل: "وهل". (4) في الأصل: "والوطء". (5) في الأصل: "الحرية". (6) في الأصل: "بأنها". (7) في الأصل: "بالتمكين".

وهذا في السكوت المحض، فأما إذا قال المتقدم إليه: أبح لي يمينَك وأَخْرجها أقطعْها، فوافقه، وأخرج، فهذا إباحةٌ ولا محمل له غيرُ الإباحة. فإذا تمهد هذا، عدنا إلى مسألتنا، وقلنا: الإخراج فعلٌ، [ومثله] (1) يُعدّ إباحة، فإذا كان يتصور [اتضاح الغرض] (2) فيه، فهو كقولٍ ليس بصريح في مقصود، بل هو كنايةٌ فيه، فإذا انضم القصد إليه، نزل منزلة [كناية] (3) تقترن النية بها. فهذا منتهى الكلام. 10523 - ولو قال القاطع: دَهِشت، ولم أدر، والمخرج زعم أنه مُبيح، فلا ضمان على القاطع أصلاً؛ فإن التعويل في [إحباط] (4) اليسار على إباحة مخرجها. 10524 - ولو قال القاطع: ظننت أن اليسار [مجزئةٌ] (5) عن اليمين، فاكتفيت بها على هذا القصد، فهل يسقط حقُّ القصاص عن يمين المخرج؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط القصاص، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وقد ارتضاه القاضي وقطع به، ووجهه أنه بقصده دل على إسقاطه القصاص في اليمين، فإذا كنا نجعل إخراج المخرج بمعنى قصد [الإباحة] (6)، فقَطْع القاطع مع إسقاط القصاص عن محله يجب أن يكون نازلاً منزلة التصريح بالقصد. والوجه الثاني - أن القصاص لا يسقط؛ فإنه لم يُسقطه، ولم يقتص منه اعتياضاً صحيحاً، وليس كالإباحة؛ فإنها لا تستدعي عقداً، أو معاملةً ذاتَ أركان وشرائطَ، وذكر أئمتنا أن من عليه قصاصٌ إذا جاء بالدية إلى مستحق القصاص متضرّعاً، طالباً منه أن يأخذ الدية ويقنَع بها، فلو أخذها، ولم ينطق بالعفو، ثم عاد إلى طلب القصاص، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين، وما ذكرناه في صورة قطع اليسار على أنه

_ (1) في الأصل: "فسبيله". (2) في الأصل: "انفساخ الفرض". (3) في الأصل: "كأنه". (4) في الأصل: "احتياط". (5) في الأصل: "محرّمة". (6) في الأصل: "إبانة".

يغني عن اليمين أولى بأن لا يُسقط القصاصَ في اليمين؛ فإن هذا الاعتياض فاسد، وأخذ المال بدلٌ عن الدم [مشروع] (1) لا فساد فيه. التفريع على الوجهين: 10525 - إن حكمنا بأن القصاص لا يسقط عن اليمين، فقطْع اليسار هدرٌ بناءً على إباحة المخرِج؛ فإن إباحته كافيةٌ في الإهدار، وإن حكمنا بأن القصاص يسقط في اليمين، فالرجوع إلى المال، ولا تقع اليسار عن اليمين قطّ لمستحق القصاص في اليمين، [فتبقى] (2) اليمين، واليسارُ فيه هدرٌ، ولا يتعلق بما جرى إلا سقوطُ القصاص، وهذا واضح، ولكنه على وضوحه [مزِلّة] (3). فليقف الناظر عنده. والجملة في هذا أنا كيفما صدقنا قصود القاطع، فقطْع اليسار يجري على الإهدار، وإنما التردد في أن القصاص في اليمين هل يسقط إذا كان المخرج على قصد الإباحة؟ 10526 - ومن تمام الكلام في هذا القسم -وهو إذا قصد المخرِج الإباحة- أن القاطع لو قال: جعلت اليسار باليمين إنشاء من عندي، وهذا يتميّز في التصور عما قبله؛ فإنه في الصورة المتقدمة على هذه ظن أن حكم الشرع وقوع اليسار عن اليمين، وهو في هذه الصورة يجعل الأمر كذلك، وهذا عندي يخرج على الخلاف في أن القصاص في اليمين هل يسقط [له تلف] (4)، وهذه الصورة أولى بأن يسقط القصاص فيها، [فإنا إن حملنا ما صدر من القاطع على معاوضة فاسدة، لكان قريباً] (5)؛ فإنه

_ (1) في الأصل: "مشاع". (2) في الأصل: "وفيه". والمثبت محاولة من المحقق، وإن كنا نكاد نقطع أنها ليست لفظة الإمام. ولكن الكلام مفهوم ومستقيم على أية حال. (3) في الأصل: "من له". (4) ما بين المعقفين مقحمٌ لم نستطع توجيهه، ولا تصور ما فيه من تصحيف (إن كان). (5) عبارة الأصل: "بأن نحمل ـ ـا ـى صدر من للقاطع على معاوضة فاسدة لكان قريباً" هكذا جاءت تماماًً، وفيها أكثر من خلل وتصحيف. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق، وعلى ما قاله الرافعي آخذاً معناه من الإمام، ونصه: "ولو قال: علمت أن اليسار لا تجزىء عن اليمين شرعاً، لكن جعلتها عوضاً عن اليمين من عندي، اطّرد الخلاف، وجعل =

لم يجر في الصورة المتقدمة إلا ظنٌّ، وقد تبين أنه على مخالفة الشرع، وظنُّ الإنسان قد يدرأ القصاص عنه، [فيما] (1) يقطعه على موجب الظن، فأما أن يتضمن إسقاط قصاص له في محلٍّ [برضا] (2)، ففيه بُعْد ظاهر. وحُكي عن القاضي أنه في صورة الظن، وهي الصورة المتقدمة يُسقط القصاص في اليمين، وقال في الصورة الأخيرة -وهي إذا قال: قصدت جَعْل اليسار قصاصاً عن اليمين-: لا يَسقُط القصاصُ عن اليمين، وهذا كلام مضطرب. وهذا كله انشعبت (3) فيه إذا قال المخرج: قصدت الإباحة بالإخراج. 10527 - فأما إذا [قال:] (4) دهشت ولم أدر ما أصنع؛ فإذا قال المخرِج ذلك، رددنا الأمر إلى قصد القاطع، وراجعناه في قصده؛ فإن زعم أني علمت حقيقة الحالى، وأقدمت على قطع يساره قصداً، قلنا: عليك القصاص في يسارك للمخرِج، وقصاصك باقٍ في يمين المخرِج، فإن آثر كلُّ واحد منهما إلاّ استيفاء حقه من القصاص، لم يبق لواحد منهما يد، وإن عفَوا عن القصاص، رجعنا إلى الأرشين، ولم يخفَ حكم التقاصّ، ولا يُشكل التفصيل فيه إذا عفا أحدهما دون الثاني. 10528 - ولو قال القاطع: حسبت أنها تقوم مقام اليمين، فهل يسقط القصاص عن اليمين؟ فيه الخلاف المقدم، وكذلك إذا قال: جعلت اليسار باليمين، ففي سقوط القصاص عن اليمين التردُّدُ المقدم، ولكن النظر في اليسار -والمخرِج ليس [مبيحاً] (5) - على وجه آخر يقع: أما القصاص، فالذي رأيناه في الكتب أنه لا يجب

_ = الإمام هذه الصورة أول بالسقوط؛ لأن ما صدر منه والحالة هذه، يظهر حمله على معاوضة فاسدة، وهناك ظن حكمها وهو مخطىء فيه، فإسقاط حقه بذلك الظن كالمستبعد". (ر. الشرح الكبير: 10/ 284). (1) في الأصل: "فما". (2) في الأصل: "رضي". (3) أي: انشعبت فيه المسائل. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: فسخاً.

على القاطع قصاص في يساره، وظنُّه ينهض عذراً في إسقاط القصاص عنه، وفي هذا مستدرك سنذكره الآن في أثناء الكلام، وننبه على انعطافه على هذا المحل، وإذا لم نوجب القصاص، فالوجه إثبات الضمان على القاطع، وفيه شيء أيضاً سنذكره من بعدُ. 10529 - ولو قال القاطع: ظننت أن اليد المخرجة هي اليمين؛ فقطعتها على هذا الظن، قال العلماء: لا يسقط قصاصه عن اليمين؛ فإنه لم يقصد إسقاطَه، بل ما حسبه حقَّه لم يكن حقَّه، وهل يجب القصاص على القاطع في قطع اليسار؟ ذكر القاضي قولين سيأتي ذكرهما على أثر هذا الفصل، إن شاء الله عز وجل. [ووجهُ الشبهِ بَيِّنٌ: حَسَبُه أن اليدَ المخرجة مستحَقة] (1)، ثم تبيّن أن الأمر على خلاف ما حَسِبه (2)، وقد يخطر للناظر أن إسقاط القصاص (3) أولى في هذه المسألة؛ من جهة أن المخرِج [هو] (4) الذي تسبب إلى التقصير حيث أخرج، ولم يوجد من الذي [قطعه] (5) على ظن أنه [قابل منه تقصيراً] (6) أصلاً؛ فإذا ظهر الخلاف في وجوب القصاص في اليسار فيه إذا قال القاطع: حسبتُ اليد المخرجة يميناً، فاحتمال وجوب القصاص ينعكس على الصورة التي ذكرناها قبل هذه، وهي إذا حسبها تجزىء عن اليمين؛ فإن قوله هذا بعيد عن الإشكال مع العلم بتعدد المحل، وهو بمثابة ما لو قتل رجل رجلاً كان أمسك أباه حتى [قتله] (7) إنسان، ثم قال: ظننت قَتْله حقاً، فالرأي الظاهر أن القصاص لا يندفع بأن يدعي القاتل أمثال هذه الظنون، وسنجمعها في فصلٍ، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) عبارة الأصل: "ووجه التشبيه بين حسنه دايه اليد المخرجة مستحقة" كذا تماماً رسماً ونقطاً، والمثبت محاولة لإقامة العبارة مع الاحتفاظ بأقرب الصور إلى كلمات الأصل. (2) ومعنى العبارة أن وجه الشبه واضح بين هذه الصورة والتي قبلها؛ فلذا قرب الكلام فيهما. (3) المراد إسقاط القصاص في اليسار التي قطعها على ظن أنها اليمين. (4) في الأصل: "وهو". (5) في الأصل: "قبله". (6) في الأصل: "قابلاً منه تقصير". (7) في الأصل: "أمسكه".

10530 - فلو قال القاطع: دهشت، فلم أدر ما أصنع، ولا معنى لهذا القسم في هذه الحالة؛ فإن الدهشة السالبةَ الاختيارَ لا تليق بالقاطع المختار، ولا بد وأن يكون قطعه صادراً عن عمدٍ أو ظن اعتياض، أو ظنٍّ بأن المخرَج يمينٌ، أما المخرِج [فلا يبعد] (1) أن يدهش. وقد نجز تشعيب الكلام في هذا القسم، وهو إذا قال المخرج: دهشت. 10531 - فأما إذا قال: قصدت إخراج اليسار أن تقع عن اليمين، فنقول للقاطع: أنت ماذا قصدت بالقطع؟ فإن زعم أنه ظنّ أن المخرِج أباح اليد [بذلاً] (2)، فقد قال الأصحاب: لا يجب القطع عليه في [اليسار] (3)؛ فإن ما قاله محتمل مع [إيهام المخرِج] (4). وهذا يتطرق إليه احتمال؛ فإنه ظنٌّ بعيد، والظنون البعيدة لا تدرأ القصاص، درءاً مقطوعاً به، ولكن [منها] (5) ما لا يدرأ، ومنها ما يُخرّجُ على الخلاف، كما سيأتي، ووجه البعد بيّن؛ فإن اللائق بالحال الدهشةُ، أو قصدُ الاعتياض، فأما الإباحةُ، فبعيدة، ولهذا تكلّفنا تحقيقَها عند قول المخرِج: قصدتُ الإباحة. 10532 - ولو قال القاطع: ما دهشت، ولكن ظننت أن اليسار تُجزىء عن اليمين، كما قال المخرج، فالكلام في سقوط القصاص باليمين كما مضى، [والسقوط أولى هاهنا] (6) بتأويل تنزيل الفعلين مع التوافق في القصدين منزلة اعتياض، فاسد (7).

_ (1) في الأصل: "ولا يبعد". (2) في الأصل: "بدلاً". (3) في الأصل: "في البيان". (4) في الأصل: "إلزام الحرج". والمثبت من المحقق على ضوء عبارة الرافعي: " إن قال: ظننتُ أنه أباحها بالإخراج، فلا قصاص عليه في اليسار؛ لأن ما يقوله محتمل، وفي إخراج اليسار، والمطلوبُ اليمين ما يوهمه، هكذا يحكى عن القفال وغيره، قال الإمام وفيه احتمال ... " (الشرح الكبير: 10/ 285). (5) في الأصل: "فيها". (6) في الأصل: "وللسقوط أثر هاهنا". (7) حكى الرافعي عن الإمام هذه المسألة، فكان مما قال: " ... وأن سقوط القصاص في اليمين =

ثم إن قلنا: يسقط القصاص عن اليمين، [فلا شك] (1) أن القصاص لا يجب في اليسار. وإن قلنا: لا يسقط القصاص عن اليمين [فلا يجب] (2) القصاص في اليسار؛ لأن ما يجرى [من] (3) المخرِج تسليط على القطع، وحكى العراقيون عن ابن (4) الوكيل من أئمتنا أنه أوجب القصاص على قاطع اليسار في هذه الصورة، وهذا بعيد جداً مع ما جرى من قصد المخرج في التسليط على القطع: نقلوه وزيفوه، وهو كما قالوه. ثم إذا لم نوجب القصاص، بقي النظر في الضمان في اليسار: والوجه عندنا القطعُ بثبوته؛ فإنه لم تجر إباحةٌ من المخرج ولا وجه لإهدار اليسار. 10533 - قال العراقيون: لو قال: أردت أن تكون اليسار باليمين، وقال القاطع؛ ظننت المخرَج يميناً، قالوا: لا قصاص على القاطع قولاً واحداً، والأمر على ما ذكروه (5)، ولا يخرّج هذا على الخلاف السابق، فإنه وجد في هذا القسم تسليط على القطع من المخرِج، ثم قالوا: هل يجب على القاطع الضمان في اليد؟ فعلى وجهين: أحد الوجهين - لا ضمان عليه، واليسار هدرٌ؛ لأن المخرج قصّر حيث [لم يتثبّت] (6) وسلَّط على القطع.

_ = يخرّج على الخلاف المذكور في الحالة الأولى، والظاهر سقوطه تنزيلاً للفعل مع توافق القصدين منزلة اعتياض فاسد". (ر. الشرح الكبير: 10/ 285). (1) في الأصل: "ولا شك". (2) في الأصل: "ولا يجب". (3) في الأصل: "في". (4) ابن الوكيل: عمر بن عبد الله بن موسى، أبو حفص ابن الوكيل، المعروف بالباب شاميّ. من أئمة أصحاب الوجوه ومتقدميهم. تفقه على الأنماطي، وتوفي ببغداد سنة 310 هـ. نقل عنه الرافعي في آخر التيمم، ثم كرر النقل عنه. (ر. طبقات العبادي: 71، طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي: 90، طبقات السبكي: 4/ 470، 471، طبقات الإسنوي: 2/ 538، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 59، طبقات ابن هداية: 58). (5) قال الرافعي بعد أن ذكر هذا عن الإمام: "وفي (التهذيب) وجه آخر: أنه يجب القصاص". (ر. الشرح الكبير: 10/ 285، والتهذيب: 7/ 124). (6) في الأصل: "لم يثبت". والتصويب من الشرح الكبير (السابق نفسه).

والوجه الثاني - أن اليسار لا يكون هدراً؛ فإن مخرجها لم يخرجها باذلاً مبيحاً؛ فينبغي أن تكون مضمونة، كما لو باع مالك العين العينَ بيعاً فاسداً، وسلّمها، فإنها تكون مضمونة على المشتري. وقد نجزت المسألة بأقسامها. وحق من ينتهي إليها أن يُلزم نفسه حفظ أوائلها؛ فإن خللها في انسلال ما سبق منها عن [الحفظ] (1) المنتهي إلى الأثناء والآخر. 10534 - ثم إذا قطع القاطع اليسار وبقّينا له حق القصاص في اليمين في بعض الصور المقدمة -أيتها كانت- فهو على حقه من القصاص في اليمين، فلو أراد استيفاءه ناجزاً، والمقطوع يساره على قرب العهد، بقطع اليسار، فظاهر النص أنه لا يمكّن من قطع اليمين في الحال، فإن الموالاة بين القطعين قد تُفضي إلى الهلاك، ومستحق القصاص في اليمين هو الذي قطع اليسار، ولم يتأمل. ومن أصحابنا من خرج قولاً آخر أنه لا [يُمنع] (2) من استيفاء حقه في اليمين؛ فإن القصاص لا يتأخر بسبب ظُلمٍ جرى، أو بسبب خطأ. ولو قطع يدي رجل ورجليه، فقد ذكرنا أن القصاص لا يؤخر [في] (3) الأطراف، ولكن لو ظهر في الظن أنا لو قطعنا [يدي] (4) الجاني ورجليه وِلاءً ولا شك أنه يهلك، فالمذهب أنه تقطع ولاءً إن أراد ذلك. وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً أنه يمنع عن الموالاة في الاقتصاص، وهذا لا أصل له، وإن ذكر هذا الوجه فيه إذا اندملت جراحات الجاني (5)، فأراد بعدها

_ (1) في الأصل: "الحفيظ". (2) في الأصل: "لا نفع". (3) في الأصل: "من". (4) في الأصل: "يد". (5) المراد التي أحدثها الجاني في المجني عليه، فإذا اندملت فلا خوف من السراية إلى النفس، فهنا يجيء الوجه البعيد القائل: بأن ليس له المطالبة بموالاة القصاص في الأطراف عند ظن الهلاك.

الاقتصاص، وإلا فالمنع الآن قد يتجه على بعد، ولست أعد هذا من المذهب. وقد انتهى الكلام فيما يتعلق بالقصاص. 10535 - فأما إذا قال الجلاد [للسارق: أخرِج] (1) يمينك اقطعها، فأخرج يساره فقطعها، فالتفصيل فيه أن [السارق إن] (2) قال: دهشت، وزعم القاطع أنه دهش أيضاً، وقد ذكرنا أن القطع في اليمين المستحَق قصاصاًً لا يسقط في مثل هذه الصورة بسبب ما جرى من الدهشة، وهل يسقط قطع اليمين عن اليسار في الصورة [التي] (3) نصصنا عليها؟ ظاهر النص أن القطع يسقط عنه؛ فإن الشافعي فيما نقله المزني صوّره من [صور] (4) النظر، ثم قال: "ولو كان [ذلك] (5) في سرقة، لم تقطع يمينه، ولا يشبه الحدُّ حقوقَ العباد ... إلى آخره" (6) وهذا يُوجَّه بما أشار إليه الشافعي ومن ابتناء حق الله تعالى في العقوبات على الدرء والدفع؛ فلا يمتنع -وقد جرت هذه الغلطةُ- أن [يسقط] (7) الحد، فإنه حصل بما جرى الردعُ والنكال. وذكر بعض أصحابنا قولاً مخرّجاً أن القطع لا يسقط عن اليمين، وهذا وإن كان ينقاس، فهو مجانب لوضع حدود الله، ثم إن قيل به، فلا خلاف أن اليمين لا تقطع على الفور بل يمهل حتى يندمل. ولو قال المخرِج: حسبت اليسار تجزىء عن اليمين، فالقول كما مضى، ولو قال المخرج: علمت أن اليسار لا تجزىء عن اليمين، ولكني غالطت الجلاد، وقال الجلاد: غلطت، فهذه المسألة [تخرج] (8) على الخلاف أيضاً، وبقاء القطع في اليمين أظهر.

_ (1) في الأصل: "لليسار وأخرج" (فقد زيدت ياء ثم تحولت (القاف) إلى (واو). (2) في الأصل: "اليسار وإن". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "صورة". (5) في الأصل: "كذلك". والنص من المختصر. (6) ر. المختصر: 5/ 122. (7) في الأصل: "سقط". (8) في الأصل: "يخرجه".

ولو اعترف القاطع والمخرج بالتعمد، فالوجه القطع بأن القطع في اليمين يبقى، ويبقى النظر في أن القطع هل يجب على الجلاد في قطع اليسار، ويعود هاهنا تصوير الإباحة [والبذل] (1). ومما يجب التنبه له أن الاستبدال قصداً لا يُجزىء في حد الله. فهذا منتهى القول في المسألة، والله المستعان. فصل 10536 - إذا قطع الرجل يدَ مجنونٍ واستوجب القصاصَ، فلا شك أن المجنون ليس من أهل الاقتصاص، ولكن لو وثب المجنون على الجاني، وقطع يده، فهل يقع ذلك القطع قصاصاً؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يقع؛ فإنه المستحِق للقصاص، وقد جرى القطعُ على صفة الاستحقاق. والثاني - أن القطع الذي صدر منه لا يقع عن جهة القصاص؛ فإنه لا حكم لفعله، وليس هو من أهل استيفاء حقوقه. فإن قلنا: [لا يقع] (2) قطعُه قصاصاًً، ولا يهدرُ القطع؛ فإنه وإن لم يكن من أهل استيفاء الحقوق، فإتلافه مضمون، ثم إن جعلنا له عمداً، فالغرم في ماله، وإن لم نجعل له عمداً، فالغرم [مضروب] (3) على عاقلته، وسقط القصاص الذي كان [يستحقه] (4) بسقوط المحل، لا بطريق الاستيفاء، فيثبت له أرش يده في مال الجاني عليه. وهذا إذا لم يصدر من الجاني تمكين من القطع، فأما إذا أخرج الجاني على المجنون يدَه حتى قطعه قصاصاً، فقد قال العراقيون: لا يقع القطع قصاصاً وجهاً واحداً هاهنا، فإن التفريط من المخرِج الجاني، وليس كما إذا قطع المجنون من غير تمكينٍ من الجاني، ثم قالوا في الصورة الأخيرة إذا جرى القطع، كان هدراً؛ من جهة

_ (1) في الأصل: "والبدل". (2) في الأصل: "لا يجب". (3) في الأصل: "مصروف". (4) في الأصل: "مستحقه".

انتساب الجاني إلى التقصير في تمكينه المجنون من القطع. هذا ترتيب العراقيين، وليس لما ذكروه ذكرٌ من طريق المراوزة، وليس يبعد ما أوردوه عن قياسهم. والصبي ينبغي أن يكون فيما رتبوه كالمجنون. 10537 - ولو جرى القطع من المجني عليه خطأ، وكان من أهل الاقتصاص لو تعمد، وذلك مثل أن يتّفق منه إشارةٌ بسيف في الظلمة في جهةٍ، وفيها الجاني عليه، فإذا حصل القطع، [فهو] (1) يقع قصاصاًً، فإن القطع قد وقع والرجل من أهل الاستيفاء، وقد ذكرت هذا مجموعاً إلى مسائل فيما سبق. فصل يجمع وقوع القطع على ظنون 10538 - ونحن نصفها ونرسل مسائلها، ثم نرتبها. فإذا قتل الرجل رجلاً في دار الإسلام، ثم زعم أنه حسبه قاتلَ أبيه، ففي وجوب القصاص على القاتل قولان: أحدهما - لا قصاص عليه، لظنه، وإنما القصاص على من يتعمد القتلَ ظلماً؛ فإن القصاص مزجرةٌ عن الظلم، ولا يتصور زجرُ المخطىء. والقول الثاني - يجب القصاص؛ فإن القتل معمودٌ، وإنما الظن من جهته، وليس القاتل معذوراً في ابتداره القتلَ، بل كان مأموراً بالبحث ونهاية التثبت، ثم حُكم الشرع ألا يستقلّ بالقصاص، بل يرفعه إلى السلطان، وإذا تحقق التعمد بأصل القتل، ولم [يقع] (2) في الجهة التي ظنها، وجب القصاص. ومن الصور للفصل [أن يقتل رجل رجلاً في زي الكفار الحربيين] (3)، ثم يتبيّن أن المقتول كان مسلماً، والواقعة في دار الإسلام، ففي وجوب القصاص على القاتل قولان، والتوجيه يقرب مما تقدم.

_ (1) في الأصل: "وهو". (2) في الأصل: "يعود". (3) عبارة الأصل: "أن يقتل رجل ذمي الكفار الحربيين". والزيادة والتعديل من المحقق.

ومن الصور أن يقتل رجلاً كان ارتد، فحسبه فيما زعم مصراً على ردته وقد كان عاد إلى الإسلام، ففي القصاص القولان. وهذه [الصور يجمعها] (1) وقوع القتل عمداً صادراً عمن لا يبعد وقوعه [منه] (2)، وصاحب الظن مزجور عن المبادرة والإقدام. [وإنما] (3) يجري الخلاف إذا كان للظن وجه ظاهر في الوقوع، فلو قتل رجلاً، وقال: حسبته كان ارتد أمس، وتبين أنه ما كان ارتد قط، فالقصاص يجب قولاً واحداً، وكذلك لو قال: حسبته قاتل أبي، ثم تبينتُ أن أبي حيٌّ ما قُتل، يجب القصاص عليه؛ فإن أمثال هذه الظنون لا تصدر عمن على قوله معوّل. 10539 - [وإذا] (4) ذكرنا هذه المسائل مرسلة نذكر في [معارضتها] (5) مسائل، فلو قتل الغازي في دار الحرب إنساناً لا يبعد عن زيّ الكفار، وقال: حسبته كافراً، لم نلزمه القصاص، وفي لزوم الدية قولان، وهذا يجري على الشرط الذي ذكرناه في كل من يقصده الرجل بالقتل في دار الحرب، على ظن أنه كافر، والظن ممكن. فأما إذا رمى إلى صف الكفار، فمرق إليهم وأصاب أسيراً وراء الصف، لم يقصده الرامي، فهذا هو الذي سماه الفقهاء قتيل سهم الغرب، فلا دية، وتجب الكفارة، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: ({فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... } [النساء: 92]. والمسائل التي ذكرناها في دار الحرب، تتميّز عن مسائل دار الإسلام بظهور عذر القاتل في دار الحرب، وعدم تعرضه [للتقريع والتوبيخ] (6) ثم مسائله تنقسم: فمنها ما لا قصد [فيها] (7) إلى عين [القتيل] (8)، فموجب القتل فيه الكفارة المحضة، ومنها ما

_ (1) في الأصل: "الصورة مجمعها". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "فإنما". (4) في الأصل: "وإن". (5) في الأصل: "معارضها". (6) في الأصل: "التفريع والتوقع". (7) في الأصل: "منها". (8) في الأصل: "القتل".

يقصد فيها شخصاً على الحدّ الذي ذكرناه، ففي الدية قولان، وتيك [المسائل] (1) مجتمعة في نفي القصاص. والمسائل التي فرضناها في دار الإسلام يجمعها بوجهٍ التقريع واللائمة، وأدنى الدرجات النسبة إلى التقصير، وأصلُ الضمان ثابت في جميعها وفي القصاص قولان. هذا إذا كان الذي يدعيه القاتل مما لا يبعد وقوعُ مثله لأصحاب العقول، وإذا بعد مأخذ الظن، اتحد القول في وجوب القصاص. 10540 - ثم مهما (2) أوجبنا الدية حيث نقطع بأن لا قصاص، ففي محل الدية قولان: أحدهما - أن محلها مال القاتل. والثاني - أنها مضروبة على العاقلة، وقد قدمنا طرفاً من هذا سنعيده مقرراً في باب العواقل من كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل. وحيث قطعنا القول في وجوب القصاص، فحكم المال إذا آل الأمر إليه على طريقين: من أصحابنا من قال: في المسألة قولان كمسائل دار الحرب، ومنهم من قطع بأن المال في ذمة الجاني، والطريقان على قول نفي القصاص. فإن فرعنا على وجوب القصاص، فلو آل [الأمر] (3) إلى المال، فلا خلاف أنه يتعلق بذمة الجاني. وهذه المسائل التي أدرناها على الظنون التي ذكرناها، اختلف المحققون في معناها، فذهب بعضهم إلى أن مأخذ الكلام فيها أن هذه الظنون لو وقعت، وحصل الوفاق على وقوعها، فكيف القصاص، وكيف الغرم. ومن أصحابنا من قال: لو حصل الوفاق على وقوعها أثّرت، وإنما التردد في أن من يدعيها هل يصدق فيها؟ من جهة أن الظان، وإن كان أعرف بظنه، فوقوع أمثال هذه الظنون بديعة قلّما تكون.

_ (1) في الأصل: "المسألة". (2) مهما: بمعنى (إذا). (3) زيادة لإيضاح الكلام.

10541 - وإذا طلبنا ترتيب هذه المسائل، قلنا: المرتبة العليا في تمهيد العذر لصاحب سهم الغرب، وقد كان يليق بالرامي ألا يلتزم الكفارة أصلاً من حيث لم يقصد معيّناً، وكان الرمي الذي جاء به جهاداً في سبيل الله، ولو قيل: إنه حتمٌ في حق الواقف أو واقع فرضاً على الكفاية لم يبعد، ولكن اتفق الأئمة على وجوب الكفارة وتنزيلها على ظاهر الآية. ويلي تلك الرتبة قصدُ شخصٍ على زي الكفار بعينه، ثم تبين إسلامه، فالقصاص يندفع وفي الغرم قولان، ثم إن يثبت، ففي محلّه قولان. [ويلي] (1) هذه المرتبة الصور التي قطعنا فيها بثبوت الغرم، وردّدنا القول في القصاص. وما ترتيب هذه المسائل [للدارَيْن] (2)، فإنه لا تأثير لها عندنا، [ونزيد بيان] (3) ذلك: إنه (4) لو قَتَل إنساناً في دار الحرب، ثم زعم أنه حسبه قاتلَ أبيه، وتبين أن الأمر بخلاف ذلك، ففي وجوب القصاص قولان، وإن جرى ذلك في دار الحرب، كان كما لو جرى في دار الإسلام، فإن الدار لا تثير مزيّةً في هذا النوع من الظن، ولو وطىء الكفار بلاد الإسلام، ولقيناهم، فالقول في إصابة سهمنا أسراهم (5) على ما ترتب في دار الحرب. 10542 - ثم إذا تمهد الأصل، فإنا نذكر بعده صوراً: منها أن الرجل إذا كان عهد ذمياًً، ثم لقيه فقتله، وبنى على أن المسلم لا يقتل بالذمي، ثم تبين له أن الذمي كان أسلم، فقد ذكر الأئمة قولين في وجوب القصاص على القاتل، وهما

_ (1) في الأصل: "وعلى". (2) في الأصل كتبت نصف الكلمة (للدا) وترك باقي مكانها بياضاً. ولعل ما أثبتناه صوابٌ. والمراد بالدارين دار الحرب ودار الإسلام. (3) عبارة الأصل: "ونريد أن ذلك أنه لو قتل ... إلخ" والمثبت من تصرف المحقق، مع الالتزام بأقرب الصور للكلمات الموجودة بالأصل. (4) كلام مستأنف، ولذا كسرت همزة إنّ. (5) المراد أسراهم من المسلمين.

[مرتّبان] (1) على بعض ما تقدم، وهو إذا ظن المقتولَ حربيَّاً دخل دار الإسلام [غلبةً] (2)، وتوصل إلى دخولها غلبةً، ووجه الترتيب أنه اشتد ظنه فيمن ظنه حربياً إلى جهةٍ يجوز القتل فيها أو يجب، بخلاف ما لو حسبه مستمراً على الذمة؛ فإن قتل الذمي محظور، والإحقان بالذمم محذور، فكأنه اعترف بالهجوم على محظور، وظنَّ مسقطاً. ومن هذا القبيل ما لو كان رأى عبداً أو ظفر به يوماً فقتله، [وبنى] (3) النجاة من القتل على أن الحر لا يقتل بالعبد، فلو تبين له أنه أعتق، وجرى قتلُه بعد الحريّة، فهو كمسألة الذمي. ثم تردد أئمتنا في الكلام في هذا [الضرب] (4) الذي نحن فيه وفي مسألة أخرى، وهو إذا لقي مرتداً كان حسبه مصرّاً على ردته، فقتله، ثم بان أنه تاب عن الردة، ففي وجوب القصاص القولان المشهوران، فمن أصحابنا من جعل مسألة المرتد أولى بسقوط القصاص؛ من قِبل أنه ظنه هدراً، ونَهْيُ آحاد الناس عن قتله أدبٌ وسياسة، وليس كالذمي؛ فإن قتله محظور ديناً، وهو معصوم مضمون. ومن أصحابنا [من جعل] (5) مسألة الذمي والعبد أولى بسقوط القصاص من مسألة المرتد، والسبب فيه أن ظن بقاء الذمة والرق أوجه من ظن بقاء الردة، وترك المرتد ينقلب بين ظهرانَي المسلمين. وهذه المسائل في أصولها وتفرعها وتركبها وترتبها ينبغي أن تؤخذ من قوة الظنون وضعفها، فهذه جملةٌ حوت فنوناً من الظنون واشتملت على أحكام مراتبها، وسنعود إلى بعض قضاياها عند الكلام فيما يُضرب على العاقلة وما لا يضرب عليهم، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: "قريبان". (2) في الأصل: "عليه". (3) في الأصل: "وبين". (4) في الأصل: "القرب". (5) زيادة اقتضاها السياق.

فصل يجمع مقاصد في اختلاف الجاني والمجني عليه وورثته 10543 - إذا قطع رجل يدي رجل ورجليه، فلو اندملت الجراحات، وجبت ديتان، ولو سرت إلى الروح، صارت الجراحُ نفساً (1)، فلو مات المجني عليه، فقال الجاني: مات بجراحي، وعادت الأروش ديةً واحدة، وقال ورثة المجني عليه: بل مات حتف أنفه، وقد اندملت تلك الجراحات أولاً (2)، نظر: فإن طال الزمان وكان يظهر الاندمال في مثله، ولا يظهر نقيض ذلك، فالقول قول الورثة مع أَيْمانهم، والمعتمدُ فيه أن الجاني اعترف بثبوت ما يوجب الديتين، وهو قطع اليدين والرجلين، ثم ادّعى وراء ذلك [تصيير] (3) الجراح نفساً، فكان في حكم من يعترف بلزوم الدَّيْن المدّعى عليه ويدعي سقوطَه بإبراءٍ أو غيره، نص الشافعي على ذلك، وأطبق الأصحاب على موافقته. هذا إذا تمادى الزمان. وفي تصوير ذلك سر، وهو أنا لانشترط أن يظهر كذب الجاني بسبب طول الزمان، مثل إن كان بقي عشرين سنة، بل نكتفي بألا يظهر ضدُّ ما يدعيه الورثة، بحيث يتقابل القولان في الإمكان، وإذا كان كذلك، بقى ما ذكرناه من ثبوت موجب الديتين مستمسكاً للورثة. ولو قصر الزمان وبعُد الاندمال فيه، على خلاف ما يدّعيه الوارث، فإن بلغ الظهور منه اليقين، فلا حاجة إلى تحليفٍ ويمين مع شهادة الشاهد، [فإن جرى ما ذكر

_ (1) أي تجب دية واحدة. (2) تصوير النزاع هنا في حالة الخطأ، ومن هنا يحاول الجاني إثبات السراية ليصير الواجب ديةً واحدة هي دية النفس، ويحاول الوارث نفي السراية لتتعدد الدية بتعدد الأطراف، أما في العمد، فلو ثبتث السراية، لوجب القصاص في النفس، ولذا سنرى في حالة العمد أن الجاني يحاول نفي السراية عكس حالة الخطأ. (3) في الأصل: "تحصين". والمثبت تصرف من المحقق.

في زمان] (1) قد يقع في مثله اندمالٌ على بُعدٍ، والظاهر خلافه، والنزاع كما صورناه، فالقول قول الجاني. اتفق عليه الأصحاب. هذا إذا دار النزاع على دعوى الاندمال. 10544 - فلو قال الوارث: مات المجروح بسبب طَرَى كتردٍّ من عُلوّ أو قتلٍ [مذفِّف] (2) من غير الجارح، فإذا كان منشأ النزاع على هذا الوجه، وكان السريان ممكناً، والاندمال ممكنٌ، أو كان الاندمال غيرُ ممكن لقرب الزمان، فإذا كان دوران النزاع على ادعاء الوارث سبباً، وإنكارِ الجاني إياه، وحملِه -على المذهب- على السريان مع الإمكان، فإذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فقد ذكر صاحب التقريب تردداً واحتمالاً، وقال: يحتمل أن يُقبل قولُ الوارث مع يمينه، ولا نكلّفه إقامةَ البينة على السبب الذي ادعاه؛ فإن الأصل بقاء الديتين، [وما قاله] (3) محتمل ممكن. وهذا يخرج على إضافة المودَع دعوى تلف الوديعة إلى سبب لا يمتنع إثباته بالبينة، وإذا هو ادعى ذلك، لم نكلفه إقامةَ البينة، بل قلنا: القول قوله مع يمينه، قال: ويحتمل ألا يُقبل [ما ادّعَاه] (4) إلا ببينة؛ من جهة [أنه لا عجز] (5) عن إثبات الأسباب بالبينات على الجملة، ولا ينبغي أن [نتعلل] (6) بالكليّة في تصاريف المسائل إلى براءة ذمة الجاني، وإذا قلنا: ثبت موجب الديتين، ففيه مستدرك؛ فإن الأمر موقوف على المآل. وذكر الصيدلاني -حيث انتهينا إليه- تفصيلاً نأتي به على وجهه، وذلك [أنه قال] (7): إن قصر الزمان، ولم يمكن فيه الاندمال، فقال الوارث: مات بسبب آخر، ولم يمت بالجرح، ولم يذكر سبباً مفصلاً من سقطةٍ وغيرها، فلا يقبل قوله؛

_ (1) في الأصل: "فإن جرى ذكر في زمان". (2) في الأصل: "مدنف". (3) في الأصل: "وما قالوه". والضمير يعود على الوارث. (4) في الأصل: "ادّعوه". (5) في الأصل؛ " أن لا يعجزون ". (6) في الأصل: " ـعطل " كذا تماماً وبدون نقط. (7) في الأصل: "أنه لو قال".

فإن تركه لتعيين السبب يشعر بأنْ لا سبب، وإن [أورد] (1) الوارث سبباً حيث لا يحتمل الاندمال، فهذه مسألة صاحب التقريب. وفي هذا فضل نظر: فيظهر من فحوى كلامه أولاً أنه إذا لم يعيّن سبباً، وكان الاندمال محتملاً، فالجواب بخلاف ما إذا كان لا يحتمل الاندمال، وهذا له خروج حسن على التردد الذي ذكر صاحب التقريب. فأما إذا كنا لا نكلف الوارث إثبات ما يعينه بالبينة، [فلا حاجة] (2) إلى تعيينه، وإن كنا نكلفه إثباته بالبينة، فلا بد من التعيين لتقوم البينة عليه، ولو شهد عدلان أنه مات بسبب غير الجرح وسريانه، فلست أرى لقبول هذه الشهادة وجهاً (3)، هذا إذا أمكن الاندمال، وجرى ذكر سبب مطلق. فأما إذا لم [يمكن] (4) الاندمال، فما ذكره الصيدلاني مصرَّح بأنه لا يقبل قول الوارث؛ فإنّ ترك تفسير السبب يطرِّق التهمة. وهذا الذي ذكره [على حسنه ليس ينفي أي احتمال] (5) تخريجاً على أنه لو عيّن سبباً، لم يطالب بإثباته. نعم، لا بد أن يتعرض في يمينه لإحالة الموت على سبب غير السريان. هذا بيان الاختلاف في طرفٍ من المسألة. 10545 - ونحن نفرض نقيض هذا في مقصود آخر، فنقول: إذا جُرح الرجل جراحةَ عمدٍ ثم مات المجروح، فقال الوارث: مات بسراية جرحك، فعليك القصاص من النفس، وقال الجارح: بل مات بسب آخر، فلا قصاص عليّ، فهذا يفصّل حسب ما فصل الكلام في الصورة الأولى. فإن لم يُجريا ذكرَ سبب وردّا الدعوى والإنكار إلى الاندمال، فلا يخلو: إما أن يتطاول الزمان بحيث يفرض الاندمال فيه، وإما أن يقصر، فإن طال الأمد، فالقول

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (2) في الأصل: "ولا حاحة". (3) لأنه يشهد على أنه مات بسبب غير الجراحة بدون أن يعين السبب. (4) في الأصل: "يكن". (5) في الأصل: "على حسبه ليس ينبغي من احتمال".

قول الجاني؛ لأنه ينفي القصاصَ على وجهٍ محتمل، والأصل عدم وجوبه، وهو في وضع الشرع [مُعرّضٌ] (1) للسقوط بالشبهة. فإن قيل: الجرح سبب القصاص، وهو معترف به، وقد ذكرتم فيما صورتموه من [الفروع] (2) في الدية أن القول قول الوارث؛ فإن موجب الديتين قد ثبت. قلنا: لا سواء، فإن موجب الديتين كائن والسريان ردَّ الديتين إلى واحدة، وموجِب القصاص سريانُ الجرح، وهو مختلف فيه، هذا إلى أمرٍ آخر، وهو أن الدية لا تُسقطها الشبهة [بخلاف] (3) القصاص. هذا إذا طال الزمان وأمكن الاندمال إمكاناً ظاهراً. وإن قصر الزمان وبعُد الاندمال فيه، وادعى الجارح الاندمال، فالقول قول الوارث، لظهور صدقه، [ويحسن] (4) الآن الاقتضاء، ويكون الجرح سبباً في وجوب القصاص. ولعلنا -إن شاء الله تعالى- نفصل القول في منازل المدعين والمدعى عليهم في كتاب الدعاوى. 10546 - وكل ذلك ولم يجر تعرض لطريان السبب: فإن قال الجاني لم [يمت] (5) بجرحي، ولكن طرى سببٌ مهلك [وعين] (6) ذلك السببَ، ففي المسألة التردد الذي ذكره صاحب التقريب، وإن لم يعيّن السبب؛ وقع الكلام فيما ذكره الصيدلاني، وقد انتجز الآن. 10547 - ومهما (7) طال الزمان وأمكن الاندمال، وصدقنا من يدعيه -إما لتعدد

_ (1) في الأصل: "معترض". (2) في الأصل: "الفراع". (3) في الأصل: "في خلاف". (4) في الأصل: "ويحبس". (5) في الأصل: "لم يثبت". (6) في الأصل: "وغير". (7) مهما: بمعنى إذا.

الدية في الصورة الأولى، وإما لاندفاع القصاص في الصورة الأخيرة- مع يمينه، فلو أقام صاحبه بيّنةً أن المجروح لم يزل زمناً ضَمِناً لما به من الجرح حتى مات، فيلتحق هذا بما لو قرب الزمان، وَبُعد الاندمال، وقد ذكرنا أن الأمر إذا كان كذلك، فالقول قول من ينكر الاندمال. وهذا ترتيب القول في الاختلاف على أبلغ وجهٍ. 10548 - ومما يتصل بذلك خلافٌ يُفرض بين الجارح والمجروح [في] (1) سريان الجرح، وذلك إذا شج رأس إنسان موضِحتين، فارتفع الحاجز بينهما، فقال [المشجوج: أنا رفعته] (2)، فعليك أرش موضِحتين، وقال الجاني: أنا رفعته أو تأكّلت جنايتي، فليس عليّ إلا أرشُ موضِحةٍ، فهذه الصورة مأخوذة من الأصل الممهد عند فرض الخلاف في التعدد والاتحاد، فإن قال الموضح: سرت جنايتي وارتفعت الجراحة لسريانها، وقال [المشجوج: بل رفعها رافع] (3) غيرُك، فهذا يلتحق بما إذا ادعى الوارث سبباً معيناً، [فيختلف] (4) جواب صاحب التقريب، كما صورناه فيما تقدم. وإن قال الجاني: عدتُ فرفعت الحاجز، وقال المجني عليه، بل أنا رفعته، فيجب القطع هاهنا بتصديق المجني عليه؛ فإنه [حين] (5) ذكر السبب من الجانبين، فيزول ترديدُ صاحب التقريب قولَه؛ حيث يقول: إثبات السبب ممكن؛ فإن هذا مما يستوي فيه الجانبان، ويعود الأمر إلى اعتراف الجاني بموضحتين موجبهما أرشان، ولو وقع التصادق على أن الجاني رفع الحاجز، ولكن قال المشجوج: رفعتَ الحاجز بعد الاندمال، واستقرار الأرشين، [وأُلزمك رفع الحاجز] (6) أرشاً ثالثاً، وكذلك

_ (1) في الأصل: "وفي". (2) في الأصل: "المسجرح أنا دفعته". (3) في الأصل: "المستجرح بل دفعها دافع" (4) في الأصل: "فيخلف". (5) في الأصل: "حي". (6) في الأصل: "وألزمت وقع الحاجز".

يكون الأمر إن [أُجريت] (1) موضحتان واندملتا، ثم رفع الموضح الحاجزَ بعد الاندمال، فيلتزم ثلاثة أروش. فإذا قال المشجوج: كان الأمر كذلك، وقال الشاج: رفعتُ الحاجزَ قبل الاندمال، رُدّ هذا إلى تفصيل الزمان، فإن طال الزمان، وأمكن الاندمال، فالأصل إيجاب الأرش (2)، فإن قرب الزمان وبعد الاندمال، فالأصل الاكتفاء بأرش واحد، وهذا بعينه ينطبق على ما تقدم من تفصيل الاندمال، وترتيب الجاني. فإن قرب الزمان، فالقول قول الجاني، فإن طال، جعلنا القول قولَ المجني عليه المشجوج، فيثبت الأرشان، وهل يثبت الأرش الثالث الذي يتعلق برفع الحاجز بعد الاندمال؟ فعلى وجهين: أحدهما - وهو الذي ذكره الصيدلاني أن القول قولُ الشاج فيه؛ لأنه يقول: رفعته حيث لم يلزمني به أرش ثالث، بل اتحد الأولان، فإن لم يقبل قوله في اتحاد الأولين، وجب أن يُقبل في ألا يلزمه ثالث، والوجه الثاني - أنه يلزمه ثالث؛ فإنه ثبت رفع الحاجز باعترافه، وثبت الاندمال بيمين المشجوج، فيجتمع في ذلك أن من ضرورة تعدد الشجتين ثبوت الشجة الثالثة. ولو قال الشاج: ما رفعتُ الحاجز، ولكن ارتفع بالسراية، وصدقه المشجوج، وأثبتنا الأرشين، فلا يثبت الأرش الثالث -لا شك فيه- لأن الشاج لم يعترف برفعه وفي الشجاج -فيما أظن- وجوه من الاختلاف، ستأتي في الديات. 10549 - ومما يتعلق بالاختلاف أن الجارح لو ادعى أنه جَرَح وهو مجنون، ولو قال المجني عليه: بل كنتَ عاقلاً لمّا جرحت، فهذا في التفصيل ينطبق على ما ذكرناه في كتاب اللعان من أن القاذف لو قال: قذفتُ وأنا مجنون، وقال المقذوف: بل كنتَ عاقلاً، فهذا يختلف بأن يعهد له جنون أو لم يعهد، ثم فيه اختلافُ قولٍ وترتيبٌ طويل. ولو أقام الجارح بيّنة أنه كان مجنوناً عند الجرح، وأقام المجروح أو وليُّه بينةً أنه كان عاقلاً عند الجرح، فمن أصحابنا من قال: لا تقديم والبينتان على التناقض، ثم

_ (1) في الأصل: "اخترت". (2) أي الأرش الثالث.

سيأتي تفريع التهاتر في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى. وإذا جرينا على تساقط البينتين، رجع الأمر إلى دعوى الجنون ونفيه، وقد مضى ما فيه في كتاب اللعان. 10550 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه: "أن الإمام ينبغي أن يُحضر موضع الاقتصاص عدلين ... إلى آخره" (1) وهذا احتياط لا بد منه، وينبغي أن يكونا مع عدالتهما خبيرين بمجاري الأحوال، فيتأملان حديدةَ القِصاص ويبحثان عن [كونها] (2) مسمومة، وإن اتهما وليَّ القصاص أتيا بحديدة لا تهمة فيها. وهذا من نص الشافعي دليل على أن القصاص في الأطراف مفوّض إلى الولي؛ فإن التهمة إنما تفرض في حديدة الولي، وقد [قدمناه] (3) في فقه هذا الفصل. فصل قال: "ويَرْزقُ من يقيم الحدودَ ويأخذ القصاصَ ... إلى آخره" (4). 10551 - الأوْلى أن الإمام يرزقُ جلاداً من السهم الموظف للمصالح العامة حتى يتولى استيفاء الحدود والقصاص إن اتسع المال، وإن ضاق، فنذكر القول في أجرة الجلاد في القصاص، ثم نذكر أجرته في الحدود. فأما أجرته في القصاص، فالأصح أنها على المقتصّ منه؛ فإنها من مؤن التوفية ومؤنة الإيفاء على من عليه الحق. وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن أجرته على مستوفي القصاص، وحقيقة الاختلاف عنده [ترجع] (5) إلى [أن] (6) من عليه القصاص بماذا يصير مسلِّماً

_ (1) ر. المختصر: 5/ 122. (2) في الأصل: "كونهما". (3) في الأصل: "قدمنا". (4) ر. المختصر: 5/ 123. (5) زيادة من المحقق. (6) سقطت من الأصل.

للقصاص، فكأنا في الأصح [نقول] (1) إنما يقع التسليم بالقطع، وهذا يظهر على المذهب المشهور في أن القصاص لا يتم نفوذه في العقوبات إلا بالاستيفاء. وفي وجهٍ آخر نقول: إذا سلم اليدَ، كفى، وليس عليه تكلّف تحصيل القطع. ثم قال صاحب التقريب: هذا الاختلاف يقرب من أن التسليم في الثمار المبيعة على رؤوس النخل هل يحصل بالتخلية، [أم لا يتم إلا بقطع الثمار؟] (2) ويمكن أن يفصل بين [البابين] (3)، فيقال: الثمار ليست من جوهر الأشجار، ولا يبعد أن يحصل التسليم فيها بالتخلية، ويدُ الإنسان جزءٌ منه، ولا يتحقق التسليم فيه إلا بالفصل. ومما يُعيّن تحقيقَ الفرق أن في وضع الجوائح، وأنها من ضمان مَنْ قولان، ويد الجاني لو بانت بعد تسليمه، فضمان الجناية عليه، ولكن ذلك محلُّ القصاص، ثم إذا قلنا: الجوائح من ضمان البائع، ففي مؤنة [الجداد] (4) وجهان: أحدهما - أنها على المشتري. والثاني - على البائع وهذا شبيه ما نحن فيه. هذا تفصيل القول في أجرة [الجلاد] (5) في القصاص. 10552 - فأما أجرته في استيفاء الحدود، ففيها اختلافٌ مشهور: من أصحابنا من قال: هي على ملتزِم الحد؛ فإنه الموفي [وعليه] (6) مؤنة إيفائه، كمؤنة تأدية الزكاة، حتى إذا [أخرج] (7) بعيراً شارداً، فعليه العقال، ومؤونة الإيصال. والوجه الثاني - أن المؤنة من بيت المال، وليس هذا الوجه مأخوذاً من الوجه الضعيف الذي ذكره صاحب التقريب في أن الأجر على مستحق القصاص؛ فإن ذاك

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "أم لا فلم لا بقطع الثمار". (3) في الأصل: "الناس". (4) في الأصل: "الخلاف". (5) في الأصل: "الخلاف". (6) في الأصل: "عليه" بدون واو. (7) في الأصل: "جرح".

لا يعرف إلا به، والأصحاب -على قطعهم أن [مؤنة] (1) الجلاد في القصاص على المقتص منه- يذكرون وجهين في مؤنة الجلاد على الحدّ. والوجه توجيه قولنا: إن مؤنة الجلاد من بيت المال هاهنا. فنقول: ليس الحد حقّاً يوفيه من يلزمه بمثابة إلزام الحقوق المالية وغيرها، فليس الحدود [حقوقاً] (2) في الذمم، وإنما هي سياسات، فليقُم بها [السائس] (3)، وليلتزم مؤنتها، وليس كالقصاص الذي يثبت حقاً مستحقاً ثابتاً عوضاً في مقابلة متلَف، وهذا بيّنٌ، إن شاء الله عزوجل. 10553 - قال الشافعي: "ولو قال المجني عليه عمداً قد عفوت ... إلى آخره" (4). الكلام في العفو يستدعي تقديمَ مقدمة في الإباحة، فإذا قال الآمر (5) نفسُه للرجل: اقطع يدي فقطعها، فإن لم تَسْر الجراحةُ، لم يضمن القاطع شيئاًً؛ فإن الإباحة [صدرت] (6) من مستحق البدل؛ فتضمنت الإهدار. وإن لم يسلط على القطع، [بل قال] (7): اقتلني فقتله، فلا قصاص عليه، وتنتصب الإباحة شبهةً في درائه. وفي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تثبت للورثة ابتداء، أم تثبت للمتوفى، ثم تنتقل إلى ورثته، وهذا فيه قولان: أحدهما - أنها تثبت للورثة؛ فإنها

_ (1) في الأصل: "صورة". (2) مكان بياض في الأصل. (3) في الأصل: "الناس". (4) ر. المختصر: 5/ 123. (5) الآمر: المراد: من يملك أمر نفسه، كما عبر بذلك الرافعي حيث قال: "إذا قال لغيره: اقطع يدي، والقائل مالك لأمره، فقطع المأذون يده، لم يجب عليه قصاص ولا دية" (ر. الشرح الكبير: 10/ 296). (6) في الأصل: "صورت". (7) في الأصل: "ولو قال": وهذا أقل تعديل تستقيم به العبارة.

تجب بالموت، وإذا مات المجني عليه، خرج بالموت عن تصور [حصول] (1) الملك له؛ فاقتضى ذلك ثبوتُ الحق للورثة؛ فإنها تجب [لهم] (2). والقول الثاني - أن نقدر الملك [للقتيل] (3) أولاً في ألطف زمان، ثم نقضي بانتقالها، وهذا القائل لا يمنع [تقدير] (4) الملك للميت، كما لا يمنع تقدير بقاء الدّين عليه، [وإن] (5) رمّت عظامه. فإن قلنا: الدية تثبت له، فالإباحة تُسقطها، وإن قلنا: الدية تثبت للورثة ابتداء، فالإباحة لا تعمل فيها، فإن قيل: إذا كانت الدية تثبت (6) بعد الموت، وهي عرضة للانتقال إلى الورثة، فينبغي أن لا تؤثر الإباحة إلا في ثلثها؛ اعتباراً بما يصدر منه في مرض موته، [وبما] (7) يوصي به بعد وفاته؟ قلنا: لم يعف عن واجب، وإنما أباح سبباً لو لم يكن صادراً عن إباحته، لتضمن مالاً. هذا تحقيق القول فيما ذكرناه. فإن قلنا: الدية تجب على القاتل، فتلزمه الكفارة، وإن قلنا: لا تلزمه الدية، فالمذهب (8) أن الكفارة تلزمه؛ فإنها تجب للاعتراض (9) على حق الله في الدم، وذلك لا يؤثر فيه الإباحة. وذكر ابن سريج وجهاً آخر من تخريجاته: أن الكفارة لا تلزمه، كما لا تلزمه الدية، وهذا بعيد، ووجهه على بعده أن حق [الله] (10) يتبع في وجوبه وسقوطه

_ (1) زيادة من المحقق. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "للقتل". (4) في الأصل: "تقدر". (5) في الأصل: "فإن". (6) أي تثبت له بعد موته في ألطف لحظة. (7) في الأصل: "ومما". (8) عبارة الرافعي: أصحّهما الوجوب (الشرح الكبير: 10/ 297). (9) الاعتراض على حق الله: المعنى: الجناية على حق الله، كما عبر بذلك الرافعي (السابق نفسه) ولعل صوابها: "للاعتداء على حق الله في الدم". (10) في الأصل: " ـ ـه " هكذا تماماً وبدون نقط.

[حقاً] (1) للآدمي، فإذا صار القتيل في حكم المهدر، فلا كفارة على قاتله، وإن كان يحرم عليه قتله. فإن قيل: أوجبتم الكفارة بسبب الأسير [قتيلِ] (2) سهم الغَرْب ولم توجبوا الدية؟ قيل: لم تسقط الدية عن الإباحة، وثبوتِ حكمها، وإنما سقطت تمهيداً لعذر القاتل، وإلا، فالأسير على حرمته لم يثبت فيه حكم الإهدار، والمبيح هدَرَ (3)، وإن لم نجوّز الإقدام على قتله. وهذا ضعيف غير معتد به. 10554 - فإذا تمهد ما ذكرنا في الإباحة، استفتحنا بعده حكمَ العفو. فإذا قطع الرجل طرف رجل قَطْع قصاص، فقال المجني عليه للجاني: عفوت عن هذه الجراح أرشاً وقوداً، [فلا يخلو] (4): إما أن تسري الجراحة وإما ألا تسري، فإن لم تسر أصلاً، ولم تتعدّ أصلاً محلَّها، سقط القود والأرش، لا شك فيه. وإن سرى، لم يخل: إما أن تسري إلى النفس، فتقتل الجريح، وإما أن تسري إلى بعض الأعضاء، ثم تقف وتندمل. فإن سرى إلى بعض الأعضاء، ثم وقف، فالمذهب (5) أن [آثار] (6) السراية مضمونة، فإن المجني عليه اقتصر على العفو عن موجب الجناية أرشاً وقوداً، واقتصر عفوُه على ما صرح به. ومن أصحابنا من قال: لا يلزم ضمان السراية، لأنها ترتبت على جنايةٍ غير مضمونة؛ إذ ضمان الجراحة سقط بالعفو، ثم جرت السراية [فيما بعد] (7)، وشبه

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "القتيل". (3) هدَرَ: من باب ضرب وقتل، والمعنى أن المبيح هدَرَ المباحَ. (4) في الأصل: "ولا يخلو". (5) عبارة الرافعي: "أصحهما أنه يجب الضمان، لأنه عفا عن موجب الجناية الحاصلة في الحال، فيقتصر أثره عليه" (ر. الشرح الكبير: 10/ 299). (6) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (7) في الأصل: "في بعد"، والمثبت تقدير منا نرجو أن يكون صواباً.

هذا القائل ذلك بما لو قال الإنسان لصاحبه: اقطع يدي، فقطعها وسرت الجراحة، ثم [وقفت] (1)، فإن السراية لا تكون مضمونة، وكذلك من قطع يدَ مرتدٍّ [فأسلم] (2)، فسرت الجراحة [فالسراية] (3) لا تكون مضمونة. والصحيح الوجه الأول، فإن الجراحة وقعت مضمونة أولاً، فكانت سرايتها المقدّرة مضمونة لو وقعت، ثم جرى العفو مقتصراً على الضمان الذي اقتضاه الجرح، فلا يتعداه. وهذا إذا قال العافي: عفوت عن موجب الجناية، واقتصر عليه، فأما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية، وعما يحدث [منها] (4)، ثم جرت السراية بعد هذا، ووقفت دون الزهوق، فإن قلنا: ضمان السراية يسقط بالعفو عن الجرح، فلا إشكال في سقوط الضمان هاهنا، وإن قلنا العفو عن الجرح لا يتضمن سقوط ضمان السراية، فإذا صرح العافي بإسقاط ضمانها قبل وقوعها، كان [إبراء] (5) عما لم يجب، ولكن وجد سببُ وجوبه، وفي ذلك قولان معروفان، سبق ذكرهما. هذا كله فيه إذا جرى العفو ولا سراية، أو جرت سراية ووقفت دون النفس. 10555 - فأما إذا قال المجني عليه: عفوت عن الجرح عقلاً وقوداً، ولم يتعرض للسراية، ثم سرت الجراحة وأدت إلى زهوق الروح، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه لا يجب القصاص على الجاني في نفسه، ويصير العفو عن الجرح قبل السريان شبهة في إسقاط القصاص، وقال أبو الطيب بنُ سلمة: من أصحابنا من يُلزمه القودَ في النفس؛ فإنه لم يتعرض لإسقاط ضمان السراية [في الروح] (6) وقد زَهَقت بالسراية، فلئن سقط

_ (1) في الأصل: "وقعت". والمعنى أنها وقفت فلم تصل إلى النفس، بل سرت إلى عضوٍ فقط مثلاً. (2) زيادة اقتضاها السياق، وهي عند الرافعي في تصويره للمسألة. (3) في الأصل: "والسراية". (4) الأصل: "فيها". (5) في الأصل: "بترا". (6) في الأصل: "والروح".

القصاص في الطرف بالإبراء، فهو بمثابة سقوط القصاص بالاستيفاء. ولو قطع رجل يد رجل، فقطع المجني عليه يد الجاني قصاصاً، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه، فالقصاص يجب في نفس الجاني، وإن وقعت السراية بعد سقوط القصاص عن الطرف بطريق الاستيفاء. والاستشهادُ الذي ذكره بعيد؛ فإن المقتص مستوفٍ، والاستيفاء لا يمنع الاستيفاء، والعافي مسقط حقَّه في أصل الجناية، فقد نهض ذلك شبهةً في سقوط ما سقط بالشبهة. هذا قولنا في ضمان القصاص. 10556 - أما ضمان المال، فالعافي (1) لا يخلو إما إن كان قال: عفوت عن موجب الجناية، ولم يتعرض لغيره، فالكلام يقع -وقد مات العافي- في شيئين: أحدهما - في أرش اليد. والثاني -[في] (2) ضمان السراية. فأما أرش اليد، فسقوطه وإن صرح بإسقاطه يخرّج على أصلٍ قدمناه في كتاب الوصايا، وهو أن الوصية [لا تصح] (3) للقاتل، فالأرش واجب على الجاني، فإن قلنا: تصح الوصية له، فالعفو عن أرش اليد المقطوعة وصيةٌ معتبرة من الثلث، فتأمله وافياً أو غير وافٍ. [هذا] (4) إن قلنا: أرش الجناية لا يسقط. فإن قلنا: أرش الجناية يسقط، فقد ذكرنا في ضمان السراية إذا ترامت [إلى ما] (5) دون النفس أن المذهب أنه يجب، وحكينا وجهاً بعيداً في سقوطه. قال الأئمة: الوجه البعيد لا يخرّج في ضمان السراية، وقد أدى إلى الهلاك؛ فإن تصرف

_ (1) عودٌ إلى أصل المسألة، وصورتها: أن يقول المجني عليه بقطع يده: عفوت عن هذه الجناية. (2) في الأصل: "من". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "ثم". (5) في الأصل: "إليها".

[العافي] (1) يضعف إذا هلك فيما صرح بإسقاطه، فما الظن بما لم يتعرض له؟ وإنما صار إلى ذلك الوجه صائرون، إذا وقعت السراية، هكذا ذكر من يعتمد، ومسلك الاحتمال لا ينقطع. والذي ذكرناه فيه إذا قال: عفوت عن موجب الجراحة، ولم يتعرض للسراية. 10557 - فأما إذا قال: عفوت عن موجب الجناية، وعما يحدث [منها] (2)، ثم سرت الجراحة إلى النفس، فيتصدى للتفريع [في] (3) الأرش وضمان السراية أصلان: اْحدهما- اختلاف القول في الوصية للقاتل. والثاني - الاختلاف في أن الإبراء عما لم يجب ولكن وجد سبب وجوبه هل يصح أم لا؟ [أما قولا الوصية، فلا بُدّ منهما] (4) في الأروش وضمان السراية، وأما ضمان السراية، فيختص به الكلام في أن الإبراء قبل الوجوب هل يصح إذا وجد سبب الوجود؟ وينتظم من التفريع على هذين الأصلين في الأرش [والسراية] (5) أقوال: فإن قلنا: لا تصحّ الوصية للقاتل، فلا حاجة إلى التمسك بأصلٍ آخر، وهذا كافٍ في إيجاب الدية الكاملة، وإن قلنا: تصح الوصية للقاتل [ولا يصح] (6) الإبراء، [فيترتب] (7) على هذا المسلك أن الأرش يسقط، ولا يسقط ضمان السراية (8)، فإذا كانت المسألة مفروضة في قطع [يدٍ] (9) وقد سرى القطع، فيخرج أقوال: أحدها- لا يسقط ضمان السراية، والقول الثاني - يسقط الجميع على شرط وفاء الثلث (10).

_ (1) في الأصل: "الذي". (2) في الأصل: "فيها". (3) في الأصل: "من". (4) عبارة الأصل: "قولا فالوصية لا بد منها" والمثبت من زيادة وتعديل من عمل المحقق. (5) في الأصل: "السراية" (بدون واو). (6) في الأصل: "ويصح". (7) في الأصل: "تترتب". (8) لأن الإبراء عما لم يقع ووقع سبب وجوبه لم نصححه. (9) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، كما سيظهر في عرض المسألة. (10) هذا إذا صححنا الوصية وصححنا الإبراء، واعتبرنا اللفظ وصية.

والثالث - يسقط نصف الدية وهو يقابل أرشَ اليد، وذلك على شرط وفاء الثلث، ولا يسقط النصف الآخر (1). ولو كان قَطَعَ اليدين، فقال المجني عليه: عفوت عن الجراح، وعما يحدث منه، فإن أبطلنا الوصية، وجبت الدية. وإن صححناها ووفّى الثلث، سقط الدية بكمالها، وإن فرعنا على [أن] (2) الإبراء عما لم يجب [لا يصح] (3)، والسبب فيه (4) أن أرش [اليدين دية] (5) كاملة، فليس تتجدد بالسراية. ومما يتعلق بذلك أنه لو أوصى للجاني بأرش الجرح -وهو قَطْع يدٍ - وبضمان السراية لم يخرج في المسألة إلا قولان: أحدهما - سقوط تمام البدل على تصحيح الوصية. والثاني - وجوب تمام البدل على بطلان الوصية، ولا يخرج القول الثالث في الفرق بين أرش الجرح وضمان السراية، فإنه لم يُسقط ضمان السراية بطريق الإبراء حتى يخرّج على القولين في صحة الإبراء قبل الوجوب، وإنما استعمل في الجميع الوصية، والوصية تحتمل التعليق [بالأغرار] (6) والأخطار. وهذا تفصيل القول في ذلك. 10558 - واختار المزني إبطال الوصية للقاتل، وأخذ يقضّي العجب أولاً من إشارة النص إلى الفرق بين الأرش وضمان السراية، وقال: إن سقط، [فليسقط] (7) الكل، وإن ثبت، فليثبت الكل. وهذا الذي ذكره إنما كان يبعد [لو] (8) كان التفريع على أصلٍ واحد، وهو أن

_ (1) هذا إذا صححنا الوصية ولم نصحح الإبراء. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "ولا يصح". (4) أي في سقوط الدية كاملة. (5) في الأصل: "اليد فيه". (6) في الأصل: "بالأعراب". (7) في الأصل: "ما يسقط". (8) في الأصل: "ولو".

الوصية هل تصح أم لا؟ ولو كان كذلك لم يستقم إلا نفي الكل [أو إثبات] (1) الكل، فأما وقد ثبت أن التفريع على أصلين، فلا يمتنع مع هذا الفرقُ بين الأرش وضمان السراية، كما قدمناه. ثم تمسك المزني في أخبار الوصية للقاتل بنصوص الشافعي في مسائلَ، وجوابُ الأصحاب عن استدلاله في جميعها أن النص جرى فيها على أحد القولين. ونحن نذكر الآن مسائله واحدة [واحدة] (2)، ونخرج كل مسألة على أصول المذهب. 10559 - المسألة الأوّلة: وهي: [قال] (3): قال الشافعي: لو جنى عبدٌ على [حرّ] (4) جناية مالية، وتعلق الأرش برقبته، فعفا المجني عليه، فالعفو صحيح؛ لأنه يتعلق بحق السيد، وليس السيد قاتلاً، فتعلق المزني بهذا المفهوم (5)، فقال الأئمة: هذه المسألة تخرج على أن الجناية هل تتعلق [بذمة] (6) العبد أم لا تعلّق لها إلا بالرق ومالية الرقبة، وهذا فيه اختلاف، سيأتي مشروحاً في آخر الديات، إن شاء الله تعالى. فإن حكمنا بأن الأرش يتعلق بذمة العبد حتى [يتبع] (7) به إذا عَتَق، فالوصية في التحقيق ترجع إلى العبد، فلتخرج على القولين: أن الوصية للقاتل هل تصح أم لا؟، فإن قلنا: الجناية لا تتعلق إلا بمالية العبد، فالوصية للمولى.

_ (1) في الأصل: "وإثبات". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "انتقال" ثم هذه المسائل ليست منصوصة في مختصر المزني في هذا السياق (ر. المختصر: 123 - 125). (4) في الأصل: "موت". (5) أي استدل المزني بهذا المفهوم على أن الوصية للقاتل لا تصح، حيث علل صحة العفو هنا بأنه آيل إلى السيد، والسيد ليس قاتلاً. (6) في الأصل: "بدية العبد". (7) في الأصل: "ينتفع".

وهذا محتاج إلى فضل نظر، فإن قلنا: لا تعلق للجناية [بالذمة] (1) أصلاً، فالوجه ما ذكرناه لا غير. وإن قلنا: الجناية تتعلق بذمة العبد، فالمجني عليه هل يملك فكَّ الرقبة [عن] (2) التعلّق وردَّ حقه إلى [ذمته بانتظار] (3) عتقه يوماً؟ اختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من قال: لا يتصور هذا؛ فإن التعلق بالرقبة والذمة متلازمان لا يفرض أحدهما دون الثاني، وليس هذا التعلق مما يقدر فيه انفراد، وليس كحق المرتهن؛ فإن المرتهن يملك فك الوثيقة، [فإن شرع بفسخ الرهن، أدى تيك الوثيقة بطرى لعقد وقبض، فيزول بفسخ العقد] (4). ومن أصحابنا من قال: يتصور قطع الأرش برقبة العبد، كما يتصور قطع وثيقة الرهن ولا يخفى توجيه ذلك على من يحاوله. التفريع: 10560 - إن حكمنا بأن قطع التعلق غير ممكن، فذاك. [أما إذا قلنا: يمكن] (5)، فذلك إذا جرّد مستحقُّ الأرش القصدَ إلى قطعه، فأما إذا أبرأ عن الأرش، ثم لم يسقط الأرش عمن عليه، فلا يسقط التعلق أيضاًً، هذا ما لا نرى غيره (6).

(1) في الأصل: "بالدية". (2) في الأصل: "على". (3) في الأصل: "إلى دمه فإنتظار". (4) ما بين المعقفين جاء بهذا الرسم تماماًً، ولم نصل إلى تقويمٍ مقبولٍ له، فتركناه على حاله، لاسيّما وأنه يتعلق بتصوير فك الرهن، وهو ما لا تتوقف مسألتنا على فهمه. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) نقل الرافعي هذا التفريع عن الإمام بعبارة ربما كانت أكثر وضوحاً، وهي: "قال الإمام: وعلى الوجهين يبقى تعلق الأرش بالرقبة إذا أبطلنا العفو؛ لكون العبد قاتلاً، أما إذا قلنا: لا يمكن قطعه، فظاهر. وأما إذا قلنا: يمكن، فلأن ذلك إذا جرّد مستحق الأرش القصد إلى قطعه، وهاهنا لم يجرد القصد إليه. وإن أضاف العفو إلى السيد، فقال: عفوت عنك، صح، إن قلنا: يتعلق الأرش برقبة العبد فحسب، وإن قلنا: يتعلق بذمة العبد أيضاً، لم يصح العفو، لأنه عفو عن غير من عليه الحق. =

وقد نجز الكلام في مسألة واحدة من مسائل المزني. 10561 - المسألة الثانية: قال: قال الشافعي: إذا كان الجاني مخطئاً، وكان الأرش على العاقلة، فإذا عفا المجني عليه، صح العفو في مرض الموت؛ فإن [أثره] (1) يرجع إلى العاقلة، وليسوا قاتلين. وفصّل الأصحاب هذه المسألة وخرجوها على أصلٍ في المذهب، وهو أن الخاطىء هل يلاقيه وجوبُ الضمان، ثم العاقلة يتحملون عنه، أم الوجوب يلقى العاقلة ابتداء؟ وفيه كلام سنشرحه في كتاب الديات، إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: الوجوب لا يلاقي الجاني، فالعفو عن العواقل تبرعٌ على غير قاتل. [وإن] (2) حكمنا بأن الوجوب يلاقي الجاني، نظر في صيغة قول العافي: فإن قال: عفوت عن العاقلة، نفذ العفو، وكان ذلك عفواً عمن ليس بقاتل، فلزم ترتبهم إذا وفّى الثلث، فإنهم إن كانوا متأصلين نفذ العفو، وإن كانوا ضمناء كافلين كذلك. ولو قال المجني عليه: عفوت عن الدية، ولم يتعرض لإضافة العفو [إلى] (3) الجاني ولا إلى العاقلة، فالعفو ينفذ، والعواقل يترادّون، وإن توجه العفو على الجاني فقال: عفوت عنك. فإن قلنا: الجاني لا يلاقيه الوجوب، فالعفو عنه لغوٌ، فإن قلنا: يلاقيه الوجوب، ففي العفو عنه وجهان: أحدهما - أنه يصح على [تقديره] (4) أصلاً وتقدير العواقل ضمناء، ثم إذا برىء الأصل برىء الضامن. والثاني - لا يصح؛ فإن هذا التقدير لا ثبات له مع القطع [بأنه] (5) ليس مطالباً.

_ = وان أضاف العفو إلى العبد، فإن قلنا: يتعلق بالرقبة دون ذمة العبد، لم يصح، وان قلنا: يتعلق بالذمة، ففيه القولان في الوصية للقاتل. وان كانت الجناية موجبة للقصاص، فالعفو عن العبد صحيح، فإنه عليه بكل حال. (1) في الأصل: "أمره". (2) في الأصل: "فإن". (3) في الأصل: "عن". (4) في الأ صل: "تقريره". (5) في الأصل: "فإنه".

والقائل الأول يقول: نجعل الجاني -وإن كان موسراً- كالأصيل المعسر، ثم إبراؤه يبرىء الضامن عنه، وهذا يظهر في [إبراء] (1) المضمون عنه بعد موته معسراً في علم الله تعالى. وسر هذا الفصل يظهر من بعدُ، ولكن لا بد من ذكر ما يقع الاستقلال به هاهنا، فنقول: الجاني محمول عنه، ولكن وجبت الدية، فيتجه أمران: أحدهما - لم تجب على الجاني، وإنما وجبت ابتداء على العاقلة. والثاني - أنه لاقاه الوجوب، ثم تحمَّلَ العاقلةُ عنه الوجوب، فهذا ليس [تحملَ واجبٍ] (2)، بل هو تحمل وجوب. ويتضح هذا بشيء، وهو أن الجاني المخطىء لو لم تكن له عاقلة، ففي تعلق الدية بماله تفصيل وصور وفاقية، وأخرى خلافية، هذا في الابتداء، وإذا [ضُرب] (3) الأرش على العاقلة، فامتنعوا أن يقدر الاستيفاء منهم، [فلا رجوع] (4) إلى الجاني بعد ذلك، وهذا شديد الشبه بحوالة شرعية، وحكم الحوالة إحالة الوجوب. فإذا ظهر ما ذكرناه، فتوجيه الإبراء على الخاطىء ينقسم: فإن وقع بعد قرار الوجوب على العاقلة، فالقول في ذلك يتردد حينئذ، وإدط لم تكن عاقلة، فالإبراء توجه بحق على الخاطىء، فهذا القدر كافٍ الآن، وتمامُه في باب العواقل، ولنا عودة إلى الإبراء عن العواقل قبل انقضاء السنة؛ فإن ذلك ليس في حكم دَيْن مؤجل، ولا يحتمل هذا الموضع ذكر ذلك. 10562 - والمسألة الثالثة للمزني: أنه قال: قال الشافعي: لو كان الجاني ذمياً وعاقلته مسلمون، فالدية في ماله، فلو فرض العفو، فهو باطل، فإنه عفو عن القاتل، وهذا لا تفصيل فيه، ولكنه جوابٌ على أحد القولين. ومما أورده المزني من قول الشافعي: أنه قال: "لو أقر الرجل بجنايةٍ خطأ وأنكر

_ (1) في الأصل: "أثر". (2) في الأصل: "تحملا واجب". (3) مكان بياضٍ بالأصل. وهي هي إن شاء الله. (4) في الأصل: "ولا رجوع".

العواقل، فجرى العفو وهو عفو عن [القاتل] (1)، فيكون مردوداً" وهذا جواب عنه بناء على أحد القولين، وقد نجز غرض الفصل، ونحن نرسم وراء ذلك فروعاً تتعلق بالعتق. فصل (2) 10563 - إذا قطع عبدٌ يدي عبد، ثم إن سيد المجني عليه أعتق المجني، فسرت الجراحة، وقتلته بعد الحرية، فيجب القصاص في النفس، ولكن إذا كان للمعتَق ورثة أحرار، فيثبت القصاص في النفس لهم، ويثبت الاقتصاص في الطرف للسيد، قطع به صاحب التقريب وغيره؛ وذلك لأن قطع الطرف اتفق في [الملك] (3) وبقاءِ الرق، فحق القصاص في الطرف للسيد، وحق القصاص في النفس للورثة، فلو أن السيد قال: عفوت عن القصاص في الطرف، فلا شك أن القصاص يسقط في الطرف، ولا يسقط القصاص في النفس. وكذلك لو قطع رجل يدي رجل وأُلزم القصاصَ في يديه، وقتل رجلاً آخر، فعفا المقطوع يده (4) عن القصاص في اليد، فلولي المقتول أن يستوفي القصاص في النفس، ولا خفاء بذلك. ولو كان مستحق الطرف والنفس واحداً، فلو قال: عفوت عن القود في الطرف، فهل يسقط حقه من القصاص في النفس؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا يسقط القصاص في النفس، وهو القياس، كما لو كان مستحقُّ الطرف غيرَ مستحق النفس، [وكل] (5) واحد من القصاصين مقصود في نفسه. والثاني - أنه يسقط

_ (1) في الأصل: "العاقل". (2) سقط من ترقيم المخطوط رقم (93). (3) في الأصل: "في المسلك". (4) في تصوير المسألة ذكر أنه قطع يديه"، ولا يختلف الحكم المقصود بإثباته بتعدد المقطوع، فلم نغيرها التزاماً بالأصل. (5) في الأصل: "أو كل".

القصاص في النفس؛ لأن مستحقهما واحد، فإذا عفا عن الطرف، فكأنه ضمن سلامة الأطراف، ففي قتله إتلاف أطرافه. ولو قال: عفوت عن القصاص في النفس، وأنا أقتص من الطرف، فله ذلك، لم يحك (1) فيه اختلافاً، وإن كان القطع ربما سرى إلى البدن، ولكن لا حكم لهذه السراية. والدليل عليه أنه إذا استحق الطرفَ دون النفس، فله قطع الطرف، وإن كانت النفس محرمة عليه وقد سرى الجراح. ومما يتعلق بهذه الجملة أن الجاني لو قتل إنساناً بأن أجافه جائفة، وقلنا: لوليّه أن [يجرحه] (2) في رعاية المماثلة. فلو قال عفوت عن النفس، ولكني أجيفه، فليس له ذلك؛ فإن الجائفة لا يجري فيها القصاص لو انفردت عن النفس. فصل 10564 - قال العراقيون: إذا قطع رجل يدَ رجل، فعفا المجني عليه عن القود، فسرى الجرح إلى نفس المجني عليه، ومات، فالمذهب أنه لا يجب القصاص في النفس؛ فإنه عفا عن الجراحة أولاً، فصار ذلك شبهة، وفيه وجهٌ بعيد عن أبي الطيب بنِ سلمة، كما ذكرناه. قالوا: ولو قطع يد رجل، فعفا المجني عليه عن القصاص في الطرف، وأخذ المال مثلاً، ثم إن الجاني عاد فقتل المجني عليه، وحزّ رقبته، فهل لأوليائه القصاص أم لا؛ تفريعاً على أن الجناية لو سرت، لم يجب القصاص في النفس؟ ذكروا وجهين: أحدهما - لا قصاص عليه، وذلك أن حزَّ الرقبة بعد قطع اليد بمنزلة سراية الجراحة في القصاص والدية. هذا هو النص، والقصاص لا اندراج فيه، والدية على الاندراج في السراية، وحزُّ الرقبة، لم يخالف فيه إلا ابنُ سريج، فإذا كان القتل من قاطع اليد بمثابة سراية

_ (1) لم يحك: المراد صاحب التقريب. نقل ذلك الرافعي صريحاً عن الإمام (السابق: 303). (2) في الأصل: "يحرمه".

قطع، وقد قلنا: إنه لو قطع يد رجل، فأخذ المقطوعُ يدِه [الأرشَ] (1) وعفا [عن] (2) القصاص، ثم سرت الجراحة إلى نفسه، فلا قصاص في النفس على المذهب، وكذلك هاهنا. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني -وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره- أنه يجب القصاص في النفس بسبب أنه لما عاد، فقتله، فليس القتل من أثر الجراحة التي أخذ أرشها وعفا عن القصاص فيها، وإنما هو قتلٌ ابتدأه، فلا يورِّث العفوُ عن الطرف شبهةً فيه. وقالوا: لو جرح رجل رجلاً جراحة لا يتعلق بها القصاص، فأخذ المجني عليه [الأرشَ] (3)، ثم سرت الجراحة إلى نفسه، فيجب القصاص في النفس وجهاً واحداً، فإنَّ أخذه المال في هذه الصورة، لم يتضمن عفواً عن قصاص؛ إذ الجراحة مما لا يتعلق بمثلها قصاص، وليس كقطع اليد ونحوه، فإن القصاص يتعلق به، فإذا عفا عن القصاص فيه، فيجوز ألا يترتب على سرايتها إلى النفس وجوبُ القصاص. [وهذا الذي ذكروه] (4) آخراً فيه أدنى احتمال؛ من قِبَل أن الجراحة وإن لم تكن موجبةً للقصاص، فهي سبيل القصاص، وقد يقع القتل بمثلها في إقامة المماثلة، وأخذُ المال يشعر بالعفو، فلا يبعد أن يصير ذلك شبهة في إسقاط القصاص في النفس إذا كان الهلاك بالسراية [لا يقتل بمثله] (5). فصل قال: "ولو جنى [عبدٌ على حرٍّ] فابتاعه ... إلى آخره" (6). 10565 - العبد إذا جنى على مالٍ أو على عبد جناية موجبها المال، وتعلق الأرش

_ (1) في الأصل: "بالأرش". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "الجاني". (4) في الأصل: "وهذا هو الذي ذكروها. (5) في الأصل: "لا يقبل بفسخ". (6) ر. المختصر: 5/ 125. وفي الأصل: ولو جنى على عبدِ حرٌّ، والتصويب من المختصر.

برقبته، [فللمولى] (1) أن يبيع العبد الجاني بأرش الجناية من المجني عليه، إذ الأرشُ دراهمُ إذا كان المجني عليه مالاً، والدراهمُ معلومة، ثم لو اطلع المجني عليه بعيبٍ بالعبد، قال الأصحاب له الرد، وأثر الرد انفساخ البيع، ثم لا يرجع على السيد بشيء ويعود حقه إلى رقبة العبد، والسيد بالخيار بين أن يفديه، وبين أن يسلمه للبيع. وهذا فيه فضل نظر، فإنه إذا لم يكن للمجني عليه تعلُّقٌ إلا الرقبة، فأي فائدة في رده، والأمر كما نبهنا عليه. فإن قيل: فائدة رده أنه يملك مطالبة العبد إذا عَتَق يوماً. قلنا: هذا سديد، ويلزم منه أن نقول: إذا لم نجعل للعبد ذمةً في الجناية، فلا معنى لهذا الرد أصلاً. فإن قيل: [المالك يبغي] (2) أن يباع ويسلم إليه الثمن، قلنا: فليبعه بنفسه. والمسألة على حالٍ محتملة؛ فإن قاعدة الرد بالعيب ليست مبنية على الأغراض (3). 10566 - ولو جنى العبد على حرٍّ وكان أرشُ الجناية من الإبل، فلو باع السيد العبد من المجني عليه بالأرش، فهل يصح البيع؟ فوجهان؛ بناء على أن الاعتياض من إبل الدية هل يجوز أم لا؟ وفيه خلاف سأذكره، إن شاء الله تعالى. ثم الترتيب: أنا إن جوزنا الاعتياض، ففي جواز بيع العبد بأرشٍ هو من الإبل من المجني عليه وجهان: أحدهما - لا يجوز الاعتياض عنه. والثاني - يجوز؛ فإن هذه المعاملة ليست لإيفاء أرش أو استيفاء، وإنما هو لسراية الدية والإبراء عن الأروش من الإبل جائز. ومن نظائر ذلك أن المرأة إذا جنت على رجل جناية أرشها خمسٌ من الإبل، فلو نكحها بالأرش، ففي صحة الصداق الخلاف الذي ذكرناه في بيع العبد من المجني عليه بالأرش الذي في رقبته.

_ (1) في الأصل: "وللمولى". (2) مكان كلمة غير مقروءة رسمت هكذا: (الما ـ ـعى) وبدون نقط. (3) عبارة الرافعي: "فحق الرد بالعيب ولاية شرعية، لا يبنى على مثل هذه الأغراض" (ر. الشرح الكبير: 10/ 308).

هذا آخر مسائل (السواد) (1) في القصاص (2)، وقد تقع في مسائل الديات جملٌ من أحكام القصاص، لم نُرد ذكرها، لأن الغالب عليها أحكام الدية، [وقد أجرينا جملاً] (3) من أحكام الديات في القصاص، لأن الغالب عليها أحكام القصاص. فرع: 10567 - لا أثر للالتجاء إلى [الحرم] (4) في ترك الاقتصاص، فلا [يعيذُ الحرم] (5) مستوجبَ عقوبة سواء كانت قصاصاًً أو [حدّاً] (6)، وسواء كان في الطرف أو النفس، وخلاف أبي حنيفة (7) في هذا مشهور. ولو لاذ من عليه القصاص بالمسجد الحرام أو غيره من المساجد، فلا يقتص منه في المسجد ولكن نخرجه. وأسرف بعض الأصحاب، فقال: لو أراد صاحب الأمر أن يقيم الهيبةَ، ويقتصَّ في المسجد ببسط [الأنطاع] (8) وتَوْقية المسجد عن التلويث، فلا بأس، وهذا ليس بشيء. ثم إذا كان لا يتوقع التلويث بالأسباب التي ذكرناها، فلست أدري أن الاستقادة [محرمة] (9) في المسجد أو مكروهة. ...

_ (1) في الأصل: "الشواذ". وهو تصحيف تكرر أكثر من مرة. (2) هنا يؤكد الإمام صحة تعليقنا في الحاشية رقم (7) (ص 145) الذي قلنا فيه: إن الإمام عاد إلى مسائل القصاص بعد أن ترجم لكتاب الديات، واستغرقت هذه المسائل من (ص 145) إلى هنا (ص 306) وهذا كله من أثر التزام الإمام بترتيب السواد. (3) في الأصل: "وهذا إذا أجرينا جملاً ... إلى آخره". (4) في الأصل: "الجرح". (5) في الأصل: "يعد الجرح". (6) غير مقروءة بالأصل. (7) ر. رؤوس المسائل: 468 مسألة 333، طريقة الخلاف: 502 مسألة 200. (8) في الأصل: "الأقطاع". (9) في الأصل: "مجرية".

[باب] [أسنان الإبل المغلظة والعمد وكيف يشبه العمد الخطأ]

[باب] [أسنان الإبل المغلظة والعمد وكيف يشبه العمد الخطأ] (1) الجناية على ثلاثة أقسام: أحدها - العمد المحض، وهو تعمد القتل بما يُقصد به القتل غالباًً. والثاني - الخطأ المحض، وتصويره من غير تردد فيه: إذا [رمى] (2) إلى غرضٍ، فاعترض آدمي فأصابه السهمُ، أو انقلبت يد الرامي ومال السهم. هذا وما في معناه هو الخطأ، وضبط القول فيه ألا يقصد الشخصَ الذي يصيبه الجرحُ، وسنذكر ما فيه كلام في تصوير الخطأ. والثالث- أن يقصد المجني عليه، ولكن لا يقصد قتله، بل يقصد ضربه بما لا يُقصد به القتل غالباًً، [فيتّفق] (3) منه [القتل] (4). وأما موضع التردد في تصوير الخطأ، فهو أن يترائى للرامي شخصٌ ويحسبه ظبيةً، فيسدد الرامي نحوه؛ فإذا هو إنسان. هذا موضع التأمل. كان شيخي يقطع بأن هذا خطأ محض، إذا لم يُنسب الرامي إلى تقصير، [كأن] (5) رمى في [الصحراء، أو موضع] (6) يندر فيه ثبوت آدمي، وإن طرقه آدمي، كان عابراً.

_ (1) هذا العنوان من "مختصر المزني"، وهو يعود بنا إلى كتاب الديات بعد أن كان الإمام قطع الكلام عنها ودخل في إحكام القصاص كما أشرنا آنفاً. (2) في الأصل: "رضى". (3) في الأصل: "فيبقى". (4) في الأصل: "القاتل". (5) في الأصل: "فإن". (6) في الأصل: "الصحراء ومتصل".

وأنا أقول: قد ثبت اختلاف القول في أن من قصد شخصاً على زي الكفار في دار الحرب حسبه كافراً، فرماه، فإذا هو مسلم، ففي وجوب الدية قولان، وسبب اختلاف القول ظهور عذر الرامي، ثم إن أوجبنا الدية، ففي ضربها على العاقلة وجهان: أحدهما - أنها مضروبة عليهم، وهذا يصرح بأن الشخص قد يقصد ونحكم بأن القتل خطأ، وإنما الخطأ أن يقع فعلٌ من غير قصد إليه، وإذا تحقق القصد إليه وإلى محله، فالفعل عمدٌ، والقصاص مندفع لظهور عذر الفاعل، فإن القصاص مشروع [للزجر] (1)، فمن يعذر في ظنه لا يتأتى زجره. فإذا وضح ذلك، قلنا بعده: قَصْد شخصٍ حيث يظهر العذر بمثابة قصد من يظنه القاصد كافراً، حيث يظهر العذر، غيرَ أن ظهور العذر في دار الحرب [إن] (2) انتهى في قولٍ إلى إسقاط البدل، فلا ينتهي [العذر] (3) في قصد [الجراثيم] (4) والأشخاص إلى هذا المنتهى، والدار دار [حقن] (5) والأمر بالحفظ دائم. ومما يتصل بما ذكرناه أنا إن قدرنا هذا [القتلَ] (6) خطأً محضاً، فسنذكر حكم الخطأ وموجَبه، وإن لم [نقدره] (7) خطأ، [فالمسلك] (8) الذي سلكناه يتضمن التغليظ لا محالة؛ فإن [بدل] (9) شبه العمد مع كونه مغلظاً في نفسه مضروب على العاقلة، فما

_ * تنبيه: نذكّر أن نسخة الأصل وحيدة، فما تراه في الحواشي ليس فروق نسخ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وبحثه. نسأل الله أن يلهمنا الصواب. (1) في الأصل: "للرجوع". (2) زيادة اقضاها السياق. (3) في الأصل: "العفو". (4) في الأصل: "الجزاتم" والمثبت محاولة لتدارك التصحيف بأقرب صورة لما هو مرسوم. والجراثيم -إن صح وضعها هنا- جمع جرثومة، وهي حقيقة الشيء وأصله، والمراد هنا الأجرام والأجسام. والله أعلم. (5) في الأصل: "حفي". (6) في الأصل: "القتيل". (7) في الأصل: "نقدر". (8) في الأصل: "والمسلك". (9) في الأصل: "نزل".

لا يضرب على العاقلة ويضرب على الجاني مع وجود [العاقل] (1) يكون مغلّظاً، ثم أبو حنيفة (2) قال: دية العمد إذا ضربت، ضربت على العامد، وهي مؤجلة عليه، فلو كنا نرى تأجيل دية على جانٍ، لكنا لا نبعد القول في الصورة التي انتهينا إليها، وهي إذا قتل مسلماً في دار الحرب، على ظن أنه كافر أو رمى إلى جرثومةٍ، فإذا هي إنسان. هذا منتهى القول في تقاسيم جهات القتل. 10568 - ونحن نذكر بعدها أحكاماً على الجملة، فيما يتعلق بالتغليظ والتخفيف، فأما موجب العمد المحض، ففيه ثلاث جهات من التغليظ: أحدها - أنه يضرب على الجاني. والثاني - أنه يعجّل لا مَهَل فيه، ولا [أجل] (3) خلافاً لأبي حنيفة (4)، فإنه أجل دية [الابن على الأب] (5) القاتل. والثالث - أنه مثلث، كما سنصفه. وأما الخطأ المحض، ففيه ثلاث جهات من التخفيف، أحدها - أن موجَبه مضروب على العاقلة، والأخرى - أنه مؤجل عليهم، والأخرى - أنه مخمسٌ على ما سنذكره. وأما شبه العمد، فيلحقه تخفيفان: أحدهما - الضرب على العاقلة، والآخر - أنه مؤجل، ويلحقه تغليظ، وهو [أنه] (6) مثلث كالعمد المحض. وأصل التغليظ بطريق [التثليث] (7) منصوص عليه، قال صلى الله عليه وسلم: "ألا إن قتل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا، فيه مائة من الأبل أربعون منها خَلِفة في بطونها أولادها" (8) ويقرِّب القولَ من جهة المعنى أن شبه العمد مردَّدٌ بين الخطأ والعمد

_ (1) في الأصل: "العاقد". (2) ر. مختصر الطحاوي: 232، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 93 مسألة 2218. (3) في الأصل: " أصل ". (4) ر. تحفة الفقهاء: 3/ 119، الفتاوى الهندية: 6/ 24. (5) في الأصل: " الامر على أثر " كذا تماماًً والمثبت مما حكاه الرافعي عن أبي حنيفة (ر. الشرح الكبير: 319/ 10). (6) زيادة من المحقق. (7) في الأصل: " الثلث ". (8) حديث " ألا إن قتل عمد الخطأ، قتيل السوط ... " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن

المحض، فينبغي أن يكسب من كلِّ أصل شبهاً، ويبعد أن يشبه بموجب العمد في [الضرب] (1) على الجاني مع أنه لم يقصد القتل، ويبعد رفع الأجل، وإثبات بدله معجلاً على العاقلة، ويبعد إلحاقه بالخطأ من كل وجه، فإذا تحمّل العاقلةُ الأصلَ، لم يبعد تحملهم مزيدَ صفة. 10569 - والآن نذكر التخميس والتثليث، فأما الدية المخمسة، فهي التي تتعلق بخمسة أسباب، وقد يكون واحدٌ من الخمسة صنفاً متميزاً بصفة لا تميز، فإذا نوجب مائة من الإبل في قتل الخطأ، فعشرون منها بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة، فالمائة مخمسة: أربعة منها في تفاوت الأسنان، وواحد في الذكورة. وأما المثلث فَنِصفُه في المائة من الإبل، فإذا وجبت عن عمدٍ محضٍ أو شبه عمد، فثلاثون منها حِقَّة، وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة في بطونها أولادها. وإذا نسبنا التثليث، لم تكن الأقسام على تعديل التثليث، بخلاف البدل المخمس؛ فإنه على تعديل التخميس في الأعداد. والنسبةُ المرعية في التثليث [بالأعشار] (2) فثلاثة [أعشار] البدل المغلظ حقاق، وثلاثة [أعشارها] (3) الأجذاع، وأربعة [أعشارها] (4) خَلِفة أثم إن هذه النسب، (5) [التي تكون في الإبل، وهي مائةٌ في الدية الكاملة، تكون في الإبل في دية المرأة] (6)، وفي أروش الجنايات. وإن اقتضى الحساب

_ = حبان (وصححه)، ونقل الحافظ عن (ابن القطان) تصحيح الحديث. (ر. أبو داود: الديات، باب في دية الخطأ شبه العمد ح 4588، النسائي: القسامة، باب من قتل بحجر أو سوط، ح 4789، 4790، ابن ماجه: الديات، باب دية شبه العمد مغلظة، ح 2627، ابن حبان: رقم 5979، تلخيص الحبير: 4/ 30 حديث رقم 1872). (1) في الأصل: " القرب ". (2) في الأصل: "بالاعتبار". (3) في الأصل: "اعتبار". (4) في الأصل: "اعتبارها". (5) في الأصل: " ان تم هذه النسب ". (6) عبارة الأصل: "في الإبل التي تكون في الإبل، وهي مائة في الدية الكاملة في دية المرأة ... " والمثبت من تصرف المحقق.

تشقيصاً ألزمناه، ولم نبالِ به، [فإذا] (1) وجب على الشاج خمسٌ من الإبل، وكان فعله عمداً [فيجب حِقّة ونصف، وجَذَعة ونصف، وخَلِفتان] (2) في هذه بسبب التثليث. ثم ذكر الشافعي الخَلِفات في هذا الباب، فنتحرى ونذكر ما يتعلق بها، وذكر الأجناس المطلوبة في الباب الذي يلي هذا. 10570 - فأما الخَلِفات، فهي الحوامل والغالب أنه لا تحمل إلا الثنية، وهي فوق الجذعة بسنة، وليست من أسنان الذكورة. نعم هذا السن هو المعتبر في الإجزاء في [الضحية] (3)، فلو فرضت [الخَلِفات فوق] (4) الثنايا، فمزيد خير، وإن فرضت الخلفات [جذاعاً على ندور، فهل] (5) تجزىء؟ ذكر العراقيون وجهين: أصحهما - أنها تجزىء، وهو قياس طريق المراوزة، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخَلِفات، ولم يرع شيئاً (6)، فينبغي أن يعتبر الحمل فحَسْب. والوجه الثاني - أنها لا تقبل، لندور هذه الصفة فيها، وقد يُظن أن [أجنتها] (7) لا تبقى إذا اتفق الحمل بها [قبل السن] (8) المعتاد في الحمل. وهذا الخلاف الذي أطلقوه فيه فضل نظر، وسأذكره على أثر هذا. ثم الرجوع في كون الأربعين خَلِفات إلى أهل البصيرة، ولا يكاد يخفى مخايل الحمل عندهم. ولو تنازع الجاني والولي، رجعنا إلى أهل البصيرة، ثم نبغي اثنين

_ (1) في الأصل: "وإذا". (2) في الأصل: "فيجب حقة ونصف جذعة وحقتان" وهو جمعٌ بين التصحيف والسقط. (3) في الأصل: "الصحة". (4) في الأصل: "الخلفات إلا فوق". (5) في الأصل غير مقروءة هذه الكلمات، ولكن استطعنا على ضوء المعنى، وأطراف الحروف والكلمات المتداخلة أن نقرأها هكذا. وهي كذلك بيقين -إن شاء الله- والمعنى لو فرض أن كانت الخلفات أصغر من السنّ المعهودة في الحمل، فهل تقبل. (6) أي لم يقيدها صلى الله عليه وسلم إلا بقيد الحمل، ولم يذكر لها سنَّاً معيناً. (7) في الأصل: "احمها". (كذا تماماًً). (8) في الأصل: "قيل أيسر".

منهم عند فرض التنازع، كما نطلب مقوِّمَيْن عند الاختلاف في مقدار القيمة، فلو أخذ الولي الأربعين على تقدير أنها خَلِفات، ثم جاء بها، وقال: ليس خلفات، [فإن] (1) تحققنا أنها لم تُجهض، رجعنا إلى قول أصحاب البصائر، فإن قالوا: إنها خلِفات، انقطعت الطلبة في الحال، ثم ننظر ما يكون، وإن قالوا: ليس خلفات، طالب بالخلفات ورد ما أخذ، وإن قالوا: لا ندري أهن خلفات أم لا؟ فقال الجاني: ترفقوا إلى أمدٍ يتبين كونهن خلفات في مثله، لم يُجب إلى ذلك، ودامت عليه الطّلبة بأداء إبلٍ يظهر كونهن خلِفات. فإن قال الجاني: قد أَجْهَضْن، واحتمل ما قال، وقال الولي: ما أجهضن، واحتمل ما قال، فالقول قولُ مَنْ؟ قاعدة المذهب: أن أَخْذهن إن كان بقول الجاني (2)، فالقول قول الولي، وإن كان بقول أهل البصائر، ثم وقع التنازع كما وصفناه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القول قول الجاني، لأنا أسندنا الأمر إلى قول من يعتبر قوله. والثاني - أن القول قول الولي، فإنه المستحِق، ولا يسقط حقه بظنٍّ وتخمين، وقول ذوي البصائر تخمين في هذا الباب. ومن تمام القول في الفصل أن الجاني والولي لو تنازعا في صفة الإبل حالة الأخذ: فزعم الجاني الإبل خَلِفات، وأبى الولي ذلك، ورجعنا إلى قول أهل البصائر، [فإذا] (3) قال اثنان منهم: إنها حوامل، فقال الولي: لستم تقطعون بذلك، فلا أعوّل على قولكم، فلا خلاف أنه محمول على [الصبر إلى أن يتبين] (4) الأمر؛ فإن أقصى الإمكان هذا. وقد انتهى الغرض في الخلفات، ونصُّ الشافعي ظاهرٌ في [أنهن لو حملن جذاعاً،

_ (1) في الأصل: "وإن". (2) المعنى: أن أخذ الولي الخلفات كان بناء على قول الجانىِ، ولم يراجع أهل البصائر عند الأخذ. (3) في الأصل: "وإذا". (4) غير مقروءة في الأصل، ورسمت هكذا ... محمول على الصرا ان تبين الأمر (تماماًً) والمثبت من تعديل وزيادة هو من عمل المحقق.

قُبلن] (1) ولفظ (السواد) (2): "والخَلِفة الحامل، وقلّما تحمل إلا ثنية فصاعداً، فأية ناقة من إبل العاقلة حملت، فهي خَلِفة تُجزىء في الدية ما لم تكن معيبة" (3). وسنتكلم في المعيب والسليم في الباب الذي يلي هذا عند ذكرنا تصنيف الإبل. فصل "وكلذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذي الرحم ... إلى آخره" (4). 10571 - إذا وقع القتل خطأ محضاً، فقد يُغلّظ بدلُه بأحد ثلاثة أسباب: أحدها - أن يقع في البلد الحرام، وهو حرم مكة، وأرجاؤه معلوم بأعلام [معروفة] (5). هذا أحد الأسباب، فإذا اتفق القتل الخطأ، غُلّظ البدل تغليظَ بدل شبه العمد. والسبب الثاني - أن يتفق القتل في الأشهر الحرم: ثلاث منهن سرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وواحد فردٌ، وهو رجب. فإذا وقع القتل في هذه الأشهر، تغلّظت الدية [بشبه] (6) العمد. والسبب الثالث - أن يقتل الإنسان خطأ ذا رحم. ثم معظم الطرق تشير إلى اعتبار المحرمية مع الرحم، وهو المنقول عن القاضي، والمذكور في بعض التصانيف، وكان شيخي يميل إلى أن الرحم المجرد كافٍ في اقتضاء التغليظ، والأحاديث المستحثة على تعظيم الرحم ترد مطلقة من غير تقييد

_ (1) عبارة الأصل رسمت هكذا: " ... ظاهرٌ فى أن لو حملن عـ ـان ولفظ الشواذ ... " كذا تماماً. (2) في الأصل: "الشواذ". وهو تصحيف تكرر كثيراً، والسواد هو مختصر المزني، يؤكد ذلك هذا السياق، فالعبارة المشار إليها فى المختصر بلفظها. (3) ر. المختصر: 5/ 126. (4) ر. المختصر: 5/ 127. (5) في الأصل كلمة غير مقروءة، لم نعرف لها معنى ولا وجهاً (انظر صورتها) والمثبت من المحقق، ولكن لم نستطع أن نجد كلمة تقرب صورتها من التي في الأصل. (6) في الأصل: "بسبب".

بالمحرمية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى أنا الرحمن، وهذه الرحم شققت لها اسماً [من اسمي] (1) فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته" (2) ونص الشافعي في (السواد) مطلق، كما حكيناه في صدر الفصل، والعلم عند الله. وإذا اجتمعت هذه الأسباب، وانضم إليها شبه العمد، وحقيقة العمد، فلا مزيد في تغليظ الكيفية على ما ذكرناه. ومعتمد الشافعي رضي الله عنه في التغليظ بهذه الأسباب الآثار، وقد روي أن ابن عباس قال فيمن قتل شخصاً في البلد الحرام في الشهر الحرام: "عليه عشرون ألف درهم: اثنا عشر ألفاً أصل الدية، [وأربعة آلاف للبلد الحرام] (3) وأربعة آلاف للأشهر الحرم" (4) فتضمن كلامه تضعيف التغليظ (5) في الدراهم، فأما تضعيف التغليظ فلم يره أحد من أصحابنا. 10572 - وأما التغليظ والواجب دراهم، فالذي ذهب إليه الجماهير أنه لا تغليظ في مقدارٍ إلا في الإبل. ومن أصحابنا من أثبت التغليظ مقدراً بأربعة آلاف، واتبع ابن عباس فيه، وهذا ارتكبه بعض أئمة الخلاف، ولم [يُعْنَ] (6) غير القاضي من أئمة المذهب بنقله.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) حديث "أنا الرحمن خلقت الرحم ... " رواه أبو داود، والترمذي، والبخاري في الأدب المفرد، وأحمد، والحاكم، والبيهقي كلهم من حديث عبد الرحمن بن عوف (ر. أبو داود: الزكاة، باب في صلة الرحم، ح 1694، الترمذي: البر الصلة، باب ما جاء في قطيعة الرحم، ح 1907، صحيح الأدب المفرد: ح 53، المسند: 1/ 194، الحاكم: 4/ 157، السنن الكبرى: 7/ 26). (3) في الأصل: "الألف للبلد الحرام". (4) حديث ابن عباس رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (7657)، والبيهقي في سننه الكبرى (8/ 71)، وفي معرفة السنن والآثار (4877). وقد ضعفه الألباني في إرواء الغليل 7/ 311. (5) تضعيف التغليظ: أي غلظ الدية مرتين، مرة للبلد الحرام، ومرة للشهر الحرام، وكل منهما ثلث دية. (6) في الأصل: "يعين".

فإن قيل: لم قطعتم بمخالفته [في] (1) تضعيف التغليظ [وترددتم] (2) في تغليظ الدراهم؟ قلنا: الصحابي لا يُقدِّر من [عند نفسه؛ فاتبعناه فيما صدر قوله عن توقيف] (3)، أما تضعيف التغليظ، فلا يبعد أن يكون صدَرُه عن رأي، [وما كان] (4) كذلك، فقول الصحابي [فيه] (5) غير متبع في الرأي الظاهر لصاحب المذهب، ثم طرد القاضي هذين الوجهين في التغليظ، إذا أوجبنا الدراهم، وسبب التغليظ شبه العمد أو العمد المحض؛ فإن ما يجري في سبب من أسباب التغليظ يجري في [غيره] (6) من الأسباب، والقياسُ ما ذكرناه، ولكن أصل الخلاف لا مستند له، ولسنا ننكر ظهور القياس في التغليظ عند إيجاب الدراهم المقدّرة أن يبعُد في طريق الرأي أن نُغلّظَ بدلاً في جهة، ولا نغلّظ بدلاً آخر مع اتحاد المبدل. 10573 - وإذا اتفق القتل في حرم المدينة، ففي التغليظ خلافٌ مشهور، وهو مأخوذ من قول العلماء في ضمان صيد المدينة. وظاهر المذهب أن القتل في الإحرام لا يوجب التغليظ، وإن كان يُثبت حرمةَ الصيد، وذهب بعض أصحابنا إلى أن ذلك يقتضي التغليظ، وهذا الوجه نسبه القاضي إلى شيخ من شيوخ المذهب يعرف [بأبي الفياض] (7)، ثم إن أثّر الإحرام، فالمعتبر إحرام القاتل لا محالة.

_ (1) في الأصل: "من". (2) في الأصل: "وترديد". (3) عبارة الأصل: " ... من واتبعناه ما صدر قوله عن توقيف". (4) في الأصل: "وفا كان". (5) في الأصل: "عنه". (6) في الأصل: "عدّه". (7) ما بين المعقفين جاء في الأصل هكذا: "ابن القـ ـاض" بالقاف المثناة بعدها حرف غير منقوط، بعده ألف مدّ بعدها ضاد معجمة. فبحثنا في كتب المذهب لنضبط ونصحح هذا الاسم الذي يُحكى عنه هذا الوجه، فوجدنا الرافعي يحكيه صراحة عن (ابن القاص) ونص عبارته: "وهل تتغلظ الدية بوقوع القتل في الإحرام؛ فيه قولان: أحدهما -وبه قال أحمد- نعم .... وحُكي هذا عن ابن القاص" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 10/ 315)؛ فصح عندنا أن الصواب هو [ابن القاص] وكيف لا. وقد قطع الرافعيُّ قول كل خطيب، ولم يعكّر =

فإذا قطعنا بالتغليظ بسبب القتل في الحرم: حرم مكة، فالوجه أن نعتبر ما نعتبره في طريق ضمان الصيد، حتى لو كان الرامي في الحرم، والمقتول في الحلّ، أو على العكس، تغلّظت الدية، ولو زعم زاعم أن الرجوع في ذلك إلى الأثر، وقد قال عثمان (1) في امرأة وُطئت بالأقدام في الطواف، ما قال، فكأنه (2) للقتيلة في الحرم، قيل له: هذا

_ = على ذلك إلا سياقةُ الحكاية عن (ابن القاص) وكأنه منكور غير معروف، برغم تكرار وروده في كل باب من الأبواب على طول المجلدات الأحد عشر. ومن أجل هذا -عند مراجعة تجارب الطباعة- عدت إلى غير الرافعي أبحث عمن يحكون هذا القول، فوجدت البغوي قال بالوجه المعتمد، ولم يُشر إلى هذا الوجه -الذي نبحث عن صاحبه- أصلا (ر. التهذيب: 7/ 137) وأما العمراني، فقد حكى القول ولكن لم يقل لنا عمّن يحكيه (ر. البيان: 11/ 486) فرجعنا إلى مخطوطة البسيط، فوجدنا الغزالي يقول: " وأما الإحرام من القاتل، فلا يوجب تغليظ الدية .... وحكى القاضي عن (أبي الفياض)، وهو من شيوخ المذهب أن الإحرام يلتحق به (أي الحرم) " (ر. البسيط: جـ 5 ورقة 32 يسار). فقطع الغزالي قول الرافعي، وعبارته هي عبارة شيخه بألفاظها، فعدلنا عما كان ترجح لدينا وأثبتنا مكانه [أبي الفياض] مطمئنين واثقين بحمد الله. ويبقى النظر في إسناد الرافعي القول إلى [ابن القاص] لا سيما أن هذا القول ليس موجوداً في التلخيص الذي بأيدينا، فهل هو تصحيف أيضاً، أم وهم، أم صواب، وقاله ابن القاص في كتاب آخر؟؟ الله أعلم. أما ترجمة أبي الفياض فهو أبو الفياض البصري، محمد بن الحسن بن المنتصر البصري. من أعيان تلاميذ القاضي أبي حامد المرورُّوذي وصاحبه، أخذ عنه فقهاء البصرة، ومن أخص تلاميذه أبو القاسم الصيمري. ومن تصانيفه (اللاحق بالجامع) الذي صنفه شيخه وهو تتمة له. نقل عنه الرافعي في أوائل الحيض في الكلام على الاستمتاع بالحائض فيما بين السرة والركبة، ونقل عنه في غيره أيضاًَ. قال ابن قاضي شهبة: " لا يُعرف وقت وفاته ولذا ذكرته فيمن توفي في العشرين الخامسة من المائة الرابعة؛ فإن تلميذه الصيمري ياتي في الطبقة الآتية ". (ر. طبقات الفقهاء للشيرازي: ص 119، طبقات ابن الصلاح: 1/ 146، الإسنوي: 1/ 192، ابن قاضي شهبة: ترجمة رقم 123، طبقات ابن كثير: 2/ 867، ابن هداية: 116). (1) أثر عثمان رضي الله عنه: "أنه قضى في امرأة وطئت بمكة بدية وثلث"، رواه البيهقي في سننه الكبرى (8/ 71) وفي معرفة السنن والآثار (ح 4877). (2) فكأنه للقتيلة في الحرم: أي كأن التغليظ يكون حيث كان القاتل والمقتول في الحرم، هذا معنى قول الزاعم.

[باب] [أسنان الخطأ وتقويمها، وديات النفوس والجراح]

لا يدفع ما ذكرنا، فإن مضمون الأثر مقول به، ولا وجه إلا ما ذكرناه من اعتبار طريق [وجوب] (1) ضمان الصيد. [باب] [أسنان الخطأ وتقويمها، وديات النفوس والجراح] (2) 10574 - قال: [فهذا وجه دلالة الآية (3) والخبر (4) اللذين صدر بهما الباب] (5)، وغرضه أن يبين أن الأصل في الدية الإبل، هذا مذهبه الصحيح المنصوص عليه في الجديد، فالدية الكاملة مائة من الإبل، وقد ذكرنا في الباب السابق أسنانها، ووقوعَها مغلّظةَ ومخفّفة وهذا أوان ذكرنا الأصناف؛ فإن الأغراض تختلف بها اختلافاً بيّناً، وقد يزيد أثرها على التفاوت بالضِّعف، وهذا من مواقف النظر. والوجه أن نذكر سبب التردد والإشكال، ثم نبيّن الممكن: أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبل، ولم يتعرض للأصناف وأنها (مهرية) أو (أَرْحَبيّة) أو (مُجَيْديّة) أو (بُختيّة) (6) ولا يزلّ عن ذكر كل ذاكر عند ترديده الكلامَ في الإبل تفاوت أصنافها، فليس هذا مما يحتاج إلى ردّ الفكر إليه، وقد أطلق الرسول

_ (1) في الأصل: "يوجب". (2) مكان بياض بالأصل، وأثبتناه من "مختصر المزني". (3) الآية هي قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. (4) الخبر أشار إليه الشافعي بقوله: "فأبان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن الدية مائة من الإبل، وروي عن سليمان بن يسار قال: إنهم كانوا يقولون: دية الخطأ مائة من الابل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة". (5) عبارة الأصل: "فهذا راحه مر ـد الآية والخبر الذي صدر بهما الباب" (كذا تماماً) والمثبت محاولة من المحقق لإقامة النص. وقوله: (فهذا) إشارة إلى مضمون الباب الآتي بعد هذا. (6) سبق أن بينا هذه الأصناف في كتاب الزكاة.

صلى الله عليه وسلم، ولم يفصل الأصناف، وكان [لولا] (1) الإجماع يحتمل أن يكتفى بكل صنف [يجد] (2) المعطي. ويشترط السلامة من العيوب اللازمة لمقصود الباب؛ فإن المطلق محمولٌ في وضع الشرع على السليم، والعبد الذي يجب إعتاقه [في] (3) الكفارة ليس عوضاً، وثبوته [مطلق] (4) في الكتاب، وهو محمول على رعاية السلامة في الوجه اللائق لمقصود التحرير، والإطلاق عن [الأسْر] (5). 10575 - وقد يخطر للفقيه أن الدية عوضُ متلَفٍ، ولا يجوز ثبوت [التخيّر] (6) فيها بين الشيء وضعفه، هذا وجهٌ. والإبل تختلف قيمتها [باختلاف] (7) الأزمان والمكان وثبوت بدل [الجناية] (8) إلى توقيف الشرع، ويتأبّى (9) عن التفاوت الراجع إلى الزمان والمكان. فهذا يبيّن للناظر أنه واقف في محل النظر. والذي تحصّل لنا من كلام الأصحاب في ذلك أن الذي يجب عليه جانياً كان أو عاقلةً، إذا لم يكن له إبل، فالمعتبر إبلُ الناحية والقُطر الذي هو [منسوب] (10) إليه، وقد يُطلِق الشافعي رضي الله عنه إبلَ القبيلة، هذا أصلٌ متفق عليه إلى أن نفصّله. ومأخذه أن كل قوم مخاطبون بإخراج الإبل، وأقرب الأمور تنزيل الخطاب على المعتاد عندهم، ولو كان المخاطب ببذل الدية من حُرٍّ شريف أو خسيس، فإن كان

_ (1) في الأصل: "أولا". (2) في الأصل: "ويجد". (3) في الأصل: "من". (4) في الأصل: "ينطلق". (5) في الأصل: "الآيس". (6) في الأصل: "المخبر". (7) في الأصل: "واختلاف". (8) في الأصل: "الحرية". (9) ويتابّى: "أي يستعصي". (10) في الأصل: "متشوف".

ذلك الجنس هو الجنس العام في الناحية أو القبيلة، فلا كلام، وإن كان ذلك الجنس يخالف [جنس] (1) الإبل العام لشرفٍ أو نقيصة، فالذي أشار إليه العراقيون وبعض المصنفين أنا نطالبه بالصنف الذي [يملكه] (2)، ولا نعدل عنه إلى الإبل العام، وهذا مشكل، والقطع به لا وجه له. وأقرب ما يتوجه به كلام هؤلاء النظر إلى ما يخرجه صاحب القُطر من أجناس الأقوات، وفيه خلاف ذكرناه في موضعه: من أصحابنا من يرعى القوت العام، ومنهم من يوجب على كل شخص أن يُخرج من قوته الذي يليق به. وإسقاطُ اعتبار أحوال الأشخاص وردُّ الأمر إلى الإبل العامّ أوْجَه في الديات؛ من جهة أنها أعواض، والأولى تنزيلها على ما يعم وجودُه، والمصير إلى اعتبار حال المتلِف بعيد فيه، والأقوات إن اعتبر فيها أحوال الأشخاص، فذاك أن [الفِطرة] (3) أوجبها الله تعالى [قُربة] (4) ابتداء على قدر القدرة، وأصلُها يسقط بالعجز في وقت الوجوب، ولا يبعد أن يُعتبر منها حال كل شخص، والدية بخلاف ذلك، فالوجه ردُّ الأمر إلى الإبل الموجودة في الموضع، وإلى هذا صار المحققون من المراوزة. وفي نص الشافعي ما يدل على مطابقة ما حكيناه عن طريقة العراق. 10576 - ونحن ننقل لفظ (السواد) ونحرص على تأويله. قال: "ولا يكلَّف أحد من العاقلة غيرَ إبله" (5) أراد إبلَ قبيلته، ولا يبعد إضافةُ إبلِ القبيلة إلى الشخص، كما يقول النيسابوري، [وما ـرا ـا أبا أشرف وأفضل] (6)، وهذا سائغ في الكلام مبادرٌ إلى الفهم، وشهد له أنه قال على إثر هذا: "وإن لم يكن ببلده إبل" ولو كان يريد

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "ملكه". (3) في الأصل: "الفطن". (4) في الأصل: "قوية". (5) ر. المختصر: 5/ 128. (6) ما بين المعقفين رسم هكذا تماماًً. وكأنه مقحم في غير موضعه؛ فبدونه يستقيم الكلام تماماً. والله أعلم.

بإضافة الإبل إليه [أوّلاً إضافةَ] (1) الملك، [لكان] (2) نظم الكلام يقتضي أن يقول: إن لم يكن في ملكه إبل، فإبل بلده، وإن لم يكن ببلده إبل، فإبل أقرب البلدان. وأما قوله آخراً: "فإن كانت إبل العاقلة مختلفة" أراد إذا كانت العواقل من قبائلَ مختلفةٍ اعتُبر إبلُ القبائل. هذا وضعُ الكلام، والرجوع بعده إلى اعتبار إبل البلدة أو القبيلة. هذا أصل المذهب. وأما إبل البلدة، فبيّن، وأما القبيلة التي يعنيها بالبلدة، فيعني بها قبائل العرب الناوية (3)، وهي تنتوي ولا تستقر في [قُطر] (4) ... ، فإبلها [التي] (5) تسايرها (6). فإن غلب صنف، علقنا الحكم به، وإن غلب صنفان أو أكثر، ولم يكن صنف واحد بحيث نحكم عليه بالغلبة، فالذي رأيت صغواً إليه أن الخيرة -والحالة هذه- إلى المعطي، لا إلى الطالب، فليفهم الناظر ما انتهى إليه. وإن عدمنا الإبلَ في الناحية، لزم الرجوع إلى صنفٍ من الإبل في أقرب البلدان إلى تلك البلدة، هذا إذا كان التحصيل غير متعذر. فإن تعذر النقل والتحصيل، وكان لا يتأتى ذلك إلا بمشقات، فيعدل عن الإبل كما سنصف ذلك عند نجاز الكلام، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: "أو لإضافة". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) الناوية أي التي تتحول من مكان إلى آخر ولا يدوم لها استقرار (المعجم). (4) في الأصل: "نطر". (5) عبارة الأصل: "ولا تستقر في نطر [والعره] فإبلها إلى تسايرها" فصوبنا ما عرفنا له وجهاً، على قدر الوسع ورفعنا الكلمة بين المعقفين من الصلب، وهي بهذا الرسم تماماً، ولم أدر لها وجهاً. (6) عبارة الغزالي في البسيط تؤكد هذا المعنى، فهو يقول: وقول الشافعي: "إذا كانت إبل العاقلة مختلفة" أراد إبل القبائل؛ لأن سكان البوادي منهم لا يستقرون حتى ننظر إلى الغالب ببلدهم ومسكنهم بل يسيرون، فيُخرج كل واحد مما يغلب في قبيلته وهو الصنف الذي يسير معهم، والقبيلة في حقهم كالبلدة في حق السكان، وهم طبقة السائرين والمترددين في البوادي (ر. البسيط: جزء (5) لوحة: 47 يمين).

وهذا موقف آخر محوج إلى نظر يجمع سرَّ الكلام، فما المعتبر في [المشقة] (1)؟ ولا شك أن أدناها لا يُسقط الطّلبة بالإبل، وليس ينضبط أقصى المشقات، فما الوجه؟ قلنا: اعتقدنا التعذر على المذهب الجديد، فرجعنا إلى قيمة الإبل لا غيرها، فنعتبر ذلك المبلغ [فننظر] (2) إلى ما يحتاج إلى بذله لنقل الإبل، فإن كان لا يزيد على قيمة [المثل] (3) في مكان المطالبة، فيلزم تحصيل الإبل، وإن كانت مؤنة النقل تزيد زيادةً ظاهرةً، يعتبر مثلُها غبينة في الإبل لو حضرت، [فلا يلزم] (4) نقلُها والحالة هذه؛ فإن هذا ضمُّ [غُرم] (5)، فليكن الاعتبار بما وصفناه. 10577 - ولو قال مستحق الدية: لست أطالبك الآن وأصبر إلى تيسر الإبل، فهذا محتمل، والأظهر أن الأمر في ذلك إليه؛ فإن الأصل الإبل، ويتطرق إلى هذا احتمال؛ من جهة أن الدراهم إذا أقرت، [فإنها] (6) ليس كقيمة المثل [عند] (7) عدم المثل؛ إذ لم يصر أحد من أصحابنا [إلى] (8) أن الدراهم إذا بذلت عند تحقق التعذر، ثم فرض وجود الإبل، فلصاحب الحق ردُّ الدراهم والرجوع إلى الإبل، وقد اختلف الأصحاب في أن المثل إذا عدم مثله وصِير إلى القيمة، ثم وجد المثل، فهل نُثبت للمغروم له حق الرد والاسترداد؟ فمن هذا الوجه يجوز أن يقال: للجاني أن يكلفه قبض ما عليه لتبرئة ذمته، فإن هذا لو جرى، انقطعت الطلبات في المآل، وما أذكره تنبيهٌ، وليس يخفى على الفطن وجوه الاحتمال، وسأعضد هذا التنبيهَ بعد هذا، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الأصل: "المسنة". (2) في الأصل: (سطر) هكذا تماماً وبدون نقط. (3) في الأصل: (الغرة)، ولم أصل إلى وجه لها، ولا إلى ما يقاربها في الرسم، وقد مرت آنفاً بهذا الرسم تماماًَ بدون نقط (الغين) ومع طول التأني في قراءة البسيط، والوجيز، والوسيط، والشرح الكبير، والروضة لم أصل إلى وجهٍ لها. (4) في الأصل: "ولا يلزم". (5) في الأصل: "عدم". (6) في الأصل: "وإنها". (7) في الأصل: "على". (8) زيادة من المحقق.

10578 - قال العراقيون: إذا كان للغارم إبل وأصنافها مختلفة، [أخذ] (1) من كل صنفٍ بقسطٍ. وهذا بنَوْه على اعتبار إبل الغارم، وقد ذكرنا مثلَ هذا الطريق عن المذهب. ثم إن كان له ثبوت، فقد ينقدح فيه تخريج قولين: أحدهما - الأخذ من كل صنفٍ كما ذكروه. والثاني - الأخذ من أغلب ملكه إن كان في ملكه أغلب، وقد ذكرنا مثلَ هذين القولين في الزكاة. فإن قيل: إذا [اعتبرتم] (2) إبلَ الناحية وهي أصناف، فهلا خرجتم في كل صنف؟ قلنا: هذا إن كان ينقدح في الملك المحصور، فكيف ينضبط في إبل القطر، وكيف تتجه أقساط [النسب] (3) إلى قيمة الإبل في القول الجديد اعتباراً بوقت [العِزّة] (4). هذا معتمد الشافعي. قال فيما نقله المزني: "فإن أعوزت الإبل، فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قومها عمر رضي الله عنه" (5) قال عطاء: "كانت لإبل حتى قومها عمر رضي الله عنه" (6). قال الشافعي رضي الله عنه: "والعلم يحيط أنه لم يقوّمها إلا قيمةَ يومها" (7). هذا نص الشافعي في لجديد. ونص في القديم على أنا نأخذ في [الذهب] (8) ألف دينار، ومن أهل الورِق اثني عشر ألف درهم، وله في المصير إلى هذا القدر تعلّقٌ بآثار وأخبار ذكرناها في (المسائل) (9).

_ (1) في الأصل: "وأخذ". (2) في الأصل: "أعدتم". (3) في الأصل: "السبب". (4) في الأصل: "العدة". هذا والمراد بالعزّة: الإعواز وعدم القدرة عليها (المصباح). (5) ر. المختصر: 5/ 128. (6) أثر عطاء رواه الشافعي (ترتيب المسند: 2/ 109 رقم 367)، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 76، 77، 95. وانظر التلخيص: 4/ 46 ح 1903. (7) ر. السابق نفسه. (8) في الأصل: "المذهب". (9) المسائل: المراد بها (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية).

واختلف أصحابنا في تنزيل هذا القول، فمنهم من قال: هذا في [عزّة] (1) الإبل، ففي المسألة عند [عزتها] (2) قولان: أحدهما - أن الرجوع إلى قيمة الإبل بالغة ما بلغت. والثاني - أن الرجوع إلى المقدار الشرعي من الدراهم والدنانير. هذا طريق. وذهب بعضُ أصحابنا إلى إجراء القول القديم مع وجود الإبل، وهذا القائل يردّ الأمر إلى [اختيار] (3) الجاني، وفيه بُعد. وإن لم يكن من القول القديم بدّ، فالوجه تخصيصه بحالة الغرم. قال المزني: "رجوعه عن القديم رغبة عنه إلى الجديد، وهو بالسنّة أشبه" (4). ثم الدنانير على قول التقدير من [الذهب] (5) الخالص، وكذلك الدراهم من النقرة الخالصة، ولسنا نقنع [بأحدٍ] (6) من الصنفين حتى يطبع ويسك، والخِيَرة على قول التقدير إلى المعطي بين الدراهم والدنانير، وإن رجعنا إلى قيمة الإبل، فالرجوع إلى النقد الغالب؛ اعتباراً بقيمة المتلفات، وإن غلب النقدان، فالخِيَرةُ إلى الجاني. 10579 - ومن تمام القول في هذا التفصيل: أنا لا نأخذ قطّ معيباً من أصناف الإبل [إلا] (7) أن يرضى المستحق، وإذا كنا نرعى البراءة من العيوب في الرقبة المعتقة في الكفارة، وليست عوضاً، والملك إلى الزوال بالإعتاق، [فلأن نرعى] (8) السلامة عن العيوب في الديات وهي أعواض أولى، غيرَ أن السلامة المرعية في رقبة الكفارة هي السلامة عن العيوب المانعة من الاستقلال المؤثرة في العمل؛ فإن الغرض تخليص عبدٍ عن الرق ليستقل، لا ليصير كلاًّ على المسلم، وكل باب معتبرُه على حسبه.

_ (1) في الأصل: "عدّة". ومعنى عزّة الإبل: عدم القدرة عليها. (المصباح). (2) في الأصل: "عدّتها". (3) في الأصل: "أخبار". (4) ر. المختصر: 5/ 129. (5) في الأصل: "المذهب". (6) في الأصل: "بأكثر". (7) في الأصل: "إلى أن يرضى". (8) في الأصل: "فلأن لا نرعى".

فأما المرعي في عيوب الديات، فما يؤثر في المالية؛ فإنها أعواض، فكل عيب يُثبت الرد في البيع، فالسلامة منه معتبرة. ولو كانت إبل الناحية عجافاً مِراضاً، أو كانت إبلُ الغارم كذلك -إن اعتبرنا ملكه-[عدلنا] (1) عنه، وجعلنا عيبَ الإبل كعدمها، وليس هذا كأخذنا المعيب من الإبل المعيبة في الزكاة؛ فإن الزكاة واجبُ الأموال، فاعتبرت [فيها] (2) صفة الأموال وهذا ظاهر. ثم نقول: إن كانت الدية مخففة، قوّمت على صفاتها، وإن كانت مغلّظة قومت، ثم يظهر التفاوت تغليظاً وتخفيفاً في القيمة، كما كان يظهر في الأصل لو وجد. وإن فرعنا على القديم، ورجعنا إلى المقدّر من الدراهم والدنانير، فالمذهب الأصح أن أثر التغليظ يسقط، وهذا من أصدق ما يدل على فساد هذا القول. وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنا وإن قدّرنا [نزيد للتغليظ] (3) ثلث المقدّر، فيصير الاثنا عشر ستةَ عشرَ ألفاً، أخذاً من قول ابن عباس. وهذا لا أعتد به ولا أعده من المذهب. 10580 - ثم ما ذهب إليه المحققون أنا نغلّظ دية المرأة على [النسبة] (4) المتقدمة، ونغلّظ دية اليهودي، والنصراني، وهذا مجمع عليه بين الأصحاب، والغرض ما وراءه، قال هؤلاء: نغلظ دية المجوسي على قدره، فإنا إذا كنا نغلّظ أروش الجنايات وإن قلّت، فأبدال النفوس ينبغي أن تكون في معناها. وكان شيخي أبو محمد يقول: التغليظ جارٍ في كل ما نطق الشرع فيه بالنسبة والجزئية، وقد ورد في الشرع أن المرأة على النصف من الرجل، واليهودي عند الشافعي على الثلث، ولم يصح في دية المجوسي لفظ النسبة، وإنما اتبع الشافعي قضاء عمر في ديته بثمانمائة درهم. قال رضي الله عنه: "نتبع هذا المقدار،

_ (1) في الأصل: "عدنا". (2) في الأصل: "منها". (3) في الأصل: "مزيد التغليظ". (4) في الأصل: "الستة".

ولا نوجب الأبل، وإن وجدناها" ويتفرع عليه ألا يغلظ، وهذا عندي كذلك (1). والوجه القطع بتنزيل دية المجوسي منزلة سائر الديات في التغليظ والتخفيف، والرجوعُ إلى الإبل عند وجودها، وديتُه ثلث خمس (2) دية المسلم، فإنها لم ترد [بلفظ] (3) النسبة لطول الكلام فيه. فهذا ما نراه مقطوعاً به في الباب، ولم أحك ما ذكرته عن شيخي [إلا] (4) لتعتقدوا أنني نبهت على ما فيه من خلل، والمعتمد إجراء الديات قلّت أو كثرت على وتيرة واحدة في التغليظ والتخفيف، والتقويم والتقدير. نعم، إذا وجب العبدُ غرةً عن الجنين، فذاك لا تفاوت قطعاً، وهذا بدل النفس؛ إذ لا يتصور فيه رعاية التفاوت أعني تفاوت التغليظ والتخفيف، والجناية على الجنين تفرض خطأً وشبهَ عمد، وإذا رجعنا إلى الإبل في بدل الجنين، عاد النظر في التخفيف والتغليظ، كما سيأتي أبدال [الأجنّة] (5). فصل قال: "وفي الموضحة خمسٌ من الأبل ... إلى آخره" (6). 10581 - قد مضى معظم الكلام في الشجّات (7) في كتاب الجراح، فإنا وإن سقناها للقول في القصاص، فقد أتينا في أثناء الكلام بجمل من أحكام الديات، ونحن الآن نذكر ما يتعلق بالأروش في الشجات، وإن مست الحاجة إلى إعادة بعض ما مضى، أعدناه على قدر الحاجة.

_ (1) كلام الشيخ أبي محمد مستمر إلى هنا. (2) ثلث الخمس من دية المسلم، لأن الوارد عن عمر رضي الله عنه أنه جعلها ثمانمائة درهم، فإذا نسبت إلى دية المسلم وهي اثنا عشر ألف درهم، كانت ثلث خمس، أو خمس ثلث. (3) في الأصل: "لفظ". (4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (5) في الأصل: " الامـ ـة ". كذا تماماًَ. (6) ر. المختصر: 5/ 129. (7) كذا. وهو جمع شجة، ولم يأت هنا بالجمع المألوف (شجاج).

والذي يجب تصدير هذا الباب به أن المقادير مستندها توقيف الشارع لا يهتدي إليها رأي، ولا يجري فيها قياس. نعم، قد يتأصل منها أصول، فيلتحق بها من طريق التشبيه والتقريب فروعٌ، وقد اعتمد الشافعي رضي الله عنه في تقدير أروش الأطراف كتابَ عمرو بن حزم، وقد أورد إسحاقُ في مسند عمرو بن حزم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً فيه: [وفي] (1) أصابع اليدين والرجلين في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي الموضِحة خمسٌ من الإبل، وفي الجائفة الثلث، وفي المأمومة الثلث، وفي الأنف إذا [أُوعي] (2) جدعاً مائةٌ من الإبل، وفي اليد خمسون من الإبل" (3). فيثبت من جهة النص تقدير أرش الموضحة بالخمس من الإبل، وهي إذا نسبت إلى الدية الكاملة، وقعت نصفَ عشرها، فالواجب في الموضحة من كل شخص نصفُ عشر ديته، على اختلاف المقادير، ولا حاجة إلى ذكر الديات في هذا الفصل. ثم الكلام متعلق في الشجات وأروشها بأصولٍ لا بد من تفصيلها، ونحن نأتي بها مفصلة: الأول، فالأول. 10582 - فأهم ما نبتديه ذكر محل الموضِحة وفي كلامٍ كيِّسٍ (4): وقد تحقق لنا من مجموع كلامهم أن الموضحة محلها كُرةُ الرأس، ومنها الوجه، وهي مركبة على السالفة، وكل عظم اتصل بالجرح من القمة إلى تركّب الكرة، فهو موضِحة، وتفصيل ذلك: أما الأجزاء الثلاثة المشهورة من الرأس، فلا حاجة إلى ذكرها: كالهامة والفَوْدَيْن (5) والقَذال والناصية، [وما] (6) يتصل باستواء القفا في منحدر القَمَحْدُوة إذا

_ (1) في الأصل: "وفيه". (2) في الأصل: "أوجب". وأوعى جَدْعَه: أوعبه: أي استأصله. (المعجم). (3) حديث عمرو بن حزم في الديات سبق تخريجه. (4) كيّسٍ: صفة لـ (كلام) أي سيأتي ذكره لمحل الموضحة في كلام ذكي. (5) زاد (الفودين) على الثلاثة التي أشار إليها، ولم يذكرالغزالي في (البسيط) الفودين. إلا إذا اعتبرنا (الفودين والهامة) جزءا واحدا. (6) في الأصل: "ومما".

اتضح العظم منه، فموضِحة، وهذه المواضع إذا عمرتها (1) [استبنت] (2) العظمَ في محل العَمْر، وما ينطبق عليه صدفة الأذن عظمة صلبة تسمى الخُششاء، كل ذلك محل الإيضاح، وليس من الرأس في أحكامٍ [كالستر] (3) على المحرم، ومحل المسح من الرأس، وإذا تعدى تصور الإيضاح إلى الوجه والوجنة واللِّحى، فما ذكرته إشكال، ومحل الإيضاح من الوجه بيّن: [منه] (4) الوجنة والجبينان، [والجبهة] (5)، وقصبة الأنف، واللحيان [في جهة] (6) المقابلة [ومن جهة تحت] (7)، فهذا بيان محل الموضحة تفصيلاً وضبطاً. وأما الرقبة نفسها، فالعظم الخصِّيص بها فقراتٌ يحيط بها الحلقوم، والمريء، والأوداج، من جهة المقابلة، والأعصاب والشجاج من جهة الفقار، ولا تعلق بوضوح العظم منها [أرش] (8) مقدّر كسائر عظام البدن. وإنما خص الشارع [بتقدير] (9) الأرش شجات الرأس -فيما نظن- لأنها المنظر ومحل الجمال، ومجمع المحاسن، والشَّيْنُ عليها ظاهر [الوقع] (1). هذا كافٍ في بيان المحل.

_ (1) كذا. ولم أجد لهذا الفعل معنى يستقيم هنا إلا إذا أخذنا من (العَمْرة) وهي كل شيء يُغطَّى به الرأسُ من عمامة وقلنسوة ونحوهما، فيكون المعنى: إن هذه المواضع من الرأس هي التي تسترها العمامة ونحوها. (2) في الأصل: "استثنت". والمثبت من المحقق إكمالاً للمحاولة في إقامة العبارة. (3) في الأصل: "كاليسير". (4) في الأصل: "منها". (5) في الأصل: "والوجنة". وهو سبق قلم. (6) في الأصل: "فوجهه". والمثبت من كلام الغزالي في البسيط. (7) في الأصل: "من جهة تجب" وزيادة الواو والتعديل من عمل المحقق. والمعنى أن اللحيين من الوجه سواء من جهة المقابلة أو من أسفل، ونص على (تحت)؛ لأن الوجه هو ما به المقابلة. (8) زيادة اقتضاها السياق. (9) في الأصل: "ـ ـر ـر" كذا بدون نقط. (10) في الأصل: "طاهر لوقع".

10583 - والأصل الآخر في بيان وجوب اتباع الاسم، وذلك من غير نظر إلى الصغر والكبر، فيجب [في] (1) الموضحة التي يقرعها المِيل (2) ما يجب في استيعاب الرأس، والسبب فيه أنه لا ضبط [ننتهي] (3) إليه إلا الاسم، وهذا هو المتعلق إذا انحسم الضبط والتقدير، وعلى هذا الأصل نبني تعدد الأروش عند تعدد الموضحة وانفصال بعضها عن البعض بالحواجز الكاملة، ولو فرض الاختلاف في الموضحة المتصلة من جهة المحل، [فلا] (4) أثر لأجزاء الرأس في ذلك، فالموضحة التي تعم الناصية والهامة ليس لها حكم التعدّد، من جهة [أنها] (5) على مسمّيَيْن. فإن قيل: أي إشكال في هذا، وقد ذكرتم أن الموضحة المستوعبة للرأس واحدة؟ قلنا: قد يتخيل الفطن فرقاً بين أجزاء الرأس وبين جملته، وعلى هذا انبنى اتحاد الدية في النفس، وتعددها في الأطراف، فنصصنا على ما ذكرناه [دفعاً] (6) لهذا الوهم. والأجزاء مختلفة في القصاص، حتى لا نقيم جزءاً من الرأس في القصاص مقام جزء من غير ضرورة، وهي متساوية في تصوير اتحاد الموضحة. ولو اتصلت الموضحة من الناصية إلى الجبهة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الأرش لا يتعدد، لاتصال الجراحة واتحاد الاسم، ولا ينظر إلى تعدد المحل. والوجه الثاني -[يتعدّد] (7) لاختلاف المحل، [وأنا لا نكمل] (8) في القصاص جراحة على الرأس الكبير [من جبهة الجاني بعد استيفاء] (9) رأسه.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) يقرعها الميل: مثال للتناهي في الصغر، والمعنى أن الموضحة التي تكون بحجم دخول الميل حتى يقرع العظم، يجب فيها ما يجب في الموضحة التي تستوعب الرأس، والميل هنا بكسر الميم هو عود رفيع يجعل به الكحل في العين (المصباح والمعجم). (3) في الأصل: "يهتدي". (4) في الأصل: "ولا". (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: "ولعا". (7) في الأصل: "يتعذر". (8) في الأصل: "واختلاف أنا لا نكمل". (9) في الأصل: "من جهة الجاني بعد استيفاء".

وإذا جمع الناظر ما ذكرناه من آثار الاختلاف في القصاص إلى ما نبهنا عليه الآن من اختلاف المحل في الدية، [استبان ما بين البابين من بون] (1). ولو انتهت الجراحة إلى العظمة المعمودة وراء القَمَحْدُوة القريبة من مركب الكرة من الرقبة، فالأصح الاتحاد في هذا؛ فإن تيك العظمة من تتمة القِحف (2) ذي [الدوران] (3) ومن أئمتنا من جعل اتصال الموضحة بها كاتصالها بالجبهة، حتى تخرّج على الخلاف الذي قدمناه. وهذا الأصل متصل بالكلام في المحل. والموضحةُ على الجبهة إذا انحدرت إلى الجبينين، فأراها واحدة، وإن هي اتصلت بالوجنة، ففيه تردد، والأظهر منع الاتصال [الآن] (4)، تنزيلاً لما تقابَل به منزلة الرأس. 10584 - الأصل الآخر: الكلام في [الجراحة ووصفها وتقدير] (5) رفعها وارتفاعها، فمن أوضح موضعين من رأس إنسان وبينهما حاجز كامل أو لحم وجلد، فموضحتان، وفيهما أرشان، وإن كان الحاجز لحماً لا جلد عليه، أو لا لحم تحته، [اضطربت] (6) مسالك الأصحاب في الطرق، ومجموعها أوجه: أحدها - أن الجلد دون اللحم، واللحم دون الجلد ليس حاجزاً، وللجرح حكم الموضِحة الواحدة؛ لأن الجناية أتت على الموضِحتين وما بينهما، فنَجْعل كأن الجناية بينهما إيضاح، ولو اتصل الإيضاح، لاتحد الأرش، فالمتلاحمة دون الموضحة، وهذا وجهٌ منقاس. والوجه الثاني - أن الأرش يتعدد اتباعاً للاسم، وقد تحقق [الحائل] (7) سواء كان

_ (1) في الأصل: "استناد بين الناس بون". (2) القِحف بكسر القاف: أحد أقحافٍ ثمانية تكوّن عُلبة عظمية هي الجمجمة (كرة الرأس) (المعجم الوسيط) فهي من عظم الرأس كما يتضح من وضعها. (3) في الأصل: "الدرور". والمثبت من المحقق رعاية للمعنى، فالكلام عن استدارة كرة الرأس وأجزائها. (4) في الأصل: "الإيجاز". (5) في الأصل: "الحراحر وصفها وتقرير". (6) في الأصل: "واضطربت". (7) في الأصل: "محامل".

جلداً مَحْضاً أو لحماً، والتعويل على الاسم عند هذا القائل. والوجه الثالث - أن اللحم حائلٌ والجلد ليس بحائل؛ لأن اللحم ساترٌ للعظم تحته سترَ خلقة، فلا وضوح بالعظم الذي تحته، وإذا انقطع الإيضاح، تعدّد الاسم، فأما الجلد إذا لم يكن [تحته] (1) لحم، فالعظم تحته بادٍ ووضوحه متصل. والوجه الرابع -وهو أضعفها- أن الجلد المجرّد حاجزٌ، واللحم ليس بحاجز؛ فإن المرعي في الوضوح ما يبدو للناظر، وإن كانت الجلدة متصلة، فالعظم غيرُ بادٍ. وهذا ليس بشيء. هذا مجموع ما قيل في بيان الحواجز. ومن لم يجعل اللحم دون الجلد والجلد دون اللحم حاجزاً، هؤلاء اختلفوا في صورةٍ، وهو إن أوضح الرجل موضعين من رأس رجل، وبين الموضحتين حاجز قائم، ثم إنه أدخل حديدة من الموضحة إلى الموضحة، ثم [استلّها] (2)، فهل يكون الحاجز في حكم المرتفع بهذا؟ فعلى وجهين ذكروهماً: أحدهما - أنه لا يكون مرتفعاً، فإن الحديدة إذا استلّت انطبق اللحم على اللحم، وعاد الأمر إلى ما كان. والثاني - أن هذا يكون رفعاً للحاجز، فإن الحديدة قد نفذت واتصلت الموضحتان، فإن فرض بعد هذا انطباق والتحام، فلا حكم لما يجري من بعدُ، والدليل أنا إذا لم نجعل اللحم بمجرده حاجزاً، فلو فرضنا موضحتين وبينهما لحم، وقلنا: الجراحة واحدة، فلو ألبست تلك اللحمة بالجلد، فقد كمل الحاجز الآن، ولا نقضي بتعدد الأرش بعد الحكم باتحاده، فإن طوارىء الالتحام لا تؤثر في الشجات، كما سنصف ذلك. وإذا بان ما ذكرناه من إدخال الحديدة وتنفيذها من الموضحة، [فقد] (3) ينشأ من ذلك صورة وفيها احتمال ظاهر عندي، وهو أن الرجل إذا غرز إبرة في رأس إنسان، وتحققنا انتهاء رأس الإبرة إلى العظم، ثم استلّها، فهل يكون هذا موضحة أم لا؟ أرى تخريج هذا على الوجهين اللذين نقلتهما في تنفيذ الحديدة في الحاجز بين ________ (1) في الأصل: "عليه". (2) في الأصل: "أسبلها". (3) في الأصل: "وقد".

الموضحتين؛ فإن لم يكن [رفعاً، فهذا ليس] (1) موضحة، وإن كان ذلك رفعاً للحاجز، فهذا موضحة، وترجع حقيقة التردد إلى أن الاعتبار بجرح يشق إلى العظم ويوضِحه فعلاً، أم الاعتبار [بما] (2) سمي موضِحة مدركة. ومما يتصل بهذا الفصل أن الجاني لو أدخل حديدة في رأس إنسان وجرها، فأوضح موضعاً وانملست (3) الحديدة على موضعٍ، ثم غاصت، وأوضحت موضعاً،. وفِعْلُ الجاني في حكم المتَّحد، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن هذه موضحة واحدة نظراً إلى اتحاد الفعل، وهذا خَرْمٌ لقاعدة المذهب الكلّية؛ فإذا تعدد الجرح، وتعدد الاسم، وكمل الحاجز، فالنظرُ بعد هذا إلى اتحاد الفعل، وتواصلُ الجراحات لا حاصل له، وقد قال هذا القائل: إنما تتعدد الموضِحة إذا رفع الحديدة من شجة ووضعها في أخرى، وهذا ليس بشيء. 10585 - الأصل الآخر في رفع الحواجز وارتفاعها، فإذا أوضح الرجل مواضع من رأس إنسان، واتصلت الموضِحات بالحواجز، ثم تأكّلت وارتفعت بالسراية، اتحد الأرش، وزال تقدير التعدد، ونزل ارتفاع الحواجز بالسريان منزلة سريان قطع الأطراف إلى الروح، لا خلاف على المذهب في ذلك. ولو عاد الموضح ورفع الحواجز بنفسه، فهذا مسلك النص، وتخريج ابن سريج في الأطراف والنفس، ومقتضى النص اتحاد الأرش، كما لو قطع يدي رجل ورجليه، ثم حز رقبته، وابن سريج خالف في الجراح، وأوجب على قاطع اليدين والرجلين، ثم القاتل بعد ذلك دياتٍ، ومذهبه يطّرد لا محالة في رفع الحواجز. ولو أوضح موضعين عمداً، ورفع الحاجز خطأ، والتفريع على النص، ففي اتحاد الأرش وجهان، وكذلك الخلاف في الجراح والنفس، كما تقدم في أول الجراح، ولا فرق على الجملة.

_ (1) في الأصل: "دفعاً مهدراً ليس" وهو تصحيف مضلّل. (2) في الأصل: "مما". (3) المعنى أن الحديدة بعد أن غاصت وأوضحت خرجت تجري وتنزلق على السطح ثم عادت فغاصت وأوضحت، فهو فعلُ واحد لإيضاحٍ في موضعين بينهما حاجز.

ولو رفع الحاجز [بين] (1) الموضحتين، [رجل آخر] (2)، فلا خلاف أن الأروش لا تتحد في حق الجاني الأول، وهذا يناظر في الجراح والنفس ما لو قطع رجل يدي رجل، فجاء آخر وقتله، فلا خلاف في تعدد الدية عليهما؛ إذ لا نربط فعل شخصٍ بفعل شخص في هذه الأبواب، فلا جَرَمَ قلنا: على صاحب الموضحتين أرشان، وعلى رافع الحاجز أرشٌ ثالث. ولو أوضح رجل موضعاً من رأس إنسان، فجاء آخر وابتدأ من منتهى جناية الأول، وأوضح، ثم هكذا حتى إذا استوعب الرأسَ جناةٌ، فعلى كل واحد أرش موضحة، بلا خلاف. وإذا كان قياس مذهب ابن سريج أن يجعل أفعال جان واحد في تعديد الموضحة أولاً ورفع الحاجز ثانياً بمثابة أفعال جناة، فليت شعري ما يقول إذا استوعب جان واحد رأسَ إنسان بالإيضاح بموضحتين [متواصلتين] (3) بأفعال متفرقة؟ ظاهر قياسه أنها موضحات إذا تعددن بالأفعال، وفيه احتمال على خلافٍ، فإنها في الآخر جنسٌ واحد، وليس كقطع اليدين والقتل، وليس كما إذا تحقق تعدد الإيضاح ثم فرض الرفع. فلينظر الناظر، وليستدّ [نظره] (4) إذا كُرِّر أعدادُ الموضحات في شخص، ولو اجتمعت أروشها، لزادت على دية، فالمذهب أنا نوجبها بالغةً ما بلغت، وأبعد بعض المصنفين وقال: نردها إلى دية، وهذا بعيد، والاختلافُ المذكور فيه [مذكور] (5) في الأسنان، والأصح ثَمَّ أيضاًً أنا لا نبالي بالزيادة على مقدار الدية ولو قُتل الإنسان، الزيادة أولى؛ من جهة أن أعدادها في اعتدال الخلقة إذا قوبلت بالأروش زادت الأروش على الدية، وإطلاقُ الشارع ذكر الأروش في آحادها من غير تعرض لرده الزيادة إلى مقدار الدية مناقض لما قال هذا القائل، ولا ينبغي أن نفرع على الوجه

_ (1) في الأصل: "من". (2) في الأصل: "حاز احر". (3) في الأصل: "مواصلة". (4) مكان بياضٍ بالأصل. (5) زيادة من المحقق.

الضعيف. وما ذكره هذا القائل في الموضحة ليس بعيداً في التفريع، ولكن التفريع على الضعيف مجتنبٌ. فرع: 10586 - إذا أوضح الرجل موضعاً من رأس إنسان، وجرّ السكين، فاتصل بالموضحة متلاحمة، فقد أجمع المحققون على أنا لا نفرد المتلاحمة بأرش، لأن الجراحة واحدة، ولو كانت المتلاحمة موضِحة، لما وجب إلا أرش واحد، وهو منفصلٌ عما قدمناه من موضحتين بينهما لحم؛ فإن اسم الموضحة متعدد ثَمَّ في [وجهٍ] (1)، ولم أعرف في الصورة التي رسمتُ الفرعَ لها خلافاً بين الأصحاب، وهذا يدل على اتحاد الأرش في اللحم الحائل بين الموضحتين. ولو أوضح قَمَحْدُوة إنسان، وجرّ السكين إلى القفا، فموضحة، وجرحُ حكومة، وإن جرها من الناصية إذا أوضحها إلى الجبهة وجرح الجبهة متلاحمة، فهذا يخرج على أن الموضحة لو اتصلت هل كان يتعدد الأرش فإن قلنا: لا يتعدد [فالمتلاحمة] (2) على الجبهة تتبع الموضحة على الناصية، إذا اتصلت بها، فإن قلنا: لو اتصلت الموضحة على الناصية بإيضاح الجبهة، لتعدد الأرش، فتفرد المتلاحمة بحكومة. هذا وضع المذهب. فصل 10587 - ذكرنا اختلاف قولٍ في أن القصاص هل يجري في المتلاحمة، وكان شيخي رحمه الله يقول: أرش المتلاحمة يُبنى على وجوب القصاص؛ إن قلنا: لا قصاص في المتلاحمة، فأرشها حكومة، وإن قلنا: فيها القصاص، فإنا نطلب [تقدير] (3) أرشها بالنسبة إلى السُّمك جهدنا، كما نطلب هذا المسلك في إجراء القصاص، وهذا عندي ليس يظهر له أثر؛ [فإنا] (4) وإن لم نوجب القصاص إذا

_ (1) في الأصل: "وهي". (2) في الأصل: "بالمتلاحمة". (3) في الأصل: "تقرير". (4) في الأصل: "قلنا".

حاولنا الحكومة، فتحويمنا على النظر إلى النسبة، ولهذا نفصل بين متلاحمة غائصة وبين أخرى دونها، ولا نغفل على كل مذهب عن الفرق بين النصف الذي بقي إلى العظم وبين النصف الذي شُق، ونرى النصف الآخر أشرف، فإنه ينتهي إلى الإيضاح، وإذا كان هذا عمادنا في النظر، فليس يختلف المذهب بأن يجري القصاص أو لا [يجري] (1) وأرش الجائفة [مقدّرٌ ولا قصاص] (2) فيها، والقصاص جارٍ في الإصبع الزائدة وأرشها لا يتقدّر. فرع: 10588 - إذا ثبت أرش الموضِحة، فلم نستوف من الجاني حتى التحمت الموضحة واكتست، فالأرش لا يسقط بما يجري، باتفاق الأصحاب؛ فإن مبنى الباب على اتباع الاسم، ولو أوضح [جانٍ] (3) ذلك الموضع الذي [اكتسى] (4)، استوجب أرشاً جديداً، ولو أوضحنا رأس الجاني قصاصاًً، ثم [اندمل] (5) موضع القصاص، فقد استوفينا الحق كَمَلاً. وهذا متفق عليه، والجراح قد تختلف في هذا المقتضى على ما سنجمعها في فصلٍ، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: "وفي الهاشمة عشر من الإبل ... إلى آخره" (6). 10589 - إذا أوضح العظمَ، وهشم العظمَ الذي أوضحه، لزمه عشرٌ من الإبل، فكان الايضاح مقابل الخمس، والهشم مقابل الخمس. ومن أصحابنا من قال: لم يرد في الهاشمة حديث، وإنما جرى التقدير فيه من جهة الرأي والنظر.

_ (1) في الأصل: "نجريه". (2) في الأصل: "مقدور لا قصاص". (3) في الأصل: "جاز". (4) في الأصل: "اكتن". (5) في الأصل: "اهتدى" بهذا الرسم بكل وضوح. ولما أعرف كيف تؤدي هذا المعنى المطلوب من السياق. (6) ر. المختصر: 5/ 129.

ومن أئمتنا من روى عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة عشراً من الإبل" (1). ولو [هشم] (2) الرجل العظم من الرأس ولم يوضح فيه؟ اختلف أصحابنا فيما يجب: فمنهم من قال: الواجب خمسٌ من الإبل، وهو أرشٌ مقدّر، ومنهم من قال: الواجب فيه حكومة، وسبب هذا التردد إذا انفرد الهشم [ما] (3) حكيناه في الموضحة الهاشمة، فإن أوجبنا [أرشاً مقدَّراً] (4) وهو المذهب، فلا خلاف أن في الموضحة الهاشمة عشراً، فإذا أُفرز منه حظ الموضحة، بقي على القطع مقدارٌ في مقابلة الهشم. وإن فرعنا على أن الهشم إذا تحدد ولم يسبقه إيضاح، فموجبه حكومة، فهل تبلغ تلك الحكومة أرش موضِحة؟ تردد في هذا جواب القاضي، وهو موضع التردد؛ من جهة أن الموضحة الهاشمة فيها عشر وأرشُ الموضحة منها خمس، فلا يبعد بلوغها إذا انفردت خمساً، وفائدة هذا الوجه أنه لا يمنع أن تنقص حكومة الهشم عن خمس من الإبل، وسبب هذا التردد أنه تفريع على وجه ضعيف. 10590 - وفي المنقّلة خمسةَ عشرَ، وقد روي ذلك عن النبي عليه السلام، والمأمومة جائفة، فلو أوضح رأسه واحدٌ، وهشمه آخر في محل الإيضاح، ونقّله آخر، وأمّه آخر، وكل ذلك على محلٍّ واحد، فعلى الأول خمسٌ من الإبل، أو القصاص، ولا قصاص في غيره مما جرى، وعلى الثاني تفاوت ما بين الموضحة والهاشمة على الأصح، وهو وجهٌ، والتقدير والتفاوت خمس من الإبل، وعلى الثالث تفاوتٌ ما بين الهاشمة والمنقّلة وهو خمس، وعلى الرابع تفاوت ما بين المنقلة والمأمومة وهي ثمانية عشر وثلث بعير.

_ (1) حديث زيد بن ثابت في الهاشمة رواه عبد الرزاق في مصنفه (17348)، والدارقطني: 3/ 201، والبيهقي في الكبرى: 8/ 82. (2) في الأصل: "قسم". (3) في الأصل: "بما". (4) في الأصل: "مقدار".

وذكر الأصحاب صوراً يُرشد إليها ما مهدناه، فقالوا: في متلاحمة فيها موضحة أرشُ موضِحة [بلا] (1) مزيدٍ، وفي موضحة فيها هاشمة عشرٌ بلا مزيد، وفي منقّلة فيها في حسابها هشم وإيضاح عشرٌ بلا مزيد، وسبب ذلك مأخوذ مما قررناه. أما المتلاحمة إذا كان فيها موضحة، فلو كانا موضحة لم يجب فيها إلا خمس. وهذا المسلك يطّرد في جميع ما ذكرناه. 10591 - ثم ذكر الأصحاب ما يتصور في الوجه من الشجاج، أما الموضحة فتتصوّر [فيه] (2)، وكذلك الهاشمة، والمنقّلة، [وفي الجراحة التي تنفذ إلى داخل الفم والأنف] (3) خلاف سنذكره في فصل الجوائف؛ فإن قلنا: إنه جائفة، فقد تُصوَّرُ على الوجه أمثال شجاج الرأس. والدامغةُ ليست من الجراح؛ [فإنها توحي وتذفّف تذفيف] (4) حز الرقبة. وإن لم نجعل الجراحة النافذة إلى داخل الفم جائفة، قال الأصحاب: إن نفذت من الوجه إلى الفم، فيجب فيها أرش منقلة وزيادة؛ فإن [النفوذ] (5) في صورته يزيد على التنقيل، وإن نفذ الجرح من الخد إلى الفم، ففيه أرش متلاحمة وزيادة لصورة النفوذ. وأعاد الأصحاب في آخر الفصل اختلافاً بين الجاني والمجني عليه، وقد قدمنا ذكره، فلا نعيده، وصورته أن يقول الجاني: ارتفعت الجراح بالسراية من جراحتي، وقال المجني عليه: بل رفعها أجنبي. هذا فن مضى مقرّراً.

_ (1) في الأصل: "إلى". (2) في الأصل: "فيها". (3) في الأصل: "ومن الجراحة التي تبعد ماء واحد الفم والأنف". كذا تماماًً. (4) في الأصل: "فإنا نوصي وتتوقف توقيف". (5) في الأصل: "النفرر" (كذا تماماً).

فصل قال: "وفي كل جرح ما عدا الوجه والرأس حكومة إلا الجائفة ... إلى آخره" (1). 10592 - لما تكلم في أحد القسمين وهو الجرح الذي يشق، [واستوعب] (2) الكلام في شجاج الوجه والرأس، قال: كل جرح يشق على سائر البدن، فلا يتعلق به [أرش] (3) مقدّر إلا الجائفة، فإن موجَبها ثلثُ دية المجني عليه. والكلام فيه يتعلق بأصول: منها تصوّرها، فنقول: كل جراحة وصلت إلى باطن عضو يُعدّ [مجوّفاً] (4)، فهي جائفة كالواصلة إلى البطن والصدر، وكالآمّة، وليس من تمام الجائفة أن تخرق [المقابل] (5)، إذا وصلت إلى المعادات (6) جائفةً، والواصلة إلى جوف عظم الفخذ ليست جائفة، وإن كان ذلك العظم مجوفاً، فإن [العظم] (7) لا يعدّ مجوفاً، وكأن أرش الجائفة على مقابلة خطرها في وصولها إلى تجاويف البدن، وهذا لا يتحقق في الأعضاء التي تعد [مصمتة. والجرح] (8) الواصل إلى المثانة جائفة؛ وفي الواصل إلى ممرّ البول من القصبة وجهان: أحدهما - أنه جائفة؛ لأن العضو يعد مجوفاً. والثاني - ليس جائفة؛ فإن

_ (1) ر. المختصر: 5/ 130. (2) في الأصل: "ويستوعب". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "مخوفاً". (5) في الأصل: "المقاتل". (6) كذا تماماً. وعبارة الغزالي في البسيط ربما توضح المعنى المقصود هنا، قال: "والجائفة كل جراحة تنتهي إلى باطن فيه قوة محيلة كالبطن وداخل الصدر، وإن لم تخرق الأمعاء والمعدة والدماغ، وإن لم تخرق الخريطة". (7) في الأصل: "العضو". (8) في الأصل: "متضمنه، والحجر". والمصمت الجامد الذي لا جوف له (المعجم الوسيط).

الجوف الحقيقي ما فيه قوىً محيلة للأغذية أو الأدوية، وليس ممرّ البول كذلك، والجراحة النافدة من العِجان (1) إلى أصل الشَرْج جائفة. وفي الواصلة إلى داخل الفم والأنف وجهان: أحدهما - أنها جائفة؛ لأنها تُفسد العضو إفساد سائر الجوائف وتعطّل منفعته. والثاني - أنها ليست جائفة؛ فإن داخل الفم والأنف [في حكم الظاهر، وكذا الخلاف في خرق الأجفان] (2)، فإن الأجفان تنطبق على مضطرب الحدقة (3) انطباق الشفاه على الأفواه. فهذا بيان محال الجوائف. 10593 - ولو أجاف رجلاً في مواضع، ففي كل جائفة ثلث الدية إذا كان بين الجوائف حواجز، والقول في رفع حواجزها وارتفاعها، كالقول في الموضحات وحواجزها حرفاً حرفاً. ولو طعن رجلاً في بطنه، فنفذ السنان من الظهر، فالمذهب الأصح أن ذلك جائفتان، فإن النفوذ [تحقق من الخلف] (4). وقال بعض أصحابنا جائفة واحدة؛ فإنها تعد جراحة واحدة، وهذا لا أصل له، فلسنا في الألفاظ العرفية، حتى نرجع إلى موجب العرف، وإنما ندير هذه المسائل على حقائق [ماثلة] (5)، ولا شك أن ما جرى نافذتان إلى البطن، ولو طعنه في بطنه، ولم ينفذ، ثم طعنه على ظهره على محاذاة طعنة البطن والتقى النفوذُ، فلا ينبغي أن يعد هذا توسيعاً للجائفة الأولى، [ولو قيل بذلك، لكان بعيداً] (6). ولا شك أن من ضرب بطن إنسان بمشقص وأجافه في موضعين بينهما حائل [في

_ (1) العجان بكسر العين: اسمٌ لما بين الخُصية وحلقة الدبر. (المصباح). (2) زيادة اقتضاها السياق، وهي من لفظ الإمام في المسألة، حين عرضها قبلاً في القصاص. (3) المعنى أن الأجفان تنطبق على التجويف الذي تتحرك فيه حدقة العين. (4) في الأصل: "يتحقق من الخمس" - ولم يظهر لنا فيها وجه. (5) في الأصل: "على حقائق فإنها". (6) في الأصل: "ولو قتل بذلك وكان بعيداً". وهو تصحيف مضلل.

الاتصال] (1) قال الشيخ أبو بكر (2): إذا جعلنا الطعنة النافذةَ جائفة واحدة، فالقياس عندي أن يجب فيه ثلث الدية وزيادة حكومة؛ فإن هذه الجراحة زائدة على الواصلة إلى الجوف، واقتضى ذلك مزيد حكومة، وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن تلك الزيادة التي بجانبها (3) حقيقتُها أنها جائفة أخرى؛ فإن مال إلى حقيقة هذا، فالوجه إيجاب ثلثي الدية، وإلا فلا وجه مع اعتقاد اتحاد الجائفة لإيجاب الزيادة، وهذا بمثابة ما لو أجاف بطن إنسان، ثم زاد، فوسع تلك الجائفة، فلا يجب في التوسع مزيدٌ. 10594 - ولو أجاف شخصاً جائفة، فاندملت الجائفة، والتحمت، واكتست بالجلد، فالمذهب الصحيح أن أرش الجائفة لا يسقط بما جرى، قياساً على لتحام الموضحة، والجوائف في تفاصيلها كالموضحات. ومن أصحابنا من قال: إذا التحمت الجائفة، لم يجب إلا حكومة على قدر [الشَّين] (4)، وهذا القائل لا يستدّ له فرق بين الجائفة والموضِحة، ولا يُتصور عند هذا القائل ثبوت أرش الجائفة إلا بأن تفرض إجافةٌ من جانٍ، ثم يفرضَ من آخرَ حزُّ رقبة المجني عليه، ولا يتَصَور [هذا زوالَ] (5) الجائفة إلا بالتحامها بخلاف الموضحة. ولو [أجاف] (6) رجلاً جائفةً، فخيطت الجراحةُ، وكادت تلتحم، فجاء إنسان، وقطع الخيط، فانفتقت، لم يلتزم قاطعُ الخيط شيئاً إلا التعزير؛ فإنه لم [يجن] (7) على جرح.

_ (1) في الأصل: "في القتال" كذا تماماً بدون نقط. (2) أبو بكر هو الصيدلاني كما صرح بذلك الغزالي في البسيط (سبقت ترجمته). (3) في الأصل: "يحيلها". (4) في الأصل: "السن". والمثبت من البسيط. (5) عبارة الأصل غير مقروءة، هكذا: "ولا يتصور زايد مال الجائفة" والمثبت من عمل المحقق. والمعنى: أن هذا القائل بعدم الأرش عند التحام الجائفة، لا يتصور ذلك إلا بالالتحام، ولا يكتفي بالاندمال. (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: "يجر". ولعل المعنى أن جنايته قطع خيط، وهو إتلاف مالٍ، وليس بعدوان وجناية توجب قصاصاً، أو أرشاً، أو حكومة، ولذا عليه مع التعزير أجرة الخياط، والخيط إن كان قد تلف، قاله الرافعي: (الشرح الكبير: 10/ 346).

ولو التحمت، وتم التحامها فجاء جانٍ، وجرح ذلك الموضع، فهو مُجيف ملتزم لثلث الدية، وهذا بيّنٌ، ولو التحم ظاهر الجرح، ولم ينتظم الالتحام بعدُ، فإذا جاء وفتق ما كان التحم، فلا يلزمه أرش جائفة، بل حكومة، وقد [يفرض] (1) الالتحام من ظاهر دون الباطن، ولا يجب على الجارح والحالة هذه أرش جائفة، كما ذكرناه، وغرضنا فيما أجريناه الكلامُ على الجوائف. فلو جرح الظاهرَ الملتحم، فأدى ذلك إلى اتساع الجائفة الأولى وانفتاق لحمٍ نامٍ وجلدٍ متصل بموضع الجناية ونفوذٍ إلى الباطن، فهذه جائفة تسبب إليها، والضمان يجب بالأسباب والسرايات. ولو كان قطْعُ الخيط من الجائفة سبباً لهلاك المجروح، تعلق الضمان به؛ فإن الأسباب التي يتعلق الضمان بها قد تكون أبعد من هذا، وليس قطع [الخيط من الجرح] (2) بأقلَّ من حفر البئر وغيره من الأسباب. فصل قال: "وفي [الأذنين] الدية ... إلى آخره" (3). 10595 - المذهب الذي عليه التعويل أن الدية تكمّل في الأذنين، إذا استؤصلتا ولم يبق شيء شاخصٌ من الصدفة، وفي إحداهما نصف الدية، هذا ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من خرّج وجهاً في أن الدية لا تجب في الأذنين، وإنما قال هذا الإنسان ما قال؛ من جهة غموض منافعها، والتعويل في كمال الدية على المنافع عندنا، والذي [يقوّي] (4) هذا الوجهَ قليلاً أنه لم يجد لرسول الله صلى النه عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم إيجابَ الدية في الأذنين، وفي الكتاب إيجاب الدية في

_ (1) في الأصل: "يعوض". (2) في الأصل: "الجرح من الخيط". (3) ر. المختصر: 5/ 130. وعبارة الأصل: وفي الأرش الدية. (4) في الأصل: "يهوّن"، والمثبت من حكاية الرافعي عن الأمام. (الشرح الكبير: 10/ 356).

الأنف، كما رويناه في صدر فصل الموضحة، وقد روى بعض الفقهاء (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الأذنين الدية" (2) وهذا مجازفة في الرواية، ولم يصح عندنا في ذلك خبر في كتب الحديث. ولكن إلحاقَها بمثاني البدن من أعلى وجوه الشبه، وللشبه جريان إذا تقاعدت المعاني. ثم الذي تخيله الفقهاء من منفعة الأذن أن صدفتها [تجمع الصراخ] (3)، ومعاطفها تصون الصماخ، وهو غضروف يتأثر بالصوت تأثر الجلد الممدود على الطبل. [وفشا] (4) بين الأصحاب بعد الاختلاف في الأصل خلافٌ آخر، فقالوا: في الأذنين المستحشفتين وجهان إذا استؤصلتا: أحدهما - فيهما الحكومة، فإن استحشافهما: سقوط حسّهما - بمثابة الشلل في الأعضاء. والثاني - أنه يجب فيهما الدية؛ فإن المنفعة الكائنة في [الحساستين] (5) ثابتة في المستحشفتين؛ فإن المعنى الظاهر جمع الصوت ورده إلى [الصماخ] (6) وهذا لا يختص بالأذن الحسّاسة، وإن عُدّ حِسُّها من تمام منفعتها، على معنى أنها إذا أحست بدودةٍ، اشتغل صاحبها بطردها، فإن لم تكن حسّاسة، فلا يحصل هذا المعنى، فهذا خفي، والمنفعة الظاهرة جمع الصوت، وذاك لا يختلف بالاستحشاف والإحساس. وعلى ذلك اختلفوا في أن من جنى على [أذن إنسان] (7) واستحشفت أذنه من أثر

_ (1) بعض الفقهاء: يعني به القاضي حسين، صرح بذلك ابن الملقن. (ر. البدر المنير: 8/ 451). (2) حديث "في الأذنين الدية" رواه البيهقي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: "في الأذنين الدية" قال الحافظ: وفي الطريق عن عمر انقطاع (السنن الكبرى: 8/ 85، تلخيص الحبير: 4/ 67 ح 1961). (3) في الأصل: "يمنع الصراح"، وعبارة البسيط: تجمع الصراخ وتحرس الصماخ. (4) في الأصل: "ونشأ". (5) في الأصل: "الحشاشين". (6) في الأصل: "الصحاح". (7) في الأصل: "دون إيساره".

الجناية، فهل يجب عليه الدية، كما يجب على من جنى على يدٍ فشلّها؟ فمن أوجب الدية الكاملة في الأذن المستحشفة، لم يوجب بالجناية المؤدية إلى الاستحشاف الديةَ، ومن لم يوجب الدية في الأذن المستحشفة قياساً على اليد الشلاء، أوجب فيما يؤدي إلى الاستحشاف الديةَ. 10596 - ويجب في أذني الأصم الديةَ الكاملة؛ فإن السمع ليس حالاًّ في الأذنين، حتى نَفرض سقوطَ ديتها بزواله، وهذا يُسقط [اعتبارُنا المنفعةَ] (1) المقصودة، والجمال بمجرده لا يتضمن إيجاب الدية عندنا، ويتجه في الخلاف المصيرُ إلى أن الدية لا تكمل [في الأذنين إن لم] (2) يثبت فيهما خبر، وإن ثبت خبر، اتبعناه؛ فإن إيجاب بدل الكل في الطرف ليس منقاساً في الأصل، والأصل المعتمد في تكميل بدل الجملة في [الجزء] (3) توقيف الشارع، كما ذكرته في (الأساليب). 10597 - وإذا ظهر المقصود في الأذنين، فنتكلم في السمع، فنقول: الجناية المزيلة [للطيفة] (4) السمع توجب الديةَ الكاملة، وهو من أشرف المنافع، ثم لا يستريب ذو عقل أن [لطيفة] (5) السمع ليست متعلقة [بجِرم] (6) الأذن، وإنما هو في مقرها من الرأس، وقال العلماء: السمع من الآحاد، وليس من [المثاني] (7)، بخلاف النظر، وذهب بعض الأصحاب إلى إلحاقه بالمثاني، وكأنه يتخيل [لطيفتين] (8) لكل واحدة نفوذ في صوب أذن، كما يتحقق ذلك في البصر، وهذا مزيّف عند جماهير الأصحاب؛ من جهة أنهم اعتقدوا لطيفةَ البصر في جِرْم الحدقة

_ (1) في الأصل: "اعتنا بالمنفعة". (2) في الأصل: "في الأرش، وإن لم" والمثبت من المحقق على ضوء السياق. (3) في الأصل: "الخبر". (4) في الأصل: "المطبقة". (5) في الأصل: "الطبقة". (6) في الأصل: "يخرم". (7) في الأصل: "المباني". (8) في الأصل: "الطبقتين".

والعين من [المآقي] (1)، وليس السمع في الأذن، ولا ينتظم في الاستدلال على تعدده بتعدد الأذن [دليل] (2). وهذا موقف يتعين إنعام النظر فيه في وجوه نبنيه عليها، على ما سنبين في سياق [الكلام] (3). فإذا ادعى المجني عليه زوالَ السمع بالجناية، لم يصدَّق حتى يمتحن، وامتحانه بأن يراعى غفلاتُه، ثم يصاح به صيحة منكرة، فإن كان سميعاً، ظهر الأثر عليه، وتبين كذبه في دعوى الصمم، وإن لم يظهر الأثر عليه، ظهر صدقُه، ثم لا يُؤمن تماسكه، فمن الناس من يتماسك في مثل ذلك مع السمع، فنحلِّفه، وهذا غاية الإمكان. ولو لم يدّع زوال السمع بالكلية، ولكن ادعى اختلالَه ونقصانَه، نظر: فإن ادعى النقصان في جهتي الأذنين، غمض التعلق بامتحانه، فإنه ليس ينكر أصلَ السمع، ولو صيح به فتأثر، أمكنه حمل تأثره على المقدار الباقي، فلا وجه إلا أن يعتبر النقصان الذي يدّعيه بسمع رجل في مثل حاله [سنّاً] (4) واعتدالاً، ويكون غير مأووف (5) السمع، ثم نقف على منتهى [سمع] (6) هذا السليم المعتبر، [فنأمر] (7) من يصيح به على مسافة، ثم يبعد حتى ينقطع سمعه من صراخه، ثم نضبط المسافة ونعود، فنعتبر (8) سمع من ادّعى نقصان السمع، ونُبيّنُ مقدار النقصان بالمسافة في صياح الصارخ به، ونوجب ذلك القدر من الدية، وليس في هذا الامتحان ما يوجب تغليب

_ (1) في الأصل: "الماى". كذا تماماً. (2) زيادة من المحقق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "شيا". (5) مأووف: من الآفة وهي العاهة، يقال: شيء مئوف (وزان رسول) أصابته الآفة، والأصل مأووف. ولكنه استعمل على النقص. (المصباح). (6) في الأصل: "سمعه". (7) في الأصل: "ونأمر". (8) فنعتبر: أي فنقيس.

[صدقه] (1) على القلب، فنحلّفه، فلا وجه إلا [التعويل] (2) على الحلف، وهذه يمين لا مستند لها إلا ظهور الجناية، وإمكان اختلال السمع بها، ولو لم نسلك هذا المسلك، لتعطّل نقصان السمع، ولو قُدّر تحليف الجاني في هذا المحلّ [، لهان عليه] (3) بناءً على أصل بقاء السمع، وكل ما يؤدي إلى تعطيل أثر الجناية، فهو غير محتمل من الشرع، وهذا أصلٌ ثابت في قواعد الحجج، وكل ما يمكن الوصول إلى اليقين فيه من غير تعذر ظاهر، فهو المطلوب، وإن عسر الوصول إلى [اليقين] (4) من غير تعذرٍ ظاهر، وشرُف قدرُ المدعَى، [فقد يقع الاكتفاء فيما لا تبلغ ديته ديةَ النفس بالإشهاد عليها كذلك، فإنها لا تستند إلى يقين نظر] (5)، ولو لم تثبت بالبينات، لأدى هذا إلى تعطل أعظم المقاصد في الدنيا، والشهادة على النفي مردودة، ثم هي على الضرورة مقبولة في الإعسار، وفي أنه لا ولد للميت سوى من حضر. هذا مأخذ الكلام في ادعاء نقصان السمع. ولو قال المجني عليه: لست أسمع بإحدى الأذنين أصلاً وعيّنها، قرب امتحانه بأن تصمّم الصحيحة، ونمتحنه في الأخرى حَسَب امتحان من يدعي زوالَ السمع أصلاً. وإن ادعى نقصان السمع من إحدى الأذنين، ولم يدّع ذهابه، [امتحنا] (6) هذه الأذن بالأخرى، وإن كان ذلك أقرب من الاعتبار بشخص آخر، فنصمم العليلة ونعتبر [منتهى] (7) السماع في الصحيحة، كما تقدم، ثم نصمم الصحيحة، ونطلق العليلة ونضبط ما بين السمعين بالمسافة، ونوجب ذلك القسط من نصف الدية. هذا مسلك الكلام.

_ (1) في الأصل: "صدور". (2) في الأصل: "التعديل". (3) في الأصل: "لها وعليه". (4) في الأصل: "النفس". (5) عبارة الأصل: "فقد يقع الاكتفاء بما لا تبلغ ديته النفس والإهلاك عليها كذلك، فإنها لا تستند إلى تعين نظر" وواضح ما فيها. والمثبت من تصرف المحقق. (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: "منهن".

10598 - والذي أشرنا إليه في صدر الفصل أن السمع ليس من المثاني، فهذا أوان بيانه، وحذف (1) الأصحاب إطلاق القول [بأن] (2) الجناية إذا أصمّت إحدى الأذنين، فالواجب نصف الدية؛ من هذا تخيل ما تخيل من قال: إن السمع ينقسم [كانقسام] (3) البصر، وهو من المثاني، ومن تخيل من العلماء أن إحدى العينين إذا أخلّت (4) انقلبت قوة البصر إلى العين الأخرى لست أدري [ما رأيه] (5) في السمع إذا لم [يبق] (6) في أذنٍ [والذي] (7) أشرنا إليه [مذهب مالك] (8) في البصر كما سيأتي. وكان شيخي أبو محمد رضي الله عنه يمتنع من قطع القول بإيجاب نصف الدية في صمّ إحدى الأذنين، ويصير إلى أنا نعتبر ما نقص في السمع بحالة الكمال، ويقرّب القول في درك النقصان ونسبته إلى السمع قبل الآفة، وهذا الذي ذكره، وإن كان قياساً بيّناً إذا حكمنا بأن السمع ليس من المثاني، فاعتبار [النظر] (9) عند صمم إحدى الأذنين أقرب إلى معرفة جزئيّة النقصان من ذرع المسافات في اعتبار النقصان والكمال، فالوجه ما ذهب إليه الجمهور من تعليق شطر الدية [بصمّ] (10) إحدى الأذنين، لا لأن السمع من المثاني، ولكن لأن هذا معتبر قريب في مقدار النقصان. فهذا بيان مضطرب الأصحاب في ذلك.

_ (1) حذف: بمعنى أطلق ورمى، وهذا اللفظ يستعمله إمام الحرمين بهذا المعنى كثيراً. (2) في الأصل: "فإن". (3) في الأصل: "بانقسام". (4) أخلت: المراد ذهب ضوؤها أو قل إدراكها، من قولهم: أخل بكذا إذا أجحف وقصر فيه (المعجم). وقد تكون الكلمة مصحفة عن كلمة أخرى بمعنى داء من أدواء العيون. (5) في الأصل: "دايه". كذا تماماً. (6) في الأصل: "ببعد". (7) في الأصل: "فالذي". (8) في الأصل: "فذهب ملك". ومذهب مالك أن في عين الأعور ديةً كاملة؛ فإن قوة الإبصار تنصب كلها إلى العين الباقية إذا ذهبت الأخرى. (9) في الأصل: "النظير". (10) في الأصل: "بضم".

10599 - ومن تمام الكلام فيه أن أهل البصيرة إذا قالوا: لطيفة السمع باقية في مقرها من الدماغ، ولكن ارْتتق بالجناية داخل الأذن [ارتتاقاً لا وصول] (1) إلى زواله، والسمعُ باق بحاله، فهذا في حكم جنايةٍ على الأذن، أو على داخلها، وليس السمع حالاًّ في باطن الأذن، فكيف السبيل إذا تصورت المسألة كذلك؟ فنقول: سيأتي اختلاف الأصحاب في مسألة تناظر هذه: وهي أن المولود إذا كان ولد أصمّ، فإنه لا ينطلق لسانه وإن كان صحيحاً، وعلامةُ صحته وحركاتُه لا تخفى على ذوي البصائر، ولكن الصبي إنما [ينطق متلقياً] (2) مما يسمعه، فإذا لم يسمع لم ينطق، ولو قطع اللسان منه، ففي وجوب الدية فيه خلاف، والأصح أنه لا يجب؛ لأن المنفعة المعتبرة في اللسان النطق، وهو مأيوسٌ منه. فهذا عضو صحيح تقاعدت منفعته لا لآفةٍ فيه، فالْتحق بالعضو المأووف. فإذا ظهر هذا، عُدنا إلى مسألتنا، وقلنا: إذا لم يكن للسمع نفوذ، فهو متعطل بالكلية؛ فالوجه قطع القول بإيجاب الدية، وليس يخرج هذا على الخلاف الذي أشرنا إليه في لسان الصبي الأصم؛ فإن صحة لسانه معلومة أو مظنونة ظناً معتبراً في الشرع، ولسنا نثق ببقاء السمع والسلامة، فنبني الأمر على تقدير زوال السمع. 10600 - فقد انتظم في السمع أمور بديعة: منها أنه ليس حالاًّ في الأذنين، وإنما هو لطيفة في مقرها من الرأس، وارتتاق منافذ الأذنين يوجب دية السمع، والمعاني التي لا تحلّ الأعضاء لا تضمن دياتها بالجناية على الأعضاء التي ليست محلاًّ لها، ومن البدائع أن السمع ليس من المثاني وله حكم المثاني، فإن الجناية التي تصمّ إحدى الأذنين موجبها نصف الدية، ولا تعويل على ما كان تردد قوله (3) فيه، ثم أوجبنا مع هذا كلِّه الديةَ في أذن الأصم، فلا منفعة في الأذن تعقل إلا ردّ الصراخ إلى الصماخ، وهذه الأشياء مجموعها يتخيلها الفطن خارجة عن القوانين، والفقيه يتلقاها بالقبول؛ فإنها جارية على القياس اللائق بالباب.

_ (1) في الأصل: "أرشا ولا وصول". (2) في الأصل: "ينطلق متلفاً". (3) يشير إلى ما كان من تردد شيخه الشيخ أبي محمد، الذي ذكره آنفاًً.

فصل "وفي ذهاب العقل الديةُ ... إلى آخره" (1). 10601 - الجناية المزيلة للعقل موجبها الدية الكاملة؛ فإن العقل أشرف المعاني، وهو مِلاك البدن، ثم لم يتعين للشافعي محلُّه، وأتى منه بهذا السبب ترددٌ في أمر نذكره في مساق الفصل. قال رضي الله عنه: "إذا ظهر زوال العقل مرتباً على الجناية، وجبت الدية" ويمكن تقدير امتحانٍ فيه، [إذا] (2) اتهمنا المجني عليه [بالتشبه] (3) بالمجانين، وهو سهل لا عسر فيه، [وذلك] (4) إذا اتبعناه وراقبنا خلواته، فقد نعثر منه على انتظامٍ في أفعال العقلاء وأقوالهم، فنمتحنه بهذا المسلك، فإن لم نعثر على أمرٍ مخالف لما ظهر منه، [فيبعد] (5) الاعتصام باليمين أيضاًً، وهذا يناظر ما إذا ادّعى [الصبي] (6) البلوغ، فإنا نصدقه؛ ولا نطلع على هذا إلا من جهته، فذهب المحققون إلى أنه لا يحلّف؛ من جهة أنه لو كان صادقاً، فلا معنى لتحليفه، فإن كان كاذباً، فهو صبي إذاً، والصبي لا يحلف [سبق ذكر ذلك] (7) في كتاب الحجر، فإذا كنا لا نحلّف من يدّعي البلوغ لغائلة توجد من دوائر الفقه، فكيف نهجم على تحليف مجنون؟ ولو كان يجن أياماً ويُفيق أياماً، كان هذا من [اختلال] (8) العقل، ثم رأى الأئمة اعتبار [الإفاقة بالزمان] (9) من الجنون والعقل، وهذا أقرب معتبر ممكن، وإذا كنا

_ (1) في المختصر: 5/ 130. (2) في الأصل: "وإذا". (3) في الأصل: "بالشبهة". (4) في الأصل: "ولكن". (5) في الأصل: "فيتعد". (6) في الأصل: "المشاهد". والمثبت لفظ الغزالي في البسيط. (7) في الأصل: "سنذكر ذلك". (8) في الأصل: "اختلاف". (9) في الأصل: كلمتان غير مقروءتين رسمتا هكذا: "القفار والبقايا" كذا تماماًً.=

نفرح (1) باليمين حيث لا متعلق غيرها، فإذا ظهر [إمكانه] (2)، تمسَّكْنا به، ثم إذا عقل أمكن تحليفه في زمان العقل إن اتهمناه في التشبه بالمجانين. 10602 - قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قطع الجاني يدي رجل وزال عقله، فالواجب دية أو ديتان" فعلى قولين: أحدهما - تجب ديتان، وهو الذي لا ينقدح [غيره] (3) في القياس، فإنا نقطع بأن العقل ليس على اليدين، ومن الأصول الممهدة أنه إذا زال معنىً عند قطع عضو ولم يكن ذلك المعنى حالاًّ فيه، فإنا نوجب في العضو بدله، وفي المعنى الفائت أرشه. والقول الثاني - أنا لا نوجب إلا ديةً واحدة، إذا قطعت اليدان وزال العقل؛ فإن العقل ليس له محل متعين حتى يجتنب موقعه، ولا يُعد مجتنبُ محله هاجماً عليه، وإذا كان كذلك، كان إضافة إلى عضو بتأويل إن كان قَطْعُ ذلك العضو مفضياً إلى زواله، والحلول الذي اعتبرناه سببه أن قطع العضو يزيل ذلك المعنى، فإذا هجمت الآلام أوشك أن يزول بها العقل، كما أن الروح ليس يتعين له محل، وإذا زال، تعينَ الحكمُ [بالإدراج] (4). ثم لفظ الشافعي يشير إلى أن الواجب ديةُ العقل وديةُ اليد مندرجةٌ. وهذا فيه اضطراب؛ فإن الأطراف إنما تدرج تحت النفس؛ من قبل أنها تتعطل بفوات الروح، والأعضاءُ لا تتعطل بفوات العقل، فإن جوارح المجنون مضمونة بالديات، فليتأمل الناظر ذلك. فلو أتبعنا دية العقل ديةَ اليد، كان بعيداً، ولو أتبعنا دية اليد ديةَ العقل، لم يكن على قياس إتباع الأطراف، وبهذا يظهر ضعف القول.

_ = والمعنى قياس الإفاقة والجنون بالزمان، وإيجاب أرش العقل بالنسبة لأيام جنونه. (1) كذا (تماماًً رسما وضبطاً) والمعنى مستقيم بها، وإن لم نعهدها في لغة الإمام ولا الفقهاء. والله أعلم. (2) في الأصل: "على". (3) في الأصل: "عندنا". (4) في الأصل: "بالإرداع".

ولو قطع يداً، فزال العقل، والتفريع على القول الضعيف، [فالواجب] (1) ديةٌ، فلو قطع يدين ورجلين، فزال العقل، وجبت ديتان (2)، وهذا يُبَيِّن أن الأطراف لا تتبع العقل، كما تتبع الروح. وذكر القاضي: أن الجراحة إذا لم يكن أرشها مقدراً، وترتب عليها زوال العقل، اندرج الأرش في دية العقل، قولاً واحداً. وهذا ليس بشيء؛ فإن عدم التقدّر لا يغير من عوض المسألة شيئاًً، وليس لقول الإدراج في الأرش المقدر من الثبات ما يوجب هذا التفصيل، والوجه إجراء القولين في الأرش كان مقدراً أو غير مقدر. فصل قال: "وفي العينين الدية ... إلى آخره" (3). 10603 - لطيفة البصر مضمونة [بالدية] (4) وهي من أشرف المعاني، واتفق علماؤنا على أنها منقسمة على العينين حالّةٌ فيهما، فتكون إذاً من المثاني، فإن ادعى المجني عليه ذهابَ البصر من عينيه، سهل [اختباره، فنغافله ونقرب] (5) حديدةً أو غيرها من عينيه، وننظر هل يطرف؟ ويعسُر التماسك في هذا. ثم إذا كان لا يطرف، ولا يُتبع الشخص بصرَه، ولا يحدّق في صوب حدقتي من يخاطبه، ظهر صدقُه، ثم نحلفه مع هذا. وإذا ادّعى نقصان البصر في العينين، أو في إحداهما، فسبيل الامتحان وضبط

_ (1) في الأصل: "والوجه". وقوله: فالواجب دية، على القول في اندراج دية اليد في دية العقل، وإلا على القول الآخر، فالواجب دية ونصف، للعقل واليد. (2) هذا على الاندراج أيضاً، حيث يندرج الأقل في أكثر، فاندرجت دية العقل في دية الأطراف. وإلا فيكون الواجب ثلاث ديات. (3) ر. المختصر: 5/ 130. (4) في الأصل: "باليد". (5) في الأصل: "اصاره معلمه ويرى" كذا تماماًَ.

مقدار النقصان ما قدمناه في السمع، فلا نعيده. والجناية على عين الأحول والأخفش (1) إذا أزالت البصرَ، توجب الدية الكاملة، وإن لم تُزل إلا بصراً ضعيفاً، وهو بمثابة ما لو جنى على يد ضعيفٍ في البطش، فأشلها، فإنه يلتزم ما يلتزمه بإشلال اليد الأيّدة التامة القوة، وسأعقد في بيان هذا وأمثاله فصلاً، إن شاء الله. 10604 - ثم ذكر الشافعي أن الجاني إن أنكر بصر المجني عليه قبل الجناية، فكيف الوجه؟ وهذا أمرٌ تقدّم ذكره، وغرضه بإعادته أن المجني عليه إذا أقام شاهدين على أنه كان بصيراً قبلُ، ثبت المقصود. والشاهد يَعتمِد في الشهادة على البصر ما ذكرناه في طريق الامتحان، [ويستبين] (2) بصرَ البصير بقرائن الأحوال على الضرورة، ثم ينبغي أن يجزم الشهادةَ في مجلس الحكم، وله أن [يجزمها] (3) إذا وثق بالمخايل التي ذكرناها، ولو أنه لم يجزم الشهادة وذكر الأحوال التي ابتنى عليها علمُه بالبصر، فالقاضي لا يقضي به. فإن قيل: إذا كان له أن يشهد تعويلاً على ما ذكر، ولا معوّل له في تحمل الشهادة غيرُه، [فلم لم] (4) يعتمده القاضي؟ قلنا: لا تحيط العادة بما يفيد العلم من قرائن الأحوال، وهي تدق عن مدارك الأوصاف، وإنما يحيط بها [العِيان] (5)، والقاضي لا يحلّ محل الشاهد فيما استفاده من العلم بزعمه، فليجزم الشهادة، ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه: أن الشهادة سبيل تحملها على منافع سائر الأعضاء تعويلاً على المخايل كما ذكرناه في البصر.

_ (1) الخَفَشُ صغر في العينين وضعف في البصر، مصدرٌ من باب (تعب) والذكَر (أخفش) والأنثى (خفشاء) وهو خِلْقةٌ، وصاحبه يبصر بالليل أكثر من النهار، وفي الغيم دون الصحو (المصباح). (2) في الأصل: "ويستعين". (3) في الأصل: "يلزمها". (4) في الأصل: "فلو لم". (5) في الأصل: "العينان".

فصل قال: "وفي الجفون إذا استؤصلت الدية ... إلى آخره" (1). 10605 - لا خلاف أن الدية تكمل في استئصال الأجفان وهي أربعة؛ ففي كل جفن ربع الدية [وكل متعدّد على البدن ضمنت منه المنفعة] (2) وله أرش مقدر، فذلك الأرش يتوزع على الآحاد على مقتضى العدد، فإذا وجب في أصابع اليدين الدية، وهي عشرٌ، وجب في واحدة منها عُشر الدية، وهذا يجري مطرداً في كل ما يتعلق بجملته دية. ومن الأعضاء [ما لم يرد] (3) في الشرع تعليق الدية بجملتها، وقدّر إثبات المقدر في آحادها كالأسنان، ثم الدية إنما تكمل في الأجفان إذا استؤصلت، واستئصالُها بقطع جميع ما يتجافى حتى لا يبقى منها شيء، وإذا قطع العظم من جفنٍ، فقد تتقلّص المآقي، وهو معدود من الجفن لا تتم الدية دون استئصالها. ولو جنى الجاني على الأهداب، فأفسد منبتها، غرِم الحكومة لا محالة، وإذا استأصل الأجفان بعد زوال الأهداب، أُلزم بالأجفان [الديّةَ] (4) التامة لا شك فيه، وإذا استأصل الأجفان وعليها الأهداب، وألزم الدية في الأجفان، فهل يلتزم مع الدية الحكومة في الأهداب؟ ذكر العراقيون والقاضي وجهين: أحدهما - أنه لا يلتزمها؛ فإنها على الأجفان، وقد ضمن الأجفان بديتها، والقياصُ أن نُتبع الأهدابَ كلها، ولا خلاف أن من أوضح رأس رجل استأصل قطعةً من جلد رأسه واللحم تحته، فلا يلتزم إلا أرش الموضحة، فإذا كنا نتبع شعرَ الرأس أرش الموضحة بلا خلاف، وجب أن نُتبع الأهدابَ الجفون.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 130. (2) في الأصل: "أو كل فقدر على البدن أحسن منه المنفعة وله أرش ... " هكذا تماماًً، وأنت ترى ما فيها. والله المستعان. (3) في الأصل: "ما لم ير". (4) في الأصل: "الحكومة".

والوجه الثاني - أنا نفرد الأهداب بالحكومة؛ فإنها عظيمة الوقع في الحال، وإذا زالت شوّهت العينين، وفيها منفعة على حال؛ فإنها تُسْبل في ثوران [الرياح] (1)، فتدرأ الغبار ولا تمنع نفوذ البصر، وليست كشعر الرأس، فإنه ليس فيها منفعة بها مبالاة، فاتجه فيها أن تُتْبع. وكان شيخي يقطع بالتبعية. ثم إذا أوجبنا في كل جفن ربعَ الدية، ففي بعض الجفن بعض الربع إذا أمكن [نسبة] (2) ما قطع [لما] (3) بقي. وبالجملة [إنا نتشوف إلى التقدير جهدنا، طالما وجدنا إليه سبيلاً، ولا نتجه للحكومة إلا عند تعذر إمكان التقدير] (4) ثم إن الحكومة بالاجتهاد تنتهي إلى إثبات قدرٍ يراه مَنْ إليه الرجوع، ونوجب بحسب هذا في قطع بعض الأذن مقداراً إذا انتظم له النسبة، وقد يُشكل الأذن من جهة اختلاف خلقته وشخوص [غضروفه] (5) ولو أردنا أن نعتبر شحمة الأذن بالصدفة الغضروفية ذات العضو، لم نتمكن منه إلا على وجه التقريب. ففصل قال: "وفي الأنف إذا أُوعي مارنُه جدعاً الدية ... إلى آخره" (6). 10606 - في الأنف الدية الكاملة، وتتم الدية بالمارن -وهو ما لان منه-[فإذا] (7) استؤصل وانتهى القطع إلى القصبة، فلم يبق شيء -منه- شاخص [في] (8) الوجه، كملت الدية فيه.

_ (1) في الأصل: "الصحاح". ولم أجد لها معنى، ولا هي من أسماء الريح. (2) في الأصل: "سببه". (3) في الأصل: "فيما". (4) في الأصل: "إنا نسوف إلى التقرير جهة، فأما إذا وجدنا إليه سبيلاً، ولا ينهم الحكومة إلا بعد أن إمكان التقدير". (5) في الأصل: "عصوته". (6) في المختصر: 5/ 131. (7) في الأصل: "إذا". (8) في الأصل: "منه".

ثم المارن [منخران] (1) وحاجزٌ بينهما، فلو قطع الجاني أحد المنخرين، وبقي الحاجز والمنخر الآخر، ففيما يجب في المنخر طرق للأصحاب: منهم من قال: فيه ثلث الدية؛ فإن أقسام المارن ثلاثة: منخران وحاجز، وفي كل قسم منفعة، ولا نظر إلى أقدار المنافع، [كالأصابع] (2)؛ فإن منافعها متفاوتة وأروشها متساوية، هذا وجه. ومن أصحابنا من قال: يجب في المنخر الواحد إذا قطع وإن بقي الحاجز نصفُ الدية؛ فإن المقصود من المنفعة في المنخر، والحاجزُ كالتابع، وهو يجري من المنخرين من حيث إنه منزلُهما منزلةَ الكف من الأصابع، فالدية تنقسم على المنخرين انقسامهما على [المثاني] (3)، فالمنفعة لظاهر الأنف -[بعد الجمال- منعُ الهوام] (4) من مصادمة الخيشوم المتصل بالعظم المُشاشي، ولا ينتفع الأجدع ما لم يتخذ أنفاً من جوهر من الجواهر، وهذه المنفعة ليس منها للحاجز بين المنخرين كبير وقع، ولعل أثر الحاجز في [دفع الغبار وتعطيل ما يسيل من رطوبات الرأس] (5)، حتى يجري على تدريج؛ ثم تدركه الأنفاس فيجف، ومنفعة الكف أظهر من منفعة ذلك. وذكر بعض المصنفين (6) وجهاً أن الواجب [في] (7) أحد المنخرين حكومة، وهذا

_ (1) في الأصل: "منجدان". (2) في الأصل: "بالأصابع". (3) في الأصل: "المباني". (4) عبارة الأصل: بعد عما ومنع الرام من مصادمة الخيشوم ... ، وهو تصحيف عجيب والمثبت من كلام الغزالي في البسيط، وعبارته بتمامها: "لأن منفعة المارن بعد الجمال منع الهوام من مصادمة الخيشوم المتصل بالعظم المُشاشي، ولا بد للأجدع من اتخاذ أنفٍ لذلك" (البسيط- جزء (5) ورقة 54 يمين وشمال). وظاهر تمام الظهور أن عبارة الغزالي هي بعينها -تقريباً- عبارة شيخه الإمام. (5) في الأصل: "وقع الرهز وتعليل ما يسيل من رطوبات الرأس". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق وألفاظ الرافعي. (6) سبق أن أشرنا أن الإمام يقصد بهذا اللفظ أبا القاسم الفوراني، وقد صرح باسمه الغزالي في البسيط، فقال: "وذكر الفوراني وجهاً أن الواجب في أحد المنخرين الحكومة، وهذا هوسٌ بيّن" (السابق نفسه) وهو قد نقل عبارة شيخه ولكنه زاد في قسوة الحكم على (الفوراني). (7) في الأصل: "من".

ساقط؛ فإنا ذكرنا أن ما تجب الدية فيه تجب [أقدار الدية في أفراده] (1)، كما ذكرنا في الأجفان والأذن. وإن عَنَى بالحكومة أنا لا نوجب نصفاً ولا ثلثاً، ولكن نُثبت [بالنسبة] (2) إلى ما بقي، فهذا أوجه الوجوه عندي، وعبارة الحكومة في هذا المعنى زللٌ، فليُعتقد هذا الوجه الثالث، على هذا النسق. 10607 - ومما يتم به التفريع في ذلك أن من أوجب في المنخر الواحد الثلثَ -جرياً على ما ذكرناه في توجيه ذلك الوجه-[يوجب في الحاجز إذا أفرد الثلثَ] (3) وغالب ظني أني سمعت الإمام (4) يذكر ذلك، ولست واثقاً به على التحقيق، والذي صرح به الأصحاب أن واجب [الوترة] (5) لو أفردت بالإبانة الحكومة، وهذا تخليط بإبطال الثلث (6). ولو قطع قاطع القصبة بعد قطع المارن، وهي العظم يلتزم حكومةً، ولو قطع الجاني المارن والقصبة معاً، فظاهر المذهب أنه لا يلتزم إلا ديةً واحدة؛ فإن اسم الأنف يتناول الكل، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوجب في الأنف الدية. ولو قطع قاطع شيئاًً من طرف المارن، فظاهر المذهب أن الدية مقسطة على المارن لا على الأنف من أصله، وسأجمع في هذا وفي الحشفة والذكر، والجملةِ (7) واليدين، وما يظهر من السن مع سِنْخه فصلاً كاملاً في معناه، حاوياً لطرق الأصحاب.

_ (1) عبارة الأصل: "يجب إبدار الدية في إقراره". (2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، والمثبت على ضوء ما حكاه الرافعي عن الإمام. (3) زيادة اقتضاها السياق. وهي مأخوذة من معنى ما قبلها وما بعدها. (4) الإمام: يعني والده. (5) في الأصل: "الدية". والمراد بالوترة الحاجز، واخترنا لفظ (الوترة) لأنه أقرب صورة للمرسوم بالأصل، والرافعي ردَّد (الوترة) مكان الحاجز أكثر من مرة. (6) الذي نقله الإمام عن تصريح الأصحاب، معارض بما حكاه الرافعي عن أبي علي الطبري، وأنه يوجب ثلث الدية لو رفع الحاجز وحده. (ر. الشرح الكبير: 10/ 361). (7) المراد بالجملة النفس وديتها.

ولو جنى الجاني على الأنف، فاستحشف، وسقط حسُّه، ففيه الخلاف الذي ذكرناه في استحشاف الأذن؛ فإن هذا العضو مستحشفاً وحساساً على حدٍّ قريب في المنفعة. 10608 - ثم الشمُّ لطيفة مضمونة بالدية الكاملة [كالسمع] (1) والبصر. وفي بعض الطرق وجهٌ غريب أن الشم لا يضمن بالدية الكاملة، وعلى [مزيله] (2) الحكومة. وهذا القائل يزعم أن الانتفاع بالشم من استنشاق الدماغ [للطيب، والتأذي] (3) بالإنتان أكثرُ من التلذذ بالروائح الطيبة (4)، وهذا خيال لا أصل له، وهو أحد الحواس فلا وجه إلا القطع بمقابلته بالدية الكاملة، وهذا الوجه حكاه صاحب التقريب وغيره من الأئمة. وفي أنف الأخشم (5) ما في أنف صاحب الشم، كما ذكرناه في أذن الأصم والسميع. وإذا ادعى المجني عليه زوالَ الشم، امتُحن بأن يتغفل ونُدني -في غفلاته- من أنفه رائحةً ذكية طيبة أو منتنة، والغالب أنه يتأثر بها انبساطاً واستبشاراً] (6) أو [انزواءً] (7) وانقباضاً، ثم نبني على ذلك ما قدمناه من خلافه مع الامتحان. وإذا ادّعى نقصاناً في الشم، فليس معنا فيه معتبر -كما تقدم في السمع والبصر- فلا حاجة إلا الرجوع إلى المجني عليه، فنقول له: أنت أعرف بمقدار الخلل، فاذكره واحلف، يَغْرَم لك الجاني، وإن لم يذكر لنا مقداراً، وهو المدعي، وهو كمن يرى

_ (1) في الأصل: "بالسمع". (2) في الأصل: "تنزيله". (3) في الأصل: "الطيبة ولا يتأذى" والتصويب من كلام الغزالي في البسيط. (4) عبر عن هذا الغزالي في البسيط بألفاظ الإمام تقريباً، فقال: "وفي بعض الطرق وجه غريب أنه لا يضمن بكمال الدية، فإن التضرر به لكثرة الإنتان أكبر من التلذذ مع قلة الطيب، وهذا هوس" ا. هـ (السابق ورقة 61 يمين). (5) المراد بالأخشم هنا من فقد حاسة الشم. (المصباح). (6) في الأصل: "واستيثاراً". (7) غير مقروءة في الأصل. والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط.

شيئاً مجهولاً وسبيله في نفسه أن يأخذ بالأقلِّ المستيقن. وقد يخطر للناظر في أثناء هذه الفصول تقدير عَوْد بعض هذه اللطائف، بعد ظننا زوالها، وسأجمع ذلك كلَّه عند ذكر التفصيل في عَوْد السن من المثغور وغير المثغور. فصل قال: "وفي الشفتين الدية ... إلى آخره" (1). 10609 - لا خلاف في وجوب الدية في الشفتين، وهما من المثاني عندنا، وفيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية، ولا نفضّل العليا على السفلى، وقال مالك (2):

_ (1) ر. المختصر: 5/ 131. (2) بالبحث في مصادر الفقه المالكي لم نجد هذا الذي نسبه الإمام إلى مالك رضي الله عنه لا في القوانين الفقهية لابن جزي، ولا في حاشية الدسوقي، ولا في المعونة للقاضي عبد الوهاب، ولا في الكافي لابن عبد البر، ولا في شرح الحطاب، ولا في جواهر الأكليل، ولا في الأشراف للقاضي عبد الوهاب، ولا الشرح الصغير ولا الرهوني ولا حاشية العدوي ولا منح الجليل بل وجدنا القاضي يقول في الإشراف: روي عن زيد بن ثابت لا أن في العليا ثلث الدية، وفي السفلى ثلثيها" (عكس ما حكاه الإمام عن مالك) ولم يقل به مذهباً للمالكية بل نص على أن في كل واحدة من الشفتين نصف الدية وأكّد ذلك بتشبيههما باليدين. أما في المدونة فقد وجدنا القطع والجزم بأن هذا ليس مذهباً لمالك ونص عبارتها: "قلت: أرأيت الشفتين أهما سواء عند مالك؟ قال: نعم هما سواء في كل واحدة نصف الدية. وليس يأخذ بحديث سعيد بن المسيب" ا. هـ ومما يجب تسجيله من ملاحظات أننا وجدنا مالكاً في الموطأ يروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: "في الشفتين الدية كاملة، فإذا قطعت السفلى ففيها ثلثا الدية" (وهو عكس ما حكاه إمام الحرمين عن مالك). ثم وجدنا في مصنف عبد الرزاق يروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: "في الشفة السفلى ثلث الدية وفي العليا ثلثا الدية". قلت: الله أعلم أيهما نقل الصواب! ثم لسنا نقطع بمصدر هذا الوهم الذي قاله الأمام، ولا نعرف سرّه، فلو لم نجد هذا القطع بخلافه في المدونة، لكان هناك احتمال بأن يقال: إنه كان قولاً عند متقدمي المالكية، ثم استقرّ المذهب على غيره. ولكن المدونة قطعت قول كل خطيب. (ر. الموطأ: 2/ 856، المدونة: 4/ 437، مصنف عبد الرزاق: 17478، =

في العليا ثلثا الدية، وفي السفلى ثلثها. ثم أول [ما نُعنى] (1) به ذكر حدِّ الشفتين، وقد اختلف عبارة أصحابنا، فقال بعضهم: الشفة العليا حدّها في كمال الدية ما يستر اللثة وعُمورَ (2) الأسنان في طول الوجه، ومن الشدق إلى الشدق في عرض الوجه، وكذلك القول في الشفة السفلى. وعبر آخرون عن ذلك بعبارة أخرى، وهي أشفى مما ذكرناه، مع أنه لا خلاف في المعنى، فقال: الشفة العليا تتجافى في محاذاة الوترة من الأنف، ثم ترتق عندها، فنعبّر خطاً على مسامتة موضع الارتتاق والانتهاء إلى الشدق. وهذا [موقع] (3) التعليل، فإنا على قطع نعلم [أنا] (4) لا نبغي مزيداً [عن] (5) موضع الارتتاق، فإذا وضح ذلك، فلا وجه للتعليل إذا جاوزنا هذا المحل، حتى [نعوج] (6) الخط من طرفيه اعوجاج الحاجب بموضع الاتصال إذا سوَّرَ الناظرَ، فليعتبر، وهذا القول يتحقق في الشفة السفلى، فإنها ترتتق في جهة العَنْفَقة ثم نعتبر القطعَ من الجانبين على مسامتة منتهى التجافي إلى محاذاة الشدقين، ثم نعتبر القطعَ في طول الوجه إلى الشدق، كما صورناه في الشفة العليا، والذي أتخيله [أن مَنْ] (7) راعى منتهى التجافي، فقوله يخالف قول من يعتبر انكشاف اللثة؛ فإن اللثة هي التي تستر سِنْخ (8)

_ = الإشراف: 2/ 827 مسألة 1585، القوانين الفقهية: 334، الكافي لابن عبد البر: 598، المعونة: 3/ 1328، منح الجليل: 9/ 109). (1) في الأصل: "يعمى". (2) العمور جمع عَمْر، وزان فلوس جمع فلس، وهو اللحم الذي بين الأسنان (المصباح). (3) في الأصل: "مواقع". (4) في الأصل: "أن". (5) في الأصل: "في". (6) في الأصل: "نعرم". (7) في الأصل: "أو من راعى". * تنبيه: نذكر أن نسخة الأصل وحيدة، فليس ما تراه في الحواشي فروقَ نسخٍ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وتوسمه. والله الهادي إلى الصواب. (8) سنخ كل شيء أصله، وهو بكسر السين، والجمع أسناخ (المصباح).

السن، ووراء سنخ السن ما ليس مركبَ السن، ومنتهى التجافي وراء مركبات الأسنان. وذكر شيخي رضي الله عنه أن الدية تكمل بقطع ما ينتؤ من الشفتين إذا انطبقتا (1)، وهذا [الفارق] (2) مقصود، وهو قريب، فإنا [سنوضّح] (3) أن المرعي هذا القدر في الشفتين. وإذا جمعنا هذه العبارات، انتظم منها خلاف ظاهر في المعنى، ولو قيل: إذا قطع من العليا ما لم ينطبق معه (4) ما بقي على السفلى، مع تقدير (5) السفلى، وقطع من السفلى ما لا ينطبق -مع تقدير (6) العليا- على العليا حتى يحصل بقطعهما امتناع الانطباق، كان قريباً (7)، ويمكن أن نعزي (8) هذا إلى المذهب؛ فإني لم أقله حتى رأيت مرامز في كلام الأئمة تشير إلى [مراعاة فَرْق] (9) الانطباق، ولم يختلفوا في أن الأجفان يراعى استئصالها، والسبب فيه أن منفعتها تستر [الحدقة] (10) فحسب، ولا يتحقق كمال الجناية إلا بالاستئصال، وفي الشفتين منافع متصلة بالأجزاء المتصلة بها، وكان سببُ التردد ما نبهنا عليه، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى أخذ شيء من الشدق، [في] (11) عرض الوجه، وإنما المقطوع من الشفتين منحدر بالانتهاء إلى الشدقين.

_ (1) هذا هو التحديد الثالث للشفتين. (2) في الأصل: "يفارق". (3) في الأصل: "نستوضح". (4) معه: أي مع القطع. والمعنى ما لم ينطبق ما بقي منه على السفلى. (5) أي مع تقدير بقائها. (6) في الأصل: "تقرير". (7) هذا هو الوجه الرابع في تحديد الشفتين، وهو من تخريج الإمام، خرّجه من مرامز كلام الأصحاب، كما سيشير إلى ذلك في كلامه الآتي. (8) نعزي: الفعل (عزا) واويٌّ ويائي، ويكثر الإمام من استعماله بالياء. (9) في الأصل: "من عليه فوق الانطباق". (10) في الأصل: "الحرية". (11) في الأصل: "وفي".

فصل 10610 - إذا قطع الجاني شيئاًً من الشفة العليا أو السفلى، ولم نر ذلك -من [طريق التقدير] (1) - الشفةَ الكاملة، ولكن تقلص محل القطع، وانكشف ما تحته انكشافاً، وبلغ الحدَّ المعتبر في استئصال الشفة، [فقد] (2) اختلف أصحابنا في هذه الصورة، فمنهم من نظر إلى القدر الذي قَطَع الجاني وإلى القدر الذي أبقاه ووزع الدية. ومنهم من قال: إذا انكشف ما اعتبرناه على كماله بسبب التقلّص، فهو كما لو انكشف بسبب القطع والاستئصال، فتجب الدية الكاملة إن حصل تمام الانكشاف، وهذا القائل يحتج بأن الدية تكمل بالقطع مرة وبإبطال المنفعة أخرى، والمنفعة المقصودة الظاهرة من الشفة سترُ ما تواريه الشفة، وإذا أورثت الجناية الانكشافَ التام فالجِرْمُ المتقلص ساقطُ المنفعة، بمثابة اليد الشلاء، ولو قطع رجل إصبعاً وأشل الأصابع الباقية، التزم تمام الدية، كذلك هاهنا، وهذا متجهٌ حسن. فصل (3) قال: "وفي اللسان الدية ... إلى آخره" (4) 10611 - لا خلاف أن اللسان عضو شريف فيه دية، وقد نص الشارع عليه في الصحائف المشتملة على أروش الجنايات، وصَدْرُ الفصل أن اللسان عضو ديةٍ، ومنفعتُه المعتبرةُ في الأرش الكلامُ، وهذه المنفعة حالّةٌ فيه، وليست كالسمع

_ (1) في الأصل: "طرق المقدار". (2) في الأصل: "وقد". (3) هذا الفصل أخره الناسخ عن الفصل الذي يليه، وقدمناه نحن رعاية للترتيب؛ فإن الفصل الآخر يعتبر فرعاً عنه وتكملة له، ويبدو -والله أعلم- أن الناسخ بسبب رجع للبصر نسخ أولاً، ثم عاد فنسخ هذا بعده، وفاته أن ينبه على ذلك، أو لم يشأ أن ينبه. ولا مجال للظن بأن الخلل كان في ترتيب النسخة التي كان ينقل عنها؛ فإن ذلك الفصل على أي وجهٍ لا يكمل صفحة بأي حجم. (4) ر. المختصر: 131/ 5.

بالإضافة إلى الأذنين، والشمِّ بالإضافة إلى الأنف، ولا التفات إلى الأطراف، ولكن المنفعة الظاهرة هي المعتبرة، ثم الكلام ينتظم من الحروف، وهي أصواتٌ منقطعة على مخارج لها، والحروفُ التي منها انتظام الكلام ثمانيةٌ وعشرون، ولام ألف حرفان [كررا لغرض] (1) لا يليق استقصاؤه بما نحن فيه. فلو فرضت جناية انتقص بها بعض الحروف، فيقع التوزيع على ما فات وبقي، ثم الذي صار إليه جماهير الأصحاب أن التوزيع على الثمانية والعشرين. وذهب الإصطخرىِ إلى أن الحروف [الحَلْقية] (2) تُستثنى من جملة الحروف، وكذلك الشفوية، وهي الميم والباء، ويقع التوزيع على باقي الحروف وهي [اللسنية] (3) حتى إذا أبطلت الجناية حروفَ اللسان، كملت الدية، فإن أبطلت حروفَ اللسان والشفة والحلق، وجبت الديةُ الكاملة في حروف اللسان والحكومةُ في حروف الشفة والحلق. وهذا الوجه [مردودٌ] (4) عليه؛ فإن الكلام لا يتأتى دون اللسان، وهو الذي ينظم الكلامَ، [وحتى] (5) ما يصدر من غير اللسان، فانتظامه موقوف على اللسان، والوجهُ إحالة جميع الحروف على اللسان، وتوزيع الدية على جميع الحروف الثمانية والعشرين، ومن حكى مذهب الإصطخري لم يتعرض للقاف والكاف، وليستا من حروف الحلق، وقد يعتقد أنهما ليسا من حروف اللسان، ولكن لعل الإصطخري ألحقهما بحروف اللسان، فإنه لا يتأتى الإتيان بهما إلا بالاعتماد على أصل اللسان [وقاعدتِه] (6) وترقيها إلى الحنك الأعلى وبينهما تتحرَّفُ (7) الكاف والقاف، ولم

_ (1) في الأصل: "كرر الغرر". (2) في الاصل: "الخلطية". (3) في الأصل: "النسبية". (4) في الأصل: "متردي". (5) في الأصل: "وهتا". (كذا تماماًَ) ولعله من آثار عجمة قديمة في لسان الناسخ، فكتب (حتى) (هتا). والله أعلم. (6) في الأصل: "وعدته". والله أعلم بما قاله الإمام. (7) تتحرّف أي تصير حروفاً بتقطيع اللسان لأصواتها ونظمها.

يتعرض [ناقل] (1) مذهب أبي سعيد [للفاء] (2)، وهذا أظهر من القاف والكاف؛ فإن الاعتماد في النطق [بالفاء على الأسنان] (3) العليا والشفة السفلى وليس للسان فيه أثر محسوس. والصحيحُ اعتبار جميع الحروف ونسبتها إلى اللسان، فليقع التوزيع على الثمانية والعشرين. ومقصود الفصل وراء هذا لا تضبطه التقاسيم، فإنما نأتي عليه بالمسائل، فنأتي [بها أرسالاً] (4) ونستوعب، إن شاء الله تعالى - كمالَ الغرض. 10612 - فلو كان الرجل في أصل الخلقة بحيث لا يتأتى منه جملة الحروف، ولكنه كان [يعبر] (5) بما يحسن منها عن جميع ما يبغيه ويحويه الضمير مثل إن كان لا يحسن إلا عشرين حرفاً، فإذا جنى جانٍ، وأفسد جميعَ الحروف، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنه يجب على الجاني الديةُ الكاملة؛ فإن مثل هذا الشخص سمّي ناطقاً متكلماً، وقد ينسب إلى ضعف في المنطق، وضعفُ منفعة العضو لا يحطُّ من الدية [شيئاًً] (6) إذا فسدت المنفعة بالجناية، كما لو كان ضعيف البطش، فجنى عليه جانٍ أبطل بطشه، أو كان ضعيفَ البصر والسمع، وهذا [مُطبق] (7) في المنافع جمع.

_ (1) في الأصل: "نامل". (كذا تماماًَ). (2) في الأصل: "للقاف"، وهو خطأ لا شك؛ فإن القاف سبق حكمها عنده بل سيأتي ذكرها في نفس الجملة، ومن عجب أن هذا التصحيف يقع في البسيط للغزالي. والذي يؤكد أن المقصود هو (الفاء) كما قلنا أن الفاء أبعد مخرجاً عن اللسان من القاف والكاف، بل هي معدودة من الحروف الشفهية التي تخرج من بطن الشفة مع أطراف الثنايا العليا. (ر. إملاء ما من به الرحمن في أحكام تلاوة القرآن، لشيخ مقرئي العصر، وخاتمة المحققين، الشيخ عامر السيد عثمان ص 39). (3) في الأصل: "بالعاً على الإنسان". (4) في الأصل: " منها لرسالاً "، ونستوعب. (5) في الأصل: "يعثر". (6) في الأصل: "سبباً". (7) في الأصل: "مظنة".

10613 - وحقيقة هذا لا تبين إلا بأصل آخر تمهيده في أحكام اللسان، وهو مقصود في نفسه، ونبني عليه كمالَ الكشف، [فيما ذكرناه] (1) من نقصان الحروف، فنقول: من استأصل جرْم اللسان قطعاً، فيسقط الكلام لا محالة، ولا يجب على الجاني إلا دية واحدة؛ [وإن] (2) جنى على الجرْم والمنفعة كجرم اليد وبطشها. ولو قطع الجاني عَذَبةَ اللسان (3)، وأبطل جميع الكلام، استوجب الدية الكاملة، كما لو قطع أصبعاً من يد، فأشل اليدَ. ولو قطع ربع اللسان، فأبطل نصف الكلام، وجب نصفُ الدية، ولو قطع نصفَ اللسان، وبطل ربعُ الكلام، فقد قطع الأصحاب بأنه يجب نصف الدية، فنظروا عند تفاوت المقطوع من الجِرم والفائت من الكلام إلى الأكثر، فإن كان المقطوع أكثر، فالمقطوع [يقدّر بنسبته] (4) الواجبُ من الدية، وإن كان الفائت أكثر، فالاعتبار به. أما إذا كان الفائت من الكلام أكثر، فاعتباره منقاس بيّن؛ فإن المنفعة هي المقصودة، فإذا فات شطرها، لم يخف تعليل إيجاب نصف الدية، ولو جنى على اللسان، فأذهب نصف الكلام من غير قطع، وجب نصف الدية، فلا خفاء بالقول في هذا الطرف. فأما إذا قطع نصف اللسان، وذهب ربع الكلام، ففي هذا اعتياض قليل، ولا خلاف، وهو مشبه بما لو قطع أصبعين من يد رجل، ولم يسقط من منفعة بطشه خمساها، وكان [صاحب] (5) اليد جاريَ الحركة، فالنظر إلى الأَجْرام التي قطعها، والواجب خمسا دية اليد. وإذا تبين ما ذكرناه، ترتب عليه إيجابُ الأكثر، فإن كان الفائت من جرم اللسان أكثر، فهو المعتبر.

_ (1) في الأصل: "وبما ذكرناه". (2) في الأصل: "فإن". (3) عَذَبةُ اللسان: طرفه. (المعجم). (4) في الأصل: "اليد سببه". (5) في الأصل: "ضياع".

ثم ذكر أئمتنا عبارتين في ذلك، فقال بعضهم: ينظر إلى الأكثر، كما ذكرناه، ونوجب أغلظ الأمرين. وقال أبو إسحاق: إن قطع نصف اللسان، فقد أبان من عضو الدية نصفَه، وسقط من المنفعة شيء، وإن قطع ريعَ اللسان وأمات نصفَ الكلام، وجب نصف الدية، لأنه أمات نصف اللسان أيضاًً، غير أنه قطع ربعاً. ويظهر [أثر] (1) هذا الاختلاف في مسألتين: إحداهما - أنه لو قطع ربع لسانه، فذهب نصف كلامه، وأوجبنا نصف الدية، فإذا جاء آخر، وقطع ما بقي، وهو ثلاثة أرباع اللسان، فعلى طريقة أبي إسحاق يجب نصف الدية، فلا يلزمه [إلا] (2) النصف في مقابلة النصف مع نصف الكلام، والحكومة في مقابلة الربع الذي لحقه الشلل تقديراً. وغيرُه من الأصحاب يوجب على من يقطع ثلاثة الأرباع الباقية ثلاثة أرباع الدية؛ نظراً إلى [أن] (3) الأكثر جرْمُ اللسان، ولا يستبعد هذا القائل أن نوجب في عضو قطعه شخصان في [جنايتين] (4) أكثرَ مما نوجبه على القاطع الواحد إذا استأصل العضو بقطعٍ واحد، وسيأتي لذلك نظائر، إن شاء الله تعالى. [وهذا] (5) بيان المسألة الأخرى: لو قطع نصف لسانه وذهب ربعُ كلامه، فقد حكينا الوفاق على إيجاب نصف الدية، فإن جاء جانٍ آخر استأصل اللسان، فمذهب الجمهور أنه يلزم القاطع الثاني ثلاثة أرباع الدية نظراً إلى [ما] (6) أمات من الكلام، وقد ذكرنا أن نظر هؤلاء إلى الأكثر في الجاني الأول والآخر. وأبو إسحاق يعتبر [جرم] (7) العضو في هذه الصورة ولا يلتفت إلى كثرة المنفعة.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة لاستقامة الكلام. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل بقايا كلمتين استحالت قراءتهما. (5) في الأصل: "هذا" (بدون الواو). (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: "جرح".

والأصح ما ذهب إليه الجمهور. 10614 - فإذا تمهد هذا الأصل، صوّرنا بعده صورةً أخرى، ثم نعود إلى ما كنا فيه: إذا جنى جانٍ على اللسان من غير قطعٍ، وأذهب ربعَ الكلام مثلاً، فإنه يلتزم ربع الدية، فلو جاء جان وقطع اللسان من أصله، فعليه دية كاملة؛ نظراً إلى الأكثر على طريقة الجمهور، واعتباراً بجرم اللسان، وفيه المنفعة على مذهب أبي إسحاق، وهذا مسلك لأصلٍ لا نجد بُدّاً من ذكره، فنقول: من كان باطشاً يَضْعُف بطشه [لآفةٍ] (1)، ثم أزال جانٍ البطشَ، فإنه ملتزم الديةَ الكاملة، وذلك يطّرد في جميع المعاني المضمونة بالديات، إذا لحقها [نقصٌ ببعض الآفات] (2). ولو سقطت إصبعٌ من اليد بآفة، ثم قطعها قاطع، فأرش تيك الإصبع الساقطة محطوطة من دية اليد، وهذا نقصان حاصل بآفة، ونقصان البطش حاصل بآفة، والمقصود المضمون بالدية المعنى، والجِرم [محلُّه] (3)، ثم تمهد في المذهب أن النقصان المعنوي غير معتبر في حق الجاني، والنقصان [الحاصل في الجرم] (4) معتبر. هذا إلى صورة أخرى: لو جرح رجل رأس رجل متلاحمة، وأتلف [اللحم] (5)، فجاء آخر واستتم ذلك الجرح موضِحةً، [فلا يلتزم] (6) الثاني أرش الموضِحة، [فإنه لم] (7) يشق الشق كلَّه، بل حصل وضوح العظم بالمتلاحمة السابقة وما بعدها، فإذا آل الأمر إلى الدية، فإن أوجبنا في المتلاحمة [أرشاً] (8) [مقدَّراً] (9)، كما سبق في

_ (1) في الأصل: "لأنه". (2) في الأصل: "بعض ببعض الآيات". (3) في الأصل: "حاصله". (4) في الأصل: "للإبل إلى الجرح" (كذا تماماً) وفيها أكثر من تصحيف. والمثبت محاولة من المحقق مع الالتزام بأقرب صورة للكلمات المصحفة. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: "ولا يلتزم". (7) في الأصل: "فإن لم". (8) زيادة اقتضاها السياق. (9) "مفرداً".

الشجاج، حططناه من أرش الموضِحة [وإن أوجبنا في] (1) المتلاحمة حكومة، حططناها عن أرش الموضحة وأوجبنا الباقي. ولو شج رجل رأس رجل متلاحمة، فالتأم الجرح واكتسى بالجلد، ولكن بقي ذلك الموضع غائراً، فلو انتحاه جانٍ وشقه إلى العظم، ففي هذا أدنى تردد؛ من حيث لم ينبت اللحم الذي مات، وإنما منتهى المتلاحمة [باقٍ] (2) والأظهر أن حكم ذلك الجرح قد سقط، ولا حكم لما بقي فيه من [إغماض] (3)، ولعل السبب [فيما ذكرناه] (4) من اعتبار [الجرم] (5) أن أثره محسوس، والمنفعة لا ضبط لها، فعسر الاعتبار فيها. وهذا فيه فضل نظر؛ فإنا إذا كنا نعتبر ما يفوت من المنفعة حتى نوجب مقدراً وحكومةً على الجاني المُعيب، فيسقط مع هذا [الاعتلالُ] (6) بخروج المنفعة على الضبط، فإنا أوجبنا أرشاً على من يجني ويُذهب بعض المنفعة، فينبغي أن ينجرّ ذلك معتبراً في الحط عمن يجني من بعدُ، وهذا متّجهٌ جداً فيه، إذا كانت [المنافع] (7) محدودة، كالكلام المترتب على حروف محدودة، فكان يجب أن يقال: إذا جنى جانٍ على اللسان، ولم يقطع منه شيئاًً، وأزال ربع الكلام، فلا يلتزم بعد ذلك قاطع اللسان إلا قسطاً من الدية سيّما على مذهب أبي إسحاق، فإنه يقول: سقوط بعض الكلام مع بقاء [جِرم] (8) اللسان شَللٌ في جزءٍ من اللسان، فيلزم على هذا المساق ألا نوجب على قاطع اللسان بعد فوات ربع الكلام ديةً كاملة.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) مكان كلمة غير مقروءة. (3) في الأصل: "إعفاص". (كذا تماماً). والإغماض من غَمَض المكان يغمُض غموضاً: انخفض انخفاضاً شديداً، فالمعنى: لا حكم لما بقي فيه من انخفاض (ر. المعجم الوسيط). (4) في الأصل: "ربما ذكرناه". (5) في الأصل: "الجرح". والكلام على حذف مضاف، والمراد اعتبار نقص الجرم. (6) في الأصل: "الاعتداد". (7) في الأصل: "المسارح". (8) في الأصل: "جرح".

10615 - فهذا مغاصٌ من المذهب لا يبينه إلا التفصيل، وسبيل التفصيل أن نذكر ما يتعلق بالأجرام: [فإذا] (1) فرض في جِرم العضو نقصان، لم يخل: إما أن يَسقُطَ ما له أرشٌ مقدّر من [جرم] (2) العضو، وإما أن ينتقص ما لا يقدّر أرشُه، فأما إذا سقط ما يتقدر أرشه، فهو محطوط من أرش الباقي، ولا فرق بين أن يكون بجناية جانٍ [أو بآفة سماوية] (3)، ومثال ذلك الأنملة إذا سقطت أو قطعت، فلو فرض قطع اليد بعد سقوطها، فالأرش الذي يقابل الأنملة يُحط [عن] (4) قاطع اليد؛ فإن الأجزاء المقابَلة بالأروش المقدرة منسوبة إلى أصل العضو، وقد كفانا الشارع بتقدير الأرش فيه إثباته [الجزئية] (5)، فالأصبع من اليد خمسها، والأنملة ثلث خمسها، ثم إذا ظهرت [الجزئية] (5)، فلا مبالاة بعدها بالمنفعة وقدرها. وأما إذا [أحدث] (6) نقصاناً لا يتعلق به أرش مقدر [كفِلْقةٍ] (7) تبين وتنفصل من لحمة الأنملة، فهذا القسم ينقسم: فمنه ما لا يؤثر في المنفعة، والحكومة التي تجب فيه لمكان الستر، فما كان كذلك، لم يؤثر ما يتقدم منه في [تنقيص] (8) دية العضو، حتى لو جرى ما وصفناه، ثم قطعت اليد، فعلى القاطع الديةُ الكاملة، ولا فرق بين أن يتفق ما وصفناه بآفة سماوية، وبين أن يتفق بجناية جانٍ؛ فإن العضو إذا كان باقياً، وكانت منفعته تامة لا نقصان فيها، فيستحيل أن نَحطَّ عن قاطعه شيئاًً، وكأن الذي أزاله الشَّيْن ليس من خاصية هذا العضو.

_ (1) في الأصل: "وإذا". (2) في الأصل: "جرح". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "من". (5) في الأصل: "الحرية". (6) في الأصل: "اتحد". والمثبت من المحقق مع الالتزم -كدأبنا- بأقرب صورة للكلمة التي بالأصل عسى أن تكون هى هى. (7) في الأصل: "كفافة". (8) في الأصل: "نقيض".

وبالجملة لا التفات إلى الشَّيْن، مع بقاء المنفعة [والجرم] (1) المنتفع به. 10616 - فأما إذا كان ذلك النقصان يؤثر في نقصان المنفعة، ويحط [منها] (2)، فإن جرى ما وصفناه بآفة، ثم فرض القطع بعدها، وجبت الدية الكاملة على القاطع، ولا نظر إلى ما انتقص من المنفعة؛ فإن هذا لا ينضبط، والإنسان قد يقوى في بعض الأحوال ويضعف في بعضها بأعراض وأمراض، وتَتَبُّعُ هذه الأمور عَسِرٌ، لا سبيل إلى التزامه. هذا متفق عليه. وإن اتفق نقصانُ [الجرم] (3) مع نقصان المنفعة من جانٍ، والموجَب الحكومة، فهذا أول مراتب الاحتمال: يجوز أن يقال: لا حكم [لتلك] (4) الحكومة في حق القاطع بعدها، كما لو فرض النقصان بآفة. ويجوز أن يقال: تلك الحكومة محطوطة من الأرش الذي يلتزمه القاطع؛ من جهة أنها حكومة في مقابلة شيء من المنفعة، فلو أثبتت الدية الكاملة على القاطع -وقد أثبتنا الحكومة على المقتصّ- فيكون ذلك تضعيفاً للغرامة في مقدار الحكومة، وتثنيةُ الغرامة بعيدة. هذا تفصيل القول في الجناية على [جرم] (5) العضو. 10617 - فأما إذا كان الجرم [باقياً] (6)، وسقط بعضُ المنفعة، لم يخل: إما أن يكون الساقط بحيث لا يتطرق إليه تقدير، فينقسم [إلى] (7) ما يترتب على آفةٍ، وإلى ما يترتب على جناية جانٍ، [فأما] (8) ما ترتب على آفة، فلا معتبر به، وديةُ العضو

_ (1) في الأصل: "والجرح" (2) في الأصل: "فيها". (3) في الأصل: "لجرح". (4) في الأصل: "للملك". (5) في الأصل: "جرح". (6) في الأصل: "تأقيتاً". (7) زيادة اقتضاها السياق. (8) في الأصل: "وأما".

باقية بكمالها على الجاني عليه: إما [بالقطع] (1) وإما بإذهاب المنفعة. فأما إذا كان النقصان بجناية جانٍ [والقدر] (2) خارج عن الضبط كما ذكرناه، ففي حطّ ذاك عن قاطع العضو أو عن مُذهب المنفعة ترددٌ أذكره، وهو متلقَّى من كلام المشايخ، [ولا بأس] (3) لو نقلته وجوهاً: [يجوز] (4) أن يقال: لا تحط الحكومة لا عن قاطعٍ، ولا عن مُذهب المنفعة. ويجوز أن يقال: الحكومة محطوطة عن القاطع، حتى لا تُثنَّى الغرامة. ويجوز أن يقال: هي محطوطة عن مُذهب المنفعة، وليست محطوطة عن قاطع العضو، والسبب فيه أن العضو إذا كان باقياً، فقد تعود [منفعتُه] 5) إلى الكمال، وقاطع العضو يقطع الرجاء من هذا، فالدية تكمّل عليه لذلك، وأما مُذهب المنفعة، فليس كذلك، والذاهبُ بالجناية من المنفعة مقصودة. هذا إذا كان الذاهب من المنفعة غير محدود. وأما إذا كان الذاهب منها محدوداً، وجِرْم العضو باقٍ، فهو كالحروف التي هي أم الكلام، ومادة الكلم، فإذا ذهب نصفها، لم يخل: إما أن يذهب بآفة سماوية، أو بجناية جانٍ وألزمناه نصف الدية، فهذا موضع خلافٍ للأصحاب، وأبي إسحاق، فالذي ذهب إليه الجمهور أن الدية تكمّل على قاطع اللسان، وقال أبو إسحاق: لا يلزمه إلا نصفُ الدية، وحكومةٌ: النصفُ في مقابلة ما بقي من الكلام، ونصفُ [الجرم] (6) معدود معه، والحكومةُ على مقابلة نصف الجرم على تقدير [ذهاب] (7) الحس، وهذا الذي ذكره فقيهٌ.

_ (1) في الأصل: "القطع". (2) في الأصل: "والعدد". (3) مكان كلمة غير مقروءة. رسمت هكذا " ـا ـر ". (4) في الأصل: "ويجوز". (5) في الأصل: "منفعتها". (6) في الأصل: "الجرح". (7) زيادة من المحقق؛ إذ المعنى: على تقدير ذهاب الحسّ من هذا النصف من اللسان الذي ذهب به نصف الكلام قبلاً.

وهذا إذا قطع الجاني الثاني العضو. فأما إذا أذهب [بقية] (1) المنفعة، [فلا] (2) يلزمه إلا بقيةُ الدية على خلافٍ، وهذا إذا كان زوال القدر المقدر من المنفعة بجناية جانٍ. فأما إذا سقط نصف الكلام بآفةٍ أو خُلِقَ الرجلُ كذلك، ففي هذا خلاف بين أصحابنا: منهم من قال: يجب على القاطع تمام الدية، والنقصان [الكائن] (3) بمثابة ضَعف البطش، والسمع، والبصر، من طريق الخِلقة. ومنهم من قال: إذا تقدّر الفائت، لم يجب على الجاني كمال الدية، وحُطَّ ما يقابِل الناقص، وليس كنقص البطش والبصر؛ فإنّه لا ينضبط. هذا مجامع الكلام. 10618 - فإن قلنا: نحط النقصان، وكان سبب النقصان الآفة، ففي هذا فضل نظر، فإذا كان الرجل لا يحسن إلا عشرين حرفاً، ولكن كان فَطِناً متهدِّياً إلى مناظم الكلام، مستمداً من موارد اللغة، وكان يعبر بالعشرين عن جميع المعاني، ففي هذا وجهان: أحدهما - أنه في حكم الكامل؛ فإنه يعدّ ناطقاً تاماً. والثاني- أنه ناقص واقتداره على أداء المعاني ليس من كمال كلامه، وإنما هو من معرفته باللغة وذكاء قريحته، وفرط كَيْسه. ولا يبقى على من يُنْعم النظر في هذا الفصل أمرٌ خافٍ في هذا الغرض، وهو أنا ذكرنا أن نقصان المنفعة إذا لم يكن منضبطاً، وكان حصوله بآفة، فلا اعتبار به، والدية تكمّل على قاطع العضو، ومُذهب المنفعة. هذا أصلٌ طرده الأصحاب في الباب. وقد يعترض فيه الضعيف النظر الذي يمكن الحكم بسقوط معظم بصره [والفرضُ] (4)

_ (1) في الأصل: كلمة غير مقروءة رسمت هكذا: "العننر" تماماً. (2) في الأصل: "ولا". (3) في الأصل: "الكامل". (4) في الأصل: "الغرض".

والتصوير في البطش وغيره من المعاني، ولا ينبغي للفقيه أن يرتاع من هذا، والدية كاملة في يد الهرِم، مع القطع أنه على أقلَّ من العُشر من بطشه في [شبابه] (1)، ونقصان المنفعة بهذه الجهات كنقصان القوة الحيوانية، ومن أطبق أهلُ البصيرة على وقوعه في الموت، وصار بحَرَضٍ (2) [وقد شخصت منه الأبصار] (3)، وأنفاسُه تتعثر في شراسيفه، فلو حزّ جان رقبته، التزم القصاصَ أو الدية، فالمنافع إذا ضعفت، فإنها تحل هذا المحل. وقد نجز تمام الغرض في هذا الطرف، وبالله التوفيق. 10619 - ومما يتعلق بأصول الكلام في فصل اللسان أنه لو جنى جانٍ، على إنسان، فأذهب صوته، وكان اللسان على اعتداله منطاعاً في التقطيع والتردد في فضاء الفم، [لو] (4) وَجَدَ صوتاً، فعلى الجاني المُذهب للصوت الديةُ. ولو كان الصوت باقياً والحروف زائلة، وذلك بسبب عجز اللسان عن تقطيع الصوت، وهو ذهاب الكلام، ففيه الدية، ولو أذهب الصوتَ، وأشل اللسان، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا تجب إلا دية واحدة؛ فإن الكلام هو المعني، وقد زال ولزواله سببان: أحدهما - انقطاع الصوت، والثاني - عجز اللسان. ومن أصحابنا من قال: تجب ديتان؛ للجناية على منفعتين، وليس كما لو أزال إحداهما، فإن من أزال الصوت، فعَوْد الصوت لا يعيد الكلام، والمسألة محتملة جداً. ولو صور متكلف صورة وقال: لو جنى جان على اللسان، ولم يُسقط حرفاً، ولكن صار عاجزاً عن تأليف حرف إلى حرف، ولا ينتظم الكلام إلا بتأليف الحروف؟

_ (1) في الأصل: "نسابه". (2) بحرض: الحرض الهلاك، والمعنى: صار في حكم الهلكى. وهي في الأصل: " ـحرص " بدون نقط. (3) مكان كلمات ثلاث في وصف الاحتضار والإشراف على الموت - لم نستطع قراءتها، وقد رسمت هكذا: يردونه ـحرد ـدمايه (كذا تماماً) (انظر صورتها). (4) في الأصل: "ولو".

قيل له: هذا تكلف لا يتصوّر، فإن القادر على الحروف العاقل لا يتصور أن يعجز عن نظم الحروف. وقد ظهر اختلاف أصحابنا في صورة تدنو من الأصل الذي نحن فيه وهو [أن من ولد] (1) أصمَّ، فإنه لا ينطق، وإن قوي لسانُه، من جهة أن الصبي إنما ينطلق لسانه بالنطق لتلقِّيه [ما] (2) يسمع، فإذا كان أصم، ولم ينطق، فلو قطع قاطعٌ اللسان مِمّن هذا وصفه، ففي وجوب الدية عليه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تجب؛ لأنه أخرس، وهو الأبكم حقاً. والثاني - تجب الدية؛ فإن اللسان [لا نقصَ] (3) به وسبب سقوط النطق زوال السمع. ويترتب على هذا الآن أن جانياً لو جنى على صبي قبل [مظنة] (4) النطق وأزال سمعه، وتعذر بهذا السبب نطقُه، فإن كنا نوجب الدية على قاطع لسانه، فلا يجب على مزيل سمعه إلا دية واحدة، وإن كنا لا نوجب على قاطع لسانه دية [فالواجب إيجاب ديتين] (5) على الجاني، [إذ جنى] (6) على سمعه، وأفسد لسانه، ولا يعترض على ذلك أنه لم يُفسد نطقاً، إذ لم يدخل وقت النطق، لأن إفسادَ العضو [المتهيِّىء] (7) للمنفعة إتلافُ المنفعة، ولهذا قلنا: من قلع سن من لم [يُثغر] (8)، فلم يَنبُت سنُّه، كملت الدية على الجاني، لا من جهة [اعتدائه على السن] (9)، ولكن من جهة إفساده [للمنبت] (10). ولو كان الإنسان في الخلقة مقصوم الفقار ورجلاه سليمتان، لا آفة بهما، ولو كان

_ (1) في الأصل: "وهو أدنى ولو أصم". (كذا تماماًً). وهو تحريف ظاهر. (2) في الأصل: "فيما". (3) في الأصل: "لايقتص". (4) في الأصل: "فطنة". والمثبت من عبارة الرافعي في الشرح الكبير. (5) في الأصل: " قالوا به إيجاب وتبين ". (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: "التهيؤ". (8) في الأصل: "يبعد". (9) في الأصل: " إعراضه على المسي ". (كذا تماماً) (انظر صورتها). (10) في الأصل: " للسبب ".

ذا فقارَ، [لمشى] (1) برجليه، فالميل الظاهر للأصحاب إلى إيجابِ الدية على قاطع رجلي من وصفناه، وقالوا بحسبه: لا يجب على كاسر الفقار إلا ديةٌ واحدة، ولا يلزمه ديةُ الرجلين، وإن تعطلتا. والوجه عندي تنزيل الرجلين من المقصوم فِقارُه منزلةَ اللسان ممن [ولد أصم] (2) ولا فرق بين الأصلين. 10620 - ومما فرعه الأصحاب أن من أذهب بجنايته حرفاً، فقد سبق أنه يلتزم جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً من الدية، فلو تعطل بالحرف الذي أذهبه [كلمة] (3) مثل أن يذهب الميم فيتعطل بذهابه النطق لمحمد، فقد أطلق الأصحاب القولَ بأنه لا يلتزم إلا ما يخصّ حرفاً؛ فإن الحروف هي الأصول، والكلام فروعها، ولو أُلزمنا [الخرصَ] (4) فيما ينتظم من الكلام وفيما لا ينتظم، كان ذلك إلزام [خَرْصٍ لما] (5) لا يتناهى بالقوى [البشرية] (6)؛ فإن جهات المناظم لا يحدها الوهم، فليقع الاعتناء بالحروف. ولكن ما يقتضيه الإنصاف على هذا [أن] (7) لا نوجب الدية الكاملة بإذهاب عشرين حرفاً، [ممّن] (8) لا يحسن غيرها [لكنه] (9) ينظم بها كل [صيغة] (10).

_ (1) في الأصل: "يمشى". (2) في الأصل: "ولو أصم". (3) في الأصل: "كله". (4) في الأصل: "الحرص". والمعنى: لو ألزمنا تقدير وتخمين ما ينقص من نظم الكلام، وما لا ينفص، كان ذلك تكليف ما لا يطاق، وإلزاماً بما فوق القدرة البشرية، فلا نهاية للكلمات التي تتكون وتنتظم من الحروف. (5) في الأصل: "احرصى فإنما". (كذا) (انظر صورتها). (6) في الأصل: "البشرة". (7) زيادة من المحقق. (8) في الأصل: "فمن". (9) مكان كلمة غير مقروءة. رسمت هكذا: (مصراً). (10) في الأصل: "صنعة".

10621 - ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن الرجل إذا كان لا ينطلق لسانه بالثاء وكان ينطق بالسين، فجنى عليه جانٍ [فأذهب] (1) مكنة السين من [أسنانه] (2) ولكن [نطق] (3) لسانه بالثاء، وصار يقول بدل [السين الثاء] (4)، فقد قال العلماء: على الجاني أرش ما أذهبه، وما تجدد له من الحرف [منحةٌ] (5) من الله تعالى، [وهنا] (6) لا بد من النظر في شيء وهو أن الثاء [المستفادة هل تُضَمّ في التوزيع إلى الحروف التي كانت في اللسان قبل الجناية] (7)؟ هذا موضع النظر، فليتأمله الفطن. 10622 - ولو جنى على لسان إنسان، فألزم لسانَه تمتمة أو فأفأة، والتمتام هو الذي [يتردّد] (8) في التاء، ثم ينطق [بها] (9) آخر الشيء، فليس على الجاني -وهو أثر جنايته- إلا الحكومة؛ فإنه لم يذهب الحرفَ، بل أضعف اللسان فيه. ولو قطع الجاني فِلقةً من اللسان، ولم يسقط بسببها شيء من الكلام، فهذا يخرّج

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "أنيابه". (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: "بدل الشين السين". وهو وهمٌ من الناسخ؛ فإن المسألة مصورة في العجز عن (الثاء). (5) في الأصل: "متجه". وهو تصحيف قريب المدرك. (6) في الأصل: "وقد". (7) عبارة الأصل: "وهو أن الثاء إذا استعاده أمر التوزيع على الحروف التي كانت موجودة قبل الجناية" وهذا التعديل والزيادة من المحقق على ضوء عبارة الغزالي والرافعي في المسألة ذاتها، أما الغزالي، فقد قال: "ويتجدد إشكال، وهو أنه إذا انطلق لسانه بالثاء عندما جنى عليه، وكان لا يقدر عليه، فالتوزيع على ما كان مقدوراً قبل الجناية دون الثاء المستفادة، وهو مضموم إليه؟ هذا في محل النظر" (ر. البسيط: مخطوط جزء (5) رقة: 63 يمين). وعبارة الرافعي، وقد نقلها عن الإمام قال: "قال الإمام: والتوزيع يقع على الحروف، وفيها الثاء المستفادة، أم على الحروف التي كانت في اللسان قبل الجناية؟ هذا موضع النظر" (ر. الشرح الكبير: 10/ 401). (8) في الأصل: "تردد". (9) في الأصل: "بهذا".

على القاعدة الممهدة في [مراعاة المنفعة أو الجرم] (1): من راعى الكلام، لم يوجب على القاطع إلا الحكومة، ومن راعى [الجِرم] (2)، أوجب قسطاً بالنسبة إلى العضو، كما أوجبه [على] (3) قاطع جزء من المارن [أو جزءٍ من] (4) الحشفة، وهذا غير محبوب عند القياسين؛ فإن إيجاب قدرٍ من الدية، والمنفعةُ [بحالها] (5) وتمامها، يلتزم إيجاب الدية الكاملة بقطع لسان الأخرس، وإن لم يؤثر القطعُ [في] (6) إفاتة الكلام. فليتأمل الناظر ما ينتهى إليه. فلو قطع فِلْقة من لسانه واقتضى الحال إيجابَ مقدارٍ حكومةً، فلو نبتت، وعاد اللسان إلى شكله في اعتداله، فقد اختلف أئمتنا: فمنهم من نزل عَوْد اللسان إلى ما كان منزلةَ عود السن من بعد، وسيأتي شرح ذلك في فصول الأسنان، والجامع أن عود ما يقطع من اللسان [ندوره في ندور] (7) عود السن من المثغور، وسأجمع، إن شاء الله، تفصيلاً فيما يعود، وأذكر فيه مواقع الخلاف والوفاق في النفي والإثبات. ومن أصحابنا من قطع بأن عَوْد المقطوع من اللسان لا حكم له أصلاً، وأرش الجناية لا يزول قولاً واحداً؛ لأن هذا مما يُتحدّث به ولا [يقع] (8)، فإن فُرض، كان بالغاً في الندور، والسن على الجملة من العائدات. 10623 - ومما يتعلق بتمام الفصل القول في لسان الصبيان، فالذي ذكره الأصحاب

_ (1) مكان بياضٍ بالأصل. (2) في الأصل: "الجرح". (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: "وحدية عن الحشفة". (كذا). (5) في الأصل: "بجزائها". (6) في الأصل: "من". والمعنى أن قطع لسان الأخرس لا يفوّت منفعة. (7) في الأصل: " سدد وه ور " كذا تماماً، فانظر أي عناء في استكناه هذا التصحيف، ومما يزيد من المعاناة أننا لا نجد العبارة ولا قريباً منها، في البسيط، ولا في الشرح الكبير ولا في الروضة، وغيرها، فنضطر إلى استحضار المعنى والسياق في الذهن، وتقليب صور الكلمات المصحفة على كل الاحتمالات الممكنة حتى نصل إلى أقربها، وكثيراً ما نقطع بأننا وصلنا إلى كلمات الإمام بعينها. والله الهادي إلى الصواب. (8) في الأصل: "يقطع".

فيه أنه إذا بدا في لسان الصبي مخايل [النطق] (1) فكان يحركه تحريكاً صحيحاً بالضحك، والبكاء، والمصّ، قاللسان صحيح، والجاني عليه يلتزم الدية أو القصاص، كما يلتزم ذلك بالجناية على رجليه، قبل [أن يستقل] (2) وينهض إذا ثبتت علامة الصحة في رجليه. فإن لم يبد في لسان الصبي مَخيلة النطق، لم نحكم بوجوب الدية حملاً على غالب الحال، [وإن] (3) لم يتبين فيه مخيلة الخرس. وكان شيخي يقول: إن بانت [مخيلة] (4) الخرس، فالحكومة، وإن لم تبن علامة الخرس ولا علامة النطق، فالذي قطع به الأصحاب الحكومة وإن لم تبن علامة الخرس. وكان يقول: في قلبي من هذا شيء، وليس هذا وجهاً ولا احتمالاً، فاعلموه (5). ولو قطع بعض لسان المجني [عليه] (6)، فبلغ حالةً لو كان جميع لسانه باقياً،

_ (1) في الأصل: "التعلق". (2) في الأصل: "سريان". (3) في الأصل: "فإن". (4) في الأصل: "محتملة". (5) " ليس هذا وجهاً ولا احتمالاً؛ فاعلموه" أي قول الشيخ أبي محمد: "في قلبي من هذا شيء". وكأن الإمام بهذا يريد القطع بما حكاه الشيخ أبو محمد من اتفاق الأصحاب على أن في قطع لسان الصبي قبل أوان النطق حكومة، ولا نوجب الدية حملاً على غالب الحال، وإن لم تظهر علامات الخرس. هذا ما قطع به الإمام نقلاً عن شيخه، ونفي أن يكون لما حاك في قلب شيخه أثر، فلا هو وجه، ولا مجرد احتمال. ونقل الغزالي هذا في البسيط، وسكت عنه (الجزء الخامس ورقة: 55 يمين). أما الرافعي فالأمر عنده على خلاف هذا، والأولى أن نسمع له بنص عبارته، قال: "وإن لم يبلغ الطفل وقت الكلام، كأن قطع لسانه عقب الولادة، فالذي أورده الغزالي في الوجيز أنه لا تجب الدية، لأن سلامته غير مستيقنة، والأصل براءة الذمة عن الدية. وحكى الإمام قطع الأصحاب به، ووقفه على شيخه أبي محمد، والذي يوجد في كتب عامة الأصحاب وجوب الدية، أخذاً بظاهر السلامة، كلما تجب الدية في يده ورجله، وهذا ما حكاه القاضي ابن كج عن أبي إسحاق، وذكر أن أبا الحسين نقل في المسألة قولين " (ر. الشرح الكبير: 10/ 365). (6) زيادة اقتضاها السياق.

لتكلم بجملة الحروف، وقد تكلم الآن بما يتكلم به البالغ، لو قطع هذا القدر من لسانه، فيجب على الجاني [ما] (1) يقابل الحروف الفائتة. ولو لم يتكلّم [بما يتكلم] (2) به البالغ [بما] (3) بقي من لسانه، ولو كان ناطقاً، لنطق بشيء مما بقي، فهذا علمه عند الله ظاهر في الخرس في الأصل، فالواجب الحكومة. ولو اختلف الجاني والمجني عليه، فقال الجاني: كنتَ أبكم أو أخرس، فعليّ الحكومة، واعترف المجني عليه عن نفسه بأني كنت ناطقاً، فعليك الدية، فهذا مما مهدناه في اختلاف [الجاني] (4) والمجني عليه، فلا نعيده. فصل 10624 - [الذوق] (6) إذا أفسده الجاني بالجناية، تعلقت به الديةُ الكاملة؛ فإنه من [الحواس] (7) العظيمة النفع، وإذا ادعى المجني عليه بطلانَ حاسة الذوق، امتحن [بأن] (8) يُلقم الأشياء المرة الشنيعة، فإن لم يظهر عليه أثر العبوس والتكرّه ظهر صدقه، ولا بد من [تحليفه] (9) إذا أراد الجاني، كما قدمناه (10). ويمكن أن يجري

_ (1) في الأصل: "مما". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "ما". (4) زيادة من المحقق. (5) هذا الفصل قدّمه الناسخ عن الفصل السابق الذي تعلّق باللسان والكلام، وهذا لا شك خلل في الترتيب وقع فيه الناسخ كما أشرنا قبلاً عند تقديمنا (فصل) اللسان، ونشير هنا إلى تأخير هذا الفصل إلى هنا، فهذا مكانه الطبيعي في كل كتب المذهب، فهو من بقايا أحكام اللسان والكلام. (6) سقطت من الأصل. (7) في الأصل: "الحرّاس". (8) في الأصل: "فإن". (9) في الأصل: "الخليفة". (10) اقتصر على تحليف المجني عليه كما هو ظاهر عبارته، ولكن الرافعي قال: "فإن ظهر منه تعبّسٌ وكراهة صدقنا الجاني بيمينه، وإلا فنصدقه باليمين" (ر. الشرح الكبير: 10/ 403) وبنفس الألفاظ تكلم النووي. (ر. الروضة: 9/ 301).

ما ذكرناه من الامتحان من حيث لا يشعر، فتوصف غفلاته ويلقم من حيث لا يشعر، ولا يؤخّرُ ممكنٌ في الامتحان. والحواس بجملتها شريفة، والأصحاب [مطبقون] (1) على تعليق الدية بكل واحدة (2)، ولم يُؤثر الخلاف إلا في الشمّ [كما] (3) تقدّم، والمذهب القطع بتعلق الدية بحاسّة الشم والخلاف في ذلك غير معتدٍّ به. فصل قال: "وفي السن خمسٌ من الإبل ... إلى آخره" (4). 10625 - الكلام في السن يتعلق بأصولٍ ونحن نقدمها ونذكر ما فيها، ثم إن شذّت فروع، أتينا بها، والله ولي التوفيق. ففي كل سنٍّ مما هنالك من الحر المسلم خمسٌ من الإبل، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "في كلل سن خمس من الإبل" وهذا منقول عنه عليه السلام في [كتاب] (5) عمرو بن حزم، هذا في الكامل بالذكورة، والإسلام، والحرية، ثم نأخذ النسبة ونتخذها أصلاً في الديات كلّها، فالخمس من الإبل تقع نصفَ العُشر من المائة، فنوجب في كل [سن] (6) إذا قُلع من صاحبها نصفَ عشر ديته.

_ (1) في الأصل: "يطلقون". (2) لم يتكلم الإمام ولا الغزالي في البسيط على ايجاب جزء من دية الذوق، ولعلّ الإمام رأى أن هذه الحاسة لا يمكن تجزئتها. ولكن الرافعي يقول: "والمدرك بالذوق خمسة أشياء: الحلاوة، والحموضة، والمرارة، والملوحة، والعذوبة. والدية تتوزع عليها، فإذا أبطل إدراكَ واحدة منها، فعليه خمس الدية. ولو انتقص الإحساس، فلم يدرك الطعوم على كمالها، فالواجب الحكومة " (ر. الشرح الكبير: 10/ 402، 403). (3) زيادة من المحقق. (4) ر. المختصر: 5/ 131. (5) مكان بياضٍ بالأصل. (6) في الأصل: "دية".

ثم إذا قَطَع الرجلُ من السن ما يظهر، وترك السِّنْخَ عليه، فلم يقلع، [نُكْمل] (1) الأرش بقطع ما يظهر، وعلّتُه أن المنفعة التي تتعلق بالسن من العضّ [والقطع] (2) وجَمْع الريق، وغيره، كله يتعلق بما يظهر من السن، فالظاهر [من السن ينزل من] (3) السِّنخ منزلة الأصابع من الكف، ثم من قلع السن مع السنخ، لم يستوجب إلا الأرش، كما أن [من] (4) [أزال] (5) الأصابع [استوجب] (6) الدية، ولو قطع اليدين من الكوع، لم يستوجب مزيداً بسبب الكفين. وما ذكرناه متفق عليه، والتعليل في نهاية الوضوح. 10626 - ولو قطع الجاني شيئاًً مماظهر من السن، فيجب فيه جزء مقدر من الأرش، ثم التوزيع يقع على الظاهر، أم على السن والسنخ؟ ولا شك أن الأمر يتفاوت تفاوتاً ظاهراً بيّناً، قالمقطوع لو نسب إلى الظاهر من السن، فقد يكون نصفَه، ولو نسب إلى السن [مع] (7) أصله وسنخه، فقد يكون ثلثاً، أو ربعاً، فكيف السبيل في ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين: أظهرهما -وهو الذي لا يتوجه غيره- أن التوزيع يقع على ما يظهر؛ فإنا إذا كنا نكمل الديةَ في الظاهر، فالذي يقتضيه القياس الحقُّ أن نوجب نصف الدية في نصف ما ظهر، وهذا كما أنا إذا كمّلنا الدية في الأصابع، فنوجب في بعضها بنسبة الأصابع، ولا ننسب موجب بعضها إلى الكف. والوجه الثاني - أنا نوجب في المقطوع من السن بنسبته إلى جميع السن مع السِّنخ؛ فإنه لو قلع السن مع السنخ، لم نوجب فيه إلا الأرش، فالسنخ في هذا الوجه متّحدٌ

_ (1) في الأصل: "فكمل". (2) في الأصل: "واقع". (3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "أراد". (6) في الأصل:"استحق". (7) في الأصل: "من".

مع السن، فليقع التوزيع عليه، وليس ما ظهر من السن مع السنخ بمثابة الأصابع مع الكف في المعنى الذي [نحن] (1) فيه؛ فإن سنخ السن متصل مع الظاهر منه اتصال اتحاد، فهو أصل، ولا ينفصل ما يظهر مما يبطُن إلا بالظهور والبطون فحسب، والأصابع منفصلة عن الكف بمفاصلها؛ حتى كأنها منفصلة عنها خِلْقة، ثم هي مربوطة بالكف بالرُّبُط والأعصاب، وأيضاًً ففي كل إصبع أرش مقدر معلومٌ، وكل إصبع منقسم إلى أناملها: ففي كل أنملة منها [أرشٌ] (2) مقدّرٌ معلوم، ولا مشابهة في المعنى الذي نحن فيه بين الظاهر والسنخ وبين الأصابع والكف. نعم، الكف إذا انبتّت مع الأصابع، لم تفرد بمزيد؛ لأن منفعتها الظاهرة أنها مَرْكَب للأصابع، وبها استقلال الأصابع، فاقتضى هذا فيها معنى التبعية إذا قطعت، كما أن السنخ مَرْكب الظاهر منه. ولو قيل لمن [يتخير] (3) التوزيع على السنخ: لم أوجبتَ تمامَ الأرش في الظاهر، ثم وزّعت على الجميع؟ فهذا [تعييرٌ] (4) لا ينقدح له جواب شاف فيه، ولهذا كان الأصح الوجه الأول. والممكن في الجواب أنه إذا قلع جميع ما ظهر، فقد ظهر المقصود، ولم يبق في السنخ منفعة بها مبالاة، فكمل الأرش في الظاهر، فإذا قطع بعض الظاهر، فالسنخ حافظه وحامله، فأمكن أن يقال: يقع التوزيع على ما بقي وعلى السنخ؛ فإن المنافع تتواصل عند بقاء البعض، فالتوزيع يقع على هذا [النحو] (5) وإذا سقط جميع ما ظهر تتعطل منفعة السنخ بالكلية، هذا هو الممكن في توجيه هذا الوجه. 10627 - ثم ألحق أئمتنا بما ذكرناه صوراً، ونحن نأتي بها مرسلة، ثم ندرّجها في ترتيب وضبط: ففي الحشفة الدية الكاملة، ولو استوعب الذكرَ قطعاً من أصله، لم

_ (1) في الأصل: "نختلف". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "يتميز". (4) كذا. هذا أقرب ما يمكن أن تُقرأ عليه، والتعيير من عيّره إذا قبح عليه فعله، ويقال: عيّره الجهل وبالجهل. (المعجم). (5) في الأصل: "الشخصي".

تجب إلا الدية، ولو قطع [جزئية] (1) من الحشفة، وجب بعض الدية، ثم التوزيع على الحشفة أو على الذكر من أصله؟ فعلى الوجهين المذكورين في السن والسنخ. ومما ألحقه الأصحاب بما ذكرناه أن [الحلمة من الثديين] (2)، يكمل فيها الموجب، ولو قطع بعض [الحلمة] (3)، فالتوزيع على الحلمة أم على جميع [الثديين] (4)؟ فعلى وجهين. والصور [تجتمع] (5) في أن [أجزاء] (6) العضو متواصلة في الخلقة، وفي أن القطع لو وقع من الأصل، لما وجب أكثر من الدية، أو [الأرش] (7) المقدر المعلوم، ثم في القطع [للجزء] (8) الخلافُ الذي ذكرناه. ولو قطع أنف رجل مع القصبة، ففي إيجاب مزيد على الدية بسبب القصبة خلاف حكيته، ولا خلاف أن الدية تكمل في المارن نفسه، فإذا قطع بعضاً من المارن؛ فإن رأينا إفراد القصبة بمزيدٍ [لو] (9) قطع الجميع، فلا شك أن توزيع المقطوع من المارن يقع على المارن نفسه فحسب، وإن قلنا: لو قطع الأنف كله، فليس في القصبة مزيد، فإذا قُطع من المارن شيء، فالتوزيع على [الكل أَمْ] (10) على المارن؟ فعلى وجهين كما ذكرناه في السن والذِّكر [والثديين] (11). فإن بانت المسائل، فالأصح في جميعها التوزيع على المقدار الذي تكمل الدية [فيه] (12).

_ (1) في الأصل: "حردية". (2) في الأصل: "الجملة من اليدين" (3) في الأصل: "الجملة". (4) في الأصل: "اليدين". (5) في الأصل: "تجمع". (6) زيادة من المحقق. (7) زيادة اقتضاها السياق. (8) زيادة لاستقامة الكلام. (9) في الأصل: "ولو". (10) في الأصل: "على الكلام". (11) في الأصل: "واليدين". (12) في الأصل: "به".

ثم هي مع ذلك مرتبة، فالوجه الأضعف في مسألة السن أثبت؛ فإن السنخ له اتصال عظيم، حتى إن منفعته تتعطل بقطع الظاهر. وما وراء الحشفة له استقلال وانفراد، وفيه انتفاع ظاهر، فكانت الحشفة أولى بأن تفرد بنفسها، ويقع توزيع جزئها عليها لا على الذكر كله؛ فإن انفراد ما وراء الحشفة بالمنفعة يوجب استقلاله بنفسه، وعدم اعتبار الحشفة به. وكذلك [الحلمة مع الثديين] (1). وأبعد هذه المسائل في الوجه البعيد الأرنبة (2) مع القصبة، فلهذا اختلف الأصحاب في أن جميع الأنف لو قطع هل يجب في القصبة مزيد. هذا بيان هذا الأصل بما فيه. 10628 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك في السن - أن القاضي حكى عن نص الشافعي: أن من قطع بعض السن -[ونزله] (3) على ما تقدم [من] (4) اختلاف الأصحاب-[فبقي] (5) من الظاهر بعضُه، فلو قلع قالع ما بقي مع سنخه، قال الشافعي: "ويفرد السنخ في هذه الصورة بحكومة، [فيلزمه] (6) في السنخ حكومة على حيالها؛ والسبب في هذا أنا لو أسقطنا حكومة السنخ، لكنا أتبعناه بعضَ السن، والسنخ يتبع جميع الظاهر، وقد فرض قطع بعض السن في الصورة التي ذكرناها" (7).

_ (1) في الأصل: "الحاقة مع اليدين" (انظر صورتها). (2) الأرنبة: أي أرنبة الأنف، والمراد هنا أي قطعة من المارن. (3) في الأصل: "والوصاة". والمثبت من تصرف المحقق عسى أن يكون قريباً من لفظ الأمام. (4) في الأصل: "على". (5) في الأصل: "فنفى". (6) في الأصل: "ويلزمه". (7) حكى المؤلف نص الشافعي بمعناه، ولفظُه في الأم: "وإن كسر إنسانٌ نصف سن رجل، أقل أو أكثر، ثم نزع أخرُ السنَّ من سنخها، ففيها بحساب ما بقي ظاهراً من السن، وحكومة السنخ، وانما تسقط الحكومة في السنخ إذا تم عقل السن، وكانت الجناية واحدة، فنزعت بها السن من السنخ" ا. هـ (ر. الأم: 6/ 114).

هذا هو النص وتوجيهه ما ذكرناه. ويتجه فيه [أخذاً] (1) من فحوى كلام الأصحاب وجهان آخران سوى ما ذكرناه منصوصان: أحدهما - أن السنخ لا يفرد بشيء، فإنه مركب ما بقي، وسنخه يتبعه، كما يتبع الجميع لو فرض القلع في الجميع، وهذا متجه. والثاني - أنه يسقط منه مقدار ويثبت مقدار، وبيانه أن الذي قطع من السن هو النصف مثلاً، [فيستقر] (2) على مقابلته نصف حكومة السنخ، فإذا قطع الثاني، سقط نصف الحكومة، واستقر نصفها فتوزع حكومة السنخ على ما طع أولاً، وعلى ما قلع مع الباقي من الظاهر. ومما يجب الإحاطة به أن من قطع [ظاهر] (3) السن، ثم قلع السنخ متصلاً أو منفصلاً، فالسنخ يفرد بالحكومة في هذه الصورة، كما أنه فرض مثل ذلك في لقط الأصابع أولاً، ثم رتب قطع الكف على اللقط. ولو قطع من الحشفة مقداراً، وجب فيه ما تقدم، فلو قطع ثانٍ الذكرَ من أصله، ففي إفراد ما وراء الحشفة بالحكومة من الخلاف ما في السنخ، إذا سبق القطع في بعض السن، فهذا بيان أصلٍ واحد في أحكام السن. 10629 - الأصل الثاني - الكلام في تفصيل المثغور وغير المثغور، وهذا من أعظم الأركان في الفصل، فنقول: من قلع سنَّ صبي لم يُثغر سنه، فلا نعجل في إيجاب شيء ونتأمل ما سيكون؛ فإن السن سيعود غالباًً، فإن عاد السن من غير نقص، لم يتجه على القاطع ديةٌ ولا قصاص، ونظر: فإن لم يبق [شينٌ] (4) ولا أثر للقلع السابق، فهل يجب على القاطع شيء أم لا؟ فعلى وجهين سيأتي أصلُهما، والنظائرُ التي يجري الوجهان فيها.

_ (1) في الأصل: "آخراً". (2) في الأصل: "ويستقر". (3) في الأصل: "ظهر". (4) في الأصل: "شيء".

ثم إذا أوجبنا شيئاًً، ولا شَيْن، ولا أثر، ففي مقداره واعتباره كلامٌ سيأتي مشروحاًً في باب الحكومات، إن شاء الله عز وجل. وإن بقي شينٌ، فلا شك [في إيجاب] (1) الحكومة، وتفصيلُ القول في الحكومة بين أيدينا. وإن لم يعد السن، فقد بان [أن] (2) القلع أفسد المنبت، فيجب فيه أرش كامل. وألحق معظم الأصحاب القول بأنه يجب القصاص على القالع في هذه الصورة إذا تبين فساد المنبت، فنقلع [سنّاً] (3) من القالع -وإن كان مثغوراً- بهذا السن الذي لم يعد. هكذا أورده القاضي وغيره من الأئمة. وفي القلب من إيجاب القصاص [شيء] (4)؛ فإن الدية إنما تكمّل إذا لم يَعُد السن الذي لم يثغر، [لما] (5) ذكرناه من إفساد المنبت، وكأن [عين] (6) السن الذي لم يثغر لا تتعلق به الدية حتى ينضم إلى تلفه إفساد المنبت، وعين السن من المثغور عضو قصاص، فمقابلته بإفساد المنبت لا تتجه. وقد رأيت في تصرف المذهب [ما يسوّغّ لي] (7) التوقفَ في إيجاب القصاص. فأما الأرش، فلا شك أنه يكمل إذا لم يعد السن. ولو طالت المدة في ارتقاب عوْد السن الذي لم يثغر، فأوجبنا الأرش، ثم عاد، نسترد الأرشَ قولاً واحداً، ولا يدخل هذا في القولين في عود سن المثغور وهذا واضح.

_ (1) في الأصل: " في أن إيجاب ". (2) في الأصل: "أنا". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة اقتضاهاالسياق. (5) في الأصل: "ما". (6) في الأصل: "غير". (7) في الأصل: " يسرع إلى "

10630 - فأما إذا قطع سناً مثغوراً والقالع مثله، فلا شك في وجوب القصاص في الحال، والدية تكمل، يعني الأرش المقدّر، فلا توقف؛ فإن الأسنان المثغورة يندر عودها بعد القلع؛ فلا توقف إذاً فيها. [هذا] (1) أصل المذهب، ثم يبتدىء التفريع: فإذا عاد السن من المجني عليه، والسن مثغور، وكان العود بعد تقديم الجاني الأرش، فهل نسترد الأرش ن المجني عليه أم لا؟ فعلى قولين منصوصين: أحدهما - أنا لا نسترد، فإن العوْد نادر، والنادر لا حكم له، والعائد نعمةٌ جديدة من الله تعالى، وقد تمت الجناية واستقر موجَبها فلا نُغيّر حكمَها بخلق جديد، ونعمة حادثة من الله تعالى وتقدّس. وهذا اختيار المزني. والقول الثاني - أنا نسترد الأرش، إن السن على الجملة يفرض عود جنسه على الجملة، فإذا تحقق العود، كان كما لو لم يسقط أصلاً، نادراً كان أو معتاداً. والكلام ينبسط الآن بعض الانبساط، فالوجه أن نذكر ما يليق بهذا الموضع في تمهيد الأصل، وذكر النظائر، والإشارة إلى محل الوفاق والخلاف، ثم نعود بعد ذلك إلى تفريع القولين في الأسنان، والله المستعان. 10631 - فنقول: من جنى على إنسان، فصار لا يبصر أصلاً، وربما يقتضي الحال الديةَ، لغلبة الظن في أن البصر زائل، فإذا غرّمنا الجاني [الدية] (2)، ثم أبصر المجني عليه، فلا خلاف أن الدية [مستردّة] (3)، وقد بان أن البصر لم يزل، وإنما حدئت غشاوة [أو طرأ مانع ثم زال] (4). هذا ما عليه بناء الفقه، فلا التفات إلى [التعمق واسترسال] (5) الكلام.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "مقررة". (4) في الأصل: "أو طرأ مانع وزوال" والتعديل من المحقق على ضوء عبارة الغزالي في البسيط. (5) في الأصل: "العمق، لسريان" وسوّغ لنا هذا التغيير ما رأيناه في كلام الإمام في بعض كتبه من قوله: "نعوذ بالله من التعمقات".

ولو جنى جانٍ، فجرى الماء إلى [إنسان العين] (1) فقُدح (2) الموضع، وزال الماء، وأبصر من عليه الجناية، فالدية مستردة، كما ذكرناه. وكذلك القول في إزالة لطيفة السمع في الظن وتقدير السلامة بعد ذلك؛ فإن هذه المعاني إن زالت، لم تعد أصلاً، وإنما تحدث موانع [ظهورها] (3)، ثم تزول، وما ذكرناه جارٍ في الحواس [كلّها] (4). ولو جنى جارٍ، فأذهب بطشَ اليد من المجني عليه، واقتضى الحال إلزام الدية [فأبلّت] (5) اليد، وعاد البطش. [فهذا] (6) كالإبصار بعد وقوع لحيلولة، هكذا ذكر الأئمة وهو مقطوع [به] (7)؛ فإن الأعضاء إذا يبست [أعصابها، وفسد حسها لا تعود، وهو الشلل تحقيقاًً] (8)، وفيه الدية، وإذا أتاها الخلل، وزال البطش من الدماغ، ثم زالت آفةٌ كانت، وانجلت شدّةٌ وقعت، وكانت مانعة من نفوذ القوة إلى الأعضاء، فهذا كالإبصار بعد امتناعه. فانتظم مما ذكرناه أن المعاني بجملتها إذا فرض العود فيها تسمية وإطلاقاً، فذاك ليس بعَوْد، ولكنا نتبين أنها لم تزُل، وإنما وقعت حوائل وموانع، ثم زال المانع، والمعاني بحالها. ومن ذلك العقل؛ فإن من جنى على إنسان، فجُنّ المجني عليه، ثم أفاق وعقل،

_ (1) في الأصل: "أسنان الغير". (2) قدح: يقال: قدح الطبيب العين: أخرج منها الماء الأبيض، الذي يمنع الرؤية (المعجم). (3) في الأصل: "وظهورها". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. وقدرناها هكذا على ضوء ما بقي من خيال الحروف، وعلى ضوء المعهود من أسلوب الإمام، فهي هي إن شاء الله. (6) في الأصل: "وهذا". (7) زيادة اقتضاها السياق. (8) عبارة الأصل: "إذا يبست أغصانها، وفسدت سببها ألا تعود وهو الشكل تحقيقاً" هكذا تماماً، وفيها ما تراه من خلل، حاولنا إصلاحه، فبلغنا اليقين في بعض، وغلبة الظن في بعض. والله المستعان.

فنسترد [الدية] (1) إن كنا [أخذناها] (2)، فقد جرى القول فيها على [ما تمهد] (3). 10632 - ثم يقابل هذا القسمَ الذي ذكرناه معارضٌ على حكم المخالفة والمناقضة، فنقول: من أوضح رأس رجلٍ، توجه القصاص أو الأرش، فلو التحم الجرح واكتسى باللحم والجلد، فقد رأيت الأئمة متفقين على أن الأرش لا يُسترد، قولاً واحداً، وحكم الجناية لا يزول بما فرض من الالتحام؛ والسبب فيه أن المرعي في الإيضاح حصول الاسم، ولذلك لم نفرِّق بين الموضِحة الصغيرة وبين الكبيرة التي تستوعب الرأس بالإيضاح، وقد تحقق الاسم، فاستقرت التسمية. ثم الالتحام أمرٌ جديد، ولحم حادث أنبته الله تعالى وتقدس، والذي يحقق ذلك ويوضّحه أن الالتحام في الموضِحة معتاد غير نادر، فلو كان مسقطاً للأرش [مغيِّراً] (4) لأمر القصاص، لأجريناه جَرْي السن الذي لم يثغر؛ حتى لا نعلِّق به -عند الالتحام- قوداً ولا دية، [وربطنا] (5) الأرش بما إذا برز العظمُ وبقي [ظاهراً يُنظر] (6)، وهذا غير واقع، وفيه حسم السبيل إلى موجَب الشِّجاج. وتمام الغرض في هذا أن سن الصبي يسقط لا محالة في [زمن] (7) قريب، وإذا قلع ثم عاد، كان ذلك بمثابة استعجال في السقوط، وكان إليه مصيره لو ترك، وجلدة الرأس لا تسقط، فإذا تحقق الاسم، فلا ننظر إلى ما يقع بعده من الالتحام، والمعاني إذا قيل: عادت، تبيّنّا أنها لم تزُل، وهذا لا يتحقق في الموضحة، فإنها واقعة قطعاً، ثم كما يغلب التحامها من المجني عليه، فكذلك يغلب في المقتص منه. ويلتحق بهذا القسم أن الجائفة إذا التحمت [وانسدّت] (8)، فالذي قطع به

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "أخرناها". (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: "معتبراً". (5) في الأصل: "وتحققنا". (6) في الأصل: "رأساً بنص" (كذا تماماً). (7) في الأصل: "في رمز". (8) في الأصل: "واستدت".

الأصحاب أن حكمها لا يزول؛ فإن المعول فيها على الاسم، كما أن المعول في الموضِحة على الاسم، وقد ذكر صاحب التقريب في الجائفة إذا التحمت وانسدت وجهين: أحدهما - أن حكمها لا يزول كالموضِحة، والثاني - أن حكمها يزول، وهذا وجهٌ ضعيف، لا اتجاه له على الوجه المحكي. 10633 - والذي عندي فيه أن ما ذكره فيه إذا وصلت الجائفة إلى الباطن بسكين أو غيره، ولم يزُل اللحم من البين، وإنما وُجد [خرق] (1)، ثم التحم من بعدُ. وهذا فيه احتمال؛ فإن الخرق قد زال، من حيث حدث من غير زيادة لحم لم تكن، وعندي أنه لو فرض مثل ذلك في الموضِحة، بأن غرز الجاني إبرة، وقرع العظمَ بها، فهذا إيضاح، فلو ارتتق مثل هذا الجرح واللحم، فالذي أراه طردُ الوجهين في هذه الصورة؛ إذ لا يجوز أن يعتقد الفرق بين الموضِحة وبين الجائفة أصلاً. ولكن الذي يجب اعتماده في ترتيب المذهب أنه إذا زال اللحم، وحصلت الجراحة الموجبة للأرش في الشجاج أو الجوائف، ثم فرض زوال الجرح بنبات لحمٍ جديد، فالأرش لا يسترد أصلاً، وإن وجد خرق [محدَّد] (2) في النوعين من غير إزالة لحم، ثم قدر التحامٌ من غير لحم جديد، ففيه الوجهان في الموضحة والجائفة جميعاً. فهذا بيان هذا الطرف، وبين الطرفين عَوْد السن المثغور، وفيه القولان، والفرق بينه وبين الموضحة أن المتبع في الموضحة الاسمُ، كما تقدم ذكره، وقد جرى في جنس السن ما يجب القطع فيه بسقوط الأرش، وهو عوْد سن من لم يثغر سنه، والمثغور من جنس ما لم يثغر، فهذا هو أحد القولين. وإلا فالقياس الحق أن ما يحدث من خلقٍ جديد لا يغيّر حكم الجناية السّابقة، ولكن اعترض في الأسنان ما ذكرناه في السن الذي لم يُثغر.

_ (1) في الأصل: "حرف". (2) في الأصل: "مجدد".

فهذا بيان التغايير التي تحدث بعد الجناية. 10634 - ثم إن المزني اختار أن عود السن المثغور لا حكم له، وهو نعمة جديدة من الله تعالى، واحتج في نظره ذلك بأن من قطع لسان إنسان، ثم عاد ونبت، فما وجب لا يسقط، فليكن عود السن المثغور كذلك (1). وقد اختلف أصحابنا على طريقين فيما ذكر: فذهب الأكثرون إلى أحد القولين في عود اللسان، وهذا إن كان يتصور، فإنما يتصور في قطع فلقة من جانب من اللسان، وهو بعيد في التصوّر أيضاً. ومن أصحابنا من سلم للمزني ما ذكره، وقال: إنما قلنا في السن المثغور ما قلناه اعتباراً بالسن الذي لم يُثغر، وليس في اللسان ما يناظر السن الذي لم يثغر؛ حتى نلحقَ اللسان به، فأجرينا القياس في اللسان، وفي الأسنان ما ذكرناه من السن الذي لم يثغر. فهذا منتهى القول في هذه التقاسيم، والله أعلم. 10635 - وقد عاد بنا الكلام إلى التفريع على القولين في السن المثغور، فنفرض صوراً، ونفرع حكمها على القولين، فنقول: وصفنا القولين فيه إذا قلع السن ممن ثُغر [فغرم] (2) الأرش، ثم عاد السن من المجني عليه، ففي استرداد الأرش ما ذكرناه من القولين. ولو اقتصصنا من الجاني، فعاد سنُّ المجني عليه بعد الاقتصاص، ولم يعد سن الجاني، فالمذهب أن القولين يفرعان، [فيقال] (3) فيهما: إن قلنا: لا حكم لعود السن، فلا ننظر إلى العود، وقد جرى القصاص بحقٍّ، وإن أثبتنا للعود حكماً، فيغرم المجني عليه للجاني الذي اقتص منه أرش سنه الذي قلعه في ظاهر الأمر قصاصاً. وحكى صاحب التقريب عن أبي الطيب بن سلمة من أئمتنا أنه قال: لا يجب على

_ (1) ر. المختصر: 5/ 132. (2) في الأصل: "يغرم". (3) في الأصل: "فقال".

المجني عليه شيء في هذه المسألة؛ وذلك أنه إذا غرم الجاني الأرشَ، فردُّ الأرش ممكن [عند] (1) عود السن، فأما إذا اقتص الجاني، فهذا لا يمكن ردّه، فلا تتعلق به [تبعة] (2)، وهذا غلط صريح في القول الذي عليه نفرع، [فسنّ] (3) المجني عليه إذا عاد، فقد بان أن قلع سن الجاني الذي قلعه على ظنّ القصاص، [لم يكن بحق] (4). [وقد] (5) ذكرنا عوْدَ سن المجني عليه، وقد [غرم] (6) الجاني الأرش [وإن] (7) فرض الاقتصاص منه. 10636 - ونحن نصوّر الآن عود السن في الجاني، فنقول: إذا اقتصصنا من الجاني، وقلعنا سنه الذي قلعه من المجني عليه، فعاد سنه، فهذا يتفرع على أصل القولين في العود: فإن قلنا: السن الحادث نعمةٌ جديدة، فلا [يتغير] (8) به حكم، وقد جرى الاقتصاص على وجهه، ولا أثر للعود المفروض. وإن جعلنا للعوْد حكماً، فقد ذكر العراقيون وجهين: في أنا هل نقتص منه مرة أخرى؟ أحدهما - أنا نقلع سنه مرة أخرى، ولا نزال نفعل ذلك إذا كان السن يعود، ولا نبالي وإن قلعنا مائة مرة، وذلك أن القصاص في التحقيق إنما يجري لإفساد المنبت، [فما لم] (9) يحصل لا يكون ما يجري اقتصاصاً. والوجه الثاني -وهو الذي قطع به الأئمة المراوزة- أنا لا نقلع سنه مرة أخرى؛ فإن القصاص عقوبة مع مجازاةٍ لعدوان، والمماثلة مرعية في القصاص. وهذا سرف عظيم ومجاوزة حدّ، فإذا نبت سنه، فقد فات الاقتصاص، [والجاني

_ (1) في الأصل: "ضد". (2) في الأصل: "بيعة". (3) في الأصل: "فأرش". (4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (5) في الأصل: "فقد". (6) في الأصل: "عدم". (7) في الأصل: "إن". (8) في الأصل: "يتعين". (9) في الأصل: "فما لا".

يغرَم للمجني عليه] (1) أرش سنه، وكأن الاقتصاص لم يجر، وتعذر [بسبب] (2) من الأسباب. ولو قلع سنّه جانياً، فقلعنا سنّ الجاني قصاصاًً، فعاد سنهما جميعاً، فإن لم نجعل للعود حكماً، فقد تمت الجناية، وتمّ القصاص. وإن جعلنا للعَوْد حكماً، فنقول: لما عاد سن المجني عليه، فنقول: كأنه لم يقلع، وإذا عاد سن الجاني، فنقول: كأنه لم يقتص منه، فيتفاصلان ولا طلبة لواحد منهما في أصل السن، وهذا من بدائع التفاريع؛ [فإنا قد فرعنا] (3) على قولين مختلفين، فأفضى التفريع عليهما إلى مقصود واحد، فإنا إن قلنا: لا حكم للعود، فلا [تداعي] (4) بينهما، وقد تمت الجناية، وتم القصاص. وإن قلنا: للعود حكم، فكأن الجناية في أصلها لم تجرِ، وكأن الاقتصاص لم يجر. والله أعلم. ومما نذكره في التفريع: أنا إذا لم نجعل لعود السن حكماً، فنقول: إذا جنى فقلع سناً، فإنا نبتدر ونقتص من الجاني، أو نغرّمه الأرش، ولا ننتظر أمراً؛ فإن أقصى ما يفرض عود السن ولا أثر له. وإن قلنا: عود السن يؤثر، فهل نتوقف وننتظر العود، أم كيف السبيل فيه؟ ادعى المزني لما اختار أن عود السن لا حكم له أنا لا ننتظر، واحتج بذلك قائلاً: لو كان على عود السن معول، لانتظرناه، كما [نفعل] (5) ذلك في الذي لم يثغر. فذهب معظم الأئمة إلى أنا نخرّج الانتظار على القولين: فإن قلنا: يتغير الحكم بعود السن، فلا بد من الانتظار، وهذا هو القياس الحق، ثم الرجوع في مدة

_ (1) "والمجني عليه يغرم للجاني أرش سنه" وهو عكس المعنى، فالمسألة مفروضة في عود سن الجاني بعد القصاص. (2) في الأصل: "سبب". (3) في الأصل: "وأما إذا فرعنا على قولين مختلفين". (4) في الأصل: "تراعي". (5) زيادة اقتضاها السياق.

الانتظار [إلى] (1) مدة عود سن الصبي الذي لم يثغر. ومن أصحابنا من وافق المزني في الذي ذكره وقال: إنا لا ننتظر العود لأنه إن وقع، فهو نادر جداً، فلا وجه لانتظار النوادر، وإنما يتعلق انتظار العقلاء بما لا يستبعد، والزائد عليه أنا لو انتظرنا مدة، فلن ينقطع توقع العود وإن طالت المدة، فالوجه قطع الانتظار أولاً، ثم إن اتفق عودٌ، أجرينا ما حكمنا فيه على ما يقتضيه القياس. وقد انتجز غرضنا في هذا الأصل. 10637 - ومن الأصول الكلامُ في أن الأسنان إذا استوعبت قلعاً، وزادت أروشها على مقدار الدية، فكيف الوجه؟ قال الشافعي رضي الله عنه: "والضرس سن وإنما سمي ضرساً" [فجملة] (2) الأسنان على الاعتبار الغالب في الفطرة اثنان وثلاثون: أربع ثنايا: ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل. وأربع رَباعيات، فوق وأسفل، وأربعة [أنياب] (3)، كما ذكرنا، [وأربعة نواجذ] (4) وأربع ضواحك، واثنتا عشرة طواحين، وهي التي تسمى الأضراس، وهذه الأسنان، وإن كانت [متفاوتة فيما] (5) يتعلق بها من المنفعة، فهي متساوية في الأروش، ففي كل سن منها خمس من الإبل، إذا كمَّل المجني عليه [قلعها] (6)، كما تقدم ذلك، وهو [كالأصابع فإنها] (7) متفاوتة في الصورة، والطول، والقصر، والمنافع، وأروشها متساوية، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأسنان سواء والأصابع سواء والثنية كالضرس: هذه كهذه" (8).

_ (1) في الأصل: "على". (2) في الأصل: "جملة". (3) في الأصل: "ضواحك"، واتبعنا في الترتيب المصباح المنير. (4) سقطت من الأصل، ولا يتم العدد إلا بها. (5) في الأصل: "معاونة وما". (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: "وهو الأصابع وإنها متفاوتة". (8) حديث: "الأسنان سواء ... " رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والبزار، وهو في =

ثم قال الأئمة في هذا المنتهى: الغالب أن الثنايا تكون أطول من الرَّباعيات، فإن كان ثنايا بعض الناس مثل الرَّباعيات أو أقصر منها، فكيف الحكم؟ ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا يجب في الثنية والحالة هذه تمام الأرش، كما إذا كانت الإصبع الوسطى مثل المسبِّحة، فلا يجب فيها تمام دية إصبع، [ولذلك] (1) يجب [في] (2) الثنية مقدار من الأرش: فنقدر الطول الذي كان ينبغي أن يكون، ويتوزع الأرش، ويسقط في مقابله ما عدمنا مقدارَه، ويبقى مقدار الباقي، وفي بعض التصانيف أنا نوجب فيه حكومة، وهذا غلط إلا أن يريد بها البعض على القياس الذي ذكرناه. وكان يحتمل أن يجب تمام الأرش، وفي كلام الأئمة رمزٌ إليه، ووجهه أن زيادة الثنايا [ليست] (3) مطردة؛ حتى يقال: خلافُه خارج عن عادة الخلقة، والناس على تفاوت عظيم في خلقة الأسنان، وليس كذلك الأصابع، على أني سأذكر في الأصابع إذا انتهيت إليه ما ينبغي. 10638 - ثم نتكلم بعد هذا في استيعاب الأسنان في القلع، وتعدد أروشها، فنقول أولاً: إذا قلع الجاني سناً، وتركه حتى برأ واندمل، وزال أثر الجناية، ثم قلع سناً آخر، ثم هكذا إلى استيعاب الأسنان، فهاهنا نوجب في كل سن خمساً من الإبل. [ولو] (4) اشترك جماعة، فقلع كل واحد منهم سناً [أو واحدٌ عشرين] (5)، وقلع

_ = البخاري مختصراً بلفظ: هذه وهذه سواء. يعني الخنصر والإبهام (ر. أبو داود: الديات، باب ديات الأعضاء ح 4558 - 4561، ابن ماجه: الديات، باب دية الأصابع، ح 2652، ابن حبان: 5980، البخاري: الديات، باب دية الأصابع ح 6895. تلخيص الحبير: 4/ 55 ح1930). (1) في الأصل: "ولكن". (2) في الأصل: "من". (3) في الأصل: "أن زيادة الثنايا الست مطردة". (4) في الأصل: "فلو". (5) زيادة لا تصح الصورة إلا بها. وهذه الصورة بهذا الوصف عند الغزالي في البسيط.

الآخر الباقي، فيجب على كل واحد [منهم] (1) الأروش بكمالها؛ فإنه لا يختص كل واحد [بأكثر] (2) من الدية، وهذا [نهايتها] (3)، [ولو قلع قوم] (4) كل واحد سناً (5)، وكذلك إن قلع سناً، وغرم أرشه، وقلع آخرَ وغرم [أرشه] وهكذا، (6) حتى استوفى الأسنان، فالأروش تثبت، [وإن] (7) زادت على الدية هذه صورة وحكى الأئمة الوفاق في وجوب تمام الأروش فيها (8). ولو جنى جناية أسقط فيها جميع الأسنان دفعة واحدة، فهل نوجب الأروش بكمالها، أم لا نزيد على ديةٍ واحدة؟ فعلى قولين: أصحهما - أنا نوجب الأروش، وإن زادت على الدية، وهذا هو القياس. والثاني - أنه لا يجب أكثر من دية واحدة؛ فإنها [أعدادٌ متقابلة متعاونة على العمل كالأصابع] (9) وهذا [لا يستدّ] (10) مع أن الأروش تزيد في الصور التي ذكرناها.

_ (1) في الأصل: "منها". (2) في الأصل: "أكثر". (3) في الأصل: "بيانها". (4) عبارة الأصل: "لو قلع كل قوم كل واحد سناً"، والتعديل بالحذف والزيادة من عمل المحقق. (5) هذه الجملة تكرار للصورة المضمنة ضمن الصورة المركبة السابقة، فهي مركبة من صورة تعدد فيها الجاني بعدد الأسنان، ومن صورة أخرى تعدد الجاني إلى اثنين فقلع واحد عشرين والآخر الباقي. فقوله: "لو قلع قوم كل واحد سناً" هي بعينها الصورة التي أمامك، مما يشعر بقلب في لعبارة. (6) عبارة الأصل: "وقلع آخر وغرم وهذا متجه حتى استوفى الأسنان". (7) في الأصل: "فإن ". (8) هذه الصورة ليس فيها تكرار مع الصورة التي تقدمت آنفاً وتعددت فيها الجناية، واتحد الجاني، فهذه ليست كتلك، حيث قيدت السابقة بتخلل الاندمال، وهذه مطلقة من هذا القيد، ومقيدة فقط بتخلل دفع الأرش. (9) عبارة الأصل: "فإنها اعتماد مقابلة متقاربة على العمل بالأصابع" وفيها أكثر من تصحيف. والمثبت نص عبارة الإمام -إن شاء الله- اعتماداً على السياق، وعلى عبارة الغزالي في البسيط. حيث قال: "والثاني - أنها لا تزيد على الدية لأنها متقابلات متعاونات على جنسٍ من العمل كالأصابع" (ر. البسيط = مخطوط: الجزء الخامس: ورقة: 57 يمين). (10) في الأصل: "لا يستمر". ويستدّ بمعنى يستقيم، وهو من ألفاظ الإمام التي يلتزم بها في التعبير عن هذا المعنى.

ولو قلع جانٍ واحدٌ، فقلع الأسنان واحداً واحداً، ولم يتخلل اندمالٌ، ولا غرامةُ أرش، ففي هذه الصورة طريقان: أحدهما - القطع بإيجاب الأروش بالغةً [ما بلغت] (1)؛ لتعدّد الأفعال وترتبها. والثانية - أن المسألة تخرّج على القولين اللذين ذكرناهما. 10639 - ومن الأصول في الأسنان أن اللحيين فيهما دية كاملة، وهي من مباني البدن، ولا يخفى ظهور وقعهما ومنفعتهما وعِظم أثرهما. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "الأسنان العليا في عظم الرأس، والسفلى في اللحيين" (2) وقصد بذلك التعرض [لأرش اللحيين] (3)، وهو أن من قلع لحيي شخص، وألزمناه الدية، فهل تلزمه أروش الأسنان مع دية اللحيين؟ فعلى وجهين: أحدها - أنها تتبع؛ فإن المتركب على الشيء إذا قُلع مع أصله، لم يفرد كل واحدٍ منهما بأرش الانفراد، والأقيس إثبات الأروش مع دية اللحيين (4). 10640 - إذا ضرب سنَّ إنسان فاسودّ، فقد اختلف نصّ الشافعي فيه، فقال في موضعٍ: "يلتزم الحكومة" [وقال في موضع يلتزم عقلها] (5)، فقال المزني: أجعل المسألة على قولين، واختار إيجاب الحكومة، واحتج بأن منفعة السن باقية: من القطع والمضغ وغيرهما (6). فقال الأئمة: ليست المسألة على قولين، بل النصان منزلان على حالين: فحيث

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ر. المختصر: 5/ 132. (3) زيادة من المحقق. (4) تداخل الكلام على اللحيين والجناية عليهما مع الأسنان التزاماً من الإمام بترتيب (السواد) أي مختصر المزني. هذا مع أن الغزالي (تلميذ الإمام) جعل الجناية على اللحيين فصلاً قائماً بذاته، فقال: الثامن (أي من الأطراف) اللحيان، وأتى بها -ومثله الرافعي والنووي- عقب الفراغ من الأسنان، ولكن إمامنا -التزاماً منه بترتيب المختصر- تخلل بها بين مسائل الأسنان. (5) زيادة اقتضاها السياق، من معنى كلام الشافعي في المختصر. (السابق نفسه). (6) السابق نفسه.

أوجب الدية أراد إذا سقطت منفعة السن، وحيث أوجب الحكومة أراد إذا لم تسقط منفعتها. وفيما [ذكروه] (1) نظر وبحث، فنقول: إن كان يتأتى المضغ والقطع ولم يحدث إلا اسوداد، فلا يلزم إلا الحكومة، وإن كان لا يتأتى بالسن ما ذكرناه، فربما [يتعذر بسببه] (2) الانتفاعُ [بما عداه، فقد سقطت] (3) المنفعة، وبقاء الجرم [لا ينافي] (4) وجوب الأروش، كما لو ضرب يداً، فأشلها. [وإن اخضرّت السن أو انتبرت، وتقلقلت] (5)، وبان أنه من آثار الجناية، فإذا سقط، وجب الأرش في سقوط العضو [على] (6) ما تقدم ذكره. وإن كان يتأتى به القطع والمضغ ولكن على ضعف، فهذا بمثابة ما لو ضرب يد إنسان فأضعفها ولم تسقط منفعتها بالكليّة، فتجب الحكومة، ثم الحكومة على قدر ما فات، ولا سبيل إلى [التقدير] (7)، فإنه لا ينضبط ما فات وبقي على وجهٍ لا يتأتى فيه [شبهة] (8) من جهة التقدير، فإذا لم [يتقدّر] (9) ما فات، لم يتأت تعبير عن [عوضه] (10)، فأثبتنا الحكومة صادرةً عن النظر والاجتهاد، فهذا جميع ما يتعلق بهذا. فالاسوداد المجرد لا يوجب الأرش بكماله. نعم، يتعلق به الحكومة، وستأتي أصول الحكومة، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) في الأصل: "ذكرناه". (2) في الأصل: "يتعدد سببه". (3) عبارة الأصل: "بما عداه سببه فقد سقطت". (4) في الأصل: "لا يتأتى". (5) في الأصل: "وإن أخر السن سر وـ ـطع" هكذا بدون نقط. ومعنى انتبر: أي تورّم وارتفع. (6) زيادة من المحقق. (7) في الأصل: "التقدم". (8) في الأصل: "سببه". (9) في الأصل: "يتقرر". (10) في الأصل: "عرضه".

ثم حيث أوجبنا على الجاني حكومة، فلو جنى جانٍ وقلع ذلك السن، قال الأصحاب: على قالعه أرشٌ كامل، وإن أوجبنا على الجاني الأول أرشاً كاملاً، فنوجب على القالع حكومة، وهذا بيّن عند الأصحاب في الأصول. 10641 - وفيه نظر عندي وبحثٌ: فإن من نَقَصَ (1) السنَّ وأزال بعضَ منفعته، فالذي يضمنه في مقابلة ما أزاله -إذا ضمن- شيءٌ (2) من المنفعة، [فالقول] (3) بإيجاب تمام الأرش قد يُشكل على الناظر؛ وهذا السؤال قد يتجه فيما إذا جنى على يد إنسان، فأضعفها، وضمن الحكومة، ثم يترتب على ما ذكرته من الإشكال أمر القصاص، وقد قال الأئمة: في الصورة التي انتهينا إليها: لو قلع قالع ذلك السن، أو قطع تلك اليد فيلزمه القصاص، واليد الكاملةُ لا تقطع إلا بيدٍ كاملة. فنقول: إذا ضعفت اليد خلقةً، أو ضعف السن، [فلا] (4) إشكال في إتمام الأرش على الجاني، فإنا لَوْ لم نقل هذا، لوقعنا في عَماية لا تنجلي، فإن [أفراد] (5) منافع الأعضاء لا تدخل تحت الضبط، فيكفي في إكمال أبدالها كمال الخلقة صورةً، وثبوتُ المنفعة على الجملة، ولا نظر إلى قدر المنفعة. هذا في الضعف الذي يكون من [طريق] (6) الخلقة ويستوي فيما ذكرناه الأصلي والطارىء إذا كان من طريق الخلقة، من غير فرض جنايةٍ وضمان. فإذا فرض النقصان بجناية، وفرض الضمان، ففيه الإشكال، فإن [قيل] (7) [الفائت] (8) مضمون، فإذا وجب تمام الأرش، فهذا يتضمن تضعيف الضمان في القدر الذي تعلق الضمان الأول به. قلنا: الأمر كذلك، ولكن سرّ الحكومة أنا

_ (1) نقص: فعلٌ متعدٍّ بنفسه، وبالهمزة. (2) شيء: تعربُ خبراً لقوله: فالذي يضمنه ... - شيء من المنفعة. (3) في الأصل: "فبدل بإيجاب". (4) في الأصل: "ولا". (5) في الأصل: "إقرار". (6) في الأصل: "طريقه". (7) زيادة من المحقق. (8) في الأصل: "الغائب".

لا نوجبها في مقابلة مقدارٍ من المنفعة على التحقيق، ولكنا نقول: جنايةٌ مؤثرةٌ، [وليس] (1) فيها تقدير شرعي، ففيها حكومة، ثم أقرب مسلك نلتفت إليه المنفعةُ اجتهاداً وتخميناً، [وتعدّد] (2) الجناة قد يوجب مثلَ ذلك؛ فإن من قطع يدي رجل وحز رقبته، فالنص أنه لا يلزمه إلا دية واحدة، ولو قطع يديه إنسان، وقتله غيرُه، فديتان وفاقاً، وسنذكر هذا موضحاً في فصول الحكومات، إن شاء الله عز وجل. فصل 10642 - إذا تحرك سن الإنسان وتقلقل لهَرَمٍ أو لعلة، فقَلَعَه قالع، قال الأئمة: في وجوب القصاص والأرش الكامل قولان. وهذا عندي فيه ترتيب؛ فإن تقلقل على وجهٍ يغلب على الظن أنه يثبت [ولم] (3) تسقط المنفعة [ولم تزُل، فهذا] (4) بمثابة مرض في العضو، فإذا قُلعت، فيجب [لضمان] (5)، ويُقْطَع بالقود وبكمال الأرش. وإن كان التحرك بحيث يغلب على الظن أن السن إلى السقوط لما به، ففيه قولان: أصحهما - وجوب القصاص والأرش الكامل؛ [فإن] (6) المنفعة وإن قلّت وضعفت، فالعضو باقٍ، وقد قدمنا أن مثل هذا وإن [نقص] (7) المنفعةَ لا يؤثر في إسقاط الصحة والحكم بالسلامة. والقول الثاني - أن [القود] (8) لا يجب؛ فإن السن انتهى إلى السقوط، وفي جنسه ما لا يتعلق به كمال الأرش؛ من حيث إن مصيره إلى السقوط، وهو سن الصبي الذي

_ (1) في الأصل: "فليس". (2) في الأصل: "عدد". (3) في الأصل: "ولا". (4) في الأصل: "لم تزل وهذا". (5) زيادة من المحقق، محاولة لإقامة العبارة من غير تبديل وتغيير. (6) في الأصل: "بأن". (7) في الأصل: "بعض". (8) في الأصل: "القول".

لم يُثْغر، وإنما خرج هذا القول لهذا الشبه، وإلا فلا خلاف في سائر الأعضاء أنها إذا [اكتسبت] (1) ضعفاً، فهي [كالأعضاء] (2) القوية. ثم هذا التعلّق غير صحيح أيضاً؛ فإن المعتبر في سن الصبي أنه يسقط ويخلف، وهذا لا يتحقق في سن الشيخ؛ فإنه إن سقط، فلا [خلف] (3) له. فكأن الأعضاء تنقسم: فما ضعف وكان الغالب أنه يبقى صاحبه (4)، فلا حكم لذلك الضعف، وما سقط إلى خلفٍ وبدل، فهو سن من لم يثغر سنه، وما يسقط غالباًً إلى غير خلف، وإن لم يظهر أثره، فهو عضو كامل في القصاص والأرش، فإن ابتدأ يتحرك، ففيه القولان، والأصح عندي الحكم بموجب الكمال. فرع: 10643 - إذا قلع سناً لم يُثْغَر من صبي، فقد ذكرنا أنا ننتظر من أمره العَوْدَ [أو غُرْمه] (5)، فلو مات الصبي قبل أن يعود سنه، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - لا نكمل الأرش؛ لأن [العود كان متوقعاً] (6)، فقطعه الموت. والثاني - يلزم، فإن القطع [قد] (7) تحقق، ولم يكن عود، ولا ننظر إلى تفصيل السبب الذي لأجله لم يعد السن. ومما يتعلق بهذا المقام أنه لو قلع قالع سنَّ صبي، فجاء جانٍ وجنى على ذلك المنبت، فلم يعد السن، وقيل: لولا الجناية، لكان يعود السن، فهذا [محلٌّ] (8) مشكل: [يجوز أن يقال: يجب الأرش على القالع] (9)، ويجوز أن يقال: لا يلزم القالع إلا الحكومة، ثم ليس يظهر في هذه الحالة إيجابُ الأرش على الجاني الثاني

_ (1) في الأصل: "اكتست". (2) في الأصل: "بالأعضاء". (3) في الأصل: "خلاف". (4) كذا تماماً وإخلالها لفظة بمعنى: منفعته. (5) في الأصل: "وعرمه". والمعنى أننا ننتظر أن يعود السن أو نغرم أرشه. (6) في الأصل: "القطع كان متوقفاً". (7) في الأصل: "في". (8) في الأصل: "محمل". (9) في الأصل: "يجوز أن يحال على القالع". والمثبت من معاني كلام الرافعي، حيث نقل المسألة عن الإمام. (ر. الشرح الكبير: 10/ 371).

وإن نفيناه عن الأول، وإيجاب الأرش بينهما لا يصير إليه فقيه. ولو سقط سن الصبي بنفسه، فجنى جانٍ على المنبت، فلم يعد السن، فهذا مشكل أيضاًً، وقد يتجه إيجاب الأرش على الجاني؛ من جهة ظهور فساد المنبت ولم تتقدم جناية من قالع حتى تكون الإحالة [عليها] (1)، والله أعلم، ولا قطع مع الاحتمال، [ولا نَقْلَ] (2) نعتمده. فرع: 10644 - إذا بلغ (3) الصبي في العاشرة وله سن بعدُ لم يُثغَر، فقلع سناً لم يُثْغَر مماثلاً لسنه، فهل نقلع سنَّ القالع جرياً على إجراء القصاص في الأعضاء الزائدة. قال شيخي لما راجعته في ذلك: لا قصاص في الحال، فإن سن المجني عليه إن عاد، فقد لا يعود سن الجاني، فإن لم يعد سن المجني عليه، ورأينا القصاص فيه، كما تقدم، فنقطع سن من لم يُثْغَر، فإن لم يعد، فالسن بالسن. وإن عاد سنه، فهذا العود معتبر بلا خلاف، فنقول: لم يعد سن المجني عليه، وعاد سن الجاني، فهل نقلع سنَّه الثاني؟ فيه خلاف، ويظهر هاهنا أن نقلع ثانياً، فإن الأول لم يكن مثغوراً، وإن لم يقلع، ولا شك في إكمال الأروش في سن المجني عليه، فتأملوا، ترشدوا، إن شاء الله عز وجل. فرع: 10645 - إذا انقلع سن إنسان وسقط، فاستعمل سناً من ذهب، وردّه إلى سنخ ذلك السن، فنشب اللحم به ونبت، وصار يَقطَعُ به ويمضغ، فلو قلع قالع هذا السن، فقد اختلف قول الشافعي في أنه هل يجب على القالع حكومة أم لا؟ فأحد القولين - أنه لا حكومة لأنه لم يكن جزءاً من الحيوان، والثاني - تجب الحكومة لما كان فيه من المنفعة، والتعلق بالآدمي، وفي المسألة احتمال بيّن لو تُصوّرت، وعندي أنها لا تتصور ولا يتصور أن يلتحم [اللحم] (4) على [الذهب] (5) والله أعلم. فهذا ما حضر ذكره في أصول أحكام الأسنان.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "ولا ينقل". (3) قيده بالبلوغ لكي يصح فرض الاقتصاص في الصورة كما يصوّرها. (4) زيادة من كلام الرافعي حكاها عن الإمام. (ر. الشرح الكبير: 10/ 366). (5) في الأصل: "المذهب"، والمثبت من كلام الرافعي حاكياً إياه عن الإمام. (السابق نفسه).

فصل قال: "وفي اليدين الدية ... إلى آخره" (1). 10646 - في اليدين الدية، وقد قال عليه السلام: "في اليدين الدية، وفي الرجلين الدية" ثم يجب في اليد الواحدة نصف الدية، والديةُ تكمل بلَقْط الأصابع، فإن قُطعت اليد من الكوع، لم نزد شيئاًً وفاقاً، وفي كل إصبع عشرٌ [من الإبل] (2)، ولا فرق بين إصبع وإصبع، وقيل: كان عمر رضي الله عنه يفاوت بين الأصابع في الأروش، فبلغه أن الرسول عليه السلام قال: "الأصابع سواء، والأسنان سواء" فرجع إلى الاستواء، وترك ما كان عليه (3). ولكل إصبع في اعتدال الخلقة ثلاثة أنامل إلا الإبهام، فإن [لها] (4) أنملتان عندنا، وفي كل أنملة من [الأنامل] (5) الثلاثة (6) ثُلُث الإصبع، وفي أنملة واحدة من الإبهام نصف دية الإبهام، والكفُّ يتبع الأصابع. ولو قطع اليدَ من المرفق، ففي الساعد حكومة زائدة، وكذلك إذا قطع من الكتف، فالتبعية إنما تثبت في الكف، كما ذكرناه، [ولو قطع القاطع من المنكب، فالقصاص جارٍ فيه، فإنه مفصل لا يتعذر استيفاء القود منه] (7)، كما قدمناه في كتاب القصاص. ولو جنى على يده، فأشلها، وجب كمال دية اليد؛ لإزالة المنفعة، ولا يجري

_ (1) ر. المختصر: 5/ 132. (2) زيادة من المحقق. (3) حديث: "كان عمر رضي الله عنه يفاوت بين الأصابع ... " رواه عبد الرزاق في مصنفه (ح 17706) والبيهقي في سننه الكبرى (8/ 93) وفي معرفة السنن والآثار (ح 2916). (4) في الأصل: "لهذا". (5) في الأصل: "الأصابع". (6) إذا تقدم المعدود يجوز التذكير والتأنيث. (7) عبارة الأصل: "ولو قطع القطع من ال ـرم فالقصاص جاد فيه، فإن فصل لا يتعذر استيفاء العود منه" وفيها أكثر من تصحيف كما ترى.

القصاص في المنافع؛ [فإن] (1) إجراء القصاص غير ممكن فيها. ولو كسر يد إنسان فجبره، [فجاء] (2) الجبر معوجاً، وجبت الحكومة، فلو قال الجاني: أنا أكسره، وأجبره مستوياً، حتى يقلّ الغُرم عليه، لم يكن له ذلك، ولو فعله وانجبر مستوياً، لم يسقط عنه ما وجب أولاً، وتجب حكومة جديدة بالكسر الجديد. وهذا القول في اليد. 10647 - ويجب في الرِّجْل ما يجب في [اليد] (3)، والقول في أصابع الرجل كالقول في أصابع اليد سواء، وقد يعترض إشكال فيها، فإن أصابع اليد إذا لُقطت [وتُركت] (4) الكف، فمن قطعَ الكفَّ، فعليه حكومة في الكف. ولو قطعت أصابع الرجل، [فإن] (5) معظم منافع الرجل باقية؛ فإن المقصود منها المشي، وهو باقٍ، وإن المقصود من اليد البطش ومعظم البطش في الأصابع، ولكن اتفق العلماء على أن القدم من غير أصابع بمثابة الكف من غير أصابع. وفي رِجْل الأعرج كمالُ الدية؛ فإن سبب العرج في الحِقْو أو الفخذ، وقد يكون تشنج (6) في العصب، [فلا] (7) تنتقص الدية بالعرج أصلاً. 10648 - ثم قال (8): "وإذا كان بيد رجل كفَّان ... إلى آخره". ما قدمناه في اليد والرجل بمثابة الأصول، وهذا أول الخوض [فيما] (9) يكاد يغمض، ونحن بعون الله تعالى نأتي منه بالبيان الشافي. فليعلم الناظر أنه لا يتصور أن يكون على معصم واحدٍ كفان أصليتان، ولا على

_ (1) في الأصل: "في أن". (2) زيادة لسلامة الجملة. (3) في الأصل: "الدية". (4) في الأصل: "فتركب". (5) في الأصل: "فادى". (6) فاعل (يكون) تامة. (7) في الأصل: "ولا". (8) القائل الشافعي رضي الله عنه، وهذا معنى قوله، لا بلفظه. (ر. المختصر: 5/ 133). (9) في الأصل: "كما".

ساقٍ واحد قدمان أصليتان، فلا بد وأن تكون إحداهما زائدة، أو تكونا ناقصتين في مقابلة يد واحدة، كما قدمنا تصوّر ذلك في الأصابع، في كتاب القصاص، وكل ما يتعلق بهذا الفصل [قد] (1) سبق مستقصىً في الجراح. ولا يتأتى استيفاء حكم القصاص دون ذكر أحكام الديات، فلذلك تقدم [لُباب] (2) هذا الفصل فيما تقدم، ونحن نذكر ما نراه زائداً، [وما في] (3) إعادته [ما يفيد] (4). فإذا كانت إحدى الكفين أصلية، والأخرى زائدة، وقد تبين الأصلى من الزائد، ففي الأصلي الدية، والقود، وفي الزائد الحكومة. ونحن نجمع ما يدل على الأصلية منهما: فإن كانتا على سَنَنٍ واحد، وأصابع كل واحدة كاملة، فإن كانت إحداهما باطشة، والأخرى ضعيفة، فالأصلية الباطشة، وإن كانت الباطشة منحرفة [والمستدة] (5) ضعيفة، فالأصلية الباطشة، فأَوْلى معتبر في ذلك البطشُ. ولو كانتا جميعاً تبطشان، ولكن إحداهما أقوى بطشاً، فهي الأصلية، وإن استويا في أصل البطش. وبالجملة لا نعدل بالبطش [شيئاً] (6)، والسبب فيه أن البطش [هو ما خلقت اليد له] (7) وهذا أمثل شاهدٍ على تأصل العضو، وتفرّعه على الأعضاء الرئيسة.

_ (1) في الأصل: "وقد". (2) في الأصل: "باب". (3) في الأصل: "وإلى". (4) في الأصل: "ما تقدم". (5) في الأصل: "والمشتدة". ومعنى المستدّة المستقيمة. ودائماً كان يصحفها الناسخ إلى (المستمرة) وهنا حرفها إلى المشتدة. وهو أقرب. (6) في الأصل: "سبباً". (7) في الأصل: "واساـ الروحه" هكذا تماماً بدون أي نقط مع حرص هذا الناسخ على النقط، (انظر صورتها). والمثبت محاولة لأداء المعنى الذي يقتضيه السياق، وأخذناه من لفظ الرافعي، فهو ينقل عن الإمام، فهذا معنى كلام الإمام، وإن لم يكن لفظه، فلم يقدّر لنا إدراك ما في ألفاظ الأصل من تصحيف. والله المستعان (الشرح الكبير: 10/ 378).

ولو استويا في [الاستداد] (1) والبطش، ولكن إحداهما ناقصة الخلق، والأخرى [كاملة، فالكاملة] (2) هي الأصلية. هكذا ذكره العراقيون. ولو كانت إحداهما على اعتدال الخلق والأخرى [عليها] (3) إصبع زائدة، فقد قال العراقيون: لا يؤثر ذلك في تمييز الأصل عن الزائد، وقال القاضي: اليد الزائدة هي التي عليها الإصبع الزائدة؛ فإن ذلك يدل على تشويش الخلق [والفطرة] (4)، وهذا بعيد لا يثبت له، وكل ما ذكرناه يقع للاستواء في البطش، وإلا فأصل البطش وزيادته مقدم على كل صفة معتبرة. ولو كانت إحدى اليدين ناقصة بإصبع، وهي [مستدة] (5) باطشة، والأخرى مائلة [حائدة] (6) عن السنن، وهي كاملة الخلق، وهما متساويتان في البطش، فالأصلية هي [المستدّة لاستدادها] (7) أم المنحرفة لكمال خلقها؟ هذا فيه احتمال عندي، والله أعلم. 10649 - فإن لم تتميز إحداهما عن الأخرى بوجهٍ، وكانتا باطشتين، فمن قطعهما، وله يد واحدة، قُطعت يده قصاصاًً بهما، وللمجني [عليه] (8) مزيد حكومة لزيادة الخلقة. ولو قطع قاطع إحداهما والقاطع معتدل، لم نقطع يدَه، وعليه نصفُ دية اليد، وزيادة حكومة؛ لأن المقطوع على صورة يدٍ كاملة، وقد تمهد هذا فيما تقدم. ولو كانت إحداهما [باطشة] (9) [فقطعها] (10)، أوجبنا فيها دية اليد، فلو اشتدت

_ (1) في الأصل: " الاشتداد". (2) في الأصل: " كليلة والكاملة". (3) في الأصل: "عليه". (4) في الأصل: "والفطن". (5) في الأصل: "مشتدة". (6) في الأصل: "حائلة". (7) في الأصل: " المستبدة لاستبدادها". (8) زيادة اقتضاها السياق. (9) زيادة اقتضاها السياق. (10) في الأصل: "فقطعهما".

الأخرى لمّا قطعت الباطشة، وبطشت هذه الأخرى، واشتدت اشتداد [الأصليات] (1)، فهل نسترد من المجني عليه [من] (2) الأروش ما يردّ [المغروم] (3) إلى مقدار الحكومة، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نسترد؛ فإنا لو لم نفعل هذا، لأبقينا له أصلية [وقد] (4) غرمنا له فيما تقدم بدل أصلية. والثاني - أنا لا نسترد، وقد مضى ما مضى، فلا نتَّبعه بالنقض، ولا نتعقبه. وهذا الخلاف يقرب من القولين في [عَوْد] (5) السّن المثغور، وقد غرّمنا القالع دية السن، فإن قلنا: عودُه نعمة جديدة، [ولا يتغير حكمُ ما مضى] (6) بهذا، [فلا] (7) نسترد في مسألتنا. وإن قلنا: نسترد ثَمّ إلى مقدار حكومة إن بقي سن، فنسترد فيما نحن فيه. وإذا اشتدت اليد الباقية وبطشت، فلا خلاف أنها لو قطعت الآن، تعلق بقطعها القصاصُ والديةُ التامة. ومما يتعلق بما نحن فيه أن اليد المقطوعة الأولى لو كانت على نصف البطش، وكانت لا تتميز عن يده، فغرَّمنا القاطع نصف أرش [اليد] (8)، وزيادة حكومة، على ما تقدم، فإن بقيت اليد الباقية على ما عُهدت عليه أولاً، [فلا] (9) إشكال، وإذا ازدادت الباقية من القوة، ما لو كانت عليه ابتداء، لحكمنا بأنها الأصلية، فتصير هذه أصلية حتى لو قطعت، لاستوجب قاطعها الأرشَ الكامل والقصاصَ، وهل نسترد من أرش الأول ما يردُّ [الأرشَ] (10) إلى مقدار الحكومة؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه.

_ (1) في الأصل: "الأصليان". (2) في الأصل: "في". (3) في الأصل: "المعدوم". (4) في الأصل: "ولو. (5) زيادة لاستقامة الكلام. (6) عبارة الأصل: "ولا يتغير به حكم ما مضى بهذا". (7) في الأصل: "ولا". (8) في الأصل: "الدية". (9) في الأصل: "ولا". (10) في الأصل: "الاشارة".

10650 - ومما ذكره صاحب التقريب في أطراف المسألة أن من له يدان على معصمٍ باطشتان، لا تعتضد إحداهما [بالأخرى] (1)، فلو قطع هذا الشخصُ يداً واحدة من معتدل، فلا نقطع منه اليدين جميعاً، لزيادة الخِلقة، [ولو قطع] (2) ذلك المعتدل اليدين جميعاً منه، فإنا نوجب القصاص عليه في يده الفردة، ونثبت [عليه] (3) مزيد حكومة لزيادة الخلقة. [ولو] (4) قطع المعتدل إحدى يديه، فلا يلزمه القَود، كما تمهد هذا فيما مضى من كتاب الجراح، فلو غرّمناه نصف الأرش وزيادة [حكومة] (5) كما تقدم، ثم إنه عاد وقطع يده الأخرى، فإن قنع بالأرش، لم يخف حكمه، وكان الجواب إيجابَ مثل ما أوجبنا أولاً. وإن قال: أريد الآن القصاص من اليد الفردة من القاطع، فهل يجاب [إلى] (6) القصاص الآن؟ فعلى وجهين ذكرهما (7): أحدهما - أنه لا يجاب؛ فإن القصاص يتعلق بقطع يديه جميعاً، وقد سبق منه أخذ أرش اليد عن يدٍ، وأخذُ الأرش يتضمن إسقاط القود لا محالة، ولا يعود إلى القود بعد سقوطه. الوجه الثاني - أنه يطلب القصاص [وعذره فيما] (8) أخذه من الأرش أنه يقول: لم يكن القصاص ممكناً لمّا قطع إحدى اليدين، فاخترت الأرش لتعذر القصاص، لا لإسقاطه، والآن لما قطع الثانية

_ (1) في الأصل: "عن الأخرى". والمعنى أن كل واحدة منهما باطشة مستقلة بنفسها دون الأخرى. *تنبيه: ما تراه في الحواشي ليس فروقَ نسخٍ، فنسخة الأصل وحيدة، والمثبت في الصلب هو من توسم المحقق وتقديره بحثاً عن صواب العبارة وإقامة النص. (2) في الأصل: "لو" (بدون الواو). (3) في الأصل: "له". (4) في الأصل: "فلو". (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: "من". (7) أي ذكرهما صاحب التقريب، فالصورة محكية عنه. (8) في الأصل: "وعدده فما".

أمكن القصاص، وأنا على طلبه، فأرد ما [أخذته] (1) من الأرش إلى مقدار حكومة. هذا تمام ما أردناه في ذلك. فصل قال: "وفي [الأَليتين] الدية ... إلى آخره" (2). 10651 - يجب تمام الدية في [الأَليتين] (3)، وهما من المثاني [والمنفعة] (4) فيهما بيّنة في القعود والركوب، وفي إحداهما نصف الدية. والذي يجب الاعتناء به [بيان] (5) منتهى القطع الموجِب للدية: اتفق الأئمة رضي الله عنهم على أنا لا نشترط إيصال الحديدة إلى العظم الكائن تحتها، والمعتبرُ قطع ما يدخل تحت اسم الأَلْية، ولا مزيد على ما ذكره الشافعي رضي الله عنه، [فيُكتفى بما إذا] (6) قُطع ما يكون مُشرفاً ناتئاً على الظهر والفخذ، والناس يتفاوتون في مقدار النّاتىء حَسَب تفاوتهم في أجرام سائر الأعضاء، ئم الفخذ من الحِقو إلى الركبة يأخذ في الاستدقاق [والنحافة] (7)، والمرعيُّ في تمام القطع ألا يبقى إشرافٌ، وهو بالإضافة إلى الظهر، وبالإضافة [إلى] (8) أصل الفخذ، وهذا بيِّنٌ في الذّكْر [والكلام] (9)، ولكنه عسر في الإيقاع والفعل، ولهذا اتفق الأصحاب على أن

_ (1) في الأصل: "أخذه". (2) ر. المختصر: 5/ 133. وفي الأصل الأنثيين، وهو لا يتفق مع مضمون الفصل. (3) في الأصل: "الأنثيين". والتصويب من نص المختصر. (4) في الأصل: "المنفعة" (بدون الواو). (5) في الأصل: "أن منتهى القطع". (6) في الأصل: "فينبغي أنه إذا قطع". (7) في الأصل: "والتحريك" (كذا بكل وضوح رسماً ونقطاً) ولم أدر لها وجهاً، والمثبت أقرب لفظ يؤدي المعنى. (8) في الأصل: "على". (9) في الأصل: "والإبهام" (بكل وضوح). (10) ومعنى العبارة أن تصوير قطع الألية واستئصالها، سهلٌ في الوصف بالكلام، ولكنه يصعب إيقاعه وفعله بنفس القدر، وعلى نفس الوصف، من غير زيادة ولا نقص.

القصاص [لا] (1) يجري [فيهما] (2)، فإنه ليس مَفْصلاً يتأتى فيه مراعاة المساواة، وليس له مَردٌّ من عظم وراءه؛ فلا يجري القصاص فيه أصلاً (3). 10652 - ثم قال رضي الله عنه: "ولا عين أعور ... إلى آخره" (4). أراد الرد على مالك (5) فمذهبنا أن من قلع عينَ أعور يلزمه نصف الدية فحسب، وقال مالك: فيها تمام الدية، وصار إلى أن قوة الإبصار تنصبّ بجملتها إلى العين الفردة، وهذا الذي ذكره خيال لا تعويل على مثله، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوجب في العينين الدية" فإيجاب الدية الكاملة في إحدى العينين مخالفٌ لحكم الرسول عليه السلام. 10653 - ثم قال: "ولو كسر صُلبه، فصار لا يطيق المشي ... إلى آخره" (6). الصلب من أعضاء الدية، فمن كسر صلبَ إنسان، فمن أعراضه ألا يطيق المشيَ، فإن تحقق الكسر، وخرج المشي عن الإمكان وجبت الدية الكاملة، وإن لم يسقط إمكان المشي بالكلية، ولكن ضعف وتثاقل، أو صار بحيث يمشي مستعيناً بعكازه،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، فلا يصح الكلام ولا يستقيم بدونها، فما قبلها وما بعدها يؤكد عدم إجراء القصاص، وليس إجراءه، فهذا يؤكد سقوط (لا) من الناسخ، ويكاد يقطع به. بعد أن كتبنا هذا قطعنا الشك بالقين حين وجدنا الرافعي يقول: "وعن المزني المنع من القصاص في الأليين، وادّعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه في الديات" ا. هـ بنصه (الشرح الكبير: 10/ 212) فها هو الرافعي ينقل عن الإمام أنه قال باتفاق الأصحاب عليه. (2) في الأصل: "فيه". (3) هنا -كما ترى- يحكي الإمام اتفاق الأصحاب على القول بعدم إجراء القصاص في الأليين، ولكنا وجدناه فيما تقدم في القصاص يقول: "والظاهر إجراء القياس فيهما" وما قاله هناك هو المذهب، فقد وصفه النووي في الروضة والمنهاج بأنه الأصح، وحكى الرافعي الخلاف ولم يرجح. (راجع تعليقاتنا هناك) ومصادرها؛ فلا داعي للتكرار. (4) ر. المختصر: 5/ 133. (5) ر. المدونة: 4/ 487، الإشراف: 2/ 828 مسألة 1589، عيون المجالس: 5/ 2027 مسألة 1458، القوانين الفقهية: 345، حاشية الدسوقي: 4/ 273. (6) ر. المختصر: 5/ 134.

فلا تجب الدية، ولكن تجب حكومة على قدر التأثير، وهذا بمثابة ما لو جنى على اليد، فنقص من بطشها. فإن قيل: الماشي بعكازه يعتمده، فلا مشيَ منه، قلنا: هذا محالٌ، فإن من كسر صلبه على التحقيق لا يتأتى ذلك منه أصلاً، بل الاعتماد على العكاز إنما يتأتى [ممن] (1) معه [قيامٌ] (2) من صلبه. ومما ذكره الأئمة في هذا أنه لو كسر صلبه، فقد تعطلت منفعة رجليه، فلا يلزمه دية الرِّجل؛ فإنها صحيحة لا آفة بها، وتعطل المشي فيها ليس من جهة الجناية عليها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وهو بمثابة ذهاب العين؛ فإنه ينتقص بسببه انتفاع الإنسان بمعظم أعضائه، ولا تجب إلا دية العينين. ولو كسر صلبه، فسقط بسببه مشيه، فقد ذكر أئمتنا فيه وجهين. والجملة المعتبرة في ذلك أن من جنى على عضو، فسقطت المنفعة الكائنة في ذلك العضو، فلا شك أنا نفرد تلك المنفعة بموجَبٍ، بل إن ما وجب في العضو ما [وجب] (3) [إلا] (4) لاتصافه بتلك المنفعة؛ فإن الأعضاء تُعنى لمنافعها، لا [لأجزائها] (5). ولو جنى على عضوٍ، فتعطل به عضوٌ [وهو صحيح لا آفة به] (6)، فهذا تعطيل، والتعطيل لا يوجب ضماناً إلا في المحل المجني عليه، فإذا ذهب [منيُّه] (7) والمجني عليه صلبه، فقد اشتهر خلاف الأصحاب في ذلك، والوجه عندي أن نقول: ليس للمنيّ [محل مخصوص] (8) من البدن، وإنما هو مادة ترسلها الطبيعة من الاعتدال

_ (1) في الأصل: "مما". (2) في الأصل رسمت هكذا: (مال ـام). (3) في الأصل: "يجب". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "أجزائها". (6) في الأصل: "وهي صحيحة لا آفة بها" وأظن ظناً أن هذا من آثار عجمة سابقة في لسان الناسخ. (7) في الأصل: "منه". (8) في الأصل: "محلاً مخصوصاً".

الصحيح بالحلو والدسم نحو أوعية المني في الخُصية وما يتصل بها. فأما التعرض للصلب، ففيه نظر، والله أعلم. 10654 - ثم قال: "ودية المرأة وجراحها ... إلى آخره" (1). المذهب الذي عليه التعويل أن جراح المرأة من ديتها بطريق النسبة كجراح الرجل من ديته، فإذا كان في يد الرجل نصفُ ديته، فالواجب في [يدها نصفُ ديتها] (2)، والواجب في إيضاحها نصف عُشر ديتها، وهذا مطرد فيما قلّ وكثر. وللشافعي قول في القديم: "أن المرأة تعاقل [الرجل] (3) في ثلث الدية" ومعناه أنها تساويه في المقدار، ففي إصبع منها عشر من الإبل، كما في إصبع الرجل، وفي إصبعين عشرون، وفي ثلاث أصابع ثلاثون. والمعتبر في المعاقلة ثلث دية الرجل، لا ثلث ديتها، ولو قطع أربع أصابع منها، فعشرون، ففي ثلاث أصابع ثلاثون، وفي أربع أصابع عشرون. ولست أدري للمصير إلى المعاقلة معنىً، ومتمسكاً. والظن به أنه وجد آثاراً من الصحابة، وكان يرى في القديم تقديمَ قول الصحابة على القياس والرأي، وإلا فلا معنى لما ذكرناه، ثم [لو] (4) قطع ثلاث أصابع، فلم يتفق تغريم الجاني الأرش حتى قطع إصبعاً أخرى، رجعت الأروش إلى عشرين، وإن لم تكن الجنايات متواصلة. وهذا يناظر ما لو أوضح الرجل مواضع من رأس إنسان وتعلقت به أروشها، ثم انعطف الجاني عليها ورفع الحواجز، [فالأروش] (5) ترجع إلى أرش موضحة واحدة.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 134. (2) في الأصل: "في ديتها نصف ديته". وهو سبق قلم واضح. (3) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، ثم هي عند الرافعي في حكايته لهذا القول. ومعنى العبارة أن المرأة تساوي الرجل فيما يجب ضمانه إلى ثلث الدية، فإذا زاد المضمون عن الثلث، فهي على النصف من الرجل. (4) زيادة لاستقامة الكلام. (5) في الأصل: "والأروش".

وكذلك في ستةٍ من أسنانها ثلاثون بعيراً، فإذا قلع سابعةً، عادت الأروش إلى سبعةَ عشرَ بعيراً ونصف بعير. فصل قال: "وفي ثدييها ديتها وفي حلمتيها ديتها ... إلى آخره" (1). 10655 - الحلمتان من المرأة مضمونتان بكمال الدية، وهما من المثاني، وفي الواحدة نصف ديتها، والحلمة ما يلتقمه الصبي، والأروش تكمل باستئصال ما يتجمع [ناتئاً] (2) من رأس الثدي ولونها في الغالب يخالف لون الثدي، وحواليها دائرة على [لونها] (3) من سترة (4) الثدي، وليست تلك الجلدة من الحلمة، ولو قطع قاطع ثدييها بعد قطع الحلمتين، فعليه في كل ثدي حكومة لا تبلغ أرش [الحلمة] (5). 10656 - ونحن نجمع الآن مسائل قدمنا بعضها، فنعيد ما قدمنا، وننظم المسائل حتى تُلفى مجموعة. اضطرب الأصحاب في قطع المارن وقصبة الأنف، واستئصال الذكر من أصله، وقلْع السن من سنخها، واستئصال الثدي وعليه الحلمة، فمن استأصل هذه الأعضاء نكتفي منه بدية واحدة، أو نجمع عليه دية وحكومة، أم كيف السبيل؟ وجملة المسائل متفقة في أن الدية تكمل دون الاستئصال فيها، فإن على من قطع المارن تمامَ الدية، وإن أبقى القصبة، وكذلك من قطع الظاهر من السن، التزم الأرش الكامل، وعلى من قطع الحشفة الديةُ، ودية المرأة تكمل بقطع الحلمتين، وقد اجتمعت المسائل فيما ذكرناه، واجتمعت أيضاً في أن من انفرد بقطع المقدار الذي تكمل الدية فيه، ثم وُجد من جانٍ آخر الاستئصال، فعليه الحكومة، وهذا لا شك فيه.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 134. (2) في الأصل: "ثانياً". (3) في الأصل: "كونها". (4) والمراد بسترة الثدي جلدته. (5) في الأصل: "الجملة".

10657 - وإذا وجد استئصال العضو الكامل من شخص واحد، فللأصحاب طرق أشرنا فيما تقدم إلى بعضها، ونحن الآن نعيدها، ونستكمل تمام الطرق: فمن أصحابنا من طرد في جميع المسائل وجهين: أحدهما - لا يجب على المستأصل إلا دية تندرج الحكومة تحت الدية، ويطرد هذا في المارن والقصبة، وغيره من الأعضاء، قال بعض المصنفين: هذه الطريقة هي المرضية. ولست أرى الأمر كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في كل سن خمسٌ من الإبل، ولم يتعرض لقَطْع ما ظهر وتَرْكِ السنخ باطناً، والأولى مل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قد يجري مثلُه في العرف، وقلعُ السن قد يتفق، فأما قطع الظاهر منه، فلا يكاد يقع إلا أن [يُتعمد] (1)، فمن أوجب في السن المقلوع أرشاً وحكومة، فقد [راغم] (2) قول الشارع. ومن أصحابنا من قال: لا يجب على من يستأصل [الثدي] (3) مع الحلمة، والذّكَرَ مع الحشفة، [ويقلع] (4) السن من سِنْخه إلا دية واحدة، وفي استئصال الأنف مع القصبة وجهان: أصحهما - إيجاب دية في المارن، وحكومة في القصبة. وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من أوجب [على] (5) من قلع السن من سنخه الأرش والحكومة وجهاً واحداً، وذكر الخلاف فيما عدا هذه المسائل، واعتل بأن السِّنخ [أصلٌ] (6)، فكان له حكم الانفراد، وهذا لا يصح مع ما ذكرناه. ولو خُلّينا والقياس، لقلنا: في جميع هذه المسائل يجب القود والحكومة على المستأصل؛ لأنه جمع بين ما تتمّ الديةُ أو الأرش المقدَّر فيه، وبين ما تجب الحكومة فيه لو أفرد بالجناية، ولكن هذا المعنى على اتجاهه لا يجري؛ فإن من قطع اليد من الكوع، لم يلزمه إلا ما يلزم لاقط الأصابع، وهذا متفق عليه، وحديث الرسول

_ (1) في الأصل: "يعتمد". (2) في الأصل: " زعم ". والمثبت هو المناسب للسياق والمعنى كما قدرنا. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "عن". (5) في الأصل: "عن". (6) في الأصل: "باطل".

صلى الله عليه وسلم في السن، نصٌّ لا يقبل التأويل، كما ذكرناه؛ فامتنع إجراء ذلك المعنى، ولم يبق إلا تشبيه هذه المسائل بالأصابع والكف؛ فإن طريق المعنى إذا انتقض وأمكن التعلق [بالشبه] (1) [فالتعلق] (2) به من الوجه. ويلي هذه الطريقةَ النظرُ في التجانس في الأجزاء، وموجب ذلك الاكتفاء بالمقدّر في الذكر، والثدي، والسن، [وإفراد] (3) القصبة في الأنف بالحكومة. ثم إذا كنا نوجب على الجاني باستئصال العضو دية وحكومة، فلو قطع مما تكمل الدية به بعضَه، [فالتوزيع] (4) يقع على محل الدية فحسب، وإن كنا لا نوجب على المستأصل إلا ديةً واحدة، فإذا قطع من محل الدية شيئاً، فالتوزيع على جميع العضو أو على محل الدية؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما فيما سبق. هذا بيان هذه المسائل. 10658 - وفي حلمتي الرجل قولان: [منصوص] (5)، ومخرَّج، فالمنصوص أنه لا تجب فيهما إلا حكومة؛ إذ لا منفعة في حلمتي الرجل يعتد بها. وفي المسألة قولٌ آخرُ مخرّج: أن الدية تكمل في حلمتي الرجل، فإنهما موجودتان صورةً من الرجل وجودهما من المرأة، فينبغي أن يتعلق بهما دية [كالمرأة] (6). ثم تحت حلمة الرجل لحمة -إن لم يكن هزيلاً- تسمى [الثُّنْدوة] (7)، وليست من [الحلمة] (8) بمثابة ثدي المرأة من حلمتها، ولو قطع الجاني ثُندُوة الرجل وعليها الحلمة، وجرينا على القول المخرج في إيجاب الدية في حلمة الرجل، فالثندوة مفردة بالحكومة، بلا خلاف؛ فإنها ليست مع حلمة الرجل كعضو واحد، وهذا بيّن لمن تأمّل.

_ (1) في الأصل: "التشبه". (2) في الأصل: "والتعلق". (3) في الأصل: "وإفراز". (4) في الأصل: "والتوزيع". (5) في الأصل: "منصوصان". (6) في الأصل: "المرأة". (7) في الأصل: "الندوة". (8) في الأصل: "الجملة".

10659 - ولو جنى الرجل على ثدي المرأة جناية، لم [يبق] (1) لأجلها اللبنُ ودروره، وامتنعت منفعة الإرضاع لذلك، وقال أهل الصنعة: [ذهبت] (2) منفعة الإرضاع بذلك، فلا يجب على الجاني إلا حكومة، هكذا ذكره القاضي. ولو جنى رجل على رجل جنايةً، فانتزع منه الماء، وقال أهل البصر قد أبطل منيّه، وهذا وإن أورده الفقهاء عسر في التصوير؛ فإن تُصور، فقد قيل: على الجاني الدية، فإنه أبطل منفعة عظيمة، وحاولوا الفرق بين إبطال الإرضاع وبين إبطال المني، وقالوا: اللبن ليس [شيئاً] (3) موجوداً في الجبلة وإنما يَطْرى ثم يزول، واستعداد الطبيعة للمنيّ صفة لازمة للفحول، فإذا أبطلها، لم يمتنع أن يلتزم الدية. هذا ما بلغنا في ذلك والله أعلم. 10660 - ثم قال: "وفي إسْكَتَيْها، وهما شُفراها ديتُها ... إلى آخره" (4). في إسكتي المرأة وهما شُفراها، والشفران حرفا الفرج، ويلتقيان على المنفذ. والذي يجب الاعتناء به في هذه الصورة تصوير الشُّفرين، وقد ذكرنا في الأَلْيتين قولاً ضابطاً، لا يغادر إشكالاً، ونحن نحرص أن نذكر في تصوير ما نحن فيه ما يقرب من اللسان، فنقول: الشُّفران يلتقيان، وهما على نعت النتوء في الملتقى، والدية تتعلق بقطع الناتىء منهما، وإن ظن ظان أنهما يلتقيان من غير نتوء، فقد أبعد في التخيل؛ إذ لو كان كذلك، لما انتظم تصوير قطع الشفرين؛ فإن وراءهما حائطا الفرج، وهما ينطبقان ويلتقيان لا فضاء بينهما، فإذا اتصل الشُّفران على استواء من غير نتوء [ووراءهما] (5) لحمُ داخلِ الفرج من الجانبين، فلا ينتظم مع هذا قطع الشفرين. ولو فُرض قطع الحرف الذي تنقطع البشرة عليه من الظاهر واللحم الباطن، لأمكن

_ (1) غير مقروءة في الأصل. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "سبباً". (4) ر. المختصر: 5/ 134. والإسكة وزان سدرة، (وفتح الهمزة لغة قليلة): جانب فرج المرأة، وهما إسكتان، والجمع إِسَك مثل: (سِدَر) (المصباح). (5) في الأصل: "وراءهما" (بدون الواو).

فرض قطع الشفرين بقطع جلدة مستدقة من كل حرف، هو ملتقى [البشرة] (1) والباطن، ونحن على قطع نعلم أن العلماء لم يعلّقوا الدية بهذا المقدار. وإن ظن سبَّاق إلى الظواهر لا يعرّج على درك الأسرار [والبواطن] (2) أن قطع الشُّفرين هو الذي يزيل انطباق أحدهما على الآخر، فهذا لا يتأتى تصويره إلا مع تصوير [قطع] (3) لحم كثير من الباطن، ونحن لا نستريب في أن ذلك ليس مرادَ العلماء، فمعنى الشفرين إذاً ما ذكرناه. ثم يجب في شفري القرناء والرتقاء ما يجب في شفري من لا علة بها؛ فإن منفعة الشفرين أظهر في وجوهٍ غيرِ الوقاع، وتلك الوجوه تستوي فيها من تجامَع [من النساء ومن لا تجامَع] (4). ولو قطع جانٍ شُفري المرأة [البكر] (5) فأزال بالجناية جلدة البكارة، فعليه الديةُ في قطع الشفرين، وأرشُ البكارة، [فهو لا يندرج] (6) تحت دية الشفرين، لأن جلدة العذرة ليست في محل الشفرين، بل هي منفصلة عنها. فصل "ولو أفضى ثيباً، كان عليه ديتها ... إلى آخره" (7). 10661 - اختلف أصحابنا في معنى الإفضاء، فذهب بعضهم إلى أن مُعْتَبَره يصيّر المسلكين واحداً، وقال قائلون: هذا بعيد عن التصور، ولا يتأتى رفع الحاجز بين

_ (1) في الأصل: "السرّة". (2) في الأصل: "والتواطى". (3) زيادة اقتضاها السياق وهي عند الرافعي فيما حكاه عن الإمام في المسألة. (4) عبارة الأصل: "ومن تجامع النساء فلا تجامع" والزيادة والتعديل من المحقق. (5) في الأصل: "الذكر". (6) زيادة اقتضاها صواب العبارة وصحة الحكم، وسوّغ لنا الجزمَ بذلك تعليلُ الإمام: "بأن جلدة العذرة ليست في محل الشفرين، بل هي منفصلة عنها" وأيضاً تصريح الرافعي بهذا الحكم، فقال: "ولو قطع شفري المرأة البكر، وأزال بالجناية جلدة البكارة فعليه مع دية الشفرين أرشُ البكارة" (ر. الشرح الكبير: 10/ 385) ولو قال الإمام بغير هذا، لتعقبه الرافعي وذكر أنه يخالَف في ذلك. (7) ر. المختصر: 5/ 134.

مسلك البول والغائط بآلة الاستمتاع، فالإفضاء أن يصير مسلك الجماع ومدخلَ الذكر ومجرى البول واحداً، ففي الفرج [مسلكان: واحد] (1) مدخل الذكر والآخر مخرج البول، فإن البول يأتي من المثانة ومدخل الذكر يُفضي إلى الرحم. ثم إذا أفضى الرجل زوجتَه أوْ أفضى أجنبية، فعليه كمال ديتها. وفصل أبو حنيفة (2) بين أن يفضي زوجته وبين أن يفضي أجنبية، واعتقد أن إفضاء الزوجة مترتب على الوطء المستحق، فلم يكن مضموناًً. ولو أفضى امرأة، فاسترسل بولها [وحلّ] (3) أُسْرَها (4)، فهل يجب مع الدية حكومة لاسترسال البول؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب؛ فإن ذلك في الغالب من توابع الإفضاء. والوجه الثاني - أنه يجب لاختلاف المحلّين. ولو أكره أجنبية، ووطئها وأفضاها، غرم المهرَ وديةَ الإفضاء. ولو زنا بمطاوعة زانية، فأفضاها، غرم دية الإفضاء أيضاًً؛ لأن دية البضع إذا جعلناه بمثابة إذنها، فالإذن في الوطء لا يكون تسليطاً على الإفضاء، كما ذكرناه في المنكوحة. 10662 - ومما ذكره الأصحاب في ذلك، أن من استكره امرأة بكراً، وافتضّها، فقد قال الشافعي: يغرم مهر مثلِ البكر، وأرشَ البكارة، قال القاضي: هذا مشكل، لأنا إذا أوجبنا مهر مثلِ البكر، فقد أدخلنا أرش البكارة تحت المهر، فإذا ضممنا إلى ذلك أرشَ البكارة، كان ذلك تضعيفاً للغرم، وإيجاباً له من وجهين، ولا سبيل إلى ذلك.

_ (1) في الأصل: "مسلكاً واحداً". (2) ر. الجامع الصغير: 519، المبسوط: 9/ 75، حاشية ابن عابدين: 5/ 364. (3) فى الأصل: "وهلّ". وهو تصحيف نشأ من عجمة الناسخ والله أعلم. (4) الأُسْر بضم الهمزة وفتحها مع إسكان السين وضمها: احتباس البول؛ وأصل الأَسْر إحكام الخلق وشدته، قال تعالى: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُم} [الإنسان: 28] ثم استعمل الأسر بمعنى الربط -وهو المراد هنا- قالوا: ما أحسن ما أسر قَتبَه، أي ما أحسن ربطه. (ر. المعجم) و (أساس البلاغة).

وكان شيخي يحكي أن الشافعي رضي الله عنه قال: يجب المهر وأرش البكارة، ثم كان يقول من عند نفسه: هذا بمثابة إيجابنا مهرَ مثل البكر، وكنا نقول: قد لا يكون كذلك، فإنه إذا [كان في بيتٍ وأهل نسب] (1) مهرٌ، فلا يختلف مبلغه بالبكارة والثيابة، فلو اقتصرنا على إيجاب مهر مثل البكر، فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل العُذرة وجلدة البكارة. هذا ما كنا نتردد فيه. فأما نقل النص مقيداً [بإيجاب] (2) مهر مثل البكر، وإلزام أرش البكارة، فلم أسمعه إلا من نقلٍ [يؤثر عن] (3) القاضي. [فقد] (4) تحصَّل من ذلك أن الجمع بين إلزام أرش البكارة وإيجاب مهر مثل البكر، حيث يختلف مهر مثل البكر والثيب، [لا] (5) معنى له. وإن كان مهر البكر ومهر الثيب لا يختلف، هذا يشعر بأن البكارة لا قيمة لها في محل الكلام، فيقع التفصيل في جنايةٍ لا أثر لها، في تنقيص. وسيأتي تفصيل القول في هذا الجنس، إن شاء الله عز وجل. ولو أفضى امرأة بكراً بخشبة، غرم أرش البكارة وديةَ الإفضاء، ولا يدخل أرش البكارة فيها، لاختلاف المحل، ولو أزال الزوج بكارة زوجته بإصبع أو خشبة، فالذي ذهب إليه أكثرون أنه لا يغرم بسبب إزالة البكارة شيئاً، لأنها مستحقة له بطريق الوطء، فإن استوفاها بجهة أخرى، فقد أساء. ومن أصحابنا من قال: يلزمه أرش البكارة؛ فإنها في التحقيق غيرُ مستحَقة للزوج مقصودةً، فإنما الذي يستحقه الزوج

_ (1) في الأصل: "كافى بيت وأهل تسبب" هكذا تماماً والمثبت تصرف على ضوء السياق وكلمات الأصل. ومعنى العبارة: أنه عند النظر في المهر وقيمته في أي بيت نسيب لا يختلف المهر بالبكارة والثيابة، وإنما يختلف بالنَّسَب. وحمداً لله وجدنا الغزالي يصدق تقديرنا، ونص عبارته: "وربما تكون نسيبةً قد استقر مهرها على قدرٍ لا يزيد بالبكارة ولا ينقص، (ر. البسيط: 5/ 65 شمال). (2) في الأصل: وإيجاب". (3) في الأصل: "يؤثر به". (4) في الأصل: "فلم". (5) في الأصل: "ولا".

الاستمتاع، غير أنه لا يصل إليه إلا والبكارة تزول، فإذا لم يستمتع وأزال البكارة كان جائفاً. فصل قال: "وفي العين القائمة واليد والرجل الشلاء ... إلى آخره" (1). 10663 - ذكرنا فيما تقدم قواعدَ القول في الأروش [المقدرة] (2)، وإن شذ شيء، فسنستدركه إن شاء الله في آخر الباب. وهذا الفصل معقود لبيان الحكومة، وذكر أصلها وتفصيلها، والحكومة عبارة عن موجَب جُرح ليس له أرش مقدر من جهة التوقيف، ثم مبنى الحكومة على أن تُحطَّ عن دية العضو [الذي يُقدّر محلاً لجناية الحكومة، وسيتضح ذلك] (3)، إن شاء الله. وبيان ذلك بالأمثلة أن موجب الإصبع عشر من الإبل، ولو فرضت جناية على الإصبع، فأتى على طولها، فحكومتها لا تبلغ ديةَ الإصبع، والجناية على اليد إذا كانت بحيث تناولت (4) الأصابع، تحط حكومتها عن دية اليد، وتعليل ذلك أن الجراحة إذا وقعت على عضو مفدًّى بأرش مقدرٍ، فيستحيل أن يجب فيها والعضو [قائم] (5) ما يجب في العضو إذا [فات] (6) بالجناية. وشبه الأئمة قولهم في هذا الأصل، [بالتعزير والحد، والرضخ] (7) والسهم، فإن

_ (1) ر. المختصر: 5/ 134. (2) في الأصل: "المقدمة". (3) ما بين القوسين المعقوفين من صياغة المحقق مراعاة للسياق، ومحافظة على ما أمكن من كلمات الأصل، فقد جاءت عبارة الأصل هكذا: "على أن تحط عن دية العضو التي تقرب من محل جناية الحكومة إن شاء الله". (4) تناولت الأصابع: أي أصابتها وهي موجودة قائمة، وذلك مفهوم من أن الكلام في جناية الحكومات. (5) في الأصل: "قائمة". (6) في الأصل: "فاتت". (7) مكان كلام غير مقروء بالأصل (انظر صورته).

التعزير محطوط عن الحد، والمرضَخ محطوط عن السهم، ولا حاجة إلى هذا الاستشهاد مع ما قدمناه. ثم جراحات الحكومة يُتأنّى بها إلى أن تندمل، [فإن بقي شَيْنٌ] (1) له أثر في التنقيص، جعلناه المعتبر في الحكومة. 10664 - [والحكومة] (2) أن يفرض المجروح عبداً سليماً عن ذلك [الشَّيْن ونعرف] (3) مبلغ قيمته مع [تقدير] (4) سلامته، ثم نُقوّمه [مع] (5) ما به من الشين ونضبط التفاوت، ونعرف النسبة، فإن كان الناقص عُشراً أوْ أقل، أوجبنا تلك النسبة من الدية، ونحن مع ذلك نلتفت إلى مقدار الأرش المقدر الذي حقّقنا حطَّ الحكومة عنه، فإن كان ما رأيناه محطوطاً عن الدية التي نرعاها، فهو المراد، وإن كان ما اقتضاه التقدير مثل ذلك الأرش المقدّر، أو أكثر، [فلا بد] (6) من الحط عن ذلك القدر. ثم يجب النظر في مقدار المحطوط [فلا يجوز] (7) أن يقال: نكتفي في الحط بأقل القليل، فإن أمور الجنايات وأحكام الدماء لا تجري إلا على ترتب وتحقق، فلو قال قائل: نضبط النقصان الحاصل بالجناية على العضو مع بقاء العضو، ثم نقدر النقصان بفوات العضو، ثم ندرك ما بين النقصانين ونحط مثلَ تلك النسبة بأن نعتبر نقصان الجزء عن [الجزء] (8) ونقصان الكل عن الكل (9). فهذا وجه من الرأي جيد. وإن كان

_ (1) في الأصل: "فارتقى سبب". وهو تصحيف عجيب ولكنه قريب المدرك. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "الشبر ونفهم". (4) في الأصل: "تقدّر". (5) سقطت من الأصل. (6) في الأصل: "ولا بد". (7) في الأصل: "ولا يجوز". (8) مكان بياض بالأصل. (9) مثال ذلك: القيمة مائة، والنقصان بسبب الجراحة على الإصبع عشرة، والنقصان لو فات الإصبع عشرون، فيحط من عُشر الدية نصفها؛ وذلك أن حكومة الجراحة على الإصبع بلغت =

فيه اعتبار النقصان في اليد، واليد مقدّرة الأرش. ولكن هذا محتمل، إذا ضاق مسلك النظر، وليس هو بأبعدَ من تقدير الحرّ عبداً وردِّ الأمر بعد ذلك إلى الدية، وتحكيم القيمة فيها. فهذا قول كلّي على أصل الحكومة. 10665 - ولو كانت جراحة الحكومة بحيث لو اندملت، لم تُعقب [شيناً] (1) ولم [تترك] (2) نقصاً، فهل تجب الحكومة والحالة هذه؟ اختلف أصحابنا في المسألة على وجهين: أحدهما - أنه لا يجب شيء أصلاً، وهو ظاهر القياس؛ لأن المعتمد في الحكومات اعتبار النقصان، وبناء النسبية عليه، فإذا لم يكن نقصان أصلاً، فلا معنى لإيجاب شيء، مع انعدام الموجِب. ومن أصحابنا من قال: لا بد من إيجاب حكومة؛ لأن الجناية على الدم خطيرة لا سبيل إلى إحباطها، ولأجل ذلك أثبت الشرع ضمان [الحر] (3) وإن لم يكن الحرّ مالاً، ولكن لما عظم خطره وارتفع قدره، بَعُد أن يقع تلفه محبَطاً، فكان إيجاب العوض فيه للتعظيم، وهذا المعنى محقق في الجناية وإن لم تُفضِ إلى شَيْن. التفريع: 10666 - إن قلنا: لا ضمان أصلاً، فلا كلام، وإن أوجبنا الضمان، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: هو مفوّض إلى اجتهاد الإمام، بقدر ما يليق بالحال، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فهو عريٌّ عن التحصيل، وللفقيه أن يقول إن كان الإمام يوجب [ما شاء] (4)، فهذا بعيد، وقصاراه تطريق الاحتكام في الغرامات. وإن كان الإمام يُسند نظرَه إلى رأي، فهو المطلوب، فلنبحث عنه، فهو

_ = ديته، ولا تبلغ الحكومةُ الدية، فكم ننقصها؟ هذه هي الطريقة لاستخراج نسبة النقص. (1) في الأصل: "سبباً". (2) في الأصل: "تثر". (3) في الأصل: "الجز". (4) في الأصل: "بأسا".

مرادنا: [من] (1) أصحابنا من قال: نعتبر هذه الجراحة بحالتها الأولى، وهي مؤلمة أوْ مدمية، ثم نقول: كيف تقدير قيمة العبد وبه الألم، فنفرض [قيمته] (2)، ثم نبني عليه تقدير الحكومة على الرأي الممهد في معرفة التفصيل، وبناء [النسبة] (3) عليه. وهذا القائل يستدل على هذا بأن الجناية إذا ثبتت، لم يبعد تقدير عوضِها وإن اندملت؛ فإنا لم [نعدم] (4) مثالَ ذلك في الجراحات [والأروش] (5) المقدرة، [فإن من أوضح] (6) رأس إنسان، ثم التحم الجرح واكتسى باللحم والجلد، لم يسقط أرش الموضِحة، وقد ينتهي الاندمال إلى حالةٍ لا يبقى فيها من النقصان شيء. وكأنا في الجراحات التي تُبقي [شيناً] (7) نعتبر [النهاية، ولا إشكال في الاجتهاد] (8)، وإذا لم تُبق شيناً وعسر الإهدار، فلا وجه إلا اعتبار حالةِ الجناية، فهذا ما قيل. وفي النفس من هذا حزازات؛ من قِبل أنا إذا اعتبرنا حالة الجناية، فكيف نعتبرها؟ [أنقول:] (9) ما قيمة العبد والتقدير على أن الآلام لا تزول؟ أو نقول: نعتبر حالة الجناية مع تقدير زوال الآلام؟ [إن] (10) قلنا: كم قيمة العبد والآلام لازمة، فهذا باب من الظلم، ولا ينبغي أن نقدر الشيء إلا بما هو عليه. وإن قدرنا زوال الآلام، فسيقول المقومون: إذا كانت الآلام ستزول والشين لا يبقى ولا أثر لوجود الألم في [القيمة] (11)، فليس ينقدح هذا، ولا وجه إلا المصير إلى أنه لا يجب شيء أصلاً، وصحة المذاهب وفسادها بالتفريعات.

_ (1) في الأصل: "ومن". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "الشبيه". (4) في الأصل: "تغرم". (5) في الأصل: "وإن الأروش". (6) في الأصل: "أو من أوضح". (7) في الأصل: "سببا". (8) في الأصل: "نعتبر النهاية الإشكال في الاجتهاد". (9) في الأصل: "القول". (10) زيادة لا يصح الكلام إلا بها. (11) في الأصل: "القسمة".

10677 - ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا لطم الرجل لطمة، فهذه وما في معناها لا توجب غُرماً أصلاً، وليس هو في محل النزاع، ولا خلاف، وقد قال من أراد عقد مسائل الباب: كل جناية تُبقي [شيناً] (1)، فالمعتبر في حكومتها الشين، وإن كانت لا تبقي شيناً ولم تكن بحيث تؤلم في الابتداء، فلا يتعلق بها حكومة، وإن كانت تؤلم في الابتداء ولا تبقي شيناً، ولا ألماً [آخراً] (2)، فهذا محل الخلاف في أن الحكومة هل تجب أم لا؟ ثم إن أوجبناها، ففي مقدارها الخلاف الذي ذكرناه، وسنجيب عنه، إن شاء الله عز وجل. وهذا ليس بضبطٍ كامل في محل الخلاف. ونحن نذكر منه مسائل أُخر، ثم نحرص على الجمع: قال الأئمة: إذا قلع إنسان سنّاً شاغية (3)، وكانت [تزيد] (4) قيمته بالقلع، فهل يجب بهذه الجناية شيء أم لا؟ فعلى وجهين. ثم إن أوجبنا [شيئاً] (5)، ففي اعتباره ومقداره الخلاف، وكذلك لو قطع إصبعاً زائدة، ولم ينتقص بها منفعة، وذلك قد يزيد في قيمة العبد، ففيه الخلاف، وذكر الأصحاب إفساد منبت لحية المرأة. فهذا مجموع المسائل. 10668 - فخرج مما ذكرناه أن الجناية التي تُبقي شيناً ونقصاً موجبها في الفنون التي نحن فيها الحكومة، واعتبارها بحالة الاندمال. وكل جناية [تُبقي] (6) شيناً في الخلقة، ولكن لا تفضي إلى نقصان في المنفعة أو الخلقة، ففيها الخلاف.

_ (1) في الأصل: "تسبباً". (2) في الأصل: "آخر". (3) السنّ الشاغية التي زادت على الأسنان، وخالفت في منبتها. (المصباح). (4) غير مقروءة في الأصل، فقد رسمت هكذا: (مودته) كذا تماماً، رسماً ونقطاً. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.

وما لا تزيل خلقة ولا تعقب شيناً ونقصاً، فإن كانت لا تؤلم إيلاماً [به] (1) مبالاة [فلا يتعلق] (2) بمثل هذا شيء. وإن كانت تؤلم ابتداء إيلاماً ظاهراً، ثم لم تعقب نقصاناً وشيناً آخِراً، ففيه الخلاف. فهذا حصر هذه المسائل. 10669 - وعندي في ذلك بقايا: منها أن الذي لا يزيل خِلقةً، ولا يُعقب نقصاً لا يكفي فيه أن تكون مؤلمةً ابتداء، ولكن ينبغي أن يكون غيرَ مأمون العاقبة، ثم إذا اتفقت السلامة، فلا يُدرأ الضمان بالكلية، وإنما شرطت هذا حتى يكون للكلام ثبات (3). ويقال: يجوز أن يَنْقُصَ وقد يبرأ من غير بقاء نقص، فيقال: من جُرح وكان بحيث لا يقطع الناظر أنه يبرأ من غير نقيصة، بل كان يتردد، فكم قيمة عبد هذا نعته؟ فالخطر يَنْقُص من قيمته. ثم يجوز أن يقال -على بُعدٍ - ذلك النقص المعلّق [بالغرر] (4) لا يزول، وإن زال [الغرر] (5) وانتفى النقص، وهذا الذي ذكرناه احتمالٌ؛ فإن [الغرر] (6) طَرْدُ حكم الظن إذا زال، واستعقب الأمن أن يزول حكمه، ولكن ما ذكرناه معقول على حال، وإذا [علل] (7) باحترام الآدمي وامتناع تعطيل ما فيه غرر، كان كلاماً بعيداً. 10670 - ومما أجراه الأصحاب في ذلك أن لحية المرأة إذا أفسد الجاني منبتها، ولم يَشِنْها، بل زادها جمالاً، وأزال عنها شَيْناً، فإذا رأينا إيجاب الحكومة تفريعاً على الوجه البعيد، [فلا] (8) طريق إلا في [تقدير] (9) هذه اللحية بغلام، ثم ننظر إلى

_ (1) في الأصل: "له". (2) في الأصل: "ولا يتعلق". (3) كذا. (4) في الأصل: "بالعدد". (5) في الأصل: "القدر". (6) في الأصل: "العدد". (7) في الأصل: "عقد". (8) في الأصل: "ولا". (9) في الأصل: "تعيين".

النقصان إذا زالت اللحية، فنوجب في المرأة هذا الاعتبار (1). ولا حاصل لقول من يقول الالتحاء ينقُص قيمَ المُرد من [الغلمان؛ فإن ما ذكرناه] (2) في لحيةٍ تنبت في أوانها، وعدم اللحية في الرجال في أوان نباتها نقص بيّن وشينٌ ظاهر، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "سبحان من زيّن الرجال باللحى والنساء بالذوائب" (3). ثم الذي نراه في مثل ذلك أن نضبط النقصان في الرجال، ثم نحط عنه أرش لحية المرأة؛ فإن التسوية بين من [تشينه] (4) اللحية [وبين من تزينه اللحية] (5) [أمرٌ خارج] (6) عن الاعتدال، ثم [لست أجد] (7) ضبطاً في مقدار الحط، وليس الرجوع إلا [إلى] (8) بوادر خاطر المجتهد. ويعسر هذا. [ولم] (9) يعتبره الأصحاب، ونزلوا لحية المرأة منزلة لحية الرجل، وهذا بعيدٌ وكل ما [نخبط] (10) فيه، فسببه أنه تفريع على أصلٍ فاسد.

_ (1) الاعتبار هنا بمعنى القياس، والقياس المراد هنا قياس نسبة النقص بتقدير الجناية على غلام. (2) في الأصل: "الغلماان قال ما ذكرناه" كذا تماماًً. (3) أثر عائشة رضي الله عنها " سبحان من زين الرجال باللحى " ذكره العجلوني في كشف الخفا (1/ 536) وقال: "رواه الحاكم عن عائشة، وذكره في تخريج أحاديث مسند الفردوس للحافظ ابن حجر في أثناء حديث بلفظ: "ملائكة السماء يستغفرون لذوائب النساء ولحى الرجال يقولون: سبحان الذي زين الرجال باللحى والنساء بالذوائب". أسنده عن عائشة ا. هـ. والحديث في تنزيه الشريعة المرفوعة (1/ 247) وقال: الحاكم من حديث عائشة، وفيه الحسين بن داود بن معاذ البلخي. (4) في الأصل: "شبه". (هكذا رسماً ونقطاً). (5) زيادة افتضاها السياق. وهي مأخوذة من لفظ الغزالي في البسيط، ومنه أدركنا التصحيف في لفظ (تشينه)، ونص عبارته: "فينبغي أن نحط قدراً من لحية العبد؛ إذ اعتبار من تشينه اللحية بمن تزينه ظلم وسرف، ثم لا ضبط في الحط" (البسيط: 5/ورقة: 52 يمين) وواضح تماماً أن عبارته مأخوذة من عبارة شيخه، لا فرق إلا في الإيجاز. (6) في الأصل: "فخارج". (7) في الأصل: "ثم ليست ضبطاً". (8) زيادة اقتضاها السياق. (9) في الأصل: "ثم". وإخال صواب العبارة: "ولعسر هذا لم يعتبره الأصحاب، ونزلوا لحية المرأة ... إلخ". (10) في الأصل: "نحيط".

والقياس الحقُّ أن كل جراحة لا تنتهي إلى نقصٍ، [لا يتعلق] (1) بها موجَب. ثم قال الأصحاب: ما ذكرناه من الخلاف في هذه المسائل إنما يجري في الحر المجني عليه. 10671 - فأما إذا كان المجني عليه عبداً، وقد جُرح ولم تعقب الجراحة في انتهائها نقصاً وشيناً، فلا يجب على الجاني شيء؛ فإن المعتبر فيه النقصان، ثم الحر معتبر به بعد تعديل النسبة، والعبد نفسه لا يتجه فيه ضمان، إذا لم يتحقق به نقصان. والذي أراه في ذلك أن هذا يخرّج على القولين في أن الواجب من العبد ما ينقص من قيمته، أم نقول: [تتقدّر] (2) أروش جراحِه (بجزءٍ من قيمته نسبته إليها نسبةُ الواجب في الحر إلى ديته) (3)؛ فإن قلنا: المعتبر فيه النقصان، فلا يجب في هذه الجراح شيء إذا لم تُفضِ إلى نقصان وكذلك القول في الجناية على البهائم. [وإن] (4) كنا نثبت أروشاً مقدرة في جراح العبد، فنقول: في يديه تمام قيمته، وإن لم ينقص من القيمة إلا نصفها، فهذا القياس يقتضي أن نوجب في الجرح الحكومة وإن لم يُفض إلى نقصٍ أصلاً. وهذا تأسيس القول في أصول الحكومة. 10672 - ثم عزا الأئمة رضي الله عنهم [إلى الشافعي رضي الله عنه] (5) جملاً من أعضاء الحكومة، فنذكرها اتِّباعاً: ففي العين القائمة حكومة، لا تبلغ ديةَ العين المبصرة.

_ (1) في الأصل: "ولا يتعلق". (2) في الأصل: "تتعدد". (3) ما بين القوسين نص عبارة الرافعي عن هذا الوجه. (ر. الشرح الكبير: 10/ 412). أما عبارة الأصل فقد استحال علينا إقامتها، وقراءة بعض كلماتها، فقد رسمت هكذا: "أم يقول: تتعدد أروس حراحه [بحرمه الراحه بسببها ما نحن] فإن قلنا ... " ما بين المعقفين هو الذي استبدلناه، وهو هكذا تماماً بالرسم والنقط. (4) في الأصل: "إن" (بدون الواو). (5) زيادة من المحقق.

وفي اليد الشلاء، والرِّجل الشلاء حكومةٌ، [والشللُ] (1) يبين بالقَحَل (2) وذبولِ [الجلد] (3) وسقوط الحركة بالكلية، ومن آثار الشلل أن تُبسَطَا ولا تقبلا الانقباض، أو تنقبضا ولا تعودا للانبساط. ولا تكون يد المفلوج على هذا الحد في الاستحشاف، والشللُ يقع في العضو ويخرجه عن الاستعداد للانطباع، ويد المفلوج لا نقص فيها، وإنما النقص في القوة الإرادية، وقد يفرض في الأعصاب المحركة، والرُّبُط، والأوتارُ التي على العضل أغلال يتأتى [الانتقاص] (4) منها للمعالجات، فما كان كذلك لا يكون منتهياً إلى حد الشلل. وأنا أقول: في هذا العضو [الصحيح] (5): إذا سقطت منفعته الكبرى بسبب اختلال عضوٍ آخر [فلا تجب] (6) دية ذلك العضو؛ فهذا بمثابة ما لو كُسر [صلب] (7) [الإنسان] (8) فيمتنع عليه المشي لا محالة، والمنفعة العظمى في الرجل المشيُ، ثم لا يجب على كاسر الصلب دية الرجلين، وإن عطّلهما بما فعل. هذه منزلة. وفي معارضتها [الشلل المحقّق] (9) وهو استحشافٌ يقع في العضو، كما وصفناه، يخرجه عن [التأثير والانطباع] (10)، وبينهما يد الفالج، فإذا أطبق أهل البصر على أنها

(1) زيادة اقتضاها السياق. (2) القحل: من قحل قحلاً من باب نفع، إذا يبس، وهو من باب تعب أيضاً، يقال: قحل الجلد وقحل العود: إذا يبس. وقحل الشيخ يبس جلده. (المعجم والمصباح). (3) في الأصل: "الجرح". (4) في الأصل: "الاقتصاص". (5) في الأصل: "الصحيحة". (6) في الأصل: "ولا تجب". (7) زيادة اقتضاها السياق. (8) في الأصل: "الأسنان". (9) في الأصل رسمت هكذا: "السد إلى المحق" (تماماً). (10) في الأصل: "ويخرجه عن الهتان الانطباع" (كذا تماماً رسماً ونقطاً) والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط.

[لا يعود عملها] (1)، واليد صحيحة، فإذا كان الخلل في الأعصاب من جهة تمددها واسترخائها، [فلا] (2) يبعد إلحاق العضو بالشلل، وفيه احتمال وتردد بين ما ذكرناه وبين تعطل الرجل بكسر الصلب. وإن قال أهل البصر: الخلل كله في [الدماغ] (3)، فيظهر تشبيه ذلك بكسر الصلب مع الرجلين (4). ثم إذا سقطت الحركات من اليدين والرجلين ورأينا ذلك خللاً في الأعضاء وشللاً، فنوجب [حكومة] (5) [لكل] (6) الأعضاء. وإن رأينا صرفَ ذلك إلى [الدماغ] (7)، فتجب دية واحدة؛ لأن الجناية أبطلت القوة المحركة، وإذا كان يجب في إلسمع إذا [أزيل، وفي الشم ديةٌ] (8)، فإزالة القوة المحركة بالدية أولى (9).

_ (1) في الأصل: "ولا تعول عايله". (2) في الأصل: "ولا". (3) في الأصل: "الرضاع". (4) ربما كان من المفيد هنا أن نأتي بعبارة الغزالي -في البسيط- عن هذه المسألة، فهي لا شك اختصار لكلام شيخه. قال: "قد بينا أن العضو الذي تعطلت منفعته بالشلل كاليد وكالحدقة العمياء، ففيها حكومة. وقد تتعطل منفعة اليد بالفالج من غير شلل في نفس العضو، فإن الشلل عبارة عن استحشاف في ذات اليد يمنع الانطباع والتأثير. والفلج خلل ينشأ تارة من اعتلال في الأعصاب، وتارة من سبب حادث في الدماغ، فهذه رُتبة. وأبعد منها إذا كُسر صلبه، فامتنع عليه المشي، فقد تعطلت الرجل لا لخلل في نفس الرجل، فنقطع في هذه الصورة بأن الرجل لها حكم الرجل الصحيحة، فتكمل فيها الدية، وتقطع بها الصحيحة" ا. هـ (ر. البسيط: 5/ورقة: 52 شمال). (5) سقطت من الأصل. (6) عبارة الأصل: "وكان". (7) في الأصل: "الرضاع". (8) في الأصل: "أزيد في الشم دية". (9) عبارة الغزالي عن هذه القضية: "ولا يجب على من أبطل القوة المحركة بكسر الصلب إلا دية واحدة، في مقابلة إبطال القوة المحركة، وهذه القوة أولى بالمقابلة بالدية من الشم والذوق" (ر. البسيط: جزء (5) ورقة: 53 يمين).

هذا قولنا في اليد الشلاء، وما في معناها. ثم واجب [اليد] (1) الشلاء لا يبلغ ديةَ يدٍ، ولا يبعد أن يزيد على دية إصبع، فإنا فرضنا الشلل في الأصابع والكف، فليقع اعتبارها بجملة دية اليد. وفي الكف التي لا أصابع عليها حكومة، واختلف أصحابنا في أنها تُحَط عن دية إصبع، أو تحط عن دية يد، فمنهم من قال: هي محطوطة عن دية إصبع، وهذا هو الأظهر (2)، والكفان محطوطتان عن ديتي أصبعين، ومنهم من قال: حكومتها محطوطة عن دية يدٍ؛ فإن غَنَاءَها ومنفعتها تزيد على منفعة إصبع دفعاً وأخذاً وقبضاً. 10673 - والشعورُ بجملتها إذا أفسدت منابتها، ففيها الحكومات؛ خلافاً لأبي حنيفة (3). ثم بيان أقدار الحكومات ما ذكرناه. وإذا أزال لونَ عضو بأن ضربه، فاسودّ أو اخضرّ، فموجبه الحكومة، ومذهبنا أن المعتمد في إيجاب الأروش المقدرة المنافعُ على الجملة، ثم لا تتعلق أيضاً بكل منفعة، فأما الجمال المحض إذا أزيل، فلا يتعلق بإزالته أرشٌ مقدر، وأبو حنيفة قد يعتمد الجمال المحضَ في إيجاب الدية، وهذا معتمده في إيجاب الديات في صنوف من الشعور. 10674 - ومما يغمض في أصول الحكومات، [والمقرّر من] (4) بناء الأمر على المنافع أن الأصحاب أكملوا الدية في أصابع الرجلين، كما أكملوها في أصابع اليدين، مع العلم بالتفاوت بين الأصابع والأصابع في المنفعة؛ إذ معظم عمل الآدمي بأصابع يديه، وأصابع الرجلين لا تدنو من أصابع اليدين، ثم الإشكال الأظهر أنهم

_ (1) في الأصل: "الدية". (2) حكى الرافعي حكمَ الإمام على هذا الوجه بأنه (الأظهر) ثم قال عن مُقابله: إنه الأشبه، وجعل النووي الثاني هو الأصح مخالفاً للإمام أيضاً. (ر. الشرح الكبير: 10/ 349، والروضة: 9/ 308). (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 124 مسألة 2242، رؤوس المسائل: 471 مسألة: 336، المبسوط: 26/ 70 - 71. (4) في الأصل: "والمفرود مع".

أوجبوا في القدمين إذا قطعت أصابعهما ما أوجبوه في الكفين، ولا يخفى أن المشي يبقى ما بقي القدمان، ولا يسقط بسقوط أصابع الرجلين إلا الإسراع في المشي، وأين يقع هذا من الاحتواء والقبض والبسط وتعاطي آلات العمل المتعلقة بأصابع اليدين؟ ولكن هذا يخرّج على اتّباع الأصول [الكلية] (1)، وترك التفريع على ضبط [الأقدار] (2). ولهذا الأصل أوجبوا في الأذنين على الرأي الظاهر ما أوجبوه في العينين، وإن كانت منافع الأذنين لا تقع موقعاً إذا نسبت إلى منافع العينين واليدين، ولكن لما عسر ضبط أقدار المنافع حَسم الشرعُ النظرَ إليها، وأجرى الأجناس من الأعضاء مجرىً واحداً في تكميل [الدية] (3). هذا ما أردنا بيانه في أصول الحكومة. 10675 - ثم قال الشافعي: "وفي الترقوة جَمَلٌ، وفي الضِّلَع جَمَلٌ ... إلى آخر الفصل" (4). ذكر الشافعي رضي الله عنه في موضعٍ أن الترقوة فيها جمل، وفي الضِّلع (5) جمل، وقال: قلّدتُ فيه عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه أوجب في كل واحد منهما جملاً، وقال في موضع آخر: فيهما حكومتان على أصول الحكومة، وجعل المزني في المسألتين قولين، وأخذ يوجّه الحكومة، واختلف أصحابنا: فمنهم من وافق المزني، وجعل المسألة على قولين: أقيسهما - إيجاب الحكومة. والثاني - إيجاب المقدار تأسياً بقضاء عمر رضي الله عنه. ومن أصحابنا من قطع بالحكومة، وجعل قضاء عمر حكومةً وافقت جَملاً، وحمل نصَّ الشافعي على هذا المحمل، وهذا هو المسلك المرضي الذي لا يسوّغ غيره.

_ (1) في الأصل: "والكلية". (2) في الأصل: "الاقرار". (3) مكان بياض بالأصل. (4) ر. المختصر: 5/ 134. (5) الضلع: بكسر الضاد أما اللام فهي مفتوحة في لغة الحجازين، وتميم تسكنها (المصباح).

وقد روي: "أن زيدَ بنَ ثابت أوجب في العين القائمة مائةَ دينار" (1)، ثم لم [يذهب] (2) أحدٌ من الأصحاب إلى أن المائة تقدير في العين القائمة. والوجه القطع بأن ما ذكره في الترقوة والضِّلع [مآلٌ] (3) في الحكم، وليس تقديراً مثبوتاً يجب اتباعه، وقد يجوز لمن يسلك طريق القولين أن يشبه أقضية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الحكومات [أنها متبعة] (4) كما اتبعت أقضيتهم في إثبات أمثال الصيود، ولم أسمع أحداً يُجري [القولين] (5) في العين القائمة؛ لمذهب زيد بن ثابت؛ ولعل السبب فيه أن ذكر الدنانير مشعرٌ بالتقريب والاجتهاد، بخلاف ذكر الجَمَل؛ فإنه بالتوقيف أشبه. والعلم عند الله. 10676 - ثم قال رضي الله عنه: "ولو جَرحه، فشان وجهَه ... إلى آخره" (6). إذا جرح رأسَه وأوضحها، وشان ما حواليها، فلا يجب إلا أرشُ موضِحة، فإن [متصل الشين] (7) لو كان إيضاحاً، لما وجب في الموضِحة (8) [وإن استوعبت الرأس] (9) إلا أرشٌ واحد، فالشين المتصل لا يزيد على الإيضاح، ولو كان مكان [الشين] (10) إيضاح، لما وجب إلا أرش موضحة واحدة.

_ (1) أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه رواه مالك في الموطأ (2/ 857). وعبد الرزاق في مصنفه (17443) والبيهقي في الكبرى (8/ 98). (2) مكان بياض بالأصل. (3) في الأصل: "وقال". (4) في الأصل: "متسبقة". (5) في الأصل: "القول". (6) ر. المختصر: 5/ 135. (7) في الأصل: "فصل السبر". وهو تصحيف ظاهر. (8) عبارة الأصل كان فيها اضطراب وتكرار بسبب رجع البصر، فقد كانت هكذا: "إذا جرح رأسه وأوضحها، وشان ما حواليها، فلا يجب إلا أرش موضحة؛ فإن فصل السبر لو كان إيضاحاً، لما وجب في الموضحة وإن ما حواليها، فلا يجب إلا أرش موضحة اتسعت إلا أرش واحد، فالشين المتصل لا يزيد على الإيضاح" إلخ. (9) زيادة لإقامة العبارة. (10) في الأصل: "السبب".

ولو اتسع الشين حتى انتهى إلى القفا، فهذا ما تردد فيه أصحابنا: فمنهم من قال: لا يجب فيه إلا أرش الموضحة، كما لو لم يبعد الشين من محل الإيضاح. ومن أصحابنا من قال: يُفردُ الشين، فإنه تعدى محلَّ الإيضاح، ونحن إنما أتبعنا الشينَ الإيضاحَ، لأنا قدرنا إيضاحاً بدل الشين، فوجدنا الأرش يتّحد في الإيضاح، ونزلنا الشين الذي هو الأدنى منزلة الإيضاح الذي هو أعلى، وهذا لا يتحقق إذا كان الشين على [القفا] (1)، ولا يتحقق هذا أصلاً. هذا إذا كان الجرح على الرأس، وكان مقدَّر الأرش كالموضِحة. فأما إذا كانت الجراحة على الرأس، وكانت متلاحمة، فهذا ينبني على أن أرش المتلاحمة هل يتقدّر أم لا؟ وفيه قولان ذكرناهما، مبنيان على أن القصاص [هل] (2) يجري في المتلاحمة. فإن قلنا: إن أرش المتلاحمة [يتقدر،] (3) فإذا ظهر شينٌ حوالي الجراحة، فقد اختلف أصحابنا على وجهين: منهم من قال: نُتبع الشينَ المتلاحمة، كما أتبعنا الشينَ الموضِحة؛ فإن الجراحتين متساويتان في تقدير الأرش، ولو اتسعت المتلاحمة، كان كما لو اتسعت الموضِحة. ومن أصحابنا من قال: لا نتُبع الشينَ المتلاحمة، وذلك [أنا، و] (4) إن قدّرنا أرشها؛ فإنا في تقدير الأرش على ظنٍّ وتخمين؛ فإنا نقدّر سمك الجراحة، وهذا لا يتوصّل إليه إلا باجتهاد وفكرٍ، فيجب إلحاق هذه الجراحات بجراحات الحكومة التي لا تتقدر أروشها. 10677 - ونحن نذكر الآن تفصيلَها، فنقول: إذا كانت الجراحة في موضع لا يتقدر أرشها، فظاهر النص (5) أن الجراحة إذا شانت ما حواليها، فننظر إلى الأكثر

_ (1) في الأصل: "الفضا". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "ينفذ". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) المختصر: 5/ 135.

إذا اندملت الجراحة: فإن كان الجرح أكثرَ من الشين، أوجبنا موجَبَ الجرح، وإن كان الشين أكثر أوجبنا حكومة الشين. وهذا النص مشكلٌ جدّاً؛ وذلك أن الجراحة [إذا] (1) اندملت، وظهر شين حواليها، كتغير لون، أو استحشافٍ، فالمصير إلى الفرق بين الجراحة والشين لا معنى له، فإن الجراحة إذا اندملت، فمحلها -إذا بقي الأثر- شينٌ، ينطلق على أثرٍ [مُتكَرَّه] (2) يؤثِّر مثله في نقصان القيمة، [ثم] (3) إنه ينقسم، فقد يكون [تغيّر] (4) لون، وقد يكون [نحولاً] (5) واستحشافاً، وقد يكون [ثُغرة] (6) تبقى، ولا ينبت اللحم فيها، وقد يكون تغيّرَ لون (7)، وقد يكون [لحمةً] (8) زائدة، فهذا كله يسمى شيناً، فإذا اندملت الجراحة، وبقي في موضعها أثر وحواليها شين، فهذا التفصيل فيه لبس؛ [فإن] (9) كل شين وإن اختلفت صفاته، فالوجه المقطوع به أن السراية إذا انتهت، وبقي الأثر، فتجب الحكومة في الأثر الباقي، وليس للإتْباع وذكر الأقل والأكثر معنى، وقد اختار القاضي هذا المسلك، وهو الذي لا يجوز غيره. 10678 - ثم [نسرد] (10) ما ذكره الأئمة: قالوا: ننظر إلى أثر الجرح، يعني ما بقي على محل الجراحة من نقصان عن الاستواء أو زيادة على اعتدال الخلقة، وننظر

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "متكرره". والمتكرَّه اسم مفعول من تكرَّه الشيء إذا كرهه، ولفظ الغزالي والرافعي (المنكر) واخترنا ما اخترناه -على ثقله- لالتزامنا بلفظ الأصل أو أقرب لفظ إليه ما أمكن. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "بغير". (5) في الأصل: "محلاً". (6) في الأصل: "أثره"، والمثبت من كلام الرافعي حاكياً إياه عن الإمام، وعند الغزالي (حفرة). (7) تكرر هذا آنفاً. ولعله من الناسخ. (8) زيادة من المحقق، أخذاً من كلام الغزالي في البسيط. (9) في الأصل: "بازا" كذا تماماً. (10) في الأصل: "نسترد".

إلى الشين حوالي الجراحة، فإن كان أثر الجرح أكثر حكومة، أوجبنا تلك الحكومة، وأتبعناها حكومة الشين المتصلِ بالجراحة. وإن كان موجب الشين الذي هو حوالي الجراحة أكثر من حكومة الأثر الباقي في موضع الجرح، فنوجب حكومة الشين، ونتبعُها حكومةَ الجرح، هكذا ذكره الصيدلاني وشيخي أبو محمد رضي الله عنه. والممكن في [توجيه] (1) ذلك أن الجرح إذا انتهى [وبقي] (2) أثره، وظهر شَيْن حواليه، فهذا بمثابة ما لو قطع إصبعاً شلاء، وأوجبنا فيها الحكومة، فهل يستتبع ذلك الإصبع قسطاً من حكومة الكف؟ فيه اختلاف وتردد، تقدم ذكره في كتاب الجراح، فيجب أن يكون الجرح وموضعه بمثابة الإصبع الشلاء، والشين المتصل بمثابة ما ذكرناه من جزء الكف، وهذا يخرج على القاعدة التي قدمنا تمهيدها، وهي أن موجَب الحكومة [هل يستتبع الحكومة] (3) أم لا؟ وفيها التردد الذي ذكرناه، والدية قد تستتبع الحكومة كالأصابع، قد تستتبع الكف. ثم ينشأ مما ذكره الأصحاب في الجراحة والشين أن الشين إذا كانت حكومته أكثر استتبع الجرح، ويخرج من ذلك أن المقدار الذي يقابل الإصبع الشلاء من الكف إذا كانت حكومته أكثر من حكومة الإصبع الشلاء، فيجب أن تكون حكومة ذلك الجزء من الكف تُسقط حكومةَ الإصبع الشلاء، فإن المسألة مفروضة فيه إذا قطع الإصبع، وذلك القدر الذي يقابله من الكف، وهذا التفصيل لا بد منه، والجرح والشين بمثابة الإصبع الشلاء مع القدر الذي يقابلها من الكف إذا قدر القطع فيهما. 10679 - وانتظم مما ذكرناه في مسألة الجرح والشين خلافٌ بين الأئمة: الصحيح - أن نرفع طريق الإتباع بالكلية، وننظر إلى أثر الجرح والشين، ونوجب الحكومة في الجميع، وهذا يناظر قولَنا: إنا لا نتبع الكف الأصابع الشلاء، بل نوجب الحكومة في الجميع.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "بقي" (بدون الواو). (3) زيادة اعتماداً على السياق، واستعانة بما نقله الرافعي من كلام الإمام.

والوجه الثاني - أنا نتُبع الأقلَّ الأكثر [من] (1) الشين والجرح، ويطرد هذا في الكف والإصبع، فنُتبع الأقلَّ الأكثرَ. ثم يعترض في هذا المنتهى أنه لو فرض استواء حكومة الشين وموضع الجرح، والتفريع على أنا لا نوجب حكومة الجميع، بل نُتبعُ. هذا فيه احتمال، والظاهر أنا [نوجب الحكومتين] (2)، وإن فرعنا على الإتباع؛ فإنه ليس أحدهما أولى بالإتباع من الثاني، والأظهر ما تقدم. والمسلك [الحق] (3) الذي لا [يستدّ] (4) [غيره] (5) إيجاب الحكومتين في الصور كلها. هذا تمام الكلام في قواعد الحكومات. فصل في نوعين 10680 - أحدهما - في ذكر موجبات قد تشذّ وتنسلّ عن ذكر الفقه. والثاني - في ذهاب منفعة عضو والجنايةُ على غيرها. فأما النوع الأول، فقد تقدم ما تتعلق به الديات في الجراح وهذا الكتاب، ولكنا نذكر ما نرى ذكره، فإن كنا ذكرناه فيما تقدم، لم تضرّ الإعادة.

_ (1) في الأصل: "في". (2) في الأصل: "نوجب إحدى الحكومتين". وهو لا يستقيم مع السباق والسياق، ولا مع ما حكاه الرافعي عن الإمام، ففد قال: "وذكر تفريعاً على أنه يجب أكثر الحكومتين ويتبعها الأقل، وجهين فيما لو استويا: أحدهما - أنهما تجبان، إذ ليست إحداهما بالاتباع أولى من الأخرى. وأظهرهما - أنه لا يجب الأخذ بهما". (ر. الشرح الكبير: 10/ 355). (3) في الأصل: "المقال". (4) في الأصل: "يستند". ومعنى يستدّ: يستقيم. (5) زيادة اقتضاها السياق.

[فمما] (1) نورده أنه لو أذهب ماءه ومنيّه، التزم الدية، ولو أذهب شهوته للوقاع، فقد قال الأئمة: يجب في [انبتات] (2) الشهوة الديةُ، فهذا يدل على أن إذهاب الشهوة مع بقاءالماء يوجب الدية. وهذا لا يتصوّر؛ فإن المني إذا كان باقياً، فيبعد إذهاب الشهوة، وإن بعد أن [نتبين] (3) أن الجناية هي التي أثرت في إذهاب الشهوة، حتى يناط به الدية، ويجب أن يقال: إذا ذهب بالجناية شهوتُه للطعام، تجب الدية، بل هذا أولى إن صح [تصوّرُه] (4) والوصولُ إلى درك [إبطاله] (5) بالجناية، والله أعلم. ولو ضرب لِحْييه، [فأذهب] (6) منفعة المضغ، وجبت الدية، وإن بقيت اللحيان والأسنان، وهذا واضح. وهو بمثابة ما لو جنى على اليد، فأشلها. ولو كسر رقبته، فكان لا ينساغ الطعام والشراب، فتجب الدية حكماً لها (7). ولو جنى [عليه] (8)، فأذهب صوته، فالدية التامة وإن بقيت مخارج الحروف، وعندي أني ذكرت هذا في مسائل الكلام، وهذا واضح. ولو قيل: تعطل الكلامُ بإذهاب الصوت، فهل تزيدون على دية واحدة؟ قلنا الغرض الأظهر من الصوت الكلامُ، فكأن الدية إنما وجبت لأجله، والكلامُ معنيٌّ في وجوه: منها أن اللسان إذا قطع، فالدية تكمل بسبب الكلام، ولو عطلت الحروف بسببٍ آخر سوى قطع

_ (1) في الأصل: "فيما". (2) في الأصل: "إثبات". (3) مكان بياض بالأصل. (4) في الأصل: "تصويره". (5) في الأصل: "إيصاله". (6) في الأصل: "وأذهب". (7) صورة هذا: أن يضربه على عنقه، فإن ارتتق المنفذ، وامتغ البلع، فهو إلى الموت، ولذا تجب فيه الدية، حتى لو عاش يوماً أو يومين وجاء جانٍ فحز رقبته، لزم الأول الديةُ، هكذا وضحه الغزالي في (البسيط: 5/ورقة 64 يمين). وحكاه النووي عن الإمام والغزالي في (الروضة: 9/ 302، 303). أما إذا كان الطعام منساغاً ولو بصعوبة، ففيها حكومة، وإن مات من أثرها نكمل الدية (ر. الشرح الكبير: 10/ 404، 405، والروضة: 9/ 302). (8) سقطت من الأصل.

اللسان، فالجواب كذلك، وإذهاب الصوت من أسباب تعطيل الكلام. 10681 - ومما ذكره الشيخ أبو علي رضي الله عنه [نه لو سلخ الرَّجُلَ من قَرْنه إلى قدمه، لوجبت الدية الكاملة، ثم قال: فلو فرض قطع اليدين بعد هذا مثلاً، فسلْخُ الجلد يوزع بالتقدير والمساحة على جميع اليدين حتى يتبين مقدار كل عضو منه، فيحط حصته من اليدين، فنوجب الدية على قاطع اليدين إلا المقدار الذي يخص الجلد المسلوخ، هكذا ذكره رضي الله عنه، ولم أره إلا له]. 10682 - ومما يتعلق بتتمة هذه الفصول التي ذكرناها أنه إذا أزال معنىً من هذه المعاني ظاهراً، وقال أهل النظر: إنه سيعود على قرب، [فننتظر] (1). وإن قالوا: يعود بعد زمان طويل، ولم يضربوا في ذلك مدة، ولكنهم أطلقوا إمكان العَوْد، فالذي وجدته للأصحاب في ذلك أنا نوجب الأرش، ثم إن فرض العَوْدُ، رددناه، وعلى هذا يجري زوال البصر وغيرُه، في مثل الصورة التي ذكرناها، وهذا ذكره صاحب التقريب على هذا الوجه، وهو متجه لا يسوّغ غيره. والله أعلم. ولو ضربوا مدةَ إمكان العَوْد، فقد قيل: لا بد من انتظارها، وهذا يجب أن يفصّل: فإن [ذكروا مدة] (2) يغلب على الظن انقضاءُ العمر في مثلها -وتصوير ذلك بعيد- فالوجه إيجاب الأرش، كما لو أطلقوا، ولم يضربوا مدة. وإن ذكروا مدة يقرب رجاء البقاء إلى مثلها، [فلا] (3) يبعد الانتظار والحالة هذه. 10683 - ومما يتعلق بذلك أنه إذا أذهب منفعةً لا يتصور معها طول البقاء، وقد قيل: لا يتصور البُرء، ففي هذا فضل نظر وتدبّر، ويفرض فيه إذا كان الطعام والشراب [لا] (4) ينفذان -والمجنيُّ عليه لا يبقى إذا كان هكذا- فهذا فيه نظر، وقد تقرر أنه لو قطع اليدين والرجلين، فسرت الجراحات إلى النفس، صارت نفساً، ولم

_ (1) في الأصل: "فانتظر". (2) في الأصل: "ذكر واحدة". (وهو من طرائف التصحيف). (3) في الأصل: "ولا". (4) زيادة لا يصح المعنى إلا بها.

يجب إلا دية واحدة، فماذا نقول في امتناع [نفوذ] (1) الطعام والشراب؟ يجوز أن يقال: إذا أفضى إلى الموت بسبب الجوع والعطش، فهذا بمثابة سراية الجراحات؛ حتى لا تجب إلا دية الجملة، ويجوز أن يقال: ليس ذلك من قبيل السراية، فيجب دية في إفساد هذه المنفعة، أو في كسر الرقبة، وتجب دية في إزهاق الروح على تخريج ابن سريج؛ فإنه يقول: من قطع يدي رجل، ثم حزّ رقبته، وجبت ديتان، وهذا هو القياس. وإن فرعنا على النص، فلا شك أنه تجب دية واحدة، فإنه لو قطع أطرافه ثم قتله، لم يلزمه على النص إلا دية واحدة، وامتناع وصول الطعام إليه بمثابة قتله إياه، والمسألة محتملة جداً. ونصُّ الأصحاب على إيجاب الدية بسبب إفساد هذه المنفعة - مع القطع بأن البقاء لا يطول مع امتناع نفوذ الطعام والشراب- دليلٌ على أنهم اعتقدوا أن هذه الدية لا تندرج تحت دية [الروح] (2) والعلم عند الله. فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك. 10684 - فأما الكلام في إسقاط منافعَ بسبب جنايات على أعضاء (3) فكل منفعة كانت في عضوٍ، فإذا فرضت الجناية على العضو، لم يَخْفَ أن المنفعة لا تفرد [بديةٍ] (4)؛ إذ الدية إنما [تجب] (5) في ذلك العضو بسبب تلك المنفعة، وهذا بمثابة البطش في اليد، والبصر في العين، فأما إذا قطع الأنف وأزال الشم، فديتان، ولا إدراج؛ فإن لطيفة الشم ليست في الأنف، وكذلك إذا قطع الأذنين وأزال السمع، [أو ضرب الرأس، فأزال البصر] (6). واختلف الأئمة في مسائلَ نذكرها، ثم أقرّب القول جهدي فيها: قالوا إذا كسر

_ (1) في الأصل: "قعود". (2) في الأصل: "الزوج". وهو تصحيف يشهد بأن هذا الناسخ لا علاقة له بما يكتب، إلا أنه يرسم الحروف والكلمات والله المستعان. (3) هذا هو النوع الثاني الموعود في هذا الفصل. (4) زيادة من المحقق. (5) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (6) عبارة الأصل: "وأزال السمع الراي وأزال البصر". والزيادة والتعديل من عمل المحقق.

صُلبَه، فأزال منيّه، ففي المسألة وجهان، وهذا الخلاف بنَوْه على اعتقادهم أن مقرّ الماء الصلب أخذاً من قوله تعالى: {بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب} [الطارق: 7] ولست أرى الأمر على التردد في أن الدية تعدد، فإن المنيّ لو كان من [منافع] (1) الظهر، لما وجب على من كسر صلب إنسان [لا منيّ] (2) له الدية، كما لو قطع يداً شلاء، أو فقأ عيناً عمياء، ولا خلاف في وجوب الدية. 10685 - ومما ردد الشافعي رضي الله عنه قوله فيه زوالُ العقل، فقال: إذا قطع يدي رجل أو رجليه أو ما يفرض من الأعضاء، فزال العقلُ، [فهل] (3) نُدرج حتى لا نوجب إلا ديةً واحدة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا لا ندرج، وهو الذي لا ينساغ في مسلك المعنى غيرُه؛ فإنا نقطع بأن العقل ليس من منافع اليدين، [وهما] (4) من الأعضاء الظاهرة. والقول الثاني - أنه لا يجب إلا دية واحدة؛ فإن العقل لا يُدرَى محلُّه على التعيين، فمهما (5) زال بسبب الجناية على عضو، وجب سلوك طريق الإدراج فيه، ثم إن قطع يديه، فزال العقل، فدية واحدة، وإن قطع إحدى اليدين، فزال العقل، وجبت دية واحدة، فندرج الأقل وهو أرش يدٍ تحت الأكثر وهو الدية الكاملة. وهذا القول ضعيف؛ فإن محل العقل بين [القلب] (6) والدماغ لا يعدوهما، فكيف يفرض الإدراج في الأعضاء الظاهرة، ولكن القولان مشهوران، كما ذكرنا. فهذه جمل ترشد إلى المقاصد في هذا الفن، والله أعلم. 10686 - ويخرج منها أن كل منفعة لو زالت، لصار العضو عضو حكومة، فهي تستتبع العضو لا محالة، وكل منفعة تحققنا أنها في محلٍّ سوى العضو المجني عليه

_ (1) في الأصل: "منافعها". (2) في الأصل: "الابنى". (3) في الأصل: "فهذا". (4) في الأصل: "وقدرهما من الأعضاء الظاهرة". (5) فمهما: بمعنى: (فإذا). (6) في الأصل: "العقل".

كالشم والأنف، فلا يكاد يخفى أن لا إدراج فيه، وإذا ظهر على الجملة محل كون منفعة في عضو، ولم يتحقق تحقّقَ كون البطش في اليد، والبصر في العين، وكان العضو الذي فيه [النظر] (1) تكمل الدية فيه دون تلك المنفعة، فقد يختلف الأصحاب في مثل ذلك، كالمني والظهر، وأما العقل، فليس لي فيه إلا حكاية القولين، وإلا فالعقل أبعد عن اليدين من الشم عن الأنف، والله أعلم. فصل "ودية اليهودي والنصراني ثلث الدية ... إلى آخره" (2). 10687 - الكفار في غرضنا ثلاثة أقسام: منهم من له كتاب، وهم اليهود والنصارى، فدية الرجل منهم ثلثُ دية المسلم عندنا، وأبو حنيفة (3) يوجب مثلَ دية المسلم، ومالك (4) يوجب نصف دية المسلم، وقد [ذكرت في (الأساليب) وغيرها مسلكَ المذهب] (5) وطريقَه، ثم لا خلاف أن الذمي [والمستأمنَ ذا العهد المؤقت] (6) في هذا بمثابة واحدة. وقد قيل: [السامرة] (7) من اليهود، فإن لم يكونوا معطِّلة (8)، فديتهم دية اليهود،

_ (1) في الأصل: "البصر". ثم المراد بالنظر هنا ليس القوة المودعة في العينين، وإنما المراد العضو الذي محل البحث والنظر في حكم الجناية عليه. (2) ر. المختصر: 5/ 135. (3) ر. مختصر الطحاوي: 240، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 155 مسألة 2270، رؤوس المسائل: 475 مسألة 340، طريقة الخلاف: 496 مسألة 198، المبسوط: 26/ 84. (4) ر. المدونة: 4/ 479، الإشراف: 2/ 830 مسألة 1594، عيون المجالس: 5/ 2034 مسألة 1464، القوانين الفقهية: 341. (5) في الأصل: "ذكرت ذلك في الأساليب وغيرها مسلك المذهب". (6) في الأصل: "والمسلم ذو العهد المؤقت". (7) في الأصل: "النساء". والمثبت من البسيط والشرح الكبير. (8) " معطلة " هنا بمعنى ملاحدة، غير المعنى المعروف في كتب الفِرق، حيث يريدون به المعتزلة. وقد سبق بيانها في تعليق سابق.

وقيل: الصابئون من النصارى، وإن صح ذلك، فديتهم ديةُ النصارى، وقد استقصيت القول في ذلك في كتاب النكاح. والقسم الثاني - من له شبهة كتاب، وهم المجوس، فدية المجوسي خمس دية اليهودي، وإن أردتَ، قلت: دية المجوسي [خمس] (1) ثلث دية المسلم. والقسم الثالث من الكفار - من ليس [له] (2) شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان، ولا يتصور لهم عهد مؤبد، وإنما يعرض الضمان فيهم إذا كانوا مستأمنين، قال الأئمة في [الزنديق] (3) المعاهَد دية المجوسي، فلا أقل منه، وإذا تعذر الإهدار لمكان العهد، ولا سبيل إلى الحط من أقل الديات، وهو دية المجوسي؛ إذ لا توقيف معنا في [الحَطِّ من] (4) هذا المبلغ، فهذا هو الجواب. ولا يُفرض للمرتد عهد، بل هو مقتول بكل حال، وإن [تحرف] (5) طائفة من المرتدين، ومست الحاجة إلى مراعاة طرف الإيالة (6) منهم من ترتيب إقامة الحرب، فإذا أتانا رسول منهم، فإنا لا نتعرض له، فإذا قُتل، فلا ضمان أصلاً، وكان شيخي أبو محمد رضي الله عنه يتردد في الزنادقة [إن] (7) لم يسبق منهم التزام الإسلام أصلاً، ولا يُبعِد أن يُلحقوا بالمرتدين في جميع أحوالهم، وكان يقول: يحتمل أن يكونوا كعبدة الأوثان في إيجاب أصل الديات في معاهدتهم، والعلم عند الله. 10688 - فأما الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام، فلا بد من تفصيل المذهب فيهم بعد قول الشافعي: "لم يبق من لم تبلغه الدعوة" ولكنا صورنا ذلك على بُعد حَمْلاً على اتساع الدنيا، فسبيل التفصيل فيهم أن نقول: من كان متمسكاً منهم بدين من أديان النبيين، ولم تبلغه دعوة تخالف ما عليه، فلا يجوز التعرض لهم قَبْل الدعوة أصلاً،

_ (1) زيادة لا يصح الكلام بدونها. (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: "الذمي" وهو خطأ. ثم الزنديق والوثني إنما يدخل بلادنا بعهد مؤقت. (4) في الأصل: "الحطمين". (5) في الأصل؛ " تحرّت" ومعنى تحرفت أي تحرّفت للقتال، واستعدت له. (6) الإيالة: السياسة. (7) في الأصل: "وإن".

فلو قتل قاتلٌ [واحداً] (1) منهم قَبْل الدعوة، فقد قُتل سعيداً (2) في ظاهر الحال، فإنه كان متعلقاًً بدين الحق، ولم يبلغه دعوةٌ أخرى، حتى يُتبين إنكارٌ منه أو قبول. قال القفال: إذا كان القاتل مسلماً، توجه القصاص، فإن المقتول ليس بكافر. وذهب غيره إلى أن القصاص لا يجب؛ لأنه وإن لم يكن موصوفاً بالكفر، فليس موصوفاً بالإسلام قبل التزامه، فإن أوجبنا القَوَد، فلا شك أنا نكمل الدية، وإن لم نوجب القود، ففي الدية وجهان: أحدهما - نوجب الدية الكاملة. والثاني - أنا نوجب دية أهل الدين الذي هو عليه، فإن كان على دين موسى، فثلث دية المسلم. وإن لم يكن متعلقاًً بشريعةٍ، ولكن ما كانت الدعوة بلغته من ملة من الملل، فالوجه القطع بنفي القصاص. ونقل المعتمدون عن القفال إيجابَ القصاص على المسلم بقتله، وفيه بُعد في هذا المقام. فأما الدية، فقد حكى الأصحاب نصين عن الشافعي: أحدهما - أنه تجب الدية الكاملة. والثاني - يجب أقل الديات، وهو دية المجوسي، فمن أصحابنا من أجرى القولين على ظاهر اختلاف النصين، وتوجيههما: أنا في قولٍ نقول: سعيدٌ [معذور] (3)، وفي قولٍ نقول: لا تعلق له بدين أصلاً. ومن أصحابنا من قال: ننزل النصين على حالين، فحيث أكمل الدية أراد إذا كان متعلقاًً بدين حق، لم يُغَيَّر، وحيث نوجب أقل الديات أراد إذا لم يكن متعلقاًً بدين أصلاً. 10689 - ونحن نوضح بعد ذلك قسماً آخر وبه تمام البيان، فنقول: إذا صادفنا هؤلاء متعلقين بدين موسى مثلاً، وكان الدين [مغيّراً] (4)، فإذا لم تبلغهم دعوةُ نبينا عليه السلام، فالوجه أن نُبلغهم الدعوة، [فإن] (5) [قتل المسلمُ] (6) واحداً منهم قبل

_ (1) سقطت من الأصل. (2) عبارة الغزالي في البسيط: "فإن لم تبلغه الدعوة، فهو سعيدٌ معذور". (3) في الأصل: "مغرور". (4) في الأصل: "معتبراً". (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: "قبل السلم".

الدعوة، فلا قصاص مذهباً واحداً، لتعلقهم بالدين المغيَّر، وأما الدية، ففيه احتمال وتردد: يجوز أن يقال: لا يجب الضمان أصلاً، إذ لا عهد [ولا ذمة] (1)، فهم في [منزلة] (2) الحربي، وإن امتنعنا من قتلهم، فهو بمثابة انكفافنا عن قتل نساء أهل الحرب، وذراريهم ثم لو قُتلوا، فلا ضمان أصلاً. ويجوز أن يقال: على من قتل واحداً منهم قبل الدعوة الضمان، وهو ظاهر النص؛ فإن امتناع قتالهم ينزل منزلة العهد لهم، وليسوا كالنساء من الحربيين، فإنا انكففنا عن قتلهم من جهة أنا رأينا الاشتغال بالمقاتِلة أهمّ، ورأينا استنماءهن (3) للاسترقاق، وا لأطقال يجرون [معهم] (4). ثم إن أوجبنا الضمان، فظاهر النص يشير إلى أنا نوجب أقلَّ الديات، وإن كان متعلقاًً باليهودية التي عليها اليهود، لضعف سبب الحرمة والانكفاف، والظاهر عندي إيجابُ دية يهودي إن صح القول بالضمان. فهذا تفصيل القول في الذين لم تبلغهم الدعوة والله أعلم. فصل قال: "وبقول سعيد بن المسيب أقول: جراحُ العبد من ثمنه كجراح الحر من ديته ... إلى آخره" (5). 10690 - قد ذكرنا أن العبد إذا قُتل، فهو مضمون بقيمته بالغةًَ ما بلغت، [ولو] (6) زادت على ديات، ومقصود الفصل الكلامُ في أروش الجراح على العبد، فالمنصوص

_ (1) في الأصل: "ولا دية". (2) في الأصل: "دية". (3) عبر الغزالي عن هذا المعنى قائلاً: "وأما أمر النساء، فمبنيٌّ على مصلحة الإرقاق" (ر. البسيط: جزء (5) ورقة: 48 شمال). (4) في الأصل: "معاً". (5) ر. المختصر: 5/ 136. (6) زيادة من المحقق.

عليه للشافعي في الجديد أن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته، ففي يديه كمال قيمته، وفي اليد الفردة نصف القيمة، وفي موضِحته نصف عشر قيمته، وفي أنملة من مسبّحته ثلث عشر قيمته، وهذا مطرد في الجراح، [بلا] (1) مناقضة. وخرّج ابنُ سريج قولاً للشافعي في أن الواجب في جراحه ما ينقص من القيمة، وسبيل الجراح عليه كسبيل جرح البهائم، وهذا أخذه ابن سريج من قول الشافعي في أن العاقلة [لا] (2) تحمل قيمة العبد المقتول خطأ، كالبهائم، وقد نص الشافعي على ما خرّجه في القديم، فحصل في المسألة قولان. توجيههما: من قال يجب ما نقص تعلّق بأنه مملوك مقوّم، وقيمة جملته لا تتقدر، فلتكن أطرافه كذلك. وهذا القول [معتضد] (3) بالقياس المعنوي. ومن قال: تتقدر جراح العبد، فمتعلقه الشبه الخاص؛ فإن العبد آدمي، وقد أثبت الشرع في يدي الحرّ تمام الدية، وغَناء يد العبد من العبدكغَناء يد الحر من الحر. ثم قال الأئمة: تحمُّل العاقلة قيمة العبد على قولين، وجريان القسامة في العبد على قولين، فهذه المسائل الثلاث مجراها واحد، تقدُّر البدل، وتحمل العاقلة، وجريان القسامة. ومما تجب الإحاطة به في قاعدة المذهب أن القصاص يجري في العبد وفاقاً، والسبب فيه أن حرمة روح العبد توجب صونَه بالقصاص، ويتعلق بحرمته الكفارة. 10691 - وإذا آل الأمر إلى أحكام المال، فأما قيمة الجملة فمردودةٌ إلى السوق؛ فإنه يتقوّم، وأما تفاصيل الأحكام في الجراح وغيرها، فعلى التردد الذي ذكرناه. ثم إن قطع ذكر عبد وخُصيتيه، فهذا يخرج على القولين: إن رأينا تقدير أروش

_ (1) في الأصل: "فلا". (2) زيادة اقتضاها السياق، وهي عند الغزالي في البسيط. (3) في الأصل: "مقتصد".

جراحه، فيجب قيمتان، كما تجب [فيهما] (1) ديتان من الحر. وإن أوجبنا ما ينقص من القيمة، فقد لا ينقص ما جرى، بل يزيده، فقد قال بعض الأئمة: هذا يخرّج على الخلاف في [شَيْن] (2) الجرح على الحر إذا لم ينقص شيئاًً في تقدير الحكومة، فهل يجب شيء أم لا؟ ثم التفصيل كما مضى. والقياس عندي ألا نوجب [شيئاًً] (3) إذا لم يظهر نقصانٌ أصلاً؛ فإنا نفرع على إلحاق العبد في ذلك بالبهائم، ولست أعرف خلافاً أن من خصى بهيمة وزادت قيمتها، لم يلتزم شيئاً إذا سلمت البهيمة. ومن الظواهر التي نذكرها أنا إذا أوجبنا في الجراح [على] (4) قولِ المقدرات، فقد يعترض في العبد ما لا يتصور في الحر، وبيانه أن العبد إذا كانت قيمته ألفَ درهم، فمن ابتدره وقطع اإحدى يديه التزم خمسَمائة، وإن نقص من القيمة أربعمائة، فإذا قطع قاطع آخر يده الأخرى، وقيمته عند قطع [يده] (5) ستمائة فعليه ثلاثمائة، ومثل هذا لا يتصور في الحر؛ فإن بدله لا ينتقص. وقد [نُحْوَج] (6) أيضاًً على قول [التقدير] (7) في بعض الصور إلى اعتبار النقصان، فإن من اشترى عبداً فقطع يديه في يد البائع، فلا يمكننا أن نقابل اليدين بتمام القيمة، إذ لو فعلنا هذا، لجعلنا المشتري [قابضاً] (8) المبيع، وهذا يستحيل القول به مع بقاء العبد في يد البائع، فلا يتأتى من ذلك إلا اعتبار النقصان. والله أعلم. وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع.

_ (1) في الأصل: "قيمتهما". (2) تفدير منا مكان كلمة ذهبت إلا أطراف حرفٍ منها. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: "من". (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: "يخرج". (7) في الأصل: "الدير". (8) في الأصل: "وأيضاً".

فصل قال: "وقيل جناية المعتوه والصبي ... إلى آخره" (1). 10692 - اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أن الصبي إذا عمد [وقتل] (2) فهل لفعله [حكم] (3) [العمد] (4) أم لا؟ وأحد القولين أنه لا يثبت له حكم العمد، والثاني - أنه يثبت له حكم العمد. توجيه القولين: من قال: لا يثبت [له] (5) حكم العمد، احتج بانتفاء القصاص عنه مطلقاً من غير استثناء، ومن نصر القول الآخر، احتج بالعِيان، والعمدُ في الحقيقة يصدر عن الصبي؛ فإن العامد هو الذي له رويّة قبل فعله، وفكرُه منعطف عليه بعد فعله، وهذا يتصور من الصبي المميز، وذكر الشافعيُّ المجنونَ والصبي في قَرَن واحد فيما ردّد فيه القولَ في تصوّر العمد. والمجنون ينقسم إلى ما له أدنى تمييز، ويتصور منه ما ذكرناه من الرويّة والفكر، فيقع منه العمد، كما صورناه من الصبي. ثم قال الأئمة: فائدة العمد إذا وقع منه أمران: أحدهما - وجوبُ القصاص على شريكه في القتل، ونزوله مع الشريك منزلة الأب إذا شارك أجنبياً في القتل. والثاني- أن تجب الدية في ماله إن كان عامداً، ولا تُضرب على عاقلته، فلا يتخلف -إذا أنشأ العمدَ- فعلُه عن فعل المكلف إلا في القصاص، كما ذكرناه. ومما يتعلق بما ذكرناه أنا إذا لم [نجعل] (6) الصبي عامداً، ففعله في حكم الخطأ المحض، وفائدته ألا تتغلظ الدية على العاقلة، فإن من يتصور منه شبه العمد يتصور

_ (1) ر. المختصر: 5/ 137. (2) في الأصل: "وشل". (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: "العقد". (5) زيادة من المحقق. (6) مكان بياض بالأصل.

منه حقيقة العمد، [والصبي] (1) الذي [لا تمييز] (2) له أصلاً لا عمد له، وكذلك [المجنون] (3)، ولا يخفى أن الصبي ذو عقل، وهو بعقله متميز عن المجنون الذي وصفناه بالتمييز، ولكن ذلك القدر كافٍ في تصور العمد حسّاً، والله أعلم. فصل قال: "ولو صاح برجل، فسقط من حائط ... إلى آخره" (4). 10693 - إذا صاح ببالغٍ على طرف جدارٍ، نُظر: فإن كان متبيّناً متماسكاً، فواجهه رجل وصاح في وجهه عِيانا، فسقط من الحائط وهلك، فلا ضمان على الصائح أصلاً؛ فإن مثل الرجل الذي وصفناه لا يسقط من الجدار [بصيحة] (5) وإن اشتدت. وإن لم يواجهه ولكن أتاه من ورائه [وتغفّله] (6)، فصاح من حيث لا يحتسب، فسقط، لم يجب القود عليه [بلا] (7) خلافٍ فيه، وفي وجوب الضمان وجهان، وربما كان يقول قولان: أظهرهما - أنه لا يجب [وفي] (8) بعض التصانيف: "أن من أصحابنا من طرد القولين في وجوب الضمان فيه، إذا واجهه ولم يتغفله" وليس هذا من مواقع الظنون حتى يجري التردد فيه على مسالك الظن الفقهية، وإنما يتعلق المقصود فيه بأمور تتعلق [بالعِيان] (9). وقد مهدنا في ابتداء الجراح ما يكون عمداً محضاً وما لا يكون منسوباً إلى الجاني، وما يعد شبه عمد، وأوضحنا المعنى المعتمد في هذه الأقسام. وهذه مشتملة على

_ (1) في الأصل: "والجنون". (2) غير مقروءة بالأصل. (3) في الأصل: "الجنون". (4) ر. المختصر: 5/ 138. (5) في الأصل: "بصح". (6) في الأصل: "وتعقله". (7) في الأصل: "فلا". (8) في الأصل: "في" (بدون الواو). (9) في الأصل: "بالعباد".

سقوط شخص من غير أن يعلَقَ به آلةٌ من الجاني [أو] (1) تحاملٌ [منه] (2)، ولكن الإنسان في غفلاته قد يسمع صوتاً ويهتز ويرتعد، ويكون تحركه سبباً للسقوط من موضع [عال لا دفعَ] (3) في موقعه (4)، ويكون وقوع الارتعاد والخروج عن التماسك أمراً ضروريّاً (5) لا يدفعه المقصود (6). ثم رأى الأئمة أن الرجل الكبير إذا واجهه الصائح، ولم يلحقه الصوت على غفلة لا يسقط، فإن سقط، كان أمراً قدريّاً، يقال في مثله: اتفق سقوطه، وأدركه قضاء الله، ولم يكن سقوطه بسبب الصيحة، وهو بمثابة ما لو ضرب رجلاً أيِّداً بيدٍ ضربة لا يتصور [أن يهلك] (7) بها، فإذا اتصل بها هلاكه، قيل: وافق الهلاك غيرَ منسوب إلى الضارب، ثم التغفّل والصيحة على غفلة مما تردد فيها الرأي، واحتمل إمكان السقوط منه، فجرى ذكر القولين، وفي طرد القولين في المواجهة لم نُبعد الارتعاد، وزوال التمسك، ولا شك أن هذا يختلف [باختلاف] (8) الأشخاص، ويثبت من يثبت، ويرق [الجبان] (9) الذي يستشعره (10) في أدنى شيء. 10694 - ثم قال الأئمة: إن صاح بصبيٍّ، وهو على طرف جدار: واجهه بالصيحة أو بغفلة، وجب الضمان، فقطعوا بوجوب الضمان، وذكروا وجهين في وجوب القصاص [ورتّبوا] (11) الوجهين على ما إذا احتفر بئراً في مضيق [كان] (12) يطرقه

_ (1) في الأصل: "أم". (2) في الأصل: "فيه". (3) في الأصل: "حال لا يتبع". (4) في الأصل: "أي وقوعه". (5) أمراً ضرورياً: أي محتوماً. (6) لا يدفعه المقصود: أي لا يملك المقصود بالصياح دفعَ هذا السقوط. (7) في الأصل: "أن لا يهلك". (8) في الأصل: "اختلاف". (9) في الأصل: "الخيار". (10) يستشعره: أي الخطر المفهوم من الكلام. (11) في الأصل: "وزيفوا". (12) في الأصل: "بأن".

إنسان، ويغلب أن يقع فيه، فإذا وقع، ففي وجوب القصاص خلاف رمزنا إليه فيما تقدم، وسنعيده في مسائل البئر، إن شاء الله عز وجل. ومسألة سقوط الصبيّ من طرف الجدار [أولى] (1) من مسألة البئر في المضيق بوجوب القصاص؛ فإن التردي يقع بفعلٍ من الذي يتخطّى ويقع، والصبي إذا صيح به، أخذته هزّة ورعدة تُزيل إمساكه، فكان هذا أولى بالنسبة (2) إلى الصائح. وما ذكره الأصحاب في صبي لا يميز، أو كان ضعيف التمييز، بحيث يبعد منه أن يتماسك، فلو كان مراهقاً، فهو في معنى الكبير، والكبير إذا كانت تعتريه الوساوس، وكان مرعوباً بحركة أدنى شيء [قد] (3) يكون في معنى الصبي. [وانقضى] (4) ما علينا في ضبط الأصول وردّ الوقائع إليها. ولا ينبغي أن يعتقد الناظر أن الصور تفرض على وجه واحد، بل هي تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، والتعويل على ما يقع، ثم يحكم الفقيه في كل حالة بما يليق بها، والصوت يلتحق بالضرب الذي يتعلق بالظاهر، فإن كان مما يقصد به الهلاك غالباًً، فهو موجب للقود. وإن كان لا يغلب الهلاك منه، ولكن يمكن أن يصار إليه، فهو شبه عمد، وإن رجع التردد إلى ظن الناظر، فهذا يثور منه الخلاف، وبيانه أن الإنسان إذا كان يقطع بأن وقوع الهلاك ممكنٌ من هذا، ولم يقطع بأن هذا الواقع وقع بما جرى، فكون السبب مما يمكن وقوع الهلاك به معلوم، واتفاق الوقوع مظنون، فهذا موضع القطع، وإن وقع الفكر في أن هذا يمكن انتساب الهلاك إليه، فهذا النوع من التردد [يثمر] (5) خلافَ الفقهاء، وهذا مما يجب إنعام النظر فيه. ولو صاح على صبي، وهو على الأرض، فمات، فقد أجرى بعض الأئمة هذا

_ (1) في الأصل: "أقل". (2) أي أولى أن ينسب السقوط إلى الصائح. (3) في الأصل: "وقد". (4) في الأصل: "واقتضى". (5) في الأصل: "يتميز".

مجرى السقوط عن الجدار في التفصيل، وهذا غير سديد؛ فإن الارتعاد والسقوط أظهر في الإمكان من الموت بالصوت من غير فرض سقوط. وإذا صاح بالصبي وأزال عقله، فالأمر على ما ذكرناه، وهذا أقرب إلى الإمكان من الموت. وزوالُ العقل والموت لا يفرضان من الكبير المتماسك؛ فإن وقع، حُمل على موافقة القدر، وليس كالسقوط من حرف الجدار؛ فإن الإمكان قد يتطرق إليه في بعض الصور. وقد تمهد للناظر مسالك النظر. 10695 - ولو طلبه رجل بسيفه، فولّى وهرب وألقى نفسه إلى ماءٍ أو نارٍ، أو ألقى نفسه من شاهق، فلا يجب الضمان في هذه المواضع؛ فإن المطلوب أهلك نفسه بفعله، والذي كان يحاذره من الذي يتبعه الهلاكُ، وقد أوقع بنفسه ما كان يحذره من المتبع، وهذا بمثابة ما لو أكره رجل رجلاً على قتل نفسه، وقال: إن قتلت نفسك، وإلا قتلتك، فإذا قتل نفسه، لم يضمنه المكرِه، لما أشرنا إليه. ولو طلبه بسيفه في [فلاة] (1)، فولّى، فتلقاه سبع وافترسه، فلا يضمنه المتبع؛ فإن هذا مضاف إلى السبع، وفعلِه، ولم يوجد [من] (2) المتبع إهلاك، وليس هذا كما لو أغرى به سبعاً في مضيق، كما تقدم التصوير فيه، أو كما [لو أنهشه حيّة] (3) وذلك بيّن. ولو كان المطلوب على سطحٍ، فولّى، فسقط من السطح، قال الأئمة: إن كان المطلوب أعمى أو بصيراً، ووقع ذلك في ظلمة الليل، فهذا يتميز عما قدمنا ذكره، من إلقائه نفسه في ماء أو نار أو من شاهق، فإنه في تلك المسائل أهلك نفسه، وقصد

_ (1) في الأصل: "هذا". (2) في الأصل: "في". (3) في الأصل رسمت هكذا: "لو اـ ـسد حـ ـه" هكذا تماماً رسماً وبدون نفط. والمثبت من معاني كلام الإمام فيما سبق، حيث كانت تقترن هذه الصورة بتلك، ثم إن هذا الرسم الحائل المصحف يعطي هذا الذي أثبتناه، فهو هو إن شاء الله.

إلقاء نفسه؛ فجرى الجواب كما تقدم، وفي هذه المسألة سقط ولم يُسقط نفسَه قصداً، ولسنا ننكر أنه بتخطيه ووضعه للرِّجل على الهواء سَقَط، ولكنه لم يقصد ذلك، فأضيف ما جرى إلى من ألجأه. وليس ذلك بدعاً؛ وقد وضح أن من تردى في بئر محفورة في مخل عدوان فالسبب مضاف إلى حافر البئر، وإن كان المتردي هو الذي تخطى في جهة البئر حتى تردّى، فنجعل اتباع الطالب في الصورة التي ذكرناها بمثابة احتفار البئر، وهذا يؤكد كون [التغرير] (1) سبباً في إيجاب الضمان، وقد أجرينا ذلك في مسألة [تقديم] (2) الغاصب الطعامَ إلى إنسان في (الأساليب) وغيرها من المصنفات في الخلاف. 10696 - ومما ذكره الأئمة أنه لو طلبه بسيفه، فعدا على الأرض، فتردّى في بئر، فإن كان في ليلةٍ ظلماء، فهو كما ذكرناه في السقوط من السطح، وإن كان ذلك نهاراً، فإن ردّى نفسه في البئر، فقد مضى هذا، وهو بمثابة ما لو ردّى نفسه من شاهق، وإن لم يُردِّ نفسه، ولكنه لم يتأمل البئر بين يديه، فتردّى والبئر مفتوحة، فالذي ذكره الأئمة أن الضمان لا يتعلق بالطالب وفعله، وقد ذكرنا ذلك في التردّي من السقف نهاراً. ويعترض في هذا إشكال، وهو أن الفقهاء أطلقوا أن من تردّى في بئر محفور في محل عدوان، تعلّق الضمان بعاقلة [الحافر] (3)، ولم يفصلوا بين أن يتفق ذلك نهاراً أو ليلاً، وهذا يقتضي أن يقال: إذا كان المطلوب محمولاً مُلْجأً على العَدْو، فهو لا يتفرغ والحالة هذه إلى تأمل المخطَى الذي [يعدو فيه] (4)، فكان يجب أن يضاف تردّيه إلى طلب الطالب إياه بالسيف، وليس [إلى] (5) الضمان بحفر البئر من غير فرق

_ (1) في الأصل: "التقرير". (2) في الأصل: "تغريم". (3) في الأصل: "الحر". (4) في الأصل: "بعد ما فيه". (5) في الأصل: "على".

بين الليل والنهار في وقوع التردي، ولا [يبعد] (1) حَمْل التردِّي على [اتباع] (2) الطالب، حتى يتمهد عذر المتردِّي في ترك التحفظ. وهذا فيه نظر؛ فليس الحمل على الهرب [بأبعد من] (3) أن يكون سبباً من حفر البئر في [أصله] (4). وإن قيل الضمان بحالٍ على حافر البئر، فهو بعيد أيضاًً؛ فإن التخويف بالسيف أحق بأن يحال عليه التردِّي من حفر البئر، فليتأمل الناظر ذلك. وقد قال الأصحاب: لو طلبه بسيفه، فقدّر [أن يتخطّى] (5) بئراً، فغطاه، فانهار فيها، فالضمان يتعلق بطلب الطالب، وهذا يدل من كلام الأئمة على أن البئر إذا كانت مفتوحة، فالتردي منسوب إلى المتردِّي من حيث ترك التصوّن، وإذا كان البئر مغطاة، فالتردِّي محال على المُلجىء الطالب. فخرج من مجموع ما ذكرناه أنا إن قلنا في المتردي في البئر المحفورة: إذا تردّى نهاراً [لا يضمن أو نفصل] (6) بين البصير والأعمى نهاراً، فينتظم الكلام في المسائل على نسق. والذي نتخذه [مذهباً] (7) الفرق بين الليل والنهار، وبين أن تكون البئر مغطاة أو مفتوحة، وهذا متجه لا بأس به، وبقي النظر في حفر البئر والتردِّي فيه إذا انتهينا إلى مسائل البئر، أنعمنا النظر في ذلك، إن شاء الله عز وجل. 10697 - ومما ذكره الأئمة رضي الله عنهم أنه لو اتبع إنساناً على سطح فولّى، فانخسف به السطح، فلا يتعلق بالطالب ضمان، بخلاف ما لو كان الهارب في الطريق، فتخطى بئراً مغطاة، فانهار، فإن الضمان يتعلق بالطالب. ثم فرق

_ (1) في الأصل: "ينفذ". (2) في الأصل: "إيجاب". (3) في الأصل: "فأبعد في". (4) في الأصل: "أهله". (5) في الأصل: "فقدر تخطى". (6) في الأصل: "لا يتضمن أوتفصيل". (7) في الأصل: "هاهنا".

الأصحاب بأن البئر المغطاة ليست محلّ مقام وتخطٍّ، فإذا ألجأ الطالب المطلوبَ إليه، فقد تسبب إلى إهلاكه، وليس السطح بهذه المثابة، فإنه محل تردّدٍ (1) وإقامة، فإذا اتفق الانخساف فيه، لم يكن الطالب منسوباً إلى الإلجاء إلى سبب الهلاك. وهذا فيه إشكال؛ فإنه لاينخسف موضع في السقف -وإن أُضعف، فقد صار ذلك الموضع في معنى البئر المغطاة-[ولو كنا] (2) نقول: إن علم الطالب أن على طريق المطلوب بئراً مغطاة، فحينئذ يتعلق بفعله الضمان، وإن لم [يعلم] (3)، لا يتعلق به الضمان، لكان ما ذكرناه في السقف سديداً، وإن كنا لا نفرق في البئر المغطاة بين أن يعلم الطالب بها وبين ألا يعلم؛ فإنه [يجدّ] (4) في طلبه متعرضاً [للفداء] (5) ملتزماً بسلامة العاقبة، وهذا هو الفقه. فقياس ذلك يقتضي أن يقال: إذا انخسف [السقف] (6) لضعف موضع منه لم يشعر به، فيجب أن يتعلق الضمان بهذا الطالب، فهذا تمام الكشف في ذلك. 10698 - ومما ذكره الأصحاب أن السلطان إذا هدّد امرأة حاملاً، وتوعدها بشيء بلغه منها، فأَجْهَضَتْ جنيناً، تعلق الضمان بذلك، [كان هذا] (7) للإمام، [فحقه] (8) في توعده بمثابة ما لو عزّر الإمام إنساناً، فهلك فيه، وسيأتي تفصيلٌ في كتاب الحدود -إن شاء الله عز وجل- وقد روي: "أن عمر بنَ الخطأب رضي الله عنه أرسل إلى امرأة بلغه منها فجورٌ وهددها، وكانت ترقَى في سلّم، فسقطت وأجْهَضَتْ. جنيناً، فجمع

_ (1) المعنى أن السطح مجالٌ للتردّد فوقه ذهاباً وجيئة، والإقامة والعيش فوقه، بخلاف البئر المغطاة. (2) في الأصل: "ولكنا". ولا تستقيم العبارة إلا بما أثبتناه. (3) في الأصل: "يفعل". (4) في الأصل: "متحد". (5) في الأصل: "للغذاء". (6) زيادة من المحقق. (7) في الأصل: "وكان هدفاً". (8) في الأصل: "فحق".

عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاورَ. فقال عبد الرحمن: إنك مؤدِّب ولا شيء عليك، فقال علي: إن لم يجتهد، فقد غشك وإن اجتهد، فقد أخطأ، أرى عليك الغرة" (1) وغرض هذا الفصل مما ذكرناه أن هذا مما يعد من الأسباب المؤدية إلى الهلاك. ولو توعد رجلاً، وكان المتوعِّد مهيباً، فإذا وقع الوعيد من المتوعَّد موقعاً، وأفضى إلى هلاكه، فالضمان يتعلق به؛ فإن وقوع الهلاك من هذا السبب ليس بدْعاً، والذي يوضح ذلك ويحققه أن من أكره إنساناً على قتلٍ، فأحكام الإكراه تثبت بوعيد يصدر من المكرِه [قد يفي به] (2) وقد لا يفي، ولكن إذا غلب على الظن وفاؤه به، كان بإكراهه قاتلاً (3)، وفي المكرِه التفصيلُ المشهور. ثم هذه الأسباب التي ذكرناها، وقضينا بكونها مضمّنة، فهي تقع شبه عمد على ما سنعيد في باب من العواقل مراتب الأفعال في وقوعها عمداً وخطأ وشبهَ عمد، ونوضح حكمَ كلِّ مرتبة، إن شاء الله عز وجل. فصل 10699 - [إذا أخذ صبياً حُرّاً] (4) وتركه في مَسْبَعة ولم يقدمه إلى سَبُع ضارٍ، وتركه في مضيعة، فافترسه سبع: فإن كان الصبي بحيث يتأتى منه المشي والانتقال عن المَهْلكة، فاتفق هلاكُه في تلك البقعة، فلا ضمان على حامله، فإنه لم يُهلكه، ولم

_ (1) أثر عمر رضي الله عنه رواه عبد الرزاق في مصنفه 9/ 458 ح 18010، والبيهقي في سننه الكبرى تعليقاً (8/ 107) وبلاغاً عن الشافعى (8/ 322) وانظر: البدر المنير: 8/ 493، التلخيص: 4/ 69 ح 1968. (2) في الأصل: "فلو يفي به". (3) يدلل الإمام بذلك على أن الموت إذا وقع على أثر تهديد كان محالاً عليه، ويلزم المهدًد الضمان. ولكن (المشهور) في المذهب أن هذا السبب لا يفضي إلى الهلاك، بخلاف الإجهاض. قاله الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 10/ 417). (4) في الأصل: "إذا حد صبياً حداً".

يصدر منه سبب يعد مهلكاً، وإنما الذي انتسب إليه التضييع، واليد لا تثبت على الحرّ، [فامتنعت] (1) أسباب الضمان. ولو كان الصبي بحيث لا يتأتى منه الحركة والانتقال، وقد ألقاه في مضيعة، فهلك فيها [بسبع] (2)، فقد اختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أن الضمان يجب، لأن هذا سبب ظاهر في الإهلاك عُرفاً، ولعله أبلغ من احتفار بئر في مسلك الطارقين. والوجه الثاني - أنه لا يغرم؛ فإن اليد لا تثبت على الحر ولم يوجد منه سبب هو أهلكه. 10700 - وقد ذكر العراقيون صورة متصلة بما نحن فيه، فقالوا: لو سُلّم صبي إلى إنسان سباح ليعلمه السباحة، فأخذ يعلّمه، فغرق، فالواجب الضمان متعلقاًً [بأستاذه] (3)، وزعموا أن ذلك من الأستاذ نازل منزلة ما لو كان يؤدبه، فأفضى التأديب إلى الهلاك، وزعموا أن اليد تثبت على الصبي الحر، ثم قالوا: لو كان بالغاً، فهلك، فلا ضمان؛ فإن البالغ [يستقل] (4) بنفسه، ولا تثبت اليد عليه. والذي ذكروه في البالغ سديد، لا منازعة فيه، فأما ما ذكروه في الصبي، فإن ألقاه في الماء، وكان [يعلمه] (5) السباحة، فإلقاؤه إياه يوجب الضمان، على تفاصيل ذكرناها في صدر كتاب الجراح، وإن أشار عليه من غير إكراه، فدخل الماء، وهو مهلك، فهذا فيه احتمال، والذي ذكره العراقيون توجيه الضمان، وشبهوه بالتأديب، وأطلقوا في أثناء كلامهم أن الصبي تثبت عليه يد الأستاذ، وثبوت اليد [غير] (6) سديد، أما ربط الضمان بإلزامه التعليم وعدم الاستقلال للصبي بنفسه، فغير

_ (1) في الأصل: "فانبعثت". (2) في الأصل: "بسبب". (3) في الأصل: "بإسناده". (4) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (5) في الأصل: "يعلم". (6) في الأصل: "عندي"، والمثبت من كلام الرافعي حاكياً إياه عن الإمام، قال: "وأبدى الإمام هذا الوجه احتمالاً (أي الضمان) وقال: الحر لا تثبت عليه اليد". (ر. الشرح الكبير: 10/ 42).

بعيد، وقد قالوا: إذا كان بالغاً، لم يجب الضمان أصلاً، ويحتمل أن يقال: لا يجب الضمان في الصبي المميز في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه لم يوقع بالصبي فعلاً، وإنما الصبي دخل الماء من غير إكراه، والمسألة محتملة وسنذكر في باب حفر البئر سرّ القول في الأسباب التي يتعلق الضمان بها، ونكثر الأمثلة والمسائل، إن شاء الله. فصل قال: "ويقال: لسيد أم الولد ... إلى آخره" (1). 10701 - ونتكلم في القن إذا جنى، ثم نذكر أم الولد إذا جَنَتْ. فأما العبد القن إذا جنى أو أتلف مالاً، فما يلزمه من المال يتعلق برقبته لا محالة، ثم السيد له مسلكان: أحدهما - أن يسلم العبد ليباع في الجناية. والثاني - أن يفديه. فإن أراد أن يفديه، فبم يفديه؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش أو قيمة العبد. والقول الثاني - أنه يفديه بالأرش بالغاً ما بلغ وإن زاد على القيمة. توجيه القولين: [من قال] (2): نفديه بالأقلّ وهو المنصوص عليه في الجديد احتج بأن الأرش إن كان أقل، فلا يخفى أنه لا يلتزم غيرَه، وإن كانت القيمة أقل، فلا يلتزم أكثر منها، فإنه لو سلم العبد ليباع، انقطعت الطّلبةُ عنه، فإذا أراد أن يفديه، فلا يلزمه إلا قيمة [بيعه] (3)، ولم يسلمه. ومن نصر القول القديم، فلا تعلق له إلا أن العبد لو سلم وبيع [فربما] (4) يشتريه زَبُونٌ بأكثر من قيمته. فإذا منعه -ثم لا منتهى يقف عنده في توقع ما يُشترَى به- فالوجه أن نقول: يجب الأرش بالغاً ما بلغ.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 138. (2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (3) في الأصل: "ما معه". (4) في الأصل: "قديماً".

10702 - وقال القاضي: ينبغي أن يُتلقى القولان من التردّد في أن الجناية هل يتعلق أرشها بذمة العبد أم لا تعدو رقبتُه؟ وقد ذكر أصحابنا في ذلك وجهين: أحدهما - أن الجناية يتعلق أرشها بذمة العبد ورقبته مرتهنة. والثاني - أنه لا يتعلق بذمته. ومن أدنى آثار الخلاف في ذلك أنه لو عتق يوماً من [الدهر] (1)، وكان بقي من أرشه [شيء] (2)، فهل يطالب بتلك البقية أم لا؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه. فالوجه الثاني - أنه لا يطالب إذا عتق؛ فإن الأرش لو كان يتعلق بذمته، لما تعلق برقبته كسائر الديون التي تلزم الذمة في المعاملات الصادرة عن [إذنٍ] (3)، وقد يقول هذا الإنسان: ذمة العبد إنما يتعلق [بها] (4) الحقُّ إذا امتنع [تعلقه] (5) بالرقبة. وما ذكرناه من تردد الأصحاب أخذوه استنباطاً من القواعد، ولا نص للشافعي فيه، ثم زعموا أن القولين مأخوذان من هذا الأصل، ومعناه أن حقيقة القولين ترجع إلى ذلك، ووجهه أنا إن منعنا تعلق الأرش بالذمة، [فلا وجه إلا التعلق بالرقبة] (6). وإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد [فيد] (7) السيد بمثابة الضمان عن العبد. ومن أراد التخليص من دين، فينبغي أن يضمنه بكماله وتمامه، وكأن الأرش لزم ذمة العبد، وصارت الرقبة مرهونة بجميعه، فإذا أراد السيد فكَّ الرقبة، فلا بد من أداء جميع الدين، حتى تنفك الوثيقة. وقال بعض الأصحاب: الخلاف في أن الأرش يتعلق بالذمة، وهذا أصل يبين

_ (1) في الأصل: "الرهب" والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "عن إذن أصحاب وقد نقول" ... (ولعله خرم أو تصحيف). (4) في الأصل: "لما". (5) في الأصل: "تعلقها". (6) ما بين المعقفين من تصرف المحقق مكان بياضٍ بالأصل، وخلل في السياق. (7) فى الأصل: "فيه". * تنبيه: تذكّر أن نسخة الأصل وحيدة، فليس ما تراه في الحواشي فروقَ نسخ، وانما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وتصرّفه. والله الهادي إلى الصواب.

تفريعه، وهذه العبارة مختلة؛ فإن المصير إلى أن الأرش يتعلق بالذمة ليس فرعاً لأصل، وإنما هو حقيقة القولين ومعناهما. هذا حاصل [ما] (1) ذكروه. وفي البناء خلل؛ من جهة أن الأصح أن الأرش يتعلق بذمة العبد وأن العبد يطالب إذا عتق، والأصح أن السيد يفدي بأقل الأمرين، فلا ينتظم البناء للوجه الذي ذكرناه، والأولى الاقتصار على التوجيه الذي ذكرناه في صدر الفصل. 10703 - ومما يتعلق بالتفريع على هذا الأصل أن السيد [إذا جنى عبدُه] (2)، [فهل] (3) يلزمه أن يفديه؟ فعلى القولين: فإن سلمه [ليباع] (4)، فلا يلزمه غيره، وإذا قال: اخترت فداه، فهل يلزمه الوفاء به أم هو على خِيرته إن شاء وفا، وإن شاء سلم العبد؟ ظاهر المذهب أنه بالخيار، ولا يصير ملتزماً وإن اختار. ومن أصحابنا من قال: إذا قال: اخترت الفداء، لزمه الوفاء بما قال، ولا يشترط هذا القائل أن يقول: التزمت، بل إذا قال: اخترت، كفى ذلك، وكذلك لو قال أنا أفديه، فصيغة الوعد الجازم كافية، وإذا لم نشترط الالتزام، فقوله: اخترته بمثابة قوله: أنا أفديه. 10704 - ثم مما فرعه هؤلاء أن جارية لو جنت، فوطئها مولاها، فهل يكون الوطء [اختياراً] (5) أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يكون اختياراً، كما لو وطىء البائع الجارية المبيعة في زمان الخيار، فإن وطأه يكون اختياراً [للفسخ] (6) ولو وطىء المشتري، كان ذلك اختياراً منه لإلزام العقد. والثاني - أنه لا يكون الوطء اختياراً؛ فإن تعلّق الأرش لم يثبت باختياره وقصده،

_ (1) في الأصل: "مما". (2) في الأصل: "إذا جنى على عبده". (3) في الأصل: "فلا". (4) في الأصل: "لسباع". (5) في الأصل: "إجباراً". (6) في الأصل: "للقسم".

والخيار يثبت شرطاً، وخيار المجلس وإن كان شرعاً، فهو مترتب على عقد ثبت اختياراً، وكل ذلك خبطٌ، لست أرى الاعتداد به، والمذهب (1) أن الفداء لا يلزم باختياره. ومما يتفرع على هذا المنتهى أنا إذا قلنا: لا يلزم الفداء بالاختيار، فلو قال: التزمت الفداء، فهل يلزم ذلك؟ إن قلنا: الأرش لا يتعلق بالذمة، ولا يفيد لفظ الالتزام شيئاًً، [فإن الأرش يبقى] (2) برقبة العبد، وللسيد الفداء إن شاء. فإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد، فهل يصح ضمانه حتى لو قال أجنبي: ضمنت الأرش، يلزمه الوفاء به؟ هذا فيه تردد عندي، مأخوذ من كلام الأئمة، يجوز أن يقال: يصح الضمان، كما يصح الضمان عن الميت المعسر الذي لم يخلف شيئاًً، والعبد يرجو أن يعتق ويتمول [وآماله متوقعة] (3)، وإن صح الضمان عن الميت المعسر، فلأن يصح عن العبد أولى. ويجوز أن يقال: لا يصح الضمان؛ فإنا وإن أطلقنا الذمة، فهو على تقدير التوقع والترقب بتقدير العتاقة، ولو لزم ذمّةَ العبد دينٌ غيرُ متعلق برقبته، ففُرض ضمانه، فالضمان في هذا النوع أولى بالصحة من الضمان في الأرش، ولا خلاف أنه يصح ضمان ما يتعلق بكسب العبد، وهو مايلتزم بإذن السيد، كالمهر في النكاح الصحيح، والوجه تصحيح الضمان عن العبد مهما (4) حكمنا بتعلق الأرش برقبته، هذا فيه إذا كان الضامن أجنبياً. فأما إذا كان الضامن هو السيد، وذكر لفظاً مضمونه الالتزام، فهذا عندنا مرتبٌ على ضمان الأجنبي، ولعل الأصح أنه يصح منه الضمان والالتزام لتعلق ذلك بملكه. والله أعلم.

_ (1) عبارة الأصل: "وهو المذهب أن الفداء" ... (2) في الأصل: "فإن الأرش لا يبقى". (3) في الأصل: "وآمال مضمونة". وهو تصحيف واضح. ثم المعنى المقصود أن آمال العبد في العتق والتمول غير منقطعة بخلاف المعسر، فإذا صح الضمان عن الميت المعسر، فمن باب أولى يصح عن العبد. (4) مهما: بمعنى إذا.

10705 - ومما يتعلق بتمام التفريع في ذلك أنه لو أعتق السيدُ العبدَ الجاني، وقلنا: إنه ينعقد العتق فيه، [فالأصح] (1) أنه لا يلتزم إلا الأقل، والسبب فيه أن أجنبياً لو قتله، لم يلتزم أكثر من قيمته، وإعتاق السيد بمثابة إتلافه، فيبعد أن يلتزم السيد بإعتاقه مملوك نفسه أكثر مما يلزمه الأجنبي بقتله، وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من أجرى في الإعتاق القولين أيضاًً، ويصير السيد بالإعتاق ملتزماً للأرش -على أحد القولين- بالغاً ما بلغ. ولو قتل السيد العبدَ الجاني، فالوجه القطع بأنه لا يلتزم إلا الأقل في هذا الباب، [ومن أصحابنا] (2) من أجرى القولين فيه إذا قتله، وأما إذا باع العبدَ الجاني، فقد ذكرنا في كتاب البيع تفصيلَه على بيانٍ شافٍ، فليطلب في موضعه. ولو قتل أجنبيٌ العبد الجاني، والتزم قيمته، فيتعلق حق المجني عليه بقيمة العبد حسَب تعلقه برقبته، ثم السيد على التخيير في ذلك، كما أنه متخير في الرقبة، فإن سلم البدل [بعينه] (3)، فهو كتسليمه العبد، وإن أراد أن يؤدي الأرش من سائر ماله، فله ذلك، كما للوارث أن يفعل ذلك في أعيان التركة المستغرَقة، وكل ما ذكرنا في العبد القن إذا جنى. 10706 - فأما أم الولد إذا جنت، فبيعها غير ممكن، ولكن أجمع أئمتنا على أن السيد يلزمه الفداء، وهذا مما يغمض تعليله؛ من جهة أن السيد تصرّف في ملك نفسه، واستولد جاريته، فإلزامه الفداء بسبب جناية تصدر منها بعد الاستيلاد بعيدٌ عن قياس الأصول، ولكنه متفق عليه بين أصحابنا. ثم إذا ألزمناه الفدية، فقد اختلف أصحابنا فيما يلتزمه، فذهب المحققون إلى القطع بأنه لا يلتزم إلا الأقل، ومن أئمتنا من قال: فيما يلتزمه السيد قولان كالقولين

_ (1) في الأصل: "والأصح". (2) في الأصل: "إن من أصحابنا". (3) في الأصل: "في عينه".

في العبد القن؛ فإنه بالاستيلاد السابق، صار مانعَها من البيع عند الجناية. ثم ذكر الشيخ أبوعلي أن القيمة المعتبرة في الفداء للمستولدة هي قيمة يوم الاستيلاد، واعتل بأن قال: إنما صار السيد مانعاً يوم الاستيلاد، وذلك المعنى لا يتجدد، فينبغي أن نعتبر [قيمة يوم الاستيلاد] (1)، وهذا الذي ذكره غيرُ متجه عندي، والذي كان يرتضيه شيخي أن الاعتبار [بقيمتها] (2) يومَ الجناية؛ فإن اعتبار قيمةٍ متقدمة على الجناية بعيد عن التحصيل. نعم، يجوز [أن] (3) نجعل السيد بالاستيلاد المتقدم [مانعاً حال] (4) وقوع الجناية، وهذا أقيس وأفقه [مما] (5) ذكره الشيخ أبو علي. فقد تحصّل وجهان كما ذكرناه: على طريقة شيخي نعتبر قيمته وقت الجناية، فإن الفداء في المستولدة بالجناية، ولا حاجة إلى تقدير اختيار الفداء، فإنه لا وجه له غير الضمان (6). 10707 - ومما نفرعه على جناية المستولدة [أنه] (7) لو جنت أم الولد، ففداها، ثم جنت مرة أخرى، فهذا يستدعي تقديم حكم العبد القن في تكرر الجناية، فنقول: إذا جنى عبدٌ مراراً، فلا يخلو إما أن يجني ويفديه ثم يجني، وإما أن تصدر منه جنايات ولا يتخللها الفداء. فإن جنى مراراً، ولم يتخلل الفداء، ثم توجهت الطلبة، فأروش الجنايات وإن كثرت بمثابة الجناية الواحدة، فيجري القولان في أنه بكم يفديه؟ أحدهما - أنه يفديه

_ (1) في الأصل: "قيمته يوم الإتلاف" والمثبت من تصرف المحقق على ضوء كلام الرافعي (ر. الشرح الكبير: 10/ 500). (2) في الأصل: "بقيمته". (3) زيادة لاستقامة الكلام. (4) مكان بياضٍ بالأصل ثم هي من لفظ الغزالي في البسيط. (5) في الأصل: "بما". (6) والوجه الثاني هو ما سبق عن الشيخ أبي علي. (7) في الأصل: "فأنه".

بأقل الأمرين من الأروش والقيمة مرة واحدة. والقول الثاني - أنه يفديه بالأروش بالغة ما بلغت، [أو يسلم] (1) العبد ليباع في الأروش. فإن جنى العبد، ففداه السيد على القولين كما تقدم، فإذا جنى مرة أخرى، فأراد فداه على الترتيب الذي فداه في المرة الأولى، فلا أثر لما تقدم ولكل جناية حكمها، [وإن تقدم فداء] (2) الجناية المتقدمة، والسبب فيه أنه مانعٌ عند كل جناية منعاً جديداً، فيقتضي كلُّ منع فداءً مستقلاً، هذا حكم العبد إذا تكررت منه الجناية. فأما المستولدة إذا تكررت منها الجناية، فلا يخلو إما أن يتخللها الفدية أو لا يتخللها الفداء، فإن اجتمعت جنايات ولم يتخللها الفداء، فجميع الجنايات كجنايةٍ واحدة، كما تقدم. فإذا جنت أم الولد جناية أرشُها مثلُ قيمتها، ففداها المولى، ثم جنت جناية أخرى أرشها مثل قيمتها أيضاً، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا يلزم السيد أن يفديها مرة أخرى بعد ما [بذل] (3) قيمتها في الفداء، فإنه إنما التزم الفداء لأن [الاستيلاد] (4) في حكم الإتلاف والاستيلاد لا يتكرر، ولا يتعدد (5)، [فعلى هذا

(1) في الأصل: "وإن سلم". (2) في الأصل: "وإذا تقدم بناء". (3) في الأصل: "نزل". (4) في الأصل: "الاشتراك". (5) المعنى أنه باستيلاده الجارية، وما ترتب عليه من عدم جواز بيعها كان في حكم المتلف لها على المجني عليه، فإذا التزم قيمتها بجنايتها الأولى، فلا يتكرر الطلب عليه ولا يلتزم شيئاًَ بجنايتها الثانية، فإن التزام حكم الإتلاف لا يتجدد. وعبارة الرافعي في المسألة توضح ذلك، قال: "والقول الثاني أنه لا يجب إلا الأقلُّ من القيمة، ولا يتكرر الفداء، لأنه إنما أوجبنا الفداء تنزيلاً للاستيلاد منزلة الإتلاف، والمنع من البيع، وإتلاف الشيء لا يوجب إلا قيمة واحدة، وإذا قلنا بهذا فيشارك المجني عليه ثانياً المجني عليه الأول فيما أخذه، ويقسم جملة الواجب بينهما على ما يقتضيه الحال" (ر. الشرح الكبير: 10/ 502). وعبارة الغزالي في البسيط: "والقول الثاني أنه لا يتكرر الفداء، بل يشارك المجني عليه الثاني الأول، ويجمع بينهما، فإن المنع بالاستيلاد، وهو متحدٌ، فلا يتكرر الفداء عليه، وهذا إذا ضمن كمال القيمة بالفداء الأول، فإن بقيت بقية من القيمة فَبَذْلُ ذلك القدر واجب، =

يشارك] (1) المجني عليه الثاني الأولَ فيما أخذه، يشتركان فيه، كما سنذكره في التفريع. والقول الثاني - أن السيد يلزمه أن يفدي مرة أخرى، ولا يسترد من الأول ما أخذه وتنزل المستولدة منزلة العبد القن، وقد ذكرنا أن العبد إذا تكررت منه الجناية، وتخلل الفداء تتجدد الجناية. توجيه القولين: من قال لا يلزم السيد أكثر من القيمة مرة واحدة، استدل بما ذكرناه من اتحاد [سبب] (2) الضمان وهو الاستيلاد، ومن نصر القول الثاني احتج بأن السيد مانعٌ عند كل جناية بحكم الاستيلاد السابق، [فيتعدّد] (3)، المنع على هذا التقدير. التفريع على القولين: 10708 - إن قلنا: إن الفداء يتعدد، فلو جنت أم الولد، ففداها بمثل قيمتها، فجنت مرة أخرى، فيفديها كما فداها أولاً، ولا يُسترد من الأول شيء [مما] (4) أخذه. وإن قلنا بالقول الثاني [فإن] (5) كان الفداء [الأول] (6) مثلَ القيمة، فقد انتهى غُرْم المولى، فإن جنت مرة أخرى جناية توجب القيمة، فالثاني يشارك الأول ويسترد منه نصفَ ما أخذ، ولا [يتميز] (7) الأول بسبب تقدّمه، بل يقسمان الفداءَ الأول على قدر

_ = وما زاد فيتضاربان فيه" (ر. البسيط: 5 ورقة: 86 شمال). (1) في الأصل: فعلى هذا لا يشارك. (2) في الأصل: "نسب". (3) في الأصل: " فيتعذر ". والمعنى أن وجوب الفداء على السيد بسبب منعه تسليم العبد لبيعه في الجناية، فإذا تعدد المنع تعدد وجوبُ الفداء. (4) في الأصل: "فيما". (5) في الأصل: "وإن". (6) في الأصل: "التداول". (7) في الأصل: "يرجع".

أرش الجنايتين، [فإن] (1) كان الأرش الأول ألفاً والثاني ألفاً، فهو بينهما نصفان، وإن كان أرش الجناية الأولى ألفاً والأرش الثاني خمسَمائة، فالألف المبذول بينهما ثلث وثلثان، وعلى هذا البابُ وقياسُه. ومما يليق بما نحن فيه أن الذي غَرِمه أوّلاً [إن] (2) لم يبلغ تمام قيمة المستولدة، فجنت جناية أخرى، فيجب على المولى تتمة القيمة، ثم يضم الآخر إلى الأول ويقسم بينهما على أقدار الأروش. وبيان ذلك بالتصوير أن الجناية الأولى كان أرشها خَمسمائة وقيمتها (3) ألفٌ، وقد غرم المولى خَمسمائة، فجنت جناية أخرى أرشها ألف، فيغرم المولى خَمسمائة، ولا يزيد، ثم يأخذ المجني عليه [الثاني] (4) من الألف الذي غرمه المولى -بدفعتين- ثلثاه، وهو ستة وستون وستمائة درهم وثلثا درهم. وقد بان الغرض بما ذكرناه، نبهنا بالمسائل التي صورناها على أمثالها. 10709 - ثم إن المزني اختار من القولين أن السيد يغرَم بكل جناية أرشَها، أو ما يقتضيه الفداء فيهما ابتداء، ولا يسترد المتأخر من المتقدم شيئاً. وقال: إذا ملك المجني عليه الأولُ الأرشَ الذي سُلّم إليه، فيبعد أن يقال: يُنقض ملكه بسبب جناية أخرى تتفق، وأتى بلفظه المعهود منه في الإعراب عن نهاية الاستبعاد (5). وقال: "نقضُ ملك الأول ليس بشيء" (6). [فيقال] (7) له: أما إلزام المولى أصل الفداء، فمشكل من طريق المعنى

_ (1) في الأصل: "وإن". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) أي أم الولد الجانية. (4) في الأصل: "الباقي". (5) اللفظ الذي يشير إليه الإمام، هو قول المزني: "هذا ليس بشيء" وهذا اللفظ يتكرر من المزني دائماً -فى المختصر- تعبيراً عن استبعاده للقول الآخر. (6) ر. المختصر: 5/ 138. ونص عبارة المزني: "فهذا عندي ليس بشيء، لأن المجني عليه الأول قد ملك الأرش بالجناية، فكيف تجني أمة غيره، ويكون بعض الغرم عليه". (7) في الأصل: "فقال".

[جدّاً] (1)، كما تقدم ذكره في صدر الفصل، ثم إن لم يكن من الفداء بد، فالزيادة على قيمةٍ واحدة ولم [يوجد] (2) الاستيلاد إلا مرة واحدة بعيد. وإذا أوجبنا ألا نزيد على قيمة المستولدة في تغريم المولى، وهذا قياس بيّن، [فالتزاحم] (3) بعد هذا القياس ليس ببعيد؛ إذ لا [يستقيم] (4) بعد ما مهدناه - غيرُه. ورب شخص يملك شيئاً في ظاهر الأمر، وهو موقوف مراعى (5)، وهذا بمثابة ما لو كان حفر رجل بئراً في محل ضمان وعدوان، ومات وخلف ألف درهم، فتردى في البئر -بعد اقتسام الورثة الألفَ-[متردٍّ] (6) قيمتُه ألف، فتُنقض [قسمة] (7) الورثة، وتُصرف الألف إلى جهة الغرامة، فهذا نقضُ ما في (8) أقل التصور، فلو [تردّى] (9) في البئر بهيمة أخرى قيمتُها ألف، فإنا نجعل الألف بين الجهة الأولى والثانية، وهكذا لو تعددت جهات الضمان وتجددت، فلا نزال ننقضُ ونعيد القسمةَ، ولا نجعل للمتقدم مزيةً، بسبب تقدمه، ولا [تحديد] (10) من المضارب في مقدار التركة. هذا بيان مأخذ المسألة في الصور والحتم (11).

_ (1) في الأصل: "حراً". (2) في الأصل: "يؤخر". (3) في الأصل: "فالزاحم". والمراد بالتزاحم هنا تزاحم المجني عليه الثاني مع الأول في الفداء الذي بذله المولى. (4) في الأصل: "يتقدم". (5) كذا تماماً. (6) في الأصل: "فتردى". (7) في الأصل: "قيمة". (8) كذا. (9) في الأصل: "رما". (10) في الأصل: تجديداً: والمعنى ولا تحديد للمضارب، لا في المبلغ الذي يضارب به، ولا في تكرار النقض وتعدد المضاربين. (11) هنا ذهب سطر كامل من أوله لآخره، وفي هذا السطر لا شك كلمة العنوان (فصل).

فصل (1) قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا اصطدم الراكلبان على أي دابة كانت ... إلى آخره" (2). 10710 - إذا التقى ماشيان واصطدما وماتا، فعُلم أن كل واحد منهما مات بقوّة نفسه وقوة صاحبه؛ فإن الصدمة تقع بالقوتين جميعاً، ثم ما يقابل قوة الإنسان، فهو هدر من جانبه وما يقابل قوة صاحبه، فهو مضمون، ثم إذا تأصل ذلك، فلا وجه للنظر في تفاوت القوتين، واختلاف تأثيرهما في الصدمة، فإن ذاك أمر لا يدخل تحت الضبط، وهو بمثابة قولنا: إذا جرح رجل رجلاً مائة جراحة من غير [تذفيف] (3) وجرح المجروح نفسه جراحة واحدة، وحصل الزهوق محالاً على الجراحات، فالحكم أنه يُهدَر نصفُ الدية، ويجب نصفها. هذا مأْخذ الباب، وموجب ما ذكرناه يتضمن أن نُهدر ما يقابل فعلَ كل واحد منهما في حق نفسه، ونوجب ما يقابل فعل الثاني، وموجَب ذلك التنصيفُ لا محالة. 10711 - فإذا تمهد أصل الباب قلنا: إذا اصطدم ماشيان على غير عمد وهلكا، فيهدر نصفُ دية كل واحد منهما بسبب فعله، ويجب دية نصف كل واحد منهما على عاقلة صاحبه؛ فإن مسائل الباب تتصور في الخطأ وشبه العمد، كذلك تتصور الوقائع في العادة المطردة. ولو اصطدم راكبان على دابتيهما، وهلكا، وهلكت الدابتان، فيهدر من كل واحد نصفُ ديةٍ، ويهدر نصفُ قيمة دابة كل واحد منهما، ويجب نصف قيمة كل دابة في مال الآخر، ويجب نصف دية كلِّ واحد منهما على عاقلة الآخر؛ فإن الدية محمولةٌ معقولة، بخلاف قيمة الدابة.

_ (1) سقط هذا العنوان في السطر الذي ذهب. (2) ر. المختصر: 5/ 138. (3) في الأصل: "مزيد".

ويجب على كل واحد منهما كفارةٌ بسبب تأثير فعله [في] (1) قتل الثاني. ومن حيث شارك كلُّ واحد في قتل نفسه، فيجب عليه كفارةٌ أخرى بسبب سعيه في إهلاك نفسه إن قلنا: على من قتل نفسه الكفارة، ففيه اختلاف مشهور سيأتي مشروحاً -إن شاء الله عز وجل- فإذاً يجب على كل واحد منهما كفارةٌ بسبب سعيه في إهلاك صاحبه، وفي إيجاب كفارة أخرى وجهان مأخوذان [من أن] (2) من قتل نفسه هل تلزم الكفارة [في] (3) تركته أم لا؟ ثم قد يعترض في قسمة الديتين التقاصُّ إن كانتا متساويتين، وإن كانتا متفاوتتين [فإجراء] (4) التقاصّ في مقدار التساوي، والزيادة على التساوي تجب في مال الآخر. وما ذكرناه كله من جليات الفقه وقواعده، ولا يخفى بعد تمهيدها تخريج المسائل عليها، إن شاء الله عز وجل. 10712 - ونحن نذكر ثلاثة أنواع من الكلام تجري مجرى الأصول: أحدها - أنا لا ننظر [إلى] (5) المصطدمين في القوة والضعف، حتى [لو كان في إحدى الدابتين،] (6) و [ذلك] (7) من الماشيين بمثابة صدور جنايتين من جانيين، ثم قد ذكرنا أنه إذا كثرت جناية أحد الشريكين وقلت جناية الآخر، وآل الأمر إلى المال، فالدية موزعة عليهما بالسوية، فإنا لا نجد ضبطاً في التوزيع والتقسيط، فلا وجه إلا الحكم بالمقابل [وعدم] (8) الالتفات إلى أقدار القوة والضعف. ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه في محاولة تحقيق هذا شيئاً أجراه مثلاً، فقال: "لو كان أحدهما على فيل والآخر على كبش، فاصطدما، فالإهدار في الشطرين وإثبات

_ (1) في الأصل: "من". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "من". (4) في الأصل: "فأحوال". (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: "لو كانت إحدى الدابتين". (7) زيادة لاستقامة الكلام. (8) في الأصل: "وغرم".

الضمان في الشطر الثاني على ما ذكرناه (1) " ولم يرد الشافعي بهذا تصويراً على التحقيق؛ فإن الكبش لا يركب، ولا يفرض تصادمه للفيل. والذي يجب اعتباره في ذلك أن الدابة وإن كانت ضعيفة، فينبغي أن نَفْرِض لصدمتها أثراً مع قوة الدابة الصادمة، فأما إذا قطعنا بأنه لا أثر لها أصلاً، فلا يناط بحركتها حكم، وهو بمثابة ما لو جرح رجل جراحات ناجعة، ويفرض من [الثاني الإبرة يغرزها] (2) في جلدة [العقب] (3) فهذا لا أصل له، [والقتل] (4) محال على الجارح. وإن كان لا يبعد تقدير تأثير، [فلا نظر] (5) إلى التفاوت بعد ثبوت أصل التأثير، ولا يشترط أيضاً القطع بالتأثير؛ فإن من جرح رجلاً مائة جراحة ضعيفة، فقد لا نقطع بأن هذه الجراحة لها أثر، ولكن إذا كنا نجوّز أن نثبت لها أثراً، كفى التجويز في ذلك، ورجع الحكم إلى التشطير بين الجانيين، هذا أحد الأنواع. 10713 - النوع الثاني - أن نصوّر ما يقع عمداً أو ما يقع خطأ، وهذا يفرض على ثلاثة أوجه، فإن اصطدم الفارسان، وكانا مقبلين وقصدا الصدمة، وحققا قصديهما، فالذي صدر من كل واحد عمدٌ محض، [والواجب] (6) القصاص [والتخريج] (7) على شريك النفس، وقد مضى التفصيل فيه إذا جرح رجل رجلاً، فجرح المجروح نفسه، فإن قلنا (8) [بالقصاص، فقد] (9) فات محل القصاص، فسقط القصاص، والرجوع بعد سقوطه إلى المال، ثم يهدر على ما ذكرناه نصفُ دية كل واحد منهما، ونصف دية

_ (1) ر. الأم: 6/ 74. والتمثيل بالفيل والكبش بلفظه، وأما الحكم، فمن معنى كلامه. (2) في الأصل: " الباقي الأثرة فقدرتها ". (3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، والمثبت من الرافعي نقلاً عن الإمام (الشرح الكبير: 10/ 442). (4) في الأصل: " والفيل ". (5) في الأصل: " ولا نظر ". (6) في الأصل: " والجواب ". (7) في الأصل: " التخريج ". (بدون الواو). (8) أي في حالة التصادم المفروضة والتي فيها الكلام هنا. (9) في الأصل: " لا قصاص فهلا ".

كل واحد منهما في مال الثاني؛ فإن فعليهما عمدان. فأما إذا اصطدما مقبلين، ولم يعتمدا الصدمة، ولكن [اتفق الاصطدام] (1) فهذا ملتحق بشبه العمد، فأما الإهدار في النصفين، فعلى ما قدمنا، ويجب نصف دية كل واحد منهما مغلظاً على عاقلة صاحبه. فأما إذا اصطدما مدبرَيْن ولم يشعر أحدهما بصاحبه، ولكن كانت الدابتان ترجعان القهقرى، فاتفق اصطدامهما، فهذا ملتحق بالخطأ المحض. أما الإهدار في النصفين فعلى ما مضى، ونصف دية كل واحد منهما مخففاً على عاقلة صاحبه. هذا بيان الأحوال. واصطدام الأعمش كاصطدام المدبرَيْن، واصطدام البصيرين في جنح الليل يشابه اصطدامَ الأعمش إن كان لا يبصر أحدُهما صاحبه. والغرض مما ذكرناه التنبيهُ على الفصل بين العمد، والخطأ، وشبه العمد. 10714 - والنوع الثالث [من] (2) الكلام فيه إذا غلبت الدابّةُ راكبها، وجرى الاصطدام وهما [مغلوبان] (3)، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا حكم لفعلهما، وإذا هلكا وهلكت دابتاهما، كان بمثابة ما لو هلكا بآفة سماوية، ولا ضمان، ولا تراجع. والقول الثاني - أن حكم فعليهما غيرُ منفي؛ فإنهما نُسبا إلى ركوب الدابتين، وهذا لا ينحط عن حفر البئر في محل العدوان، فإن قلنا: لا حكم لفعليهما، فلا ضمان عليهما، ولا على عواقلهما، وإن حكمنا بأن لفعليهما حكماً، فنجعل الاصطدام بلا اختيار بمثابة الخطأ المحض. 10715 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه والأصحابُ: إذا فرض الاصطدام، فسقط

_ (1) في الأصل: "اتفق الأصحاب اصطدام" ويبدو أن الناسخ أقحم لفظ (الأصحاب) من ذاكرته لما وجد أنه يسند إليه (اتفق) عادة. (2) في الأصل: "في". (3) في الأضل: "معلومان".

به من سقط، فلا فرق بين أن ينكبَّا على وجوههما، وبين أن يستلقيا، وبين أن ينكب أحدهما، ويستلقي الثاني. وقال أبو حنيفة (1): إن انكبا، فلا يجب الضمان على واحدٍ منهما، والسبب فيه أنا نتبين [أن] (2) من ينكب سببُ انكبابه تحاملُه وفرطُ قوته وكثرةُ [اعتماده] (3) على صاحبه، فإذا كان السقوط على هيئة الانكباب، دلّ هذا على أن فعل كل واحد منهما لم يؤثر في حق صاحبه، فنجعل كلَّ واحد منهما انفرد بإهلاك نفسه. [أما لو استلقيا] (4)، فيجب دية كل واحد منهما بكمالها على عاقلة صاحبه، وذلك أن وقوع كل واحد منهما على هذه الهيئة يدل على أنه سقط بتحمل صاحبه، وذلك أن سقوط كل واحد منهما [بتأثره بالمعنى الذي يؤدي إلى الاستلقاء] (5)، فلم يقع الاستلقاء لواحد منهما إلا لتحامل الثاني عليه. ولو انكب أحدهما واستلقى الثاني، فذهب الأصحاب إلى أن الغرم في حقهما جميعاً، ويهدر النصف من دية كل واحد منهما. ويجب النصف على عاقلة الآخر. وحكى الشيخ أبو علي رضي الله عنه عن التلخيص أنه صار إلى مذهب أبي حنيفة وأهدر [المنكبَّيْن] (6) وأوجب كمال دية المستلقيين، وقال: إذا [انكب] (7) أحدهما واستلقى الثاني، فدية المنكب هدر، ودية المستلقي بكمالها على عاقلة المنكب (8)،

_ (1) ر. المبسوط: 26/ 190، 191، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 152 مسألة: 2267. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "اعتماداته". (4) في الأصل: "أو استلقيا". (5) عبارة الأصل: "وأثره فالمعنى يده للآتي الاستلقاء" كذا تماماً. وفيها من التحريف ما لم نستطع تقويمه وردّه إلى أصله. فاكتفينا بما أثبتناه -مكرهين- إقامةً للنص. (6) في الأصل: "المثلين". (7) في الأصل: "أتلف". (8) ما نسبه الإمام -نقلاً عن الشيخ أبي علي- إلى صاحب التلخيص ليس على وجهه تماماً، بل هو صحيح في جانب، ونصف صحيح في جانب آخر، والأولى أن نسمع الكلام من صاحب التلخيص نفسه، قال في باب الاصطدام: "ولو اصطدم ماشيان، فسقطا على القفا، فعلى عاقلة كل واحد منهما نصفُ دية صاحبه، وإن سقطا على الوجه، فالدية هدر، وان سقط =

ثم قال الشيخ: ذهب معظم الأصحاب إلى [تغليطه ونسبتِه] (1) إلى الوقوع في مذهب أبي حنيفة. وأبعد بعض أصحابنا، فصار إلى موافقته، وهذا غريب جداً مخالف [للنصوص] (2) مبطل لقاعدة الباب ومتعرض للمعنى الصحيح بالإبطال. فإن قال قائل: ما ذكره أبو حنيفة [محتمل] (3) في الانكباب والاستلقاء، [فما الذي] (4) يدفعه؟ وما هو معتمد المذهب على مناقضه؟ قلنا هذا خيال لا أصل له؛ فإنه إن كان تُصوّر الانكباب منهما جميعاً، فهو من أثر الصدمة، ولو قوي أحدهما، لاستحال أن يقوى الثاني على مصادمه [فاعترافه بأن وقوعه هذا بسبب الصدمة] (5) أصدق شاهد على أن انكبابهما من فعليهما، ولو لم يكن كذلك، وقُدّر صحةُ ما قال، لكان هذا في معنى جمع نقيضين وضربين، فاستبان أنهما إذا سقطا، فسقوطهما محال على الصدمة والصدمة بينهما، وهي حاصلة [بقوتهما] (6) ثم ما يقع في الحركات والاعتمادات لا يدخل تحت الحصر، فقد يتحامل الإنسان ويتفق له [أثناء تحامله عثرةٌ] (7)، وكذلك من يصادمه، فالبحث عن كيفيات الحركات لا معنى له، وليس إلا الإحالة على الصدمة، والصدمة بينهما، وكذلك القول فيه إذا استلقيا.

_ = أحدهما على وجهه، والآخر على قفاه، فدية من سقط على وجهه هدر، وتجب دية من سقط على القفا على عاقلة صاحبه". (ر. التلخسص: 590). وواضح أن ما ذكره في دية ما إذا استلقيا يخالف المنقول عنه، فهو يقول بوجوب نصف دية كل واحد على عاقلة صاحبه، والمنقول أنه يقول بوجوب كمال الدية. (1) في الأصل: "تغليط ونسبة". (2) في الأصل: "للتصرف". (3) في الأصل: "مختل". (4) في الأصل: "فالذي". (5) عبارة الأصل: "فاعرامه بوقوعه هذا سبب الصدمة" (هكذا تماماً رسماً ونقطاً). (6) في الأصل: "بقوليهما". (7) في الأصل: "أثنا عامله غيره". (وفيها أكثر من تصحيف). وعبارة الغزالي تؤكد صحة تقديرنا بحمد الله، وتزيد المعنى وضوحاً، قال: "فإن المتحامل قد تتفق له عثرة وحركة، فينعكس ويستلقي، والضعيف قد ينكب". (ر. البسيط: 5/ورقة: 73 يمين).

قال أئمتنا رضي الله عنهم: قياس ما حَكَى عن صاحب التلخيص أن الرجلين إذا كانا يتجاذبان حبلاً بينهما، فينقطع الحبل، فإن استلقيا، فلا غرم، وقد هَدَرَ البدلان جميعاً، فإن هذه السقطة تحال على قوة المستلقي، فإنه كان يعتمد إلى وراءٍ في جذب الحبل، وهو على مناقضة الاصطدام في الإقبال، وقياس مذهبه أنهما لو انكبَّا، فيجب كمالُ دية كل واحد منهما على عاقلة صاحبه. وكل هذا خبط. والأصل ما قدمناه من رد هذه المذاهب بجملتها، واعتناق مذهب الشافعي في إحالة [السقطتين] (1) على الصدمة، والصدمة تقع بين المصطدمين لا محالة. 10716 - ثم علينا تفصيل [مذهبنا] (2) في جذب الحبل، فنقول: إن تجاذبا حبلاً، فانقطع وماتا، نظر: فإن كان الحبل لأحدهما، وكان الثاني [يظلمه] (3) بجذبه، فإذا ماتا، فدية المالك [يجب] (4) نصفها على عاقلة الظالم، ودية الظالم هدَرٌ. أما إهدار دم الظالم، فبيّن؛ فإنه كان يجذب ما ليس له جذبه، فدُفع وصُدَّ، فإن أدى ذلك إلى إهلاكه، فليس هذا بأبدع من أن يقصد إلى إنسان، فيدفع عنه ويأتي الدفع عليه فيهلكه. وأما قولنا: تهدر نصف دية مالك الحبل، فسببه أنه شارك في قتل نفسه، ففعله محسوس، فلئن كان [هدراً] (5) في حق الظالم (6)، فوقوعه في حق المظلوم [لا يتخيل أن ينكر] (7)، فتنخَّل منه الجواب الصحبح، وهو تشطير دية مالك الحبل، وإهدار الظالم.

_ (1) في الأصل: "سقطين". (2) في الأصل: "مذهبي". (3) في الأصل: "يطلبه". (4) في الأصل: "يحسب". (5) في الأصل: "هذا". (6) المعنى أن فعل المظلوم واقع محسوس، ولكنا أهدرنا نصفه الواقع في حق الظالم، فإنه مأذونٌ في دفعه، أما فعله في حق نفسه، فلا ينكر أثره، ولا سبيل إلى إهداره. (7) في الأصل: "لا ـ ـحل مسكر". (كذا تماماً رسماً ونقطاً) والسياق مفهوم على أي حال، سواء وفقنا إلى ألفاظ الإمام أم أدينا المعنى بغيرها.

ولو كان الحبل مشتركاً بينهما، وكانا غاصبين للحبل وتجاذبا، فانقطع الحبل وماتا، فهو كاصطدام الماشيين والراكبين، وقد سبق التفصيل فيه. وإنما الذي أردنا التنبيه عليه تفصيل المذهب في الحبل وكونه مملوكاً لأحدهما على ما اقتضاه التصوير. وقد انتجز القول في أصول الباب. 10717 - ونحن بعد هذا نذكر تفصيل القول في المصطدمِين؛ فإن الحكم يختلف، فإذا اصطدم حرَّان راكبان أو ماشيان، فالتفصيل ما قدمناه. 10718 - ولو اصطدم عبدان، فإن كانت القيمتان متساويتين يسقط أحدهما بالثاني على قول التقايض، وإن كانت القيمتان متفاوتتين، فيجري [التّقاصّ] (1) في قدر المساواة والمقدار الفاضل يسقط أيضاًً بسبب فوات المحل، وما ذكرناه من تقدير التقاصّ يجوز أيضاًً على تقدير [تعلق شطر القيمة بالرقبة] (2)، وثمرة الكلام انتفاء الغرم، كيف فُرض العبدان. 10719 - ولو اصطدم حر وعبد، فماتا، فالتشطير على ما قدمناه، فيسقط لا محالة نصف الدية ونصف القيمة. ثم إذا فرعنا على أن العاقلة تحمل [قيمة] (3) العبد، فنقول: يجب نصف قيمة العبد على عاقلة الحر في قولٍ، أو في مال الحر في القول الآخر، وتجب نصف دية الحر في نصف القيمة، وقد يُفضي الأمر على هذا الترتيب إلى تفصيلٍ نذكره. فنقول: إن قدرنا الوجوب في المال، فيتقاصّان في القدر الذي يستويان فيه، فإن كانت القيمة أكثر، فالفضل لمالك العبد، وإن أوجبنا على العاقلة نصفَ قيمة العبد،

_ (1) في الأصل: "القصاص". (2) زيادة اقتضاها السياق. والمعنى أننا لو قدرنا تعلق نصف قيمة كل واحدٍ منهما برقبة الآخر، لأهدر أيضاًً بموته، كيف ولم يتراخ موت أحدهما عن الآخر؟ (3) في الأصل: "تتمة".

فنصف دية الحر تتعلق به (1)، ويؤول حاصل الأمر إلى أن ورثة الحر يأخذون من عاقلته مقدار نصف الدية، وسبب ذلك وجوبُ نصف قيمة العبد أولاً من عاقلة الحر، [ثم نصف دية الحر متعلق بها، فرجع الحاصل إلى أن ورثة الحر يأخذون من تركة الحر بمقدار نصف الدية، ولكن السيد يطالب العاقلةَ أولاً بنصف قيمة العبد، ثم يؤدي إلى ورثة الحر؟ (2) نصفَ دية الحر، فإن شاء أخرجه من سائر ماله واستبقى لنفسه ما أخذه، وإن شاء، وفّر نصفَ الدية من نصف القيمة. 10720 - وقد يتعلق بهذا المنتهى [مساءلةٌ] (3) عن أصلٍ، وهو أن العبد إذا جنى، وتعلق الأرش برقبته، فجاء أجنبي، وقتل هذا العبدَ، فلسيد العبد مطالبته بالقيمة، فلو امتنع عن مطالبته، فهل يثبت للمجني عليه مطالبةُ قاتل العبد الجاني بالقيمة؛ حتى تكون [وثيقةً] (4) بحقه؟ ولمالك العبد الجاني الخِيَرة؛ وكذلك لو قتل أجنبي العبد المرهون فللمالك مطالبتُه بالقيمة بحق الملك، وهل يثبت للمرتهن مطالبة القاتل؟ الوجه عندنا في هذه المسائل إثباتُ حق المطالبة للمجني عليه والمرتهنِ، والذي يحقق ذلك أن الراهن لو قتل العبد المرهون، فالمرتهن يطالبه ببدل القيمة ليكون رهناً، فإذا كانت المطالبة تتوجه على المالك نفسِه من جهة المرتهن، فلأن تتوجه على الأجنبي أولى. ثم هذا القياس يُثبت لورثة الحر مطالبةَ عاقلة الحر بمتعلَّقهم من قيمة العبد، فإن نصف قيمة العبد وإن كان ملكاً لمالك العبد، فيتعلق به [حق] (5) توثق ورثة الحر. فخرج من ذلك أن ما ضرب على العاقلة، فهو ملك مالك العبد، ولكن يتعلق به نصفُ دية الحر تعلّقَ الأرش برقبة الجاني.

_ (1) تتعلق به: أي بنصف قيمة العبد. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل يقيناً، ولكن المثبت ليس من كلام الإمام يقيناً، وإنما هو من كلام الغزالي في البسيط في جملته، فهو خير من يعبر عن معاني شيخه. (3) في الأصل: "مسائله". (4) في الأصل: "موثقة". (5) في الأصل: "حتى".

10721 - ولو اصدمت حرتان حاملان وماتتا، وانفصل الجنينان ميتين بسبب الاصطدام، فيهدر نصف دية كل واحدة من الحرتين، ويجب نصف دية كل واحدة منهما على عاقلة الأخرى، على القياس الممهّد في الباب. وأما الجنينان فلا [يهدر] (1) شيء منهما، بل يجب الغرمان بكمالهما، والسبب فيه أن [تلف] (2) كل جنين حصل بسببين: أحدهما -[فعل أمه] (3) الحامل به، والآخر صدمة الأخرى، والسببان جميعاً مضمّنان. أما تضمين الصادمة الأخرى، فبيّن، وأما تضمين [الأم] (4)، فلائح أيضاً، والأم لو جنت على نفسها، [وأجهَضَتْ جنيناً، وعالجت واستبلّت] (5)، فعليها الغرة، وهي لا ترث والحالة هذه من الغرة شيئاً؛ فإنها قاتلة، وليس للقاتل من الميراث شيء. فظهر أن كل واحد من الجنينين مضمون بكماله، غيرَ أن الجناية على الجنينين شبهُ عمد أو خطأ، على ما سيأتي تفصيل كمال [أحكام] (6) الأجنة -إن شاء الله تعالى- فيجب على عاقلة كل واحدة من الحرتين نصف غرة جنين تلك الحرة التي [تلزم] (7) عاقلتها بجنايتها على جنين نفسها، ويجب عليهم أيضاً نصف غرة جنين الحرة الأخرى بجناية هذه عليه بالصدمة، فنجمع على كل عاقلة غُرةً كاملة، وهي نصفا غرتين. هذا بيان اصطدام الحرّتين. وأما الكفارة، فإن رأينا إيجاب الكفارة على الإنسان بسبب قتله نفسه، فعلى كل واحدة من الحرتين أربعُ كفارات: كفارتان بسبب جنايتها على نفسها وعلى جنينها،

_ (1) في الأصل: "يهرب". (2) في الأصل: "يكف". (3) في الأصل: "فعلامة". (4) في الأصل: "الأمر". (5) عبارة الأصل: "وأجهضت جنيناً أو عالجت واستخلصت" والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق، واستئناساً بعبارة الغزالي في البسيط. ثم معنى (استبلّت: أي شفيت من أثر الجناية والإجهاض). (6) زيادة من المحقق. (7) في الأصل: "تتم".

وكفارتان بسبب الجناية على الحرة الأخرى وجنينها. وإن قلنا: لا يجب على الإنسان الكفارة بسبب قتله، فعلى كل واحدة ثلاث كفارات: واحدة بسبب جنايتها على جنينها، واثنتان بسبب الجناية على الحرة الأخرى وجنينها، وسنمهد في الكفارات أن طائفة لو اشتركوا في قتل إنسان، وجب على كل واحد منهم كفارة كاملة. 10722 - ولو اصطدم أما ولد، فلا يخلو أن تكونا حاملين أو حائلين، فإن كانتا حائلتين وكانتا لسيدين، فيهدر نصف كل واحدة منهما، لما تقرر في الباب، فننظر: فإن كانت قيمتاهما متساويتين، والتفريع على قول التقاصّ، فيسقط حقاهما بالتقاصّ، ولا مرجع لكل واحد منهما على الآخر. وإن كانت القيمتان متفاوتتين، مثل أن كانت قيمة واحدة مائة وقيمة الأخرى مائتان، فهذه المسألة وأمثالها هينة في مأخذ الفقه، ولكن قد [يُحْوِج] (1) النظر فيها إلى أدنى تأمل. وليقع التفريع على ما هو المذهب، وهو أن السيد يضمن أم الولد إذا جنت بأقل الأمرين من القيمة وأرش الجناية، فسبيل الخوض في الكلام أن نقول: هَدَرَ النصفُ من كل واحدة، ثم على صاحب المستولدةِ القليلةِ القيمة مائةُ درهم، فقد استوت القيمةُ والأرش، فالواجب على السيد مائةٌ. ومما يجب التنبه له أن المستولدة، وإن كانت مصدومة، فهي صادمة والصدمة مضافة إلى جملتها، وإن كان نصفها مضموناً، فهذا لا يمنع من إضافة الجناية إلى جملتها، فإن من جُرح، ثم إنه جَرح، فكونه مجروحاً لا يمنع تعرضه لحكم الجراحة التي صدرت منه. ومن أسرار هذا الفصل أن العبد الذي قيمته خمسون وهو قيمته حالة جنايته، فإن خطر لناظر أن المستولدة القليلة القيمة قيمتها خمسون، لأنها قد صُدمت وأثرت الصدمة في بعضها، قيل: هذا خيال لا تحصيل له؛ فإن مسألة الصدمة تفرض في

_ (1) في الأصل: "يخرج".

وقوع الاصطدام بين شخصين من غير فرض تقدم وتأخر، ولما وجدت الصدمة بينهما كانت القيمة حالة الصدمة مائة، ولهذا قلنا تعتبر القيمة بالمائة. وقد نعود إلى هذا [بكلام] (1) أبْينَ منه. وأما سيد المستولدة الكبيرة القيمة، فإنه لا يغرم إلا خمسين؛ فإنه الأرش، فيجتمع مائة على واحد، وخمسون على الآخر، فيقع التقاص في مقدار خمسين، ويبقى لسيد المستولدة الكبيرة القيمة خمسون درهماً على سيد المستولدة القليلة القيمة. ولو كانت قيمة إحداهما مائة وخمسين، وقيمة الأخرى مائة، فيهدر من [كل] (2) واحدة نصفها، وعلى مالك القليلة القيمة خمسة وسبعون درهماً إلى أن نذكر التقاصّ، وعلى مالك الكبيرة القيمة خمسون، وكما قدمنا، الأرشُ أقلّ في هذه المسألة من قيمة الجانية، ثم يقع خمسون بخمسين قصاصاًً، ويبقى لمالك الكبيرة القيمة على الآخر خمسة وعشرون درهماً. هذا قياس الباب. وإن كانت قيمة إحداهما مائة وقيمة الأخرى خمسون فهَدَرَ من كل واحدة نصفها على القاعدة المعلومة، وعلى مالك القليلة القيمة خمسون، وعلى مالك الأخرى خمسة وعشرون. وعقْد الباب هو أنه مهما تفاوتت قيمتاهما، فإنا نوجب لسيد الكثيرة القيمة على سيد الأخرى نصفَ التفاوت، ويتقاصّان في الباقي، فإن كانت قيمة إحداهما مائة والأخرى مائتان، فالتفاوت بينهما بمائة، فحاصل الجواب أن لصاحب النفيسة نصفُ هذا المقدار الذي حصل التفاوت به. وإن كانت قيمة إحداهما مائة وخمسين وقيمة الأخرى مائة، فالتفاوت خمسون، ولصاحب الكثيرة القيمة نصفُ هذا المقدار الذي وقع التفاوت به وهو خمسة وعشرون، ويقع التقاصّ في الباقي.

_ (1) في الأصل: "الكلام". (2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

هذا كله إذا اصطدمت أما ولد، وكانتا حائلتين. 10723 - فأما إذا كانتا حاملين بولدين حرين، واصطدمتا وهلكتا وأَجْهضَتا جنيناً، فلا يخلو إما أن يكون للجنين وارث سوى المولى، أو لم يكن له وارث سوى المولى، فإن لم يكن له وارث سوى المولى، وكانت المستولدتان متفقتي القيمة، فقد هَدَرَتَا وهَدَرَ الجنينان على أصل التقاصّ؛ لأن أرش جناية كل واحدة منهما كأرش صاحبتها وقيمتها، أما التساوي في القيمة، فبئن، وأما أرش الجناية، فنعني به [الغرة، والغرتان] (1) لا محالة متساويتان؛ فإن الجنينين حران. وإن كانتا مختلفتي القيمة، فإن كانت قيمة إحداهما مائة وقيمة الأخرى مائتان، [فالأرش لا] (2) يتفق لا محالة، فالتي قيمتها مائة جنايتها على الأخرى مائة ونصف غرة، فنفرض قيمةَ نصف غرة عشرين درهماً مثلاً، والتفريع على أن السيد لا يلتزم إلا الأقل، وقيمة المستولدة القليلة القيمة مائة، وما يتعلق بجنايتها مائة وعشرون، فيستحق سيد الكبيرة القيمة على سيد القليلة القيمة مائةَ درهم، وهي قيمتُها؛ لأنها أقل من أرش الجناية، [وسيدها] (3) يستحق على سيد الكبيرة القيمة سبعين درهماً، خمسون نصف قيمة المستولدة، وعشرون نصف الغرة، والأرش أقل من قيمة الجانية في هذا الجانب، فيقع التقاص في سبعين، وبقي لسيد الكبيرة القيمة ثلاثون. هذا كله إذا لم يكن للجنين وارث سوى المولى، فأما إذا كان للجنين من الجانبين [وارث] (4) سوى المولى، ولا يتصور [وارث للجنين] (5) مع الأب إلا أم الأم في هذه الصورة، وإذا كان لكل جنين أم أم، فإنها تستحق سدس الغرة، ولا يضيع من حقها شيء؛ فإن الجنين من كل جانب تلف بجناية [أمه] (6) إذا صَدَمت وبجناية

_ (1) في الأصل: "العبدة والعبدتا". وهو تصحيف قبيح. (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) في الأصل: "وهي". (4) في الأصل: "فاردى" (هكذا رسماً ونقطاً). (5) في الأصل: "إرث الجنين". (6) في الأصل: "أمها".

الأخرى (1)، ويجب على السيدين أن يضمنا [لأم الأم] (2) سدسها: هذا يضمن نصف سدس غرة، وهذا يضمن نصف سدس، فيكمل [للجدة] (3) سدسها على الترتيب الذي ذكرناه. 10724 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو ركب صبيّان دابتين، واصطدما، وهلكا، وهلكت دابتهما، فلا يخلو إما أن يركبا بأنفسهما أو يُركبهما غيرُهما، فإن [ركبا بأنفسهما] (4)، ثم جرى ما ذكرناه، فيهدُر من كل واحد منهما ومن دابته النصف، ويجب نصفُ قيمةِ كل دابة في مال الآخر، وأما نصف الدية، فإن اصطدما مدبرين، فالدية مخففة، فيجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه مخففاً، فإن اصطدما مقبلين، فحكم الدابة ما ذكرناه، وأما الدية فشطرها من كل واحد على القياس الذي قدمناه، والكلام في التغليظ والتخفيف. وهذا ينبني على أن الصبي هل له عمد أم لا؟ وفيه القولان المشهوران، فإن قلنا: لا عمد للصبي، فلا يقع فعله أيضاًَ شبهَ عمد؛ فإن شبهَ العمد إنما يتصوّر ممن يتصور منه العمد المحض، فالدية مخففة تجب على كل واحد منهما نصفُ دية الآخر مخففاً، كما قدمناه. وإن قلنا: للصبي عمدٌ، فالاصطدام الواقع منهما على صفة الإقبال شبه عمد، فيجب على عاقلة كل واحد نصفُ دية صاحبه مغلظاً. هذا إذا ركب الصبيان بأنفسهما، فيما بينهما. 10725 - فأما إذا أركبهما مُركبٌ، لم يخل ذلك المُركب إما أن يكون وليّاً [أو أجنبياً] (5) فإن أركبهما أجنبي، فما يتلف أبداً منهما مضمون على الأجنبي، حتى لو

_ (1) يعني أنه مضمون لا يهدر منه شيء. (2) في الأصل: "الأم وللأم". (3) في الأصل: "الحرة". (4) في الأصل: "ترك أنفسهما". (5) زيادة اقتضاها السياق.

أركب أجنبيٌّ صبياً دابةً، فرفست إنساناً، أو [أتلفت] (1) شيئاًً، فضمانه على المُركب. فإذا اصطدما، لم يهدر من الصبيين شيء، ونظر، فإن [كان] (2) المركب واحداً، فقيمة الدّابتين في ماله، ودية الصبيين على عاقلته. وإن أَركب الصبيين مُركبان أجنبيان، فلا يهدُر (3) شيء من الدابتين والدّيتين، ويضمن كلُّ مُركب نصفَ الدابّة التي أركبها الصبي، وهذا هو النصف الذي يُنسب تلفه إلى صدمة الصبي؛ فإنه محال على إركاب من أركبه، والمُركب الآخر يضمن نصف هذه الدابة، [فتصير كل دابة مضمونة على المُركبين نصفاً نصفاً] (4)، والديتان لا تَهدُِران أيضاًً، ويجب على عاقلة كل واحد من المُركبين نصفا ديتين، على حسب ما ذكرناه في القيمتين. 10726 - هذا إذا كان المُركب أجنبياً وأما إذا كان أركبهما وليان، فإن كان على خلاف المصلحة، وقد تعدّيا فالتعدّي يضمِّنهما كما يضمّن الأجنبي، وإن كان [إركاب] (5) [الولي] (6) محموولاً على المصلحة، فاتفق منه ما ذكرناه، فهل يتعلق الضمان بالوليين؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعلق الضمان بالوليين، ويصير كما لو ركب صبيان بأنفسهما، وقد مضى التفصيل فيه إذا ركبا بأنفسهما، ووجه ذلك أن ما يفعله الولي، فهو محمول على المصلحة إذا أمكن الحمل عليها، فإذا أفضى إلى تلفٍ، فهو محمول على الوفاق. والوجه الثاني - أن الضمان يتعلق بالوليين؛ فإن إركاب الصبيين، وإن كان لمصلحة مضمونة، [فالغررُ] (7) فيه بيّن، ولا يسوّغ مثل هذا إلا على شرط ضمان السلامة في العاقبة.

_ (1) في الأصل: "قطبت". (2) سقطت من الأصل. (3) هدر يهدر من بابي (قتل) و (ضرب): أي يبطُل. (4) في الأصل: "فيصير نصف كل دابة مضمونة على المركبين نصفاً". (5) زيادة لاستقامة الكلام. (6) في الأصل: "المولى". (7) في الأصل: "فالعذر".

وهذا غير سديد، والأصح الأول. ثم الوجهان عندي فيه إذا ظهر ظن السلامة، فأما إذا أركب الولي الطفلَ دابة شرسة جموحة، فلا شك أنه يتعرض للضمان. وإن مست حاجة مرهقة إلى إركاب الصبي في [نقلة] (1) لا بد منها، فهذا -وإن أفضى إلى الهلاك- لا يوجب الضمان، وهو بمثابة ما لو عالج الولي الصبي بالفصد عند إشارة الأطباء بذلك، فإذا أفضى إلى الهلاك، فلا ضمان، والوجهان فيه إذا ظن السلامة، وكان لزينةٍ (2) أو حاجة قريبة، فينتظم إذ ذاك الخلاف، وما من مسألة من مسائل اختلاف الأصحاب إلا وفيها غائلة يتعين البحث عنها. فصل قال: "وكذلك لو رموا بالمنجنيق ... إلى آخره" (3). 10727 - إذا رَمى رجل بحجر المنجنيق إنساناً، وقصده بعينه، وكان مما يتأتى القصد فيه على التعيين، فهذا عمدُ قودٍ، وإن رمى بالحجر طائفةً وقصدَهم، وكان لا يتأتى قصد واحد منهم بعينه، ولكن كان يعلم أن الحجر يصيب واحداً منهم، فإذا أهلك واحداً منهم على الوجوه التي ذكرناها، فلا يجب القصاص عليه؛ لأنه لم يقصد شخصاً متعيناً، وإنما يتحقق العمد إذا قصد بفعله شخصاً معيناً وأماته، وكان ذلك الفعل إنما يقصد به ذلك المعيَّنُ، وهو يُفضي إلى القتل غالباًً. ولهذا قلنا: إن من أكره رجلاً على أن يقتل رجلاً من رجالٍ، وقال: إن لم تقتل واحداً منهم، قتلتك، فإذا قتل واحداً منهم، لم يكن مكرِهاً، ولم يجب القصاص عليه، وكما خرج المكرِه عن حقيقة الإكراه الموجِب للقصاص، كذلك يخرج الرامي عن كونه عامداً إذا كان لا يقصد شخصاً بعينه.

_ (1) في الأصل: "غفلة". (2) كذا، وهي صحيحة، فقد نقلها الرافعي عن الإمام. (ر. الشرح الكبير: 10/ 444). (3) ر. المختصر: 5/ 138.

وقد يختلج في نفس الفقيه من هذا شيء، سيما إذا كان القوم محصورين في موضع، وقد سدد الجاني عليهم، وكان على علم بأنه لو أراد، لأتى على جميعهم واحداً واحداً، فقصد ذلك واعتمده، وأتى عليهم، وحقق قصده فيهم، فإذا تُصورت المسألة بهذه الصورة، فالذي أراه وجوبَ القصاص على الرامي. وإنما [يستدّ] (1) ما قدمته لو قصد أن يصيب واحداً منهم لا بعينه، أو عدداً مخصوصاً منهم، فإذ ذاك يتجه ما ذكره الأصحاب. وعلى هذا أقول: لو أكره رجل رجلاً على أن يقتل جماعة، وأخبره أنه إن بقَّى واحداً منهم، قتله، فإذا قتلهم وحقق ما استدعاه المكرِه، فالقصاص يجب على المكرِه، وإن كان المكرَه في كل قتل يُقدم عليه غيرَ محمول في عينه على القتل، من جهة أنه كان يُقدم على من يريد منهم إلى الاستيعاب والإتيان عليهم أجمعين. 10728 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن عشرة لو اجتمعوا على حذف المنجنيق ورَمْي الحجر بالآلة العتيدة (2) للرمي، فرجع الحجر على الجانقين (3) وقَتَلهم، وقد اشتركوا في الرمي، فصار انقلاب الحجر عليهم مُحالاً على أفعالهم، فقياس الباب في ذلك أن نهدر [من] (4) دية كل واحد منهم [عُشرها] (5) [ويبقى] (6) تسعةُ أعشار دية كل واحد من الجانقين على عواقل أصحابه، ولو رجع ذلك الحجر على واحد منهم وقتله، فَهدَرَ (7) عُشرُ ديته بمشاركته إياهم في الرمي، [وبقي] (8) تسعة أعشار ديةٍ على عواقل الباقين وهذا بيّن لا غموض فيه.

_ (1) في الأصل: "يستمر". (2) "العتيدة": أي المعدّة المهيأة المتخذة للرمي. (3) الجانقين: رماة المنجنيق. (4) في الأصل: "عن". (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: "وينقص". (7) فَهَدَرَ: أي بطل، كما مر من قبل. (8) في الأصل: "ونقص".

10729 - قال: "وإذا كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر، فدية الصادم هدر، ودية صاحبه على عاقلة الصادم" (1) هذا نصه هاهنا، ونص على أنه [إذا نام في الطريق أو قعد] (2)، فتعثر به إنسان وماتا فتجب دية الصادم بكمالها على عاقلة المصدوم، وتهدُر ديةُ المصدوم، فمقتضى النصين مختلف؛ فإنه جعل الصادم هدراً [والمصدوم مضموناً بكماله] (3) في نص، و [في نصٍّ آخر] (4) جعل المصدوم هدراً والصادم مضموناًً بكماله، ولكن إحدى المسالتين مفروضة في القائم الواقف، وفيها أهدر الصادم، والمسألة الأخرى في [النائم] (5) والقاعد، وفيها أهدر المصدوم. فمن أصحابنا من جعل في المسألتين [قولين] (6) بالنقل والتخريج: أحدهما - أن دية الصادم هدر في المسالتين؛ فإنه المتحرك الفاعل، فيجب إحالة الهدَرَ عليه، فهَدَر هو في نفسه، ويجب ضمان المصدوم على عاقلته. والقول الثاني - أن المصدوم يهدر؛ فإن [الجادّة للطروق] (7)، فمن وقف بها، فموقفه بين أن يمتنع وبين أن يكون على [شرط] (8) السلامة؛ فإن الطرق مهيأة معدّة للطارقين، وما عدا الطروق في حكم ما لا يقصد. ومن أصحابنا من أجرى النصين على ظاهرهما، وهو الذي صحّحه القاضي، والفرق أن وقوف الواقف إنما لا يخرج عن المقصود المطلوب في الطريق، وقد يقف الواقف لانتظار واحد، أو للاسترواح بعد إعياءٍ وكلالٍ، أو لنفض غبارٍ؛ فلا ينسب الواقف في وقوفه إلى الخروج عن مقصود الطريق.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 138. (2) في الأصل: "إذا ناما في الطريق أو قاما" وفيه خلل واضح. والمثبت من معنى كلام الغزالي في البسيط والرافعي في الشرح الكبير. (3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "القائم". (6) سقطت من الأصل. (7) في الأصل: "إيجاده الظروف" وهو تصحيف قريب المدرك بعون الله لنا. (8) في الأصل: "سط".

وأما النوم والقعود، [فليسا] (1) من مقاصد الطرق، لأنها لم تهيأ لهما؛ فانتسب النّائم والقاعد بالنوم والقعود [في] (2) الطريق إلى التفريط، ثم يخرّج القعود والنوم على قياس نصب الأحجار في الطرق الواسعة والضيقة، على ما سيأتي تفصيل هذه الأجناس، وما يوجب الضمانَ منها وما لا يوجب، عند ذكر حفر الآبار، إن شاء الله عز وجل. فهذا مجموع ما ذكره الأصحاب. 10730 - وقد انتظم من كلام الأصحاب أن الفعل في التحقيق صادر من الصادم لا غير، ولكن تردد النظر في أن الوقوف والقعود والنوم من باب التعدِّي بنصب الأحجار واحتفار الآبار، حتى يضمن المصدومُ الصادمَ أم لا؟ فرجع التردد إلى هذا: فمن جعل المصدوم متعدّياً أو منتسباً إلى عدوان أهدره في نفسه، وأوجب ضمان [الصادم] (3). ومن الأصحاب من لم ينسب الواقف والنائم والقاعد إلى العدوان، والفعل على هذا صادر من الصادم، فعليه الضمان، فهو يهدر في نفسه. فمضمون الفصل خارج عن مقتضى التصادم؛ فإن التصادم فعلان صادران من المصطدمَيْن هاهنا، فترتب عليه التشطير في الإهدار والضمان، وهذا المعنى لا يتحقق في مضمون هذا الفصل، [فليتنبه] (4) الناظر له. ومن فرق بين القائم والقاعد، فهذا أيضاً خارج عن مقصود الباب، والغرض منه راجع إلى تفصيل من يكون معتدياً في حالاته ومن لا يكون معتدياً. 10731 - ولما ذكرنا اصطدام المستولدتين لمالكين أشرنا إلى إشكال، ورمزنا إلى الجواب عنه، ثم رأينا أن نؤخر استقصاءه إلى انقضاء قواعد الاصطدام، حتى يكون

_ (1) في الأصل: "قلنا". (2) في الأصل: "وفي". (3) في الأصل: "المقربه". (كذا تماماً). (4) في الأصل: "فليثبت".

التعرض له بعد الإحاطة بأصول الاصطدام، وهذا أوان الوفاء بالموعود، فنقول: إذا اصطدم أمّا ولد لمالكين، وكانت قيمتاهما متفاوتتين، فلا شك أن النصف من كل واحدة يهدر لانتسابها إلى [الصدمة] (1)، ثم بنينا تلك المسائل بأجمعها على أصل التقاصّ، وعلى أن الفداء يقع بأقل الأمرين على الأرش أو القيمة، ثم أنهينا الكلامَ إلى تضمين مالك المستولدة القليلة القيمة، وقلنا: إنه يمثل في ضمانه نصف قيمة المستولدة الكثيرة القيمة، وهو الأرش، والنصف ساقط لصدمها، فهذا هو الأرش، ثم قلنا: سيد القليلة القيمة يغرم [الأقل] (2) من الأرش أو تمام قيمة المستولدة القليلة القيمة، وعللنا ذلك بأن الصدمة جرت من جملة المستولدة لا من بعضها، فاعتبرنا في المعادلة بين الأرش وبين القيمة تمامَ قيمة المستولدة. وهذا وضع ابتداء الإشكال، فنذكر الإشكال في صيغة سؤال، ثم نوضح الجواب عنه، فيتم الغرض في هذا الفن، إن شاء الله عز وجل. فإن قيل: لم اعتبرتم تمام قيمة المستولدة القليلة القيمة في المعادلة بين القيمة والأرش، وهي كما (3) صدمت، فتحصل صدمتها مع النقصان فيها؟ وأصل الاصطدام يتضمن إسقاط النصف من كل صادم، وإذا كان يُسقط نصف القيمة [فكيف] (4) نعتبر تمام قيمتها غير مصدومة؟ ولا شك أن قيمة المستولدة الجانية [يهدر] (5) نصفها. وهذا السؤال واقعٌ، والجواب عنه يوضح الغرض. فنقول: الصدمة من طريق العقل صدرت من جملتها حساً، كما ذكرناه، وأما النقصان بالصدمة، فتجوّزٌ من جهة سيد الكثيرة القيمة، والنصف الذي يضاف تلفه إلى فعل الصادم لا يتغير الحكم بتلفه، وهو بمثابة ما لو جنت المستولدة، وماتت حتف أنفها، ولو فرض ذلك، لوجب الضمان على السيد، فإنه إنما يضمن الفداء لتقدم

_ (1) في الأصل: "الفدية". (2) في الأصل: "قليل". (3) كما: بمعنى عندما. (4) في الأصل: "وكبن". (5) في الأصل: "يعتبر".

الاستيلاد، والمنعُ حصل بذلك الاستيلاد المتقدم لا غير، فانتظم من هذا أن المستولدة جنت بجملتها، وضمن سيد المستولدة الكثيرة القيمة نصفها، وأهلكت المستولدة القليلة نصفَ نفسها، وإتلافها نفسها، لا يحط الضمان عن مولاها، فلم يبق إشكال؛ لأنه يجب عليه تمام قيمتها، وذلك ما أردنا أن نبين. فصل قال: "وإذا اصطدمت السفينتان فتكسرتا ... إلى آخره" (1). 10732 - إذا اصطدمت السفينتان، فلا يخلو إما أنهما اصطدمتا بفعل القائمين بهما المُجريَيْن لهما، أو حصل الاصطدام بدون فعليهما، فإن اصطدمتا بفعل المُجريَيْن، نُظر، فإن كانا متبرعَيْن بحمل الأمتعة والركبان، وما كانا أجيرين، فلا يخلو إما أنهما تعمدا الصدم، أو توانيا، أو اختبطا، فإن تعمدا الصدم، فلا يخلو: إما أن يتعمدا صدماً يغلب الكسر منه والغرر منه، أو يتعمدا صدماً لا يغلب الكسر منه. فإن تعمدا صدماً يغلب الكسر منه، وكان في كل سفينة عشرة أنفس، فإذا اعتمدا، أو اصطدما قصداً اصطداماً يُفضي إلى الهلاك، فقد أهلكا عشرين نفساً إهلاكَ قصاص، وكان هذا كما لو اشترك رجلان في قتل عشرين نفساً، فيجب لأولياء [القتلى] (2) القصاص عليهما، ثم وقع الإهلاك معاً. ونحن لا نرى القتل بالجميع، فنُقرع بين أولياء القتلى، فمن خرجت له القرعة سُلّم إليه القائمان بالسفينتين المُجريان لهما، وقُدِّرا كالقاتل الواحد، وقُتلا بشخصٍ واحد؛ فإنهما اشتركا في قتل واحدٍ من ركبان السفينة، ثم يجب عليهما [تسعةَ عشرَ] (3) دية فتؤدَّى الديات من تركتهما، فلكل واحد من القتلى سوى [القتيل] (4) الذي قُتل القائمان به نصف الدية في تركة كل واحد من القائمَين، فنجمع على تركة كل واحد

_ (1) ر. المختصر: 5/ 138. (2) في الأصل: "القتيل". (3) في الأصل: "سبعة عشر". (4) في الأصل: "القتلى".

منهما [تسعَ] (1) ديات ونصف، وعلى كل واحد منهم في تركته عشرون كفارة، لأنهما اشتركا في قتل عشرين، وعلى كل واحد منهما نصفُ قيمة ما في السفينتين من الأموال، فلا يهدر من المال شيء؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا لم تكن الأموال للقائمَيْن [بالسفينتين] (2). وهذا بيّن. والسفينتان مملوكتان للمجريَيْن فَهَدَرَ (3) نصفُ كلّ واحد لانتساب مالكها إلى الصدمة، ويجب على كل واحد نصف قيمة سفينة صاحبه على القياس المعلوم في باب التصادم [وأقاويل] (4) التقاصّ، فإن استوت القيمة، وفرعنا على التقاص، سقط ضمان السفينتين، وإن تفاضلتا، فعلى الذي قيمة سفينته أقلُّ [الفضلَ للّذي] (5) قيمةُ سفينته أكثرُ. هذا إذا تعمدا الصدم، وكان ذلك الصدم مما يغلب الإهلاك منه. 10733 - فأما إذا تعمدا الصدم، وكان الغالب أنه لا يُفضي إلى الأهلاك، فالذي جرى منهما شبه عمد، فلا قود، ولا تجب الدية في مالهما، وإنما تجب مغلظة على العاقلة، ولا يَهدُُِر من الديات شيء، ولا من الأموال التي حملاها في السفينتين، وضمان المال على المُجريَيْن. 10734 - فإن جرى ما جرى خطأ، فهو كما ذكرناه، إلا أن الديات تكون مخففة، وباقي التفريعات، كإيجاب الكفارات مجراةٌ على القواعد والأقيسةِ التي مهدناها. 10735 - ولو كان [القائمان بالسفينتين أمناء أو أجراء،] (6) يعملان لمالكي

_ (1) في الأصل: "سبع". (2) في الأصل: للسفينتين. (3) هَدَرَ: أي بطل. (4) في الأصل: "أقاويل" (بدون الو او). (5) في الأصل: "القصاص الذي". (6) في الأصل: "ولو كان للقائمين بالسفينتان امتياز أو أجراء" كذا تماماً بما فيها من أخطاء وتصحيف. والله المستعان.

السفينتين، فحكم العاملَيْن بإذنهما حكم القائمَيْن (1) في الأقسام التي ذكرناها، من العمد المحض وشبه العمد والخطأ، ويتعلق بهما من الحكم ما يتعلق بالقائمَيْن لو كانا هما المجريين، والقصاص عليهما في حالٍ مع الديات، والديات على عواقلهما في حال، ويضمنان [شِحنة] (2) السفينتين بكمالهما، لا يضيع منها شيء، فإن شِحنة كل سفينة تلفت بإجرائها مجرى السفينة الأخرى، فلا يفوت من الضمان شيء، ويضمن [الأجراء] (3) السفينتين بكمالهما لا يضيع منهما شيء. وفي هذا المعنى تنفصل مسألة الأجراء عن مسألة القائمَيْن المالكَيْن للسفينتين، فإن المالكَيْن يهدر نصف سفينة كل واحد منهما، فإن فعل المالك في ملكه [يهدُر] (4) على التفصيل الذي تقتضيه قاعدة الصدمة، [والأجيران] (5) ليسا مالكين للسفينتين، فإن قيل: إذا فرض من [الأجيرين] (6) خطأ، فلِمَ نُضمّنهما؟ قلنا: [الأجير] (7) يضمن العمدَ والخطأ، وإنما يختلف القول فيما يتلف تحت يد الأجير من غير فعل من جهته. فإن قيل: أليس يختلف قول الشافعي في الأجير المشترك إذا قَصَرَ الثوب وخرقه؟ قلنا: إن تعدى، ضمن، وإن جاوز حد القِصارة المطلوبة منه، فأدى مثلُ تلك القِصارة إلى عيب، فهذا ليس إتلافاً غيرَ مأذون فيه، وما نحن فيه مفروض فيه إذا جرى الاصطدام منسوباً إلى فعليهما، وليس في استئجارهما ما يتضمن إذناً فيما جرى من الاصطدام، وهذا واضح لا خفاء به. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الاصطدام بسبب فعليهما، وكانا يُجريان السفينتين عمداً أو خطأً.

_ (1) القائمين: المراد المالكين كما سيصفهما في السطور القريبة الآتية، وإنما استعمل لفظ القائمين للمالكين إحالة على المسألة السابقة التي قيدها بأن القائمين هما المالكان. (2) في الأصل: "سجة". (3) في الأصل: "الأحرار". (4) في الأصل: "لهذا المالك". (5) في الأصل: "الأحرار". (6) في الأصل: "الآخرين". (7) في الأصل: "الآخر".

10736 - فأما إذا جرى ما جرى وهما مغلوبان: غلبهما الرياح، وسقط [اختيارهما] (1) في الإجراء من كل وجه، فنفرض الكلام فيه إذا كان يتولى أمر السفينة مالكها، وهو مجريها، فاتفق ما وصفناه، ثم نذكر لو كان المجري أجيراً: فإن كان المجريان -كما ذكرناه- القائمَيْن المالكَيْن، وكانا متبرعين من غير أجرة (2)، فهل يتعلق بهما الضمان إذا غُلبا، وسقط اختيارهما، والمسألةُ في ركبان السفينة وما فيها من [شِحنة] (3) حَسَب ما مضى، لم يتغير منه شيء إلا الغلبة، ففي المسألة قولان منصوصان: أحدهما - أن الضمان لا يتعلق بهما أصلاً. والقول الثاني -[يتعلق بهما الضمان] (4) كما لو كانا مجريَيْن [باختيار فاختبطا] (5). ثم قال أئمتنا: قد ذكرنا قولين في اصطدام الفارسين إذا غلبهما فرساهما، فنرتّب السفينةَ على الدابة، ونجعل ما يجري [بغلبة] (6) الرياح أولى بإسقاط آثار الضمان؛ فإن البحر إذا هاج، فيغلب سقوطُ الاختيار، وليس ذلك أمراً نادراً، وهو وجه الخطر في ركوب البحر، وسقوطُ اختيار الراكب (7) بالكلية يعد من النوادر. ثم ذكر العراقيون في تصوير الغلبة، وسقوط الاختيار وجهين: أحدهما - أن معناه أن تهيج الرياح حيث لا [يتسنّى] (8) مدفع [ولا يتأتَّى إمكان] (9) صرف ودفع الاصطدام [ولا يشترط] (10) في تصوير هذه الحالة ألا تتقدم حالة اختيار أصلاً. [هذا وجه من الذي ذكره الأئمة] (11).

_ (1) في الأصل: "إجبارهما". (2) أي متبرعين بنقل ما في السفينة من ركبان وشحنة. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: "يتعلق بالضمان". (5) في الأصل: "بإجبار فاخبطا". (6) في الأصل: "عليه". (7) الراكب: المراد به هنا راكب الدابة. (8) غير مقروءة بالأصل، ورسمت هكذا: "بينى" تماماًً رسماً ونقطاً. (9) في الأصل: "والثاني وإمكان صرف". (10) في الأصل: "أو لا يشترط". (11) في الأصل: "وجه والذي ذكره الأئمة".

وذكروا وجهاً ثانياً في تصوير الغلبة فقالوا: إنما يثبت حكم الغلبة إذا كانت السفينتان في المرسى، [فهيَّآ قلوعهما] (1) واقتلعا [الأوتاد] (2)، وهمّا بالإجراء، فهاجت ريح غالبة لا تقابَل باختيار، وجرى ما جرى، فليس في هذه الصورة [لهما جَرْيٌ] (3) وتقدم اختيار، أصلاً، فيخرّج القولان والحالة هذه. وأما إذا عُهد منهما فيما تقدم من الوفاق اختيار، ثم سقط الاختيار، وجرى هذا طارئاً، فهذا يلتحق بالخطأ، كما تقدم تصوير الخطأ. هذا ما ذكره العراقيون في التصوير، [وطريقه] (4) أن يقال فيما يراعى في التصوير: ألا يتجاريا على مقتضى الاختيار، بحيث يفرض الاصطدام لو هاجت الرياح [واغتلم] (5) البحر، فإنهما إذا اختارا أن يتجاريا والبحر عرضة للهَيْج، فليس ذلك نادراً منه، فهذا منهما [تسبّب] (6) إلى الصدمة ظاهر. فأما إذا لم يجر منهما اختيار في التجاري، وجرى ما جرى من اقتراب السفينتين واصطدامهما -بعد الاقتراب- ضرورياً (7)، فهذا محل القولين، فينتظم أوجه في تصوير القولين، ويترتب عليهما اختلاف الأصحاب في الأقوال: [أحد] (8) الوجوه-[أن] (9) الغلبة مهما (10) جرت، [فلا] (11) حكم للاختيار قبل جريانها، وإنما الاعتبار بالحال. والوجه الثاني - أنا نشترط ألا يتقدم اختيار بالإجراء أصلاً، وهذا أحد

_ (1) في الأصل: "فهذا ولوعهما". (2) في الأصل كلمة غير مقروءة، ويقتضي السياق أنها اسم الآلة التي تمسك السفينة في المرسى، وهي قد رسمت هكذا (البحر) بدون نقط. (3) في الأصل: "لها ما جري". (4) في الأصل: "وطابق أن يقال". (5) في الأصل: "واعلم". (6) في الأصل: "نسب". (7) ضرورياً: بمعنى أنه لا دفع له. (8) في الأصل: "آخر". (9) في الأصل: "فإن". (10) مهما: بمعنى (إذا). (11) في الأصل: "ولا".

ما ذكره العراقيون، وهو سرف، والوجه الثالث - ألا يتقدم اختيار في المجاري، ولو اقتربت السفينتان اقتراباً [يغلب من حاله] (1) سقوط الاختيار في الصرف [فلا] (2) يجوز أن يكون في مثل هذا اختلاف؛ [فإن] (3) الاقتراب المفرط سببٌ إلى الاصطدام، فهذا منتهى القول في تصوير الغلبة. التفريع: 10737 - إن قلنا: يجب الضمان وإن غلبت الرياح وسقط الاختيار، فهو (4) محمول على الخطأ المحض، فيجب. وإن كان [المُجريان] (5) للسفينة أمينين متبرعين، فجرى ما صورناه من الغلبة، فتفصيل القول في سقوط الضمان وثبوته على المُجريَيْن كتفصيله فيه إذا كانا مالكين، ولا يخفى التفريع. وإن [كان] (6) المجريان أجيرين، واتفق ما صورناه من سقوط الاختيار، فإن أثبتنا الضمان والمجريان مالكان للسفينتين أو أمينان، فيثبت الضمان، وهما أجيران، وإن قلنا: لا يتعلق الضمان والمجريان مالكا السفينتين، فإذا كان المجريان أجيرين -وليقع الفرض فيه إذا كانا أجيرين مشتركين- فهذا ينبني على أن الأجير المشترك يده يد ضمان أو يد أمانة، وفرّعنا على أن [الغلبة] (7) تُسقط أثر الاختيار، فلا شيء والحالة هذه على الأجير. وإن قلنا: يد الأجير يد ضمان حتى لو [تلف] (8) تحت يده ما سلم إليه بآفة سماوية يجب عليه الضمان، فهذا الحكم يقتضي أن نوجب الضمان عليهما في الأموال المشحونة في السفينتين.

(1) في الأصل: "لغلب من قاله". (2) في الأصل: "ولا". (3) في الأصل: "بأن". (4) في الأصل: "فهذا فهو محمول". (5) في الأصل: "المحدثان". (6) في الأصل: "قال". (7) في الأصل: "العلة". (8) في الأصل: "أتلف".

وهذا حيث انتهى التفريع إليه ضمانُ يدٍ، لا فعل. ثم إنا [نوجب] (1) ما ذكرناه في الأموال التي ليس مُلاَّكها معها؛ إذ لو كان معها ملاكها، فلا يجب الضمان على الأجير بحكم اليد؛ فإن المالك إذا كان حاضراً، فاليد له في ملكه، ولا يد للأجير مع يده، ونحن نفرع على سقوط اختيار الأجير بالكليّة، [وإخراجِهِ] (2) عن كونه فاعلاً أو منتسباً إلى الفعل، وإنما يبقى الضمان على قاعدة تضمين الأجير ما يتلف تحت يده من غير فعل منه، وعلى هذا لا يجب عليهما ضمان النفوس، لأن اليد لا تثبت على الأحرار. 10738 - ولو كان في السفينة عبيد، فهذا يختلف بالقصد والغرض، فإن حملهم [لنقلهم] (3)، وما كانوا مستحفظين من جهة ملاك الأمتعة والأموال [، فهم تحت يد الأجير، وحكمهم حكم الأموال، وإن كان ملاك الأموال] (4) استحفظوا عليها العبيدَ في السفينة، فلا ضمان في الأموال؛ فإنها تحت أيدي العبيد، ويد العبد إذا استحفظ بمثابة يد المولى، وقد ذكرنا أن الملاك لو كانوا شهوداً، لم يجب الضمان على [الأجيرين، فكذلك عند وجود] (5) العبيد الحفظة؛ فإنهم نُصبوا مستقلين بالأيدي، ومن يثبت له يد على شيءلم يكن [تحت يد غيره] (6). هذا بيان الأجيرين، والتفريع على سقوط الاختيار وحكمه. 10739 - فأما إذا جعلنا المغلوب في حكم الفاعل، فيتعلق الضمان بالأجيرين على حسب ما ذكرناه، فيما تقدم، ثم لا يبقى الضمان تمهيداً لعذر الأجير، ولا ينزل ما يُفرض من تلفٍ بمثابة ما لو خرق الثوبَ القصارُ، وقد قال أهل الصنعة: القِصارة

_ (1) في الأصل: "نجوّز". (2) في الأصل: "إخراجه" (بدون الواو). (3) في الأصل: "لنعريهم". (كذا رسماً ونقطاً). (4) زيادة لاستقامة الكلام. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: "تحديد".

[المستدعاة] (1) في الثوب المسلَّم إليه تخرِق لا محالة [ومعنى ذلك] (2) أن التلف محالٌ على أمرٍ مأذون فيه، وهذا لا يتحقق بسببٍ فيما يتلف بالاصطدام؛ فإنه ليس في الإذن في [إجراء] (3) السفينة بما فيها ومن فيها إذن لأسباب الصدمة. وهذا المقدار كافٍ في التفريع؛ فما لم نصرح به، فقد [نبهنا] (4) عليه بتمهيد الأصول. 10740 - ومما يتعلق [بتمام] (5) هذا الكلام، أنا إذا رأينا إسقاط الضمان عند جريان الغلبة، فلو اختلف مُجري السفينة -وهو مالكها والقائم بها- وركبانُ السفينة، فقال الركبان: الاصطدام جرى بفعليهما، وادعى القائمون الغلبةَ [وسقوطَ] (6) الاختيار، فقد قال الأصحاب: القول [قول] (7) المجريَيْن، فإن الأصل براءة الذمة عن [إطلاق الضمان] (8)، وليس ما ادعاه القائمون من الغلبة أمراً بدعاً في البحر. ولو فرّعت الدعوى على الأجيرين، فإن قلنا: يد الأجير يد ضمان، فلا معنى لهذا الاختلاف فيما يتعلق بضمان اليد، وإن قلنا: لا يجب ضمان اليد على الأجير، وإنما يجب عليه [ضمان] (9) ما يتلف، فالقول قول الأجيرين أيضاًً؛ [فإن الأصل] (10) براءة الذمة كما ذكرناه في القائمَيْن المالكَيْن للسفينة.

_ (1) في الأصل: "المسترعاة"، والمثبت تصرف من المحقق؛ رعاية للمعنى، فالمستدعاة: أي التي استدعاها وطلبها صاحب الثوب. (2) في الأصل: "وذلك". (3) في الأصل: "في أمر السفينة". (4) في الأصل: "مهدنا". (5) في الأصل: "بتمامه". (6) في الأصل: "وسقوطها". (7) في الأصل: "في ". (8) في الأصل: "الطلاق للضمان". (9) زيادة من المحقق. (10) في الأصل: "إن براءة الذمة".

فصل قال: "وإذا عرض لهم ما يخافون به التلف ... إلى آخره" (1). 10741 - مضمون الفصل في إلقاء الأمتعة في البحر: إذا التطمت الأمواجُ، [وعلت] (2) السفينةَ، فإن ألقى مالك المتاع متاعَه في البحر بنفسه من غير استدعاء آخر منه، فلا ضمان على آخر، ولا يجد مرجعاً، ولا فرق بين أن يكون ذلك في حال خوفِ الغرق، وبين أن يكون في حالة السكون، وغلبة السلامة. ولو اضطر إنسان في شدة المخمصة، فتقدم إليه مالك طعام، وأوجره من طعام نفسه، وأنقذه [مما به] (3) من الضرورة وشدة الخوف، فهل يرجع عليه بقيمة الطعام؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرَهما في أثناء الأبواب، وسنعيدهما في كتاب الأطعمة. فإن قيل: إذا ألقى متاعه، وكان ذلك سبباً [لإنقاذ ركاب] (4) السفينة، فهلاّ كان هذا بمثابة إطعام المضطر في صورة الوجهين؟ قلنا: المسألة مصورة فيه إذا كان ملقي المتاع في السفينة، وكان يهلِك لو لم يُلق، كما كان يهلِك أصحابه، وحقٌّ عليه أن يخلِّص نفسه عما عرض من خوف الهلاك، فإذا ألقى المتاعَ والحالةُ هذه، فهو ساعٍ في تخليص نفسه، ومؤدٍّ أمراً واجباً عليه في نفسه لنفسه، فلا يرجع بالضمان على أحد، وهذا لا يتحقق في إطعامه المضطرَّ؛ فإن صاحب الطعام لا خوف عليه، فتمحّض الإطعامُ تنجيةً للمضطر، [وتخليصاً] (5) له، وهذا مما اتفق الأصحاب عليه. ولو كان صاحب [المتاع] (6) في سفينة أخرى، وكانت سفينته خفيفة،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 139. (2) في الأصل: " وعلـ " رسمت هكذا بدون نقط. (3) في الأصل: "عما به". (4) في الأصل: "لإيعاد كتاب". (5) في الأصل: "وتخليطاً". (6) في الأصل: "الطعام".

[وثقلت] (1) سفينةٌ فيها أمتعته، فألقى منها متاعه، ونجا بسببه ركبان السفينة، فالذي دل عليه كلام الأئمة أنه لا يُضمّنهم وإن سعى في نجاتهم. والفرق بين ما ذكرناه وبين ما لو أطعم مضطراً طعاماً من عند نفسه، وقد ظهر اختلاف الأصحاب في المضطر، وفرض الأئمة ذلك فيه إذا أوْجرَ المضطرَّ من غير إذنٍ [واستدعاءٍ] (2) من جهته، وليس يبعد من طريق القياس تنزيل مسألة [إلقاء زيادة الشِّحنة] (3) منزلة [الإيجار] (4)، لكن ظاهر النقل يخالف هذا، وطريق الفرق أن الطعام وصل إلى المضطر قطعاً، ووقع منه الموقع وغذاه، وما ألقاه في البحر بخلاف ذلك. وهذا [لا يستدّ] (5) مع انعدام الإذن في الموضعين جميعاً. ولا خلاف أنه لو أطعم من ليس مضطراً ونفعه الطعام [لا يغرَم] (6) شيئاً. 10742 - ولو قال لراكب سفينة: ألق متاعك في البحر، ولم يكن المستدعي في تلك السفينة، فإذا ألقى متاع نفسه باستدعائه، [فلا شيء] (7) على المستدعي، ولا ضمان أصلاً. وإن قال: ألق متاعك وأنا ضامن، فالضمان لا يلزمه؛ إذ هذه المسألة لها صورتان: إحداهما - ألا يكون ثمَّ خوفٌ، فإذا قال: ألق متاعك وأنا ضامن، فهو بمثابة ما لو قال لإنسان: اخرق ثوبك، واقتل عبدك، وأنا ضامن، فإذا فعل المالك ذلك، لم نُلزم الضامن شيئاً؛ فإن المالك أتلف ملك نفسه باختياره، ولم يرجع منه نفع إلى الضامن، وهذا مغنٍ بوضوحه عن تكلف البسط فيه، وذلك صورة.

_ (1) في الأصل: "وتغلب". (2) في الأصل: "واسترعى". (3) في الأصل: "الإلقاء وفيه شحنة". (4) في الأصل: "الإلجاه". (5) في الأصل: "لا يستند". (6) في الأصل: "لا يعدم". (7) زيادة من المحقق.

والصورة الثانية - أن يكون راكب السفينة مشرفاً على الهلاك لو لم يُلق متاعَه، [فلو] (1) قال - والحالة هذه: ألق متاعك وأنا ضامن؛ فإنما استدعى منه أمراً هو واجب عليه؛ فإنه يجب عليه أن ينجّي نفسَه بإلقاء المتاع، فقد فعل ما هو واجب عليه نحو نفسه، فكان هذا بمثابة ما لو قال للمضطر: كل طعامك وأنا ضامن، فإذا أكله، لم يرجع على المستدعي بشيء. ولو كان للإنسان متاع في سفينة وفيها راكب، وقد أشرفت على الغرق، فقال رجل لمالك المتاع -ولم يكن مالك [المتاع] (2) في تلك السفينة- فقال له رجل: ألق متاعك [الذي] (3) في تلك السفينة في البحر، وأنا ضامن، فإذا ألقاه، ضمن المستدعي في الصورة التي ذكرناها؛ فإن المستدعي التمس بذلك نجاة أقوام، فكان غرضاً صحيحاً، ولا يمتنع بذل المال لمثل هذا الغرض، والأجنبي [يختلع] (4) المرأة عن زوجها بمالٍ يبذله، وإن كان لا يحصل له في مقابلة ما يبذله شيء، ولكن يسوّغ الشرع ذلك الافتداءَ، وإفادةَ التخليص، فالذي يقبل التخليص من الهلاك أولى، وهذا متفق [عليه] (5). وقد صورنا المسألة فيه إذا لم يكن صاحب المال في السفينة المشرفة على الغرق، ورجعت النجاة على الركبان الذين ليس المتاع لهم. 10743 - ولو كان صاحب المتاع في السفينة المشرفة على الهلاك، [فقال] (6) قائل ليس في السفينة: ألق متاعك في البحر، وأنا ضامن، فإن لم يكن في السفينة غيرُه، فإذا ألقى، لم يرجع بشيء على الضامن، وقد قدمنا ذكر هذا، وأوضحنا أنه فعلَ واجباً عليه، [ورفْعُ] (7) اللوم وتأديةُ الواجب عليه.

_ (1) في الأصل: "ولو". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: "يجب أم". (5) زيادة لاستقامة الكلام. (6) زيادة من المحقق. (7) في الأصل: "ورجع" والمعنى أنه رفع عن نفسه اللوم إذا ضن بماله وأغرق نفسه.

وإن كان معه في السفينة رجل آخر، وقد استدعى المستدعي الإلقاء، وضمن، فقد ذكرنا أن ما يرجع إلى نجاة غير المالك، فهو مضمون، وقد اجتمع في هذه المسألة نجاة مالك المتاع ونجاة غيره، فإذا ألقى المتاع باستدعاء الضامن ما حكمه؟ قال القاضي رضي الله عنه: لا يجب على [المستدعي] (1) إلا ضمان نصف المتاع؛ فإنه قد رجع نصف الفائدة إلى مالك المتاع، ولو كان حقاً عليه أن يُلقي المتاع [وينجو، فما] (2) يرجع إليه لا يضمنه الضامن، كما لو كان منفرداً، ولو كان في [السفينة] (3) عشرة، وصاحب المتاع عاشرهم، فإذا قال: ألق متاعك، وأنا ضامن، فألقى، فالضامن [يلتزم] (4) تسعة أعشار المتاع، ويسقُط العُشر، وهو ما يرجع إلى المُلقي. فقيل للقاضي: إن كان المسقط [للضمان] (5) في حصة المُلقي أنه يجب عليه أن يلقي، فينجو، فإذا [كان] (6) معه راكب آخر، فحقٌّ عليه أن يخلص نفسه، وهو لا يتخلص إلا بإلقاء جميع المتاع، فوجب ألا يضمن الضامن شيئاًً؛ فإن إلقاء جميع المتاع حتمٌ عليه لنجاة نفسه، فإن جاز أن يلتزم الضامن نصفَ المتاع، لأجل الراكب الذي ليس صاحب المتاع، فينبغي أن يلتزم تمام القيمة لأجله أيضاً، فإن ذلك لا ينجو إلابإلقاء تمام المتاع. فقال القاضي: هذا محتمل، فنجعله وجهاً، ونقول: في المسألة وجهان: أحدهما - أن الضامن يلتزم الجميع، وهذا الذي ذكره وجهاً مجرداً، هو منصوص الشافعي، وإليه صار الأصحاب. ووجهه أن هذا الضمان يستقلّ بأدنى فائدة، وقد [تقرر] (7) في قاعدة الفصل أن الإلقاء إذا أفاد نجاة غير المُلقي يجوز ضمانه، وهذا

_ (1) في الأصل: "المدعي". (2) في الأصل: "يتخوف ما". (3) في الأصل: "السفر". (4) في الأصل: "ملزم". (5) في الأصل: "للضامن". (6) زيادة لاستقامة الكلام. (7) في الأصل: "تقدر".

الإلقاء يُفيد نجاة غير مالك المتاع، ولا يحصل نجاةٌ إلا بإلقاء الجميع [، فلهذا] (1) التعلق يجب أن يصح الضمان في الجميع؛ فإنه إن كان يُنظر إلى نجاة المُلقي، فيجب سقوط الكل؛ لأن نجاته تحصل بإلقاء الكل، هذا وجه. قال: والثاني -وهو الأصل عنده- أن الضمان يقسط على المُلقي والركبان كما ذكرناه، وسبيل جوابه عما ذكرناه [في] (2) الوجه الأول أنا [إن أضفنا] (3) الإلقاء إلى صاحب المتاع، فموجبه سقوط الضمان، [وإن] (4) أضفناه إلى غيره، فموجبه تمام الضمان، وإذا تقابل الوجهان على النفي والإثبات، [فأصدق] (5) مسلك في ذلك التنصيفُ. هذا بيان الوجهين وتوجيههما. 10744 - ولو قال واحد من ركبان السفينة: ألق متاعك في البحر على أني ضامن، وكان مالك المتاع في السفينة، [فالضمان] (6) من المستدعي صحيح، كما أنه [صحيح] (7) ممن ليس في السفينة، بل هو بالصحة أولى، وغرض المستدعي إنقاذ نفسه، وتجويزه متجه لا يحتاج إلى تكلف. وإذا قال من ليس في السفينة: ألق متاعك، فمأخذ تجويزه الحِسبةُ والسعيُ في إنقاذ الغير، وهو [وإن] (8) كان ظاهراً، فالسعي في إنقاذ النفس أولى وأقوى، ثم يرد في ذلك أنه يضمن الجميع [أو] (9) يضمن ما يخصه وغيرَه من الذين ليسوا ملاك المتاع؟ فيه الوجهان [المحرران] (10) الآن.

_ (1) في الأصل: "فهذا". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "من صفتنا". (4) في الأصل: "فإن". (5) في الأصل: "فافرق". (6) في الأصل: "فالضامن". (7) زيادة يقتضيها السياق. (8) في الأصل: "إن". (9) في الأصل: "لو". (10) في الأصل: "المجران".

10745 - ولو قال واحد من الركبان -بعد هذا- على ثبوت جميع الضمان: ألق متاعك في البحر على أني ضامن وركبانُ السفينة. قال الشافعي: "ضمنه دونهم" (1) قال المزني: وجب أن يضمن بحصته، وظاهر ما نقله عن الشافعي أنه إذا قال: إني ضامن وركبانُ السفينة، أنه يصير ضامناً بجميع المُلقَى على الكمال. وأما إضافة الضمان إلى الركبان، فسنذكره بعد الفراغ من هذا الغرض، [فإنه] (2) إذا جرى من المستدعي اللفظُ المحكي، فقد أضاف الضمان إلى نفسه، وإلى الركبان، ويقتضي ذلك التقسيطَ، فلا [يلتزم] (3) إلا حصةَ نصيبه لو وزعت قيمة الملقَى عليه وعلى الركبان. وسبيل الكلام في المسألة أن المستدعي إن صرح بما يقتضي انفرادَه بضمان الجميع، فلا شك أنه مطالَب بالجميع، وإن صرح بلفظٍ يقتضي التقسيط، فالأمر محمول على التقسيط، فالضمان إذاً يقبل التقسيط، ويقبل الانفراد، ولا يمتنع أن تُضمن جملةُ الدَّيْن الخاص على الانفراد، فيكون كل واحد منهم مطالَباً بجميع الدين، كما تقرر في كتاب الضمان، فإذاً لا نزاع في فقه المسألة، وإنما التردد في موجب الألفاظ، [فلو قال]: أنا وركبان السفينة ضامنون، فقدّم الركبان ونفسه على ذكر الضمان، فهذا لا يحمل على انفراد هذا الشخص بالضمان في جميع الملقَى، إلا أن يقول: أردت ذلك، فيؤاخذ بموجب إرادته؛ فإن الانفراد ممكن، واللفظ محتمل، وإن زعم أنه أراد التقسيط، وادُّعي عليه الانفراد، فالقول قوله مع يمينه، ولا يكاد يخفى فصل الخصومة فيه. هذا إذا قال: أنا وركبان السفينة ضامنون. فأما إذا قال: [أنا] (4) ضامن وركبان السفينة، واقتصر على هذا، أو قال: أنا ضامن وركبان السفينة ضامنون، ففي هاتين اللفظتين وجهان: أحدهما - أنه لو حمله

_ (1) ر. المختصر: 5/ 139. (2) في الأصل: "فإن المستدعي". (3) في الأصل: "يلزم". (4) زيادة من المحقق.

على التقسيط قُبل منه، وهذا اختيار المزني. والثاني - أنه لا يُقبل منه، فإنه وصف نفسه بالضمان إضافة إلى الملقَى، ثم ذكر بعد ذلك الركبان وضمانَهم، فإذاً استقل الكلام الأول بإضافة الضمان، ولو فرض الاقتصار عليه، لكان متضمناً [ضماناً] (1) تاماً في الجميع، فذكْرُ الركبان بعد ذلك لا أثر له، وليس كما لو قال: أنا وركبان السفينة ضامنون، فإنه لم يفرد نفسه بالضمان. هذا وجه الكلام فقهاً ولفظاً. ثم من أصحابنا من جعل الوجه الآخر المنصوص عليه، ومذهبَ المزني مخرّجاً [معدودين] (2) من المذهب، ومنهم من قطع بما ذكره المزني وأوّلَ لفظ الشافعي، فقال: أراد أصل الضمان، ولم يتعرض للتقسيط ونقيضه، والقول في ذلك [قريب] (3). 10746 - ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا أضاف الضمان إلى الركبان فإضافته تحتمل الإخبار عن ضمانٍ سبق [منهم] (4)، فيكون إقراراً منه عليهم، فإن اعترفوا، كانوا مؤاخذين بالإقرار، وإن أنكروا، فالقول قولهم. وإن [قال: أردتُ إنشاء] (5) الضمان عنهم، ولم أرد الإقرار، فقد أطلق الأصحاب أنهم إن رضوا، ثبت. وهذا بعيد عن التحصيل إلا على مذهب الوقف، وقد ذكرنا أن من أصحابنا من يثبت وقف أبي حنيفة في العقود جُمَع، وقد قدمنا مراتب الوقف في كتاب البيع، فإن لم نصحح هذا النوعَ من الوقف، فلا [مساغ] (6) لهذا. ولو قالوا: رضينا، لم يكن قولهم رضينا إنشاء ضمان، وإنما هو إجازة، وإذا منعنا الوقف، أبطلنا الإجازة.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "معدوداً". (3) في الأصل: "ترتب". (4) في الأصل: "فيه". (5) في الأصل: "أرادا في إنسان". (6) في الأصل: "امتناع".

وذكر القاضي هذا الذي ذكرناه، ورأى ما رأيناه، فلا وجه لغيره. ولو قال إلى رجل: طلقتُ زوجتك وأعتقتُ [عبدك] (1)، فقال: رضيت، لم [ينفذ] (2) العتق والطلاق، مع سلطانهما، وهذا واضح من الوجه الذي ذكرناه، والضمان على إلقاء المال -وإن ذكر في فصل حاوٍ - فهذا [أصلٌ في نفسه] (3) ليس يضاهي سائر جهات الضمان إلا على تقريب، وكلّ ما كان كذلك يعظم الزلل فيه، وإنما ظن من ظن من أصحابنا [أن] (4) الرضا كافٍ؛ من جهة أنهم [لم] (5) يرَوْا لهذا الضمان معتمداً منقاساً، فإن معوّل الضمان على [التزام] (6) مال مستقر، وليس هذا النوع على هذا النسق، والأمر وإن كان كذلك، فأصل الضمان محمول على الحاجة الحاقة والضرورة، فإذا تمهد أصل الحاجة، [فخلاف] (7) الأصول [لا يحتمل] (8)، و [كذا] (9) مخالفة القياس في التفصيل من غير حاجة (10).

_ (1) في الأصل: "عبدي". (2) في الأصل: "يبعد". (3) في الأصل: "حل نفسه". (4) زيادة من المحقق. (5) زيادة لاستقامة الكلام. (6) في الأصل: "إلزام". (7) في الأصل: "فخالف". (8) في الأصل: "لا يحيط". (9) زيادة من المحقق. (10) نظراً لكثرة التحريف والتصحيف في المسألة، وما استتبعه من تغيير وتعديل رأينا أن نأتي هنا بعبارة الغزالي، وهي خلاصة قول شيخه، عسى ن يكون في ذلك تمام الفائدة وإضاءة للنص، قال الغزالي: " ... أما إذا قال: أنا ضامن وركبان السفينة ضامنون، ففي هاتين اللفظتين وجهان: أحدهما - أنه يحمل على التقسيط لو فسّر به، ويقبل منه فيه، وهو اختيار المزني. والثاني - يلزمه الكل؛ لأنه أضاف إلى نفسه ما يستقلّ به، ثم أتبعه بما هو مردود عليه، فلا يتغير صدر الكلام به. ومن أصحابنا من قطع بمذهب المزني، وأوّل كلامَ الشافعي. ومنهم من جرى على النص، وجعل مذهب المزني مخرجاً. فأما إذا قال: أردت بقولي: "ركبان السفينة ضامنون" إخباراً عن حالهم، فإن اعترفوا، فذاك، وإلا فالقول قولهم. ولو قال: أردت إنشاء الضمان عن جميعهم، فقد أطلق الأصحاب: أنهم إن رضوا ثبت. وهذا بعيد عن القياس، إلا على قول وقف العقود. ولكن =

10747 - ومما يجب الإحاطة به أن من ألقى متاعه، وقد ضُمن له، فالمتاع لا يخرج عن ملكه، حتى لو [لفظ] (1) البحرُ المتاعَ بعد النجاة، وألقاه بالساحل، واتفق [الظفر] (2) به، فهو على ملك مالكه الأول، فإن الذي جرى ليس تمليكاً وتملكاً، وإنما هو ضمان مال على مقابلة حيلولة [قريبة] (3) من أن تكون موئسة، ثم إذا رجعت عين المال إلى مالكها، فللضامن استرداد [ما بذل] (4). وهذا يناظر تضميننا الغاصب قيمة العبد المغصوب إذا أبق، فلو رجع بعد بذل القيمة، استرد ما غرم، وردّ العبدَ، ثم لو كانت القيمة بعينها باقية، فهل يسوّغ [لآخذها] (5) ردُّ بدلها، أم يتعيّن عليه ردُّ عينها، هذا مطردٌ في كل مال يناظر ذلك، وهو مستند إلى [القرض] (6)؛ فإن من استقرض شيئاً، ثم أراد المقترض مطالبته بالقرض، فكانت العين المستقرضة قائمة وأراد المستقرض إبدالها بمثلها، وأراد المقرِض استرداد تلك العين، ففي المسألة اختلاف قدمناه في باب القرض. 10748 - ومما يليق بالفصل أن من استدعى في الإلقاء لو قال: ألقِ متاعك، ولم يقل: على [أني] (7) ضامن، ولكن اقتصر على الاستدعاء في صورة لو صرح فيها بالضمان، لألزمناه، فهل يصير بمحض الاستدعاء ضامناً؟ فعلى وجهين مبنيين على ما لو قال من عليه الدين لإنسان: اقض ديني، ولم يقيد إذنَه بالرجوع عليه، فإذا امتثل

_ = لما كانت القاعدة مبنية على الرخصة أثبت الأصحاب التساهل في المتصل للحاجة. وقطع القاضي بأن قولهم: "رضينا"، لا يُلزمهم شيئاًً، وهو المختار؛ فلو قال: طلقتُ نساءك، وأعتقتُ عبيدك، فقال: "رضيت"، لا خلاف في أنه لا ينفذ، مع ابتنائهما على الغلبة والنفوذ، فهذا أولى" انتهى بنصه. (ر. البسيط: 5/ورقة 76 شمال). (1) في الأصل: "التقط". (2) في الأصل: "النظر". (3) في الأصل: "مرتبة". (4) في الأصل: "ما ترك". (5) في الأصل: "لاجراها". (6) في الأصل: "الفرض". (7) زيادة يقتضيها السياق.

أمره وقضى دينه، فهل يملك الرجوعَ عليه؟ فعلى وجهين، وقد نجز الفصل [وجيزاً، مع التنبيه] (1) على جميع أطراف الكلام. فصل. قال: "ولو خرق السفينة ... إلى آخره" (2). 10749 - مضمون الفصل ثلاث مسائل: إحداها - أن يخرق الرجل السفينة خرقاً يترتب عليه الغرق غالباً، فإذا اعتمد ذلك، لزمه القود في محله، والدية المغلظة في ماله إن سقط القود، ويلزمه الكفارة، وضمان الأموال التي في السفينة. المسألة الثانية - أن يخرق السفينة خرقاً لا يغلب الغرق في مثله، فاتفق الغرق منه، فهذا شبه العمد، ولا يكاد يخفى حكم شبه العمد. المسألة الثالثة - ألا يتعمد الخرق، ولكن كان يُصلح السفينة أو يتعاطى فيها عملاً، فمال، فدفع قَدُومَه في يده إلى السفينة وخرقها، فغرقت وغرق من فيها، فهذا خطأ محض، [وحكمه] (3): أما المال والسفينة، فالضمان فيهما ثابت في العمد وشبه العمد والخطأ المحض، والكفارة تجب بسبب إهلاك النفوس، فإن تعددوا، تعددت، والقود في العمد المحض (4)، والدية تتغلظ في شبه العمد على العاقلة، وتخفف عليهم في الخطأ المحض. فرع: 10750 - السفينة إذا كانت مملوءة من الأمتعة، فجاء واحدٌ بِعِدْلٍ، ووضعه فيها، فغرقت، فالضمان واجب، وفي [تحديده] (5) وجهان: أحدهما - أنه يجب عليه كل الضمان، والثاني - يجب عليه قسط من الضمان، والوجهان مبنيان على أن من رمى صيداً، ولم يثخنه، ولكن أثّر الرمي فيه، وهو في امتناعه ينطلق، فرماه

_ (1) عبارة الأصل: "وجيزاً وانتهينا مع التنبيه". (2) ر. المختصر: 5/ 139. (3) في الأصل: "وحكم". (4) في الأصل: "في المحض". (5) في الأصل: "تجدده".

آخر، فأزمنه -ولولا ما لحقه من الرمي الأول، لما أزمنه الثاني-[ففي] (1) ملك الصيد وجهان: أحدهما - أنه ملك الثاني؛ فإنه هو الذي استعقب الزَّمَن. والوجه الثاني - أن الصيد ملكهما جميعاً، وهو الأقيس، والأصح. إن حكمنا بأن تمام الضمان يجب على الذي وضع العِدْل الأخير، فلا كلام، وإن قلنا: يجب عليه بعض الضمان، ففي مقداره وجهان: أحدهما - يجب عليه نصف الضمان، والثاني - يجب عليه بحصته توزع على العِدل الذي وضعه، والأمتعةِ التي كانت فيها، ويقع التوزيع على مقدار الأوزان. والوجهان مبنيان على الجلاّد إذا كان يجلد قاذفاً ثمانين، فزاد سوطاً، [فالضمان] (2) يجب، وفي قدره قولان: أحدهما - أنه النصف. والثاني - أنه جزء من أحد وثمانين. وإذا كنا نقسط [فيما] (3) نحن فيه، فينبغي ألا نغفل وزنَ السفينة في [نفسها] (4)؛ فإن لوزنها أثراً في التغويص، وقد قدمنا هذا الفرع في أثناء الكلام، فإن زدنا بياناً، فهو المراد، وإن كررنا، فلا (5). ...

_ (1) في الأصل: "وفي". (2) في الأصل: "والضمان". (3) في الأصل: "مما". (4) في الأصل: "صدمها". (5) هنا خرم قدر جملة ضمن بياض قدره سطر، ولا داعي لمحاولة تقديرها، لأنه لا أثر له في السياق.

[باب العاقلة]

[باب العاقلة] (1) قال الشافعي رضي الله عنه: "لا أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ... إلى آخره" (2). 10751 - أجمع المسلمون على أن دية شبه العمد والخطأ مضروبة على العاقلة، والأصل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وتمام الحديث ماروي عن حمَل بن مالك بن ربيعة، قال: "كنت بين جاريتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، وفي رواية بمِسْطح، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المقتولة على عاقلة القاتلة"، وفي الجنين غرة عبد أو أمة (3). والعاقلةُ مشتقة من العقل يقال: عقلت فلاناً إذا أدّيت عنه الدية، فالعقل مصدر عَقَلَ يَعْقِلُ، فالعقل الديةُ نفسها، وسميت الدية عقلاً لأنها تؤدّى من الإبل، فكانوا يعطونها بالعقال، وهو ما يعقل به. وأجمع النظار وأرباب الأقيسة أن ضرب العقل على العاقلة [معدولٌ] (4) عن القياس، لأنه مؤاخذةُ الغير بجناية الغير، وموجب القياس إيجاب الدية على الجاني، وإن كان مخطئاً، فإنا نوجب عليه قيمة ما يتلفه من المال في ماله، مخطئاً كان أو عامداً.

_ (1) سقط من الأصل ضمن بياض بقدر سطر. وهو موجود بالمختصر. (2) ر. المختصر: 5/ 140. (3) حديث حمل بن مالك رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والشافعي والدارمي وغيرهم، والحديث في الصحيحين من رواية أبي هريرة، والمغيرة (البخاري ح 6910 مسلم ح 1681، أبو داود: الديات، باب دية الجنين، ح 4572. النسائي: القسامة، باب دية الجنين والمرأة، ح 4820. ابن ماجه: الديات، باب دية الجنين، ح 2641. الأم: 6/ 107، الدارمي: ح 2381، هذا وقد نبه النووي في تهذيبه (2/ 376) على أن لفظ (جاريتين) تصحيف صوابه (جارتين) والمراد زوجتان. (4) في الأصل: "معقول".

والمقدار الذي ذكره العلماء في المعنى الذي فهموه من غرض الشارع -وإن كان [لا يستد] (1) على السبر اعتبارُه- أن العرب كانت تتناصر ويذبّ بعض العشيرة عن البعض، بالنفس والمال، ويناضل البعض دون البعض، فورد الشرع بإعانة المخطىء إذا ورد منه زلل، وقد كانوا يتعاطَوْن استعمالَ الأسلحة للتدرب بها، ولا يبعد إفضاء استعمالها في وجوهٍ من الخطأ، فهذا ما تخيله الناظرون على البعد، وإنما ذكرناه لأنا في تفصيل المسائل قد نعتضد بأطراف هذا المعنى. 10752 - ثم الدية المضروبة على العاقلة تجب على العاقلة أم يَلْقى وجوبُها [القاتلَ] (2) ثم العاقلة يتحملون عنه. توجيه القولين: من قال: إنها تَلْقى العاقلةَ، احتج بظواهر الأخبار، فإنه روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة " (3). ومن قال: الوجوب يلقى القاتلَ، استدل بأنا إذا قلنا به، فقد استمسكنا بطرفٍ من قياس الأصول، وجعلنا التحمل في حكم الإعانة، كما يؤدّى الدينُ عمن تحمّل [بحَمالة] (4) في إصلاح ذات البين من سهم الزكاة، وقد قدمنا مثلَ هذا التردد في زكاة الفطر، إذا أدّاها الغير عن الغير، وأشرنا إلى قريبٍ منه في كفارة الوقاع في نهار رمضان [في حق المرأة] (5) تفريعاً على أحد القولين. وما ذكرناه من تردد فى القول هاهنا من الملاقاة لسنا نُسنده إلى منصوص صاحب المذهب نقلاً صريحاً، وإنما نتلقاه من تصاريف كلامه في التفريعات، ومعناه الذي

_ (1) في الأصل: "لا يستمر". (2) في الأصل: "القائم". (3) حديث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة" جزء من حديث للمغيرة بن شعبة، ولأبي هريرة، وهو متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: القسامة، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني، ح 1095 - 1096). وانظر معرفة السنن والآثار (ح 2943 - 2946). كما أنه جزء من حديث حمل بن مالك الذي تقدم قريباً. (4) في الأصل: "بجهالة". (5) زيادة من المحقق.

يجريه في أثناء كلامه، ونظيرُه كثير؛ فإن النقل يقع تارةً لفظاً وتارة من جهة المعنى والاستنباط، وسيأتي في مسائل الباب أثرُ هذا الاختلاف. 10753 - ثم لم يختلف المذهب أنا إذا تمكنا من ضرب العقل على العاقلة، فلا نضرب شيئاً منه على القاتل، وقال أبو حنيفة (1): عليهما؛ [فهو أحد] (2) العواقل، [فلو] (3) كان الجاني صبياً، أو امرأة، أو مجنوناً؛ فلا شيء عليه، لأنه لا يعقل عن غيره مع نقص من النقائص التي ذكرناها، فلا يعقل عن نفسه، ومعتمد مذهبنا الحديثُ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، فأضاف جملة الدية إلى العاقلة، فكان هذا كما لو وصى [لزيد] (4) ولأولاد بكر [بمال، فلا يصرف] (5) من الوصية لأولاد زيد شيءٌ، ولا [إلى بكر] (6). ثم مذهبنا كما لا يضرب شيء من العقل على القاتل، كذلك لا يضرب شيء منه على عمودي نسبه، فليس على أبوي القاتل وأجداده شيء، وليس على ابنه وأولاده شيء، خلافاً لأبي حنيفة (7)، وقد ذكرنا متعلَّقَ المذهب في هذه المسألة في (الأساليب) وغيرها من المجموعات. 10754 - فإذاً العاقلة المتحملة هم الذكور البالغون العقلاء من عصبات القاتل، ما عدا عمودي النسب، ويُقدم الأقرب [فالأقرب] (8)، وأقرب العصبات بعد استثناء

_ (1) ر. مختصر الطحاوي ص 233، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 104 مسألة 2223، رؤوس المسائل: 474 مسألة 339، المبسوط: 26/ 84. (2) في الأصل: "في أخذ". (3) في الأصل: "ولو". * تنبيه: تذكر أن نسخة الأصل وحيدة؛ فما تراه في الحواشي ليس فروقَ نسخ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وبحثه. نسال الله أن يلهمنا الصواب. (4) في الأصل: "بني زيد". (5) في الأصل: "بما لا يصرف". (6) في الأصل: "إلى أولاد بكر". (7) ر. تكملة البحر الرائق: 8/ 456، تحفة الفقهاء: 3/ 174. (8) في الأصل: "فهذا أقرب".

العمودين [الإخوةُ] (1) أولادُ الأب، وهل نقدم أخاً على أخ بقرابة الأمومة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يقدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب، كما يقدم عليه في عصوبة الميراث. والثاني - لا يقدم عليه؛ فإن قرابة الأمومة لا أثر لها في التحمّل، ولها أثر في الميراث، فلا يبعد أن تستعمل ترجيحاً في العصوبة (2). ثم بعد الإخوة بنوهم، وكما اختلف القول في الأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، كذلك اختلف القول في ابن الأخ من الأب والأم، وابن الأخ من الأب، والقولان يجريان على هذا النسق في الأعمام وبنيهم إن وجد من بعضهم إدلاءٌ بقرابة الأم مع قرابة الأب، وانفرد من في درجته بقرابة الأب. 10755 - ثم بعد هذا نقول: ترتيب العصبات في تحمل العقل بالنسب كترتيب العصبات في الميراث إلا في شيئين: أحدهما -متفق عليه في المذهب- وهو استثناء عمودي النسب، والثاني - مختلف فيه، وهو الترجيح بقرابة الأمومة؛ فإن هذا معتبر في عصوبة الميراث، وهو مختلف فيه في تحمل العقل، والضرب على الإخوة للأب والأم، ثم [الإخوة للأب، ثم بني الإخوة للأب والأم، ثم بني الإخوة للأب، ثم] (3) على الأعمام [للأب والأم، ثم على الأعمام للأب] (4)، ثم على بني الأعمام للأب والأم، ثم على بني الأعمام للأب، ثم على أعمام الجد، على الترتيب المذكور في عصبات النسب. ثم سبيل التقديم في عصوبة الميراث تخصيصُ الأقرب، [وحرمانُ] (5) الأبعد

_ (1) في الأصل: "الأخيرة". (2) أي في الميراث. والقول الأول هو الجديد؛ لأنهما يتحملان بالعصبة، فيقدّم من يقدّم في الميراث، كالأخ مع ابن الأخ. والقديم أنهما يستويان، لأن النساء لا يتحملن العقل بحال؛ فلا تؤثر قرابتهن. والقولان هنا كالقولين في ولاية النكاح. (ر. الشرح الكبير للرافعي: 10/ 467). (3) زيادة من المحقق. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "وجريان".

بالكلية، ولا يجري الأمر كذلك [فيما] (1) نحن فيه؛ فإنا نبدأ بالأقربين، فنضرب على كل واحد مقداراً من العقل، على ما سيأتي الشرح عليه من بعدُ -إن شاء الله عز وجل- فإن استوعب الواجبَ من العقل، فذاك، وإن بقي شيء، لم نفضّه على الأقربين، بل انتقلنا منهم [إلى من يليهم] (2) وهكذا نفعل إلى حصول الغرض. وعند أبي حنيفة (3) يسوي بين القريب والبعيد، ويضرب عليهم بالسوية. 10756 - ثم نقول: إن عدمنا عصبة النسب، فالمعتِق، ثم عصبات المعتِق ثم معتِق المعتِق، ثم عصبات معتق المعتق، فإذا عدمنا -على هذا [الترتيب] (4) الذي ذكرناه في معتق الجاني- وإذا لم نجد من له نعمة الولاء على الأب، انتقلنا إلى من له نعمةُ الولاء على الجد، فنضرب على معتِق الجد ثم على عصباته، وهكذا الترتيب إلى حيث ينتهي. ثم قال الأصحاب رضي الله عنهم: إذا لم نجد معتِق الجاني، ووجدنا عصباتِه [فلا] (5) نضرب على [أب] (6) المعتق، فإنه ثبت [أنا] (7) لا نضرب على عمودي نسب الجاني شيئاًً، وهذا خارج عن القياس عندنا؛ من جهة [أنا] (8) لم نضرب على الجاني نفسه، فلم نضرب على عمودي نسبه، ونحن نضرب على المعمَق لو كان حياً، فلا يبعد أن نضرب على أبيه وابنه، [وعن القفال وجهان] (9): أحدهما - أنا نضرب

_ (1) في الأصل: "فما". (2) في الأصل: "إياه بينهم". (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 101 مسألة 2221، مختصر الطحاوي: 232. (4) في الأصل: "التقريب". (5) في الأصل: "ولا". (6) في الأصل: "باب". (7) في الأصل: "كما". (8) زيادة اقتضاها السياق. (9) زيادة من الشرح الكبير، حيث سقطت من الأصل. ونص عبارة الرافعي: "وهل يدخل في عصبات المعتق ابنه وأبوه؟ فيه وجهان رواية عن القفال وغيره: أحدهما - نعم؛ لأنهما من العصبة، وانما لم يدخل ابن الجاني وأبوه للبعضية، ولا بعضية =

عليهما. والثاني - لا نضرب عليهما، وإليه صار معظم الأصحاب. والمتعلق فيه ما روي: "أن مولىً لصفية بنت عبد المطلب جنى، فقضى عمر رضي الله عنه بأرش الجناية على علي رضي الله عنه ابن [أخيها] (1)، وقضى بالميراث لابنها الزبير" (2). 10757 - ثم قال الشافعي: "ومن في الديوان، ومن ليس فيه سواء ... إلى آخره" (3). قصد بذلك الرد على أيى حنيفة (4)؛ فإنه صار إلى أن الذين يجمع أسماءهم ديوانٌ، فإذا جنى بعضهم ضُرب العقل على أهل الديوان، وإن لم يكونوا على تواصل في النسب والولاء. وهذا لا أصل له [من] (5) خبر ولا نظر، ولم يكن الديوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أبي بكر، وإنما أحدثه عمر رضي الله عنه في آخر عهده. 10758 - ثم قال: "ولا أعلم مخالفاً بأن الصبي والمرأة لا يحملان شيئاًً ... إلى آخره" (6). الصبيان والمجانين والنسوان لا يضرب عليهم من العقل شيء، وإن كانوا موسرين، وهذا لا يُعرف فيه خلاف، ولعل المرعيّ فيه أنهم ليسوا من أهل النّصرة

_ = بين الجاني وبين ابن المعتق وأبيه. وأظهرهما - المنع، واعتمدوا فيه قضاء عمر في قصة مولى صفية" انتهى ملخصا. (ر. الشرح الكبير: 10/ 468). (1) في الأصل: "ابن عمها". (2) رواه البيهقي في السنن الكبرى، قال الحافظ: وهو منقطع (ر. السنن الكبرى: 8/ 107، التلخيص: 4/ 70). (3) ر. المختصر: 5/ 140. (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 100 مسألة 2221، مختصر الطحاوي: 232، المبسوط: 27/ 129. (5) في الأصل: "في". (6) ر. المختصر: 5/ 140.

بالسيف، وهذا الباب في [التناصر] (1) مخصوص بأهل القتال. وذكر العراقيون وجهين في الزّمِن الموسر إذا كان لا يُرجى [زوال] (2) ما به: أحد الوجهين - أنه يضرب العقل عليه؛ فإنه من جنس الرجال وهو عاقل بالغ. والثاني - لا يضرب عليه، لأنه ليس من أهل النصرة، والدليل عليه أنه [يرضخ] (3) [له، كما يرضخ] (4) للصبيان والنسوان. فصل قال: "وتؤدي العاقلة الديةَ في ثلاث سنين ... إلى آخره" (5). 10759 - العقل المضروب على العاقلة يكون مؤجلاً، لا محالة، وابتداء الأجل يكون -إذا كان المعقول دية النفس- من وقت الموت وزهوق الروح، خلافاً لأبي حنيفة (6)، فإنه قال: ابتداء المدة من وقت قضاء القاضي، إذا فرض الترافع إلى مجلس [القضاء] (7)، حتى قال: إذا مضت ثلاث سنون من وقت وقوع [القتل] (8)، ولم يتفق الترافع إلى مجلس الحكم، [فلا] (9) شيء على العاقلة، بل يفتتح القاضي عند الارتفاع إليه ضَرْبَ المدة، ولا اعتبار بما مضى. وهذا زلل لا أصل له، والمدد تنقسم: فمنها ما يثبت في العقود، وهو إلى ضرب العاقدَيْن، فإذا فرض ضرب أجل في عوض يقعُ، ثم [لو] (10) شرط الخيار

_ (1) في الاصل: "البياض". (2) في الأصل: "وقال". (3) في الأصل: "يوضح". (4) زيادة لاستقامة الكلام. (5) ر. المختصر: 5/ 140. (6) ر. مختصر الطحاوي: 232، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 100 مسألة 2221، المبسوط: 27/ 129. (7) زيادة من المحقق. (8) في الأصل: "العقل". (9) في الأصل: "ولا". (10) زيادة من المحقق.

فيه، فابتداؤه محسوب من وقت العقد أو انقضاء الخيار؟ فيه اختلاف مشهور بين الأصحاب، والظاهر أنه محسوب من وقت العقد، وهذا يضاهي اختلافَ الأصحاب في أن خيار الشرط يحسب ابتداؤه من وقت العقد أو من زمان خيار المجلس، وكل عقد لا خيار فيه، [فالأجل] (1) المضروب في عوضه محسوب من وقت العقد. ومن الآجال [آجال] (2) الزكوات، وابتداؤها من وقت حصول النصاب الزكوي في ملك من هو من أهل الزكاة، وتفاصيل القول في [الآجال] (3) مضت على الاستقصاء في كتاب الزكاة. ومن المدد سنة [الجزية، وفيها] (4) تفصيل حسن ليس [بالهين] (5) وسيأتي في كتاب الجزية، إن شاء الله عز وجل. [والأجل] (6) الذي يتعلق بضرب القاضي عندنا هو [أجل] (7) العُنة لا غير، والسبب فيه ارتباطه بوجوب التعرف عن عُنّة الزوج، حتى نتبين أن الزوج يُقرّ بها أم ينكرها. وهذه المقدمات لا تجري إلا في مجالس القضاة. ومدة الإيلاء [من] (8) وقت الإيلاء، فإن ابتداءها لا يستند إلى معنىً مجتهد فيه يتعلق بمجلس القضاة. ومدّة الجناية من وقت وقوعها، ولا حاجة إلى فرض اجتهاد في وقت المحسوسات. 10760 - ولو قطع قاطع إصبعَ رجل، فسرت الجراحة إلى كفه، فسقطت،

_ (1) في الأصل: "فالأصل". (2) في الأصل: "أحوال". (3) في الأصل: "الأحوال". (4) في الأصل: "الحق به ومنها". (5) في الأصل: "بالدين". (6) في الأصل: "والأصل". (7) في الأصل: "أصل". (8) في الأصل: "في".

[فلأصحابنا] (1) وجهان في ابتداء المدة المعتبرة في الطرف -على ما سيأتي تفصيل القول في أروش الأطراف، ومُددها إذا فرض ضربها على العاقلة- من وقت سقوط الكف، أم كيف الوجه فيه؟ فمنهم من قال: ابتداء المدة من وقت سقوط الكف؛ فإنه مستقرّ الجناية، وهذا ضعيف. ومنهم من قال: أرش الإصبع يعتبر ابتداءُ مدته من وقت قطع الإصبع، وأرش الكف من وقت سقوط الكف، وهذا هو الصحيح. ولا خلاف أن من قطع يد رجل أو يديه، فابتداء المدة من وقت القطع، ولا نتوقف إلى اندمال الجراحة، وإن كنا قد نقول: المطالبة بالدية قد لا تتوجه إلا بعد اندمال الجراحة، والسبب فيه أنا إن توقفنا في المطالبة بأروش الأطراف، فسبب توقفنا أن نتبين منتهى لجراحة. وأما ابتداء المدة، فليس وقتَ طَلِبة، وإذا اندملت الجراحات، استبنا أن أروشها ثبتت من وقت القطع، ولا يجوز قياس المطالبة بضرب المدة، ولو انقضت والجراحة بعدُ سارية، ففي مطالبة العاقلة من الخلاف ما في مطالبة الجاني إذا كان عامداً. [فصل] (2) قال: "ولا يقوّم نجمٌ من الدية إلا بعد حلوله ... إلى آخره" (3). 10761 - مقصود هذا الفصل وفصول بعده يبنى على ما نوضحه، فنقول: [الاعتبار] (4) بآخر السنة في صفة المتحمل، فإن كان في آخر الحول فقيراً، لم يُضرب عليه من العقل شيء في هذه السنة، وإن كان غنياً فيما مضى من السنة، فالاعتبار إذاً بالوقت الأخير الذي هو منقرض السنة، وكما نعتبر آخر الحول في أصل العقد،

_ (1) في الأصل: "ولأصحابنا". (2) سقط من الأصل هذا العنوان. (3) ر. المختصر: 5/ 140. والنص غير واضح في الأصل. وأثبتناه من المختصر. (4) في الأصل: "الاختيار".

فكذلك نعتبر هذا الوقتَ فى المقدار المختلِف بالغنى والتوسط، كما سنصف ذلك على الاتصال [بهذا] (1). ولو مضى بعض السنة، ومات من هو العاقلة، لم نضرب على تركته شيئاً، وليس كما لو مات [الذمي] (2) في وسط السنة، فإن المسألة تخرج على قولين فيه: أحدهما - أنا نطالب بقسط من الجزية، والفرق أن الجزية لها شبهٌ بالأجرة، وكأن دار الإسلام هي المكراة منهم، كما سيأتي هذا في موضعه -إن شاء الله عز وجل- وهذا المعنى غير مرعيّ فيما نحن فيه. ويخرج من هذا أنا لا نحكم بأن الدية تجب على العاقلة مؤجلة، بل نقضي أن ابتداء وجوبها في آخر السنة، وهذا فيه تعقيد؛ فإن الدية إن كانت واجبة، فلتجب على العاقلة، ولتكن مؤجلة عليهم، وإن لم تكن واجبة، فهذا يبعد عن قياس الأصول، فإن موجِبَ الدية القتلُ، وقد وقع، وكان الأصل وجوب الدية، وهذا أصل بدعٌ لا نظير له. والأوجَه عندنا في ذلك [أن] (3) نقول: وجبت الدية بالقتل، وهي متأصِّلة، ولكنا لا نضيف وجوبها إلى العاقلة، فإن كانوا فقراء، تبينا أن وجوبها لم يتعلق بهم، ولكنها متعلّقة ببيت المال، والدليل عليه أنا [لا نتأنّى بها] (4) في حق بيت المال عند افتقار العاقلة في [الحول الأخير] (5). وإذا لم يكن في بيت المال مال، فقد نقول: العقل مأخوذ من [القاتل] (6) على ما سنذكر ذلك متصلاً بهذا. فإذاً ما يجب تحصيله أن الدية وجبت بالقتل مؤجلةً، والتوقفُ في [الجهة] (7) التي

_ (1) في الأصل: "فهذا". (2) في الأصل: "الذي". (3) في الأصل: "بأن". (4) في الأصل: "لا نبتدىء بهذا". (5) في الأصل: "الحر الأجرُ". (6) في الأصل: "العاقل". (7) في الأصل: "الجملة".

يضاف الوجوب إليها، فالإبهام في هذا لا في أصل الوجوب. ومن تمام القول في ذلك: أن العاقلة إذا كانوا أغنياء في آخر الحول، استقرت عليهم الحصص من الوظيفة الضرورية، فلو افتقروا بعد هذا، لم يسقط عنهم ما استقر في ذمتهم، ولم نعدل عنهم إلى بيت المال؛ فإن بيت المال لا يتحمل عن العاقلة ما استقر عليهم، كما لا يتحمل سائر الديون عمن استوجبها وأفلس بأدائها، ولو ماتوا بعد استقرار حصصهم، فهي مستوفاة من تركاتهم استيفاء الديون المستقرة. 10762 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لا نقوّم على العاقلة نجماً من الإبل إلا في آخر الحول ... إلى آخره" (1) وهذا بناه على ما هو الأصل المشهور في أن أصل الدية الإبل، والحاجة تمس إلى تقويم الإبل على العاقلة؛ فإن الحصة التامة على الواحد منهم نصفُ [دينار] (2) في كل سنة، فلا بد من تقويم ما يحلّ من الدية، حتى نتبين فض الدية عليهم، كما سنبين أقدارها، فأبان رضي الله عنه أنا في هذا التقويم نعتبر الوقت الذي نعتبر فيه اليسار [والافتقار] (3)، والتوسط والغنى، وهذا جارٍ على القياس الذي مهدناه. فصل قال: "ولا يحملها فقير ... إلى آخره" (4). 10763 - دية الخطأ وشبهِ العمد لا تحمل على الفقراء عندنا، ولا فرق بين أن يكون معتملاً وبين أن يكون غيرَ مُعتَمِلٍ، خلافاً لأبي حنيفة (5)؛ فإنه حكم بضرب العقل على الفقراء وهذا مذهبه في ضرب الجزية، على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 140. والمذكور هنا معنى كلام الشافعي وليس بلفظه. (2) في الأصل: "اخر". (3) في الأصل: "الاقتصاد". (4) ر. المختصر: 5/ 140. (5) ر. مختصر الطحاوي: 233، المبسوط: 27/ 129.

والضريب مضروب على الغنيّ والمتوسط، وقد استعمل الأصحاب هذه الألفاظ، وأطلقوها: [أما الفقر فأقرب مُدرك له الفحصُ عن مقدار المضروب، فنعتبر الغنى عنه، ونعتبر الاحتياج إليه] (1)، فأما الغنى والتوسط، فلفظان مطلقان لم يتعرض [لبيانهما] (2) أحد، ولا يمكننا أن نقول: الغني من تجاوز حد الفقر، فيسقط المتوسط من الوسط، وإن رددنا المتوسط والغني إلى أسماء النِّسب حتى نقول: هؤلاء متوسطون بالإضافة إلى من فوقهم، فهذا وإن كان تَحْويماً على المقصود، فليس فيه شفاء، وليس الغنى والتوسط من الألفاظ التوقيفية حتى نسلك فيها طريق الاتباع، فما الوجه؛ وكيف السبيل؟ أما الفقير، فلا يمكن وصفه بالذي يستحق سهمَ المساكين، فإذا أخرجنا [المعتمِل] (3) من التحمل مع العلم بأن المكتسب الذي يرد كسبُه عليه بُلغتَه وحاجتَه لا يأخذ من سهم الفقراء والمساكين شيئاً، ولا يُضرب عليه من العقل شيء؛ إذ يبعد أن يكلف أن يكتسب ويؤدي أرش جناية غيره، والتحملُ موضوع على فضلات أموال العاقلة، لا على طاقتهم واستمكانهم من تحصيله، هذا أصل الشافعي رضي الله عنه، والفِطرة لا تجب على [الكسوب] (4) عن نفسه، ثم عمن يفرض التحمل عنه، فكيف نقدّر الضربَ على من لا يملك ويقدر على الكسب، وإن قلنا: الفقير الذي لا مال له، اعترض علينا النظر فيمن يملك مسكناً وخادماً، وانتشرت أطراف الكلام في الأمور التي قدرناها في الكفارات المرتبة. فالوجه أن نقول: ما تتحمله العاقلة، فسبيله المواساة، وهذا الضرب يجب أن يكون واقعاً وراء حاجةِ تحمّل المُواسي، ويجب ألا يكون لما يقدّر له أرش أثر وموقع في الباذل، ويخرج من هذا الأصل [أنا] (5) لا نكلفه أن يبيع شيئاً من مسكنه الذي

_ (1) عبارة الأصل لم يتيسر لنا إقامتها، فقد جاءت هكذا: "والفقر من دركه على ما فيه من عاقلة في مقصودها" والمثبت في جملته من كلام الغزالي في البسيط: 5/ورقة: 82 يمين). (2) في الأصل كلمة كير مقروءة رسمت هكذا: (اسا ـهما) بدون نقط. (3) في الأصل: "المعتمد". (4) في الأصل: "السكوت". (5) في الأصل: "أن".

يؤويه وأهله، ويجب أيضاً ألا نكلفه أن يبيع من عبده الذي تمس حاجته إلى خدمته، كما قدمنا ذلك في الكفارات المرتبة، وبيان الانتقال فيها من الأصل إلى البدل، والأصل المرعيّ ما ذكرناه من رعاية المواساة من غير أن تكون مجحفة. وهذا هو الذي فهمه الأولون من العلماء الذين قربت أعصارهم، حتى حملهم على ما نصفه في مقدار ما يحمل كل واحد من العواقل، فقالوا: على [الغني] (1) في آخر كل سنة نصفُ دينار، ولا مزيد، وعلى المتوسط ربعُ دينار، ولا نعرف في ذلك أثراً [ثابتاً] (2) ولا خبراً، ولكنهم علموا على الجملة المعنى الذي أشرنا إليه من رعاية المواساة، واستبانوا أنها لا تليق إلا بفضلات الأموال التي لا يحيف بها هذا المقدار. 10764 - وأنا أقول الآن والله المستعان: لست أعرف ضبطاً من جهة التوقيف - لفظاً ولا معنىً- يشير إلى بيان [الغِنى] (3) أو إلى تقريب قول فيه؛ فإن الغنى والتوسط من أسماء النِّسب، وهي لا [تنحصر] (4) ولا تنقصر، فالرجل ذو الثروة الضخمة بالإضافة إلى من فوقه قد يكون متوسطاً، وهو بالإضافة إلى من تحته غنيّ. فأقصى ما يتخيله الإنسان في ذلك على الجملة أمور نشير إليها، ثم أذكر ما يتعلق بمقتضى العقل في ذلك، فأقول: قد يخطر للناظر أن المتوسط هو الذي يقع في الدرجة العامة والطبقة العليا من طبقات المتصرفين في البلاع الذي يرقيهم عن رتبة الفقر، والغنيّ هو الذي يقع في رتبة الاختصاص، ويعدّ من [الأفراد] (5)، فيقع المحتاجون طرفاً، والمخصوصون [يقعون طرفاً إذا قرّبنا القول فيه] (6)، والغنيّ من أشرنا إليه. هذا وجهٌ، وهو بعيد لا سبيل إلى اعتقاده؛ فإن ضرب العقل إنما هو في التحقيق

_ (1) في الأصل: "القرب". (2) غير مقروءة في الأصل. (3) في الأصل: "الفن". (4) في الأصل: "شخصين". (5) في الأصل: "الإقرار". ومعنى الأفراد: أي الآحاد المعدودين المرموقين. (6) في الأصل: "الواقعون إذا إذ قربنا القول فيه".

يغرِّم عصبات القاتل أروشاً، وتقسيمهم إلى الأغنياء والمتوسطين من الأمور العامة، فحمل الأغنياء على [المتوحدين] (1) في الناس الذين يُرْمَقون بالاختصاص بالرتبة العليا لا وجه له، وليس لنصف دينار من المقدار في استدعاء اليسار ما يجب الحمل على المنفردين في كل قُطر، فهذا لا سبيل إلى اعتقاده، وإنما ذكرناه في صدر المباحثة على عادتنا في هذا المجموع، حتى يزول عن الفكر ما لا حاجة إليه. وإن قال قائل: ننسب عاقلة كل إنسان، ونجعل أفرادهم مرتبةً، ونسميهم الأغنياء، ونجعل المنحطين عنهم بالإضافة إليهم متوسطين إذا لم يكونوا أصحاب حاجات، فهذا لا أصل له؛ [فإطلاق] (2) الغنى يشير إلى ما الناس عليه، وقد يكون الأغنياء على التقريب الذي أشرنا إليه في العصبات دون أوسط الخلق، فلا وجه إذاً لذلك، فلا يُفضي التعلق به إلى وجهٍ شافٍ. 10765 - والأقرب عندي أن نأخذ رتبة الغنى [مما] (3) بلغنا من قول الأصحاب في المقدار الموظف على الغني في الزكاة، والمقدارُ نصف دينار، [وأقل ما] (4) نعتبر في المقام الذي انتهينا إليه الزكاة؛ فإنها على التحقيق مواساة، فالوجه أن نقول: من فضل عن جهات حاجاته: من المسكن والمملوك وغيرها، مما يتعلق به الاعتبار في الكفارات المرتَّبة - مقدارُ عشرين ديناراً، فيجوز أن يكون هو المعنيّ بالغني. فإذاً سنعيد التفصيل: [فالتحكم] (5) بهذا المقدار نسبةً [متلقى] (6) من مقدار المأخوذ، ومضاهاة هذا الباب [بباب] (7) الزكاة في التحمل والمواساة، وقد شهد لذلك اعتبار النسبة، وإن كانت القاعدتان تختلفان في التفاصيل.

_ (1) في الأصل: "المتوخرين". (2) في الأصل: "بإطلاق". (3) في الأصل: "فما". (4) في الأصل: "وأقلها". (5) في الأصل: "بالتحكم". (6) في الأصل: "التلقي". (7) في الأصل: "بأن".

فإذا لم نجد ضبطاً واضطررنا إلى التمسك بتقريبٍ، فأقرب الأمور أن يتلقى محل الإشكال في المسألة ممّا وجدناه فيها، وهو مما نصصنا عليه، غير أنا نوجب الزكاة على من ملك عشرين ديناراً، وإن كان في اختلالٍ من حاله، وضعف من عياله؛ نظراً إلى مقدار الملك ونشترط في الزكاة أموالاً مخصوصة، حتى لو ملك الرجل من العقار أموالاً لها مقدار في النفوس، فلا تستوجب الزكاة، والسبب في ذلك أن الزكوات من حقوق حالاتهم وحاجاتهم، وصفة الزكاة على الضبط، وأما ضرب العقل على العاقلة، فمواساة بعد استغناء، فلا نكتفي فيه بملك، بل نشترط أن يفضل من جهات الحاجات هذا المقدار، ثم لا نشترط تملك الأجناس المخصوصة الزكاتية؛ فإن المواساة تعلقت بعين الباذل المُواسي، وليست من حقوق أمواله، والوظائفِ الشرعية المتعلقة بأعيان الأموال. فينتظم من ذلك أن الغني المخاطبَ بإخراج نصف دينار هو الذي يفضل من حاجاته هذا المقدار، والمتوسط هو الذي [ترقّى] (1) عن الحاجة، ويقع ملكه دون المقدار الذي ذكرناه. 10766 - ثم الذي ذكره الأصحاب أن نصف الدينار مأخوذ من أقل الزكاة، وربع دينار مأخوذ من نصاب السرقة، ولست أنسب ربع دينار إلى حساب العشرين، حتى يقال: المتوسط من يكون على شطر الغنيّ في فاضل ماله، هذا لا سبيل إلى التحكم به، ولكن يكفي في رتبة التوسط أمران: أحدهما -[التعلِّي] (2) عن الحاجة، والانحطاط عن رتبة الغنى، على ما شرط ألا يصير ببذل الربع إلى درجة الحاجة؛ فإن مبنى الباب على المواساة من غير تعريض من يواسي للضرار، والاقتصارُ على هذا المقدار النزر أصدق شاهد فيما ذكرناه. فهذا هو الذي اعتلقه فهمي، وليس عندي فيه نقلٌ، ولا تحويم عليه، وإنما ذكرتُه أخذاً من المقدار الذي صادفته منصوصاًً عليه للاصحاب، وعلمتُ قطعاً أنهم لم يُعنَوْا ببيان ما تورطنا فيه، وفوّضوا الأمر فيه إلى درك الفاهم، فهذا منتهاك، والرأي

_ (1) في الأصل: "يوفي". (2) في الأصل: "التعلق".

بعده للموفّقين، المستجمعين لاستحقاق النظر في مضايق الشريعة. والعلم عند الله. فهذا ما أردنا [ذكره] (1) في ذلك. 10767 - ثم [مما يجب] (2) الاعتناء به إذا فضضنا على الأغنياء الواقعين في الدرجة من أغنياء العاقلة ما ذكرناه، ثم انحططنا، ففضضنا على المتوسطة ما ذكرناه، فإن وفّى ما نأخذه من الواقعين في الدرجة العليا بمقدار الأرش، فهو المُنى، وإن لم يفِ رَقَيْنا منه إلى من هو أقرب إليه من العواقل، ونحن في ذلك كله نضرب على الغنيّ والمتوسط ما ذكره الأصحاب، ثم نرقى منهم إلى من هو أبعد منهم، ولا نزال نفعل ذلك ونرقى من درجة إلى درجة، حتى نستوعب الأقارب، ثم نرقى إلى أصحاب الولاء، ثم إلى عصباتهم. فإذا لم يبق من العاقلة الخاصة أحدٌ على الترتيب الذي ذكرناه، وفضل من الوظيفة المطلوبة في آخر السنة شيء، فإنا نضربه على بيت المال على السهم المرصد للمصالح؛ فإن هذه الجهة هي الجهة التي تنصبّ إليها تركات الذين لا يخلّفون من خواصّ الورثة أحداً، [وكل جهة تُثبت الوراثة، يتعلق بها تحصيل مواساة] (3) إذا كانت تضاهي جهة العصوبة، وهكذا تكون جهة التوريث بالإسلام؛ فإن العصوبة معناها استغراق آخر ما يفضل عن الفرائض من غير تقدير، فقد تحققت جهة العصوبة، [إن] (4) نظرنا إلى قاعدة موضع الشرع على التناصر بين المسلمين. 10768 - وإن لم نجد في بيت المال مالاً [يفي] (5) به السهم المُرصد للمصالح العامة، فللأصحاب وجهان: أحدهما - أنا نضرب العقل على القاتل. والثاني - أنا لا نضرب عليه أصلاً.

_ (1) في الأصل: "بذكره". (2) في الأصل: "ما يجب". (3) عبارة الأصل: "وكل جهة تثبت للورثة، ولا يتعلق بهذا تحصيل مواساة" والمثبت من تصرّف المحقق. (4) في الأصل: "وإن". (5) في الأصل: "يغني".

قال الأئمة: والوجهان مبنيان على أن الوجوب هل يلاقي القاتلَ، ثم العاقلة تحتمل عنه، أم الوجوب لا يلاقيه أصلاً؟ وفيه قولان قدمنا ذكرهما في تأصيل الباب. فإن قلنا: الوجوب لا يلاقيه، فإذا عدمنا العاقلة، ولم نجد في بيت المال مالاً، [لم] (1) نضرب عليه شيئاً، وإن قلنا: الوجوب يلاقيه، فإذا [عدمنا] (2) من يتحمل عنه، طالبناه، والوجهان على هذا الترتيب مذكوران في [الطرق] (3). وقد قطع القاضي رضي الله عنه بأنه لا يطالب القاتل إذا [عدمنا] (4) العاقلة، أو صادفناهم محتاجين، وأخذ يفرق بين هذا وبين ما إذا لم يجد الزوج ما يخرجه عن فطرة زوجته، فهل يجب عليها أن تخرج الفطرة عن نفسها؟ [فيه] (5) اختلافٌ مذكور في صدقة الفطر، وأتى بكلامٍ لا استقلال له في طلب الفرق بين هذا وبين القاتل خطأ. وهذا الذي ذكره غير سديد، والأصحاب كلهم على ذكر الخلاف كما أوردناه. التفريع: 10769 - إن حكمنا بأن القاتل لا يؤاخذ بالدية أصلاً، ولم نجد في بيت المال مالاً، فلو حدث مالٌ في بيت المال لهذا المصرف، فهل يؤدَّى منه العقلُ؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحد الوجهين - أنا لا ناخذ من المال الحادث في بيت المال شيئاً، وذلك أنّ سبيل تحمل بيت المال كسبيل تحمل العاقلة الخاصة، [فمن] (6) كان فقيراً من العواقل المختصين في [آخر] (7) السنة المضروبة، [لم] (8) نضرب عليه شيئاًً، فإن استغنى بعد ذلك، لم نضرب عليه ما فات ضَرْبُه بسبب الفقر؛ فإن

_ (1) في الأصل: "ثم". (2) في الأصل: "علمنا". (3) في الأصل: "الظرف". (4) في الأصل:، علمنا". (5) في الأصل: "في". (6) في الأصل: "فقد". (7) في الأصل: "أجزاء". (8) في الأصل: "ولم".

[الاعتبار] (1) بآخر السنة، ومن كان غنياً في آخر السنة، ثم افتقر، فما ضربناه عليه دينٌ مستقر في ذمته يطالَب به إذا وَجَد في حياته، ويؤدَّى من تركته بعد وفاته. فإذا كان فقيراً في [الجزء الأخير] (2) في السنة [فطريان] (3) الاستغناء بعده لا يرد إليه ضرباً أسقطناه عنه تعلُّقاً بآخر السنة في النفي والإثبات. فكذلك إذا لم نصادف في آخر السنة مالاً في بيت المال يصلح لهذا المغرم، فقد سقط ذلك عن هذه الجهة، فإذا فرض بعد ذلك وجدان مال، لم يعد التعلّق ببيت المال. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أنا ناخذ من بيت المال العقلَ مهما (4) حدث مالٌ للمصالح صالحٌ للمغارم، وليس بيت المال في ذلك كسبيل العواقل المختصين إذا كانوا فقراء، ثم استغنَوْا؛ وذلك لأن سهم المصالح لا اختصاص له بمصلحةٍ، وكذلك لا اختصاص له بوقتٍ وأوان، ولا يجري فيه من التأقيت والتخصيص ما يجري في حقوق العواقل المختصين، وكذلك نضرب في كل سنة جميع ما يبقى عن التزام الخواص بالغاً ما بلغ، ولا نقدّره بمقدار، فكما لا يتقدّر المضروب على بيت المال، فكذلك وجب ألا يسقط عنه التحمل بالمسلك الذي [يُسقط] (5) التحمل عن العاقلة الخاصة. وهذا قد يعارضه أن أصل التأقيت مرعيٌّ في بيت المال؛ فإن من قتل خطأ، ولا عاقلة له على الاختصاص، فالدية مضروبة على بيت المال، في ثلاث سنين، كما أنها تضرب على العواقل [المختصة] (6) -لو كانوا- في ثلاث سنين. ويمكن أن يقال: إذا لم نجد في بيت المال مالاً، [فما] (7) ذكرناه من الخلاف في

_ (1) في الأصل: "الإعسار". (2) في الأصل: "الحريم الأخير". (3) في الأصل: "وطريان". (4) بمعنى إذا. (5) في الأصل: "يسقطه". (6) في الأصل: "المختصرة ". (7) في الأصل: "فيما".

أنا هل نضرب على [القاتل] (1) يُوجَّه من الخلاف الذي ذكرناه في أنه لو تجدد في بيت المال مال، فهل نأخذ العقل منه؟ فإن قلنا: نأخذ العقل مما تجدد، فلا نغرِّم القاتل؛ فإن جهة [التحمل مرقوبة] (2)، وإن قلنا: لا نضرب العقل على ما تجدد في بيت المال، فلا يبعد أن نضرب على القاتل؛ فإنا لو لم نفعل ذلك، لأدى إلى تعطيل [العقل] (3) وإهدار الدم، وإسقاط حقوق أولياء الدم. 10770 - ومما يتصل بذلك أنا إذا رأينا تغريم القاتل حيث ذكرنا ذلك تتأجل [الدية] (4) عليه بأجلها على العاقلة؛ من جهة أن [دية] (4) الخطأ وشبه العمد، لا تجب شرعاً إلا مؤجلة، ثم إذا مضت سنة، ولم نجد من يحمله سوى القاتل؛ فإنه يؤدي هذه الوظيفة وهي ثلثٌ، فنُجري القاتل في رجوعنا عليه عند فقدان جهات التحمل مجرى ببت المال، وقد ذكرنا أن بيت المال يتحمل ما يفضل عن تحمل المختصين، وذلك أنا لو لم نضرب على القاتل، لعطّلنا [العقل] (4)، والذي [نحاذره] (5) التعطيلَ، إذا ضربنا البعض وتركنا البعض، فالذي تركناه [تعطيلٌ، وتعطيله ما نحاذره] (6). 10771 - ومما يتصل بتمام الكلام لبيان المراد في ذلك أن من أقرّ أنه قتل خطأً، فإن [أنكرت] (7) العاقلة، [فإن] (8) لم تقم بينة، فالعاقلة لا يكلّفون العقلَ، وإقرار الجاني غير مقبول عليهم، وهذا [مستدٌّ] (9) على قواعد الأصول، وقال الرسول عليه السلام: "لا تحمل العاقلة عمداً، ولا اعترافاً" (10) وفي بعض الروايات: "لا تحمل

_ (1) في الأصل: "العاقل". (2) في الأصل: "التحرّم موقوفة". (3) في الأصل: "القتل". (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "نجاوزه". (6) عبارة الأصل: "تعطل تعطيله ما نجاوزه". (7) في الأصل: "اعترف". (8) في الأصل: "وإن". (9) في الأصل: "مستمر". (10) حديث "لا تحمل العاقلة عمداً ولا اعترافاً" سيأتي الكلام عليه قريباً.

العاقلة الخاصة" وكذلك لا نضرب على بيت المال؛ فإنّ إقراره كما لا يُقبل على عواقله المختصين به، فكذلك لا يقبل على بيت المال. ثم اتفق الأصحاب وراء ذلك على أن العقل مأخوذٌ من المُقرِّ، ولم يخرّجوا هذا على الخلاف في أنه هل يلاقيه الوجوب، ثم العاقلة تتحمل، أم لا يلاقيه الوجوب أصلاً. وكان لا يبعد عن القياس أن يقال: إذا قلنا: الوجوبُ لا يلاقي القاتلَ، فهو لم يقر على نفسه بشيء، وإنما أقر على عواقله، وإقراره [عليها مردودٌ] (1)، وليس القتل لو ثبت عليه موجباً أمراً، حتى يُفرضَ التحمل عنه، وهذا المذهب لا بد منه عندي لو صح المصير إلى أن القاتل لا يلاقي الوجوب، وقد ذكرنا في البناء على هذا أنا لو غرّمنا العاقلة، لم نغرم القاتل، فلا بد أن نخرّج قولاً أن المُقِر بالقتل الواقع خطأً غيرُ مطالب بالعقل بناء على ما ذكرناه. ولست أحمل [تَرْكَ] (2) الأصحاب لهذا إلا على ظهوره عندهم، وطلبهم أن يفرّعوا على القول الآخر. ثم إذا طالبنا المقر، فالدية مؤجلة عليه كما تتأجل على العاقلة لو اعترفوا، فيطالَب في منقرَض كل سنة بثلث الدية. 10772 - ثم ذكر صاحب التقريب وجهين في أن المقر على أي وجه يطالَب؟ أحد الوجهين - أنه يطالب على تقديره أصلاً في الالتزام. والثاني - أن سبيل مطالبته كسبيل مطالبة من [يعدِم] (3) الأصل، ولا يجد بداً من إقامة [بدل] (4) مقامه، واستشهد لبيان الوجهين، فقال: إن قدرناه أصلاً، فهو بمثابة المستقرض يطالَب بالقرض، والمتلِف يطالَب بقيمة ما أتلفه، وإن أحللناه محل البدل، فهو بمثابة الغاصب إذا أبق العبد المغصوب من يده؛ فإنا نطالبه بقيمة العبد للحيلولة الواقعة، والقيمة تقع بدلاً عن المطلوب الأصلي، حتى إذا رجع العبد، ردّ العبدَ واسترد القيمة، ولا يظهر لما

_ (1) هذه عبارة الشرح الكبير (482) أما عبارة الأصل: "مردود عليها". (2) في الأصل: "قول". (3) في الأصل: "يغرم". (4) في الأصل: "بد".

ذكرناه من التقدير كبيرُ أثرٍ في حق القاتل المقر إذا أنكرت العاقلة، فإنه يغرم من كل وجه، على [أي] (1) تقدير. [وأثر] (2) ما ذكرناه يظهر في صورةٍ، وهي أن العاقلة لو أنكرت لمّا أقرّ القاتل، فإذا غرّمنا القاتل كما تقدم، فلو عادت العاقلة واعترفت، فلا شك أنهم يغرمون، ولكن الكلام [يختلف] (3) على التقدير، فإن جعلنا القاتل [الأصلَ] (4) في الغرم، [فولي] (5) القتيل لا يرد ما أخذه من القاتل أصلاً؛ فإنه أخذه منه، وهو أصلٌ لا بدل، نعم، القاتل عند اعتراف العاقلة يرجع عليهم بما غرم، لا وجه غيره. وإذا أحللنا القاتل محل البدل، فولي القتيل يرد ما أخذه من القاتل عليه، ويبتدىء، فيطالب العاقلةَ بحقه، وهذا أثرٌ ظاهر إذا تُصوِّرت المسألة بالصورة التي ذكرتُها. 10773 - وقد قدمت في أثناء الكلام أنا إذا حكمنا بأن الوجوب لا يلاقي القاتل، فإذا أقر، لزم أن يخرّج على ذلك قولٌ أنه لا يطالب، ولم آت بهذا على ثبتٍ [من] (6) النقل، وإنما قلته قياساً، لكنه [احتمالٌ لم أذكره وجهاً] (7)، والذي ظننته (8) من كلام الأصحاب ما يظهر. فأقول: إذا أقر بالقتل وأنكر العاقلةُ، فالدية مأخوذة [منه] (9) قولاً واحداً؛

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام. (2) في الأصل: "أثر" بدون الواو. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: "الأصلي". (5) في الأصل: "فقول". (6) في الأصل: "في". (7) في الأصل: "لكنه حلو لم أر لها لفنه وجهاً" كذا تماماًً رسماً ونقطاً، والمثبت من كلام المحقق، وقد أخذنا هذا من كلام للإمام في آخر هذا الفصل. ثم المعنى أن الإمام عندما يخالف الأصحاب يجعل ما يراه احتمالاً وليس وجهاً، فمن المعروف أن الإمام ليس من أصحاب الوجوه في المذهب، ولكن له احتمالات. (8) كذا، ولعلها: "حققته". (9) في الأصل: "فيه".

[فإنا] (1) لو لم نقل ذلك، لتعطلت الدية، وأفضى نقيض ذلك إلى إهدار الدم -وقد عسر الضربُ على العاقلة- فلا وجه إلا مؤاخذة المُقر. وكان الأصحاب يقولون: الوجوب لا يلاقيه إذا وجدنا مسلكاً في التحمل عنه، فأما إذا لم نجد متحمِّلا، فلا وجه إلا تنزيل الدية على المقر، ووجهه أن التحمل ينزل منزلة ما لو كانت المرأة في حِبالة الزوج وهو من أهل تحمل الفطرة، فيخرج في هذه الحالة اختلافٌ في أن الوجوب هل يلاقيها؟ وإذا كانت خليّة عن الأزواج، فعليها أن تُخرج الفطرة عن نفسها؛ إذ لا متحمِّل عنها، فإذا ثبت القتل بالإقرار وأنكر العواقل، كان ذلك مشبّهاً بحالة المرأة الخليّة عن الزوج. هذا مساق كلام الأصحاب. وإن افتقر العواقل ولم يكن في بيت المال مال هل نضرب عليه العقل؟ فلما لم ينقطع الترقب بفقدان [المتحمل] (2)، ترددنا في الضرب على القاتل. هذا مقتضى النقل، وما ذكرته احتمال لائح، وإشكالٌ قائم. 10774 - والذي يوضح ذلك أن الأصحاب قالوا: لو قتل الذمي إنساناً خطأ، ولم نجد له عاقلة خاصة، [فلا] (3) سبيل إلى ضرب العقل على بيت المال، فإن قيل: هلا ضربتموه، فإنه لو مات ولم يخلّف وارثاً خاصاً، فماله موضوع في بيت المال، فاضربوا العقل الذي يلزم [بالقتل] (4) الصادر منه خطأً على بيت المال، كما وضعتم مالُه في بيت المال؟ قلنا: مالُه ليس يؤخذ إرثاً، وإنما يؤخذ فيئاً، ويصرف إلى [أهل] (5) الفيء، كما يصرف إليه كل مال يُتلقى من الكفار من غير إيجاف خيل وركاب، والغرم من [جهة] (6) التحمل يتبع جهة الوراثة على طريق العصوبة، وهذا

_ (1) في الأصل: "وإنا". (2) في الأصل: "التحمل". والمعنى: لما لم ينقطع الأمل في أن يحدث مال في بيت المال فيصير متحملاً. (3) في الأصل: "ولا". (4) في الأصل: "بالعقل". (5) في الأصل: "هذا". (6) في الأصل: "جهته".

المعنى [مفقود] (1) في الذمي؛ فإن جهة الإسلام [لا يرث بها إلا موتى الأشخاص] (2) المسلمين. ثم إذا لم نضرب العقل اللازم بالقتل الصادر منهم خطأ على بيت المال [وأيسنا] (3) من تقدير ذلك، فالعقل [مأخوذٌ] (4) منه، لم يختلف الأصحاب فيه، وكذلك لو كان للذمي أقارب مسلمون، وقد صدر منهم قتل على سبيل الخطأ، فالدية مأخوذة [منهم] (5). 10775 - وإذا اتفق الأصحاب على ما ذكرناه، تبين منه أن العقل [لا يعطَّل] (6): أما القاتل، فإذا انحسم مسلك التحمل، فإن كان مأيوساً [منه] (7)، فليس في المذهب تردد في أخذ الدية من القاتل، كما ذكرناه في الذمّي، وإن كان تعذر التحمل لفقدان المال في بيت المال، ففي هذا تردد متلقًّى من أنه لو حدث في بيت المال مال، فهل يُضرب عليه العقل أم لا؟ وإذا ثبت القتل بالإقرار، فهذا بين مسألة الذمي وبين [فقدان] (8) المال في بيت المال؛ من جهة أن العاقلة إذا [أنكروا وأصروا على ذلك] (9) مالَ جوابُ الأصحاب إلى أن القاتل المقر مطالَب بالدية، ثم ردّدوا الجواب في أن العاقل أصل في الغرم أو هو في حكم البدل، وقد ذكرنا ذلك. ولما أمكن فرض الإقرار بعد الإنكار، تطرق إليه احتمالٌ من غير نقلٍ أشرت إليه في أن المقر يجوز ألا يطالب على قولنا لا يلاقيه

_ (1) في الأصل: "مقصود". (2) في الأصل: "لا يرثه موتة أشخاص المسلمين"، ومعنى ما أثبتناه أن بيت المال لا يرث إلى موتى المسلمين. (3) في الأصل: كلمة مطموسة، وقدرناها هكذا على ضوء خيالات الحروف وظلالها. (4) في الأصل: "موجود". (5) في الأصل: "منه". (6) مكان بياضٍ بالأصل. (7) في الأصل: "عنه". (8) في الأصل: "مقدار". (9) عبارة الأصل: "أنكروا أصروا قل زلل".

الوجوب، والمذهب ما نقلتُه لا الاحتمال الذي أبديته، فهذا سر الفصل أتينا به بادياً معلناً. ثم مهما طالبنا القاتل بدية الخطأ، فهو مؤجل عليه على حسب تأجيله على العاقلة، غير أنه يؤاخذ بثلث الدية على الكمال في آخر كل سنة، والواحد من العاقلة لا يطالَب بأكثرَ من نصف دينار. فصل قال: "وتحمل العاقلة كلَّ ما كثر أو قل ... إلى آخره" (1). 10776 - المذهب الصحيح الذي عليه التعويل؛ أن العاقلة تحمل أروش الأطراف، كما تحمل دياتِ النفوس، وحكى العراقيون قولاً غريباً أن العاقلة لا تحمل أروش الأطراف -كما لا تحمل [متلفات الأموال] (2) - أصلاً؛ فإن التحمل يختص بأبدال النفوس إذا هلكت، وكأن هذا القائل يجعل التحمل من خصائص أبدال النفوس [كالقسامة،] (3) ووجوب الكفارة، وقد يعتضد بأن ضرب العقل معدول عن القياس، وليس فيه إلا الاتباع، والشرع لم يرد إلا بتحمل أبدال النفوس، وهذا قول مهجور، لم يعرفه المراوزة، ولا أصل له، فلا نعود إليه. 10777 - وإذا تبين أن أروش الأطراف تحملها العاقلة، كما تحمل دياتِ النفوس، فالأصح أنهم يحملون ما يقلّ وما يكثر، [ولا يختص] (4) التحمل بمقدارٍ، هذا هو المنصوص عليه في الجديد. ونَصَّ الشافعيُّ في القديم على أن العاقلة تحمل ثلث الدية الكاملة، فما فوقه، ولا تحمل ما دون الثلث، لأن ما دون الثلث قليل، وإذا بلغ الثلث، فهو على حد الكثرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لسعد: "الثلث، والثلث كثير" والمذهب

_ (1) ر. المختصر: 5/ 141. (2) في الأصل: "ديات النفوس". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى والسياق. (3) في الأصل: "بالقسامة". (4) في الأصل: "ولا يتخصص".

الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن العاقلة تحمل ما قلّ وما كثر [من] (1) مقدارٍ في طرف القلة والكثرة. وعند أبي حنيفة (2) تتحمل العاقلة أروش الموضِحة [إلى] (3) الدية الكاملة فما فوقها، فأما ما دون الموضِحة، فلا تحمله العاقلة. 10778 - ثم من أصول الباب التعرض لبيان الآجال المرعية في ضرب أقدار الأروش على العاقلة، والنظر في أن الآجال هل تزيد بزيادة الأقدار، وهل تنقص بنقصانها، وفي [الطرق اختباط ظاهر] (4)، ونحن نسوق المسلك البين في ذلك على وجهه، ثم نذكر ما نراه خارجاً عن القانون. فنقول: دية الحر هي الدية الكاملة، وهي مضروبة على العاقلة في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلثُ الدية، على الترتيب الذي ذكرناه في الأغنياء والمتوسطين، [والضرب على الأقربين الأدنَيْن] (5)، ثم الترقي منهم إلى ألا يبقى أحد من عصبات النسب، ثم الترقي إلى الموالي وعصباتهم، كما مضى، فإن فضل من الثلث شيء، ضربناه على بيت المال. 10779 - ثم اختلف أصحابنا، فقال قائلون: المرعي في ذلك أن يكون المضروب على العاقلة ديةَ نفس محترمة مضمونة معقولة، ولا نظر إلى لمقدار (6). ومن أصحابنا من عدّ الدية الكاملة المقدار المعتبرَ المرعيَّ. ثم ينبني على هذا الاختلاف مسائلُ، وهي تنقسم: فمنها ما يتعلق بأبدال النفوس، ومنها ما يتعلق بأروش الأطراف، فأما ما يتعلق بأبدال النفوس، فدية المرأة

_ (1) في الأصل: "عن". (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 113 مسألة 2231، رؤوس المسائل: 473 مسألة 338. (3) في الأصل: "من". (4) عبارة الأصل: "وفي الطرف احتياطاً ظاهراً". (5) عبارة الأصل: "والنص على الأمرين للأدنين". (6) أي لا نظر إلى مقدار الدية، فقد يكون نصفاً، كدية المرأة مثلاً.

نصف دية الرجل، [فمن] (1) اعتبر في إثبات الأجل الأقصى كونَ المضروب على العاقلة بدل نفس، فهذا المعنى موجود في دية المرأة، فتُضرب عليهم في ثلاث سنين. ومن اعتبر المقدار، حطَّ من الأجل لانحطاط المقدار، ثم قال: [مقدار ثلث الدية] (2) الكاملة مضروب على العاقلة في سنة، وهو ثلثا دية المرأة، فيبقى ثلث ديتها، وهو مقدار سدس دية الرجل الكامل، فنضرب ذلك في سنة أخرى. [ومن] (3) الأصول المتفق عليها أن المقدار المضروب وإن قل في نفسه [فلا بد] (4) من تأجيله، ولا يتصور أن ينقص أجل في الضرب [على] (5) العاقلة عن سنة. وما أجراه الأصحاب رضي الله عنهم في صور الخلاف -من اعتبار المقدار أو اعتبار بدل نفس محترمة- لا بد وأن يكون له مأخذ محقق؛ [فإن الأصول] (6) وعواقد مذهب الإمام تعتضد وتتأيد بأصل في الشرع لا يدافَع، وقد صح في حديث الجاريتين لما ضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، فأجْهَضَتْ وماتت، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم العقل على العاقلة، وروي مطلقاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالعقل على العاقلة في ثلاث سنين، [فقال الشافعي] (7) في بعض مجاري كلامه: لم تنقل مسألة واقعة قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب العقل على العاقلة إلا واقعة الجاريتين، فأمكن من ذلك أن نضرب عقل المرأة على العاقلة في ثلاث سنين، ثم إذا ثبت ذلك، اطرد منه أن بدل كل [نفسٍ] (8) مضروبٌ في ثلاث سنين. ويمكن أن يقال: قول الراوي: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم" تأسيسُ

_ (1) زيادة من المحقق. (2) عبارة الأصل: "مقداره فى ثلث الدية". (3) في الأصل: "وفي". (4) في الأصل: "ولا بد". (5) في الأصل: "عن". (6) في الأصل: "فإن من الأصول وعواقد". (7) في الأصل: "فقال له الشافعي". (8) في الأصل: "نقص".

شرع منه، وليس تنفيذَ حكم في قضية للمسلمين، على أن الدية الكاملة مضروبة في ثلاث سنين، فينشأ من التردد في الأخبار اختلافٌ اتخذه الفقهاء رسماً مرجوعاً إليه في إجراء الخلاف والوفاق. ثم إذا لاح ما ذكرناه نخرّج عليه أن دية المجوسية -وإن كانت أقل الديات- خارجة [على] (1) الخلاف: فمن راعى في تكميل الأجل ثلاثَ سنين النفسَ المحترمةَ ضرب هذه [الدية] (2) في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلثها. ومن اعتبر المقدار جعل [شَوْفَه] (3) الديةَ الكاملة، وضرب هذه الدية في سنة، فلا أقل من سنة، وإن قل قدرُ المحمول، ويطّرد الخلاف الذي ذكرناه في غرة الجنين، فإنها بدل نفس، فلا [نُحلُّها] (4) في الترتيب الذي نُجريه محل أرش الطرف وفاقاً. 10780 - ومما نرى إلحاقه بهذا المنتهى [شيئاًن] (5): أحدهما - أن جماعة لو اشتركوا في قتل نفس، فقتلوه خطأ أو على شبه العمد، وكانت حصة كلِّ مشارك أقلَّ من ثلث الدية، فكيف السبيل؟ ظاهر المذهب أن حصة كل واحد مضروبة على عاقلته في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلث [قيمتها] (6)، وذلك، أنهم بمثابة القاتل الواحد، فنجعل جميعَهم في حكم القاتل الواحد، ونجعل عواقلهم كعواقل شخص واحد، ولو كان كذلك، لكنا نقضي بثلث الدية في آخر كل سنة على جميعهم، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه. وذكر أئمة الخلاف وجهاً آخر أنا نعتبر في حق كل شريك ما يلزم، فإن كان ثلثاً أو أقل من الثلث، ضربناه على عاقلته في سنة، وهذا يتضمن [استقضاء] (7) الدية واستيفاءها من العواقل في سنة واحدة، وغالب ظني أني سمعت شيخي يذكر هذا

_ (1) في الأصل: "عن". (2) في الأصل: "المدة". (3) في الأصل: "سرفه". (4) في الأصل: "يحملها". (5) في الأصل: "سببان". (6) في الأصل: "ديتها". (7) في الأصل: "باستضاف".

الوجه، وقياسُه ليس بعيداً إذا قلنا: الاعتبار بالمقدار، وكل شخص متميز [عن] (1) مشاركيه، وعاقلته متميزون عن عواقل أصحابه، والأصحُّ ما صح نقله عن أئمة المذهب. هذا آخر ما أردنا أن نذكره. 10781 - الثاني - أن رجلاً لو قتل نفوساً، فكيف السبيل في تأجيل دياتهم على عاقلته؟ قال الأئمة: إن قلنا: الاعتبار بالمقدار، فقد [زاد] (2) الملتَزم على الدية الكاملة، فإذا كان [قَتَل] (3) ثلاثةَ أنفس، فالملتزم [مضروب] (4) على العاقلة في [تسع] (5) سنين على ما نبين تفريعَه. وإن قلنا: الاعتبار بالنفس، [فلو] (6) قتل نفساً واحدة، لكان الملتزم مضروباً على العاقلة في ثلاث سنين؛ فإذا قتل نفوساً، فعلى هذا الوجه وجهان: أحدهما - وهو الأفقه أنا نضرب جميع الديات على عاقلته في ثلاث سنين، فإن كل [نفس] (7) متميزة عن غيرها، وبدل كل نفسٍ متأجل بثلاث سنين، وهذا بمثابة ديون مجموعةٍ على شخص، فإذا انقضى كلّ الأجل [تصرّم] (8) بانقضائه آجال [كل] (9) الديون، وهذا ما لا ينساغ في مسلك الفقه غيره. ومن أصحابنا من قال: إذا كانت دية نفس في ثلاث سنين، فدية [ثلاث] (10) نفوس في تسع سنين.

_ (1) في الأصل: "عنه". (2) في الأصل: "زال". (3) في الأصل: "مثل". (4) في الأصل: "مصروف". (5) في الأصل: "سبع". (6) في الأصل: "ولو". (7) في الأصل: "من". (8) في الأصل: "تصرف". (9) في الأصل: "من". (10) زيادة من المحقق.

وهذا رديء، لا اتجاه له. والذي أوثره الترتيبَ على هذا، فأقول: إن قلنا: الاعتبار بالنفس، فالنفوس [الثلاث في] (1) ثلاث سنين من غير التفات إلى المقدار، وإن قلنا: الاعتبار بالمقدار ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نزيد على ثلاث سنين في قدر الديات على الاعتبار بالمقدار، والثاني - أن كل نفس متميزة عن غيرها، فلا وجه لضم البعض إلى البعض [وتكثير] (2) المقدار بها؛ فإن كل نفس متميزة عن غيرها، وليس هذا كما سنذكره في قطع اليدين والرجلين؛ فإن الأروش متعلقة بشخص واحد، وزادت مقاديرها، [فنفصل] (3) المذهب فيها، وهو بين أيدينا. 10782 - ولو قتل رجلٌ امرأتين، فالذي يقتضيه الترتيب الذي أجريته أنّا إن اعتبرنا النفس، فالديتان في ثلاث سنين كدية المرأة الواحدة، وإن اعتبرنا المقدار، فوجهان: أحدهما - أنا نضرب الديتين في سنتين، فإن مقدار كل دية نصف الدية الكاملة، ولا نضم دية إلى دية. والوجه الثاني - أنا نضم دية إلى دية في المقدار، ونضربها في ثلاث سنين؛ فإن دية امرأتين كدية رجل. ومن سلك الطريقة الأولى قال: إن قلنا: باعتبار المقدار، فالدية في ثلاث سنين، وإن قلنا باعتبار النفس، فوجهان: أحدهما - أنهما في ثلاث سنين. والثاني - أنهما في ست سنين. ولا يخفى على كل من اعتلق طرفاً من الفقه سقوط هذا الترتيب. وهذا يوضح وجوب الجريان على ما ذكرته. ثم إذا قتل ثلاثة رجال كوامل، وفرعنا على الأصح، وهو أن الديات مضروبة على العاقلة في ثلاث سنين، فعلى العاقلة في آخر كل سنة الثلث من دية كل نفس، فيجتمع عليهم في منقرض كل سنة مقدار دية كاملة من النفوس الثلاث.

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام. (2) في الأصل: "وتكثر". (3) في الأصل: "فتفصيل".

وإن قلنا: إنها مضروبة عليهم في تسع سنين، فنضرب على العاقلة عند انقضاء كل سنة التُسع من كل دية، فيجتمع الثلثُ وهو ثلاثة أتساع ثلاث ديات. 10783 - ومما لا يضر التنبيه له أنه لو قتل جماعةً في حالة واحدة مثلاً، فالأمر على ما وصفناه، فإن قتلهم على ترتيب في ثلاثة أيام مثلاً، فإن أقررنا كلَّ نفسٍ بحكمها، فدية كل نفس مضروبة على العاقلة في ثلاث سنين. وابتداء الأجل في كل ديةٍ من وقت اتفاق القتل. والجملةُ المُغنية أن كل نفس تعتبر على حالها، وإن قلنا: إذا قتل النفوس زادت آجال الديات على ثلاث سنين؛ فإن تفاوتت تواريخ القتل، فقَتَلَ ثلاثَ أنفس في ثلاثة أيام، كما صورنا، فإذا انقضت سنة من القتل الأول، التزم العاقلةُ من ديته ما يلتزمونه من تلك الدية، لو وقع القتل في النفوس معاً، ثم إذا تم الحول بمضيّ يومٍ آخر، التزموا من الدية الثانية مثلَ ذلك، فإذا مضى يوم آخر، التزموا من الدية الثالثة ما التزموه من الأولى، وهكذا إلى انقضاء الأجل [الثالث] (1). 10784 - ولو قتل عبداً خطأ، فقد اختلف القول في أن العاقلة هل تحمل قيمة العبد؛ أحد القولين - أنها تحملها وهو الأقيس؛ لأن نفس العبد بمثابة نفس الحر في القصاص والكفارة، فلتكن بمثابة نفس الحر في كون بدلها معقولاً. والقول الثاني - أن العاقلة لا تحمل قيمة العبد؛ فإنها بدلُ مال، وهذا يقرب مأخذه من إيجابنا في أطراف العبد ما ينقص من قيمته، وقد روى الفقهاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحمل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا اعترافاً" (2) وغالب

_ (1) في الأصل: "الزائد". (2) حديث "لا تحمل العاقلة عبداً ... " وارد بغير سياقة إمام الحرمين من حديث عمر مرفوعاً بلفظ: "العمد والعبد، والصلح، والاعتراف لا تعقله العاقلة" قال الحافظ: (وهو منقطع وفي إسناده عبد الملك بن حسين وهو ضعيف. قال البيهقي: والمحفوظ أنه عن عامر الشعبي من قوله، وروي أيضاً عن ابن عباس: لا تحمل العاقلة عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً ولا ما جنى المملوك" ا. هـ فتعليق إمام الحرمين الحكم على صحة الحديث في العبد له وجه. (ر. الدارقطني: 3/ 177، البيهقي: 8/ 104، التلخيص: 4/ 61 ح 1950، وقد نقل كلام الإمام هنا).

ظني أن الصحيح الذي أورده أئمة الحديث: "لا تحمل العاقلة عمداً ولا اعترافاً" فلو صح النقل في العبد عسُر التأويل. فإذا قلنا: قيمة العبد غيرُ معقولة، فهي مضروبة في مال القاتل عاجلاً تامّاً لا ننحو بها نحو الديات، بل نسلك بها مسلكَ قِيمِ البهائم إذا أتلفها المتلف. وإذا قلنا: معقولة، فإن كانت على قدر الدية الكاملة، فلا شك أنها مضروبة عليهم في ثلاث سنين، على اعتبار المقدار والنفس، وإن كانت القيمةُ أكثرَ من دية الحر [فإن نظرنا إلى النفس، اعتبرنا] (1) ضرب القيمة على العاقلة في ثلاث سنين من غير مزيد، فإن النفس متحدة، ولئن كان في هذا إجحاف، فيعارضه أن المجوسية (2) مضروبة عليهم في ثلاث سنين. ومما يتمسك به هذا القائل أنا لا ننقص الأجل قط عن سنة، وإن قلّ قدر الأرش، اتباعاً للتوقيف، فينبغي أن لا يزيد على ثلاث سنين؛ ليعتدل القول في الطرفين، ويتسق الاعتبار في الأدنى والأكثر. وإن قلنا: الاعتبار بالمقدار، فقد قال هؤلاء: نزيد على ثلاث سنين، حتى إن كانت قيمة العبد ديتين كاملتين، ضربناها في ست سنين، وهكذا على هذا القياس: نزيد في [الأجل] (3) إذا زاد المقدار. وإن زادت القيمة على الدية الكاملة بمقدارٍ يسير، فذلك الزائد مضروب في سنة كاملة؛ لما ذكرناه من وفاق الأصحاب على أنا لا [نضرب شيئاًً في شقص من السنة قط، ويمكن أن يقال: سببه أن مكاسب الإنسان تسير إلى الأثمان في كل سنة] (4)،

_ (1) عبارة الأصل: "أكثر من دية الحر، فلهذا اعتبر ضرب القيمة ... " والزيادة والحذف والتعديل من عمل المحقق. (2) " المجوسية " المراد دية المجوسي. (3) في الأصل: "الأصل". (4) ما بين المعقفين تصرف واسع في الأصل بالزيادة والحذف والتغيير، طلباً لاستقامة العبارة مع محاولة الحفاظ على أقرب صورة لألفاظ الأصل وعبارته التي كانت هكذا: "لما ذكرناه من وفاق الأصحاب على ألا نبقي تصرفاً في السنة بالحط قط، ولا يمكن أن يقال: سببه أن مكاسب الجاني تسير إلى الأيمان في كل سنة".=

فاعتبرت هذه المدة في التحمل عن القتل حتى نقدّر امتدادَ يد العاقلة إلى ما يواسون به، [وذلك] (1) لا يختلف بقلة المحمول. وقد نجز الكلام في النفوس وأبدالها. 10785 - ونحن الآن نستفتح القول في أروش الأطراف، ونقول: أولاً هي معقولة محمولة، فإن انحطت عن النفوس [بانتفاء] (2) الكفارة عنها، وعدم جريان القسامة فيها، [فهي] (3) في معاني النفوس في [الاحتياج] (4) إلى المواساة، والجِراحُ دون النفس [يكثر بكثرتها] (5) العقلُ، هذا هو المذهب الذي عليه التعويل، وحكى العراقيون قولاً عن القديم أن العاقلة لا تحمل أروش الأطراف أصلاً، وهذا إن كان يتأتى تكلُّفُ توجيهه، فليس معتداً به. ثم إذا تبين أن الأروش مضروبة على العاقلة، [فلا] (6) فرق بين ما يقل وما يكثر، والمقدارِ [النزر والكثير] (7) هذا مذهبنا. وقال مالك (8) رضي الله عنه: لا تحمل العاقلة من الأروش ما يبلغ ثلث الدية الكاملة، فإن زادت حملوا حينئذ، وعُزي إلى الشافعي قول في القديم مثلُ مذهب

_ = ولعل من المناسب أن نأتي هنا بعبارة الرافعي في المسألة نفسها، فقد قال: "تضرب دية اليهودي والنصراني في سنة، فإنها قدر الثلث، ودية المجوسي، وغرة الجنين كذلك، وإن كانتا أقلَّ من الثلث، لأن السنة لا تتبعض، وكأن المعنى فيه أن الزروع والثمار، وسائر الفوائد تتكرر كل سنة، فاعتبر مضيها، ليجتمع عندهم ما ينتظرونه ويواسون عن بسطٍ وتمكن". (ر. الشرح الكبير: 10/ 488). (1) في الأصل: "ولكن". (2) في الأصل: "بانتقال". (3) في الأصل: "ولكنها". (4) في الأصل: "الأصابع". (5) في الأصل: "تكثر بكثرة". (6) في الأصل: "ولا". (7) في الأصل: "النزع الكثير". (8) ر. المدونة: 4/ 485، الإشراف: 2/ 835 مسألة 1611، المعونة: 3/ 1325، عيون المجالس: 5/ 2051 مسألة 1480، القوانين الفقهية: 342.

مالك، وهذا بعيد غير معتد به، وقد كررت مراراً أن القول القديم لا يحل عدّه من مذهب الشافعي، مع رجوعه عنه. ثم التفريع عليه أن مقدار الثلث المحمول على الجاني لا يُحمل منه شيء، فإن زاد الأرش على هذا المقدار، فالكامل محمول على العاقلة، وكان يليق بالقياس أن يقال: قدر الثلث أبداً على الجاني، والزائد عليه معقول محمول؛ وهذا يخالف وضعَ الشافعي في الجديد، فإنه لم ير ضربَ شيء على الجاني لما رأى ضرب ما قل وما كثر على العاقلة، فلا تعويل على هذين القولين الغريبين: أولهما - أن الأروش لا تضرب على العاقلة، والثاني - أن مقدار الثلث لا يضرب على العاقلة. ومن لم يضرب أروش الأطراف على العاقلة فما عندي أنه [يخالف] (1) [في إثباتها] (2) معجّلةً، كقيم المتلفات، فلا ينبغي أن نفرع على الأصول الضعيفة. 10786 - وقد عدنا إلى [المسير] (3)، فأول ما نذكره أن من قطع يدي رجل مسلم حر، فموجب اليدين دية كاملة، فالذي رأيت لمعظم الأئمة القطعُ بأنها مضروبة على العواقل في ثلاث سنين قولاً [واحداً] (4)؛ فإنا إن اعتبرنا المقدار، فالواجب بالغٌ مقدار دية كاملة، وإن اعتبرنا كونه بدل نفس -والأرش ليس بدل نفس، ولكنه مشبه به قدراً وكيفية [وجنساً] (5) - فلما أثبتنا في اليدين دية النفس، وجب أن يثبت لها جميع أحكام الدية، وهذا هو الذي لا يستقيم في مساق الفقه غيره. وذكر شيخي أبو محمد وجهاً عن بعض الأصحاب أنا لو اعتبرنا كون الواجب بدل نفس، فنضرب الأروش -وإن بلغ ديةً، أو زاد- على العاقلة في سنة واحدة، وهذا

_ (1) غير مقروءة في الأصل. (2) في الأصل: "في تثبتها". (3) في الأصل: "اليسير". وهذا أقرب لفظٍ إلى الأصل يمكن أن يؤدي معنى مفيداً مناسباً. أي عدنا إلى السير فيما كنا فيه. (4) في الأصل: "واجباً". (5) في الأصل: "وحسناً".

وإن تكرر سماعي [له] (1) [منه] (2)، فلست أرى الاعتداد به. ولو قطع يد مسلم كامل؛ والتزم نصف الدية، فإن اعتبرنا المقدار، فالأرش مضروب على العاقلة في سنتين: نضرب مقدار ثلث الدية في آخر السنة الأولى ونضرب السدس الباقي في آخر السنة الثانية، وليس الواجب بدل [نفس] (3)، فنخرّجَ وجهاً آخر أنه مضروب في ثلاث سنين (4). ولو قتل امرأة، فديتها مضروبة في ثلاث سنين على أحد الوجهين، إذا اعتبرنا النفس ولم نعتبر المقدار. ولو قطع يدي امرأة، فالأرش مضروب في ثلاث سنين، [على] (5) هذا الوجه الذي نفرع عليه، فإن الواجب في يدي المرأة ديتها. ولو قطع رجل [يدَ] (6) المرأة، فأرشها مضروب في سنة واحدة، بلا خلاف، فإن أرش الطرف إذا انحط عن مبلغ دية المجني عليه، فليس إلا اعتبار المقدار، [فهذا] (7) ما يجب الإحاطة به. 10787 - ولو قطع يدي رجل كاملٍ ورجليه، فمن اعتبر [المقدار، ضرب الأروش] (8) في ست سنين، ومن اعتبر حرمة النفس أجرى وجهين: أحدهما - أن الأرش وإن زاد على بدل النفس، فهو مضروب في ثلاث سنين؛ لأن الأطراف وإن كثرت أروشها لا [تزيد] (9) حرمتها على حرمة النفس. والوجه الثاني - أنا نضرب

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "فيه". (3) في الأصل: "سن". (4) أي أنه ليس هنا معنى بدل النفس، فلا مجال لضربه في ثلاث سنين. (5) في الأصل: "وعلى". (6) في الأصل: "يدي". وقد انتهى الكلام في صورة قطع اليدين. (7) في الأصل: "لهذا". (8) عبارة الأصل: "المقدار في ضرب الأروش". (9) في الأصل: "تؤثر".

الأروش في ست سنين، لأنها بلغت ديتين، فإذا كنا نضرب ديةً في ثلاث سنين، وجب أن نضرب مقدار ديتين في ست سنين. وقد ذكرنا أن من قتل رجلين كاملين، فنضرب ديتيهما في ثلاث سنين، وهذا الذي نحن فيه من وجهٍ يشابه قتلَ نفسين، نظراً إلى وجوب ديتين، ومن وجهٍ ينقطع عنه، لأن من قتل نفسين، فكل نفس متميزة عن غيرها، وموجب القتل فيها ضرب الدية -من وقت وَقَع القتلُ- في ثلاث سنين. وإذا قَطَع [من كاملٍ] (1) يديه ورجليه، فالأروش وإن بلغت ديتين، فهي متعلقة بشخص واحد مجنيٍّ عليه، فيجوز أن يؤثر مقدار الكثرة في إيجاب الزيادة في الأجل؛ فإن المجنيّ عليه إذا كانت الأروش في حكم الموجَب الواحد لا تميز فيه، فاتجه المزيد في الأجل عند المزيد في المقدار. وهذا فيه لطفٌ، من جهة أنا إنما نفرعّ على اعتبار بدل النفس، لا على اعتبار المقدار، وإذا أحللنا مقدار ديةٍ محل بدل نفس، فيحتل مقدار ديتين [محلّ] (2) نفسين، ثم لا تميز؛ فإن المجني عليه واحدٌ، بخلاف ما إذا قتل نفسين. 10788 - [وقد] (3) ذكرنا عن شيخنا أبي محمد وجهاً أن أروش الأطراف مضروبة في سنة واحدة بالغة ما بلغت، فيجتمع في قطع اليدين والرجلين من كاملٍ -إن كان يُعتد بما حكاه- أوجه ثلانة: أحدها - أن الأروش مضروبة في ثلاث سنين. والثاني - أنها مضروبة في ست سنين. والثالث - أنها مضروبة في سنة واحدة، وهذا بعيد جداً. وقد اجتمع في الفصل أقوال غريبة: أحدها - أنا لا نضرب أروش الأطراف على العاقلة، حكاه العراقيون. والثاني - أنا لا نضرب مقدار ثلث الدية، حكاه أبو علي وغيره. والثالث - أنا نضرب أروش الأطراف في سنة واحدة بالغة ما بلغت (4).

_ (1) في الأصل: "ما بكامل". (2) في الأصل: "على". (3) في الأصل: "فقد". (4) حكاه أبو محمد.

فصل قال: "ولا تحمل العاقلة ما جنى الرجل على نفسه ... إلى آخره" (1). 10789 - إذا كان الرجل يتعاطى أمراً، فأفضت آلةٌ كانت في يده إلى طرفٍ من أطرافه، وأفسدته، فهذه جناية منه على نفسه، وهي هَدَرٌ، وقال أحمد (2) وإسحاق: إذا جنى على طرف نفسه جناية خطأ، وجب الأرش على عاقلته له، [يستوفيه] (3) منهم لنفسه، وإن قتل نفسه مآلاً، وجبت الدية على عاقلته للورثة. وحكى صاحب التقريب قولاً مخرجاً قديماً في الغريب (4) عن الشافعي أنه قال: جناية الرجل على طرف نفسه خطأٌ مضروب على عاقلته يستوفي أرشَها لنفسه، وهذا على نهاية البعد، لم أره منقولاً إلا [عن] (5) طريق صاحب التقريب، والممكن في توجيهه أن العاقلة ألزمت أرش جناية الإنسان، حتى كأنهم جَنَوْا بأنفسهم، فموجب الشرع أنه لا يغرم إلا من تعلق به سبب الغرم، فإذا كانوا يتحملون أرش جنايته على غيره، حتى كأنهم جنَوْا بأنفسهم، فإذا فرضت الجناية من الإنسان على نفسه، قُدّر كأنها صدرت من العاقلة، ولو كان هذا القول منقولاً في قتل الإنسان نفسه خطأ، لكان أوقع إذا فرعنا على أن الدية للقتل تجب للورثة ابتداء، فيكون في قتله نفسه في حكم جانٍ على ما هوحق غيره. ولكن صرّح صاحب التقريب بنقل القول في الطرف، ولا شك أنه إذا أجراه فى الطرف يجريه فيه إذا قتل نفسه، بل هذا أولى.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 141. (2) ر. رؤوس المسائل الخلافية للعكبري: 5/ 523 مسألة 1764، المغني: 12/ 33. (3) في الأصل: "يستوفها". (4) كذا. ولعلها "في التقريب"، ولم يحك هذا الوجه أحدٌ من أئمة المذهب الذين اطلعنا على كتبهم، لا الغزالي في (البسيط)، ولا الرافعي في (الشرح الكبير)، ولا النووي في (الروضة)، ولا البغوي في (التهذيب)، ولا العِمراني في (البيان). (5) في الأصل: "في".

[باب عقل الموالي]

ولا تعويل على ما ذكرناه، والمذهب القطع بأن جناية الإنسان على نفسه مهدرة؛ فإنا إنما نقدّر التحملَ بعد اعتقاد وقوع الفعل [مضموناً] (1)، ويبعد أن تكون جناية الإنسان على نفسه مضمونة. 10790 - ثم ظهر اختلاف الأصحاب أن من قتل نفسه هل تجب الكفارة في تركته؟ وهذا الخلاف متجه؛ لأن الكفارة تجب للجناية على حق الله، [وحقُّ الله] (2) في دم من قتل نفسَه ثابت [فلا] (3) يمتنع أن يلتزم الكفارة، ومن لم يوجب الكفارة اعتصم بأن الفعل في وضعه مهدَر، وضمان الكفارة يتبع فعلاً مضموناًً. وهذا قولٌ لا يتجه؛ فإنا قد نوجب الكفارة المحضة، وسيأتي شرح هذا في باب الكفارة. [باب عقل الموالي] (4) قال الشافعي: "ولا يعقل الموالي المعتقون ... إلى آخره" (5). 10791 - اسم المولى ينطلق على المعتِق مستحق الولاء، وعلى المعتَق الذي عليه الولاء، وللمولى معانٍ لسنا لاستقصائها في وضع اللسان، ثم سمى الفقهاء المعتِق الذي هو مستحق الولاء المولى الأعلى، وسمَّوْا المعتَق الذي عليه الولاء المولى الأسفل، ولا خلاف أن المولى الأعلى يتحمل العقل عن المولى الأسفل، ولا خلاف -إذا أفضى التحمُّلُ إليه- على الترتيب الذي ذكرناه من قبلُ، ولست أضمن الآن بيان وجوه الولاء والأحكام المتعلقة بها في هذا المقام، ولا فيما قدمنا، وسيحصل كمال الوضوح وشفاء الغليل في باب الولاء من كتاب العتق. والمولى الأسفل هل يتحمل العقل عن المولى الأعلى؟ على قولين: أحدهما - أنه

_ (1) في الأصل: "مضروباً". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "ولا". (4) عنوان الباب هذا غير موجود بالأصل، ويبدو أنه كان مكتوباً بالحمرة، فلم يظهر في التصوير. (5) ر. المختصر: 5/ 141.

لا يتحمل عنه، كما لا [يرثه] (1)، وهذا مذهب أبي حنيفة (2). والثاني - يتحمل؛ لأن المولى الأعلى إذا كان يتحمل عن الأسفل وهو المنعِم، فلأن يتحمل المنعَم عليه عن المنعِم أولى، قالوا إذا ثبت التحملُ في حق الأعلى وتحمله عن الأسفل، ثبت تحملُ الأسفل عن الأعلى، وليس كذلك الميراث؛ فإن استحقاق الإرث -إن استحق- يختص بمن يستحق الولاء، [أما العقل] (3)، فالتحمل من قبل المواساة والإعانة والنصرة، ويبعد أن تثبت النصرة على الأعلى للأسفل، ولا تثبت النصرة على الأسفل للأعلى. 10792 - ثم ذكر الأئمة رضي الله عنهم جملاً من الكلام في تحمل من يستحق الولاء، فنأتي بما أوردوه، ونُتبع إحالة البيان التام على باب الولاء، إن شاء الله. فمما ذكره الأصحاب أنه إذا أعتق العبدَ المشتركَ الشركاءُ فيه، ثم جنى المعتَق، فلا نضرب على المعتِقين إلا ما نضربه على معتِقٍ واحد ينفرد بإعتاق العبد الخالص؛ وذلك أنه لم ينفرد واحد منهم باستحقاق الولاء التام، بل الولاء مفضوض عليهم، كما كان الملك مشتركاً بينهم، والتحمل في حق المعتِق يتبع الولاء، فإن كانوا أغنياء ضُرب عليهم نصف دينار في آخر السنة، وإن كانوا متوسطين، ضرب عليهم ربع دينار، وإن كانوا مختلفين: منهم الموسر ومنهم المتوسط، فنضرب على الموسر قسطاً من نصف دينار، ونضرب على المتوسط قسطاً من ربع دينار. ولو انفرد الإنسان بالملك والإعتاق، ثم مات وخلف عَصبةً، فإذا جنى المعتَق جنايةً، فأفضى [ترتيبُ] (4) العصبات إلى ضربها على عصبة المعتِق، فنضرب على كل واحد منهم حصةً تامة على حسب يساره وتوسطه: نصف دينار، أو ربع دينار. وقد يعترض في هذا سؤال، وهو أن المعتِق لو كان حياً، لما ضربنا عليه إلا حصةً واحدة، والضرب على عصباته جاء من قِبله، فهلا ضربنا ما كان يخصه لو كان حياً

_ (1) في الأصل: "يرث". (2) ر. فتح القدير: 8/ 163. (3) زيادة يقتضيها السياق. (4) في الأصل: "في بيت".

على جميع عصبته، كما لو أعتق الشركاء عبداً مشتركاً؟ وسبيل الجواب عن ذلك أن الولاء في حق [عصبة المعتِق] (1) ليس أمراً موروثاً حتى [نُقدّر فضَّه] (2) على الورثة، أو على العصبات منهم، وينزلون حينئذٍ منزلة المشتركين في الإعتاق، ولكن العصبة يرثون بالولاء، ولا يرثون الولاء، وكان السببُ المورّث لهم انتسابَهم إلى من له الولاء، فيصير الولاء في حقهم مشابهاً للنسب، ومن يتحمل لأجل النسب [يتحمل] (3) نصف دينار، ولو خلف ورثةً تحمَّل كلُّ واحد نصفَ دينار إذا كانوا موسرين. وإن أردنا قولاً ضابطاً في ذلك، قلنا: كل واحد من عصبات المعتِق يتحمل ما كان يتحمله المعتِق، إذا اتفقا في اليسار والتوسط، وإن اختلفا في هذه الصفة، تغير المقدار لاختلاف الحال. ولو أعتق جماعة عبداً مشتركاً بينهم، ثم مات واحد منهم، أو ماتوا جميعاً، وخلّفوا عصبات، فتَحْمِل كلُّ واحدة من العصبات ما كان يتحمله المعتِق لو كان حياً، حتى إذا كان يخصه نصف سدس دينار تحمل كلُّ عصبته هذا المقدار، مع الاستواء في التوسط واليسار. 10793 - ومما يجب التفطن له في هذا المقام أنا إذا كنا نضرب على عصبات الجاني، فنبدأ بالأقربين منهم، فإذا فضل المضروب عن حصصهم، صرنا إلى الذين يبعدون، ثم هكذا، حتى لا نغادر من الأباعد أحداً، فإن فضل شيء، ضربناه على بيت المال. فلو كان للجاني عصبات من جهة النسب، فاستوعبناهم على مراتبهم، وكان على الجاني ولاءٌ، نضرب على مُعتِقه حصةً إذا [فضلت] (4) من أصحاب النسب، فلو قال قائل: إذا ضربنا على المعتِق لمّا أفضى الضرب إليه حصته، فهل نضرب على عصباته حصصاً على مراتبهم في القرب والبعد؟ قلنا: قيّد الأئمة الضرب على عصبات المعتق

_ (1) في الأصل: "عصبته العتق". (2) في الأصل: "نفوت قصر". (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: "حصلت".

بموت المعتِق، وهذا يمكن تعليله بأن العصبات لا حق لهم في الولاء، ولا حق لهم بالولاء [فيقعون] (1) من المعتَق في حياة المعتِق [موقع] (2) الأجانب، فإذا مات، ورثوا بالولاء، وصار الولاء لهم لحمة كلحمة النسب، فإذ ذاك نضرب عليهم. ولا يتجه إلا هذا، والأصول وإن كانت تدل على أن الولاء لا يورث، بل يورث به، فهو من حقوق الأملاك، وإنما يثبت الاختصاص به بعد موت المعتِق. ثم الاختصاص على وجوه: قد يكون اختصاصاً يسمى ملكاً، وقد يكون اختصاصاً لا يوصف بالملك، وعلى أي وجه فرض الحق، فالحق يثبت متجدّداً للعصبة بعد موت المعتق، ثم إذا لم يكن (3) معتِقٌ، وضربنا على عصباته، فهل نخصص بالضرب الأقربين ولا نتعداهم أم نتعداهم [إلى] (4) الأباعد على ترتيب الرُّتب، كصنيعنا في عصبات النسب؟ هذا فيه تردد ظاهر: يجوز أن يقال: يُستَوْعبون استيعاب عصبات النسب؛ فإن الولاء كالنسب منهم، [ويجوز] (5) أن يقال: نخصص الأقربين؛ فإنهم المختصون بالولاء والإرث. والمسلك الأول أوضح؛ فإن مسائل الولاء دالّةٌ على أن الولاء لا يورث، بل يورث به، وهو كما ذكرنا بمثابة النسب، ويرث ابن المعتِق لا لأنه وارث، ولكن لأنه منسوب إلى الولاء بجهة مورثه. فرع: 10794 - ذكر ابن الحداد فصلاً في تحمل العقل يتعلق [بجرّ] (6) الولاء - والقول في الجرّ سيأتي في موضعه -إن شاء الله- ولكنا ننجز ما يتعلق بباب التحمل، فنقول: إذا نكح العبد معتَقَةً، فولدت في حالة رقه ولداً، ثبت الولاء عليه لموالي

_ (1) في الأصل: "فيتفقون". (2) في الأصل: "فرفع". (3) كان تامة. (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "ولا يجوز". (6) في الأصل: "بحق".

الأم، فلو أعتق مالك الأب الأبَ، انجرّ الولاء من موالي الأم إلى معتِق الأب. هذا أصل [الجرّ] (1). قال ابن الحداد: لو قتَل هذا الولدُ في حال [رق أبيه] (2) إنساناً خطأ، فالدية على موالي الأم، فلو فرض عتق الأب بعد ذلك، وجرى الحكم بانجرار الولاء [كما] (3) تقدم من الحكم به، [فالضرب] (4) على موالي الأم لا يتغير. وهذا فيه سؤال، في الانفصال عنه إبداءُ تحقيق: وذلك أن القتل إذا جرى في حالة رق الأب، فابتداء المدة من وقت القتل، ولكن قد قدمنا في أصول ضرب العقل أنا نعتبرآخر السنة في [افتقار] (5) العاقلة ويسارهم وتوسطهم.، وهذا يعني أن الوجوب إنما يتقرر في آخر الحول، ولو كان كذلك، وجب ألا نضرب على موالي الأم؛ فإن آخر السنة يوأفيهم ولا ولاء لهم، بل الولاء ينجرّ عنهم، وما ذكرنا [من] (6) أن الضرب عليهم يتحقق من وقت القتل، ثم يكون المضروب مؤجلاً، وهذا يخالف ما قدمناه، ويلزم على مساقه أن يصح من مستحق الدية إبراء العواقل قبل انقضاء السنة، وهذا منقاس حسن. وإنما المسلك اعتبار اليسار عند منقرض السنة. وإذا أردنا أن نقدر اعتبار اليسار في آخر السنة ونحكم في هذه المسألة على موالي الأم، والولاءُ مجرور [عنهم] (7) ونفرق بين المسألتين؛ [فلا] (8) نجد إلى الفرق سبيلاً، ولم يتعرض الشيخ أبو علي لهذا بل صرح باعتبار القتل في حالة الولاء، فالوجه تقرير ما أطبق عليه الأصحاب في الطرق من اعتبار اليسار في آخر الحول، وترديد الكلام في صورة الجرّ؛ فإن الاعتراض على مذهب إمامٍ في فرعٍ أهون من

_ (1) في الأصل: "آخر". (2) في الأصل: "روايته". وهذا من غرائب التصحيف وعجائبه. (3) في الأصل: "فيما". (4) في الأصل: "والضرب". (5) في الأصل: "اعتبار". (6) في الأصل: "على". (7) في الأصل: "عليهم". (8) في الأصل: "ولا".

التعرض لما [رئي] (1) متفقاً عليه. فهذا منتهى ما في ذلك. ثم [يستدّ] (2) بعد هذا التنبيه [إتمام] (3) التفريعات. 10795 - وما ذكرناه فيه إذا قتل ذلك المولود قتل خطأ، ثم يفرض عتق الأب، فلو جَرَحَ والولاء لموالي الأم جرحاً على سبيل الخطأ، ثم أُعتق الأب، وتقدر موتُ المجروح بعد انجرار الولاء، فنقول: أرش الجرح مضروب على موالي الأم، وما بعده إلى تمام الدية [لا يضرب] (4) على موالي الأم؛ فإن الموت وقع بعد انجرار الولاء عنهم، ولا يضرب على معتِق الأب؛ لأن الموت وقع بجراحةٍ تقدمت على انجرار الولاء، والسرايةُ منتسبة إلى الجراحة، فمن حيث وقع الموت بعد الجرّ، لم يحتمل تمامَ الدية موالي الأم، [ومن] (5) حيث ترتب القتل على جراحةٍ قبل الانجرار، لم يحتمل الديةَ موالي الأب. ثم إن كانت الجراحة الجارية قبل الجرّ مقدرةَ [الأرش كالموضِحة] (6) وقطع إصبع أو يد أو جائفة، فالأرش المقدر مضروب على موالي الأم، وما زاد عليه إلى تمام الدية يضرب في مال الجاني. هكذا ذكره الأصحاب، وقطع به الشيخ في الشرح، وفيه إشكال نورده في معرض السؤال. فإن قيل: إن تعذر ضرب ما يزيد على الأرش على موالي الأم، وموالي الأب للمعنى الذي ذكرتموه من وقوع الموت بعد الجرّ من وجهٍ، واستنادِهِ إلى الجرح الواقع قبل الجرّ من وجهٍ آخر، مع أن الضرب على العاقلة معدول عن القياس مُعرَّضٌ للسقوط بأدنى شيء، كما تتعرض العقوبات للاندفاع بالشبهات، فهلا قلتم: ما زاد على

_ (1) في الأصل: " رأى ". (2) في الأصل: "يستمر". (3) في الأصل: "على إتمام". (4) في الأصل: "ولا يضرب". (5) في الأصل: "من". (6) في الأصل: "بالأرش بالموضحة".

الأرش مضروب على [بيت المال] (1)؛ فإنه إذا تعذر الحمل على موالي الأم والأب، فإن هذا التعذر بمثابة [إعسارهم] (2)، وبيت المال معتمدٌ لتحمل الدية إذا عسر ضربها على الأخصّين، ومن إثبات العسر في الضرب على الموالي في الجانبين ما ذكرتموه؟ قلنا: هذا السؤال متجه جدّاً، ووجهه ما أوردناه في أثناء السؤال، ولست أُبعد أن يكون ما جاء به الشيخ جرياً منه على ظاهر الكلام (3) في مسألة سنشير إليها بعد الفراغ من هذه. 10796 - وهي أن ذمياً لو أوضح رأسَ إنسان، ثم أسلم [وسرت] (4) الجراحة، ومات المجروح، فالأرش مضروب على العاقلة الذمية، وما عداه مضروب على مال الجاني، لا نضربه على الذميين لوقوع القتل بعد الإسلام، ولا نضربه على المسلمين [لانتساب] (5) القتل إلى جُرح مضى في الشرك، ولا سبيل إلى ضربه على بيت المال؛ فإن بيت المال لا يتحمله للعلّة التي لا يتحمله [لأجلها] (6) الأقربون المسلمون؛ فإن بيت المال لا يتحمل أثر جراحة جرت في الشرك، كما أن الأقارب المختصين من المسلمين لا يتحملون أي جناية جرت في الشرك. وهذا لا يتحقق في مسألة جرّ الولاء؛ فإنه لا مانع من تحمل [بيت] (7) المال إلا [تقديرُ] (8) الولاء، وقد تعذر الضرب على أهل الولاء أو كانوا معسرين.

_ (1) في الأصل: "مذهب المال". (2) في الأصل: "انحسارهم". (3) هكذا انتهى الإمام إلى عدم التسليم لابن الحداد بمنع الضرب على بيت المال. ولكن الرافعي قرر غير هذا، فقال: "ساعد الأصحابُ والإمامُ ابنَ الحداد" (ر. الشرح الكبير: 10/ 472)، وأكاد أجزم بحمل هذا على خلل النسخة المطبوعة من الشرح الكبير، فهي طبعة سقيمة لا خير فيها. (4) في الأصل: "وجرت". (5) "لايسار". (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) زيادة من المحقق. (8) في الأصل: "تقديم" والمعنى: أن الذي يمنع من الضرب على بيت المال هو وجود المعتق، أي المولى، وليس المنع لمعنىً كالإسلام في حال جناية الذمي.

ثم إنْ تكلف متكلف توجيه ما ذكره الشيخ، فالممكن فيه تدافع جهتي الولاء فيما فيه الكلام، مع أن الشخص ممن يُتَحمل عنه، فإذا لم تتحمل الجهة الخاصة، لم يتعدها التحمل إلى الجهة العامة، وهذا تلفيق عبارة، ثم يجب أن نطرد هذا في المقدار الذي نقدّر ضربه على الموالي لو ضرب عليهم، ولا يُتمارى في ضرب الزائد على ذلك المقدار على بيت المال. ولو كانت الجراحةُ الجارّةُ [قتلاً جراحةَ] (1) حكومة، فالذي أطلقه الأصحاب أن المضروب على موالي الأم حكومةُ تلك الجراحة، وكيف تنضبط الحكومة من غير اندمال؟ [فلو قلنا: نقدر الرقَّ والتقويمُ على ما أفضت الجراحة إليه، ولا نقدر قيمة العبد إن اعتبرنا المآل فهو في التحقيق ضربُ الدية عليهم، فإن اعتبرنا الاندمال في الجرح، كان تقديراً على خلاف الحس] (2)، فالوجه أن نقول: إن كانت الجراحة مقدّرة الأرش، فنستمسك بالمقدّر الشرعي، وإن كانت غير مقدرة، فنجعل الانجرار كالاندمال في الجرح، ونعني أن نفرض وقوف الجراحة حيث انتهت إليه من النقص من غير زيادة. ويترتب على هذا لطيفة عظيمة الوقع في الفقه، وهو أن الجراحة لو كانت مقدرة الأرش، فسرت بعض السراية، ثم فرض الجرّ، [فلا] (3) يفرض على موالي الأم إلا المقدّر، ولا أثر لتلك السراية إذا لم يسقط [بها] (4) عضو. وإن كانت الجراحة غير مقدرة الأرش، فسرت بعضَ السراية، ثم فرض الجرّ، اعتبرنا الجراحة وسرايتها إلى وقت الانجرار، وليس ما جاء به بدعاً؛ فإن السراية تتبع الجراحات المقدرة الأروش. وقد ذكرنا أن سراية الجرح الذي لا يقدر أرشه هل

_ (1) في الأصل: "قبل الجراحة". (2) ما بين المعقفين فيه تعديل وحذف من عبارة الأصل التي كانت هكذا: "ولو قلنا: نقدر الرقَّ والتقويم على ما أفضت تلك الجراحة إليه، ولا نقدّر العبدَ قيمة إن اعتبرنا المال وهو في التحقيق ضرب الدية عليهم، فإن اعتبرنا الاندمال في الجرح، والاندمال كان تقديراً على خلاف الحس". (3) في الأصل: "ولا". (4) في الأصل: "به".

يتبع؟ وهو الأصل المعروف بالجرح والشين، وظاهر القياس أنا لا نتُبع السرايةَ جرح الحكومة قط. 10797 - ومما فرعه الشيخ، [ولزم] (1) فيه الكلام لو قطع يدي رجل خطأ، ثم فرض جرُّ الولاء، وسرت الجراحة وأفضت إلى الموت، فالدية بكقالها مضروبة على موالي الأم؛ فإن مقدار اليدين دية كاملة. ثم يعترض هاهنا كلام من طريق التقدير عريٌّ عن فائدة ترجع إلى المغارم، وهو أن المضروب على موالي الأم أرش اليدين أم دية النفس؟ وهذا لا يتجه وقد قَطَع إحدى اليدين، [فإنا] (2) نقول: الواجب ديةٌ [أو بعضها] (3) على موالي الأم، وهاهنا إذا أوجبنا الدية على موالي الأم، والقتلُ وقع بعد الجرّ، لكان ذلك خارجاً عن القاعدة، وهذا قريب. والوجه عندنا أن نقول: المضروب عليهم دية النفس؛ فإنهم إنما يمتنعون عن التحمل إذا كان الموجَب يزيد بالموت. ونقول على هذا الأصل: لو قَطَعَ [من] (4) الحر اليدين والرجلين، ثم فرض الجرّ والموت بتلك الجراحات، فالواجب ديةٌ واحدة، وهي مضروبة على موالي الأم. ومما يتفرع على هذه النهاية أنه لو قطع اليدين قبل الجرّ، ثم فرض الجرّ، فعاد، وقتل ذلك الشخصَ خطأ، فإن فرعنا على ظاهر النص، فلا يجب إلا دية واحدة، وهي مضروبة على موالي الأم، ونجعل القتل الواقع بعد الجرّ بمثابة الموت المترتب على سراية تلك الجراحة، ولو سرت الجراحة التي موجَبها ديةٌ إلى الموت بعد الجرّ، لكنا نوجب تمام الدية على موالي الأم، وهذا متضح لا يعارضه إشكال. وإن فرعنا على مذهب ابن سريج، وأوجبنا ديتين، فيجب دية على موالي الأم ودية على موالي الأب إن اتسع عددهم لتحملها.

_ (1) في الأصل: "لزم" بدون الواو. (2) في الأصل: "فإنه". (3) في الأصل: "وبعضها". (4) في الأصل: "يد".

ولو قطع يداً قبل الجر ويداً بعد الجر، ووقع القطعان خطأ، وفرض الموت من الجرحين، فيجب نصف الدية على موالي الأم ونصفها على موالي الأب، والتعليل بيّن؛ فإنه جرى قبل الجر وبعده ما يقابل دية، ولا نظر بعد ذلك إلى السرايات. 10798 - ولو أَوْضَح قبل الجر، وقطع يداً بعد الجرّ، وفرض الموت من الجرحين، فلا يجب على موالي الأم إلا أرش المُوضِحة، ولا يجب على موالي [الأب إلا أرش] (1) اليد، والباقي [كما] (2) ذكره الشيخ في مال الجاني، وتعليل ذلك بيّن أيضاًً، فإنا ندير هذه التفريعات على مبالغ المقدرات. ولو قطع يداً قبل الجرّ وقطع يداً ورجلاً بعد الجرّ، وفرض الموت، فقد يظن الظان أن الدية توزع أثلاثاً على موالي الأب والأم؛ فإنه قد وجد قبل الجرّ ما أرشه نصف الدية، ووجد بعد الجرّ ما أرشه دية، ولو اندملت الجراحات، لضربنا على موالي الأم نصف الدية، وعلى موالي الأب دية، فإذا فرض الموت، وجب توزيع ديةٍ على دية ونصف (3). وهذا الظن زلل؛ من جهة أن الجراحات إذا أفضت إلى الموت، فلا معنى لتخيل مزيد على دية، حتى يقع التوزيع عليه، بل تبيّنا أن الواجب دية، ثم استقر على موالي الأم نصفها، فيجب على موالي الأب نصفها. وستأتي مسائل لابن الحداد في آخر الكتاب -إن شاء الله- فيها يبين حقائق التوزيعات على الجراحات من جانٍ واحد، ومن جناةٍ. هذا منتهى القول في [جرّ] (4) الولاء. 10799 - وما ذكرناه فيه يجري في طريان الاسلام على الجاني مع فرض جرح في

_ (1) زيادة لاستقامة الكلام. (2) في الأصل: "فما". (3) على دية ونصف: أي بنسبة دية ونصف، أي يجب توزيع الدية -التي لا يجب غيرها عند الموت- أثلاثاً، كما توزّع دية ونصف عند الاندمال، وهذا الظن خطأ كما سيشرح الإمام في العبارة الآتية مباشرة. (4) في الأصل: "آخر".

الشرك، والنظر يتردد فيما على عاقلة المسلمين، والفروع التي قدمناها والصور التي أوردناها تعود في طريان الإسلام، غير أنا لا نستريب في أن ما لا نضربه على العاقلة المسلمة لا نضربه على بيت المال، وقد تقدم تقرير هذا بما فيه مَقْنَع. وقد ذكرنا في كتاب الجراح طرفاً من الكلام في طريان الردة بعد نفوذ السهم، وزوالِها قبل وقوع السهم في المرض، وهو كاملٌ في فنه، ولا نعيده. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا جنى رجل بمكة وعاقلته بالشام ... إلى آخره" (1). 10800 - نقل المزني في هذا الباب مسألتين: إحداهما - أن من جنى وله عواقل غُيَّب هم الأقربون، ولو فرض [الضرب] (2) عليهم، [لاستوعب] (3) الضرب عليهم المبلغَ المطلوب، ولكن في الضرب عليهم وهم غُيّب مسيسُ حاجةٍ إلى انتظار زمان، وللقاتل من الأقارب طائفةٌ حضور، فهل للسلطان أن [يضرب] (4) على الحضور؟ في المسألة قولان: أحدهما - وهو الأقيس أنا لا نضرب على الحضور، ونجعل وجودهم كعدمهم، ونسعى في الضرب على الغُيَّب، والقاضي إن أراد قضى عليهم، وإن أراد أثبت القتل، وكتب إلى قاضي الناحية التي بها الغيّب، حتى يكون هو القاضي عليهم. هذا هو الوجه، وهو طريق السعي في إثبات الحق عليهم. والقول الثاني - أن للسلطان أن يضرب على الحضور؛ فإن هذا الباب مبناه على المواساة، وعلى تحصيل الغرض بطريق التناسب، ولهذا يتعدى الأقارب إلى الأباعد إذا فضل من الواجب شيء بعد حصص الأقربين، فإذا كان يعسر الوصول إلى الغيّب، فلا يمتنع على قاعدة الباب الضربُ على الحضور.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 141. (2) في الأصل: "القرب". (3) في الأصل: "لا نستوعب". (4) في الأصل: "يصرف".

وتمام البيان في ذلك يتعلق بشيئين: أحدهما - أنا إن جرينا على القياس، لم يخف الحكم، و [إن] (1) قلنا بجواز الأخذ من الأباعد الحضور، فيجب ألا نُجري هذا في كل غَيْبةٍ، وإن كانت مسافة القصر، فإن الضرب سهل على من يبعد عن مكان القتل بمرحلتين، وكذلك لو زادت المسافة، فلا بد من رعاية التعذر، وأقرب معتبر في هذا التعذر عندي متلقّى من الأجل الشرعي، فإن كان يمكن تحصيل الغرض من الغيّب في مدة سنة، فليس الأمر متعذراً، وإن كان لا يتوصل إلى الضرب عليهم في سنة، فيمكن أن نقضي عند ذلك بالتعذّر، ويجري فيه القولان. ومما ينشأ من هذا الموضع أن العواقل لو لم يشعروا بالجناية حتى مضت سنة، أُخذ العقل منهم إذا وجدناهم عند منقرض السنة على الصفة المرعية في الضرب. ومما يترتب على هذا -وهو الأمر الثاني- أنا إذا فرّعنا على [الأخذ] (2) من الأباعد، فليس لأولياء القتيل [الانفراد به] (3)، بل يجب صدَرُ ذلك عن الإمام؛ فإن مبناه على تعذر يدٍ، [ومُدرَك هذا] (4) يقتضي [إثباتاً] (5) كإثباتنا رَفْع النكاح بالإعسار بالنفقة. هذا بيان إحدى المسألتين. [وفي] (6) تحقيقها بقية سأذكرها على إثر المسألة الثانية إن شاء الله. 10801 - وهي (7) أن الأرش إذا قل قدره، وكثرت العواقل، ولو فضضنا ذلك المقدار على عددهم، لاحتجنا إلى تعب في التقسيط والجمع، [ففي] (8) المسألة

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "الآخر". (3) في الأصل: "الاسرادية". (4) في الأصل: "ومدركه وهذا". (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: "في". (7) وهي: أي المسألة الثانية. (8) في الأصل: "في".

قولان: أحدهما - أنه يُفضّ عليهم، كما لو اجتمعوا، فأتلفوا ما قيمتُه نصفُ دينار، وإذا ثبتت الحقوق، لم يختلف الأمر فيها بتقدير الفضّ والقسمة. [والقول] (1) الثاني - أن الإمام [يُحصّل] (2) ذلك من بعضهم؛ فإن الباب مبنيٌّ على التيسير، فله أن يسلك المسلك الأيسر. وقد يتجه عندنا في هذا القول أن نقول: الواجب نصف دينار، أو ربع دينار، وهو على واحد منهم لا بعينه، فيعيّنه من إليه التعيين. ثم إذا تبين هذا، فإن فرّعنا على القول الأقيس، فلا كلام، وإن فرعنا على القول الأخير، فهل نقول: لوليّ القتيل أن يطالب من شاء منهم، أو لابد من تعيين السلطان؟ هذا فيه تردد، ويجوز أن يقال: يجب أن يكون صَدَرُ التعيين من السلطان؛ حتى يكون أقطع للخصومة [وأنفى] (3) للنزاع. ويجوز، أن يقال: لولي القتيل أن يطالب من شاء؛ فإن المسألة إذا فرضناها في كونهم موسرين لا تستند إلى اجتهاد؛ [فالسلطان] (4) إذا عين، لم يكن تعيينه عن اجتهاد، وإنما يكون عن وفاق، وبهذا يضعف هذا القول. وقد قال الأصحاب لما فرعوا على القول القديم في أن جماعة لو قتلوا واحداً لا نقتل إلا واحداً منهم: إن ولي القتيل يعين من شاء منهم. 10802 - والذي وعدته من تمام البيان ما نصفه الآن، فنقول: إذا [وظف] (5) الإمام على بعض العواقل، فقد انقطع الأمر، ولا تبعةَ، ولا رجوعَ، وإذا ضربنا على الأباعد الحضورِ، ثم حضر الغُيّب، فليس يبعد أن يرجع الأباعدُ عليهم، ويكون ما بذلوه مُنزَّلاً على حكم النيابة، ويجوز أن يقال: انفصل الأمر بتقديمهم، فلا مراجعة ولا تبعة.

_ (1) في الأصل: "والقسم". (2) زيادة يقتضيها السياق. (3) في الأصل: "وأبقى". (4) في الأصل: "السلطان". (5) في الأصل: "وصف".

[باب عقل الحلفاء]

[باب عقل الحلفاء] (1) قال الشافعي: "ولا يعقل الحليف إلا أن يكون مضى بذلك خبر ... إلى آخره" (2). 10803 - وليس هذا ترديد قول منه، ولكن لما كان مدار هذه الأبواب على الأخبار، لم يُبعِد [لمتانة دينه] (3) -مع وفور حظه في الحديث- أن يصحَّ خبرٌ لم يبلغه، فقدّر الكلامَ كما أشعر به ما ذكرناه، ومضمون الباب أن [التحالف] (4) لا حكم له [لا] (5) في ثَبَتِ (6) الإرث، ولا في ضرب العقل، وإنما يُتلقى ضرب العقل من القرابة، كما سبق تفصيلها، أو الولاء، أو الجهة العامة، ولا مزيد. فصل ْقال الشافعي: "إذا كان الجاني نوبياً، فلا عقل على أحد من النوبة ... إلى آخره" (7). 10804 - قد ذكرنا أن التعويل في ضرب العقل على [النسب] (8) أو الولاء، فإن لم يكونا، فالرجوع إلى بيت المال، فإذا جنى رجل مجهول غريبٌ جنايةً، ولم نعرف له مناسباً (9) ولا مولىً، [لم] (10) نضرب العقل على أهل بلده، ولا على الجنس الذي

_ (1) يبدو أن الباب كتبت بالحمرة في نسخة الأصل، فلم تظهر في التصوير، وظهرت مسافة سطر خالية كأنها بياض، والمثبت من " مختصر المزني". (2) ر. المختصر: 5/ 142. (3) في الأصل: "لما به ديته" فانظر رعاك الله أين طوّح بنا التصحيف، ولا تنسنا من دعوةٍ بخير. (4) في الأصل: "الكالف". (5) في الأصل: "إلا". (6) " ثَبَتَ الإرث": أي ثبوت الإرث. وهذا دأبُ الإمام في مثل هذه المصادر، فيقول: صَدَرَ، ويعني صدور، ويقول: حَدَثَ، ويعني حدوث. (7) ر. المختصر: 5/ 142. (8) في الأصل: "السبب". (9) مناسباً: أي قريباً من النسب. (10) في الأصل: "فلم".

يعود هو إليهم، كالنوبي إذا جنى -وهو كما وصفناه مجهول الحال- فلا نضرب أرش جنايته على النوبة، كذلك القول في طبقات الخلق، وإذا لم نجد له من هو مختص به، فالضرب على بيت المال، ثم على السلطان نظرٌ في البحث [عن] (1) المختصين به، فإن لم يجدهم، [ضرب] (2) في بيت المال. ثم لو انتسب هو إلى أقوام، راجعناهم، فإن اعترفوا، ففي ثبوت الانتساب بالاعتراف تفاصيل قدمناها في كتاب الأقارير، فإن من ادعى أنه ابن فلان، فاعترافه مع الإمكان يُثبت النسب، وإن ادعى [أخوّة] (3) [معين] (4) واعترف ذلك المعيّن، لم يثبت النسب إلا أن يكون كلَّ الورثة، ولا معنى للخوض في ذلك. ومنشأ هذا المنتهى أن النسب إذا لم يثبت بالإقرار بالعمومة [والأخوة] (5)، فهل نضرب عليهم العقلَ مؤاخذة لهم بالأقارير؟ هذا يُخرَّج على أن أحد الورثة إذا قال: هذا أخونا، هل يؤاخذ بإقراره في تسليم حصة ما في يده إليه، أم لا؟ فيه كلام بيّنٌ مقرر في موضعه، وإذا كنا نُحوَجُ إلى [تطويل] (6) الكلام بالمباحثات في مواضع الحاجات، فينبغي أن نقبض الكلام إذا لم تكن حاجة. فصل قال: "وإذا حكمنا على أهل العهد ألزمنا عواقلهم ... إلى آخره" (7). 10805 - إذا قتل الذمي مسلماً خطأ، فالعقل مضروبٌ على عاقلته الذمية، وإن قتل ذمّي ذميّاً، تعلق التفصيل بأنا هل نحكم عليهم إذا ترافعوا إلينا؟ ثم إذا ضربنا على

_ (1) في الأصل: "على". (2) في الأصل: "ضور". (3) في الأصل: "آخر". (4) زيادة يقتضيها السياق. (5) في الأصل: "والأجرة". (6) في الأصل: "تطويح". (7) ر. المختصر: 5/ 142.

عواقلهم، فلا نطالب كلَّ واحد منهم إلا بما نطالب به الواحد من المسلمين، فإن فضل [من] (1) الأرش فاضلٌ، فهو [مضروب] (2) [في مال الذمي] (3) الجاني، ولا مطمع [في] (4) ضربه على بيت المال، وهذا تمهد [قبلُ] (5)، وذلك أنه لو مات ولا وارث له، فماله مأخوذ لا على سبيل الخلافة عنه والوراثة، بل نأخذه [كمالٍ انجلى الكفار] (6) عنه من غير قتال، حتى قال المحققون: ما نأخذه من تركة الذمّي الذي لا وارث له مخمّس كالأموال التي نظفر بها من غير قتال، فنصرف خمسَه إلى أهل الخمس، وأربعة أخماسه إلى أهل الفيء، كما تقررت مصارف الفيء في كتابها، وهذا لا شك فيه. ولو كان للذمي الجاني أقارب حربيون، فهم [كالمعدومين، وإن قَدرَ الإمامُ على الضرب عليهم، فينبني على أن اختلاف الدار هل يمنع التوارث؟ إن قلنا: نعم، فيمتنع الضرب أيضاًً. وإن قلنا: لا، ففيه وجهان، لانقطاع المناصرة باختلاف الدار، (7) [وإن كان له أقارب ذميون غُيَّباً] (8)، فإن تيسّر الرجوع إليهم، فذاك، وإن تعذّر لطول المسافة، فهل نأخذ من الذمي الجاني؟ فعلى قولين، كما ذكرناه في الأباعد الحضور والأقارب الغُيّب. وإن كان تعذر الضرب عليهم عن امتناع، فليسوا أهل الذمة (9).

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "مصروف". (3) في الأصل: "في بيت مال الذمي". (4) في الأصل: "على". (5) في الأصل: "هذا". (6) عبارة الأصل: "كما لا نجلى الكفارة". (7) ما بين المعقفين زيادة من الشرح الكبير للرافعي: 10/ 477. واضطررنا لوضع هذه الزيادة تقديراً منا أنها سقطت من الأصل، حيث خلا كلام الإمام من الحكم فيما إذا كان له أقارب حربيون، وبنحو هذا قال الغزالي في البسيط أيضاًً. (8) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها، حيث ذكر الإمام حكم الغُيّب من غير أن يسبق ذكره لهم، فتأكد أن في الكلام سقطاً وهو ما زدناه إن شاء الله. (9) هذا يؤكد أن حديث الإمام وحكمه في أقارب ذميين، فقد فرض تعذر الضرب عليهم لسببين: =

ولو فرض ما ذكرناه في المعاهدين -وهم أصحاب العهود المؤقتة- فهم كأهل الذمة إذا كانت مدة عهودهم لا تقصر عن أهل الضرب، وإن كانت مدتهم سنة والعقل في ثلاث سنين، أخذنا منهم حصة السنة، ورجعنا في الباقي إلى القاتل. ولو كان القاتل يهودياً وأقاربه نصارى أو على العكس، فللشافعي رضي الله عنه قولان: أقيسهما - أنا نضرب عليهم -وإن اختلفت مللهم- إذا (1) جمعهم الكفر، كما نورث البعض من البعض [وإن] (2) اختلفت أديانهم، والقول الثاني - أنا لا نضرب موجَب جنايةِ كافرٍ على من ليس من أهل ملته؛ فإن ضرب العقل مبناه على التناصر، وهذا [مفقود] (3) عند اختلاف الملل. ومما فرعه الأئمة في ذلك أن الذمي إذا جنى، ولم نجد له عاقلة من الكفار، [حيث] (4) تجب الدية، [فالدية مأخوذة] (5) من ماله، ثم هي تتأجل عليه حَسَب التأجل على العاقلة، وليس لقائل أن يقول: الآجال أثبتت في حقوق العواقل تخفيفاً عليهم، فإذا طالبنا القاتل، فلا أجل؛ لأن أصل الأجل ثابت، وهذا كما أن الدية إذا تغلظت [بشبه] (6) العمد، ضربت على العاقلة، وإن كانوا لا يستحقون التغليظ عليهم. 10806 - ثم قال الأئمة: إذا كنا نضرب العقل على الذمي، فلو وجدنا له أباً أو ابناً، فهل نضرب عليهما؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنا لا نضرب عليهما؛ فإنهما

_ = أحدهما - لبعد المسافة، وهذا حكمه معروف. والثاني - الامتناع عن قبول الحكم بالضرب، وحينئذ يكونون قد نقضوا عهد الذمة، وليسوا أهلها. * تنبيه: تأمل في هذه الحواشي، لتتأكد أنها ليست فروف نسخ، فنسخة الأصل وحيدة، وإنما المثبت في الصلب هو من ثمرة المعاناة في استكناه الصواب وتوسمه. (1) بمعنى"إذ". (2) في الأصل: "فإن". (3) في الأصل: "مقصود". (4) زيادة لاستقامة الكلام. (5) في الأصل: "فالدية هي مأخوذة". (6) في الأصل: "بستون".

ليسا من العواقل. ومن أصحابنا من قال: نضرب عليهما، [فإنا بنينا] (1) منع الضرب على [أب] (2) القاتل وابنه على منع الضرب على [القاتل] (3) نفسه، فإذا كنا نضرب على القاتل، لم يبعد أن نضرب على أبيه وابنه، وهذا ضعيف لا أصل له. فإن قلنا: لا يضرب عليهما شيء، فلا كلام، وإن قلنا: يضرب عليهما، اختلف أصحابنا في المقدار المضروب: فمنهم من قال: لا يزيد ما نضربه على كل واحد منهما على نصف دينار على قياس الضرب على العواقل. ومنهم من قال: الدية مضروبة على القاتل وابنه وأبيه أثلاثاً؛ فإن هذا ليس على قياس الضرب على العواقل. ومما يبلغ مني المبلغَ التام حاجتي إلى نقل كلام رجل كبير (4) مع القطع ببطلانه، كرأيٍ في هذه المسألة، فإن الضرب على الأب والابن في نهاية البعد، ثم الضرب على الجاني وعليهما أثلاثاً لا تخييل فيه، فضلاً عما عليه التعويل، ولا وقع للتلفيقات اللفظية. فرع: 10807 - قد قدمنا في أصول المذهب أن الابن لا يضرب عليه شيء من العقل، فلو كان الرجل ابنَ الجاني وكانَ ابنَ عمه (5) أو كان معتقه، فهل يُضرب عليه شيء من العقل [لجهة] (6) العمومة أو للولاء؟ ذكر العراقيون والشيخ وجهين: أقيسهما - أنه يضرب عليه، ويجعل كأن البنوة لم تكن، وهذا كما أن الابن يزوِّج أُمَّه بالقضاء

_ (1) غير مقروء في الأصل هكذا " انا د ـ ـا ". (2) في الأصل: "أن". (3) في الأصل: "العاقل". (4) الرجل الكبير الذي يشير إليه الإمام هو الإمام أبو علي الطبري، ولم يصرح الإمام باسمه إجلالاً له. ولكن الإمام الرافعي صرح باسمه في الشرح الكبير 10/ 482. هذا، وقد سبق التعريف بالإمام أبي علي الطبري. (5) يتصور بأن يكون الجاني امرأة تزوجت ابن عمها، فابنها هو ابن ابن عمها، فهنا اجتمعت جهة البنوة وجهة العمومة في شخص واحد، ولا يضرب عليه بالبنوة، فهل يضرب عليه بالعمومة؟ هذا تصور المسألة. (6) في الأصل: "لهداية".

والولاء، ويزوجها إذا كان ابنَ عمها (1)، ويقال: البنوة لا تقبل الولاية، ولكنها لا تنافيها بجهةٍ أخرى. والوجه الثاني - أن الابن لا يتحمل؛ فإنه بعضُ الجاني، ويعظم عليه الضرب على بعضه، كما يعظم عليه الضرب في نفسه، وهذا لا يختلف بأن يكون ابن عم أو لا يكون كذلك، فرجع حاصل الخلاف إلى أن البنوة تنافي تحمل العقل أم لا تقتضي تحمل العقل؟ ...

_ (1) أي ابن ابن عمها.

[باب] [وضع الحجر حيث لا يجوز وضعه، وميل الحائط]

[باب] [وضع الحجر حيث لا يجوز وضعه، وميل الحائط] (1) [قال الشافعي رضي الله عنه: "لو وضع حجراً في أرضٍ لا يملكها ... إلى آخره" (2). 10808 - القتل قد يقع بالمباشرة من القاتل، وقد يقع بالأسباب] (3)، فأما الواقع منه بالمباشرة، فقد تقدمت أقسامه، وغرض هذا الباب الكلام في الأسباب، ونحن نجعل حفر البئر في صدر الباب معتبراً، ثم نلحق به ما في معناه بذكر ضابطٍ جامع. فإذا احتفر الإنسان بئراً، لم يخل من أحوال: إما أن يحفرها في ملك الغير غصباً واعتداء، [وإما أن يحفرها في ملك نفسه] (4)، فإن حفرها في ملك نفسه، فتخطّى الملك متخطٍ وتردى فيها، [فلا] (5) ضمان إذا لم يكن من صاحب الملك دعاء إلى الطروق. ولو احتفر البئر في ملكه، ودعا إنساناً إلى تخطي ملكه، والدخول فيه، فإذا دخله، فتردى في البئر، لم يخل: إما أن تكون البئر محتفرة في طريق [ضيقة] (6)، لا مدخل إلى الملك غيرُها، ولا محيص للداخل عن التردِّي في البئر، وإما ألا تكون

_ (1) هذا العنوان من عمل المحقق، ففي الأصل بياض قدر سطر كامل، وقد أخذنا هذا العنوان من (المختصر) للمزني حيث التزم الإمام الجري على ترتيبه. (2) ر. المختصر: 5/ 143. (3) كل ما بين المعقفين من تصرف المحقق، على ضوء منهج الإمام في افتتاح الأبواب والفصول، وعلى ضوء مضمون الباب الآتي، فقد جاء شرحاً وتفصيلاً لعبارة الشافعي هذه. أما عبارة الأصل، فقد جاءت بعد سطرٍ بياضٍ هكذا: "قال رضي الله عنه إذا العقل فأما الواقع منه بالمباشرة ... ". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "ولا". (6) في الأصل: "صنعة".

البئر محتفرة في مضيق، ويمكن الازورار عنها، مع دخول الملك، فإن لم يكن الازورار ممكناً مع الدخول، ولا يتم الغرض في هذا التصوير إلا بفرض تغطية [البئر؛ كي] (1) لا يرى رسمَها الطارق، أو تقدير الدعاء في ظلمة، فإن كان كذلك، فهو بمثابة [تقديم] (2) الطعام المسموم [إلى الضيف] (3) وقد مضى القول فيه مفصلاً. ومن أصحابنا من جعل الصورة التي ذكرها الآن أولى بوجوب الضمان [من] (4) تناول الطعام المسموم؛ فإن التناول والازدراد تعاطٍ بفعلِ المتلف، بخلاف الطروق، فإن التردي يقع لا عن اعتمادٍ (5) إليه. ولو كانت البئر مائلةً وأمكن تقدير الازورار عنها، فإذا فرض من المالك الدعاء إلى دخول الملك، فدخلها المدعو وتردّى، فللأصحاب طريقان: منهم من قطع بانتفاء الضمان؛ فإن أصل الاحتفار لم يكن مستنداً إلى عدوان، وكان حق الداخل أن يتحفظ أو يتصوّن في أحواله، وهذا هو المسلك الأصح. ومنهم من جعل في الضمان قولين على الترتيب الذي سيأتي في البئر المحتفرة في الطريق الواسعة إذا تردى فيها المتردي. وتمام البيان في ذلك أن البئر إذا غُطِّي رأسُها، ثم فرض الدعاء إلى التردد (6)، فالضمان في هذه الصورة قريب، والأوضح إيجابه؛ لأنه يناسب تقديم الطعام المسموم، فلئن كان يفرض من الداخل ميل وانحراف عن منهج السير، فتقرر على الوفاق (7) تخطي البئر، فالحالة على الجملة حالة إلباس. ولو قدم الرجل أطعمة إلى إنسان، وفي بعضها سم، وكان من الممكن ألا يتعاطى المسموم، ويكتفي بغيره، فإذا تعاطاه، فأمْر الضمان مرتب على ما إذا قدم إليه طعاماً مسموماً متّحداً، والصورة

_ (1) في الأصل: "التردي". (2) في الأصل: "تقرع". (3) في الأصل: "اذا لضعيف". (4) في الأصل: "في". (5) اعتمادٍ: أي قصدٍ. (6) أي إلى الدخول. (7) أي حدث وفاقاً، والمعنى أن احتمال الضمان قائم.

التي ذكرناها آخراً أولى بانتفاء الضمان إذا نسب إلى تقديم الطعام الفردِ المسموم. 10809 - ثم إنا نذكر في هذا القسم ما يتعلق بتصرفات المُلاّك في أملاكهم الخاصة فيما يتعلق بالضمان، فنقول: إذا احتفر بئراً في داره وكانت مَفيضةً للفضلات، فانهارت البئر، وأفضت إلى تردي أساس جدار دار الجار، وترتب على ذلك انتقاض الجدار، فلا ضمان، وهذا مما اتفق أصحابنا عليه. والسبب فيه أن الأملاك لا تستقل دون البالوعات والآبار، ولو أوجبنا الضمان بسبب ما تُفضي إليه المرافق لعظُمَ الأمر، ثم يعارض إسقاطَ الضمان أن الجار لا يُمنع من مثله في ملك نفسه، فاقتضى الشَّرَع (1) بينهم الإرفاقَ، وتمهيدَ الارتفاق، والتسويةَ بين الناس، ثم كل مالك في الغالب ضنين بملك نفسه، والخلل من ملكه يتعدى إلى ملك غيره، فهذا الشَّرَع يعوِّل على الثقة بالملاك من الاحتياط لأملاكهم، مع ما قررناه. ثم اتفق المحققون على أن هذا مشروط بمراعاة الاقتصاد، وردّ الأمر إلى الاعتياد، فلو ملك الرجل حجرة متضايقة الخط (2)، فاتخذ من عرضها بئراً، وسيّبها، [وفي فِنائها] (3) الحجرة وحواليها، فهذا ما نمنع منه، ولو فعله، كان متعدياً، ولكن الرجوع فيه إلى العادة ولا يبعد ضبطه؛ فإن ذلك لا يعد ارتفاقاً، وقد يجري فيه أن ملك المالك يتلف به، فهذا إتلاف الملك وليس ارتفاقاً بالملك. وعلى هذا إذا [أجّج ناراً لطبخٍ] (4) أو إيقاد تنّور أو ما أشبهها مما يُعتاد، واتفق طيران شرارٍ إلى [كوخ] (5) أو إلى دار [وشبّب] (6) حريقاً، فلا ضمان.

_ (1) الشَّرَع: السواء والمساواة. (المعجم). (2) الخط: المساحة، فالخط كل مكان يخطه الإنسان لنفسه. (المعجم). (3) في الأصل: "وفيها". (4) عبارة الأصل: "احتج بأن الطبخ" تأمل كيف تم التصحيف. (5) في الأصل: "كوس". ولعلها من عامية خراسان بمعنى آخر، والله أعلم. (6) في الأصل: "وجب"، و"شبب" يعدى بالتضعيف. (مصباح).

وإن أجج [ناراً ضخمة] (1) لا تحتمل تيك الدارُ مثلَها، فأفضت إلى [حريق] (2) يجب الضمان. وكذلك القول في سقي البساتين، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من هذا في حفظ حريم القنوات، ومجموع ذلك يرجع إلى اتباع العادة. فإن وقعت صورة من الصور على تردد في أنها على [الاعتياد] (3) أم ليست عليه، فهي مردودة إلى نظر النظار، فقد يتحد وجه الرأي فيها وقد ينشأ خلاف، كما يجري مثل ذلك فيما يُبنى على العادات، وانتهى كلام الأصحاب في ذلك إلى أن قال القفال: لو أوقد النارَ في السطح، أو في مكان قريب منه [واليوم] (4) ريح، وقد يغلب على الظن انتشار شرار من النار، فالاعتياد غالب في التحريم من إيقاد النار في مثل هذا المكان والزمان، فإذا تساهل، ولم [يَتَحرَّ] (5) عُدّ مقصّراً. وإن أشعل النار والهواءُ مطمئن، ثم هاجت الرياح قبل استمكانه من إطفاء النار، وكان [تهيجها] (6) على هذا النسق نادراً، فلا ضمان. وإن احتفر بئراً في أرض خوارة، ولم يطوها بالطوب، فهي إلى الانهيار، ولا يفعل ذلك إلا مسرفٌ أو أخرقُ. وكل ما لا يفعله القيِّم في ملك الطفل نظراً له، ولو فعله وأفضى إلى تلف ملك الطفل يضمن، فإذا فعله المالك المُطْلَق، فأفضى إلى تلف ملك جاره، كان ذلك مبنياً على الخروج عن العادة، غيرَ أن القيّم يقصُر فعله على حد الحاجة، والمالك لا يؤاخذ بهذا. وإنما غرضنا في الاستشهاد والتسوية أن الحاجة لو مست، وترك الاحتياط في طريق التمهيد والتحري، فإذ ذاك يضمن، كما أشرنا إليه، وبدون ما ذكرنا يتبين الفطن المراد.

_ (1) في الأصل: "فإذا حجمه". (2) في الأصل: "حزير". (3) في الأصل: "الإعسار". (4) في الأصل: "والرم". (5) في الأصل: "يتجدد". (6) في الأصل: "سحها". كذا.

وعليه بنى الأئمة ما لو وضع حجراً على سطحه، أو حُرْديّاً (1) فأسقطتها الريح، فإن كان ما فعل على الاعتياد، فلا ضمان فيما يتولد من سقوطها، وإن كان على خلاف الاعتياد، وجب الضمان. 10810 - ولا ينبغي أن يظن الفقيه أن منفعة المتصرف تُرعى، فقد يفعل ما لا منفعة له فيه، ثم لا ضمان إذا أفضى إلى التلف، إذا لم يكن في طريق التلف مقصراً. 10811 - ومما يتصل بهذا القسم أنه لو بنى جداراً على ملكه ولم يُمله، فسقط الجدار من غير انتسابه إلى تقصير، فلا ضمان أصلاً، وإن مال الجدار إلى جانب ملكه، فتركه مائلاً، فسقط في ملكه، ثم طارت رأسه إلى خارج الملك، وأفسدت شيئاًً، فلا ضمان. ولو بنى الجدار مائلاً إلى الشارع أو بناه مستنداً، فمال إلى الشارع، ثم سقط، فسنذكر هذا في القسم المشتمل على التصرف في أرض الشارع وهوائه، فانتظم مما ذكرناه أن التصرف المقتصد في الملك لا [يوجب] (2) الضمان ولا مثنوية (3) في ذلك إلا في الصيد الحرمي إذا تردى في بئر محتفرة في ملك، فإن من أصحابنا من أوجب الضمان، وقد مضى ذلك في كتاب المناسك. 10812 - فأما إذا احتفر بئراً في موات، فليس احتفاره تعديّاً، ولو تردّى فيها [متردٍّ] (4)، فلا ضمان، ولا فرق بين أن يقصد باحتفار البئر تملكها وبين ألا يخطر له ذلك، فلا مؤاخذة عليه فيما يتصرف به في الموات، كاحتفار بئر، أو [أخْذ ترابٍ] (5) أو جمع أحجارٍ، ونصب [صُوىً] (6) وأعلامٍ، وإذا احتفر في موات

_ (1) الحرديّ بضم الحاء وسكون الراء: حزمة من قصب تلقى على خشب السقف. (كلمة نبطية). (المصباح). (2) في الأصل: "يجب". (3) بمعنى استثناء. (4) زيادة لاستقامة الكلام. (5) في الأصل بياض في هذا المكان. (6) في الأصل: "صور".

الحرم [بئراً] (1)، وتردى صيد، ضمنه إجماعاَّ. 10813 - فأما إذا احتفر في ملك الغير غاصباً، أو نصب فيه حجراً، فهو معتدٍ بفعله، ولو فرض ترتب التلف على ما صدر منه، وجب الضمان، وقد ذكرنا احتفار البئر في الأرض المغصوبة وما يتعلق به أمرُ المالك بطمِّها، ورضاه بتركها، ولم نغادر من أطراف الكلام شيئاً إلا أتينا عليه في كتاب الغصوب. 10814 - فأما الكلام في الشوارع والمواضع المشتركة [التي] (2) تحقق تعلّقُ حقوق العامة بها، [فالكلام] (3) ينبسط في هذا الطرف، وقد يمتزج بالأملاك، فنذكر احتفار البئر أولاً، ثم نذكر ما يلتحق به. فنقول: إن كانت الطريق [أو] (4) الشارع ضيقةً على الساكن، فاحتفر بئراً فيها، وقد يجري في الظنون جرياناً ظاهراً التردي فيها، أو التأذي [بها] (5) فهذا اعتداء، وإذا ترتب عليه تردي الطارق -على ما سنصف ذلك بعد نجاز الكلام في ذكر أسباب العدوان - تعلّق الضمان به، فإن استبد الحافر، ضمن، وإن راجع فيه من [إليه] (6) [الرأي] (7) ضمن؛ فإن الحفر في صورته عدوان، وإذن الوالي فيه مخالف لموجب الشرع، فإن اعتمده (8)، فقد ظلم وإن ظن ظناً جائزاً، فقد أخطأ. وإن كانت الطريق واسعة لا يشق على الطارقين -مع الاتساع-[حفرُ] (9) البئر، فإذا فرض الاحتفار على هذا الوجه، لم يخل: إما أن يكون لمنفعة عامة [تعود] (10) إلى

_ (1) غير مقروءة في الأصل. (2) في الأصل: "الذي". (3) في الأصل: "والكلام". (4) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل رسمت هكذا: (المـ ـا) تماماً. (انظر صورتها). (5) في الأصل: "منها". (6) في الأصل: "اليد". (7) زيادة من المحقق. (8) أي الوالي، واعتمده أي تعمده، والمعنى تعمد مخالفة الشرع. (9) في الأصل: "مرمى" هكذا تماماً. (10) زيادة اقتضاها السياق.

عامة الخلق، وإما أن يكون لمنفعة [يبتغيها] (1) الحافر. وإما أن يفرض الاحتفار في غير منفعة، فإن كان الاحتفار لمنفعة المسلمين، مثل أن يفرض احتفار بئر [ليستقي] (2) الناس منها، أو يفرض احتفار بئر يتسرب إليها فضلات المرازيب (3)، [يُصوّر] (4) بإذن الوالي ومن غير إذنه، وللأصحاب طريقان: منهم من قال: إن كان بإذن الوالي، فليس عدواناً، ولا يتعلق به ضمان، وإن كان بغير إذن الوالي، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه عدوان يتعلق به عند فرض ترتب التلف عليه الضمانُ، والثاني - أنه ليس بعدوان. توجيه القولين: 10815 - من قال: إنه ليس بعدوان وجه ذلك بانتفاء الضرر، وتحقق النفع، وألحق ذلك بوجوه المعروف التي يُستَحَثُّ العامة عليها، ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن حقوق العامة ثابتة على الاشتراك، ووجوه النفع والضرر لا ينضبط فيها وجه الرأي، والتصرف في الشارع على الجملة تصرفٌ في محل حق الناس عامة؛ فليس للأفراد حق الاستبداد. هذا مسلكٌ. ومن أصحابنا من عكس هذا الترتيب، وقال: إن انفرد بالاحتفار من غير مراجعة مَن إليه الأمر، ثم فرض التردي، وجب الضمان، وإن راجع الوالي، وفرض الاحتفار بإذنه، ثم تردى في البئر المحفورة متردٍّ، ففي وجوب الضمان قولان. والطريقة الأولى أمثل؛ فإن الحفر إذا كان للمصلحة، وكان صَدَرُه عن إذن الناظر في المصالح نظراً في الرأي الكلي والجزئي، [فيبعد] (5) تقدير الضمان، ولو أقر الإمام ابتداء باحتفار بئر، ثم فُرض التردي فيها، فلا يصير إلى إثبات الضمان -والحالة هذه-

_ (1) في الأصل: "يتبعها". (2) في الأصل: "ما يستقي". (3) المرازيب جمع مرزاب، لغة في الميزاب (المصباح). (4) في الأصل: "تضرر". (5) زيادة اقتضاها السياق.

[إلا جسورٌ] (1)، غير خبير بوضع الإيالة الكلية، والمصلحة الجزئية، ولا نأمن أن صاحب الطريقة الثانية يجعل احتفار الإمام -إذا أفضى إلى تلف متردٍّ- من الأسباب التي تضرب مثلاً [لما يُفضي] (2) إلى هلاكٍ من غير استحقاق. وفي غلطات الأئمة كلامٌ طويل، وترتيب وتفصيل، وهو يأتي، إن شاء الله عز وجل. ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه من الترتيب فيه إذا كان الغرض [من] (3) الاحتفار مصلحة عامة، فأما إذا قصد الحافر مصلحة نفسه في احتفاره، فأفضى إلى تردٍّ وهلاكٍ، فإن انفرد، لم يختلف العلماء في وجوب الضمان، وإن استأذن الوالي، ثم فرض التردي، فالذي قطع به الأئمة، أنه يجب الضمان عليه، وفي بعض التصانيف حكايةُ وجه في نفي الضمان إذا كان [الحفر] (4) بإذن الوالي في الطريق الواسعة، فإن رجع الحفر فيها إلى الحافر، [ثبت الضمان] (5). [وهذا] (6) بعيد عن التحصيل. فإن قيل: إذا أثبتم الضمان، فهل يجوز للوالي أن يأذن فيه؟ قلنا: لا بأس عليه لو أذن فيه، إذا كان الغالب على الأمر أنه لا يجر ضرّاً، وهذا بمثابة ما لو أذن للإنسان أن يهىء لنفسه مقعداً في وسط الشارع، [وأن يرفع دِكّة] (7)، وقد يضع حجراً أو قد يحفر زُبية (8)، فيردّ فيها الأمتعة، وكل ذلك سائغ. أما البناء الذي إذا تطاول [إلى أعلى] (9) أوشك أن يُظَنّ مستحَقاً، فلا يسوّغ، وقد مهدنا معظمَ هذه القواعد في كتاب الصلح.

_ (1) في الأصل: "للأجور". (2) في الأصل: "ويفضي". (3) في الأصل: "في". (4) في الأصل: "الحقه". (5) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام. (6) في الأصل: "فهذا". (7) في الأصل: "فأن يرفع دركه". (8) زبية: أي حفرة. وعبارة الغزالي في البسيط: "كما يجوز له ذلك في حفرة يقصُر فيها الأمتعة ". (البسيط: 5 ورقة 69 شمال). (9) في الأصل: "إلى من عليه". وفيها تصحيف لم يقدّر لنا أن ندرك وجهه.

فأما إذا [احتفر] (1) حفرة لا غرض فيها للناس ولا له، [وتؤذي] (2) الطارقين، فهو عدوان لا شك فيه. والتحقيق الجامع للفقه يجري بعد نجاز الرسم للمسائل. 10816 - ومما يليق بهذا المنتهى تصرف الناس في [هواء] (3) الشارع، وذلك بإخراج القوابيل (4) من الأملاك، وإخراج المرازيب: إن لم يكن على العامّة ضرر من إخراج الأجنحة والقوابيل، [فلا نَمْنَع] (5) من إخراجها. وقد ذكرنا تفصيل الضرر المرعي باعتبار الفرسان والركبان في كتاب الصلح، فلا نعيده، ونكتفي [بإجمال] (6) القول، والإحالةُ في التفصيل على ما تقدم. ثم من [أخرج قابولاً] (7) مضرّاً على المارة [مضيّقاً] (8) عليهم، فهو منقوض عليه، وإن لم يكن مضرّاً، فلا اعتراض عليه، ولا حاجة [تُحْوِجُه] (9) إلى مراجعة الوالي بخلاف التصرف في الشارع نفسه؛ فإنه محل الطروق، ومتعلق استحقاق الاستطراق، ولا استحقاق للطارقين في الهواء، وإنما المرعي فيه أن لا يجرّ عليهم ضرراً في طروقهم.

_ (1) في الأصل: "احتفرنا". (2) في الأصل: "وتؤثر في". (3) في الأصل: "هذا". (4) القوابيل: جمع قابول. وهو الساباط، والساباط هو سقيفة تحتها ممرٌ نافذ، والجمع سوابيط. أما القابول بمعنى الساباط، فيقول عنه الفيومي في المصباح: "هكذا ذكره الغزالي، وتبعه الرافعي، ولم أظفر بنقلٍ فيه". قلت: هكذا استعمله إمام الحرمين، ثم تبعه الغزالي، ثم الرافعي، ولعل هناك من استعمله قبل إمام الحرمين، ولما نصل إليه. (5) في الأصل: "ولا يتبع". (6) في الأصل: "بإكمال". (7) في الأصل: "إخراج بولا". (8) في الأصل: "مصرّفاً". (9) في الأصل: "تخرجه".

ثم من كان معتدياً في إخراج فسقط خراجُه (1) وأتلف شيئاًً، أو أهلك حيواناً، فلا شك في وجوب الضمان، فإن لم يكن [معتدياً] (2) بإشراع الجناح، فانقضّ وسقط على شيء فأتلفه، فالذي أطلقه الأصحاب وجوب الضمان، وأجمعوا على قولٍ جامعٍ في هذه الفنون، [فقالوا] (3): [من تصرّف] (4) في هواء الشارع بما يرجع إلى غرضه ومقصوده الخالص ضامن لسلامة العاقبة، وإن كان فعله [مشروعاً] (5). ثم قالوا: إذا أخرج ميزاباً، فاتفق سقوطه وإفضاؤه إلى تلفٍ، ففي وجوب الضمان وجهان: أحدهما - لا يجب الضمان أصلاً. والثاني - يجب. ووجه قول من قال: يجب الضمان: القياسُ على [الجناح] (6) المشترع، والجامع رجوع [شغل] (7) الهواء إلى منفعة المتصرف فيه. ومن نفى الضمان، [قال] (8): الحاجة ماسة إلى إخراج المرازيب، ولا تستقل الأبنية المزاحمة للشوارع المتخللة بين الأملاك من مرافق الأملاك، وإنما هي ازدياد في اتساع [أرفقة] (9) البيوت والعرصات، ولا يمتنع أن يكون تجويزها مشروطاً بسلامة العاقبة، فإن قلنا: لا يجب الضمان، فلا كلام. وإن حكمنا بإيجاب الضمان، فلو تقطّع القدر [البارز] (10) في هواء الشارع وأُبين وسقط، وبقي المقدار الذي كان ثابتاً في الملك، فما يَتلفُ في ضمانه (11) على هذا

_ (1) خراجه: أي ما أخرجه. (2) في الأصل: "مضموناًً". (3) في الأصل: "وقالوا". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "مسوّغاً". (6) في الأصل: "الجراح". (7) في الأصل: "متصل". (8) في الأصل: "فإن". (9) في الأصل: "أوقفة". (10) في الأصل: "النادر". (11) أي في ضمانه كاملاً، لأن الجزء الذي وقع الإتلاف بثقله كان كله في هواء الشارع، أي في غير ملكه.

الوجه. [وإن] (1) تقلع المرزاب وسقط بجملته، وأفضى إلى التلف، فالذي ذكره الأصحاب أنه يجب بعض الضمان في مقابلة ما كان بارزاً، ويسقط ما يقابل الذي كان في الملك. ثم اختلفوا في كيفية التقسيط، فذهب الأكثرون إلى التنصيف كيف فرض الأمر، وعلى أي قدر صوّر البارز والداخل في الملك، وهذا هو القياس المرتضى في هذا المنتهى. ومن أصحابنا من قال: نضبط وزن الخارج ونردّ ما كان داخلاً في الملك ونوزع الثبوت والسقوط عليهما. وهذا بعيد؛ فإنه إذا ضرب رجلان رجلين بعمودين متفاوتين في [الرزانة والثقل وأفضت] (2) الضربات إلى الهلاك، فالدية نصفان، فإن كان صاحب الوجه الأخير يسلم هذا، فلا جواب له عنه، وفي هذا الرمز تنبيهٌ للفطن، وهذا يشير إلى زيادة [أسواطٍ] (3) في الحد، وقد تقدم خلافٌ فيه، وسيأتي مستقصًى في الحدود، والذي لا ننظر فيه إلى أعداد الجراحات، فإنها غائرة غير مضبوطة الآثار. 10817 - ومن التصرفات في الشوارع [جمع الكناسات] (4)، وطرح قشور البطيخ، ورش الماء: أما طرح قشور البطيخ، وما في معانيها، فللأصحاب فيه طرق: منهم من قال: لا ضمان فيها على الطارح؛ لأن الشوارع كما قررنا من مرافق الأملاك، ولو مُنع الملاك من طرح الكناسات والفضلات في [الشوارع] (5) الواسعة، لضاقت عليهم الأملاك، وقد تمس الحاجات إلى تكلّف صور لا استقلال بها. ومنهم من قال: يتعلق الضمان بها، لأن المقصود الذي ينسب الشارع إليه

_ (1) في الأصل: "إن". (2) في الأصل: "الوراثة والثقل واقتضى". (3) في الأصل: "أشواط". (4) في الأصل: "جميع العمارات". (5) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

الاستطراقُ، وكل ما يؤثر فيه إن كان ظاهراً، [فهو ممنوع] (1)، وإن كان خفياً، [يجرّ] (2) على الندور ضرراً [على طارقٍ، فهو] (3) مقرون بشرط سلامة العاقبة. ومنهم من قال: إن جمعت هذه الفضلات في الزوايا أو في الأوساط التي لا ينتهي إليها المارة غالباًً، فلا يتعلق بها ضمان، إذا أفضى إلى تلف نادرٍ، فإن طرحت على متن الطريق وسَرَارةِ (4) الشارع، فهي من أسباب الضمان. والوجه عندنا القطع [بأن] (5) الإلقاء على متن الطريق سببُ الضمان، وردّ التردد إلى الإلقاء على الأطراف، والمواضع التي لا ينتهي إليها المارة في الغالب. وأما [رش الماء] (6)، فإن كان لغرض صحيح [كتر طيب] (7) التراب، حتى لا يثور الغبار، فهو وجه في مصالح المارة، إذا لم ينته إلى [التزلّق] (8)، فلو خَرَّ بعير -والحالة كما وصفناها- ففي تعلق الضمان به خلاف، وإن انتهى إلى حد [التزلّق] (9)، فهو في معنى طرح قشور البطيخ، والعادة المألوفة فيها أنها تجمع في الزوايا، ثم إذا [كثرت] (1)، نُقلت.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، وهي من لفظ الغزالي في البسيط، ونص عبارته: " ... لأن مقصود الطرق الاستطراق، وما عداه إن جرّ ضرراً، فهو ممنوع، هان كان ضرره خفياً، فقد يجوز بشرط سلامة العاقبة". (ر. البسيط: 5 ورقة: 70 شمال). (2) في الأصل: "ممر". (3) في الأصل: "على طار ونهر". (4) سرارة الطريق: وسطه وأفضله. (المعجم). (5) زيادة لاستقامة الكلام. (6) في الأصل: "إلى مى". كذا تماماًَ رسماً ونقطاً. وهذا من مستبشع التصحيف. والعبارة التي اخترناها بين المعقفين، مأخوذة من كلام الإمام آنفاً، حيث أجمل الارتفاق بالطريق في: جمع الكناسات، وطرح القشور، ورش الماء، ثم أخذ يفصلها، وهذا أوان الكلام عن رش الماء، كما يفهم من كلامه الآتي بعده. (7) في الأصل: "كتنضيد". (8) في الأصل: "الرفاق". (9) في الأصل: "القولين". (10) في الأصل: " الـ ـوـ ". كذا.

والضابط في هذه الأجناس أن ما يجاوز الاعتياد عدوان، وما يقع على حد الاعتياد، ففيه تردد في وجوب الضمان عند الإفضاء إلى التلف. 10818 - وممّا [تشتدّ] (1) الحاجة [إليه] (2) ويظهر فيه إسقاط الضمان، ولا يخلو عن خلافٍ في إيجابه [هو إتلاف البهائم] (3). والوجه عندنا أن نقول: البهائم الطارقة إذا كانت تبول وتروث، ثم فرض تزلق بعض المارة بأبوالها وأرواثها، فلا ضمان على أصحاب الدواب؛ فإن هذا مما لا يمكن التصون منه، وفي إثبات الضمان فيه - منعٌ من المرور والطروق، فإن كان يتجه [نفي الضمان في اشتداد الحاجة، فهذا] (4) أولى الصور، وقد ذكر الأصحاب فيها وجوب الضمان على من يستاق البهائم (5)، والذي ذكرته مأخوذ من كلام الأئمة عند اعتبارهم الضرورة الخاصة، والحاجة البيّنة في إسقاط الضمان، وإذا كانوا يُسقطون الضمان في المرازيب لحاجات الأملاك؛ فلأن يسقطوا الضمان في [هذه الحالة أولى. وأما ضمان ما يَتْلَف إذا كان يركب] (6) الدابة، فجفلت أو عضت، فهذه الأشياء تُنسب إلى [خُرْق] (7) الفارس، فإنه بين أن لا يحسن صون مركوبه، وبين أن يركب

_ (1) في الأصل: "تستند". (2) في الأصل: "فيه". (3) زيادة من المحقق. وسوّغ لنا هذه الزيادة أن التفصيل يأتي بعدها لأحكام إتلاف البهائم، على حين لم تسبق إشارة إلى ذلك من قبل. (4) في الأصل: "ففي ضمان اشتداد الحاجة هذا". (5) الذي استقر عليه المذهب هو ما رآه الإمام: "لا ضمان" ونص عبارة النووي في الروضة: " ... وإذا راثت الدابة، أو بالت في سيرها في الطريق، فزلق به إنسان، وتلفت نفس أو مال، أو فسد شيء من رشاش الوحل بممشاها وقت الوحول والأنداء، أو مما يثور من الغبار، وقد يضر ذلك بثياب البزازين والفواكه، فلا ضمان في كل ذلك؛ لأن الطريق لا يخلو عنه، والمنع من الطريق لا سبيل إليه" (ر. الروضة: 10/ 198). (6) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها، حيث سقط ما يؤدي معناها من الأصل. (7) في الأصل: "جزء". هكذا تماماًً رسماً ونقطاً، واخترنا أقرب الألفاظ صورة إلى اللفظ =

دابة نَزِقة لا تنقاد لمثله، وعلى أي وجه فرض، فهو مقصر. 10819 - فهذه جمل في أسباب الضمان، ولكنها مرسلة لا تثبت في حفظ الفقيه ما لم تنخرط في سلك الفقه، والضبطِ الجامع المعروف المشتمل على تبيين المنازل والمراتب، ونحن نقول والله المستعان: ما [يشرع] (1) من تصرفات الملاك في أملاكهم لا [يجرّ] (2) ضماناً قط، وليس مقروناً بشرط سلامة العاقبة. وما يجري في الموات [لا يجري] (3) عدواناً، ولا يتضمن ضماناً. وأما ما يجري في الشوارع إن كان ممنوعاً، ثم أفضى إلى تلفٍ، [فهل يجب] (4) الضمان به؟ حاصل المذهب فيه أقوال: أحدها - يتعلق الضمان به. والثاني - لا يتعلق، والثالث - يفصل بين أن يكون صادراً عن إذن الوالي وبين ألا يكون صادراً عن إذنه. فأما ما يجري من المارة في أنفسهم كبول البهائم وروثها في أنفسها، فقد سبق الكلام فيه: نقلاً وتنبيهاً، والرَّمحُ والرَّفسُ والعضُّ يتعلق بالراكب والسائق والقائد، وفي هذا باب [يأتي] (5). وأما ارتفاق الملاك بالشوارع، فالممنوعُ منه سببُ الضمان، والمجوَّز منه ينقسم إلى الارتفاق من غير اشتداد الحاجة، وإلى ما تشتدّ الحاجة فيه، فأما الارتفاق المحض، فإن كان مسوّغاً، فهو على مذهب الأصحاب مقرون بشرط السلامة [كالأجنحة والقوابيل] (6) إذا سقطت، وما اشتدت فيه حاجات الأملاك، ففي ثبوت أصل الضمان فيه خلاف كالمرازيب، وعلى هذين القسمين [إخراج القمامات] (7) وطرح القشور. 10820 - ويتعلق بهذا المنتهى كلام متردد بين تصرف الملاك في أملاكهم، وبين

_ = الموجود بالأصل، كدأبنا في هذا الحال. (1) في الأصل: "يسوغ". (2) في الأصل: "يسوّغ". (3) في الأصل: "يجرّ". (4) في الأصل: "أوجب". (5) في الأصل: " ما ـ ـه ". (6) مكان كلمتين غير مقروءتين بالأصل " رسمتا " هكذا: " والرحن والتواليل ". (7) في الأصل: " أخرجنا الضمانات ".

ارتفاقهم بالشارع: فمن بنى جداراً على ملكه، وأمال طرفَه إلى الشارع، فالطرف الممال بمثابة الجناح. ولو بناه غير مائل، فمال وسقط من غير استمكان من الاستدراك، فلا ضمان؛ فإن [الباني] (1) تصرف في ملكه على الاعتياد. وإن بنى الجدار مستوياً، فمال وأمكن تقويم الجدار؛ فإنه [إن] (2) بقي مائلاً زمناً، ولم يتفق تقويمه ولا نقضه حتى تهدّم [وخرّ] (3) ملقى، ففي وجوب الضمان على صاحب الجدار وجهان: أصحهما - وهو الذي يدل عليه ظواهر النصوص أن الضمان لا يجب؛ نظراً إلى أصل البناء، فإنه كان ارتفاقاً بالملك على ما يجب. ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان؛ لأنه كما (4) [مال أمكن] (5) استدراكه، [وإن] (6) كان في حكم ما يبني كذلك، وقد ذكرنا أنه لو بُني مائلاً، كان المقدار [المائل] (7) الشاغل لهذا الشارع بمثابة الجناح، وهذا مذهب أبي حنيفة (8)، غيرَ أنه يُفصِّل تفصيلاً لا يساعده عليه أصحاب هذا الوجه الثاني، ويقول: إذا أشهد على صاحب الجدار إنسانٌ شاهدين، ونبهه على صورة الحال ثم فرض السقوط بعده، وجب الضمان، وإن لم يجر إشهاد، لم يجب الضمان، وهذا لا يصير إليه أحد من أئمتنا. وكنت أود لو فرق فارق بين أن يعلم صاحب الجدار، ثم يفرض انتسابه إلى [التقصير] (9) وبين ألا يعلم، ولم أر هذا لأحد من أئمة المذهب.

_ (1) في الأصل: "الثاني". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "وجد". (4) كما: بمعنى عندما (5) في الأصل: "قال وأمكن". (6) في الأصل: "فإن". (7) في الأصل: "الملك". (8) ر. مختصرالطحاوي: 253، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 168 مسألة 2279، و5/ 164 مسألة 2277. (9) في الأصل: "النقص".

وقد انتهى رسم المسائل في أسباب الضمان، وذكر معاقد المذهب في كل مرتبة والتنبيه على تعاليل التفاصيل. 10821 - ونحن نختم هذا الفن بنوع آخرَ مجموعٍ وجيزٍ، فنقول: اللائق بالفقه بالكلتاب [أنه لا يجب بسبب] (1) فعل مباح على التحقيق ضمانٌ، والذي أطلقه الفقهاء من أن تعزير الزوج زوجته، والمؤدب تلميذه مباح، مشروط بسلامة العاقبة، كلام عري عن التحصيل؛ فإن التعزير المباح هو المقدار الذي لا يفضي إلى الهلاك، فإن أفضى إليه، تبين أن المعزِّر جاوز الحد: إما في قدر الضرب، وإما في [توقِّي ما] (2) يجب أن يتوقى من البدن، وإما في ترك النظر في زمان أو حال المضروب المؤدَّب، فنتبين أن فعله ليس مباحاً، ولكنه خطأ، ولو علمه واعتمده، لكان عدواناً على التحقيق، وقد أجرينا أن إخراج القابول مباح مشروط بسلامة العاقبة. والذي يجب تنزيل هذا [عليه] (3) أن من تصرف في [ملكه] (4) لا يجب عليه من التحفظ الحدُّ الذي يجب على من يُخرج القابول، ثم يتعين أن [يرعى في دوامه] (5) ما يصونه عن السقوط، فماذا فرض سقوطه، [دلّ] (6) ذلك على تقصير في البناء، أو تقصير في مراعاة الصَّوْن في الدوام، فإذا تعلق الضمان به، أفضى إلى العلم بمجاوزة حد الأباحة المحضة ابتداء أو دواماً. وهذه الحدود غير مرعية في الأملاك، ولو قال الملاك: هذا وضع الشرع، وتبينا من هذا المنتهى أن من أخرج القابول، وتناهى في الاحتياط، فجرت حادثة

_ (1) في الأصل: "ولا يجب نصيب". (2) مكان بياضٍ بالأصل. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "ملك". (5) في الأصل: "يدعى في دوانه". (6) في الأصل: "عمل".

لا تُتوقّع من وجه، أو صاعقة [تندر] (1) وسقط القابول، فلست أرى إطلاق القول بالضمان. فلينظر من أدرك هذا المغاص في ذلك. واللهُ العليمُ. وهذا نجاز الأسباب التي هي أسباب العدوان على الجملة. 10822 - ونحن نعقد بعد هذا فصلاً في تفصيل الضمان وما يوفيه بما يُكمل البيان - إن شاء الله عز وجل- فنقول: إذا حفر حافرٌ بئراً فى محل عدوان، فإذا أطلقنا هذا اللفظَ، فالمراد به الحفرُ الموجب للضمان، فإذا تردى متردٍّ في مثل هذا البئر، وجبت ديته على عاقلة الحافر، ووجبت الكفارة على الحافر. فإن تردت بهيمة، فالضمان في مال الحافر، ولو كان مات الحافر وقسمت تركته، فالضمان الذي كان يتعلق بماله لو كان حياً يتعلق بتركته بعد وفاته، ولو كانت قُسِّمت وتطاول الزمان، فالضمان يتبعها، ثم لا يؤاخذ [المتردّي] (2) بتخطيه، [وإن] (3) كان سببُ [الهلاك] (4) تردّيه، بل يحمل الضمان على الحافر. وهذا يكاد يخرم قاعدة السبب والمباشرة؛ [فإنا] (5) مهدنا في الأصول المتقدمة أن المباشرة مقدمة على السبب، إذا لم يكن السبب [غالباً] (6)، أو في معنى الملجىء، ولا محمل لهذا في الأقيسة الجزئية إلا تغليظ الأمر على المعتدين، وزجرهم عن أسباب العدوان، ثم لم يفرق أحد من الأئمة بين أن يتفق التردي ليلاً أو نهاراً. ولا ينضبط هذا الأصلُ، ما لم نجدد العهدَ بمسألة ذكرناها في باب الاصطدام، ولا نُخلي إعادتها عن إفادةٍ وذكر زيادة.

_ (1) في الأصل: "تهد". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: "فإن". (4) زيادة لاستقامة الكلام. (5) في الأصل: "فإذا". (6) في الأصل: " عا ـ ـا ". ومعنى غالباً أي يغلب المباشرة بأن يخرجها عن كونها عدواناً مع توليده لها (ر. الروضة: 9/ 132).

10823 - قال الشافعي: "إذا صدم الماشي واقفاً، فمات الصادم والمصدوم، فالصادم ضامن لدية المصدوم" (1) وهو في نفسه [هدرٌ] (2) في حق المصدوم، ولسنا نعني بإضافة الضمان إلى الصادم الضرب على ماله، وإنما نعني ارتباط الضمان بعاقلته، ولكن التحفظ عسر في أثناء الكلام، وقال الشافعي: "لو تعثر ماشٍ بقاعد على الطريق فدية الصادم على عاقلة القاعد والقاعد المصدوم هدر" وقد قدمنا اختلاف أصحابنا في ذلك، وذكرنا أن منهم من نقل وخرّج وأجرى في المسألتين قولين: أحدهما - أن الضمان على الصادم منهما، والثاني - أن الضمان على المصدوم منهما على التأويل الذي ذكرناه في إضافة الضمان. ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرق [بين حالين] (3) كما سنعيد على حسب حاجتنا في هذا الفصل. وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً في أنه يجب تمام دية الصادم، وتمام دية المصدوم، ولم يصر أحد إلى تنزيلهما منزلة المصطدمَيْن؛ فإن المصطدمين مشتركان في فعلين [متماثلين] (4)، وهذا متحقق في الصادم والمصدوم في مسألتنا، وكان هذا القائل (5) يجعل الصادم متعدياً على نوعٍ، ويجعل المصدوم متعدياً على نوع آخر، ولم يجعل النوعين بحيث يتحقق الاشتراك بهما، وهذا على بُعده لطيف المأخذ، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى تنزيلهما منزلة المصطدمين. 10824 - فإذا تجدد العهد بهذه المسألة؛ فإنا نقول بعدها: الظاهر في قانون المذهب الفرق بين أن يكون المصدوم قائماً أو قاعداً، وكيف لا نقول هذا، والنص مصرح بهذا، والنقلُ والتخريج عندي تكلف، وسبب الفرق أن المنفعة المقصودة في

_ (1) ر. المختصر: 5/ 138. هذا. والمذكور هنا معنى العبارة، وإلا، فلفظها في المختصر: " إذا كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر، فماتا، فالصادم در، ودية صاحبه على عاقلة الصادم " ا. هـ. (2) في الأصل: "ملكه". (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: "بمالكين". (5) أي القائل بوجوب تمام دية الصادم، وتمام دية المصدوم.

الطريق المرور والطروقُ، ويغلب على المار أن يقف لانتظارٍ، أو تأمل، أو نفض ثوبه، أو [للاسترواح] (1)، فبالحري أن يكون الوقوف في حكم الجزء من المرور، فإذا كان كذلك، فلا اعتداء فيه أصلاً. وأما القعود، فإنه يبعد أن يكون ملتحقاً بالمرور، بل هو قطع المرور، والوقوف [أناةٌ] (2) في المشي، على أن من قال القائم كالقاعد، قال: رب مارّ يعيا ويكلّ، ويحتاج إلى انتظار، ويؤئر القعود، فمن سلك هذا المسلك ألحق القعود بحاجات المرور. وإنما قدمنا جميع ذلك لغرض، وهو أن من نصب حجراً، فتعقّل به إنسان من المارة، وجب الضمان على ناصب الحجر، والتعقل بالقاعد كالتعقل بالحجر، ثم لا خلاف أن نصب الحجر [مُضمِّنٌ] (3) وفي القعود التردد الذي ذكرناه، والسبب فيه أن القعود مما يطرى على المارة، ونصب الحجر لا تعلق له بأغراض المرور والطروق. 10825 - ثم إنا نندفع بعد هذا في تفاصيل أسباب الضمان، وتقديم البعض منها على البعض، والتسوية بين ما يجب فيه التسوية، فلو احتفر إنسان بئراً في محل عدوان، ونصب ناصب على شفير البئر حجراً، فتعقل المارّ بالحجر، وتردّى في البئر، فقد أجمع الأصحاب على أن الضمان على صاحب الحجر؛ فإنه سبب دفعه إلى البئر، والسبب كالمباشرة، فنجعل كأن مباشرَ نَصْبِ الحجر [باشر] (4) دفعَه، ولو فرض ذلك، لكان الضمان على الدافع، وإن كان الهلاك لا يحصل لولا البئر، [ودَفْعُ] (5) الدافع، فإن البئر يصير بمثابة الآلة [يصادفها] (6) مباشر القتل، [فيقتل

_ (1) مكان كلمةغير مقروءة. وأخذنا ما أثبتناه من كلام الإمام في المسألة نفسها، عندما عرض لها قبلُ، كما أشار إلى ذلك هنا. (2) في الأصل: "إياه". والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط. (3) في الأصل: "متضمن". (4) في الأصل: "مباشر". (5) في الأصل: "فدفع". (6) في الأصل: "يصادمها".

بها] (1)، ولولاها لما تأتى القتل، ولا ضمان على من هيّأ الآلة. ولو نصب ناصب حجراً، ونصب آخر [أمام] (2) الحجر سكيناً، فتعقّل المار بالحجر، ووقع على السكين، وهلك بسبب ما ناله من جرح السكين، فالضمان على ناصب الحجر (3). وقال الأئمة: لو استمسك الرجل بنصاب (4) سكين، وكان بين يديه إنسان واقف، فجاء آخر من ورائه، فدفعه على السكين، فإن لم يحرك صاحب السكين يده في صوب المدفوع، بل أثبتها، أو اكتنّت (5) يده، فالضمان على الدافع، هكذا قال الأصحاب، وإن حرك يده قدُماً في صوب الملقَى عليه، فيجب الضمان عليه حينئذ. ونحن نرسل هذه المسائل، ثم ننعطف عليها بالبحث والتنبيه على أغلب الوجوه، إن شاء الله. ولو ألقى رجل رجلاً من عُلوّ، فتلقاه إنسان واقفٌ بالسيف، وقدَّه نصفين، فالذي أطلقه الأصحاب أن الضمان والقصاص على القادّ. ومما ذكروه أن من حفر بئراً معتدياً، ونصب ناصب في أسفل البئر سكيناً، فتردى وصار في البئر، وهلك بالسكين، فالضمان على حافر البئر، وهذا جارٍ على قياس الدفع الذي ذكرناه في الحجر إذا فرض التعثر والوقوع في البئر، أو فرض التعثر به والتعثر بالسكين، المنصوب أمامه. ولو حفر حافر بئراً وجعلها عشرة أذرع (6)، فجاء آخر وعمقها، فتردى المار في

_ (1) في الأصل: "فيقل لها". (2) في الأصل: " أم ". (3) عبارة الأصل هنا: "فالضمان على ناصب الحجر. السكينة التي ذكرنا في الدفع، وقال الأئمة ... " وقدرنا أن هذه العبارة مقحمة، جاء بها رجع البصر في الفقرات الآتية بعد سطور. (4) نصاب السكين: هو مِقبضه أي الموضع الذي يقبض عليه منه. (مصباح). (5) اكتنت: من كنّ الشيء كنوناً أي استتر (المعجم). والمعنى هنا أن يده -عندما دُفع الإنسان الذي أمامه إلى السكين- رَجَعَت إلى الخلف، ولم يواجهه بالسكين، وخنسها عنه. (6) كذا " عشرة أذرع " بكل وضوح. ولا شك أن فيها تصحيفاً، فعشرة أذرع لا تضرب مثلاً لقرب =

البئر، وهلك، فما ذكره الأصحاب من قياس الدفع ينبغي أن يكون الضمان على المبتدىء بالحفر، فإنه في محل الدافع، وذهب بعض الأصحاب إلى أن الضمان مشترك، وهذا وإن كان يمكن توجيهه، فهو هادم لما قدمناه في الحجر والسكين، والحجرِ والبئر، والسكينةُ التي ذكرناها في الدفع قوية (1). فإذا بيّنتُ هذه المسائل، فلا نأخذ [في] (2) غيرها حتى ننعطف عليها بالتنقيح والتصحيح، ثم نأتي بعدها بما يليق بالترتيب: 10826 - فمما ذكرناه الحجر والبئر، وتقدير الحجر كالدافع، وهذا وإن كان متفقاً عليه، ففيه سؤال: [فالحجر] (3) سببٌ في الدفع وليس دفعاً، والبئر سبب في الهلاك وليس إهلاكاً، فلا يبعد من طريق القياس أن يقال: اجتمع السببان، فيشترك [المتسببان] (4) في الضمان، وليس من الإنصاف أن نجعل الحجر كالدافع المباشر، ونجعل البئر على حقيقة السبب، فإن قدرت سبب الدفع دفعاً، فقدِّر سببَ الهلاك إهلاكاً.

_ = العمق، فعشرة أذرع بمقاييس عصرنا تدور بين أربعة أمتار ونصف، وبين سبعة أمتار ونصف، وكلاهما عميق مهلك. وتعبير الغزالي والرافعي والنووي: "فجعلها قريبة العمق" ولعل صوابها: وجعلها أربعة أذرع، أو عشرة أشبار أو أفتار. (1) الكلام هنا في تقديم أحد سببي الهلاك على الآخر، وإحالة الهلاك عليه دون الآخر. فالهلاك وقع في الصور الثلاث بوجود سببين معاً: البئر والحجر، السكين والحجر، السكين والدفعُ من الخلف، ولولا اجتماع السببين في كل صورة ما كان الهلاك، ولكن قدم أحد السببين على الآخر ونُسب الهلاك إليه وحده، فجعل نصب الحجر الذي تعثر به المتردي في البئر كأنه باشر دفْعه وألقاه في البئر، وكذلك جعل الحجر الذي نصب أمام السكين كانه هوِ الذي دَفَع وألقى من هلك على حد السكين، وأما الصورة الثالثة فظهور الدفع (أقوى) فهو دَفعٌ في الحقيقة وإلقاء على حد السكين. هذا معنى قوله: "والسكينة التي ذكرناها في الدفع قوية" أي في الدلالة على (قياس الدفع) كما سماه الإمام. وأخيراً نقول: ربما كانت العبارة: "وصورة السكينة التي ذكرنا في الدفع قوية" والله أعلم. (2) في الأصل: "من". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "المنتسبان".

ولو ألقى ملقٍ إنساناً على سكين بيد إنسان، فتلقاه صاحب السكين، فالهلاك منهما، والضمان عليهما، فهذا وجهٌ في الإشكال بيّن. وما ذكره الأئمة رضي الله عنهم من إلقاء الواقف على السكين القائم أظهر إشكالاً من هذا؛ فإن [رَمْي] (1) السكين وإسقاطَه ممكن، والاستمساك به والتحامل عليه ليدوم منتصباً كيف محطُّه، فإن كان هذا مفضياً حيث يتفق الدفع [والاعتمادُ] (2) على وجهٍ لا يمكّن صاحبَ السكين فيه من طرح السكين، فإذ ذاك يجوز أن يُكفَى الضمان، وهذا مما لا أستريب فيه، ولست أردّ على من مضى ولكن أحمل كلامهم على الصورة الأخيرة - ومن أعظم الدواهي ما وقع من الخلل في نقل النقلة. أما مسألة الحجر والبئر، فلا شك أن المذهب [فيها] (3) ما ذكره الأصحاب، والشافعي [صوّر] (4) تلك المسألة (5)، فلا مزيد على ما قال الأصحاب، والإشكال قائم في التعليل إلى أن يحلّه ذو فكر صائب. وأما مسألة القد، فقياسها بيّن؛ فإن القتل على الحقيقة إنما صدر من القادّ، وليس الملقي في حكم المشارك له، بل هيأ له القتل، فكان الملقي كالممسك، الذي [يقرّب الشخص بإمساكه لسلاح من يقتله] (6). وفي بعض التصانيف حكاية وجه غريب أن القاتل هو الملقي، وهذا بعيد لا أصل له، ولم [يقل أحد باشتراكهما] (7).

_ (1) في الأصل: "مل". (2) في الأصل: "والاعتقاد". (3) في الأصل: "منها". (4) في الأصل: "صدّر". (5) ونص عبارة الشافعي: "ولو وضع حجراً في أرض لا يملكها وآخر حديدة، فتعقل رجل بالحجر، فوقع على الحديدة فمات فعلى واضع الحجر، لأنه كالدافع، ولو حفر في صحراء أو في طريق واسع محتمل، فمات به إنسان ... فلا شيء فيه" (المختصر: 5/ 143). (6) عبارة الأصل: "يهرب من الشخص بإمساكه السلاح من يقتله"، والمثبت تصرف من المحقق. (7) في الأصل: "بخل أحد اشتراكهما".

وقد انتهى غرضنا في هذا الفن نقلاً وبحثاً. 10827 - ثم قال الأصحاب: لو احتفر إنسان بئراً في محل عدوان، ثم جاء السيل بحجر، فانتصب على شفير البئر، فتعقّل به متعقل، وتردّى، فالمتردي هدرٌ؛ لأن الحجر كالدافع، وليس انتصابه مضافاً إلى ضامن، فلا وجه إلا الإهدار، ويلزم من هذا المساق أن كل من احتفر بئراً [فجاء آخر وجعل على حافة البئر أيَّ نتوءٍ، ولو كان هذا البئر] (1) في مضيق من الطريق، فمن تعثر [بالنتوء] (2)، وسقط في البئر، فلا ضمان على حافر البئر، ونُرتِّب عليه أن الضمان إنما يجب على الحافر إذا تردى المتردِّي بخطوه في البئر، هذا لا بد منه، إذا تمهد الأصل المقدم، وكذلك إذا وضع الحجر على شفير البئر، وفرض التعقل والتردي، فلا ضمان أصلاً. فرع: 10828 - إذا طرحت قشور البطيخ في الطريق وجرينا على أنها سببُ الضمان على الجملة، فقد ذكر صاحب التلخيص تفصيلاً نستاقه على وجهه، ثم نذكر وجه الصواب، قال: "قشر البطيخ إذا طرح، فإن كان الوجه المطعوم منه يلي الأرض والوجه الآخر يلي الهواء، فإذا وضع المارّ رجله عليه [وتعثر] (3)، نظر: فإن لم يتحرك القشر، فلا ضمان، والتعثر [والتكفؤ] (4) محمول على عثرة المار؛ فإن الوجه الذي لا طعام عليه لا يُزلّق، والوجه الذي عليه الطعام لم يتحرك حتى يُحملَ التزلقُ عليه، فكان سقوط المارّ غيرَ مضاف إلى القشر. وإن تحرك القشر، وهو على هذه الهيئة تحت القدم، وسقط المار، وجب الضمان؛ لأن كل ذلك محمول على [مزلّة] (5) تحت القدم، ثم التعثر مرتَّب عليه. ولو كان الوجه المطعوم بحيث يلي الهواء، والوجه الآخر يلي الأرض، فوضع

_ (1) مكان بياض بالأصل، وقدرناه على ضوء السياق، حيث لم نجد هذه المباحثة عند الغزالي، ولا الرافعي، ولا النووي. (2) غير مقروءة في الأصل. (3) في الأصل: "وتغير". (4) في الأصل: "والتكثر". (5) في الأصل: "منزلة".

المارُّ قدمه عليه، فإن تحرك القشر تحت القدم، وسقط المار، فلا ضمان، والأمر محمول على [عثرةٍ وِفاقيّة] (1)؛ فإن القشر إذا تحرك مع القدم -والذي يلي الأرض لا ينزلق- فلا مزلق من جهة القشر، وإنما الرجل [انساق] (2) للحركة [متعرضاً فيها] (3). وإن [كثر] (4) القشر -وهو على الهيئة التي ذكرناها آخراً- وانملس (5) القدم، فهو محمول على تزلق الطعام البادي للهواء". هكذا ذكر صاحب التلخيص وطائفة من طوائف الأصحاب (6). [وذهب] (7) معظم المحققين إلى إبطال هذا التفصيل في الصورتين والمصير إلى أنَّ الضمان يجب، فإن القشر سبب [التعثر] (8) حيث فرض الأمر، ولا يُنْكر ظهور الإحالة عليه، وما ذكره في الصورة الأخيرة من أن القشر إذا تحرك، فلا ضمان في ذلك، فإنه في الغالب يتحرك بوطأة الواطىء، وينعصر من الرطوبة عليه ما يزلق الجلد، فلا خير في هذا التفصيل. وما ذكره في الصورة الأولى أمثل قليلاً إن كان الوجه البارز للهواء خشناً لا يفرض التزلق عليه، والغالب أنه مما يفرض التزلق عليه، إما [لملاسته] (9) -فإن ذلك غير منكر في أجناس البطاطيخ- وإما لكونه رَخْصاً حاوياً رطوبة.

_ (1) في الأصل: "غيره وما فيه" وزاد من بشاعة التصحيف أن الناسخ قسم كلمة (وفاقية) بين السطرين، فجعل آخر السطر: (غيره وما) ثم بدأ السطر بعده بنصف الكلمة الآخر مصحفاً إياه (فيه). (2) في الأصل: "إنسان". (3) كذا بالأصل. (4) في الأصل: "يكثر". (5) انملس: أفلت ولم يستمسك. (6) لم نجد هذا في التلخيص المطبوع الذي بين أيدينا، فلعل فيه سقطاً. (7) في الأصل: "ذهب" (بدون الواو). (8) في الأصل: "التغير". (9) في الأصل: "لملابسه".

فإن كان نشفاً خشناً والوجه المطعوم مما يلي الأرض، [فلا] (1) يبعد اعتبار التحرك. 10829 - وخرج من مجموع ما ذكرناه طرقٌ: منها ما حكيناه عن صاحب التلخيص في التفصيل. والطريقة الثانية - وهي التي ذهب إليها معظم المحققين أنا لا نفصل بين التحرك وعدمه، وبين أن يكون الوجه بادياً أو كان مما يلي الأرض. والذي (2) ذكرناه [قبلُ من] (3) تصويبه في اشتراط التحرك إن كان الوجه البادي نشفاً، فهو لو تفصل على هذا الوجه، لم [يبعد] (4). [ويتعلق] (5) بتمام البيان أن من رش الماء، حتى انتهى إلى مبلغ تزلُّقٍ، فهو من أسباب الضمان، كما تقدم، ولكن يشترط أن يضع المتعثر قدمه على موضع الزلق من حيث لا يشعر، فإن وضع قدمه عليه وهو [يعاين] (6) الأثر المزْلق فتزلّق، فلا ضمان أصلاً، وهذا يجري في وطء [القشور] (7) كيف فرضت، وهو بمثابة ما لو وضع [الساقط] (8) قدمَه على شفير البئر وهو [معاين] (9) فإذا تردى، فلا ضمان على الحافر، وإن كان الرش غير منته إلى الزلق، وكان فيه منفعةٌ ظاهرة، فهو كاحتفار البئر لمنفعة المسلمين، وقد مضى التفصيل فيه [وانتجز] (10) بهذا القول في مضمون الباب.

_ (1) في الأصل: "ولا". (2) هذه هي الطريقة الثالئة، وخلاصتها التفصيل بين التحرك وعدمه، أو بالأحرى: اشتراط التحرك إذا كان الوجه البادي نشفاً. (3) في الأصل: "متضمن في تصويبه". (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "تعلق" (بدون واو). (6) في الأصل: "مقام". (7) في الأصل: "النسور". (8) في الأصل: "الثاني". (9) في الأصل: "معافر". (10) في الأصل: "فلا ينجر".

فصل 10830 - إذا احتفر رجل بئراً في محل عدوان، فتردى فيها متردٍّ، [وانجرّ عليه ثانٍ] (1)، ثم سقط ثالث على الثاني، إلى أي عدد يُفرض. فلا يخلو إما أن يتفق التساقط من غير جذب، وإما أن يتفق بين المتساقطين جذب، وذلك بأن تزل قدم الأول، فيجذب ثانياً، ثم يجذب الثاني ثالثاً. فإذا تبين الغرض في هذا العدد، نبني في الزوائد عليه. [فإذا] (2) كانوا ثلاثة - وقد جذب الأول الثاني، والثاني الثالث، وانهاروا في البئر، فإن تفاوتت مساقطهم، ولم يقع أحد على أحد، وماتوا بسبب التردي - فالجواب بيّن: أما الأول فديته على عاقلة الحافر، ودية الثاني على الأول؛ فإنّ جذبه عمدٌ محض، ولولا فوات الأول، لتكلمنا في القصاص عليه، وتجب دية الثالث على الثاني. 10831 - وأول ما تجب الإحاطة به قبل الخوض في نقل المذاهب أنه قد [اجتمعت] (3) أسبابٌ في إهلاك هؤلاء، يجمعها البئر [والجذب] (4). ثم اختار الأئمة المعتبرون في هذه المسألة مذهبَ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وذلك أنه قال: الأول مات بسبب صدمة قعر البئر، وسببِ سقطةِ الثاني ووقوعِه عليه، وسببِ سقطة الثالث، فإنه وإن وقع على الثاني، فلا شك أن ثقله يؤثر في الأول، فهلاكه مضاف إلى ثلاثة أشياء: أحدها - صدمة البئر، والثاني - ثقل الثاني، والثالث - ثقل الثالث، وقد انتسب الأول إلى سبب واحد من هذه الأسباب الثلاثة، وهو سقوط الثاني عليه؛ لأنه جذبه وكان سقوطه بسببه، فخرج منه أن الدية

_ (1) عبارة الأصل: "فتردى فيها متردي انجر عليه ثم سقط ثالث .. ". (2) في الأصل: "وإذا". (3) في الأصل: "أجمعت". (4) في الأصل: "والحرب".

تثلّث، فالثلث فيها على عاقلة [الحافر] (1)، ويهدر الثلث، ويجب الثلث الثالث على عاقلة الثاني؛ لأنه جذب الثالث، [فكان] (2) تثقيلُ الثالث الأولَ مضافاً إلى جذب الثاني. وكأنا نؤثر أن نصوّر ذلك على وجه شبه العمد، حتى ينتظم الكلام على نسق واحد. وأما الثاني، فهلاكه مضاف إلى جذب الأول إياه، وإلى جذبه الثالث، فهدر النصف من ديته لمكان جذبه، ويجب النصف من ديته على الأول بجذبه إياه. والأمر يطول في الفرق بين العمد وشبه العمد، [والضرب] (3) للعاقلة وخاصّ مال الجاذب، وليس ذلك من غرضنا الآن. وأما الثالث، فهلاكه مضاف إلى جذب الثاني لا غير، فيجب تمام ديته على الثاني إن تعمد. هذا مذهب علي. وإن زاد العدد، لم يخف التفريع، فلو كانوا أربعة ووجد الساقط على الصورة التي ذكرنا من الجذب ووقع البعض على البعض، فقياس ما ذكرناه أن هلاك الأول مضاف إلى البئر وإلى ثقل الثاني والثالث والرابع، وإذا تخيلنا هذه الأسباب الأربعة، فننظر ما يضاف فيها إلى الأول فإذا هو جذبه الثاني، فنهدر ربع ديته، ويجب ربع ديته على عاقلة الحافر، وربعها على عاقلة الثاني لجذبه الثالث، وربعها على عاقلة الثالث لجذبه الرابع. وهلاك الثاني بجذب الأول إياه، وبثقل [الثالث والرابع] (4) وهي ثلاثة أسباب، واحد منها مضاف إليه، وهو جذبه الثالث، [فهدر] (5) ثلث ديته، ويجب ثلثها على الجاذب الأول، وثلثها على الثالث لجذبه الرابع.

_ (1) في الأصل: "الجاني". (2) في الأصل: "وكان". (3) في الأصل: "والبعض". (4) في الأصل: "الثاني والثالث". (5) في الأصل: "فهذا".

وأما الثالث، فهلاكه مضاف إلى سببين: أحدهما - جذب الثاني إياه، والثاني جذبه الرابع، وهذا [يقتضي] (1) التنصيف، فنُهدر نصفاً لجذبه الرابع، ونوجب نصفاً على الثاني. وأما الرابع فسبب هلاكه شيء واحد، وهو جذب الثالث إياه، فلا مهدر في حقه، وتمام ديته على الثالث. هذا بيان مذهب علي (2) وهو مختار أئمة المذهب. 10832 - وذهب أكثر الأصحاب إلى وجهين آخرين سوى ما أوضحناه من مذهب علي وهو اختيار الجمهور، ونحن نذكر الوجهين كما وجدناهما، ثم نُتبع [ذلك] (3) تحقيقَ ما نحكي. من أصحابنا من قال: إذا كان [الفرض] (4) في ثلاثة فَهَدَرَ (5) الأول والثاني جميعاً،

_ (1) في الأصل: "نقيض". (2) هكذا قال إمام الحرمين، إن هذا الوجه هو مذهب علي، وتبعه الغزالي، ولكن المروي عن علي غير هذا، وسنذكره بعدُ. والرافعي حكى في المسألة أربعة أوجه، ووافق الإمامَ والغزالي من وجه، وخالفهما من وجه، وافقهما في أن هذا هو الأصح، وخالفهما في أنه هو المروي عن علي رضي الله عنه، (ر. الشرح الكبير: 10/ 438، 439). والوجه الذي حكاه الرافعي عن الإمام علي، ولم يجعله (الأصح)، بل قال: " والناصرون للأصح في المسألة، لم يثبتوا قصة علي كرم الله وجهه، وربما تكلفوا تأويلها " هذا، والمروي عن الإمام علي هو ما حكاه الرافعي، وليس ما نسبه الإمام والغزالي، وفيه: "أن ناساً باليمن حفروا زبية للأسد، فوقع الأسد فيها، فازدحم الناس عليها، فتردى واحد، فتعلق بواحد فجذبه، وجذب الثاني ثالئاً، والثالث رابعاً، فرفع ذلك إلى علي، فقال: للأول ربع الدية، وللثاني الثلث، وللثالث النصف، وللرابع الجميع، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمضى قضاءه" (رواه أحمد: 1/ 77، 128، 152، والبيهقي في الكبرى: 8/ 111، وانظر تلخيص الحبير: 4/ 58 - ح 1943). (3) في الأصل: "لطلب". (4) في الأصل: "الغرض". (5) فَهَدَرَ: أي بطل: من باب ضرب وقتل (المصباح) ومعنى بطل: أي هدر دمه، وذهبت ديته هدراً.

[فأما] (1) دية الثالث، فإن نصفها يضاف إلى الأول، ونصفها يضاف إلى الثاني. والذي ذكره الأصحاب في توجيه ذلك: أن الأول لا يضاف هلاكه إلى البئر، فإنه لما جذب الثاني، فقد جنى على نفسه جناية مباشرة، وحفر البئر تسبُّبٌ بعيدٌ، وإن وجدنا مباشرة، أسقطنا معها أثر السبب، وإذا خرج النظر إلى البئر من البئر، فهلاكه مضاف إلى ثقل الثاني، وإلى ثقل الثالث، أما ثقل الثاني، فهو الذي جذبه [وحوّله] (2) إلى نفسه، وأما ثقل الثالث، فهو من وجه مضاف إلى الأول، فإنه جذب الثاني، وجذب مجذوبه، فصار الأول هالك أيضاًً، لأنه جذب الثالث، فكان هذا مباشرة منه، فسقط جذب الأول له، وأما الثالث، فإنه مضاف هلاكه إليهما جميعاً: إلى الثاني؛ من حيث إنه جذبه، وإلى الأول من حيث جذب جاذبه. وهذا الوجه ليس مما يضعف فيه وجه الظن والرأي، بل هو خطأ على تحقيق؛ من جهة أنه أهدر الثاني بالكلية، [وهلاكه] (3) بجذب الأول له، وجذبه الثالث، ولئن كان يخطر لذي نظر إسقاط أثر البئر بمباشرة الجذب، فإسقاط أثر جذب الأول، وهي مباشرة [بجذب] (4) الثاني الثالثَ غيرُ معقول (5). ثم قال هذا القائل: الثالث يضاف هلاكُه إلى [جذبين] (6)، فكيف [يستدّ] (7) إضافة هلاكه إلى [جذبين] (8) مع أنه لا يضاف هلاك الثاني إلى [جذبين] (8)، فلا حاصل لهذا. وقد نجز أحد الوجهين الزائدين على مذهب الجمهور.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. رسمت هكذا: (وحومله) تماماً. (3) في الأصل: "وكونه". (4) في الأصل: "فجذب". (5) وعبارة الغزالي: " ... ولكن مساقه يقتضي ألا يهدر الثاني، لأن هلاكه بجذبه وجذب الأول، فإن قدم الجذبَ على البئر، فلم يقدم الجذبَ على الجذب؟ " (ر. البسيط جزء (5) ورقة: 72 يمين). (6) في الأصل: "إلى خدش". (كذا بكل وضوح رسماً ونقطاً). (7) في الأصل: "يستند". (8) في الأصل: "خدش".

والوجه الثاني - أن حفر البئر لا يُحْبط اعتباره، ولا نُخرج [البئر من] (1) الإحالة عليه، [فأما الأول] (2)، فهلاكه بصدمة البئر، وثقلِ الثاني والثالث، غيرَ أن ثقل الثاني حصل بجذبه، وثقلُ الثالث حصل بجذبه اتصالاً به، فجذْبُ الثاني جاذبُ مجذوبه وهو الثالث، فديته بين الحافر وبين الإضافة إليه نصفان، فهدر نصفها، ويجب على عاقلة الحافر نصفها. وأما الثاني فيهدر نصف ديته بجذبه الثالث، ويجب نصف ديته على الأول بجذبه إياه. وأما الثالث فقد قال (3): إن تمام ديته على الثاني لأنه جاذبه. وهذا فيه خلل ظاهر، [فإنه] (4) في تنصيف دية الأول أضاف إليه [جذبه] (5) الثاني والثالث، ولما انتهى إلى الثالث أضافه إلى الثاني بالكلية. وهذا متناقض (6)، فهذا ما تلقيناه على تثبت. وبقي [بعد النقل والبحث الثقةُ] (7) بأن المذهب ما نقله الناقلون عن علي بن أبي طالب (8)، وهو الذي اختاره جماهير الأصحاب. 10833 - وقد ذكرنا ما هو باطل قطعاً في مجال الوجهين المحكيين بعد قولِ

_ (1) عبارة الأصل: "ولا نخرج من البئر الإحالة عليه ". (2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (3) قال: القالْل صاحب هذا الوجه. (4) في الأصل: "وإنه". (5) الأصل: "تجدد". (6) عبارة الغزالي: "وهذا يناقض حكمه في الأول، لأنه أضاف انجذاب الثالث إلى الأول في حق تنصيف دية الأول، ثم لم يضفه إليه حتى خُصص بالإضافة إلى الثاني في حق تكميل دية الثالث " (ر. البسيط: 5/ورقة: 72 شمال). (7) عبارة الأصل: "وبقي بعد النقل والبحث بعد الثقة بأن المذهب .. ". (8) سبق أن أشرنا أن هذا (الأصح) ليس هو المروي عن علي رضي الله عنه، وإن كان المتفق عليه أنه هو المذهب.

الجمهور، وعلينا أن نتعرض [لما] (1) هو بمحل الظن، ثم نبني عليه ما يجب أن يقال لو ثبت ذلك المظنون، وحدث ما هو باطلٌ قطعاً. فمما يتعلق [بهذا] (2) القسم أن الأول لما جذب الثاني - والمسألة في ثلاثة- وجذب الثاني الثالثَ، فمن قال: الأول جذب الثاني، وجذب مَنْ جذب [الثالث] (3)، فهو منتسب إلى جذبهما، فقوله غيرُ بعيد عن الظن، ولكن لا بد من تفصيلٍ فيه، فإنْ جذب الأول الثاني، فهوى الثاني هُويّاً لا يملك التماسك، فانتساب التعلق بالثالث بعد أن زلت به القدم ونسبة الثالث إلى الأول محال، فإنه تمم جذب الثاني وأزاله عن اختياره، ثم افتتح هو بعد ذلك جذبَ الثالث، وكان جذب الثالث محالاً [على] (4) [محض] (5) قوة الثاني. وإن تعلق الثاني بالثالث، ثم جذب الأولُ الثاني، وهو متعلق أبه، (6)، فهذا محل النظر؛ من [جهة] (7) أن الأول أنشأ جذب الثاني وهو متعلق بالثالث، فأثرت قوتُه في جذبهما، ولكن إحالة انجذاب الثالث على الثاني أولى، لاستمساكه به، مع إمكان تركه إياه، وهو على حالٍ محتمَلٌ؛ سيّما إذا فرض نفيه [عن] (8) الأول، فيقع الثاني والثالث قبل أن يفرض إعمال الاختيار في حلّ اليد، فهذا مما يجول [فيه] (9) الظنُّ. ومما يتعلق بالمظنونات بعضَ التعلق ما أحدثناه في سياق أحد الوجهين المذكورين بعد مذهب الجمهور من قولنا: إن أثر البئر يسقط بالجذب، وقد أشرنا إليه

_ (1) في الأصل: "ما". (2) في الأصل: "بعد". (3) في الأصل: "الثاني". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "فمحض". (6) زيادة من المحقق. (7) في الأصل: "وجهه". (8) في الأصل: "من". (9) زيادة من المحقق.

[إذ] (1) قلنا: البئر في حكم السبب، [والجذب] (2) المفضي إلى سقوط المجذوب في حكم المباشرة تغلب السبب، وهذا تخيّلٌ، والأولى إلحاقه بما يُقطع ببطلانه، وذلك لأن وقوع الأول في البئر وما يناله من أثر الصدمة ليس مما ينكر، وهو واقع حساً، وقد حكم الشرع بأن حافر البئر في حكم [المُردي] (3) للمتردي، فكيف نحكم بانعدام أثر الصدمة بسبب جذبةٍ ننظر إليها؟ فهذا إذاً خبالٌ لا حاصل له. 10834 - وتنخّل [مما] (4) ذكرنا أن المذهبَ الأولُ، ولا يصح على السبر غيرُه. والذي يختلج فيه الظن [نسبة] (5) الثالث إلى جَذْبةِ الأول في صورة واحدة ذكرناها، [وهي] (6) أن يجذب الأول الثاني وهو متعلق بالثالث على مفاجأة، [فصار] (7) الظاهر أن الأول تسبب إلى جذب الثالث، فإن جعلنا [متسبِّباً]، (8) وقد أبطلنا ما عدا ذلك، فوجه التفريع- مع الاقتصار على هذا المظنون، وإسقاط ما سواه، [فيما] (9) قدمناه- أن نقول- والفرض في ثلاثة: الثاني والثالث في حق الأول كشخص واحد يُقْتل، ولو جذب شخصاً واحداً، لقلنا ديته (10) نصفان نصفه على عاقلة الحافر، ونصفه مهدر. وأما إذا أردنا النظر إلى الثاني والثالث، فهلاك الثاني بجذب الأول، وبثقل [الثالث] (11)، والثالثُ على كل حال مجذوب الثاني، وإن كان مجذوب الأول،

_ (1) في الأصل: "أو". (2) في الأصل:: "فالجذب". (3) في الأصل: "المتردي". (4) في الأصل: "ما". (5) في الأصل: "تسبب". (6) في الأصل: "وبين". (7) في الأصل: "وبقية"، ولم أعرف وجه التصحيف فيها، فأثبتنا لفظة تؤدي المعنى بحسب السياق. (8) في الأصل: "منتسباً". (9) في الأصل: "فما". (10) أي دية الأول، حيث يهدر النصف بسبب جذبه الثاني والثالث. (11) في الأصل: "الثاني".

فمضاف (1) بثلاث إلى تسببين، وهو كما لو جرح الرجل رجلاً جرحين، وجرح ذلك المجروح نفسه جرحاً واحداً، [فالهلاك] (2) مضاف إلى مهدر [ومُضمِّن] (3) وهذا يقتضي التشطير لا محالة. وأما الثالث، فيضاف إلى جذب الأول والثاني، [فتكون] (4) ديته نصفين، يضاف نصفٌ إلى الأول، ونصفٌ إلى الثاني. هذا منتهى الكلام في ذلك. وكل هذا والمسألة [مفروضة] (5) في جذب البعض بالبعض. 10835 - فأما إذا تهافتوا في البئر من غير جذب، وسقط الثاني على الأول، والثالث على الثاني، فهذا فيه فقهٌ [غائص] (6)، والوجه ذكرُه في شخصين أولاً، ثم لا يخفى ما بعده، فإذا سقط متردٍّ، وتبعه الآخر، فلا شك أن هلاك الأول في ظاهر الحال يضاف إلى صدمة قعر البئر، وإلى سقوط من سقط عليه، ولكن يتعارض في سقوط الثاني كلامان: أحدهما - أن سقوط الثاني مضاف إلى حفر البئر، حتى كأن حافر البئر أسقطه، وآيةُ هذا أن ضمانه واجب على حافر البئر، [وموجَب] (7) ما ذكرناه إيجاب دية الأول بكمالها على حافر البئر، ويعارض هذا أن [المتردي] (8) الأول يقول: هذا الثاني أسقط نفسه في البئر لما وضع القدم على هواء البئر، ولو كان

_ (1) أي الثاني، حيث هلاكه بجذب الاْول له، وبجذب الأول للثاك، وجذبه هو للثالث، فهذه ثلاث جهات ترجع إلى سببين: جذب الأول وجذب الثاني، وجذبُ الثاني مهدر، وجذب الأول مضمّن، فاقتضى الحال التنصيف للدية، وإن كان جذب الأول من جهتين: جذبه للثاني، وجذبه للثالث، فالأمر كما لو جرح جارح رجلاً جرحين، ثم جرح المجروح نفسه جرحاً واحداً، فالدية نصفان لا محالة. (2) في الأصل: "والهلاك". (3) في الأصل: "ويتضمن". (4) في الأصل: "تكون". (5) في الأصل: "مضروبة". (6) في الأصل: " غامض". (7) في الأصل: "موجب" (بدون واو). (8) في الأصل: "المردي".

عامداً لم نشك في ذلك، فسقوط العمد لا يغير حكم التلف، ومقتضى الضمان المترتب عليه، نعم، قد يختلف الأمر في متعلق موجب الخطأ والعمد، وليس ذلك [من] (1) غرضنا الآن. والأولى أن نقول: إذا كان تردّيه مضموناً على الحافر ضماناً مستقراً، فكيف يصير سبباً للضمان في حق هذا المضمون، والمسألة محتملة، والإشكال فيها بالغ. وفي كلام الأصحاب ما يشير إلى التردد، فيجوز أن يقال: لا ضمان على الثاني الساقط على الأول، لا تعلقاً، ولا قراراً، لما ذكرناه آخرأ، ويجوز أن يقال: الثاني في [منزلة] (2) المغرور بالإضافة إلى الحافر، وهو فاعل [متسب]، (3) لتلف، فتعلق الضمان به لفعله، ويثبت الرجوع على حافر البئر، كما تقدّم [في] (4) المكرَه على إتلاف المال إذا طولب في وجهٍ، ثم يرجع على المكرِه، والأولى الوجهُ الأول، وهو قطع الطّلبة بالكلية، فإنه مضمون ضمان قرار على صاحب البئر، فهو في [حركته] (5) غير منتسب إلى تردية بوجه، وقد ضمن له تردّيه فكيف يصير ترديه مضمّنه؟ ولكن رأيت للأصحاب تردداً في هذا، فأتيتُ بالممكن فيه، وإلا فلا استرابة بأنه [لا تعلق] (6) بالمتردِّي، لا طلباً، ولا قراراً. ثم لو قدرنا الطلب على عاقلته ولا عهد لنا بتغريم العاقلة، ثم إثبات الرجوع لهم، فإنهم لا يغرمون قط إلا غرم قرار. فرع: 10836 - لو أن رجلين كانا يتخاصمان، فانتهى الأمر إلى أن شهرا سيفيهما، وتقاتلا، وماتا مقتولين، ثم ادّعى [ورثة] (7) كل واحد من القتيلين أن

_ (1) في الأصل: "في". (2) مكان كلمة غير مقروءة. (3) في الأصل: "تسببا". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) في الأصل: "تركته". (6) في الأصل: "يتعلق". (7) في الأصل: "ودية".

صاحبه كان دافعاً، والآخر كان قاصداً [فمآل الأمر] (1) يتحالفان، ولا يستفيدان إذا [حلفا] (2) شيئاًً بتحالفهما، وإنما يفرض اليمين لتقدير نكول أحدهما، وحلف الثاني. ولو سئلنا عن حكم وقوع هذه المسألة التي سنصفها وقيل لنا: إذا التقى رجلان بسيفيهما، وظن كل واحد منهما أن صاحبه قاصدُه، فقصَدَ كل واحد منهما الدفعَ، وانتهت الحال إلى منتهىً يغلب على الظن [أنه الهلاك] (3) [إن لم يبادر دفع] (4) سيف صاحبه- ومعلوم أن ما نطلقه من العلم نتجوّز به، فإذا قلنا: إذا علم المقصودُ أن سيف القاصد لا يندفع عنه إلا بالسيف، لم نعن بهذا حقيقة العلم، وإنما أردنا ظنّاً غالباًً- فإذا تبين أن الظن الغالب يكتفى به، وعليه يخرج تصوير الإكراه على القتل أيضاًً، وإن كنا لا نقطع بأن المتوعد بالقتل كان يقتل لا محالة، ولكن إذا غلب الظن، كان ذلك إكراهاً، والغرض مما ذكرناه أن كل واحد منهما يظن ظناً غالباًً أن صاحبه سيبادره، ولم يكن البيان ممكناً. فأول ما نذكر في ذلك أنه: هل يجوز لكل واحد منهما أن [يدفع] (5) سيفَ صاحبه عنه كما صورناه والحالة هذه، والذي نراه أن لكل واحد منهما أن يبذل جهده في دفْع سيف صاحبه عن نفسه؛ فإن الاستسلام لا يجب أصلاً، ويجوز دفع السيف إن لم يجب، وليس الغرض من تجويز دفع السيف منعَ الظالم عن ظلمه، وإنما الغرض أن يصون روحَ نفسه عن السيف الواقع به، والسيف كما صورنا يقع به عن قصد، [إما] (6) على طريق الابتداء أو عن إرادة دفع. والذي يحقق هذا أن مجنوناً لو قصد إنساناً بسيفه، دَفَعه المقصودُ وإن كان المجنون لا يوصف بكونه ظالماً، فيخرج منه أن للإنسان أن يدفع السيفَ عن نفسه، ثم يترتب عليه أنه إذا كان لا يتأتى دفعٌ إلا بوضع السيف، فيجوز وضعه، ثم يخرج من

_ (1) في الأصل: "قال الآخر". (2) في الأصل: "خلفا". (3) زيادة من المحقق لاستقامة العبارة. (4) في الأصل: "أن من لم يبادر وضع". (5) في الأصل: "يرفع". (6) في الأصل: "كما".

[باب دية الجنين]

ذلك أنه لا ضمان أصلاً، ويصير كل واحد منهما-[وقد الْتبس] (1) الأمر- في حق صاحبه كبهيمة [صائلة] (2). ثم إذا قلنا: لكل واحد منهما أن يبتدر [صاحبه] (3) [فدية] (4) كل واحد منهما هدر. هذا ما نراه في ذلك، وغالب ظني أني وجدت لبعض الأصحاب نصّاً في هذه المسألة، وسأحرص على طلبه، وإلحاقه. على أن الكلام [استقرّ] (5) في هذا على حدٍّ لا يجوز تقدير الخلاف فيه، ولو فرض شيء على خلاف ذلك، فهو هفوة من قائله. [باب دية الجنين] (6) قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي الجنين المسلم بابويه أو بأحدهما غرّة ... إلى آخره" (7). 10837 - من جنى على حامل بجنين حرٍّ محكومٍ بإسلامه تبعاً، فأجهضت بسبب الجناية الجنينَ، فأصل الباب أنا نوجب عليه غرّةً عبداً أو أمةً، والأصل في ذلك ما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرةٍ عبدٍ أو أمة" (8) وعن

_ (1) غير مقروء بالأصل، وقد رسمت هكذا: "ودلسى الأمر". (2) في الأصل: "مائلة". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "فيتجه". (5) مكان بياضٍ بالأصل. (6) العنوان في "مختصر المزني"، حيث لم يظهر في الأصل، ومكانه بياض، فلعله كان بالحمرة فلم يظهر في التصوير. (7) ر. المختصر: 5/ 143. (8) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة" جزء من حديث المغيرة بن شعبة، وأبي هريرة رضي الله عنهما المتفق عليه، وقد تقدم. (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 1095، 1096). وهو جزء من حديث حَمَل بن مالك الآتي. وقد تقدّم أيضاًً.

حَمَل بن مالك بن النابغة أنه قال: " [كنت] (1) بين جاريتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، وفي روايةٍ بمِسْطح، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقتولة [بالدية] (2) وفي الجنين بغرةٍ عبدٍ أو أمةٍ، فقالوا: كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهلّ، ومثل ذلك يُطلّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسجعاً كسجع الجاهلية، وروي أسجعاً كسجع الكهان، وقضى بالدية والغرة على العاقلة " (3) وأصل الغرة متفق عليه. وذكر من يحرص على ذكر معاني القواعد أن المعنى في إيجاب الغرة أن الجنين شخصٌ كان يرجى له كمال الحال بالحياة، فإذا فوته الجاني، لم نوجب كمال الدية [لأنه] (4) لم تتحقق الحياة للجنين؛ فنوجب على مقابلة هذا التفويت حيواناً (5) كامل العمل يثبت عوضاً عما فوت. فهذا هو الأصل في إثبات قاعدة الباب، ولا حاجة عندنا إلى المعنى الذي ذكره [المتكلّفون] (6) في إيجاب الغرة، والإجماعُ والنص الوارد كافيان. فصل قال: "وأقل ما يكون جنيناً أن يفارق المضغة ... إلى آخره" (7). 10838 - قال الأئمة: الأحكام المتعلقة بالأجنة خمسة: الغرة، والكفارة، [وأمية] (8) الولد، وانقضاء العدة، والإرث منه.

_ (1) سقطت من الأصل. (2) زيادة من المحقق. (3) حديث حمل بن مالك " كنت بين جاريتين " سبق تخريجه. هذا وبعض ألفاظ الرواية التي ذكرها الإمام هي جزء من حديث المغيرة وأبي هريرة السابق. (4) في الأصل: "إليه". (5) حيواناً: أي حيّاً. (6) في الأصل: " المكلفون". (7) ر. المختصر: 5/ 143. (8) في الأصل: "وأجر".

أما الجنين إذا انفصل ميتاً، فلا يرث في نفسه، فإنه إنما يرث من ثبتت [له] (1) الحياة يقيناً، وإذا أسقطت المرأة جنيناً بدا فيه التخليق والتخطيط، فيثبت به وجوب الغرة، والكفارة، وأمية الولد، وانقضاء العدّة، ثم الغرة تكون مضروبة على الورثة على فرائض الله، ولا يشترط أن يبدو جميع التخليق أو معظمه، ولكن إن بدا منه شيء في طرف من أطراف الجنين، كفى ذلك، ومن جملته الظفر والشعر، والتخليق بُدُوُّ صور الأعضاء، ولو كان لا يتبين تميّز الأعضاء، ولكن بدت مراسمها بخطوط، فذلك كافٍ. ولو قال [القوابل] (2): التخطيط بادٍ، وقع الحكم به، إذ هو [يعدّ من العلامات التي مهرن] (3) في معرفتها، وهي [كافية] (4). ولو أسقطت المرأة لحماً، ليس عليه تخطيط، وقالت القوابل: إنه ليس لحم ولد، فلا حكم له، وإن قال [القوابل] (5): إنه لحم ولد، فهذا فيه اختلاف النصوص، وقد ذكرتها في كتاب [العدّة] (6)، وذكرت اختلاف طرق الأصحاب فيها، فلا أُعيد ما قدمته. والذي نزيده مسألتان: إحداهما- أنها لو ألقت عَلقة أو مُضغة، لم تنتظم انتظام اللحم، فلا حكم لما ألقته، ولا يتعلق به أمية الولد، ولا وجوب الغُرة عند فرض الجناية، ولا وجوب الكفارة، وإن قالت القوابل: ما ألقته أصل الولد. ولكن إن قطعن بذلك ولم نُثبت شيئاًً من الأحكام التي ذكرناها، فهل يعلّق بقطعهن

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "العواقل". (3) ما بين المعقفين مأخوذ من كلام الغزالي، ونص عبارته: "وإذا قالت القوابل: التخطيط بادٍ، وعرفن ذلك بعلامات اختصصن بدركها حكم بالغرة" (ر. البسيط: جزء (5) ورقة: 87 يمين). وعبارة الأصل: "ولو قال القوابل: التخطيط باد، وقع الحكم به؛ إذ هو يعد في علامات ......... في معرفتها" (ومكان النقط كلمتان غير مقروءتين). (4) مكان بياضٍ بالأصل. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: "الغرة".

انقضاء العدة فحسب؟ فعلى وجهين نقلهما بعض من [يوثق] (1) به عن القاضي، وهذا بعيد؛ فإن ما ألقته أصلُ الولد [وأصلُ الولد] (2) لا يسمّى حملاً. هذا إذا [ألقت] (3) علقة أو مضغة. فأما إذا ألقت لحماً وقلنا: الرجوع إلى قول القوابل، [فلو] (4) قلن: ليس لحم [ولد] (5)، لا يتعلق به حكم، [ولو] (6) قلن: لا ندري، [فلا] (7) تعلَّق به أمية الولد، ولا وجوب الغرة، ولا الكفارة، وهل يتعلق به انقضاء العدة؟ [قيل: لا] (8)، وهو الأصح؛ لأنا نفرع على اتباع قول القوابل، ولو قلن: إنه ليس لحم ولد [فلا] (9) يتعلق به انقضاء العدة، فإذا قلن: لا ندري، فالأصل بقاء العدة. فخرج مما ذكرناه في هذا الفصل أن القوابل لو قلن في العلقة: إنها أصل ولد، ففي انقضاء العدة بوضعها خلاف، ولو شككن في اللحم، ففي تعلق انقضاء العدة به وجهان للعراقيين، والخلاف في المسألتين جميعاً بعيد، والوجه أنه لا يتعلق به انقضاء العدة. فصل قال: "وكذلك إن ألقته من الضرب بعد موتها ... إلى آخره" (10). 10839 - إذا جنى على حامل، فألقت جنينها ميتاً وهي [حيّة] (11)، فلا شك في

_ (1) في الأصل: " يؤثر ". (2) سقط من الأصل. (3) في الأصل: "علقت". (4) في الأصل: "ولو". (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: " فلو". (7) في الأصل: "ولا". (8) زيادة من المحقق. (9) في الأصل: "ولا". (10) ر. المختصر: 5/ 143. (11) في الأصل: " فيه ".

وجوب الضمان، ولو ماتت الأم بالجناية أولاً، ثم ألقت جنينها بعد الموت من أثر الجناية، [فالضمان] (1) واجب، خلافاً لأبي حنيفة (2) رحمه الله، فإنه قال: إذا ألقت بعد موتها كان كما لو لم تُلْق أصلاً، ولو لم تلق الجنين وماتت والحمل بها في ظاهر الظن، فلا يجب على مقابلة الجنين شيء اتفاقاً، والمسألة مشهورة في الخلاف. فصل قال: "ولا شيء لها في الألم ... إلى آخره" (3). 10840 - إذا جنى على حامل، فألقت جنينها، فالجنين مضمون إذا كان إلقاؤه بسبب الجناية، وينظر إلى الأم التي بقيت، فإن كان قد جرحها الجاني، [فعليه أن يقدم] (4) لها حكومة الشين، كما مضى استقصاء ذلك في الحكومات والديات، وإن جرى جرح بها، ثم اندمل، ولم يبق شينٌ، فهذا ما مضى في كتاب الديات، ولا اختصاص له بالجناية على حاملٍ؛ فلا معنى لإعادته وذكْرِه. وإن ضربها ولم يجرحها، ولم يوجد إلا إيلامٌ [مجرّد] (5)، ثم زال، فالظاهر أنه لا يجب بسبب ما جرى عليها شيء. ومن أصحابنا من أجرى الإيلام بلطمة أو غيرِه إذا زال [أثره] (6) بمثابة الجرح يندمل ويزول أثره، وهذا بعيد لا أصل له، ولا معوّل عليه. ولست أقصد [إلى] (7) الإعادة، وإن رمزت إلى معاد، فللجريان على (السواد) أو لمزيد تبيين.

_ (1) في الأصل: " والضمان ". (2) ر. مختصر الطحاوي: 243، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 174 مسألة 2284. (3) ر. المختصر: 5/ 143. هذا وفي نص المختصر خطأ على ندرة ذلك. ففيه: "لا شيء لها في الأم". (4) في الأصل: " أن يعدم ". (5) في الأصل: "مجدد". (6) في الأصل: "البنوة". (7) في الأصل: "إلا".

فصل قال: "ولمن وجبت له الغرة ألا يقبلها دون سبع أو ثمان ... إلى آخره" (1). 10841 - هذا الفصل يشتمل على تحقيق القول في الغرة، ومعناها، وصفتها، وبدلها عند تقدير عدمها، ونحن نأتي في مضمون الفصل بما نراه أقربَ إلى البيان، وإن قدمنا فصلاً في (السواد) أو أخرناه، فلا بأس به: أولاً - ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غرةٌ عبدٌ أو أمة"، فاتفق الأصحاب على أن [الاختيار] (2) في تعيين عبد أو أمة إلى الجاني، ولا [اختيار] (3) في الذكورة والأنوثة لمستحق الغرة. ثم أول ما يجب ذكره بعد هذا ترددٌ عظيمُ الوقع في قيمة الغرة، مع أن الغرة هي المؤداة -[ولسنا نريد بدلَها عند عدمها] (4) - فالذي دل عليه كلام معظم نقلة المذهب أنا لا ننظر إلى قيمة الغرة، [ولا] (5) نشترط فيها شيئاً مخصوصاً [سوى] (6) البراءةِ من العيوب على ما سنصفها، ولا يبعد بعد ذلك أن تكون عبداً قيمتُه خمسة دنانير، [ولا نخصص جنساً عن جنس] (7)، ولا نعتبر ما يغلب في البلد أو يُعدّ [وسطاً] (8)، وهؤلاء يتمسكون بإيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غرة عبد أو أمة. ومن تتبع كلام الأئمة، لم يخْفَ [عليه] (9) ذلك من نصوصهم الصريحة.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 143. (2) في الأصل: "الأخبار". (3) في الأصل: "اجتراح". (4) عبارة الأصل: "ولسنا نريد عدمها بعدلها عند عدمها" والتصرف في العبارة من المحقق. (5) في الأصل: "ولكنا". والمثبت من معنى كلام الغزالي، ونصُّه: "أما صفة الغرة، فالمرعي فيها السلامة من العيوب فقط" (ر. البسيط: 5 ورقة: 91 يسار). (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: "ولا تحصصاً حسّاً عن حسّ". (8) في الأصل: "قسطاً". (9) في الأصل: "عليهم".

وقال القاضي: الرقيق المخرَج غرةً يجب أن يكون على مقدار خمسٍ من الإبل، أو على مقدار خمسين ديناراً، واحتج على ذلك أولاً بما روي من لفظ الغرة، والغرة من كل شيء خياره، وغرة مال الإنسان خير ما فيه، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين عبد أوْ أمة، ولكنه قال: "غرة عبد أو أمة" [ثم] (1) قال: مبلغ الشيء يعرف ببدله عند فقده، وإذا كنا نرجع إلى خمسٍ من الإبل، كما [سنصف] (2)، فيستحيل ألا يكون العبد على مقدارٍ من الإبل، حتى يقال: الأصلُ الغرة، ونجوِّز أن تكون قيمتُه ديناراً، فإذا عُدِم، فلا بد من خمس من الإبل، ولهذا الأصل عَضَدُ تأييدٍ لا يمكن ذكره الآن، وسيبين في أثناء هذا الفصل، وإذا انتهينا إليه، نبهنا عليه على ما يجب -إن شاء الله عز وجل- وهذا [معرفته] (3) من المقاصد الجلية، ولم يهتم به أصحاب المذهب على ما ينبغي. 10842 - فإن أخذنا بقول الأصحاب، [واشترطنا] (4) أن يكون الرقيق المخرج سليماً عن العيوب على سَنَنٍ مخصوص، وإن شرطنا ما ذكره القاضي في التقريب لا ينفع [ما] (5) ذكر، بل الوجه أن نبوح بأن الغرة ينبغي أن تكون بحيث يؤخذ بها خمس من الإبل المجزية في الدية، فإنّ الكلام في الأعواض لا ينتجز بالتقريبات إذا لم ينزل على أقل اقتضاء الأسماء المطلقة. هذا لا بد منه. 10843 - ثم إنا نخوض بعد هذا في تفاصيل معنية في ذواتها، وهو ينبني على ما مهدناه، فنقول: الجنين الحر المحكوم له بالإسلام، هو أكمل [الأجنة] (6)، والغرة ثابتة فيه، فلو كان الجنين محكوماً له بالكفر والحرية، كجنين نصرانية من نصراني، فإذا فرضت الجناية المفضية إلى [القتل] (7)، فقد اضطرب الأصحاب في

_ (1) في الأصل: "وإنما". (2) في الأصل: "نصف". (3) في الأصل: "لعرفهم". (4) في الأ صل: "ونشترط". (5) في الأصل: "مما". (6) في الأصل: "للأحسم" (تماماً). (7) في الأصل: "القاتل".

طرقهم في أن الغرة هل تجب فيه؟ فالذي قطع به شيخي والصيدلاني وصاحب التقريب وبعض المصنفين (1) أن الغرة لا تجب فيه أصلاً، ويختص وجوب الغرة بالجنين الحر المسلم، فإن لم يكن، فلا غرة، وإنما الواجب فيه عُشر دية الأم على ما سنفصله في التفريع. ونقل من يوثق به عن القاضي أن الغرة هي الواجبة في الجنين الحر المسلم، فإن فرض الجنين حراً كافراً، فيجب فيه جزء من الغرة، نسبته من الغرة كنسبة دية [أصل] (2) الجنين من الدية الكاملة، فإن كان الجنين الكافر نصرانياً فدية النصراني ثلث ديهَ المسلم، ففي الجنين النصراني ثلث الغرة، وإن كان الجنين مجوسياً، فدية المجوسي خُمس دية النصراني، وقد ذكرنا أن الواجب في الجنين النصراني ثلث الغرة، فالواجب في الجنين المجوسي [خُمس] (3) ثلث الغرة؛ فإن الديات هكذا تجري نِسبُها. وهذه الطريقة منقاسة؛ فإن الغرة من الجنين بمثابة الدية من الشخص التام، وإذا تناسبت الديات على نحوٍ، لم يبعد تناسُب الغرة على ذلك النحو. ولكن لم أر هذا لأحد من الأصحاب، ووجه الخلل فيه أنه هجوم على القياس في [أمور الدّية] (4) من غير ثَبَتٍ من طريق [التعبد] (5)، والأصل في الديات التعبّد. وذكر العراقيون مسلكاً ثالثاً، وقالوا: يجب في الجنين النصراني عبد كامل قيمته من دية النصراني كنسبة خمسة من الإبل إلى مائة من الإبل. فقد حصل مما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أن الغرة لا مدخل لها في بدل الجنين الكافر أصلاً، فلا يجب فيه عبد ولا جزء من عبد، وهذه الطريقة هي التي

_ (1) بعض المصنفين: المراد به (أبو القاسم الفوراني) كما أشرنا مراراً، ومن لطيف الملاحظة أن الإمام لم يذكره هنا بالحطّ عليه وتخطئته، بل قرنه مع والده والمحققين من أئمة المذهب. (2) في الأصل: " أقل ". (3) سقطت من الأصل. (4) في الأصل: " أول المرتبة ". (5) في الأصل: "البعد".

يعرفها المراوزة. والوجه الثاني - إيجاب جزء من الغرة، حكيناه عن القاضي، والوجه الثالث - أنه يجب في الجنين الكافر عبدٌ ناقص القيمة، نسبته إلى دية الكافر كنسبة خمس من الإبل إلى دية المسلم الكامل. وما ذكره العراقيون من إيجاب عبد في الجنين الكافر منسوبٍ إلى دية الكافر تصريحٌ منهم بأن العبد الذي [يجب في] (1) الجنين المسلم، يجب أن يكون منسوباً إلى الدية الكاملة؛ إذ لو لم يكن ذلك كذلك، لكان الواجب في الجنين المسلم مثلَ الواجب في الجنين الكافر، ويمكن أن يقال: لو لم ترع النسبة، فقد يُخرِج الجاني على الجنين المسلم عبداً خسيس الجنس، قليلَ القيمة، يقل قدره عن عُشر دية النصرانية، وهذا لا سبيل إلى اعتقاده. فصار ما ذكره العراقيون عضداً وتاييداً لما حكيناه في وجوب المناسبة بين الغرة الواجبة في الجنين [المسلم] (2)، ولا نُلْزَمُ التفريعَ المستتبع الذي ذكرناه في التسوية بين الجنين المسلم والكافر، لأجل هذا لم نجعل لوجوب الغرة مدخلاً في الجنين [الكافر] (3). 10844 - وقد يرد سؤال يعسر دفعه، وهو أن عشر دية النصرانية قد يكون أكثر من [عبد] (4) عند من يفرض إجزاءه (5) في بدل الجنين المسلم، فيجب من هذا التسوية أو تفضيل الجنين الكافر. وهذا سؤال واقع، والممكن [في] (6) دفعه أن الغرة للجنين بمثابة الدية، وإيجاب جزء من دية الأم بنسبة الغرة [التفاتٌ] (7) إلى الغرة، وإخراج له عن أن يكون معتبراً في

_ (1) في الأصل: "تحت يد غير" (تماماً). (2) في الأصل: "الكافر" وهو مخالف للسياق، ولما حكاه قبلاً في أوائل الفصل. (3) في الأصل: "بالكافر". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) إجزاءه: أي إجزاء العبد السليم من العيوب من غير اشتراط قيمة له. (6) في الأصل: "من". (7) زيادة لاستقامة العبارة.

نفسه. وهذا يوجب انحطاطاً عن اعتبار الشيء في نفسه. ولا نظر إلى التفاوت في المالية، وهذا بمثابة إيجاب دياتٍ قيمةَ مملوك، ولكنه غير مقدر، بل هو مقوّم معتبر بغيره، والحر معتبر في نفسه، وهذا [واضح] (1)، فإن الغرة إذا [عدمت] (2)، فقد نرجع في بدل الجنين المسلم الحر إلى خمس من الإبل، وهو عبد (3)، وجزء من دية الأم. وإذا نظر الناظر فيما نقلناه، ثم فرعناه، لاح له أن الغرة التامة في الجنين الكامل بالإسلام والحرية يجب أن تكون منسوبة إلى الدية (4)، ولا يجوز الاكتفاء بأي عبد كان، وإن كان بريئاً عن العيوب في جنسه. فهذا من أركان الفصل، وقد نجز. 10845 - ومما نتكلم فيه القولُ في سن العبد، وفي سلامته من العيوب، وليقع التزامه باشتراط السلامة من العيوب، فنقول: اتفق الأصحاب على أنّ العبد المعيب غير مجزىء [إلا] (5) أن يرضى المغروم له، ثم المرعي في [العيب] (6) الذي يُثبت حق الرد كالمرعي فيما يثبت الردّ بالعيب في البيع، وهذا على هذا الوجه متفق عليه في الطرق. فإن قيل: إذا كنتم تنسبون الغرة إلى الدية، فاحكموا بإجزاء معيب قيمته واقعة من الدية على النسبة المطلوبة. قلنا: لا حاصل لهذا السؤال، فإن الرد بالعيب وإن كان مبنياً على اعتبار الأغراض المالية، فلا يقع الاكتفاء باعتبار القيمة المجردة، فإن من اشترى عبداً واطلع منه على عيب، وكانت قيمته مع العيب الذي به زائدة على [الثمن] (7) بأضعاف، فللمشتري الرد واستردادُ الثمن، وإن كان ذلك العبد المعيب

_ (1) في الأصل: "يضيع". (2) في الأصل: "غرمت". (3) أي الغرة بدل الجنين. (4) وهذا الوجه هو الذي استقر عليه المذهب، فهو الأصح عند الرافعي، (ر. الشرح الكبير: 10/ 523) (وكذا النووي في الروضة: 9/ 376). (5) في الأصل: "إلى". (6) في الأصل: "المعيب". (7) في الأصل: "التمييز".

[مطلوباً منه] (1) بأضعاف الثمن. وهذا أصل متفق عليه، نعم، قد تتمحض المالية في بعض المواضع، وذلك إذا اشترى قيّم الطفل له عَرْضاً، ثم اطلع على عيب قديم به، وكان مع ما به من العيب مطلوباً بأكثر من الثمن، فليس له الرد، بل يجب رعاية الغبطة للطفل. وإذا لم تكن المسألة مصورة كذلك، فالرد لا يتوقف ثبوته على القيمة، فإن الإنسان استحق سلامة المشترى [مغبوناً] (2) كان أو مغبوطاً، فإذا لم يحصل له المستحَق، فله حق الرد، كذلك الغرة تثبت عوضاً فلا يُلزَم مستحِقُّها الرضا بمعيب، وإن كان حق المالية حاصلاً، والدليل عليه أنه لو بذل [بدلَ] (3) الغرة، مع القدرة على تحصيل الغرة، لم يقبل منه. 10846 - فإن قيل: إن كان ما ذكرتموه دفعاً للسؤال على اعتبار نسبة الغرة إلى الدية الكاملة، فماذا تقولون على قولكم يُجزىء أي عبد فرض من غير أن تنسب قيمته إلى الدية، ولو اطلع مستحق الغرة على عيب فرده، فالمردود عليه يشتري عبداً لا عيب به، وهو [أخس] (4) من المسترد، وأقل قيمة منه؟ قلنا: هذا غير متجه، لما قدمنا ذكره من [أن] (5) الأغراض المالية لا يتمحض اعتبارها في العيوب، وتصوُّر كون البدل أقلَّ من المعيب المردود بمثابة كون الثمن المسترد أقلَّ من العبد المعيب، وقد ينطبق على هذا في التمسك أن من استحق شيئاً [موصوفاً في ذمة] (6) إنسان، فجاء به معيباً، فللآخر رده، وإن كان المردود شريف الجنس، وكانت قيمته مع ما به أكثرَ من قيمة ما سيأتي به سليماً من العيب. فإذا ثبت الفرض على [المسلكين] (7)، فالمشكل في ذلك أن اسم العبد ينطلق على

_ (1) في الأصل: "منه مطلوباً". (2) في الأصل: "معيوباً". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: "أحسن". (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: "موضوعاً في دية". (7) في الأصل: "الملكين".

المعيب انطلاقه على السليم، فإذا لم يكن العبد على قدر من المال معتبر، فاستنباط اشتراط السلامة عسر. وقد قيل: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم العبد باسم الغرة، والغرة اسمٌ [للبريء] (1) السليم، وهذا يعارضه أن الغرة اسم للخيار في الجنس والنوع، لا أنه اسم للبريء، ثم القواعد متفاوتة في [النقائص] (2) المانعة من الإجزاء، [فالمرعيّ] (3) في النقص المانع من الإجزاء في الكفارة ما يؤثر في العمل تأثيراً ظاهراً، فإن لم يكن مؤثراً، لم يمنع الإجزاء وعليه خرج في النقائص المانعة من الإجزاء في الضحايا ما يؤثر في اللحم، أو [فقد] (4) العين والأذن، كما سيأتي في الضحايا، والمعتبر هاهنا ما يؤثر في إثبات حق الرد في [المعاوضات] (5)، وقد أوضحنا ذلك في كتاب البيع. وقد نجز القول في العيب. 10847 - فأما الكلام في السن، فإنه يقع في [الطرفين] (6). ونحن نوضح القول في العبد الصغير، ثم نبين المذهب في العبد الكبير: فأما الصغير الذي لم يظهر تمييزه، ولم يبلغ سبعاً أو ثمانياً؛ فإنه لا يجزىء، وذلك أنه مأخوذ عوضاً، وأخذه يُلزم صاحبه التزام مؤنة خاصته، وهو مشقة بيّنة، فنزل [الصغر] (7) منزلة العيوب. ومما يجريه الأئمة في الكلام أن آخذ الغرة ينبغي أن يكون متمكناً من الانتفاع باستخدامه، فإذا لم يحصل له هذا الغرض، كان الماخوذ كلاَّ ووبالاً عليه، والعبد في الكفارة يخالف في أصله وضعَ الغرة، فإن من أعتق عبداً رضيعاً ليس به عيب

_ (1) في الأصل: "لترى". (2) في الأصل: "النقائض". (3) في الأصل: "فالمدّعى". (4) في الأصل: "فقع". (5) في الأصل: "المعلومات". (6) في الأصل: "الطريقين". (7) في الأصل: "الصغير".

يمنعه من العمل إذا استقلّ، فإعتاقه مجزىء؛ فإن الغر تخليصه من الرق حتى يستقل، ولا يكون كلاًّ على غيره. وأما الغرة، فإنها [عوض تُبتغى] (1) المالية منه، فالصغر المُحوِج إلى المؤنة في حكم العيب، وقد ذكرنا تفصيل القول في العيب. فهذا كلام في هذا الطرف. 10848 - فأما العبد الكبير، فقد قال بعض الأئمة: لا تجزىء جارية في الغرة استكملت عشرين، ولا يجزىء غلام استكمل خمسة عشر، فإن الجارية يظهر تغيّرها بسبب أثر السن إذا أبرّت (2) على العشرين، والغلام يظهر تغيره باستكمال الخمسة عشر، فهذا ما ذكره العراقيون. وقال قائلون: نعتبر العشرين في [الجنسين] (3)، فإن النمو والازدياد إلى هذا الحد، وبعده التراجع والانحطاط. وقال الشيخ أبو حامد: [الكبر] (4) المانع هو الهرم المؤثر في حل القوى، وتضعيف المُنّة، وتابعه جماهير الأصحاب. ومن أراد الغاية، لم يخف عليه أن الكلام في هذا الطرف من السن مضطرب؛ فإن الهرَمَ إن كان يؤثر في العمل، فليس العمل معتبراً في هذا الباب، وإنما نعتبر العمل [ووفورَه وسقوطَه في عبد] (5) الكفارة، وليس ذلك معتبراً في الغرة، والدليل عليه أن العيب المانع من الإجزاء في الغرة [ما لا يكون] (6) مؤثراً في العمل بشين في الوجه [والطرف] (7) وما أشبهها. فالذي يجب اعتباره في السن على الطريقة المرعية اتخاذ العيبِ والسلامةِ منه حَكماً في الباب.

_ (1) في الأصل: "عرض سعى". (2) أبرّت: أي زادت. (3) في الأصل: "الجنين". (4) في الأصل: "الكبير". (5) في الأصل: "ووفوده وسقوط عبد في". (6) في الأصل: "ولا يكون". (7) مكان كلمة غير مقروءة. رسمت هكذا " ـهى ".

ونحن نطرد غرضنا في ذلك على ما لاح [وظهر] (1) من وجوب كون الغرة مناسبةً للدية بالجزئية التي قدمناها، فكل سن كان عيباً، فليس كذلك، فإن اطراد [الإنسان من نشوئه] (2) إلى انقضائه بمثابة أنواع الآدميين. ثم لا يتعين في الغرة نوع، فالملتحي نوعٌ وقد لا يصلح لما يصلح له الأمرد، ويصلح [الأمرد لما لا يصلح له الملتحي] (3) وهذا يتحقق في أنواع العبيد. ثم تقاعُدُ نوعٍ غير مقصودٍ عن النوع الآخر لا يُلحقه بالمعيب، فاقتضى ذلك ألا نعتبر ما اعتبره بعض الأصحاب من استكمال العشرين والخمسة عشر، وكذلك الكهل الذي وخَطه الشيب، يصلح لما لا يصلح له مَنْ دونه من الأمور الخطيرة التي تنافي [نَزَقَ] (4) الشباب. والهَرَمُ لا يمنع إجزاءه ما لم ينته الهرم إلى العيب، ولا ضبط لما ينتهي إلى العيب إلا ما يُظهر الضعفَ وسقوطَ المُنة؛ فإن هذا نقصٌ وراء التنويع والتجنيس، ولا يتصور أن يكون مقصوداً (5)، والصغر دون سن التمييز يلتحق بالعيب؛ من حيث إنه يُلزم مؤنةً. فلينظر الناظر إلى ذلك يَرشُد. وليعلم أن العبد إذا كانت قيمته منسوبة إلى الدية، فلا ضرار من جهة المالية، ولا عيب في الصنف (6)، وإن فرض انعدامٌ [في غرضٍ خِلقةً ووجودُ غرضٍ، فالأطوار

_ (1) في الأصل: " فظهر ". (2) في الأصل: " الانسان من تسربه " تماماً. * تنبيه: نذكر أن ما تراه أمامك من الحواشي ليس فروقَ نسخ، فنسخة الأصل وحيدة، والمثبت في الصلب بدلاً من هذا الخلل هو من توسّم المحقق وتقديره، بحثاً عن صواب العبارة وإقامة النص. (3) عبارة الأصل: "ويصلح لأمور لا يصلح لها المرء " وفيها تكرار وركاكة، فلعل الصواب ما أثبتناه. (4) في الأصل: "برق". (5) مقصوداً: أي مطلوباً مرغوباً. (6) الصنف: المراد به هنا: المرحلة من عمر العبد من الشباب والكهولة ونحوها.

والتارات] (1) كالأصناف، ومن تخيل مجاوزة نضارة الشباب عيباً، فليس على بصيرة؛ فإن ذاك إن كان كذلك إنما يتحقق في عبد معيّن ونوع مخصوص، فأما إذا كان تعيين النوع والصنف إلى المخرِج، والماليةُ مرعية، والأطوار [كالأصناف] (2)، فلا وجه لما تخيله أولئك. هذا حاصل الكلام في قيمة الغرة، في عَيْبه وسلامته، ثم في [سنه] (3). 10849 - ثم نحن نذكر بعد هذا التفصيلَ فيه إذا عُدِمت الغرة، فإن الرجوع عند عدمها إلى ماذا؟ أولاً-[نعتبر] (4) في العبيد [ما] (5) يعم في البلد أو يكثر في يد الغارم، بخلاف ما ذكرناه في الإبل الواجبة في الدية، ومطلق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "غرةٌ عبد أو أمة" يدل على ذلك، وتصوير [العدم] (6) كتصوير [العدم] (6) في إبل الدية، وقد قدمت ذلك مشروحاً في أول كتاب الديات. ولا معدل عن الغرة مع وجودها، كما لا معدل عن إبل الدية مع وجودها، إلا أن يرضى به الباذل والمستحِق، ثم يكون ذلك اعتياضاً، والقول في هذا كالقول في إبل الدية حرفاً حرفاً. وقد ذكرنا ثمَّ أن المنصوص عليه في الجديد أن إبل الدية إذا فقدت، قوّمت ووجبت قيمتها بالغة ما بلغت، وذكرنا قولاً آخر أن الرجوع إلى مقدرٍ، وهو من الدنانير ألفُ دينار، ومن الدراهم المسكوكة من النُّقرة الخالصة اثنا عشر ألفاً. وقد اختلف أئمتنا في ترتيب المذهب في الغرة. فمنهم من قال: الترتيب هاهنا

_ (1) عبارة الأصل: " من عرص خلفه وجوب عرص الأحوار والتارات " والمثبت تصرف من المحقق. (2) في الأصل: "بالأصناف". (3) في الأصل: "شبه". (4) في الأصل: "نتغير". (5) في الأصل: "بأن". (6) في الأصل: "الغرم".

كالترتيب إذا فقد [إبل الدية] (1)، حتى يكون الرجوع إلى قيمة الغرة في قولٍ مصحح، وإلى مقدّرٍ سنصفه في القول الآخر. ومنهم من قال: الترتيب يجب على العكس. والأصح هاهنا الرجوع إلى [مقدّر] (2) إذا فقدت الغرة. وفي المسألة قولٌ بعيد أن الرجوع إلى قيمة الغرة. هذا ما ذكره الأصحاب. 10850 - وأنا أقضي العجب ممن يستمر على مثل هذا الكلام، ولا يخطر له [اختلاج] (3) فكر يجاذبه إلى طلب [الحقيقة] (4)، ونحن نقول: إن كان العبد المأخوذ غرةً، منسوباً إلى الدية بالجزئية المقدمة، فلا يتصور إلا [التقدير] (5) في إثبات البدل، وليس كالإبل؛ فإنها أصل [لا نستبدلها] (6)، فإن اعتبرت قيمتها، فُهِم ذلك، واختلف بارتفاع الأسعار وانحطاطها، وإبل الدية مضبوطةُ النوع والسن مشروطةٌ بالسلامة، فأما العبد، فلا صنف له، [فإن نسبت قيمته، فقيمته] (7) مقدرة أبداً، وإن قيل لا ينسب العبد إلى الدية، ولا ضبط [للعبد بالإبل] (8)، فلست أرى لرد الأمر إلى رأي الغارم [ليقدّم] (9) أي عبدٍ شاء معنىً. 10851 - ووراء ما ذكرناه نوعان من الكلام، بهما تمام البيان: أحدهما - أنا إذا أوجبنا قيمة عبد، ولم ننسبها إلى الدية، فنعتبر قيمة عبد ابن سبعٍ، سليم عن العيوب، من أخس جنسٍ يفرض.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "مقدار". (3) في الأصل: "خلاج". (4) في الأصل: "حقيقة". (5) في الأصل: "تقرير". (6) في الأصل: "لا مستند لها". (7) في الأصل: "فإن سبب قيمه وقيمته مقدرة أبداً". (8) في الأصل: "لإبل عبدٍ". (9) في الأصل: "ليقوّم".

وإن اعتبرنا نسبة العبد إلى الدية، فقد يعترض فيه سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: تقويم العبد مذكور مشهور، وهو قول معزي إلى الشافعي، فما وجهه؟ هلا قطعتم بالرجوع إلى المقدر؟ وهذا سؤال واقع، [والجواب] (1) عنه أن الإبل إذا عدمت، فالأصح أن الرجوع إلى قيمتها، والخلاف يؤول إلى أنا إذا أردنا القيمة، فنقوّم عبداً يؤخذ به خمس من الإبل، ونرجع إلى خمس من الإبل (2)، ويكون هذا التردد بسبب كون العبد أصلاً في الباب، ويستفيد به الباذل أنه يبذل الدراهم، فتؤخذ منه مع وجود الإبل، ولسنا نعتقد على هذا المسلك الأصحِّ أن التقدير المالي يختلف، وإنما يرجع أثر التقويم إلى ما ذكرنا من جواز الرجوع إلى القيمة مع وجود الإبل. فلو فقدت الإبل، فلا أثر لقولنا: إنا نقوّم العبد بالإبل. نعم، إنما صححنا الرجوع إلى البذل عند عدم الإبل، لأنا نقع في الدراهم والدنانير، مع انضباط [القيمة] (3)، فبعُدَ هذا، وكان الرجوع إلى الإبل أقرب منه بخلاف الإبل إذا فقدت في الدية؛ فإن القيمة غير منضبطة، وكان الأصل فيها [التقويم] (4)؛ فإن الألف دينار لا أصل لها، وإنما صار إليها صائر من حيث رأى في [الواقع] (5) تقويم الإبل بألف دينار، وإنما يُحمل ذلك على وفاق في القيمة، والرجوع إلى خمس من الإبل مضبوطة شرعاً، وهذا منتهىً لا يفضي إليه إلا فَهِمٌ ومَنْ شاركنا في مأخذ الكلام في الفقه. وتمام البيان فيه أنا إذا صححنا أن الرجوع إلى الإبل، انقلب هذا إلى الترتيب الذي ذكرنا في فقدان الإبل في أصل الدية، فالقول الأصح أنا نرجع إلى قيمتها بالغة ما بلغت. وفي المسألة قول في القديم أنا نوجب نصف عشر ألف دينار وهو خمسون ديناراً، وقد نجز مقصود الفصل منقحاً كما ينبغي.

_ (1) في الأصل: "والسؤال". (2) أي نرجع إلى قيمتها. (3) في الأصل: " القسمة ". (4) في الأصل: "التقوّم". (5) مكان بياض قدر كلمة بالأصل.

فصل قال: "فإن كانت أمه مجوسية وأبوه نصرانيّاً ... إلى آخره" (1). 10852 - قد ذكرنا التفصيل في الجنين المحكوم بإسلامه الحرّ، وذكرنا موجب الجنين الكافر، إذا تمحض الكفر فيه، [بأن] (2) كان متولداً من نصرانيّ ونصرانية، أو يهودي ويهودية، والغرض لا يختلف، بأن كان متولداً من بين نصرانية ويهودي؛ فإن دية اليهودي كدية النصراني. وهذا الفصل مقصودٌ فيما إذا كان متولداً من بين من يقل ضمانه ويكثر ضمانه كالمتولد من مجوسي ونصرانية، فإذا فرض الجنين كذلك، [فأسقطته] (3) الجناية فالمذهب الظاهر أنا نعتبره بأكثر الأبوين ديةً، وأغلظهما في الضمان. وقال أبو الطيب بن سلمة: نعتبر [بأخسّ] (4) الأبوين ضماناً، وحكى صاحب التقريب وجهاً آخر أنا نعتبره [بدية الأب] (5)، فإن الانتساب إليه. 10853 - وقد ذكر الأئمة في مسالك إتباع الوِلْدان جامعة نذكرها ونختتمها بتوجيه الاختلاف. قالوا: من الأحكام ما يتبع المولود فيه الأبوين، [أيَّ] (6) واحد منهما، وهو الإسلام، لأنه عالٍ مغلَّب يثبت من أي جهة أتى، ويلتحق بذلك [أخذ الجزية] (7) في أصلهما، فإذا كان الشخص متولداً من بين من تؤخذ الجزية منه ومن لا تؤخذ الجزية منه، فالجزية مأخوذة من المتولد؛ تغليباً [لحقن] (8) الدم.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 144 (2) في الأصل: "فإن". (3) في الأصل: "فأسقطت". (4) في الأصل: "بأحد". (5) في الأصل: "بأكثر الأبوين دية" وهو خلل واضح. (6) في الأصل: "وكل". (7) في الأصل: " احرا ـحزية " (كذا تماماً). (8) في الأصل: "لتحقق".

ومن ذلك [تحريم] (1) اللحم، فالمتولد من بين [من تحرم ذبيحته ومن تحلّ محرّمٌ] (2)، لما صح من تغليب الحظر. ويلتحق بهذا سقوط الزكاة فالمتولد من بين الظباء والأغنام لا زكاة فيه. [ومنه] (3) وجوب الجزاء في المتولد كما مضى في موضعه، ويلتحق به امتناع جزاء الصيد بالمتولد [وامتناع التضحية] (4) وعدم استحقاق السهم من [المغنم] (5) بسببه [كالبغل] (6) فهذا قسم، وتجمع مسائله بما يثبت في الشرع تفصيله. ومن الأقسام ما يتبع المولود فيه الأبَ، وهو [النسب] (7) وكل ما يتلقى من النسب، وذكر الأئمة من ذلك قدرَ الجزية إذا كان الأب قد ألزم أكثر من دينار، فالغلام مطالب إذا بلغ بمثله، وسيأتي ذلك في موضعه من الجزية، إن شاء الله عز وجل. ومما يتصل بهذا القسم الكفاءة؛ فإن المرعيّ فيها نسب الأب. ومن الأقسام ما يتبع المولود فيه الأم وهو الملك والحرية، وغير ذلك، قال الشافعي: ولد كل ذات رحم بمثابتها [يكون] (8) ملكَ مالك الأم، لا حظ منه لمالك [الفحل] (9). ومن الأقسام ما يراعى فيه الأغلظ، ويتصل بذلك سن اليأس من الحيض إذا فرعنا على أن الاعتبار نساء العشيرة، حتى لو كانت نساء العشيرة من قبل الأب ينقطع حيضتهن على رأس الستين، وينقطع حيض نساء العشيرة من قبل الأم على رأس السبعين، فيعتبر السبعين، ولو كان الأمر على العكس، فالمعتبر الأغلظ، كما ذكرنا. والسبب فيه أنا نعتبر أقصى امرأة في العشيرة، وهذا يجمع الجانبين، فمنه انتظم

_ (1) في الأصل: " بحري ". (2) في الأصل عبارة غير مقروءة، رسمت هكذا: حران يحرم وحران يحل محرم (كذا تماماً). (3) في الأصل: " ومنهم ". (4) في الأصل: " واتساع النصيحة ". (5) في الأصل: "الغنم". (6) في الأصل: "كالنعل". (7) في الأصل: "السبب". (8) مكان بياض بالأصل. (9) في الأصل: "العجل".

تصوير الأغلظ، وفي مهر المثل نعتبر نساء العصبات، وقد مضى في ذلك باب مفرد. وفي مناكحة [المتولد بين] (1) من يحل مناكحة جنسه وبين من لا يحل مناكحة جنسه قولان، وكذلك القولان في استحلال ذبيحة أحدهما أنا نعتبر أغلظ الجانبين، فتحرم المناكحة والذبيحة. والقول الثاني - أنا نعتبر في الحُكْمين المذكورين جانبَ الأب فقط، وقد قدمنا القولين بما فيهما من توجيه وتفريع في كتاب النكاح. [أما القول في] (2) توجيه الاختلاف الذي ذكرناه في بدل الجنين المتولد بين من تخف ديته وبين من تغلظ ديته، فمن قال بظاهر المذهب، وهو أن الاعتبار [بأغلظ] (3) الجانبين أو أكثرهما دية، احتج بأن الغرض الأظهر من إيجاب هذه الأعواض الزجر عن الإقدام على الإتلاف. وهذا المعنى إذا كان متضمناً [حقنَ] (4) الدم، والمنعَ من الإهلاك، [فيليق] (5) به التغليظ. ومن قال بمذهب أبي الطيب، احتج بأن الأصل براءة الذمة، والوجه ألا نوجب إلا الأخف والأقل. ومن قال نعتبر جانب [الأب قال] (6): إذا تعارض اعتبار براءة الذمة والاحتياط [لحقن الدم] (7) وجب بعد تعارضهما النظر [إلى] (8) من نسب المولود إليه [وإنما] (9) ينسب [إلى] (10) الأب. فهذا مجموع القول في هذا الفصل.

_ (1) في الأصل: "المتولدين". (2) مكان بياض بالأصل. (3) في الأصل: "بخلط". (4) في الأصل: " حفي ". (5) في الأصل: "فبطلق". (6) سقطت من الأصل. (7) في الأصل: "والاحتياط الخفي وجب". (8) في الأصل: "أما". (9) في الأصل: "وأما". (10) زيادة من المحقق.

فصل قال: "ولو جنى على أمةٍ حامل ... إلى آخره" (1). 10854 - مقصود هذا الفصل أن الاعتبار بيوم الإلقاء إذا فرضت تغايير، وكان الجنين حرّاً في أصله، وكان حرّاً يوم الإلقاء. وبيان ذلك أن من جنى على ذمية، وهي حامل بولدٍ كافر، فأسلمت، ثم ألقت الجنين بسبب الجناية، فنوجب فيه غرة تامة باعتبار يوم الإلقاء، وهذا قياس مطرد، وهو اعتبار المآل في استقرار [الأقدار في الأروش] (2)، وقد مهدنا هذا الأصل في كتاب الجراح. ولو جنى على أمةٍ وكانت حاملاً بولد حربي، فأسلمت، ثم ألقت جنينها، وقد جرى الحكم بإسلامه، فلأصحابنا طريقان: [منهم] (3) من قطع بأن الضمان لا يجب، وهو طريق أبي علي، ومنهم من ذكر وجهين في وجوب الضمان في الجنين: أصحهما - أن الضمان لا يجب، والثاني - أن الضمان يجب. وتحقيق القول في ذلك يستدعي رمزاً إلى تجديد الذكر بأصولٍ قدمناها في أول الجراح، فنقول: ما يجب القطع به من أن من جرح حربياً وأسلم ومات، فلا ضمان على الجارح لمصادفة الجرح المجروحَ في حالة كونه [هدراً] (4) [إذا فرض النزاع في موجب الغرة، فإن سلم الجناية، وسلّم الإجهاضَ، ولكن قال: لم يسقط بسبب الجناية، فإن اتصل الإجهاض بالجناية] (5)، قُطع [بصدقها] (6). والقول في ذلك

_ (1) ر. المختصر: 5/ 144. (2) في الأصل: "الإيراد والأروش". والمثبت من معنى كلام الإمام وألفاظه في أوائل كتاب الجراح. (3) في الأصل: "فيهم". (4) سقطت من الأصل. (5) هنا خرمٌ في نسخة الأصل وهي وحيدة، فالكلام هنا عن الاختلاف بين الجاني والولي في سبب الموت، وهل كان من السراية أم بسبب غيرها، وهو يشبه صورة لم يسبق ذكرها، مما يؤكد وجود الخرم؛ فما بين المعقفين رتقٌ لهذا الخرم، وهو بألفاظ الغزالي تقريباً (ر. البسيط: 5/ 88 شمال). (6) في الأصل: "بصدمتها".

كالقول فيه والمجني عليه إنسان [اتصل موته] (1) بالجناية، وكانت تلك الجناية مما يفرض الموت بها، فالقول قول ولي المجني عليه أنه مات بالجناية، وإن لم يتصل الإلقاء بالجناية (2)، نظر: فإن كانت المرأةُ المجنيُّ عليها [زوجةً صاحبةَ] (3) فراش [وظلت] (4) متألمة حتى ألقته، فالقول قولها، وعليها اليمين. وإن لم تكن صاحبةَ فراش وتخللت المدة، وكانت سليمة في تلك المدة، فالقول قول الجاني. والصور كثيرة، ولست أرى في تكثيرها فائدة؛ فإنّ [فَرْض] (5) الاختلاف في سقوط الجنين وإضافته إلى الجناية، كفرض الاختلاف بين الجاني وبين المجني عليه، إذا فرض الاختلاف في أنه مات بالجناية أو مات بسبب آخر، وقد مهدنا تلك الصور على أكمل وجه في البيان. ولم أر بين فرض النزاع في إلقاء الجنين وبين فرض النزاع في أداء السراية إلى [موت] (6) المجني عليه فرقاً، ولو أردت البيان التام، لأعدت تلك الصور، ولا سبيل إلى إعادتها، فأنا ذاكرٌ [هاهنا] (7) ما أراه مختصاً بهذا الأصل. 10855 - فلو جنى عليها، فألقت [جنيناً] (8) على الاتصال، فقد ذكرنا أن الإلقاء مضاف إلى الجناية، وإن فرض نزاع، فالقول قول المرأة، ولو قالت القوابل: [ألقت الجنين إذْ كان حان] (9) وقت الولادة، وقد [اتصل] (10) الانفصال بالجناية، فلا أثر

_ (1) في الأصل: "فاصل قربه". (كذا تماماً). (2) هذا تفصيل لصورة لم تذكر من قبل، وهي لا شك من الخرم الذي أشرنا إليه في التعليق قبل السابق. (3) في الأصل: "ذمية صاحب". (4) زيادة اقتضاها السياق. والمعنى أنها ظلت متألمة من الجناية حتى ألقت جنينها. (5) زيادة من المحقق. (6) في الأصل: "قرب". (7) في الأصل: "ذاكرها هذا". (8) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (9) عبارة الأصل: " العر الجنين إذا كان جانٍ وقت الولادة ". (10) في الأصل: "انفصل".

لقول القوابل إذا قلن: إنما انفصل الولد لأنه كان قد حان وقت الولادة، لأن هذا أمر لا يطلع عليه القوابل؛ من قِبل أن الولد قد ينفصل عند انقضاء [أمده] (1) وقد-[لسبب- يتأخر] (2) انفصاله، ثم يتفاوت الأمر في هذا تفاوتاً عَظيماً، فسقط قولهن، ووجب الرجوع إلى [اتصال الانفصال] (3) بالجناية، كما قدمنا ذكره. ولو سلم الجاني أنها ألقت الجنين بسبب الجناية، ولكنه ادّعى أنها ألقته ميتاً، وقالت المرأة: بل ألقيته حياً عليه أثر الجناية، ثم مات، فالقول في هذه الصورة قول الجاني؛ فإن الأصل عدم الحياة وبراءة الذمة. ولو سلم لها أنها ألقته حياً بجنايته، وادعى أنه مات بسبب آخر، فهذا مما يجب التأنّي فيه، فنقول: إذا ثبتت الجناية، واتفق [اتصال موت] (4) المجني عليه بالجناية التي [يُفضي] (5) مثلُها إلى الهلاك، فالموت مضاف إلى الجناية. ولو ادعى الجاني أن الموت حصل بسبب آخر، فعليه إثبات ذلك السبب، وهذا من الصور التي لم نذكرها، وأحلناها على تقريرنا لهذا الأصل على كتاب الحرابة. ولو اعترف في مسألتنا بالجناية عليها، وأقر باتصال انفصال الولد، وحصل موت الولد بعد أن انفصل حيّاً متصلاً من غير تخلُّل مدةٍ، [فتجب الدية كاملة. 10856 - وإذا لم ينفصل] (6) الجنين، لم يختلف العلماء في أنه لا يجب بسبب الجنين شيء، فإنا لم نتحقق وجوده، والأصلُ براءة الذمة، وإنما نتحقق وجودَه بانفصاله. فلو انفصل بعضه وبقي [ناشباً] (7) - والمعنيّ بالانفصال الخروج لا الانقطاع -فقد

_ (1) في الأصل: " مده ". (2) في الأصل: "نسب آخر". (3) في الأصل: "الاتصال للانفصال". (4) في الأصل: "الاتصال فوت". (5) في الأصل: "يقتضي". (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) في الأصل: " ناسياً ".

تحققنا وجود الجنين، وظهر استناد الأمر إلى الجناية، فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا ضمان أصلاً، لأن الجنين لم ينفصل، وخروج بعضه لا حكم له، وقد نستيقن الحملَ واضطرابه في البطن، ثم إذا لم ينفصل لا نوجب شيئاًً، كذلك إذا ظهر [بعضه] (1) وهذا نسبه بعض المعتمدين إلى القفال. وذهب المحققون من الأصحاب إلى إيجاب الغرة؛ لأنا تحققنا تلف الجنين، مع استيقان وجوده، ولا أثر للانفصال إلا استيقان الوجود، وقد تحقق هذا في خروج البعض. ولا خلاف أنا لا نحكم بانقضاء العدة؛ فإن انقضاء العدة مربوط بفراغ الرحم، وإنما يتحقق الفراغ إذا تم الانفصال. وهذا الذي ذكرناه في انفصال بعض الجنين ميتاً. فلو ظهر بعضُه واستهلّ ثم مات وجمد، فمن [يعتبر] (2) الانفصال لا يوجب في هذه الصورة شيئاً، والمسألة فيه إذا بقي [ناشباً] (3) وماتت الأم، فإن الانفصال مشروط في أصل الضمان، فإذا لم يتحقق الانفصال، لم يجب شيء. ولو استهل [وطرف] (4) كما (5) ظهر البعض، ثم جَمَد (6) وانفصل ميتاً، فهذا يخرّج على الخلاف الذي قدمناه: فمن اعتبر الانفصال، قال: لا حكم لذلك الاستهلال الذي جرى، ومن اعتبر التيقن يقول: قد تيقنا الحياة، فتجب الدية الكاملة إذا كان الموت بعد الظهور والاستهلال، ولو سمعنا صراخ الجنين في البطن، فلا حكم له وفاقاً. ومما يتصل بهذه الجملة أنه إذا ظهر بعضُ الولد -وكان يستهلّ- فجاء إنسان فاحتز

_ (1) في الأصل: "بعده". (2) في الأصل: "يعين". (3) في الأصل: "ناسياً". (4) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، رسمت هكذا: (سى) تماماً. (5) كما: بمعنى عندما. (6) جاء في الأساس للزمخشري: "ما زلت أضربه حتى جمد" وسيف جمّاد: أي يُجَمِّد من يضرب به.

رقبته، فإن قلنا: الاعتبار بحصول الانفصال، فلا نوجب على [الذي قتل] (1) القصاص والدية الكامل. وإن بنينا على التيقن، أوجبنا القصاص عليه، إذا كانت الحياة [مستقرّة] (2). [ومن] (3) الصور المرتبة على ما قدمنا أنه إذا قدّ امرأةً حاملاً بنصفين، ومر السيف على الجنين وقدّه في الرحم، وبدا ذلك لنا، ولم ينفصل، فمن اعتبر الانفصال، لم يوجب بسببه [الغرة] (4)، ومن اعتبر [الاستيقان] (5) أوجب (6) فهذه المسائل كلها مدارة على طلب اليقين في طريقة واشتراط الانفصال في طريقة (7). فصل قال: "ولو خرج حياً لأقل من ستة أشهر ... إلى آخره" (8). 10857 - إذا جنى على امرأة حامل، وانفصل الجنين حيّاً وعليه أثر الجناية، ومات، فتجب الدية الكامل على الجاني، ولا فرق بين أن يكون انفصاله [لزمن يعيش] (9) الولد إذا انفصل في مثله كالستة الأشهر، [فأكثر] (10)، وبين أن يكون انفصاله لزمنٍ يقول القوابل: لا [يعيش] (11) الولد بمثله.

_ (1) في الأصل: "الذمي قبل". (2) في الأصل: "مشعرة". (3) في الأصل: "وفي". (4) في الأصل: "اليمين". (5) في الأصل: "الاستيفاء". (6) أي أو أوجب الغرة. (7) لم يرجح الإمام أيَّ طريقة من الطريقتين، والأصح في المذهب أن المدار في الحكم على اليقين، والانفصال علامة عليه، فإذا تحقق اليقين بغير الانفصال، فقد وجبت الغرة. (ر. الشرح الكبير للرافعي: 10/ 505، والروضة: 9/ 366). (8) ر. المختصر: 5/ 144. (9) في الأصل: "من تعسر". (10) في الأصل: "فصار مرا" (كذا تماماً) ولعل ما أثبتناه هو الصواب. (11) في الأصل: "يعسر".

واعترض المزني وقال: " هذا عندي سقَطَ [من الكاتب] " (1)، والوجه (2) ألا نوجب إلا غرة؛ فإن هذه الحياة فانية لا حكم لها، والجاني يلتزم الغرة لمنع الحياة المستقرة (3). وقد أجمع أصحابنا على مخالفته؛ فإن الحياة إذا ثبتت [فالنظر] (4) إلى أنها تبقى لهذا الزمن أم لا تبقى- كلامٌ عريّ عن مأخذ الفقه، لا مستند له من تحقيق، وفي لفظ [السواد تردد] (5)، ونحن نذكره على وجهه، ونذكر القدر الذي يقع الاستقلال في شأنه. قال الشافعي: "لو خرج حيّاً لأقلّ من ستة أشهر وكان في حال لم يتم لمثله حياةٌ [قط] (6)، ففيه الدية تامة" أما الكلام الذي ذكره، فمصرح بوجوب الدية، وإن قيل: لا يتم للجنين في مثل تلك المدة حياة. وقولُه بعده: "وإن كان في حال يتم فيه لأحد من [الأجنة حياة] (7)، ففيه الدية" (8) [فوافق] (9) الكلامَ الأول. وحاصل الكلامين أن الدية تجب سواء انفصل لمدة تتمّ في مثلها [الحياة] (10)، أو انفصل في مدة لا يتم في مثلها الحياة، فوقع الكلامان من غير رابط، [مصرّحَيْن] (11) بالتسوية [ولا مِرْية] (12)

_ (1) في الأصل: "من كانت"، والتصويب من نص المختصر. (2) الكلام من أول قوله: والوجه بمعنى كلام المزني، وليس بنصه. (3) إلى هنا انتهى كلام المزني المنقول بمعناه. (4) في الأصل: "بالنظر". (5) في الأصل: "السرامردود" وهو تصحيف غريب عجيب. والله وحده المستعان على كل هذا العناء. (6) سقطت من الأصل. (7) في الأصل: "الاخر خيرة". (فانظر كيف يكتب هذا الناسخ. غفر الله لنا وله). (8) ر. المختصر: 5/ 144. (9) في الأصل: "موافق". (10) سقطت من الأصل. (11) في الأصل: "فطرحه". (12) في الأصل: "ولا مرح".

فيه، فإنه رضي الله عنه ذكر القسمين، وحكم [فيهما] (1) بحكم واحد، فاقتضى ذلك التسوية. واستدل المزني بمفهوم الكلام الأخير، وقال: لما قال: "إن كان في حال يتم فيه لأحدٍ من الأجنّة حياة، ففيه الدية" فمفهومه أنه إذا كان لا يتم في مثله الحياة لا تجب الدية. ولا معنى لهذا التَّطريق، وصَدْرُ الكلام صريح في إيجاب الدية، [وإن] (2) كانت الحياة لا تتم، [فما الذي يُطرِّقُ] (3) إلى الكلامين خروجهما عن صيغة التسوية مع اشتمالهما على مقصود التسوية؟ 10858 - ثم استكمل أصحابنا الكلام في ذلك، فقالوا: إذا جنى جانٍ، فأسقطت المرأة جنيناً [حيّاً] (4) عليه أثر الجناية، ثم مات، وظهر انتساب موته إلى الجناية، وجب دية كاملة على عاقلة الجاني. ولو كانت المسألة بحالها، فانفصل الجنين حيّاً، فابتدره إنسان وقتله، نُظر: فإن كانت الحياة مستقرة، وجب على القاتل القصاص، أو الدية الكاملة؛ فإن الذي صدر منه عمدٌ محضٌ. وإن انفصل وهو في حركة المذبوح، وعليه أثر الجناية، فابتدره إنسان وحزّ رقبتَه، فلا شيء على هذا الثاني، والدية بكمالها على عاقلة الجاني الأول، والذي هو في حركة المذبوح في حكم الميت، وقد قدمنا استقصاء هذا في كتاب الجراح. ولو كان في الجنين المنفصل حياة مستقرة، وأوجبنا القصاص على من قتله، فهل نوجب على الجاني حكومة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يجب عليه الحكومة، كما لو جرح إنساناً جرحَ حكومة، فجاء آخر، فاحتز رقبته، فعلى الجارح حكومة.

_ (1) في الأصل: "منها". (2) في الأصل: "فإن". (3) في الأصل: "والذي يتطرق". (4) في الأصل: "جنى".

ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الجاني شيء، فإنه لم يتحقق [من] (1) جنايته على الجنين أثر للجناية. قلنا: نعم، ولكن لا مطلع على اتصال الجناية به، ولا أثر يوجد عليه، ويمكن تقديره من جهة الخلقة أو بسبب آخر، غير أنا إذا لم نجد من نحيل عليه، فلا سبيل إلى التعطيل. 10859 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن الجنين لو انفصل حياً، ولم تفرض جناية من جانٍ، فلو ابتدره إنسان وحز رقبته، فإن كانت فيه حياة مستقرة، فلا شك في وجوب القصاص على القاتل. وإن كان في مثل حركة المذبوح، فاحتز إنسان رقبته، ولم تتقدم جناية، فيجب القصاص أيضاًً، وهو بمثابة ما لو حز رقبة إنسان مشرفٍ على الموت [واقعٍ في السكرات] (2) وقد تقدم ذلك كله. والغرض الذي يجب التنبه له في هذا المقدار أن خروجه لدى الولادة وما يلقَى من عُسر في [الانفلات] (3) والانفصال، والحملُ كجناية متقدمة مفضية إلى [الهلاك (4). 10860 - ولو جنى على حربية حاملٍ، ثم أسلمت، وألقت بجنينٍ بلا] (5) حراك، فإن الذي عليه مجرى الظنون أنه مباح الدم، وقد ذكرنا في ذلك خلافاً بعيداً، حيث ذكرنا هذه المسائل أوائلَ الجراح، فالتفريع الآن على أن الضمان لا يجب على الجارح.

_ (1) زيادة اقتضاها استقامة الكلام. (2) في الأصل: "واقعة في السكران". (3) في الأصل: "الانقلاب". (4) مناسبة هذا الكلام عن أخطأر الحمل والولادة، هو بيان صحة الفرض في الصورة المتقدمة، حيث صور فيها الجنين ينفصل حياً ولكن في مثل حركة المذبوح، أي مشرفاً على الموت صائراً إليه لا محالة وذلك بغير أن تتقدم جناية، وإنما بعُسْر الانفصال وتعسر الولادة. قال الغزالي: "إن الولادة من الأخطأر التي يغلب معها الهلاك من غير تقدير سبب، فإذا كان موت الجنين متصلاً بالولادة، وقد ألقته عقب الجناية، وليس عليه أثر الجناية، فلا يوجب ذلك حمله على الجناية لما ذكرناه من خطر الولادة". (5) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، قدرنا أن كلاماً بمعناها سقط من الأصل، وذلك واضح من السياق حيث يشير إلى جنين حربي مباح الدم، ويفصل المسألة، مما أكد هذا السقط.

فلو رمى إلى حربي، فأسلم الحربي، وأصابه السهمُ مسلماً، ففي وجوب الضمن وجهان- على قولنا: لو جَرحَ الحربيَّ ثم أسلم، ومات لا يضمنه، وسبب الاختلاف أن [الرَّمْي] (1) إنما يصير جناية عند مصادفة السهم المجني عليه، ولقد كان مسلماً إذ ذاك، وليس كذلك إذا وقع الجرح بالحربي، ثم فرض الإسلام من بعدُ. وإذا تبين ما ذكرناه في [الرّمْي] (1) والجرح، عدنا إلى جرح الحربية الحامل وإفضاء الجرح إلى الإجهاض بعد إسلام الحامل (2)، وجريان الحكم للجنين بالإسلام تبعاً، فمن أصحابنا من أهدر الجنين، فإن الجراحة وقعت بالحربية وهي مهدرة، فصار كسريان الجراحة الواقعة بالحربي إلى روحه، فالسريان إلى الجنين كالسريان إلى روح المجروح. ومن أصحابنا من جعل الجناية المتصلة بالأم في حق الجنين بمثابة [الرمي] (1)، وقد ذكرنا في [الرمي] (1) إذا جرى في حالة الإهدار [وحدوث] (3) الإصابة في حالة الضمان وجهين، فرجع حاصل الكلام إلى تردد الأصحاب في إلحاق هذه المسألة في حق الجنين بالجراحة أو بالرمي، كما قدمنا (4)، والأصحُّ انتفاء الضمان. ولو جرح مرتدة حاملاً، فإن كان ولدها مسلماً، فألقته بالجناية، وجب الضمان إذا كان مسلماً حالة الجناية. 10861 - وإن كانت علقت بولدها من مرتد، ففي ولد المرتدة من مرتد قولان: أحدهما - أنه مسلم، فإنه جرت الجناية والجنين مسلم، فيجب الضمان، ولا حاجة إلى تصور إسلام المرتدة قبل الإجهاض، فإن قلنا: ولد المرتدة من المرتد مرتد، فإذا

_ (1) في الأصل: " الذمي ". (2) هذه هي المسألة المفروضة التي سقطت وزدناها، كما أشرنا في التعليق قبل السابق. (3) في الأصل: " وجوب ". (4) واضح أن الفرق بين الجراحة للحربي الذي يسلم بعدُ ثم يموت مسلماً ورَمْي السهم إليه وهو حربي، فيسلم قبل أن يصيبه السهم، ثم يموت مسلماً- ففي حالة الجراحة اتصلت الجراحة وتمت وهو في حالة الإهدار، أما في حالة السهم فلم تحدث إلا وهو مسلم معصوم. هذا هو الفرق. وفي مسألتنا (جرح الحربية الحامل) هل أُلقي الجنين بجناية اتصلت به عند الإلقاء فتكون كحالة الرمي أو اتصلت به عند الجناية على الأم، فتكون كحالة الجرح والسراية؟

ضُربت حتى أَجْهَضَت جنينها، فلا ضمان، فإن أسلمت ويثبت الإسلام للولد تبعاً، كانت كالحربية الحامل إذا اتصلت [الجناية] (1) بها وأسلمت، ثم ألقت، وقد مضى تردد الأصحاب فيها. فصل "ويغرَمها من يغرَم ديةَ الخطأ ... إلى آخره" (2). 10863 - والمراد أن بدل الجنين مضروب على العاقلة أبداً، فإنه ترتب وجوبه على خطأ أو شبه عمد، ولا يتصور اعتماد الجنين بالجناية عليه، فإن قيل: لم لا يتصور ذلك؟ قلنا: لأن حياة الجنين غير معلومة في الأصل، بل وجوده غير معلوم، ثم ليس مباشراً بالجناية، فاتفق العلماء على أن العمد المحض لا يتصور فيه. ثم إن كان الواجب غرة، فهي مضروبة على العاقلة، وقد تقدم أنها مضروبة عليهم في سنة أو سنتين، والذي جدده الشافعي في هذا الفصل أن قال: إذا كانت أعداد العاقلة وافية [بالتزام] (3) الغرة، فالإمام يضرب عليهم الغرة. فلو قالوا: نبذل قيمتها، أفهل يقبلها، (4) مستحقها، قيل: لابد من تحصيل الغرة، ثم الإمام بالخيار: إن أحب أن يلزمهم أن يحصّلوها بالحساب المعلوم بالتوظيف عليهم، وكل واحد يبذل حصته، ثم يسعَوْن أفي ابتياع، (5) الغرة، فإنه إنما يضرب على العاقلة ما وجب بالجناية، وكذلك نقول أفيما وجب، (6) إذا ضربنا الدية عليهم، فيتقسط عليهم قيمة الإبل، ثم عليهم أن يجمعوها ويحصّلوا بها الإبل. (2) (3) (6) في الأصل: "بجناية ". ر. المختصر: 5/ 144 وهذا الفصل قبل الفصل السابق في ترتيب (السواد) وقد أشار الإمام إلى هذه المخالفة في الترتيب في الفصل السابق. في الأصل: "قالتزم ". في الأصل ت " فليقبلها ". في الأصل:، من اتساع ". في الأصل: "ما وجب ".

فإن أراد الإمام أن يتولى [شراء] (1) الغرة، فهذا من جهات إعانته، والأصل أنهم مطالبون بالغرة، إذا وفت أعدادهم، ولو قال الإمام: [إليَّ] (2) بالدنانير وأنا أشتري بها الغرة، فلهم أن يقولوا: الإبل نحن نشتريها، وهذا بعينه يجري في الإبل. ولو كانت أعدادهم لا تفي إلا بنصف الغرة، فالواجب عليهم نصف قيمة الغرة، لا قيمة نصف الغرة، بين العبارتين بون عظيم (3)، فإنا لو أوجبنا عليهم نصف قيمة الغرة، وقد يؤخذ نصف العبدبما [يقل] (4) عن نصف قيمته، فيكون هذا عيباً وتنقصاً، وإذا أوجبنا نصف قيمة الغرة، فمعناه أن نعرف قيمة غرة مجزئة، كما تقدم [وصفها] (5)، ثم نضرب نصف ذلك المبلغ على العاقلة، ثم إذا كان في بيت المال مال، فيُكَمَّل من بيت المال، ونحصّل غرّة مما ضربناه على العاقلة، ومما ضربناه على بيت المال. فصل قال: "وإن أقامت البينة أنها لم تزل ضمنة من الضرب ... إلى آخره" (6). 10863 - إذا جنى على حاملٍ، فأتت بولد ألقته مجهضاً، وقالت: هذا الولد ألقيته بجنايتك، فقال المدَّعى عليه: استعرتيه، أو لقطتيه، فالقول قوله مع يمينه، وعليها البينة؛ لأن الأصل براءة الذمة. ولو سلم لها أنه ولدها، ولكن [أنكر] (7) الجناية عليها، فالقول قوله، وعليها البينة؛ فإن الأصل براءة الذمة وعدم الجناية، فإن سلم لها الإلقاء، وسلم الجناية،

_ (1) زيادة من المحقق. (2) زيادة اقتضاها السياق، واخترنا هذا اللفظ نظراً لوجود (الباء) في قوله: بالدنانير. (3) الفرق واضح فقد تكون قيمة العبد ألف دينار، ولكن إذا أردنا أن نشتري نصفه لا يصل إلى أربعمائة، فإن التنصيف من العيوب، كما هو معروف، وعليه فنصف القيمة خمسمائة، وقيمة النصف أقل من أربعمائة. (4) في الأصل: "يؤخذ". (5) في الأصل: "وضعها". (6) ر. المختصر: 5/ 144 وضمنة: من قولك: ضَمِن فلانٌ إذا أصيب بعاهة أو علة أو ألم (المعجم). (7) زيادة من المحقق.

وادعى أنها ألقته بسبب آخر، فإن ألقته عقيب الجناية، فالقول قولها؛ إذ الظاهر معها، ولا بد من يمينها؛ إذ لا (1) [يقبل القول بغير يمين، وإذا ألقته بعد مضي مدة من وقت الجناية، فهو المصدق باليمين؛ لأن الظاهر معه، إلا أن تقيم بينة أنها لم تزل ضَمِنة متألمة من الجناية حتى أسقطت، ولا تقبل هذه الشهادة إلا من رجلين] (2). [فإن سلّم أنه ولدُها، وأنه جنى عليها، وأنها ألقته بسبب جنايته، ولكن اختلفا: فادعت أنه مات بعد أن انفصل حياً حياة مستقرة؛ فتجب الدية كاملة، وادعى هو أنه انفصل ميتاً، فتجب الغرة، فالأصل عدم الحياة، ولها إقامة البينة، ويكتفى بأربع نسوة إذا ادعت الموت على القرب، لأن اطلاع الرجال عليه عسير. ونقل الربيع قولاً آخر أنه لا يقبل إلا شهادة رجلين، أما إذا اعترف بدوام الحياة إلى وقتٍ لا يعسر اطلاع الرجال عليه؛ فلا تقبل شهادة النسوة] (3) ذلك أن خروج الولد وانسلاله في السبيل الذي يسّره الله له، بمثابة تردّدات الأحياء في مداخلهم ومخارجهم (4)، فهذا ما ينبني الأمر عليه. فصل قال: "ولو ضربها، فألقت يداً ... إلى آخره" (5). 10864 - إذا جنى على حامل، فألقت يداً أو عضواً آخر وماتت، وجبت الغرة على

_ (1) هنا بياض قدر كلمة، بعد قوله: "إذ لا" والمؤكد أن هذا بياض يشير إلى وجود سقط في هذا الموضمع، فالمسألة لم تتم، وما ذكره بعد البياض واضح أنه كلام لا يمكن وصله بما قبله بكلمة أو كلمتين، بل متعلق بصورة أخرى غير الصورة التي فيها الكلام. (2) ما بين المعقفين تكملة للصورة مكان السقط، وهو مأخوذ من نص كلام الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 10/ 527). (3) ما بين المعقفين تكملة لصور النزاع التي قدرنا أنها سقطت من الأصل، وهي في جملتها من كلام الغزالي في (البسيط: 5/ورقة: 88). (4) هذه العبارة -بعد المعقفين- في مقام التعليل لاشتراط الرجال في الشهادة عندما تكون الوفاة بعد مدة لا يعسر اطلاع الرجال على حياة الجنين فيها. (5) ر. المختصر: 5/ 145.

الجاني في محل الغرة، وهذا من معاقد المذهب، لم يختلف الأصحاب في وجوب الغرة بكمالها، وإن لم ينفصل جنينٌ تام؛ فإنا استيقنّا كون (1) الجنين، إذ اليد الواحدة لا تخلق، ثم انضم إلى [الاستيقان ما هو انفصال] (2)، وليس كما [لو ظهر] (3) من الجنين شيء، ولم ينقطع ولم ينفصل [فإنا] (4) ذكرنا اختلاف الطرق فيه، والأصح في القياس إيجاب الغرة، ثم أيضاًً لما ذكرناه من الاستيقان. ولا تنفصل الصورة التي ذكرناها [عن التي تقدمت إلا بتحقق الانفصال] (5) في هذه الصورة، وهذا ليس فرقاً قويّاً؛ فإن الانفصال لم يتحقق في الجنين بجملته، وإنما تحقق في عضو من أعضائه، ولو كنا نوجب قسطاً من غرة، لظهر الفرق، فأما وقد أوجبنا بسبب انفصال إصبع غرة تامة، فلا وجه لذلك إلا التعويل على الاستيقان، وهذا يوجب التسوية بين أن يظهر عضوٌ ولا ينقطع، وبين أن ينقطع وينفصل. ولو ألقت المرأة يدين أو أربعة أيدي أو أكثر، فلا نوجب إلا غرة، [لأنا لا نبعد] (6) أن يكون للجنين أربعة أيدي، وكذلك لو ألقت رأسين، فلا نوجب إلا غرة، وقيل: كان ببغداد امرأة لها رأسان، فنكحها الشافعي بمائة دينار، وأنسأ (7) صداقها، ونظر إليها، وطلقها. ولو ألقت [بدنين] (8)، فغرتان، فإنه لا يبقى للاحتمال وجه، ولا طريق إلا الحكم بتعداد الجنين. ولو ألقت يداً ثم ألقت الجنين، لم يخل إما أن يكون حيّاً أو ميتاً، فإن كان ميتاً، فالواجب غرة واحدة، سواء كان على الجنين [أثر] (9) انقطاع اليد عنه أو لم يكن عليه؛

_ (1) كون: أي وجود؛ فإن كان هنا تامة. (2) في الأصل: "الاستيفاء وما هو انفصال". (3) في الأصل: "لو ردّ". (4) في الأصل: "فأما". (5) في الأصل: "إلا عن التي تقدمت، ولا يتحقق الانفصال". (6) في الأصل: "لا فالا نبعد". (7) عندالغزالي: "وسلم صداقها" كذا جاء في البسيط. (8) في الأصل: "يدين". (9) في الأصل: "أي".

[إذ] (1) قد يفرض الاتصال به ثم الالتحام وانمحاء الأثر في [البطن] (2). 10865 - ولو انفصل حياً تامّ الخلقة واستمرت الحياة، فيجب في اليد المنفصلة حكومة، ويحمل الأمر على تقدير يد زائدة. ولو انفصل حياً، وليست عليه [إلا] (3) يد واحدة، فنوجب على الجاني نصفَ الدية، يعني على عاقلته. ولو ألقت يداً، ثم ألقت جنيناً بفرد يد، ومات من أثر الجناية (4)، فيجب دية كاملة، ويندرج أرش اليد تحته. ولو ألقت يداً، ثم انفصل الجنين بعده حياً بفرد يد، فقد قال صاحب التقريب: نرجع إلى القوابل فإن [قلن] (5): لا تتصوّر اليد إلا بعد الحياة، فنوجب على عاقلة الجاني نصف الدية (6)، وإن [قلن] (7): يخلق الله [اليد] (8)، ثم تنسلك فيها الروح (9)، أو شككن في ذلك، فنوجب حينئذ في اليد نصف غرة، وهذا التفصيل لصاحب التقريب، والذي عليه الجمهور أنه لا معنى لمراجعة القوابل، ولا مطلع على حقيقة هذا، وإنما نربط حكمنا بجنين [حيٍّ] (10) أسقطت الجناية يده، فيجب نصف الدية.

_ (1) في الأصل: "اصرار" (كذا). (2) في الأصل: "الظن". (3) زيادة من المحقق. (4) أي بعد ما ألقته حياً حياةً مستقرة. (5) في الأصل: "يكن". (6) يجب نصف: أي أرشاً لليد التي انفصلت بالجناية. (7) في الأصل: "يكن". (8) في الأصل: "الأرواح". (9) المعخى أننا إذا تحققنا -بقول القوابل- من أن اليد انفصلت بعد أن خلقت فيه الحياة، فيجب نصف الدية، وإلا، فيجب نصف الغرة، هذا كلام صاحب التقريب والجمهور على خلافه. (10) في الأصل: "حتى".

[باب جنين الأمة]

[باب جنين الأمة] (1) 10866 - هذا الباب مقصود في نفسه، ونمهد به قاعدةَ القول في الأجنة، فنقول أولاً: إذا جنى على أمةٍ حامل بجنين رقيق، فالواجب في الجنين عُشر قيمة الأم عند الشافعي رضي الله عنه، ولا فرق بين أن يكون ذكراً أو أنثى إذا انفصل ميتاً. وإن انفصل حياً ومات من أثر الجناية، اعتبرت قيمته يوم الانفصال. ثم أطلق الأصحاب القولَ في أن الواجب في الجنين الرقيق المنفصل ميتاً مأخوذٌ مما يجب في الجنين الحرّ، [فإنا] (2) إذا رجعنا إلى الإبل، فإنا نوجب خمساً من الإبل، وهي عُشر دية الأم الحرة المسلمة. وقال قائلون: الجنين في حكم [الجزء من الأم] (3)، وقد ذكرت في الأساليب وغيرها من المجموعات المشتملة على [التشوّف] (4) إلى الحقائق: أن الجنين الرقيق ليس جزءاً من الأم الحرة، ولكن المقدار الذي وجب بالشرع فيه مثلُ عشر قيمة الأم، أو مثل عشر دية الأم، فكيف يستدّ اعتقاد الجزئية مع القطع بأن ما يجب في الجنين الحر ليس مصروفاً إلى الأم، [كما] (5) نصرف إليها أرش أطرافها. ولكن الواجب موروث مقسوم على الورثة، وقد ذكرنا ميراث الأجنة، ومن يتصور أن يرثهم في كتاب الفرائض. فخرج مما ذكرناه أن الواجب في الجنين لو انفصل حياً ومات على الفور، فقد تكون قيمته ديناراً، [وإذا] (6) انفصل ميتاً، فقد أوجبنا مثل عشر قيمة الأم، فقد تبلغ خمسين ديناراً، فيؤدي مجموع ما ذكرناه أن يكون الواجب في الجنين المنفصل ميتاً أكثر من الواجب في الجنين المنفصل حياً، وسبب ذلك أنا لم نتمكن من اعتبار

_ (1) في الأصل: "فصل"، والمثبت من " مختصر المزني ". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "الحر ومن الأم". (4) في الأصل: "التشويف". (5) في الأصل: "وكما". (6) في الأصل: "فإذا".

الجنين في نفسه إذا انفصل ميتاً، ولم يرد في الجنين الرقيق نصٌّ نتبعه، ووجدنا تقدير الحياة عسراً، [فكان] (1) أقربُ معتبر أن ننظر في الجنين الحر، وإلى بدله المنسوب إلى دية الأم، فأفضى [التقدير] (2) إلى ما ذكرناه. وإنما كان يبعد تفضيل [الميت على الحي] (3) لو كنا نعتبر الميت بنفسه، ومن هذا ظن ظانون أن الواجب في الجنين الرقيق عُشر قيمة الأم، على التحقيق. وهذا محال؛ فإنه إنما يجب جزء من بدل الأصل فيما هو جزء من الأصل، ويستحيل أن نعتقد أن الجنين مقدر على هذا التقدير، لما أشرنا إليه من أن الأمر لو كان كذلك، لاختصت الحرة [الحامل] (4) بغرة جنينها اختصاصها بأروش أطرافها لو قطعت. 10867 - ومما يتعلق بتحقيق أصل الباب أن الجنين لو كان حراً والأم رقيقة، فالواجب في الجنين غرة، كما لو كانت الأم حرة، فإن قيل: كيف التقدير والتعلق به، وقد ذكرتم أن بدل الجنين معتبر ببدل الأم [تقديراً] (5) وإن لم يكن جزءاً منها تحقيقاًَ؟ قلنا: قد أبان الشرع بدل الجنين الحر المسلم، فاعتبرنا بيان النسبة التي ذكرناها، فجعلنا بدل الجنين المملوك من الأم الرقيقة كبدل الجنين الحر من الأم الحرة. وتكلّف الأصحاب في هذا المقام أمراً أغناهم الله عنه، فقالوا: إذا خالف الجنين الأمَّ بالحرية، لم يمكننا أن نوجب فيه جزءاً من القيمة؛ فنقدّر [الأم حرّة] (6) حتى تكون مساويةً للجنين في [الحرية] (7)، ثم نوجب ما ذكرناه من عُشر الدية. وهذا لا حاجة إليه؛ فإن ما وجدنا نصاً فيه، وجب الاكتفاء به، [واعتبارُ] (8) غير

_ (1) في الأصل: "وكان". (2) في الأصل: "التقرير". (3) في الأصل: "الحي على الميت". (4) في الأصل: "الحاصل". (5) في الأ صل: "تقريراً". (6) في الأصل: "الأجرة" (تماماً). (7) في الأصل: "الجزئية". (8) في الأصل: "وأخبار".

المنصوص بالمنصوص، فالأصل ما قدمناه من اتباع النص، وإذا كان الواجب غرةً، فلتكن دية الأم غرراً إذا كانت حرة، فليس الانتساب بالجزئية أصل الباب. وفي هذا القدر مقنع. ولو كانت الأم نصرانية، والجنين مسلماً بإسلام الأب، فنوجب في الجنين الحر المحكوم بإسلامه غرة للنص، ومن اعتبر تقدير المساواة (1) يزعم أنا نقدّر الأم مسلمة -كما قدمناه في تقدير الأم الرقيقة حرة- وهذا من باب تلقِّي [الأصول] (2) عن المفرَّع عليه. والمنهجُ [الحق] (3) تأصيل النصوص وإلحاق المسكوت عنه بها، كما قدمناه. 10868 - ولو كان الجنين المنفصل كامل الخلقة، وكانت الأم زمنة، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: نقدر الأم كاملةً، ونقوّمها، ثم ننسب بدل الجنين إليها بجزئية العُشر، كما فصلنا ذلك في [الحرّيّة] (4) والإسلام. ومن أصحابنا من قال: لا نقدر سلامة الأم، بل نقوّمها على ما هي عليه، ونوجب في الجنين عُشرَ قيمتها. وهذه المسألة والتي بعدها [بهما غموض] (5)، فليتدبر الناظر مأخذ الكلام فيهما؛ وذلك أنا وجدنا في الجنين الحر نصاً متبعاً، فلم [نتخذ] (6) التقدير أصلاً معتبراً، وإذا كان الكلام في الجنين الرقيق، فنضطر إلى التصرف في النسبة المأخوذة من [القيمة] (7)، هذا وجه من الغموض. والوجه الآخر- أن سلامة [خلقة] (8) الجنين لا معوّل عليها إذا انفصل ميتاً؛ فإن

_ (1) تقدير المساواة: المعنى تقدير مساواة الأم للجنين في حالة فضله عليها بالحرية أو الإسلام مثلاً. (2) في الأصل: "النصوص". (3) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها). (4) في الأصل: "الحربية". (5) في الأصل: "مهما عرض". (6) في الأصل: "ينجر". (7) في الأصل: "القسمة". (8) في الأصل: "حكومة".

[خلقة] (1) الجنين لا تعويل عليها، [ما لم] (2) نتحقق [اتصال الروح بها] (3)، وإنما تتعلق سلامة الأعضاء بكمال منافعها لا بصورها، ولو [انسلكت] (4) الروح ربما كانت لا تنفذ في [عضوٍ أو أعضاء، فتَسْلم صورُ الأعضاء وتنفكّ عن اللطائف والمقاصد، ولا مطّلع عليها] (5)، فلا تعويل على خلقة الجنين. وإذا أحاط المحيط بما ذكرناه أجرينا بعده خلاف الأصحاب، فمن راعى سلامة الأم، تمسك بما قدمناه في الحرة، وعضَّده بأن الجنين ليس جزءاً منها، بل هو معتبر بها، وإنما يصح اعتباره بها، إذا كانت الأم مساوية للجنين. والأصح عندنا ما قدمناه من أن خلقة الجنين لا تعتبر، وإذا كان في الرق والدين بمثابة الأم، فلا نظر إلى الخلقة، وليس كذلك الحرية والإسلام؛ فإنهما حكمان ثابتان (6)، وقد [يعارض] (7) هذا أن الإسلام إنما يتصف به ذو روح [ثم يرفع] (8) حكمه بعد الموت (9)، والحريةُ كذلك، فإذا لم نتحقق انسلاك الروح، لم يثبت حريةٌ ولا إسلام. وهذا غير سديد، فإنا إذا كنا نثبت الإسلام لمن نعرف قطعاً أنه لا يعرف (10)، فلا

_ (1) في الأصل: "خلق". (2) في الأصل: "ولم". (3) في الأصل: "انفصال الروح منها" وعبارة الأصل فيها تكرار وتداخُل حذفناه، وأقمنا العبارة، ولم نسجله في الهامش تفادياً للإملال والإطالة. (4) في الأصل: "انسلت". (5) عبارة الأصل: "في عضو وأعضاء السدد في النواظر لا مطلع عليها" ... والتغيير والتعديل مأخوذ من ألفاظ الغزالي فى البسيط. (6) في العبارة شيء من القلق والاضطراب. فإن الحرية والإسلام هما الرق والدين، فكيف يشبه الثيء بنفسه. (7) في الأصل: "يعرض". (8) في الأصل: "لم تدمع". (9) عبارة الأصل استعصت على الاستقامة بدون حذف أربع كلمات، وتغيير كلمتين (في التعليق السابق) فقد كانت العبارة هكذا: "لم ندفع حكمه من طريق السر والحرية بعد الموت". (10) كما نثبته للجنين، واللقيط، والوليد الذي يستهلّ صارخاً ويموت لساعته، ونحوهم.

يبقى بعد هذا للروح أثر، والحرية عدم الرق، فهذا منتهى الكلام في صورة واحدة (1). 10869 - الصورة الثانية مفروضة فيه إذا كان الجنين زمناً. والأم سليمة الأطراف، وقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة على نحو ما ذكرناه، وقد ذهب بعضهم إلى أنا نوجب عُشر قيمة الأم، ولا اعتبار بزمانة الجنين، وهذا هو الوجه عندنا. وذهب آخرون إلى أنا نقدر الأم زمنة بمثل زمانة الجنين، ثم نقوّمها على هذا [التقدير] (2)، ونوجب في الجنين عُشر القيمة والأم زمِنة رعايةً للتسوية. وفي هذه الصورة مزيد إشكال؛ من قِبل أن ما يفرض من نقصان في [الجنين يمكن إحالته] (3) على الجناية، وإذا كان [ذلك] (4) ممكناً، فلا يصفو الكلام في تصوير زمانة الجنين، فإن أمكن التصوير، فالوجه مع ذلك ألا نعتبر خِلْقة الجنين لما مهدنا. فإن جرينا على ترك اعتبار خلقة الجنين، فلو انفصل من الأم عضو فماذا نوجب، ونحن لا نُبعد أن يكون الجنين المجني [عليه] (5) في البطن على زمانة ونقصان خِلقة؟

_ (1) هذه الصورة هي ما إذا كانت الأم زمنة، فألقت جنيناً سليماً، ولكثرة التصحيف والتحريف في عبارات المسألة مما جعلنا نشعر بقلق العبارة فيها، رأينا أن ننقل المسألة كاملة بعبارة الإمام الغزالي وألفاظه، قال: "ولو كانت الأم زمنة مقطوعة الأطراف، والجنين سليم، فمنهم من قال: نقدر للأم السلامة، كما قدرنا لها بسبب حرية الجنين وإسلامه صفة الحرية والإسلام، فإنه بدل الجنين، وإنما ذاك معياره، وتقدير هذا الوصف ممكن. ومنهم من قال: لا نقدّر السلامة، فإن سلامة الجنين، لا يوثق بها، وربما تسلم صورة الأعضاء وتنفك عنها اللطائف والمقاصد. وأما حريته وإسلامه، فمعلوم موثوق به، ولأن هذه صفة خلقية لا سبيل إلى التقدير فيها، فإنا لا نقدر ذكورة الأم إذا اختلفت القيمة بالذكورة". (2) في الأصل: "التقرير". (3) في الأصل: "في الجنس يمكن إزالته". (4) في الأصل: "كذلك". (5) زيادة اقتضاها السياق.

[ولئن] (1) كان هذا السؤال لا ينقدح في الجنين الحر -فإن أبدال الأحرار لا تختلف بالزمانة والسلامة- فهو منقدح في الجنين الرقيق. والذي أراه أن الأمَة إذا أسقطت بسبب الجناية، [استحقت] (2) القطع والإعراض عن تقدير خلقة الجنين في هذه الصورة، [فلو] (3) أُلزمنا ذلك، وقلنا: لا نوجب إلا الأقل، [ولا نسفل درجة] (4) من غيرثبت، فأين الموقف؟ وإلى أي حد يصور [نقص] (5) الجنين؟ وهذا لو خضنا فيه، أفضى إلى ألا نجد مبلغً في واجب الجنين، وقد أسقطت الأم يداً، فلا وجه إلا تقويم الأم، وإيجابُ عُشر قيمتها، ثم كما لا نعتبر الصفة من السلامة إلى نقيضها، والأم سليمة، فكذلك لا نعتبر في هذه الصورة سلامة الأم، والأم زمنة، بل [نترك] (6) هذه التقديرات، ونقوّم الأم على ما نصادفها عليه (7). ولا يتجه إلا هذا، والملقى عضو. 10870 - ومما يتعلق بتمام البيان في فقه الباب أنا إذا اعتبرنا قيمة الأم، أوجبنا في الجنين الرقيق عشرها، فظاهر النص " أنا نعتبر قيمة الأم يوم الجناية " (8) وقال المزني: ["يوم تُلقيه"] (9)، وقد وافق المزني طائفةٌ من الأصحاب، منهم الإصطخري، واحتج المزني في توجيه ما اختاره، [بأن] (10) الاعتبار بيوم الإلقاء في مقدار القيمة أيضاًً.

_ (1) في الأصل: "ومن". (2) في الأصل: "افتتحت". (3) في الأصل: "فالوا". (4) في الأصل: " نستقل دحـ ـه " كذا تماماً. (5) في الأصل: "بعض". (6) في الأصل: " ينزل ". (7) الأصح في المذهب أن تقوّم الأم الزمنة كاملة الأطراف، أما في الصورة الثانية، فالمذهب على ما اختاره الإمام (ر. الشرح الكبير: 10/ 516). (8) ر. المختصر: 5/ 145. (9) في الأصل: "قد يجب". والمثبت من المختصر: (5/ 145). (10) في الأصل: "فإن".

ومن نصر ما عليه الجمهور -وهو ظاهر النص- احتج بأن قال: من جنى على عبد قيمته بالسوق يوم الجناية مائة، فمات من تلك الجناية، وقد تراجعت قيم العبيد، ولو فرضناه سليماً يوم الموت، لكان لا يساوي إلا خمسين، فالواجب على الجاني مائة، وسبب ذلك أنا نغرِّم الغاصب أقصى قيمةً من يوم الغصب إلى يوم التلف، لمكان يده العادية، واتصال الجناية في هذا المعنى أقوى من اتصال اليد، فإن اليد ليست [سبب] (1) الهلاك، والجناية سبب الهلاك. وإذا ثبت ذلك في العبد، فليكن حكمُ الجنين المنسوب إلى الأم مُجرىً على هذا القياس. وهذا القائل يفصل بين ما يفرض من التفاوت في القيمة وبين ما يطرى من الجناية أو الإسلام على الجنين، ويقول: إذا عَتَق الجنين، فقد [كمُل] (2) بنفسه واختص بصفة لا توصف الأم بها، فنقطع حقيقة التبعية، ويجب اعتبار الحرية يوم الإلقاء، وهذا لا يتحقق في الجنين المملوك. وما أطلقه الأصحاب في هذه المسألة لا يغني ولا يَشفي الغليل، ونحن نوضح حقيقة المسلكين، ونستعين بالله. 10871 - أما من اعتبر يوم الجناية، فيعارضه سؤال، وفي الجواب عنه بيان حقيقة المسألة؛ وذلك أن قائلاً لو قال: إذا كنا نجعله بالجناية [كصاحب] (3) العدوان باليد، فلا معنى لتخصيص يوم الجناية؛ فإنا لا نخصص في حق الغاصب يوم الجناية بالذكر والحكم، بل نعتبر الأقصى من يوم الغصب إلى يوم التلف، والجواب: أن الأمر كذلك في الجراحة، ولم يقصد الشافعي بذكر يوم الجناية قَطْعَ الاعتبار عما بعده، فلا نظن يتحقق إسقاط اعتبار قيمته يوم الوضع إذا كانت تلك القيمة أكثر من قيمة يوم الجناية، وغرض الشافعي بذكر يوم الجناية بيان ابتداء وقت الاعتبار، فمبتدؤه من وقت الجناية ومنتهاه يوم الإلقاء، والمعتبر أعلى قيمة من يوم الجناية إلى يوم الإلقاء. هذا بيان هذا المذهب.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "تأمل". (3) في الأصل: "لصاحب".

وأما ما ذكره المزني وتابعه عليه شرذمة من الأصحاب، فيترتب عليه أن الأم لو ماتت، ثم انفصل الجنين بعد الموت، فلا سبيل إلى اعتبار يوم الانفصال؛ فإن الأم لا قيمة لها، [بتقدم يوم] (1) الموت، [والأحرى] (2) أن نعتبر حياتها يوم الإلقاء، وننظر محل القيمة على هذا التقدير، والعلم عند الله تعالى. وهذه المسألة تبين نهايتها بفروع لابن الحداد في أحكام الأجنة، ونحن نأتي بها على الاتصال، إن شاء الله تعالى. فصل 10872 - إذا جنى جان على حامل بجنين حر، فظهر الجنين وبه حياة، فأبرزه إنسان وحز رقبته، واحتمل أنه صار بجناية الأول إلى حركة المذبوح، واحتمل أنه لم يصر بجنايته كذلك، والثاني صادفه في حياة مستقرة، فإذا احتمل الأمران كذلك، فننظر إلى الدعوى، فإن ادعى مستحق البدل أن الأول [صيّره] (3) إلى حركة المذبوح، فهذ إبراء منه للثاني، وإن ادعى [أن الأول خلّفه] (4) مستقراً، فقد أبرأ الأول [إلا عن] (5) الحكومة، وفيها خلاف قدمناه. وإذا أبرأ الثاني وادعى على الأول أنه [صيّره] (6) إلى حركة المذبوح، فأنكر الأول، فالقول قول الجاني؛ فإن أصل الحياة متفق عليها عند الانفصال، وقد جرى من الجاني ما يمكن إحالة القتل عليه، فلا وجه إلا تحليف الجاني، فإن حلف برىء، وقد برىء الثاني، وإن نكل ردت اليمين على المدعي. فإن أبرأ الأول وادعى على الثاني أنه جنى على المولود وفيه حياة مستقرة، وقد أبرأ

_ (1) في الأصل: " ويتقدم رسوم ". (2) في الأصل: "والأخرى". (3) في الأصل: "نعتبره". (4) في الأصل: "الثاني خلافه". (5) في الأصل: "الأعنى". (6) في الأصل: " يصير ".

الأول إلا عن الحكومة، وفيها خلاف ثَمَّ-[فالقول] (1) قول هذا الثاني؛ فإن استقرار الحياة غير معلوم، وقد جرى من الأول ما يمكن إحالة القتل عليه. هذا هو الأصل إن أجرينا الدعاوى على قياسها المطرد. ولكن إذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فقد تردد قتيلٌ بين شخصين، والحالة حالة اللوث؛ فلمن يستحق البدل أن يُقسم على من يعيّن [منهما] (2)، فإن اللوث قد تحقق منهما، وسنذكر في كتاب القسامة أن ظاهر اللوث إذا ثبت في حق جماعة في مجلس القاضي، فلا يشرط أن يثبت عند القاضي [تعيين] (3) اللوث في المدعى عليه منهم. فهذا مقر المسألة. ولولا اللوث وأصل القسامة، لكانت الدعوى تُفْصل على حسب ما قدمنا ذكره. فصل 10873 - إذا كان بين زيد وعمرو جاريةٌ مشتركة، وهي حامل من الزنا أو النكاح، فجنيا عليها معاً، وأعتقاها بعد الجناية معاً، فألقت الجنين من الجناية، فقد قال ابن الحداد: يغرَم كل واحد منهما ربع غرةٍ للجنين، فإن جناية كل واحد صادفت ملكه وملك شريكه، فهَدَر جنايتُه في نصيبه، ويكون سبب الضمان [جنايتُه] (4) في ملك صاحبه، وقد وقعت جناية زيد سابقةً على ملك نفسه وملك عمرو، كذلك وقعت جناية عمرو. ثم إذا غرم زيدٌ ربعَ الغرة، وكذلك عمرو، فقد قال: يصرف الثلث مما تحصّل من الغرامة إلى الأم العتيقة؛ فإنها ترث الجنين، فتستحق مما غرمه السيدان الثلث ويصرف الباقي إلى عصبة الجنين، [ولا] (5) يستحق واحد من السيدين شيئاً، فإنه إنما

_ (1) في الأصل: " القول ". (2) في الأصل: " فيهما ". (3) في الأصل: "تغيير". (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: "ولأن".

يغرم كل واحد منهما بجنايته على ملك صاحبه، ويستحيل أن يغرم الجناية على ملك الغير، ثم يرجع إليه منه شيء. وتمام الجواب في المسألة أن يقال: قد غرم زيدٌ بسبب الجناية على ملك [عمرو] (1)، فينبغي أن يقال: إن الذي غرمه زيد وهو ربع [الغرة] (2)، فلعمرو منه الأقل من ربع عشر قيمة الأم أو [ربع الغرة] (3)، وهذا أصح القولين في كيفية رعاية ما يستحقه السيد إذا صادفت الجناية رقاً ثم يعقب العتقُ، وليقع الاختصار على هذا القول، وكذلك القول فيما يغرمه عمرو لزيد، فلزيد منه الأقل كما قلناه، فإن لم يفضل شيء فلا شيء للأم، ولا لورثة الجنين، وإن فضل شيء مما ذكرناه، فالثلث من الباقي للأم والباقي لعصبة الجنين، وإن لم يكن له عصبة من الأقارب، فلا نصرف ما يورث من الغرة إلى المعتِقَيْن، فإنهما قاتلان، فلا يرث القاتل. وهذا الذي طردناه سديد حسن، ولكنه تفريع على أن ما يصادف الجنينَ المملوك من جناية المالك، فهو هَدَرَ. ولبعض الأصحاب مذهب أن المالك إذا جنى على مملوكه ثم أعتقه، ضمن السراية، وهذا الوجه يجوي لا محالة في الجنين المملوك. فإذا قلنا: لا يهدر جناية المالك عليه، فإذا جنيا على الجارية المشتركة كما صورناه وأعتقاها، فألقت الجنين حراً ميتاً، فيغرم كل واحد منهما نصف الغرة، [ثم لا استحقاق] (4) منهما على سبيل الإرث [نسباً] (5)، ولكن يجب أن يقال: إن زيداً غرم نصف الغرة، ونصف ما غرمه في مقابلة ملك نفسه، وهو ربع الغرة، [وهو

_ (1) في الأصل: "زيد". (2) في الأصل: "الغرم". (3) في الأصل: "ربع عشر الغرة" وإيجاب ربع عشر قيمة الأم على اعتبارنا حالة الجناية وهي الرق، فالواجب في الجنين عشر قيمة الأم. أما إيجاب ربع الغرة فعلى اعتبارنا بحالة إلقاء الجنين، وهي الحرية، فالواجب في الجنين غرة. فالمستحق لكل شريك من الشريكين الأقل من التقديرين. (4) في الأصل: "ثم الاستحقاق". (5) في الأصل: "سببا".

لا] (1) يستحق منه شيئاً، لأنه ملزَم غارم، وكيف يستحق ما غرمه، ولا يستحق شريكه منه، فإنه على مقابلة جناية ملك نفسه، فيخلص ذلك للورثة، وهو ليس منهم، وأما الربع، الذي غرمه على مقابلة الجناية على ملك الثاني، فليغرم منه الأقل من ربع عشر قيمة الأم أو ربع الغرة، كما قدمنا ذكره، وهذا يجري في حق كل واحد منهما. وهذا الوجه ضعيف، لا أصل له، والصحيح إهدار الجناية فيما يقابل ملك الجاني. فصل 10874 - إذا مات رجل، وخلف زوجة [وأخاً] (2) لأب وأم، وكانت الزوجة حاملاً بولد من الميت، وخلف عبداً، فلو ضرب العبد بطن الزوجة، وألقت الجنين ميتاً، [فلا] (3) ميراث للجنين؛ فإنه انفصل ميتاً. ثم تلخيص القول في هذه المسألة أن يقال: لو قدرنا الغرة واجبة على جانٍ، لكان ثلثها للأم، وهي زوجة الميت والباقي وهو ثلثان [للعم] (4) وهو أخو الميت. فإذا كان الجاني هو [العبد] (5)، وهو مشترك بين مستحقي الغرة لو قدرناها واجبة، وليقع الفرض فيه إذا لم يكن مستحق غيرهما، فنقدر كان الغرة تعلقت برقبة العبد، فللأم ثلث الغرة، وللأخ ثلثاها، فأما الأم، فقد ملكت ربعَ العبد فسقط ربع الغرة؛ إذ لا تستحق على ملكها شيئاًً، ويبقى نصف سدس الغرة فاضلاً عن قدر ما ملكت من العبد. وأما الأخ فقد استحق من العبد ثلاثة أرباعه، وكان يستحق على التقدير ثلثي الغرة، فما ملكه من العبد أكثر من قدر استحقاقه من الجنين، فيسقط استحقاقه ويبقى في رقبة العبد ما فضل للأم، من الغرة، وهو نصف سدس الغرة، فيفدي الأخ نصيبه

_ (1) في الأصل: "ولا هو". (2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها، وهي مفهومة من عرض المسألة وتفصيلها فيما يأتي. (3) في الأصل: " ولا ". (4) مطموسة في الأصل. والمراد عم الجنين. (5) في الأصل: "العدو".

من العبد على قياس الفداء وإنما انتظمت المسألة كذلك لاختلاف الحصتين من ميراثين، والازدحام على رقبة العبد. ولو كان بين رجلين عبد مشترك، وهو بينهما نصفان، فقتل عبداً آخر بينهما، وهو نصفان أيضاًً، فلا طلبة لواحد منهما على الآخر. ومثله لو كان العبد بينهما نصفين، فكان بينهما عبد آخر مشترك [بينهما] (1) ثلثاه [لزيد وثلُثه] (2) لعمرو، فقتل العبد المنصف بينهما هذا العبد. فيتفاوت الأمر باختلاف حصص الشركة في العبدين، فلنقِسِ [المثال] (3)، ولننظر ولا خفاء. وقد نجزت مسائل الأجنة. وذكر ابن الحداد فروعاً أخرناها إلى كتاب الديات، ونحن نأتي بها مبينة، إن شاء الله عز وجل. فصل نقدّم على المسألة التي حكاها ابن الحداد نصاً للشافعي عن مسألةٍ، قال رضي الله عنهء: "لو قصد رجل مال رجل أو نفسَه [فدفعه] (4) بضربةٍ، فولّى القاصد هارباً، فاتبعه المقصود، وجرحه وهو مولٍّ جراحة أخرى، فرجع عليه القاصد مرة أخرى، فضربه على حدِّ الدفع ضربةً ثالثة، ومات القاصد من الجراحات الثلاث" قال الشافعي: يغرم الدافع ثلث الدية، ويهدر ثلثاها؛ فإنه وجدت منه ثلاث ضربات: اثنتان منها [هدر] (5)، وقد توسطتهما جراحة مضمونة. قال الأصحاب: هذا الذي ذكره الشافعي إذا توسطت ضربة مضمّنة بين ضربتين، فأما إذا جرح الدافعُ القاصدُ جرحين متواليين على حد الدفع، ثم ولى فضربه ضربة ثالثة، فالدية على تنصيف، والجرحان المتواليان كالجرح الواحد، فهدر نصف الدية ويجب نصفها. هذا ما حكاه الشيخ أبو علي عن الأصحاب.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: "لزيد منهما وثلثه .. ". (3) في الأصل: "القتال". (4) في الأصل: "يرفعه". (5) في الأصل: "ضرب".

ثم قال الأئمة على قياس النص لو جرح مرتداً جراحة، ثم أسلم المجروح، فجرحه ذلك الجارح في إسلامه جراحة، ثم ارتد، فجرحه في الردة جراحة أخرى، ثم أسلم فمات من الجراحات [الثلاث] (1) فينبغي أن يُلزَمَ ثلث الدية ويُهدر ثلثاها. ولو جرح مرتداً جرحين في دوام الردة ثم أسلم، فجرحه جراحة أخرى ومات من الجراحات، فهدَرَ نصف الدية، ويجب نصفها، وهذا عن قياس قول الشافعي في مسألة الدفع. 10875 - ثم ابن الحداد ذكر مسائل، ونحن نأتي بها واحدة واحدة منها: أنه لو قطع رجل يد مرتد، ثم أسلم ذلك المرتد، فعاد ذلك القاطع، مع ثلاثة من الجناة، وقطعوا في الإسلام يده الأخرى فمات. قال ابن الحداد: هؤلاء أربعة من الجناة جَنَوْا في حالة الإسلام، فأقول: أقدر قيمة الدية بين الأربعة، فعلى الثلاثة الذين لم يجنوا إلا في الإسلام ثلاثة أرباع الدية على كل واحد ربعها، ويقابل الذي جنى في الردة والإسلام ربع، ولكن قد صدرت منه جنايتان: إحداهما - هَدَر فيوزع الربع عليهما، فيهدر نصفه، وهو الثمن، ويلزمه ثمن الدية. هذا مسلك ابن الحداد وهو حسن متجه، ووجهه بيّن. ومن أصحابنا من قال: توزع الدية على الجراحات والجنايات في هذه المسألة، دون الجناة، وقد ثبتت خمسُ جنايات: واحدة في الردة وأربع في الإسلام، وواحدة من الخمس هدر، وأربع مضمونة [فتكون] (2) الدية أخماساً ويهدر خمسها عن [الكافة] (3)، ونوجب على كل واحد خمس الدية، وهذا القائل يضرب الإهدار [على] (4) جميعهم، ويسوِّي بينهم في الالتزام، ووجهه أن جراحة الردة سارية وسرايتها مُحبَطة، وكأن كلَّ واحد جنى على من فيه حكم الإهدار.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: "فتحول". (3) في الأصل: "الكافر". (4) في الأصل: "إلى".

10876 - وبمثله (1) لو جنى عليه ثلاثة في الردة فقطعوا يده، فأسلم، فعادوا مع رابع وقطعوا يده الأخرى، فعلى مذهب ابن الحداد تقسم الدية في تأسيس المسألة على رؤوس الجناة وهم أربعة، فيخص كل واحد منهم ربع الدية، فأما الذي انفرد بالجناية في الإسلام، فعليه الربع الكامل؛ إذ لم يصدر منه جناية في حالة الإهدار، وأما الباقون، فيقابل كل واحد منهم الربع، ولكن صدر من كل واحد جرحان: هَدَرٌ ومضمون، فيتوزع الربع عليهما، فيهدر نصفه، ويبقى نصفه، وهو الثمن. ونقول على المذهب الآخر: الجنايات سبعٌ ثلاث في الردة، وأربع في الإسلام فنجعل الدية أسباعاً، ونهدر منها ثلاثة أسباع الدية وتبقى أربعة أسباعها، وهم أربعة على كل واحد منهم سبع الدية. 10877 - وبمثله لو جنى أربعة في الردة، ثم عاد واحد منهم مع ثلاثة آخرين وجنَوْا في الإسلام وهم أربعة، فأما على طريقة ابن الحداد، فتوزع الدية تقديراً أولاً على عدد الجناة، وهم سبعة، فنجعل الدية أسباعاً، فأما الذين لم يجنوا إلا في الردة، فيقابلهم ثلاثة أسباع الدية وتهدر، فتبقى أربعة أسباع الدية، فعلى الثلاثة الذين جَنَوْا في الإسلام دون الردة ثلاثة أسباع الدية، على كل واحد سبعها، ويقابل الذي جنى في الإسلام والردة سبع، فنهدر نصفه، ويبقى عليه نصف السبع. وعلى مذهب الآخرين نقول: التوزيع على الجنايات وهي ثمانٌ، أربعٌ في الشرك وأربع في الإسلام، فيهدر من الدية ما يقابل الأربع في الردة، ويجب على الذين جَنَوْا في الإسلام، وهم أربعة أربعة أثمان الدية، والمجموع نصف الدية. 10878 - ويمثله لو جنى أربعة على مرتد، فلما أسلم [عاد] (2) واحد منهم وجنى [عليه] (3) جناية أخرى لم يشاركه فيها أحد: فعلى مذهب ابن الحداد نوزّع الدية على الجناة، وهم أربعة، فنقابل الذين جنَوْا في الردة بثلاثة أرباع وتهدر، فيبقى الربع

_ (1) في الأصل: " ووجهه وبمثله ". (2) في الأصل: " وغاب ". (3) زيادة من المحقق.

مقابلاً للذي جنى في الردة والإسلام، فيوزع على الجرحين، فنهدر نصفه ونبقي نصفه، وهو الثُّمُن. وعلى مذهب [الآخرين] (1) توزع الدية على الجنايات، وهي خمسٌ: أربع مضت في الردة، فهدر أربعة أخماس الدية، ويجب خمسها على الذي جنى في الإسلام. فإن جرحه اثنان في حالة الردة، فأسلم، فعادا وجرحاه في الإسلام، فيتفق المذهبان في هذه الصورة: أما ابن الحداد، فيعتبر التوزيع على الجناة، وهما اثنان، فيقابل كل واحد منهما نصف الدية، ولكن صَدَرُه في كل واحد جناية مضمونة وجناية مهدرة، فيلزمه ربع الدية، وعلى المذهب الآخر يقسم على الجنايات، وهي أربع: جنايتان في الردة، وهما مهدرتان، وجنايتان في الإسلام، فيتفق قياس المذهبين. وهذا بيان ما ذكره ابن الحداد في مسائله. 10879 - ثم ذكر الشيخ أبو علي تفريعاً على هذا الأصل الذي مهدناه وحكاه عن الأصحاب، قالوا رضي الله عنهم: لو جنى على حر خطأً، ثم جنى عليه عمداً، ومات من الجرحين، فتجب دية نصفها مغلّظ: مثلث، ونصفها مخفف: مخمس. ولو جنى على حر خطأ، ثم عاد وهو مع ثانٍ وجنيا عليه عمداً، فمات من الجراحات، فقياس مذهب ابن الحداد أن الدية توزع عليهما نصفين، نصفها مغلّظ على الذي لم يجن إلا عمداً، والنصف الثاني يقابل من جنى خطأ وعمداً، ثم ينقسم ذلك على حالته فيكون النصف منه وهو ربع الدية مغلظاً والنصف منه مخففاً. ولم يذكر الشيخ قياس مذهب الآخرين، وقياسُهم أن يقال: أما الدية فتنصف بينهما بلا خلاف فيه، ولا معتبر بصدور جنايتين من أحدهما وجناية من الثاني؛ [فإن] (2) جميع الجنايات مضمونة، ولو جنى مائة جناية مضمونة والآخر جناية واحدة، فالدية بينهما نصفان، وإنما يُفضي التفريع إلى التوزيع على الجنايات إذا كان

_ (1) في الأصل: " الباقينخ ". (2) في الأصل: " إن ".

بعضها هدراً، ولكن قياس هؤلاء في التغليظ أن يتغلظ ثلث الدية على كل واحد منهما، ويكون الثلث الباقي مخففاً عليهما، فعلى كل واحد نصف الدية ثلثاه مغلظ وثلثه -وهو سدس الدية- مخفف. فإن قيل: فكيف يستفيد الذي لم يجن إلا عمداً تخفيفاً فيما التزمه، ولم يصدر منه إلا العمد؟ قلنا: كما أنه استفاد في مسائل الردة عند هذا القائل الإسقاطَ عنه كما تقدم. فصل 10880 - إذا قطع عبدٌ يدَ حر في رقه، فأعتق السيد العبدَ الجاني، فعاد بعد الحرية مع جانٍ آخر، وقطع يده الأخرى، فمات من الجنايات، فتجب الدية الكاملة، ثم يجب نصفها على الذي جنى في الحرية، وذلك أنه مهما صورت الجنايات من جانِيَيْن، والجناياتُ كلها مضمونة، فتوزع الدية على الجانيين، ولا نعتبر عدد الجنايات أصلاً، وإنما يضطرب (1) المذهب إذا كان بعض الجنايات هدراً، فإذا ثبت أن نصف الدية على الذي جنى في الحرية، فالنصف على العتيق، ثم نصف النصف في مال المعتَق، والباقي قد تعلق برقبته ابتداءً، [فلما] (2) أعتقه السيد، التزم الفداء، ثم فيما يلزمه عند الإعتاق كلام فصلناه، فلا حاجة إلى إعادته. فصل 10881 - لو جنى عبدعلى حر جناية، ثم جاء إنسان وقطع يد العبد، ثم إن العبد بعد ما قطعت يده، جنى على حرٍّآخر، وماتوا عن آخرهم في الجنايات. فأما الذي جنى على العبد، فيلتزم تمام قيمته، وأما الحران، فالقيمة تصرف إليهما، ولكن قال ابن الحداد: يسلّم [أرش اليد] (3) إلى ولي الحرّ الأول، لا يشاركه فيه

_ (1) يضطرب: المراد يختلف، كما ظهر في مسائل ابن الحداد التي فرعنا منها آنفاً. (2) في الأصل: "قلنا". (3) في الأصل: "يد الأرش".

الثاني، ثم يتساهمان في بقية القيمة، والأمر على ما ذكره؛ فإنه جنى على الأول بجميع يديه، فقطعت يده، وجنى على الثاني ولا يد له، فيستحيل أن يستحق وليُّه شيئاً من أرش تلك اليد، ولم تكن موجودة وقت الجناية. ثم الأصح في هذه المسألة [أن] (1) ما يعتبر في أرش اليد ما نقص من قيمة العبد (2)، فنصرف إلى الحر الأول ما نقص [من] (3) قيمة العبد بسبب قطع [اليد] (4) ثم يشتركان في بقية القيمة، فيضارب ولي الحر الأول بما بقي له من الدية، ويحسب عليه أرش اليد لا محالة [ويضارب] (5) وفيُ الحر الثاني في بقية القيمة بتمام الدية. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يصرف إلى ولي الأول نصفُ القيمة جواباً على أن جراحه [تتقدّر] (6) أروشها (7)، ثم يتضاربان في الباقي، قال الشيخ أبو علي هذا غلط في هذه الصورة، فإنا لو قلنا به، لزمنا أن نقول: إن العبد لو جنى، ثم قطع قاطع يديه معاً، ثم جنى مرة أخرى على [حرٍّ آخر] (8) كما نسبوه، وماتوا [جميعاً] (9)، إن تمام قيمة العبد [تصرف] (10) للأول، وليس للثاني منها شيء؛ لأن تمام القيمة أرش اليدين، وهذا ما لا سبيل إليه. فيتعين في هذا المقام اعتبار نقصان القيمة. ولو كانت المسألة بحالها، فجنى على حر، ثم قطعت يده، فجنى على حر آخر،

_ (1) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (2) وذلك بأن يقدر العبد كامل اليدين، ويقدر بعد فقد اليد، والفرق هو أرش اليد، على الأصح في هذه الصورة، وليس أرش اليد هنا نصف القيمة، لما يترتب على ذلك من مفارقات، كما سيشرح الأمام. (3) في الأصل: "في". (4) في الأصل: "اليدين". (5) سقطت من الأصل. (6) في الأصل: "تتقرر". (7) والمعنى أن أرش اليد يتقدّر هنا نصف القيمة. (8) في الأصل: "جراحه". (9) زيادة من "المحقق". (10) في الأصل: "تضرب".

ثم جاء إنسان وقتل العبد، [تذفيفاً] (1)، ففي هذه الصورة [ندفع] (2) إلى الحر الأول نصفَ القيمة (3)، ويستقيم التفريع. ولو قطعت يداه، ثم جاء آخر وقتله بعد الجناية الثانية، فنسلم إلى الأول تمام قيمته (4)، ثم على الذي قتله تجهيزاً قيمته، [ويستقيم الجواب] (5). وفي المسألة الأولى إذا مات بالسراية، فلا يجب إلا قيمة واحدة، فيؤدي إلى استحالة في التفريع كما سبق. فرع: 10822 - قد تقدم حكم الجنين المسلم والذمي، فإذا اشترك مسلم وذمّي في وطء ذمية، فأتت بولد، فإن ألحقه [القائف] (6) بالمسلم، ضمنه الجاني بكمال الغرة؛ لأنه انتفى عن الذمّي، وإن ألحقه بالذمي، لم يلتزم الجاني إلا بدلَ الجنين الذمي، وإن التبس الأمر وتوقفنا إلى انتساب المولود، لم يلزم الجاني في الحال شيئاً حتى يتبين المستَحَق، وهذا واضح لا خفاء به. ...

_ (1) في الأصل: "تجهيزاً". (2) في الأصل: "نرجع". (3) جاء نصف القيمة هذا من حيث جنى على العبد جانيان الأول قطع يده، وفي قطع يد العبد نصف قيمته، والثاني قتله تذفيفاً، فعليه قيمته كاملة، مع ملاحظة أن الشيخ أبا علي يجعل هذا غلطاً في هذه المسألة. (4) جاء تمام القيمة هذا أرشاً لقطع اليدين كما هو معلوم، ثم على قاتله قيمة أخرى. (5) في الأصل: "ويستقر الجواز". (6) في الأصل: "القاذف".

ولسنا من الصلف على حدٍّ ندعي انتهاء النظر نهايته في أمثال هذه المعاصات. غير أن نستفرغ الوسع فيما ننتهي إليه، وطريق الفقه مذلل لكل ذي فطنة. الإمام في نهاية المطلب

[كتاب القسامة]

[كتاب القسامة] (1) 10883 - القسامة من القَسم (2)، وهو اسم استعمل مصدراً للإقسام على خلاف القياس الجاري بين الفعل والمصدر، فإن المصدر المنقاس كقولك: أفعلَ يُفعل الإفعال، فإذا زادت حروف الفعل على الثلاثة، اطرد قياس مصدره، وإنما تضطرب مصادر أبنية الأفعال الثلاثية، فمصدر أقسم يُقسم الإقسامُ، واستعملت القسامة، وهذا تُسميه النحاة الاسم المقام مقام المصدر، ونظيره أكرم إكراماً وكرامة، والفَعالة تقع في أبنية مصادر الأفعال الثلاثية [المجرّدة] (3)، وهو يكثر في مصادر فعُل يفعُل كالعبالة، [والضخامة]، (4)، والقسامة، والوسامة حسنُ الوجه مع الوضاءة والتلألؤ. ولا اختصاص في اللغة والشرع للقسامة بالأيمان الجارية في الدماء، ولكن تواضع الفقهاء على استعمال هذه اللفظة في الأيمان المتعلّقة بالدماء، واستعملها أصحابنا في الأيمان التي تقع البداية فيها بالمدّعي. 10884 - واعتمد الشافعي رضي الله عنه في الكتاب بقصة عبد الله بن سهل، روى بإسناده عن سهل بن أبي حَثْمة أن عبد الله بن سهل [ومُحَيِّصة بن مسعود] (5) خرجا إلى خيبر نهاراً، وتفرقا في حوائجهما بعد العصر، فأخبر محيصة أن عبد الله بن سهل قتل

_ (1) هذا العنوان لم يظهر بالأصل. ومكانه بياض بمقدار سطر واحد، مما يجعلنا نرجح أن الناسخ كان أحياناً يكتب العناوين بالحمرة، وهذا سرّ عدم ظهورها عند تصوير المخطوط. (2) عبارة الأصل فيها تكرار، هكذا: القسامة من القسَم، وهي من القسم، وهو اسم ... (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: "والصحابة". (5) سقط من الأصل.

وطرح في فقير (1) أو عين، ورآه يتشحط في دمه، فأتى اليهود [وقال] (2): إنكم قتلتموه، فأنكروه، وقالوا: ما قتلناه، فرجع إلى قومه وأخبرهم [بالقصة] (3) فقام حُويِّصة ومُحَيِّصة وهما عمّا المقتول ومعهما عبد الرحمن بن سهل أخو المقتول ولقوا النبي صلى الله عليه وسلم في رجال من قومهم، فذهب مُحَيِّصة ليتكلم، لأنه كان صاحب القصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كبِّر كبِّر " يريد السنَّ، أي يتقدم الأكبر منكما، فتكلم حُويّصة، ثم أخوه محيّصة، ثم عبد الرحمن بنُ سهل، فقال النبي عليه السلام: " إما أن يدوا صاحبكم أو يؤذَنوا بحرب " فكتبوا إلى اليهود، فكتبوا في الجواب: " والله ما قتلناه "، فقال صلى الله عليه وسلم لحويّصة ومحيّصة: " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ " فقالوا: كيف نحلف على أمرٍ لم نشاهده؟ فقال عليه السلام: " تبرئكم اليهود بخمسين يميناً " فقالوا: إنهم ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل، قال سهل لقد ركضتني منها ناقةٌ حمراء " (4). فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن القتل إذا وقع وظهر اللوث كما سنصفه، فالبداية في التحليف بالمدعي، [وكانت البداية بالأيمان] (5) مشروطة بالعلامات الدالة على صدق المدعي، وهذا هو الذي يسمى اللوث؛ [والمرعيُّ] (6) في ذلك حقنُ الدماء، وكفّ أيدي المغتالين، وأكثر ما يقع القتل -والرعايا تحت الإيالة والسياسة- اغتيالاً، وَيعزّ إثباته بالشهادة، فاحتاط الشرع، وأثبت البداية [بالأيمان] (7) مشروطة

_ (1) الفقير: البئر القريبة القعر، الواسعة الفم، وقيل: هو الحفيرة التي تكون حول النخل. (ر. شرح مسلم للنووي). (2) زيادة من نص الحديث. (3) في الأصل: " بالنص ". (4) حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: كتاب القسامة، باب القسامة، ح 1085). (5) في الأصل: " والأيمان كانت البداية ". (6) في الأصل: " والمدعى ". (7) زيادة من المحقق على ضوء السياق.

بظهور اللوث المصدِّق، ثم غلّظ الأمر بتعديد الأيمان، حتى [لا يجازفَ] (1) المدَّعي [ولا يهجم] (2). 10885 - وهذا يناظر في قاعدة الشريعة اللعان، وقد ذكرنا في كتابه أن اعتماد الزوج في القذف واللعان بَعدَه على لوثٍ يظهر عنده تلطيخ المرأةِ الفراشَ، وألفاظ الملاعن على صيغ الأيمان، وقد وقعت البداية بمن هو في مقام المدَّعي. ولكن بين القسامة وبين اللعان فرقٌ، وذلك [أن لا ابتداء] (3) بالمدعي ما لم يظهر اللوث عند القاضي، ولا يشترط إظهار [الأسباب] (4) الدالة على الزنا عند القاضي، والسبب فيه أن الإقدام على الخبائث يخفى غالباً، ولا يطلع عليه إلا مُداخل، فوقع الاكتفاء باطلاع الزوج، ثم بَعُدَ أن يفضح الزوج نفسَه، فحلّ ذلك محل ظهور اللوث عند القاضي، حتى يحل في حق المدعي محل اليد، في حق المدعى عليه في الخصومات المالية. وكان اللوث بيّناً في قصة عبد الله بن سهل، فإن اليهود ما زالت [تضمر غوائلها] (5) للمسلمين، وقد جرى القتل في حيطتهم المحيطة بهم. 10886 - ثم ذكر أصحابنا صوراً في اللوث نرسلها حتى يتعلق بها فهم الطالب تعلقاً كلياً، ثم [نستقبل] (6) تفصيلها وضبطها جهدنا، فمما ذكره الأصحاب في صور اللوث أن يتفرق جماعة [فينحصرون عن قتيل] (7)، فيغلب على القلب أنهم قتلوه، أو بعضهم. ومن دخل على جماعة من الأعداء [ضيفاً] (8) فوُجد قتيلاً فيما بينهم، كان

_ (1) في الأصل: " يحاد ـ ". وجازف في كلامه: إذا أرسله إرسالاً من غير قانون، وعلى غير روية. (المعجم والمصباح). (2) في الأصل: " ولا يغرم". (3) في الأصل: " أن الابتداء بالمدعي". (4) في الأصل: "الأنساب". (5) في الأصل: " تضم عواقلها". (6) في الأصل: " نستقلّ". (7) في الأصل: " فيحصرون عن قتل". (8) في الأصل: " صفاً ".

ذلك لوثاً. وإذا تقابل صفان فوجد قتيل في أحد الصفين، فهذا لوث في لواء الذين كانوا يقاتلون هؤلاء. وقال بعض المتصورين: إذا وجدنا قتيلاً في سكة [منْسَدّة] (1) الأسفل وفيها أعداء للقتيل، فهذا لوث، وإذا وجدنا قتيلاً في صحراء، وعلى رأسه رجل قائم متشحط (2) بالدم وبيده سكين، فهذا لوث. وإذا وجدنا قتيلاً في شارع [منفتح] (3)، أو في صحراء، ولم نجد بالقرب منه أحداً، فلا لوث في هذا القتل. 10887 - فإذا فهم اللوث على الجملة، فإنا نخوض بعد هذه التوطئة في إيضاح اللوث، وأول ما نرى البداية به أنه إذا ظهر عند الحاكم لوثٌ مع جماعة محصورين، وكان المدعي يدعي القتل على واحد منهم، فالقاضي يبدأ بالمدعي ويحلّفه، ولا يشترط أن يظهر عند القاضي [عين] (4) المدعى عليه بالقتل، [بل] (5) يكتفى أن يكون العين من جملة اللوث، والسبب فيه أن اللوث الذي أطلقناه آيل إلى علامة ظاهرة في تصديق المدعي، ولا يشترط أن يبلغ مبلغ التحقيق؛ فإن القاضي لا يتحقق عنده أمرٌ إلا [ببيّنة] (6) أو إقرار، فلو قامت بينة، لثبت القتل بها، [وكذلك] (7) الإقرار من القاتل. وإذا كاِن كذلك وقد شملت العلامة المسماة باللوث جماعة، ففي حق كل واحد قسط من اللوث، وذلك كافٍ، والتعيين [تخصيص] (8)، والأيمان مشروعة لإثباته.

_ (1) في الأصل: "مستدة". (2) عبارة الغزالي في البسيط، والنووي في الروضة، متلطخ. ومعنى تشحّط في دمه: أي اضطرب (المعجم). (3) في الأصل: "ميتاً". (4) في الأصل: "من". (5) في الأصل: "أن". (6) في الأصل غير مقروءة: ورسمت هكذا: (بمينه) تماماً. (7) في الأصل: " وذلك". (8) في الأصل: "تنصيص".

والذي يحقق ذلك أن اللوث لو تعلق بواحد، فلا يقين، [والبداية] (1) بالمدعي، [فكذلك] (2) إن اشتمل اللوث جماعة. ووراء ذلك سر مصلحي (3)، وهو أن تعيين واحدٍ من جمع مما يعسر إظهار اللوث فيه على التخصيص، وإذا ثبت أصل اللوث -والتغليظ على المدعي، [بتعدد] (4) اليمين- كفى [وأقنع] (5)، وهذا ذكرناه نقلاً من كلام صاحب التقريب، وصرح به القاضي، ودل عليه فحوى كلام الأئمة، والتعليل ظاهر فيه [ممّا] (6) أوضحناه، والقتلُ الذي جرى في خِطة اليهود [لوث تعلق] (7) بجمع، والرسول صلى الله عليه وسلم أثبت التحليف بدايةً بالمدعين، ولو آل الأمر إلى الحلف وإقامة الخصومة، لعينوا. هذا ما يقتضيه ترتيب الخصام، وكان اللوث معلوماً مع جمع اليهود القاطنين [لتلك الحِلّة] (8). 10888 - فإذا تمهد ما ذكرناه، فلو علم القاضي اللوثَ بنفسه بأن [عاين] (9) بعضَ ما نصصنا عليه في تصورات اللوث، [بنى] (10) عليه، ولا يخرّج هذا على اختلاف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه؛ فإن هذا ليس قضاء منفذاً، وإنما هو إقامة حجة معتضدة بظاهرٍ مغلِّب على الظن. 10889 - ثم قال الأئمة: لو شهد جمع من النسوان والعبيد عند القاضي بوقوع

_ (1) في الأصل::والدراية". (2) في الأصل: "وكذلك". (3) كذا تماماً. وقدرت أنها (مصطلحي)، ولكن هذا اللفظ لم يسبق من قبل على طول الكتاب. (4) في الأصل: "تعدد". (5) في الأصل: "واقع". (6) في الأصل: "فما". (7) في الأصل: "لوثة فتعلق". (8) في الأصل: "لذلك الحيلة". (9) في الأصل: "على". (10) في الأصل: "كفى".

القتل، على حسب ما يدعيه المدعي، فهذا لوث، وإن كانت شهاداتهم لا تقبل، وهذا الذي ذكره الأصحاب فيمن يعتمد [قولهم من] (1) النسوة والعبيد. ولو أنهى القتلَ إلى القاضي جمعٌ من الصبيان، وظهر من [كثرتهم] (2) [وإتيانهم] (3) من كل صوب أنهم ليسوا محمولين على مقالهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا إظهار اللوث والثاني - أنه لا عبرة بأقوالهم، فإنا [لو] (4) كنا نكتفي بالغلبة على الظن من غير ضبطٍ في المسلك المغلِّب، للزم أن يقال: العدل الرضا [المرموق] (5) بالأمانة الذي لم نجرب عليه [خيانة] (6) على طول الزمن إذا ادعى وعيناه [منهملتان] (7)، فقد يغلب على الظن صدق مثله، ومن أحاط [بما ذكرناه] (8) في قرائن الأحوال من كتاب الأخبار (9) لم يخف عليه ما رمزنا إليه. ولكن لا تعويل على هذا. ولا ينتهي الأمر إلى الاكتفاء بكل ظن. وتردد الأئمة في جمع من الفسقة لا يفرض [منهم التواطؤ] (10) على الكذب، فقال بعضهم: إذا [أخبروا] (11) القاضي بوقوع القتل، ثبت اللوث وجهاً واحد؛ فإن

_ (1) في الأصل هكذا: "ولوهم بين". والمثبت اختيار منا على ضوء ألفاظ الغزالي في البسيط. (2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها). (3) في الأصل: " وإثباتهم ". (4) في الأصل: " إن ". (5) في الأصل: " المرفوق ". (6) في الأصل: " جناية "، ولا معنى لها في هذا السياق. (7) في الأصل: " مـ ـهاسان " (كذا تماماً) وعبارة الغزالي: تذرفان. والمثبت اختيار منا لأقرب صورة تؤدي المعنى. فعسى أن تكون هي لفظة الإمام. (8) في الأصل رسمت هكذا: يميناً لكنا. (تماماً). (9) ليس للإمام كتاب بهذا الاسم، وإنما هو يشير إلى كتاب الأخبار من كتابه (البرهان في أصول الفقه) وفيه حديث وافٍ عن قرائن الأحوال وأثرها في صدق المخبرين. (راجع على سبيل المثال الفقرة: 530 من البرهان وما بعدها). (10) في الأصل: " من النواظر ". (11) في الأصل: " أخبر ".

أقوالهم على الجملة معتبرة، وعباراتهم صالحة [للعقود] (1) والحلول، والصبي [مسلوب] (2) العبارة، لا حكم للفظه، ولا أثر لقوله. ومن أصحابنا من ذكر في إخبار الفسقة وجهين. [وإذا] (3) جمعنا الفسقة إلى الصبيان، انتظم [فيهم] (4) ثلاثة أوجه: الأول - القبول. والثاني - الرد. والثالث - الفصل بين الفسقة وبين الصبيان. 10889/م- وهذا الفصل عندي يحتاج إلى مزيدٍ في الكشف، فأقول: إن [أخبر القاضي عدلٌ] (5) واحد -تقبل شهادته- بوقوع القتل على صيغة الإخبار، فهذا يُثبت اللوث؛ فإنا لا نشترط في ثبوته مراسم الخصومات، ورعايةَ ترتيبها، وكنت أود لو قيل: كل من تقبل روايته يَثْبت اللوث بقوله، ويخرج منه الاكتفاء بقول امرأة ثقة، وعبدٍ موثوق به، فإن لم يظهر الثقة ولا نقيضها، [فنُحْوَج] (6) إلى تظاهر الأخبار على وجه يغلِّب انتفاءَ التواطؤ، هذا [إذا ما] (7) أطلق أصحابنا في النسوة والعبيد العددَ، والبعدَ عن إمكان [التواطؤ] (8)، ولم يأتوا بالتفصيل الذي ذكرته. وليس فيما ذكروه أيضاً الاكتفاء بإخبار عدلٍ، فإنهم ذكروا شهادة شاهد، والشهادة تختص بصفة وترتيب محل مخصوص في المنازعة، وإذا كان [التسامع بصدور القتل من] (9) شخصٍ عند وجود [القتيل] (10) بالقرب منه لوثاً كافياً، فإخبار عدل واحدٍ عن

_ (1) في الأصل: " العقد ". (2) في الأصل: " مسألة ". (3) في الأصل: "إذا". (4) في الأصل: "منهم". (5) في الأصل: "أخر القاضي عزل". (6) في الأصل: "فنخرج". (7) في الأصل: "ما إذا". (8) في الأصل: "النواظر". (9) ما بين المعقفين مكان عبارة مضطربة هكذا: " السامع يصد رآه مع شخص ... ". (10) في الأصل: " القتل ".

وقوع القتل في عينه ليس ينحط [عنه] (1)، ولو روى [خبراً أجرى فيه حكما قُبل، واعتمد] (2) في تأسيس الشرع (3). وينتظم من مجموع ما ذكرناه مسلكٌ أحببتُه واخترتُه، ومسلك الأصحاب شهادة ولو من واحدٍ، أو ما يقرب من حد التواتر من جمع ليسوا من أهل الشهادة والله أعلم بالصواب. 10890 - ثم قسم الأصحاب اللوث قسمين: فقالوا: قسم يظهر اللوث في معين، وهذا بمثابة أن يرى القاضي شخصاً متضمخاً بالدم، قائماً على قتيل وبيده سلاح فالذي ثبت مختص بمعين، كما قدمنا تصويره، وبنينا عليه أن القاضي يكتفي به ولا يُحوِج المدعي إلى إثبات ظهور اللوث مختصاً بمن يدعي عليه. ولو شهد شاهدان على أن فلاناً قتل أحد هذين المقتولين، لم يكن ذلك لوثاً يسوِّغ اليمين للمدعي، ولو شهدا أنه قتل القتيلَ أحدُ هذين الرجلين، فقد قال القاضي: هذا لوث يسوّغ للمدعي القسامة فيه، إذا عين أحدهما. وهذا فيه نظر، وفي الطرق ما يخالف هذا؛ من جهة أنهما لم يثبتا للرجلين سبباً حاملاً على القتل، بخلاف ما لو ثبتت عداوةٌ منهما [ثم] (4) استبهم القتل بينهما؛ فإنهما شهد الشاهدان على قتل [منهما] (5): من أحدهما، وهذا لا يظهر لوثاً ثابتاً [حيالهما] (6)، والمسألة محتملة.

_ (1) في الأصل: " فيه ". (2) ما بين المعقفين مكان كلام غير منتظم، وصورته هكذا: " قتلا أجرى فيه حكما قاتلا راد بالاعتمد " كذا تماماً. (3) المعنى هنا أننا إن جعلنا التسامع بوجود فلان بالقرب من القتيل لوثاً، فكيف لا نجعل قول العدل: إنه شاهد القتل لوثاً، مع أن هذا العدل لو روى خبراً في حكم من الأحكام، لقبل واعتمد في تأسيس الشرع. (4) في الأصل: " لم ". (5) في الأصل: "منهم". (6) في الأصل: "فلأنهما".

[وذكر] (1) العراقيون وجهين فيه إذا ثبت أصل اللوث في القتل، ولم يثبت لوث في وقوعه عمداً، وذلك بأن نرى مزدَحماً، ثم يفرض تفرقهم عن هلاك، ولم يتحقق منهم عداوة، وجوزنا أن يكون القتل عن ضغط وزحمة من غير عمد: أحد الوجهين -[أن له أن] (2) يحلف على أصل [القتل] (3) والثاني - ليس له ذلك؛ فإن القتل يتردد [بين أن] (4) يغرم الدية فيه، كما يتردد [هو] (5) في نفسه [بين أن] (6) يكون عمداً أو خطأ، فعلى هذا يعسر منه إثبات القتل المطلق؛ فإن الضرب على العاقلة مشروط بنقيض العمد، كما أن الضرب على القاتل مشروط بالعمد المحض. و [يردُّ] (7) الوجهَ الثاني - أن أصل القتل يثبت لتحقق اللوث. ولا خلاف أنه لو أراد أن يحلف على العمد، ولم يظهر في العمد لوث لم يمكن [من] (8) ذلك. وفي هذا الفصل بقية سنشرحها عند ذكرنا صفات الدعوى. 10891 - ثم إن ادعى المدعي القتل خطأ، وحلف، فالدية على العاقلة، وإن ادعى العمدَ المحض، فالدية مغلظة في مال المدعى عليه إذا حلف. وهل يُسلَّط [على] (9) الدم بأيمان القسامة إذا حلف المقسِم على العمد المحض؟ فعلى قولين: المنصوص عليه في القديم أن القود يثبت بأيمان القسامة إذا حلف المقسِم؛ لأنها حجة من المدعي في إثبات القتل، فأشبهت البيّنة، وهذا قد يعتضد

_ (1) في الأصل: " ذكر ". (بدون واو). (2) مكان كلمات غير مقروءة، رسمت هكذا: (إدا ـاـ ود) كذا تماماً. (3) في الأصل: "القتيل" والمراد بأصل القتل القتلُ المطْلَق أي غير الموصوف بعمدٍ ولا غيره، وهذا لا موجَب له، كما ظهر من الشرح في الوجه الثاني. (4) في الأصل: "من". (5) في الأصل: " وهو ". (6) في الأصل: " بأن ". (7) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها. (8) في الأصل: " في ". (9) زيادة من المحقق.

بأن الغرض من إثبات حق البداية عصمةُ الدماء عن اغتيال المغتالين، وإنما تتحقق العصمة بإيجاب القصاص، وإذا كنا نوجب الرجم على المرأة بلعان الزوج، لم يبعد أن يناط القصاص بأيمان القسامة. والمنصوص عليه في الجديد أن القود لا يثبت، ولا ينبغي أن ننتهي في الاحتياط للدم إلى سفكٍ من غير ثَبَتٍ، وليس ما نحن فيه كاللعان؛ فإنها [بامتناعها] (1) عن اللعان حققت من نفسها الزنا، مع ما تحقق من لعان الزوج، ولو ثبت القصاص بأيمان القسامة، لم يجد المدَّعى عليه ما يدرؤه. وقد [ينتهي] (2) الكلام في قواعد اللوث [إلى القضاء] (3) على الخصم بقول المدعي من غير أن نُثبت للمدعى عليه ما يدرؤه (4). وقد انتهى الكلام في قواعد اللوث، وموضع البداية. 10892 - فإن لم يظهر لوث عند القاضي، جرينا على قياس الخصومات، وحلّفنا المدعى عليه، ثم اختلف قول الشافعي في أنا نحلّفه خمسين يميناً، أو نكتفي بيمين واحدة قياساً على سائر الخصومات التي تجري الأيمان فيها. [أحد القولين - أنا] (5) كما نجري على القياس في البداية بالمدعى عليه، وجب أن نجري على القياس في الاكتفاء باليمين الواحدة، وليس هذا كما إذا بدأنا بالمدعي؛ فإن اليمين [حادت عن] (6) ترتيبها، وصورتُها تصْديقُ المدعي بقول المدعي، فاحتيج فيه إلى تغليظ وتأكيد. والقول الثاني - أنا وإن بدأنا بالمدعى عليه، فإنا نحلّفه خمسين يميناً، ونطرد هذا العدد في الخصومات المتعلقة بالدماء، سواء يجري التكليف على ترتيب سائر الدعاوى أو وقعت البداية بالمدعي.

_ (1) في الأصل: " مساغها ". (2) في الأصل: " انتهى ". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في العبارة نوعُ قلق وتكرار، ولكن حاولنا إقامتها بقدر المستطاع حتى يستقيم المعنى. (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: " جارت على ".

وإذا حلّفنا المدعى عليه، فنكل عن اليمين، فاليمين مردودة على المدعي، واختلف القول في أنا هل نكتفي بيمين واحدة إذا هي رُدت على المدعي، أم نقول: لا بدّ وأن يحلف خمسين يميناً على نحو ما تقدم؟ والضابط أن اليمين متعددة على المدعي إذا وقعت البداية [به] (1)، فإن البداية مخالفةً في وضعها ترتيبَ الخصومات، وفي تعددها والاكتفاء بواحدة منها قولان، وهذا يجري في اليمين الموجهة على المدعى عليه، وفي اليمين المردودة على المدعي بعد [نكول] (2) المدعى عليه. ولو كان القتل المدعَى خطأ، فأقام المدعي شاهداً عدلاً، فأراد أن يحلف معه لإثبات الدية؛ فإن المال يثبت بالشاهد واليمين، فإذا كان القتل خطأ، فالمقصود منه المال، وإذا أراد أن يحلف مع الشاهد، فيحلف يميناً واحدة أم خمسين يميناً؟ فعلى القولين المقدّمين. 10893 - وذكر الأصحاب على الاتصال [بهذا] (3) أمراً في ظاهره اختلاط، ونحن نورده على وجهه، ثم نبين طريق التحقيق فيه. قالوا: إن أقام المدعي شاهداً واحداً وأراد أن يحسبه ويقدرَه لوثاً [وما] (4) كان ثبت اللوث عند القاضي بجهةٍ أخرى، فإنه يحلف بعد ظهور اللوث بالشاهد الواحد خمسين يميناً، وإن أراد ألا [يُقيمه] (5) لوثاً، ويحلف معه على قياس اليمين مع الشاهد، فله ذلك. فهذا فيه اضطراب: فأما إن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد الواحد خمسين يميناً، فلا فائدة في هذا التقسيم، ولا معنى لإرادته إثباتَ اللوث، أو إقامة اليمين مع

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " أن يكون ". (3) في الأصل: " فهذا أمرا في ظاهر ". (4) في الأصل: " ما " (بدون واو). (5) في الأصل: " يقيم ". * تنبيه: ليس ما تراه من حواشٍ -من أول ربع الجراح- فروقَ نسخ، وإنما هو العناء في إقامة النص عن نسخة وحيدة، فالمثبت في مقابلة هذه الحواشي من اسثكناه المحقق وتوسُّمِه.

الشاهد؟ فإذا كانت الألقاب [تتم] (1) ولا تقبل مزيداً، فلا حاصل لها ولا معنى لنفيها وإثباتها (2)، فإن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد يميناً واحدة والقتل خطأ، فلا معنى لتقسيم إرادته، ويكفيه يمين واحدة، فإذا [رغب في مزيد] (3)، لم يحلِّفه القاضي؛ فإن الحجج إذا قامت، ثبت نتائجها، ولم يختلف الأمر بمقصود المدعين إذا كانوا مصرّين على الدعوى. نعم، إن كان المدعَى قتلاً عمداً، وقلنا: القصاص يناط بأيمان القسامة، فيثبت اللوث بالشاهد الواحد، فإن أراد القصاص حلف خمسين يميناً، وإن اقتصر على يمين واحدة، لم يثبت القصاص. ثم من ادعى قتلاً عمداً، وأقام شاهداً وامرأتين، أو أقام شاهداً وحلف يميناً واحدة تفريعاً على [أن] (4) اليمين الواحدة كافية مع الشاهد، فالقصاص لا يثبت، وفي ثبوت المال تردد، سيأتي في باب الشهادة على الجناية. فهذا مما يجب تحصيله في ذلك، ووضوحه مغنٍ عن الإطناب فيه. 10894 - ثم ذكر الأصحاب على الاتصال بنجاز القول في اللوث ومعناه أصلاً، ونحن نذكره موضّحاً، فنقول: إذا أقام اللوثَ، ونكل المدعي عن أيمان القسامة لما عُرضت عليه، فيحلف المدّعى عليه، وفي تعديد اليمين عليه قولان، فإن حلف، انقطعت الخصومة إلا أن يقيم المدعي بيّنة، فنقدم البينة العادلة على اليمين الفاجرة. وإن نكل المدعى عليه في اليمين، فهل ترد اليمين على المدعي؟ فعلى قولين - أطلق الأصحاب حكايتهما: أحدهما - أنا لا نرد عليه؛ فإنه قد نكل عن اليمين في هذه الخصومة، ولو رددنا عليه، لكانت صيغة يمين الرد كصيغة أيمان القسامة، والخصومة متحدة، والمقصود واحد.

_ (1) في الأصل: " لا تتم ". (2) المعنى إذا المدعي سيحلف مع الشاهد الواحد، فلا معنى للفرق بين أن نجعل شهادته لوثاً، فيكون القضاء باللوث واليمين، وبين أن نجعل شهادته شهادة يُقضى بها مع اليمين. (3) في الأصل: " ادعت في مرتد ". (4) زيادة اقتضاها السياق.

والقول الثاني - أنا [نرد] (1) عليه اليمين، فإنه نكل عن اليمين عن تكلف، وهذا مقام آخر، فصار تعدد المقام كتعدد الخصومة وتعدد المقصود. وكان شيخنا يقول: هذان القولان مبنيان على أن يمين الرد هل تتعدد أم لا؟ فإن قلنا: إنها لا تتعدد، فاليمين مردودة عليه، فإن نكوله عن أيمان القسامة محمول على [رغبته] (2) عن كثرة الأيمان، وطلبِه الاقتصارَ على يمين واحدة. وإن قلنا: إن يمين الرد تتعدد كما تتعدد أيمان القسامة، [فلا] (3) ترد اليمين عليه لما ذكرناه من اتحاد المطلوبِ والخصومةِ، [واستواءِ] (4) كيفيات الأيمان. وقال قائلون: [إن] (5) قلنا: [يمين]، (6) الردّ [يتعدد] (7) فالقولان جاريان. ثم هؤلاء سلكوا مسلكين: أحدهما - أن المقام يتعدد كما ذكرناه في توجيه القولين. والثاني - أن المدعي معتمده في أيمانه اللوث، فربما يبغي استظهاراً بنكول المدعى عليه، فإن نكوله من العلامات الواضحة على صَدَرِ القتل منه. فانتظم مما ذكرناه مسلكان: أحدهما - تطبيق القولين في الرد على القولين في أن يمين الرد هل تتعدد. والمسلك الثاني - أنا إن قلنا: يمين الرد تتّحد فَتُردُّ، وإن قلنا: [تتعدّد] (8) فعلى قولين. وقال قائلون: إن قلنا: يمين الرد تتعدد، فلا رد قولاً واحداً، وإن قلنا: تتحد، ففي الرد قولان: أحدهما - أنها تُرد [لغرض] (9) الاتحاد. والثاني - أنها لا ترد؛ فإن

_ (1) في الأصل: " لا نرد ". (2) في الأصل: " ترغيبه ". (3) في الأصل: " ولا ". (4) في الأصل: " فاستوى ". (5) في الأصل: " وإن ". (6) سقطت من الأصل. (7) في الأصل: " لتعدد ". (8) في الأصل: " تتردّد ". (9) في الأصل: " لفرض ".

تكرير الأيمان على الصدق لا يضر، وإن فرض ردٌّ، فاليمين الواحدة في معنى الأيمان. 10895 - والذي أراه في هذا -وفيه تحقيق واضح يستدعي تقديم مقدمة- وهو أن المدعى عليه في سائر الخصومات إذا ظهر نكوله عن اليمين، فاليمين مردودة على المدعي، ولو أظهر النكول، ثم رغب في اليمين -قبل اتفاق الرد- لم نبال برغبته، وسيأتي معنى ظهور النكول في موضعه، إن شاء الله، فإن رددنا اليمين، وأظهر المدعي النكولَ عن يمين الرد، ثم رغب فيها، فهل نحلّفه؟ فيه اختلاف بين الأئمة. والضابط الذي تمس الحاجة إلى ذكره أن كل نكول يتعلق به حق حلف حالف بعد النكول، فذلك النكول إذا ظهر، فلا عوْد من الناكل، وكل يمين لا يمين بعدها في مراتب الخصومات، فالنكول عنها هل يُبطل حقَّ الناكل؟ فيه خلاف. 10896 - عدنا إلى غرضنا من المسألة فنقول: تُعدّ أيمان القسامة يمين المدّعي [فإذا نكل عنها، رُدت إلى] (1) المدعى عليه، فينفذ حكمُ النكول عن أيمان القسامة [بتحليف] (2) المدعى عليه، وإذا نكل المدعى عليه، فترتيب الخصومة يقتضي أن يكون بعد نكوله ردٌّ، فهل نعود للمدعي وقد جرى [منه] (3) النكول أولاً؟ والردُّ آخراً إلى من ترد عليه اليمين فينكل، ثم يحلف، والسر فيه أن الشرع لما حلَّف المدعي، فكأنه ردّ اليمين عليه، ولكنه يحمل نكوله [لحق] (4) حلف المدعى عليه، فإذا أسقط المدعى عليه حقَّه، فهل يعود إلى حقه؟ فيه الخلاف الذي قدمته، ولولا هذا، لما استقام إلى اليمين بعد النكول عنها. ولو ادعى القتلَ حيث لا لوث، ونكل المدعى عليه عن اليمين، وعرضنا اليمين على المدعي، فنكل عن يمين الرد، ثم ظهر اللوث، فهل له أن يحلف يمين الابتداء؟ ذكر الأصحاب في ذلك قولين، ووجهوهما على ما تقدم.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: " كتحليف ". (3) في الأصل: " من ". (4) في الأصل: " بحق ".

ولو أقام شاهداً واحداً في دعوى مال، فلم يحلف معه، وحلّفنا المدعى عليه، فهل ترد اليمين على المدعي، وقد امتنع عن اليمين مع الشاهد؟ فعلى قولين. وكذلك إذا لم يكن في دعوى المال شاهدان، رددنا اليمين على المدعي بعد نكول المدعى عليه، فنكل عن يمين الرد، ثم أقام شاهداً وأراد أن يحلف مع شاهده، فهل له ذلك؟ فعلى ما تقدم من القولين. قال الأصحاب: الأصل في هذه المسائل أن من نكل عن يمينٍ في خصومة لا يحلف تلك اليمين بعينها، في ذلك المقام من تلك الخصومة، وهل يحلف في مقامٍ آخر من تلك الخصومة مع اتحاد المقصود؟ فعلى الخلاف المقدم. هذا ما ذكروه ولا يحيط الناظر بحقيقة القولين في هذه المسائل، ما لم يُحط علماً بما قدمته، وسيأتي ما رمزت إليه موضّحاً في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " وللولي أن يقسم على الواحد وَالجماعة ... إلى آخره " (1). 10897 - إذا عين المدعى عليه في دعوى القتل، استمرت الخصومة على نحو ما تقدم، واستمر الأمر إلى ظهور اللوث [وثبوته] (2)، ووضعُ الباب على أن تعيين المدعى عليه لا بد منه، وقال أبو حنيفة (3) لا يشترط تعيين المدعى عليه في صحة القسامة ويُحضر خمسين من صلحاء المَحِلة في خبطٍ لسنا نذكره. فإن ادعى على جماعة، وزعم أنهم اشتركوا في القتل، عيّنهم؛ إذ نيطت الدعوى بهم. ولو ادعى القتل على جمع لا يتصور اجتماعهم على القتل، فالدعوى باطلة؛ لأنه ادعى ما يحيله الحس.

_ (1) ر. مختصر المزني: 5/ 148. (2) مكان كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: (وعرمه) تماماً. (3) ر. تكملة فتح القدير: 9/ 306، 307، تحفة الفقهاء: 3/ 131.

ولو ادعى وقد أشار إلى جمع محصورين- أعلم أن قاتل أبي منكم، [ولا] (1) أدري [أيكم] (2)، فأحلفكم واحداً فواحداً، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن اليمين تترتب على الدعوى، وإذا لم تتعلق الدعوى الجازمة بالمحلَّف، لم ينتظم تحليفه، والثاني - له أن يحلفهم كذلك، لأنه يتطرق به إلى إظهار غرضه، ومن كان صادقاً منهم، فلا عليه لو حلف. وقال بعض المصنفين: إن قال: قاتل أبي واحد منهم، فليس له أن يحلّف أحداً منهم، فإن قال: قتل أبي هؤلاء أو واحد منكم، ففي المسألة وجهان حينئذ. وهذا لا أصل له، ولم يصر إلى هذا التفصيل أحد من الأصحاب، بل اتخذ الوجهين فيه إذا قال: قاتل أبي واحد منهم، والذي يُبطل التفصيل الذي حكيناه [أنه] (3) إذا لم يعلق دعواه جزماً، بل رددها بين الجمع والواحد، فلا فائدة في ربط الدعوى بالجمع، إذا كان على الترديد. 10898 - ثم طرد الأصحاب هذا الخلاف في غير الدم، على تفصيل سنذكره الآن، فإذا قال: استلف مني واحد من هؤلاء ديناراً أو ثوباً وَصَفَه، وأعلم أنه فيهم، ولست أعرفه بعينه، فهل له أن يحلِّفهم؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. وكذلك إذا أضلَّ متاعاً بين جماعة [فاختزله] (4) واحد منهم، فأراد أن يدعي على الإبهام، فهو على الخلاف. فأما إذا أقرض ماله إنساناً، ثم سها عنه، فقال: المستقرض منِّي في هؤلاء، وقد

_ (1) في الأصل: " لا ". (2) مكان بياض بالأصل. (3) في الأصل: " وأنه ". (4) مكان كلمة مطموسة بالأصل، والمثبت تقدير منا على ضوء خيالات وأطراف الحروف الباقية. واختزله: اقتطعه خيانة، ويقال: اختزل الوديعة خان فيها، ولو بالامتناع عن ردها، وفي الأساس للزمخشري: اختزل شيئاً من المال، والمعنى أنه اقتطعه (المصباح والأساس) ثم وجدت هذا اللفظ (الاختزال) عند الغزالي (في البسيط) بهذا المعنى.

نسيت عينه، فليس له أن [يخصّ] (1) واحداً منهم؛ فإن القتل، والإتلاف، والغصبَ [والاختزال] (2) مما لا يتعلق باختياره، ولا يبعد ألا يحيط [بعي]، (3) من فعل، فأما الإقراض [فصدوره] (4) عن اختياره، وكذلك المبايعة وما في معناهما، فإذا نسي وهو المقصر؛ فليس له أن يحلّف من غير تعيين. هذه هي الطريقة المرضية. وذكر الأئمة طريقين أُخريين: إحداهما- أن ما ذكره من التحليف والدعوى [لهم] (5) مختص بالدم؛ لأن للشرع اعتناء [بصيانة الأنفس لتعرضها للاغتيال وعِظم قتلها] (6) واشتداد العناية بحفظها؛ ولهذا بدأنا بالمدعي عند ظهور اللوث، ولا نبدأ بالمدعي في مالٍ عند ظهور اللوث، وتصوير اللوث في الأموال ممكن. ومن أصحابنا من أجرى الخلاف في الخصومات المتعلّقة بالأموال، كما أجراه في الدم، وطرد هذا الخلاف فيه إذا قال: استقرض واحد منهم وأنسيت عينَه؛ فإن النسيان ليس بدعاً. فانتظم مما ذكره الأصحاب طرقٌ: إحداها - طردُ الخلاف [في الخصومات الأخرى] (7) [والثانية -] (8) إجراء الخلاف في الدم فحسب، والأخرى - (9) إجراء الخلاف في الدم وغيره إلا في الإقراض، وما يتعلق بالاختيار من المعاملات، وما حكيناه عن بعض التصانيف مزيف غير معتد به.

_ (1) في الأصل: " يخلص ". (2) كذا قرأناها بصعوبة أيضاً. (3) في الأصل: " بغيره ". (4) في الأصل: " بصدوره ". (5) في الأصل: " منهم ". (6) في الأصل: "بإظهار الدمار لعرصها الاعسار وعطم ـلها" (كذا رسماً ونقطاً). (7) في الأصل: "في الأيام الأخرى". (8) زيادة اقتضاها السياق. (9) هذه هي الطريقة الثالثة.

10899 - ونعود إلى تفريع الخلاف في الدم، فنقول: إذا أبطلنا الدعوى، فلا كلام، وإن جوزنا تحليفهم واحداً واحداً، فإن حلف الكل، انتهت الخصومة من هذه الجهة، وإن حلف الكل إلا واحداً منهم، فقد أطلق الأصحاب القول بأن للولي إظهار اللوث (1)، ولو أراد المدعي أن يقسم على [الناكل] (2)، أقسم عليه، وليس هذا [ردّاً لليمين؛ حتى يجيء القولان في تعديد يمين الرد] (3)، لأن يمين الرد إنما تفرض في الدعوى الجازمة، إذا توجهت على المدعى عليه، وهذا المعنى [مفقود] (4) في هذه الصورة. ولو نكلوا من عند آخرهم، فلا يتبين اللوث في حق المدعي؛ فإنه ذكر أن القاتل واحد منهم، وقد استوَوْا في النكول، فإن ظهر عنده على الاختصاص لوثٌ في حق واحد، وعجز عن إظهاره في مجلس الحكم، فله أن يقسم بأن النكول الصادر منهم لوث في حق الجميع، وإذا ظهر لوث في حق [جمع] (5)، فلا نشترط ظهورَه في حق من يعينه المدعي، وهذا فيه احتمال (6)، لأنه في الابتداء أبهم الدعوى، ولم يظهر ما يوجب تعيّن واحد منهم للاختصاص بلوث، ولا يبعد أن يقال: ليس له أن يقسم على واحد منهم، ما لم يُظهر عند القاضي لوثاً مختصاً به، وليس كما لو عين المدعى عليه ابتداء، وكان اللوث شاملاً للجميع. وهذا الذي ذكرناه فيه إذا تعيّن عنده لوث في حق واحد، وقد نكلوا، فماذا يفعل هذا المدعي؟ فإن قلنا: لا يقسم المدعي، فلا فائدة في عرض الأيمان عليهم؛ فإنهم

_ (1) أي أن نكوله عن اليمين يعتبر لوثاً في حقه. (2) في الأصل: " المأكل ". (3) عبارة الأصل: " ردّ اليمين وحق القولان في تعين اليمين الرد " والمثبت تقدير من المحقق. هذا. ومعنى مجيء القولين في تعدد يمين الرد، أن المدعى عليه إذا نكل عن أيمان القسامة، فردت على المدعي فهل ترد يميناً واحدة، أم متعددة، وإنما القطع هنا بتعدد اليمين. (4) في الأصل: " معقود ". (5) في الأصل: " جميع ". (6) قال النووي: " ولو نكل الجميع، ثم عين الولي أحدهم، وقال: قد بان لي أنه القاتل، وأراد أن يقسم عليه، مُكّن منه على الأصح " (ر. الروضة: 10/ 12).

لا يعجزون عن النكول (1)، إذ ليس [في] (2) مذهب الأيْمان الإجبار [على] (3) اليمين، والقضاءُ بالنكول لا وجه له، وقد عسر الرد، فلا يبقى لفرض اليمين فائدة. وإن كان الأمر كذلك، [فنتبيّن] (4) من هذا المنتهى في التفريع بطلانَ أصل المذهب في عرض اليمين، ولاح وجوب القطع بأن المدعي إذا لم يعيّن المدعى عليه، بطلت دعواه [فيما إذا] (5) قال قائل: إذا نكلوا، فللمدعي أن يقسم على من شاء منهم، فهو (6) ناكل. وإن قال: كنت أظن أن القاتل منهم واحد، فإذا نكلوا، [كان] (7) نكولهم لوثاً عندي في أنهم مشتركون في القتل، فهذا يخالف قولَه الأول، ويجوز أن يقال: دعواه جرت على الترديد، وأشعرت بإشكال الأمر عليه، ولا يمتنع أن نقول: يُثبت الآن نكولُهم أنهم مشتركون، وهذا بعيد جداً. ولكن لا يستقيم التفريع على الوجه الضعيف في قبول الدعوى على الإبهام إلا على الالتزام. هذا منتهى التفريع. 10900 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " وسواء كان به جرح أو لم يكن ... إلى آخره " (8). لا يشترط وجود الجراحة في ثبوت القسامة، فإذا صوروا هالكاً لا جرح به، ثبت للولي أن يقسم عليه، إذا ظهر اللوث. وأبو حنيفة (9) يشترط وجود الجراحة ليحلف رجال المحِلة، وإياه قصد الشافعي بالرد.

_ (1) المعنى أن التفريع انتهى بهذا إلى عدم صحة عرض اليمين عليهم، فإذا كان بإمكانهم النكول، وقلنا: إنه لا يحلف، فما معنى لدعواه إذاً؟ ولهذا صح قوله الآتي: " فتبين من هذا المنتهى في التفريع بطلان القول بعرض اليمين، ووجب القطع بأن المدعي إذا لم يعين المدعى عليه بطلت الدعوى ". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: " عن ". (4) في الأصل: " ونتبين هذا المنتهى من هذا المنتهى في التفريع ". وفيها تداخل وتكرار. (5) في الأصل: " فإذا ". (6) فهو: أي الذي يحلف عليه واحد من جميع الناكلين. (7) في الأصل: " فإن ". (8) ر. المختصر: 5/ 148. (9) ر. مختصر الطحاوي: 247، الهداية مع تكملة فتح القدير: 9/ 311.

ومعتمد المذهب أن القتل ممكنٌ من غير جرح، ولو كان يقول: إن لم يكن عليه أثر من جرح، أو ضغطٍ في مجرى النفس، أو [تورّم] (1) في الخصيتين، فالهلاك محمول على الموت حتف الأنف، لكان ذلك مذهباً يجب البحث عنه، فأما مذهبه إنه (2) لو بدا أثر التعلّق والتخنيق في رقبته، فلا حكم لذلك ما لم نجد جرحاً. فإن قيل: ما قولكم فيه إذا صودف ميتاً، ولا أثر أصلاً؟ وقد قيل: الأخذ على الفم والأنف إلى انخناق النفس [يسوّد] (3) وجه الميت [ويثور] (4) الدم صُعُداً، فإذا لم نفرض أثراً أصلاً، فالحمل على الموت الوفاقي ممكن. قلنا: هذا فيه بعض النظر، ولم أر انتهاء تفصيل الأصحاب إليه، والموت فجأة ليس أمراً بدعاً، فيخرّج على هذا الاحتمال أن اللوث في القتل [شرطُه] (5) ظهورُ أثرٍ، [والمعنى] (6) المتلقى من فحوى كلام الأصحاب حملُ الأمر على القتل (7)، ولئن كان الدم [قد ينعكس إلى مقرّه، بعد أن فاضت الروح، فالأمر] (8) محتمل، والعلم عند الله.

_ (1) في الأصل: " تورح ". (2) جواب أما بدون الفاء. (3) في الأصل: " برد ". (كذا تماماً). (4) في الأصل: " ويثرد ". والمعنى أن الدم يثور صاعداً إلى الوجه فيسودُ الوجه، هذا وقد وجدنا ما أثبتناه (ويثور) منقولاً عن الإمام، نقله الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 11/ 24) وذلك من فضل الله وحسن توفيقه. (5) في الأصل: " شرط ". (6) في الأصل: " والمال ". (7) عبارة الغزالي هنا أكثر إيضاحاً، فقد قال: " ومساق كلام الأصحاب في التجاوز عن هذا التفصيل يدلّ على أن اللوث قائم، فإن القتل مع اندراس أئره ممكن، والعداوة ظاهرة، فأمكنت الإحالة عليها " (ر. البسيط: 5/ورقة: 97 شمال). (8) في الأصل: " الدم إلى مقره والأمر " والمثبت تصرّف من المحقق أداءً للمعنى بعبارتنا. والمعنى: إذا كان أثر الجراحة أو أثر القتل قد يذهب أثره، فيحتمل أن نقول باللوث، ولا أثر أصلاً، وهذا هو المتلقى من فحوى كلام الأصحاب، ثم معنى ينعكس الدم إلى مقره مرتبط بقوله آنفاً: "ويثور الدم صعداً " فالمراد أنه يذهب أثر الجناية، فلا يشترط في اللوث ظهور أثر. ولعل من المناسب أن نذكر نص عبارة الرافعي في هذه المسألة، إيضاحاً للمعنى،=

فصل قال: " وإن أنكر المدعى عليه أن يكون فيهم ... إلى آخره " (1). 10901 - مقصود الفصل أنه إذا ثبت اللوث على الحدّ الذي ذكرناه، فقال المدعَى عليه: كنت غائباً في الوقت الذي عينتَه للقتل، فقد قال الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم: لا يقسم المدعي ما لم يَثْبُت حضور المدعى عليه، فإن أقام بينة على حضوره [ساعة قد ظهر] (2) اللوث، أقسم حينئذ، والسبب فيه أن اللوث وإن كان ظاهراً، فالغَيْبة ممكنة، ومن نيط به لوث لا يقتضي ذلك اللوثُ استمرارَه على الإقامة والحضور. وفي هذا سؤال: فإن قائلاً لو قال: إذا كان بحيث يبعد [تقدير] (3) القتل إلا من جهة المدعى عليه، لاختصاصه بمعاداته، فينبغي أن يكون ذلك لوثاً في [غيابه] (4) أيضاً، هذا [المقيسُ] (5)، فأدنى ما يلزم عليه أن يقال: إذا [وجدنا] (6) في مَدْرجةٍ أو شارعٍ ميتاً [فنحيل] (7) قتله على من عهد معادياً له. وليس الأمر كذلك وفاقاً؛ فإن الحكم بأن هذا لا يقتله إلا من يُعرف معادياً له

_ =وعلاجاً لما قد يكون من قلقٍ في العبارة، ثم لنرى كيف يتصرّف الرافعي في عبارة الإمام، قال الرافعي رضي الله عنه: " وقال الإمام: إذا صودف ميتٌ لا أثر عليه أصلاً، وقد قيل: الأخذ على الأنف إلى انخناق النفس يُسوّد الوجه، ويثور الدم صعداً، فإذا لم يظهر أثر، فالحمل على الموت الوفاقي ممكن، فهذا فيه بعض النظر، وإذا فاضت النفس، ففد ينعكس الدم إلى مقرّه، والأمر محتمل والعلم عند الله، وهذا السياق يشعر بأن الظاهر أنه لا يعتبر ظهور الأثر أصلاً، وكذلك ذكر القاضي الروياني، والمتوجه ما مرّ " (ر. الشرح الكبير: 11/ 24). (1) ر. المختصر: 5/ 148. (2) في الأصل: " ساعته وقد ظهر اللوث ". (3) في الأصل: " تقرير ". (4) في الأصل: " حضوره ". (5) غير مقروءة بالأصل، ورسمت هكذا: (المتبس) كذا تماماً رسماً ونقطاً. (6) في الأصل: " وجد ". (7) في الأصل: " فتخلل".

لا معنى له؟ إذ [قد] (1) يتفق القتل من سكران، أو ممن يتهمه على أمر، وقد يحاول إنسانٌ سلبَ ثوبه فيمتنع، فيأتي عليه بسلاح، ووجوه القتل شتى، وإنما تخصيصه بأهل المعاداة في محلّهم الخصّيصة بهم لاقتضاء اللوث هذا المعنى، والغيبةُ والحضور أمران يجريان على التناوب [من] (2) الناس. وخرج من مجموع ذلك أن القاضي لا يتركه يقسم، [وإن] (3) ظهر اللوث حتى يظهر عنده حضور المدعى عليه، [فإن صرّح] (4) بدعوى الغَيْبة أُحوج المدعي إلى إثبات الحضور، وإن لم يكن مع المدعي بينة على حضوره، فالقول قول المدّعى [عليه] (5) في الغيبة مع يمينه، فإن حلف، فلا قسامة، ولكن دعوى الدم قائمة واليمين معروضة على المدعى عليه (6). 10902 - ولو ادعى رجل على رجل قتلاً في [غير] (7) مقام اللوث، فقال المدعى عليه: أَثْبت حضوري، ثم حلّفني، ليس له ذلك؛ فإن الدعوى المرسلة يجب الجواب عَنها، والجواب عنها إذا لم يكن إقراراً، كان إنكاراً مضاداً للدعوى، فليحلف. نعم، لا بد من إثبات الحضور في القسامة ليثبت اللوث. ولو أقام المدعي في مقام اللوث بينة على الحضور، فأقام المدعى عليه بينة على الغيبة، فقد قال الأصحاب: بينة الغيبة مقدمة، واعتلّوا بأن بينة الغيبة معها مزيد علم، وبينة الحضور يحمل قولها على دوام الحضور. وهذا ليس بشيء؛ فإن الغيبة معناها [كونٌ] (8) في مكان آخر، والحضور معناه

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " عن ". (3) في الأصل: " فإن ". (4) في الأصل: "فاصرح". (5) سقطت من الأصل. (6) أي على ترتيب الدعوى من غير لوث. (7) زيادة لتصحيح العبارة، فالدعوى المرسلة هي الدعوى بغير لوث. (8) في الأصل: " لوث ".

[كونٌ] (1) في هذا المكان، ومن ضرورة [لكون] (2) في مكان تعيّن انتفاء [لكون] (3) في غيره، فإذاً كل بينة تشتمل على إثباب من ضرورته نفيٌ، فلا يجوز ترجيح بيّنة الغيبة لذلك. نعم، يجوز أن يقال: لو تداعيا حضوراً وغيبة، فالقول قول من يدعي الغَيبة مع يمينه. ومهما (4) أقام متداعيان بيّنتين -ولو لم تكن البينة، لصَدَق أحدُهما- فبينة [من] (5) يُحلَّف ويصدَّق تقدم، كبينة الخارج والداخل، ثم سنذكر اختلاف الأصحاب في بينتي الخارج والداخل: فمنهم من يرجح بينة الداخل لقوة جانبه، ومنهم من يحكم بتساقط البينتين، ومرد الأمر إلى تحليف المدعى عليه، وهذان الوجهان جاريان في الغيبة والحضور من مسألتنا، وترتب على جريانهما أن المدعى عليه هل يحلَّف على الغيبة مع قيام البينتين؟ فعلى وجهين كما ذكرناه في الداخل والخارج. 10903 - ومما يتصل بهذا أن المدعى عليه لو كان محبوساً أو مريضاً، لا حراك به، سيما في مثل القتل، إذا [أظهر] (6) المدعي اللوثَ، وكان المدعى عليه في ذلك الوقت على ما وصفناه، ففي هذا طريقان: من أصحابنا من قال: إن اقترن هذا والعلمُ به بأيمان القسامة، فلا قسامة، فإن اللوث يضعف بها جداً. وإن فرضت القسامة، ثم تبين بعد جريان الأيمان أن المدعى عليه كان محبوساً، فهل نحكم ببطلان القسامة تبيُّناً؟ ذكر الأصحاب في ذلك [وجهين] (7): أصحهما - أنا نتبين بطلان القسامة. ومن أصحابنا من أجرى الوجهين [وإن] (8) اقترن العلم بكونه [محبوساً] (9) بإنشاء الأيمان.

_ (1) في الأصل: " لوث ". (2) في الأصل: " اللوث ". (3) في الأصل: " اللوث ". (4) ومهما: بمعنى: " وإذا ". (5) في الأصل: " في ". (6) زيادة اقتضاها السياق. (7) سقطت من الأصل. (8) في الأصل: " فإن ". (9) في الأصل: " محتوماً ".

ولسنا نعني بهذا العلم تحققَ بقائه في الحبس؛ فإن ذلك لو كان كذلك، لانتفى القتلُ قطعاً، ولكن المعنيّ به أن يكون [حبسه] (1) ظاهراً في تلك [اللحظة] (2)، كما نطلق أن فلاناً محبوس، ويجوز أن يكون [معلناً بالحبس] (3) في وقت إطلاقنا لذلك، فليفهم ذلك على هذا الوجه. فإن لم يكن من إجراء الخلاف بدٌّ، فلا معنى للفرق، والوجه طرده في الصورتين؛ فإن ما يمنع من الإقدام على الأيمان يوجب بطلانَها إذا تبين من بعدُ. هذا والوجه القطع بسقوط اللوث بهذا؛ فإن ما يظهر من لوث فالبقاء في الحبس أظهر منه، وإذا ظهر ذلك [يسقط] (4) اللوث بمعارضة ما يضاده. ومن أسرار الفصل أنه إذا ادعى -واللوث ظاهر- القتلَ على الشخص، فلم يتعرض المدعى عليه للحضور والغيبة بالنفي والإثبات، ولم يتعرض المدعي للتصريح بذكره، فكيف الوجه في ذلك؟ أولاً - إذا ادعى أنه قتله، فقد ادعى حضوره، [وإنما] (5) النظر في سكوت المدعى عليه عن دعوى [الغيبة] (6) [وهل] (7) يُظهر حضورَه، فلو كان غائباً لذكر [ذلك،] (8) وفي المسألة احتمال على حال. 10904 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أنظر إلى دعوى الميت ... إلى آخره" (9). أراد بذلك الرد على مالك (10) فإنه قال: لو وجدنا جريحاً متشحِّطاً في الدم،

_ (1) في الأصل: " حسنه ". (2) في الأصل: " الليلة ". (3) في الأصل: " معلناً من الحبس "، أي باعتبار ما سيكون. (4) مكان كلمة استحالت قراءتها. (5) في الأصل: " فإنما ". (6) في الأصل: " القسمة ". (7) زيادة لاستقامة الكلام. (8) زيادة من المحقق. (9) ر. المختصر: 5/ 148. (10) ر. المدونة: 4/ 488، 492. الإشراف: 2/ 841 مسألة: 1629، المعونة:=

مشرفاً على الهلاك، فقال: خذوا فلاناً بدمي، فإنه قاتلي. قال: يقبل قوله، ويؤخذ ذلك الشخص بقوله، ونحكم عليه بالدم، فإنه لا يكذب في هذه الحالة. وهذا كلام عري عن الإحاطة بقواعد الشرع " فإن الكذب ممكن، والحكم على الغير بالدعوى المجردة محال، ولو كان يقول: هذا لوث، فيقسم الولي، لكان أمثل، على أنه لو قُتل به، فهو باطل، [فإن اللوث لا يثبت] (1) بالدعوى (2). 10905 - ثم قال: " ولورثة القتيل أن يقسموا وإن كانوا غُيّباً ... إلى آخره " (3). إذا كان الولي المقسم غائباً، ثم حضر وأراد أن يقسم عند ظهور اللوث، فله ذلك " لأن معتمده اللوث، ولا يشترط أن يكون [فرعاً] (4) من القتيل، وإذا كان كذلك، فقد يثبت عنده بقول الأثبات والثقات ما يقسم عليه، أو باعتراف القاتل، وغيرِ ذلك من الوجوه، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن المقسم لا يكتفي باللوث الذي يكتفي القاضي به، بل ينبغي أن يعتمد أمراً أقوى من اللوث. ثم الذي يمكن ضبط هذا الكلام به أن يثبت عنده ما لو كان قاضياً، لقضى بالقتل به، وهذا إقرارٌ أو قولُ عدلين، ولا يشترط مقامُ الشهادة، فإن الشهادة لا تقوم إلا في مجلس القاضي، ولا يشترط لفظُ الشهادة أيضاً، [وإن] (5) كنا قد نشترط لفظ الشهادة

_ =3/ 1347، القوانين الفقهية: 343، حاشية الدسوقي: 4/ 288. (1) في الأصل: " وإن اللوث يثبث بالدعوى ". (2) المعنى: إن اللوث لا يثبت بالدعوى -عندنا- وعبر الغزالي عن ذلك قائلاً: " لو عاش الجريح زماناً، وقال: قتلني فلان، لم يكن لوثاً، لأنه صاحب حق، فلا معتبر بقوله، بل قوله كقول المدعي الوارث، خلافاً لمالك رحمه الله، فإنه جعل ذلك لوثاً " (ر. البسيط: 5/ 97 شمال)، وأما النووي، فقد قال: " ولو قال المجروح: جرحني فلان، أو قتلني، أو دمي عنده، فليس بلوث؛ لأنه مدّعٍ " (ر. الروضة: 10/ 11). ومعنى هذا الكلام مع الذي قبله: أن مالكاً لو جعله لوثاً، لكان أمثل، ومع ذلك، فهذا اللوث لا يقتل به، أي لا يثبت به القود، خروجاً من عهدة الخلاف، فهو غير ثابت عندنا، كما أكدنا ذلك آنفاً. (3) ر. المختصر: 5/ 148. (4) في الأصل: " ورعاً ". (5) في الأصل: " فإن ".

في الإشهاد على الشهادة، فليتأمل الناظر هذه المضايق. فإن قيل: هلا قلتم: يقع الاكتفاء باللوث الذي تبنى عليه [البداية] (1)؟ قلنا: البداية نقلُ حجة من جانب إلى جانب، والأمر فيه [قريب] (2)، والإقدام على الإقسام تعرّضٌ لإثبات القتل. هذا ما لاح لي في كلام الأصحاب. وفي كلام بعضهم ما يشير إلى الاكتفاء باللوث، وهو ساقط غيرُ معتد به. ثم ألحق الأئمة بهذا الوليَّ لو كان جنيناً وجرى القتلُ، أو كان نطفةً قارّةً في الرحم، لم تتخلق، ثم انفصل وأراد الإقسام، فله ذلك، ثم البناء فيه على ما قدمناه. 10906 - ثم قال رضي الله عنه: " وينبغي للحاكم أن يقول: اتق الله ... إلى آخره" (3). إذا أردنا البداية بالمدعي، ينبغي أن يحذِّره القاضي ويقول: اتق الله، ولا عليه لو استقرأ قارئاً قولَه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ... } الآية [آل عمران: 77] ونؤثر في اللعان [تحذير المتلاعنين] (4)، وذكرنا [من قبل] (5) تخصيصَ كلمة اللعن والغضب [بالأخذ] (6) على فم من يريد الجريان [بها] (7). فأما ما عدا هاتين الخصومتين، فهل نؤثر للقاضي أن يحذر الخصم من الإقدام على اليمين الفاجرة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنا نؤثر ذلك في كل يمين معروضة. والثاني - أنا نؤثر للقاضي ذلك في الدماء، والفروج، [والأمور] (8)

_ (1) في الأصل: " السراية ". (2) في الأصل: " مرتب ". (3) ر. المختصر: 5/ 148. (4) في الأصل: " تجويز المقدم ". (5) في الأصل: " في مجلس ". (6) في الأصل: " بالآخر ". (7) في الأصل: "فيها". (8) في الأصل: " الأموال ".

الخطيرة، والضابط أن تكون الأيمان مغلّظة (1)، على ما سيأتي كيفية التغليظ في موضعه من الدعاوى إن شاء الله، وما قل قدره من الأموال بحيث لا يسوغ التغليظ فيه [فلا] (2) خلاف أنا نؤثر للقاضي التحذير من اليمين (3)، وهذا على ظهوره فيه [جريان] (4) التحذير من اليمين في الأمر الحقير [مما] (5) قد يراه الناظر أهمّ، ولكن التحذير ركن (6) التغليظ، وهو في معنى التفخيم والتعظيم (7)، وإلا فلا منع للإنسان من حجته التي أثبتها الشارع له، بحيث لا [يسوغ] (8) إلا شرع التحذير من اليمين. فصل 10907 - إذا ادعى على رجل أنه قتل موروثه مع عدد لم يذكر مبلغهم، فإن كان القتلُ قَتْلَ مالٍ، فلا خلاف أن دعواه مردودة، فإنه لم يبيّن [ما يخص] (9) المدعى عليه من المال، وإن كان القتل قتل [عمد] (10)، بحيث يوجب القود لو ثبت بالإقرار أو البينة، فإن قلنا: [لا يُستحق] (11) الدم بأيمان القسامة، فلا تسمع الدعوى؛ فإنه لا غرض والحالة هذه إلا إثبات المال، [والقدر] (12) المدعى مجهول.

_ (1) المذهب تغليظ الأيمان فيما ليس بمالٍ، ولا يقصد به مال، كدعوى دم، ونكاح، وطلاق، ورجعة، وإيلاء، وعتق، وولاء، ووصاية، ووكالة. وفي مالٍ يبلغ نصاب زكاة. (ر. شرح المنهاج لجلال الدين المحلي - بهامش حاشيتي قليوبي وعميرة: 4/ 340). (2) في الأصل: " ولا ". (3) وهذا هو الوجه الأول مما حكاه العراقيون. (4) في الأصل: " سريان ". (5) زيادة من المحقق. (6) أي مقتضى التغليظ ومتمم له. (7) المعنى أن التحذير ليس منعاً من اليمين الذي هو حجة مشروعة، ولكنه تفخيم وتعظيم لشأن الأيمان. (8) في الأصل: " يشرع ". (9) في الأصل: " ما يحضر ". (10) في الأصل: " عم ". (11) في الأصل: " لا يساط " تماماً. (12) في الأصل: " والقتل ".

وإن قلنا: يثبت القود، فهل تُقبل الدعوى والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن الدعوى مسموعة، فإن [القصاص] (1) يثبت على هذا للمدعي كثر الشركاء أو قلّوا، عُرف عددهم أو جُهل. والوجه الثاني - أن الدعوى لا تسمع؛ فإن الأمر قد يؤول إلى المال. والوجه عندي في هذا أن ينبني الخلاف على أن موجب العمد القود المحض، أو القود أو الدية: أحدهما - لا بعينه؟ فإن قلنا: موجبه القود المحض، فالوجه القطع بقبول الدعوى؛ فإن الموجب هو القود لا غير، فإن ثبت المال، فعن تصرّفٍ في القود، وإن قلنا: موجب العمد أحدهما لا بعينه، فيحتمل الوجهان حينئذ. فصل 10908 - إذا قال المدعي: جرح فلانٌ موروثي فلاناً، ومات من جرحه، فاعترف المدعى عليه بالجرح، وزعم أنه مات بسبب آخر، فإن سلّم قصر الزمان، فعليه أن يثبت سبباً، وإن لم يُثبت، قضي عليه بالقتل. وإن ادعى طولَ زمان [لا يكون] (2) فيه الجرح [سبباً] (3)، فلا يخلو إما أن يكون الجرح في محل اللوث، وإما ألا يكون، فإن لم يكن الجرح في محل اللوث، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القول قول المدعي؛ فإن الجرح سبب الموت على الجملة، فمن ادعى [تعليقه] (4) به، ظهر صدقه مع يمينه. والوجه الثاني - أن القول قول المدعى [عليه] (5)، فإن الأصل عدم الموت وبراءة الذمة. وإن كان اللوث ظاهراً، فقد قطع العراقيون بأن المدعي مصدَّق، وهذا عندي [هَوَسٌ] (6)؛

_ (1) في الأصل: "النقصان". (2) في الأصل: "لم يكن". (3) في الأصل: "ضما". (4) في الأصل: "تعجيله". (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: " هو بيّن " وهو تصحيف يقلب المعنى رأساً على عقب.

فإن الجرح متفق عليه (1)، وليس المدعي يدعي غيرَه، ويدعي إفضاء الجرح إلى الموت، وقصر الزمان وطوله لا يختلف بقيام اللوث، فلو قال عدل واحد: مات على قرب من الزمان، [ثبت] (2) اللوث في موضعه، ولا يثبت قرب الزمان إذا قلنا: القول قول من يدعي التراخي، فلا وجه لهذا التفصيل كيف فرض، والوجه إجراء الخلاف من غير تفصيل. وهذا الذي ذكروه طرفٌ من اختلاف الجاني والمجني عليه في هذه الأنواع، وقد مضت هذه الفصول مستقصاة في موضعها على أبلغ وجه في البيان، فلا حاجة إلى الإعادة. فصل 10909 - إذا ادعى رجل على رجل أنه انفرد بقتل أبي في الوقت الفلاني، فأقام المدعى عليه بينة أنه كان غائباً في ذلك الوقت، اندفعت الدعوى عنه، فلو أقر أحدٌ: بأني كنت شريكه في القتل، أو قال: أنا كنت المنفرد بقتله دون من ادعى عليه، فلو أن المدعي صدق هذا المقِرّ، وأراد مؤاخذته، بإقراره، وزعم أنه غلط في دعواه الأولى، فهذا ينبغي أن يدرج في تمهيد قاعدةٍ، فنقول: إن ادعى عليه أنه منفرد بالقتل، ثم ادعى مشاركةً أو انفراداً على خلاف دعواه الأولى، فالدعوة الثانية مردودة. ولو أقر شخص بما يخالف الدعوى الأولى، فصدَّقه المدعي ونسب نفسه إلى الزلل أو تعمد الكذب، فالمذهب أن له مؤاخذة المقر؛ فإنهما اجتمعا على التصادق، وكذبه ليس أمراً بدعاً. ومن أصحابنا من قال: ليس له مطالبة المقر؛ لأن دعواه إقرار منه ببراءة هذا المقر، فنؤاخذه بموجب قوله الأول، وسيأتي استقصاء ذلك في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) المعنى أن الجرح متفق عليه ومعترف به، ولا يدّعي المدعي غير السراية، وإفضاء الجرح إلى الموت، فأي لوث هنا؟ (2) في الأصل: " فسد ".

فصل قال: " ولسيد العبد القسامة من عبده ... إلى آخره " (1). 10910 - اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أن العبد إذا قُتل، فهل للسيد أن يقسم عليه إذا كان القتلُ قَتْلَ لوث، فقال في أحد القولين: لا يقسم عليه؛ لأن مطلوبه المال. وقال في القول الثاني: يقسم عليه؛ فإن القسامة أثبتت تغليظاً لأمر الدم، واحتياطاً فيه، ودم العبد مضمون بما يصان به دم الحر؛ فإنه يتعلق القصاص به، ويُثبت خاصية النفس وهي الكفارة. والقائل الأول قد يعارض ما ذكرناه بالأطراف؛ فإن القسامة لا تجري فيها وإن كانت مصونة عن الجناة بالقصاص، وسبيل الجواب عن الأطراف ما ذكرناه، من تعلق الكفارة بقتل العبيد. وهذان القولان يقربان من القولين في أن [قيمة] (2) العبد المقتول خطأ هل تضرب على عاقلة القاتل؟ وقد مضى ذكر ذلك. ويجوز أن يقال: ليس هذا مأخوذاً من الضرب على العاقلة؛ فإن العواقل يتحملون أروش الأطراف، وإن كانت القسامة لا تجري فيها. وذهب بعض أصحابنا إلى القطع بإجراء القسامة في قتل العبيد، نظراً إلى تعلق الكفارة بقتلهم. ثم القول في الإقسام على بدل المدبّر، وأم الولد إذا قتلا كالقول في العبد القنّ، والمكاتبُ إذا قُتل، فإنه يموت رقيقاً والكتابة تنفسخ. 10911 - ثم قال الشافعي: " ويُقْسم المكاتب في عبده ... إلى آخره " (3).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 148. (2) في الأصل: " قسمة ". (3) ر. المختصر: 5/ 148.

إذا فرعنا على الأصح، وهو أن القسامة تجري في قتل العبد، [فالمكاتَب] (1) إذا قُتل عبدُه [قَتْل] (2) لوثٍ، كان له أن يقسم، فإن أقسم ثم عجز ورَقَّ، اكتفى سيده بأيمانه وأخذ [القيمة] (3)، وإن نكل المكاتب عن اليمين، ثم عجز، لم يكن له أن يُقسم، ولو لم يتفق منه إقدام على الإقسام [ولا نكول] (4)، فقد قال الأصحاب: للسيد أن يقسم، وشبهوا ما ذكرناه من الأحوال بنظائرها في الوارث والموروث، فقالوا: إذا قُتل عبد لإنسان، فأقسم عليه، فقد ثبتت قيمته، فإذا مات المقسِم، قام ورثته مقامه في استيفاء ما استحقه. وإن نكل السيد عن أيمان القسامة ومات، وأراد ورثته أن يقسموا، لم يكن لهم ذلك، ولو لم يتعرض السيد حتى مات، [فللورثة] (5) أن يبتدروا القسامة. وعلى الناظر في ذلك أدنى توقف؛ فإن القسامة مقصودها إثبات القتل، ولقد جرى القتل ولا حق للورثة يُنزلهم منزلة الموروث لو بقي، وعلى هذا الأصل أثبتت عُهد العقد، فإن وارث المشتري يرد المشترَى بالعيب، وإن لم يكن هو المشتري، وإنما استفاد الملك بالإرث، [وملكُ] (6) الإرث لا مرد له، ولكن الحقوق تورث كالأملاك على تفاصيلَ يعرفها أهلها، والمشتري كما يورّثهم الملكَ ورثهم حقوق العقد، كذلك كانت القسامة حقاً للموروث، [فإذا] (7) مات قبل الإقدام عليها ورث الورثةُ حق القسامة، وإذا كان هذا في المواريث، فالسيد في عبد مكاتَبه أقربُ إلى خلافة الموروث؛ فإن المكاتب رقيق السيد قنّاً، فإذا عجز، قام السيد مقامه، وليس كذلك إذا نكل، فإن الحق بطل بنكوله حيث كان الحق له. 10912 - ومما يجب التعرض له ضبط ما يساوي العبد فيه الحر، وما يختلف فيه

_ (1) في الأصل: " والمكاتب ". (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: " القسمة ". (4) في الأصل: " ولا نقول ". (5) في الأصل: " وللورثة ". (6) في الأصل: " ملك " (بدون واو). (7) في الأصل: " فأما إذا ".

فيما يتعلق بالقتل، والغرض التساوي في القواعد لا التكافؤ في الأشخاص، فنقول: قتل العبد كقتل الحر في القصاص والكفارة، والعبد كالحر في أن إقراره مقبول فيما يوجب القصاص عليه، وأطرافه في القصاص كأطراف الحر، واختلف القول في ضرب قيمته على العاقلة، وكذلك اختلف القول في جريان القسامة، وظاهر النص أن أطراف العبد من قيمته، كأطراف الحر من ديته، وفيه قول خرجه ابن سريج أن الواجب في أطرافه نقصان القيمة، وبدله غير مقدّر شرعاً، بخلاف بدل الحر، فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك. فصل قال: " ولو قُتل عبد لأم ولدٍ ... إلى آخر الفصل " (1). 10913 - نُقَدِّم على الغرض تجديدَ العهد بأن العبد هل يملك بالتمليك؟ وفيه قولان ذكرناهما توجيهاً وتفريعاً في كتاب البيع، ونحن نفرع على القولين في غرضنا، ثم نخوض في مقصود الفصل، فنقول: إذا ملّك السيد عبده عبداً فقُتل العبد الثاني قتلَ لوثٍ، فإن قلنا: لا يملك العبدُ، [فإذا] (2) ملّك السيد عبدَه عبداً يُقسم (3) على القول الأصح، [فمن] (4) قُتل عبدٌ من عبيده. وإن قلنا: العبد يملك بالتملّك، فأول ما نذكره أن من ملّك عبده عبداً أو عَرْضاً من العروض، فأُتلف ذلك الذي يملكه العبد، والتُزِمت القيمة بالإتلاف، فهل نقول: يزول ملك العبد المملّك، وتكون القيمة ملكاً للسيد؟ فعلى وجهين: أحدهما - وهو الأفقه أن القيمةَ ملكُ السيد، [فإنه لم يملك عبده] (5) إلا العينَ، وقد [فاتت] (6) العين، والقيمةُ مملوك آخر تَخْلُفُ العينَ المتلَفة، وملك العبد عُرضةُ

_ (1) ر. المختصر: 5/ 148. (2) في الأصل: " وإذا ". (3) الذي يقسم هو السيد. (4) "وقد". (5) عبارة الأصل: " فإنه إذا لم يملك عبده ". (6) في الأصل: " ماتت ".

الاسترداد (1)، فلو لَحِق العبدَ تغيّر [بعتقٍ] (2) أو بزوال الملك إلى متملك آخر، فما كان ملّكه مولاه يتخلّف عنه، وينقلب إلى ملك المولى (3)، فقياس هذا أن [التغير] (4) في العين [بالإتلاف] (5) والرجوع إلى القيمة يوجب انقطاع ملك العبد. ومن أصحابنا من قال: لا ينقطع ملك العبد، وحقه قائم في قيمة العين المتلفة إلا أن يرجع السيد فيها. فإن قلنا: لا ملك للعبد في قيمة العبد المقتول، فيثبت للمولى حقُّ القسامة؛ فإن القيمة تثبت له، وانقطع ملك العبد عنه. وإن قلنا: القيمة ملكُ المالك (6)، فهل له أن يقسم؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقسم لبقاء ملكه في القيمة، والثاني - أنه لا يقسم لضعف ملكه، والقسامة تستدعي ملكاً قوياً وسلطنة واستيلاءً، وليس القِنّ في هذا بمثابة المكاتب؛ فإن المكاتب له حق الاستقلال في تصرفاته، وإنما يمتنع عليه التبرعات على تفاصيلَ مشهورة. ثم فرع العراقيون على الوجهين وقالوا: إذا قلنا: لا يقسم، فالسيد لا يقسم أيضاً، فإن [حصل] (7) القتل كما ذكرناه، فاسترجع المولى القيمة، فإنها تنقلب إلى ملكه، فإذا عادت [القيمة] (8) إلى ملكه، فقد قالوا: لا يقسم السيد؛ فإن العبد لما قتل، لم يكن ملكاً للسيد، فلم تنقلب [القيمة] (9) إليه، ولما رجعت، فهذا حق جديد يثبت له، فلا يقسم.

_ (1) أي ملك ضعيفٌ كما عبر بذلك الغزالي، وهذا هو العلة الثانية مع ما قبلها من أن القيمة ملك جديد. (2) في الأصل: " العتق ". (3) المعنى أن العبد لو أعتقه سيده أو باعه سيرجع ما ملّكه إياه إلى السيد. (4) في الأصل: " التعين ". (5) في الأصل: " بإيلام ". والمراد إتلاف المملّك للعبد عَرْضاً، أو عبداً. (6) المراد العبد المملك. (7) زيادة لاستقامة الكلام. (8) في الأصل: " القسمة ". (9) في الأصل: " القسمة ".

وفي المسألة أدنى احتمال، فيجوز أن يجعل السيد كالخَلَف عن العبد كما ذكرناه في الوارث والموروث. وهذا فيه نظر: يجوز أن يقال: إن جوزنا للعبد أن يقسم، فإذا استرد السيد [القيمة] (1)، فله أن يقسم على مذهب الخلافة، وإن قلنا: ليس للعبد أن يقسم، فليس للسيد أن يقسم أيضاً؛ فإن هذا الحق لم يثبت للعبد، فكيف يخلفه السيد فيه بخلاف الوارث والموروث، وليس من الفقه أن نصور موروثاً ليس من أهل القسامة [يورث] (2)، فإن حق القسامة ثابت له، ولكنه عاجز عن استيفائه (3)، فيخلفه الوارث ويستوفيه إذا كان أهلاً للاستيفاء، فإذا ثبتت هذه المقدمة، عدنا إلى مسألة الكتاب. 10914 - لو قتل عبدٌ لأم الولد، ولم نُرد عبداً تملكه أمُّ الولد؛ فإنه على الجديد نُفرّع، ومذهبه أن أم الولد لا تملك، وإن ملّكها المولى، فالمعنيُّ بقوله: لو قتل عبدٌ لأم الولد أن يقتل [عبدٌ] (4) هو برسم أم الولد يُدعى بها ويعزى إليها، فإذا قتل مثل هذا العبد -والتفريع على الجديد- فإنها لا تقسم، ويقسم المولى؛ فإن العبد مملوكُه، وإن قتل عبد من عبيد المولى -ولا أثر لكونه برسم أم الولد إذا قلنا: إنها [لا] (5) تملك -[فلو] (6) أوصى السيد بقيمة ذلك العبد لأم الولد، والثلث وافٍ، فالوصية صحيحة؛ لأنها تستحقها بوفاة المولى، [وهي] (7) تَعتِق بالوفاة، فلو أقسم المولى، ثم مات، صرفت [القيمة] (8) إليها.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " ـحوز " (كذا تماماً) والمثبت تصرف من المحقق. (3) المعنى: كيف يخلف السيد العبدَ في أيمان القسامة، وهو غير قادرٍ على استيفائها، فالأصل في الميراث أن يحل الوارث محل الموروث، فإذا كان الموروث لا يُقسِم فكيف يصور الفقه وارثاً يقسم؟ (4) في الأصل: " عدد ". (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) في الأصل: " ولو ". (7) في الأصل: " وهو ". (8) في الأصل: " القسمة ".

وإن لم يقسم حتى مات، ولم يفرض منه نكول، قال الشافعي: والأصحاب معه: للورثة أن يقسموا، وإذا أقسموا، صرفت القيمة إليها. فإن قيل: كيف يقسم الورثة وأم الولد إذا قبلت الوصية، ملكت القيمة، والورثة إذا [أقسموا بالوراثة، كانوا مقسمين] (1) على قيمة هي ملك غيرهم، فكيف ينتظم هذا؟ وهذا السؤال ليس مما يستهان به، وسبيل الجواب عنه أن الورثة خلفوا الميت، ولا تختص خلافتهم عنه بما يملكون إرثاً (2)؛ فإنه لو مات ولم يخلف تركة، وكان عليه دَيْنٌ فإذا قضاه الوارث، فعلى مستحق الدين أن يقبله، بخلاف ما لو تبرع أجنبيّ بقضاء دين الميت؛ فإنه لا يجب على مستحق الدين قبوله. وغالب ظني أني رأيت لبعض الأصحاب خلافاً في الوارث أيضا -إذا لم يخلِّف مَنْ عليه الدين شيئاً- وينزله منزلة الأجنبي المتبرع بقضاء الدين. فيرجع تحصيل القول في تعليل إقسام الورثة [إلى] (3) أن الموروث إذا أوصى، فيظهر في غرض الوارث [التشهِّي] (4) في تحقيق مراده، وتنفيذ وصيته، فثبت لهم - لظهور هذا الغرض بحق خلافة الوراثة- الإقسامُ، والدليل عليه أنهم يقسمون إذا لم تكن وصية، مع القطع بأنهم لم يكونوا ملاك العبد لما قتل في حياة الموروث، ويقسمون [ويستحقون، وما كان ثبت شيء من استحقاقهم بالقتل] (5)، وإذا ثبت

_ (1) عبارة الأصل: " أنشؤوا الوراثة كانوا منقسمين ". (2) أي لا تختص الخلافة بالملك فقط، بل هناك حقوق تورث، كما هو معروف في علم الفرائض. (3) في الأصل: " إلا ". (4) في الأصل: " التشفي ". (5) في الأصل: " ويستحقون وما كان أكثر من استحقاقهم بالقتل " والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى -على أية حال- أنهم لم يكونوا يملكون العبد لما قتل، والقيمة لم تكن ثبتت لمورثهم؛ فإنها لا تثبت إلا بثبوت القتل بأيمان القسامة، فإذا أقسموا، أثبتوا القتل، وأثبتوا ضمناً حق مورثهم مستنداً إلى حالة القتل، فاستحقوا -بناء على ذلك- خلافته.

القتل، [تضمّن] (1) ثبوتُه استنادَ ثبوت حق الموروث إلى حالة القتل، وكأنهم تم ترتيب [إرثهم] (2) على ثبوت حقه، وهذا لا يحال إلا على حق الخلافة. هذا هو الممكن في تعليل إقسام الورثة. 10915 - وأمُّ الولد وإن كانت قد قبلت الوصية، وملكت [القيمة] (3) لا تقسم ابتداء، لأنه ليس تستحق [القيمة] (4) بخِلافةٍ، [وإنما] (5) تستحقها بوصية، وقتُ نفوذها الموتُ، ولسنا ننكر أن الوصية يترتب نفوذها على ثبوت ملك الموصي، ولكن انتفت الخلافة، فلو حلفت [حلفت] (6) على أمرٍ ناجزٍ لا استناد له. ومن ظن أن إقسام الورثة يؤخذ من ثبوت الملك لهم في الموصى به أولاً، فقد أبعد، فإنّ الشافعي قطع القول بإقسام الورثة، واتفق الأصحاب على ذلك، وأقوالهم مختلفة في ملك الموصى به قبل قبول الوصية، ثم يلتزم هذا القائل أن يقسموا قبل القبول، ولا يقسموا بعده (7)، وهذا [لا] (8) صائر إليه، ولا قائل به. ثم لو فرعنا على أن الملك للورثة قبل القبول، فهو أضعف الأملاك حتى قيل: إنه تقدير ملك، وليس يتحقق، وسبب التقدير أنا لا نجد بداً من إسناد الملك إلى مالك قبل القبول، والإقسام على تقدير الملك بعيد، ولم نذكر هذا ليكون مذهباً، ولكن [كشفنا] (9) إمكاناً وأبطلناه، وانتظم اتفاق الأصحاب على أن الورثة يقسمون قبل القبول وبعده.

_ (1) في الأصل: " فضمن ". (2) في الأصل: " إذنهم ". (3) في الأصل: " القسمة ". (4) في الأصل: " القسمة ". (5) في الأصل: " وإن لم ". (6) في الأصل: " طلقت ". (7) المعنى أن الورثة يُقسمون قبل قبول أم الولد للوصية بالقيمة، لأنها عندما تقبل تنتقل القيمة إلى ملكها، فلو أقسموا بعد القبول، كانوا يقسمون على ما يملكه غيرهم، وهذا لا قائل به، فإن القيمة لا تثبت أصلاً إلا بالإقسام. (8) زيادة اقتضاها السياق. (9) في الأصل: " كشفا ".

فإن قيل: لو أوصى رجل لرجل بعين من أعيان ماله، ثم مات الموصي، وادعى مدَّعٍ استحقاقاً في العين الموصى بها، فهل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية، أم كيف السبيل فيه؟ قلنا: هذا فيه تردد، وفضل نظر: يجوز أن يقال: الوارث يحلف حتى إذا انتهت [الخصومة] (1)، [استُحقّت] (2) الوصية. ويتجه أن يقال: إذا قبل الموصى له الوصية، ثم ظهرت الدعوى، [فالخصومة] (3) تتعلق بالموصى له؛ فإنه مَلَك العين، واستبدَّ بها في ظاهر الحال، فيتعلق النزاع به، وتتوجه الدعوى عليه، وليس كصورة القسامة [، فإنها] (4) من خواص القتل (5)، وحقها أن تستند إلى القتل، ولا ترتبط [دعوى] (6) [الاستحقاق] (7) إلى ما تقدم، فيحمل الأمر على الحال، وهذا فقيهٌ حسن (8). وإذا قلنا: تتعلق الخصومة بالموصى له بعد القبول، فيتردد الرأي في تعلق الخصومة بالورثة قبل القبول. وهذا الآن يُحوج إلى مزيد نظر، وستأتي الدعاوى في

_ (1) في الأصل: " الوصية ". (2) في الأصل: " استمرت ". (3) في الأصل: " بالخصومة ". (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) الكلام ما زال في صورة أم الولد، وهل تقسم، ولذا فقوله: " وتتوجه الدعوى عليه، وليس كصورة القسامة ... إلخ " معناه أن الموصى له هنا تتوجه الدعوى عليه، وتتعلق الخصومة به عندما يدعي مدعٍ حقّاً في العين الموصى بها له، وهذا بخلاف أم الولد الموصى لها فلا تتوجه الدعوى عليها، ولا تُقسم أيمان القسامة؛ لأن حقها يستند إلى القتل، فما لم يثبت القتل، لا تثبت القيمة الموصى بها، فكيف تقسم ولم يثبت لها ملك في القيمة بعدُ، بل لم تثبت القيمة نفسُها. (6) زيادة اقتضاها السياق، والمراد دعوى من ادعى استحقاق العين الموصى بها. (7) في الاستناد. (8) وجه الفقه والحُسن هو إدراك الفرق بين الصورتين، ففي الصورة الأولى تعلق ملك الموصى له (أم الولد) بقيمة العبد القتيل، وهي لم تثبت بعد، وأم الولد ليست خليفة الميت الموصي حتى تقوم مقامه في أيمان القسامة. أما في الصورة الثانية، فيتعلق ملك الموصى له بعين قائمة مملوكة ملكاً حالاًّ، فتكون الدعوى موجهة عليه، فهو الذي يقسم إذاً، وليس الورثة.

الوصايا وغيرها في موضعها -إن شاء الله عز وجل- وإنما نجّزتُ هذا القدرَ لتميز مسالة القسامة عما عداها. 10916 - ويعود -الآن بنا- الكلامُ إلى القول في القسامة، فإن أقسم الورثة، صرفت القيمة إلى أم الولد، ولو نكل الورثة عن أيمان القسامة، فهل لأم الولد أن تُقسم وتأخذ القيمة؟ فعلى قولين: أحدهما - ليس لها ذلك؛ لأنها تأخذ ما يثبت ملكاً للموصي وليس إليها إثبات ملك الموصي. والثاني - لها أن تحلف؛ [لأن] (1) مآل الاستحقاق إليها. وهذان القولان يجريان فيما لو أقام الوارث شاهداً واحداً على إنسانٍ بدين لأبيه، وكان الأب [مديناً] (2)، فإذا لم يحلف الوارث، فهل يحلف الغرماء؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يحلفون؛ لأن إثبات الملك ليس إليهم، والثاني - أنهم يحلفون؛ لأن مصير الملك إليهم؛ فإن ما يثبت تركةً للمديون، فهو مصروف إلى ديونه، فإن قيل: هلا رتبتم تحليف أم الولد على تحليف الغرماء، وجعلتم أم الولد أولى بالحلف من جهة أن استحقاقها تعلق [بعين القيمة] (3)، فهي تقسم على ما ملكته، وهذا لا يتحقق في التركة وحقوق الغرماء؛ فإن الغرماء لا يملكون التركة، بل للورثة أن يؤدوا ديونهم من أموال أنفسهم ويستخلصوا التركة؟ قلنا: هذا على حالٍ وجهٌ في الفرق، ولكن لا فقه فيه؛ فإن حصول الملك في القيمة لا يوجب حق الإقسام، ولو كان على هذا معول، لأقيمت أم الولد ابتداء دون الورثة، ولكن القسامة تُثبت القتل؛ إذ هي من خصائصه، ولا حق للمستولدة حال أثبتنا للورثة القسامة، فليس يتحتم عليهم أن يحلفوا، وإن كانوا على بصيرة وعلم (4)، ولا تجب الأيمان قط. ولو ظن ظان أن في إقسامهم تنفيذَ وصية، وعليهم القيام بتنفيذها، كان ذلك كلاماً

_ (1) في الأصل: " الآن ". (2) في الأصل: " عرضاً ". (كذا تماماً). (3) في الأصل: " بغير القسمة ". (4) أي بحق مورّثهم في القيمة.

مضطرباً، فإن الذي على الورثة ألا يمنعوا ولا يمتنعوا، فأما أن يسعَوْا ويبذلوا من عند أنفسهم أمراً بالتنفيذ، فهذا غير محتومٍ عليهم. 10917 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو لم يقسم الورثة، لم يكن لهم ولا لها شيء إلا أيمان المدعى عليهم " (1) هذا لفظ الشافعي مست الحاجة إلى إيراده لتعلق الأصحاب به لاستتمام الكلام في المسألة: فإذا لم يقسم الورثة، وقلنا: لا تقسم أم الولد، أو قلنا إنها تقسم، فمن الذي يوجه اليمين على المدعى عليه، ويثبت له حق الانتصاب في مقام الدعوى والطلب؛ فإن القسامة وإن لم تجر، فالخصومة لا تتعطل؟ ظاهر النص أن لأم الولد الطلبُ، وللورثة الطلب، ونصُّ الشافعي في صدر الفصل يدل على أن أم الولد لا تقسم، وإن نكل الورثة عن القسامة، فليفهم الطالب هذين من كلام الشافعي. 10918 - وإذا ثبت هذا، عدنا إلى تصرف الأصحاب في الدعوى وتوجيه الطلب، قال طوائف من المحققين: الدعوى وتوجيه اليمين على المدعى عليه مأخوذ من القسامة، وقد قلنا: للورثة أن يقسموا، فلهم أن يطلبوا اليمين من المدعى عليه؛ فإنهم إذا تسلطوا على أيمان القسامة للعلّة التي ذكرناها، فلهم حق الدعوى وطلب اليمين لتلك العلة، هذا قولنا في الورثة. فأما أم الولد، فإن قلنا: إنها تقسم لو نكل الورثة، فيثبت لها حق الدعوى والطلب، [وإن] (2) قلنا: إنها لا تقسم، فليس لها حق طلب اليمين؛ فإن طلب اليمين إنما يثبت لمن نحلِّفه يمينَ الرد لو فرض نكول المطالَب، فإن قلنا: أم الولد لا تحلف، لم يكن لطلبها اليمين معنىً، فإنها لو طلبت، لنكل الخصم، ثم لا يُقضى بالنكول، ولا ترد اليمين. وإن قلنا: اليمين مردودة عليها، فينبغي أن تكون من أهل أيمان القسامة أيضاً. هذا مسلك الأصحاب.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 148. (2) في الأصل: " فإن ".

والمسلك الحق عندنا أنه يثبت حق الطلب لأم الولد، وهذا نصّ الشافعي، فإنه قال: " ليس لها ولا لهم إلا أيمان المدعى عليهم " وقد ذكرنا أن النص دال على أن أم الولد لا تقسم، فاقتضى مجموع ذلك أنها وإن كانت لا تقسم، فلها طلب اليمين من المدعى عليه، وتعليل ذلك من جهة المعنى أن القسامة مقصودها إثبات القتل، وهي من خواص القتل لا يثبت بها غيره، وأما إذا استقر الملك في القيمة، فادعته أم الولد بعد قبول الوصية، فإنما تدعي ملكاً لها محققاً، ولا حاجة في تجويز الدعوى إلى إثبات جهة الاستحقاق، ثم الوجه إذا جوزنا لها أن تحلّف المدعى عليه أن تردّ اليمين عليها إذا نكل المدعى عليه، وليس تحليفها يمين الرد بمثابة أيمان القسامة؛ لما أشرنا إليه من أن القسامة لا تُثبت إلا القتل، ويمين الرد يثبت الملك الناجز من غير حاجة إلى الالتفات على سابق. والذي يكشف الحق فيه أن الدعوى في الملك تُسمع مطلقة، ودعوى [الدم] (1) لا تسمع مع أيمان القسامة مطلقة، بل يجب التعرض في أيمان القسامة [للتفصيل] (2)، وإذاً الصحيحُ عندنا أن أم الولد تطلب يمين المدعى عليه، وإذا نكل، ردت اليمين [عليها] (3) ولا تعلق لهذا بالقسامة؛ فإن أيمان القسامة من خصائص القتل، وطلب يمين المدعى عليه والإقدام على يمين الرد بعد نكوله من أحكام الخصومات المتعلقة بالملك الناجز وهي المالك للقيمة. ثم من تمام الكلام في هذا أن من بنى حق طلبها على أنها تقسم، لزمه أن يقول: إنما تدعي المستولدة وتطلب اليمين إذا لم يطلب الورثة، حتى يترتب طلبها على تركهم، كما أنها لا تحلف أيمان القسامة ابتداء، وإنما تحلف إذا نكل الورثة، هذا لابد منه. وإذا قلنا: لها حق الطلب، وإن كانت لا تقسم، وهي الطريقة المرضية، فتبتدىء

_ (1) في الأصل غير مقروءة، والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط. (2) في الأصل: " للقتل ". والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط. (3) في الأصل: " عليهما ".

الطلب والدعوى من غير حاجة إلى انتظار إعراض الورثة [عن] (1) الطلب. 10919 - والذي يغمض في هذه الطريقة طلب الورثة ودعواهم، وليس الملك لهم، وقد ذكرنا أن هذه الخصومة متعلقها الملك الناجز، ولا ملك لهم، وإنما الملك للمستولدة، ولكن الشافعي رضي الله عنه نص على أن لهم أن يدّعوا ويطلبوا، واتفق الأصحاب على ذلك، وأنا أذكر وجهه بتوفيق الله. فأقول: دعواهم تصدر منهم على وجه لو أرادوا الإقسام لأقسموا، فإذا نكلوا، بطلت اليمين [لتتميم] (2) خصومة القسامة، فلهم أن يقسموا للخصومة، حتى لو كان القتل بحيث لا تثبت القسامةُ فيه، فيبعد حينئذ أن يثبت لهم ابتداء الدعوى إلا على تأويل السعي في تنفيذ الوصية، وتحصيل غرض الموروث، وهذا الطرف في نهاية الاحتمال؛ فإن الورثة إذا لم يقسموا في محل القسامة، وقلنا أم الولد لا تقسم، فقد قال الشافعي بعد ذلك: " لهم ولها أن يحلِّفوا المدعى عليه " وإذا فرض النكول عن أيمان القسامة، التحقت الخصومة بصورة لا قسامة فيها. هذا وجه، ويحتمل غيره وقد نبهنا على جميع المسالك. فصل قال: " ولو جرح رجل، فمات مرتداً ... إلى آخره " (3). 10920 - إذا جرح مسلم مسلماً، فارتد المجروح ومات، أو قتل مرتداً، بطلت القسامة هكذا نقل المزني، وهو صحيح، ولكنه اعتل بعلة فاسدة، فقال: بطلت القسامة، لأن ماله فيء، وهذا التعليل غير سديد، والقسامة لا تبطل [به] (4)، والمعنى المعتمد في إبطال القسامة أنه إذا مات مرتداً، فقد مات وروحه مهدرة غير

_ (1) في الأصل: " على ". (2) في الأصل: " بقية ". والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط، وذلك قوله: (فإذا نكلوا بطلت اليمين بالاستتمام لخصومة القسامة " (ر. البسيط: 5/ورقة: 103 يمين). (3) ر. المختصر: 5/ 148. (4) زيادة اقتضاها السياق.

محترمة، وإنما يجب الضمان بالجرح، والقسامة لا تجري في أروش الجراحات، فهذا تعليل بطلان القسامة. ولو جرح مسلماً، فارتد، ثم عاد إلى الإسلام ومات مسلماً من سراية الجراحة، فالقول في وجوب القصاص، ثم في وجوب الدية تقدم مستقصىً في أول الجراح. والقدر الذي تمس الحاجة إلى إعادته أنا إن أوجبنا القصاص في النفس، فلا شك في وجوب تمام الدية، ثم لا ريب في جريان القسامة، وإن لم نوجب القصاص، ففي كمال الدية خلاف، وإن لم نوجب الدية الكاملة، ففي مقدار ما نوجب خلاف. فإن أكملنا الدية، جرت القسامة في محلها على شرطها، وإن أوجبنا بعضاً من الدية، ففيما نقله بعض الأثبات عن القاضي أن القسامة لا تجري، وهذا صحيح عندنا، والوجه إجراء القسامة، لأن الواجب ضمان الروح، فإن أهدرنا البعض بسبب اقتضى الإهدار، فالذي أوجبناه هو في مقابلة الروح. وإن طلب طالب لما حكيناه عن القاضي وجهاً، فالممكن فيه أن القسامة تثبت مائلة عن سَنَنِ القياس، وإنما صح النقل فيها إذا كانت الروح محترمة مضمونة بكمالها، وإذا تطرق الإهدار، وكان البعض من الروح هدر، والبعض مضمون، وهذا غضٌّ ظاهر من حرمة النفس، فيلتحق هذا الضمان بالأطراف. فإن قيل: ماذا ترون في الكفارة في هذه الصورة؟ قلنا: الظاهر وجوب الكفارة؟ فإنا نقول: إذا اشترك جماعة في قتل إنسان، فيجب على كل واحد منهم كفارة تامة، وإن لم ينتسب إلى تمام القتل، فيجب أن يكون الأمر كذلك هاهنا، وقد يَفْصِل الفاصل بأن جملة الروح محترمة في مسألة الشركاء وتبعيضها عسر، وهاهنا جملة الروح ليست محترمة، وإيجاب الكفارة والحرمة غير تامة بمثابة تقدير الكفارة في الأطراف وهذا بعيد. والوجه إيجاب الكفارة. نعم، سنذكر قولاً بعيداً في أن الشركاء تلزمهم كفارة واحدة مفضوضة عليهم، فعلى هذا إذا تبعضت الدية إهداراً [وإيجاباً] (1)، أمكن أن

_ (1) في الأصل: " وانحارا " (كذا تماماً).

نقول على القول البعيد: يجب بعض الكفارة على قدر الواجب من الدية، وكل ذلك بيان الطرق، والأصل ما قدمناه. ولو جرح رجل مرتداً ثم أسلم، فجَرحَه بعد الإسلام جراحة أخرى، ومات من الجرحين، فالدية تتبعض، وفي القسامة من الكلام ما [تقدّم] (1) والكفارة تساوق القسامة في موجب هذه القاعدة، فلو قال قائل: إذا مات مسلماً، فهو محترم حالة ثبوت الموت، قلنا: [ومع ذلك يجب] (2) قسط من الدية، ولو لم يُجدّ (3) جرحاً بعد الإسلام، ومات من الجرح الذي جرى في الردة فهو هدر، وإن مات مسلماً [فهذا] (4) منتهى القول في ذلك. فصل (5) قال: " فإن جرح وهو عبد، ثم أعتق، ثم مات حراً ... إلى آخره " (6). 10921 - هذه المسألة تستند إلى أصولٍ: منها - إن القسامة هل تجري في العبيد، وقد قدمنا في ذلك قولين. ومنها - إن الأيمان هل توزع على المدّعين، أم يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً؟ وهذا سيأتي مستقصىً في بابٍ، إن شاء الله. ومنها - إن العبد إذا جرح فعَتَق، ثم مات، فكم يستحق السيد من ديته؟ وقد مضى هذا مستقصًى في كتاب الجراح. 10922 - فنعود ونقول: عبدٌ قطعت يدُه، ثم عَتَق ومات، فعلى الجاني ديةُ النفس؛ نظراً إلى [المآل] (7)، ثم إذا كانت الدية مثلَ نصف القيمة، أو أقل، فالكل للسيد، [ولا] (8) حق للورثة.

_ (1) مكان بياض بالأصل. (2) في الأصل: " وقع ذلك تحت ". (3) يُجدْ: من أَجدّ بمعنى استحدث. (4) سقطت من الأصل. (5) من أول هذا الفصل بدأ عندنا نص مساعد، هو (هـ 2). (6) ر. المختصر: 5/ 148. (7) في الأصل: " الحال "، والمثبت من (هـ 2). (8) في الأصل: " فلا "، والمثبت من (هـ 2).

فإن جرت الجناية مع اللوث، ومست الحاجة إلى إثباتها بأيمان القسامة، فالمذهب الظاهر أن السيد يقسم ويستحق. والأَوْلى في الترتيب أن نقول: إن أثبتنا للسيد حقَّ القسامة على عبده المقتول على رقه، فلا شك أنه يُقسم فيما نحن فيه، [وإن] (1) قلنا: لا يقسم السيد على عبده الرقيق، فهل يقسم إذا جرت الجناية في الرق وأفضت إلى الهلاك في العتق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يقسم؛ لأنه إنما يستحق بجهة الرق، فلا نظر إلى حصول العتق في المآل، ولو كان بالعتق معتبر، لقطعنا استحقاقه؛ فإن السيد يبعد أن يستحق من دية حرٍّ بحق الرق السابق، وإن أثبتنا الاستحقاق، كان ذلك استدامةً لحكم الرق، فتكون القسامة على هذا الشخص بمثابة القسامة على العبد القِنّ. ومن أصحابنا من قال: يقسم؛ فإن القتيل حر، ثم لا نظر إلى السبب الذي به يستحق المولى ديته، وإنما الاعتبار بالحال التي مات عليها. وهذا التردد للأصحاب يشير إلى غامضة في المذهب قد تناهينا في بيانها، وهي أن الواجب دية، والدية بدل حر، والرق قد زال بالعتق، [وأخْذ] (2) أرش جزء من الرقيق من [دية] (3) حر مشكلٌ، والقدر الذي يتعلق بهذا الكتاب ما أتينا به، والباقي مذكور في موضعه من كتاب الجراح. هذا إذا كانت الدية مثل أرش الجناية على الرقيق أو أقل منها، [والتفريع] (4) على أصح القولين فيما للسيد، فلا معنى للتطويل بذكر القول الآخر. 10923 - ولو كانت الدية أكثرَ من حق السيد، فالفاضل من حق السيد مصروف إلى ورثة هذا العتيق، والتفريع على أن السيد يقسم، والورثة لا شك يقسمون، وينشأ من هذا الموضع اختلاف القول في أن كل واحد منهم كم يحلف؟ وفيه قولان: سيأتي ذكرهما في بابٍ مفرد: أحدهما - أن كل واحد يقسم خمسين يميناً، قلّت حصته أو

_ (1) في الأصل: " إن " بدون الواو. (2) في الأصل: " فآخر "، والمثبت من (هـ 2). (3) في الأصل: " ديته ". (4) في الأصل: "فالتفريع".

كثرت، والقول الثاني - أنهم بجملتهم يقسمون خمسين يميناً، وسيأتي كيفية الفضّ وما يقتضيه من بيان. ولو نكل بعض من أثبتنا له حقَّ القسامة عن اليمين، فإن كان التفريع على أن كل واحد يحلف خمسين يميناً، فلا إشكال، ويحلف من يريد خمسين يميناً، ويستحق حصته، وإن قلنا: نفُضُّ خمسين يميناً عليهم، فإذا نكل بعضهم، فأراد الباقون أن يقتصروا على ما كان بحصتهم من أعداد الأيمان لو توافقوا على الإقسام، لم يكن لهم ذلك، بل إن أرادوا إثبات حصصهم، فليُخرجوا الناكلَ من الاعتبار، ولْيحلفوا فيما بينهم خمسين يميناً، حتى لو نكل الورثة وأراد الولي أن يقسم، فليقسم خمسين يميناً؛ [فإنه] (1) لا سبيل إلى إثبات استحقاق شيء من بدل الدم بدون الخمسين، وكل ذلك يأتي مشروحاً من بعدُ، إن شاء الله عز وجل. فاصل قال: " ولو لم يقسم الولي حتى ارتد ... إلى آخره " (2). 10924 - الولي إذا ورث دية القتيل، ثم ارتد، فأراد أن يقسم وهو مرتد، فهذا ينبني على أقوال ملك المرتد، فإن قلنا: ملك المرتد لا يزول بالردة، وإنما يزول إذا قتل أو مات مرتداً، فيُقسم في ارتداده، وتثبت الدية. وإن قلنا: ملكه زائل، فإذا عاد إلى الإسلام، تجدد ملكه بعد الزوال، فلا يتصور منه أن يقسم في ردّته. وإن فرعنا على أن ملكه موقوف، والشافعي في معظم مسائله يفرع على قول الوقف، وظاهر النص أنه يحلف، ثم إن عاد، فالملك [له] (3) في الدية، فإن أصر "حتى مات أو قتل على ردته، تبينا أن ماله فيء، وصرفنا الدية مع جميع أمواله إلى أهل الفيء.

_ (1) في الأصل: " وإنه ". والمثبت من (هـ 2). (2) ر. المختصر: 5/ 148. (3) زيادة في (هـ 2).

وهذا فيه إشكالان: نبدأ بأوقعهما - ظاهر النص يدل على أن الدية تثبت لأهل الفيء بأيمان المرتد، وهذا إن كان تفريعاً على قول الوقف، فهو مشكل جداً؛ فإنه إذا مات مرتداً، تبيّنا أن ملكه زال بنفس الردة، والأيمان التي أجراها في الردة وقعت بعد زوال ملكه، فيبعد كل البعد أن تثبت الدية لأهل الفيء بأيمانه، وظاهر النص يدل [على] (1) التفريع على قول الوقف؛ فإنه إذا ارتد وأقسم [وُقفت] (2) الدية، ثم ذكر مصرف الدية في [العاقبتين] (3). فمن أصحابنا من قال: هذا تفريع من الشافعي على أن الملك لا يزول بالردة، وقوله: وُقفت الدية محمول على حجر السلطان على المرتد، وإن قلنا: لا يزول ملكه والعلماء يطلقون الوقف، ويريدون به ضرب الحَجْر، فتستمر المسألة، وتخرج على سَنَن القياس في العاقبتين: عاد إلى الإسلام أو مات على الردة. ومن أصحابنا من أجرى هذا على قول الوقف، ثم حاول الانفصال عن الإشكال، فقال: الولي وإن ارتد، فهو الوارث أولاً، والقسامة تستند إلى حالة القتل، [وليست] (4) خصومة ناجزة، ويشهد لهذا قولنا: للورثة أن يقسموا على قيمة العبد المقتول، وإن كانت موصى بها لأم الولد. وهذا على حالٍ مشكل؛ فإن ما قدمناه في ورثة السيد محمول على سعيهم في تنفيذ وصيته، ويبعُد حملُ الأيمان للمرتد على تثبيت شيء لأهل الفيء. هذا أحد الإشكالين. 10925 - الثاني أنه لو أقسم -والتفريع على قول الوقف- ثم عاد إلى الإسلام، فقد يعترض في هذه الحالة أنا إذا كنا نفرع على قول الوقف، فكيف يجوز للمرتد أن يقدم على القسامة، وهو على التردد في أنه مالكٌ للدية أم لا؟ وهذا أهون.

_ (1) في الأصل: " في ". والمثبت من (هـ 2). (2) في الأصل: " وقعت ". والمثبث من (هـ 2). (3) في الأصل: " القياس ". والمثبت من (هـ 2). (4) في الأصل: " والسبب ".

والأصحاب مجمعون [فيما] (1) أظن على أنه يقسم في حالة الردة ولا بُعد في جريان الأيمان على التردد في الاستحقاق، وسيأتي لهذا نظائر في إقسام الورثة وفيهم [خنثى] (2) أو بعضهم غُيّب، فإنا قد نحلّف الشخص خمسين، وهو على تردد في استحقاق بعض ما أقسم عليه، والأمر على الجملة محمول على استدامة ملكه، وعدّ الردة الطارئة عارضاً مُزالاً بالسيف؛ فإن المرتد [لا يترك على إصراره] (3). وسيكون لنا إلى هذا عودة إن عدنا لما [استشهدنا] (4) به من أحكام الورثة. [فصل] (5) قال: " والأيمان في الدماء مخالفة لها في الحقوق ... إلى آخره " (6). 10926 - قد ذكرنا [اختلاف] (7) القول في أن القتل إذا لم يكن مقترناً بلوثٍ ظاهر، واقتضى الحال البداية بالمدعى عليه، فإنا نحلّفه يميناً واحدة، أو خمسين يميناً؟ فأحد القولين أنا نحلّفه [خمسين يميناً] (8)، تغليظاً لأمر الدماءِ، وتفخيماً لشأنها على أي وجه فرضت البداية، فإنا إن كنا نرى التغليظ على المدعي إذا وقعت البداية به احتياطاً حتى [لا يقدم] (9) على الأيمان مجازفاً، فيجب أن نحتاط للدماء في تحليف المدعى عليه؛ حتى لا يُقدم على اليمين الواحدة مستهيناً بها، وقد نص الشافعي على هذا القول هاهنا. والقول الثاني - أن اليمين الواحدة كافية، والعدد في أيمان القسامة في مقابلة إمالتنا

_ (1) في الأصل: " عما ". والمثبت من (هـ 2). (2) في الأصل: " حي ". (3) في الأصل: " لا ينزل على إقراره "، والمثبت من (هـ 2). (4) في الأصل: " استشهدا "، والمثبت من (هـ 2). (5) غير موجود بنسخة الأصل. وهو في (هـ 2). (6) ر. المختصر: 5/ 148. (7) زيادة من (هـ 2). (8) في الأصل: " يميناً واحدة ". والمثبت من (هـ 2). (9) في الأصل: " لا يغرم ".

للأيمان عن منصبها وجانبها الثابت في الحكومات، فإذا جرت الأيمان على قياس الخصومات، [فلا] (1) معنى لتعديدها، فإن عدد اليمين قريب من عدد الإقرار، وقد ذكرنا أن الأقارير لا يشترط تعددها، وقد يتوجه هذا أيضاً بأن العدد في أيمان القسامة مأخوذ من النصّ معدول عن القياس، ولا يتعدى بها موضعها. 10927 - ومما ذكره الأئمة أن المدعى عليه لو اعترف بالقتل وأنكر كونه عمداً وأقر بصَدَر القتل منه خطأ أو على صورة شبه العمد، فإذا أراد المدعي تحليف المدعى عليه على نفي العمد، فهل تتعدد الأيمان؟ قالوا: إن قلنا: لا تتعدد اليمين على أصل القتل، فلا تتعدد على صفة القتل، وإن قلنا: اليمين تتعدد على أصل القتل لو أنكره، ففي تعدد اليمين في صفة القتل وجهان؛ فإن الموصوف آكد وأحرى بالتعظيم من الصفة. وهذا فن من الكلام لا أرغب فيه ولا أقيم لمثله وزناً؛ فإن الصفة إذا كانت تُثبت القصاص لو ثبتت، فقدرها عظيم، وأصل القتل لو ثبت خطأ، فماَله الدية والكفارة، ولو اعترف المدعى عليه بالقتل، وقلنا: القود [يناط] (2) بأيمان القسامة، وقد جرى اللوث مقترناً بالقتل، فلا خلاف أن المدعي يقسم خمسين يميناً على إثبات كون القتل عمداً، فإن قيل: كيف يقوم اللوث على العمد؟ قلنا: وهل يقوم اللوث إلا على العمد؟ ثم إذا كان يقسم على أصل القتل وكونه عمداً، فإقرار المدعى عليه بالقتل [وادعاء] (3) الخطأ لا يمنعه من الإقسام، وهذا بيّن لا خفاء به. فإن لم يكن لوثٌ وقد اعترف المدعى عليه بالقتل خطأ، فإن اعترفت العاقلة [أيضاً] (4) فالدية مضروبة عليهم، وإن أنكروا، فالدية مضروبة على المدعى عليه في ماله، فلو أنكر الدعوى ولم يقر، وعرضنا عليه اليمين فنكل، ورددنا اليمين على

_ (1) في الأصل: " ولا ". والمثبث من (هـ 2). (2) في الأصل: " نشاط ". (3) في الأصل: "ادعاه ". (4) زيادة من (هـ 2).

المدعي [فحلف] (1) يمين الرد، فالدية تثبت. والمسألة مفروضة فيه إذا كان المدعَى خطأً. 10928 - ثم الدية تضرب في مال المدعى عليه، أو على عاقلته؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: في المسألة قولان مبنيان على أن يمين الرد تنزل منزلة البينة أو تنزل منزلة إقرار المدعى عليه، فإن قلنا: إنها كالبينة، فالدية مضروبة على العاقلة، كما لو شهدت بينة عادلة على وقوع القتل خطأ، وإن قلنا: يمين الرد بمثابة إقرار المدعى عليه، فالدية مضروبة على المدعى عليه إذا أنكرت عاقلته، كما لو أقرّ. هذه طريقة أيضاً مشهورة. والذي ذهب إليه المحققون أن الدية لا تضرب على العاقلة، وإن قلنا: يمين الرد تنزل منزلة البينة؛ والسبب فيه أن يمين الرد لا يجوز أن تقدّر مشبهة بالبينة في حق [غير المستحلَف] (2)، وسر ذلك أن الخصومة لا تعلق لها بالعاقلة، فيبعد تنزيل غير البينة منزلة البينة في حقوقهم، ولا يمتنع أن يكون المدعى عليه عالماً بأنه لو أقر، لضربت الدية على ماله، [فينكر] (3)، ثم ينكل ليحلف المدعي يمين الرد، فيكون ذلك تذرعاً منه إلى ضرب العقل على العاقلة من غير بينة حقيقية، مع إصرارها على الإنكار. فإن قيل: إذا كنتم [ترون] (4) أن يمين الرد لا يكون كالبينة في حق العاقلة، فهل لتنزيلها منزلة البينة حكم؟ وهل ينتج ذلك فائدة؟ قلنا: نعم، سنبين ذلك في الفصل المتصل بهذا؟ فإذ ذاك نجمع بين ما أنكرناه الآن وبين ذكر الفائدة. 10929 - ثم قال الشافعي: " وسواء في النكول المحجور عليه وغير المحجور عليه ... إلى آخره " (5). أراد الشافعي بالمحجور عليه السفيه الذي اطرد الحجر عليه. فنقول: إقراره

_ (1) في الأصل: " يحلف ". (2) في الأصل: " المستحان ". والمثبت من (هـ 2). (3) في الأصل: " فينكل ". (4) في الأصل: " ترتضون ". (5) ر. المختصر: 5/ 149.

بموجبات العقوبات من القصاص والحدود مقبول، كإقرار المطلَق الرشيد. ولا يقبل إقراره بالأموال في المعاملات، وفي قبول إقراره بإتلاف الأموال قولان، وقد ذكرنا ذلك معقوداً مجملاً، ثم مبيّناً مفصلاً في كتاب الحجر، وإنما أعدنا هذا [الطرف] (1) لغرض سنوضحه، إن شاء الله. وقال العراقيون: إقراره بديون المعاملات مردودة في الحال، وبعد انطلاق الحجر عنه، فلا [يؤاخذ] (2) به إلا أن يجدد بعد الرشد إقراراً. وإقراره بالإتلاف على قولين: فإن لم نقبله في الحال، فإذا انطلق الحجر عنه، فهل يؤاخذ به؟ فعلى قولين. وهذا كلام ركيك، فإنه لو كان يؤاخذ إذا رشد، لكان مؤاخذاً به في سفهه؛ فإن المطلوب حقه في السفه والرشد. فلو ادعى ماع على السفيه قتلَ خطأٍ، فأنكر، فعرضنا اليمين عليه، فنكل وحلف المدعي يمين الرد، فإن قلنا: إن إقراره بالقتل خطأً مقبولاً، فلا شك أنه يثبت عليه، والدية مأخوذة من ماله إذا لم تعترف العاقلة. وإن قلنا: لا يقبل إقراره في القتل الواقع خطأ، فهل يثبت القتل بيمين الرد أم لا؟ قال الأصحاب: هذا يخرج على أن يمين الرد بمثابة الإقرار أو بمثابة البينة: فإن أحللناها محل الإقرار، [لم] (3) نثبت القتل بها، فإن التفريع على أن القتل لا يثبت بإقراره إذا كان خطأ؛ [فإنه] (4) في معنى إتلاف المال. وإن قلنا: يمين الرد ينزل منزلة البينة، فالقتل خطأ يثبت على المحجور. 10930 - وهذا أوان الوفاء بما وعدنا من تحقيق هذين القولين وإبانة فائدتهما، فنقول: القولان جاريان في حق المحجور؛ فإن يمين الرد يجوز أن تكون حجة في

_ (1) في الأصل: "الفرق ". (2) في الأصل: " مؤاخذة ". (3) في الأصل: " ولم ". والمثبت من (هـ 2). (4) زيادة من (هـ 2).

حق المدعى عليه؛ فإن الخصومة متعلقةٌ [به] (1)، وفي هذه الصورة بعينها يبعد أن تضرب الدية على العاقلة مصيراً إلى أن يمين الرد كالبينة، وقد صار صائرون إلى تخريج الضرب على العاقلة على القولين، وهذا هو الذي زيّفه المحققون، فقد لاح الغرض في هذه الصورة لاشتمالها على مدعى عليه يحلف، ولا يقبل إقراره [على] (2) العواقل الذين لا تتعلق الخصومة والطلب بهم، فجرى القولان في حق المحجور عليه، واضطرب الأصحاب في حق العاقلة. فإن قيل: إذا كنا لا نقبل إقرار المحجور عليه، [فلم] (3) نحلّفه؟ قلنا: إقراره [غير] (4) مقبول بالاتفاق، والتحليف تحقيق الإنكار، وقد يستفيد [بحلفه] (5) انقطاعَ الخصومة عنه. ثم إذا اقتضت هذه المقدمات عرضَ اليمين عليه، فللعرض عاقبتان: إحداهما - الحلف والأخرى -النكول- فيبعد أن تثبت إحداهما دون الأخرى- والوكيل بالخصومة، كان من أهل الإنكار، وقد يكون إنكاره سبباً لثبوت الحق، إذا كان القاضي لا يقبل الشهادة إلا مترتباً على إنكارٍ مقبول، [ولكن لا نظر] (6) إلى هذا، فإن قاعدة الخصومة الإنكار، ثم ينشأ من نكول المحجور عليه التردد في أن يمين الرد هل تكون كالبينة أم لا؟ هذا منتهى القول في ذلك، وهو طرف لم نجد بداً من ذكره، وأصلُه وقاعدتُه تأتي على الاستقصاء في الدعاوى والبينات -إن شاء الله عز وجل- نعم، إن قلنا: يمين الرد بمثابة الإقرار، فتعرض اليمين على المحجور عليه عساه يحلف، وإن نكل، لم ترد اليمين على المدعي، لأنه لا فائدة في الرد؛ إذ لو حلف يمينَ الرد، لم يستفد بها

_ (1) سقط من الأصل. (2) في الأصل: " وعلى ". (3) في الأصل: " ولم ". (4) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين. (5) في الأصل: " تحليفه ". (6) في الأصل: " ولا يطرد ".

شيئاً، ثم إذا قلنا: لا ترد اليمين، فهل [يحلف] (1) المحجور عليه؟ ما ذهب إليه أهل التحقيق أنه [لا يحلّف] (2)، إذ لا يستفيد المدعي [بتحليفه] (3) فائدة، فلا معنى في تحليفه؟ من أصحابنا من قال: الحق للمدعي، فإن قنع بيمينه، فلا معترض، وإن لم يُرد تحليفَه، فلا حرج عليه. والظاهر أنه إنما يحلف إذا قلنا: إنه يقبل إقراره، أو قلنا: يمين الرد كالبينة، فأما إذا لم يقبل إقراره، ولم نجعل يمين الرد بمثابة البينة، فالتحليف [ملغى] (4) لا فائدة فيه، ولا أصل له. ثم ذكر المزني (5) طرفاً من المحاجّة بين الشافعي وأصحاب أبي حنيفة في قاعدة القسامة، ولسنا له. ...

_ (1) في الأصل: " يعرف ". (2) في الأصل: " يختلف ". (3) في الأصل: " تحليفه ". (4) في الأصل: " لمعنى ". (5) ر. المختصر: 5/ 149.

باب ما ينبغي للحاكم أن يفعله

باب ما ينبغي للحاكم أن يفعله قال الشافعي رضي الله عنه: " وينبغي أن يقول: من قتل صاحبك ... إلى آخره" (1). 10931 - مقصود هذا الباب فنٌّ واحد من الكلام، وهو أن المدعي للقتل إذا أتى بالدعوى تامة متعلقة بمتعيّن مشتملة على كمال الوصف المرعي في الدعوى، فالدعوى مسموعة، [ومن الأوصاف] (2) المرعية بعد تعيين المدعى عليه أن يذكر كون القتل عمداً أو خطأً، وإن وصفه بكونه عمداً يذكر صفة العمد، ويذكر انفراد المدعى عليه بالقتل إن كان يدعي ذلك [فإذا صحت] (3) الدعوى، قبلها القاضي، وبنى عليها ما يقتضيه ترتيب الخصومة. وإن لم يأت الخصم بدعوى تامة، ففي كلام الشافعي ما يدل على أن القاضي يستوصفه، حتى إذا قال: قُتل أبي، يقول له: من قتله؟ فإذا عين القاتلَ، قال له: أقتل عمداً أو خطأ؟ فإن ادعى العمدَ، استوصفه، فإن أحسن وصف العمد، قال له: انفرد بالقتل، أم يشاركه غيره؟ فلا يزال يستفصل حتى يُفضي إلى دعوى صحيحة. وهذا في ظاهره تلقينُ الدعوى، وفي هذا إشكال، فإن العقوبات على الدرء، والمدافعةُ أليق بدرئها من الاستنطاق بالدعوى الشديدة التي قد تفضي بما بعدها إلى ثبوت الدم. 10932 - وقد اضطرب الأصحاب في هذا، فصار صائرون إلى الجريان على النص، وقالوا: ما يذكره القاضي استفصال، وليس تلقيناً، وإنما التلقين أن يقول:

_ (1) ر. المختصر: 5/ 149. (2) زيادة من (هـ 2). (3) في الأصل: " فاصحت ".

قل كذا وكذا، والذي يوضح ذلك أنه إذا استفصل، فقد يُفسد المدعي دعواه بتفصيله، إذا لم يبيّن له وجه الصحة والفساد، ولو لم يستفصل وأطلق المدعي الدعوى، فرَدُّ دعواه مع إمكان صحتها بعيدٌ. هذا مسلك. وقال قائلون: إن لم يكن المدعي [غبيّاً]، (1)، فلا يتعرض القاضي له حتى يتم الدعوى، وإن كان غبيّاً، فله أن يستفصل، فإن غباوته لو ترك، لانتصبت سبباً في إبطال حقه؛ فإنه لا يدري ما تصح به الدعوى، فإذا ردت دعواه مطلقاً، نبا (2) عن حقه، وأفضى رد الدعوى إلى نِفاره، وإشكال الأمر عليه، من حيث لا يدري محيصاً. وقال قائلون من أصحابنا: ليس للقاضي أن يستفصل أصلاً. وهذا يخالف النص، فلا يعتد به. وقال قائلون: إن أشار المدعي إلى جمع فقال: قاتل أبي منهم، فقال له القاضي: من قتله منهم؟ وإن لم يكن كذلك لم يستفصل. وكل ذلك خبطٌ، والوجه الجريان على النص، والدليل عليه أن صاحب الواقعة لو جاء مستفتياً، وسأل عما تصح به الدعوى، فلا نغادر المعنى بياناً وإن كان ذلك تلقيناً للدعوى، أو تعليماً لتصحيحها، فهذا ما يجب الجريان عليه. ولكن لا يليق بأدب القضاء أن يعلَّم [المدعي] (3) كيفية الدعوى بأن يقول: قل: كذا وكذا، ولا يليق بمصلحة الحال أن يسكت حتى يتخبط، بل يستفصل ليعلَمَ، لا ليعلِّم. ولو ذكر المدعي أن القتل عمد، فلما استوصفه القاضي العمدَ، ذكر ما لا يكون عمداً، [بطل دعواه في العمد، وهل تبطل] (4) دعواه في أصل القتل؟ اختلف أصحابنا

_ (1) في الأصل: " غافلاً ". والمثبت من (هـ 2). (2) نبا عن حقه: بعد عنه، ولم يصل إليه. (3) في الأصل: " القاضي ". والمثبت من (هـ 2). (4) زيادة من (هـ 2) سقطت في الأصل، ومكانها " فتبطل ".

في المسألة: فمنهم من قال: بطلت دعواه [لتناقض القول فيها، ومنهم من قال: دعواه] (1) في أصل القتل مسموعة؛ فإن التناقض جرى في صفة القتل، لا في أصله. 10933 - ومما يجب التعرض له في الدعوى اتحاد المدعى عليه، أو وقوع القتل [على] (2) اشتراك، فإن ذكر أنه قتل أباه وحده، صحت الدعوى، وإن ذكر أنه يُشارك جماعةً ولم يحصرهم، فإن كان المقصود المال، لم تقبل الدعوى، وقد تقدّم ذكرُ هذا، وإن كان المقصود القصاص، فالدعوى مسموعة إذا ذكر أن المشتركين عامدون على الحد المعتبر [في العمد] (3) الموجب للقود. هذا هو المذهب الصحيح. ومن أصحابنا من لم يسمع الدعوى، وإن كان المقصود القصاص؛ [فإن الأمر قد يؤول إلى المال. وهذا الوجه ضعيف] (4)، وقد أوضحته من قبلُ، وإذا جرى التحليف قبل صحة الدعوى لسهوٍ من الحاكم، فاليمين مردودة، وإن أتى في اليمين بما تصح الدعوى به؛ لأن صحة اليمين مشروطة بتقدم الدعوى الصحيحة، وهذا بيّن. ...

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 2). (2) في الأصل: " إلى ". والمثبت من (هـ 2). (3) سقطت في الأصل. (4) زيادة من (هـ 2).

باب عدد الأيمان

باب عدد الأيمان قال الشافعي رضي الله عنه: " ويحلف الورثة على قدر مواريثهم ... إلى آخره " (1). 10934 - إذا وقعت البداية بالمدعي في [أيمان] (2) القسامة، فإن اتحد المدعي حلف خمسين يميناً، وإن تعدد المدعون، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً، قلّت حصته، أو كثرت. والقول الثاني - أنا نوزّع عليهم خمسين يميناً، وعلى (3) أقدار حصصهم في الدية لو ثبتت، وهذا هو الذي نص عليه الشافعي، وفرّع مسائل الباب عليه. توجيه القولين: من قال: يحلف كل واحد خمسين يميناً، احتج بأن قال: لا يثبت الدم إلا بخمسين يميناً، فلو حلف كل واحد بعضَ الأيمان، لاستحق حصته بأيمان نفسه، وأيمان صاحبه، وهذا بعيد في قواعد الخصومة؛ فإن الإنسان لا يستحق بيمين غيره شيئاً، والذي يحقق هذا أنه لو نكل أصحابه، لاحتاج إلى أن يحلف خمسين يميناً، ولا يكفيه في إثبات حصة نفسه أعداد من الأيمان دون الخمسين، فإذا كان كذلك، فأيمان الورثة أثبتت له إذاً مع أيمانه حصته، [وهذا خروج] (4) بالكلية عن القياس المرعي. ومن قال: [نفُض] (5) الأيمان عليهم، احتج بأن المدعي لو كان واحداً، لكفت خمسين يميناً، فإذا تعددوا، فإضافة الاستحقاق إليهم، كإضافته إلى واحد.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 149. (2) في الأصل: " إبجاب ". (3) كذا (بالواو) في النسختين، ووجهها على تقدير تكرار الفعل (نوزع). (4) زيادة ليست في الأصل. من (هـ 2). (5) في الأصل: " بعض ".

وهذا لا حاصل له، والذي أعتقده على مبلغ إحاطتي بتصرف الشافعي أنه عوّل في هذا على الحديث، فإنه عليه السلام قال: " تبرئكم اليهود بخمسين يميناً "، وهذا يشعر بتعددهم مع اعتبار عدد الخمسين في جانبهم، وقد نص الشافعي على تعدد الأيمان في جانب المدعى عليه، ولا تعلق بقوله: " تحلفون خمسين يميناً "، فإن الوارث فيهم كان واحداً، وإنما خاطبهم على الاعتياد. وعلى حالٍ في الحديث تعلُّقٌ، ومن [يزلّ] (1) عنه، لم يجد مضطرباً في المعنى. فإن قلنا: يحلف كل واحد خمسين يميناً، فلا إشكال ولا تفريع. 10935 - وإنما تتفرع مسائل الباب على القول الثاني، فلا عود إلى القول الأول. فأول ما نذكره أن القتيل إذا خلّف ابنين مثلاً، والتفريع على توزيع الأيْمان، فيحلف كل واحد منهم خمساً وعشرين يميناً، فإن نكل أحدهما، وأراد الثاني أن يحلف، فليحلف خمسين يميناً، ثم لا يثبت إلا حصته. فإن أراد صاحبه أن يكتفى بأيمانه، ويطلب حصته، لم يكن له ذلك، وهذا يُضعف هذا القولَ، كما نبهنا عليه. ولو أراد قسمةَ اليمين، [فجرّت القسمة كسراً] (2) مثل أن يخلّف القتيل ابناً وبنتاً، فالابن يحلف ثلثي الخمسين، وثلثا الخمسين على تعديل الجزئية ثلاثة وثلاثون وثلث، ولكن اليمين لا تتبعض، فلا بد من جبر الكسر، ولا سبيل إلى إسقاطه؛ فيحلف الابن أربعة (3) وثلاثين يميناً والبنت يخصها من جهة التجزئة ستة عشرَ يميناً وثلثاً؛ فتحلف سبعةَ عشرَ، هذا لا بد منه. ولو كثر عدد الورثة فبلغوا مائة، فلا بد من تحليف كل واحد منهم يميناً، إذا استوت حصصهم.

_ (1) في الأصل: " بدل ". (2) في الأصل: " فجرى في القسمة كسراً "، والمثبت من (هـ 2). (3) المنصوص فيما رأيناه من كتب اللغة أن اليمين مؤنثة، ولكن ما رأيناه في المخطوط الجري على التأنيث حيناً، والتذكير غالباً، وقد اتفقت النسختان على ذلك، ولذا آثرنا التنبيه وعدم التعديل.

ولو كان القتيل امرأة وقد خلفَها ابنٌ، وزوجٌ، فالزوج يخصه اثنا عشر يميناً ونصف فيحلف ثلاثة عشرَ يميناً، والابن يخصه سبعة وثلاثون ونصف، فيحلف ثمانية وثلاثين، وعلى هذا البابُ وقياسُه. والغرض الإحاطة بوجوب جبر الكسر الواقع في أعداد الأيمان إذا قسمت. ولو كان الورثة جدّاً، وأخاً لأبٍ وأمٍ، وأختا لأبٍ وأم، فالمال بينهم من خمسة للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم (1) فيحلف الجد [خُمْسَي] (2) الأيمان، وكذلك الأخ، وتحلف الأخت خُمسَها. ولو كان في المسألة جد، وأخت لأبٍ وأمٍّ، وأخ لأب، فهذا من صور المعاداة والأخ [يفوز] (3) فيه بالعشر، هكذا يقع تقدير القسمة بالمعاداة (4)، وتكميل النصف

_ (1) هذه المسألة من صور ميراث الجد مع الإخوة، حيث لا أصحاب فروض معهم، وحكمها أن الجد له الأحظ من مقاسمة الإخوة كأخ ذكر، للذكر مثل حظ الأنثيين تعصيباً، ومن ثلث التركة كلها فرضاً، أي أن الجد يختار بين أن يقاسم الإخوة تعصيباً، وبين الثلث فرضاً، ويتقاسم الإخوة فيما يبقى (بعد ثلث الجد) إن اختار الجد ذلك. وطبعاً الجد يختار الأحظّ له. وفي هذه الصورة نجد أن الأحظ للجد هو المقاسمة، فيصير للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم: للذكر مثل حظ الأنثيين. وصورة المسألة بالحساب هكذا جد أخ شقيق أخت شقيقة = الأصل. 2 2 1 = 5 (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: " يعود ". والمثبت من (هـ 2). (4) المعاداة والمعادة: بمعنى احد، وهي من اصطلاحات علماء الفرائض في ميراث الجد مع الإخوة، ويعنون بالمعاداة أن الإخوة الأشقاء يعادون الجد بالإخوة لأب، فيعدونهم ويحسبونهم على الجد، ويثبتون لهم نصيباً، ثم يعود الأشقاء فيأخذون هذا من الإخوة لأب، ويحجبونهم. والفقه في ذلك هو أن مناط إرث الجد والإخوة هو الإدلاء بالأب، فالجد يدلي به إلى الميت، وكذلك الأشقاء والإخوة لأب، فكلهم يدلون إلى الميت بالأب، ويتساوَوْن في القرابة، ولذلك يثبت للإخوة لأب نصيبُهم، حيث يثبت للأشقاء نصيبُهم، ويأخذون حكمهم. ولكن يعود الإخوة الأشقاء -بعد أن يعدّوا الإخوة لأب على الجد- إلى القاعدة العامة في الحجب فيحجبون الإخوة لأب وينتزعون منهم ما ثبت لهم، مثال ذلك: إذا كان في المسألة:=

للأخت بعد تقدير القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين، فتقع القسمة من عشرة للجد خمسان: أربعة، وللأخت النصف: خمسة، وللأخ سهم، فيحلف الجد خُمْسي الأيمان، والأخ نصفَها والأخ عشرها؛ فإن الأيمان توزع على نسبة القسمة التي تستقر بها الحصص، ولا تقع الأيمان على تقدير القسمة أولاً. 10936 - فلو كان في الورثة خنثى فيحلف كل واحد من الورثة على أكثر ما يتوهّم [أنه يستحقة] (1) من الدية، ويعطى أقل ما يتوهم أنه يستحق منها؛ أخذاً بالاحتياط في [البابين] (2). وبيان هذا بالأمثلة أنه لو خلّف القتيل ولداً خنثى، وأخاً من أب، فيحلف الخنثى خمسين يميناً، لاحتمال أن يبين ذكراً، ويعطى نصف الدية؛ لاحتمال أن يكون أنثى، والأخ لا توجه عليه اليمين، ولكن الخيار إليه، فإن حلف خمسة وعشرين يميناً في الحال، وقفنا نصف الدية، فإن [بان] (3) الخنثى ذكراً أخذه بالأيمان السابقة، والأخ ساقط، وإن [بان] (3) الخنثى أنثى، أخذ الأخ النصف [الموقوف بالأيمان التي

_ =جد وأخ شقيق، وأخت لأب، فالأحظ للجد المقاسمة، فيكون للجد سهمان، وللأخ الشقيق سهمان، وللأخت للأب سهم، هذا بالمعادة، ثم يعود الأخ الشقيق فينزع من الأخت للأب سهماً (لأنه يحجبها) فتصبح الأسهم: اثنان للجد، وثلاثة للأخ الشقيق. (ر. فريضة الله في الميراث والوصية - للمحقق: ص 97 - 120) وفي المسألة التي معنا يكون للأب سهمان، وللأخت الشقيقة سهم، وللأخ لأب سهمان، فتصح المسألة من خمسة، ثم تعود الأخت الشفيقة لتأخذ من الأخ لأب ما يكمل نصيبها إلى النصف، لأنها لا تحجب الأخ لأب، ولذا تستكمل نصيبها نصف المال، فنصحّح المسألة، فتصير الأسهم عشرة للجد خمساها -كما كان لا يتغير- 4 أسهم، وللأخت نصف المال: 5، فيبقى للأخ لأب سهم. وصورتها بالحساب هكذا: جد أخت شقيقة أخ لأب 2 1 2 الأصل الذي تصح منه:5 تستوفي الأخت نصف المال: 4 5 1 الأصل المصحح: 10. (1) زيادة ليست في الأصل. (2) في الأصل: " الناس ". (3) في الأصل في الموضعين (كان) ومثلها (هـ 2). والمثبت من المحقق.

سبقت، ولا يحتاج إلى إعادة يمين. هذا إن أراد الأخ أن يحلف، فإن لم يرد أن يحلف، لم ينزع نصف الدية من مال المدعى عليه؟ فإذاً الوقف ثابت في نصف الدية، ولكن إن حلف الأخ خمسة وعشرين يميناً أخذ ذلك النصف] (1)، ووُقف، وإن لم يحلف، لم يؤخذ ذلك النصف. فإن قيل: [هلا] (2) قلتم: يؤخذ النصف بأيمان الولد الخنثى، فإنه حلف خمسين يميناً، قلنا: يجوز أن يكون أنثى وإنما حلف خمسة وعشرين يميناً بحق، والباقي فضلةٌ منه غير معتد بها، وانتزاع المال من يده لا يثبت إلا بحجة، وإنما يعلم قيام الخمسين يميناً حجة في الواقعة إذا حلف الأخ خمسة وعشرين. فإن قيل: فلو حلف الخنثى خمسة وعشرين، وحلف الأخ خمسة وعشرين، فاكتفوا بهذا؟ قلنا: قد يكون الخنثى ذكراً، فتقع أيمان الأخ لاغية، ووضوح ذلك يغني عن بسطه. ولو كان الوارث ابناً، وولداً خنثى، حلف الابن ثلثي الأيمان لاحتمال كون الخنثى أنثى، وأخذ نصف الدية لاحتمال أن يكون الخنثى ذكراً، وحلف الخنثى نصف الأيمان لاحتمال كونه ذكراً، وأخذ ثلث الدية ويوقف السدس الباقي. وإذا حلف الابن الثلثين والخنثى النصف، فينتزع السدس في هذه الصورة من يد المدعى عليه، ونقفه، لأن الأيمان تمت على المدّعَى (3)، وهذا السدس موقوف بين [لابن] (4) وبين الخنثى. فإن كان في المسألة خنثيان، وأخ من أب، حلف كل واحد منهما ثلثي الأيمان لاحتمال أن يكون ذكراً وصاحبه أنثى، ويعطيان ثلثي الدية لاحتمال أن يكونا أنثيين، والعصبة (5) بالخيار بين أن يحلف ثلث الأيمان في الحال وبين أن يؤخر إلى أن يبين

_ (1) ما بين المعقفين سقط في الأصل، وهو موجود في (هـ 2). (2) في الأصل: " فهلا ". (3) المدّعَى: أي المطلوب الذي يدعيه كل منهما، فالابن يدعي الثلثين وأنوثة الخنثى، والخنثى يدعي النصفَ والذكورة. (4) في النسختين: " الأنثى ". والمثبت تصرف من المحقق، نرجو أن يكون هو الصواب. (5) العصبة: أي الأخ لأب.

[أمرهما] (1)، فإن حلف في الحال، انتزعنا الثلث الباقي من يد المدعى عليه، ووقفناه بين الخنثيين والعصبة، فإن بانا أنثيين دُفع إلى الأخ، وإن بانا ذكرين، دفع إليهما، وإن بان أحدهما ذكراً والآخر أنثى، دفع إلى الذكر منهما. وإن لم يحلف الأخ في الحال [وأخر] (2)، لم يؤخذ الثلث من المدعى عليه، لاحتمال أن يكون المستحق هو الأخ، ولم يحلف، فلا نزيل يدَ المدعى عليه عن طائفة من ماله من غير يمين مستحقة. 10937 - ولو كان في المسألة ولد خنثى، وبنت، حلف الخنثى ثلثي الأيمان وأخذ ثلث الدية، وحلفت البنت نصف الأيمان وأخذت ثلث الدية، ووقف الثلث الباقي، وإنما يحلف الخنثى الثلثين أخذاً بتقدير الذكورة، وتحلف البنت النصف لجواز أن يكون الخنثى أنثى، ولو كان كذلك، فالثلثان لهما والباقي لبيت المال (3)، ثم إذا أرادتا أن تقسما، حلفتا خمسين يميناً، فإن القسامة في حصة بيت المال محال - فلو قتل رجل قَتْلَ لوث وليس له وارث خاص، فلا وجه إلا تحليف المدعى عليه، وإقامة الخصومة على ترتيب سائر الخصومات- وإذا كان كذلك، فنقدّر الخنثى أنثى، وتحلف البنت على هذا التقدير نصفَ الأيمان، ثم تستحق الثلث. فإن قيل: كيف تحلف النصف وتستحق الثلث؟ قلنا: لو نكل الخنثى، لحلّفنا البنت خمسين يميناً، ولا تستحق من حصتها شيئاً -والحالة هكذا- ما لم تحلف خمسين يميناً، فكذلك تحلف خمسة وعشرين تكميلاً للأيمان المعتبرة، ويحلف الخنثى ثلثي الأيمان، وأما الثلث الباقي، فلا ينتزع من يد المدعى عليه، فإن ذلك

_ (1) في الأصل: " أمرها "، وكذا في (هـ 2). (2) في الأصل: " وأخذ ". والمثبت من (هـ 2). (3) هذا -كما هو معروف- على مذهب الشافعية بعدم الرد في الميراث، ومثلهم المالكية، ويشترط الشافعية في الرد إلى بيت المال أن يكون منتظماً، وقد قال متأخرو المالكية بهذا الشرط أيضاً، فإن لم يتحقق الشرط بانتظام بيت المال، قالوا بما قال به الحنابلة والأحناف، وهو الردّ على أصحاب الفروض ما عدا الزوجين، فإن لم يكونوا ردّوا على ذوي الأرحام، ثم من بعدهم الردّ على الزوجين ثم من بعدهم الردّ على المقرّ له بنسب حملاً على الغير ... إلى تفاصيل تطلب في مظانها.

الثلث لم يتحقق استحقاقه من الولدين، وبيت المال لا يتصور أن ينوب عنه حالف. 10938 - ولو قُتل رجل، وله ثلاثة من البنين: بالغ حاضر، وصغير حاضر، وبالغ غائب، فالبالغ الحاضر إن أراد حلف في الحال خمسين يميناً، ويعطى ثلث الدية، ولا يُنتظر في إثبات حقه بلوغُ الصغير، ورجوعُ الغائب؛ فإن تأخير اليمين منهما ينزل منزلةَ نكول بعض الورثة، ولو نكل بعض الورثة، فللبعض أن يثبت حصة نفسه، وسبيل إثباته حصة نفسه أن يحلف خمسين يميناً، كذلك إذا كان التأخّر بالصغر في أخ وبالغيبة في أخٍ. ثم إذا رجع الغائب، فإذا كان يحلف، حلف نصف الأيمان واستحق ثلث الدية، وجعل كما لو كان حاضراً مع أخيه، ولو كان كذلك، لحلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يميناً، والأيمان في الأخ الأول اشترطنا فيها كمالاً [لتكمل] (1) حالة الحلف، ولما حضر الثاني وأيمانه مسبوقة بأيمان أخيه، فيبتني الأمرُ على رغبتهما في اليمين ونكول الصغير. فإذا بلغ الصبي، حلف ثلث الأيمان، واستحق ثلث الدية. ولو صبر الأول حتى يرجع الغائب ويبلغ الصبي، فيحلفون خمسين يميناً أثلاثاً مع جبر الكسر والجبر يقتضي مزيداً على العدد، ولهذا نظير في [الشفعة] (2)، فإذا ثبت في الشقص المشفوع حق الشفعة لثلاثة، فحضر واحدٌ منهم أخذ الجميع باليمين، ثم لا يخفى تفصيل المذهب لو حضر الباقيان. وإنما غرضنا أبداً [التناظر] (3). 10939 - ولو كان في المسألة: جد، وأخت لأبٍ وأم، وخنثى هو أخ من أب، أو أخت من أب، فنقول: لو كانت الخنثى أنثى لم يخلص إليها من التركة شيء، ولو كان ذكراً، لاستحق عُشر المال، والأخت من الأب والأم في التقديرات كلها تستحق

_ (1) في (هـ 2): " كمال التفرد حالة ". (2) في الأصل: " الشفقة به". (3) في الأصل: " النظر ".

نصف المال؛ لمكان المعادة، والجد استحق النصف لو كان الخنثى أنثى، ويستحق أربعة من عشرة لو كان ذكراً، فإذا أثبتت هذه التقديرات، [فالتحليف] (1) يجرى على الأخذ بالأكثر، ثم لا يسلّم من المال إلا الأقلُّ المستيقن. ثم الخنثى في هذه المسألة (2) لا يخلو إما أن يحلف، أو لا يختار الحلف، فإن اختار الحلف، حلف عُشرَ الأيمان، وحلفت الأخت نصفَ الأيمان، وحلف الجد نصف الأيمان، وهذا خارج على الأصول التي مهدناها؛ فإن أقصى ما نفرض على الجد خمسة وعشرين يميناً، ولا مزيد في حق الخنثى على العُشر بتقدير الذكورة، والأخت لا يتصور في حقها تقدير يقتضي أكثر من نصف الأيمان، مع حلف هذا الخنثى. وفي هذا احتياج إلى فضل بيان وسنذكره الآن، فإن لم يحلف الخنثى، فنقول الجد يحلف خمسة وعشرين يميناً، كما ذكرناه، ويأخذ أربعة أعشار الدية، وإنما حلفناه أكثر مما يأخذ لجواز أن يكون هو مستحق النصف، والأيمان تبنى على الأكثر، وأما الأخت، فينبغي أن تحلف عند نكول الخنثى خمسة أتساع الأيمان؛ فإنا لو قدرنا

_ (1) في النسختين: " بالتحليف ". (2) صورة هذه المسألة بالحساب هكذا: جد أخت شقيقة أخ لأب خنثى (على تقديرالذكورة) 2 1 2 تصح من: 5 (أصلها الأول) 4 5 1 تستكمل الشقيقة نصف المال فتصح من: 10 (أصلها المصحح) جد أخت شقيفة أخت لأب (على تقدير أنوثة الخنثى) 2 1 1 تصح من: 4 (أصلها الأول) 2 2 لا شيء- تستكمل الشقيقة نصف المال بالمعاداة، فتصح المسألة من: 4 أيضاً. فأقصى ما يأخذه الجد النصف، وأقصى ما تأخذه الشقيقة النصف، وأقصى ما يأخذه الخنثى العشر. وأقل ما يناله الجد خمسان، والشقيقة النصف أبداً.

أخاً من أب على التحقيق، وجدّاً، وأختاً من أب وأم، ثم فرضنا نكول الأخ عن اليمين، لكان الجد في هذه الحالة مع البيان يحلف أربعة أتساع الأيمان؛ فإن الأمر بيّن، وكانت الأخت تحلف خمسة أتساع الأيمان، وإن زادت أيمانها على ما تأخذ، فلا مبالاة بذلك، مع ما قدرناه من الأخذ بالأكثر في باب الأيمان. فإذا كان هذا التصوير يقتضي أن تحلف الأخت خمسة أتساع اليمين، فإذا نكل [الخنثى] (1) فنأخذ بالأكثر في الأيمان، وذلك بأن نقدره وأخاً ناكلاً، ولو كان كذلك، لكان الحساب يقتضي أن يكون حَِلْف الأخت والجد على نسبة ما يأخذان والنسبة بالأتساع، والأخذ بالأكثر في الأيمان [يوجب] (2) أن نحلفها خمسة أتساع الأيمان، ثم لا تأخذ إلا نصف المال. فانتظم من هذا أن الخنثى إذا لم يحلف، حلفت الأخت خمسة أتساع خمسين يميناً مع جبر الكسر، ويحلف الجد نصف الأيمان. فإن قيل: لم اكتفيتم إذا حلف الخنثى بنصف الأيمان من الأخت؟ قلنا: لأن الخنثى إذا حلف لم يخل إما أن يكون أنثى أو ذكراً، وعلى التقديرين لا يخص الأخت من قسمة الأيمان أكثر من النصف، [وكذا] (3) ينشأ حساب الأتساع عند تقدير نكول الأخ عن الأيمان. هذا بيان هذه المسألة. ورأيت في الطرق خبطاً هو محمول على الزلل الذي يأتي [من] (4) قلة الفكر، [ومثل] (5) ذلك لا يعتد به غلطاً أيضاً مع الاتفاق على أصلين: أحدهما - رعاية الأكثر في الأيمان، والآخر رعاية الأقل في الأنصباء. 10940 - وذكر الشيخ أبو علي في المسألة الأخيرة المشتملة على ذكرِ الخنثى أن الخنثى لا يحلف في هذه المسألة، ولو حلف لم يقع الاعتداد بأيمانه، واعتلّ

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) في الأصل: " يجوز "، والمثبت من (هـ 2). (3) في (هـ 2) وإنما. (4) في النسختين " في "، والمثبت من المحقق. (5) في الأصل: " وقبل ". والمثبت من (هـ 2).

[بأنّا] (1) نجوّز أن يكون محروماً (2) غير مستحق، والأيمان الصادرة منه على هذا التقدير مردودة. وهذا الوجه متجه، ولكنه [يكرّ] (3) على معظم ما ذكرناه بالهدم، وبيان وجهه أن الأيمان من غير دعوى مردودة، والدعوى مع الإشكال محال. فهذا وجهٌ ظاهر، [وكان] (4) يجب على موجبه أن نقول: لو كان في المسألة ولد خنثى وعصبة، فالعصبة لا تحلف؛ لأنا لم نعلم له استحقاقاً، فلا تصح دعواه، ولا بد من تخريج هذا الوجه في العصبة وهو إذاً وجهٌ منقاس مطرد في كل من لا نعلم له استحقاقاً. ويرد سؤال آخر وفي الجواب عنه تمام الغرض، وهو أن قائلاً لو قال: حلّفتم الجد في هذه المسألة خمسةً وعشرين يميناً، ثم لم تسلموا إليه إلا أربعة أعشار المال، فدعواه إلى تمام النصف مردودة، ثم لو بان الخنثى أخاً، أخذ الباقي، واحتسب بتلك الأيمانِ التي تقابل تكميلَ النصف، فهذه الأيمان إلى تتمة النصف غيرُ مرتبة على دعوى؟ قلنا: نعم هذا مقام يجب الاعتناء بدركه وفهمه [وقد تقرّر] (5) أنا نزيد الأيمان لإثبات المستحق في بعض الصور، وقد يحلف الإنسان خمسين [يميناً] (6) ويستحق عُشراً، فهذه الأيمان صحت لإثبات القدر المستيقن، فإذا [بان مزيد] (7) في الاستحقاق، كفت تلك الأيمان الصحيحة.

_ (1) في الأصل: " فإذا "، والمثبت من (هـ 2). (2) محروماً: أي إذا بان أنثى (أخت الأب) فتأخذ الشقيقة كل سهمها ليكتمل لها النصف، فالمسألة من أربعة: اثنان للجد، وواحد للشقيقة، وواحد للأخت لأب (بتقدير أنوثة الخنثى)، ثم تعود الشقيقة لتستكمل نصيبها النصف، فتأخذ نصيب الأخت لأب، فيكون الخنثى في هذه الحالة غيرَ مستحق للإرث، فليس له أن يدعي إذاً. هذا هو الإشكال الذي ذكره الشيخ أبو علي. (3) في الأصل: " يعلم ". وهـ 2: يعكر، والمثبت من المحقق. (4) في النسختين: " ولكن ". (5) في الأصل: " قد تقدر ". والمثبت من (هـ 2). (6) زيادة من المحقق. (7) في الأصل: " كانت مزيداً " وفي هـ 2: بانت مزيداً، والمثبت من المحقق.

ومن لطيف القول في هذا أن تلك الأيمان الزائدة لا تفتقر إلى دعوى على قدرها من المال الذي [ثبت في المآل] (1). 10941 - ونحن نبيّن صورة أخرى لبيان هذا الذي انتهينا إليه، فنقول: خلف القتيل ولداً [خنثى] (2)، فالجواب أنه يحلف خمسين يميناً، ويستحق نصف المال، فلو [بان] (3) ذكراً، أخذ النصف الباقي، [بلا] (4) مزيد. ولو قيل هذه المسألة [عديمة] (5) [النظير] (6) في الدعاوى، لم يكن هذا القولُ مجازفةً؛ فإن الأيمان صحت لغرضٍ آخر، ثم تبين الاستحقاق، فيكفي ما تقدم، والسبب فيه أن القتل ثبت بالخمسين، وأتبعنا بعض الأيمان البعضَ، ولهذا لا يتصور ثبوت القتل إلا بالخمسين، [فهذا نهاية البيان] (7) في هذه الأصول. وعندي أن بعض هذا الاضطراب إنما أتى [من] (8) التفريع على قولٍ لا أصل له في القياس، والتفاريع إنما تنتظم في سلك المقاييس، فإذا لم يستقم الأصل على القياس، اختبط التفريع. 10942 - ثم قال: "ومن مات من الورثة قبل أن يُقسم قام ورثته مقامه ... إلى آخره" (9). إذا قتل رجل وله ابنان -والتفريع على قول التوزيع- فيحلف كل واحد منهما خمساً وعشرين يميناً، فلو مات أحد الابنين عن ابنين قبل جريان الإقسام، قام ابناه مقامه، ووزعنا عليهما خمسة وعشرين من العدد، فيحلف كل واخد منهما مع جبر الكسر ثلاثةَ

_ (1) في الأصل: " في بيت المال ". (2) في الأصل: " أنثى ". والمثبت من (هـ 2). (3) في الأصل: " كان "، والمثبت من (هـ 2). (4) في الأصل: " فلا ". (5) في الأصل: " عليه تتمة " والمثبت من (هـ 2). (6) في النسختين: " النظر ". (7) في الأصل: " فهذا بمثابة النيابة في هذه الأصول ". (8) في النسختين "في ". (9) في المختصر: 5/ 151.

عشرَ يميناً، ولو مات أحد [الحافدين] (1) قبل الحلف [عن ابنين] (2) قاما مقامه في ثلاثة عشر مع جبر الكسر، فيحلف كل واحد منهما سبعة، وهذا قياسٌ واضح، لا غموض فيه. 10943 - ومما يليق بتمام البيان أن القتيل إذا خلف وارثاً واحداً مستغرقاً، فأقسم خمسين [يميناً] (3)، ثم مات، فالدية لورثته، ولو نكل هو عن أيمان القسامة بعد التعرض لها، ثم مات، لم يكن لورثته أن يقسموا؛ فإن حق القسامة بطل بنكوله، وورثتُه ليسوا أصلاء، وإنما لهم الخلافة، فإذا بطل الأصل، فقد انقطعت الخلافة وتقديرها. 10944 - ولو حلف وارث القتيل بعضَ الأيمان، ومات في خلالها قبل أن يستكملها، فالذي قطع به أئمة المذهب أنه ليس للورثة أن يبنوا [على أيمانه، بل يستأنفون] (4) خمسين يميناً، لأن الأيمان الخمسين في حكم اليمين الواحدة، فإذا انقطعت بموت الأول، بطل حكمها. وذكر الشيخ أبو علي أنه رأى في مكتوب عن الشيخ الخِضْري أن الورثة يبنون على تلك الأيمان، وهذا وإن كان بعيداً في الحكاية، فله وجهٌ مأخوذ من الخلافة، وهو منطبق على التوزيع، ويمكن تخريجه على بناء حَوْل الوارث على حَوْل الموروث، وفيه قولٌ [بعيد. 10945 - ولو حلف] (5) المقسِم بعضَ الأيمان وغُلب على عقله وجُنّ في خلال الأيمان، ثم أفاق، فقد قال الأصحاب: له البناء؛ لأنه إنما يبني على أيمان نفسه. وفي هذا تدبر ينبني على تمهيد أصلٍ، وهو أن المقسم لو أتى بالأيمان في مجالس

_ (1) في الأصل: " الحاضرين ". والمثبت من (هـ 2). (2) سقطت من النسختين. (3) الزيادة من (هـ 2). (4) في الأصل: " على أن يبنوا على أيمانه، بل نقول خمسين يميناً ". والمثبت من (هـ 2). (5) في الأصل: " العبد فلو حلف ". والمثبت من (هـ 2).

أو مجلسين، فقد ذكر القاضي في ذلك وجهين، وأجرى مثلهما في [تفريق] (1) كَلِم اللعان، ووجْهُ التجويز بيّن، ووجه المنع [أن الغرض] (2) من تعديد الأيمان التشديدُ والتغليظُ [والزجرُ] (3) عن الإقدام عليها لا على وجه الصدق، ويعظم وقعها إذا توالت. وإذا تفرقت في المجالس، لم تكن على حدّها في إفادة الرجوع والزجر، وكذلك القول في اللعان، ولعل تواصل الزمان مع اتّحاد المجلس يدخل في هذا التردد، بل هو أولى بالاعتبار، فإنه لو كان يحلف أيماناً ويخرج ويعود على الفور وقُرْب العهد، فأثر الردع لا يسقط، ولو تطاول الزمن وتخللت الفصول، ظهر سقوط الأثر. وإذا فهم الناظر المقصود، لم يخف عليه التفريع. ونعود إلى طريان الجنون، فنقول: إذا طرى الجنون، وزال، خرج هذا على التفرق الذي ذكرناه من التردد. 10946 - ولو حلف المقسم بعض الأيمان، فعُزل ذلك القاضي الذي ارتفعت الخصومة إلى مجلسه، وولي آخر، فعليه أن يستأنف الخمسين في مجلس هذا الصارف، [ولا يبني على الأيمان التي جرت في مجلس المصروف] (4)؛ فإن هذا المولّى لا يحكم إلا بما جرى في زمن ولايته، ورأيت الأصحاب متفقين على هذا، ووجهه بيّن. ...

_ (1) في الأصل: " تقرير "، وسقطت من (هـ 2). (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: " والوجد ". (4) زيادة من (هـ 2).

باب ما يسقط القسامة

باب ما يسقط القسامة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ادعى أحد الابنين على رجل من أهل هذه المَحِلة ... إلى آخره " (1). 10947 - مضمون الباب ليس يفي بترجمته؛ فإن ما يُسقط القسامةَ كثير، وقد تقدم فيما نفينا وأثبتنا معظمُ ما يؤثر في القسامة، ومقصود الباب أصل واحد، وهو بيان الحكم في تكاذب الوليين أو الأولياء في ظهور اللوث بالجهات التي ذكرناها، وأنه هل يؤثر في إبطال القسامة. عذا غرض الباب. ثم تمام بيانه يقتضي تفريعَ مسائل الصورة الأولى التي ذكرناها: إن القتيل إذا خلّف ابنين، أو أخوين، فقال أحدهما: إن فلاناً قتل موروثي وحده، وقال الآخر: ما قتله فلانٌ [هذا] (2)، هذا تكاذبهما، وقد قيد الشافعي كلامه بلفظٍ، فقال: " وقال الآخر -[وهو عدل] (3) - ما قتله ". وما يناط بالتكاذب لا يختلف بكون المكذب عدلاً أو خارجاً عن العدالة، ولكن قال الأصحاب: أراد بالعدل أن يكون المكذِّب من أهل القول، فلا يكون صغيراً ولا مجنوناً. وهذا التأويل سخيف عندي، ولكن غالب الظن أنه لم يجر شرطاً، وإنما ذكره فرضاً للكلام في أظهر الصور؛ فإن غرضه أن يبيّن أن التكذيب يوهي أثر اللوث ويثير خلافَ المظنون المتلقَّى من اللوث المطلق. ومن أراد تقرير مذهبٍ قد [يفرض] (4)

_ (1) ر. المختصر: 5/ 150. (2) سقط من النسختين. (3) زيادة من (هـ 2). (4) في الأصل: " يظهر "، والمثبت من (هـ 2).

الكلام في أظهر الصور، فالصورة إذاً كما ذكرنا: رجل قُتل وله ابنان ادعى أحدهما على واحد أنه قتله، وكذبه أخوه، وقال: ما قتله أو [كان] (1) هو غائباً عن المَحِلّة يوم قُتل [أبونا] (2)، أو قال: بل قتله فلان وحده، وذكر رجلاً آخر، فهذا هو التكاذب والتجاحد. 10948 - وقد اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في ذلك، فقال في أحد القولين: تبطل القسامة بالتكاذب؛ لأن مستندها الغلبة على الظن عند وجود اللوث، وقد وَهَى الظن بتكاذب الوليين؛ إذ لو كان من يدعي أن فلاناً قتَل صادقاً، لأوشك ألا يكذبه أخوه. وقال في القول الثاني: لا تبطل القسامة بهذا، فإن اللوث قائم، وللأولياء في التكاذب أغراض، واليمين مع الشاهد إنما تسمع [للتقوِّي] (3) بالشاهد، ثم لو ادعى أحد الابنين دَيْناً للموروث، وأقام عليه شاهداً، فكذبه أخوه، فللمدعي أن يحلف مع الشاهد، واللوث في اقتضاء البداية بيمين المدعي كالشاهد الواحد فيما يثبت بالشاهد واليمين، وهذا [اختيار المزني. فإن قلنا: تبطل القسامة، فلا يُقسم المدعي، كما لا يقسم المكذب، وإن قلنا:] (4) التكاذب لا يمنع القسامة، فإذا ادعى أحدهما أن فلاناً قتل أباه، وقال الثاني: ما قتله، فللمدعي أن يقسم خمسين يميناً، ويستحق على المدعى عليه نصفَ الدية إذا آل الأمر إلى المال، ولو كان القتل المدّعى قتلَ قودٍ، فليس للمدعي طلبُ القصاص؛ فإن القصاص إذا ثبت مشتركاً، لم يكن لبعض الشركاء الانفرادُ بطلبه واستيفائه، بل إذا عفا بعضهم، سقط حقُّ الباقين، وكذلك إذا أنكر وجوبَ القصاص. 10949 - ولو ادعى أحدهما على رجل اسمه زيد، وقال: قتل هذا أبانا، ورجل آخر معه لا أعرفه، فقال الآخر: قتل أبانا عمرو، ورجل آخر لا أعرفه، فلا تكاذب

_ (1) في الأصل: " قال ". والمثبت من (هـ 2). (2) غير مقروءة بالأصل. والمثبت من (هـ 2). (3) في الأصل: " بالتقوّي "، والمثبت من (هـ 2). (4) زيادة من (هـ 2).

في هذه الصورة بينهما لجواز أن يكون ما جهله كل واحد منهما هو الذي [عرفه] (1) صاحبه، ونحن لا نشترط على هذا القول -وهو بطلان القسامة بالتكاذب-[التوافق] (2) بينهما على التحقيق، بل نكتفي بأن لا يتجاحدا. والسبب فيه أن التصريح بالتكاذب يوهي اللوث، فأما الجهل بمن يشارك في القتل لا (3) يضعف اللوث، فإذا ثبت أن القسامة تجري في الصورة التي ذكرناها، فيحلف كل واحد منهما على من عيّنه خمسين يميناً ويستحق عليه ربعَ الدية؛ لأنه مقرٌّ بأن صاحبه شريك في المستحَق على هذا [المعين] (4)، وقد ذكر أنه لم يكن منفرداً بالقتل، فعلى المعيَّن بزعمه نصف الدية، وحصته من النصف الربعُ. ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيدٌ هذا، ورجل آخر معه، لا أعرفه، ولكني أعرف أنه ليس عمراً، وقال [الآخر: قتل] (5) أبانا عمرو، ورجل آخر لا أعرفه، وأعلم أنه ليس زيداً، فهذا تكاذب في الحقيقة، ولا يخفى التفريع. ولو كانت المسألة بحالها، فقال أحدهما: زيد هذا قتل أبي ورجل آخر لا أعرفه، [وأعلم] (6) أنه ليس عمراً، وقال الآخر: قتل أبانا عمرو ورجل آخر لا أعرفه، ولا أُبعد أن يكون زيداً، فالذي عين زيداً مكذبٌ للذي عيّن عمراً؛ فإنه قال: أعلم أن شريك زيد لم يكن عمراً [والذي عيّن عمراً] (7) لم يكذب أخاه في زيد، فقد اشتمل قولاهما على التكاذب في عمرو، وليس في أقوالهم ما يوجب تكاذباً في زيد، فنقول: أما زيد فلا تكاذب [فيه] (8)، فيحلف المدَّعي عليه خمسين يميناً، ويستحق ربع الدية، وأما عمرو، فقد حصل التكاذب [فيه] (9).

_ (1) في الأصل: " غرّبه ". (2) في الأصل: " الموافق ". (3) جواب (أما) بدون الفاء. (4) في الأصل: " المعنى ". والمثبت من (هـ 2). (5) في الأصل: " الآخرون ". والمثبت من (هـ 2). (6) زيادة من (هـ 2). (7) زيادة من (هـ 2). (8) سقطت من (هـ 2). (9) في الأصل: " منه ". والمثبت من (هـ 2).

فإن قلنا: القسامةُ تبطل بالتكاذب، فللّذي ادّعى على عمرو أن يحلِّف عمراً، وقد بطلت البداية بالمدعي، فإن حلف المدعى عليه، برىء [من الخصومة] (1) وإن نكل عن اليمين، ردت اليمين على المدَّعي، فإذا حلف يمين الرد، استحق عليه ربعَ الدية أيضاً، والتكاذب لا يسد باب التحليف والرد، وإنما يؤثر في إبطال القسامة [فحسب] (2). 10950 - ولو ادعى أحدهما على زيد وعمرو، وقال: هما قتلا أبانا لم يشاركهما غيرهما [وقال الآخر: بل قتل أبانا بكر وخالد] (3)، فهما متكاذبان [والمسألة] (4) مفرعة على القولين: إن قلنا: تبطل القسامة بالتكاذب، ارتدت الأيمان إلى المدعى عليهم، وحَلَّف كلُّ واحد من الابنين اللذَيْن ادعى عليهما، ولم يخف الحكم. وإن قلنا: لا تبطل القسامة بالتكاذب، حلف كل واحد من الابنين على اللذين عينهما خمسين يميناً، واستحق عليهما نصفَ الدية. ولو قال أحدهما: قتل أبي زيد، وانفرد بقتله، لم يشاركه غيره، وقال الآخر: شارك زيداً في قتل أبينا عبدُ الله، فقد اتفقا على توجيه الدعوى بنصف الدية على زيد، واختلفا في النصف الآخر، فإن حكمنا ببطلان القسامة بالتكاذب، حلفا على زيد خمسين يميناً، واستحقا عليه نصف الدية، ثم القول قول زيد مع من ادعى انفراده بالقتل أنه لا يلزمه النصف الآخر من الدية، فيحلف، ولا يخفى جريان الخصومة على نظمهما. فأما عبد الله، فلا يقسم عليه من ادعى مشاركته تفريعاً على أن التكاذب يُبطل القسامة، ولكن القول قول عبد الله مع يمينه، ولا يخفى سوْقُ الخصومة. وإن قلنا: لا تبطل القسامة بالتكاذب، حلف الذي ادعى انفراد زيد خمسين يميناً، واستَحق عليه نصفُ الدية، وحلف أخوه على زيد خمسة وعشرين، واستحق ربع الدية، ويحلف على عبد الله إن أراد خمسين يميناً، ويستحق عليه ربع الدية،

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) في الأصل: " بحسب ". (3) سقطت من الأصل. (4) سقطت من الأصل.

فيحصل لكل واحد منهما نصف الدية: ثلاثة أرباع الدية مأخوذة من زيد، وربعها مأخوذ من عبد الله. وإن أراد الذي ادعى المشاركة [التقليل] (1) في الأيمان، أمكنه أن يقتصر على خمسين يميناً، وذلك بأن يجمع بين زيد وعبد الله في خمسة وعشرين يميناً، ويفرد عبد الله في خمس وعشرين يميناً. 10951 - ولو كانت المسألة بحالها، وكان عبد الله غائباً، فمن ادعى الاشتراك يحلف على زيد، [ولا بدّ أن يكون] (2) في يمينه [قَتَله] (3) مع آخر، هذا لا بد منه؛ لأن اليمين على حسب الدعوى، وهو لم يدّع انفراد زيد بالقتل، وإنما يدّعي عليه نصف الدم، فليحلف على القدر الذي يدعيه. ثم إذا حلف كما ذكرناه، وحضر عبد الله، فيحتاج إلى [أن يحلف] (4) عليه خمسين يميناً، ولا يقع الاعتداد بما قدمه من الأيمان. هكذا حكى من يوثق به عن القاضي، وجرى في كلامه ما يدل على أن المدعي لا يقسم على الغائب، حتى لو اتحد المدعي والمدعى عليه (5)، وكان المدعى عليه غائباً، ولا بينة للمدعي، فلا تسمع دعواه إذا قال: لا بينة لي؛ فإنه لا يحلف. وهذا فيه نظر، ومن مسالك الأقيسة الجلية، الحكمُ بأن أيمان المدعي (6) مسموعة على الغائب إذا ثبت حضوره وقت القتل؛ فإن الأيمان من المدعي بمثابة البينة في سائر الخصومات، والبينة مسموعة على الغائب، والقضاء مرتبط به إن استدعاه المدعي. وما حُكي عن القاضي فليس ينقدح فيه وجه جلي، ولكن الممكن [فيه] (7) أن

_ (1) في الأصل: " التعليل ". والمثبت من (هـ 2). (2) في الأصل: " ولا وأن يكون ". (3) في الأصل: " مثله ". (4) في الأصل: " تحليفه "، والمثبت من (هـ 2). (5) أي يكون المدعي واحداً، والمدعى عليه واحداً. (6) في الأصل: " المدعى عليه ". (7) في الأصل: " ديه "، والمثبت من (هـ 2).

اليمين إذا تجردت ينبغي أن تكون موقوفة على مستحلِفٍ قياساً على اليمين في جانب المدعى عليه، فإذا لم يحضر من يستحلِف، والمعتمد اللوث المجرد، فتقيُّدُ القضاء على الغائب باعتماد لوث مجرد وأيمان لا مستحلِف فيها بعيد، والتعويل على ضعف الحجة وضعف مستندها. هذا هو الممكن، وكأن اللوث إنما يستقر إذا سلم عن القدح فيه. ومن يجوّز الإقسام على الغائب يقول في الجواب عن الاستحلاف: لا حاجة إلى الاستحلاف في أيمان القسامة، فإنها تجري والمدعى عليه يأباها بخلاف يمين المدعي. ولا ينبغي أن يكون في جواز القضاء بالشاهد واليمين على الغائب خلاف بين الأصحاب؛ فإن مستند اليمين شهادة عدل، والقاضي يستفرغ الوسع في البحث عن الشاهد، واللوثُ أمر منتشر. والوجه مع ذلك كلِّه القضاءُ على الغائب بأيمان القسامة، ثم إن [أبدى مطعناً] (1) في حضوره، فليس القضاء أمراً لا يتبع، وكل ذي حجة على حجته، وقد قال الشافعي على الاتصال بهذا: " لو أقسم المدعي على الخصم الحاضر، فقامت بينة أن المدعى عليه كان غائباً، فالدية مستودة والقضاء منقوض " (2). فصل قال: " ولو قال المدعي ظلمتُه في هذه الخصومة ... إلى آخره " (3). 10952 - إذا أقسم المدعي على الشرط المعلوم، وجرى القضاء له بالدية، ثم قال المدعي: ظلمتُه، فإن سئل عن معنى قوله، فإن قال: كذبت عليه، وكان القاتلُ غيرَه، استرددت الدية منه، فإن فسر قوله بأن قال: صدقت في دعواي،

_ (1) في الأصل: " أبدى قطعنا "، والمثبت من (هـ 2). (2) هذا معنى كلام الشافعي. وليس بلفظه. ر. المختصر: 5/ 151. (3) لم أصل إلى هذه العبارة في المختصر في مظانها، فلعل الشافعي قالها في موضع آخر، أو في كتاب آخر، أو بلفظ غير هذا اللفظ.

[ولكن] (1) لست أعتقد البداية بالمدعي؟ قلنا له: لا تعويل على عقدك، وقد جرى الحكم لك واستحقاقُك الديةَ باطناً لا يتوقف على قيام حجة، ولو قضى قاضٍ حنفي لشافعي بشفعة الجوار، وكان المقضي له مصرّاً على عقده، ففي ثبوت الشفعة له ظاهراً وباطناً أو ظاهراً خلاف بين الأصحاب. ونستجمع في هذه الأصناف ونستاقها في نظام من التقسيم يحوي أطراف الكلام في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل. ...

_ (1) في الأصل: " وكدى ".

باب كيف يمين مدعي الدم

باب كيف يمين مدعي الدم قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا وجبت لرجل قسامة ... إلى آخره " (1). 10953 - غرض الباب مقصور على كيفية اليمين وعلى ذكر احتياط في ذكر المحلوف به وعليه. فأما القول في أعداد الأيمان، فقد سبق. وأما لفظ كل يمين، فإن غلّظ القاضي، قال: قل: " بالله الذي لا إله إلا هو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " أو ما يراه من الصيغ المعظِّمة، وهذا لا اختصاص له بأيمان القسامة، بل كل يمين في أمر مخطرٍ يغلّظ بالمكان، والزمان، والألفاظ، على ما يراه القاضي، ثم إن الكلام في أن هذه التغليظات مستحقة أو مستحبّة يأتي في باب مفرد في كتاب الدعاوى، وقد قدمنا صدراً منها في كتاب اللعان. والغرض من ذلك هاهنا أن تعدد الأيمان لا يُسقط التغليظَ في ألفاظ كل يمين، ثم القول في تغليظ كل يمين كالقول في تغليظ سائر الأيمان، فلو قال له القاضي: قل: والله، فقال: والرحمن، لم يكن حالفاً، ولو قال القاضي: قل: بالله العظيم الطالب، فقال: بالله، واقتصر عليه، ففي الاعتداد باليمين خلاف مبني على أن التغليظ مستحق أم لا؟ وهذه الأحكام على ظهورها فيها أسرار وغوامض، ستأتي في موضعها، إن شاء الله. وإذا لم يكن هذا مختصاً بالباب، فلا معنى للإطناب فيه. ثم يحلفه القاضي ويحتاط في التصريح بالمدَّعى، وقد وصفنا الدعوى، فليقع اليمين بحسبها.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 151.

ومما أجراه الشافعي أنه إذا حلف أن فلاناً انفرد بقتل [أبي وأتى بالدعوى] (1) على شرطها، فيقول: " ما شركه في القتل غيره " (2). وهذا بالاتفاق احتياط غير مستحَق؛ فإنه إذا حلّفه على انفراده بالقتل، [فقد] (3) نفى الاشتراكَ، وإذا كانت اليمين معروضة على المدَّعى عليه، فيحلف بالله ما قتله ولا تسبب إلى قتله، ويصرح بما ينفي عنه جهات الضمان؛ [لأن] (4) معظم الناس لا يرون المتسبب في حكم القاتل، ولو فرض الاقتصار على نفي القتل، ففي هذا فضل نظر، فإن ادعى [على] (5) المدعى عليه القتل، فَنَفَى القتلَ، جاز الاكتفاء بهذا، وإن ادعى عليه سبباً مضمّناً كحفر بئر، فلا يكفيه نفي القتل؛ فإن نَفْي القتل صريح في نفي المباشرة. ومعظم هذه الأصناف تأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل. ...

_ (1) في الأصل: " أمي وأبي فالدعوى ". (2) ر. المختصر: 5/ 152. (3) في الأصل: " وقد ". (4) في الأصل: " إلا أن ". (5) زيادة من المحقق.

باب دعوى الدم [في الموضع الذي ليس فيه قسامة]

باب دعوى الدم [في الموضع الذي ليس فيه قسامة] (1) 10954 - مقصود الباب أن القتل إذا لم يكن قتلَ لوث، فالبداية بالمدعى عليه، وهو المحلَّف، وفي تعدد اليمين القولان المشهوران، والغرض الآن أنا إذا رأينا تعدد اليمين على المدعى عليه، فإن كان واحداً، حلفناه الخمسين، وإن ادعى على اثنين الاشتراك في القتل، فهل توزّع الأيمان عليهما أم يحلف كل واحد منهما خمسين يميناً؟ فعلى القولين المذكورين في جانب المدعي؛ فإنه إذا تعدد المدعي فكل واحد يدعي مقداراً من الدم لنفسه، ثم في توزيع الأيمان الخلافُ المقدم. فإذا تعدد المدعى عليهم، فكل واحد منهم يُدّعى عليه مقدارٌ من الدم فتبعُّض الدم في حق المدعي كتبعّضه في حق المدعى عليه، غير أن المدعين قد تتفاوت حصصهم، فتتفرع المسائل في تقسيط الأيمان عليهم، والمشتركون في القتل لا يتفاوتون في الالتزام؛ فيجري التفريع على قول القسمة [والفضِّ] (2) على حكم التسوية. 10955 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه طرفاً من إقرار العبد بالجناية الموجبة للقصاص، والموجبة للمال، وقد مضى جميع ذلك مستقصىً مفرّعاً على أن موجب العمد ماذا؟ وذكر إقرار العبد، وهذا سيأتي في كتاب السرقة، إن شاء الله، وشرْطُنا في هذا المجموع أن نجتنب الإعادات، إذا لم تمس إليها حاجة. 10955/م- وذكر الشافعي السكران وأنه لا يحلف حتى يفيق، وهذا يخرّج على أن السكران هل له قول؟ فإن لم نجعل له قولاً، لم يدّع ولم يحلف، وإن جعلناه كالصاحي في عقوده وحلوله، فقد قال الشافعي: لا يحلفه القاضي حتى يُفيق؛ فإن الغرض من الأيمان الزجر عن التمادي في الكذب، والأيمان لا تزجر السكران، وهذا

_ (1) الزيادة في ترجمة الباب من " مختصر المزني " (5/ 152). (2) في الأصل: " والبعض ". وهـ 2: " والقصر ". والمثبت من المحقق.

لا يختص بأيمان القسامة، بل يجري في كل يمين. ثم اضطرب أئمتنا في أن القاضي لو حلفه هل يقع الاعتداد بحلفه؟ منهم من قال: يُعتد به، ولكن أساء القاضي، وحاد عن المسلك المرتضى، لأنه من [أهل] (1) الأقوال جُمَع، ْ ولذلك صحّحنا رجوعه عن الردّة في السكر، كما صححنا ردته. ومن أئمتنا من قال: لا يعتد باليمين؛ فإنه ليس يحصل باستحلافه المقصودُ المنوطُ بالحلف، والقائل الأول يقول: الزنديق يحلف وإن كان يستهين باليمين، ويجوز أن يجاب عنه بأن السكر إلى انقضاء، وارتقابُ زواله ليس أمراً بعيداً، بخلاف الزندقة والعقود (2) الفاسدة. فصل قال: " وهكذا الدعوى فيما دون النفس ... إلى آخره " (3). 10956 - قد أجمع الأصحاب على أن القسامة لا تجري في الأطراف، والمعنيّ بالقسامة في النفي والإثبات البداية بالمدعي، ولا فرق بين أن يفرض قطعها (4) مع اللوث، أو منْ غير لوث، وهذا مما يغمض فيه مُدرك التعليل؛ فإن الأطراف مصونة بالقصاص صَوْن النفوس، وكان لا يبعد من طريق المعنى أن تُتْبَعَ القسامةُ محالَّ القصاص، ثم كان لا يفرق بين ما يقع خطأ وبين ما يقع عمداً، ولكن الإجماع كما ذكرنا. فإذا نفينا القسامة لم يبق [تحالف] (5)، وأقصى ما ذكر في الفصل بين الأطراف والنفوس أن الكفارة لا تتعلق بالأطراف، وتتعلق بالنفوس، وهذا لا يقع الاكتفاء به مع الاستواء في القصاص، ومع الاتفاق على أن العاقلة تحمل أروش الأطراف. هذا هو الذي عليه التعويل.

_ (1) في الأصل: " أصل ". (2) العقود: أي الاعتقادات. (3) ر. المختصر: 5/ 153. (4) أي الأطر اف. (5) في الأصل: " مخالف "، وهـ 2: تخالف.

10957 - ثم إذا تبين أن البداية في الأطراف بالمدعى عليه، فقد اختلف القول في أن الأيمان هل تتعدد؟ ويمكن أن يُرتَّب الطرف على القتل الذي لا لوث فيه؛ فإن الطرف تقاعد عن النفس في وضع الباب في ثبوت القسامة وانتفائها، ثم إذا فرعنا على أن اليمين تتعدد في أرش الطرف، فإن كان الأرش كالدية، فقولان: أحدهما - الاكتفاء بيمين واحدة. والثاني - أن المدعى عليه يحلف خمسين يميناً. فإن كان الأرش أقلَّ من الدية وقلنا: يكفي يمينٌ في مقدار الدية، فلا كلام، وإن [قلنا] (1): خمسين يميناً، ففيما ينقص عن مقدار الدية قولان: أحدهما - أنا نوزع الخمسين على مقدار الدية، وفي نصف الدية خمس وعشرون، وفي ثلثها ثلث الخمسين، وهكذا إلى حيث تنتهي المقادير. والقول الثاني - أنه لا بد من خمسين يميناً، وإن قل الأرش، وكذلك لو كان حكومة غير متقدرة. ولو بلغت الأروش مقدار ديتين أو أكثر، فهل تزيد أقدار الأيمان بزيادة مقدار الأروش؟ فعلى قولين. وهذا قريب المأخذ من الخلاف المذكور في أنا هل نزيد على ثلاث سنين في مدة الضرب على العاقلة إذا زادت الأروش. 10958 - ومما يجب رد النظر إليه أن الأئمة اختلفوا في أن دية المرأة تضرب في ثلاث سنين أو في سنتين، ثم تردد الأصحاب في أن الاعتبار بالنفس أو بالمقدار؟ فهل يجري هذا التردد [في النفوس] (2) الناقصة (3) إذا كان المستحلَف المدعى عليه؟ هذا فيه احتمال، والأشبه تعظيم النفوس في باب الأيمان والتسوية بين ما يكمل بدله وبين ما ينقص بدله، ولا يبعد إجراء الخلاف. أما إذا فرضنا الإقسام على النفوس والبداية بالمدعي، فلا شك أنا لا نفرق بين نفس ونفس؛ فإن حجة المدعى خمسون يميناً، ولو كانت القسامة تجرى في الأطراف تقديراً، لما اختلفنا في تعدد الأيمان. وإن قلّت الأروش.

_ (1) هـ 2: " رأينا ". (2) في الأصل: " أو في "، والمثبت من (هـ 2). (3) النفوس الناقصة: مثل الذمي والمجوسي.

10959 - ثم ذكرت الأئمة فرعاً مقتضباً من أصول جامعة لا غموض فيه، ولكنه يذكرها ويهذبها، فنقول: إذا ادعى على شخصين قطع يد فيخرّج فيه أربعة أقوال: أحدها- أنهما يحلفان يميناً يميناً، وهذا يخرّج على أن الأيمان لا تتعدد في الأطراف. والقول الثاني - أنه يحلف كل واحد منهما خمسين خمسين، وهذا على قول التعدد، وعلى نفي التوزيع على الرؤوس وعلى قدر الدية. والقول الثالث - أنه يحلف كل واحد خمسة وعشرين، وهذا على قول التعدد، وعلى أن لا توزيع على مقدار الدية وعلى أن الأيمان موزعة على الرؤوس. والقول الرابع - أنه يحلف كل واحد منهما ثلاثة عشر يميناً، وهذا على أصل التعدد، وعلى التوزيع على المقدار، والتوزيع على الرؤوس. فنقدّر لنصف الدية خمساً وعشرين، ثم نوزعها على اثنين مع جبر الكسر، فيحلف كل واحد منهما ثلاث عشرة يميناً، ولا يخفى على من أحاط بالأصول ما ذكرناه وأمثاله، إذا ألقاها السائل. ***

باب كفارة القتل

باب كفارة القتل قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية ... إلى آخرها [النساء: 92] (1). 10960 - القتل إذا صادف آدمياً محترماً لعينه، ولم يكن مباحاً، اقتضى الكفارة على من هو من [أهل] (2) التزامها، ثم إن كان القتل مضموناً بالقود والدية، فتجب الكفارة به، وتمسك الشافعي رضي الله عنه بآية الكفارة وهو قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} ورأى التقييد بالخطأ [دالاً] (3) من طريق الفحوى على أن القاتل عمداً بالتزام الكفارة أَوْلى، وخلاف أبي حنيفة (4) في ذلك مشهور. ثم لا فرق بين أن يكون القتل عمداً أو خطأ، أو شبه عمد. ولا فرق بين أن يكون القاتل مكلَّفاً أو غير مكلف. ولا فصل بين أن يحصل القتل بالمباشرة أو بالسبب. والذمّي من أهل التزام الكفارة كالمسلم. ولم يختلف الأئمة في إيجاب الكفارة [في] (5) مال الصبي والمجنون، إذا قَتَلا أو تَسبَّبا، وإن اختلفوا في إيجاب كفارات محظورات الإحرام. والسبب فيه أن تيك الكفارات متعلقة بالعبادات، ولا يتحقق في حق الصبيان تأكدُ العبادات على مبلغ التأكد في حق المكلف. وكان شيخي أبو محمد يقول: إذا جامع

_ (1) ر. المختصر: 5/ 153. (2) زيادة من (هـ 2). (3) في الأصل: " أولاً ". (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 172 مسألة 2282، رؤوس المسائل: 477 مسألة 342، طريفة الخلاف 509 مسألة 202، المبسوط: 26/ 67. (5) في الأصل: " من ".

الصبي الصائم في نهار رمضان، لم يلتزم الكفارة وجها واحداً، بخلاف كفارات الإحرام؛ فإن كفارات الإحرام إنما تثبت على مذهبٍ لتأكد الإحرام، ثم إذا أثبتنا الكفارة في حق الصبي، فالإعتاق عنه في صباه سائغ. وأما الصوم، فهل يصح من الصبي؟ وإذا جاء به هل يقع موقع الإجزاء في الكفارة؟ هذا فيه تردد مأخوذ من قول الأصحاب، مبني على أنه إذا أفسد الحجَّ هل يصح منه قضاؤه في الصبا؛ فإن قيل: إذا كان متعبداً بصوم رمضان ووظائف الصلوات الخمس، فما وجه التردد في صوم الكفارة؟ قلنا: الوظائف الشرعية لا تقع منه فرضاً، والكفارة لا تقع قط إلا فرضاً، وإنما تردد الأصحاب في قضاء الحج؛ لأن وجوبه يدوم بعد البلوغ، ولو أفسد الصبي الصلوات وصيام أيام رمضان، ثم بلغ، لم يخاطب بقضائها. وما ذكرناه كله في القتل المضمون بالقصاص أو الدية. 10961 - فأما إذا لم يكن القتل مضموناً، فهو ينقسم إلى محظور وإلى غير محظور، فأما ما لا يوصف بالحظر، فلا نوجب الكفارة مثل قتل المرتد، والزاني المحصن، والقاتل في الحرابة، والقتل قصاصاً، والقتل الواقع في الدفع. وأما القتل المحظور، فإنه ينقسم إلى محظور بالإيمان كدم العبد في حق السيد، فإذا قتل السيد عبدَ نفسه، التزم الكفارة، وكأن الدم مضمون للآدمي ولله تعالى، وبدل الدم للسيد لو قتل العبدَ، فإذا كان هو القاتل، امتنع ثبوت [القيمة] (1)، وبقي محل حق الله تعالى مضموناً عليه بالكفارة. وأما [نساء الكفار] (2) وأطفالهم، فإنا نحرم قتلهم، كما سيأتي في السِّير، ولا كفارة على من قَتَل منهم، والسبب فيه أن الكفارة إنما تتعلق [بقتل يصادف آدمياً] (3) محترماً في عينه، والامتناع عن قتل الذراري والنسوان ليس على حرمة ثابتة،

_ (1) في الأصل: " القسمة ". (2) في الأصل: " ينسار الكفارة "، والمثبت من (هـ 2). (3) في الأصل: " على تضارب ذمياً ". والمثبت من (هـ 2).

وإنما هو مأخوذ من [استصواب] (1) الشرع في استبقائهم خَوَلاً والاشتغال برجال القتال، فآل أمر [الكفارة] (2) إلى ما ذكرناه. وقال بعض المحققين في حدّ القتل الموجب للكفارة إذا صادف القتلُ مَنْ دمه محقون بأمانٍ أو إيمان، ولم يكن مباحاً، فنقْضُ بِنْيةِ مَنْ هذا وصفُه يوجب الكفارة، وفيما ذكرناه احتراز عن الذراري والنسوان من أهل الحرب. ولا حاجة إلى هذه التقييدات والتعويل على ما قدمناه من ثبوت الحرمة، ويخرّج عليه العبد في حق السيد، وعبدُ الذمي في أمان الذمي، فهو محترم وإن كان كافراً كالذمّي نفسه. 10962 - ثم تكلم الأصحاب على الآية المشتملة على الكفارة فقالوا: قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إنما تقيّد [للتنبيه] (3) على أن الكفارة تجب وإن وقع القتل من غير مأثم، والكفارات كاسمها ممحّصات، قال الشافعي رضي الله عنه: " هذا التقييد يدل على أن القاتل عمداً بالتزام الكفارة أولى " وتقرير هذا في الخلاف. ثم قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] والمراد الذمّي أو المعاهد إذا قُتل. وقال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] وفي ذلك مسائل: إحداها - أن يرمي إلى صف الكفار، ويقصد كافراً بعينه، ولا يعلم [بمكان] (4) مسلم في الدار، فمال السهم وضاف (5)، وأصاب مسلماً جهل الرامي مكانه، فلا قود [عليه ولا دية] (6)، وتجب الكفارة، وهذا هو الذي سماه الفقهاء: قتيل سهم الغَرْب. [وشرط] (7) التصوير في هذه المسألة أن يكون المسلم في القطر الذي فيه موقف

_ (1) في الأصل: "استضراب". (2) في الأصل: "الكفاءة". (3) في الأصل: "البينة". (4) في الأصل: "ثم كان". (5) ضاف: أي مال وانحرف". (6) في الأصل: "والدية". (7) في الأصل: "اشترط".

الكفار، وقد يكون أسيراً فيهم، أو تاجراً من المسلمين، عَسُر عليه الالتحاق بالمسلمين؛ فإن السهم لو مال إلى بعض من في صف المسلمين في ازورار الصفوف والتحام الفئتين وقتله، كان مضموناً بالدية. ولو علم أن في الدار مسلماً، فقصد كافراً، فأخطأ السهمُ وأصاب المسلم، فلا قود، وتجب الدية والكفارة، ولو لم يعلم مسلماً في الدار، وقصد شخصاً قدّره كافراً، [بأن] (1) كان في صفهم أو على زيّهم، فبان مسلماً، لم يلتزم القود، ولزمت الكفارة، وفي الدية قولان، وكان شيخي يطرد القولين في الدية إذا مال السهم إلى أسير مسلم، وكان يعلم أن فيهم مسلماً، ونزّل هذا منزلة ما لو قصد شخصاً ظنه كافراً، فكان مسلماً، وهذا منقاس حسن. وإذا قتل في دار الإسلام شخصاً علمه كافراً من قبلُ مباحَ الدم، فتبين أنه كان أسلم -والقاتل نجهل ذلك من حاله- فالدية تلزم، وفي وجوب القود قولان، وذلك لأن دار الإسلام دار حقْنٍ، فيجب أن يكون [القتل فيه] (2) على تثبت بخلاف دار الحرب، وإذا جرى قتلٌ على الصورة التي قدمناها في دار الحرب فلا ينسب القاتل -بترك التعرف- إلى تفريط. هذا مجامع القول فيما يوجب الكفارة، وفيمن يلتزمها. 10963 - ثم نختتم الباب بأوجه غريبة في مسائل: [منها] (3) ما ذهب إليه أئمة المذهب أن من قتل عمداً، واقتُصّ منه، فالكفارة تجب في تركته، وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً نقله وزيّفه أن القصاص يُسقط الكفارة، وتقع النفس في مقابلة النفس، والسيفُ محّاء الذنوب. وهذا غير معتد به. ومما ذكر غريباً في الباب أن جماعة من أهل الالتزام إذا اشتركوا في قتل إنسان مضمونٍ بالكفارة، فيجب على كل واحد منهم كفارةٌ بكمالها؛ فإن تعطيل الكفارة

_ (1) في الأصل: " فإن ". (2) في الأصل: " ديه "، والمثبت من (هـ 2). والضمير يعود على (الدار) بتأويلٍ لا يعسر عليك. (3) زيادة من المحقق.

لا سبيل إليها، وهي لا تتبعض، وحكى بعض الأئمة قولاً غريباً أن الكفارة الواحدة تُفَضُّ على المشتركين، حكاه شيخي والعراقيون، وتوجيهه على بعده قياسُه على جزاء الصيد، فإن جماعة من المحرمين إذا اشتركوا في قتل صيد، لزمهم جزاءٌ واحد، وهو غير سديد؛ فإن بعض الجزاء يجب في بعض الصيد، فلا يمتنع تبعيض الجزاء بالقسمة، بخلاف كفارة القتل. ومما ذُكر غريباً أن كفارة القتل في الأصل مرتّبة ترتب كفارة الظهار: أصلها الإعتاق، فإن فرض العجز عنه، فصوم شهرين متتابعين، ثم صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الظهار إذا فرض عجزٌ عنه، فإطعام ستين مسكيناً بدلاً عن الصيام، دل عليه نص القرآن، ولم يذكر الله سبحانه وتعالى [الإطعامَ] (1) في كفارة [القتل] (2) [بدلاً] (3). هذا هو المذهب. وحكى بعض الأئمة قولاً غريباً: أن الإطعام يَبْدُل (4) الصيام ويخلُفه، عند فرض العجز عنه قياساً، على كفارة الظهار. وهذا غريب حكاه صاحب التقريب، وهو غير معتد به (5). ثم مما يجب التثبت فيه أن من لزمه صوم شهرين في كفارة القتل، ثم مات، فإنا نوجب في تركته ستين مُدّاً، وليس هذا كفارة، ولكنه بدل كل صومٍ واجب، ونحن نثُبتها بدلاً عن صوم شهر رمضان، وعن الصوم المنذور، كما تقدم شرحه في كتاب الصوم. ومن انتهى إلى هَرَمٍ وكان لا يطيق الصوم، فقد نقول [يفدي] (6) الصوم الواجب

_ (1) في النسختين: " الصيام ". (2) في الأصل: " الظهار "، والمثبت من (هـ 2). (3) زيادة من (هـ 2). (4) يبدُل: من باب قتل. (5) أنكر القفال حكاية القولين على صاحب التلخيص، وقال: هما وجهان، وقال الرافعي: أظهرهما المنع (ر. الشرح الكبير: 10/ 529). (6) في الأصل: " يبدي ".

عليه قضاء، أو نذراً بأمداد الطعام، ولو أثبتنا [الأمداد بدلاً] (1)، لم يتوقف الانتقال إليها على الانتهاء إلى الهرم، وقد ذكرنا الحدّ المعتبر في العجز عن الصيام الذي يجوز لأجله الانتقال إلى الإطعام. فرع: 10964 - إذا قتل الرجل نفسه، ففي وجوب الكفارة في تركته وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يجب وهو الأصح لمصادفة القتل بِنْيةً محترمة في عينها، والكفارة لله تعالى، فصار كما لو قتل السيد عبد نفسه. ومن أصحابنا من قال: لا تجب الكفارة أصلاً، لأن الكفارة لو وجبت، لوجبت بالموت، وهو بالموت يخرج عن أن يكون من أهل الالتزام. ونحن الآن نمهد أصلاً، فنقول: إذا جرى في الحياة سببٌ كحفر بئر أو نصب شبكة، ومات المتسبب، وحصل القتل بذلك السبب بعد موته، فالضمان يجب في تركته إن كان المتردي بهيمة، وإن كان آدمياً، فالديةُ على عاقلته، وفي الكفارة تأمل؛ من جهة أنها عبادة، والعبادات يبعد إيجابها بعد الموت، وهذا يخرّج على قولٍ حكيناه في أن من لم يوصِ بأن يُكفَّر عنه هل تسقط الكفارة بموته؟ فإذا قلنا: [إنها تسقط] (2)، فلا شك أنها لا تجب بعد الموت. وأما غرامات الأموال، فإنها تتعلق بالتركة، وإن حصل الهلاك بعد الموت إذا جرت الأسباب المضمِّنة في الحياة، وليس ما ذكرناه بمثابة قتل الإنسانِ نفسَه، فالأصح وجوب الكفارة. ثم إذا اصطدم رجلان، وماتا، فقد ذكرنا حكم الدية في باب الاصطدام، فأما الكفارة، فإن أوجبنا الكفارة على من يقتل نفسه، فيجب على كل واحد منهما كفارتان؛ لأنه مشارك في قتل نفسه وقتل صاحبه. وإن فرعنا على أن الكفارة لا تجب على من قتل نفسه، فتجب على كل واحد منهما كفارة لمشاركته في قتل صاحبه، وإن

_ (1) في الأصل: " الأمر إذ لا بد ". (2) في النسختين: " فإذا قلنا: لا تسقط " وهو مخالف للسياق، والتصويب من المحقق. وقد تأكد بعبارة الغزالي في البسيط حيث قال: " إن قلنا: تسقط إذا لم يوص بها، فتسقط هنا " (البسيط: 5/ورقة: 93 شمال).

قلنا: يجب على الشريك بعض الكفارة، ولا يجب على من قتل نفسه كفارة، فيجب على كل واحد منهما نصف كفارة، وهذا يتفرّع على قولٍ بعيد ووجه ضعيف. وإذا اصطدمت امرأتان حاملتان وأجهضتا جنينيهما، وماتتا، وفرعنا على الأصح، وقلنا: على من يقتل نفسه كفارة، فيجب على كل واحدة منهما أربع كفارات، لسعيها في قتل نفسها، وقتل جنينها [وقتل صاحبتها وقتل جنينها] (1) ولا يخفى التفريع على الوجوه الفاسدة. ثم ذكر الشافعي باباً في أن القاتل خطأ لا يرث، وقد استقصينا ما يوجب حرمان الميراث في كتاب الفرائض (2). ...

_ (1) زيادة من (هـ 2). (2) نهاية الجزء الذي اتخذناه أصلاً من نسخة ت3، أو بالتحديد كان النسخة الوحيدة من أول الجراح إلى أواخر القسامة. حيث بدأت نسخة (هـ 2) كنص مساعد إلى هنا. وستستمر (هـ 2) إلى آخر (الصيد والذبائح). وقد جاء في خاتمة هذا الجزء ما نصه: " تم الجزء ... يتلوه في الذي يليه باب الشهادة على الجناية. والحمد لله على عونه وإحسانه، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلامه (كذا) غفر الله لكاتبه وصاحبه ومن نظر فيه ودعا لهما وجميع المسلمين، آمين ".

باب الشهادة على الجناية

باب (1) الشهادة على الجناية قال الشافعي: " ولا يقبل في القتل وجراح العمد ... إلى آخره " (2). 10965 - صدر الشافعي رضي الله عنه الباب بطرف من الكلام فيما يقبل فيه شهادة الرجل والمرأتين، وفيما لا يقبل فيه إلا شهادة عدلين، ولسنا [نلتزِم ثَمَّ ضبط] (3) ذلك وتحرير كلام جامع فيه؛ فإن هذا يأتي مستقصىً في كتاب الشهادات -إن شاء الله عز وجل- والقدْر الذي نذكره هاهنا تمهيداً وتفريعاً، القول في الجراح والجنايات المتعلقة بالنفوس والأطراف. فنقول: القصاص لا يثبت إلا بشهادة عدلين في النفس والطرف، والجناية التي موجَبها القصاص لو ثبتت لا تثبت في نفسها إلا بشهادة عدلين، وليس ما ذكرناه تكريرأ؛ فإنه قد يظن ظان أن الجناية إذا كانت موجِبةً للقصاص، فإذا شهد عليها رجل وامرأتان، فالقصاص لا يثبت والمال يثبت، وليس كذلك، فإنا لا نثبت بالرجل والمرأتين القصاصَ، ولا الجنايةَ الموجبةَ للمال، وسنعلّل هذا؛ فإنا في نقل المذهب [نَعُدّ الجناية التي لا يتعلق] (4) بها وجوبُ القصاص: إما لوقوعها خطأ، أو شبهَ عمد، أو لصدورها من صبيّ أو مجنون، أو لمصادفتها من لا يكافئ القاتل- تثبت بشاهد وامرأتين، وهذا يبتني على اتباع المقصود، والجناية التي لا يتعلق بها

_ (1) يبدأ العمل من هنا متخذاً نسخة هـ2 أصلاً، نسخة (ت 4) نصاً مساعداً، ويستمر هذا إن شاء الله إلى نهاية (ت 4) بباب قطاع الطرق، وعندها تنفرد (هـ 2) بدءاً من كتاب الأشربة، والله المستعان. (2) ر. المختصر: 5/ 154. (3) في الأصل: " ننتظم ضبط ذلك "، والمثبث من (ت 4). ويلاحظ أنه استعمل كلمة (ثَمَّ) للقريب على غير المعهود، فهو يقول: ولسنا نلتزم ضبط ذلك (هنا) على حين لفظ (ثم) معناه (هنالك). (4) في الأصل: " بعدُ بجناية ألا يتعلق " والمثبت من (ت 4).

القصاص مقصودها المال، وما كان المقصود فيه المال، فهو يثبت بالشاهد والمرأتين. والجناية التي توجب القصاص مقصودها القصاص، وما لا يكون المال مقصوداً فيه، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا يثبت بشاهد وامرأتين. وهذا يرد عليه نوعان من السؤال: أحدهما - أن قائلاً لو قال: هلا خرّجتم ذلك على موجب العمد، واختلاف القول فيه حتى تقولوا: إن قلنا موجَبُ العمد القود، فالجناية لا [تثبت] (1) أصلاً، فإن قلنا: موجبها القود أو الدية، فليس أحدهما أن يكون مقصوداً أوْلى من الثاني، فلا يبعد أن يقال: تثبت الجناية مقتضية للمال، ولا يثبت القصاص؟ قلنا: نحن لا نشك أن المقصود الذي هو الأصل في جراح العمد القصاصُ؛ وليس المعنيُّ بقولنا: المالُ أحدُ الموجَبين (2) أنه يضاهي القصاص؛ فإنّ غرض الشرع إثبات ما يزجر المعتدين، ولا يقع الزجر -فيما فهمناه من مقصود الشرع- بالغرم المالي، والدية حيث يفرض القصاص إنما تثبت حتى لا تتعطل الجناية ولا تقع هدراً، وهذان [الأمران] (3) مفهومان من غرض الشرع، فيخرج منه أنا وإن قلنا: المال موجب، فلسنا ننكر كون القصاص مقصوداً، فهذا ما يضبط به أصل الباب. 10966 - ويتصل بهذا المنتهى أن المدعي لو عفا عن القصاص أولاً، ثم أراد إقامة شاهد وامرأتين، فهل يثبت المال والجناية في أصلها موجبةٌ للقصاص؟ فعلى وجهين مذكورين في الطرق: أحدهما - أن المال يثبت؛ فإن القصاص خرج عن كونه مقصوداً بالعفو، وتعيّن المال، وإذا صار المال مقصوداً، وجب ألا يمتنع ثبوته بالشاهد والمرأتين. والوجه الثاني - أن الجناية لا تثبت إلا بشهادة عدلين، فإن الشاهد يسند شهادته إلى ما كان، والعفو جرى بعد مستند الشهادة، فكأن (4) أحد القائلَيْن ينظر إلى أصل

_ (1) في الأصل: " توجب ". (2) ت 4: " الوجهين ". (3) في الأصل: " الإقراران ". (4) ت 4: " وكأن ".

الشهادة (1)، وهذا فيه فقه غائص [يعضده] (2) أن المال لا يثبت قبل العفو. وإن قلنا: المال مع القصاص متقابلان، والبدل أحدهما، والقائل الثاني يعتبر حالة قيام الشهادة ولا قصاص إذ ذاك، ويعتذر هذا القائل عما قبل العفو، بأن المال وإن كان بدلاً غير معيّن فثبوته معيناً، والجناية عمد بعيد. فهذا قاعدة الباب. ومهما (3) قلنا تثبت الجناية بشاهد وامرأتين، فإنها تثبت بشاهد ويمين المدعي، وهذا مطرد إلا فيما ليس بمالٍ ويعسر اطلاع (4) الرجال عليه، فإنه يثبت بالشاهد والمرأتين، ولا يثبت بالشاهد واليمين؛ والسبب فيه أن النسوة متأصلات فيما لا يطلع عليه الرجال منهن، فامرأتان مع رجل كرجل مع رجل، ولهذا تقبل شهادة أربع نسوة منفردات، لا رجل معهن، فلم يكن قبول شاهدٍ ويمين بمثابة قبول شاهد وامرأتين في الأموال بالإضافة إلى ما ليس بمال ولا يؤول إلى مال، وهو مما يطلع عليه الرجال، فإنا حططنا رتبة المال وقنعنا فيه ببيّنة منحطة عن شهادة الرجلين العدلين، وما يتعلق بأبدان النساء خطير في نفسه، وليس شهادة الرجل والمرأتين فيه لانحطاطه. فصل قال: " وإن كان الجرح هاشمة أو مأمومة ... إلى آخره " (5). 10967 - قد ذكرنا في كتاب الجراح أن القصاص لا يتعلق من شجاج الرأس إلا بالموضحة، فإذا كان المدَّعَى الموضِحةَ الواقعةَ على وجه يقتضي القصاص، فلا شك

_ (1) ت 4: " الجناية ". (2) زيادة من (ت 4). (3) مهما: بمعنى إذا. (4) ت 4: " إطلال ". (5) المختصر: 5/ 154.

أنها لا تثبت بشاهد وامرأتين، ولو فرضت هاشمة، لم يتقدّمْها إيضاح، وكانت هي المدعاة تثبت بالشاهد والمرأتين، وكذلك القول في كل جراحة لا يتعلق بها القصاص، كالجائفة وما أشبهها. فأما إذا ادعى موضحة متصلة بالهشم، فالجناية مشتملة على ما يوجب القصاص وعلى ما لا يوجب، فإنها لو ثبتت ببيّنة كاملة، أو بإقرار المدعى عليه، جرى القصاص في الإيضاح، وثبت المال في مقابلة الهشم. فإذا تصورت المسألة، فالمنصوص عليه للشافعي أن هذه الجناية إذا شهد عليها رجل وامرأتان قبل العفو عن القصاص، لم يثبت منها شيء، لا موجَبُ الموضِحة، ولا أرشُ الهاشمة، ونص الشافعي على أن من ادعى أن فلاناً اعتمد رجلاً بالرمي وأصابه، ونفذ السهم منه إلى أبيه -يعني أب المدعي- فأصابه خطأ، فلا يثبت العمد برجل وامرأتين، ويثبت ما وراءه مما وقع خطأ، وهو نفوذ السهم إلى أب المدعي، وهذه الصورة تناظر الموضحة المؤدية إلى الهاشمة؛ من جهة أن الموضحة جرح قصاص وما وراءها جرح مال، كذلك القول في السهم المرسل عمداً النافذ من المقصود المعمود إلى من لم يُقصد. فاختلف أصحابنا في المسالتين: فمنهم من جعل فيهما قولين بالنقل والتخريج: أحدهما - أن المال يثبت فيما لا قصاص فيه في المسالتين، وهو أرش الهاشمة في مسألة الهاشمة، ودية من أصابه السهم النافذ خطأ في الأخرى. ووجه ذلك أن الدعوى اشتملت على أمرين: أحدهما - منفصل عن الثاني، فإن رُدت البينة الناقصة في أحدهما، فلا معنى لردها في الثاني، ولو أفرد الهاشمة ووقوعَ السهم خطأ بالدعوى، وأقام على ما يدعيه بينة ناقصة، لقبلت، فإذا جمع بين دعوتين، وقامت البينة عليهما، واقتضى الشرع ردَّ البينة في أحدهما، فلا معنى لردّها في الثاني. والثاني - لا يثبت أرش الهاشمة، ولا موجَب الخطأ؛ لأن الفعل واحد، وله أثران، وموجبان، فإذا كانت البينة مردودة في بعض موجَب الفعل، ردت في

الجميع، بدليل أنها مردودة في الدية والجراح العمد (1) [وإن] (2) قلنا: الموجب القود أو الدية: أحدهما لا بعينه. 10968 - ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرق بين الموضحة المؤدية إلى الهاشمة، وبين الرمي الواقع عمداً لشخص والنافذ منه خطأ إلى غيره، وقال: الموضحة المؤدية إلى الهاشمة تعدّ جناية واحدة ومحلها متحد، وإنما تختلف الآثار، والمحلُّ متعدد متميز في الشخصين المذكورين في مسألة الرمي. وهذا يحتاج إلى بحث، ثم إلى تمهيد: أما البحث، فقد ذكرنا في مسألة الشخصين والسهم النافذ من أحدهما [أن المدعي] (3) لو قال: سهمه الذي رماه عمداً [تخطى] (4) مقصودَه، ثم نفذ إلى أبي، ولم يكن الرجل الأول متعلّق حق المدعي، فيجب القطع بأن الخطأ يثبت بالبينة الناقصة، وأن ما ذكره من عمده لا يتعلق بدعواه، وكأنه نقص [قضيته] (5) ولا يدعيها، ومبتدأ الدعوى بعد نجاز ذكر العمد. نعم، لو كان الشخص الأول من المدعي بسببٍ بحيث يثبت القصاص له لو ثبت، فهذا مراد النص، وما ذكرته من كون المعمود منقطعاً عن المدعي فيه احتمال على حال؛ فإن الجناية في نفسها عمد مُفضٍ إلى خطأ، والعلم عند الله. ولو ادعى أنه أوضح الرأس، ثم عاد وهشم، وانفصل الهشم عن الإيضاح، فموجب الهاشمة يجب أن يثبت؛ فإنها لم تتصل بالموضحة، ولم تنتظم معها انتظام آثار جناية واحدة، فهذا [نتيجة] (6) البحث. وأما التمهيد، فلو ادعى رجل قصاصاً، وادعى مع القصاص مالاً في جهة لا تعلق لها بدعوى القصاص، فالجمع بين الدعوتين سائغ، فلو أقام شاهداً وامرأتين على

_ (1) ت 4: "عمداً". (2) في الأصل: " إن ". (بدون الواو). (3) في الأصل: " أنه ". (4) زيادة من المحقق. (5) في الأصل: " قيمته "، وفي (ت 4) " قصة " والمثبت من المحقق. (6) في الأصل: " متجه ".

الدعوتين، فالمذهب المبتوت أن المال يثبت وإن لم يثبت القصاص، [واشتمال] (1) الشهادة على أمرين منفصلين غير ضائر، والرد في أحدهما لا يوجب الرد في الثاني. وأبعد بعض من لا حقيقة معه، فقال: إذا ردت الشهادة في شيء لو أفرد بالذكر، لردت فيه، فترد أيضاً [فيما] (2) لو أفرد بالذكر، لقبل فيه، وإن لم يكن أحدهما متصلاً بالثاني ومفضياً إليه، وهذا هَوَسٌ لا يعتد بمثله، فليقع التعويل على أنهما إذا كانا منفصلين فردُّ الشهادة في أحدهما لا يوجب الردّ في الثاني إنما التردد الذي قدمناه بين النصين في أمرين يتصل أحدهما بالثاني كالسهم النافذ من شخص إلى شخص، وكالجراحة المتعدية من الإيضاح إلى الهشم. وقد نجز الغرض من تحقيق هذا الفصل. 10969 - وافتتح صاحب التقريب بعد هذا تفريعاً فقال: إذا قلنا: تثبت الهاشمة وأرشها على قول، فهل يثبت القصاص في الموضحة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يثبت ويكون في حكم التابع، كما أن الولادة إذا ثبتت في الفراش بشهادة النسوة، ترتب عليها النسب، وإن كان النسب لا يثبت مقصوداً بشهادة النسوة. وهذا الذي ذكره على نهاية الضعف، وقد حكاه الشيخ أبو علي على هذا الوجه، وهو عكس ما قدمناه في تمهيد المذهب، فإنا أتبعنا الهاشمةَ قصاصَ الموضِحة في الإسقاط؛ من حيث رأينا القصاص أولى بالاعتبار، وهذا الذي ذكره تأصيل أرش (3) الهاشمة وإتباع القصاص إياه في الثبوت، وهو عكس الواجب، وليس من ضرورة الهاشمة تقدّم موضحة أو وجوب القصاص في موضحة، والولادة إذا ثبتت، فالولد للفراش لا محالة، قال الشيخ أبو علي: إن لم يكن من التفريع بد، فالأقرب أن نقول: إذا أثبتنا أرش الهاشمة، لم يثبت قصاصُ الموضِحة، ولكن هل يثبت أرش الموضحة من حيث وجدنا فيه متعلقاً لثبوت المال؟ فعلى وجهين، وليس كجناية موجبة القصاص، غيرِ مفضيةٍ إلى ما يوجب المال المحض؛ فإنه ازدحم القصاص

_ (1) في الأصل: " وإثبات " والمثبت من: (ت 4). (2) في الأصل: " كما ". (3) ت 4: " أصل ".

والمال، ولا سبيل إلى جمعهما، فكان النظر إلى القصاص. وإذا اشتملت الجناية على الهاشمة والموضحة، فقد [يثبت مال حيث لا قصاص فقد] (1) يحتمل أن نستتبع مالية الموضحة. فأما استتباع قصاص الموضحة، فبعيد عن التحقيق، كيف والنص قاطع بأن أرش الهاشمة لا يثبت، وإن (2) كل ما فرعه صاحب التقريب على قولٍ مُخرج من مسألة الرمي، ولم أر لما ذكره من التردد في قصاص الموضحة نظيراً إلا شيئاً حكاه من يوثق به عن القاضي في مسألةٍ نذكرها، ونصف ما نقل عنه فيها: لو شهد رجل [وامرأتان على سرقة موجبة للقطع، قال: يثبت المال، وفي القطع وجهان، وهذا على نهاية البعد، فإن إثبات القطع وهو حق لله بشهادة رجل] (3) وامرأتين محال. ثم قال: هذا بمثابة ما لو أقر بسرقة مال، فالقطع يثبت، وفي المال قولان. ولا سواء؛ فإنا إنما قبلنا الإقرار فيما يوجب القطع لانتفاء التهمة، وهذا المعنى يشمل المال والقطع، فجرى التردد لهذا، فأما إثبات القطع تبعاً للمال، فلا سبيل إليه. نعم، الوجه إثبات المال؛ فإن ضمانه يثبت بإثبات اليد عليه، وهو في حكم التميّز عن السرقة [بماهية] (4) مخصوصة كتصرف السارق في المال، وسيكون لنا إلى هذه المسألة عود في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " ولو شهدا أنه ضربه بالسيف، وَقَفْتُهما ... إلى آخره " (5). 10970 - إذا ادعى على واحد قتل أبيه، وأقام شاهدين على أنه ضربه بالسيف، لم يثبت بهذا شيء، فإن السيف قد ينبو عن الضربة، وقد يقع عرْضاً، وقد لا ينفذ.

_ (1) زيادة من (ث 4). (2) ت 4: " وإنما". (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، والمثبت من (ت 4). (4) في الأصل: " وإنما هية ". و (ت 4): " فإنها بينة "، والمثبت تصرف من المحقق. (5) ر. المختصر: 5/ 154.

ولو قالا: ضربه بسيف وأنهر الدمَ، واقتصرا على ذلك، لم يثبت القتل بهذا، وتعليله بيّن، فإنهما لم يتعرضا للقتل، ولا لما يحصل به القتل لا محالة. ولو قالا: نشهد أنه ضربه بالسيف، فمات، أو قالا: ضربه بالسيف فمات، فالذي قطع به أهل التحقيق أنه لا يثبت بهذا شيء، فإنهما ذكرا الضرب بالسيف والموت ولم يتعرضا لحصول القتل به. وفي طريق العراقيين ما يدل على أن القتل يثبت إذا قالا: نشهد أنه ضربه بالسيف، فمات، وهذا -إن لم يكن خلل في النسخة- غلطٌ منهم ظاهرٌ، غير معتد به. ولو قالا: ضربه بالسيف وأنهر دمه ومات مكانه بتلك الجراحة، أو قالا: مات بعده من تلك الجراحة، فيثبت القتل حينئذ. 10971 - ومما يتعلق بهذا الموقف أنه هل يجوز تحمل الشهادة على القتل إذا نظر الناظر، فرأى سيفاً يقع بشخص، وينهر الدمَ منه، ثم يراه ميتاً على الاتصال، فهل له أن يشهد والحالة هذه على القتل؟ هذا مما يجب إنعام النظر فيه، فنقول: لا خلاف أنه لو فرضت الجناية واتصال الموت بها على الوجه الذي وصفناه، وفرض تنازع الجاني وولي المجني عليه، فقال ولي المجني عليه: حصل الموت بالجناية، وقال الجاني: بل مات فجأة بسببٍ هجم عليه، فالقول قول ولي المجني عليه. وهل يجوز تحمل الشهادة على القتل ثم نجعل فيه القولَ قولَ من يدعي القتل مع يمينه؟ الرأي أن نقول: إن انضم إلى ذلك دركٌ متلقّىً من قرائنَ تفيد العلم، فيجوز الشهادة على القتل، وإن لم يجد الشاهد إلا ظهورَ الجرح، وإنهارَ الدم واتصالَ الموت، فهذا عندي بمثابة الشهادة على الملك تعويلاً على اليد في أصل الوضع، وفي جواز الشهادة على الملك لمجرد اليد كلامٌ، سيأتي في الدعاوى، إن شاء الله عز وجل. والوجه عندي -وإن كانت مسألة الجرح في الصورة كمسألة اليد- ألا يتحمل الشهادة على القتل؛ فإن معاينة القتل ممكنة وتلقِّي (1) العلم من قرائن الأحوال ليس

_ (1) ت 4: " ويكفى".

بعسير، والأملاك لا مستند لها من [يقين] (1)، وغاية المتعلّق بها مخايل وعلامات. ثم الرأي الظاهر أن مجرد اليد لا يسلّط على تحمل الشهادة على الملك، ما لم ينضم إليها تصرف المُلاك. هذا ما أردناه في ذلك. 10972 - ولو ادعى موضِحة وأقام [شاهدين] (2) على أنه أوضحه، فقد قال الأصحاب: لا يثبت [الغرض] (3) حتى يصف الموضحة، ويشير إليها من رأس المجني عليه، فإن الشجاج أقسام، وقد يشتبه على الناس في الغالب تفاصيلُ مراتبها، ويختلط عليهم ألقابها، فلا بد من المباحثة. وتحقيق هذا يرجع إلى أن الموضِحة إن كانت تجري على لفظها في اللغة، فهي من الإيضاح، وليس فيها تعرض لإيضاح العظم، والمطلوب إثبات إيضاح العظم، وإن كانت تُحمل على تعارف الفقهاء، فلا يمكن حمل لفظ الشاهد على ألقابٍ تواضع الفقهاء عليها، [واللفظ] (4) متردد في نفسه، والذي يخطر للفطن في هذا المقام أن الشاهد لو كان فقيهاً، وقد علم القاضي منه ذلك، وتبين له أنه لا يطلق الموضحة إلا على ما يوضح العظم، وفهم القاضي ذلك منه، فهذا موضع التردد: يجوز أن يقال: لا بد من كشف الأمر لفظاً؛ فإن للشرع تعبدات في ألفاظ الشهادات، وإن كان العلم يحصل بغيرها. ولو صرح الشاهد بإيضاح العظم، ولم يُبق إشكالاً، وقَرُب العهد، فعاينَّا رأس المشجوج، فلم نجد عليه أثراً، فالشهادة مردودة؛ فإن الاندمال إن كان يفرض على قربٍ، فانقطاع الأثر غير ممكن. وإن وقعت الشهادة وعسر على الشاهد تعيين محل الجراحة، فالوجه إثبات

_ (1) في الأصل: " تعين ". (2) في الأصل: " شاهدا ". (3) في الأصل: " الفرض "، وفي (ت 4) طمست تماماً، والمثبت مأخوذ من فحوى كلام الغزالي في البسيط. (4) سقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 4).

الموضحة، وإمضاء الحكم بها، ثم يعسر إجراء القصاص، إذا لم يدرك المحل، وهذا يظهر تصويره فيه إذا كان برأس المدعي المشجوج شجات، والشهود يزعمون أن ما شهدوا عليه واحدة منها، وعسر عليهم تعيينها، (1 فهذا موضع النظر. والوجه عندي أن الموضحة المدعاة إن كانت خطأ، فلا يضرّ عُسْرُ 1) تعيينها في الصورة التي ذكرناها، ويثبت أرشها. وإن كانت الموضحة المدعاة بحيث توجب القصاص لو ثبتت، فإذا عجز الشهود عن تعيين محلها والتبست بشجاج على الرأس، فهذا محل التردد؛ فإن المقصود من هذه الجراحة -لو ثبتت على صفتها- القصاصُ، وإثبات القصاص عسرٌ، فلا يبعد ألا تثبت الجناية أصلاً، كما لو شهد رجل وامرأتان على موضحة معيّنة موجبها القصاص، فإن أرش الموضحة لا يثبت لامتناع ثبوت القصاص، وهذا الذي ذكرناه اختيار القاضي، ويجوز أن يقال: يثبت أرش الموضحة؛ فإن الشهود رجال عُدول، أو رجلان عدلان، وهم من أهل إثبات القصاص، فلم يأت العُسر من نقصان البينة، وإنما أتى من خللٍ آيلٍ إلى الالتباس، وكان شيخي يميل إلى هذا، والمسألة فقيهة حسنة. فصل قال: " ولو شهدا على رجلين أنهما قتلاه ... إلى آخره " (2). 10973 - يجب الاهتمام في مضمون هذا المفصل بتفضيل الصور، وتمييز البعض منها عن البعض، وتوفير حظ كل مسألة من وجوه البيان: نقلاً، وتعليلاً، وبحثاً. والمسألة الأولى مفروضة فيه إذا شهد شاهدان على رجلين بالقتل، فشهد المشهود عليهما على الشاهدين بأنهما قتلا ذلك الشخص المعيّن، فلا يخلو إما أن يكون المدعي هو الذي تولى الدعوى بنفسه أو وكل وكيلاً لينوب عنه في الدعوى، فإن كان قد تولى الدعوى بنفسه، فإن ادعى على والآخرَيْن وشهد الأوّلان عليهما على وفق الدعوى،

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) ر. المختصر: 5/ 154.

استحق دعواه عليهما، ولم يتعلق بشهادة الآخرين حكم. ولو ابتدر الأولان، فشهدا من غير دعوى من المدعي، ثم شهد المشهود عليهما على الأولين من غير دعوى، فالذي ذهب إليه المحققون أن شهادة الكل مردودة؛ لأنها مشروطة بتقدم الدعوى، وإنما تقبل الشهادة ابتداء على طريق الحسبة فيما يغلب فيه حق الله تعالى، كما سيأتي، مواضع شهادة الحسبة في موضعها، إن شاء الله تعالى. وقال قائلون: شهادة الحسبة مقبولة في حُقوق الآدميين من غير تقدم دعوى، وهي مجراة مجرى الإعانة والإرشاد والتنبيه على استحقاق الحقوق، ثم من سلك هذا المسلك افترقوا: فمنهم من قال: شهادة الحسبة إنما (1) تقبل إذا لم يكن ذو الحق عالماً بحقه، فتجري الشهادة مجرى الإعلام والإثباتِ لحقٍّ مُشرفٍ على الضياع. فأما إذا كان ربُّ الحق عالماً بحقه، فشهادة الحسبة مردودة. ومن أصحابنا من قال: إذا لم نشترط تقدم الدعوى، وقبلنا شهادة الحسبة، لم نفرق بين أن يكون صاحب الحق عالماً بحقه، وبين ألا يكون عالماً به، وهذا الوجه أقرب في التفريع على هذا الوجه الضعيف. والمذهب المعتمد ردُّ الشهادة التي لا تتقدمها الدعوى. وكان شيخي يقرّب الخلاف في شهادة الحسبة من أصلٍ في المغصُوب، وهو أن من رأى مالاً مغصوباً في يد الغاصب، فهل له أن يأخذه من يده ويحفظه على مالكه، من غير إذنٍ من المالك، ولا نصبٍ من الوالي؟ فيه اختلافٌ. ووجه المناظرة بيّنٌ. ثم ما ذكرناه لا يختص بالقصاص، بل يجري في الأموال، ولو قال قائل: هذا الخلاف يختص جريانه بالمال دون القصاص، لم يُبعد، والوجه التسوية؛ فإن القصاص مع تعرضه للسقوط بالشبهات خُصّ بمزيد في الإثبات لا يثبُت مثله في الأموال، وهو أيمان القسامة. فهذا منتهى ما أردناه.

_ (1) ت 4: "لا تقبل".

10974 - ثم فرع صاحب التقريب على الوجه الضعيف في أن الشهادة تقبل قبل الدعوى، فقال: إذا ابتدرك أربعة إلى مجلس القاضي، وشهد اثنان منهم على الباقيَيْن، أنهما قتلا فلاناً، وشهد الباقيان أن الأولين قتلا ذلك الشخص، ولم يسبق من الولي دعوى، فما حكم ما جرى والتفريع على قبول شهادة الحسبة؟ قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أن الشهادتين باطلتين، وليست إحداهما أولى بالقبول من الثانية، وقد تصادمتا. والوجه الثاني - أنا نراجع مستحقَّ الدم، فإن لم يصدقهم، بطلت شهاداتهم، وإن صدق اثنين منهم وقع القضاء بشهادتهما، وتبطل شهادة الآخَرَيْن؛ وذلك أنا وإن كنا نقبل الشهادة قبل الدعوى، فإذا تأيدت إحدى الشهادتين بتصديق المدعي، سقطت الأخرى، كما لو ادعى، فشهد اثنان على وفق الدعوى، ثم شهد آخران على هذين الشاهدين من غير دعوى، فالشهادة الثانية مردودة، لتأكد الشهادة الأولى بالدعوى، وإن كنا نقبل الشهادة من غير دعوى. هذا منتهى كلام صاحب التقريب في هذا التفريع. وقال قائلون من أصحابنا: إذا شهد اثنان من الأربعة على الباقيَيْن منهم أنهما قتلا فلاناً، فشهد الباقيان على الأولين أنهما قتلاه، فشهادة الباقيَيْن مردودة لعلتين: إحداهما- لأنهما يدفعان عن أنفسهما ما قرب ثبوته عليهما، وإذا تضمنت الشهادة دفعا، رُدت. والمعنى الثاني - أنهما صارا عدوين للشاهدين الأولين لما جرى لهما، وشهادةُ العدو على عدوه مردودة، وهذا الوجه حسنٌ فقيه، والأولى الاكتفاء بتعليل ردّ شهادة الباقيين لكونهما دافعين؛ فإن العداوة التي تردّ بها الشهادة لا تثبت بهذا المقدار، والقولُ فيها من غوامض أحكام الشهادات، وسنذكر بتوفيق الله تعالى في تلك القواعد المنتشرة ما يقربها من الضبط، ويسهل مأخذَها على الطالب، إن شاء الله تعالى. 10975 - ومما نرى تقديمه على الاتصال في المسألة والخوضِ فيها اختلافٌ مشهور للأصحاب في أنا إذا فرّعنا على الأصح، وقلنا: لا تُقبل الشهادة في حقوق الآدميين

من غير تقدّم (1) الدعوى، فلو ابتدر الشاهد وشهد، ورددنا شهادته لوقوعها قبل الدعوى، فإذا ادعى المدعي، فلا شك أنه لا نكتفي بالشهادة المتقدمة، ولكن لو استعادها فأقامها الشاهد مرة أخرى، أو أعادها، فهل تقبل الشهادة المعادة منه؟ فعلى وجهين مشهورين، ولأصحابنا في إيرادهما مسلكان: أحدهما - وهو الذي ذهب إليه الجمهور أنا إن قبلناها -وهو القياس- فقد لغا ما تقدم، وإن لم نقبلها معادةً، فالسبب فيه ما ظهر من تشوّف الشاهد إلى الشهادة، وهذا يُلحق به تهمةً في مقصود الواقعة. ثم استتم هؤلاء التفريع وقالوا: إذا رددنا الشهادة المعادة، فالمخلِّص من هذا التعذر أن يتوب الشاهد عما جرى له، ويذكر أنه لا يعاود مثله، ولا يبادر الشهادة قبل الاستشهاد، ثم الفاسق إذا تاب، لم تقبل شهادته حتى يُستبرأ شهراً (2). قال الأصحاب: هذا المبتدر يُستبرأ أيضاً، ولا يبلغ استبراؤه مبلغ استبراء الفاسق يتوب؛ فإن الغرض يحصل بأن يتبين لنا [تنبهه] (3) لإقامة الشهادة في حقها ووقتها [وترك] (4) ما يدل على (5) غرضه من التشوّف والابتدار. وهذا المسلك وإن كان ظاهراً، فليس على ما أوثره وأحبه. (6) وقال قائلون من أئمتنا: سبيل (7) ردّ الشهادة المعادة أنها جرت، فرُدَّت ممن كان على الجملة متمكناً من شهادة مقبولة، ومن رُدّت له شهادة مقبولة على هذا النعت، فإذا أعادها، لم تُقبل منه، كما لو شهد الفاسق في حالة فسقه، فرُدت شهادته، فلو تاب وظهرت عدالته، فأدى تلك الشهادة، لم تُقبل منه، فكذلك القول

_ (1) ت 4: " تعرص ". (2) في ت 4: " أشهراً ". ولم أصل إلى تحديد مدة الاستبراء هذه في البسيط، ولا الشرح الكبير، ولا الروضة، ففيها كلها إشارة موجزة إلى الاستبراء، بدون ذكر الشهر والأشهر. (3) في الأصل: " شبهه "، في (ت 4) لا تكاد تقرأ. (4) في الأصل: " ترك "، وفي (ت 4): " ونزل ". (5) ت 4: "عليه ". (6) هذا هو المسلك الثاني. (7) سقطت من (ت 4).

في ابتدار الشهادة قبل الدعوى مع إعادتها بعد الدعوى، وهؤلاء يقولون: لا تقبل منه تلك الشهادة أبداً، فلا ينفع قبول (1) توبته، ولا استبراؤه، وهذا تباين عظيم بين المسلكين. فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه ظاهر، و [قد قلتم] (2) الأظهر قبول الشهادة المعادة من غير توبة ولا استبراء؟ قلنا: الفرق ظاهر بين ما نحن فيه وبين الفاسق ترد شهادته، وذلك أن الفاسق إذا ردت شهادته يلحقه غضاضة تبلغ [به] (3) الأنفة، فقد يتهم في إعادة تلك الشهادة (4)، وسيأتي تقرير هذا في موضعه، إن شاء الله. وأما من ردَّت شهادته المقامة قبل الدعوى، فلا غضاضة عليه، بل يقال له: ابتدرت الشهادة وأنت من أهلها، فاصبر حتى يدخل وقت إقامة الشهادة، فإذا دخل بصدور الدعوى من المدعي، فأقمها، وليس هذا كما لو ردت شهادة الفاسق لاتصافه [بنقيصة] (5) الفسق، والفسق مما يكتم ولا يتظاهر به، وإذا نسب الشخص إليه حرص [على] (6) إظهار نقيضه. ومما يتعلق بذلك أن صاحب الحق إذا تولى الدعوى بنفسه بعد تقدم شهادة الأولَيْن على الآخَرَيْن، وشهادة والآخرين على الأولَيْن وقلنا: تقبل [شهادة الحسبة] (7) قبل الدعوى والاستشهاد، فإن صدّق الأولَيْن، ثبت الحق على والآخرَيْن، من غير حاجة إلى استعادة الشهادة، وإن صدق والآخرَيْن، تفرع ذلك على ما قدمناه من أن شهادتهما هل تقبل مع اشتمالها على الدفع، وتعرضهما للعداوة؟ فإن قبلناها، ثبت الحق على

_ (1) ت 4: " فلا ينفع فيه توبة ولا استبراء ". (2) زيادة من (ت 4). (3) في الأصل: " بها ". (4) المعنى أنه إذا ردّت شهادته فتلحقه غضاضة بانكشاف فسقه، فإذا تاب، وقبلنا شهادته، فإذا أعاد تلك الشهادة المردودة، فهو في موضع التهمة لإزالة الغضاضة التي لحقته بسبب تلك الشهادة. (5) في الأصل: " بنقيض ". (6) في النسختين: " في ". (7) في الأصل: " الشهادة حيث ".

الأولَيْن من غير استعادة شهادة، وإن رددناها، وقد رد (1) المدعي شهادة الأولين، فيخرج من ذلك بطلان شهاداتهم. ولو كان قد قدم الدعوى على والآخرَيْن، فلما شهد الآخران قَبْل الاستشهاد، صدقهما، فقد أبطل دعواه الأولى بهذا التصديق، وهذه الدعوى الجديدة باطلة [بتقرّر] (2) الدعوى الأولى، فإنه إذا سبق منه قول، فهو مؤاخذ بمقتضاه، ومقتضى قوله الأول بطلانُ قولهِ الثاني، وهذا واضح. وأما الغرض المطلوب في هذا ما قدمناه في هذا الفصل. هذا كله إذا تولى المدعي الدعوى بنفسه قبل الشهادات أو بعدها. 10976 - ولو كان قد وكل المدعي وكيلاً في الدم، وما كان قد عين المدَّعى عليهما، فادعى الوكيل على رجلين قَتْلَ الشخص المطلوب، وأقام شاهدين عليهما، ثم شهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلا ذلك الشخص، فلم يوجد ممن له الحق بعدُ دعوى. فإن صدق الوكيلَ والشاهدين الأولين، فقد استمرت الخصومة، وإن صدق والآخرين، فله الدعوى على الشاهدين الأولين، وبطلت الدعوى على الآخرين، ويبقى في شهادة الآخرين التفصيلُ الطويل المترتب على أصولٍ: منها شهادة الحسبة، ومنها تعرضهما للدفع عن أنفسهما، ومنها أن من ابتدر الشهادة قبل الاستشهاد، فردت شهادته، فإذا أعادها بعد الدعوى هل تقبل؟ فإن قلنا: شهادة الحسبة مقبولة، فقد شهد الآخران قبل الدعوى، ولكن يبقى النظر في أنهما دفعا عن أنفسهما، فإن لم نُقم لذلك وزناً في المسألة المتقدمة، يقع القضاء بشهادة والآخرين إذا اتصل بها تصديق صاحب الحق، من غير حاجة إلى الإعادة، وإن قلنا: الشهادة مردودة لتضمنها الدفعَ فيه إذا تولى المدعي الدعوى بنفسه، فترد الشهادة في هذه الصورة، لأن دعوى الوكيل في ظاهر الحال مسموعة،

_ (1) ت 4: "يرد". (2) في الأصل: " بتعذر "، و (ت 4): " يتعزر ". والمثبت من تصرف المحقق.

وقد ادعى عليهما وشهد شاهدان على حسب الدعوى، فتضمنت شهادتهما دفعاً. ومن أحاط بما قدمناه، لم يخف عليه تفريع المسائل عليه، وإن رددنا شهادة الحسبة، فشهادة والآخرين مردودة ابتداء، فلو أعادا الشهادةَ لمّا ادعى صاحب الحق حقّه على وفق شهادتهما، فهل يقبل ذلك الآن؟ فيه التفصيل المقدم. واختلاف الطرق. وقد أضربت عن استيعاب التفاصيل لعلمي بوضوح الغرض، وظهور ابتناء الفروع على ما مهدناه من الأصول. 10977 - ومن مسائل الفصل: إن شهد شاهدان على رجلين بأنهما قتلا الشخص المطلوب، وشهد المشهود عليهما على أجنبي أنه القاتل، [ولم يشهدا على الشاهدين] (1)، فإن كان صاحب الحق يتولى الدعوى بنفسه، فإن صدّق الأوّلَيْن، تفصّل الكلام، وقيل: شهادتهما لا تخلو إما أن تكون حسبةً، أو بعد الدعوى على وفق الشهادة الأولى [فإن كانت بعد الدعوى، وأصرّ على تصديق الأولَيْن، ترتب الحكم عليه، فإن عاد، فصدق المشهود عليهما، فقد] (2) تناقض قوله (3)، وإن

_ (1) في النسختين: وشهدا على الشاهدين. والمثبت من كلام الغزالي في البسيط، حيث عرض المسألة، وقال فيها: " فشهد المشهود عليهما على أجنبي آخر أنه القاتل، لا على الشاهدين " (ر. البسيط: 5/ورقة: 107 يمين)، وطبعاً أثبتنا كلام الغزالي، وإلا سيكون ما في النسختين تكراراً للمسألة السابقة. (2) ما بين المعقفين زيادة من عمل المحقق، استكمالاً للتفريع، وإقامة للعبارة، فقد كانت العبارة في النسختين هكذا: " إما أن تكون حسبة أو بعد الدعوى على وفق الشهادة الأولى، ثم غيرها وقد تناقض قوله ... ". هذا والزيادة والتعديل على ضوء كلام الغزالي في البسيط، والأولى أن نذكر المسألة بتمامها، قال: " إذا شهد رجلان على رجلين بأنهما قتلا شخصاً معيناً، فشهد المشهود عليهما على أجنبي آخر بأنه القاتل، لا على الشاهدين، فإن سبق الدعوى، عاد النظر إلى شهادة الحسبة، وإن سبق الدعوى من المستحق، وأصر على الأول، ترتب عليه الحكم، فإن عاد فصدق الثاني، تناقض قوله، وبطل بالجملة حقه. وإن جرى من وكيل لا يؤاخذ بالتناقض، فإن صدق الآخرين، فيتصدّى النظر إلى أنهما دافعان ومبتدئان، ولا يخفى التفريع والاستعادة في بعض الصور ". (ر. البسيط: 5/ ورقة: 107 يمين). (3) ولهذا التناقض يبطل حقه جملة.

جرت شهادة والآخرَيْن حسبةً ثم جرى تصديق أو تكذيب، لم يخْفَ [دركُ] (1) التناقض وما يقبل وما لا (2) يقبل. ولو كان [وكل] (3) وكيلاً ولم يعيّن المدّعى عليه، ثم صدق الأولَيْن ووافق الوكيلَ في دعواه، فقد ثبت الغرض، وإن صدق الآخرين واستعاد الشهادة -[إن] (4) لم نقبل شهادة الحسبة- ففي قبول شهادة الآخرين تردد مبني على ما تمهد، فإن لم نردّ (5) الشهادة لما تخيلناه من قصد الدفع، فشهادة الآخَرَيْن مقبولة، وإن رأينا القبولَ، وقد ابتدر الشهادة في واقعة الوكيل، ففي قبول شهادتهما الكلام المقدم إلى تمام التفريع. 10978 - ومن مسائل الفصل: إن شهد شاهدان على رجلين، كما ذكرنا، [فشهد] (6) أجنبيان على الشاهدين بأنهما قاتلان، فإن كان صاحب الحق هو المتولي للخصومة، فإن صدق شاهدَيه الأولَيْن، بطلت شهادة الأجنبيين، وإن صدق الأجنبيين، بطلت شهادة الكلّ لتناقض الدعوى. وإن أردنا فرضاً في شهادة الحسبة من الأوليين ثم من الآخرين، لم يخف التفريع. ولو (7) فرضت المسألة في الوكيل، هان مُدرك الكلام، والأجنبيان غير متعرضين للدفع عن أنفسهما، ولكنهما شهدا قبل الاستشهاد، فيتفرع عليه ما يليق به. ومما نختتم به أن الشافعي رضي الله عنه صور شهادة شاهدين على شخصين، ثم شهادة المشهود عليهما على الأولين، ثم قال: يُراجَعُ صاحبُ الحق في التصديق والتكذيب، فاختلف أئمتنا: فمنهم من قال: هذا دليل من كلام الشافعي على قبول شهادة الحسبة، فإنهما لو كانت مردودة، فالشهادتان باطلتان، فلا معنى للمراجعة،

_ (1) في الأصل: " ترك ". والمثبت من (ت 4). (2) ت 4: " فلا يقبل ". (3) زيادة من (ت 4). (4) زيادة من (ت 4). (5) ت 4: " نردد ". (6) في الأصل: " فذكر ". (7) ت 4: " وقد ".

ومنهم من قال: شهادة الحسبة باطلة، وإنما ذكر الشافعي مراجعة صاحب الحق لرجاء أن تبطل دَعْوَاهُ الأولى بتصديق الأخرى. وهذا نجاز الفصل وأطرافه واضحة إذا فهمت الأصول. فلم أر استقصاءها لعلمي بوضوحها، وتبرم الفطن بتكثيرها وتكريرها. فصل 10979 - ذكر الشافعي رضي الله عنه أنه لو ادعى القتل على واحدٍ وأقام شاهدين، فشهد أحدهما على إقراره بأنه قتله عمداً، وشهد الآخر على إقراره بأنه قتله، ولم يقل عمداً، وجرت الشهادتان من الشاهدين على ما وصفناه، فشهد أحدهما على العمد، وشهد الثاني على القتل المطلق، فأصل القتل يثبت، ويبقى توجيه الدعوى بكونه (1) عمداً، فإن لم يكن لوث، فالقول قول المدعى عليه أنه ما قتله عمداً مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف المدعي يمين الرَّد، وثبت القود، وإن أقمنا شهادة أحد الشاهدين لوثاً -على ما تقدم تفصيل القول في اللوث- فيقسم المدعي على إثبات العمد. ولو ادعى القتلَ العمدَ أولاً، فشهد أحد شاهديه على وفق دَعْواه، وشهد الثاني على أنه قتله خطأ، فقد اختلف جواب القفال في ذلك، فقال في أحد جوابيه: لا يثبت القتل بشهادتهما لاختلافهما في صفته على حكم التصادق؛ فهما متكاذبان، وإذا تكاذب الشاهدان، فالوجه سقوط الشهادتين، وقال في الجواب الثاني: يثبت أصل القتل؛ فإنهما تصادقا عليه، ورجع اختلافهما إلى الصفة، فصار كما لو شهد أحدهما على القتل عمداً، وشهد الآخر على القتل مطلقاً. ولو شهد أحد الشاهدين أنه قتله غُدوةً، وشهد الآخر أنه قتله عشية، أو قال أحدهما: قتله بالسيف، وقال الآخر: قتله بالعصا؛ فلا خلاف أن القتل لا يثبت بشهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعلين مختلفين، وهذا يؤكد أحدَ الجوابين في ذكر

_ (1) ت 4: " وكونه ".

أحدهما العمد والآخر الخطأ، فإن الشاهدين إذا اختلفا في الوقت أو الآلة، فأصل القتل متفق عليه، والتردد راجع إلى شيء آخر، فكان هذا بمثابة ما لو اختلفا في العمد والخطأ. فإن قيل: لا فصل بين المسألتين، فما وجه قول من يقول بثبوت أصل القتل إذا ذكر الشاهدان العمد والخطأ؟ قلنا: شهادتهما إذا اختلفا في الزمان أو الآلة متكاذبتان في أمر محسوس، وإذا تعرضتا لذكر العمد والخطأ، فهما مطلقان، فقد يحسب أحدهما العمد خطأ، وقد يحسب الثاني الخطأ عمداً، وهذا تكلف، والأصح أن أصل القتل لا يثبت في تلك المسألة، ولو شهد أحدهما أنه قتله بمكان كذا، وشهد الثاني أنه قتله بمكانٍ آخر، فلا يثبت القتل، كالاختلاف في الزمان، والآلة، والمكان. ثم قال المزني: " ومثل هذا يوجب القسامة " (1)، نقل ذلك بعد ذكر الاختلاف في الزمان والآلة والمكان. وقد ذهب المراوزة إلى تغليطه؛ إذ قال (2): هذا يوجب القسامة؛ من جهة أن الشاهدين متكاذبين، وشهادتهما متعارضتان، ولا يثبت بالشهادتين المتناقضتين لوث. وحكى العراقيون نصين في ذلك عن الشافعي رضي الله عنه منقولين في الكتب: أحدهما - أن اللوث يثبت على ما نقله المزني، فلا وجه إذاً لتغليطه وقد صح النقل، ووجهه أنهما اتفقا على أصل القتل، ولا يبعُد أن يغلط أحدهما لا بعينه في الوقت، وقد تقع واقعة لا يُشك في وقوعها، [ويتمارى] (3) الناس في الوقت، واختلافهما إن أثر في القضاء [حتى] (4) لا يقطع بثبوت القتل، فلا ينحط أثرهما عن [تغليب] (5) الظن في وقوع القتل.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 155. (2) ت 4: " وقالوا ". (3) في النسختين: " ويتمادى ". (4) زيادة من المحقق. ثم (ت 4): " يقع " مكان يقطع. (5) في الأصل: " تغليط"، (ت 4): " تغليطه ". والمثبت من تصرّف المحقق.

ومن قال: لا يحصل اللوث، فوجهه ما قدمناه. فالوجه إجراء القولين على ما نقله العراقيون. 10980 - ولو شهد شاهد على أن فلاناً قتله على حسب ما ادَّعَاه المدعي، وشهد شاهد آخر أنه أقرّ بقتله، فالقتل لا يثبت [في هذه الصورة] (1)، [فلا تتفق] (2) الشهادة على الإقرار والشهادة على نفس القتل لاختلاف المشهود به، واللوث يثبت في هذه الصورة وفاقاً، فإن الشاهدين ليسا متكاذبين، ولا تناقض بينهما، واللوث يثبت بشهادة أحدهما على الإقرار أو على القتل، فإذا اجتمعا قوي اللوث. ولو شهد شاهدان أن هذا قتله زيد أو عمرو، فلا شك أن القتل لا يثبت مع التردد في المشهود عليه، ولو أراد المدعي أن يقسم [مسنداً إقسامه إلى اللوث المترتب على شهادتهما، فالذي ذهب إليه أئمة العراق وغيرهم] (3) أن اللوث شامل لهما، ثم إذا شملهما اللوث، فهذا القدر كافٍ في حق القاضي، وللمدعي أن يدعي على أحدهما، وهو مؤاخذ في حكم الله تعالى بأن لا يدعي إلا على ثَبَت، وليس عليه بعد شمول اللوث للرجلين أن يحقق لوثاً خاصاً في حق من يعينه منهما. وقد مهدنا هذا فيما تقدم. وقد يعترض في هذه المسألة شيء يوجب التردد في اللوث، وهو أن اللوث الذي يعم طائفةً تصويره ظهور العداوة بين القتيل وبينهم، مع وقوع القتل في موضع مختص [بهم] (4) فهذا لوث شامل على التحقيق. فأما إذا قال الشاهدان: قتله هذا أو هذا، فالشهادة تعلقت بهما على التردد، وموجب التردد يخصص الأمر بأحدهما، فهذا إشكال شامل، وليس لوثاً شاملاً، ويناظر هذا ما لو ظهر عند القاضي أن أحد الرجلين عدو القتيل، ولم يتبيّن العدوَّ منهما، ولو كان كذلك، لم يقطع بحصول اللوث، فالوجه ألا يقطع بحصول اللوث

_ (1) زيادة من (ت 4). (2) في الأصل: " ولا تلغو الشهادة على الإقرار "، و (ت 4): " ولا تتفق ". (3) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4). (4) في النسختين: " به ".

في مسألة الشهادة (المقامة على التردد، والذي نقلته عن أئمة العراق ثبوت اللوث في مسألة الشهادة على التردد) (1)، فلا يبعد أن يرتكبوا حصول العداوة على الإبهام. والله أعلم. فصل قال: " ولو شهد أنه ضربه ملفَّفاً ... إلى آخره " (2). 10981 - إذا ادعى على واحد قَتْلَ أبيه، وأقام شاهدين على أنه كان ملفوفاً في ثوب، فقدّه المدعى عليه بنصفين، ولم يثبتا كونه حياً حالة القد، فالقتل لا يثبت بهذا؛ فإن الشهادة [شرطها] (3) أن يَجزم وُيشعر بالمقصود على قطع، والشاهدان لم يتعرضا إلا للقد (4)، ولكن إذا ثبت القدّ المشهود به، فلو قال الولي: كان حياً، وقال المشهود عليه بالقدّ: كان ميتاً، فهذا ملتحق بتقابل الأصلين؛ فإن الأصل حياةُ الملفوف المقدود من وجهٍ، والأصل براءة ذمة القادّ من وجهٍ، فجرى القولان فيه. فإن قلنا: القول قول القادّ، فلا يكون المدعي مستفيداً شيئاً من الشهادة المقامة، وإن قلنا: القول قول المدعي فقد أفادته الشهادة قوة أوجبت تصديقه مع يمينه، ويتنزل هذا منزلة ما لو شهدت البينةُ للمدعي باليد، فقد تفيده الشهادة أن نجعل القولَ قوله مع يمينه. وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً: أن الملفوف إن كان على رباط على هيئة الأكفان، لم يصدق المدعي، وإن كان المقدود ملفوفاً في ثياب الأحياء، فيصدق حينئذ مع يمينه، وهذا ضعيف لا أصل له. ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن رجلين عدلين لو رأيا رجلاً ملفوفاً بثوب،

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) ر. المختصر: 5/ 155. (3) في الأصل: " طريقها "، والمثبت من (ث 4). (4) ت 4: " للقتل ".

فقدّه إنسان على القرب، فهل لهما أن يشهدا على أنه قده حياً حالة التلفف؟ هذا محل التردد وفي كلام الأصحاب ما يدل عليه. والذي ذكره القاضي أن لهما أن يشهدا على الحياة، بناء على ظاهر الأمر، كما يشهدان على الملك المبتوت؛ بناء على ظاهر اليد والتصرف، ويجوز أن يقال: ليس لهما أن يشهدا، (1 فإن الموت1) بعد التلفف ممكن، والاطلاع على الحياة بعد التلفف بالثياب ممكن، وليس كالأملاك؛ فإنه لا مستند لها إلا الظواهر. ولم يختلف الأصحاب في أنهما لو قالا: رأيناه تلفّف بالثوب ثم قدّه فلانٌ، فالقاضي لا يقضي بالحياة، كما لو شهدا على اليد والتصرف، ولم يتعرضا للملك، فالقاضي لا يقضي بالملك، كما سيأتي ذلك مفصلاً، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " ولو شهد أحد الورثة أن أحدهم عفا ... إلى آخره " (2). 10982 - إذا قُتل رجل وثبت القصاص على قاتله، وكان له طائفة من الورثة، فقد ذكرنا في كتاب الجراح أنه إذا عفا واحد منهم عن القصاص (3 سقط حقوقُ الباقين في القصاص، وآلت حقوقهم إلى الدية، ثم القول في العفو عن القصاص 3) دون المال، وفي العفو عن المال قد تقدم مستقصىً. وغرضنا الآن أمر يتعلق بالإقرار والشهادة: فإذا شهد بعض الورثة على بعض أنه عفا عن القود، حكمنا بسقوط القود، وإن اتحد الشاهد أو كان فاسقاً مردود الشهادة، فلم يثبت العفو بطريق الشهادة، ولكن قوله: عفا بعضُ الورثة إقرار منه بأن القصاص ساقط في حقه، وإن اعترف بعض الأولياء بسقوط القصاص في حقه، نفذ القضاء بسقوطه في حق الكافة. وهذا يناظر ما لو قال أحد الشريكين في العبد لصاحبه: قد أعتقت نصيبك من

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) ر. المختصر: 5/ 155. (3) ما بين القوسين سقط من (ت 4).

العبد وأنت موسر، فإذا فرعنا على تعجيل السراية، حكمنا بنفوذ العتق في حصة هذا المدعي القائل، فإنه يؤاخذ بحكم قوله، وله دعوى المال على شرطه والقول قول الشريك مع يمينه، ثم يعتق نصيب هذا القائل المدعي في ظاهر الحكم بطريق السراية، ولا يقع الحكم بعتق نصيب المدعى عليه؛ فإنا إنما حكمنا بالسراية في نصيب المدعي مؤاخذةً له بقوله في حق نفسه، والسراية لا تسري، قال الأصحاب: قد يتضرر الإنسان بدعواه على غيره، وإن كان الضرر لا ينال المدعى عليه. ولو قال واحد من الورثة: عفا واحد من شركائي عن القصاص، ولم يبين العافي، حكمنا بسقوط القصاص، جرياً على إقرار هذا القائل؛ فإن موجب قوله سقوط القصاص في حقه، وإذا سقط في حقه استحال بقاؤه في حقوق الباقين. ولو ادعى الجاني على واحدٍ منهم العفوَ عن القصاص، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، ردت اليمين على الجاني، وثبت العفو بيمين الرد. ولو أقام بيّنة على عفوه، ثبت العفو، ولا بد من رجلين عدلين؛ فإن القصاص ليس مالاً، وما لا يثبت إلا بعدلين لا يثبت سقوطه إلا بعدلين. ولو آل الأمر إلى المال، فادعى الجاني على بعض الورثة العفو عن حصته من المال، فهذا يثبت بشاهد وامرأتين؛ فإن الجناية الموجبة للمال تثبت بشاهد وامرأتين، فيثبت سقوط أرشها بما يثبت به أرشها، وكل ذلك يأتي مفصلاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " ولو شهد وارث أنه [جَرَحه] عمداً أو خطأ ... إلى آخره " (1). 10983 - إذا جُرح رجل وكان [مهلكاً له] (2) أو أمكن أن يسري ويُفضي إلى

_ (1) ر. المختصر: 5/ 155، وفي النسختين: " جرح " والتصويب من لفظ المختصر. (2) في النسختين: " لما به " والمثبت تصرف منا مع الالتزام بأقرب صورة لما هو في الأصل. وستأتي هذه اللفظة بهذا الرسم في باب (قطاع الطريق) وفي مثل هذا السياق أي بمعنى المفضي إلى الهلاك.

الهلاك، فلو شهد اثنان من وَرَثة المجروح أن فلاناً هو الذي جرحه، فلا يثبت الجرح بشهادتهما، فإنهما تعرّضا لإثبات ما يؤول إليهما، وأثبتا السبب المفضي إلى توريثهما، وهو الجرح، وكانت شهادتهما متضمنة جرّاً، والشافعي رضي الله عنه ذكر في هذا الفصل الشهادة التي تُرد لتهمة الجرّ، والتي ترد لتهمة الدفع، ونحن [الآن] (1) [نأخذ] (2) قي تفصيل الشهادة الجارّة. فلو مرض الموروث مرض الموت، وشهد له باستحقاق عينٍ أو دينٍ اثنان من الورثة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يثبت المشهود به إذا لم يكن بين الشاهد وبين المشهود له بعضية بخلاف ما ذكرناه في الجرح، والفرق أن الجرح المشهود به سببٌ لموت الموروث، ولا يتحقق مثل ذلك في الشهادة بحقٍّ للمريض. ومن أصحابنا من قال: شهادة الورثة للمريض مردودة، فإن المرض ملتحق بالموت في حكمه، ولهذا حُصرت تبرعات المريض في الثلث ضماً إلى وصاياه الموقعة بعد الموت. ولو (3) شهد اثنان على الجرح، ولم يكونا من الورثة حالة الشهادة، ثم صارا من الورثة بموت من يحجبهما -قبل موت المجروح- قال الأصحاب: الشهادة في أصلها مقبولة، فإذا التحقا بالورثة، نظر: فإن كان بعد نفوذ القضاء، (4 لم ينقض الحكم، وإن كان قبل نفوذ القضاء 4) لم يقض القاضي بشهادتهما، وشبهوا هذا بما لو فسق الشاهدان قبل (5) نفوذ الحكم، أو فسقاً بعد النفوذ، فالفسق (6) لا يوجب نقضَ القضاء، وهو قبل القضاء [يمنع] (7) تنفيذ الحكم، ولو عمي الشاهدان أو جُنّا قبل نفوذ

_ (1) زيادة من (ت 4). (2) زيادة من المحقق. (3) في ت 4: " ولهذا ". (4) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (5) ت 4: "بعد ". (6) ساقطة من (ت 4). (7) في الأصل: " ممتنع "، و (ت 4): " يمتنع ". والمثبت تصرف من المحقق.

القضاء، لم يمتنع التنفيذ بشهادتهما، بخلاف الفسق؛ فإن ظهوره يورث [ريباً] (1) في الاستناد إلى ما تقدم، وانطواء الضمير على الاجتراء على مخالفة الله تعالى، ولكن إذا ظهر هذا بعد القضاء، لم ينقض؛ فإن القضاء لا ينقض بالظنون، وإذا ظهر قبل القضاء، امتنع القاضي من تنفيذ الحكم، فإن اعتراض الظنون يمنع تنفيذ الحكم، وإن كان لا يوجب نقض الحكم، وليس هذا كطريان العمى والجنون؛ فإنهما [لا يُسندان] (2) إلى ما تقدم تهمة، فكان طريانهما في معنى طريان الموت بعد الشهادة، وقبل القضاء، فإذا شهد اثنان محجوبان، ثم صارا من الورثة قبل القضاء، فلا يُنكر أنهما أضمرا جواز مصيرهما وارثين، فإذا تحقق مظنونهما، جَرّ ذلك تهمة تمنع القضاء، ولم توجب النقض. وفي بعض التصانيف أنهما إذا شهدا وهما محجوبان، ثم صارا [وارثين] (3) قبل القضاء، خرج ردّ شهادتهما على قولين: أحدهما - ما قدمناه، والثاني - الاعتبار بحالة إقامة الشهادة ولا حكم لما يطرى، وهذا وإن كان غريباً، فتوجيهه ممكن؛ فإن تقدير الإرث فيهما محمول على موت الحاجب، والموت مستبعد لا تتلقى من توقعه التهمُ، ثم من يقول: الاعتبار في شهادته بالمآل، فلو صار وارثاً بعد نفوذ القضاء، فالوجه عندي القطع بأن الحكم لا ينقض، وفي هذا التصنيف ما يدل على أن شهادته موقوفة، والقضاء به كذلك إلى ما يتبين، وهذا بعيد لا أصل له. 10984 - ولو شهدا، وهما وارثان في ظاهر الحال، ثم حدث للمجروح المشهود له ولد يحجب الشاهدين، فالذي ذكره جماهير الأصحاب أن الشهادة مردودة، ولا حكم لما يطرى من بَعْد، وفيما نقله بعض المصنفين ما يدل على أن الشهادة موقوفة، وهذا في هذا الطرف على نهاية السقوط مع اقتران التهمة بالشهادة، ومبنى الشهادات على اعتبار حالة الإقامة، وأما الإقرار للورثة، فلا يتجه فيه من اعتبار التهمة ما يتجه في الشهادة ردّاً وقبولاً فإذا ثبت هذا، فالوجه القطع بأن شهادتهما مردودة.

_ (1) كذا قرأناها بصعوبة. (2) في النسختين: لا يستندان. (3) في النسختين: شاهدين.

فإذا صارا محجوبين، فإذا أعادا تلك الشهادة -وقد رددناها أولاً- فنردها معادة، كما لو شهد رجل، فردت شهادته للفسق، ثم تاب، وظهرت عدالته، فأعاد الشهادة فالشهادة المعادة مردودة. وقد يخطر للفقيه في هذا المقام أن الفاسق إذا تاب، لم نتحقق تغير حاله باطناً، وقد تحققنا أن الوارث صار محجوباً. ولكن لا حكم لهذا والأصحابُ مجمعون على ما قدمناه؛ لأن الذي رُدّت شهادته يُتهم بترويج الشهادة بعد طريان الحجب. هذا بيان الغرض في ذلك. ومن تمامه أنه لو شهد وارثان على جرح بالموروث، فبرىء المجروح [واستبلّ] (1)، فهل يثبت الجرح؟ ما صار إليه معظم الأصحاب أن الجرح لا يثبت لاقتران التهمة بالشهادة حالة الإقامة. ومن أصحابنا من قال: لا ترد الشهادة؛ فإنها لم تكن شهادة على سبب الموت، وهذا التردد يشهد (2) بما حكيناه في طريان الحجب واعتبار المآل، ولكنه يؤدي إلى إلزامه، فإن القياس الحق [أن] (3) من كان متهماً في شهادته عند إقامتها، فلا أثر لما يطرى من بعدُ. هذا مقدار غرضنا في الشهادة التي تجرّ نفعاً. 10985 - فأما الشهادة التي تتضمن دفعاً، فمسائلها كثيرة ستأتي في مواضعها، إن شاء الله تعالى. والمقدارُ الذي أراده الشافعي هاهنا ما نصفه، قال رضي الله عنه (4): " إذا ادعى رجل قتلَ خطأ، وأقام شاهدين على ما يدعيه، فلو شهد اثنان من عاقلة المشهود عليه بالقتل على جرح الشاهدين، فلا شك أن شهادتهما مردودة، فإنهما يدفعان عن أنفسهما تحمّل العقل، والشهادة الدافعة مردودة " ولو شهد اثنان من فقراء عاقلة المشهود عليه، فقد نص الشافعي رضي الله عنه على أنه لا تقبل شهادتهما، وإن كانت الدية لا تضرب على الفقراء، ونص على أن اثنين من أباعد العصبات الذين

_ (1) في الأصل: " واستقلّ ". (2) ت 4: " أشهر مما ". (3) زيادة من (ت 4). (4) ر. الأم: 6/ 15.

لا يخلص التحمل إليهم لكثرة الأدْنَيْن لو شهدا على جَرْح الشاهدين على القتل، قبلت شهادتهما. واختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين: فمنهم من جعل في المسألتين قولين نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن الشهادة على الجَرْح مقبولة من الفقير والبعيد؛ لأنه ليس من أهل (1 التحمل حالة الشهادة. والثاني - أن 1) الشهادة مردودة؛ فإنهما متعلقان بسببٍ يُفضي إلى تحمل العقل، والإنسان [ينظر لحاله ومآله] (2). ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرق بين الفقير والبعيد، فقال: تهمة الفقير متلقاة من توقع الغنى، وليس طريان الغنى، أو التوسط الذي يقتضي تحمل نصف أو ربع (3) بعيداً عن الإمكان، فتظهر التهمة في الحال (4) وأما تهمة البعيد، فمأخوذة من موت الأقربين وخلوص العقل إليهم، والموت مستبعد في العرف، فلا تُتلقى التهم منه. وهذا المعنى استعملناه (5) في مواضع، وفيه إشكال؛ فإن العقل يتوهم خلوصه إلى البعيد بموت الأقربين، ويتوهم خلوصه إليه بافتقار الأقربين، فإن القريب إذا افتقر، ضُرب العقل على البعيد، فإن كان لا يبعد غنى الفقير في النص الأول، لم يبعد افتقار الغنيّ (6) في النص الثاني، فالوجه طريقة القولين. ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه الوكالة في إثبات القصاص وفي استيفائه وطرفاً من أحكام الإكراه، وأَمْر السلطان، وكل ذلك مستقصىً في موضعه. ...

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) في الأصل: " منتظراً لحاله ومآله " والمثبت من (ت 4). (3) المراد نصف دينار أو ربع دينار، وهو المقدار الذي يضرب على أفراد العاقلة. (4) ت 4: " الحسم ". (5) ت 4: " استكملناه ". (6) ت 4: "الغير".

باب الحكم في الساحر والساحرة

باب الحكم في الساحر والساحرة 10986 - السحر كائن، والشاهد له سورة الفلق، واشتمالها على الاستعاذة بالله من النفاثات في العقد، وقد ورد في الحديث: " أنه سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشط ومُشاطة، تحت راعوفة في بئر ذَرْوان " (1) والقصة مشهورة. وقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. وفي بعض الألفاظ: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: السحر حق " (2) وروي أنه قال: " العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر " (3). ثم تكلم الفقهاء في تعلم السحر، وقالوا: إنه ليس بكفر إذا لم يعتقد المرء ما يوجب كفراً، والقول فيما يوجب الكفر وما لا يوجبه لا يليق بهذا الفن، ثم قالوا: هل يكره تعلم السحر لطلب الإحاطة به تشوّفاً إلى مدارك العلوم؟ وقد يخطر

_ (1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر في مُشْطِ ومُشَاطة ... " جزء من حديث عائشة المتفق عليه في قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم (البخاري: الطب، باب هل يستخرج السحر، ح5765، مسلم: السلام، باب السحر، ح2189). هذا (والراعوفة) صخرةٌ تترك في أسفل البئر إذا احتفرت تكون هناك ليجلس عليها المستقي حين التَّنقية، أو تكون على رأس البئر يقوم عليها المستقي. (القاموس: ر. ع. ف). (2) حديث " السحر حق "، لم نقف عليه. (3) حديث " العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر " أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 90)، والخطيب في تاريخه (9/ 244)، وأبو بكر الشيرازي في (سبعة مجالس من الأمالي: 8/ 2) من حديث جابر، وقد ضعفه السخاوي في المقاصد، وحسّنه الألباني في الصحيحة. وحديث (العين حق) بدون هذه الزيادة متفق عليه من حديث أبي هريرة، وسيأتي قريباً (البخاري: الطب، باب العين حق، ح5740، مسلم: السلام، باب الطب والمرض والرقى، ح2187). وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي: 470 ح726، السلسلة الصحيحة: 3/ 250 ح1249.

لمن يطلبه أن يميز بينه وبين المعجزات؟ (1 اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يكره تعلمه، وفي الدين شغل يلهي عن مثل ذلك، وفي الإحاطة بحقائق المعجزات 1) ما يغني عن تعلّم السحر. ومنهم من قال: لا يكره، كما لا يكره تعلم مذاهب الكفرة للرد عليهم، وقد يبغي المتعلم بتعلم السحر درءَ ضرار عن نفسه. ثم انتهى الشافعي رضي الله عنه في إثبات السحر، والحكم بكونه حقاً إلى تعليق القصاص به، فقال: إذا زعم زاعم أنه سحر رجلاً، وذكر أن (2) سِحْره يقتلُ لا محالة، أو يؤدي إلى القتل غالباً، فهذا إقرار منه بما يوجب القصاص، فيتوجه القصاص عليه وإن قال: قد سحرته ومات من سحري، ولكن سحري لا يقتل غالباً، واتفق الهلاك منه، فهذا اعتراف منه بشبهة العمد، والدية لا تضرب على عاقلته، إلا أن يقروا بما أقر به. وإن زعم أنه أخطأ من اسم إلى اسم، فهذا اعتراف منه بالخطأ، والقول كما ذكرناه. والفرق بين القسمين التغليظ والتخفيف في الدية. هذا مذهب الأصحاب. وتبين مما ذكرناه أن لا سبيل إلى إثبات السحر القاتل ببينة؛ فإنه لا مُطلع عليه إلا من جهة الساحر، فلا يتلقى ثبوته إلا من إقرار الساحر. وهذا قانون المذهب. وحكى العراقيون عن أبي جعفر الإستراباذي (3) قال: السحر تخييل لا أصل له،

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) عبارة (ت 4): " وذكر أنه زعم أنه سحره بقتل لا محالة ". (3) في (ت 4): أبو جعفر الترمذي، وفي نسخة الأصل صوّبت من أبي جعفر الترمذي إلى أبي جعفر الإستراباذي، وهذا هو الصواب؛ فهو صاحب هذه المسألة، وعُرف بها، حكاها عنه من ترجم له كالإسنوي، وابن قاضي شهبة، وابن الملقن، ونسبها إليه صاحب المهذب، وصاحب التهذيب، والرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة، وقال ابن قاضي شهبة في طبقاته: " حكاها الإمام عن رواية العراقيين عن أبي جعفر الترمذي ". وقد تابع الغزالي في الوسيط الإمامَ فنسبها لأبي جعفر الترمذي. ولا يُدرى هل صُحِّفت في نسخ النهاية، أم وهم من نقلها من العراقيين وأخذها عنه الإمام، والله أعلم بما كان.=

ولا يناط به قصاص، ولا غرم، وهذا غريب غير معدود من المذهب. 10987 - والذي يجب إنعام النظر فيه الإصابة بالعين وقد توافت الحكايات فيها، حتى بلغت مبلغاً لا يقصر عن الخبر الذي ينقله المعتمدون، وصح أن الرسول عليه السلام قال: " العين حق " (1) وبلغنا أن في الناس من يعتمد ذلك ولا يخطئ. ولست أرى له حكماً، بخلاف السحر؛ فإن العين إن أصابت، لم تلتحق بالأسباب التي تعد من أسباب الهلاك، وقد ذكرنا أن من صاح ببالغٍ عاقلٍ، فسقط من سطح، لم يلتزم ضماناً، وليس اتفاق هذا من المنكرات، ومن نظر وهو صائم إلى من تتوق نفسه إليه فأمنى، لم يفسد صومه، فهذا ما يجب القطع به. 10988 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " لو قال الساحر: أمرضه سحري، ولم يمت به، وإنما مات بسبب آخر "، قال الشافعي: " أقسم أولياؤه، وصار ما أقرّ به من المرض لوثاً في القتل " (2)، وهذا مشكلُ يُحْوِج إلى البحث؛ فاللوث إنما يتعلق به إذا ثبت أصل القتل، هذا وجه.

_ =والإستراباذي هو أحمد بن محمد المعروف بأبي جعفر الإستراباذي، من أصحاب الوجوه في المذهب، ومن كبار الفقهاء والمدرسين، وأجلة العلماء المبرزين، وهو من أصحاب ابن سريج، وعلّق عنه تعليقاً في غاية الإتقان. والإستراباذي منسوب إلى بلدة معروفة بخراسان، وقد ضبطه النووي في التهذيب بكسر الهمزة وبسين مهملة ساكنة ثم تاء مثناة من فوق مكسورة، وكذا السمعاني في الأنساب وضبطه ياقوت في معجم البلدان بالفتح ثم السكون ثم فتح التاء، أما ابن باطِش فضبطه في غريب المهذب بكسر فسكون ثم فتح التاء. أما وفاة الإستراباذي فلم نجد من ترجموا له ذكروا سنة وفاته، بل وجدنا الإسنوي يقول: لم أقف له على تاريخ وفاة. ومما يلفت النظر أن من ترجموا له لم يذكروا له اسماً، إلا ابن هداية وعنه أخذنا اسمه واسم أبيه، وكانوا يقتصرون على الكنية واللقب. ومما يلفت -أيضاً- أن السبكي لم يترجم له، على جلالته ومنزلته في المذهب. (ر. طبقات العبادي: 85، تهذيب الأسماء: 2/ 202، الإسنوي: 1/ 48، ابن قاضي شهبة: 1/ 134، ابن هداية: 84، المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء لابن باطيش: 4/ 432). (1) حديث " العين حق " مرَّ قريباً. (2) ر. المختصر: 5/ 156.

وقد يعترض عليه أن الذي مات وعلى بدنه أثر قد يمكن تقدير موته (1) حتف الأنف، ثم القسامة تثبت. والسؤال الذي يجب التدبر فيه أنا قدمنا في مسائل الجراح أن من جرح رجلاً ومات المجروح، ثم اختلف الجاني وولي الميت، فقال الجاني: مات بسبب آخر، وقال الولي: مات بالجراحة، فالتفصيل فيمن يصدق منهما مقرر في موضعه، ولم يجر فيه ذكر القسامة. فإن كان إقرار الساحر بترتّب المرض على سحره لوثاً في القتل، يسلِّط المدعي - وهو الولي- على الإقسام، فيجب مثله في الجرح، وادعاء سرايته لا محالة، فإن امتنع الإقسام في مسألة الجرح، فلا شك في امتناعه هاهنا. 10989 - وينتظم من هذا المجموع نصّ وتخريج في أن الاعتراف بسبب القتل مع ادعاء وقوع الموت بسبب آخر هل يُثبت حقَّ القسامة للمدعي؟ النصُّ أنه يُثبت، وفي المسألة قول آخر مخرّج أنه لا يثبت حق القسامة. وهذه المسألة إنما تصفو إذا تجدد العهد بالصور المذكورة في اختلاف الجارح وَوَلي المجني عليه، والفصل بين أن يقصر (3 الزمان، وبين أن يطول وإذا طال، فالفرق بين أن يبقى زَمِناً صاحب فراش (2)، وبين ألا يكون كذلك، ثم في 3) بعض الصور لجعل القول قول الولي، وعند ذلك يقوى جانبه، وإذا قوي جانبه حتى أوجب ذلك تحليفَه، فيقوى جداً أن يكون هذا قسامة؛ حتى تتعدّد الأيمان، ومن لم يجعله قسامة، فإن كانت اليمين في جانب مدعي الدم، ففائدته القطع بوجوب القصاص، وترديد الرأي في أن اليمين تتحد أم تتعدد، والظاهر أنه مظنة القسامة. ثم يؤول تحصيل هذا إلى أن اللوث إذا ثبت في أصل الجرح أو في أصل القتل من غير تصادق على سبب، فهذا موضع القسامة قطعاً، ويتحقق هذا بأن مثله لو وقع في مالٍ، لم يجر فيه البداية بالمدعي.

_ (1) في الأصل: " تقدير فرض موته ". (2) صاحب فراش: أي طريح الفراش. (3) ما بين القوسين سقط من (ت 4).

وإذا صار السبب المفضي إلى الهلاك [متفقاً] (1) عليه، وأمكن تقدير سبب آخر، وهذا يتميز [بأن مثله] (2) يفرض في المال، فإن من جرح بهيمة، واعترف بجرحها، وادعى أنها هلكت بسبب آخر، فقد يُصدَّق مالك البهيمة، والتفاصيل كلها كالتفاصيل في الآدمي المجني عليه، ولو كان هذا من صور القسامة، لما جرى في المال؛ فإذا ثبت مثل هذه الصورة في الدم (3) اعترض فيه النص والتخريج، ثم على التخريج وهو القياس إذا حلف يحلف خمسين أم لا؟ فعلى الخلاف، وهذا يخرج في كل خصومة، والدليل عليه أنا حيث بدأنا بالمدعى عليه في الدم نذكر قولين في تعديد اليمين، وإن جرينا على قياس سائر الخصومات، وإذا كنا نجعل القول [قول] (4) الجاني في بعض الصور، فهو مدعى عليه، وفي تعدد اليمين على المدعى عليه قولان. والذي يجب القطع به تنزيل الاعتراف بالإمراض بالسحر منزلة الاعتراف بالجرح. والله أعلم بالصواب. ...

_ (1) في الأصل: " سفقاً ". (2) في الأصل: " بأمثلة ". (3) الصورة المشار إليها هي إذا صار السبب المفضي إلى الهلاك متفقاً عليه، وأمكن تقدير سبب آخرَ، وفيها قد يُصدَّق المدعي ويجعلُ القول قوله مع يمينه -فعلى القول المخرج بأن هذا لا يُعدُّ لاثاً- فهل إذا حلف يحلف يميناً واحدة، أم نُراعي تعظيمَ أمر الدماء؛ فيحلف خمسين يميناً؟ فيها خلاف. (4) في الأصل: " القول من الجاني ".

[كتاب الجنايات الموجبة للحدود والعقوبات]

[كتاب الجنايات الموجبة للحدود والعقوبات] (1) باب قتال أهل البغي قال الشافعي: " قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية [الحجرات: 9] (2). 10990 - هذه الآية تنبه على أحكام البغاة، وإن كان الكتاب في الخارجين على الإمام، ومضمون الآية في الطائفتين تبغي إحداهما على الأخرى، والإمام يرد الباغية منهما وليس بغيها على الإمام، وإذا كانت الباغية [طائفة تقاتل أخرى] (3)، فالباغية على الإمام [أولى بذلك. ومقصود الكتاب بيان أحكام الله تعالى في فئة تفارق الجماعة، وتسل اليد عن ربقة الطاعة، وتبغي على الإمام الحق] (4) ولا مطمع في ذكر أوصاف الأئمة وما تنعقد

_ (1) هذا العنوان من عمل المحقق أخذاً من صنيع الغزالي في البسيط، ومراعاة للتفصيل والتبويب للفقه؛ فليس قتال البغاة باباً من الكتاب الذي قبله. ثم نلفت النظر إلى أن الإمام أخرج الردّةَ من الحدود؛ لأنه سيضع كتاباً للحدود بعد الفراغ من الردة مباشرة. وبهذا التقسيم تكون الجنايات قسمت إلى كتابين: كتاب الجنايات الموجبة للقصاص والديات، ثم كتاب الجنايات الموجبة للحدود والعقوبات. (2) ر. المختصر: 5/ 156. (3) في الأصل: " طائفة تقاتل أهل البغي " و (ت 4): طائفة تقاتل البغي. والمثبت عبارة الرافعي في الشرح الكبير. (4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4).

الإمامة به؛ فإن القول في هذا يتعلق بفنٍّ مقصود، والقدر الذي يجب الاكتفاء به ذكرُ الإمام العادل، والخروج عن طاعته الواجبة. ثم أول ما نصدر الكتاب به نقلُ ما ذكره الأصحاب في صفة البغاة، وقد نُحْوَج (1) في هذه التوطئة إلى الخروج عن ترتيب مسائل (السَّواد) حتى إذا انتظمت القاعدة، عدنا بعدها إلى الترتيب. وقد قال الفقهاء: البغاة هم الذين يستجمعون أوصافاً: إحداها - التمسك بتأويل مظنون يزعمون أنه حاملهم على الخروج على الإمام والانسلال عن متابعته، هذا لا بد منه. والثاني - أن يرجعوا إلى شوكة ومَنعة، فهذان معتبران. وقال معظم الأئمة في الطرق: يشترط أن ينصبوا إماماً بينهم، ويُسندوا إليه أحكامَهم، ويصدر عنه نصبُ القضاة والولاة، وذكر العراقيون هذا وحكَوْه عن بعض الأصحاب، ثم زيّفوه، وزعموا أنه لا يشترط أن ينتهى بَغْيُهم إلى نصب إمام. وذكروا وصفاً آخر فقالوا: من أوصاف البغاة ألا يكونوا في قبضة الإمام، ثم فسروا ذلك بألا يكونوا بمكان يحيط بهم جند الإمام من جوانبهم، والشرط أن يكونوا على طرفٍ لا يحيط به نَجْدة الإمام. هذا ما ذكروه. 10991 - ولا بد من تتبع ما ذكره الأصحاب: فأما النجدة، فقد اعتبرها الكافة، ولا احتفال بفئة باغية، لا شوكة لها، فإن فرض ذلك، فهم معرضون لعقابٍ يرّدهم إلى سمت الطاعة، ولا اطلاع على ما نحاول أو نُنجز الفصلَ؛ فإنا في ذكر أوصافٍ مرسلة. [ونحن نتعرض بعدُ للأحكام] (2) التي يتميز بها البغاة عن غيرهم، وإذا أشبعنا القول في الأوصاف أتبعناها جملاً من أحكام البغاة، فإذ ذاك يتمهد أصل الكتاب. ثم الشوكة المرعيّة عُدّةٌ يفرض مقاومة الإمام بها، ومن أحاط بالسياسات، لم يخف [عليه] (3) أنه إذا تجمع آلاف من أهل النجدة (4)، فإن القتال والظفر والهزيمة فيه

_ (1) ت 4: نخرج. (2) في الأصل: " فلسنا نتعرض لنقض الأحكام ". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) وعبارة (ت 4): " لم يحقر آلاف من أهل النجدة ".

لا تجري مجرى سياقة رجلين في صراع أو غيره من وجوه التقاوم؛ فإن ذلك في الآحاد على قدر القوى [والجرأة] (1) والنصرة، وإذا التقى الجند، لم تكن النصرة والهزيمة على قياس تقاوم الآحاد، سيّما إذا اتفقت طائفة ضخمة ذات شوكة، واتحدت كلمتها، وصحت طاعتها لمتبوعها. هذا معنى الشوكة. ثم الذي يجب القطع به أن الشوكة لا يعقل ثبوتها إذا لم يَقْدُم القوم متبوعٌ مرجوع إليه؛ فإن رجال النجدة وإن كثروا، فلا شوكة لهم إذا كانوا لا يجتمعون على رأي، فهذا معنى الشوكة. 10992 - وأما التأويل فينبغي أن يكون [محتملاً] (2)، ثم تحقق [عندنا اضطراب المحققين من أهل الأصول] (3) في أن ذلك التأويل يجب أن يكون مظنوناً لا يتطرّق إليه قطع (4)، ويقع في مثله اختلاف الأصوليين في تصويب المجتهدين أم يجوز أن يكون بحيث نعلم (5) بطلانه، ولكن وجه القطع مشتبه عليهم. فقال قائلون: إذا كان التأويل باطلاً قطعاً، فليسوا بغاة، وإن كان يتوصل القطع إلى بُطلانه فهم بغاة، وقال آخرون: يثبت لهم أحكام البغاة وإن كان ما استمسكوا به من التأويل باطلاً قطعاً. وهذا يلتفت الآن إلى مقام عظيم، فيما كان معاوية وأصحابُه مستمسكين به، مع إطلاق العلماء أقوالهم بأنهم بغاة، وهذا مخاض [لا نخوض] (6)، ولسنا للتشاغل

_ (1) ساقطة من (ت 4). (2) في النسختين: " مختلاً "، والمثبت تقدير منا على ضوء التفصيل الآتي، وقوله: " يجب أن يكون مظنوناً ". (3) في الأصل: " عند رأي واضطراب السير المحققين " كذا تماماً، والمثبث من (ت 4). (4) ث 4: " لا يتطرق إلى قطعه قطع ". (5) ت 4: " أم يجوز بحيث أن يعلم ". (6) في الأصل: " ـ حـ ـص " (بدون نقط)، (ت 4): " وهذا محلص لا ـ حـ ـص " (بدون نقط). والمثبت مما نقله الرافعي عن الإمام (ر. الشرح الكبير: 11/ 79) ثم الفعل (خاض) أصل ألفه الواو، فكيف رُسم في النسختين " تخيض " (على ما هو ظاهر من أنّ التصحيف هو في إهمال المعجم).

به. فإن قلنا: يشترط أن يكون التاويل مظنوناً لا يتطرق العلم إلى درك فساده وصحته، فيلزم لا محالة الحكم بأن ما تمسك به معاوية في [سلّ اليد] (1) عن الطاعة كانت إصابته مظنونة فيه. وإن جوزنا أن يكون التأويل باطلاً قطعاً، فيشترط أن يكون البغاة المتمسكون به على اعتقاد الصحة فيه، (2 ولا يمتنع اجتماع فئةٍ 2) كثيرة على معتقدٍ باطل. فلو تبين لنا أن أهل البغي عالمون ببطلان ما يظهرونه، فليسوا متمسكين بالتأويل. وأما ما ذكره العراقيون من اشتراط كون البغاة على طرفٍ (3)، فلست أرى لذلك تحصيلاً، إلا أن يحمل على وَهاء الشوكة؛ فإن إحاطة الأجناد ببلدة البغاة قد توهي شوكتهم من حيث إنهم يؤتون من جوانبهم، ولو كانوا على طرفٍ، لم يتأتَّ هذا، فيؤول ذلك إلى اعتبار الشوكة، فهي المعتبرة إذاً. 10993 - ولو بلغ عددهم مبلغاً كثيراً بحيث لا يبعد مقاومتهم أجناد البلاد من جوانبهم، فيجب الحكم بثبوت الشوكة وإبطال أثر الإحاطة. وينشأ من هذا المنتهى مسألة اضطرب فيها رأي الخائضين في أحكام الإمامة والبغاة، والخارجين على الأئمة، وهي أن طائفة لو بغَوْا، وكانو في عدد لا يقاومون به أجناد الإسلام الحالّين (4) تحت راية الإمام، ولكنهم تقوَّوْا بمكانٍ حصين يعسر استنزالهم منه، فهل يثبت لهم حكم الشوكة على قلة عددهم، لاعتضادهم بحصونهم وصياصيهم؟ فقال قائلون: يثبت لهم حكم الشوكة لتصور استقلالهم بأنفسهم، ولا فرق بين أن يعتضدوا بكثرة في العدد وبين أن يستمسكوا بمكان، وقال آخرون: لا يثبت لهم حكم البغاة؛ نظراً إلى قلّتهم. والتحقيق فيه أنهم إذا قلّوا في أنفسهم لم يعظم خطر ما يتعطل فيهم من الأحكام،

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 4). (3) المعنى أن يكونوا في طرفٍ أي ناحية من نواحي الدولة، وليسوا في وسطها، بحيث يحيط بهم جند الإمام. (4) ت 4: " الجارين ".

وإنما غرضنا بإثبات مرتبة البغاة تنفيذ الأحكام والأقضية، على ما سيأتي في أثناء الفصل، وإنما ينفذ ذلك منهم إذا عظم العدد، واستولَوْا على قُطر (1) كبير من الخِطة يحوي أمماً، فلو تعطلت أحكامهم، لعظم الضرر، وتفاقم الخطر على من لا يتصف بالبغي من الرعايا الواقعين في قبضة المستَوْلين. والأولى عندنا أن نفصّل القولَ في ذلك: [ونقول] (2): إن تحصنوا بحصن على فوهة الطرق، وهم [يحوون ما وراءهم من القطر المتسع] (3)، فالحصن نجدةٌ عظيمة نازلة منزلة العدد والقوة والعدة، والنظر إلى إثبات الضرار في جمع من المسلمين، وإذا وقع ما تحصنوا به ببلدة من البلاد، وكانوا لا يستولون على خِطة بسبب الحصن [فلا] (4) يثبت لهم حكم البغاة، وسنذكر أحكام أمثالهم (5) إن شاء الله تعالى، ولا خلاف أنه لو [تحزّب] (6) من رجال القتال المرموقين (7) عدد يسير، وكانوا [يقوون] (8) بفضل القوة على مصادمة الجموع الكثيرة، فهم على عدة تامة. هذا قولنا في التأويل والشوكة. 10994 - فأما اشتراط نصبهم إماماً فهذا فيه اضطراب عظيم لأرباب الأصول، وقد حكيت اختلاف الفقهاء فيه، ولا مطمع في إنهائه إلى الحدود التي ينتهي الكلام إليها في هذا الكتاب، ولكنا نذكر مقداراً يقع الاستقلال به: فأما من شرط أن ينصبوا إماماً، فمعتمده في ذلك أن الإمام إذا لم يكن، فتولية الولاة والقضاة لا مصدر لها؛

_ (1) قُطر: أي ناحية وجانب. (2) في النسختين: " ويقال ". (3) في الأصل: " يجدون ما وراءهم من القطر المنيع " والمثبت من (ث 4). (4) في النسختين: " ولا ". (5) ت 4: " البغاة ". (6) في الأصل: " عرف "، (ت 4): " حدث "، والمثبت من الشرح الكبير ناقلاً إياه عن الإمام. هذا وقد كانت نسخة الأصل: (تحدب) فصوّبت في الهامش إلى (عرف). (7) نقلها الرافعي: المنعوتين بالشجاعة. (8) في الأصل: " يقعون ".

فإن القاضي لا ينتصب بنصب الرعايا، وإنما إلى الناس نصب إمام، ثم تصدر (1) التفاصيل عن رأيه، فانعقاد الإمامة بطريق التبعية، ولا يتصور [تولية] (2) قاضٍ ببيعة، وهذا [القائل] (3) يلتزم أمراً تثور فيه نفوس الخائضين في الإمامة، وهو أن يدعي أن معاوية كان تصدّى للإمامة في زمن علي رضي الله عنه. وقد استفاض أنه ما باح بالتصدي لإمرة المؤمنين إلا بعد قتل علي رضي الله عنه. ومن قال: لا يشترط أن ينصبوا إماماً، احتج بأنهم ربما لا يَلْقَوْن بين أظهرهم من يستجمع شرائط الإمامة، فيؤدي اشتراط نصب الإمام إلى تعطيل حقوق المسلمين، ثم هذا القائل يحمل جميع أحكامهم وقضاياهم على ما تحال عليه الأحكام عند شغور الدهر عن الإمام، وفيه كلام طويل، فيجب الانكفاف عنه، والاكتفاء بهذا المقدار. هذا قولنا في طوائف البغاة، والمقصود بعدُ منهم لا يتبين إلا بأن نذكر مجامع أحكام البغاة، ثم يتبيّن مجاري تلك الأحكام عند اختلال الشرائط المرعية في البغاة، ثم نذكر بعد ذلك تفصيلَ الكلام فيمن يقاتلهم الإمام، ثم نبين الأسباب المثبتة للقتال. 10995 - فأما جوامع القول في أحكام البغاة، فمنها أنه ينفذ قضاء قاضيهم إذا وافق الشرع، وإذا استوفَوْا حدوداً وأقاموها على مستحقيها بحقها، وقع الاعتداد بها، وإذا استوفَوْا الزكوات، وقعت موقعها، وكذلك إذا استوفَوْا الجِزَى (4) والأَخْرجة، فالحكم ما ذكرناه، وكذلك استيفاء أخماس الغنائم، والفيء. أما الحدود، فلا تثنّى بعد إقامتها، والزكوات مصروفة إلى مستحقيها، فلا كلام فيها، والأموال المرْصدة للمصالح إذا صرفت إلى وجوهها بحقها، فهي واقعة موقعها، وأما المغانم والزكوات، فأربعة الأخماس منها للغانمين، لا تعلّق لها بالولاة، والخمس منها، ومن الفيء ينقسم القول في مصارفها، فما يصرف إلى مستحقين موصوفين في كتاب الله تعالى، فسبيله سبيل الزكوات، وأما ما يصرف إلى

_ (1) في الأصل: " ثم نصدر إلى التفاصيل ". (2) في الأصل: " برأيه ". (3) زيادة من (ت 4). (4) الجِزى: جمع جزية.

المرتزقة إذا فرقها والي البغاةِ على جنود أهل البغي، فقد اختلف العلماء فيه، وللفقهاء تحويمٌ على هذا التردد، فقال قائلون: لا تقع تلك الأموال موقعها؛ فإنا لو حكمنا بوقوعها الموقع، لكان ذلك إعانة على البغي، وتمهيداً للاستعداد لمخالفة الإمام. ومنهم من قال: إنها تقع الموقع؛ فإنهم جنود الإسلام، ولو ثارت طائفة من بلاد الكفر، لطاروا إليها، والرعب (1) منهم قائم في نفوس الكفار. وهذا في نهاية الاحتمال [وقرّب] (2) بعضُ المحققين القول فيما يتلفونه (3) على أنفسهم على ترتيب صرف المال إلى المرتزقة من القول فيما يتلفون على الإمام [وجنده] (4) في الحروب، فإنا بإسقاط الغرم [عنهم] (5) في حكم [من] (6) يقرّرهم على ما هم فيه، ويخفف عنهم عناء المغارم. فهذه جمل من أحكامهم. 10996 - ثم إنا نذكر بعد ذلك [بيان] (7) ثبوت هذه الأحكام وانتفائها إذا اختل شرط من الشرائط المعتبرة، فنقول: إذا تمسك قوم بتأويل ولا نجدة لهم، فلا يثبت لهم القتال بالأمور التي ذكرناها أصلاً. نعم، لو كان منهم من يصلح لأن يحكم فحكّموه، فهذا مما اختلف القول فيه، وهو جارٍ في آحاد المسلمين الذين هم تحت الطاعة، والفقه فيه إذا لم يكن لهم نجدة، فالطاعة مستمرة عليهم، وما يبدونه إذا استخلَوْا بأنفسهم هذيان [يُعزَّرون] (8) عليه. وغرضنا الآن أن نبين انتفاء الأحكام عنهم وسنذكر ما يتصل بهم من رأي الإمام. فأما إذا عظمت الشوكة، ولم يكن لهم تأويل أصلاً، فالذي أطلقه الفقهاء أنه

_ (1) (ت 4): " والركب ". (2) في الأصل: " وخرّج ". (3) يتلفونه: أي ينفقونه. كما هو في (ت 4). (4) في الأصل: " وحده ". (5) في النسختين: " منهم ". (6) زيادة من (ت 4). (7) في الأصل: " أن ". (8) في الأصل: " يصفعون "، وفي (ت 4): " يصيعون " (كذا بهذا الرسم والنقط)، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء كلام الرافعي في مثل هذه المسألة.

لا تنفذ أحكامهم؛ فإن عماد البغي التأويل، وكأنهم إلى أن يُكشف الحق لهم معذورون [فيما] (1) أضمروه من التأويل، وليس هذا الطرف مضطرب (2) الفقهاء، فإنا إذا فرضنا خلوّ ناحية عن نظر الإمام بسبب [استيلاء] (3) أصحاب العُدَد، فلو عطلنا أحكامهم، لتفاقم الضرر، وهذا في القطر بمثابة ما لو خلا العصر عن صالحٍ للإمامة، وقد مهدنا أصول ذلك في المجموع الملقب (بالغياثي). فأما إذا لم ينصبوا إماماً، فقد أشرنا إلى ما فيه مقنع في هذا الطرف. فهذا بيان أحكام الذين لا يستجمعون الشرائط المعتبرة في أهل البغي. 10997 - ثم نذكر بعد هذا تمهيد القول في الذين يقاتلهم الإمام من طوائف المسلمين، أما أهل البغي، فإنه يقاتلهم على تدريجٍ نَصفُه، فالوجه أن يبعث إليهم عاقلاً فطناً رقيقاً، ويقول لهم عن الإمام: ماذا ينقمون؟ فإن ذكروا مظلمةً ردّها، ولا يألوهم نصحاً، ويقول: عودوا إلى الطاعة، تكن كلمتكم وكلمة أهل الدين واحدة، فإن فاؤوا، فذاك، وإلا آذنهم بقتال، ولا يحل له أن يَبْغَتَهم به، لما سنصفه. وهذا الترتيب بيّن في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات: 9] والمراد إن طلبت مزيداً بعد وضوح حجة الله، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، على ما سيأتي الشرح في دفع الصائل، في بابٍ، إن شاء الله، ومن آثار قتال الدفع (4) الاقتصارُ على الأدنى (5) فالأدنى، فإذا أمكن الدفع بالقول، فلا معدل عنه، وإذا أمكن الدفع باليد من غير شهر السلاح، فيجب الاقتصار على الأقل. وظاهر هذا قد يخيّل إلى المبتدي أنا لا نسير لهم، وليس كذلك؛ فإن الإمام إذا

_ (1) في الأصل: " ما ". (2) ت 4: " من مضطرب ". (3) في الأصل: " أثبته ". (4) في هامش الأصل: " قتال دفع الصائل ". في نسخة أخرى. (5) ت 4: " الأخرى ".

آذنهم بالحرب، سار إليهم، والسبب، فيه أنه يدفعهم عن (1) القطر الذي استولَوْا عليه. هذا وجهٌ ظاهر، فإن انكشفوا عنه -وكلمتهم واحدة بعدُ- اتبعهم بنفسه أو بجنوده، فإن قيل عن ماذا يدفعهم وقد انكشفوا؟ قلنا: الطاعة محتومة عليهم، وهم مطلوبون بها، وعليهم بذلُها للإمام، فإذا أبدَوْا صفحة الخلاف، كانوا منزَلين منزلة مانعٍ أمراً للإمام طلبه منهم، وإذا فرض الامتناع فيما هذا (2) سبيله، فليس إلا أن يستسلموا أو يقاتلوا، وقد جعل الرب سبحانه وتعالى منتهى القتال مع الفئة الباغية الفيئة إلى الطاعة، فقد قال عز من قائل: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وسنعقد فصلاً مفرداً في كيفية مقاتلتهم، وإنما نحن الآن في عقد الجُمل وتوطئة الضوابط. 10998 - والذي يقتضي الترتيب ذكرَه الآن القولُ فيما (3) تتلفه الفئة العادلة في القتال على البغاة، وفيما تتلفه (4) الفئة الباغية على أهل العدل، فنقول: لا خلاف أن ما يتلفونه على أهل العدل في غير حالة القتال، فهم ضامنون له مطالبون به بعد تقدير الفيئة والرجوع به إلى الطاعة؛ فإنهم ملتزمون للأحكام، وليسوا كأهل الحرب، وكذلك ما يتلفه أهل العدل في غير حالة القتال، فالسبيل فيه ما ذكرناه؛ فإن الطائفتين لا يرَوْن إتلاف الأموال (5) في غير حالة القتال، وإنما تعتقد كل طائفة أنها محقة في القتال غيرُ ضامنة لما يُفضي إليه ترتيب المقاتلة، فإذ ذاك يظهر الوفاق والخلاف على ما سنفصله. فأما ما تتلفه إحدى الطائفتين على الأخرى في حالة القتال، فلا تضمن الفئة العادلة؛ فإنها مقاتلة بحق، وهل تضمن الفئة الباغية ما تتلفه على الفئة العادلة؟ فعلى قولين: أظهرهما - أنه لا ضمان عليهم، وهذا مذهب أبي حنيفة (6)، وتعلق الشافعي

_ (1) ت 4: "على". (2) في الأصل: " هذه ". (3) ساقطة من (ت 4). (4) ت 4: "يتلفونه". (5) ت 4: " المال ". (6) ر. مختصر الطحاوي: 257، بدائع الصنائع: 7/ 141.

بما روى ابنُ شهاب الزهري أنه قال: " كانت في تلك الفتنة دماءٌ يُعرف في بعضها القاتل والمقتول، وأتلفت فيها أموال، ثم سكنت الحرب، وجرى الحكم على الممتنعين، فما علمته اقتص من أحد، ولا غرّم أحداً ما أتلفه " (1). وهذا القول يتوجه بمصلحة كلية، وهو أن الفئة الباغية مدعوون إلى الطاعة رفقاً وعنفاً (2)، والذي تقتضيه الإيالة تقديم الرفق وتأخير العنف، وهو ترتيب الدفع، وإذا جرت معارك واقتتال جنود، فلو (3) علم الممتنعون أنهم مطالبون بالتبعات إذا فاؤوا واستسلموا، فقد يكون هذا داعيةً لهم إلى الاستمرار على العصيان (4)؛ ولهذه الحكمة حُطت الطلبات عن أهل الحرب إذا أسلموا، وإذا كان جريان الكلام في الإيالات، فهذه الفنون أحرى بالتمسك [بها من] (5) الأقيسة الجزئية، وبمثل هذا نفذنا (6) أحكام البغاة حتى لا يعظم الضرار (7). والقول الثاني - أنهم يضمنون ما يتلفون في حالة القتال؛ فإنهم ليسوا محقين في إقامة القتال وما أتلفوه [يوصف] (8) بأنه متلَفٌ بغير حقّ، صَدَر إتلافُه من ملتزمِ الأحكامِ، والذي يُعارِضُ به هذا القائلُ ما قدمناه من الأمر الكلي: أن ما أتلفته الفئة الباغية [في] (9) غير القتال في بَيَاتٍ وشن غارات من غير فرض قتال، فهم مطالبون به، وإن كان قد يؤدى هذا إلى ما ذكرناه في نصرة القول الأول. وهذا القائل يقول: إنما قبلنا شهاداتهم، لأن ردها يأتي [من] (10) ناحية تمكّن

_ (1) أثر الزهري رواه البيهقي في السنن الكبرى: 8/ 175. (2) ت 4: "عصفاً". (3) ت 4: "فلم". (4) ت 4: " الصعان ". (5) زيادة من (ت 4). (6) نفذنا أحكام البغاة: أي أننا باسم قاعدة الإيالة الكلية، حكمنا بنفوذ أحكام البغاة فيما يقيمونه من حدود، ويجمعونه من زكوات، وفيما يحكم قاضيهم فيه من دماءٍ وفروج. (7) ت 4: " الصولة ". (8) في الأصل: " موصف بأنه ". (9) في الأصل: " من ". (10) في الأصل: " في ".

التهمة، والتهمة تأتي من ناحية ارتكاب محظور العقيدة (1). وأما تنفيذ قضاء قاضيهم، فليس فيه كبير متعلّق؛ فإنا في الرأي الأظهر قد نصحح التحكيم من الذين هم تحت الطاعة. والأصح القول الأول. 10999 - ثم إن لم نوجب ضمان الأموال، فلا شك أنا لا نوجب القصاص لأنه أولى بالاندفاع. وهل نوجب الكفارة على الباغي بقتل من يقتله من أهل العدل؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يجب؛ طرداً للإهدار وقطْع التبعات، والوجه الثاني - أنها تجب؛ إذ هي أسرع وجوباً من القصاص والدية؛ ولذلك أوجبناها على القاتل بسهم الغرب، كما تفصّل في موضعه، وإن لم يلتزم قصاصاً ولا دية، فإن قلنا: يجب على البغاة الضمانُ فوجوب الكفارة ظاهر. وفي القَوَد وجهان: أحدهما - لا يجب لتعرضه للسقوط بالشبهات، وما تمسكوا به من التأويل شبهة. ثم إن أوجبنا القصاص وآل الأمر إلى المال، فالدية في مال القاتل. وإن لم نوجب القصاص لمكان التأويل، فلا شك في وجوب الدية على هذا القوله الذي نفرع عليه، والدية سبيلها سبيل دية العمد التي لا تتأجل وتتعلق بمال القاتل، أو سبيلها سبيل دية شبه العمد، حتى تتأجل وتضرب على العاقلة؟ هذا أصل مهّدته في كتاب الجراح والديات، وهو يناظر ما لو قتل الرجل إنساناً على زيّ (2) الكفار رآه في دار الإسلام،

_ (1) محظور العقيدة: يُقصد به مَنْ يعتقد أنه يشهد لموافقيه، وهم الخطّابية، فمن عقيدتهم أنهم يشهدون لمن يوافقهم في العقيدة؛ اعتماداً على أن أبناء طائفتهم لا يكذبون، فهم يشهدون لموافقيهم على كل ما يدّعون. ثم معنى العبارة أن قبولنا شهادة البغاة لا يصلح دليلاً على عدم تضمينهم ما أتلفوه على أهل العدل أثناء القتال، فإن الحكم بعد التهم وقبول شهادتهم، لا يعني أنهم محقون في بغيهم ويدفع عنهم ضمان ما أتلفوه. وأخيراً أقول: إن العبارة هنا فيها شيء من الاضطراب، ولعل فيها خرماً، وما قلناه مأخوذ من كلام الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 11/ 82). (2) ت 4: " راى ".

ففي القصاص قولان، فإن لم نوجبه، ففي ضرب الدية على العاقلة قولان، فإن ضربنا عليهم، فلا شك في تأجيلها. والرأي الظاهر أنها مغلّظة كدية شبه العمد. ومن أصحابنما من ألحقه بالخطأ المحض. وهذا بعينه -يجري حيث انتهى التفريع إليه- في قتل [العادلِ الباغيَ] (1). ولا خلاف في أن ما حصل بأيديهم من أعيان أموال البغاة مردود عليهم. ومما يجب الاعتناء به أن أصل التردد في الضمان مختص (2) بما يجري إتلافه بالقتال، حتى لو فرض إتلافٌ في القتال ليس من ضرورة القتال، فهو ملتحق بما يجري إتلافه قبل القتال. فهذا بيان جملة من مقاتلة أهل البغي وأحكام ما يجري حالة القتال من إتلافٍ وقتلٍ. 11000 - وقد ضمِنّا أن نذكر وجوه قتال الإمام مع طوائف المسلمين، فنذكر مقاتلة أبي بكر رضي الله عنه مع أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي: " أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان: قسمُ (3) مانعي الزكلاة أهل ردّة، لا من جهة ارتدادهم عن الدين، ولكن من جهة ارتدادهم عن الطاعة " (4) وتأسى في إطلاق لفظ الردة بما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:

_ (1) في الأصل كما في (ت 4): " قتل الباغي العادْلَ "، والتغيير من المحقق؛ ذلك أن صورة ضمان الباغي قد سبقت، وهي المُحال عليها والمشبه بها في عبارة الإمام. هذا، ونحب أن نؤكد أن العبارة الأولى كان لها وجه من الصواب، فالمصدر المضاف يعمل مضافاً إلى فاعله، ويعمل مضافاً إلى مفعوله والفاعل ضمير مستتر، أما أن يعمل مضافاً إلى مفعوله والفاعل اسم ظاهر، فهذا قليلٌ غير شائع، مثل قوله: " في قتل الباغي العادلُ " والمراد أن العادل هو القاتل. فهذا هو القليل، الذي غيرناه، ولذا قلتُ: التغيير من المحقق، ولم أقل: التصويب. (2) ت 4: "يختص". (3) ث 4: " قسمي ". (4) ر. المختصر: 5/ 157 والمذكور معنى قول الشافعي، وليس لفظه.

" مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات، لهاضها " (1) ولقد كان الذين سُموا أهلَ الردة قسمين: قسم كفروا بالله عز وجل بعد إيمانهم، مثل طليحة، والعنسي، ومسيلمة، وأصحابهم، وقسم ارتدوا عما لزمهم من حق أداء الزكاة، والردة لفظة عربية، وأطلقها المتقدمون على مانعي الزكاة. ثم الذين منعوا الزكاة ما كانوا خارجين عن الإيمان، وقاتلهم أبو بكر، والمناظرة التي جرت بينه وبين عمر رضي الله عنهما مشهورة، إذ قال عمر: كيف تقاتل أقواماً يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم " فقال أبو بكر: " أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلا بحقها " والزكاة من حقها، والله لا أفرق بين ما جمع الله، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} والله لو منعوني عقالاً وفي بعض الروايات عَناقاً مما أدوا إلى رسول الله، لقاتلتهم عليه " (2). ثم استدَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي أبي بكر، وتبين أنه قاتلهم، وهم مؤمنون، وقال بعض من وقع في الأسر منهم: والله ما كفرنا بعد إيماننا، ولكن شححنا على أموالنا، وأشعارهم وأراجيزهم في هذه المعاني (3). وكان يقول بعضهم: أدينا الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت (4) صلاته سكناً لنا، وليست صلاة غيره سكناً لنا.

_ (1) حديث عائشة " مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ... " رواه البيهقي في الكبرى (8/ 200) وذكره الشافعي في الأم مختصراً (6/ 166). (2) حديث مناظرة أبي بكر وعمر في قتال مانعي الزكاة، متفق عليه من حديث أبي هريرة. (البخاري: الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، ح25، والزكاة، باب وجوب الزكاة، ح1399، 1400. مسلم: الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ح20، 21). (3) ر. المختصر: 5/ 157، فقد روى الشافعي رضي الله عنه هذه العبارات، مع شيء من أشعارهم. منها على سبيل المثال: أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا عجباً ما بال ملك أبي بكر (4) ت 4: " لأن صلاته ".

وترتب على هذا الأصل أن كل من امتنع عن أداء حقٍّ إلى الإمام استيفاؤه، فالإمام يستوفيه منه، وإن لم يكن فيه امتناع (1)، حبسه وأرهقه إلى أداء الحق. وإن تجمع قوم وامتنعوا عن أداء ما إلى الإمام استيفاؤه، فالحال يُفضي إلى دعائهم إلى الطاعة، فإن أصروا، فليس إلا القتال؛ إذ لا سبيل إلى تركهم على تمردهم وتفردهم وخروجهم عن الطاعة. وكذلك إذا توجهت تبعات وغرامات، ففُرض الامتناع. 11001 - فالقول الضابط: أن من يمتنع عن بذل الطاعة فإن لم يكن ذا منعة، قهره السلطان وحَمَله على توفية ما عليه، فإن تجمعوا وصاروا أصحاب شوكة ومَنَعة، فلا سبيل إلى الترك. ولا طريق إلى تحصيل الطاعة إلا بالقتال، وإنما يُقاتَل أهل البغي لهذا؛ من حيث إنهم امتنعوا عن الانقياد، وأبدَوْا الاستقلال والاستبداد. ثم لو فرض: الامتناع من أقوام، وأفضى الأمر إلى القتال، نُظر: فإن لم يكونوا أصحاب امتناع، ولكنهم استجرؤوا، واستقتلوا بلا تأويل، أو تمسكوا بتأويل، فما أتلفوه في القتال مضمون عليهم، والقصاص (2) واجب إذا [استدّت] (3) الطاعة، فعلى من يقتل منهم القصاص، وهذا مقطوع به في قاعدة المذهب؛ قال الشافعي رضي الله عنه: قتل ابنُ ملجم عليّاً متأولاً، فاقتُص منه، وقيل: تأويله أن امرأةً ذكرت له- تسمّى قطام- أن علياً قتل طائفة من أقربائها، ووكّلته بالاقتصاص منه وبنى عبد الرحمن [ابنُ ملجم] (4) على مذهب مشهورٍ لأهل المدينة في أن طلب القصاص لا يتوقف على رضا جميع الأولياء- هذا معنى تأويله. وإن كان في الفئة الممتنعة مَنَعة، فما يتلفونه في القتال، إن كان عن تأويل، فهم بغاة، وقد مضى التفصيل فيهم، وذكرنا أن الأصح أنا نكتفي بالتأويل والمنعة، ثم من

_ (1) امتناع: أي منعة وشوكة وقوة. (2) ت 4: " والاستقلال ". (3) في النسختين: " استمرّت "، والمعنى: إذا استدّت (أي استقامت) الطاعة، وتغلب عليهم جند الإمام، فيجب الاقتصاص منهم. (4) زيادة للإيضاح فقط.

ضرورة المنعة [اتباع] (1) مُقدّم، فأما نصب الإمام، فالرأي الظاهر عندنا أنه ليس من شرائط البغاة. وإن لم يكونوا متمسكين بتأويل به مبالاة، ولكن كانوا أصحاب شوكة، [ففيما] (2) يتلفونه في القتال على أهل القتال طريقان: من أصحابنا من قطع بأنهم يضمنون، إذ لا تأويل معهم، ومن أجرى القولين، وهو ظاهر النص، فإن المعتمد من جهة المعنى في إسقاط الضمان عنهم تسهيلُ الأمر عليهم، وتيسيرُ طريق الدعوة (3) بقطع التبعات، وهذا متحقق في أهل المنعة دون شرذمة لا منعة لهم. 11002 - وأجرى الشافعي رحمه الله ترديد القول في أهل الردة إذا اجتمعوا واستمسكوا بعُدة، فأتلفوا في القتال ما أتلفوا، فإذا أسلموا واستكانوا، ففي تضمينهم ما أتلفوه قولان. ثم قال قائلون: هم أولى بنفي الضمان عنهم لمضاهاتهم أهل الحرب، وهذا وإن ذكره طوائف من الأئمة غيرُ مرضيّ؛ فإن المرتد في التزام الأحكام كالمسلم، ولم يوجد منهم إلا المنعة، ولو صح التعويل على ما ذكرناه، لوجب أن يقال: ما يتلفونه في غير حالة القتال لا يضمنونه كأهل الحرب، وليس الأمر كذلك، فلا خلاف أنهم يضمنون ما يتلفون في غير حالة القتال، فالوجه تلقي هذا من عُدّة أهل الردة، لا من كفرهم. ثم ينقدح طريقان: أحدهما - القطع بأنهم يضمنونه. [والثانية - إجراء القولين، ومانعوا الزكاة لم يكونوا على تأويل، ولا حاصل لما نقل عن بعضهم] (4) أنه لا سكن في صلاة أبي بكر؛ فإن أخْذ الزكاة لا يعتمد سكون قلب المؤدِّي إلى صلاة الآخذ. 11003 - ونحن الآن ننظم قولاً وجيزاً، فنقول: القتالُ يتبع (5) الامتناعَ عن الطاعة.

_ (1) في الأصل: " إمام ". (2) في الأصل: " فما "، (ت 4): " فيما ". (3) في النسختين: " الدعوة "، ولعلها: العودة: أي إلى الطاعة. (4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (5) ت 4: "يمنع ".

وتنفيذُ القضاء، والأحكامِ التي قدمنا ذكرها يتبع الشوكةَ والتأويلَ. وإجراءُ الخلاف في ضمان ما يُتلَف في حالة القتل يتبع الشوكة المحضة، فإذا لم تكن شوكة، قطعنا بالضمان مع التأويل، وعليه استشهدنا بقتل ابن ملجم علياً. ومن أبدى من آحاد الناس طعناً في الإمام، عُزِّر على قدر سوء أدبه، وإن شبب بذلك ولم يَبُح، فهل يعزّر؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: للإمام أن يعزره إذا أدى اجتهاده إليه، حسماً للمادة وردّاً لأوائل الأمور، والدليل عليه أنه يحرم عليه أن يشبب، وإذا حرم عليه، ساغ منعه (1). ومن أصحابنا من قال: لا يعزره ما لم يصرح، واستدل بما روي " أن رجلاً قال وعليٌّ في الصلاة: لا حكم إلا لله ولرسوله " (2) وشبب بإسقاط طاعة عليّ رضي الله عنه، فلما تحلل عن صلاته، قال: " كلمة حق أريد بها باطل " ولم يعزره. وأما الخوارج إذا أظهروا آراءهم، وأكفروا الإمام وأتباعَه، فإن لم يكن لهم منعة، فالكلام فيهم، وفي أهل الأهواء ليس بالهيّن، وهو من أعظم [أركان] (3) الإيالة الكبيرة، ولعلنا نجمع فيها قولاً، وإن نابذوا الإمام، فقد اختلف أصحابنا فيهم: فمنهم من جعلهم كأهل الردة، ومعناه أنا لا نقيم لما استمسكوا به من عقدهم وزناً، ولا نقول: إنهم متعلقون بتأويل حتى تَنفُذَ أحكامُهم، كما تنفُذ أحكامُ البغاة، وهذا هو الأصح. ومنهم من جعل ما تعلقوا به بمثابة تأويل البغاة، وهذا ساقطٌ لا أصل له؛ فإن فساد عقدهم كفساد عقود أهل الردة، وإن كنا لا نكفرهم على الرأي الظاهر. وقد انتجز ما أردنا أن نصدّر الكتاب به من التوطئة وتمهيد الأصول.

_ (1) ت 4: " أمره ". (2) خبر " أن رجلاً قال وعليٌّ في الصلاة لا حكم إلا لله ولرسوله ... " رواه مسلم، وابن أبي شيبة، والبيهقي (مسلم: الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، ح1066، مصنف ابن أبي شيبة: ح19776، السنن الكبرى: 8/ 184) ورواه الشافعي بلاغاً (الأم: 6/ 217). وانظر التلخيص: 4/ 85 رقم 1998. (3) ساقطة من الأصل.

11004 - ثم إنا نعود إلى ترتيب (السواد) (1) قال الشافعي رضي الله عنه في فصل المرتدين: " وسار إليهم أبو بكر بنفسه حتى لقي أخا بني بدر الفزاري، فقاتله ومعه عمر، وعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2) وإنما أراد عيينةَ بنَ حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، واختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: كان هو من جملة الموافقين لأبي بكر، ولما سار أبو بكر يريد قتال أهل الردة، التقى به، فقال له: أنت إمام المسلمين، فإن صدرت (3) فلا إمام بعدك، فارجع أنت لنقاتلهم دونك، فمن قال [بهذا قرأ (4): فقاتل ومعه عمر: أي قاتلهم عيينة مع عمر، ومنهم من قال: كان عيينة من المخالفين المانعين الزكاة، ومن قال بهذا، قرأ: فقاتله ومعه عمر: أي قاتل أبو بكر عيينة ومعه عمر (5)] (6). فصل قال الشافعي: " والفيئة الرجوع عن القتال ... إلى آخره " (7). 11005 - وهذا مما قدمناه، فالقتال مع الفئة الباغية مردود إلى رجوعهم إلى أمر الله، واستمساكهم بالطاعة، والغرض من عقد هذا الفصل الكلامُ في كيفية

_ (1) ت 4: " الشواذ ". والسواد هو مختصر المزني كما نبهنا مراراً. (2) ر. المختصر: 5/ 157. (3) كذا في النسختين، والمعنى -على المجاز- فإن ذهبت، أي استشهدت. (4) قرأ: أي قرأ عبارة المختصر، المذكورة آنفاً. (5) عبارة الأصل: " فمن قال فهذا إقرار من عيينة، ومنهم قال كان عيينة من المخالفين المانعين الزكاة "، وفيها خلل واختزال، والمثبت، وهو كل ما بين المعقفين من نسخة (ت 4). (6) والمشهور من أمر عيينة أنه كان ممن ارتد في عهد أبي بكر، ومال إلى طليحة الأسدي، فبايعه، ثم عاد إلى الإسلام. كذا ذكر ابن حجر في الإصابة، ولكنه عاد فقال في آخر ترجمته: وقرأت في كتاب الأم للشافعي في باب من كتاب الزكاة أن عمر قتل عيينة بن حصن، ولم أر من ذكر ذلك غيره، فإن كان محفوظاً، فلا يذكر عيينة في الصحابة، لكن يحتمل أن يكون أمر بقتله، فبادر إلى الإسلام، فترك، فعاش إلى خلافة عثمان. (ر. الإصابة: 3/ 54، 55). (7) ر. المختصر: 5/ 158.

مقاتلتهم، وقد تمهد أن قتالهم مبنيٌّ على الدفع. ومن آثار هذا الأصل أن من انهزم منهم، لم يتبع، ومن أثخن بالجراح، لم يذفّف عليه، وقال أبو حنيفة (1): يتبع مدبرهم ويذفف جريحهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود يوماً: " يا ابن أم عبد! أتدري ما حكم الله تعالى فيمن [بغى من] (2) هذه الأمة؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فقال عليه السلام: ألا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ولا يقتل أسيرهم " (3). ودخل حسين بن علي على مروان فقال له ما رأيتُ أكرم من أبيك: [ما ولَّينا] (4) ظهورنا يوم الجمل حتى نادى مناديه: " ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفّف على جريح ". ومعتمد المذهب أن القتال للامتناع، ولا امتناع في منهزم، ولم يصدر منه ما يوجب القتل، ولذلك لا امتناع في مثخن. ولو انهزم البغاة في ظاهر الأمر، وقصدُهم التحرّف للقتال، فإن القتال قائم، وحكمه دائم، وإن قصدوا التحيّز إلى فئة، فهذا مما يجب إنعام النظر فيه: فنقول: ما قدمناه من أنه لا يتبع منهزم أردنا به الأفراد إذا تبدّدوا مفلولين، فأما إذا ولّى الجند تحت الراية، وما انفلّوا، ولكنهم ولّوْا ظهورهم، فلا ينكف الإمام عنهم، [ولكن لا ينكأ فيهم] (5) بالسلاح، بل يطلبهم إلى أن يؤوبوا إلى الطاعة، والواحد إذا انفلّ، فقد سقطت منعته وشوكته، واعتضاده بالجمع، وكذلك [لو تشتّتوا] (6) بدداً،

_ (1) المذهب عند الأحناف أنه يتبع المدبر ويذفف الجريح إذا كان لهم فئة يتحيزون إليها (ر. المبسوط: 9/ 126، فتح القدير: 5/ 337، بدائع الصنائع: 7/ 140 - 141). (2) في الأصل: " نفر في " والتصويب من لفظ الحديث. (3) حديث: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود يوماً: يا ابن أم عبد، أتدري ما حكم الله ... " رواه الحاكم، والبيهقي من حديث ابن عمر. قال البيهقي: ضعيف، وقال الحافظ: " في إسناده كوثر بن حكيم، وقد قال البخاري: إنه متروك ". (ر. مستدرك الحاكم: 2/ 155، السنن الكبرى: 8/ 182، التلخيص: 4/ 83 ح1994). (4) في الأصل: " لما ولينا ". والمثبت من (ت 4). (5) في الأصل: " ولا ينكيهم بالسلاح ". (6) في الأصل: " لو استرسلوا ".

وارفضّ (1) الجمع حتى لا يتوقع اجتماعهم، فلا يتبعهم. فانتظم مما ذكرناه أن التعويل على ردّهم إلى الطاعة، أو فلّ شوكتهم وإبطال عُدتهم. ولو ولّوْا متحيزين إلى فئة، فإن كانت قريبةً منهم، اتبعناهم، وإن كانوا أفراداً وأسرناهم، فلا يتعرض لهم بالأسلحة، كما ذكرناه، وإذا كنا نتبعهم وهم متحيزون إلى فئة قريبة، فلأن نتبعهم وهم مجتمعون تحت رايةٍ أولى، فإنا جعلنا تفرقهم في الانهزام وصوبُهم فئة يتحيزون إليها بمثابة استمرارهم على القتال. ولو بعدت الفئة التي إليها التحيز، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنهم يتبعون (2 كما لو قربت الفئة، والثاني - لا يتبعون 2)، والوجهان يجريان فيه إذا تفرقوا مفلولين. وإذا كانت الصورة كذلك، فلا يكادون يلتامون (3) إذا بعد المُعَرِّي (4). 11006 - ونحن من هذا المنتهى نذكر كيفية المقاتلة، فقد يظن من لا يطلب حقائق الأشياء أنا نصطف في مقابلتهم، فإذا قصدونا، ندفعهم، وقد رأيتُ هذا لطائفة من المعتبرين، وهذا زلل منهم، لم أذكره لبعده من المذهب، وذلك أنا وإن أطلقنا أن قتالهم دفعٌ، فالمراد دفعهم عن العصيان، والاستعدادُ له؛ فإذا رأيناهم مُعدِّين، سرنا إليهم (5 وزحفنا إليهم، ومن ضرورة هذا مفاجأتهم. ومما يتصل به أنا لو اصطففنا حتى يلْقَوْناْ)، فقد يُفضي [هذا] (6) إلى أن

_ (1) ارفضّ: أي انفضّ، وزناً ومعنىً. (2) ما بين القوسين ساقط في (ت 4). (3) يلتامون: أي يلتئمون ويجتمعون، بتسهيل الهمزة، والإمام ناظرٌ في هذا اللفظ إلى قول الشاعر: جراحات السنان لها التئامٌ ... ولا يلتام ما جرح اللسان (4) " المُعَرِّي ": المخلِّص: يقال: عراه من الأمر: خلّصه منه. (المعجم) هذا وفي (ت 4): تعدّى المفدي. (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 4). (6) زيادة من (ت 4).

يتغشَّوْنا، [وقد ذكرنا أن القتال ليس على] (1) صورة قتال رجل ودفعه، وربما يكون تارك البداية معرِّضاً نفسه [للهلاك] (2)، وإليه أشار عليّ رضي الله عنه إذ قال: " حدِّدوا سيوفكم، وقاربوا بين الخطى، ولاحظوا شذراً، وعليكم بالرواق والمقيت " (3). والذي يجب مراعاته أنه إن أمكن الأسر، فلا قتل، وإن أمكن الاقتصار على الإثخان، فلا تذفيف، وهذا الفن من التدريج تجب مراعاته، وإذا التحمت الفئتان، فلا ضبط، وهذا المعنى يتحقق في تساوي الصائل والمصول عليه، فما الظن بالتحام فئتين عظيمتين. وخرج مما ذكرناه أن المنهزم ينقسم إلى من يُتبع وإلى من لا يُتبع، وهم مستوون [في] (4) أنهم لا يقصدون بالأسلحة، وترتيبُ القتال على ما بيّناه. فإن قيل: [كيف قتل عليّ أهل النهروان؟] (5) قلنا: " كانوا خوارج نابذوه وانسلّوا عن طاعته وتوثبوا على [واليه] (6)، وقتلوه، فبعث إليهم أن يسلموا قاتله، فقالوا: كلنا قتلة، فبعث إليهم، فقال استسلموا، نحكم عليكم، [فأبَوْا] (7)، فسار إليهم بنفسه، وقتل أكثرهم " (8) قيل: لم يفلت منهم أكثر من اثنين، وبلغ القتلى أربعة آلاف وقتل ذا الثُّدَيَّة، وصدق الله وعد رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ قال في القصّة المشهورة: " سيخرج من ضِئْضِئ هذا الرّجل (9) أقوام ...

_ (1) عبارة الأصل: " لأن القتال ليس على قتال رجل ودفعه ". والمثبت من (ت 4). (2) زيادة من (ت 4). (3) أثر علي " حددوا سيوفكم وقاربوا بين الخطى ... " لم نقف عليه بعد. (4) في الأصل: " إلى ". (5) في الأصل: " كيف فعل علي بأهل النهروان ". (6) في الأصل: " رجل ". (7) زيادة من (ت 4). (8) هذا من كلام الشافعي في المختصر: 5/ 160. (9) ضئضئ هذا الرجل: الضئضئ: الأصل (معجم) والمراد هنا الصلب. أما الرجل المشار إليه، فهو الرجل الذي أفحش في الاعتراض على قَسْم رسول الله صلى الله عليه وسلم لصدقاتٍ جاءته، واسمه ذو الخويصرة، رجلٌ من تميم، كما صرحت بذلك بعض روايات البخاري (ح3610).

الحديث " (1) إلى أن قال: " وأنت قاتلهم يا عليّ وآياتهم أن فيهم رجلاً ذا ثُدَيّة عليها شعيرات تتدَرْدر (2) فلما [صُرع القتلى] (3) أمر عليّ بطلبه، فطلبوه، فلم يجدوه، فنزل عليّ بنفسه، وكان يفتش القتلى، فوجد ذا الثديّة على طرف وادٍ، فكبّر وكبّر المسلمون معه ". 11007 - ومما يتصل بذلك أن طائفة إذا خرجوا عن طاعة الإمام وقتلوا [واليه] (4) فالقاتل مقتول، والذي ذهب إليه الجماهير أنه يقتل قصاصاً، وذكر العراقيون وجهاً أنه يقتل حدّاً، لأنه لم يجن على رجل واحدٍ، بل خرق حجاب الهيبة، ومقامه هذا فوق مقام من يقتل في المحاربة. وتمام البيان في هذا أن من قاتل الوالي، ولم يقصد استبداداً بالنفس ورجوعاً إلى [عُدَّة] (5) المخالفة، فسبيل مثله سبيل القصاص، وإن انضم إلى ذلك الخروج عن الطاعة والرجوع إلى استعداد المخالفة، ففيه الخلاف، والأصح القطع بأن القتل الواجب قصاصٌ.

_ (1) هذا الحديث بهذه السياقة موجز من حديثين في صفات الخوارج وقتالهم، وهما عن أبي سعيدٍ الخدري، وعليٍّ بن أبي طالب. أما حديث أبي سعيد، فهو عند البخاري برقم 3344، وأطرافه كثيرة منها: 3610، 4351، 6163، 7432. وهو عند مسلم أيضاً برقم 1064 عام= أرقام (143، 144، 145، 148) من كتاب الزكاة. وأما حديث علي، فهو عند مسلم برقم 1066 عام = أرقام (155، 156، 157) من كتاب الزكاة. أما لفظ " وأنت قاتلهم يا علي " فليس في روايات البخاري ومسلم، فلعله في روايات أخرى، فالحديث عند أبي داود السنة قتال الخوارج ح 4764، عن أبي سعيد وأنس، وح 4768 عن علي، وعند النسائي في الزكاة، وعند أحمد: 3/ 56، 65، 72. (2) تتدَرْدر: أي تتحرك، وتترجرج، والمعنى أن الثديّة هي التي تتحرك وتترجرج، وليس الشعيرات. (3) في الأصل: " فرغ من القتلى ". (4) في الأصل: " إليه ". (5) في الأصل: " عزة ".

فصل في أَسْر البغاة 11008 - إذا أسرنا منهم أسيراً، لم نقتله صبراً، خلافاً لأبي حنيفة (1)، ولكنه يحبس حتى تضع الحرب أوزارها، فإن بايع الإمامَ خُلِّي، وإن أصر على غُلَوائه، فرجعت الفئة الباغية إلى الطاعة، خلّينا سبيل هذا الأسير؛ فإنه لا يتأتى منه الاستقلال بالمخالفة بعد تفرق كلمة الفئة الباغية، ولو أسرنا منهم أسيراً، فانجلى ذلك القتال، وما زالت شوكتهم، وكنا على اتباعهم، وعلى انتظار الكرّة منهم، فلا يُخلَّى الأسير والحالة هذه. ولو ظفرنا بنسائهم، لم نتعرض لهن بالأسر، وإن وقعن في ضبط (2) الجند، خلّينا سبيلهن، هذا هو المذهب الظاهر. وذهب أبو إسحاق المروزي فيما نقله العراقيون إلى أنّا نحبسهن؛ فإن في حبسهن كسر قلوبهم، وحملهم على الطاعة. ولو انهزم البغاة متحيزين إلى فئة، فإن كانت كلمتهم واحدة، وكان مسيرهم تحت الراية الجامعة، فقد ذكرنا أنا لا نخلّي الأسرى، وإن تحيّزوا إلى فئة قريبة، فكذلك، وإن تفللوا أفراداً وتحيزوا إلى فئة بعيدة، ففي وجوب تخلية الأسرى وجهان، وذكر العراقيون وجهاً عن بعض الأصحاب أنه مهما انقضى القتال خُلِّي الأسرى من غير فرق، وهذا بعيدٌ، لا أصل له، ولا بد من التفصيل الذي ذكرناه. ولو وقعت بأيدينا أموال، لم تكن من قِبَل الأسلحة، فهي مردودة عليهم، وإن ظفرنا بخيلهم وسلاحهم، لم نردها حتى ينقضي القتال، كما ذكرناه في تخلية الأسرى، والعبيدُ من أقوى العُدد، فسبيلهم كسبيل الأسرى والأسلحة. والمراهقون إن كانوا يقاتلوننا، فسبيلهم كسبيل العبيد، وإذا لم يبلغ الصبيان مبلغ

_ (1) ر. المبسوط: 9/ 126، فتح القدير: 5/ 337، البدائع: 7/ 140 - 141. (2) ضبط الجند: أي أمسك بهن الجند وسيطروا عليهن.

القتال، فهم ملتحقون بالنسوان، وقد سبق القول فيهن، ولا يطلب من الصبيان بيعةٌ؛ إذ لا قول لهم، وليس على النسوان بيعة إلا بيعة الإسلام. فصل قال: " ولو استعان أهل البغي بأهل الحرب ... إلى آخره " (1). 11009 - مضمون الفصل مسألتان: إحداهما- استعانة أهل البغي على أهل العدل بأهل الحرب، واستعانتهم بأهل الذمة على أهل العدل. فأما إذا استعانوا بأهل الحرب علينا، فلا أمان لأهل الحرب في حقوقنا؛ فإنا وإن كنا ننفذ أحكام البغاة، فشرط تنفيذها أن تكون موافقة لموجب الشرع والدين، ولا أمان مع القتال، فيستحيل أن ينفُذ أمانهم علينا. ثم ما يتلفه أهل الحرب لا تضمين به؛ لأنهم في حقوقنا أهل حرب، ثم قال الأئمة المراوزة: يُتبع منهزمهم يعني أهل الحرب، ويذفّف على جريحهم، وتُغنم أموالهم، وحكي عن القاضي أنه قال: لا يتبع مدبرُهم ولا يذفّف على جريحهم، لأنهم صاروا من أهل البغي بالأمان، فيثبت لهم حكمُ أهل البغي، وهو عندنا زلل ولا يثبت لأهل الحرب في حقوق أهل العدل أمان، ولا عُلْقة أمان، وهم بمثابتهم لو انفردوا بمقاتلة المسلمين. واشتهر اختلاف الأصحاب في أنه هل ينعقد لهم أمان في حق أهل البغي: فمنهم من قال: ينعقد لهم الأمان؛ فإنهم أمّنوهم، ومنهم من قال: لا ينعقد الأمان على الصحة في حقوق البغاة أيضاً؟ فإنه معقود على الفساد، والأمان لا يتبعّض، ثم إن صحّحنا الأمان لهم، فلا كلام، وإن لم نصحّحه، فليس للبغاة أن يغتالوهم؛ فإن ما جرى منهم أمان فاسد، والأمان الفاسد يمنع الاغتيال لهم، فهم مردودون إلى مأمنهم. ولو قال أهل الحرب -وقد وقعوا في الأسر-: ظننّا أنه يحل لنا مقاتلتكم والاستعانةُ

_ (1) ر. المختصر: 5/ 160.

بنا، وهؤلاء حسبنا أنهم الفئة المحقة، وقالوا: ظننا أنهم استعانوا بنا في مقاتلة الكفار، وما حسبناكم مسلمين، فهذا موضع الخلاف المشهور: قال قائلون من أئمتنا: نصدّقهم إذا احتمل ما قالوه، ونعاملهم معاملة البغاة، فنقتلهم مقبلين ولا نقتلهم مدبرين، ونُبلغهم المأمن، وهذا هو الظاهر. ومن أصحابنا من قال: نقتلهم حيث ثقفناهم، ومجرد ظنون الكفار لا يؤمّنهم، وقد ذكرنا أنه لا أمان على أهل العدل. هذا كلامنا (1) في استعانة أهل البغاة بالكفار الحربيين. 11010 - فأما إذا استعانوا بجماعة من أهل الذمة، فإن قالوا: قد علمنا حقيقة الحال، ولم نرد بالقتال إلا أن ننال منكم [ونستأصلَ] (2) شأفتكم، فينتقض العهد بهذا، ويُقتلون مدبرين ومقبلين، وتُغنم أموالهم، ولا يُبْلَغون المأمن، ولا يضمّنون ما أصابوا؛ فإنهم أهل حربٍ. وإن قالوا: ظننا أنه يحل لنا مقاتلتكم، وذكروا حالةً يمكن صدقهم فيها، فللأصحاب في هذا تردد: أولاً - قالوا: إن ادّعَوْا أنهم كانوا مكرهين على حضور المعركة، فلا نحكم بانتقاض عهدهم، ونقاتلهم مقاتلةَ البغاة: مقبلين غير مدبرين، وإن لم يدَّعوا الإكراه، وزعموا أنا اتبعنا هذه الفئة على علم، ولم نخرج عن متابعة المسلمين كلهم، فحاصل ما ذكره الأئمة في ذلك يستدعي تقديم أصولٍ. وهذا فصل ألحقه معظم الأصحاب بالظواهر، وفيه تشعيث (3) وغوص في أعماق الفقه، لا يتأتى الانتهاء إليه من غير تمهيد أصول، وتفصيل فصول، [فنقول] (4): الكلام فيما يوجب نقض عهود أهل الذمة يأتي مستقصىً في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى، ونحن نذكر من ذلك المقدارَ الذي تَمَس إليه حاجتنا في بيان ما يختص بهذا الكتاب:

_ (1) ت 4: " كلام ". (2) زيادة من المحقق. (3) ت4: "تشعيب". (4) في الأصل: " فيعود ".

فما يصدر منهم ينقسم أولاً (1) قسمين: أحدهما - أن يؤثروا الالتحاقَ بدار الحرب، ونبذَ العهد إلينا، فلهم ذلك ولا نجبرهم على الوفاء بالذمة، هذا متفق عليه، وكان من الممكن من طريق المعنى أن نقول: الذمة إذا انعقدت فكما يلزمنا إدامتها لهم واستدامتها عليهم، فيلزمهم الوفاء بها، حتى إن حاوبوا نقضها، لم يُمكَّنوا، ولكن اتفق الأئمة على أنه لا مُعتَرض عليهم إذا نبذوا العهود، وسنذكر شرّ ذلك في الجزية، إن شاء الله عز وجل. ثم من أثر رفع الحجر عنهم ألا نغتالَهم، ولا نتعرضَ لأموالهم وذراريهم، ونبلغهَم في حكم الأمان مأمنهم، فإذا انتهَوْا إلى مكانٍ يقطنه ذوو نجدة من الكفار فتنقطع آثار الأمان حينئذ. هذا قسم. 11011 - والقسم الثاني - ألا ينقضوا العهود، ولكن يأتوا بأمرٍ يخالف العهد، وهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يخرجوا عن الطاعة، ويُبدوا صفحة الخلاف، وذلك بأن يمتنعوا عن إجراء الأحكام عليهم، ونهايتُهم في هذا أن يجتمعوا وينصبوا علينا قتالاً، ويلتحق بهذا القسم امتناعُهم عن أداء الجزية، وليس هذا من غرضنا الآن. والطرف الذي هو مقصودنا من هذا القسم خروجُهم عن المؤالفة والاستسلام لما يجري عليهم من الأحكام، والمشاقّةُ نهايتها أن يبدوا القتال، فلا خلاف أن هذا ينقض العهد. والقسم الثاني - جنايات عظيمة تصدر منهم متعلقةً بأهل الإسلام، كالزنا بالمسلمة، أو قتل مسلم، أو جرحه، ففي انتقاض عهدهم بصدور هذه أوجه، وغرضنا أن نذكر ما يضبطها، فإذا أتَوْا بجرائم عظيمة، ولما ينتهوا بسببها إلى سلّ اليد عن ربقة الطاعة، ولم يُبدوا امتناعاً عن إجراء الأحكام عليهم، [فهذا محل] (2) التردد في انتقاض العهد، وما لا يبلغ هذا المبلغ من سوء أدب، وإظهار خمر، وتظاهر

_ (1) ساقط من (ت 4). (2) في الأصل: " فهل يحلّ ". والمثبت من (ت 4).

بإبداء شعار، فلا ينتقض العهد به على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله. فإن كان انتقاض العهد بالجهاد والخروج عن الطاعة، ونصب القتال، فالمذهب الذي عليه التعويل أنا نقاتلهم على أماكنهم، ونغنم أموالهم ونقتلهم، ولا نبلغهم مأمناً، ولا خلاف أنهم إذا استشعروا ظلال السيوف، ووقعَ الحتوف، [فطلبوا] (1) ذمةً مبتدأة، عقدناها لهم، وسنعطف على هذا القسم. 11012 - ولو انتقض عهدهم بسبب لا يمكن نسبتهم فيه إلى قصد الهتك والتهجم على حريم الإسلام، كما سنصفه من بعدُ، إن شاء الله ولكنهم على الجملة أوصلوا أذى إلى المسلمين عن جهل؛ فإذا نفذ الحكم بانتقاض الذمة، فهل نغتالهم أو نبلغهم مأمنهم؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما في الجزية إن شاء الله. ولو انتقض عهدهم -على مذهبٍ - بسببِ عظائمَ صدرت منهم في آحاد المسلمين، فلا خلاف أن موجب تلك القضية يجري عليهم، حتى إن قَتلوا، اقتصصنا منهم، وإن أتلفوا، غرّمناهم. وكان لا يبعد من طريق القياس أن يقال: إذا حكمنا بانتقاض عهدهم، صاروا حرباً لنا، ولا حُكم على الحربي وقد حصل نقض العهد مع موجِب القصاص، ولكن أجمع الأصحاب على استيفاء حقوق المسلمين منهم، ولو لم نسلك هذا المسلك، وفرعنا على المذهب الذي انتهينا إليه، للزم ألا يستوجب ذمي قصاصاً بقتل مسلم، فإذاً إجراء الموجبات والقضايا في الجرائم من أحكام الذمة السابقة، وإن كان لا يبعد أن نبلغهم المأمن -وقد نبذوا العهد- لآثار الأمان السابق، وإجراء الأحكام -وإن انتقض العهد- من بقاء الذمة السابقة، وهذا مما يلزم، فلا سبيل إلى دفعه. نعم، لو نبذوا العهد وأظهروا الخلاف ونصبوا القتال، فصاروا (2) حرباً لنا، ثم قتلوا، فلا قصاص حينئذ ولكن نتبعهم ونقتلهم حيث نثقفهم.

_ (1) في الأصل: " وطلبوا ". (2) ت 4: " وصاروا ".

ثم إذا حصل انتقاض العهد، [بهذه] (1) الأمور الخاصة، فهل [نغتالهم] (2) أو نبلغهم المأمن؟ فعلى قولين مرتبين على القولين فيه إذا انتقض عهدهم بسبب أبدَوْا فيه جهلهم عذراً كما سنصفه إن شاء الله، وهذه الصورة أولى بألا يُبلغوا فيها المأمن لما ارتكبوه من الجرائم، وإن كانت في وقائع خاصة. فانتظم من ذلك أنهم لو نبذوا (3) إلينا العهد من غير أذى، فنقطع بتبليغهم مأمنهم، ولو نقضوا العهد وآذنوا بقتالٍ وأمرٍ (4) يشعر بالخروج عن الطاعة الكلية، فالمذهب أنا لا نبلغهم مأمنهم ونغتالهم وأموالهم. وأبعد بعض أصحابنا فذكر هاهنا قولاً أنا نبلغهم إذا انكفوا عن الأذى، وهذا [أخذوه] (5) من أنهم لو طلبوا الذمة (6) نجيب إليها. وإن حكمنا بانتقاض عهدهم بسبب أظهروا فيه عذراً ممكناً، ففي تبليغهم مأمنهم قولان، (7 وإن نقضنا عهدهم لجرائمَ خاصة فأحكام تلك الجرائم مجراة عليهم في حقوق المسلمين، وفي تبليغهم مأمنهم قولان 7). هذه مقدمات مست الحاجة إليها. 11013 - ونحن نعود بعدها إلى استعانة البغاة بأهل الذمة في مقاتلة أهل العدل، ولا بد من ذكر الأقسام وباستيعابها يحصل استيفاء الأحكام، فنقول: إن كانوا مكرهين، فالذمة لا تزول، ولكنا نقاتلهم مقاتلةَ البغاة، وينقدح في هذا القسم غامضةٌ لا يتأتى شرحها الآن. وإن قالوا: علمنا بأن الذين استعانوا بنا بغاة، وما كنا مكرهين، فلا شك أنه ينتقض عهدهم لِما أظهروا من القتال على علم من غير عذر.

_ (1) في الأصل: " فهذه ". (2) في الأصل: " لنا لهم "، والمثبت من (ت 4). (3) ت 4: " فانتظم من ذلك لم نبذوا إلينا العهد ". (4) ت 4: " وآذوا بقتال، ولم نشعر ". (5) مكان بياضٍ بالأصل. وهو في (ت 4). (6) ت 4: " الدهر ". (7) ما بين القوسين سقط في (ت 4).

وإن قالوا: ظننا أن الفئة المستعينة بنا هي العادلة، وقدّرنا أنهم المحقون -ومن الممكن أن يخطر ذلك لهم؛ فإن الفئة العظيمة من بغاة المسلمين على هذا العقد- فهل ينتقض عهدهم وهم على جهلهم؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه ينتقض بصورة القتال، وهذا هو الذي وعدنا أن نذكره؛ إذ أجرينا في المقدمات إمكانَ انتقاض العهد مع التمسك بعذر، وكذلك لو قالوا: ظننا أنهم استنجدوا بنا على الكفار، وما حسبناكم مسلمين -وأمكن صدقهم- ففي انتقاض عهدهم قولان: فإن قلنا: ينتقض العهد لصورة القتال، فلو كان الإمام شرط عليهم ألا يقاتلوه، فإذا قاتلوه عن جهلٍ، فهل ينتقض عهدهم؟ فعلى وجهين: أحدهما - ينتقض؛ لأن العهد كان مشروطاً بشرط؛ فلا يبقى مع تخلف الشرط. والثاني - لا ينتقض؛ فإنّ شرطَ الانكفاف عن القتل محمول على الإقدام عليه عمداً على علم. ولو قالوا: ظننا أن المسلمين إذا تفرقوا واستعان بنا فئة منهم على فئة، فعلينا أن نذب عن الناحية التي نحن قاطنوها، ولم نعتقدهم (1) مبطلين، فهذا الاحتمال أبعدُ؛ فإن في النفوس التمييزَ بين المحق والمبطل. وإن [كان فئة]، (2) لا يقاتلون، وإنما يقاتل البعض دون البعض، فإذا ذكروا مثل هذا، فالأوجه انتقاض العهد، وأجرى بعض أصحابنا القولين في الانتقاض على التفصيل الذي ذكرناه. 11014 - ونعود الآن إلى أوائل الكلام، فنقول: إن انتقض عهدهم على علم من غير عذر، فلا خلاف أنا نقتلهم مقبلين ومدبرين، وقد ذكرنا أن القول (3) الذي عليه التفريع أن هؤلاء يُبلغون المأمن، ثم ما أتلفوا بعد إظهار القتال لا يضمنونه، لأنهم أهل حربٍ، وقد انتقض عهدهم قبل صدور الإتلاف منهم، وإن حكمنا بانتقاض العهد في صور الجهل -حيث يقيمون عذراً- فقد ذكرنا قولين في أنهم هل يُبلغون المأمن؟

_ (1) ت 4: "نعتقدكم". (2) في الأصل: " وإن كل فئة ". (3) ساقطة في (ت 4).

فإن قلنا: لا يبلغون المأمن على أحد القولين، فنقتلهم مقبلين ومدبرين، ونذفِّف على جرحاهم، فإنه يُفعل ذلك بهم بعد انقضاء القتال. وإن قلنا: نبلغهم مأمنهم، فهل نقتلهم منهزمين؟ اختلف أصحابنا في المسألة؛ فمنهم من قال: لا نقتلهم منهزمين، كما لو انقضى القتال، والتفريع على أنا لا نغتالهم، ومن انهزم، فقد ترك القتال، ومن أصحابنا من قال: نقتلهم منهزمين، ونذفّف؛ فإن هذا من بقايا القتال، وكأنه عقوبة لهم في مقاتلتهم، وقد ذكرنا أن العقوبات تقام عليهم، وما أتلفوه في القتال -والتفريع على أنهم يبلغون المأمن- فهل يضمنونه؟ الظاهر عندنا أنهم يضمنونه؛ فإنهم في بقية من الأمان؛ ولهذا نبلغهم مأمنهم؛ ويستحيل أن نلتزم أمانهم، ولا نلزمهم ما يتلفون، فيخرج من ذلك أنهم ما صاروا أهل حرب على الإطلاق، وقد نرى في بعض المجموعات أنا إذا حكمنا بانتقاض عهدهم لا يضمنون ما يتلفون، وهذا لا يعد من المذهب، ويحمل على هفوة صادرة عن قلة الفكر. وإن قلنا: إن عهود أهل الذمة لا تنتقض في صورة الجهل، فهم على ذمتهم إذا انقضى القتال، والكلام في أنهم هل يلتزمون ما يتلفون في حالة القتال؟ قال الأئمة رضي الله عنهم: يلزمهم ضمان ما يتلفونه حالة القتال ولا يخرج فيهم القولان المذكوران في أهل البغي، فإنا حططنا الغرم عنهم في قولٍ؛ استعطافاً لقلوبهم؛ وقَطْعاً للتبعات الثقيلة التي تمنع من الرجوع إلى الطاعة، وهذا المعنى لا يتحقق فيهم، وبالجملة ليسوا من المؤمنين، والله أمرنا بالإصلاح بين المؤمنين، ولم يذكر تَباعةً بدمٍ ولا مال، فيختص هذا التخفيف بهم، ولكنا لا نقتلهم مدبرين؛ فإنا نفرّع على أن ذمتهم باقية، والذمة حاقنة للدم، فسبيلهم في القتل كسبيل أهل البغي لا نتبع مدبرهم ولا نذفف على جريحهم، ولكنا نضمّنهم ما يتلفون. ثم إن أوجبنا القصاص على أهل البغي، ففي إيجابه على أهل الذمة -والتفريع على أن ذمتهم غير منتقضة- وجهان: أحدهما -[أنا نوجب القصاص عليهم، كما قطعنا بإيجاب الغرم فيما أتلفوه. والثاني - أنه لا يجب القصاص عليهم لمكان الشبهة المقترنة بأحوالهم.

فهذا نجاز الفصل في أحكام أهل الذمة] (1) إذا أعانوا البغاة على أهل العدل. وقد انتهى بانتهاء هذا الفصل مقصود الكتاب، ونقل المزني فصولاً سهلة المُدرك قريبة المأخذ نجمعها في فصل واحد. فصل قال الشافعي رحمه الله: " ولو أتى واحد منهم تائباً، لم يقتص منه ... إلى آخره" (2). 11015 - هذا عَطَفه على أهل الذمة، وأراد المسلمين من أهل البغي، والدليل عليه أنه علّل فقال: " لأنه مسلم محرم الدم "، ثم ذكر سؤالاً وناظر به مناظرةً، وليس فيه أمر يتعلق بمقصودنا، وذكر طرفاً من الكلام في كيفية دفع الواحد يصول على الإنسان في نفسه أو ماله، هذا يأتي في باب الصيال، إن شاء الله. 11016 - ثم قال: " لا ينبغي أن يستعين الإمام على أهل البغي بمن يرى قتلهم مدبرين " (3) -كأصحاب أبي حنيفة (4) ومن يوافق مذهبه مذهبهم-. إذا كان الإمام يرى رأينا ويذهب إلى ما نذهب إليه، فلا ينبغي أن يستعين بمن يخالفه في كيفية مقاتلة أهل البغي، فإنهم لا يتحاشَوْن إذا احمرّ البأس أن يتجرؤوا على ما يستحلون، وكذلك لا يستعين الإمام بالكفار عليهم، لأنهم يستحلون قتلهم على الوجوه كلها، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] ولهذا لا يجوز للإمام أن يتخذ جلاّداً مشركاً لإقامة الحدود على المسلمين. وأما الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين، فهي جائزة على الجملة، وفي تفصيلها كلام سيأتي في السِّيَر، إن شاء الله.

_ (1) كل ما بين المعقفين سقط من الأصل. وهو مثبت من (ت 4). (2) ر. المختصر: 5/ 160. (3) ر. المختصر: 5/ 161. (4) راجع تعليقنا على مذهب الأحناف آنفاً.

ثم قال رضي الله عنه: " لا يُرمَوْن بالمنجنيق ولا بالنار ... إلى آخره " (1) 11017 - منع الشافعي مقاتلتهم بالأسباب العظيمة الفاحشة (2) التي تصطلمهم، وتأتي عليهم من غير بُقيا، وإنما يجوز نصب المنجنيق وما في معناه والمقاتلة بالنيران مع الكفار؛ فإنا نستحل قتل الكفار جرياً على موجب قوله عز من قائل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] والمقاتلة مع أهل البغي ينبغي أن تكون مع الإبقاء عليهم. وهذا مما يجب التنبه له، فإنا ذكرنا فيما تقدم أنا إذا اصطففنا في مقاتلتهم، لم يكن القتال على حد دفع صائل على مصول عليه، حتى لا نبدأ بهم، وإن بدؤوا بنا، اقتصرنا على حد الدفع، هذا مما لا يمكن، ولو فرضنا افتتاح ذلك، كان استقتالاً، وتعرّضاً للهلاك، ولكن للقتال مع محاولة الاستيلاء والإبقاء عليهم مبلغاً يُنْتَهى إليه، ويوقف، فلا يزاد عليه. ولقصد الاستئصال والاصطلام حد يعرفه أهله، فرأى الشافعي رضي الله عنه نصبَ المنجنيق وإرسالَ السيل على معسكرهم يبعد أن يقاتلوا به، وإضرامُ النيران فيهم من قصد الاصطلام. فإذن ليتخيل الفقيه مراتب: إحداها - الاصطلام، وهو مع الكفار، [والأخرى -] (3) الاقتصار قدر الحاجة في الدفع، وترك الابتداء (4)، هذا بين الصائل والمصول عليه، كما سيأتي، إن شاء الله. والآخر - القتال مع أهل البغي، وفيه الإبقاء، وفيه (5) قصد كسر شوكتهم لردهم إلى الطاعة، ولو ابتدؤوا فنصبوا علينا مثل ذلك، قاتلناهم، ولو أحاطوا بنا وعلمنا أنهم يقعون بنا إن لم ندفعهم، فندفعهم، فإنا نبيح هذا في دفع الصائل الواحد إذا كان لا يندفع إلا به.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 161. (2) ساقطة من (ت 4). (3) في الأصل كلمة غير مقروءة والمثبت من (ت 4). (4) ت 4: " الإهدار ". (5) ساقطة من (ت 4).

ومما يتعلق بهذا أنهم لو تحصنوا ببلدة مسوّرة (1) وكان لا يتأتى الاستيلاء عليها إلا بالأسباب التي ذكرناها، فنقول: إن كان في البلدة رعايا والأسباب التي [ذكرناها] (2) تأتي عليهم، فلا نستحل إقامةَ الأسباب المصطلمة. وإن لم يكن في البلدة إلا المقاتلة، فإن تمكن الإمام من هدم السور، فليفعل، وإن (3) كان لا يتأتى ذلك -وهم يدافعون على السور- إلا بأن يقتلوا بأسباب [تنافي] (4) المعنى الذي ذكرناه من الإبقاء، فالذي أراه أنه لا يجوز قتلهم بهذه الأسباب العظيمة، كالإحراق ونصب المنجنيق، وفتح السيول الجارفة؛ فإن الإمام إنما ينظر للمسلمين فيما يفعل، وتركُ بلدة في أيدي طائفة من المسلمين -وقد يستمكن من حيل في محاصرتهم، والتضييق عليهم- أقربُ إلى الإصلاح العام من اصطلام أمم. فإن قيل: كان عليّ رضي الله عنه يقاتل البغاة مقاتلة من يصطلم، فلا يُبقي، وقيل: إنه قتل ليلة الهرير بنفسه ألفاً وخمسمائة. قلنا: كان البغاة على حد من الجد في القتال لو لم [يقابلوا] (5) بما كان يفعله علي رضي الله عنه لاصطُلم وأتباعه، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: ومعاوية جاد في القتال منتصفاً أو مستعلياً. 11018 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه تنفيذ أقضيتهم، وقد قدمنا هذا، والقولُ الجامع فيه أن ما وافق من قضائهم إجماعاً، أو مذهباً مجتهداً فيه مظنوناً، فهو منفّذ غيرُ مردود. والذي نزيده تفصيلُ القول في كتب قُضاتهم، والذي يعتمد في ذلك أنهم إذا أبرموا قضاء، وكتبوا إلى قاضينا باستيفاء ما ثبت عندهم، فإنا نقبل الكتاب، ونعمل بموجَبه على وفق الشرع. وإن سمع قاضيهم بينةً وكتب إلينا يلتمس تنفيذ الحكم بها، ففي قبول كتابهم على

_ (1) ت 4: " مشهورة ". (2) زيادة من المحقق. (3) ت 4: " فإن ". (4) في الأصل: " ما في ". (5) في الأصل: " يقابله ".

هذا الوجه قولان: أحدهما - أن قاضينا يقبل، ويحكم على حسب ما يعمله القاضي من أهل العدل إذا كتب إليه قاضٍ من أهل قضاة بلاد أهل العدل، وهذا هو القياس؛ فإنا إذا (1) نفّذنا أقضيتهم، فلا معنى بعد ذلك [للتلوّم] (2) والتردد (3) والامتناع في التفاصيل. والذي يوضح ذلك أن الكتب إنما ترد في الذين يتصلون بديارنا، فإذا كنا ننفّذ أقضيتهم حتى لا تتعطل أحكام الرعايا في ديار البغاة، فلو رددنا كتب قضاتهم، لتعطلت أحكام المتصلين بنا. والقول الثاني - أنا لا نقبل كتب قضاتهم إذا لم يكونوا قد أبرموا الأحكام، فإنا لو قبلناها، لكنا معهم متعاونين، وليس لأهل العدل أن يعاونوا أهل البغي فيما يقيم مناصب قضاتهم وولاتهم، والأقيس الأول. وذهب بعض أصحابنا إلى طرد القولين فيما أبرموه واستعانوا فيه بالاستيفاء، وهذا ذكره شيخنا وصاحب التقريب [وكنت أودّ] (4) لو فصل فاصلون بين الأحكام التي تتعلق بالبغاة وأصحاب النجدة والامتناع، وبين ما يتعلق بالرعايا. 11019 - ثم ذكر الشافعي أن شهادة أهل البغي مقبولة، فإنهم يعتقدون بتأويل، كما تقدم ذكره، واستثنى الخطّابية، ولا تعلق لهذا بأحكام البغاة، والخطابية يرون الكذب كفراً، ويعتقدون أن من أخبرهم من أهل دينهم باستحقاق شيء، فلهم أن يشهدوا له جزماً، والقول في ذلك يأتي في كتاب الشهادات، إن شاء الله، وفيه نتكلم في أهل البدع والأهواء. 11020 - ثم قال الشافعي: " وإن قُتل باغ في المعترك غُسّل وصُلِّي عليه " والأمر

_ (1) ساقطة من ت 4. (2) مكان بياضٍ بالأصل. والتلوّم معناها التأخر والترقب. (3) عبارة الأصل: " فلا معنى بعد ذلك للتردد ". (4) زيادة من (ت 4).

على ما ذَكر، أنا إذا ظفرنا بقتيل من البغاة، غسلناه وصلينا عليه ودفناه، ولا نُثبت له رتبة الشهادة. وأبو حنيفة (1) لا يرى غسلَهم والصلاةَ عليهم؛ تغليظاً عليهم، وأما القتيل من أهل العدل، ففيه قولان: أحدهما - أنه تثبت له مرتبة الشهادة كقتيل المشركين. والثاني - لا تثبت له مرتبة الشهادة المسقطة للغسل والصلاة. وقد ذكرنا [هذا] (2) في كتاب الجنائز عند ذكرنا الشهداء ومراتبهم. 11021 - ثم قال: " يكره لأهل العدل أن يتعمدوا قتل ذوي الأرحام " والأمر على ما ذكر، فحقّ على الإنسان أن يجتنب قتل ذوي الأرحام ما وجد إليه سبيلاً، ولا فرق بين أن يكونوا من المحارم، أو لا يكونوا منهم، ونحن نكره ذلك في الكفار، فلا نرى للمسلم أن يختار قتل من هو من ذوي أرحامه، " وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه عتبة، ونهى أبا بكر عن قتل ابنه يوم أحد " (3). وما ذكرناه كراهية متأكدة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته " (4)، وروي أنه عليه السلام كان يقول يوم دخل المدينة على بعير: " يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. فسمع عبد الله بن سلام ذلك فأسلم، وقال: هو نبي حق " (5).

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 257. (2) زيادة من (ت 4). (3) حديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه ... " رواه الحاكم (3/ 223) والبيهقي (8/ 186) وضعفه الحافظ بالواقدي، وقال ابن الصلاح: في ثبوته نظر (ر. التلخيص 4/ 191 ح 1212، مشكلات الوسيط - بهامش الوسيط (7/ 19). (4) حديث " أنا الرحمن خلقت الرحم ... " سبق تخريجه. (5) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم دخل المدينة " يا أيها الناس أفشوا السلام " رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي، والحاكم من حديث عبد الله بن سلام (الترمذي: صفة القيامة، باب حديث أفشوا السلام، ح 2485، ابن ماجه: إقامة الصلاة، باب ما جاء في قيام الليل، ح 1334، والأطعمة، باب إطعام الطعام،=

فإن قيل: خصصتم تغليظ الدية بقتل ذي الرحم المحرم، وهاهنا علقتم الكراهية بقتل ذي الرحم؟ قلنا: ما قدمناه في التغليظ تفصيل المذهب، ثم ذلك أمرٌ محتوم مخالف للقياس، اتبعنا فيه آثاراً، وهذا بيان كراهية في [التوقي] (1)، ربطناه بالأخبار الواردة في صلة الأرحام. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] ثم ذكر التوارث بين من يقتل من إحدى الفئتين قتيلاً من الفئة الأخرى، وقد استقصينا هذا في الفرائض فلا نعيده. ثم ذكر فصولاً تتعلق بالأمان، وهذا يأتي في كتاب السير على أبلغ وجه، إن شاء الله عزوجل. ...

_ =ح 3251، أحمد: 5/ 451، الدارمي: 2/ 275، الحاكم؛ 3/ 213، 16014، إرواء الغليل: 3/ 239 ح 777). (1) في الأصل: " التوثق ".

باب حكم المرتد

باب حكم المرتد قال الشافعي رضي الله عنه: " من ارتد عن الإسلام إلى أي كفر كان ... إلى آخره " (1). 11022 - [كلمة] (2) الردة إذا صدرت ممن ليس بمكلَّف كالصبيان والمجانين، فلا حكم لها، وسبيلها كسبيل صدور الإسلام منهم على ما تقدم ذكرهم (3) في كتاب اللقيط. فأما المكلف من المسلمين إذا صدرت منه الردة، أُجبر على الإسلام بالسيف، فإن امتنع، ضربت رقبته، ولا فرق بين الرجل والمرأة، والحر والعبد. وخلاف أبي حنيفة (4) في ردة المرأة مشهور. 11023 - والسكران إذا ارتد، فردته مُجراة على قياس أقواله في العقود والحلول، وقد ذكرنا طرق الأصحاب فيها. والحاصل المتعلق بغرضنا قولان على طريقة مشهورة: أحدهما - أن ردته كردة الصاحي. والثاني - أن ردته ملغاة. والقولان جاريان في جميع أقواله. ومن أصحابنا من رأى التغليظ [عليه] (5)، وخصص القولين بما لا يتعلق بالتشديد والتغليظ، فعلى هذا تثبت الردة منه إذا تلفظ بكلمة الردة، ثم الصحيح إجراء القولين

_ (1) ر. المختصر: 5/ 165. (2) سقطت من الأصل. (3) كذا في النسختين: " ذكرهم ". (4) ر. مختصر الطحاوي: 259، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 471 مسألة 1624، الجامع الصغير: 251. (5) في النسختين: " عليهم ". والمثبت من المحقق.

في عوده إلى الإسلام. ومن أصحابنا من قال: لا يصح منه ما لَه، ويصح منه ما عليه، فلم يصحّح إسلامه وصحّح ردته. ثم قال الشافعي رحمه الله: إذا حكمنا بردته، فينبغي ألا نقتله (1) حتى يُفيق، ونعرض الإسلام عليه، فعساه يرجع، فلو تاب ورجع في السكر، فإن قلنا: لا تصح توبته، فوجودها كعدمها. وإن قلنا: تصح توبته، فلو أفاق، عرضنا عليه التوبةَ مرة أخرى حتى يأتي بها على ذُكر وخُبْر وبصيرة. فلو ابتدره إنسان وقتله؛ فقد ذكر بعض الأصحاب خلافاً في أنه هل يضمنه كما يضمن به المسلم إذا قتله؟ فالذي ذهب إليه المحققون: أنه يضمنه؛ فإنه قتله بعد التوبة المحكوم بصحتها، وذكر بعض الأصحاب قولاً في إهداره، وزعم أنه مأخوذ من مسألة، وهي إذا حكمنا بإسلام مولود، وكان علوقه على الكفر، ولكن أسلم أحد الأبوين أو كلاهما، فإذا بلغ فقتله إنسان قبل أن يعرب عن نفسه بالإسلام، ففي وجوب الضمان، خلاف ذكرناه في كتاب اللقيط، ووجه التقريب عند هذا القائل أن الإسلام الحاصل بالتبعية إسلام حُكميّ، وكذلك الإسلام الحاصل في السكران إسلام حُكميّ، لم يصدر عن ثَبَتٍ في الاعتقاد. وهذا ليس بشيء. فإنا إذا صححنا إسلامه، [فهو متأصل في الإسلام ليس تابعاً لأحد، فإن قيل: لم يصدر إسلامه] (2) عن عقد ثابت، قيل: كذلك صدرت الردة منه في سكره، فلا فرق بينها وبين التوبة عنها، وإن ذكر هذا القائلُ [هذا القولَ] (3) البعيد فيه إذا كان قد ارتد صاحياً، ثم سكر وأسلم، فقد يتضح الكلام هاهنا بعض الاتضاح، ولكن لا معول عليه مع حكم الفقيه بتصحيح الإسلام من السكران، وتنزيل أقواله وأفعاله منزلة أقوال الصاحي وأفعاله، ولسنا نفرع على هذا القول الضعيف؛ فإنه لا مستند له من القوانين.

_ (1) ت 4: " لا يقتل ". (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 4). (3) الزيادة من (ت 4).

وقد نجز الكلام فيمن تثبت الردة بقوله (1). 11024 - ولا حاجة إلى تفصيل القول فيما يكون ردة من الأقوال، وإنما يغمض الكلام في تكفير المتأولين من أهل البدع، وليس ذلك من فن الفقه. ونحن نقول بعد هذا: الأفعال إذا دلت على الكفر، كانت كالأقوال، وذلك إذا رأينا من كنا نعرفه مسلماً في بيت الأصنام وهو يتواضع لها تواضع العبادة، فهذه عبادة (2) كفر. وقد يُجري الأصوليون الأفعالَ المتضمنة استهانةً عظيمة مجرى عبادة الأصنام، كطرح المصحف في الأماكن القذرة، وما في معناه. والقول في ذلك يطول، وهو من صناعة الأصول. وفي بعض التعاليق عن الأمام شيخي: أن الفعل المجرد لا يكون كفراً، وهذا زلل من المعلِّق، أوردته للتنبيه على الغلط فيه (3). 11025 - وسبيلنا بعد ذلك أن نتكلم في التوبة على (4) الردة، فنقول: أولاً التوبة مقبولة عن كل كفرٍ، وتقبل توبة الزنديق، ومن كان يُظهر مذهب الباطنية، وإن كان يبوح بوجوب التقيّة، وما يظهره من التوبة يمكن تنزيله على قاعدة التقية، ولكن

_ (1) ت 4: " بوجهه ". (2) ت 4: فهذا كفر. (3) ذكر الإمام هذه القضية في كتابه (البرهان في أصول الفقه) حينما أورد ما حُكي عن أبي هاشم الجبائي من " أنه كان لا يرى السجود للصنم محرّماً، وإنما المحرم القصد " وأنكر نسبة هذا إليه، وأنه لم يجده في مصنفاته مع طول بحثه عنه، ثم قال: والذي ذكره من نقل مذهبه: أن السجود لا تختلف صفته، وإنما المحظور المحرم القصد، وهذا يوجب ألا يقع السجود طاعة، من جهة تصور وقوعه مقصوداً على وجه التقرب إلى الصنم. ومساق ذلك يخرج الأفعال الظاهرة قاطبة عن كونها قُرَباً، وهذا خروج عن دين الأمة، ثم لا يمتنع أن يكون الفعل مأموراً به مع قصدٍ منهياً عنه مع نقيضه. (ر. البرهان: 1/فقرة: 213). (4) كذا في النسختين: (على). وهو صحيح، إذ تأتي على بمعنى (عن) قاله ابن هشام في المغني، واستشهد له بقول الشاعر: في ليلة لا نرى بها أحداً ... يحكي علينا إلا كواكبُها أي لا يحكي عنا إلا كواكبها. (ر. مغني اللبيب: 191).

مذهب الشافعي أن توبة الزنادقة والباطنية مقبولة، ولا يبقى بعد الحكم بإسلام الكفار تحت السيف لمفصِّل رأيٌ في التفصيل، مع أن الظاهر القريب من اليقين أن الكفار لم يحدثوا اعتقاد الحق، [إذ يغشاهم] (1) المسلمون. وكذلك من ارتد إلى دين اليهود أو النصارى، ثم عصبناه لنضرب رقبته، فتاب، فتوبته مقبولة، والظاهر أنه جاء بها لِما استشعره من الخوف، وقد روي أن أسامة أشرف على جمع من الكفار في العُدّة التامة، فأسلم واحد منهم لما سلّ السيف عليه، فقتله أسامة؛ فاشتد نكير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة؛ فقال: إنما قاله فرقاً مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلا شققت عن قلبه؟ " (2). وقال مالك (3): توبة الزنديق مردودة، وأضاف الأصحاب هذا إلى الأستاذ أبي إسحاق رضي الله عنهما، والصحيح عندنا من مذهبه: أن الزنديق إن حُمل على التوبة، فتوبته مردودة. وإن رأيناه في استخلائه يظهر تخضُّعاً للإسلام وتعظيماً له وتندماً عما كان تقدم منه من انتحال (4) الزندقة، وتبين بقرائن الأحوال، والأمر كذلك أنه لا غرض له، إلا الرجوع إلى المسلك الحق، فالتوبة مقبولة على هذا الوجه إذا اطلعنا عليه منه. وهذا التفصيل حسن؛ فإنه لو رُدّ رجوع الزنديق من كل وجه، فلا يبقى له طريق إلى الرجوع. وليس يمتنع أن يظهر الحقُّ لزنديق، كما لا يمتنع أن يتزندق مسلم. ومذهب الشافعي قبول توبة الزنديق وإن كان مجبراً عليها اعتباراً بتوبة كل مرتد، فلو ارتد المسلم، ثم عاد، ثم ارتد مرة أخرى؛ فمذهب الشافعي وأصحابه قبول

_ (1) في الأصل: ويغشاهم. (2) حديث " هلا شققت عن قلبه " متفق عليه من حديث أسامة بن زيد (البخاري: المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحُرَقات من جهينة، ح 4269، والديات، باب قول الله تعالى: (ومن أصابها ... )، ح6478، مسلم: الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، ح 96). (3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 846 مسألة 1646، عيون المجالس: 5/ 2081، مسألة: 1502، القوانين الفقهية: 357، الكافي: 585، المعونة: 3/ 1363. (4) ت 4: الأعمال.

توبته، وإن تكرر ذلك منه، ولا ضبط في أعداد المرات. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إنما تقبل التوبة في الكرة الأولى، فإذا ارتد مرة أخرى، لم تقبل توبته أصلاً. وهذا من هفواته الفاحشة، ولا مبالاة بها. 11026 - ونحن نذكر بعد ذلك استتابةَ المرتد، والتفصيلَ فيها. فنقول: الوجه مراجعتُه وعرضُ التوبة عليه، وهل نمهله ثلاثة أيام لعله يتوب؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا لا نمهله، وهو مذهب المزني؛ فإنه محمول بالسيف على الإسلام، وإسلامه يناقض هذا المعنى، ولا حياة في لحظة في الإصرار على الردة. والقول الثاني - أنا نمهله ثلاثة أيام، وهو فيها محبوس، ولا نمنعه الشراب والطعام. ومعتمد هذا القول مذهب عمر رضي الله عنه، روي أن رجلاً قدم عليه من الشام، فقال له: هل من مَغْرَبَةِ خبرٍ؟ (1) فقال: لا، إلا إن نصرانياً أسلم، ثم ارتد، فقتله أبو موسى الأشعري. فرفع عمر يديه نحو السماء، فقال: " اللهم إني أبرأ إليك مما فعل أبو موسى، هلا حبستموه (2) في بيت ثلاثاً تلقون إليه كل يوم رغيفاً، لعله يتوب "؟ (3)، ووجهه من جهة المعنى أنا نرجو عوده إلى الإسلام، وهو أقرب إلى الصلاح من ابتدار قتله. ثم التقييد بالثلاث مأخوذ من قول عمر، ثم هي مدة ثابت بها خيار الشرط، ومال إلى التأقيت بها أقوال في مسائل: كإمهال تارك الصلاة، وكالفسخ بسبب العتق تحت

_ (1) مغربة خبر: أي خبر جديد، ثم هي بفتح الميم وسكون الغين وكسر الراء وفتحها مع الإضافة. وقال الرافعي: " شيوخ الموطأ فتحوا الغين وكسروا الراء وشدّدوها ". وهو في الموطأ كما قال (2/ 837). (2) ت 4: " خليتموه ". (3) أثر عمر رضي الله عنه رواه مالك في الموطأ (2/ 837)، والشافعي (ترتيب المسند: 2/ 87 ح 286) وعبد الرزاق في المصنف (18695)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 599)، والبيهقي في الكبرى (8/ 206)، وفي المعرفة (5032)، وانظر التلخيص: (4/ 94 2016).

الزوج المملوك، ونفي المولود، وإمهال المُولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق، وإمهال المعسر بالنفقة. هذه المسائل يجرى فيها قول في الإمهال ثلاثاً. 11027 - فإذا تبين أصل القولين؛ فقد اختلف أصحابنا في تنزيلهما، ونحن نذكر ترتيباً يجمع مسالك الأصحاب، فنقول: القولان في وجوب الاستتابة، فإن أوجبناها، فلا كلام، وإن لم نوجبها، فهل نستحبها، أم لا يجوز الإمهال أصلاً؟ فعلى وجهين. وعلى الأقوال كلها لو ابتدر مبتدر وضرب رقبة المرتد، فهو هدر، وإن أنّبنا (1) المبتدر. كذلك لو قتله قاتل قبل الاستتابة. وإذا لم نر الإمهال، ففي وجوب الاستتابة تردد عندنا. ولو حُق قتله على الطرق كلها (2)، فقال: اعترضت لي شبهة فأزيلوها، فهل [نناظره فيها ساعين] (3) في إزالة الشبهة وإظهار الحق؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن ذلك واجب. فإن إقامة الحجاج على كل ذي شبهة سهل. والثاني - أنا لا نفعل ذلك؛ فإن مسالك الشبهة (4) قد تدقّ مداركها، فيطول الكلام في المرادّات، وقد يذكر شُبهاً كثيرة من أول العَقْد إلى آخره ولا يُفصل الاعتراض (5) فيها في سنة، فلا معنى لالتزام ذلك. فإن قيل: كيف طريقه إذا اعترضت له شبهة؟ قلنا: يمكنه أن يبقى على إظهار الإسلام، ثم يستفيد الأجوبة عن الشبه من أئمة الصناعة؛ فإن ذلك معتاد في أهل الإسلام وطلبةِ العلم منهم. وقد نجز القول في التوبة عن الردة.

_ (1) كذا في النسختين: أنبنا: أي عزَّرنا، كما هو لفظ العز بن عبد السلام، والرافعي (ولعل فيها تصحيفاً). (2) ساقطة من (ت 4). (3) في الأصل: " يناظر فيها ساعياً ". (4) ت 4: " الشبه ". (5) ت 4: " ينفصل الأعراض ".

فصل قال: " ويوقف مالُه إذا ارتد وله مال ... إلى آخره " (1). 11028 - اختلف قول الشافعي في أن من ارتد هل يزول ملكه بنفس الردة، أم كيف السبيل فيه؟ وحاصل ما تلقاه الأئمة من كلام الشافعي ثلائة أقوال: أحدها - أن الملك يزول بنفس الردة، كما يزول استحقاق النكاح قبل الدخول. والقول الثاني - أنه لا يزول ملكه إلى أن يموت، أو يقتلَ مرتداً، وليس ملك اليمين كالنكاح، فإن إدامة نكاح المرتد على المسلمة يتضمن غضاً من الحرمات، وإن فرضنا ارتداد الزوجين فالمرتدة في المعنى كالمسلمة في هذا المأخذ. والقول الثالث - أن الملك موقوف، فإن عاد إلى الإسلام، تبثنّا أنه لم يزل بالردة، وإن قتل مرتداً أو مات على الردة، تبيّنّا أن الملك زال بنفس الردة، والردة في العمر في ملك اليمين كمدة العدة إذا فرض طريان الردة بعد تقيد النكاح بالمسيس (2). 11029 - فإذا ثبتت الأقوال، فالتفريع عليها: فإن حكمنا بأن الملك يزول بالردة فالتصرفات التي تستدعي ملكاً مردودة من المرتد، ولو كان التزم دَيْناً قبل الردة بجهة من الجهات، فديونه الثابتة قبل الردة مؤداة من الأموال التي ارتد عليها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب؛ فإن الردة وإن أزالت الملك، فحقها أن تكون كالموت؛ إذ الموت مزيل للملك، ثم الديون الثابتة في حالة الحياة تتعلق بما يخلّفه الميت، وهي متقدمة على حقوق الورثة، فلتقدم على حقوق أهل الفيء (3)، بل هذه الديون أولى

_ (1) ر. المختصر: 5/ 165. (2) المعنى أن الملك يوقف إذا ارتد، فإذا هلك مرتداً، تبيّنا زوالَ ملكه، وإن عاد إلى الإسلام، تبينا أن ملكه لم يَزُل، وهذا كالنكاح بعد الدخول، فإن ارتدّ الزوج ومات مرتداً، تبينا ارتفاع النكاح بالردة، وإن عاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، تبينا أن النكاح لم يَزُل، ومدة العمر في الملك كمدة العدة في النكاح. (3) المعنى: أن مال المرتد الذي يزول ملكه عنه يكون فيئاً، وأصحاب الديون أحق من أهل الفيء.

بالتعلق بالمال من جهة أن الزوال بالردة [عرضة للارتفاع] (1)؛ لأن المرتد إذا أسلم عاد ملكه، والموت يزيل الملك على البتات، ويثبت حق الورثة على اللزوم. ولا خلاف [أنّا] (2) ننفق على المرتد من ماله ما بقّيناه. وهل يتعلق بماله نفقات أقاربه الذين يلتزم المسلم نفقاتهم؟ ما ذهب إليه جماهير الأصحاب أن نفقاتهم تؤدى من ماله في حياته، فإن مات مرتداً أو قتل، فإذ ذاك يصرف الباقي إلى أهل الفيء. وذهب الإصطخري إلى أن نفقات الأقارب لا تتعلق بماله على هذا القول، فإن سبيلها أن تتعلق بالملك، [ولا] (3) ملك للمرتد على القول الذي عليه التفريع، [والدليل] (4) عليه أنها تسقط بالموت، وإن كانت علائق الديون تتعلق بالتركة، وهذا الذي ذكره هو القياس الجلي. ولو أتلف المرتد مالاً، فهل تؤدى قيمة المتلف من ماله؟ والتفريع على زوال ملكه - قال القاضي: يجوز أن يخرج ذلك على الخلاف في أن نفقة الأقارب هل تتعلق (5) بماله إلى اتفاق بيان أمره. ولو اكتسب المرتد على هذا القول -بأن احتش أو احتطب- فالوجه: تثبيت الملك، ثم ظاهر القياس أن الملك يثبت لأهل الفيء ابتداءً، كالعبد يكتسب بهذه الجهات؛ فإن الملك يحصل فيما يحصل بالاحتشاش والاحتطاب والاصطياد للمولى، ويجب أن يكون القول في شرائه كالقول في شراء العبد بغير إذن المولى، وكذلك الكلام في قبول الهبة كالكلام في قبول العبد الهبة من غير إذن السيد. ثم إذا عاد إلى الإسلام عاد ملكه، كالعصير تزول المالية بانقلابه خمراً، فإذا عاد خَلاً عاد مالاً، وكالبيضة تبطل المالية فيها بانقلابها مَذِرةً، فإذا صارت فرخاً، عادت

_ (1) في الأصل: " عن نفسه بالارتفاع ". (2) في الأصل: " أنما ". (3) في الأصل: " فلا ". (4) في الأصل: " فالدليل ". (5) ت 4: " هل تتعلق بماله يوماً يوماً إلى اتفاق أمره ".

يوماً، وجلد الشاة تبطل المالية فيه إذا ماتت الشاة، ثم إذا دُبغ، عاد مالاً. فإذا قلنا: الدين السابق يؤدَّى من المال، فلو كان قد رهن عيناً من الأعيان، فالرهن لا ينفك بردته حتى يقضي الدين، وكل ذلك متفق عليه، هذا تفريعٌ على قول زوال الملك. 11030 - وإن قلنا: الملك باق مع الردة، فللسلطان أن يضرب عليه حجراً لأهل الفيء على الجملة، واختلف أصحابنا في أنه هل يصير بنفس الردة محجوراً عليه من غير احتياج إلى ضرب الحجر؟ فمنهم من قال: لا يصير محجوراً عليه ما لم يحجر عليه الوالي. وبنى أصحابنا هذين الوجهين على أن الرجل الرشيد إذا صار سفيهاً، فطريان هذا المعنى عليه بعد الرشد هل يوجب اطراد الحجر عليه، أم هو مطلق إلى أن يحجر القاضي عليه؟ فيه خلاف مشهور في كتاب الحجر، فإن قلنا: لا يصير محجوراً بنفس الردة، فجملة تصرفاته نافذة من غير أن يُتعقب بالنقض، وإن قلنا: يصير محجوراً عليه لو ضرب السلطان عليه حجراً، فما الذي يمتنع عليه من التصرف؟ اختلف أصحابنا في منزلة الحجر في حقه؛ فمنهم من قال: سبيله إذا جرى الحجر عليه كسبيل المبذر السفيه؛ لأنه أتاه الحجر من صفة في نفسه، فالتعويل على رعاية حقه. ومنهم من قال: سبيله سبيل المحجور عليه بالفَلَس، وقد مهدنا في الكتب (1) تصرفَ السفيه وتصرفَ المفلس، [وتشبيهُه] (2) بالمفلس موجَّهٌ، [بأن] (3) المرعي حقوق أهل الفيء. وتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: لا يصير محجوراً عليه في الحال، فالمذهب أن تصرفاته نافذ، كما قدمناه، وقال بعض أصحابنا: تصرفاته كتصرفات المريض مرض موته؛ لأن [السيف قريب] (4) منه.

_ (1) ت 4: " الكبير "، وقد مضى ذلك في (كتاب الحجر) أصلاً، وفي مواضعَ أخر عَرَضاً. (2) في الأصل: " بتشبيهه ". (3) في الأصل: " فإن "، والمثبت من (ت 4). (4) في النسختين: " السفيه قرب ". والمثبت تصرف من المحقق نرجو أن يكون صواباً. والمعنى=

وهذا مأخوذ مما قدمناه في كتاب الوصايا، وهو أن من قُدّم للاقتصاص منه، فأعتق ووهب، فهل يكون ما صدر منه بمثابة التبرعات في مرض الوفاة؟ فيه اختلاف. وهذا الوجه عندي باطل هاهنا، فإن دفع السيف متعلق باختيار المرتد، وهو متمكن من إظهار كلمة الإسلام، ولتمكنه من إظهارها نقتله إذا أصر، ولم يظهرها. ثم من ألحقه بالمريض، فلا ينبغي أن يقدر له ثلثاً؛ فإن حقوق أهل الفيء كحقوق الغرماء، ولا تفريع على الوجوه الضعيفة. 11031 - وإن فرعنا على قول الوقف؛ فالحجر على ما ذكرناه، فإنا إذا كنا [نثبت] (1) الحجر على التفاصيل المتقدمة تفريعاً على أن الردة لا تزيل الملك، فالحجر -وهو وقفٌ- بقول الوقف أليق (2)، ولو فرض منه تصرف قبل حكمنا باطراد الحجر عليه، فكل تصرف لا يقبل الوقف، فهو غير صحيح منه على قول الوقف، وكل تصرف يقبل الوقف يصح منه موقوفاً، فإن قُتل مرتداً بان بطلانه، وإن عاد إلى الإسلام، بانت صحته، وكل تصرف يختلف القول في قبوله الوقف، فهو خارج على الخلاف في هذه المسألة، وقد نجز الكلام في أملاكه وتصرفاته. 11032 - والمرتد لا يرث أحداً، لا كافراً ولا مسلماً ولا مرتداً، ولا يرثه أحد فيه كفر أو عُلقة للإسلام، فيمتنع توريث المسلم منه وتوريثه من المسلم، بما فيه من الكفر، ويمتنع توريث الكافر منه وتوريثه من الكافر لما فيه من عُلقة الإسلام. 11033 - ثم قال الشافعي رحمه الله: " ويقتل الساحر إن كان ما يسحَر به كفراً "، وهذا كما قال. واستقصاء القول فيما يوجب التكفير لا يليق بهذا الفن. وعن عمر

_ = أن السيف قريب من عنق المرتد، ويرشح هذا المعنى قوله الآتي: إن من قدم للاقتصاص، فأعتق ووهب، فهل يكون ما صدر منه بمثابة التبرعات في مرض الموت؟. (1) في الأصل: " نفصل "، والمثبت من (ت 4). (2) ت 4: " فالحجر وهو موقوف بقول الوقف، ولو فرض ... إلخ ".

أنه قال: " اقتلوا الساحر والساحرة "، وروي أنه أمر بقتلهما (1)، وقَتلت أم سلمة جاريةً لمّا سحرتها بسُمّ (2). 11034 - قال: " ومن قتل مرتداً قبل أن يستتاب ... إلى آخره " (3) أراد أنا وإن أوجبنا الإمهال أياماً، فلو ابتدر مبتدر، فقتل المرتد، فلا قود، وعُزّر (4). وكذلك إذا قتله كما (5) بدرت منه كلمة الردة قبل الاستتابة فنحكم بالإهدار، ويعزر من فعل ذلك للافتيات على الإمام، وكل هذا مما سبق تمهيده. فصل إذا شهد شاهدان على ردة شخص؛ فقال المشهود عليه: كَذَبا في شهادتهما، أو قال: ما ارتددت، فالشهادت مسموعة، والحكم بالردة نافذ، ولا يقبل تكذيب الشاهدين، ويقال: الخطب يسير؛ فجدد الإسلام، فإذا فعل، زال حكم الردة بعد انقضائها. وأثر ما ذكرناه أنه لو كانت له زوجة غيرُ مدخول بها، فقد بانت بالشهادة. وتجديدُه الإسلام لا يرفع الحكم الطارئ (6)، ولكن سبيله سبيل المرتد. فلو شهد الشاهدان كما ذكرناه، فقال المشهود عليه: كنت مكرهاً فيما صدر مني، نُظِر؛ فإن كانت قرائن الأحوال تصدقه في دعوى الإكراه: مثل أن كان في

_ (1) أثر عمر " اقتلوا الساحر والساحرة " رواه أبو داود، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وأحمد، والبيهقي (ر. أبو داود: الإمارة، باب في أخذ الجزية من المجوس، ح 3043، مصنف عبد الرزاق: 10/ 179 - 181، مصنف ابن أبي شيبة: 10/ 136، سنن سعيد بن منصور: ص 90 - 91، المسند: 1/ 190، 191، البيهقي: 8/ 136). (2) خبر " وقتلت أم سلمة جارية لما سحرتها بسمّ " لم نصل إليه عن أم سلمة وإنما المعروف أنه عن حفصة، وخبر حفصة رواه مالك (الموطأ: 2/ 871 كتاب: العقول، ح 14)، والشافعي (ترتيب المسند 2/ 89 رقم 290)، وعبد الرزاق (10/ 180 - 181)، وابن أبي شيبة: (9/ 416)، والبيهقي: (8/ 136). (3) ر. المختصر: 5/ 165. (4) ت 4: " كان هدراً ". (5) كما: بمعنى عندما. (6) ت 4: الجاري.

أسر، أو محفوفاً بجمع من الكفار [يظهر] (1) الاستقصاء (2) منهم، فإذا كان الأمر كذلك؛ فالقول قول المشهود عليه مع يمينه، وإنما نصدقه لظهور الأحوال، ثم نحلّفه؛ لأنه لا يبعد اختياره للتلفظ بكلمة الردة مع ما وصفناه من الأسباب التي تغلّب على الظنون الإكراه، وإن لم يُظهر المشهود عليه الأحوالَ الدالة على الإكراه؛ فظاهر المذهب أن دعوى الإكراه لا تُسمع منه. وهذا يستدعي مزيد كشف سيأتي في كتاب الشهادات، إن شاء الله عز وجل؛ إذ الشهادة المطلقة على العقوبة (3) مسموعة محمولة على الصحة كالشهادة على البيع ونحوه، وذكر بعض الأصحاب قولاً مخرجاً ضعيفاً: أن الشهادة لا تقبل ما لم تشتمل على ذكر الشرائط المرعية في الصحة، فالشهادة على الردة تخرج على هذا، فإن ما تحصل الردة به عَسِر المُدرك، لا يستقل به إلا خواص العلماء، فإذا أطلق الشاهد لفظ الشهادة في الردة، فهل يقع القضاء بها؟ الظاهر أنه يقع القضاء بها، ويخرج في المسألة القول الذي ذكرناه، وخروجه في هذا المقام أوضح وأولى؛ لما في التكفير وأسبابه من اضطراب العلماء، فإذا لم تُقبل الشهادة، لم نحكم بالردة، والوجه قبولها، والحكم بالردة. وسيأتي استقصاء ذلك في كتاب الشهادات، إن شاء الله عز وجل. 11035 - فلو قال الشاهدان: نشهد بأنه تلفظ بالردة، ولم يطلقا الشهادة بأنه ارتد، فلو قال المشهود عليه: صدقا، ولكني كنت مكرَهاً، قال شيخي أبو محمد: قوله مقبول؛ فإنه ليس يناقض الشهادة، ولا يتضمن تكذيبها؛ فإن المكره يتلفظ، والذي يشهد عليه الشاهدان التلفّظ بالردة، ثم قال: الحزم أن يجدد الشهادتين. فإن قتله قاتل والحال كما وصفناها قبل أن يجدد الشهادتين، فهل يضمنه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يضمنه؛ لأن لفظ الردة قد ثبت، ولم يتعرض الشاهدان للإكراه ولا للاختيار، والأصل في أحوال الناس الاختيار، فكل لافظ فهو في إنشاء

_ (1) في الأصل: " فظهر ". (2) ت 4: " الاستشعار ". (3) ت 4: " العفو ".

لفظه مختار، والأصل براءة ذمة القاتل، وقد وجدنا مستنداً للإهدار. والقول الثاني - أنه يضمنه بالقصاص أو الدية؛ فإن الردة لم تثبت، والأصل حكم الإسلام. وهذا يقرب من القاعدة المسماة تقابُل الأصلين. وفي هذا فضل نظر؛ فإن ادعى المشهود عليه أنه كان مكرهاً، وحلف على ذلك، فالوجه عندنا: القطع بأنه مضمون؛ فإن اللفظ وإن ثبت- فقد ثبت الإكراه بالحجة، وإن لم يحلف أو لم يدّع، وجرت الشهادة على اللفظ، ثم فُرض القتل قبل تجديد كلمة الإسلام، فهذا فيه احتمال، والذي أراه: تنزيل القولين على هذه الصورة. فصل 11036 - لو مات رجل كنا عهدناه مسلماً، وخلف ابنين مسلمين، فقال أحدهما: مات أبي كافراً، وقال الثاني: مات مسلماً، ولا بينة، فالذي قال: مات مسلماً، تسلم إليه حصتُه من الميراث، والذي قال: مات أبي كافراً، نظر فيه: فإذا ذكر لفظاً في الكفر لا يُتمارى فيه، وزعم أنه سمعه في آخر العهد يذكره، فلا شك أنه يكون محروماً من الميراث، وتكون حصته مصروفة إلى الفيء؛ فإنه مؤاخذ بإقراره، ولو أنه قال: مات كافراً ولم يذكر تفصيلَ كفره، فما حكم حصته؟ ذكر الصيدلاني والإمام والدي قولين في المسألة: أحدهما - أنه تصرف حصته إلى جهة الفيء؛ فإنه أقر بكفره، فيؤاخذ بإقراره، فأشبه ما لو فَصَّل الكفر. والقول الثاني - أنا لا نحرمه الميراث، بل نصرف حصته إليه، هكذا ذكر شيخنا هذا القول، وهو فحوى كلام الصيدلاني، ووجهه: أنه لم يفصل الكفر، ولم تثبت الردة بقوله، إذ لو ثبتت، لصرفت حصته إلى أهل الفيء؛ فإذا لم تصرف، فلا وجه إلا التوريث، وإلغاء اللفظ الذي جاء به [ومن] (1) ورث مالاً، لم يمكنه إسقاط حقه مما ورثه بالامتناع عن قبوله. وذكر صاحب التقريب هذين القولين على وجه آخر، فقال: أحد القولين - أن

_ (1) في الأصل: من (بدون واو).

حصته تصرف مصرف الفيء، والقول الثاني - إنه لا يصرف إلى الفيء، وقد أطلق الكفر ولم يفصله، ثم قال: كما لا نصرفه إلى الفيء لا نصرفه إليه، بل نقِفه، فإن فصّل وذكر كفراً محقَّقاً، صرفنا الحصة إلى أهل الفيء، فإن لم يتعرض للتفصيل، فيبقى المال موقوفاً إلى أن نتبين. وهذا الذي ذكره صاحب التقريب أقيس، وأشبه بالأصول، وهو الذي ذكره العراقيون. فرع: 11037 - قال صاحب التقريب إذا أسر الكفار مسلماً، وأكرهوه على التلفظ بالكفر، فتلفظ به، فلا نحكم بكفره. فلو ثبت ذلك عندنا من حاله، ثم بلغنا أنه مات ولم يتجدد علمٌ آخر؛ فحكمه حكم المسلمين، يرثه المسلمون ويرثهم. فلو عاد إلى بلاد الإسلام -وقد وضح منه ما قدمناه- فإن الوجه: أن نعرض عليه الدينَ وإظهار الإسلام، فإن أتى بما نطلبه، فلا كلام، وإن أبى، ولم يظهره، قال: فنحكم بردته، فإنه قد انضم امتناعه الآن إلى ما سبق منه من لفظ الكفر، فيدل ذلك على أنه كان مختاراً في ابتداء لفظه. ومن أكره على شيء، فخطر له أن يأتي به مختاراً، فلا حكم للإكراه، فإذا سبق منه اللفظ ولحق الامتناع عن التلفظ بالإسلام، كان ذلك آية بينة في أنه كان مختاراً عند اللفظ، قطع به صاحب التقريب، وهو الذي ذكره العراقيون. وفيه احتمال عندي ظاهر، فإنه لم يسبق منه اختيار، والأمر محمول على ظاهر الإكراه، ويلزم منه دوام حكم الإسلام، ومن كان حكم الإسلام له مستمراً، فامتناعه عن تجديد الإسلام لا يغير الحكم بالإسلام. فرع: 11038 - قال العراقيون: إذا أسر الكفار مسلماً، فارتد فيهم مختاراً، وتحقق ذلك عندنا، ثم صح عندنا أنه كان يصلي صلاة المسلمين في دار الحرب، قالوا: نجعل ذلك إسلاماً منه، بخلاف ما لو صلى كافر في ديار الإسلام؛ فإن ذلك لا يكون إسلاماً؛ إذ الصلاة في دار الإسلام قد تشوبها مراعاة المراءاة بخلاف دار الحرب، وهذا الذي ذكروه غير صحيح. والوجه في قياس المراوزة القطع بأنا لا نحكم له بالإسلام كما لو صلى في دار الإسلام. ثم ما ذكروه يقتضي أن يقولوا: إذا رأينا كافراً أصليّاً في دار الحرب يصلي

على هيئة صلاة الإسلام، فنحكم بإسلامه، لما ذكروه في حق المرتد. ولو قال قائل بهذا، لكان صائراً إلى مذهب أبي حنيفة (1)، فإنه يجعل الصلاة من الكافر إسلاماً، وهذا ما لا سبيل إلى القول به. وتلك المسألة فيها غموض، وإن تناهينا في تقرير حقيقتها، فإنا ذكرنا أن من الأفعال ما يوجب الكفر، كالتقرب إلى الصنم، فالذي ذكره العراقيون في أن الصلاة تكون إيماناً في الصورة التي ذكروها في البعد كما حكيناه عن شيخنا في أن التقرب إلى الصنم لا يكون كفراً، ولا تعويل على الأمرين جميعاً. فصل قال: " ولا يُسبى للمرتدين ذرية ... إلى آخره " (2). 11039 - مضمون هذا الفصل الكلام في أولاد المرتدين. فنقول أولاً: إذا التحق المرتدون رجالاً أو نساء بدار الحرب، لم نثبت لهم حكمَ أهل الحرب بوجه، ومهما (3) ظفرنا بهم ولم يُسلموا، ضربنا رقابهم، ولا نسترقهم، ولا نسبي النساء منهم. فأما أولادهم، فالولد الذي حصل العلوق به في الإسلام، فالردة الطارئة لا تغير حكمه، سواء فرض ارتداد الأبوين بعد الانفصال، أو قدر ذلك والجنين مجتن، فحكم الإسلام لا يزول؛ إذ الإسلام يستتبع الولد لقوته وسلطانه، والردة لا تستتبع المولود. ولو حصل العلوق بالولد في حالة الردة -وذلك بأن تعلق مرتدة من مرتد، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها - أن للولد حكم الردة، نظراً إلى الأبوين، والقول الثاني - أن الولد في حكم الكافر الأصلي، فإنه لم يباشر الردة ولا الإسلام،

_ (1) ر. حاشة ابن عابدين: 1/ 235، الاختيار: 4/ 150. (2) ر. المختصر: 5/ 165. (3) مهما: بمعنى: إذا.

وأبواه ليسا مسلمين. والثالث - أن حكمه حكم الإسلام لما في أبويه من عُلقة الإسلام، ولذلك يجبران على العَوْد إلى الإسلام، وما أتلفه المرتد في حالة الردة، فهو مطالب به، والصلوات التي تمر عليه مواقيتُها- مقضيةٌ، وكل ذلك من آثار علائق الإسلام، والمغلّب في المولود حكم الأصل. فإن قلنا: أولاد المرتدين بمثابتهم، لهم حكم الردة؛ فلا يُسبَوْن كما لا يسبى آباؤهم، وإن حكمنا لهم بالإسلام، فلا شك أنهم لا يُسبَوْن، وإن قلنا: هم بمثابة الكفار الأصليين، فلا يمتنع أن يُسبَوْا ويُسترقوا، أو تقبل منهم الجزية إذا بلغوا، وأحكامهم أحكام الكفار الأصليين في كل معنى، ولا فرق عندنا بين أولاد المرتدين وبين أولاد أولادهم، خلافاً لأبي حنيفة (1)؛ فإنه قال: أولاد أولاد المرتدين يُسبَوْن، وأولادهم لا يُسبَوْن. 11040 - ومما ذكره الأصحاب على الاتصال بهذا أن المعاهدين والذميين إذا نقضوا العهود، والتحقوا بدار الحرب، ولهم أولاد في دار الإسلام، فحكم العهد مستدام فيهم؛ فإن الآباء لما عوهدوا أو عقدت لهم الذمة، ثبت حكم الذمة للأولاد. ثم لا تنتقض حرمة العهد والذمة في حقهم، وإن نقضه الآباء. فإذا بلغوا، فإن قبلوا الجزية، أقررناهم بها في دار الإسلام، وإن أبَوْا أن يقبلوا، لم نقتلهم، وألحقناهم بمأمنهم، ولا نُلزمهم الجزية [بهذا] (2)، خلافاً لأبي حنيفة (3). وهذا الفصل سيعود مستقصى في كتاب السير، وفيها نذكر أحكام ما يخلّفون عندنا من الأموال، والتفصيلَ فيه إذا صاروا حرباً لنا، فأرققناهم كما (4) وقعوا في الأسر، وهو من الفصول المعروفة، والقدرُ الذي ذكرناه في أحكام أولادهم رمزٌ هاهنا، واستقصاؤه بين أيدينا، والله المستعان. ...

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 259. (2) في الأصل: فهذا. (3) ر. البدائع: 10/ 4386، الفتاوى الهندية 3/ 584. (4) كما: بمعنى عندما.

كتاب الحدود

كتاب الحدود 11041 - الحد في اللغة: المنع، ومنه سُمي البواب حداداً، وحدود الأشكال أطرافها؛ لأنها فواصل يُمنع بها اختلاط المحدود بغيره، ولما نزل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] أبدى المنكرون هراء، وقالوا: لم نسمع بهذه العِدّة في الحدَّادين، أي في البوابين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقاس الملائكة بالحدَّادين "، فأرسله مثلاً (1). ومنه سميت العبارات عن الحقائق حدوداً، وبه يسمى الحديد حديداً لامتناعه عن تولّج شيء فيه، والحدّ مصدر حدّ يحُد ولا يجمع، وهو اسم للعقوبة المقامة على مستوجبها، فإن جُعل اسماً جُمع حدوداً، وهي مأخوذة من المنع، فإنها زواجر عن ارتكاب الموبقات. 11042 - ثم الحدود في قواعدها ثلاثة أصناف؛ الجلد، والقطع، والقتل. وأما الجلد؛ فيقع حداً في الزنا، والشرب، والقذف. فحد الزنا مائة جلدة مع التغريب، كما سيأتي الوصف عليه، وحد الشرب على أصل المذهب أربعون جلدة، وحد القذف ثمانون. وحد الزنا والشرب لله عز وجل، وحد القذف للمقذوف. والعبد في الحدود الواقعة في الجلد على النصف من الحر. وأما القطع فحد السرقة، وحد قطع الطريق، وهما لله تعالى، والعبد والحر فيهما بمثابة. وأما القتل فينقسم إلى الرجم والقتل، فأما الرجم، فحد المحصن في الزنا.

_ (1) حديث " لا تقاس الملائكة بالحدادين " لم نقف عليه على أنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل المشهور في كتب الأمثال وغريب الحديث نسبة هذا القول إلى الصحابة، والمثل مشهور بلفظ " تقيسُ الملائكة بالحدادين! " (ر. غريب الحديث لابن الأثير، جمهرة الأمثال: 1/ 217 رقم 372 ومجمع الأمثال: 1/ 90).

والقتل يقع في قطع الطريق حداً على من قَتل، وهو واجب على المصرّ على الردة. ثم وَضْعُ الحدود على التنكيل، والمعاقبةُ على ما سبق، والزجر عن احتقاب أمثال تيك الكبائر في المستقبل. فإن لم يكن قتلاً، أفاد زجر المحدود وزجرَ غيره، وإن كان قتلاً، فهو عقوبة على المحدود وزجرٌ لغيره، وقيل: المرتد وإن لحق بالحدود، فليس في معناها؛ فإنه دعاء بالسيف إلى الإسلام، وهو بمثابة دعاء الكفار إلى الإسلام، إلا أنهم قد تقبل منهم الجزية، والمرتد مدعو إلى الإسلام، فإن التزمه، فذاك، وإلا فالسيف واقع به. 11043 - ثم إن الشافعي أفرد لكل صنف من أصناف الحدود كتاباً، وافتتح الكلام في حد الزنا، وقد ورد في حد الزنا آيتان، إحداهما: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] والأخرى قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا} [النساء: 16] فظاهر الآية الأولى يدل على اكتفاء النساء بالنساء، وظاهر الآية الثانية يدل على اكتفاء الرجال بالرجال، وقد قيل: الآيتان في الجنسين جميعاً، ولكن المراد بمضمون الآية الأولى التعرض للثُّيَّبِ، فجرى فيها تخصيص النساء بالذكر، لأنهن أحرص على الزنا من الثيب من الرجال، والآية الثانية في الأبكار، والأبكار من الذكور أحرص على الزنا من الأبكار من النساء. وبالجملة الآيتان ليستا مشتملتين على بيان حكم الزنا افي الجنسين جميعاً، الأولى تضمنت الأمر بالحبس وانتظار حكم الله تعالى. والثانية اقتضت الإيذاء مطلقاً من غير تفصيل. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبادة بن الصامت: " خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجمٌ بالحجارة " (1) وظاهر الحديث الجمع بين الجلد والرجم، في حق الثيب، وقد صار إلى ذلك أصحاب الظاهر، واتفق العلماء المعتبرون من الصحابة رضي الله عنهم

_ (1) حديث عبادة بن الصامت أن النبي قال: " خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً ... " رواه مسلم: الحدود، باب حد الزنا، ح 1690. وانظر التلخيص: 4/ 96 ح 2020.

وغيرهم على أن المحصن لا يجلد ويقتصر على رجمه. ثم اختلف هؤلاء، فذهب الاكثرون إلى أن هذا كان فنُسِخ. وقال بعض أصحابنا: الحديث فيمن زنى بكراً، فلم يُجلد حتى ثاب وزنى ثيباً، فنجمع عليه بين الجلد والرجم، وهذا وجه سيأتي ذكره، إن شاء الله، فإن الزنا إذا تكرر من الشخص، ولم يتخلل بينهما استيفاء الحد، اقتصرنا على حد واحدٍ. وإن اختلف جنس الحد باختلاف الحالتين في زنيتين، فزنى بكراً ثم زنى ثيباً، ففي التداخل وجهان: أصحهما - الاكتفاء بالرجم. فإن جرينا على الوجه الآخر، لم يصح حمل الحديث عليه من وجهين: أحدهما - أن حمل الألفاظ العامة المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تأسيس الأصول لا يسوغ حمله على الشواذ، هذا وجه. والثاني - أنه ذكر البكر صنفاً وذكر الثيب صنفاً، وما ذكره هؤلاء جمع حالتين لشخص واحد، وهذا استكراه في التأويل، لا يسوغ مثله. وقال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. والأصل في الرجم ما روي عن عمر أنه قال: " لولا أني أخشى أن يقال: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لأثبتُّ على حاشية المصحف ما كنا نقرؤه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، إن الله كان عزيزاً حكيماً " (1). ورُوي أن رجلين كانا يتساوقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كل واحد منهما فئام (2) من الناس، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله تعالى وأذن لي في أن أتكلم، فأذن له في الكلام، وقال: إن ابني كان عسيفاً لهذا، فزنا بامرأته، فسألت من لا يعلم، وقال: على ابنك الرجم، ففديته بمائة شاة ووليدةٍ، ثم سألت رجالاً من

_ (1) أثر عمر " لولا أني أخشى أن يقال زاد عمر في كتاب الله ... " متفق عليه من حديث ابن عباس عن ابن عمر مطولاً، وليس فيه: في حاشية المصحف. ورواه البيهقي بتمامه وعزاه للشيخين. قال الحافظ: ومراده أصل الحديث. (ر. البخاري: الحدود، باب الاعتراف بالزنا، وباب رجم الحبلى، ح 6829، 6830. مسلم: الحدود باب رجم الثيب الزاني، ح 1691. البيهقي في الكبرى: 8/ 210، 211، التلخيص: 4/ 96 ح 2021). (2) فئام: جماعة من الناس.

أهل العلم فقالوا: على ابنك جلد مائة وتغريب عام. فقال صلى الله عليه وسلم: " لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: أما الشاء والوليدة فرَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " (1). وقصة ماعز مشهورة، وكذلك قصة الغامدية. وأجمع المسلمون على أصل حدّ الزنا، وإن اختلفوا في التفاصيل. 11044 - نبتدىء فنقول: الزنا قسمان: زنا البكر وزناً الثيب. فزنا البكر موجَبه الجلد والتغريب، والجلد مائة والتغريب عام. وإنما يستوجب المائةَ وتغريبَ العام البالغُ العاقل الحر الذي لم يُصِب في نكاح صحيح. والتغريب من الحد، والأصل فيه الأخبار والنصوص، وليس في القرآن باتفاق علماء المعاني ما يثبت استقلالاً في بيان الحد، وإذا كان كذلك، لا يظهر منه الحكم بالاقتصار على المذكور، ويتعين الرجوع إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم. ونحن نذكر التغريب، وما يتعلق به. فالحر يُغرّب، وفي تغريب العبد قولان: أحدهما - أنه يغرب كالحر، والثاني - لا يغرب. فإن في تغريبه رفعُ يد السيد عنه، أو اضطرارُه إلى أن يتغرب معه، والعبد جليب (2) لا يؤثر فيه التغريب. التفريع: 11045 - إن حكمنا بأنه لا يغرب، فنقتصر على جلده خمسين، وإن قلنا: إنه يغرب، فللتغريب مسافة نذكرها وزمان، فأما المسافة، فالعبد فيها كالحر، وأما الزمان، فمدة تغريب الحر سنة، وفي العبد قولان: أصحهما - أنه على النصف من الحر، فنغرّبه ستة أشهر، كما أنه على النصف منه في الجلد. والقول الثاني - أنه يغرب سنة؛ فإن ما يتعلق بالمدد والطباع لا يُفرَّقُ فيه بين العبد والحر كمدة العنة والإيلاء.

_ (1) حديث: " أن رجلين كانا يتساوقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني. (البخاري: الحدود، باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم والناس، هل على الحاكم أن يبعث إليها فيسألها عما رميت به، ح 6842، 6843. مسلم: الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا، ح 1697، 1698). (2) جليب: بمعنى مجلوب، فهو غريب لا يؤثر فيه التغريب.

وهذا كلام سخيف؛ فإن امتحان العُنة ودركَ الضرار يتعلق بالجبلات، وهي لا تختلف بالرق والحرية، والتغريب تعذيبٌ، والعبد في الجلد على النصف من الحر، وإن كانت جبلّته في استدعاء الزجر كجبلة الحر، [فليكن في التغريب] (1) بهذه المثابة. هذا قولنا في العبد والحر (2). 11046 - فأما الحرة، فإنها تغرب كالرجل إذا زنت بكراً، فإن ساعدها الزوج أو واحد من محارمها، أُخرجت، وإن لم يساعدها زوج ولا محرم، فهل نغربها وحدها مع ظهور الأمن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نغربها؛ لأن هذه سَفْرة واجبة، فكانت كسفرة الهجرة إذا أسلمت حربية، وخافت أن تفتتن عن دينها؛ فإنها تخرج وحدها، كما سيأتي في كتاب السير، إن شاء الله. والثاني - أنها لا تغرب وحدها؛ فإن الغرض من التغريب تأديبها بأدب الله تعالى، وإذا خرجت وحدها، تهتكت، وكشفت جلباب الحياء عن وجهها (3)، فإن أمكن استئجار واحد من محارمها ليخرج معها، فعل ذلك. ثم اختلف أصحابنا، فقال بعضهم: الأجرة مأخوذة من مالها، وقال آخرون: هو من بيت المال (4). والوجهان في ذلك كالوجهين في أن أجرة الجلاّد على المحدود أم هي في بيت المال؟ وسيأتي ذكر ذلك، إن شاء الله تعالى. ولو لم يرغب واحد من محارمها في الخروج معها، وقلنا: إنها لا تخرج وحدها، فهل للسلطان أن يجبر واحداً من محارمها على الخروج بأجرة معها؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه ليس له ذلك (5)، فإنه في الحقيقة تغريبُ مَحْرَمٍ غيرِ مجرم، والتغريب عذاب على الزانية.

_ (1) في الأصل: " فليكن كالحر في التغريب بهذه المثابة "، وهو خلل لا يتفق مع السياق. (2) الأظهر أن العبد يغرب نصف سنة كما قرره الإمام. (ر. الروضة: 10/ 87). (3) الأظهر أنها لا تغرّب وحدها. قاله النووي (ر. الروضة: 10/ 87). (4) الأصح أن الأجرة من مالها. (ر. الروضة: 10/ 88). (5) وهذا هو الأصح، كما قال النووي (ر. الروضة: 10/ 88).

والثاني - أن له أن يُجبره؛ وذلك استعانة منه فيما لا بد منه. والإمام إذا استعان بأحد من المسلمين، لزم الانقياد له. وقد نجز القول في أصناف من يغرب. 11047 - ويلتحق بما ذكرناه أن الغريب يغرّب إذا زنا، قطعاً لوهم من يتوهم أن التغريب في حقه غير مؤثر، فإنه إذا لم يكن في وطنه، فالبلاد كلها في حقه بمثابة واحدة؛ وذلك أن قواعد الحدود لا تنقض بما يفرض في آحاد الأشخاص؛ على أن الغريب قد يألف بقعةً، ويشق عليه مفارقتُها، والغرض الأظهر من التغريب التنكيل، وهذا المعنى يستوي فيه المتوطن والغريب. 11048 - ثم نتكلم الآن في مسافة التغريب. اتفق الأئمة على أنها تبلغ مسافةَ القصر؛ إذ لو قصرت عن هذا المبلغ، لتردد عليه أخبار الأهلين والمخلَّفين، ولم يحصل به إيحاش الغربة، ولا ضبطَ وراء المرحلتين. ثم وراء ذلك تردّد: [ففي] (1) بعض التصانيف أن الإمام إذا عيّن تغريبه إلى بلد، لم يسيبه فيها حتى ينفلت حيث يشاء، وهذا تصريح بأنه [يمنع] (2) من الانتقال عن البلدة التي عُيّنت له، ولم يذكر ذلك أحد من أئمة المذهب. وإنه عندي باطل؛ فإنه جَمْعُ حبسٍ إلى تغريب، ولم يشهد لهذا سُنَّةٌ ولا قياس، وإذا غُرِّب في جهة وأظهر التنكيل به، فلا مانع من أن يتطوح في البلاد. ثم في كلام الأصحاب تردد من وجه آخر، وهو أن الإمام لو عين لتغريبه صوب الشرق، فقال المغرّب: غرِّبوني في صوب الغرب، فمن أئمتنا من قال: إذا عيّن الإمام صوباً، فلا معدل عن الجهة التي يعينها، وهذا غير سديد (3). والغرض أن يبعد عن الموضع الذي غربناه فيه مرحلتين، فليأخذ أيَّ صوب شاء. وإذا زنا الغريب، غربناه من موضع الزنا، فإن فرعنا على أن الإمام لا يعيِّن

_ (1) في الأصل: " في "، والمثبت من (ت 4). (2) في الأصل: " لا يمنع ". (3) الأصح اتباع رأي الإمام (ر. الروضة: 10/ 88).

صوباً، وأبطلنا حبسه في الموضع الذي يُغرَّب إليه، وهو مارٌّ على وجهه، فلا يكاد يظهر أثر التغريب، ولا يكاد [يظهر] (1) -والحالة هذه- إلا إظهار التغريب والإرهاق (2) إليه. وقد قال الأصحاب: لو كان بينه وبين وطنه مرحلتان لا نغرّبه إلى وطنه؛ فإن هذا ضد التغريب، ولكن نغرّبه إلى جهة أخرى، [فإن غربناه إلى بلدةٍ، فانتقل إلى وطنه] (3) فهذا موضع وقوف الناظر، ولا وجه إلا ما ذكرناه (4)، وإن كان يؤدي إلى تغربه من الوطن سنة ووجهه إلى الوطن (5). 11049 - وفيما يعترض في الفكر أن المُغرَّب لو عاد إلى مكان التغريب قبل انقضاء السنة ومكث مدة من حيث لا يُشعر به، فإذا اطلع الوالي عليه غربه، وفي بطلان ما مضى من زمان التغريب قبل العود نظرٌ للمفكر؛ فإن الغرض الأظهر من التغريب الإيحاش بالغربة، وهذا إنما يحصل إذا تواصل الإيحاش والتغرب، يحققه أن الجلاد لو جلد الزاني مائة جلدة في عشرة أيام، لم يُعتدّ بما تقدم من الجلدات؛ فإن الإيلام الحاصل بالمائة المتواترة لا يحصل إذا فرقت الجلدات، وتخللت الفترات المريحة، وسنذكر هذا عند ذكرنا كيفية الجلد ونعت السياط، إن شاء الله. والمسألة في التغريب محتملة على الجملة (6)، والعلم عند الله تعالى، وقد نجز بيان حد الأبكار إذا زنَوْا على الجملة، وستأتي مسائل على ترتيب الكتاب، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (2) الإرهاق إليه: أي الحمل عليه والإزعاج به، عن محل الفاحشة، كما عبر بذلك في البسيط. (3) زيادة اقتضاها السياق، وهي من الوسيط للغزالي، ثم هي في هامش نسخة الأصل، منسوبة للوسيط، وليست لحقاً. (ر. الوسيط: 6/ 438). (4) الأصح أنه يمنع من الانتقال إلى وطنه. (ر. الروضة: 10/ 89). (5) العبارة هنا فيها نوع قلق، مع اتفاق النسختين فيها، ولذا كان من المناسب أن نشدّ عضدها بعبارة الغزالي، قال: " الغريب إذا زنا أزعجناه، وإن كان هذه البلدة كسائر البلاد، ولكن الغرض التنكيل بالإزعاج عن محل الفاحشة، وقد يألف الغريب بقعة. فلو كان إلى وطنه مرحلتان، فلا نغرّبه إلى وطنه؛ لأنه ضد التغريب، فإذا غربناه إلى بلدةٍ، فلو انتقل إلى بلده هل يمنع؟ هذا فيه نظر، والظاهر أنه لا يمنع ". (ر. البسيط: 5/ورقة: 117 يمين). (6) قال الرافعي: " الأشبه أنه يستأنف " (ر. الشرح الكبير: 11/ 137).

11050 - وأما زنا الثيب، فموجبه الرجم بالحجارة، والثيب هو الذي أصاب في نكاح صحيح، فإذ ذاك يلتزم الرجم إذا زنا. والإسلام ليس من شرائط الإحصان عندنا، فالذمي إذا استجمع الصفات التي ذكرناها ورضي بحكمنا رجمناه، وقصة اليهوديين ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم مشهورة. ثم لا يحصل الإحصان بالوطء في ملك اليمين وفاقاً، أما الوطء في نكاح فاسد، أو على وجه الشبهة، ففي حصول الإحصان قولان: أصحهما - أنه لا يحصل. ثم الصفات الثلاث -البلوغ، والعقل، والحرية- لا ترتب فيها، والمقصود اجتماعها. فأما الإصابة، فقد اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: يشترط أن تحصل ممن تجمعت فيه الصفات الثلاث حتى لو حصلت الإصابة في الصغر أو في حالة الجنون، أو في حالة الرق، فلا اعتداد بها، ولا تحصل الثيوبة بها. وكما نشترط وطئاً كاملاً في جهةٍ كاملة نشترط حصول الوطء من كاملٍ لاستجماع الصفات الثلاث. ومنهم من قال: لا ترتيب فيه كما لا ترتيب في سائر الصفات. (1 وإذا اجتمعت الصفات 1) الثلاث في أحد الزوجين وعُدِمت في الثاني، فالتحصين يحصل. وهذا كما إذا كان الزوج حراً بالغاً عاقلاً، وقد أصاب زوجته الرقيقة، فيحصل التحصين فيه. وذكر صاحب التقريب في إصابة الصغير وجهين، وكذلك في تمكين المرأة الزوج الصغير، وهذا ليس بشيء إذا تم الوطء؛ [فإن المراهِقة] (2) مطلوبة بالوطء، [وإذا] (3) وطئت في نكاحٍ، عدّ ذلك من أكمل الوطء في أكمل الجهات. فإن أراد من يظهر الخلاف وطءَ صغيرةٍ لا يُشتهى مثلُها، أو صغيرٍ لا تشتهيه النساء، فهذا فيه احتمال، وقد ذكرت في باب التحليل من كتاب النكاح طرفاً صالحاً في هذا.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) في الأصل: " ثم المراهقة ". (3) في الأصل: " إذا " (بدون واو).

ولا خلاف بين أصحابنا أن الثيب إذا زنا ببكر رُجم، وإن كانت تيك تجلد، وكذلك لو كان الأمر على العكس من هذا. وقد نجز توطئة حد الزنا في الثيب والبكر. 11051 - ثم قال الشافعي: " إذا رجم الزاني غُسل وصُلي عليه ودفن في مقابر المسلمين؛ فإنه مسلم، فكان كالمقتول قصاصاً " ثم قال: " ويجوز للإمام أن يحضر رجمه، ويتركَ ... إلى آخره " (1). الوالي بالخيار، إن شاء حضر موضع الحد، رجماً كان أو جلداً، وإن شاء لم يحضر. وكذلك إذا ثبت الزنا بالشهود، لم يلزمهم أن يحضروا (2). وقال أبو حنيفة (3): إن ثبت الزنا بالإقرار، فعلى الوالي أن يحضر، وإن ثبت بشهادة الشهود، فعليهم أن يحضروا. ثم اشترط إذا حضر الوالي أن يبدأ بالرجم، وإذا حضر الشهود أن يبدؤوا، ونحن نستحب الحضورَ من الشهود لنفي التهمة، ولا نوجبه، وقد ثبت الحد على ماعز، فلم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجْمَه، وذلك بيّن في قصته إذ روي أنه لما مسه ألم الأحجار، قال: " ردوني إلى محمد، فإن قومي غرّوني وقالوا: إن محمداً ليس بقاتلك، وولّى هارباً، فأدركه رجل بلَحْي جمل، فأثبته، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " هلا تركتموه يفر من عذاب الله تعالى "، وفي رواية: هلاّ رددتموه إليّ لعله يتوب " (4).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 166. (2) أي: يحضروا إقامة الحد على المشهود عليه المرجوم بشهادتهم. (3) ر. مختصر الطحاوي: 263، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 284 مسألة 1400. (4) قصة ماعز التي ورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم: " هلا تركتموه " وفي رواية " هلا رددتموه .. " وردت من حديث نعيم بن هزّال عن أبيه، أخرجها أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي وصححها الألباني، كما وردت قريبة من سياق الإمام -من حديث جابر بن عبد الله من طريق محمد بن إسحاق، أخرجها أبو داود وابن أبي شيبة وأحمد (ر. أبو داود: الحدود، باب رجم ماعز، ح 4419، 4420، النسائي في الكبرى: ح 7205، الحاكم: 4/ 363 وصححه ووافقه الذهبي، البيهقي: 8/ 228، أحمد 3/ 323، إرواء الغليل: 7/ 354، 357 - 358).

فصل قال: " وإن أقر مرة حُدّ ... إلى آخره " (1). 11052 - إذا أقرّ بالزنا مرة واحدة -كما سيأتي وصف الإقرار، إن شاء الله تعالى- ثبت الحد، ولا يشترط التكرار في الإقرار، خلافاً لأبي حنيفة (2). ثم أجمع أصحابنا على أنه مهما (3) رجع عن الإقرار، لم نحده. وإن رجع في أثناء الحد، انكففنا عنه، ورجوعه أن يقول: كذبت فيما قلت، أو رجعت، وهو يريد تكذيب نفسه. ولا يشترط في قبول رجوعه عن الإقرار أن يذكر سبباً في الإقرار والرجوع. وقال مالك (4): لا يُقبل الرجوع المطلق عن الإقرار، فإن ذكر شيئاً ممكناً، قُبل حينئذ، وذلك مثل أن يقول: حسبت الإتيان دون المأتى زنا، ثم تبين لي. ونحن لا نشترط هذا. واختلف القولُ في أن من أقر بسرقة توجب القطع، ثم رجع عن إقراره، فهل يسقط القطع عنه بالرجوع عن الإقرار أم لا؟ والأصح أنه يسقط قياساً على حد الزنا. ووجه القول الثاني أن السرقة متعلقة بحق الآدمي، والرجوع فيه غير مقبول، ونحن قد نتبع [الحدَّ الحقَّ] (5) في موجَب الإقرار، والدليل عليه: أن العبد إذا أقر بسرقة مال،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 166. (2) ر. مختصر الطحاوي: 263، 264، المبسوط: 9/ 92، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 283، مسألة 1398. (3) مهما: بمعنى إذا. (4) ر. المدونة: 6/ 238، الإشراف: 2/ 858 مسألة 1681، عيون المجالس 5/ 2093 مسألة 1512، القوانين الففهية: 349. (5) في الأصل: " قد تتبع الحق الحق في موجب الأقرار ". وفي (ت4): " قد نتبع الحق في موجب الإقرار " والمثبت من تصرف المحقق على ضوء السياق والمعنى. (ر. الشرح الكبير: 11/ 229). والمعنى: أنه يوجب عدمَ سقوط الحد بأن سقوطَه قد يستتبع سقوطَ الحق (أي غرم المال المسروق) وحقوقُ الآدميين لا تسقط بمثل هذا.

فإقراره مقبول في إيجاب القطع عليه، وقد يقبل إقراره في المال المسروق على أحد القولين، وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى. ولو أقر بالزنا ثم لم يرجع عن إقراره مصرحاً بتكذيب نفسه، بل قال: دعوني، لا تحدّوني، فهل يجعل ذلك بمثابة الرجوع عن الإقرار؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب، والأظهر أن هذا لا أثر له؛ فإنه صرح بالإقرار، ولم يصرح بالرجوع عنه. هذا إذا ثبت الحد بالإقرار. فأما إذا ثبت بشهادة الشهود فالحد يقام على المشهود عليه. 11053 - ولو تاب (1)، ففي سقوط الحد عنه بالتوبة قولان للشافعي: أصحهما - أنه لا يسقط؛ إذ لو أسقطناه، لصار ذلك ذريعة إلى إبطال حكم الحد؛ إذ الغرض منه الردع، ولا يعجز مرتكب ما يوجب الحد عن إظهار التوبة، ثم الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. والقول الثاني - أن الحد يسقط بالتوبة؛ فإنه عقوبة تثبت حقاً لله، وحقوق الله تعالى تبنى على أن تسقط بالتوبة. ولا خلاف في سقوط الحدود عن قطاع الطريق إذا تابوا قبل الظفر بهم، وفي قبول توبتهم بعد الظفر بهم قولان، كما سيأتي ذكره في سائر الحدود. وهذا [يذكره الفقيه أخذاً] (2) من نص القرآن عظيم الوقع؛ فإنه عز من قائل قيّد توبة أهل المحاربة بما قبل الظفر، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]. ولو وجب الحد، وثبت وجوبه، فهرب من تقرر الحد عليه؛ فقد ذكر أصحابنا في سقوط الحد وجهين. واستشهدوا في نصرة أحد الوجهين بقصة ماعز، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من اتبعه وأثبته، وأحَبَّ أن لو كان تُرِك. فإن قيل: في الحديث " هلا تركتموه يرجع إليّ لعله يتوب " وقد زيّفتم قول من يقول التوبة تُسقط الحد؟ قلنا: نعم، ذلك القول في نهاية الضعف، وإن كان مشهوراً، وليس يليق بمذهب الشافعي مع محافظته على حفظ القواعد أن يثبت إظهارَ

_ (1) الكلام في التوبة وأثرها في إسقاط الحدود يتعلق بالإقرار والشهادة معاً. (2) في النسختين: " يذكر الفقيه أمراً " والمثبت من تصرف المحقق.

التوبة ذريعة إلى إسقاط الحدود كلها، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز " لعله يتوب " حمله بعض الحذاق على الرجوع عن الإقرار، وأصل التوبة في اللسان الرجوع، وكان قد ثبت الحد على ماعز بإقراره. فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله " (1). ولو كان الحد لا يسقط بالتوبة، لكان فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريض على كتمان حقٍّ واجبٍ لله تعالى. قلنا: لا يمتنع أن تكون توبة المستتر الذي لا يبدي صفحته بمثابة توبة قاطع الطريق قبل الظفر به. وفيما ذكرناه احتمال؛ فإنّ سبب قبول توبة المحاربين عطفُهم على الطاعة، وردُّهم بالاستمالة إليها. وهذا المعنى لا يتحقق فيما ذكرناه، والمسألة محتملة. وتمام الحديث يدل على أن التوبة بعد ظهور وجوب الحد لا تنجع، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في تمام الحديث: " فإنه من يبدي لنا صفحته نقيم عليه حد الله تعالى " (2). وهذا نص في أن التوبة لا تنفع. 11054 - وقد عاد بنا الكلام إلى تفصيل القول في الهرب، وقد ذكرنا فيه اختلافاً، واضطرب أئمتنا في تنزيله: فقال قائلون: الخلاف في الهرب إنما يجري إذا كان الحد ثابتاً بالإقرار، فأما إذا ثبت بالبينة، لم ينفع الهرب. وقال قائلون: الخلافُ جارٍ سواء ثبت الحد بالبينة [أو بالإقرار] (3). وذكر بعض الأئمة مسلكاً حسناً في ذلك، فقال: الخلاف في أن الهارب هل يتبع؟ فأما المصير إلى أن الحد يسقط به، فلا، ولو امتنع من عليه الحد عن

_ (1) حديث " من أتى من هذه القاذورات شيئاً .. " رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، والشافعي عنه، وقال: هو منقطع. وقد روي مسنداً من حديث ابن عمر بلفظ (اجتنبوا هذه القاذورات) رواه الحاكم في المستدرك (ر. الموطأ: 2/ 825، المستدرك: 4/ 244، 383، التلخيص: 6/ 106 ح 2039). (2) تمام الحديث، أي حديث " من أتى من هذه القاذورت ... ". (3) في الأصل: " أولاً بالإقرار ".

الاستسلام لإقامة الحد عليه، فقد ألحقه الأصحاب بالهرب؛ فإن كل واحد منهما امتناع، وقد قيل: " رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شارب خمر، فهمّ بإقامة الحد عليه، فولى ولاذ بدار العباس، فلم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1). وحكاية الأحوال عرضةُ الاحتمال، فلا يبعد أن يقال: كان ثبت عليه الحد بإقراره، ثم رجع وولى. فرع: 11055 - إقرار الأخرس بالزنا مقبول، وإشارته كعبارة الناطق. وقد ذكرنا تحقيق ذلك في كتاب اللعان، ولو قامت عليه البينة بالزنا، حُدّ عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2). وله بدائع في الأخرس يقضِّي اللبيب منه العجب؛ فإنه قال: لو زنى وهو ناطق، ثم خرس، سقط الحد. ولو زنى بخرساء وهو ناطق لا يحدّ، وسنجمع في آخر الكتاب، إن شاء الله مسائل الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة. وغرضنا بذكرها إذا انتهينا إليها أن نضبط ما يؤثّر في إسقاط الحد وما لا يؤثّر، وعندها نتبين مجامع الشبهات، ومحلَّ الوفاق والخلاف، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " وصفة الرجم أن يضرب بالحجارة والمدر ... إلى آخره " (3). 11056 - الرجم بيّن المعنى (4)، ولو ضُربت رقبة من يستحق الرجم، وقع ما جرى حداً، ولكن فعل (5) ما فيه ترك الواجب؛ فإنّ غرض الشارع المَثُلةَ بالزاني بالجهة التي نص عليها، وقتله بالسيف تخفيف عنه، وعلى هذا لو قُصد بصخرة عظيمة من فوقه،

_ (1) حديث شارب الخمر الذي لاذ بدار العباس فلم يتعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقد ضعفه الألباني. (ر. أبو داود: الحدود باب في الحد في الخمر، ح 4476، وضعيف أبي داود للألباني (ص 447)، الحاكم: 4/ 373، البيهقي: 8/ 314، 315). (2) ر. المبسوط: 18/ 172. (3) لم أصل إلى هذه العبارة في المختصر. (4) ت 4: والمعنى. (5) ت 4: ولكن فيه ترك الواجب.

فالواحدة تذفِّف عليه، ولا يجوز ذلك، ولو كان يُرمى بحصى الخذف؛ فيطول الأمر عليه، وهذا أيضاً غير جائز؛ فإنه زيادة في عذابه، فلْنرْمه بالأحجار التي [يُرمى] (1) بأمثالها للقتل. ثم يختلف الأمر في هذا؛ فقد تصيب الأحجار مقاتله، فيموت في قرب من الزمان، وقد يتمادى، وذلك لا يدخل تحت الضبط. ثم الرجم يقام في الحر الشديد، والبردِ المفرط، والمرضِ المدنف؛ فإن الرجم إهلاكٌ؛ فلا وجه للإبقاء على مرجوم. وإنما يَرعَى الإمامُ التحرز عن أسباب الهلاك، إذا كان الحد جلداً. قال الأئمة: إذا ثبت الزنا بالإقرار، فينبغي أن يؤخر رجمه عن شدة الحر والبرد، والسبب فيه [أنه] (2) ربما يرجع عن إقراره إذا (3) مسه حر الحجارة. ولو اتفق هذا، فقد يهلك [ببوادر] (4) الأحجار التي أخذت منه مأخذها؛ فيتحتم رعاية هذا. وهذا لا يتحقق إذا ثبت الزنا بالبينة؛ فإنا لا نبني الأمرَ على رجوع الشهود. 11057 - ولو كان الحد جلداً، فحقٌّ على الإمام أن يرعى جهةَ المحدود، والزمانَ الذي يقام الحد فيه، فلا يقيمه في شدة حر، ولا في شدة برد، ويحبسه إلى أن يعتدل الزمان. وأما مراعاة المحدود في نفسه؛ فلو كان مريضاً مرضاً يُرجى برؤه، أُخّر إقامة الحد حتى يبرأ، ويستبلّ (5)، وإن كان لا يرجى برؤه، وقد يكون مُخدَجاً ضعيف الخَلق، لا يحتمل الجلد أصلاً، فكيف السبيل فيه؟ اعتمد الأئمة في ذلك حديثاً نرويه، ثم نتبعه تفصيل المذهب، روي: " أن رجلاً مُخدَجاً رُئي على امرأة، وكان يخبُث بها،

_ (1) في الأصل: " يرجم "، والمثبت من (ت 4). (2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين. (3) ت 4: فإذا مسته الحجارة. (4) في النسختين رسمت هكذا: (سواد) بدون نقط، والمثبت من المحقق. والمراد ببوادر الأحجار: أوائلها التي أصيب بها قبل الرجوع عن الإقرار. (5) يستبلّ: أي يشفى ويصح.

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجلد مائة. فقالوا: يا رسول الله هذا لو جُلد مات. قال صلى الله عليه وسلم: " خذوا عِثْكالاً عليه مائة شِمْراخ، فاضربوه به " (1). وقد اضطرب كلام الأئمة في هذا الفصل، ونحن نذكر ما ذكروه، ثم ننبه على غامضة المذهب، ثم نوضح ما عندنا، إن شاء الله. 11058 - قال الصيدلاني: نأخذ غصناً عليه مائة فرع، ونضربه به. ولا يشترط أن تمسه الفروع كلُّها، بل يكفيه أن ينكبس بعضها على بعض بحيث يثقل بسببها الغصن على المضروب، ويناله بهذا السبب أدنى التثقيل، ولو كان على الغصن خمسون فرعاً، ضربناه مرتين، فاقتضى كلامه رعاية إلحاق الأذى به، كما ذكرناه. وفي بعض التصانيف أنه لا يؤلم بالضرب، واتفقت الطرق على أن الوضع عليه ليس كافياً، ولا بد من المقدار الذي يسمى ضرباً. هذا ما وجدناه من كلام الأئمة. ومما نُقضِّي العجب منه مجاوزتهم أمثال ذلك من غير مباحثة، مع ظهور الإشكال فيه. وأنا أقول: الأسواط التي تقام الحدود بها سيأتي وصفها، إن شاء الله، في باب مفرد في آخر الأشربة، فإن كان مستوجب الحد مستقلاً بالضرب بها، فلا كلام.

_ (1) حديث: " أن رجلاً مخدجاً رُئي على امرأة ... " رواه الشافعي، والبيهقي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف مرسلاً، قال البيهقي: " هذا هو المحفوظ عن أبي أمامة مرسلاً ". ورواه أحمد وابن ماجه عن أبي أمامة عن سعيد بن سعد بن عبادة، ورواه أبو داود عن أبي أمامة عن رجل من الأنصار، ورواه النسائي والدارقطني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه، والطبراني عن أبي أمامة عن أبي سعيد الخدري. قال الحافظ: فإن كانت الطرق كلها محفوظة، فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة، وأرسله مرة. (ر. مسند الشافعي رقم 258، أحمد: 5/ 222، أبو داود: الحدود، باب في إقامة الحد على المريض، ح 4472، ابن ماجه: الحدود، باب الكبير والمريض يجب عليه الحد، ح 2574، النسائي في الكبرى: الرجم، باب الضرير في الخلقة يصيب الحدود (4/ 311 - 313 الطبراني في الكبير 6/ 38 ح 5446، سنن الدارقطني: 3/ 99 - 101 التلخيص: 4/ 108، 109 ح 2048).

وإن كان لا يستقل بالضرب بها، وكان قد يستقل بأسواط خفيفة- (1 دون ما سنصفه من سوط الحد- فليت شعري أنوجب الضرب بالأسواط الخفيفة 1)؛ فإنها أقرب إلى صورة إقامة الحد من الضرب بالعِثكال أو الغصن ذي الفروع؟ وهذا محل النظر، والذي أراه أنه يجب الضرب بالأسواط الخفيفة (2). وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه إذا ضعف عن احتمال سياط الحد، فليس يجب إلا الضرب بالعِثكال، كما تقدم وصفه. ومما يجب التنبيه له أن المقدار الذي ذكروه من الضرب بالعثكال ما أراه زاجراً إذا لم يكن فيه إيلام يتوقع مثله من بدن المُخدَج، كموقع السياط الموصوفة من بدن الأيِّد المحتمِل، هذا لا بد منه، وإلا يبطل حكم الحد. وقد قال الأئمة: من حلف ليضربن فلاناً مائة سوط، فضربه بعِثكال عليه مائة شمراخ، كفاه ذلك، وبرّ في يمينه. وهذا ذكروه والمحلوفُ عليه قوي، واتبعوا فيه سنة الله تعالى في قصة أيوب عليه السلام، إذ قال عز من قائل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]. ولا يمكن أن يُتَلقَّى ما نحن فيه من ذلك الأصل، مع ما ذكرناه من جريانه على الصحيح ذي المِرّة، فالوجه أن نعتبر الأسواطَ وما ينال القويَّ من الضرب (3) بها، ثم نعتبر في كل شخص ما يحتمله، مع رعاية النسبة التي فهمناها في الأصل. وأما الحديث الوارد في المُخْدَج في الحد؛ ففي آخره ما يدل على أنه كان في نهاية الضعف، [إذ قالوا: لو ضربناه] (4) لتفتّت، فجرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المقتضى. وقد نجز ما أردناه نقلاً وتنبيهاً. أما الاكتفاء بانكباس بعض الأغصان على بعض مع ما فيه من التثقيل، فالأمر

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) ت 4: "الحقيقة". (3) ت 4: " الضعيف ". (4) في النسختين: " إذ لو قالوا لو ضربناه ... ".

بالضرب بالعكثال مصرِّح بالاكتفاء بما ذكره الأصحاب؛ فإن انبساط الشماريخ والغصون يبعد وقوعاً ويندر كوناً، فالأمر الظاهر يقتضي ما ذكروه. ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المريض لو كان بحيث يحتمل مائة جلدة ولكن لو فرقت عليه في أيام، فلا يصير أحد إلى إيجاب ذلك، ولكن يجب إقامة الممكن وتخليةُ سبيله وإراحتُه عن انتظار العقوبة. هذا منتهى القول في ذلك، وتمام البيان سيأتي في باب صفات [سياط] (1) الحدود، إن شاء الله عز وجل. 11059 - ثم إن كان به مرض مرجو الزوال؛ فالوجه ارتقاب زواله، ثم لا سبيل إلى تخليته. وهذا فيه فضلُ نظر، فإن ثبت الحد بالبينة، فيتجه حبسُه، كما تحبس الزانية الحامل. وإن ثبت الحد بالإقرار، فالحبس محتمل عندي؛ لأنه إن كان لا يستسلم لحد الله، يهون عليه الرجوع عن الإقرار، ويشهد لذلك حديث الغامدية، فإنها لما أقرت بالزنا وكانت حاملاً، لم يحبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خلاّها حتى تضع ... الحديث. [و] (2) هذا يقوى جداً إذا قلنا: من هرب عن حد الله تعالى، لم نتبعه. ويجوز أن يقال: يُحبس المقِرُّ حتى يستقلَّ باحتمال الحد، فإن رجع عن إقراره، خلّينا سبيله. ولا خلاف أن القصاص لو ثبت، واقتضت الحالةُ تأخيرَ الاستيفاء، فإنا نحبس من عليه القصاص، (3 كالذي ثبت عليه بالبينة 3)، والذي تلقيته من كلام الأئمة أن المشهود عليه يحبس، والعلم عند الله تعالى. ثم إن ظهر لنا أن المرض لازم يبعد زواله، وانتقلنا إلى الضرب بالعِثكال، كما

_ (1) زيادة من (ت 4). (2) زيادة من المحقق. (3) ما بين القوسين سقط من (ت 4).

وصفنا، فلو اتفق البرء من ذلك المرض على الندور، [فالذي] (1) قطع به الأصحاب أن ما مضى كافٍ، ولا نعيد الحد بعد البرء والاستقلال، وقد ذكرنا تردداً في أن المعضوب إذا برأ على الندور بعدما استأجر أجيراً، وحج عنه، فهل يسقط فرض الإسلام عنه أم لا؟ وليس الحد كذلك؛ فإن مبناه على الاندفاع بالشبهة، والمُقام منه كافٍ معتد به، لا يتغير موجَب الاعتداد به. 11060 - ثم قال الشافعي وأصحابه: إذا كان الحد جلداً، فينبغي ألا يقيمَه الإمام في شدة الحر والبرد، [ولكن] (2) يرعى في ذلك زمانَ الاعتدال، وهذا مما يجب صرف الاهتمام إليه، ولا وصول إلى الغرض منه إلا بذكر ما قاله الأصحاب على وجهه، ثم الرجوع بالمباحثة. قالوا: إذا أقام الحدَّ في شدة الحر والبرد، فهلك المحدود، فلا ضمان على الإمام، هكذا نص الشافعي هاهنا، وقال فيمن امتنع من الاختتان: " لو ختنه الإمام، فأفضى إلى هلاكه، يجب الضمان " فاختلف أئمتنا على طريقين: منهم من قال: في المسألتين قولان، نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن الضمان يجب؛ فإن الإمام ترك ما أُمر به من تأخر الحد، وارتقاب اعتدال الهواء، فكان ذلك تقصيراً منه. والثاني - أنه لا يجب الضمان؛ فإن الهالك قتيلُ الحد، والحقُّ قتله. ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرّق بينهما، فقال: استيفاء الحدود إلى الأئمة، فإذا أقاموها، لم يؤاخذوا بمواقعها، والختان لا يتولاه الولاة، وإنما يتعاطاه المرء من نفسه، أو يقوم به في صباه وليّه (3)، فإذا خاض الإمام فيه، فهذا كان على شرط سلامة العاقبة، هذا ما ذكروه. 11061 - وطريق المباحثة فيه أنا إذا قلنا: لا يجب الضمان إذا مات المحدود، فلا شك أنا لا نوجب على الإمام تأخير إقامة الحد إلى اعتدال الهواء؛ فإنا لو أوجبنا

_ (1) في النسختين: " فقد " والمثبث من المحقق رعاية للسياق. (2) في الأصل: " وكان ". (3) سقطت من (ت 4).

ذلك، لكان معتدياً إذا لم يؤخر، وكان الضمان يجب، فإن أوجبنا الضمان، فينقدح وجهان: أحدهما - لا يجوز إقامة الحد فى الحر والبرد، ولأجل هذا يضمن إذا أفضى التعجيلُ إلى الهلاك. ويجوز أن يقال: إذا أوجبنا الضمان لم (1) يُمنع الإمام من التعجيل، ولكنا نكره ذلك، ونقول: إن فعلته، تعرضت [لفَرْض] (2) الضمان، كما نطلق ذلك في التعزيرات، وتأديبِ الأبِ ولدَه، والأستاذِ تلميذَه، والفقهُ ربط الضمان بالمنع عن الفعل، وقد ذكرنا أن الموجب للضمان في التعزير أنا نتبيّن أن التعزير المهلك لم يكن على الاقتصاد المأمور به؛ إذ لو كان كذلك، لما أهلك. ومما يجب الاعتناء به -وهو سر الفصل- (3 أن التعزير 3) هو على قدرٍ يغلب على الظن أنه لا يُهلك، فأما جلد مائة، فلا يمكن إطلاق هذا الاعتبار فيه، فإن من ضرب إنساناً مائة جلدة على الحد الواجب فى الحد، فقد نقول: إنه مما (4) يُقصد به القتل، فإذا وقع عمداً، وأفضى إلى الهلاك، لم ينقص عن قطع أنملة، وهذا مقام يجب التثبت فيه. ويحتمل أن أقول: الحد هو الذي لا يغلِّب على الظن إهلاكَ المحدود، وإن كان لا يغلِّب السلامةَ منه، وكأن المقصودَ من الحد إيقاعُ عذاب بالمحدود: إن كان (5) يسلم منه، فذاك، وإن هلك، فالحق قتله؛ ولهذا نص الشافعي على تجويز إقامة الحد في شدة الحر والبرد. فالضعيف هو الذي يقتله الجلد لا محالة، والقوي هو الذي لا تندر سلامته، وليس الشرط أن يندر هلاكُه. ويجوز أن يقال: ينبغي أن يكون الحد بحيث لو صدر من جانٍ عامد، لما

_ (1) ت 4: " يمنع الإمام من التعجيل ". (2) في النسختين: " لعرض " وعبارة الغزالي: " تعرضت لتقرير الضمان ". (3) ما بين القوسين سقط من: (ت 4). (4) ت 4: "إنما". (5) سقطت من (ت 4).

استوجب القودَ به؛ من حيث إنه لا يقصد به القتل غالباً، والتردد في الضمان بسبب إقامة الحدّ في الحر والبرد جاء من هذه الجهة، ومن لم يحط بذلك، فليس على بصيرة من فقه الفصل. وينتظم مما ذكرناه من العقوبات: منها قتلٌ، ولا نظر فيه، ومنها تعزير ويجب فيه نهاية التوقّي مما يتوقى منه الهلاك، ومنها الحد بالجلد، وهو على التردد الذي ذكرناه في أنه هل نشترط أن تغلب السلامة منه أو لا نشترط ذلك. ولا بُعْد لو قُدِّر حدٌّ ليس قتلاً، ومثله لو فرض من جانٍ، وأفضى إلى الهلاك، لكان قتلاً موجباً للقود، وهذا كقطع اليد والرجل في السرقة. وقد انتهى المقصود من الفصل موضَّحاً مستوفىً، والله ولي التوفيق. فصل: قال: " ولا يجوز على الزنا واللواط وإتيان البهائم إلا أربعة ... آخره " (1). 11062 - مقصود الفصل بيان حكم اللواط وإتيان البهائم، فنقول: ظاهر النصوص على أن الحد يجب على من يأتي الذكور. وذكر الأئمة قولاً مخرجاً أنه لا يجب الحد باللواط، وإنما الواجب فيه التعزير. ومن أوجب الحد، احتج بمذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه اشتهر عنهم التغليظَ على اللائط، حتى لو ادعى مدعٍ انتشار ذلك في أكثرهم، لم يكن مجازفاً، وإنما خلافهم في كيفية العقوبة- على ما سنذكر ما تمس الحاجة إليه في التفريع. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في اللائط والمأتي: " اقتلوا الفاعل والمفعول به " (2).

_ (1) ر. المختصر: 167. (2) حديث: " اقتلوا الفاعل والمفعول به " رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه،=

ومن أراد توجيه قول التعزير تمسك بطريقٍ من الشبه، وهو مذكور في مسائل الخلاف، وإن قلنا: واجب اللواط التعزير، [فسنفصل] (1) التعزيرات في باب الأشربة، إن شاء الله عز وجل. وإن قلنا: واجب اللواط الحد، فعلى هذا القول قولان: أحدهما - أن سبيله كسبيل الزنا، يرجم فيه الثيب المحصن، ويجلد البكر، وقيل هذا مذهب ابن الزبير، ووجه القياس فيه لائح. والقول الثاني - أن اللواط يوجب القتل على البكر والثيب؛ إذ لم يفصل الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: " اقتلوا الفاعل والمفعول به " وكذلك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأقدمون رضي الله عنهم لم يفصلوا، وأوجبوا القتل. واختلف في كيفيته، فروي عن علي أنه قال في اللائط: " يُردَّى من شاهق، ويُعلى بالأصخار " (2)، ولم يفصل. وروي قريب من ذلك عن أبي بكر رضي الله عنه. فإن قلنا بالفرق بين المحصن وغيره، فالوجه اعتبار ذلك في الفاعل، ولا معنى لاعتباره في المفعول به، ولعل الوجه قتْلُه على كل حال، هذا تنبيه (3)، وقد يخطر أنه لا يقتل، ويُجلد ويغرب، ويجوز أن يشبه جانبه (4) بجانب اللائط في الفرق بين الثيب والبكر.

_ =والحاكم، والبيهقي من حديث ابن عباس، ورواه ابن ماجه، والحاكم من حديث أبي هريرة. قال الحافظ: وإسناده أضعف من الأول بكثير. (أحمد: 1/ 300، أبو داود: الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط، ح 4462، الترمذي: الحدود، باب ما جاء في حدّ اللوطي، ح 1456، ابن ماجه: الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط ح 2561، 2562، الحاكم: 4/ 355، البيهقي: 8/ 231، 232، التلخيص: 4/ 102 ح 2031). (1) في الأصل: فنفصل. والمثبت من (ت 4). (2) أثر علي أنه قال في اللائط: " يردى من شاهق .. " لم نصل إلى هذا الأثر عن علي أو أبي بكرٍ رضي الله عنهما. وما وجدناه ما رواه البيهقي عن ابن عباس وقد سُئل عن حد اللوطي، فقال: يُنظر أَعلى بناء في القرية فيرمى به منكساً، ثم يتبع الحجارة. (السنن الكبرى: 8/ 232، ومعرفة السنن والآثار: 6/ 350). (3) كذا في النسختين. (4) أي جانب المفعول به، وأما اللائط، فيريد به الفاعل.

فإن قلنا: يقتل صاحب هذه الفاحشة فاعلاً كان أو مفعولاً به، ففي كيفية القتل قولان: أحدهما - أنه يرجم [كالمحصن] (1) إذا زنى. والثاني - أنه تضرب رقبته. وهذا الاختلاف يوجه (2) بتردد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صار إلى كل مذهب مما ذكرناه صائرون من الصحابة رضي الله عنهم، إلا التعزير، فلم يكتف به أحد منهم. فقد انتظم في اللواط أربعة أقوال: أحدها - الرجم في كل حال. والثاني - ضرب الرقبة. والثالث - الفصل بين المحصن وغيره. والرابع - الاقتصار على التعزير. 11063 - وإتيان المرأة الأجنبية في دبرها بمثابة اللواط، وقال قائلون: هو بمثابة الزنا والإتيان في المأتى. 11064 - وإذا أتى الرجل غلامه المملوك؛ فالمذهب: القطع بأنه بمثابة اللواط بغير المملوك، في التزام ما تقدم تفصيله، وأبعد بعض أصحابنا فجعل إتيان الرجل غلامه المملوك بمثابة وطئه أخته المملوكة، وفي وجوب الحد قولان سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى. وهذا غير سديد؛ فإن الملك على الجملة يؤئر في إباحة الإتيان في المأتى؛ فإذا حرم بسببٍ، جاز أن ينتهض الملكُ شبهة في إسقاط الحد، وأما إتيان العبد المملوك، فليس فيه تخيل الإباحة على جهةٍ، فلا أثر للملك فيه. 11065 - وإذا أتى الزوج زوجته في دبرها، فالمذهب أنه لا يلتزم الحد. وأبعد بعض أصحابنا، فألزمه ما ألزم اللائط. وهذا لا أصل له. 11066 - فأما إتيان البهائم؛ فالمنصوص عليه أن واجبه التعزير، واستنبط بعض أصحابنا قولاً من نص الشافعي نذكره: أن الحد يجب على آتي البهيمة، وذلك النص أن الشافعي قال: " لا أقبل على إتيان البهيمة إلا أربعة من العدول "، [وقرن] (3) بينه

_ (1) في النسختين: " المحصن "، والمثبت تصرف من المحقق. (2) ت 4: " موجه ". (3) في النسختين: " وفرّق ". وهذا عجيب من حيث اجتماع النسختين على هذا التصحيف،=

وبين اللواط والزنا في الذكر في اشتراط العدد الأقصى، فنظم الأصحاب قولين، وقالوا: أصحهما - وجوب التعزير. والقول الثاني - أنه كاللواط. وقد تفصل القول فيه. فإن قلنا: إنه كاللواط، ففي قتل البهيمة وجهان: أحدهما - أنه لا تقتل من جهة أنها لا تنسب إلى ارتكاب جريمة، ولا يفرض الزجر في جنسها، والثانى- أنها مقتولة، وقد روى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اقتلوا الفاعل والمفعول به. فقيل للراوي: ما ذنب البهيمة؟ فقال: إنما تقتل حتى لا تذكر " (1). وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً - أنها إن كانت مأكولة اللحم، ذبحت، وإن لم تكن مأكولة اللحم، لم يجز قتلها، وهذا التفصيل لا بأس به. فإن قلنا: تقتل البهيمة، نُظر: فإن كانت محرمة اللحم، فهل يجب قيمتها؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب؛ لأنها مستحقةُ القتل شرعاً، وهذا ضعيف؛ فإنها ما أجرمت، وإبطال مالية مالكها منها بعيد عن قياس الأصول. فإن قلنا: يجب قيمتها لمالكها، ففيمن عليه القيمة وجهان: أحدهما - أنها على الذي أتى البهيمة؛ فإنه الساعي في إهلاكها. والثاني - أنها في بيت المال. وهذا يقرب من التردد المذكور في أجرة الجلاد. وإن كانت البهيمة مأكولة اللحم، فهل يحرم أكلها إذا ذبحت؟ فعلى وجهين:

_ =وعجيب من حيث إن عبارة الشافعي التي (قرن) فيها بين إتيان البهيمة واللواط، سبقت هذه العبارة، وكتبها الناسخ بقلمه قبل صفحة واحدة. ولكن نذكر لهم جهدهم وعناءهم في حفظ هذه الأصول الأمهات، وهذه الذخائر بأقلامهم، جزاهم الله خيراً، وعفا عنا وعنهم. (1) حديث قتل من أتى البهيمة وقتل البهيمة، وقول الراوي: " إنما تقتل حتى لا تذكر " رواه البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وفي رواية أخرى: قيل لابن عباس: " فما شأن البهيمة؛ قال: ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل " أخرجها أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد (البيهقي: 8/ 233 - 234، أبو داود: الحدود، باب فيمن أتى بهيمة، ح 4464، الترمذي: الحدود، باب من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة، ح 2564، والنسائي في الكبرى، ح 7340، أحمد: 1/ 296، التلخيص: 4/ 103 ح 2033).

أصحهما - أنها لا تحرم، والثاني - أنه يحرم أكلها؛ فإن من أصول الأطعمة أن كل حيوان وجب قتله، حرم أكله، (1 كما أن كل حيوان حرم قتله حرم أكله 1)، فإن حرمنا أكلها، فقتْلُها تفويتها، والكلام فيها كالكلام في قتل البهيمة المحرمة اللحم، (2 فإن قلنا: لا يحرم أكلها، فلا يجب إلا ما ينقصه القتل إن أوجبنا القيمة في البهيمة المحرمة 2)، ثم الخلاف فيمن يجب عليه أرش النقصان على ما تقدم. ثم كل إتيان يوجب الحد، فلا يثبت إلا بأربعة من الشهود، وإن حكمنا أنه لا يوجب الحد بعضُ ما ذكرناه كإتيان البهيمة واللواط على القول البعيد المخرّج، فهل يثبت بشهادة عدلين حتى يصير المشهود عليه مستوجباً للتعزير أم لا بد من أربعة من العدول؟ فعلى وجهين. ونص الشافعي على أنه لا بد من أربعة من الشهود، هكذا ذكر هاهنا، وقد صرح في كتاب الشهادات بأن إتيان البهيمة ليس بزنا، وقال: إذا شهد الشهود بالزنا استفسرهم الحاكم، لأنهم قد يعُدّون إتيان البهيمة زناً، هذا تمام القول في هذا الفن. فصل قال: " فإن شهدوا متفرقين قبلتهم ... إلى آخره " (3). 11067 - الكلام الوافي البالغ في تحمل الشهادة على الزنا، وعدد الشهود، وكيفية إقامة الشهادة، والرجوع عن الشهادة قبل استيفاء العقوبة وبعدها، وما على الراجع كله يأتي مستقصىً [مجموعاً] (4) في باب الرجوع عن الشهادة، في كتاب الشهادات إن شاء الله عز وجل. والذي نذكره هاهنا في شهود الزنا إذا لم يتمّوا أربعاً، أو تموا، ثم رجع بعضهم، أو كانوا فسقة، أو عبيداً، أو كفاراً، فإنا لم نذكر هذا في كتاب اللعان؛ فنقول

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (3) ر. المختصر: 5/ 67. (4) في الأصل: " مستقصىً في مجموعاته ".

هاهنا: إذا شهد ثلاثة على الزنا [ولم يساعدهم رابع، أو شهد واحد على الزنا] (1) وجاء مجيءَ الشهود، ففي وجوب الحد قولان: أحدهما - أنه لا يجب حدّ القذف؛ فإنهم جاؤوا مجيء الشهود، والذي يعضد ذلك أن لكل واحد منهم أن يُقدم على إقامة الشهادة، والحد عقوبة جريمة، وإذا أقدم ثلاثة على الشهادة، فكيف ينقلبون قَذَفَة بامتناع الرابع؟ والقول الثاني - أنهم قذفة والشاهد فيه حديث عمر وقصة أبي بَكْرة (2) وهي مشهورة مذكورة في الخلاف. ومسلك المعنى أنا لو لم نقم الحد على الشهود إذا لم يكمل عددهم، لاتخذوا صيغ الشهاداتِ ذريعةً في القذف والوقيعة في الأعراض. ولو شهد أربعة من العدول ثم رجع واحد منهِم عن الشهادة أو رجع ثلاثة من الشهود وأصرّ واحد، فالراجعون إذا كذّبوا أنفسهم قَذفة يُحدّون، والمستقر على الشهادة لا يُحدّ عند المراوزة؛ فإن العدد كمل والبينة تمت، ثم رجع [من رجع] (3)، فعليهم وبال الأمر، واختصوا به دون المستقر على الشهادة. وذكر العراقيون طريقين: أحدهما - ما ذكرناه، والآخر - أن المسألة على قولين في المصرّين على الشهادة، كما [لو لم يكمل] (4) العدد ابتداء. وهذا بعيد جداً، ثم إن لم يكن من هذه الطريقة البعيدة بُدٌّ، فيجب ذكرها إذا فرض الرجوع قبل نفوذ القضاء، أما إذا نفذ الحكم، ورجع من رجع، فلا يجوز أن يكون في المستقرين على الشهادة خلاف؛ فإنا في الغرامات التي سيأتي تفصيلها لا نوجب على المستقرين على شهاداتهم

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4). (2) قصة أبي بكرة مع عمر في الشهادة على المغيرة بن شعبة بالزنا، حيث جلد عمرُ الثلاثة؛ إذ لم يشهد معهم رابع رواها الحاكم في المستدرك والبيهقي، وأبو نعيم في المعرفة، وأبو موسى في الذيل من طرق، وعلق البخاري طرفاً منها (البخاري: الشهادات باب شهادة القاذف والسارق والزاني (الفتح: 5/ 301)، البيهقي: 8/ 234 - 235، التلخيص: 4/ 117 ح 2068). (3) في الأصل: " ولم يرجع ". (4) في النسختين: " كما لو يكمل العدد ". والمثبت من المحقق.

شيئاً، وإنما نخصص ما نوجبه بالراجعين، وإذا فرض الرجوع قبل نفوذ القضاء، فقد يظن ظان أن البينة لم تكمل، [إذا] (1) عدمت قبل جريان القضاء بها. ولو شهد شهود على الزنا في ظاهر الحال، ثم بانوا عبيداً أو كفاراً، فقد قطع المحققون بأنهم قذفة يُحدون؛ لأنهم ليسوا من أهل الشهادة، وإذا بطل منصب الشهادة، لم يبق إلا ذكر الزنا، وذكر الزنا من غير شهادة قذف. 11068 - ولو بان الشهود الأربعة فسقة، فالتفصيل فيهم أنهم إن كانوا معلِنين بالفسق غير مكاتمين فيه، ولم يكن فسقهم مما يتوصل إليه باجتهاد، ففي المسألة قولان، ذكرهما ابن سريج: أحدهما - إنهم قذفة كالعبيد والكفار، والثاني - أنه لا حد عليهم؛ فإن في العلماء من يجعل الفاسق من أهل الشهادة. وإن كان الفسق الذي يرد القاضي به شهادتهم مجتهداً فيه، نُظر؛ فإن كان مظنوناً لا يُقطع به، وقد يرى القاضي التفسيق بما قد يرى غيره أنه لا يقع التفسيق به، فإن كان كذلك، فلا يُحدون بلا خلاف، فإنا لو حددناهم -وقد جاؤوا مجيء الشهود في ظاهر الحال/قطعاً- لكنا معارضين مقطوعاً به بمجتهد فيه، ولا يبعد أن يدرأ حد الزنا عن المشهود عليه باجتهاد، فأما إيجاب الحد عليهم [بمظنون] (2)، ومنصبهم منصب الشهادة فلا سبيل إليه. وإن ردت شهادتهم بفسق يكتمونه ويستخفون فيه من الناس، فهل يكونون قذفة؟ فيه وجهان مرتبان على الوجهين في المعلنين، وهاهنا [أولى] (3) بألا يحد حد القذف، بل هو ظاهر المذهب، والدليل عليه أنهم لو شهدوا في مال أو غيره، فردت شهادتهم، ثم حسنت حالتهم، فأعادوا الشهادة رُدّت معادة، كما رُدّت ابتداء، ولو جاء عبيدٌ مجيء الشهود، فردت شهادتهم؛ ثم عَتَقوا، فأعادوها، قُبلت منهم معادة، ولو رُدت شهادة معلنين بالفسق، [لا يأنفون منه] (4) ولا يتعيرون به، ثم

_ (1) في الأصل: " وإذا ". (2) في الأصل: " فمظنون ". (3) زيادة من (ت 4). (5) سقطت من الأصل، والمثبت من (ت 4).

حسنت حالتهم، وظهرت عدالتهم فأعادوها، ففي قبول الشهادة المعادة وجهان. ويمكن أن نجعل هذا ضبطاً فيما نحن فيه، فيقال: كل من ردت شهادته [وإذا] (1) زايل حالتَه، ثم أعاد الشهادة لا تقبل شهادته المعادة، فإذا شهد على الزنا مع كمال العدد، ثم اطلع على تلك الصفة، وردت شهادته، فلا يكون قاذفاً، وإن كان على صفة لو شهد عليها ثم زايله فأعادها، قبلت منه، فإذا شهد على الزنى، فردت شهادته على الصفة التي ذكرناها، فهو قاذف، لأنه ليس من أهل الشهادة، [وتصدّيه لها باطل] (2) فلو شهد على الزنى أربعة، ثم بان أن فيهم من يعادي المشهود عليه، فردت شهادته، فليس قاذفاً؛ لأن رد الشهادة بالعداوة مجتهد فيه، وقد ذكرنا أن الفسق المجتهد فيه إذا اتفق رد الشهادة به لا يصير المردود قاذفاً، مع كمال العدد. فهذا ضبط القول فيما ذكرناه. 11069 - ثم ذكر الشافعي على الاتصال بهذه القاعدة مسائلَ نذكرها، ونذكر ما فيها: إحداها - أنه إذا شهد أربعة أن فلاناً زنى بامرأة، فشهد اثنان منهم أنه زنى بها وهي مطاوعة، وشهد اثنان أنها كانت مكرهة، أما المرأة، فلا حد عليها، وقد تعرض لمطاوعتها، ونسبتها [إلى الزنا] (3) شاهدان، ولم يكمل العدد على هذه الصفة، ففي حد القذف عليهما القولان المقدمان، فإن قلنا: يحدان لما خرجت شهادتهما عن أن تكون شهادة، والقاذف مردود الشهادة إلا أن يتوب، ثم يستبرأ، على تفاصيلَ ستأتي إن شاء الله، فعلى هذا لا يحد الرجل وإن شهد أربعة على زناه؛ لأن اثنين منهما قاذفان، لا تقبل شهادتهما. فإن قلنا: لا يحدان، فقد تمت الشهادة على الرجل، فهل يلزمه حد الزنا بشهادة الأربعة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب أكثرهم إلى وجوب الحد عليه، لأنه اجتمعت شهادة أربعة من الشهود على زناه، وهو على موجب شهاداتهم زانٍ: أكره

_ (1) في النسختين: فإذا. والمثبت من المحقق. (2) عبارة الأصل: وتصدّ به على الزنا باطل. (3) زيادة من (ت 4).

المرأة أو طاوعته، ومن أصحابنا من قال: لا يجب الحد على الرجل لاختلاف الشهادة في صفة الفعل الصادر منه، وسيأتي لهذا نظائر في كتاب الشهادات إن شاء الله عز وجل. فإن قيل: إذا قلنا: لا يحد الرجل، فهل يحد الشهود في حقه؟ قلنا: ما ذهب إليه أهل التحقيق أنهم لا يحدون في حقه؛ فإن عددهم كامل على زناه، وهم من أهل الشهادة، وإنما رددنا شهادتهم، فلم نقم الحد عليه لأمر خفيٍّ مجتهَد فيه، وقد ذكرنا أنا إذا رددنا الشهادة لأمر مجتهد فيه مع كمال العدد، فلا نجعل الشهود قذفة. 11070 - ثم قال الشافعي: " وإن شهد عليها بالزنا أربعة ... إلى آخره " (1). وصورة المسألة: إن شهد أربعة على زنا امرأة، فتُشهِد أربعَ نسوة عدول على أنها عذراء، فلا حد عليها؛ لأن الحد يُدرأ بالشبهة، وقيام العذرة مما يغلِّب على الظن أن الزنا لم يجر، ولكن لا حد على الشهود؛ لأن العذرة قد تعود، ويستحيل أن يحدّوا مع هذا الإمكان، فالمرأة لا تحد؛ لأن عذرتها شبهة ظاهرة في نفي الزنا، والحد مما يسقط مع الشبهة، والشهود لا يحدون لما ذكرناه. ولو شهد أربعة على أنه زنى بها مكرهة، وشهد أربعة أنها عذراء، دفع الحد عن الرجل المشهود عليه بالزنا والإكراه؛ لأن العذرة إذا ثبتت عارضت ظهور الزنا على المناقضة، فإن ادعت المكرهة الوطء على الإكراه، فلها المهر، وثبوت العذرة لا يدرأ المهر؛ فإن المهر لا ينتفي بالشبهة. ولو شهد أربعة من الشهود على زنا فلان بفلانة، ولكن عيّن كل [واحد] (2) منهم زاوية من زوايا البيت للزنا، فلا يثبت الزنا لاختلاف الشهادات، ولكن كل واحد منهم شهد على زناً لم يساعَد عليه؛ فيخرج فيهم قولان في وجوب حد القذف؛ فإن العدد لم يكمل في الشهادة على زنية واحدة.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 167. (2) في النسختين: " واحدة ".

فصل يجمع تفاصيل المذهب في الشبهات المؤثرة في درء الحد 11071 - ونحن نجمعها في تقسيم كان يردده شيخنا أبو محمد، كان يقول: الشبهات ثلاثة أصناف: أحدها - في المحل. والثاني - في الفاعل. والثالث - في الطريق والجهة. فأما ما يتعلق بالمحل، فالملكُ وإن لم يُبح الوطء، يدرأ الحد على القول الجديد، والرأي الظاهر، فإذا ملك الرجل أخته من الرضاع أو النسب، وألمَّ بها على علم، لم يلتزم الحدّ، وكذلك إذا وطىء أحدُ الشريكين الجارية المشتركة، فلا حد عليه؛ لمكان الملك. وللشافعي رحمه الله في القديم قولان مشهوران أن الحد يثبت في هذه [الصور] (1) التي ذكرناها، وكان شيخنا يقول: أولى الصور بجريان هذا القول فيها المملوكة التي فيها معنىً محرِّم على الأبد، بحيث لا يفرض دفعه؛ فإن الملك لا يؤثر طريانه في رفع الحظر، فوجوده كعدمه، وهذا القول في الجارية المشتركة أضعف، لأنها عرضة الاستباحة باستكمال الملك. وطرد أصحابنا هذا القولَ في وطء المولى الجارية المزوّجة، والجارية المملوكة المعتدة عن الزوج، وهذا لا أصل له؛ فإن تحريم العدة إلى الزوال، والنكاح عرضة الارتفاع، والطوارىء على الملك مع دوامه لا يُلحقها بالمحرمات التي لا يتصور استباحتها. ولا خلاف في أن الوطء في الحيض لا يوجب الحد، وكذلك وطء الجارية قبل استبرائها لا يلزم الحد وفاقاً. ووطء المرأة المُحْرمة والصائمة كذلك، إذا كان سبب الحلّ مستمراً عليها؛ وذلك أن الحرمة ليست مختصة بها، وإنما سبب التحريم العبادة، وهذا كما أن سبب تحريم الحائض التقذّر والأذى.

_ (1) في النسختين: " الصورة ".

والملك في الغلام على الرأي الظاهر لا يكون شبهة في درء العقوبة، كما تقدم، واستحقاق الاستمتاع بالزوجة والمملوكة يدرأ الحد إذا أتاها الزوج أو المالك في غير المأتى، وفي هذه الصورة وجه ضعيف يناظر على مضادة ما أشرنا إليه في الغلام المملوك. وإن أردنا ضبط القول القديم، قلنا: كل مملوكة محرمة بمعنىً يخصها، لا لاحترام (1) قرابة، فيجري القول القديم، ثم تتفصّل الصور، فجريانها في بعضها أظهر، وفي بعضها أخفى، كما قدمناه. فهذا بيان الشبهات المتعلقة بالمحل، وعلى هذا يخرّج وطء الأبِ جاريةَ الابن؛ فإن له فيها شبهة، ثم إن حكمنا بأنها تصير أمَّ ولدٍ لو علقت منه، فلا حد جديداً وقديماً، وإن حكمنا بأنها لا تصير أم ولد، فقد أجرى بعض الأصحاب القولَ القديم في إيجاب الحد، وهذا ضعيف، لا تعويل على مثله. 11072 - فأما الشبهات التي تكون في الفاعل، فيجمعها عدم علمه بتحريم الوطء وذلك يحصل بجهات: منها العقود الفاسدة التي يحسبها صحيحة، ومنها أن تزف إليه غيرُ امرأته، ومنها أن يصادف امرأةً على فراشه، فيحسبها مملوكته أو زوجته، ولو حسبها الجارية المشتركة بينه وبين شريكه -والتفريعُ على الجديد في أن الشريك (2) لا يلتزم الحد بوطء الجارية المشتركة- فهذا فيه تردد، ويظهر نفي الحد؛ لأنه ظنّ ما لو تحقق، لاندفع الحد، ويجوز أن يقال: يلزمه الحد؛ لأنه أقدم على الوطء مع العلم بالتحريم، وظنَّ اقترانَ دارىء الحد بالوطء وكان (3) الأمر على خلاف ما ظن، ويقرب من هذا أن [يكون] (4) الشخص ممن يعلم أن الوطء محرم، ولا يعلم وجوب الحد به.

_ (1) ت 4: " يخصها الاحترام ". (2) ت 4: " شريكه يلتزم الحد ". (3) ت 4: " ولو كان ". (4) زيادة من المحقق.

11073 - فأمّا الطريقُ والجهةُ؛ فالقاعدة المعتمدة في المذهب أن كل جهةٍ صار إلى تصحيحها والحكم بإفضائها إلى الإباحة صائر من أئمة الشريعة، فإذا حصل الوطء بها، فالمذهب انتفاء الحد، وإن كان المُقدِم عليها لا يرى [استحلالَ] (1) الوطء بتلك الجهة. وعلى هذا قال الأئمة: إذا نكح الرجل نكاح متعة، وأصاب، فلا حد، لمذهب ابن عباس في إباحة نكاح المتعة، وكذلك إذا نكح بغير وليٍّ، أو نكح بغير شهود، مكتفياً بالإعلام. وحكى الأئمة قولاً عن الشافعي أن الوطء في نكاح المتعة ممن لا يستحله موجبٌّ للحد، وهذا قريب من القول القديم في الأملاك [المقترنة] (2) بالأسباب المحرمة. والترتيب عندنا أن كل عقد ليس فساده من المظنونات، وإن عُزي إلى بعض الأئمة، فنُجري هذا القول فيه، ونكاح المتعة منه، فإن الذي استقر عليه مذاهب العلماء أن نكاح المتعة أبيح ثم نسخ، وقد قيل: رجع ابن عباس عما ينسب إليه من إباحته. وكل عقد لا يمكن القطع بفساده ويلحق الكلام فيه (3) بالمظنونات، فهو شبهة في درء الحد، كمذهب أبي حنيفة في انعقاد النكاح بغير ولي، وكمذهب مالك في انعقاده بغير شهود، ولا يجري القول الذي ذكرناه في هذا الصنف. وذهب الصيرفي من أصحابنا إلى إيجاب الحد على من وطىء في النكاح بغير ولي، ثم زعم أن الحد يجب على الحنفي فضلاً عن الشافعي، وانتحى في هذا مذهب الشافعي، حيث قال: لو شرب الحنفي النبيذ حددته، وقبلت شهادته. وسنعود إلى هذا الطرف في باب الأشربة، إن شاء الله عز وجل. فهذه معاقد مذهبنا في الشبهات وتقاسيمها، وبيان محل الوفاق والخلاف فيها.

_ (1) في الأصل: " استقلال ". (2) في الأصل: " المقربة ". (3) زيادة من (ت 4).

11074 - وأما أبو حنيفة (1)، فقد أتى بمناقضات بادية، وزعم أن كل ما يؤتى (2) به على صيغة العقد دارىءٌ للحد، وإن أجمع المسلمون على بطلانه، فقال: نكاح الأم يدرأ الحدَّ عن الابن الذي يأتيها، وإن كان هذا على رتبة العقود الباطلة. ولو اشترى [حرّة، ووطئها،] (3) حُد. ولو استأجر امرأة على الزنا، أو أباحت نفسها، أو جاريتها حُد، وأبو حنيفة (4) قال: لا يحد، وأقام الاستئجار على الزنا دافعاً للحد، ثم اكتفى بالمعاطاة، وقال: لا حد على المرأة إذا مكنت مجنوناً (5)، وعلى العاقل الحد إذا زنى بمجنونة، ولا حد عليه بخرساء في أمور لا يحويها ضبط، وليست من غرضنا. ثم أوجب الحد على من يأتي امرأة يحسبها زوجته (6)، وإن كان لا يأثم، فهذا شخص غير آثم، وهو مرجوم! وقال في مسألة شهود الزّوايا (7): يجب على المشهود [عليه] (8) الحد، وإن اختلفت الشهادات، فليس يستقر له مذهب في الدرء، ولا في الإيجاب. ومن الفروع اللطيفة التي انتظمت له أنه قال: إذا شهد أربعة من العدول على زنا

_ (1) ر. المبسوط: 9/ 85، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 296 مسألة 1414، طريفه الخلاف: 205. (2) في الأصل: قوى، والمثبت من ت 4. (3) في النسختين: " ولو اشترى جارية بالدم ووطئها، حُد " والمثبت هي الصورة المتداولة في كتب المذهب، راجع على سبيل المثال (الشرح الكبير: 11/ 148). هذا، ولِما في النسختين وجهٌ، وهو أن جعل الدم ثمناً للجارية يبطل عقد الشراء، والكلام فيما تورثه العقود الباطلة من شبهة تدرأ الحد. وأن الأحناف يجعلون العقد -مهما كان ظاهر البطلان- شبهة دارئة للحد. (4) ر. رؤوس المسائل: 487 مسألة 352، طريقة الخلاف: 207، المبسوط: 9/ 58، 59. (5) ر. رؤوس المسائل: 488 مسألة 353، طريقة الخلاف: 210، المبسوط: 9/ 54. (6) ر. المبسوط: 9/ 87، البدائع: 7/ 37. (7) ر. المبسوط: 9/ 61، البدائع: 7/ 49. (8) زيادة من المحقق.

شخص؛ فإن كذّبهم، أقيم الحد عليه، وإن صدقهم، فلا حد عليه؛ لأن التصديق إقرار، والشهادة مع الإقرار مردودة، ثم الزنا لا يثبت بإقرارٍ واحدٍ. فصل قال: " ويحدُ الرجل أَمَتَهُ ... إلى آخره " (1) 11075 - السيد عندنا يقيم الحد على مملوكه في الجملة، خلافاً لأبي حنيفة (2)، ثم كثر اختلاف أصحابنا في جوانب المسألة وأطرافها، والذي يكاد يجمع معظم صور الخلاف أن من أئمتنا من قال: السيد يقيم الحد على مملوكه (3) بطريق الولاية؛ فإن الملك أثبت له سلطانَ تزويج الأمة، والتزويجَ من العبد مع اختلاف الدين على الرأي الظاهر. ومن أصحابنا من قال: إقامة السيد الحدَّ على مملوكه مأخوذة من جهة استصلاح الملك، وتأديب المملوك. وينشأ من هذا الأصل مسائل: منها اختلاف الأصحاب في أن المكاتَب هل يقيم الحد على مملوكه الذي تحت يده، فإن جعلنا ذلك ولاية، فالمكاتَب رقيق ليس من أهل الولاية، وإن جعلناه استصلاحاً، فهو من أهله، وكذلك الخلاف في المرأة إذا أرادت إقامة الحد على مملوكها، أو أمتها، فإن اعتبرنا الولاية، فليست هي من أهل الولاية، وإن اعتبرنا الاستصلاح، فهي من أهله، وهذا الاختلاف يجري في المالك الفاسق على نحو ما ذكرناه. ثم السيد يقيم الحد إذا أقر المملوك، أو أقرت الأمة، وهل يُصغي إلى شهادة الشهود، حتى يُثبتوا الحدّ عنده؟ هذا يخرج على ما مهدناه: فإن جعلنا إقامة الحد استصلاحاً، فليس السيد من أهل سماع البينة، وإنما يقيم الحد إذا عاين الزنا أو أقر المملوك به. وإن قلنا: سبيله سبيل الولاية، فهل يسمع السيد البينة؟ فعلى وجهين:

_ (1) ر. المختصر: 5/ 67. (2) ر. المبسوط: 9/ 80، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 298 مسألة 1417. (3) ت 4: مملوكته.

أحدهما - أنه يسمعها ويقيم الحدَّ بها. والثاني - لا يسمعها؛ فإنه لا يستقل بالنظر في أحوال الشهود، وإنما يتهيأ ذلك للقاضي؛ لمكان استمكانه لمراجعة المزكين، قال العراقيون: إذا قلنا: لا يسمع الشهادة، فلو سمعها القاضي، وقضى به، فالسيد يستوفي الحدّ حينئذ، والأمرُ على ما ذكروه، وهذا قياس طريق المراوزة أيضاً. ثم قال الأئمة: لا يشترط أن يكون السيد مجتهداً، قال الصيدلاني: إذا قلنا: إنه يسمع الشهادة، فلا بد أن يكون عالماً، وهذا الذي قاله فيه نظر: فإن عَنَى بالعالم المتهدِّي إلى ما يختص بهذا الباب، فنعم، وإن أراد أن يكون مجتهداً، فلست أرى لذلك وجهاً. وزاد العراقيون شيئاً متصلاً بهذا المنتهى، فقالوا: إذا قلنا: المرأة لا تقيم الحد على مملوكها في أحد الوجهين، فمن يقيمه؛ ذكروا وجهين: أحدهما - أنه يقيمه الإمام، وهو الذي قطع به المراوزة، والثاني - أنه يقيم الحد على مملوكها من يتولى تزويجها، وهذا بعيد لا أصل له. 11076 - ومما يتصل بتمام الفصل أن السيد هل يقطع مملوكه إذا سرق، أو قطع الطريق؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، وهو خارج على الأصل الذي مهدناه: فإن جعلنا إقامة الحد ولاية، فلا يمتنع أن يقيمها المالك. وإن قلنا: إنها استصلاحُ ملْكٍ، فكأنا (1) ألحقناه بالتأديب، والقطعُ ليس من قبيل التأديب. وذكر بعض الأصحاب في هذا ترتيباً حسناً، فقالوا: في القتل والقطع ثلاثة أوجه: أحدها - أن السيد لا يملكهما، والثاني - أنه يملكهما. والثالث - أنه يقطع ولا يقتل؛ لأن القطع على حالٍ فيه إبقاء مملوك، وقد ينتفع به بعدُ، والقتل بخلافه، [وابتناء] (2) ذلك على الأصل الذي ذكرناه. والسيد لا يحد مكاتَبه؛ لأنه ليس تحت تصرفه، ويحد مدبَّره، وأمَّ ولده، فإن رقه قائم فيهما، وسلطانه مستمر عليهما، ولا تعويل على امتناع البيع في المستولدة.

_ (1) ت 4: " لأنا ". (2) في النسختين: " وإنشاء " والمثبت من المحقق.

ومن نصفه حر ونصفه مملوك، لا يقيم مالك الرق منه الحدَّ عليه أصلاً؛ فإنه يقع بجملته وبعضها حرٌّ، ورأيت في نسخة من [نسخ] (1) الصيدلاني إلحاقَه بالمدبر، وأمِّ الولد، وهذا خطأ صريح، وأحسبه من خلل النسخة، وسأراجع نسخة أخرى، إن شاء الله تعالى. وذكر العراقيون: أن العبد إذا قلنا: إنه يغرّب، هل يتولى السيد تغريبَه؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن المعوّل في إقامة الحد على المماليك الخبرُ، وإنما صح في الحديث تفويض الجلد إلى السادة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا زنت أمة أحدكم، فليجلدها الحد " (2) [وهذا وجه ضعيف إن صح] (3) أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " (4). 11077 - ومما يجب الإحاطة به أن السلطان من أهل إقامة الحد على المملوكين، والسادة من أهل إقامة الحد عليهم، فلو جعلنا السيد من أهل الإقامة، فليس عليه مراجعة السلطان فيما فوّضه الشرع إليه، وإذا لم يُقم السيد في بعض الصور، أقام السلطان، (5 وإن ثبت الحدّ، فابتدر 5) السلطان وأقامه، وقع الموقع. وإن فُرض اجتماع السلطان والسيد، وكل واحد يبغي أن يكون هو المقيم، فهذا

_ (1) زيادة من ت 4. (2) حديث " إذا زنت أمة أحدكم ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة (البخاري: البيوع باب بيع العبد الزاني، ح 2152، مسلم: الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة في الزنا، ح 1703). (3) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4). ومكانه في الأصل: (وروي)، ثم الحديث الأول متفق عليه كما ظهر في التعليق قبله، ثم هذا الوجه ضعيف فعلاً، فقد ثبت صحة الحديث. كما سيظهر في التعليق الآتي. (4) حديث " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " رواه أبو داود والنسائي والبيهقي من حديث علي، وأصله في مسلم موقوفاً من لفظ علي. (ر. أبو داود: الحدود، باب في إقامة الحد على المريض، ح 4473، الكبرى للنسائي: ح 7239، البيهقي: 8/ 229، 245، مسلم: الحدود، باب تأخير الحد عن النفساء، ح 1705، تلخيص الحبير: 4/ 109 ح 2049). (5) ما بين القوسين ساقط من (ت 4).

موضع النظر: يجوز أن يقال: السلطان أولى لمكان الولاية العامة، وإقامة الحدود هي أخص آثار الولايات، وقد قال الشافعي: " إذا اجتمع في دار رجلٍ مالكُ الدار والسلطانُ، وقامت الصلاة، فالسلطان أولى بالإمامة من مالك الدار " لأن أصل الجماعات مما جرى الرسم بكلام الولاة فيها، وإن كان لا يتوقف تصحيحها على رأيهم، فإذا كان كذلك، فالحدود بما ذكرناه أولى. ويجوز أن يقال: المالك أولى بإقامة الحدود؛ لأنها تتعلق باستصلاح ملكه، فكان أولى منه، ولا يمتنع أن يقال: المالك أولى بالجلد والسلطان بالقتلِ، والقطعِ؛ فإن إعمال الأسلحة وسفك الدماء حقه ارتباطه بمن إليه الأمر، فإن أقام الشرعَ السيدُ به، فهو في حكم النائب للإمام، والتبعِ له. فإذا فرض النزاع، فالوالي أولى بما يليق بمنصبه. 11078 - ثم عقد الشافعي باباً في حدّ الذميين (1)، ومضمونه أنهم إذا ترافعوا إلينا، ورضوا بحكمنا، فيجوز القضاء عليهم، وفي الوجوب قولان تقدَّم ذكرهما في أبواب النكاح، وسيعود تفريعهما في أدب القضاء، إن شاء الله تعالى. وقصة اليهوديين، إذ رضيا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حد الزنى مشهورة (2). وإذا ارتفع إلى مجلس الحاكم من الذميين من كان شرب الخمر ورضي بحكم الإسلام، فظاهر المذهب أنه لا يقام عليه الحد؛ لأن المقصود من الحد الزجر، والمرتفع إلينا مستبيحٌ للخمر، غيرُ مغيِّرٍ لعقده، فلا معنى لزجره، على أنا منهيون عن تتبعهم، مأمورون بمتاركتهم (3)، والإعراضِ عن البحث عن أحوالهم. فإن قيل: أليس نص الشافعي على أن الحنفي يحد إذا شرب النبيذ، وإن كان مستبيحَه؟ قلنا: إنما قال ذلك، لقطعه بأن في شرب النبيذ من المحذور ما في شرب

_ (1) ر. المختصر: 5/ 167. (2) حديث رجم اليهوديين متفق عليه من حديث ابن عمر (البخاري: الحدود، باب الرجم في البلاط، ح 6819، مسلم: الحدود، باب رجم اليهود، ح 1699). (3) ت 4: " بمناكرتهم ".

الخمر النيّئة (1)، وهذا ليس يفرض فيه اختلاف؛ فإنه آيل إلى درك [قضايا] (2) [الجبلاّت] (3) وموجب العادات، ولا يستريب ذو نظر أن حد الشرب شرع زجراً، والحنفي في قبضة الإمام، وعليه تتبّع أحوال الرعايا من غير متاركة (4) وإعراضٍ عما فيه استصلاح الخلق، والذمي مستبيحٌ أُمرنا بمتاركته (5) والإعراضِ عن أحواله، وليس ملتزماً لأحكام الإسلام، ولما يعود إلى مصالح أهله. وقد خرج في الذمي قول أنه يُحد إذا رضي بحكمنا، وهذا بعيد غير معتد به، وخرج أيضاً في الحنفي قول أنه لا يحد من نص الشافعي؛ على أنه إذا نكح الشافعي بغير ولي، لم يلزمه الحد، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في النكاح. ...

_ (1) النيئة: أي التي لم تطبخ. وسيأتي بيان لأنواع الشراب في كتاب الأشربة. (2) زيادة من (ت 4). (3) في الأصل: الخلاف. (4) ت 4: " مشاركة ". (5) ت 4: " بمناكرته ".

باب حد القذف

باب حد القذف 11079 - الكلام فيما يكون قذفاً، وفي إحصان المقذوف، وما يُرعى فيه قد [مضى] (1) مستقصىً في كتاب اللعان. والذي نذكره الآن -وإن ذكرنا (2) معظمه- الكلامُ في أن حدّ القذف [حق] (3) للآدمي، ثم النظر فيمن يرثه، وبعد ذلك لو (4) قذف جماعةً بكلمة أو قُذف شخص بكلمات. فنقول: حد القذف حق للآدمي، ومن قال: فيه [شَوْبُ] (5) حق الله تعالى وحق الآدمي، فغُلّب [حق الآدمي] (6)، فليس على بصيرة؛ فإنا إذا قلنا: يتعلّق الحد بطلب المقذوف، ويسقط بعفوه، لم نغادر من تمحيض حق الآدمي شيئاً. نعم، يجوز أن يقال: حد القذف يشابه حدود الله تعالى من وجوه، والقصاص فيه مَشَابه من حدود الله تعالى؛ إذ الغرض الأظهر منه الزجر، وهذا يتعلّق بالمطلوب الأخص من حدود الله تعالى. ثم اتفق أئمتنا على سقوط الحد بعفو المستحِق، ولو ورث الحدَّ جماعة -كما سنصف إن شاء الله تعالى، وجهَ التوريث فيه- فعفا بعضهم، فحاصل ما ذكره الأئمة أوجه: أحدها - أن الحد يسقط بعفو البعض، كما يسقط القصاص بعفو بعض الأولياء، والوجه الثاني - أنه لا يسقط منه شيء، ويستقل من لم يعف بطلب تمام الحد واستيفائه. والوجه الثالث - أنه يسقط بعفو العافي مقدارُ حقه، ويبقى مقدار حصص

_ (1) زيادة من (ت 4). (2) ت 4: " قدمنا". (3) في الأصل: " حد ". (4) ساقطة من (ت 4). (5) في الأصل: " ثبوت ". (6) زيادة من المحقق.

الذين لم يعفوا، وإن اقتضت القسمة تكسيراً، أكملنا الكسر في حكم الإسقاط تغليباً لموجب العفو. ولو أراد مستحق الحدّ أن يعاوض (1) عن الحد، ففي جواز الاعتياض وجهان مشهوران: أحدهما - الجواز، كمفاداة المرأة في حِبالة النكاح، وإن كان المفتدي لا يستحق شيئاً منها. 11080 - ولم أسمع خلافاً في أن مستحق الحدّ لا يقيمه، بل يرفعه إلى مجلس القضاء، والسبب فيه إعظام (2) الاجتهاد في الحمل على الاقتصاد، وقد قيل: من يضرب مائةَ سوط على إبلاغٍ في الإيلام الناجع يستمكن من القتل بعشرين سوطاً، فلا وجه إلا الرفع إلى من إليه الأمر، وقد نيطت به الأمانات والولايات، وهو مبرّأ عن الذحول (3) والأحقاد. هذا متفق عليه. وقد اتفق الأئمة على أن من استحق القصاص في اليد، لم يكن له أن يستبد باستيفاء القصاص دون الإمام، أو من استنابه، وكذلك القول في القتل، والأمر في القتل من وجهٍ في حكم الاستبداد أهون؛ فإن النهاية المحذورةَ المَثُلَةُ، والقطعُ إذا فرض الإسراف فيه [خيف] (4) إفضاؤه إلى الهلاك، ولكن لو قَتَل مستحقُّ القصاص، وقع الاعتداد به قصاصاً، وكذلك لو قطع. ومن قتل من آحاد المسلمين زانياً محصناً، وقع قتله حداً، ولو أقام جلداً على زانٍ بكرٍ، لم يعتدّ بجلده، وعُدّ عدواناً، والحدّ قائم كما كان، ولو استوفى المقذوف الحدَّ بنفسه، فليس يبعد عن القياس المصيرُ إلى وقوعه موقع الاعتداد كالقطع، سيّما إذا صدر عن [إسلامٍ] (5) من المحدود وإقدامٍ من المقذوف صادرٍ عن رضاه، ولكن

_ (1) ت 4: " يعتاض ". (2) ت 4: " عظم أمر الاجتهاد ". (3) الذحول: الذَّحْل: الثأر، والحقد. ويجمع على ذحول، وأذحال (المعجم). (4) في الأصل: " حقيق ". والمثبت من (ت 4). (5) في الأصل: " استدام "، والمثبت من (ت 4). ومعنى إسلامٍ من المحدود، أنه يُسْلم نفسه لمستحِق الحد راضياً بإقامته عليه.

الذي سمعته من الأئمة، ودلّ عليه فحوى كلامهم في مجموعاتهم أنه لا يقع الاعتداد بالحد. 11081 - ومما يذكر في ذلك أن جماهير الأصحاب أجمعوا على أن المحصن لو قال لإنسان: اقذفني، فقذفه بإذنه، فالحد يجب عليه، بخلاف ما لو قال: اقطع يدي، فقطع، فالقصاص لا يجب وفاقاً، ورأيت للقاضي أبي الطيب الطبري في كتابه المترجم بالمنهاج أن الحد لا يجب على القاذف إذا أباح المقذوف له عرضه، لم يقله من تلقاء نفسه، وحكاه عن شيخه أبي حامد، وقال: كان يرى ذلك، وزيف غيرَه، والفرق على الجملة عسر. 11082 - والذي [لم] (1) يظهر فيه خلاف من [أحد] (2) تنزيل حد القذف منزلة حدود الله في الفرق بين الحر والعبد، فعلى الرقيق إذا قذف أربعون جلدة نصف ما على الحر، وكان يليق بقياس حقوق الآدميين ألا يفرق في العقوبات بين الحر وبين العبد. 11083 - [ثم] (3) من آثار أصل المذهب في أن حد القذف حق الآدمي أنه إذا مات المقذوف، ولم يعفُ، ولم يُسقط حقَّه، فلا خلاف بين أصحابنا أن حد القذف موروث، وإنما اختلافهم فيمن يرثه، فقال قائلون: يرثه كل من يرث القصاصَ، والمالَ؛ فلا فرق بين أصحاب الفرائض والعصبات والمتعلقين بالأنساب والأسباب. ومنهم من قال: يختص باستحقاقه إرثاً أهل القرابة، ثم لا فرق بين العصبات منهم وذوي الفروض. ومنهم من قال: يختص استحقاقه بالعصبات؛ فإنه ذبٌّ عن النسب، [فكان] (4) مأخذه قريباً من مأخذ الولايات في [التزويج] (5)، ثم على هذا الوجه يرث الابن بلا

_ (1) زيادة من (ت 4). (2) في الأصل: " أجل ". (3) زيادة من (ت 4). (4) في الأصل: " وكان ". (5) في الأصل: " الزوج ".

خلاف، ولو كان لا يزوِّج، واختلف أصحابنا في أن المولى المعتِق هل يرث الحد؛ تفريعاً على هذا الوجه، كما تنتهي إليه ولاية التزويج؟ فمنهم من قال: هو من الورثة، ومنهم من قال: يختص إرث الحد بعصبات النسب. هذا وجه في التوريث مفروض فيه إذا استقر استحقاق الحد، ثم مات المستحق. ولو قذف قاذف ميتاً كان محصناً في حياته، استوجب الحدّ، وورثته يطلبون الحد على الترتيب الذي ذكرناه، والعجب أن أبا حنيفة (1) أثبت لهم الطلب في هذه الصورة، وقال: لو وجب الحد، ثم مات المقذوف، لم يكن لورثته الطلب. ومن غريب ما حكاه الشيخ في شرح التلخيص أن من أصحابنا من أجرى القصاص مجرى حد القذف، حتى يخرّج فيه الوجوه التي ذكرناها فيمن يرثه ويرث طلبه، وهذا غريب جداً. ثم إذا قُذف الإنسانُ بعد موته، وقلنا: حد القذف لو ثبت في الحياة، لم يختص بإرثه أهلُ القرابة، بل يثبت للزوج والزوجة، فإذا كان القذف بعد الموت، فهل يستحق الطلب للزوج والزوجة؟ فعلى هذا الوجه وجهان: أحدهما - يثبت لهما، كما لو استقر الحد في الحياة، ثم مات المقذوف. والثاني - أنه لا يثبت؛ لأن القذف أنشىء والزوجية منتهية، وهذا لا فقه له؛ فإن الزوجية لا (2) تنتهي بموت المورث، فلو صح هذا الاعتبار، لوجب القطع بأن الزوج لا يرث أصلاً شيئاً. ومما يتعلق بذلك أنه إذا قُذفت أمتُه وأثبتنا (3) لها حق طلب التعزير، فلو ماتت، فهل للسيد طلبه بعد موتها، كما للوارث ذلك في حق موروثه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يثبت ذلك؛ إذ لا وراثة بين السيد والعبد، وسلطانه إلى بقاء ملكه، والموت يخرج العبد عن كونه مالاً. والوجه الثاني - أنه يقوم مقامَه في الطلب، لما

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 266، المبسوط: 9/ 123، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 317 مسألة 1442. (2) سقط من (ت 4). (3) ت 4: وأثبتنا له.

بينهما من الاختصاص؛ فإنه يلتزم تجهيزهَ وتعيينَ مدْفنه (1)، ويخلفه فيما يتصور الخلافة فيه عن رقيق. وهذا نجاز هذا الفصل. 11084 - فأما القول في تعدد القذف والمقذوف فنقول: إذا قذف شخصاً مرتين بزنيتين، فإن لم يتخلل استيفاء حدٍّ، لم يلتزم إلا حداً واحداً؛ فإن حُد للقذف الأول، فنسبَ المقذوفَ إلى زَنْيةٍ أخرى، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يلتزم حداً آخر؛ فإنه قد كذب في حقه بحدٍّ، فكفى ذلك، ولا أثر لتعديد الزنيات في الذِّكر، ولكن يستوجب بتجديد الأذى تعزيراً. والقول الثاني - وهو الأصح أنه يحد مرة أخرى لتجدد الخبر والمخبَر عنه، وإظهار كذبه في (2) القذف الأول لا يتضمن تكذيبَه في الثاني. نعم، لو أعاد ذلك القذف الذي حُد فيه، لم يستوجب إلا تعزيراً، ولو لم يتعرض لإعادة عين القذف الأول ولا للتصريح بتجديد قذفٍ آخر، ولكن [قال: زنيتَ] (3)، أو عين زنا، فحُدّ، فأطلق النسبة إلى الزنا، فهذا لا يوجب حداً جديداً وفاقاً، لإمكان حمله على إعادة الأول، فلا سبيل إلى إيجاب الحد مع التردد والشبهة. وما ذكرناه من القذفين المختلفين فيه إذا كان لا يختلف الموجَبَان، فأما إذا تعدد القذف، واختلف الموجَب: مثل أن يقذف أجنبية بزنية، ثم ينكحها، ويقذفها بزنية أخرى على فراشه، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بتعدد الحد، ثم يلتعن لاختلاف أثر القذفين، ومنهم من أجرى القولين في تعدد الحد، كما قدمناه، وهذا يظهر أثره إذا لم يلتعن، فإن الْتعن، زال أثر القذف في الفراش، وبقيت الطَّلِبةُ بالحد اللازم بالقذف المتقدم على النكاح، وقد أوضحنا هذا في كتاب اللعان. هذا في تعدد القذف واتحاد المقذوف. 11085 - فأما إذا قذف شخصين فأكثر، نظر: فإن أفرد كل واحد منهما بلفظة،

_ (1) عبارة العز بن عبد السلام: " وله تعيين مدفنه ". (2) زيادة من (ت 4). (3) عبارة الأصل: " قال أولاً زنيت ".

استوجب حدين بلا خلاف، وإن أَحَّدَ الكلمةَ ونسبهما إلى الزنا بها، ففي المسألة قولان، مثل: أن قال: زنيتما؛ أو أنتما زانيان، والقولان جاريان مع العلم بأن اللفظ الواحد يشتمل على نسبتهما [إلى] (1) الزنيتين، ولهذا كان الأصح تعدد الحد؛ فإن المعنى هو المعتبر، وقد تعدد معنى القذف، وليس للقائل الثاني إلا التمسك باتحاد اللفظ، ولا خير في هذا، مع ما أشرنا إليه، ولكنه قول مشهور. ولو قال لأجنبية وامرأته (2): زنيتما، ففي المسألة طريقان؛ لاختلاف [وقع] (3) القذف فيهما: منهم من قطع بالتعدد لما ذكرناه من الاختلاف، ومنهم من أجرى القولين، وأثر هذا يظهر إذا لم يلاعن عن زوجته، وآل الأمر إلى الحد وطلبه، فإن لاعن عن زوجته، فلا خلاف أن الحد [للأجنبية] (4) واجبٌ؛ فإن اللعان لا يدرؤه. وكل هذا [مما] (5) قدمنا أصوله وفروعه في كتاب اللعان. ...

_ (1) في النسختين: " من ". (2) ت 4: " ولامرأته ". (3) في الأصل: " موقع ". (4) في النسختين: " للأجنبي ". (5) في الأصل: " فيما ".

كتاب السرقة

كتاب السرقة 11086 - الأصل في أحكام السراق قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] واشتمالها على ذكر أصل الجريمة والحد. وتفصيلُ مكان السرقة، والمقدارُ، وصفةُ السارق والمسروق منه تُتلَقَّى من السنن [وغيرِها] (1) من مدارك الشرع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لو سرقت فاطمة، لقطعتها " (2)، وقال: " لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل، فتقطع يده " (3) وحمل بعض المتكلفين البيضة على المغفر، والوجه حملها على جنس [البيض] (4) ومثل ذلك [منساغ] (5) في قصد التعليل. والسرقة في اللسان: الأخذ في استزلالٍ ومخادعة، والمصدر السَرق والسرقة، والعلماء مجمعون على قواعد الكتاب، والمطلوب منه يتعلق بالمقدار الذي يسمى نصاب السرقة، وجنس المسروق. والكلام في الحرز. ومعنى السرقة، وذلك يتعلق بكيفية الإخراج.

_ (1) في النسختين: " وغيرهما ". (2) حديث " والله لو سرقت فاطمة ... " متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (البخاري: الحدود، باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع، ح 6787، مسلم: الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود، ح 1688). (3) حديث " لعن الله السارق يسرق البيضة ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (البخاري: الحدود، باب لعن السارق إذا لم يُسَمَّ، ح 6783، وباب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وفي كم يقطع، ح 6799. مسلم: الحدود، باب حد السرقة ونصابها، ح 1687). (4) في الأصل: " البيضة ". (5) في الأصل: " ساغ ".

والقول في الشبهات الدارئة. ثم الاختتام بما يثبت السرقةَ من بينةٍ وإقرار. ووراء ذلك بيان القطع والمقطوع في السرقة. هذا مجامع الكتاب. ونحن نذكر [التقويم من] أجناسِ الأموال (1)، ثم ضوابطَ القول في الحرز، ثم معنى السرقة والإخراج، ونحرص أن نتبع ترتيب السواد. 11087 - قال الشافعي: " القطع في ربع دينار ... إلى آخره " (2). ذهب داود إلى أن القطع يتعلق بالقليل والكثير، وذهب علماء الشريعة إلى أن القطع يتعلق بنصابٍ، ثم اختلفوا: فذهب أبو حنيفة (3) إلى أن النصاب دينار، أو عشرةُ دراهم، ثم التقويم عنده بالدراهم، والذهب في نفسه لا يقوّم بالدراهم، ولا يقوّم به شيء. وقال مالك (4): النصاب ثلاثة (5) دراهم، أو ربعُ دينار، والتقويم بالدراهم، كما حكيناه عن أبي حنيفة. وقال النَّخَعي (6)، وأبو ثور (7)، ..............................

_ (1) في (ت 4): " التقديم ثم أجناس الأموال ". (2) ر. المختصر: 5/ 169. (3) ر. مختصر الطحاوي: 269، رؤوس المسائل: 491 مسألة 355، المبسوط: 9/ 136. (4) ر. الإشراف: 2/ 943 مسألة 1894، عيون المجالس 5/ 2117 مسألة 1531. (5) ت 4: خمسة. (6) النخعي: إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، أبو عمران، الإمام الحافظ، فقيه أهل الكوفة، تابعي ولم يثبت له سماع من الصحابة. توفي سنة 96هـ. (تهذيب الأسماء: 1/ 104، سير النبلاء: 4/ 520، طبقات الشيرازي: 82، وفيات الأعيان: 1/ 25، تهذيب التهذيب 1/ 177). (7) أبو ثور: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، أحد أئمة الدنيا ففهاً وعلماً وورعاً، كان أول أمره على مذهب الحنفية ولما قدم الشافعي بغداد تبعه وصار من كبار أصحابه، وروى مذهبه القديم، قال النووي: ومع كونه من أصحاب الشافعي وأحد تلامذته=

وابن شُبْرمة (1): النصاب خمسة دراهم، وقيل: هذا مذهب علي. ومذهب الشافعي أن النصاب ربعُ دينار، ولم يعيّن الدراهمَ، ومعتمد المذهب حديثُ (2) عائشة، وهو مذكور في الخلاف، ولو سرق من الذهب الخالص ربعَ مثقال، ولكن كان لا يسوى (3) ربعَ دينار مضروب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القطع لا يجب، وهو الأظهر؛ فإن الوارد في الحديث ربعُ دينار، والدينار اسم للمضروب [وبه] (4) الاعتبار. ومن أصحابنا من قال: إذا سرق ربعَ مثقال من الذهب الخالص، فلا سبيل إلى تقويمه؛ فإنه ليس جنسَ (5) الدينار، والأصح الأول، وينبني على هذا التردد أن من سرق خاتماً وزنه سدس مثقال، وقيمته ربع دينار، فكيف حكمه؟ إن رددنا الاعتبار إلى الدينار، فنوجب القطعَ، ونعتقد الخاتم سلعة، وإن لم نر تقويم الذهب بالدينار، لم نوجب القطع لنقصان وزن المسروق عن الربع. ولو سرق ثوباً وما في معناه، فلا خلاف أن التقويم بربع دينار. وقد يخطر للفطن أنا إذا أوجبنا القطع بربع مثقال من الذهب الإبريز، وإن كانت

_ = والمنتفعين به والآخذين عنه والناقلين كتابه وأقواله فهو صاحب مذهب مستقل، لا يُعد تفرده وجهاً في المذهب. ا. هـ توفي أبو ثور ببغداد سنة 240هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 200، طبقات السبكي: 2/ 74 - 80، طبقات الشيرازي: 75، طبقات العبادي: 22، تاريخ بغداد: 6/ 65، وفيات الأعيان: 1/ 7، طبقات ابن كثير: 1/ 98). (1) ابن شبرمة: عبد الله بن شُبْرُمة بن طُفيل الضَّبي، القاضي، فقيه الكوفة، توفي سنة 144هـ (الجرح والتعديل: 5/ 82، سير أعلام النبلاء: 6/ 347، تهذيب التهذيب: 5/ 250). (2) يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تقطع يد السارق في رُبعُ دينار " وهو متفق عليه، وله ألفاظ عندهما (البخاري: الحدود، باب قول الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ح 6789، 6790، 6791، مسلم: الحدود: باب حد السرقة ونصابها، ح 1684، اللؤلؤ والمرجان ح 1097). (3) ت 4: " لا يشتري بربع دينار ". (4) في النسختين: " فيه ". (5) في (ت 4): " فإنه جنس الدينار " والمعنى أنه يجب فيه القطعُ؛ لأنه غير مقوّم في نفسه، فنعتبر وزنه، وإن كان لا يقوّم به. كذا قال الغزالي في البسيط: جـ 5/ورقة 122 يمين.

قيمته دون المضروب، فنتخذ ذلك مرجعاً في اعتبار المالية، وهذا خبطٌ؛ فإن التقويم لا يقع إلا بالمضروب والسبيكة لا ضبط لقيمتها، وهي متقوّمة، وما يتقوم لا يقوّم به، ولست أنكر أن التقويم بربع دينار يوهن ذلك، فليكن كذلك، فإن الضعيف يضعف بالتفريع. ولو كان المسروق عَرْضاً تبلغ قيمته بالاجتهاد ربعَ دينار، فقد يوجب الأصحاب الحدّ، والذي أرى القطع به أنه لا يجب ما لم يقطعوا بأن القيمة لا تنقص عن هذا. والذي ذكره الأصحاب من اعتبار التقويم محمول عندي على الرجوع إلى المقومين، ثم لهم اجتهادٌ وقطعٌ، ولو قطع بذلك أقوام لا يُزكَّون (1)، فلا إشكال، ولو قطع بذلك [جماعة] (2) معدودون لا يبعد الزلل عليهم، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أن الشهادة على السرقة معرضة لهذا، وهي مقبولة، والفرق إن أردناه أن شهود السرقة يُسندون شهادتهم إلى العِيان، بخلاف أقوال المقوّمين، فانتظم من هذا [أنهم] (3) إذا ترددوا -وإن أجرَوْا عن غلبة الظنون- فلا قطع، وإن قطعوا وكانوا عدداً لا يزكَّوْن، وجب القطع. وإن قطع عدلان منهم، ففيه التردد. وقد نجز القول في نصاب السرقة. 11088 - فأما الكلام في المسروق، قال (4) الشافعي: " إن عثمان رحمه الله قطع في أُترجَّة قيمتها ثلاثةُ دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار ... إلى آخره " (5). القطع يتعلق بكل مملوك تام الملك، ولا نظر إلى تعرضه للفساد، ولا إلى أصله، فيتعلق القطع بالفواكه الرطبة، خلافاً لأبي حنيفة ويتعلق بالمملوكات التي أصلها الإباحة كالصيود والخشب والحشائش، وما في معانيها، خلافاً لأبي

_ (1) كذا في النسختين: " يزكَّون " والمعنى أنهم معروفون بالعدالة لا يحتاجون إلى تزكية، ثم هم عددٌ يبعُد منهم الزلل. (2) زيادة من (ت 4). (3) زيادة من (ت 4). (4) جواب أما بدون الفاء. (5) ر. المختصر: 5/ 169.

حنيفة (1) في خبط ومناقضات، وتعويلُ المذهب على تحقيق الملك في الحال، ولسنا نلتزم الكلام في الأشياء الموقوفة، وما يَضعُف الملك فيه، وما يتطرّق إليه الشبهات، كأموال بعض الناس في حقوق البعض، وكأموال بيت المال، وإنما غرضنا الكلام على الأجناس، وتلك الفصول ستأتي في مواضعها، إن شاء الله عز وجل. 11089 - فأما الكلام في الحرز، قال الشافعي: " وجملة الحرز أن ينظر إلى المسروق ... إلى آخره " (2). هذا الفصل مما يجب الاهتمام بضبطه؛ فإنه القطب الأعظم في الكتاب، وليس فيه ضبطٌ توقيفي، ولا معنىً يدركه قياسٌ جلي. فنقول: السرقة إخراج مالٍ مصون بحرز مثله عن حرزه، ووضع الشرع على أن يستفرغ المالك الوُسعَ في صون ماله، ثم إذا كان كذلك، والسراق لا يرجعون إلى شوكة وعُدة، وإنما مبنى أمرهم على الاختزال فيبعد أن يُؤْثروا التهجم على الحرز، والتعرض للخطر لمقدارٍ نزر تافه، وإذا عظم قدرُ المال، فقد ينتهض ذوو العرامة للتعلق بأسباب الاحتيال ومصادمة الأغرار، فرَدَعَهم الشرع بشَرعْ القطع، ثم الحرز لا يتصور ضبطه بتوقيفٍ، فورد مطلقاً محمولاً على ما يعد حرزاً، ويعد صاحبه غير مضيع، ثم النهايات ليست مرعية. فانتظم من ذلك أن ما يعدّه الناس حرزاً، فهو حرز في الشرع، وما لا فلا، ويترتب على هذا اختلاف الاحتراز باختلاف أجناس (3) الأموال؛ فإن أعيان الدراهم والدنانير تعدّ ضائعة في عرصات الدور، بخلاف المفارش والأواني، وذلك في التحقيق يخرّج على القاعدة؛ فإن الدراهم إذا لم تكن في المخازن تشوّفَ إليها طالبوها، بخلاف ما يثقل محمله، أو تقل قيمته، ولذلك اطردت العادة بالإحراز بالمخازن. والاصطبل حرز الدواب على نفاستها، وقد لا نراه حرز الثوب؛ من جهة أن

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 272، رؤوس المسائل: 492 مسألة 356، الهداية: 2/ 410. (2) ر. المختصر: 5/ 169. (3) ت 4: " الأجناس ".

إخراج الدواب [منها] (1) يظهر، ويبعد الاستجراء عليه، وما يخف محمله بخلافه؛ فانبنت الأمور على الرجوع إلى العادة، وما يعد فيها صوناً، وما لا يعد صوناً، وبان أنا لا نشترط أقصى الإمكان، ولا نكتفي بما يكون حرزاً للمال على الجملة. 11090 - ثم جماع القول في الحرز -إذا رمنا التفصيل- لا يخرج عن سببين: أحدهما - التعويل على اللَّحْظ والمراقبة، وقد يداخله مراعاة المعنى الآخر. والثاني - التعويل على الحصانة والوثاقة، ولا بد أن يداخله اعتبار الملاحظة، فأما ما يعتمد النظر والمراقبة، فله شرطان: أحدهما - ألا يكون اللاحظ المراقب مستضعفاً، والآخر - أن يكون الملحوظ بحيث لايطرقه جمعٌ يعسر المراقبة معهم بسبب مزدحمهم، وبيان ذلك أن من كان في الصحراء لا يعد ضائعاً فيها لقرب الغوث منه إن (2) قُصد، فإذا كان يلحظ متاعاً، فهو محرز باللحظ، وهو على التحقيق مصون بالمنعة والقوة وإمكانِ الاستنجاد، ولكن من ضرورة ذلك اللحظ. فأما إذا وضع متاعه في مسجد يكثر فيه المختلفون، أو في شارع يكثر فيه الطارقون، فهذا مختلف، فإن انفرد بالملاحظة، ثم فرضت السرقة، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن المال ضائع، والثاني - أنه محفوظ؛ لأنه ملحوظ، ولكن لا ينكر مسيس حاجة اللاحظ إلى مزيد إدامة في اللحظ، وليس هذا الخلاف من كون المحل مشتركاً؛ فإن عماد هذا النوع من الحرز اللحظُ، لا المكان، فلا أثر لكون المكان (3) مشتركاً، فإنما ينشأ الخلاف من قصور اللحظ في الضبط مع ازدحام الطارقين. ولو فرض وضع المتاع في شارع، ولم يختص باللحظ صاحب المتاع، ولكن كان المتاع ملحوظاً (4) بلحظ جمع من اللاحظين، يتعاونون على صيانة الأمتعة، فإذا كان كذلك، صار عدد اللاحظين في معارضة الطارقين، كلاحظٍ في الصحراء في

_ (1) في النسختين: فيما. (2) ساقط من (ت 4). (3) ت 4: " المال ". (4) ت 4: "محوطاً ".

معارضة طارق، ولهذا قال الأصحاب: الأمتعة ليلاً يبعد صونها باللحظ إلا في المواسم التي يتعاون فيها ملاك الأمتعة على التلاحظ. ومما يتعلق بهذا أن المتاع الملحوظ في الصحراء لو نام صاحبه، فهو ضائع؛ فإن عماد صونه اللحظ، وقد انقطع بالنوم، ولو استدبره أو ذهل ذهولا ظاهراً يقطع مثلُه اللحظ، فكذلك. ولكن لا يتصور أن يُسرقَ المتاعُ إلا بموافقة رعاية السارق للفرص وتطبيقِه رعايتَه على فترات (1) لطيفة للاّحظ، [فإذا] (2) جرت السرقة، أوجبت الحدّ؛ فإن هجوم الآخذ على ما يتخيله من [فترة] (3) كهجومه على الحرز، فيما (4) يقرّبه [من الغرور] (5) وقد يزلّ [في تخيله الفترة] (6) وقد يعود اللّحظ في [الأثناء] (7)، وهو غالب، والقدر الذي ذكرناه كافٍ في تأصيل هذا الطرف. 11091 - فأما الحرز الذي عماده حصانة البقعة، وعُسْرُ الوصول منها إلى المال المصون بها، فالرجوع فيه إلى العادة، والدور الموثقة بالأغلاق والأبواب أحراز، وكذلك الحوانيت التي تعد حصينة، ثم لا تستقل الأبنية بالأحراز ما لم تكن على حظوظٍ من المراقبة، على موجب العادة. وبيان ذلك أن الدار وإن كانت حصينة لو فرضت في قريةٍ، وفرض انجلاء أهلها، فالدار بما فيها ضائعة، وذلك أن التسبب إلى التسلق بالسلالم والاستمكان من [النقْب] (8) حيث لا مراقب مبطلٌ معنى الحرز، حتى لا يفرض حرز مستقل بنفسه، إلا إذا تكلفنا تصوير قلعة متعلّقة بقُلّة جبل لا طريق إليها، ولا طروق عليها، وهذا يعسر، فإن صاحبها لا بد أن يقدر على الوصول إليها، فإذا لم تكن مرقوبةً، يتيسر

_ (1) فترات: من الفتور وعدم الانتباه. (2) في النسختين: وإذا. (3) في الأصل: " من قوة ". (4) عبارة (ت 4): " فما أقربه من الغرر ". (5) زيادة من (ت 4). (6) في الأصل: " في تخيله في القوة ". (7) في الأصل: " الأثبات ". (8) في الأصل: " البيت ".

إعداد مثل العُدد التي للمالك في التوصل إليها. وقال الأئمة: الدار الخالية في طرف البلد ضائعة، فإنها لا تكون منوطة بمراقب، وإذا كانت محفوفة بدورٍ يقطنها سكان، فهي حرز مصون، والدكاكين البادية في الأسواق ضائعة إذا لم تكن ملحوظة من الحراس أو الملاك. ثم قال الأئمة: إذا كان صاحب الدار في الدار والأغلاق وثيقةٌ، فما في الدار مُحْرَز، وإن نام المالك؛ فإن الغالب أنه يتنبه بالأسباب التي يقدمها السارق للوصول إلى داخل الحرز. وإن لم يكن الباب مغلقاً ونام، نُظر: فإن كان ليلاً، فالدار ضائعة إذا لم تكن محروسة بالحراس، ومن في معانيهم، وإذا كان كذلك، فيرجع الحرزُ إلى اللَّحْظ، وإن فرض ذلك نهاراً، فالغالب أن الشارع يطرقه الطارقون، فإذا نام صاحب الدار نهاراً، والباب مفتوح، ذكر الأصحاب وجهين في ذلك، وذكر الشيخ أبو علي نسقاً آخر، فقال: إذا كان باب الدار مفتوحاً، وصاحب الدار فيها يَلْحظ متاعَه، فتغفّله سارقٌ فدخل وسرق، ففي وجوب القطع وجهان، وذكر في ذلك جوابين للقفال في درسين، وعلينا أن ننبه على بيان كل مسلك. فأما من ذكر وجهين في النائم فيهما فيه إذا كان باب الدار لافظاً في شارع مطروق، فقد يتخيل الاكتفاء في الصون بالطارقين، وتوسط الدور، والأحراز مهيبةٌ في حق السراق، فإن لم يكن باب الدار مطروقاً، وقد نام صاحب المتاع، والباب مفتوح، فلا خلاف أنه ضائع، وما قطعنا به من نوم صاحب المتاع في الصحراء وجهه يبين به، وسبيل الفرق واضح. وأما ما ذكره الشيخ أبو علي من الوجهين في يقظة صاحب الدار، فطريقه أن من يكون متيقظاً في دار نفسه فمعظم اعتماده على الدار، لا على اللحظ، وعماد الكائن في الصحراء اللحظُ، فإذا فرض تغفل في الدار، فسبب التردد [فيه] (1) ظهور الفتور في اللَّحظ، حتى لو فرض في الدار من اللحظ ما لو فرض في الصحراء، لكان حرزاً، فلا

_ (1) زيادة من (ت 4).

شك أن المال مُحْرزٌ، فإن اللحظ كاللحظ، والدار إن لم تزد حرزاً لا تنقص عن الصحراء. نعم، إن قال السارق: كان صاحب المتاع [لاَ يحُدّ] (1) في اللحظ حدَّ صاحب الصحراء، فقد يضطرب الرأي في المصدَّق. ولعلنا نذكر طرفاً من هذا في الفروع، فإذاً ما حكيناه من النوم والخلاف فيه محمله التعويل على طروق الطارقين، وما ذكرناه من التردد في يقظة صاحب الدار محمول على اعتبار ترك الحدّ في اللحظ. ولو فتح الفاتحُ البابَ للدار، وأذن للناس في الدخول لتجارة، أو غيرها من الأغراض، حتى صارت الدار محلاً لازدحام الداخلين، فاللحظ في مثل هذه الحالة بمثابة اللحظ في الشوارع والمساجد، وقد مضى تقسيمها وتفصيلها، ولا نظر إلى كون [الدار مملوكة لصاحب المتاع، ولا إلى كون] (2) المسجد والشارعِ مشتركين، وما ذكرناه ليس متلقى من إذنه، إذ لو دخل داره جمعٌ بغير إذنه، فالكلام في حفظ المتاع على ما ذكرناه. هذا منتهى تأصيل الأحراز وتمهيدها، وفي هذا القدر مَقْنع، ولكنا نذكر مسائلَ (السواد) (3) ونُخرِّجها على ما مهدناه ونرسُم الفصولَ على المعتاد في أمثالها. فصل قال: " وإن كان يقود قطار إبل ... إلى آخره " (4). 11092 - من كان يقود قطاراً من الإبل -وقيل أكثرها [سبعة] (5) - قال الأئمة القطار

_ (1) في الأصل: " لا يعد ". ويحُد من الحد والقوة. والمعنى لا ينتبه انتباه صاحب الصحراء. (2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4). (3) في النسختين: " الشواذ ". والسواد هو مختصر المزني، كما نبهنا كثيراً. (4) ر. المختصر: 5/ 169. (5) في البسيط والشرح الكبير " تسعة "، وهي كذلك في الوسيط، ووجدنا ابن الصلاح في مشكل الوسيط يقول: " في بعض النسخ بالتاء المثناة في أوله، والصحيح: سبعة بالباء الموحدة، وعليه العرف " (ر. مشكل الوسيط، بهامش الوسيط المطبوع: 6/ 469). والمراد بالعرف عرفُ الجمّالين في قَطْر الجمال. فانظر عناية أئمتنا بالتدقيق والتحقيق.

محرز بالقائد، إذا كان الإبل تمشي على استدادٍ (1)، ولو كان يدور في منحرف الطريق، فالذي يغيب عن عين القائد لو التفت ليس محرزاً. وقال أبو حنيفة (2): إن قادها، فالمُحْرز هو البعير الأول، وإن ساقها، فالجميع محرز به. وإن ركب واحداً، فمركوبه وما أمامه وواحد من ورائه محرزٌ به، وهذا المذهب منتظم. والذي أطلق أصحابنا فيه إشكال، وأنا أعلم قطعاً أنه مُنزَّل على ما سأذكره، فإن [كان] (3) القائد لا يلتفت إلى القطار، [وكان يُمشي] (4) الإبلَ في مكانٍ خالٍ، فلا يتحقق الصَّوْنُ إلا في البعير المقود، وإنما قال أصحابنا ما قالوه فيه إذا كان يقود القطارَ في سوق آهلٍ، فالإبل مصونة بأعين اللاحظين، ولو فرض ازورار في السوق نفسه، فالإبل مصونة باللحظ أيضاً. وإن فرض استتار بعض القطار بسكةٍ لا لاحِظَ فيها، فذاك ضائع حينئذ، ولا يجوز أن يعتقد الأمر إلا كذلك، وليس ما جئنا به مخالفاً لما ذكره الأصحاب، ولكنه بيان له، وبالجملة الإبل مصونة باللحظ، وقد مهدنا فيه ما فيه مَقْنع. ... [ثم قال] (5): " إن أناخها حيث ينظر إليها ... إلى آخره " (6). 11093 - ذكرنا النظر في الصحراء، ولا معنى لتكثير الصور. والأغنام الملحوظة من الراعي إذا كان نظره متصلاً مصونةٌ، وإن انسرح طرفه، ثم أعرض في زمن لا يتصور أن يلحق مثله لاحق، فالأغنام مصونة باللحظ الأول.

_ (1) استداد: أي استقامة. (2) ر. فتح القدير: 5/ 151. (3) زيادة من (ت 4). (4) في الأصل: " كالذي يجري ". (5) زيادة من (ت 4). (6) ر. المختصر: 5/ 169.

ثم قال: " ولو ضرب فسطاطاً ... إلى آخره " (1). 11094 - الأخبيةُ والخيام ليست أحرازاً في نفسها، والتعويل فيها وفيما تحويه على اللحظ والمراقبة، وقد سبق التحقيق فيما عماده اللحظ، وقد يطرأ في ذلك تنضيد الأمتعة والاستيثاق فيها بضوابط الحبال، وليس ذلك لاعتقاد كون الربط حرزاً، ولكن قد يؤثر الربط في ترك نهاية الحدّ (2) في اللحظ، وما عندي أن من أحاط بما ذكرناه يخفى عليه خافية في الأحراز، والخيمةُ في نفسها لو سُرقت، فهو متاع ملحوظ، وقد تقدم التفصيل فيه. وإذا كانت الإبل والبهائم مصونة باللحظ، فأحمالها مصونة باللحظ، وقد انتجز القول في الأحراز تأصيلاً وتفصيلاً. ... 11095 - ونحن نفتتح الآن القولَ في معنى السرقة وكيفيةِ الإخراج من الحرز، [ويتصل به] (3) هتكُ الأحراز، انفراداً واشتراكاً، فنحن نذكر هتكَ الحرز، وما يتصل به، ثم نذكر الإخراج من الحرز، فنقول: من انفرد بنقب الحرز، ثم دخل وأخرج نصاباً، فهو سارق مستوجبٌ للحد، وفي ذلك ما يجب التنبه له، فإنه لما نقب، وقد خرج الموضع عن كونه حرزاً، والكلام فيما عماده التحصين، فجرى إخراجه عما ليس حرزاً، وكان لا يمتنع من طريق المعنى ألا يستوجبَ القطعَ؛ لأنه أبطل الحرز، ثم أخذ مالاً ضائعاً، ولكن أجمع العلماء على وجوب الحدّ إذا اتصل الإخراج بالنَّقب؛ فإن أفعاله المتواصلة في حكم الفعل الواحد، وأثبتنا هذه المسائل على العادة، ومن وصفناه يعدّ سارقاً من حرزٍ، ولا ينسب صاحب الحرز والمتاع إلى تضييعٍ. ولو نقب الحرزَ ومرّ، وعاد بعد ليلة أو ليالٍ، ودخل من فتح النقب وأخرج،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 169. (2) " الحد ": الحدة والقوة. (3) في الأصل: " وما يتصل به ".

فإخراجه الآن منقطع عن هتكه الحرز، فإن شعر صاحب الحرز بالنقب، فقد ضيع الدار وما فيها (1)، ولو لم يشعر، أو نقب السارق، ورد لَبِنَه (2) بحيث لا يظهر النقب، وعزم على أن يعود في الليلة القابلة، ويدخل من النقبَ الذي يُعده ولا شعور [ولا تقصير] (3)، فهذا محتمل جداً، فإن نظرنا إلى تواصل الأفعال، فقد انفصل الدخول والإخراج عن الهتك، وإن نظرنا إلى حكم الاعتياد، فالأمر الكلي لا يوضّح فصلاً بين أن يتصل الإخراج بالنقب، وبين أن ينفصل [على] (4) الحد الذي صورناه. 11096 - ولو حضر الحرز رجلان، فنقب أحدهما، وانفرد بالنقب، وأخرج الثاني المتاعَ، أما الناقب، فلا قطع عليه عندنا؛ لأنه ليس سارقاً، وأبو حنيفة (5) يوجب القطع عليه بعلة كونه رِدْءاً وعوناً للسارق، وأما من أخرج المتاع، فالذي قطع به المراوزة أنه لا قطع عليه، فإنه أخرج المتاع من حرز مهتوك. وذكر العراقيون وجهين في وجوب الحد عليه: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أن الحد يلزمه، كما لو نقب بنفسه، وأخرج، وهذا يتأكد بالقاعدة الكلية؛ فإن الحدَّ شُرع زاجراً، ولو كان النقب من واحدٍ، والإخراجُ من آخرَ غيرَ موجب للقطع، لصار هذا ذريعةً هيّنة ليست في حكم النوادر، ولا في حكم الأمور العسرة، والشافعي لا يحتمل أمثالَ هذه الذرائع إذا كانت تصادم القواعد الكلية. ولو اشترك رجلان على النقب ودخلا الحرزَ، واشتركا في الإخراج، فقد قطع الأصحاب بوجوب القطع عليهما، إذا كان المخرج نصابين، كما سنصف هذا الفنَّ من بعدُ، إن شاء الله، واشتراكهما في الإخراج بمثابة انفراد الرجل الواحد بالنقب والإخراج.

_ (1) أي إذا أهمل إصلاح النقب وتركه، كما عبّر بذلك العز بن عبد السلام. (2) لبنه: جمع لبنة. والمراد اللبن الذي أخرجه بالنقب. (3) في الأصل: " ولا تقسيم "، وفي (ت 4) انمحت عدة أسطر، والمثبت من المحقق، والمعنى: لا شعور ولا تقصير من المالك. (4) في الأصل: " عن "، ومطموسة في (ت 4). (5) ر. رؤوس المسائل: 501 مسألة 364، المبسوط: 9/ 198.

ولو اشتركا في النقب، ثم انفرد أحدهما بالدخول والإخراج، فالقطع يجب على هذا المنفرد بالإخراج وجهاً واحداً لمشاركته بالنقب، فصار كأنه انفرد بالنقب والإخراج. ورأيت في بعض التعاليق عن شيخي وجهين في أنهما إذا اشتركا في النقب وانفرد أحدهما بالدخول والإخراج هل يجب القطع عليه (1)؟ ولا شك أنه لا قطع على الذي لم يشارك في الإخراج، وإنما شارك في النقب، والوجهُ القطع بإيجاب الحد على من أخرج منهما، فإن النقب إذا وقع بهما كان كل واحد منهما كالمنفرد بجميع النقب؛ بدليل أنهما لو اشتركا في النقب والإخراج قُطِع (2)، فلا تعويل على ما حكيته عن بعض التعاليق. 11097 - وتمام البيان في هذا الفن أنا إذا ذكرنا الاشتراك في قطع اليد في باب القصاص تناهينا في التصوير، وصورنا تحاملاً منهما على حديدةٍ واحدةٍ، حتى لو قطع أحدهما من جانب وقطع الآخر من الجانب الآخر والتقت الحديدتان، فليس ذلك اشتراكاً في القطع، ولكن انفرد كل واحدٍ منهما بقطع بعض اليد. وإنما جدَّدنا (3) ذكر هذا لنفْصله عن الاشتراك في النقب، فلا يشترط في تصوير الاشتراك في النقب أن يأخذَا آلةً واحدة، ولكن لو كان أحدهما يخرج لبنة والآخر أخرى، حتى استتما التنفيذ، فهما مشتركان، فإنا لا ننكر أن المرعي في هذا الباب التعاون على النقب، ولا تشتدّ عناية الفقيه هاهنا بتصوير (4) الاشتراك؛ فإن النقب

_ (1) عليه: أي على المخرج. وهذا وجه مزيف، والأصح وجوب القطع. صرح بذلك الرافعي نقلاً عن الإمام (ر. الشرح الكبير: 11/ 213). (2) قُطِع: أي المخرج، ووجه الاستدلال أنه إذا كان يقطع وقد اشترك في النقب والإخراج، فلأن يُقطع وقد اشترك في النقب وانفرد بالإخراج أولى. (3) في الأصل: " حددنا " (بوضع علامة الأهمال تحت الجيم). (4) من هنا انمحت أجزاء كثيرة من صفحات نسخة (ت 4) تكاد في بعض الصفحات لا تجد كلمة مقروءة، وفي بعضها يذهب المحو بهذا الجانب أو ذاك، وواضح أنه من أثر بللٍ خطير أصاب النسخة، وسنحاول أن نستفيد من مقابلة ما يمكن مقابلته، كلمة كانت أو سطراً.

ذريعةٌ إلى المقصود، وليس عينَ السرقة، والفقيه من يطبق صور الأصول على أقدار الأغراض فيها. ومن اعتبار التعاون صار أبو حنيفة إلى إيجاب القطع على الردء، وفي بعض التصانيف أنا نشترط في النقب حقيقةَ الاشتراك على النسق الذي ذكرناه في الاشتراك في قطع اليد، وهذا ضعيف، ثم مقتضاه أنهما إذا تعاونا وكان هذا يخرج لبنة وذاك أخرى، فلا قطع على واحدٍ منهما، وكأنهما صادفا الحرز منقوباً. 11098 - ولو اشترك الرجلان في النقب كما ذكرناه، ثم دخل أحدهما الحرز ووضع المتاع في وسط النقب، وأخذه الآخر من حيث وضعه الداخل، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا قطع على واحدٍ منهما؛ فإن الداخل لم يتمم الإخراج، والخارج الآخذ لم يأخذ من حرز تام. والقول الثاني - أنه يجب القطع عليهما؛ لاشتراكهما في الإخراج. وقطع الصيدلاني بنفي القطع عنهما، وزعم أن كل واحدٍ منهما يسمى السارقَ اللطيف. وإن كانت المسألة بحالها، وأخرج الداخل يده [بالمتاع] (1) في النقب إلى خارج، فأخذه الخارج الواقف، وجب على الداخل دون الخارج. ولو قرّب الداخل المتاع من النقب، وهو في حدّ الدار أو البيت، لم يُخرج يده من النقب، فأدخل الخارج يده وأخرج المتاع، فالقطع على الخارج؛ فإنه تناول المسروق وهو في حد الحرز، فأخرجه منه. هذا تفصيل القول في هتك الحرز على الانفراد والاشتراك، مع صدور الشركة من الناقب أو من غيره. 11099 - ونحن الآن نذكر التفصيل في السرقة، ومعنى إخراج الشيء من الحرز: فإذا دخل السارق الحرز وأخرج المسروق. فهذه سرقة، وإن لم يدخل الحرز، وألقى في الدار محجناً فتعلق به إناء أو ثوب، فأخرجه من الحرز، وجب القطع؛ فإن الإخراج من الحرز قد تحقق، فلا أثر لدخول السارق وخروجه، ولو دخل الحرز،

_ (1) في الأصل: " من المتاع ".

ورمى المتاع إلى خارج الحرز؛ فإن خرج وأخذه، فالذي صدر منه سرقة على التحقيق، وإن رمى المتاع إلى خارج، ولم يأخذه وتركه حتى ضاع، أو أخذه آخذ آخر، أو اطلع عليه صاحبه، فأخذه، فالمذهب وجوب القطع على هذا؛ فإنه بإلقائه قد أخرج المتاع من الحرز. وقال أبو حنيفة (1): لا يجب القطع على الملقي إذا لم يأخذ ما ألقاه، أو لم يأخذه مُعينه وردؤه، وفي بعض التصانيف وجهٌ أنه لا قطع على الملقي إذا لم يأخذه، وهذا بعيد، لا أعتد به، ولو فرعنا عليه، فألقاه إلى خارج الحرز، فأخذه صاحبه ومُعينه، فالوجه أنه لا يجب القطع على الملقي إذا كنا نعتبر أخذَه، ويجوز أن يقال: إذا أخذه الواقف خارج الحرز بإذنه، فهذا كافٍ في إتمام مقصوده على هذا الوجه الضعيف الذي نفرع عليه، ولا أصل لهذا الوجه. ولو وقف خارجَ الحرز وأرسل محجنه، فعلق بطرف منديلٍ، فأخرج ذلك الطرف، ثم تركه ولم يفصله، ولم يخرج كله؛ إذ شُعر به مثلاً، فالذي وجدته للأصحاب أن هذا ليس بإخراج، وإن كان القدر البارز لو فصل، لكان نصاباً؛ فإن هذا لا يسمى إخراجاً من الحرز. والعلم عند الله. ولو فتح أسفل كُندوج (2)، فاندفع ما فيه، فالمذهب الأصح أن الخارج إذا بلغ نصاباً، وجب القطع على فاتح الكندوج، وذهب بعض أصحابنا إلى أن ما انفصل وخرج لا يضاف إلى إخراج الفاتح؛ فإن هذا تسبّبٌ وليس إخراجاً حقيقةً، وهذا ضعيف، لا أصل له، والوجه القطع بوجوب الحد؛ لأنه المخرِج في الإطلاق، ولولاه، لما خرج من الكندوج شيء. 11100 - ولو كان في الحرز بهيمة فوضع عليها المتاع، نظر: فإن استاقها بسَوْقه إياها، فهذا إخراج من الحرز يتعلق القطع به، ولا نظر والحالة هذه إلى أن يتصل

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 273، الهداية: 2/ 415، تحفة الففهاء: 3/ 151. (2) الكُندوج معرب كندوك. وهو شبه مخزن من تراب أو خشب، توضع فيه الحنطة ونحوها. (ر. معجم الألفاظ الفارسية المعربة).

خروج الدابة أو ينفصل، فإذا افتتح سَوْقَها وأخرجها، فهو مخرِج للدابة وما عليها، وإن وضع الحمل على الدابة، ولم يسُقها، فسارت الدابة بنفسها، وخرجت من الحرز بما عليها، فللأصحاب طرق: منهم من قطع بأن واضع الحمل عليها ليس سارقاً؛ من جهة أن البهيمة ذات اختيار، وقد انفصلت بنفسها. وقال العراقيون: إن تراخى مسيرُها عن وضع الحمل عليها، ثم افتتحت المسير، فلا حدّ، والإخراج غير مضافٍ إلى السارق، وإن خرجت الدابة على الاتصال بوضع الحمل عليها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الإخراج مضاف إلى الرجل، كما لو ساقها، والثاني - أنه ليس مضافاً إليه، بل هو مضاف إلى اختيار البهيمة. وذكر بعض الأصحاب مسلكاً آخر، فقال: إذا اتصل مسيرُها بوضع الحمل عليها، فالرجل منتسب إلى الإخراج، وإن [تراخت] (1) البهيمة، ثم سارت، فوجهان. وحقيقة هذا يُحْوِج إلى تجديد العهد بمسألة فتح القفص عن الطائر مع تصوير الطيران، وحاصل ما ذُكر ثَمَّ في إيجاب الضمان ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يجب الضمان أصلاً، اتصل الطيران أو انفضل، والثاني - يجب الضمان اتصل أو انفصل، والقول الثالث - أنه إن اتصل الطيران وجب الضمان، وإن تراخى، لم يجب. فالآن نقول: في مسألة الحمل على الدابة ومسيرها، وتحقيق السرقة من الرجل طريقان للأصحاب: منهم من نزل هذا الحكمَ المطلوبَ منزلة الضمان في مسألة الطيران حتى يخرج الأقوال الثلاثة، وتقريب القول فيه أن فتح القفص يُهيج الطائر والحمل على البهيمة والأرباط يَهِيجُها للسير، فقد تساوى المأخذان. ومن أصحابنا من قطع فيما نحن فيه بنفي السرقة، وإن تردد القول في مسألة الطائر في الضمان، والسبب فيه أن التسبب مضمِّنٌ في الغصوب والإتلافات، والسرقة تعاطي الإخراج بالنفس، وهذا المعنى لا يتحقق مع اختيار البهيمة. ولو فصل فاصل بين بهيمة مطمئنة لا نِفارَ بها، وبين بهيمة ذاتِ نِفار، لكان هذا وجهاً في الاحتمال،

_ (1) مطموسة في الأصل، وما زلنا في السطور التي انمحت من (ت 4).

وهذا الفرق يمكن إجراؤه في فتح القفص وحل الرباط عن طائر أليفة أنيسة (1)، فإنها إذا كانت مطمئنّة، فاختيارها الغالب، وإذا كانت نفورة، فقد يتجه الحمل على التنفير بفتح باب القفص، وحل الرباط. 11101 - ولو دخل السارق الحرز وفيه ماءٌ جارٍ، فوضع المتاع عليه حتى خرج به من الحرز، فالذي أطلقه الأصحاب أن هذا إخراج من الحرز؛ إذ الماء لا اختيار له في جريانه والملقَى عليه يخرج معه لا محالة. فإن قيل: إذا شرطتم تولِّي الإخراج وأنكرتم حصول السرقة بالسبب، فلم تجعلوه سارقاً، وهو متسبب، قلنا: السبب الظاهر يُلْحق بالمباشرة فيما يبنى على المباشرة، ولذلك يجب القصاص على المكرِه، كما يجب على المباشر، فإذا لم يكن للماء اختيارٌ، فالتسبب والمباشرة لفظان يؤديان إلى التعلق بما يحصّل الخروج لا محالة من غير أن يعزى إلى اختيار غير السارق. وقد يرد على هذا أنا إذا قلنا: من فتح كندوجاً أو دِنّاً، فانثال وسال منهما ما يبلغ نصاباً، فلا قطع من جهة التسبب، [فيتجه] (2) لا محالة أن نقول على هذا القياس: لا قطع على السارق إذا وضع المتاع في الماء، فإن صح ذلك الوجه في الكندوج، تعيّن مثله في الماء. والوجه القطع بما قطع الأصحاب به في الماء، والاستدلالُ به في تضعيف الوجه المحكي في الكندوج. 11102 - ولو دخل السارق الحرز وأكل من الطعام ما بلغ نصاباً، وخرج، فلا قطع؛ فإنه أتلف في الحرز ما أكله، ولم يخرجه. ولو تعاطى دُرّة، فبلعها، وخرج فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه مخرج للدّرّة سارق لها، وهذا هو الصحيح، بخلاف الطعام، فإنه يفسد كما (3)

_ (1) كذا. تأنيث صفة الطائر، وإعادة الضمير عليه مؤنثاً. (2) في الأصل: " متجه ". والمثبت من (ت 4). (3) كما: بمعنى عندما.

غاب عن الفم، والدرّة لا تفسد. والوجه الثاني - أنه لا يكون سارقاً؛ فإن ما بلعه الإنسان لا يدري إلى ما يؤول إليه، فقد أتلف الدرّة إذاً. والوجه الثالث - أنه إن خرج وخرجت الدّرةُ منه، فهو مخرجِ لها سارق، وإن لم تخرج، فلا نجعله سارقاً، فإنما نتبين أنها فسدت وانمحقت. 11103 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو دخل الحرزَ وفيها شياه، فأخذ شاةً لا تبلغ نصاباً فتبعها شاة، وهي بمجموعها تبلغ نصاباً ويزيد، فقد قال الشيخ أبو علي: إن كانت الشاة بحيث تتبع هذه الشاة إما لكونها أماً لها وهي سِخال، أو لكونها هادياً في القطيع، فيجب القطع. وإن لم يكن الأمر كذلك، ولكن اتفق خروجها مع تيك الشاة، فلا قطع. وهذا الذي ذكره كلام مبهم والرأي عندنا تخريجها على مسألة الحمل على الدابة ومسيرها؛ فإن هذه الحيوانات مختارة على الجملة، ثم يقع في التفاصيل الغلبةُ على الظن في مسيرها ونقيض ذلك، والاتصال والانفصال، فلْيخزج هذا على ما تقدم، فلا فرق. هذا كلام بالغٌ في الإخراج من الحرز ومعناه، ويتصل به فصل هو منه، وله تعلق بتفاصيلَ في الأحراز، ونحن نأتي بها في فصل مفرد، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " وإن أخرجه من البيت والحجرة إلى الدار ... إلى آخره " (1). 11104 - مقصود الفصل يتم بالكلام في دارٍ وبيوتها، وفي خانٍ وبيوتها وحُجرها. فأما القول في الدار يدخلها السارق، فإذا أخرج المتاع من بيت إلى العَرْصَة، ولم [يخرجه] (2) من الدار، نظر: فإن كان البيت مفتوحاً، أو كان غلقه ضعيفاً، وكان باب الدار مفتوحاً، فالمتاع ضائع غيرُ محرز؛ ذلك أن عماد الحفظ الحصانةُ،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 170. (2) في النسختين: " يخرجها ".

لا اللّحظُ، فإن كان باب البيت مفتوحاً، وبابُ الدار مغلقٌ موثقٌ فإذا أخرج المتاع من البيت إلى الصحن، نظر: فإن كان ذلك المتاع لا يحرز بالعرصات، فهو ضائع، إذا لم يكن في مخزن يليق به، وإن كان المتاع بحيث يحرز بالعرصات والأبنية الظاهرة والبيت المفتوح، فإذا أخرج المتاع إلى العرصة، لم يكن سارقاً؛ لأنه لم يخرجه من حرز، وهو بمثابة ما لو نقل المتاع من جانب العرصة إلى جانب. وإن كان البيت مغلقاً، فالبيت حرز في نفسه، والمتاع مما يُحرز بالعَرْصَة، فإن أُغلق عليه بيتٌ، فهو زيادة إيثاق، فإذا فرض الإخراج من البيت إلى العرصة، نظر: فإن كان باب الدار مفتوحاً، فالإخراج من البيت إلى العرصة سرقة موجبةٌ للقطع؛ فإن العرصة ضائعة بسبب فتح الباب، والبيت حرزٌ للمتاع المخرَج منه، فقد أخرج متاعاً من حرزه إلى موضع ليس بحرز، وهذا معنى السرقة. فإن كان باب الدار مغلقاً، وكان باب البيت مغلقاً أيضاً، وكل واحدٍ من البيت والدار حرزٌ تام في المتاع المخرج، فإذا فرض الإخراج من البيت المغلق إلى العرصة التي كان بابها مغلقاً، ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما - أنه يجب نظراً إلى الإخراج، والثاني - لا يجب؛ لأن الموضع الذي نَقَل المتاع إليه لم يكن مضيعة، [فهذا] (1) نقل من حرز إلى حرز، والسرقة الموجبة للحد هي الإخراج من حرز إلى مضيعة، وما ذكرناه فيه إذا كان المتاع بحيث يحرَز بعرصة الدار. فأما إذا كان المتاع بحيث لا يحرز بالعرصة، وكان في المخزن المستقل بكونه حرزاً؛ فأخرجه إلى عرصة الدار، فإن كان باب الدار مفتوحاً، فالذي جرى سرقةٌ موجبة للحد. وإن كان باب الدار مغلقاً، فأخرج المتاع من البيت إلى العرصة، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين اللذين ذكرناهما في المتاع الذي يحرز بالبيت والعرصة في مثل هذه الصورة: فإن قلنا ثَمّ: يجب القطع بالإخراج من العرصة، فلأن يجب في هذه الصورة أولى، وإن قلنا: لا يجب القطع بتلك الصورة، ففي هذه الصورة

_ (1) في الأصل: " لهذا ".

وجهان. والفرق أن الدار مضيعة بالإضافة إلى الدراهم والدنانير، فالإخراج من المخزن إلى العرصة إخراج من حرزٍ إلى مضيعة، وليس كذلك الصورة الأولى؛ فإن المتاع فيها أُخرج من حرزٍ إلى حرز. فإن قيل: هذا الفرق ظاهر، فما وجه الخلاف؟ قلنا: باب الدار وإن كان مغلقاً على العرصة، فهو مزيد إيثاق للمال الموضوع في المخزن، فهي [تتمة] (1) الحرز، فإذا فرض إخراج من البيت إلى العرصة، فالعرصة، وإن لم تكن حرزاً بنفسها، فهي مزيد استيثاق للحرز إذا كان الباب مغلقاً عليها. ومن الأصحاب من يقول: لا تتم السرقة إلا بالإخراج من تمام الحرز. وإذا جمعنا بين هذه المسألة، وهي إخراج الدراهم من المخزن إلى العرصة المُغلقة بابها، وبين إخراج ثوب من الفرش من بيت مغلق إلى العرصة، انتظم في المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها - وجوب القطع فيهما، والثاني - انتفاء القطع فيهما. والثالث - الفرق بين أن يكون المخرج إلى العرصة مما يحرز بالعرصة، وبين أن يكون مما لا يحرز بالعرصة. 11105 - ووراء ذلك بحث به تمام البيان وهو أن السارق لو تسلق الجدار وتدلّى إلى العرصة، وأخرج المتاع من البيت إلى العرصة، فالأمر على [ما] (2) ذكرناه، وإن فتح الباب، وكان مغلقاً، ثم أخرج المتاع والدراهم من البيت إلى العرصة بعد فتح بابها، فكيف السبيل؟ هذا فيه نظر من جهة أن الحرز الذي يهتكه السارق في حكم الحرز الدائم، ولولا ذلك، لما أوجبنا القطع على من نقب الحرز، ثم دخل فأخرج؛ فإنه بنقبه أخرج الحرز عن كونه حرزاً، هذا وجهه. ولكن لو قدرنا بقاء العرصة على الحرز، فقد يجرّ هذا تخفيفاً عن السارق، إذا قيل: أَخرجَ من حرز إلى حرز. وإن حكمنا بانتهاك حكم الحرز في العرصة، فإذا أخرج من البيت إليها، استوجب القطع، ونحن جعلنا الحرز في حق الناقب السارق

_ (1) في الأصل: " قيمة "، والمثبت من (ت 4). (2) زيادة من المحقق.

حرز التعلق تغليظاً عليه، فقياس هذا الفقه أن نجعل العرصة مضيعة ليلتزم الداخل بالإخراج من البيت إليها القطعَ. والمسألة محتملة؛ من جهة أن ما أقمناه للتغليظ أو لغيره لا يمتنع أن ينفع السارقَ من وجهٍ، إذ ليس مبنى الباب على التغليظ، وإنما جعلنا الناقب إذا سرق سارقاً؛ لأن صورة السرقة في الغالب كذلك تكون، والذي يتسلق بمرقاةٍ أو حبل وعُقَدٍ ومحجن يُخرج الحرزَ مع تلك الآلة عن كونه حرزاً، فكان ذلك أيضاً تقديم هتك الحرز على الإخراج، فجرى ذلك على حكم الضرورة في تصوير السرقة، فلا نلتزم هذا الأصلَ في كل صورة. وقد انتهى الكلام في الدور وبيوتها. 11106 - ونحن نبتدىء الآن القولَ في الخانات ذوات الحجر والبيوت، فنقول: إذا أُخرج شيء من عرصة خانٍ، وكان بحيث يُحرَز بالعرصة والباب مغلق، نظر: فإن أخرجه بعضُ سكان الخان، فلا قطع؛ فإن العرصة ليست ممنوعة عن سكان الخان، وهذا متضح إذا كان فتح الباب هيناً على الخارج، بأن يكون الإيثاق بالسلاسل والمرازب (1). فأما إذا كان الباب موثقاً عن السكان، وعليه حارس بيده مقاليد الأغلاق، فإذا كان المخرج للمتاع يحتاج أن يعاني من الكلفة ما يعانيه من يحاول دخول الخان من خارج، فهذا فيه تردد: يجوز أن يقال: يجب القطعُ للإخراج من حرزٍ لا سبيل إلى الخروج منه من غير تسبب إلى هتك الحرز، وحقيقة السرقة التسبب إلى الإخراج من الحرز، ولهذا قلنا: من أرسل محجناً له وأخرج متاعاً من كُوّة، كان سارقاً، وإن لم يدخل الحرز. ويجوز أن يقال: لا قطع؛ لأن يد ساكن الخان تتوصّل إلى المتاع. وصورة الحرز ما يمنع الآخذ من الأخذ، ويكون متضمناً حيلولة بين من يبغي الأخذ وبين المتاع، والمتاعُ الموضوع في العرصة ليس مصوناً عمن يسكن الخان، والدليل عليه أن من

_ (1) المرازب: جمع مرزبة، والمرزبة، عُصيّة من حديد. (المعجم).

استحفظ إنساناً في متاعٍ، ونهاه عن النقل عن موضعه -وكانت المسألة مفروضة في الخان- ولو نقله المستحفَظ، لكان متعدياً ضامناً. فلو فرض من المودَع التعدي (1 بنقل الوديعة والاختيار بهتك الحرز والإخراج منه 1)، فيبعد أن يجب القطع عليه؛ لأن المتاع في يده (2). كذلك المتاع الملقى في العرصة، وإن لم يجر فيها استحفاظ فتمكُّن ساكن الخان من الوصول إليه في حكم السرقة يُلحقه بالمودَع، وإن لم يكن مودَعاً. هذا كلامنا في الساكن يسرق من العرصة ويخرج. 11107 - فأما إذا احتال سارق ودخل الخان، وأخرج المتاع، وهو محرز، فلا شك في وجوب القطع عليه. فأما إذا سرق بعضُ السكان من بعض، وكان كل واحد في بيت محرز عن أصحابه، فإذا أخرج بعضُ السكان شيئاً من بيتِ ساكنٍ، فهو سارق، وصحن الخان في حق السكان كالسكة بالإضافة إلى الدور التي أبوابها لافظة إلى السكة. ولو دخل سارق من خارج وأخرج شيئاً من بيتٍ إلى الصحن، فقد قال الأصحاب: تفصيل القول في هذا الفصل كالقول في إخراج متاع من بيتٍ في الدار إلى عرصة الدار، وقد مضى ذلك مفصلاً؛ فإن الخان بالإضافة إلى الخارج منه كدارٍ ذات بيوت وحُجر، فإن قيل: إذا كانت الدار لافظة الباب في سكة منسدّة، وعلى رأس السكة

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4)، وعبارة (ت 4) فيها زيادة، ونصها كالآتي: " والدليل عليه أن من استحفظ إنساناً في متاع، ونهاه عن النقل من موضعه، وكانت المسألة مفروضة في الخان، ولو نقله المستحفظ، لكان متعدياً ضامناً، فلو فرض من المودع التعدي، وكانت المسألة مفروضة في الخان، ولو نقله المستحفظ لكان متعدياً ضامناً، فيبعد أن يجب القطع عليه ". (2) إلى هنا انتهى المشبه به، وبقوله: " كذلك المتاع الملقى ... إلخ " بدأ كاف التشبيه والمشبه، والمعنى أن المتاع في عرصة الخان، ووصول أيدي الساكن إليه يجعله كالوديعة في المودع، يضمنها بالتعدّي، ولكن لا يقطع بهذا التعدي. وعبارة الغزالي في البسيط توضح ذلك، فقد قال: " ويحتمل ألا يجب القطع، وهو الأظهر؛ لأن إغلاق الباب لا يحرز عن الساكن في الخان، وإنما الإحراز عن السكان بأعين اللاحظين، وهو صحيح، وكأنه مستودَع، وإن لم يشافَه به، ومن أودع شيئاً في ملك المودَع وحِرْزهِ، فتعدّى بالإخراج، فلا ينبغي أن يجب القطع عليه " (ر. البسيط: 5/ 131 يمين).

درب (1)، والسكة ملك لملاك الدور، فما قولكم فيه إذا دخل سارق وأخرج شيئاً من دار إلى السكة الموثقة بالدرب إيثاق عرصة الخان ببابه؟ قلنا: ما رأيناه للأصحاب أن هذا سرقة ثابتة، وليس هذا خالياً عن احتمال؛ فإن السكة المملوكة لملاك الدور كعرصة الخان لملاك البيوت أو لسكانها. وقد انتهى الكلام في هذا الفن، ونجز مقصود الفصل. فصل مشتمل على بقايا من أحكام الإخراج من الحرز 11108 - وقد تقدم القول في مقدار النصاب في صدر الكتاب، ومقصود هذا الفصل شيئان: أحدهما - إخراج نصاب واحد من الحرز بدفعات. والآخر - اشتراك جمع في إخراج نصاب، أو نُصب. فأما الفصل الأول: إذا نقب السارق الحرز وأخرج نصف نصاب واكتفى، واطلع صاحب الحرز على انتهاكه، فإذا عاد واستتم النصاب، لم يستوجب القطع، ووجهه بيّن. وإن عاد الشخص وقد سُدَّ الحرز وأوثق، فنقب مرة أخرى، واستكمل النصاب بالدفعتين، فلا قطع؛ فإنه أخرج نصاباً واحداَّ بَسرقتين كل واحدة متميزة عن الأخرى، والفاصل بينهما عَوْد الحرز إلى ما كان عليه أولاً. وإن لم يُسَدّ الحرز، ولم يشعر به، فعاد وأخرج ما كمل النصاب به، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها - أنه لا قطع لتعدد الفعل والإخراج، وقصور المخرَج في كل كرّة عن مقدار النصاب. والثاني - أنه يجب القطع؛ فإن الحرز لم يُسدّ، ولم يشعر به فيفرض الانتساب إلى التقصير (2)، فالفعلان في حكم الفعل

_ (1) درب: هذا اللفظ ليس عربي الأصل، والعرب تستعمله بمعنى الباب، فيقولون لباب السكة: دَرْب. (ر. المصباح). (2) أي لا يفرض انتساب المالك إلى التقصير، أي لا يعد مضيِّعاً؛ لأنه لم يشعر بالنقب، وعلى هذا لم يسدّه.

الواحد. والثالث - وهو أعدل الوجوه أن الفعلين إذا تواصلا -من غير تخلل فصلٍ - يجب القطع، وإن انفصل أحدهما عن الثاني بزمان طويل، فلا قطع؛ وكان شيخنا يقول: لو أخرج مقداراً، وانطلق به وعاد، فهذا فصل بين الفعلين، وإن قرب الزمانُ وأسرع الكرّة، وهذا حسنٌ في إيضاح معنى الفصل بين الفعلين في هذا الوجه الثالث. ومما يتصل بهذا المقصود ذاته أنه لو فتح كُندوجاً، فانثال الحب منه حتى بلغ نصاباً، فلا شك أنه يخرج شيئاً شيئاً، والحبات متقطعة لا تواصل فيها، وإذا قلنا: لو أخرج نصاباً بفعلين متواصلين من غير فاصل لا يجب القطع، فإذا كمل النصاب بالانثيال في فتح أسفل الكندوج، ففي المسألتين وجهان: أصحهما - وجوب القطع؛ فإن ذلك يعد خروجاً بدفعة، ولا يُعَد مقطعاً، والفعل في نفسه غير متعدد، وقد أوردنا مسألة الكُندوج فيما تقدم في غرضٍ آخر؛ إذ حكينا أن من الأصحاب من يقول: الإخراج فيما ينثال لا يتحقق، وذلك مزيف، وقد أوردنا المسألة الآن في غرض التواصل والتقطع، والأصح التواصل أيضاً، ووجوب القطع. ولو تعلق بطرف منديل وأخذ يجذبه شيئاً شيئاً، يجب القطع وفاقاً، إذا كان المنديل نصاباً، فليس خروجه شيئاً شيئاً من التقطع في الإخراج وجهاً واحداً. وقد أوردنا هذا في غرض آخر، وهو يعضد ما ذكرناه الآن؛ فإنا قلنا فيما سبق: إذا أخرج من المنديل ما لو فصله، لكان نصاباً، فلا قطع، لأن الذي أبرزه ليس له حكم المخرج من الحرز، ويتضح بهذا أن إخراجه في حكم فعلٍ واحد؛ إذ البعض من غير فصلٍ لا حكم له. هذا أحد مقصودي الفصل. 11109 - والثاني في اشتراك اثنين فصاعداً في الإخراج، فنقول: إذا دخل رجلان الحرز، وحملا معاً ما قيمته نصاب، فلا قطع على واحدٍ منهما، وإن تحقق اشتراكهما في الإخراج على أقصى الإمكان في التصوير، بخلاف ما لو اشتركا في قطع يدٍ، فإنا نقطع أيديهما، كما نقتلهما لو اشتركا في القتل.

وقال مالك (1) يجب القطع على المشتركَيْن في إخراج النصاب، والفرق المعتمد يرجع عندنا إلى انفصال قاعدة عن قاعدة، فالطرف مصون بالقصاص، والمال مصون بالقطع، ولكن لم يشرع الشارع القطع في أقل من نصاب، لأن النفوس لا تتشوف إلى مصادمة الأخطار لأخذ المقدار النزر، وهذا المعنى يتحقق في الشريكين في سرقة نصابٍ؛ إذ لا يخص واحد منهما نصاب. وهذا المسلك لا يتحقق في الطرف وقطعه، ولو أخرجا ثلث دينار، فلا قطع على واحدٍ منهما، وإن أخرجا نصف دينار، لزمهما القطع؛ إذ يخص كل واحد منهما نصابٌ. ولو دخلا، فأخرج أحدهما ربعاً والآخر سدساً، فعلى الذي أخرج ربعاً القطع، ولا قطع على مخرج السدس. وإن اشتركا في الإخراج على الحقيقة، فلا قطع عليهما، والمرتجى في حقيقة الاشتراك التحقيق المعتبر في قطع اليد، وليس هذا كالنقب؛ فإن النقب ليس بسرقة، وإنما هو توصل إليها، والسرقة الحقيقية الإخراج. فصل قال: " وإن سرق سارق ثوباً، فشقه ... إلى آخره " ثم قال: " ولو كانت قيمة ما سرق ربع دينار فنقصت القيمة ... إلى آخره " (2). 11110 - أما الفصل الأول، فمن فصول الغصب، فمن دخل الحرز، وأخذ ثوباً وشقه في الحرز طولاً أو عرضاً، فلا أثر لما فعل في تثبيت حق الملك له، وإذا أخرجه، وكانت قيمته معتبرة عند الإخراج نصاباً، فيجب القطع. والاعتبارُ في القيمة بحالة الإخراج، وأبو حنيفة (3) قد يجعل الشق طولاً مثبتاً حق الملك للشاق، ويرتب

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 647 مسألة 1904، عيون المجالس: 5/ 2123 مسألة 1534. (2) ر. المختصر: 5/ 170. (3) ر. مختصر الطحاوي: 274، المبسوط: 9/ 163.

عليه سقوط القطع، فإنه ملك الثوب في الحرز، وأخرج ملكه. وكذلك لو ذبح شاة، فأخرج لحمها، أو تعاطى لحماً، فشواه وأخرجه مشوياً، فإن كانت قيمة المخرَج نصاباً وقت الإخراج، وجب القطع، ولا أثر لهذه التغايير عندنا [كثيرة أو قليلة] (1) مع العلم بأن الاعتبار في القيمة بحالة الإخراج وإنما اختبط أبو حنيفة فيها، فجعل بعضها مملِّكاً. 11111 - وأما الفصل الثاني [فمعموده] (2) ومقصوده أن السرقة إذا تمت موجِبةٌ للقطع، فلو فرض طريان تغير بعد تمام السرقة، فلا أثر له، ولا يسقط القطع بما يطرأ بعد الوجوب، فلو تلف المسروق، أو نقصت قيمته: إما بالسوق، أو بطريان آفة، فلا يسقط القطع بشيء من ذلك. ولو وهب المالك المسروقَ من السارق بعد تمام السرقة، فلا أثر لشيء من هذا، خلافاً لأبي حنيفة (3) في مسائل أُخَر بيّنَّاها في الخلاف. ومهما (4) وجب حد، فلا أثر لما يطرأ بعد وجوبه في إسقاط الحد، وقد ذكرنا في كتاب اللعان أن من قذف شخصاً، فلم يحد حتى زنى المقذوف، فالنص أن القاذف لا يحد، بخلاف ما لو ارتد المقذوف، وقد قدمنا تفصيل المذهب في ذلك ثَمَّ، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا. إذا أقر المالك بأن المسروق كان للسارق، وهو في الحرز، فلا شك أن القطع يسقط، والمعنيّ بسقوطه [تبيُّنُ] (5) عدمِ ثبوته في الأصل في ظاهر الحكم. فأما إذا ادعى السارق أن المسروق كان لي، ولم يكن معه بيّنة، فظاهر كلام

_ (1) في الأصل: " قصيرة غير طويلة " والمثبت من تصرف المحقق، حيث تقع هذه العبارات في الأجزاء التي أصابها المحو من صفحات (ت 4). (2) فى الأصل: " فمعقوده ". (3) ر. مختصر الطحاوي: 271، المبسوط: 9/ 186، طريقة الخلاف: 229 مسألة 92، تحفة الفقهاء: 3/ 155. (4) مهما: بمعنى إذا. (5) في الأصل: " بين ". والمثبت من المحقق.

الشافعي أنه يسقط عنه الحد، ونفسُ دعواه تنتصب شبهة في إسقاط الحد عنه. ومن أصحابنا من خرج قولاً أن الحد لا يسقط. ووجه النص أن الدعوى مسموعة، فإذا لم تكن بينة، فالقول قول المالك مع يمينه، فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على السارق، فإن حلف قُضي له بالملك، ولا خلاف في انتفاء القطع، إذا أفضت الخصومة إلى ما ذكرناه. وإن حلف المدعى عليه، فلو أوجبنا القطع، لكان وجوبه متعلقاً بيمين، ويستحيل إيجاب قطع السرقة باليمين. وعبر الأصحاب عن هذا المعنى، فقالوا: السارق يصير خصماً في المسروق، ويستحيل أن يقطع في الشيء من هو خصم فيه. ووجه القول الآخر - أن الدعوى العريّة لا أثر لها، ولا وقع لها، ولو فتحنا هذا الباب، لاتخذ السراق دعوى الملك ذريعة إلى إسقاط حق الله تعالى، واللائق بقاعدة الشافعي [إسقاط] (1) الذرائع الهادمة للقواعد إذا كان الوصول إليها متيسراً لا عسر فيه. ثم ذكر الشيخ في شرح التلخيص صوراً في استكمال هذه الأصول، ونحن نأتي عليها، فلو ادعى السارق أن الدار التي سرقتُ منها ملكي، غصبها المسروق منه، فدعواه الملك في الحرز -على الوجه الذي ذكرناه- كدعواه الملك في المسروق. وكذلك لو قال: هذا الذي سرقتُ منه مملوكي، فهذا يخرج أيضاً على الخلاف المقدم. والجملة في ذلك أنه إذا ادعى الملك في شيء لو تحقق ما قاله، لسقط عنه الحد، فمجرد الدعوى فيه تُسقِط القطعَ على النص، وفيه القول المخرّج. 11112 - ومما يليق بذلك أنه لو اشترك اثنان في سرقة نصابين، ثم ادعى أحدهما أن المال بمجموعه ملكي، فيسقط القطع عنه تفريعاً على النص، أما شريكه، فإن

_ (1) في الأصل: " إثبات ".

صدقه فيما ادعاه، فيسقط القطع عنه أيضاً، وإن كذبه، وقال: كذب في دعواه، وقد سرقنا هذا المتاع من ملك المدعى عليه، فالمذهب أنه يجب القطع على الشريك المكذب، ووجهه ظاهر؛ فإنه لم يدع شبهة، ودعوى غيره لا تنتصب شبهة في حقه. وذكر القفال وجهاً آخر أنه لا يجب القطع عليه؛ تفريعاً على النص؛ فإنه قد صدر في الملك دعوى لو صدقها، لسقط عنه القطع، فكذلك إذا كذب، كما لو قال المسروق منه: هذا ملك السارق، فكذبه السارق، وقال: إنما أنا سارق، فالقطع يسقط مع تكذيب المسروق منه، وبمثله لو سرقا كما ذكرنا، فقال أحدهما: هذا المال لشريكي وكذبه صاحبه، فالقطع يسقط عن المدعي على النص، وهل يسقط عن المكذب الذي أنكر الملك؟ فعلى وجهين كما ذكرناه، ولا فرق بين المسألتين. وكل ذلك تفريع على النص. ولو سرق العبد شيئاً من حرز مثله، ثم ادعى العبد أن الذي سرقته كان لسيدي، فإن صدقه السيد، اندفع الحد على النص، وإن كذبه السيد، فهل يندفع عنه الحد؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يندفع؛ فإنه ليس يدّعي الملك لنفسه، وإنما يدعيه لسيده، وقد كذبه سيده، فخرجت المسألة على وجهين. هذا بيان هذه المسائل. فصل " وإن أعار رجلاً بيتاً ... إلى آخره " (1). 11113 - من أكرى داراً من إنسان، فأحرز المستأجر بها ملكه، فلو سرق ملكه الآجر، وجب القطع عليه، وثبوت الملك في رقبة الدار لا يكون شبهة في درء الحد عن المكري؛ لأن المستأجر ملك منفعتَها بعقد الإجارة وإنما الإحراز بمنفعة الدار، وحق سكونها والإيواء إليها. ولو استعار رجل حرزاً وأحرز به ماله، فسرق المعير مال المستعير، ففي المسألة

_ (1) ر. المختصر: 5/ 170.

أوجه: أحدها - يلزمه القطع، كالمكري مع المكتري، والثاني - لا يلزمه القطع؛ فإن المستأجر مَلكَ منفعة الدار، والمستعير لم يملكها، بل استباحها، وللمعير حق الرجوع في العارية متى شاء. والوجه الثالث - أنه إن قصد به الرجوع في العارية، فدخل الدار على هذا القصد، ثم أخرج ما وجد، لم يُقطع، وإن لم يقصد بدخول الدار الرجوعَ في العارية، قُطع، واستشهد القفال في اعتبار القصد وعدمه، بأن قال: لو دخل مسلمٌ دار الحرب فوطىء حربية، فإن قصد به قهرها وتملكَها عند إمكان ذلك، لم يكن ما صدر منه زنا، ولو علقت منه، صارت أم ولد بعد جريان الملك على رقبتها، وثبت النسب. وإن لم يقصد تملكها وقَهْرَها، كان الصادر منه زناً، ولو تعلقها لم تصر أم ولد. ومال أئمة المذهب إلى الوجه الأول؛ فإن المعير وإن كان يملك الرجوع في العارية فإذا أراد ذلك، تعين عليه إمهال المستعير ريثما ينقل امتعته، فيظهر هاهنا أن العارية تُثبت تأكد الحق للمستعير، فلا يهجم على نقضه. 11114 - ومما يتصل بذلك أن من غصب حرزاً، وأحرز به ماله، فلا شك أن المغصوب منه لو دخله، وأخرج منه شيئاً، فلا قطع عليه، لأنه يستحق دخول الحرز عاجلاً، غيرَ آجل. ولو دخل الحرز المغصوبَ غيرُ المغصوب منه، وسرق منه، فقد قال القفال: لا قطع على السارق، لأن ملك الغير لا يصير حرزاً له، وهو جانٍ متعد. وهذا قاله تخريجاً. وفي كلام الأصحاب ما يدل على خلاف ذلك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أن القطع يجب. ويمكن أن يقرّب هذا من التردد في أن الواحد من المسلمين إذا رأى عيناً مغصوبة في يد غاصب، فهل له إزالة يده عنها حسبةً؟ وفيه خلاف تقدم. ونظير ما نحن فيه أن من غصب من إنسان مالاً وأحرزه بحرزه المملوك، فدخل المغصوبُ منه الحرزَ، وأخذ المال المغصوبَ منه، وأخذ من مال الغاصب ما بلغ نصاباً، وأخرجه من الحرز، ففي وجوب القطع عليه وجهان: أحدهما - لا يجب؛ لأنه أبيح له التهجم عليه والدخول في حرزه لانتزاع المغصوب من يده؛ فلا حُرمةَ

لحرزه في حقه. والثاني - يلزمه الحد لإخراجه مالَ الغاصب من حرزه، فلا شبهة له في المخرَج. ولو غصب رجل مالاً، ودخل غيرُ المغصوب منه، وأخذ ذلك المال المغصوبَ، ففي وجوب القطع على هذا الآخذ خلاف يلتفت على ما ذكرناه من أن من رأى عيناً مغصوبة في يد إنسان، فهل له أن يأخذها منه قهراً ليردها على المغصوب منه؟ فعلى خلافٍ مشهور. ولو دخل ربُّ الوديعة دارَ المودَع، وأخذ وديعته وأخذ معها مال المودَع، فيجب القطع؛ فإنه ليس له الهجوم على حرز المودَع، بل يسترد منه الوديعة بطريق استردادها. وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا [أدخل] (1) المغصوب منه متاعاً دار الغاصب، وأخذ متاع نفسه ومتاعاً للغاصب معه، لا يختص بما إذا أخذ متاع نفسه، ولكن لو أخذ متاع المغصوب منه، وترك متاع نفسه، فالوجهان جاريان، والخلاف مستمر، كما تقدم. ولو استعار الرجل عبداً ليرعى له غنماً، ثم إن سيد العبد تغفَّل العبد وسرق من الغنم ما يبلغ نصاباً، ففي ذلك طريقان: أحدهما - ينزل ذلك منزلة ما لو دخل الدار المستعارة، وأخذ مال المستعير؛ فإن الدار المستعارة حرز مال المستعير، ومراقبة العبد المستعار حرز مال المستعير، فلا فرق. ومن أئمتنا من قطع بوجوب الحد على السيد؛ فإن التعويل في إحراز الغنم على لحظ الراعي، وهذا لا يضاف الملك إليه (2)، ومعتمد الحرز في الدار [الدارُ] (3). وللمالك حق طروقها، فبان الفرق. ويجوز لصاحب الطريقة الأولى أن يقول: العبد لا يُحرز عن مولاه بصدق اللحاظ ما يحرزه عن الأجانب.

_ (1) في الأصل: " إذا أوصل ". (2) لا يضاف الملك إليه: أي لا يملك السيد لَحْظَ العبد. (3) زيادة من المحقق.

فصل قال: " وإذا سرق عبداً صغيراً لا عقل له ... إلن آخره " (1). 11115 - تصوير سرقة العبد الصغير بأن يُلقى نائماً في الحرز، فيحمل أو يخرج أو يلقى مسقطاً، فيربط ويحمل، والمجنون والأعمى الذي لا يعقل بهذه المثابة، فلو دعا هذا الذي لا يعقل، ولا يميز فاتبعه، وخرج من الحرز، فهو كبهيمة يدعوها فتتبع الدعاء، وتخرج، وقد ذكرنا في هذا تردداً للأصحاب. ولو كان العبد يعقل عقل مثله، فتصوّر سرقته بأن يحمل مضبوطاً (2)، فأما إذا خدعه، فخرج مختاراً مخدوعاً، فهذا ليس بسرقة بلا خلاف، وإنما هو خيانة. ولو حمل العبدَ المميِّز بالسيف على أن يخرج من الحرز، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا سرقة، كما لو استاق دابةً، فامتنعت عليه فضربها. والثاني - أنه لا يكون سارقاً لمكان اختيار المكرَه المميز، والدابة وإن كانت مختارة، فيسقط أثر اختيارها بالكلية إذا سيقت بالسوط والعصا. ثم العبد الصغير حرزه دار المولى، أو حريم داره، إذا كان مطروقاً (3) بحيث يعد العبد مصوناً، وإن فارق الدار والحريم، فهو ضائع. ولو أخرج من الحرز صبياً حراً نائماً أو [مضبوطاً] (4) مكرهاً، فالكلام في الثياب التي عليه، وللأصحاب فيها وجهان: أحدهما - أنها مسروقة يتعلق بسرقتها القطع. والثاني - أنها ليست مسروقة، وهي في يد الحر وإن كان صغيراً ضعيفاً، فهذان

_ (1) ر. المختصر: 5/ 170. (2) مضبوطاً: أي موثقاً مكرهاً. وضبطه من باب ضرب، أي حفظه حفظاً مبالغاً فيه (المصباح). (3) إذا كان مطروقاً: المعنى أن حريم الدار -وهو ما حولها- يكون حرزاً إذا كان ملحوظاً من الطارقين، أما إذا كان غير مطروق، فما فيه ضائع غير محرز، فليس محفوظاً بأبواب ومغاليق، ولا بلحظ الطارقين. (4) في الأصل: " مربوطاً ".

الوجهان يجريان في أن ثيابه في غير صورة السرقة هل تدخل تحت يد غاصب الحر وحامله؟ 11116 - ولو كان المخرَج مستقلاً بنفسه، وعليه ثيابه، فهذا يستدعي تقديم مسألة هي مقصودة في نفسها، ويتعلق بيان هذا الفصل بها، وهي أن من كان راقداً على بعير وتحته أمتعته، والبعير مملوك له، فإذا أخذ سارق زمام البعير، ونحاه عن سَنَن الطريق، حتى أفضى به إلى الموضع الذي يريده، فهل نجعله سارقاً للمتاع والبعير؟ حاصل ما ذكره الأصحاب أربعة أوجه: أحدها - أنه سارق، لأنه احتوى على البعير وما عليه. والثاني - أنه لا يكون سارقاً؛ فإن يد مالك البعير والمتاع قائمة عليه، وإنما تتحقق السرقة عند إزالة يد المالك عن ملكه. وعبر بعض الأصحاب عن هذا، فقالوا: " السرقة إخراج المال من الحرز " والحرزُ مصون في هذه المسألة بالمحرِز، فلا تفريق، ولا إخراج. ومن (1) أصحابنا من فصل بين أن يكون الراكب ضعيفاً والآخذ أقوى منه، وبين أن يكون الراكب قوياً، فإذا تيقظ لم يقاومه من قاد بعيره، فقال: إن كان ضعيفاً، فالقائد سارق، وإن كان قوياً، فليس بسارق؛ فإن التعويل في الإحراز حيث يكون المتاع ملحوظاً بالمنعة من اللاحظ، فإن من يكون في يده متاع في الصحراء، ولا مستغاث بالقرب منه، فالمتاع -وإن كان ملحوظاً بلحظٍ- ضائعٌ غيرُ محرز. ومن (2) أصحابنا من قال: إن كان الراكب عبداً، فالبعير والعبد جميعاً مسروقان. هذا ما رأيناه للأصحاب، فنقلناه على وجهه، ودون المنقول بحثٌ عن أمورٍ: منها - أن ما ذكرناه من التردد في تحقيق السرقة يجب أن يكون مترتباً على التردد في أن يد القائد هل تثبت على البعير وما عليه؟ ويجب إجراء الخلاف في هذا على نسق واحد.

_ (1) هذا هو الوجه الثالث من الأربعة الموعودة. (2) هذا هو الوجه الرابع.

11117 - [و] (1) لا يتم الغرض إلا بمسائل نُطلقها: منها - أن من احتمل عبداً قوياً وأخرجه من الحرز في حالة نومهِ، وكان لا يقاوم العبد إذا تيقظ، فهل نقضي بثبوت اليد على العبد أوّلاً، حتى إن فرض تلفٌ قبل التيقظ يجب الضمان؟ الوجه عندنا القطع بثبوت اليد، وإن كانت عرضةً للزوال، والقول الجامع فيه أن المنقول لا يتوقف ثبوت اليد عليه على الاستيلاء والاستمكان من قدرة المقاومة عند طلب الاسترداد، وما ليس منقولاً، فلا معنى لليد فيه إلا الاستيلاء. هذا قولنا في اليد. وأما تحقق السرقة، ففيه نظرٌ، لأن مثل هذا العبد محرز بيد نفسه، [ومع احتمال ضعفه] (2)، فليس منتهياً من صون إلى ضياع، وينشأ من هذا كلام تمس الحاجة إلى مثله في القواعد، وهو أن من جلس نبَذةً حيث لا مُستغاث يجاب إليه، ومتاعه ملحوظ [فتغفله] (3) ضعيفٌ وأخذه منزلاً، ولو شعر به صاحب المتاع، لطرده، فهل نقول: هذا من حيث عُدّ ضائعاً في حق قويٍّ، فلا قطع على آخذه وإن كان ضعيفاً، لأنه يعدُّ المال في مضيعةٍ، أم القول في ذلك ينقسم ويختلف على حسب اختلاف الآخذين؟ الرأي الظاهر عندي أن المال مصون عن الضياع في حق الضعفة، معرض للضياع في حق الأقوياء، [ولا] (4) يمتنع انقسام الأمر في بابه، فإنا وضعنا أصل الحرز على الانقسام بالإضافة إلى صنوف الأموال، فلا يبعد أن يكون منقسماً بالإضافة إلى الآخذين وهذا محتمل جداً.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) عبارة الأصل مضطربة، فقد رسمت هكذا: " محرزٌ بيد نفسه، فإذا احتملنا ضعيف باختيار فليس منتهياً ... " كذا تماماً (انظر صورتها). والمثبت من معنى كلام الرافعي، فقد نقل المسألة كاملةً عن الإمام، وبألفاظه نفسها تقريباً. وهي كذلك عند الغزالي في الوسيط والبسيط. ولكنه في الوجيز أطلق القول بنفي القطع. (ر. الشرح الكبير: 11/ 219، والوسيط: 6/ 476، والبسيط: 5/ورقة 83 يمين، والوجيز: 2/ 176). (3) في الأصل: " فتعلقه " والمثبت من حكاية الرافعي عن الإمام في الشرح الكبير (السابق نفسه). (4) زيادة اقتضاها السياق.

11118 - ومما يجب التنبه له أن ثياب الحر الذي هو لابسها تحت يده، فلو حمل حراً، [وحبسه] (1)، فتلفت عليه ثيابه، فلا ضمان، وأبعد نقلة المذهب، فحكَوْا وجهاً أن يد الغاصب تثبت على الثياب، وهذا بعيد في الحر المستقل. وقد صرح أصحاب المذهب بنقل الوجهين في الثياب التي على الحر الصغير. وشببوا بإلحاق الحر الضعيف البالغ بالحر الصغير، فانتظم في الحر الصغير وجهان؛ من حيث إنه لا يستحفظ ولا تصلح يده للحفظ، فلما كان كذلك تثبت يد آخذه عليه على وجهٍ. ومن أشار إلى أن اليد لا تثبت على ثياب الحر الصغير، نظر إلى الجنس، واستدل بثبوت [يد اللقيط] (2) على ملكه؛ فإن كون الثياب على الصغير يدل على ملكه فيها على ما تقرر ذلك في مسائل اللقيط وما عليه من شعار أو دثار، والحر الضعيف المستقل ممن يجوز أن يؤتمن ويستحفظ، فكان أولى بألا نثبت يد آخذه على ثيابه، والحرّ المستقل القوي بعيد كل البعد ثيابُه عن يد آخذه. ويترتب على هذا المجموع أنا [إن] (3) لم نُثبت اليدَ في صورة، لم نثبت السرقة، وإن أثبتنا اليدَ ومن عليه الثياب قويٌ مستقل بالمقاومة، ففي ثبوت السرقة وجهان، والثياب التي على الإنسان أبعد عن يد آخذه من الحمل الذي تحته والبعير؛ فإن ثياب الإنسان في حكم [جِرمه] (4)، فهذا حكم ما أردناه في ذلك. 11119 - وإذا كان راكب البعير المقود عبداً، فهذا يلتفت على ما مهدناه من أن العبد القوي إذا أخرج، فهل تثبت اليدُ عليه، وإن ثبتت، فهل تتحقق السرقة فيه؟

_ (1) في الأصل: " وحبس ". (2) في الأصل: " يده الدالّة ". وتقع المسألة كلها فيما أصابه المحو من (ت 4)، والمثبت من المحقق على ضوء عبارة الغزالي. هذا وعبارة الغزالي: " ... أحدهما - لا تثبت يد الحامل، بل الثياب في يد الصغير؛ فإن ليده تأثيراً في الشرع، ولذلك نخصص بالشعار والدثار اللقيط الذي وجد ملفوفاً فيه، ولا نسلّمه إلى الملتقط " (ر. البسيط: 5/ورقة: 83 شمال). (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) في الأصل: " جرمنه ".

وليس يخفى بعد هذا التمهيدِ والتنبيهِ تفريغ، ولسنا نكثِّر بعد الوضوح. ثم قال الشافعي: " ويقطع العبد آبقاً وغيرَ آبق ... إلى آخره " (1). 11120 - إذا سرق العبد في إباقه، وجب القطع بالسرقة، خلافاً لمالك (2) وإياه قصد الشافعي بالرد، ومسلك المعنى واضح، وقد روي " أن ابن عمر أبق له عبد، فسرق، فرفعه إلى [سعيد بن العاص] (3) أمير المدينة، فقال: إنه آبق، ولا قطع على آبق، فقال: " في أي كتاب الله وجدتَ، وفطع يده " (4). فصل قال: " ويقطع النبّاش إذا أخرج الكفن ... إلى آخره " (5). 11121 - إذا نَبَش قبراً في بيت وثيق يعدّ حرزاً، وأخرج الكفن من القبر، ثم من البيت، وجب القطع عليه؛ إذا بلغ المأخوذ نصاباً. وإن نبش قبراً في مقبرة محفوفة بالعمارة يخلُف الطارقين عنها في زمان يتأتّى في مثلهِ النبش، أو كان عليها حراس مرتبون، فهي بمثابة البيت. وإن كانت المقبرة على طرف العمارة، فإن كان لها حارس، فهي محرزة، وإلا فوجهان: أحدهما - أنها ليست محرزة. والثاني - أنها محرزة لأن الطروق ليس نادراً

_ (1) ر. المختصر: 5/ 171. (2) ر. الإشراف: 2/ 949 مسألة 1909، عيون المجالس: 5/ 2137 مسألة 1551. (3) في الأصل: " سعيد بن جبير "، والتصويب من كتب الحديث والآثار. وسعيد بن العاص هو سعيد بن العاص بن سعيد بن أمية، صحابي، توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ولسعيد تسع سنين، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان. ولي الكوفة في عهد عثمان، والمدينة في عهد معاوية. توفي سنة 59، وقيل سنة سبع أو ثمان وخمسين، رضي الله عنه (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 218، الإصابة: 2/ 47). (4) أثر عبد الله بن عمر رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/ 83 رقم 269، وعبد الرزاق في مصنفه (18979). وانظر التلخيص 4/ 114، ح 2061). (5) ر. المختصر: 5/ 171.

فيها، ومن يتعاطى النبش ظاهرٌ غير مستتر، وينضم إلى ذلك مهابة المدافن في النفوس. وإن كان القبر منبوذاً في مضيعة، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن الكفن ضائع غيرُ محرز، وسمعت شيخي يحكي وجهاً أنه محرز، وكنت أستبعده حتى رأيته مختاراً للقاضي، واستمسك فيه بما لا يليق بقدره، فإنه قال: لا يعد الكفن مُضَيَّعاً، وهذا الذي ذكره ليس لصون الكفن، وإنما هو لضرورة الحال، وأشار إلى استشعار المهابة من القبور ولا ثبات لمثل هذا. فهذا منتهى الكلام فيما يحرز من القبور، وفيما لا يعد محرزاً. 11122 - فإن قيل: لو وضع في القبر شيء من جنس الكفن، فهل يكون محرزاً؟ قلنا: إن كان في بيت فبلى (1)، وإن كان معرضاً للبلى. وإن كان في مقبرة صونُها باللحظ والطروق، فالمذهب أنه ليس محرزاً؛ رجوعاً إلى العادة؛ فإن الأكفان اجتمع فيها ضرورة الدفن، ومسيسُ الحاجة، والصونُ بالطارقين، فلا يمتنع في حكمة الشرع التغليظ على النباش تحقيقاً للصون، وهذا لا يتحقق حيث لا ضرورة. وحكم بعض الأصحاب بكون المدفون في القبر محرزاً إذا كان من جنس الكفن، وهو بعيد لا تعويل عليه. وإن فرض إسرافٌ في الكفن، نظر: فإن كان من جهة الزيادة على الأعداد المرعيّة في الرياط (2)، فالزائد ليس محرزاً على الرأي الظاهر، والاحتساب في الأعداد المرعية بما يلي الميت إلى الانتهاء إلى الحد المعتبر في الكمال. وإن كان الإسراف من حيث القيمة، ونفاسة الثوب، فقد قال الأصحاب: يجب

_ (1) فبَلَى: بمعنى: فنعم، وهو جائز، وعليه شواهد من حديث البخاري، وقد قدمنا هذا البحث من قبل. والمعنى هنا: إن كان القبر في بيت، فالثوب محرز، وإن كان معرضاً للبلى. (2) رياط: جمع ريطة، وهي الملاءة: قطعة من القماش، وليست لِفْقَين (المصباح والمعجم).

القطع بأنه كفن، وكان شيخي إذا روجع في ذلك تردد؛ إذ لا حاجة إلى تعريض الديباج ودِقّ (1) مصر للبلى، وقد ذكرنا أن الحاجة مرعيةٌ في الباب، والأصح غير هذا. ثم إنما يجب القطع على النباش إذا فصل الكفن عن [القبر] (2) بالكلية، فإنه بجملته حرز، ولا يقع الاكتفاء بالفصل عن اللحد. 11123 - [وتكلم] (3) الأصحاب في مالك الكفن، وحاصل المنقول عنهم أوجه: أصحها- أن الكفن ملك الورثة غيرَ أن الميت أحق به لكونه متعرّضاً لحاجته، ولا يملك الوارث النزعَ والإبدال بعد المواراة؛ لما فيه من الهتك، وغض الحرمة، ودليل هذا أن الميت لو افترسه السبع فالكفن المطروح للورثة. ومن أصحابنا من قال: الكفن ملك الميت؛ لأنه مستغرَق بحاجته وإبقاء الملك له كما في إبقاء الدين عليه، مع وقوع اليأس من طلبته. وهذا القائل يعتذر من افتراس السبع، ويقول: إذا انقطعت حاجة الميت، فلا مصرف أقرب من الورثة، ويَرِدُ عليه أن الميراث مستند إلى حالة [الموت] (4)، وتعتبر تلك الحالة في [الوراثة] (5)، ولا يعتبر ما بعدها، وقد يعترض على ذلك التعلق بأسباب العدوان كاحتفار البئر في الحياة، وفَرْضِ التردّي فيها بعد الموت، ولا يخفى هذا المحالّ. ومن أصحابنا من قال: الكفن ملكٌ لا مالك له. ثم قَطْع السرقة واجب على النباش على الوجوه الثلاثة. 11124 - فإن قلنا: الملك للوارث، فحق المخاصمة له، وإن قلنا: الملك

_ (1) دقّ مصر: كذا وجدته عند الغزالي في البسيط غير مشروح، ولم أجده عند الرافعي ولا في مختصر العز بن عبد السلام، ولا في المعاجم، ولا في غريب ألفاظ الشافعي، وواضح من السياق أن المقصود به نوع من جيد الأقمشة ورقيقها، كان يجلب من مصر. والله أعلم. (2) في الأصل: " الغير ". (3) في الأصل: " فتكلم ". (4) في الأصل: " الميت ". (5) في الأصل: " الورثة ".

فيه لله تعالى، فقد قال القاضي: المخاصمة للإمام، ومن يقيمه الإمام. وإذا قلنا: الملك للميت، ففي من يخاصم وجهان: أحدهما - أن الوارث يخاصم. والثاني - أن الإمام يخاصم، والمخاصَمة التي أطلقناها سيأتي شرحها في باب جحد السرقة، فإنا لا نقيم القطع ما لم يُخاصِم مخاصم عن المسروق، وإذا قلنا: يخاصم الوارث والملك له، فهذا قياسٌ بيّن، وإن قلنا: يخاصم الإمام، ففيه إشكال؛ فإنا إنما نتردد في محل ملك الكفن وهو مدرج فيه، وأما إذا أخذه النباش، فيجب أن يقال: للوارث أن يبدله بمثله أو [بخيرٍ منه] (1) كما لو فرض الافتراس، فإن ذهب من يصير إلى أن الملك للميت، أو لله إلى أن تلك الأكفان يجب ردها بأعيانها، فهذا كلام عري عن التحصيل وإن صح هذا، فالتفريع في تعيين المخاصم صحيح، والوجه عندي أن للوارث أن [يبدله] (2)، فعلى هذا يجب القطع بأنه المخاصم لا غير (3). هذا إذا كُفِّن من ماله الذي خلفه. 11125 - فإن كفن من مال بيت المال، فعلى النباش القطع إذا أخذ ذلك الكفن بخلاف ما لو سرق من مال بيت المال؛ فإن فيه تفصيلاً يأتي، إن شاء الله تعالى، والفرق أن المال في بيت المال عرضة للحقوق كافّة، وإذا صرف شيء منه إلى كفن ميت، فقد انقطع عن ذلك المقدار الحقوقُ العامة، وهذا كما لو صرف إلى فقير ثوب ليستتر به فإذا اختص به وملكه، قطع سارقه، وإن كان لا يقطع لو أخذه من بيت المال.

_ (1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، صورتها هكذا: (ـحر ـلـ ـه) بهذا الرسم وبدون نقط (انظر صورتها). (2) في الأصل: " يبدل ". (3) نقل الرافعي كلام الإمام هذا بشيء من التصرف، ونحن نورده بنصه، قال: " وزاد الإمام فقال: إن كان من يذهب إلى أن الملك في الكفن للميت أو لله تعالى يقول: يتعين ردّه بعد ما أخذه النباش إلى الميت، ولا يجوز للوارث إبداله بغيره. فالتفريع والخلاف في أن الخصم مَنْ هو صحيح، لكن هذا قول عري عن التحصيل، والوجه عندي أن للوارث إبداله، بعد ما انفصل عن الميت، وحينئذ فيجب القطع بأنه الخصم لا غير " (ر. الشرح الكبير: 11/ 207).

ثم الخصومة إلى الإمام. ولو افترسه سبع، عاد ملكاً لبيت المال، وهذا فيه توقيف؛ من جهة أنا ذكرنا أن الأصح أن الكفن المأخوذ من التركة مبقَّى على ملك الوارث، فيلزم من هذا القياس أن نقول: الكفن مبقى على [ملك] (1) بيت المال، وإنما للميت فيه حق الاختصاص، فيتجه أن نقول: لا قطع على سارقه إذا كان بحيث لو سرق من بيت المال [لم يقطع] (2)، وإذا فرعنا على أن الكفن المأخوذ من التركة ملك الوارث، فلو نبش الوارث وأخذ، لا قطع عليه، ولو أخذه ابنه، فكذلك. 11126 - ولو كفن الميتَ رجل محتسب، فإذا سرق سارق ذلك الكفن، استوجب القطعَ، والخصومةُ إلى ذلك المحتسب، هكذا ذكره المحققون. وفيه بحث يُطلع على سر الفصل، وذلك أن الكفن إذا كان مأخوذاً من التركة، انتظم الوجوه الثلاثة فيها، ومن جملتها أن الملك للميت، وهذا منزل على أن ذلك القدر مستبقىً على ملكه لحاجته. وإذا جرى التكفين من بيت المال أو كفّنه محتسب، فتقدير استدامة ملكٍ كان في الحياة غير ممكن هاهنا إذا (3) لم يكن الكفن ملكَه في حياته، وابتداء تمليك الميت عسر على غير مذهب الاستدامة، فينقدح في الملك وجهان إذا كان المكفِّن محتسباً: أحدهما - أن الملك باقٍ للمحتسب، والثاني - أنه زائل عنه، وليس مضافاً إلى الميت، بل هو ملكٌ لا مالك له، فعلى هذا يعود ما يتفرع على هذين الوجهين، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه لا يخرج زوال الملك حتى يكون الكفن ملكاً لا مالك له، فإن ابتداء إزالة الملك على هذا الوجه عسر، فعلى هذا لا يبقى إلا الحكم ببقاء ملك المحتسب، وهذا الوجه وهو مصير الكفن ملكاً لا مالك، فقد يظهر خروجه إذا كان التكفين من بيت المال، فإنه معتدٌّ لهذه الجهات، وليست هي مضافة إلى مالك متحقق.

_ (1) في الأصل: " حكم ". (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (3) إذا: بمعنى إذ.

فانتظم من ذلك طرق: إحداها - أن الأوجه الثلاثة تجري في المحتسب المكفِّن، وفي بيت المال، كما ذكرناه في كفن التركة. والطريقة الثانية - أنه يتخلف من الوجوه تمليك الميت. والأخرى - أنه يتخلف القول بأنه ملكٌ لا مالك له أيضاً، ولا يبقى إلا مسلكٌ واحد، وهو تبقية الملك على ما كان عليه قبل التكفين، والطريقة الأخرى - الفرق بين بيت المال وبين المحتسب، كما تقدمت الإشارة إليه. فرع: 11127 - من جمع من البذور المبثوثة في الأرض ما يبلغ نصاباً، والمكان مصون صَوْنَ مثله، ففي وجوب القطع وجهان: أصحهما - الوجوب، ووجهه بيّن. والثاني - لا قطع؛ لأن مقرّ كل حبةٍ في حكم الحرز لها، فمن جمع من الحبات ما يبلغ نصاباً بمثابة من يسرق مالاً من أحرازٍ ولا يسرق من حرزٍ نصاباً كاملاً. ***

باب قطع اليد والرجل في السرقة

باب قطع اليد والرجل في السرقة قال الشافعي: " أخبرنا بعض أصحابنا ... إلى آخره " (1). 11128 - مذهب الشافعي أن اليدين والرجلين مستوفاة في كَرَّات السرقة على ما سنذكر تفصيلَ استيفائها. والأصل في ذلك ما رواه الشافعي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من سرق فاقطعوا يدَه، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله، ثم إن سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله "، فالأطراف الأربعة مستوفاة، وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال في الكرّة الخامسة: " فإن سرق، فاقتلوه " (2). وقيل: للشافعي قول قديم أنه يقتل في المرة الخامسة؛ تعويلاً على هذه الرواية، فإن معتمد الباب الخبر، ولكن هذا القول في حكم المرجوع عنه، فلا اعتداد به، وتلك الزيادة شاذة، لم يتعرض لها الشافعي. فإذا سرق أربع مرات، واستوفينا أطرافه وعاد وسرق، بالغنا في تعزيره. وإن رأى الإمام أن يحبسه، فعلى ما سنصف الحبسَ الواقعَ تعزيراً في كتاب الأشربة، إن شاء الله.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 171. (2) حديث " من سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق ... " رواه الشافعي، والدارقطني على نحو ما ساقه الإمام، وأما الرواية التي يشير إليها الإمام بزيادة (فاقتلوه) فهي عند الدارقطني من حديث جابر، وقد ضعفها، وكذا جاءت في رواية أبي داود والنسائي بغير سياق الإمام، وقد ضعفها الحافظ، ونقل عن ابن عبد البر قوله: حديث القتل منكر لا أصل له. (ر. معرفة السنن والآثار: 6/ 409 - 410، سنن الدارقطني: 3/ 180، 181، 137 - 138، أبو داود: الحدود، باب في السارق يسرق مراراً، ح 4410، النسائي: قطع السارق، باب قطع اليدين والرجلين من السارق، ح 4978، التلخيص الحبير: 4/ 127، 128 ح 2087، 2088).

فإذا تمهد أصل المذهب، فمن سرق وأطرافه الأربعة سليمة، قطعنا يده اليمنى، في الكرة الأولى، فإن اعتماد التناول عليها؛ فلما كانت هي الآخذة، كانت هي المأخوذة في الحد. فإذا سرق مرة أخرى، فاليد اليسرى أقرب إلى التناول والأخذ، ولكن لو أخذناها، واستوعبنا جنس اليد، لعظُم الضرار، ولكان هذا في حكم ضم عقوبةٍ إلى عقوبةٍ، يعني الاستيعاب بالقطع، فَمِلْنا إلى الرجل؛ فإن غَناءها في السرقة بيّن، وأثرها يلي أثر اليد، فَنَقطع في المرة الثانية رجلَه اليسرى، لأصلين: أحدهما - أنا وجدنا أثر قطع اليد والرجل دفعةً واحدة في الحرابة على هذا الوجه والأخذة الواحدة مجاهرةً معدَّلةٌ بسرقتين. والثاني - أن الأخذ إذا وقع على خلافٍ أمكن أخذُ خشبة باليد الأخرى والاتكاء عليها في المشي، وإذا وقع القطع عن وفاق، لم ينتظم هذا الغرض. فإذا عاد فسرق مرة ثالثة، لم نجد بُدّاً من استيعاب جنس [اليد] (1)، فعدنا إلى اليد، كما بدأنا به أول مرة، فنقطع اليد اليسرى، ثم نقطع في الرابعة الرجل اليمنى، هذا هو الترتيب المستحق في قطع الأطراف. 11129 - ثم إذا سرق في المرة الأولى ويمناه سليمة، قطعناها ولو كان عليها إصبع واحدة، اكتفينا وقطعنا اليدَ من المعصم. ولو كان يمناه كفّاً، بلا أصابع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نكتفي بقطعها، كما لو كان عليها إصبع، ويحصل بهذا القطع الإيلام التام، والتنكيل. والثاني - لا نقطعها؛ فإنها كالعديمة؛ إذ لا مقدّر فيها (2)، وننتقل إلى الرجل، كما نفعل ذلك في الكَرّة الثانية، ولا خفاء أنا نقطع الرجلَ اليسرى. ولو كان على اليمين إصبعٌ زائدة، قطعنا اليد، ولم نبال بتلك الزيادة، وهذا يعادل اكتفاءنا بكف عليها إصبع، واستحقاقُ اليد في السرقة لا يشبه استحقاقها في القصاص؛ فإنا نَرْعَى في القصاص التساوي في الخلقة والسلامة، فلو قطعنا يداً عليها زيادة خلقية بيد معتدلة، لقابلنا يداً وزيادة بيد.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) لا مقدّر فيها: أي ليس في قطعها أرشٌ مقدّر.

ولو كانت اليد اليمنى شلاء، فإن كنا نخاف نزف الدم لو قطعناها، لم نقطعها، وقدّرنا كأنه سرق ولا يمنى له، وإن لم نخف نزفَ الدم، فالذي ذكره الأصحاب أنا نكتفي باليمين الشلاء إذا كانت ذات أصابع، وفي هذا احتمال؛ من جهة أنه لا تَقَدُّرَ فيها، وليست عاملة، فإذا سقط العمل، [وتَقُدُّرُ] (1) الأرش أمكن أن يقال: لا اكتفاء بها. والأظهر الاكتفاء؛ فإن من قطعت يده السليمة، وكانت يد القاطع شلاء، فاكتفى بها مستحق القصاص، وقعت موقع الإجزاء، فإذا لم يبعد اكتفاء مستحق القصاص بالشلاء، لم يبعد اكتفاء الشرع بقطع الشلاء في السرقة، والعلم عند الله تعالى. ولو كان على الساعد اليمنى كفّان، فقد قال الأصحاب: نقطعهما. ونعلم أن الأصلية إحداهما، ولا مبالاة بالأخرى إن قطعناها؛ لما ذكرناه من أن اليمين لو كانت عليها إصبع زائدة، لقطعناها، ولم نحتفل بتعطيل الإصبع الزائدة. وهذا فيه تفصيل عندنا: فإن كانت اليد الأصلية بيّنة، فأمكن قطعها، فلا سبيل إلى قطع الأخرى، وإن كان لا يتأتى قطع الأصلية إلا بقطع الزائدة [فهل نقطعهما حينئذٍ] (2) إن كان قد أشكل الأصلي منهما؟ فالذي رأيته للأصحاب أنا نقطعهما ليتحقق قطع اليد المستحقة، ولا مبالاة بإبانة الزائدة. وهذا ظاهر التوجيه، فليتأمله الناظر. 11130 - ثم مذهب العلماء أن قطع اليد من مفصل الكوع، وقطع الرجل من الكعبين، وذهب بعض أصحاب الظاهر إلى أن اليد تقطع من المنكب (3)، وهذا

_ (1) في الأصل: " وتعذر ". ومعنى سقط تقدّر الأرش: أي أن اليد الشلاء ليس في الجناية عليها بقطعها أرش مقدّر، بل سقط بالشلل أرشها الذي هو نصف الدية. (2) عبارة الأصل: " ... إلا بقطع اليد الزائدة حينئذ نقطعهما ". والتصرف بالتقديم والتأخير والزيادة من المحقق. (3) لم نجد هذا الذي نسبه الإمام إلى الظاهرية عند ابن حزم وهو عمدتهم ومحصل آرائهم، بل وجدناه ينسب هذا القول إلى الخوارج (المحلى: 11/ 357). لكن هذا لا يطعن فيما قاله الإمام، حيث قال: " وذهب بعض أصحاب الظاهر " فلعل هذا كان قولاً لبعض الظاهرية، ثم هُجر منهم.

ْمذهب متروك، وقد ذكرنا في مواضع من الأصول والفروع، أن أصحاب الظواهر ليسوا من علماء الشريعة، وإنما هم [نقلة] (1) إن ظهرت الثقة بهم. ثم ينبغي أن نمد اليد والرجل حتى تنخلع، ثم تربط الجارحة على خشبة حتى لا تضطرب، أو على ما تيسّر. 11131 - ثم الحسم لابد منه؛ إذ ينقطع بفصل اليد شرايين لا يَرْقَأُ دمُها إلا بالحَسْم، والحَسْمُ أن يغلى الزيت بالنار، ويغمس موضع القطع فيه، فتنسد أفواه العروق، واختلف الأصحاب في أن الحسم حق لله تعالى أو من حق المقطوع: فمنهم من قال: هو تتمة حق الله تعالى، وفيه مزيد إيلام مع رعاية مصلحة، وهذا القائل يستشهد بأن السلاطين ما زالوا يفعلون هذا في المقطوعِ أطرافُهم لا [يتركونه، فتُحسم] (2) أيديهم على الكُرْه منهم، ولم يتعرضوا لهذا في قطع الأيدي قصاصاً. ومن أصحابنا من قال: هذا حقٌّ للمقطوع، وهو الظاهر؛ لأن الحد إنما هو القطع، ولا يخفى على المنصف أن الحسم استصلاحٌ ومعالجة. فإن قيل: إذا عرّض الإنسان نفسه للهلاك، فللسطان أن يمنعه عنه قهراً، وترك الحسم تعرّضٌ للهلاك؟ قلنا: ليس الأمر على هذا الإطلاق، فإن الضعيف قد يهلكه ألم الحسم، والسعيُ في قطع الدم ممكن بوجه [آخر] (3)، والمالك لأمر نفسه لا يتعرض السلطان لتخير معالجته. التفريع: إن حكمنا بأن الحسم حقُّ المقطوع، فالأمر إليه فيه: إن أراده، فالمؤنة عليه. وإن قلنا: الحسم من حق الله تعالى، فالمؤنة فيه بمثابة مؤونة الجلاد، وقد سبق الخلاف في أن مؤونة الجلاد على من؟ ثم إذا قطعت يد السارق، ففي بعض الآثار أن يده المقطوعة تعلّق في رقبته؛

_ (1) في الأصل: " نقلته ". (2) في الأصل: " لا يزيدونه فحسم ". (3) زيادة من المحقق.

تنكيلاً به (1)، وقد اختلف أئمتنا في هذا: فمنهم من لم يصحح الخبر، ولم ير هذا، ومنهم من رآه، ولا ينتهي الأمر إلى الإيجاب في ذلك، ولكنه إلى رأي الإمام. ثم أشار هؤلاء إلى أنه تبقى في عنقه ثلاثة أيام. 11132 - ومما يتعلق بذلك أن السارق إذا استحق قطع يمينه، فلو لم يتفق قطعُ يمناه حتى سقطت بآفة سماوية، فالذي اتفقت عليه الطرق أن الحد سقط في هذه الكرّة؛ فإن اليمين كانت مستحَقَّة، وقد سقطت، فسقط الحد عقوبة بسقوط محله. ونص الأصحاب على أن من استحقت يده قصاصاً، واستحقت يده حداً؛ فإذا قطعت يده قصاصاً، سقط الحد بفوات المحل في القصاص. وفي بعض التصانيف أن اليمين إذا سقطت بعد الاستحقاق، فإنا [نَعْدل] (2) إلى الرجل اليسرى، فنقطعها، ونجعل كأنه سرق ولا يمين له، ولو كان كذلك، لتعلق الوجوب بالرجل اليسرى. وهذا غلطٌ لا مراء فيه، والمذهب الذي عليه التعويل ما ذكره الأصحاب. ومما نذكره متصلاً بذلك أن من سرق أول مرة، فقال له الجلاد: أخرج يمينك فأخرج يساره، فقطعها الجلاد، نص في الأم على سقوط قطع السرقة وحكى الحارث بن سريج النقال، وقيل البقال (3): إن الجلاد إن تعمد ذلك فعليه القصاص

_ (1) خبر تعليق اليد المقطوعة. رواه أصحاب السنن من حديث فضالة بن عبيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فأمر به فقطعت يده، ثم علقت في رقبته ". وقد ضعفه الحافظ، ثم نقل عن الرافعي كلامَ الإمام في النهاية وعقّب قائلاً: " هو كما قال: لا يبلغ درجة الصحيح ولا يقاربه " ا. هـ (ر. أبو داود: الحدود، باب في تعليق يد السارق في عنقه، ح 4411، النسائي: قطع السارق، باب تعليق يد السارق في عنقه، ح 4982 - 4983، الترمذي: الحدود، باب ما جاء في تعليق يد السارق، ح 1447، ابن ماجه: الحدود، باب تعليق اليد في العنق، ح 2587، التلخيص: 4/ 129 ح 2090). (2) في الأصل: " نعد ". والمثبت من بسيط الغزالي. (3) الحارث بن سريج النقال (بالنون والقاف)، أبو عمرو البغدادي، الخوارزمي، روى عن الشافعي، وسمّي بالنقال لأنه نقل (رسالة الشافعي) إلى عبد الرحمن بن مهدي. توفي سنة 236 هـ. هذا. ولم نجد في كتب الطبقات من أشار إلى الاختلاف في لقبه بين النقال، والبقال، مما يجعلنا نتوقف في الأمر ونظن ظناً أن الترديد بين الإمامين: النقال، والقفال، وليس بين اللقبين، وكان المعنى: وقيل عن القفال. فالرافعي ذكر هذه المسألة بعينها=

في اليسرى، وقطع السرقة باقٍ في اليمين، وإن قال: دهشت فحسبت أن الذي قطعته اليمين، وجبت الدية بسبب قطع اليسرى، وقطع السرقة باقٍ في اليمين: فحصل قولان: أحدهما - أن قطع السرقة لا يسقط، كما لا يسقط القصاص لو وجب في اليمين بالعدول في اليسرى. والثاني - يسقط الحد، وهو ظاهر النص في الأم. وقد استقصيت مسألة الدهشة في القصاص [والحد] (1) في كتاب الجراح، وأتينا بها على الاستقصاء، وأوضحنا أن اختلاف القول فيه إذا جرى القطع على الدهشة، ثم فصّلنا الدهشة. فأما إذا جرى قطع اليسار عمداً على علم، فالحد باقٍ، والقصاص واجب. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال مفرِّعاً على أن القطع لو صادف اليسرى غلطاً، لسقط الحد: لو سقطت اليسرى قبل اليمين بأَكِلَةٍ (2)، لم يمتنع أن يكون سقوطها بالآفة بمثابة غلط الجلاد إليها بالقطع، وهذا سخيف لا اعتداد به، وقد زيفه العراقيون فيما نقلوه. فصل قال: " ولا يقطع الحربي إذا دخل إلينا بأمان ... إلى آخره " (3). 11133 - العقوبات ضربان: حق الله تعالى، وحق الآدمي، كحد القذف،

_ =مرتين، مرة في الكلام على استيفاء القصاص ونقل الحكم بعدم الاكتفاء بقطع اليسار منسوباً إلى القفال ثم أعادها في آخر حدّ السرقة وذكر الحكم عينه وقال: إنه يروى عن الحارث بن سريج النقال (وهو في مطبوعة الشرح الكبير: ابن سريج القفال، خطأً) وقد أشار الإسنوي في ترجمته للنقال إلى هذا الاحتمال في كلام الرافعي. (ر. طبقات العبادي: 19، طبقات الشيرازي: 83، طبقات السبكي: 2/ 112، طبقات ابن كثير: 1/ 126، طبقات الإسنوي: 1/ 23، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 60، طبقات ابن الملقن: 219، الشرح الكبير للرافعي: 10/ 287، 11/ 246). (1) في الأصل: " والحيد ". (2) الأَكِلة: بفتح ثم كسر، داءٌ في العضو يأتكل منه (القاموس). (3) ر. المختصر: 5/ 171.

والقصاص، فإذا صار سببهما من الذمي والمعاهد، وجبا عليهما وفاقاً. فأما العقوبات التي هي حدود الله تعالى، فهي أقسام: منها حد الشرب، وقد قال المحققون: لا يجب على الذمي حد الشرب، لأنه يعتقد حِل الخمر، وقد ذكرنا خلافاً بعيداً في ذلك. وقد ذكرنا نصَّ الشافعي على أن الحنفي إذا شرب النبيذ حُدّ، وذكرنا تخريجاً في هذا، والذي نزيده أن من أصحابنا من قال: إنما أحد الحنفيّ إذا شرب وسكر؛ فإن ما يُعقب السكرَ حرام وفاقاً، فيعود الخلاف إلى نفي الحد ووجوبه، والخلاف في الحد لا يمنع الإمام من الجريان على موجَب عقده في استيفاء الحد، وهذا فيه تأمّل؛ فإنا إن لم نجر على نص الشافعي أن الحنفي يحد إذا شرب وإن لم يُسكر، فالحكم بتحريم المقدار المسكر على رأي أبي حنيفة عسر، وللاحتمال على الجملة مجال، والمعتمد النص. هذا قولنا في حد الشرب. 11134 - فأما قطع السرقة، فإنه يجب على الذمي، فإن سرق من مال المسلم، قطعه الإمام، ولا يتوقف الأمر على رضاه بحكمنا؛ فإن الذمي مزجور عن التعرض لمال المسلم بالحد، فلو توقف الحد على رضاه، لبطل هذا المعنى، وإذا سرق الذمي من الذمي، فذاك مما يتوقف إقامة الحد فيه على ترافعهما، ثم يجري القولان في أنا هل نحكم على الممتنع إذا ارتفع إلينا الخصم المطالِب في المال؟ (1). وكذلك لو زنى الذمي بمسلمة، فالوجه عندنا القطعُ بإقامة الحد عليه؛ لما حققناه في السرقة، فأما إذا زنى بكافرة، فيقع ذلك في تفصيل حكمنا عليهم قهراً واختياراً. ثم كما يجب على الذمي القطع بسرقة مال المسلم يجب على المسلم القطع بسرقة

_ (1) كذا. والمعنى على أية حال: إذا ارتفع إلينا الخصم المطالب في السرقة. وقد نقل الرافعي هذه العبارة عن الإمام قائلاً: " وأشار الإمام إلى القطع فيما إذا سرق مال مسلم، بأنه يقطع، ولا يتوقف الأمر على رضاه، وذكر أنه إذا سرق مال ذمي، فإنما يقطع إذا ترافعوا إلينا، ويجري القولان في إجبار الممتنع إذا جاءنا الخصم " (ر. الشرح الكبير: 11/ 225).

مال الذمي، فالعصمة [لماله] (1) والحد لله تعالى، وليس مبنياً على معنى المكافأة بخلاف القصاص. وفي كلام أصحابنا ما يدل على أنا لا نفصل بين زنا الذمي بمسلمة أو ذمية في رد الأمر إلى القولين في قهرهم إلى أحكامنا، ويؤول الكلام إلى أن عهده هل ينتقض؟ وهذا غلط لا يعتقده خبير بسر المذهب؛ فإنا إذا لم نر إقامة الحد قهراً -وليس في حق الله تعالى خصمٌ مطالِب إلا الإمام- لجرّ ذلك فضيحةً عظيمة، والحكم بانتقاض عهده لا نراه شيئاً مع أنه يطلب الذمة فنجددها له، ولا وجه إلا ما قدمناه. وهذا كلام في الذمي المؤبد العهد. 11135 - فأما المعاهَد إذا سرق، فقد تعارضت النصوص فيه، والحاصل مما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها - أن الحد لا يجب عليه؛ فإنه بالعهد المؤقت لم يلتزم الاستسلام لأحكام الإسلام، وحدود الله تعالى، وإنما تقام (2) على ملتزم. والقول الثاني - أنه يقطع كالذمي؛ فإنه حال السرقة في عهد، وموجَب العهد العصمة، ومن الوفاء بها التزامُ الزواجر عند ركوب موجِباتها. وذكر أصحابنا قولاً ثالثاً - أنه إن شرط عليه القطع لو سرق، لزمه، وإن لم يشرط عليه القطع لو سرق، لم يلزمه. ولو سرق المسلم مال المعاهد، فالتفصيل فيه كالتفصيل في المعاهد إذا سرق مال المسلم؛ إذ يبعد أن يُقطع المسلم في مال المعاهد، ولا يقطع المعاهد في مال المسلم. ولو زنى المعاهد بمسلمة، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجراه مجرى السرقة، ومنهم من رأى القطعَ بأن حدّ الزنى لا يتوجه عليه؛ لأنه محض حق الله تعالى، ولا يتعلق بطلب الآدمي وخصومته. ولا خلاف أن ما أخذه المعاهد أو أتلفه من المال، فهو مطالب بالأحكام المالية، وإنما التردد الذي ذكرناه في العقوبة التي تجب لله تعالى.

_ (1) في الأصل: " ماله ". (2) في الأصل: " تقدم ".

فصل 11136 - العين الواحدة إذا تكررت السرقة فيها، فيتكرر القطع عندنا سواء سرقها من مالكين أو مالك واحد، وخلاف أبي حنيفة (1) مشهور في ذلك، وكل سرقة عندنا جريمة على حيالها، ثم لا يشك الفقيه أن ما ذكرناه في تخلل الحدّ بين السرقتين؛ فإنه لو سرق مراراً، ولم يتفق استيفاء الحد منه، فإنا لا نقيم عليه إلا حداً واحداً، فنقطع يمناه، وتكرر السرقات من غير تخلل قطع بمثابة سرقة نُصب بدفعة. ...

_ (1) ر. الهداية: 2/ 413، المبسوط: 9/ 165.

باب الإقرار بالسرقة والشهادة عليها

باب (1) الإقرار بالسرقة والشهادة عليها قال الشافعي رحمه الله: "لا يثبت على سارق حد إلا بأن يثبت على إقراره ... إلى آخره" (2). 11137 - لا شك أن وجوب القطع واستيفاءه يترتب على ثبوت السرقة الموجبة له، والسرقة تثبت بالإقرار، أو البيّنة، ثم الإقرار ينقسم قسمين: إقرارٌ قبل الدعوى، وإقرار بعدها، وكذلك البيّنة تنقسم على هذا الوجه، وسنستوفي الأقسام، ونأتي في كل قسم بما يليق به. ونقول أولاً: إذا ادعى مالك مالٍ السرقةَ على إنسان، فلا يخلو، إما أن يكون له بينه أو لا يكون له بيّنة؛ فإن لم يكن له بينة، فلا يخلو إما أن ينكر المدعَى عليه أو يقر، فإن أنكر، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف المدعي، واستحق دعواه، وغرّمه المال؛ لأن النكول مع ردّ اليمين كالبيّنة، أو كالإقرار، ولا شك في ثبوت الدعوى بهما جميعاً، ثم كما يثبت المال، يثبت القطع حقاً لله تعالى، هكذا ذكره الأصحاب؛ فإن يمين الرد إن جعلناها كالإقرار، فالقطع يثبت به، وإن جعلناها كالبينة، فهي كبينة كاملة، والدليل عليه أن القصاص يثبت بها، والقصاص لا يثبت إلا ببينة. وقد يخطر للناظر في هذا أدنى إشكال؛ من حيث إن الدعوى لا تتعلق إلا بالمال، والقطع لله تعالى، [وإجراء حدود الله تعالى] (3) بالأيمان فيه إشكال. ولو قال رجل: استكره فلانٌ جاريتي وزنى بها، فأنكر المدعى عليه، وأفضت

_ (1) من هنا بدأ ظهور بعض السطور والفقرات في نسخة (ت 4) ولم ينته أثر البلل والمحو بعدُ. (2) ر. المختصر: 5/ 171. (3) زيادة من (ت 4).

الخصومة إلى يمين الرد، فالمهر يثبت بها، ويبعد أن يثبت حد الزنا. فإذاً يجب ترديد الرأي في ثبوت حد السرقة؛ لما أشرنا إليه، ويجب القطع [بأن] (1) حد الزنا لا يجب (2)؛ من جهة أنه يثبت حقاً لله تعالى، وسنذكر بعد هذا مسائلَ تشير إلى التسوية بين حد السرقة والزنا، حتى صار كثير من الأصحاب إلى إجراء الخلاف فيهما بطريق النقل من أحدهما إلى الثاني. هذا فيه إذا أنكر. 11138 - وإن أقرّ، ثبت الغرمُ والقطعُ بإقراره، وإن أصر على الإقرار؛ فلا كلام، وإن رجع عن الإقرار، فللأصحاب طريقان: قال قائلون: إذا رجع، لم نقبل رجوعَه في المال، والغرم قائم عليه، وفي قبول رجوعه في القطع قولان: أحدهما - يقبل، وهو قياس العقوبات حقوقِ الله تعالى، ولا خلاف أن حد الزنا (3 إذا ثبت بالإقرار، سقط بالرجوع، والقول الثاني - أن القطع لا يسقط، لأنه قرين الغرم، فإذا لم يؤثِّر رجوعه 3) في المال، وجب ألا يؤثِّر في القطع. وهذا قد يشير إلى فقهٍ لائق بالباب، وهو أن قطع السرقة يرتبط بحق الآدمي من وجهٍ؛ لأنه أثبت عصمةً لماله، ولهذا يتعلق بمخاصمة المالك في المال، وللغلوّ في هذا المعنى صار أبو حنيفة إلى أنه لا يجمع بين القطع، وتغريم السارق. هذا مسلك لبعض الأصحاب سديد، وهو طريقة القاضي. وذهب طوائف من الأئمة إلى عكس هذا، وقالوا: إذا أقر بالسرقة الموجبة للقطع، ثم رجع عن إقراره، فرجوعه عن الإقرار مقبولٌ في القطع ساقطٌ قولاً واحداً، وهل يسقط الإقرار بالمال؟ فعلى قولين، فهؤلاء قطعوا بسقوط القطع، ورددوا القول في إتباع المال القطعَ وشبهوا ذلك بإقرار العبد بالسرقة، فإن إقراره في وجوب القطع مقبول، وفي المال قولان. والطريقة الأولى أفقه؛ فإن قبول الرجوع عن الإقرار بالمال بعيد عن القولين،

_ (1) في الأصل: " على أن ". والمثبت من (ت 4). (2) ت 4: يثبت. (3) ما بين القوسين سقط من (ت 4).

والذي يوضح ذلك أن ضمان السارق المالَ يسبق استيجابه القطعَ؛ فإنه إذا أثبت يده على مال الغير، ضمنه بالعدوان، ثم يستوجب القطع بالإخراج من الحرز. والطريقة المُثلى المصير إلى أن القطع يسقط، والغرم يبقى، وقد ذهب إلى القطع بسقوط القطع وبقاء الغرم طوائف من المحققين، منهم الصيدلاني وغيره، وليس هذا كإقرار العبد؛ فإن سبب قبول إقراره انتفاء التهمة، ولولا ذلك، لما قبلنا إقراره في القطع، وفيه إتلاف طرف مملوك للسيد، ولو أقر الرجل بأنه استكره جارية على الزنا، وثبت عليه الحد والمهر بإقراره، فلو رجع عن الإقرار، لم يسقط المهر، وفي سقوط حد الزنا جوابان للقاضي. قال: يحتمل أن يكون كحد السرقة، ويحتمل أن يقال: يسقط الحد قولاً واحداً؛ لأن وجوب الحد ينفك عن المهر، ووجوب القطع لا ينفك عن مطالبةٍ بردّ عينٍ أو غرم، فارتباط القطع بالمال أشد من ارتباط الحد بالمهر. ومن سلك الطريقة الثانية في حد السرقة وقال: إذا رجع عن الإقرار، سقط الحد، وفي الغرم خلاف قد يلتزم مثل هذا فيه إذا أقر بالاستكراه على الزنا ثم رجع عن الإقرار، فيقول: الحد يسقط، وفي سقوط المهر تردد. وكل ذلك خبط، والوجه القطع ببقاء المال، وسقوط الحد. 11139 - ثم قال الأصحاب: إذا رأينا سقوط القطع بالرجوع عن الإقرار، فقطع الجلاد بعض اليد، فرجع، فعلى الجلاد أن يكف، فلو قال الراجع: اقطع البقية وأرحني، فإن كان الباقي على حياة، فلا يحل قطعه، وإن بقيت جلدة نعلم أنها لا تستقل، وستسقط، فيجوز قطعها. وليس هذا من أحكام الحد، بل كل من قطع يده ظلماً أو حداً، أو انقطع بعض يده لمصادمة آلةٍ، فإن كان في الباقي حياة، فلا سبيل إلى قطعه، وإن كان كالجلدة التي وصفناها، فالخِيرةُ إلى صاحب اليد: فإن أراد قطعها، [فلمن يأمره بقطعها أن يقطعها] (1)، وإن أراد تركها، تركها، وقد استقصيت حكم ذلك في الجراح، [في

_ (1) عبارة الأصل: " فلم يأمره بقطعها، وإن أراد تركها ... " والمثبت من (ت 4).

الطهارة] (1) والنجاسة، وأحكام الصلاة، ووجوبُ القصاص على من ينهي القطع من يد المجني عليه إلى هذه الغاية، فلا معنى للإعادة. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت (2) الخصومة على إنكار المدعى عليه، أو إقراره. وقد انتجز الكلام في إقراره مترتباً على دعوى المدعي. 11140 - فلو أقر بالسرقة قَبْل بدعوى المسروق منه، فإقراره ثابت، ولكن هل نقطع يده في غيبة المسروق منه، أو نصبر إلى أن يحضر؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنا نقطع يده، ولا نبالي، كما لو أقر أنه زنى بفلانة، أو زنى بجارية فلان، فحد الزنا يقام عليه بحكم إقراره في غيبة هؤلاء، وكذلك حد السرقة. والوجه الثاني - أنه لا يقطع في غيبة المسروق منه، [والفرق] (3) أن المقَرَّ له بالسرقة من ماله لو حضر وقال: ما سرقه ملكُه، وليس ملكي، أو قال: كنت أبحتُ له أخْذ ما أخذه، فالقطع يسقط، وإن أنكر السارق ذلك. فإذا كنا نتوقع هذا، فلا معنى لابتدار القطع قبل حضور مالك المال، وليس كالزنا؛ فإن مالك الجارية لو قال: كنت أبحت الجارية للواطىء، فلا حكم لذلك، فلا معنى لانتظاره. وقد نُنشىء من هذا المنتهى أن مالك الجارية لو قال: كنت بعته الجارية أو وهبته إياها، وقبضها، فيجب أن يقال: لا يسقط حد الزنا بذلك، مع إصراره على الإقرار بالزنا، وتكذيبِ مالك الجارية. وأبو حنيفة (4) يسقط الحد بمثل هذا. ولو قال الرجل: زنيت بفلانة وذكر حرّة فقالت: كنت منكوحته، لم يسقط الحد بقولها مع تكذيبه إياها، وإصرارِه على الإقرار بالزنا. وفي هذا المقام يظهر انفصال حد الزنا عن حد السرقة. 11141 - فإن قلنا: لا يقطع السارق في غيبة المسروق منه، فهل يحبس السارق

_ (1) في الأصل: " والطهارة ". (2) ت 4: " دارت ". (3) في الأصل: " والوجه ". (4) ر. المبسوط: 9/ 87.

المقر؟ نُظر: فإن كانت الغيبة قريبة، حُبس، وإن كانت بعيدة، فقد قال الأصحاب: إن كانت العين التي أقر بسرقتها تالفة، حبس، وإن كانت قائمة فوجهان: أحدهما - يحبس، كما لو كانت تالفة. والثاني - لا يحبس، بل ينتزع الحاكم العينَ من يده، ويحفظها للمقَر له. ومن تمام البيان في هذا أن العين لو كانت تالفة، فقال المقِر بالسرقة: أنا أبذل قيمتها، فخذها وخلِّ سبيلي، فهذا يخرج على الخلاف المذكور في بقاء العين. ووراء ما ذكرناه سر، وهو أن من أقر لرجل بمال في غيبته، فالسلطان لا يحبسه؛ فإن الحبس موقوف على استدعاء مستحِق الحق، فهذا الحبس يستحيل أن يكون لأجل المال، فيجب رد النظر إلى القطع. فإن قلنا: القطع يسقط بالرجوع عن الإقرار؛ فلا معنى للحبس. وإن قلنا: لا يسقط القطع بالرجوع، فيجوز أن يقال: يحبس؛ فإنه لو خُلّي، لأوشك أن يفلت ويفوت الحق، فليكن الخلاف مأخوذاً من هذا المأخذ. ثم لا يختلف الأمر في هذا الترتيب بين أن يكون المقَرُّ به عيناً، أو ديناً. وقد نجز مقدار غرضنا في الإقرار بالسرقة. 11142 - فأما إذا كان على السرقة بيّنة أقامها مدعي السرقة، فلا يخلو: إما أن تكون كاملة أو تكون ناقصة، فإن كانت كاملة، وذلك بأن يشهد رجلان عدلان، فالقطع يثبت، والغرم يثبت. ولو قال المدعى عليه: كان المسروق ملكي غصبنيه، فهل يسقط الحد عن السارق؟ هذا فيه اختلاف قدمته، ونص الشافعي رضي الله عنه على سقوط القطع بمجرد الدعوى. وفي هذا فضل نظر؛ فإن ما ذكرناه من سقوط القطع على النص بالدعوى فيه إذا لم تكن بيّنة، فإذا قامت بينة كاملة يثبت بمثلها العقوبات، فيبعد المصير إلى إسقاط القطع إذا كانت الحالة هكذا. [والذي] (1) تحصل لنا من قول الأصحاب تفصيلٌ نطرده على وجهه، فنقول: إن

_ (1) في الأصل: " فالذي ".

ثبتت السرقة من حرز هو بما فيه تحت يد إنسان، فحكم الظاهر أن المسروق مردود على صاحب اليد، فلو فرض من السارق دعوى الملك، فهذا موضع النص، وسقوط القطع متضح فيه؛ فإنه لم يثبت إلا صورة السرقة والأخذ عن يد المسروق منه، ويجري في هذه الصورة القول المُخَرَّج. ْوجه جريان النص: سقوطُ القطع، ثم يبقى الخصام في الملك، فإن ادعى المسروق منه أنه ملكه، ففو مردود في يده أولاً، والقول قوله مع يمينه، فإن حلف، ثبت له الملك، وانتفى القطع، وإن نكل، لم يخف جريان الخصومة على قياسها. ووجه جريان التخريج: أنا نقول: القول قول المسروق منه مع يمينه، فإن حلف ثبت الملك، وثبت القطع، فيرجع الخلاف إلى أن القطع هل يثبت بيمين المدعى عليه ثبوته بالبينة القائمة على الملك، وسر المذهب في هذه الصورة أنا على التخريج لا نحكم بثبوت القطع ما لم نفرض يمين المدعى عليه ودعواه الملك، وعلى النص نفس الدعوى في الصورة التي ذكرناها يتضمن انتفاءَ القطع. هذا بيان ذلك. 11143 - صورة أخرى: إذا ادعى رجل على رجل سرقةَ متاعٍ من ملكه وحرزه، ووصف ما تفتقر السرقة إليه في اقتضاء القطع، وأقام شاهدين عدلين على أنه سرق من ملكه هذا المتاع، فلو قال السارق: كان أباح لي أخذه، فنُجري في هذه الصورة النصَّ والتخريجَ لانتظام الدعوى، ولا مضادة بينها وبين قضية البينة، فيجري في ذلك النصُّ في سقوط القطع، والتخريجُ في بقائه إذا حلف المدعى عليه، كما سنصف ذلك، إن شاء الله تعالى. ولو قال المدعي: كنت اشتريته منه، فمنعنيه، فسرقته، فنُجري في هذه الصورة النصَّ والتخريج؛ فإن البينة لو تعرضت لنفي الشراء، لكانت شاهدة على النفي، ولو فرض دعوى على غير هذا الوجه في غير صورة السرقة- لسمعت على معارضة البينة المطلقة على الملك، ولقيل للمدعى عليه: احلف، فإذا جرى الدعوى وأمكن تقديرها مع البينة جرى النص والتخريج. ولو قال السارق: لم يزل هذا المسروق ملكي، وإنما غصبنيه المسروق منه، فهذا إنكار منه لأصل الملك، والبينة قائمة على إثبات الملك، فتناقض الدعوى

يقتضي البينة، وفيه سر، وهو أن دعوى الملك لا تستند إلى يقين، كما أن البينة لا تستند إليه، وهذا فيه احتمال ظاهر، وفي كلام الأصحاب ما يدل على التردد فيه، فإن جرينا على التخريج، فلا خفاء، وإن جرينا على النص، فيجوز أن يقال: لا يسقط القطع في هذه الصورة؛ لأن الدعوى تبطل بالبينة في وضع الخصومات، وليست البينة كاليمين يفرض من المسروق منه. ويجوز أن يقال: يسقط القطع، لإمكان الصدق وانتصاب السارق خصماً، وإن كان مقضياً عليه، فلا فرق بين أن يقضى عليه بالبيّنة وبين أن يقضى عليه باليمين. وإذا قضينا بسقوط القطع والملك مقضي به، فهل يحلف مقيم البينة؟ فيه كلام سيأتي الشرح عليه في أدب القضاء، إن شاء الله تعالى. وليس من غرض هذا الفصل، لأن القطع ساقط كيف فرض الأمر، وهذا مقصود الباب. 11144 - ولو قال السارق كان أباح لي أخذ ما أخذته، والتفريع على النص، فلا يحلف المغصوب منه بلا خلاف؛ لأنه [لا] (1) غرض له في نفي الإباحة باليمين؛ إذ لا يرتبط بها غرض مالي والقطع ساقط كيف فرض. وذلك الذي أبهمنا الكلام فيه لا بد من رمز إليه الآن تفصيلاً، ثم يأتي شرحه في موضعه إيضاحاً وتقريراً: فإذا ادعى رجل على رجل عين مالٍ وأقام على ملكه وتحقيق دعواه بينة، فقال المدعى عليه: أسند الشهود شهاداتهم بظاهر (2) الحال، ولهم ذلك، ولكن المدعي يعلم سراً أنه كاذب، فحلِّفوه، ففي التحليف على هذا الترتيب خلاف سيأتي مشروحاًْ، إن شاء الله تعالى. وقد نجز الغرض، وكل ما ذكرناه إذا قامت البينة مترتبة على الدعوى، بأن يدعي على رجل وفي يده ثوب أنه سرقه بعينه من ملكه، وقد تفصّل المذهب في هذا الطرف. 11145 - فأما إذا قامت بينة على أن فلاناً سرق هذا المتاع من ملك فلان،

_ (1) زيادة من (ت 4). (2) ت 4: " إلى ظاهر الحال ".

والمشهود له غائب، فقد نص الشافعي على أنه لا يقطع في الحال، ونص على أنه لو شهد شاهدان على واحد بأنه زنى بجارية فلان (1 أنه يجب الحد 1)، فاختلف أصحابنا في المسألتين: فمنهم من نقل وخرّج، وأجرى قولين في المسألتين؛ من حيث إن السبب ارتبط فيهما بملك لم يدّعه من نسبت البينةُ الملكَ (2) إليه، ويجوز فرض الجارية ملكاً للواطىء، كما يجوز فرض المسروق ملكاً للسارق. ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وفرق بأن المسروق منه [ربما يقول لو حضر: كُنت أبحت له ذلك] (3) (4 ولو قرر هذا، لسقط الحد 4)، ولو قرر مثل ذلك في الجارية، ووطْئها، لم يسقط الحدُّ، فانتظار حضور الغائب في السرقة لتوقع شبهة دارئة لا يتأتى مثلها في الجارية ووطئها. ومما ينتظم وراء ما ذكرناه أن من وطىء جارية، ثم زعم أنها ملكُه، أو وطىء حرة، ثم زعم أنها زوجته، فقد ذكرنا أن مضمون النص في ذلك سقوط القطع في السرقة، وهذا في حد الزنا متردد: ظاهر المذهب والنص أن الدعوى العرية لا تُسقط حد الزنا بخلاف السرقة، فإن القطع في السرقة يكاد يتبع حقَّ الآدمي، فترتبط الدعوى به، بخلاف حد الزنا، ولذلك لا يسقط حد الزنا بالإباحة، وينشأ هذا الاختلاف من تردد الأصحاب في النصين المذكورين في البيّنة المقامة وصاحب الملك غائب. ثم إذا جرينا على النص، وقلنا: لا يقطع السارق ما لم يحضر المسروق منه، فقد قال الأصحاب: يحبس السارق إلى أن يحضر المسروق منه، وهذا مشكل؛ فإن البينة قامت على مالٍ قَبْل دعواه، وحق البينة إذا قامت قبل الدعوى أن ترد في حقوق الآدميين، وهذا الآن يوضحه ترتيب فنقول: ما تمحض حقاً لله تعالى، فشهادة الحسبة فيه مقبولة، وما تمحض حقاً للآدمي، فالمذهب أن شهادة الحسبة فيه مردودة، وفيه قول حكيناه وأجريناه في باب الشهادة على الجناية، ووعدنا استقصاءه

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 4). (2) ت 4: " بينةُ الملكِ ". (3) عبارة الأصل: " إنما يعول: لو حضرت، أبحت له ذلك " والمثبت من (ت 4). (4) ما بين القوسين سقط من (ت 4).

في البينات، [والقطعُ] (1) المتعلق بالسرقة متردِّدٌ؛ من جهة أنه يتعلق بحق الله تعالى، ويتعلق بحق الآدمي، والقطع مشروع [لصون] (2) حق الآدمي، وقد ظهر لنا تردد الأصحاب في هذا، فقال قائلون: البينة مردودة، فلا يحبس السارق إذاً. وقال آخرون: البينة مسموعة لارتباطها بحق الله تعالى وإحياء حده. التفريع: 11146 - إن قلنا: ترد، فمعنى ردّها أنا لا نُصغي إليها، ولا يترتب عليها حبس. وإن قلنا: هي مسموعة، فالمشهود عليه محبوس؛ لمكان الحد، وسبب الامتناع عن الإقامة توقعُ شبهةٍ تدفع [الحدَّ] (3). فإذا جاء المسروق منه، فادعى، فهل نشترط إعادة البيّنة في المال وثبوته؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا بد من إعادتها، والتفريع على أن شهادة الحسبة لا تثبت في الأموال. وهذا وجهُ هذا الوجه. والوجه الثاني - لا حاجة إلى إعادة البينة لتعلقها بحق الله تعالى، وكأن (4) حق الله تعالى أغنى ثبوتَ المال عن دعوى، وقد مهدنا [للإتباع] (5) أمثالاً: منها - أنه لو أقر بالسرقة، ثم رجع، ففي قبول رجوعه في المال تبعاً للقطع، أو في القطع تبعاً للمال خلاف قدمنا ذكره. وتمام البيان في هذا عندنا أنا إن قلنا: البينة لا تعاد، فيكفي أن يحضر ويدعي، وتقطع يده، وإن قلنا: تعاد البينة لإثبات الملك، فظاهر كلام المشايخ أن القطع لا يتوقف على عَوْد البينة، وهذا فيه احتمال بيّن: يجوز أن يقال: نتوقف في القطع إلى إعادة البينة.

_ (1) في الأصل: " فالقطع ". (2) في الأصل: " مصون ". والمثبت من (ت 4). (3) زيادة من المحقق سقطت من النسختين. (4) ت 4: " فكأن ". (5) زيادة من (ت 4). ثم المعنى: أن هذا الوجه القائل بعدم إعادة البينة للمال، لأنها تتعلق أيضاً بالقطع، وهو حق لله تعالى، وإذا كانت البينة لحق الله حسبةً، فهي مقبولة، فهنا أُتبع المالُ حقَّ الله، وثبت بشهادة الحسبة، ثم قال: وقد ذكرنا أمثالاً للإتباع ... إلخ.

وكل هذا والسارق لا يدّعي الملك لنفسه، فإن ادعى الملك لنفسه، انعكس التفصيل إلى ما تقدم. 11147 - ووراء ذلك كلام هو الختام، وهو أنا إن لم نُسقط القطعَ بدعوى السارق، لم نسائله، وإن كنا نسُقط القطعَ بدعواه، فلو قال: لا ملك لي فيما سرقت، قطعناه، وإن ادعى الملك، فقد بيناه، وإن سكت، فهل يستفصله القاضي تذرعاً إلى السقوط، أم كيف السبيل؟ هذا فيه تردد ظاهر مأخوذ من مسألة: وهو أن من أقر بموجب حدٍّ، فهل يشبب القاضي بالرجوع عن الإقرار؟ فيه تردد، فما ذهب إليه الجمهور أنه لا يفعل ذلك. ومن أصحابنا من قال: للقاضي أن يتعرض لهذا. ومنهم من قال: إن كان المقر ممن يعلم أن الرجوع عن الإقرار يُسقط الحد، لم يشبب، وإن كان ممن يجهل ذلك، فلا بأس، ثم حيث يشبب لا يحثه على الرجوع، بل يُجري مسألة الرجوع والحكمَ فيها، وإن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع بتهمة السرقة إليه: " ما إخالك سرقت، أسرقت؟ قل: لا " فقوله له: " قُل: لا " يشهد للتشبيب بالرجوع؛ إذ لا فرق بين الحث على ترك الإقرار، وبين إجراء ذكر الرجوع. وسمعت بعض أئمة الحديث لا يصحح هذا اللفظ، وهو " قل لا " فيبقى اللفظ المتفق على صحته، وهو قوله: " ما إخالك سرقت " (1) فهذا تعريض بالانكفاف عن

_ (1) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع بتهمة السرقة: ما إخالك سرقت؟ أسرقت؟ قل: لا " نقل الحافظ في التلخيص حكم الإمام على لفظ " قل لا " وأيده في ذلك حيث قال: ولم أره عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد هذا اللفظ " قل لا " موقوفاً على أبي الدرداء: " أنه أتي بجارية سرقت فقال لها: أسرقتِ؟ قولي: لا " رواه البيهقي (8/ 276) وكذا ورد عن أبي هريرة " أنه أتي بسارق فقال: أسرقت؟ قل: لا .. " رواه ابن أبي شيبة (8625) وكذا في مصنف عبد الرزاق " أُتي عمر بن الخطاب برجل فسأله أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه " (10/ 224 رقم 18919، 18920). (ر. التلخيص: 4/ 125، 126 ح 2083). وأما حديث " ما إخالك سرقت " بدون " قل لا " فقد رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طريق أبي أمية المخزومي، ورواه أبو داود في المراسيل من حديث عبد الرحمن بن ثوبان، ورواه الدارقطني والحاكم والبيهقي موصولاً من حديث=

الإقرار، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله تعالى " (1) (2 حديث متفق على صحته ولا بد من الكلام على مضمون هذه الأحاديث وإجراء المذهبين بحبسهما، فأما قوله فليستتر 2) فهذا دليل على أنه لا يجب على من قارف موجب حدٍّ، أن يظهره للإمام، وقد يستدل بذلك من يرى التوبة مسقطة للحد، وكان شيخي يقطع بأنه لا يجب إظهار موجب الحد للإمام. وهذا فيه احتمال عندنا [إذا] (3) قلنا: الحد لا يسقط بالتوبة، (4 ولكن ما ذكره مستند إلى الحديث الصحيح، إذ قال صلى الله عليه وسلم: " فليستتر " ثم يقتضي طريقه أن التوبة 4) تُسقط تبعةَ الآخرة من العبد وبين الله عز وجل، فإن الحد لله تعالى، والتوبة تحط العقوبة الفستحقة بالذنب، فإذا ظهر استحقاق الحق عند الإمام، فردُّ التوبة على القول الأصح يرجع إلى عدم الثقة بها، أو إلى منع اتخاذ الفَجَرة إظهارَ التوبة ذريعةً تدرأ الفاحشة. هذا في قوله: " فليستتر بستر الله تعالى " وذلك قبل الارتفاع إلى مجلسه. فأما إذا فرض الارتفاع إلى مجلس الإمام، فقد ظهر خلاف لأصحابنا في جواز التشبيب بالمنع عن الإقرار، ولعل الأصح الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما إخالك سرقت " وإذا فرض الإقرار، ففي التشبيب بالرجوع ما ذكرناه من التردد.

_ =أبي هريرة. (أبو داود: الحدود، باب في التلقين في الحد، ح 4380، النسائي: قطع السارق باب تلقين السارق، ح 4877، ابن ماجه: الحدود باب تلقين السارق، ح 2597، المراسيل لأبي داود، ح 244، الدارقطني: 3/ 12، الحاكم: 4/ 381، البيهقي: 8/ 271، 275 - 276، التلخيص: 4/ 124 ح 2080) هذا. وقد فسّر الحافظ قول الإمام إن الحديث متفق على صحته، بأنه ليس المقصود الاصطلاح المعروف عند المحدثين. (1) حديث " من أتى من هذه القاذورات شيئاً ... " سبق تخريجه. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 4). (3) في الأصل: " وإذا ". (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 4).

وكل ما ذكرناه في البينة الكاملة وهي إذا شهد عدلان، ثم انشعب الكلام. 11148 - وأما البينة الناقصة وهي إن شهد رجل وامرأتان على السرقة، ومِلْكِ المسروق، فالقطع لا يثبت وفاقاً، والأصح ثبوت المال، وأبعد بعض أصحابنا، فلم يُثبته إذا تضمنت الدعوى سرقةً، فلو ثبت، لأوجبت القطع، والشاهد واليمين كالشاهد والمرأتين. ثم قال الأئمة: الشهادة على السرقة التي تقتضي القطعَ لا بد وأن تكون مفصّلة ناصّة على كل ما يُرعى في ثبوت القطع، والسبب فيه أن السرقة منقسمة: فمنها ما يوجب القطع، ومنها ما لا يوجبه، فإذا كانت السرقة مع تحققها، [منقسمة] (1) فلا بدّ من التفصيل، وليس كذلك الشهادة على البيع، فإنا في المسلك الأصح لا نشترط ذكر أسباب الصحة، كما سيأتي في الشهادات، إن شاء الله تعالى؛ فإن الذي لا يصحُّ ليس [بيعاً شرعاً] (2) والذي لا يوجب القطع سرقة، ولو أقر السارق بالسرقة، لم يثبت القطع بإقراره المطلق، وسنذكر أن شهادة الزنا لا بد فيها من التفصيل، كما لا بد في تحملها من الاطلاع على الحقيقة. واختلف الأصحاب في أن الإقرار بالزنا هل يشترط فيه التفصيل، ولا خلاف أن النسبة إلى الزنا المطلق قذفٌ صريح، [وأما شرط] (3) التفصيل في البينة، فلغرض الشرع في ستر الزنا، وأما الإقرار بالزنا، فسبب التردد فيه أنه لا يطلق اللفظَ الصريحَ من يقرّ على نفسه إلا (4) بثَبَت، والإقرار بالسرقة المطلقة لا خلاف في أنه لا يوجب القطع، فإن من (5) السرقة ما لا يقطع فيها.

_ (1) زيادة من (ت 4). (2) في الأصل: " ليس شرعاً بيعاً "، و (ت 4): ليس بيعاً، والمثبت تصرف من المحقق. (3) في الأصل: وإنما نشترط. (4) في الأصل: " إلا بنسب " كذا ضبطاً ورسماً، وفي (ت 4): " على نفسه لا يثبت ". ولم يفد البسيط ولا الشرح الكبير في هذا. (5) عبارة (ت 4): فإن السرقة تتحقق ولا قطع فيها.

فصل قال: " وفي إقرار العبد بالسرقة شيئان ... إلى آخره " (1). 11149 - أقارير العبيد بديون المعاملات سبقت مستقصاة في أواخر البيع، فأما إذا أقر بإتلاف مالٍ أو أرش جناية مُتعَلَّقه (2) الرقبة، ولا يجب بسببها عقوبة، فإن صدقه السيد، تعلق برقبته، وإن كذبه، لم يتعلق برقبته، والأصح أنه يتعلق بذمته يتبع به إذا عَتَق. وإن أقر بسرقة عينٍ موجبة للقطع، ثم زعم أنه أتلف ما سرق، أو أشار إلى عينٍ وذكر أنها مسروقة، فإذا كذبه السيد، لم يصدّق، وما في يده بمثابة ما في يد السيد. وإن أقر بسرقة موجبة للقطع، فإقراره مقبول عند الشافعي في القطع، وقال المزني: لا يقبل إقراره في القطع، وهو مذهب أبي يوسف وزفر (3)، ومعتمد المذهب انتفاء التهم عن الإقرار، والذي يعضد ذلك ردُّ إقرار السيد بما يوجب القطع (4)، وإن تناول محل ملكه، فإذا لم نبعد الرد بالتهمة، لم نبعد قبول إقرار العبد. وكنت أود لو كان مذهب المزني قولاً مخرجاً، ولكن لم يشر إليه أحد من الأصحاب. 11150 - ثم إذا قبلنا إقراره وأوجبنا القطع، فهل نقبل إقراره في المال؟ فيه قولان: أحدهما - يقبل؛ لأن الإقرار في وضعه لا تهمة فيه. والثاني - لا يقبل، كما سنوضح الغرض في التفريع إن شاء الله تعالى ويظهر ما كنت أودّه من تردد القولين في قبول الإقرار في المال؛ فإن السرقة لا تستقل بنفسها، دون فرض مسروق، وانقطاع القطع عن المسروق بعيد، وما ذكرناه إبداء وجوه الإشكال، والمذهب ما ننقله.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 172. (2) في (ت 4): " فتعلقه ". (3) ر. المبسوط: 9/ 183. (4) المراد إقرار السيد بما يوجب قطع العبد؛ وإن كان هذا الإقرار يتعلق بمحل ملكه، أي العبد، فإنه ملك السيد، وفي قطعه تفويت ملك السيد بإقراره نفسه.

فإذا ثبت القولان، فقد اختلف أصحابنا في محلهما: فمنهم من قال: القولان فيه إذا أقر بسرقة عين وتلفت في يده، ومعنى قبول إقراره على أحد القولين تعلّق قيمتها بالرقبة، وهذا القائل يقول: لو كانت العين القائمة في يد العبد وزعم أنه سرقها، وأنكر السيد ذلك، وقال: العين القائمة في يده ملكي، فإقراره مردود، واحتج هذا المرتِّب بأن قال: العين الموجودة في يد العبد بمثابة الأعيان الثابتة في يد السيد، فإن يد العبد يد السيد، ولو أقر العبد بأن الأعيان التي في يد سيده مسروقة، وأنه سرقها وسلمها إلى السيد، فإقراره مردود، والطرق متفقة على هذا. ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إذا ادعى العبد أنه سرق عيناً وأتلفها، (1 فإقراره مردود في تعلق قيمة العين التي ذكرناها بالرقبة قولاً واحداً، وإنما القولان فيه إذا أشار إلى عين كائنة في يده 1). وهذا المرتب يستدل، ويقول: العين القائمة معلومة منحصرة، فإضافة الإقرار إليها ذكر متعلَّق الإقرار مشارٍ إليه، ويد العبد في الظاهر ثابتة عليه، وقد أقر بأن هذه يد سرقة، فظهر ارتباط الإقرار بالمقَرّ به. وأما ما ادعى تلفه في يده، فلا نهاية له، ولا ضبط يفرض الوقوف عنده. وهذه الطريقة ضعيفة؛ لما قدمناه في الطريقة الأولى، من أن يد العبد يدُ المولى، ثم حكينا اتفاق الأصحاب على أنه لو أضاف السرقة المدعاة إلى ما في يد العبد، لم [نقبل] (2) إقراره، وهذا أفقه مما خيله المرتب الثاني. ومن أصحابنا من قال: نطرد القولين في العين القائمة، والعين التي ادعى العبد إتلافها. 11151 - وجمع بعض الأصحاب الطرق كلها وأنشأ (3) منها أقوالاً: أحدها - أن إقرار العبد مقبول فيما ادعى إتلافه، وفيما في يده. والثاني - أن إقراره مردود في الموضعين فيده مقطوعة، والغرم نازل على ذمته. والثالث - أن إقراره مقبول فيما ادعى إتلافه غيرُ مقبول في العين القائمة. والقول الرابع - عكس هذا.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) في الأصل: " لم نبعد ". (3) كذا قرأناها في الأصل، وفي (ت 4): يمكن أن تقرأ: " وتبينوا منها أقوالاً ".

وأما الأموال الكائنة في يد المولى، فإضافة الإقرار إليها مردودة، فإنا لو قبلناه، لجر هذا أمراً عظيماً، وهو أن يوطّن (1) العبدُ نفسَه على قطع اليد، و [يُفقرَ (2)] السيدَ من آلافٍ مؤلفة، وسيكون لنا إلى هذا التفات في تفريعٍ نذكره، إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: إقراره مقبول في العين القائمة في يده، فقد ذكر القاضي وجهين في ذلك: أحدهما - أن فائدة قبوله أداءُ العين إلى المقر له بالغة ما بلغت؛ لأنه غير متهم. والثاني - أن فائدة قبول إقراره تعلق قيمة العين برقبته، والعين للسيد، لما ذكرناه من [نكتة] (3) السيد، إذ قلنا: يد العبد يد المولى، وهو ليس إضراراً عظيماً؛ فإن القول الأصح أن العبد يفدى بأقل الأمرين، [فأقصى] (4) ما يقرّ به لا يجاوز قيمته فيكون للكلام موقف يُنتهى إليه، وإذا قلنا: السيد يفدي عبده بالأمر اللازم بالغاً ما بلغ، فيمكنه أن يسلم العبد، والعبد يمكنه أن يفوّت رقبته على مولاه، بأن يقر بجناية توجب إهلاكه. فإذا لاح هذا [انعطفنا] (5) من هذا المنتهى على أمرٍ تقدم. وقلنا: أطلق الأصحاب القولَ بأن إقرار العبد لا يقبل مضافاً إلى ما في يد السيد، فلو قال قائل: إقرار العبد بالعين يقصر عن قدر قيمته، فلا يبعد أن يقال: يقبل إقراره على هذا النسق فيما يضيفه إلى يد مولاه. ...

_ (1) ت 4: وهو أن من يوطن العبد نفسه. (2) في الأصل رسمت هكذا: " ويفقوا " وبدون نقط. (انظر صورتها)، والمثبت من (ت 4) ومن (البسيط). (3) في الأصل: رسمت هكذا: (وـ ـ ـوا) بدون نقط. والمثبت من (ت 4). (4) في الأصل: ففي، والمثبت من (ت 4). (5) في الأصل: انقطعنا.

باب غرم السارق

باب غرم السارق قال الشافعي رحمه الله: "أغرم السارق ما سرق قطع أو لم يقطع ... إلى آخره" (1). 11152 - إذا كانت العين المسروقة قائمة في يد السارق، فلا خلاف أنه يقطع، وتُسترد العين منه، ولو كانت تلفت في يده أو أتلفها، فمذهب الشافعي أنه يقطع، ويغرّم، فإن القطع حد الله تعالى، والغرم بدلُ مال الآدمي، فإذا كان لا يمتنع اجتماع الكفارة والدية، كيف اجتماع الغرم والقطع؟ وخلاف أبي حنيفة (2) مشهور. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 172. (2) ر. رؤوس المسائل: 494 مسألة 358، طريقة الخلاف: 223 مسألة 89، المبسوط: 9/ 156.

باب ما لا قطع فيه

باب ما لا قطع فيه 11153 - هذا الباب يحوي وجوهاً تتضمن سقوط القطع، ونحن نأتي بها على الترتيب أولاً، فأولاً. قال الشافعي: " لا قطع على من سرق من غير حرز " (1) وهذا واضح، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا قطع في ثمر ولا كَثَر " (2) على النخيل التىِ لا تكون محرزة وروي باقي الحديث في تحقيق ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا قطع في ثمر ولا كَثَر، فإذا أواه الجرين، وبلغ قيمةَ المجن، ففيه القطع " (3). 11154 - ثم قال: " ولا عبد سرق من متاع سيده ... إلى آخره " (4). إذا سرق العبد متاع سيده، لم يستوجب القطع، لأنه يستحق عليه النفقة، فله شبهة في مال المولى، وإذا قتله استوجب القود، لأنه لا شبهة له في دم سيده،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 172. (2) الكَثَر: بفتح الكاف والمثلثة، وهو جُمّار النخيل، وهو اللبُّ الأبيض الذي يكون في رأس النخلة، وفي رأس الفسائل التي تنبت حول النخلة متصلة بها. (3) والحديث أخرجه أصحاب السنن، ومالك في الموطأ، وأحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الكبرى من حديث رافع بن خديج. قال الحافظ في التلخيص: " واختلف في وصله وإرساله، وقال الطحاوي: هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول " ا. هـ وقال في البدر المنير: هذا الحديث حسن. (أبو داود: الحدود، باب ما لا قطع فيه، ح 4388، 4389، الترمذي: الحدود، باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر، ح 1449، النسائي: قطع السارق، باب ما لا قطع فيه، ح 4963 - 4973، ابن ماجه: الحدود، باب لا يقطع في ثمر ولا كثر، ح 2593، الموطأ: 2/ 839، المسند: (3/ 463، 464، 4/ 140، 142)، السنن الكبرى: 8/ 263، تلخيص الحبير: 4/ 121، ح 2074). (4) ر. المختصر: 5/ 172.

ولا قصاص على السيد بقتل عبده وإن كان مكاتباً؛ لأن القصاص لو ثبت لثبت للسيد، وكل ذلك مما تمهد، والله أعلم. فصل قال: " ولا على زوج سرق من متاع امرأته " ثم قال بعده: " ولا يقطع من سرق من مال ولده ... إلى آخره " (1). 11155 - فنقول كل شخصين يستحق أحدهما على الثاني عند فرض الحاجة في المستحِق وفرض الغنى في المستحَق عليه نفقةَ الكفاية، فلا يقطع واحد منهما في سرقة مال صاحبه، فلا يُقطع إذاً ولدٌ سرق مال والده، ولا والد سرق مال ولده، وهذا يطرد بين كل شخصين بينهما بعضيّة، يعني كون أحدهما أصلاً، وكون الثاني فرعاً وفصلاً، على ما تمهد في النفقات، ثم لا يتوقف سقوط القطع على أن يكون السارق محتاجاً، والمسروق منه غنياً، بل انتفاء القطع جارٍ في الأحوال كلها؛ من جهة أن مال كل واحد منهما محلُّ تنفيذ حاجة الآخر. وهذا فائدة الباب. وقيدنا الكلام بالكفاية لتميز النفقة الواجبة بالقرابة عن نفقة الزوجية؛ إذ فيها من التفصيل ما نصفه. والأخ مقطوعٌ بسرقة مال أخيه، وأبو حنيفة (2) وإن أوجب على الأخ نفقة أخيه لم يدرأ القطع عن السارق منهما من مال صاحبه. 11156 - واختلفت النصوص في أن أحد الزوجين هل يقطع إذا سرق مال الثاني؟ وحاصل ما جمعه الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها - أن الحد لا يجب على واحد منهما، ومعتمد هذا القول ما بين الزوجين من الاتحاد، وكل واحد منهما يتكثر بمال صاحبه، وتقرير هذا في مسائل الخلاف. والقول الثاني - أن كل واحد منهما مقطوع بسرقة مال صاحبه: أما الزوج، فلا حق

_ (1) ر. المختصر: 5/ 172. (2) ر. المبسوط: 9/ 151.

له في مالها، والتكثر بالمال لا أصل له، وأما الزوجة، فلها حق النفقة، ولكن نفقتها تضاهي الأعواض، ولهذا لا يعتبر فيها الكفاية، ولا تسقط بمرور الزمان. والقول الثالث - أن المرأة لا تقطع بالسرقة من مال الزوج، والزوج مقطوع. والفرق بينهما النفقة. 11157 - ثم قال الأصحاب: كل من لا يقطع بالسرقة من مال إنسان، فلا يقطع عبده بالسرقة من ماله أيضاً، فإذا لم يقطع الزوج بالسرقة من مال زوجته، لم يقطع عبده في سرقة مالها، وكذلك القول في سرقة عبد الإنسان من مال ولده، أو والده. وحكى الصيدلاني هذا مقطوعاً به عن القفال، ثم قال من عند نفسه: الصحيحُ أن يقطع العبد، وإن كان لا يقطع سيده؛ فإن للسيد شبهة النفقة إذا وقع الفرض في الوالد والمولود، وليس لعبده شبهة النفقة في مال ولده، ثم استتم هذا، وقال: إن بهنا لا نقطع عبد الوالد فمال ولده كماله في معنى أنه لا قطع عليه فيه (1)، فيلزم منه أن نقول: لا قطع على الأخ بسرقة مال أخيه، لأنه ابن أبيه، وهو لا يقطع في مال أبيه، ومال الولد كمال الوالد. وهذا الذي ذكره متجه، لا دفع له إلا بتمويهٍ سنشير إليه. والعجب أن القاضي فرع على الأقوال في الزوجين، وقال: إذا لم يقطع أحدهما في مال الثاني، لم يقطع عبد واحدٍ منهما في مال الثاني، ثم قال: إذا لم يقطع أحدهما في مال الثاني، وجب ألا يقطع ولد أحدهما في مال الثاني وإن كان ربيباً. وهذا قبيح؛ فإن القول به يُلزم إسقاط القطع عن الأخ إذا سرق من مال أخيه، وليس هذا إلزاماً بل هو عين ما قال به لو رُدّ التفريع إلى الوالد والولد؛ فإن ابن الأب أقرب إلى الولد من ابن الزوج -وهو ربيب- إلى الزوجة، فهذا غلط صريح. ثم لا شك أنّ ما أجريناه من ذلك الوفاق والخلاف في الأموال المحرزة عن السارق على التحقيق. فإن قيل: إذا زيفتم ما حكيتموه في ولد الزوج، فما الرأي في العبد؟ قلنا: الوجه

_ (1) ساقطة من (ت 4).

القطعُ بإيجاب القطع على الرَّبيب، والأخ، وولد الزوج والزوجة (1)، وفي قطع العبد -إذا كنا لا نقطع السيد- وجهان: أحدهما - وهو اختيار الصيدلاني أنا نقطعه، كالأخ. والثاني - لا نقطعه؛ لأن يده يد السيد، فكأن السيد أخذه. وهذا ضعيف لا أصل له؛ فإن العبد إذا سرق حيث يستوجب القطع، فالحكم لا يتعداه، وإن سرق بإذن مولاه، ويجوز أن يقال: هذا وإن كان لا يؤثر في إيجاب القطع على المولى، يجوز أن يؤثر في إسقاط القطع عن العبد؛ لأن بناء الباب على تغليب الشبهة. 11158 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن من له دين على إنسان إذا سرق من ماله نصاباً؛ فإن كان مماطلاً وعسر استيفاء الدين منه طوعاً، فإن كان المسروق من جنس دينه، لم يقطع؛ فإنه [أخذ ملكه] (2). وإن كان من غير جنس ماله، فالمذهب أنه لا قطع عليه أيضاً، وخرّج بعض أصحابنا هذا على القولين في أنه هل يحل له أن يأخذ غير جنس حقه، إذا ظفر به، على ما سيأتي القولان في موضعهما، إن شاء الله تعالى. فصل قال: "ولا قطع في طنبور ولا مزمار ولا خمر ولا خنزير ... إلى آخره" (3). 11159 - أما الخمر والخنزير، فليسا مالَيْن، ولا يتعلق القطع [بأحدهما] (4)، فأما آلات الملاهي، وهي التي يستحق كسرها، فالقول في أنها إلى [أي] (5) حدٍّ تنتهي

_ (1) وولد الزوج والزوجة والمعنى: وولد الزوجة. (2) في الأصل: فإنه ملكه أخذ، وفي (ت 4): وإن ملك ما أخذ. والمثبت من تصرف المحقق على ضوء المعنى، وعلى ضوء عبارة الغزالي في البسيط. (3) ر. المختصر: 5/ 172. (4) في الأصل: " بأخذهما ". (5) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

في التكسير والترضيض (1) مذكور في موضعه من الغصوب، والغرض الآن القول في السرقة، فإن كان [مترضَّض] (2) ما أخذه لا يبلغ نصاباً، فلا قطع بلا خلاف، [وإن] (3) كان الرُّضاض الذي لا يجوز المزيد في ترضيضه بحيث [يبلغ] (4) نصاباً، فإذا أخرجه السارق من الحرز، ففي وجوب القطع وجهان: أصحهما - أنه لا يجب؛ لأن الحرز لا يتحقق في حق هذه الآلات، ويجوز الهجوم على الدور لأجلها، والوجه الثاني - أنه يجب (5) القطع؛ لأن حقها -إن فرض الظفر بها- أن ترضض على مكانها، فأما نقلها وإخراجها، فغير سائغ. ولو قال قائل: يختلف هذا بالقصد، فإن قصد السرقة، فينقدح الخلاف، والأصح أن لا قطع. وإن. قصد إخراجها ليُشهر كسرها، فلا قطع أصلاً مذهباً واحداً، لكان ذلك متجهاً، ثم الرجوع في هذا القصد إليه. وما ذكرناه من الخلاف يجري في كل ما يسلِّط الشرع على تكسيره، حتى لو فرضت صور أصنام، فهي كآلات الملاهي، وإن كانت من الذهب والفضة، ويلتحق أواني الذهب والفضة بها إذا قلنا: إنها تُكسر. وهذا بعيد. فصل يشتمل على ثلاثة مقاصد 11160 - أحدها - الكلام في المال المشترك، والقول في مال بيت المال، والثالث الكلام في الأملاك التي توصف بالضعف.

_ (1) المعنى إلى أي حد يجوز ترضيضها وتكسيرها، بمعنى هل الجائز تكسيرها إلى حدّ إبطال عملها فقط، وما عداه مجاوزة للحدّ إتلاف مالٍ، أم يجوز ترضيضها وجعلها جذاذاً إلى أبعد مدى؟ (2) في الأصل: " يترضض ". (3) في الأصل: " فإن ". (4) في الأصل: " يبلغه ". (5) ت 4: لا يجب القطع.

فأما الأملاك المشتركة، فإذا سرق أحد الشريكين يوماً مشتركاً بينه وبين شريكه، أو سرق البعضَ منه، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع القول بانتفاء القطع لشبهة الشركة، وقال: ما من جزء (1) من المأخوذ إلا وله فيه حق، ثم هذا القائل يقول: لو كان المسروق مالاً جمّاً، وليس فيه شركة إلا جزء يسير، فلا قطع، لما أشرنا إليه. ومن أصحابنا من قال: إذا سرق [نصف دينار] (2) من مالٍ مشترك هو شريك فيه بالنصف، فيلزمه القطع؛ لأن النصف مما أخذه ليس [له] (3)، ونصفه نصاب كامل. وسلك بعض أصحابنا مسلكاً في التفصيل، وقال: إن كان المال المشترك مما يجري فيه الاستقسام [جبراً، وهو ذوات الأمثال؛ إذ لا منقول يجري فيه الاستقسام غيرها] (4)، كالحبوب وغيرها، فإذا كان المال المسروق من هذه الأصناف، وكان المسروق مقدار ملك الشريك بالجزئية، فلا قطع، فإنا نحمل أخذه ذلك المقدار على إيقاع القسمة، وإن كانت فاسدة، وإن زاد على مقدار حقه، وبلغت الزيادة نصاباً، وجب القطع حينئذ، وهذا كما لو كان بينهما ديناران لكل واحد منهما النصف على الشيوع، فإذا سرق ديناراً، فلا قطع حملاً على مذهب الاستقسام، وإذا سرق ديناراً وربعاً، وجب القطع، هذا فيما يتطرق إليه الاستقسام قهراً. فأما [ما] (5) لا يجري فيه الاستقسام قهراً بالجزئية، كالثياب وغيرها من ذوات القيم، فإذا سرق الشريك منها مقدار نصف دينار، وهو شريك بالنصف، فيجب القطع. وميلُ معظم الأئمة إلى إسقاط القطع من غير تفصيل في جميع الأموال المشتركة. هذا بيان أحد المقاصد.

_ (1) ت 4: "حرز". (2) زيادة من (ت 4). (3) في الأصل: " هذا ". (4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه من (ت 4). (5) سقطت من الأصل.

11161 - الثاني - في أموال بيت المال، فحاصل ما ذكره الأئمة وجهان: أحدهما - أنه لا قطع أصلاً في أي مال سُرق إلا ما نستثنيه، سواء كان المأخوذ من مال الصدقات، أو من مال المصالح، فإن لكل مسلم حقاً في أموال بيت المال، حتى لو أخذ من الصدقات، ولم يكن مستحِقاً لها، فهي عتيدة لسد حاجته إذا صار من أهل ْالصدقات، وعلى هذا الأصل نفينا القطع عن الأب الموسر إذا سرق من مال ابنه، وإن لم يكن مستحِقاً للنفقة؛ لمكان يساره. هذا وجه. ومن أصحابنا من فصّل، وقال: إن كان السارق من مستحقي الصدقات، وقد أخذ منها، فلا قطع عليه، وإن لم يكن من مستحقي الصدقات، وسرق منها، قُطع، وليس كالأب في حق ولده، فإن بينهما اتحاد من جهة البعضية ولكل واحد منهما اختصاص بمال الثاني. وإنما أموال الصدقات يصرفها الإمام إلى من يعيّنه، ولا يُعتَرضُ عليه في ذلك المعنى. فأما مال المصالح، فإن سرق منه محتاج، فلا قطع عليه، وإن سرق منه غيرُ محتاج فوجهان: أحدهما - أنه يلزمه القطع، لأنه لا يستحق من أعيانها شيئاً. والثاني - لا قطع، فإن أموال المصالح قد تصرف إلى الرباطات والخانات وغيرها، ثم يعم نفع هذه الأشياء في الأغنياء والفقراء. هذه طريقة، والأولون ينفون القطع من غير تفصيل. فإن قيل على طريقة التفصيل: هل توجبون القطع على الذمي إذا سرق من مال المصالح؟ قلنا: ما قطع به معظم الأصحاب أن القطع يلزمه، وإن فرض انتفاعهم بالرباطات، فذلك على طريق التبع؛ من حيث إنهم قاطنون ديارَ الإسلام. وأشار بعض المحققين إلى خلافٍ فيهم، وهذا بعيد. وأما ما [وعدنا] (1) استثناءه، فهو الفيء المعتد للمرتزقة، فإذا سَرق منها من ليس منهم -والتفريع على أنه ملكهم- وجب القطع، [وكذلك ما أُعد من الخمس لذي

_ (1) زيادة من (ت 4).

القربى واليتامى، فإذا سرق من ليس من هؤلاء] (1)، وجب القطعُ بإيجاب القطع. والعلم عند الله تعالى. وقد نجز هذا المقصود. 11162 - الثالث - الكلام في الأملاك الضعيفة التي لا تنطلق التصرفات فيها، وذكر أئمتنا وجهين في سرقة أم الولد، قالوا أصحهما وجوب القطع، فإنها مملوكة مضمونة باليد. ومن أصحابنا من قال: لا قطعَ؛ لنقصان الملك، وهذا غير سديد؛ فإن ما يضمن باليد، فأَخْذُهُ على حكم الاستزلال من الحرز سرقةٌ إذا لم يكن الأَخْذُ فيه شبهة، فإن القطع شرع لصون الأموال المصونة بالحرز، ولا يدخل على ما ذكرناه الحرّ؛ فإنه لا يضمن باليد، فكان لا يد فيه. 11163 - ولو كان سرق عيناً موقوفة، فالصحيح تنزيلها منزلة المستولدة من غير تفصيل، سواء قلنا: الملك فيها للواقف أو للموقوف عليه، أو لله تعالى، فقال قائلون: إن حكمنا بأن الملك في رقبة الموقوف لله تعالى، وجب القطع على السارق، كما سنذكره في سرقة أبواب المساجد. فإن قلنا: الملك للواقف أو للموقوف عليه، فعلى وجهين، لأن ملك الواقف -على قولنا: له الملك- ضعيفٌ، لحق الموقوف عليه، وملك الموقوف عليه -على قولنا: له الملك- ضعيفٌ، لحق الواقف. وهذا ليس بشيء، لأن صاحب هذا الترتيب يشير إلى أنه لا يصفو القول بإضافة الملك إلى جهة من هذه الجهات، وهذا يتحقق إذا قلنا: الملك لله تعالى؛ فإن الملك وإن أضيف إلى الله تعالى ليس يتمحض- حقاً لله عز وجل، فالوجه تنزيل الموقوف منزلة المستولدة على الأقوال كلها. 11164 - فأما المساجد فقد أطلق أصحابنا الوفاق على أن من قلع باب مسجد [مستزلاً] (2)، وهو موقوف، وجب عليه القطع، إذا بلغ نصاباً، وأثبت اليد عليه

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. (2) في الأصل: منزلاً. ومستزلاً أي آخذاً خفية، كما ظهر من تعريفه للسرقة في أول كتابها.

بأن نقله، والسبب فيه أنه مضمون بالإتلاف واليد. وهذا يتطرق إليه نوعان من الإشكال: أحدهما - أن القطع بهذا يوجب القطع بإيجاب القطع بسرقة المستولدة، وإن ضعف الملك فيها، لامتناع (1) بعض التصرفات. هذا وجه. والثاني - وهو أبلغ أن المساجد يشترك فيها المسلمون ويتعلق بها حقوقهم، وقد ذكرنا [التفصيل في أموال بيت المال، فيتجه من الوجه الأخير تخريج وجه في نفي القطع. ثم قال الأصحاب] (2): إن من سرق حصير المسجد وفُرشَه المحرزَة، ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما - لا يجب للاشتراك في الانتفاع بها، وهذا يتحقق لا محالة في أجزاء المسجد. وقال العراقيون: ما يظهر الانتفاع به، فالظاهر أنه لا قطع على سارقه؛ للاشتراك الذي ذكرناه، وما أثبت في المسجد للزينة، كالقناديل التي تزين المساجد بها، ففيه وجهان. فانتظم في الفُرشِ وآلاتِ الزينة ثلاثةُ أوجه: أحدها - وجوب القطع. والثاني - نفي القطع. والثالث - يفصل بين ما ينتفع به وبين آلة الزينة، وكل ذلك متجه. ولكن لا ينتظم معه القطع بإيجاب القطع على من سرق جزءاً من المسجد. ومن سرق من ثمار بستان محبّس، ولم يكن موقوفاً عليه، لا خصوصاً، ولا عموماً، وجب القطع، لا شك فيه؛ فإن الثمار مملوكة، وليست موقوفة، وإنما الحبس في الرقاب المثمّرة، وكذلك القول في دراهم المستغل. 11165 - فأما السرقة من المغنم، فإن فُصِل الأربعةُ الأخماس التي للغانمين، فالسارق منها يستوجب القطع إذا لم يكن منهم، وإن كان منهم، فالتفصيل فيه كالتفصيل في سرقة الشريك شيئاً من المال المشترك. وأما السرقة من الخمس، فقد مضى في تفصيل مال بيت المال.

_ (1) عبارة (ت 4): " وإن ضعف الملك فيها، إذ معنى ضعف الملك فيها امتناع بعض التصرفات ". (2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4).

ولو سرق سارق قبل إفراز الخمس، فليقع التفريع على أنه لو سرق من الخمس لا يقطع، وإن [كان يعترض] (1) فيه حصة ذوي القربى [واليتامى] (2)، ولكن إذا أظهرنا غرضنا، لم يخف التفصيل بعده، فنقول: كأن السارق شريك بالخمس أو بما لا قطع عليه فيه، ثم يعود الكلام إلى تفصيل المال المشترك. التفريع: 11166 - إذا وطىء الرجل جاريةً من مال بيت المال، وقلنا: لو سرق منه، لم يقطع، فلو سرق الجارية في نفسها، لم يقطع، فإذا وطئها، فالمذهب أنه يستوجب الحد، كما يستوجب الابن الحد بوطء جارية الأب، وإن كان لا يستوجب القطع بسرقتها من أبيه. والوجه الثاني - لا حدّ على الذي يطأ جاريةَ بيت المال، وهذا لا يتجه له وجه نتكلف (3) إظهاره، وقد رأيته في طريقة القاضي، [ولا] (4) يجب أن يعتد به. 11167 - ثم ذكر الأصحاب مسائل [بيّنة] (5) في قاعدة مذهبنا خالف فيها أبو حنيفة- منها أنه لو سرق ما يجب القطع بسرقته مع ما لا قطع فيه، مثل أن سرق شاة وخنزيراً معاً، فالقطع يجب عندنا في الشاة، خلافاً لأبي حنيفة، واشتهر تفريعه فيه إلى أن قال: لو سرق إناء من ذهب في بطنه ماء، فلا قطع عليه، وهذا فاسد. وقال: لو سرق مصحفاً مذهباً، والذهب نصاب، فلا قطع عليه، لأن سرقة المصحف عنده لا قطع فيه (6)، وعندنا يجب القطع بسرقة المصحف. 11168 - ومما ذكره الأصحاب أن لو شهد شاهدان، فقال أحدهما: إنه سرق ثوراً

_ (1) في الأصل: وإن كان لا يعترض. والمثبت من (ت 4). (2) زيادة من (ت 4). (3) في الأصل: " ونتكلف إظهاره ". (4) في النسختين: (فلا) والتغيير (بالواو) من عمل المحقق، وإلا فسيكون المعنى أن عدم الاعتداد به يرجع لكونه من اختيار القاضي، وهذا لا يمكن أن يكون مقصوداً. (5) غير مقروءة بالأصل. والمثبت من (ت 4). (6) ر. رؤوس المسائل: 498 مسألة 361، مختصر الطحاوي: 272، المبسوط: 9/ 152، تحفة الفقهاء: 3/ 154.

أبيض، وشهد الآخر: إنه سرق ثوراً أسود، فلا تلفيق بين الشهادتين، ولا يثبت قطع، ولا مال، فلو أراد أن يحلف مع أحدهما وقد وافقت شهادته دعواه فليفعل، وفي هذا دقائق في التفريع، ستأتي في الشهادات، إن شاء الله تعالى. ولو شهد أحدهما أنه سرق ثوباً قيمته ربع دينار، وشهد الآخر أن قيمته سدس دينار، وقد فات الثوب، فلا يجب القطع، ولا يثبت الغُرم، إلا في المقدار المتفق عليه وهو السدس، وقال أبو حنيفة (1) يثبت الربع أخذاً بالأكثر، ولو كان التردد فيما هو نصاب عنده أو فيما دونه، فيثبت النصاب أخذاً بالأكثر، ولا يثبت القطع. فرع: 11169 - من سرق شيئاً بالغاً نصاباً، وهو جاهل بأن قيمته تبلغ نصاباً، فالقطع واجب عليه إذا كان الجهل آيلاً إلى جنس المسروق، أو إلى قيمته. فأما إذا سرق قميصاً رثَّاً، فلما أخرجه كان في جيبه دينار، ففي وجوب القطع عليه وجهان: أظهرهما - أنه يجب، كما لو أخرج مدوَّراتٍ منقوشة حسبها فلوساً، وكانت دنانير، أو دراهم؛ فإن القطع يجب، ولا اعتبار بجهله، وهذا ما قطع به معظم الأئمة. والوجه الثاني - حكاه القاضي (2 أنه لا يجب القطع 2) ووجهه [أنه] (3) جهل أصل سرقة الدينار في مسألة القميص بخلاف ما إذا جهل الجنس؛ فإن المسروق معلوم، والصفة مجهولة، ولا يكاد يتضح الفرق. ...

_ (1) لم نصل إلى قول أبي حنيفة في كتب الأحناف التي راجعناها. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 4). (3) في الأصل: " أن ".

باب قطاع الطريق

باب قطاع الطريق قال الشافعي رضي الله عنه: " رُوي عن ابن عباس في قطاع الطريق ... إلى آخره " (1). 11170 - الأصل في أحكام قطاع الطريق قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } [المائدة: 33] وقد تكلم المفسرون في سبب نزولها، والأصح اللائق بغرضنا أنها وردت في قطّاع الطريق، كما سنصفهم، ناسخةً لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من عُرَيْنة، وهم جماعة دخلوا المدينة، فاسْتَوْخموها، واستَوْبئوا هواءها، وماءها، فاصفرّت ألوانهم، ونُهكت أجسامهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لو خرجتم إلى إبل الصدقة، وشربتم من أبوالها وألبانها، فإنها شفاء للذَّرب (2)، فخرجوا إلى إبل الصدقة، وشربوا من أبوالها وألبانها، فآبت إليهم نفوسهم، وصحت أجسامهم، فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل، فبعث في أثرهم، فأُخذوا، فأمر حتى قطعت أيديهم، وأرجلهم، وسُملت أعينهم، -وفي بعض الروايات: وسمّرت أعينهم- وأُلقوا في الحَرَّة، فكانوا يستسقُون فلا يُسقَوْن، وكان الواحد يعض على الحجر عطشاً، حتى ماتوا، فنزلت آية المحاربة ناسخة للمثلة " (3). ثم اعتمد الشافعي رحمه الله تفسيرَ ابنِ عباس لآية المحاربة، وقد قال في

_ (1) ر. المختصر: 5/ 172. (2) الذّرب: داء يصيب المعدة. (المصباح). (3) حديث العُرنيين الذين استاقوا إبل الصدقة وارتدوا، متفق عليه من حديث أنس (البخاري: الوضوء، باب أبواب الإبل والدواب والغنم ومرابضها، ح 233، وأطرافه كثيرة منها في كتاب الحدود الأبواب 15، 16، 17، 18، ح 6802 - 6805. مسلم، القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، ح 1671 ورقم أحاديث الباب 9 - 14).

تفسيرها: أن يقتلوا: إذا قتلوا، أو يصلّبوا: إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطعَ أيديهم وأرجلُهم: إذا أخذوا المال، أو يُلحَق بهم إذا ولَّوْا، وهو نفيهم. وذهب داود إلى تخيير الإمام في هذه العقوبات، من غير نظر إلى الجرائم، وإنما ظن ذلك؛ من حيث اعتقد ظهور معنى التخيير في (أو) وهو على رأي المفسرين للتنويع والتصنيف، لا للتخيير، وهو بمثابة قول القائل: الزاني يجلد أو يرجم، والمراد الإشارة إلى تنويع العقوبة عند تقدير اختلاف الحال. وعن مالك (1) أن قاطع الطريق إن كان شاباً، قطعت يده ورجله من خلاف، وإن كان شيخاً ذا رأي وتدبير، قتل، وإن لم يكن على نجدة الشباب، ولا على رأي الشيوخ نُفي من الأرض. 11171 - ومقصود الكتاب يشتمل عليه [فصول] (2): أحدها - في صفة قطاع الطريق، وتمييزهم عن المختلسين. والثاني - في تفاصيلِ حدودهم، والعقوباتِ المقامةِ عليهم، ويمزج بهذا الفصل جرائمهم التي يستوجبون العقوبات بها. والفصل الثالث - في مآل أمرهم لو تابوا قبل الظفر أو بعده، أو عفا عنهم أولياء الدم، وإذا تمهدت هذه الفصول، كان الباقي من غرض الكتاب هيّن المُدرك. فأما الكلام في صفتهم، فهم طائفة يرصدون الرفاق في المكامن، حتى إذا وافاهم الرفاق (3)، برزوا، وأخذوا المال، وقتلوا عن المقدرة والقوة (4)، والغالب أنهم يَشْهرون الأسلحة، ثم يقع ذلك في مكان يبعد الغوث فيه عن المستغيثين، فهذا صورة قطاع الطريق. فلو لم يرجعوا إلى قوة، ولكن كانوا يختلسون، ثم يولّون [مرتكضين] (5) أو

_ (1) ر. المعونة للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1366، الكافي لابن عبد البر: 582. (2) في الأصل: " أصول ". (3) في الأصل: " وافوهم الرفاق ". (4) ت 4: " عن مقدرة وقوة ". (5) في الأصل: غير مقروءة، رسمت هكذا: (مرتكهين) تماماً رسماً ونقطاً.=

عادين، فهم أصحاب خَلْسٍ، ودفعُهم بالتحفظ، ولا عقوبة عليهم لله تعالى، والتعزير لا يجب عليهم (1) متحتماً، كما سيأتي أصله، فيُغَرَّمون ما يأخذون إن فاتت الأعيان (2)، وإلا ردوها بأعيانها، وإن اتفق منهم قتلٌ أو قطع، فالقصاص على تفاصيله. ولو كان فيهم نجدة، ولكن أخذوا الرفقة حيث لا يبعد الغوث، مثل أن يقع على القرب من العمران، وأصحاب السلطان مشمِّرون وأيديهم غالبة، والأغلب تخوف (3) القطاع، فهذا من فن الاختلاس، وقد أشرنا إلى حكمه. ثم قال الأئمة: لا يتوقف تصوير المحاربة على أن يكونوا مع أسلحة، بل [لو] (4) أخذوا الأموال بالقوى واكتفوا بالوخز (5) واللكز، والضرب [بجُمْع] (6) الكف [والصراع] (7)، فهذا قطع الطريق. 11172 - وممّا ذكره الأصحاب أن الرجل لو خرج وحده أو في شرذمة من الضَّعَفَة، واستمكن منهم طائفة لا يقاومهم الرفاق في مكان يبعد الغوث فيه، فهذا قطع الطريق. وقد يختلج في النفس من هذا شيء؛ فإن خروج الإنسان وحده يعد تضييعاً، وكان يليق أن يكلّف المسافر ألا يخرج إلا على عُدّة وأهبة، واستظهارٍ، فإذا لم يفعل، كان ذلك بمثابة ترك المال في موضع لا يعدّ حرزاً له، وهذا يعتضد بأمر [لا

_ =والمعنى: ولَّوْا يركضون خيولهم، أو يَعْدون على أرجلهم. (1) ساقطة من (ت 4). (2) ساقطة من (ت 4). (3) ت 4: " لحوق ". (4) زيادة من (ت 4). (5) ت 4: " الزجر ". (6) في النسختين: " بجميع ". والمثبت من تفسير اللكز واللكم في المعاجم. (7) في الأصل: " والصرايح ". كذا بدون نقط. والمثبت من (ت 4) والمعنى: بالمصارعة، مع الضرب واللكز ...

ينكره مَنْ يمارس] (1) هذه الأحوال، وهو أن الإمام ينفض الطرق عن أهل العرامة بأيْدِه وبطْشه، وليس من الممكن إخراج آحاد الرجال عن التعرض لمستضعف، [فإن] (2) الداخل تحت الإيالة فضُّ الجماعات، ونَفْضُ الطرق عن أهل العرامات، وهذا يقرب من التصوّن اللائق بطريق الإحراز، فعلى رب المال أن يتصون جهده بالإحراز، ثم إن فرض استجراءٌ عليها، فالشرع يردع المستجرئين بالقطع. هذا وجهٌ بيّنٌ عندنا. ولكن ما وجدته للقاضي وفي طرقٍ: أن الواحد إذا أخذه مغالب في مضيعة، فهو قاطع طريق، والرأي عندي اتباع الاعتياد، وأخذ طرفٍ من [العتاد] (3) بحيث يعد اجتماع الرفاق (4) منعة عن آحاد الرجال، في معارضة منع الأحراز، ولو [فترت] (5) بسطةُ السلطان، وثار من البلاد أصحاب العرامة، فهم عند الشافعي بمثابة قطاع الطريق إذا أخذوا وقتلوا على اقتهار. 11173 - ولو فرض جمع [من] (6) المتلصصة في طرفٍ من البلدة، وقد دخلوا داراً ليلاً بالمشاعل، وشهروا الأسلحة ومنعوا أهل الدار من الاستغاثة، حتى قَضَوْا أوطارهم، فهذا منهم استيلاء في الحال، وليس استزلالاً (7)، فقد اضطرب الأئمة في ذلك، فقال بعضهم: هم سراق؛ فإن الطلب يلحقهم على القرب، واليد الطولى من الإمام تنالهم، وقال قائلون: حكمهم حكم قطاع الطريق؛ فإن الاستيلاء ثابت في

_ (1) في الأصل: " لا ينكره ويمارس ". والمثبت من (ت 4). (2) في الأصل: " فلأن "، و (ت 4): " فإذا ". والمثبت من تصرّف المحقق. والمعنى: أنه مما يدخل في أعمال الإيالة والسياسة، حماية الطرق، وتطهيرها من أهل الشِّرَّة والحدة والعنف والعدوان، وتشتيتهم وتفريق جمعهم، وليس من عملهم -أو لا يستطيعون- منع آحاد الرجال من التعرض للمستضعفين. (3) في النسختين: " العناد ". (4) ت 4: " الرفاع ". (5) في الأصل: " قرب ". (6) زيادة من (ت 4). (7) في الأصل: " استرسالاً، واستزلالاً: أي خفيةً، ظهر هذا المعنى من تعريف الإمام للسرقة في أول كتابها. ولم أر هذا منصوصاً في المصباح، ولا المعجم، ولا القاموس المحيط، ولا اللسان. ولكنه يفهم من معاني مادة (ز. ل. ل).

الحال، والغوث لا يلحق غالباً، وهذا معنى التصدّي للحرابة. فإن جعلناهم محاربين، فلا كلام، وإن لم نجعلهم محاربين، فالذي يدل عليه كلام الأصحاب أنهم سراق، ولا يبعد عندنا أن يكونوا مختلسين؛ فإن السارق بناء أمره على الاختفاء وهؤلاء يجاهرون بفعلهم، يخفون أمرهم عن صاحب الأمر، والعلم عند الله تعالى. 11174 - ومما نذكره في تتمة ذلك أنه لو ظهر جمعٌ أصحاب قوة، وصادفوا رفقة، وكانت تقاوم القطاع، [فاستبسؤوا] (1) واستسلموا حتى قُتلوا، وأخذت أموالهم، فليس هذا قطع الطريق، فإن الجمع مع الجمع إذا كانوا على حكم التقاوم والتساوي؛ فليس للقطاع والحالة هذه فضل نجدة. وهذا يحتاج إلى فضل بيان. فإن استسلموا، ولم يدفعوا مع القدرة على الدفع فهؤلاء مُضيِّعةٌ، بلا خلاف. وهذا يقوي [ما ذكرته] (2) في خروج الرجل الفرد على خلاف الاعتياد. ولو اقتتلوا قاصدين [ودافعين] (3)، ونال كل فريق من أصحابه، وكانت الفئتان على تقاوم، وقد [تشمّر] (4) القاصدون، ولم يقصِّر الدافعون، ثم انكفوا، وقد نال كل فريق من أصحابه، فكيف الوجه؟ وهل لما أخذه القاصدون من المال حكم ما يأخذه القطاع؟ وهل يستوجبون الحد إذا قتَلوا، ولم يتبين منهم استيلاء القهر، واستعلاء الغلبة، وقد تكون الدائرة عليهم في [الأَخَرة؟] (5). هذا فيه تردد؛ من جهة أنهم لم يكونوا أصحاب ضعف بالإضافة إلى الرفقة،

_ (1) في الأصل: " فاستبسلوا " وهو عكس ما يقتضيه السياق، وفي (ت 4): " فاستسبلوا "، ولا معنى لها. وما أثبتناه أقرب صورة تؤدي المعنى المناسب للسياق، فاستبسئوا: أي تهاونوا، واستسلموا، وخضعوا. (ر. القاموس، والمعجم، والأساس). (2) في الأصل: ما ذكروه. والمثبت من (ت 4)، وهو الصواب؛ لأن هذا التوجيه انفرد به الإمام، وليس ناقلاً له عن الأصحاب. (3) في الأصل: " مدافعين ". والمعنى: اقتتلوا: وهؤلاء قاصدون، وهؤلاء دافعون. (4) في الأصل: " يشتمر ". (5) في الأصل: " الآخر ".

والحرب سجال، ينال الإنسان فيها ويُنال، ويظهر (1) ألا يثبت لهم حكم قطع الطريق؛ إذ لا غلبة، ولا استيلاء، وسبيل الفئتين المتقاتلتين كسبيل رجلين يلتقيان أحدهما قاصد والثاني دافع، ولم يفرّ، والاحتمال الأول أن نقول: [هؤلاء] (2) ممن يتأتى منهم قطع الطريق، وإنما صادمتهم هذه الرفقة المعدّة وفاقاً، وقد يلقون رفاقاً (3) غير معدة، فالرأي أن يعاملوا معاملة أهل الحرابة. هذا تمام القول في صفة قطاع الطريق. 11175 - ويتصل به أن النسوة إذا قطعن الطريق واستجمعن الصفات التي ذكرناها، كن بمثابة الرجال، كما أنهن إذا سرقن، فحكمهن حكم الرجال، وقال أبو حنيفة (4) لا تستوجب المرأة حد قطاع الطريق، وزاد فقال: لو كان في قطاع الطريق امرأة، لم يجب الحد على واحد منهم، وكذلك لو كان فيهم مراهق، فقتلوا وأخذوا المال، لم يُقطع واحد منهم ولم يُقتل. فصل 11176 - إذا تقرر نعت قطاع الطريق، فإنا نذكر تفصيل عقوباتهم وموجِباتها، كما وعدناه، فنقول: من أخذ منهم ربعَ دينار بالمحاربة والمجاهدة -كما تقدم- قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وكان الأخذ على سبيل المجاهدة على سبيل التضعيف، فالأخذة الواحدة تنزل منزلة سرقتين، وقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى حدٌّ واحد.

_ (1) ويظهر: أي يحتمل، وليس المراد هنا المصطلح الذي استقرّ عليه المذهب (الظاهر) في مقابلة الضعيف. وإنما المراد هنا مجرد (الاحتمال) وسيأتي أن الاحتمال (الأول) أي الأقوى هو المقابل لهذا. (2) زيادة من (ت 4). (3) رفاقاً: جمع رُففة: بضم الراء وسكون الفاء، وزان: بُرْمة وبرام. (المصباح). (4) ما ذكره الإمام عن الأحناف رواية في المذهب نقلها صاحب المبسوط عن ابن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة، ولكن ظاهر الرواية، واختيار الطحاوي أن النساء في قطع الطريق كالرجال. (ر. المبسوط: 9/ 197، مختصر الطحاوي: 277، رؤوس المسائل: 500 مسألة 363، تحفة الفقهاء: 3/ 249، فتح القدير: 5/ 186).

ولا يشترط أخذ نصابين في مقابلة عضوين، وفاقاً. ولو أخذ أقل من نصاب، لم يستوجب القطع. هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب (1 وقال ابن خَيْران: يجب قطع العضوين، وإن قل المأخوذ، ونقص عن نصاب 1)، وزعم أن هذا قولٌ خرّجه على ما سيأتي ذكره، إن شاء الله في أن المحارب لو قتل من لا يكافئه هل يقتل به؟ فقال: إذا رأينا قتله بمن لا يكافئه؛ تغليظاً للقتل الواقع في الحرابة، فلا يبعد أن نقطع عضويه وإن نقص ما أخذه عن نصاب. وهذا متروك عليه مزيف باتفاق الأصحاب؛ فإنا إذا أخذنا عضويه بنصاب واحدٍ، كان هذا التغليظ كافياً، هذا موجب أخذ المال. 11177 - وإن قتل المحارب ولم يأخذ المال، استوجب القتل [متحتماً، وسنعقد في تحتم القتل] (2) وما يتصل من الكلام فصلاً على أثر هذا، وقدر غرضنا الآن أنه لا يجب بالقتل المجرد إلا القتل، ومزية التغليظ بسبب الحرابة تحتُّمُ القتل، كما سنصفه إن شاء الله تعالى. 11178 - فإذن على من جرّدَ أخْذَ المال قطْعُ العضوين، وإن لم نجد له اليدَ اليمين والرجل اليسرى، قطعنا يده اليسرى ورجله اليمين، وقدرنا كأن هذا أخذٌ ثانٍ منه على حكم المحاربة. ولو وجدنا يده اليمنى، ولم نجد له الرجل اليسرى فقد قال العراقيون: نكتفي بقطع اليد اليمنى، واعتلّوا بأن قالوا: اليد والرجل في حد المحاربة كاليد الفردة في حد السرقة، ثم لو وجدنا يد السارق ناقصة، اكتفينا بما وجدنا -على التفاصيل المقدمة- فكذلك إذا وجدنا أحد العضوين اكتفينا به. ولم أر هذا منصوصاً عليه في طرق المراوزة، ولكن الذي يقتضيه القياس ما ذكروه، ووجهه بيّن، وقد يخطر للفقيه إذا وجدنا اليدَ اليمنى، ولم نجد الرجل اليسرى، فإنا نعدل إلى اليد اليسرى بدلاً عن الرجل اليسرى؛ فإنا لو لم نجد اليد اليمنى والرجل اليسرى، لقطعنا اليد اليسرى والرجل اليمنى، وهذا لا تعويل عليه،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 4). (2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4).

ولا وجه إلا ما ذكره العراقيون من اتحاد الحدّ، ووجدان بعض المحل، وذلك يتضمن الاكتفاء بالموجود، وفي قطع اليسار استيعاب جنس اليد وهذا ضم عذاب إلى عذاب. 11179 - ولو أخذ المال على وجهٍ يوجب القطع، وقتل، فالمذهب المشهور أنا لا نقطعه ولا نقتصر على قتله، ولكنا نقتله ونصلبه، فيكون القتل في مقابلة القتل، والتنكيل بالصلب في مقابلة أخذ المال، وأبو حنيفة (1) يقول: صاحب الأمر بالخيار إن أحب قطع وقتل ولم يصلب، وإن أحب قتل وصلب، ولم يقطع والمسألة مشهورة معه، وقال أبو الطيب بنُ سلمة من أئمة المذهب: إذا أخذ المال وقتل، قُطعت يده ورجله لأخذه المال، وقُتل لقتله، وصُلب لجمعه بين أخذ المال والقتل، ورأى ما ذكرناه محتوماً، وهذا بعيد عن القانون. وكان يكفيه إذا صار إلى هذا المذهب أن يوجب القطع والقتل من غير خِيَرة، ولكن اضطر إلى الصلب لكونه منصوصاً عليه في القرآن، وليس للصلب محلٌّ إلا في حق من يجمع بين أخذ المال والقتل. وذكر صاحب التقريب قولاً آخر يخالف ما ذكر أبو الطيب، فقال: من أخذ نصاباً وقتل، قُطع وقُتل، ولم يصلب. وإن قتل وأخذ ما دون النصاب، لم يقطع، ولكن يقتل ويصلب، فالقتل على مقابلة القتل، والتنكيل بالصلب على مقابلة أخذ مقدارٍ من المال لا يوجب القطع. وهذا وما حكيناه عن أبي الطيب لا أصل لهما، والمذهب ما قدمناه من القتل والصلب إذا أخذ نصاباً، وقتل. ثم إذا فرعنا على ما هو المذهب وأردنا الجمع بين القتل والصلب، فالمذهب الصحيح أنه يقتل على الأرض، ثم يصلب قتيلاً، وذهب بعض السلف إلى أنه يصلب [حيّاً] (2) ويقتل مصلوباً، وقد حكى الشافعي هذا المذهب حكاية أشعرت بارتضاه، فصار صائرون من الأصحاب إلى أنه قولٌ للشافعي، والصحيح أنه حكايةُ مذهب الغير.

_ (1) ر. الهداية 2/ 423، ملتقى الأبحر: 1/ 352، تحفة الفقهاء: 3/ 250. (2) زيادة من (ت 4).

التفريع: 11180 - إن حكمنا بأنه يقتل مصلوباً، ففي كيفية قتله وجهان: من أصحابنا من قال: إنه يصلب حياً، ويمنع الطعام والشراب، حتى يموت جوعاً وعطشاً، وهذا مذهب بعض السلف، ولا ينبغي أن يعد هذا من متن مذهب الشافعي. ْومن أصحابنا من قال: يقتل على الصليب بحديدة يعمد (1) بها مقتله على وجه يوحي (2). وهذا مذهب أبي حنيفة (3). 11181 - ثم إذا صلب قتيلاً، أو قتل مصلوباً، فكم يترك على الصليب؟ في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يترك أكثر من ثلاثة أيام. والثاني - أنه يترك على الصليب حتى يتهرّأ قال الصيدلاني: ويتفتت ويسيل ودكه عليه؛ مبالغة في الردع والتنكيل، والصليب اسم للودك، والاصطلاب [استخراج] (4) الودك، ومنه قول القائل: " وبات شيخ العيال يصطلب " (5). وتلك الخشبة على هيئتها سميت صليباً لسيلان الصليب عليها. ثم قال الأصحاب: إن قلنا: لا يترك مصلوباً أكثر من ثلاثة أيام، فلو نَتُن وكان يتفاحش تغيره قبل الثلاث، فهل يُنزل من الصليب؟ فعلى وجهين. وإذا قلنا: إنه يترك حتى يسيل صديده، فقد صرح الصيدلاني بأنه يترك حتى يتساقط.

_ (1) ت 4: يغمز. (2) يوحي: أي يسرع. (3) ر. المبسوط: 9/ 196، فتح القدير: 5/ 180. (4) في الأصل: (اسحرال) كذا بدون نقط. (5) هذا عجز بيت للكميت الأسدي، وتمامه: واحتلّ بَرْك الشتاء منزله ... وبات شيخ العيال يصطلب احتلّ: بمعنى حلّ. والبرك: الصدر، واستعاره للشتاء، أي جاء صدر الشتاء، ومعظمه في منزله، يصف شدة الزمان وجدبه، لأن غالب الجدب إنما يكون في زمن الشتاء. (ر. لسان العرب/مادة: ص. ل. ب).

وفي القلب من هذا شيء، فإني لم أر هذا لغيره، والذي ذكره بعض الأصحاب أنه يترك حتى يسيل صليبه وودكه، والتساقط يقع بعد هذا بمدة طويلة، وإذا كنا ننتظر سيلان صليبه، فلا نبالي بإنتانه؛ إذ لا بد من هذا. 11182 - ثم إذا قلنا: يترك على الصليب ثلاثة أيامٍ أو أقل، فيُنزل، ويسلّم إلى أهله، حتى يغسلوه، ويكفنوه، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين. وقال أبو حنيفة (1): لا يغسل ولا يصلى عليه تغليظاً، ولا يبعد أن يقول ذلك هاهنا، وقد صار إليه في البغاة المتمسكين بالتأويل. وإن قلنا: يترك على الصليب حتى يسيل ودكه، فقد قال الصيدلاني: يقتل على الأرض ويغسل ويصلى عليه، ثم يصلب، ثم اتفق الأصحاب في الطرق أن الغسل والصلاة لا يتركان، وذكر وقت الصلاة والغسل الصيدلاني، وهذا الذي ذكره يتفرع على ما هو ظاهر المذهب، وهو أنه يقتل على الأرض، فإن فرّع متفرع على أنه يقتل بعد الصلب، ويترك على الصليب، فتصوير غسله والصلاة عليه عسر؛ سيّما إذا بالغنا ورأينا أن يترك حتى يتساقط، ولو قال: نجمع عظامه ونصلي عليها، كان في نهاية البعد. فهذا منتهى القول في ذلك، نقلاً وإمكاناً، وقد انتجز الكلام في عقوبة من يأخذ المال ولا يقتل، وفي عقوبة من يقتل ولا يأخذ المال، وفي عقوبة من يجمع بينهما. 11183 - وبقي الكلام في قوله تعالى: " وينفوا من الأرض " وهذا مذكور على سياق ذكر عقوبات المحاربين، ولأصحابنا في معنى النفي من الأرض مسلكان: أصحهما -وهو الذي ذكره الجماهير- أن معنى نفيهم من الأرض إذا ولَّوْا لما شعروا بأنهم مطلوبون، فالإمام يُلحق الطلب بهم، وهم يدأبون في الهرب، وأصحاب الإمام لا يقصرون في الطلب فيتشردون مطلوبين، والغرض أن يُلحقوا، فإن كانوا استوجبوا حدوداً، أقيمت عليهم، وإن لم يقترفوا ما يوجب الحد، ولكن تجمعوا

_ (1) ر. المبسوط: 10/ 131.

وتكثروا [وهيبوا] (1) وخوَّفوا، فالإمام إذا ظفر بهم بالغ في تعزيرهم على ما سيأتي مراتب التعزير، بعد هذا، في باب، إن شاء الله. هذا هو المسلك المرضي. ومن أصحابنا من قال: النفي من جملة العقوبات الملتحقة بالحدود، وليس المراد به الطلب إذاً، ولكن التجمع والتكثر والتهيب وتخويف الرفاق (2) يوجب النفي بعد القدرة والظفر، ثم إذا نفاهم الإمام في صوبٍ عينه لهم، حجر عليهم أن يحيدوا عنه، ولم يتركهم ينطلقوا حيث شاؤوا، والأولى أن يُسيِّبهم (3) في جهة يحتف بهم فيها أهل النجدة والبأس؛ حتى لا يتأتى منهم الترصد للناس، والعود إلى ما كانوا عليه، ثم اختلف الأصحاب، فقال قائلون ينفَوْن إلى بلدة، ثم يعزرون فيها ضماً إلى النفي، إما بالضرب، وإما بالحبس، وقال آخرون: للإمام أن يقتصر على النفي إذا رأى ذلك. ثم قال هؤلاء: إذا رأى النفي أو الحبس، لم يبلغ مدة الحبس والنفي سنة، فإن التغريب سنة من حد الزنا، وهؤلاء ما اقترفوا موجِب حد. وكل ذلك عندي خبط وتخليط؛ فإنهم لم يرتكبوا ما يستوجبون به حدّاً، فإن كان هذا التفي تعزيراً، فينبغي أن لا يجب، فإن ما يتعلق بحقوق الله تعالى من التعزيرات لا يُقضى بتحتمه، كما سيأتي ذلك، إن شاء الله، ثم إن كان تعزيراً غيرَ متحتم، فيبعد أن يختص بالنفي حتى (4) لا يجد الإمام منه بداً إن أراد التعزير؛ فإن أصله إلى رأيه ونظره، فإذا تخير في أصله، وجب أن يكون جنسه [وصنفه] (5) إلى رأيه، وإن صار صائرون إلى أن هذا النفيَ تعزير واجب ليس للإمام تركه، فهو مخالف لقاعدة المذهب

_ (1) في النسختين: " وتبينوا ". والمثبت من البسيط للغزالي. (2) الرفاق: جمع رفقة: والمعنى: وتخويف القوافل. (3) كذا في النسختين. والمعنى أن يتركهم في جهة بحيث يكونون تحت أعين رجال النجدة وفي قبضتهم، فهم يحيطون ولا يغفلون عنهم. وليس المعنى أن يسيِّبهم يذهبون حيث شاءوا، كما هو المعنى الحرفي لكلمة (يسيبهم) بل المعنى: ألا يحبسهم، فهم مطلقون، ولكن يحتف بهم أهل النجدة. (4) سقطت من (ت 4). (5) في الأصل: " وصنعة ".

في التعزيرات التي تجب في حقوق الله تعالى. فالوجه حمل النفي على أن يُطلبوا، حتى إذا صودفوا أقيمت عليهم الحدود إن استوجبوها، وإن لم يستوجبوها، رأى الإمام رأيه في تعزيرهم. ثم إذا كان الطلب لأجل التعزير، لم يتعين على الإمام الطلب، كما لا يتعين عليه التعزير لو ظفر بهم. نعم، يجب عليه بالنظر الكلي (1) نفضُ جميع الطرق عن أهل الفساد، وكان شيخي يقول: من تغليطات حدود المحاربين أن الأئمة اختلفوا في أن من استوجب حداً وهرب هل يسقط الحد عنه؟ وهؤلاء إذا استوجبوا الحدود [وهربوا] (2)، فلا يجوز أن يتركوا، بل يلحق الطلب بهم؛ فإنّ تركهم يجر شراً عظيماً قد يتفاقم، ويبلغ مبلغاً يعجز الإمام عن استدراكه. وقد انتهى بعضُ التفصيل في عقوبات الحرابة. 11184 - ونحن الآن نعقد فصلاً في استيجاب القتل بالقتل في حالة المحاربة، فنقول: إذا صدر القتل من المحارب خطأ، أو على وجهٍ شبه العمد، فلا خلاف أنه لا يستوجب القتل، وإن قتل عمداً محضاً من يكافئه، وجب القتل، وهذا القتل متحتم، لا يجد ولي القتيل إلى إسقاطه سبيلاً. هذا متفق عليه. وذكر الأئمة قولين مستخرجين من أصول المذهب في أن هذا القتل [يتمحض] (3) حقاً لله تعالى، [أم فيه حقّ لله تعالى] (4) ويشوبه حق الآدمي: أحد القولين - أنه [يتمحض] (5) حدَّاً، والثاني - أنه مشوب بحق الله تعالى، وحق الآدمي. وبنى الأئمة على هذين القولين مسائل: أحدها - أنه لو قتل المحارب من لا يكافئه، ولا يستوجب القصاص بقتله في غير المحاربة، فهل يجب القتل عليه؟ إن حكمنا بأن قتل المحارب يتمحض حقاً لله تعالى، فلا ينظر إلى صفات الكفاءة،

_ (1) في الأصل: " يجب عليه التعزير بالنظر الكلي ". والمثبت من (ت 4). (2) فى الأصل: " وخرجوا ". (3) في الأصل: " يمحض ". (4) زيادة من (ت 4). (5) في الأصل: " تمحض ".

ونقول: لو قَتَل المحاربُ ذمياً من الرفقة، والقاتل مسلم، أو قتل الحر المحارب عبداً من أهل الرفقة، أو قتل الأب ابنه، أو قتل السيد عبده، وكان عبدُه في الرفقة، فإنه يستوجب القتل حداً لله تعالى في هذه المواضع، ولا ننظر إلى الصفات التي نعتبرها في نفي القصاص. وإن قلنا: قتل المحارب يشوبه حق الآدمي، ولا بد من رعاية صفات الكفاءة، حتى لا يستوجب المحارب القتل إلا بقتل يستوجب بمثله القصاص لو صدر منه في غير حالة الحرابة، وهذا التفريع على وجهه. وفي قتل السيد بعبده إذا قلنا: القتل محض حق الله تعالى نظرٌ، وقد قطع القاضي بأن السيد يُقتل إذا قتل عبدَه، والعبد في الرفقة، وقال الصيدلاني: يستوجب المحارب القتلَ بكل قتلٍ محرم يقع بأهل الرفقة، إلا إذا قتل عبده، واعتلّ بأنه لا يفرض انحياز العبد عن المولى، ومصيره إلى [حزب] (1) الرفاق، فإذا وقع القتل به، فليس القتيل من (2) حزبٍ هم على اللصوص (3). ثم لو فَرَض فارض مكاتَباً لهذا المحارب القاتل، وهو في الرفاق، فإذا فرض موت المكاتَب، انقلب رقيقاً، ولو فرض العبد مستأجَراً للرفاق، فله أن يذب سيده عن الرفقة، ولكنه مملوك [قن] (4)، والقتل يقع برقبته، هذا مسلك الصيدلاني. والقاضي قطع بما قدمناه، وألحق القتل الواجب حداً بالكفارة التي تجب [حقّاً] (5) لله تعالى. وإذا كنا نوجب القتل حداً على السيد على طريقة القاضي، فلا بد أن نصور له اختصاصاً بالرفقة، [ولا وجه إلا أن يكون] (6) مستأجراً لخدمة الرفاق، أو يفرض

_ (1) في الأصل: حرب (بوضع علامة الإهمال على الراء). (2) ت 4: فليس القتل على حزب هم من اللصوص. (3) والمعنى أن العبد القتيل ليس قتيل المحاربين، فهو ليس حرباً عليهم؛ إذ فيهم سيده، الذي لا يتصور الصيدلاني أن ينحاز عنه. (4) زيادة من (ت 4). (5) في النسختين: " حدَّا " والمثبت تصرف من المحقق. (6) عبارة الأصل: " ولا وجه له أن يكون .. ".

مأذوناً له من جهة السيد، والسيد قتله غير شاعر به. 11185 - ومما فرعه الأصحاب على القولين المذكورين في أن المحارب إذا قتل استوجب القتل حتماً، فلو مات قبل أن يُقتل، فإن قلنا: يتمحض قتله حداً لله تعالى، فليس لولي الدم حقٌّ في تركته، وإن قلنا: حق الآدمي مشوب بحق الله تعالى، فإذا فات الحد بفوات محله، كان لأولياء القتيل أن يطلبوا الدية من تركة المحارب القاتل. وإذا قتل جماعةً، إن قلنا: يتمحض قتله حداً لله تعالى، لم يلزمه إلا قَتْلُه في مقابلة جميع القتلى (1 وإن قلنا: يشوبه حق الآدمي، فقَتْلُه يقع لواحدٍ منهم، فإن كان قتلهم على الترتيب، قتل بالأول، وللباقين ديات القتلى 1) وإن قتلهم دفعة واحدة، أُقرع فيما بينهم، فيقتل بمن خرجت له القرعة وللباقين الدية. والأصح عندنا في قياس المذهب أن القتل يقع مشوباً؛ فإن من قتل في غير المحاربة استوجب القصاص حقاً للآدمي، فإذا قتل في حالة المحاربة، استحال أن يسقط حقُّ الآدمي [وقد اتفق الأصحاب على أنه إذا اجتمع في محلٍّ واحد عقوبةٌ هي حق للآدمي] (2)، وعقوبةٌ لله تعالى، فالمغلب حق الآدمي؛ فإسقاط حق الآدمي بالكلية لا وجه له. والذي يتمم التفريع في ذلك أنا إذا قلنا: حق الآدمي ثابت في القتل، فإن (3) لم يعف ولي الدم، أقمنا الحد. والوجه أن نقول: القتل بالقتل، والتحتم حقٌّ لله تعالى، وإن عفا ولي الدم. فإن قلنا: [لا حق للآدمي في هذا القتل، فالعفو لغو، ولا حق له في الدية] (4)، وإن قلنا: حق الآدمي ثابت في الدم، فإذا قال الولي: عفوت على مالٍ، فله الدية، والمحارب مقتول حدّاً لله تعالى، وهو بمثابة مرتد

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4). (3) ت 4: " فلو لم يعف ". (4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 4).

يستوجب القصاص، فإذا عفا ولي الدم، يرجع إلى المال، وقُتل المرتد بردته. 11186 - ونختم ما ذكرناه بمسألةٍ من الفصل الذي سيأتي إن شاء الله تعالى، فنقول: إذا قتل قاطع الطريق واستوجب القتلَ، وتاب قبل الظفر به، فسنوضح أنه يسقط ما كان حقاً لله تعالى مختصاً بالمحاربة، وأثر هذا أن تحتّم الضل يسقط، قال الأصحاب: يبقى القصاص إلى خِيَرة الولي، وقال بعض أصحابنا: هذا يفرع على أن القتل على قاطع الطريق محض حق الله تعالى أم للآدمي فيه حق؟ فإن قلنا: للآدمي فيه حق، فيبقى القصاص، وإن سقط تحتُّم القتل حقاً لله تعالى. وإن قلنا: لا حق للآدمي، فإذا سقط القتل بالتوبة، فلا قصاص للآدمي، ولا دية، وهو كما لو مات المحارب وفات الحد، وقلنا: القتل محض حق الله تعالى، فلا دية لولي الدم، وهذا لا ينكر ضعفَه فقيه، ولكنه قياس ما قدمناه من التفاريع. فانتظم مما ذكرناه أنا إن قلنا: للآدمي حقٌّ، بقي القصاص، وسقط التحتم بالتوبة، وإن قلنا: لا حق للآدمي، فإذا تاب قبل الظفر، ففي بقاء القصاص وجهان: أحدهما - أنه يسقط، وهو قياس هذا القول الضعيف. والثاني - لا يسقط، وهو الذي صححه الأئمة (1). ونحن نقول: إن كان هذا هو الصحيح، فإطلاق القول بأن القتل محض حق الله تعالى لا وجه له، بل الوجه أن نقول: الغالب حق الله تعالى، أو حق الآدمي. والذي يقتضيه قياس المذهب إثبات الحق على الشَّوْب والاشتراك من غير تغليب، فإن حصل التوافق على القتل، [فذاك] (2)، وإن فات الحد، بقي حق الآدمي، وإن عفا الآدمي، فله المال، وحق الله يستوفى، فهو إذاً قتلٌ معلل بعلّتين، ولو أمكن قتلان لأثبتناهما.

_ (1) ت 4: " القاضي ". (2) سقطت من الأصل.

فصل 11187 - المحارب إذا جنى جنايةً على بعض من في الرفقة، فإذا كانت تلك الجناية لا توجب القصاص كالجائفة، وما في معناها، فلا يُجرح المحارب بسبب جرحه، وإن جنى جناية يتعلق بمثلها القصاص، مثل أن يُبين عضواً من أعضاء القصاص، فقد قال بعض الأصحاب: إن قَطَع من الجوارح، وهي اليدان والرجلان، فمعلوم أنها تُستحق (1) لله حداً، فإذا تضمنت الجناية إبانة عضو من هذه الأعضاء فيتحتم قطع ذلك العضو من المحارب، كما يتحتم قتله إذا قَتل، ثم يجري التفريع في الطرف على حسب جريانه في القتل. ولو قطع المحارب عضواً [من أعضاء] (2) يتعلق بقطعها القصاص، ولكنها لا تُستحق حقاً لله تعالى، كقطع الأذن والأنف وفقء العين، فهل يتحتم قطع ذلك العضو منه، أم يجب القصاص على حكم الخِيَرة؟ فعلى وجهين وتوجيههما بيّنٌ، هذه طريقة. وذهب معظم الأصحاب إلى طرد القولين في اليدين والرجلين، فقالوا: في تحتم [قطع] (3) هذه الأعضاء من المحارب إذا قطعها قولان: أحدهما - أنه لا يتحتم قطعها، [وإنما التحتم في القتل، فحسب. والثاني - أنه يتحتم قطعها] (4) ثم طردوا هذا الخلاف في الأعضاء كلها، إذا كانت أعضاءَ القصاص. ومن جمع طرق الأصحاب نظم في الأعضاء التي هي أعضاء القصاص ثلاثةَ أقوال: أحدها - أنه لا يتحتم استيفاؤها من المحارب، إذا أبانها. والثاني - أنه يتحتم من غير فصْل. والثالث - أن التحتم يجري في اليدين والرجلين دون غيرهما. ولو جرح المحارب واحداً من الرفقة، وانجلى القصد والدفع، فمات ذلك

_ (1) ت 4: " أنها مما يستحق لله تعالى حداً ". (2) زيادة من المحقق. (3) زيادةٌ منا حيث لا وجود لها في النسختين. (4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4).

المجروح بعد أيام مثلاً، فالقتل يجب حداً، وإن لم يتم في حالة المحاربة، ولو جرح وتاب قبل الظفر، وحصل الموت والزهوق بعد الظفر، [فالتوبة قبل الظفر] (1) هل تؤثر في إسقاط تحتم القتل؟ (2 هذا فيه احتمال؛ لأن القتل يجب عند الزهوق، وهو إذ ذاك مظفور به، ولعل الأظهر سقوط تحتم القتل 2) نظراً إلى حالة الجرح، وهذا يلتفت على مسائلَ من هذا الجنس ذكرناها في أول الجراح، منها: أن كافراً لو جرح كافراً ثم أسلم الجارح، ومات المجروح، ففي وجوب القصاص على الجارح وجهان. فصل قال: " ومن تاب منهم قبل أن نقدر عليهم ... إلى آخره " (3). 11188 - قاطع الطريق إذا تاب قبل الظفر به، فالتوبة تُسقط الحدودَ المختصة بالحرابة، قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]. ثم قال الأئمة: العقوبات المختصات بالحرابة ثلاثة (4): التحتم في القتل إن كان قتلٌ، والصلب إن استوجبه بسببه، وقطع الرجل، فأما قطع اليد، فليس من خصائص الحرابة؛ فإن السارق تقطع يمناه، ففي سقوط قطع اليد إذا وقعت التوبة قبل الظفر وجهان: أحدهما - أنه لا يسقط، لما ذكرناه من أنه ليس مختصاً بالحرابة. والثاني - أنه يسقط؛ فإن اليد والرجل كالعضو الواحد؛ فإذا سقط قطع الرجل، لم يتبعض الأمر، وترتب على سقوط قطع الرجل سقوط قطع اليد. هذا إذا تاب قبل الظفر.

_ (1) زيادة من (ت 4). (2) ما بين القوسين سقط من (ت 4). (3) ر. المختصر: 5/ 173. (4) إذا تقدم المعدود يجوز الموافقة في التذكير والتأنيث. نقول: العقوبات ثلاث (على المشهور) والعقوبات ثلاثة. وهذا أيضاً صحيح، وإن لم يكن دائراً على الألسن.

11189 - وإن تاب بعد الظفر، ففي سقوط العقوبات [مما] (1) يختص بقطع الطريق وما لا يختص به قولان، وأجرى الأصحاب هذين القولين في سائر الحدود كالقطع في السرقة، وحد الشرب، والزنا، وقد ذكرنا هذا في كتاب الحدود. والذي نريده هاهنا أن تخصيص التوبة بما قبل الظفر وتقييدها به، يكاد أن يكون نصّاً في أن التوبة بعد الظفر لا تؤثر، ولكن من نَصَر قولَ قبول التوبة في الحدود كلها، عارض هذا التقييد أوّلاً بجريان ذكر التوبة على أثر آية السرقة؛ فإنه تعالى قال بعد آية السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] فاقتضى هذا تأثيرَ التوبة في حد السرقة، فلو قال قائل: ليس لسقوط الحد ذكرٌ في هذه الآية، وإنما ذكر الله تعالى المغفرة؟ قيل: لم يجر في التوبة قبل الظفر في آية المحاربة أيضاً ذكر الحدود وسقوطها، ولكن ذكر المغفرة في الموضعين في العقوبات الثابتة لله تعالى، ظاهرٌ في إسقاطها. 11190 - ومما تعرض له بعض المحققين أن الله تعالى ذكر توبة المحارب قبل الظفر، ولم يقيده بالإصلاح، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وذكر التوبة بعد آية السرقة وقيدها بالإصلاح، فقال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] فالتوبة المجردة قبل الظفر تُسقط الحدودَ على التفصيل المقدم من غير إصلاح الحال. وإذا قلنا بقبول التوبة (2) بعد الظفر، فنفس إظهار التوبة لا يُسقط الحد حتى ينضم إليها إصلاح الحال، وكذلك القول في سائر الحدود إذا قلنا: إنها تسقط بالتوبة. وهذا كلام حسن مستند إلى ظاهر القرآن، وفيه طرفٌ من المعنى، وهو أن التوبة قبل الظفر في غالب الأمر لا تصدر إلا عن إضمار (3) صحيح، وإذا فرض إظهار التوبة

_ (1) في الأصل: ما. (2) في الأصل: " التوبة المجرّدة "، والمثبت من (ت 4)، حيث أطلقت التوبة ولم تقيدها (بالمجردة)، وهو الذي يقتضيه القياس. (3) ت 4: " احتمال ".

بعد الظفر، فالغالب أنه صادر عن [ضبطٍ] (1) تحت القهر واستيلاء يد الإمام. وهذا وإن اتجه على الوجه الذي ذكرناه، فتفريعه عسر، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى. وهذا التفصيل يحكى عن القاضي. والأصحابُ مجمعون على أنا إذا حكمنا بأن التوبة تُسقط الحدود، فمجرد إظهارها كافٍ، وهو بمثابة إظهار الإسلام تحت ظلال السيوف. ثم سبيل التفريع على ما ذكره القاضي أن من أظهر التوبة امتحناه سراً وعلناً، فإن ظهر الصلاح في أعماله، حكمنا بسقوط الحد، وإن بدا نقيض ذلك، فالتوبة لا تُسقط الحد. وهذا كلام مضطرب، فإن هذا التائب إن حُبس، كان محالاً، وإن خلّي سبيله، فلا معنى لاتباعه بهناة تصدر منه، وقد [يزلّ بعضَ الزلل] (2)، ثم [لا ندري] (3) أن الإصلاح مرعيٌّ في قبيل من تاب عنه، أو في جميع الأحوال، ولا ضبط لهذا الكلام. وأنا أقول: ذكر التوبة المجردة قبل الظفر يدل على سقوط الحد بها، وذكْر التوبة مع إصلاح العمل يدل على المغفرة باطناً، والحدود مقامة، والوجه تصحيح منع قبول التوبة إلا في المحاربين (4)، وتنزيل الكلام على الآية المطلقة والمقيّدة على ما ذكرناه.

_ (1) في النسختين: " خبط ". ولعلها محرفة عن (ضبط) التي أثبتناها. فالضبط هو الأخْذ بالحزم والشدة والقهر. (المعجم). (2) في الأصل: " وقد ترك بعد الزنا " وت 4: " وقد نزل بعض الزنا " والمثبت من تصرف المحقق على ضوء السياق. (3) في الأصل: ثم لا بد في أن، والمثبت من (ت 4). (4) ما استقرّ عليه المذهب هو ما قاله الإمام هنا،، قوله: إن الصحيح قبول التوبة في المحاربين قبل القدرة عليهم وسقوط الحد بها، وعدم سقوط الحد بها في غير المحاربين (ر. الشرح الكبير: 11/ 258، والروضة: 10/ 158).

فصل قال: " ولو شهد شاهدان من أهل الرفقة ... إلى آخره " (1). 11191 - إذا شهد شاهدان من الرفقة على المحاربين وقالوا: هؤلاء تعرضوا لهؤلاء، فأخذوا أموالهم، وقتلوا منهم، وفصّلوا ما يجب تفصله، ولم يتعرضوا لقصد المحاربين إياهم، فالشهادة مقبولة، ووجهه بيّن، وليس على القاضي أن يستكشف ويبحث ويقول: هل أنتم من أهل الرفقة؟ فإن سأل عن هذا، فلهم ألا يجيبوه، وإن ألحّ، قالوا: لا يلزمنا الجواب عن هذا، وإنما عندنا شهادة أقمناها، وسيأتي نظائر هذا في الشهادات، إن شاء الله تعالى. ولو قال الشهود: تعرضوا لنا، فذكروا أنفسهم وأصحابهم، فشهاداتهم مردودة؛ لأنهم صدّروها بإظهار العداوة، وكذلك لو شهد شاهدٌ أن فلاناً قذف أمه وفلانة، فشهادته غير مقبولة لأمه، ولا لفلانة؛ لأنه أظهر بها سبب العداوة. ولو شهد شاهد بمالٍ مشترك بينه وبين صاحبٍ له، فشهادته لنفسه مردودة في حصته، وفي قبول شهادته لشريكه قولان، سيأتي أصلهما وتفريعهما، إن شاء الله تعالى والقدْر الذي هو غرضنا هاهنا أن الشريك بشهادته لم يظهر عداوةً توجب تعميم الرد في شهادته، فلذلك لم نقطع برد شهادته لشريكه. فصل قال: " وإذا اجتمعت على رجل حدود ... إلى آخره " (2). 11192 - إذا اجتمعت على رجل عقوبات، فلا يخلو إما أن يكون الكل حقاً لله تعالى، أو حقاً للآدمي، أو البعض حق لله تعالى، والبعض للآدمي، فإن كان الكل

_ (1) ر. المختصر: 5/ 173. (2) ر. المختصر: 5/ 173.

حقوقاً للآدمي مثل: أن يجتمع على رجل حد قذف، وقطعُ يدٍ لإنسان قصاصاً، وقتلٌ في النفس على سبيل القصاص. قال الأئمة: إذا ازدحم الطالبون، فالبداية بحد القذف، ثم إذا جلدناه، نتركه حتى يندمل، ثم نقطع، [ولا] (1) يتركُ حتى يندمل، بل يقتل في الحال، إذا طلب المستحِق؛ لأن المقصود إهلاك (2) الجملة، ولم يبق غيره، وإنما لم نقطعه على أثر حدّ القذف، لأنا لو فعلنا ذلك، لأوشك أن يموت بالجلد والقطع، ويفوت حق القصاص في النفس. هكذا ذكره الأصحاب. 11193 - وفي هذا بحثٌ وفضل نظر؛ من جهة أن الحدّ، والقطعَ، والقتلَ قصاصاً لو ثبت لثلاثة نفر، فإذا أقيم الحد، فإن كان تأخير القطع بسبب إبقائه، فهو مستحَق الدم، فلا معنى لتقرير الضنّة بدمه، وإن كان السبب في الإمهال وانتظار الاندمال ألا يسقط القصاص في النفس ولا يفوت. [فإذا] (3) اجتمع مستحق الجلد والقتل والقطع، ورضي الكافة بإقامة الحقوق وِلاءً، وقال صاحب النفس: إن كنتم تتركونه بعد الجلد لحقي، فقد رضيت، فعجلوا القطع، فهذا محل النظر: يجوز أن يقال: إذا وقع الرضا، ابتدرنا الجلد والقطع بعده، ثم القتل. ويجوز أن يقال: لا بد من المَهَل بين الجلد والقطع؛ لأن مستحق الدم قد يبدو له ألا يقتل، وقد رُتب تقدّم الجلد والقطع على حقه. ولو أتبعنا الجلدَ القطعَ، فليس ما يفرض من موتٍ بسبب توالي العقوبتين واقعاً عن القصاص المستحق في النفس، فهذا يُفضي إلى موتٍ غيرِ معتد به، ولا سبيل إلى إهدار الروح. وهذا الوجه أظهر وأفقه.

_ (1) في الأصل: فلا. (2) ت 4: هلاك. (3) في الأصل: وإذا.

وإن علمنا قطعاً أنه لو جلد وقطع على التوالي، لم تَفِض نفسُه على الفور -وإن صار لما به (1) - فإذا قال صاحب النفس: عجلوا، وأنا أقبل، فيجب القطع هاهنا؛ فإن له ذلك، وما قدمناه فيه إذا كنا نجوّز أن تفيض نفسه لتوالي العقوبتين جميعاً، فنقول: لو فعل ذلك، لهلكت النفس، لا عن جهة القصاص، فلو قال القائل: إذا كان يتأتى الموالاة في أزمنة متقاربة (2) بين هذه العقوبات، فقد يخطُِر (3) لمستحق النفس أن يعفو، ولو عفا، فربما يهلك من والينا عليه بين العقوبتين؟ قلنا: هذا لا مبالاة به الآن، فلا يجوز ترك حق الإنسان بناء على أنه قد يعفو. 11194 - فخرج مما ذكرناه أن مستحِق النفس إن كان غائباً في الصورة التي صورناها، فلا وجه إلا الإمهال بين الجلد والقطع، وإن حضر وكان من الممكن لو (4) والَيْنا بين العقوبتين أن تفيض النفس بالقطع [اختراماً] (5)، فهذا محل التردد، والأظهر الإمهال، وإن كنا نعلم أن [الاخترام] (6) لا يقع، فلا وجه للتأخير عند الطلب. وتبينا من هذا المنتهى مسألةً وهي أن من استُحِقت يدُه قصاصاً، واستُحِقت نفسه

_ (1) كذا في النسختين: (وإن صار لما به) ولم أدر لها وجهاً، ولم أعرف ما فيها من تصحيف وهي جملة معترضة على أية حال، ومعناها -كما هو واضح من السياق- أنه يوالي بين الجلد والقطع، وإن صار بذلك إلى مماته، ما دام ستبقى فيه حياة مستقرة بعد القطع تتيح استيفاء القصاص في النفس. هذا، ولم يتعرض الغزالي في البسيط ولا الرافعي في الشرح الكبير، ولا النووي في الروضة، ولا العز بن عبد السلام في مختصره- لم يتعرض أي من هؤلاء الكرام إلى هذا المعنى مع تفصيلهم للمسألة وحكمها. (2) ت 4: متفاوتة. (3) يخطر: من بابي ضرب وقعد. (4) ت 4: وإن والينا. (5) في الأصل: (احراما) بهذا الرسم وبدون نقط. وت 4: (احتراما) كذا رسماً ونقطاً. والمثبت تقدير من المحقق، والمعنى: أننا إذا توقعنا أن تخرج نفسه بسبب توالي الجلد والقطع، فهذا محل التردد. وذلك أن الاخترام هو الهلاك بالجوائح، وليس حتف الأنف (ر. المصباح). (6) في الأصل: الإحرام. و (ت 4): الاحترام.

أيضاً قصاصاً، فالبداية بإجراء القصاص في الطرف، ولا فرق بين أن يتقدم استحقاقه للقصاص وبين أن يتأخر، فإن المرعي في هذا الباب ألا نفوّتَ على ذي حق حقاً، وهذا لا يُتلقى من الترتيب في الاستحقاق، والدليل عليه أنا نقدم حدّ الله تعالى في الاستيفاء إذا كان دون النفس على القتل المستحَق قصاصاً، وإن كان حق الآدمي في العقوبة مقدماً على الحد. والغرض من هذا المساق أن مستحِق الطرف لو عفا عن الطرف، فالقصاص قائم في النفس، ولو لم يعف مستحق الطرف، ولكن كان يؤخر استيفاءَ القصاص، [فإجباره] (1) على التعجيل محال، وحمله على [العفو محال] (2)، وتفويت حقِّه بتسليط مستحق النفس على القتل لا وجه له. وينتظم من هذا المجموع أن من يستحق أنملة من إنسان يتسبب إلى تأخير القصاص في نفسه، وإنما فرضنا في القصاص، (3 لأن حق الله تعالى يعجل، والإمام محمول عليه، وهذا لا يتحقق في القصاص؛ فإن مستحق الطرف في القصاص 3)، لا يُحَثُّ على [الاستيفاء] (4) ولا يؤمر بالعفو، ولا نفوِّت حقّه، ولكن مستحق النفس لو ابتدر، وقتل، وقع القصاص في النفس موقعه، ويسقط القصاص في الطرف لفوات المحل وآل أمر مستحِق الطرف إلى المال، وما ذكرناه فيه إذا كانت العقوبات حقوقاً للآدميين. 11195 - فأما إذا اجتمعت عقوبات لله تعالى، كحد الشرب، وحد الزنا بالجلد، وقطع اليد، والقتل في الحرابة، فلا بد من البداية بالأخف منها، وهذا الترتيب مستحَق، فإنا إذا فعلنا ذلك، وضممنا إليه الإمهال بين العقوبتين، كان ذلك مسهِّلاً طريق إقامة الحدود، مانعاً من الفوات في البعض، ثم إذا حددناه للشرب،

_ (1) زيادة من (ت 4). (2) في الأصل: " وحمله على العقوبات، وتفويت ... إلخ ". (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 4). (4) في الأصل: " استيفاء "، والمثبت من (ت 4).

[نتركه] (1) حتى يندمل، ثم نحده للزنا، ونتركه حتى يندمل، ثم يقطع، فإذا بقي القتل، فلا معنى للتوقف، والإنجاز والإراحة أوْلى. ولو كان بعض العقوبات حقاً لله تعالى والبعض حقاً للآدمي مثل: أن شرب، وقذف، وقطع يد إنسان قطْعَ قصاص، وزنى وهو ثيب؛ فحد الشرب أخف، ولكنه حق لله تعالى، وحد القذف أغلظ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نبدأ بحد الشرب لخفته، ولما مهدناه [من الترتيب] (2) في توفية الحقوق. والثاني - البداية بحق الآدمي وهو حد القذف؛ فإن حقه أولى بالتقديم في العقوبات، ثم نتركه حتى يندمل، ونوفي بقية الحدود على الترتيب المقدم. ولو اجتمع حدُّ زنا البكر، وقطعُ الطرف في القصاص، فهذا يخرج على الوجهين المذكورين في حد الشرب وحد القذف إذا اجتمعا، فإن قلنا: البداية بالأخف ثَمَّ، فها هنا نبدأ بحد الزنا؛ فإن الجلد أخفُّ [من] (3) القطع، وإن قلنا: البداية بحق الآدمي، بدأنا بالقطع، ثم نمهله حتى يبرأ، ثم نحده. هذا هو الترتيب في اجتماع العقوبات. 11196 - ومما يليق بهذا المنتهى أن المحارب إذا استوجب قطع طرفين، فقد قال الأئمة: نوالي بين القطعين ولا نمهله ليبرأ عن قطع اليمين، والسبب فيه أن قطع العضوين من المحارب حدٌّ واحد، والحد الواحد لا يتبعض استيفاءً، كما لم يتبعض وجوباً، ولو وجب عليه قطع الرِّجل قصاصاً، وقطْع اليمين عن جهة السرقة، فنبدأ بتوفية القصاص، ثم نمهله إلى أن يبرأ، ثم نقطع يمناه عن السرقة؛ فإن العقوبتين مختلفتان، ولا بد من رعاية هذا الترتيب. والمحارب [إذا] (4) كان يستوجب قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى قصاصاً في غير حالة المحاربة، ثم حارب، وأخذ المال، فاستُحِقَّت يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم

_ (1) في النسختين: " ونتركه ". (2) زيادة من (ت 4). (3) في النسختين: " في ". (4) في الأصل: " وإذا ".

أجرينا القصاص في يده اليسرى ورجلِه اليمنى، فلا نقطع طرفيه الباقيين حداً حتى يبرأ، ولو قطع يمين إنسان، ووجب القصاص عليه في يمناه، ثم سرق سرقةً توجب عليه القطع، فقد ازدحم على يمناه الحد والقصاص، ولكن القصاص مقدّم، وهذا متفق عليه. فإن قيل: [قطعتم] (1) القول بتقديم حق الآدمي في العقوبة إذا فرض الازدحام، كما صورتموه، وردّدتم الأقوال في حقوق الأموال، وقلتم في قولٍ: نقدم حق الله تعالى على حق الآدمي، فما الفاصل بين الأصلين؟ قلنا: حق الله تعالى في العقوبات يتعرض للسقوط بالشبهات، حتى انتهى الأمر فيها إلى قبول الرجوع عن الإقرار بها، وحق الآدمي في العقوبة آكد، ولا يسقط بما يسقط به حق الله تعالى؛ فاقتضى ذلك تقديم الآكد، والحقوقُ المالية وإن أضيفت إلى الله تعالى، فإنها لا تتعرض للسقوط بالشبهات، وانضاف إليه أن مصرف حقوقِ الله تعالى في الأموال للآدميين، فكأنه يجتمع فيه حق الآدمي والتأكد بالإضافة إلى الله تعالى. هذا هو الفرق بين الأصلين. والذي يعضّد هذا أن من استحق القصاص فوافى الجاني في شدة حرٍّ أو برد، لم يجب عليه أن يؤخر الاقتصاص في الطرف، وقد نوجب تأخير الحد عن شدة الحر والبرد. ولو جرى اقتصاص في طرفٍ، وفرض بعده استحقاق طرف في حدٍ، فإنا نؤخر استيفاء الحد إلى أن يبرأ، ولو فرض استيفاء حدٍّ في طرف، ثم وجب القصاص في طرف آخر، أو كان واجباً، فليس على مستحِق القصاص أن يؤخره. والذي قدمناه في صدر الفصل من الإمهال بين الجلد والقطع قصاصاً مفروضٌ فيه إذا كان بعد القطع قتلٌ يخشى فواتُه، ثم فيه من التفاصيل ما مضى. 11197 - ولو وجب على الإنسان القصاص لأسبابٍ، فلم يتفق استيفاؤه حتى أخذ المال في المحاربة؛ فيجب عليه قطع اليد اليمنى قصاصاً وحداً، ويجب قطع الرجل

_ (1) زيادة من (ت 4).

اليسرى حداً، فإذا طلب مستحق القصاص حقه، أجيب إليه، ثم إذا قطعت اليمنى قصاصاً، فهل نمهل المقطوعَ منه إلى أن يندمل؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنا لا نمهله، وهو الأقيس؛ لأن القصاص لو لم يكن، لَوالَيْنا بين القطعين، وقد تعلق وجوب الحد بالطرفين، غيرَ أنا قدمنا القصاص، ثم قلنا: بقيت الرجل للحد، فلتقطع. والوجه الثاني - أنا نمهل؛ لأن اليد إذا قطعت قصاصاً، [فكأنها] (1) لم تكن مستحَقةً حداً، وكان لا يستحق في الحد إلا الرجل، ولو استُحِقَّ من الرَّجُل طرفان: أحدهما - عن جهة القصاص، والآخر - عن جهة الحد؛ فإذا قطع الطرف المستحَق قصاصاً، فلا بد من الإمهال إلى الاندمال. ولو استُحِقت يمناه ورجلُه اليسرى قصاصاً، [وقَطَعَ] (2) في الحرابة الطريقَ [فاستُحِقت] (3) يدُه اليمنى ورجله اليسرى حداً، فإن طلب مستحق القصاص، مكناه من قطع الطرفين، ثم يسقط الحد بفوات المحل، على ما تمهد. وهذه المسائل، لا إشكال فيها. ولكن [المخوف] (4) فيها على الناظر أن تزدحم عليه، ويُلهَى فكره عن التفصيل. 11198 - ومن تمام هذا الفصل أن من زنى مراراً، ولم يتخلل بين الزنيات استيفاءُ الحد، فإن كانت الحدود متفقة، وإنما يفيد فرضها بالجلد، حتى يتصور تكريرها، فإذا كان كذلك، اكتفينا بجلد مائةٍ وتغريبه عاماً، ثم لا يفضّ الحد على الزنيات، بل نقول: هو في مقابلة جملتها، وكان شيخي يقول: جملة الحد مقابل بكل زنية، وإذا انتفى عن فكر الفقيه التقسيط، فلا مشاحة بعد ذلك في العبارات. وقد تردد العلماء على وجهٍ آخر، فقال قائلون: يجب حدودٌ على أعداد الزنيات، ثم تتداخل، وقال آخرون: الزنيات إذا لم يتخللها الحد كالحركات في زنية واحدة،

_ (1) زيادة من (ت 4). ومكانها بياض بالأصل. (2) في الأصل: " وقطعاً ". والمثبت من (ت 4). (3) في النسختين: " واستحقت ". (4) في الأصل: " الجواب ". والمثبت من (ت 4).

وهذا أقرب، فإن الوجوب والسقوط يجر خبلاً واضطراباً فىِ الكلام. ثم اتحاد الحد محمول على ابتناء حدود الله تعالى على الدرء والدفع، والعجب أنه لا يجب بالوطآت في نكاح شبهة إلا مهر واحد، فاشتمال الشبهة الواحدة على جميعها يجعلها كالوطأة الواحدة. 11199 - ولو زنى الرجل بكراً، ثم ثاب (1) وأحصن، فزنى مرة أخرى، فموجب الزنية الأولى يخالف موجبَ الزنية الثانية، والمذهب الاكتفاء بالرجم ومن أصحابنا من قال: يجمع بين الجلد والرجم؛ فإنهما مختلفان، ليس أحدهما في معنى الثاني (2)، فصارا كعقوبتين [لجريمتين] (3) مختلفتين، والله أعلم (4). ...

_ (1) ثاب: أي صار ثيباً. (2) لم يرجّح شيخا المذهب: الرافعي والنووي أحدَ الوجهين، مثلما فعل إمام الحرمين، بل اكتفيا بأن قالا: الأصح عند الإمام والغزالي أنه يكتفى بالرجم ويدخل فيه الجلد، والأصح عند البغوي وغيره أنه يجمع بين الحدين: الجلد والرجم. ولكنهما رجّحا -عند الجمع بين الحدين- القول بدخول التغريب في الرجم، أي يجلد ثم يرجم، ولا تغريب، بل يدخل في الرجم. (ر. الشرح الكبير: 11/ 271، والروضة: 10/ 166). (3) في الأصل: كعقوبتين ويمين. وفي (ت 4): كعقوبتين جريمتين. (4) إلى هنا انتهى هذا الجزء من نسخة (ت 4)، وجاء في خاتمتها ما نصه: " آخر الجزء التاسع عشرة (كذا) من نهاية المطلب، ويتلوه في الجزء العشرون كتاب الأشربة والحد فيها. وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد، وآله أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً".

كتاب الأشربة والحد فيها

كتاب الأشربة والحد فيها (1) قال الشافعي رحمه الله: " كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام ... إلى آخره " (2). 11200 - التعرض لما يحل ويحرم من الأشربة والأطعمة سيأتي في كتاب الأطعمة، إن شاء الله تعالى، وغرض هذا الكتاب ذكر تحريم المسكرات، وما في معناها، ومذهبنا أن كل ما أسكر كثيره، فهو نجس. والقليل منه كالكثير في التحريم. والمسكر ما يخبل العقل ويطرب، والمحرم باتفاق العلماء الخمرُ المطلقة، وهي المتخذة من عصير العنب إذا كان نيّئاً، واشتد وغلا وقذف بالزَّبَد، ثم إسكار ما يسكر كإشباع ما يشبع وإرواء ما يَروي. ومذهب أبي حنيفة (3) مشهور مذكور في الخلاف، مردود عليه بالأخبار والآثار وطرق الاعتبار. ثم من شرب مسكراً، فقد تعاطى محرماً. وسبيل القول في الحد أن ما وقع الوفاق على تحريمه من الخمور؛ فلا خلاف في تعلق الحد بشربه، وهو الذي قال الفقهاء: يكفر مستحله. والمعنيّ به أنه يكفر من علم أنها محرمة شرعاً واستحلها؛ فإنّ

_ (1) يبدأ تحقيق هذا القسم من الكتاب إلى أثناء باب الجزية على أهل الكتاب على نسخة وحيدة هي (هـ 2). (2) ر. المختصر: 5/ 174. (3) ر. مختصر الطحاوي: 277، 278، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 365 مسألة: 2058، رؤوس المسائل للزمخشري: مسألة 503، بدائع الصنائع: 5/ 112 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 9/ 22 وما بعدها، البحر الرائق: 8/ 247 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 5/ 288 وما بعدها. وأما الردود بالأخبار والآثار فانظرها في: مختصر خلافيات البيهقي: 5/ 5 - 27 مسألة: 305، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 925 مسألة 1860، رؤوس المسائل الخلافية للعكبري الحنبلي: 5/ 680 - 685 مسألة: 1939.

استحلالَه لها مع العلم بأن تحريمها ثابت في الشرع ردٌّ للشرع، ورادُّ الشرع مكذبٌ للشارع، وإطلاق القول بتكفير مستحل الخمر لم يصدره الفقهاء عن ثَبَتٍ وتحقيق، وكيف يُكفَّر من خالف الإجماع، ونحن لا نكفر من ردّ الإجماع، بل نبدّعه ونضلّله؟ والسرّ اللطيف في ذلك أنا نكفر من يصدق المجمعين في نسبتهم ما ذكروه إلى الشرع، ثم يرده. وأما وجوب الحد، فلا شك فيه. فإن أسلم وكان قريب عهد بالإسلام، لم يبلغه تحريم الخمر فيما زعم، فجهله يدرأ الحد عنه، وهو بمثابة ما لو تعاطى شراباً حسبه حلالاً، ولم يشعر بكونه خمراً. وإن علم التحريم وجهل الحدَّ، حُدّ. وأما الأشربة المسكرة التي أباحها أبو حنيفة؛ فقد قدمنا قول الشافعي في إقامة الحد على الحنفي مع قبول شهادته، ونقلنا خلاف الأصحاب في كتاب الحدود، وفصلنا بين استحلال الحنفي النبيذ وبين استحلال الذمّي الخمر. 11201 - قال الشافعي: " من شرب شراباً ظنه غير مسكر فسكر، ومرت عليه مواقيت صلوات، فلا قضاء عليه " وأجمع الأصحاب أنه أراد بما قال أن ما يظنه غير مسكر في جنسه، فيكون كالمغمى عليه تمرّ عليه مواقيت الصلوات. فأما إذا علم أن جنسه مسكر، وظن أن قدره لا يسكره، فإذا سكر لم يُعذر، ويلزمه قضاء الصلوات التي تمر عليه مواقيتها في حالة السكر. وقد تمهدت هذه الأصول فيما سبق. 11202 - والذي نرى الاعتناء به التداوي بالخمر عند فرض مسيس الحاجة إليه. وقد أطلق الأئمة المعتبرون أقوالهم في الطرق أن التداوي بالخمر محرم، وأن التداوي بها محذور، وهذا كلام مبهم متروك على إشكاله. ونحن نذكر ما بلغنا من كلام الأصحاب وننقله على وجهه، ثم نَجري على دأبنا في البحث والتنقيح وردّ الأمر إلى ما يجب تنزيله عليه. قالوا: من غُصَّ بلقمةٍ ولم يجد شيئاً يُسيغها إلا الخمر، فيجب تعاطيها، ومن أكره على شرب الخمر، لزمه شُربُها إذا خاف على روحه، أو ما يحل محل الروح. وقد تقدم تفصيل القول في الإكراه.

فلو أشفى (1) بسبب العطش، ولم يجد ما يطفىء غُلته إلا الخمرَ، تعيّن عليه شُربُها، كما يتعيّن على المضطر أكلُ الميتة. هذا قول الأصحاب أجمعين. ثم تعرضوا للتداوي بالخمر وأجرَوْا ترتيبَ المذهب على أن التداوي بالأعيان النجسة سائغ كالترياق، وفيه لحوم الحيات وما في معناها من المعاجين التي تشوبها الأعيان النجسة، ورأَوْا الخمرَ مستثناة من الأعيان لتخصيص الشرع إياها، ثم [من آثار التغليظ فيها] (2) الحدُّ، واسترْوَحوا في ذلك إلى ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن التداوي بالخمر، فنهى عنه. وقال: " إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " (3). ثم بلغنا عن آحادٍ من الأئمة المتأخرين التشبيب (4) بجواز المعالجة (5) بالخمر من غير تدوين ذلك في تصنيف، وإنما ترامزوا به ترامز المتكاتمين. فهذا مسلك النقل. 11203 - ومسلك التحقيق فيه: أن التداوي بالأعيان النجسة عندنا بمثابة تعاطي الميتة بسبب الضرورة، والحد الذي يجوز أكل الميتة له سيأتي في كتاب الأطعمة، إن شاء الله. والقدر الذي نذكره هاهنا أنا نشترط العلم بأن تعاطيه يدرأ الضرورة، ثم في حد

_ (1) أشفى: أي قارب الهلاك. (2) عبارة الأصل: " ثم أثار من التغليظ منها الحد ". (3) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم " أخرجه ابن حبان، وأبو يعلى والطبراني في الكبير، والبيهقي في الكبرى، كلهم من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وذكره البخاري في صحيحه تعليقاً عن ابن مسعود، قال الحافظ: وقد أوردته في تغليق التعليق إليه من طرق صحيحة. وللحديث شاهد عند مسلم من حديث وائل بن حجر أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها وكره أن يصنعها للدواء فقال: " إنه ليس بدواء ولكنه داء ". (ر. صحيح ابن حبان: 2/ 335 ح 1388، مسند أبي يعلى: ح 6966، الطبراني في الكبير 23/ 356، البيهقي: 10/ 5، البخاري: الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل، مسلم: الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر، ح 1984، التلخيص: 4/ 140 ح 2112). (4) في الأصل: " التسبيب "، والمثبت من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ إمام الحرمين. (5) في الأصل: " المعاجلة ".

الضرورة كلامٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى. فالتداوي الذي يتلقى من الأطباء في غالب الأمر لا يبلغ هذا المبلغ قطعاً. والبصير المتبحّر في الطب لا يجزم قضاءً على المريض. وهو المعني بقول بقراط: " التجربة خطر والقضاء عسر " (1). والمراد أن القضاء بماهية المرض ثم بعلاج ناجع فيه عُسر؛ فإن صناعة الطب أسندها مُسندون إلى التجارب، وهي مُخطِرة (2)، مع اختلاف القوى والخَلْق، والعاداتِ التي سبقت المرور عليها، وأسندها المحققون إلى القياس ودَرْكه، والاطلاع عليه أعسر مُدركاً من كل معضل في المدارك، فكيف يتحقق القضاء من الطبيب على بتّ هذا، والحذّاق مجمعون على إقامة الأبدال في الأدوية، وقد صنف فيها العاري (3) كتاباً معروفاً. ثم إن تحقق ما ذكرناه -وهيهات- فالحكم بأن ينفع [ويُدِرّ] (4) العافية لا سبيل إليه؛ فإن التعويل على القوة، وهي خوانة تخون، فلا سبيل -والحالة هذه- إلى إطلاق القول باستعمال الأعيان النجسة، فإن فُرض ظهور الحاجة، وغلبةُ الظن بالنفع، فيجوز استعمال الميتة في هذه الحالة، وقد قدمنا من كلام الأئمة أن الخمرة تستعمل حيث يحل تعاطي الميتة، فلا معنى لوضع المذهب على الفرق بين الخمر وغيرها. ومما قَضَّيت العجبَ منه أن المتأخرين أوردوا حديثاً ولم يعوه، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن التداوي بالخمر، فلم يجب عنها بل قال: " لم يجعل الله

_ (1) معنى عبارة بقراط كما فسرها الغزالي في البسيط: " إن الحكم بالشفاء عسير؛ فإن مستنده التجربة، مع اختلاف القوى والخلق، والقياس، والعثور على حدّ العلة، ثم على الصلاح، ثم الحكم بقبول الطبيعة للشفاء، أمور موهومة، فهذا يقتضي المنع من الخمر " (ر. البسيط: 5/ورقة: 140 يمين). (2) مُخطِرة: أخطرتُ المال (إخطاراً) جعلته (خَطَراً) بين المتراهنين. ويقال: بادية مخطِرة: كأنها أخطرت المسافر، فجعلته (خطراً) بين السلامة والتلف (المصباح) فالمعنى أن المتداوي بين السلامة والتلف، وليس مقطوعاً بتأثيره وفائدته. (3) كذا. ولعلها مصحفة عن (الفارابي). (4) في الأصل: " ويدرأ ". ويُدرّ العافية: أي يستخرجها ويجلبها.

شفاءكم فيما حُرم عليكم " فلم يخص الخمر بمزية، بل أبان أن كل محرم، فهو كالخمر المسئول عنها، فلا يجوز الهجوم على التداوي بها بناء على غير ثَبَتٍ في جلب نفع ودفع ضرر. 11204 - ووراء ذلك إشكالٌ وانفصالٌ عنه، وهو التتمة، ولا يتأتى الغرض إلا بفرض كلام يدركه من شدا شيئاً من صناعة الطب، وليس يضرنا تبرّم الجاهل به، فنقول: من حميت منه أجرام القلب وفاتحته (1) الحمى المحرّقة، وبدت مخايل المدقوقين (2)، فلا خلاف بين أهل الصناعة أن لحوم السرطان (3) إذا طبخت بماء الشعير، فهي أنجع علاج، ثم انفكاك الحمى المحرقة عسرٌ غيرُ موثوق به. فهذا مما حصل فيه العلم بأنه العلاج، ولا ثقة بالزوال، بل لا [بظنٍّ] (4) فيه غالب. فهذا موضع النظر، وهو محلّ التردد، يجوز أن يقال: لا يسوغ الإقدام عليه، فإن الانتفاع به غيبٌ، وهو كردّ السّغب، وسورة (5) الجوع بأكل شيء من الميتة، أو كإساغة غُصة أو تطفئة غُلة بمقدارٍ من الخمر، وهذا يعتضد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم ". وكذلك امتصاص ألبان الأُتُن من أطبائها (6). ويجوز أن يقال: هو مباح، فإنه لو ترك كان في تركه غَرَر، ولا يسوغ تعريض الأرواح للخطر، بسبب الامتناع عن تعاطي النجاسة؛ وما حرمت النجاسات إلا إكراماً للآدميين حتى يتقذروا، ويتعففوا، وهذا الغرض لا يعارض خطر الروح، ثم لو فرضت مثل هذه الحالة في التداوي بالخمر، فلستُ أعتقد بينها وبين لحوم السراطين

_ (1) فاتحته الحمى: أي بادأته وبدأت تظهر عليه. (2) المدقوقين: أي الذين أصيبوا بحمى الدِّق، وهي حمى معاودة يومياً، تصحب -عادة- السلّ الحاد. (المعجم الوسيط). (3) السرطان: حيوان بحري من القشريات العشريات الأرجل (المعجم). (4) في الأصل: " نظر ". والمثبت من عمل المحقق. (5) السغب: الجوع مع تعب، و (سورة الجوع) شدّته وحدّته. (6) أطبائها: جمع طُبْي: وهو لذات الخف والظلف كالثدي للمرأة، مثل قفل وأقفال، ويطلق قليلاً لذات الحافر والسباع. (المصباح).

فرقاً، وإن كان المنقول عن الأصحاب الفرق مع أنهم أطلقوا الكلام، ولم يفصلوه. وسمعت شيخي في بعض مجالس الإفادة [يقول] (1): إن الخمر في المعاجين تلتحق بالأعيان النجسة وأما إذا استعملت في نفسها، فهي تنفصل حينئذ عن الأعيان النجسة، والذي يحقق ذلك أن من شرب كوزَ ماءٍ وقعت فيه قطرات من خمر، والماء غالب بصفاته، لم يحدّ، وقد تقصَّيت ذلك في كتاب الرضاع، عند ذكر اللبن المشوب، فليطلب في موضعه. فإذا خفي الخمر في المعاجين، سقطت ماهية الخمر، وصارت عيناً نجسة، وهذا حسنٌ. على أن الرأي السديد على ما قدمناه في المنع من التداوي بكل نجس إذا لم يقطع به أو لم يعلم مثله، وإن علم أنه ناجع، فيجوز من غير فرق. وإن علم أنه العلاج والنفع مغيب، ففيه التردد. وفي كلام القاضي ما يشير إلى تجويز التداوي، وإن أبهمه ولم يفصله؛ فإنه قال: لو شرب على قدر التداوي، لم نحدّه، وهذا يشير إلى تسويغ التداوي. وقد نجز ما ذكرناه. فصل قال: " ولا يحدّ إلا بأن يقول: شربت الخمر ... إلى آخره " (2). 11205 - مقصود الفصل بيان ما يَثْبُت به حدُّ الشرب. فنقول: إن أقر بأنه شرب الخمر، ثبت الحد عليه. وفيه غائلة سنشير إليها. ولو شهد الشهود على إقراره، فالجواب كذلك. ولو شهدوا أنه يشرب الخمر، فالحكم ما ذكرناه، ولو قالوا: شرب من شرابٍ في قدحٍ شرب الغير منه، فسكر، فهذا بمثابة ما لو شهدوا على أنه شرب المسكر، ولو وجدناه سكراناً، لم نحدّه؛ لجواز أن يكون قد أُوجر الخمر، أو أجبر على تعاطيها، وكذلك إذا وجدنا رائحة الخمر تفوح من نكهته، لم نحده، لما ذكرناه، ولا نسائل، ولا نلح في المباحثة.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ر. المختصر: 5/ 174.

وأما ما أشرنا إليه من غائلة الفصل، فهو أن الإقرار بالشرب متردد بين شربٍ يقع إجباراً [وشرب يقع اختياراً] (1)، وقد أطلق الأصحاب القول بأن الإقرار بشرب الخَمر يُثبت الحدّ، وذكروا مثلَ ذلك من الشهادة على شرب الخمر. وهذا فيه إشكال، لما ذكرناه من التردد. وقد ذكر أصحابنا خلافاً [في] (2) أن الإقرار بالزنا هل يكفي في إثبات الحد، أم لا بد من التفصيل، والزنا عبارة عن جريمة، وشرب الخمر عبارة عن جريمة، فإنا قد نوجب شرب الخمر؛ فإذاً [يحمل] (3) لفظ الإقرار والبينة على التردد، ووجه التردد في اللفظ ما ذكرناه، أما وجه الحكم بثبوت الحد، فهو أن الإنسان لا يقر على نفسه بالشرب وكان مكرهاً، فإطلاقه الإقرار قرينةُ أنه كان مختاراً، حالة محل التصريح، وكذا القول في الشهود. والأوجه عندي أنه لا يثبت الحد ما لم يقع التعرض للاختيار. والعلم عند الله تعالى. ...

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وهي النسخة الوحيدة. والمثبت تقديرٌ منا. (2) زيادة من المحقق. (3) مكان كلمة غير مقروءة.

باب حد الخمر ومن يموت من ضرب الإمام

باب حدّ الخمر ومن يموت من ضرب الإمام 11206 - حقنا أن نصدّر هذا الباب بأحاديثَ وآثارٍ، ثم نُنْزل المذهبَ عليها. روي أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بسكران، فقال: " اضربوه، فضربوه بالأيدي، والنعال، وأطراف الثياب، وحثُوا عليه الترابَ، ثم قال؛ بكّتوه، أي عيّروه ووبِّخوه- ثم قال: أرسلوه " (1). فلما كان في زمن أبي بكر أُتي بسكران، فأَحضر الذين شاهدوا ذلك، فقوّموه بأربعين جلدة، أي عدّلوه بها، وكان يَجلد في أيام خلافته أربعين (2)، وكذلك عمر في صدر خلافته. ثم تتايع (3) الناس في شرب الخمر، فجمع الناس، واستشارهم، فقال: " إن الناس تتايعوا في شرب الخمر، واستقلوا هذا القدر من الحدّ، فماذا تَرَوْنَ؟ وكان عليّ رضي الله عنه فيهم، فقال: " أرى أن يجلد ثمانين؛ فإن من شرب، سكر، ومن سكر، هذى، ومن هذى، افترى؛ فأرى أن يبلغ حدَّ المفترين " (4)، وكان يجلد عمر

_ (1) حديث " أُتي صلى الله عليه وسلم بسكران فقال: اضربوه، فضربوه بالأيدي والنعال .. " رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي في الكبرى، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أزهر. (ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/ 90 ح 292، أبو داود: الحدود، باب الحد في الخمر ح 4477، 4478، وباب إذا تتايع في شرب الخمر، ح 4487، 4489. النسائي في الكبرى، ح 5281 - 5287، الحاكم: 4/ 373 - 375، الدارقطني: 3/ 158، البيهقي: 8/ 320، التلخيص: 42/ 14، 143 ح 2115، 2117). (2) حديث تقدير الحد في زمن أبي بكر بأربعين جلدة، روي من حديث عبد الرحمن بن أزهر المتقدم، كما روي من حديث أنس، وهو في الصحيحين (ر. البخاري: الحدود، باب ما جاء في ضرب شارب الخمر ح 6773، مسلم: الحدود، باب حد الخمر، ح 1706). (3) تتايع: التتايع: التهافت والإسراع في الشر واللجاجة. (القاموس المحيط). (4) خبر عمر أنه استشار فقال علي " أرى أن يجلد ثمانين، فإن من شرب سكر ... " رواه مالك في الموطأ (2/ 842)، والشافعي في الأم (6/ 180) بسندٍ فيه انقطاع، قال الحافظ: ولكن=

في بقية زمانه ثمانين، وجلد عثمان في خلافته ثمانين. فلما آل الأمر إلى علي، عاد إلى أربعين، وقال: " ليس أحدٌ أقيم عليه حدّاً، فيموت، فأجد في نفسي منه شيئاً [من أن] (1) الحق قتله، إلا شارب الخمر، فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن مات [منه] (2)، فالدية على عاقلة الأمام، أو قال: في بيت المال " فالشك من الشافعي (3)، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر حتى جُلد الشارب أربعين، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من شرب الخمر، فاجلدوه، فإن عاد، فاجلدوه، فإن عاد، فاقتلوه " (4) والقتل منسوخ بالإجماع في ذلك. وإنما نقل القول البعيد عن الشافعي في القتل في الكرّة الخامسة في السرقة. 11207 - فإذا ثبتت هذه الأخبار، وقد استقصينا طرقها في الخلاف، فنقول: أجمع الأصحاب على أن الشارب يجلد بالسياط، ثم قال الأئمة: لو رأى الإمام ضرب الشارب بالنعال، وأطراف الثياب، كما نقل عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاز ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ولم يثبت فيه نسخ، ولم

_ =وصله النسائي في الكبرى، والحاكم من وجه آخر، ورواه عبد الرزاق (المصنف 7/ 378 ح 13542). (ر. التلخيص: 4/ 142 ح 2116). (1) زيادة اقتضاها السياق، وهي في كتاب (الغياثي) للإمام، حيث أورد الحديث هناك. (2) في الأصل: منهم. والمثبت من لفظ الحديث. (3) رواه الشافعي في الأم: 6/ 87، 176، 179، وهو في الصحيحين (ر. البخاري: الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال ح 6778، مسلم: الحدود باب حد الخمر ح 1707). (4) حديث قتل شارب الخمر إذا عاد مراراً، رواه أبو داود وابن ماجه من حديث معاوية بن أبي سفيان، والترمذي من حديث معاوية وأبي هريرة والنسائي من حديث ابن عمر وأبي هريرة (ر. أبو داود: الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر، ح 4482، الترمذي: الحدود، باب ما جاء من شرب فاجلدوه، ومن عاد في الرابعة فاقتلوه، ح 1444، النسائي: الأشربة، باب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر ح 5664، 5665، ابن ماجه: الحدود، باب من شرب الخمر مراراً، ح 2573).

يعدل الصدّيق عنه إلا على تعديلٍ (1) وتقريب صدر عن اجتهاد، والسبب الذي سوّغ ذلك للصدّيق أنه لم ير لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ضبطاً يسير إلى التحديد، وعلم أن ما كان كذلك، فللاجتهاد فيه مساغ. فإذا جاز العدول إلى السياط، [فلئن يجوّزوا الضرب] (2) بالنعال وأطراف الثياب أولى. ثم الضرب معدلاً بمقدارٍ أمكنُ من تقدير ضربات ملتبسة بأربعين. فإذا ساغ للصدّيق ما فعل، فلا منعَ من الرجوع إلى الأصل، هذا هو المذهب. وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر أنه لا يجوز لنا الضرب بالنعال وأطراف الثياب؛ فإنا كُفينا مؤنة التعديل، وقد بعد العهد وتناسخت العصور، ونحن لو ضربنا بالنعال بين أن نحط عن القدر المستحق، وبين أن نزيد. وهذا وإن أمكن توجيهه، فالمذهب غيره، وقد نقله العراقيون، وزيفوه. ولو رأى الإمام أن يجلد الشارب ثمانين تأسياً بما استقر عليه رأي أمير المؤمنين عمر، فالذي ذكره شيخي ومعظم الأئمة أن ذلك سائغ، على ما سنوضحه بالتفريع، إن شاء الله تعالى. وقال القاضي: الصحيح من مذهبنا أنه لا مزيد على ما رآه الصدّيق في زمنه؛ من أنه عدله الشهادة (3) الذين شاهدوا ما جرى في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان مستندُ حكمه ما ذكرناه. والذي رآه عمر رأيٌ له، ونحن لا نلتزم أن نتبع آحاد الصحابة رضي الله عنهم، إلا ما نراه معتقداً بأوجه المسالك، ثم قال: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجوز تبليغ الحد ثمانين، فانتظم وجهان إذاً في هذا الطرف. ولا خلاف أنه لا يجوز أن يتلقى من تردد الصحابة رضي الله عنهم في ذلك جواز المزيد على الثمانين.

_ (1) تعديل: أي معادلة وتقدير ما حصل من الضرب للشارب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأربعين جلدة، فكانت هذه المقايسة اجتهاداً. (2) في الأصل: " فلئن يجوز ويضرب ". (3) كذا. الشهادة: بمعنى الشهود.

11208 - فإذا تبين ما يعاقب به الشارب، فنحن نذكر ما يتعلق بعقوبة الشارب لو أفضت إلى الهلاك. قال الأصحاب: لو وقع الضرب بالنعال وأطراف الثياب، وأفضى إلى الهلاك، فلا ضمان. هكذا قاله الأصحاب، ولا شك أن من منع ذلك على الوجه الغريب الذي حكاه العراقيون؛ فإنه يثبت الضمان، ثم نفى الأئمة الضمان وهو مشروط بوقوع الضربات على حد يُعدَّل بأربعين جلدة من غير مزيد. ثم قال الأئمة: إن جلدَ الإمامُ الشاربَ أربعين تأسياً بالصدّيق، فأفضى إلى الهلاك، ففي وجوب الضمان قولان: أحدهما - يجب، لما روينا عن علي رضي الله عنه، أنه قال: " إلا الشارب، فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وفيه معنىً، وهو أنه معدول عن المنقول عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يستقيم لو لم يصح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلد الشارب أربعين، وقد روى الأثبات ذلك. فعلى هذا إن صح الخبر يجب نفي الضمان كما يجب ذلك في حد الزنا، وحدّ القذف. فإن لم نوجب الضمان، فلا كلام، وإن أوجبناه فالذي ذهب إليه أهل التحقيق أنا نوجب عليه الضمان بكماله؛ من جهة اتفاق العدول عما كان إلى جنسٍ آخر، وإذا اختلف الجنسان، امتنع التقسيط، ولم يتجه إلا نفيُ الضمان أو إيجابُه وكمالُه. وذكر العراقيون وجهاً آخر أن الإمام يضمن ما بين الضرب بالنعال والضرب بالسياط، فإنه يكون أشدَّ إيلاماً وأنجعَ وقعاً، فيقدر بينهما شيء بالتقريب والاجتهاد، ويلزم ذلك القدر، وهذا الذي ذكروه في نهاية البعد، والمذهب ما ذكرناه. وقد بان حكمُ الضمان فيه إذا جلد الشارب أربعين، أو أمر حتى ضرب بالنعال وأطراف الثياب. 11209 - وأما إذا جلده ثمانين على رأي عمر رضي الله عنه، فمما نذكره في ذلك أن الأربعين المضمومة إلى أربعين غريبة في وضع الحدود والعقوبات؛ فإنا إن قدرناها من الحدّ، كان محالاً؛ فإنها زائدة على ما جرى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم

وزمن الصديق، مع الاتفاق على التعديل بالأربعين، فإذا لم تكن من الحد، فضم تعزير إلى الحد بعيد، وتبليغ التعزير مبلغ الحد بعيد، والممكن في الجواب عما ذكرناه أن التعزير رآه من رآه لما يتعلق بالتصدي للافتراء والهذيان، وحد المفترين ثمانون، والأربعون الزائدة ناقصة عنها. وإذا حصل التنبه لما ذكرنا، وجلد الشارب ثمانين، فإن رأينا تمام الضمان لو حصل الموت بالأربعين، فلا إشكال، [وإن لم] (1) نوجب الضمان بالأربعين، وهو الظاهر، فلا إشكال أنا نوجب الضمان بالثمانين. ثم اتفق الأصحاب على التنصيف، فنوجب شَطر الضمان، ونهدر شطره؛ إذ الزائد مثلُ المزيد عليه. ولو زاد الجلاد سوطاً على حدٍّ محدودٍ، لا اجتهاد فيه، كحدّ القذف مثلاً، فإذا فرض الموت، وجب الضمان للزيادة. ثم في قدره قولان مشهوران: أحدهما - أنا نسلك طريق التنصيف، ولا ننظر إلى أعداد الجلدات بل يعدّل الضمان: يوزع بين الحق والباطل، فيهدر نصفه، ويثبت نصفه، وهذا كما لو جرح رجل رجلاً مائة جراحة، وجرحه آخر جراحة واحدة، فإذا خرجت الروح، فالدية نصفان، توزيعاً على الجنايتين ولا نظر إلى أعداد الجراحات. ولو أمر الإمام الجلادَ أن يضرب ثمانين، فامتثل أمر الإمام، لم يتعلّق الضمان بالجلاّد أصلاً، وإن كان مختاراً غير مكره؛ لأن فعله يضاف إلى الإمام، وسنذكر إن شاء الله تعالى في الجلاّد كلاماً شافياً، في الأصل الذي يعقب هذا الفصل. 11210 - وإذا لم نعلق الضمان بالجلاد في مسألتنا، فإنا نعلقه بالإمام، ثم يجب شطر الضمان على قولٍ، وتمامه على قول. ولكن إن أوجبنا الضمان بالأربعين، فلو أمر الجلادَ بالثمانين، فضرب أحداً وثمانين، فينتظم من الأصول (2) -إذا فُرض الموت- في هذه الصورة أوجه: أحدها - أن الدية تقسط وتبسط على الجلدات، فنجعل أحداً وثمانين جزءاً، في مقابلة أربعين

_ (1) في الأصل: " ولم ". (2) عبارة الأصل: " من الأصول الموت إذا فرض الموت في هذه الصورة ".

جلدة، فنوجب أربعين على الإمام، لأمره بالأربعين الزائدة- وإذا أضفنا على الإمام، فهو على عاقلته أو على بيت المال، وفيه كلام يأتي إن شاء الله عز وجل، وتجب واحدة من أحدٍ وثمانين جزءاً على الجلاد. هذا وجه. والوجه الثاني - أن نجعل الضمان نصفين؛ توزيعاً على الحق والباطل، ونسقط نصفاً، والنصف الثاني نوجب منه نصفاً على الإمام، نصفاً على الجلاد. والوجه الثالث - أنا نسقط نصفاً، ونوجب من النصف الثاني أربعين جزءاً على الإمام، وجزءاً على الجلاد. والوجه الرابع- أنا نجعل الدية أثلاثاً، فنهدر ثلثاً، ونوجب على الجلاد ثلثاً، ونعلق بالإمام ثلثاً. وهذه الوجوه مستندةٌ إلى الأصول إلا وجهاً واحداً، وهو قوله: نهدر نصفاً ونجعل النصف أحداً وأربعين جزءاً، بين الإمام والجلاّد؛ فإن هذا جمع بين التنصيف واعتبار عدد الجلدات، وهذا فيه اختلاط. والأمر فيه واضح. فصل قال: " وإن ضرب أكثر من أربعين ... إلى آخره " (1). 11211 - مضمون هذا الفصل الكلامُ في تعليق الضمان إذا أخطأ الإمام، فنقول: ما يصدر عن الإمام مما لا يتعلق بمصالح الإمامة، ولكنه من خواص أفعاله، فهو منه كآحاد الناس، فلو رمى سهماً، فأصاب إنساناً، فهذا خطأ منه، والدية على عاقلته بلا خلاف. وإن تعمّد قتلاً موجباً للقصاص، استوجب القصاص. ولا خفاء بهذا. والفصل غير معقودٍ له. 11212 - فأما ما يعرض من أخطائه في استيفاء الحدود والتعزيرات، وإقامة السياسات، التي هي على شرط السلامة، كما سنفصل ذلك من بعدُ، إن شاء الله

_ (1) ر. المختصر: 5/ 175.

تعالى، وإنما الغرض الآن اعتقاد الضمان حيث يجب، فإذا لم ينسب الإمامُ إلى تقصيرٍ بيّن، وإنما جدّ واجتهد، ولكنه زلّ وأخطأ، فاقتضى الشرعُ الضمانَ، نُظر: فإن كان ذلك في مالٍ، ففي تعلّق الضمان قولان: أحدهما - أنه يتعلّق بمال الإمام. والثاني - أنه يتعلّق بمال بيت المال، يعني السهمَ المرصد للمصالح، وسنوجه القولين إذا استوعبنا الصور والتقاسيم. فإن كان الخطأ في نفسٍ، فقولان: أحدهما - أن الدية على عاقلة الإمام، كما لو جرى منه الخطأ في أفعاله التي تخصه. والثاني - أنها تتعلق ببيت المال. التفريع: 11213 - إن حكمنا بأن الدية مضروبةٌ على عاقلته الخاصة، فالكفارة في ماله؛ فإن العاقلة لا تتحمل الكفارة. وإن قلنا: الدية مضروبة على بيت المال، ففي الكفارة وجهان: أحدهما - أنها على الإمام؛ فإن التحمل لا يتطرق إلى الكفارة، ولذلك لا تتحملها العاقلة الخاصة حيث تتحمل العقل. والثاني - أنها في بيت المال؛ فإن المعنى الذي يوجب صرفَ الدية إلى بيت المال التخفيفُ عن الإمام، وعن عاقلته، وهذا يعم الكفارة والدية. ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من القولين فيه إذا لم يظهر تقصير الإمام في الواقعة، فإن ظهر تقصيره، فلا خلاف أن ما يلزم لا يُضرب على بيت المال، وهذا يتبين بمثالين، فنقول: الحامل إذا زنت لا يقام الحدّ عليها، فلو أقام الإمام الحدّ على علمه بالحمل، فالغُرة إذا ألقت الجنين لا تضرب على بيت المال، بل تضرب على عاقلته الخاصة، وإنما خصصنا هذه الصورة بالذكر، لأن العمد المحض لا يتصوّر في الجناية على الجنين، ومع ذلك لم نضرب الغرة على بيت المال، وفي هذا لطيفة، وهي أن الإمام إذا أقام الحد على الحامل، فهو في الحيد عن حكم الصواب عامد، ولكنه في الجناية على الجنين على حدّ شبه العمد، وهذا التنبيه كافٍ. والمقاصد بكمالها تستوفيها الصور، ثم تضبطها التراجم على أثر الفصل.

توجيه القولين في الأصل: 11214 - من قال إن خطأ الإمام في إقامة أحكام الإمامة مضروب على بيت المال احتج بأن الوقائع المرتفعة إلى الإمام لا تعد كثرةً، ولا يتصوّر أن يستقلّ الإمام بالعصمة فيها، فلو كانت الغرامات المتعلقة بما يقع من خطئه مضروبة على ماله، أو على عاقلته، لافتقر، وأفضى الأمر إلى ما لا يطاق، وهو نائبٌ عن المسلمين، فاعل عنهم، وتعلّقه بالمسلمين كافة كتعلّق الجلاّد به، ثم الضمان محطوط عن الجلاد إذا لم يصدر من جهته عدوان، فينبغي أن يُحَطَّ عن الإمام. هذا وجهُ هذا الوجه. ومن قال بالوجه الثاني: احتج بأنه نُصب ليكون هو الناظر، ثم هو نائب المسلمين في الصواب، وأما الجلاّد، فإنه سيف الإمام، ولا نظر له، وقد يشهد لهذا القول ما روي أن عمر بن الخطاب ذكر عنده أن امرأة من نساء الأجناد يغشاها الرجال بالليل، فأرسل إليها عمر يدعوها، وكانت ترقى في درج، ففزعت فأجهضت ذا بطنها، فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: إنك مؤدِّب، ولا شيء عليك، فقال علي رضي الله عنه: إن اجتهد، فقد أخطأ، وإن لم يجتهد، فقد غشَّك. عليك الدية"، فقال: "عزمتُ عليك لتقسمها على قومك" (1) قيل: أراد بذلك عاقلة نفسه، وأضافها إلى علي إكراماً له وإعزازاً، وإعراباً عن اتحادهما. وقيل: أراد قوم علي لأنهما كانا من قريش يجتمعان في كعب بن لؤي بن غالب. واختلف في قول علي: إن اجتهد، فقد أخطأ، فقال بعض المتكلفين: أراد بذلك الرسولَ، معناه: إن اجتهد الرسول في رعاية الوقت والمكان في تأدية الرسالة، فقد أخطأ، وإن لم يتعرض لتخيّر مكان وزمان، فقد غش. وهذا بعيد. والصحيح: أنه أراد بما قال عبدَ الرحمن بنَ عوف. وكان قد يغلظ البعض على البعض القولَ في المناظرات.

_ (1) أثر عمر والمرأة التي أرسل إليها فأجهضت، سبق تخريجه في الديات.

11215 - وإذا تمهد القولان وتفريعهما، فإنا نذكر صوراً ونخرّجها على ما مهدنا: فإذا ضَرَبَ في الشرب أربعين، فمات المحدود، وأوجبنا الضمان، ففي المسألة قولان. وإن جلد الشاربَ ثمانين، وقلنا: له ذلك على شرط سلامة العاقبة، ففي تضمينه قولان أيضاً؛ فإنا نجوز له من طريق السياسة أن يفعل ما فعل، والتعزيرات إذا أفضت إلى الهلاك، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى إن لم يظهر تقصيره فيها، ففي محل الضمان قولان، وإن ظهر سرفُه ومجاوزته الحد، فهذا يختص به قولاً واحداً- والتعويل على ما قدمناه من ظهور التقصير، ووقوعِ الأمر خطأ [في] (1) الاجتهاد في إقامة السياسة. 11216 - ومن الصور التي نذكرها ملتحقة بخطأ الإمام أنه لو شهد عنده على العقوبة شاهدان، فعليه البحث عن أحوالهما، فإن لم يفعل وترك البحث، وأجرى العقوبة، فالذي جاء منه ليس من خطأ الأئمة؛ فإنه تناهى في التقصير، وترك ترتيبَ الخصومة، والقيامَ بما هو مأمور به من البحث والتنقير، فإذا بانا عبدين أو فاسقين أو كافرين، فالإمام يختص بالضمان إذا حكم، قولاً واحداً. وإنما يتردد نظر الفقيه في وجوب القصاص، والأظهر الوجوب إذا تحقق الزلل؛ فإن الهجوم على القتل ممنوع منه بالإجماع، وقد يُحتمل أن يقال: أسند القتل إلى صورة التثبت، فيندفع القصاص، وهذا له التفاتٌ إلى صورتين يضطرب الرأي فيهما: إحداهما - أن يقتل الإنسان مسلماً في ديار الكفر على زي مشرك، ثم يبين أنه كان مسلماً، فلا قصاص، وفي الدية قولان. والصورة الأخرى: أن يقتل مسلماً في ديار الإسلام على زي المشركين، ففي وجوب القصاص قولان، وقيام الشهادة وصورتها لا ينقص عن زي مشرك في دار الإسلام، ومن الصور الناظرة إلى هذه المسائل، ما لو قتل رجلٌ رجلاً، وقال: حسبتُه قاتلَ أبي. فهذه مسالك النظر ومجامع الرأي، [وليست] (2) غرضَ الفصل.

_ (1) في الأصل: " من ". (2) في الأصل: " وليس ".

11217 - فأما إذا بحث عن أحوال الشهود، ولم يظهر منه تقصير، ثم بان الشهود عبيداً، أو كفرة، أو مراهقين، فلا شك في وجوب الضمان، ثم يعود القولان في أن الضمان يتعلق بعاقلة الإمام المختصين به، أم يتعلّق ببيت المال، وقد تقدم التوجيه والتفريع. والذي نزيده أن الأئمة قالوا: إذا جرى الغرم، ثبت الرجوع على الذين تصدَّوا للشهادة، والسبب فيه أنهم تعرّضوا لمنصب ليسوا من أهله، حتى جرّ ذلك قتلاً أو إتلافَ مال، ونحن نقول: من ليس من أهل الشهادة، وعلم ذلك من نفسه، فليس له أن يتعرّض لإقامة الشهادة، وإن كان صادقاً، فهذا سبب الرجوع، [وأشبه أصلٍ بما نحن فيه] (1) الغرم الذي يثبت على المغرور في قيمة الولد مع ثبوت حق الرجوع على الغارّ، ولعلّ الشاهد أقوى في هذا المعنى، لأنها (2) تحمل القاضي حمل اضطرار، والمغرور مستبيح لا ضرورة به. هذا هو المذهب الظاهر. 11218 - وذكر بعض المحققين وجهاً آخر أنه لا رجوع على الشهود، وذلك أن القاضي أُتي من تقصيرٍ خفي في البحث، فارتبط الضمان بجهته وانحصر، وليس كالغار والمغرور، وذلك أن المغرور لا يُلزمه الشرعُ بحثاً، بل له الجريان على ظاهر الحال، والشرع يُلزم القاضي التناهي في البحث، فإذا وقع ذلك، كان محمولاً على ترك البحث، فإن لم نُثبت الرجوعَ، فلا كلام. وإن أثبتنا الرجوعَ، نُظر: فإن كان الشاهد كافراً، فالرجوع عليه بيّن، ويرجع على الكافرَيْن اللذَيْن شهدا في الحال، وإن بان الشاهدان عبدين، والتفريع على إثبات الرجوع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الرجوع به يتعلق بذمّة العبدين يُتبعان به إذا عَتَقا. والوجه الثاني - أن المرجوع به يتعلق برقابهم؛ فإن هذا غرمٌ يلزمهما عن جهة معاملة صَدَرُها عن رضا من له الحق، وإنما يتعلق بذمة العبد ديون المعاملات الصادرة عن رضا أصحاب الحقوق من غير إذنٍ من السيد، والشهادة بهذه المثابة.

_ (1) في الأصل: " وأشبه فيه أصل مما نحن فيه ". (2) لأنها: أي الشهادة.

وهذا متجه، ولكنه غريب عديم النظير؛ من جهة أنه جناية قولية ليس فيها اضطرار محقق، وإنما الأمر مظنون. فأما إذا بان الشاهدان مراهقين، وقد يمكن التباس ذلك -بأحوالٍ تعرض فيهما من بقول (1) الوجه، وطول القامة وغيرهما من الصفات- على القاضي، ولم يتعرض الأصحاب للمراهقَين، والمفهوم من فحوى كلامهم أن لا رجوع عليهما، إذ لا قول لهما، بخلاف الكافرَيْن، والعبدَيْن. ... ثم قال: " ويجوز تعليق الضمان بهما، إذا قلنا: قول العبد بمثابة الجناية، فإن الجناية الحسيّة تصدر من الصبيان صُدورَها من البالغين " (2). 11219 - ولو بان الشاهدان فاسقَيْن، ففي انتقاض القضاء خلاف واختلاف، على ما سيأتي في الشهادات، إن شاء الله عز وجل. فإن قلنا بانتقاض القضاء -كما إذا بان الشاهدان كافرين أو عبدين، أو مراهقين- فالقاضي يغرم إذا أضفنا الغرم إليه، ولا تقصير في الظاهر. هو إشارة منا إلى القولين في أن الغرم يختص به أو بعاقلته، أم يتعلق ببيت المال، وهل بيتُ المال له الرجوع على الفاسقين؟ فإن قلنا بالرجوع على الكافر والعبد، ففي الفاسق تفصيل. فإن كان ما رآه القاضي فسقاً مجتهداً فيه، فلا رجوع على الفاسق قولاً واحداً؛ فإنه مصر على شهادته وعلى أنه من أهل الشهادة. ولو كان ما فُسّق به مما يوجب التفسيق وفاقاً، ففي هذا نظر: فإنا بلغنا عن مذهب أبي حنيفة (3) أن الفاسق من أهل الشهادة، وقيل: إنه استثنى من ذلك حدّ الزنا، وقيل: إن كان فاسقاً كذوباً يغلب على القلب كذبه، فليس من أهل الشهادة. وأطلق

_ (1) بقل وجه الغلام بقولاً: إذا نبت شعْره (المعجم). (2) لم أصل لهذه العبارة في المختصر المطبوع الذي بين أيدينا. وتكرر ذلك أكثر من مرة مما يشهد بأن هناك فرقاً بين النسخة المطبوعة والنسخة التي كانت بين يدي الإمام. (3) ر. مختصر الطحاوي: 335، تحفة الفقهاء: 3/ 363، تبيين الحقائق: 3/ 191.

أبو حنيفة كونَ الفاسق من أهل الشهادة، وكذلك قضى بانعقاد النكاح بحضور فاسقين، وجعل الفاسق من أهل اللعان، ولا تعويل على مذهبه في طلب القواعد، فإنه حكم بانعقاد النكاح بحضور محدودَيْن في القذف، ولم يجعل المحدود من أهل اللعان. ولنا عَوْصاء (1) بالتنبيه على ذلك أن الأصحاب أطلقوا أقوالهم بأن القاضي لا يرجع على الفاسق؛ فإن الفاسق من أهل الشهادة على رأيٍ. وهذا فيه نظر؛ فإن العبد من أهل الشهادة عند شطر الأمة، وهو من أهل الرواية بلا خلاف، فينبغي أن يكون مأخذ هذا من أصل آخر، وهو أن نقول: إن كان التفسيق مجتهداً (2) فيه، فلا رجوع بما ذكرناه، وإن كان التفسيق بما يوجب التفسيق وفاقاً، فيحتمل أوجهاً: أحدها - ثبوت الرجوع بما ذكرناه في الكافر والرقيق. والثاني - أن لا رجوع أصلاً، لأن الفاسق مأمور بكتمان فسقه، والعبد والكافر مأموران بإظهار حالهما. والثالث - أنه إن كان مستسرّاً بالفسق مكاتماً، فلا رجوع، وإن كان معلناً بالفسق غير مبالٍ به، فهو كالرقيق، وهذا يقرب من اختلاف الأصحاب في أن المعلن بالفسق لو شهد، فردّت شهادته ثم أظهر العدالة وأعاد الشهادة، ففي قبول تلك الشهادة خلاف. هذا منتهى القول في الصور التي أردنا ذكرها في غلط الإمام. ثم ذكر الشافعي على أثر هذا الكلامَ على الجلاد، وهذا لائق بهذا المنتهى. 11220 - قال: " وليس على الجالد شيء ... إلى آخره " (3). الجلاد سوطُ الإمام وسيفُه، فإذا قَتل وقَطع وجَلد- وهو يُصدر جميعَ أفعاله عن أمر الإمام- فلا يتعلّق به ضمان إذا لم يكن مطلعاً على حقيقة الحال، وإنما يَتَّبِع، ويرتسم، ولا يُشترط أن يكون مكرهاً؛ فإنا لو شرطنا ذلك، ضاق التصرف على الإمام، واحتاج إلى التكفل بالجلاد، والتوثق منه بالحبس، وذلك يخالف قاعدة الشرع وسِيَر الأولين، ولو راعينا الإكراه، لخرّجنا الجلاد على اختلاف الفقهاء في

_ (1) عوصاء: أي شدة ومشكلة. (المعجم). (2) في الأصل: " مجتهد ". (3) ر. المختصر: 5/ 176.

المكرهين. فقد تأسس الشرعُ على أن الجلاد لا ينتاط به غرمٌ ولا طِلْبَة، وأمرُه من النوادر؛ فإنه قاتلٌ مباشر مختار، لا يتعلّق به في القتل بغير حق حكم، والكفارة من أسرع أمرٍ يثبت في القتل، ولا كفارة على الجلاّد. ثم ينشأ من هذا أن الإمام إذا ظلم، وأمر بالقتل من غير إكراه، فالقصاص واجب عليه، فإنا إذا أقمنا الجلاد سيفاً، فالإمام في حكم الضارب به، ويترتب على هذا الأصل أن الجلاد ليس عليه بحث، وإنما عليه انتظار المراسم والابتدار إليها؛ إذ لو تعيّن عليه ذلك، لما تولى الأمرَ إلا ذو نظر. وذلك يطول. ثم ما ذكرناه في الإمام الحق. فإن فرض متغلبٌ في الدهر، وشغورُ الزمان عن الإمام، فالقول في ذلك يطول، وقد نرى تعليق الأحكام بالمتغلّب، وهذا عمرةُ (1) أحكام الإيالة، وقد فرّعنا أبوابها في الكتاب المترجم (بالغياثي). 11221 - ولو علم الجلادُ أن القتل ظلم إجماعاً، وهو مختار، فإذا قتل، التزم القصاص، فإنه إنما يؤجر بالامتثال فيما يعلم كونَه حقاً، أو فيما يعتقده حقاً، وهو يتبع فيه رأي الإمام تقليداً، فأما إذا علم أن القتل ظلم، فلا يحل له الإقدام، ولا إكراهَ حتى يُخرَّجَ فعلُه على تردّد العلماء، وإذا كان كذلك، فلا ضمان على الآمر؛ فإن أمره حيث صوّرنا ليس إجباراً، والمباشرة تامة، فلا أثر للسبب معها. ولو قتل الجلاّدُ رجلاً، ثم قال: كنت أعتقد تحريم قتله، ولكني قلتُ: لعل الإمامَ اعتقد تحليله على رأي بعض العلماء، وتصوير ذلك أن حُرّاً لو قتل عبداً، فقتله الجلاّد بأمر الإمام، وهو يعتقد أن الحرّ لا يقتل بالعبد، والإمام كان يرى وجوب

_ (1) عمرة أحكام الإيالة: بالعين المهملة: أي تاج أحكام الإيالة ورأسها، وأُسّها، فالعمرة كل شيء على الرأس من عمامة ونحوها، والفاصلة بين حبات العقد. (المعجم) وهذا اللفظ يجري على لسان الإمام كثيراً. أما إذا قرأناها: غمرة. بالمعجمة، فمعناها واضح، وهي الشدة والمضطرب والمتاهة، أي دقائق أحكام الإيالة وأخطرها التي تحتاج إلى اتئاد وكد فكر وإعمال نظر.

القصاص على الحرّ، فهل يضمن الجلاّد؛ من حيث إنه خالف اعتقاد نفسه؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يلزمه الضمان، اعتباراً بعقده، وكونِه مختاراً. والثاني - لا يلزمه اعتباراً باعتقاد الإمام. ثم قالوا: إذا علّقنا الضمان بفعل الجلاّد، فهو قصاص؛ فإنه قتل حُرّاً بغير حق على موجَب عقده، وصار كما لو فعل ذلك من غير أمر الإمام. وإن قلنا: الحكم لاعتقاد الإمام، فلا شيء على الجلاد أصلاً، وكان لا يبعد لو درأ القصاص وأثبت المال (1) والكفارة. ولكن الذي ذكروه هذا. 11222 - وهذا التردد ينتج كلاماً، وهو أن الجلاّد هل له أن يخالف عقدَ نفسه، ويتبع عقد الإمام؟ فعلى وجهين. فإنا قلنا: لا ضمان عليه مع كونه مختاراً، فهو مبني على أن له أن يُقدم عليه، ولهذا نظائر: منها أن يقضي القاضي الحنفي للشافعي بشفعة الجوار، أو بالتوريث بالرحم والرّد، فهل يحل للمقضي له ما يجرى القضاء به؟ فيه اختلاف، رمزنا إليه فيما تقدّم، وسنذكر أصله وحقيقته في آداب القضاء، إن شاء الله عز وجل. وامتثال الجلاد أمر الإمام فيما نحن فيه أَوْجَه، وإن كان يخالف عقده، لأن أمر الإمام مطاعٌ ممتثل، وحقه أن يُتّبع، وإقامة العقوبات ليست حقَّ الجلاّد، وإنما هو فيها متابع متَّبِع، والمقضي له بالشفعة على خِيَرته في ترك حق نفسه، وكان الوجه ألا يحلّ له ما يجرى القضاء به إذا خالف عقده، فإن القضاء لا يغير أحكام البواطن، وهذا ظاهر في الفرق. والوجه عندنا القطع بأنه لا يحلّ للشافعي أن يأخذ ما يخالف معتقده، ورَدُّ الخلافِ إلى أنه هل يمنع من ذلك ظاهراً؟ فيقال: إن دعواك هذه باطلة، بمخالفتها عقدك؟ ويجوز أن يقال: لا يتعرض له في ظاهر الأمر، لجواز أن يكون منتحلاً هذا المذهب. فأما ذكر الخلاف في الاستحلال باطناً، فبعيد، والتردد الذي ذكرناه في الجلاد متجه لما أشرنا إليه من الاتباع ومعاونتِه على ما يريد إمضاءه موافقاً لعقده.

_ (1) المال: المراد الدية.

11223 - ثم صوّر العراقيون صورة على عكس ما تقدّم، فقالوا: لو كان الإمام لا يعتقد وجوب القصاص على الحر بقتل العبد، ولكنه أمر بقتله بغير فحصٍ وتجسيس، ولو اطلع، لمنع قتله، وكان الجلاد يعتقد أن الحرّ مقتولٌ بالعبد، فإذا قتله على موجب عقد نفسه. قالوا: إن قلنا في المسألة الأولى: إنا نعتبر رأي الإمام، ففي هذه المسألة يجب القصاص، اعتباراً برأي الإمام، فإنه لو اعترف (1) حقيقةَ الحال، لما أمر بالقتل، والجلاّد عارف إن لم يكن الإمام عارفاً، وقد فرّط لما لم يُخبر الإمامَ، فصار كأنه قتل بنفسه من غير إذنٍ من الإمام. وإن قلنا في المسألة المتقدمة: إن الاعتبار بعقد الجلاد، ففي هذه المسألة احتمال [عدم إيجاب القصاص] (2) على الجلاد؛ تعويلاً على عقده، وقد وجد الأمر من الإمام على الجملة. وهذا الوجه عندي ضعيف في هذه الصورة؛ فإن الجلاد مختارٌ عالم بحقيقة الحال والإمام لو أُخبر، لما أمر، فلا يبقى لأمر الإمام هاهنا أثر الاستتباع، والسبب فيه أن الإمام لا يفوِّض إليه الاجتهاد، وإنما استعمله للعمل فحسب، فإذا امتنع عمله بعقده، واقترن بأمر الإمام جهله بحقيقة الحال، صار الجلاّد مستقلاً بالقتل. ثم لو أَخبر الإمامُ الجلادَ بأنه ظالم، فتابعه الجلاد، فعليه الضمان (3). وهذا على القطع فيه إذا كان الإمام مُكرِهاً، والجلاد محمولاً مكرهاً، ثم يخرج فيه تفاصيل الإكراه. فأما إذا كان الجلاد مختاراً، فلا يتوجه الضمان على الإمام قطعاً، وهذا لا خفاء به. وعلى هذا الوجه فصّله الأصحاب، والصيدلاني، وهو مما لا يتمارى فيه.

_ (1) اعترف القومَ استخبرهم وعرف حقيقتهم (المعجم). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) أي على الإمام.

فصل قال: " ولو خاف نشوز امرأته ... إلى آخره " (1). 11224 - للزوج تأديب زوجته إذا نشزت، والأب يؤدب ولده، والمعلّم يؤدب الصبي، ولكن هؤلاء المؤدِّبين مطالبون شرعاً بأن يقتصروا على ما يقع التأديبُ به، على شرط السلامة، وتحقيق هذا أن التأديب لو كان لا يحصل إلا بالضرب المبرِّح الذي يُخشى من مثله الهلاك، فلا يجب تحصيل التأديب، وليس هذا بمثابة عمل الأجير في تحصيل الغرض الملتمس منه في العين المملوكةِ المسلَّمةِ إليه؛ فإن المستأجِر إذا التُمس منه ما لا يتأتى تسليمه إلا بعيب يلحق العين المسلّمة إليه، فإذا حصل الغرض، ولحق العيب، لم يجب الضمان، على الرأي الظاهر، كما فصلناه. وإن كان التأديب يحصل بما لا يُفضي إلى الهلاك، يباح تحصيله، وإن لم يجب. وقال المحققون: إذا كان لا يحصل التأديب إلا بالضرب المبرِّح، فلا يجوز الضرب الذي لا يبرّح أيضاً، فإنه عريٌّ عن الفائدة. ثم إذا اعتقد المؤدب أنه اقتصر واقتصد، واتفق الهلاك، فنعلم أنه مخطىء في ظنه، فإن القتل لم يحصل إلا لمجاوزته الحدَّ. فخرج من مجموع ما ذكرناه أن قتيل التعزير مضمون، فإن كان التعزير على حدّ الإسراف، فهو قتلُ عمد إذا كان يُقصد بمثله القتل غالباً، وإن كان بحيث لا يقصد به القتل، فهو شبه عمد، وليس خطأ. وإن كان التحصيل في الأصل جائزاً. وهذا من لطيف الكلام. 11225 - وأما الإمام إذا عزر، فأفضى تعزيره إلى الهلاك، فنقدم على هذا القولَ في أن التعزيرات هل تُستحَق؟ أطلق الأئمة الأقوال بأنها لا تجب، وهي مفوّضة إلى الإمام، واستدلوا بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعزيراتٍ في وقائعَ أساء أصحابها آدابهم. وهذا الكلام لا مزيد عليه، ولكنه يحتاج إلى فضل بيان، فليس ما ذكرناه من

_ (1) ر. المختصر: 5/ 176.

التفويض إلى الإمام تخيّراً صدَرُه الإرادة من غير سبب، ولكنْ حقٌّ على الإمام أن يرعى مصالح الخلق، فإن رأى إقالةَ عثرةٍ، وجرَّ ذيل الصفح على هفوة، فليفعل ذلك. ولا يسوغ والحالة هذه التعزير، وإن غلب على ظنه أن وجه الاستصلاح في ضرب من تعرّض للتعزير، فحق عليه أن يضرب. والحدود تتميز عن التعزيرات بأنها إذا ثبتت، فلا اجتهاد ولا تردد فيها، وقد قطعت النصوص رأيَ كل ذي رأي فيها، فلا وجه إلا إقامتُها إذا حُقت، وإن ثبت ما يدفع ويدرأ، فلا وجه للإقامة، والتعزيراتُ مفوضة إلى الاجتهاد. هذا مراد الأئمة لا غير. ثم قتيل التعزير مضمونٌ؛ من جهة أن الإمام يجب عليه الاقتصار في التعزير على المبلغ الذي لا يُهلك، كما ذكرناه في تعزير الزوج، والولي، والمؤدب، فهذا مأخوذ على الإمام، وهو مؤاخذ بما ذكرناه، وليس هذا عن جهة خروج التعزير عن المقدار المتلقى من التوقيف، فإنا لا نضمِّن الدافع (1) إذا رأيناه مقتصراً على حاجة الدفع، وإن لم تكن أبوابه محدودة توقيفاً، ولكن قيل: لا موقف لك، فاتبع حاجتك في الدفع، وإن أتى على القاصد (2). وليس للإمام أن يعزر إلى حصول القتل، بل إلى حصول التأدّب. 11226 - ومما تردد الأئمة فيه أن التعزير إذا تعلق بحق الآدمي، مثل أن يُعرِّض بقذف محصن، أو يصرّح بقذف من ليس بمحصن، أو يكرر القذف بزنا قد حُدّ فيه، فهذه التعزيرات متعلّقةٌ بحقوق الآدميين، فإذا طلبوها، فهل للإمام ألاّ يقيمها، إذا رأى الصفح، والتجاوز أولى؟ اختلف أئمتنا: فصار صائرون إلى أنه لا خِيرةَ للإمام، وحقٌّ عليه أن يسعف الطالبَ قياساً للتعزير في هذه المقامات على الحدود إذا وَجَبَتْ.

_ (1) المراد أن الدافع الذي يدفع عن نفسه لا نضمّنه ما يترتب على الدفع المأذون له فيه، إذا اقتصر على قدر الدفع. (2) القاصد: هو المعتدي الذي أجزنا للدافع أن يدفعه، فلو أتى على القاصد وقتله لا يضمن إذا كان لا يتأتى الدفعُ إلا بقتله.

ومن أصحابنا من قال: لو رأى الإمامُ الصفحَ والسعي في الإصلاح، فعل، كما يفعل في الأمور العامة. وهذا الوجه أعوص (1) من الأول؛ فإن مقدار التعزير إلى الإمام، والتغليظ بالقول من التعزير، ونحن لا نعتقد تصوّر صورة لا يرى الإمام فيها [رأيه] (2)؛ فإن من أساء أدبه بالجهات التي ذكرناها لا نسكت عنه، ولا نُكره على مقابلة (3) سوء أدبه. فيؤول هذا إلى أن الإمام لو أراد الاقتصار من التعزير على كلامٍ، فهل له ذلك؟ ومما يتعلّق بهذا أن المُؤْذَى بالتعريض أو التصريح لو عفا (4) ورأى الإمام أن يؤدبه (5) حقاً لله تعالى؛ حتى لا يستجرىء على أمثال ما صدر منه؟ فهذا فيه تردّدٌ نجمعه إلى آخر، وهو أن من استحق الحدّ أو استحق القصاص لو عفا عن حقه، فهل للإمام أن يعزره بما يراه استصلاحاً؟ فيه تردّد. وإذا ضممنا صور التعزير إلى صور الحدود، انتظم منها أوجه: أحدها - أن الإمام لا يضرب إذا عفا صاحب الحق. والثاني - له أن يعزر نظراً إلى الصلاح الكلي. والثالث - أنه لا يعزر في مقام الحدّ إذا عفا مستحِقُّه؛ لأنه غير مفوّض إلى اجتهاد الإمام إذا طلب؛ فلا يفوّض إليه الأمر إذا عفا المستحِق، والتعزيرات في قاعدتها مفوضة قدراً ومحلاً إلى اجتهاد الإمام. هذا مقدار ما أردناه في ذلك، وفي المبالغ المرعية في التعزيرات كلام للأصحاب يأتي في الباب، إن شاء الله.

_ (1) كذا. ولعلها: أفقه من الأول. (2) مكان كلمة تعذرت قراءتها، فقد رسمت هكذا: (توصحا) بدون نقط. (3) مقابلة: أي لقاء، وهي هنا بمعنى مباشرة ومعاناة سوء أدبه. (4) المعنى: لو عفا من وقع عليه الإيذاء بقذفٍ يستدعي تعزيراً لا حدّاً كما صوره. (5) يشير إلى الصورة التي فرضها آنفاً، وهي: لو أن شخصاً عرّض بقذف محصن، أو صرح بقذف من ليس بمحصن، أو كرر القذف بزنى حُدّ فيه، ففي هذه الحالات يكون التعزير حقاً للمقذوف، فلو عفا المقذوف، فهل للإمام أن يؤدب في هذه الحالة؟ هذا معنى العبارة التي نحن فيها.

فصل قال: " وإذا كان برجل سِلْعَةً، فأمر السلطان بقطعها ... إلى آخره " (1). 11227 - هذا الفصل قد يعدّ من الجليات، وفيه غوائل، أكثرها يتعلّق بالزلل في التصوير ونحن لا نألو جهداً في البيان، إن شاء الله عز وجل. فنقول: أولاً السِّلعة غدد تخرج بعضوٍ من الأعضاء، لا تكون مفضيةً إلى ضرر، [ولكنها] (2) تشوّه الخَلْق، وتسوء، وقد [يُخشى] (3) منها الإفضاء إلى أمرٍ مخوف، فإذا تأكَّلَت جارحةٌ، وكانت تتداعى، فلا يخفى أن قطعها إذا استصوبه أهل البصائر مما يؤثر في الدفع على ما سنفصل ونصف. ونحن نفرض ما نريدُ من ذلك في البالغ المستقلّ المالك لأمر نفسه، ثم نعود إلى أحكام الولاة، فنقول: إذا لم يكن في قطع السِّلعة خوفٌ، فأراد صاحبها قطعَها لإزالة شَيْن، فلا حرج عليه في ذلك. ولو كان في قطعها تخوّف، وليس في بقائها إلا الشين، فلا يحل للإنسان أن يقطعها من نفسه؛ فإن التعرّض للخوف لا يعادل الشَّيْن. ولو كان في قطعها خوف، فنقول في تفصيل ذلك: إن كان لم يظهر الخوف في القطع، وظهر الخوف في التبقية، فيجوز القطع لا خلاف فيه، فإن قطع من نفسه، جاز، وإن أمر من يقطعها منه، فللغير أن يقطعها بأمره؛ فإنه أمير نفسه، وتصرّفه على هذا الوجه أولى من تصرّف الغير في الغير، وهو بمثابة الأمر بالحجامة والفصد، وما في معناهما. وإن كان في القطع خوف، وفي التبقية خوف، [ومقادير] (4) الخوف وأوزانه لا تعتدل، فإن كان الخوف في التبقية أكثرَ وأغلبَ على الظن، وكان في القطع خوف أيضاً، فالذي صار إليه الأصحاب في الطرق أن له أن يقطع، ويأمر بالقطع لاستفادته

_ (1) ر. المختصر: 5/ 176. (2) في الأصل. " ولكنه ". (3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (4) في الأصل: " فمقادير ".

غلبةَ الظن، على ما وصفناها، وإن استوى الأمران، واعتدل الخوفان، ولم يترجح أحدهما على الثاني، فقد كان شيخي يختار أنه لا يحل له القطع هاهنا؛ إذ لا فائدة فيه، والعواقب مغيبة. وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا معترض عليه إذا اعتدل الأمران، ولم يُخْلِ الأصحابُ الصورة عن خلاف أيضاً، فاستبان لي في الصورتين من كلام الأصحاب أوجه: أحدها - أن القطع إذا كان مخوفاً، لم يجز، والثاني - أنه جائز في الصورتين، والثالث - أنه يجوز إذا كان خوفُ التبقية أغلبَ، ولا يجوز إذا اعتدلا في الظن. وإن كان خوف القطع أغلب، فلا خلاف أنه لا يجوز. واتفق الأصحاب على أن من عظمت الآلام عليه، وصار بحيث لا يستقل بها، فليس له أن يسعى في إهلاك نفسه، ولذلك إذا كان به عِلَّة مُهلكة، وقد قيل لا خلاص، فليس له أن يذبح نفسه بسبب مذفِّف، ولو أُضرمت النار في إنسان وكان لا يطيق الصبر [على] (1) لفحاتها فأراد أن يلقي نفسه في بحر ورأى ذلك أهونَ، فهذا قد اختلف فيه أبو يوسف ومحمد، وراجعنا شيخنا في ذلك، فقال: له (2) أن يبتدئ مهلكاً باختياره. وفي المسألة احتمال؛ فإن الإحراق مذفف، وكذلك الإغراق، والرأي ما ذكره شيخنا. هذا رأينا في المستقل وما يجوز له من القطع وما لا يجوز. 11228 - وأما تصرّف الولاة، فإن أراد السلطان أن يقطع أنملة من مستقلٍّ بنفسه مُطْلَقٍ (3)، فليس له ذلك، فإن النظر فيه يَدِق، وهذا بمثابة ما لو رأى الوالي أن يفصِد

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في هامش الأصل: لعله ليس له أن يبتدىء مهلكاً باختياره. ولكن الغزالي في البسيط صرح بأن الشيخ أبا محمد قال: " له ذلك " واختاره الغزالي، قائلاً: " وهو الصحيح " (ر. البسيط: 5/ورقة: 143 شمال). وكذلك حكاه الرافعي عن الشيخ أبي محمد، وقال: هو الأصح. (ر. الشرح الكبير: 11/ 301). (3) مُطَلق: أي غير محجور.

حيث يرى الطبيب ذلك، فليس إليه هذا، والناس موكولون في هذه المصالح إلى رأيهم، حتى قال الأئمة: لو قطع الإمام ما ذكرناه من بالغ على الكره منه، فأفضى إلى الهلاك، التزم القود، فهذا بيّن. 11229 - فأما القول في المَوْليّ عليه، فهذا موضع التأمل التام. فنقول: إن فرضنا أكَِلَةً أو سِلْعة بطفلٍ أو مجنون، فنتكلم في تصرّف الولي الخاص فيه، ونتكلم في تصرف السلطان. فأما السلطان، فإنه ولي الطفل والمجنون إذا لم يكن له ولي خاص، فله بنظره أن يأمر بالفصد والحجامة، فإن كان قطعُ السِّلعة على النسق [الذي وصفناه] (1) فللسلطان الأمر به (2)؛ فإنه والٍ، وإذا كان يلي مالَه خيفة أن يضيع، فلأن يلي بدنه في جهات المعالجات أولى؛ فإن أبدان الحيوانات عرضةٌ للتغايير، وعِللها في أُهبها، فلو أهملت، لأدى إلى الهلاك، وقد نقل الأصحاب مطلقاً أن السلطان [لا] (3) يقطع السلعة، ولم يريدوا هذه الصورة؛ فإنها من المعالجات. فأما إذا كان قطع السلعة مُخطِراً (4) وكانت تبقيتُها مُخطِرةً أيضاً، ومست الحاجة إلى النظر في تغليب أحد الظنين، فهاهنا قال الشافعي: لا يقطع السلطان السلعة والأَكِلة. ونقتصر على هذا القدر الآن من الكلام في السلطان، ثم نعود إليه بالإتمام. فأما الأب والجد أبو الأب، فقد أطلق الشافعي قوله: بأنه يقطع الأَكِلَة [في هذه الصورة] (5)، ولم يرد بها صورة المعالجة، حيث لا ضرار في القطع؛ فإن ذلك يسوغ للسلطان، كالفصد والحجامة، فلا يخفى جوازه للولي الخاص. فأما إذا تعارض خطران في القطع والتبقية، فعند ذلك قال الشافعي: " للولي الخاص أن يقطع إن كان القطع صواباً " (6).

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من المحقق لاستقامة الكلام. (2) أي إذا كان في قطعها درءٌ لخطر، وكان بقاؤها مخوفاً، على النسق الذي وصفناه. (3) في الأصل: " لم ". (4) مخطِراً: من أخطر فلاناً المرض: أي جعله بين السلامة والتلف. (المعجم). (5) في الأصل: " يقطع الأكلة والصورة " والمثبت تصرف منا على ضوء التفصيل الآتي. (6) وهذا النص أيضاً لم أصل إليه في المختصر.

وسبب هذا أن الإقدام على القطع يحوج إلى نظرٍ دقيق لا يصدر إلا من شفيق متناهٍ في الشفقة، وهذا يضاهي الاستصلاح بالتزويج، فأب الأب يزوّج ابنته البكر استصلاحاً، وإن كان يوقعها في رق الأبد، ويزوّج من طفله. والسلطان لا يملك ذلك؛ فإن التزويج يحتاج إلى نظرٍ دقيق مفوّض إلى الولي الخاص الشفيق، فإذا تصوّرت الصورة، فتمام القول أنا حيث نجوّز للرجل القطع [أي] (1) يقطع من نفسه نجوّز للولي أن يقطع من طفله، وحيث لا، فلا. وقد ذكرتُ تردّداً عند استواء الخوفين من أن الإنسان هل يقطع من نفسه، ولعل الأظهر هاهنا ألا يقطع من طفله، والعلم عند الله تعالى. 11230 - ونحن ننعطف بعد هذا التصوير إلى أمور في الضمان، أما المستقل إذا أمر الغيرَ بالقطع منه، فقطع، وأفضى إلى الهلاك، فقد قال الأئمة: لا ضمان على القاطع المأمور، وهذا فيه إذا كان القطع جائزاً، وليس كما لو أباح يده، أو أمر بقطعها، فقطعها إنسان، وأفضى القطع إلى الهلاك، فإن في ضمان النفس قولان تقدم ذكرهما، والفرق أن القطع المسوَّغ لغرضٍ يستحيل أن يجرّ ضماناً على القاطع المأمور، ولو قيل هذا، لامتنع القاطعون من القطع. وأما إباحة اليد، فلا غرض فيها، والقطع محرم في نفسه. وأما الإمام إذا قطع من صبيٍّ سلعة حيث قلنا: لا يجوز له قطعها، فقد قال الأصحاب: تجب الدية، وفي القود قولان، وإن كان يجوز للأب القطع في هذا المقام؛ لأنه قطع قطعاً لا تقتضيه ولايته؛ فصار كالقطع من بالغ. ثم قيل: إذا لم نوجب القود، فالدية في ماله، وهذا هو الظاهر، وسبيله كسبيل من قتل إنساناً على زيّ مشرك في ديار الإسلام حسبه كافراً، وكان مسلماً، ففي وجوب القود قولان، والمذهب أنا إذا أوجبنا الدية، لم نضربها على العاقلة، وقد قدّمتُ في ذلك فصلاً حاوياً مشبِعاً. وإذا قلنا: للأب أن يقطع، فالذي أطلقه الأصحاب قاطبة أنه إذا قطع وأفضى إلى

_ (1) في الأصل: " أن " والمثبت تقدير منا.

الهلاك، فلا ضمان على الأب. قال القاضي: الذي عندي هو أنه يضمنه بالدية، وإنما يباح له ذلك بشرط سلامة العاقبة، وهذا بمثابة الضرب للتأديب. وهذا عندي غير سديد؛ فإن الضرب للتأديب أُمر به على شرط الاقتصار على ما لا يقتل، وإذا جُوِّز للأب أن يقطع مع الخطر في القطع، فإلزامه الضمان محال، ويبعد كل البعد أن يسوغ للأب أن يعالج ولده المجنون بالفصد، ثم يقال: إذا أفضى إلى الهلاك يضمنه، والمتبع في التأديب ما ذكرناه. وقال الأئمة: إذا ختن الوالد ولده على حسب المصلحة، فاتفق الموت منه، فلا ضمان عليه، وقال القاضي: الذي أراه وجوب الضمان، وهذا الذي قاله في الختان أوجه؛ فإن الختان لا يجب في حق الصبي والمجنون كما سنصفه، وليس من المعالجات التي لو تركت، لجرّ تركها فساداً في البدن، فلا يمتنع ما قاله القاضي في الختان. وسنعود إن شاء الله تعالى إلى هذا في فصل الختان على أثر هذا. فصل قال: " ولو كان رجل أغلف ... إلى آخره " (1). 11231 - الختان واجب عند الشافعي في الرجال والنساء، والمستحَق من الرجال قطع القُلْفة وهي الجلدة التي تغشى الحشفة، والغرض أن تبرز، ولو فرض مقدار منه على الكَمَرَة لا ينبسط على سطح الحشفة، فيجب قطعه، حتى لا يبقى جلد متجافٍ متدلٍّ. والمقدار المستحق في النساء، ما ينطلق عليه الاسم، وفي الحديث ما يدل على الأمر بالإقلال، قال صلى الله عليه وسلم لخاتنةٍ: " أشمي ولا تنهكي " (2) أي اتركي

_ (1) ر. المختصر: 5/ 176. (2) حديث: " أشمي ولا تنهكي "، رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: " وإسناده حسن، ورواه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في الكبرى، من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم عطية: " إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي؛ فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج " (ر. المعجم الأوسط للطبراني: 3/ 133 برقم 2274، مجمع الزوائد: 5/ 172، الكامل لابن عدي: 3/ 30 ح 1083، البيهقي: 8/ 324).

الموضع أشمّ، والأشمّ المرتفع، والقطع يقع في أعلى المدخل على لحمة بادية، ولا حاجة إلى الإطناب في وصفها. وقال أبو حنيفة (1): الختان لا يجب أصلاً في الرجال، ولا في النساء. ثم مؤنة الختان من مال المختون. [ومعتمد المذهب] (2) أن الختان قطع عضو، فلو لم يجب، لم يجز، ولا ينبغي أن نفهم منه أنه (3) كافٍ، لا يجوز لو لم يجب لما فيه من خوف، ولكن لكل جزء حي من الإنسان حرمة الحياة، فلا يجوز فصلها بغير حق، وليس كالأخذ من الشعور والأظفار؛ فإنها ليست على حقيقة الحياة، وإن اختلفت المذاهب في ثبوت حكم الحياة لها. ولو كان الرجل على خلقة من الضعف بحيث لو ختن لخيف عليه، فلا يجوز أن يختن، ولكن ينتظر التمكن من الختان، حتى يغلب على الظن السلامة. وقد قال الأئمة: لا يجب الختان قبل البلوغ، لأن الصبي ليس من أهل أن تجب عليه العبادات المتعلّقة بالأبدان، فما الظن بالجرح الذي ورد التعبد به، وليس هذا كالعدّة (4)؛ فإنه لا تعب عليها منها، وإنما هي مضي الزمان. فإذا بلغ الرجل أقلفَ، وبلغت المرأة غيرَ مخفوضة، ولا عذر، فلا يجوز تأخير الختان، فإذا ظهر ذلك للسلطان، أَمر بالختان، فإن أبى، أُجبر عليه، فإن جرّ ذلك هلاكاً، فلا ضمان على السلطان هاهنا؛ فإن ما فعله استيفاء شعار الدين من ممتنعٍ عن إقامته.

_ (1) رؤوس المسائل: ص 504 مسألة 366، الاختيار: 4/ 167، الفتاوى الهندية: 5/ 356، 357. (2) في الأصل: والمعتمد المذهب. والمثبت تصرف من المحقق، شهد له عبارة الغزالي، إذ قال: " ودليل وجوبه أنه قطع جزء حيٍّ، وفي كل جزء حي حرمة، وفيه خوف، فلولا استحقاقه، لما جاز الإقدام عليه " (ر. البسيط: 5/ورقة: 144 شمال). (3) الضمير يعود على هذا الاستدلال للمذهب، والمعنى: لا ينبغي أن نفهم أن هذا كافٍ، بل نزيد عليه أن لكل جزء حي حرمة، فلا يمكن فصله بغير حقٍ. (4) كالعدّة: أي حينما تجب على الصغيرة.

ثم إن ختن السلطان طفلاً لا ولي له في اعتدال الهواء، حيث يجوز للأب -لو كان- أن يختن، فإن أفضى إلى الهلاك، فلا ضمان، كما لو عالج بالفصد والحجامة على حسب المصلحة، وقال القاضي: يجب الضمان، وهذا محتمل؛ فإنه ليس من قبيل المعالجات، والختان ليس واجباً في الحال، ووجه ما ذكره الجماهير أن الختان لا بد منه، فإجراؤه في الصغر والبدن غض رخص، والمختون مقدار صغير أولى، فيلتحق من هذا الوجه بالمعالجة، وطرد القاضي ما ذكره من الضمان في وجوب الضمان على الأب إذا ختن الطفل، وهذا في الأب أبعد، وقد صح في الخبر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحلق رأس المولود، ويعق عنه، ويختن في السابع من ولادته ". ولو ختن السلطان في حر شديد، أو برد مُفْرط، فأدى إلى الهلاك، نص الشافعي على أنه يضمن، ونص على أنه لو أقام الحد في الحر الشديد أو البرد، فأدى إلى التلف لا يضمن، وقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في النفس، وتردّد الطرق؛ فلا نعيده. والنص الذي ذكره في السلطان يجري في الأب إذا ختن في الحر الشديد، والبرد المفرط، فإن جرى خلافٌ في نفي الضمان عن السلطان، فالأب أولى بانتفاء الضمان عنه؛ فإن الختان في حقه كالحدّ في حق الإمام؛ من حيث إنه يتولاه هو. ***

باب صفة السوط وما فيه

باب صفة السوط وما فيه قال: " ويضرب المحدود بسوط بين السوطين ... إلى آخره " (1). 11232 - الغرض من هذا رعاية الوسط في حجم السوط وصفته، وكيفية الضرب به، والإيلام لا بد منه مع بناء الأمر على تجريد القصد إلى إبقاء النفس، وهذا يوجب التوسط، فإن الإفراط ينافي البُقيا، وقصد الإبقاء وترك رعاية الإيلام الناجع يبطل حكم الحد، ومجموع ذلك يقتضي التوسط. وأول ما نبدأ به حجم السوط، ولا متعلّق فيه إلا اسم السوط، والقضيب المستدق ليس بسوط، والزائد الحد المعتبر عصا، فحدُّ السوط المعتاد معتبر. هذا قولنا في الحجم. فأما صفة السوط بعد حجمه، فلا ينبغي أن يكون رطباً قريبَ العهد؛ فإنه يَفْطُرُ (2) الجِلدَ لما فيه من ثقل المائية، وتلدّن المعاطف والغوص في البدن إذا اشتدّ، لو أطاقه. والخشبةُ اليابسة خفيفة، وهي على خفتها لا تنعطف، فيسقط الإيلام المطلوب بها وقد [تتشظَّى] (3). وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان يقيم الحدّ على إنسان، فأتي بخشبة لم تكسر ثمرتُها (4)، أي كانت قريبة، وعليها عُقَدُها التي هي منابت الغصون الدقيقة، فردّها، وقال: " هلاّ دون ذلك "، فأتي بخشبة خَلَقة، فقال صلى الله عليه وسلم: " فوق هذا " فأتي بخشبة لا جديدة، ولا خَلَقة، فأقام بها الحد " (5).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 176. (2) يفطُر الجلد: أي يشقه. (3) لم نستطع قراءتها إلا بمعاونة عبارة الغزالي في البسيط. (4) ثمرة السياط: عقد أطرافها (قاله الجوهري) وقال أبو عمرو: " لم يمتهن ولم يلن ". (5) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد على إنسان فأتي بخشبةٍ لم تكسر=

11233 - ثم ما ذكرناه في صفة السوط، من رعاية التوسط يُرعى في الضرب، فلا ينبغي أن يرفع الضارب يده إلى انتصابها بحيث تبدو عُفرة الإبط من شَيْله (1)، حتى يكتسب السوط ثقلاً ورَزَانةً إذا أرسل، وفي كيفية الضرب، وأعمال الأصابع وإرسال رأس السوط، أو ما ينحدر عنه دقائق لسنا جاهلين بها، ولكن لا معنى لذكرها، وذكر التوسط كافٍ فيها. ثم لا ينبغي أن تُشَدَّ اليدان من المحدود، بل تُتركان مطلقتين حتى يتقي بهما إن أراد، ويتقي الجلادُ المَقاتل، كالأخدع (2) والقُرط (3)، وثُغرة النحر، والفرج، ويتقي الوجه؛ فقد صح الخبر عن اتقاء وجوه البهائم، فما الظن ببني آدم، وقد كرمهم الله تعالى، والوجه مجمع المحاسن والحواس، ويترك الرجل قائماً،

_ =ثمرتها ... " لم نجد الحديث بهذا اللفظ، بل قال ابن الصلاح: اشتبه هذا على إمام الحرمين، فغيّر ألفاظ الحديث، وقال فيه " فأتي بخشبة " وفسّر الثمرة بعقدها التي هي منابت الغصون الدقيقة، وتبعه على ذلك الغزالي فى (بسيطه)، ونسأل الله عصمته وتوفيقه. (مشكل الوسيط- بهامش الوسيط 6/ 511). والحديث رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم بلفظ " ... فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط مكسور فقال: " فوق هذا " فأتي بسوطٍ جديد لم تقطع ثمرته، فقال: " دون هذا " فأُتي بسوطٍ قد رُكب به ولان، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد " وثمرة السياط: عقد أطرافها (قاله الجوهري) وقال أبو عمرو: " أي لم يمتهن ولم يلن ". ورُكب به: أي ذهبت عقد طرفه. (الموطأ: الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا: 2/ 825 وتفسير الألفاظ عن محمد فؤاد عبد الباقى بهامش الموطأ). هذا، وللحديث شاهد عند عبد الرزاق عن معمر بن يحيى بن أبي كثير (مصنف عبد الرزاق: 7/ 369 ح 13515). وشاهد آخر عند وهب من طريق كريب مولى ابن عباس. قال الحافظ في التلخيص: فهذه المراسيل الثلاثة يشدّ بعضها بعضاً. (التلخيص: 4/ 145 ح 920). (1) شيْله: أي رفعه: من شال يده إذا رفعها يسأل بها، والفعل واوي، والمصدر: (شولاً) لا شيلاً. (المعجم) و (المصباح). (2) الأَخدع: عرق في جانب العنق، وهما أخدعان في جانبي العنق. (المعجم). (3) القرط: من المجاز العقلي. والمراد مكان القرط.

ولا يوالي بالسياط على موضعٍ من بدنه، ولا بأس بضرب الرأس عندنا، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لمن كان يقيم الحدّ اضرب الرأس، فإن الشيطان في الرأس، ومنع أبو حنيفة (1) ضرب الرأس. ولا يضرب في الحر الشديد، والبرد المفرط، فإن فعل فأدى إلى التلف، فنص الشافعي أنه لا يجب الضمان. وقد مضى هذا على أبلغ وجه في البيان. ولو وقع الضرب بخشبة فوق الوسط أو فُرض تحامل مفرط في الضرب، فالذي نراه أنه يتعلق الضمان به، وليس كالضرب في الحرّ الشديد، فإن سبب نفي الضمان على القول الظاهر امتناعُ تأخير حدود الله تعالى إذا رأى الإمام ألاّ يؤخر، والزيادة على المطلوب في جِرم السياط خروجٌ عن المقدار المستحق، وكذلك القول في التحامل المفرط في الضرب. والمرأة تُضرب جالسةً وتُربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف. 11234 - ومما يجب الاعتناء به أن الضربات أصلها أن تكون متوالية، فإن فُرّقت، فكيف الوجه؟ وإلى ماذا الرجوع؟ إن فرّق الأسواط على الأيام، فكان يضرب في كل يومٍ سوطاً. قال القاضي: لا يعتد بهذا. والأمر على ما ذكره؛ فإن مقصود الحد من الإيلام الناجع الزاجر لا يحصل على هذا الوجه، وكذلك لا يحصل. التنكيل أيضاً، ثم لو أقام خمسين سوطاً وِلاءً في يومٍ، وأقام خمسين أخرى في يومٍ آخر، جاز. وهذا الفصل فيه انتشار، والممكن في ضبطه: أنه إن ظهر سقوط أثر الألم لتفرق الأسواط على الزمان، كما فرضه القاضي من وقوعها [آحاداً] (2) في أيامٍ، أو كان يقع سوطان في كل يومٍ، فهذا ليس بحد. وإن كان المقدار الواقع مؤثراً، أي لم يتخلل من الزمان ما ينقطع فيه أثر الأول،

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 264، فتح القدير: 5/ 18، تبيين الحقائق: 3/ 170، الاختيار: 4/ 85. (2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، رسمت هكذا: " أملا " والمثبت تصرف منا على ضوء ما مضى من حكاية قول القاضي.

فالظاهر إجزاء هذا؛ إذا (1) تجمّع كونُ الواقع مؤلماً، وبقاء الألم إلى وقوع الآخر. وإن كان الواقع مؤلماً وتخلل من الزمان ما يُسقط أثر التألم [بالأول] (2)، فهذا محل التردد. ظاهر كلام القاضي أن ذلك حدٌّ معتدٌّ به. والوجه عندنا أنه لا يعتدّ به إذا انقطع أثر الأول (3)؛ فإن التتابع والوِلاء [لو] (4) عُدِّل بالأسواط، [لبلغ] (5) أثره عدداً منها صالحاً، ففي ترك الموالاة إسقاط جزء من الحد (6). وما ذكره القاضي محتمل أيضاً، وفي كلامه إشارة إلى الخمسين، فإن كان يتشوف بذكرها إلى أن الخمسين حدٌّ كامل، فهذا الفن يدِق مُدركه، ولا ينبغي أن يُتشاغل بمثله؛ فإن الأمور في الكليات لا تنطاع من التضيّق والضبط، وشرطُ الفقه ألا يطلبَ من كل شيء إلا ما يليق به، والتقدير (7) من موضع غايةُ المطلوب فيه التقريبُ وإبانةُ مسلك الاجتهاد لا يحسن. فإن قيل: لو حلف الرجلُ ليضربنّ فلاناً مائة سوط، ثم إنه فرّق عليه السياط في الأيام، يَبَرّ في يمينه، فهلاّ وقع الاكتفاء بتحصيل الاسم في الحدود؟ قلنا: تعويل الأيمان على موجَبات الألفاظ، والتعويل في فهم معاني التكليف على المقاصد. وقد ظهر من مقصود الشرع أن الغرض من الحد الزجر والتنكيل على قدرٍ يقرب من الفهم، فيجب اعتباره.

_ (1) إذا بمعنى: إذ. (2) في الأصل: بالواقع. والمثبت منّا على ضوء السياق وما حكاه الغزالي والرافعي والنووي عن الإمام. (3) عزا النووي هذا الضابط إلى الإمام، فكأنه لم يسبق إليه. (ر. الروضة: 10/ 173). (4) سقطت من الأصل. والمثبت من عبارة الرافعي في الشرح الكبير: 11/ 286. (5) في الأصل: " التلقي " ومن فضل الله أن وجدنا الرافعي حكى العبارة كاملة عن الإمام وإلا لاستحال علينا تصويبها. (ر. السابق نفسه). وانظر إلى أي حد بعُد التصحيف برسم الكلمة. (6) المعنى أن في ترك الموالاة إسقاط جزء من الحد؛ لأن الموالاة إذا قيس أثرها وعدّل بالأسواط وقوبل بها لبلغ عداداً معتبراً من الأسواط. (7) أي أخذ التقدير واستنباطه من مواضع التقريب غير حسن.

فصل قال: " ولا يبلغ بعقوبةٍ أربعين، تقصيراً عن مساواته عقوبة الله تعالى في حدوده ... إلى آخره " (1). 11235 - التعزيرات لا مبالغ لها تقديراً من الشارع، ولكن يتطرّق إليها في جهة الأقصى مردٌّ يُنتَهى إليه، ويتخذه المجتهد شوفَه بين يديه، فالذي تمهد في الأصل أن التعزير لا يُبلغ به الحدّ، كما أن الرضخ لا يبلغ به السهم في المغنم، والحكومة لا تبلغ الدية. ثم اختلف طرق أئمتنا في المبالغ التي نجعلها شَوْفنا في الاعتبار: فقال قائلون: يُحط أعظم التعزيرات عن أقل الحدود، وقال آخرون: يُنسب مقتضى كل تعزير إلى ما يقتضي الحدّ في قَبيله، حتى إن كان ما صدر من الإنسان هي مقدمات الزنا، فالتعزير فيما جاء به محطوط عن حد الزنا، وإن عرّض بقذف، أو قذف من ليس محصناً، فتعزيره محطوط عن حدّ القذف، وإن فرض ملابسةٌ لأسباب الشرب، فالمعتبر الذي إليه الرجوع حدّ الشرب، وهذا فقهٌ حسن. توجيه الوجهين: من قال يُحط أبلغ التعزيرات عن أقل الحدود، احتج بأن قال: أعظم الأشباه بالإضافة إلى أقل أسباب الحدود محطوط عنه، وإنما توجد العقوبات من موجباتها، ومن يصير إلى الوجه الثاني احتج بأن النِّسب حقها أن تقرر باعتبار كل نوعٍ بالغاية المطلوبة فيه أولى، ولذلك تعتبر كل حكومة بحسب الجناية على عضو بما يجب الأرش المقدّر في ذلك العضو، على تفاصيلَ انتجز شرحها في الديات. وما ذكره ناصر الوجه الأول من أن ما يوجب أقلَّ الحد أعظمُ مما يوجب أبلغ التعزيرات ليس كذلك؛ فإن منازل الزلات والجرائم لا يُتلقَّى من هذا، ورب شيء هو أكبر من كبار موجبات الحدود لا يحدُّ في قبيله، كأكل مال اليتامى ظلماً، وكإمساك

_ (1) ر. المختصر: 5/ 176.

المولّي (1) حتى يُدركه قاصدُه، فيقتله، فلا يشك ذو تحصيل أن ما ذكرناه أبلغ من قطرةٍ من خمرٍ يتعاطاها ولوعٌ بها مذمّم في نفسه. التفريع: 11236 - إن حكمنا بأن أبلغ التعزيرات محطوط عن أقل الحدود، فأقل الحدود حدُّ الشرب، فليحط التعزير عنه، ثم اختلف أصحابنا إذا كان المعزَّر حرّاً، فمنهم من قال: يحط تعزير الحر عن حدّ الحرّ، وهو أربعون، ويحط تعزير العبد عن حدّ العبد في الشرب، وهو عشرون. ومن أصحابنا من قال: أبلغ التعزيرات محطوط عن عشرين؛ فإنه أقل الحدود على الجملة، وهذا الوجه إن كان ضعيفاً في طريق المعنى، فإنا سنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الفصل ما يعضده. وإن فرّعنا على أن كلَّ تعزيرٍ معتبر بالحد الذي يناسبه، فيعتبر تعزير الحر بحدّ الحر، وتعزير العبد بحد العبد بلا خلاف، فإنا إذا كنا نرعى تقارب الأسباب في السبب، فاعتبار الأشخاص المعزرين أولى. والذي نراه أن تعزير من يتعلّق بأسباب السرقة يجب أن يعتبر بأبلغ الحدود الواقعة بالجلد، وهو حد الزنا؛ فإن القطع أبلغ من مائة جلدة. 11237 - ثم قال الأئمة بعد ذلك.: ليس للإمام أن يبتدر الضربَ بل نرعى في ترتيب التأديب من التدريج والاكتفاء بأقل المراتب ما يرعاه الدافع في الاقتصار على حاجة [الدفع] (2)، حتى إن علم أن التوبيخ بالكلام كافٍ، اكتفى به. وإن لم يره ناجعاً ترقى إلى [التعنيف] (3) فيه، ثم يرقى من هذه المرتبة إلى ما يرى من حبسٍ، أو دفعٍ في الصدر، أو ما جرى هذا المجرى، ثم هكذا إلى أن ينتهي رأيه. ومن آداب الإمام في ذلك، أن يتوقَّى هيجه وغضبه [ويتأتَّى] (4) لما يأتي به مُعْمراً (5) إشفاقاً، واستصلاحاً للمؤدَّب. وقصة عُمر في ذلك مشهورة: إذ رفع دِرّته

_ (1) أي المولّي عن الصائل الذي يقصده بالقتل، فإمساكه عن الهرب حتى يُقتل ذنب عظيم. (2) في الأصل: " الرافع ". (3) في الأصل: " التصنيف ". وفيها أثر تصويب زادها تشويهاً. (4) في الأصل: " ويأتي ". وتأَتَّى للأمر: أي ترفق له وأتاه من وجهه. (المعجم). (5) معمراً: (كذا) ومعناها: ملتزماً: من أعمر الرجل ماله وبيته: إذا لزمه (القاموس المحيط).

لمن كان يبذُؤ بلسانه على صاحب له، فأطلق المعزَّر لسانه في عمر غير شاعرٍ به، فردّ الدرّة، حتى روجع في ذلك، وقيل (1): تعرّض لرجلٍ من آحاد المسلمين، فهممتَ به، وأساء القولَ في أمير المؤمنين [ووَزَرِ] (2) المسلمين، فكففتَ عنه، فقال: " أما إني رفعتها لله، فمَن ابن أم عمر حتى يُنتَقمَ له مع الانتقام لله " (3)؟ وأشار بهذا إلى ما لحقه من مبادئ الغيظ. وقد روي من صفح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفوه ما يظهر حملُه على قريب ممَّا ذكرناه. وهو مثل ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في سفرٍ على بعيرٍ فجاء أعرابي، فجذب رداءه، حتى أثرت جذبته في عنقه، وقال: احملني؛ فإنك لا تحملني على بعيرك ولا بعير أبيك " (4) فقال أبو هريرة: فهممنا به كالخيل من الحديد نبغي قتله، فقال عليه السلام: " عزمت على من سمع كلامي أن يثبت مكانه "، فوقفنا، وأيدينا على مقابض السيوف ننتظر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا أسامةَ بن زيد، وقال: " احمله على بعير الزاد " ولم يعزره. وقصة الرجل الذي خاصم الزبير في سقيه بستاناً مشهورة، وهي محمولة على ما ذكرناه (5). 11238 - ومن أهم ما يجب الاعتناء به، [فهمُ] (6) سؤال مع الجواب عنه. فإن

_ (1) أي قيل لعمر. (2) في الأصل: " ووزير ". (3) أثر عمر رضي الله عنه لم نقف عليه. (4) حديث الأعرابي الذي جذب ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " احملني ... " رواه أبو داود، والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه الشيخ الألباني (ر. أبو داود: الأدب، باب الحلم وأخلادتى النبي صلى الله عليه وسلم، ح 4775، النسائي: القسامة، باب القود من الجبذة، ح 4780، ضعيف سنن أبي داود للألباني، ح 1022). (5) حديث الرجل الذي خاصم الزبير في سقي بستان متفق عليه. (البخاري: المساقاة، باب سَكْر الأنهار، ح 2359، 2360، مسلم: الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، ح 2357). (6) في الأصل: " فهو ".

قيل: لَمْ يقف بعضُ العلماء في التعزيرات على موقف، حتى رأى مالكٌ (1) القتلَ تعزيراً، وهذا [يوافق ظن مَنْ] (2) لا يدق نظره إلى الإيالة التامة؛ فإن الهَنة التي تصدر من آحاد الناس في الخطر لا يدرؤها جلدات نكال، سيّما وقد بعد العهد، وتمادى الزمن، ولا يزداد المستأخرون إلا شرّاً. قلنا: لا مزيد على ما ذكرناه. والسؤال (3) برعاية الإمام وكلاءته؛ فإنه إن أحسن إقامة الضوابط، وألزم نفسه الاطلاعَ، ومهَّد طرقَ تقاذف الأخبار إليه، وعضد كلَّ قُطرٍ بقوّامٍ به، وتقدم إلى أصحاب الأعمال، إذا بدا من الناس ما يستوجبون الآداب به أن يعزّروا، ولا يتسامحوا، وإن تكررت الهَنات تكررت الجلدات، فهذا كافٍ، وإنما الشرّ كله في الإهمال، وقطع عين المراقبة عن الناس، وإن تألّبت طائفة، وسلّت يدها عن الطاعة، رُدّت إلى الطاعة بغرار (4) السيوف. ولو كانت قضايا الشرع تختلف باختلاف الناس، وتناسخ العصور، لانحلّ رباط الشرع، ورجع الأمر إلى ما هو المحذور من اختصاص كل عصر ودهر برأي. وهذا يناقض حكمةَ الشريعة في حمل الخلق على الدعوة الواحدة، ولما ذكر صاحب التقريب مقالات الأصحاب في التعزيرات ومبالغها روى عن أبي بُردة بن نِيار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجلد فوق العشرة إلا في حدّ " (5). قال صاحب التقريب: هذا خبرٌ صحيح، لو [بلغ الشافعي] (6)، لقال به، وقد صح من أقوال الشافعي أن من يبلغه مذهبٌ منه، ويصح عنده خبر على خلافه، فحق عليه أن يتّبع الخبر، ويعتقدَ أنه مذهبُ الشافعي؛ فإنّ كل ما أطلقه في المسائل مقيد باستثناء

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 928 مسألة 1863، 1864، المعونة: 3/ 1406، حاشية الدسوقي: 4/ 355. (2) في الأصل: " يوافق من ظن من لا يدق نظره ". (3) كذا قدرناها. (انظر صورتها) والمعنى أن السؤال يندفع برعاية الإمام ... إلخ. (4) الغِرار: حد السيف ونحوه (المعجم). (5) حديث أبي بُرْدَة بن نيار الأنصاري متفق عليه (البخاري: الحدود، باب كم التعزير والأدب، ح 6848، مسلم: الحدود، باب قدر أسواط التعزير، ح 1708). (6) في الأصل: " لو بلغه " والتغيير لمجرد الإيضاح.

الخبر، وكأنه لا يقول قولاً في واقعه إلا وهو مصرّح معه بأن الأمر كذلك إن لم يصح خبرٌ على خلافه. 11239 - ثم قال الشافعي، في آخر الباب: " لا تقام الحدود في المساجد " (1) وهو كما قال، وسيأتي، إن شاء الله، هذا وأمثاله في آداب القضاء. روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلَّ سيوفكم " (2). ثم عقد الشافعي باباً مترجماً بقتال أهل الردّة (3)، مضمونه ثلاثة أشياء: أحدها - أحكام الردة، وقد مضت في باب مفرد، والآخر - مقاتلة أهل الردة إذا اجتمعوا، وقد مضى هذا في أثناء قتال أهل البغي، والثالث - يحثّ على البداية بهم، وهذا بيّن، وليس على هذا الإطلاق، فقد يطأ الكفار طرفاً من [بلاد] (4) الإسلام، ولو لم نَطِر إليهم، لخفنا فتقاً لا يُرقع، فلتقع البداية بالأهم. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 177. (2) حديث " جنبوا مساجدكم صبيانكم ... " رواه ابن ماجه، والبيهقي وضعفه، كما ضعفه الحافظ في التلخيص (ر. ابن ماجه: المساجد والجماعات، باب ما يكره في المساجد، ح 750، البيهقي: 10/ 103، ضعيف ابن ماجه للألباني ح 164). (3) ر. المختصر: 5/ 177. (4) زيادة اقتضاها السياق.

باب صول الفحل

باب صول الفحل قال الشافعي رضي الله عنه: " إذا طلب الفحل رجلاً ... إلى آخره " (1). 11240 - البهيمة إذا صالت على إنسان، وعلم المصول عليه أنها لا تدفع إلا بما يهلكها، ويأتي عليها، دفَعَها، واقتصر على مقدار الحاجة في دفعها، فإن كانت [لا تدفع] (2) إلا بما يقتل، قتلها، وكانت هدراً غير مضمونة، خلافاً لأبي حنيفة (3). وكذلك إذا صال آدمي على إنسان، فإنه يتولى دفعه بالأيسر فالأيسر، فلو لم يتأت الدفع إلا بالقتل، قَتَل، ولا ضمان. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في صيال الصبي والمجنون. فقال في رواية: لو أهلكهما في الدفع، كانا مضمونين، وقال في رواية: لا ضمان على الدافع؛ لأن فعلهما لو تم، لتعلّق الضمان به. بخلاف فعل البهيمة. ومعتمدنا في المذهب أن البهيمة بصيالها صارت مستحقَّةَ القتل بصيالها، فقامت مقام السبع الضاري، والكلب العقور. ولو اضطر في المخمصة، واقتضت الضرورة إتلافَ بهيمة الغير، والأكلِ منها، فالإهلاك سائغ، بل واجبٌ لإحياء المهجة، وضمانُ البهيمة واجب على المضطر، فإن البهيمة لم تتصف بما يسلّط على إهلاكها، بخلاف الصائلة. ولو رَبَضت بهيمة على باب بيت فيه زادٌ لإنسان، وقد ظهرت الحاجة، ومست

_ (1) ر. مختصر المزني: 5/ 178. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) ر. مختصر الطحاوي: 258، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 210 مسألة 2308، رؤوس المسائل: 506 مسألة 367، إيثار الإنصاف: 400، طريقة الخلاف: 493 مسألة 197).

الضرورة، ولا وصول إلى البيت إلا بإتلاف البهيمة، فلا شك أنه يُتلفها، وفي ضمانها وجهان: أحدهما - أنه يجب كما لو أتلفها للمخمصة، وأكل منها. والثاني - لا يجب الضمان لوقوفها وربوضها على سبيله الموصل إلى الزاد. ولو كان الإنسان في طريقه عابراً، وسطقت جرّةُ أو ما في معناها في ملك إنسان واستوت على [رأسه] (1)، ولو لم يكسرها، لأهلكته أو خيف عليه منها (2)، فإذا كسرها، فللأئمة أصلان في ذلك، فقال قائلون: كسرها بمثابة قتل البهيمة الصائلة، وقال آخرون: يجب الضمان، وإن ساغ الكسر؛ لأنه لا اختيار لهذا الساقط على سمت رأسه. ولاختيار الحيوان أحكام لا تُنكر. 11241 - ثم تكلم الأئمة فيما يجب من الدفع، وفيما يسوغ، فنستتم ذلك، ثم نخوض بعده في إيضاح تدريج الدفع، فنقول: إذا قصدته بهيمةُ إنسانٍ، وصالت عليه، وجب عليه دفعها، وإن كان الدفع يأتي عليها، ولا يجوز أن يستسلم للتهلكة، ولا [بُعدَ] (3) في هذا، ونحن نوجب قتل البهيمة الضارية بالإهلاك، وإن لم تكن صائلة في وقتها، لقطع توقع الصيال منها. ولو صال مرتد أو حربيّ على مسلم، لم يحلّ له أن يستسلم، ويؤثر الهلكة؛ فإنه لا حرمة للصائل، والاستسلام لهما ذلٌّ في الدين. 11242 - ولو كان الصائل رجلاً مسلماً محقون الدم، فهل يجوز الاستسلام للهلكة؟ وكيف السبيل فيه؟ اختلف النص، وحاصل المذهب في أصل التمهيد قولان: أحدهما - أن الاستسلام غير جائز؛ فإن المهجة المصول عليها محترمة، والشخص الصائل ظالم ساقط الحرمة، فيجب إيثار الذب عن المهجة المحترمة، ولا يسوغ بذلها لشخص ساقط الحرمة.

_ (1) في الأصل: " رأسها ". والمثبت من المحقق رعاية للسياق. (2) صورة المسألة أن تهوي جرة مملوكة لإنسان من ملكه لسببٍ ما، وتهوي مسامتة لرأس إنسان، فهل له أن يعاجلها، ويكسرها قبل أن تصل رأسه. (3) في هذا أي في الحكم بوجوب الدفع وعدم الاستسلام.

والقول الثاني - يجوز الاستسلام، ومعتمده الأخبار الصحيحة، ومنها ما روي عن حذيفةَ بنِ اليمان: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ما سيكون من الفتن، فقال حذيفة: يا رسول الله لو أدركني ذلك الزمان، فقال: ادخل بيتك، واخمل ذكرك، فقال: أرأيت لو دخل بيتي؟ فقال: إذا راعك بريق السيف، فاستر وجهك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " (1). وفي بعض الأخبار: " ولأن تكن خير ابني آدم " (2) عَنَى صلى الله عليه وسلم قابيل وهابيل. وصح عن عثمان رضي الله عنه: " أنه استسلم يوم الدار، وقال: لا أحب أن يراق فيّ مِحْجَمة دم "، وكان معه في الدار أربعمائة من الغلمان الشاكين السلاح، فقال: " من ألقى سلاحه، فهو حر" (3). فإذاً لاح في الدفع وإن أفضى إلى القتل، وفي الاستسلام قولان: أحدهما - أنه محرّم، والثاني - غير محرّم. ثم اختلف أصحابنا في تأويل هذا القول، فمنهنم من قال: الاستسلام جائز، ومنهم من رآه مندوباً إليه مستحباً، وإليه إشارة الأخبار في استحسان الإيثار، وإن أدى إلى هلاك المَؤْثر، وهو شِيمُ الصالحين، ويتصوّر من أوجه، يدل البعض منها على

_ (1) حديث " كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل " سبق تخريجه. (2) حديث: " كن خير ابني آدم "، أخرج أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم " الحديث. وفيه: فإن دخل عليَّ بيتي وبسط يده إليّ ليقتلني، قال: " كن كابن آدم ". وفي الباب من حديث ابن عمر، رواه أحمد، ومن حديث أبي موسى، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان (ر. المسند: 1/ 169، 185، 4/ 408، 416، الترمذي: الفتن، باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها، ح 2194، أبو داود: الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة، ح 4259، ابن ماجه: الفتن، باب التثبت في الفتنة، ح 3961، ابن حبان: ح 5931، التلخيص: ح 2146). (3) حديث استسلام عثمان يوم الدار وصرفه المدافعين عنه، وأنه قال: " من ألقى سلاحه فهو حر " قال الحافظ في التلخيص: لم أجده، وفي ابن أبي شيبة من طريق عد الله بن عامر سمعت عثمان يقول: " إنّ أعظمكم عندي حقّاً من كفّ سلاحه ويده " (ر. ابن أبي شيبة: 15/ 204 ح 19507، التلخيص: 4/ 161 ح 2154).

الكل. فإذا اضطُر الرجل، وانتهى إلى المخمصة، ومعه ما يسدّ جوعته، وفي رفقته مضطرٌ فآثره بالطعام، فهو حسن، وكذلك القول في جملة الأسباب التي تتدارك بها المهج، ولا خلاف أنه لا يحل إيثارُ بهيمةٍ، وكيف يظن الظان هذا، ويجب قتل البهيمة لاستبقاء المهجة. 11243 - ولو كان الصائل على الإنسان مجنوناً أو مراهقاً، فمعلوم أنه لا يبوء واحدٌ منهما بالإثم، ولو استسلم للقتل، وللأصحاب طريقان فيهما: منهم من لم يجوّز الاستسلام، ونزلهما منزلة البهيمة في هذا المقام، واستمسك بما أجرى الله تعالى ذكره في قصة هابيل؛ إذ قال عز وجلّ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك} [المائدة: 29]. ومن الأصحاب من أجرى قولي الاستسلام في الصبي والمجنون (2)؛ لأن المعنى المتبع في ضبط هذا القول محاذرة الزيادة على قدر الحاجة في الدفع، والصائل آدمي محترم، وهذا المعنى يتحقق، وإن كان الصائل لا يبوء بالإثم، وأيضاً فإن للقتيل القرب من مرتبة الشهادة، وهذا المعنى يجري في الصبي والمجنون إذا صالا. 11244 - وأما الذميّ إذا كان هو الصائل، فالوجه الدفع؛ فإنه لا يجوز الاستسلام، وإن كانت الذمة توجب حقن دمه؛ لأنه بصياله ناقصٌ عهده؛ فتسقط حرمته، ويبقى كافراً صائلاً على مسلم، فإن قيل: أليس من الأصحاب من يقول: لا تنتقض الذمة بالقتل؟ قلنا: ذلك وجه ضعيف، ثم لا حرمة للذمة حالة القتال، والصيال. وعلى الجملة الاستسلام للكافر ذُلّ. 11245 - وتمام البيان في هذا أنه كما يدفع الصائلَ عن نفسه كذلك يدفعه عن قريبه وحميمه، وعن الأجنبي منه. وهل يجوز له ترك الذبّ، أم يجب عليه أن يبذل وسعه في الدفع عن غيره؟ فيه تردّدٌ للعلماء، وهو من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن

_ (1) وجه الاستدلال بالآية: أن الصبي والمجنون لا يبوءان بالإثم، فهما كالبهيمة من هذه الناحية. (2) وهذا الوجه هو الأشبه، كما عبر بذلك الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 11/ 315).

المنكر، والذي اختاره المحققون من الفقهاء أن ذلك يجري في حق الغير مجراه في حقه، لو كان هو المصول عليه. ويخرج من هذا وجوب الدفع عن الغير في قولٍ، وتحريمُ [تركه] (1). وعلماء الأصول اضطربوا في هذا، فذهب المحققون منهم إلى أن هذا محتوم على الولاة وأصحاب السيوف المرتصدين للذب عن الدين، فأما آحاد الناس، فلا يلزمهم هذا، ثم منهم من لم يجوّز شهرَ السلاح للدفع عن الغير، ومنهم من جوّزه فلم يوجب. وهذا لا يختص [أثره] (2) بصول الإنسان على غيره قاصداً قتله، فمن كان مُقْدماً على محرّم، فيمنع منه، فإن أبى، دُفع عنه، فإن أتى الدفعُ عليه، فهو على التفصيل الذي ذكرناه، حتى قيل: لو رأى رجلاً يرضّ رأسَ شاة الغير وقدر أن يمنع، فإن أبى (3)، دُفع، ثم الدفع لا موقف له إلا إهلاك القاصد. وكذلك لو كان يتعاطى الشرب أو غيره من المنكرات، فالقول على ما ذكرناه. والخارج من النظم أن السلطان لو دفع -[من ارتكب أو هم بارتكاب هذه لماثم] (4) - دفعه بالرّد إلى الطاعة، وأما آحاد الناس، ففي الفقهاء من يسلّطه على

_ (1) في الأصل: قتله، والمثبت من لفظ الإمام الغزالي في الوسيط. ونص عبارته بتمامها: المرتبة الثانية - ما يتعلق بحق الغير من أجنبي أو قريب -في الدفع- فحكمه ما سبق في الدفع عن النفس: وفي جواز ترك الذب، أو وجوب بذل المجهود في الدفع ترددٌ للعلماء مأخذه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واختار المحققون تنزيلَ ذلك منزلة ذبه عن نفسه، من غير فرق، ويخرج منه قول -لا محالة- في وجوب الذب وتحريم الترك، وأما الأصوليون، فإنهم قالوا: ذلك على الولاة محتوم، لا يسعهم تركه، ولا يجب على الآحاد قطعاً، وميل أكثرهم إلى أنه لا يجوز لهم شهر السلاح فيه أيضاً؛ لأن ذلك يجرّ خطراً وخبلاً، ومنهم من أباح، ولكنه لم يوجب، ومنهم من رمز إلى موافقة الفقهاء " (ر. البسيط: 5/ورقة: 146 شمال، 147 يمين). (2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل رسمت هكذا: " تارة " رسماً ونقطاً. (3) المعنى: إذا رأى رجلاً يتلف مال الغير، وقدر أن يمنعه، منعه، فإن أبى المتلِف دفعه بما يستطيع على التدريج المذكور في الدفع عن النفس، حتى لو وصل إلى هلاكه. ما بين المعقفين من المحقق، ولا علاقة له بما في الأصل، حيث استحال علينا إقامة عبارته،=

ذلك، وهذا لا يرتضيه الأصوليون. إلا أن قُربَ خطر الشرب؛ من حيث إن قصاراه لو استتمه جلدات، فإن أمر الدفع لو صح لا يؤخذ من هذا المأخذ؛ فإن الإنسان - كما سنذكر إن شاء الله تعالى- يذب عن ماله، والعبد يذبّ سيدَه عن نفسه، وإن كان قتلُ السيد إياه غيرُ موجب ضماناً عليه في قودٍ ولا قيمة. ولكن تمكين الناس من السيوف يجرّ خبلاً عظيماً. 11246 - فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الإنسان يدفع عن نفسه بكل وجهٍ [والكلام] (1) في وجوب الدفع. وهذه مرتبة. والمرتبة الأخرى - في الدفع عن الغير وهو مقصود بالقتل، أو بفاحشة الزنا، وهاهنا افتراق الفقهاءِ وأربابِ الأصول، كما قدمناه، وفي مسلك الأصوليين رمزٌ إلى موافقة الفقهاء. المرتبة الثالثة - في الدفع عن المنكرات والمحرّمات جُمَع سوى ما ذكرناه، والأصوليون مطبقون على أنه لا يجوز لآحاد الناس شهرُ السلاح، وذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه لا مبالاة بشهر السلاح إذا اقتضت الحاجة إليه. وهذا نجاز القول في هذا الأصل. 11247 - وإذا كان المصول عليه يدفع عن نفسه، وقد قلنا: إنه لا يجوز له أن يستسلم، فإن استمكن من الوصول إلى الخلاص بالهرب، فقد اختلف أصحابنا الفقهاء في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز المكاوحة (2) مع إمكان الهرب، فإن الغرض الخلاصُ بالأهون فالأهون، وإذا أمكن الهرب، فلا شيء أسلم منه. ومن أصحابنا من قال: يجوز الثبوت، ودفع الصائل، وهذا يُوجَّه بأن الصائل

_ =مع الاستعانة بمختصر العز بن عبد السلام، وبسيط الغزالي، وشرح الرافعي، وروضة النووي. فأدينا المعنى بألفاظِ من عندنا. وعبارة الأصل رسمت هكذا " لو دفع مراعمه الهام بامره ... دفعه ... إلخ " كذا تماماً رسماً ونقطاً. (انظر صورتها). (1) في الأصل: " الكلام ". (2) المكاوحة: المقاتلة والمدافعة (المعجم).

يبغي إزعاجه عن مكانه، فله ألاّ ينزع (1)، ثم يجر ذلك الدفعَ وارتفاعَ الحرجِ فيه. والوجهان يجريان على جواز الاستسلام أيضاً؛ فإنا أجريناهما على تحريمه، غير أنا إذا جوزنا الاستسلام، فالأوجه وجوب الهرب حتى لا يهلِك، ولا يورّطَ صاحبه في التسبب إلى الهلاك. 11248 - والذي قطع به الأئمة، أنه يجوز للإنسان الذبُّ عن ماله كما يذب عن مهجته. وقال بعض الأئمة: للشافعي في القول القديم أن الدفع عن المال إذا كان لا يتأتى إلا بقتل القاصد أو إتلاف عضو من أعضائه، فلا يجوز دفعه، وهذا وإن أمكن توجيهه في القياس، فهو بعيد في الحكاية. 11249 - وقد حان أن نبتدىء القولَ في تدريج الدفع. قال الأئمة: ينبغي أن يقع الدفع بالأهون فالأهون، حتى إن أمكن الدفع بالكلام، فلا مَعدل عنه، وإن أمكن الدفع بالَّلكْم، فلا يعلو بالسوط، ولا ينتقل عنه إلى العصا والمثقّلات. ثم بعد ذلك كله يَشْهَر السلاح. ثم [إذا قلنا:] (2) الاقتصار على الدفع، [فلو] (3) كان الصائل يندفع بسوطٍ -لو كان- فلم يجده المصول عليه، ولم يشتمل إلا من (4) سيفٍ أو سكين، ولو حذفه بالسيف، لقتله، فهذا فيه تردد؛ فإن الدفع ممكن من غير قتل. هذا وجه. ويجوز أن يقال: ليس يتأتى منه الدفع والحالة هذه إلا بما يجد، ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب السوط. والدليل عليه أن البصير الماهر بالسلاح يدفع صيال الصائل بوجوه لا [تأتي] (5) على الصائل، ولا [يستمكن] (6) منها كل أحد. ثم

_ (1) ألا ينزع: أي لا يترك مكانه، يقال: نزع عنه إذا تركه، ونزعه عنه أخرجه منه، وأبعده عنه. (المعجم). (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) في الأصل: " ولو ". (4) من بمعنى (على). وجاء على هذا قوله جل وعلا: " ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا " [سورة الأنبياء: 77]. (5) في الأصل: يتأتى. والمثبت من المحقق رعاية للمعنى. (6) في الأصل: " يستمد ".

عدم الإحاطة بتلك الوجوه في الدفع لا يسبب ضماناً على الدافع المقتصر على ما يحسنه، والأمر كذلك إذا لم يجد إلا آلة يعظم أثرها. وقد تمهد ابتدار الصائل، ووجوبُ الدفع، وجوازُه، ورعاية التدريج في الدفع. وألحق الأئمة بهذا الفصل الأخير من استلب مالاً، وولّى، فاتّبعه صاحب المال، فإن ألقاه، لم يتبعه، ولو اتّبعه، وضربه، ضمن، وإن تشبث بذلك المال المسلوب، يجاذبه، فجرّ الأمرُ مكاوحةً، فهو قصدٌ ودفع كما ذكرناه. فصل قال: " ولو عضه كان له فكُّ لِحييه ... إلى آخره " (1). 11250 - إذا عضّ رجل عضواً من إنسان، فله أن يسلّها، وإن كانت تندُر (2) ثناياه، وإنما فُرض البناء على هذا الفصل لورود خببر فيه. وروي: " أن رجلاً عض يدَ رجل، فانتزعها فندرت ثناياه، فارتفعت القصّةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنايا العاض، وقال له: أيدع إصبعه في فيك تقضمها، كأنه في في فحل " (3) فإن لم يتأت منه سلُّ العضو، فله أن يعمد (4) فكَّه بما يفكه، حتى يخلِّيه، فإن لم يستمكن من الخلاص إلا باستعمال السلاح في العضو الجاني، فليستعمله، وإن كان لا يتأتى الخلاص إلا باستعمال السلاح في غير ذلك العضو مثل أن يعض العاض على قفاه، بحيث لا تناله يداه، ولا يجد مخلصاً إلا بوضع السكين في بطنه، فالأصح أنه يفعل ذلك، وإن خطر لذي خاطر أن منتهى عضِّ العاض خدشٌ وإيلام، فلا نظر إلى هذا، وقد مهدنا جواز قتل من يقصد إنساناً في الدفع عنه. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يضع السلاح في غير العضو الجاني. وهذا

_ (1) ر. المختصر: 5/ 178. (2) تندُر: تسقط. (المعجم). (3) حديث " أن رجلاً عضّ يد رجل فانتزعها ... " متفق عليه من حديث يعلى بن أمية، ومن حديث عمران بن حصين (البخاري: الديات، باب إذا عض رجلاً فوقعت ثناياه، ح 6892، 6893. مسلم: القسامة والمحاربين، باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، ح 1673، 1674). (4) يعمد: يقصد.

الوجه وإن كان مشهوراً في الحكاية، فلا أصل له، والذي أراه أن ينزّل فيه (1) إذا كان القصد من الجاني لا ينتهى إلى قتلٍ أو فساد عضو. فإن كان ينتهى إلى ذلك، وكان لا يتأتى تخصيص العضو الذي منه الجناية بالدفع، فالوجه القطع بتسليط المصول عليه على الدفع الممكن، وإن ظن ظان أن الوجه الذي حكيناه يوجب أن يخص يدَ الصائل بالدفع إذا احتوت على قبيعة (2) السيف، فهذا خطأ في ظنه، فإن الضرب بالسيف وإن كان صادراً من اليد، فالتحامل مضاف إلى جملة البدن، والرِّجل تلي اليد في حاجة الإقدام، فذلك الوجه إذاً يختص في العضو أو القبض باليد على عضوٍ، بشرط ألا يؤدي إلى الهلاك، أو إفساد عضو. فصل قال: " ولو قتل رجل رجلاً فقال: قد وجدته على امرأتي ... إلى آخره " (3). 11251 - مضمون هذا الفصل يتعلق بأمرين: أحدهما - أن من وجد رجلاً كما وصفناه، وحاول دفعه، فأبى، فيتعلّق هذا بالدفع والصيال، كما تمهّد، فإن أتى الدفع عليه، كان هدراً، بكراً كان أو ثيباً، هذا إذا اتصل الأمر بالقصد والدفع. فأما إذا وجده بعده، فقتله، فإن كان رآه على حقيقة الزنا، وكان ثيباً، فهو هدر، وإن كان بكراً، وجب القصاص على القاتل، وإن اعترف بقتله، وادعى ما ذكرناه وكان محصناً، فإن لم يصدقه ولي القتيل، وأمكنه أن يُثبت الزنا ببينةٍ، فليفعل، وإلا فالقصاص واجبٌ عليه. وأبو حنيفة يقول من قتل زانياً محصناً من غير إذن الإمام، لزمه الضمان، والمسألة مذكورة في الخلاف. وقد قيل: لما نزل قوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] قال سعد بن عبادة: " أرأيت لو وجدت رجلاً مع امرأتي قدَدْتُه بالسيف

_ (1) ينزّل فيه: أي الصورة التي ينزل فيها هذا الوجه القائل: لا يجوز أن يضع السلاح في غير العضو الجاني. (2) قبيعة السيف: مقبضه. (3) ر. مختصر المزني: 5/ 178.

نصفين، قتلتموني أو تركتموني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون من غيرته، والله، لله أغير منه، ولأجله حرّم الفواحش " (1). فصل قال: " ولو تطلع إليه رجل من ثقب، فطعنه بعود ... إلى آخره " (2). 11252 - إذا تطلّع رجلٌ من صِير (3) بابٍ أو كوةٍ إلى حُرَم إنسان في الدار، ولا شبهة للناظر، فلا شك أن الذي جاء به جناية، وقد ثبت جواز قصد عينه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فلو رمى إليه بمِدْرى أو حجرٍ صغير، مثل حصا الخذف، فأصاب عينه، وأعماه، كان هدراً. هذا مذهب الشافعي. والمعتمد عنده في ذلك، ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الحجرة، وكان بيده مِدْرى يحك بها رأسه، فتطلّع إليه رجل من صِير بابه، وقال: لو علمت أنك تنظرني أو قال: تطرفني، أو قال: تنتظرني، لطعنت بها في عينك، وإنما جعل الاستئذان لأجل البصر (4)، وروي أنه كان [يخاتله النظر، ليرمي عينه بالمدرى] (5) قال الراوي: أو كأنه لا يبالي لو لم يصرف عينه أن يَطْعَن بها في عينه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من اطلع إلى قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه، فلا قود، ولا دية " (6). هذا معتمد المذهب.

_ (1) حديث سعد بن عبادة: " أرأيت لو وجدت رجلاً مع امرأتي .. " رواه مسلم من حديث أبي هريرة (ر. مسلم: كتاب اللعان ح 1499). (2) ر. المختصر: 5/ 179. (3) صِير الباب: شقه عند ملتقى الرتاج والعضادة. (المعجم). (4) حديث: " أن رجلاً نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صير الباب .. " متفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه (البخاري: الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر، ح 6241، مسلم: الآداب، باب تحريم النظر في بيت الغير، ح 2156). (5) ما بين المعقفين مكان عبارة مضطربة وألفاظ ملتبسة. والمثبت من لفظ الحديث. (6) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن حبان والبيهقي، من حديث أبي هريرة (ر. المسند:=

11253 - ثم الغرض من الفصل ينتجز ببيان فصولٍ: منها - أنا نشترط أن يكون الناظر قاصداً في نظره، فلو وقع بصره وفاقاً، ولم يتبين أنه جرّد قصده إلى النظر، أو إدامتِه، فلا يجوز قصدُ عينه. ومنها ألا يكون صاحبُ الدار مقصّراً، حتى لو كان باب الدار مفتوحاً، فنظر الناظر منه، لم يجز قصدُ عينه، فإن التقصير من رب الدار، وكذلك لو كان انهدم شيء من جدار الدار، فنظر ناظرٌ من تلك الثُّلمة، فلا يجوز قصدُ عينه. فأما النظر من صِير الباب، ومن كوة يُعتاد مثلها، فهو النظر الذي يسلّط على قصد العين. ومما نعتبره ألا يكون للناظر في الدار حُرَم، فإن كان، فلا يجوز قصد عينه، وإن كان لا يجوز له أن ينظر لجواز أن يكون في الدار حُرَمٌ لمالك الدار، ولكن ما له من الشبهة أسقطَ جواز قصد عينه. واختلف أصحابنا في صورتين: إحداهما - أنه لو لم يكن في الدار إلا صاحب الدار، أو رجالٌ معه، فإذا نظر الناظر، ففي جواز قصد عينه وجهان: أحدهما - لا يجوز، ووجهه بيّن؛ إذ لا حُرم. والثاني - يجوز؛ فإن النظر حرام، وإن لم يكن حُرَم؛ إذ الرجل قد يكون منكشفاً، وقد يريد أن يكون آمناً من الاطلاع عليه، فينبغي أن يُحسمَ الباب، والأحاديث المسلِّطة على جواز قصد العين ليست مقيَّدةً بالحُرَم. هذه واحدة. والصورة الأخرى - أن يكون في الدار حُرَم، ولكن اتفق كونُهن متسترات ببيت أو غيره، ولم ينته اطلاع الناظر إليهن، فهل يجوز قصد عينه والحالة هذه؟ فعلى وجهين، والأظهر هاهنا الجواز، لاشتمال الدار على الحُرم، ولا يدري أن الاطلاع قد يتفق [وحالة التستر هذه] (1).

_ =2/ 385، النسائي: القسامة، باب من اقتص وأخذ حقه دون السلطان، ح 4860، ابن حبان: 5972، البيهقي: 8/ 338، التلخيص: 4/ 160 ح 2152). (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

وهذه الصورة إذا ضمت إلى الأولى انتظم منهما ثلاثة أوجه: أحدها - جواز القصد، والثاني - منع القصد مطلقاً، وإن لم ينته النظر إلى حرم، والثالث - الفصل بين أن يكون في الدار حرم، وبين ألا يكون. 11254 - ثم إذا نظر الناظر حيث يجوز قصد عينه، فلا فرق بين أن يكون وقوفه في الشارع، أو في سكة منسدّة، أو يكونَ في ملكه الخالص، يعني ملك الناظر؛ فإن الجناية المردودة هي النظر، والنظر إذا امتدّ لم يختلف الأمر باختلاف موقف الناظر، ولا اعتذار له إذا ترك بصره منسرحاً إلى حرم غيره، بأن يقول: إني واقفٌ في ملكي، فيقال: فانظر إلى ملكك، وغُضَّ بصرك عن حرم الناس. 11255 - ثم ما صار إليه الأئمة في الطرق أن النظر إذا استجمع الشرائط التي ذكرناها، فيجوز قصدُ عين الناظر من غير تقديم إنذار، وفي الخبر ما يدلّ على ذلك؛ فإنا روينا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاتل الناظر يرمي (1) عينه بالمدرى؛ وفيه طرف من المعنى يليق بتمهيد الأصول، وهو أن الغرض من جواز قصد العين المنعُ من النظر، فإذا كان المنظور إليه يقدّم النذير، فينتحي الناظر، ثم يعود وقد قضى وطره من النظر بالنظرة الأولى. وقال القاضي: الذي أراه أنه ينذره، ويزجره عن النظر أولاً، ويجب ذلك، فإن لم ينزجر، قصدَ عينَه حينئذٍ. وهذا عند القاضي خارج على قياس الدفع؛ فإنه مبني على التدريج، والبداية بالأهون، فالأهون. وهذا الذي ذكره، وإن كان منقاساً، فليست المسألة مدارة على القياس، وإنما المتبع الأخبار، ولا تفصيل فيها، بل في بعضها ما يدل على جواز القصد من غير تقديم إنذار كما قدّمناه. قال صاحب التقريب في غير النظر: كل من قصد أمراً يسوغ دفعه عنه، فهل يجب على المصول عليه أن يقدم إنذاره أم يبتدىء الدفعَ فعلاً؟ من غير تقديم إنذار بالقول؟

_ (1) في الأصل: " له من " والتصويب من نص الحديث.

قال: هذا عندي مخرج على استتابة المرتد، وقد ذكرنا قولين في وجوب استتابة المرتد. وهذا الذي ذكره مما انفرد به، ولا بد فيه من تفصيل. وأما الأصحاب، أطلقوا (1) أقوالهم بأن الدفع إن أمكن بالقول، فلا معدل عنه إلى الفعل، ثم التمسك في الأفعال بالأيسر، فالأيسر؛ فالوجه أن نقول: [التعويل] (2) على الذي يكون تخويفاً أو زعقة على الصائل، إن أمكن الدفع به، فلا يجوز أن يكون في وجوب البداية به خلاف، والذي ذكره صاحب التقريب هو إنذارٌ لا يكون دفعاً في نفسه، ولكنه من قبيل موعظة أو ما يقرب منه، فانتظم إذاً في الإنذار في غير مسألة النظر كلام لصاحب التقريب، كما ذكرناه، وإن لم نوجب الإنذار في غير النظر، لم نوجبه في النظر، وإن أوجبناه في غير النظر، ففي وجوبه في النظر تردّد للأصحاب على ما حكينا طريقةَ الأئمة، واختيار القاضي. ثم مما يليق بتمام ذلك أنا إن لم نوجب الإنذار في سائر وجوه الدفع، فلا كلام. وإن أوجبناه، فتَرَكَه، وقَتَلَ الصائلَ، ضمنه، بترك تدريج الدفع، وليس كما إذا أوجبنا استتابةَ المرتدّ، فلم يستتب، وابتدر مبتدرٌ، فقتله؛ فإن الضمان لا يجب؛ من جهة أن الردة مُهدرة، وهي واقعةٌ، فجرّت الاستتابةَ ثَمَّ بعد الإهدار. 11256 - ثم قال الأئمة: إذا جوزنا قصْدَ عينِ الناظر، فيجب ألا يزاد على ما يقصد بمثله العين، كبندقة أو حصاة خفيفة. وأما إذا رشقه المنظور إليه بنشابة، فهذا قتلٌ، وليس قصدَ عين، ولا شك في تعلّق القود والضمانِ به. نعم. لو كان لا يتأتى منه قصد عينه، وكان لا ينزجر عن نظره، فإنه يستغيث (3) عليه، ويقطع نظره عن نفسه، فإن أبى، فحينئذٍ [يدفع عن نفسه] (4)، ولا يتألّى (5) بأن يأتي الدفع عليه.

_ (1) جواب أما بدون الفاء، وهو سائغ عند الكوفيين، وعليه جرى إمام الحرمين كثيراً، كما أشرنا من قبل مراراً. (2) في الأصل: " القول ". والمثبت تصرف من المحقق. (3) يستغيث عليه: أي يطلب الغوث. (4) في الأصل: " يدفع عنه ". (5) ولا يتألّى: أي لا يتحرّى ويجتهد أن يقتله. (المعجم).

11257 - ولو وقف الواقف بباب دارٍ، وكان يسترق السمع، فلا يجوز أن يَقصِدَ أذنَه، بخلاف ما إذا نظر؛ فإنه في استراقه السمع ليس يطلع على عورة، وإنما المحذور اتصال النظر بالعورات. هذا ما لا يجوز غيره. وقد قطع به القاضي لما سئل عنه، وفي بعض التعاليق عن شيخي تنزيل الأذن منزلة البصر. وهذا لم أسمعه، ولست أثق بمن علّق عليه ذلك فيما زعم، ولم أردّد هذا ليعتدّ به، ولكن نبهت على غلطةٍ عظيمة للعاثر عليه حقيقة. فرع: 11258 - إذا فتح رجل باب دار إنسان، ودخل داره، فلا شك أنه يُخرجه من الدار، فإن أبى، دفعه كما يدفعه عن ماله. ثم قال قائلون من أصحابنا: له أن يقصد عينه، لأنه متطلع ضامٌ إلى تطلعه هجومَه على الدار، وقال قائلون: يقصد رجله؛ لأنها المؤثرة، وإذا غلب أثرُ عضو خُصَّ بالدفع. وهذا عندي كلام سخيف لا أصل له؛ فإنه دخل الدار ببدنه، [فله] (1) قصدُ جملته. فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأصح قصدُ جملته، على التدريج المقدّم، ومن أصحابنا من أوجب تخصيص الدفع بالرِّجل. وهذا غلط. ومن جوّز قصد العين لا يوجب الاقتصار عليه وإنما الكلام في جوازه. فمن صائر إلى أنه يجوز، ومن صائر إلى أن تخصيص العين لا معنى له بعد ما ثبت دخوله، فهو الغالب، وعليه التعويل. وهكذا يجب أن ترتب المسألة. ...

_ (1) في الأصل: " فلو ".

باب ضمان البهائم

باب ضمان البهائم قال الشافعي رحمه الله: " الضمان على البهائم وجهان ... إلى آخره " (1). 11259 - مقصود الباب يحصره قسمان كما ذكره الشافعي أحدهما - القول فيما تتلفه البهائم إذا انتشرت، وليس معها ملاكها. والثاني - الكلام فيه إذا أتلفت شيئاً ومالكها معها. فإن لم يكن المالك معها، وكان سيّب البهائم وانتشرت في المزارع، وأفسدت منها، فالذي يبتني عليه الفصل أن مالك البهيمة إذا انتسب إلى التقصير في التسييب، ولا ينسب مالك الزرع إلى التقصير في الحفظ، فالضمان يجب على مالك البهيمة. هذا أصل الباب. وإن لم يكن من صاحب البهيمة تقصير في التسييب، وكان التقصير من صاحب الزرع في ترك الصَّوْن المعتاد، فلا ضمان. ومعتمد الباب: " أن ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائطَ قومٍ، وأفسدت زرعاً لهم، فرُفعت القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى بأن على أرباب الأموال حفظَها بالنهار، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل " (2). فما أتلفته البهائم

_ (1) ر. مختصر المزني: 5/ 179. (2) حديث ناقة البراء بن عازب وإتلافها الزرع ... ، رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي. (ر. الموطأ: 2/ 847، ترتيب مسند الشافعي: 2/ 107 ح 358، المسند: 5/ 435، 436، أبو داود: البيوع، باب المواشي تفسد زرع القوم، ح 3570، النسائي في الكبرى: العادية، باب تضمن أهل الماشية ما أفسدت مواشيهم بالليل، ح 5784، ابن ماجه: الأحكام، باب الحكم فيما أفسدت المواشي، ح 2332، الدارقطني: 3/ 156، ابن حبان: 5976، الحاكم: 48/ 2، البيهقي: 8/ 341، التلخيص: 4/ 162 ح 2155.

بالليل، فهو ضامن على أهلها: معناه فهو مضمون على أهلها. وهو كقولهم: سرٌّ كاتم. أي مكتوم. ثم قال الأصحاب: إذا تمهد المقصود، واعتضد بخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالرجوع فيما يكون تقصيراً من كل جانبٍ إلى العادات، والعادة الغالبة أن المواشي تسرح نهاراً في المراعي، وأرباب الزرع يحفظون زرعهم بالنواطير والحفظة المترتبين. ثم إن أرباب المواشي يردّدون مواشيهم إلى مرابضها، ولا يتركونها تنتشر ليلاً، فإن هي انتشرت، فالتفريط معزيٌّ (1) إلى ملاكها، ويلزمهم الضمان، حتى قال الأصحاب: إن كان العادة في بعض الأقطار على العكس من ذلك، فكانت المواشي ترسل ليلاً لترعى، وتربط نهاراً، والزروع تحفظ ليلاً، فالأمر ينعكس. والمتبع التفريط، كما ذكرناه. هذا أصل المذهب. وحكى الشيخ أبو علي قولاً: أنا نتخذ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجوعنا، فلا نعدل عنه، ولا ننظر إلى اختلاف عادات البلاد، فكل ما يقع نهاراً، فلا ضمان على ملاك البهائم، وكل ما يقع ليلاً، فعليهم الضمان؛ فإن تتبع العادات عسير، فالوجه البناء على غالبها، وترك المبالاة بما يندر. 11260 - ومما يتصل بما نحن فيه أن قائلاً لو قال: إن المواشي، وإن كانت ترسل نهاراً؛ فإنها لا تخلو عن راعٍ مراعٍ لها، ولا تسيّب من غير مراقبة، وإذا كان كذلك، فمن يرعاها يجب أن يكلأها، وقد تتسع المزارع حتى يعسر حفظها بالنواطير، وحفظ المواشي بالرعاة أقربُ في حكم الاعتياد. وهذا متجه إن راعينا العادة، والوجه فيه أن نقول: هذا قول من لم يُحط بوضع الفصل، فإنا قلنا: مضمون الباب قسمان: أحدهما - في بهائم مسيبة لا حافظ معها، والآخر - فيه إذا كان معها من يكلؤها. فإذأ فرض الفارض مواشٍ عليها راعٍ مالكاً كان أو أجيراً، فلا خلاف أن ما تُتلفه يجب الضمان فيه، على ما سنشرحه في القسم الثاني، إن شاء الله تعالى. فإذاً هذا القسم في بهائمَ لا راعي معها. فإن قيل تسييبها

_ (1) معزي: الفعل واوي ويائي: تقول: معزوّ ومعزي.

غير معتاد، فليس كذلك إذاً. وقد يعتاد التسييب في المواشي الممتنعة من صغار السباع كالإبل والبقر والخيل، وقد تسيب الأغنام حيث لا ذئاب ولا سباع، ففي مثل ذلك نقول: لا تفريط على المسيب. فإذا اندفع السؤال يتكرر التصوير، فلو صوّر مصوّر التسييب في الأغنام تضييعاً، ففي هذا نظر، فإن التضييع -إن كان (1) - آيل إلى الأغنام، فلا يُعد هذا عدواناً على المزارع، ولا أُبعد أن يفصل الفاصل بين أن تتسيب في مواتٍ بعيدةً عن المزارع، ثم يتفق انتشارها إلى أطراف المزارع، وبين أن يرسلَها في أطراف المزارع. فإن فعل ذلك من غير راعٍ، فإنها تنتشر، ويعد مثل ذلك تسبُّباً إلى إفساد الزرع. ومن اتخذ الخبر معتبره، لم يلتفت على هذه التفاصيل. 11261 - والمذهب الصحيح اتباع المعنى، وتنزيل الخبر على ما وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، وإذا كنا نتبع المعنى، فيبعد كلَّ البعد ألا ينسب أرباب المواشي إلى التفريط إذا أرسلوها في إيتاء (2) الزروع، وتركوها غيرَ مرعية؛ فإن هذا على القطع يخالف العادة، والوجه أن تبعد عن المزارع، ثم قد تتسيب إذا لم تكن في مشابع ومواضع يتوقع ضياعها، وأرباب الزرع يحفظون أطراف الزرع حتى لا تنعكس عليها المواشي المسيبة. ومما ذكره المفصلون المتبعون للمعنى: أن البساتين إذا كانت عليها أغلاقها، وأبوابها، أو كانت الزروع في محوطات على هذه الصفة، فالعادة جارية بردّ الأبواب، والاستيثاق بالأغلاق، فلو ترك أربابُ البساتين الأبوابَ مفتوحةً بالليالي، فانتشرت فيها المواشي، فقد قال الأصحاب: لا ضمان؛ تعويلاً على تفريط ملاك البساتين، ومعنى تفريطهم خروجُهم عن العادة، وتركُهم الاحتياط مع سهولة اعتياده. فإن قيل: فقد فرط أرباب المواشي في إرسالها أيضاً. قلنا: نعم. ولكن تضييع البساتين مستقلٌّ في إسقاط الضمان، ولا نظر بعد هذا إلى تفريط ملاك المواشي. ثم

_ (1) كان هنا تامة. والمعنى -كما هو واضح- إن وجد التضييع. (2) إيتاء: من آتى الزرع إيتاءً: إذا ظهر ثمره وكثر حمله. (المعجم).

لا تفريط في إرسال المواشي ليلاً في حق أصحاب البساتين إن جَرَوْا على الاعتياد، حتى لو لم يكن إلا البساتين، فلا تفريط في إرسال البهائم ليلاً، وإن كان في الموضع بساتين ومزارع ضاحية (1)، فإرسال البهائم تفريط في المزارع، وليس تفريطاً في البساتين. وقد تمهد أصل [المذهب] (2) فيما تتلفه المواشي إذا انتشرت، ولا حافظ معها. 11262 - ونحن نضبط القسم الثاني، ثم نذكر فروعاً، فنقول: إذا كان صاحب البهيمة معها، فالغالب فيما تتلفه البهيمةُ سبَق مفصلاً في الباب المشتمل على الأسباب المقتضية للضمان. ولكنا نعيد معاقد المذهب، فنقول: ما تتلفه البهيمة مما يُقدّر التصوّنُ عنه بالرعاية والحفظ، ولا ينسدّ به رِفقُ (3) الطروق، فهو مضمون. ثم قال الأصحاب: يضمن الراكب ما تتلفه البهيمة بيديها إذا [خبطت] (4)، وبرجليها إذا رَمَحت ورفست، وبفمها إذا عضّت، وقضَوْا بأنه يضمن بهذه الجهات إذا كان قائدها أو سائقها [معها] (5). وقد ضمَّنَّا ضبط المذهب قيوداً، وفي ذكر معناها تمام الغرض، فنقول: لا سبيل إلى منع البهائم من الطروق، ثم في طروقها فسادٌ لا سبيل إلى دفعه، ولا يمكن التحرّز منه، فإنها تثير الغبار لا محالة، ثم يتعلق بما يثور من الغبار ضِرار في ثياب البزَّازين، والفواكه وغيرها، ولكن ذلك محتمل، وقد ظهر الأمر في ذلك حتى انتهى إلى أن هذا لا يُعلم ضراراً إلا إذا رُدَّ النظر إليه (6)، وكذلك ممشاها في الشتاء، وكثرة الوحول والأنداء، تطيّر رشاشاً، لا يمكن دفعه بالتحفظ، فذلك القدر لا ضمان فيه؛

_ (1) ضاحية: أي ظاهرة ومكشوفة غير محوطة. (2) في الأصل: " المذاهب ". (3) رِفق الطروق: أي لا يمنع من سهولة المرور. (المعجم). (4) في الأصل: " اخطت ". والمثبت من عبارة الغزالي والرافعي وغيرهما. وخبطها: ضربها بيدها. (5) زيادة من المحقق. (6) أي إذا تأمله المتأمل.

فإن في تقدير الضمان فيه منعها من الطروق، وفي منعها [من] (1) المرافق التي يدنو بعضها من الضرورة ما يَبَرّ (2) على ضِرار رشاشها. نعم المفرط منه قد يمكن التصوّن منه، كأن يجري على رِفْق (3)، ولا يجري على مجتمع الوحول. وما يجرّ ضِراراً لا يمكن دفعه، ولكن مثله غير معتاد، فإذا جرى، تعلّق الضمان به. وبيانه أن الإبل تقاد مقطّرة، ولو تركت أرسالاً، واستَبقَت في الأسواق، لخرج أمرها عن الضبط، وإمكان التصوّن. ولكن هذا النوع لا حاجة فيه، فسبيله أن يمنع أصلاً. وكذلك الدابة النَّزِقَة التي لا تنضبط بالكبح والترديد في معاطف اللجام ولا يتأتى ضبطها، فلا جَرَمَ لا تركب في الأسواق، وينسب راكبها إلى الإتلاف؛ فإن مثل هذه الدابة تركب في متسع الصحراء، فما كان كذلك، فلا ضرر في منعه، فيمنع، فإن [اتفق] (4)، علَّقْنا الضمان به. [فما] (5) أمكن الضبط فيه إذا لم يتفق الضبطُ، تعلّق الضمان به، وما لا يمكن ضبطه بالتصوّن، ولو منعنا أصله، لانسدّت المرافق، فذاك محتمل لا ضمان فيه. وعلى صاحب الدابة بذلُ المجهود، وعلى صاحب المتاع صون المتاع. هذا ضبط هذا القسم، وقد مهدناه مطوّلاً مفصلاً فيما تقدّم. وهذا الكلام الوجيز ينبّه على جميع ما تفصل. فرع: 11263 - إذا انتشرت هِرَّةٌ لإنسان، وأهلكت طيوراً، أو عاثت في قدورٍ، فقلبتها، فقد اضطرب الأصحاب فيه، فقال قائلون: لا يتعلق الضمان بها، فإن العادة ما جرت بربط السنانير، وعمت العادة بحفظ الطيور والقدور وأمثالها عنها. ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان على صاحب الهرّة على الجملة؛ فإنه إن

_ (1) عبارة الأصل: " وفي منعها انقطاع المرافق ... ". (2) يبرّ: يزيد (المعجم). (3) رِفق: أي على مهلٍ واقتصاد في السير. (4) في الأصل: " اتفقت ". (5) في الأصل: " وإن ".

عسر ربطها، لا يعسر سدّ المنافذ حتى لا تنفذ منها إلى دور الجيران، ثم الذين أوجبوا الضمان اختلفوا: فقال قائلون: ما تتلفه نهاراً، فعلى صاحبها الضمان، وما تتلفه ليلاً، فلا ضمان؛ فإن الأشياء تحفظ عن الهرّ ليلاً، ولا يحتاط فيها نهاراً. فإذا تقدّر التلف نهاراً، فالتفريط غير منسوب إلى أصحاب الطيور وما في معناها. ومن أصحابنا من يعكس ذلك، فيقول: ما تتلفه ليلاً يضمنه ربُّها؛ فإن أكثر شرِّها وانتشارها بالليل، إذا نام الحفظة، والأعين الكالئة، فينبغي أن يحتاط ربها، وما تتلفه نهاراً، فالتفريط فيه على ملاك الطيور؛ من حيث غفلوا عن مراقبتها. وما ذكرناه في هرّة لا تعهد ضارية، فأما إذا ضَرِيتْ بالإفساد، وقتل الطيور، فأول ما نذكره فيها أنها إن كانت لم تقتل، وإن كانت مسيبة، فقد قال القفال: لا تُقتل أيضاً؛ فإن الاحتراس، والاحتراز منها ممكن، فتُدفع، فإن أتى الدفعُ عليها، فلا حرج. وقال القاضي: إذا ظهرت ضراوتها، وبان شرها في إهلاك الأموال والطيور، فيجوز قتلها كما يقتل الكلب العقور. ثم قال: لا يختص جواز قتلها بوقت ظهور شرها، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمر بقتل الفواسق في الحل والحرم " (1)، ولم يخصص بوقت بدوّ شرها، وشرُّها في الأموال أو في البهائم، فإن مما أُمر بقتله الغراب والحدأة، وإن كان شرهما في ضِرارٍ وفي أمور تتعلق بالمعايش. وهذا متجه، فإن اتفقت ضراوة الهرّة، التحقت بالمؤذيات، [فمساق] (2) هذا الكلام يتضمن جواز قتلها، وإن كانت ربيطة. وليت شعري ماذا نقول في الحدأة المَصِيدة التي اختص بها من اصطادها، وهي في قفصه أو رباطه، فهل يحلّ قتلها؟ الحديث يقتضي جوازَ قتلها، ولا يجري الملك فيها، كما لايجري الملك في الحشرات، ولا يحلّ إذاً على هذا اقتناؤها، بل على من يستمكن منها أن يقتلَها. وإن

_ (1) حديث " أمر بقتل الفواسق في الحلّ والحرم " متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح 1829. مسلم: الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، ح 1198). (2) في الأصل: ومساق.

بعد هذا عن فهم الناظر ضربت له اقتناء [الأسد] (1) مثالاً، وإن كان مربوطاً [مقيداً] (2)، فكذلك المؤذيات من الحشرات، فعلى هذا تقتل الهرّة، وإن كانت ربيطة. وقد انتظم لي من كلام الأصحاب أن الفواسق مقتولات؛ لأنه [لا] (3) يعصمها الاقتناء، ولا أثر للاختصاص فيها، ويلحق بها المؤذيات بطباعها، كالأُسْد والنمور، وما في معانيها. 11264 - وما لا يؤذي بطبعه، وفي جنسه ما يؤذي، والمؤذي منه يقبل التأديب، فإذا لم تكن مؤذية لم تقتل، وإذا اتفق فيها مؤذٍ، فإن كان عن وفاقٍ لا عن ضراوة، فتُدفع في وقت صيالها، ولا تُتْبع إذا أُتْلِفت، وما ظهر منها التولّع والضراوة، فإن كانت مسيبة ففي قتلها في غير حالة القصد كلام للقفال والقاضي، وفي قتلها وهي ربيطة على مذهب القاضي تردّد: يجوز أن تلتحق بالفواسق، ويجوز ألا تلتحق، وذكر بعض المصنفين أن الكلب العقور الضاري بالعَقْر، بمثابة الهرّة المؤذية، في التفصيل الذي ذكرناه. وهو غير سديد؛ فإنّ الكلب العقور إن لم يكن فيه منفعة، فهو بمثابة الفواسق، وإن كان فيه منفعة، فيشبه أن يكون كالهرّة في التفاصيل، وهي (4) على الجملة أولى بالقتل؛ لأن عَقْرها، وعدوانها عظيم. وقد يتعلق بالناس وكبار البهائم. فرع: 11265 - إذا اقتضت العادة ربطَ البهائم ليلاً، فربطها مالكها، ولم يقصر في الاحتياط المعتاد في الرباط، فانسلّت، فأفلتت وانتشرت، وأفسدت الزرع، فالحكم فيها كالحكم في الدابة المركوبة إذا حرنت وانسلت [من] (5) عِنانها في نفارها، وأفسدت، وقد تقدّم ذلك في باب الاصطدام.

_ (1) زيادة من المحقق على ضوء كلام الغزالي، ونصه " وكذلك نقول بقتل الحدأة المحبوسة في القفص، وكأنه لا ملك في الفواسق، ولا ينفع الاقتناء في الأسد، والذئب، والنمر، ويجوز قتل الكل في الحل والحرم بكل حال " (ر. البسيط: 5/ورقة: 149 شمال). (2) في الأصل: " مقدماً ". (3) زيادة من المحقق، وهي ثابتة في عبارة الغزالي، وفيما نقله الرافعي والنووي من عبارة الإمام. (4) كذا في الأصل وفي البسيط للغزالي بنفس الألفاظ، والضمير (وهي) يعود على جمع الكلاب. (5) زيادة اقتضاها السياق.

فرع: 11266 - إذا دخلت البهيمة المزرعة، فهيجها صاحب الزرع، فوقعت في زرع الجار، قال الأئمة: إن اقتصر على تنفيرها من زرع نفسه، فلا ضمان عليه، وإن اتبعها بعد الخروج من زرعه حتى أوقعها في زرع الجار، توجّه الضمان. ولو كانت مزرعته محفوفة بمزارع الناس، وكان لا يتأتى إخراجها إلا بإدخالها مزرعة الغير، ولم يكن طريقٌ ومسلك إلا دخول زرع الغير، والمزرعة متصلة بالمزرعة، فسوق الدابة، وإخراجُها، وإدخالها في مزرعة الغير، وليس للإنسان أن يجعل مال غيره وقاية مال نفسه، فإنْ فَعَلَه كان ظالماً -والمزارع ليست لصاحب الدابة، حتى تنتشر الظنون وتتقابل الخيالات- فالذي أراه أن هذا الطارد المخرجَ للدابة مهلكٌ لزرع الغير على سبيل المباشرة، وترْكُ البهيمة تنتشر سببٌ من مالكها، والمباشرة تغلب السبب، فعلى صاحب الزرع أن يترك البهيمة، ثم يُغرِّم صاحبَها ما تتلفه. وينشأ من هذا أن البهيمة لو انتشرت انتشاراً مضمَّناً في مزرعة إنسان، وتمكن المالك من طردها، فتركها حتى أفسدت، فالذي يليق بمضمون الباب أنه يطردها، فإنّ ترك الطرد مع التمكن تضييع، وإذا كنا نحط ضمان زرعه لتركه الباب مفتوحاً؛ من حيث إنه مضيع، فالذي يليق بما نحن فيه أنه بترك الطرد مُضيِّع. فإن قيل: ما بال الأروش تتعلّق برقبة العبد، ولا تتعلق برقبة البهيمة حيث يتعلّق الضمان بفعلها؟ قلنا: الضمان في البهيمة محالٌ على تقصير المالك، والبهيمة كالآلة، والعبد ملتزمٌ ذو ذمة، وأقرب ما يؤدي منه ما يلزمه رقبتُه. فإن تُصوّر عبدٌ أعجمي يضرى ضراوة السبع، فهل يتعلق الأرش برقبته؟ خلافٌ قدّمناه في الأصول السابقة. فرع: 11267 - إذا وقفت الدابة، فبالت وراثت، فالبول منها والروث لا يتعلّق بهما ضمان في الممرّ، وهذا لا سبيل إلى دفعه، فأما إذا اتفق مزيد انتشار بسبب وقوف الدابة، فقد قال الأصحاب: إن كان الطريق ضيقاً (1)، فوَقْف الدابة عدوان،

_ (1) الطريق يذكر في لغة أهل نجد، ويؤنث في لغة الحجاز.

وما يترتب عليه يقتضي الضمان، وإن كان الطريق واسعة، فَوقْفُ الدابة معتاد، ووقوفها كمشيها. وهذا عندنا يلتفت على مسألة في باب الاصطدام، وهي إذا اصطدم الماشي بالواقف، فهل ينسب إلى الواقف عدوانٌ؟ فيه كلام، وما ذكرناه منزل عليه. فرع: 11268 - إذا كان يسوق دابة عليها حطب فتخرَّق به ثوب، فإن كان الذي تخرق ثوبه بصيراً مقابلاً، ووجد مُنْحَرَفاً، فلا ضمان، فإن التقصير منه، وإن كان مستدبراً، فإن أعلمه سائق الدابة، فلم يتحرز، فلا ضمان، وإن لم يعلمه حتى تخرق ثوبه ضمن؛ فإن الإعلام في مثل ذلك معتاد. ***

كتاب السير

كتاب السِّيَر 11269 - السِّيَر جمع السِّيرة (1)، والكتاب مترجم بالسير، فإن الأحكام المودعة فيها متلقاة من سِيَر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته. والسِّير من سار يسير. والفِعلة للهيئة كالجِلسة (2) والقِعدة، والرِّكبة. والسنةُ: الطريقة. فأحكامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمهيدُه الشرعَ شُبّه بالطريقة الموضحة، ووقع التعبير عنها بالسيرة أخذاً من السَّيْر. والأصل في الكتاب القرآنُ، وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم، والإجماع. قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] وقال تعالى في آية أخرى {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] والآيات المشتملة على الحث على قتال المشركين كثيرة. وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " (3) وسِيَرُه في مغازيه أصل الكتاب. وأجمع المسلمون على أنا مأمورون بمجاهدة الكفار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأموراً بالمتاركة والاقتصار على الدعوة والصبر على الأذى، والدفع بالتي هي أحسن. والآيات الواردة في هذه المعاني كثيرة، فلما هاجر إلى المدينة، وكثر المسلمون، وعظمت الشوكة، أُمرنا بالجهاد، فشمَّر لله تعالى ذبّاً عن الدين، واستحث أصحابه على مجاهدة الكافرين، فتتابعت الغزوات، وكان الحرب سجالاً ينال المسلمون، ويُنال منهم. ثم أظهر الله تعالى دينه، ونصر نبيه، وهزم الأحزاب، ومهّد الأسباب. 11270 - وذكر الشافعي في السِّيَر الكبير، المشاهيرَ من غزواته صلى الله عليه

_ (1) مثل سِدْرة وسِدَر. (2) في الأصل: " والجلسة ". (3) حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " سبق تخريجه.

وسلم، فنذكرها تأسياً بما ذكره الشافعي. والحاجة تمسّ إليها لإيضاح التواريخ، وإسناد الأخبار إليها، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرواية الظاهرة بمكة ثلاثَ عشرةَ سنة، فلما هاجر إلى المدينة لم يجر في السنة الأولى قتال، وجرت في السنة الثانية غزوة بدر، واتفقت في الثالثة غزوة أحد، وفي السنة الرابعة اتفقت غزوة ذات الرقاع، وفي السنة الخامسة غزوة الخندق، وفيها قَتَل عليٌّ عمرو بنَ وُدّ، وهزم الله الأحزاب بالريح، وجرت في السنة السادسة غزوة بني النضير، ومُرَيْسيع، وفيها قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فصُدّ من الحُديبية. ثم في السنة السابعة جرى فتح خَيْبر، وعاد إلى مكة وقضى العمرةَ، وفي السنة الثامنة فتح مكة، وسار إلى هوازن، واتفقت خَرْجته في السنة التاسعة إلى تبوك، وفيها أقر أبا بكرٍ على الحجيج، فحج بهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا همّ بغزوة وَرَّى بغيرها، ولم يورِّ في غزوة تبوك، بل باح حتى يأخذ الناس أنفسهم لبعد المسافة، واتفقت تلك الخَرْجة في شدة الحر، وبالغ في استحثاث المسلمين وتحريضهم، ونهيهم عن التثبيط، وقيل صحبه في تلك الخَرْجة ثلاثون ألفاً، وتخلف عنه أقوامٌ. والمتخلفون ثلاث فرق: المنافقون، والمسلمون الذين كانوا لا يجدون أهبة الخروج، وتخلّف قادرون أيضاً استثقالاً للخروج في الحرّ. وهؤلاء كانوا ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، [ومُرارة بن الربيع] (1)، فنزل على الجملة في شأن المخلَّفين قولُه تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ... } [التوبة: 120]، ونزل في شأن المنافقين: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81]. وأمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يُصغي إلى كلامهم إذا رجع إليهم، ولا يأذن لهم في الخروج، فقال عز وجلّ: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ

_ (1) في الأصل: وأبو لبابة. والتصويب من كتب السيرة، وحديث الثلاثة المخلفين متفق عليه، ولم يذكر أحد أبا لبابة فيهم. وتابع الغزالي شيخه في البسيط فجعل أبا لبابة الثالث مكان مرارة بن الربيع.

فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} [التوبة: 83] فقال المنافقون: إن محمداً يجرّنا ويحرمنا الغنائم، فنزل قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ ... } [الفتح: 15]، ونزل في شأن الثلاثة الذين تخلفوا مع القدرة ووجود الأُهبة: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ... } [التوبة: 93]، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يعتذروا خجلاً واستحياءً، وربطوا أنفسهم على سواري المسجد، وقالوا: " لا نَحُلُّ نفوسنا حتى يَحُلَّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أَحُلُّهم حتى يَحُلَّهم الله عز وجلّ " (1)؛ فنزل قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ... } إلى قوله تعالى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 117، 118] ونزل في بيان العاجز عن الخروج قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ... } [التوبة: 91]، وقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ... } [التوبة: 92]. وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حجةَ الوداع، وفيها نزلت آية التكميل، وعاش صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى حجه اثنين وثمانين يوماً، واتفقت له غزوات ليست من المشاهير، وهي مذكورة في المغازي. ثم إن الشافعي أكد في صدر الكتاب طرفاً من أحكام الهجرة، والرأي ألا نخوض فيها؛ فإنها ستأتي مجموعة في باب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وذكر من لا يكون من أهل فرض الكفاية في الجهاد، ورأيت هذا الفصلَ لائقاً بالباب الذي يلي هذا الباب؛ فأخرته إليه. ...

_ (1) هذه الآية التي أشار إليها الإمام قبلاً وهذا الحديث ليسا في الثلاثة الذين خُلفوا، فلم يكن منهم ربطٌ في سواري المسجد. وإنما كان الربط من أبي لبابة رضي الله عنه، واختلف في شأن هذا القصة، هل كان وحده أم ربط آخرون أنفسهم معه على خمسة أقوال، كما اختلف في شأن الواقعة هل كانت في غزوة تبوك أم في بني قريظة. (ر. تفسير الطبري- طبعة الشيخ محمود شاكر: 14/ 446 - 452، الدر المنثور: 2/ 487 - 489، دلائل النبوة للبيهقي: 5/ 270، الذهب المسبوك في تحقيق روايات غزوة تبوك لعبد القادر حبيب الله السندي: 112 - 123).

باب من له عذر بالضعف والضرورة

باب من له عذرٌ بالضعف والضرورة 11271 - الجهاد ينقسم فيقع فرضاً على الكفاذية، وقد يتعين، وجرت منا إحالات على هذا الكتاب في إيضاح فروض الكفايات، ولا بدّ من الوفاء بالمواعيد [ببسطه، ولو بسط؛] (1) فإنه من أعظم أركان الإيالة. ولكنا نذكر معاقدها ومأخذها، وننبه بذكر جُملها على تفاصيلها، ومعظم مسائلها مفرّقة في الكتب. والغرض المطلوب هاهنا التعرضُ للجوامع. فنقول والله المستعان: المنشأ الكلي به للفرائض الثابتة على الكفاية أن الله تعالى فطر الدنيا داراً، وأجرى فيها ابتلاءً وامتحاناً واختباراً، وأسكنها آدم وذريته عُمَّاراً، وأراد إبقاءهم إلى انقضاء عمر الدنيا، فقدر أرزاقهم، وقيض لها ملكاً دوّاراً وسحاباً [مدراراً] (2)، وقدّر أرزاق الخلائق على ما شاء وأراد، وأثبت الشرائع تكاليفَ على العقلاء، ولولاها لتهالكت (3) الناس، وتعطلت [الأرزاق] (4)، على ما أوضحنا ذلك في مفتتح الكتاب، ثم تنشَّأت في قاعدة التكاليف فروضُ الكفايات في الأمور الكلية المتعلقة بمصالح الدين والدنيا، فأما ما ينشأ من أصل الدين، فالقيام بإدامة فرض دعوتين: حجاجية وقهرية، فأما الحجاجية، فعمادها العلم، والقهرية هي الجهاد في سبيل الله تعالى. وأما ما يتعلق بالمعاش ومصالحها (5)، فقد قيض الله تعالى الأسباب وألهم الخلائق ما يستصلحون به معايشهم في الحراثة والبيع والشراء، وما في معانيها وجبل النفوسَ

_ (1) في الأصل: " ببسط لو بسط ". (2) في الأصل: " حدرارا ". (3) تهالكت: أي أهلك بعضهم بعضاً (صيغة تفاعل من هلك). (4) في الأصل: (الارا) كذا تماماً. (5) ومصالحها: أي الدنيا.

على التشوف إليها، حتى لم [يحوَج] (1) حملةُ الشريعة على استحثاث [أهل] (2) الدنيا على عمارتها، وتهيئة ما فيها من أسباب المكاسب. وقال المحققون: لو فرض انكفاف الخلق عنها، لحَرِجوا من حيث إنهم يكونون ساعين في إهلاك أنفسهم. والمناكح من الأمور الكلية، وبها بقاء النوع، فلا حاجة إلى الاستحثاث عليها؛ فإن النفوس مجبولة على التشوف إليها. 11272 - ثم إذا تبين أصل الغرض في الدعوتين (3)، فبعدهما أمور كلية تتعلق بالإدامة والإبقاء، وهذا ينقسم: إلى مصالح الأبدان، وإلى مصالح الأديان. فأما مصالح الأديان بعد ظهور الإسلام في الخِطة، فيتبعها فنٌّ يترجم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو كتابٌ برأسه لم يهتم به الفقهاء، وبسَطَ مضمونَه الأصوليون، والحاوي لمقاصد هذا الكتاب (4): الأمر بواجبات الشرع، والنهي عن محرّماته. وذلك شطران: يتعلق أحدهما بالولاية، وهي الأمور القهرية، وأحكام الإمامة. ولا نطمع في الوفاء بها. والشطر الآخر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير مكاوحة وشهر سلاح، فهذا على الناس كافة، إذا علموا صدَرَ (5) أقوالهم عن ثبت، ولا يشترط أن يكون القائم بذلك مجتهداً؛ إذ يتعلق بالولاة أمر العلماء ونهيهم (6)، وإذا زاغوا،

_ (1) في الأصل: " يحرج ". (2) زيادة اقتضاها السياق. ومعنى العبارة: أن الله فطر العباد على التشوف للتملك، والكسب، وإصلاح المعايش، فلم يَحْتج علماء الشريعة وحملتها إلى جهدٍ في حث أهل الدنيا على عمارتها، والسعي في ابتكاراتهم وسائل وطرق الارتزاق والمكاسب، فكان في هذا الاستحثاث الفطري مندوحة عن فرض ذلك وإيجابه عينياً: أي فرض عين، فكان من فروض الكفايات. (4) الدعوتين: المراد ما يتعلق بمصالح الدين، ومصالح الدنيا، وليس الدعوتين المشار إليهما آنفاً: الدعوة الحجاجية، والدعوة القهرية. (5) أي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (6) صدر: أي صدور، كما أشرنا مراراً من قبل. (6) المعنى أن العلماء يأمرون الولاة، وينهونهم، ويبيّنون لهم، وهم يرتسمون أمر العلماء في=

أقام العلماء أَوَدَهم (1). فهذا ما يتعلّق بالأديان. 11273 - وما يتعلّق بالأبدان سترُ العراة وإطعام الجائعين، وكفُّ الأذى عن [المغبونين] (2)، وإغاثة المستغيثين، فكل ما ينتهي إلى الضرورة، ففرضٌ على الكافة القيام به. ثم اختلف أرباب الأموال فيما فوق سدّ الضرورة إلى تمام الكفاية التي يجب نفقته على من يلتزم النفقة. فقال قائلون: يتحتم الكفاية [في] (3) ذلك حتى لا يبقى ذو حاجة. وقال آخرون: المفروض على الكفاية إزالة الضرورة، وما ذكرناه (4) بعد تفريق الصدقات على المستحقين، وبعد أن يشغُر بيتُ المال عن السهم المُرْصد للمصالح العامة، فإذ ذاك يثبت فرضُ الكفاية على أصحاب الثروة والمقدرة. ثم ألحق الشرع احترام الأبدان بعد الموت برعايتها في الحياة، فأوجب -على الكفاية- التجهيزَ، والمواراة على هيئة الاحترام، ثم ثبت بالشرع -غير مستندٍ إلى هذه (5) - الأمرُ بالغُسل والصلاة، فليسا من شرائط الحرمات الحالّة محلّ ضرورات الأحياء، ولكن المتبع الشرعُ. [وما يؤدي إلى شهر السلاح- إذا تعاطاه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلا ينتصب له إلا الإمام، ثم الذين يلونه من جهته، يلتحقون بالتشمير في الأمر بالمعروف] (6).

_ =أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فليس إذاً من شرط الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون مجتهداً. (1) أَوَدَهم: أي اعوجاجهم. (2) في الأصل: المغرين. والمثبت من المحقق. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) وما ذكرناه أي من فرض إزالة الضرورة، أو تمام الكفاية، يكون بعد انتهاء السهم المرصد للمصالح العامة في بيت المال. (5) غير مستندٍ إلى هذه: المعنى: أن غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه ثبت بالشرع، ولم يثبت مستنِداً إلى هذه الكليات التي نسند إليها فروض الكفايات. (6) ما بين المعقفين صياغة كاملة مستوحاة من كلام الغزالي في البسيط، وهي مغايرة لعبارة الأصل=

والقيامُ بتحمل الشهادة وإقامتها من فروض الكفايات، وهو متعلق بمعاونة القضاة في الإنصاف وطلب الانتصاف، وله تعلّق بإصلاح المعايش (1). 11274 - ثم ثبت في الشرع شعائر ظاهرة، ولو فُرض ارتفاعها، لشاع منها انطواء الصدور على استهانة. وهي منقسمة إلى ما هو من فروض الكفايات، وإلى ما اختلف العلماء فيه، فأما ما يلتحق بفروض الكفايات، ممّا يقع قبيلُه فرضَ عين -[وألحقه] (2) الأئمة بهذا- إحياءُ الحَرَم في السنة بالحج. وأما ما اختلف العلماء فيه، فكالتأذين، والجماعات للصلوات في غير يوم الجمعة، وكل هذا مذكور على الاستقصاء في أماكنها. 11275 - ثم ثبت فرضٌ على الكفاية لا تضبطه الكليات التي أشرنا إليها، ولكنه متلقى من إجماع الفقهاء، وهو ردّ السلام، وقد جرى رسم الفقهاء باستقصاء القول في هذا الكتاب. ونحن نتأسى بهم هاهنا. فنذكر أولاً بعد ذكر هذه الجوامع حقيقةَ فروض الكفايات، ثم ننعطف عليها، ونلقُط منها ما نرى استقصاءَ القول فيه للإيفاء بهذا الكتاب، وهي: الجهادُ، وطرفٌ [صالح] (3) من تعلم العلوم، واستقصاء القول في السلام وردّ الجواب، فأما باقي الفروض، فمنقسمة، بعضها مستقصاة، وبعضها شطره فيما يأتي، إن شاء الله عز وجل. 11276 - فنقول: فرض الكفاية كما نبهنا عليه، يتعلّق بالأمور الكلية، وغرضُ الشارع تحصيله في عينه، وفرض العين يتعلق بالشخص المتعيَّن له، والغرض تكليفه

_ =التي رأيناها غير مستقيمة، وقدرنا بها سقطاً، وهي: " وانتصاب الولاة والإمام أولاً ثم الذين يلونه من جهته ملتحق بالتشمير الأمر بالمعروف والقيام بتحمل الشهادة ... إلخ ". (وانظر البسيط: 5/ورقة: 151 يمين وشمال). (1) عبر الغزالي عن ذلك، فقال: إن تحمل الشهادة وإقامتها مركب منهما، أي مما يتعلق بالدين وما يتعلق بالدنيا. (2) في الأصل: " ألحق ". (3) في الأصل: " مصالح ".

به، فالمعين معني بالفرض، وفرض الكفاية معني بالتحصيل. ثم إذا قام به من فيه كفاية، سقط الفرض عن الكافة، فإن تعطل حَرِج بتعطيله المطالبون به، والقول في ذلك يطول، ولكنا نذكر مقداراً مقنعاً، فلا تعويل على قول من يتكلم بما لا يحيط بحقيقته. فنقول: إذا تعطل فرض كفاية في قُطْر حَرِج أهلُ الخِطة، وليس هذا مذهباً لذي مذهب، ولكني ذكرت ما يتفاوض به الأغبياء، حتى أعقبه بذكر الحق، فإذا عُطِّل فرضٌ من فروض الكفاية، حَرِج بتعطيله المطالَبون بالبحث عنه، فينال الحرج الخبير (1)، ثم يتعدى منه؛ من جهة ترك البحث إلى أهل الحارة، ويختلف هذا بكبر البلدة، وصغرها، وإذا بلغ تعطيل فروض الكفايات مبلغاً تتقاذف السمعة بها إلى البلاد، فعليهم أن يسعَوْا في التدارك. فإن لم يفعلوا نالهم الحرج، وهكذا على التدريج الذي ذكرناه إلى أن يعم الخِطة، ولا يتحقق هذا بفرض وفروضٍ معدودة. وحقُّنا الاقتصارُ على التنبيه. 11277 - ثم قال المستقلّون بالعلوم الكلية: ينبغي أن يكون. أرباب القيام بفروض الكفاية على التبادر إليها، لا على التواكل فيها؛ فإن ذلك يجرّ التعطيل لا محالة. ومما لا نجد بُدّاً من ذكره في ذلك أنه لو قام بفرضٍ جمعٌ، والفرض كان يسقط ببعضهم، فلكلّهم مقام القيام بالفرض، فإنهم اشتركوا أولاً في الصلاح لها، ويشتركون آخراً في الحرج لو تعطل على التدريج الذي ذكرناه، فإذا لابسوه، لم يكن البعض منهم أولى بالاتصاف بإقامة الفرض. نعم، وقد تعرض مسائل فقهية مرّت مستقصاة في مواضعها، ونحن لا نكتفي بالإشارة إليها: منها أنه لو صلى على الميت جمعٌ وقَضوا الصلاة، ثم صلى جمع آخر، فإذا لم نمنع ذلك، فالوجه أن نجعلهم بمثابة المقارنين الأولين في الصلاة؛ فإن التنفل بصلاة

_ (1) كذا قرأناها على استكراه. وهي صحيحة -إن شاء الله- فقد وجدناها في عبارة الغزالي، إذ يقول: " فمن لا اطلاع له عليه، وهو معذور في ترك البحث لا يحرج، فيأثم به الخبير، ويتعدى منه إلى أهل الحارة ممن ترك البحث ". والمعنى يأثم من خبر وعرف، ثم يليه من ترك البحث وقصّر في عدم المعرفة. (ر. البسيط: 5/ورقة: 151 شمال).

الجنازة لسنا نرى له أصلاً في الشرع، وقد تقصيت هذا في الجنازة، وهذا إنما يفرض في صورة نادرة؛ فإن [إيقاع] (1) الجماعة ليس مما يفرض تكريره، وكذا ما في معناه. وعلينا أحكام كلية في فروض الكفايات، ونحن نجري ما لا بد منه في الأصول التي سنلقطها، ونخصها بالبيان، إن شاء الله، فهذا منتهى الغرض في ذلك. وقد حان أن نفي بالكلام في الجهاد، ثم في العلم، ثم نختتم الكلام بالقول في السلام. 11278 - فأما القول في الجهاد؛ فإنه يثبت فرضاً على الكفاية، ويثبت فرضاً على الأعيان، فأما حيث يكون فرضاً على الكفاية، فهو إذا كان الكفار قارّين في ديارهم غيرَ متعلّقين بأطراف ديار الإسلام، فمقاتلتهم فرض على الكفاية، ثم قال الفقهاء: يتعين على الإمام أن يقيم في كل سنة قتالاً مع الكفار، ويجب أن يُغزي إلى كل صوب منهم جنداً إذا أمكن ذلك، وزعموا أن فرض الكفاية يسقط بقتال واحدٍ في كل صوب، كما سنفصل هذا إن شاء الله، وتمسكوا فيه بأن السنة مدّةُ الجزية، فلا يجوز تعريتها عن الجهاد. والمختار عندي [في] (2) هذا مسالكُ [الأصوليين] (3)، وهم لم يَرْوا التخصيص بالسَّنة، ولكن رأَوْا أن الجهاد دعوة قهرية، فيجب إدامته على حسب الإمكان والإطاقة، حتى لا يبقى إلا مسلمٌ أو مسالم، والذي ذكره الفقهاء محمول على ما يجري به العادة الوسط من طرفي العجز ونهاية الإمكان، والغالب أن الأموال والعُدد لا تواتي لأكثر من تجهيز جندٍ في كل صوب. والرجال إذا اصطلَوْا بنار القتال، ونالوا ونيل منهم، فلا يعودون هم ودوابّهم إلى الاستعداد التام إلا في مدة السنة، ومجالب الأموال جارية في الغالب على هذه المدة، فالوجه تنزيل كلام الفقهاء على ذلك.

_ (1) في الأصل: " اتساع ". (2) سقطت من الأصل. (3) في الأصل: " الأصوليون ".

فأما إذا أمكنت العُدّة، وكثر الجند، ورغب المطّوّعة، والكفارُ يجد الإمام منهم في أوساط السنة الغِرّةَ، واستشعار [الفشل] (1) فلا يليق بالقواعد الكلية، وقد تجمعت الأسبابُ تعطيل الفُرص، وهي تمرّ مرّ السحاب، فلا وجه إلا هذا. ثم القول في هذا يتعلق بمفاتحتهم بالقتال، وبالاحتراس عنهم، فأما الاحتراس، فتجب إدامته بلا فتور، وذلك بعمارة الثغور، وإعداد الكُراع والأسلحة، ونصب المرابطين. ومما يليق بما نحن فيه أن الاكتفاء بنفس الجهاد لا سبيل إليه، ولا وفاء ببث الأجناد في جميع أطراف ديار الكفار؛ فإن التمكن من هذا عزيز الكون نادر الوجود، ولكن ينبغي أن يكون شوفُ الإمام إلى أن يغزي إلى كل جهة من الأجناد ما ينشر منهم النكاية أو الرعب في ذلك القطر، وإن أمكن من استئصال شأفة الكفار في رقعة الأرض، فليفعل، وإن لم يتمكن من إغزاء جنود، فليبدأ بالأهم فالأهم. هذا أصل القول في ذلك. 11279 - وقد اختلف الفقهاء في أن الجهاد هل كان متعيناً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، أم كان فرضاً على الكفاية؛ فقال قائلون: كان متعيناً عليهم، وكان النَّافرون مقيمين للغزو، والمقيمون بالأمر حارسين للمدينة، وكانت ثَغْرَ (2) الإسلام. وقال قائلون: تعيّن الجهاد على ذوي النجدة منهم، لكثرة الكفار، وقلة المهاجرين والأنصار. وقال قائلون: كان يتعين على الذين يعينهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستجيبوا. فإن حملنا الأمر على هذا الوجه على القلّة، فلا اختصاص؛ فإن ذلك قد يفرض

_ (1) في الأصل: " القتل ". وهو تصحيف واضح. والمعنى أن يجد منهم غرة وفشلاً. أي تفرقاً وعجزاً. (2) ثغر الإسلام: أي عاصمة الإسلام.

في زماننا، كما سنصفه إن شاء الله عز وجل. وإن قلنا: كان الغزو فرضاً عليهم من غير علّة ولا قلة، فهو إذاً خاصِّيّة، ولا يكاد يثبت هذا بنقلٍ موثوق به، ولا باستفاضةٍ تغني عن النقل. ولو عين الإمام في زماننا قوماً، فحقٌّ عليهم أن يذعنوا، فإنهم لو سلّوا أيديهم عن الطاعة، لانتثر النظام، وتزعزعت القاعدة، فلا بد إذاً من ارتسام مراسم الإمام. ثم إنه يرعى فيهم بصفة المناوبة، ولا يتحامل على طائفة بتكرير الإغزاء مع ترويح الآخرين وتركهم إلى الدَّعة. فإذا تعلّق الكلام بمحض أحكام الإمامة، فالأولى الانكفاف. وأجمع موضوع لنا في أحكام الإمامة، مع الإيجاز والتنصيص على غوامض أحكام الأئمة الكتاب المترجم (بالغياثي). 11280 - فإذا تمهد ما ذكرناه من فروض الكفاية فإنا نذكر على الاتصال بهذا المنتهى الصفات المرعية فيمن يكون من أهل هذا الفرض. والكلام في ذلك يتعلّق بقسمين: أحدهما - في الصفات التي تعدّ من اللوازم، والثاني - الكلام في الأعذار الطارئة. فأما القول في اللوازم، فالعبد ليس من أهل فرض الكفاية في نفسه، وإن أمره مولاه بأن يقاتل، فما الرأي فيه والأمرُ من المولى جازم؟ والوجه أنهم لا يلزمهم طاعته؛ فإنهم ليسوا من أهل هذا الشأن بأنفسهم، والمِلك لا يقتضي التعرّض للهلاك، فليس القتال من الاستخدام المستحَق للسيد على العبد المسترقّ، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف، وإذا لم نوجب الدفع على المسلم المقصود (1)، على التفصيل الذي قدّمناه للفقهاء، فلا يجب على العبد أن يدفع عن سيده، إذا كان في الدفع مُعرضاً نفسه للهلاك، ولا أثر للملك في هذا الباب، ولا حظ للسيد في دم عبده، على معنى أن يعرضه للتلف. نعم له استصحاب عبده ليخدمه في السفر ويسوسَ الدابة، كدأبه في الظعن والإقامة.

_ (1) المقصود: المراد هنا المقصود بالصيال والعدوان عليه. فهو يسمى المقصود والمعتدي يسمى القاصد.

والمرأة ليست من أهل هذا الشأن، والكلام في فروض الكفاية. والصبي غيرُ مكلف، والمجنون كالبهيمة. وقد قال عبد الله بن عمر: " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعَ عشرةَ سنة، فردّني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنة، فأجازني في المقاتِلة " (1). والذمي لا نخاطبه بمجاهدة الكفار، فإنه بذل الجزية لنذب عنه، لا ليذب عنا. فإذاً إنما يكون الشخص من أهل فرض الكفاية في الجهاد إذا كان بالغاً عاقلاً حراً مسلماً ذكراً. فهذا قولنا في هذا القسم. 11281 - فأما الموانع الطارئة، فنحن نأتي عليها واحداً واحداً، ولا نلتزم الجريان على ترتيب (السواد) حتى يتمهد أصل الكتاب. فمما يجب اعتباره الزاد والراحلة، فلا يكلف الإنسان أن يمشي مجاهداً، كما لا نكلّفه أن يمشي حاجاً، وهذا في المسافة الطويلة، فأما إذا قرب المسافة، فلا أثر للرَّحل فيها مع الأيْدِ والقوة، ولا بدّ من نفقة الذهاب، وإن كان ذا أهلٍ وعَيْلة، فلا بدّ من إعداد النفقة لهم. وقال المحققون: لا بدّ من نفقة الإياب إذا كان الرجل ذا أهلٍ وولد، على حسب ما ذكرنا في سفر الحج، ولا يجوز غير ذلك. فإن قيل: هلا قلتم: لا تعتبر نفقة الإياب؛ فإن هذا سفرُ الموت، فلا ينبغي أن يبنى على توطين النفس على الإياب. قلنا: لا سبيل إلى إلزامه توطينَ النفس على الموت، والأصل بقاؤه، وهو الذي يحدّث الإنسان به نفسَه، ولو لم يكن معه أهبة الرجوع، لجرّ ذلك تشتتاً في الرأي، وانكساراً في المُنّة. وإن لم يكن له أهل، ففي اشتراط نفقة الإياب في الحج وجهان، وهما جاريان في سفر الغزو، ولا يبعد ترتب الوجهين في الغزو على الوجهين في الحج؛ من جهة أن

_ (1) حديث عبد الله بن عمر: " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ... " متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 253 ح 1223).

المعتمد في اشتراط نفقة الإياب في الحج الميل إلى الوطن، وهذا ضعيف في أصله، فيتناهى وهاؤه في سفر الغزو. 11282 - ومما يشترط في هذه السفرة العُدّة والسلاح، فإنها عتاد القتال، وذكر الأصحاب فرقاً بين سفر الغزو وسفر الحج، والقول فيه إذا كان الغزو فرضَ كفاية، فقالوا: يشترط في وجوب سفر الحج أمن الطريق، ولا يشترط ذلك في سفر الغزو؛ فإن الغزاة على المخاوف مصيرهم، ومصادمتها مقصودهم. وهذا فصله المحققون من الأصحاب، فقالوا: إن كانت المخافة من طريان طلائع الكفار، فالأمر كذلك، وإن كان الخوف من المسلمين المتلصصين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا لا نشترط زوال هذا الخوف. والثاني - أنا نشترط ذلك، فإن من تطيب نفسه بملاقاة الكفار ربما لا يطيب نفساً بملاقاة المسلمين. والصحيح الذي [إليه ميلُ] (1) النص والأئمة أنا لا نشترط ذلك؛ فإنّ قصد المتلصصة من فروض الكفايات، ولعله أهم. 11283 - ومما تجب مراعاته الديون، فإن كان على الرجل دين حالّ، فلا بَراح ما لم يقض الدين، إلا أن يرضى صاحبُ الدين، ثم في ذلك نظر، فإن أبرأه مستحق الدين، فلا دين، ولا نظر، وإن لم يُسقط الدين، ولكن رضي، فله الخروج. وهل يلتحق بأصحاب فرض الكفاية؟ فيه احتمال وتردّد، والأظهر أنه يلتحق بهم. ولو كان الدين مؤجلاً عليه، فإن أراد المسافرة إلى غير الغزو، مثل أن يريد الحج أو غيره من المآرب التي لا تُبنى على مصادمة المَتالف والمَخاوف، فليس لصاحب الدين أن يمنعه، ولكن إن أراد الخروج معه ليطالبه إذا حلّ الدين، فليفعل على شرط ألا يُداوره مداورة الملازم؛ فإن ذلك غير جائزٍ في الديون المؤجلة، ولا فرق بين أن يقرب إليها الأجل أو يبعد، ولا يعتبر ما بقي من الأجل بالأمد الذي ينتجز في مثله السفر، وكل ذلك متفق عليه، ولا مطالبة ولا مؤاخذة قبل الأجل. فأما سفر الغزو، فإنه مُخطِر، ولو فرض القتل، فيحلّ الدين، والترتيب في ذلك أنه إن خلَّف هاهنا وفاء بالدين، فلا منع، وإن لم يخلف وفاء بالدين، فهل لمستحق

_ (1) في الأصل: " أميل إليه النص والأئمة ".

الدين منعُه من الخروج؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه لا يمنعه؛ لما مهدناه من أن المطالبة لا تحل قبل حلول الأجل وإذا لم تكن مطالبة، فلا مؤاخذة، ولا اعتراض. والوجه الثاني - أن له أن يمنعه لما أشرنا إليه، من ابتناء السفر على المصير إلى مصرع الموت. وذكر بعض الأصحاب وجهاً فيه إذا خلّف وفاءً أن له أن يمنعه أيضاً، وهذا على نهاية الضعف والبعد. فينتظم ثلاثة أوجه: أحدها - لا منعَ، وهو الأصح. والثاني - له المنع من غير تفصيل، وهو أضعف الوجوه، والثالث - أنه إن ترك وفاءً لم يمنعه. وقال قائلون من أئمتنا إذا كان من عليه الدين من المرتزقة، فلا يمنع؛ فإنه مترتب لهذا الشأن، بخلاف ما إذا لم يكن من المرتزقة، وإذا ضممنا هذا التفصيل إلى الأوجه التي قدمناها، صارت الأوجه أربعة. هذا منتهى القول فيما يتعلّق بالديون، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في معركة القتال يوماً: " من وضع سيفه في هؤلاء مقبلاً غير مدبر، حتى قتل، فله الجنة ". فقال بعض الأنصار، وكانت بيده تمرات يأكلها: " ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ورمى بالتمرات، واخترط سيفه، وكسّر غمده، وانغمس في العدوّ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا أن يكون عليك دين، فعاد وانغمس حتى قتل " (1). فهذا ما يتعلّق بالدين. 11284 - ومما تجب رعايته في الخروج إلى الجهاد الموصوف بكونه فرض الكفاية رضا الوالدين. قال الشافعي: " وبإذن أبويه لشفقتهما " (2). فنقول: إذا كان أبواه مسلمين، لم يكن له الخروج إلى الجهاد دون إذنهما.

_ (1) حديث " من وضع سيفه في هؤلاء مقبلاً غير مدبر ... " رواه مسلم: الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، ح 1885، الترمذي: الجهاد، باب ما جاء فيمن يستشهد وعليه دين، ح 1712، النسائي: الجهاد، باب من قاتل في سبيل الله تعالى وعليه دين، 3157 - 3160، وأحمد (5/ 304). (2) ر. مختصر المزني: 5/ 181.

والأصل فيه ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أريد أن أجاهد معك، فقال صلى الله عليه وسلم: " ألك أبوان؟ فقال: نعم. قال: فكيف تركتهما؟ قال: تركتهما وهما يبكيان. قال: ارجع إليهما، وأضحكهما كما أبكيتهما " وفي بعض الروايات: " ففيهما فجاهد " (1). وهذا الذي ذكرناه متفق عليه، وهذا محتوم ليس من قبيل الاستحباب، فلا بدّ من رضا الوالدين إن كانا مسلمين. فأما إذا كانا مشركين، لم يفتقر الخروج إلى الجهاد إلى إذنهما؛ لأنه يجاهد أهل دينهما. وقد قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15]؛ مَنَع من طاعتهما في أصل الشرك، وكذلك الجهاد مع أهل الشرك. وقد غزا أبو حذيفة عبدُ الله بنُ عتبة بنِ ربيعة، مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه كان كافراً من كبار قريش، ولا شك أنه كره ذلك. وغزا عبد الله بنُ أبي بنِ سلول مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفى كراهةُ أبيه؛ فإنه كان يخذّل [الأجناد] (2)، حتى خذل ثلث الجند عام أحد، فكيف كان يرضى بخروج ابنه. هذا قولنا في سفر الغزو الواقع فرض كفاية، فأما إذا استجمع الابن الأوصاف المعتبرة في استطاعة الحج، فلا خلاف أنه يجوز له الخروج، وإن سخط أبواه؛ فإنه منتهض لسفرة متعينة عليه، وليست سفرة الموت، وإن كان وقوع الموت متوقعاً في كل نفس. 11285 - فأما الخروج لطلب العلم، فسنذكر تفصيلاً في طلب العلم، ولكن ننجز هاهنا ما يتعلّق بالسفر، حتى تجري الأسفار في نظام التفصيل الذي نريده.

_ (1) حديث: " ألك أبوان؟ ... قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ". وفي رواية: " ففيهما فجاهد ". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم (أبو داود: الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، ح 2528، النسائي: البيعة، باب البيعة على الهجرة ح 4168. ابن ماجه: الجهاد، باب الرجل يغزو وله أبوان، ح 2782، الحاكم: 4/ 152) أما رواية: " ففيهما فجاهد " فمتفق عليها (البخاري: الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، ح 3004، مسلم: البر والصلة، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، ح 2549). وانظر التلخيص: 2/ 552 ح 1115، و 4/ 172 ح 2179، 2180. (2) في الأصل: " الأجانب ".

فإن أراد الرجل أن يسافر لطلب العلم المتعيَّن عليه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- فلا يحتاج إلى الاستئذان، فإذا كنا لا نعلّق سفرة الحج بالإذن مع أنه يقبل التأخّر، فسفر التعلم فيما لا بد منه أولى بألاّ يفتقر إلى الإذن. فأما الحظّ الذي يتعلّق من العلم بإفادة الغير، وهو الترقي إلى رتبة المجتهدين، فالتفصيل فيه أنه إن كان في القطر والناحية من يستقل بالفتوى، فخروج الإنسان ليس خروجاً يندرىء به الحرج، فإن الحرج مرفوع باستقلال مُفتي الناحية، فهل يجوز الخروج ليكون هو من جملة المفتين أيضاً من غير إذن الوالدين؟ فعلى وجهين: أصحهما - الجواز؛ فإن الإنسان مطلقٌ لا حجر عليه، فلو حرمنا عليه الخروج دون رضا الوالدين؛ لكان ذلك مفضياً إلى حبسه ومنعه من الانتشار في أرض الله تعالى، سيّما إذا كان يبغي رتبةً شريفة، ودرجة منيفة، والغالب أن نفوس الأبوين لا تطيب بفراق الولد. وما ذكرناه في سفر الغزو في حكم المخصوص الذي يُتّبع فيه ولا يقاس عليه، وفيه اختصاصٌ بالمصير إلى مصرع الموت، فيكثر لأجل ذلك تحرز الأبوين، وهذا لا يتحقق في سائر الأسفار، هذا إذا كان الخروج بحيث لا ينال من تركه حرج. فأما إذا كان الفتوى معطلة، فالحرج ينبسط على كل متأخر عن التشمير، فإذا ابتدر من فيه رُشد، وهو يدرأ عن نفسه الحرج، فلا حاجة إلى استئذان الأبوين بلا خلاف، ويلتحق هذا بالعلم المتعيّن. وإن خرج أوْ همّ بالخروج أقوام، وكان هو من الهامين بالخروج، والفوزُ برتبة الفتوى غيبٌ، فلا يُدرى من ينالها، فالأصح أنه لا يحتاج إلى الاستئذان أيضاً، وفيه وجه بعيد أنه لا بدّ من استئذانهما، فإن في الناهضين كثرة، فإذا كان هو أحدَهم، وليس على ثقة من الفوز بالمراد، فقد يظن الظان أن [تنجيز] (1) برّ الوالدين أولى. فانتظم في العلم مراتب: أحدها - الخروج لطلب العلم المتعين، وليس فيه اشتراط الإذن، والثانية - الخروج لنيل رتبة الفتوى، وفي البلد من يستقل بها، وفيه

_ (1) في الأصل: " تنجّز ".

خلاف مشهور، والأقيس جواز الخروج من غير إذن. والثالثة - أن يتخلف الناس عن طلب العلم، وينتهي الأمر إلى لحوق الخروج [بالخروج للعلم المتعين] (1)، فلا حاجة بالخارج إلى الإذن. والرابعة - أن ينتهض للطلب منتهضون، فمن له أبوان هل يحتاج إلى الاستئذان؟ فيه وجهان: أصحهما -أنه لا يحتاج، والوجه الآخر - ضعيف. والقول في تفصيل العلم يأتي إن شاء الله. 11286 - فأما إذا أراد الإنسان الخروج لتجارة أو غيرها من الأغراض، فقد أطلق القاضي أن الأسفار المباحة لا بد فيها من إذن الوالدين، وهذا كلام مبهم، فلا شك أنه أراد السفر الطويل؛ فإن الخروج للنُّزه وغيرها دون مسافة القصر مطلقة قطعاً، وأما الأسفار الطويلة، فإن كان فيها تعرّض لخوفٍ ظاهر، فلا بد من إذن الأبوين، كسفر الجهاد، بل هو أولى بالافتقار إلى الإذن، لأنه ليس فرضاً على الكفاية. وركوب البحر فيه تفصيل قدّمته في كتاب الحج على الشرائط المعروفة فيه، فقد يظهر إن لم نوجبه للحج، فلا بد لراكبه من إذن أبويه، وإن أوجبنا ركوبه لسفر الحج على الشرائط المعروفة فيه، فقد يظهر أنه يجب اعتبار رضا الوالدين، في السفر المباح في البحر؛ لأن شفقتهما إذا انضمت إلى ذكر أهوال البحر، ثار منها ما يثور منهما في سفر الجهاد. والعلم عند الله تعالى. فأما الأسفار في البر والطرق آهلة، والأمن غالب، فالذي أراه أن ما لا يطول فيه زمان الذهاب والإياب، وإن كان يبلغ مرحلتين وأكثر، لا يحرم، وما يطول فيه الأمد، ففيه احتمال، ويجوز أن ننظر إلى الخروج إلى المواضع التي تتواصل الرفاق إليها قاصدة [وإلى] (2) ما لا يتصوّر ذلك فيه، وهذا بمثابة الخروج إلى الرّبى (3). هذا لا يعدّ سفراً منقطعاً. والخروج إلى مصرٍ انتهاضٌ إلى بقعة لا يتواصل الرفاق

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: إلى (بدون الواو). (3) إلى الربَى: أي إلى المتنزهات.

إليها، فيكون ذلك سفراً منقطعاً، ويقرب التحرز فيه من التحرز في سفر الجهاد، وينضم إلى هذا القبيل أن السفرة ليست واجبة في نفسها. فخرج مما ذكرناه أن السفر القصير لا يجب أن يكون فيه خلاف. والسفر الطويل المباح على التردّد في كل صورة. وإن استبعد مستبعد وجوب استئذان الأبوين، فإني أخشى أن يكون هذا من استمرار الإلف بالاستبداد بالنفس، وحكم الدين طلبُ البر بالوالدين. قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... } الآية [الإسراء: 23]، وفي الآية لطيفة لا يتفطّن لها إلا موفق، وهي أنه تعالى أبان أنه لا معبود غيره، ثم ذكر برّ الوالدين على أثر عبادته، ونبه على أنه تِلوُ عبادته تعالى، ومن أدنى آثار ذلك طلب رضا الوالدين في الأسفار المباحة. وهذا منتهى الأمر في ذلك. وليس يبعد عندي إلحاق الأجداد والجدّات بالوالدين فيما ذكرناه من اشتراط الرضا، ولا يبعد تنزيل الأبوين الكافرين منزلة المسلمين في غير سفر الدِّين، يعني الأسفار المباحة، والأمور الدنياوية. 11287 - ومما يُرعى في الجهاد الواقعِ فرضَ كفاية المعاذيرُ التي تتصف النفوس بها. قال الشافعي في صدر الباب: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ... } الآية [التوبة: 91]. وقد أبنَّا أنها نزلت في طائفة من المتخلفين عن غزوة تبوك للضعف والعجز، وقد نزلت آيتان في سورتين، وصيغ الكلام فيهما متقاربة، والمقصود مختلف. قال الله تعالى في سورة النور: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وقال في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح: 17]. والمراد برفع الحرج في سورة النور أنه لا حرج على الموصوفين بالعلل التي ذكرناها في مؤاكلة من ليس لهم تيك العلل، فللأعمى أن يؤاكل البصير، وإن كان قد لا يتأتى منه مراعاة الأدب في تقدير اليد وإعمالها فيما يليه، ولا يخفى أن الأدب أن يأكل الإنسان مما يليه، وقد روي: " أن ابن عباس كان يؤاكل رسول الله صلى الله عليه

وسلم في صغره في جفنة فيها ثريد، فمد يده إلى ما يلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله [يده] (1) وقبلها، وردّها إلى ما يليه، وقال: كل مما يليك " فلما رفعت الجفنة أحضرت تُميرات، فالتزم ابن عباس الأكل مما يليه، فلطف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " كل من حيث شئت، فإنها غير لون " (2) وروي مطلقاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تأكل من ذروة الطعام؛ فإن البركة في أعلاها " (3)، فلا حرج على الأعمى في مؤاكلة البصير، وفي لطف معنى الآية أمر البصير بألا يتبرّم بمؤاكلته. ثم قال الشافعي: قال الله تعالى: {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} وهذا يحمل على سوء جلسة الأعرج في المؤاكلة، وقد يتأذى به من على جانبه، فرفع الله الحرج على المعنى الذي ذكرناه، حتى لا ينزجر من به العرج، ولا يتبرم السليم. وقال عز من قائل: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وهذا على المعنى الأول، ثم قال تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61]، وأظهرُ مقال في ذلك: رفعُ الحرج في أكل الإنسان وحده، وقد ورد في الأخبار: " شر الناس من أكل

_ (1) سقطت من الأصل. (2) حديث " أن ابن عباس كان يؤاكل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغره في جفنة فيها ثريد فمدّ يده إلى ما يلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ " أصل هذا المعنى موجود من حديث ابن أم سلمة المشهور في الصحيحين " يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك ". ولكن بهذه السياقة التي ذكرها الإمام لم نجده عن ابن عباس، وإنما هو عن عِكراش بن ذؤيب والحديث رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وابن ماجه، والطبراني في الكبير، وقد ضعفه الألباني. (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 1313، الترمذي: الأطعمة باب ما جاء في التسمية على الطعام، ح 1848، ابن ماجه: الأطعمة باب الأكل مما يليك، ضعيف ابن ماجه للألباني، ح 705، الطبراني الكبير: 18/ 82). (3) حديث " لا تأكل من ذروة الطعام ... " رواه عن ابن عباس أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الأطعمة، باب في الأكل من أعلى الصحفة، ح 3772، الترمذي: الأطعمة باب ما جاء في كراهة الأكل من وسط الطعام، ح 1805، النسائي في الكبرى، ح 6729، ابن ماجه: الأطعمة باب النهي عن الأكل من ذروة الثريد، ح 3277).

وحده " (1) وهو مفسر بتمام الحديث، إذ قال: " ومنع رفده ". ثم قال تعالى {أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ} [النور: 61]، فعدّ الأقارب. وظاهر الآية أن من أكل من طعام المسلمين إذا دخل بيوتهم، فلا حرج. وللآية معنيان: أحدهما - أن يحمل الأمر فيه على العموم، وكأن المراد كونوا كذلك، [ولْتسمح] (2) نفوسكم، فإنه سبب التداخل والتوادّ. هذا وجه. والثاني - أنه تعالى أراد الذين تطيب نفوسهم إذا عوملوا بذلك، فأما من لا تطيب نفسه، فلا يجوز ذلك معه. وذكر الله تعالى الصديق، ومعناه يخرج على الوجهين، روي أن سفيان بن عيينة حضر جماعةٌ من الأصدقاء داره، وكان غائباً، والباب مغلق، ففتحوا الباب، ودخلوا ووضعوا السفرة وجلسوا يأكلون، فدخل عليهم سفيان، فأخذ يبكي، فقيل له: ما يبكيك، فقال ذكرتموني صحبة أقوام مضَوْا، وعاملتموني معاملة الصالحين، ولست منهم. هذا بيان آية المؤاكلة. 11288 - وأما الآية التي في سورة الفتح، فهي في الجهاد. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ ... } إلى آخر الآيات والمراد بالآية رفع الحرج عن هؤلاء المعذورين المذكورين في سياق الآية. ونحن في الجهاد الذي يقع فرضاً على الكفاية، فالأعمى (3) لا يتصدّى لهذا، وكذلك الأعرج. أطلق الأصحاب هذا تعلّقاً بظاهر القرآن، وقال العراقيون: إن كان القتال على صورة الترجّل، فالأعرج لا يندب إليه في إقامة فرض الكفاية. وإن كان القتال [ليس] (4) على صورة الترجل، فإن العرج لا يؤثر في حق الفارس. والذي صرح به المراوزة أنه محطوط عنه التصدّي لفرض الكفاية في الجهاد؛ لأن الراكب قد يُحوَج في مضايق القتال إلى الترجل، وعقرُ الدابة وعِثارها ليس من النادر، فمن لم يكن مستقلاً إذا نزل، فهو على غرر. هذا هو القول في العرج، وكان شيخي

_ (1) خبر " شر الناس من أكل وحده " لم نقف عليه. (2) كذا قرأناها على ضوء السياق، وحروفها المتداخلة. (3) في الأصل: " فالمعنى ". (4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

يقول: هذا في العرج البين. فأما إذا كان يغمز الرجل، وكان به أذى ظَلْع، فلا أثر له، وهذا عندنا مضبوط بما لا يظهر له أثر في محاولة المكاوحة، ومداراة القرب في الترجل للقتال. ثم قال عز من قائل: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} والمراد من به مرض يعجزه عن الانتهاض والاستقلال بالقتال أو كان على حالةٍ يتأتى منه القتال وجوداً، ولكنه يفضي إلى أنه يعجِز أو يهلك. فإن قيل: ليلتزم القتالَ، ثم إن مات منه، فليكن شهيداً، كما لو استشهد في المعترك. قلنا: الظاهر عندنا أنه لا يكون كذلك، فإن مَنْ به من المرض ما وصفناه، فالظاهر أنه في أثناء الأمر يعجِز ويقتل ذلاً (1) ويصير دريئة لرماح الكفار، وليس للقتال منتهى يضبط، فقد يتمادى، وقد ينجلي على القرب. هذا هو الذي يظهر عندنا، والله المستعان. وقد انتجز القول في المعاذير التي رأيناها ملتحقة بالقسم المشتمل على ما يطرأ، وقد مضى القول فيما رأيناه معدوداً من اللوازم. وكل ما ذكرناه في الجهاد الواقع فرضاً على الكفاية. 11289 - فأما القتال الموصوف بكونه فرضَ عين، فقال الفقهاء في تصويره: إذا وطىء الكفار طرفاً من بلاد الإسلام، تعين دفعهم، وأتى نقلةُ الفقه بتخاليط، وأمور تشعر بقلّة الدراية، فنَلْقَى في الكتب أنه يتعين على كل من بلغه الخبر من المسلمين أن يطيروا إليهم جماعاتٍ ووحداناً، حتى ينجلوا، وليس الأمر كذلك، على هذا الإطلاق. ونحن نذكر المسلك الحق ونفصله، فنقول: أولاً - أما أهل تلك الناحية، فيتعين عليهم الدفعُ إذا استولى عليهم الكفار، ثم لِما ذكرنا من الدفع معنيان لا بدّ من تصوّرهما، والوقوف عليهما: أحدهما - التأهب للقتال إذا تمكن منه أهلُ الناحية، وقدروا على التجمع والاستقلال، وأخذ أُهَب القتال. هذا وجه في معنى الدفع

_ (1) كذا. ولعلها: هدراً. أو هزلاً. أي بدون فائدة وعائدة على الجهاد وجيش المسلمين.

نذكره، ونستقصي ما فيه، إن شاء الله تعالى. فإن كانوا لا يقاومون ولا يحدّثون أنفسهم بالمقاومة ما لم يتأهب معهم العبيد، فحق عليهم أن يتأهبوا، ولا حاجة إلى مراجعة السادة؛ فإنهم يدفعون عن الناحية ديناً، وبهذا يتبين أن العبد من أهل القتال والاشتغال به. وأما النسوان والحالة هذه فإن لم يكن فيهن مُنّة، فلا معنى لتأهبهن، ولعل حضورهن يجرّ على المقاتلة شرّاً إذا [جدّ الجدّ] (1). فأما إذا أمكن استقلال الرجال الذين هم أهل فرض الكفاية، قبل أن يطؤوا ديارنا، وأمكن أن يُصطلموا، [ولا ثقة] (2) بعواقب الأمور في الحروب (3)، ولو اعتضدوا بالعبيد، لقويت القلوب، وعظمت المُنَّة، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن العبيد ينطلقون ولا يراجعون السادة، وحق عليهم ذلك. والثاني - لا يفعلون؛ إذ الكفاية مقدّرة في غيرهم. والعبيد ليسوا من أهل الكفاية. والكفار قارّون، فلا يتعين عليهم القتال. وإذا وطئوا بلادنا، وهذا فيه إذا أمكن استقلال الأحرار، فإن لم يكن، فالأمر على ما ذكرناه من القطع بتعين القتال عليهم. ولو كان في نسوة أهل الناحية قوة ودفاع، فهن كالعبيد في التفصيل الذي ذكر. هذا وجه في معنى الدفع. وحاصله يرجع إلى [أنه] (4) الدفع عن الناحية والانتهاض لإخراجهم من الأرض التي وطئوها. 11295 - المعنى الثاني - أن يبغت الكفار المسلمين بحيث لا يتأتى من المسلمين أن يتأهبوا، فحقٌّ على كل من وقف عليه كافر أو كفار أن يدفع عن نفسه بأقصى ما يقدر

_ (1) في الأصل: " وجد الجد ". (2) في الأصل: " أو لا ثقة ". (3) الصورة هي: أن يكون في الرجال من أهل فرض الكفاية قدرة على ردّ الكفار وردعهم، ويكون الكفار لم يصلوا إلى دار الإسلام بعد، ولكن لا ثقة بمجريات المعارك والحروب فاحتمال أن ثدور الدائرة على رجالنا أهل الكفاية قائم مرتقب، ولو خرج العبيد لقويت المنة، فهل يخرج العبيد في هذه الصورة؟ (4) في الأصل: " أن ".

عليه، إذا كانوا يعلمون أنهم يُقتلون لو أُخذوا. وهذا يعم الأحرار والعبيد والنساء. وإن كان لا يبعد أن يؤسروا ثم [لا يتسبب] (1) الأسر إلى طلب الفكاك، ولو أظهروا امتناعاً، لقتلوا، فهذا ركن من فصل الهزيمة على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل. والذي نذكره هاهنا أن القتل إذا كان متحققاً، وهو مع الاستسلام؛ فإن المكاوحة استقتال في هذا المقام، وإن علمت المرأة أنها لو استسلمت، لامتدت إليها الأيدي، ولو بذلت جهدها في الدفع؛ قتلت، فيظهر أن نُلزمَها الدفعَ؛ فإن من أكره على الزنا، لم يحل له الإقدام إليه ليدفع القتل عن نفسه، ويجوز أن يقال: إذا كانت غيرَ مقصودة بالفاحشة، وإنما تظن ذلك إذا سبيت، فلها الاستسلام في الحال في الأسر. ثم إن تمكنت من الدفع عند القصد (2)، دَفَعت. هذا قولنا في أهل الناحية. 11291 - ومن تمام الكلام فيه أن أهل الناحية لو كان فيهم كثرة، وكان في خروج البعض كفاية، فابتدر من فيه كفاية، فظاهر المذهب أنه يتحتم على الباقين أن يخرجوا أيضاً، والسبب فيه أن هذه عظيمة من العظائم اشتد [حث] (3) الدين على دفعها، فلو لم تزد على حدّ الكفاية، لما حصل غرض الشرع، ولكانت هذه الواقعة بمثابة ما لو كان الكفار قارّين في ديارهم. وإذا كان لا يطير إلى الكفار إلا أهل الكفاية، فبالحري أن يستجرىء الكفار على دخول ديار الإسلام علماً منهم [بأنّا] (4) لا نلقاهم إلا بمثلهم في العدد والعدة. وهذا هو الظاهر. ومن أصحابنا من قال: إذا تلقاهم من فيه ثَمَّ كفاية، لم يبق على الباقين أمر، ولا يلحقهم حرج، والغرض أن يدفعوا. وكل ما ذكرناه في أهل الناحية. 11292 - فأما الذين ليسوا في تلك الناحية، فنتكلم في الأقرب منهم فالأقرب، ونقول: إن كان في أهل الناحية كفاية واستقلال بالقتال، فالذين قربوا منهم، وكانوا

_ (1) في الأصل: " لا ينسب ". (2) عند القصد: أي القصد بالزنا. (3) في الأصل: (محب) كذا وبدون نقط. (4) في الأصل: " بأنهم ".

دون مسافة القصر ينزلون -إن وجدوا الزاد- منزلة أهل الناحية، إذا قام بالدفع مَنْ فيه الكفاية. وإن لم يكن في أهل الناحية كفاية، فيتعين على الأقربين أن يطيروا إليهم، وإذا قلنا؛ إنهم بمثابة أهل الناحية، لم نغادر من البيان المقصود شيئاً في طوارىء القوة والضعف. فأما الذين يقعون من الناحية على مسافة القصر فصاعداً، فإذا بلغهم الخبر، نُظر: فإن لم يكن في أهل الناحية، وفي الذين يلونهم كفاية، تعيّن عليهم أن يتطيَّروا إليهم، ثم الأظهر هاهنا أنه إذا طار إليهم قوم فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين. ومن أصحابنا من قال: يتعين على كافة أهل الناحية التي صورناها أن يطيروا ويتسارعوا إليهم؛ فإن هذا يمنع التخاذل والتواكل، ولو بنينا الأمر على الكفاية وقد [جدّ الجد] (1) وليس هذا مما يقبل الأناة، بخلاف القتال الموضوع لإقامة فرض الكفاية، والكفار قارّون، فلا ينتظم دفع هذه العظيمة مع المصير إلى الاكتفاء بخروج البعض، لما في الطباع من الانحباس عن القتال، وإذا فرض ذلك، فإلى أن يظهر للكافة لحوق الحرج، ربما تجري عظائم من القتل والأسر، واهتتاك الحرمات، فالوجه الإيجاب على الكافة إذا لم يكن بين أيديهم إلى ما يلي الكفار من فيه كفاية، وهذا يترتب على ما ذكرناه في أهل الناحية إذا كان فيهم كفاية، وكان البعض منهم يستقلّ بالأمر. وما ذكرناه من الخلاف في البعد مرتب على ما ذكرناه في أهل الناحية والذين يقربون منهم، فإن كنا نكتفي في أهل الناحية بمن فيه كفاية، فهذا في البعيدين أولى، وإن لم نكتف في أهل الناحية، ففي الذين يبعدون وجهان، ثم ينبني على الوجهين في البعيدين ما نذكره، فإن بنينا الأمر على الكفاية، أخرجنا العبيد والنساء، وإن قلنا: عليهم أن يخرجوا بجملتهم -وإن كان في بعضهم كفاية- ففي العبيد والنسوان وجهان، إذا كان في النسوان مُنّة، ولا خلاف أن الخبر إذا بلغهم، لم يكن لهم أن يلبثوا تعويلاً

_ (1) في الأصل: " وجد الجد ".

على حركة من هو أبعد منهم؛ فإن بلوغ الخبر يوجب انزعاجهم (1)؛ إذ انزعاج من وراءهم مغيّب، وبقاء الكفار مستولين على ديار الإسلام -في لحظةٍ- عظيمةٌ في الإسلام. وكل ما ذكرناه فيه إذا بلغ الخبر من على مسافة القصر، ولم يكن في أهل الناحية كفاية. 11293 - فأما إذا كان فيهم كفاية، وقد شمروا، فالذي ذهب إليه المحققون أنا لا نلزمهم أن ينزعجوا؛ فإنهم على البعد من الناحية، وفي أهل الناحية كفاية. وهذا ما قطع به القاضي وكل منتسب إلى التحقيق؛ إذ لو لم نقل هذا، للزمنا أن نقول: إذا انتشر الخبر إلى أقاصي الخِطة، توجه على أهل الإسلام قاطبة أن يتحركوا، وهذا بعيد (2). وذهب طوائف من أئمتنا إلى أنه يجب على الذين بعدوا أن يتحركوا، ويصيرُ أهلُ الإسلام في هذا بمثابة أهل الناحية، ثم ينتهض الأقرب، فالأقرب لا محالة، والخبر على هذا الترتيب ينتشر، ثم إذا انزعج الذين يبلغهم الخبر، [فلا يزالون عليها ولا يتهاونون] (3) إلى أن يلقاهم خبر الكفاية (4)، وهذا التدريج في الوقوع يحقق الاستبعاد الذي ذكره المحققون.

_ (1) انزعاجهم: المراد الخروج من مدنهم وقراهم على أهبة القتال والاستعداد، وهذا هو ما نسميه الآن التعبئة العامة. (2) عبر الغزالي عن هذا المعنى، أو قل: اختصر هذه العبارة بقوله: " واختار المحققون أنه لا يلزمهم (الانزعاج)؛ لأن الأمر يطول فيه، ويتداعى إلى جلاء كافة الخلق عن الأوطان " (ر. البسيط: 5/ 153 شمال). (3) في الأصل: " فلا يزالون عندها ولا يدانون ". ولم أهتد لوجهها، وما فيها من تصحيف إن كان. ومعنى ما أثبته: أنهم لا يزالون على الأهبة والاستعداد منتهضين. (4) الكفاية: المراد بها هنا كفاية الله شرّ الكافرين المغيرين وردّهم عن ديار الإسلام. ويؤكد صحة هذا المعنى عبارة الرافعي، حيث يقول: " والوجه الثاني: يجب على الأقربين، فالأقربين، بلا ضبط، حتى يصل الخبر بأنهم قد كُفُّوا وأخرجوا " (ر. الشرح الكبير: 11/ 367) وما قاله النووي أكثر وضوحاً؛ إذ قال: " الثاني - يجب على الأقربين فالأقربين بلا ضبط، حتى يصل الخبر بأنهم قد دفعوا وأخرجوا " (ر. الروضة: 10/ 215).

11294 - ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن أصحاب التحقيق قالوا في الذين يقربون من الناحية: يكفي فيهم اعتبار الزاد؛ إذ لا استقلال إلا به، والمركوب لا معوّل عليه في السفر القصير سيما في المهم العظيم، فأما من يبعد عن الناحية، فقد قال هؤلاء: يعتبر في حقهم الزادُ والمركوبُ [كالحج، وفيه وجه أنه لا يعتبر، وليس كالحج] (1)، فإن الحج على التراخي، والأمر فيه أهون، وهذا الذي نحن فيه اجتمع فيه التعيين كما ذكرناه، ووجوب البدار، ورجوع الأمر إلى بيضة الإسلام. وقد ذهب ذاهبون من العلماء كمالكٍ (2) وغيره إلى أن المركوب ليس شرطاً في سفر الحج، فلا يبعد أن يُعْتَبر في هذا السفر ما اعتبره مالك في سفر الحج. التفريع: مَنْ شَرَطَ المركوبَ، فلا يخفى تفريع مذهبه، ومن لم يشترط المركوب، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين في أنا هل نشترط الزاد أم نقول: [يخرجون] (3) إلى أن يفرّج الله تعالى، ولو هلكوا لِعَدمِ الزاد، فإلى الهلاك مصيرهم، وأجرهم على الله تعالى. وهذا عندنا بعيد؛ فإن الاستقلال بغير زاد غير ممكن، وليس في أمرهم بالنهوض مع بعد المسافة إلا هلاكهم من غير فائدة تعود إلى المسلمين. فقد انتظم هذا الفصل موضحاً كما ينبغي، وانكشف ما فيه من عماية وإشكال. 11295 - ونحن نلحق بهذا المنتهى شيئين: أحدهما - أن الكفار لو أسروا جمعاً من المسلمين، فهل يجب أن نزحف إليهم، كما نفعل ذلك لو وطئوا طرفاً من بلاد

_ (1) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق، وهي موجودة في عبارة الغزالي، ونصها: " وأما المركوب، فلا يعتبر في حق من دون مسافة القصر، وفيمن وراءه وجهان: أحدهما - أنه يعتبر كما في الحج، والثاني - أنه لا يعتبر، فإن أمر الحج أهون، وهو على التراخي، وهذا أعظم " (ر. البسيط: 5/ورقة: 154 يمين). (2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 457 مسألة 706، عيون المجالس: 2/ 765 مسألة 493، حاشية الدسوقي: 2/ 6. (3) في الأصل: " يرجعون " ولعل المعنى: يخرجون معتمدين في خروجهم على فرج الله. وقد صاغ الغزالي هذه العبارة قائلاً: " ومنهم من قال: لا يشترط الزاد، فليتوكل على الله، وهذا بعيد؛ فإنه إهلاك من غير فائدة " (السابق نفسه).

الإسلام؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أنا لو أوجبنا ذلك فرضاً على العين، لزمنا ألا نفرق بين جمعٍ من الأسراء وبين أسير واحدٍ، حتى نقول: إذا وقع مسلم في الأسر، تحركت جنود الإسلام، وهذا قد يبعد بعض البعد، ويخالف السِّير. فإذا حصل التنبّه لما أشرنا إليه، فالوجه عندنا القطع بإحلال استيلائهم على المسلمين محل استيلائهم على دار الإسلام، وذلك أن دار الإسلام إنما يجب دفعهم عنها تعظيماً للمسلمين، فإذا حصل الاستيلاء على المسلمين، فالبدار إليهم أولى وأهم، ولكن قد تختلف الأحكام باختلاف الصور، فيظن من لا يتفطّن لدرك الحقائق أن الأمر يختلف. وبيان ذلك أنهم إذا أسروا واحداً أو جمعاً، وهم على القرب من ديار الإسلام، طرنا إليهم، وإن توغلوا في ديار الكفر، فلا يتأتى التسارع إليهم، وخرقُ ديارهم، وقد لا يستقلّ بهذا جنود الإسلام؛ فإن أُحوجنا إلى ترك التسارع إليهم، فعن ضرورة وأناةٍ [عاملون] (1) حاذرون على تقديم وجه الرأي؛ فلو صار مَلِكٌ عظيم إلى طرفٍ من بلاد الإسلام، وعلمنا أنه لا يُلقَى إلا بالراية العظمى، فلا نتسارج إلى دفعهم طوائف وآحاداً، فإن الرأي أولى بالمراعاة من كل شيء. فإذا كان ترك التسارع يفضي إلى هلاك الأسرى، [مستشهدين] (2)؛ فإنا لا نستفيد بالتسارع استردادهم. هذا آخر ما أردنا إلحاقه. 11296 - والثاني - أن الكفار لو استولوا على مواتٍ أو جبل بعيد عن أوطان المسلمين وديارهم وقراهم، ولكنه يعدّ من بلاد الإسلام، فالذي رأيته للأصحاب أنهم يُدفعون كما يُدفعون عن الأوطان، وفي هذا بعض النظر عندي؛ فإن الديار [تشرف] (3) بسكون المسلمين، فإذا لم تكن مسكناً للمسلمين، فتكليف أهل الإسلام

_ (1) مكان كلمة بالأصل: لم نوفق لقراءتها، وقد رسمت هكذا: (لحومها) بدون نقط وبدون علامة إهمال الحاء، مع أنه يلتزمها (انظر صورتها). (2) في الأصل: " مستشهدون ". (3) في الأصل: " تعرف ". وهو تصحيف واضح. والتصويب من لفظ الرافعي والنووي.

التهاوي على المتالف، والتسارع على الهلكة فيه بعض البعد (1). وقد نجز الفصل. 11297 - ومما [أُقضِّي] (2) العجبَ منه تجاوز الأئمة عن كشف أمثال هذه الفصول، والقناعة بإجراء الأمور على ظواهرها. وتلك الغوائل دفينةٌ فيها، ولا أشبه كلامهم فيها إلا بنَدَبٍ (3) على جرح وراءه غور وتأكّل. وانتهى بما ذكرناه كلامنا في كلّي الجهاد حيث يكون على الكفاية، وحيث نَصِفُه بالتعيين. وهذا القدر فيه مقنع في التمهيد والتوطئة. وكنا وعدنا أن نتكلم في فروض الكفايات في الجهاد والعلم والسلام، وقد وفّينا بالموعد في الجهاد، ونحن الآن نعقد فصلاً في العلم. فصل 11298 - طلب العلم مقسم قسمين: أحدهما - مفروض على الأعيان، والثاني - يثبت على سبيل الكفاية، فأما ما يتعين طلبه، فهو ما يبتلى (4) المرء بإقامته في الدين في الأوقات الناجزة، وبيان ذلك أن من بلغه أن الصلاة مفروضة، وهي ذات شرائط، فلا يتصوّر الإقدام عليها والقيام بشرائطها إلا بالإحاطة بالشرائط والأركان، وليس من الممكن أن يعرف عقد (5) الصلاة فيكتفي به، ويتحرّم ويبقى حيرانَ لا يدري ما يفعل، فكل ما يتعيّن الإقدام عليه يتعين العلم بشرائطه، وأركانه، ثم إن ما نعني العلومُ

_ (1) هذا الوجه الذي اختاره الإمام ردّه النووي، إذ قال في زوائده: " قلت: هذا الذي اختاره الإمام ليس بشيء، وكيف يجوز تمكين الكفار من الاستيلاء على دار الإسلام مع إمكان الدفع " (ر. الروضة: 10/ 216). (2) زيادة من المحقق. (3) الندب بالفتح مصدر نَدِب الجرح يندَب، إذا صلبَ أثره، والندب أيضاً أثر الجرح (المعجم). وهذا التصوير من الإمام هو ما يسميه علماء البلاغة التشبيه التمثيلي، وهو تشبيه صورة كلية بصورة كلية وصرف النظر عن أجزاء الصورة. (4) ما يبتلى المرء بإقامته: أي يجب عليه إقامته. (5) عقد الصلاة: أي نيتها والتحرم بها.

الظاهرة بما يستمر (1). وقد يقع في الأركان والشرائط نوادر، ولو كُلّفنا العلم بها، لعظم الأمر، ولانْقطع الخلق عن إصلاح المعاش، لاشتغالهم بطلب العلم فيما يتوقع وقوعه. وإن كان الرجل مبتلى بالنكاح والمعاملات، فعليه طلب العلم بما يجب عليه في ظواهر الأمور التي هو يلابسها على الحدّ الذي ذكرناه من وظائف العبادات. وذكر أرباب الأصول تصدير ما يتعين بأحكام العقائد، ولست أرى العلم [بها واجباً عينياً، وإنما المتعين على كل واحد اعتقاد مصمم صحيح] (2)، فلا وجه إلا الاقتصار على مسالك الفقه. هذا بيان ما يتعين طلبه من العلم. 11299 - فأما ما يقع فرضاً على الكفاية، فهو ما يزيد على المتعيَّن إلى بلوغ رتبة الاجتهاد؛ فإن قوام الشرع بالمجتهدين، وهذا الفصل يتعلّق بفصولٍ عظيمة مستندة إلى قواعد الأصول، ومن [أرادها] (3) على حقائقها، فليطلبها من مجموعاتنا في الأصول. ولو قيل: العلم المترجم بالكلام هل يُستلحق بفرائض الكفايات؟؟ قلنا: لو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الإسلام، لكنا نقول: لا يجب التشاغل بالكلام، وقد كنا ننتهي إلى النهى عن الاشتغال به، والآن قد ثارت الآراء، واضطربت الأهواء، ولا سبيل إلى ترك البدع، فلا ينتظم الإعراض عن الناس يتهالكون على الردى، فحق على طلبة العلم أن يُعِدّوا عتاد الدعوة إلى المسلك الحق والذريعة التامة إلى حل الشُّبه، ولما مسّت الحاجة إلى إثبات الحشر والنشر على المنكرين، وإلى الرد

_ (1) كذا. والمعنى -على أية حال- العلوم الظاهرة بما يعتاد، دون الدقائق، والنوادر، أي بما يتكرر. (2) عبارة الأصل: " ولست أرى العلم فيها مع علم بني الزمان ـالى ار يحد بها، فلا وجه إلا الاقتصار ... إلخ " وما بين المعقفين مأخوذ من كلام الغزالي، وهو معنى كلام الإمام (ر. البسيط: 5/ورقة: 154 يمين). (3) في الأصل: " دارّها ".

على عبدة الأصنام، [صار من فروض الكفايات الاحتواء] (1) على صيغ الحجاج، وإبداء منهاجه. ولا شك أن هذه الآراء الفاسدة لو بُلي الناس بها، لأقام الشرع حجاج الحق من منابعها. فإذاً علم التوحيد من أهم ما يطلب في زماننا هذا، وإن استمكن الإنسان من ردّ الخلق إلى ما كانوا عليه أولاً، فهو المطلوب وهيهات، فهو أبعد من رجوع اللبن إلى الضرع في مستقر العادة. وإذا ذكرنا هذا المقدارَ، فالمقدارُ المتعيَّن عقدٌ مستقيم على تصميم، ولا نوجب على آحاد الناس بأن يستقلّوا بأدلّة العقول، وتتبع الشبهات بالحَلِّ، فمن استراب في عقدٍ، فعليه أن يدأب في إزاحة الشك إلى أن يستقيم عقدُه، ولست أضمّن ذكر العقائد التي نوجب حصولها على الاستقرار لآحاد المسلمين؛ فإن ذلك يطول. والوجه عندي قطع الكلام في ذلك على هذا المقدار. 11300 - ثم لا يخفى أن المفتي الواحد لا يقع الاكتفاء به في الخِطة، ويجب أن يكون في كل قطر من يُراجَع في أحكام الله تعالى. ثم قال الفقهاء: يجب أن يعتبر في هذه مسافة القصر، فإذا سكن مجتهدٌ بُقعةً، استقل به من هو على مسافة القصر منه في الجوانب، وليس من الحزم الكلام في المفتي والمستفتي؛ فإنه من لُباب الأصول. ثم قال طائفة من الفقهاء لم يتعنَّوْا في طلب الحقائق: من خاض في التعلّم وأونس رشدُه، فلا يبعد نيله الرتبة المطلوبة، فيتعين عليه إتمام ما خاض فيه، ولو ارعوى، كان تاركاً فرضاً متعيناً. وهذا غلط صريح عند المحققين؛ فإن العلوم ليست جملة واحدة، بل كل مسألة مطلوبة في نفسها، وهي مغايرة لما قبلها وبعدها، فلا يتحقق بالخوض [فيه حكمُ الخوض] (2) فيما له حكم الاتحاد، ولا تعويل على تشبيه ما ذكرناه من الوقوف في

_ (1) عبارة الأصل مضطربة، فقد جاءت هكذا: " ... وإلى الرد على عبدة الأصنام، اشتملت إلى من الكتاب على صيغ الحجاج ... " والمثبت تصرف منا مأخوذ من معنى كلام الرافعي، حيث نقل هذا عن الإمام بتصرفٍ في اللفظ. (ر. الشرح الكبير: 11/ 369). (2) زيادة اقتضاها السياق.

الصف؛ فإنه إنما يتعين المصابرة ثَمَّ، لما في الانصراف من الانخرام والضرر العظيم، وكسر قلوب الجند، ولا يتحقق مثل هذا في العلم، فالوجه أن يعدّ هذا من نوادر بعض الفقهاء التي لا مصدر لها عن ثَبَت وتحقيق. وسنعود إلى طرفي من هذا -إن شاء الله عز وجل- في فصلٍ يأتي بعده. فصل معقودٌ في السلام 11351 - قال الأئمة: السلام من السنن التي تأكد الأمر فيها، وصحَّت الأخبار في الأمر بإفشاء السلام. ثم قال العلماء: من سلّم على جمع من المسلمين، فإن أجابه واحدٌ منهم، كفى ذلك، وإن لم يجبه أحدٌ حَرِج القوم من عند آخرهم، فابتداء السلام سنة مؤكدة، وجوابه فرض على الكفاية، ثم هو مختص في المخاطبين بالسلام، لا يقوم غيرهم مقامهم، حتى لو سلّم رجل على جمع وعيّنهم لتسليمه، فسكتوا، فردّ عليه من لم يخاطبه بالسلام، فالفرض لا يسقط بذلك عن المخاطبين، وقولنا: الجواب فرض كفاية [كافٍ] (1) في بيان هذا، فإن الجواب إنما يصدر عمن تعلّق به الخطاب، وإذا أتى بلفظ السلام [من] (2) لم يخاطَب، فهذا ابتداءٌ، وليس بجواب. 11352 - ثم قال الأئمة: سنة السلام على الكفاية في وضعها، كما أن جواب السلام على الكفاية، وبيانه أنه إذا التقى جمعان، فسلم واحد من جمعٍ على الجمع الآخر، كفى ذلك في إقامة السنة، كما أن واحداً من المخاطبين لو أجاب، كفى جواب الواحد، وسقط الفرض عن الباقين، ولو سلّم رجلٌ على رجلٍ معين، تعين عليه جوابه، فقد انقسم جواب السلام في أصله إلى ما يتعين، وإلى ما يثبت فرضاً على الكفاية، كما انقسم الجهاد. وبالجملة لا يثبت شيء على الكفاية إلا ويتطرّق إليه التعيين، فتجهيز الموتى

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) سقطت من الأصل.

والصلاة عليهم وتدارك المحتاجين إلى غير ذلك من فرائض الكفايات، [يتعين إذا حضره مسلمٌ واحد] (1). وظهور هذا يغني عن البسط. وغرضنا الآن أن نبين أن من خصص واحداً بالسلام عليه، فلا مُخاطَبَ غيرُه، ولا جواب إلا منه، والجواب لا بد منه. ثم صيغة السلام لا تخفى، واللفظ المشهور " السلام عليكم ". وكذلك لو قال: عليكم السلام. وكان شيخي يقول: لو سلّم على واحد، فالأولى الإتيان بصيغة الجمع تعرّضاً لمخاطبة الملائكة، وهذا يعضده أنا نستحب للمتحلل من الصلاة أن يقول: " السلام عليكم " كيف كان. وتأويل ذلك مخاطبة الملائكة، وصيغة الجواب أن يقول: وعليكم السلام. وإن أحب قال: والسلام عليكم. وعطفُ الجواب على السلام حسنٌ، ولو ترك العطف، وقال: السلام عليكم، كفى ذلك، وكان جواباً. ثم قال الأئمة: ينبغي أن يكون الجواب متصلاً بالسلام اتصالاً يُرعَى مثله بين الإيجاب والقبول في العقود؛ فإنه إذا تطاول الفصل المتخلل، خرج الكلام عن كونه جواباً، والواجب هو الجواب لا السلام. ولو قال المجيب: عليكم، فالرأي عندنا ألا يكتفى بهذا، فإنه ليس. فيه تعرّضٌ للسلام، وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، قال جماهير المفسرين: أجيبوا بأحسن من السلام، أو حيوا بمثله، حتى إذا قال المسلِّم: السلام عليكم، فالأحسن أن يقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله. فإن لم يَزِدْ، فلا أقل من أن يقول: وعليكم السلام. وقال بعض أصحابنا: إذا قال المجيب: " عليكم " من غير عطف، لم يكن جواباً، وإن قال: " وعليكم "، كان جواباً مسقطاً للفرض؛ فإنه منعطف على قول المسلّم، فكان راجعاً إلى معناه. 11303 - ولو استغرق قوم بشغل، فقد لا نرى لمن يمرّ بهم أن يسلم عليهم، كما سنفصله، إن شاء الله تعالى.

_ (1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

ثم قال الأصحاب: إذا سلّم -ولا نرى له أن يسلّم- لم يستحق جواباً؛ فإن وجوب الجواب منوطٌ باستحباب السلام. ثم القول في الأحوال التي لا يستحب فيها السلام يستدعي تفصيلاً، فإن كل إنسان على حالة لا تجوز أو لا يليق بالمروءة القربُ منه فيها، مثل أن يكون على قضاء حاجة، أو يكون متبذلاً في الحمام يتدلّك ويتنظف، فلا سلام في هذه الأحوال. وإن كان القوم في مساومة أو غيره من شغل الدنيا، فلا يمتنع السلام لهذا، إذ لو امتنع به، لانحسم إفشاء السلام، فإن معظم الخلق في شغل. وكان شيخي يقول: إذا كان الإنسان يأكل، فلا ينبغي أن يسلم عليه من يقرب منه، وهذا فيه بعض النظر، ويجوز أن يحمل كلامه على ما إذا كان في فيه طعام، فإن ردّ الجواب قد يعسر ويطول الفصل إذا مضغ ما في الفم وازدرده. ويبعد أن نكلفه ألا يزدرده ويلفظه، فأما إذا وقع السلام بعد البلع، وقبل رفع اللقمة الأخرى، فلا يبعد أن يقال: يستحق بالسلام الجواب؛ فإنه لا عسر فيه، والعلم عند الله تعالى. 11304 - ولا يحل لرجل أن يسلّم على امرأة أجنبية ليست من المحارم، وإن سلم، لم يكن لها أن تجيب. وقد ذكرتُ جملاً من أحكام السلام في كتاب الجمعة، عند ذكري الاستماع إلى الخطبة والإنصات. قال شيخي أبو محمد: تشميت العاطس مستحب، وهو على الكفاية كابتداء السلام، ثم لا يجب جواب التشميت، ولعل السبب فيه أن التشميت لمكان العطاس بالعاطس ولا عطاس بالمشمت. فصل قال: " ومن غزا ممن له عذر أو حدث له بعد الخروج عذر ... إلى آخره " (1). 11355 - قد قدمنا المعاذير التي تُخرج الرجل عن التصدي لفرض الجهاد على الكفاية، وهذا الفصل معقود في طريان المعاذير بعد الخروج، فنقول: إذا أثبتنا سفر

_ (1) ر. المختصر: 5/ 181.

الجهاد بإذن الأبوين، وإذنِ صاحبِ الدَّيْن، ثم رجع صاحبُ الدين، أو رجع الأبوان، وبلغ الخارج خبر الرجوع، نُظر: فإن بلغه خبر الرجوع عن الإذن قبل التقاء الزحفين، وتقابل الصفين، وكان الرجوع والانقلاب ممكناً، فحقٌّ عليه أن يرجع؛ فإن الجريان على حكم الإذن ليس محتوماً، والآذِن بالخيار: إن شاء أن يستمرّ على إذنه، استمرّ عليه، وإن أراد أن يرجع، كان له أن يرجع عن إذنه، وإذا رجع عن الإذن، وتمكن المأذون له من الرجوع، لزمه الرجوع. وإن بلغه خبر الرجوع عن الإذن، وقد التقى الزحفان، نظر: فإن كان رجوعه يُخافُ منه انفلالٌ في الجند، فيحرم عليه الرجوع، وإن كان لا يتوقع من رجوعه انخرام وفتنةٌ يرجع أثرها إلى الجند، ففي جواز الرجوع والحالة هذه وجهان: أحدهما - يجوز الرجوع لجواز الإذن، ولا ضرر في الرجوع. والثاني - لا يجوز الرجوع؛ فإنه لابس القتال ووقف [في الصف] (1)، ولو فتحنا هذا الباب، لتعدى تجويزُه إلى انفلال الآحاد، والتعلق بالمعاذير، ثم يفضي الأمر إلى انخرامٍ يعظم أثر وقعه، فالوجه حسم هذا الباب بالكلية. ثم اختلف أصحابنا في صيغة الوجهين، فقال قائلون: الوجهان في جواز الرجوع، وقال آخرون: الوجهان في وجوب الرجوع. وينتظم من الوجهين والتردد في صيغتهما ثلاثة أوجه: أحدها - يجب الرجوع؛ لانقطاع الإذن، وبلوغ الخبر به. والثاني - لا يجوز الرجوع، وتجب المصابرة. والثالث - أنه يجوز الرجوع، ويجوز المصابرة لتقابل ملابسته القتال وانقطاع الإذن، فقد تعارض نقيضان، فيسقط أثرهما جميعاً، وتبقى الخِيَرةُ بعدهما، وهذا الوجه اختاره القاضي. ولو أنشأ السفر نحو الجهاد، وأبواه كافران، فأسلما، أو حدث له دَيْنٌ، فهذا في حكم الطوارئ، فيلتحق الترتيب في الرجوع بما ذكرناه من رجوع الأبوين، والصورة مفروضة فيه إذا لم يأذن الأبوان بعد الإسلام في الجهاد، ولم يأذن صاحب الدَّين الجديد.

_ (1) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.

ولو أذن الأبوان، ثم رجعا وهو في الطريق، ولكن عسر الرجوع عليه لمخاوف يمتنع العبور عليها من غير جمعٍ واستعداد، فالرجوع غير ممكن، ولكن إذا عسر الرجوع، فيمتد إلى الجهاد ويُتم الغرضَ عازماً على أن ينقلب مع الجند إذا انقلبوا، أم يمكث حيث انتهى إليه؟ الوجه أن نقول: إن عسر المكث كما عسر الرجوع، فلا طريق إلا أن ينبعث مع الجند، ثم يرجع برجوعهم، وإن أمكنه أن يتعلق بقرية ويمكث فيها إلى أن يرجع أصحابُه، فيتعيّن ذلك؛ فإن نهيه تضمن أمرين أحدهما - ترك التحرك إلى الجهاد، والثاني - الإقبال على الرجوع، فإذا تعذر الرجوع، فالوجه ترك المسير في جهة الجهاد، فإن ذلك ممكن. 11306 - ومن الأعذار الطارئة المرض، فإذا طرأ قبل الوقوف، جاز الرجوع، وإن طرأ في أثناء الجهاد، فإن كان الرجوع يورث انفلالاً واختلالاً في الجند، فلا يجوز أن يرجع أصلاً، وإن خاف الموت والهلاك. وإن كان لا يخاف انفلالاً، ففي جواز الرجوع وجهان، ولا يجري هاهنا إلا منع الرجوع أو جواز الرجوع، فأما وجوب الرجوع، فلا ينقدح، بخلاف ما قدّمناه في مسألة رجوع الأبوين. 11307 - ثم تكلم أصحابنا في ملابسة فروض الكفايات. ونحن نأتي بمجموع كلامهم، وننزله على [مدارك] (1) الصواب. فأما من لابس الحرب ولا عذر، وهو من أهل القيام بفرض الكفاية، فلا يجوز أن ينصرف من غير عذر، سواء كان في انصرافه خرمٌ أو لم يكن. هذا ما اتفق أصحابنا عليه، وأطلقوا أقوالهم بأن الجهاد يصير متعيناً بملابسة الحرب على من هو من أهل فرض الكفاية، وإن فرض عذرٌ وخيف انفلالٌ، فلا سبيل إلى الرجوع. فإن ثبت عذر يمتنع به الخروج، ولا خيفة، ففي الرجوع بعد الملابسة التردد الذي حكيناه. وأما ملابسة العِلْم مع إيناس الرشد، فقد حكينا عن طوائفَ من الفقهاء أنه يمتنع الانكفاف. وأوضحنا أنه غلط، وليس العلم في حكم الخصلة الواحدة التي يفرض التلبس بها، فلا ينتهي الأمر إذاً فيه إلى التعيّن بسبب الملابسة. نعم قد يتعين على

_ (1) في الأصل: " تدارك ".

الإنسان الانتدابُ للطلب، والاستتمام إن خاض، إذا لم يكن في القطر رشيدٌ غيره، والحاجة ماسة. وليس هذا من آثار ملابسةٍ أو خوضٍ في الأمر. وأطلق أئمتنا القول بأن من تحرّم بصلاة الجنازة، تعيّن عليه إتمامها، وهذا فيه فقه؛ من جهة أن الصلاة مفروضة، وقد تعلّقت بعين المصلي، ولم تكن متعلّقة به قبل الخوض، فيتعلق الإتمام بها؛ فإنها في حكم الخصلة الواحدة، وحكى من تُعتمد حكايتُه عن القفال: أن صلاة الجنازة لا تتعين بالشروع، فإن الشروع لا يغير حقيقة المشروع فيه، ولذلك لا يلزم التطوّع بالشروع فيه. فصل يجمع مسائل نصوّرها بمبادىء النصوص في المختصر، ونذكر ما يحصل الإقناع به فيها. قال: " ويَتوفَّى في الحرب قتلَ أبيه ... إلى آخره " (1). 11358 - يكره للغازي أن يقتل ذا الرحم فصاعداً، وتتأكد الكراهية إذا انضم إلى الرحم المحرمية، وتزداد تأكداً كلما ازداد المقتول قرباً، وقد روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه عتبة، ونهى أبا بكر عن قتل ابنه عبد الرحمن " (2)، وروي " أن عبد الله بنَ أُبي بنِ سلول لما كثر أذاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بقتله، بلغ ذلك ابنَه عبدَ الله، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: بلغني أنك أمرت بقتل أبي، وقد علمت العربُ شفقتي على أبي، فأخاف لو قتله واحد لتداخلني حميةُ الجاهلية، فأقتل مَن قتله، فأدخل النار، فأذن لي حتى آتيك برأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل. نُداريه ما دام يعاشرنا " (3).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 181. (2) حديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة عن قتل أبيه، وأبا بكر عن قتل ابنه " سبق تخريجه. (3) حديث استئذان عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول في قتل والده، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل، نداريه ما دام يعاشرنا " رواه الطبري في التفسير (28/ 76) وفي=

قال الشافعي: " لا يجوز أن يغزو بجُعلٍ ... إلى آخره " (1). 11359 - ليس للواحد من المسلمين أن يستأجر مسلماً على الغزو، وهذا متفق عليه، وقد فصَّلتُ في كتاب الصداق ما يجوز الاستئجار عليه، وما لا يجوز، وألحقتُ هذا بما لا يجوز الاستئجار عليه. ثم إذا فرض الاستئجار على الفساد، وانطلق المستأجَر، وحقق المستدعَى (2) منه، فلا يستحق الأجرة؛ فإن الجهاد يقع عمن تعاطاه، وهو بمثابة ما لو استأجر الرجل على الحج صرورةً لم يحج عن نفسه، فإذا حج الأجير، ونوى مستأجِره على ظن أن الحجة تنصرف إليه، فالحج ينصرف إلى فرض الأجير، ولا يستحق الأَجرة المسماة. وذكر أصحابنا تردّداً في صورةٍ، وهو أن الاستئجار على الحج إذا صح، وكان الأجير حج عن نفسه حجة الإسلام، فإذا صح عن مستأجِره وانعقد الحج عنه، ثم صرف الإحرامَ إلى نفسه على اعتقاد أن الإحرام ينصرف إليه بقصده وصرفه، فلا شك أنه لا يصرفُ إليه، ويقع صحيحاً عن المستأجِر. وهل يستحق الأجير الأجرة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحقها لتحصيله مرادَ المستأجِر [والثاني - لا يستحقها] (3) بقصده إيقاعَ الحج عن نفسه. والصرورة إذا نوى مستأجِره، فلا شك أنه لا يستحق الأجرة المسماة؛ فإنها إنما تستحق في الإجارة الصحيحة، واستئجار الصرورة فاسد، والمذهب الذي لا يسوغ غيره أنه لا يستحق أجرةَ المثل أيضاً، لأنه عمل لنفسه، فيستحيل أن يستحق أجرةَ المثل بمجرد القصد، وأجرةُ المثل إنما تُستحق بالعمل، وليس كما إذا صرف الأجيرُ الحجَّ عن نفسه؛ فإنا في وجه ضعيف أسقطنا أجرته بقصده؛ فإنه يملك إسقاط الأجرة بطرق، وظن صاحبُ هذا الوجه أن قصده من المسقطات. فأما استحقاق أجر العمل بمجرد القصد، فمحال اعتقادُه والمصير إليه.

_ =التاريخ (2/ 608)، والواقدي في المغازي: 2/ 420، وابن هشام: 2/ 217، 218. (1) ر. المختصر: 5/ 181. (2) المستدعى منه: أي المطلوب منه. (3) زيادة اقتضاها السياق.

وإذا تمهد ذلك، بان منه أن المستأجَر على الجهاد لا يستحق على مستأجره أجر المثل، كما لا يستحق عليه الأجرة المسماة؛ فإن الجهاد يقع عن الأجير، فاستحال أن يستحق على عمله الذي وقع له أجرة على غيره. 11310 - فإن قيل: هل للسلطان أن يستأجر من المسلمين من أراد استئجاره، ثم يعطيه الأجرة من سهم المصالح؟ قلنا: هذا ما اضطرب فيه أصحابنا، فصار صائرون إلى جواز ذلك، وهو الذي ذكره الصيدلاني، وصرّح به، ومهّده أصلاً، وفرّع عليه. ونحن ذكرناه أيضاً في قَسْم الفيء والغنائم، وأطلقناه ولم نفصله. وذكر القاضي أن الاستئجار الذي ذكره الأصحاب من جهة السلطان ليس استئجاراً على الحقيقة، فإن الجهاد يقع على المجاهد، وما يصرف إليه من حق بيت المال، فهو حق المستحِق له إذا تصدى للجهاد، وعَدِمَ تمامَ الأهبة والزاد، وهذا الذي ذكره القاضي هو القياس الذي لا يجوز غيره. وإذا جمع الجامع ما ذكرناه الآن، وما قررناه في أول كتاب الصداق، انتظم له من المجموع كلام تام. 11311 - قال الشافعي: " ومن ظهر منه تخذيلٌ للمؤمنين ... إلى آخره " (1). يحرم على الإمام أن يستصحب متخذِّلاً، وهو الذي يحسّر القلوب، ويلقي الأراجيف، ويصرف قلوب المقاتلة عن القتال، وشرُّ مثل هذا الرجل ليس بالهين؛ فإن النفوس مائلة على وفق الطباع، فيخشى أن يُتَّبع، ثم إذا حضر المخذل بنفسه، ردّه الإمام، فإن اتفق حضوره، وهو مشهور بالتخذيل، فقائلٌ: لم يستحق سهماً ولا رضخاً، ولو قتل قتيلاً من الكفار، لم يستحق سَلَبَه، فإنه ممنوع عن حضوره، فلا يستحق بحضوره، ولا بما يستحقه في حضوره شيئاً. فإن قيل: قد ردّد الشافعي قوله في الفرس الضعيف الأعجف الرَّزَاح (2)، وإن استحقاق سهم الفارس هل يتعلق

_ (1) ر. المختصر: 5/ 181. (2) الرزاح: من رزح البعير يرزح رُزاحاً، ضعف، ولصق بالأرض من الإعياء أو الهزال، فهو رزاح (المعجم).

به. وقد نص الشافعي على أن الإمام يمنع من أدخل دارَ الحرب مثلَ هذا الفرس، ثم اختلف قوله في استحقاق السهم به، فهلاّ أجريتم هذا التردّد في المخذِّل؟ قلنا: ضرر المخذل عظيم، وأدنى ما يعاقَب به أن يُحرَمَ فوائدَ المغانم، وأما الفرس إذا حضر، فلا ضرر، وقد يقع التهيب به إذا وقع في الصف، فتردّد القول لذلك. والمخذل لو تاب، فتوبته مقبولة، ولكن لا بد من استبرائه ليعود إلى استحقاق السهم، وذلك ممكن بأن يمتحن في السرّ والعلن. 11312 - ثم قال الشافعي: " وواسعٌ للإمام أن يأذن للمشرك أن يغزو ... إلى آخره" (1). للإمام أن يستعين بطائفة من الكفار، على مقاتلة طائفة، إذا علم أنهم لو غدروا وانحازوا إلى الكفار، لكان للمسلمين استقلالٌ بمقاومتهم، وإن كانوا بحيث لو انضموا إلى الذين يقصدهم، لعسرت مقاومة الفئتين، فلا ينبغي أن يستعين بهم، وقد روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع في بعض الغزوات " (2)، " واستعان بصفوان وما كان أسلم بعدُ في غزوة حنين " (3). فإن قيل: أليس روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني

_ (1) ر. المختصر: 5/ 182. (2) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع في بعض الغزوات " رواه أبو داود في المراسيل، والترمذي عن الزهري. قال الحافظ: والزهري مراسيله ضعيفة. ورواه الشافعي من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، قال البيهقي: لم أجده إلا من طريق الحسن بن عمارة، وهو ضعيف، والصحيح ما رواه أبو حميد الساعدي قال " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع، إذا كتيبة، قال: من هؤلاء؟ قالوا: بني قينقاع رهط عبد الله بن سلام، قال: وأسلموا. قالوا: لا. قال: قل لهم: فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين " (ر. المراسيل لأبي داود: ح 281، الترمذي: السير، باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين، هل يسهم لهم؟ ح 1558. البيهقي: 9/ 37، التلخيص: 4/ 189 ح 2206). (3) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان وما كان أسلم بعدُ في غزوة حنين " رواه الشافعي (الأم: 2/ 84، 85)، والبيهقي في الكبرى: 9/ 37، وفي معرفة السنن: 5/ 200 (ر. التلخيص: 2/ 236 ح 1501).

أريد أن أجاهد معك، فقال: أمسلمٌ أنت أم مشرك؟ فقال: مشرك، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا أرغب في المشركين " فردّه. قلنا: تمام الحديث " أنه عاد ثانياً، وذكر مثلَ ما ذكر أولاً، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وردّه، فلما عاد الثالثة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسلم أنت أم مشرك؟ فقال: مسلم، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1)، والغالب أنه توسّم فيه الميلَ إلى الدين، وكان يردّه رجاء أن يسلم، فتحققت فراستُه وصدق، فكان ما جرى من المرادّة محمولاً على تحصيل هذا المعنى. ثم جوّز أئمتنا الاستعانة بالمشركين على التفصيل المقدّم، ولم يجوّزوا استصحاب المخذِّل قط، فإنا قد نظن ظناً ظاهراً أن الكفار يذبّون عن مساكنهم في الإسلام وديارهم، فإذا كانوا تحت قهرنا على ما فصلنا، لم يمتنع الاستعانة بهم. وأما المخذل، فلا خير فيه، وهو ضرر كله. 11313 - ثم ذكر الشافعي جوازَ استئجار المشرك على القتال. وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من هذا. ولكنا نعيد الفصل، ونَزيدُ أموراً، ونتدارك أطرافاً في الكلام لا بد من التعرّض لها. فنقول: أما الاستئجار، فجوازه مبني على أن الجهاد لا يقع عن الكافر، وإنما المانع من استئجار المسلم على الجهاد أن الجهاد يقع عنه، فيبعد استئجاره على فعلٍ يقع عنه، وقد ذكرنا الكلام على إطلاق الأصحاب القولَ بأن للإمام أن يستأجر المسلمين على الجهاد، وتكلمنا عليه بما ينبغي. 11314 - وهذا الفصل مقصور على استئجار أهل الذمة: فلا امتناع إذاً من الجهة التي ذكرناها في المسلم، ولكن قد يعترض نوع آخر من الإشكال، وهو أن الاستئجار إنما يصح إذا كانت الأعمال مضبوطة، وما يشتمل عليه القتال من الأعمال ليس مضبوطاً، ولأجل هذا المعنى اضطرب أصحابنا، فقال قائلون: هذه جعالة، وقال

_ (1) حديث " أن رجلاً جاء يريد الجهاد فقال عليه السلام: أمسلم أنت؟ ... " رواه مسلم: الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر إلا لحاجة أو كونه حسن الرأي في المسلمين، ح 1817، والبيهقي: 9/ 37.

آخرون: تصح الإجارة، وإن كانت الأعمال مجهولة، وهذا ظاهر النص، وإليه مصير الجماهير، وهو معلل بوجهين: أحدهما - أن المقاصد هي المرعية، ومقصود هذه الإجارة لا يقع إلا على الجهالة، ولا يتأتى فيها التعرّض للإعلام. والثاني - أن المعاملات التي تجري في القتال سيّما إذا كانت المعاقدة مع الكفار تحتمل أموراً لا تحتملها التصرفات الجزئية، والشاهد في ذلك مسألة العلج على ما ستأتي مشروحة -إن شاء الله عز وجل- في دلالته على القلعة. والذي يحقق هذا أن حكم الجعالة أن المستعمَل المجعول له [له] (1) الخيار في ترك عين [العمل] (2)، فإن حكمنا بأن هذه المعاملة جعالة، لزم أن يجوز للمشركين بعد الوقوف في الصف أن ينصرفوا أو يتركوا العمل، وهذا الذي جوّزناه يُفضي إلى خَرْمٍ عظيم، لا سبيل إلى احتماله، فلا وجه إلا حمل المعاملة على الإجارة، واحتمال ما فيها من الجهالة. وقد يرد على هذا الكلام سؤال وجواب عنه، وهو أن أهل الذمة لو حضروا بإذن الإمام (3)، ثم أرادوا الانصراف بعد التقاء الزحفين، فالرأي أنهم يمنعون من ذلك لما فيه من الضرار، وإن لم يكونوا من أهل الجهاد، لا إذا كان فرضاً على الكفاية، ولا إذا تعين. ولكن سبب منعهم من الانصراف ما في ذلك من النكاية في المسلمين، فلا يبعد حمل المعاملة على الجعالة، حتى يحتمل مافيها من الجهالة، ثم يمتنع انصرافهم لما ذكرناه من امتناع انصرافهم لو خرجوا من غير جعل ولا أجرة إذا وقفوا في الصف. 11315 - ولو أراد الإمام أن يستأجر عبيد المسلمين على الجهاد فهذا بناه الأئمة على أصلٍ. والترتيب فيه أنا إن جوّزنا للإمام أن يستأجر المسلمين الأحرار على ما صار إليه طوائف من الأصحاب، فيجوز أيضاً استئجار عبيد المسلمين. وإن منعنا استئجار الحرّ المسلم، فاستئجار العبد خرّجه الحذّاق على الخلاف الذي

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: " الجعل ". (3) بإذن الإمام: أي من غير عقد معه. فلا إجارة، ولا جعالة.

حكيناه في أن العبيد هل يتعين عليهم الجهاد إذا وطىء الكفار طرفاً من بلاد الإسلام؟ فإن قلنا: يتعين عليهم، فهم إذاً من أهل القتال، فإذا وقفوا في الصف وهم مسلمون يتعين عليهم المصابرة ديناً، فيكون استئجارهم بمثابة استئجار الأحرار. وإن قلنا: العبيد لا يتعين عليهم الجهاد إذا وطىء الكفار بلاد الإسلام، فقد بان أنهم ليسوا من أهل الجهاد، حتى يفرض وقوع الجهاد عنهم إذا اصطف الحزبان، فاستئجارهم كاستئجار أهل الذمة. 11316 - ومما يتعلق باستئجار أهل الذمة أن الإمام لو لم يستأجرهم، وأخرجهم قهراً، فقد أساء، فإذا كلفهم الخروجَ والقتال، فإنه يلتزم أجرَ مثلهم، فإن أخرجهم قهراً، كما وصفنا، ثم خلاّهم، فعليه أجرتهم من وقت الإخراج إلى وقت التخلية، ولا يضمن أجر مثله بعد التخلية إلى أن يعود إلى وطنه، لأن منفعته عادت إلى يده، فلئن كان يبغي الرجوعَ إلى وطنه، فليفعل ما بدا له. ولو استسخر الإنسانُ حُرّاً، غرِم له مثلَ أجر منفعته، وإذا حبسه ولم يستعمله، ففي المسألة وجهان ذكرناهما في الغصوب، وليس ما ذكرناه من تخلية الكافر بمثابة الحبس؛ فإن الكافر غيرُ ممنوع عن التقلب بعد التخلية، بخلاف الحرّ المحبوس؛ فإن منفعته تفوت عليه، ومن قال: لا ضمان على حابس الحر، فمتعلّقه أن منفعته تَلِفَتْ تحت يده، ولم يتلفها عليه الحابس بالاستعمال والاستئجار. 11317 - ومما أجريناه في قَسْم الغنائم، ونحن نعيده الآن: أن أهل الذمة إذا حضروا الواقعة بإذن الإمام، فيستحقون الرضخ، وإن حضروا بغير إذن الإمام، أو نهاهم الإمام، فلم ينزجروا، وحضروا، فللأصحاب اضطرابٌ في ذلك: والمسلك المرضي أنهم لا يستحقون الرضخ إذا لم يكن شهودهم وخروجهم بإذن الإمام، أو بإذن من إليه الأمر؛ فإنهم ليسوا من أهل الذب عن الإسلام، ثم إذا لم يكن إذنٌ، فلا فرق أن يحضروا من غير نهي وزجر، وبين أن ينهاهم صاحب الراية، فيشهدوا مراغمين. ومن أصحابنا من قال: إذا شهدوا من غير نهي وزجر، ولا إذن، فلهم الرضخ؛ فإنهم بالعهد المؤبد صاروا على الجملة من أهل الدار، ولم يبد منهم تخذيل. حتى

تردد هؤلاء الأصحاب في استحقاق المراغمين المزجورين. وهذه الطريقة ضعيفة. والعجب أنا اقتصرنا عليها في قسْم الغنائم، ولم نذكر الطريقة الصحيحة، وقد أتينا بها الآن، وكتاب القَسْم وكتاب السِّير تتداخل فصولهما، فإذا ألفى الناظر نقصاناً في أحد الكتابين، فليدبّر ذلك الفصلَ من الكتاب الثاني. 11318 - ولو قهر الإمام طائفةً من المسلمين، وأخرجهم إلى الجهاد، لم يستحقوا أجر المثل؛ فإنهم من أهل الجهاد، فالجهاد يقع عنهم، هكذا ذكره الصيدلاني وغيره، وهذا يدلّ دلالة ظاهرة على أن استئجار المسلمين على الجهاد غيرُ لازم، والعجب أن الصيدلاني قطع باستئجار المسلمين للإمام، ثم قال: لو أخرجهم قهراً، لم يلزم لهم أجر، ولو صح جواز الاستئجار، فالظاهر أنه لو أخرجهم قهراً، أدّى أجرَ مثلهم من المال الذي لا يؤدى منه الأجر المسمى، والله أعلم. وإذا كان الجريان على الأصح، وهو امتناع حقيقة الاستئجار، فيطّرد على هذا أنه من سمى شيئاً للمسلمين، فهو تجهيز لهم وإمداد بالعتاد والزاد، فعلى هذا إذا قهرهم وأخرجهم لم يستحقوا أجراً. قال الصيدلاني: لو عين الإمام شخصاً، وألزمه غسل الميت ودفنَه، فليس لذلك المقهور أجرٌ على عمله، وهذا الذي ذكره فيه فضل تدبر؛ فإنا نقول: إن كان لذلك الميت تركة، فأجرةُ من يتولى هذه الأعمال من تركته، فإذا قُهر شخصٌ والحالة هذه، استحق المقهور الأجر. وإن لم يخلف الميت شيئاً، وكان في بيت المال متسع لتجهيز الموتَى، فيجب ذلك على الإمام من مال بيت المال، وإن لم يكن، فأراد الإمام أن يعين واجداً (1)، فلا معترض عليه، وإذ ذاك يتجه أن يقال: لا أجر له. وقد قدمنا أن الإمام لو عين طائفة، وأمرهم بالخروج للجهاد، لم يكن لهم أن يخالفوه، ثم هو في نفسه لا يلي شيئاً من أموره على الخِيرة العريّة عن الاجتهاد

_ (1) واجداً: أي غنياً مليئاً ذا مال.

والنظر، وإنما يتعين [غير] (1) المرتزقة إذا حَقت الحاقة، ومست الضرورة، [فإن لم] (2) تكن، اكتفى بإنهاض المرتزقة، فإنهم المستعدون لهذا الشأن. 11319 - ولو أخرج الإمام أهل الذمة قهراً، أو حملهم على القتال، التزم لهم أجر المثل، كما ذكرناه، فإن أخرجهم قهراً، فلم يقفوا يوم القتال، فلهم أجر مثل الذهاب، وإن وقفوا ولم يقاتلوا، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لهم أجر الوقوف، قال: بدليل أنه يتعلّق به استحقاق السهم، ومنهم من قال: الوقوف ليس بعمل يتعلّق به الأجر، وإن كان يتعلق استحقاق السهم إذا صدر من أهله. والمسألة محتملة، فإن لم نجعل الوقوف عملاً نظر: فإن لم يكونوا تحت حبس المسلمين، فلا شيء لهم على مقابلة الوقوف. وإن كانوا محبوسين ممنوعين عن الانكفاف، فسبيلهم كسبيل الحرّ المحبوس الذي لا يستعمل، وقد ذكرنا الخلاف فيه. ولو كان المخرَج قهراً عبيداً، فلهم أجرهم، وإذا حبسوا [على] (3) الوقوف ولم نر الوقوفَ عملاً، فحبس العبيد يوجب الأجرَ بخلاف أجر الحر. 11325 - ثم اختلف أصحابنا في أن الإمام يبذل الأجر من أي مالٍ، يعني أجر المقاتلة؟ أما إذا قُهروا أو استُئجروا، فمن أصحابنا من قال: يُخرَج أجرهم من رأس مال الغنيمة، فإن أثر قتالهم تعلّق بحيازة المغنم، ومنهم من قال: يعطيهم الإمام من سهم المصالح. 11321 ثم إذا وضح أن الإمام يستأجر الذمي، فلو أراد واحد من المسلمين أن يستأجر ذمياً ليجاهد، فالذي أطلقه الأصحاب أنه لا يجوز؛ لأنه لا مدخل للنيابة في الجهاد، وليس لآحاد المسلمين التصرف بالمصلحة العامة. وهذا فيه احتمال عندنا تخريجاً على استئجار المسلم على الأذان، ولا فقه في انفصال أحد البابين عن الثاني

_ (1) في الأصل: " عين ". (2) في الأصل: " فلم ". (3) في الأصل: " عن " والمعنى إذا أُرغموا على الوقوف.

بثبوت الفرضية في أحدهما بعد ما تحقق استواؤهما في أن النيابة لا تتطرق إلى واحد منهما. 11322 - ثم قال الشافعي: " ويبدأ الإمام بقتال من يليه من الكفار ... إلى آخره " (1). والأمر على ما ذكره. وقد صرح القرآن بها. قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ووجه المصلحة في ذلك ظاهر، ثم ظاهر الأمر أن ما ذكرناه على المعتاد الغالب، فإن لم يكن من الأقرب خوف، واقتضت الإيالة تجهيزَ جندٍ إلى الأبعدين لغائلة محذورة منهم. فعلى الإمام في ذلك ما يقتضيه الرأي، وقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، وخلَّف بني قريظة، وهم على باب المدينة. 11323 - ثم ذكر الشافعي باباً مترجماً بالنفير (1)، ومضمونه تحقيق كون الجهاد من فروض الكفايات إذا كان الكفار قارّين، وهذا قد تقدّم مفصلاً، فلا حاجة إلى إعادة شىء من مضمون هذا الباب. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 182.

باب جامع السير

باب جامع السير 11324 - قال الشافعي في أول هذا الباب الذي ننتهي به: " القتال يختلف باختلاف المشركين، وهم قسمان: قسم ليس لهم كتاب، ولا شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان والنيران، وما استحسنوه، فهؤلاء نقاتلهم حتى نقتلَهم أو يسلموا، فالسيف عليهم إلى الإسلام. وهم المعنيون بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وإياهم عنى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " (1). وقسم من المشركين لهم كتاب، كاليهود والنصارى، أو شبهة كتاب كالمجوس، فهؤلاء نقاتلهم حتى يسلموا، أو يقبلوا الجزية. قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. ثم أجرى [الشافعي] (2) فصولاً قدمناها مستقصاة في قَسْم الغنائم، فلا حاجة إلى إعادة شيء منها، وإن جدّدنا تراجمها، لم يضرّ، فمنها أحكام الأسرى، وقد ذكرنا أن أمرهم مفوّض إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى قَتْلَهم، قَتَلَهم، وإن رأى رَقَّهم (3)، أرقّهم، وإن رأى منّ عليهم، وإن أراد، فاداهم، وإن أراد أن يحبسهم حتى يُخمِّر رأيه فيهم، وهذا في الرجال. والذراريُّ والنساء يُرقُّون بنفس السبي. ثم ذكر بعد ذلك السَّلَب، وكيفية قَسْم الغنائم، والقول في الفارس والراجل،

_ (1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ... " سبق تخريجه. (2) ر. المختصر: 5/ 183. وهذا ليس نص الموجود في المختصر، بل فيه شيء من التصرف. (3) رَقَّه: أي جعله رقيقاً، وضرب عليه الرق.

وصحة القسمة في دار الحرب. والكلام في أن الأُجَرَاء والتجار والأسرى هل يستحقون السهمَ إذا حضروا الوقعة. وقد تقصينا جميع ذلك على أبلغ الوجوه في البيان. فصل قال: " ولهم أن يأكلوا ويعلفوا دوابهم ... إلى آخره " (1). 11325 - طعام المغنم فوضى (2) بين الغانمين، ينبسطون فيه على حسب الحاجة، ولا يوقف على القسمة، والأصل في الفصل ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: " كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء " (3) وروى عبد الله بن المغفل قال: " دُلّي جراب من جدار خيبر، فالتزمتُه، وفيه شحم ولحم، فأخذوني (4) أصحابي، فكنت أجاذبهم، ويجاذبونني، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراءنا يبتسم، ولم ينكر علينا " (5) وعن عبد الله بن عمر قال: " أصبنا في بعض الغزوات طعاماً وعسلاً، فأكلنا منه، ولم يُخَمَّس " (6).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 184. (2) فوضى: أي شركاء فيه، يتصرّف كل واحد منهم في جميعه بلا نكير. (3) حديث: عبد الله بن أبي أوفى " كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء " قال ابن الصلاح في شرح مشكل الوسيط: " لم يُذكر في كتب الحديث الأصول، غير أن في سنن أبي داود عن ابن أبي أوفى: أصبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر طعاماً فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدارَ ما يكفيه " ا. هـ هذا. والحديث رواه أيضاً الحاكم، والبيهقي. (ر. شرح مشكل الوسيط (بهامش الوسيط): 7/ 32، 33. أبو داود: الجهاد، باب في النهي عن النهى إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو، ح 2704، الحاكم: 2/ 126، البيهقي: 9/ 60، التلخيص: 4/ 209 ح 2262، 2263). (4) كذا: على لغة أكلوني البراغيث. (5) حديث عبد الله بن مغفل " دلي جراب من جدار خيبر وفيه شحم ... " في الصحيحين، ولكن ليس فيها قوله " فأخذوني أصحابي ". (ر. البخاري: الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، ح 1353. مسلم: الجهاد والسير، باب جواز الاكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، ح 1772. التلخيص: 4/ 209 ح 2263). (6) حديث ابن عمر " أصبنا في بعض الغزوات طعاماً وعسلاً ... " رواه أبو داود، وابن حبان، والبيهقي. ورجّح الدارقطني وقفه (ر. أبو داود: الجهاد، باب في إباحة الطعام في أرض=

والمعتمد في مقصود الفصل الأخبارُ، والذي تخيله العلماء من الأمر الكلي أن حاجات الغزاة تمس إلى الطعام، والغالب أنهم لا يَلْقَوْنَ في ديار الحرب أَسْوُقاً قائمة، فأطلق الشرع أيديَهم فيما يصادفونه من طعام المغنم، ينبسطون فيه على قدر الحاجة، والفقيه لا يلتزم طردَ معاني الأصول على حدود الأقيسة، وإنما يَنْظم فيها أموراً كلية. ومقصود الفصل يتعلّق بأنواعٍ: أحدها - في جنس ما يجوز التبسط فيه، والآخر - في المكان، والآخر - في حدّ من يجوز له الأخذ. أما الجنس، فالمعتمد أن يكون مقتاتاً أو يكون علفاً تستقلّ الدّواب به، كالشعير والتبن وما في معناهما، فأما الأدوية والعقرات (1) التي لا تستعمل إلا دواءً، فالأيدي مكفوفة عنها إلى أن تقسم؛ فإن مسيس الحاجة إليها تُلحق بالنوادر، حتى قال الأصحاب: لو مَرِض من الجند واحدٌ أو جمعٌ، فلا تصير الأدوية في حقهم كالأقوات والعلف. ولكن إنما يأخذونها بقسمةٍ أو بذل قيمة، كما لو مست الحاجة إلى الثياب وغيرها. والمطعومات التي لا تعدّ للحاجات العامة ملتحقة بالأدوية كالسكّر، والفانيذ، وما في معناهما. وأما ما يطعم غالباً، وليس من الأقوات كالفواكه، ففي جواز التبسط فيها وجهان: أحدهما - يجوز لما روينا مطلقاً عن ابن أبي أوفى أنه قال: " كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء ". والوجه الثاني - أنه لا يجوز؛ لأن الحاجة لا تتحقق فيها، ويمكن أن نفصل بين ما يتسارع الفساد إليه، ويعسر نقله، وبين ما لا يتسارع الفساد إليه. فإذاً الأقوات والعلف محلُّ التبسط، والأدويةُ والأطعمة التي لا يعم أكلها في أعيانها ملتحقة بالثياب، وفي الفواكه التي يعم اعتيادها الخلافُ الذي ذكرناه، فأما الحيوانات، فما تيسّر من سوقها تساق، والغنم تذبح، والأصح أن مسلكها مسلك

_ =العدو، ح 2701، ابن حبان، ح 4805، البيهقي، 9/ 59، التلخيص: 4/ 208 ح 2260). (1) كذا: " العقرات " وواضحٌ أن المراد بها أصول الأدوية، والمنصوص في المعاجم أن مفردها (عَقَّار) بوزن عطّار، وجمعها (عقاقير).

الأطعمة؛ فإن الأغنام في الشرع كالأطعمة الضائعة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأغنام الضالة، للسائل عنها: " هي لك أو لأخيك أو للذئب ". وقال العراقيون: يجوز ذبحها وإن كان يتيسّر سوقها كما ذكرنا، ولكن هل يغرَم من ذبحها وأكلها قيمتها؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يغرَم كسائر الأطعمة. والثاني يغرم؛ لأنها لم تكن أطعمة في أعيانها، وإنما وردت الأخبار والآثار في أطعمة المغنم. وهذا الوجه ضعيف، لأنه يمنع من تسليم جواز الذبح. وقد نجز القول في الجنس. 11326 - فأما الكلام في بيان الحاجة والتفصيل في التبسط، [فالغانمون] (1) يأخذون من الأطعمة أقدار حاجتهم إلى الكفاية التامة، أما الزيادة على الحاجة، فلا. ولو كان لواحد منهم من الأطعمة والعلف المستصحب ما فيه كفاية، فله الأخذ من طعام المغنم أيضاً في أصل الوضع، فإن الأخبار لا تفسير فيها، وإنما مقتضاها كون الأطعمة فوضى بينهم، فإن قيل: ما معنى ما ذكرتموه من الحاجة ومن معه كفايته لا حاجة به؟ قلنا: الحاجة إلى الاقتيات والعلف قائمة، فله صرف طعام المغنم إليها، وإمساكُ ما معه. ثم قال المحققون: إذا قل الطعام، وازدحم الجند، وقد يُفضي الازدحام إلى النزاع، فإذا استشعر قائد الجند ذلك، أثبت يده على الطعام، وقسمه -إذا قل الطعام- ْعلى أقدار الحاجات، ويقول لمن معه ما يكفيه: اكتف بما معك، ولا تزاحم أصحاب الحاجات من الجند، وإنما كنت تشاركهم فيه لو أشبع الطعامُ. ثم قال الأئمة: تُرعى حاجة الأكل والعلف فحسب، فلو مست الحاجات للغانمين إلى توقيح (2) دوابّهم بالشحم الذي صادفوه، ففي المسألة وجهان: أظهرهما، وأصحهما - أن ذلك لا يجوز، ولا نزيد على الطعم والعلف، والتوقيح خارج من ذلك.

_ (1) في الأصل: " والغانمون ". (2) توقيح: من وقّح حافر الدابة: صلّبه بالشحم المذاب (المعجم).

ومن أصحابنا من قال: لا يمنع التوقيح؛ فإنه متصل بضرورة العلف. وهذا ضعيف غير معتد به، لأنه خارج عن التطعم والعلف، والأخبار فيها. وهو أيضاً نادر، وقد ألحقنا ما يطعم نادراً بالثياب، فما الظن بما لا يستعمل طعاماً. وهذا في التحقيق استعمال طعام في غير مطعم، ولأجل ذلك اختلف الأصحاب. وقال الأئمة: لو ذبح الغانمون أغناماً ردّوا جلودها على المغانم، فإن أكلوا جلودها على لحومها سمطاً، فلا بأس، ثم ما يأكلونه، وينبسطون فيه غير محسوب على أحد، وكأن الشارع أضافهم (1) عليه. وقال المحققون: لو أتلف واحدٌ من الغانمين شيئاً من طعام المغنم، ضمنه، وكان ما يبذله (2) مردوداً على المغنم؛ فإنه أتلف يوماً، ولم يستعمله في الجهة التي سوّغ الشرع استعماله فيها، وكان إتلافه بمثابة إتلاف الثياب وغيرها. ولو أخذ بعضُ الغانمين ما يزيد على حاجته من الطعام، وأضاف عليه جمعاً من الغانمين، جاز؛ فإنه تولى تعبَ الإصلاح والطبخ، ورجع الطعامُ إلى الغانمين. ولو أراد أن يُطعم أجنبياً ليس من الغانمين، لم يكن له ذلك. وعلى الأجنبي الضمان، والمقدِّم إليه من الغانمين في حكم الغاصب يقدّم الطعام المغصوب إلى إنسان، ثم التفاصيل لا تخفى في علم الضيف وجهله. 11327 - ولو أخذ بعض الغانمين شيئاً من الطعام، وأقرضه صاحباً له، فالأصح أن هذا الإقراض ليس بشيء؛ فإن الغانم لا يملك ما يأخذه وإنما له حق الانتفاع، والغانمون في أطعمة المغنم كالضيفان فيما قدّم إليهم، فليأكلوا، ويتمتعوا، فأما الإقراض والبيع، فلا مجيز له. وذكر الصيدلاني وغيره من المعتبرين أن الإقراض يتعلق به حكم، فإن الآخذ مقدارَ الحاجة يصير أوْلى [به] (3)، ويثبت له حق اليد فيه، وفائدة هذا الوجه أنه يطالبه بما

_ (1) أضافهم عليه: أي جعلهم ضيوفاً واستضافهم. (2) ما يبذله: أي ما يغرمه ضماناً لما أتلفه من طعام. (3) زيادة لاستقامة العبارة.

أخذه أو بمثله، ما داما (1) في دار الحرب، فإن اتصل الجند بدار الإسلام -كما سنصف، إن شاء الله تعالى، القول في المكان- فالمستقرض لا يرد على المقرض شيئاً، فإنه انقطعت حقوق الغانمين عن الأطعمة بالتعلّق بدار الإسلام. والإمام يأخذ من المستقرض على هذا الوجه الضعيف (2) ما استقرضه إذا كانت العين باقية، ثم إن أمكن ردُّه إلى المغنم، فعل، وإن تفرق الجند وعسر فضّ مُدٍّ من طعامٍ على مائة ألف، فقد قال الصيدلاني: الإمام يصرفه إلى خمس الخمس، عنى بذاك سهمَ المصالح، ويجعل كأن الغانمين أعرضوا عنه، وقيل: سبيله سبيل الفيء، وكأنه خرج عن حكم المغنم، وهذا ضعيف لا أصل له، إذ لو كانوا كذلك، لما وجب الرّد إلى المغنم إذا أمكن الردّ. وقد اتفق الأصحاب على وجوب ذلك. فإذاً المذهب فساد القرض، وتفريعه أن المستقرض كالآخذ بنفسه، فإن أكله في دار الحرب، فلا تبعة، وإن بقي معه حتى تعلّق بدار الإسلام، فإنه يردّه إلى المغنم على تفاصيلَ سنذكرها إن شاء الله تعالى. والوجه الذي ذكره الصيدلاني أن للمقرض مطالبة المستقرض ما داما في دار الحرب، وهذا نص الشافعي: " فإذا خرج إلى دار الإسلام، فالردّ على الإمام " (3) إذا كانت العين قائمة، فأما إذا أُكل واستُهلك، وتعلقا بدار الإسلام فالذي قطع به كل محقق أنه لا يطالَب المستقرض بشيء. وإن كانت العين قائمة، وتيسّر الردّ إلى المغنم ردّ، وإن تعذّر، ففيه التردّد الذي ذكرناه. فخرج مما ذكرناه أن تصحيح القرض لا يفيد إلا مطالبة المقرض المستقرضَ ما دام في دار الحرب، فأما العين إذا كانت قائمة ردّها أو ردّ مثلها من طعام المغنم، وكأنه ألزمه بالإقراض أن يحصّل من طعام المغنم ما يماثل ما أخذه، فإن لم يكن في المغنم غير ما أخذ، وقد أُكل الباقي، ردّ ما أخذ، وإن أتلفه، فلا طِلْبَةَ عليه، إذا لم يكن

_ (1) ما داما: أي المقرض والمقترض. ثم هذا في إقراضه غانماً آخر، أما غير الغانمين، فلا يجوز إقراضهم أصلاً، وإذا أقرض الغانم أجنبياً، وجب على المفترض ردّه إلى المغنم (ر. الروضة: 10/ 265). (2) الوجه الضعيف القائل بجواز المطالبة. هذا. وقد عرض النووي الوجهين، ولم يرجح واحداً منهما. (3) ر. المختصر: 5/ 184. وهذا معنى كلام الشافعي لا بنصه.

في المغنم طعام، لأن حق [اليد] (1) لا يضمن بالقيمة، كما لو قتل رجل كلبَ (2) إنسان، أو أتلف عليه زبلاً. ولو جاء بصاع من ملك نفسه، لم يأخذه المقرض، فإن ما جاء به ملك المستقرض، وما أعطاه لم يكن ملكَه، ومقابلة المملوك بغير المملوك لا تصح، فرجع الكلام إلى أن الإقراض يُلزم المستقرض ردَّ ما أخذ أو ردَّ مثله من طعام المغنم ما داما في دار الحرب، فإذا اتصلا بدار الإسلام، انقطعت التبعة بينهما. 11328 - ولو باع واحدٌ من الغانمين صاعاً من طعام المغنم بصاع منه، فالقول في البيع كالقول في القرض. والوجه القطع بفساد البيع؛ فإنه تعاطٍ وتبادل كما يفعله الضيفان، فيسلم ضيفٌ لقمة إلى صاحبه، ويأخذ لقمة، ولا مؤاخذة، وعلى حسب هذا قيل: إذا تبايع الغانمان بما أخذاه صاعاً بصاعين، فلا بأس بذاك، وهو تبادل وليس بتبايع. والصيدلاني لما ذكر في القرض ما ذكره، وعزاه إلى النص، قطع في البيع بأنه ليس بيعاً على الحقيقة، وشبه صورة البيع بما ذكرناه من التعاطي الجاري بين الضيفان، ثم ذكر فصل القرض على ما حكيناه. وهذا تناقضٌ بيّن؛ فإن القرض إن كان يُلزم أمراً، فالبيع يجب أن يُلزم أحدَهما [أن يردّ] (3) صاعاً إلى صاحبه [لا] (4) بجهة البيع، [فلو امتنع] (5) الآخذ من ردّ صاع، [فيجب تنزيل هذا] (6) منزلةَ القرض في إثبات المطالبة، هذا لا بدّ منه إن صح القول في القرض، وإن طردنا القياس، أفسدنا أثر البيع والقرض جميعاً، وهو الذي قطع به

_ (1) في الأصل: " السيد ". (2) يضرب الكلب والزبل مثالاً لما تثبت عليه اليد، ويختص به صاحبه، ولكنه لو أتلف لا يضمنه المتلف بالقيمة. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (5) في الأصل: " وامتنع ". (6) عبارة الأصل: " فيجب على تنزيل هذا ".

القاضي ومعظم المحققين. نعم. لو باع صاعاً بصاعين، وفرعنا على تنزيل البيع في إثبات حكم المطالبة في دار الحرب منزلة القرض، ففي هذا تدبّر، فإن سلم صاعاً لم يملك إلا طلبَ صاعٍ تشبيهاً بالقرض، وإن بذل صاعين، لم يطلب إلا صاعاً، ويحمل الزائد على البذل، فإنه لم يقصد ببذله إلزام عوض في مقابلته، هذا هو الممكن. والتفريع محيط على الأصل الخارج عن الضبط والقياس (1). 11329 - ومما نتكلم فيه المكان: فالجند ما داموا في دار الحرب ينبسطون في الطعام لما ذكرنا، وإن تعلّقوا بأطراف عُمران الإسلام، وتمكنوا من شراء الطعام والعلف، كفوا أيديهم، وإن تعلقوا بأطراف دار الإسلام، ولا عمارة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنهم لا ينبسطون؛ فإن الرخصة تثبت في دار الحرب لا غير والثاني - أن التبسط جائز لدوام الحاجة. ولو كانوا يجدون في دار الحرب ما يشترون من الأطعمة، فلم أرَ أحداً من الأصحاب يمنع التبسط بهذا السبب، ونزّلوا دار الحرب في أمر الطعام منزلة السفر في الرخص، فإن الرخص، وإن ثبتت في مقابلة مشقات السفر، فالمترفّه الذي لا كلفة عليه يشارك المشقوق عليه في سفره، فهذا ما يجب القطع به، إلا أن يدخل الجند في بلاد مضافة إلى الكفار يقطنها أهل الذمة والعهد، لا يشاركهم في المساكنة مسلم، فإذا كانت هذه الدار في قبضة الإسلام، وكان أهلها ملتزمين أحكامنا، فهي بمثابة ديار الإسلام في الحكم الذي نطلبه.

_ (1) ولعل من المناسب أن نذكر عبارة الغزالي في البسيط عن هذه المسألة، قال رضي الله عنه: " فأما إذا جرى بيع صاع بصاع مثلاً من طعام المغنم، فلا ينعقد البيع؛ إذ لا تملّك، والصحيح أنه لا حكم له كما في القرض على الظاهر. وقطع الصيدلاني في البيع بالبطلان، وفي الإقراض بإثبات حكم، وهو تناقض، بل ينبغي أن يقال: بيع الصاع اقتراض من كل وجه يستعقب من اللزوم ما يستعقبه الإقراض؛ حتى لو باع صاعاً بصاعين لم يطالِب إلا بصاع واحد، فإنه في حكم القرض، ولو باع صاعين بصاع لم يطالِب إلا بصاع واحد؛ فإن الصاع الآخر بذله من غير قصد العوض " (البسيط: 5/ورقة: 163 شمال).

وإن كان الكفار معنا في مهادنة، [ولا] (1) يستسلمون لأحكامنا، ولكنهم لا يؤذون من يطرقهم من المسلمين، وقد لا يمتنعون عن المبايعة والمشاراة، فإذا كان كذلك، فالأظهر وجوب كف اليد عن أطعمة المغنم إذا ظهر التمكن من تحصيل الطعام، وإن لم تكن ديار المعاهَدين المستمسكين بالهدنة مَعْزيّة (2) إلى ديار الإسلام. وإذا أخرجنا (3) ديار أهل الذمة، وديار المعاهدين، فنعتبر (4) بفَصْل طروقنا ديار الكفار، وهم يختلطون بنا في المعاملة، ولا عهد ولا أمان، [فما ذكرناه] (5) من تصوير وجود الطعام عسر، فإن أمكن ولم يكن عهد، فجوابه ما قدّمناه. 11335 - ومما يتصل بتتمة الفصل أن الغانمين إذا تعلّقوا بديار الإسلام وحرم عليهم ابتداء الأخذ، فلو كان معهم فضلاتٌ من الطعام التي أخذوها في دار الحرب، فهل يلزمهم ردّها؟ فظاهر المذهب أنه يلزمهم الردّ، وحكى الصيدلاني وغيره قولاً عن سِيَرِ الأوزاعي أنه لا يلزم الرّد، فإنه بقيّةُ مأخوذٍ على سبيل الإباحة، فلا يُمنع. فانتظم قولان: أحدهما - وجوب الردّ، والثاني - أنه لا يجب الردّ. وكان شيخنا يفصّل بين ماله قدرٌ وقيمة، وبمثله احتفال، وبين كَسْر الخبز ونَفَض السُّفَر (6)، وبقايا الأَتْبان في المخالي، ويقول: القولان في هذه الأشياء، فأما ما يُقصد، وينتحى، فمردودٌ وفاقاً، وغيره من الأئمة لم يفصّل هذا التفصيل. وأنا أقول: إن حمل الغازي من الطعام ما يغلب على الظن مع السير الدائم وتواصل التناقل أنه يفضل منه شيء عند الاتصال بدار الإسلام، فهذا مردود، وليس له حكم الفضلات.

_ (1) في الأصل: " فلا ". (2) معزيّة: من عزا يعزي؛ فالفعل واوي ويائي. (3) أخرجنا: أي استثنينا كما هي عبارة الغزالي. (4) فنعتبر: أي نقيس على ما قلناه في فصل طروقنا ديار الكفار. (5) في الأصل: " مما ذكرناه ". (6) الكَسْر بفتح وسكون: النزر اليسير، والنَّفَض: بفتح النون والفاء: المنفوض بمعنى ما يتساقط من الشيء عند نفضه. (ر. اللسان. والمعجم) ويمكن أن يُضبطَ الكِسَر (بكسر الكاف وفتح السين): جمع كِسْرة.

وإذا بانت الصور، فالخارج منه: أن [ما] (1) ينفصل عن المحمول الذي يبعد مسيس الحاجة إليه في دار الحرب- مردود، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف، وما يفضل عن محمول لا يبعد [استيعاب] (2) أكله في دار الحرب، فإذا اتفق الفضل، فهذا محلّ التردد، ثم للأصحاب طريقان: منهم من أجرى القولين وإن كان الفاضل بحيث يقصد إذا كان على الحدّ الذي ذكرناه، ومنهم من خصص [بالفُتات] (3) والكَِسر، وإذا ضممنا التردد في محل القولين إلى أصل وضعهما، انتظم من المجموع ثلاثةُ أقوال: أحدها - الرّد، والثاني - أنه لا يردّ. والثالث - أنه يفصل بين ما يفضل، وبين النَّفَض والكِسر. ثم إذا أوجبنا الرد، فإن كان ذلك قبل قسمة الغنائم، فالفاضل مردود إلى المغنم، ثم القسمة توصل كلَّ ذي حق إلى حقه. وإن قسمت الغنائم، وأمكن فض فاضل الطعام على نسب القسمة، فعلنا، وإن تفرق الغانمون، وعسر فضُّ هذا الفاضل النزر عليهم، فقد قال الصيدلاني: من أصحابنا من قال: هو مردود إلى سهم المصالح، وهذا فيه غفلة؛ فإن إخراج الخمس منه ممكن، وإنما هذا في الأربعة الأخماس، ثم ينقدح فيها الخلاف الذي ذكرناه [في] (4) الإقراض. ويبين بهذا أن استرداد العين من المستقرض إن كانت باقية في يده كيف يقع؟ وما سبيله؟ وحاصل ما تحققتُه وجهان: أحدهما - أن حكم الاستقراض ينقطع بالتعلّق بدار الإسلام، ويصير المستقرض كآخذٍ لنفسه طعاماً إذا فضل منه شيء، ثم تخرج فيه الأقوال على تفاصيلها، ومن أصحابنا من قال: إذا كانت العين باقية في يد مستقرضها، فهي مستردّة قولاً واحداً؛ فإنه ما أخذ الطعام على حكم تبسط الغزاة، فإن استرددنا منه المستقرَض التقى التفريع على ذلك، والتفريعُ على فاضل طعام الغازي إذا لم يستقرض.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: " استباق ". (3) في الأصل: " القتال ". (4) زيادة من المحقق.

فرع: 11331 - إذا لحق الجندَ مددٌ بعد انجلاء الحرب، وحيازة المغنم، فهل يشتركون في أطعمة المغنم حتى يتبسطوا فيها تبسط الغانمين؟ فيه وجهان لا يخفى على من أحاط بالأصول توجيههما. فصل قال: " وما كان من كتبهم فيه طبٌّ ... إلى آخره " (1). 11332 - الكتب المباحة في الإسلام، ككتب الطب والحساب، وما يحل تعلّمه- سبيلها سبيل سائر الأموال تقسم بعد التخميس على الغانمين، وأما الكتب المحرمة، فقد مثلها الأصحاب بكتب الشرك والهُجْر من الأشعار، ثم قالوا: إن تمكن الانتفاع بأوعيتها، مُحي ما لا يجوز تركه، وردّت الجلود والأوعية إلى المغانم، وإن لم يكن عليها جلود ينتفع بها، ولا أوعية، فسبيلها أن تمحى، وإذا كان لا يتأتى محو ما فيها إلا بالتمزيق والإحراق، فعلنا ذلك، ولم نتركها في أيدي الناس. هذا ما ذكره الأصحاب. وفيه بقية نظر على المتدبّر، فأما الهُجر والخنا والفحش الذي لا خير فيه، فالأمر على ما ذكره الأصحاب، وأما كتب الشرك، فقد يخطر فيها للفطن أنها يُنتفع بها، على معنى أن الحاجة تمس إلى الاطلاع على مذاهب المبطلين، حتى إذا عرفت، اتجه الردّ عليها بمسالك الحق، فإن كانت تلك المقالات مشهورة، فالرأي إبطالها، وإن كان فيها ما لم يتقدم الاطلاع عليه، ففيه تردد واحتمال بيِّن. 11333 - ثم قال الأصحاب: المباحات في دار الحرب كالحطب والحشيش والصيد سبيلها كسبيل المباحات في دار الإسلام، فهي لمن أخذها، وإذا كنا نقضي بأن الحربي إذا اصطاد من ديار الإسلام، يملك ما اصطاده، فلا يخفى أن ما يأخذه [المسلم] (2) يملكه، والقصد بإيراد الفصل في هذا المكان، قطعُ ظن من يظن أن

_ (1) ر. المختصر: 5/ 184. (2) زيادة اقتضاها السياق.

ما يؤخذ من الأموال المباحة بمثابة المغانم، لأنه لا يتصوّر الوصول إليها إلا مع الاستظهار بعُدّةٍ (1)، فقد يحسب الناظر أن سبيل المأخوذ كسبيل الغنيمة، أو كسبيل الفيء، وليس كذلك؛ فإن المغنم والفيء ما كان ملكاً لأهل الحرب، فأظهَرَنا [الله] (2) عليه، إما بقتال، أو برعب من غير إيجاف خيل وركاب، والمباحات هي التي لم يتعلّق بها ملك. ثم قال الأئمة: إذا وجد في الصيد ظبية مقرّطة، أو مقرطقة، والمقرط الذي جعل في أذنه القرط، والمُقَرْطَق هو الذي جُزّ صوفه على علامة كالقَرْطَق (3)، فنعلم أن هذه الظبية مملوكة لمن صادها (4)، فإذا وجدناها في دار الحرب، فقد تساهل الأصحاب، وقالوا: سبيلها كسبيل الغنيمة. وهذا يجيء على مذهب المسامحة، فإن كل ما يؤخذ من أملاك الكفار لا يكون غنيمة، بل المغنوم ما يؤخذ قهراً بقتالٍ ومكاوحة، وقصدٍ ودفع، وما يتفق الظهور عليه من غير مناوشة وقتال، فسبيله سبيل الفيء. والغرض مما نذكره يبين بتفصيلٍ: فنقول: كل ما لو وجد في دار الإسلام، لكان لقطة، فإذا وجد في دار الحرب، فهو مُجرى على ملك الكفار، ثم أخذه يتصوّر من ثلاثة أوجه: أحدها - المغالبة، فما كان كذلك، فهو غنيمة، والآخر - أن يجري انجلاء الكفار عنه بإرعاب وإرهاب من غير إيجاف خيل وركاب، فما كان كذلك، فهو فيء، والثالث - أن يتفق أخذه من غير إرهاب، ولا قتال، وفي هذا القسم فضل تدبّر؛ فإن الأصحاب أجمعوا على أن من دخل دار الحرب مستخفياً وسرق شيئاً، فإنه يختص بما أخذه، وهذا مما ليس غنيمة ولا فيئاً خصصناه لصاحب اليد.

_ (1) المراد عُدة الصائد وجهده، فلا يدخلن الظن من هنا أنه غنيمة. (2) زيادة من المحقق. (3) القرطق: مثال جعفر، ملبوس يشبه القَباء. وهو من ملابس العجم (المصباح) وكانوا يجزون الصوف على هذه الهيئة علامة على أن هذا صيد مملوك. قاله الغزالي في البسيط: 5/ ورقة: 162 يمين. (4) لمن صادها: المراد لمن صادها سابقاً.

وعلى هذا القانون نقول (1): إذا وجدنا في دار الحرب مالاً ضائعاً، ولم نفرض فيه انجلاء كافر، وهو أن يكون الوصول إلى مكان ذلك المال ممكناً من غير عُدّة، [فهو لصاحب اليد] (2) فإن لم يكن الوصول إليه ممكناً إلا بعدة، فالمأخوذ فيء؛ فإن قاعدة الفيء إما يؤخذ بقوة الجند أو بقوة الإسلام، من غير لُقيان قتالٍ، وما أخذنا بالقتال من أيدي الكفار، فهو غنيمة، وما ثبت عليه اليد من غير عُدّة، ولا قتال، ولا استنادٍ إلى قوة الإسلام، فذاك يجب أن ينحى به نحو السرقة. وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في الفيء، ومعناه في قَسْم المغانم والفيء. وتمام البيان في ذلك أنا إذا وجدنا مالاً ضائعاً على هيئة اللقطة، فلا نأمن أن يكون فضل عن المسلمين، فينبغي أن تُنشدَ الضالة، فإن عرفها مسلم، فهي لقطة مردودة عليه على الشرط المعروف في كتاب اللقطة. وإن لم يدّعها مسلم، والدار دار الحرب، فالكلام على التفصيل الذي ذكرناه. ثم إذا كنا لا نعرف في ديار الحرب مسلماً سوى الأجناد، فيكفي أنها تعرّف إليهم، ولا نؤاخذ بتقدير طروء تاجرٍ؛ فإن ذلك يطول. فإن كان وراء هذا المنتهى بقية، فلا شك أني استقصيتها في كتاب اللقطة. فصل قال: " ومن أُسر منهم، فإن أشكل بلوغهم ... الفصل " (3). 11334 - [تقدّم] (4) القولُ في الأسرى وحكم الإمام فيهم واجتهاده في المن والفداء والقتل، والإرقاق، والفرق بين الذراري والنسوان، والمقاتلة، وأوضحنا أن الإمام إذا رأى قتل الرجال واستئصالَهم بالسيف، فمن وجده بالغاً، قتله، ومن استراب في

_ (1) في الأصل: وعلى هذا القانون أن نقول. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) ر. المختصر: 5/ 184. (4) في الأصل: " تفصّل ".

أمره أمر بالكشف عن مؤتزره، فمن أَنْبت منهم قتله (1)، وذكرنا في كتاب الحجر تردّدَ الأصحاب في أن الإنبات عينُ البلوغ أوْ أمارةُ البلوغ. وقال الأئمة: نبات اللحية وشعر الإبط بمثابة شعر العانة، وإنما نكشف عن المؤتزر، إذا عدمنا شعر اللحية والإبط، وهذا متجه، ولكن اخضرار الشارب ما أراه معتبراً، والصُّدغ (2) المعدود من شعر الرأس لا يشك أنه لا تعويل عليه، والعِذار المقابل للأذن من اللحية، وإذا خشن شعر الشارب كما (3) طرّ، فهو كاللحية، وإن تزعم (4) [عند الكشف] (5) عن مؤتزره أنه استعجل بالمعالجة الإنبات، فإن جعلنا الإنباتَ عينَ البلوغ، لم ينفعه هذا، وإن جعلناه علامة البلوغ، فالمستعجَل منه لا يدلّ على البلوغ، ثم القول قوله مع يمينه، وهذه اليمين متضمنة للإثبات، وهي على خلاف قياس الأيمان (6)، ولكن حقن الدم غالب، ولذلك حقنا دم المجوسي بالجزية، وإن لم نناكحه ولا نستحل ذبيحته، وجميع أحكام الأسرى قدمناها مستقصاة في القَسْم. وهذا الطرف الذي ذكرته في الإنبات والاستعجال أحلته ثَمَّ على هذا الكتاب، وقد وفّيتُ به، وتمام حكم البلوغ مذكور في كتاب الحج.

_ (1) تقدم ذلك في قَسْم الفيء والغنائم. (2) الضُّدغ: ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن، ويسمى الشعر الذي تدلى على هذا الموضع صدغاً. (المصباح). (3) كما بمعنى: عندما. (4) تزعّم: تكذب، (المعجم). (5) زيادة اقتضاها السياق. (6) فإن قياس الأيمان للنفي، وهذه لإثبات الاستعجال. ثم قد استشكل تحليف من يدعي الصبا، فقال بعض الأصحاب: اليمين احتياطٌ، أو استظهار، وقال الجمهور: لا بد منها؛ لأن الدليل الظاهر موجود. (ر. الروضة: 10/ 243).

فصل قال: " إذا التقوا العدوّ، فلا يولُّوهم الأدبار ... إلى آخره " (1). 11335 - إذا تعارض الصفان، وتلاقى الجندان، وقابل كل مسلم من الكفار اثنان، فالفرار يحرم، وكان الأمر في الابتداء شديداً، كما اقتضاه قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65]، فكان يجب على الواحد أن يقف لعشرة، فعظم هذا واشتد احتماله، فخفف الله تعالى عن المسلمين، وقال تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]، فاستقر الشرع على مصابرة الواحد لاثنين، والعشرة لعشرين. هذا هو الأصل. والفرار وعدد الكفار غير زائد على الضعف مع إمكان المصابرة من الكبائر، وقد توعّد الله تعالى عليه بالوعيد الشديد، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ... } الآية [الأنفال: 16]. ولو التقى جمع من المسلمين بجمع من الكفار، وكان الكفار من الأبطال المنعوتين، وغلب على الظن أنهم يقتلون المسلمين لو صابروا، ولم يولّوا، فهل لهم أن يفرّوا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن لهم الفرار؛ فإن ما في هؤلاء من الأَيْد والنجدة يَبَرُّ معنىً على زيادة الأعداد -ولو زاد عدد الكفار على الضِّعف، لجاز الفرار- من حيث يُغَلِّب (2) الغلبة، لا من حيث صورة العدد. وإن زاد عدد الكفار على الضعف، وغلب على الظن غلبتهم، فيجوز الانهزام، وإن لم يغلب على الظن غلبتهم، فيجوز الانهزام لظاهر الحال، وهو الذي يغلب عليه سياق الآية المشتملة على التخفيف. ولو غلب على الظن أنا نغلبهم، بأن كنا أبطالاً، وكانوا مستضعفين، فظاهر المذهب، وجوب المصابرة؛ فإنَّ فرار الرجال الأبطال من الضعفة، وإن زادوا على الضعف، ولا حاجة إليه- ذلٌّ، وليس هذا كفرار

_ (1) ر. المختصر: 5/ 185. (2) أي يغلِّب ما في هؤلاء من الأيد والنجدة الظنّ بغلبتهم.

المسلمين من أبطال الكفار، وعددهم غير زائد على الضعف؛ فإن الحاجة ماسة، ولا ذلّ في الفرار منهم. وتمسك بعض الأصحاب بصورة العدد، واعتبار الغلبة، وجعلها وجهين، وقال: من اعتبر العدد، جوّز للمائة من أبطال المسلمين الفرار من مائتين وواحدٍ من الكفار، وإن كانوا مستضعفين بالإضافة إلى المسلمين، نظراً إلى العدد؛ فإن اتباع صفات الرجال عَسِرٌ، سيّما في القتال. ومن اعتبر غلبة الظن في الغلبة، قال: ليس لأبطال المسلمين أن يفروا، وإن زاد عدد الكفار على الضعف، إذا غلب الظن في الغلبة، وللمسلمين أن يفروا، وإن لم يزد عدد الكفار على الضعف إذا استشعروا من أنفسهم الضعف. وهذا الترتيب غير مستحب، والأولى أن نقول: ليس لأبطال المسلمين الفرار من الكفار، وإن زادوا على الضعف إذا غلب على الظن غلبةُ المسلمين. وهل للمسلمين الفرار إذا قابلهم أبطال الكفار، وغلب على الظن غلبتهم، ولم يزيدوا على الضعف؟ فعلى الخلاف المقدّم. 11336 - ومما يتصل بذلك أن الكفار لو لاقَوْا المسلمين وليس مع المسلمين سلاح، والكفار شاكون وعددهم غير زائد على الضعف، فإن لم يكن في موضع الالتقاء حجارة، جاز الفرار، وإن كان في الملتقى حجارة، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يجوز الفرار، ويجب مقاومتهم بالحجارة. والثاني - يجوز الفرار؛ فإن الحجارة لا تقابل السيوف البواتر والرماح. ومنهم من قال: إن كانت معهم مقاليع، لزمهم المصابرة، وإن لم يكن، جاز الفرار. [و] (1) هذا التردد خارج عندي على الأصل المقدّم، وذلك أن المسلمين إذا عدموا الأسلحة والكفار شاكون في السلاح، فالغالب غلبة الكفار، والغالب أن الأحجار لا تقابل [الحديد] (2)، فهذا يخرج على القاعدة المقدمة.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " بالحديد ".

ويتصل بهذا المنتهى أمرٌ هو تمام الغرض، وهو أن المسلمين إذا علموا أنهم ولو صابروا لم يُنكوا في الكفار، فلا خلاف في جواز الفرار هاهنا، فانه ليس في الوقوف إلا الاستقتال، وليس يرجع إلى الإسلام من هذا قوةٌ ونُصرة، وإنما التردد فيه إذا غلب على الظن غلبة الكفار، وقد يغلبون، وهذا أصل. قلنا: إذا لم يجدوا الحجارة أصلاً، فإنهم مِزعٌ بين السيوف البواتر، فوقع القطع هاهنا بالفرار. وتمام غرض الفصل في نجازه. 11337 - ثم إذا منعنا الفرار وحرَّمناه، فلا يمتنع التحرف للقتال، والتحيز إلى فئة المسلمين، كما قال تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16]، وأما التحرف للقتال، فمعناه أن يَلقى الكافر مسلماً في الصف، ويكون المجال ضيقاً على المسلم، فرأى في تدبير القتال أن يولّي الكافرَ ظهره ويستجرّه إلى فضاء ومتسع، حتى إذا اتسع مجاله عَكَر (1) عليه، فله أن يفعل ذلك. وكذلك لو تحرّف من الميمنة إلى الميسرة لرأيٍ يراه، فهذا معدود من التحوّل في القتال، وليس من الهزيمة في شيء وتصويره بيّن، وتعليله واضح. 11338 - وأما التحيز، فإنه يرجع إلى القصد وهو متصل بفرار محقق، والتحرّف ليس فراراً، وإنما هو مداورة في القتال. ثم اختلف طرق الأئمة في التحيز -وهذا من أهم ما يجب الاعتناء به- فذكر الصيدلاني وصاحب التقريب وشيخي وأئمة العراق أن من ولّى، وقصد أن يتحيز إلى فئة، ويستنجد بهم، ويعود إذا عادوا، ففراره على هذا القصد لا يكون معصية، ولا فرق بين أن يكون بين تلك الفئة التي قصد التحيز إليها على مسافة شاسعة، وبين أن تكون قريبة من المعترك، وقال عمر بن الخطاب، وهو في دار الهجرة، يعني مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى الذي نحن فيه: " أنا فئة كل مسلم " (2)

_ (1) يعكُر عليه: من عكر يعكُر عكراً وعكوراً: عطف ورجع. (2) أثر عمر: " أنا فئة كل مسلم " رواه الشافعي (الأم: 4/ 171) والبيهقي في الكبرى: 9/ 77.

وفي بعض التصانيف أن التحيز ينبغي أن يكون إلى فئة قريبة، وهذا هو الذي ذكره القاضي، وهذا كلامٌ مبهم. وأنا أرى في هذا تفاوتاً واختلافاً بيناً بين الطرق، فنذكر ما فهمناه من معنى القرب على أقرب [معتبر] (1). ثم نذكر معنى التسوية بين القريب والبعيد، فأما اعتبار القرب، فلا ينبغي [أن ينزّل على مسافة القصر] (2)، فإن هذا لا أثر له في الغرض المطلوب، بل معنى القرب أن يكون على القرب من المعترك فئة من المرابطين، وجمعٌ من المسلمين ذوي النجدة والبأس، [بحيث] (3) يقدّر التحيزُ إليهم استنجاداً بهم [حتى يدركوا المسلمين وينجدوهم] (4)، ولا يبعد أن يدركوهم والحرب قائمة. هذا معنى التحيز إلى الفئة القريبة، وهؤلاء يقولون إذا بعدت الفئة، فليس التحيز إليهم استنجاداً في هذا القتال، وإنما هو تركُ القتال قصداً، وعزمٌ على الجهاد يوماً من الدهر إذا اتفق العود، ولو فتحنا هذا الباب فنسوغ مثلَه للجند بأجمعهم، وإن زادوا على عدد الكفار، وهذا يبعد على النسق الذي ذكرناه. وإذا حملنا التحيز على الاستنجاد بالفئة القريبة التي قد تلحق المعترك، فهذا قرين التحرف للقتال، وقد ذكر الله تعالى التحرف والتحيز في قَرَنٍ. هذا معنى القرب على هذه الطريقة. ومن جوّز الهزيمة على قصد التحيز إلى الفئة البعيدة، فلا شك أنه فرار ناجز، وكان القصدُ في العَوْد بخلاف (5) المصابرة، ويبطل على هذا إطلاق القول بأن الجهاد يتعين المصابرة فيه، ولا حاصل لذكر الضِّعف والزيادة عليه. ولكن يعترض في هذا شيء حتى لا يتسع الفتق، وهو أن تجريد هذا القصد ليس

_ (1) في الأصل: " من اعتبره ". وما أثبتناه هو المعهود في لفظ الإمام، وهو المناسب للسياق. (2) في الأصل: " أن ينزل " على ما يقصر على مسافة القصر. (3) في الأصل: " فحيث ". (4) في الأصل: " حتى يدرك المسلمين وينجدها ". (5) بخلاف المصابرة: أي مكان المصابرة وبديلاً عنها.

أمراً يمكن مخادعة الله فيه، ووقوع إبرام العزم على العود في النفس من غير تردد إلا في مشيئة الله تعالى لا يمكن تكلف تحصيله، فهؤلاء -من الأصحاب- سوّغوا الهزيمة إذا وجد المنهزم في نفسه العزمَ على العود، ولا بدّ من التفريع على الطريقتين حتى يتناهى وضوح كل واحدةٍ منهما. 11339 - فأما من يجوّز الهزيمة إذا تحقق القصد في التحيز إلى فئة، فإنه يقول: لا يجب أن يشتغل بالعود والاستنجاد، ولا يتعين الاستبداد في ترشيح جمع، ولكن إذا اتفق الجمع، فهل يجب عليه الوفاء بالقصد الذي قدمه؟ هذا فيه نظر، فإن إيجابه وقد انتهى إلى أقصى الشرق أو الغرب في حكم القضاء لأمرٍ فات، وتصوير القضاء عسرٌ في الجهاد. ومن ولّى الكفار دبره، وباء بغضب من الله، وتعرّض لأليم عقابه، لا يلزمه أن يعود إلى الجهاد، فكيف يلزم من قصد التحيز أن يحقق قصده؟ ومن نذر الجهاد، فسنذكر إن شاء الله تعالى أن النذر لا يؤثر في الجهاد على طريقة ظاهرة. وكذلك إذا نذر الصلاة على ميت، والقصد في العود لا يزيد على التصريح بالالتزام، ويعترض في هذا إشكال، وهو أن القصد إذا لم يجب الوفاء به في حكم اللغو الذي لا حكم له، فيجوز أن يقال: من فرّ متحيزاً، فحق عليه أن يعود إذا أمكن العود، ويجوز أن يقال: لا يجب ذلك، ولفظ الصيدلاني في مجموعه: " أنه متى فرّ على قصد أن يعود إلى الجهاد إذا وجد أعواناً وقوة، فليس بعاصٍ، وإنما العاصي من يفرّ على قصد ألا يعود، بل يعصي إمامه إذا أمره بالعود "، وظاهر هذا يدلّ على أن قصده لا يغير من أمره شيئاً، فإن الإمام مهما عين متمكناً من الجهاد، لزمه أن يمتثل أمره. وبالجملة المسألة محتملة، والاحتمال فيه ظاهر. هذا إذا وقع التفريع على أن التحيز إلى الفئة البعيدة يحطّ مأثم الفرار، ووبال الهزيمة، فأما إذا حملنا التحيز على الاستنجاد بالفئة القريبة التي يمكن منها إنجاد أهل هذه المعركة، فهذا في نفسه مفهوم، وليس فيه ما يبيح الفرار، ومن آثار هذه الطريقة أنه إذا لم يكن في القرب فئة ذات نجدة، فتجب المصابرة، ويحرم الفرار. ويتسق على هذا المذهب وجوب المصابرة في معظم الصور؛ فإن

كون (1) الفئة القريبة ليس يعم بالنسبة إلى معركة القتال، بحيث يتوقع منها تدارك أهل المعركة. ومما يجب الاعتناء به أنا إذا جوزنا التحيز إلى الفئة القريبة، فالذي أراه أن هذا إنما يجوز إذا استشعر المولِّي عجزاً من المسلمين مُحوجاً إلى الاستنجاد، فأما إذا لم يكن كذلك، وغلبهم غالب، فلا معنى للتحيز إلى فئة؛ إذ لا حاجة إلى التحيز، بل الحاجة إلى مصابرته أظهر، فإن انهزامه قد يُقلّ (2) الجند، فإن كان يبغي إنجاداً، فلا ينبغي أن يُنْجز خرماً رقيقاً قد لا يُتدارك. والذي أراه أن التحيز إلى الفئة البعيدة لا بدّ فيه من هذا التفصيل؛ فإن المولِّي لو كان يغلب على الظن أن انهزامه -وإن قصد التحيز- يُقلّ الجند، ويقوي قلوبَ المشركين، وقد يؤدي الأمر إلى أن يتغشى الكفارُ المسلمين، فلا يجوز التحيز هاهنا. والتحرّف للقتال إن جرّ مثل هذا، فلا يجوز أيضاً؛ فإن الإنسان قد يقصد التحرّف ثم لا يستمسك. فهذا ما عندنا في هذا الفصل. 11340 - ثم قال الأصحاب: المتحرّف للقتال مقاتل، وهو. [كالواقفين] (3) أو كالمبارزين، فلا شك أنه يشرك في المغنم، والمتحيز إن ولّى، ثم انهزم الكفار قبل أن يفارق المتحيز جند الإسلام، شارك في المغنم، ولو فارق الجند مولِّياً متحيزاً، [وانفض] (4) القتال بعد انفصاله، فهل يستحق من مغنم هذا القتال؟ فعلى وجهين. هكذا ذكره الأصحاب. وأنا أقول: إن كان يتحيز إلى فئة بعيدة، فلا يحل تخيل ذلك؛ فإنه منهزم قطعاً قبل الاستيلاء على المغنم؛ فيستحيل أن يشترك لقصده أن يعود بعد سنة؛ فإن ذلك

_ (1) كون: أي وجود. (2) يقلّ: بالقاف. من أقل الشيء جعله قليلاً. (3) في الأصل: " كالموافقين ". وهو تصحيف قريب. (4) في الأصل: " وانفصل ".

العود والفئةُ بعيدة -[إن] (1) كان- لا تعلّق له بهذا القتال- فلا يجرى الوجهان إذاً إلا إذا حملنا التحيز على الاستنجاد بفئة قريبة. فاذا فارق، ولم يتصل بالفئة، فأظفر الله المسلمين، وانفصل القتال، فإشراكه في المغنم محتمل؛ لأنه من وجه ليس بمحارب وليس كالمتحرّف المداور المخادع، ومن وجهٍ هو مستنجد، ثم [يتضمن حكم] (2) هذا الجند في هذا المقام ما ذكرناه، من تحريم الفرار مع استئثار التحرف إذا لم يزد الكفار على الضعف، ولم يغلب على الظن غلبتُهم، كما تقدم تفصيله. فأما إذا جوزنا الهزيمة، فالمصابرة أولى أم الهزيمة؟ نُظر: فإن لم يغلب على الظن أن المسلمين يُغلبون، فالمصابرة أولى، وإن جازت الهزيمة. وإن غلب على الظن أنهم يُغلبون، فالأولى الهزيمة، وترك التغرير بالأرواح، وهل يجوز الثبوت؟ نظر: فإن كان في الثبوت الهلاك المحض، من غير نكاية في الكفار، فلا يجوز. وإن لم يبعد النصرة والظفر، ولو قُتل المسلمون، فهو بعدُ نكاية ظاهرة في الكفار، ففي وجوب المصابرة وجهان. ذكرهما العراقيون، وهذا منتهى القول في ذلك. فصل قال: " ونصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف المنجنيق ... إلخ " (3). 11341 - هذا الفصل يستدعي تقديم القول في نساء الكفار، وصبيانهم، وإنه هل يحرم قتلهم، فنقول: قتل نساء الكفار وذراريهم من غير أن يصدر منهم قتال، ومن غير غرض ظاهرٍ في القتال محرّمٌ، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض الغزوات: " الحقوا خالداً، وقولوا له: لا تقتل ذرية، ولا عسيفاً، ولا امرأة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً مقتولة؛ فتغير لونه، وقال لمن بالحضرة:

_ (1) في الأصل: " وإن ". (2) مكان كلمتين استحالت قراءتهما. (3) ر. مختصر المزني: 5/ 185.

أتراها كانت تقاتل؟ " (1) فأبان أنها كانت تقتل إذا كانت تقاتل، وعند ذلك قال: " الحقوا خالداً ... " الحديث. ثم تحريم قتل الكافرة والصبي الكافر ليس لحرمتهما؛ إذ لو كان ذلك كذلك، لوجبت الكفارة على قاتلهما؛ فإن حرمات النفوس تمتحن بوجوب الكفارة، فتحريم قتل النساء والذريّة، يتعلق بالاستصواب الراجع إلى طريق الإيالة؛ من جهة أن سبيهنّ وإرقاقَهن أجدى على المسلمين من قتلهن، والاشتغالُ بقتال الرجال أولى من الاشتغال بقتال النساء والصبيان. وإن كان في [قتل] (2) النساء والصبيان من الكفار غرض ظاهرٌ في مقاصد القتال، نُظر: فإن لم يُقصدوا بأعيانهم، ولكن قُصدت القلعة بأسباب تعم آثارُها كالمنجنيق، وإرسال المياه، والرمي بالنيران، وما في معانيها، وكان لا يتأتى الفتح إلا كذلك، أو كان لا يتيسر إلا كذلك، والفتح بغير هذه الجهة يعسر ويطول، فيجوز التعلّق بهذه الأسباب. روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف " (3)، " وشن الغارة على بني المصطلق، وفيهم النسوان والصبيان " (4) فخرج

_ (1) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة فتغير لونه وقال: " أتراها كانت تقاتل " وأنه قال: " الحقوا خالداً وقولوا له: لا تقتل ذرية ... " رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وابن حبان، والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه، والبيهقي، من حديث رباح بن الربيع (ر. أبو داود: الجهاد، باب في قتل النساء، ح 2669، النسائي في الكبرى: السير، باب قتل العسيف، ح 8571 - 8573، ابن ماجه: الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان، ح 2842، أحمد: 3/ 488، ابن حبان: 4769، الحاكم: 2/ 122، البيهقي: 9/ 91، التلخيص: 4/ 192 ح 2215). (2) في الأصل: " قتال ". (3) حديث " نصب المنجنيق على أهل الطائف " رواه أبو داود في المراسيل عن مكحول. ورواه الترمذي فلم يذكر مكحولاً وذكره معضلاً عن أبي ثور. قال الحافظ: ووصله العقيلي من وجه آخر عن علي. (ر. المراسيل لأبي داود ص 248 ح 335، الترمذي: الأدب، باب ما جاء في الأخذ من اللحية، تحت الحديث رقم 2762. التلخيص: 4/ 196، 197 ح 2223، 2226). (4) حديث شن الغارة على بني المصطلق متفق عليه من حديث ابنِ عمر رضي الله عنه (البخاري: العتق، باب من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفَدى وسَبى الذرية، ح 2541.=

من ذلك، أنه إذا ظهر الغرضُ، وانضم إليه أن النسوان غير مقصودين بأعيانهم، فلا مبالاة بهم، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنبيّت بلد العدوّ وفيه النساء والصبيان "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم منهم " (1). 11342 - أما إذا تعلّق غرضٌ بقتال النساء، وكانوا مقصودين، فالمقصود يتفصل بصورٍ نعدّها. ثم نذكر بعدها روابط: فإن تترسوا بصبيانهم، ونسوانهم، وهم مقيمون على مقاتلتنا، وربما يزحفون إلينا؛ فنقصدهم ولا نبالي بإصابة الأسلحة النساءَ والصبيان. وإن كانوا يدفعون عن أنفسهم، ولا يقاتلوننا، واتخذوا النساء والصبيان تِرَسَةً وجَنَناً (2)، وكان لا يمكن قصد الرجال إلا بإصابة التِّرسَة، فقد ذكر الأصحاب قولين، واختلفوا في صيغتهما: فقال القاضي وطائفة: في جواز قتل النساء والصبيان قولان: [أحدهما - يجوز قصدهم، كما يجوز نصب المنجنيق، والثاني - المنع] (3) فإن المترّسين بهم ليسوا مقاتلين.

_ =مسلم: الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، ح 3012). (1) حديث " أنبيّت بلد العدو وفيه النساء " متفق عليه من حديث الصَّعْب بن جَثَّامَة (البخاري: الجهاد والسير، باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري، ح 1730، مسلم: الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد، ح 1745). (2) التِّرسة جمع ترس، والجنن: الساتر. (معجم). (3) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، على ضوء المعنى والسياق، واستئناساً بما قاله الرافعي في الشرح الكبير، وتمام عبارته: " لو تترسوا بالنساء والصبيان، نظر: ... وإن لم تكن ضرورة إلى الرمي والضرب، بأن كانوا يدفعون عن أنفسهم، واحتمل الحال تركهم. فطريقان: أظهرهما أن فيه قولين: أحدهما - أنه يجوز قصدهم، كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة، وإن كان يصيبهم، وأيضاً لو امتنعوا بما صنعوا، لا تخذوا ذلك ذريعهَ إلى تعطيل الجهاد. والثاني - المنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، ونحن في غنية عنه والحالة هذه، وهذا أصح عند القفال، وكذلك حكاه الروياني -رحمه الله- ويميل إلى ترجيح الأول. والطريق الثاني - القطع بالجواز، وردّ المنع إلى الكراهة، ويحنر هذا عن أبي إسحاق، وقد تورع في حكاية الكراهة عنه، وذكر أن عنده يستحب التوقي عنه لا غير، ومن أصحاب هذه الطريقة من قال: في الكراهية قولان " (ر. الشرح الكبير: 11/ 397، 398).

[والطريق الثاني - القطع بجواز] (1) إصابة النساء والصبيان تذرعاً إلى قتل المترَّسين، وفي كراهية ذلك قولان. وإذا جمعنا الطرق، انتظم منها أقوال: أحدها - التحريم، والثاني - الجواز من غير كراهية، والثالث - رفع التحريم مع الحكم بالكراهية، ثم إن كرهنا في هذه الحالة، [فإن كانوا متحصنين في قلعة] (2) وأمكن فتح القلعة من غير سببٍ يعم النسوان والصبيان على يسير، فلا يحرم نصب المنجنيق، وفي الكراهية خلاف، ولعل الأوجه الكراهية، إذا كان الفتح متيسراً من غير هذه الجهات. فانتظم مما ذكرناه تحريم القتل من غير غرضٍ ومقصد إذا كان القتل مقصوداً، ولا تحريم ولا كراهية إذا ظهر غرضٌ، ولم يتجرّد القصد، كما ذكرناه في نصب المنجنيق. وإن قصدوا بالقتل وكانوا اتخذوا النساء في القتال تِرسَة، ولو تركناهم، لخفنا مكروهاً، فهاهنا لا بأس ولا كراهية، بل لو كنا نخاف مكروهاً، فيجب قتلهم. وإن تترسوا في غيبر القتال دافعين عن أنفسهم، فهذا محلّ القولين، ثم في صيغة القولين تردد، ثم المنخول من الكلام الأقوالُ التي ذكرناها. هذا هو الترتيب المرضي، وزاد شيخنا وصاحب التقريب مسلكاً آخر، فقال: لو تترس المتحصنون بالقلعة بالصبيان والنسوان، وتيسّر الفتح من غير رمي التِّرَسَة، ففي جواز قصد التِّرَسة قولان: أحدهما - الجواز منعاً لهم من هذه الحيلة، وأيضاً فإنهم أقاموهم أسلحة؛ فإن التِّرَسة من أقوى الأسلحة، فهم المغرِّرون بهم. فإن قيل: ذكرتم الترس من غير قتال، ولم توضحوا تصوير ما تقولون في أصحاب القلعة إذا تترسوا، وكانوا لا يرموننا بسلاح، [هل] (3) القول يختلف؟ قلنا: نعم، هذه صورة القولين. فإن قيل: الفتح يعسرُ إذاً. قلنا: نعم، إذا كانوا لا يقاتلوننا،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، وهو متصل بالحاشية قبله. (2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. (3) في الأصل: " إن ".

وكان لا يتأتى الفتح إلا بقتل التِّرَسة، فنجاوز هذه القلعة، وتصوير هذا عسر؛ فإنهم إذا كانوا يقاتلون وراء التِّرَسة؛ فإنهم يقتحمون، وإن كانوا يقاتلون وراء التِّرسة، فلا عصام حينئذٍ، فقد اجتمع في هذه الصورة طريقتان متضادتان: إحداهما- أنهم إذا كانوا لا يقاتلون، فهل يجوز قتل النساء والصبيان؟ فعلى قولين. وإن كان الفتح لا يتأتى إلا بقتلهم. هذه طريقة. والأخرى على مضادتها، وهي أنا هل نقتلهم إذا كان الفتح يتأتى من غير أن يقتلوا؟ فعلى قولين. فهذا مجموع القولين في اختلاف الطرق. وقد تمهد أصل المذهب في معنى تحريم قتل النساء والصبيان. 11343 - ثم إن الأصحاب ذكروا على الاتصال بهذا الفصل كون المسلمين بين أظهر الكفار أو في قلاعهم، والتفصيل فيه إذا تترسوا بأسارى المسلمين، والغرض من هذا يبين بذكر صور سبقت أمثالها في أطفال المشركين ونسائهم: فإن كان في القلعة التي نبتغي فتحها مسلم أو مسلمون، وكان فتحها لا يتأتى إلا بنصب المنجنيق، والأسبابِ العامة، نُظر: فإن كانت هذه الأسباب تنال المسلمين في القلعة لا محالة، فالوجه القطع بتحريم التمسك بهذه الأسباب. وإن كان فيهم مسلم أو أعداد قليلون، وكان يغلب على الظن سلامتهم إذا كانوا متمكنين من التوقي، ففي جواز نصب المنجنيق والحالة هذه قولان: أحدهما - المنع لمكان المسلم، وخيفةِ إفضاء الرمي إلى إهلاكه، وزوالُ الدنيا أهون عند الله من دم مسلم. والثاني - أنه يجوز لغلبة الظن في السلامة والدارُ دار حرب، والكفار لا يعدِمون أسرى من المسلمين يبدِّدونهم (1) في القلاع، فيصير ذلك ذريعة إلى التحصّن عن جنود الإسلام. هذا تفصيل القول فيه إذا لم يكن المسلم معرّضاً لأسلحتنا بمرأى منا ومسمع. 11344 - وأما إذا تترس كافرٌ بمسلم، نُظر. فإن كان المتترس لا يبغي مقاتلتَنا، وإنما يبغي الدفع، فإن أمكن قصده مع توقي المسلم، قُصد برمحٍ أو سيفٍ، أو

_ (1) يبددونهم: يفرّقونهم.

غيرهما، مما يتمكن فيه الإنسان من وضعه حيث يشاء، وفي هذا احتراز عن السهم؛ فإنه غير موثوق به، وإن كان لا يتأتى قصد الكافر إلا بإصابة المسلم، فلا يحل إصابة المسلم، وإن كان الغرض مَنْ وراءه. هذا إذا كان المتّرِس غيرَ مقاتل. وإن كان يقاتل وراء المسلم الذي يتّرس به، وعلم الواقف من المسلمين بإزائه أنه لو لم يقصد الترس، لزحف إليه الكافر، وأهلكه، فلا يحل -مع هذا التصوير- إصابةُ المسلم، والغايةُ المحذورة أن يقتل الكافر المسلمَ، وخوفُ الإنسان على نفسه لا يسلّط على قتل مسلم غيرِ جانٍ؛ ولهذا يحرم على المكرَه على القتل أن يقتل، فلو قَتَلَ في حالة [الترس كما] (1) صورنا، باء بالإثم. والأصح أن في استيجابه القصاص قولين، كالقولين المذكورين في المكرَه، ففي أصحابنا من قال: يجب القصاص على الذي قتل المسلم [الذي] (2) يتّرس الكافر به قولاً واحداً، لأن فعل الكافر محطوط مرفوع من البَيْن؛ من جهة أن الخطاب منقطع عنه، فكان قتلُ المسلمِ المسلمَ مع ظهور الخوف بمثابة قتل المضطر مسلماً ليأكله؛ فإن السبب منحصر في القتل. والأصح طريقة القولين، ومن قطع بوجوب القصاص؛ فإنه يقول لا محالة: لو أكره حربيٌّ مسلماً على قتل مسلم يجب القصاص على المكرَه قولاً واحداً، وهذا بعيدٌ لا أصل له، ولا تعويل عليه. 11345 - وتمام البيان في هذا يتعلّق بشيء ذكره العراقيون وذلك أنهم قالوا: التترس بالمسلمين إذا لم يكن عند التقاء الزحفين، فالتفصيل فيه كما ذكرناه، والصفوف قارّة في مقارّها، فأما إذا التف الصف بالصف، فتترس الكفار بأسرى المسلمين، وكان لا يتأتى مقاومة الكفار ما لم نُصب أسرى المسلمين، ففي جواز الإصابة منهم وجهان، ذكرهما العراقيون، وهذا يحتاج في تصويره إلى مزيد كشف، فما ذكروه فيه إذا كان الانكفاف عن الأسرى يُفضي إلى أن يُصطلم جند الإسلام، ثم يختل بانفلالهم ركنٌ عظيم، فهذا يتعلق بأمرٍ كلي، ولا يبعد أن نُجري الأمر في

_ (1) في الأصل: " الضرورة بعدما ". (2) سقطت من الأصل.

أشخاصٍ من أسرى المسلمين على مساهلة وتهوين؛ إذ لو لم نفعل هذا، لجرّت الحالة خَرْماً عظيماً في أمرٍ كلي، وحفظُ الكليات أولى من حفظ الجزئيات. فانتهض مما ذكرناه قسمان في التقسيم الأول: أحدهما - أن يكون المسلمون في القلاع، وقد فصلنا ذلك على بيان شافٍ، والقسم الثاني - فرضُ قتل المسلم إذا تترس به الكافر، وهذا ينقسم إلى فرض محصورين من الغزاة في مقابلة مترسين، ولو هلك الغزاة، لم ينخرم أمرٌ كلي، وإنما هو إتلاف أشخاص، وإبقاء أشخاص، فلا يجوز إصابة المسلمين على ما تفصّل، والآخر أن يُفرض التترس عند التفاف الزحفين، وكان بحيث لو ترك التعرض للتِّرسة، لخيف عليه اصطلام [الجند] (1) وانخرام أمر كلي، فهذا موضع التردد في جواز قصد المسلم، كما حكيناه عن العراقيين. وقد نجزت قواعد الفصل، وأعاد الأئمة في هذا المقام فصولاً قدمناها في الجنايات والديات، ومهدنا أصولها، ونحن نجتنب المعادَ جهدنا، ولكني أرى إعادة تلك الفصول لترتيبٍ حسنٍ ألفيناه لصاحب التقريب. 11346 - فنقول: ذهب صاحب التقريب إلى أن الغازي إذا رمى سهماً إلى صف الكفار في دار الحرب، فأصاب سهمُه مسلماً: نُظر. فإن لم يَعرِف أن فيهم مسلماً، فإذا فيهم مسلم، ولم يسدّد سهمَه إليه، ولكن [حاد] (2) السهم، ومال إليه، فأهلكه، فلا تجب الدية في هذه الصورة، وتجب الكفارة. ولو علم أن فيهم مسلماً على الجملة، وسدّد سهمه نحوه (3)، [فأطنه] (4)، فمات، قال صاحب التقريب: تجب الدية في هذه الصورة قولاً واحداً، ولا يجب القود. ولو علم أن فيهم مسلماً ولم يقصده في عينه، وإنما قصد غيره، ولكن أصابه

_ (1) في الأصل: " الحد ". (2) في الأصل: " صاب ". وهو عكس المعنى المقصود. (3) وهو لا يعلم أنه المسلم الذي في صفهم. (4) في الأصل: " فطنّه "، ولم أجده متعدياً إلا بالهمزة. وأطنَّه: أي قطع ساقه (قاموس ومعجم) وهنا بمعنى قتله.

سهمه، ومِنْ قَصْده (1) الكفار، فتجب الرقبة، وفي وجوب الدية قولان في هذه الصورة. هذا ترتيب صاحب التقريب، وهو حسن. فإن قيل: أليس ذكر الأئمة أن من قتل مسلماً على زي مشرك في دار الحرب، فلا قود، وفي لزوم الدية قولان، وقد قطع صاحب التقريب أنه إذا قصده فقتله، يلتزم الدية؟ قلنا: يمكن أن يقال: لا اختلاف بين الطرق في ذلك، والترتيب أن نقول: إذا اجتمع شيئان (2)، فتجب الدية قولاً واحداً، وإن فُقدا، لم تجب قولاً واحداً، وإن فقد أحدهما دون الآخر، ففي وجوب الدية قولان. وبيان ذلك أنه إن علم أن فيهم مسلماً، واجتمع مع ذلك أنه قصده، وقتله، فتجب الدية قولاً واحداً، وإن حسبه كافراً. ولو عُدم الشيئان جميعاً، فلم يعلم أن فيهم مسلماً، ولا قصد عينه، ولكن أخطأ السهم إليه، ففي هذه الصورة لا تجب الدية قولاً واحداً، وإن قصده، فقتله جاهلاً، ولم يعلم أن فيهم مسلماً على الجملة، ففي وجوب الدية قولان؛ فإنه وُجد أحد الشيئين، وهو قصد القتل، وعُدم الثاني؛ فإنه لم يعلم أن فيهم مسلماً، وبمثله لو علم أن فيهم مسلماً، ولم يقصده في عينه، ولكن أخطأ السهم، ففي لزوم الدية قولان لوجود أحد الشيئين، وهو علمه أن فيهم مسلماً، ولم يقصده في عينه. وما ذكره الأئمة من القولين فيه إذا قتل شخصاً مقصوداً، يمكن حمله على ما إذا لم يعلم أن فيهم مسلماً، فيتجرد القصد، فهو أحد الشيئين. هذا بيان هذه الطريقة. ولكن ذكر جماعةٌ من الأصحاب قولين فيمن قتل مسلماً ظنه كافراً على زي الكفار في لزوم الدية، ودلّ كلامهم على أنه لا فصل بين أن يعلم أن فيهم مسلماً أو لا يعلم، وهذا فصلٌ قد قدّمته، ولكني أحببتُ إعادته للضبط الذي أشرنا إليه. ثم كل من قتل شخصاً خطأ، فالدية على عاقلته، فإن لم يكن في القتل خطأ، ولكن درأنا عنه القصاص، لا لمعنًى في الكفاءة، ولكن لجهل كما صورناه، فإذا

_ (1) المعنى: وكان قصده الكفار. (2) شيئان: هما: علمه بوجود المسلم والثاني قصده بالقتل (من غير علمٍ بأنه المسلم طبعاً).

ألزمناه الدية، فهي عليه، أو على عاقلته؟ فعلى قولين، فإذا قتل مسلماً في دار الحرب على زي مشرك، وظنه مشركاً، أو قتل الجلاد من استوجب القصاص، ثم وضح أن مستحق القصاص كان عَفَا عن القصاص، فإذا ألزمنا الدية على تفصيل فيه، فهي عليه أم على العاقلة؟ فعلى قولين، وهذا يطّرد في كل قتلٍ لا خطأ في عينه، وإنما سبب اندراء القصاص ظنٌ وحسبان في (1) القاتل. فصل قال: " فأما قطع نخيلهم، وإحراقُ أموالهم ... إلى آخره " (2). 11347 - إذا أراد المسلمون قطع النخيل التي في دار الكفر، وإحراق الأموال، نُظر: فإن كانوا يرجون أن تصير للمسلمين، لم يجز. وإن بعد الرجاء فيه، جاز ذلك، ولكن على شرط ألاّ يلهيَهم ذلك عن الاشتغال بالأهم، وهو القتال والتشمير لوجوه الحزم فيه، وقد روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخيلاً بخيبرَ والطائف " (3)، " وأمر بقطع نخيل بني النضير، فنادى واحدٌ من الحصن: إن هذا فسادٌ يا محمد، وإنك تنهى عن الفساد، فتركه " (4). وفي هذا الفصل استدراك؛ فإن اليأس عن مصير الأشجار للمسلمين غير ممكن، حتى يخصص القطعُ بها، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخيلاً بخيبر والطائف، ثم صارت الناحيتان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، فقد يغمُض على ذلك إطلاق القول بأن قطع النخيل لا يجوز حيث نرجو أن

_ (1) في: مرادفة لـ (من)، قاله ابن هشام في المغني. (2) ر. المختصر: 5/ 185. وهذا معنى كلام الشافعي وليس لفظه. (3) خبر قطع النخيل بالطائف رواه البيهقي عن عروة بن الزبير عن موسى بن عقبة (9/ 84) وقال الحافظ: رواه ابن إسحاق في المغازي (التلخيص: 4/ 207 ح 2254). وخبر قطع نخيل خيبر رواه الشافعي في الأم (4/ 141، 244). (4) حديث " قطع نخيل بني النضير، وقولهم: يا محمد هذا فساد .. " أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 355) عن مقاتل بن حيان، وابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق 3/ 144، وأخرجه السيوطي في الدرّ المنثور وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس (6/ 278).

يصير للمسلمين؛ فإنها ليست مملوكة لنا في الحال، وليست لها حرمة الحيوانات، فالكراهية ألْيق بهذا المقام من التحريم. والله أعلم. ويمكن أن يقال: ما يتعلّق بالاستصواب، ويرتبط برأي الإمام، فما يراه صواباً، لا يجوز لنا مخالفته، كما لا يترك الولي ما يظنه غبطة للطفل. وفي المسألة احتمال على حالٍ. والعلم عند الله تعالى. 11348 - وإن أدركونا، وفي أيدينا نساؤهم وصبيانهم، وعلمنا أنهم يستردونها (1)، فلا يجوز لنا أن نقتلهم لنغيظهم، وفي مثل هذا المقام، تحرق الأموال، ويقطع النخيل، ولا نبالي. ثم قال الأئمة: كما لا يحلّ لنا قتل النساء والولدان إذا أدركونا، فكذلك لا يحل لنا قتل البهائم رعايةً لحرمة الروح بخلاف الأموال والأشجار المثمرة وغير المثمرة، ويجوز عقر الفرس تحت الكافر؛ فإنه قد لا نتوصل إلى الكافر إلا بذلك، والفرس أداتُه وآلته، والأخبار في عقر الأفراس تحت الأبطال مشهورة. فصل قال: " وإنما تركنا قتل الرهبان اتباعاً لأبي بكر الصديق ... إلى آخره " (2). 11349 - أصحاب الصوامع [والبيَع] (3) والرهابين والشيوخ الذين لا رأي لهم، والزمنى والعسفاء، وهم الأجراء والحرّاثون المشتغلون بشغلهم في الحراثة هل يجوز قتلهم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة (4) في أظهر الروايتين عنه. والقول الثاني - يجوز قتلهم.

_ (1) كذا. والتأويل قريب. (2) ر. مختصر المزني: 5/ 186. (3) مكان كلمة استحالت قراءتها (انظر صورتها). (4) ر. مختصر الطحاوي: 283، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 455 مسألة 1610، المبسوط: 10/ 29، 64، فتح القدير: 5/ 201، 202، تحفة الفقهاء: 3/ 295.

توجيه القولين: من منع القتل، احتج بما روينا: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحقوا خالداً، وقولوا له: لا يقتل عسيفاً ولا امرأة "؛ ولأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال، فكانوا كالنسوان والصبيان. ومن قال: إنهم مقتولون، احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: " اقتلوا شيوخ المشركلين، واستحيوا شَرْخَهم " (1) والشرخ الشباب. ثم اختلف أئمتنا في وجه تنزيل القولين في الشيخ، فذهب المحققون إلى أنهما يجريان في الشيخ الفاني الذي لا يرجع إلى بطش، ولا إلى رأي، فأما من كان صاحب رأي، فهو مقتول قولاً واحداً. ومن أصحابنا من أجرى القولين في الشيخ ذي الرأي، إذا لم يكن من أهل القتال، وهذه الطريقة ضعيفة. ثم لا ينتهي صاحبها إلى الانكفاف عن قتل شيخ حضر الواقعة، وكان يدبّر الجند أو يَصلُح (2) له، فمثل هذا مقتول، ويدلّ عليه قصة دريد بن الصِّمة. وقيل: إنه كان ابنَ مائة وخمسين سنة، فقتل في غزوة أَوْطاس (3). فأما إذا حضر الواقعة شيخ لا يرجع إلى بطش، ولا إلى رأي، فيجوز إجراء القولين فيه، ولا يمتنع القطع بقتله؛ لأنه بحضوره، ووقوفه مقاتلٌ. 11350 - ثم إن قلنا: هؤلاء مقتولون، فلا شك أن سبيلهم سبيل المقاتلين، فتغنم أموالهم، وتسبي ذراريهم، ونساؤهم. وإن قلنا: لا يقتلون، فكيف سبيل الرق فيهم؟ حاصل ما ذكره الأئمة في التفريع على هذا القول ثلاثة أوجه: أحدها - أنهم يَرِقون بنفس السبي كالنساء والذراري. والثاني - أنهم لا يَرِقون بنفس الوقوع في الأسر كالمقاتلة من الرجال، ولكن للإمام

_ (1) حديث " اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم " رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح غريب، وأحمد، والبيهقي. وقد ضعفه الألباني (ر. أبو داود: الجهاد، باب في قتل النساء، ح2670، الترمذي: السير، باب ما جاء في النزول على الحكم، ح 1583، أحمد: 5/ 12، 20، البيهقي: 9/ 91، ضعيف سنن أبي داود: ح2670، ضعيف سنن الترمذي: ح 1648 التلخيص: 4/ 193 ح 2217) (2) يصلح له: أي يصلح للتدبير. والمعنى سواء كان يمارس التدبير فعلاً أو يصلح له. (3) حديث مقتل دريد بن الصمة. متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري (ر. اللؤلؤ والمرجان: 3/ 169 ح 1624).

إرقاقهم، وليس له قتلهم، والوجه الثالث - أنهم لا يَرِقون ولا يُستَرقَّون، وكأن هذا القائل يلتفت إلى ما يقتضي الاحترام فيهم. وهذا سخيفٌ لا أصل له؛ إذ ليس للعسيف ما يوجب إجلالَ قدره؛ فإذا كانت النسوة -على أنهن لا يقتلن- يجري الرّق عليهن، فالامتناع من إجراء الرق على العسفان بعيد. وإن ظن ظانٌّ أن منع جريان الرق يختص بالرهابنة، فهذا فيه تعظيم الكفر، ولا سبيل إليه، [في حق المذهب، وهو مُمعنٌ في ترفيه] (1) الكفر وقد يشير فحوى قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} [الحج: 40]، إلى ما يقرب من معنى الاحترام والله أعلم. ثم إن كان يجري هذا في الرهابنة، فلا وجه لطرده في العسفان. ثم إن قلنا: يجري الرق عن (2) هؤلاء، فتسبى نساؤهم وذراريهم؛ فإن إجراء الرق عليهم تملُّك رقابهم، فإذا لم يبعد هذا، لم يبعد تملك أموالهم ونسائهم وذراريهم. وإن قلنا: لا يجري الرق عليهم، فهل تغنم أموالهم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا تغنم، وهذا ضعيف سخيف، مستنده تعظيم الرّهابنة، وتقدير [الشرك جهةً] (3) حاقنة عاصمة، ومن كثر صغوه إلى هذه الجهة، فإنما يقترب من ورطة مُخْطِرة، فالأولى الميل إلى إخراجهم من أحزاب المقاتلة، وهذا يجب ألا يمنعَ اغتنامَ الأموال؛ فإن أموال النساء والصبيان مغتنمة، والحقُّ أَوْلى متّبع، وهذا [تخبُّط جاء من] (4) الامتناع من إرقاقهم، ولو ثبت ذلك -وهيهات- فلا محمل [له] (5) إلا الاحترام، ويجري على قياسه المنع من اغتنام الأموال على التضيق. وذكر القاضي في بعض التعاليق قولاً: إن

_ (1) عبارة الأصل مضطربة وغير مستقيمة، فقد جاءت هكذا: " ولا سبيل إليه والترتيب معهر في تربية الكفر " (انظر صورتها) والمثبت من (البسيط: 5/ورقة: 159 يمين). (2) عن بمعنى (على) قاله ابن هشام في المغني، وعليه قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38]. (3) في الأصل: " الترتيب دمه " والمثبت مكانه من تصرف المحقق. (4) عبارة الأصل: " وهذا ـحـ ـط إلى من الامتناع من إرقاقهم ". (5) زيادة من المحقق.

ذراريهم لا تسبى، ونساؤهم يسبون، ولا يكاد يتضح الفرق (1) بين الذراري والنساء. وكان شيخنا يذكر طريقين في السُّوقة الذين لا يتعاطَوْن الأسلحة، ولا يمارسون القتال، وينزلهم منزلة العسفاء، وهذا وإن كان يتجه، فلم يتعرّض لذكره أحد من الأئمة، وإذا طردنا القولين فيهم، فالمقتولون من الكفار الأقلون، ومن قال في التفريع على القولين: لا تغنم أموال السوقة، فقد قرب من خرق الإجماع. هذا منتهى الفصل. فصل 11351 - المسلم إذا نكح حربية في دار الحرب، ففي استرقاقها وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تسترق لحرمة المسلم، ولما له من العصمة، والعُلقة فيها. والوجه الثاني - أنها مسترقة؛ لأنها حربية، والرق يرد على الرقبة، وحق المستمتع يتعلّق بالمنفعة. فلا تَضاد، فإن الموردين متغايران. ولو أعتق المسلم عبداً كافراً والتحق بدار الحرب، وعليه ولاء المسلم، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يسترق؛ فإن في استرقاقه قطع ولاء المسلم عنه، والولاء إذا ثبت، لزم، فلم يقبل القطع، والنكاح عرضة للفسخ، فلا يمتنع انتفاؤه بسبب الاسترقاء، كما سنوضح ذلك في التفريع. إن شاء الله. وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من أجرى الوجهين في استرقاق مُعتَق المسلم، وهذا غريب. وكان شيخنا يقول: الزوجة الحربية للذمي مسبية، ومعتَقُه لو التحق بدار الحرب هل يُسبى؟ فعلى وجهين. ومعتَق المسلم لا يُسبى، وزوجته هل تسبى؟ فعلى وجهين، ويُثبت الخلافَ في الزوجية والولاء جميعاً. ثم ما ذهب إليه الأصحاب، واختاره صاحب التقريب لنفسه أن زوجة المسلم إذا

_ (1) أشار الغزالي إلى الفرق بين الذراري والنساء، فقال: " لأن ذراريهم كأجزائهم " (ر. البسيط: 5/ 156 يمين).

سبيت، انقطع النكاح بجريان الرّق على الزوجة، كما لو سبيت زوجة الحربي؛ فإن الإقهار بالإرقاق قطع الحقوق عن المسترقَّة، ولا فرق في ذلك بين زوجة الحربي وزوجة المسلم. وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً أن زوجة المسلم إذا سبيت، انقطع النكاح بجريان الرّق على الزوجة، كما لو سبيت زوجة الحربي؛ فإن الإقهار بالإرقاق قطع الحقوق عن المسترقة، ولا فرق في ذلك بين زوجة الحربي وزوجة المسلم. وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً أن زوجة المسلم إذا سبيت، تصير رقيقة بالسبي، وتبقى منكوحة للمسلم، وزعم هذا القائل أن ذلك ممكن، وإذا أمكن الجمع بين ثبوت الرق، وبين استبقاء النكاح، وجب القضاء بالأمرين. نقل هذا الوجهَ وزيّفه، ونسب الأصحابُ إليه، [اختيارَ هذا الوجه الضعيف] (1)، وما أنصفوه؛ فإنه وافق في تضعيفه، واختار ما عليه الأصحاب، والخللُ في كتابه أنه لم ينبه على وجه التزييف. [وقال] (2) المحققون: لا تسبى إلا كافرة، والأمة الكتابية يستحيل نكاح المسلم عليها دواماً وابتداء، وهذا متجه لا دفع له، إلا أن يشترط صاحب هذا الوجه أن يزول الرق في مدة العدّة، إذا كانت مدخولاً بها، كما يشترط زوال الردّة في العدّة، إذا تقيد النكاح بالمسيس، ولم يصر إلى اشتراط هذا صاحب هذا الوجه، بل زعم أن النكاح يستمر، وهذا يبعد، وما يتجه في تضعيف هذا الوجه ما ذكرناه من أن الإرقاق اقتهارٌ يقطع كلَّ استحقاق. وقد ينفصل صاحب هذا الوجه عن زوجة الحربي، فإن الحربي مُقهَر في جميع أملاكه بخلاف المسلم، وهذا لا بأس به، إن اشترط زوال الرق في العدّة، وإذا سُبي الزوج والزوجة الكافران انْبَتَّ النكاح، وكذلك إذا سبي أحدهما، لم يختلف أصحابنا في شيء من ذلك. وإنما حكى صاحب التقريب الوجه الغريبَ في زوجة المسلم؛ من حيث إنه غير مغلوب على حقه، وغائلة ذلك الوجه ما نبهنا عليه.

_ (1) في الأصل: " واختيار هذا الوجه ضعيف ". (2) في الأصل: " فقال ".

11352 - ولو غنمنا زوجاً رقيقاً وزوجة رقيقة، كانا رقيقين في دار الحرب، فهل يرتفع النكاح بينهما؟ ذكر الأصحاب وجهين مشهورين والذي يبتدره الفقيه ارتضاءً واختياراً إبقاء النكاح؛ فإنّ تبدّل الملك عليهما بالاغتنام بمثابة تبدل الملك على الزوجين الرقيقين المسلمين بالبيع والإرث وغيرهما. فإن قيل: فما وجه قول من يقول بارتفاع النكاح؟ قلنا: وجهه أن سيّد الأمة يَغْلِبُ قهراً على رقبة الأَمَة، ويمنعه بُضعها، وكان يترتب استباحة الزوج على ملك المولى، والانتقال بالأسباب الناقلة في الإسلام تجري على مذهب الخلافة، والسبيُ في حكم الإعدام للأول، وإخراجه من البَيْن، وليس القاهرُ بالاغتنام والسبي خلفاً للمقهور. والأصح الوجه الأول. ثم قال المحققون: لو كان الزوج والزوجة الرقيقان لأهل الحرب مسلمين، فغُنما، فالوجهان يجريان في انفساخ النكاح، كما ذكرناه. ورأيت الأئمة قاطعين بأن المسلم إذا استأجر داراً استئجاراً صحيحاً من دور أهل الحرب، ثم غُنمت تلك الدار، وجرى عليها ملك الاغتنام قهراً، فحق إجارة المسلم لا ينقطع، وهذا يعضد الوجه الغريب الذي حكاه صاحب التقريب في منكوحة المسلم، ولكن المنكوحة تمتاز عن الدار المستأجرة بما ذكرناه من امتناع النكاح دواماً وابتداء على الأمة الكتابية، كما سبق تقريره، ومثل هذا لا يتحقق في الإجارة. هكذا ذكره العراقيون. وإذا قلنا: اغتنام االزوجين الرقيقين يوجب انقطاع النكاح بينهما، فلا يبعد أن نحكم بانفساخ الإجارة إذا غنمت الدار تحقيقاً لما ذكرناه من امتياز الملك بالقهر عن غيره من جهات التناقل. 11353 - والذي يختلج في نفس الفقيه أن المسلم إذا نكح حربية، فقد أمّنها، والأمان يثبت العصمة، فكيف يجوز سبيها؟ [وهذا] (1) لا حقيقة له؛ فإن الأمان إن صح يستحيل أن يَثبُت مؤبداً، كما سنصفه -إن شاء الله تعالى- في قاعدة الأمان على

_ (1) في الأصل: " فهذا ".

الاتصال بهذا- والنكاح مؤبدٌ، فإن ردّ السائل سؤاله إلى أنه هل يجوز سبي زوجة المسلم على الاتصال بالنكاح؟ أم تترك ولا تسبى إلى المدة التي يجوز امتداد الأمان إليها؟ قلنا: لا سبيل إلى هذا التفصيل؛ فإن من ينكح زوجة ليس يبغي عقد الأمان لها، وإنما يبغي له منكوحة أبداً، وليس في نكاحه إياها أمان إلى أمدٍ مع مزيد، بل القصد في النكاح على نسقٍ واحد، فإذا كان لا يمتنع السبي بعد مدة، فلا يمتنع السبي على الاتصال، وقد انتجز الغرض من الفصل. فصل قال: " وإذا أمّنهم مسلم حُرّ بالغ ... إلى آخره " (1). 11354 - الأمان نوعان: عام وخاص، والعام منه يختص بالولاة، وهو عقد الأمان لأهل بلدةٍ، أو ناحيةٍ، وسيأتي تفصيل ذلك في الباب المعقود لعقد المهادنات، إن شاء الله تعالى. وأما الأمان الخاص، فمعناه عقد الأمان لشخص أو أشخاصٍ معدودين على ما سنقرر -إن شاء الله تعالى- في ذلك ضبطاً. وهذا مقصود الفصل، فنذكر من يصح أمانه، ثم نذكر حكمَ الأمان، ثم نذكر ما يحصل به الأمان، ثم نذكر أمد الأمان. فأما من يصحّ منه عقد الأمان، فهو المسلم المكلف، فالإسلام لا بدّ منه لينفذ تصرّفه على المسلمين. والمكلف ذكرناه لتصحيح العبارة (2)، ويصحّ الأمان من العبد المسلم، سواء أذن له مولاه أو لم يأذن، ومعتمد المذهب الذي عليه تنشأ المسائل والتفاريع أن [من] (3) كان من أهل الذب عن الإسلام بالقتال، فهو من أهل الأمان، إذا صحت عبارته، أو نفذت إشارته، والعبد من أهل القتال، ولكنه مستوعَب المنافع لحق المولى، ولو استمكن من تردية كافرٍ من شاهق في أثناء تردداته في مآرب السيد وحاجاته، فلا حرج عليه، وإذا وطىء الكفار بلاد الإسلام، فقد

_ (1) ر. المختصر: 5/ 187. (2) المعنى أن غير المكلف لا تصح عبارته. (3) ساقطة من الأصل.

نقول: يتعين على العبد الكائن في الناحية أن يستفرغ وُسعه في الذَّب. ومما تجب الإحاطة به في تحقيق الأمان أن الكافر يستفيد أماناً من المسلم الذي أمَّنه، وأَمَنة المسلم أيضاً. والأمان نقيض الإرهاب بالقتال، ولو ترك القتال -إذا لم يكن متعيناً-[فالحاجات] (1) تمس إلى التردّدات في أقطار ديار الكفار إلى الأمان. ثم إذا انتظم الأمان، اقتضى ذلك العموم، فإن من يحرم على مسلم قتله، فالمسلمون أجمعون بمثابته، والمحجور عليه لسفه كالمطلق. والمجنون ليس من أهل الحل والعقد، والذي قطع به الأئمة أن الصبيّ كالمجنون في أنه لا يصح منه عقد الأمان. وذكر بعض المصنفين أن الأمان يصح [من] (2) الصبي المميّز؛ فإنه لا ضرار فيه، ولا تبعة، فكان كالوصية والتدبير، وهذا بعيدٌ لا أصل له. والمرأة كالرجل في صحة الأمان، فإنها على الجملة -وإن كانت لا تقاتل- من أهل إعانة الرجال على القتال بالرأي والمال. وكذلك القول في الزَّمْنى والشيوخ. وقد أجارت زينب زوجَها أبا العاص، وذكرت ذلك لما تحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح، فقال صلى الله عليه وسلم: " أجرنا من أجرت " (3). هذا تمام القول فيمن يكون من أهل الأمان. 11355 - فأما حكم الأمان، فالذي انعقد له الأمان لا يُتعرض له، وللمال الذي معه، وأما أمواله الغائبة عنه، فمطلق الأمان لا يتضمن عصمتَها، فتغنم حيث تصادَف، وأما الأموال التي معه، فإن جرى لها تعرّض في الأمان، اشتمل عليها الأمان، وإن لم يجر لها تعرّض، وإنما قال المسلم: أمنتك، فالرأي الظاهر اختصاص الأمان بحقن دمه وعصمة رقبته من السبي، والأسر. وليس هذا كعقد

_ (1) في الأصل: " والحاجات ". (2) في الأصل: " في ". (3) حديث إجارة زينب لزوجها العاص بن الربيع رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. المسند: 6/ 276. أبو داود: الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، ح 2962، الحاكم 3/ 236، البيهفي: 6/ 322، التلخيص: 4/ 203 ح 2244). وقد حسنه الألباني في الإرواء: 5/ 43 ح 1216.

الذمة؛ فإن مطلقه يتضمّن عصمة الأموال، كما سيأتي ذلك مشروحاً -إن شاء الله تعالى- في كتاب الجزية. وشبّبَ بعض أصحابنا بأن الأمان يتناول الأموال التي هي مع الكافر، وسلك فيه مسلك التقرير، فقال: يبعد أن يجوز سلب ثياب من أمّنه مسلم، وإذا بعد ذلك، فالمال الذي في رَحْله بمثابة الثياب التي على بدنه، ولا خلاف في تصحيح عقد الأمان مع التصريح بالتخصيص بالدم والنفس، والذمةُ لا تعقد كذلك، كما سيأتي، إن شاء الله عزوجل. وهذا التردد يرجع إلى حكم اللفظ وما يقتضيه إطلاق الأمان، والأصح أن مطلَقَه لا يتناول المال الذي معه، وأجرى الأئمة هذا التردّد في زوجاته، وذراريه الذين هم معه، ثم إذا حُقن دمُه بالأمان، فلو قتله قاتل، فالوجه عندنا القطع بأنه يضمن [بما] (1) يُضمن به المعاهَد والذمي، وليس حقن دم المؤمّن بمثابة تحريم قتل الحربية؛ فإن الحربية ذاتُ الشرع دفع القتلَ عنها في حالٍ، وبسط الأيدي إلى سبيها وإرقاقها، فليس ارتفاع القتل عنها للأمان. فهذا حكم الأمان. 11356 - [فأما] (2) ما يصح به الأمان، فإن جرى لفظٌ مشعر، فذاك، وإن أشار مسلم، بإثبات الأمان لكافر، وأفهم بإشارته، جرت الإشارة مجرى العبارة -باتفاق الأصحاب- مع القدرة على العبارة. وهذا مبناه على الاتساع، وقد تمس الحاجة إلى إبدال العبارة بالإشارة، أو إلى الاكتفاء بالكتابة، ثم لم يُخصص هذا بقيام الحاجة، حتى يجري مجرى العلّة المطّردة المنعكسة. ومما يجب الاعتناء به أن انعقاد الأمان يستدعي علمَ المؤمَّن به وقبوله، حتى لو أمّن المسلمُ كافراً، وهو جاهل بالعقد، لجاز لكل من ظفر به قتله واسترقاقه، ولو علم بإيجاب (3) عقد الأمان له، فلم يقبله، وردّ، فلا يصحّ الأمان، فإن قبله، انعقد الأمان حينئذٍ.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " فهذا ". (3) بإيجاب: أي الإيجاب المقابل للقبول.

ولو جرى الأمان من مسلم، ولم يبلغ الخبر الكافر، فابتدره هذا الذي أمّنه، جاز؛ فإن الأمان لا استقلال له قبل بلوغ الخبر. وإن خاطب كافراً بأمانٍ، ولم يقبل ولم يردّ، فهذا فيه تردّد (1)، والرأي الظاهر أنه لا بدّ من قبوله، ثم لا يشترط أن يعبر عن القبول، بل لو أشار له، أو بدت عليه مخايل القبول، كفى ذلك؛ فإن أصل الأمان إذا كان لا يفتقر إلى القول ممن هو من أهل القول، فالقبول في معناه. ثم الأمان لا يلزم الكافر وإن قبله؛ فإنه لا يزيد على الذمّة، وللذمي أن ينبذ إلينا الذمة ويلتحق بدار الحرب، وكذلك القول في المؤمَّن، وهو لازم من جانب المسلم المؤمِّن، كما تلزم الذمّة من جانب الإمام. 11357 - ومما يتصل بهذا أنا سنذكر -إن شاء الله تعالى- ما ينقض الذمةَ من الأمور الصادرة من الذمي في كتاب الجزية، ونذكر أن توقع الخيانة لا يوجب نبذَ الذمة، وإذا خاف المسلم المؤمِّن خيانةً ممّن أمّنه، نبذ إليه الأمان؛ فإن المبيح للأمان لآحاد الناس ما يتوقع من انتفاع المؤمِّن بأمان الكافر، فإذا كان لا يأمن الكافر، فلا خير في الأمان، وقد نصّ الرب تعالى على ذلك، فقال عز وجلّ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، والآية في المهادنة، كما سيأتي وصفها -إن شاء الله تعالى- فإذا جرى هذا في المهادنة، فأمان الآحاد بذلك أولى، وهذا يتم إذا ذكرنا المهادنة والذمة في موضعهما. ولو أمن المسلم كافراً، فقبل أَمْنه، وقال: لست أؤمنك مني، فكن آخذاً حذرك مني، وقد قبلت أمانك لي، فهذا ردٌّ للأمان؛ فإن الأمان لا يصح في أحد الطرفين دون الثاني. ولعلّ سبب اشتراط القبول هذا. ولا خلاف أن الأمان يقبل التعليق بالأعذار، وسيأتي من ذلك قدرٌ صالح في مسألة العِلْج إن شاء الله تعالى.

_ (1) حكى النووي هذا التردد عن الإمام (ر. الروضة: 10/ 280).

11358 - فإذا تمهدت هذه القواعد، انعطفنا على الأمان بالإشارة، لنذكر مسائل كانت تستدعي تقديم ما قدّمناه. فلو أشار مسلم في الصف إلى كافرٍ، فانحاز ذلك الكافر إلى المسلمين؛ معوّلاً على إشارته، فإن قال المشير: أردت الأمان، وقال الكافر: فهمتُ الأمان، فهذا كافر مستأمن لا يُتعرض له. ولو قال: ما أردتُ الأمان، وقال الكافر: ما فهمت الأمان، فهو كافر وقع في قبضتنا بلا أمان، فنقتله أو نسترقه. وإن قال المسلم: ما أردت الأمان، وقال الكافر: فهمت الأمان، بلغ المأمن، ولم نتعرّض له، فإن قال المسلم: أردت الأمان، وقال الكافر: ما فهمت الأمان، فهذا في حكم أمانٍ غير مقبول، وقد ذكرنا أنه لا يصح، فيقتل أو يفعل به ما يفعل [بالأسراء] (1). هذا ما ينعقد به الأمان مع ما يتصل به. 11359 - فإن قيل: جوّزتم لآحاد المسلمين أن يؤمنوا آحاد الكفار، فما قولكم فيه إذا وقع في الأسر كافر أو كفار، فأراد بعض الغانمين أن يمنن على بعض الأسارى؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك. والفرق بين المنّ والأمان أن المن يجري بعد تعلّق الحقوق بالأسرى، فلا ينفذ التصرف فيه إلا من ذي أمر، وهو الإمام، أو المستند إليه، والكافر [المؤمَّن] (2) الحربي لم يتعلّق به حق لمستحق. فإن دخل بلاد الحرب طائفةٌ، وغنموا وأسروا، ثم إنهم أرادوا المن على الأسرى، قلنا: ليس لهم ذلك، فإن الإمام قد يرى إرقاقهم، [كما] (3) يتعلق برقابهم [حق] (4) الخمس. وهذا يعارضه أن الإمام إذا [من] (5)، فقد أبطل حقوق الغانمين،

_ (1) في الأصل: " الأمراء ". (2) مكان بياضٍ قدر كلمة. (3) زيادة لاستقامة العبارة. (4) في الأصل: " حتى ". والمثبت تقدير من المحقق. (5) في الأصل: " أمن ".

ولكن لا يبعد أن يرتبط هذا باستصواب ذي الأمر، ونظره، فإنهم بالوقوع في الأسر صاروا أموالاً، والتصرف في الأسرى من الأمور الخطيرة التي لا يدري فيها إلا ذو الأمر، ولا يستبد بها الآحاد. 11360 - ومما نرى إلحاقه بهذا المنتهى أنا إذا صححنا أمان المسلم، فلا نشترط أن يرجع من أمانه مصلحة على أهل الإسلام، ولا يتصوّر اشتراط هذا في كافرٍ يؤمّن، ولكن كما لا نفع لأمانه، لا وقع لبقائه حربياً. وإذا كنا لا نرعى إظهار مصلحة في حق المسلمين، فلا نطالب المؤمَّن بغرض له يبديه في الأمان؛ فإن تكليف إظهار الأغراض الخاصة عسر؛ على أن هذا يجري غير متعلّق بمجالس الحكام وأصحاب الأمر. نعم، يشترط ألا يكون في الأمان المعقود ضرر عائد إلى المسلمين، فلو أمن طليعةَ الكفار، أو جاسوساً، كان الأمان باطلاً. ثم الوجه ألا يُثبت هذا الأمان له حقَّ التبليغ إلى المأمن؛ فإن دخول مثل هذا في ديار الإسلام جناية (1)، فحقُّه أن يغتال بها، والعلم عند الله تعالى. 11361 - ومما أبهمناه وهذا أوان تقريب القول فيه أنا قلنا: إنما يؤمِّن المسلم محدودين، ولسنا نرى عدداً نقف عنده، فنقول: ما ذكره الأئمة في ذلك أن الأمان ينبغي أن يكون بحيث لا ينسد بسببه الجهاد في جهة من الجهات، وهذا يُبيِّن أن الأمان لو عُقد لأهل الناحية، فهو مردود، وإن فرض عقده لآحادٍ، أمكن فرض الغزو في الناحية، مع ترك التعرض للمؤمَّنين، هذا ما ذكره الأئمة، وسرّه أن الجهاد شعار الدين، والدعوة القهرية، وهو من وجهٍ من أعظم المكاسب للمسلمين، ومن أظهر مجالب الأموال لبيت المال، فينبغي ألا يَظهرَ بأمان الآحاد انحسامٌ ولا نقصان يُحَسّ (2). ولو أمن مائةُ ألف من المسلمين، مائةَ ألفٍ من الكفار، فكل واحدٍ لم يؤمن إلا

_ (1) نقل النووي هذا عن الإمام، وتصحف إلى (خيانة). (ر. الروضة: 10/ 281). (2) حكى النووي هذه المسألة عن الإمام، وأشار إلى التردد في صحة أمان الكل عند الانحسام أو النقص. (ر. الروضة: 10/ 278).

واحداً، ولكن إذا ظهر انحسامٌ أو نقصان، فأمان الكل مردود، وقد يختلف الأمر بأن يكون المؤمنون في قُطرٍ، أو يفرضوا متبدّدين (1). وقال قائلون: لو أمّن المسلمُ آحاداً على مدارج (2) الغزاة في المنازل والمناهل، ولولا الأمان، لانبسطت أيدي الغزاة، وإذا فرضت [هذه الصورة، وانكففنا عن] (3) الغنيمة، عسر [مَسير] (4) العسكر، واحتاجوا إلى نقل العلف والزاد، فالأمان على هذا الوجه مردود، وهو من الأمان المضرّ. 11362 - فأما القول في المدة المرعية في الأمان، فعقد الأمان، بمثابة المهادنة، حيث لا ضعف بالمسلمين، وسنذكر أن المهادنة والحالة هذه من ذي الأمر تصح أربعةَ أشهر، ولا تجوز سنة، وفيما دون السنة ووراء الأربعة الأشهر قولان. فكذلك الأمان، فإن قيل: أليس للإمام إذا استشعر ضعفاً أن يهادن الكفار عشرَ سنين؟ قلنا: نعم. ولكن ذلك النظر إلى الإمام، ولا يرقى نظر الآحاد إلى دَرْك الضعف والقوة في أجناد المسلمين، فالأمان مبني على أقل الدرجات في المهادنة في المدّة. فرع: 11363 - إذا أمن المسلم امرأة، فقد قال القاضي: يخرج في ذلك جوابان، بناء على أنه إذا صالح صاحب الراية أهلَ حصن فيها (5) نسوان لا رجل بينهن، وقد أشرفن على أن نسترقهن، فبذلن مالاً، فهل يسقط حق الاسترقاق؟ فعلى وجهين: ووجه البناء أن النسوة يتبعن الرجال، ويبعد أن يفرض استقلالهن باستفادة الأمان من الرق. فإن أسقطنا حق استرقاقهن بمال، فلا يبعد أن يسقط حق استرقاق واحدة أو محصورات بأمان واحد من المسلمين.

_ (1) متبدّدين: أي متفرقين. (2) مدارج: المراد طرق ومنازل الاسترواح في الطريق. (3) مكان بياضٍ بالأصل. (4) في الأصل: " مصير ". (5) فيها بضمير المؤنث على معنى القلعة.

وقد نجزت معاقد المذهب في الأمان. ولها مسائل ستأتي في فصل العلْج، على أثر هذا، إن شاء الله تعالى. 11364 - ومما أغفلناه، ونرسمه [فرعاً] (1): الأسير إذا أمّن كافراً، فهل يصح أمانه أم لا؟ فيه خلاف بين الأصحاب. والوجه أن نقول: إن كان مكرهاً على الأمان، فهو مردود، وإن كان مختاراً في إنشاء الأمان، فمن أصحابنا من قال: يصح ذلك منه؛ فإنه مسلم مكلف أنشأ الأمان اختياراً، ولم يجرّ ضرراً، فيصحّ. ومن أصحابنا من قال: لا يصح، فإن شرط الأمان أن يكون المؤمِّن على أمان، ولا يتحقق الأمان في حق المأسور. التفريع على الوجهين: إن قلنا: يصح أمانه، فلا كلام، وأمانه كأمان المطلَق، وإن قلنا: لا يصح أمانه في حق المسلمين، فهل يصير ملتزماً بحكم الأمان في حق نفسه، فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه حكم الأمان، كما لم ينفذ في حق غيره؛ فإن الأمان لا ينفذ على الخصوص (2). الثاني - أنه ينفذ أمانه عليه في حق نفسه؛ فإن سبب الرّد في حق الغير أنه مقهور مأسور، فلا ينفذ أمانه على المطلقين، ولا يبعد من مقتضى هذا أن يصح إلزامه في حق نفسه. والذي يجب الإحاطة به في تمام ذلك أن المأسور لو أمن من أسره، فالوجه ألا يصح ذلك، وجهاً واحداً، وإنما التردّد الذي حكيناه فيه إذا أمّن من ليس هو أَسَره من آحاد الكفار. وأطلق بعض من لا يعتاد طلب الحقائق، وجهاً في تصحيح أمانه لآسره إذا أنشأه ولم يُكرَه عليه. وهذا لا أصل له. فانتظم منه أن الإكراه على الأمان يُبطله لا شك فيه، وإذا لم يكن إكراه، فأمن غيرَ الآسر، فعلى الخلاف، وإن أَمَّن من أسره، فالمذهب البطلان، وفيه الوجه الضعيف الذي حكيناه.

_ (1) في الأصل: " فرعان ". (2) على الخصوص: يعني من جانب واحد.

فصل قال: " ولو أن علجاً دلّ مسلماً على قلعة ... إلى آخره " (1). 11365 - العلج يعبر به عن الكافر الغليظ الشديد، وهو من المعالجة، ومعناها المجالدة، وسمي العلاج علاجاً لدفعه الداء، والعلج يدفع بأيْده عن نفسه، وفي الحديث: " الدعاء والبلاء يعتلجان في الهواء " (2) أي يضطربان، ويتدافعان، فيدفع الدعاء البلاء. وهذه المسألة نصوّرها أولاً، فنقول: إذا لجأ إلى المسلمين علجٌ من الكفار، وقال: أدلّكم على قلعة، وذكر فيها جاريةً، وشرط أن القلعة إذا فتحت، فهي له، فإذا قبلنا ذلك، والتزمنا استفراغ الطاقة والإمكان في الوفاء، فهذه المعاملة هل تصح؟ وكيف سبيلها؟ هذا تصوير المسألة. وحكمها يستدعي تجديدَ العهد بتقديم أصول من الجِعالة، وقد نُجري فيها ما لم نُقدّم ذكره، فنقول: أولاً - لا خلاف أن عقد الجِعالة بين المسلمين لا يصح إلا على جُعل معلوم مقدرر على تسليمه، فكل ما يصح ثمناً وأجرة، وصداقاً، فهو الذي يصح أن يكون جُعلاً، فلو كان مجهولاً أو غير مقدورٍ على تسليمه أو غير مملوك للجاعل، لم يصح، حتى لو قال: إن رددت عبدي الآبق، فلك مما أصطاده كذا، ومما أحتطبه كذا، فالجعالة فاسدة، للجهالة، فإن عمل على حكم هذا العقد، لم يبطل عمله، وله أجرُ المثل؛ لأنه لم يخض في العمل على شرط التبرع به. وإذا ثبت الجعلُ صحيحاً، وكان عيناً مملوكة، كائنة مقدوراً على تسليمها، فقال إن رددت عبدي الآبق، فلك هذا الثوبُ، جاز. والأصح أنه لا يتعلق

_ (1) ر. المختصر: 5/ 187. (2) حديث " الدعاء والبلاء يعتلجان في الهواء " رواه البزار والحاكم والطبراني من حديث عائشة. قال الحافظ: وفي إسناده زكريا بن منظور وهو متروك. (ر. الحاكم: 1/ 492 وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: " زكريا مجمع على ضعفه ". الطبراني في الأوسط: ح 2519، كشف الأستار: 2165، التلخيص: 4/ 221 ح 2294، خلاصة البدر المنير: 2584).

استحقاق المجعول له بالجعل أصلاً، ما لم يتم العمل، وليس كالأجرة في الإجارة (1)؛ فإن الإجارة معاوضة محضة، مبناها على اللزوم، وهو صنف من البياعات، ومبنى الجعالة على أن يتوقف استحقاق الجعل على إتمام العمل، ثم يجعل الاستحقاق بعقد العمل على أثره، ولا يستند إلى ما تقدم تبيّناً (2). 11366 - ثم إذا [تمَّ] (3) العمل لم يخلُ: إما إن كانت العين قائمة أو تالفة، فإن كانت تالفة، فلا يخلو: إما أن تتلف قبل الردّ، أو بعده، فإن تلفت قبل الردّ، فلا يخلو: إما أن يردّه عالماً بتلف المسمى، أو جاهلاً به؛ فإن علم بتلف العين، وأنشأ العمل بعد التلف والعلمِ، فلا شيء له؛ لأن المعاملة معقودة على استحقاق تلك العين، فإذا تلفت، وأنشأ العمل، فلا متعلق لعمله، وهو في حكم المتبرع. وإن جهل العامل التلف، وعمل، فله أجرُ المثل؛ لأنه لم يتبرع بالعمل، هذا إذا تلف قبل العمل. وإن تلف المسمى بعد الرد، فلا يخلو: إما أن يتلف بعد المطالبة، أو قبلها، فإن تلف قبل المطالبة بها، ففيما يرجع العامل إليه قولان، كالقولين في الصداق المعين، إذا تلف قبل القبض، وفيه قولان، عنهما يتشعب معظم مسائل الصداق. أحدهما - أنه مضمون بالعقد، فيجب عند فرض التلف مهرُ المثل، فعلى هذا في مسألتنا يُضمن الجعل بالعقد، فإذا تلف، فالرجوع إلى أجر المثل، وهذا يناظر مهرُ المثل، والقول الثاني - أن الصداق مضمون باليد، فتجب القيمة أو المثل إن كان مثلياً، وكذلك يخرج هذا القول في الجعل إذا تلف، والغرض تنزيله منزلة الصداق في جهة الضمان. فإن قيل: ما وجه التشابه؟ قلنا: وجهه أن المنفعة في الجِعالة فائتة بعد تسليم العمل على وجهٍ يستحيل تداركها، كما أن البضع بعد العقد في حكم الفائت، فاقتضى ذلك جريان القولين في الأصلين، ولا يبعد عندنا القطع بأن الجعل مضمون ضمان

_ (1) أي يستحق الأجير بكل جزء من العمل جزءاً من الأجرة بخلاف الجعالة. (2) تبيُّناً: التبين مصطلح أصولي سبق شرحه. (3) في الأصل: " سلّم ".

العقد؛ من جهة أنه رُكن الجعالة، وليس الصداق رُكنَ النكاح، وهذا يوجب القطع هاهنا بضمان العقد. والعلم عند الله تعالى. ولو تمم العامل العملَ، وطالب بالجعل، وهو قائم، فلم يسلّمه الجاعل، فقد تعدى، فلو تلف في يده، فإن قلنا: إنه مضمون باليد، فالجواب كما تقدم، وإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، فقد قال القاضي: تلفه بعد الامتناع بمثابة إتلاف الجاعل الجعلَ بنفسه. ثم هذا بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع، وفي المسألة قولان: أحدهما - أن حكمه حكمُ ما لو تلف بآفة سماوية، فينفسخ العقد، ويرجع العامل إلى أجر المثل، والثاني - حكمه حكمُ ما أتلفه الأجنبي، فعلى هذا هو بالخيار بين الفسخ والإجازة، ولا يخفى عاقبة الإجازة والفسخ. والذي يجب فيه فضل تدبّر أن موجب ما ذكرناه، وهو بعينه كلام القاضي أن الحبس على عدوانٍ مع تصوّر التلف بالآفة السماوية ننزله منزلة الإتلاف، ويلزم على هذا المساق أن يقال: إذا توفر الثمن على البائع، وتوجهت الطِّلبَة بتسليم المبيع فأبى معتدياً، [وتلف] (1) المبيع، يكون هذا بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع. وهذا فيه احتمال وفضل نظر، من جهة أن الإتلاف إذا لم يوجد، فاليد القائمة يد عقد، ولهذا لا يتصرف المشتري في المبيع الكائن في يد البائع، في الصورة التي ذكرناها. وإن وفّى الثمن واستحق الانتزاع، فإذا كانت اليد قائمة على هذا الوجه، فتغليب ضمان العقد أولى، حتى يقال: التلف بالآفة السماوية يوجب انفساخ العقد، ومقتضى هذا ألا يُخرَّج القولان في إتلاف البائع المبيع. فهذه مقدمات ذكرناها في أحكام الجعالة. 11367 - والآن نعود بعدها إلى مسألة العِلج، فنقول: كافرٌ في دار الحرب، قال: أدلكم على قلعة فيها أموال وغنائم، فإذا فتحتموها، فأعطوني الجارية الفلانية، ووصفها وسماها. فقد قال الأصحاب بأجمعهم: هذه الجِعالة جائزة، وإن كانت على جُعل غيرِ مملوك، ولا مقدورٍ على تسليمه، ولا شك أن مثل هذه

_ (1) في الأصل: " وأتلف ".

الجِعالة لا تصح بين المسلمين فيما لا يتعلّق بالكفار، وسبب تصحيح هذه المعاملة فيما يتعلّق بالكفار أن الإمام قد لا يتهدَّى في دار الحرب إلى القلاع، وربما لا يتهدّى المسلمون إليها في الغالب، فتمس الحاجة إلى دلالة كافر، فإذا لم يرض الكافر إلا بما سمَّى، فالحاجة تقتضي تصحيحَ المعاملة، إذا قيل: الجهالة تحتمل في الجعالة لمسيس الحاجة، فإذا اضطررنا إلى إثبات فعلٍ يخالف القياس الدائر بيننا، اتبعنا الحاجة. ولو كان الدال على القلعة مسلماً وشرط مثلَ الشرط الذي حكيناه صادراً عن العلج، فالمذهب الأصح بطلانُ هذه المعاملة معه، إلا على شرط المعاملة بين المسلمين. وفي بعض التصانيف أن هذه المعاملة تصح معه كما تصح مع العلج؛ فإن مبنى جوازها على مسيس الحاجة إليها، ولا يفرق في ذلك بين المسلم والكافر. وهذا كلام مبهم عندنا، والوجه أن نقول: حكينا تردد الرأي في أن الوالي لو استأجر مسلماً على الغزو هل يصح؟ فإن منعنا الاستئجار، فلا معنى لهذه المعاملة مع المسلم، فإن ما يأتي به يقع جهاداً منه، فلا يستحق عليه أجراً. ثم كما لا يستحق الجارية المسماة في القلعة، لا يستحق أجر المثل. وإن قلنا: يصح من الوالي استئجار واحد من المسلمين على الغزو، فهل تصح هذه المعاملة معه، كما تصح مع الكافر؟ فعلى وجهين قدمنا ترجيحهما. 11368 - ثم إذا حضر الإمام بابَ الحصن، وحاصرها (1)، فلم يتفق الفتح، نظر: فإن قال العلج الدال: إن فتحتموها، فلي الجارية، فلا يستحق إذا لم يتفق الفتح شيئاً؛ فإنه علّق استحقاقه بالفتح، فإن اشترط الجارية، ولم يقيد المعاملة بالفتح، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يستحق شيئاً؛ فإن رضاه بالجارية بمثابة التصريح بذكر الفتح؛ إذ لا يتعلق التوقع بتسليم الجارية إلا من جهة الفتح، فصار كما لو قيد بالفتح.

_ (1) حاصرها: بضمير المؤنث على معنى القلعة.

وفي بعض التصانيف وجه آخر أنه يستحق أجر المثل للدلالة؛ لأنه عمل لنا عملاً ولم يرض بأن يكون متطوعاً. وهذا الكلام فيه اختلال، لا يبينه إلا تفصيل، وهو أنه لو دلّ، واكتفى بالجارية، وذكر الفتح صريحاً أو لم يذكره، ولكن اكتفى بالجارية، فإذا حصرنا الحصن، وكان القتال ممكناً، فلم نقاتل، فهل يستحق الدالّ والحالة هذه شيئاً؟ هذا محلّ التردد؛ فإنه يقول: دللتُ، وفعلتُ ما علي، فقصّرتُم. وينقدح أن يقال: لا شيء له، للتعلق بالفتح تصريحاً، أو تعريضاً. ويجوز أن يقال: يستحق الدالّ أجرَ المثل؛ من جهة أنه استتم عمله. وإن حصرنا القلعة، فلم يكن القتال ممكناً، وكان بحيث لا يُطمع في افتتاحها إلا باتفاقٍ نادر، فالوجه هاهنا، القطعُ بأنه لا يستحق شيئاً؛ لأنه ما دلنا على ممكن. وإن كان القتال ممكناً على الجملة، ولم يكن الفتح مقطوعاً به، فقاتلنا، فلم يتفق الفتح، فهذا يُبنى على ما إذا لم نقاتل أصلاً. فإن قلنا: إذا تُرك القتال أصلاً، مع إمكان الفتح، لم يستحق شيئاً، فلأن لا يستحق هاهنا أولى، وإن قلنا: الدّالّ لا يستحق، فإذا قاتلنا، فإن حصل اليأس، وبذلنا المجهود، فهذا يقرب منه، إذا بان لنا اليأس، كما (1) حصرنا، وإن لم يحصل اليأس، ولكن تبرّمنا بالقتال، أو استنفرَنا أمرٌ انزعج الجند له، فهذا محل التردد. وبالجملة: ينبغي أن تؤخذ هذه المسألة من هذه المآخذ التي أشرنا إليها. 11369 - وإن فتحنا القلعة ووجدنا الجارية التي شرطناها للعلج، فيجب تسليمها إليه، والوفاء به، ولا يسوغ منعُها. وإن لم نجدها، نُظر: فإن كان أخطأ العلج في ظنه كونَ الجارية في القلعة، أو كانت، ولكن تقدم موتها، أو كانت ميتة يوم المعاقدة مع العلج، أو لم يخلقها الله تعالى، فقد قال الأئمة: لا شيء للعلج في هذه الصورة؛ فإنه اكتفى بجارية ظنها، وقد أخلف ظنه، فحبط عمله.

_ (1) كما: بمعنى: عندما.

وإن وجدناها لكنها ماتت بعد [المعاقدة] (1) فللأئمة طرق نسردها، ثم نجمعها على العادة في أمثالها. قال قائلون: إن ماتت بعد الظفر بها، غرمنا القيمة للدلالة، وإن ماتت قبل الظفر، فقولان، والفرق أنه إذا ظُفِر بها، فقد دخلت في يد الإمام أو صاحب الراية، ووقعت في قبضته، [فيغرم قيمتَها] (2). وقيل: إنها تلفت من ضمانه (3). [والطريقة الثانية: أنها] (4) إذا ماتت قبل الظفر، فلا ضمان. وإن ماتت بعد الظفر، فقولان: أحدهما - أنه يجب الضمان لموتها تحت أيدينا، فينبغي أن تكون محسوبة علينا. والثاني - أنا لا نضمن شيئاً؛ فإن الجارية المذكورة ليست عوضاً في الحقيقة، وليست على حقائق الأعواض، وإنما أجرينا فيها عِدَةً؛ فإن اتفق الوفاء بها، فذاك، وإلا فلا ضمان. نعم يجب الوفاء إذا أمكن، وإن فرض تقصيرٌ، فمنتهاه المأثمُ، وتركُ الواجب. وقال (5) العراقيون: لا فرق بين أن تموت قبل الظفر أو بعده، ففي الصورتين جميعاً قولان في أنا هل نغرم للعلج قيمة الجارية. وإذا جمع الجامع الطرق (6)، انتظم أقوال: أحدها - الضمان في الحالتين قبل الظفر وبعده. والثاني - انتفاء الضمان فيهما. والثالث - وجوب الضمان بعد الظفر، ونفيه قبل الظفر. هذا حاصل ما ذكره الأئمة.

_ (1) في الأصل: " المعاملة "، والمثبت لفظُ الإمام الغزالي في البسيط. (2) عبارة الأصل: " فغرم قيمتها، وقيل: إنها ما ". (3) المعنى: يقال: تلفت من ضمانه، فيغرم قيمتها. (4) زيادة اقتضاها السياق. (5) هذا هو الطريق الثالث. (6) والطريق هي: أ- ماتت بعد الظفر: وجب الضمان، وقبل الظفر: قولان. ب- ماتت بعد الظفر: قولان، وقبل الظفر: لا ضمان. ج- ماتت بعد الظفر: قولان، وقبل الظفر: قولان.

11370 - وقد يتطرق إلى ما ذكرناه مزيد بحث، وهو أن يقال: إذا فتحنا القلعة، واستمكنا من تسليمها، فلم نسلّمها حتى ماتت تحت قبضتنا، فيظهر وجوب الغرم هاهنا. ولو فتحناها، وماتت قبل تمكننا من تسليمها، فهذا فيه تردّد، من جهة أنها ماتت من وجهٍ بعد الفتح، وماتت من وجهٍ آخر قبل التمكن، وغايتنا أن نبذل كنه المجهود فيها، هذا لابد منه مع ما قدّمناه، ثم يعود فيه ما ذكرناه مقدمة في أحكام الجعالات، من تلف العين المجعولة جعلاً قبل الطلب وبعده، وقد ذكرنا في تلف العين قبل الطلب، وبعد العمل قولين في أن المضمون القيمة أو أجر مثل العامل، وهذا الخلاف يجري هاهنا إذا أثبتنا الضمان، وإن فرضنا الطلب والاستمكان، فهذا يناظر ما إذا كانت العين قائمة، وجرى التقصير في تسليمها، مع توجه الطلب بها، فلا بأس من التنبه لما ذكرناه. 11371 - ومما يتصل بتقاسيم المسألة أنا إذا وجدناها، ولكنها كانت مُسْلِمة، فالذي ذهب إليه المحققون أنا نغرم قيمتها للدالّ سواء أسلمت قبل الظفر أو بعده، بخلاف الموت، فإنا فصلنا المذهب فيه كما تقدّم، والفرق أنها إذا أسلمت، فالإمام هو الذي يحول بين العِلج وبينها، بحكم الإسلام، وإلا فالتسليم بحكم المشاهدة (1) ممكن فيها، فيغرم قيمتَها بالحيلولة، وإذا ماتت، فليس صاحب الأمر هو الحائل بينهما، وإنما وقعت الحيلولة [بأمرٍ خارج] (2). وفي بعض التصانيف: في إسلامها وجهان: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنا ننزل إسلامها منزلة الموت، ثم في الموت التفصيل المقدّم، وهذا ضعيف، ووجهه على بعده، أن الإسلام صيرها كالمعدومة، وشرط الجارية للعلج وإن كان مطلقاً، فمعناه التقييد ببقائها على الكفر، فإنا إنما نتمكن لو بقيت كافرة، فإذا أسلمت فلا تَمَكُّن.

_ (1) بحكم المشاهدة: أي حسّاً، كما عبر بذلك الغزالي في البسيط. (2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى.

ويمكن أن يقال: إذا أسلمت قبل الفتح، فهذا بمثابة الموت، لأنا لا نملكها إذا فتحنا القلعة، ولم نقدّر استحقاقها بالشرط، فكان ذلك بمثابة ما لو صادفناها ميتة، وإن أسلمت بعد الفتح؛ فإنها تبقى مملوكة، فيتجه هاهنا القطع بالغُرم للعلج، ولا يتجه غيره؛ فإن المنع يعود إلى مراعاة حكم الشرع والملكُ عليها ثابت، فإنها رقَّت لما وقع الفتح، ثم أسلمت من بعدُ. 11372 - ولو فتحنا القلعة، فلم نجد غير تلك الجارية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نسلّم الجارية إلى العلج وفاء بالشرط، إذ لا مانع من التسليم. والثاني - لا نسلّم؛ فإن هذا في التحقيق فتحٌ للعلج، ولا أَرَبَ لنا فيه، وهذا التردد الذي ذكرناه فيه إذا لم نؤثر تملك القلعة أو لم نتمكن منها، لأنها محفوفة بالكفر، ويعسر تخليف جمع يقومون بحفظها عن الكفار. فأما إذا ملكنا القلعة، وأدمنا اليد عليها، فيجب القطع بتسليم الجارية. 11373 - ولو حاولنا الفتح، فلم نستمكن، واستفزّنا أمرٌ، ورأينا أن مثل ذلك يُبطل حق العلج، فلو اتفق لنا عودٌ إلى القلعة في كَرّةٍ أخرى، فاتفق الفتح فيها واستمكنا من الجارية، فهل نوجب تسليمها إلى العلج؟ ذكر الأصحاب وجهين، ووجه التردد والاحتمال لائح. ولكن لا بدّ من التفصيل، فإن عدنا واستمكنا في العودة بالأعلام (1) التي أقامها العلج، ولولا تقدم دلالته، لما عدنا، فيظهر هاهنا تسليم الجارية إليه، والمصير إلى أنه لا حكم لما تخلل من المحاولة، وترك المقاتلة. وإن اتفق ونحن نؤمّ بقعة أخرى وقوعنا على القلعة، من غير استمساك بأعلام استفدناها من دلالة العلج، فهاهنا يظهر الاحتمال في أنا هل نسلم الجارية إذا تمكنا منها والشرط مطلق، والأصح أنا لا نسلّمها؛ فإن المعاملة الجارية بيننا، وإن كانت مطلقة، فهي من طريق العُرف وفهم الخطاب متقيّدة باتصال الفتح بالدلالة، وهذا الظهور جرى منقطعاً. وبالجملة ليس تخلو حالة من الأحوال التي فصلناها عن احتمال، ولا يعجِز الفطن

_ (1) بالأعلام: أي بالعلامات التي دلنا عليها العلج، والمعلومات التي قدمها لنا.

عن إجراء الخلاف فيها وترتيب البعض منها على البعض، ولسنا نطوّل بذكرها. ولا خلاف أنه لو انتهى إلى القلعة طائفة أخرى لم تكن في المعاملة (1)، فلا يلزمها شيء، وإن تمكنت من الجارية، وإن كانت هذه الطائفة تلتفت إلى الأعلام منا ونحن تلقيناها من العلج، فلا يلزمهم شيء؛ فإنه لم يجر منهم التزام وخوض في المعاملة. ويبقى الكلام في أنا إذا لم نفتح -وربما كان الفتح ممكناً لو أطلنا المحاصرة- فهل نغرم للعلج؟ وهذا مما تقدم تفصيله. ولو جاوز الإمامُ القلعة، ثم ردّ جمعاً من الجند الذين كانوا معه، فإن ردهم على القرب، واتفق الفتح؛ فالوجه تنزيل هذا منزلةَ ما لو أقام حتى فتح. وإن جاوز القلعةَ، وانقطع عنها بحيث يبعد الرجوع إليها من غير استمساك بالدلالات التي ذكرها العلج، [فأبان] (2) للراجعين تلك [العلامات] (3)، فانقلبوا، وفتحوها، فهذا بمثابة ما لو رجع هو بنفسه. وإذا أحاط المرء بمقتضى اللفظ في هذه الجِعالة، لم يخف عليه محلُّ الوفاق والخلاف. 11374 - ثم حيث يغرم الإمام للعلج أجر المثل، أو قيمةَ الجارية على التفاصيل التي تقدّمت، ففي المحلّ الذي يأخذ [منه] (4) ما يغرَمه للعلج الخلافُ الذي قدّمناه في محل الرضخ، ففي وجه يخرج ما يبذلُ للعلج من سهم المصالح، وفي وجه يُخرجه من رأس المغنم، ووجه ما ذكرناه بيّن. 11375 - ولو جرت المعاملة كما وصفناه، وحاصر صاحب الراية أهلَ الحصن، واقتضى الرأي أن يصالحهم على أن صاحب القلعة وأهلَه في أمان، فلما فتحوا القلعة على موجب هذا الصلح؛ بان تلك الجارية من أهل صاحب القلعة، فقد تصدّى لنا

_ (1) المعاملة: المراد المعاقدة مع العلج. (2) في الأصل: " بان ". (3) في الأصل: " المعاملات ". (4) زيادة اقتضاها السياق.

صلحٌ يجب الوفاء به، ومعاملة سبقت مع العلج يتعين تحقيق المقصود منها، فالوجه أن نقول لصاحب القلعة: قد شرطنا لفلان هذه الجارية؛ فإن رَضِيتَ تسليمَها إليه، غَرِمنا لك قيمتها، فإن رضي، فذاك، وإن لم يرض، قلنا للدالّ: قد صالحناه على أن نؤمّن أهله، والجارية المشروطة من أهله، فإن رضيتَ [بقيمتها] (1)، بذلناها لك، فإن رضي، فذاك، وإن لم يرض، قلنا لصاحب الجارية: إما أن تسلم الجارية، أو تعودَ حرباً، فنردّك إلى القلعة، فاستوثق منها، وأغلق بابها، وارجع إلى ما كنت عليه، ثم نعود إلى القتال، فإن اتفق الفتح، سلمنا الجارية، وإن لم يتفق الفتح، فالكلام على ما مضى. 11376 - ثم استنبط الفقهاء من هذه المسألة فوائدَ: إحداها - تصحيح جعالة جعل مجهولٍ غير مقدور على تسليمه. والثانية - أن الأمان مع الجهل بتفصيل العدد، في الذين يؤمنون جائز؛ لأن أهلَ صاحب الحصن مجهول العدد. 11377 - قال الأصحاب: ويجوز الأمان مضافاً إلى عدد معلومٍ مع الجهل بالأعيان، وذلك أن يؤمِّن من أهل القلعة خمسين أو مائة فيكون التعيين إلى شخصٍ، وروي: " أن عمر صالح أهل قلعةٍ على أن مائة من أهل القلعة في أمان، وكان عمر يحب أن يظفر بصاحب القلعة من غير أمان، فأخذ صاحبُ القلعة يختار المائة من أهل القلعة، ويعدّهم، ويعينهم، وعمرُ يدعو ويقول: اللهم أنسِه نفسَه، فعدّ مائة، ونسي نفسه، فعرض عليه الإسلامَ، فلم يسلم، فحز رقبته " (2). 11378 - ومما يُتلقى من أطراف هذه المسألة: أن الصلح إذا عارضه عذرٌ يعسر الوفاء به معه، فيجوز للإمام ردّه ونبذه، كما ذكرناه في مصالحة صاحب القلعة، على أن يؤمّن أهله، ثم كانت المشروطة من أهله.

_ (1) في الأصل: " بقيمته ". (2) خبر " أن عمر صالح أهل قلعة على أن مائة من أهل القلعة في أمان ... ثم حزّ رقبة صاحب القلعة " لم نجد هذا عن عمر، وإنما هو مروي عن أبي موسى الأشعري حين حاصر مدينة السوس، والخبر رواه البلاذري في فتوح البلدان 2/ 466 ح 941. (ر. التلخيص: 4/ 223 2298).

فصل قال: " وإن غزت طائفة بغير أمر الإمام ... إلى آخره " (1). 11379 - الذي يقتضيه الإذن ألا ينتهض جمعٌ من المسلمين للجهاد إلا صادرين عن رأي الإمام أو نائبه، فلو لم يراجَعوا، فدخلوا دار الحرب، فغنموا أموالاً، فهي مخموسةٌ، سواء كانت الطائفة ذاتُ نجدة وعُدّة، أو كانت طائفة يسيرة، وإن دخل رجل أو رجال دار الحرب مختفين، وسرقوا من أموال الكفار وأحرزوه، فالمذهب المشهور أنهم ينفردون بما سرقوه، ولا يخمّس ما ثبتت أيديهم عليه. وقاعدة المذهب في ذلك تستدعي ثلاثةَ أشياء: أحدها - في أصل المغنم، والثاني - في المسروق على ما صورناه، والثالث - في المال المظفور به المحظور لكونه فيئاً. أما المغنم، فهو ما يحصل في أيدي المقاتلة، بالمكاوحة، فاليد فيها ثابتة، ولكن الأملاك غير مقصودة؛ إذ الجهاد وملاقاة أعداء الدين، مع التغرير بالمهج لا يجوز لأجل المال، فلا يجوز إلا لإعلاء كلمة الله، والذب عن دين الله تعالى، ثم المغانم إن حصلت، فهي في حكم التبع، [ولذلك] (2) تسقط حقوق الغانمين بالإعراض؛ فإنهما لم تُقصد بالاستيلاء بالأيدي، وكل ما يملك بالاستيلاء، فللقصد فيه تأثير، وسنوضح هذا في فصلٍ معقودٍ في أملاك الغانمين، إن شاء الله تعالى. ثم ما يكون مغنوماً، فهو مخموس لا محالة. وأما المسروق، فمقصودٌ بالتملك في عينه، فيثبت فيه ملك السرّاق، والأصح أنه غير مخموس، وسبيل الأخذ على هذا الوجه من أموال الكفار كسبيل الاصطياد، وما في معناه من الجهات التي يُقصد الملك فيها باليد. ومن أصحابنا من قال: المأخوذ على جهة السرقة مخموس كالغنيمة، وهذا ضعيف، لا أصل له. ولكن حكاه شيخي، وكان يقول: يتميز المسروق عن المغنوم

_ (1) ر. المختصر: 5/ 187. (2) في الأصل: " وكذلك ".

بتأكد الملك في المسروق كما (1) استقرت اليد عليه، حتى لو أراد السارق الإعراض عنه، لم يسقط حقه، بخلاف المغانم. ولعلنا نعيد هذا في الفصل المعقود في أملاك الغانمين، إن شاء الله تعالى. وأما المظفور به من غير قتال، فهو على ما تقدّم التفصيل فيه، وهو متميز عن المسروق من حيث إن المسروق حصله السارق بيده، وإن لم يكن قتال، ويده أقوى من يد الغانم؛ فإنها مقصودة. وذلك ما أردنا أن نبين. 11380 - ثم ذكر الشافعي رحمه الله فصلاً في السرقة من الغنيمة، وهذا قد قدّمنا أصله، ومعظم ما يتفرع عليه في كتاب السرقة عند ذكرنا السرقة من المال المشترك، والأخذ من الأموال العامة، وفي هذا الفصل زوائد هينة، ولكنها متعلقة بحقيقة ملك الغانمين، فأخرتها إلى ذلك الفصل. ثم ذكر إحياء الأرض الموات في بلاد الحرب، وقد قدّمناه مستقصى في إحياء الموات. 11381 - وقال: " ما فعله المسلمون بعضهم ببعض في دار الحرب لزمهم حكمه ... إلى آخره " (2). قصد بهذا الفصل الرّد على أبي حنيفة (3) في مصيره إلى أن من قارف من المسلمين موجبَ حدّ في دار الحرب، لم يلزمه الحد؛ فإن الشافعي من مذهبه أن أحكام الله تعالى على المسلمين جاريةٌ في دار الحرب جريانَها في دار الإسلام، والحدود تجب على الذين يقترفون موجباتها، وكذلك القول في العقوبات التي يستحقها الآدميون كالقصاص، وحدّ القذف، ومما أجراه الردّ عليه في قوله: " من أسلم، ولم يهاجر، فقتله مسلم مع العلم بإسلامه عمداً، فلا قصاص عليه " (4).

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) ر. المختصر: 5/ 188 (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 473 مسألة 1627. البحر الرائق: 5/ 18، تبيين الحقائق 3/ 182. (4) ر. الجامع الصغير: ص 314، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 477 مسألة 1631، الغرة=

ولا فرق في المغارم والعقوبات وقواعد التكليف بين الباب والباب، وكيف يستحسن الإنسانُ المصير إلى أن الصائرين إلى دار الحرب من دار الإسلام تنحلّ عنهم عُرى أحكام الإسلام، ولا يلتزمون منها ما يُلزِمُه أهلَ الحرب. واختلف نص الشافعي في أن الإمام هل يقيم الحد على من استوجبه من المسلمين في دار الحرب، فاضطرب أئمتنا، فقال قائلون: في كراهة ذلك قولان، ولا أحد يصير إلى التحريم. وقال قائلون: النصان منزلان على حالين، فإن كان لا يخاف افتناناً، أقام الحد، وإن خاف فتنة، فلا نؤثر إقامةَ الحد، وذلك بأن يتداخل المحدود مغيظةٌ، وقد تكون سبب انقلابه، وقد يكون شريفاً في قومه، فيحملهم ما يجرى على سيدهم على الانفلال (1)، فالنهي عن الإقامة محمول على مثل هذه الصورة. وإن ظهر وقوع ما أشرنا إليه، وغلب على الظنّ كونُه (2)، فالظاهر عندي، أنه يجب اجتنابه، وحد الكراهية لا ينتهي إلى المباح الذي وصفناه، ولكن إن كان التوقع على ندور، أو لم يكن غالباً في الظن، فهذا مظنة الكراهية، وإن غلب وظهر، فالأوجه الاجتناب. ثم ذكر الشافعي رحمه الله كلاماً في الذين لم تبلغهم الدعوة إذا انتهينا إليهم (3). وهذا مما قدمته على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب الديات، عند ذكري أبدال نفوس أهل الملل وأقدار دياتهم. ...

_ =المنيفة: ص 174، طريقة الخلاف: ص 241 مسألة 97، إيثار الإنصاف: ص 244. (1) الانفلال: الانهزام. من انفلّ القوم أو الجند: أي انهزموا (المعجم). (2) كونه: أي وجوده: كان هنا تامة. (3) ر. المختصر: 5/ 188.

باب ما أحرزه المشركون من أموال المسلمين

باب ما أحرزه المشركون من أموال المسلمين 11382 - صدّر الشافعي الباب بالمسألة المشهورة في الخلاف مع أبي حنيفة، وهي إذا استولى المشركون على أموال المسلمين، وأحرزوها بدار الحرب (1)، فمذهبنا أنها باقية على ملك مالكها من المسلمين، فلا يملكها المشركون بالاستيلاء عليها، ومهما (2) وقع الظفر بها، فهي مردودة على ملاكها، ثم إن وقعت في أيدي الغانمين من المسلمين، فإن تبينا قبل القسمة، فالخطب يسير، فتردّ، وإن كان بعد القسمة، وسهل نقض القسمة، نقضناها، ورددنا الأعيان على أصحابها، وانتحينا القسمة بعد ردها. وإن لم يكن نقضُ القسمة ممكناً، فالوجه استرداد تلك الأعيان من أيدي من وقعت في أيديهم، ثم يعوِّض الإمامُ من استُردّت العين منه من بيت المال، والخلاف في المحلّ الذي يخرج منه مثل ذلك، لا يجرى هاهنا حسب جريانه في الرضخ والمغارم التي تقع قبل القسمة، فالوجه أن يُغرم من المال العام، وهو مال المصالح. فأما الرجوع على الغانمين -وقد تبدّدوا- متعذّر (3)، وجهات المصالح متسعة، والمسألة مشهورة مع أبي حنيفة (4).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 189. (2) ومهما: بمعنى: وإذا. (3) متعذر: جواب أما بدون الفاء. (4) ر. رؤوس المسائل للزمخشري: 360، مسألة: 239، طريقة الخلاف: 239 مسألة: 96.

فصل قال: " وإذا دخل الحربي إلينا بأمان، فأودع وباع ... إلى آخره " (1). 11383 - إذا دخل الحربي دار الإسلام، وأودع عندنا ودائعَ، وبايع الناس، وثبت له قروضٌ وأثمان في الذمم، ثم إنه التحق بدار الحرب ناقضاً عهده، أو خرج إليه بإذن الإمام، أو لم ينقض عهده، ولكن خرج لشغلٍ ليقضيه، فإن خرج غيرَ ناقضٍ عهدَه، وترك أمواله، فلا شك أن تبقى الأموال في أمانه في زمان حياته، وإن مات، فسنذكر ذلك بعدُ في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل. وإن خرج إلى دار الحرب ناقضاً عهده، فقد ذكر الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب ثلاثةَ أوجه في الأموال التي خلفها: أحد الوجوه- أنه لا يُنقض الأمانُ في أمواله، ما دام حياً، وربما كان يقطع شيخي بهذا الوجه، ووجهه أنه يثبت لماله حكم الأمان، كما ثبت له، ثم انتقض الأمان في حقه بالالتحاق بدار الحرب على قصد نبذ العهد، فنحكم في الأموال الباقية عندنا بالبقاء على حكم الأمان. والثاني - ينتقض العهد في الأموال التي خلفها؛ فإن المال اكتسب الأمان من جهة المالك، فإذا لم يبق للمالك عهد وأمان، لم يستقل المال بحكم الأمان. والوجه الثالث - أنه ينظر، فإن لم يَعقِد للمال أماناً على حياله، وإنما عَقَد الأمان لنفسه، ثم تعدى حكمُ الأمان إلى ماله، فإذا انتقض العهد في نفسه، انتقض العهد في ماله؛ فإنه ثبت تابعاً، فزال بانقطاع المتبوع وإن ثبت الأمانُ للمال مقصوداً، كما أثبته لنفسه، فإذا انتقض العهد في نفسه لم ينتقض العهد في ماله، والأولان يعممان في النفي والإثبات، ولا يفصلان بين أن يجري الأمان للمال مقصوداً وبين أن يثبت تبعاً. وهذه الأوجه الثلاثة يفرع عليها الحياة، وحكم الممات. 11384 - ونبدأ بتفصيل الحكم في الحياة، فإن قلنا: الأمان باقٍ للمال، فلا

_ (1) ر. المختصر: 5/ 189.

نتعرض لماله، ولو دخل ديار الإسلام [واستردّ] (1) أمواله، كان له ذلك، ولم يجز التعرض له، وإن لم نجدد له عهداً، فماله هاهنا سببُ تَسلُّطِه على دخول دار الإسلام، وهو بمثابة ما لو دخل كافرٌ دارَ الإسلام ليسمع الذكر، ويبحثَ عن الدين، ويتقبَّله إن ظهر له، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ} [التوبة: 6]، فقال العلماء: ليس المراد أن يُعقَد له أمانٌ ثم يدخل، ولكن قصدُه هذا يؤمنه، وهو في أمان الله تعالى، ومقصود الآية إعلامُنا أنه مؤمّن. وكذلك لو دخل كافر ديار الإسلام رسولاً، فتصدّيه للرسالة يؤمِّنه، وإن لم يُعقد له أمانٌ، كذلك عود الحربي لأجل أمواله سائغ من غير تجديد أمان. ثم قال الأئمة: ينبغي أن يعجل تحصيل أغراضه، ولا يعرّج على أمرٍ. وإن زاد على الحد الذي ذكرناه، تصدى للقتل والأسر. وإن قلنا: لا أمان لماله، فهو مأخوذ فيئاً؛ فإنه مال كافرٍ مظفور به من غير إيجاف خيل وركاب، فالتحق بالفيء. وهذا الطرف من الفصل فيه أدنى التباس. ونحن نفصله ونكشفه، فنقول: إذا أراد المستأمَن أن ينبذ إلينا العهد، فلا شك أنا نُبلغه المأمنَ، ولا نتعرض لأمواله التي يستصحبها؛ فإنه في علقة من الأمان بها استمساكه إلى أن ينتهي إلى مأمنه، فإذا استصحب أمواله، فحكمها حكم نفسه، وإذا التحق بدار الحرب، وخلّف عندنا أموالاً، ففيها الخلاف، ولو فارق الأموال المخلّفة، ولم يستصحبها ولم يلتحق بعدُ بالمأمن، فكيف سبيل أمواله المخلّفة؟ الوجه عندي أنها في أمان، فإن مالكها بعدُ في أمان، وإنما التردد إذا انقضت عُلقةُ الأمان في حقه بأن التحق بدار الحرب. ويجوز أن يقال على بعدٍ: إذا فارق الدار، وانقطع عن الأموال، يجري الخلاف، بخلاف الأموال التي في صحبته؛ فإن من ينبذ إلينا العهد، وإن كنا نبلغه المأمن، فهو من وجهٍ خارج من الأمان؛ إذ لو أراد أن يرجع، ويتوطن من غير أمانٍ جديد، لم يكن له ذلك، فكأنّ ما يُطلَقُ من الأمان، يُبَذْرِقه (2) إلى دار الحرب.

_ (1) في الأصل: " استردّ ". (2) يبذرقه: يحرسه: فالبذرقة: الجماعة تتقدم القافلة للحراسة. قيل: معربة، وقيل: مولّدة.=

ومما تجب الإحاطة به، فيما أَبهم الأصحابُ: إذا عاد بجميع ماله على الوجه الذي نقول فيه: يبقى الأمان في المال، فلا ينبغي أن يتخذ ذلك المالَ، أماناً له يرجع إليه، ويأخذ البعض، ويُبقي البعض، ويتردّد في ديار الإسلام من غير أمانٍ يتجدد، ولو فعل ذلك، امتدت أيدي المسلمين إليه. نعم، لو دخل ولم يستمكن من استرداد الأموال، وانقلب ثم عاد، فلا بأس عليه. والغرض أنه يقتصر على قدر الحاجة، في استرداد الأموال. فكل ما ذكرناه تفريع الحكم في حالة الحياة. 11385 - فأما إذا خلّف عندنا أموالاً، ولحق بدار الحرب، ومات في دار الحرب، فإن لم ينقض العهد في خروجه وطروقه، وإنما خرج لبعض وطره في شغلٍ، ثم يعود، فلا شك أن ماله في أمان ما دام حياً، فهاذا مات، فهل يصرف إلى ورثته؟ ظاهرُ المذهب أنه مصروف إلى ورثته كما لو مات هاهنا في العهد على أمواله؛ فإن أمواله مردودة إلى ورثته، وإن كانوا حربيين لا عهد لهم، ولا أمان بيننا وبينهم. هذا هو المذهب. فأما إذا كان التحاقه بدار الحرب بعد نبذ العهد إلينا، فإن قلنا: أموالُه عندنا [فَيْء] (1) في حياته، فلا يخفى أنها تكون فيئاً بعد وفاته، وإذا كنا لا نصرفها إليه وهو حي، فلا [شك] (2) أنا لا نصرفها إلى ورثته بعد موته. وإن قلنا: إن أمواله مردودة عليه في حياته، فإذا مات، وقد كان نبذ العهد إلينا، ففي أمواله حيث انتهى التفريع إليه قولان في الأصل: أحدهما - أنها تصرف إلى ورثته كما كانت تصرف إليه في حياته. والقول الثاني - أنها تصير بعد موته فيئاً؛ وذلك أنا كنا نعلّق أمان ماله بعُلقة أمانه على معنى أنه يعود، فيأخذها. فإذا مات وقد كان نبذ إلينا العهد في الحياة، وانضم

_ =وبعضهم يقول: بالذال، وبعضهم يقول: بالزاي. (المصباح). (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: " يشكل ".

إليه مماته وفواتُه؛ فيضعف أثر الأمان في حكم المال، وقد أطلقنا هذين القولين الآن، وسنذكر -إن شاء الله تعالى- في أثناء الفصل وجهَ مأْخذ القولين، وتصرّفَ الأصحاب. وقال قائلون: إذا خرج المعاهد إلى دار الحرب، ولم ينبذ عهده، ولكن أراد قضاء وطرٍ وعودةٍ بعدُ، فإنه إذا مات في دار الحرب، ففي أمواله التي عندنا قولان، كالقولين فيه إذا نبذ العهد، والتحق، فانتظم قولان، في الذين نبذوا، وطريقان في الذي خرج لشغل، ثم اتفق موته في دار الحرب. 11386 - ومما يجب الاهتمام به في مسائلِ هذا الفصل أن الحربي إذا أمّناه، وأوح عندنا أموالاً -كما ذكرناه- ثم خلّف الأموال، ونبذ العهد، والتحق بدار الحرب، وسُبي، فضرب الرق عليه، وعاد إلى أيدي المسلمين رقيقاً، فكيف حكم الأموال التي كان أودعها عندنا قبل الالتحاق وقبل الاسترقاق؟ فنذكر في هذه الصورة حكمَ ماله في حياته، وهو في نفسه مسترق، ثم نذكر حكم ماله إذا مات رقيقاً. فأما تفصيل القول في أمواله حالة حياته، فنقول: إن لم نر لأمواله أماناً إذا التحق بدار الحرب، فلا إشكال في أن أمواله المخلَّفة فينا فيءٌ. وإن فرّعنا على أنه يبقى لأمواله حكمُ الأمان إذا التحق بدار الحرب، ويبقى في قضية الأمان في حياة ذلك الملتحق النابذ للعهد، فهذا ما دام على نعت المالكين، فإذا وقع في الأسر، ورفَقْناه، فالذي يجب تحصيله ونقله -على قولنا: إن أمان المال يبقى لو لم نسترقّه- قولان: أحدهما - أنا نقف ماله، وننتظر عاقبةَ أمره، فإن مات رقيقاً، وقعت المسألة في القسم الذي التزمنا بيانه، وهو أن يموت رقيقاً، وإن عَتَق، رُدّ المال إليه، وجعلنا طريان الاسترقاق مع اتفاق العتاق بمثابة تماديه في نقض العهد، فإذا زال، عاد الأمر إلى ردّ المال إليه، فهذا قولٌ، وحاصله وقفٌ. وله عاقبتان بينا إحداهما، وأجلنا الأخرى. والقول الثاني - أنه إذا استُرق، فالأموال التي خلّفها فيءٌ؛ فإنه انضم إلى نبذ العهد خروجُه عن كونه مالكاً، فوهى الأمان في المال وانبتَّ، وإن كان يبقى لو بقي مالكاً، وهو قولٌ متجه منقاس.

فأما إذا استُرِق، ومات رقيقاً، فنقول: أولاً- لا مطمع لسيده في ملك الأموال، ولا تعلق له فيها، والمنصوص عليه في هذه الصورة أنها تصير فيئاً. هذا هو النص، وليس كما لو مات حراً بعد نبذ العهد؛ فإن الشافعي نص على قولين في أنا هل نصرف الأموال إلى الورثة، فأجرى قولين، ثم قطع هاهنا بأن تلك الأموال فيء، والفرق متضح؛ فإن التوريث ثَمَّ إن قلنا به، فهو توريث من حرّ، وهاهنا لو صرفنا المال إلى الورثة، لكنا صرفناه إليهم توريثاً عن رقيق، وهو غير جارٍ على القاعدة، فاتضح الفرق. 11387 - ولكنْ للشافعي نصٌّ في مسألة تساوي هذه، والنص على المخالفة، وتلك المسألة مقصودة في نفسها، وقد أجلناها من كتاب الجراح إلى هذا الفصل، وقلّما يوجد في المعضلات مثلُها؛ فإنه يشترك فيها -كما سنُفصّلها- أصول متعارضة. فالرأي أن نأتي بها ونبالغ في كشفها، وتنزيل فروعها على أصولها، ثم إذا لاحت المسألةُ، انعطفنا بعدها على غرضنا من الأموال التي استُرق مالكها. وصورة المسألة أن يجني مسلمٌ أو ذمي على ذمي، فيقطع يديه مثلاً، ثم يلتحق الذميّ المجني عليه بدار الحرب، ويصير حرباً لنا، ثم يقع في الأسر، ويرى صاحب الأمر أن يضرب عليه الرق؛ فإذا رَقَّ -وتعيّن مالكه ضرْباً للمثل- والجراحة القديمة به، وسرايتها دائمة، فما الذي يجب على الجاني؟ وما يصرف إلى السيد؟ وإن فرض فاضل، فإلى من يصرف؟ فالذي يقتضيه الترتيب أن نذكر أولاً ما يلتزمه الجاني، ثم نذكر من يصرف إليه، والقول فيما يلتزمه الجاني يستدعي تجديد العهد بتراجم الأصول؛ فإن المسألة تلتفت إليها. منها أن من قطع يدي عبدٍ قيمته مائتان من الإبل، ثم عتق ومات، فلا خلاف أن الجاني لا يلتزم أكثر من الدية نظراً إلى المآل، وهذا من الأصول الممهَّدة، وهو النظر إلى المآل في المقدار. هذا مذهب الشافعي وأصحابه.

وقال المزني فيما نقله عنه الناقلون: يجب على الجاني أرش اليدين، مائتان من الإبل، وقد نبهنا على هذا في الجراح، وذكرنا غائلتَه، وغرضُنا الآن الاقتصارُ على تراجم. ومن الأصول المقدمة أن من قطع يدي مسلم ورجليه، ثم ارتد المجني عليه، ومات مرتدّاً، فالمذهب أنه لا يجب على الجاني إلا ديةٌ واحدة. وقال الإصطخري: يجب عليه أروش الأطراف، وهذا مما مضى مبيَّناً. ومما يُحتاج إليه في المسألة التي انتهينا إليها أن من جرح مسلماً، فارتد المجروح، ثم عاد إلى الإسلام، ومات بتلك الجراحة مسلماً، ففي وجوب القصاص على الجاني تردّدٌ؛ فإن أوجبناه، فلا شك أن الدية تكمّل إذا آل الأمر إليها، وإن لم نوجب القصاص، فالمنصوص عليه أنه يجب تمام الدية، وخرّج ابن سريج قولاً أنه يجب ثلثا الدية، ويهدر ثلثها، فوزَّع الدية على حالتي الضمان، وحالة الإهدار، المتخللة، وذكر بعض الأصحاب قولاً آخر أنا نهدر نصفاً، ونوجب نصفاً. 11388 - فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، عدنا إلى مسألتنا التي صورناها. وهي: إذا جرح مسلم ذمياً، فنقض المجني عليه العهدَ، والتحق بدار الحرب، والسرايةُ باقية، فاستُرِق، ومات في يد مالك رقّه بتلك السراية، فحاصل ما نقله الأصحاب فيما يجب على الجاني ثلاثةُ أقوال: الأولان منهما منتظمان: أحدهما - أن الجاني يلتزم أقلَّ الأمرين من أرش الجناية، أو قيمة الرقيق، ونقدر أرش الجراحة دية يهودي، والرجوع في القيمة إلى السوق، فيجب على هذا القولِ على الجاني الأقلُّ من الأرش أو القيمة. والقول الثاني - أنه يجب القيمة بالغةً ما بلغت، ولا نظر إلى الأرش. وحكى القاضي، والإمام والدي قولاً ثالثاً، أن الجاني يلتزم أرش الجناية بالغاً ما بلغ، ولا نظر إلى مقدار القيمة. وهذا أضعف الأقوال توجيهاً. [توجيه الأقوال] (1): 11389 - من قال: يجب أقلُّ الأمرين، احتج بأن قال: إن كانت القيمةُ أقلَّ،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

فالاقتصار عليها خارج على اعتبار المآل، وهو من أصول المذهب، وقد صارت الجراح نقصاً، وإن كان الأرشُ أقلَّ، فلا وجه لإيجاب زائدٍ؛ لأن المجني عليه بعد الجناية صار مباحاً، والرق نتيجة الإباحة، ومن استحق الرقَّ، فاستحقاقه طارئٌ على إباحةٍ قاطعةٍ للعهد السابق، فيبعد أن يضمن الجارح قبل الإباحة مزيداً بسبب رقٍّ ترتب على الإباحة، وحق من يملك مباحاً أن يكتفي بما يصادفه. هذا توجيه هذا القول. ومن أوجب القيمة، استمسك باعتبار المآل، وقال للقائل الأول: إنك تنظر إلى القيمة إذا كانت أقلَّ. فإذا توجه النظرُ إليها، تعين اعتبارها، وكان الرق بعد الحرية في العاقبة كالعتق فيه إذا جنى على عبدٍ ثم عتق ومات. وأما من قال: يجب أرش الجناية بالغاً ما بلغ، فليس لهذا اتجاه إلا على المذهب الذي حكيناه للإصطخري فيه إذا قطع رجلٌ يدي رجل ورجليه، ثم ارتد المجني عليه، ومات، فإنه يوجب أرش الجراحات، وإن زادت على الدية؛ مصيراً إلى أن الإباحة بعد الجناية، تمنع اعتبار المآل؛ من حيث لو اعتبر المآل، للزم الإهدار، فعلى هذا يتجه إيجاب أرش الجراحات بالغاً ما بلغ. فإن قيل: كيف وجه التشبيه؟ والذي ارتد في مسألة الإصطخري مات مرتداً، والمجروح في مسألتنا مات رقيقاً مضموناً؛ قلنا: وإن كان كذلك، فالرق مرتب على الإباحة وهو نتيجة الإباحة. 11390 - وبقي وراء الأقوال مباحثة وإشكال [متلقى] (1) من أصلٍ من الأصول التي ذكرناها، وهو أن من جرح مسلماَّ، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، ومات في الجراحة، فإن قلنا: تجب الدية الكاملة، فلا إشكال في مسألتنا، وإن رأينا على التخريج أن نوجب بعض الدية، ونهدر بعضها، لمكان الإهدار الطارئ، فعلى هذا يجب إنعام النظر في مسألتنا، من جهة أن سراية الجراحة بقيت، وهو حر ثم استرق بعدها، فحقُّ تلك السراية ألا يُضمن موجبها، فنقول: يستعمل هذا الأصل على

_ (1) في الأصل: " ملتقى ".

الأقوال، فإن قلنا: الاعتبار بالقيمة، فلا نظر إلى أرش الجناية، فعلى هذا يخرج أن نقول: يجب ثلثا القيمة، أو نصف القيمة، كما ذكرنا هذا في مسألة طريان الرّدة. وإن قلنا: الواجب على الجاني أرش الجراحة بالغاً ما بلغ، فلا يعترض هذا الإشكال على هذا القول، ولا نظر إلى الإهدار بعد الجراحة، ولا نظر إلى المآل بحال. وإن قلنا: على الجاني أقلُّ الأمرين من أرش الجراحة أو القيمة، فالوجه أن نقول: على الجاني أقلُّ الأمرين: من الأرش أو نصفُ القيمة في قولٍ، أو ثلثي القيمة في قول، فنعتبر المناسبة في استخراج الأقل على النسبة التي يقتضيها التخريج في القيمة إذا قلنا: الاعتبار بالقيمة. هذا نجاز القول فيما يلتزمه الجاني. 11391 - والكلام وراء هذا في أن ما يلتزمه الجاني إلى من يُصرف؟ نرسل في هذا ما ذكره المحققون، ثم نذكر مستدركا قريباً بيّناً: فإن قلنا: على الجاني أقلُّ الأمرين من الأرش أو القيمة، فهو مصروف إلى ورثة المسترَق، هكذا نصّ الشافعي؛ فإن الأرش إن كان أقل، فقد جرى في حالة الحرية قبل الإباحة، وتولّج بينها وبين الرق إباحة فاصلة، فالأرش مصروف إلى الورثة، وإن كانت القيمة أقل، فهذا سمّي قيمة، وهو في التحقيق بعضٌ من الأرش، وكأن الأرشَ نَقَصَ بنظرتنا إلى المآل، فإذا كنا نصرف الأرشَ إلى الورثة بالتقدير الأول، وهو مثل الجناية، فالناقص أولى بالصرف إليه. ووراء هذا غائلة، ولكن بيان المسألة عند نجازها. وإن قلنا: الواجب قيمة المسترق بالغة ما بلغت، فمقدار الأرش من القيمة يصرف إلى الورثة؛ فإن ذلك ثبت بسبب الجناية، في الحرية، وأما الفاضل من القيمة، فإنه مصروف إلى المولى، وإن كانت القيمة مثلَ الأرش أو أقلَّ منه، فهي بجملتها مصروفة إلى الورثة، وإن قلنا: يجب الأرش بالغاً ما بلغ، ولا نظر إلى القيمة، فالوجه القطع بأنه مصروف إلى الورثة، لا حظ للسيد فيه.

وقال القاضي: يصرف مقدار القيمة من الأرش إلى السيد، ويصرف الفاضل إن فضل شيء إلى الورثة، وهذا غلطٌ صريح؛ فإنا إذا أوجبنا الأرش بالغاً ما بلغ، فلسنا نلتفت إلى القيمة، ولكن صاحب هذا القول يعتقد أن طريان نقض العهد يمنع اعتبار المآل؛ فإن الرق وإن أحدث ضماناً، فهو مترتب على الإباحة كما سبق تقديره، فإذا كان مقتضى هذا القول قطعَ النظر عما بعد الجناية، وحق مستحق الرق يتعلّق بالرق، فإنا إذا لم نعتبر القيمة، ولم نلتفت إليها، فيستحيل صرف شيء من الأرش إلى السيد، بل يتعين صرف الأرش بكماله إلى الورثة على موجب النص. فالوجه أن نقول: إن حكمنا بإيجاب الأرش، فهو مصروف إلى الورثة على مقتضى النص، وإن قلنا: الواجب القيمة بالغة ما بلغت، فإن كانت قدرَ الأرش، أو أقلَّ منه، فهو مصروف إلى الورثة، وإن كانت أكثر من قدر الأرش، فمقدار الأرش مصروف إلى الورثة، والفاضل مصروف إلى السيد. هذا هو التفريع القويم على الأقوال. وعلينا بقايا في هذه المسألة. 11392 - ولكن حان أن نرجع من هذه المسألة إلى ما كنا فيه قبل الخوض في هذه من أحكام الأموال التي أودعها ثم استرِق: ظاهر النص أن تلك الأموال فَيْءٌ إذا مات المسترَق على رقه، وقبل أن يموت فيه قولان. هذا هو النص في الأموال. ونصَّ في مسألة الجراحة أن الواجب على الجاني مصروفٌ إلى ورثة المسترَق أو بعض ما يجب، كما فصلنا في التفريع على الأقوال الثلاثة في مسألة الجناية، ولا فرق؛ فإن المجروح مات رقيقاً، والمسترَق الذي كانت له أموالاً مات رقيقاً، والتوارث من الرقيق بعيد، غير جارٍ على القولين في المواريث، وإن أسندنا الإرثَ إلى ما قبل جريان الرق، كان هذا توريثاً من حي، ويستوي فيما نبهنا عليه أرش الجراحة والمال. فقال أصحابنا: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج -إذا اتصل (1) -: أحد

_ (1) كذا. ولعل في ذكر عبارة الغزالي في البسيط مزيدَ توضيح، قال: " فإن قيل: كيف نصَّ=

القولين- أن الأموال والأرش على ما تقدم التفصيل فيءٌ، فإنها أموالاً متلقاة من كافر من غير قتال، وقد عسر تقدير الميراث؛ من جهة أن التوريث من الرقيق غير ممكن، والتوريث في حالة الحياة، لا سبيل إليه، وهذا عندي أقيس القولين. والقول الثاني - أن الأموال مصروفة إلى الورثة، وكذلك الأرش على ما فصلنا التفريع على الأقوال الثلاثة، ووجهه أن الأموال كانت مبقّاة فينا (1) على حكم أمانٍ ونقضُ مالكها العهد لم يُبطل الأمانَ في المال؛ فإن هذه التفريعات بجملتها مجراة على أن حكم الأمان يبقى في الأموال، ثم لو مات الحربي عليها، فقد ذكرنا قولين في أنه هل يورث، وصححنا التوريث منه، فالاسترقاق ينبغي ألا يحُلَّ (2) أمانَ المال، كما لم يحُلّ نبذُ العهد أمانَ المال، وإذا لم يحُل أمان المال، وتعيّن ألا يُصرفَ إلى جهة الفيء، ثم لا مسلك أخص به من مسلك التوريث، فاقتضى مجموعُ ذلك الصرفَ إلى الورثة. فأما امتناع التوريث من الرقيق، فذاك من تفاصيل شرعنا، والكفار لا يتعبدون بتفاصيل الشرع إيقاعاً وابتداءً، ومن زعم أنهم مخاطبون عَنَى بذلك ربطَ المأثم بهم في ردّهم الشرع المشتمل على تفاصيل الأحكام، ثم يتعرضون لاستيجاب العقاب على كلّ محرّمٍ في الشرع اقتحموه، وكل واجب تركوه، فأما ربط ما يتعلق بهم بقواعد الشرع وشرائطها، فلا سبيل إلى التزامها، فقد جرى القولان في الأموال، والأروش الذي كنا نصرفه في مسألة الجناية إلى الورثة.

_ =الشافعي على الصرف إلى الوارث، وقد مات رقيقاً، ونص في وديعة المستأمنَ إذا مات رقيقاً أنه فيء لعسر التوريث من الرقيق؟ قلنا: من ذلك قال الأصحاب: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج من غير فرق: أحدهما - أن المال في المسألتين مصروف إلى الفيء؛ فإن التوريث من الرقيق بعيد، وأبعد منه التوريث من الحي لو أسندنا الاستحقاق إلى ما قبل الموت. والثاني - أنه للورثة، إذ جعلُه فيئاً نقضٌ لحكم الأمان، فلا بدّ من بقاء الأمان، ومنع التوريث من الرقيق حكمُ شرعِنا، فلا ننقض أمان الكفار بهذا العذر، وهم لا يؤاخذون بحكم شرعنا في الحال ". (ر. البسيط: 5/ورقة: 172 يمين). (1) فينا: أي في ديار الإسلام. (2) ألا يحُل أمان المال: أي ألا يبطل أمان المال.

11393 - فإن قلنا: الأموال والأروش مصروفة إلى مصارف الفيء، فلا كلام. وإن قلنا: هي مصروفة إلى الورثة، ففي طريق الصرف إلى الورثة تردد عندي، يجوز أن يقال: لا يصرف إليهم إرثاً، وإنما يصرف من حيث لا يؤخذ منهم، فالمال في أمانٍ غير منحلّ. وهذا يناظر ما إذا قلنا: من مات وبعضه حر وبعضه رقيق، فالأموال التي خلصت له بسبب الحرية مصروفة إلى مالك الرق في بعضه، وليس هذا توريثاً، وإنما هو صرف مال إلى أخص الجهات، حيث يعسر إجراء قوانين الميراث، ولذلك أقمنا السيد مقام العبد المقذوف بعد موته في طلب التعزير، وليس هذا من التوريث، ولكنه استمساك بأخص الطرق. ولو استدّ نظر الناظر، استبان له أن التوريث بابٌ من التخصيص أيضاً؛ فإن الأموال إذا زال عنها مالكها المختص، ولا سبيل إلى تعطيلها، فالوجه إقامة من يختص بالميت مقامه في نسب أو بسبب كما تقتضيه قواعد الفرائض، هذا مسلكٌ. ويجوز أن يقال: هذا توريث. وقد صرح بذلك النص، وأطلقه الأصحاب، ثم على هذا تردد سيأتي شرحنا عليه، إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: ليس ما ذكرناه توريثاً، فلا محاشاة من المصير إلى أن المال يصرف إلى الأخصِّين يوم الموت، وإن قلنا: هذا توريث، فينقدح فيه وجهان: أحدهما - أن نقول: نتبين استناد استحقاق الورثة إلى ما قبل جريان الرق، فإن قيل: هذا توريث من حيٍّ. قلنا: هو كذلك. والعبارة القريبة من النظم أن نقول: هذا توريث يناظر مسألةً ذكرناها في الجراح، وهي أن من قطع يد مسلم ثم ارتد المجني عليه ومات مرتدّاً، فقد قال الشافعي: لوليه المسلم القصاصُ في الطرف، فهذا في التحقيق خلافةٌ أثبتها بين المسلم وبين المجني عليه لمّا كان مسلماً، فإنه لو اعتبر حالة الممات، لكان مورِّثاً مسلماً من كافر، ولا يرث المسلم المرتد عندنا. والذي يحقق ما ذكرناه أن من استُرق ومات، فقد زالت أملاكه بالرق، كما يزول ملك الحي بالموت، فكان الرق المتقدم على موته في معنى الموت، فأثبتنا الخلافة متصلة بمُزيل الملك، وإن لم تكن متصلة بالموت نفسه.

11394 - وقد أجرينا في أصول هذه المسألة أموراً بديعة من أدناها: أنا قلنا: من جنى على عبدٍ ثم عَتَق، فالواجب الدية، ويصرف قسط منها، أو كلُّها إلى من كان مالكاً قبل الموت، وإن كان مستحق الرق [لا يستحق] (1) من بدل الحرية شيئاً، والدية بدل الحر. ثم إنا خصصنا ما ذكرناه من الخلافة بحال الموت، لأن الرقيق، وإن لم يكن مالكاً، فالملك له متوقع، ولا إرث ما لم ينقطع التوقع. هذا بيان هذه المسألة. فإن قيل: أين يقع التوريث من الرقيق من صرف شيء من الدية إلى من كان مالكاً في مسألة طريان العتق؟ قلنا: شرط استحقاق الورثة حريةُ من يُتلقى الاستحقاق منه، كما أن شرط استحقاق المالك رقُّ المجني عليه، وقد تقدم الرقُّ في مسألة طريان العتق، ولم نجد سبيلاً إلى إبطال حقّ مُستحِق الرق، وإن زال الرق بالعتق؛ لأن العتق لا ينعطف على ما فات بالجناية. وفي مسألتنا ما فات في زمن الحرية أو مُلك في زمن الحرية، فالرق لا ينعطف عليه. والحكم السابق لا سبيل إلى إبطاله بما يَلْحق، على ما قررناه. فالتقت المسألتان في التحقيق. وإن تقدّمت الحرية في أحدهما، وتأخرت في الأخرى، فالمسألتان مفترقتان من الصورة مجتمعتان في الحقيقة. ومما كان يذكر شيخُنا متصلاً بهذا الفصل أنه لو أعتق الذمي عبداً، وثبت له الولاء عليه، ثم نقض العهدَ، والتحق بدار الحرب، فوقع في السبي، فأرققناه. فإن مات رقيقاً، فلا حظ للسيد في ولاء مواليه ومعتَقيه إذا كان ذمّياً، كما لاحظ له في المال، وهو لما رَقَّ خرج عن أن يكون مستحِقاً للولاء، فحكم ولاء المعتقين كحكم الأموال. وقد ذكرنا مصارف أمواله. وهذا الكلام مفهوم في نفسه. ولكن ليس على الحد الذي أُحبه، فإن غاية البيان لا يتأتى في الوَلاء إلا بعد الإحاطة بأصله، وقد تركت وخلَّفت فيما تقدّم غوامضَ من أحكام الوَلاء، وأنا أرجو من الله تعالى أن آتي بقواعد الوَلاء في بابٍ من كتاب العتق

_ (1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

على وجهٍ لا يغادر مشكلة، إن شاء الله عز وجل. ثم قال: لو أعتق مالكُ المسترَق، فهل ينجرّ الولاء إليه؟ فعلى وجهين. وهذا يستدعي الإحاطة بجر الولاء وموضعه، وسيأتي ذلك كله في موضعه من باب الولاء إن شاء الله تعالى. وإذا انتهينا إلى ذلك الباب أعدنا هذه المسائل في الولاء، وتداركنا ما فيها من إبهام، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " ومن خرج إلينا منهم مسلماً ... إلى آخره " (1). 11395 - من خرج إلينا مسلماً من الكفار قبل الظفر به، عصم دمه وأحرز ماله ولا فرق بين العقار والمنقول، فلو كانت له أموال في دار الحرب لم نعرض لشيء منها، ولا فَصْل بين مالٍ ومال. فأما الأولاد، فإن كانوا صغاراً ثبت لهم حكم الإسلام تبعاً، وإن كانوا كباراً، فلا يلحقهم من عصمة إسلام أبيهم [شيء] (2)؛ فإنهم مستقلون، فإن أرادوا العصمة، فليسلموا، والإسلام لا يجري مجرى العهود والمواثيق التي تعقد للواحد مرة والجمع أخرى، وإنما هو اتصافٌ بالدين، ثم مالُ المسلم معصوم كدمه، والمتعلقون به يُعصمون لإسلامهم لا لإسلام من ينتمون إليه. وهذا على وضوحه يزداد بياناً بأن [نفرّق] (3) بين الإسلام والذمة، فنقول: من عقدنا له الذمة تعدّت قضية الذمة إلى زوجاته وبناته الكفار، كما تتعدى إلى أمواله؛ فإنه بذمته يبتغي أن نُقرّه مع أهليه في دار الإسلام، والبنت الكبيرة لا تقبل الجزية بنفسها، فاندرجت تحت الذمة المعقودة للذمي. ومن أسلم من الكفار، وله بنت كبيرة حربية، فعصمة إسلام الأب لا تلحقها؛ فإنها متمكنة من الإسلام انفراداً، فلْتُسلم، وهي من طريق التقريب والتشبيه في

_ (1) ر. مختصر المزني: 5/ 189. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: " فرّق ".

الإسلام تنزل منزلة الابن الكبير في الذمة، فإن الذمّي لا يستتبع بنيه في الذمة، بل إن أرادوا العصمة، فليقبلوا الجزية بأنفسهم. فلما تُصوّر استقلالهم لم يتبعوا في الجزية، والبنت في الاستقلال بالإسلام كالابن، وهذا وإن أطلناه، فهو بينٌ عند الفقيه، لكنا نرى ألاّ نُغفل في تمهيد الأصول جليَّاً ولا خفيّاً. 11396 - ولو بدت تباشير الفتح في القلعة التي حاصرناها، فمن أسلم قبل حقيقة الفتح، عصم نفسه وماله، وتعدّت العصمة إلى صغار أولاده، من حيث يلحقهم الإسلام على جهة التبعية. واحتج الشافعي في ذلك بقصة ابني سَعْية (1)، كانا من بني قريظة، فخرجا مسلمين لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصما بإسلامهما أموالهما وصغار أولادهما، وابنا سَعْية هما: ثعلبة وأُسيد، وسبب إسلامهما معروف (2). ولو كان الذي أسلم زوجَةً حربية، فقد قدمنا الخلاف في أن زوجة المسلم هل تُسبى؟ فذلك الخلاف يعود، ولو كان للذي أسلم ولدٌ مجتنّ في بطن حربية، فإن كانت زوجتَه، فقد مضى الكلام فيها، وإن لم يكن عليها زوجية، فهي مسبية مسترقة، والجنين الذي في بطنها، لا يرق، من جهة أن الإسلام لحقه، وهو موصوف بالإسلام، فلا يلحقه السبي والرق، كالمولود المنفصل. وخالف أبو حنيفة (3) في مسائل مما ذكرناه منها: أنه قال: من أسلم، فماله المنقول لا يغنم، وعقاره يغنم. وقال: لو اشترى مسلمٌ دخل دار الحرب عقاراً، فهو مغنوم، وإن كان مِلكَ المسلم. والجنينُ في بطن الأم يلحقه الرّق عنده إذا سبيت الأم.

_ (1) سَعْية: بفتح السين وسكون العين، وقيل بضمها، وهو تحريف، وقيل بالنون بدل الياء المفتوحة، قاله الحافظ في تنبيهاته في التلخيص. (2) الحديث رواه البيهقي في قصة طويلة (ر. السنن الكبرى: 9/ 114، وانظر التلخيص: 4/ 206 ح 2250) وراجع الإصابة: 1/ 33، 49 وفيه: أُسيد كما ذكره الإمام، وقال: " بضم الهمزة، وقيل بفتحها، وقيل أسد " أي بدون ياء كما في التلخيص. (3) ر. مختصر الطحاوي: 289، 290، فتح القدير: 5/ 231، 232، تبيين الحقائق: 3/ 253، ملتقى الأبحر: 1/ 645.

وحكمُ الذمي، وحكم أمواله الكائنة في دار الحرب سيأتي مستقصىً في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى، وسنذكر أحكام المعاهدَ والفرقَ بينه وبين الذمي في هذه القضايا التي أشرنا إليها. والإسلام بعد الأسر، ممّا سبق القول فيه في كتاب القَسْم، وبينا نص الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: " إذا أسلموا بعد الإسار رقّوا " وأوضحنا تأويل ذلك، وقد روي أن [عُقيلياً] (1) أُسر، فأسلم بعد الإسار، فقال صلى الله عليه وسلم: " لو قيلت (2) قبل هذا، لأفلحتَ كل الفلاح " (3). فصل قال الشافعي: " قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عَنْوة ... إلى آخره " (4). 11397 - حقيقة مذهبنا في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة مستعداً للقتال لو قوتل؛ ولكنه لم يقاتل، فأمّن أهلَ مكة على جملةٍ، ثم على تفاصيلَ، وأمر بقتل رجالٍ مخصوصين كان عزم على قتلهم، وأمر بقتل القَيْنتين؛ فهذا ما جرى، وقتل خالدُ بنُ الوليد بين الصفا والمروة طائفةً من بني نُفاثة (5)،

_ (1) عقيلياً: أي من بني عقيل، وفي الأصل: " عقيلاً "، وهو تصحيف. (2) في الأصل: " قتلت ". والتصويب من نص الحديث. (3) حديث " لو قيلت قبل هذا لأفلحت كلّ الفلاح " رواه مسلم وأبو داود والشافعي من حديث عمران بن حُصين (ر. مسلم: النذر، باب لا وفاء لنذر في معصيته ولا فيما لا يملك العبد، ح 1641. أبو داود: الأيمان، باب النذر فيما لا يملك، ح 3316، ترتيب مسند الشافعي 2/ 404). (4) ر. المختصر: 5/ 190. (5) قال الشافعي: والذين قاتلوا، وأذن في قتالهم بنو نفاثة قتلة خزاعة (ر. المختصر: 5/ 190) وبنو نفاثة هم من بني بكر الذين دخلوا في عهد قريش يوم صلح الحديبية، وبنو نفاثة هؤلاء هم الذين بيتوا خزاعة ناقضين لعهد الحديبية مما كان السبب في انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم لخزاعة، بفتح مكة؛ إذ كانث قريش قد شاركت في نقض العهد والعدوان على=

وقيل: كانوا بيتوا خزاعة المستجيرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقع الرضا، ولما رأى بريق السيوف على الميسرة، والمؤمرُ عليها خالد بنُ الوليد، قال: " اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد "، وفي الحديث " أنه ودى القتلى من عند آخرهم، حتى ميلغة الكلب " (1). فمن قال: دخل مكة عَنوة على معنى أنه مُنع، فقاتل، فليس الأمر كذلك، ومن أراد بدخوله عَنْوة أنه دخلها بعُدّة على هيئة الاستمكان من القهر، فهذا حق لا ينكر، وما جرى من القتال فيه وصفناه. وليس في الخلاف في هذه المسألة كثير فائدة. والذي جرى الرسم بذكره في أطراف هذه المسألة، القول في عقار مكة. وعَقارُها وعِراصها المحياة كلها مملوكة، كالدور في سائر البلاد، يصح بيعها، وتنفذ جميع تصرفات الملاك فيها. ومذهب أبي حنيفة (2) أن بيع عقار مكة مردود، ولهم اضطراب، لا حاجة بنا إلى نقله. ...

_ =خزاعة. (ر. مغازي الواقدي: 2/ 612، 782، 783، واللباب في تهذيب الأنساب: 3/ 319 وفيه بنو نفاثة، وهو بطن من كنانة، ولا منافاة؛ فبنو نفاثة من بكر، وبكر من كنانة). (1) خبر قتال خالد يوم فتح مكة، وقوله صلى الله عليه وسلم " إني أبرأ إليك مما صنع خالد ... " رواه البخاري، والنسائي، وأحمد، والواقدي في المغازي، وابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق، وابن سعد في الطبقات (البخاري: المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، ح 4339، النسائي: آداب القضاء، باب الرد على الحاكم إذا قضى بغير الحق، ح 5407، المسند: 2/ 151، المغازي للواقدي: 3/ 881، 882، السيرة لابن هشام 4/ 72 - 74، طبقات ابن سعد: 2/ 148). (2) فيما رأيناه في كتب الأحناف فإنّ أبا حنيفة رضي الله عنه لا يرى بأساً ببيع بناء مكة، ويكره بيع أرضها، وكذا إجارة بيوتها في الموسم من الحاج والمعتمر. (ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 66 مسألة: 1146، مختصر الطحاوي: 439، الجامع الصغير: 481، بدائع الصنائع: 5/ 146، تكملة فتح القدير: 8/ 495).

باب وقوع الرجل على الجارية قبل القسمة

باب وقوع الرجل على الجارية قبل القسمة قال الشافعي: "إن وقع على جارية من المغنم قبل القسيمة ... إلى آخره" (1). 11398 - مضمون هذا الباب يستدعي تقديمَ القول في أملاك الغانمين في المغنم قبل اقتسامه، ونحن نذكر في ذلك ترتيباً ضابطاً، ثم نفُضُّ عليه مسائلَ الباب. وقد استاق صاحبُ التقريب فصلاً جامعاً على أبلغ وجه في البيان، فقال: إذا غنم الغانمون النساء، ولم يقسموها، فهل يثبت الملك قبل القسمة للغانمين؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يثبت لهم الملكُ حقيقةً قبل القَسْم، وإنما يثبت له (2) حق التملك. والدليل عليه أن من أعرض منهم، سقط حقه، كما سنصف ذلك، إن شاء الله تعالى، في أثناء الفصل، ولو ملكوا بالاستيلاء، لاستقر ملكهم، كما يستقر ملك المصطاد، والمحتش، والسارق من مال الكفار من غير مطاردة، وقال: فإن الأملاك إنما تنضبط بالجواز في العقود التي تلحقها الخيارات. والوجه الثاني - أنه يثبت لهم ملكٌ ضعيف، كما يثبت الملك للمشتري في المبيع في زمان الخيار على القول الصحيح؛ فإن سبب الملك الاستيلاء؛ فاستحال أن يثبت السبب، ولا يثبت الملك، وأيضاً، فإن ملك الكفار زال، والأموال المغنومة أملاك محققة، ويبعد على مذهب الشافعي ملك لا مالك له. والوجه الثالث - أن ملكهم موقوف، فإن سلمت الغنيمة حتى قسمت، تبين لنا أنهم ملكوها لمّا غنموها، وإن لم تتفق القسمة حتى تلفت الغنيمة، أو أعرض من يريد الإعراض، فيتبين لنا أن الغنيمة لم تُملك إن تلفت، وتبين أنه لم يملكها من أعرض

_ (1) ر. المختصر: 5/ 190. (2) الضمير يعود على الغانم.

عنها. ووجه هذا: أن الاستيلاء على حكم تجريد القصد [للملك] (1) لا يتحقق في المغانم، لما أوضحناه من أن الغرض من قتال الكفار إعلاءُ دين الله تعالى، والذب عن الملّة، والمغانمُ في حكم التابع؛ فإذا فُرضت القسمة فيها، تبينا حقيقةَ الاستيلاء، وإن فرض تلفٌ أو إعراض، تبيّنا نقيضه. فهذا وجهُ الوقف. ثم إذا فرعنا على قول الوقف، فقسمت الغنيمة، فالرأي الحق أنا لا نقول: نتبين أن حصة كل واحد من الغانمين كانت له على التعيين قبل القسمة، ولكن معنى التبيّن أنهم إذا اقتسموها، تبيّنا أنهم ملكوا المغنم لما استولَوْا عليها ملكاً شائعاً، وتمييز الحصص يحصل بالقسمة، كما يقسم الورثةُ التركة؛ فإن القسمة تُخَلِّص لكل واحد حصته بالقرعة. وحكى صاحبُ التقريب وجهاً غريباً مفرعاً على قول الوقف؛ فقال: إذا اقتسم الغانمون، تبيّنا أن كل واحد منهم ملك الحصة التي أصابته عند الاستيلاء على المغنم، وهذا على نهاية البعد، ولكن نقله صاحب التقريب، وفرّع عليه، كما سنبين تفريعه، إن شاء الله تعالى. ووجه هذا الوجه على بعده أن كل واحد منهم قبل القسمة كان على خِيَرةٍ من أمره، إن شاء أعرض، وإن شاء طلب حقَّه من المغنم، وليس كذلك الأملاك المشتركة بين الشركاء، فإذا حصل الاقتسام، فتمام الاستيلاء في حق كل واحد منهم يتحقق بالقسمة، فالغرض يتضمن الانعطافَ على أول السبب، وهذا وإن تكلفنا توجيهه ليس بشيء. 11399 - ومما نذكره في أصل الملك أن من أعرض من الغانمين عن حصته قبل القسمة، سقط حقه من المغنم. وهذا يدل على عدم ملكه. أو على ضعف ملكه، أو على تردد على مقتضى الوقف. ثم قال الأئمة: لو أفرزنا الخمس، وأفرزنا من رأس المغنم السّلَب على تفاصيلَ تامة جرت في القَسْم، وبقيت حقوق الغانمين، فلو أعرض واحد منهم بعد إفراز

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

الخُمس، وما يخرج من رأس المغنم، فهل يسقط حق المُعْرِض بالإعراض والحالة هذه؟ ذكر صاحب التقريب أن المذهب أنه يَسقط حق المُعْرِض، وقال: وذكر ابن سُرَيج قولاً مخرجاً أن الإعراضَ بعد ما وصفناه من الإفراز لا يتضمّن إسقاطَ حق المعرض. وحقيقة القولين ترجع إلى أن الملك هل يستقر بما وصفناه، من الإفراز حتى يصير الغانمون في حقهم الخالص بمثابة المشتركين في مالٍ؟ أم لا يستقرّ ملكهم ما لم يقتسموا حصصَهم؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه أنه لا يستقر ملكهم، والثاني -وهو المخرّج- أن ملكهم يستقر. والتوجيه بيّن. فمن مال إلى أن ملكهم لم يستقر احتج بأن إفراز الخمس لا يُثبت القسمة في حقوقهم. وهم فيما يُخصّ بهم (1) كما لو كانوا من قبل. وهذا يتأيد بالدلالة التي جعلناها عماد الباب، وهي أن الغنيمة في وضع الشرع ليست مقصودة، وإنما يتأكد القصد فيها بالقسمة، وإفراز الخمس يؤكد قصدَ الغانمين في حصتهم. والذي أراه في تنزيل القول المخرّج أن الإمام لو استبدّ بإخراج الخمس، فحقوق الغانمين لا تحول عما كانت عليه؛ لأنهم لم يُحدثوا في المغنم أمراً يشعر بتجريدهم القصد إليه، وإن استقسموا الإمام، واستدعَوْا منه أن يميز الخمسَ، فأجابهم الإمام، فهذا يشعر باختيارهم تأكيدَ حقوق أنفسهم. وهذا التفصيل مني. والذي حكاه صاحب التقريب مطلق، لا تفصيل فيه. 11400 - وينبني على ما حكيناه من المنصوص والمخرج أمرٌ، لا بدّ من التنبيه له: وهو أن ظاهر كلام الأصحاب أن من أعرض عن حصته، أُخرج من البَيْن، ويقدّر كأنه لم يكن، ويخمّس المغنم، ويصرف أربعة أخماسه إلى الذين لم يُعرضوا. ويظهر مما حكاه صاحب التقريب من تخريج ابن سُريج أن نصيب المعرض ينقلب إلى الخمس، ولهذا يسقط أثر الإعراض بإفراز الخمس، وهذا يتأكد بشيء، وهو أن الخمس لا يتصوّر إسقاطه، وهو متأكد، لا يتطرق إليه الخِيَرةُ وإمكان الإعراض، فلا

_ (1) من أَخصه به: أي خصّه.

يبعد أن يكون [أصلاً] (1) يرجع إليه [ما يسقطه] (2) كل معرض، ويحسن [الاستئناس] (3) بعد ذلك بقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، فالأصل أن تكون المغانم لله تعالى، ومن أعرض، رجعت حصته إلى أصلها. وهذا استخراج وتكلّف، والمذهب الذي عليه التعويل ما قدّمناه من إخراج المُعرِض من البَيْن، والمصيرُ إلى أنه كالمعدوم، وتنزيلُ القسمة على الخُمس والأربعة الأخماس المصروفة إلى الذين لم يُعرضوا. 11401 - ومما ظهر اختلاف أصحابنا فيه أن الغانمين بجملتهم لو أعرضوا، فهل يصح إعراضهم أم لا؟؟ فالذي ذهب إليه المحققون أنه تسقط حصصهم بإعراضهم، وينعكس الأربعة الأخماس على مصارف الخمس، وتتوزع عليها. ومن أصحابنا من قال: إذا أعرضوا بجملتهم، لم يسقط بإعراضهم شيء من حقوقهم في المغنم؛ لأنه يبقى -لو قدّرنا الإسقاطَ- كالخمس ومصارفه، ولا وجه لصرف مال الغنيمة إلى هذه المصارف دون غيرها، فينبغي أن يكون المغنم مخموساً. قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، وهذا التردد مترتب على ما هو المذهب من أن حصة المُعرض تفضّ على الخمس أو الأربعة الأخماس. ومما يتعلّق بما نحن فيه أن الغانمين إذا أعرضوا، فالأقيس سقوط حقوقهم، كما قدّمنا، فلو قالوا: اخترنا القسمة، فهل تلزم أملاكهم بالاختيار، كما تسقط بالإعراض؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا حكم للاختيار، ولا تستقر الحصص إلا بالقَسْم والإفراز. والثاني - أن حقوقهم وأملاكَهم تستقر، حتى لو فرض إعراضٌ لم يؤثر. وقال شيخنا: لو أعرض القاتل عن سَلَب القتيل: هل يسقط حقه من السلب

_ (1) في الأصل: رسمت هكذا " معـ ـصا " بدون نقط، ولم أُلْهم قراءتها. (2) في الأصل: " وهو ما يسقطه ". (3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، رسمت هكذا: " المر " بدون نقط.

بالإعراض؟ فعلى وجهين: أحدها - يسقط كحصة الغانم من المغنم، والثاني - لا يسقط؛ لأنه يتعين له، فصار كتعين الحصة بالقَسْم. وهذا يضاهي الخلافَ في إعراض جميع الغانمين، فإن جملة المغنم متعينة لهم، ثم في إعراضهم من الخلاف ما قدّمناه. وأصحاب الرضخ إذا أعرضوا، وكانوا مالكين لأنفسهم، فهو كإعراض أصحاب السهام، وإن رأينا أخذَ الإرضاخ من رأس المغنم، فلا نظر في ذلك. والعبيد يصرف ما يقابلهم من الإرضاخ إلى مواليهم، ولا حكم لإعراض العبيد؛ فإنه لا حق لهم، وإذا أعرض سادتهم، سقط ما يصرف إليهم، وإن لم يكونوا من الغانمين؛ فإن إعراض الغانم مع اختصاصه بالاغتنام إذا أسقط حقه، فإعراض من يملك بواسطةٍ أولى بأن يسقط حقه. 11402 - ولو أعرض ذوو القربى عن حصتهم من المغنم، فكيف حكمه؟ وإنما فرضنا الكلام فيهم، فإنهم يُستوعبون، بخلاف اليتامى على الرأي الظاهر، فليسوا في حكم الجهة المبنية على الصفة نحو (1) الفقراء في الصدقات، فإذا أعرضوا عن حقوقهم، فهل تسقط حقوقهم؟ الأظهر أنها لا تسقط؛ فإن هذا منحة أثبتها الله تعالى لهم من غير مقاتلة وشهود وقعة، فليسوا كالغانمين الذين يحمل شهودهم على إعلاء كلمة الله تعالى، ويمكن أن يقال: تسقط حقوقهم بالإعراض قبل القسمة كالغانمين، فإن ما يُصرف إليهم ملكٌ لا يرعى فيه الحاجة، فكانوا كالغانمين؛ وقد صح: " أن عمر التمس من عثمان وعلي والزبير، وجبير بنِ مطعم أن يتركوا حقوقهم من غنيمةٍ كانت وافت المدينةَ من الأهواز ". وهذا فيه سؤالان: أحدهما - أن يقال: لعله استقرض منهم. وفي بعض الروايات ما يدل على ذلك، ولكن قول الزبير لعثمان: " لا تطمعه في حقنا؛ فإنه إن أسقطه، لم يعد " (2). يدل على أنه ما استقرض. هذا وجه.

_ (1) نحو: أي مثل. (2) خبر عمر مع عثمانَ وعليٍّ والزبير وجبير بنِ مطعم في ترك حقوقهم من غنيمة وافت المدينة من الأهواز، لم نصل إليه، والذي رأينَاه أن القصة جرت لعمرَ مع علي والعباس، فقد روى=

والوجه الثاني - أنه استوهبهم، فوهبوه. وهذا هو الظاهر. وانتجز به ما حَضَرنا من أحكام الإعراض عن المغنم. وقد انتهى به الكلام الكلي في أملاك الغانمين. 11403 - ونحن نخوض بعد ذلك في تخريج المسائل، فأول مسألة نُفَرِّعُها المسألةُ التي صدر الشافعي البابَ بها، وهي إذا كان في المغنم جاريةٌ، فوطئها أحدُ الغانمين، فلا يخلو: إما إن أحبلها، أو لم يحبلها. فإن لم يحبلها، فلا يخلو: إما إن وقعت تلك الجارية في قسمته، أو وقعت في قسمة غيره، لما قسمت الغنيمة، فإن وقعت تلك الجارية في حصة غيره، فلا يخلو: إما إن كان الغانمون محصورين، أو كان بحيث يتعذر ضبطهم لكثرتهم، فإن كانوا محصورين يتيسر ضبطهم، فحكم المهر يُخرَّج على الملك. فإن قلنا: لا يثبت لواحدٍ منهم ملك على الحقيقة قبل القسمة، فالواطىء يلتزم مهرها مكملاً، ويُردّ مهرُها على المغنم، ويقسم بين الغانمين كسائر الغنيمة. وإن قلنا: يملك كلُّ غانم حصته، فالمذهب أن الواطىء يُغرَّم مهرَ الجارية إلا قدر حصته، فإنَّ وطأه صادف ملكه، وملكَ غيره، فسقط قدرُ حصته من الغنم. ومن قال: إذا وقع شيء من المغنم في حصة واحد، تبيّنا أنه كان ملكاً له وقت الاغتنام، فعلى هذا إذا كانت الجارية واقعةً في حصة غير الواطىء، فتمام المهر يجب أن يصرف إليه. هذا مقتضى هذا الوجه، والتفريع عليه أضعف منه.

_ =الشافعي عن إبراهيمَ بنِ محمد عن مطر الوراق ورجل لم يسمه كلاهما عن الحكم بن عيينة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سأل عليّاً: ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهلَ البيت من الخمس؟ فقال علي: " أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماس، وما كان فقد أوفاناه. وأما عمر فلم يزل يعطيناه حتى جاء مال السدس والأهواز، فقال (عمر لعلي): في المسلمين خلّة، فإن أحببتم تركتم حقكم فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم منه. فقال العباس لعلي: لا نطمعه في حقنا. فقلت: يا أبا الفضل ألسنا أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خلة المسلمين. فتوفي عمر قبل أن يأتيه مال فيقضيناه ". والحديث رواه أبو داود بألفاظ أخرى مقاربة (ر. الأم: 4/ 148، مختصر المزني: 151، أبو داود: الخراج، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى، ح 2984).

ولو وقعت تلك الجارية في حصة الواطىء، فالمذهب في المهر كالمذهب فيه إذا وقعت في حصة الغير، ومن أصحابنا من قال: لا شيء على الواطىء بناء على أنا نتبين أنها كانت في ملك من وقعت في حصته، وهذا ساقط، ولكن نقله صاحب التقريب، وصرح بهذا التفريع. ولا عود إلى هذا الوجه بعد ذلك. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الجند محصورين. فأما إذا عسر ضبطهم لكثرتهم، فقد قال الأصحاب: إذا رأينا تغريمه المهر، غرّمناه تمام المهر؛ فإن حصته من المهر ليس يتبين قدرها؛ فالوجه أن يُغرَّم تمامَ المهر ويردّ إلى المغنم، ثم إذا قسم ما غرمه مع المغانم يرجع إليه مِنْ عَينِه أو بدلِه ما يوجب سقوط الغرم في حصته. هذا ما ذكره الأصحاب. قلت: وهذا فيه إذا طابت نفس الواطىء بأن يغرم جميع المهر. فإن قال: لا تغرموني الجميع وأسقطوا مقدار حصتي، فلا بد أن يجاب؛ فإن الجند وإن كثروا، فلا بدّ من إمكان حصرهم، ولولا ذلك، لما تُصوّرت القسمة عليهم. ويستوي إذا كان المغنوم نزراً أو كثيراً، أو كان أقلّ من مهر الجارية في مسألتنا، ثم إذا تيسر الضبط، فنأخذ [المستيقن] (1)، وإن تفرقوا وعسر الأمر، فلا يخفى الحكم في مثل هذه القضية، والوجه أن نحط عنه المستيقنَ، ونتوقفَ في الباقي، كما نفعله في الحقوق المشكلة، وكل ما ذكرناه إذا وطىء الجارية ولم يحبلها. 11404 - فأما إذا وطىء جارية وأحبلها، فالذي ذكرناه قصداً ولم نفرّع عليه الكلامُ في الحدّ؛ فإن المذهب أنه لا يجب، ويخرَّجُ فيه القول القديم الذي ذكرناه في وطء أحد الشريكين الجارية المشتركة، وليس من الترتيب تطويل المسائل بالمكررات، وعلينا شغلٌ شاغل من الإطناب في البحث عن أعواص الفقه، فلو ضممنا إليه أدراج الوجوه البعيدة في التقاسيم، لطال الكلام، وتعدّى حدَّ الاعتدال. فنعرّج على أن الحدّ لا يجب، والقولُ في المهر كما قدّمناه إذا عري الوطء عن الإحبال، لا يختلف

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، وهي عند الغزالي في البسيط.

منه شيء بإفضاء الوطء إلى الاستيلاد، ولهذا قلنا: الأب إذا وطىء جارية الابن التزم مهرَها، سواء أحبلها أو لم يحبلها. 11405 - فأما حكم الاستيلاد والولد، فإنا نذكره، وهو المقصود، والكلام يقع في فصلين: أحدهما - في الموسر إذا أحبل جاريةً من المغنم. والثاني - في المعسر. فأما الموسر، فقد قال الأصحاب: أما الولد، فإنه نسيب حرُّ، وقال أبو حنيفة (1): لا يثبت النسب، والولد رقيق، وفي حرّية الولد مباحثة سننعطف عليها بعد طرد ترتيب المذهب في الاستيلاد، فليثق الناظر بحرية الولد. فأما ثبوت الاستيلاد، فلأصحابنا طريقان: قال صاحب التقريب: إن قلنا: الغانم لا يملك قبل القسمة، فلا يثبت الاستيلادُ في شيء من الجارية؛ فإن وطأه لم يصادف ملكه، ولكن لو وقعت الجارية في حصته، فهل تصير الآن مستولدة؟ فعلى قولين مشهورين، ذكرناهما في نظائر هذه المسألة. وإن قلنا: الغانم يملك ملكاً واهناً ضعيفاً، ففي ثبوت الاستيلاد وجهين في حصة الغانم؛ إذ الملك ضعيف، وهما كالوجهين في أن المشتري إذا استولد الجارية في زمن الخيار، وقلنا: الملك له، فهل ينفذ استيلاده؟ فيه اختلاف وتفصيل ذكرناه في موضعه. هذه طريقة. ومن أصحابنا من قلب هذا الترتيب، وقال: إن قلنا: يُنسب الملك للغانم، فالاستيلاد يثبت، وإن قلنا: لا ملك له قبل القسمة، ففي ثبوت الاستيلاد قولان مرتبان على القولين في إحبال الأب جارية الابن، ولو رتب مرتب، وجعل الاستيلاد في جارية المغنم أولى بالنفوذ، لم يكن مُبعداً؛ فإن حق الغانم في المغنم لا ينكر، ولا حق للأب في جارية ابنه؛ إذ لو كان له فيها حق، [لحرمت] (2) على الابن، كما تحرم جارية المغنم على الغانم. وعندي أن أخذ هذه المسألة من استيلاد الأب جاريةَ ابنه ليس بسديد؛ فإن نفوذَ الاستيلاد في حق الأب ليس بقياس بدليل ما ذكرناه من خلوص الجارية ملكاً تاماً للابن.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 474 مسألة رقم 1629. (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

ثم إذا أطلقنا القولَ بالاستيلاد، فمن ضرورة هذا التسرية (1)، وبها يكمل الاستيلاد، وليقع التفريع على أن [الشريك] (2) الموسر إذا أولد الجارية المشتركة، سرى استيلاده في الحال، غيرَ متوقف على أن يغرم لشريكه قيمةَ حصته. ثم إن حكمنا بثبوت الاستيلاد، وهو المذهب الصحيح، فإن قيمة الولد تخرج على الترتيب الذي ذكرناه، فإن كان الجند محصورين، أسقطنا حصة المستولِد من المغنم، وغرمناه الباقي، [وخصصنا] (3) به من عداه من الغانمين. وإن كانوا غير محصورين، فقد أوضحنا أن وجه الرأي أن يغرم كمال القيمة، ثم نُلقي القيمة في المغنم فإذا فُضت، رجع إلى الغانم بتعديل السهام حصتُه من هذه القيمة أو من بدلها. 11406 - ثم ذكر صاحب التقريب تفريعاً على هذا المنتهى، وقال: إذا قلنا لا يثبت الاستيلاد في حصته أيضاً، فقد قدمنا أن الولد حرٌّ على ما سنبحث عنه حق البحث، إن شاء الله تعالى. فالجارية في المغنم حبلى بولد حر من الواطىء، وأوضحنا في كتاب البيع أن الجارية الحبلى بالولد الحر لا يصح بيعها على ظاهر المذهب، ما دامت حبلى. فعلى هذا يمتنع إدخالها في القسمة، ما دامت حاملاً. هكذا ذكر صاحب التقريب. ثم بنى عليه. وقال: يجوز أن يقال: تقوّم الجارية على الواطىء، فإن كانت قيمتها مقدارَ حصته أو أكثر، فتسلّم إليه الجارية من جملة المغنم، والغرض من ذلك أنها تتعين له من غير إقراع، وهذه المسألة فيها احتمال وتردد، فيجوز أن يقال: [توقف] الجارية إلى أن تلد، ثم تُلقَى في القسمة، ويجوز أن يقال: إنما تلقى في القسمة وإن كانت حاملاً، ونَفصل بين القسمة والبيع، ويَقْوى هذا إذا قلنا: القسمة إفراز حق وليست ببيع، وقد نُجيز القسمةَ حيث لا نُجيز البيع.

_ (1) التسرية: سريان الاستيلاد، فتصير الجارية بجملتها أم ولد، وليس حصة الواطىء فقط. (2) في الأصل: " شريك "، والمثبت من تصرف المحقق. (3) في الأصل رسمت هكذا: وحمضا (تماماً رسماً ونقطاً).

قال صاحب التقريب: ويجوز أن يقال: يُغَّرمُ الواطىء قيمةَ الجارية، فتُلقى (1) في القسمة؛ لأنه أوقع بإيداع رحمها الولدَ الحرّ حيلولة بينها وبين الغانمين. 11407 - فأما القول في قيمة الولد -وقد أجرينا الحكم بحرية الولد- ففي لزوم قيمة الولد قولان معروفان إذا أثبتنا الاستيلاد، كالقولين فيه إذا وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة وأولدها، وقضينا بنفوذ الاستيلاد، وهذا يرجع إلى أن الملك متى ينتقل إلى المستولد؟ وفيه قولان: أحدهما - أنه ينتقل إليه قبل العلوق. والثاني - أنها تنتقل إليه مع العلوق أو بعده، وقد ذكرنا حقيقة هذين القولين في كتاب النكاح، عند ذكرنا استيلاد الأب جاريةَ ابنه، فإن لم نوجب القيمة، فلا كلام، وإن أوجبناها، فإنما تجب حصةُ من عدا الواطىء من الغانمين، ثم يعود التفصيل إلى كون الجند محصورين، أو غير محصورين، وقد تمهد ذلك في المهر، وفي قيمة الأم (2)، فلا حاجة إلى إعادته. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الواطىء موسراً. 11408 - فأما إذا كان الواطىء معسراً، وقلنا: لا يثبت الاستيلاد في حصة الموسر، فلا شك أنه لا يثبت في نصيب المعسر، وإن قلنا: يثبت الاستيلاد في حصة الموسر، فيثبت أيضاً في حصة المعسر، ولكن لا يسري، ثم إن كان الجند محصورين، يثبت الاستيلاد في حصة المعسر، والغرض يتبين بإيضاح حصته، فإن كانت الجارية جميعَ المغنم، فحصة المعسر بينة، وإن كانوا قد غنموا غيرها، فالمعسر غنيٌّ بما يزيد على حصته في هذه الجارية، فإن كانت حصته في سائر المغنم وافية بقيمة الجارية، أمكن أن يقال: يثبت الاستيلاد، تعويلاً على غناه بغير حصته من الجارية من سائر المغنم على [ترتيب] (3) سنبينه، إن شاء الله تعالى. وإن كان ما يخصه من غير الجارية لا يفي بقيمة الجارية، فيثبت السريان في

_ (1) أي تُلقَى قيمة الجارية في القسمة. (2) أي الجارية المستولدة. (3) في الأصل: " تدبّر ". والمثبت من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، والسياق.

الجارية بمقدار ملكه، كما سيأتي شرح ذلك في باب العتق، إن شاء الله. ومنتهى البيان يقف على أمرٍ لا بدّ من التنبه له، وهو أن الأمر في الحكم بغناه بنصيبه من غير الجارية موقوف على ألاّ يُعرِض، ويستقرَّ ملكُه في غيرها، مما تفصل من قبل، فلو أعرض، تبينا أنه لم يكن غنياً، وأن [العتق] (1) يقتصر على حصته من الجارية، ولا نقول: حق سريان العتق يُلزمُه اختيارَ حصته؛ فإن الاختيار بمثابة ابتداء الاكتساب في الغرض الذي نطلبه، وينشأ من هذا أن الغانم إذا أفلس، وضرب القاضي عليه حجرَ الديون التي ركبته، فحقه من المغنم لا يلزم، بل هو على تردده في الإعراض، وطلب الحق. ولو كان الغانم سفيهاً، فإعراضه هل يُسقط حقَّه من المغنم؟ هذا فيه ترددٌ، ولعل الأظهر أن حقه يلزم؛ فإنه حق ملك، والإعراض في حق المطلق (2) يُسقطه، فيبعد أن يملك السفيه إسقاطَ حق الملك. وإن قلنا: لا ملك للغانم، وهو أضعف الوجوه، فقد ينقدح عليه تردد بأن حقه من المغنم هل يسقط بالإعراض؟ ولو تبين رشده قبل اتفاق قسمة المغنم، فأعرض، سقط، ولا نقول: كونه سفيهاً حالة الاستيلاد يقرر ملكه على وجهٍ لا سبيل إلى دفعه. 11409 - ولو حضر المراهق، وثبت له الرضخ، باستيلاء جند الإسلام، وانفلال الكفار، فلم تتفق القسمة حتى بلغ الصبي رشيداً، فأعرض، سقط حقه، ولو ثبت حق الشفعة للطفل، فإن أخذ الولي الشقص المبيع بالشفعة على موجب الغبطة، ثم بلغ الصبيُّ، لم يملك الردَّ، ولو لم يتفق أخذ الشقص حتى بلغ الصبيّ رشيداً، فعفا عن الشفعة، سقطت الشفعة، وأَخْذُ الشقص بالشفعة من الولي يناظر ما لو قُسّم المغنم.

_ (1) في الأصل: " المعتق ". (2) المطلق: المراد غير المحجور.

و [لو] (1) أخذَ نصيبَ المراهق أو السفيه، ثم رشد السفيه، وبلغ المراهق، فلا أثر لإعراضهما بعد القسمة (2). ولو كان اشترى الرجل شيئاً على شرط الخيار، ثم ضرب القاضي عليه حجراً بالفَلَس، وقلنا: الملك في زمان الخيار للمشتري، فقد ذكرنا تردداً في [أصل] (3) المذهب في أن الخيار هل يبقي للمفلس المحجور عليه، حتى يملك الفسخَ، والغبطةُ في الإجازة، فإن خرّج الفقيه إعراض السفيه عن المغنم على تصرفه في الخيار بعد الحجر عليه، لم يبعد، وهذا الكلام نشأ من قولنا: الاستيلاد لا يُلزم المستولد تقريرَ الملك في المغنم، حتى يصير غنيّاً به، وهذا لامراء فيه، ثم تشعب الكلام في أساليبه. هذا قولنا في الاستيلاد. 11410 - فأما الولد وقد تبعض الاستيلاد، ففيه وجهان: أحدهما - أنه مخلوقٌ حراً بجملته. والثاني - أن الحرية مقدارُ ما يثبتُ الاستيلادُ فيه من الأم، فتقع الخلقة على التبعيض في الرق والحرّية. توجيه الوجهين: من قال: جميعُ الولد مخلوق حراً، استدل بأن الشبهة تعم الجارية، وحريةُ الولد تثبت بالاستيلاد، وإن كان الاستيلادُ لا يثبت بها. والدليل عليه أن من وطىء جارية الغير، وظنها جارية نفسه، أو ظنها زوجته الحرة، فالولد ينعقد حراً، وإن كان الوالد معسراً، والاستيلاد لا يثبت في الحال، ولو ملك الجارية يوماً؛ فإذ ذاك يخرج قولان مشهوران في صور الاستيلاد، فإذا عمت الشبهة جارية المغنم على معنى أنها قد تكون حصتَه، وقد يُعرِض أصحابه، فتخلُص له: ولا حاجة إلى ذلك؛ فإن الشبهة بالشركة عامة، ولهذا يَسقُط الحدّ عنه، ونشأ تفريع هذه المسألة على أن الحد لا يجب على أحد الشريكين بوطء الجارية المشتركة.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) المعنى: لو أخذ الولي نصيب المراهق أو السفيه ... إلخ. (3) مكان بياض قدر كلمة.

ومن قال بالوجه الثاني احتج بتبعيض الاستيلاد، وانفصل عن وطء الجارية بالشبهة، وقال: لا معترض على الشرع في تنزيل الظن منزلة الحقيقة، ثم إذا تمهد هذا، فالظن متعلّق بجميع الجارية، والأمر متبعضٌ في مسألتنا، والشبهة من الملك تؤخذ عمن هو (1) متبعض، فإذا زال الظن، ووقع وطؤه في ملكه وملكِ غيره، وجب تبعّض الولد في الحرية والملك. وقد ذكر أصحابنا وجهين في أن الإمام إذا أراد أن يُرِق النصفَ من الأسير، ويُبقي نصفَه على الحرية، فهل له ذلك؟ وجهان: أحدهما - له ذلك، وهو القياس، والثاني - ليس له ذلك؛ فإن الرأي في الإرقاق وغيرِه في الخلال لا يكاد يتبعّض، وليس هذا خِيَرةً من الإمام، فلا وجه إلا الإرقاق، أو التعلّق بجهةٍ أخرى من الجهات. وسئل القاضي عن وطء امرأة نصفها حرٌّ، ونصفها رقيق في نكاح أو زنا، فالولد الذي تأتي به كيف حكمه في الحرية والرق؟ فقال: يمكن أن يخرج ذلك على الوجهين في ولد الجارية المشتركة من الشريك المعسر، ثم استقر جوابه بعد أيام على أن الولد بمثابة الأم، تعلّقاً بقول الشافعي: " ولد كل ذات رحمٍ بمثابتها ". ومعنى هذا الكلام أن حكم الولد إذا كان يؤخذ من ذوات الرّحم، فولدها بمثابتها، وليس هذا كالجارية المشتركة؛ فإن [الشركة] (2) قد تُظن شبهة عامة في الجارية، وهاهنا لا مجال لتقدير الشبهات، فإن الزوج إذا وطىء زوجته لم تأت حرية الولد إلا منها، فيجب القطع بما استقر عليه جوابه. 11411 - فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه في الولد إذا ضُم إلى ما قدّمتموه فيه إذا كان المستولد موسراً، ينشأ منهما تناقض. وذلك أنكم قطعتم أن الولد حرٌّ بجملته، وذكرتم قولاً أن الاستيلاد لا ينفذ أصلاً إذا قلنا: لا ملك له. أو قلنا: يثبت الملك ولكنه ضعيف، بقي الاستيلاد لا أصل له، كما أن نَفْيَ الملك لا أصل له، فلا يؤاخذ بما لا حقيقة له.

_ (1) كذا قرأناها بصعوبة. (2) في الأصل: " المشتركة ".

وإذا تقرر هذا، فالوجه إثبات الاستيلاد في حصته، فإن سرَّينا، نقضي بأن الولد حر كله، وإن لم نثبت الاستيلاد في جميع الجارية وقوعاً [فإن] (1) اليسار إذا كان يوجب تكميل الاستيلاد بطرق السريان، فاليسار أيضاً يوجب تكميل الحرية في الولد بطريق منع الرق؛ إذ لا أصل في استيلاد الولد، غير أن طريق التكميل فيه بتقرير وقوع الخلقة في الحرية، كولد المغرور، ثم الغرم يناط به إن لم ينقل الملك في المستولدة إلى ما قبل العلوق، وإذا كان الوالد معسراً؛ فلا يثبت الاستيلاد في الجميع بجهة السراية، وينقدح خلافٌ في الولد؛ من جهة أن حرية الولد سببها انتفاء الرّق، وكمَّلها قومٌ، لأن السراية فيها غير مرعية، فتخلُّف السراية في الأم لا يؤثر في جهة الولد، ونزّل منزلون حرية الولد في جهتها منزلة عدم نفوذ الاستيلاد. فلو قال قائل، إذا حكمتم بأن الاستيلاد لا يثبت في حق الموسر في نصيبه لضعف ملكه، فما قولكم في الولد؟ قلنا: هذا وجه ضعيف لا ينبغي أن نلتزم الكلام عليه في الفرق والجمع، ثم ظاهر النقل عن الأصحاب أن الولد حر، وذلك أن الشبهة ملكاً ويساراً [عامة] (2) في الجميع، فاقتضى ذلك تنزيل الولد في هذا المقام منزلته فيما إذا وطىء الرجل جارية الغير، وظنها جارية نفسه. وكان شيخي أبو محمد يقول: إذا وطىء الرجل جاريةَ الغير، وظنها زوجته المملوكة، وهو موطنٌ نفسه على أن الولد -إن اتفق العلوق به- فهو رقيق، فإذا فرض ولدٌ في الشبهة التي وصفناها، فهو رقيق؛ اعتباراً بصفة ظنه، والدليل عليه أن حرية الولد ورقه [مداران] (3) في نكاح المغرور [على الظن] (4)، وإلا، فلا مقتضى للحرية سوى الظن. ورأيت لغير شيخي ما يدلّ على أن من وطىء جارية الغير، وحسبها زوجته

_ (1) في الأصل: " إن ". (2) في الأصل: " عاماً ". (3) في الأصل: " مدران ". (4) زيادة من المحقق.

المملوكة؛ فالولد حرّ، كما لو وطىء المغرور زوجته [الحرة على ظن أنه زانٍ بجاريةٍ رقيقةٍ للغير، فالولد حر] (1)، وإن كان الواطىء غير بانٍ أمره على وطء حرّة. وهو عندي غلط، والوجه ما ذكره شيخي، وذلك أن حرية الولد إذا كان تأتي من قبل الظن، وهو ما ظن ظنّاً لو تحقق، لاقتضى حرية الولد، فإذا كان الحكم يُتلقى من الظن، والظن كما وصفناه، فلا معنى للحكم بحرية الولد. وكون [الوطء] (2) محترماً لا يوجب حرية الولد، فإن ولد الزوج من زوجته الرقيقة رقيق، وإن ترتب على وطءٍ مستحق. وأما مسألة المغرور، فالظن فيها باطل، والوطء صادف مغرور زوجته، فقدّرنا كأن الظن لم يكن، وقضينا بحرية الولد بحصول العلوق به في نكاح المغرور. فهذا تمام ما أردنا ذكره في أحكام الولد. 11412 - ولو وطىء أجنبي من المغنم جاريةً من المغنم، نُظر: فإن مُيّز الخمس ولا شبهة للواطىء، فهو زانٍ لا يخفى حكمه في الحال والمآل. وإن كان للواطىء أبٌ في المغنم، فوطؤه زناً أيضاً، فإنّ وطء الابن جارية أبيه زنا. وإن كان له ابن في المغنم فوطؤه جارية المغنم كوطء [جارية] (3) ابنه الغانم، فإن جارية الابن مستولدةُ الأب، كما تصير مستولدةً للابن. ثم تعود التفاصيل. هذا إذا جرى الوطء بعد إفراز الخمس، ويتصل بهذا أنا نؤكد ملك الغانمين على

_ (1) عبارة الأصل: كما لو وطىء المغرور زوجته التي يحسبها حرة، فوجدها جارية غيره، وقد زيفه لإتيانها فإن الولد حر، وإن كان الولد ... إلخ. والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط، التي لخص فيها كلام الإمام، فقال: " قال الشيخ أبو محمد: لو وطىء جارية الغير على ظن أنها زوجته المملوكة، فالولد رقيق لأن مستند هذا العتق الظن وظنه لو تحقق لم يوجب حرية. ومن الأصحاب من خالف وقال: الولد حر هاهنا الأصل الشبهة، إعراضاً عن تفصيل الظن، كما إذا وطىء زوجته الحرة على ظن أنه زان بجارية رقيقة للغير، فالولد حر. وهذا فاسد؛ لأن هذا الظن إذا قدر كالمعدوم، وحصلت حرية الولد بحرية الأم، وفي الرقيقة لا موجب للحرية إلا الظن، فليتْبع ظن لو تحقق لاقتضى حرية " (ر. البسيط: 5/ورقة: 165 شمال). (2) في الأصل: " الموطىء "، ومعنى كون الوطء محترماً أنه في نكاح صحيح. (3) زيادة اقتضاها السياق.

أحد القولين إذا جرى إفراز الخمس، ولا يخفى التفريع بعد التنبيه. وإن لم يفرز الخمس، فلبيت المال في الجارية حق. فإذا وطىء أجنبي جاريةً في المغنم، وفيها حق الخمس، وكان للأجنبي حقٌّ في بيت المال، فهذا يخرج على التردد الذي حكيناه في كتاب السرقة، فإنا نقول: السارق من بيت المال لا يقطع إذا كان له في بيت المال حق، على المذهب الظاهر، ولو وطىء مثلُ هذا الشخص جاريةً من بيت المال، ففي وجوب حدّ الزنا وجهان. وهما يعودان في جارية المغنم، إذا جرى الوطء فيها قبل إفراز الخمس، وجميع أطراف المسألة مجراة على أن الحدّ لا يجب بوطء الجارية المشتركة. 11413 - ثم قال الشافعي: " وإن كان في السبي ابن أو أب ... إلى آخره " (1). نص الشافعي على أنه إذا وقع في المغنم من يَعْتِق على بعض الغانمين إذا ملكه بحكم القرابة، فلا نحكم بعتقه عليه قبل القسمة. وقد نص الشافعي على أن الغانم إذا وطىء جارية المغنم، ثبت الاستيلاد، فمن أصحابنا من نقل جواب مسألة العتق إلى الاستيلاد، ومسألة الاستيلاد إلى العتق، وخرّجهما على قولين، ويكون مأخذ القولين في التوجيه ضعيف المُدرك كما قدّمناه. ومن أصحابنا من حاول الفرق بين الاستيلاد، ونفوذ العتق بحكم القرابة، وقال: ينفذ الاستيلاد كما قدّمنا، ولا يَعتِق القريب على الغانم؛ لأن الاستيلاد ينفذ في محل امتناع العتق؛ فإن الأب إذا استولد جارية الابن، ثبت الاستيلاد، ولو ملك الابن من يعتق على الأب، لم يَعتِق على [الابن] (2) وذلك إذا ملك أخاه، وهو ابن أبيه، لم يعتق على الابن، وذلك لأن الاستيلاد في حكم الإتلاف بالفعل، والفعلُ لا مدفع له، وحصول العتق في القريب حكم محض. واختيار المزني أن الجارية لا تصير أم ولد، واحتج بعدم عتق القريب أخذاً من

_ (1) ر. المختصر: 5/ 190. (2) في الأصل: " الأب ". (3) وصورة المسألة -على وضوحها- أنه إذا ملك الابن أخاه لأبيه، فهو ابن أبيه، فلو ملكه الأب يعتق عليه للبعضيّة، ولو ملكه الابن لا يعتِق عليه.

النص، وهو لا يرى النقلَ والتخريجَ، ويستشهد بالنص على النص. وذكر بعض أصحابنا في عتق القريب مسلكاً آخر، فقال: القريب لا يعتق على الغانم إن لم يختره؛ فإن اختاره عَتَق حينئذٍ، على تفصيل اليسار والإعسار، ونزل اختياره فيه منزلة الاستيلاد، وهذا هو الذي نبهنا عليه في قاعدة الملك، إذا (1) قلنا: الاختيار عند بعض الأصحاب يؤكد الملك ويلزمه. أما إذا جرى الاستيلاد، فلا أثر للاختيار معه؛ فإنه أبلغ من الاختيار. 11414 - وكنا أخرنا إلى تفصيل ملك الغانمين القولَ في السرقة، وهذا مما أوضحنا أصوله في كتاب السرقة عند ذكرنا سرقة أحد الشركاء المالَ المشترك، وإنما أعدنا هذا الفصل لزيادةِ فائدةٍ، وذلك أنا ذكرنا أن من أصحابنا من قال: إذا سرق أحد الشريكين من المال المشترك ما يزيد على حصته بالجزئية مثل أن يسرق ديناراً وربعاً من دينارين، له نصفهما، فالمسروق زائد على مقدار حقه، والزيادة بالغةٌ نصاباً، فمن أصحابنا من قال: يجب القطع، وذكرنا ما عدا هذا من كلام الأصحاب. فإذا فرعنا على الوجه الذي حكيناه الآن، وسرق الغانم من المغنم ما يزيد على مقدار حصته، والتفريع على أن القطع يتعلق بالزائد على المال المشترك، ففي المغنم وجهان على هذا الوجه: أحدهما - القطع في المال المشترك. والثاني - لا يجب، لأن حقَّ كلِّ غانم ثابتٌ في جميع المغنم. وكذلك القول، لو أعرض الكلُّ إلا واحداً، قلنا: كأنه الغانم بنفسه، وكأنا نجعل الغانمين كالمزحومين، بمثابة الشفعاء، وهذا يوجب الدرء في الحد، ولا يقع الاكتفاء في إثبات الاستيلاد؛ فإن إثبات الاستيلاد يقتضي ملكاً محققاً، ثم إن اقتضت الحال سرياناً، وقع الحكم به، والمقدار الذي يدرأ الحد، لا يُثبت حقوق الأملاك. فهذا ما أردنا أن ننبه عليه. وقد قال القاضي: إذا قلنا: يجب الحد على أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة، -وهذا قولٌ حكيناه- فإذا وطىء الغانم جارية المغنم، فهل يلزم الحد؟ فعلى وجهين منشؤهما ما ذكرناه من أن لكل غانم حظاً في جميع المغنم، كما نبهنا

_ (1) إذا: بمعنى إذ.

عليه، وهذا ضعيف؛ فإن [معتمده] (1) القول القديم. وهذا متحقق في جارية المغنم تحققه في الجارية المشتركة، والقول القديم في إيجاب الحد يجري على وطء الرجل أخته المملوكة من الرضاع. وقد انتجز القول في أملاك الغانمين، وآثارها جملة وتفصيلاً. فصل قال: " ومن سُبي منهم من الحرائر ... إلى آخره " (2). 11415 - ذكر الشافعي سبي الزوجين، وسبي أحدهما، وترتب انفساخ النكاح على ذلك. وقد قدمنا ذكر هذا مستقصىً، وأجرى الأصحاب في أثناء الكلام أحكامَ الديون الثابتة للحربي، إذا استُرِق، وأحكام الديون الثابتة عليه، ونحن نأتي بما يتعلق بهذا على [أكمل] (3) بيان. وهو مما لم يعتن الأصحاب بجمع كلامٍ فيه على التواصل. فنقول: لو كان للمسلم دينٌ على حربيّ، فاستُرق مَنْ عليه الدين. قال الأئمة: لا يسقط الدّين عن المسترَق، ورأيتُ أقوال أصحابنا متفقةً على هذا. ومذهب أبي حنيفة (4) أن الدّيْن يسقط عن المسترَق، وأورد الأصحاب هذا في مسألة سبي الزوجين، وشبب الخلافيون بموافقة أبي حنيفة في سقوط [الدين المحترم] (5) من حيث إنه انقلب عما كان عليه، حتى كأنه عُدم. ثم وجد (6)، وهذا لا يلحق بالمذهب، [والمقطوع] (7) به أن الدين لا يسقط.

_ (1) في الأصل: " معتمد ". (2) ر. المختصر: 5/ 191. (3) زيادة من المحقق على ضوء المعهود من كلام الإمام. (4) ر. الجامع الصغير: 316، مختصر الطحاوي: 290، ملتقى الأبحر: 1/ 658، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 451 مسألة 1603. (5) عبارة الأصل: " في سقوط الدين من المحترم ". (6) أي كأن المسترق مات ثم وجد بعد ذلك ثانية. (7) في الأصل: " المقطوع " (بدوان الو او).

ثم ننظر: فإن أُرق الحربي، ولم يغنم ماله، فحق المسلم في عين ماله، والرق بمثابة الحجر، أو بمثابة الموت في المسلم المديون عليه. حتى لو ظفر به المسلمون وأخذوه -يعني المال- بعد تعلق الدين به يُقضى الدين من ذلك المال. ولو غُنم أولاً، ثم سبي، أو غنم المال معه، فحق المسلم الغريم في ذمته، يتبعه بعد العتق. ولا يُقضى من عين المال؛ فإن المال إن غُنم قبلُ، فلا شك أن الدَّيْن لا ينعكس عليه، وإن غُنم المال معه، فقد تعقق ملك الغانمين بعين ماله. وحق صاحب الدين إن كان في الذمة [فالحق] (1) المتعلّق بالعين مقدّم على المتعلّق بالذمة؛ ولذلك قلنا: إذا جنى العبد المرهون يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن؛ فإن موجب الجناية لا يتعلق بذمة المولى، فكان تعلقه بالعين أقوى من تعلّق الرهن به. وعندنا إذا غُنم ماله، ورَق، فالملك في الغنيمة سابق على جريان الرق إن كان المأسور رجلاً، فإن الرق [يُضرب] (2) بعد الأسر؛ فإن كان كذلك، فلا إشكال. وإن فرض الكلام فيه إذا أسر أولاً، ثم غنم المال مع إرقاق الإمام، أو وقع الفرضُ في المرأة تسبى مع مالها، فيحصل الرق والاستيلاء على الغنيمة معاً، فليس يبعد على القياس تعلّق الدين المحترم بالمال في هذه الصورة، قياساً على ديون التركة، مع حقوق الورثة؛ فإن حق الورثة يتعلّق بعين التركة، والدين يتعلّق بالتركة في الوقت الذي يحصل الإرث فيه، ثم قُدِّم الدين، فلا يبعد أن يكون الأمر كذلك فيما نحن فيه. وهذا متجه جداً. وما قدمناه من الاستشهاد بجناية العبد المرهون كلامٌ مُخيلٌ ظاهره؛ فإنا إنما قدّمنا حق المجني [عليه] (3) كما نُقدّم حقَّ المجني عليه على حق مالك العبد، إن صدرت الجناية من غير إذن السيد، ولا يزيد حق المرتهن على حق

_ (1) في الأصل: " والحق ". (2) في الأصل: " تصرف ". وهو تصحيف قريب المأخذ. والمعنى أن الرق لا يكون في الرجال بمجرد الأسر، بل يضرب عليهم بعد ذلك. (3) زيادة اقتضاها السياق. ومعنى العبارة: أننا قدمنا حق المجني عليه على حق المرتهن، كما تقدم حق المجني عليه على حق مالك العبد.

المالك؛ فإذا كان يطرأ ملكٌ على المالك، فيطرأ على حق المرتهن، ولسنا نُلزَم الآن ذكرَ تعليل تعلق الأرش برقبة العبد، وقد أجريتُ -فيما أظن- في ذلك كلاماً كلياً في (الأساليب). وما يتعلّق بهذا الفصل أنه إذا كان للمسلم عليه دين مؤجل، فاسترق، ففي حلول الأجل وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا حُجر على الرجل بالفَلَس، وعليه ديون مؤجلة، ففي حلول الديون عليه جوابان. والرق أولى بأن يقتضي الحلول؛ فإنه أشبه بالموت؛ من جهة أنه يقطع النكاح، ويزيل الملك، بخلاف الحجر. هذا كله فيه إذا كان لمسلم على حربي دين، فاسترق الحربي. 11416 - فلو كان الدين لذمي، فالجواب كما ذكرناه؛ [فإن دين الذمي] (1) محترم بمثابة أعيان ماله. 11416/م- ولو كان لحربي عليه دين، فاستُرِق من عليه الدين، قال القاضي: يسقط الدين عن ذمته (2). ولتكن هذه المسألة على الذكر حتى نعود إليها. 11417 - ومما نذكره في ذلك أن المسلم لو استقرض من حربي شيئاً، أو اشترى منه شيئاً، والتزم الثمن، ثم استُرِق الحربيّ المستحِق الدين، فالدين لا يسقط عن ذمة المسلم. ثم سبيله كسبيل أموالاً الحربي المودعة عندنا على حكم الأمان. وقد ذكرنا مصارف أمواله، وهذا الدين من أمواله. ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن الحربي إذا استقرض شيئاً من الحربي، ودخل المستقرض إلينا بأمان أو ذمة أو أسلم، قال العراقيون: نص الشافعي على أنه يلزمه ردّ ما استقرضه من الحربي، وحكَوْا نصّاً آخر عن الشافعي على خلاف ذلك في مسألةٍ وهي أنه إذا نكح حربي حربية على مهرٍ، ودخل بها، وماتت الزوجة، وأسلم الزوج، وهاجر إلينا، فجاء ورثة الزوجة، وطلبوا مهرها، قالوا: قال الشافعي ليس لهم

_ (1) في الأصل: " فإن في دين الذمي ". (2) عبارة الأصل: " قال القاضي: يسقط الدين عن ذمته، فإن ذلك الدين، ولتكن المسألة على الذكر ... " (ففيها خرمٌ، أو إقحام).

عليه طَلِبة. ثم تصرفوا في النصين، وقالوا: من أصحابنا من نقل وخرّج، وجعل المسألتين جميعاً على قولين: أحدهما - أنه لا طلبة على المستقرض، ولا طلبة على الزوج. والقول الثاني - أنه تثبت الطلبة على من التحق بنا بأمان أو ذمة أو إسلامه. وهذا الذي أطلقوه لا يصفو على ما أحب وأوثر إلا بمزيد شرحٍ وبيان. فنقول: إذا نكح حربي حربية على مهر يصح مثله في الإسلام، ثم أسلم، فلا خلاف أن الزوجة تطالب زوجها بمهرها المسمى، وإن التزم المهر حربي لا تجري عليه أحكامنا لحربية لا حرمة لها، لم يكن التزام الحربي كالتزام المسلم؛ فإن المسلم من أهل عقد الأمان للحربي، ويصح تخصيص الأمان بمال، وعلى هذا تخرّج المعاقدات التي تجري بين المسلم، وبين الحربي، وهذا متصور فيما يجري بين الحربيين، ولكن أجمع الأصحاب على أنهما إذا أسلما، فحكم العقد مستدام [فيهما] (1)، ومن استدامته توجهت الطلبة بموجبه وعهدته. ومسائل نكاح المشركات خارجة على هذا القانون. كذلك إذا بايع كافرٌ كافراً ثم أسلما، والثمن المذكور مما يصح طلبه، فلا شك أن الطلب يتوجه، وكذلك إذا أسلم المستحَق عليه ثم أسلم المستحِق، فالأمر على ما وصفناه، وإن ترتب الإسلام. 11418 - فأما إذا التزم حربي لحربي، ثم أسلم الملتزم، فتصوير الطلب من الحربي فيه بُعْدٌ، وقولنا يجب على هذا الذي أسلم أن يبذل ما التزمه، مع أن الإسلام يجُبّ ما قبله، وقد جرى الالتزامُ والملتزمُ حربي، فيعسر توجيه الطلب، وهذا منشأ القولين. ثم إن أوجبنا، فالتعبير عنه أن ينزل المسلم على دوام العقد منزلة المسلم حالة ابتداء العقد. فإن قيل: ذلك المسلم من أهل عقد الأمان. قلنا: نعم، ولكن لو أسلما، لا خلاف أن العهدة تبقى بينهما للأصل الذي مهدناه قبلُ من قضاء الشرع باستدامة العقد.

_ (1) في الأصل: " فيها ".

ومن قال: لا طلبة على المسلم أو الذي عقدنا له الذمة، فلا يُسقط الدين؛ فإن المستحِقَّ لو أسلم طالب، وإنما هذا تَوقُّفٌ في الطلب، فليفهم الناظر ذلك. ثم قال العراقيون: وقال ابن سريج في النص [الوارد] (1) في النكاح: ذاك فيه إذا أصدقها خمراً ثم ماتت، وقد أسلم الزوج، فلا طلبة للورثة؛ فإنها قبضت في الشرك تمام ما رضيت به. فإن قيل: إذا ثبت دين لحربي على حربي، واستُرِقَّ من عليه الدين، فقد ذكرتم أن الدين يسقط، فهلاّ جعلتم الرق أماناً، ونقلتم الدين إلى ذمة الرقيق؟؟ قلنا: هذا لا ينكر توجه احتمال فيه، لما نبهنا عليه. والظاهر السقوط؛ فإن ملتزم الدين انتقل من كونه حربياً لا يجري عليه حكمٌ إلى كونه رقيقاً ليس له على نفسه حكم. والاحتمال مع هذا قائم، والله أعلم. 11419 - ولو أتلف حربي على حربي شيئاً، ثم أسلم المتلف، لم يغرم شيئاً، وليس كما لو استقرض منه. ونزيد، فنقول: لو أسلم المتلف والمتلَف عليه، فلا طَلِبَةَ بينهما بخلاف الاستقراض، والمعاملات المقتضية إلزاماً؛ فإن الإتلاف ليس عقداً نقضي بدوامه، وإنما هو حالةٌ جرت حيث لا حكم، ثم جبّ الإسلام ما كان، وأيضاً؛ فإن الحربيَّ إذا قهر الحربيَّ على مَالِه، مَلَكَه، والهلاك باب من القهر. فهذا ما يجب القطع به. وفي التعليق عن القاضي أن الحربي إذا جنى على مسلم، فاسترق، فأرش الجناية في ذمته، ولا تتحول إلى رقبته، ثم قال: وهذا بخلاف المكاتب إذا جنى، فالأرش في ذمته يؤدّيه من الكسب، فلو عجز وعاد قنّاً، [تحول] (2) الأرش إلى الرقبة، وفرّق، وقال: الرق الذي هو متعلق الأرش كان موجوداً في حال الكتابة المانعة من البيع، فإذا عجز، ارتفع المانع، وتعلّق الأرش بالرقبة بخلاف الحربي، لأنه لم يكن رق عند الإتلاف، وإنما حدث الرق من بعدُ، وهذا الفرق لا باس به.

_ (1) في الأصل: " الممكن ". (2) في الأصل: " وتحول ".

ولكن المسألة في وضعها فاسدة؛ فإن الحربيَّ إذا جنى على مسلم، أو ماله، فلا ضمان، ولا تعلّق بموحَب الإتلاف بالذمة، فإنه فعل ما فعل، ولا حكم عليه، وليس عقداً يُستَدام، والرق وإن أدخله في حكمنا، فالذي مضى من الإتلاف لا يُعقب تبعةً يُتَّبع بها في أحكام الإسلام، ونحن وإن قلنا: لا يملك الحربي على المسلم بالاستيلاء، فإنا نقول: لو أتلف حربي على مسلم مالاً، لم يضمنه إذا أسلم، ولم يطالَب به، فهذا ما يجب القطع به. وحكى بعضُ الناس [عن القاضي] (1) أن الحربيّ إذا أتلف، ثم عقدنا له ذمة أو أماناً، فهو مطالب بضمان ما أتلفه، ولو أسلم لا يطالب، وهذا لا يحل إلحاقه بمذهب الشافعي. والقاضي أجل قدراً في المذهب من أن يفرع على [مذهبه] (2) ذلك؛ فما أرى ما جرى إلا خللاً من ناقل، أو هفوة من ذلك الإمام في مسألة جريان الرق بعد الجناية. فصل " ولا يفرّق بينها وبين ولدها ... إلى آخره " (3) 11420 - لا يجوز التفرقة بين الأم وولدها الطفل سواء كانا مسلمين أو كافرين، أو كان أحدهما مسلماً والآخرُ كافراً، على تفاصيلَ سيأتي الشرح عليها، إن شاء الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تولّه والدة بولدها " (4) وقال

_ (1) زيادة للفائدة. وهي من عبارة الغزالي: " وحُكي عن القاضي " (ر. البسيط: 5/ورقة: 160 شمال). (2) في الأصل: " مذهب ". (3) ر. المختصر: 5/ 191. (4) حديث " لا تُوَلَّهُ والدة بولدها " رواه البيهقي من حديث أبي بكر، قال الحافظ: " بسند ضعيف، ورواه أبو عبيد في غريب الحديث من مرسل الزهري، وراويه عنه ضعيف، والطبراني في الكبير من حديث قتادة، وقال ابن الصلاح: روي عن أبي سعيد وهو غير معروف وفي ثبوته نظر ". والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير، وفي سلسلة الضعيفة وعزاه للديلمي (4/ 11) من حديث أنس مرفوعاً. (ر. البيهقي: 8/ 5، غريب الحديث=

صلى الله عليه وسلم: " من فرّق بين والدة وولدها، فرّق الله تعالى بينه وبين أحبته يوم القيامة " (1). واتفق علماؤنا على أن التفريق محرّم، وليس النهي الذي أطلقناه نهيَ كراهية، فإن فرّق المالك بينهما في البيع، فباع الأم دون الولد، أو الولد دون الأم، ففي انعقاد البيع قولان: قال في القديم: ينعقد، وهو مذهب أبي حنيفة (2)، وقال في الجديد: لا ينعقد؛ لأن النهي متعلق بالمنهي عنه قصداً، وهو محمول على الفساد، وقد روي: " أن جارية بيعت دون ولدها، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع " (3). ولو كان للولد أم وجدة، فبيع مع الأم كفى، ولو بيع مع الجدة دون الأم، فعلى قولين. ولو لم يكن له أم، وكانت له جدّة. قال الأصحاب: الجدة كالأم، وقطعوا بهذا، ولفظهم: الجدة كالأم عند عدم الأم، وأرادوا بذلك أن الأم إن كانت رقيقة فالاعتبار بها، ولا حكم للجدة معها. فأما التفرقة بين الوالد والولد، فهل تحرم؟ على قولين: أظهرهما - أنها لا تحرم؛ فإن الأخبار في الوالدة، وهي أيضاً تختص بنهاية التحنن والشفقة، وضعف

_ =لأبي عبيد: 2/ 405، التلخيص: 3/ 36 ح 1170، مشكل الوسيط لابن الصلاح- بهامش الوسيط: 7/ 30، ضعيف الجامع الصغير: 6280، سلسلة الضعيفة: 4797، المجلد العاشر، القسم الأول، ص 338). (1) حديث " من فرّق بين والدة وولدها ... " رواه أحمد (5/ 413، 414)، والترمذي وقال: حسن غريب: البيوع: باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين، أو بين الوالدة وولدها في البيع، ح 1283، الطبراني في الكبير: 4/ 217، والدارقطني: 3/ 67، والحاكم وصححه على شرط مسلم (2/ 55) كلهم من حديث أبي أيوب. قال الحافظ: وفي إسنادهم حي بن عبد الله المعافري: مختلف فيه، والحديث رواه الدارمي من طريق آخر (2479)، والبيهقي أيضاً في الكبرى (9/ 126) من طريق آخر غير متصل، كما ذكر الحافظ (التلخيص: 3/ 36 ح 1171). (2) ر. مختصر الطحاوي: 85، 286، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 162 مسألة: 1242، اللباب 2/ 30. (3) حديث أن " جارية بيعت دون ولدها ... "، رواه أبو داود: الجهاد، باب في التفريق بين السّبي، ح 2696، والحاكم (2/ 155) وصححه وواففه الذهبي، والدارقطني (3/ 66) والبيهقي في الكبرى (9/ 126)، والمعرفة (7/ 79).

المُنّة في التصبر. فإن قلنا: يجوز التفريق بين الولد والوالد، فلا كلام. وإن قلنا: لا يجوز، ففي غير الوالد من المحارم من القرابات قولان على هذا القول: أحدهما - لا يجوز التفريق بين كل شخصين بينهما قرابة ومحرمية. والقول الثاني - يجوز. ويختص ما قدّمناه بالأم، أو من هو على عمود النسب. فإن قلنا: يجوز التفريق، فيصح البيع لا محالة. وإن قلنا: لا يجوز التفريق، ففي صحة البيع على حكم التفريق قولان. ثم إذا كان للولد أبوان، فلا أثر للتفريق بين الولد والوالد، إذا كنا نرعى الجمع بين الولد والأم كما ذكرناه في الأم والجدة. ثم ما ذكرناه من المنع من التفريق إلى متى؟ المذهب أنه إلى استقلال الصبي ببلوغ سن التمييز، وهو السبع والثمان. وذكر أئمتنا قولاً آخر أن التحريم وحكمه يمتدّ إلى البلوغ. 11421 - وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يكن في التفريق ضرورة. فإن وقعت ضرورة، فالبيع جائز، وبيانه أن الأم إذا كانت حرة، فَبَيْعُ الولد جائز، فإن حسم البيع لا سبيل إليه، وكذلك لو كان الولد لزيدٍ والأم لعمرو، فيجوز لكل واحد منهما أن ينفرد ببيع ما يملك؛ فإن هذا التفريق واقع، ومن يبيع يُقيم غيره مقام نفسه، وليس بمحدث تفرقاً لم يكن. ولو رهن جارية، ولها ولدٌ دون ولدها، جاز؛ إذ كان الرهن لا يوجب تفرقة؛ إذ الملك بعدُ واقع ولا حيلولة. وإذا جاز (1) البيع، فقد قال الشافعي: تباع الجارية والولد، ويوزع الثمن عليهما. وقد ذكرنا هذا على الاستقصاء في كتاب الرهن، وما ذكرناه من [منع التفرقة في البيع يجري] (2) في منع التفرقة في الوصية والهبة، وكل جهة مملِّكة. ومن باع جارية، فسلّمها قبل قبض الثمن، فولدت للمشتري ولداً رقيقاً، وفلس

_ (1) كذا. والمراد إذا حُقَّ بيعُ الجارية المرهونة. (2) زيادة اقتضاها السياق.

المشتري، وعجز عن توفية الثمن، فكيف يرجع البائع إلى عين الجارية، ولو رجع فيها، لكان ذلك تفريقاً بين الأم والولد؟ قال العراقيون: في ذلك وجهان: أحدهما - أنه يقال للبائع: خذ الجارية وولدها بثمن المثل، وإن أبيت أخذ الولد، فليس لك إلا مضاربة الغرماء بثمن الجارية، ولا شك أن هذا مفرع على منع صحة البيع على حكم التفريق. والوجه الثاني - أنه يرجع إلى عين الجارية، والضرورة تلجىء إلى ذلك، وقد قدّمنا أن التفرقة بسبب الضرورة جائزة. 11422 - ثم قالوا على الاتصال بهذا: من اشترى جارية، وقبضها، فولدت له ولداً رقيقاً، ثم وجد بها عيباً قديماً، فلا سبيل إلى ردّها إذا منعنا التفريق؛ إذ لا سبيل إلى إلزام البائع بملك الولد حتى ينتظم الرد عليه. ومن الممكن أن نقول: الراجع في عين ماله بعد الفلس يرجع في الجارية وحدها. هكذا ذكروه، وليس يبعد عندنا أن نسلّطه على ردّ الجارية وحدها لأجل الضرورة الداعية، وهذا إذا لم تعبها الولادة، ولا تُلحق بها نقصاً، فإن نقصت، وقعنا في تفصيل العيب الحادث مع الاطلاع على العيب القديم. ثم ذكر الشافعي مسائل في حصول الإسلام بالتبعية، وقد ذكرنا [وجوه] (1) التبعية في كتاب اللقيط على أبلغ وجه في البيان، فلا نعيد منها شيئاً. ...

_ (1) في الأصل: " وجوب ".

باب المبارزة

باب المبارزة 11423 - المبارزة في الجملة جائزة، وعن الحسن البصري (1) تحريم المبارزة. والأولى ألا يبرز الغازي دون إذن صاحب الراية، وإن أراد المبارزة دون إذنه، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - يجوز، وقياسه ظاهر؛ فإنه فن من القتال، ولا سبيل إلى مراجعة صاحب الراية في تفاصيل القتال؛ فإن مراعاةَ هذا عسرٌ، سيّما إذا عظم الجند، واشتد القتال. والوجه الثاني - أنه لا يجوز؛ فإن له في تعيين المبارزين رأي واجتهاد فيهم. فلا بدّ من مراجعته. وبالجملة من لا يعلم في نفسه بلاءً وشجاعة، فلا يجوز له أن يبارز بطلاً من الكفار، لأنه ربما يصاب، فتنكسر قلوب المسلمين، وتتجرأ به الكفار. ثم يتعلق بالمبارزة فصول من الأمان، فإذا برز مسلم، وتنصَّل (2) من الصف كافر، فلا أمان للكافر، ويجوز لجمع من المسلمين أن يغتالوه. وإن شرط أن ينفردا ولا يُعينَ المسلمون صاحبَهم، ولا الكفارُ صاحبَهم، فيجب الوفاء بموجب الأمان، ثم نَنظر إلى صيغته، فإن وقع العهد إلى أن يثخن أحد القِرنين صاحبَه، فإذا قتل الكافرُ المسلمَ، جاز قتلُ الكافر قبل الرجوع إلى الصف، وإن كان العهد ممدوداً إلى الرجوع إلى الصف، فلا نَتعرّض له. وإن أثخن المسلمَ، ولم يبق فيه قتال، فأراد التذفيفَ عليه، ابتدرناه، ومنعناه، وإن كان العهد ممدوداً إلى تمام القتال، فإن القتال قد انتجز [بالإثخان] (3)، فإن كان العهد ممدوداً إلى القتل، فالعهد -على هذا الوجه- باطل؛ فإنا إن رأينا في

_ (1) الحسن البصري: الحسن بن يسار، من وجوه التابعين في العلم والعمل، وحيثما قيل: (الحسن) فقط فإياه يعنون. (2) تنصل من الشيء: خرج منه. (3) غير مقروءة في الاصل

المبارزة وجهاً من المقاتلة، فلا تتم المبارزةُ إلا بأن يأمن كلُّ قِرنٍ في وقت المحاربة أن يُغتال من غير جهة قِرنه، فلئن اتجه هذا، فلا معنى لتسليط كافر على مسلم لا قتال فيه. وإن كان العهد ممدوداًَ إلى القتال، فإذا ولى المسلم دُبره، فليس للكافر أن يتبعه، وقد ترك القتال، فإن تبعه، دفعناه وقتلناه، فإن ولّى الكافر دبره، فيجوز للمسلمين أن يقتلوه، لأن الأمان له ما داما يتقاتلان، وقد انتهى القتال بينهما. وإن شرط البارز منهم ألا يتعرض له حتى يرجع إلى الصف، وجب الوفاء بالأمان. ولو أعان الكافرَ جماعةٌ من المشركين، فإن كان باستنجاد من برز منهم، قتلناه، ومن يعينه، فإن أعانوه من غير استنجاده، دفعنا من يعينه، ولم نقتل المبارز، وتركناه إلى قِرنه. ولا فقه في هذه المسائل، والجامع لجميعها أن المرعي نصُّ الأمان وصيغتُه، فنفي به إذا وافق ما يجوز الأمان فيه. وحظّ الفقه من جميع ما ذكرناه شيئان: ذكرنا أحدهما - وهو أن الأمان المسلّط على القتل بعد الإثخان باطل. والثاني - أنا إذا جوّزنا للواحد من الصف أن يبرز دون [إذن] (1) صاحب الراية، فلو أمّن المسلمُ البارزُ الكافرَ الذي خرج إليه على ألا يُتعرض له حتى يرجع إلى الصف، فيجب الوفاء بهذا الأمان، وإن لم يجر الأمان إلا منه. وإذا قلنا: لا ينفرد بالبراز، فلسنا نعني به إذا كالح (2) كافراً لا يجوز، وإنما نعني به أن أمانه لا ينفذ، فلا تنتظم المبارزة والحالة هذه؛ فإن المسلمين يقصدون ذلك الكافر، ويقتلونه. فهذا معنى تردد الأصحاب في الانفراد بالمبارزة دون الرجوع إلى صاحب الراية، فإن قيل: ألستم تنفذون أمان الواحد للواحد؟ قلنا: هذا إذا لم يكن المؤمَّن مقاتلاً، ووقوف الكافر في الصف قتال. ...

_ (1) زيادة من المحقق. (2) كالحه: واجهه بالخصومة. (المعجم).

باب فتح السواد

باب فتح السواد قال الشافعي: " ولا أعرف ما أقول في فتح السواد إلا بظنٍّ مقرونٍ إلى علم ... إلى آخره " (1). 11424 - وإنما قال الشافعي ما قال لاختلاف الروايات، في السواد، وكان أعرفَ خلق الله بهذا القسم، ولكن تحرّج حتى لا يُنسب إليه غريبُ الروايات كلها، واختار من جملتها: أن سواد العراق فُتح عَنوةً، وقد روي أنه فتح صلحاً، وروي أن بعضها فتح صلحاً، والبعض عَنوة، والأصح أن أرض العراق فتحت عَنوة بجملتها، وأريق على جوانبها دمُ آخر الأكاسرة يزدجرد وأعوانه، ولم يثبت صلحٌ في قطر من أقطار العراق، ثم استقسم الغانمون الأراضي، فقسمها عمر -رضي الله عنه- بينهم بعد أن قال: " أخشى أن يتعلقوا بأذناب البقر، ويتقاعدوا عن الجهاد " (2) فخاف أن يتعطل أمر الجهاد، فاستطاب أنفسهم عنها، فمنهم من طاب نفساً بردّ نصيبه، ومنهم من أبى، فعوّضه، واستخلص الكلَّ للمسلمين. وفي رواية جرير بن عبد الله البجلي، وهي أصح الروايات في سواد العراق، قال: " كانت بَجِيلةُ (3) رُبعَ الناس، فأصابهم ربعُ السواد فاستغلوه ثلاث سنين أو أربعَ سنين، فقال عمر: لولا أني قاسم مسؤول، لتركتكم وما قسم لكم ... الحديث " (4). وروي أن أم كُرز قالت: " إن أبي شهد القادسية وثبت سهمه، وإني لا أرضى حتى يملأ كفي

_ (1) ر. المختصر: 5/ 192. (2) أثر عمر في فتح السواد " أخشى أن يتعلقوا بأذناب البقر ... " لم نصل إليه. (3) بجيلة: وِزان سفينة. (4) أثر جرير بن عبد الله البجلي في فتح السواد رواه الشافعي في الأم 4/ 279، والبيهقي في الكبرى: 9/ 135 وفي المعرفة: 7/ 87. (ر. التلخيص: 4/ 212، ح 2274).

دنانيرَ وفمي لآلىء، ويُركبَني ناقة ذلولاً عليها قطيفةٌ حمراء، فأعطاها عمر ما سألت " (1)، فثبت أن الفتح كان عَنوة. ثم لما استخلص عمر أراضي العراق للمسلمين، ردّها على سكان العراق، ووقفها على المصالح، وضرب على الذين يستغلونها أموالاً رآها الشافعي أجرةَ الأراضي، والإجارةُ مؤبدة، وكانت [تتكرر] (2) بتكرر السنين. ثم أسلموا عليها، فلم تسقط عنهم الأموال الموظفة عليهم، فإنهما كانت أجرة، ولم تكن جزية. والمأخوذ منهم يُسلك به مسلك مال المصالح؛ لأنه مستفادٌ من موقوفٍ على عامة المسلمين، ومثل هذه الجهالة محتملة لمسيس الحاجة في المعاملات العامة المتعلقة بالمصالح الكلية. قال الشافعي: من انتهت إليه قطعة من تلك الأراضي من آبائه وأجداد، فليس للغير أن يقول: أنا أستغلها، وأعطي الخراج؛ فإنهم استحقوا منافعها بإجارة لازمة، عقدها أمير المؤمنين، والأجارة لا تنفسخ بموت المستأجر، ولو أراد واحد منهم بيع رقبة الأرض، لم يصح؛ فإن رقاب تلك الأراضي محبسة، ولو أراد واحد منهم أن يكري تلك الأرض مدة معلومة بأجرة معلومة، صح. وإن أراد أن يكريها إكراء مؤبداً بمالٍ يَتفق عليه التراضي، ففي ذلك تردد من الأصحاب، والأصح المنع؛ فإنا حملنا تجويز التأبيد في إجارة عمر رضي الله عنه على تعلق تلك المعاملة بالمصلحة العامة، وإذا أراد الواحد أن يكري، فتصرفه مردود إلى قياس التصرفات الجزئية. ومن يجوّز الإجارة المؤبدة، لا يجوّزها إلا في [تلك الأراضي] (3)، ويحتج بأنهم استحقوا منافعها على جهةٍ، فلا يبعد أن يملكوا إخراج أنفسهم من البَيْن، وإحلال غيرهم محالّ أنفسهم، فيقع جواز هذا تبعاً لما أجراه [لهم] (4) عمر. وقال ابن سريج: باع عمر بن الخطاب تلك الأراضي من سكان العراق، وجعل الثمن مؤجلاً عليهم. وهذا غير صحيح، وهو يخالف النص، فإن نص الشافعي

_ (1) أثر أم كرز في فتع سواد العراق رواه البيهقي في الكبرى: 9/ 135، وفي المعرفة: 7/ 90. (2) مكان بياض بالأصل قدر كلمة. (3) في الأصل: "ملك الأراضي". (4) مكان بياض بالأصل.

موجود في كتاب الرهون، على أن رهن السواد مفسوخ. أراد بالمفسوخ الفاسد، ولو كانت رقاب الأراضي مبيعة، لجاز بيعها، ولو جاز بيعها، لجاز رهنها. ثم ما ذكره غير صحيح، وذلك أن الأجرة إذا كانت تتجدد بانقضاء السنين، فهذا محمول على مقابلة كل سنة بأجرتها، والمنافع متجددة، ومثل هذا لا يتصوّر في البيع، فإن الموظف على أهل العراق لو كان ثمناً، فالثمن لسنا نرى له ضبطاً، ولا غاية، ولا مقابلة بما يتجدّد حالاً على حال. وقال أبو حنيفة (1): السواد فتح صلحاً، وردّها عمر عليهم بخراجٍ يؤدونه كلَّ سنة، وزعم أن الخراج لا يسقط بإسلامهم. وهذا مطرد على مذهبه؛ فإنه يقول: إذا ضرب الإمام الخراج على أراضي الكفار، وكان يأخذه منهم جزيةً، فإذا أسلموا على أراضيهم، لم يسقط عنهم الخراج الموظف، وعندنا أن الخراج المضروب على الكفار سبيله سبيل الجزية، فإذا أسلموا على أراضيهم، سقط الخراج عنهم كما تسقط الجزى عن رؤوسهم. ومما يتصل بهذا الباب أنه لو وقع مثل هذه الواقعة، وعلم الإمام أنه لو ترك الأراضي في أيدي الغانمين، لتعطل الجهاد، ثم زاد (2) أصحابُ الأراضي بسطتَهم، فأَبَوْا، وعلم أنه لا خلاص إلا باقتهارهم، وأَخْذِ الأراضي منهم قسراً، فليس للإمام أن يفعل هذا، بل يقتهرهم على الخروج إلى الجهاد على حسب دعاء الحاجة إليهم. وقد نقل المعتمدون: أن أمير المؤمنين استطاب قلوب المسلمين، وطلب المسلمون مرضاتَه، لما عرفوا نظره للدين وأهلِه، وروي: " أن بلالاً أبى عليه، فراجعه، فأغلظ بلال القولَ على عمر، فاحتمل عمر، ثم قال: اللهم خلصني من بلال وذويه، فما مرت سنة حتى لم يبق من آل بلال نافخ ضَرْمة (3) " (4). ...

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 494، 495 مسألة: 1644، 1645. (2) في الأصل: " ثم زادوا " على لغة: أكلوني البراغيث. (3) ضرمة: أي جمرة وهي النار. (المعجم). (4) أثر عمر " اللهم خلصني من بلال ... " رواه البيهقي عن جرير بن حازم عن نافع مولى ابن عمر: 9/ 138، وقال: والحديث مرسل. ورواه أيضاً في معرفة السنن: 7/ 91.

باب الأسير يؤخذ عليه العهد ألا يهرب أو على الفداء

باب الأسير يؤخذ عليه العهد ألا يهرب أو على الفداء 11425 - مضمون الباب الكلام على أحوال الأسرى إذا أطلقهم الآسرون، وأثبتوا عليهم عهوداً، ونحن نفصل الغرض فيما يجوز، وما لا يجوز. فنقول: إذا خلَّوْا الأسير وشرطوا أن يتردّد فيما بينهم، ولا يخرج إلى دار الإسلام، فمهما (1) تمكن، فلا يسعه المقام، إذا كان يخاف أن يُفْتَنَ عن دينه، وإن كان لا يخاف ذلك، وكان متمكناً من إقامة شعائر الشريعة غيرَ مدفوع عنها، فالأصح أنه لا يحرم عليه المقام. ومن أصحابنا من حرم المقام؛ فإن المسلم بين أظهر الكفار مقتهَرٌ مهانٌ، فإن انكفوا عنه، فلا تعويل عليه؛ فإنهم قد يؤذونه، أو يقهرونه، أو يفتنونه عن دينه. وحق المسلم أن يكون مستظهراً بأهل دينه، قال علي رضي الله عنه: " أنا بريء من كل مسلم بين المشركين " (2)، حتى قال الأصحاب، لو كانوا حلّفوه، فلا يسعه المُقام، فإن أكرهوه على اليمين، فلا حِنث عليه، وإن لم يتحقق الإكراه على اليمين، ولكنه

_ (1) فمهما: أي: فإذا. (2) أثر علي: " أنا بريء من كل مسلم بين المشركين " لم نصل إليه من كلام علي رضي الله عنه، وإنما هو حديث مرفوع، ومن عجب أن علياً ليس من رواته. والحديث المرفوع رواه أبو داوَد، والترمذي، والطبراني من حديث جرير بن عبد الله، وصححه الألباني في الإرواء، ورواه النسائي مرسلاً عن قيس بن أبي حازم، قال الحافظ في التلخيص: وصحح البخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم (ر. أبو داود: الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، ح 2645، الترمذي: السير، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، ح 1604، الطبراني في الكبير، ح 2264، 2265، النسائي: القسامة، باب القود بغير حديدة، ح 4784، التلخيص: 4/ 218 ح 2285، إرواء الغليل: 5/ 30 ح 1207).

يرى أن يحلف لتسكين قلوبهم، ولنفي التهم، فعليه الخروج، إذا تمكن، ثم يلزمه الكفارة. ولو حلف بالطلاق أو العتاق طائعاً -غير مكره- فلا شك أنه لو خرج، وقع الطلاق والعتاق، ولا ينتصب توقع وقوعهما عذراً في جواز الإقامة، بل يتعين الخروج على الرأي الظاهر الذي هو المذهب. ثم إن أمّنوه، فليس له إذا استمكن من الخروج أن يغتالَهم في دمائهم وأموالهم، وذراريهم، ونسائهم؛ فإن الأمان إذا ثبت على شرط، اقتضى الأمانَ من الجانبين، ولو أطلقوه، وخلَّوْا سبيله، ولم يتعرّضوا للأمان، فله أن يغتالهم، لأنه لم يجر أمان يتضمن الأمن، فإذا جرى أمان، منعناه من اغتيالهم، وأوجبنا عليه أن يهرب إذا استمكن، ولو هرب، فتبعه أقوام ليردوه، فله أن يقاتلَهم، ويغتالَهم، ولا يتعرّض لغير الذين اتبعوه. ولو خلَّوه على أن يخرج إلى دار الإسلام، ويزور أقاربه، ثم يرجع إليهم، فلا يحلّ له الرجوع إليهم، ولو همّ به، منعه الإمام. وقال الزهري والأوزاعي: يلزمه الوفاء بالعود إليهم حتى لا يصير امتناعه سبباً لامتناعهم عن إطلاق الأسرى. 11426 - ولو باعوا منه فرساً أو غيره من الأمتعة بأكثرَ من ثمن المثل أو بثمن المثل، فإن كان مكرهاً عليه، فالبيع باطل. غير أنه يلزمه أن يردّ إليهم ما أخذه بعد الخروج إلى دار الإسلام؛ لأن تلك العين حصلت في يده على حكم المعاوضة؛ فإذا لم يلزمه الثمن، ألزمناه ردَّ العين. وقال الشافعي في القديم: هو بالخيار بين أن يردّ عين مالهم، وبين أن يبعث إليهم بثمنها. وهذا شَرْعٌ (1) إلى [وقف] (2) العقود. وقد قررناه في كتاب البيع، وإذا جوزنا وقف العقد، فالمكره على البيع يملك الإجازة لو أرادها.

_ (1) شَرْعٌ: أي طريق إلى وقف العقود. (2) في الأصل: " وقت ". والمثبت تصرّف من المحقق.

ولو جرى البيع على اختيار، واشترى ما اشترى طائعاً بثمن يصح مثله في الإسلام، فيلزمه الوفاء بالعهد، وبعث الثمن. وفي تعليقنا عن الأمام (1) أنهم إذا خلّوا الأسير على شرط أن يبعث إليهم مالاً، وفادَوْه به أنه لا يلزمه أن يفي بما وعد من المال، ولا يجوز أن يعود. قال: وحكى الشافعي عن بعض السلف: أنه يجب عليه أحد الأمرين: إما العود إلى الأسر، وإما بذلُ المال، وقيل هذا قول الشافعي في القديم. وهذا بعيد لا أصل له، ولم أره في غير تعليقنا، ولست أعدّه من المذهب. فرع: 11427 - قال العراقيون: لو كان في المغنم كلاب، فإن لم يكن منتفَعاً بها، خُلّيت، ويُقتل العقور منها فأما إذا كانت منتفعاً بها بحيث يجوز اقتناؤها للانتفاع بها. قالوا: لو أراد الإمام أن يسلّمها إلى واحدٍ من الغانمين لعلمه باحتياجه إليها، فعل ذلك، غيرَ محسوب عليه. وهذا فيه احتمال؛ فإن الكلاب في الجملة منتفع بها، فلا يبعد أن نقول: يثبت لجميعهم حق اليد فيها. ومن مات وخلف كلاباً على الصفة التي ذكرناها، فلا يستبدّ بها بعض الورثة، وليس للقاضي تخصيص بعضهم؛ فليكن الأمر كذلك في كلاب المغنم. فرع: 11428 - إذا أراد الغزاة حمل رؤوس الكفار إلى بلاد الإسلام، فالمسألة ليست منصوصة للشافعي، والذي يقتضيه قياسه كراهيةُ ذلك، فإنه لم يعهد في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيها فائدة. وقد تعلق الأصحاب بما روي أن جماعة نقلوا رؤوس الكفار إلى المدينة في زمن أبي بكر، فقال: لا تنقلوا هذه الجيف إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

_ (1) الإمام: المراد والده. (2) أثر أن جماعة نقلوا رؤوس الكفار إلى المدينة في زمن أبي بكر فأنكره عليهم، رواه البيهقي (9/ 132) قال الحافظ: إسناده صحيح. ورواه النسائي في الكبرى: ح 8673. وفي الخبر أن أبا بكر رضي الله عنه أنكر ذلك فقال له عقبة بن عامر (راوي الحديث): " يا خليفة رسول الله، فإنهم يصنعون ذلك بنا. فقال أبو بكر: أفاستناناً بفارس والروم! لا يُحمل إليّ برأس، إنما يكفي الكتاب والخبر " (التلخيص: 4/ 201).

قال شيخي: هذا يمكن أن يحمل على تنزيه الحرمين عن نقل جيف الكفار، حتى إذا كان نقل الرؤوس ناجعاً في الكفار، فهو ضربٌ من التنكيل، لو رآه الإمام، لم يكن في تجويزه مع نفي الكراهية بأسٌ. فرع: 11429 - إذا حاصر صاحب الراية قلعة، فرضُوا بأن ينزلهم على حكم رجل عيّنوه، فيجوز للإمام أن ينزلهم على حكمه إذا كان أميناً عدلاً. قال العراقيون: ينبغي أن يكون مجتهداً، وما أظنهم شرطوا أوصاف الاجتهاد المعتبرة في المفتي، فإن عَنَوْا بالاجتهاد التهدِّي إلى طلب الصلاح والنظر للمسملمين، فهذا لا بد منه، وإن أرادوا استجماع شرائط الفتوى، فهو غلط غير معتدٍّ به، والأصل في ذلك ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تنزيل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ في قصة مشهورة (1). ثم إذا حكم المحكّم بالقتل وسبي الذرّية، فللإمام أن يمن عليهم، ويفاديهم، ولا يتعين على الإمام قتلُهم، نعم لو حكم المحكَّم بالمن، فلا يقتلهم الإمام، وإذا حكم بالقتل، فله المن. وتعليل ذلك بيّن، ولو حكم عليهم بالجزية، فإن قبلوها، اتبعها الإمام، وفاء بالرضا بحكمه، ولو رأى أن يمن، فلا حرج عليه، وبالجملة: إن الإمام لا يزيد على حكم المحكَّم ومقتضاه، وإن أراد التجاوز والتساهل، ورأى ذلك وجه الصلاح، فلا يُعتَرضُ عليه. ولو حكم المحكّم بالجزية، فهل يلزمهم الرضا بحكمه، والتزام الجزية؟ ذكر ابن سريج وجهين فيما حكاه العراقيون: أحدهما - يلزمهم وفاءً بتحكيمه والنزول على رأيه. والثاني - لا يلزمهم. فإن ألزمناهم، فليس معناه أنا نوجب عليهم أن يلتزموا، ولكنا نقضي بأن الجزية

_ (1) حديث تنزيل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (البخاري: المغازي، باب مرجع النبي من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة ح 4121. مسلم: الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد، ح 1768).

تلزمهم، فإن أبَوْا، كانوا بمثابة أهل الذمّة إذا التزموا الجزية، ثم امتنعوا عن أدائها. وسيأتي حكم هؤلاء في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى. وإذا قلنا: لا تلزمهم الجزية، فلا يجوز التعرّض لهم، ولكنهم يُبَلَّغون المأمن، فإنهم نزلوا متمسكين بأمانٍ على الجملة، وهذا الوجه يفارق الوجه الآخر؛ من حيث أنا لا نغتالهم على الوجه الأخير وجهاً واحداً، وإذا ألزمناهم الجزية، وامتنعوا، فقد نغتالهم في وجه. ولو حكم المحكَّم بالقتل، فأراد الإمام أن يسترق، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: له ذلك، لأن الاسترقاق دون القتل، والإمام لا يزيد على حكم المحكم، وله أن ينقص، والاسترقاق دون القتل. ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يسبي، وهو اختيار الصيدلاني؛ فإن الاسترقاق نوع من العذاب، وقد يؤثر الإنسان الموت عليه، وليس كالمنّ، فإنه تركٌ للعقاب من غير بدل، فلو حكم بالقتل، ثم أسلم المحكوم عليه، امتنع القتل، فمن جوز للإمام أن يسترق في الكفر، جوّز ذلك بعد الإسلام، ومن لم يجوّز الاسترقاق، فلا يجوز هاهنا؛ فإن الاسترقاق زال بحكم القتل، ثم زال القتل بالإسلام. فرع: 11430 - ذكر الشيخ في أثناء كلامه في شرح التلخيص أن العبد المرتدّ مالٌ يُباع، ولو قتله مسلم، لم يلتزم بقتله ضماناً، ولو غصبه غاصب، فتلف في يده، لزمه الضمان؛ فإنه مالٌ تام قابل للتصرفات المتعلّقة بالملك التام، وما كان كذلك، فهو مضمون باليد العادية (1)، ولا يضمن بالقتل؛ لأن قتله حكمُ إقامة الحد، فمن ابتدر قتله من المسلمين كان مقيماً حدّ الله تعالى، وإن لم يكن له ذلك؛ فإنه مفوّض إلى نائب المسلمين. وهذا ممثل بعبدٍ مغصوب في يد الغاصب يقول مولاه: اقتله، فلو قتله، لم يضمنه، ولو تلف في يده، ضمنه، ولو قطع رجلٌ يدَ مرتدٍّ، واندمل، وأسلم المقطوع يدُه، فلا ضمان، وإن لم يكن قَطْعُ اليد قتلاً، ولم يكن واقعا حدّاً،

_ (1) العادية: أي المعتدية بالغصب.

ولا محمل لهذا إلا أنه لو قتله، لكان هدراً، والأطراف تهلك بالقتل، والذي يقرّب ذلك أن قطع الطرف لو أدى إلى التلف، لكان قتلاً، فإذا لم يُودَ، لم يخصص بالضمان، والوجه أن نقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتل هذا العبد، فلو قتله، لم يضمنه، ولو قطع يده، لم يضمن يده أيضاً، قياساً على قطع يد المرتد، والله أعلم. فرع: 11431 - ذكر الشيخ في أثر كلام أجراه في أحكام الكفار، أن الكافر إذا حلف وحنث، انعقد يمينه، ولزمته الكفارة، بالحنث، وهذا مشهور من أصلنا. ثم قال: فلو أسلم الكافر، فهل تسقط عنه الكفارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - تسقط، ولا يخاطب بها، والإسلام يجبها. الثاني - لا تسقط، كما لا تسقط عنه [القروض] (1) والديون التي التزمها في الشرك. وهذا الذي ذكره يجرّ إشكالاً عظيماً على المذهب؛ فإن الكفارة إذا كانت تسقط بالإسلام، والطَّلِبة بها لا تتوجه على الكافر، وليست من الأحكام المتعلّقة بالحكام، حتى يُفرض فيها [إلزامٌ] (2) من الحاكم عند تقدير رضا الكافر بحكمه، سواء إذا كان الكافر في كفارة اليمين [أو غيرها] (3)، فإذا لم يظهر طَلِبة، والإسلامُ المتضمن التزام الأحكام يُسقطها، فلا معنى للزومها. ولو كانت الكفارة مفروضة في الظهار، والظهار نافذ من الكافر؛ فإنه يقتضي تحريماً، وإن كان لا يقطع الملك (4)، فيتجه أن يقال: لا يرتفع التحريم إلا بالتكفير، وبالجملة إذا أسقطنا بالإسلام كفارة اليمين، فلا معنى لوجوبها على الكافر، والمصير إلى أن كفارة الظهار تسقط بالإسلام لا أصل له. ويلزم على مساق هذا أن يقال: إذا آلى الكافر من زوجته، ثم أسلم، انقطع الإيلاء، لمصيره إلى حالة لو وطىء، لم يلتزم بالوطء أمراً، وقد ذكرنا أن من علّق

_ (1) في الأصل: " الفروض ". (2) في الأصل: " التزام ". (3) ما بين المعقفين تقدير من المحقق. (4) المراد ملك النكاح.

عتق عبده بوطء زوجته، وحكمنا بأنه مُولٍ موقوف بعدّ الأربعة الأشهر، فلو باع ذلك العبد، والتفريع على امتناع عود الحنث، فينقطع الإيلاء. فإذاً يجب القطع ببطلان سقوط الكفارة بالإسلام؛ فإن في الذهاب إليه هدمُ القواعد. ووجوب كفارة اليمين على الكافر مشكل، وإن كان الفقيه يتكلف لإثبات الكفارة في الظهار تبعاً للظهار، وكذلك القول في الكفارة المتعلقة بالإيلاء. فهذا منتهى المراد في ذلك. ***

باب إظهار دين الله تعالى

باب إظهار دين الله تعالى 11432 - تكلم الشافعي في هذا الباب على آيةٍ وأخبارٍ ظاهرها التعرض لما سيكون، فأما الآية، فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، وقد قيل: أراد إظهار دينه بالحجة، فعلى هذا انتجز الموعود، وظهرت الحجة، ووضحت المحجة. وقيل: أراد ظهورَ الملة في جزيرة العرب، وهذا متجه أيضاً. وقيل: أراد استيلاء ملوك الأمة على المشارق والمغارب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " (2). وقيل؛ ينتجز هذا الوعد عند نزول عيسى عليه السلام، وقصة نزوله مشهورة. وأما الأخبار التي جمعها الشافعي، فهي، ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتنفقَن كنوزهما في سبيل الله " (3). وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمدٍ رسول الله إلى كسرى عظيم فارس " فلما بلغه الكتاب قال: عبدي يقدم اسمه على اسمي، ومزق كتاب رسول الله صلى الله

_ (1) وهي في سورة الفتح أيضاً: 28، وسورة الصف: 9. (2) حديث: " زويت لي الأرض ... " رواه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه: الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، ح 2889. وأبو داود: الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها، ح 4252. والترمذي: الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي ثلاثاً في أمته، ح 2176. ابن ماجه: الفتن، باب ما يكون من الفتن، ح 3952. والبيهقي: 9/ 181. (3) حديث " إذا هلك كسرى ... " متفق عليه من حديث جابر بن سَمُرة، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ والمرجان: 3/ 208 ح 1848، 1847).

عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمزّق ملكُه " (1). وكتب إلى قيصر: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: أما بعد، أسلم تسلم، الكتاب " وهو معروف. فلما أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمه وطيبه وغلفه بالمسك والغوالي، وقبّله ووضعه على رأسه، وأمر حتى نثر عليه. فقال صلى الله عليه وسلم، لما بلغه الخبر: " ثبت الله ملكه " (2). أما الأخبار في هلاك الأكاسرة، وتمزق ملكهم، فلا اختلاف فيه، وأما حديث قيصر، فقد روي أنه قال: " إذا مات قيصر، فلا قيصر بعده " معناه: لا قيصر بعده بالشام، وكانت القياصرة تسكن الشام، وهي دار ملكها. وأما قوله: ثبت الله ملكه أراد امتداد ملك القياصرة، وهذا حق معاين، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " أي كنوز قيصر الشام، وقد أنفقت، وقيل: أراد جملة القياصرة، وهذا سيكون في آخر الزمان. ...

_ (1) حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، رواه البخاري من حديث ابن عباس: المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وقيصر، ح 4224. (2) حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر متفق عليه من حديث أبي سفيان رضي الله عنه الطويل (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 219 ح 1162).

ولكن الفقيه إذا لم يكن وافر الحظ من الكليات وأحكام الإيالات إذا انتهى إلى مواقف تعارض النص، تخبط. الإمام في نهاية المطلب

كتاب الجزية

كتاب الجزية 11433 - أمر الله تعالى لما افترض الجهاد بقتل المشركين كافة، فقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89]، وفي آية أحْرى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، فمن العلماء من قال: كان الأمر بالقتال عاماً في ابتداء افتراض الجهاد، ثم ثبتت الجزية، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وكانت آية الجزية ناسخة للأمر بقتلهم كافة. وقيل: آيات القتال عامة، وآية الجزية مخصصة لها، مبينة للمراد بها. فالأصل في الجزية الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب، فقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وسنذكر تفسير الصغار في أثناء الكتاب- إن شاء الله تعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " إنك سترد على قومٍ هم أهل كتاب، فاعرض عليهم الإسلام، فإن امتنعوا، فاعرض عليهم الجزية، وخذ من كل حالم ديناراً، فإن امتنعوا، فقاتلهم" (2) والإجماع منعقد على أصل الجزية.

_ (1) وهي أيضاً في سورة النساء: 91. (2) هذا الحديث أجهدنا كثيراً، حيث لفت نظرنا في أول بحثنا عنه قول الحافظ في التلخيص: " وقال أبو داود: هو حديث منكر، قال: وبلغني عن أحمد أنه كان ينكره " ا. هـ ولما رجعنا إلى أبي داود لم نجد هذا الكلام عن حديث معاذ، مع أن أبا داود أتى بحديث معاذ في خمسة مواضع من السنن، ولكن لم يعقب أي موضع منها هذا التعليق. فتشعّب علينا البحث، وأخذنا ننقّر ونفتش في كل ما استطعنا الوصول إليه من مصادر ومراجع، ونوجز ثمرة هذا البحث والجهد فيما يلي: 1 - الحديث ورد عند أبي داود في خمسة مواضع: ثلاثة في كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة، ومن ثلاث طرق، وأرقامها: 1576، 1577، 1578. وموضعان في كتاب الخراج، باب في أخذ الجزية. وأرقامهما: 3038، 3039. وكما ذكرنا لم نجد في أي من هذه المواضع الخمسة إنكار أبي داود الذي نقله عنه الحافظ في التلخيص. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 2 - وجدنا البيهقي في السنن الكبرى ينقل إنكار أبي داود على حديث معاذ، حيث قال بعد أن ذكر روايات الحديث من طرقه المختلفة: " قال أبو داود في بعض النسخ: هذا حديث منكر ... ". 3 - وجدنا هذا الإنكار عند أبي داود على حديثٍ لعلي رضي الله عنه يلي حديث معاذ في آخر موضع ذكره فيه أبو داود (رقم 3039 في الخراج) وحديث علي رقمه (3040) وهو في موضوع آخر لا علاقة له بحديث معاذ. 4 - ولا مجال للقول بأن هذا الإنكار انتقل عند الطباعة خطأً من حديث معاذ إلى حديث علي الذي يليه، فقد وجدنا هذا الإنكارَ على حديث علي مفسّراً في عون المعبود من خلال هذه الزيادة التي جاءت بعد إنكار أبي داود مباشرة ونصّها: " وهو عند بعض الناس شبه المتروك، وأنكروا هذا الحديث على عبد الرحمن بن هانئ " ا. هـ وعبد الرحمن بن هانئ هو أحد رجال حديث علي، لا حديث معاذ. وقد نقل عوّامة في نشرته لأبي داود هذه الزيادة المفسِّرة للإنكار عن إحدى النسخ الخطية للسنن. أيضاً ذكر المنذري في مختصر سنن أبي داود هذا الإنكار، وذكر رجالاً من حديث علي جاعلاً الإنكار بسببهم. فتأكّد لدينا الآن أن العبارة في موضعها الصحيح عقب حديث علي، لا حديث معاذ، وهذا الواقع فعلاً في جميع طبعات أبي داود المختلفة، وكذا في النسخ الخطية المختلفة التي اعتمدها عوّامة في نشرته للسنن. 5 - هذا ولم نجد أحداً من المحدثين الذين خرّجوا حديث معاذ، قدامى ومُحْدَثين كابن عبد البر، وابن حزم، والزيلعي، والعظيم آبادي، والشوكاني، والصنعاني، والألباني، وشعيب الأرناؤوط، ذكر إنكار أبي داود الذي وجدناه عند البيهقي، والحافظ في التلخيص. 6 - وأعجب العجب في هذا الأمر أن نسخة الحافظ ابن حجر الخطية من سنن أبي داود، وقد كان حفياً بها، يعتمدها، ويرجع إليها، ويعلّق عليها حواشي وفوائد، كما ذكر محمد عوامة، وقد اعتمدها أصلاً في نشرته المحققة الجيدة لسنن أبي داود، نقول: لم نجد فيها هذا الأنكار على حديث معاذ، فكيف حكاه في التلخيص؟ الله أعلم بالصواب وما كان. 7 - وختاماً فالحديث كما ساقه الإمام ملفّق من حديثين، الأول في الصحيحين من حديث ابن عباس بأوله إلى قوله: " فاعرض عليهم الإسلام ". وأما الجزية فرواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وأحمد، والدارقطني، وابن حبّان، والحاكم، والبيهقي من حديث مسروق عن معاذ. وله طرق أخرى عن معاذ. (. سنن أبي داود: الزكاة، باب زكاة السائمة، ح 1576، 1577، 1578، والخراج: باب في أخذ الجزية، ح 3038، 3039، مختصر سنن أبي داود للمنذري: =

والجزية مأخوذة من الجزاء، وهي اسم للمال المأخوذ، من أهل الذمة، وهي على وزن الفعلة، كالقِعدة، والجِلسة وبابهما. ثم قال قائلون -من غير فكرٍ-: المأخوذ في مقابلة إسكاننا إياهم، وهذا غير سديد؛ لأن المرأة تقيم في دار الإسلام، ولا جزية عليها. ومنهم من قال: جزاء حقن الدم. وهذا ليس مرضيّاً أيضاً؛ فإنه يثبت مع الحقن عصمة الأموال، والذراري، ووجوب الذب، فليس الحقن كلَّ المقصود، بل هو من المقاصد. وقيل: الجِزَى (1) جزاءُ كفنا عن قتالهم في دار الإسلام سنةً، فصاعداً. والوجه أن تُجمعَ مقاصد الكفار، ويقال هي مقابلة بالجزية، وسيكون لنا عودٌ إلى أن الجزية هل تنزل منزلة أجرة الدار المكراة أم كيف السبيل فيها؟ 11434 - ثم إن الشافعي صدر الكتاب بمن تؤخذ الجزية منه من أصناف الكفار، ومن لا تؤخذ منه الجزية، ولا يقَرّر في دار الإسلام (2). فنقول: الكفار على ثلاثة أقسام: قسم- ليس لهم كتاب، ولا شبهة كتاب، فهؤلاء لا تؤخذ منهم الجزية، ولا يقرون في دار الإسلام بالجزية أصلاً، وهم عبدة الأوثان والنيران، وما استحسنوه من الصور الحسان، فلا تعقد لهم الذمة، بل نقاتلهم

_ = 4/ 250 ح 2918، سنن أبي داود بتحقيق محمد عوامة: 3/ 488، 489 ح 3033، 3034، 3035، عون المعبود: 8/ 289، بذل المجهود: 13/ 380، 381، معالم السنن للخطابي: 3/ 22، سنن الترمذي: الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، ح 623، النسائي: الزكاة، باب زكاة البقر، ح2450 - 2453، مسند أحمد: 5/ 230، 233، 247، ابن حبان: 11/ 244 - 247 ح 4886 (طبعة شعيب الأرناؤوط)، الدارقطني: 2/ 102، مستدرك الحاكم: 1/ 398، سنن البيهقي: 9/ 193، التمهيد لابن عبد البر: 2/ 275، المحلى لابن حزم: 6/ 11 - 16، نصب الراية: 3/ 445 - 446، خلاصة البدر المنير: 2/ 359 ح 2592، نيل الأوطار: 4/ 132، سبل السلام: 2/ 250، إرواء الغليل للألباني: 3/ 269 ح 787، التلخيص: 4/ 224، 225 ح 2300). (1) الجزى: جمع جزية، مثل سدرة، وسدر. (2) ر. المختصر: 5/ 196، 197.

حتى نستأصلَهم أو يسلموا، وحمل أصحابُ المعاني قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89]، على هؤلاء. وقسم لهم حقيقةُ الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وهؤلاء تحقن دماؤهم بالجزية، وتحل ذبائحهم، ومناكحتهم بنصوص القرآن، فأما الحقن، ففي قوله تعالى: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وحل الذبيحة في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. والمراد الذبائح، وحل المناكحة في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]. وقسمٌ ليس لهم كتاب، ولهم شبهة الكتاب، وهم المجوس، فتحقن دماؤهم بالجزية، ولا تحل ذبيحتهم، ولا مناكحتهم على ظاهر المذهب، فغلّبنا فيهم أمرين يقضي الشرع بتغليبهما: أحدهما - الحقن، وعليه أخذ الجزية. والثاني -[الحرمة] (1) في المناكحة والذبيحة، وقد روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ الجزية من مجوس هجر " (2). وروجع عليٌّ فيهم، فقال: " أنا أعلم الناس بأمرهم. كان لهم كتاب يدرسونه، وعلم يتعلمونه، فواقع فيهم ملك ابنته، فاطلع عليه أهل مملكته، فهموا بقتله، فقال: هل تعلمون ديناً خيراً من دين أبيكم؟ (3) كان يزوج بناته من بنيه، فلما أصبحوا كانوا قد أُسري على كتابهم ومُحي ما كان في حفظهم " (4).

_ (1) في الأصل: " الحقن ". والمثبت تصرف من المحقق. (2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر رواه البخاري من طريق بجالة بن عبدة قال: كنت كاتباً لجَزء بن معاوية فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة " فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس ". ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. ر. " البخاري: الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، ح 3156، 3157). (3) يقصد آدم عليه السلام. (4) أثر علي " أنا أعلم الناس بأمرهم ... " رواه الشافعي (الأم: 4/ 173)، وعبد الرزاق في مصنفه (6/ 70 ح 10029)، والبيهقي في الكبرى (9/ 188)، والمعرفة (7/ 115).

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (1). هذه قاعدة المذهب في الكفار، وتفصيل الحكم في أقسامهم. ثم لا أثر عندنا في قبول الجزية وردها للعرب والعجم، وإنما التعويل في قبول الجزية على من قَبِل الكتابين، التوراةَ والإنجيلَ، أو للتمسك بشبهة كتاب المجوس، ثم لا فرق بين أن يكون الكتابي أو المجوسي عربياً أو أعجمياً. فهذا تأسيس المذهب فيمن يكون من أهل الجزية، وفيمن لا يكون أهلاً لها. 11435 - ولو جاءنا قوم من الكفار، وزعموا أنهم متمسكون بالكتب المنزلة على الأنبياء، وتعلّقوا فيما زعموا بتلك الكتب كالزبور المنزل على داود، والصحف المنزلة على إبراهيم، فهل نأخذ منهم الجزية؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنا لا نأخذ الجزية إلا من الأصناف الثلاثة: اليهود والنصارى والمجوس؛ لأنا لا نثق بأقوال الآخرين، ولا ندري صدقَهم من كذبهم، ولم نر الأولين ينوطون أحكام أهل الكتاب إلا بأهل التوراة والإنجيل. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني- أن الجزية تؤخذ منهم؛ فإنهم بزعمهم أهل الكتاب وقد أُمرنا باعتماد أقوال الكفار إذا اعتَزَوْا إلى كتب الله تعالى. ولو انتهينا إلى بلدة، ورأينا فيها جمعاً من الكفار، وزعموا أنهم يهود والتزموا الجزية، لزمنا قبولَها منهم، ولا نطالبهم بإقامة البينة على دينهم، فإنا لو كلفناهم ذلك وشهادتهم مردودة، والعلم بما ذكروه لا يأتي إلا من جهتهم، لجرّ ذلك عسراً في قبول الجزية، وإن كان هذا متفقاً عليه في الذين ينتحلون التهوّد والتنصر، [فكذلك] (2) إذا انتمى قومٌ إلى كتاب منزل على بعض الأنبياء، وجب إلحاقهم بأهل الكتاب في قبول الجزية منهم؛ تعويلاً على قولهم.

_ (1) حديث " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " رواه مالك (الموطأ: 1/ 278 ح 42)، والشافعي (الأم: 4/ 174)، وابن أبي شيبة (12697)، وعبد الرزاق (10025)، والبيهقي في الكبرى (9/ 189)، والمعرفة (7/ 114)، والحديث ضعفه الألباني في الإرواء (5/ 88 ح 1248). (2) في الأصل: " وكذلك ".

والذي يوضح ذلك أن الجزية مقبولة من المجوس، وإن تحققنا أنه ليس بين أظهرهم كتاب، وإنما تعلقهم بشبهة الكتاب، كما قدمنا ذكره، ثم الجزية مقبولة منهم. فليكن الأمر كذلك فيما ذهبنا إليه. ثم إذا ألحقناهم بأهل الكتاب، في أخذ الجزية منهم، فلا يحل مناكحتهم وذبائحهم؛ من جهة التردد الظاهر في تكذيبهم، ولو كان بقي من ينتمي إلى كتاب سوى التوراة والإنجيل، لرئي منهم حزب يعتزون إلى ملة، ويشتهرون بها، فمن هذا الوجه لا نبُيح المناكحة والذبيحة، ومن حيث إنه لا ينقطع الاحتمال يُحقن الدم بالجزية. وهذا يناظر ما قدمنا ذكره في كتاب النكاح، حيث قلنا: المتهوّد الذي ينتهي جده العالي إلى التهوّد قبل المبعث، فالجزية مأخوذة منه، ومن ينتهي جده العالي إلى اليهود بعد مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تؤخذ الجزيةُ منه، وقد انتوت (1) قبائل من العرب، فتهوّدت، وتنصّرت، وأشكل الأمر على نقلة التواريخ، فلم يحققوا أنهم تهوّدوا، أو تنصروا قبل المبعث أو بعده. وقد قال الشافعي نصاً: " الجزية مأخوذة منهم " (2)، ولا تحل المناكحة والذبيحة. 11436 - ومما يتعلق بهذه القاعدة أنا ذكرنا تردّداً في النصوص، واختلافَ أقوالٍ في أن من لا يكون من بني إسرائيل، ففي مناكحته كلام، فأما الجزية، فإنها مأخوذة. وإن كان [تمسكه] (3) بالدين بعد التغيير إذا كان الانتهاء إلى الدين قبل المبعث، فالجزية مأخوذة قولاً واحداً؛ تغليباً للحقن.

_ (1) انتوت: أي تحوّلت: يقال: انتوى عن الأمر تحوّل عنه. (المعجم). (2) ر. المختصر: 5/ 196. ونص عبارة الشافعي رضي الله عنه: " انتوت قبائل من العرب قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وينزل عليه القرآن، فدانت دين أهل الكتاب، فأخذ عليه الصلاة والسلام الجزية من أكيدر دومة، وهو رجل يقال: إنه من غسان أو من كندة، ومن أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب، فدلّ ما وصفت أن الجزية ليست على الأحساب، وإنما هي على الأديان ". (3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (انظر صورتها).

وفي بعض التصانيف أن من تهوّد أو تنصّر بعد تبديل الدينين وتغيّر الكتابين، وقبل مبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم، نظر: فإن تمسك بدين غير مبدّل، وحدث التبديلُ منه، ثم أدركه الإسلام، فلا تقبل الجزية منه، وإن كان ذلك قبل المبعث، وهل تقبل من أولاده؟ فعلى وجهين مبنيين على أن الجزية هل تؤخذ من أولاد المرتدّين؟ وهذا كلام مختلط لا تعويل على مثله، والمذهب القطع بأخذ الجزية ممن تمسك بالدين المبدّل قبل المبعث إذا أدركه الإسلام؛ نظراً إلى تغليب الحقن، فإذا تعلق بالكتاب، فليس كله مبدّلاً، وغير المبدّل منه ينتصب شبهةً في جواز حقن دمه بالجزية؛ إذ ذلك لا ينحط عن الشبهة التي يتمسك بها المجوس؛ فلا ينبغي أن يعتد بهذا، بل الوجه القطع بقبول الجزية، كما قدّمنا ذكره. 11437 - ومما يجب صرفُ الاعتناء إليه السامرة والصابئون، وقد اختلفت النصوص فيهم، فقال في موضع: تؤخذ منهم الجزية، وقال في موضع: لا تؤخذ، فاختلف طرق الأئمة، فذهب ذاهبون إلى أن النصين محمولان على تقديرين، فحيث ألحقهم باليهود والنصارى في قبول الجزية منهم أراد إذا كانوا لا يخالفونهم في أصول الدين الذي يجرى فيه التكفير بينهم، وإنما يخالفونهم في الفروع، أو ما يقع بمثله التضليل، وحيث قال: لا تؤخذ منهم الجزية، حُمل الأمر على أنهم يخالفونهم في أصل الدين، وسبب تردد النصين تردد الشافعي في عقدهم. وقد ذكرنا في كتاب النكاح هذا التردد في المناكحة، واستحلال الذبيحة، والوجه أن نقول: إن جوزنا مناكحتهم، فلا شك أن ذلك محمول على ظاهر تعلقهم بالتهوّد والتنصّر، ورجوع مخالفتهم إلى ما لا يخرجهم من أصل الملّتين. ثم على هذا لا شك أن الجزية مأخوذة منهم، والتردد في أخذ الجزية يجري على ترتيبٍ سأصفه في آخر هذا الفصل، إن شاء الله. والذي يعرض في الفكر من أمرهم، أنهم وإن خالفوا في الأصول، فلا يخرج السامرة والصابئون من التمسك بالتوراة والإنجيل، ثم لا ينحط تمسكهم بها عن تمسك المجوس بشبهة كتاب قدِّر لهم.

والطريقة المرضية في ذلك، الناصّة على المقصود، ما ذكره صاحب التقريب. قال: حكي عنهم القول بأن مدبر العالم الأنجمُ السبعة، ومدبّرها الفلك الأعلى، وهو الحيّ الناطق. وقال بعضهم: بِقِدَم النور والظلمة. ومن ينتحل هذا المذهب، فلا معنى [ولا صورة] (1) للكتب عنده، ولا أمل لتمسكهم بالكتاب، وإذا كان التردد في معتقدهم على هذا النحو، فهم بين أن يكونوا متمسكين بالكتابين، وبين ألا يكونوا متمسكين بهما، فيقع التنزيل على هذا الترتيب، لا على النظر في مخالفة الأصول والفروع. ثم صاحب التقريب لم يذكر خلافاً، وإنما ترك النصين على الجهة التي ذكرها. وهذا حسنٌ بالغ، وبه يزول الإشكال ويحصل التصريح بالغرض المطلوب في الفصل. وأما العراقيون، فقد حكوا اختلافاً، فذكروا عن أبي إسحاق، وعامة الأصحاب أن ما سبق من الشافعي ترددٌ في اعتقادهم، ثم تبين له أنهم متمسكون بالكتاب، فقطع بأخذ الجزية منهم آخراً. وحكَوْا عن أيي سعيد الإصطخري أنه كان يفتي بأنه لا تؤخذ منهم الجزية، ولا تمسك لهم بالكتاب، وهم معطلة قائلون بانحصار تدبير العالم على الأنجم. فهذا وجوه كلام الأصحاب. وتمام البيان في ذلك أنا إن وقفنا على تعطيلهم، فلا شك أنا لا نأخذ الجزية منهم، وإن بقي الأمر مشكلاً فيهم، فالمناكحة محرّمة، وفي أخذ الجزية منهم احتمال؛ من جهة أن أصحاب المقالات نقلوا عنهم ما أوجب تعطيل التمسك بالكتاب. والمجوس على حالٍ متمسكة بنبوة نبي يسمّونه [زرادشت] (2)، ويزعمون أنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يقال: تؤخذ الجزية مع التردد في السامرة

_ (1) مكان كلمة مطموسة تماماً بالأصل. (2) في الأصل: بنزادشت. والمثبت من مختصر العز بن عبد السلام (ر. الغاية في اختصار النهاية: 5/ورقة: 120 شمال).

والصابئين لأنهم على الجملة يدّعون التمسك بالكتاب، وينتمون إلى الملّتين، وإن كان الأمر على التردد، فلا مناكحة تغليباً للحظر. هذا منتهى القول في السامرة والصابئين. 11438 - ومما نذكره متصلاً بما نجزناه: أنه إذا تهوّد وثني قبل المبعث، وله ابن صغير، ثم بعث محمد صلى الله عليه وصلم، فقد ذكرنا حكم من تهوّد قبل المبعث، وتمسك بالتهوّد، فيقرّ بالجزية؛ فإنه ثبت له حكم التهوّد في ابنه قبل المبعث، وعلى هذا الوجه ينتسب الأولاد إلى الأجداد، حتى ينتهوا إلى الجد الذي تهوّد قبل المبعث. ولو توثن نصراني في زماننا، وله أولاد صغار، نظر: فإن كانت أمهم نصرانية، فقد قال العراقيون: الأولاد الصغار يعدّون في دار الإسلام، تبعاً لأمهم، وإن كانت هي وثنية، ففي الأولاد الصغار قولان ذكرهما العراقيون: أحدهما - يُقَرّون؛ فإنهم لم يغيّروا، والدينُ الطارئ لا يستتبع الأولاد بعد ما ثبت لهم من قبلُ حكمُ التنصر، وإن أدنى الدينين لا يزيل عن الأولاد الصغار حكمَ أشرف الدينين، وإنما ينقل الأعلى من الأدنى. والقول الثانى- أنهم يتبعون الوالد، فيضمون إليه، وحقيقة ما ذكروه راجع إلى أن الأب إذا توثن عنْ تهوّدٍ أو تنصّر، فهل يستتبع أولاده؟ ولو كان الأولاد من وثني ووثنية، فتهوّد الأب، فلا تثبت له حرمة التهود؛ فإن هذا التهوّد بعد المبعث، وإذا لم نثبت له حرمة أهل الكتاب، فلا شك أنا لا نثبتها لأولاده الصغار، وما ذكرناه في توثن اليهودي، وهو نقضٌ للحرمة، ويتصوّر من اليهودي نقض حرمته، وفي استتباع أولاده التردد الذي حكاه العراقيون. والأَوْجَهُ الجاري على قياس المراوزة أن حرمة الأولاد في الانتماء إلى الكتاب لا تتبعض، وتوثن الأب لا يتضمن الاستتباع، وما ذكره العراقيون من الفرق بين أن تكون الأم كتابية أو وثنية سديد؛ فإن الأم إذا كانت يهودية يبقى انتماء الأولاد إليها، والتبعية في الدين أن يثبت، فلا اختصاص لها بالولد.

هذا تمام الغرض. 11439 - ثم قال العراقيون: من توثن من اليهود لا نغتاله، ونُلحقه بدار الحرب. وهذا فيه نظر؛ فإنه بتوثنه قطع الأصل الذي هو معتمد الأمان والذمة، وقد ذكر المراوزة في اغتياله خلافاً، وهو الظاهر عندنا، لأنه لا يغتال كما ذكره العراقيون. فأما أولاده الذين كانوا في زمن التهوّد، فالظاهر أن حرمة الكتاب تستدام لهم وإن حكمنا بانتقاضها، فالوجه القطع [بأنهم لا يغتالون] (1) في [صغرهم] (2) وتمام الشرح في هذا موقوف على ذكرنا موت الأبوين الكتابيين وتخليفهم فينا صغار أولادٍ، فكيف الحكم فيهم؟ وكيف نُبقِّيهم، وقد زالت التبعية، وليسوا من أهل التزام الجزية، وسيأتي هذا مستقصى في أثناء الكتاب، إن شاء الله. وقد تمهدت القواعد فيمن تؤخذ الجزية منه من أهل الأديان، وفيمن لا تؤخذ، وإثبات التعرض للأديان، وما يمنع أخذ الجزية منها وما لا يمنع. فأما القول في النساء والصبيان وأنهم لا يفردون، فذلك يأتي في الباب الثاني، إن شاء الله عز وجل. فرع: 11445 - إذا أخذ الجزية من قومٍ زعموا أنهم يهود أو نصارى، ثم أسلم منهم اثنان، وظهرت عدالتهما في الدين، وشهدا عندنا بأن قومهما ليسوا يهوداً، ولا نصارى، وإنما هم عبدة الأوثان؛ فإنا نتبين أن الذمة غيرُ منعقدة، ونعاملهم معاملة عبدة الأوثان، ثم إذا أثبتنا أن لا ذمة لهم، فهل نغتالهم بسبب تلبيسهم علينا أو نلحقهم بدار الحرب؟ هذا فيه تردد. والظاهر أنا نغتالهم؛ لأن الأمان الفاسد إنما يثبت عُلقة الأمان إذا كان المؤمِّن على جهل لا [يقدّر] (3) أن يتمهد لأجله عُذره، فإذا كان الظن منا والكافر يدلّس علينا، فلا يتجه إلا الاغتيال.

_ (1) عبارة الأصل: فالوجه القطع بأنهم لا نحكم لا يغتالون. (2) غير مقروءة بالأصل، وأثبتناها من لفظ الغزالي في البسيط. (3) في الأصل: " يتعذر ".

11441 - ومما نلحقه بالكتاب الكلام في أولاد المرتدّين. فإن حكمنا لهم بالردّة، فلا تقبل الجزيةُ منهم، وإن حكمنا لهم بالإسلام، طالبناهم به؛ فإن أبَوْا، فهم مرتدون. وإن حكمنا بأنهم كفار أصليون، وآباؤهم المرتدّون متهوّدون ومتنصّرون، فالمذهب أنا لا نأخذ الجزية منهم؛ فإنه لم يثبت لهم جَدٌّ دان بالدين قبل المبعث، ومن أصحابنا من قال: إذا أثبتنا لهم حكم الكفر الأصلي، فنأخذ الجزية منهم، ونجعلهم كالمنتمين إلى جدٍّ دان بدين اليهود قبل المبعث. وهذا لا أصل له، فإن لم نأخذ الجزية منهم، فلا كلام، وإن أخذناها، ففي استحلال المناكحة، وحِل الذبيحة ترددٌ، والوجه القطع بالتحريم، وأفتى بعضُ الأصحاب بإحلال وطء سبايا [غَوْر] (1) [تهامة] (2)، وقد ثبت منهم (3) أنهم ارتدّوا بعد قبول الإسلام، وهذا قولٌ صدر عن عَماية، وقلة دراية، وفيه خرم أصلٍ عظيمٍ اتفق الأصحاب عليه وهو أن الذين تهودوا بعد المبعث لا يُناكَحُ أولادهم. وأولاد المرتدّين شرٌّ منهم، ولم نذكر هذا لتخيل التحاقه بالمذهب، وإنما ذكرته للتنبيه على الغلط فيه، وظهور مناقضة الأصل المتفق عليه، فيجب القطع بالتحريم، بل يجب القطع بأن الجزية لا تؤخذ منهم؛ إذ ليس لهم جدٌّ قد دان بالدين قبل المبعث. ولو كان لهم جدٌّ دان بالدين قبل المبعث، ثم أسلموا وارتدّوا من بعد وحدث لهم أولاد، فالإسلام قطع الاعتصام بالجد العالي. وإنما يؤثر ذلك الجد، لو تواصل التهود، فإذا بطل أخذ الجزية من أولاد المرتدّين قطعاً، فما الظن بالمناكحة والذبيحة؟ ويبقى التردد في أن أولاد المرتدّين هل يسترقون؟ وهذا يجوز خروجه على أنهم كفار أصليون؛ فإن عبدة الأوثان لا يمتنع إرقاقهم على ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من منع إرقاق عبدة الأوثان؛ فإن هذا يتضمن أماناً مؤبداً على التوثن.

_ (1) في الأصل: " يا غور "، والمثبت من البسيط والشرح الكبير، والغاية في اختصار النهاية للعز بن عبد السلام، وفي الشرح الكبير زيادة فائدة أنها (غور تهامة). (2) مزيدة من الشرح الكبير والغاية. (3) منهم: من هنا مرادفة لـ (عن)، ومثله قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22].

11442 - فرع: المتولد من بين وثني وكتابية، وكتابي ووثنية في مناكحته واستحلال ذبيحته قولان مشهوران: أحدهما - تغليب التحريم. والثاني - النظر إلى الأب، فعلى هذا المتولّد بين وثني وكتابية لا تحل ذبيحته قولاً واحداً. وإنما القولان فيه إذا كان الأب كتابياً والأم وثنية، فأما أخذ الجزية، فقد قال صاحب التقريب، والعراقيون طريقة مقتضاها أن التفصيل في قبول الجزية منه كالتفصيل في المناكحة وحل الذبيحة. وهذا غير سديد عندنا. والوجه القطع بقبول الجزية منه؛ لأن شبهة الكتاب تَلحقه، وقد ذكرنا أنا نكتفي بشبهة الكتاب في قبول الجزية، وعليه أثبتنا قبول الجزية من المجوسي. ***

باب الجزية على أهل الكتاب

باب الجزية على أهل الكتاب 11443 - الأصل في الباب قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. والمراد بالإعطاء الالتزام لا صورةُ البذل يقال لمن أذعن لقبول الجزية: قد أعطى الجزية، أي استسلم لها. واختلف العلماء في قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}: قال الشافعي: الصغار جريان أحكام الإسلام عليهم على خلاف عقيدتهم. وقيل: المراد بالصغار الأخذ باللحى والضرب في اللهازم، فيكلف الذمي أن يوفي الجزية بنفسه، ويطأطىء رأسه، ويصب ما معه في الكِفة، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمته. واختلف أصحابنا في أنه هل يجوز للمسلم بأن يوكَّل عن الذمي في إيفاء الجزية، فمنهم من لم يجوّز ذلك وسببه أن إجراء الصغار عليه في وقت تأدية الجزية من المقاصد، وكيف لا ونص الشافعي دالٌّ عليه، وهو قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ولو جوزنا استنابة المسلم، فيكون المسلم في صورة المستخدَم، والكافر يتودَّع في رحله، وهذا نقيض ما أمر الله تعالى، ومن أجاز التوكُّل، نظر نظراً كلياً في استيفاء الحقوق وإيفائها، وينشأ من هذا التردّد الإحاطة بأن إجراء الصغار على الذمي حالة التأدية حتم أم لا؟ فإن منعنا توكل المسلم، فهو قضاء منا بإيجاب إقامةِ الصغار. وذكر الأئمة تردّداً في أن المسلم لو ضمن الجزية، فهل يصح ذلك؟ فإن أوجبنا الصغار، لم يصح الضمان، وإن لم نوجبه، صححناه. والأوضح عندي تصحيح الضمان؛ فان ذلك لا يقطع إمكان توجيه الطلب على المضمون عنه، ونفي الضمان حتى لا يقال: إنه يُلزم الضامن شيئاً بعيدٌ. ولو وكل ذمي ذمياً، فيتجه عندنا إجراء الخلاف؛ فإن كلَّ ملتزم بالذّمة معنيٌ بالصغار في نفسه.

ولو وكل كافر مسلماً في عقد الجزية له، فهذا جائز؛ إذ ليس في نفس العقد صغار، وإنما الصغار في التأدية. 11444 - ثم مقصود الفصل: الكلامُ في أقل الجزية، وفي التزام الكافر مزيداً على الدينار، فأما الأول، فدينار في السنة، أو اثنا عشر درهماً مسكوكة من النقرة الخالصة. ويقابَل الدينار بعشرة في القواعد إلا في الجزية، فإنه باثني عشر درهماً، ورأيت في كلام الأصحاب ما يدلّ على أن الأصل في الجزية الدينار، ولا يقبل الدرهم إلا بالسعر والقيمة، كما أنا نجعل نصاب السرقة ربع دينار، ولا اعتبار بالدراهم، وهي بمثابة السلع تقوم بالذهب وهذا متجه، ولولا قضاء عمر في الترديد بين الدينار والاثني عشر درهماً، لما كان لاعتبار الدراهم وجه. والأخبار كلها مشتملة على ذكر الدنانير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " خذ من كل حالم ديناراً أو عِدْله معافر " وهي ضرب من الثياب، " وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل أيلةَ ثلثمائة دينار، وهم ثلثمائة نفر " (1). فأقل الجزية دينار ويستوي الغني والمتوسط والفقير المعتملُ الكسوب، والأولى للإمام أن يماكس من يضرب الجزية عليه حتى يزيد على الدينار، ولكن هذا إنما ينفع إذا لم يكن باذل الجزية عالماً بأن أخذ الجزية واجبٌ إذا بذلوها، مع العلم بأن الدينار لو اقتصروا عليه، لزم قبوله، فإذا علم الكافر ذلك، فلا معنى للمماكسة معه؛ فإنه استماحةٌ، ولو بذل الكافر أكثر من دينار، والتزم في السنة دينارين فصاعداً، لزمه الوفاء بما التزمه، وهذا يشبهه الأئمة بشراء الرجل المطلَق (2) المتاع بأكثر من ثمن المثل، وإذا جرى ذلك، لزم الثمن بكماله. ثم قال الأئمة: من آثار المماكسة في الابتداء أن يلتزم الجزية إذا لم يكن عالماً بحكم الإسلام في أقل الجزية، وليس على الذي يعاقده أن يبين له ذلك، وإن جاء

_ (1) حديث ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل أيلة ثلثمائة دينار وكانوا ثلثمائة نفر، أخرجه الشافعي عن أبي الحويرث مرسلاً (ترتيب المسند: 2/ 427)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (9/ 195). (2) المطلق: غير المحجور.

المسلم بأكثرَ مما يُستحق عليه في الزكاة، فحق على القابض منه أن يُعلمه أن الذي أتى به أكثرُ مما عليه، وإذا التزم أكثرَ من الدينار في السنة، وقضينا بأن الوفاء بالملتزَم واجب، فلو نقض العهد، فقد ذكرنا أنّا لا نغتاله، فلو أنه بعد نبذ العهد طلب منا تجديد العقد بدينارٍ، لزم إسعافه، فعلى هذا يَضْعُفُ أثر الالتزام أيضاً، ولكن إن لم يكن الكافر عالماً بما ذكرناه حتى تمر السنة، فلو نبذ العهد، طالبناه بالخروج عما التزمه في السنة الماضية، وإن مضى بعض السنة، فهذا يخرج على موته في أثناء السنة. فإن قلنا: إذا مات الذمي في أثناء السنة يجب قسط من الجزية، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى. فإذا التزم أكثرَ من الدينار، ومضت أيام، ثم نقض وعاد، فيلزمه لما مضى قسط من الجزية التامة التي التزمها. وأوجب أبو حنيفة (1) على الفقير المعتمل ديناراً، وعلى الغني أربعة دنانير، وعلى المتوسط دينارين. 11445 - فإن قيل: إذا كنتم لا تفرقون بين الغني والفقير والمتوسط فيما يقع الاكتفاء به من الجزية، فما قولكم في الكافر الفقير إذا كان لا يستمكن من أداء دينار؟ قلنا: الفقير الكسوب المعتمل القادر على أداء دينار، يُقرّ ويطالب بالدينار في السنة. فأما إذا كان لا يستمكن من تحصيل الدينار، فقد نقل الأصحاب قولين في أنه هل يخرج من دار الإسلام؟ أحدهما - أنه يخرج، فإنه لا سبيل إلى شغل عرصات دار الإسلام بالكفار من غير جزية يبذلونها. والقول الثاني - أنه يقر. ثم على هذين القولين قولان: أحدهما - أنه يترك في الدار من غير جزية، حتى لو انقضت سنون، وهو لم يملك فيها ما يؤديه، ثم ملك، فالمؤاخذة تقع من وقت الملك، ولا مطالبة عليه في مقابلة ما مضى. والقول الثاني - أنه يقرّ في دار الإسلام بجزية يلتزمها، وتستقر في ذمته، فإذا ملك يوماً طولب بما استقر في ذمته من السنين

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 294، المبسوط: 10/ 78، فتح القدير: 6/ 45، حاشية ابن عابدين: 4/ 196.

الماضية. وهذا القول أمثلُ؛ فإن تقرير الفقير سنين كثيرة بلا جزية يخالف وضع الشرع. والأصح أن الفقير الذي ليس معتملاً لا يتمكن من دخول دار الإسلام، والمقام فيها سنة. والفقير المعتمل إذا تراخى ولم يكتسب مع القدرة على الكسب، فلا يُقَر في دار الإسلام إجماعاً، وإذا فرعنا على القول الضعيف، وهو أن الفقير يُقرّ ولا يؤاخذ بجزية الأيام الماضية في الفقر، فلو ملك في أثناء سنةٍ شيئاً؛ تطرق إلى هذه الصورة احتمال، فيجوز أن يقال: تبدأ سنة الجزية من وقت ملكه، حتى إذا مضت سنة أدى ديناراً، ويجوز أن يقال: نضبط التواريخ، ونعطل منها سني الفقر، فإذا مضت من السنة الآخرة أشهر، فملك فيها واستغنى، فإذا انقضت هذه السنة، يطالب، ثم يتجه على المطالبة أن يطالب في آخر هذه السنة التي انقسمت إلى الغنى والفقر بالدينار الكامل. فصل (1) قال: " فإن صولحوا على ضيافة ... إلى آخره " (2). 11446 - إذا قبل الكفار ضيافةً سوى الدينار الملتزم، ضربها الإمام عليهم، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب: " أنه ضرب الضيافة على بني تغلب، وبَهْراء وتَنوخ، ثم ألزمهم أن يضيفوا من يطرقهم من أبناء السبيل " (3). وأول ما نصدّر الفصلَ به صفةُ الضيافة، ثم نتكلم في فقه الفصل، فالمعتمد في ضرب الضيافة قضاء عمر، ثم فيها مصلحة بيّنة، لا حاجة إلى تقريرها، فينبغي أن يبين لكل واحد عدداً معلوماً من الضيفان في كل شهر أو شهرين، أو في السنة، ويبين الطعام والأُدم، جنساً، وقدراً، ويوضح علف الدواب، ويذكر منازل الضيفان، ويفرق بين الفقراء من الكفار والأغنياء، وينبغي أن يقع التفاوت في عدد الضيفان،

_ (1) من هنا بدأت نسخة مساعدة هي (هـ 4). (2) ر. المختصر: 5/ 197. (3) خبر ضرب عمر الضيافة على نصارى العرب رواه الشافعي في الأم (4/ 282).

فيوظف على الغني عشرة مثلاً، وعلى المتوسط خمسة، وعلى الفقير ثلاثة، أو على وجه آخر يؤدي إليه اجتهاده. ولا ينبغي أن يكون التفاوت في صفات الطعام والإدام، ولو فعل ذلك، لمال الضيفان إلى أطايب الأطعمة، والمنازل الطيبة. وُيبيِّن أن الضيفان يقيمون ليلة، أو يوماً وليلة، أو أكثر على ما يقع التوافق عليه. ولعل الأشبه ألاّ تزيد المدة على الثلاث تأسياً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد صدقة " (1) وقال صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة أيام، والإجازة يوم وليلة " (2) [والإجازة] (3) إعطاء الجائزة، من قولهم: أجازه يجيزه، ومعناه أن يزوّد الضيف ليومٍ وليلة إذا رحل، ويضيفه في الإقامة ثلاثَ ليالٍ. ولو حصل التوافق على مزيدٍ في الليالي، فلا معترض. ثم الضيافة التي ضربها عمرُ كانت للطارقين من غير اختصاصٍ بأهل الفيء، فإن هذا لو كان على الاختصاص، لأفضى إلى نزاع، فكان الأليق بالمصلحة المطلوبة تعميم الضيافة، وفي طروق أهل الذمة على المضيفين تردّد إن كان ضربُ الضيافة مطلقاً. هذه صفة الضيافة. 11447 - ثم يتصل بمنتهاها تردّدات للأصحاب في فقه الفصل: فمما اختلف الأصحاب فيه أن الضيافة هل يجوز احتسابها من الجزية، أم حقها أن تكون زائدة على الدينار المأخوذ من كل رأس؟ فمن أصحابنا من قال: يجوز احتسابها من الجزية حتى لا يوظف غيرها؛ فإن المقتدَى في هذا رأي عمر، والذي صح منه أنه لم يطالبهم بالجزية، فهو أحق متبوع؛ سيما فيما يتعلق بالإيالات، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز احتساب الضيافة من أصل الجزية؛ لأن التمليك لا بدّ منه في الجزية، وسبيل

_ (1) حديث " الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد صدقة " متفق عليه من حديث أبي شريح العدوي (خويلد بن عمرو) رضي الله عنه (البخاري: الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ح 6019. مسلم: اللقطة، باب الضيافة ونحوها، ح 1726). (2) قوله صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة والإجازة يوم وليلة " من ألفاظ الحديث السابق. (3) في الأصل: " والإعطاء ".

الإطعام سبيل الإباحة، ولهذا لم تقم التغذية والتعشية مقام الإطعام في الكفارة، والجزية تختص بأهل الفيء، والضيافة لا تختص بهم. التفريع: 11448 - إن قلنا: يجوز احتسابها من الجزية، فينبغي أن نقابل ضربها بالدينار، فإن بلغته وزادت، فذاك، وإن نقصت، طالبنا المضروب عليه باستكمال الدينار، وإن قلنا: لا تحتسب، فالدينار مطلوب، والضيافة مطلوبة، ولا بد من طلب رضاهم في قبولها، ثم إذا تقبلوها في الذمّة، لزمت لزوم الزائد على الدينار. ولو ضرب عليهم ضيافة ثم أراد نقل المؤن إلى الدينار، وأَخْذِه منهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك جائز؛ فإنه لا [إجحاف] (1) عليهم في ذلك، وأصل الأموال الملتزمة في الذمة الدنانير. والثاني - لا يجوز إلا أن يرضوا، لأنهم التزموا الضيافة بالرضا، فلا بد من طلب رضاهم. والصحيح عندي أن الضيافة إن رأيناها محسوبة من الدينار الذي هو الأصل، فللإمام ردّها إلى الدينار، وإن كانت الضيافة زائدة على الدينار، فالوجه القطع بأنه لا يملك ردّها إلى الدنانير، [ثم إن قلنا: له الرجوع إلى الدنانير] (2) فهل تبقى الدنانير لعموم المصالح كالضيافة، أم تختص بأهل الفيء؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تعود إلى أهل الفيء؛ إذ كان القياس في الضيافة أن تكون كذلك، إلا أنها أثبتت على العموم لمسيس الحاجة إلى تعميمها، وتعذّر رعاية تخصيص الطارقين، فإذا ردّت إلى الدنانير، زال السبب الذي كان يقتضي التعميم. فصل قال: " ولا تؤخذ من امرأة، ولا مجنون حتى يُفيق ... إلى آخره " (3). 11449 - النساء لسن من أهل التزام الجزية وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: " لا تأخذوا الجزية من النساء " ولأنهن لسن من أهل القتال، والجزية جزاءُ الانكفاف عن

_ (1) في الأصل: " إحجار ". (2) زيادة من (هـ 4). (3) ر. المختصر: 5/ 197.

القتال، ولو بذلت امرأة مالاً باسم الجزية، كان حقاً على الإمام أن يخبرها بأنها غيرُ واجبةٍ عليها، وليس [التزامها] (1) لأصل الجزية بمنزلة التزام الرجل ما يزيد على الدينار؛ فإنه إذا كان من أهل الجزية، وهو في حكم العوض، فزيادته على الأقل بمثابة الزيادة في ثمن ما يقابَل بالثمن. هذا هو الأصل في الباب. والصبيان لا يقابلون بالجزية، وكذلك المجانين، وكل من يرِق بنفس السبي بمثابة النسوان. والمجنون يرق كما يرق الصبي. 11450 - ثم استيفاء مقصود الفصل يستدعي تقديم قاعدة بدّدها الأصحاب، فلفّقناها من كتبٍ، ولابدّ من ضبطها والإحاطة بها، ثم بعد هذا نخوض في المقاصد، فنقول: النسوان الحربيات لو دخلن ديار الإسلام، بلا أمان، سبيناهن على مكانتهن، وكذلك القول في الصبيان، وكل حكم نُجريه في القتال، فهو مُجْرى فيمن نظفر به من غير ذمة ولا أمان، كالقتل في المقاتلة من الحربيين، ولو وجدنا كافراً بلا أمان، اغتلناه، وقتلناه. وقد قال شيخي وغيره من المحققين: لو دخل الفقراء من الكفار دار الإسلام، لم نمكنهم قولاً واحداً، واغتلناهم، فلو عقدنا الذمة لمن يقدر على أداء الجزية منهم، فافتقر، فما ذكرناه من تردّد النصوص، واختلاف الطرق في هذا الفقير فإنا لو جوّزنا إقرار فقراء الكفار في ديار الإسلام ابتداءً، لزحفوا إلينا يطلبون الذمة، وهذا محال تجويزه. فنعود إلى النسوان والصبيان، فنقول: إذا عقدنا للكافر ذمةً، فليس له أن يستتبع من الأجانب الذين لا يتصلون به ذراري ونسواناً، فإن ذلك يخرج عن الضبط، وإنما يستتبع الذمي من يتعلّق به بسبب أو نسب، كما سنفصله، إن شاء الله تعالى. والترتيب الضابط فيه أنه لا يستتبع أجنبية منه لا نسب بينها وبينه، ولا سبب، ولو شرط إدخالَها في الأمان المؤبد، لم تدخل؛ فإنه لو دخلت واحدة، لدخل جمع منهن، ثمّ لا ضبط، وهذا يُفضي إلى استتباع الرجل نسوة لا يُحصَيْن كثرة من الحربيات اللواتي بينه وبينهن قرابة، إذا لم يكنّ على عمود نسبه، يندرجن إذا شرط

_ (1) في الأصل: " إلزامها ".

إدراجهن، ولا يندرجن في غير شرط، ثم إذا كن يدخلن بالشرط، فالذي أراه أنه لا يجوز ترك إسعافه بالشرط، ولكن لو لم يتفق منه الشرط، لم يدخلن، ولا يختص الحكم في هذا القسم بالمحارم من القرابات، بل يجري في جميعهن. أما صبيان الذمي، فهل يدخلون من غير شرط؟ فيه وجهان: أحدهما - لا يدخلون كغيرهم من القرابات. والثاني - يدخلون، لقرينة الحال؛ فإن الرجل لا يتوطّن بلده إلا مع صغار أولاده في غالب الأمر، فصارت الحال كالتصريح بالشرط. وأما الزوجات فيهن (1) طريقان: أحدهما - أنهن كالصبيان. والثاني - أنهن كالقرابات اللواتي يقعن على جانب (2)، والأصهارُ والأحماء لا يندرجن مطلقاً، وفي اندراجهن مع الشرط خلاف. هذا قولنا في النساء اللواتي يتصلن بالذمي، والصبيانُ في معنى النساء. ولا يخفى على المحصل أن الرجال المستقلّين من بنيه وآبائه وأجداده لهم أحكام أنفسهم، ولا يتصوّر أن يُتبَعوا؛ فإنهم من أهل الاستقلال، فإذا كنا لا نقر فقيراً من غير جزية، فلا نُتبعه أيضاً غنيّاً وإن كان قريبَه. وهذا متفق عليه. 11451 - ومما ذكره الأصحاب عن النسوان أنا لو انتهينا إلى قلعة، ولم نصادف فيها إلا النسوان، فإن فتحناها، جرى الرق عليهن، وإن قلن: نبذل الجزية فانكفوا، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - لا حكم لالتزامهن؛ فإنهن لسن من أهل الجزية. والوجه الثاني - أنه يجب أن ننكف عنهن، فإن أصحاب القلعة لو كانوا رجالاً، وقبلوا الجزية، تركناهم، وأضربنا عنهم، فإذا كنا نحقن دماء الرجال منهم، فيجب أن نعصم رقاب حرائرهم عن الرق ببذل الجزية؛ فإن الاسترقاق دون القتل. فهذان وجهان [يحسبهما] (3) من لا يتولعّ بالطلب جاريين في فرعٍ واقع نُبديه (4)،

_ (1) جواب أما بدون الفاء. (2) كذا في النسختين، والمعنى على جانب عمود النسب. (3) في الأصل: " بحثهما ". (4) هـ 4: " نبذة ".

وهو أصل؛ فإنا إذا رأينا صونهن عن الرق في الصورة التي ذكرناها، فيلزم لا محالة أن نقول: كل حربية بذلت الجزية، لزم عصمتها عن الرق، وعلى هذا الوجه يرجع نفي الجزية من النسوان إلى الصور التي نُتْبعهن فيها الرجلَ الذمي؛ فإن الرجل يُعصَم بالجزية، فيشمل الأمانُ أهلَه ومن يتصل به، وهذا على نهاية الضعف، وهو يخرم قاعدةً ممهدة لا سبيل إلى خرقها؛ فإن المرأة لو كانت من أهل الجزية بنفسها، لما تبعت، ولو كانت الجزية في حقها تصونها من الرق، كالجزية في حق الرجل تصونه من القتل، فلا وجه لقول من يقول: تقبل الجزية من النسوان إذا لم يكنْ في القلعة غيرهن. وقد ذكر القاضي هذا الخلاف، ونقل عنه من يوثق به أنهن يبذلن على أحد الوجهين ما يبذلن، ثم لا يتكرر عليهن؛ فإنه لو تكرر، لكان جزية محققة. وهذا الكلام، وإن كان صَدَرُه عن محاذرة إلحاق النساء بالرجال، فهو كلام مضطرب؛ فإن ما ذكره لا يكون جزية إذاً. وإنما يكون سبيله سبيل المفاداة، ثم يلزم منه ألا يستفدن بما يبذلن إلا الإعراض عنهن في هذه الكرّة؛ إذ من المحال ألا يتكرر عليهن البذل [ويتأبد] (1) لهن الأمان. ثم الرجال لو بذلوا مالاً من جهة المفاداة، لم يُعصموا، فإن كان الأمر في هذا إلى رأي الإمام، فلا معنى إذاً لقول القائل: هل يجب علينا قبول المال منهن، بل يجب أن يقال: الأمر إلى الإمام. وسنذكر، إن شاء الله تعالى ما يبذله أهلُ المهادنة من الأموال لا على سبيل الجزية. ومما ذكره الأصحاب في هذه المسألة، وهو كلام مختلط أيضاً أنهم قالوا: لو كان في القلعة رجل واحد، فبذل الجزية، كان ذلك عصمة لكل من في القلعة من النسوان، ولست أدري كيف يجري بمثل هذا لسانٌ أََنِس بالفقه؛ والرجل الواحد لا يستتبع إلا من يتصل به، كما ذكرناه في صدر الفصل. وبالجملة إن كان المال من فن المفاداة قبل الظفر، فلا يختص به الرجال عن

_ (1) في الأصل: " أو يتأبد " والمثبت من (هـ 4).

النساء، والأمر إلى رأي الإمام، ثم لا يجوز له أن يبذل لهم عصمة مؤبدة بدنانير يستعجلها، ولكن إنما تثبت العصمة إذا بذلوا المال على تفصيلٍ، سأذكره في المهادنة، إن شاء الله تعالى. 11452 - وأما المماليك فأموالٌ، لا يتصور ضربُ الجزية عليهم، ويتبعون سادَتَهم من غير ذكر، وتشتمل العصمة عليهم اشتمالَها على سائر الأموال. 11453 - وإذا قبل اليهودي الجزية، وكان له ابنٌ طفلٌ، وأتبعناه إياه، فإذا بلغ الطفل، فقد ذكر العراقيون وصاحب التقريب في حق ولده إذا بلغ وجهين: أحدهما - أنه لا بدّ من عقد ذمة معه؛ فإنه استقلّ بنفسه، والعقد الذي عقدناه على أبيه لا يكفيه؛ فإن التبعية قد زالت، والذي يحقق ذلك أنا أتبعناه إياه من غير غُرم، فليس على الأب إلا الدينار الموظف عليه. والابن إذا بلغ لا يقرّ من غير دينار، فلا بدّ من عقدٍ، والوجه الثاني - أنا نكتفي بعقد أبيه، وإذا بلغ استمر عليه حكم العقد غيرَ أنه لم يكن مقامه معه مقابلاً بغُرم، والآن بعد ما استقل تجري عليه الذمة، من غير احتياج إلى عقد، وظاهر النص يدلّ على هذا، والأقيس الأول. وإن قلنا: لا بدّ من عقدٍ جديد معه، فلا يلزمه ما التزمه أبوه في حق نفسه، حتى لو كان التزم أكثر من دينار، وأبى هذا لما بلغ أن يلتزم الزيادة، فلا يلزمه إلا دينار، فإن هذا عقدٌ جديد، ولا حكم لما سبق من أبيه، وإن قلنا: إن عقد أبيه ينعقد في حقه، فيلزمه مثلُ ما التزم أبوه، حتى لو كان التزم أبوه في حق نفسه دينارين أو أكثر في السنة، فعلى الولد إذا بلغ مثلُ ذلك، فإن امتنع من قبول الزيادة كان بمثابة أبيه لو امتنع عن الزيادة بعد التزامها. ثم إن قلنا: لا بد من عقد جديد في حقه، فلا نفرق بين أن يكون الأب قد قال ابتداءًَ: التزمت في حق ابني إذا بلغ مثل ما التزمت في حق نفسي وبين ألا يقول ذلك، فلا حكم لالتزامه عليه عند هذا القائل، فإن الجزية لا تثبت في حق الصبي، وإذا بلغ، فقد استقل بنفسه، وانقطعت عنه الولاية، ومن قال: الذمة تطّرد عليه إذا بلغ، ويلزمه مثل ما التزم أبوه، فعلى هذا لا أثر لالتزام الأب عنه، ولا يكفي أن يلتزم هذا

القدر في حق نفسه، ثم الانتساب إليه يوجب مساواته في القدر الملتزَم، كما يوجب اطّراد الذمّة من غير تجديد. ولو بلغ ابن الذمي سفيهاً غير رشيد، فلا بد من الجزية، ثم القول في اطراد الذمة كما سبق. فإن قلنا: لا بدّ من عقدٍ جديد، لم يختلف هذا بأن يكون سفيهاً أو رشيداً؛ فإن الاستمرار تحت [العهد] (1) ونبذه [مما] (2) لا يدخل تحت الحجر. وسئل القاضي عما لو التزم (3) أكثر من دينار دون إذن الولي، فقال: تلزمه الزيادة، وإن لم يأذن فيها الولي، وبناه على أن عقد العهد ونبذه لا يدخل تحت الولاية. وهذا غير سديد؛ فإن أصل العهد كذلك، فأما التزام مال، بلا فائدة، فيجب أن يقبض فيه على يده، حتى لا ينفذ التزامَه الزائد على الدينار. ولو وجب على السفيه قصاصٌ، فأبى مستحق الدم أن يصالح إلا على أكثر من الدية؛ فإن السفيه يبذلها لحقن دمه، ولو لم يبذلها السفيه، فالولي المتصرف في نفسه هل يبذل ماله لحقن دمه [إذا كان السفيه لا يطلبه، أو ينهى عنه؟ الوجه عندنا أن يقال: للولي أن يحقن دمه] (4) كما أنه يتدارك رمقه وإن احتاج إلى استيعاب ماله لطعام يحصله له. فإن قيل: لو لم يفعل الولي ذلك؟ قلنا: يفعله السفيه. فهذا التصرف يجب أن يكون دائراً بينهما. والوجه أن يراجع الولي فيه إذا أمكنت مراجعته، فإن عسرت المراجعة أو امتنع الولي، فيستقل السفيه بحقن دم نفسه، وإن احتاج إلى بذل ديات، وليس هذا كالجزية التي نحن فيها؛ فإن حقن الدم ممكن بدينار، والصلح عن الدم مفروض فيه إذا كان مستحقه لا يرضى بمقدار الدية، والحق له، وقد يخطر للفقيه أن السفيه إذا أبى أن يصالح، فليس لوليه التصرّف في دمه، وهذا بعيد؛ فإن ماله صين عن الضياع بنصب الولي استصلاحاً، فدمه أولى بالحقن إذا حَقَّت الضرورة.

_ (1) في النسختين: " الحجر ". (2) في الأصل: " ومما ". (3) أي من بلغ سفيهاً. (4) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4).

11454 - ومما نلحقه بمقصود الفصل أَخْذُ الجزية من أصحاب الصوامع والشيوخ الزمنى، والذين قلنا في قتلهم قولان، وللأصحاب طريقان: منهم من قطع بأخذ الجزية؛ فإنهم من جنس الرجال المقاتلة، ومنهم من خرّج في أخذ الجزية منهم قولين مبنين على جواز قتلهم، فإن قلنا: إنهم لا يقتلون، فهم ملتحقون بالنساء والذراري. 11455 - فأما من يجن تارة ويُفيق أخرى، فقد اضطرب الأصحاب فيه في حكم الجزية، وحاصل ما وجدته أوجهٌ، آتي بها، وأذكر -على حسب الإمكان- وجوهَها، فنقول: أولاً لا يضرب على المجنون الجزية، فأما إذا كان يجن مرة، ويُفيق أخرى، فمن أصحابنا من قال: يعتبر آخر الحول في أخذ الجزية، فإن كان في ذلك الوقت مُفيقاً، ألزمناه الجزية، وإن كان مجنوناً قبل ذلك في جميع الأوقات، أو معظمها، وإن كان مجنوناً في ذلك الوقت لا جزية عليه، ولا اعتبار بالإفاقة من قبل، وهذا القائل يُشبِّه ما ذكرناه من اعتبار الفقر واليسار في حق العاقلة، فإنا نعتبر فيهما آخر الحول. ومن أصحابنا من قال: إذا كان يجن ويُفيق، فلا حكم للجنون المتخلّل، بل هو كالغشية تطْرأ، فتجب الجزية على هذا الشخص. ومن أصحابنا من قال: النظر إلى الأغلب، فإن كان الأغلب زمان الإفاقة، وجبت الجزية، وهذا القائل يقول: إذا استوى الزمانان، نغلّب وجوب الجزية. ومنهم من قال: تلفق أيام الإفاقة، وتهدر أيام الجنون، فمهما بلغت أيام الإفاقة سنة، وجبت الجزية. وذكر الشيخ أبو علي وجهاً خامساً في الشرح، فقال: من أصحابنا من قال: إذا كان يجن ويُفيق، فلا جزية عليه أصلاً، وإن كان زمان الإفاقة أغلب، فجعل طروءَ الجنون مؤثراً في إسقاط الجزية، وهذا كما أن الرق لما نافى ضرب الجزية، فكذلك بعضه ينافي الجزية، فلا جزية على من بعضه حر، وبعضه رقيق، وهذا بعيد. ثم قال: هذا إذا كان الجنون والإفاقة متعاقبين [يفيق يومين أو ثلاثة، ويجن

يوماً، فالجنون، والإفاقة متعاقبان] (1)، ثم لا نظر إلى زيادة زمان الإفاقة، فلو كان يُفيق يومين أو ثلاثة ويجن يوماً، فلا حكم [للإفاقة] (2). فأما إذا كان يجن في الشهر يوماً واحداً، فلا يقال: الجنون والإفاقة متعاقبان (3)، ولكن الجنون في حكم العارض يعرض، والحكم للإفاقة. وهذا الذي ذكره من التفصيل لا بد منه، ولكنه كلامٌ غير منضبط، واضطرابه يدلّ على فساد أصله. ثم الممكن في التقريب أن يقال: إذا كان يجن يوماً ويُفيق يومين، فالإفاقة في اليومين غير موثوقٍ بها، وهو فيها بمثابة مجنون يغتلم (4) يوماً ويهيج، ويسكن ما به يوماً أو يومين، وللمجنون تارات قد يهداً ويسكن، وقد يغتلم ويتعدّى حدّ الاعتدال، فالوجه أن نقول: إذا كان زمان الإفاقة بحيث [يقع] (5) فيها آثار الجنون، فهو ملحق بالجنون، وإن طال بحيث لا يتوقع فيه آثار الجنون، فيجوز أن يقال: الحكم للإفاقة. وهذا في التحقيق تمسك بالغلبة، وقد ذكرنا عن بعض الأصحاب وجهاً: أنا ننظر إلى أغلب الزمانين، ولكن بين الوجهين فرق؛ فإن ما حكيناه في أثناء الأوجه المرادُ به أن يكون أحد الزمانين أكثر ولو بلحظة. وما ذكرنا آخراً، فالمراد به ما بيناه. والفرق بين الوجهين ظاهر لمن تأملهما. وقد ذكرنا فيما ذكرنا وجهين متضادين: أحدهما - أن الجنون بين الإفاقتين كالغشية، والآخر أن الإفاقة بين جنونين كهدوء مجنون على اغتلامه. ولا بد من

_ (1) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4). (2) في النسختين: الجنون، والمثبت من المحقق رعاية للسياق، فالمعنى أن التعاقب بين الجنون والإفاقة يغلب حكم الجنون أياً كانت أيام الإفاقة ونسبتها. (3) لمزيد من الإيضاح ننقل هنا كلام الإمام الغزالي، الذي عبر به حاكياً كلام الشيخ أبي علي هذا، فقد قال: " قال الشيخ أبو علي: لا جزية عليه أصلاً، كمن نصفه حر، ونصفه رقيق، لأن الجنون يمنع الجزية كالرق، وقال: هذا فيه إذا كان الجنون والإفاقة يتعاقبان، فأما إذا كان يجن يوماً، ويفيق تسعة وعشرين يوماً، فلا تعاقب، والحكمُ للعقل، والجنون عارض " (ر. البسيط: 5/ورقة: 175 شمال). (4) يغتلم: أي يهيج ويشتد، والاغتلام أكثر ما يستعمل في شدة الشهوة للجماع، ويستعمل في الهيجان والثورة عامة، ومنه اغتلم البحر، إذا ثارت أمواجه وهاجت مياهه (المعجم). (5) في (هـ 4): " يتوقع ".

التفصيل في الوجهين جميعاً، أما تفصيل إلحاق زمان الإفاقة بالجنون، فقد قدّمناه، وأما إلحاق الجنون بالغشية، فبعيدٌ جدّاً إذا طال الزمان وتمادى بحيث تُخاف بوادره في زمان الإفاقة. وإن كان زمان الإفاقة نقياً من بوادر [الجنون] (1) وتوقعها، فلست أرى الجنون غَشْيةً مع هذا إلا أن يكون على حدٍّ يمكن تقريبه من طريق التشبيه من اغتلام الرجل الصفراوي في هيج النفس وثوران الغضب، فإن لم يكن كذلك وكان جنوناً محققاً، فلا وجه لهذا الوجه. هذا بيان ما يكاد يعضل. وأَقْصَد هذه الوجوه تلفيق أيام الإفاقة، واعتبار آخر الحول. فإن قيل: لو كان مجنوناً في جميع السنة إلا في اليوم الأخير، فيبعد إيجاب الجزية. قلنا: هذا مجازفة في التصوير، فإن من يجن سنة ثم حسب مفيقاً في يوم، ثم طبق عليه الجنون في سنة مستقبلة، فليس في وضع الجبلّة تحقُّقُ الإفاقة في مثل هذا اليوم، وإنما يتصوّر هذا إذا اطردت الإفاقة في السنة المستقبلة، فيحتمل الجنون فيما تقدم. 11456 - فإن قيل: هذا التردد الذي ذكرتموه في الجزية هل تطردونه في سائر الأحكام التي يؤثر الجنون والإفاقة فيها؟ قلنا: لا يجري في سائر الأحكام اعتبار آخر الحول ولا التلفيق، وإنما تغليب الجنون، أو تغليب الإفاقة، أو تخصيص الجنون في زمانه بحكمه، وتخصيص الإفاقة في زمانها بحكمها. فإن قيل: إذا كان يجن يوماً، ويُفيق يوماً، فوقع في الأسر مثل هذا الشخص، فهل تقولون: إنه يُرقّ؟ قلنا: إن غلبنا الجنون، رُق، وإن غلبنا الإفاقة، لم يرق، ويتجه أن يعتبر يومُ السبي، وأما قبله وقد تحقق أنه [كان] (2) يجن ويُفيق، فإن غلبنا الجنون، لم يقتل، وإن غلبنا الإفاقة على التفصيل المقدم، فالظاهر الحقن، وقد

_ (1) في الأصل: الحيوان. مع تأكيدها بوضع علامة الإهمال تحت (الحاء). (2) زيادة من (هـ 4).

يخطر للناظر اعتبار يوم الأسر، [وإنما] (1) إشكال هذه المسألة من جهة أنه لا يجتمع الجنون والإفاقة في شخص حتى يقال: اجتمع فيه ما يحظر القتل وما يُبيحه، فالتغليب للحاظر، [ولو] (2) صادفناه مفيقاً، فلسنا نقطع بأنه سيجن. فمن اعتبر الحال، فهذا [وجهه] (3). والعلم عند الله تعالى. وقد انتجز القول فيمن تقبل منه الجزية، [ويقرّ] (4) في الدار بها، وفيمن يُتبَع ولا يستقل بالتزام الجزية. ثم ذكر التغايير التي تلحق وتزول. فصل قال: " وأيهم أفلس أو مات ... إلى آخره " (5). 11457 - إذا مضت سنة على الذمي، فمات، استقرت وظيفتها في ذمته، تؤدى من تركته، من رأس المال مقدماً على الوصايا وحقوق الورثة، ولا تسقط الجزية بتداخل السنين. وقال أبو حنيفة (6): إذا مضت سنة، ولم نستأد الجزية، سقطت، ولو كان هذا قولَه، فلو مات بعد مضي السنة، فلا تؤخذ الجزية من تركته. وعندنا إن بقي بعد السنة، طولب في حياته، وإن مات أُخرج من تركته بعد مماته. ولو أسلم بعد مضي السنة، فهو مطالب بالجزية التي استقرت عليه قبل الإسلام، ولو مات الذمي في أثناء السنة، وقد مضى شطرها، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يجب مقدارٌ من الجزية على قدر الزمان الماضي؛ فإن مضى شَطرُ السنة، وجب نصف

_ (1) في الأصل: " فإنما ". (2) في الأصل: " وإنما ". (3) في الأصل: " في وجه ". (4) في النسختين: ويرق. (5) ر. المختصر: 198. (6) ر. الجامع الصغير: 470، مختصر الطحاوي: 294، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 487 مسألة 1637، فتح القدير: 5/ 297، الاختيار: 4/ 139.

الجزية وإن مضى عُشرها، فالواجب مقداره من الجزية، هذا أحد القولين، والقول الثاني - أنه تسقط الجزية بكمالها، فلا يجب من جزية هذه السنة شيء. قال المحققون: حقيقة القولين ترجع إلى أن الجزية هل تجب بأول السنة أم يدخل وقت وجوبها عند انقضاء السنة؟ فمن قال: يدخل وقت وجوبها بدخول آخر السنة، يقول: إذا مات في أثناء السنة لم يجب من الجزية شيء، ومن أضاف وجوبها إلى أول السنة، قال: إذا مات في أثناء السنة، وجب من الجزية قسطٌ على قدر ما مضى من السنة. 11458 - ثم اختلفت عبارة الأصحاب في إضافة الوجوب إلى أول السنة، فقال قائلون: تجب الجزية بأول السنة دفعة واحدة، ولكن يستقر الجزء بعد الجزء. وقال قائلون: معنى إضافة الوجوب إلى أول السنة انبساط الوجوب على جميع الأوقات. فأما الحكم بوجوبها دفعة واحدة في أول السنة فلا. والوجهان محتملان، ثم يجب عليهما جميعاً، قسط من الجزية إذا فرض الموت في أثناء السنة، ولو أسلم، كان في حكم الجزية كما لو مات. ومما يتعلّق بهذه المسألة أنا إذا قلنا: الموت في أثناء السنة لا يستعقب وجوب شيء من الجزية، فلا كلام، وإن قلنا: [يجب] (1) قسط من الجزية، فلو أراد الإمام مع استمرار الذمة أن يطلب نصف الجزية مع انقضاء نصف السنة، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ليس له ذلك، لأن الطلب في آخر السنة عند استمرار الأحوال، بذلك جرت سُنن الماضين، وسِيَر المتقدمين، ولعل الجزية موضوعها على الإمهال كالزكاة. ومما يتعلّق بالمسألة أنه لو مات، [فقد] (2) استقرت عليه الجزية: أما إذا مات بعد السنة قولاً واحداً، أو مات في أثنائها على أحد القولين، فالجزية تؤدى من تركته، وهي مقدمة على الوصايا، وحقوق الورثة.

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) في النسختين: وقد.

ولو كان في تركته ديون للآدميين، فكيف السبيل؟ اختلف أئمتنا في أن الجزية يُنحى بها نحو حقوق الله تعالى، كالزكاة، أو يُنحى بها نحو حقوق الآدميين، فمنهم من قال: هي من حقوق الآدميين، فإن مصرفها إلى المرتزقة، وليست من القُرَب، فعلى هذا الجزية كسائر ديون الآدميين تُسْتَحق، ثم في تقديم حقوق الله تعالى على حقوق الآدميين ثلاثة أقوال: أحدها - أن المقدّم حق الله تعالى. والثاني - أن المقدّم حق الآدمي. والثالث - أنهما يتساويان ويتصادمان. وقد قدّمنا هذه الأقوال في مواضع من الكتاب؛ فلا نعيد توجيهها، وتفصيلها. فصل قال: " ويشترط عليهم أن من ذكر كتاب الله تعالى، أو محمداً صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره " (1). 11459 - المقصود الأظهر من الفصل، الكلام فيما ينقض الذمة، ولا ينقضها، ونحن نصدّر الفصل بنوعين من الكلام: أحدهما - كيفية عقد الذمة، والآخر - معنى جريان الأحكام على أهل الذمة. فأما كيفية عقد الذمة، فقد قال العراقيون: إذا عقدت الذمة، فلا بدّ من ذكر الجزية؛ فإنها عماد الذمة [ومثلُها] (2) الاستسلام لجريان الأحكام. لا بد من ذكر هذين، ولو لم يُذكرا، لم يصح العهد، وصرّحوا باشتراط التلفظ بما ذكرناه. وذكر القاضي ذلك أيضاً على هذا الوجه. أما قياس المراوزة، فهو أن الجزية لا بدّ من ذكرها، وأما ذكر الاستسلام للأحكام، فيجب ألا يشترط، ولا يجب التعرض له؛ لأن استسلامهم من حكم الذمة، ولا حاجة إلى ذكره، واشتراط ذكره بمثابة اشتراط ذكر الملك في البيع.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 198. (2) في النسختين: ومنها. والمثبت تصرف من المحقق، حتى يتحقق الفرق بين العراقيين والمراوزة.

ومعتمد العراقيين أن كل ما يُنقض العهد به وجهاً واحداً، فلا بدّ من ذكره، وسنبين أن امتناعهم عن بذل الجزية، وعن جريان أحكامنا عليهم يوجب نقض عهدهم. ثم استتم العراقيون التفريعَ على ما ذكرناه، وقالوا: يجب ذكر الجزية والاستسلام للأحكام وجهاً واحداً. وهل يجب أن يذكر في الذمة ألا يتعرضوا للأنبياء بذكر السوء؟ ذكروا وجهين في اشتراط ذلك: أحدهما - أنه يشترط ذكر هذا؛ إذ بهذا تحصل المكافّة، وترك التعرّض منهم لنا، ومنّا لهم. والوجه الثاني - أن ذلك لا يشترط؛ فإنا إذا ذكرنا استسلامهم لأحكامنا، كفى ذلك، ومن أحكامنا أن نمنعهم عن التعرض، حتى إن تعرّضوا سيأتي حكم الإسلام فيه، إن شاء الله تعالى. هذا بيان عقد الذمة. ثم للأصحاب تردّدٌ في أن الذمة المؤقتة هل تنعقد؟ وسنذكر هذا في باب المهادنة، إن شاء الله تعالى عند ذكرنا وجوب التأقيت فيها، وعندها نذكر أن الذمة هل تنقضي باستشعار الخوف قبل تحققه، وسيأتي إن شاء الله تعالى. 11460 - فأما النوع الآخر الذي نريد ذكره، وهو أن الأصحاب أطلقوا أن أحكامنا جارية عليهم، وقد قدّمنا غير مرة اختلاف القول في أنهم إذا جاؤونا راضين بأحكامنا، فهل يلزمنا أن نحكم بينهم؟ فعلى قولين، فكيف سبيل الجمع بين هذا، وبين إطلاقنا القول بأن أحكامنا تجرى عليهم؟ قال العراقيون في ذلك: المراد بإجراء الأحكام عليهم أنهم إذا فعلوا ما هو محظورٌ في دينهم، وكانوا لا يستحلّونه، فيجري حكم الله عليهم، إذا كان لا يتعلّق بالدعوى، وهذا بمثابة ما لو زنى واحد منهم، وثبت زناه عند حاكم المسلمين؛ فإنه يقيم على الزاني حدّ الله تعالى، ولا حاجة إلى رضاه بحكمنا، وارتفاعه إلى مجلسنا، بل إذا شهد على زناه أربعة من عدول المسلمين، أقمنا الحد، وهذا الذي ذكروه حسن، ولم أر في طريق المراوزة ما يخالف هذا، وهو متجه. فأما ما يستحلّونه، فهو منقسم إلى الخمر، وغيره، فأما إذا شرب الخمرَ واحدٌ

منهم، فالمذهب أنا لا نقيم عليه الحدّ، وإن رضي بحكمنا، وفيه خلاف، وقد قدمنا في ذلك كلاماً بالغاً. وأما غير الخمر، فإذا نكح واحد من المجوس واحدةً من محارمه، فلا نتعرّض له، وإن ارتفعوا إلينا، ورضوا بحكمنا، فهذا يخرج على القولين في أنه هل يجب الحكم؛ [فإن التزمناه، حكمنا عليهم بحكم الإسلام] (1)؛ فإن القاضي يستتبع الخصوم في الحكم عليهم. وقد ذكرنا هذين القولين في أبوابٍ، وموضع استقصائهما أدبُ القضاء. والغرض من ذكرهما الآن أنا حكينا من طريق العراقيين أن حد الزنا يقام عليهم، وكذلك حد السرقة، وهذا الذي ذكروه لا أنكر اتجاهه، بناء على أنا أقررناهم في دارنا على ألا نتعرّض لهم في موجَب دينهم على شرط ألا يتظاهروا به، ولا يظهروه، فأما إذا خالفوا دينهم، فالحكم جارٍ عليهم. هذا مسلكهم. والذي أراه في ذلك أن من زنى منهم بمسلمة، أو سرق مال مسلم، فالحكم جارٍ عليهم؛ فإن الحكومات إذا تعلّقت بالكفار والمسلمين، فيجب على القاضي أن يحكم فيها على الكلفار أو لهم قولاً واحداً، وإذا اتصل الزنا بمسلمةٍ، أو فرضت السرقة في مال مسلم، [فإجراؤنا] (2) الحكمَ عليهم على قياس قطعنا القولَ بالتزامهم أحكامنا، إذا كان خصومهم المسلمين. فأما إذا زنى كافر بكافرة، أو سرق كافر مال كافر، فالذي أراه يخرج على القولين؛ فإنهم كما حرموا الزنا في دينهم، والسرقة، فكذلك حرموا الغصب، وتغييب الودائع وجحدها، ثم الخصومات الدائرة بينهم في هذه المعاني تخرج على القولين، ولا فرق إلا أن ما يختص بالأموال يفتقر إلى تقدّم الدعوى، وثبوتُ الزنا لا يتوقف على فرض الدعوى، والسرقة قد تتعلق بالدعوى، فيجب تقريب الأمر على ما ذكرناه.

_ (1) زبادة من (هـ 4). (2) غير مقروءة بالأصل، والمثبت من (هـ 4).

11461 - ومما نذكره قبل الخوض، في نواقض العهود، أنا إذا عقدنا الذمة، التزمنا لهم كفَّ الأذى عنهم، وعدَم التعرض لهم فيما يرونه بين أظهرهم -ما أخفَوْها (1) - فلا نريق خمورهم ولا نقتل خنازيرهم، ولا نتعرض لبياعاتهم ومناكحاتهم فيما بين أظهرهم. وهل يجب علينا أن نذب الكفار عنهم؟ يعني أهل الحرب؟ فإن كانوا في بلاد الإسلام؛ فإنا نضطر إلى الذب من غير قصدٍ ينصرف إليهم؛ فإنه يتعين علينا حمايةَ بلاد الإسلام عن طروق الكفار، وإذا نحن فعلنا هذا، فيحصل به الذب عنهم لا محالة. ولو كان الذمي في دار الحرب لكنه التزم الجزية، وعقدنا له الذمة، فيستحيل أن نلتزم ذب الكفار عنهم؛ فإن هذا مما لا يحيط به الاستطاعة، والإطاقة. ولو كان أهل الذمة في بلدةٍ متاخمة لبلاد الإسلام من جهةٍ، ولبلاد الكفار من جهة، وكان ذب الكفار عنهم ممكناً، فهل نلتزم ذلك لهم بمطلق الذمة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نلتزم ذلك؛ فإن الغرض بعقد الذمة أن يأمنونا ويؤمِّنونا، فإذا كفيناهم بوادر أجنادنا، وكففنا الأيدي عنهم، كفاهم ذلك، والدليل عليه أنهم لا يلتزمون، الذبَّ عنا إذا تغشانا جمعٌ من الكفار، ونحن لا نلتزم لهم ما لا يلتزمونه لنا. والوجه الثاني - أنه يجب علينا الذب عنهم إذا تمكنا منهم؛ فإنا بالذمة التزمنا أن نُلحقهم في العصمة والصون بأهل الإسلام، فيجب علينا أن نذب عنهم كما نذب عن أهل الإسلام، وهذا مشهور في الحكاية، والأقيس الوجه الأول. وما ذكرناه فيه إذا أطلقنا الذمة، ولم نتعرّض لالتزام الذب عنهم، فإن قلنا: لا يلزمنا الذب بحكم الذمة، فلو اشترطنا ذلك، والتزمناه، فالرأي أنه لا يلزمنا الوفاء؛ فإن ما لا يلزم بقضية الذمة، لا يلزم بالاشتراط؛ وفي كلام الأصحاب ما يشير إلى أن الذب يلزم بالالتزام.

_ (1) كذا في النسختين بضمير المؤنث. والتأويل قريب.

وإذا قلنا: مطلق الذمة يقتضي الذب، فلو شرطنا ألا نذب عنهم في محل الوجهين، ونكتفي بالانكفاف عنهم، فالظاهر أن الشرط يثبت، ولا يلزم الذب، وإن كان يلزم في الذمة المطلقة. ومن أصحابنا من أفسد هذا الشرط. ثم في فساد الذمة بالشرائط الفاسدة، كلام سيأتي الشرح عليها في باب المهادنة، إن شاء الله تعالى. 11462 - وقد حان أن نخوض بعد ذلك في نواقض العهود. وتمهيد الكلام يقتضي رسمَ ثلاث درجات، هكذا رتبه الأئمة: المرتبة الأولى: ما يوجب نقض العهد من غير أن يفرض فيه شرط، ثم ذكر الأكثرون في هذا القسم ثلاثة أشياء: أحدها - منع الجزية. والثاني - الامتناع من إجراء الأحكام. والثالث - نصب القتال. وقضَوْا بأن هذه الخلال الثلاث عماد الذمة، وتركُها نقضُ عقد الذمة. وفي هذا أدنى تدبّر: أما القتال على ما نعهده من أهل الحرب، فهو مناقضة للذمة؛ فإن الغرض الأظهر منها الأمان المؤبد، فإذا قاتلونا، فقد تركوا موجَب العهد. فأما منع بذل الجزية والامتناع عن جريان الأحكام، فقد أطلقها الأصحاب، ولم يأتوا فيها بالبيان الشافي، ومطلق ما ذكروه يدل على أن واحداً من أهل الذمة إذا سوّف، ومطل، وامتنع عن تأدية الجزية لما طولب بها مع القدرة على أدائها، فيكون ذلك نقضاً منه، وشرطوا في هذا التمكن من الأداء، فلو اعتراه عجز وأحوجه إلى استمهال في مدة قريبة، فما أرى الأصحاب يقضون بانتقاض العهد والحالة هذه. فأما المطل المحقق، والمدافعة من غير عذر، ففيها قالوا بانتقاض العهد، وليس يبعد أن يقال: امتناع الذمي عن أداء الجزية، ويد القهر ممتدة إليه لا يوجب نقضَ عهده، ولكنا نستأدي منه الجزية قهراً، ويكون امتناعه عن أدائها بمثابة امتناعه عن ديونٍ توجهت عليه للمسلمين، وهذا متجه. وما ذكره الأصحاب حسن بالغ، لأن الجزية عوض ترك القتال، وهو [في حكم] (1) ما يتجدد حالاً على حال، فيجوز أن يقال: امتناع المقتدر عليها حطّ منه

_ (1) زيادة من (هـ 4).

لعوض ترك القتال، [وتركُ] (1) القتال لا يستقل بنفسه دون عوض. فإن قال قائل: الجزية الواجبة تقابل ما مضى من الزمان، فما قولكم فيه إذا قال: الجزية المستقرة لا أؤديها، وأؤدي الجزى في مستقبل الزمان؟ قلنا: لم يفصل الأصحاب، ولم يفرّقوا، وإذا بدا منه امتناع، كفى ذلك. هذا كلامنا في الامتناع من الجزية. 11463 - وأما ما ذكره الأصحاب من الامتناع عن إجراء الأحكام، فذلك فيه نظر لا بدّ منه؛ فإن امتنع [من امتنع] (2) منهم عن الحكم شارداً، أو هارباً، فلست أرى ذلك نقضاً للعهد. وإن كان الامتناع عن ركون إلى عُدّة، [وتقوٍّ] (3) بقوة، فالوجه أن ندعوهم حتى يستسلموا، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الخوارج، إذ قال لهم: " استسلموا نحكم عليكم " (4) فإن امتنعوا، هممنا بهم، فإن استسلموا، حكمنا عليهم، وإن قاتلوا، آل الأمر إلى القتال الناقض للعهد. وما ذكرته من ترديد الرأي في منع الجزية [والامتناع] (5) مستند إلى كلام. الأصحاب؛ فإن القاضي، لم يذكر في الذي ينقض العهد [إلا نصبهم القتال] (6)، ولست أبعد أن الأولين ذكروا القتال، وعدّوا منعَ الجزية من أسبابه، وعبروا من (7) الامتناع (8) عن القتال، فإن كان كذلك، آل الأمر إلى أن الناقض بنفسه وذاته القتالُ فإنه منافٍ للأمان.

_ (1) في الأصل: " ولو ترك ". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: " وـ ـول " (انظر صورتها) (وهـ4) سقطت الصفحة كاملة. (4) أثر علي " استسلموا نحكم عليكم " رواه الشافعي في الأم: 4/ 217. (5) زيادة من المحقق رعاية للسياق. (6) عبارة الأصل: إلا نصبهم في القتال. وتقع العبارة في صفحة ذاهبة من (هـ 4). (7) من: مرادفة للباء، وعليه قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. (8) الامتناع: المراد الامتناع عن أداء الجزية وعن التزام الأحكام، فمعنى العبارة: عبروا بالامتناع عن أداء الجزية والتزام الأحكام عن القتال.

وإن أراد الأصحاب عدّ منع الجزية، والامتناعَ مغايرين لنصب القتال، فأقصى الإمكان فيه ما قدّمناه، وظاهر ما نقله الصيدلاني أن منع الجزية والامتناعَ متغايران، وهما ينزلان منزلة نصب القتال، ولفظه في الكتاب: " بعض ما يصدر منه نقضٌ للعهد شرط ذلك عليهم أو لم يشرط، مثل منع الجزية، والامتناع عن [إجراء] (1) أحكام الإسلام عليهم، ونصبِ القتال من غير شبهة " [ونصبُ القتال من غير شبهة] (2) أراد به أن يستعين بطائفة من أهل الذمة أهلُ البغي، وهذا فصلٌ ذكرته على أقصى الإمكان في التفصيل، وشفيتُ فيه الغليل. ومما يتعلق بهذا القسم لإتمامه أن الأصحاب جعلوا ما يقع في هذا القسم ناقضاً للعهد بنفسه سواء شرط ذلك أو لم يشرط. ثم القتالُ فعلٌ يعد ناقضاً، وكذلك ما ألحق به، إن كان يلتحق به غيره، والسبب فيه أن الذمّة جائزة من جانب الذمي، والعهد الجائز إذا انتفى مقصوده بالكلية، لم يبعد انقطاعه، وإن كان الصادر ممن انعقد معه فعلاً، وهذا بمثابة حكمنا بانقطاع الإيداع والائتمان بعدوان المؤتمَن، وإن كانت صيغة الأمن باقية (3)، ولو قاتلناهم، وخالفنا العهد لم تنتقض الذمة؛ لأن الذمة في جانبنا واجبة لازمة، والوفاء بها حتم، ولو أردنا نبذها من غير سبب، لم نجد إليه سبيلاً. هذا منتهى ما حضرنا في هذا القسم. 11464 - فأما القسم الثاني - فهو أن يصدر من الذمّي ما هو ممنوع عنه، وكان ممّا يظهر الإضرار بسببه بالمسلمين، فإذا كان فيه إلحاق مضرة عظيمة، فنذكر في هذا القسم ما ذكره الأئمة، وما ترددوا فيه، ونبين حكمه. فمما اتفقوا عليه، وعدوه في هذا القسم أن يزني الذمي بمسلمة، أو يصيبها باسم النكاح، أو يؤوي عيناً لأهل الحرب، أو يكتب إليهم بأسرار المسلمين، ويطلعَهم على عوراتهم، أو يفتنَ مسلماً عن دينه، فالضرر يعظم بهذه الأشياء، فمنها ما يرجع

_ (1) في الأصل: " جهات ". ولا أدري لها وجهاً ولا عن أي لفظة صحفت. (2) زيادة اقتضاها السياق. (3) صيغة الأمن: أي صيغة الائتمان وصورة الإيداع باقية.

إلى الإسلام، ومنها ما يرجع إلى معنيين. فإذا صدرت هذه الأصناف منهم، فللأصحاب طريقان: قال العراقيون، وصاحب التقريب: في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أن العهد ينتقض، كما (1) منعوا الجزية، أو قاتلوا، أو امتنعوا عن إجراء الأحكام، والأوْلى أن نقول في إيضاح هذا القسم: إن العهد ينتقض بما يظهر ضرره، قياساً على ما اشتمل عليه القسم الأول. وقد مضى تفصيل القول في القسم الأول، وتوجيه هذا الوجه، أن ما صدر منهم من هذه العظائم ينافي الأمن والأمان، فشابه ما لو نصبوا القتال. والوجه الثاني - أن العهد لا ينتقض، لأنهم بما فعلوا، لم يقاطعونا، ولكن صدر منهم منافاة وأسباب (2) هي بالإضافة إلى الذمة كالكبائر، بالإضافة إلى الإسلام. والوجه الثالث - أنهم إن شرط عليهم انتقاض العهد لو قَدِمُوا (3) على ما وصفنا، انتقض العهد بها إذا صدرت منهم، وإن لم يجر شرط انتقاض العهد لا ينتقض العهد. والقائلان الأولان لا يغيّران ما اعتقداه بالشرط، أما من حكم بالانتقاض مطلقاً، لم (4) يجعل للشرط موقعاً، واعتقد هذه الأشياء منافية بأنفسها، كنصبهم القتال. ومن قال: لا ينتقض العهد بها، يقول: لو فرض شرطٌ، حمل على التخويف، وتحقيق الزجر. وسيكون لنا في هذا الفن مزيد كشف في القسم الثالث. إن شاء الله. وأما التفصيل فبيّنٌ. هذه طريقة. وقال الصيدلاني، وغيره من محققي الأصحاب: إن لم يجر شرطٌ، لم ينتقض العهد بهذه الأشياء، وإن جرى شرطٌ، ففي انتقاض العهد وجهان. وهذه الطريقة إذا ضُمت إلى الطريقة الأولى، انتظم من تضامّهما أنّا في وجهٍ لا نحكم بالانتقاض أصلاً،

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) (هـ 4): " هنات وسيئات ". (3) قدِم على الأمر من باب (لعب): أقبل عليه، وقدِم على العيب رضي به. (المعجم). (4) جواب (أما) بدون فاء.

كان الشرط أو لم يكن. والثماني- أنا نحكم بالانتقاض، كان الشرط، أو لم يكن، والثالث - الفصل، فلا يزيد بالضم وجه. وربما كان شيخي يقول: من أصحابنا من قال: إذا جرى شرط في الانتقاض، انتقض العهد، وإن لم يجر، فوجهان. فهذا مجموع ما قيل، وعكس الطريقتين يُشعر بمزيد غَرضٍ في الترتيب، وإلا فلا يشذ على الأوجه الثلاثة شيء. وما أطلقناه من الشرط أردنا شرطَ الانتقاض لا شرط الانكفاف عن هذه الأشياء؛ فإن نفس الذمة مُزجرة عن هذه الأمور، فلا معنى لذكرها، وهذا مما اتفق الأصحاب فيه، على أنا لا نشترط ذكره في عقد الذمة، وإنما تردُّدُ الأصحاب في التعرض لترك القتال والاستسلام للحكم، وقد قدّمنا فيه ما ينبغي. 11465 - ومما يجب الاهتمام به أن طوائف من المحققين ذكروا قطع الطريق في هذا القسم، والقتل الموجب للقصاص، ولم يتعرضوا (1) لهذين آخرون، وتبين [لي] (2) أنه يسوغ أن يلحق بالمذهب تردّدٌ في القتل وقطع الطريق، فيقال: هما ملتحقان بالقسم الأول في وجهٍ؛ من جهة أنهم إذا قتلوا وقطعوا الطريق، وشهروا السلاح، لم يُبقوا من مناقضة الأمان شيئاً، فلا يبعد التحاق ذلك بالقسم الأول، وليس كالفواحش التي تجري في الاختفاء، ومن جملته السرقة، فإن السارق تحت القهر، وإنما ينتهز الفرص، ويرتاد أوقاتَ الغفلات، ويد القهر ممتدة إليه. هذا وجه. ويجوز أن يقال: قتل الواحد والآحاد من غير منابذة، ومحاولة مفارقة المسلمين في حكم الكبائر بالإضافة إلى الإسلام. وقطع الطريق، وإن كان فيه مكاوحة، فليس فيه منابذة المسلمين، وإنما هو توثب على الرّفاق، بعُدّة وقوة، مع ارتياد

_ (1) كذا في النسختين: " ولم يتعرضوا لهذين آخرون " وهو جارٍ على لغة أكلوني البراغيث. (2) في الأصل: " إلي ".

ملازمة [الخِطة] (1) والدار، وهذا يحوج إلى مزيد تقرير في قطع الطريق؛ فإن القتل في الدم بمثابة السرقة في المال. فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك، وقد يلتحق بهذا القسم شيء، ولكن الترتيب يقتضي ذكرَ القسم الثالث أولاً، ثم إذا انتجز، اشتغلنا به. 11466 - فأما القسم الثالث - فهو في بيان أمور تصدر منهم، [ممّا] (2) لا يقع في القسم الأول، ولا يتعلّق به إضرارٌ بيّن، وذلك كإظهارهم الخمور، وإسماعنا النواقيس، وتركهم الغِيَار (3)، وإظهارهم معتقدهم في المسيح، مما يُكفَّرون به، فهذه الأشياء في أعيانها لا تنقض العهد أصلاً باتفاق الأصحاب، ولكنا نمنعهم، وقد نُعزِّرهم. وهذا كله إذا لم ينته الأمر إلى الإضرار، والامتناع، والتجمع، فإن هذا يلتحق بالامتناع عن جريان أحكام الإسلام، وقد مضى فيه البيان الشافي. ولو شرط الإمام عليهم ألاّ يفعلوا هذا، ففعلوه، لم ينتقض عهدهم؛ فإن الشرط على هذا الوجه لا يُغيّر حكم الانتقاض ثبوتاً، وانتفاءً. ولو شرط الإمام عليهم انتقاض العهد، لو فعلوا ما وصفناه، فقد قال الأئمة: يحمل الشرط في هذا على التخويف. وهذا كلام مبهم، لا أستجيز الاكتفاء به. وتفصيله أنا سنذكر بعد هذا -إن شاء الله تعالى- الاختلافَ في أن الذمة المؤقتة هل تصح؟ فإذا قال عاقد الذمة: إن أظهرتم خموركم، فلا عهد، أو انتقض العهد، فهذا تأقيت للذمة، فمن يُجوّزُ تأقيت الذمة إلى أمد، لا يبعد عنده تأقيت الذمة إلى إظهار فعلٍ، فعلى هذا يجب القضاء بالانتقاض. ومن قال: الذمة المؤقتة فاسدة، فيجب عنده القضاء بفساد الذمة من أصلها، وليس للإمام أن يعقد مثل هذه الذمة على هذا الوجه، ولا بدّ مما ذكرناه إذا صرح

_ (1) في الأصل: " الخطر " والمثبت من (هـ 4). (2) في الأصل: " فيما ". (3) الغِيار للذمي كالزُّنّار للمجوسي علامة يتميز بها، وهو شيء كالحزام يشدّ على وسطه. (المعجم والمصباح).

عاقد الذمة باشتراط انتقاض الذمة بهذه الأفعال، ويعود الكلام إلى أن شرطه هل يُفسد الذمة أم لا؟ فإن صححنا التأقيت، صحت الذمة إلى انتقاضها، وإن لم نصحح التأقيت، فسدت الذمة من أصلها. وفي كلام الصيدلاني ما يشير إلى أن الذمة تتأبد، والشرط يفسد. وهذا فقيهٌ؛ من جهة أن الذمة لم ترتبط بوقتٍ [زماني] (1)، وإنما أرسلت إرسالاً [يتصور] (2) أن تتأبد لو فرض عدم ما شرط انتفاؤه، فيؤول الفساد إلى الشرط، وهذا يخالف التأقيت؛ فإن العهد المؤقت ليس ذمة، وما ذكرنا في الصورتين يماثل تأقيت الوقف وتأبيده مع شرط فاسد، فقد نقول المؤقت منه مردود، وليس بوقف، وإنما هو إعارة، وإباحة، والمؤبد منه مع شرط فاسد وقف فيه شرط فاسد، وقد يرى بعض الأصحاب إحباط الشرط، وتصحيح الوقف. هذا تمام المراد في قواعد الأقسام الثلاثة. 11467 - ثم نحن بعد نجازها نذكر أمراً مهمّاً متردداً بين الأقسام، وهو أن أهل الذمة، لو تعرضوا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، بسوء، وقدحوا في الإسلام، وأظهروا ذلك، فقد اضطرب طرق أئمتنا، ونحن نسرد جميعها نقلاً، ثم نذكر المسلك المرتضى. ذكر صاحب التقريب، والعراقيون وجهين في ذلك: أحدهما - أن قدحهم في الإسلام والتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم ملتحق بالقسم الأول، وقد مضى الحكم فيما اشتمل عليه القسم الأول. والوجه الثاني - أن الحكم في ذلك كالحكم فيما يشتمل عليه القسم الثاني؛ فإن هذا مما يعظم الضرر فيه، ويقدح في قلوب أهل الإسلام، وذو الدين إذا قدح في دينه، جاز (3) وقعُ ذلك على التعرض لدمه وماله، فاتجه إلحاقُه بالمضرّات.

_ (1) في الأصل: " بزمان ". (2) في الأصل: " لا يتصور ". والمثبت من (هـ 4). (3) جاز وقع ذلك: أي زاد وتعدّى.

وذكر الصيدلاني [في ذلك تفصيلاً حسناً] (1)، فقال: إن ذكروا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يعتقدونه فيه ديناً مثل: أن يسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم أو يطعنوا في نسبه صلى الله عليه وسلم، فهذا يلحق بالقسم الأول أو الثاني. وأما إذا ذكروا رسولنا صلى الله عليه وسلم بما يعتقدونه فيه ديناً من أنه ليس برسول، والقرآن ليس بكلام الله تعالى، فهذا بمنزلة إظهارهم كفرهم من نحو قولهم في المسيح. وهذا ترتيب حسن. والذي أُحبُّه (2) أن نتخذ هذا الترتيب عماداً، ونبني عليه التعرض، ونقول: إن تعرّضوا للإسلام، وأساءوا لنبينا بما ليس هو من قاعدة دينهم، ففيه وجهان قدمنا ذكرهما، أحدهما - أن ذلك كالقسم الأول. والثاني - أنه كالقسم الثاني، وإن لم يتعرّضوا لديننا، ولرسولنا صلى الله عليه وسلم، ولكن أظهروا، قولهم في المسيح، وذكروا معتقدهم في التثليث، فهذا لا يوجب نقض العهد، ولكنا نؤدبهم لإظهارهم كفرَهم، كما نؤدبهم لإظهار الخمور، والخنازير وإسماعنا النواقيسَ، وإن أظهروا معتقدهم في القدح في الإسلام، وتكذيب نبينا، فهذا مختلف فيه: فمن أصحابنا من جعل هذا بمثابة ما لو قدحوا في الإسلام بما لا يعتقدونه، وهذا بعيد. ومنهم من ألحق هذا بذكرهم المسيح، وإظهارهم التثليث. هذا هو البيان التام في ذلك. وكنت أحب لو قال قائل في القسم الثاني: لا ينتقض العهد بصدور المضرّات، ولكن للإمام أن ينقض عهدهم إن شاء. ولم يصر إلى هذا أحد في هذا الفصل، والقول به ممكن؛ فإن من أصحابنا من يجوز للإمام أن ينبذ الذمة، إذا ظهرت منهم تهمة تجر ضرراً، كما سنذكره. إن شاء الله. فكان لا يبعد أيضاً أن يصح من الإمام شرط النقض إن شاء، لست أعني شرط الانتقاض، فإن ذلك قضينا منه الوطر.

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) (هـ 4): " والذي يتجه ".

11468 - ثم إذا انتقض عهد الذمي، فقد أطلق الأصحاب قولين: في أنا هل نغتالهم أو نُبلغهم مأمنهم؟ وهذا لا يكشف الغطاء، فالوجه أن نقول: إذا كان انتقاض عهدهم سبباً لقتال علينا، فقد صاروا حرباً في دار الإسلام، [فلا] (1) نلبّث، وليس إلا البدار إلى اصطلامهم، وليس هذا محل القولين. وإن أتَوْا بما اشتمل عليه القسم الثاني، وقلنا: بانتقاض عهودهم، فهل نقاتلهم، أو نبلغهم مأمنهم؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نغتالهم، فإنا إذ كنا نقضي بانتقاض عهدهم تغليظاً عليهم لما أقدموا عليه من الجرائم، فيليق بهذا المقام أن نستأصلهم، أو نغتالهم. والقول الثاني - أنا لا نغتالهم؛ فإنهم لم ينابذونا، ولم يصيروا حرباً لنا. ويجوز أن يقال: انتقض عهدهم، فأما ألا تبقى عُلقة يتبلغون بها فهذا سرف. ولو نبذ الذميّ العهدَ ورام الالتحاق، ولم يضر بأحد، فقد قطع المحققون بأنا نُبلغه المأمَن، وفي تعليق [معتمد] (2) عن القاضي إجراء القولين هاهنا أيضاً، وهذا هفوة. والمسائل موزعة على ثلاث مراتب: إحداها - المنابذة، ونصب القتال، ومصيره حرباً، فهاهنا لا اختلاف في الاغتيال والاستئصال في النفس والذرّية والمال. والمرتبة الثانية - في انتقاض العهد بالمضرات التي ليست منابذة، والقولان يجريان هاهنا في الاغتيال ووجوب تبليغ المأمن. والمرتبة الثالثة - في نبذه العهد ليلتحق بدار الحرب، والوجه هاهنا القطع بوجوب تبليغه. ومن أجرى القولين في هذا القسم، فقد أبعد، ووجهه على بُعده أنه لو (3) نبذ العهد حربيٌّ بلا أمان، وكان يمكنه أن ينطلق إلى دار الحرب من غير نبذ العهد، فإذا نبذه أمكن على هذا التقدير إجراء القولين. هذا منتهى الكلام في نواقض العهود وما يتعلق بأطرافها.

_ (1) في الأصل: " ولا ". (2) زيادة من (هـ 4). (3) في (هـ 4): " بعد".

11469 - ونحن نختم هذا الفصل بأمر يتعلق بالمسلمين: قال الأئمة: من ذكر الله تعالى بسوء، وكان ذلك مما يوجب التكفير بالإجماع، فالذي صدر منه رِدّة، فإذا تاب، قُبلت توبته. 11475 - ولو سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو قذفٌ صريح، كفر باتفاق الأصحاب، قال الشيخ أبو بكر الفارسي في كتاب الإجماع: لو تاب، لم يسقط القتل عنه؛ فإنّ حدّ من يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتلُ، فكما لا يسقط حدّ القذف بالتوبة، فكذلك لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة، وادعى فيه الإجماع، ووافقه الشيخ أبو بكر القفال. وقال الأستاذ أبو إسحاق: كفر بالسبّ، وتعرض للسيف تعرض المرتد، فإذا تاب، سقط القتل. وقال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: إذا سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم، استوجب القتل، والقتلُ للردّة لا للسبّ، فإن تاب زال القتل الذي هو موجَب الردّة، وجُلد ثمانين، هذه طُرق الأصحاب في ذلك. 11471 - والغرض لا ينكشف في هذا إلا بمباحثةٍ وغوصٍ فنقول: من سبّ محصناً وله ورثة قاموا بطلب الحدّ، ولو لم يكن للمقذوف ورثة، فهل نقول: يرث المسلمون الحدّ، وينوب الإمام عنهم، واشتهر القولان في أن من قُتل وليس له وارث خاص، فهل يجب القصاص على قاتله؟ ذهب بعض الأصحاب إلى أن نفي القصاص خارج على أن في المسلمين صبياناً ومجانين وغُيّباً، والعقوباتُ على الدّرء، ولعل الأصح أن القولين مخرجان على قاعدة أخرى، وهي أن المال مصروف إلى جهة المصالح؛ إذ لا سبيل إلى تعطيلها، وأَوْلى الجهات ما يعم الكافّة، وهي المصالح، وأما القصاص فلا ضرورة في إقامته؛ حيث لا يطلبه معين، وينشأ من هذا أن الإمام لو أقامه، لكان بين أن يتحتّم عليه الاقتصاص؛ فيلتحق بالحدود، وبين أن يتخير ويردّ الأمر إلى الاستصواب والاجتهاد، وهذا بعيد عن قياس القصاص.

فإذا تمهّد هذا، قلنا: إذا قُذف المحصن، فلا يبعد خروج إقامة الحد على ما ذكرناه في القصاص، والمسلك الذي ذكره بعض الأصحاب في القصاص من أن المسلمين لا يخلون عن صبيان ومجانين لا [يستدّ] (1) في حد القذف؛ فإنه يستقلّ بطلبه كلُّ مَنْ يقوم به، هذا قولنا في سبّ من لا وارث له. فلو سب شقيٌّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم تاب، فإن قلنا: لا يسقط القتل كما ذكره الفارسي، فلا بُعد، وللرسول صلى الله عليه وسلم عصبات من بني أعمامه، فلو سلكنا بهذا مسلك حد القذف، فيلزم سقوطه بإسقاط الورثة، وإن قيل لا ينحصر ورثته، فيجب أن يتوقف استيفاء الحد على طلب واحد؛ فإن ذلك ممكن، والاجتماع ليس شرطاً في الطلب، ويلزم أن يخرج هذا على الخلاف في قذف محصن ليس له وارث خاص. وهذا خبط وتخليط، ولا يتجه عندنا إلا مسلكان: أحدهما - ما قاله الفارسي وهو في نهاية الحسن، ولكنه مبهم بعدُ؛ فإنه أطلق فقال: حَدُّ من يسبّه القتلُ، وهذا فيه نظر؛ فإن الحدود لا تثبت بالرأي، وقد ورد في الأخبار: " من سبّ نبيّاً فاقتلوه، ومن سبّ أصحابه فاجلدوه " (2) ولكن مع هذا لا يمكن القضاء بكونه حدَّ قذف، ولكنه هو قتلٌ بسبب هو رِدّة، وهو متعلق بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تصح التوبة عما يتعلق بحق الآدمي، وهذا مراد الفارسي. هذا مسلك. والآخر - أنه ردّة، والتوبة عنه كالتوبة عن الردة، والوقيعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم كذكر الله تعالى بالسوء. فإن قال قائل: أحبطتم حكم قذفه بالتوبة قلنا: قدره أعلى من أن يجعل سبّه كسبِّ غيره، وإذا جعلنا سبّه ردّة، فليس بعد ذلك مرتبة،

_ (1) في النسختين: يستمر. وهو تصحيف جرى في هذا اللفظ بصورة شبه دائمة. (2) خبر " من سبّ نبياً فاقتلوه ومن سبّ أصحابه فاجلدوه " وجدناه بلفظ " ... ومن سبَّ أصحابي ... "، قال الهيثمي في المجمع: " رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن شيخه عبد الله بن محمد العمري، رماه النسائي بالكذب ". والحديث حكم عليه الألباني بالوضع (ر. الأوسط للطبراني: 6/ 305 ح 4599، والصغير: 137، المجمع: 6/ 260، كنز العمال: 32478، سلسلة الضعيفة للألباني: ح 206).

ثم إن عَظُم سقوطُ موجب الردّة على إنسان، عورض بالرّدة بذكر الله تعالى بالسوء، وما ذكره الصيدلاني من بقاء ثمانين جلدة تعرض منه لقياس جزئي في الفقه، وليس هذا موضعه، والدليل عليه أنه لو لم يتب، للزم أن يجلد، ويقتل: الجلد لقذفه والقتل لردته، هذا منتهى المراد في ذلك. 11472 - قال شيخنا: من كذب عمداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر، وأريق دمه، أما التكفير بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزلّةٌ عظيمة، ولم أر ذلك لأحد من الأصحاب، وإنما ذكرت ذلك لأنه [كان] (1) لا يخلي عنه الدرسَ إذا انتهى إلى هذا المكان، وقد ورد خبر يعضد ما ذكره من إراقة الدم: " روي أن رجلاً انطلق إلى طائفة من العرب وأخبرهم أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرموه، ثم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم [وأخبروه] (2) بأمره فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله إذا رجعوا إليه "، وفي الحديث أنه قال: " وما أراكم تدركونه، فلمّا رجعوا ألفوه هالكاً قد أهلكته صاعقة " (3) ووجه التعلّق بالقصة من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله. ونحن نقول: أما التكفير، فهفوة. وأما القتل، فلا وجه له أيضاً، والوجه حَمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معرفته بأن ذلك الرجل كان منافقاً، ولا وجه لإثبات كفرٍ لا أصل له، ولا لإثبات قتلٍ لا مستند له.

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) في النسختين: " وأخبرهم ". (3) حديث قَتْل الرجل الذي ادعى أنه رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البغوي في معجمه من حديث بريدة، ومُسدد في مسنده من حديث محمد بن الحنفية، ورواه أحمد، والطبراني. قال الحافظ بعد أن ذكر الطُّرق: " وادعى الذهبي في الميزان أنه لا يصحّ بوجه من الوجوه. ولا شكّ أن طريق أحمد ما بها بأس، وشاهدها حديث بريدة، فالحديث حسن " ا. هـ (التلخيص: 4/ 232 ح 2320، خلاصة البدر المنير: 2/ 364 ح 2611). هذا ونقل الحافظ في التلخيص عبارة الإمام قائلاً: قال إمام الحرمين: " هذا محمول على أن الرجل كان كافراً ". والإمام -كما ترى- حمل الأمر بقتله على أنه كان منافقاً.

11473 - ولو تعرض متعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوقيعةٍ ليست قذفاً صريحاً، ولكنه تعريضٌ موجَبُ مثله التعزير، فالذي أراه أنه كالسب الصريح؛ فإن الاستهانة بالرسول كفر. ثم ينقدح فيه تحتم القتل حتى لا يسقط، ويجرى فيه السقوط بالتوبة، وقد ذكرت أن التعرض لحدّ القذف ركيك في هذا المقام. وقد انتجز الفصل. فصل قال: " ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ... إلى آخره " (1). 11474 - قال الأئمة: البلاد قسمان: بلدة ابتناها المسلمون وأثبتوا خِطتها، فلا يمكّن أهل الذمة من إحداث بِيعةٍ أو كنيسة فيها، وكذلك القول في بيوت النيران، فإن فعلوا، نقضت عليهم. ولو كان البلد للكفار، فجرى عليهم حكم المسلمين، فهذا ينقسم قسمين: فإن فتحه المسلمون عَنْوة وملكوا رقاب الأبنية والعرصات، تعين نقض ما فيها من البيع والكنائس، وإذا كنا ننقض ما يصادَف من الكنائس والبيع، فلا يخفى أنا نمنعهم من استحداث كنائس. ولو رأى الإمام أن تبقى كنيسة ويقر في البلد طائفة من أهل الكتاب، فالذي قطع به الأصحاب منعُ ذلك، وذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يجوز للإمام أن يقرّهم ويُبقي الكنيسةَ عليهم. والثاني - أنه لا يجوز له ذلك، وهو الأصح الذي قطع به المراوزة. وهذا إذا فتحنا البلدة عنوة. فإن فتحناها صلحاً، فهذا ينقسم قسمين: [أحدها - أن يقع الفتح على أن رقاب الأراضي للمسلمين، فهم يقَرون فيها بمالٍ يؤدونه لسكانها] (2) سوى الجزية؛ فإن استثنوا في الصلح البيعَ والكنائس، لم تُنقض عليهم، وإن أطلقوا ولم يستثنوا بيعهم

_ (1) ر. المختصر: 5/ 198. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

وكنائسهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تُنقض عليهم، لأن المسلمين ملكوا رقاب الأبنية، والبيع والكنائس تُغنم كما تغنم الدُّور، كذلك تملك بالشرط المطلق في الصلح. والوجه الثاني - لا نملكها لأنا شرطنا تقريرهم وقد لا يتمكنون من المقام [إلا بتبقية مجتمع لهم] (1) فيما يروْنه عبادة. وحقيقة الخلاف ترجع إلى أن اللفظ في مطلق الصلح هل يتناول البيع والكنائس مع القرائن التي ذكرناها. هذا أحد القسمين في القسم الأخير. القسم الثاني - أن يفتح المسلمون على أن تكون رقاب الأراضي لهم، فإذا وقع الصلح كذلك فلا نتعرض للبيع والكنائس، لأن البلد بلدهم ولنا عليهم الجزى وما يشترطه الإمام على الأصول المقدمة. وإذا أرادوا إحداث كنائس، فالمذهب أنهم لا يمنعون؛ فإنهم متصرفون في أملاكهم، وأبعد بعض أصحابنا فمنعهم من استحداث ما لم يكن؛ فإن هذا إحداث بيعة في بلدة هي تحت حكم الإسلام. 11475 - هذا بيان ما يتعلق بإبقاء البيع وهدمها، واستحداثها، والكلام بعد ذلك في تمكنهم من العمارة، فإن تصوّرت المسألة بحيث يقرون فيها على كنائسهم ويمنعون من استحداث كنائس وبيع، فقد قال الأصحاب: إذا استرمّت الكنائس، فلا يمنعون من مرمّتها؛ فإنهم لو منعوا من ذلك، لتهدمت الكنائس. ثم اختلف الأصحاب بعد ذلك: فقال قائلون: ينبغي أن يعمروا الكنائس بحيث لا يظهر للمسلمين ما يفعلون؛ فإن إظهار العمارة منهم تربيةٌ (2) منهم للكنائس قريبة من الاستحداث. وقال آخرون: لهم إظهار العمارة، وهو الأصح. ثم من أوجب عليهم الكتمان قالوا: لو تزلزل جدار الكنيسة [أو] (3) انتقض،

_ (1) في الأصل: " إلا ببيعة تجمع لهم ". والمثبت من (هـ 4). (2) تربية: أي زيادة وتنمية. (3) في الأصل: " ولو ".

منعوا من الاعادة؛ فإن الإعادة ظاهرة، فإذا لم يكن من الانهدام بد، فلا وجه إلا أن يبنوا جداراً داخل البيعة، ثم قد يفضي هذا إلى أن يبنوا جداراً ثالثاً إذا ارتج الثاني، وهكذا إلى أن تفنى ساحة البيعة، وهذا إفراط لا حاصل له، ولست أدري ما يقول هذا القائل إذا أمكن نقض الجدار وإعادته ليلاً، ولا تفريع على الضعيف. فإن فرعنا على الصحيح وجوزنا العمارة إعلاناً، فلو انهدمت الكنيسة، فهل يجوز إعادتها كما كانت؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - المنع؛ لأن هذا استحداث كنيسة. والثاني - الجواز؛ لأنها وإن انهدمت فالعرصة كنيسة، والتحويط عليها هو الرأي حتى يستتروا بكفرهم، فإن منعنا إعادة الكنيسة، فلا كلام، وإن جوزنا إعادتها، فهل لهم أن يزيدوا في خِطتها؟ فعلى وجهين: أصحهما - المنع؛ لأن الزائد كنيسة جديدة، [وإن كانت متصلة بالأولى والتفريع فيه إذا كان لا يجوز لهم استحداث كنيسة جديدة] (1). وإن بقيناهم على كنيستهم، فالمذهب أنا نمنعهم من ضرب النواقيس، فإن هذا بمثابة إظهار الخمور والخنازير، وأبعد بعض الأصحاب فقال: يجوز تمكينهم من ضرب النواقيس؛ فإنها من أحكام الكنيسة، وهذا غلط لا يعتد به. ولو وقع الشرط على أن تكون رقاب الأبنية في البلدة وعرصاتها لهم، فلا يمنعون من ضرب النواقيس، وإظهار الخمور والخنازير في مثل هذه البلدة؛ فإنها بحكمهم، ولو كان يخالطهم المسلمون، لم يكن لهم أن يعترضوا عليهم، والبلدة في الجملة والتفصيل بمثابة دار الذمي في بلاد الإسلام، ولا يخفى أنه لا يجب البحث -بل لا يجوز- عما يتعاطَوْن في دورهم، قال صاحب التقريب: لا يكلفون الغيار في البلدة التي وصفناها، والأمر على ما قال، وقد فُتحت قرى الشام صلحاً على أن تكون لأهلها، فكانوا يظهرون النواقيس في زمن معاوية وجرت له قصة مشهورة.

_ (1) زيادة من (هـ 4).

فأما ناووس (1) المجوس فلست أرى أمراً يوجب المنع فإنها [حُوَطٌ] (2) وبيوت يجمع المجوس فيها جيفهم، وليس كالكنائس والبيع التي تتعلق بشعار أديان الكفار. والله أعلم. فصل 11476 - قال الأئمة: يمنع الذمي من مطاولة أبنية المسلمين ببنيانه، والتفصيل فيه أنه إن أراد أن يطوّل بنيانه المجاور لبنيان مسلمٍ، يمنع من ذلك، لما فيه من الاستكبار على المسلم بالازدياد عليه، وليس ذلك لإمكان اطلاعه، فإنه قد يقدر على الاطلاع وإن لم يطل. ثم ما ذهب إليه الأصحاب أن المنع من المطاولة في هذه الصورة حتمٌ، وليس من حق الجار المسلم حتى يقال: لو رضي به، لجاز له المطاولة، بل هذا من حق الدين. وقال صاحب التقريب: من أصحابنا من رأى هذا أدباً، ولم يره حتماً؛ ذاهباً إلى أن دار الكفار ملكُهم، فمنعهم من التصرف في ملكهم لا ينقاس، وهذا بعيد غير معتد به. ولو سوّى الكافر داره مع دار المسلمين ففي بعض التصانيف وجهان: أحدهما - أنه يمنع من المساواة، كما يمنع من المطاولة. والثاني - أنه لا يمنع من المساواة. وكل ما ذكرناه فيه إذا أراد أن يستحدث بناء يطاول به، فلو اشترى داراً مطلة على

_ (1) هـ 2: ناقوس، وكذلك في الشرح الكبير، والروضة نقلاً عن الإمام، وهو تصحيف أُراه من النساخ وليس من الرافعي والنووي، فليس للمجوس ناقوس. والناووس: على وزن فاعول: مقبرة النصارى (قاله في المصباح) وفي اللسان، ومثله المعجم: هو صندوق من خشب أو نحوه يضع النصارى فيه جثة الميت، وهو مقبرة النصارى أيضاً. وهو عند الإمام -كما ترى- مقبرة المجوس. (2) في الأصل: " محوط " وغير مقروءة في (هـ 4). وحُوَط: جمع حُواطَة: كل ما تحوطه بجدار ونحوه.

الدور من جوانبها، وكانت لمسلم، فالذي رأيته متفقاً عليه للأصحاب أنه لا يمنع من سكون الدار التي اشتراها، ولا يكلف أن يحط من سمت أبنيتها، بل يتركها كما اشتراها، ويسكنها، والذي ذكرناه فيه إذا كانت دار الكافر بقرب دار أو دورٍ للمسلمين. فأما إذا كان للذمي دار في طرف البلد لا تجاور أبنية المسلمين، فالذي قطع به الصيدلاني أنه لا يمنع الكافر من إطالة سَمْك (1) هذه الدار " فإن المطاولة هي المحرمة، وهذا المعنى إنما يتحقق في الدور المجاورة. وقال أيضاً: لو كان للكفار حارة مخصوصة بهم لا يخالطهم فيها مسلم، فإذا أراد الكفار إطالة أبنيتهم في حارتهم، فلا يمنعون، وما ذكروه فيه إذا لم تكن (2) الحارة مجاورة للحارات، بل منفردة لا تجاور سائر المحال. وحاصل ما ذكره أن الممنوع معنى المطاولة، وهو من قولهم: طاولته، فطلته، وإنما يتحقق ذلك عند فرض تناسب، ومن ضرورته أن يكون بين بنائه وبناء المسلم تقارب، وأطلق بعض الأصحاب المنعَ عن تطويل البناء، وليس له وجه يرتضى، فلا يحمل إطلاق من أطلق إلا على الغفلة عن التفصيل الذي ذكره الصيدلاني. فإن اعتقد معتقِد تعميمَ المنع، فالممكن في تقريبه وتوجيهه أن الكافر إذا أظهر في تطويله البناء ما يبين منه التميّزُ بالخيلاء والسرف في الزينة والمسكن، فيمنع كما يمنع من مساواة المسلمين في ركوب الخيل واتخاذ السُّرُج والمراكب النفيسة، وهذا أصلٌ لا بأس به، ولكن لا ينبغي أن يلتزم صاحبه تقصير شأنه عن أقصر بنيان في البلدة، ولكن الممكن فيه أن يُمنع من إظهار الزينة بالإطالة، ولا يخفى درك ذلك. ويبقى مع هذا الفرق بين المجاورة والانفراد، فإذا جاور دار مسلم أُمر برعاية مناسبة تلك الدار والانحطاط عنها، والاكتفاءِ بمساواتها، لظهور المطاولة، عند المجاورة، وهذا لا يراعى مع الانفراد.

_ (1) السَّمك بفتح السين: البعد الثالث بعد الطول والعرض، وُيعنى به الارتفاع. (معجم). (2) هـ 4: " إذا كانت ".

ولو كان الذمي في جوار حجرة لضعفة المسلمين على نهاية القصر، فهل يكلف الحط عنها، أو مساواتها؟ ظاهر ما ذكره الأصحاب أنه يكلف ذلك، وفيه نظر للناظر، والله أعلم. فصل في الغيار 11477 - اتفق الأصحاب أنا نأمر الكفار بالتميز عن المسلمين بالغيار، وتفصيل ذلك إلى رأي الإمام، وقال الأصحاب يمنعون من ركوب الخيل، ويكلّفون ركوبَ الحمر، والبغالُ النفيسة التي يتزين بركوبها في معنى الخيل، وينبغي أن تتميز مراكبهم عن المراكب التي يتزين بها [الأماثل والأعيان] (1) من أهل الإيمان. وقيل: ينبغي أن تكون ركابهم الغَرْز وهو ركاب الخشب، ثم يضطرون إلى أضيق الطُرق، فلا يمكنون من ركوب سَرارة (2) الجادّة (3) إذا كان يطرقها المسلمون، وإن خلت عن زحمة الطارقين من المسلمين، فلا حرج. ثم تكليفهم التميز بالغيار واجب؛ حتى لا يختلطوا في زيّهم وملابسهم بالمسلمين فيكرموا إكرامهم، ويفاتحوا بالسلام. وما ذكرناه من تمييزهم في الدّواب والمراكب مختلف فيه: فقال قائل: تكليفهم التميّز بها حتم كما ذكرناه في الغيار، ومنهم من جعل ما عدا الغيار أدباً؛ ثم إذا رأى الإمام ومن إليه الأمرُ ذلك، فلا معترض لهم، وليس يسوغ إلا الاتباع. وهل يجب على المرأة منهم أن تتميز بالغيار إذا برزت؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن ذلك لا يجب، لأن بروز النساء محمول على النادر، وذلك لا يقتضي تميزاً في الغيار.

_ (1) في الأصل: " المراكب والأغياد ". كذا تماماً. (2) سَرارة: بفتح السين، أوسط الشيء وأحسنه، والمعنى هنا: وسط الطريق. (المعجم). (3) هـ 4: " الجواد " جمع جادّة: وهي الطريق.

وإذا دخل الكافر حمّاماً فيه مسلمون، وكان لا يتميز عمن فيه بغيار وعلامة، فالذي رأيته للأصحاب منعُ ذلك، وإيجاب التميز في هذا المقام أولى؛ لأن الكافر ربما يلوث الماء ويفسده على حكم دينه، بحيث لا يُشعَر به. ودخول الكافرة الحمام الذي فيه المسلمات من غير غيار يُخرَّج على الخلاف الذي ذكرناه. وكان شيخي يقول: لا يمنع أهل الذمة من ركوب خسيس الخيل، ولو ركبوا البراذين التي لا زينة فيها لخسّتها، والبغال على هذه الصفة، فلا منع، والحمار النفيس الذي يبلغ ثمنه مبلغاً إذا ركبه واحد منهم، لم أر للأصحاب فيه منعاً، ولعلهم نظروا إلى الجنس [ومن الكلام الشائع: ركوب الحمار ذُل وركوب الخيل عِزّ، والعلم عند الله تعالى] (1). 11478 - ثم ذكر الشافعي " أن الأمام أَوْ مَنْ إليه الأمر من جهة الإمام في الناحية يأمر حتى يُثبت أسامي أهل الذمّة في ديوان، ويكتب فيه حُلاهم ويعرِّف عليهم عرفاء " (2)؛ حتى لو مات واحد منهم بان بموته نقصان ما كان يخصه، ولو بلغ واحد منهم أثبتت جزيته في الديوان، ولا يخفى مضمون هذا الفصل، ومقصوده، ووجوب رعايته لشدة الاحتياج إليه في مراعاة الضبط. فصل يجمع مسائل في عقد الذمة خلت عنها الفصول وهي تخامر فكرَ الفطن إذا لم تكن مجموعةً عنده، وتجرّ إليه إشكالاً، فنقول: 11479 - على الإمام ألا يقبل الجزية ابتداءً مع ظهور توقع الشر ممن يَبْذلها، وهذا يظهر من وجوهٍ: منها أن جماعةً من أهل النجدة لو توسطوا الخِطّة، وطلبوا أن يُقَروا

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وهو في (هـ 4)، ومنها أثبتناه. (2) ر. المختصر: 5/ 199.

فيها بالجزية، ولا يؤمن أن يناكبوا (1) ويتضامّوا، ولو فعلوا ذلك، لم يؤمن استيلاؤهم على الناحية، فحقٌّ على الإمام أن يرعى هذا ومثلَه، والرأي إن أراد قبول الجزية أن يبدِّدهم في البلاد، ويأمر من يراعيهم، ولو غلب على ظنه أن الرجل الفرد الذي يبتغي الجزية طليعةٌ أو جاسوس، فلا يقبل منه الجزية. والمعتبر في القاعدة أنه إذا غلب على رأي الإمام وظنِّه توقّع الشر، فليس له أن يعقد الذمة، وإذا لم يظهر له ضرر، عقدها، وأثبتت الجزية، وذكر الأصحاب أنهم لو كانوا يضيقون المساكن والمرابع ومرافق البلدة بكثرتهم، وكانوا لا يحاذرون من جهة نجدتهم، فهذا محتمل، والجزية مقبولة. 11479/م- ولو عقد الوالي الذمة، ولم يذكر مقدار الجزية، فالأصح فسادُ الذمة، وأبعد بعض الأصحاب، فصحّحها، ونزّلها على أقل الجزية، وهو دينار في السنة. وهذا غير سديد. 11480 - وذكر بعض الأئمة قولين في الذمة المؤقتة وأطلق بعضُهم وجهين فيها: أحدهما - أنها فاسدة؛ فإن مبنى الذمة على التأبيد في وضعها، فلا يجوز تغيير وضع الشرع [ومخالفة العهود] (2). والثاني - تصح الذمة. ولسنا نعني العهدَ؛ فإن العهد العريّ عن الجزية لا يجوز إلا مؤقتاً، على ما سيأتي التفصيل في المهادنة، إن شاء الله تعالى، وإنما المعنيُّ ذمةٌ مشتملة على ضرب الجزية فُرض تخصيصها بسنة أو سنتين، فالظاهر المشهور المنع، ومن صحح والتزم، لم يعدم القياس. ثم أثر التصحيح [الالتزامُ] (3)، ووجوبُ الوفاء بموجب التأقيت. ولو أفسدنا الذمة، قضينا بأنها غير لازمة، ولكنهم لا يُغتالون، ويُبْلغون المأمن، وإن طلبوا ذمة مؤبّدة أُسعفوا بها. ولو أقت الوالي الذمةَ إلى وقت مجهول مثل أن يقول: أُقرّكم بالذمة ما شئت،

_ (1) هـ 4: " ينالوا ". وناكب الطريق انحرف عنه. (2) في الأصل: " وتخالف العهود ". (3) في الأصل: " الإلزام ".

فمن لم يمنع التأقيتَ، لم يمنع هذا، ومن منع التأقيتَ على صيغة إعلام الوقت اختلفوا في هذا، وسبب الاختلاف ما روي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل الكتاب في جزيرة العرب: أقركم ما أقرّكم الله " (1) والوجه منعُ هذا منا إذا منعنا التأقيت، وحملُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على توقع النسخ، وكانت جملة الأحكام القابلة للنسخ في زمنه على التردد من جهة إمكان النسخ، وهذا لا يتحقق من غيره. ولو قال في عقد الذمة: أقركم ما شئتم، فهذا جائز لا منع فيه؛ فإنه مقتضى العقد؛ فلأهل الذمة المشيئة في نبذ العهد إلينا متى شاؤوا، فالتفويض إلى مشيئتهم تصريحٌ بموجب العقد. 11481 - ولو عقد الإمام لهم الذمة، ثم رابه منهم أمر لو ظهر في الابتداء، لما عقد الذمةَ، ولكن لم يتحقق، فهل له أن ينبذ العهد إليهم والحالة هذه؟ ذكر المحققون وجهين: أحدهما - أنه يجوز بل يجب كما تجب رعاية ذلك في الابتداء. والثاني - لا يجوز؛ فإن الذمة إذا لزمت، بَعُدَ [أن] (2) نجوّز الهجوم على نقضها من غير ثبت. وهذا عندي فيه إذا كان الأمر المحذور مما يمكن تداركه، فأما إذا كان يتوقع أمر يعظم أثره، ويخاف منه ما يبعد تداركه، فيجب القطع بنبذ العهد إليهم في الدوام، وهذا بيّن في حكم الإيالة. 11482 - ولو عقد الإمام ذمةً على الفساد وذكر الجزية، فمن مقتضى الفساد في الذمة ما قدمناه من أنه لا يلزمه الوفاء، قال الأئمة: إذا لم يصح عقد الذمة، فلا تثبت الذمة المسمّاة، وإنما الرجوع إلى دينار على كل حالم في السنة، حتى لو بقوا على

_ (1) حديث " أقرّكم ما أقرَّكم الله " رواه البخاري من حديث ابن عمر، ومالك في الموطأ عن ابن المسيب (ر. البخاري: الحرث والمزارعة، باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله، ح 2338. وكتاب الشروط، باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك، ح 2730. الموطأ: 2/ 703. التلخيص 4/ 225 ح 2302). (2) زيادة اقتضاها السياق حيث سقطت من النسختين.

[حكم] (1) الذمة عندنا سنة أو أكثر، فالكلام على ما ذكرناه من مقابلة كل سنة بدينار في حق كل رجل، فقد قدمنا أن عقد الذمة إلى صاحب الأمر، ولو تولاّه آحاد المسلمين، لم يلزم، ولم يثبت ولكن سبيله كسبيل الأمان، فلا اعتبار، ويُبلغ المؤمن المأمن، كما نفعله في الأمان. 11483 - ولو بقي الكافر سنة على حكم أمان الواحد من المسلمين، ففي وجوب الجزية عليه وجهان، ثم إن أوجبناها، فهي دينار في السنة. ولو اندس واحد من الكفار فيما بيننا وبقي سنة أو سنتين، ثم شعرنا به وعثرنا عليه، فالذي رأيته للأصحاب أنا لا نأخذ منه شيئاً لما مضى، ولا نجعله بمثابة من سكن داراً سنة مغتصباً؛ فإن عماد ثبوت الجزية القبول، وهذا الداخل المتولّج فينا حَربي، لا أمان له، فلا يتحقق إلزامه من غير التزام، فإذا عثرنا [عليه] (2) فإن لم يبذل الجزية ولم نبذل الذمة، قتلناه على مكانه، وغنمنا ما معه؛ فإنه حربي لا أمان له، ولو بذل الجزية، يعني التزمها، وطلبَ الذمةَ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نبذلها له، وذكر شيخي وغيره في مثل هذا المقام وجهاً أن الجزية لا تؤخذ؛ فإنه مأسور مقدور عليه واقع في القبضة محفوف بنجدة الإسلام، فكان بذل الذمة كبذل الأسير، وقد ذكرنا هذا في حكم الأسرى، وهذا وجهٌ حسن، لا ينبغي أن يغفل الفقيه عنه فيما يجريه من التفاصيل. 11484 - ولو دخل الحربي دارنا، وزعم أنه رسول، لم نكلفه إثبات الرسالة بحجة، ولا حجة (3) إلا تصديقُه فيها، وليت شعري ما أقول ولا كتاب معه، وقد غلب على الظن كذبه؛ فإن مخايل الرسل لا تخفى، هذا فيه احتمال، والعلم عند الله تعالى. ولو ذكر الكافر أنه دخل مستجيراً ليسمع الذكر، فهو مصدّق، ولا تعرض

_ (1) في الأصل: " عقد ". (2) زيادة من المحقق. (3) هـ 4: "وجه".

ولا اعتراض. ولو ذكر الحربي أن واحداً من المسلمين أمّنه، فهل يصدق في ذلك، أم يكلف إثباتَه بالحجة؟ فيه اختلاف ذكره العراقيون: من أصحابنا من قال: لا يصدق؛ فإن الغالب على من يعتمد أماناً أن يستوثق فيه ببينة؛ إذ ذاك ممكن. 11485 - ومما يدور في الخلَد أن الإمام لو أراد أن يبني الجزية على التبعيض في الأخذ في السنة، حتى يطالب في كل شهر بقسطه من الدينار، أو بما اتفق التزامه، فهذا فيه احتمال مأخوذ مما إذا مات الذمِّي في أثناء السنة، أو أسلم، فهل نقول: يستقر قسط من الجزية في مقابلة ما مضى من أيام السنة؟ فيه قولان ووجه البناء عليهما بيّنٌ. فهذا ما حضرنا من المسائل التي شذت وانسلّت عن ضبط الأصول في أحكام الذمة. فصل قال: " وليس للإمام أن يصالح أحداً منهم على أن يسكن الحجاز ... إلى آخره " (1). 11486 - روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " (2) وقال: " لو عشت إلى قابل، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " (3) ثم لم يعش وانقلب إلى رضوان الله تعالى، ولم يتفرغ لذلك أبو بكر؛

_ (1) ر. المختصر: 5/ 199. (2) حديث " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " رواه مالك عن ابن شهاب، وعن عمر بن عبد العزيز مرسلاً، ورواه عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب مرسلاً أيضاً، ورواه أحمد موصولاً عن عائشة بلفظ " آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يترك بجزيرة العرب دينان " (ر. الموطأ: 2/ 892 - 893، عبد الرزاق: ح 9984، المسند: 6/ 274 - 275، التلخيص: 4/ 227 ح 2307). (3) حديث " لو عشت إلى قابل لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " رواه أحمد والبيهقي من حديث عمر، وأصله في مسلم دون قوله: " لئن عشت إلى قابل " (ر. المسند: 1/ 32، البيهقي: 9/ 207، مسلم: الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من=

للأمور المهمة التي وقعت في زمانه، فلما استخلف عمر ومضى صدرٌ من خلافته أجلاهم، وضرب لمن يقدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام، وقيل إنما رجع إجلاؤهم إلى ذِكْره (1) لأنه كان بعث ابنه عبد الله إلى خيبر فسحروه، فتكوّعت (2) يده، وقيل: أخرج عمرُ من الجزيرة زهاء أربعين ألفاً من اليهود، فالتحقوا بأطراف الشام. هذا هو الأصل. ثم مضمون الفصل فيه انتشار، فلا بد من [تفصيل] (3) الغرض، وإيقاعه في فصول. 11487 - فليقع الكلام أولاً في ضبط الجزيرة وذكرها، فنقول: الطريقة المشهورة أن الجزيرة تعني مكة، والمدينة، واليمامة ومخاليفَها المنسوبة إليها، ثم قال الأئمة على هذه الطريقة: الطائف ووَجّ وما يعزى إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من الجزيرة، وألفيتُ في التقريب التهامة (4)، والغالب على الظن أنها تصحيف اليمامة؛

_ =جزيرة العرب، ح 1767، التلخيص: 4/ 228 ح 2308). (1) كذا في النسختين، وهي بمعنى تذكّره، أي رجع إخراجهم إلى تذكره، ويظهر هذا المعنى من سياقة البخاري للحديث، حيث ساقه على النحو الآتي: " عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فُدِعْت بخيبر، قام عمر رضي الله عنه خطيباً في الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أموالها، وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعُدي عليه في الليل، ففدعت يداه، وليس لنا عدو هناك غيرُهم، وهم تهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم ... الحديث " (ر. البخاري: كتاب الشروط، باب إذا اشترط في المزارعة: إذا شئت أخرجتك، ح 2730. وأحمد: 1/ 15، والسنن الكبرى: 9/ 7). ولكن ليس في الحديث أنهم سحروه، بل فيه أنهم عَدَوْا عليه. (2) تكوّعت يده: أي اعوجّت، وهي من رواية الحديث بالمعنى، فلفظ الحديث: " فُدعتُ " والفدع هو عوج في المفاصل، كأنها فارقت مواضعها، وأكثر ما يكون في رسغ اليد أو القدم (المعجم). (3) في الأصل: " تفسير ". (4) علق ابن الصلاح في (مشكل الوسيط) على قول الغزالي: " وفي بعض الكتب: (التهامة) " قائلاً: " وما ذكره من تصحيف اليمامة بالتهامة قد ذكره أيضاً شيخه، وهو غلط موشح بعجمة؛ فإن " التهامة " لا تدخلها الألف واللام، و" اليمامة " تدخلها الألف واللام، والله أعلم ". ا. هـ بنصه (ر. مشكل الوسيط: 2/ورقة: 131/ب) عن هامش الوسيط: 7/ 66 هامش رقم (8).=

فإني لم أر لليمامة ذكراً، وهي من الجزيرة باتفاق الأصحاب، ولا شك أن خيبر من الجزيرة، ومنها الإجلاء في زمن عمر وهي من مخاليف المدينة. وأما أهل العراق فقد قالوا: الحجاز: مكة، والمدينة، واليمن. والحجاز من الجزيرة، وجزيرة البحر تمتد إلى أطراف العراق من جانب، وأطراف الشام من جانب، وسميت هذه الرقعة المتسعة جزيرة لإطافة البحر بمعظم جوانبها واتصالها بالأنهار العظيمة كدجلة والفرات من جانب العراق، فكأنها مكفوفة عن البقاع بالمياه، ثم قالوا: والحجاز من جملة الجزيرة، ومعناه ما ذكرناه. وكان شيخي يقول: " الحجاز والجزيرة واحد، والذي نقل في الأخبار: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم في اللفظ للحجاز " (1). وهذا تردد في اللفظ، والذي يدخل تحت الضبط ما نصفه (2): فلا خلاف بين الأصحاب أن الموضع الذي يمنع الكفار من الإقامة فيه لا ينتهي إلى أطراف العراق والشام، سواء سمّي جزيرةً أو لم يسمّ، وإنما المواضع التي يُنهى الكفار عن المقام

_ =قلت: وفي كلام ابن الصلاح تحامل واضح، غير غريب، بل هو معهود منه في حق إمام الحرمين؛ وذلك أن التصحيف يكون عند عجز الناسخ عن قراءة الكلمة، فيرسمها كما يتخيلها، أو كما يسبق ذهنه إليها، والكلمات المصحفةُ الشأنُ فيها أنها غير مقروءة، لا بعربية، ولا بعجمة. بل إن إمام الحرمين علل لتغليب وقوع التصحيف تعليلاً جيداً، وذلك قوله: " فإني لم أر لليمامة ذكراً في الكتاب (التقريب) وهي من الجزيرة باتفاق الأصحاب " ا. هـ فإذا لم يذكر صاحب التقريب " اليمامة " المتفق عليها وذكر (التهامة) أليس ذلك يغلب على الظن أن الناسخ رسم الياء والميم تاءً وهاء، ولم يعنِّ نفسه بالنظر إلى (الألف واللام) تدخل أو لا تدخل، وربما كان في الناسخ عجمة ساعدته على الوهم والتصحيف. أليس ما توقعه الإمام " وغلب على ظنه من التصحيف " أقرب من أن يحمل الخطأ والنسيان على الإمام الجليل صاحب التقريب؟! ولكنه تحامل ابن الصلاح على إمام الحرمين، كما رأينا مظهره في مسائل أخرى من قبل. (1) إلى هنا انتهى كلام شيخه أبي محمد. (2) بعد أن عرض إمام الحرمين -كدأبه في كل مسألة- ما قاله الأصحاب، وكل ما روي عنهم يبدأ من هنا في مناقشة ما قيل، ويبين اختياره هو.

فيها على طريقة المراوزة: مكة والمدينة واليمامة، وعلى طريقة العراقيين: مكة، والمدينة، واليمن، والمخاليفُ حكمها حكم البلاد في جميع الطرق، وقد يتجه [عدّ] (1) اليمن من الحجاز؛ لأنه مجتمع العرب وفيها العرب العاربة. هذا منتهى القول في بيان الموضع الذي يمنع الكفار من الإقامة به (2). وأما الطرق المعترضة التي لا تنسلك في أوساط البلاد المعدودة من الحجاز، ولكنها بين بلدة منها وبلدة، فمن أصحابنا من ألحقها بالحجاز، ومنع الإقامة فيها، وهذا سديد على رأي من يعين البقاعَ وانتساب البعض منها إلى البعض، ويخرِّج عليه [المنع] (3) من الإقامة بين مكة والمدينة، وإن لم يكن موضع الإقامة منسوباً إلى إحدى البلدتين، وكذلك القول في الطرق القاصدة إلى اليمامة.

_ (1) في الأصل: " عندي ". (2) مرة أخرى -وفي المسألة نفسها- نجد تحامل ابن الصلاح واضحاً على الإمام، فقد قال بعد أن علق على كلام الغزالي وإمام الحرمين في بيان المواضع التي يمنع أهل الذمة من الإقامة فيها، قال: وإنما أطلت في هذا الفصل بعض الإطالة؛ لإشكاله على الفقيه المجرد، ولأن كلام إمام الحرمين فيه اختلّ، ولم يستدّ على جاري عادته، والله سبحانه المسؤول أعلم " ا. هـ. ومن يقرأ كلام ابن الصلاح هذا الذي أطال فيه يجده " موشحاً " بسخرية من الإمام، ظالماً إياه محملاً له تبعة ما لم يقله، وإنما نقله عن غيره وأسنده له صراحة، فاسمعه يقول: " وفيما ذكره ذهابٌ منه إلى أن الحجاز وجزيرة العرب واحد، وقد ذكره شيخه (يعني ذكره الغزالي عن إمام الحرمين) وغيره من المراوزة، وليس بشيء، والصحيح المعروف الشائع بين العلماء أن الحجاز غير جزيرة العرب، فالحجاز عبارة عن مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، نص عليه الشافعي ومن لا نحصيه من أصحابه " ا. هـ يعني أن إمام الحرمين يجهل الصحيحَ المعروف الشائع بين العلماء، والذي نص عليه الشافعي ومن لا يُحصى من أصحابه. وهذا كلام إمام الحرمين بين يديك، فهل قال إن الحجاز وجزيرة العرب واحد؟ إن إمام الحرمين -كما ترى- ْنقل هذا الكلام وردّه، ولم يقل به، ثم إن من قال هذا لا يقصد أن جزيرة العرب والحجاز شيء واحد في أصل الوضع والتسمية، وإنما يقصد أن المراد بجزيرة العرب في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحجاز، وهذا ما فاله ابن الصلاح نفسه، إذ قال: " إذا ثبت هذا، فالمراد بجزيرة العرب -في الأحاديث الواردة في إخراج أهل الذمة- بعضُ الجزيرة، وهو الحجاز " ا. هـ بنصه، فليتأمل. (ر. مشكل الوسيط: 2/ورقة: 131/ب، 1/ 132/أوذلك بهامش الوسيط: 7/ 67). (3) زيادة من (هـ 4).

ومن أصحابنا من لم يلحق الطرق بالحجاز، وهذا قد يخرج على اعتياد مجتمع العرب؛ فإن الطرق ليست مجتمع العرب، وإنما هي جادّتهم، ومحل طروقهم، وقد انتجز الغرض في بيان الحجاز الذي يمنع الكفار من المقام فيه. 11488 - ثم نأخذ بعد هذا في فن آخر قائلين: الحجاز ينقسم إلى حرم مكة [وغيره] (1)، فأما حرم مكة، فيمنع الكفار من دخوله وتخطيه، وإن قصدوا التجاوز، والانتقال (2)، حتى قال الأئمة: لو وفد رسولٌ، لم يجز أن يؤذن له في دخول الحرم، وإن كان يجوز أن يؤذن للكفار في دخول مساجد البلاد، بل يخرج الوالي إليه، أو يخرج إليه من يوثق به، وكذلك إن أتى مستجيرٌ يستمع الذكر، فسبيله كسبيل الرسول. والمعتمد فيما ذكرناه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]، والمراد إن خفتم انقطاع التجاير (3) عنكم، وخفتم لأجل ذلك عَيْلة، فاطردوهم واعتصموا بفضل الله تعالى، ثم لا يختص المنع بخِطة مكة، بل يتعلق بالحرم وفاقاً، وحرم المدينة ليس في معنى حرم مكة، وإن كنا قد نلحقه بحرم مكة في الصيود والمنع من عضد الأشجار، فسبيل المدينة كسبيل اليمامة في المقصود الذي نحن فيه. فأما ما عدا حرم مكة، فلا يمتنع فيه على الكفار طروقها على هيئة الانتقال، ويحرم عليهم الإقامة، ولا يمتنع أن يؤذن لهم في دخولها مجتازين، وإن مكثوا في قرية أو بلدة، فلا يزيدنّ مكثُهم على مكث المسافرين، وهو ثلاثة أيام، من غير احتساب يوم الدخول ويوم الخروج، ولو كانوا يتناقلون من بقعة إلى بقعة ولو قيست أيام تردُّدهم، لزادت على مقام المسافرين، فلا بأس؛ فإن خِطة الحجاز لا يمكن قطعها بثلاثة أيام، حتى قال الصيدلاني وغيره: لا نكلفهم أن يجروا في انتقالهم على

_ (1) في الأصل: " وغيرها ". (2) هـ 4: " وإن قصدوا التجارة، ولم يرد الانتقال ". (وهو خلل واضح). (3) التجاير: التجارات.

المنازل المعهودة، فلو قطعوها فرسخاً فرسخاً، وكانوا يقيمون على منتهى كل فرسخ ثلاثة، فلا منع ولا حجر. 11489 - ويليق بذلك القول في المرض والموت، فمن مرض من الكفار في الحجاز وأراد الإقامة حتى يُفيق، ويستبلّ، نظر: فإن أمكنه أن ينتقل مع مرضه، كُلّف الانتقال، ولو كان يُخاف عليه الموت لو بَرِح، تُرك إلى أن يبرأ، ولو كان يناله مشقة عظيمة، وقد لا يغلب على الظن الموت، فوجهان: أصحهما - تكليف الانتقال. ولو مات كافر في الحجاز، فإن كان في نقل جيفته مشقة عظيمة، واريناه مواراة الجيف، وإن كان على طرف الحجاز، نُقل، وإن كان دفنه أهلُه، ففي نبش قبره ولحده مع التمكن وجهين: أحدهما - أنه يترك لأنه كالمعدوم الممحَق وإلى البلى مصيره، وليس يبعد عندنا [ألا نمنع] (1) نبش قبره. ولو دخل كافر الحرم من غير إذن، ولكن كان معه تعلق بأمان، فمرض، أخرجناه من الحرم وإن أدى إلى هلاكه. ولو دفنه أهله على اختفاءٍ في الحرم، فكما (2) شعرنا به ننقله، وإن تفتت، جمعناه ونقينا الحرم منه. وهذا نجاز القول في هذا الفن، ونأخذ بعده في غيره، فنقول: 11495 - ما أطلقناه من جواز الدخول مشروط بالأمان، ولا يخفى هذا على المحصِّل، ولكن لا يضر بيانه، فالحربي لو دخل الحجاز أو غيرَه من البلاد، نُظر: فإن كان مستجيراً، أو رسولاً، فحالتُه تؤمنه شرعاً، ولا حاجة إلى عقد الأمان، وإن لم تكن رسالة ولا استجارة، فدخل الحربي للتجارة، فالتجارة لا تؤمنه، فإن كان في أمان مسلم، لم نتعرض له اغتيالاً. وإن أراد صاحب الأمر أن يؤمن التجار حتى يدخلوا بلاد الإسلام، فليفعل، فلا

_ (1) عبارة الأصل: " وليس يبعد عندنا نبش قبره "، و (هـ 4):، وليس يبعد عندنا أن لا يرفع نبش قبره "، والمثبت من تصرف المحقق تغيراً، وزيادة. (2) فكما: بمعنى عندما.

يتأتَّى الأمان العام إلا من جهة صاحب الأمر؛ فإن الواحد من المسلمين إذا قال: أمنت من يدخل دار الإسلام تاجراً، لم نصحّح ذلك منه؛ فإنا أوضحنا أن أمان الآحاد [للآحاد] (1)، والأمن العام إلى الإمام، ومن ينصبه الإمام. ولو زعم الكافر أنه ظن التجارة أماناً، لم نبال به واغتيل، وأُخذ مالُه، ولا معوَّلَ على ظنه، إذا لم يكن له مستند. ولو كان الكفار سمعوا واحداً من المسلمين يقول: من دخل تاجراً، فهو في أمان، فاعتمدوه، فلا شك في فساد الأمان، ولكن هل يثبت لهم حكم الأمان إذا ظنوه صحيحاً؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ لأن الأمن العام لا يُحتمل من الآحاد، ولو أثبتنا عُلقة الأمان، فقد أثبتنا فائدة الأمان، وإنما يحتمل إثبات العُلقة في الأمان الفاسد إذا كان ثابتاً على الخصوص. والوجه الثاني - لا يخفى وجهه. ولو عَقدَ واحدٌ من المسلمين ذمةً لكافر، فلا شك في فسادها، والوجه القطع بأن عُلقة الأمان [تثبت للكافر؛ فإن هذا عقدٌ خاص، وإن كان فاسداً. وقد انتجز التنبيه على التشراط الأمان] (2). والذمي لا حاجة له إلى الأمان في دخول الحجاز إذا كان ينتقل فيها ولا يقيم، والذمة في حقه كافية. [فنٌّ آخر] (3) في تعشير أموال الكفار، وهذا غمرة الفصل. 11491 - فنقول: لا يجوز توظيف مال على من دخل رسولاً أو مستجيراً، ولا فرق في ذلك بين الحجاز وغيره من البلاد، والسرّ فيه أن المال يثبت بالشرط، والرسول والمستجير لا يتوقف أمرهما على شرط، فلا ينتظم إلحاق مال بهما. فأما

_ (1) سقطت من الأصل. (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (هـ 4). (3) في الأصل: " من أحد ".

غير الرسول والمستمع للذكر، فلا يجوز للإمام أن يأذن للحربيين حتى يدخلوا بلاد الإسلام، ويترددوا فيها من غير غرض فيه صلاح للمسلمين (1)، والمستجير والرسول متعلّقان بغرض الإسلام؛ فإن الرسول لا بُد منه في الدول، والمستجير نأمل إيمانَه، فأما التردد لأغراض كافرٍ من غير حصول [مقصود] (2)، فلا سبيل إليه، فيضرب الإمام على من يطرق منهم ضريبةً في تجايرهم، ونحن نذكر ما ذكره الأصحاب، ثم نحرص على الضبط. قال الأئمة: المعاهد إذا دخل بلاد الإسلام تاجراً، أخذنا منه عُشر ماله، هذا ضربه (3) عمر رضي الله عنه (4). ولو دخل المعاهَد غيرََ الحجاز من غير تجارة، ولكن كان أمَّنه مسلمٌ، لم يطالَب بشيء، وإذا لم يكن بتجارة (5) [فإن] (6) دخل الحجاز على هذه الصورة، فهل يطالب؟ فيه وجهان، وسبب الاختلاف تعظيم الحجاز، وما ثبت له من الاختصاص، ثم إن أوجبنا شيئاً، فلا متعلّق غير الدينار، وهو أقل الجزية. وهذا عندنا باطل، والوجه القطع بأنه لا يضرب على غير التاجر شيء، ولا أحد يصير إلى تعشير جميع ما معه من ثياب ومركوب. هذا في المعاهد. فأما الذمي فلا ضريبة عليه إذا اضطرب في غير الحجاز من بلاد المسلمين؛ فإن الجزية كافية في تثبيت الأمانِ والعصمةِ المؤبدة (7) في النفس والمال.

_ (1) عبارة (هـ 4): " فيه صلاح للمرسلين، والرسالة والاستجارة تتعلقان ... إلخ ". (2) في الأصل: " بمقصود ". (3) (هـ 4): " هذه ضريبة عمر ". (4) خبر عمر رواه مالك في الموطأ (1/ 281) والبيهقي في الكبرى (9/ 210) وانظر التلخيص: (4/ 233 ح 2327). (5) هـ 4: " إذا لم يكن تاجراً ". (6) في الأصل: " وإن ". (7) هـ 4: " المؤكدة ".

ولو دخل الذمي أرض الحجاز تاجراً، ضربنا عليه نصف العشر، وهذا منقول من نص قضاء عمر (1). ومن أهم ما يتصل بهذا المنتهى أن نقول: لا يثبت العشر من غير شرط في أصل المذهب، لا خلاف في ذلك إنما التردد في المعاهد في غير الحجاز. (2 وإن دخلوا الحجاز بأمان تجاراً 2) ولم يتفق شرطُ ضريبة عليهم، فقد ذكر العراقيون وجهين: أصحهما - أنه لا شيء عليه، جرياً على ما ذكرناه من اشتراط الضرب والتصريح بإثبات الضريبة، والوجه الثاني - أن العشر مأخوذ منهم، ووجهه عندنا اتباع قضاء عمر، حتى كأنا نعتقد قضاءه ضرباً على من سيكون بعده في حكم القاعدة المثبتة. 11492 - ثم إذا وضح هذا، ألحقنا به فناً آخر، فنقول: صح أن عمر رضي الله عنه ضرب عليهم في تجايرهم العشر -يعني المعاهدين- وضرب عليهم في الميرة نصف العشر، وأراد بذلك تكثير الميرة، فقال الأئمة: إذا رأى الإمام حطّاً من العشر في صنف تمَس إليه حاجةُ المسلمين، فلا بأس تأسياً بعُمَرَ في قضائه، ثم إن رأى رَفْعَ الضريبة [حتى] (3) تتسعَ المكاسب، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك جرياً على ما ذكرناه من المصلحة. والثاني - لا يجوز ذلك، ولا بُدَّ من أخذ شيء وإن قل، ولعل هذا هو الأصح. ثم قال الأئمة: لا مزيد على العشر؛ فإن عمر قنع به، مع ظهور سطوة الإسلام، فدل على أنه رآه الأقصى. وفي بعض التصانيف أن الإمام لو أراد أن يزيد على العشر، جاز له أن يزيد، وانتظم مما ذكرناه أن الأسقاط على المصلحة فيه خلاف، والأصح المنع، والحط من العشر جائز وفاقاً على شرط المصلحة، وفي الزيادة على العشر خلاف.

_ (1) قضاء عمر في أن على الذمي نصف العشر إذا دخل بتجارته بلاد المسلمين رواه مالك والبيهقي (انظر الحديث السابق). (2) ما بين القوسين سقط من (هـ 4). (3) في الأصل: " حيث ".

11493 - فن آخر: قال الأئمة: إذا أخذ الإمام من تاجر ما يراه، فلو أراد أن يكرر عليه الأخذ من ذلك المال في تلك السنة، لم يكن له ذلك، فلتكن الضريبة على المال بمثابة الجزية في السنة الواحدة، ولو جاؤونا بتجارة فعشّرناها، فجاؤونا بأموالٍ أُخر في كرّة أخرى، فلا شك أنا نعشرها، وإنما نمتنع عن التثنية في المال الواحد، ثم إذا أخذنا الضريبة في مال وأراد المعاهد التردد، أعطيناه جوازاً مُؤرَّخاً حتى لا يتعرض له العشارون في السنة. وذكر العراقيون وجهين في ترديد مالٍ إلى الحجاز في سنة مرتين فصاعداً: أحدهما - أنا نثني العشر لتعظيم الحجاز. وهذا رديءٌ، ثم شَرْط [هذا] (1) الوجه أن يخرج من الحجاز ويعود، فأما إذا كان يتردّد فيه، فلا نثنّيه. قلت: من لم يضبط المأخوذ بعشرٍ، فلا يبعد على أصله تكريره العشر في سنةٍ أخذاً من تكثير الضريبة، لا من تكريرها، وإذا جاز تكثيرها، فالضريبة التي رأى الإمام ضربها هو بالخيار فيها إن شاء استوفاها دفعة واحدة وإن شاء استوفاها بدفعات. فرع: 11494 - المرأة المعصومة بذمة زوجها أو بذمة قريبها إذا كانت تتردد متّجرة، فحكمها في تعشير ما معها كحكم الذمي المعنيّ بالذمة، فلا يؤخذ من تجايرها شيء في غير الحجاز، وإن دخلت الحجاز، فهي بمثابة الرجل، كما قدمنا ذكره. ...

_ (1) زيادة من (هـ 4).

باب نصارى العرب تضعف عليهم الصدقة

باب نصارى العرب تضعّف عليهم الصدقة 11495 - روي " أن عمر رضي الله عنه طلب من تنوخ وبهراء وتغلب، وهم نصارى العرب الجزية، فقالوا: نحن العرب، فلا نقبل الصغار، والجزيةُ صغار، فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض -يعنون الصدقة- فقال: إنها طهرة المسلمين، ولستم من أهلها، فقالوا خُذْ بذلك الاسم، وضعِّف ما شئت، فضعّف عليهم الصدقة " (1) هذا أصل الباب. وأول ما يجب الإحاطة به أن المأخوذ منهم، وإن كان يسمى صدقة، فهو في الحقيقة جزية، ومصرفه مصرف الجزية، ولا يؤخذ من أموال النساء والصبيان، فإذا رأى الإمام أن يأخذ من قومٍ من الكفار عرباً كانوا أو عجماً، ضعفَ الصدقات، وغرضه من المأخوذ الجزيةُ، فليفعل ما بدا له، ولا ضبط، فلو أراد أن يأخذ ثلاثة أمثال الصدقة، ووقع التراضي بها، أو أخذ مثلها، أو مثل نصفها، فلا بأس، والمأخوذ منه يُقابَلُ بالجِزَى المفضوضة على الرؤوس: لكل رجل دينار، فإن وفَّى المأخوذ، فذاك، وإن زاد وقبلوا الزيادة، لزمهم الوفاء بها، كما تمهد، وإن نقص المأخوذ عن مقدار الجزية كلّفناهم بتكميل الجزية على حسب ما ذكرناه. ولو أراد أن يأخذ منهم مقدار الصدقة، فإن كان أكثر من أقل الجزية، جاز وإن كان مثل الجزية، فالذي اقتضاه قول الأصحاب في الطرق أن ذلك جائز، إذا رآه الإمام؛ فإن الغرض استيفاء الجزية بأي حسابٍ فُرض، وعلى أي وجه قدر، ولا يبعد عندنا أن يقال: إذا لم يكن للإمام غرض ماليٌ فيما يأخذه، فتشبيهه أهل الذمة بالمسلمين في

_ (1) خبر عمر مع نصارى العرب وقبولهم تضعيف الصدقة فراراً من اسم الجزية، رواه الشافعي (الأم: 4/ 281)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 198)، وعبد الرزاق في مصنفه (ح 9974)، والبيهقي (9/ 216) ورواه أبو عبيد في الأموال: (ص 33 ح 71). وانظر التلخيص: (4/ 233 ح2326).

المأخوذ منهم ظاهراً حطٌّ للصغار المعتبر، والأمر في ذلك مفوّض إلى رأي الإمام. ولو أراد أن يأخذ منهم نصفَ الصدقة، وألفاه زائداً على الجزية، فلا شك في جوازه، وإن كان قدرَ الجزية، فالذي ذكره الأصحاب الجواز، وما أشرنا إليه من ترديد الرأي في ملاحظة إبقاء الصغار عليهم جارٍ هاهنا. والباب عريٌّ عن الفقه؛ فإن حاصله يؤول إلى أن المأخوذ جزية، فينبغي ألا ينقصَ عن الأقل المعتبر، وإن زاد، قبلنا الزيادة. 11496 - ثم إذا جرى للإمام تضعيفُ قدر الصدقة عليهم، فللأصحاب تصرف في معنى التضعيف راجعٌ إلى التنازع في فحوى الصيغة، وإذا لم يكن مطلوب الباب فقهاً، فلا مبالاة. ونحن نذكر الآن ما ذكره الأصحاب في معنى التضعيف، فإذا قال الإمام: ضعّفت عليكم الصدقة، فمعناه: ضعَّفتُ عليكم قدرَ الصدقة، وكل ما يجب في مال المسلم يؤخذ ضعفه من مال الكافر، فنأخذ بدل البعير بعيرين وبدل الشاة شاتين، وعلى هذا القياس يجري معنى التضعيف، فنأخذ من خَمسٍ من الإبل شاتين، ومن عشر أربعَ شياه، ونأخذ من خمس وعشرين بنتي مخاض، ولا نقول نأخذ منها حِقة نظراً إلى نصاب الحِقة؛ فإن معنى التضعيف هذا الذي ذكرناه، وكذلك نأخذ من عشرين ثماني شياه، لا بنت لبون، ومن ستين من البقر أربعة أتبعة. ْوالأصل أن معنى التضعيف يحمل على [ما يجب] (1)، ولا يحمل على الترقي بالسن؛ فإنا ذكرنا أن مطلوب هذا الباب يرجع إلى معنى اللفظ، فلو أخذنا من خمس وعشرين حقة، لم يسمّ هذا تضعيفاً للصدقة، وإنما هو [تضعيف لقدر المال] (2) والأخذ بحسبه، ونأخذ من مائتي درهم عشرة دراهم، ومن عشرين ديناراً ديناراً، ومن الزرع المسقي بالسماء خمساً، ومن الزرع المسقي بالنضح عشراً، وإن ملك

_ (1) في النسختين: " ما يحسّ ". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى، وعبارة الغزالي في البسيط. (2) في الأصل: " تقرير تضعيف المال ".

مائتين من الإبل، أخذنا منه عشرَ بنات لبون، أو ثماني حقاق. قال الأئمة: لا نفرق، فنأخذ خمسَ بنات لبون، وأربع حقاق. كما لا نفرق الصدقة؛ فإن الغرض تقدير الصدقة وتضعيفها. 11497 - واختلف الأئمة في وقص أموالهم وأنه هل يؤخذ منه شيء، مع العلم بأن الوقص لا يجب بسببه زيادة، وحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يؤخذ منه شيء من الكافر؟ فإن الصدقة هي المضعّفة، فإن لم يكن فيها صدقة، فلا معنى للتضعيف. والثاني - أنا نأخذ من وقص أموالهم على حساب التضعيف، فإنا لا نرعى في حقهم من التخفيف ما نرعاه في حق المسلم. والثالث - أن الأخذ من الوقص إذا كان يؤدي إلى التشقيص مع التضعيف، فلا نوجب، وإن كان لا يؤدي إلى التشقيص، [أخذنا من] (1) الوقص؛ فإن الذي أوجب منع الأخذ من وقص مال المسلم أنا لو أخذنا منه، لأوجبنا شقصاً، واعتباره عسرٌ في الحيوان، فنصبر إلى أن يكمل الواجب الزائد. فعلى هذا إذا ملك سبعاً ونصفاً من الإبل، فعليه ثلاثُ شياه؛ إذ لا تشقيص على حسب التضعيف، وإذا ملك من الإبل ثلاثين ونصفاً، فعليه بنت مخاض، وبنت لبون، وفي خمس وثلاثين من البقر تبيع ومُسنّة، هذا ما يقتضيه حساب التضعيف، مع الأخذ من الوقص، واجتناب التشقيص. وبيان ذلك أنه إذا ملك ثلاثين ونصفاً من الإبل فنقدر تضعيف ما يزيد على الخمس والعشرين والزائد على الخمس والعشرين خمس ونصف، فإذا ضعّفنا هذا الزائد تقديراً، بلغ المال ستاً وثلاثين؛ وواجبها بنت لبون، فنوجب بنت مخاض في الخمس والعشرين، ونوجب بنت لبون بتقدير بلوغ المال ستاً وثلاثين، فيتضعف واجب الخمس والعشرين، فإنه يجتمع عليه بنت مخاض وأجزاء من بنت لبون، ويتضعّف الوقص حتى لا يؤدي إلى التشقيص، وهذا ذكره القفّال.

_ (1) في الأصل: " أخذ من "، (وهـ 4): " أخذنا منه ". والمثبت اختيار المحقق من النسختين.

11498 - والأصلُ ألا نوجب في الوقص شيئاً، فانا ذكرنا أن مضمون الباب مدارٌ على معنى اللفظ، واللفظ المذكور تضعيف الصدقة، وإنما يُضعَّفُ كائن، وإذا كانت الصدقة لا تجب في الوقص، فلا معنى لتقدير التضعيف، ولولا أن البويطي روى عن الشافعي أنه قال: " إذا ملك مائة درهم أخذ منه خمسة دراهم، وإذا ملك عشرين شاة فعليه شاة، وإذا ملك بعيرين ونصفاً فعليه شاة " وكل ذلك مما نص الشافعي عليه في رواية البويطي، فاعتضد بالنص الإيجابُ في الوقص، وبقي النظر في التشقيص، ولولا النص، لحسمنا الباب، ولما أوجبنا في الوقص شيئاً. ثم من لم يبال بالتشقيص، يقول: من ملك ثلاثين ونصفاً من الإبل، فيجب في الخمس والعشرين بنتا مخاض، ويجب في الخمس والنصف ما يجب في الأحد عشر من أجزاء بنت لبون إذا أضيفت إلى ست وثلاثين. ومن يجتنب التشقيص ويفرع على الإيجاب في الوقص، فلا يجد [طريقاً لا يتعطل] (1) فيه الوقص، ويجتنب التشقيص إلا ما ذكره القفّال، على ما قدمنا [تقريره] (2) وتقديره. وفيما ذكره أمر محذور، وهو تضعيف المال، ومساق (3) ذلك يتضمن إيجاب حقة في خمس وعشرين مثلاً، وقد ذكرنا أنا لا نفعل ذلك، بل نوجب بنتي مخاض، ولكن هذه الصورة تتميز عن الخمس والعشرين بما ذكرناه من ضرورة التشقيص، مع أنا لا نريد تعطيل الوقص. فهذا منتهى المذكور في ذلك. ومن أوجب في الوقص بعد النصاب زيادةً، أوجب فيما لا يبلغ نصاباً بحساب التضعيف.

_ (1) عبارة الأصل: " فلا يجد طريقاً إلى ألا يتعطل فيه التشقيص ". (2) في الأصل: " تقريبه ". (3) هـ 4: " وسياق ".

فهذا بيان الأَوْجُه، مع العلم بعرُوّ جميع ذلك عن الفقه، ورجوع الأمر إلى التصرف في لفظٍ. وكل ما لا يناقش فيه مخالفٌ -لو صرّح به في عقد الذمة- يثبت؛ فإن ما يثبت في هذا الباب جزية، وفقه الجزية ألا تنقص عن دينار، والزيادة ممكنة، في الكل والشقص على حسب التراضي، وإن أشكل لفظ رجع إلى معناه من طريق اللسان. 11499 - ولو ملك ستاً وثلاثين ولم يكن في إبله بنتُ مخاض، فالذي يقتضيه قياس التضعيف أنا نأخذ منه بنتي مخاض مع الجبران، وهل يضعّف الجبران؟ اشتهر الخلاف فيه، والصحيح أنا لا نضعفه؛ لأنا قد ضعفناه مرة؛ إذْ أوجبنا بنتي مخاض، وضممنا إلى كل واحدة شاتين أو عشرين درهماً، فلو ضعّفنا الجبران، لكان تضعيف التضعيف في مقدارٍ. ومن أصحابنا من قال: يؤخذ مع كل بنت مخاض أربعُ شياه، أو أربعين درهماً، وهذا غلط لا نشك فيه، ولا ينبغي أن يعد هذا من المذهب، وإن اشتهر نقله، ولكنه نادرة من رجل مرموق ضَرِي الناقلون بنقلها. ولو ملك ستاً وثلاثين وليس في ماله بنتُ لبون، وفي ماله حقاق، فنأخذ حِقّتين، ولا بد من ردّ الجبران، ولا خلاف هاهنا أنا لا نقابل كل حقّة بجبرانٍ واحد، فلا تضعيف فيما نردّه ونبذله وإنما التردد فيما نأخذه. ثم الإمام إذا كان يردّ الجبران، فلا شك أنه يخرجه من الفيء لا من الصدقات؛ فإن المأخوذ من هذا مقصود الباب. 11500 - وقد قدمنا أن الوالي لو أراد أن يزيد على الضعف، أو ينقص، فلا معترض عليه، وذكرنا أن المذهب أنه لا مزيد على العُشر المأخوذ من تجاير المعاهدين اقتداء بعمر، وهاهنا قطعنا بجواز الزيادة على الضعف، والسبب فيه أن الضِّعف ربما لا يفي بأقل الجزية، ولا بد من اعتبار أقل الجزية، والعشر المأخوذ من المعاهَد ليس جزية، ولو قبل المعاهدون أكثر من العشر، أخذنا منهم، كما إذا قبل الذمي أكثر من الدينار، غير أن الذي أراه أن الزيادة تلزم الذمي، كما اتفق الأصحاب عليه، لأنها

ذكرت في عقدٍ، والجزيةُ فيه بمثابة العوض، والضريبة الموظفة على المعاهد ليست في عقد، فإذا بذل لسانُه بمزيد، فيظهر ألا يلزمه الوفاء به، ويلزم العشر؟ اتباعاً للقضاء. ويجوز أن يقال: يلزم الزائد على العشر بالالتزام؛ فإن الجاري مع المعاهد أمان، وإن لم يكن ذمةً مؤبدة، وكأنا لا نؤمنهم ليحصّلوا أغراضهم من تجاراتهم إلا بمال، كما لا يقر أهل الذمة في خِطة الإسلام إلا بالجزية. هذا قولنا في الزيادة على التضعيف. 11501 - فإن قيل: إنما فعل عمر هذا مع العرب لما أنِفوا من التصريح بقبول الجزية، فهلا قلتم هذا يختص بالعرب حتى لا يجوز مثلُ ذلك مع العجم؟ قلنا: قد ذهب إلى هذا بعض أصحابنا اتباعاً لعمر، وهذا ليس من ثمرات الفقه المحض، وإنما هو أمر سياسي، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن ذلك يجوز في العجم، كما يجوز في العرب، وهذا التردد سببه انحطاط الصَّغار، وهو قريب مما قدمناه من تردد الأصحاب في أن التوكيل في أداء الجزية هل يجوز أم لا؟ ولا يبعد أن يتخصص العرب بمزية عن العجم، وهذا كما أن الرّق يجري على العجم قولاً واحداً، وفي جريانه على العرب قولان. 11502 - ثم أعاد الأصحاب في هذا الباب أصلاً قدمنا تمهيدَه، فقالوا: تُقابل الصدقات بالرؤوس، فإن كانوا أغنياء، اعتبرنا لكل رأس ديناراً، وإن كانوا منقسمين منهم الفقراء، فإن أخرجوا عن أنفسهم وعن الفقراء ديناراً ديناراً، وبلغت الصدقة هذا المبلغ أقررنا الفقراء، وإن بلغت الصدقة ما على رؤوس الأغنياء، ففي تقرير الفقراء الكلام المفصّل فيما مضى، ويتعلق بذلك أنهم أدَّوا عن الفقراء، فلا بد من تقدير الضرب على الفقراء وصدر الأداء عن إذنهم. وما ذكره العراقيون أنهم قالوا: إذا قابلنا الصدقة بالرؤوس فوفت بالدنانير، أو زادت، فلا كلام، وإن كان يعسر علينا هذا التقدير في كل سنة، ولكن غلب على ظننا وفاء الصدقة بالدنانير، فهل نقنع بغالب الظن، أو نرد الأمر إلى التحقيق؟ ذكروا

في ذلك وجهين ولست أرى لمثل هذا الكلام وجهاً مع العلم بأن أقل الجزية دينار، ولا بد من الخروج عنه على تحقيق، ولست أحمل ذلك إلا على نظر ناظر إلى إطلاق تضعيف الصدقة من عمر، فظن هؤلاء أنه كان لا يقيس ما نأخذ بجزية [الرؤوس] (1) في كل سنة، وهذا وَهمٌ وخطأٌ، ولا يليق بعمر رضي الله عنه المجازفة في الأمور. ...

_ (1) زيادة من (هـ 4).

باب المهادنة

باب المهادنة 11503 - إذا أراد الإمام أن يهادن جمعاً من الكفار، نُظر: فإن لم يكن بالمسلمين ضعف، فله أن يهادن الكفار أربعة أشهر، وهي مدّة التسييح، قال الله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]، والذي قطع به الأصحاب أنه لا يجوز تبليغ مدة المهادنة سنة؛ فإنها مدة الجزية، فلا يجوز الكف عن الكفار في مدة الجزية من غير جزية، وذكروا قولين في جواز المهادنة أكثرَ من أربعة أشهر وأقلَّ من سنة: أحدهما - أن المهادنة تصحّ لقصور مدتها عن أمد الجزية، فأشبهت المهادنة على أربعة أشهر. والثاني - أنها لا تصحّ؛ فإن الأربعة الأشهر منصوص عليها في كتاب الله تعالى، فاتبعناها، ولم نزد عليها. ومن أصحابنا من قال: المهادنة على ما دون السنة محمولة (1) على ما إذا مات الذمي في خلال السنة، وقد اختلف القول في أنا هل نُلزمه قسطَ ما مضى من الجزية؟ فإن قلنا: لا يجب فيما نقص من السنة [قسطٌ من الجزية] (2)، فالمهادنة جائزة، وإن قلنا: يجب فيما نقص من السنة قسطٌ من الجزية، فلا تصح المهادنة. ثم قال هؤلاء: لو مضى من سنة الجزية (3) أربعةُ أشهر أو أقل، فمات الذمي، لا يجب في مقابلة الأربعة الأشهر شيء، فإنها مدة التسييح؛ وإن كان يجب ما يقابلها إذا زادت المدة. وهذا تخليط لا أصل له، ولا فرق بين الأربعة الأشهر وبين الزائد عليها في الخروج على القولين إذا مات الذمي، أو أسلم في أثناء السنة، وينبغي أن يكون

_ (1) أي مقيسة عليها. (2) في الأصل: " جزية ". (3) هـ 4: " الهدنة ".

مأخذ القطع في الأربعة الأشهر في تجويز المهادنة، ومأخذ القولين في الزائد من نص القرآن وهو قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (1). وفي بعض التصانيف ذكر قولين في جواز المهادنة على سنة. وهذا غلط، لم أره لأحد من الأصحاب، وإنما الموقفُ السنةُ (2)، فإذا خرج قول في جواز المهادنة سنة - ولا ضعف- فيجب خروج هذا القول في سنتين، فصاعداً، وهذا خرمٌ لقاعدة المذهب (3)، فلا اعتداد به، وهذا ملتحق بالهفوات. 11504 - هذا إذا لم يكن ضعفٌ، فأما إذا كان بالمسلمين ضعفٌ، فللإمام أن يهادن الكفارَ عشرَ سنين، والمتبع فيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هادن أهلَ مكة عشرَ سنين على المكافّة، ثم إنهم نقضوا العهد، كما سنصف طرفاً من ذلك، إن شاء الله تعالى، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا مزيد على العَشْر. هذا ما ذهب إليه المحققون. وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً في جواز الزيادة، ودليل هذا القائل ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنزيلاً للمهادنة على المصلحة اللائقة بالحال، فليتأمل كل ناظر ما يليق بالاستصواب والاستصلاح. وهذا وجه مزيف لا تعويل عليه، ولا اعتداد به. ولو عقد [الإمام] (4) المهادنة وأطلقها، ولم يذكر وقتاً، فإن كان في قوة الإسلام والمسلمين، ففي بعض التصانيف قولان: أحدهما - أن الهدنة تنعقد على أربعة أشهر؛ تنزيلاً لها على أقل المدة اللائقة بالحال. والقول الثاني - أنها تنعقد على سنة، تنزيلاً لها على الأكثر.

_ (1) المعنى أن من منع الزيادة على الأربعة الأشهر أخذ بمفهوم الآية، ومن أجاز الزيادة إلى ما دون السنة نظر إلى نقصها عن سنة الجزية. (2) المعنى أن الموقف الذي انتهى التفريع إليه هو السنة، كما يظهر في التعليق الآتي بعده. (3) المذهب أنه لا تجوز الزيادة على سنة قطعاً، ولا سنة على القول المعتمد في المذهب، ولا يجوز ما بين السنة الأربعةً الأشهر على الأظهر (ر. الروضة: 10/ 335). (4) زيادة من (هـ 4).

وهذا خطأ من وجهين: أحدهما - تقدير الهدنة على سنة في قوة المسلمين، وقد أوضحنا هذا. والثاني - أن الهدنة لا تختص بالأربعة الأشهر ولا بالسنة، وإن كانت السنة مدةً للهدنة؛ فإنها قد تُعقد على عشرة أشهر فلا معنى للتّحكم بتنزيلها على الأربعة أو على السنة، والوجه القطع بفساد الهدنة. وقد ذكر صاحب التقريب فيه إذا كان بالمسلمين ضعف وقد أطلقت الهدنة، فالهدنة المطلقة تحمل على عشر سنين، وهذا يناظر ما ذكرناه من حمل الهدنة على سنة إذا كانت القوة للمسلمين. وكل ذلك باطل، والوجه إفساد الهدنة المطلقة في القوة والضعف جميعاً، لما أشرنا إليه من أن المدة لا يخصصها في الإطلاق لفظ ولا عُرف، ولا أمرٌ شرعي، فالوجه إفسادها، ثم إذا فسدت المهادنة، فأثر فسادها أنها لا تلزم. ولكن لا يجوز المسير إلى الكفار بغتة من غير إشعارهم بأن لا عهد بيننا وبينهم، وهم ما داموا على ظن العهد آمنون. ولو زاد الإمام على عشر، والتفريع على أن الزيادة ممتنعة، فلا شك أن الزيادة مردودة، وهل [تفسد] (1) المهادنة على العشر أم تلزم، وتنحذف الزيادة على العشر؟ فعلى قولين: أحدهما - أن الزيادة منحذفة والهدنة لازمة على العشر. والثاني - أن الهدنة فاسدة، وقرّب الأصحاب القولين من قاعدة تفريق الصفقة، فإن العشر مدة الهدنة، فإذا ذكرت مع الزيادة عليها، كان ذلك جمعاً في عقدٍ بين ما يجوز وما لا يجوز. هذا مأخذ القولين. ثم الأصح تصحيح المهادنة؛ فإنا حيث نُفسد الصفقة بالتفريق، فمعوّلنا ما يؤدي التصحيح إليه من جهالة العوض، وهذا المعنى لا يتحقق في المهادنة، وينضم إلى ذلك ابتناء المعاملة مع الكفار على ضرب من المساهلة لا يحتمل مثله في المعاملات الخاصة الجارية بين المسلمين. 11505 - وممّا يتعلق بقاعدة الهدنة أن الكفار لو طلبوا الهدنة وليست تبعد عن

_ (1) في الأصل: " تلزم ".

المصلحة والنظر للمسلمين، فهل يجب إجابة الكفار إلى ما يطلبون؟ المذهب أن ذلك لا يجب؛ فإنه ليس للمسلمين منفعة حاقة، بل ينظر الإمام ويقدم ما يراه الأصلح، وليس ما نعلّقه باجتهاد الإمام معدوداً من الواجبات، وإن كان يتعين على الإمام إذا رأى صلاحاً أن يبتدره، ولكن الاجتهاد لا ينضبط، والرأي لا تنحصر مسالكه. وهذا بمثابة قولنا: لا يجب على الإمام أن يقتل الأسرى من الكفار والمراد به أن الإرقاق، والمن، والفداء ممكن على الجملة، ولا تعيين من جهة الشارع يقطع نظر الناظر واستصواب المجتهد، فالمهادنة مع الكفار كذلك، فإن رأى المصلحة فيها، وإن كانت القوة للمسلمين، فحق عليه أن يُمضي ما يراه، ووجه المصلحة أن يطمع في اختلاط المسلمين بهم، واختلاطهم بالمسلمين وانتشار الدعوة فيهم، وانتشار الدعاة، فلعلهم يرشدون أو بعضهم. وفي بعض التصانيف أنهم إذا طلبوا الهدنة، وجبت إجابتهم إذا لم يكن منهم مضرّة، وهذا خطأ محض؛ فإن تعيين إيجاب الهدنة والانكفاف عن الجهاد من غير منفعة ناجزةٍ للمسلمين لا معنى له. 11506 - ولو طلب كافر أن يجار ويؤمن ليستمع الذكر، فالذي قطع به الأصحاب أنه تجب إجابته، وقد شهد النص بذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} الآية [التوبة: 6]، وليس هذا من معنى الهدنة بسبيل؛ فإن الهدنة أمان عام لجيل (1) من الكفار، وما ذكرناه الآن استجارة من واحد أوآحاد ليسمعوا الذكر، ثم المستجير لما ذكرناه لو لم يشتغل باستماع الذكر، وبان إضرابه، نبذنا إليه الأمان، ولو استجار ليستمع حجة الإسلام، فهل نقول: إذا أخذ يتردد ويسأل ويجاب، فنمهله أربعة أشهر لهذا الغرض، أم نقول: إذا لم ينفصل الأمر بمجالس يُفرض في مثلها البيانُ التام، نبُذ إليه عهدُه، وقيل له: الحق بمأمنك، فلا فلاح فيك؟ فيه تردد، أخذته من فحوى كلام الأصحاب: منهم من قال: يمهل أربعة أشهر مدة التسييح. ومنهم من قال: لا يلزمنا إلا البيان له، ولعل هذا هو الظاهر، والعلم عند الله تعالى.

_ (1) الجيل: الأمة والجنس من الناس، فالروم جيل، والترك جيل. (المعجم).

وليس على المستجير بذلُ مال، كما قدمناه. ولو جاء كافر، وطلب أن نعقد له الذمة ونُلزمه الجزية، ففي بعض التصانيف أن الإمام يلزمه أن يجيبه، وفيه وجه آخر أنه لا يلزمه، ولكن ينظر إلى الأصلح، وهذا فيه إذا كان لا يظن ضرراً، وقد أجرى هذا المصنف طلب الذمة وطلب المهادنة، ثم قال: المذهب أن الإجابة إلى الهدنة لا تجب، وفيه وجه أنها تجب. وإذا طلب الكافر الذمة، فالمذهب أنه تجب إجابته، وفي المسألة وجه أنه لا تجب إجابته. وما ذكره في الأمرين جميعاً ليس على وجهه، فالوجه القطع بوجوب الإجابة إلى الذمة، إلا أن يفرض [ضرر] (1) متحقق أو مظنون. وقد ذكرتُ هذا. ومن قال: لا تجب إجابة الكافر إلى عقد الذمة، فقد رد أصلاً عرفه فقهاؤنا متفقاً عليه، وذُكر وجه في إيجاب الإجابة إلى الهدنة، وهذا في الفساد كالوجه المحكي في أن الذمة لا تجب. فإن قيل: ألستم ذكرتم في فصل تعشير أموال الكفار أنهم لا يمكنون من دخول دار الإسلام إلا بشيء يؤخذ منهم، ثم جوزتم الانكفاف عن الكفار من غير شيء؟ قلنا: ما نضربه على من يدخل منهم دارنا في مقابلة تخطّيهم خِطة الإسلام، واختلاطهم بالمسلمين، والمهادنة معناها تقرير الكفار في ديارهم، وكف القتال عنهم، فلا يبعد أن يطالَبوا بمالٍ على ترك مقاتلتهم مدة معلومة، قدمنا وصفها، ومقدارها. فهذا الذي ذكرناه أصول (2) في باب المهادنة. 11507 - ونحن بعدها نخوض في مسائل من الهدنة، هي مقصود الباب، ونقدم عليها طرفاً من المهادنة التي جرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تمس الحاجة إليه في المسائل: لما صُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلَ بنَ عمرو، وكان رسولاً من أهل مكة، ثم أجرى رسول الله صلى الله

_ (1) في النسختين: ظن. والمثبت من المحقق (2) هـ 4: " فصول ".

عليه وسلم في الهدنة أن من جاء إلى الكفار منا، فسحقاً سحقاً، لا نسترده، ومن جاءنا من الكفار، رددناه، هكذا جرت المهادنة وهي قصة معروفة. ثم رُوي أن المهادنة، لما انعقدت جاء أبو جندل بنُ سُهيل مسلماً، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيه، فولّى معه باكياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يجعل لك مخلصاً، قال عمرُ: فأخذ سهيلُ ابنَه أبا جندل، واستمسك بيساره، فأخذت بيمينه وأشرت إلى سيفي، حتى ضربت كفّه بقائمته، وقلت: لا تبال -تحريضًا على قتله- فإن دم الكافر عند الله كدم الكلب، قال: كنت أُعرّض له بقتل أبيه، فعرف مرادي، وتبسم في وجهي وضنّ بأبيه، ولم يقتله. ثم ورد أبو بصير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه إلى المدينة فجاء في طلبه رجلان، فردّه عليهما، فلما أدبرا به راجعين قال صلى الله عليه وسلم: " مِسعرُ حربٍ لو وجد أعواناً " يُعرِّض له ألا يرجع إن أمكنه، فلما كان ببعض الطريق قتل أبو بصير صاحبيه، وانضم إليه ممّن كان يريد الالتحاق بالمسلمين جمعٌ، ثم دخل المدينة في جماعة شاكين في السلاح، ثم هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة، فنزل قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10]، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ردّها. هذا ما جرى والقصة طويلة " (1)، ونحن نقلنا منها ما تمس الحاجة إلى نقله في مسائل الباب. 11508 - والآن إن اتفقت مهادنة، فيجوز شرط رد الرجال عليهم على الجملة، ولا يجوز شرط رد النساء عليهم إذا جئن مسلمات مهاجرات. ومما يجب تقديمه على الخوض في المسائل أن أصحابنا اختلفوا في أن النسوة هل

_ (1) قصة صلح الحديبية رواها البخاري في حديثٍ طويل عن المِسْوَر بنِ مَخْرَمة، ومروانَ، (البخاري: الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، ح 2731، 2732). هذا وليس في رواية البخاري قول عمر " ... فإن دم الكافر عند الله كدم الكلب " وإنما ورد هذا في رواية الإمام أحمد في مسنده من حديث المسور (المسند: 4/ 223، 326). وانظر التلخيص: 4/ 241 ح 2341.

اندرجن تحت عقد المهادنة إذ أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: من جاءنا، فهو مردود عليكم؟ فمن أصحابنا من قال: دخلن تحت العقد، واقتضى موجبُه ردَّ النساء، ثم نسخ ذلك بآية المهاجرات المؤمنات، ثم ذكر الفقهاء في هذا المقام طرفاً من نسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب، واختبطوا فيه على غير بصيرة، ولسنا له؛ فإن مقدار غرضنا التردد في أنهن هل دخلن؟ وقال قائلون: ما دخلت النسوة في مطلق العقد في حكم الرّد، وكان قوله صلى الله عليه وسلم: " من جاءنا " عامّاً، والمراد به الرجال، ثم تبين بنزول آية المهاجرات تخصيص ذلك اللفظ العام بالرجال، ثم من سلك هذا المسلك اختلفوا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل علم أنهن مستثنيات حالة إطلاق اللفظ، أو لم يعلم ذلك ثم تبيّنه عند نزول الآية؟ فقال قائلون: كان عالماً بأنهن غيرُ داخلات، ولكن لم يتعرض لذكرهن، وذكر لفظاً عاماً، ورأى في ذلك استصلاحاً. وقال قائلون: ما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهن غير داخلات حتى عرّفه الله تعالى. وهذا كلام مضطرب؛ فإن صاحب اللفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف ينتظم أن يقال: لم يعرف معنى لفظ نفسه حتى نزلت آية المهاجرات؟ والممكن في ذلك أن يقال: لم يخطر له التخصيص وتحقيق التعميم، وهذا لا يشفي الغليل، فالوجه أن يقال: أُمر بأن يقول قولاً، ولم يعرف معناه؛ فما كان صلى الله عليه وسلم مستقِلاً بإنشاء ذلك القول حتى يتّجه السؤال الذي ذكرناه، وهذه مقدمات اضطرب الأصحاب فيها، ونحن رأينا أن نذكر منها قدر الحاجة. 11509 - والآن قد حان أن نخوض في المسائل، فنقول: أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد المسلمات، وأوجب عليه أن يغرم لأزواجهن ما أنفقوا، وأجمع العلماء على أن المراد بما أنفقوا ما ساقوا من مهور النساء. هذا حكم الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو جرت منا مهادنة، ثم امتنعنا من ردّ النسوان تأسّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجب علينا أن نغرم ما ساقه الأزواج من المهور، كما كان يجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فعلى قولين: أحدهما -

أنه يجب علينا، [كما كان] (1) يجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني - لا يجب علينا غرامة المهور، واختص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزامها. ثم، قال الأئمة: القولان فينا مبنيان على تردد العلماء في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التزم المهور، وفيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي (2): أحدهما - أنه التزم المهور لطريان النسخ، وقد كان ثبت اندراج النساء، ثم نسخ الحكم، فالتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدال مهور النساء، لمّا تعذر عليه ردّهن بالنسخ. والقول الثاني - أنه التزم مهورهن، لأنه صلى الله عليه وسلم أوهم بلفظه العام التزام ردّ النسوان، ثم تبين الأمر على خلاف ما ظنوه، فغرم لهم الأعواض. فقال الأصحاب: القولان في أنا هل نغرم ما غرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيان على القولين في علة غرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلنا: إنه صلى الله عليه وسلم غرم بسبب النسخ الذي جرى، فلا غرم علينا، إذ لا يتصور النسخ بعد انقلابه صلى الله عليه وسلم إلى رضوان ربه عز وجل. وإن قلنا: علة غرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى من إبهام اللفظ، فهذا يتصور، كما يتصور منه صلى الله عليه وسلم، فنلتزم المهر، على تفاصيل سيأتي الشرح عليها الآن، إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: لا غرم، فلا كلام، وإن قلنا: يجب علينا أن نغرم المهر، فهو المعني بغرم ما ينفقون في نص الكتاب. 11510 - ثم الكلام في تمهيد المقصود يتعلق بفصول توضح القواعد، ونحن نأتي بها مفضلة، ثم نذكر بعدها مسائل تحوي ما يشذ عن ضبط القواعد وتردها إلى القواعد. فأول ما نذكره سببُ الغرم، فإذا جاءتنا مسلمة، وجاء الزوج طالباً لها، مطالباً بردها، فقد اختلف الأئمة في سبب الغرم: فمنهم من قال: سببه أنا شرطنا في

_ (1) في الأصل:" ما كان ". (2) هـ 4: " من قول الشافعي ".

المهادنة أن نردّ عليهم من يأتينا منهم مسلماً، فإذا لم نف بموجب اللفظ، كنا في مقام الغارّين، والغرورُ سببٌ في الضمان، ولا معاب في الإبهام إذا دعت الحاجة إليه، وكان يتطرق الاحتمال إلى اللفظ، وفي الحديث: " إن في المعاريض مندوحة عن الكذب " (1) وصح: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلان إذا أراد سفراً ورّى بغيره " (2)؛ فلنا أن نوهم ونُبهم، ولكن لا نصرّح، ونُبقي لإمكان الصدق وجهاً، ثم نلتزم الغرم على مقابلة ما نأتي به من الإبهام (3)، وهؤلاء يقولون: لو صالحناهم ولم نتعرض لِرَدّ من يأتينا منهم، فإذا أتتنا نسوة مهاجرات، لم نغرم لأزواجهن شيئاً؛ فإن سبب الغرم على هذه الطريقة، التعرضُ لِردّ من يأتينا؛ فإذا لم يجر ذلك، فلا غرم. وذهب صاحب التقريب وأئمة العراق، وكل من ينتسب إلى التحقيق أن ثبوت الغرم لا يتوقف على التعرض لردّ من يأتينا منهم، ولكن نفس المهادنة تقتضي الغرمَ إذا امتنعنا عن ردّ النسوة، ووجه هذا أن متضمّن المهادنة (4) عقدُ الأمان، وإزالة التعرض عن الأهل والمال، فإذا جاءت امرأة مسلمة مهاجرة، فمنعناها، فقد حلنا بينها وبين الزوج، وكان ذلك مخالفة لما اقتضته المهادنة، وإن لم يجر لردّ من يأتينا ذكرٌ، وهذا حسن فقيه. فينتظم من مجموع ما أشرنا إليه مراتب: إحداها - أنا لو هادنّاهم، وشرطنا ألا نرد من يأتينا مسلماً، فإذا أتانا رجال ونساء مسلمين، فلا نرد ولا نغرم شيئاً، وكذلك لو صرحنا بالامتناع عن ردّ النساء. ولو ذكر في المهادنة أنا نرد من يأتينا منهم، ولم

_ (1) حديث " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " رواه البيهقي عن عمران بن الحصين مرفوعاً، وموقوفاً. قال البيهقي: الصحيح موقوف. (ر. السنن الكبرى: 10/ 199). (2) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً ورّى بغيره " هذا جزء من حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته وصاحبيه، وهو متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 3/ 246 ح1762). (3) وجه الإبهام والغرور أنا ذكرنا لفظ (من) في شرطنا ردّ من يأتينا منهم، وهو صالح لإرادة الرجال والنساء جميعاً، ولكنا أردنا به الرجال دون النساء فهذا من المعاريض. (4) هـ 4: " أن المهادنة تتضمن ".

[نفصّل]، (1) فلا نردّ النسوة المسلمات، ونغرم للأزواج ما سنفصله إن شاء الله تعالى. وإن عقدنا المهادنة، ولم نتعرض لمن يأتينا منهم مسلماً بالنفي والإثبات، فهذا موضع اختلاف الطرق: فمن أئمتنا من أوجب الغرم، وهم الجماهير؛ أخذاً من مخالفتنا موجب الأمان، ومنهم من قال: لا نغرم المهور؛ لأنا، لم نلتزم ردّ من يأتينا. 11511 - وهذا الفصل [يصفو عن الكدر بما نصفه] (2)، فنقول: إذا شرطنا ردّ من يأتينا منهم مسلماً، فيجب الوفاء بذلك، فمن يأتينا من الرجال الأحرار أصحاب العشائر نردّه، كما سيأتي، إن شاء الله، وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل على أبيه، وردّ أبا بصير على طالبيه؛ وفاءً بالشرط، هذا إذا شرطنا أن نرد من يأتينا منهم. فإن لم نشترط ذلك، فالذي أراه أن من أتانا من رجالهم مسلماً لا نردهم بحكم المهادنة، فإنا شرطنا ألا نتعرض لهم في دمائهم وأموالهم، فمن أتانا منهم مسلماً، فقد صار منا، وانسلّ عن مقتضى المهادنة، ونحن أثبتنا المهادنة على الكفار، ويجيء (3) على هذا ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ردّ للوفاء بالشرط، لا لاقتضاء المهادنة ذلك، وإذا جاءتنا امرأة مسلمة، فلا شك أنا لا نردها، لما ذكرناه، ولمزيد أمرٍ فيها، وهي أنها محرمة على الكفار متحرمة بحرمة الإسلام، وفي ردّها السعي في إثبات الفواحش، وهي أيضاً لضعفها عرضة لأن تفتن عن دينها، وسبب الغرم فيها عند الأكثرين حق الزوج فيها، وليس كالرجل يسلم، ويتعلق بنا؛ فإنه لا حق لهم فيه، فلا نكون بمنعه [معتدين] (4) على حقوقهم، بخلاف الزوج (5). ثم ثار الخلاف في هذا المنشأ، فاكتفى طائفة بالمهادنة في إثبات الغرم لحق الزوج

_ (1) في الأصل: " نفعل ". (2) في الأصل: " لم يصف عن الكدر على ما نصفه ". (3) هـ 4: " ولهم وعلى هذا ". (4) في النسختين: " معترضاً ". والمثبت تصرف منا بناء على السياق. (5) بخلاف الزوج: أي للزوج حق في زوجته إذا منعناها ولم نردّها.

في الزوجة، ولم يكتف آخرون؛ لأن حق الزوج ينقطع بإسلامها، فيجب أن يكون مستند الغرم الإبهام الذي يشعر به مطلق شرط الرد، فإن قيل: لم يجوز رد الرجل المسلم إلى الكفار؟ قلنا: الخبر فيه كافٍ، وسنذكر مأخذه من المعاني من بعدُ إن شاء الله. وكل هذا تفريع على أنا نغرم المهور فإن قلنا: لا نغرم، فلا تفريع، وقد ذكرنا ذلك مرةً ونبهنا عليه ثانياً، ولا عود إلى ذلك. فليعلم الناظر أن تفريعاتنا واقعة على أحد القولين. 11512 - ولو شرط الإمام في المهادنة أن نرد عليهم الرجال والنساء، فالشرط فاسد في النساء، ولا سبيل إلى ردّهن إذا جئن مسلمات، ولكن هل تفسد المهادنة بالشرط؟ فيه تردد بين الأصحاب ممثّلٌ بنظائر كالشرائط الفاسدة في الوقف؛ فإن في إفسادها الوقفَ تردداً، والأصل في ذلك أن عقود المعاوضة تفسد بالشرائط الفاسدة؛ لأنها تجرّ إلى عوض العقد جهالةً، فكأن البائع إذا شرط شرطاً فاسداً قد باع عبده بألف وتحكّم بأمرٍ لا يُستحق. فأمّا ما مبناه (1) على اللزوم والنفوذ، ولا عوض فيه، فإذا جرى فيه شرط فاسد، فقد يتجه فيه خلاف: فمن أصحابنا من يفسد العقد بالشرط، ومنهم من يفسد الشرط ويصحح العقد دونه، وما نحن فيه من ذلك. ثم إذا أمسكنا المرأة وقد شرطنا أن نردها، فنغرم؛ فإنا إذا كنا نغرم بذكر لفظٍ مطلق، أو بمهادنة مطلقة، فلأن نغرم إذا صرّحنا أولى. وقد انتجز هذا الفن. 11513 - نوع آخر في تفصيل القول في المرأة التي نغرم المهر بسببها، فنقول: إذا دخلت دارنا وهي مسلمة، وجاء الزوج مطالباً، فلا نردها، ونغرم، ولو جاءت إلينا كافرة؛ فإنا نردها؛ لأنها لم تتحرم بالإسلام، وليس في ردّها تسليط كافر على غشيان مسلمة. ولو دخلت إلينا كافرة، ثم أسلمت بين أظهرنا، فلا نردها إذا طُلبت؟ وهل نغرم؟

_ (1) هـ 4: " بناؤه ".

فيه اختلاف، والأوضح أنا نغرم؛ لأنا نمنعها بسبب الإسلام، فلا فرق أن يوجد المانع فينا، وبين أن تأتينا معه متصفةً به، فإن عماد الغرم المنع. ولو جاءت وكانت أسلمت وارتدت والتحقت بنا مرتدة، فإذا جاء الزوج مطالباً، فهل نغرم له؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نغرم لمنعنا إياها، والتعويل عليه، لا على صورة الإسلام. والوجه الثاني - أنا لا نغرم، لأنها كافرة، وإنما يجب الغرم إذا منعناها بسبب الإسلام. ويمكن أن يقال: سبب منعنا إياها أن نقتلها إن أصرّت، وهذا وجه ضعيف. والصحيح وجوب الغرم. ولو جاءتنا مجنونة، فإنا لا نردها؛ لجواز أن تكون مسلمة وكانت أسلمت، ثم جنّت، وإذا جاء الزوج مطالباً، فهل نغرم له شيئاً لجواز أن تكون كافرة؛ فيبنى أمرها في المنع والغرم على مقتضى الاستيقان، فما لم نعلم كفرها، فلا نردها تغليباً لحرمة الإسلام، والأصل براءة الذمة، فلا نغرم من غير ثبت. ولو جاءتنا صبيّة تصف الإسلام، وكانت مميّزة، فإذا أظهرت الإسلام، انبنى هذا على الخلاف في صحة إسلام الطفل، فإن حكمنا بصحته، فهي كالبالغ؛ فنمنعها، ونغرم مهرها، قياساً على البالغة. وإن قلنا: لا يصح إسلامها، فلا نردها لحرمة الكلمة، وهل نغرم؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نغرم كما لو كانت مجنونة. والثاني - نغرم، لأن ظاهر حالها أن تستمرّ على الإسلام إذا أصدرت قولها عن تمييز. هذا هو الترتيب. وأبعد بعض أصحابنا وقال: إنها ترد؛ فإن ما جاءت به ليس بإسلام، وليست كالمجنونة البالغة التي نظن أنها أسلمت ثم جُنت، وهذا له اتجاه في القياس، ولكنه مطّرح غير معتدٍّ به، وقد أجمع أصحابُنا على أن الصبي إذا كان يصف الإسلام يحال بينه وبين أبويه الكافرين؛ فإنّ صَدَر (1) ذلك عن مميز يُغلّب على الظن تعلق قلبه بالهدى؛ وظنُّ توقّع الإيمان إذا غلب، لم يعطل. 11514 - نوع آخر في بيان من نغرم له، فإذا جاءتنا امرأة وأسلمت، فجاء أبوها،

_ (1) صَدَر: أي صُدُور، كما نبهنا على ذلك مراراً.

وأقرباؤها يستردّونها، فلا نردها، ولا نغرم لهم شيئاً؟ فإنهم لا يستحقون منها أمراً، حتى نكون (1) منتسبين إلى منعهم من حقوقهم؛ فلا غرم إلاّ للزوج. نعم، لو جاءتنا أمةٌ مسلمة، فإنا نمنعها عن سيدها، ونغرم للسيد قيمتها؛ لإيقاع الحيلولة بينها وبين من كان مالكاً لها، فنقول: إنها تَعتِق بالمراغمة، والاتصال بدار الإسلام. فإن قيل: لم تغرمون قيمتها وقد عَتَقَت؟ قلنا: كما نغرم مهر المسلمة وقد بانت، والسبب فيهما أن الحكم بالعتق والبينونة من مقتضى الإسلام، ومن ظنّ من الفقهاء أن غرم المهر [يستدّ] (2) على قواعد الأقيسة في المغارم، فليس على بصيرة، ومعتمد الغرم نصُّ القرآن، ثم استعملنا طرفاً من المعنى ليكون رابطة للمسائل، ولم نبُعد أن يكون هو المعنى الكلي في ذلك. 11515 - نوع آخر فيما يتعلق به الغُرم: ذكرنا من نغرم لأجله، ومن نغرم له، ونحن الآن نذكر السبب الخاص الذي يتعلق الغرمُ به، فنقول: إذا أتتنا مسلمة ذاتُ زوج، ولم يأتنا زوجها، ولا أحد من جهته، فلا غرم، وإن أتانا، ولم يطلب ردّها، فلا غرم، وإن طلب ردها، فامتنعنا للإسلام، تعلق الغرم بذلك؛ حتى قال الأصحاب لو أتتنا مسلمة، وماتت، ثم لحقها الزوج بعد الموت، فلا نغرم له شيئاً، فإنا لم ننتسب إلى المنع بعد الطلب. وقد وضح أن السبب الأخص في الغرم الطلبُ والمنعُ. ولو طلبها الزوج، فقتلها قاتلٌ من المسلمين، فقد قال الأصحاب على القاتل ما يتعلق بالقتل من القصاص والدّية، ولا حق للزوج في ذلك؛ فإنه لا يرث الكافرُ المسلمةَ، ويجب الغرم؛ فإن القتل جرى بعد الطلب، واستقرار الحق به. ثم قال الأصحاب: غرم المهر على القاتل؛ فإنه المانع بالقتل. وهذا عندي مفصل، فأقول: إن طلبها، فقتلها المسلم على الاتصال، فغُرم المهر على القاتل، لما ذكره الأصحاب، وإن طلب الزوج، فمنعناها، فقد استقر

_ (1) هـ 4: " لا نكون ". (2) في الأصل: " يستمر ". وهو تصحيف يتكرر في هذه الكلمة كثيراً. وفي (هـ 4): " يسلم ".

الغرم علينا، فإذا وجد القتل بعد ذلك، لم يتعلق غرم المهر بالقاتل بعد استقراره بالطلب وظهور المنع، فالغرم لا يسقط بموتها، فكذلك لا يتحول الغرم إلى القاتل. ولو جرحها مسلم قبل الطلب، فبلغت حركة المذبوحين، [وجاء الزوج طالباً، فهذا طلبٌ بعد الموت، فلا يتعلق به استحقاق الغرم، ولو جاء الزوج] (1) وبها حياة مستقرة وطلبها، استحق الغرم. واختلف أصحابنا فيمن عليه الغرم: فمنهم من قال: الغرم على الجارح؛ فإن فواتها مستند إلى الجرح. والثاني - أن الغرم على بيت المال؛ فإن الإمام منعها، وبها حياة مستقرة، وهذا هو الصحيح، ولا حاصل للوجه الأول. 11516 - نوع آخر في بيان المغروم، فنقول: إذا جاءنا الزوج مطالباً، وما كان ساق إليها صداقها، فلا نغرم له شيئاً؛ فإن المعتمد في أصل الغرم وتفصيله نص القرآن، وقد قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]، معناه: اغرموا لهم ما بذلوا في مهور الزوجات، فالتعويل على ذلك، فلو أصدقها خمراً، وساقها، فلا نغرم شيئاً وفاقاً، ولو ساق بعض صداقها، فلا نغرم إلا المقدار الذي ساقه. ولو كان ساق الصداق إليها، ثم إنها وهبت منه ما قبضته، ففي المسألة قولان كالقولين المذكورين فيه إذا وهبت المرأة ما قبضت من الصداق لزوجها وسلمته إليه، ثم طلقها قبل المسيس، ففي رجوعه إليها بنصف الصداق قولان، كذلك القول فيما نحن فيه. فإن قيل هلاّ غرمتم للزوج مهر المثل كما تغرم المرضعة (2) مهر المثل، وكذلك الشهود على الطلاق إذا رجعوا عن شهادتهم؟ قلنا: هذا الذي نحن فيه لا يلائم [تلك] (3) الأصول؛ فإنها مجراة على إفساد النكاح، وتفويته على الزوج، أو على إيقاع الحيلولة بشهادة الزور، والنكاحُ يرتفع في الأصل الذي نحن فيه باختلاف

_ (1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. والمثبت من هـ 4، وقد كان بها تصحيف أصلحناه، حيث كانت العبارة: " فهذا طلبُ هذا الموت ". (2) أي المرضعة التي أرضعت الزوجة الصغيرة، فحرَّمتها على زوجها. (3) زيادة من (هـ 4).

الدين، فليس قطع النكاح مضافاً إلينا، ولكنا ضمنا للزوج بإطلاق المهادنة، أو شرط رَدّ من جاءنا إليهم، ثم لم ينتظم الوفاء على موجب الشرط (1)، فغرمنا للزوج ما بذله لها من المهر على مقابلة تعذّر الوفاء [لا] (2) على مقابلة إفساد النكاح، وهذا واضح. والأصل في ذلك أن مقتضى القياس ألا نغرم شيئاً، وحقُّ الفرق [أن] (3) يُوضّح في النفي والإثبات، فرجع أصل الغرم إلى الكتاب ونص القرآن لا غير. ولو جاءنا الزوج مطالباً والزوجة بعدُ في العدة، وكانت مدخولاً بها، فإنا نغرم للزوج المهر الذي ساقه، فلو وفّيناه المهر، فأسلم في العدة، واقتضى ذلك ردّ الزوجة إليه، فما غرمناه له مسترد منه، فإن الزوجة سَلِمتْ له، وإنما نغرم له ما نغرم إذا فاتت الزوجة. ولو لم يسق الصداقَ إليها، وهي ممسوسة، وتخلف الزوج حتى انقضت العدة، أو أصر على كفره، ولكن التزم الذمةَ، أو أسلم بعد العدة، فهو مطالب بمهر النكاح، فلو كان طلب ردّ الزوجة عليه في زمان العدة، وهو كافر، فمنعناه إياها [لم نغرم] (4) له شيئاً؛ لأنه لم يسُق الصداق، [فإذا غرم الصداق] (5) لما أسلم أو التزم الذمة، فهذه الغرامة مستندة إلى التزام المهر بالنكاح. ولقد كان ملتزماً عند المطالبة، وهذا الغرم مستند إلى التزامه في تلك الحالة. فيتجه أن نقول: نغرم له ما غرمه؛ نظراً إلى ما ذكرناه من الاستناد (6) ومصيراً إلى أن هذا الغرم مقدم على حالة الطلب، ويجوز أن يقال: لا نغرم له شيئاً؛ لأنه لما طلب الطلب المعتبر، لم يستحق شيئاً ساعتئذٍ، والآن قد أسلم أو التزم الذمة، وخرج

_ (1) هـ 4: "الشرع". (2) زيادة من (هـ 4). (3) سقطت من الأصل وأثبتناها من (هـ 4). (4) في النسختين: ولم. (5) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4). (6) المعنى أن وجوب الصداق واستقراره مستندٌ إلى النكاح، وقد كان ذلك قبل مجيئها إلينا مسلمة، فإذا أداه الزوج بعد منعنا إياها، فيتجه أن نغرم له ذلك المهر، لأنه حق ثبت قبل مجيئها، وإن تأخر أداؤه.

عن المهادنة التي كان الغرم من حكمها، وهذا يقوَى بضعف طريق القياس في هذا الغرم، ونص الكتاب ليس متناولاً لهذه الصورة. هذا قولنا في المغروم. 11517 - نوع آخر: إذا قال الزوج قد سقتُ مهرها، وذكر قدر ما ساق، فلا نغرم له بمجرد قوله شيئاً؛ فإن المسلم العدلَ الرضا إذا ادّعى، لم يثبت له بمجرد الدعوى ما ادعاه، وإن شهد للكافر عدلان مسلمان على أنه ساق ما ادعاه إليها، غرمنا له، وإن أقرت المرأة المهاجرة فقد قال العراقيون: إقرارها بمثابة البينة واعتلّوا بأنا لو طالبناه بالبينة، والذي جرى من السَّوق بزعمه كان بين أظهر الكفار، ويعسر تقدير تحمل مسلمَيْن الشهادة على ذلك، فيُفضي ردُّ إقرار المرأة ومطالبة الزوج بالبينة إلى التعطيل. وهذا الذي ذكروه في الإقرار لست أراه كذلك؛ فإن قولها ليس حجةً علينا، وليس من الأقارير التي تُقبل لانتفاء التهمة عنها كإقرار العبد بالسرقة ونحوها مما يوجب عليه عقوبة، وإذا كان كذلك، فلا وجه لقبول قولها. والعلم عند الله تعالى. هذا نجاز الأصول التي تجب رعايتها في هذا الفصل، ونحن نلحق بما ذكرناه فروعاً تأتي على الأطراف التي شذت في ضبط الأصول، ثم نستفتح أصلاً آخر متصلاً بهذه القاعدة. فرع: 11518 - إذا جاءتنا مسلمة وكان طلقها زوجها طلاقاً رجعياً، فجاءت إلينا في عدة الرجعة، وتبعها الزوج، فقد نقل الرواة عن الشافعي أنه قال: " إذا جاء الزوج مطالباً، فلا نغرم له شيئاً ما لم يراجعها، وإذا راجع، لم نغرم له بمجرد الرجعة [ما لم يطلبها] (1)، ولا بُد من اجتماع الأمرين الرجعة والطلب، وخرّج المحققون قولاً آخر، ورأوه القياس، فقالوا: يستحق المهرَ بمجرد الطلب من غير رجعة؛ لأن رجعة الكافر للمسلمة فاسد، كما أن نكاح الكافر للمسلمة فاسد، فلا معنى لاشتراط فاسد. وعندي لا يتوجه النص إلا بأن نقول: لا يتحقق من الزوج توجيه الطلب، ما لم يراجعها؛ فإنه إذا طلب وتركها، فهو في حكم المعرض عنها، فإنها إلى البينونة

_ (1) زيادة من (هـ 4).

مصيرها، وإذا راجع، فقد حقق الطلب، وهذا تكلّف، ووجه القياس ما ذكرناه، فإن الرجعية زوجة. ولو جاءتنا مسلمة قبل المسيس، فهي بائنة، ونحن نغرم للزوج، فلا تعويل على ما وجهنا النص به. فرع: 11519 - [إذا جاءتنا أمة مسلمة] (1)، فقد ذكرنا أنا نغرم لسيدها قيمتها إذا جاء مطالباً، ولا نعتبر ما وزنه (2) السيد في ثمنها، وإنما نعتبر القيمة لا غير، والفرق قد يعسر؛ فإن الأمة عتقت [بالمراغمة] (3)، كما بانت المرأة بالإسلام، ولا وجه إلا إجراء قيمة الجارية على القياس، وربط غرم المهر بنص القرآن، فلينتبه الناظر لما يُنبّه له. ولو جاءتنا أمةٌ مسلمة مزوّجة، فقد قال الأصحاب: نغرم قيمتَها لمولاها ومهرَها لزوجها، لو جاءا، وطلبا معاً. ولو جاء أحدهما مطالباً، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنا نغرم لكل من أتانا منهما حقه، ولا نقف إلى أن يأتي الثاني؛ لأنه لا تعلق لأحدهما بالثاني، وحق كل واحد منهما متميز عن حق الثاني. والوجه الثاني - أنا لا نغرم لأحدهما ما يطلب حتى يحصل طلبهما؛ فإن الحق مشترك بينهما، يعني حق الرد بحكم الشرط، أو بحكم المهادنة، والأقيس الوجه الأول. ومن (4) أصحابنا من قال: نغرم للسيد القيمة إذا انفرد بالطلب، ولا نغرم للزوج إذا انفرد. والفرق أن حق اليد للسيد ولهذا يسافر سيد الأمة بها وإن كانت مزوجة، فيتأكد من هذا الوجه حقه، والزوج إذا انفرد بالطلب؛ فإنما يبغي رد الزوجة عليه، وليس لزوج الأمة حق الانفراد

_ (1) عبارة الأصل: " إذا جاءتنا أمة مسلمة قبل المسيس ". وفي هـ 4: " إذا جاءتنا مسلمة قبل المسيس ". والذي يظهر أن عبارة (قبل المسيس) مقحمة في النسختين، فالكلام في الأمة، وليس فى الزوجة. وقد سقطت كلمة (أمة) من (هـ 4). (2) ما وزنه: المراد النقد الذي بذله في ثمنها. (3) في الأصل: " بالإسلام ". (4) هذا هو الوجه الثالث.

باليد على الزوجة المملوكة، وهذا الوجه اختاره صاحب التقريب، وفيه على كل حال فقه (1). فرع: 11520 - إذا جاءنا عبد مسلم هل نرده عليهم؟ هذا مما يجب الاهتمام به، فمن جاءنا منهم وكان حراً مسلماً، فكيف يتجه رده، وهو يقول: أنا رجل مسلم لا أحب مخامرة الكفار قلنا: جوابه إنك أسلمت، والتزمت حكم الإسلام، وحكمُ الإسلام أن تُرد؛ فإن هذا الملتزمَ مما يجب الوفاء به، وإن زاد في مرادَّته، أحلْناه على رَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل وأبا بصير. ثم قال الأئمة: إنما يردّ إذا كان له عشيرة يضنّون به، ولا يهينونه، وإن كانوا يؤذونه بالتقييد وغيره، فلا تعويل عليه، ولا يختلف الحكم به، فإن أبا جندل ردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر سلاسله ويرسف في قيده، ثم إن كان المطالب به مستقلاً برده، فلا كلام، وإن لم يكن، فلا نلتزم أن نرده بأنفسنا. وقصة أبي بصير شاهدة في ذلك؛ فإنه لما ردّه على رجلين جاءا في طلبه، قال كالمعرّض: " مِسْعرُ حرب لو وجد أعواناً "، فلما كان ببعض الطريق واستأنسا به، تحدّثوا في سيوفهم، فقال أحد الرجلين: إني جربت سيفي فوجدته ماضياً، فقال أبو بصير: أرنيه أنظر إليه، فلما سلّه من يده، فعل هكذا فرمى برأسه ناحيةً، فإذا هو كالأمس الذاهب، وهرب الآخر راجعاً إلى المدينة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، قال: أما هذا فقد جاء به أمر، فلما دنا أََخْبر بالحادثة، فلم يُحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جواباً، وامتنع أبو بصير فيما بين مكة والمدينة، وانضمّ إليه جماعة من المسلمين من مكةَ وغيرِها، فجعل يقطع الطريق على أهل مكة، حتى بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يضمه معه إلى نفسه، فاستُدْعي فأتاه في سبعين شاكين في السلاح (2).

_ (1) هـ 4: " وفيه على حالٍ بُعدٌ " وأشار في الهامش إلى أن في نسخة أخرى (فقه) مكان (بُعْد). (2) قصة أبي بصير، في البخاري من حديث المسوربن مخرمة الطويل في قصة الحديبية: الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، ح 2731، 2732.=

وهذه القصة مما يجب [التشبّث بها] (1)؛ فإن الرد لو كان واجباً ديناً، لما جاز لأبي بصير أن يمتنع، ولأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة حرسها الله تعالى من غير تعرّض لهم، وقد تبيّن أنه لم يُوبخ أبا بصير، بل سرّه ما فعل، وعرّض في أول الأمر؛ إذ قال: مِسْعَر حرب لو وجد أعواناً. ويخرج من هذا أن الرجوع ليس حتماً ديناً، وكيف يتحتم هذا في وضع الشرع، ولا حق للكفار على هذا الذي أسلم، وإنما يجب الردّ للوفاء بما قلنا؛ حتى تقع الثقة بما يجري العهد عليه؛ والمردود في نفسه ليس معاهداً، فعلينا الوفاء، وذلك المسلم المردود يفعل ما بدا له. 11521 - والذي يتم البيان به أنه لو وضع الشرط على أن نرد عليهم من جاءنا، فليس في موجب هذا الشرط التوقف في الرد إلى أن يطلبوه، وليس هذا مقام غُرم حتى يُرعَى فيه طلبٌ ومنعٌ، فكيف الوجه؟ أيجب رده من غير أن يطلبوه؟ قلنا: الذي يقتضيه الرأي أنه لا يُرد من غير طلب؛ فإن الغرم إذا وقف على طلب الزوج، فنفس

_ =ولكن سياق الإمام للقصة جعل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن أبي بصير: " مِسْعَرَ حربٍ لو وجد أعواناً .. " عندما ردَّه مع الرجلين وقبل أن يقع منه ما وقع، والصحيح المروي هو أنَه قال هذا القول بعد ما قتل أبو بصير أحدَ الرجلين وكرَّ راجعاً إلى المدينة. وقد نبّه ابن الصلاح على هذا قائلاً: هذا غلط؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك عند ردِّه عليهما، والذي رواه البخاري في صحيحه -وغير البخاري- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فقتل أحدَ الرجلين وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: " لقد رأى هذا ذعراً "، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتل -والله- صاحبي، وإني ْلمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهما ثم أنجاني الله منهم فقال النبي: ويل أمِّه، مسعر حرب ... إلخ القصة. (مشكل الوسيط 7/ 93 بهامش الوسيط). هذا ولم يعلِّق الحافظ في التلخيص على ما وقع في سياق الإمام للقصة. (1) في النسختين: " التثبت فيها ". والمثبت من تصرف المحقق، فإن القصة في الدرجة العالية من الصحة، كما ظهر في التعليق السابق.

الرد يقف على الطلب، كما أن غرم المهر يقف على الطلب، هذا هو الظاهر المفهوم من القصة التي جرت في المهادنة. ولو صرح مهادن بأن يردَّ من جاء إلى بلاد الكفر بأعوانه، فلا يمتنع لزوم الوفاء بهذا، وإنما حَمَلْنا ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الطلب؛ لأن من جاء فهو مردود عليكم معناه: إذا جئتم، فهو ردٌّ عليكم، ولا تعويل عليه، فالمتبع قصة المهادنة. 11522 - عاد بنا الكلام إلى العبد وفي ردّه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يرد؛ لأنه مسلم، والظاهر أنه يُستذلّ ويُهان، ويسترقّ بعد ما عَتَقَ بالمراغمة، فصار ردّه كردّ المرأة. ومن أصحابنا من قال: هو مردود، بخلاف المرأة، فإن المحذور منها فاحشة الزنا، وإتيان كافر مسلمة، وهذا معدوم في العبد. ولو جاءنا حُرّ لا عشيرة له، وغلب على الظن أنه يهان لو رُدَّ، فلأصحابنا طريقان في ردّه: منهم من ألحقه بالعبد، ومنهم من قطع بأنه يرد؛ نظراً إلى جنس الأحرار، وليس يبعد عندي أن يقال: على الإمام أن يشترط عليهم ألا يهينوا المسلم المردود عليهم، حتى إن أهانوه، كان ذلك نقضاً للعهد، وهذا متجهٌ؛ فإن الردّ إن كان ملتزَماً بالعهد، فيجب استفراغ الوسع في نفي الإهانة عن المسلم. 11523 - ومما نذكره متصلاً بهذا أن عمر عَرَّض لأبي جندل بقتل أبيه تعريضاً يقرب من التصريح، فلا بد من التصرف في هذا؛ فإن دماء من هادناهم مصونةٌ محقونة، وفي هذا تردُّدٌ لا بُد من إنعام النظر فيه، والمقصود منه يبين بما نصفه، فنقول: إذا هادن الإمام جماعة، ووادعهم، وذكر أنهم في أمنٍ من المسلمين، فلو أسلم من المعاهدين أقوامٌ وثاروا من بين أظهرهم، فهل لهم أن يقتلوهم؟ هذا عندنا فيه احتمال ظاهر؟ يجوز أن يقال: لهم أن يقتلوهم ويغتالوهم؛ فإن الإمام لم يلتزم إلا أن ينكف ويكف جنود الإسلام والمسلمين عنهم، فأما الذين يُسلمون من بعدُ [وينبِّتون] (1)

_ (1) غير واضحة بالأصل، والمثبت من (هـ 4).

منهم، فلا يبعد ألا يكونوا ملتزمين للعهد وبموجبه، ويشهد لذلك ما كان يفعله أبو بصير من قَطْع الطريق على أهل مكة، ولو نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لانتهى، ويشهد لذلك تعريض عمر. ويجوز أن يقال: من أسلم منهم لم يكن له أن يتعرض لمن عصم الإمام دمَه ومالَه. ومن جاءنا منهم، ولم يُطلب، ولم نردّه، فلا خلاف أنا نُلزمه من الحكم ما يلزمنا؟ فإنه صار من جملتنا. وأما تعريض عمرَ، فلا يبعد أن يحمل على حِدّته وتصلّبه في الدين، وقد جرى له من هذا الجنس عام الحديبية أمور مشهورة، لا حاجة بنا إلى ذكرها. وقد نجز المراد تصريحاً، وتنبيهاً. فرع: 11524 - إذا قال الإمام: من جاءنا فهو ردّ عليكم، ثم اتصلت امرأة بطرف من أطراف بلاد الإسلام، فهل للإمام أن يغرم للزوج؟ أم كيف السبيل؟ قال العلماء: إن قال: من جاءنا وأراد من جاء (1) المسلمين، فيلزمه أن يغرم؛ فإن المرأة قد جاءت المسلمين. وإن قال: من جاءني، فإذا تعلقت بطرفٍ من أطراف بلاد الإسلام، فهل يغرم الإمام؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يغرم؛ فإنها ما جاءته. ومن أصحابنا من قال: يلزمه أن يغرم؛ فإن من جاء المسلمين، فقد جاءه؛ فإنهم رعيّته، وتحت حكمه. ولو تعلّقت بديار البغاة حيث لا ينفذ أمر الإمام، وقد كان قال: من جاءني، فلا يغرم للزوج المطالِب شيئاً؛ فإن الفئة الباغية ليسوا تحت حكم الإمام، ولو قال: من جاءنا، ثم جاءت إلى البغاة، لم يضمن الإمام أيضاً، فإنه غير متمكِّن من ردها، والغرم يتبع طلباً مع إمكان الردّ صورةً. وقد انتجز ما أردنا تمهيداً وتفريعاً. 11525 - ونحن نعقد فصلاً متصلاً بهذا. فنقول: من جاء الكفارَ منا مُرتداً عن

_ (1) هـ 4: " من جاء من المسلمين ".

دينه وصفةُ المهادنة ما قدمناه، فسُحْقاً سُحْقاً، وإذا التحقت بهم مرتدة، فعليهم أن يردوها، وإن قلنا: من جاءكم، فلا تردوه؛ فإن النسوة مستثنيات من هذه الإطلاقات، وكما لا ترد المسلمة المهاجرة- وإن قلنا: من جاءنا، فهو ردٌّ - فكذلك نسترد المرتدة وإن قلنا: من جاءكم، فلا تردوه. ثم لو جاءتنا مهاجرة مسلمة، وجاءتهم مرتدة، فالإمام يغرم لزوج المرتدة ما ساقه من صداقها، والأصل فيه قوله تعالى في آية المهاجرات: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] والسبب فيه أن المهادنة هي التي جرّت هذا الأمر، وهذا مشكل مع ما ذكرناه من أن المرتدة مستردة منهم، ويلزمهم ردّها، فمصيرها إليهم كمصيرها إلى أهل الحرب، ولكن أهل الإسلام منحجزون منه بسبب المهادنة على الجملة إلى أن يتفق نبذها، وما ذكرناه تكلّفٌ مع نص القرآن. " وليس وراء الله [للمرء] (1) مذهب ". ثم أجمع أصحابنا على أنها إذا جاءتنا مسلمة، وجاء الزوج مطالباً، وجاءتهم مرتدة، فالذي كنا نغرمه لزوج المسلمة نسلمه إلى زوج المرتدة إن تساوى المهران في المقدار، وإن كان مهر المسلمة أقل، صرفناه إلى زوج المرتدة، وأكملنا له ما كان ساق إلى زوجته. وإن كان مهر المسلمة أكثر، صرفنا مقدار مهر المرتدة إلى زوجها، وصرفنا الفاضل إلى زوج المسلمة، [ولا يتهدّى المعنى إلى هذا] (2)؛ فإن زوج المسلمة يقول: لا ذنب لي في التحاق تلك المرتدة بدار المهادنين، فلم منعتموني حقي، والممكن أن يقال: ليس لك حق متأكد على قياس أعواض المتلفات، وإنما نغرم [لك] (3) بحكم المهادنة، وأهلُ المهادنة في موجب المهادنة كالشخص الواحد، وقد انتهى الغرض.

_ (1) في الأصل: " لكم ". ثم إن هذا عجز بيت للنابغة الذبياني، وصدره: حَلَفْتُ فلم أترُك لنفسكَ ريبةً. (2) زيادة من (هـ 4). (3) في الأصل: " لكم ".

فصل 11526 - لا ينبغي للإمام أن يبذل للكفار مالاً، فإن ذلك ذلٌّ، لا سبيل إلى التزامه، والأصل في ذلك ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبر تألّب العرب، واجتماع الأحزاب، جمع السعودَ: سعدَ بنَ عبادة، وسعدَ بن معاذ، وأسعد بن زرارة، وقال لهم: إن العرب قد كالبتكم ورمتكم عن قوس واحدة، فهل ترون أن ندفع إليهم شيئاً من ثمار المدينة؟ وروي هل ترون أن ندفع شيئاً من ثمار المدينة إلى غطفان. فقالوا: إن قلت عن وحي، فسمعاً وطاعة، وإن قلت عن رأي، فرأيك متبع، وإن كان مكيدة من مكائد الحرب، فحتى ننظر، فقال صلى الله عليه وسلم: بل مكيدة، فقالوا: كنا لا ندفع إليهم ثمرة إلا شراءً أو قِرِّى ونحن كفار، وقد أعزنا الله تعالى بالأسلام؛ فلا نقبل الدنيّة، فَسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم " (1) وهذا إذا لم يَخَفْ الإمامُ اصطلاماً، واستئصالاً؛ فإن خاف ذلك، فلا خلاف أن البذل سائغ، ذكره الصيدلاني وغيره، وهو مقطوع به.

_ (1) قصة بذل ثلث ثمار المدينة في مصالحة الأحزاب، واستشارة النبي صلى الله عليه وسلم معروفة مشهورة، لكن الخلاف فيمن هم السعود الذين استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم. اتفق كل من روى القصة على سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما (وسماهما البزار في روايته: السعود). ولكن كثر الوهم في رواية القصة، فقد ذكر الإمام أسعدَ بنَ زُرارة رضي الله عنه والمعروف أنه مات قبل بدر، باتفاق أهل المغازي والتواريخ، كما قال الحافظ في الإصابة (1/ 34). وجعل الطبراني السعودَ خمسة، وتُعقب في ذكر اثنين منهما: سعد بن خيثمة، وقد استشهد ببدر، وسعدُ بنُ الربيع، وقد استشهد بأحد. كما اختلف لفظ رواة القصة، فقال البزار والطبراني: السعود، وقال ابن كثير: السعدين، وعزاه لابن إسحاق، وآخرون ذكروا الأسماء من غير وصف سعدين ولا سعود. (ر. الطبراني الكبير: 6/ح 5409، البزار: 163/ 1 - 2 زوائد، مجمع الزوائد: 6/ 132، 133، السيرة لابن هشام: 3/ 174، طبقات ابن سعد: 2/ 73، تاريخ الطبري: 2/ 573، أسد الغابة: 2/ 294، 295، الكامل: 2/ 180، البداية والنهاية: 4/ 106، الإصابة: 2/ 36).

ثم ذكر الأئمة مسائلَ في أثناء الكلام لو اطلعنا عليها لذكرناها في مواضعها فنثبتها الآن. فرع: 11527 - قال صاحب التقريب إذا أسلم عبد في يد كافر، فنكلفه بيعَه، فإن أبى ودبّره، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نبيعه عليه، فإن بيع المدبّر جائز. والثاني - أنا لا نبيعه، ونحول بينه وبين مولاه، كما نفعله في المستولدة؛ فإن عقد التدبير عقد عتاقة؛ فلا ينبغي أن نهجم على نقضه؛ فإن نَقَض التدبيرَ مِنْ دُبر، فلا معترض عليه. ولو علّق الكافر عتقَ ذلك العبد بصفةٍ، فللأصحاب طريقان: منهم من قال: يباع وجهاً واحداً، ومنهم من جعله كالتدبير، وما ذكرناه في هذا من كلام صاحب التقريب. وما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أنا إذا منعنا بيع المصحف من الكافر، فنطرد هذا في كتب الأحاديث، قال العراقيون: وكذلك القول في حكايات الصالحين، وطردوا في صحة البيع قولين في الجميع، ولست أرى لردّ البيع في حكايات الصالحين وجهاً. فرع: 11528 - إذا قارض المسلم ذمياً واشترط عليه ألا يشتري محرماً، فلو اشتراه بمال القراض، وأدّى الثمن، ضمن الثمن الذي بذله، لأنه خالف الشرطَ. ولو قارض المسلم ذمياً مطلقاً، ولم يتعرض لنهيه عن شراء المحرمات، فلو اشترى خمراً وما في معناها بمال القراض وأدى الثمن، فهل يضمن الثمن للمقارِض المسلم؟ ذكر العراقيون وجهين: أصحهما - أنه يضمن الثمن الذي بذله. والثاني - لا يضمن؛ فإن المسلم قَصَّر لما لم يشترط عليه الانكفافَ وأطلق القراض مع علمه بأن الذمي يتموّل الخمرَ، ويبيعُها ويشتريها. ثم عقد الشافعي باباً في تبديل أهل الذمة دينهم وقد مضى هذا مستقصىً في النكاح. ثم عقد باباً في الحكم بين المعاهدين إذا رضوا بأحكامنا، وقد مضى ذلك في مواضع، وبيّنا ما قيل في وجوب الحكم من الخلاف؛ فلست أرى لإعادة ذلك وجهاً.

فصل (1) 11528/م- إذا هادن الإمام على الترتيب الذي ذكرناه على مدةٍ لضعفٍ بالمسلمين، فيجب الوفاء وإن تقوّى المسلمون. فإن خانوا، وأتَوْا بما يخالف العهد، وعلموا ذلك (2)، فقد انقضت المهادنة، فنسير إليهم، ولا نُعلمهم. وإن فعلوا ما تُنتقض المهادنة به، ولم يعلموا أن العهد ينتقض به، فلا حاجة إلى علمهم، ولكن هل يجوز المسير إليهم من غير إعلامٍ؟ فعلى وجهين. ولو استشعر الإمام منهم تهمة الخيانة، ولم يتحقَّقها، فله أن ينبذ إليهم عهدَهم، بخلاف ما إذا بدت تهمة من أهل الذمة؛ فإن الأصح أنه لا يجوز نبذُ العهد إليهم. ولو بدت خيانة من بعضهم، وسكت آخرون، ولم ينكروا، فللإمام أن ينبذ إليهم العهد؛ هكذا كانت قصة أهل مكة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هادنهم، وكان بنو خزاعة مستجيرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوثبت عليهم طائفة من أهل مكة وقتلوهم، والباقون سكوت، فسار النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ... (القصة). وسكوت الساكتين مع التمكن من الرد على الخائنين ينزل منزلة التهمة، أو هو أظهر منها. وفي هذا الآن مزيد نظر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، ولم يُعلمهم ودعا الله أن يطمس أخباره عليهم، فانحسمت الأخبار عنهم وصارت مكة على أهلها كالوطيس (3) حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ ظهرانَ، وظاهر هذه الحالة أنه أراد أن يتغفلهم، ثم جرت قصة لأبي سفيان وحكيمِ بنِ حزام، فظاهِرُ سير الرسول صلى الله عليه وسلم دالٌّ على أنه أراد أن يفاجئهم، وهذا فيه إشكال من جهة

_ (1) في (هـ 4): فرع مكان (فصل). (2) أي وعلموا أن العهد ينتقض بذلك الذي أتَوْه. (3) الوطيس: من وطس الأرض: أي أحدث فيها حفرة (المعجم)، فالمعنى أن أهل مكة صاروا كأنهم في غيابة الجب لا يدرون ما حولهم.

أنه لم يوجد من أهل مكة إلا السكوت عن وقوع بني نُفاثة ببني خزاعة. وإذا ألحقنا السكوت بالتهمة، وذكرنا أن أصحاب التهمة لا يُبدؤون بالقتال من غير نبذ العهد إليهم، ففي هذا تردد. ويجوز أن يقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقدم النذير من المنزل الأخير، ويجوز أن يقال: اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريشهم على قتل بني خزاعة، فلم يكن ذلك تهمة في حقه، والعلم عند الله تعالى. ومما تجب الإحاطة به أن المَضَرّات في حق أهل الذمة يختلف المذهب فيها، في أنها هل تكون نقضاً للعهد، ولا خلاف أنها من أهل الهدنة ناقضةٌ للعهد؛ فإن الهدنة ضعيفة ليست متأكدة ببذل الجزية. فرع: 11529 - إذا أظهر أهلُ الذمة خمورهم، أرقناها عليهم، وإن لم يظهروها، فأرقناها لهم، لم نضمنها لهم، ولكن لا يجوز ذلك. ولو غصب غاصب خمراً لهم من بيوتهم، فقد كان شيخي يقطع بأنه يجب ردّها، ويجب التزامُ مؤنة الرّد، وقال غيره من المحققين: لا يجب ذلك، ولكن لا يراق، ولا يحال بينها وبين الذمي إذا أراد استردادها. ولو غصب مسلم خمراً محترمة لمسلم، فالوجه عندنا وجوب ردّها عليه، وفيها احتمال على حال. ولو باع ذمي خمراً من مسلم، فسلمها إليه، فالخمر مراقة؛ لأن الذمي تعدّى بإظهارها، ولا شيء له في مقابلة إراقتها. ***

كتاب الصيد والذبائح

كتاب الصيد والذبائح (1) 11535 - الأصل فيه الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، والجوارح جمع الجارحة، وهو الحيوان الصَّيُود، وقيل: اشتقاقها من الجرح، وقيل اشتقاقها من قولهم: جرح واجترح أي اكتسب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: " إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت عليه اسم الله، فكل ممّا أمسكه عليك، وإن أكل فلا تأكل " (2) وقال لأبي ثعلبة الخُشني: " إذا أرسلت كلبك المعلّم، وذكرت عليه اسم الله، فكل ممّا أمسكه عليك وإن أكل " (3). والإجماع منعقد على أصل الاصطياد. والشافعي صدر الكتاب بتفصيل القول في الكلب المعلم وتحليل ما يصطاده، فلتقع البداية بمعنى التعلم، وبيان الكلب المعلم، فنقول أولاً: إذا لم يكن الكلب معلَّماً، فما اصطاده وقتله، فهو ميتة بلا خلاف، وإن أدركنا ما أخذه، وصادفناه على حياة مستقرة، وقطعنا حلقومه ومريئه، فلا خلاف في التحليل، وهذا يطرد في فريسة السباع كلها، إذا صادفناها على حياة مستقرة، وتمكنا من ذبحها في المذبح، وهذا

_ (1) يستمر العمل كما هو على نسختين. هـ 2 أصلاً، هـ 4 نصاً مساعداً. (2) حديث عدي بن حاتم " إذا أرسلت كلبك المعلَّم ... " متفق عليه (البخاري: الذبائح والصيد، باب التسمية على الصيد، ح 5475. مسلم: الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، ح 1929). (3) حديث أبي ثعلبة الخُشني " ... فكل مما أمسك عليك وإن أكل، رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه (ر. أبو داود: الصيد، باب في الصيد، ح 2852. النسائي: الصيد والذبائح، باب الرخصة في ثمن كلب الصيد، ح 4296. ابن ماجه: الصيد، باب صيد الكلب، ح 3207. التلخيص: 4/ 246 ح 2352.

[الكتاب] (1) تنتظم مسائله لبيان [تحليل] (2) ما يموت بجرح الجارحة، أو يقرب من حركة المذبوح. 11531 - فإذا تمهّد هذا، فالمعلَّم فيما ذكره الأصحاب هو الذي يجيب إذا دُعي، والمراد بذلك أن ينطاع للدّاعي، ويسترسل إذا أرسل على الصيد. وذكر الأصحاب أن ينزجر إذا زجر، وينكف عن الأكل مما أخذه. هذه هي الصفات المرعيّة في تعلّم الكلب، والفهد، وما في معناهما مما يقبل التعليم. وهذا يستدعي مزيد كشف: فأما الإجابة، فمعناها عندي أن يسترسل نحو الصيد إذا أُرسل، هذا هو الإجابة، ولا يجوز أن يكون في ذلك خلاف، والمعنى: أنه إذا أُغري بالصيد، هاج، وإذا [آسده (3)] (4) صاحبه اتّبع صوبَ الصيد، وهذا لا بدّ منه. والانكفاف عن الأكل مرعيٌّ أيضاً. وأما الانزجار عند الزجر، فهذا فيه نظر: فإن أُريد به أن ينزجر بعد الإطلاق، وهو في حِمِرَّة (5) العَدْو فاشتراط هذا صعب، وفي كلام أصحابنا ما يُشعر به، بل ما يصرح به، وقد تحصّل لنا وجهان في اشتراط ذلك بعد العدو، فأما في ابتداء الأمر، فالذي يجب القطع به أن ينزجر إذا زجره صاحبه، ولا ينطلق إلا بإطلاقه، ولا يتبع الصيد إلا بإشارته، فإن كان ينطلق بانفراده، فليس معلَّماً. وهذا فيه نظر؛ فإن الكلب وإن كان معلّماً، فإذا رأى صيداً على القرب، وهو على كَلَب الجوع، فيبعد تصوير انكفافه، ولكن ظاهر المذهب هذا. فأما شرط ترك الأكل، فقد شرطه الكافة في الكلب، وما يتعلم من الفهد وغيره.

_ (1) في الأصل: " الكلام ". (2) زيادة من (هـ 4). (3) في الأصل: أسنده والمثبت من (هـ 4). (4) آسده: أي هيجه، وأغراه بالصيد، ومثلها أوسده. (ر. اللسان: مادة: و. س. د، والمعجم: ما دة: أ. س. د). (5) الحِمِرّ: بكسر الحاء والميم وتشديد الراء: من كل شيء شدّته: غيثٌ حِمِرّ: شديد يقشر الأرض. (المعجم).

فإذا ثبتت هذه الشرائط، فقد أجمع العلماء على أنا نشترط تكررها من الكلب، ثم لا ضبط للأعداد، والمتبع أن يحكم أهلُ الدراية بأنه صار معلَّماً متدرباً في هذه المعاني المطلوبة منه، ولا سبيل إلى التعبير عن هذا بضبطٍ؛ فإنه إنما يدرك بأحوال تُحس منه، والكرّاتُ قد تحمل على اتفاقات، فالرجوع إذاً إلى أهل المعرفة بهذا الشأن. وكل ما ذكرناه في غير الطيور. 11532 - فأما جوارح الطيور كالبزاة والصقور وغيرها، فيشترط فيها أن تسترسل إذا أرسلت في جهة الصيد، كما ذكرناه في الكلب، أما انزجارها بعد الطيران، فلا مطمع فيه، ويبعد أيضاً أن يشترط انكفافها في أول الأمر وقد لمح لها الصيد، وهي جائعة، والله أعلم. واختلف قول الشافعي في أنا هل نشترط انكفاف جوارح الطيور عن أكل ما أمسكته؟ فأحد القولين أنا نشترط ذلك قياساَّ عَلى جوارح السباع، والقول الثاني - أنا لا نشترط ذلك؛ فإن الكلب إنما ينكف عن الأكل عن فريسته بالضرب، والدق العنيف، وجوارح الطيور لا تحتمل هذا، ولا سبيل إلى زجرها من غير ضرب، بل قيل: سبيل تعليمها بالإطماع في الإطعام. هذا منتهى ما ذكره الأصحاب [في ذلك] (1). والإشكالُ عندي [بجُمامه (2)، وأنا وراء استفراغ الوسع] (3) في الكشف والبيان، فنقول: الذي ظهر لنا من قول الأصحاب أنهم اعتقدوا أن الكلب المعلّم يمسك ما يأخذه لصاحبه، وعلى صاحبه، وفي بعض الأخبار ما يشير إلى هذا، أما الخبر، فمتلقىً بالقبول، ولكنه معرض للتأويل وقوله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، وإن لم يصرح تصريحَ الخبر، فهو مُشعر بذلك أيضاً.

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) الجمام: بضم الجيم ملء الإناء، ومن الإناء والمكيال: ما تجاوز رأسه بعد امتلائه (المعجم) فالمعنى: أن الإشكال ما زال قائماً عنده بتمامه. (3) عبارة الأصل: " والإشكال عندي قائم ثم هو وراء استفراغ الوسع ".

والذي يعترض في النفس بعد هذا التنبيه أن الجارحة التي تصيد لو كانت على شِبع، لم تبرح في صَوْب الصيد قِيد فِتْر، وإن أشلاها صاحبها، وإنما تنتهض على الجوع، فلا يخفى أيضاً أنها إذاً تتشوّف إلى ما تطعم، والطبيعة تحركها لذلك، [وإذا هي] (1) أمسكت الصيد، فالداعية التي تحملها على الإمساك ما قدّمناه من تشوفها إلى مَطْعم تسدّ به الكَلَب وسوْرةَ الجوع، غير أنها إذا ضُربت على الأكل، تذكرت عند إمساك الصيد الضربَ، فانكفت من خيفة الضرب، لا لتسلّم الفريسة إلى صاحبها. والكلْبُ أيسر الجوارح وأفطنها وأحراها بأن يتذكر ما سبق من ضربه، وقيل: إن الكلب الحارس يُجدع أنفه ليلاً، فلا يجنّ الليل إلا ويتذكر ما جرى عليه، فيدأب طول الليل حارساً، مستشعراً كلما سمع حساً تذكّر ما ألمّ به من ألم الجدْع. هذا هو التحقيق، فليقطع المرء بأن الكلب [لا يمحِّض] (2) قصده في الصيد لصاحبه، بل لو قيل: لا ينطوي على ذلك إلا فكرُ عاقلٍ، لكان سديداً؛ إذ ليس في البهائم وإن كانت على حظٌّ من التمييز إلا ما يحركه من الطباع، ثم إنها تتعلق بطرف ضعيف من المَيْز، ثم (3) تَصوّرَ الآدميُّ فيما تطلبه الجارحة وتحاذره إمساكَ الصيد والانكفاف. فيجب -على القطع- تأويلُ السنة والكتاب وتنزيلهما على ما ينزل عليه معظم الظواهر المتعلقة بأغراض الخلق، فالرحمة في [حق الإله] (4) ليست [رقةً] (5) ولا ميلاً، والغضب ليس التهاباً وتلظِّياً، ولكن من يرحم منا ينعم، ومن يغضب

_ (1) في الأصل: " وإذا هش ". وهو تصحيف غريب من مثل هذا الناسخ الذي تميز بالفهم والوعي بما يكتب.!! (2) في الأصل: لا " يخص ". (3) هـ 4: " ثم يأتلف للآدمي مما تطلبه الجارحة، وتحاذره ... إلخ " والمعنى واحد. وهو أن الجارحة لا تمحض قصد الصيد لصاحبها، ولكن الإنسان يتصوّر ذلك منها، لما يراه من تصرفها بين تحريك الطباع لها، وخوفها من معلِّمها، ولكنها لا تمسك لصاحبها على الحقيقة، فوجب تأويل النصوص. (4) في النسختين: " حكم الإله " والمثبت تصرّفٌ من المحقق، لمناسبة المعنى والسياق. (5) زيادة من (هـ 4) حيث سقطت من الأصل.

يعاقب (1)، فجرت مخاطبة المكلفين على أقدار حظوظهم وأغراضهم، كذلك (2) الجارحة وإن كانت لا تنطوي على قصد الإمساك على الصاحب، فإذا حضل بتأديبها من فعلها ما يحصّله ذو العقل القاصد إلى تحصيل مراد الآمر، سُمّي ذلك إمساكاً عليه. 11533 - ثم يتنشأ من هذا مأخذٌ في الفقه واقعٌ، وهو أن الذبح مبناه على قصد الذابح -كما سنعقد في ذلك فصلاً- إن شاء الله تعالى- والصُّيود الأيّدة لا تنالها آلات الذابحين على اختيار، فمهد الشرع آلاتٍ تنالها على شِرادها، كالنشاشيب وغيرها، وكأن السرَّ فيه أن ارتياد (3) المذبح محمول على سفك الدم بأسهل الطرق، وأَوْحاها (4) وأنجزها؛ رفقاً بالذبيحة، فإن شردت، لم يعارض فواتُها طلبَ الرفق بذبحها، وكان إدامةُ [الانتفاع] (5) بها أليقَ بمحاسن الشريعة من المصير إلى فواتها إلى أن يُقْدر عليها. ثم الرمي يتخصص به من يحسنه، وذلك في أفراد من الناس، فأثبت الله تعالى في

_ (1) معنى العبارة أن الرحمة في جانب الإله -جلّ وعلا- ليست على حقيقتها، من الرقة والميل، وإنما هي منه سبحانه الإنعام والجزاء. وكذلك الغضب ليس على حقيقته في ذات الله، فليس هو التهاباً وتلظياً، وإنما غضبه سبحانه عقوبته. هذا هو معنى العبارة، والإمام في هذا جارٍ على مذهب الأشاعرة في التأويل. (2) أما مناسبة هذا الكلام -بيان حقيقة الرحمة والغضب في جانب الإله سبحانه، ووجوب تأويلهما- مناسبة هذا الكلام أن الإمام يضربه مثلاً، لوجوب تأويل ما يأتي من النصوص مخاطباً المكلفين على قدر حظوظهم وأغراضهم، فكما وجب تأويل نصوص الرحمة والغضب، فكذلك يجب هاهنا تأويل نصوص الإمساك على الصائد والصيد له. والله أعلم. (3) ارتياد: أي طلب وقصد المذبح، ووجوب الذبح منه. (4) أَوْحاها: أسرعها، وأيسرها في الإجهاز على الذبيحة وأرفقها بها. (5) في النسختين: الامتناع. والمثبت تصرف من المحقق رعاية للمعنى والسياق. وقد يشهد لهذا الاختيار كلام الغزالي في البسيط، وهو مأخوذ من كلام إمامه، قال: " ... وهذا لسرٍّ، وهو أن الحيوان يحلّ بذبح الذابح وقصده، دمانما يذبح بآلته، ولا تنتهي كل آلة إلى الصيد، وعظُم تفويت لحمه على الآدمي، فجُوّز أن يقصد بآلةِ الحيوانات، وشُرط أن يصير الحيوان معلَّماً ليكون في معنى الآلة، ولما كان الاسترسال بالإيساد (أي الإغراء كما سيأتي) والانكفاف بالزجر من طباع الحيوانات، شُرط على خلاف طبعه أمرٌ ليتبين أنه صار آلة، وهو الكف عن الأكل ". (ر. البسيط: 6/ورقة رقم 5 يمين).

محكم كتابه الاصطياد بالجوارح المعلّمة، وإن كانت ذواتَ اختيار، فإذا [اتبعت] (1) صاحبَها، في الانتهاض نحو الصيد، وتَرْك الأكل منه، نزلت منزلة الآلة يستعملها الذابح. ويفهم الفطن مما ذكرناه ثلاثَ مراتب: إحداها - في الحيوان المقدور عليه، وعنده يحسن تعبّد الشرع بارتياد المذبح، واختيار أوحى الطرق. والمرتبة الثانية - في الشوارد مع فرض الرمي وما في معناه، فيسقط في هذه المرتبة طلبُ المذبح، ويمكن صَدَرُ الآلة من الاختيار، بَيْد أنها تخطىء وتصيب. والمرتبة الثالثة - في إقامة الكلب مقام السهم، وإن كان مختاراً إذا تشوف، ثم روعي تقريبها من الآلة الصادرة عن الاختيار بتجميع صفات الانطياع فيها، ثم لما كانت البهيمة غيرَ عاقلة، فسقط اعتبار اختيارها، ولذلك لا يصح أن يكون المجوسي آلة المسلم في الذبيحة؛ فإنه ذو اختيار صحيح، فهذا تمهيد الأصل في الكتاب. 11534 - ثم ننعطف بعد ذلك على تفاصيلِ الصفات: فمما لا يُشكّ في اعتباره الذهابُ نحو الصيد عند الإيساد (2) والإغراء، والانكفاف عن الأكل. فهذان وصفان لا بد منهما في غير الطيور. وذكر أئمتنا الانزجار عند الزجر، وزعموا أن الانطياع به يتحقق، وقد صادفتُ خلافاً في الانزجار بعد الأخذ في العدو الشديد؛ فإن هذا قد لا (3) يتأتى، ووجدت الطرق متفقة على أن المعلَّم هو الذي يعنّ له الصيد ورباطه محلول [، فيزجره صاحبه، فيقف، ولم يشترط أحد من الأصحاب ألا ينطلق إذا رأى الصيد ورباطه محلول] (4) منتظراً إغراء وإيساداً، فقد وضح اشتراط الانطلاق بالإغراء، واشتراط [الانزجار] (5) عند الزجر في الابتداء، واشتراط الإمساك عن الأكل في الانتهاء،

_ (1) في الأصل: " انبعث ". والمثبت من (هـ 4). (2) الإيساد: أي الإغراء والتهييج، يقال: أوسد الكلبَ: أي أغراه بالفريسة. وأرسله عليها، ومثلها: آسده. ر. اللسان: ما دة (و. س. د)، والمعجم الوسيط: ما دة (أ. س. د). وفي هامش الأصل: " الإشلاء ". في نسخة أخرى. (3) هـ 4: " قلما يتأتى ". (4) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4)؛ حيث سقط من الأصل. (5) في الأصل: " الانتظار ".

وفي الانزجار بعد الأخذ في العدو تردد قدمنا ذكره. وذكر كثير من أصحابنا الإجابة عند الدعوة، ولم يتعرض لهذا ذوو التحقيق وأصحاب المعاني، وأنا أقول: إن أريد بالإجابة عند الدعوة أن يجيب إلى الانطلاق عند الإغراء، فهو ما ذكرناه، وإن أريد بها أن يجيب في غير وقت الحاجة إلى الصيد، فلمست أرى لهذا وقعاً. نعم، الكلب المعلّم لا بد وأن يجيب إذا دعي، إذا ألف صاحبه، وتمرن على الصفات التي ذكرناها، ولكن إذا لم يكن هذا مختصاً بالصيد، فذكره بمثابة قول القائل: لا يهِرّ (1) في وجه صاحبه، ولا يعقِره، إلى غير هذا مما يحصل بأوائل الإلف قبل التعليم. 11535 - ومما يتعين الاهتمام به شيئان: أحداهما - في الفهد والثاني - في جوارح الطيور: أما الفهد، فلا يتم فيه الانطياع أصلاً، ولا ينبغي أن يُظَن أنه ينزجر إذا زجر، ولا يتوقف استسلاؤه على الإيساد، ولا يمتنع من الأكل. [نعم، ربما لا يبتدر] (2) الأكلَ حتى يستوثق من فريسته، ويحط حركاته، ثم يأخذ في الأكل، ولا يتأتى منه الكف عن الأكل بالضرب؛ فإنه لو ضرب؛ عاد إلى استيحاشه، فإن تُصوّر [فهدٌ] (3) ينطاع انطياع الكلب، فحكمه حكم الكلب المعلم، وإن لم يتصور -ولا يتصوّر- فمطلوب صاحب الفهد أن يزول نِفاره ويألف، ثم يخادَع، ويخاتَل، فيذبح الفريسة [تحت ضبطه] (4) ولا يترك الفهد يعدو ويتمطى إلى الصيد وحده، بل يتبعه فارس أو فارسان (5)، وبناء الأمر على إدراك الفريسة وفيها حياة مستقرة، وأما إدراكها وقد ماتت، [فمما] (6) يندر في المتصيد. فحق الفقيه ألا يغفل عن هذه الدقيقة؛ فإن في الجوارح ما ليس معلماً، ولكنه

_ (1) الهرير: صوتٌ من أصوات الكلب، وهو دون النباح، يقال: هر الكلب يهر هريراً - من باب ضرب - (المصباح). (2) عبارة الأصل: وربما لا يبتدر الأكل. (3) في الأصل: " فهو "، وفي (هـ 4): فهذا. والمثبت اختيار منا رعاية للسياق. (4) في الأصل: تحته بضبطه. ومعنى ضبطه: أي إمساكه وتقييده والسيطرة عليه. (5) هـ 4: " أو فرسان ". (6) في الأصل: " فما ".

أَلِفٌ أنيس ثم يدرك فريسته قبل الموت، وهذا الكتاب مبني على الفريسة التي تموت تحت الجارحة. 11536 - وأما الكلام في جوارح الطيور، فليس من الممكن تعليم البازي الانكفافَ عن الأكل، وليس من الممكن أن ينزجر إذا تشوف إلى الصيد على جوع، فانتهاضُه بطباعه لا بالإغراء، والانزجارُ غير ممكن، ولكنها تألف ولا تنفر من صاحبها، فيأخذها أو يدعوها فتجيب، فالبزاة والعقبان والصقور والفهود إنما يحصل منها الإلف والعَوْد، ثم أصحابها يتمكنون مما أخذت وفيها حياة، فهذا ما عليه مبنى الصيد. فإن صور متكلف جارحةً من الطير منطاعة، أو صور فهداً كذلك، فما تصطاده هذه الأشياء ويموت، ولم يُدرك، فهو حلال. فإذا لم يوجد الإلف، فما يموت من صيدها، فهو حرامٌ. وقد نجز ما أردنا تمهيده في المعلَّم وغير المعلم. 11537 - ثم إذا استجمع الكلب شرائط التعليم، ولا تكاد تجتمع صفات التعليم إلا فيه؛ فإنه على كيسٍ لا يقاس به كيس بهيمة، وهو أَلِفٌ بطبعه يتشوف إلى التعليم، فإذا ضبط الكلب صيداً، وجرحه، ولم يأكل منه -وذلك بعد ثبوت كونه معلماً- فإذا مات ذلك الصيد، فهو حلال. واختلف قول الشافعي في موضع عض الكلب، فنص على قولين، كما حكاه الصيدلاني: أحدهما - أنه يُعفى عن النجاسة في موضع عضه لمسيس الحاجة. والثاني - أنه لا يُعفى. فإن قلنا: إنه يُعفَى، فلا غسل في الموضع ولا تعفير. وإن قلنا: لا يعفى، فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - أنه يكفي الغسل في الموضع وتعفيره. والثاني - لا بد من قطع جِلْفة (1) من موضع عضه، فإن ذلك الموضع قد يغوص فيه لعاب الكلب بعضَ الغوص، فيستتر به ولا تتأتى التنحية والإزالة إلا بالقطع. وهذا القائل يطرد هذا في كل لحم أو ما في معناه يَعضّ عليه الكلب.

_ (1) الجِلفة: القطعة من كل شيء. (المعجم) وفي (هـ 4): فلقة مكان جلفة.

وإذا نال لعابه موضعاً من غير عض، فالغسل يكفي بلا خلاف مع التعفير. وحكى بعض أصحاب القفال أن ناب الكلب إذا أصاب عرقاً نضاخاً بالدم، فيسري حكم النجاسة في جميع الصيد ولا يحل أكله. وهذا عندي غلط غيرُ معتد به؛ فإن النجاسة إن فرض اتصالها بالدم، فالعرق كالوعاء للدم وهو حاجز بين اللحم والدم، ثم الدم إذا كان يفور امتنع غوصُ النجاسة؛ فإذا كان الماء يتصعد من [عينٍ] (1) فوارة، فوقعت على أعلى الماء نجاسة، لم ينجس ما تحته، كما إذا لاقى الماء المنحدر من الإبريق نجاسة، فلا ينجس ماء الإبريق، فهذا إذاً غلط من الحاكي، وأنا لا أورد مثله إلا لبيان وجه الغلط فيه. 11538 - ولو ضبط الكلبُ الصيدَ، ولم يجرحه، فمات تحته ضغطاً، فهل يحل والكلب معلم؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يحل؛ إذ لا بد من سفح الدم، ولا خلاف أنه لو أصاب صيداً بعُرض السهم أو بمثقّل وقتله، فهو حرام إذا لم يوجد جرح. والقول الثاني -وهو الأصح- أن الصيد حلال؛ فإن الكلب لا يمكن أن يُعلَّمَ الجرحَ، والغرض أن يكون متمرناً على الطاعة، وانكفافه عن العض نهاية الانطياع. وأما السفح، فلسنا ننكر أنه من مقاصد الشريعة؛ فإن الميتة إنما تحرم بسبب احتقان الدم فيها؛ فإن الدم إذا احتقن، وفارقت الروح خَبُث اللحم باحتقان الدماء المحتقنة، وقد تبين لنا أن الخبائث محرمة، وإذا حصل نزف الدم بالذبح -وسائرُ الفضلات منحصرة في المصارين- يطيب اللحم. هذا لا ننكره. وإن حصل السفح في المقدور عليه لا بالجهة الشرعية، فيستحق مخالفُ الشرع أن يحرم عليه ما خالف الأمر فيه، وعليه أن يقصد الجَرْحَ بالآلات الجارحة في الصيود، وُيؤْثر ما يجرح على المثقلات، وهذا ممكن. ثم اعتراض النشّابة (2) نادر، وليس مما يعم. أما تعليم الكلب الجرحَ، فبعيد ولكنه يَعَض بطباعه، ولا يتأتى تعليمُه تركَ العض، فإذا لم

_ (1) زيادة من المحقق. (2) اعتراض النشابة: أي أن تقتل بعرضها، ولا تجرح بسنها. والمعنى أن هذا نادر، والنادر لا حكم له.

يَعض في بعض الصور تردّد هذا بين ندور الأمر وبين استحالة تعليم العض؛ فثار القولان كما وصفناه. والذبح بالعظم في المقدور عليه محرم كما سنصف الآن، إن شاء الله تعالى الذبح، والكلب لايَعضّ إلا بأسنانه، فيتبين من هذا بناء الأمر على مراتب الحاجات. فصل 11539 - إذا أكل الكلب المعلم من فريسته مرّة وماتت تحته، ففي حلّ تلك الفريسة قولان مشهوران: أحدهما - أنها محرمة لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت عليه اسم الله، فكل، وإن أكل، فلا تأكل " ووجه هذا القول من جهة المعنى أنه إذا أكل، تبين أنه لم يمسكه على صاحبه، هكذا ذكره الأصحاب. والأولى أن نقول: الكلب المعلم إذا استرسل بنفسه، فما يأخذه في هذا الاسترسال محرم؛ لأنه أخذ ما أخذ على خلاف شرائط التعليم، وكذلك الانكفاف عن الأكل شرط التعلّم، فإذا فرض اصطيادٌ على خلاف ذلك، وجب أن يحرم، والفقه فيه أنا إذا رأينا الانكفاف عن الأكل شرطَ الانطياع، فإذا تخلف الشرط، بان أن أخذ الصيد على هذا الوجه، لم يكن على حكم الانطياع. ومن نصر القول الثاني، احتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة الخُشني: " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل " وهذا القائل يقدر أخذه الصيدَ على حكم الطاعة، ويحمل ما اتفق من الأكل على فرط الجوع وسَوْرة نهمه، والأكل يقع بعد الأخذ. ثم إن أبا حنيفة (1) قال: الفريسة تحرم إذا أكل الكلب منها، ونتبين أن جميع

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 297، مختصر اختلاف العلماء3/ 201 مسألة 1298، المبسوط: 11/ 223، 243، حاشية ابن عابدين: 6/ 467، تبيمِن الحقائق: 6/ 53.

ما ماتت من الصيود ولم تدرك بالذبح، فهي محرمة [فيما] (1) تقدم. ونحن إذا حرمنا الفريسة التي اتفق الأكل منها، لم نعطف التحريم على ما تقدم، لم يختلف أصحابنا فيه، فإذا لم تحرم الفريسة الأولى التي أكل منها على القول الثاني، فلو أكل من الثانية أيضاً، ثم من الثالثة، واعتاد الأكل، خرج عن كونه معلماً، ثم تحرم الفريسة التي وقع القضاء عند الأكل منها بالخروج عن التعلم، وهل نعطِف التحريم إلى أول فريسة أكل منها إلى الأخيرة؟ اختلف أصحابنا في المسألة وهذا اختلاف فقيه حسن محتمل، والتوجيه فيه بين. وإذا انكف الكلب عن الأكل أول مرة، فلا يقع القضاء بكونه معلماً، وقد لا يقع بالمرتين والثلاث، والرجوع إلى أهل البصيرة، كما قدمنا ذكر ذلك. فإذا تكرر الانكفاف وتبين التعليم، فلا نعطف الحل إلى أول فريسة حصل الانكفاف من أكلها بلا خلاف، والفرق بين هذا وبين ما ذكرناه من تكرر الأكل تغليب التحريم، وهذا فرق في الصورة وجمعٌ في الحقيقة. ولو لعق الكلب الدمَ، ولم يأكل من اللحم، فالأصح أن لعق الدم لا يضر بخلاف أكل اللحم، وكنت أود لو فصل فاصل بين أن ينكف الكلب زماناً ثم يأكل، وبين أن يأكل كما (2) أخذ، فإن الزمان إذا تمادى، فيندر أن ينكف الكلب عن الأكل، ولكن لم يتعرض لهذا أحد من الأصحاب. فصل قال: " وإذا أرسل كلبه أحببتُ أن يسمي الله تعالى ... إلى آخره " (3). 11540 - التسمية عند الذبح سنة مؤكدة ويلتحق تركها عندنا بما يكره، وقال أبو حنيفة (4): التسمية مشروطة وتركها قصداً يحرّم الذبيحة. والمسألة مشهورة في

_ (1) في الأصل: " كما ". (2) كما: بمعنى عندما. (3) ر. مختصر المزني: 5/ 206. (4) ر. مختصر الطحاوي: 297، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 198 مسألة: 1292، رؤوس=

الخلاف، فإذا أرسل الصائد كلبه أو سهمه، فينبغي أن يسميَ الله تعالى عند الإرسال؛ فإن هذا هو الذي يتعلق بالاختيار، والإصابة قد تغيب عن الصائد، وكان شيخي يتردد في أنه لو سمي عند الإصابة -وهذا ممكن في الكلب؛ فإن إدراكه محسوس- فهل تسقط التسمية المشروعة بذلك؟ وهذا موضع التردد. فصل قال: " ولو أرسل مسلم ومجوسي كلبين ... إلى آخره " (1). 11541 - إذا اشترك مسلم ومجوسي في ذبح حيوان مقدور على ذبحه، فإن تحاملا على حد السكين أو على الطعن في منحر البعير، فلا خلاف في التحريم، فإنه مغلَّب، وهذا أصل متفقٌ عليه. فلو أرسل مسلم كلباً، وأرسل مجوسي كلباً، أو أرسلا سهمين، نُظر: فإن سبق كلبُ المسلم أو سهمُه، وحصل قتل الصيد أو تصييره إلى حركة المذبوح، ثم أدرك كلبُ المجوسي، فالصيد حلال، ولا حكم لما جرى من كلب المجوسي، ولو كان الأمر على العكس، فلا شك في التحريم؛ فإن القتل حصل بالكلب الذي أغراه المجوسي. فلو أخذ الكلبان الصيد معاً، أو على الترتيب، ولم يحصل التذفيف بواحد منهما، وإنما حصل الموت بهما، فلا شك في التحريم؛ لأن هذا بمثابة اشتراك المسلم والمجوسي في الذبح. ولو حاش (2) كلب المجوسي الصيدَ، وردّه على كلب المسلم، ولم ينله، ثم أخذه كلب المسلم، فالصيد يحل؛ فإن الصيد حصل بكلب المسلم، وكلبُ المجوسي في حكم المعين، وحكم الملك لو فرض إرسال

_ =المسائل: 510، المبسوط: 11/ 236، طريقة الخلاف للأسمندي: ص 280 مسألة 117. (1) ر. المختصر: 5/ 206. (2) يقال: حاش القوم الصيدَ: نفره بعضهم على بعضٍ ليصيدوه، ويقال: حاش الصيد عليه. (المعجم).

الكلبين من مسلمين لا يتلقى مما ذكرناه فحسب، بل يستعمل فيه هذا الأصل ويستعمل فيه أصول سوى ذلك، وسنستقصي الجهات كلها -إن شاء الله تعالى- في مقدمة المسألة المترجمة بمسألة الكسر. أما في مسألة المجوسي والمسلم، فلا إشكال في الملك؛ حيث يحل الصيد؛ فإنا إنما نحلله إذا اختص الكلب الذي أرسله المسلم بالأخذ، فلو شاركه كلب المجوسي في الأخذ، فهو محرم. ولو أرسله كلب المسلم، ثم أدركه كلب المجوسي، وبه حياة مستقرة، فعقره، فمات من الجرحين، فالمجوسي يفسد على المسلم ملكه، فهو بمثابة ما لو ذبح شاة مسلم، ولو فعل ذلك، فالشاة ميتة، وعليه الضمان، وإذا انتهى التفريع إلى الملك والضمان، فلا وجه إلا الإحالة على مسألة الكسر، وهي بين أيدينا، ولا شك أن الاعتبار في الكلب بالمرسِل. فصل قال: " وإذا رمى أو أرسل كلبه على الصيد فوجده قتيلاً ... إلى آخره " (1). 11542 - إذا رمى إلى صيدٍ، ولم يدر أأصابه السهم أو لم يصبه، فاتبعه وأدركه ميتاً، فلا يحل الصيد؛ فإنا لم نتبين جرحاً يستند الموت إليه. ولو جرح صيداً، فولى هارباً، ثم اتبعه الرامي، فوجده ميتاً، نُظر: فإن كان بمرأى من الرامي، ولم يطرأ ما يحال الموت عليه، فلا خلاف في حِل الصيد، وإحالة موته على الرمي، وإن غاب عن الناظر، فاتُّبع وأُدرك ميتاً، نُظر: فإن كان به أثر خدش ظاهر يحال على عثرةٍ، أو وثبة سبع، فالصيد حرام، فإن الموت يحال على الجرحين والسببين، والجرح حصل من غير قصد صائد، ولو فرض مثله مجرداً، لحرم الصيد، فإذا وجد مع الجرح الاختياري الجرح الثاني، فقد تقابل الجرحان، وكأن لا جرح؛ ولو لم يحصل جرح من الصائد، أو شككنا فيه، فلا خلاف في التحريم.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 206.

وإن لم يوجد سبب آخر، ولكن غاب عن البصر ثم أُدرك ميتاً ولم يُلفَ عليه جرح وتكسر، يحال على عثرةٍ أو سقطةٍ، فهذا محل القولين: قال الشافعي في أحد القولين: إنه محرم، والدليل عليه ما روى ابنُ عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي موقوفاً عليه، أنه قال: " كل ما أصميت، ودعْ ما أنميت " (1) والتفسير: كل ما يموت بجرحك وأنت تراه، وما أنميت ما غاب عنك مقتله، والقياس تغليب التحريم للتردد الظاهر. والقول الثاني - أنه يحل؛ لأنه لم يتحقق سببٌ سوى الجرح الذي ناله من الصّائد، فالوجه إضافة الموت إليه، وحملُه عليه، ونحن قد نثبت القصاص إذا تقدم جرح عمد، ودام أثره إلى اتفاق الموت وكذلك تُشغل الذمة، والأصل براءتها، وأقرب ما يشهد لهذا القول تحليل الجنين، فإنا نحيل موته على انقطاع [رَوْح] (2) الروح عنه بذبح الأم، وإن أمكن تقدير موته بسبب آخر. فصل قال: " وإذا أدرك الصيدَ لم يبلغه سلاحه ... إلى آخره " (3). 11543 - إذا أرسل كلبه أو سلاحه، فإن أصاب مذبحَ الصيد ما أجهزه وأنجزه، فلا كلام، فهو حلال. وإذا أدركه، وهو في حركة المذبوح، فلا نتعرض له ونتركه يهدأ. وكذلك لو أصاب موضعاً آخرَ منه صار به إلى حركة المذبوح، فالأمر على ما ذكرناه، وإن لم يصر إلى حركة المذبوح، حتى أدركه الصائد، فينبغي أن يقطع حلقومَه، ومريئه، ولو تركه مع علمه بما به، ولكن كانت فيه حياةٌ مستقرة، فلو مات، فهو حرام؛ فإنه تمكن منه وفيه حياةٌ مستقرّة، فإذا لم يذبحه الذبحَ المتعبد به في المقدور عليه، لم نحكم بحِلّه. ولو كان الجرح كما ذكرناه غيرَ منجز، واستعقب حياةً مستقرّة، ولكن مات الصيد

_ (1) حديث ابن عباس " كل ما أصميت " رواه البيهقي موقوفاً، وقال: وروي مرفوعاً وسنده ضعيف (ر. البيهقي في الكبرى: 9/ 241، التلخيص: 4/ 247 ح 2358). (2) في الأصل: " خروج ". والمثبت من (هـ 4). (3) ر. المختصر: 5/ 206.

قبل أن يدركه الصائد، فإن لم يقصِّر على ما سنصفُ -إن شاء الله تعالى- فالصيد حلال. وإن قصّر، فالصيد حرام، واختلف أئمتنا في أنا هل نكلفه -إن رام الحِلّ- أن يعدوَ، أم يكفيه أن يمشي؟ ومنشأ هذا الخلاف من قاعدة قد يتردد النظر فيها: وهو أنا نكلفه (1) الطلب المعتاد، والتردُّدُ في وجه الاعتياد من جانبه، فمن كلفه العَدْوَ، فقد تخيل اعتيادَه في هذا المقام، ومن لم يكلفه العدوَ اعتبر ذلك بالمشي إلى الجماعة يوم الجمعة، مع ظهور أمارات التحرّم بالصلاة. ثم على الوجهين تصرفٌ فمن كلف العَدْوَ، لم يكلف الإيغال فيه حتى [يبتهر] (2) أو ينالَه ضرر ظاهر، ومن اكتفى بالمشي، وهو الذي ذكره الصيدلاني، فالوجه عندي أن يتشوف إلى الإسراع في المشي قليلاً؛ فإن الماشي في هَيْنة خارجٌ عن عادة الطلب تحقيقاً، وظاهر ما ذكره الصيدلاني أنه يلزم عادته القديمة، ولفظه: " فلا نُلزمه أن يعدوَ، وأن يَحْمِل على نفسه ليدركه، بل على عادة مشيه ". وهذا بعيدٌ إلا أن يُحمل على عادة المشي في المتصيّد. وهذا التأويل بعيد عن لفظه. ثم إذا أدرك الصيد وبه حياة معتبرة، فلم يكن معه مدية، فمات الصيد، حرم. وحق من يعاني هذا الشأن أن يكون مُعِدّاً، ولو كان معه السكين، فنشب في الغمد، ففات الصيدُ بالموت، فهو حرام، فإنه مقصر في تهيئة مدية تنطاع إذا ابتدرها. وكذلك لو كانت بحالة لا تَفْرِي، فسبق موت الصيد، فهو حرام، وإن دهِش، فأعمل ظهر السكين، فمات الصيد، حرم. ولو كان معه سكين متغلغل في الغمد، فانسلّ، فأدرك الصيد كذلك ومات، فقد فات الحل؛ فإن جميع ما وصفناه ينتهي إلى التقصير، وتركِ الاستعداد. ولو كان يتبع الصيدَ، فاعترض له إنسان، وسلّ السكين من حيث لا يشعر، فأفضى إلى إدراك الصيد حياً ثم مات، فهو ميتة، لانتسابه إلى عدم التحفظ.

_ (1) في الأصل: " قد نكلفه ". (2) ابتهر: تتابع نَفَسُهُ. وانبهر: مطاوع بهره: إذا أجهده حتى تتابع نفسه (المعجم).

ولو اعترض له أيّد وهو في الطلب، فغصبه السكينَ، فقد ذكر الأصحاب وجهين من حيث لم ينسب إلى التقصير، والوجه عندي القطع بالتحريم؛ فإنه وقف على حيوانٍ فيه حياة، ولم يذبحه. وقد يمكن فرض صورة الخلاف في الحيوانات الأهلية، إذا أوفت على الفوات، ويبعد كل البعد أن يفرض فيها خلاف. وإن فرق فارق بأن ما نال الصيد ذبحٌ بدليل أنه لو هلك قبل الإدراك، لحل الصيد، ولو ابتدر الصيدَ بالسكين، فقطع بعض الحلقوم، فمات الصيد، فهو حلال قطعاً، فإنه [لو لم] (1) يقصر، فاتفق سبق الموت، لحل؛ إحالةً على الجرح السابق، فكذلك إذا حصل القطع في البعض. هذا إذا هدأ. فإن كان الصائد متردداً في حاله، فليستمر الذبح. وإن علم أنه انتهى إلى حركة المذبوح، فهذا فيه فضل نظر. وسنذكره في الذبائح عند ذكرنا اشتراط قطع الحلقوم والمريء مع فرض الانتهاء إلى حركة مذبوح قبل تمام القطع. وسنعيد هذا الطرف ثمَّ، إن شاء الله تعالى. ولو كان الصيد منكساً، فاحتاج إلى قلبه، فلم يصل إلى مذبحه حتى مات، فهو حلال، كما ذكرناه في نظائر ذلك، فإنه لم ينتسب إلى التفريط. فصل قال: " لو أرسل كلبه أو سهمه، وسمى الله تعالى، وهو يرى صيداً ... إلى آخره" (2). 11544 - مقصود هذا الفصل: القول في بيان القصد الذي نشترطه من الصائد ليحلّ الصيد. والقصد على الجملة معتبرٌ. ويتعلق طرف صالح من الكلام فيه بالقصد في الذبح، وعنده نذكر ذبح الصبي والمجنون، وهذا مؤخر.

_ (1) في الأصل: " لم يقصر ". (2) ر. المختصر: 5/ 206.

والذي ننجزه الآن التفصيل في القصد المرعي في الصيد، فنقول أولاً: إذا كان بيد الإنسان سيف، فانسلّ منه من غير فعل يُؤْثره، ووقع على صيد في شِعْبٍ أو مغارة، وهلك الصيد، فهو حرام؛ لأنه لم يوجد من صاحب السيف فعل، فضلاً عن أن يفرض منه قصدٌ إليه. ولو رمى سهماً في الهواء، أو كان يبغي الرمي غَلْوةً، ولم يخطر له الصيد، فاتفق أنه أصاب صيداً، وقتله، فهو محرم، وكذلك لو كان يجيل سيفه، فأصاب غِرارُ سيفه حلقوم شاة، ومَرِيَّها، فقطعهما من حيث لم يشعر المدير، فالشاة ميتة. 11545 - ولو رمى صيداً، وخطر له أنه قد يصيب، وذلك يفرض في جنح الليل، والمسألة فيه إذا لم يتخيل صيداً، ولكنه رمى على تردد متسع، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه- إذا اتفقت إصابة الصيد: أحدها - أن الصيد ميتة؛ فإن هذا القصد غير صحيح وصاحبه يعدّ عابثاً هازئاً. والثاني - يحل، لأنه بنى رميه على قصد الصيد، واتفقت الإصابة، والوجه الثالث - أنه ينظر: فإن رمى في موضع يغلب على ظنه الصيد فيه، وإن لم يعنّ له في الحال، فاتفقت الإصابة، حلّ الصيد. وإن كان لا يغلب على الظن الصيد فيه، فالقصد لا أصل له، وحكمه حكم الهازىء. 11546 - ولو اطلع على سرب (1) من الظباء، فأرسل سهمه فيها، ولم يسدّد النشابة على واحدة بعينها، فأصاب السهم ظبية، وماتت به، فهي حلال، ولو سدّد النشَّابة على ظبية عيّنها من السرب، فمالت إلى ظبية أخرى من السرب، ففي المسألة أوجه ثلاثة: أحدها - وهو الأصح، وقد قطع به طوائف من الأئمة أن الظبية حلال، وذكروا في هذه الصورة خلافَ مالك (2)، فإنه قال: لا تحل تلك الظبية، لأنه لم يقصدها. وهذا هو الوجه الثاني. ذكره بعض الأصحاب، وتوجيهه ما أشرنا إليه.

_ (1) (هـ 4): " ولو عن سرب ". (2) ر. الإشراف: 2/ 918 مسألة 1836، عيون المجالس: 2/ 970 مسألة 677.

والوجه الثالث - أن الظبية المصادة إن كان رآها لما رمى، وكانت في السرب، فهي حلال. وإن لم يرها أو ثارت بعد مروق السهم، فأصابها السهم، لم تحل. 11547 - ولو لاح له [شيء] (1) شاخص، فرماه، وهو يحسبه حجراً أو جرثومة، فتبين أنه كان صيداً، فقد قطع الأئمة بحلّه، لأنه قصد وأصاب، ولم يعتقد في مقصوده ما يناقض الحل. وقد قال الشافعي: إذا اشتملت يد الإنسان في ظلمةٍ على شيء ليّن، فحسبه حشية لينة -وقرأ بعض الأئمة خشبة لينة- فقصدها وقطعها، ثم استبان أنه قطع حلقوماً ومريّاً على الشرط الذي ورد التعبد به، فالشاة ذكية مستباحة. كذلك إذا لاح له شاخص، فقصده، فإذا هو صيد، فلو حسب الشخصُ الشاخصَ حيواناً محرّم اللحم، فلما أصابه السهم، فإذا هو ظبية، فالأصح أنه حلال لتوجه القصد، ووقوع الإصابة على نحو القصد، فإن كان من خطأٍ هاجسٍ في النفس، فهو خطأ في جنس المرمي، فيجب ألا يكون له أثر، ومن أصحابنا من قال: لا يحلّ، لأنه لم يقصد صيداً حلالاً، وفي بعض مجاري كلام شيخي وجه ثالث، وهو أن الحيوان الذي حسبه إن كان جنساً يحلّ أن يقصد بالرمي، فإذا تبيّن صيداً، حلّ، وإن حسبه آدمياً مثلاً محقون الدم، فتبين أنه صيدٌ مستحلّ الجنس لم يحل، لأنه قصد محرماً، والقصد في نفسه محرّم. ولو ذبح حيواناً في ظلمة حسبه خنزيراً أو حيواناً آخر محرماً، فتبين أنه ذبح شاةً، فالوجه عندي القطع هاهنا بالحل، لقوّة الفعل، فإنه في حكم التعاطي والرمي لا يحكم عليه بالإصابة. والعلم عند الله تعالى. والناظر يتنبه لمواضع التنبيه. ولو رمى إلى شاخص، ولم يغلب ظنه في المرمي، ولكن استوت عنده [الجائزات] (2)، فإذا تبين كونَه صيداً، فقد أشار شيخي إلى وجهين، ورتبهما على ما إذا ظنّه خنزيراً، ولست أرى للخلاف في هذه الصورة وجهاً، بل الوجه القطع

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) في الأصل: " الحالات ".

بالحل، كما لو حسبه حجراً شاخصاً. هذا إذا قصد شاخصاً، فأصابه، والمسائل منوعة في ظنه. فأمّا إذا قصد شخصاً، فأصاب ظبية، ففي حلّها خلاف مرتب على ما لو قصد ظبية، فأصاب ظبية أخرى، والتحريم هاهنا أغلب؛ من جهة أنه لم يسدّد قصده على صيد، وهذا فيه إذا قصد حجراً، فمال السهم عنه. ولو قصد شيئاً ظنه حجراً، وكان صيداً، فمال السهم عنه إلى صيدٍ آخر، فوجهان، وهذه الصورة أولى بالحلّ من التي قبلها، ولو قصد خنزيراً، وكان خنزيراً، فمال عنه إلى ظبيةٍ، فعلى الخلاف. وهذه الصورة أولى بالتحريم، مما إذا كان المقصود حجراً، ولو ظن المقصود خنزيراً، ولم يكن خنزيراً، ومال السهم، فالخلاف جارٍ، وتفاوت الترتيب في بُدوّ جنس المقصود، ولا معنى للتطويل، وقد لاح منشأ الخلاف في إصابة المقصود في المسائل، وإذا مال السهم، فهذا في أصله مختلفٌ فيه، والمقصود صيد، ثم تختلف صور المقصود، ويقوى ويضعف القصد بحسبها، وينضم إلى ذلك ميل السهم، فترتب المسائل على حسب ضعف القصد وقوته. 11548 - ثم ما ذكرناه في الرمي، فلو أرسل كلباً أو أغراه بصيدٍ، فمال عنه إلى آخر، نُظر: فإن أخذ صوباً آخر نابياً عن مقصود المغري، وتبيّن أن الكلب انتحاه بطبعه، ولم يكن استرساله في صوبه بسبب الإغراء، فهو حرام، لا شك فيه، ويظهر الذي أردناه فيه إذا اشتد في الصوب الذي أراده المغري، ثم ثار صيدٌ آخر، فاستدبر الكلبُ الأولَ، وأعرض عنه، وتمطى في صوب صيدٍ آخر بدا له، فأما إذا أغراه على صيدٍ، وكان على السنن صيود، فقد ذكرنا التردّد في ميل السهم المسدّد على صيدٍ منه إلى غيره، وإذا فرض مثل هذا في الكلب، فالخلاف جارٍ، واختلف أصحابنا في الترتيب، فرتب الأكثرون الكلب على السهم، وجعلوا مأخوذ الكلب أولى بالتحريم، فإنه على الجملة حيوان ذو اختيار، وقَصْدُ المغري فيه ضعيف، ما لم يظهر انطياعه، فإذا فرضت مخالفة، ظهر بناء الأمر على اختيار الكلب، بخلاف السهم؛ فإنه لا اختيار له.

هذا مسلكٌ لبعض الأصحاب. ومن أصحابنا من عكس ذلك، وقال: مأخوذ الكلب أولى بالحل؛ لأن تسديد النشابة على معيّن من سربٍ ممكن، وإغراء الكلب على ظبية من سربٍ غير ممكن إذا لم يختلف الصوب والجهة، والدليل على ذلك أن من رمى نشابة، فانقلبت وأصابت بعرضها الطائرَ وقتلته، فهو ميتة؛ لأن ذلك محمولٌ على خُرق الرامي، وإذا ماتت فريسة الكلب تحته ضغطاً، ففي المسألة قولان؛ من جهة أن الكلب لا يمكن أن يعلّم ترك الضغط، [ولا يمكن أن يعلّم الجرح] (1). وهذا لا بأس به على شرط التثبت في الفرق بين ما ذكرناه وبين أن يأخذ الكلب صوباً آخر بحيث يظهر اختياره، ويسقط انطياعه للإغراء. فرع: 11549 - إذا أخذ الرامي في نزع الترس، فأفلت الوتر، وصدم الفُوقَ، فمرّت النشابة، وأصابت الصيد، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يحلّ، نظراً إلى ابتداء الرمي، واستداده، على وفق القصد. ومن أصحابنا من قال: لا تحل؛ فإن الرمي جرى، ولم يكن عن قصد، ومثل هذا السهم غير محسوب في أرشاق المناضلة كما سيأتي شرحه. إن شاء الله تعالى. فرع: 11550 - ولو رمى سهماً، وكان السهم مقصراً، ويقع دون الصيد، فصرفته ريح عاصفة فلحق، ففي بعض التصانيف أن الصيد يحلّ، وهذا فيه نظر. وفي هذا الكتاب على الاتصال: لو أصاب السهم حجراً، فارتد منه، فبلغ الصيدَ بقوة الصدمة، فهل يحل؟ فعلى الوجهين. والفرق أن السهم إذا وقع، فكأنه انتهى، فارتداده أمر مبتدأ، وإذا لم يقع السهم، فصدمته الريح، فهذا محمول على الرمي، والفرق ممكن، والاحتمال مع ذلك قائم في مسألة الريح.

_ (1) عبارة الأصل: من جهة أن الكلب لا يمكن أن يعلم ترك الضغط ويمكن أن يعلم الجرح. وفي (هـ 2): من جهة أن الكلب لا يمكن أن يعلّم الجرح، وهذا لا باس به.

فصل قال: " ولو خرج الكلب إلى الصيد من غير إرسال صاحبه ... إلى آخره " (2). 11551 - إذا استرسل الكلب بنفسه، فما يمسكه ويقتله حرام. وإن كان معلَّماً؛ فإنه إذا لم يصدر عن قصد صاحبه، لم يكن آلة له، وتجرّد اختياره، ولو استرسل كما وصفناه، وانطلق، فزجره صاحبه، فلم ينزجر، فأغراه فلم يَزْدَذ حَمْواً، ولم يتأثر، فما يمسكه ويقتله حرام. فإن زجره فانزجر، ثم أغراه فانتهض وأمسك وقتل، فمأخوذه حلال؛ فإن استرساله انقطع بانزجاره. وانطلاقُه بعد هذا بإغراء صاحبه أمرٌ مبتدأ. ولو زجره، فلم ينزجر، فأغراه فازداد عدواً، فأمسك وقتل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه حرام نظراً إلى ابتداء [الاسترسال] (3)، ثم لم ينقطع بالزجر، واشتداده في العدو ليس انطياعاً، وقد يصدر مثله مما ليس معلَّماً من الجوارح. والثاني - أنه يحل؛ لأنه معلَّمٌ، وقد أثر فيه الإغراء، وهذا التردد له التفات على أن الانزجار بالزجر في أثناء العدو هل يُعتبر في أصل التعليم. ولو لم يزجره، بل أغراه، فازداد عدواً وحَمْواً، ففي المسألة وجهان، وهذه الصورة أولى بالحِلّ؛ إذ لم يوجد فيها زجر واستعصاء مترتب عليه، ثم إغراءٌ بعده. وإذا جمعنا إحدى الصورتين إلى الأخرى، انتظم منهما ثلاثة أوجه: أحدها - التحليل، والثاني - التحريم. والثالث - الفصل بين الصورتين، كما أشار إليه الترتيب.

_ (1) من هنا بدأ العمل معتمداً على ثلاث نسخ، حيث أضيفت نسخة (ت 6) في جزئها الأخير الذي ينتهي بنهاية الكتاب -إن شاء الله- وقد جاء في افتتاح هذا الجزء قوله: بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر ولا تعسر، وتمم بالخير وما زال الاعتماد على (هـ 2) أصلاً، والنسختان الأخريان مساعدتان. (2) ر. المختصر: 5/ 206. (3) في الأصل (هـ 4): الإرسال. والمثبت من (ت 6).

11552 - وإذا تبين هذا الذي ذكرناه في هذا الحكم، ترتمبا عليه أحكامٌ مماثلة له: منها- أنه إذا أرسل إنسان كلبه، فزجره غيره فانزجر، ثم أغراه، فانطلق، وأمسك، فالقول في أن الممسَك ملك مَنْ؟ ينبني أولاً على اختلافٍ للأصحاب نذكره في أن من غصب كلباً لغيره واصطاد به فالصيد لمن؟ من أصحابنا من قال: هو للغاصب، وهو الصحيح، فإن الاصطياد منسوب إليه، والكلب في حكم الآلة، وكان بمثابة ما لو غصب قوساً ونشاشيب، فاصطاد بها، أو غصب أُحبولة، فنصبها على مدارج الصيود فتعقّل بها الصيد. ومن أصحابنا من قال: الصيد ملك صاحب الكلب؛ فإنه حيوان ذو اختيار، فكان إمساكه للصيد بمثابة اصطياد العبد، ومن غصب عبداً وأمره بالاصطياد، فاصطاد، فالصيد ملكٌ لمالك العبد. فإذا تبين الوجهان، بنينا عليهما الترتيب الذي طردناه في الحكم المتقدم، فإذا أغرى الإنسان كلبه، فزجره الغير، فانزجر، فأغراه، فانطلق وأمسك: فإن قلنا: مأخوذ الكلب المغصوب ملك صاحبه، فلا أثر لما جرى من الانزجار والانطلاق، والصيدُ لصاحب الكلب، وإن قلنا: ما يصطاده الكلب المغصوب للغاصب الصائد به، وهو الصحيح، فالصيد في مسألة الانزجار والإغراء ملك الثاني، وليقع التفريع بعد هذا على هذا الوجه الصحيح. فإن زجره الثاني، فلم ينزجر، فأشلاه، فازداد عدواً، أو لم يزجره بل أغراه، فازداد عدواً، ففي الصورتين الأوجه الثلاثة، غير أنها في تعيين المالك (1)، والأوجه الثلاثة في الحكم الأول في الحل والحرمة. فإن قيل هلا ذكرتم [وجهاً] (2) أنهما يشتركان؟ قلنا: لا يمتنع في القياس خروج هذا الوجه في الملك، ولا ينتظم في الحل والحرمة إلا أحدهما، فإن فرض اجتماع سبب الحل والحرمة نوجب الحرمة، فيعود الكلام إلى التحليل والتحريم. وإذا كان

_ (1) أي يكون الملك لصاحب الكلب في الصورتين في وجه، وللصائد في وجه، ويفرق بين الصورتين في الوجه الثالث. (2) في الأصل: " وجهين ".

الكلام في تعيين المالك، اتجه التشريك بإثبات الأثرين، والجمع بين المقتضيين. وممَّا يتفرع على هذه القاعدة أن المسلم لو أرسل كلباً، فأغراهُ في أثناء العدو مجوسي بعد الزجر أو قبله، فتنتظم الأوجه، وكذلك لو أرسل المجوسي أولاً، ثم أغراه المسلم، فهذه المسائل تتناظر، ولا معنى للتطويل بإعادتها؛ فإن مأخذ جميعها واحد. والذي يتعلق بفقه هذا الفصل أن الكلب لو استرسل بنفسه ثم أغراه صاحبه في أثناء العدو، فإن قلنا: الاعتبار باسترساله، فلا كلام. وإن قلنا: الاعتبار بازدياد العدو منه عند الإغراء في الأثناء، فلو أكل الكلب من الفريسة -والتفريع على أن الفريسة لا تحرُم بالأكل إذا لم يتكرر- فالاحتمال يظهر في هذه الصورة، فإنه تبين أنه لم يلتفت على صاحبه، ويضعف بهذا أثر إغرائه في الأثناء. ولو استرسل الكلب بنفسه، وأثبت الصيدَ وأكل منه، لم يؤثر هذا في خروجه عن التعلم وإن تكرر؛ فإنه استرسل بنفسه، وإنما يُرعى انكفافه إذا كان استرساله بإرسال صاحبه على حكم الانطياع له، وهذا واضح لا شك فيه. فصل قال: " وإذا ضرب الصّيد، فقطعه قطعتين ... إلى آخره " (1). 11553 - مقصود هذا الفصل الكلام فيه إذا ضرب الصيدَ بسيف أو غيره، فأبان منه عضواً؛ فإن صار بالإبانة إلى حركة المذبوح، فنحكم بتحليل الصّيد، والعضوِ المبان منه، وتعليلُه بيّن؛ فإن الإبانة صارت [ذبحاً] (2) مجهزاً. ولو أبان عضواً، فبقي الصّيد حيّاً، وذُبح لَمَّا قُدر عليه، فالعضو المبان بالضربة الأولى محرم؛ فإنّه أبين من حيٍّ، وما أبين من الحيّ، فهو ميّت، وقد تبين أن الإبانة لم تكن ذبحاً، ويستحيل فرض جُرح لا يكون ذبحاً للأصل، ويكون ذبحاً للعضو.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 206. (2) في الأصل، (هـ 4): منحراً منجزاً.

ولو حصلت الإبانة في العضو وفي الصيد حياة مستقرة، ثم مات الصيد قبل أن يُدرك من غير فرض تقصير في الطلب، أمَّا الصّيد دون العضو، فمباح، وفي العضو وجهان: أصحهما - التحريم؛ فإن الإبانة [لم تُفد حلّ] (1) العضو لما وجدت، وإن تمَّ التذفيف في العضو، فيستحيل أن ينعكس من موت الصيد عليها حكمٌ. والوجه الثاني - أن العضو المبان حلال [فإنا تبّينا] (2) أن الإبانة ذبحٌ للحيوان، فيجب أن يكون ذبحاً للعضو. ولو أبان العضو في الصورة التي إليها الانتهاء، ثم رمى إلى الصيد بنشَّابة أخرى. فإن كانت مذفِّفةَ، حلّ الصيد، إذا لم يَصر مُزمَناً بالإبانة الأولى، والعضو المبان محرّم؛ فإن الرمي ذبح إذا كان مجهزاً في نفسه، لو فرض وحده، وقد ذكرنا أن الصَّيد لو ذبح، فالعضو المبان أولاً حرام، ولو لم تكن الجراحة بالسَّهم مذفّفة، بل استعقبت الجراحة الواقعة به حياةً مستقرةً، ثم حصل الموت بالإبانة الأولى وبالإصابة الثانية، ولا إزمان بالجرح الأول، أما الصّيد فيحل، وفي العضو المبان وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا لم يُحدث بعد الإبانة جَرحاً، والصورة الثانية أولى بتحريم العضو؛ فإنّ الأبانة لم تتجرّد ذبحاً للصيد، بل انضمّ إليها جرح آخر، بخلاف ما إذا تجردت الإبانة، فإنها بانت ذبحاً في الصيد آخراً، فيجوز أن تكون مُحِلةً [للعضو] (3). وغائلة هذا الفصل أنا إن حكمنا بتحريم العضو، وهو القياس، فلا كلام، وإن حكمنا بإحلال العضو عند إفضاء الإبانة إلى موت الصيد، ففي ذلك وقفة: أنقول: يحل العضو عند موت الصيد وكان حراماً قبلُ، أم نقول: نتبين عند موت الصيد حِل العضو استناداً إلى حالة الإبانة؟ وهذا مشكل؛ [فإنا] (4) لو لم نستند، وحكمنا بأن الحل يحصل عند موت الصيد، فموته لا يُغيّر صفة العضو، وإن حكمنا بالاستناد،

_ (1) في الأصل: " لم يتداخل ". (2) في الأصل: " فإذا تبينا ". (3) في الأصل: " في العضو ". (4) في الأصل: " فأما ".

بعُد جدّاً أن [يحل] (1) عضوٌ مبان من حيوان، وفي الحيوان بعدُ حياة مستقرة، وغموض هذا الإشكال في التفريع يُشعر بفساد الأصل. ثم إذا حصل التنبيه للتردد الذي ذكرناه، فالوجه الحكم بتحليل العضو عند موت الصيد؛ فإن الذبح يحصل عند زهوق الروح، فإذ ذاك نُثبت للجزء حكمَ الجملة، هذا هو الذي يصح، والإشكال قائم، وهو داعٍ إلى فساد الأصل الذي عليه التفريع. فصل قال: " وأي أبويه كان مجوسياً ... إلى آخره " (2). 11554 - هذا فصل قدمنا ذكره في النكاح في أحكام المناكحة، والقول في تحليل المناكحة يجاري القولَ في تحليل الذبيحة، فهما متواخيان لا يفترقان، إلا في الأَمَة الكتابية؛ فإن نكاحها حرام وذبيحتها حلال، والسبب فيه أن للرق أثراً في المنع من النكاح، فأثَّر انضمامُه إلى الكفر، ولا أثر للرق في الذبيحة أصلاً، فكانت الرقيقة في الذبيحة كالحرة. ومقصود الفصل الآن تفصيل القول في المتولد بين كتابي ووثنية، أو من بين وثنيّ وكتابية، والتفصيل المُبِين فيه أن المتولد من بين وثني وكتابية لا تحل ذبيحته، ولا يحل نكاحه، وفي المتولد من بين كتابي ووثنية قولان. وإن أردنا العبارة عن القولين في الصورتين، قلنا: أحد القولين أن التوثن في أي طرف فُرض أو التمجس - على الرأي الظاهر- يثبت حرمة المناكحة والذبيحة. والقول الثاني- أن الاعتبار بالأب: فإن كان كتابياً، فحكم الولد حكمه في المناكحة والذبيحة، وإن كان وثنياً، فحكم الولد حكمه. وهذا ذكرناه في النكاح. والذي نُريده أنا إذا ألحقنا الولد بالوثني قولاً واحداً، فقد بان حكمه في الحال، فلو بلغ ودَان بدين أهل الكتاب، واتبع أمه الكتابية، ففي المسألة وجهان: أحدهما -

_ (1) في الأصل: " يحصل ". (2) ر. المختصر: 5/ 207.

أنا نحكم الآن له بحكم أهل الكتاب. والثاني -وهو الأصح- أنا لا نحكم له بحكم أهل الكتاب؛ فإنّا قضينا له بالتوثن، فيدوم هذا الحكم له، فإذا دان بالكتاب بعد البلوغ، كان كوثنيّ يتهوَّد، أو يتنصّر، ولا شكّ أن التَّهَوُّدَ والتَّنَصُّرَ بعد مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يثبت حُرمة. والقائل الأول يقول: إن حكمنا له في حالة الصغر بالإلحاق بالأب فَلدِين الأم من الحرمة ما يثبت له حكمَ الاستمساك بالكتاب بعد البلوغ، ثم إذا وقع التفريع على هذا، فلا وجه إلا الاستناد، والقضاء بأن الأمر كان موقوفاً إلى أن نتبين ما يدين به بعد البلوغ. وهذا ضعيف غير متجه. فصل قال: " ولا يؤكل ما قتلته الأحبولة ... إلى آخره " (1). 11555 - إذا نُصب في الأحبولة مِنجَل، فقد يتعقل الصيد بالأحبولة، ثم يتعقر الصّيد بالمنجل، فإذا فرض ذلك، ثم أفضى العَقْر إلى هلاك الصّيد، فهو حرام، لم يختلف الأصحاب فيه، والسبب في ذلك أنه لم يتّصل بالعَقْر الحاصل فعلٌ يُنسب العقر إليه، وليس وضع المنجل عقراً به، بل الصيد هو الذي يتعقر بحركات نفسه، والمنجل ينحط ويرتفع. ومن أحاط بما ذكرناه من اشتراط الفعل، ثم اشتراط القصد بعده لم يخف عليه تعليل ذلك. فعلى هذا قال الأئمة: إذا كان في يد الإنسان سكّين حادٌ، فانتحرت به بهيمة، ولم يحرّك صاحب السكّين يدَه، فالبهيمة تحرم وإن حصل القطع في حلقومها ومَريئها، ولو كان صاحب المُدْية يحركها، وكانت البهيمة تحك حلقَها، فحصل قطع الحلقوم والمرّيء بتحاملها، وتحريك صاحب السكين يده، فالوجه التحريم لاشتراك البهيمة والذابح. وقد يرد على ما ذكرناه أن من أضجع شاةً ليذبحها، فإذا أمرّ السكين، فقد يضطرب المذبح تحت السكين اضطراباً يؤثر في القطع، ولو قيل قد لا تخلو شاة عما

_ (1) ر. المختصر: 5/ 207.

وصفناه، لم يكن بعيداً، ففتح هذا يوجب تحريماً في معظم الذبائح؟ قلنا: هذا في التصوير غير سديد؛ فإن الشاة إذا رُبطت فمسّها حدّ السكين، فإنها تَخنِس الحلقومَ بطباعها، ولعل من يغفل عن التحرّز إذا أصاب عضواً منه مؤلمٌ انزوى عنه، فإذا [كان] (1) الأمر كذلك فلا يمكن ادعاء عموم حركتها في استقبال المُدْية، وما يفرض من اضطراب فهو بعد فَرْي الحلقوم والمريء، فلا أثر له. فإن صوّر مصور اضطراباً يُعين على القطع قبل تمام القطع، فهذا مما يجب التحرّز منه، فإن ظهر فعل الذابح [وقُدر أمر خفيٌّ] (2) يجري مثله في الوساوس، فالتعويل على فعل الذابح، وإذا ذكرنا فصول الذبح، انكشف تمامُ الغرض. 11556 - والصبيّ الذي لا يميّز إذا أمرّ سكيناً على حلقوم طائر وقطع ما يجب قطعه، فهو ميتة، ولا حكم لفعله؛ إذ لا قصد له، والمجنون الذي لا قصد له بهذه المثابة، والصبي المراهق إذا ذبح، فالأصح تحليل ذبيحته، وفي بعض التصانيف ذكر خلاف فيه من حيث إن الشرع سلب حكمَ قصده، ويمكن تقريب هذا من اختلاف القول في أن الصبي هل له عمد في القتل، حتى يجب بسببه الديةُ في ماله، والقصاص على شريكه في القتل. وأما المجنون، فلا قصد له، فلو انتظم منه الذبحُ على موجَب الشرع، فالوجه القطعُ بتحريم ذبيحته لسقوط قصده، كما ذكرناه في الصّبي الذي لا يميز، وفي بعض التصانيف أن المجنونَ إذا نظم الذبحَ على وجهه، كان ذبحه مبيحاً، وهذا لم أرَه إلا في هذا الكتاب، ووجهه على بعده أن ما يصدر منه لا ينقص عن قطع الإنسان شيئاً ليناً يحسبه حشيَّةً أو خشبة، ثم يتبين أنه حلقوم شاة، وقد ذكرنا أن هذا يُحل الذبيحة. ثم إن فرض مثلُ هذا عن الصبي الذي لا يميز، وقد ينتظم فعلاً كما صوّرناه من المجنون، فسبيله سبيل المجنون.

_ (1) زيادة من المحقق، ومما يحيك في الصدر سقوطها من النسخ الثلاث. (2) في الأصل: " وقد رام أمر خفي ".

فصل قال: " والذكاة وجهان ... إلى آخره " (1) 11557 - قسَّم الشافعيُّ الذكاة إلى ما يقع في المقدور عليه، وإلى ما يفرض في الشوارد، وهذا الانقسام بيّن، فالذبح في المقدور عليه في الحلقوم والمريء، كما سنعقد في ذلك فصلاً، إن شاء الله. فأمَّا الحيوان الذي لا يُقدر عليه، فإن كان صيداً، فالذكاة فيه بآلة وحيوان صَيُودٍ معلّم، كما تمهّد. ولو شردت بهيمةٌ إنسيّة الجنس، فقاعدة المذهب أنها قد تلتحق إذا شردت بالصيد الأَبِد (2)؛ حتى تكون إصابتها بالجرح في غير المذبح ذكاة كما في الصيد، وقال مالك (3): الاعتبار بجنسها، ولا تحصل ذكاتها إلا في الحلقوم والمريء، وقد رد الشافعي عليه بأن قال: لو كان المعتبر الجنس، لوجب أن يقال: الظبية الآنسة تحل بالجرح من غير قطع الحلقوم، والمريء، وهذا لا قائل به، فليقع التعويل على صورة القدرة، والإفلات، فالحيوانات في الحكم الذي نطلبه مذبوحات، ونحن نتبع أحوالها في القدرة والشِّراد، ثم الغرض التعذر لتعذّر الوصول إلى مذبح الحيوان الآنس في جنسه. ونحن نذكر في ذلك صورتين: إحداهما- أن البهيمة لو تنكست في بئر وعسر الوصول إلى مذبحها، وتعذر إخراجها، ولو تُركت، لهلكت، فيجوز الطعن في الأجزاء الظاهرة منها، ويكون ذلك ذبحاً فيها، والسبب فيه تحقّقُ التعذّر، ولهذا المعنى حلّت الصُّيود بهذه الجراح، ثم يعتمد المذهب بما هو الأصل في تمهيد غرض الفصل، وهو ما رُوي: " أن رجلاً يعرف بأبي العُشراء تردّى له بعير في بئر، وهلك،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 207. (2) الأبد بالموحدة التحتية: من أَبِد إذا توحش، فهو أبد. (المعجم). (3) ر. حاشية العدوي: 1/ 522، حاشية الدسوقي: 2/ 103.

فرُفعت القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي العُشَرَاء (1): " وأبيك لو طعنت في خاصرتها، لحلّت لك " (2) ثم ما ذهب إليه المحققون، وهو اختيار القفال أنه لا بد من جرح مُذفِّف، وينزل منزلة قطع الحلقوم والمريء في الحيوان المقدور عليه، وليس يخفى أن قطعهما لا يعقب حياة معتبرة، فليكن الجرح بمثابة قطعهما. ومن أصحابنا من قال: يكفي الجرح المدمي الذي يجوز وقوع القتل به. وهذا القائل يستمسك بظاهر الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وأبيك لو طعنت في فخذها، لأجزأتك " ولم يفصل بين طعن وطعن، والقائل الأول ينفصل عن هذا، ويقول ذِكْر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة (3) يدل على اعتبار التذفيف؛ فإن الخاصرة مقتل.

_ (1) كذا في النسخ الثلاث جعل إمام الحرمين المخاطَب أبا العشراء، وهو وهم نبّه إليه الحافظ في التلخيص قائلاً في تنبيه له حول هذا الحديث: " وقع لإمام الحرمين وهمٌ؛ فإنه جعل المخاطب بذلك أبا العشراء الدارمي (والحديث لا يعرف إلا عن أبي العشراء عن أبيه) ثم قال الحافظ: ويجوز أن يكون ذلك من النساخ، كأن يكون سقط من النسخة " عن أبيه " ا. هـ (ر. التلخيص: 4/ 148) طبعة الكليات الأزهرية ". قلت- عبد العظيم: وهذا عجيب من الحافظ، فقد وقع لإمام الحرمين أوهام دون ذلك فكان يعنف بسببها على الإمام، ويستخدم أقسى الألفاظ وأعنفها، مع أن الحمل على خلل النساخ كان فيها أشد ظهوراً، مثلما وقع في نسبة أم سليم أم أنس حين جاء في إحدى النسخ من كتابنا هذا أنها جدة أنس، فأغلظ الحافظ للإمام الإغلاظ كله هناك ولم يحملها على خطأ الناسخ -مع أنها كانت كذلك- كما فعل هنا. وسبحان علام الغيوب الذي يحيط وحده بأسرار القلوب. (2) الحديث أخرجه أصحاب السنن وأحمد من حديث حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه، وقد ضعفه الألباني (ر. أبو داود: الأضاحي، باب ما جاء في ذبيحة المتردية، ح 2825، الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء في الزكاة في الحلق واللبة، ح 1481، النسائي: الضحايا، باب المتردية في البئر التي لا يوصل إلى حلقها، ح 4408، ابن ماجه: الذبائح، باب ذكاة النادّ من البهائم، ح 3184، المسند: 4/ 334، التلخيص 4/ 148، الإرواء: 8/ 168 ح 2535). (3) تعقب ابنُ الصلاح الغزالي في الوسيط، وأنكر عليه لفظ الخاصرة، فتعقب الحافظ ابن الصلاح، فقال: (أنكر ابن الصلاح لفظ الخاصرة على الغزالي، والغزالي تبع فيه إمامه، ولا إنكار؛ فقد رواه الحافظ أبو موسى في مسند أبي العشراء له بلفظه: لو طعنت في فخذها أو=

هذا كلامنا في هذه الصورة. ويتصل بما ذكرناه أمرٌ في الصّيد، وهو أن من رمى صيداً ولم يذفف، فهل يلزمه أن يرمي وهكذا إلى أن ينتهي إلى التذفيف أو يعجز؟ هذا أولاً في تصويره عُسرٌ؛ لأن الطلب وقطع الحلقوم والمريء أيسر من إتباع الرّمي الرَّميَ، والصيدُ منطلق؛ فإن تصور امتناع الطلب في الحال وإمكان الرّمي، فهذا موضع الكلام، وفيه اختلاف: من أصحابنا مَن قال: لا يجب (1) إتباع الرّمي الرَّميَ، ومنهم من أوجبه للانتهاء والتذفيف، وهذا مرتَّب على البهيمة المتنكسة. والصورة الأخيرة أولى بألا يجب طلب التذفيف فيها؛ فإن التمكن لا يتم مع الصَّيد المنطلق، بخلاف الحيوان المتنكس. فهذا بيان صورة مما وعدناه. 11558 - الصورة الأخرى وهي إذا نَدَّ بعيرٌ أو شردت شاةٌ، نُظر: فإن كان شرادها يُفضي بها إلى مهلكة أو مسبعة، فسبيل الشارد -والحالة هذه- كسبيل الصّيد، فيجوز أن يقصد بالآلات، ويجوز أن تُغرى به الجارحة المعلَّمة، ولو كان لا يُفضي شرادها إلى مهلكة، وربما كان تسكن، فتدرك، فالظاهر عندي أن الذبح لا يحصل بالجرح في غير المذبح؛ فإن هذا القدر إلى زوال، فلا حكم له. وفي كلام أصحابنا ما يدل على أنه إذا تحقق الشراد، فيجوز ذبحه بالجرح حيث يُصيبه؛ فإنه رُبَّما يبغي الذبح في الحال، فلا نكلّفه الصبر إلى أن يزول الشراد. ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه من الشراد، لم نَعن به أدنى إفلاتٍ يتصوّر معه

_ =شاكلتها، وذكرت اسم الله لأجزأ عنك، والشاكلة: الخاصرة، وقال الشافعي: " تردي بعير في بئر، فطعن في شاكلته، فسئل ابن عمر عن أكله، فأمر به ... ". وروى ابن الجارود وابن خزيمة من حديث رافع بن خُديج في حديثه المشهور الآتي، قال: " إن ناضحاً تردى في بئر بالمدينة، فذكي من قبل شاكلته، فأخذ منه ابن عمر عشيراً بدرهم ". ا. هـ (ر. تلخيص الحبير: 4/ 149 طبعة الكليات الأزهرية). قلت: ولا يسلم من الوهم أحد، فابن الصلاح يتعقب أوهام الإمام والغزالي، فيقع في أخطرَ منها. (1) هـ 4: " لا يجوز ".

لُحوقُ المُفلِت بعدوٍ أو استعانة بمن يستقلّ على الاعتياد في مثله. وإذا قُلنا: مجرد الشراد لا يجعل الجَرْح في غير المذبح ذبحاً إذا كان لا يُفضي بالشارد إلى الهلاك، فلو كان يُفضي به إلى الوقوع بين ظهراني لصوص مترصدين أو غُصاب، فعلى هذا الوجه وجهان. وقد نجز الغرض في الصورتين وتمَّ ببيانهما مقصود الفصل. فصل قال: " ولو رمى صيداً فكسره ... إلى آخره " (1). 11559 - إذا رمى صيداً فكسره، وأَثبتَه، وأبطل امتناعه بشدة العدو، أو رمى طائراً، فكسر جناحه، فقد ملكه، ولا يتوقف ثبوت الملك فيه على الانتهاء إليه، وإثبات اليد عليه، وهذا متفق عليه بين الأصحاب. ثم من حكمه وقد صار مُثْبَتاً أن يقال: إن انتهى إلى حركة المذبوح لمَّا أُثبت، فهو حلال، وإن كانت فيه حياة مستقرة، فينبغي أن يطلبها من أثبتها وملكها، على ما تفصّل ذلك فيما مضى، وإذا أدركه، ذَبَحه بقطع الحلقوم والمريء. 11560 - فإذا تمهّد ذلك، فلو أثبته وصار مذبوحاً، فرماهُ آخر فَرمْيُه صادف ذكياً، ويعود النظر إلى أثر هذا السّهم في جلده بالتمزيق أو ما شابه هذا، ولا معنى للتشاغل بمثل ذلك. وإن كان في الصيد المثبَت حياةٌ مستقرة، فرمى الثاني، نُظر: فإن أصاب الحلقوم والمريء بالآلة التي رماها وقطعها (2)، فهذا ذبح على التحقيق، ولكنه جناية على ملك غيره، فنقول: كم قيمة هذا الصَّيد مثبتاً فيه حياة؟ وكم قيمتها إذا ذبحت؟ فإن كان بين القيمتين تفاوت، ألزمنا الرامي الثاني ذلك التفاوت. وعندي أن الحيوان إذا كان لما به من الجرح ولو لم يذبح، لهلك وفات، فالذبح

_ (1) ر. المختصر: 5/ 207. (2) كذا في النسخ الثلاث (وقطعها) بضمير المفرد المؤنث، وهو صحيح على معنى الجمع.

لا ينقص منه شيئاً. نعم، يمكن فرض إثبات تُتَصور الحياةُ معه، فإذ ذاك يظهر (1) التفاوت. هذا إذا أصاب الحلقوم والمريء وقصده. وقد ينشأ من هذا الكلام تردّد في شيء، وهو أن من رمى إلى شاته الربيطة آلة جارحة، فأصابت الحلقوم والمريء وفاقاً وقطعتهما، ففي حِل الشاة نظر، مع القدرة على إمرار السكّين على الحلقوم والمريء، ويجب أن يفرق بين أن يقصد المذبح بالآلة التي يرميها وبين أن يقصد الشاة فيُصيبَ المذبح، والاحتمال يتطرق إلى جميع ذلك، "فالصّيد المُثبَت إذا رماه إنسان، فقطع حلقومَه ومريئه، فهو يقع في التردّد الّذي نَبّهنا عليه. ولو أثبت الأولُ الصّيد، كما صوّرناه، وفيه حياة مستقرة، فرماه الثاني، ولم يُصب المذبح، فهذا يفرض على صورتين: إحداهما- أن تكون الجراحة الثانية على غير المذبح منجزة مهلكة، والأخرى ألا تكون منجزة، فإن كانت منجزة، فيصير الصّيد ميتة، لأن هذا جرح في غير المذبح مع القدرة على المذبح. ولو لم يكن الجرح منجزاً، واتفق تركه حتَّى مات بالجرحين، فهو ميتة أيضاً، ويترتب على ذلك أن الأول ملك الصّيد بالإثبات، والثاني أفسده بالجرح، وحكم الإفساد التزام الضمان. 11561 - ولا مطلع على المقدار الذي يلتزمه إلا بعد تقديم أصل مقصود في نفسه، ونحن نذكر ما يتعلق به، ثم نعود إلى مسألة الصّيد من حيث قطعنا الكلام. فأما ما نقدمه فنقول: إذا جنى رجل على بهيمة أو عبد والقيمة عشرة، وقد نقص بالجرح دينار، ورجعت القيمة إلى تسعة، ثم جاء جانٍ آخر، وجنى عليه جناية أرشها دينار، فسرت الجراحتان وأفضيتا إلى هلاك الصّيد، فما الّذي يجب على كل واحد منهما؟ اضطرب أصحابنا في هذه المسألة، وذكروا أوجُهاً مشهورة. والرأي عندنا أن نذكر ما قيل نقلاً، ثم نبحث بعد النقل عن الحقائق: فأحد الوجوه -أن الأول يغرم أرش جراحته، وهو دينار، ويغرم الثاني أيضاً أرش جراحته، وهو

_ (1) ت 6: " فإن ذلك قد يُظهر التفاوت ".

دينار فيما قرّرناه، ثم ما يبقى من القيمة بعد حط الأرشين عنهما يقسم على الجارحَيْن نصفين، فيخرج منه أن الأول يلتزم ديناراً، وهو أرش جراحته، والثاني يلتزم ديناراً وهو أرش جراحته، والباقي وهو ثمانيةُ دنانير عليهما نصفان، فيغرم الأول إذاً خمسة دنانير عن حساب الأرش وما يصيبه من القيمة، وكذلك الثاني. ووجه هذا الوجه أن جراحة كل واحد منهما أثرت في تنقيص [القيمة] (1) فاستبد كل واحد بأرش النقص المحال على جراحته، ثم القتل بعد هذا الاعتبار يقع بسراية الجراحتين على مقتضى الاشتراك، فيقتضي استواءَهما فيما يقابل الموت. 11562 - والوجه الثاني - أنه يجب على الأول خمسةُ دنانير، ويجب على الثاني أربعة دنانير ونصف، ووجهه أن اعتبار الأرش والجراحتان ساريتان أفضيتا في العاقبة إلى الهلاك باطل؛ فإن النظر إلى الأرش إنما يتجه عند فرض الاندمال وخروج الجراحات عن كونها قتلاً، وهذا أصل متمهد في الجنايات على الأحرار والعبيد والبهائم، فإذا بطل اعتبار الأروش، لم يبق إلا النظر إلى انتسابهما إلى القتل، وإذا كان كذلك، فالأول صدرت منه الجناية وقيمة العبد عشرة، فألزمناه نصف القيمة بحساب العشرة، والثاني جنى وقيمة العبد تسعة -وقد أبطلنا اعتبار الأرش- فنُلزمه نصف قيمة العبد يوم الجناية، وهي أربعة ونصف، وما ذكره هذا القائل من إسقاط الأرش وإبطال اعتباره فقيهٌ، ولكن أداء الوجه إلى إسقاط نصف دينار من قيمة العبد، وهما الجانيان، ولا سبب سوى جنايتهما محالٌ، على ما سيصرح البحث إن شاء الله. 11563 - والوجه الثالث -وهو منسوب إلى اختيار القفال- أنا نوجب على الأول خمسة دنانير ونصفاً، ونوجب على الثاني خمسة دنانير، وتعليل ذلك أن جناية الأول نقصت من القيمة ديناراً، وكذلك جناية الثاني، وانتسب كل واحد منهما إلى قتل نصف العبد، فقلنا: يسقط نصف الأرش في حق كل واحد باعتبار انتسابه إلى قتل النصف، والقاتل لا يغرم بحساب الأرش، ولا يندرج نصف الأرش في حق كل واحد

_ (1) زيادة من المحقق، وسقطت من النسخ الثلاث.

منهما تحت ما يُنسب من القتل إلى صاحبه، والحساب على التنصيف بينهما، فاقتضى هذا تثبيت نصف الأرش على كل واحد منهما، ثم يضم إلى ذلك إيجاب نصف القيمة على الأول، نظراً إلى قيمة يوم الجناية، فيجتمع عليه خمسة دنانير ونصف، ونضمُّ إلى ما ألزمنا الثاني من الأرش نصف القيمة باعتبار يوم الجناية، فيجتمع عليه خمسة دنانير، ويتحصل من المجموع ما ذكرناه. وهذا الوجه ضعيف أيضاً لما سنذكره في المباحثة إن شاء الله، وهو مؤدٍّ إلى غلط في الحساب؛ من جهة الزيادة؛ إذ قيمة العبد عشرة، وقد ألزمناهما عشرةَ دنانير ونصفاً، واعتذر القفال عن هذه الزيادة بأن قال: ترتيب الجنايات يجري مثل ذلك، فإن من قطع يديْ عبدٍ -والتفريع على أنه يلتزم تمام قيمته- فإنا نُلزمه القيمة التامة، ثم لو جاء جانٍ ثانٍ وقتله تجهيزاً، فنلزمه قيمته مقطوع اليدين، فيحصل للسيد من الجنايتين قيمة العبد وزيادة. 11564 - وحكى العراقيون وجهاً رابعاً ناشئاً من المباحثة التي رَمزنا إليها في استنكار وجوب الزيادة، ونسبوه إلى أبي الطيب بن سلمة، [قال أبو الطيب] (1) فيما حكوه: نقدّر على الأول نصفَ القيمة يوم الجناية ونصف الأرش، وكذلك على الثاني، كما ذكرناه في الوجه الثالث، ثم نجمع ما عليهما تقديراً ونقسم قيمة العبد على ذلك المبلغ، بعد البسط الذي يقتضيه مسلك الحساب، ونوجب على كل واحد من العشرة بنسبة تلك القيمة، فيتفاوت ما عليهما، ولا مزيد على العشرة. وبيان ذلك أن أرش جناية الأول إذا كان ديناراً، وكذلك أرش جناية الثاني، فالذي يخرجه حساب الوجه الثالث عليهما عشرة ونصف، على الأول خمسة ونصف وعلى الثاني خمسة، فنبسط المبلغ أنصافاً، فيصير أحداً وعشرين، فنقسم العشرة على أحدٍ وعشرين، ونقول على الأول أحد عشر جزءاً من أحد وعشرين جزءاً من عشرة وعلى الثاني عشرة أجزاء من أحد وعشرين جزءاً من العشرة. وهذا الوجه فيه اعتبار لطيف في فنّه مُؤَدٍّ إلى ترك الزيادة على القيمة.

_ (1) زيادة من: (هـ 4)، (ت 6).

ولا حجة فيما استشهد القفال به من قطع اليدين، والقتل بعده؛ فإن قاطع اليدين لا شركة له في القتل، [والقتلُ] (1) بعد قطعه مُلحِقٌ قطعه بالاندمال، فليست تلك الصُّورة نظيراً لمسألتنا. 11565 - وذكر صاحب التقريب وغيره من المحققين وجهاً خامساً لا يصح عندنا على السبر غيره -وفتواه- (2) أنه يجب على الأول خمسة دنانير ونصف، ويجب على الثاني أربعة دنانير ونصف، ولا يتوجه هذا الوجه إلا بمسلك المباحثة وإنعام النظر في الوجوه المتقدمة. وسبيل افتتاح الكلام أن نقول: إذا جرحا وسرت الجراحتان، فهما قاتلان، والجراحتان قتلٌ، ولا ينتظم على القواعد الالتفاتُ إلى الأرش مع كون الجارح قاتلاً. ولو ذهبنا نبسط هذا، لكان تطويلاً، ولا ينتهي إلى هذا الموضع ناظر مدركٌ إلا وقد أحاط بهذا [الأصل] (3) وإن خطر للفطن تفاوت الأرشين، من جهة أن أرش النقص الأول عُشرٌ بالإضافة إلى العشرة، وأرش الجرح الثاني تُسع بالإضافة إلى قيمة العبد بعد الجرح الأول، فلا حاصل لذلك؛ فإن هذا نظر في تفصيل الأرش، وأصلُه باطل مع انتسابهما إلى القتل. والذي يكشف الغطاء في ذلك أنهما لو جرحا معاً، وكان جرح أحدهما بحيث لو انفرد، لنقص من القيمة عشرها، أو كان أرشها عشراً، وكان جرح الثاني أفظعَ وأفحشَ بحيث لو انفرد، لنقص من القيمة خَمْساً، فإذا أفضى الجرحان إلى الهلاك، فلا نظر إلى [الجرحين] (4) وتفاوتهما في المقدار، ولكنا نجعلهما قاتلين، غير أن الجرحين وَقَعَا معاً، وصارا قتلاً، فالقيمة موزَّعة على الجارحين بالسّوية، فيجب إخراج اعتبار الأرش من البين، وكل وجه مبناه على اعتبار الأرش، فهو ساقط.

_ (1) سقطت من الأصل وحدها. (2) كذا في النسخ الثلاث، وهي مستقيمة صحيحة، فلا يذهب الظن أنها مصحفة عن (وفحواه). (3) في الأصل، و (هـ 4): " الفصل ". والمثبت من (ت 6). (4) في النسخ الثلاث: الأرشين. والمثبت من نسخة أخرى أثبتت بهامش (هـ 4).

ولكن إن وقع الجرحان معاً، جعلنا الجارحين كالقاتل الواحد، وقسطنا القيمة عليهما، وإن وقع الجرح الثاني مرتباً على الأول، فينشأ من هذا أنا نعتبر في حق كل واحد القيمةَ التي كان العبد عليها عند اتصال الجرح به مع إحباط النظر إلى الأرش. ولكن يعترض مع هذا إشكال هو منشأ الاضطراب، وهو أنا لو وفينا هذا القياس حقَّه، لأوجبنا على الأول خمسة وعلى الثاني أربعة ونصفاً، وهذا يُفضي إلى إسقاط جزء من قيمة العبد، وهو محالٌ؛ فإنَّ فوات العبد محال على الجرحين، فالوجه أن نتأنق في طلب نصف دينار من غير أن نحوّم على الأرش، فنقول: الأول لو انفرد بالجرح، وصار جرحه قتلاً، لالتزم العشرة، فلما جرح الثاني، وقد ظهر نقصٌ في القيمة، استحال أن نلزمه أكثر من نصف القيمة التي كان العبد عليها يوم جنايته، هذا ما يقتضيه حكم القيمة، والعبد يختص عن الحر بارتفاع القيمة وانحطاطها؛ فإنَّ الشرع تولى تقديرَ بدل الحر، فلا يفرض انحطاطه. فنقول: أوجب القياس ألا نوجب على الثاني إلا نصف القيمة [الناقصة، وكأن الأول منتسب إلى القتل والتفويتِ إلا في المقدار الذي يفرض لالتزامه الثاني] (1). فذاك مقتطع عن الأول والثاني منسوب إليه، وليس ما التزمه من الزيادة أرشاً، وإنما هو يترتب على شيئين: أحدهما - زيادة القيمة يوم جنايته والثاني - نقصانها يوم جناية الثاني، وامتناع إضافة الزيادة إلى جناية الثاني؛ فإنه يشارك في قتل عبدٍ قيمته تسعة، فتحصّل من مجموع ذلك أن التفاوت بين النصفين على الأول وما اقتضاه الحساب من قسمةٍ، فهو في عهدة الأول، فعلى الثاني نصف قيمة العبد مجروحاً الجرح الأول، وعلى الأول ما تتم القيمة به. 11566 - ثم ينشأ من هذا التوجيه وجه النظر في الوجوه التي قدمناها: أمَّا من قال: على الأول دينار، وعلى الثاني دينار، والباقي بينهما، فهذا الوجه يتضمن إثبات الأرش مع حصول القتل بالجرحين، وهذا مصادمة أصل عظيم، لا سبيل إلى مخالفته، وهو أن الأروش يسقط اعتبارها مع إفضاء الجرح إلى زهوق الروح.

_ (1) ما بين المعقفين ساقط من نسخة الأصل وحدها.

والقول الوجيز في تحقيق ذلك أن الأرش معناه تمييز مقدارٍ واجبٍ بالجناية على الجملة، وهذا من ضرورته أن ينفصل الجرح عن الإزهاق، فإذا أدى إليه، كان الجرح مع السراية بمثابة حزّ الرقبة، فإن فرضت شركة، فالشركاء كالقاتل الواحد. هذا وجهٌ بيّنٌ في ضعف هذا الوجه، ثم النظر في العاقبة يوضح فساد الأصل؛ فإنَّ الثاني التزم ما التزمه الأول مع أن الجناية الأولى صادفت كمالاً في القيمة، والجناية الثانية صادفت نقصاناً فيها، ولا سبيل إلى اعتقاد الصحة في هذا على الجملة إلى أن نسبر. فإن ظن ظانّ أن استواءهما من قبل أن أرش أحد الجرحين تُسعٌ، وأرش الجرح الثاني عُشر، فهذا التفاوت لا يُوجب الاستواء، مع أنا ذكرنا في توجيه الوجه المرتضى أنا لو فرضنا جرحين واقعين بالعبد معاً، وأحدهما أعظم من الثاني، فلا يتفاوت الأمر باختلاف الجرحين إذا وقعا معاً، كذلك إذا ترتبا، وإنما الأثر لنقصان القيمة بالجرح الأول، ومصادفة الجرح الثاني عبداً ناقص القيمة. وأما من قال: يجب على الأول خمسة، وعلى الثاني أربعة ونصف، فهذا الوجه ليس فيه التعرض للأرش والالتفات إليه، ولكن فيه إسقاط شيء من القيمة وسببه أنه دقيق المُدرك مع إسقاط الأرش، ووجهه ما ذكرناه في توجيه الوجه المختار. وأما من أوجب على الأول خمسة ونصفاً، وعلى الثاني خمسة، فقد بنى مذهبه على أن كل واحد منهما بانتسابه إلى القتل قاطع نصف سراية جرح صاحبه، وهذا يقتضي أن يثبت ذلك المقدار من الأرش، فإن من قطع يدي رجلٍ ورجليه، فلو سرت جراحته، لصارت الجراحة نفساً. ولو قتل الغيرُ ذلك المجني عليه، فتستقر الأروش على الجاني الأول؛ فإن القتل من الثاني قطع سراية الجارح الأول وهذا فيه تدقيق، ولكن لا حاصل له مع حصول القتل منهما، والقطع بنزول اشتراكهما في القتل منزلة انفراد الرجل بالقتل، ثم دلّ فساد التفريع على فساد الأصل إذا اقتضى الوجه أكثر من القيمة. وما ذكره القفال من الاستشهاد بما إذا قطع رجل يدي عبدٍ ورجليه، ثم قتله آخر، فهو فقيه غائص؛ من جهة أن كل واحد من الشريكين في حكم المخرج لنصف جرح

صاحبه عن كونه قتلاً، وإذا خرج جرحُ الجارح عن كونه قتلاً بقتلٍ يقع عن (1) غيره، فهذا يقتضي تثبيت الأرش للجرح الخارج عن القتل، وإذا كان كذلك، انتظم فيه تشطير الأرش، ولا [يُنكر] (2) ما يتفق من زيادة في مساق الفقه كما استشهد به، ولكن فَصْلُ فعل أحدِ الشريكين عن الثاني يخالف بابَ الاشتراك ووضعَه، ولو قطع رجل يد عبدٍ وقطع معه رَجلٌ آخر يده الأخرى، فلا نتعرض لأرش جرحهما إذا وقعا معاً ولكن نجعلهما كرجل واحد قطع يدي عبدٍ، ثم أفضى قطعه إلى زهوق روح العبد. هذا وجه البحث عن هذا الوجه. وأمَّا ما حكاهُ العراقيون عن أبي الطيب بن سلمة من توزيع القيمة على المبلغ الذي أثبته القفال ومن انتحى نحوه، فهو حسن دقيق، ولكنه التفات إلى الأرش، ولو صح الالتفات إليه، لم يصح إلا مذهب القفال؛ فإن الزيادة لا مبالاة بها إذا صححها قياس، فإذا كُنّا نُبطل ذلك الوجه لتعلقه باعتبار الأرش، فإذا بطل تحقيقه، بطل تقديره. هذا هو الممكن في البحث عن هذه الوجوه. 11567 - ولسنا من الصّلف على حدٍّ ندعي انتهاء النظر نهايته في أمثال هذه المعاصات، غير أنا نستفرغ الوسع فيما ننتهي إليه وطريقُ الفقه (3) مذلّل لكل ذي فطنة. وقد نجز منتهى مرادنا في هذه المقدمة، فإذا أردنا تقريبها من مسألة الصّيد صوّرنا الجارح الأول مالك العبد، وصورنا الثاني أجنبياً، ثم الأوجه الخمسة تجري في وضع التقسيط، غير أن ما يقابل الأول وهو مالك العبد يُهدر، وما يقابل الثاني يثبت. وصَوَّر المتكلفون [جناةً على العبد مترتبين] (4)، ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخفَ

_ (1) كذا في النسخ الثلاث: عن، وهي بمعنى (مِن). (ر. البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين: 1/فقرة: 102). (2) في الأصل: " نكير " (بدون نقط)، وبهذا الرسم تماماً في (هـ 4)، وفي (ت 6): يكبر (بهذا الرسم والنقط). (3) ت 6: " الفكر". (4) في الأصل: " جناية على العبد مترتبة ".

عليه ما يورد عليه من الصور، إن شاء الله تعالى. 11568 - وقد حان أن نعود إلى مسألة الصّيد فنقول: إذا رمى الأولُ وأزمن الصّيد وملكه، ثم رمى الثاني، ولم يُصب المذبح، فيصير الصّيد ميتة، فإن كانت الجراحة الثانية مذففة في غير المذبح، فالإماتة مضافة إليها بالكلية؛ فإنا تحققنا أن الموت حصل بها، وانقطع بها سريان الجرح الأول المزمن، فنقول: أفسد الثاني الصّيد المزمَن، فعليه قيمة الصّيد مزمَناً، ولا يجوز تقدير الخلاف في هذه الصورة. فأما إذا لحق الجرح الثاني، ولم يكن مذففاً، وحصل الموت في ظاهر الظن بالجرحين، غير أن الأول ملك الصَّيد، فلا يُتصور في حقه غرم، والثاني جانٍ ملتزم للغرم. وحاصل ما ذكره الأئمة بعد تحقيق التصوير أوجهٌ، نسردها، ثم نوجه البحث عليها: فمِن أصحابنا من قال: على الجارح الثاني في الصورة الأخيرة تمام قيمة الصَّيد مزمَناً مجروحاً الجرح الأول، وليس ذلك كما لو جنى السَّيد على عبد نفسه، ثم جنى أجنبي عليه من بعدُ؛ فإنا قسطنا القيمة في تلك المسألة، وذكرنا الأوجه الخمسة في كيفية التقسيط، والأصل متفق عليه، والفرق أن الجراحة الأولى وإن صدرت من المالك، فلا خير فيها ولا صلاح، وإنما هي جراحة من المالك يُتلف ملكَه، فساوت جراحةَ الأجنبي في الإفساد، وإن خالفته في أن المالك لا يضمن شيئاً، والجراحة الأولى في الصَّيد مملِّكة مفيدةٌ، ولو أفضت إلى الموت، لم يفت الصّيد بها على الجملة، وجرحُ الثاني هو المفسد على الحقيقة المفيت، والغرم يتبع الإفاتة والإفساد، وهو بجملته من الثاني. هذا وجهٌ. ومن أصحابنا من قال: لا يغرم الرامي الثاني تمام القيمة، ولكن تُوزّع القيمة على الجرحين؛ فإن الموت حصل بهما، فيتنزل هنا منزلة جرح المالك للعبد مع جرح غيره له بعده، وهذا القائل مكتفٍ بظاهر التشبيه، والوجه الأول مستمسك بالفقه، وإن كان يحتاج إلى مزيد تفصيل. ومن أصحابنا من قال: نفصل، وننظر: فإن رمى الثاني، ومات الصيد قبل أن يقدر الرامي الأول على ذبحه في المذبح مع جِدّه في الطلب، فعلى الرامي الثاني تمامُ

قيمته مجروحاً الجرح الأوَّل؛ فإنّه المُفسد حَقّاً، ولولا جرحه، لكان الصَّيد حلالاً، وإن لم يدرك ولم يذبح. وإن تمكن الأول من ذبحه، فقصد أو انتهى إليه، فلم يذبحه حتّى مات من الجرحين، فتفريطه يُلْحق جرحَه الأول بالمفسدات، فإنه لو تفرد بجرحه ثم قَصَّر في الذبح مع التمكن، فالصّيد ميتة، وهذا يُوجب الحكم باشتراكهما في إفساد الصَّيد. 11569 - هذا ما نقله المحققون في الصَّيد بعد تمهيد المقدمة في الجناية على العبد، وفيما نقلوه بحث: أما من أطلق التقسيط، ولم يتفطن لاختصاص الرامي الثاني بالإفساد في بعض الصور، فقد أصدر ما قاله عن غفلة. ومن أطلق نسبة الإفساد [إلى] (1) الثاني ولم [يفصِّل] (2)، فقد غفل من وجه آخر، وإنما استتم النظر من فَصّل. والأصحاب ينقلون الأوجه مرسلة، ونحن نؤثر ألا يُعدّ أمثال هذا اختلافاً؛ [من جهة أن المسألة إذا كانت عائصةً ذاتَ أصول، ويشوبها رعاية نِسبٍ تقديرية، هي منشأ التقسيط،] (3) فقد يبتدر بعض العلماء جواباً [مبنيّاً] (4) على طرف صحيح، ولكنه يستدعي مزيد نظر، ثم كذلك قد يستدرك زائد على الأول في النظر عليه ما غفل عنه، وهو في نفسه تلحقه غفلة عن طرف آخر، حتى يستتم من يُنعم النظر والفكر في أطراف المسألة، ويستعين بالمذكور ويضمه إلى ما يستجده، فذاك هو الجواب. ولو شهد أصحاب الوجوه وتنبّه [الأولون] (5) وأنصفوا، لنزلوا على منتهى النظر، وإنما الخلاف الحقيقي أن تلوح وجوه الظنون وتتعارض الأقوال فيها، فالذي نحكم به على المذهب القطعُ بالتفصيل. 11570 - ونحن الآن نفرّع عليه، ونقول: إن لم يفرط الرامي الأول، فلا حظ لجرحه في الإفساد، وإنما الفساد كله يتعلق بجرح الثاني وهذا يقتضي أن نلزمه تمامَ

_ (1) في الأصل وحدها: " في ". (2) في الأصل، (وهـ 4): " يغفل ". (3) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحدها. (4) في الأصل: " مثبتاً ". (5) ساقطة من الأصل.

قيمة الصّيد مزمَناً أو مجروحاً الجرحَ الأول، وهذا واضح. ولكن استدرك صاحب التقريب دقيقةً لم يقصِّر في التنبه لها والتفريع على أن الفساد محال على الثاني، وذلك أنه قال بعد حكاية قول الأصحاب: الفسادُ وإن كان مضافاً إلى الثاني بموجب قول الأصحاب: إنَّ الصَّيد لو كان يساوي غير مزمَن عشرة، وكان يساوي مزمَناً تسعة، فالتسعة تجب على الرامي الثاني؛ فإنَّه المفسد. وهذا فيه مستدرك؛ من جهة أنا وإن كنا لا نستعمل الجرح الأول في حساب الإفساد، فيجب أن نستعمله في تقدير الذبح؛ فإنا لا ننكر أثره في حصول الموت، والصيد المزمَن لَوْ لم يمت، كان يساوي تسعة، ولو مات بالجرح الأول ذكياً حلالاً، فربَّما كان يُساوي ثمانية، فيجب أن نقول: أما الثمانية، فعلى الثاني، وأما الدرهم الآخر، فبين الأول بتقدير الذبح وبين الثاني، فيجب أن يهدر نصف درهم لما يقتضيه الذبح من حط القيمة، فيجب على الثاني ثمانية ونصف. وهذا حسن بالغ، ولكن للنظر فيه مجال؛ فإنَّ المفسد يقطع أثر الذبح، ويرفعه من كل حساب، والمسألة محتملة، والأوضح ما ذكره صاحب التقريب وإن أحلنا الفساد على الثاني. فهذا منتهى التفريع. وإن وزّعنا -والرأي عندي أن نقطع بالتوزيع- عند تقصير الأول في الذبح، كما اقتضاه التفصيل. ثم إذا وزعنا، فالأول مالك مُفسد على نفسه، والثاني أجنبي متلف، فإذا قيل لنا: كيف التوزيع؟ قلنا: المسألة في هذا المنتهى تضاهي العبد يجرحه مالكُه، ثم يجرحه بعده أجنبي، ويموت العبد من الجرحين، وفي كيفية التوزيع خمسة أوجهٍ، قدمنا ذكرها. هذا منتهى البيان في مسألة الكسر لم نغادر فيها ممكناً عندنا، وسنلحق بها مسائل مقصودة في أنفسها، وهي تهذب ما قدمنا ذكره في المسألة المتشعبة. وقد رأيت للعراقيين في مسألة العبد التي ذكرناها في مقدمة كَسْر الصيد مسلكاً في رجوع الجاني الأول على الجاني الثاني بنصف الأرش بعد تقدير تمام الأرش عليه، لم أُحب ذكره، فإني لم أرَ له ضبطاً من جهة التعليل، وقد جرت مسألة الكسر بيضاءَ نقية، فالوجه الاكتفاء بما ذكرناه.

فصل يجمع صوراً في الاشتراك في الصّيد قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو رمياه معاً، فقتلاه، كان بينهما نصفين ... إلى آخره " (1). 11571 - فنقول: لو رمى رجلان صيداً، نظر: فإن رمياه معاً، انقسم الأمر: فإن كان جرح أحدهما مذففاً مجهزاً لو انفرد، وجرح الثاني كان لا يزمِن، ولا يذفّف، وتحققنا ذلك من صفة الجرحين، فالصيد لمن جُرحه مذفف؛ فإن الإثبات حصل بجرحه، ولا أثر لجرح الثاني. وإذا وقع الجرحان معاً كما وصفناه، فالمذفِّف مملِّكٌ ذابح، ولا أثر للثاني في التحريم، وإنما يتعلق به أنه لو جرح (2) إهاباً أو مزق لحماً، وكان ذلك يؤثر في التنقيص، فلا يجب على الجارح (3) بذلك الجرح شيء، فإنَّ المسألة مفروضة فيه إذا وقع الجرحان معاً عن غير ترتيبٍ، فيصادف الجرح الذي لم يكن مذففاً [صيداً مباحاً، فاستحال إثبات الضمان عليه. وإن كان كل واحد من الجرحين مذففاً] (4) لو انفرد، فالصَّيد مباح، وهو بين الجارحَيْن نصفان، وكذلك لو كان كل جرح مزمناً لو انفرد، فالصيد بينهما، [فإن] (5) لم يدركاه، فهو حلال بينهما، [وإن أدركاه وذبحاه، فكذلك. وإن كان أحد الجرحين مزمناً مثل إن كان كاسراً للجناح والثاني كان مذففاً] (6)، فالصَّيد حلال، وهو بينهما؛ فإن التذفيف إثباتٌ للصّيد مملك لو انفرد، والإزمان

_ (1) ر. المختصر: 5/ 208. (2) ت 6: " خرق ". (3) ت 6، و (هـ 4): " على صاحب ذلك الجرح شيء ". (4) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحدها. (5) زيادة من (ت 6)، (هـ 4). (6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. ومكانه قوله: " وإن كانا أدركاه ".

كذلك مملكٌ لو انفرد، فقد انتسب كل واحد منهما إلى ما يملك، والصَّيد حلال، ولا يتصوّر في [إصابة الجرحين معاً] (1) تحريم يأتي من جهة الجرح. نعم، قد يفرض تقصير في ترك الذبح، فلا يخفى حكمه، ولا (2) يختلف الحكم بأن يكون كل واحد من الجرحين مملكاً أو أحدهما مملك. ولو قيل: حصل الإثبات بهما جميعاً، فالصّيد بينهما؛ فإنّهما اشتركا حقّاً في الإثبات، فاتجه التشريك. 11572 - ولو أشكل الأمر؛ فجوزنا أن يكون الإثبات حاصلاً بهما، وجوزنا أن يكون حاصلاً بأحدهما، ثم لم نَدْرِ لو حصل بأحدهما فَبِمَن؟ فإذا التبس الأمر كذلك واعترفا بالالتباس، فالحل لا شك فيه على القواعد الممهدة، والصيد بينهما في ظاهر الحكم. وقد يطرأ في مثل ذلك أن يتحرج كل واحد منهما، ثم يجرّ ذلك وقفاً واصطلاحاً بعد ذلك واستحلالاً، ونظائر هذا كثيرة. ولو كان أحد الجرحين مذففاً ولا ندري أن الثاني هل أثر في الإزمان والتذفيف؟ نقل (3) أصحاب القفال عنه أن الصَّيد بينهما، فأُلزم على هذا ما لو تمالأَ رجلان على رجل وجرحه أحدهما جراحة تذفف لو انفردت، وجرحه الثاني جراحة لا يُدرَى هل تذفف لو قدر انفرادها، فهل يجب القصاص عليهما؟ فارتكب وقال: يجب القصاص عليهما، وهذا بعيد، وهو إيجاب القصاص مع الشك والتردّد في الموجِب، فالوجه تخصيص القصاص بمن صدر المذفف منه، وليس كما لو كان كل جرح مذففاً لو انفرد، وذلك بأن يشيرا بسيفيهما معاً، فيحُزّ أحدهما الرقبة، ويقده الثاني بنصفين، ويقع الأمران معاً، فليس أحدهما بالتزام القصاص أولى من الثاني. ثم إذا ظهر عندنا نفي القصاص عمن شككنا في وجوبه عليه؛ من حيث وجدنا شيئاً نحيل عليه القصاص حقاً، فماذا نقول في مسألة الصيد وأحد الجرحين مذفف والثاني مشكوك فيه؟ هذا عندنا يَجُرُّ تردُّداً أيضاً، ولعلَّ الوجه أن يقال: نصف الصَّيد يسلم

_ (1) في الأصل: " الجناية بالجرحين ". (2) ت 6، هـ 4: " وإنما يختلف الحكم ". (3) ث 6: " فقد حكى أصحاب القفال ".

لمن جرحه مذفف، والثاني يوقف بينهما. وإن عجلنا ولم نقف خلصنا لصاحب الجرح المذفف نصفاً، وجعلنا النصف الثاني بينهما نصفين، فيخلص لأحدهما ثلاثة أرباع الصيد. والعلم عند الله. هذا كله إذا رميا وأصابا معاً. 11573 - فأما إذا ترتب الأمر -والاعتبار بوقوع الجرح في هذا الباب لا بوقت الرمي- فإن وقع جرح أحدهما، ثم وقع بعده جرح الثاني، نُظر: فإن أزمن الأولُ، ثم أصاب الثاني، فهذا جرح ورد على جلد ولحم. فإن لم يكن الجرح الأول مذفّفاً ولا مُزمناً، وكان الجرح الثاني مذففاً، فالصَّيد للثاني، ولا أثر للجرح الأول في حكمٍ من الأحكام. وكذلك إن كان الجرح الثاني مزمناً بنفسه، من غير أن نقدر الجرح الأول، فالصَّيد للثاني، وحقه أن يدرك ويذبح إن كانت فيه حياة مستقرة. ولو جرى الجرحان وترتب الثاني على الأول، وأشكل الأمر، فلم ندر أن الأول أزمن، ثم لحق الثاني وهو غير مذفف، فأفسد الصَّيد، أوْ كان الأول غيرَ مزمن، وكان الثاني مُزمناً، ولو كان كذلك، لم يفسد الصَّيد، فإذا اعتاص الأمر وأشكل، وكان حكم الصَّيد أن يفسد في أحد الاحتمالين، ولا يفسد في الثاني، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: في حِل الصَّيد قولان مبنيان على القولين في مسألة الإصماء والإنماء، ووجه التشبيه أن الصَّيد إذا غاب، فقد تعارض احتمالان في سبب موته: أحدهما - مصلح، والثاني - مفسد، كذلك في مسألتنا. هذه طريقة. ومن أصحابنا مَن قطع بالتحريم فيما نحن فيه، وفرَّق بين هذه الصورة، وبين صورة الإنماء، وقال: قد وجد في صورة الإنماء جُرح يحال الموت عليه، وإحالة الموت على الجرح السابق أصل في الشريعة، ولم يُوجد في المسألة التي نحن فيها أصل في التحليل، والأصل استبقاء الحظر والتحريم. ثم قال الصَّيدلاني في نصرة طريقة القولين: إنما يأتي الفساد من كون الجرح الأول مُزمناً، والأصل أنه غير مزمن، فليقع البناء على هذا، ولا بأس بما ذكره، ولكن الفقه في الفرق بين المسألتين.

11574 - ومما يتعلق بصور الفصل أن الجرحين لو وقعا على الترتيب، ولم يزمن الأول، ولم يكن الثاني بحيث لو انفرد لأزمن، فإذا استعقب الثاني الإزمان، فالذي أطلقه الأئمة في الطرق أن الصَّيد للثاني؛ فإنّ جرحه استعقب الإذعان، وذكر الصيدلاني قولاً مخرجاً أن الصَّيد مشترك بينهما، ومن تأمَّل ما قدمناهُ من الفصول وما مهدنا فيها من الأصول، لم يَخْفَ عليه اتجاهُ كون الصَّيد مشتركاً بين الجارحَيْن (1)، والوجه المشهور عن الأصحاب [أن الصَّيد للثاني،] (2) إذ الجرح الأول أصابه والمصاب صيدٌ بعدُ، فطاح الجرح وسقط أثره، وصادف الجرح الثاني صيداً فأزمنه، فقيل هو للمزمن، والذي سبق وفاقٌ، " ورُبَّ ساع لقاعدٍ " (3). ثُمَّ فرَّعوا على ما رأوه المذهبَ، وقطعوا به، فقالوا: إذا جعلنا الصَّيد للثاني كما ذكرناهُ، فلو عاد الأول والمسألة بحالها ورمى الصَّيد مرة أخرى بعد الإزمان، فمات الصَّيد من الجراحات كلها، ولا إجهاز في شيء منها، فعلى الذي رمى أولاً وثالثاً الضمانُ، فإنه برمْيه الثاني -وهو الجرح الثالث - تسبب إلى إفساد الصَّيد، إذ الصَّيد صار مزمَناً بالجرح الثاني. ثم الكلام في مقدار ما يجب من الضمان، وقد اختلف أصحابنا فيما يجب عليه، وأحسن ترتيب في تأدية الخلاف أن نقول: في وجهٍ يجب على المفسد قيمة الصيد مجروحاً جرحين: الجرح الأول؛ فإنه كان هدراً، والجرح الثاني، فإنه صدر من المثبت المالك. وفي وجه نقول: يجب على هذا المفسد قسط، ولا يلزمه تمام القيمة. فإن أوجبنا القيمة، فذاك بيّن، وإن أوجبنا قسطاً، ففي التقسيط اختلاف الأصحاب،

_ (1) يصرح الإمام هنا أنه يرجح وجهاً غير الوجه المشهور المعتمد مذهباً، وقال النووي عن هذا الوجه " إنه الأصح " ثم أشار إلى ما اختاره الإمام، فقال: " وقيل: هو مشترك بينهما، ورجحه الإمام والغزالي " (ر. الروضة: 3/ 267). (2) ساقط من الأصل. (3) مثل مأثور.

وهذه المسألة تناظر ما إذا جرح مسلم عبداً مرتداً، وأسلم، فجرحه مالكه، ثم عاد الأول وجرحه جراحة أخرى، فمات من الجراحات كلها، وقد ذكرنا طرق الأصحاب في ذلك في آخر الديات من فروع ابن الحداد، وحاصل القول على الإيجاز: أن من أصحابنا من يوزع على الجراحات، وهي ثلاثة، فعلى هذا نوزع في مسألة الصَّيد قيمةَ الصَّيد على الجراحات الثلاث، ونهدر ما يقابل الجرح الأولَ والثاني، ونوجب ما يقابل الجرحَ الثالث، وهو الثلث، فيجب على الذي جَرَحَ أولاً وثالثاً ثُلثَ القيمة. والوجه الثاني -في مسألة العبد المرتد- أنا نُوزّع القيمة على الجارحَيْن، ولا نتعرض لأعداد الجراحات أولاً، فيقتضي ذلك التنصيفَ، ثم يسقط نصفُ القيمة، وهو ما يقابل الملك، والنصف الآخر موزع على الجرحين، إذ أحدهما في حالة الردّة، فيهدر نصف النصف، ويبقى نصف النصف، وهو الربع، فعلى هذا نقول في الصَّيد: نسقط نصف القيمة مقابلة جرح المالك المثبت للصيد، وننظر في النصف الثاني ونوزّعه على الجرح الأول والثالث، فنهدر ما يقابل الجرح الأول، فإنه أصاب صيداً مباحاً، لا حق لأحد فيه، ونوجب النصف، فيخرج منه إيجاب ربع القيمة. ثم إذا أوجبنا قسطاً، وقلنا: إنه ثلث، أو ربع، فهل نضم إليه اعتبار الأرش؟ فيه التردد والاضطراب الذي مهدناه في مسألة كسر الصّيد. 11575 - ومما نلحقه بآخر هذا الفصل أمر لا خفاء به، وهو أنه لو رمى الصَّيد رجلان، ثم اختلفا، فقال أحدهما: أنا المزمن، والصَّيد مِلكي، وقال الثاني: بل أنا المزمن، وليقع الفرضُ فيه إذا أُدرك وذبح، فإذا استبهم الأمر، وكان صدق كل واحد منهما ممكناً، فظاهر الأمر أن الصَّيد في أيديهما، [وهما يتنازعان فيه، وهما بمثابة ما لو تنازعا في دار في أيديهما] (1).

_ (1) سقط من الأصل.

فصل قال: " ولو رمى طائراً، فجرحه، ثم سقط على الأرض ... إلى آخره " (1). 11576 - إذا رمى طائراً فإن أصاب مذبحه أو جرحه جرحاً مذففاً، فلا تفصيل في سقوطه، فإنه يُذكى في الهواء، فليقع بعد هذا على الأرض، أو على الماء، وقد تمهد الحِلُّ. فلو لم يذففه الجرح، فسقط ومات بأثر الجرح والصدمة، فقد قال الشافعي: يَحِلّ؛ فإنَّها ضرورة الاصطياد، وإن ظهر عندنا موته بالجرح والصدمة، وهذا بمثابة ما لو جرح الرجل صيداً، وجَدَّ في طلبه، فلم يدركه إلا بعد الموت، فالصَّيد حلال، وإن أزمنه الجرح ووقع موته في مقدور عليه من غير ذبح، ولكن لما كان وقوع هذا غالباً في الصَّيد، احتُمل، ومبنى الصَّيد على احتمال مثل ذلك فيما يعم وجودُه. فأما إذا وقع الطائر غيرَ مذفَّف في ماء، أو وقع على جبل، ثم تدهور منه، ولم يزل يتدهور من حجرٍ إلى حجر ويصادمها، فلا نقضي بحِله؛ فإن أمثال هذه الصورة ليس مما يحكم عليه بالغلبة في الوقوع، وإنما يحتمل الخروج عن القياس فيما يعم فيه الحاجة. هذا ما ذكره الأئمة رضي الله عنهم، ولو قال قائل: الصَّيد في الجبل ليس من النوادر، ثم وقوع الطير في الجبل على هيئة التدهور ليس نادراً، وكذلك إذا توسّط الرجل البحر، وكان يرمي طير الماء، فلا يبعد السقوط على الماء، فإذا كان كذلك، فيتطرق إلى الصورتين إمكان احتمال ما يجري، ولكن الأصحاب أطلقوا القول، ويمكن أن يظن أنهم قالوه في الأمر الأعم. ومما ذكروه أنه لو رمى طيراً على رأس شجرة، فانحط منه، وكان يقع من غصن على غصن، فهو حرام، وهذا مما يمكن أن يحكم عليه بالغلبة؛ فإن إصابة الطيور

_ (1) ر. المختصر: 5/ 208.

على الأشجار أغلب من إصابتها في الهواء، فهذا توجيه الاحتمال، مع تسهيل طريق تأويل كلام الأصحاب، وذلك بعد الوفاء بالنقل على الصحة. ولو رمى طائراً في الهواء، فلم يجرحه، ولكن كسر جناحه، فسقط ومات، فهو حرام؛ فإنه لم يصبه جرح يحال عليه تأثيرٌ في الموت، والجرح لا بد منه. ولو أصاب الطائر جرحٌ ضعيف لا يؤثر مثله في الموت، ولكنه عطل جناحه، فإذا وقع على الأرض، فالذي أراه أنه حرام؛ فإن إحالة الموت على الوجبة (1) والصدمة، وذلك الجرح عديمُ الأثر في الموت، والله أعلم. فرع: 11577 - إذا رمى صيداً بسهم أو غيره، فلم يجرحه، بل قتله بثقله، فهو حرام؛ إذ الجرح لا بد منه، وكذلك لو صار بالثقل إلى حركة المذبوح، فالأمر على ما ذكرناه؛ فإن القطع بعد المصير إلى حركة المذبوح بمثابة القطع بعد سقوط (2) الحركات، ولو أصاب الصيد طرفٌ من النصل، وجرح، وثقل السهم عليه عرضاً في مرِّه، فحصل الموت بالجرح والثقل، فهو حرام، وهو بمثابة ما لو أصاب الطائر من رجلين [سهم] (3) وبندقة، وحصل الموت بالثقل والقطع، فهو ميتة لاشتراك المحرِّم والمحلّل في القتل. وإذا أشكل الأمر، فلم ندر كيف حصل القتل، فالتحريم هو المحكوم به، فإنا تردّدنا في الحِل، وقد جرى السببان، فليس أحدهما أولى بأن يُعتقَد من الثاني، والتحريم أغلب. وإنما اختلف قول الشافعي في فريسة الكلب إذا ماتت تحته ضغطاً وغمّاً، كما تقدم ذكرها، ومذهب أبي حنيفة (4) رحمة الله عليه، أنها تحرم، لأنها منخنقة، وقد حرّم الله المنخنقة، كما حرم الموقوذة. والله أعلم.

_ (1) الوجبة: السقطة. (المصباح). (2) ت 6: " سكون ". (3) في الأصل: " جرح ". (4) ر. المبسوط: 11/ 225.

فصل قال: " ومن أحرز صيداً فأفلتَ منه ... إلى آخره " (1). 11578 - هذا الفصل مشتمل على ما يُملَك به الصَّيد، والأصل فيه أنه إذا امتنع [على الصَّيد] (2) ما به امتناعه عن التطلق والإفلات بسببٍ يُقصد مثله عُرفاً، فيصير الصَّيد ملكاً للصائد، فلو نصب شبكة قصداً، فتعقَّل بها صيدٌ، ملكه، ولو رمى صيداً، فأزمنه، ملكه، ومبنى الملك في المباحات على صورة اليد، وكان قد يظن الظَّانّ أن الملك في الصّيد لا يستقر إلا بإثبات اليد عليه، ولكن إثبات الصَّيد إثباتٌ لليد عليه، والآلة -[إن] (3) كانت- بمثابة اليد (4). هذا قولنا في الأسباب المقصودة. ولو حاش الرجل صيداً، واضطره إلى مسلك، [فقبض] (5) عليه مترصّد، فهو ملك القابض، إذا كان للصّيد مسلك ينطلق فيه، وليس كما لو لو أدخله بيتاً؛ فإنه يملكه؛ إذ هو بإدخاله إياه البيتَ سقط امتناعه. ولو سقى الرجل أرضاً له، أو وقع الماء على أرضه من غير قصده، فتخطى فيها صيدٌ وتوحَّل، وصار مقدوراً عليه، فالذي رأيته للأصحاب أن صاحب الأرض لا يصير مالكاً بما جرى له؛ لأن مثل هذا ليس مما يقصد به الاصطياد، والقصودُ مرعيَّة في أمثال هذه التملّكات. وذكر الصَّيدلاني وجهين: أحدهما - ما ذكرناه وهو الذي اختاره وصحَّحه، والثاني - أن مالك الأرض يملك الصَّيد، كما لو نصب شبكة أو رمى صيداً، فأثبته. وهذا الاختلاف فيه إذا لم يكن سقي الأرض مما يقصد به توحّل الصيود وتعقله،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 208. (2) سقط من الأصل. (3) في الأصل: " وإن ". (4) عبارة (ت 6)، (هـ 4): " وإن بان بمثابة البراجم ". (5) في الأصل: " قعد ".

فإن كان ذلك مما يقصد به هذا، فهو بمثابة نصب الشبكة. والأصل المرعي في ضبط محل الوفاق والخلاف ما قدمناه من كون الشيء مقصوداً في الاصطياد وخروجه عن كونه مقصوداً، فكلّ ما يقصد مثله، فإذا أثبت الصَّيد به ملكه المُثْبت، وما لا يقصد مثله، ولكن اتفق ثبوت الصَّيد به عن وفاق، ففي حصول الملك فيه الخلاف. 11579 - وهذا يتضح بصُور نأتي بها، فلو دخلت ظبيةٌ دار إنسان، ولم يشعر صاحب الدار بها، فاتفق منه إغلاق الباب من غير شعور بالظبية، فمن راعى القصد، حكم بأن الظبية ليست مملوكة لصاحب الدار، ومن لم يُراع القَصْدَ، قضى بأنها مملوكة له؛ إذ لا خلاف أنه لو شعر بالظبية وأغلق البابَ قصداً فيصير مالكا لها. ولو عشش طائر في ملك إنسان، وباض، وفرخ، فالدُّور لا تُبْنى لذلك، فإذا اتفق ما ذكرناه، فالبيض في العش مقدور عليه من غير تسبب إليه، وكذلك الفرخ مقدور عليه إلى أن ينتهض ويملك جناحيه، فمن راعى القصد، لم يُثبت الملك على البيض [والفرخ، ومن لم يراع القصد، حكم بالملك، ثم بنى عليه أنه إذا طار، فهو ملك صاحب الملك] (1) وهو بمثابة طائر مملوك له يفلت وينحل رباطه، وبمثل هذه الصورة نتبيّن فساد قول من يثبت الملك من غير قصد، فإن الطيور تعشش وتفرخ على الأشجار التي تحويها الحدائق والبساتين، (2 ثم تملك الفراخُ أجنحتها، وتطير، ولا يخطر لأحد أنها كانت مملوكة لأصحاب البساتين 2). ومما يجب الاعتناء بدركه أن من انسلت منه شبكة، وثبتت، ثم اتفق تعقل صيد بها، فهذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه، وهذا يناظر إغلاق الباب على الظبية إذا دخلت الدار؛ فإنّ هذا إن كان عن قصد، فيحصل ملك الظبية، وإن كان عن غير قصد، ففيه الخلاف. ولا بد من الإحاطة بصورتين في إثبات الملك: إحداهما - أن يتفق ثبوت الصَّيد بما

_ (1) ما بين المعقفين سقط من نسخة الأصل وحدها. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 6).

يقصد بمثله إثباته، ولكن يحصل ذلك السبب من غير قصد إليه، كما ذكرناه من إغلاق الباب من غير شعور بكون الصَّيد في الدار، ومن ذلك انسلال الشبكة من مالكها من حيث لا يشعر وثبوتُها في مَدْرجة الصيود، وقد ذكرنا أن الصيد لو ثبت بما لا يقصد بمثله إثباته، فهل يقضى بالملك فيه؟ فعلى الخلاف. والصورة التي جدّدناها الآن من إغلاق الباب وانسلال الشبكة من غير قصد، فالخلاف يجري فيها، ولكنا نرى أن نُرتّب هذه الصورة على ما إذا ثبت الصيد نادراً بما لا يقصد إثباته. والصورة الثانية - أن السبب إذا كان لا يقصد بمثله إثبات الصيود، وسبب ذلك أنه يبعد ثبوت الصّيود به، فلو قصد به الإثبات، فثبت، فقد أجرى الأصحاب الخلاف في هذه الصورة أيضاً، وسبب جريان الخلاف أن القصد فيه لا يصح؛ فإذا ضعف القصد، جرى الخلاف، وحق هذه الصورة أن ترتب على ما إذا اتفق الثبوت على الندور من غير توجه قصد إليه، فهذا ما أردنا أن نوضّحه. 11585 - ثم تمام التفريع في ذلك أنا إن قلنا: لا يحصل الملك في الصّيد، فقد قال الأصحاب: صاحب الملك أولى به، وعَنَوْا به أنه ليس للغير تخطي ملكه والتوصّل إلى الصَّيد، فلو أخذه آخذٌ، فهل يملكه؟ فيه تردد مأخوذٌ من قول الأصحاب، وهو عندنا قريب المأخذ مما لو تحجّر الرجل مواتاً ليُحْييَه- فابتدر البقعة مبتدرٌ وأحياها، ففي تملكه وقد تم الإحياء خلافٌ قدمتُه في كتاب إحياء الموات، ووراء هذا نظر عندي؛ فإنَّ المتحجّر قصد بالتحجّر أن يتملك، فكان حقه آكد والذي حصل الصيد في ملكه لم يقصد تنجيز تملكه، ولا التسبب إليه؛ [فكان الحكم لآخذ الصّيد بالملك أقربَ هاهنا] (1) والله أعلم. وسأذكر صورة تنطبق على التحجّر، فأقول: إذا دخلت سمكة في بركة إنسان، فإن كانت البركة ضيقة وقد سَدَّ صاحبها بعد الشعور بالسمكة مَثْعبيها (2)، وصارت السمكة منحصرة في مضيق بحيث يسهل أخذها، فهي مملوكة لصاحب البركة؛ فإنه

_ (1) عبارة الأصل: " فكان أخذ الصيد بالملك أقرب هاهنا ". (2) المَثْعبُ: وزان مفعل، بفتح الأول والثالث، مجرى الماء من الحوض وغيره (المعجم) والمراد سدّ مجرى الماء إلى البركة، ومخرجه منها.

تسبب إلى ضبط السمكة بمسلك معتاد. ولو كانت البركة واسعة، وقد سد المنفذين، ولكن أخذ السمكة من البركة فيه عسرٌ لاتّساع البركة، فلا نحكم له بالملك في السمكة، إن لم يوجد فيها ما يضبطها. ولكن إذا استفتح التوصل إلى أخذها، وقد سدَّ المنافذ، فقد حصل فيها نوعٌ من الانحصار، فهذا الآن يُضاهي [صورة التحجّر، و] (1) فرْض الإحياء من غير التحجّر. ومن دخل بستان إنسانٍ واصطاد فيه طائراً ممتنعاً، فلا خلاف أنه يملكه؛ لأن البُستان لم يَتَضمَّن ضبطاً للطائر، وليس اقتناؤه تسبّباً إلى الضبط، وما ذكرناه من التردد في صيد منضبط في ملك إنسان بجهةٍ لا يقصد بمثلها الضبط. فرع: 11581 - إذا أفلت من إنسان طائر مملوك له، لم يخرج عن ملكه بالإفلات، ولو حرّره قصداً، وحاول بذلك رفعَ اختصاصه به عنه، ورَدَّه إلى ما كان عليه من الإباحة قبل الاصطياد، فالذي ذهب إليه المحققون أن الملك لا يزول عنه، وذكر شيخي وغيره من الأئمة وجهاً آخر أن الملك يزول عنه، ويعود الصّيد كما كان؛ فإن سبب ملكه اليد، فإذا قطع اليدَ وأعرض عنها، أمكن أن يقال: عاد كما كان، وهذا ضعيف، وإن كان مشهوراً [في الحكاية] (2). ولو ألقى كِسرة خبز، وأعرض عنها، فأخذها عاثر عليها، فهل يملكها؟ ذكر الأصحاب في ذلك خلافاً، ورتّبوه على مسألة الصيد، وقالوا: [الأولى] (3) في هذه الصورة ألا يحصل الملك للقابض؛ فإنه يخالف الصَّيد، من حيث إن سبب الملك في الصّيد اليدُ، وقد أزالها قصداً. وتمام البيان في هذا أن ما فعله إباحةٌ للطاعم في ظاهر المذهب؛ فإن القرائن الظاهرة كافية في الإباحة، ولكن إن رام الآخذ تملكاً، ففي ثبوت الملك ما ذكرناه. ولو ألقى الرجل إهاب ميتة غيرَ مدبوغ، وأعرض عنه، فأخذه آخذ ودبغه، ففي ثبوت الملك له وجهان مرتبان على الخلاف في كسرة الخبز، وهذه الصورة الأخيرة

_ (1) ساقط من الأصل. (2) زيادة من (ت 6)، و (هـ 4). (3) سقطت من الأصل.

أولى بأن يحصل الملك فيها للآخذ، فإن الأعراض يقوى عما ليس بملك، وتملك الدابغ يقوى على حسب قوة إعراض المعرض. فصل قال: " ولو تحوّل من برجِ إلى بُرجِ ... إلى آخره " (1). 11582 - إذا تحوّلت حمام من بُرجٍ، وهي مملوكة له إلى بُرجِ آخرَ (2) مملوكة (3) للغير، واختلط الحمام بالحمام، فليس للمالكَيْن أن يتهجما على التصرف مع اختلاط الملكين، والمسألة في الاشتباه وعُسْر التمييز، فإن باع أحدهما حمامة من صاحبه، أو وهبها منه، فالبيع والهبة خارجان عن القياس المرعي في بابهما، ولكن إذا عسر التمييز، وامتنعت القسمة، وانحسم التصرف، فهل يصح التمليك بالبيع والهبة للضرورة الداعية؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح لأنا قد نرفع التعبدات بالإعلام عند تعذره، ولذلك صححنا الجعالة والقراض، ومعاملاتٍ سواهما مشتملة على ضروب من الجهالة. ولو باعا الحمام المختلطة، وهما لا يدريان أعيان ما لكل واحد منهما من الحمام؛ فإن كانت متساويةَ القيمة، وكانت الأعداد معلومة لكل واحد منهما، مثل إن كان لهذا مائة، ولهذا مائتان، فإذا اتفقا على بيع الحمام وتوزيع الثمن على الأعداد، فقد أطبق الأئمة على تصحيح ذلك، ووجهه بيّن. وإن كان يجهل كل واحد منهما الأعداد التي هو مالكها، فإذا باعا الحمام المختلطة، فالوجه عندي الحكم بفساد البيع؛ فإن الصّفقة تتعدّد بتعدد البائعَيْن، ولا يدري واحد منهما ما يستحقه من الثمن؛ وإزالة الجهالة متعذّرة، وقد ينشأ من ذلك وجه في جواز البيع، والعلم عند الله تعالى.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 208. (2) برج آخر: مضاف ومضاف إليه، فليست آخر صفة للبرج. قاله ابنُ الصلاح في مشكل الوسيط (7/ 121). (3) كذا بالتأنيث في النسخ الثلاث.

ولكنّ السّبيل فيه أن يقول كل واحد منهما: بعتك الحمام التي (1) في هذا البرج بكذا، فيكون الثمن معلوماً، وعدد الحمام مجهولاً، فيُحْتَمل الجهل في المبيع للضرورة؛ إذ لا سبيل إلى دفعه. ولو قالا: بعنا منك الحمام بكذا، فهذا ما لا أرى تصحيحه؛ فإنَّ دفْع الجهل عن الثمن بالطريقة التي ذكرتُها ممكن، فلا معنى لاحتمال جهل لا تلجىء إليه الضرورة. 11583 - ثم قال الأئمة: إذا أفلتت حمامة أو حمامات معدودة، واختلطت بحمام [ناحية] (2) وكانت مباحة للصائدين، فلا يحرم الاصطياد على أهل الناحية بسبب اختلاط حمامة أو حمامات معدودات؛ فإن حمام الناحية فيما نُصوّره ليست متناهية، ولا يتغير حكم ما لا يتناهى باختلاط ما يتناهى به، وهذا يناظر التباسَ أخت الإنسان من الرضاعة بنسوة لا يحصين؛ فإنه إذا اتفق ذلك، لم ينسدّ على الإنسان بابُ التزوج، مع ابتناء الأمر في الأبضاع على التغليظ. والذي ذكرناه مفروض في اختلاط حمام محصورة بحمام غير محصورة. ولو انتقلت حمامة أبراج مملوكة من بلدة إلى أخرى، فهذا في حكم اختلاط ما لا ينحصر بما لا ينحصر، والتصوير فيه إذا كان الحصر متعذراً، وإذا اختلطت المملوكات التي يتعذر حصرها بالمباحات التي يتعذر حصرها، ففي كلام الأئمة تردد في ذلك؛ فإن ما لا ينحصر بالإضافة إلى ما لا ينحصر كما ينحصر بالإضافة إلى ما ينحصر. هذا وجهٌ. ويجوز أن يقال: لا ينحسم باب الاصطياد في المباحات التي لا حصر لها استصحاباً لما كان، وهذا ما إليه صغو معظم الأصحاب، والأقيس الأول. [وقد نجز ما أردناه في ذلك] (3).

_ (1) كذا في النسخ الثلاث. (2) في الأصل: " مباحة ". (3) سقط من الأصل.

11584 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه فريسة السبع، إذا انتهينا إليها، وبنى الأمر على أنا إذا صادفناها واستلبناها من السبع، وهي في حركة المذبوح، فهي ميتة، وإن كانت فيها حياة مستقرة، فذبحناها، حلّت، وهذا مما تكرر مراراً في أحكامٍ، والمزني لما حكى ما ذكرناه، ظنّ أنّ الشافعي رضي الله عنه أثبت الذبح وإن كانت الفريسة في حركة المذبوح، فأخذ يعترض، والأمر على خلاف ما ظن؛ فإنه إنما أثبت الذبح إذا كان في الفريسة حياة مستقرة. فصل في الحيوانات البحرية 11585 - وحق هذا الفصل أن يذكر في الأطعمة عند تفصيل ما يحل وما يحرم، ولكن جرى رسم الأئمة بذكره هاهنا، فنتأسى بهم، ونقول: أما السمك فميتته حلال بكل حالٍ، سواء مات طافياً أو راسباً، أو مات بسبب أو غير سبب، فلا نشترط في إماتة السمكة تسبباً، ولا نشترط في موته سبباً ظاهراً، خلافاً لأبي حنيفة (1) رضي الله عنه، والمعتمد عندنا ما روي عن النبي صلوات الله عليه أنه قال: " أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد والدمان الطحال والكبد " (2). ولو اقتطع رجل فلذة من سمكةٍ حيةٍ، فلا شك أن ذلك غير سائغ؛ فإنه في معنى التعذيب، ثم لو جرى ذلك، فالمذهب تحليل تلك الفِلْذة؛ فإن الذي يُحرّم المقطوعَ من الحيوان أن ما أبين من الحي فهو ميتة، وميتة السمكة حلال.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 299، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 214 مسألة: 1315، رؤوس المسائل: 512، بدائع الصنائع: 5/ 36، المبسوط: 11/ 247. (2) حديث " أحلّت لنا ميتتان ودمان ... " رواه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر. وقد صحح البيهقي إسناده، كما صححه الألباني في الإرواء (ر. المسند: 2/ 97، ابن ماجه: الأطعمة، باب الكبد والطحال، ح 3314، والصيد، باب صيد الحيتان والجراد، ح 3218، الدارقطني: 4/ 272، البيهقي: 1/ 254، إروإء الغليل: 8/ 164) ".

ولو بلع سمكة حية، فالمذهب أنها حلال. ومن أصحابنا من حرم ذلك، وجعل الموت في السمكة بمثابة الذكاة في الذكية من الحيوانات البرية، وإذا بان أنا لا نحرمها وهي حية، فإن مست حاجة إلى بلعها، فلا حرج، وإن لم تكن حاجة فبلعها حية، فهو من تعذيب الحيوان، فالأصح منع ذلك، ومن أصحابنا من أحلّه، ولم يجعل لحياة السمك حكماً، وكأنها ميتة في نفسها. واختلف أئمتنا في نجاسة خُرئها ودمها، وسبب الاختلاف تمييز السمكة عن الحيوانات لحل ميتتها. هذا قولنا في السمك. 11586 - فأما ما عدا السمك من حيوانات البحر، فللشافعي أولاً قول غريب: أن شيئاً منها لا يحل، إذا كان اسم السمك لا يتناولها، وهذا قول غريب ضعيف، في حكم المرجوع عنه، ولا نرجع إليه، والمذهب [أنها تحلّ] (1) على تفصيلٍ نذكره في حيوانات البحر سوى السمك. ثم الترتيب المرتضى فيه أنها منقسمة إلى ماله نظير في البر، وإلى ما لا نظير له: فإن لم يكن له نظير في البر لا مما يحل ولا مما يحرم، فهوحلال في نفسه، ويشهد له أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قفلوا من بعض الغزوات، فأصابهم المجاعة، واشتد بهم الأمر، وكانوا يأكلون الخَبَط (2)، حتى تقرّحت أشداقهم، وكانوا على سِيف البحر، فلفظ البحر حيواناً عظيماً يُسمى العنبر، فأكلوا منه زمناً، وتَزَوَّدُوا منه، ثم قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه، فلم يُنكر عليهم، وقال: " هلا حملتم لي منه " (3) هذا في الحيوان الذي لا نظير له.

_ (1) في الأصل، و (ت 6): " أنا نحيل ". (2) الخَبَط: أوراق الشجر، كانوا يخبطونها حتى تسقط، فإذا سقطت، فهي خَبَط، فَعَل بمعنى مفعول. (3) حديث الصحابة الذين أكلوا العنبر، فأقرّهم الرسول صلى الله عليه وسلم، متفق عليه من حديث جابر رضي الله عنه (البخاري: الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض، ح 2483. مسلم: الصيد والذبائح، باب في إباحة ميتات البحر، ح 1935).

ثم إذا أحللناه، ففي اشتراط ذبحه قولان: أحدهما - أنا نشترط ذبحه قياساً على سائر الحيوانات البرية، وحلُّ ميتة السمك مستثنى عن القياس بحكم الخبر، فلا مزيد عليه. والقول الثاني - أنا لا نشترط الذبح اعتباراً بالسمك؛ فإنه يساوي السمك في القرب من حالة الذبح (1) كما (2) أُخرج من البحر، ولعل السبب المُحِل لميتة السمك أن الوصول إلى السمك وهو في الماء عسر، بخلاف الصُّيود البرية، فإذا هي اصطيدت وأخرجت من الماء، اضطربت اضطراب المذبوح، [وهذا المعنى] (3) يتحقق فيما عدا السمك. فأما الحيوانات التي لها نظير في البر، فهي منقسمة: فمنها ما نظيره حلال في البر، فهو حلال في البحر، والقولان جاريان في اشتراط ذبحه، وتحليل ميتته. وإن كان نظيره في البر حراماً ككلب الماء، وخنزير الماء، ففي حل هذه الأجناس قولان: أحدهما - أنها محرمة ككلب البر وخنزير البر؛ فإنّ أقصى ما يُتَعلَّق به الاشتباهُ في هذا [المحل] (4)، ثم أقرب مسالك الاشتباه الخِلقة، فإذا شابه ما ذكرناه الكلبَ أو الخنزير، وجب القضاء بتحريمه. والقول الثاني - أنه يحلّ؛ فإنه ليس كلباً ولا خنزيراً. ثم إن قلنا: إنه يحلّ، فهل نشترط الذبح؟ فعلى القولين المقدمين. قال الأئمة: القولان في اشتراط الذبح مبنيان على أن جميع حيوانات البحر هل تدخل تحت اسم السمك أم لا؟ فإن قلنا: إنها سمك، وإن اختلفت صورها، حلت، ولم يشترط ذبحها، وإن قلنا: لا تدخل تحت اسم السمك، ففي حلها التفصيل المقدم. ثم هل يشترط الذبح فيما يحلّ أم يحل ميتتها من غير ذبح؟ فعلى ما قدمنا. وكل ذلك في الحيوانات المائية، وهي التي لا عيش لها في البر.

_ (1) ت 6: " في العرف من حالة المذبوحين ". (2) كما: بمعنى عندما. (3) سقط من الأصل. (4) في الأصل: " المجال ".

11587 - فأما ما يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان، فالمذهب التحريم؛ قال الشافعي: هما من مستخبثات العرب. وقيل: حضر الشافعي مجلساً، فذكر بعض الحاضرين من مذهب ابن أبي ليلى أنه أباح الضفدع والسرطان، فأخذ الشافعي ينصر مذهبه، وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من عَدَّ هذا قولاً للشافعي رضي الله عنه (1). ...

_ (1) إلى هنا تم الموجود من نسخة (هـ 2)، وجاء في خاتمة هذا الجزء ما نصه: " تم كتاب الصيد والذبائح. يتلوه في الذي يليه -إن شاء الله تعالى- كتاب الضحايا. والحمد لله على عونه وإحسانه، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه ".

كتاب الضحايا

كتاب الضحايا (1) 11588 - الأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]، وقوله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32]، وقال صلى الله عليه وسلم: " عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم " (2). واتفق المسلمون على أن التضحية من الشعائر البيّنة، والقُربات الأكيدة، واختلف العلماء في وجوبها، فمذهبنا أنها سُنة مؤكدة، وليست واجبة إلاّ بنذر والتزام، على ما سيأتي تفصيل ذلك في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى. 11589 - ثم إن الشافعي صدر الكتاب بما يستحبُّه للعازم على التضحية، فقال: " ينبغي لمن يريد التضحية ألا يأخذ من شعره وظفره شيئاً في عشر ذي الحجة " واختلف الأصحاب في تعليل ذلك، فقال قائلون: سبب هذا التشبُّهُ بالمحرمين؛ فإنهم الأصلُ، وهم أصحاب الهدايا والقرابين. وهذا غيرُ سديد؛ فإنا لا نأمر العازم أن يجتنب الطيب ولبس المخيط، فتبيّن فسادُ هذا الاعتبار، ومن أصحابنا من قال: سبب ذلك أن التضحية في مشهور الأخبار سببٌ في استجلاب الغفران والعتق من النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن

_ (1) يبدأ من هنا اعتماد النسخة (ت 6) أصلاً، والنسخة (هـ 4) نصّاً مساعداً، والله سبحانه المسؤول أن ييسّر ويعين على الإتمام والسلامة من الخلل، والهداية إلى الصواب. والحمد لله جل وعلا، فبينما الكتاب ماثل للطبع جاءنا جزء من نسخة أخرى، من مكتبة الأقصى، فك الله أسره، وطهره من رجس الصهاينة الغادرين، ويبدأ هذا الجزء من أول الضحايا وينتهي بباب الامتناع من اليمين من كتاب الأقضية والشهادات، وقد راجعناه، ولم نر فروقاً تستحق التسجيل، اللهم إلا مواضع قليلة أثبتناها، وقد رمزنا لهذه النسخة بـ (ق). (2) حديث " عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم " قال الحافظ: لم أره، وقال ابن الصلاح: هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيما علمناه (ر. التلخيص: 4/ 250 ح 2236).

كان [يحرِّضه] (1) على التضحية: " أكبر ضحيتك، يعتق الله بكل جزء منها جزءاً منك من النار " (2) وقد رُوي صريحاً أنَّ رسول الله صلى النه عليه وسلم قال: " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يُضحِّي فلا يمسّ من شعره وبشرته شيئاً " (3). فصل قال: " ويجوز في الضحايا الجَذَع من الضأن والثنيّ من الأبل والبقر والمعز ... إلى آخره " (4). 11590 - هذا الفصل يشتمل على ذكر الأجناس التي يتعلق التضحية بها، وعلى ذكر الأسنان المعتبرة في الضحايا، وعلى ذكر الصفات المرعيّة فيها: أما الأجناس، فلا تضحية إلاّ بالنَّعم، وهي الإبل، والبقر، والغنم. وأما السّنّ المعتبرة، فالمجزىء من الضأن الجذع، وهو الذي استكمل السنة الأولى، وطعن في الثانية، والذكر والأنثى سواء في الإجزاء، إذا استجمعا الصفات المعتبرة، كما سنذكرها. والمجزىء من المعز والبقر والإبل الثنيّ، والثنيّ من المعز والبقر ما استكمل سنتين، وطعن في الثالثة، ويُسمى ما كان على هذه السّنّ من البقر المُسن والمسنّة، والثنيّ من الإبل ما استكمل الخمس وطعن في السادسة، وقد ذكرنا أن الذكر والأنثى في الإجزاء سواء، وإنما اختلفت أسنان الثنايا لغرضٍ جامعٍ لجميعها، وهو التهيّؤ

_ (1) في الأصل: " يعزمه ". (2) حديث " أكبر ضحيتك يعتق الله بكل جزء منها جزءاً منك من النار " قال ابن الصلاح: (هذا حديث غير معروف، لم نجد له سنداً يثبت " وقال الحافظ: لم أره هكذا. (ر. التلخيص: 4/ 252 ح 2368، مشكل الوسيط لابن الصلاح- بهامش الوسيط: 7/ 132). (3) حديث " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي ... " رواه مسلم، والترمذي، والحاكم. (ر. مسلم: الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً، ح 1977. الترمذي: الأضاحي، باب ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي، ح 1523. الحاكم: 4/ 221. التلخيص: 4م 251 ح 2366). (4) ر. المختصر: 5/ 211.

للحمل والطروق والنَّزَوان في الغالب، قيل: إنما يغلب هذا المعنى في الثَّنِيّ والثَّنِيَّة من الإبل، وهو غالب في الثني والثنية من المعز والبقر، والصفة التي ذكرناها من التهيؤ للحمل والنزوان تضاهي معنى البلوغ في الإنسان، ولا يحمل في الغالب إلا ثَنِيَّة من الإبل، وهي التي استكملت خَمْساً وطعنت في السادسة، وهذا المعنى بعينه يحصل على العموم والغلبة في الجَذَع والجَذَعَة من الضأن. ثم كما أن ما دون البلوغ من الإنسان صغير، فما دون هذه الأسنان من النَّعم في حكم الصغر. هذا بيان الأسنان وهي منصوص عليها في الأخبار. 11591 - أما الكلام في الصفات، فقد قال الشافعي " ولا يُجزىء في الضحايا العوراء البيّن عورُها ... إلى آخره " (1) روى البراء بن عازب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أربع لا تجزىء في الضحايا: العوراء البيّن عورها، والعرجاء البيّن عرجها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء الّتي لا تُنقي " (2) وقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه " أنه نهى عن الشَّرقاء، والخرقاء، والمقابَلة، والمدابَرة " وعنه رضي الله عنه أنه قال: " أمرنا أن نستشرف العين والأذن " (3) أي نتأملها ونطّلع

_ (1) ر. المختصر: 5/ 211. (2) حديث " أربع لا تجزىء في الضحايا ... " رواه مالك، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي (ر. الموطأ: 2/ 482، المسند: 4/ 300، أبو داود: الأضاحي، باب ما يكره من الضحايا، ح 02802 الترمذي: الأضاحي، باب ما لا يجوز من الأضاحي، ح 1497، النسائي: الضحايا، باب ما نهي عنه من الأضاحي، ح 4369، ابن ماجه: الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به، ح 3144، ابن حبان: ح 5889، الحاكم: 4/ 223، البيهقي: 9/ 274، التلخيص: 4/ 254 ح 2374). (3) حديث علي " أمرنا أن نستشرف العين والأذن " وأنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن الشرقاء، والخرقاء ... " رواه أحمد وأصحاب السنن والبزار وابن حبان والحاكم والبيهقي (ر. المسند: 1/ 80، أبو داود: الأضاحي، باب ما يكره من الضحايا، ح 2804، الترمذي: الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي، ح 1498، النسائي: الضحايا، باب المقابلة وهي ما قطع طرف أذنها، ح 4372، ابن ماجه: الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به،=

عليها؛ كيلا يكون بها نقص أو عيب. أما الشرقاء فهي المشقوقة الأذن، والخرقاء هي المخروقة الأذن، والمقابَلة هي التي قطعت فِلقة من أذنها، ولم تفصل، بل تركت متدلية من قُبالة الأذن، والمدابرَة هي التي تدلت فِلقة مقطوعة غير مفصولة من دبر الأذن. وفي بعض الألفاظ النهي عن التَّوْلاء، وهي المجنونة التي تستدير في المرعى، ولا ترعى رعياً به احتفال، والعجفاء الهزيلة، وقوله: " لا تُنقي " معناه لا نقيَ لها، والنِّقيُ المخُّ، وأما العرجاء، فمعناها بيّن، وذِكْرُ البيّن فيها، وفي العوراء يأتي مشروحاً في تفصيل المذهب، إن شاء الله. 11592 - ثم ترتيب القول والضبط في الصفات أن نقول: هي منقسمة إلى ما يتعلق باعتبار اللحم، وإلى ما يتعلق بالاستحسان في الصورة والهيئة، فأما ما يتعلق باللحم، فينقسم: فمنه ما هو صريح في هذا المعنى، وهو المعنيُّ بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العجفاء، والعجفاءُ الهزيلة، ثم إن المصطفى صلى الله عليه وسلم تعرض للمبالغة في هذه الصفة؛ إذ قال: " العجفاء التي لا تُنْقي " أي لا تنيل ولا تعطي نِقياً، ويجوز أن يكون المعنى لا تنقي الأكل، أي لا تكسبه نِقْياً. وتبيّن من مضمون الحديث أن السِّمن البالغ غيرُ معتبر في الإجزاء؛ فإن ابتداء الوصف بالعجف يناقض الوصف بالسِّمن، وابتداء العجف غيرُ مانع من الإجزاء حتى يبلغ مبلغاً ينافي الإنقاء، وهذا لا ضبط فيه؛ إذ لا يمكننا أن نقول: العجفاء التي لا تجزىء هي التي بلغت نهاية العجف، وغاية الهزال، ولعل أقرب معتبر في هذا أن تصير بحيث لا يرغب في تعاطيها والتناول منها طبقة غالبة من طلبة اللحوم في سني الرخاء. فهذا أقرب معتبر، والناس على اختلافٍ بيّن في طلب السمن، فمنهم من يبغيه ومنهم من يطلب لحماً ليس بالسمين، ولكنه رخْصٌ لطيف المطعم. 11593 - فأما ما يتعلق بصفة اللحم على تقريب، فالمريضة والتَّوْلاء والجَرباء والعرجاء والعوراء، فأما المريضة، فقد ورد تقييد المرض فيها بالبيّن، وهذا يرجع

_ =ح 4143، مسند البزار: 2/ 321، ابن حبان: ح 5890، الحاكم: 1/ 468، البيهقي: 9/ 275، التلخيص: 4/ 255 ح 2376).

إلى اللحم؛ فإن المرض إذا بان وظهر، ظهر بحسبه العَجَف والهزال، وهذا صريح في أن عدم المرض لا يؤثر، والجرباء وإن ورد ذكرها في الخبر في معنى المريضة. ثم لو فرضَ فارضٌ مريضة مرضها بيّن، ولم تبلغ بعدُ في الهزال مبلغاً لا تُنقي البهيمة المتصفة به، فالوجه القطع بأنها لا تُجزىء، ولو كان المرض يعني العَجَفَ، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتصر على العجفاء من بين هذه الصفات، فإذا ذكر العجفاء وذكر المريضة، تضمن تعديدُ هذه الصفات أن كل صفة في نفسها معتبرة معنية في المنع عن الإجزاء، ويمكن أن يقال: إذا بان المرض، فسد اللحمُ، وصار مضراً، فلحم المريضة إذا بان مرضها، كلحم العجفاء التي لا تُنقي. وأما الجرباء، فقد قال شيخي: أدنى الجرب يُفسد اللحم، فهو في معنى المرض البيّن، وهذا أراه متروكاً عليه؛ فإن أدنى الجرب لا يظهر أثره [في اللحم] (1) ومهما (2) بدا شيء منه في طرف من أطراف البهيمة، لم يظهر أثره في اللحم. نعم، إذا عم، أو ظهر ظهوراً فاحشاً، فهو يُهزل إهزال المرض، ولا يبعد أن يفسد اللحم، فلا بد وأن يكون بيّناً، كما ذكرناه في المرض. وأما التولاء، فإنها لا ترعى رعياً معتبراً، وإذا استحكم ذلك بها، بان هزالها على القرب. وأمّا العرجاء، ففي الحديث التقييد بالعرج البيّن، وهذا دليل ظاهر على أن أدنى منازل العرج لا يمنع الإجزاء، كما ذكرناه في المرض. ثم قال العراقيون: العرجاء التي لا تُجزىء، هي التي لا تقدر على المشي، وهذا اللفظ فيه تجوُّز؛ فإنّ الّتي لا تقدر على المشي هي الزَّمِنة التي لا تعمل إحدى قوائمها، وإنما تزحف، ولا يشترط انتهاء العرج إلى هذا الحد، ولكن العرج البيِّن هو الّذي يؤثر أثراً بيّناً في المنع من التردد على المرعى، والنَّعم لا تأخذ حظوظها إلا بالتداور؛ فإن ما بالقرب منها ينفد على القُرب، وقد لا تصادف في كل وقت في مراعيها رياضاً أُنفاً، بل الغالب احتياجها إلى التردد، فإذا ظهر العجز عن التردد، ظهر بحسبه نقصان العَلف،

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) مهما: بمعنى إذا.

وأفضى ذلك إلى الهزال، وليس ما ذكرناه مخالفاً لما ذكره العراقيون، بل لم نشك في أنهم أرادوا بالعجز عن المشي العجزَ عن المشي الذي يُراد لاستيفاء العلف. وأما العوراء، فهي التي بفرد عين، وهذا يؤثر في تنقيص الرعي، فإنها لا ترعى من أحد الشقين، ولا ترعى إلاَّ من الشق الذي ترى فيه، فهذا يؤثر في اللحم، ولو كان على إحدى عينيها نكتة، وكانت ترى على حال، أجزأت، وإن كان البصر في تيك العين ضعيفاً، وتأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم العوراء بالعور البيّن نصٌّ في ذلك. فهذا كلام على الجملة في تقدير رجوع هذه الصفات إلى اللحم. 15941 - ثم العجفاء على البيان الذي قدمناه لا تجزىء، والمريضة إذا هجم عليها مرض بيّن، وهي كأسمن ما يكون أمثالها لو ابتدرت وضُحيت (1)، فلا وجه للحكم بإجزائها وإن كانت سمينةً، وكذلك القول في الشاة السمينة التي انكسرت رِجلها، فابتدرت على وفورها وسمنها، فلا تُجزىء التضحية بها، وقد نص الأصحاب على ذلك، وردّدوا القول في أنها إذا أُضجعت على سلامتها، وشُدَّ منها اليدان والرجلان، فاضطربت وانكسرت تحت السكين قبل جريان الذبح، فقال بعضهم: لا أثر لهذا التكسير، وقال قائلون: يمتنع إجزاؤها، فوضح بهذا أنَّا لا نشترط في هذه الصفات أن تنتهي إلى العجف، وقد أوضحتُ أنا لو كُنا نشترط ذلك، لكان في ذكر العجفاء مَقْنع، فلا نستريب إذاً أن هذه الصفات لا يقتصر اعتبارها ومراعاتها على ظهور أثرها في اللحم، ولا بُد من اعتقاد التعبد فيها. ولو قال قائل: إنما منعت هذه الصفات لإفسادها اللحم، لجرى هذا في المرض ولم يجرِ في العرج. وقد نقل الأئمة عن أبي الطيب بن سلمة أنه قال: العوراء التي لا تُجزىء هي [البخيقة] (2) التي فسدت حدقتها، والحدقة من الشاة مقصودة بالأكل، فأما إذا ذهب

_ (1) هـ 4: وصحت. (2) في الأصل: " النحيفة ". والمثبت من (هـ 4). والبخيقة: فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي=

بصر إحدى العينين من غير اختلال في الجِرم، فلا امتناع من الإجزاء، وهذا لا يُلزمه أن يعتبر وقوع العجف بسبب المرض، أو حصول رداءة اللحم؛ فإنه اعتقد أن العور على طول الزمان لا يؤثر في العجف، بخلاف المرض والعرج؛ فإنهما يؤثران على امتداد الزمان، فلا يمتنع أن يكون النهي عنهما محمولاً على الجسم؛ فإن استبانة العجف قد يختص بها ذوو المعرفة. وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم العجف البيّن الظاهر لكل واحدٍ، والأسبابَ التي تؤدي إلى العجف، ولم يعتبر وقوع العجف (1 بها، فلم ير أبو الطيب العور مما يؤدي إلى العجف 1)، وإنما رآه مانعاً إذا فسد به جِرم العضو، وقد قال بعض الأئمة: امتناع إجزاء العجفاء يلتحق بالقسم الذي سنذكره من الاستحسان والاستشراف، كما قال علي رضي الله عنه: " أُمرنا بأن نستشرف العين والأذن ". والأنثى التي ولدت مرة أو مراراً قد يظهر فساد لحمها بالولادة، أو [بتكررها] (2)، ولم يُلحِق أحد من الأصحاب التي تكرّر الولادة منها بالمريضة البيّن مرضها، واللحم قد يخبث من الفحل بكثرة النزَوان، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أن الفحل يمتنع إجزاؤه، وإذا تطرق التعبد إلى قاعدةٍ، لم تجر المعاني فيها على حسب المراد في الطرد والعكس، فالأنثى إذا انتهت إلى العَجَف لا تجزىء، يعني العجف البيّن، وكذلك الفحل، وإن حدث بهما مرض، وبان، ألحقناهما بالمريضة، ولا نعتبر سوى العجف البين والمرض البيّن أمراً، ولئن كان لحم الأنثى الولود مضرّاً، ففي الناس من يضرّهُ لحم البقر والإبل، وإن كان لا ينهري (3)، ففي لحم البقر هذا المعنى، وليتنبه الناظر لما يجب الوقوف عنده حتى لا يقع في انتشار لا يعنيه. هذا مجموع الكلام في قاعدة هذا القسم. 11595 - وإذا تناثرت أسنان الشاة، فالذي ذهب إليه المحققون أن ذلك بعينه

_ = بخقت عينها: أي فقئت. (المعجم). (1) ما بين القوسين سقط من (هـ 4). (2) في الأصل: " بتردده ". (3) ينهري: أي ينضج أشد النضج، يقال: هرأ فلان اللحم أنضجه جيداً (المعجم).

لا يمنع الإجزاء. نعم، إن كان هذا المرض بيّناً، فالمنع بسبب المرض، وإن أفضى إلى عجف بيّن، امتنع الإجزاء للعجف، ولفظ الأئمة المعتبرين أن الأصح أن سقوط الأسنان لا يمنع الإجزاء، وهذا تشبيب بذكر خلاف، وقطع بعض المصنفين بأن سقوط الأسنان لا يمنع الإجزاء، فأما إذا سقط سن أو سنّان لا (1) يمتنع الإجزاء، ولو كان ما ذكره هذا الرجل مذهباً معتبراً، لقلنا في ضبطه: ما يؤثر في تعذر الرعي والاعتلاف، فهو المؤثر. ولكن في ذلك سرٌّ يجب التنبُّه له وبه يتهذّب الفصل، فالأمر البيّن المعنوي العجفُ البيّن؛ فإن اللحوم مقصودة من الضحايا، والغالب على الأوصاف الأُخر -وإن ضممناها إلى العجف- التَّعبّدُ، ويشهد لهذا ما ذكرناه من هواجم الأمراض والتكسر مع تصوير تعجيل الضحية (2)، وليس لساقطة الأسنان ذكر، حتى نتبع الشارعَ فيه تعبداً، فليس إلا رَدُّ الأمر إلى العجف، ولم يتصل ما نحن فيه بالقسم الثاني، وهو الاستحسان والاستشراف، فكان الأصح إخراج سقوط الأسنان عما يؤثر في الإجزاء، ومن شبب بخلاف فيه من غير اشتراط إفضائه إلى العجف، فهو ذهول منه عن مأخذ الكلام؛ إذ متعلق هذا القائل التشبيه بالعرج وما في معناه، وليس هذا من مواقع القياس؛ فإن اعتبار المعنى متقاعد، والغالب إذا تقاعد المعنى اعتبار الأشباه الخلقية. فهذا منتهى الكلام فيما أردناه، وإذا مهدنا مضمون القسمين، ألحقنا بكل قسم مسائل تليق به، إن شاء الله. 11596 - وقد حان أن نتكلم فيما نراه في قسم الاستشراف، فلتقع البداية بالشَّرقاء والخَرْقاء، وما في معناهما، فنقول: أولاً المصطلمة الأذن لا تُجزىء وكذلك إذا

_ (1) سقطت الفاء من جواب (أما). (2) المعنى أن الضحية إذا كانت سليمة من جميع العيوب مستكملة جميع الصفات، ثم عندما هممنا بالتضحية وذبحها هاجمها مرض أو انكسرت رجلها، فلا تجزىء حينئذ مع أن المرض أو كسر الرجل لم ينقصها شيئاً، فدل ذلك على التعبد.

أبين من الأذن فِلقة ظاهرة، بحيث تبدو للناظر من غير تأمل، والذي تحصّل لنا في ترتيب المذهب طرقٌ: أصحها وأحسنها ترتيباً أن نقول: إذا أبين جزء من الأذن امتنع الإجزاء، وإذا شَرَقَ وخَرَق، ففي امتناع الإجزاء وجهان: ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا يمتنع، إشارةً إلى أن الأذن مأكولة على الرؤوس، فإذا لم يُبَن منها شيءٌ، فالعضو باقية مهيأة للأكل، وإذا أبين منها شيء، فقد نقص ما يؤكل من العضو، وذهب القفال إلى منع الإجزاء واعتل فيما نقله الصيدلاني وغيره بأن قال: الأذن إذا شَرَقَت، فما يبرز بالخَرَق والشَّرَق ثم يلتئم، يصير موضع الالتئام جلداً، وكان في التواصل الخلقي في معنى اللحم، فكان ذلك مؤثراً. هذا ما نقله أصحاب القفال عنه، وللبحث انعطاف عليه، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى. وقال قائلون من الأصحاب: الشَّرقاء والخرقاء، والمقابَلة والمدابَرة، إذا لم يُبن شيء من آذانها لا يمتنع إجزاؤها، ولكنا نؤثر ألا يكون كذلك، فأما إذا أُبين من الأذن جزء كبير بالإضافة إلى الأذن، فلا إجزاء، وإن قلَّ، فوجهان، وهؤلاء يعتبرون اللحم، ويقولون: الفلقة الصغيرة تحذف من الرؤوس المشويّة وترد الآذان إلى ما يُعتاد ويستطاب أكله، والأطراف تصير كالمستحشفة الجاسية (1)، ومضمون هذا يقتضي ألا يؤثر في الإجزاء إلا القطعة الكبيرة. ولا يتصور ضبط القول فيه إلا بالتنبه لأصل عظيم، وهو أن النهي عن العجفاء والمذكورة معها في القسم الأول منقول عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلزم اتباع ما صح النقل فيه، والنهي عن الشرقاء والخرقاء موقوف على عليٍّ رضي الله عنه، وقوله: " أمرنا باستشراف العين والأذن " كلامٌ مبهم لا يمكن [أن يَستدَّ على تحقيق] (2) وقد ورد في الحديث النهي عن المصلومة، والمستأصلة، وهذا يشعر إشعاراً بيّناً بالإجزاء مع قطع البعض.

_ (1) الجاسية: من جسا يجسو إذا صلب، ويبس. (المعجم). (2) في الأصل وفي (هـ 4): " أن يسند إلى تحقيق " والمثبت من (ق).

وقد نحوَجُ في المضايق (1) إلى نقل مذاهب العلماء. قال أبو حنيفة (2) رضوان الله عليه: المانع من الإجزاء قطع الثلث، واعتبر أبو يوسف رحمة الله عليه النصفَ، ويترتب مما نبهنا عليه أن النظر إلى الأذن لا يجري مجرى النظر إلى العجفاء، والعرجاء، والعوراء، لما أشرنا إليه من وقوف النهي عن علي رضي الله عنه وأرضاه، ثم تحصّل من مذهبنا أن المقدار الكبير بالإضافة إلى الأذن [إذا أبين] (3)، مَنَعَ الإجزاء، وهذا ينقدح فيه مسلكان صرح بهما الأئمة: أحدهما - النظر إلى اللحم، وفي هذا سرٌّ، وإن كنا لا نرتضي هذه الطريقة، فإن قائلاً لو قال: لو قطعت فِلقة على حجم الأذن من عضو كبير، فقد لا يؤثر ذلك في المنع من الإجزاء على ما سنصفه -إن شاء الله تعالى- فما الوجه في ضبط هذا؟ قلنا: كأن كل عضو مقصودٌ في نفسه، والأعضاء متفاوتة في الصغر والكبر، فهذا هو المعتبر، وإلى قريب منه أشار أبو الطيب بن سلمة. ومن أصحابنا من راعى التحسين في الأذن؛ فإن العين تبتدر إلى الأذن من النَّعم ابتداراً ظاهراً، ولكن إذا حمل هذا على هذا المحمل، فاشتراط الحسن في الإجزاء بعيد، وإنما يليق بالاستحسان الاستحبابُ. فإن قيل: من فصل بين القطعة الكبيرة والفلقة الصغيرة، فإلى ماذا يرجع؟ قلنا: لسنا نرى التحكم بمقدارٍ كما يعتاده أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، ولكن مسلك الكلام في هذا عند القائل كمسلك الكلام في الفرق بين اليسير والكثير في دم البراغيث، وما يتطرق العفو إلى اليسير منه، وأقرب العبارات أن نقول: كل نقصان يلوح على البعد، فهو مانع، وكل نقصان لا يلوح على البعد، فليس مانعاً. ونقل الأئمة اختلاف نصٍّ في التي لا أذن لها، وهذا عند ذوي التحصيل ليس تردُّدَ قول وتمثيلَ مذهب، ولكن إن كانت البهيمة صغيرة الأذن، وكانت أذنها لا تعدِم

_ (1) في الأصل: " الضائقة "، والمثبت من (هـ 4)، وآثرنا لفظها على لفظ الأصل -مع صحته- لأنه هو المعهود في كلام الإمام. (2) ر. مختصر الطحاوي: 303، المبسوط: 12/ 15، 16، تكملة فتح القدير: 9/ 515. (3) في الأصل: " أو العين ".

شكل الأذن في الجنس، فلا تعويل على الصّغر والكبر، وإن كانت سكّاء (1)، لا أُذن لها، أو كان على موضع الصّماخ فلقة نابتة ليست على هيئة الأذن، فهي غير مجزئة. هذا تمام القول في الأذن. وسبب التردّد فيها ما ذكرنا من جريانها في الأثر دون الخبر، وانضمّ إليه أنها عضو بادٍ وإن كانت صغيرة، ثم تردد الرأي في الاستحسان وطلب الأكل، فانتظم من مجموع ذلك اختلاف الطرق، وإذا نحن رددنا القطع من الأذن إلى اعتبار الأكل، فيلتحق هذا القسم بالقسم الأول أيضاً، وما قدمناه من رسم التقسيم يرجع إلى إرادة التفصيل والتقريب من الأفهام. 11597 - ولم يبق من مضمون القسمين إلا مسائل نُرسلها ونلحقها بالأصول التي مهدناها، فمما نذكره إجزاء الخَصِيّ، فإن أبينت الخُصية منه، فإن الخُصية ليست معنيةً الأكل، ولا يتعلق بها خيالُ الاستحسان، وفقدُها يكسب اللحم من الوفور والمزيد ما لا يناسب الخصية فأجزأ الخَصِي لذلك وفاقاً. فأما عدم الأَلية فنقول: قد تكون الشاة في جنسها عديمة الألية، وقد تكون ذات ألية في جنسها، فيتفق اقتطاع الذئب الأليةَ منها، وفي الصورتين تردد الأصحاب، منهم من قال: التي لا ألية لها في جنسها مجزئة، والتي سقطت أليتها على وجهين: أحدهما - المنع؛ للنقصان البيّن في اللحم المقصود، والثاني - الإجزاء قياساً على ما إذا كانت عديمة الألية في الجنس. ومن الأصول المعتبرة أن سقوط الشيء قد لا يؤثر إذا كان عدمه في الخلقة لا يؤثر، وعلى هذا قال الأصحاب: الخَصِيّ مجزىء؛ فإنّ الأنثى مجزئة ولا خُصية لها خلقةً، وقال قائلون من أصحابنا: سقوط الألية بحالة أوآفة يمنع الإجزاء وجهاً واحداً، وهل تجزىء التي تكون عديمة الألية؟ فعلى وجهين، وينتظم في التي لا ألية لها بسبب السقوط أو كانت كذلك خلقةً في جنسها ثلاتة أوجه: أحدها - المنع فيهما. والثاني - الإجزاء فيهما. والثالث - الفرق بين ما يرجع إلى الجنس وبين ما يسقط للآفة.

_ (1) سكاء: أي صغرت أذنها، ولزقت برأسها وقل إشرافها (المعجم).

ولم يختلف الأصحاب في إجزاء الثنيّة من المعز وإن كانت عديمة الإلية في جنسها وهذا يكاد يقطع عذر من يمنع الإجزاء في الشاة العديمة الإلية في جنسها، ولكن الخلاف مذكور فيها، وكان شيخنا أبو محمد إذا روجع في الفرق بين الشاة العديمة الألية وبين الثنية من المعز يقول: صح عندنا أن شحم المعز يخلف ألية الضان، وبين الجنسين تفاوت بيّن لا ينكر في هذا المعنى، وإذا كانت الضانية عديمة الألية، فالشحم منها كالشحم من صاحبة الألية وهي فقيدة الألية. وعندي أن الفقيه لا يلتفت إلى أمثال هذا، فالوجه القطع بإجزاء الفقيدة الألية في جنسها، والعلم عند الله تعالى. وأما ما يتعلق بالقرن، فلا أثر له في المنع من الإجزاء: فالجمَّاء خلقةً مجزيةٌ، وكذلك الجلحاء والعقصاء وهي المكسورة القرن (1)، فلا يتعلق بالقرن غرض معتبر، فإن القرن لا يعنى للأكل، ولا تعويل عليه في الاستشراف، وقد بان أن الغرض الأظهر من الأذن يؤول إلى اللحم. والصغيرة الضرع مجزية، وكذلك الصغيرة الألية، وإذا قطع ضرع الشاة، فللأئمة تردد: منهم من ألحقه بقطع الألية، وفيه التفصيل المقدم، ومنهم من قطع بالإجزاء، فإن لحمة الضرع قريبة الشبه من الخُصية في معنى أنها لا تعنى بخلاف الألية، وإنما مثار الخلاف في الضرع مع حصول الوفاق في الخُصية من قِبل أن سلّ الخُصية مقصود لتوفير اللحم وتطييبه، وهذا لا يتحقق في الضرع، والأذن يؤثر قطعها بلا خلاف، وإن كان غضروفاً غير معدود من أطايب اللحوم، ولكن لا يلفى فقيده في الجنس الغالب والضرع يلفى فقيداً في غير الأنثى. ونذكر وراء هذا مسألة ثم ننظم بعد ذكرها مراتبَ، فإذا اقتلع الذئب قطعةً صالحةً من فخذ الشاة، وظهر النقصان البيّن، فهذا مانع من الإجزاء وكذلك الأعضاء التي لا تخلو البهيمة عنها.

_ (1) فسّر العقصاء بالمكسورة القرن، والمنصوص في المعاجم (اللسان والمصباح والمعجم) أنها التي التوى قرناها حول أذنيها. أما مكسورة الخارج فهي (القصماء) ومكسورة القرن الداخل هي (العضباء) (ر. اللسان).

11598 - ومن أحاط بهذه المسائل نظمناها له في مراتب: إحداها - نقصانٌ بيّن في لحم مقصود لا يخلو عنه جنس، فما كان كذلك أثَّر في المنع. والمرتبة الثانية - نقصان في عضو مقصود معدود من الأطايب قد يخلو عن ذلك العضو جنس، وهذا كقطع الألية. والثالثة - نقصان في عضو غير معدود من الأطايب لا يخلو عنه الجنس الغالب، وهو الأذن. والرابعة - نقصان في عضو ليس من الأطايب وقد يخلو عنه جنس ولا [يقطع] (1) لتطييب اللحم، وهو كقطع الضرع. والمرتبة الخامسة - في نقصان يخلو عنه الجنس، وهو يقصد لتطييب اللحم، كنقصان الخُصية. هذا بيان المراتب، ويعترض في أثناء الكلام خيالُ الاستحسان في الأذن، وخبطٌ للأصحاب في الشاة العديمة الألية في جنسها. وهذا منتهى البيان في تأصيل الصفات وتفصيلها، وبيان محل التعبد والمَعْنَى منها، وفي بعض التعاليق عن الإمام (2) أن المرض الهاجم إذا لم ينته إلى الهزال، وفُرض ابتدار التضحية مانعٌ من الإجزاء على الأصح، ومن أصحابنا من قال: لا يمتنع إذا لم يظهر أثره في اللحم، وهذا غلط غير معدود من المذهب، ولذلك أخرته؛ فإن التعبد غالب في هذه الصفات، ولذلك قطع الأصحاب بأن رِجل الشاة إذا انكسرت قبل البطح للذكاة، لم تجزىء والله المستعان. فصل 11599 - تعرض الشافعي رضي الله عنه لما هو الأولى من الضحايا فقال: " الضأن أحب إلي من المعز؛ لأن لحمها أطيب " وقال قائلون: سبع من الغنم أحب إلينا من بقرة أو بدنة؛ لأن جنسها أطيب، والبدنة مقامة مقام سبع من الغنم، وكذلك البقرة، وقد تحقّق أن السبع في محل البدنة، وهي مختصة بطيب اللحم، ولم أر هذا مجمعاً عليه بين الأصحاب، ولست أرى القطع بهذا، وكيف أقطع به والبدنة

_ (1) في الأصل: " يقصد ". (2) الإمام: يقصد والده.

مخصوصة بالذكر في كتاب الله، معدودة من الشعائر، وإذا ذكرنا البدنة في بعض الكفارات في المناسك صادفنا ذكرها مُصدَّراً، والبقرة بعدها، والسبع من الغنم بعد البقرة، وإن كنا قد نحمل هذا على التخيير. 11600 - قال الشافعي في كتاب الحج " الأنثى أحب إلي من الذكر " (1) وإنما قال هذا في القرابين والهدايا، وقد تردد أصحابنا في هذا النص، فقال قائلون: إنما ذكر هذا في إجزاء الصيد عند تقويمنا الحيوان للرجوع إلى مقدار قيمتها من الطعام، والأنثى أكثر قيمة، وقال قائلون: أراد الأنثى التي لم تلد، فهي أولى من الذكر؛ لأن لحمها أرطب، وإنما يذهب الطيب من الأنثى إذا ولدت، وكذا من الذكر إذا أكثر النزوان، وإنما عمّ في الناس تفضيل الذكر على الأنثى في الطيب، لأنهم يعتادون أكل لحوم الخِصيان، ولحومها أطيب. والوجه عندنا تقديم الذكر على الأنثى من طريق الأولى، وحمل نص الشافعي على التقويم، كما قدمناه، ثم لا ينبغي أن يُعدّل الشيء إلا بما يساويه، فالفحل الذي أكثر النزوان لا يقاس بالأنثى الرخْصة الرطبة التي لم تلد، ولكن يعتبر بالتي ولدت؛ فإن النزوان في الذكور كالولادة في الإناث، وإذا فرضنا ذكراً لم ينزُ وأنثى لم تلد، فالذكر أولى، وهذا مستبين في العرف، وما يشار إليه من رطوبة الأنثى ليس أمراً يحس ويُبالَى به، وفي الحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحَّى بكبشين أملحين " (2) والأملح الأبيض، وفي بعض الأحاديث " أنه صلى الله عليه وسلم قال: لَدَم عفراءَ أفضل عند الله تعالى من دم سوداوين " (3) والرجوع في هذا إلى التعبد المحض. وروي: " أنه صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين يمشيان في سواد، ويأكلان في

_ (1) ر. المختصر: 2/ 110. (2) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين " متفق عليه (البخاري: الحج، باب من نحر هديه بيده، ح 1712. مسلم: الأضاحي، باب استحباب الأضحية، ح 1967). (3) حديث " لدم عفراء أفضل ... " رواه أحمد، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة (ر. المسند: 2/ 417، المستدرك: 4/ 227، البيهقي في الكبرى: 9/ 273، التلخيص: 4/ 259 ح 2387).

سواد، وينظران في سواد " (1): معناه: أن قوائمهما، ومشافرها، ومحاجرها كانت سُوداً، وهذا محمول على الوفاق، لا يتعلق به استحسان. وفي الجملة استحسان الضحية واستسمانها مستحب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم " (2) قيل: تُهيأ مراكب للمضحّين يوم القيامة، وقيل: المراد إن التضحية بها تسهل الجواز على الصراط، وقيل في قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32]، المراد به استحسان البُدْنِ، واستسمانها، وفي قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، معنىً لطيف، وهو أن إقامة مراسم الشريعة قد يَستحِتُّ عليه المرونُ والاعتياد والنشوء (3)، واعتماد التعظيم والاستحسان لا ينشأ إلا من تقوى القلوب. فصل قال: " ولا وقت للذبح يوم الأضحى إلا في قدر صلاة النبي عليه السلام ... إلى آخره " (4). 11601 - الضحايا والهدايا مؤقتة، ودماء الحيوانات في المناسك لا وقت لها، فمهما (5) وجبت، ساغ إراقتها، ولا اختصاص لها بزمانٍ، والضحايا المنذورة

_ (1) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين يمشيان في سواد ويأكلان في سواد ... " لم نجد الحديث بلفظ (كبشين) على التثنية، وإنما ورد بلفظ (كبش) على الإفراد عند مسلم وأبي داود من حديث عائشة، وعند أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي سعيد الخدري (ر. مسلم: الأضاحي، باب استحباب الضحية، ح 1967، أبو داود: الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا، ح 2792، 2796، الترمذي: الأضاحي، باب ما جاء فيما يستحب من الأضاحي، ح 1496، النسائي: الضحايا، باب الكبش، ح 4390، ابن ماجه: الأضاحي باب ما يستحب من الضحايا، ح 3128، التلخيص: 4/ 250 ح 2363). (2) حديث " عظموا ضحاياكم ... " سبق تخريجه في أول كتاب الضحايا. (3) كذا. والمعنى الدربة والعادة والنشأة تستحث على إقامة مراسم الشريعة، أما التعظيم والإتقان والإحسان فلا ينشأ إلا من تقوى القلوب. (4) ر. المختصر: 5/ 211. (5) مهما: بمعنى إذا.

سنصف القول فيها في أثناء الكتاب، وإنما غرض هذا تفصيل الكلام في وقت الضحية المقطوع بها، وجواب الأئمة متردد في أول وقت التضحية، وقد ذكر العراقيون فيه وجهين جامعين لما فرقه الأئمة: أحدهما - أن أول وقت التضحية يدخل بأن تطلع الشمس، ويزول وقت الكراهية، وقد وصفنا ذلك في كتاب الصّلاة، فإذا زال وقت الكراهية، ومضى بعده ما يسع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبته، فقد دخل أول وقت التضحية، و" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسورة: ق، وفي الثانية بالفاتحة وسورة الساعة " (1) فنعتبر ركعتين على هذا الحد، وكان يخطب خطبتين طويلتين. هذا أحد الوجهين. فإذا انقضى بعد زوال الكراهية ما يسع ما وصفناه، دخل أول الوقت. قالوا: والوجه الثاني - أنا نعتبر ركعتين خفيفتين، واعتل هؤلاء بأنا نعلم، أو نظن ظناً غالباً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خفف الصلاة والخطبة، لكان يضحي بعد ذلك، أو كان يأذن في التضحية، ثم إن اعتبرنا ركعتين، كما نقلنا عن رسول الله عليه السلام، فلا يخفى تقريب القول فيهما، وما ذكروا من اعتبار الخطبتين الطويلتين، فهو مما اختص به العراقيون، وقطع المراوزة باعتبار خطبتين خفيفتين، وردّوا الخلاف إلى اعتبار ركعتين طويلتين أو الاكتفاء بركعتين خفيفتين؛ فإنه لم يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يطوّل الخطبة، وقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى تخفيف الخطبتين في الجمعة، وهما ركنان، فقال: " قِصرُ الخطبة، وطول الصلاة مَئِنةٌ من فقه الرجل " (2) فكيف يصح منه تطويل الخطبة يوم العيد والناس على وِفاز (3) وشتات من الرأي في إقامة الضحايا.

_ (1) رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، كلهم من حديث أبي واقد الليثي (ر. مسلم: صلاة العيدين، باب ما يقرأ في صلاة العيدين، ح 891، الترمذي: أبواب العيدين، باب القراءة في العيدين، ح 534 النسائي: صلاة العيدين، باب القراءة في العيدين، ح 1568، ابن ماجه: الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين، ح 1282، التلخيص: ح 693). (2) سبق هذا الحديث في كتاب الجمعة. (3) وفاز: وزان سهام، جمع وَفْز كسهم. والوفَز بفتح الفاء: السفر وزناً ومعنىً. وسكون الفاء=

ومما نذكره في التفريع على اعتبار الركعتين الخفيفتين والاكتفاء بهما أن نقول: من صار إلى ذلك فما أراه يكتفي بركعتين مشتملتين على أقل ما يجزىء في الصلاة، وكذلك ما أراه يعتبر ركعتين مع إسقاط شعار صلاة العيد، والعلم عند الله. وفي بعض التصانيف أنه إذا زال وقت الكراهية، ومضى بعده من الزمان ما يسع ركعتين، كفى ذلك، ولا نعتبر الخطبتين؛ فإن الشعار هو الصلاة، والخطبتان بعد الصلاة واقعتان بعد الفراغ عن شعار اليوم، ولهذا لم تكونا ركناً في صلاة العيد. وهذا ضعيف لا أصل له، وهو مخالف للنص. فخرج من مجموع ما ذكرنا أن الأئمة اتفقوا على اعتبار خروج وقت الكراهية، ثم اعتبر بعضهم ركعتين طويلتين، واعتبر بعضهم ركعتين خفيفتين، واتفق المعتبرون، الذين على نقلهم تعويل، على اعتبار الخطبتين، وقطع المراوزة بوصف الخطبتين بالخفة، وذكر العراقيون وجهاً في اعتبار خطبتين طويلتين، وهذا وجه ضعيف. ولا اعتداد بما نقلناه عن بعض التصانيف من إسقاط اعتبار الخطبتين. 11602 - فإذا بان أول وقت التضحية؛ فإن زمانها يمتد إلى انقضاء أيام التشريق، فإذا غابت الشمس في اليوم الثالث وهو المسمَّى النفر الثاني، فقد فات وقت التضحية. ويجوز التضحية في ليالي هذه الأيام، والأحسن الاتباع، وإيقاع التضحية نهاراً. فإن قيل: التضحية عندكم سنة مؤقتة والسنن المؤقتة إذا انقضت أوقاتها، فلكم في قضائها قولان، فهلا أخرجتم قضاء التضحية على هذا الخلاف؟ قلنا: إن أراد تدارك التضحية، فلينتظر وقتها في قابل، والسنن التي تفوت مواقيتها لو لم يجر القضاء فيها، لتحقق الفوات فيها وانقطع المستدرك. وكل ما نذكره في التضحية المسنونة التي لم يتعلق بها التزام النذر، ثم إذا فاتت التضحية وفُرض قصد التدارك عند دخول وقت التضحية في السَّنة القابلة، فهذا القصد

_ =لغة، هي التي جاء عليها كلام الإمام. ويقال: على وفز وأوفاز، أي على عجلة من أمرهم. (المصباح، والمعجم).

عندي لا معنى له؛ فإن ما يُوقعه من التضحية يكون أداءً، ويتصوّر من الرجل أن يتقرّب بأضاحيَّ في نوبة واحدة، فلا يكاد ينقدح معنى القضاء فيما هذا سبيله، وإذا كان الرجل يعتاد صوم أيام تطوعاً، فترك الصومَ، فليس يتحقّق عندي قضاؤه، وكذلك لو أفسدهُ بعد التحرم به؛ فإنَ الّذي يأتي به يكون ابتداء تطوع، والأيامُ الّتي رغَّب الشارع في التطوع بصيامها إذا لم يصمها المرء، فلا معنى بتقدير القضاء فيها، ولو تحرّم بالضوم، ثم أفسده، فقد يتخيّل المرء إمكان القضاء، ولست أراه أيضاً، والعلم عند الله. والذي بقي من الفصل الكلام في الأضحية المنذورة وأنها هل تتأقت؟ وسنذكر هذا في فصلٍ جامع هو غمرة الكتاب، إن شاء الله تعالى. فصل قال: " وأحب ألا يذبح المناسك إلا مسلم ... إلى آخره " (1). 11603 - ذكرنا من هو من أهل الذكاة ومن ليس من أهلها، وأوضحنا أن من يحل مناكحته تحل ذبيحته، وأخرجنا من حكم التجاري (2) الأمة الكتابية، ثم مقصود هذا الفصل أن المستحب أن يتولى الرجل التضحية بنفسه إن استمكن منها، ولم يستشعر ضعفاً وانخناساً في [المُنّة] (3)، وإن عجز، فالأولى أن يشهد ضحيته وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته: " يا فاطمة اشهدي ضحيتك؛ فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها " (4).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 212. (2) كذا. والمراد أخرجنا من حكم جريان القاعدة: " من يحل مناكحته تحل ذبيحته " أخرجنا من ذلك الأمة الكتابية، فلا يحل نكاحها، وتحل ذبيحتها. (3) في الأصل: " الجثة ". ثم المعنى: أنه إذا استشعر انخناساً، أي انقباضاً ونقصاً في القدرة على الذبح، فليشهد الذبح، ويذبح غيره. (4) حديث " يا فاطمة، اشهدي ضحيتك ... " رواه الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري، وعمران بن حصين، وعلي. ورواه البيهقي من حديث علي. وقد ضعّف الحافظ سند كل تلك الطرق (ر. الحاكم: 4/ 222، البيهقي: 5/ 239، 283، التلخيص: 4/ 261 ح 2396).

فإن استناب مسلم كتابياً، لم يمتنع ذلك إذا لم يفوض النية إليه، بل تولى النية بنفسه. ولو وكل الكافرَ بالنية، لم يصح؛ فإن النية لا تصح منه، وكذلك لو وكل كتابياً بتأدية الزكاة، وفوض إليه النية، فتفويض النية باطل، ولو تولى النية بنفسه، وفوض إليه التفرقة، جاز. وبالجملة كل من تصحّ ذبيحته وتحل، يجوز أن يكون وكيلاً في التضحية، والذبيحة إنما تحل من مسلم قاصد، أو من كتابي قاصد، وقد ذكرنا القصد وتفصيله، وحكينا خلافاً في المجنون، وكنا على تلوّمٍ وتردد فيه حتى رأينا قولين حكاهما الصيدلاني وغيره في أن المجنون الذي يتصوّر منه نظمُ الفعل، إذا نظم الذبحَ وأقامه على حد الشرع، فهل تحلّ الذبيحة؟ أحد القولين - أنها لا تحل، ولعله الأصح، فإن قصد المجنون ساقط الأثر. والقول الثاني - أن ذبيحته تحلُّ لوجود حقيقة القصد منه، وذكرنا التفصيل في الصبي، والأصح فيه إذا انتظم تمييزه أنه من أهل الذكاة، فإن جمعنا المجنون والصبي المميز، طردنا فيهما ثلاثة أقوال: أحدها - الفصل بين الصبي والمجنون. والسكرانُ إن جعلناه كالصاحي، فلا كلام، وهو من أهل الذكاة، وإن جعلناه كالمجنون، فقد مضى تفصيل القول في المجنون. وفي بعض التصانيف ذكر خلاف في أن الأعمى لو أرسل كلباً أو سهماً، فاتفقت إصابة صيد، فهل يحل؟ وهذا في الصّيد، وهو عندنا مفروض فيه إذا استشعر رِكْزاً (1) من الصّيد وأدركه بحسّ نفسه، وبنى الإرسال عليه، ولا خلاف في أنه من أهل الذبح في الحيوان المقدور عليه. فصل قال: " وأحب أن يوجه الذبيحة إلى القبلة ... إلى آخره " (2). 11604 - مضمون الفصل في كيفية الذبح في الحيوان المقدور عليه، والغرض يتعلق بما يجب مراعاته، وبما يستحب: فأمّا ما يجب مراعاته، فقَطْعُ الحلقوم

_ (1) الركز: الصوت الخفي. (معجم). (2) ر. المختصر: 5/ 212.

والمريء، ثم الأوداج المطبقة بهما، ولا بد من انقطاعهما إذا حصل قطع الحلقوم والمريء بإمرار المُدية على الاعتياد في إمرارها، فإن تكلّف متكلف آلة تهيأ بها قطع الحلقوم والمريء مع ترك الأوداج، فالذبح يكمل عندنا بقطع الحلقوم والمريء. واعتبر مالكٌ (1) قطع الأوداج مع قطع الحلقوم والمريء. وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: الأوداج والحلقوم والمريء محل الذبح، فينبغي أن يحصل قطع معظم هذه الأشياء، ولا يشترط أن يقطع الذابح من كل شيء معظمه، ولكنه يعتبر معظم هذه الأعداد فقطْعُ الحلقوم والودجين كافٍ، وقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين كافٍ. هذا أصله. والاعتبار عندنا بالحلقوم والمري، ولو أبقى الذابح من الحيوان المقدور عليه جزءاً من الحلقوم أو من المريء، فهو ميتة، ولو لم يَبْقَ من المريء إلا مقدارٌ نزرٌ، والحيوان -على القطع- إذا قطع منه الحلقوم والمريء إلا هذا المقدار، فينتهي إلى حركة المذبوح، فالحِلّ لا يحصل إلاَّ بقطع الجميع؛ فإن التعبُّد غالب في الباب، فلزم الاتباع. ولو أمرّ السكين فويق الحلقوم والمريء ملتصقاً باللّحيين، وأبان الرأس، ولم يقطع الحلقوم والمريء، فهذا ليس بذبح يُحلُّ؛ لعُروِّه عن قطع الحلقوم والمريء، فالذي جاء به قطع الرأس، وهو متعبّد بقطع الحلقوم والمريء. ومن الأركان المرعية في الذبح أن يحصل فري الحلقوم والمريء، بطريق القطع، حتى لو رمى بندقة إلى عصفورة، فاختطف رأسها، فهي ميتة؛ فإن قيل: قد حصل القطع، فهلا أحللتم؟ قلنا: هذا ليس بقطع، وهو بمثابة ما لو اعتمد رأس عصفورة واقتلعها، والتعبد بالقطع لا بالقلع.

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 912 مسألة 1821، شرح الخطاب: 3/ 210. (2) ر. مختصر الطحاوي: 295، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 209 مسألة 1308، رؤوس المسائل: 516 مسألة 375، المبسوط: 12/ 1، 2، البدائع: 5/ 41، تكملة فتح القدير: 9/ 493، 494.

ومن المعاني الكليّة التي فهمها العلماء إراحة الذكيّة، ولا يخفى أن خطف الرأس وقلعها في معنى الخنق، لا في معنى القطع. ثم كل آلة حادة تفري، فهي صالحة للذكاة إلا السن والظفر؛ فإن الذبح إذا وقع بواحد منهما -وإن كان حادّاً فارياً- فالمذبوح حرام، ولا اختصاص بالسنّ والظفر، بل ما ذكرناه في كل عظم، حتى لو كان نصل النشابة من عظم، فأصابت صيداً، ومرقت فيه، وقتلت الصيد، فهو حرام، وإن كان غير مقدور عليه، والتعويل في هذا على نهي النبي عليه السلام عن الذبح بالعظم، فروي هذا مطلقاً، وروي أنه نهى عن الذبح بالسن والظفر، وقال: " إنهما من مدى الحبشة " (1). 11605 - وأهمّ ما يجب الاعتناء به في هذا الفصل ذبح البهيمة التي أصابته (2) نكبة من افتراس أو تردٍّ من موضعٍ [عالٍ] (3)، أو وقوع شيء على الحيوان يقرّبه من حركة المذبوح، أو يُبقي فيه حياة مستقرة، فالتعرض لهذه الفصول حتى ينتظم ويتضامّ ما فيه من نشرٍ لا بُدّ منه، والوجه أن نذكر صوراً أرسالاً، ونوضح في كل صورة ما يليق بها، ثم نعقّبها بما هو الضابط: فمن الصور أن يقطع رأس شاة من قفاها، فأَمَرّ الآلة الجارحة من جهة القفا، وانتهى إلى المريء، (4 فقطعه، وقطع الحلقوم، فكيف الوجه؟ قال الأصحاب: إن انتهت الشاة إلى حركة المذبوح، فانتهى إلى المريء 4)، فهي ميتة، وقطْعُ الحلقوم والمريء بعد هذا لا ينفع، ولا يُحِلّ؛ فإنه ذبحٌ في ميتة. ولو لم تنته إلى حركة المذبوح، وكانت فيه حياة مستقرة، فأمرّ السكين من الجهة

_ (1) حديث النهي عن الذبح بالسن والظفر وأنها من مدى الحبشة، متفق عليه من حديث رافع بن خديج (البخاري: الذبائح والصيد، باب ما ندّ من البهائم هو بمنزلة الوحش، ح 5190. مسلم: الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظم، ح 1968). (2) كذا بضمير المذكر في النسخ الثلاث والتأويل قريب، على معنى الحيوان، مثلاً. (3) زيادة من المحقق. (4) ما بين القوسين سقط من (هـ 4).

التي انتهى إليها، فكيف السّبيل؟ قال الأصحاب: تحلّ الشاة؛ فإنه أخذ في قطع الحلقوم، وفي الحيوان حياة مستقرة، فجرى الذبح مُحلاً، [وطردوا] (1) هذا المسلك في جملة الأسباب التي تتقدّم على ابتداء القطع في المذبح الذي ورد التعبد به. والذي يختلج في النفس في هذا المقام أن قائلاً لو قال: السكين الذي يفري من جهة القفا لو انتهى إلى المريء لا تصير الشاة بها في حد المذبوح، ولكن لو فرض - وحالتها هذه- قطْعُ المريء وبعض من الحلقوم، لصارت إلى حركة المذبوح قبل استتمام إبانة الحلقوم، وهذا لما نالها بسبب قطع القفا من قبل، فماذا ترون في ذلك؟ قلنا: إذا تحقق عندنا أنها لم تصر إلى حركة المذبوح عند ابتداء قطع المريء، فلا ننظر إلى التفاصيل التي وقع السؤال عنها، بل نفري المريء والحلقوم ونستحلّ، وأقصى ما تُعبّدنا به في الباب أن نبتدىء القطع في المحل المعين، وفي الحيوان حياة مستقرة، ولو فتحنا هذا الباب، لم نأمن أن يتوجه مثلُ هذا التقدير من غير قطع يتقدم على الأخذ في فري المذبح، ولكن لا مبالاة بهذا. ومما يوضح الغرض في ذلك أن الذي يذبح الشاة لو قطع الحلقوم وبعض المريء على أناةٍ مجاوِزةٍ للعادة، حتى نتبين مصيرَ الشاة إلى حركة المذبوح قبل استكمال القطع فيما يجب قطعه، ثم فرى البقية، فالشاة تحرم. ويخرج مما ذكرناه وجوب الإسراع في الفري على حدٍّ لا يُحَسُّ فيه ما ذكرناه من تفصيل الأمر وانتهاء الذكية إلى حركة المذبوح. وهذا واضح لمن صرف الدَّرَك إليه. 11606 - ومما نلحقه بما ذكرناه أن الذابح لو أخذ في قطع الحلقوم والمريء، وأخذ [آخرُ] (2) معه في إخراج الحُِشْوة (3) والنخس في الخاصرة، بحيث يخرج قطعُ الحلقوم والمريء عن أن يكون هو المذفِّف، فلا شك في التحريم، ولا فرق بين أن يكون ما يجري مع قطع الحلقوم مما يذفف لو انفرد، أوكان يُعين على التذفيف.

_ (1) في الأصل: " وطرحوا " والمثبت من (هـ 4) و (ق). (2) في الأصل: " آخذ ". (3) الحُِشوة (بضم الحاء وكسرها): الأمعاء.

وقطع رقبة الشاة من قفاها إلى المريء لو اقترن بقطع الحلقوم، بأن كانت آلة تجري من جانب القفا، وأخرى تجرى من جانب الحلقوم، حتى التقت المديتان، فالوجه التحريم في هذه الصورة. ولو تقدم قطع القفا والحياة مستقرة عند انتهاء المدية إلى المذبح، ثم أسرع الذابح في القطع، فالذكية مستحلّة، وهذا الذي نذكره على شريطةٍ، وهي أن يكون للقطع الجاري مع قطع المذبح أثر في التذفيف متحقَّق أو مظنون، فإن تبينا أن الأثر كله في التنجيز والتذفيف لقطع المذبح، فلا مبالاة بما يقترن به، إذا تحققنا أن التذفيف يقطع المذبح لا غير. فخرج من مجموع ما ذكرناه أمران واقعان في مساق الفصل: أحدهما - رعاية الإسراع في قطع المذبح إذا فرض الانتهاء إليه والحياة مستقرة. وحدّ الإسراع ألا يُحسّ ولا يدرك انتهاء الشاة قبل استتمام (1) قطع المذبح إلى حركة المذبوح، والآخر ألا يقترن بقطع المذبح ما يعين على التذفيف، وإن كان لو تقدّم مثله لا يضر، وهذا على نهاية اللطف. ومن محاسن كلام صاحب التقريب في ذلك ومنه تلقينا ما ذكرناه أنه قال: لو أشار ذو سيف بسيفه القاطع إلى رأس شاة من قفاها، وأبان الرأس بضربةٍ، نحكم بالحل، وقد نُعمل سكيناً في القفا أو في إحدى صفحتي العنق، فلا نحكم بالحل إذا كان ينفصل لنا مصير الشاة إلى حركة المذبوح قبل استكمال المذبح، وليس هذا مما يؤثر فيه أن نجهل، ولكن القطع بسرعة يمنع التذفيف، فهذا ما يجب التنبه له. 11607 - ونحن نبتدىء بعد هذا الخوضَ فيما هو مقصود الفصل، فنقول: إذا استللنا فريسة من براثن سبع، وترددنا في أنها هل صارت إلى حركة المذبوح، وقطعنا مذبحها ابتداراً من غير تقصير، أو انهدم سقف على شاة، فلم ندر أنها صارت إلى حركة المذبوح أم لا، وقطعنا منها الحلقوم والمريء، ونحن على تردد من أمرنا، أو قطع قاطع رقبة الشاة من قفاها، ثم أشكل الأمر، فلم ندر هل صارت إلى حركة

_ (1) في (ق): " انتهاء".

المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح أم لا، فكيف السبيل، وما المسلك الذي نعتمده في التحريم والتحليل؟ فالذي نقله المزني، وذهب إليه جمهور الأصحاب اعتبار الحركة، ومعناها أنا نقطع الحلقوم والمريء بعد تقدم ما صوّرناه من الأسباب المفضية إلى الإشكال، وننظر: فإن تحركت الشاة بعد استكمال قطع الحلقوم والمريء، تبيّنا أنها لم تكن منتهية إلى حركة المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح، وإن لم تتحرك بعد قطع الحلقوم والمريء، تبينا أنها كانت ماتت أو انتهت إلى حركة المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح. هذا ما اعتمده المزني وطوائف من الأصحاب واعترض عليه صاحب التقريب محقاً، فقال: لا تعويل على التحرك بعد قطع المذبح بدليل أن الشاة التي لا آفة بها إذا قطعنا منها الحلقوم والمريء وأخذت في الاضطراب الشديد، فلو بقرنا على الفور بطنها وأبنّا حُِشوتها، فقد تتحرك بعد ذلك، وإن كان إبانة الحُِشوة مذففاً كقطع الحلقوم والمريء، فإذا كان كذلك، فلا تعويل على الحركة؛ فإن البهيمة قد تنتهي إلى حركة المذبوح بسببٍ يوجب ذلك، ثم يقع بها مذفف، فتتحرك بعده. ولا تعويل قطعاً (1) على إنهار الدم وإن ضري به عوام الناس؛ فإن البهيمة بعد انتهائها إلى حركة المذبوح بقطع الحلقوم والمريء يتدفق منها الدم زمناً طويلاً، ورقبة الإنسان تحزّ بالسيف المرهف ثم ينذرف الدم من بعد [زمان] (2) منفصلٍ محسوسٍ، فلا وجه لاعتماد الحركة، واتخاذها معتبراً في النفي والإثبات. وإذا كان كذلك، فالوجه أن نقول: إذا استيقنا حياة مستقرة عند ابتداء الأخذ في القطع، قطعنا بالتحليل على الترتيب الذي ذكرناه في رعاية الإسراع، وإن استيقنا مصير البهيمة إلى حركة المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح، قطعنا بالتحريم. وإن لم نعلم حالها، طلبنا غلبة الظن بعلاماتٍ لا تدخل تحت الوصف، بل تنزل منزلة قرائن الأحوال التي لا يضبطها الوصف، كعلامات الخجل والوجل والغضب ونحوها،

_ (1) هـ 4: " أيضاً ". (2) في الأصل: " بزمانٍ ".

ومنها ما يقتضي العلم، ومنها ما يُغلِّب على الظن؛ فإن حصلت علامةٌ مغلّبة على الظن في أن البهيمة لم تنته إلى حركة المذبوح حتى أخذنا في قطع المذبح، فنحكم بالحِل؛ فإن الأصل بقاء الحياة. فإن غلب على الظن سقوط الحياة قبل الأخذ في قطع المذبح بعلامةٍ [لا نكيِّفها] (1)، فنحكم بأنها ميتة، وإن قطعنا الحلقوم والمريء. وإن استوى الاحتمالان، فالتحريم أغلب؛ إذ ليس التذفيف بأن يُحال على الأول أولى من أن يحال على الثاني، وفي ظن بقاء الحياة قبل الأخذ في قطع المذبح أدنى تردد، وفي كلام صاحب التقريب إشارة إليه؛ التفاتاً إلى مسألة الإنماء. فهذا غاية البيان في ذلك. ويخرج مما ذكرناه أنا لا نُبعد تلقِّي ظنٍّ من الحركة، إذا كانت شديدةً، ولكن الذي ننكره اتخاذ الحركة عَلماً في الباب يَثبت الحلُّ بها وينتفي بانتفائها. 11608 - والذي ندعو المحقق إليه ألا ينصّ على جنس من الأعلام، ثم حاله فيما شاهدَ لا يخرج عن درك اليقين، وغلبة الظن، واستواء الأمرين، وقد ذكرنا في كل قسم ما يليق به: فاليقين لا يخفى حكمه، والظن إن غلب في التحريم حكم به، وإن غلب في التحليل، فالظاهر الحكم به، وفيه شيء، وإن استوى الأمران، غلب التحريم، ولا التفات على استصحاب الحياة؛ فإنا إنما نستمسك بالاستصحاب في غير هذا المقام؛ فإن التمسك بالحظر مع وقوع الشك أولى، ولو كان معنا توقيفٌ في التمسك بعلامةٍ، لاتبعناه، فإذا لم يكن، ورُددنا إلى ما نعلم، أو نظن، فلا نستريب في أن الوجه ما ذكرناه لا غير. وتنخّل من مجموع المذكور أن من الأصحاب من اتبع الحركة عموماً، ومنهم من سلك المسلك الذي ذكرناه، وهو الذي قطع به صاحب التقريب، ولا وجه غيره. وقد نجز القول فيما يجب الاهتمام به في الذبح المذفف المحلِّل، وفيما لا يكون كذلك.

_ (1) في الأصل: " لا يكفيها ".

11609 - ونحن نذكر الآن أموراً تتعلق برعاية الآداب في الذبح: فمن أهمها تحديد الشفرة، والتحامل عليها بالقوة، وإراحة الذبيحة، ونؤثر أن توجه بالمذبح قِبل القبلة، ويتوجه الذابح أيضاً، والتسمية من أهم المسنونات. ثم قال الشافعي إن صلى الذابح على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا كراهية، ولو قال الذابح: باسم محمد، لم يجز هذا على هذه الصيغة، فليقع الذبح باسم الله تعالى، والصّلاة إن جرت، فهي من الأذكار المحبوبة، وليس الغرض من إجرائها إيقاع الذبح باسم محمد عليه السلام. ومما ورد استحبابه عند التضحية أن يقول المهدي أو المضحِّي: " اللهم منك وإليك، فتقبّل مني ". ثم الشاة والبقرة مذبوحتان، والبعير منحور في اللَّبة، والمقطوع من البعير الحلقوم والمريء أيضاً، ولو ذبح البعير حل، ولكنا نكره هذا؛ فإن الأمر قد يعسر عليه لطول العنق، وقد تبيّن أنا أمرنا بالسعي في الإنجاز والإيحاء جهدنا. فصل يجمع قواعد القول في نذر الضحايا، وتعيين البهائم لها، وما يتعلق بأحكام التعيين والنذر 11610 - فنقول أولاً: الضحيةُ ملتزَمة بالنذر، والقول فيها كالقول في كل منذور ملتزم، فإن جرى النذر فيه تبرّراً، ثبت، ولزم، وإن كان النذر مطلقاً غيرَ معلق بطلب نعمة، أو دفع مضرة، ففي المسألة قولان، كما سيأتي ذكرهما في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى. ثم أول ما نصدر الفصل به أن نقول: إذا ابتدر الرجل، وقال: جعلت هذه الشاة ضحية، صارت ضحية بهذه الصيغة التي تضمنت تعييناً محضاً، وما أشعرت بالتزام في الذمة. وهذا متفق عليه. ثم ليس تعيينها مما يتصور الانفكاك عنه، حتى يسوغ للمعيِّن أن يخرجها عن قضية الضحية، وشبه الأئمة تعيين الشاة للتضحية بتوجيه العتق

تنجيزاً على العبد، وتشبيه التعيين للتضحية بتعيين الشيء للحبس والوقفِ أقرب؛ فإن الضحية لا تخرج عن المالية -وإن تعيّنت- كالعين المحبسة، والعبد الذي وجّه مالكُه العتقَ عليه يخرج عن المالية بالكلية. ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بشاة، فالتزم في الذمة، لزمه الوفاء بالنذر، على التفصيل الذي أشرنا إليه، فلو قال: عيّنتُ هذه الشاة لنذري، أو جعلتها عن نذري، فهل تتعيّن للانصراف إلى جهة النذر؟ فعلى وجهين هما قاعدة الفصل: أحدهما - أنها تتعين؛ فإن التعيين إذا كان يلزم الوفاء بمقتضاه من غير التزام، فكذلك إذا جرى التعيين صَرفاً إلى جهة الالتزام يجب الوفاء به. والوجه الثاني - أن التّعيين لا يعمل عملاً بعد تقدم الالتزام؛ فإن الملتَزَم في الذمة دَينٌ، وتعيين شاة للدَّين بمثابة جعل الدَّين عيناً، وهذا متناقض، والدَّيْن لا يتعيّن إلاّ بالإيفاء، وليس التعيين إيفاءً. ولو كان نذر الرجل أن يعتق عبداً، ثم قال: عيّنت هذا العبدَ لنذري، ففي المسألة وجهان كالوجهين في الضحية. ولو قال الرجل مبتدئاً: لله علي أن أضحي بهذه الشاة، فالتضحية تلزمه، ولكن هل تتعين الشاة؟ فعلى وجهين مرتبين على ما إذا قدم النذر التزاماً، ثم ابتدأ بعده التعيين، والصورة الأخيرة أولى بثبوت حكم التعيين لها؛ فإنه لم يجرد الالتزام، بل قرنه بالتعيين، فرجع الالتزام إلى الإخبار عن لزوم التعيين، والتعيينُ مما يثبت لو تجرّد. ولو قال: لله عليّ أن أعتق هذا العبد، فيلزمه العتقُ على الجملة، ولكن هل يتعين العبد المعيّن للوفاء؟ فعلى وجهين، قال المحققون: العتق أولى بالتّعيين؛ من جهة أن للعبد حقاً، وحظاً في العتق؛ فإذا عيّنه للاستحقاق، ظهر وجوب الوفاء، والضحية لا حق لها في تعيينها. ولو عيّن دراهم فقال: لله عليَّ أن أتصدّق بهذه الدراهم، ففي تعيينها وجهان مرتبان على الأضحية، وهي أولى بألا تتعين؛ فإنه لا فائدة في تعيينها، والشاة قد يفرض في تعيينها فائدة، من حسنٍ، وكبرٍ، وسمن، فيجوز أن يؤثر التّعيين فيها،

ولسنا نذكر هذه الأسباب حتّى يظنّ الظان أنا نشترطها لتعيّن الشاة، ولكنا ذكرناها ليتبيّن المتبيّن أن للتعيين مساغاً ومساقاً على الجملة. ولو كان على الرجل دراهم مطلقة عن جهة من جهات القربة، فقال: عيّنت هذه الدراهم لما عليَّ، فقد وجدت الطرق متفقة على أن التّعيين يلغو في هذه الحالة. 11611 - فإذا ثبت ما أرسلناه من المسائل، فلا بد من ضبطها، وفي التضحية ثلاث صور: إحداها - التعيين المجرد من غير التزام مقترن أو سابق، وهو موجبٌ ملزم على ما سيأتي أحكام التعيين. والصورة الثانية - أن يتقدم التزام مطلق غيرُ متعلِّق بعينٍ ثم يُفرض تعيين ضحية عن جهة النذر، ففي حصول التعيين وجهان، ولو فرض مثل هذا في العتق ففي التعيين وجهان أيضاً، والعتق أولى بقبول التعيين، لما نبهنا عليه من استحقاق العبد حق العتاقة. والصورة الثالثة - الجمع بين صيغة الالتزام والتعيين، وفي التعيين في هذه الصورة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الثانية، والأخيرة أولى بقبول التعيين، لما نبهنا عليه. والخلاف يجري في نظير هذه الصورة من العتق، ولكن العتق يترتب على التضحية، وهو بالتعيين أولى. ولو قال الرجل: لله عليَّ أن أتصدق بدراهم على هذا الشخص، فلا يبعد أن ينزل هذا منزلة ما لو قال: لله عليَّ أن أعتق هذا العبد، وهذه الصور الثلاث التي أجريناها في التضحية والعتق نجريها في الدراهم وغيرها، فلو قال مالك الدراهم: جعلت هذه الدراهم صدقة، فالتضحية في مثل هذه الصورة تتعيّن وجهاً واحداً، وفي تعيين الدراهم خلافٌ للأصحاب إذا جرى التعيين المحض على الصيغة التي ذكرناها. ولو قال: عيّنت هذه الدراهم لزكاتي أو نذري، فالذي قطع به الأصحاب أن هذا يلغو؛ لأن التعيين ضعيف في الدراهم، والتعيين ضعيف في معنى الصرف إلى الملتزِم المطلق، فإذا جمع الأمران، اقتضيا إلغاء (1) التعيين، وهذه الصورة ليست خالية عن

_ (1) في (هـ 4): فساد.

احتمال بعيد؛ من جهة أن الدراهم قابلة للتعيين على الجملة عند بعض الأصحاب. ولو قال: لله عليَّ أن أتصدّق بهذه الدراهم، ففي تعيينها الخلاف المشهور، وهو مرتّب على تعيين الضحية في مثل هذه الصورة، فالعتق أولى بالتعيين، والضحيةُ تليه، والدراهم تلي الضحية، والفروق واضحة. فهذه قواعد كلية فيما يتعلق بالتعيين، والكلام بعد هذا يختص بتعيين الضحايا. ونحن بعد ذلك نذكر أنواعاً تتعلق مقتضياتها بالتعيين وعدم التعيين، ونُعيد فيها الصورة الثالثة التي ذكرناها في التعيين، ونذكر في كل صورة ما يليق بها من ذلك المقتضى. 11612 - النوع الأول في النية، فنقول: إذا [لم يجب] (1) التعيين، فعماد التضحية التقرب إلى الله بالنية، [ولذلك] (2) لو جرى نذر مطلق، ثم أراد الناذر تأدية المنذور بالذبح، فلا بد من النية. ثم النية في التضحية كالنية في تأدية الزكاة، وقد مضى القول فيها، وفي جواز تقديمها، وفي الاستنابة فيها مفصلاً، ولا فرق بين البابين. فأما الصور الثلاث في التعيين، فإن قال: جعلت هذه الشاة ضحيّة، فالمذهب أنه لا حاجة إلى النية، كما إذا قال لعبده: أعتقتك، ومن أصحابنا من شرط النية عند الذبح أو قبله. ولو نذر مطلقاً ثم قال: هذه الشاة عن نذري، فهذا يتفرع على الوجهين في أن الشاة هل تتعين؟ فإن قلنا: لا تتعين، فلا بد من النية إن أراد انصراف الذكيّة إلى نذره، وإن قلنا: بتعيين الشاة، فحكم النية على هذا كحكمها إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية. ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بهذه الشاة، فالنية تخرج على الوجهين في التعيين وعدم التعيين كما ذكرنا. 11613 - النوع الثاني -في التلف والإتلاف- نذكر حكمها في الصور الثلاث: فإن

_ (1) في الأصل: " لم يجز ". (2) في الأصل: " وكذلك ".

قال: جعلتها ضحية، فلو تلفت (1)، فلا ضمان؛ فإنه لا مستند لهذا القسم إلى التزامٍ في الذمة، بل تعلق بالمعيّنة حقٌّ، وقد فات بفواتها. ولو أتلفها المضحي أو غيره، التزم القيم، ثم إن كان المتلف أجنبيّاً، لم يلتزم إلا القيمة، وإن كنا لا نجد بها ضحية -ولا يخفى تصوير ذلك على من أراده- ولا نقول: فوّت الجاني ضحيةً، فعليه تحصيل ضحية، لأن الجناية لا تَرِد إلا على محل التقويم، وكونها ضحية يتعلق بالقُربة والقُربة لا تُضمن، ولو كان المتلِف صاحبَ الضحية، فإن وجدنا بالقيمة ضحية من غير زيادة ولا نقصان، فذاك، وإن قصرت القيمة عن ثمن ضحية، فهل على صاحب الضحية أن يبلّغها ثمن ضحية؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه كالأجنبي. والثاني - يلزمه؛ لأنه التزم التضحية، فعليه الوفاء بها، وقد فوّتها، فعليه تحصيل ضحية. ونستتم القول في القيمة إذا انتهى الكلام إليها، فإن كانت القيمة ثمن ضحية، فلا كلام، وإن زادت على ثمن ضحية، ولم يجد ضحيَّةً كريمةً بها، فيشتري ضحية، وفي الفاضل وجهان: أحدهما - أنه يُشترى بها شقصٌ من شاة؛ فإن الشاة وإن كانت لا تتبعض في التضحية ابتداءً، فإذا أفضت الحاجة إلى التبعيض فيها، احتمل التبعيض، ثم البعيدُ إثباتُ بعضٍ في الضحية ابتداء. والوجه الثاني - أن الفاضل نصرفه مصرف الضحايا، حتى إن أراد أن يتخذ منه خاتماً يقتنيه ولا يبيعه، فله ذلك، فأما ابتياع بعض ضحية به، فلا، وهذا الاختلاف يقرب من تردد الأصحاب في بعض الصور في الزكاة، حيث تجتمع الحِقاق، وبنات اللبون، فقد تُفضي التقاسيم إلى تقدير صرف فضلٍ من القيمة إلى جزء من الحقاق، أو بنات اللبون، ثم فيه الاختلاف على حسب ما يليق بقاعدة الزكاة. فإن قيل: إذا كان لا يبعد صرف القيمة مصرف الضحايا، فالبعض من الشاة أقرب إلى الضحية من الدراهم، وليس ذلك كالزكاة؛ فإن للدراهم مدخلاً فيها على الجملة، ويشهد لذلك بَذْلُ الدراهم في الجبران. قلنا: هذا سؤال متجه يقتضي ترتيب الخلاف فيما نحن فيه على الخلاف في الزكاة. ومقتضى الترتيب أن التبعيض

_ (1) أي بآفة سماوية.

أَوْجهُ في التضحية منه في الزكاة، ثم إذا فاتت الضحية، ولم ينقطع الحق، صارت القيمة التي يتعذر صرفها إلى الضحية بمثابة الضحية نفسها. هذا إذا فضل من القيمة فاضل، وتعذر ابتياع ضحية كريمة بجملة القيمة. ولو قصرت القيمة عن الضحية وملتزمُها أجنبي، فالقول فيها كالقول في الفاضل من القيمة. وما ذكرناه من الإتلاف أردنا به إهلاكاً بإحراق أو غيره، فأما إذا ذبح الأجنبي الضحية في وقت التضحية، فهذا يخرج على أن النية هل تُشترط في التضحية بالشاة المعينة، التي قال صاحبها: جعلتها ضحية؟ فإن قلنا: لا يشترط النية، فالضحية تقع موقعها، وإن قلنا: لا بد من النية، فالضحية لا تقع موقعها؛ فإن صاحب الضحية لم يستنب هذا الأجنبي في التضحية، فقد فاتت النية، وفات بفواتها القُربة. التفريع: 11614 - إن حكمنا بأن التضحية تقع موقعها، فنفرض فيه إذا لم يفرق اللحم على مستحقيها، ونقول: هل يجب على هذا الذابح ما بين هذه الشاة حية وبينها مذبوحة؟ في المسألة قولان: أحدهما - يجب؛ لأنه اعتدى بالذبح. والثاني - لم يجب، وهو الأقيس، لأن الذبح وقع مستحقاً، ولم يتعلق به تفويت، والقيمة تلزم على مقابلة التفويت. ولو ذبح الأجنبي الضحية، وفرق لحمها، فالتفريق لا يقع موقع الاعتداد، واللحم محرّمٌ على آخذه؛ فإن تعيين الآخذ إلى صاحب الضحية. ويخرج من ذلك أنه بتفرقة اللحم يكون مفوّتاً للحم، فيلتزم بسبب تفريق اللحم العوضَ لا محالة. ثم إذا كنا نفرع على أن الأجنبي الذابح لا يُغرّم بالذبح لوقوع الذبح مستحقاً، فإذا انضم إلى الذبح تفريق اللحم، فالذي رأيته للأصحاب القطع بأنه يُغرَّم في هذه الحالة النقصَ الذي يقتضيه الذبح، وإنما القولان فيه إذا اقتصر على الذبح، وترك [تفرقة] (1) اللحم على صاحب الضحية.

_ (1) زيادة من (هـ 4).

هذا ما وجدته، وليس يبعد عن القياس طرد القولين في صورة تفريق اللحم؛ فإن الضحية بالذبح وقعت موقعها، وتفرقة اللحم جناية على ضحية قد بلغت محلها. ثم إذا قلنا: يجب الضمان بسبب تفرقة اللحم وبسبب الذبح، فكيف السبيل في الجمع بين الغرمين؟ فعلى قولين حكاهما صاحب التقريب: أحدهما - أنا نغرمه الشاة حيةً؛ فإنه بالذبح والتفريق فَوَّتها. والقول الثاني - أنّا نغرمه ما نقصه الذبح، ثم نغرمه قيمة اللحم، فإن الذبح والتفريق فعلان مختلفان، فيتعلق بكل واحد منهما غرم على حياله، والمسألة محتملة حسنة. والوجه عندي طرد القولين فيه إذا ذبح رجل شاة إنسان، ثم أتلف لحمها من غير فرض في الضحية؛ فإنا لا نرى لجريان القولين اختصاصاً بمقتضى الضحية، والمسألة محتملة، لطيفة. وكل ما ذكرناه تفريع على الأصح وهو أن الشاة تقع ضحيةً إذا ذبحها الأجنبي. فإن قلنا: لا تقع ضحية، فاللحم كيف حكمه؟ فيه وجهان: أحدهما - أن الضحية انفكت، واللحم مملوك لصاحب الشاة، فعلى هذا يتوجه على الذابح ما نقصه الذبح. والوجه الثاني - أن اللحم مستحق لجهة الضحية؛ فإن قول صاحب الشاة: جعلتها ضحيّةً لا يغير استحقاق جهة الضحية، -وإن لم يقع الاعتداد- فمصرف اللحم إذاً مصرف الضحية المستحقة، كما سنصفه إن شاء الله، ثم لا يجب على الذابح إلا ما نقصه الذبح، وإن فوّت الاعتداد بالضحية، فإن تفويت الضحية لا يغرمه الأجنبي كما قررناه. فإذا ثبت ما ذكرناه فيه إذا قال: جعلتها ضحية، فلو نذر ضحية، ثم قال: عيّنت هذه الشاة لنذري، ثم فُرض تلف أو إتلاف، فهذا يتفرع على أنَّ الشاة هل تتعيّن؟ فإن قلنا: إنها لا تتعيّن، فالتعيين لغوٌ، فإن تلفت الشاة، فالشاة مملوكة تلفت أو أتلفت، ولا يخفى الحكم، والذمةُ مشتغلة بالنذر، وإن قلنا: الشاة متعينة لجهة النذر، فلو تلفت، فهل تبرأ ذمة الناذر؟ فعلى وجهين: أحدهما - تبرأ كما لو قال ابتداء: جعلت هذه الشاة ضحية. والثاني - لا تبرأ لتقدم النذر، فكأن فائدة التعيين وجوب صرف الشاة المعينة إلى جهة النذر، فإن فاتت، فالنذر قائم، فهذا هو الذي

زدناه في هذه الصورة. فإن قلنا: الذمة تبرأ بالتلف، فلو فُرض الإتلاف، فتفريع الإتلاف على هذا كتفريع الإتلاف إذا قال: جعلتها ضحية، وقد مضى. فأما إذا قال: لله عليَّ أن أضحيّ بهذه الشاة، فهذه الصورة أولى بالتعيين وحكمه كما إذا قال: لله عليّ ضحية، ثم ابتدأ فَعيّن شاة عن نذره، وهذا القدر الذي نريد. ثم التفريع في التعيين وعدم التعيين ما ذكرناه. 11615 - النوع الثالث - في تعيّب الضحية، وهذا يدور على الصور الثلاث، فإن قال: جعلتُ هذه الشاة ضحية، ثم عابت عيباً يمنع مثله الإجزاء ابتداء، فالشاة مستحقة كما كانت، ولا ينفك التضحية عنها، وليس على صاحبها شيء بسبب طريان العيب؛ فإن التعيب لا يزيد على التلف، ولو تلفت في هذه الصورة، لم يجب على صاحبها شيء، فالتعيب لا يُلزم شيئاً. ولو نذر، ثم عيّن عن النذر، فإن قلنا: التعيين باطل، فلا أثر له، وإن قلنا: التعيين صحيح، فإذا عابت تيك الشاة، فهل يجب الإتيان بسليمة؟ فعلى وجهين، وهذا الاختلاف يناظر ما ذكرناه في التلف في هذه الصورة، ثم إن لم نُوجب الإبدال، فهذه المعيبة مجزئة، وإن أوجبنا الإتيان بسليمة، فهذه المعيبة هل ينفك الاستحقاق عنها؟ فعلى وجهين: وسنذكر لهما نظيراً في ضلال المعيّنة من بعدُ، إن شاء الله تعالى. ونستتم القول في التعيب الطارىء. قال الأصحاب: إذا شدّ الرجل قوائم الشاة، ونوى التضحية بها، فاضطربت وانكسرت رجلها، فهل يجزىء التضحية بها والحالة هذه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يجزىء؟ فإنها كالمسلّمة (1) إذا اتصل به (2) الذبح، ومنهم من قال: لا تجزىء؛ فإن التضحية إنما تحصل بالذبح ولا تضحية قبله (3).

_ (1) كذا في النسختين. والشدّة على اللام من (هـ 4) وفوقها علامة (صح) تأكيداً لصحة الرسم. (2) به: أي بالتسليم. (3) كما سيظهر من شرح باقي المسألة خصّ الإمام الوجهين فىِ صورة ما إذا عين هذه الشاة عن نذرٍ سابقٍ في الذمة، وسيذكر الإمام ذلك صراحة في هذه الفقرة.

وكان شيخي أبو محمد يقول: هذا التردد قبل قطع شيء من الحلقوم، وكان القفال يقول: إذا ساق الرجل هدياً، فتعيّب قبل الانتهاء إلى الحرم، أثر في الإجزاء، وإن دخل الحرم، ثم تعيب أجزأ؛ فإن الهدي قد بلغ محِله، وهذا مما اختصّ به القفال، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن التعيب في الحرم كالتعيب قبل البلوغ إليه، والدليل عليه أن من أراد أن يهدي هدياً في الحرم نفسه، فتعيب، فهذا هدي في المحل، ويجب القطع بأن التعيب يؤثر، ولا نرى للسَّوْق من الحل إلى الحرم أثراً في الإجزاء، ومَنْعه. وما ذكره الأصحاب من التعيب بعد شد القوائم إذا اتّصل الذبح به. وما ذكره القفال من التعيب بعد الانتهاء إلى الحرم مبهم بعْدُ، فإن كان الكلام مفروضاً في المتطوَّع به من غير نذر ولا تعيين، فالذي أراه أن التعيُّب قبل الذبح يخرجه عن الإجزاء، وهذا في التعيب بعد الانتهاء إلى الحرم أظهر؛ فإن النية المجردة لا أثر لها، والدليل عليه أنه لو نوى وانتهى الهدي إلى الحرم، أو نوى بعد شد القوائم، ثم أراد بيع ما انتهى إلى الحرم وبيع الشاة بعد شد القوائم، فهو جائز، والتعيب إذا جرى في وقت يجوز البيع فيه يستحيل أن يقع التضحية بعده مع قيام العيب، فالوجه فرض ما ذكره الأصحاب فيه إذا عين الضحية والهديَ عن نذر سابق، وقلنا: التعيب بعد التعيين والحكم بالتعيين يمنع الإجزاء، فلو فرض التعيب بعد الوصول إلى الحرم، أو بعد شدّ القوائم، فعلى هذا الوجه تردد الأصحاب. 11616 - وقد نجز القول في التعيب الطارىء، ونحن نُلحق بهذا المنتهى توجيهَ التعيين على شاة معيبة، وهذا نذكره في الصور الثلاث، فإن قال: جعلتها ضحية، ومثلها لا يجزىء، فالذي أطلقه الأصحاب أنه يلزمه إجراؤها مجرى الضحايا، وإن كان بها عيب، وهو بمثابة ما لو قال لعبدٍ لا يجزىء إعتاقه عن الكفارة: أنت حر عن كفارتي، فالعتق ينفذ، والذمة لا تبرأ عن واجب الكفارة، ولو أشار إلى ظبية وقال: جعلتها ضحية، لغا لفظه، ولم يلزمه صرفها إلى حكم التضحية. ولو أشار إلى حُوارٍ أو فصيل، وقال: جعلته ضحية؛ ففي المسألة وجهان، هكذا رتب الأئمة، ونقصان السّنّ مردّد بين العيب وبين الجنس المخالف للنَّعم، ورأيت للأصحاب رمزاً في تعيين

المعيبة إلى خلافٍ، من حيث إنها لا تُجزىء، كما أن الفصيل لا يُجزىء، ثم إذا جرينا على الأصح، فلا يلزمه في المعيبة المعينة غيرها؛ فإنه لم يلتزم شيئاً، بل عين، وتعيينه بين أن يصح، وبين أن يلغو. ولو كان نذر ضحية، ثم عيّن عن نذره معيبة، فلا شكّ أن الذمة لا تبرأ بهذه المعيبة، وهل تتعيّن هذه المعيبة مع بقاء اشتغال الذمة بضحية مجزية؟ فعلى وجهين. ولو قال: لله عليَّ أن أضحيّ بشاة عرجاء، أو عجفاء، لا تنقي، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يلزمه صحيحة، ومنهم من قال: لا نلزمه شيئاً؛ فإنه التزم ما لا أصل له في الشرع، ومنهم من ألزمه ما التزم، ولم يُلزمه صحيحة، وجعل الالتزام في المعيبة، والظبية، والفصيل، على الترتيب الذي ذكرناه في التعيين الذي لا التزام فيه. ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بهذه، وكانت معيبةً، فهذه الصورة الثالثة يغلب التعيين عليها، لأن الالتزام مقرون بالتعيين فيها، وقد ذكرنا التعيين المحضَ، وذكرنا الالتزام المطلق والتعيين بعده، والالتزامُ المقرون بالتعيين بينهما. ومن انتهى إلى هذا الموضع بفهم ودركٍ، لم يخف عليه كيفية الترتيب. 11617 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا التزم في الذمة صحيحةً، ثم عين معيبةً عن جهة النذر، فقد ذكرنا أن ذمته لا تبرأ عن الضحية المطلقة، وهي محمولة على السليمة عن العيوب المانعة من الإجزاء، فإذا قلنا: المعيبة تتعين لجهة التضحية وإن كانت الذمة لا تبرأ بها، فلو زال العيب قبل التضحية والذبح، فقد قال الأصحاب: لا تبرأ الذمة بها؛ فإنها تعينت وهي غير مجزئة، وطريان السلامة لا حكم له. وهذا فيه تردد عندي؛ فإنا قلنا: إذا عين عن النذر المطلق شاةً سليمة، وقضينا بتعيينها، فلو غابت، فمن أصحابنا من يقول هي مجزئة مع العيب الطارىء؛ فإذا كان العيب الطارىء عند بعض الأصحاب يؤثر في المنع ولا يؤثر عند البعض، فلا يمتنع تخريج السلامة الطارئة على الخلاف؛ اعتباراً بالعيب الطارىء. وقد نجز القول في التعيب.

11618 - النوع الرابع - في ضلال الشاة المعيّنة فنقول: لو عين من غير نذر ضحيةً، فقال: جعلتها ضحية، فَضَلَّت، فلا نُلزم المعيِّن شيئاً؛ فإنّها لو تلفت، لم نُلزمه شيئاً، وإن نذر، ثم عيّن شاةً عن نذره؛ فإن قلنا: التّعيين لاغٍ، فالشاة الضالة كانت مملوكة والنذر باقٍ، وإن قلنا: تتعيّن الشاة المضافة إلى جهة النذر، فلو ضلت، فهو كما لو تلفت، وفي وجوب البدل وجهان، فإن أوجبنا البدل وضحى بالبدل، فوجد الأصل، فهل نلزمه التضحيةَ بالأصل؟ فعلى قولين: أحدهما - لا نلزمه؛ لأن الفرض قد سقط، وانفك الاستحقاق. والثاني - نُلزمه الأصلَ؛ لارتباط الاستحقاق به أوّلاً. ولو عين شاة عن جهة النذر، فضلّت، والتفريع على التعيين، فعين بدلاً لمّا أوجبنا عليه البدل، فيتعيّن، فلو وجد الأصل قبل ذبح البدل، فحاصل ما ذكره الأصحاب من مجموع الأصول أربعة أوجه: أحدها - أنه يضحي بالأصل. والثاني - يضحي بالثاني؛ لأن الوجوب انتقل إليه، وانفك عن الأول. والثالث - يضحي بهما لتعلق التعيين بهما، والرابع - يلزمه التضحية بإحداهما، والخِيَرةُ إليه، ولا معدل عنهما. ومن لطائف المذهب أنه إذا عين عن نذره شاة، وقضينا بتعيّنها بالتعيين، فلو ضحّى بشاةٍ أخرى، ونوى صرفها إلى النذر، فهذا يخرج على أن الشاة المعينة لو ماتت هل تبرأ الذمة كما لو قال: جعلتها ضحية من غير نذر والتزام؟ فإن قلنا: تبرأ الذمة -وهو ضعيف جدّاً- فعلى هذا لا تنصرف الشاة الثانية بالنية إلى جهة النذر، فإنا نصرف النذر إلى العين، ونقطع أثره من الذمة، ونجعله كما لو قال: جعلتها ضحية. ولو قال ذلك ابتداء، لم تكن الشاة الثانية عن تعيينه، وإن قلنا: لو ماتت الشاة المعينة عن جهة النذر، لم تبرأ الذمة، فإذا ضحّى بشاة أُخرى، ففي وقوعها عن النذر تردُّدٌ بسبب التمكن من الضحية بالشاة المعينة، وهذا محتمل، ثم إن أجزأت الشاة المنوية، وأبرأت الذمة، فهل ينفك الاستحقاق عن المعينة؟ فيه الخلاف المشهور. ولو قال من عليه كفارة: عينت هذا العبدَ للإعتاق عن الكفارة، ففي تعيينه خلاف، ولو أعتق عبداً آخر عن كفارته مع التمكن من إعتاق المعين، فالظاهر أن الذمة

تبرأ، ولا خلاف أنَّ العبد المعين لو مات قبل إعتاقه، فاشتغال الذمة بالكفارة باقٍ، كما كان، والفرق بين مسألة الكفارة وبين ما نحن فيه أنَّ النذر وإن كان التزاماً، فهو تبرّع بالالتزام، فإن قَبِلَ النقلَ إلى عين، كان له وجه على بُعد، والكفارة الواجبة شرعاً لا تحتمل هذا المعنى. 11619 - النوع الخامس - في بيان الوقت، وقد ذكرنا وقت الضحية المتطوع بها من غير تعيين ولا التزام، وذكرنا أن دماء الجبرانات في المناسك لا وقت لها من أيام السنة، ومهما وجبت أمكن أداؤها وإقامتها. ولو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فيتعيّن التضحية بها في يوم النحر وأيام التشريق، كما ذكرنا في المتطوع به. ولو قال: لله عليَّ أن أضحّي بشاةٍ، فهل تتأقت التضحية بالأيام الأربعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعينّ لها وقت، كدماء الجبرانات ووجه المشابهة الوقوع في الذمة. ومنهم من قال: يلزمه إيقاع ما التزمه في الأيام الأربعة؛ فإنه التزم ضحية، والضحيّة مؤقتة. ثم إذا قلنا: تتأقت المنذورة المطلقة، فلا كلام، وإن قلنا: لا تتأقت فلو قال: جعلت هذه الشاةَ عن جهة نذري، وفرّعنا على أنّ التعيين يؤثر، فهل تتأقت التضحية، كما لو قال: جعلتها ضحيةً، من غير التزام. فعلى وجهين: أحدهما - أنها لا تتأقت كالمنذورة المطلقة؛ فإنها مصروفة إلى النذر. والثاني - تتأقت تغليباً لحكم التعيين ولا يخفى منشأ هذا. 11620 - النوع السَّادس: في الأكل من لحم الضحية، ونحن نبدأ بتفصيل القول في الأكل من الضحية المتطوع بها بالنيّة، فنقول: أولاً لا خلاف أن للمضحِّي المتطوع الأكلَ من ضحيته، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28]، وفي الخبر: " فكلوا وائتجروا " (1) معناه اطلبوا الأجر بالتصرف. ثم قاعدة المذهب أن الأئمة اختلفوا في أن المضحي لو أراد أن يأكل جميع لحم الأضحية، ولا يتصدق بشيء منها، فهل له ذلك؟ أم يلزمه التصدق بشيء؟ فمنهم من

_ (1) حديث " فكلوا وائتجروا " سيأتي تخريجه بعد قليل.

قال: يلزمه التصدّق بمقدارٍ، تعلّقاً بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، ومنهم من قال: له أكلُ الكُلّ؛ إذ لو امتنع أكل الكُلِّ، لامتنع أكل البعض، والدّعاء إلى الإطعام استحثاث على مكارم الأخلاق. فإن قلنا: يجب التصدُّق بشيء، لم يختلف أصحابنا في أن الغرض يسقط بما ينطلق عليه الاسم وإن قلَّ، ويجب التثبت في هذا؛ فإنه على ظهوره مزِلّةٌ، وما ذكرناه مقطوع به، فلتقع الثقة به. ثم لا شكَّ أنَّه لو تصدّق بالجميع، لكان أفضل، غير أن ما يقتضيه شعار الصالحين أن يأكل من ضحيته مقداراً وإن قلَّ، وكان شيخي يرى ذلك مكرمةً وإحياءً للشعار، وقيل: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل يوم الأضحى من كبد أضحيته " (1) وروي قريب منه عن عليٍّ رضي الله عنه: إذ قال في أثناء خطبته بالبصرة في أيام خلافته: " أما أن أميركم هذا رضي من دنياكم بطِمْريه لا يأكل اللحم في السنة إلا الفِلْذَة من كبد أُضحيته " (2). ثم من أئمتنا من قال: لو تصدق بالنصف، فقد أقام شعار الدين في الإطعام. ومنهم من قال: لو تصدّق بالثلث، فقد أكمل القُربة. فمن راعى التنصيف، تعلّق بظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28]، وتقابلُ الجهتين يُشعر بالتنصيف، ومن مال إلى الثلث، احتج بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأضحية، وكان نهى عن الأكل منها، فقال بعد نهيه:

_ (1) حديث أكل الرسول صلى الله عليه وسلم من أضحيته رواه مسلم من حديث ثوبان قال: " ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته، ثم قال: " يا ثوبان! أصلح لحم هذه " فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة ". والحديث رواه أيضاً أبو داود، وأحمد، والدارمي، والحاكم، والبيهقي. أما خبر أكله صلى الله عليه وسلم من كبد أضحيته فرواه البيهقي من حديث بريدة. (ر. مسلم: الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي ... وبيان نسخه وإباحته ... ، ح 1975، أبو داود: الأضاحي، باب في المسافر يضحي، ح 2814، المسند: 5/ 277 - 278، الدارمي: 2/ 79، مستدرك الحاكم: 4/ 230، البيهقي: 3/ 283، 9/ 291). (2) أثر علي قال عنه الحافظ في التلخيص: " لم أجده، وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط: إن صح فمعناه أنه رضي بثوبيه الخلقين ". (ر. التلخيص: 4/ 267 ح 2414).

" أما إني نهيتكم للدافّة التي دفّت إلى المدينة -وأراد طائفة من الفقراء والمحاويج كانوا دخلوا المدينة لإضاقة أصابتهم- ثم قال: ألا، فكلوا وادّخروا، وائتجروا " (1). فذكر ثلاثَ جهات، وأشعر قوله بأن التصدق بالثلث. ثم هذا الفصل وإن كان من الجليات، فيجب التحفظ فيه عن الزلل. ونحن نقول: لم يصر أحد من الأصحاب إلى وجوب التصدق بالثلث أو النصف، ومنهم من لم يوجب التصدق أصلاً، وجوّز أكل الكل، ومن أوجب التصدق، اكتفى بما ينطلق عليه الاسم، وإن قل، ثم تلك الصدقة التي نراها مفروضة يجب صرفها إلى المساكين، ويكفي صرفها إلى مسكين واحد، فإنَّا لا نرى في الشرع لذكر الجمع في هذا الباب أصلاً، والتردد في الثلث والنصف آيل إلى إحياء الشعار، وبيان المستحب، وذكرنا استحباب أكل شيء، ولا ينتهي القول فيما نستحبه إلى نصف ولا إلى ثلثين، ولكن كلما قَلَّ المأكول، وكثر المتصدق به، كان أحسن وأفضل. فإن قيل: ما وجه جواز أكل الكل؟ قلنا: نحن في المتطوع به، وقد يبعد في نفس الفقيه وجوب التصدق من غير نذر. ومن تأمل هذا، غمض عليه وجه وجوب التصدق بمقدار، ولا خلاف أن الضحية إذا ذبحت وكانت منوية غير متعيّنة لفظاً ولا منذورة، [فليست] (2) هي شاةَ لحم، حتى يجوز بيعها، كما سنصف ذلك في فنٍّ مفرد، ثم ما يجوز أكله يجوز صرفه إلى الأغنياء على جهة الإطعام، ولا نحسب ما يُطعمه الأغنياء مما يُستَحَب

_ (1) حديث نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل من الأضحية للدّافّة التي دفّت إلى المدينة ثم الإذن فيه وقوله " فكلوا وادّخروا وائتجروا " رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه (فكلوا وتصدقوا، وادخروا) وفي الباب عن جابر، وسلمة بن الأكوع، متفق عليهما، وعن بريدة وأبي سعيد عند مسلم، أما برواية (وائتجروا) فمن حديث نبيشة الهذلي، رواه أحمد، وأبو داود. (ر. مسلم: الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي، ح 1971 - 1977، البخاري: الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزوّد منها، ح 5567، 5569، أحمد: 5/ 75، أبو داود: الأضاحي، باب في حبس لحوم الأضاحي ح 2812، التلخيص: 4/ 265 ح 2408). (2) في الأصل: " وليست ".

التصدق به إذا تصرفنا في الاستحباب، وإذا أوجبنا التصدق بمقدارٍ، فالصدقة على محتاج. 11621 - ثم في بقية الفصل ثلاثة أشياء ببيانها يتم الغرض: أحدها - أنه لو وَهَب من غني شيئاً من الضحية هبة تمليك حتى يتصرف فيه المتهب بالبيع، [وما يراه] (1) الملاك، فالذي يظهر لنا أن ذلك ممتنع؛ فإن الهبة ليست صدقة، والضحية ينبغي أن تكون مرددة بين التطعّم والإطعام، وبين الصدقة. فكأن الأغنياء ضيفان الله على لحوم الضحايا، وللفقراء حظ من الصدقة على وجه، والضيف لا [يوهب] (2)، ولكن يطعم. ولو أتلف المضحِّي شيئاً من اللحم، وقال: إذا كان لي أن آكله، والأكل إتلافٌ، فَلِي أن أُتلفه، فالذي نراه أنَّ ذلك لا يسوغ؛ فإن المضحّي موسَّعٌ عليه في الانتفاع بالضحية، وليس مخيّراً بين الانتفاع والإتلاف. ولو جاز هذا، لكان جوازُ البيع أقربَ منه. وأما التصدّق، فلست أعرف خلافاً أن تمليك الفقير اللَّحمَ تصدُّقاً عليه جائز، ويشهد له قصة بريرة إذ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُرْمةً تفور، فقدم إليه خبز قفار، فقال عليه السلام: " ألم أر البرمة تفور باللحم؟ فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها صدقة على بريرة، فقال: " هو عليها صدقة، ولنا منها هدية " (3). ولو أصلح الطعام ودعا إليه الفقراء وأضافهم من غير تمليك، فقد تمهَّد من أصل الشافعي أن إطعام المساكين في قوله عز وجل: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]،

_ (1) في الأصل: " وما لا يراه " والمثبت من (هـ 4) و (ق). (2) في النسخ الثلاث: لا يهب. والأصل أن الفعل وهب يتعدى لمفعوله الأول باللام، ولا يتعدى إليه بنفسه: تقول: وهبتُ لزيد مالاً. ولا تقول: وهبت زيداً مالاً. ولكن الفقهاء يقولونه. (المصباح) وعليه جاز لنا أن نقول: الضيف لا يوهب لحماً ولكن يطعم. (3) حديث " هو عليها صدقة، ولنا منها هدية " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (البخاري: الهبة، باب قبول الهدية، ح 2577، والزكاة باب إذا تحولت الصدقة، ح 1495، مسلم: الزكاة باب إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم، ح 1074).

تمليك، ولكن قد يخطُِر للفقيه أن الإطعام في كتاب الله مقابل بالأكل؛ فإنه قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28]، فيظهر أن المراد كلوا ومكّنوا البائسين من أكل، وقد ورد في ماثور الأخبار: " النهي عن مأدبة يدعى إليها الأغنياء ويحرم الفقراء "، ولكن هذا ينصر قولَ من لا يوجب التصدق ويوضّحه، فإذا أوجبنا صرف شيء إلى الفقراء، لم ينقدح عندي فيه إلا التمليك. وقد نجز الكلام في أكل من الضحية المنوية المتطوع بها. ولا خلاف أنه لا يحل الأكل من دماء الجبرانات. 11622 - والضحية المنذورة إذا أداها الناذر بالنية، ففي جواز الأكل منها وجهان: أحدهما - المنع؛ من جهة أنها ملتزمة في الذمة، فشابهت دماءَ الجبرانات. والثاني - أن الأكل منها كالأكل من الضحية المنوية، وهذا هو الأفقه؛ فإنه نذرَ الضحية، والضحية يجوز الأكل منها، فلا تتميز المنذورة عن المتطوع بها، إلا من جهة أن الإقدام على الوفاء بالنذر واجب، ولا يجب ذلك دونها. ولو قال: جعلت هذه الشاةَ ضحيةً، ولم يتقدم نذر والتزام، فهل يحل الأكل منها؟ إن قلنا: يحل الأكل من المنذورة المطلقة المصروفة بالنية إلى النذر، فلأن يجوز أكل من المعينة من غير التزام أولى، وإن منعنا أكل من المنذورة، ففي الأكل من المعينة وجهان: والأصح - جواز الأكل؛ فإن اللفظ كما عين المعينة، فالذبح على نية التطوع بالتضحية يعيّن اللحم لجهة الضحية الشرعية، فلا فرق إذاً، وإذا فرضنا تعييناً بعد نذر، لم يخف التصرف بعد الترديدات التي ذكرناها في ترتيب المنازل، وقد نجز الغرض في هذا النوع. فرع: 11623 - إذا ضحى المتطوع وأوجبنا التصدق، فأكل الكل، ففي مقدار ما يغرمه لجهة التصدق وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يلزمه ما يقع الاسم عليه، والثاني - يلزمه الثلث، أو النصف. وهذا عندنا زلل؛ فإن هذا القبيل من الخلاف ذكره الأصحاب فيه إذا حرم المزكي واحداً من المساكين، وصرف السهم إلى مسكينين، وذلك لا يناظر ما نحن فيه؛ فإن

التصدق بالكل حتم، فإذا حرم واحداً ثار منه خلاف، وفي التضحية لا يجب التصدق إلا على واحد بأقل ما يجوز التصدق به، والأصح في الزكاة أنه لا يغرم إلاَّ أقل القليل. 11624 - النَّوع السَّابع - في جهات التصرف في الضحية المتطوع بها، وقد قدمنا القول في الأكل والإطعام والتصدق، فأمَّا البيع، فلا مساغ له في شيء من أجزاء الضحية، ومنع الأئمة أن يصرف جلد الضحية إلى أجرة القصاب؛ فإن ذلك تعويض، وهو ممتنع، وحكى صاحب التقريب قولاً بعيداً منصوصاً للشافعي في جواز بيع جلد الضحية، وصرف ثمنه إلى الجهة التي يصرف لحم الضحية إليه، وهذا بعيد لم أره إلاّ له. ثم ذكر في الجلد كلاماً مستفاداً، فقال: إذا أوجبنا التصدق، واكتفينا بما ينطلق الاسم عليه، فالظاهر أن التصدق بالجلد لا يكفي، وهذا حسن، وفيه احتمال كما ورد جوابه فيه. 11625 - النوع الثامن - في ولد الأضحية: إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فولدت، فولدها بمثابتها، وهو تبعٌ على التحقيق؛ فإن التضحية بالحمل غير جائز على الابتداء، ولكنا قدرنا الولد جزءاً من الأم وسلكنا به مسلكها، ثم ذكر صاحب التقريب فيه كلاماً، فقال: من أئمتنا من جعله كالضحية المنفردة، وفائدة ذلك أنَّا لا نجوّز أكله كله على مذهبٍ كالأم، ومن أصحابنا من قال: هو بمثابة عضوٍ من الأم، فيجوز أكله كله، والتصدق بشيء من الأم، وهذا التردد لطيف حسن. ولبن الشاة المعيّنة بمثابة لحمها لو ضحيت. ولعلّ الظاهر جواز اسعتيعاب اللبن بالتعاطي إذا جوزنا الأكل من لحمها، وقدّرنا أنها ضحية. 11626 - ثم قال الشافعي: " ولو أن مضحيين ذبح كل واحد أضحية صاحبه ... إلى آخره " (1) وهذا مما قدمنا ذكره، إذ قلنا: لو ضحّى الإنسان بضحيةِ غيره، فكيف السبيل فيه؟ والفرْضُ في مضحيين لا يزيد حكماً، فلا نعيد ما قدمناه.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 213.

وقال الشافعي: " وأكره بيع شيء منه، والمبادلة به " (1) وهذا كراهية تحريم، والشافعي والأئمة الماضون كثيراً ما يطلقون الكراهية، ويريدون به التحريم، وهذا من ذلك. ثم قال: " ولا يجوز التضحية لعَبدٍ " (2) وهذا مفرع على الجديد، وهو أن العبد لا يملك بالتمليك، فلا تقع الضحية عنه وإن فرعنا على القديم، فإذا ملكه مولاه شاة، وأذن له في التضحية بها، فيقع التضحية عنه، كما لو أذن له في التصدق. وفي المكاتب قولان إذا أذن المولى مبنيان على تبرعاته. ثم ذكر الشافعي: " أن البقرة تجزىء عن سبعة، وكذلك البدنة " (3) وهو مبيّن مذكور، والشاة لا تقبل الشركة، ولو ضحَّى رجلان بشاتين، وكان لكل واحد منهما النصف من كل شاة، فهذا مختلف فيه بين الأصحاب، وله التفات على إعتاق نصفي عبدين عن الكفارة. فرع: 11627 - إذا اشترى الرجل شاة ونوى التضحية بها، فهي مملوكةٌ بعدُ، ولا أثر للنية المقارنة في إزالة الملك، ثم الّذي قطع به المراوزة أنّ مجرد نية التضحية عند الذبح، أو قبله، على أحد الوجهين، يحقق الضحيّة، ويُوقع القُربة، وهذا ما صححه العراقيون، وحكَوْا وجهاً آخر أن مجرد النية لا يثبت القربة، ثم ذكروا على هذا الوجه وجهين: أحدهما - أنه لا بُدّ من اللفظ، وهو أن يقول: جعلتها ضحيّة. والوجه الثاني - أن اللفظ لا بُدّ منه، أو تقليد الضحية، وهذا بعيد عن مذهب الشافعي. وظاهر كلامهم القطعُ بأن النية مع الشراء لا أثر لها، وإن جوزنا تقديم النية على الذبح، إذا قلنا: النية بمجردها كافية في إيقاع القربة، وهذا الذي ذكروه ظاهر إذا قلنا: البيع لا ينقل الملك بمجرده. وإن قلنا: إنه ينقل، فيقع الكلام في الملك الجائز، فإن البيع لا يخلو عن خيار المجلس، والتنبيهُ في ذلك كافِ، ولا شكَّ أن

_ (1) السابق نفسه. (2) ر. المختصر: 5/ 213. (3) السابق نفسه.

النية بين الإيجاب والقبول لا تكفي، وإنما الذي عَنَوْه بالنية مع الشراء أن ينوى مع الفراغ عن القبول. فرع: 11628 - إذا اشترى الرجل شاة، ولزم ملكه فيها، فقال: جعلتها ضحيةً، فقد تعينت فلو وَجَدَ بها عيباً قديماً يُثبت مثلُه الردَّ، ولا يمنع الإجزاء، فلا سبيل إلى الرَّد، وهو كما لو اشترى عبداً وأعتقه، ثم وجد به عيباً، وله الرجوع بأرش العيب. ثم قال العراقيون: إذا أخذ الأرش، صرفه في مصرف الضحايا، كالذي يفضل من قيمة الضحية. والذي يقتضيه قياس المراوزة أن ذلك الأرش يملكه ولا يلزمه صرفه إلى مصرف الضحية؛ فإن التعيين للتضحية ورد عليها، وهي معيبة؛ فلا ينعكس الاستحقاق إلى ما تقدم، ولا يصح على السبر إلاَّ هذا. ***

باب العقيقة

باب العقيقة 11629 - العقيقة عندنا سنة، وقال أبو حنيفة (1) رضي الله عنه: بدعة. وقال داود (2): هي واجبة. قال الشافعي رضي الله عنه: " أفرط في العقيقة رجلان رجل قال: إنها بدعة، ورجل قال: إنها واجبة " ولعله أراد رجلاً غير داود؛ فإن داود كان بعد الشافعي. ثم لا يُرعى في العقيقة انتظار وقت التضحية، والمستحب ذبح العقيقة في اليوم السابع من الولادة. قال الأئمة: يستحب ذبح العقيقة في السابع، وفيه يستحب أن يحلق رأس الغلام، وفي السابع يسمى المولود، وفي الحديث: " يُعَقُّ عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة " (3)، والشاة الواحدة عقيقة عن الغلام كافية، والمستحب شاتان، وروي: " عن الغلام شاتان مكافئتان " أي تكافىء كل واحدة الأخرى وتماثلها. ومن السنن التي تقام يوم السابع أن يتصدق بزنة الشعر المحلوق فضةً أو ذهباً، وقيل العقيقة اسم لذلك الشعر الذي يكون على الصبي، فسميت الشاة باسم ذلك الشعر، فإن الحاج يحلق ويضحي، والشعر يحلق في السابع، ويتقرب إلى الله بالعقيقة.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 299 وفيه أن العقيقة تطوّع، من شاء فعلها ومن شاء تركها، وانظر مختصر اختلاف العلماء: 3/ 232 مسألة: 1336. (2) ر. المحلّى: 7/ 523. (3) حديث " يُعقّ عن الغلام بشاتين ... " رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها. وأما رواية " عن الغلام شاتان مكافئتان " فهي عند ابن ماجه (ر. الترمذي: الأضاحي، باب ما جاء في العقيقة، ح 1513، ابن ماجه: الذبائح، باب العقيقة، ح 3163، ابن حبان: ح 5286، البيهقي: 9/ 301، الثلخيص: 4/ 268 ح 2415).

ثم دلَّ مضمون الأخبار على أنَ الشاة تُعَضَّى (1)، ولا تكسر عظام الأعضاء، بل تفصل من مفاصلها، وهذا كالفأل بسلامة أعضاء الصبي. ثم يتعين القطع بإجراء العقيقة مجرى الضحية في الأكل من اللحم، والتصدق، وامتناع البيع والاستبدال، واشتراط السلامة المؤثرة في إجزاء الضحية، فلا فرق إلا أنَّ الضحية تتأقت بالأيام الأربعة، والعقيقة يدخل وقتها بولادة المولود، وهذا في التعلق بالسبب بمثابة دماء الجبرانات المتعلقة بأسبابها الموجبة، ثم دماء الجبرانات كالضحايا في اشتراط سلامتها من العيوب المؤثِّرة في الضحايا، إلا في جزاء الصّيد، فإنا نقابل المعيبة من الصّيود بالمعيبة؛ فإن مبناها على اعتبار المماثلة في الصورة. ونعود إلى العقيقة قائلين: إذا أوجبنا التصدّق بمقدارٍ، فيجب إجراء التمليك فيه، وتنزيل الصدقة على اللحم النيَّيء، وأطلق الصيدلاني في مجموعه أنَّ الشاة تعضَّى كما ذكرنا، وتطبخ، ويفرق اللحم طبيخاً مع المرق، وهذا سديد إذا لم نُوجب التصدق، وهو مستقيم فيما لا نوجب التصدّق به. فأما المقدار الذي يجب التصدّق به، فلا وجه فيه إلا ما ذكرته. ومما أجراه أن تفرقة اللحم أولى من دعاء الناس إليه. هذا مقصود الباب. ثم روى الشافعي حديث أمّ كُرز، وتكلم عليه، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن لحوم الأضاحي فسمعته يقول: " عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، لا يضركم ذكراناً كُنَّ أو إناثاً " وسمعته يقول: " أقروا الطير على مَكِناتها " (2). وفي الحديث ما يدل أنها ما افتتحت سؤالها، فانها لو سألت عن لحوم الأضاحي لما كان تفسير العقيقة جواباً لها ولكن جاءت لذلك، ثم سمعت ما سمعت، فلم تبُح بسؤالها وقوله عليه السلام: " أقروا الطير على مَكِناتها " مما اختلف العلماء في تفسيره

_ (1) تعضَّى: تقول: عضَّيت الذبيحةَ بالتشديد إذا جعلتها أعضاءً (مصباح). (2) ر. المختصر: 5/ 214. ومكناتها بفتح الميم وكسر الكاف. المعنى على بيضها. والمكنات في الأصل: بيض الضباب ثم استعيرت للطير. وقيل: المكنات الأمكنة. (النهاية في غريب الحديث: مادة: م. ك. ن).

قيل: معناه النهي عن الصيد ليلاً، كأنه نهى عن ذلك نهي كراهية، وقال لا تنفروا الطير (1) بياتاً. وقيل: أراد النهي عما كانت العرب تفعله إذا أراد أحدهم الخروج إلى سفر، فإنه كان يبكر إلى عش طائر ويهيج الطير، فإن طار يمنة تفاءل وإن طار يسرةً تشاءم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفاؤل والتشاؤم. ثم قال الشافعي رضي الله عنه في بعض كلامه: كانت العرب تلطخ رأس الصبي بدم العقيقة، وهذا مكروه في الدين لا أصل له. والله أعلم. ...

_ (1) هـ 4: " الصيد ".

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة 11630 - قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ... } الآية [الأنعام: 145]. وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]،. تكلم الشافعي على الآيتين، ورأى تنزيل قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} على تحقيق الرد على المشركين الذين كانوا يُبيحون الموقوذةَ، والمذبوحةَ على أسماء الأصنام، والدمَ، ولحمَ الخنزير، فقال تعالى: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً " إلا ما أحللتموه ويشهد لذلك قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ولا يخفى على المنصف أن الحشرات والقاذورات ليست من الطيبات التي أحلها الله، وتخيّرها لمطاعم عباده تكريماً لهم. 11631 - ثم قال الأئمة: فيما يحل ويحرم أصول يُرجع إليها: أولاها - كتاب الله وما يصادف فيه محلَّلاً ومحرَّما. والآخر - سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى ما يصرح بالتحريم والتحليل، وإلى ما يرشد إليه: فأما المصرح من السنن، فهو كنهيه عن أكل كلّ ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلب من الطير؛ فكان ذلك نصّاً منه على تحريم العوادي التي تسمَّى السباع كالأسد، والفهد، والنمر، والذئب، وألحق الأئمة بذلك الدبّ من الوحوش، والفيلة. ونص بذكر ذوات المخالب على تحريم البازي، والشاهين، والعُقاب، وغيرها من جوارح الطيور، وإن كان فيها ما يصطاد سوى ما ذكرناه، فهذا ما يصرّح بالمقصود من السنن. وأما ما يدلّ ويُرشِد، فقد قال الأئمة: إذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل حيوان، دلَّ ذلك على تحريم لحمه؛ من جهة إشعاره باستبقائه، وهذا كنهيه عن

قتل النملة، والنحل، والخطاف والصُّرد، والهدهد. ومما يُرشد أمره بقتل بعض الحيوانات. قالوا: ما أمر بقتله، فالأصل تحريمه، كأمره بقتل الفواسق، لأنه إنما يأمر بقتل المستخبثات التي لا تُقْتنى، ولو كانت مأكولة، لجاز إعدادها واقتناؤها، وتسمينها للأكل. ومن الأصول التي يُرجع إليها في التحليل والتحريم ما يستطاب ويستخبث، وقد رأى الشافعي ذلك الأصلَ الأعظم، وأثبته بقوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}. [لكن الرجوع] (1) إلى طبقات الخلق عسر، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون يوجب اختلاف الأحكام في الحلال والحرام، وهذا يُخالف وضع الشرع في حمل الناس على متبوعٍ واحد إليه يرجعون، وبه يعتبرون، فكان الأقربُ تنزيلَ هذا على ما تستخبثه العرب وتستطيبه، ثم في ذلك متسع؛ فإنَّ العرب ليست أمة عائفة، وليس في مراجعتها ما يؤدي إلى ما يضيّق المطاعم، ولا بُد من حمل قوله سبحانه: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} على الاستطابة، وإلا يؤدي إلى الإجمال، ثم قد نراجَع في حيوان، فالأصل عرضه على هذه الأصول، فإن وجدنا له ثَبَتاً في أصلٍ، حكمنا فيه بموجب ذلك الأصل، وإن لم نجد ثبتاً (2) في التحريم والتحليل، فَمَيل الشافعي إلى أنها على الإباحة إلى أن يلوح محرِّمٌ. وميل أبي حنيفة (3) رضي الله عنه إلى أنها على التحريم إلى أن يثبت محلّل. هذا ذكر الأصول على الجملة. 11632 - ونحن نذكر بطريق التفصيل ما يبيّن ويحوي إن شاء الله تعالى. فنقول: الكلام يقع في أقسام البهائم، والطيور، والحشرات، والجمادات. أما البهائم، فإنها تنقسم إلى الأهلي والوحشي، أما الأهلي من البهائم، فالحلال من جملتها النَّعم

_ (1) عبارة الأصل: " والرجوع إلى طبقات الخلق عسر ". والمثبت عبارة (هـ 4). (2) هـ 4: "سبباً". (3) ر. شرح الأشباه والنظائر لابن نجم: 1/ 223 - 225 وفيه أن الأحناف كالشافعية في هذه المسألة، لكنه أشار إلى أن الشافعية ينسبون إلى أبي حنيفة القول بالتحريم، وهو -كما ترى- ما ذكره الإمام.

والخيل، فحسب. وقيل: كان لحم الحمر الأهلية في ابتداء الإسلام مباحاً فحرم، واستقرّ الشرع عليه، والأحاديث في ذلك معروفة. وأما الوحوش، فيحرم منها كل ذي نابٍ عادٍ من السباع، والضبعُ مباحٌ بنص حديث جابر (1)، والثعلب ملحق به عند الشافعي، وحكى العراقيون في ابن آوى خلافاً، وقطع المراوزة بتحريمه، وترددوا في ابن عرس، فحرمه محرمون تشبيهاً بجنس الفئران، وأحله الأكثرون إلحاقاً له بالثعلب. واختلف الأصحاب في الهرة الوحشية، إن صح أنها جنس من الوحوش، فقد ظن الظانون أنها الهرة الأهلية تستوحش عند انجلاء أهل القُرى، وتتوالد، فإن كان كذلك، فلا شك في التحريم. أمَّا الدُّلدُل (2) فقد كان شيخي يقطع بتحريمه ويلحقه بالخبائث، ولست أعرف فيه أصلاً يُرجع إليه على ثبت. 11633 - أما الطيور، فيحرم كل ذي مخلب منها، ويحرم ما نهى الرسول عن قتله، كالخَطاف، والصُّرَد، وورد النهي عن قتل الهدهد، وقد نصّ الشافعي على أنه مفدّى بالجزاء في حق المحرم، وكل ما يفديه المحرم، فهو حلال الجنس، فتردد الأصحاب في تحليله لما نبهنا عليه. والبُغَاثة ألحقها الأصحاب بالحدأة، وهي ذات مخلبٍ ضعيف ولكنها حرية بأن تلحق بالحدأة. والنسور (3) ملحقة بالعقبان، وإن قيل: إنها لا تصيد، فانها ذات مخلب. وأما الغربان فقد عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفواسق، وقد ذكرنا أن

_ (1) حديث جابر في إباحة أكل الضبع رواه الشافعي وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارمي، وابن الجارود، والدارقطني، وابن حبان، وقد صححه الألباني في الإرواء. (ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/ 173 ح 609، أبو داود: الأطعمة، باب في أكل الضبع، ح 3801، الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء في أكل الضبع، ح 1791، النسائي: الحج، باب ما لا يقتله المحرم، ح 2836، والصيد والذبائح، باب الضبع، ح 4323، الدارمي: 1942، المنتقى لابن الجارود: ص 115، الدارقطني: 2/ 246، صحيح ابن حبان: 3965، الإرواء: 8/ 145). (2) الدُّلدُل: حيوان شائك قارض من آكلات الحشرات، وهو نوع من القنافذ (المعجم). (3) هـ 4: " والنسور والعقبان، وإن قيل: إنها لا تصيد ... ".

الفواسق محرمة، فأجمع الأصحاب على تحريم الأبقع منها، وظهر التردد في تحريم غراب الزرع، والذي ذكره المعتبرون إلحاق الأسود الكبير بالأبقع، وفي طريق العراقيين طرد الخلاف فيما عدا الأبقع، وغراب الزرع منها غُبرٌ ليست كبيرة، ومنها المحمّرة المناقير والأرجل، وهي خارجة عن الخلاف. وجنس الحمام حلال، والزرزور ملحق بالعصفور، وطير الماء حلال، والصَّعْوة (1) من العصافير. فهذا ما إليه الرجوع في الطائر، ولا يخفى تحليل النعام؛ فإنها مَفْديةٌ بالبُدْن، فأما اللَّقْلَق؛ فقد كان يتردد فيها شيخنا، وميله الأظهر إلى تحليلها، وإلحاقها بالكَرَاكِيّ. 11634 - وأما الحشرات، فمحرمات، ما يدرج منها وما يطير، والضبُّ مستثنى من جملتها، وهو حلال أَكَلَه خالدُ بنُ الوليد على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه (2)، وتردد الأئمة في أم حُبَيْن (3)، وفي أخبار الجزاء أنها مفدية بحُلاّن (4)، وما يُفْدَى محلل الجنس، وكان شيخنا يقول: ما أراها إلا ولد الضب، ولا ينبغي أن تُتَخَيَّل من العظاة؛ فإنها مستخبثة. والفئرانُ من الفواسق، وهي محرمة: الكبير منها والصَّغير، وظاهر المذهب، تحليل اليربوع، وهو مفدَّى في أخبار الجزاء، وألحق أئمتنا السمّور والسنجاب

_ (1) الصعو: صغار العصافير، الواحدة صعوة، مثل تمر وتمرة، وهي حمر الرؤوس، وتجمع الصعوة أيضاً على صعاء: مثل كلبة وكلاب (المصباح). (2) حديث أكل خالد بن الوليد الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه (ر. البخاري: الأطعمة، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل حتى يُسمى له فيعلم ما هو، ح 5391، وكتاب الصيد والذبائح، باب الضب، ح 5537، مسلم: الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، ح 1945، التلخيص: 4/ 279 ح 2439). (3) أم حُبين: دويبة كالحرباء عظيمة البطن، منتنة الريح (المصباح، والنهاية في غريب الحديث). (4) الحُلاّن: وهو الحلاّم (فالميم والنون يتعاقبان): والحلاّم هو الجدي، وقيل: إنه يقع على الجدي والحمل حينما تضعه أمه. (النهاية من غريب الحديث).

وما في معناهما بابن عُرس، وقد ظهر ميلنا إلى إلحاقهما بالثعلب. وذواتُ الأجنحة من الحشرات كالذباب محرمة، ولا يخفى تحليل الجراد وفي الصّرَّارة (1) تردد، والأظهر إلحاقها بالخنافس والذِّبّان، وفي الأصحاب من ألحقها بالجراد، وهذا مزيف لا تعويل عليه. وأما السلحفاة، فهي من المستخبثات، والقنفذ مما تردد الأصحاب فيه، وقد روي: " أن ابن عمر رضي الله عنه سُئِل عنه، فأباحه، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، فقام شيخ في القوم، وقال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها من الخبائث " فقال: إن قال، فهو كما قال " (2) وهذا يشعر بتردد منه في قبول رواية ذلك الشيخ. وقد استقصينا الكلام في الحيوانات المائية في آخر الصَّيد. 11635 - أما الجمادات، فالنجس منها حرام، والطاهرات منها تنقسم إلى مستقذر وإلى غير مستقذر. فأمَّا ما لا يُستقذر، فينقسم إلى السموم وغيرها، فأما السموم؛ فإنها محرمة؛ من جهة أنها قتالة، ومتعاطيها ساعٍ في إهلاك نفسه، فلو تصوَّر شخص لا يضره تعاطي السم، فلا يحرم عليه، وغير السموم مباحة، وأما المستقذرات الطاهرة كالمني والمخاط، وما في معناهما، فالمذهب تحريمها وحكي عن أبي زيد قال: هذا استقذار، وليس بتحريم. وقد انتهت مجامع المذهب فيما يحل ويحرم.

_ (1) الصرّارة: الصرَّار على فعّال مثقل، ما يصرّ: أي يصوّت، ونقل أبو عبيد قال: الصرى طائر يصرّ بالليل، ويقفز ويطير، والناس تظنه الجندب، والجندب يكون في البراري. (المصباح). (2) أثر ابن عمر في أكل القنفذ رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، قال الخطابي في معالم السنن: " ليس إسناده بذاك "، وقد ضعفه البيهقي. (ر. المسند 2/ 381، أبو داود: الأطعمة، باب في أكل حشرات الأرض، ح 3799، معالم السنن: 4/ 157، البيهقي: 9/ 326، التلخيص: 4/ 286 ح 2462. وضعفه في إرواء الغليل: 8/ 144).

فصل معقود في الجلالة 11636 - وهو كل حيوان يتعاطى العَذِرة والأعيانَ القذرة، وهو مباح في جنسه، فإن لم يظهر أثر ما يتعاطاه على اللحم، ولا تَبينُ فيه رائحةٌ مستكرهة، فالحيوان (1) حلال. وإن ظهرت الرائحة الكريهة على اللحمَ، فالمذهب تحريم اللحم، وفيه آثار تدل على التحريم، ولا تعويل على الاستكثار من النجاسة والاستقلال منها، وإنما التعويل على ظهور الرائحة، وذلك يبين عند الذبح. والزروع إذا زُبِّلت بالزِّبل ودُمّلت (2) بالعُرَّة (3)، فقد يقدّر نمو الزرع من الأعيان النجسة، ولا أثر لذلك؛ من جهة أن أثر النجاسة لا يظهر. وحكى الصيدلاني وجهاً عن طريقة القفال أن لحم الجلالة لا يحرم، وإنما يكره، وهذا ما قطع به العراقيون. ثم قال الصيدلاني وغيره: إذا رأينا تحريم الجلاّلة، فلو منعت من تعاطي القاذورات، ورُدت إلى العلف النقي، فقد يزول ما بلحمها من أثر النجاسة، فإذا طاب لحمها، عادت إلى الحل باتفاق الأصحاب؛ فإن جنسها مستباح، وإنما التحريم بسبب ظهور أثر النجاسة، وإذا زال الأثر، فالحلُّ مستمر. ولو ذبحت الجلالة، وقد نَتُن لحمها، فطبخ اللحم، وأزيلت الرائحة الكريهة، فلا تحل، وأثر الاغتذاء لا يزيله إلا الاغتذاء بالعلف الطيب في الحياة، والطرق متفقة على ذلك في التفريع على تحريم الجلالة. ولو ذبحت الجلاّلة، ووقع الحكم بتحريم لحمها، فقد قال الصيدلاني: يطهر جلدها بالدباغ؛ فإن جلدها لا يزيد على جلد الميتة، فإن قيل: هلا حكمتم بطهارة

_ (1) هـ 4: " فهو حلال " (2) دُمّلت: من قولك: دمَّلتُ الأرضَ إذا أصلحتها بالسرقين. (المصباح). (3) العُرّة: القَذَر. (المعجم والمصباح).

جلدها بالذكاة قياساً على جلد الشاة المسمومة؟ قلنا: إن ظهرت الرائحة على الجلد، فهو محكوم بنجاسته على المذهب الأصح، نازل منزلة اللحم، وإن لم تظهر الرائحة على الجلد، وإنما ظهرت على اللحم -وهذا بعيد عن التصور- فإن تصوّر ذلك، احتمل أن يقال: يطهر الجلد بالذكاة، كما يطهر جلد الشاة المسمومة. ثم إن ظهرت الرائحة، ووقع الحكم بالنجاسة، فلو شمّس الجلد أو تُرِّب، فالرائحة تزول بهذه الأسباب، فلا يقع الحكم بالطهارة، كما لا يطهر اللحم بالقلي، وإن زالت الرائحة؛ فإن النجاسة التي تثبت مع الذكاة لا يزيلها إلا الدباغ الشرعي كما عرف وصف الدباغ. فخرج (1) من مجموع ما ذكرناه أنه إذا وقع الحكم بنجاسة اللحم، نظر في الجلد، فإن ظهرت الرائحة عليه، حكم بنجاسته، ثم لا يطهره إلا الدباغ، وإن لم تظهر الرائحة على الجلد، ففيه تردد ظاهر مأخوذ من كلام الأصحاب، والأظهر الحكم بالنجاسة؛ لأنه جزء من اللحم مأكول على المسموط، فالحكم الواقع للحم ثابت له، وفيه الاحتمال الذي ذكرناه. 11637 - ثم ذكر الأصحاب كلاماً في بيع الأشياء النجسة، وتفصيل الانتفاع بالنجاسات، وذكروا من جملتها الاستصباح بالزيت النجس وتصور غسله [وكل ذلك] (2) مما تقصيناه في كتاب البيع والصّلاة، والقول في صحة البيع وفساده مذكور في كتاب البيع، والتعرض لكيفية غسل الزيت النجس، وتردد القول في إمكان غسله مذكور في كتاب الصلاة. ...

_ (1) هـ 4: " فقد خرج ". (2) زيادة من (هـ 4).

باب كسب الحجام

باب كسب الحجام 11638 - كسب الحجام حلال، ولو امتنع الاكتساب به مع مسيس الحاجة إليه، لجر ذلك ضراراً عظيماً، ولأفضى الأمر إلى احتياج ذوي المروءات إلى تعاطي ذلك لمسيس الضرورات، وتفاوت الناس في الدرجات مع اشتمال نفوسهم على القناعة بها مما منَّ الله تعالى به على عباده، في سياق قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] الآية. وقد صَحَّ: " أن أبا طيبة كان يحجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الرسول عليه السلام يعطيه أجرته " (1) ونقلُ جواز ذلك تكلّفٌ، ولكن وَرَد في الخبر والأثر ما يدل على الكراهية. وروي: " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام، فنهاه، فراجعه، فقال: أطعمه عبيدك، وأعلفه ناضحك " (2) وروي: " أن عثمان رضي الله عنه سأل رجلاً عن معاشه، فذكر كسب حجام أو حجامين، فقال عثمان: إن كسبكم هذا لوسخ " (3) وعن أحمد بن حنبل أنه قال: " هو حرام على الأحرار وإنما يطعم العبيد وتعلف الدواب به، كما ورد في الخبر " (4).

_ (1) حديث " أن أبا طيبة كان يحجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. (البخاري: البيوع، باب ذكر الحجام، ح 2102. مسلم: المساقاة، باب حلّ أجرة الحجام، 1577). (2) حديث " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ... " رواه مالك، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث محيصة، ورواه أحمد عن جابر (ر. الموطأ: 2/ 974، أبو داود: الإجارة، باب في كسب الحجام، ح 3422، الترمذي: البيوع، باب ما جاء في كسب الحجام، ح 1277، ابن ماجه: التجارات، باب كسب الحجام، ح 2166، المسند: 5/ 435، التلخيص: 4/ 292 ح 2466). (3) أثر عثمان رضي الله عنه في النهي عن كسب الحجام رواه الشافعي في اختلاف الحديث، باب كسب الحجام ص 557، وعنه المزني في المختصر ص 286. (4) قول أحمد عن كسب الحجام أنه حرام على الأحرار، قال ابن قدامة في المغني: وليس عن=

وحظ الفقه (1) من الباب أن الاكتساب بهذا وإن كان حلالاً، فلا ينبغي للإنسان أن يرغب فيه مع قدرته على نوعٍ آخر من الكسب، ولو لم يكن فيه إلا مجانبة المروءة، لكان في هذا مَقْنع في تثبيت الكراهية، وما ذكرناه لا يختص بكسب الحجام، بل تعاطي القاذورات ومخالفة المروءات كلها بهذه المثابة. ...

_ =أحمد نصّ في تحريم كسب الحجام ولا الاستئجار عليها وإنما قال: نحن نعطيه كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ونقول له كما قال النبي عندما سئل عن أكله، نهاه وقال: " أعلفه الناضح والرقيق " ... ويتعين حمل نهيه على الكراهة دون التحريم. (ر. المغني: 6/ 136، الإنصاف: 6/ 48، كشاف القناع: 4/ 13). (1) هـ 4: " الفقيه ".

باب ما لا يحل أكله، وما يجوز للمضطر من الميتة

باب ما لا يحل أكله، وما يجوز للمضطر من الميتة (1) 11639 - أكل الميتة حرام على المختار، وليس محرماً على المضطر. والميتة هي البهيمة التي ماتت من غير اتصال ذكاة شرعية بها، فلو ذكاها من ليس من أهل الذكاة، فهي ميتة، ومن أحاط بالأصول التي قدمناها، لم يحتج إلى تفصيلٍ في ذلك. وإذا ذُكيت الأم ذكاةً مبيحة، وكان في بطنها جنين، فالجنين مستحَلّ، لا كراهية في أكله، والمعتمد في تحليله الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري، قال: " قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها جنيناً، فنلقيه أم نأكله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوه؛ فإن ذكاة الجنين ذكاةُ أمه " (2) ثم الجنين في الحل والحرمة يتبع الأم، وإن كان لا يختلف حاله: ذكيت الأم أو وُقذت. ولو بقر بطن الأم بعد الذكاة والجنين في حركة المذبوح، فهو حلال، وإن كان فيه حياة مستقرة، فلا بد من ذبحه. وكان شيخي أبو محمد يقول: لو كان الجنين لا يحل بذكاة الأم، لما جازت ذكاة الأم مع ظهور الحمل، كما لا تقتل المرأة قصاصاً وفي بطنها ولد، فأُلزم عليه ذبحَ رَمَكة (3)

_ (1) هـ 4 (ق): " باب ما يحلّ ". ونسخة الأصل هي الموافقة لمختصر المزني الذي التزم الإمام ترتيبه. (2) حديث أبي سعيد الخدري المرفوع عن ذكاة الجنين وأنها ذكاة أمه، رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، وقد صححه الحافظ بمجموع الطرق (ر. الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء في ذكاة الجنين، ح 1476، أبو داود: الضحايا، باب ما جاء في ذكاة الجنين، ح 2827، ابن ماجه: الصيد، باب ذكاة الجنين ذكاة أمه، ح 3199، ابن حبان: ح 5889، الحاكم 4/ 114، الدارقطني: 4/ 274، التلخيص: 288/ 4 ح 2464). (3) الرمكة: وزان رقبة: الأنثى من البراذين تتخذ للنسل. (المصباح والمعجم).

في بطنها بغلة، فمنع ذبحها (1)، وهذا محتمل. وما ذكره رضي الله عنه ظاهر. 11640 - فإذا نجز هذا، خضنا بعده في تفصيل مقصود الباب، فنذكر الضرورة التي يجوز استباحة الميتة بسببها، ثم نذكر ما يستباح عند الضرورة، فلا خلاف أن الحاجة لا تكفي، والجوع المفرط، وإن انتهى إلى السغب لا يبيح المحرّمَ، وأطلق الفقهاء الضرورة، وفسّروها بخوف الموت، وهذا التفسير مستقيم حسن، ولكن الغرض لا ينكشف بهذا المقدار. وقد فصَّل المحققون على وجه آخر، فقالوا: إن كان يخاف من ترك الأكل الموتَ، أكل، وإن كان يخاف من ترك الأكل مرضاً يخاف منه الموت لا لطوله ولكن كان جنسه مخيفاً، فيسوغ أكل الميتة، وإن كان يخاف من ترك الأكل مرضاً طويلاً، ثم طولُه وتماديه يفضي إلى الخوف، ففي استباحة الميتة -والحالة هذه- قولان، وهذا ترتيب حسن. ويخرج من مجموعه أنا لا نشترط العلم بالموت لو ترك الأكل، بل غلبة الظن كافية، والدليل على ذلك أن المكره على أكل الميتة يأكلها إذا ظن وقوعَ ما به التخويف به، ولا يشترط أن يعلم هذا، فإنه لا مطلع على الغيب. وجملةُ جهات الإكراه مستندها ظنٌّ غالب. فخرج منه أنه إن ظنّ الموت، أو ظنّ مرضاً يظن منه الموت، فيستحلّ، وإن خاف مرضاً طويلاً والخوف في طوله، فليس الخوف هاجماً، وإذا طال المرض، لم يبعد علاجه، وإنما المخوف الأمراض الحادة. ولا حاجة مع ما نبّهنا عليه إلا إلى مزيدٍ به التمام، فنقول: لا يشترط أن ينتهي إلى حالة يكون فيها مشرفاً على الموت؛ إذ لو أشرف عليه، لم ينعشه الطعام، ولم ينجع فيه ما يتعاطاه، فينبغي أن نبيح له الأكل وهو على حالة لو أكل [لاستبلّ] (2) وانتعش،

_ (1) وجه الإلزام أن الرمكة مأكولة، ولكن البغل الذي في بطنها غير مأكول، ففي ذبحها إتلافٌ لما في بطنها. فالتزمه الشيخ أبو محمد، ومنع ذبح الرمكة التي في بطنها بغل. (2) في النسختين: " لاستقلّ ". والمثبت من المحقق على ضوء المألوف من عبارات الإمام، والمناسب للسياق.

وإذا لم يكن من هذا بد، فلا يكون المضطر مشرفاً على الموت، بل يكون مشرفاً على الإشراف على الموت لو لم يأكل، فهذا بيانٌ كامل في الضرورة ومعناها. ثم الذي ذهب إليه المحققون أن الضرورة إذا تحققت، وجب أكل الميتة، وما ذكرناه من الاستحلال جريانٌ منا على ما يتداوله الفقهاء فيما بينهم ومن [دأبهم] (1) إذا ذكروا ما يحرم، ثم طرأت حالة تناقض التحريم، عبروا عن نفي التحريم بالحل، وإلا فالواجب لا يوصف بالحل. وذكر العراقيون ما ذكرناه، واختاروه، ثم ذكروا وجهاً غريباً أنه يجوز للمضطر أن يمتنع عن أكل الميتة، ويستسلم للمهلكة، وزعموا أن هذا يُخرَّج على أحد القولين في جواز الاستسلام. وهذا بعيد جدّاً، ووجهه على بعده أن المضطر قد يتردد في درك حد الضرورة، فلا يأمن أنه لم ينته إليها، ولا يزال كذلك حتى يموت، أو يقع في حالة لا ينجع معها أكلُ الميتة، ولو اتفق ذلك لا يحل أكل الميتة؛ فإنه غير ناجع، وأكل الميتة إنما يحل لدفع الضرورة، فيكون تردد صاحب الضرورة في أمره كتردد من صال عليه إنسان في القدر الذي يدفعه به، مع حكم الشارع بوجوب الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع. 11641 - ثم يتنشأ من هذا المنتهى أمر تناهينا في تقريره في كتاب الأشربة، وهو الكلام في التداوي بالنجاسات، ووجه ربطها بهذا المنتهى أن الضرورة إذا وقعت وغمض (2) مُدرك اندفاعها بتعاطي النجاسة، فهل يحل تعاطيها، أم كيف السّبيل فيها؟ فقد تقرّر هذا على أحسن وجه، والخمر حيث تستيقن [لدفاع] (3) الضرر كالميتة، فإن من غُصّ بلقمةٍ، ولم يكن معه ما يُسيغها، فوجد جرعة من خمرٍ؛ فإنه يتعاطاها. والوجه البعيد الذي حكيته عن العراقيين في أن تعاطي الميتة لا يجب، لا يخرج هاهنا عندي؛ فإني وجهت ذلك الوجه بالتردد في دفع الضرر، وإساغة اللقمة معلومة وإن

_ (1) في الأصل: " ومن دوابهم ". (2) هـ 4: " وعسر". (3) في الأصل: " اندفاع ".

كان لا تسوغ إلا بتبلع الخمر أيضاً. هذا ما أراه، ولا تفريع على الضعيف. وإن كنا لا نستيقن اندفاع الضرر بتعاطي الخمر، فعند ذلك ذهب الجمهور إلى منع استعمال الخمر [علاجاً] (1) وقد ذكرت هذا؛ فلا أعيده. ومن انتهى به العطش إلى الضرورة، تعاطَى الخمرَ؛ فإنها تُسكِّن العطش، ولا يكون استعمالها في حكم العلاج. ومن قال: الخمر لا تُسكِّن العطش، فليس على بصيرة، ولا يعد مثل هذا مذهباً، بل هو غلط ووهم آيلٌ إلى الحس، ومعاقر الخمر يجتزىء بها عن الماء. 11642 - فأما الكلام فيما يستباح عند الضرورة، فالأشياء النجسة إذا كانت تدرأ الضرورة، تستباح عندها، وإن تحققت الضرورة، ووقع النظر في اندفاعها عند استعمال النجاسة، وقع الكلام في العلاج، وقد تقدم شرحه. ويجوز تعاطي ميتة الآدمي، وإن تُعبدنا باحترامها؛ فإن مهجة الحي أولى بالاحترام من جثة الميت. ولا يجوز للمسلم المضطر أن يقتل ذمياً ويأكله، لأنه معصوم الدم على التحقيق، وكذلك المعاهد، ولا يجوز له أن يأخذ طعامهما في حالة الضرورة، وهما مضطران إليه، وله أن يقتل حربياً ويأكله، وكذلك القول في الزاني المحصن، والمرتد، وتارك الصلاة، ومن تعين عليه القتل، وكنا نمنعه من تعاطي قتل هؤلاء تفويضاً إلى الإمام، وتعلقاً بتعظيمه، وهذا القدر لا يستقلّ بإثارة التحريم عند تحقق الضرورة. ولو وجد حربية، وهو مضطر، فالظاهر عندنا أنه يقتلها ويأكلها؛ فإنَّ منع قتلها في غير حالة الضرورة ليس لحرمة روحها؛ بدليل أن قاتلها لا يلتزم الكفارة، بخلاف قاتل الذمي والمعاهد. ولا يقتل السيد المضطر عبدَ نفسه؛ لأنه يلتزم الكفارة بقتله، والعصمة ثابتة له عن السيد قطعاً. ولو أراد المضطر أن يقطع فِلقة من نفسه ليأكلها ويسدَّ بأكلها رمقه، نظر: فإن كان

_ (1) في الأصل: " عاجلاً ".

يتعرض بذلك القطع لما هو متعرض له في ضرورته أو لخوفٍ أشد منه، فليس له ذلك، وإن كان لا يظهر الخوف في القطع، ففيه وجهان: أحدهما - لا يجوز ذلك، كما لا يجوز أن يقطع فِلقة من غيره في مثل هذه الصورة، وهو معصوم. والثاني - يجوز؛ لأن حرمة بعضه ثابتة لحرمة نفسه، فإذا قصد تداركَ الجملة بالبعض، فهو قريب من مصالح الشرع، وليس هذا كقطعه من غيره؛ فإن الغير ليس منه، وهو معصوم عنه، [وما يُفرض] (1) من القطع مما يوجب القصاص لو أفضى إلى الهلاك. وليس للإنسان أن يقطع من نفسه فِلقة ويؤثر بها رفيقَه المضطر. 11643 - ومما يستبيحه المضطر مالُ الغير، فله أن يأكل عند الضرورة طعامَ الغير، إذا لم يكن صاحبه مضطراً؛ فإن منعه صاحب الطعام، فله أن يغالبه عليه، ثم ينتهي الكلام بينهما إلى الأصل المشهور في أنه في قصده محقٌّ، وصاحب الطعام في منعه مبطل، فلو تناوشا قصداً ومنعاً، فأدّى ما يجري بينهما إلى هلاك صاحب الطعام، فهو هدر؛ فإنه مقتول بحق. ولو أدى المنع إلى هلاك القاصد، فهو مضمون بالقصاص؛ من جهة أنه مقتول ظلماً. ولو كان صاحب الطعام حاضراً، وكان لا يدفع عن طعامه، فلا شك أن الذي يقتضيه أدب الشرع أن يستأذن، وهل يشترط ذلك في الاستباحة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يشترط؛ لأنه إنما يظهر اشتراط الإذن، حيث يقدّر التحريم لو عدم الإذن، وإذا كان هذا الطعام مأخوذاً على كل حال، فلا معنى لاشتراط الاستئذان فيه. والوجه الثاني - أنه يجب الاستئذان، ويحرم الطعام دونه، كما لو ظفر الرجل بمال من يستحق عليه الدين، فليس له أخذه ما لم يظهر له امتناعُ مَنْ عليه الدين من أدائه، فإذا امتنع أو كان غائباً، فقد يتسلّط على أخذه. ولو قال صاحب الطعام: أنا أبيع منك طعامي هذا، نُظر: فإن باعه بثمن المثل، فلا يأخذه إلا بالبيع، وإن باع بثمن غالٍ، فهل له أن يأخذ قهراً؟ قال الأئمة: له

_ (1) في الأصل: " وما تعرض ".

ذلك؛ فإن الزيادة على الثمن لا تنضبط وقد يبيع -لو فتحنا هذا الباب- ما يساوي درهماً بألف أو أكثر. ولو تمكن من سلب الطعام منه قهراً، فاشترى منه بالثمن الغالي، فالبيع صحيح، وإن لم يمكنه أن يقهره، فاشترى بالثمن الغالي، هل يكون مكرهاً، حتى لا يصح الشراء؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه لا يكون مكرهاً، وهو الأقيس، لأنه لم يجر إكراه حقيقي على البيع، بل حَمَله على الإقدام عليه ضرورةٌ ناشئةٌ منه. والوجه الثاني- أنه مكره؛ لأنه لا محيص له من طلب الطعام، ولا وصول إليه إلا بالابتياع، فهو محمول عليه قهراً، والمصادَرُ إذا باع على الضرورة (1) لدفع الضرار الذي يناله، ففي صحة البيع الخلاف الذي ذكرناه. وقد يظن الظان فرقاً من جهة أن الإرهاق على المصادَر من جهة مطالبة، والضرورة في المضطر ناشئة من جبلته، وهذا قد يوجب ترتيب مسألة على مسألة، ولكن صاحب الطعام بالامتناع عن البذل بثمن المثل في حكم المصادر، ومع هذا يبقى خيالُ الفرق. 11644 - ولو اضطر الإنسان، فأوجره صاحب الطعام طعامَه، فهل يستحق عليه قيمتَه، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يستحق؛ لأنه لم يوجد من الموجَر المضطر طلبٌ، ولا تناول. والوجه الثاني - أنه يرجع عليه بالقيمة، لأنه خلصه عن الهلاك، فصار كما لو عفا عن القصاص، وفي إثبات القيمة له تحريض على تدارك المضطرين، وفي إحباط طعامه منع لذلك. 11645 - فأما الكلام في المقدار الذي يتعاطاه المضطر من الميتة، فالوجه أن ننقل ما ذكره الأصحاب، ثم نجري على عادتنا في البحث، ذكر الأئمة ثلاثة أقوال في

_ (1) في (هـ 4): " على المصادَرة " والمعنى: " أن المصادَر من جهة السلطان الظالم إذا باع ماله للضرورة، ولدفع الأذى الذي يناله في صحة هذا البيع الخلاف الذي في صحة شراء المضطر الطعام بأكثر من ثمنه، والأصح: صحة البيع؛ لأنه لا إكراه على البيع، ومقصود الظالم تحصيل المال من أي جهة كان " ا. هـ نقلا عن النووي بتصرفٍ يسير، حيث نقل كلام الإمام وزاده بسطا وإيضاحاً. (ر. الروضة: 3/ 287).

المقدار الذي يتعاطاه المضطر: أحدها - أن يقتصر على سَدِّ الرمق، ومعناه أن ينتهي إلى حالة لو كان عليها في الابتداء، لما جاز له الإقدام على أكل الميتة، ووجهه أن الضرورة تزول بما وصفناه، والتمادي في أكل الميتة مع زوال الضرورة بعيد، وكل لقمة يتعاطاها في حكم أمرٍ منشأ يبتديه، والإقدام من غير ضرورة على ابتداء أكل الميتة بعيد. والقول الثاني - أنه يجوز له أن يشبع من الميتة، وتوجيه هذا عسر على هذا الترتيب إلى أن نبيّن وجه الحق، ثم هذا القائل لا يعني بالشبع أن يمتلىء حتى لا يبقى للطعام مساغ، ولكن إذا انكسرت سورة الجوع بحيث لا يطلق عليه اسم جائع، فينتهي وينكف. والقول الثالث - أنه إن كان في مهمهٍ بعيدٍ عن العمران، فيشبع، ليقطع المهمه، وإن كان يقرب من البلد، فيقتصر على سد الرمق. 11646 - هذا ما أطلقه نقلةُ المذهب، واعتقدوا المسألة مختلفاً فيها، وجَروْا على سجيتهم في توجيه قول على قول، والذي يجب القطع به عندنا أنه إذا صار في دوام أكل إلى حالةٍ لو كان عليها في الابتداء، لما جاز له الأكل من الميتة، فلا يجوز والحالة هذه تجويز استدامة الأكل، ومن تخيّل فرقاً، فليس على حظٍّ من الفقه، وحق الإنسان أن يرد فكره وطلبه إلى المَيْز بين ما يمكن تقدير الخلاف فيه، وبين ما يجب القطع به، فالوجه أن نقول: أكلُ الميتة إنما أثبت للخلاص، وليس سبيله كسبيل الترفّه والتلذذ، أو كسبيل طلب الزيادة في الأَيْد والقوة، ثم يجب أن يتصور الناظر ما منه الخلاص؛ فإذا فهمه على وجهه، فهم الخلاص. فلسنا ننكر أن الموت مما يتعلق به الفكر في المعنى المطلوب، وقد أوضحنا في الفصل الأول أنا لا نشترط العلم بالموت ووقوعِه لو فرض تركُ الأكل، بل يكفي الظن، فهذا ما قدمناه، وفصّلناه، ونحن نضم إلى ما تقدم ما لا بد منه، ولا يتم الكلام إلا به فنقول: ظن الموت إذا وقع على وجهه، فصَدَرُه (1) عن معرفةٍ بأسباب

_ (1) هـ 4: " نصدر".

الموت وعلاماته، وربما لا يحصل الظن على هذا الوجه إلا لأفرادٍ يرجعون إلى حاصلٍ في الأَعْلال، وفي علامات الحال، وفيما يشير إليه من متوقّعات المآل، فما أرى الظن على هذا الوجه شرطاً، وبعد ذلك أمران يجب الإحاطة بهما: أحدهما - أن الظن قد يستند إلى مبادىء الأمور من غير بصيرة، فإذا فرض مثله، وجب القطع بجواز تعاطي الميتة، فإنَّ البصيرة في ذلك يختص بها خواص الناس، فلا نُهْلِك عوامهم بسبب الخلو عن البصيرة. هذا أحد الأمرين. والثاني - أنَّ الظنّ من ضرورته أن يميل فيه العقد إلى أحد المعتقدَيْن، ويترجح تعلقه به على تعلقه بالثاني، وهذا يستدعي سبباً لا محالة؛ فإنَّ الظنَّ لا يغلب من غير سبب، فلو اعترض حال، وكان صاحبها يجوّز أداءها إلى الموت، إن لم يأكل الميتة، ويجوّز السلامة، ولم يترجح أحدُ المعتَقَدين على الثاني، فالتردد مع ما جبلت النفوس عليه من حب البقاء يجرّ خوفاً، وهذا الخوف لا مستند له من ظن، فالذي أراه القطع بأنه يجوز لمن هذا وصفه أن يأكل الميتة، وهذا شخص لم يعلم إفضاء ما به إلى الموت لو ترك الأكل، ولم يظن أيضاً، والرأي إطلاق الأكل له؛ فإنا لو منعناه من الأكل حتى يعلم أو يظن، فربّما يهلك في تربّصه، وطلبِه العلمَ أو الظن، ومحاماة الشرع على المُهَج عظيمة. فإن طلب طالب تلقِّي هذا من قول المشايخ، فهو صريح في كلامهم، فإنهم جوّزوا أكل الميتة عند الخوف من الموت، وهذا خائف حقاً، والأكل منوط بالخوف، وقد ظهر اختلاف القول في أن من رأى سواداً فحسبه عدواً، وصلى صلاة الخوف، ثم تبيَّن له أن الأمر على خلاف ما ظنه، فهل يلزمه القضاء، والذي نحن فيه ليس من ذلك القبيل؛ فإن أثر البناء على حقيقة الحال في إيجاب قضاء الصلاة، ومثل هذا لا يفرض في المُهَج؛ فإنّها إذا فاتت، لم تستدرك، بل ما نحن فيه يناظر جواز الإقدام على الصلاة راكباً إذا ظهر الخوف، وذاك لا خلاف فيه، إنما الخلاف في وجوب القضاء، وإذا جوزنا الإقدام على أمر، ولم يكن بعده مستدرك، فليس إلاَّ الحكم بالإباحة. فإذا تبيّن ما ذكرناه، فالإقدام في الابتداء موقوف على العلم، أو على الظن، أو

على الخوف؛ فإن انقطعت هذه الأسباب في دوام الأكل، فلا يجوز أن يكون في تحريم التّمادي خلاف. 11647 - وقد يطرأ وراء ذلك كلِّه أمرٌ آخر، وهو أن هذه الأسباب لو انقطعت، وكان الرجل في مهمهٍ لا يملك بما أكله قدميه، ولا يستقل في جَوْب البرّية، وهذا يجر خوفاً آخر؛ فإذا كان يخاف من البقاء في البرّية الهلاكَ من وجه من الوجوه، فليأخذ من الميتة ما يقوّيه على الخلاص من الهلاك، ولا يجوز أن يكون في ذلك خلاف، ولا يجوز أن يكون في هذا فرق بين الابتداء والدوام. ولو لم يكن عليه في المقام خوف من جهة، ولكن علم أنه لو اقتصر على ما يزيل الخوف، لما استقل، وسيعود إلى الخوف، ثم يأكل على الحد الأول، ثم يعود كذلك، حتى يستنفد الميتة، ثم يضيع، ويهلك، فهذا يُحوج إلى مزيد تفصيل: فإن كان الحاضر من الميتة بحيث يزيل خوفه مرتين، ولا يقيم أودَه، ولا يُقلّه، ولو تعاطى جميعه، لاستقلّ ومضى، فلا يجوز أن يكون في هذه الصورة خلاف أيضاً، والوجه أن يستوعب ويستقلّ وينهض. وإن كان الحاضر من الميتة بحيث يكفي لسد الرمق مراراً، ويفضل في الكرة الأخيرة ما يفيد الإقلال والاستقلال، وكان يخطر له معونة -على بعد- وطروق طارق لو اقتصر على سد الرمق، وكان الظاهر أن يحتاج إلى عودات إلى الاستيعاب، فهل يأخذ في أول الأمر أكلةً يستقل بها ويمضي، أم يقتصر على سد الرمق حتى ينتهي إلى مقدار أكلة مقلّة؟ هذا موضع التردد: يجوز أن يقال: يأخذ أكلة ويستقل، ولا يبني على توقع طارق على بعد، ويجوز أن يقال: يقتصر على سد الرمق، فعساه يتخلص، ثم إذا لم يبق إلا أكلة مقلة، فيجب القطع بأنه يتمادى فيها؛ فإنه لو قطعها، لفاته الاستقلال، فهذا منتهى البيان في ذلك. ولست أدري على ماذا تحمل الأقوال المطلقة المحكية عن الأصحاب، ولا يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما رتبناه، ونزّلناه، وما نصَّ الشافعي على قولين، ولا على أقوال مجموعة، ولكن نظر الناظرون في تردُّدٍ صادفوه في كلامه، فحسبوه ترديد قول، وإنما هو ترديد حال.

11648 - ثم إن الأصحاب ذكروا طرقاً في وجدان الرجل طعاماً مملوكاً للغير، فقال قائلون: نقطع بأنه يقتصر منه على سدّ الرمق؛ فإن الحق فيه للآدمي، والحق في تحريم الميتة لله تعالى، وحق الله على المساهلة. ومنهم من قلب الترتيب، وقال: يزيد على سد الرمق في الطعام المملوك للغير؛ فإنه مباح الجوهر، ولا يفوت حق الآدمي من المالية، ومنهم من أجرى الأقوال [كلها] (1). وكل ذلك تخليط ما لم يُنَزَّل على الترتيب الذي ذكرنا، حتى إذا انتهى الترتيب إلى صورةٍ قدرنا فيها خلافاً، فيجوز أن يختلف الرأي في طعام الغير على حسب ما نقلناه. فرع: 11649 - إذا وجد المضطر ميتة وطعامَ الغير، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يتعاطى طعامَ الغير. والثاني - أنه يتعاطى الميتة، والوجهان مأخوذان من التردد الذي حكيناه للأصحاب في ترتيب المذهب، وهما مستندان إلى القول في اجتماع حق الله وحق الآدمي. والوجه الثالث - أنهما يستويان، والمضطر بالخيار فيهما، وهذا يخرج على مذهب للأصحاب في أنه إذا اجتمع دَيْنُ الله ودَيْنُ الآدمي، فهما مستويان لا يتقدم أحدهما على الثاني، وهذا يُخَرَّج على مذهب من أجرى الخلاف في طعام الغير على حسب إجرائه في الميتة. 11650 - ولو كان المضطر مُحْرِماً وقد استمكن من صيد، وبالحضرة ميتة، قال الأئمة: إن قلنا: المحرِم لو ذبح صيداً يكون ميتة، وفيه قولان مشهوران، فهاهنا حق عليه أن يجتزىء بالميتة، ولا يذبح الصيد؛ فإنه لو ذبحه، لكان ميتة، وهو يحتاج في التوصل إلى تحصيل هذه الميتة إلى ارتكاب محظور القتل. وإن قلنا: الصيد لو ذبحه المحرم، فهو ذكية، وإن كانت محرّمة على المحرِم، فقد قال الأصحاب: الميتة والصيد على هذا القول بمثابة الميتة وطعام الغير، وهذا فيه نظر؛ فإنّ التردّد أي في طعام الغير من جهة تردد النظر في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي، وهذا المعنى مفقود في هذه الصورة؛ فإن الحق في الصيد لله تعالى، ولو كان قَتَل المحرمُ قبل الضرورة صيداً، فاضطر ولحم الصَّيد عتيدٌ، وعنده ميتة،

_ (1) زيادة من (هـ 4).

فلا يجوز أن يكون في تقديم الصَّيد على الميتة خلاف، إذا كان التفريع على أن الصَّيد ليس بميتة، فإذا كان الصَّيد حيّاً، بقي النظر في أن الميتة مجزئة سادَّة أو مقلّة، وهو يحتاج في الصيد إلى قتلٍ هو من المحظورات، فإن كان يفرض تردد، فمن هذه الجهة، وهو عندي باطل أيضاً؛ فإن قتل الصيد مع التزام الجزاء محتمل إذا كان التفريع على أنَّه ذكية وليس بميتة. ولو وجد طعام الغير وصيداً، وهو محرِم، فقد قال الأصحاب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه يتعاطى طعام الغير، ويجتنب قتل الصّيد. والثاني - أنه يقتل الصَّيد، والتفريع على أنه لا يصير ميتة، وهذا الخلاف ينقدح تخريجه على اجتماع حق الله وحق الآدمي، ويظهر فيه التخيير تخريجاً على التسوية بين حق الله وحق الآدمي. وإن فرعنا على أن الصيد يصير ميتة بذبح المحرِم، فيقع هذا في اجتماع الميتة وطعام الغير، مع زيادة ارتكاب القتل، ثم بعده وصول إلى الميتة، وهذا يخرج أيضاً على الأوجه الثلاثة على نسق قريب مما تقدم. ولو وجد المحرِم صيداً وطعامَ الغير وميتةً، فلا يكاد يخفى تخريجُ هذه المسألة على الأصول التي ذكرناها، ولكن إذا انتظم في شيئين ثلاثةُ أوجه، فإذا صوّرنا اجتماع ثلاثة أشياء، جرى فيها أوجه زائدة، وقد [بلغت] (1) سبعة: وأصولها أنا نقول في وجهٍ: الميتة أولى، وفي وجهٍ الصَّيد، وفي وجه طعام الغير، فهذه الأوجه هي الأصول، ثم يتفرع جهات من الخِيرة، فنقول: وفي وجه هو مخَيّر بين الميتة ومال الغير، ويترك الصَّيد، وفي وجه هو مخيّرٌ بين الصيد ومال الغير ويترك الميتة، وفي وجهٍ يتخير بين الصيد والميتة، ويترك مال الغير، وفي وجهٍ يتخير بين الكل. وهذا سهل المدرك على من أحكم الأصول. وقد انتجز القول فيما يتعاطاهُ المضطر على مساق في الإيجاز والبيان لا يعهد مثله. ...

_ (1) في الأصل: " بلغ " وفي (هـ 4): " تبلغ ".

كتاب السبق والرمي

كتاب السبق والرمي 11601 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سبْق إلاَّ في خُف أو حافر أو نصل " (1). والسبْق المال الذي يُخرج في [مقابلة] (2) المسابقة والمناضلة. والسبْق بسكون الباء مصدر سَبَقَ. والسَّبَقُ بفتح الباء بالإضافة إلى السبْق بسكونها قريبٌ من القبْض والقبَض والنَّقْض والنقَض والخَبْط والخَبَط، وإن لم [يكنه] (3). ومذهب الشافعي أن المالَ المخرج -على تفاصيلَ ستأتي مشروحة إن شاء الله- مستحق بالسبْق والنضْل، وخالف في ذلك أبو حنيفة (4) رضوان الله عليه وأرضاه في رواية مشهورة، ولا شك أنه راغم (5) الأخبار الصحيحة، وروي أنه قال بأصل المعاملة، واختار أنها جائزة، وهذا قريب، وهو قولُ الشافعي (6)، وللكتاب ركنان: أحدهما - المسابقة، والثاني - المناضلة. وقد صدر الشافعي الكتاب بالمسابقة، وذكر أصولها، ثم اندفع في المناضلة وأحكامها، ولا يكاد تتمحض واحدة عن الاستشهاد بالأخرى، ونحن نحاول الجريان

_ (1) حديث " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل " رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، والحاكم من حديث أبي هريرة، ونقل الحافظ تصحيحه عن ابن القطان، وابن دقيق العيد، وصححه الألباني في الإرواء. (ر. الأم: 4/ 229، المسند: 2/ 474، أبو داود: الجهاد، باب في السبق، ح 2574، الترمذي: الجهاد، باب ما جاء في الرهان والسبق، ح 1700، النسائي: الخيل باب السبق، ح 3585، ابن ماجه: الجهاد، باب السبق والرهان، ح 2878، التلخيص: 4/ 297 ح 2480، إرواء الغليل: 5/ 333 ح 1506). (2) في الأصل: " معاملة ". والمثبت من (هـ 2)، ومختصر العز بن عبد السلام. (3) في الأصل: " نكبته ". (4) ر. بدائع الصنائع: 6/ 206، الفتاوى الهندية: 5/ 324، حاشية ابن عابدين: 5/ 258. (5) هـ 4: " خالف ". (6) في (هـ 4): " قولٌ للشافعي ".

على ترتيبه بعد أن نُمهِّد أصلاً فيهما يتعلق ببيان الخبر والاستنباط منه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سبْق إلا في خُف أو حافر أو نصل " وأراد بالخُفّ الإبل، وبالحافر الخيل في ظاهر ما يظن، وأراد بالنصل السهم في ظاهر الظن، والمعنى الذي تخيله الأصحاب التحريض على تعلم الفروسية والرماية كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، قيل: القوة هي الرَّمي. ولا غَناءَ في إعداد القسيّ والسهام مع الخُرق، وعدم العلم بكيفية الرماية، وكذلك لا غناء في إعداد الخيل من غير معرفة بالفروسية، فالإعداد يُشعر بالتوصّل إلى ما لا غنى عنه في التعلم، فهذا ما ذكره الأصحاب. ثم لا خفاء بأن الإبل معيّنة، وهي ذات الخفاف، والخيل كذلك، وهي ذات الحوافر، فيجوز المسابقة على الإبل، ويجوز على الخيل، وتفارق الإبل الخيلَ في استحقاق السهم في المغنم؛ فإن استحقاق السهم لا يتحقق إلا بالخيل، نعني الزائد على سهم الرجّالة، واستوت الخيل والإبل في جواز المسابقة عليها، وهذا قد يختلج في الصدر؛ فإن المسابقة عليهما [قد أثبتتهما] (1) عدتين للقتال، ولكن لا مطمع في تقريب أحد الحكمين من الثاني، ولا خلاف بين الأصحاب في افتراق القاعدتين. والممكن في الفرق أن الخيل متهيئة (2) للانعطافات التي هي عماد القتال، وبها يتم الكر والفر والتدْاور، وسهم القتال يليق بعُدد القتال، وليس في الإبل ما أشرنا إليه، وإن كان فيها غناءٌ على حال، وما فيها كافٍ في التحريض على تعلم ركوبها وإجرائها. 11652 - ثم يطرأ في التفريع ما يندرج تحت الاسم ويوجد فيه المعنى، وما لا يندرج تحت الاسم ويوجد فيه المعنى، وما لا يندرج ويبعد عن مسلك المعنى. وهذه الأقسام نبتديها بعد شيئين: أحدهما - الاكتفاء بجنس الخيل وجنس الإبل، وإن لم يكن فيما يقع التسابق عليه كثير عَدْوٍ وركْض؛ تعويلاً على الجنس،

_ (1) في الأصل: " فإن المسابقة عليهما أثبتا عدتين للقتال " و (هـ 4): " قد أثبتتا ". وما في اللفظ من تصرفٍ هو من عمل المحقق. (2) هـ 4: "متهيبة".

وقد نسلك هذا المسلك في جنس الخيل في استحقاق السهم. هذا أحد الأمرين. والثاني - أنا نظن ظنّاً غالباً أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يُرد بالحافر إلا الخيل وبالخُفّ إلاَّ الإبل. فإذا تَمَهَّدَ هذا قلنا: الفِيَلة ذوات خفاف، وقصْدُ القتال فيها ظاهر، ولكن من حيث يبعد أنها خطرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذُكر الخُفَّ، ذكر الأصحاب فيها خلافاً، وقالوا الأصح جواز التسابق عليها؛ لاندراجها تحت الاسم واشتمالها على المعنى المطلوب، والمسابقة على البغال والحمر على الاختلاف، وهي أبعد من الفِيَلة، من جهة المعنى، فإنها لا تُغني غناء الخيل في القتال، وإنما المطلوب (1) منها تعلم الرِّكبة والهيئة في الثبات، وهذه الصفات هي الأصول، وقد لا يتأتى الهجوم على ركوب الخيل دون تعلم ما ذكرناه على الحمر والبغال، ولا شك أنَ ما ذكرناه بالإضافة إلى ركوب الخيل يخالف غَناء الفيلة بالإضافة إلى الإبل، ولكن اسم الحافر يتناول الحمر والبغال، فاقتضى ما ذكرناه ترتيب الحمر والبغال على الفيلة، ووجه الترتيب ما نبهنا عليه. وقد ذكرنا في استحقاق السَّهم قولين في الفرس الرَّازح (2) الذي ليس فيه إلا الشهود والإرعاب، ولا يبعد على مذهب تتبع المعنى أن يجري مثله في المسابقة، فإن كانت الخيل معيّنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر الحافر هاهنا ذكر الفارس ثَمّ، واسم الفرس (3) يشتمل الجنس. فهذا وجه التصرف فيما يدخل تحت الاسم لغةً مع غلبة الظن، [بأنه] (4) لم يخطر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذْ أطلق لفظه في الخُف والحافر. والترامي بالزانات والمزاريق بالإضافة إلى السّهام يقرب من الفيلة بالإضافة إلى

_ (1) هـ 4: " المقصود ". (2) الرازح: الهزيل. (المصباح). (3) هـ 4: " الفارس ". (4) في الأصل: " فإنه ".

الإبل، وهي دون الفيلة إذا نسبت إلى الإبل، إذا قُدِّرَ نسبتُها إلى السَّهم، وفوق الحمر إذا نسبت إلى الخيل، وإنما ألحقناها بالسهام لاندراجها تحت اسم النّصل الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما يخطر للإنسان في إمكان قصد التعميم عدول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل والخيل إلى الخف والحافر، وهذا في النصل أظهر؛ فإنَّ الكناية عن الإبل والخيل في الخف والحافر أشهر من الكناية عن السهام بالنصل. وقد نجز القول في مرتبة من المراتب الثلاث التي ذكرناها. 11653 - فأمَّا المسابقة بالأقدام وبالزواريق في الماء، فإنَّها خارجة عن الإرادة المظنونة، وعن الاسم من طريق اللفظ، ولكن تخيل الأصحاب إلحاقَ ذلك من طريق المعنى بالخف والحافر، وأظهروا خلافاً، وهو مرتب على ما يقع في المرتبة الأولى، وهذا أولى بألا تصح المعاملة فيه من جهة خروجه عن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان شيخي يقرب التدْوَارَ بالسيوف من النصال، ويحرص على أن يدرجها تحت الاسم؛ فإن اسم النصل يتناول السيف، كما يتناول الزانات ولا يخفى غَناءُ السيف، فهو الآلة الكاملة في لسان أهل النجدة. وهذا الذي ذكره ظاهر في الغَناء، ولكن يبعد إدراج السيوف تحت اسم النصل المطلق. والترامي بالأحجار والمقاليع يقع في المرتبة الثانية؛ فإنها على غناء ظاهر، وليست تدخل تحت الاسم. 11654 - وأما ما يقع في المرتبة الثالثة، فهو بمثابة التسابق على الطيور والحمامات الهادية وهي خارجة عن الاسم، وغناؤها نزر، وإذا تكلفناه، أشرنا إلى الكتب وفيها نقل الأخبار في الاستنفار. فهذا بيان قواعد المذهب. وألحق شيخي الصراع بالمرتبة الثانية وهو عظيم الوقع عند تَواخُذِ (1) الرجال في

_ (1) تواخذ الرجال: المعنى عندما يأخذ الرجال بأعناق بعضهم البعض عند التحام القتال.

ضيق العناق، وقيل: هو الأصل الطبيعي، والسكين نِفَارٌ (1) منه، والسيف نِفَارٌ من السكين، والرماح نِفارٌ من السيف، وبعدها الرمي. وأنواعُ القسي ملحقة بالنصول (2) لا تردد فيها، كالجروخ (3) والنازك (4) ورمي المسلات والإبر، ولئن شذت مسألة بالضوابط التي ذكرناها ننبه عليها. 11655 - ونحن نختتم الكلام بسؤال وجواب عنه، فإن قيل: من أدخل من الأصحاب كلّ ما فيه غناء في القتال تحت جواز المعاملة قياساً على المسابقة والمناضلة فكيف اعتذاره عن ضبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقسيمه المُدار بين النفي والإثبات؛ إذ قال: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل "؟ وهذا السؤال واقع سيّما على من أجرى الخلاف في المرتبة الثالثة، ثم الممكن فيه أنه أخرج كلامه عليه السلام على الغالب المعتاد، وقصد التنصيص على المعظم من آلات الجِدّ، لنفي (5) ما عداها من التقامر على الهُزء واللعب، وما لا خير فيه، والعلم عند الله، وقد تمهد الأصل المطلوب، ونحن نعقد بعده فصلاً في السَّبَق ومن يخرجه ومن يستحله.

_ (1) النفار: النفور والفرار والفزع، والمعنى: أن الأصل في القتال هو الصراع (المصارعة) ثم فزعاً منها كان اللجوء إلى السكين، وفزعاً من السكين كان السيف؛ فهو أبعد عن الخصم، ثم نفاراً من السيف كان الرمح، ثم يأتي الرمي. والغرض من هذه العبارة وهذا الترتيب إثباتُ جواز السبق في المصارعة، فإنها الأصل في القتال. حمداً لله جل وعلا، فقد رأينا ابن الصلاح في مشكل الوسيط فسر العبارة بهذا التفسير عينه ثم عقبه بقوله: " فاعرف الكلمة (نِفار)؛ فإنها قد خفيت، وصحفت في النسخ بوجوه من التصحيف أضاعت المعنى " ا. هـ (ر. مشكل الوسيط بهامش الوسيط: 7/ 176). (2) هـ 4: " بالمنصوص، لا مردّ فيها ". (3) الجروخ: من أدوات الحرب ترمى عنها السهام، والحجارة، مشتقة من جرخ، ومعناها الفلك، وتطلق على جميع الآلات التي تدور، كالدولاب والبكرة، وغيرهما، ومنها جرخ بالكردية والتركية (ر. معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة). (4) النازك: النيزك، وهو الرمح القصير، فارسيٌّ معرّب، وتكلم به الفصحاء في الجاهلية (اللسان، والمصباح، والمعجم) وهي في (ق): (الناوك) وهو أيضاً بنفس المعنى، واستعمله الغزالي في الوسيط. (5) هـ 4: " ليبقى ".

فصل 11656 - السبَق هو المال المخرج، ثم يفرض فيه ثلاث صور: إحداها - أن يُخرج الإمامُ من مال المصالح ما يراه، ويقول للمتسابقَيْن وللمتناضلَيْن: من سبق منكما أو من فاز بالنضال، فله هذا المال، فهذا جائز على هذا الوجه، لا خلاف فيه، ولا حاجة إلى فرض محلِّل؛ فإنَّ جملة المتسابقين والمتناضلين على صورة المحلِّل، فإنَّ المحلل من يستحق لو فاز، ولا يُستَحق عليه لو تخلف، وجملتهم بهذه المثابة. 11657 - ولو أخرج المال واحدٌ من عُرض (1) الناس، وقال: من سبق منكم، أو فاز، فهذا المال له، فذلك جائز وفاقاً، [كما يجوز] (2) من الإمام، وهذان الوجهان لا خلاف فيهما على المذهب. ثم نذكر حكماً من أصول الكتاب متعلقاً بهذين القسمين، ثم نذكر القسم الثالث، ونذكر ما يليق به. فإذا شرط من يُخرج السبَق جميع المال للسابق، جاز، وهو الأصل، وإن شرط بعضه للسابق، وبعضه للمصلِّي وهو الذي يلي السابق، نظر: فإن شرط الكل للمصلي، فالمذهب أن ذلك باطل، لوجهين: أحدهما - أنَّ المطلوب السبْق، والآخر - أن السبَق مأخوذ من السبْق وهو لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مشعر بالسبْق. ومن أصحابنا من قال: يجوز شرط السبَق بكماله (3) للمصلي، لأن ضبط الفرس في شدة العدو على مقام المصلّين حِذقٌ في الفروسية. وهذا الوجه ضعيف، وقد يؤدي إلى أن يطلب كل واحد الانخناس، فلا يحصل الغرض من الركض. ولو قسم مخرج السبَق المالَ على السابق والمصلّي، وجعل نصيب السابق أكثر، فالمذهب الذي قطع به معظم الأئمة جواز ذلك، ووجه المصلحة فيه لائح. وذكر

_ (1) عرض الناس: بضم العين وسكون الراء: عامتهم. (2) في الأصل: " كما لا يجوز ". والمثبت من (هـ 4)، و (ق). (3) هـ 4: " الأكثر ".

صاحب التقريب وجهاً آخر أن ذلك لا يجوز والسبَق للسابق، فإذا شرط لغيره، لم يصح، ولم يستحقه. فإذا كان ما شرط للمصلّي أكثر مما شرط للسابق، فهو كما لو كان الكل مشروطاً للمصلي، ولو سوَّى بين السابق والمصلِّي (1) في الترتيب، كان كما لو فضّل المصلي على السابق. وكل ما ذكرناه فيه إذا اشتمل مكان التسابق وهو المسمى الحَلْبة على فرسانٍ، فلو كان يتسابق رجلان فالمصلي فِسْكِل (2)، ولا خلاف أنه لا يجوز تخصيص الفِسكِل بالسبَق، فإنما التردد الذي ذكرناه فيه إذا اشتمل المكان على السابق والمصلّي وغيره. ولو كان يرى مُخرج المال فضَّ ما أخرجه عليهم على التفاضل، والفضل للسابق، ثم للمصلي ثم للذي يليه، هكذا، فالأصح جواز ذلك إلا فيمن يأتي فِسْكِلاً؛ فإن في صحة اشتراط شيء له -وإن قل قدره- خلافاً بين الأصحاب متجهاً، فمنهم من منع؛ فإن أحداً لا يعجِز عن مقام الفِسكِل، فقد يكتفي بالقليل ويضن بفرسه، فيتخلف، ومنهم من جوّز، لأنه على حال يتعب ويدأب، فلا يبعد ألا يخيب على قدر كدِّه وجهده (3). فخرج من مجموع الترتيب أن الفِسكِل لا يخصص بالسبَق، ولا يفضّل على متقدمٍ عليه، ولا يسَّوى بينه وبينه وفاقاً، وصرْفُ (4) شيءٍ إليه على شرط أن يكون أقل من حصص كل سابق عليه ففيه الخلاف. ويجوز تخصيص السبَق بالسابق، بلا خلاف، فإذا أُثبت للمصلِّي شيء، والفضل للسابق، فالمذهب الجواز، وفيه شيء بعيد حكاه صاحب التقريب.

_ (1) المصلّي: فسره الإمام بأنه الذي يلي السابق، ونزيد التسمية وضوحاً، فنقول: سُمي المصلي لأنه يأتي ورأسه عند (صلا) السابق. والصلا: وزان العصا: هي مغرز الذنب من الفرس. ومن هنا قيل للذي يلي السابق المصلي (القاموس. والمصباح). (2) الفِسْكِل: بكسر الفاء والكاف: الفرس يجيء آخر الخيل (المصباح). (3) هـ 4: " وحدّه ". (4) هـ 4: " وفي صرف ".

وإن خصص المصلِّي بالكل أو بالأكثر، أو سوى بينه وبين السابق، فالمسألة على الخلاف، والأقيس المنع [وإن] (1) اشتهر الخلاف. ولو فرض ما ذكرناه في الثالث الذي يسمى التالي، أو الرابع الذي يسمى المُرتاح (2)، فهو على الخلاف، على شرط ألا يكون فِسْكِلاً. وقد تَمَّ المرادُ فيما قصدنا إلحاقه. 11658 - والقسم الثالث في إخراج السَّبَق أن يُخرج أحد المتسابقين مالاً، وهذا يفرض على وجهين: أحدهما - أن يكون المخرِج أحدَهما، على تقدير أنه إن سبق أحرز ما أخرجه، وإن سبقه صاحبه، فاز بالمال. والقسم الثاني - أن يخرج كل واحد منهما مالاً على تقدير أن من سبق أحرز ما أخرجه، واستحق ما أخرجه صاحبه. فأما الصورة الأولى في القسم الثالث، فهي مجوّزة بلا خلاف، فإن من لم يخرج يستحق، ولا يُستحق عليه، وهذا هو المعتمد في تصحيح المعاملة، وسبب اعتماده أنه يخرجها عن صور القمار؛ إذ ليس فيها استحقاق على هذا [النّسق] (3). فأما الصورة الثانية من القسم الثالث: وهي أن يخرج كل واحد منهما مالاً، ويقع التشارط على أن من سبق أحرزَ ما أخرج، واستحق ما أخرجه صاحبه، فهذا قمار باطلٌ لا خلاف فيه. فلو أدخلا بينهما ثالثاً، وشرطا أنه إن سبق، استحق المالين، فهذا هو المحلِّل، ثم يُنظر: فإن وقع الشرط على تخصيص المحلّل بالاستحقاق إن سبق، وعلى ألا يستحقَّ أحدُهما مالَ صاحبه، بل لا يستفيد بسبقه، إلا إحراز ما أخرجه، فهذه المعاملة جائزة وفاقاً، وهي على حكم الصورة الأولى من القسم الثالث، وهو إذا أخرج أحدهما المال دون الثاني، فلا فرق بين أن يُخرج رجل واحد وبين أن يُخرج رجلان إذا كان المستحِق من لم يُخْرجِ.

_ (1) في الأصل: " فإن ". (2) المُرتاح: بضم الميم: الفرس الخامس من خيل الحلبة (كذا في المعجم الوسيط، وجعله الإمام الرابع). (3) في الأصل: " السبق "، والمثبت من (هـ 4).

فلو [وقع] (1) التشارط على أن المحلِّل إذا سبق، استحق السبَقَين [وإن سبق] (2) أحد [المُسبِقَين] (3) أحرز ما أخرج، واستحق ما أخرجه صاحبه، ففي جواز المعاملة على هذا الوجه قولان: أحدهما - أنها تصح على هذا الوجه، ويجب الوفاء بالشرط؛ لأن الغالب في تعامل الناس هذا. فإن قال قائل: يجب تخصيص المعاملة بغرض (4) التعليم والتعلّم، وهذا يحصل بأن يكون أحدهما مسبَّقاً (5). قيل: التسابق قد يجري بين المتكافئين، بل يشترط أن [يكونا] (6) متقاربين، كما سيأتي شرح ذلك في الفرسين، والراميين، فإذا كانا متكافئين، لم يسمح أحدهما أن يخرج المال دون الثاني، فهذا يؤدي إلى تعطيل المعاملة، ولكن إذا لم يكن محلِّل، كانت المعاملة على صورة القمار، وإن تخلل المحلِّل، مالت المعاملة عن مضاهاة القمار؛ إذ ليس في جنس القمار دخول محلل. والقول الثاني - أنه لا يجوز تقدير استحقاق كل واحد منهما على صاحبه؛ فإنه لو اتفق سبق أحدهما، كان استحقاقه على صورة القمار، فوجب تخصيص الشرط بالمحلِّل إذا أخرج كل واحد [منهما] (7) مالاً، وعبّر الأئمة عن القولين بعبارة تصلح للضبط والتحقيق فيما قدمناه، فقالوا: " المحلل يحلِّل لنفسه، أم يحل لنفسه وللمستبقَيْن إن فرض السبق من أحدهما"؟ فعلى ما ذكرنا من القولين.

_ (1) في الأصل: " يقع ". (2) في الأصل: " فإن ". (3) في الأصل، و (ق): " المسنبقين " وفي (هـ 4) بها أثر تصويب ويغلب على الظن أنها " المستبقين " وهو خطأ فإن المراد أحد اللذين أخرجا السبَقَ، فهما مُسبقان. أما صفة الاستباق، فيشاركهما فيها المحلل. وهذا واضح يدرك بشيء من التأمل. وقد نبه إليه ابنُ الصلاح في مشكل الوسيط (ر. 7/ 179). (4) هـ 4: " بفرض ". (5) المسبّق: مثقّل: اسم مفعول، وهو الذي يسبقه غيره كثيراً. (المصباح). (6) في الأصل: " أن يكون ". (7) زيادة من (هـ 4).

11659 - ثم إذا فرض [مُسبقان] (1) ومحلِّل، فيقع التسابق على صورٍ (2)، وأحكامها تتلقّى من الأصل الذي قدمناه، وقد يتعلق التفريع بأمر (3) آخر يتعلق باللفظ، ونحن نذكر المراد في صورة ثم نخوض في التفاريع: فإذا قيل: لا سبَق إلا للمحلِّل، وقد أخرج المُسْبقان ماليهما، فسبَقَ أحد المُسْبقين، وصلّى (4) المحلِّل وجاء المسبق الثاني فِسكِلاً، فالسابق يحرز [ما أخرجه] (5)، ولا يستحق (6)، وهل يستحق المحلل سَبَق الفِسكِل؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يستحق؛ فإن السبَق للسابق، والسابق هو الذي ليس مسبوقاً، والمحلِّل مسبوق بأحد المُسْبِقَين، فخرج منه أن المُسْتقَيْن أحرزا سَبقَيهما، الأول لسبْقه، والثاني لأن المحلل مسبوق بالأول. والوجه الثاني - أن المحلل يستحق سبَق المُسْبِق الفِسكِل؛ لأنه جاء سابقاً له، متقدماً عليه، فهو بالإضافة إلى الفِسكِل سابق. وهذان الوجهان مأخوذان من مطلق شرط السبَق للسابق، فرجع التردد إلى موجب اللفظ، وما ينشأ من الخلاف عن الأصل الأول يرجع إلى الفقه والحكم، وهو أن المُسْبق هل يستحق مال صاحبه؟ أم يختص بالاستحقاق المحلِّلُ؟ 11660 - ثم تتفرع الصور، وتتركب الوجوه المختلفة من هذين الأصلين، والغرض يبين بثمان صور: فإذا تسابق مُسْبقان ومحلِّل، نظر: فإن أتَوْا الغاية معاً على التساوق: من غير سَبْق، فلا استحقاق، وقد أحرز كل مُسْبق [ما أخرجه] (7). هذه صورة.

_ (1) في النسخ الثلاث: " مستبقان " وقد تكرر هذا الخطأ في بعض المواضع، وسنقوم بتصويبه حيثما وقع بدون أن نشير إلى ذلك في الحاشية. (2) هـ 4: " صورة ". (3) هـ 4: " بأصل آخر ". (4) صلّى: أي جاء ثانياً، وهو المصلّي، كما شرحنا سابقاً. (5) زيادة اقتضاها السياق، وصرح بها الغزالي في البسيط. (6) ولا يستحق: أي لا يستحق السبَق؛ لأنهما شرطا أن السبَق للمحلل. (7) في الأصل: " ما أحرزه ".

والثانية - أن يسبق المحلِّل، ثم يأتي المسبقان وراءه متساوقين، فالمحلل يأخذ السبَقين. والثالثة - أن يأتي المسبقان معاً، ثم يأتي المحلل، فلا استحقاق؛ وقد أحرز كل واحد [ما أخرجه] (1). الرابعة - أن يسبق أحد المُسبقين، وتلاه الثاني، وجاء المحلل فِسْكِلاً، فيحرز السابق ما أخرجه، ويخيب المحلل، وهل يستحق السابق ما أخرجه صاحبه؟ فعلى قولين ذكرناهما في الأصل الأول. الخامسة - إذا سبق المحلل، وتلاه أحد المستبقين، وجاء الثاني فِسكِلاً، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنَّ المحلل يستحق السبَقَيْن؛ فإنه سبقهما جميعاً، وهذا هو الأظهر. والثاني - أن المحلل يستحق سبَق المصلّي، والمصلّي يستحق سَبَق الفِسكِل؛ فإنه سابقه، وهذا ضعيفٌ لا أصل له، فإنه وإن كان سابقاً للفِسكِل، فالمحلل أيضاً سابقٌ له، فلا معنى لتخصيص سَبق الفسكل بالمصلي. والوجه الثالث - وهو أمثل من الثاني - أن سَبق الفِسكِل بين المحلل والمصلي، وهذا رديء أيضاً؛ فإن فيه تسوية بين السابق والمصلي أخذاً من مطلق اللفظ، وهذا لو صُرح به، كان بعيداً، فما الظن بالتلقي من مطلق اللفظ؟ فخرج من ذلك أن المحلل يستحق سبَق المصلي بلا خلاف، وفي سبَق الفِسكل أوجه: أصحها - أنه للمحلل، ويلي ذلك أنه بين المحلل والمستبق الذي جاء مصليّاً. والثالث - أنه للمصلي، وهذا ساقط لا اتجاه له. والسادسة - إذا جاء المحلل مع أحدهما متساوقين والآخر فِسكِلٌ. فإن قلنا: المحلل يحلّل المال لنفسه، فالسبَق له، وإن قلنا: إنه يحلّل لنفسه وللمستبق فسبَقُ الفِسكِل بينهما؛ فإنهما سابقان. السَّابعة - إذا سبق أحدهما، ثم جاء المحلّل مع الآخر معاً، فلا يستحق المحلّل شيئاً، وهل يستحق المستبق السابق سَبق صاحبه؟ فعلى قولين.

_ (1) في الأصل: " ما أحرزه ".

الثامنة - إذا سبق أحدهما، وصلى المحلل، وجاء الآخر فِسكِلاً، فقد أحرز (1) السابق ما أخرج. وفي سبَق من جاء فسكلاً أوجه: أحدها - أنه للسابق، وهو على قولنا أن المُسبق يستحق السبَق، وعلى حملنا للسْبق على حقيقته. والوجه الثاني - أنه لا استحقاق [وهذا] (2) يَخرجُ حسناً على قولنا: لايستحق المُسْبق السبَق، والمحلِّل مسبوق، وليس بسابق، فينقطع الاستحقاق عنهما (3). والثالث - أن سبَق الفِسكِل بين السابق وبين المحلل فإنّ كُل واحد منهما سابق للفسكل، وهذا يخرج على تحليل السبَق للمسْبق وعلى أن المصلّي له حكم السبْق بالإضافة إلى الفِسكِل، وهذا الطريق ضعيف. وفي المسألة وجه رابع، وهو أن سَبَقَ الفِسكِل للمحلِّل، وهذا ضعيف؛ فإنا نثبت له حكم السبق وهو مسبوق، وله خروج إذا ضُمَّ إليه أن المُسْبِق لا يستحق شيئاً، فكأنه لا أثر لسبقه في الاستحقاق، فإنما أثره في الإحراز. وهذا بيان الصور ويتهذب [به] (4) ما قدمناه من الأصول، ونحن بعد ذلك نعقده فصلاً في جواز المعاملة ولزومها. فصل 11661 - ظهر اختلاف القول في أن المعاملة التي الكتاب معقود لها جائزة أم لازمة؟ أحد القولين - أنها جائزة كالجعالة، والثاني أنها لازمة كالإجارة، ثم اختلف طرق الأئمة في تنزيل القولين، وبيان محلهما، فقال الإمام شيخي وطبقة من الأئمة لو كان المُسْبِق (5) أحدَهما، فالعقد لا يلزم في جانب من لم يضع سبَقاً أصلاً قولاً واحداً، ومهما (6) أراد أن ينكف، فلا معترض عليه؛ فإنه المستحِق ولا يُستحق عليه، وهذا

_ (1) هـ 4: " فقد أخرج ". (2) في الأصل: " هنا ". (3) فيبقى للمتسابق الثاني الذي جاء فسكِلاً ما أخرجه. (4) زيادة من (هـ 4). (5) المُسْبِق: الذي يعطي السبق. (6) مهما: بمعنى إذا.

كما أنَّ العقد يكون جائزاً من جانب المرتهن والمكاتب، فإنما القولان في حق من وضع السبَق لو أراد الامتناع بعد العقد، ورام الفسخَ، فهل له ذلك؟ فعلى ما ذكرناه من القولين. هذا مسلك. ومن أصحابنا من أجرى القولين في لزوم المعاملة في حق من أخرج السبَق وفي حق من لم يخرجه؛ فإن الذي وضع السبَق، رام أن يستفيد من عمل صاحبه في الرّمي والفروسية، فكأنه في مقام مستأجر يبذل الأجر، والذي يُطلب عملُه في مرتبة الأجير، فإن سلكنا الطريقة الأولى، فالمحلل بين مُسْبقين لا يلزمه الوفاء، وإن عممنا القولين فيمن يخرج السبَق وفيمن لا يخرجه، فقد أجرينا قولي اللزوم والجواز في المحلل؛ فإن من لم يخرج السبَق، فهو على صورة المحلِّل. هذا بيان القولين. وتنزيلهما، وتوجيههما: [هو أن] (1) من حكم بالجواز، اعتبر بالجعالة؛ فإنَّ المقصود من هذه المعاملة لا ينضبط؛ إذ لو كانت في المناضلة والمشروط القرعات (2)، فلا ضبط، فقد تتوالى من الأخرق، وقد يعرى عنها أرشاقٌ (3) من الحاذق، والجواز لائق بالعقد الذي مقصوده مجهول. ومن نصر قول اللزوم، احتج بأن هذه معاملة مقصودة، ومبناها على اشتراط الضبط في المبدأ والمنتهى، والأرشاق وكيفية الفوز بالمبادرة أو المحاطة (4)، فيبقى وراء ذلك اتفاق القرعات، وهذا القدر محتمل؛ فإن الجهالة اللائقة بمقصود العقد لا تلحق العقد مما يشتمل على المجاهيل، ولذلك قضينا بلزوم المساقاة وإن كان الجزء المشروط من الثمار للعامل المساقي مجهولاً.

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) القرعات: من قرع السهم القرطاس قرعاً، من باب نفع- إذا أصابه (المصباح). والمعنى أن المشروط للفوز بالسبَق عدد القرعات أي النجاح في الإصابة بالسهم. وسيأتي مزيد تفصيل من الإمام لمعاني هذه الألفاظ في فصل الرمي. (3) أرشاق: أي رميات من قولك: أرشقته بالسهم. ورشقته به (المصباح). وسيزيدها الإمام إيضاحاً وتصويراً في فصل الرمي. (4) المحاطة والمبادرة، اقرأ شرح الإمام لها في فصل الرمي الآتي قريباً.

التفريع بعد التنزيل والتوجيه: 11662 - فنذكر ضمان السبَق إن كان مالاً موصوفاً في الذمة، ونذكر الرّهن به، فالذي ذهب إليه الجماهير أنا إن حكمنا بلزوم المعاملة، صححنا الضمانَ والرهنَ إذا كان المشروط ملتزماً في الذمة، وإن حكمنا بجواز المعاملة، فالسبَق فيها بمثابة الجعل في [الجعالة] (1) وفي جواز ضمان الجُعل في الجعالة قبل تمام العمل قولان مشهوران في الترتيب الجديد، فإن قلنا: لا يصح الضمان، فلا يصح الرهن، وإن قلنا: يصح الضمان، ففي صحة الرهن بالسبَق وجهان، والرهن أبعد قليلاً عن الثبوت، ولذلك صححنا ضمان العهدة (2) على النص، ولم نصحح الرهن بها على مذهب الجمهور. فينتظم في الضمان والرهن ثلاثة أوجه: أحدها - أن الرهن لا يثبت والضمان يثبت، والوجه عندنا التسوية بين الرهن والضمان في هذه المسألة، بخلاف ضمان العهدة، فإن ضمان العهدة أُثبت لمصلحة بيّنة لا تنفك عنها حاجة مشترٍ، ثم لا ضرار على الضامن؛ فإنه لا يتوجه عليه المطالبة قبل بَدْو (3) الاستحقاق، ولو جوزنا الرهن، لاحتبس المرهون عن التصرفات، وكان ذلك حَجْراً مستداماً على المالك، فلا سبيل إلى احتمال هذا، ولا يتضح على هذا الوجه فرق بين الرهن والضمان في السبَق، وليس من شيم الفقهاء أن يعتقدوا الفرق بين أصلين لافتراقهما في مسألة، بل الوجه اتباع المعاني. وذكر القفال طريقة فقهية مرضية في الضمان نستاقها على وجهها، ثم نذكر بحثاً يتم البيان به، قال رضي الله عنه: نحن وإن حكمنا بلزوم المسابقة، فإذا كان المُسبِقُ أحدَ الرجلين، فلا يجب عليه تسليم المال إلى صاحبه قبل ظهور فوزه به، لم يختلف أصحابنا في ذلك، وليس كالأجرة المسماة في الإجارة المطلقة، فإنه يجب تسليمها

_ (1) في الأصل: " الجهالة ". (2) العهدة: تطلق على وثيقة البيع، لأنه يرجع إليها عند الالتباس، وضمان العهدة يراد به ضمان التزام كل من المتبايعين بما يلزمه به عقد البيع. (3) الضبط بفتح وسكون من (هـ 4)، وهو صحيح.

إلى المكري إذا سلم المكري الدار، وإن كانت المنافع توجد شيئاً فشيئاً، ولا يجب تسليم السبَق إلى الذي وضع له السبَق إن فاز وسبق، حتى يبين فوزه، وهذا يشعر بأن السبَق لا يُستحق إلا بالشرط الذي نيط الاستحقاق به، فإذا لم يكن السبَق واجباً، ففي ضمانه قولان مبنيان على أن ما لم يجب وثبت سبب وجوبه هل يصح ضمانه؟ والذي نحن فيه أبعد من ضمان نفقة الغد، فإن الأمر محمول على استمرار النكاح واطراد الطاعة (1)، وهذا لا يتحقق في المسابقة؛ فإنَّ سَبْق من شُرط له السبَق ليس أمراً معلوماً ولا مظنوناً، ولكنه غيب. هكذا قال رضي الله عنه. وهو حسن بالغ. [وإنما انْقطعت] (2) هذه المعاملة عن مشابهة الإجارة؛ لأن مبناها على الخطر الذي يضاهي القمار لولا المحلل، ومعنى الخطر يؤول إلى تحقيق التعليق، فالاستحقاق معلق بما شرط. 11663 - ويتصل بهذا البحثُ الموعودُ، فنقول: لا يبعد عندنا أن يكون استحقاق السبَق موقوفاً مراعىً، فإذا سَبَق [من] (3) شُرط له السبَق، تبيّنا أنه استحق ذلك بالعقد، [وهذا هو الذي] (4) يليق بلزوم المعاملة، ثم إذا تبيّنا الأمرَ على الوقف، فيمكن أن يقال: ضمان السبَق كضمان العهدة، ولكن هذه عهدة تنجز (5) الرهن؛ فإنها ستبدو على القُرب، وليست كعهدة المبيع، ثم إذا ردّدنا القولَ في جواز الضمان على قول اللزوم، فلو قال قائل: إذا لم يكن السبَقُ مستحقاً، فيجب ألا يكون العمل مستحقاً، وإذا انتفى تنجّزُ الاستحقاق، التحق هذا بالجواز، وهذا السؤال هو الذي حملنا على تقريب الأمر بالحمل على الوقف، وهذا لا يشفي الغليل، والوجه أن

_ (1) المراد طاعة الزوجة التي تستحق بها النفقة. وفي هامش (هـ 4): نسخة أخرى: اطراد العادة. (2) في الأصل: " وإن من قطعت ". وهذا من عجائب التصحيف، وسببه هنا الاستماع؛ فإن الناسخ كان يكتب ما يسمعه من المملي عليه؛ فالأداء الصوتي واحد للصواب والخطأ. (3) زيادة من (هـ 4). (4) في الأصل: " وهذا والذي ". (5) هـ 4: " تقبل ".

نقول: إن لزم الشيء، فلزومه على حسب ما يليق بوضعه، ووضعه الخطر، فاللزوم فيه يرجع إلى الوعد، ووجوب الوفاء به. وقد نجز تفريع الضمان على اللزوم والجواز. 11664 - ومما يبنى على القولين القبولُ: فإن ألزمنا المعاملة، فلا بد من القبول؛ إذ لا سبيل إلى إلزام الإنسان عملاً [بقولٍ] (1) يصدر من غيره. وإن قلنا: العقد جائز، فالمذهب أنه لا حاجة إلى قبول الغير (2) العمل، وفيه وجه ضعيف أنه لا بُد من القبول، وقد أجرى أصحابنا هذين الوجهين في الجعالة المعلّقة بمعيّن، وهي أن يقول لمعين: إن رددت عبدي الآبق، فلك كذا، فلا خلاف أن الجعالة المبهمة لا يُتخيلُ فيها [قبول] (3)، وهي أن يقول (4): مَنْ ردَّ. والسبَقُ يجب أن يكون معلوماً، سواء حكمنا بلزوم المعاملة، أو بجوازها، فإنا إن ألزمناها، فالسبق مشبه بالأجرة، [وإن] (5) حكمنا بجوازها، فالسبَق مشبه بالجُعل في الجعالة. وقد انتهى الغرض من هذا الفصل. ونحن نرى أن نعقد فصلاً في حكم هذه المعاملة إذا فسدت. فصل 11665 - إذا فسدت المعاملة فكيف سبيلها؟ الوجه أن نفرض فسادها من فساد السبَق، ثم نُلحق به وجوهَ الفساد، فنقول: إذا فسد السبَق لكونه مغصوباً، أو مجهولاً، أو خمراً، واستتم المشروط له العملَ، وأتى بما هو سبب الفوز [لو] (6)

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) هـ 4: " المعين ". (3) سقطت من الأصل. (4) عبارة الأصل: " وهي أن يقول: إذا قال: من ردّ " وعارة (هـ 2): لا إذا قال: من ردّ ". (5): " فإن ". (6) في الأصل: " أو ".

صح السبَق، فأول ما نبدأ به اختلاف الأصحاب في أن الفائز بفعله هل يستحق شيئاً؟ فمن أصحابنا من قال: لا يستحق شيئاً أصلاً، ووجهه بيّن؛ فإنّ مقتضى العقد التعليق والغرر، فلينحصر الاستحقاق على السَّبَق إن أمكن استحقاقه، وإن لم يمكن، فلا شيء له، وهذا يتأكد بأن العامل يستحق بعمله، والعمل في المسابقة يرجع معظم نفعه إلى السابق؛ فإنه يتمرّن بعمله، كما يستفيد مَن يجاريه من مجاراته، فرجع الاستحقاق إلى الشرط والمشروط، وخرج المستحَق عن قياس الأبدال حتى يرجعَ عند فسادها إلى عوض شرعي. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أن العوض -وإن فسد- إذا تمم المشروطُ له العملَ الذي به يستحق، فيثبت له العوض؛ فإنَّ عمله إذا تم، يلتحق بالأعمال المقابَلة بالأبدال، والدليل عليه أن القراض إذا فسد، استحق المقارض أجر مثله، وإن كانت المعاملة على الغرر في إصابة ربح إن اتفق. وللأول أن يجيب عن القراض، ويقول: رجوع النفع من عمل المقارض ظاهر بخلاف المسابقة. التفريع: 11666 - إن حكمنا بأنَّ الفساد يوجب الرجوع إلى بدل، فينظر في السبَق: فإن كان غير قابل للتقويم، فالرجوع إلى أجر مثل السابق، ثم لا يعتبر المقدار الذي يسبق به، بل يعتبر ركضُه أو رميُه؛ فإنه بمجموع عمله، توصّل إلى السّبْق والفوز. وإن كان السبَق مما يقبل التقويم، [بأن كان] (1) مغصوباً، فقد اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بالرجوع إلى أجر المثل قياساً على الإجارة إذا فسدت بفساد العوض وتوفرت المنفعة، وهذا القائل يفصل بين ما نحن فيه وبين الصداق وبدل الخلع؛ فإن مبنى النكاح والخلع على ألا يفسدا بفساد العوض، وإذا لم يفسدا، بَعُد الرجوعُ إلى قيمة ما لم يفسد. ورأى (2) الشافعي في قولٍ الرجوع إلى قيمة الصداق أولى. والمسابقة تفسد بفساد العوض، فيتعين الرجوع إلى أجر المثل؛ فإن

_ (1) في الأصل: فإن. والمثبت من (هـ 4)، ولعل الأولى: (وكان). كذا تصرفنا في العبارة ثم جاءتنا نسخة (ق) وقد أسقطت هذا الخلل، حيث جاءت عبارتها هكذا: " وإن كان السبَق مما يقبل التقويم، فقد اختلف أصحابنا ... ". (2) هـ 4: " وكان ".

المنفعة مستوفاة على الفساد، وهذا فقه لا بأس به. وقال آخرون: إذا أمكن تقويم البدل، خرّجنا المسألة على قولين: أحدهما - أن الرجوع إلى أجر المثل. والثاني - أن الرجوع إلى قيمة السبَق، والقولان كالقولين في بدل النكاح والخلع، ووجه ذلك أنَّ الصداق ليس على حقائق الأبدال؛ لما لا يخفى في موضوع الصداق، كذلك السبَق ليس على حقائق الأعواض، ولهذا تخيل بعض الأصحاب أنه لا مرجع إلى شيء بعد فساد الشرط، فكان الرجوع إلى قيمة المسمى متجهاً؛ من حيث إن منفعة السابق لم تتلف عليه، ولم يظهر انتفاع الغير بها، وكان حَصْرُ النظر في البدل أفقه وألْيق بوضع هذه المعاملة. فهذا تفصيل القول في فساد المعاملة وحكمها إذا تم العمل فيها. 11667 - ولو فسدت المعاملة لا من جهة العوض، ولكن من جهالة في الأمد، أو غيرها مما سنصف، فإذا فرض السبْق على الجهالة من أحدهما، فيعود الترتيب الذي ذكرناه حرفاً حرفاً من غير تباين، وليس هذا كفساد الصداق بما يرجع إلى العقد؛ فإنا قد نقطع ثَمَّ بالرجوع إلى مهر المثل، وذاك الفقه أبديناه في موضعه، ولا ينقدح مثله فيما نحن فيه؛ فإن الذي يحملنا على اعتبار البدل تعذرٌ أبديناه في اعتبار المنفعة، وهذا لا يختلف، وتستوي الصور فيه. فصل يشتمل على ما يجب الإعلام فيه في المسابقة 11668 - فنقول: لا بُد من إعلام المدى، ولو وقع التعاقد على أن يتساوقا إلى أن يتفق سَبْقُ أحدهما، فالمعاملة فاسدة؛ فإنهما قد يتساوقان الفرسخ والفرسخين حتى ينقطعا، ولا يسبق أحدهما، فلم تصح المعاملة من غير ضبط في المنتهى. وأما المبتدأ، فحيث يتفق الوقوف فيه والوجوه في تلقاء الغاية المُعْلَمة، ويشترط استواؤهما في الموقف، فلو وقع التشارط على أن يتقدم أحدهما بمقدارٍ، فالشرط فاسد وفاقاً.

فإن قيل: قد يتفاوت الفرسان في الفراهة ونقيضِها فإذا وقع التراضي على التعديل بتقدم الفرس الذي هو دون الجواد الفاره، فما المانع من ذلك؟ قلنا: هذا لا يدخل تحت الضبط، وليس من الممكن أن يستبان تفاوت الفرسين بخطوات، فالوجه طلب الضبط بالتساوي في العَيان (1). 11669 - ثم لو كان أحد الفرسين بحيث يغلب (2) على الظن سبقُه، فلا يجوز إيراد المسابقة مع هذا التفاوت، وقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك في المحلِّل، فقال: " من أدخل فرساً كفئاً بين فرسين لا يؤمن أن يسبق، فهو حلال " (3) وإذا تبين أن المحلِّل لو كان بحيث يغلب استئخاره لرداءة فرسه، فليس محلِّلاً، وإن كان يظن أن يسبق؛ إذ لا يبعد سبقُه، فهو المحلِّل، وإن كان المحلل بحيث يَغْلِب لا محالة، بأن كان على جواد من العِتاق والمُسْبِق على بِرْذَوْن لا يُدرك [شأْوَ المحلِّل] (4)؛ فلا تصح المعاملة؛ فإن هذا العقد مبناه على الخطر، ومن ضرورة الخطر التردد. قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: " التعامل والحالة هذه من باب بذل المال بالباطل " والمراد بذلك أن الغرض المطلوب المخاطرةُ، وشرطها التردد والاحتمال،

_ (1) هـ 4: " العنان ". (2) هـ 4: " بحيث لو غلب على الظن ". (3) حديث: " من أدخل فرساً بين فرسين ... " رواه من حديث أبي هريرة مرفوعاً أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وقال في البدر المنير: " وأقر البيهقي في خلافياته مقالة الحاكم ". ورواه الدارقطني، والبيهقي في الكبرى، وابن حزم في المحلى محتجاً به. ورجح ابن الملقن في البدر المنير وقفه على سعيد بن المسيب، نقل هذا عن ابن أبي حاتم، وابن معين، وابن عبد البر. والحديث ضعفه الألباني مرفوعاً وصحح وقفه. (ر. المسند: 2/ 505، أبو داود: الجهاد، باب في المحلل، ح 2579، 2580، ابن ماجه: الجهاد، باب السبق والرهان ح 2876، الحاكم: 2/ 114، البيهقي: 10/ 20، المحلى لابن حزم: 7/ 354 التمهيد لابن عبد البر: 14/ 87، البدر المنير: 9/ 429، التلخيص: 4/ 300 ح 2485، إرواء الغليل: 5/ 340 ح 1559). (4) في الأصل: " شيئاً والمحلل ".

والذي يحقق ذلك أن من يُسْبَق لا محالة ليس بمسابق، وإنما هو في حكم الراكض بنفسه. وفي المسألة وجه آخر أن المحلِّل إذا كان بحيث يَسبق، صح. وسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله. 11670 - ولو أعلمنا المنتهَى الذي لا حكم للسبْق وراءه، ولكن وقع التشارط على أن السبْق إن اتفق في خلال الميدان، كفى، وكان فوزاً، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - أنه يجوز؛ فإن المعنى المحذور في ترك إعلام الغاية، وهو إمكان التساوق إلى أمد بعيد زائلٌ هاهنا؛ فإن الميدان مضبوط، ومنتهاه معلوم. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز هذا؛ فإن الفرس النَّزِق قد يظفر في أول الميدان، ثم يقف أو تنكسر حِمِرَّته (1)، والجواد يتمطى (2) ويضبِر (3) في أواخر الميدان، فالاكتفاء بالسَّبْق قبل الغاية يوجب تقديم برذون نَزِقٍ على جواب. ومما ذكره الأصحاب أن المُتَسابِقِين لو شرطوا غاية وعينوها، ثم قالوا إن اتفق السبق عندها، فذاك، وإلا تعديناها إلى غاية أخرى، عيّنوها، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - الصحة لتحقق الإعلام. والثاني - الفساد؛ لتردد المعقود عليه وتميُّله (4)، ولعل الأصح الصحة؛ لأن ما وصفناه ليس مناقضاً لمقصود العقد، وحق الفقيه أن يفهم مقصودَ العقد، وُينْزل عليه ما يطرأ من شرط، فقد تبين وجوب إعلام السبَق، ووجوب إعلام الغاية. وقد تجري مسائل في أثناء الكتاب تلتحق بمضمون هذا الفصل، وفيما ذكرناه مَقْنع في تمهيد القاعدة. وهذا هو الذي نبغيه بعدُ.

_ (1) حِمِرَّته: أي شدته وقوته (المعجم). (2) يتمطى: يتبختر في مشيته. (المعجم). (3) يضبر: يقال ضبر الفرس يضبِر (من باب ضرب) إذا جمع قوائمه للوثب والعدو. (المصباح). وهذا التفسير مقحم في صلب (هـ 4). (4) كذا. والضبط من (هـ 4).

11671 - ثم ذكر الأصحاب ما يقع السبق به، ونحن ننقل ما ذكروه على وجهه، ثم ننظر: وقد ظهر تردد الأصحاب في أن السبق يعتبر بتقدم الرأس والعنق والهادي (1)، أو يعتبر بمواقع الأقدام والكتف، وهذا التردد مشهور، وقد نسبه بعض الأئمة إلى النصوص، وجعل في المسألة قولين. وذكر العراقيون في ذلك تفصيلاً وقالوا إن كان عنق أحد الفرسين أطول، فسبق بذلك القدر من الطول، من غير زيادة، فلا يكون سابقاً، وإن استويا في الطول، فهو موضع الخلاف، ونقل العراقيون أيضاً عن الشافعي أنه قال: الاعتبار في الخيل بالعنق والهادي، والاعتبار في الإبل بالكَتَد (2) والخف، ثم قال: ذلك لأن الإبل تَمُدُّ أعناقها إذا عَدَت، والخيلُ ترفع رؤوسها في وقت العدو، وهذا الذي ذكروه من التعرض لطول الرقبة فيه إشكال؛ من جهة أن المتسابقين [لا يتعرّضان] (3) لتساوي العنقين وتقديرهما، مع العلم بأنَّ تفاوت الأعناق من الأمور الشائعة الظاهرة، فترك التعرض لهذا دليل على أنه لا اعتبار به، وأيضاً؛ فإن الفرسين إذا استويا في طول الرقبة وقصرها، وكانا يمدّان عنقيهما في العدو، فالسابق بالهادي يكون سابقاً بمواقع السنابك لا محالة، فلا يبقى للتردد بين العنق وموقع القدم وجه، والتردد في اعتبار ما به السبق معروف. وقد كثرت إشارات الشافعي إلى اعتبار الهادي، ومما يشهد لذلك أنَّ أصحاب التسابق (4) ربما يمدّون خيطاً في المنتهى المعلوم، والغاية المشروطة، ويبين السبْق بخرق الخيط، ومعلوم أن رأس الفرس ينتهي إلى الخيط الممدود فيخرقه. هذا بيان ما ذكره الأصحاب.

_ (1) الهادي: العنق. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: كتاب السبق والرمي) فالعطف هنا عطف بيان. (2) الكَتَد: مجتمع الكتفين، وبعضهم يقول: ما بين الكاهل إلى الظهر. (المصباح، والمعجم). (3) في الأصل: " يتعارضان ". (4) هـ 4: " السابق ".

والوجه في ذلك أن التردد إنما يظهر من حيث إن من الخيل ما يعتاد مدّ العنق في العدو، والتمطي، وذلك مما يستحسن ويستحب، وقد يكون له أثر في استعمال الأسلحة، ومن الخيل ما يكون شائلاً رأسَه صُعداً، وهذا غير محبوبٍ في العدو، وإنما يؤثر ويستحَب في السير الهملجة (1)، وقد يصدم وجهَ الفارس إذا كان يستعمل سلاحاً في عدوه. فمن اعتبر السبق بالهادي، فمأخذه ما ذكرناه، والأقيس اعتبار السبق بالقدم؛ فإنه السبق حقّاً، والهادي لا يحصل السبق به؛ إذ العدو بالقدم. وما ذكره العراقيون من اعتبار الأعناق في أقدارها متجه إذا كان الفرسان يمدّان أعناقهما، فيتعيَّنُ والحالة هذه اعتبار التساوي في الطول والقِصر، وما ذكرناه من أن أصحاب التسابق ما اعتبروا ذلك، فهو على وجهٍ، ولكن سببه أنَّهم كانوا يعتبرون القدم، فلم يلتفتوا إلى طول العنق وقصره. 11672 - فانتظم مما ذكرناه أن الفرسين إن تفاوتا في مد العنق، اتسق خلافٌ في اعتبار العنق والقدم، ولا نظر إلى أقدار الأعناق. وإن كانا يمدان الأعناق، وقلنا: الاعتبار بالأقدام، فلا نظر إلى الأعناق، وإن قلنا: الاعتبار بالأعناق، فيتجه اعتبار التساوي في العنقين. وأما ما حكاه العراقيون من أن الاعتبار في الإبل بمواقع الخفاف، فلم يتعرض لهذا المراوزة، والذي بلغنا ما نقلناه، وما نقله العراقيون فالثقة حاصلة بمنقولهم، وهذا قليل النَّزَل (2) والفائدة. وكان شيخي يقطع بأن الاعتبار في التساوي في ابتداء الميدان بالأقدام لا غير، وإنما التردد في آخر الميدان، وهذا حسنٌ متجه لا يجوز غيره، فإنَّا إذا اعتبرنا السبق

_ (1) الهملجة: المشي في سهولة وسرعة (المصباح). (2) قليل النَّزَل: يقال: رجل ذو نَزَل (بفتح الزاي): كثير الفضل والعطاء. ويقال: أرض نَزْلة (بالسكون) زاكية الزرع (ر. القاموس والمعجم) فلعل المعنى هنا من أحدهما: أي أن هذا الخلاف لا طائل وراءه. هذا وقد تكرر هذا اللفظ في كلام الإمام من قبل.

بالعنق من جهة استحباب مد الفرس عنقه، فهذا لا يتحقق في ابتداء الموقف؛ فيتعيّن اعتبار الأقدام؛ إذ بها السبق في الحقيقة، ولو اعتُبر الهادي، لجرّ ذلك تفاوتاً في السبْق مهما اختلفت الأقدام. هذا تمام المراد في قواعد المسابقة، وستأتي مسائل ممتزجة بالمناضلة، ونحن نتبع ترتيب كلام الأصحاب فيها. فصل في قاعدة المناضلة 11673 - نقول: إخراج المال فيها كإخراج المال على المسابقة، ويجري في إخراج المال الصور الثلاث: فقد يُخرج الإمام المالَ، ويتناضل المتناضلون، ولمن فاز المالُ، وقد يخرجه أحدٌ من عُرض الناس، وهو ملتحق بالقسم الأول، وقد يخرج المالَ أحدُ المتناضلين، وقد يخرج كلُّ واحد منهما. وإذا كان كذلك، فلا بُد من محلِّل، على الترتيب الذي ذكرناه في المسابقة. ثم في المناضلة ألفاظٌ يستعملها الرُّماة، ويتداولها الفقهاء، ونحن نذكرها ونبيّن معانيها، ثم نخوض: فمما أطلقوه الرّشق، وهو نوبةٌ من الرمي، تجري بين الرَّاميين أو الرُّماة سهماً [سهماً] (1)، أو على ما يتشارطان، هذا هو الرشق. والهدفُ في بلاد العرب مثل الترس، يُنصب ويعلّق من وسطه شَنٌّ صغير، والتراب (2) للعجم في محل الهدف للعرب، والشَّنُّ للعرب في محل القرطاس للعجم، ثم ينصبون الغرض على جريدة [وهي الغصن من النخل] (3) والإصابة تسمى القَرْعة.

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) التراب: المراد التراب الذي يُجمع لينصب فيه الغرض، كذا قال الرافعي. (الشرح الكبير: 12/ 200). (3) زيادة من (هـ 4).

ومن الأسماء المستعملة الخارق، والخاسق، والخازق، ومعانيها قريبة، لا تكاد تختلف (1). والزاهق هو الذي يعلو أو يمرُّ وراء الهدف، والمارق هو الذي ينفذ في الهدف، ولا يخفى القريب (2). 11674 - ثم للنضال سبيلان مسوّغان: أحدهما - المبادرة. والثاني - المحاطّة، أمَّا المبادرة، فمعناها أن يتشارطا قرعات معلومة، على أنَّ من يتبدر إلى الفوز بها، فهو فائز، وذلك -لا محالة- إذا ساواه صاحبه في أعداد الأرشاق، فلو رمى كل واحد خمسين، وحصل لواحد عشر قرعات، وللثاني تسع قرعات، فالفوز لصاحب العشر، هذا معنى المبادرة على الجملة. وأما المحاطة، فمعناها أن من أصاب قرعة حطها من قرعات صاحبه، وإنما يقع الفوز إذا خلصت القرعات لواحد، وهذا قد يطول ويعسر، ولكن المعاملة مع اشتراطها جائزة وفاقاً. ثم أول ما نذكره بعد تصوير المبادرة والمحاطّة تردُّدُ الأصحاب في أن إعلام الأرشاق هل يشترط؟ وحاصل ما ذكروه ثلاثة أوجه: أحدها - أن إعلام الأرشاق يشترط في المبادرة والمحاطة جميعاً؛ فإن الترامي قد يطول؛ فلا بُد من ضبط مبلغٍ، والأرشاق في المناضلة بمثابة الميدان في السبق. والوجه الثاني - أنا لا نشترط إعلام الأرشاق، ويكفي إعلام القرعات، فإن الرَّمي لا يجري على نسق واحد، فقد تتوالى القرعات، وقد تندر، فليقع التعويل عليها، لا على الأرشاق، وليس كذلك السبق على الخيل، فإنه لا يختلف اختلاف الرَّمي. والوجه الثالث - أنا نفصل بين المبادرة والمحاطة، فنشترط إعلام الأرشاق في المحاطَّة، حتى ينفصل الأمر؛ فإن اتفق فوزٌ فيها، فذاك، وإلاَّ حكم بأنَّ العقد قد انتهى نهايته. ولا استحقاق، وكلٌّ يُحرز ما أخرجه، كما إذا تساوق الفرسان إلى

_ (1) هـ 4: "تخفى". (2) القريب: وهو ما يقع قريباً من الهدف.

الغاية المذكورة، وأما المبادرة، فلا نشترط إعلام الأرشاق فيها، فإن نَيْل القرعات على حكم المبادرة ليس عسيراً على الرّماة. 11675 - ومما يتصل بما ذكرناه أنهما لو كانا يتناضلان والمشروط عشر قرعات، وقد توافقا على مائة رشق، ونحن وإن لم نشرط إعلام الأرشاق، جوزنا إعلامها، فلو رمى كلُّ واحد خمسين، وبادر أحدهما فأصاب القرعات العشر، فقد أصاب وفاز، وهل يلزمه أن يستتم المائة أم لا؟ فيه وجهان، وليس الغرض من هذا التردُّدَ في استرداد المال من المبادر، فذاك حكمٌ لا ينقض، ولكن أثر الاختلاف أن من أصحابنا من لم يُلزمه الاستكمالَ؛ من جهة أنه استتم العمل الذي به الاستحقاق، فلا معنى لإلزامه عملاً بعد ذلك، ومنتهى العمل في هذا الكتاب ما يتعلق الاستحقاق به. ومن أصحابنا من قال: يلزمه استتمام الأرشاق؛ فإنَّ صاحبه إنما بذل المال لينتفع بالمناضلة، ويستفيد من رمي صاحبه، وإذا فاز صاحبه بالقرعات، قال له من استحق المال عليه: قد فزتَ بالمال، فوفّر العمل (1)، وهذا التردد قريب المأخذ مما ذكرناه في أنا عند فساد المعاملة هل نرجع إلى أجر المثل، ووجه التلاقي أنا نقول في وجه: لا أجرة؛ فإنَّ كُلاً يعمل لنفسه، وإنما استحقاق المال بالشرط على حكم المخاطرة، فعلى هذا لا نكلفه إتمامَ الأرشاق بعد استحقاق المال، وإن أثبتنا أجرة المثل عند فساد المعاملة، فقد اعتبرنا العمل، وقدرناه كالمنافع المستحقة، فعلى هذا لا يبعد أن نكلفه استكمال العمل بعد الفوز بالمال هذا في المبادرة. فأما في المحاطة إذا وقع التشارط على أن يخلص للفائز عشر قرعات، وتوافقا على مائة رشْق، فإذا أصاب أحدهما عشر قرعات خالصة من خمسين، فهل يستحق السبَق؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه يستحقه كما في المبادرة؛ فإنهما استويا في الأرشاق، وتحقق خلوص العشر لأحدهما، والخلوص في المحاطة كحصول القرعات العشر في المبادرة.

_ (1) وفّر العملَ: أي أكمله وأتمه.

ومن أصحابنا من قال: لا يستحق المال حتى يستتم الرّمي؛ فإن صاحبه يقول: قد [أُصيبُ] (1) في الأرشاق الباقية ما أحطه عن العشر التي خلصت لك، وهذا لا يمكن تصويره في المبادرة؛ فإن الشرط وقع فيها على الاستحقاق بالمبادرة، فمن ابتدر وفاز، فما يقع بعد ابتداره لا يناقض ابتداره السابق. التفريع: 11676 - إن قلنا: لا يستحق المال ما لم تكمل الأرشاق، فلا كلام، وإن قلنا: يستحق المال، حتى لو فرض استكمال الأرشاق، فلا حطَّ بعد الخلوص، فيتصل تفريع المحاطة من هذا المنتهى بتفريع المبادرة، فقد وقع القضاء باستحقاقه على وجهٍ لا يُنقض، ولكن هل لصاحبه أن يكلفه إتمام العمل، واستكمال الأرشاق؟ فعلى الوجهين المذكورين في المبادرة. ومما يجب الاعتناء به أن أحدهما في المبادرة لو رمى خمسين، وأصاب العشرة المشروطة، وصاحبه رمى تسعة وأربعين فأصاب تسعة، فلا بُد من ردّ السهم إليه، فلعله يصيب، وليس من المبادرة أن يتقدم أحدهما بقرعة إذا كان صاحبه غير مساوٍ له في أعداد الأرشاق، وهذا واضح لا خفاء به. ولو أصاب أحدهما من الخمسين عشراً، وأصاب الثاني من تسع وأربعين ثماني قرعات، فقد فاز من أصاب العشر؛ فإن أكثر ما في الباب أن يرد السهم إليه، فيرمي ويصيب، ولو أصاب، فهو على تسعٍ، وصاحبه فائز بالعشر، وهذا متضح. وإذا لم تكن أرشاق معلومة، أو كانت، وقلنا: لا يجب استكمال الأرشاق، فللفائز ألا يرد السهم إلى صاحبه؛ فإنه يقول: قد استحققت المال، وليس عليَّ بعد استحقاق المال عمل، ولو كانت المعاملة محاطّة، فخلص لأحدهما من الخمسين عشر قرعات وهي المشروطة، وقد رمى صاحبه تسعاً وأربعين ولم يصب فيها، فله أن يقول: ردوا علي السهم، فلعلي أصيب، فلا بد من رد السهم إليه؛ فإنه قد يصيب، فيحط عن عشر صاحبه، ويبطل خلوصها له، فهذا ما أردنا تأصيله في النضال.

_ (1) في الأصل: " أصبت ".

فصل يشتمل على تمهيد أصل عظيم تستند إليه مسائلُ جمّة 11677 - نقل الأئمة تردد الشافعي في أن المتبع في النضال القياسُ، أو العادة التي تجري بين الرُّماة، وهذا مشهور على هذه الصيغة، وهو مشكل؛ فإن القياس حجة في الشرع، فإن كانت العادة موافقة لموجب الشرع، فلا معنى للتردد، والمتّبعُ الشرعُ وقياسُه، وإذا كان للرماة عادة يناقضها [القياسُ] (1) المعتبرُ في الشرع، فلا معنى لاتباع عادتهم، والوجه القطع بالتعلق بالحجة الشرعية، قال الصَّيدلاني: أراد الشافعي عادة الفقهاء. وهذا [كلام] (2) غير متين؛ فإن الفقهاء الذين تعتبر مذاهبهم أوّلاً هم المجتهدون، والمجتهد الرامي مُعْوِز (3)، وقد يوجد في القطر الواحدُ فحسب، فما معنى العادة مع الاتحاد (4)، ثم هذا الفقيه بماذا يأخذ؟ فإن أخذ بالقياس، فالرجوع إلى مأخذه، وإن كان يستجيز مخالفة القياس، فما وجهه؟ وقال شيخنا أبو محمد: المعنيُّ بالرجوع إلى العادة أنه لو أطلقت في المناضلة لفظة، والرماة يفهمون منها معنىً، فعادتهم تُتَّبع، وهذا الذي قاله ليس مما نحن فيه، بسبيل؛ فإن الأمر إن كان كذلك، وصح فَهْمُ الرُّماة من الألفاظ التي يطلقونها، فلا يجوز أن يكون في اتباع العادة خلاف إن تحقق اطرادها، وهذا بمثابة حملنا الدراهم على النقود الجارية في العقود، وإنما الذي نطلبه قياسٌ في مقابلة عادة، والذي يقتضيه القياس تنزيل اللفظ على حسب التفاهم، وهذه قاعدة ممهدةٌ في جميع العقود، فلا يبقى إذاً لتنزيل القولين في تعارض القياس والعادة وجه سديدٌ.

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) سقطت من الأصل: وزدناها من (هـ 4). (3) المعنى أن الفقيه الذي بلغ مرتبة الاجتهاد، وهو في الوقت نفسه من الذين بلغوا مرتبة المناضلة والرمي، الذي جمع بين الدرجة العليا في الفقه والرمي نادر الوجود. (4) المعنى: أن الفرد الواحد لا تثبت به عادة، مهما درج عليها، والتزمها.

وأقصى الإمكان في ذلك أن نقول: إذا رأى الرُّماة أمراً فيما بين أظهرهم (1 من مصالح المعاملة 1)، وليس ما رأوه مما يشهد له قياس، فهل نتبع ما رأوه مصلحةً، أم نرد المعاملة إلى موجب القياس؟ هذا محل التردد، وبيانه بالمثال أن للرماة مناقشة فيمن يبدأ بالرمي، ولهم في ذلك غرض: فالذي يبتدىء يصادف القرطاس نقياً سوياً، ويكون هو على جمام قوته، فيطلب الرمي، وحكم القياس أنه ليس البعض أولى بهذا من البعض. والذي رآه الرماة مصلحةً أن يفوضوا الحكم في ذلك إلى من يُخرج المال، وهذا يحرّض على إخراج المال، فالاعتبار بالقياس الذي إليه الإشارة في أحد القولين، ولا احتكام لأحدٍ، كما سنفرع عليه. والاعتبارُ بما يعتاده الرماة في القول الثاني، فلا مرجع لما يتردد فيه المذهب من ذكر القياس والعادة إلا ما ذكرناه. ثم لست أرى ذلك أمراً مطرداً يُهتدى إليه كالمآخذ التي تبنى المسائل عليها، وإذا عظم وقع القياس، وبعُد ما يُرعى من عادة الرماة عن القياس بُعداً ظاهراً مصادماً للفقه والمعنى، فليس إلا اتباع القياس، وإنما يحتمل مجانبة القياس إذا قرب الأمر، كالبداية التي ذكرناها، فإن الأمر فيها وإن كان مقصوداً ليس [واقعاً] (2)، وهذا قريبٌ من التردد في أن إعلام المعاليق هل يجب في الدّابة المكتراة، أم يُقْتَصَرُ فيه على ما يجري العرفُ به؟ هذا هو الممكن في ضبط ذلك وسيزداد أُنْس الناظر به إذا تكررت المسائل. 11678 - والآن إذا ذكرنا البداية، فنستتم القول فيها ونقول: إن وقع التعرّض لمن يبدأ ذكراً، فهو متبع، وإن لم يتعرض المتعاقدان لمن به البداية، ففي المسألة قولان: أحدهما - ينزل العقد على ما يراه الرماة، وقد نقل الناقلون أنهم يحكِّمون مُخرِج السبَق، كالوالي والواحدِ من عُرض الناس، ومن حكمهم المتعارف بينهم، هذا الذي ذكرناه، والأمر فيه قريب، والعقدُ عقد خطر، لا يبنى الأمر فيه على نهاية الإعلام. هذا قولٌ، وهو ضعيف.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (هـ 4). (2) في الأصل: " واقفاً ".

والقول الثاني - أنا نتبع القياس، ولا نحكّم أحداً فيما يفرض التنافس فيه. التفريع: 11679 - إن حكمنا باتباع المعنى والقياس -ولم يجر في العقد للبادئ ذكر- فعلى هذا القول قولان: أحدهما - أنَّ العقد يفسد لاشتماله على ما يجرّ تناقشاً، لا سبيل إلى التحكم بقطعه. والقول الثاني - أنا نُقرع بين الرماة بعد انعقاد العقد؛ فإن البداية إذا جُهلت، لم ينته الجهل بها إلى حد منافاة الصحة، والقرعةُ مرجوعٌ إليها في أمثال ذلك. ومما يتعلق بذلك أنهم لو شرطوا من يقع البداية به، أو اقتضت القرعة -كما ذكرناه في التفريع- تقديمَ واحدٍ، فإذا وقعت البداية في الرشق الأول، فما السبيل في سائر الأرشاق بعده؟ أمَّا إن اتبعنا آداب الرماة، فالرجوع عندهم إلى تحكّم مُخرج المال مرةً ومراراً، إلى نجاز مقصود المعاملة. ولكن هذا إنما ينقدح إذا كان [المُسْبِق] (1) واحداً، فأما إذا أخرج الرماةُ أسباقاً (2) وتخلّلهم محلِّلٌ، فليس البعض منهم أولى بالتحكم من البعض، والتفريع يرجع والحالة هذه إلى اتباع القياس. ثم إن أفسدنا، فذاك، وإن أقرعنا ووضعنا القُرعةَ على تأسيس البداية في كل رشق فهذا الحكم متبع، وإن وقع الإقراع مطلقاً، ففي المسألة وجهان. وكذلك لو جرى ذكر من يُبدأ به، نُظر: فإن وقع التصريح بتمهيد البداية أبداً، اتبعناه، وإن جرى ذكر البداية مطلقاً من غير تعرض للتخصيص بالمرة الأولى، ففي المسألة الوجهان المذكوران في القرعة: أحدهما - أنا نطرد ما جرى في المرة الأولى إلى انتهاء المقصود. والوجه الثاني - أنا نعود إلى الإقراع في كل مرة أو نقطع اللبس، فنُجري الإقراعَ على الاطراد تصريحاً به. وفي كلام بعض الأصحاب ما يدلّ على أن البداية لا تمهد بالقرعة في جميع المعاملة، بل لا بد من إنشاء القرعة في كل رشق إذا تنافسوا، وهذا بعيد لا اتجاه له،

_ (1) في الأصل: " السبق ". (2) أسباقاً: جمع سَبَق.

والأمر يطول به، وتبردُ أيدي الرماة ويزيد ضُرُّ هذا على نفعه، فهذا ما أردنا ذكره. ثم يُتصوَّر في المناضلة عادةً عامة تنزل المعاملة عليها، على قياس تنزيل الإجارة على منازل معتادة، وكذلك القول في كيفية تزجية البهيمة واستحثاثها على السير، فإذا جرت المناضلة وألفينا أمراً (1) لا يشكل، نزلنا المعاملة عليه، وإن تردد الرأي ترتب عليه اختلافٌ (2) في الحكم. 11680 - ونحن نختتم هذا الفصل بمسائلَ توفي بالناظر على استيفاء الغرض في ذلك: فمما تردد الأئمة فيه إعلامُ المسافة التي تكون بين مواقف الرماة وبين الغرض، وقد ذكر الأئمة قولين في ذلك، ومال شيخي إلى إعلامها؛ فإنهما من أصول الأمر، ويختلف الغرض فيها بالقصر والطول، وقوة القسي والرماة وضعفها، ولا يمكن التحكم فيها بمسافة. وأما إعلام مقدار الغرض في اتساعه، فقد ذكر الأصحاب فيه قولين مرتبين على المسافة، ورأوا هذا أهونَ وأولى بأن ينزل على العادة. وكذلك ذكروا قولين في مقدار ارتفاع القرطاس من الأرض وجعلوا هذا أهون من الذي يليه، ورتبوه على ما قبله، وإنما ترتبت هذه المسائل على حسب ترتب الأغراض فيها ظهوراً وخفاءً، ثم العادات في اطرادها، وتطرق [المناقشة] (3) إليها تجري على حسب ظهور الأغراض وخفائها، فاقتضى ما نبهنا عليه ترتب هذه المسائل: [فأظهر] (4) الأغراض المسافة، ويليها اتساع الغرض المطلوب، ويلي ذلك ارتفاعه من الأرض. والبداية في الرماية لا تقع على هذا السنن؛ فإن ما ذكر من تحكيم المُسْبق لا أراه منتهياً إلى الحد الذي خرَّجنا هذه المسائل المتسلسلة عليه، ولولا ضعف الغرَض فيه، لما احتملنا فيه تحكماً، وكذلك لم نقطع القول بالفساد عند إبطالنا التحكم، ورأينا فصل النزاع بالقرعة.

_ (1) هـ 4: " الأمر لا يشكل ". (2) هـ 4: " نرتب عليه اختلافاً في الحكم ". (3) في الأصل: " المسافة ". (4) في الأصل: " فالأظهر ".

فصل فيما يطرأ على الرماة من النكبات 11681 - قاعدة الفصل أنَّ السهم إذا أفرط تباعده أو سقط دون المقصود بمسافة بعيدة، فهذا يحمل على سوء الرمي، فهو محسوب على الرامي في الرشق، ولا يرد السهم إليه ليرميَه مرة أخرى؛ مَصيراً إلى أن ما أساء فيه غيرُ معتد به، وما يحمل على نكبةٍ لا ينتسب الرامي فيها إلى تقصير، فذلك السهم غير محسوب عليه. هذه قاعدة الفصل، وهي تبين بتفصيل المسائل. فإن سلمت الآلة والْتوت يد الرامي، فهذا من تقصيره، والسهم محسوب عليه، وقال الأصحاب: إذا انقطع الوتر أو انكسر القوس، فهذا من النكبات. والتفصيلُ الحسن فيه للعراقيين قالوا: إن تجانب السهم على إفراط (1)، لم يحسب على الرامي، كذلك إن وقع دون الغرض بمسافةٍ بعيدة، ولو وقع بالقرب من الغرض، بحيث لا يستبعد إصابة مثله، فهل يحسب السهم من أرشاق الرامي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه غير محسوب عليه؛ لأجل النكبة المعترضة. والثاني - أنه محسوب لوقوعه على حدٍّ غير بعيد عن توقع الإصابة، فكأن النكبة لم تكن، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي. ثم إن كان السهم محسوباً عليه إذا لم يُصب، فلو أصاب، فلا شك أن الإصابة محسوبة له معدودة من القرعات المشروطة، وإن قلنا: لا يحسب السهم عليه من الرشق لو لم يُصب، فإذا أصاب [السهم] (2) فهل تحسب الإصابة له؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه محسوبة له، وهو الذي قطع به المراوزة؛ لأن الإصابة مع النكبة تدلُّ على نهاية الحَذاقة، وأيضاً فالإصابة مشروطة، وقد وقعت، والتوجيه بهذا أولى.

_ (1) أي بسبب نكبة معترضة، كما يظهر من التفصيل الآتي. (2) زيادة من (هـ 4).

والوجه الثاني - أنها لا تُحسب له كما لا تُحسب عليه لو لم يُصب، وأيضاً فإنَّ الإصابة مع انكسار الآلة تُحمل على الوفاق؛ فإن الرمي [لا ينبني] (1) إلا على سداد الآلة وبقائها. 16682 - هذا بيان حظ الفقه من هذا الفصل، وبعده نظر لا بُد من التنبه له، وذلك أن الأئمة عدّوا انقطاع الوتر وانكسار القوس نكبةً وبنَوْا عليها التفصيل الذي ذكرناه، والوتر لا ينقطع إلا بعد مروق السهم على الموضع الذي يسدده الرامي عليه، وكذلك لا ينكسر القوس إلا بعد نفوذ (2) السهم، وسبب انكسارها صدمةُ الرجوع، فإن انقطع الوتر في النزع، وأفلت السهم من غير حل الرامي شِصَّه، أو انكسر القوس في النزع (3) فذلك نكبة لا شك فيها، ومن لم ينتبه لهذا، فهو جاهل بالرماية، ولم نأت بما ذكرناه مخالفةً للفقهاء، ولكنهم ذكروا فقه النكبة وجنسها، ولم يفصّلوها، ولو تبيّن لهم ما ذكرناه، لحكموا فيه بأن ما يقع بعد نفوذ السهم لا يُعدّ نكبة، وقلما ينقطع الوتر بعد حل الشص من رامٍ ماهرٍ إلا ويقرب السهم أو يصيب، فهذا ما يجب التنبه له. وانكسار السهم ينقسم فإن كان لِوَهاءٍ فيه غير محسوب، فهو نكبة، وإن كان لسوء الرمي، فهو خُرقٌ، والسهم محسوب، وذلك بأن يخلي الفُوقَ في النزع عن الوتر، فهذا ترك تحفظ، وسوء رمي، وهو مُخْطِر، وكذلك إذا أفرط في النزع حتى انتهى النصل إلى كبد القوس، ونشب فيه وتكسَّر وتشظى، فهذا قلة تحفظ، وسوء رمي، وإذا بان فقه الفصل، فلا معنى للإطناب. 11683 - ولو رمى فاعترض بين السهم في مَرّه وبين الغرض بهيمة، فأصابها السهم، فهذا عارض، والسهم غير محسوب، ولو مرق السهم، وأصاب الغرض، فوجهان، ولعل الأصح أنَّ الإصابة محسوبة له؛ فإنَّ السهم لا يمرق ولا يصيب إلاَّ مع

_ (1) في الأصل: " لا يبقى ". (2) نفوذ السهم: المراد هنا انطلاقه، لا إصابته الهدف ونفوذه منه. (3) النزع: المدّ، يقال: نزع في القوس: مدّها. (المصباح والمعجم).

رعاية السداد في الرمي على أبلغ وجه في الإمكان. وأما هبوب الرياح، فالتفصيل فيه أن هبوب الريح إن اقترن بابتداء (1) الرمي، فلا مبالاة به، والسهم إن زهق (2) أو مال محسوب عليه، لأنه ابتدأ الرمي مع الريح، فكان هو المقصر، وللرماة نيقة (3) في تسديد السهم مع جريان الريح، وذلك بوضع النصل في المنظر (4) مائلاً قليلاً، حتى إذا انضم إلى الميل صَرْفُ الريح السَّهمَ استدَّ على الغرض. ولو نفذ (5) السهم، فهجمت ريح، فإن كانت رُخاءً ليّنة؛ فلا أثر لها؛ فإنَّ السهم لا يميل بمثلها، وإن هجمت ريح عاصفة بعد نفوذ السهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه معدود من النكبات، وقد مضى تفصيلها. والثاني - أنه لا يعدّ من النكبات؛ فإنا لو فتحنا هذا الباب، لطال المراء والنزاع، ولا يخلو عن الريح الهواءُ، ويندر هجوم الريح الشديدة؛ فإنه تظهر (6) مباديها، ثم تشتد، والسهم أسرع مَرّاً من الريح، فالوجه حسم ذلك. ولو انقطع السهم حيث يُعَدُّ ذلك نكبةً، وأصابتْ قطعة منه الغرض، فإن انقلب وأصاب الغرض بفُوقه (7) أو بعَرْضه، فلا يحتسب هذا؛ فإن الإصابة هي التي تجري على استدادٍ في السهم، فإذا انقلب، فلا احتفال بالمماسة التي جرت. ولو حصلت الإصابة بقطعة مستدّة على سمت طول السهم، فهل تحتسب الإصابة؟ فعلى الوجهين المذكورين في النكبات المعترضة.

_ (1) هـ 4: "بانتهاء". (2) زهق السهم: أي جاوز الهدف من غير أن يصيبه، ويسمى الزاهق. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: باب ما جاء في الرمي والسبق). (3) نيقة: النِّيقة: المبالغة في التجويد. (المعجم). (4) في المنظر: أي في النظر. يعني فيما يراه الرائي. (المعجم). (5) نفذ السهم: أي انطلق، هذا هو المراد هنا. (6) هـ 4: "تبدو". (7) الفُوقُ من السهم حيث يثبت الوتر منه، جمع فُوَق وأفواق مثل قفل وأقفال. (المعجم والمصباح).

ثم اختلف أصحابنا وراء ذلك، فقال قائلون: إن أصاب الجانبُ الذي فيه النصل بل أصاب النصلُ، فهو الإصابة التي فيها الخلاف، ولو أصابت القطعة التي فيها الفوقُ من غير انقلاب، ولكن أصاب موضع الانقطاع، فلا (1) يحسبُ ذلك وجهاً واحداً. ومن أصحابنا من عكس هذا، وقال: إن أصابت قطعةٌ الفُوقَ مستدةً، فهذه إصابة، وفي احتسابها خلاف؛ فإن هذه القطعة هي المقروعة بالوتر، ولا معنى للرمي إلا قرع الفوق بالوتر، والقطعة التي فيها النصل إذا باينت السهم، لم يبق فيها تحامل اعتمادات الوتر على سداد، فإصابتها وفاق، والمسألة محتملة كما وضحناها. فصل في بيان الإصابة المشروطة 11684 - إذا شرط أصحاب النضال إصابة القرطاس، فليست الإصابة خافية، ولكن لا تُحسب الإصابة عَرْضاً، وكذلك إذا انقلب السهم وأصاب فُوقُه، فهذا غير محسوب؛ فإن ذلك لا يُعد إصابةَ السهم المرمى، ولو أصاب السهم شجرة مائلة عن قُبالة الغرض، أو جداراً، ثم ارتد، وردّته الصدمة إلى سنن الغرض، وأصاب فهذا فيه تردّدٌ، والأصح أنه لا يعتد به، فإن سبب الإصابة الصدمة، وإلا فالسهم في مَرِّه مائل عن سنن المطلوب، ولولا الصادم، لبعد موقعه عن القرطاس. ولو كان السهم على السنن، ولكن صدم الأرضَ قبل الوصول، وارتد من الأرض، وأصاب، فقد اختلف الأصحاب في ذلك أيضاً، وجعلوا الاعتداد بالإصابة في هذه الصورة أولى؛ فإنَّ السهم واحتكاكه بالأرض يدل على انخفاض ممره، وطلب خفض السهم نهاية الحَذاقة، وهو أول الرماية وآخرها. والأصح عندنا أنَّ الإصابة غيرُ معتد بها، فإنَّ السهم إذا احتك بالأرض، فقد انتهى أثر رَمْي الرامي، وبان أنه سدَّد سهمه على هذا الموضع، ولم يشعر، وما كان من ارتدادٍ، فهو بعد انتهاء السهم.

_ (1) هـ 4: " فهل يحسب ذلك ".

ولا خلاف بين الرماة أنَّ ذلك غير محسوب، وإنما التردد للفقهاء، ويمكن أن يخرج هذا على العادة وأنها هل تُتّبع؟ فإن اتبعناها، فلا يُحتسَب بها، وإن لم نتبعها، فهذا يُسمى إصابة، وعلى الرامي القصاص إذا قصد إنساناً وأصاب كذلك. ولو أصاب السهمُ وارتد من الغرض، فالإصابة محسوبة بلا خلاف، ولا يشترط الخزق والثبوت والمشروط الإصابة. وإذا كان المشروط الإصابة -كما ذكرنا- فأصاب السهمُ طرف الغرض، وخزقه، نظر: فإن تفطّر الطرف وجِرمُ السهم في حيز الغرض بكماله، فهو محسوب، فإن كان بعض جِرم السهم في حيز الغرض، والبعض منه خارج، ففيه خلاف بين الأصحاب، ولعل الأوجه أنه إصابة. 11685 - ولو وقع التشارط على الخوازق والخواسق، فالإصابة لا تكفي حتى يحصل الخروج المشروط، ولو وُجد الخَزْق على الطرف، فهو كما ذكرناه إذا كانت الإصابة هي المشروطة، وكان شيخي يقول: " إذا كان المشروط الخازق، ولم يكن كل السهم في حيز الغرض، فهذا أولى بالا يحتسب ممّا إذا كان المشروط الإصابة؛ فإن هذا قد لا يُسمى خزق الغرض، وإنما هو شق طرفه ". وهذا خيال لا حاصل له، والذي يعترض في الخاسق المشروط شيئان: أحدهما - أن السهم لو أصاب الغرض وخرقه ومرق منه لحموته وقوته، فقد ذكر صاحب التقريب والإمام (1) قولين في أن هذا هل يحتسب خاسقاً: أحدهما - لا يحتسب ما لم يثبت في الغرض، وهذا لا أعرف له وجهاً، ولكني رأيت الرماة يميلون إلى هذا، فالاعتداد به؛ فإن الخزق قد حصل، والمروق بعده زيادةٌ تُشعر بالقوة. والثاني - أن السهم يحسب، وهو القياس الذي لا دراء له، وهو منطبق على مقتضى اللفظ ومعناه. ولو كان المشروط الخاسق كما ذكرناه- فأصاب السهم سهماً كان في الغرض، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من احتسبه، وربما كان يقطع به شيخي.

_ (1) الإمام: يقصد والده.

ومنهم من قال: لا يحتسب، وهو مقتضى اللفظ، وعلى هذا إن أصاب خَزْقاً في الغرض، وثبت فيه، فمنهم من احتسبه، ومنهم من لم يحتسبه؛ فإن النصل صادف هواء الثقب، ولم يؤثر في خزق، والمشروط الخزق. والأفقه عندنا الاعتداد به إذا كان السهم في قوته بحيث يخرق لو أصاب موضعاً صحيحاً؛ فإن الغرض من ذكر الخَزْق ألا ينبو السهم، ومن ضرورته الإصابة، وليس معنى اشتراط الخاسق أن يرجع الغرض في حق الرمي إلى مواضع لم تُصبها السهام من الغرض؛ فإن هذا في التحقيق قد يرد الغرض إلى نصفه، وهذا يستبينه الفطن، إن شاء الله تعالى. والمسألة محتملة. 11686 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو أصاب الجريدة، وهي السعفة التي ينتصب الغرض عليها، فقد فصل العراقيون ذلك؛ فقالوا: إن شرطا إصابة الشَّن الذي على وسط الهدف، فلا تحسب إصابة الجريدة. وإن شرطا إصابةَ الهدف، وهو الترس الذي الشَّن في وسطه، فإصابة الجريدة محسوبة؛ فإنها متصلة بالغرض اتصال إثبات، وهي بمثابة جزء من الغرض، وذكر شيخي قولين في هذه الصورة الأخيرة، وهما متجهان: أحدهما - وهو الذي ذكره العراقيون- أنه إصابة إذا كان المشروط إصابة الغرض. والثاني - أنه غير محسوب؛ فإن الجريدة تُسمى عماد الغرض وقائمته، وليست من الغرض. والمسألة محتملة. والأوجَهُ ما ذكره العراقيون؛ فإن قائمة السرير من السرير، ويجوز أن ينفصل عن ذلك فيقال: قائمة السرير من الخشب الذي منه السرير. فصل 11687 - إذا وقع التشارط على احتساب القريب، جاز، فإن أبانوا مقدار القرب بشبرٍ أو فترٍ، أو قِيدَ سهم، ولم يعتدّوا بما يقع وراء ذلك، فشرطهم متبع، وكأن الحد الذي راعَوْه من القُرب هو الغرض المطلوب، والقرطاس في وسطه لتسديد النظر، فلو شرطوا الاحتساب بالقريب على الجملة من غير تعرض لضبط، ففي صحة

المعاملة وجهان: الأصح - أنها لا تصح؛ للجهالة، والقرب لا ضبط له. والثاني - أنها تصح. ثم في تفريع ذلك وجهان: أحدهما - أنه يحمل على قِيد سهم، وهذا كلام سخيف، لا أعرف له قياساً، ولا أمراً يرجع إلى عادة الرماة، وصاحبه يدعي أن هذا حد القُرب في عادة الرماة. ومنهم من قال: مطلق القرب محمول على الاعتداد بالقرب، فالأقرب، بتأويل أن القريب يُخرج البعيد، ثم هؤلاء اختلفوا على وجهين آخرين: فقال بعضهم: إذا اتفقت سهام قريبة لأحدهم، والبعضُ أقرب من البعض، وأبعدها أقرب من أقرب صاحبه، فالسهام بجملتها محسوبة له. ومنهم من قال: أقربه يُسقط أبعده أيضاً. وكل ذلك خبطٌ، والذي يجب القطع به أنه لا بد من ذكر ذلك وضبطه بالشرط، والرماة يعتادون إبانة ذلك. ولو ذكروا مقدار القرب، وتعرضوا للغرض والقرب منه، فالسهم الذي يثبت أسفل الغرض على الحد المشروط من القرب، أو على جانبه قريب محسوب، والسهم الذي يقع فوق الغرض، ويثبت على حد القرب المشروط محسوب على الأصح. وذكر شيخي قولين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الذي يجب القطع به، والثاني - أنه لا يحسب، فإنه يشير إلى الزهوق والسهم الزاهق لا يعتد به، وكان يشير في هذا إلى عادة الرماة، ولا أصل له؛ فإن القُربَ محقّق، والسهمُ سديد ثابت، وفي الرماة من يستحسن ما يقع فوق القرطاس. وإذا شرط القريب، فوقع السهم بالقُرب من الغرض، ولم يثبت، فهذا غير محسوب؛ فإن القريب وجب أن يثبت أو يصيب ثم يرتد، فإذا لم يُصب، فهو ساقط، والمعنى يُحسب القريب احتساب السهم المصيب لحيّز القُرب، فقد ذكرت أن القُرب إذا ضبط، فكأن الغرض قد اتّسع. 11688 - وممَّا كان يذكره شيخي أن المناضلة إذا عقدت على احتساب القريب، ووقع التعرض لمنتهى القُرب ضبطاً بالشرط، فمقتضى المعاملة أن يُخرج قريبُ أحد

المتناضلين ما هو أبعد منه من سهام صاحبه، إن كان ذلك البعيد في حد القُرب المضبوط المشروط. وأنا أقول: إن شرطوا أن يُخرج الأقرب ما وراءه، فالشرط متّبع، وإن لم يكن (1) لهذا تعرض، فليس في معنى احتساب القريب ما يشعر بإخراج الأقرب ما فوقه؛ فإن لم يثبت للرماة في ذلك عادة مستمرة، فالوجه الاحتساب بكل ما يقع على حد القُرب المعتبر، وإن ثبت في ذلك عادة للرماة، فيجتمع موجب اللفظ وحكم العادة، فإن اعتبرنا العادة، حكمنا بإخراج الأقرب ما فوقه. وفي هذا يتبين أمرٌ به انكشاف أغراضٍ، وهو أن القُرب لو كان مفهوماً في عادة الرماة معتبراً بِقِيد سهم، فإخراج القريب يحمل على العادة الجارية، وهذا لا يُدرج تحت القولين، بل هو في معنى حمل الدراهم المطلقة على النقد الغالب، من جهة أن القريب لا ضبط له في اللسان، واللفظ المبهم تبيّنه قرينة الحال، كذلك القول في القريب؛ فإنه لا ضبط له في وضع اللغة، فإن صح ضبط في العادة على اطرادٍ، كانت العادة قرينة اللفظ، فأما إخراج الأقرب لما فوقه، فليس من باب تفسير لفظ مبهم، فلا يصح أن يكون هذا قرينةً للّفظ مفسرةً له، فيثبت القريب مضبوطاً والمسألة مفروضة في الضبط، فالكلام مستقلٌّ إذاً، ولكن يعارضه عُرفٌ يليق بالاستصلاح، فخرج القولان، وهذا كالقولين فيمن يُبدأ به؛ إذ ليس في اللفظ تعرض للبداية، ولا يصير اللفظ مع العادة مشعراً بها، فبقي لفظٌ مستقلٌّ (2) وعادة تعارضه. 11689 - ومما نذكره في فصل القريب أن التناضل إذا وقع على احتساب القريب، فقرب سهم من القرطاس، ولم يلق ما يثبت فيه، فهذا قريب، ولكن أهم أمر فيه التصوير، فإن كان القرطاس مفرداً، ولم يكن وراءه ترس أو تراب، فاشتراط القريب لا يحمل على ما يقرب في مرِّه، فاذا وقع التشارط كذلك (3)، اتبعناه، ولكن هذا

_ (1) هـ 4: " يقع ". (2) هـ 4: "مستعمل". (3) هـ 4: " على ذلك ".

لا يراه أحد، ولا يعتاده جيل (1) من الرماة، غير أن شرط القرب -والحالة كما وصفناها- تصريح بوضع المعاملة على خلاف العادة، ونحن إنما نتبع العادة في قولٍ إذا كان اللفظ مطلقاً، فأما إذا صرح اللفظ بمناقضة العادة، ولم يخالف مقتضىً شرعيّاً، فلا تعويل على العادة. وهذا بمثابة البيع بدراهم غريبة موصوفة، غير الدراهم الجارية في عرف المعاملة، ولو كان القرطاس أمام تراب أو ترس، فلا يتصور الاحتساب بقريب لا يلقَى الترابَ في مرِّه، فإن وقع الشرط كذلك، عاد التفصيل الذي ذكرناه، وإلا فالقريب لا بُد وأن يثبت فيما وراء القرطاس، ثم القول في القرب والبعد ما ذكرناه. فصل مشتمل على أنواع القسي والسهام، والتعامل عليها 11690 - فنقول: تقدم أنَّ التناضل على جميع أجناس القسيّ والسهام جائز، ونحن نصدر هذا الفصل بأمور متفق عليها: أجمع الأصحاب على جواز التناضل مع اختلاف أجناس القسيّ، فلا يمتنع أن يرمي البعضُ عن القوس العربية، والبعض عن الفارسية، وهذا بمثابة المسابقة بين البراذين والعتاق العربية، وسنختم هذا الفصلَ، إن شاء الله تعالى بطرف من الكلام في هذا، ونعطفه على أصول المسابقة، [وإذا كان لا يمنع المسابقة] (2) بين البرذون والعربي، مع أن التعويل في المسابقة على الفرس، والتعويل في الرماية على الرامي، فاحتمال اختلاف الأنواع في القسي أقرب، والمسابقة بين الفرس والحمار والبغل -إذا جوزنا التسابق على الحمر والبغال- بعضها مع بعض مختلف فيه: فمن أصحابنا من منع المسابقة بين الفرس والحمار والبغل؛ لاختلاف الجنس والتفاوت العظيم، ثم ذكر الفقهاء في مناظرة الفرس والحمار، السهم والمزراق،

_ (1) الجيل: الأمة والجنس من الناس، فالترك جيل، والروم جيل. (المعجم) فالمعنى أن هذا شيء لا يعتاده أحد من الرماة. (2) زيادة من (هـ 4).

وأَجْرَوْا وجهين في جواز التعامل بينهما في إصابة مُعيَّنٍ شاخص، ورأَوْا هذه المعاملة أقربَ إلى الجواز؛ لما أشرنا إليه من ظهور التعويل على الرمي والرامي فإن قيل: لم قلتم التعويل في المسابقة على الفرس، والتعويل في المناضلة على الرامي؟ قلنا: لسنا ننكر أثر الفارس، ولكن الأثر الأغلب محال على الفرس، وليس المقصود من الركض تعلم الفروسية، فإن الفروسية لا تتعلم بهذه الجهة، وإنما تتعلم بمعرفة الرياضة ثم كيفية الرِّكْبة (1) والهيئة، وضبط العِنان في الخبب والهرولة، والإدارة على الحلقة المسماة (آورد) (2)، والغرض الأظهر من ركض الخيل تضميرها وتمرينها على العدو، وهذا لا يحصل إلا بالركض، وأما القسي فلا تصلح بالرمي، وإنما يصلحها القواس، والغرض تمرن الرامي على الرمي، والعبارة القريبة في الفرق: أنَّ الفرس حيوانٌ يعدو باختياره، وليس على الفارس إلا تزجيته، والاختيار كله في الرمي للرامي. 11691 - ومما نقدمه أنَّ التعامل إذا وقع على القسي العربية، فأراد أحد المتناضلين أن [يُبدّل] (3) القوس العربية بالفارسية (4)، لم يكن له ذلك لما بين الفارسية والعربية من البَوْن البعيد، والفارسية أشدّ، والرمي منها أسدّ، ومدى سهمه أبعد، ونحن لا ننكر أثر الآلة، وإن كان التعويل على الرامي. ولو وقع التناضل على القسي الفارسية، فأبدل أحدُهما القوسَ بعربية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك جائز؛ فإنه انتقل من الأجود إلى ما دونه، فليس فيما فعل إجحاف. والثاني - لا يجوز ذلك حسماً لإبدال الجنس بالجنس، وقد يكون أعرف بالرمي

_ (1) هـ 4: " الركضة ". (2) كذا في النسخ الثلاث، وفي بسيط الغزالي (أورد) بهذا الرسم. ولم أجد في المعاجم هذا المعنى. وأخيراً وجدناها في المعجم الذهبي (فارسي- عربي) للدكتور محمد التونجي، ومعناها: ميدان الحرب. (3) في الأصل: " يقول ". (4) الباء هنا لم تدخل على المتروك، وذلك جائز عند أمن اللبس، كما في عبارتنا هذه والعبارة التي بعدها.

على القسي العربية وأمهر فيها، فالوجه حسم ذلك بالكلية. ولو وقع التناضل من غير (1) تعرضٍ لتعيين نوع من القسي: نُظر، فإن كانت الناحية تشتمل على الأنواع والترامي غيرُ نادرٍ بالجميع، فقد اختلف أصحابنا: فقد ذهب بعضهم إلى أن المناضلة المطلقة فاسدة في مثل هذه البقعة؛ فإنها أنشئت على الجهالة، مع تفاوت الغرض، واختلاف المقصد، وهذا ما مال إليه صاحب التقريب، ووجهه بيّن. وذهب الأكثرون من الأصحاب في طرق العراق وغيرها إلى تجويز المناضلة المطلقة. فإن أفسدنا، فلا كلام، وإن حكمنا بالصحة، وهو الذي صار إليه الجمهور، فقد قال العراقيون: لا بُد وأن يقع الترامي على نوع واحد، فإذا أخذ واحدٌ العربية، امتنع على الآخر أَخْذُ الفارسية، ثم قالوا: الخيرة إليهما في تعيين نوعٍ يريدانه. وهذا كلام مبهم، لا أقنع بمثله، وإشكاله يبين بسؤال، وهو أن قائلاً لو قال: إذا اختار أحدهما العربية، واختار الثاني الفارسية، وتنازعا، فكيف التفاصيل؟ وليس أحدهما أولى من الآخر، وهذا يُفضي إلى تعذر إمضاء العقد. هذا هو السؤال. والجواب عنه عسرٌ. [والوجه] (2) بعد بيانه أن نقول: إن حكمنا بلزوم هذه المعاملة، فالوجه أن نحكم بأن الإطلاق فيه مفسدٌ؛ لإفضائه إلى ما وصفنا، وليس ذلك كفرض اختلاف المتبايعين في الثمن والمثمَّن؛ فإن اختلافهما في حكم النادر الذي يطرأ، وليس من مقتضيات العقد، والمعاملة التي نحن فيها تُفضي لو صحت إلى الخيرة التي ذكرها العراقيون، ثم ينشأ منها التنازع لا محالة، فقد أدت المعاملة بمقتضاها إلى ما يوجب رفعها. وإن حكمنا بأن هذه المعاملة جائزة، فلا يمتنع على ذلك الحكمُ بانعقاد العقد، ثم إن توافقا على نوع، فذاك، وإن تمانعا، فالمعاملة عرضة الفسخ، وليس جريان الفسخ فيه مناقضاً لوضعه.

_ (1) هـ 4: " من ذكر جنس من القسيّ ". (2) في الأصل: " فالوجه ".

فهذا إيضاح الخلاف، وتنزيله على الأصل الذي لا بُد منه. ومما نقدمه أن الأنواع إذا اختلفت ووقع التراضي من المتناضلين على الترامي على الأنواع المختلفة، فهو جائز. 11692 - وانتظم من مجموع ما قدمناه أنَّ التوافق على نوع يمنع العدول إلى ما هو أعلى منه، وفي العدول إلى ما دونه خلاف. ولو وقع التوافق على التناضل على نوعين، جاز بلا خلاف، وفي الإطلاق -وفي الناحية نوعان، أو أنواع- خلافٌ منزل على الوجوب والجواز، فلو اتحد النوع في الناحية، فالعقد المطلق منزل عليه، كما أن الدراهم المطلقة منزلة على النقد الغالب. ولو كان الترامي على نوع معلوم، فتشارطا على ألا يُبدل واحد منهما قوسَه، فنقول: أولاً إن لم يجز في ذلك ذكر، فالإبدال سائغ بلا خلاف، سواء فرض اختلال في القوس أو لم يفرض، وعند ذلك يظهر (1) انفصال النضال عن السباق؛ فإن الفرس المتعين للمسابقة لا يبدل بغيره، والقوس المتعينة تبدل بغيرها من نوعها، والمعتمد في الفرق ما قدمناه، من أنَّ التعويل في المسابقة على الفرس وفي النضال على الرامي. فإذا وضح هذا في القوس، فلو شُرط تعيين القوس، ومُنع إبدالها، فالأصح أن هذا الشرط فاسدٌ؛ فإن الرامي قد تطرأ عليه أمور خفية، هو أعرف بها، فتُحوجه إلى إبدال القوس، [وفي حسم هذا تضييق] (2) وإرهاق لا فائدة فيه، وهو قريبٌ من تعيين الصاع في السلم. ومن أصحابنا من قال: يصح الشرط، ويجب الوفاء به، على ما سنصفه في التفريع، إن شاء الله تعالى، ويحتج هذا القائل بأنه قد يظهر غرض بيّن في تعيين القوس؛ فإن إبدال القوس اللينة بالشديدة يتفاوت تفاوتاً قريباً من إبدال العربية بالعجمية.

_ (1) هـ 4: " يفرض ". (2) في الأصل: " وفي هذا حسم تضييق ... ".

التفريع: 11693 - إن حكمنا بإفساد الشرط، فهل تَفسد المناضلة أم يُلغى الشرط، ويقدّر كأنه لم يكن؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب ومهد ضبطاً حسناً في ذلك، وقال: كل شرط لو فرض طرُحه لاستقل العقد بإطلاقه، فيجري فيه الوجهان إذا فسد، وكل ما لو طُرح، لم يستقل العقد، فإذا فسد، فلا بُد من فساد العقد، فهذا مثل ألا يذكر في المسابقة غاية، ولا في المناضلة قرعات، فالمعاملة فاسدة، لا وجه إلى تصحيحها مع تقديرها، وسبيل طلب الصحة ابتداء عقد على شرط الشرع. وإن قلنا يصح تعيين القوس، فتقديره ألا يبدل القوس ما بقيت، فإن انكسرت، فكيف الوجه؟ إن وقع الشرط على أن لا إبدال إلا إذا انكسرت، فيصح العقد وينزل على هذا المقتضى، وإن وقع الشرط على أن لا إبدال، وإذا (1) تكسرت القوس، انقطعت المعاملة، فيجب الحكم بفسادها، فإن هذا إبلاغ في تعيين الآلة، وحقها ألا تتعيّن. 11694 - هذا منتهى الغرض في ذلك، وقد وعدنا أن نذكر مسائل في المسابقة من هذا النمط، فنقول أولاً: إذا تعينت الأفراس في التسابق، فلا إبدال بوجه على ما تمهد من ارتباط المعاملة بالخيل أو الإبل، وهي العمدة والعماد، ولو تعاقدا المسابقة من غير إحضار الأفراس، واعتمدا الوصف فقد قال العراقيون: يجوز ذلك، ثم قالوا إذا كان التعويل على الوصف، فيجب أن يحضرا فرسين من نوع واحد، إما من العتاق أو البراذين، قالوا وهذا إذا [لم يجر لها] (2) ذكر، وجرت المسابقة على الإطلاق، والمسابقة المطلقة مع وجود البراذين والعتاق في الناحية، كالمناضلة المطلقة مع وجود القوس العربية والعجمية في الناحية. ولو لم يُحضرا فرسين ورضيا بالتسابق على البرذون والعربي، جاز ذلك كما يجوز ذلك في النوعين من القوس إذا وقع التراضي بالتناضل عليهما.

_ (1) هـ 4: " فإذا ". (2) في الأصل: " لم يجر لهذا ".

وهذا الذي ذكروه سديد لو صحت المسابقة من غير تعليق بأعيان الخيل. وكان شيخي يقطع باشتراط تعيين الخيل في المعاملة؛ فإن المعول في المسابقة على أعيانها، وفي هذا احتمال ظاهر، والأوجه ما ذكره العراقيون. والعلم عند الله تعالى. واختلاف السهام وإن اتّحد نوعُ القسي (1) كاختلاف نوع القسي (2)، وبيانه أن الرمي بنبال الحُسْبان (3) التي تسمى نازك (4) إنما يكون على القوس الفارسية، ولكن لا بُد من إلحاق آلةٍ بالقوس، فيخرج القوس عن طريق الرمي باليد، ويصير مع الآلة المتصلة بها كنوع آخر من القوس وكذلك قوس الجَرْخ مع قوس اليد، والجَرْخ مع النازك (5) مختلفان، وهذا مستبين عند أهل المعرفة، وكان شيخي يُلحق بهذه المسائل المسابقة بين الإبل والخيل، ويقول: هي أقرب من المسابقة بين الخيل والحمر؛ من جهة اجتماع الخيل والإبل في كونهما أصلين في المسابقة. ومع هذا الخلافُ قائم في جواز المسابقة؛ لمكان اختلاف الجنسين، وليس كاختلاف النوعين، نحو اختلاف البراذين والعتاق، وكان يتردد بين البغال والحمر، وليس يخلو ذلك عن خلاف. وهو أقرب من الخيل والحمر. فصل مشتملٌ على إلحاق الزوائد في المسابقة والمناضلة 11695 - ومقصود هذا الفصل يترتب على القولين في أن هذه المعاملة جائزة، أو لازمة؛ فإن حكمنا بلزومها، فلا يلتحق بها الزيادة طرداً لقياس المذهب في أن العقود

_ (1) هـ 4: " القوس ". (2) هـ 4: " القوس ". (3) الحُسْبان: نوع من السهام، وهي سهام صغار يرمى بها عن القسي الفارسية، الواحد حسبانة (المصباح). (4) في (ق): " ناوك ". (5) سبق تفسير الجرخ والنازك.

اللازمة لا تلحقها الزوائد والتغايير التي تشبه إلحاق الزوائد، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى. ولا فرق بين أن يتراضيا عليه، وبين أن ينفرد بالإلحاق أحدهما، فإن أرادا ثبوت الزيادة، فالوجه فسخ العقد الأول عن تراضٍ، وإعادتُه على حسب المراد، ثم قد قدمنا التفريعَ على قول اللزوم، وحكينا عن القفال: أنا وإن ألزمنا المعاملة، فلا يجب تسليم السبَق؛ فإن استحقاقه موقوف على تمام العمل المشروط، وهذا هو الذي لا يجوز غيره، وفي بعض التصانيف أنه يجب تسليم السبَق إذا قضينا بلزوم المسابقة والمناضلة قياساً على تسليم الأجرة في الإجارة، وهذا غلط بيّن، وذهول عن درك مقصود هذه المعاملة ومغزاها؛ فإن مبناها على الخطر والتوقع، وليس ذلك كتوقع انهدام الدار المستأجرة؛ فإن الأصل بقاؤها، والنفوس مطمئنة إلى استمرار وجودها، وفوز السابق ليس في هذا المعنى. وقد يعترض وضع سبَقين من شخصين وبينهما محلِّل، فالتسليم إلى من؟ وكيف الحكم إذا فرّعنا على أن مخرج (1) السبَق يستحق السبق؟ ومما يتفرع على هذا القول أن المناضل إذا مات، فالمعاملة تنقطع، وإن حكمنا بلزومها؛ فإن المناضلة تتعلق بعين الرامي، فموته كموت الأجير المعيّن. ولو مات المسابق والفرس قائم لم يعطَب. والتفريع على اللزوم، فيتجه إيجاب الوفاء على الورثة؛ لأنَّ التعويل على الفرس، كما تقرر من قبل. هذا إذا حكمنا بلزوم المعاملة. 11696 - فأما إذا حكمنا بجوازها فلو تراضيا بإلحاق زيادة بالعقد، مثل أن يُلحقا مزيد قرعات، أو أرشاق، أو مزيداً في السبَق، فالمذهب أنَّ الزيادة تلحق، لمكان جواز العقد. وقد ظهر اختلاف الأصحاب في أنَّ الزيادة هل تلحق الثمن أو المثمن في زمان

_ (1) هـ 4: "شخوص".

الخيار أو مكانه، فخرّج بعض أئمتنا (1) وجهاً على البُعد (2) في إلحاق الزوائد بالمعاملة التي نحن فيها وإن فرعنا على جوازها، وهذا قد يتجه بأن يُعتبر العقد غير معقول (3)، ولا بُد في الزيادة من عقد، والعقدُ لا يلحق العقد، ولا عَوْد إلى هذا الوجه البعيد، ويتّضح الفرق بين البيع في زمان الخيار -والعقدُ مبناه على اللزوم- وبين المعاملة التي نحن فيها، ومقصودُها غررٌ مغيّب، ولولا الشرع، لكانت على مضاهاة القمار. وما ذكرناه فيه إذا تراضيا على الزيادة وإلحاقها. 11697 - فأما إذا انفرد أحدهما بإلحاق الزيادة، فإن قلنا: لو ألحقناها لحقت. فإذا انفرد أحدهما ولم يقبل الثاني، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أنها لا تلحق وإن لحقت بالتراضي؛ تخريجاً على أن أصل العقد لا بُد فيه من القبول، وإن جعلناها كالجعالة، فإذا اشترطنا القبول في أصل المعاملة، وجب اشتراطها في الزيادة. والوجه الثاني - أن الزيادة تلحق، وإن لم يقبلها من لم يَزِدْ لجواز العقد وقبولها (4) لفنون التغايير. والوجه الثالث - أنا ننظر إلى الزائد، فإن كان فاضلاً، أو مساوياً لصاحبه، فالزيادة تصح، وإن كان مفضولاً، فلا يصح منه الانفراد بإلحاق هذه الزيادة من غير رضا صاحبه، فإنه بزيادته يفوّت على صاحبه حقَّه، ولو فتحنا هذا البابَ، لاتّخذه كل مفضول دأْبه مهما (5) أحسَّ بكونه مفضولاً. والوجهُ الثاني الذي ذكرناه ساقط ضعيف؛ لأنَّ مضمونه التسوية بين الفاضل والمفضول.

_ (1) هـ 4: " أصحابنا ". (2) وجهاً على البعدَ: المعنى خَرَّجَ وجهاً يستبعد جواز إلحاق الزيادة وإن حكمنا بجواز العقد. (3) هـ 4: " غير مشروعٍ ولا معقول ". (4) وقبولها: أي المناضلة، أو المعاملة. (5) مهما بمعنى إذا.

11698 - وينشأ من هذا المنتهى سرٌّ في المذهب، وهو أنا إذا فرقنا بين الفاضل والمفضول، فلو أراد المفضول أن يفسخ العقد بعد ما ظهر استيلاء (1) صاحبه عليه، فليس له ذلك؛ فإنا إذا كنا نمنعه من الزيادة لما فيها من تفويت حق المناضل الفاصل، فالفسخ أولى بأن يمتنع، وقد أفضى ما ذكرناه إلى أنا في التفريع على قول التفضيل إنما نحكم بجواز العقد إذا لم ينته الأمر إلى مصير أحدهما مفضولاً، فإذا صار مفضولاً، لزم العقد في حقه، وبقي الجواز في حق الفاضل؛ فإنه إذا كان يجوز للمساوي أن يفسخ، فلأن يجوز ذلك للفاضل أولى. ومن تمام التفريع أنا إذا قلنا: ينفرد أحدهما بالزيادة، وتلتحق بالعقد، فلا ضرار على الذي لم يرض؛ فإنا نجوز له أن يفسخ العقد، فإن ثقلت الزيادة عليه، فليفسخ. 11699 - ومن بقية الكلام في هذا [المنتهى] (2) الكلام في المفضول، وقد اختلف أصحابنا فيه، فقال بعضهم: إذا زاد صاحبه عليه بسهم واحد، فهو مفضول، والكلام فيه ما سبق. ومن أصحابنا من قال: القَرْعة والقرعتان قد لا يتحقق كون المفضول بهما متهماً في الزيادة وإنما تظهر التهمة إذا بلغ ما اختص به صاحبه [مبلغاً يعدُّ بذلك] (3) مستعلياً على مناضله، فعند ذلك يصير المفضول متهماً، ثم الحكم ما قدمناه. ويتصل بهذا المنتهى أن من عقد جعالة على عوض ثم إن الجاعل زاد في العمل، فثبوت تلك الزيادة -وإن كانت الجعالة جائزة في وضعها- بمثابة زيادة المتّهم المفضول، فإنَّ الجاعل يبغي حظ نفسه فيما يزيده من العمل، كما أنَّ المفضول يبغي حظ نفسه، ثم الذي يقتضيه القياس أنَّا إنْ قُلْنا: لا تلحق زيادة العمل في الجعالة، فلا كلام، وإن قُلنا: إنَّها تلحق، وقد عَمِل المجعول له [بعضَ] (4) العمل الأول، فلم

_ (1) كذا في النسختين: وهي بمعنى ظهر فوزه عليه. (2) زيادة من (هـ 4). (3) في الأصل: " مثل ما يعد بذلك ". (4) في الأصل: " بعد ".

يرض بالزيادة وأراد الفسخ، فالوجه أن يستحق على مقابلة ما عمله أجر المثل، فإنَّه ما تركَ إتمام العمل مختاراً حتى زيد عليه؛ فكان معذوراً في الفسخ، وليس كما لو عمل بعض العمل، حيث لا زيادة، ثم اختار الفسخ بنفسه؛ فإنه لا يستحق على مقابلة ما قدمه من العمل شيئاً. 11700 - ومما يتصل باستكمال الغرض فيما نحن فيه أنَّهما لو تعاقدا عقد المناضلة، ثم بدا لأحدهما أن يترك الرمي ويُعرض عنه، فإن قُلنا العقد لازم، فلا سبيل إلى الإعراض من غير اعتراض عذرٍ مانع من الرمي، وإن قُلنا المعاملةُ جائزة في وضعها، فإن كان المُعرِض غيرَ مفضول على ما سبق تفصيل المفضول، فله أن يُعرض من غير فسخٍ، وله أن يفسخ. وإن كان المُعرِض مفضولاً متهماً، فهل له الفسخ؟ فعلى قولين مبنيين على ما تقدم ذكره من أن الزيادة على القرعات هل تلحق المعاملة إذا صدرت من المفضول المتهم، وعلى هذا لو شرط في الجعالة جُعلاً لإنسان، فعمل المجعول له بعضَ العمل، وهو مقدم على إتمامه، ولو فسخ العقد الجاعل، لكان أجر مثله بمقدار عمله أقلَّ من حصة ذلك المقدار من المسمى، فانفراد الجاعل بالفسخ يُخرّج على الخلاف الذي قدمناه. وقد نجز الغرض في الزيادة في مضمون المناضلة. 11701 - فأما إذا أراد المتناضلون النقصان من القرعات أو من الأرشاق، فهذا يخرج لا محالة على التردد الذي ذكرناه في الزيادة؛ فإنَّ سبيل إلحاق النقصان بمقتضى العقد كسبيل إلحاق الزيادة، ولا يخطر للمحصّل تشبيهُ الحط في مسألتنا بإبراء البائع عن بعض الثمن؛ فإن ذلك نافذ بعدَ اللزوم، غيرُ ملتحق بالعقد، بل سبيله سبيل استيفاء الثمن؛ فإن الإبراء تصرفٌ من المستحق في الدَّيْن، وهو يجري في قيم المتلفات والعروض وحيث لا يتوقع إلحاق الزوائد، وحط شيء في هذه المعاملة من القرعات أو الأرشاق ليس في هذا المعنى، نعم لو حط من شُرط السَّبَق له قبل الفوز بالعمل المشروط، كان ذلك إبراء عن شيء قبل وجوبه، وهو في معنى ضمانه قبل وجوبه، وقد ظهر سبب وجوبه. وقد تم المراد.

فصل 11702 - ذكر المزني مسألة أخطأ فيها حُكماً وتعليلاً؛ فإنه قال: " لو أخرج مُخرج مالاً وقال لرامٍ: ارم عشرة، فإن كانت قرعاتك أكثر، فلك السَّبَق الذي أخرجته " (1). قال المزني: " لا يجوز ذلك؛ لأنه ناضل نفسه "، وهذا الذي نقله عن الشافعي خطأ؛ فإنه نص على أن ذلك جائز؛ إذ لا مانع منه، والمقصود من إخراج السبَق التحريضُ على الرمي، ولا فرق بين أن يفرض صدوره عن رامٍ واحد، وبين أن يفرض عن جماعة. هذا خطؤه في النقل عن الشافعي. وأما خطؤه في التعليل، فهو أنه قال: " لأنه ناضل نفسه "، وهذا خطأ لا شك فيه، فإنَّ الغرض أن يجدّ هذا الرامي ويحرص على تكثير القرعات، وهذه العلة التي ذكرها إنما ذكرها الشافعي في صورة أخرى، وهي أنه: لو قال: ارم عشرةً عن نفسك وعشرةً عني، فإن كانت القرعات في عشرتك أكثر، فلك ما أخرجت، فهذا غير جائز؛ فإنه قد يقصر في العشر المشروطة للمُسْبِق، فيكون مناضلاً نفسه، ولا يصح العمل على هذا النسق، فقد ظهر غلطه في الفتوى والتعليل. وذكر العراقيون في المسألة التي ذكرها المزني وجهاً بعيداً موافقاً لمذهبه وفتواه، وقالوا: من أصحابنا من أفسد المعاملة؛ من جهة أن الكثرة التي ذكرها في القرعات مجهولة، وهذا ليس بشيء؛ فإن قوله: إن كانت قرعاتُك أكثرَ محمول على ما إذا أصاب من العشرة ستة، فتتحقق الكثرة بهذا، واللفظ صريح في اقتضاء الاكتفاء بست قرعات. والوجه عندنا أنه إن أصاب ست قرعات وِلاءً، فقد بان أنه استحق المال، وإن لم يصب الأربعة الباقية، فلو قال: أقتصر على ما كان مني، فإني استحققت المال، وقال الشارط: استكمل العشرة؛ فإني علقت الاستحقاق بعشرة إصاباتها أكثر، فالظاهر أنا نلزمه استكمال العشرة؛ فإنَّ لفظ الشارط: " ارم عشرة "، فلا استحقاق دون رميها، والخلاف جارٍ في المسألة، على ما مهدنا من الأصول قبل.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 221.

فصل 11703 - لو كان يتناضل جمعٌ، فمرّ بهم مارٌّ، وقال لمن انتهت النوبة إليه، وكان على أن يفوّق ويرمي: إن أصبت بهذا السهم، فلك دينار، قال الشافعي نصّاً: " إذا رمى وأصاب استحق الدينار وتلك الإصابة محسوبة له من المعاملة التي هو فيها " وهذه المسألة لا يُؤثر فيها خلاف عن أحد من الأصحاب، وهي دالة على انقطاع هذه المعاملة عن مضاهاة الإجارة؛ من جهة أنها لو كانت بمثابتها، لاستحال أن يستحق بعمل واحدٍ مالين عن جهتين، ووجه الفصل أن سبب استحقاق الأسباق الشرطُ لا رجوع العمل إلى [الشارط] (1) وهذا يؤكد أن المعاملة إذا فسدت، فالرجوع إلى أجر المثل عَسِر، فإنَّ العامل ليس يعمل لغيره، وإنما استحق المالَ المشروط عند عمله على الشارط وفاءً بالشرط. وقال الأصحاب قياساً على ما ذكره الشافعي: لو كان يناضل رجلاً والمشروط عشر قرعات، فشرط أن يناضل بها رجلاً آخر، ثم ثالثاً إلى غير ضبط، حتى إذا فاز بالقرعات كان ناضلاً لمن يراميه وإن تعددوا، فهذا جائز جرياً على ما مهده الشافعي، وتعليله تنزيله على موجب الشرط، وقطعه عن قياس الأعمال المقابلة بالأعواض. ثم قال الشافعي: إذا انتهت النوبة إلى رامٍ، فأخذ يُطوّل، وقد تبرد بهذا السبب يدُ الرامي قبله، فإن قضينا بأن المعاملة جائزة، فلا اعتراض، ولا طلب على المطوّل، وإن قضينا بلزوم [المعاملة] (2) على التفصيل المقدم، فهو مطالب بالجريان على موجب العادة في الرمي بلا إرهاق ولا استعجال [في الرمي] (3) يحمله على ترك الحصافة والتأنق، ولا تطويل يخالف العادة، وهذا واضح.

_ (1) في الأصل: " الشرط ". (2) في الأصل: " المناضلة ". (3) زيادة من (هـ 4).

فصل في اختلاف المواقف 11704 - الرماة يقفون صفّاً في قبالة الغرض، ووضع المعاملة على استوائهم في القرب والبعد من الغرض، ولكن لا يخفى عن ذي الفطنة أن مقابل الغرض على المسامتة الحقيقية أقربُ ممن على يمينه ويساره، وبرهان هذا برسم خطوط من طرفي الصف مع رسم خط من موقف المقابل، ولا شك أن الخطوط تتفاوت، ثم ينضم إليه أن الغرض في حق المقابل أكبر، والمنحرف عن المقابلة يضيق الغرض في حقه، ولكن أجمع الفقهاء والرماة على احتمال ذلك، ولم يشترط أحد أن يتناوب الرماة على الموقف المقابل؛ فإن القيام والقعود عسر، ولو فرض تنافس في المقعد، فهو بحق، وسبيله كسبيل التنافس في البداية، بل التنافس في البداية أهون، والغرض فيها أخفى مما ذكرناه، ثم الفقه يُلحق المواقفَ بالبداية، وقد [تفصّل] (1) القول فيها. ولو وقع التشارط على أن يكون موقف البعض أقرب حتى يتقدم، وموقف البعض أبعد، فلا سبيل إلى ذلك، كما لا سبيل إلى ذلك في المسابقة، ولو لم يشترطا هذا، ولكن أراد أحدهما أن يتقدم، مُنع، وإن رضي بذلك أصحابه، فإن كان قريباً، فلا بأس، وهذا القدر يحتمل بالرضا، لما قدمته من أن المواقف تقع متفاوتة في صف الرماة لا محالة. ولو أفرط في القُرب ورضي بذلك مناضلوه، فهذا تفاوت لا يحتمل -وإن جوزنا إلحاق النقصان والزيادة بالعقد- لأن هذا تفاوت يخالف وضعَ العقد، وهو بمثابة ما لو وقع الرضا في أول العقد أوفي أثنائه بأن يفوز بعض المناضلين بتسع قرعات، والمشروط على كل واحد غيرِه عَشْرٌ عَشرٌ (2). فهذا غير سائغ. نعم، لو رضوا بأن يتقدموا جميعاً وينقصوا من المسافة، فهذا تغيير للعقد على معنى النقصان.

_ (1) في الأصل: " تفسّر ". (2) في (هـ 4): على كل واحد غيره عشر عسر (بالسين) وفوقها علامة الإهمال، وكلمة (صح) وهذا ما جعلنا لا نحملها على أنها سهو من الناسخ. هذا وجاءت (ق) تؤيد الأصل.

ولو كانت المسألة بحالها، فوقعت المناضلة على شرط الصحة، ثم أراد بعضهم أن يتأخر عن الموقف الثابت، فهل له ذلك، وقد زاد على نفسه؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: له ذلك، ولا معترض عليه، ووجهه بيّن؛ فإن سهمه يمر على المسافة المشروطة والزيادة عليها من شأنه. ومنهم من قال: لا يجوز ذلك، فإن القوس الشديدة قد تتحامل على الرامي فيزهق سهمه في الموقف المشروط، وإذا بعُد انخفض السهم وحبا، فإذا كان هذا الفرض ممكناً، فليس إلا الحسم والمنع. وعلى هذا الترتيب لو جرت المعاملة (1) على المسابقة صحيحةً، فأراد أحدهما أن يتقدم، مُنع ولو وقع الرضا به، فلا وجه له، ولو أراد أن يتأخر عن الموقف المعيّن، فعلى ما قدمناه، وقد يكون من طباع فرسه إذا تأخر ورأى متقدماً عليه أن يحتدّ يبغي إدراك المتقدم، ثم يتمادى كذلك في حُمُوَّته. ومن أسرار هذا الفصل أن من تأخر عن الموقف في المسابقة أو المناضلة، فالباقي على الموقف المشروط في حكم المتقدم عليه، وقد ذكرنا أن التقدم ممتنع، ولكن تتميز صورة الوفاق على المنع عن صورة الخلاف بأنَّ الممنوع منه وفاقاً فيه إذا لزم قوم الموقف المشروط، فتقدّم من تقدّم، وصورة الخلاف فيه إذا لزم قوم الموقف، وتأخر باختياره من تأخر، والفرق وإن كان مُخيلاً في الظاهر، فلا فرق في الحقيقة إلا أنَّا نحتمل المقدار اليسير الذي لا يظهر لمثله أثر في الحس الظاهر بناءً على ما جعلناه قاعدة الفصل من تفاوت المواقف لا محالة، وهذا لا يفرق فيه بين التقدم والتأخر. فصل في المعاقدة على الأمور البعيدة 11705 - إذا وقع التناضل على ما لا يبعد مدركه، حكمنا بالصحة على وفق الشرع (2)، وإن جرى شرط لا يُدرك، فالعقد باطل، وهو بمثابة اشتراط مائة رشق مع

_ (1) هـ 4: " المعاقدة على مسابقة صحيحة ". (2) هـ 4: " الشرط ".

الإصابة في جميعها، وهذا يجري من وجوه: قد يكون سبب التعذّر كثرة القرعات، وقد يكون سببه صغر القرطاس، وقد يكون سببه طُول المسافة، فإذا اجتمعت، تناهى التعذر. وإن كان المشروط أمراً بعيداً، ولكن قد يتفق وقوعه على الندور، ففي جواز المناضلة على هذا الوجه وجهان: أحدهما - أنها تصح لإمكان تحصيل المشروط. والثاني - أنها لا تصح لبعد الحصول، وإنما جوز الشرع بَذْلَ المال في هذه المعاملة تحريضاً على الرمي، فإذا كان المشروط أمراً بعيد المستدرك، تبرّمت النفوس [وانخنست] (1). ثم تعرض الشافعي لإجراء ذكر المسافة، وقال: " لو تناضلوا على المائتين "، فاختبط العراقيون في هذا على ما نَصِف ما ذكروه، ثم نذكر المسلكَ الحق الذي ذكره المراوزة، إن شاء الله تعالى. قال العراقيون: إن زادت المسافة على ثلثمائة وخمسين ذراعاً لم يجز، وإن كانت المسافة مائتين وخمسين، فوجهان. وهذه تحكّمات، لا أصل لها في توقيف، ولا قياس، ولا مصلحة تتعلق بالمعاملة، ولا شك في بطلانها، والمرعيُّ عند أئمتنا أن المسافة إذا كانت بحيث لا يقطعها السهم، فالمناضلة باطلة، وإن كانت بحيث يقطعها السهم، ولكن تندر الإصابة، ففي المسألة الخلاف الذي ذكرناه، وإن كانت الإصابة تقرب، فالقطع بالجواز، فأما تقدير المسافات، فلا أصل له. 11706 - ومما يتعلق بهذا المنتهى أن التناضل لو كان على بعد المسافة من غير إصابة، وهو الغَلْوة (2) واسمها بالفارسية (بَرْتاب) (3)، ففي التناضل- والمقصود

_ (1) في الأصل: " وانحبست " بالحاء المهملة (تحتها علامة الإهمال) والمثبت من (هـ 4). (2) الغلوة: الغاية، وهي رمية سهم أبعد ما يقدر عليه، ويقال: هي قدر ثلثمائة ذراع إلى أربعمائة، والجمع غلوات، مثل شهوة وشهوات. (المصباح). (3) بَرْتاب: " بالباء الموحدة المفتوحة ثم راء ساكنة بعدها تاء مثناة من فوق، بعدها ألف مد، بعدها باء موحدة، ومعناها الإبعاد في الرمي على حسب قوته، لا إلى غاية معينة، وهو الذي=

الإبعاد- وجهان: أحدهما - الجواز؛ فإنه من الأغراض الظاهرة عند الرماة، ومن يطول أمدُ سهمه يتوصل إلى إيقاع السهم في القلاع، وإيصاله إلى مواقف الكفار وإن بعدت، وهذا ظاهر. والثاني - المنع؛ فإن التعويل على الإصابة، وإذا كان لا يتجرد إليها قصدٌ، فلا تعويل على السهم بعُد أو قرُب. ثم إن صححنا المعاملة على هذا الوجه، فالوجه الذي أراه أنه يجب أن يستوي القوسان في الشدة، فإن التفاوت في الشدة في القوس يجر تفاوتاً عظيماً في القُرب والبُعد يخفى معه الخُرق والدراية، ويجب أيضاً اعتبار خفّة السهم ورزانته، وينتهي الأمر عند المضايقة إلى اشتراط الرماة الرمي عن قوس واحدة بسهم واحد، فإنَّ القوسين قد يتساويان في الشدة، وإحداهما تفضل الأخرى في الحدة فضلاً لا ينكر، وبالجملة امتنع من امتنع من تصحيح هذه المعاملة لما يتطرق إليها من الجهالة، ولم يشترط أحد في المناضلة على إصابة الغرض التساوي في شدة القوس. نعم، إذا أفرطت شدة القوس وجلس صاحبه على مسافة تليق بقوسه، فقد يقع صاحب القوس اللين في مثل هذه المسافة على حد البعد في الفوز، ويتصل إذ ذاك بالخلاف المذكور فيه. ومما يجب التنبه له في طباع النُّضَّال (1) أنه يتفق فيه أمور [بعيدة] (2) عن التوقع، ولا يجري مثلها في التسابق؛ فإن البرذون البليد لا يسبق الفرس العربي النجيب، إلا عند فرض نكبة في الجواد، وقد يَفْضُل الأخرقُ في الرمي الماهرَ به، فهذا مما يجب أن يكون على الذُّكر والبال. ومما أنشأه الأئمة من ذلك أنهما لو تناضلا على سهم واحد على أن يرمي كلّ واحد منهما فردة، فالأصح الصحة، وقال بعض أصحابنا: لا يصح ذلك، لما أشرنا إليه

_ =يقال فيه بالعربية: غلا بالسهم غلوة إذا رمى به بقدر ما يقدر عليه " هكذا ضبطها وفسرها ابن الصلاح في مشكل الوسيط، وقال: إنها أشكلت على مَنْ لا يعرف الفارسية، ثم هي تعرّب بالفاء في أولها، فيقال: (الفرتاب) (الوسيط: 7/ 189). (1) الضبط من (هـ 4). (2) في الأصل: " بديعة ".

من سجية النضال؛ فإن الأخرق قد يصيب في تلك المرة والحاذق لا يصيب، وإذا تعددت الأرشاق، زال هذا المعنى. فصل 11707 - هذا الفصل يشتمل على مقدمةٍ لتحزب الرماة، وهي مقصودة في نفسها، بل هي بقية أسرار الكتاب، وقد أجملناها وأحَلْناها (1) وهذا أوان الوفاء بالشرح، فنقول: إذا تسابق رجلان أو تناضلا، وأخرج كل واحد منهما سبَقاً، والتفريع على أن المُسْبق يستحق سبَق صاحبه، وهذا هو الأصح، وعليه تجري مسائل [هذا] (2) الكتاب، وَلا بد من فرض المحلِّل، وإلا (3) كانت المعاملة على صورة القمار، فإذا فرضنا محللاً، وكنا نعلم أن فرسه في المسابقة يتخلف لا محالة، وإن كنا في النِّضال عرفنا أنه لا يُفلح، فهو ليس بمحلل، والمعاملة عريّة عن التحليل. ونص الحديث والمعنى شاهدان على ذلك، كما تقدم. ولو أخرج رجلٌ سبَقاً، وكان يسابق أو يناضل رجلاً على أن صاحبه إن فاز، فله السبَق، وإلا أحرز المخرج ما أخرج، ولا شيء على صاحبه، فإن كان ذلك المشروط له بحيث لا يُفلح، فهذه المعاملة لا أصل لها، وهي مسابقة أو مناضلة محضة من غير مال، وإن كان المشروط له بحيث يفوز لا محالة، ففي صحة المعاملة والحالة هذه وجهان: أحدهما - الصحة؛ فإن من أخرج مالاً، وقال لصاحبه: ارمِ كذا، فإن أصبت كذا، فلك هذا المال، فذلك جائز. وإذا جاز هذا، فأقصى الأمر أن يسبق المشروط له، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنه إذا كان يناضله أو يُسابقه، فهذه الصورة تقتضي أن يكونا (4) على حد المخاطرة، حتى يُحرِز المخرِجُ إن فاز، ويستحق عليه صاحبه إن كان الفوز منه.

_ (1) كذا في النسختين بالحاء المهملة، مع التأكيد على إهمالها برسم حاء صغيرة أسفلها في النسختين، وزيادة علامة الإهمال أعلاها في (هـ4). (2) زيادة من (هـ 4). (3) هـ 4: وإذا. (5) هـ 4: "يكون".

ولو تسابق رجلان، فأخرجا سبَقين، وبينهما محلِّل، وكان المحلل بحيث يسبق، فالخلاف الذي ذكرناه الآن جارٍ، ولا فرقَ، ولو أخرج رجلان سبَقين، وكان أحدهما بحيث يسبق لا محالة ولا محلل بينهما، فالذي يسبق لا محالة على صورة محلل يسبق لا محالة؛ فإن الذي أخرجه لا حكم لإخراجه؛ فإنه لا يستحق عليه، وتسميتُه لاغية، ولو أخرجا سبَقين، وبينهما محلل، وكان المحلل يساوي أحد المُسْبِقَيْن، أو يدنوَ منه، والمُسْبِق الآخر يتفَسْكل لا محالة، فالمسبق السابق والمحلل في حقه محللان، والخلاف المقدم جارٍ. فانتظم من مجموع ما ذكرناه أن الّذي يقف محللاً إن كان بحيث لا يتخلف لا محالة، فلا معنى للمعاملة، وإن كان بحيث يسبق، فالظاهر تصحيح المعاملة، وفيه خلاف. فهذا ما أردنا أن نقدمه على فصل التحزب. فصل في تحزب الرماة 11708 - ومعظم التناضل يقع كذلك، ونحن نصوّره، ثم نندفع في حكمه، فإذا تحرب الرماة حزبين أو أكثر على أن ما يصدر من القرعات من أحد الحزبين يكون بمثابة صدورها من رامٍ واحد، وإذا فازوا (1)، فالسبَق بينهم، فهذا صحيح، ولكن لا بد من استواء الحزبين في الأرشاق والقرعات المشروطة، ولا اعتبار بعدد الرماة، فلو كان أحد الحزبين ثلاثة، والحزب الثاني أربعة، والأرشاق مائة على كل حزب، فلا بأس، فلو رامى رجل رجلين، جاز على هذا التنزيل، فيرمي كل واحد من الرجلين سهماً، ويرمي المناضل لهما سهمين، وكذلك لو رامى رجل رجالاً على شرط أن يكون على حد الإطاقة، فإن كان لا يفي، ولو رمى، لتخلف لا محالة، فهذا يقع في النظائر المقدمة في ذلك.

_ (1) هـ 4: " وإذا فاز فاز بالسبق بينهم ".

ومما ذكر الأئمة في اعتبار التعديل أنهم إذا كانوا يقتسمون الأعوان، فلا ينبغي أن يحكّموا القرعة؛ فإن القرعة تَعْدِل وتَجُور؛ فقد يجتمع الحذاق في جانب، والخُرْق (1) في جانب، بل الوجه أن يقتسموا على اعتدالٍ، فيُضَمَّ حاذق إلى أخرق، وكذا في الجانب الثاني، حتى إن أرادوا بعد ذلك القرعة، فلا بأس؛ فإن القرعة تستعمل في القَسْم بعد تعديل الحصص والأقساط، وما ذكرناه أمر كلي بَعْدُ، والبيان بين أيدينا. [فلو] (2) تعاقدوا عقد النضال على التحزب قبل تعيين الأعوان، فالعقد باطل، لا أصل له؛ فإنه لم يرد على مَوْرِد معيّن، ولا وجه لالتزام الرماة في الذمة؛ فإنَّ الرماة هم المقصودون، فيجب أن يتعينوا، وهذا يؤكد ما ذكرناه من الرد على العراقيين في تجويزهم عقدَ المسابقة على الإطلاق، من غير إحضار الفرس. ومما يجب الاعتناء بدركه، وبَعْدَه المسائل أن رجلين لو أخذا في النضال، وعقدا العقد، ونحن لا ندري أنهما متدانيان في الصنعة أم متفاوتان، فهذا يُبنى على أن أحدهما لو كان بحيث يفوز لا محالة، فهل تصح المعاملة؟ وليقع التفريع على الأصح، وهو الصحة، ثم نقول: التعاقد مع الجهالة بمبلغ الدراية في الرماية لم يمنعه أحد، وهكذا يكون النضال في الغالب، فلم يشترط أحد جريانه بين المعارف، ومسألة الغريب الطارق سنصفها في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى، وهي شاهدة لما ذكرناه، ثم إذا تعاقدا وبانا متدانيين، فلا كلام، وإن بانا متفاضلين، لم يخف تفصيله. ونقول بعد ذلك: لو اجتمع أخرقون في حزب، وحذاق في حزب، فهذا كما لو رامى ناضلٌ أخرقَ، وقد مضى التفصيل فيه، ولأمثالِ هذا قدّمنا المقدمة. 11709 - ونحن الآن ننعطف على ما ذكرناه من فصل القرعة، فنقول: إن اقترعوا ثم أنشؤوا رضاً بما اقتضته القرعة، فلا بأس، ولا منع؛ فإنهم لو تحكموا

_ (1) الخرق: جمع أخرق مثل أحمر وحمر. (2) في النسختين: " ولو ".

بذلك، جاز. وإن قالوا: رضينا بما اقتضته القرعة، ثم فرض رجوعٌ عن هذا الرضا، جاز. وإن استمروا على الرضا، ولم يُنشئوا رِضاً بعد انفصال الأمر بالقرعة، فالظاهر أن ذلك الرضا غير صحيح، فإنه في حكم المعلق بما سيكون، وتعليق الرضا باطل، ولا يمتنع أن يُحتمل في معاملة مبناها على الخطر، والأوجه المنعُ، وذلك الاحتمال بعيد؛ فإنّ الخطر في مقصود العقد إن احتمل، فلا ضرورة في غيره. ووراء ما ذكرناه تأنق في التصوير يُسقط هذا؛ فإن ذلك إن فرض بعد العقد، فالعقد باطل لما قدمناه من اشتراط نزول العقد على معينين، وإن فرض قبل العقد، فالعقد يقع على معينين، فلتكن القرعة إذا كان التراضي يقع بعدها، ومن ضرورة إنشاء العقد الرضا بالذين تقع الإشارة إليهم. 11710 - ومن أغمض ما يجب الاعتناء به في التحزب تصوير المحلِّل، فلو تحزب الرماة حزبين، وأخرج كل واحد سبَقاً، وكان مع الحزبين حزب محللون، فهذا جائز، والأحزاب كالأشخاص، وإن سبق أحد الحزبين، ولم يسبق الحزب الثاني، فجائز، وهو كما لو ترامى رجلان وأحدهما مُسْبِق دون الثاني. ولو تحزب حزبان، وقال أحد الحزبين لواحد منهم: أنت ترمي وتستحق إن فُزنا (1)، وإن فاز أصحابنا، فلا سبَق عليك من بيننا، ونحن نغرم السبَق دونك، فهذا الشخص من هذا الحزب على صورة المحلل، والحزب الثاني أخرجوا أسباقهم، فهل يقع الاكتفاء بما صورناه؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنَّ ذلك كافٍ لوجود المحلل، والأصح - أن ذلك لا يكفي؛ فإنَّ المحلل هو الّذي إذا فاز، استبد بالأسباق، وليس الأمر كذلك في الصورة التي ذكرناها، فإن حكمها (2) أن هؤلاء الذين فيهم المحلل لو فازوا، فأسباق الآخرين موزّعة عليهم، فليس يستبدّ المحلل؛ إذاً فليس محللاً. ولو شرط الحزب الثاني لواحد منهم ما شرطه هؤلاء، فانطوى كل حزب على

_ (1) أي تستحق كواحد منا، والمعنى يقسم لك في الفوز، ولا يقسم عليك في الغرم. (2) هـ 4: "حكمنا".

محلل، على الصورة التي ذكرناها، ففي هذه الصورة وجهان مرتّبان على الأولى، وهذه الصورة أقرب إلى الصحة، لاشتمال كل حزب على محلِّل، والوجه المنعُ؛ فإنَّ المحلل من يفوز بالأسباق، ولو شرط كل حزب [كلَّ] (1) الفوز لمحللهم، فهذا ممتنع على كل وجهٍ؛ لأنه يكون فائزاً برميٍ من غيره، ولا سبيل إلى احتمال هذا. وقد نجز الغرض في تصوير المحلل في الأحزاب، وذكر محل الوفاق والخلاف. 11711 - ومما يليق بحكم التحزب أن أحد الحزبين إذا فازوا، فسبَقُ الآخرين مقسوم عليهم بالسوية، وإن لم يصب بعضهم شيئاً؛ فإنهم كالشخص الواحد، وعلى هذا الوجه يتفق الترامي، ولو شرط رجال كل حزبٍ أنهم إن فازوا، فالسبَق مقسوم بينهم على أعداد إصاباتهم، حتى يأخذ كل واحد من السبَق بنسبة ما أصاب، لم يجز؛ لأنه لو جُوّز يُفضي إلى أن يُتمم بعضُهم الأرشاق ولا يستحقَّ شيئاً؛ إذ لم يصب، ويكون المصيبون مستحقين بأرشاقٍ ناقصة عن أرشاق الحزب الثاني، فإذا تُصور هذا، فالمسألة محتملة مع هذا، بناءً على الغرر الذي هو عماد المعاملة، وليس يُنكِر هذا الاحتمالَ فقيه، مع أنه لا خلاف أن مطلق المعاملة مع التحزب لا يقتضي ذلك، بل يقتضي تنزيلَ كل حزب محل شخص. وإذا اتفق إحراز السبَق، فهو في العقد المطلق مقسوم على رجال الحزب الفائزين بالسويّة. ولو تحزّبوا وتعاقدوا، فمرَّ رجلان، فاختار أحدَ الحزبين أحدُهما، واختار الحزبَ الثاني الثاني، ثم خرج أحدهما أخرقَ، والثاني حاذقاً، فلا خيار، وقد جرى التعاقد على الإبهام، فلا تتبُّعَ، ولا نقضَ، وهذا فيه إذا كانا في التحزب، فجرى ما جرى، ثم أنشىء العقدُ بعده؛ فإن هذا لو خطر بعده، لم يحتمل بحكم العقد، وخرج على الإلحاق بالعقد، وقد مضى. ولو جرى ما وصفناه على الحد الذي ذكرناه، ثم تبيّن أنَّ أحدهما ليس برامٍ أصلاً، فقد قال الأصحاب: نتبين أنَّ ذلك الأخرق ساقط، فإذا سقط، سقط مقابله، وهذا فيه مستدرك عندي؛ فإن كان الأخرق بحيث لا يتمكن من أخذ قوس ونزع وتر، فالأمر

_ (1) في الأصل: " على ".

على ما ذكرناه من السقوط، وإن كان يتمكن من نزع الوتر وإرسال السهم، ولكن كان ما اعتاد الرمي قط، ولا يُعد مثله رامياً، فهذا فيه احتمال، وقد يتطرق احتمال إلى أن مثل هذا هل يُرامَى مع العلم بحاله، فيجوز أن يقال: يُرامَى لتصوّر الرمي منه، ويجوز أن يقال: لا يرامَى؛ فإن إقدام مثله على الرمي خطر لا فائدة له فيه، وقد يجر عليه ضرراً بيّناً، فلا ينبغي أن يسوغ مثله. وقد نجز الغرض. فصل 11712 - إذا كان يتناضل رجلان، ففضل أحدهما صاحبه بقرعات، فقال المفضول: حُطّ فضلك، ولك عليَّ كذا، فهذا لا يسوغ، سواء جوزنا إلحاق الزيادة أو منعناه؛ فإن مقابلة الفضل بالمال لا مجيز له، سواء قدرت المعاملة جائزة أو لازمة وهذا بيّن. [فصل] (1) 11713 - إذا تعاقدا على احتساب القريب وشُرط أن يُخرج الأقربُ ما هو أبعد منه، فهذا جائز، وكذلك لو شَرطا أن تُبطل الإصابةُ القريبَ، جاز ذلك. وإذا كان في وسط القرطاس الذي هو المطلوب علامة، فوقع التشارط على أن إصابتها تُخرج إصابة ما حواليها من القرطاس، قال العراقيون: في جواز ذلك قولان: أحدهما - لا يجوز؛ فإن من أصاب القرطاس، فقد أبلغ في الحذق، والرميُ خَوّانٌ، فقد يصيب تلك العلامةَ أخرقُ على وفاقٍ، فيحبَطُ عملُ الحذاق، وهذا يضبطه أن تكون تلك العلامة بحيث يندر قصدها، وإذا اتفقت إصابتها حملت على الاتفاق (2)، فينشأ منها الخلاف الذي ذكرناه.

_ (1) في الأصل: " فرع ". (2) هـ 4: " الوفاق ".

ثم ذكر الشافعي الصلاة في المضَرَّبة والأصابع (1) ومقصود هذا الفصل يتعلق بالصلاة والطهارة. والله المستعان. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 223 وعبارة الشافعي: " والصلاة جائزة في المضرَّبة والأصابِع إذا كان جلدُهما ذكيا مما يؤكل لحمه " والمضربة معروفة، أما الأصابع، فلعلها ما يعرف الآن بالقفاز والله أعلم.

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان 11714 - الأصل في الأيمان الآيات المشتملة على ذكرها وبيان كفارتها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: " يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة؛ فإنَّك إن أُوتيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أُوتيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإذا حلفت يميناً، ورأيت غيرَها خيراً منها، فكفّر عن يمينك ثم ائتِ الَّذي هو خير منها " (1). واليمين تحقيقُ الشيء وتقريره بذكر الله تعالى، أو باسم من أسمائه، أو بصفةٍ من صفات ذاته، نفياً وإثباتاً في الماضي، وإقداماً وإحجاماً في المستقبل. يقول الرجل: " بالله ما دخلت الدَّار " يقرر به نفْي الدخول- ويقول: " والله لقد دخلتُ الدَّار "، فيقرر به إثبات الدخول، وفي المستقبل يقول: " واللهً لأدخُلَنَّ الدَّار "، ويقول: " والله لا أدخلُ ". وحقيقة مذهب أبي حنيفة (2) رحمة الله عليه في تحقيق اليمين أنها تحقيق الوعد بما يكفر بضدِّه، وقيد بالوعد؛ فإنَّ اليمين على الماضي لا تنعقد عنده، ومعنى قولهم بما يكفر بضده أن قوله: والله لأفعلن كذا فيه تعظيم الرب تعالى، والإنسان يكفر بضده. وإذا قال: إن دخلت الدَّار، فأنا يهوديٌّ، ففيه تعظيم الإسلام، والإشعار بامتناع الخروج منه، والمذكور في اليمين ضده المجتنب.

_ (1) حديث عبد الرحمن بن سمرة متفق عليه (ر. البخاري: الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]، ح 6622. مسلم: الأيمان، باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفّر عن يمينه، ح1652). (2) ر. مختصر الطحاوي: 305، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 235 مسألة 1337، المبسوط: 12618، الهداية: 2/ 355.

ثم إن الشافعي ذكر في صدر الكتاب (1) ما يُقسَم به، والألفاظَ المستعملة في القسم، وما يقع منها صريحاً، وما يقع منها كنايةً. فصل 11715 - قال: " من حلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه ... إلى آخره " (2). قال الأئمة: الألفاظ الدائرة في الأيمان تقع في أربعة أقسام، ونحن نذكرها، ونمهد قواعدها، ونوضح طُرق الأصحاب فيها، ثم إذا نجزت، نذكر مسائلَ مرسلةً في الألفاظ، ونُلحق كل مسألة بقسمٍ من الأقسام، إن شاء الله تعالى. فالقسم الأول- إذا قال: بالله، أو قال: والله، أو ذكر اسماً آخر من أسماء الله تعالى: ما يرجع منها إلى ذاته، أو إلى صفات ذاته، أو إلى صفات أفعاله، كالخالق، والرازق، فهذا هو القسم الأعلى في ترتيب الألفاظ. قال الأصحاب: إذا نوى يميناً بما ذكره، أو أطلق، ولم ينو شيئاً، فهو حالف على التحقيق، ولو زعم أنه نوى غير اليمين، على ما سنذكر -إن شاء الله تعالى- وجهَ التورية ومحملَها (3) - فلا يُقبل ذلك منه فيما يتعلق بحق الآدمي، وهل يُقبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى؟ قطع القاضي بأنه لا يُقبل بينه وبين الله تعالى أيضاً، وفي بعض التصانيف [ذكر وجهين في أنه هل تُقبل التورية بينه وبين الله تعالى] (4) وذكرهما شيخي على هذا الوجه أيضاً. توجيه الوجهين: من قال: تقبل، احتج بأن التورية إذا كانت محتملةً ممكنةً، فالأصل قبولها وثبوتها باطناً، بدليل (5) ما لو قال لزوجته: أنتِ طالق، ثم زعم أنه

_ (1) ر. المختصر: 5/ 224. (2) ر. المختصر: 5/ 223. (3) هـ 4: "ومحلها". (4) عبارة الأصل: " وفي بعض التصانيف في أنه هل تقبل التورية بينه وبين الله تعالى، فيه وجهان ". (5) هـ 4: " كما لو قال لزوجته ".

أراد طلاقاً عن وثاق، فهو مُديَّنٌ في الباطن، وإن لم يُقبل منه ذلك في الظاهر، والطلاق أولى بالوقوع والنفوذ. ومن نصر الوجه الثاني، احتج بأن الكفارة تتعلق باللفظ المحترم الذي أظهره، ثم خالف، وإضمار ما يخالف اللفظ لا يُسقط ما ذكرناه من إظهار اللفظ ومخالفته، وهذا لا يتحقق في لفظ الطلاق، وقد ذكر الأصوليون أن من صرّح بكلمة الردة، وزعم أنه أضمر تورية، فإنه يكفر ظاهراً وباطناً. وذكر العراقيون في طريقهم أن من قال: " بالله لأفعلنَّ "، ثم زعم أنه أضمر " وثقت بالله "، ثم ابتدأ قوله " لأفعلن " فهذا مقبول منه، ولم يفصلوا بين الظاهر والباطن، وحق الله تعالى وحق الآدمي، وهذا زلل لا يعتمد مثله، ولا يعتد به أصلاً، ولا آمن أن يكون الخلل في نقله من ناسخٍ. هذا بيان أصل المذهب في القسم الأول. 11716 - والقسم الثاني - إذا حلف بصفة من صفات الله، فقال: وقُدرة الله، وعلمِ الله وكلامه -والصفاتُ الأزليّة [معلومة] (1) - ومن الألفاظ الملتحقة بذكر الصفات أن يقول: وجلالِ اللهِ وكبريائه وعزته، وما في معنى ذلك، مما يدل على الذات، أو على صفة أزلية من صفات الذات (2). قال الأئمة: إن نوى الحلف بهذه الصفات، أو أطلق ذكرها، ولم ينوِ ولم يُوَرِّ، فهو حالف، وإن نوى غير اليمين وورَّى، قُبل بينه وبين الله تعالى، وهل يُقبل في حق الآدمي [ظاهراً] (3)؛ فعلى وجهين. وإذا أطلقنا حق الآدمي، أردنا الإيلاء عن المرأة وما يُثبته لها من طَلِبة. هذه الطريقة المشهورة. ومن أصحابنا من ألْحقَ هذا القسم بالقسم الأول في كل تفصيلٍ تقدم، وهذا

_ (1) زيادة من (هـ 4) و (ق). (2) في (هـ 4) ش " مما يدل على الذات، أو على صفة الذات، أو على صفةٍ أزلية من صفات الذات " وفي (ق) مثل الأصل تماما. (3) زيادة من (هـ 4).

متجه؛ فإنَّه صرح بما يصح الإقسام به، وذكر صلةً تُعَدُّ صَرِيحاً في القَسَم، فلا يبقى فرق. وذكر العراقيون طريقة ثالثة، وقالوا: إذا ذكر القدرةَ، والعلم، والكلام، وزعم أنَّه ورَّى، قُبل منه ظاهراً، وباطناً، ولو أطلق، كان حالفاً، ولو قال: وجلال الله وكبريائه، فهذا يلتحق بالقسم الأول، والفرق أنَّ الصفات التي ذكرناها متعلقة بمتعلقاتها، وقد تُطلق ويراد المتعلقات، فيقول القائل: رأيت اليوم قدرة الله تعالى، وهو يريد مقدوره، وقد لا يتحقق هذا الوجه في الجلال والكبرياء. وهذا تخييل لا حاصل وراءه؛ فإن الإنسان قد يقول: عاينتُ كبرياء الله، كما يتجوز بمثل ذلك في القدرة وكلِّ متعلق من الصفات الأزلية. 11717 - القسم الثالث - إذا قال: أقسمت بالله، أو قال: أقسم بالله لأفعلن، أو قال: حلفت، أو أحلف، فقد قال أرباب اللسان: الجالب للباء في قول الحالف: (بالله) إضمار أقسمت، أو أقسم، أو لفظٍ في معناهما، فإذا قال: أقسمت بالله، أو قال أقسم بالله، فهذا تصريح بجالب الباء، أما حكمه في غرض الفقه، فالطريقة المشهورة أنه إذا قال: نويت بقولي: " أقسمت " إخباراً عن قسم مضى، وقصدت بقولي: " أقسم " إشعاراً بقَسَمٍ سيكون مني في مستقبل الزمان، فهذا مقبول منه ظاهراً، وإذا صدق، فلا شك في قبوله باطناً، وإن قصد إنشاء يمينٍ، كان حالفاً على التحقيق، وإن أطلق، ولم ينو شيئاً، ولو يُورِّ بالوجه الذي ذكرناه، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يكون حالفاً، ووجهه أن أقسمت صريحٌ في الماضي، وأقسم صريح في الصلاح للمستقبل؛ فلم يأت بلفظٍ صريح في الإنشاء. والوجه الثاني - أن مطلق لفظه يمين؛ فإن العرف جارٍ مطرد باستعمال هذه الألفاظ في إرادة الإنشاء لليمين، والعرف يقيد الألفاظ المترددة. (1 وقال صاحب التقريب: من أصحابنا من فرق بين قوله: أقسمت، وبين قوله: أقسم 1)؛ فإن قوله: أقسمت صريح في الإخبار عن الماضي لا يصلح للإنشاء،

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 4).

وأقسم يصلح للحال والاستقبال جميعاً، وهذا بعيد، لا حاصل له؛ فإن هذا التردد كله فيه إذا أطلق ولم ينو، وإذا سلم صاحب هذا الوجه أن " أُقسم " متردد، فالتردد كافٍ في افتقاره إلى النية، ثم العرف هو المعتمد عند من يجعله يميناً في الإطلاق، وهذا يجري في " أُقسم " و" أقسمت "، وما ذكره المراوزة أنه لو قال: " أشهد بالله "، أو " شهدت بالله "، فهو كما لو قال: " أقسمت لا، و" أقسم ". وقال العراقيون: " أشهد " و" شهدت " كناية لا تعمل من غير النية وجهاً واحداً؛ فإن الشهادة لا تستعمل في الأيمان عموماً، بخلاف " الإقسام " وما يصدر منه من صيغ الألفاظ، وهذا حسن متجه. وذكر صاحب التقريب أن المُلاعن إذا قال في لعانه: أشهد بالله، ثم كان كاذباً، فهل تلزمه الكفارة؟ فعلى وجهين، وهما يقربان عندي من اختلاف القول في أن المُولي هل يلتزم الكفارة، ووجهُ الشبه أن الإيلاء من مقتضيات الفراق، وكأنه -في قولي- خارجٌ عن الأيمان المحضة، واللعان بهذه المثابة؛ فإنه يبتُّ النكاح، ويوجب الفراق ويوقعه، وهذا فيه إذا زعم أنه نوى اليمين، أو قلنا: مطلقهُ يقتضي اليمين إذا لم يكن تورية، ففي الكفارة ما ذكرناه. ومن لطيف القول في ذلك أنه وإن ورّى يمكن أن يقال: الوجهان جاريان في الكفارة، فإن الألفاظ معروضة عليه في مجلس الحكم، وسنوضح أن التورية لا أثر لها في الأيمان الجارية في مجلس الحكم، إن شاء الله تعالى. 11718 - ومما يتم به مقصود هذا القسم سؤال وجواب عنه: فإن قيل: قد ذكرتم [أن الجالب للباء في الحلف إضمار أقسمت أو أقسم] (1) ثم ألحقتم قوله: " بالله " بالقسم [الأول] (2) وألحقتم قوله: " أقسم بالله " بالقسم الثالث، والصريح حقه أن يتقدم على المنوي المضمر.

_ (1) عارة الأصل: " أن الجالب للباء في قول الحالف. أقسمت أو أقسم ". (2) في الأصل: " الأعلى ".

قلنا: إذا قال: " أقسمت "، فهو موضوع للماضي، وإذا فسَّر مُطلِق اللفظ لفظَه بالإخبار عما مضى، كان التفسير منطبقاً على ما مضى، وكذلك القول في " أُقسم "، وإذا قال: " بالله "، فهذا في صريح اللغة عقد يمين في الحال لا تردّد فيه بين الماضي والمستقبل، فكأن حذف المضمر الجالب أوجب تخصيص اللفظ بالإنشاء، ثم يُفرض فيه جالب يليق بهذا الغرض، وهذا بيّن لاخفاء به، وكم من مضمَرٍ يقدره النحوي، واللفظ دونه أوقع، وهذا بمثابة قولهم: " ما أحسنَ زيداً " تقديره: شيء (1) حسّن زيداً، وهذا التقدير لو صرح به، لأفسد معنى التعجّب أصلاً، ونظير ذلك كثير، ومهما (2) أطبق العرب على مضمر يحذفونه، فذلك لاعتقادهم أن الحذف أولى في إفادة المقصود. وحكى العراقيون نصاً عن الشافعي أنه قال: إذا قال: أقسمت بالله. أو أقسم بالله، أو أطلق كان مطلقه يميناً، وهذا غريب، ولذلك أخّرته عن ترتيب الطرق. 11719 - القسم الرابع - إذا قال: أقسمت أو أقسم، ولم يذكر المقسم به، ولم يُجرِ في كلامه اسماً معظماً من أسماء الله تعالى، فلا يكون حالفاً وإن نوى؛ فإنّ التعويل في اليمين على ذكر اسم معظم من أسماء الله تعالى، أو من أسماء صفاته، فإذا أخلى كلامه عنه، لم ينعقد يمينه وإن أضمر الحلف بالله تعالى، وقد اتفقت الطرق على ذلك، وقال أبو حنيفة (3): إذا أضمر ذكر الله تعالى، ونوى الإقسام به، وقد قال: أقسمت، كان حالفاً، وذكر العراقيون أنه لو قال: والموجود، أو الشيء، وزعم أنه أراد الرب تعالى، فلا يكون حالفاً، لأنه لم يذكر اسماً معظماً، وقد أوضحنا أن التعويل في اليمين على تأكيد الكلام بذكر اسم من أسماء الله تعالى أو صفةٍ من الصفات الأزلية. وقد تمهدت الأقسام الأربعة، وهي القواعد.

_ (1) هـ 4: " أي شيء حسن زيداً ". (2) ومهما: بمعنى: وإذا. (3) ر. مختصر الطحاوي: 305، المبسوط: 8/ 126، الهداية: 2/ 457، حاشية ابن عابدين: 3/ 54.

11720 - ونحن نبتدىء بعد هذا ببيان المسائل الزائدة على ذكرنا، ونبدأ بتفصيل القول في الصِّلات التي يقع الإقسام بها، فنقول أولاً: الأصل في صلة القسم الباء، والجالب لها لفظ يصدر (1) من الحلف أو الإقسام أو الإيلاء، ثم الواو تخلف الباء وتبدلها، فيقول المقسم: واللهِ، والبدل لا بد وأن يقصُر عن المبدل قصوراً لا يظهر في مجاري الكلام، وقصور الواو أنه لا تتصل في القسم بالضمير بخلاف الباء، فإنك تقول به لأفعلن، ولا تقول: وه لأفعلن. ثم أقاموا التاء مقام الواو، لأصلٍ قريبٍ من الاطراد عندهم في إقامة التاء مقام الواو؛ فإنهم قالوا: تخمة، وتراث، وتهمة، من الوخامة، ومن قولهم: ورث، والتهمة من الوهم، فلما وقعت التاء بدل البدل، ظهر قصورها، فلا تُلفَى متصلةً بغير قولهم " الله " فيقولون: تالله، قال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، فإذا قال القائل: تالله، فالذي نص عليه هاهنا أنه بمثابة قوله بالله ووالله، وهذا ما نص عليه في الإيلاء أيضاً. ونص في القسامة على أنه ليس بيمين. فمن أصحابنا من جعل في المسألة قولين: أصحهما - أن التاء كالباء، والواو، والثاني - أنها ليست صريحاً؛ لأن العادة لم تجر باستعمالها، وقال المحققون: نقطع القول بأن قوله تالله كقوله بالله، فإن الضِّلتين في هذا الاسم مستويتان باتفاق مذاهب العرب، وما ذكره في القسامة محمول على تصحيف القراء والناسخين، وفي كلام الشافعي ثَمَّ ما يدل على هذا؛ فقد (2) قال الشافعي رضي الله عنه: " يا الله " لا يكون يميناً، ثم قال في سياق الكلام: وليس بيمين بل هو دعاء، وأراد بالدعاء النداء، ولا يتجه إلا ما ذكرناه (3)، فإن جرينا على قطع القول -وهو الأصح- فلو قال القاضي

_ (1) يصدر: أي يشتق. وفي (هـ 4): لفظُ مصدرٍ. (2) هـ 4: " قيل ". (3) زاد الغزالي في تعليل الخطأ في نقل كلام الشافعي، فقال: " أو أراد ما إذا قال القاضي: قل: " بالله " فقال: "تالله" لا يكون يميناً، ويجري ذلك في كل صيغة ". (ر. البسيط: جزء6 - ورقة: 40 شمال).

لمن يستحلفه: قل بالله، فخالفه وقال: تالله، قال الأصحاب: لا يحسب ما جاء به، واليمين معروضة عليه بعدُ، وليس هذا من جهة أن التاء في هذا الاسم لا تقوم مقام الباء، ولكن السبب فيه أنه خالف القاضي، وحق المستحلَف أن يحلف على موافقة الاستحلاف. ولو قال القاضي: قل بالله، فقال: بالرحمن، لم يكن حالفاً حلفاً محسوباً، لما ذكرناه. ولو قال: قل بالله، فقال: والله، فهذا لم أجد له ذكراً، وفيه تردد؛ من جهة أن الواو والباء لا يكادان يتفاوتان في مجاري الكلام. وهما متساويتان في الظهور. ولا يمتنع ألا يُجعل حالفاً؛ من جهة المخالفة، كما لو استعمل التاء، والعلم عند الله تعالى. ولو قال: قل بالله العلي الذي لا إله إلا هو، فقال المستحلف: بالله واقتصر، فهل يكون ناكلاً عن اليمين؟ فيه خلاف سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى، وسبب الخلاف أنه وافق في الحلف بالله، وامتنع عما بعده مما يُعدّ تغليطاً في اللفظ. وإن قلنا: تالله بالتاء ليست بمثابة قول القائل بالله بالباء، فالمراد أن هذا يلتحق بالقسم الثالث، وهو إذا قال: أقسمت، أو أقسم بالله، وهذا ضعيف لا وجه له، وما تكلفه بعض الأصحاب من ندور هذه الصلة في الاستعمال، فهو غاية الإمكان. 11721 - ولو قال: الله لأفعلن، فهذا يُذكر على وجوه: منها أن يقول: اللهُ بالرفع، فيقع الاسم المعظم مبدوءاً به، وليس معه صلةُ قسم، والجواب أنه لا يكون حالفاًَ إلا أن ينوي الحلف، ولو أطلق لا تكون يميناً. ولو قال: اللهِ، بخفض الهاء، فلو نوى اليمين، كان يميناً، ولو أطلق، فوجهان، وظاهر النصّ يشير إلى فرض المسألة في الرفع، ولذلك قال: لا يكون يميناً إلا أن ينويها، ثم قال: لأنه كلام مبتدأ، وهذا إنما يتجه في الرفع، فإذا خفض، أشعر بالصلة الخافضة وإن لم يأت بها، وقد تفعل العرب ذلك، ولسنا نطوّل بذكر الشواهد فيها.

ولو قال: اللهَ بنصب الهاء، فإن نوى اليمين، كان يميناً وإن أطلق، فوجهان مرتبان على الخفض، والأَوْلى هاهنا أن يكون يميناً في الإطلاق، ومن صار إلى أنه يمين في الإطلاق حمل النصبَ على نزع الخافض، وهذا غير متجه، وقد نطقت العرب بهذا أيضاً. 11722 - ولو قال بلّه، يأتي بلامٍ مشدّدة، ولم يأت بعدها بألفٍ؛ فالذي ذكره معناه الرطوبة (1) [وصورتها بلّه] (2) وليس ذاكراً اسمَ الله، وكان شيخي يقول: إن نوى يميناً، كان يميناً، وحُمل حذف الألف على اللحن، وهذا يعضده جريانه على الألسنة على هذا الوجه على ألسنة المحصلين، فضلاً عن العوام، وقد يستجيز العرب حذفَ الألف في الوقف؛ فإن الوقف يقتضي إسكانَ الهاء، فيجتمع ساكنان، وقد يستجيز العرب حذف أحدِ الساكنين، والوجه الإتيان بالألف؛ فإن اجتماع السّاكنين في الوقف سائغ. ولو قال: وحقِّ الله تعالى أو قال: وعظمةِ الله تعالى، فقد تمهد تفصيل المذهب في الحلف بصفات الله، ولا يخفى أنه لو قال: وخَلْق الله وإحياء الله، ورزق الله تعالى، فليس حالفاً لأنه أقسم بخلق، والخلق والمخلوق واحد. ولو قال: وحقِّ الله، فالذي صار إليه أئمة المذهب أن ذلك كناية؛ فإن قوله: وحق الله متردد بين الواجبات التي تجب لله تعالى على عباده وبين استحقاقه الألوهية، وموجب التردد الالتحاق بالكنايات، وإنما تردد القول في هذا اللفظ مضافاً، وإلا فالحق من أسماء الله تعالى، وأبعد بعض أصحابنا، فألحق قولَه: وحقِّ الله بالحلف بصفات الله تعالى، وهذا لا أصل له. وإذا قال: وعظمة الله، فالأصح أنه بمثابة الحلف بصفات الله تعالى، ومن أصحابنا من نزّله منزلة قوله " وحق الله تعالى "، وهذا لا اتجاه له، ومتعلق (3) هذا

_ (1) الرطوبة: أي من البلل. (2) زيادة من (هـ 4). (3) هـ 4: " ولكن يتعلق هذا القائل ".

القائل أن الشافعي جمع بين قول القائل: " وحق الله تعالى " وبين قوله: " وعظمة الله ". وإذا قال: " وحرمة الله "، فقد قال بعض الأصحاب: هو كقوله: " وحق الله " ومال طوائفُ من المحققين إلى أنه بمثابة الحلف بصفات الله تعالى. 11723 - ولو قال: " لعمرُ الله " فهذا مما اختلفوا فيه أيضاً، فمنهم من جعله إقساماً ببقاء الله تعالى، فيلتحق بالإقسام بصفات الله تعالى، ومنهم من جعله كناية. وكان شيخي يفصل بين أن يقول: وعَمرُ الله وبين أن يقول: لعمرُ الله، ويقول: الصلة المشهورة في القَسَم الواو، والباء، واللامُ في قولهم لعمرُ الله ليس من صلات القسم، حتى قال أهل التحصيل (1): تقدير الكلام إذا حمل على القسم أن يقال لعمرُ الله ما أُقسم به، وهذا التفصيل حسن. ومن أصحابنا من ألحق اللفظين بالكناية: ما يستعمل بالواو وما يستعمل باللام؛ لأن العَمْر بمعنى البقاء ليس بالشائع. ولو قال: " وايم الله " فهذا مما اختلف الأصحاب فيه؛ فذهب طوائف إلى أنه يلتحق بالحلف بصفات الله تعالى؛ فإن قوله " ايم الله " [أصله] (2) أيمن الله، والأيمن جمع اليمين، فكأنه قال: حلفت بالله، وغلا غالون؛ فقالوا: هو كما لو قال: بالله؛ فإن هذا شائع مستفيض في العرف، ولا معنى له إلا ما ذكرناه. ومن الأصحاب من ألحقه بالكناية.

_ (1) أهل التحصيل: هم النحاة كما صرح بذلك الغزالي في البسيط. وقد علق ابن الصلاح على مسألة (عمر الله) قائلا: " وجه من قال: إنه كناية: أنه ليس من الشائع في العرف استعماله في صفة البقاء، لأنه ليس فيه شيء من أدوات القسم. وتقرر في علم العربية أن تقدير (لعمر الله): ما أقسم به، أو قسمي، أو نحو هذا، وليس ذلك الوجه بشيء؛ فإن استعماله في القسم شائع في لسان العرب، حذف الخبر منه تخفيفاً؛ لكثرة الاستعمال، كما حذف في قولهم: (بالله) الفعلُ، وهو: (أحلف)، أو (أقسم). والله أعلم ". (ر. هامش الوسيط: 7/ 207). (2) في النسختين: صلة. والمثبت من البسيط للغزالي. وأيدته (ق).

ولو قال: " عليّ عهد الله " أو قال: " وعهد الله "، فهذا كناية محضة باتفاق الأصحاب. 11724 - ومما بقي من الكلام في الألفاظ أنه لو ذكر اسماً من أسماء الله تعالى لا يختص به كالعليم والرحيم والجبار، فقد كان شيخي يقول: في القلب من هذا شيء، ثم كان يميل إلى أنه كناية، وليس كقوله: والموجود؛ فإنه ليس من أسماء الله تعالى، ولا تعظيم في لفظه، وألحق بما ذكرناه ما لو قال: والحقِّ؛ فإنه مشترك، وإن ذكر في أسماء الله تعالى. وقد نجز الكلام في ألفاظ الأيمان تمهيداً أولاً، وتفريعاً لآحاد المسائل. فصل قال: " ومن حلف بغير الله تعالى، فهو يمين مكروهة ... إلى آخره " (1). 11725 - يكره الحلف بغير الله، فلا ينبغي أن يقول من يريد تأكيداً: " وحق محمد، والكعبة " وما أشبه ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان حالفاً، فليحلف بالله أو فليصمت " (2) وروي " فليسكت " وقال عمر رضي الله عنه سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي فقال: " ألا إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " (3) فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العُشَراء: " وأبيك لو طعنت في خاصرته لحل لك " (4) قلنا: جرى هذا في كلامه صلى الله عليه وسلم من غير قصدٍ كما يقول الواحد منا: لا والله وبلى والله من غير أن يجرد إلى الحلف قصداً.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 223. (2) حديث " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه (البخاري: الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم ح 6647، مسلم: الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى ح 1646). (3) حديث " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " هذا جزء من حديث عمر السابق. (4) سبق هذا الحديث في الصيد والذبائح.

ثم قال الشافعي في الحلف بغير الله: " أخشى أن يكون معصية " فتردد أصحابنا، فقال قائلون: هذا ترديد قولٍ من الشافعي، وقد يشهد لكونه معصية مطلق قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " والأصح القطع بأنه مكروه وليس بمحرّم، ولفظ الشافعي محمول على مبالغات المتحرجين. 11726 - ومما ألحقه الأصحاب بذلك أن قالوا: الاستكثار من اليمين بالله تعالى من غير حاجة مكروه، ولفظ الشافعي: " وأكره الأيمان على كل حال " قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، فلا ينبغي أن يحلف إلا عند حثّ على طاعة الله أو زجر عن معصية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأغزون قريشاً". فصل قال: " من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها ... إلى آخره " (1). 11727 - مذهبنا أن الأيمان لا تغير الأشياء عن موضوعها وحقائقها، فالمحظور على الحظر، والواجب على الوجوب، والمندوب على الندب، وسنذكر في المباح كلاماً شافياً، إن شاء الله تعالى. وقاعدة المذهب أن الأيمان لا أثر لها في تغيير الأحكام. وأما أبو حنيفة (2) رحمة الله عليه، فإنه صار إلى أن الأيمان إذا انعقدت، أثرت وغيرت حتى انتهى إلى أن من قال: والله لا أصلي، فقد حرمت الصلاة عليه وإن كانت واجبة شرعاً، فهي مفروضة محرمة، ولو حلف ليكفرن، قالوا: وجب ذلك، وبنى على هذا الأصل مسائلَ: منها التكفير قبل الحنث مَنَعه؛ مصيراً إلى أن اليمين مُحرِّمة مانع من الحنث، والمانع من الشيء لا يوجب ما يوجبه ذلك الشيء.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 223. (2) ما قاله الإمام عن تأثير الأيمان عند الأحناف وأنها إذا انعقدت أثرت وغيرت موجود عند الأحناف، ولكن لم نر الصلاة مثالاً على ذلك، كما ذكر الإمام (ر. المبسوط: 8/ 134، 139، مختصر الطحاوي: 305، 316، مختصر اختلاف العلماء: مسألة 1343، الهداية: 2/ 376).

ومما بناه على ذلك قوله: لا ينعقد اليمين الغموس، لأن شأن اليمين أن تؤثر، وما انقضى لا يقبل التأثير، فلا تنعقد اليمين عليه، وقال بناء على ذلك: إذا قال: حرّمت هذا الطعام، التزم الكفارة، كما لو قال: والله لا آكل هذا الطعام؛ فإن مقتضى اللفظين التحريم، وحَكَم بأن من قال: إن دخلت الدار، فأنا يهودي فهو كما لو حزم دخول الدار على نفسه، وزعم أن يمين الكافر لا تنعقد، لأنه لا يخاطب بالتحريم الشرعي. وعندنا اليمين لا يحرِّم ما ليس محرّماً، ولا يحلل محرماً، ثم إذا حلف لا يفعل طاعةً، فعلها، ولا يخفى موجَب الحنث، والندب لا يزول بسبب يمينه. 11728 - ولو عقد يمينه على مباح، فكيف السبيل فيه؟ حاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أن الأَوْلى ألا يُقدّم على ذلك المباح؛ فإن اليمين على حالٍ محترمة، فتحقيقها، وتصديقها والمحلوف عليه مباح أقرب إلى التعظيم، وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلى ذلك؛ فإنه قال: " أما إني لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير " (1) فخصص صلى الله عليه وسلم حلّ اليمين بما لو كان حَلُّها خيراً وطاعة، مثل أن يحلف لا يتصدق، فدل مفهوم الحديث على أن الحَلَّ إذا لم يكن طاعة، فلا ينبغي أن يختاره ويؤثره الحالف (2). وقال العراقيون: ينبغي أن يحنث نفسه وهو محثوث على ذلك، ليتبين أنه بيمينه لم يغير حكمَ الله تعالى، وقد يشهد لهذا صدر سورة التحريم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1]، ثم استحثه على الحل، فقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وهذان الوجهان متناقضان الأول لصاحب التقريب، وهو اختيار الصيدلاني، والثاني للعراقيين قطعوا به، وهو اختيار شيخي. وذهب (3) ذاهبون إلى أنا لا نحث على الحَل، ولا ننهى عنه، ونرى المباحَ مباحاً كما كان، وقد أشار القاضي إلى هذا، فقال: المباح بعد اليمين مباح، ولو كرهنا

_ (1) هـ 4: " بما إذا كان كلها خيراً وطاعة ". (2) هذا هو الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة. (3) هذا هو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة.

الإقدام [عليه] (1)، لما بقي مباحاً، وهذا يعضَّدُ بالقاعدة الكلية في أن الأيمان لا تغير الأحكام. ثم اتفق الأصحاب على أن من حلف عن الامتناع مما يقتضي الشرع الامتناعَ عنه، فلا تستحثه اليمين على المخالفة، وإنما التردد فيه إذا كان متعلَّق اليمين مباحاً، وأفرط العراقيون فذكروا وجهاً أن اليمين تستحث على الهجوم على ما يكون مكروهاً لولا اليمين، ومثال ذلك: أنا نكره دخول بلدة فيها بدع وأهواء، فلو قال: والله لا أدخل بلدة فيها بدع، قالوا: فنؤثر له في وجهٍ أن يدخل بلدة كذلك، وذكروا وجهاً أنه لا يدخلها، والوجه القطع بأنا لا نحمله على أن يدخلها ويبقى المكروه مكروهاً كما كان، والتردد الذي ذكره العراقيون على نهاية الفساد. فصل قال: " ولو قال: والله لقد كان كذا وكذا، ولم يكن، أثم وكفَّر ... إلى آخره" (2). 11728/م- أراد بذلك اليمين الغموس، وهي اليمين المعقودة على ماضٍ نفياً كان أو إثباتاً، فاليمين منعقدة عندنا، على معنى أنها توجب الكفارة، ولم نعن بانعقادها أنها تنعقد انعقاد العقود ثم تنحل، وهذا يُستقصى في الخلاف. وقال أبو حنيفة: ليس على صاحب اليمين الغموس إلا المأثم. 11729 - ثم قال الشافعي: ولو قال: " أسألك بالله، أو أعزم عليك بالله، لتفعلنّ ... إلى آخره " (3) إذا قال لواحدٍ: أقسم عليك بالله، أو أحلف عليك، فإن أراد عقد اليمين على صاحبه، لم ينعقد عليه، ولغا، وإن أراد به المناشدة لتقريب غرضٍ، فالذي جاء به ليس بيمين، وإن أراد أن ينعقد اليمين في حق نفسه، انعقدت

_ (1) زيادة من المحقق. (2) ر. المختصر: 5/ 223. (3) ر. المختصر: 5/ 224. وفي النسختين: أو أقسم عليك بالله لتفعلن ". والمثبت نص عبارة المختصر.

اليمين في حق نفسه، وإذا أطلق اللفظ، فمطلق اللفظ محمول على المناشدة، فلا يكون يميناً. ثم عقد المزني باباً في الاستثناء عن اليمين، وقد استقصيناه تمهيداً وتفريعاً على أحسن الوجوه في الطلاق، فلا نعيده. ***

باب لغو اليمين

باب لغو اليمين قال: " لغو اليمين ما يجري على لسانه ... إلى آخره " (1). 11730 - قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، أراد ما قصدت قلوبكم، وقال تعالى في سورة المائدة [89]: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ} وعقّدتم بالتشديد والتخفيف، والمعنى القصد أيضاً، فلغو اليمين عندنا ما يجرى في أثناء اللِّجاج، كقول القائل: لا والله، وبلى والله، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " لغو اليمين قول الإنسان لا والله وبلى والله " (2) وهذا الباب على صغر حجمه يحتاج فيه إلى ثَبَت؛ فإن مثل هذا لو كان طلاقاً، لوقع الحكم بوقوعه، وكذلك لو جرى العِتاق على هذا الوجه، جرى الحكم بنفوذه، وليس القائل لا والله على خبل، أو في حال زوال عقل، وليس يلتف لسانه، فيجري بهذه الكلمة من غير قصد. وقد نصّ الشافعي وأجمع الأصحاب على أن لغو اليمين ما يُجريه الإنسان في أثناء الكلام في هيْج غضب أو احتدادٍ في لجاج، فيقول: لا والله وبلى والله، والوجه في ذلك أن الناس يجرون أمثال ذلك إجراءً عامّاً، ولا يجردون القصدَ إلى عقد يمين،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 225. (2) حديث عائشة " لغو اليمين .. لا والله، وبلى والله " رواه أبو داود، والبيهقي وابن حبان من حديث عطاء بن أبي رباح عنها مرفوعاً، ورواه البخاري والشافعي ومالك وعبد الرزاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفاً، وقد صحح الدراقطني الوقف. (ر. البخاري: التفسير، تفسير سورة المائدة، باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]، ح 4613، الموطأ: 2/ 477، الأم: 7/ 242، أبو داود: الأيمان والنذور، باب لغو اليمين، ح 3254، البيهقي: 10/ 49، مصنف عبد الرزاق: 8/ 474 ح 15952، صحيح ابن حبان: ح 4318، معرفة السنن والآثار: ح 5804، التلخيص: 4/ 308 ح 2501).

ولكنهم يتكلمون به اعتياداً من غير قصد في عقد يمين، وما جرى اعتيادٌ بإجراء الطلاق والعِتاق. والباب مُدار على ما يصدّقه العرف، فلو ادعى مطلِق اللفظ في الطلاق أنه أجراه لغواً، فالظاهر يكذبه، ومن كذبه الظاهر، لم يصدَّق، واللفظ صريح في وضعه، حتى لو جرى ممن يقول لا والله ما يدل على قصده في اليمين، فالذي جاء به ليس لغواً. وخرج من مجموع هذا أن اللغو هو الذي يجري من غير أن يخطر فيه عقدُ اليمين، والجريان فيه على هذا الوجه عامّ. ***

باب الكفارة قبل الحنث

باب الكفارة قبل الحِنث قال الشافعي: " ومن حلف على شيء، وأراد أن يحنث، فأحبُّ إلي لو لم يكفر حتى يحنث ... إلى آخره " (1). 11731 - ما ذهب إليه أئمة المذهب أن الكفارة لا تجب قبل الحنث، وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من قال: تجب الكفارة باليمين، ووقتُ إخراجها الحِنث، وهذا كلام سخيف، لا يجوز عدُّه من المذهب، على أنه لا جدوى فيه ولا فائدة، وهو هجوم على المخالفة. ثم من حلف وأراد التكفير قبل الحِنْث، نُظر: فإن كان التكفير بمالٍ، فالحنث لا يخلو: إما أن يكون محظوراً، وإما أن لا يكون محظوراً، فإن لم يكن محظوراً، فالتكفير قبل الحنث جائز مجزىء عندنا، وإن كان محظوراً محرماً، مثل أن يقول: والله لا أشرب الخمر، فإذا أراد التكفير قبل الحِنث، ففي إجزائه وجهان: أقيسهما - الإجزاء، طرداً للقياس. ومن أصحابنا من قال: لا يجزىء التكفير قبل الحنث في هذه الصورة؛ لأن الحكم بتجويزه يُشابه تثبيت ذريعة إلى الإقدام على المحظور؛ والأول أصح؛ لأن الحظر في الفعل ليس من [حَيْثُ] (2) اليمين، ولكنه محظور في نفسه، فإذا وقع النظر في اليمين وكفارتها، ولم نجد لليمين أثراً في اقتضاء التحريم، فكما لا يتغير المحلوف عليه باليمين، لا يتغير حكم اليمين بالمحلوف عليه. 11732 - والذي ذهب إليه أئمة المذهب أن الحالف لو أراد التكفير بالصوم قبل الحنث لم يجزئه ذلك، بخلاف التكفير بالمال؛ فإن الصوم من العبادات البدنية،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 225. (2) في الأصل: " جنس ".

والمقصود بها امتحان الأبدان، فيجب اتباع موارد النصوص فيها تأقيتاً وقدْراً، وكيفيةً، فلذلك لا يجوز تقديم الصيام المفروض على وجوبه، ويجوز تقديم الزكاة على وجوبها بحولان الحول. وذكر الخلافيون وجهاً في تجويز تقدم الصوم على الحنث، وهذا متجه بعضَ الاتجاه تعلقاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير"، ولم يفصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التكفير بالمال وبين التكفير بالصوم، وما ذكره بعض المصنفين من أن الكفارة تجب باليمين نفسِه يؤكد هذا، ومن نظر في تصاريف كلام نقلة المذهب، اطلع على رمزهم إلى ما حكاه الخلافيون، ولكن المذهب المعتمد ما قدمنا ذكره، وهو معتضد بترتيب الصوم في كفارة اليمين على الخصال المالية، ومعنى ترتبه عليها ألا يتحول المكفر إليه ما لم يتحقق عجزه عن الخصال الثلاث، وإنما يتحقق العجز عند وجوبها، فإذ ذاك يستبان العجز والقدرة. 11733 - والصائم في نهار رمضان إذا قدّم التكفير ثم واقع، فالمذهب المبتوت أن الكفارة لا تقع الموقع، كذلك القول في المُحْرِم إذا قدم كفارةً على موجِبها، ولا فرق بين أن يكون التكفير بالمال وبين أن يكون بالصوم، وذكر أئمة المذهب في المناسك وجهين آخرين مع ما ذكرناه. فتجمع مما نقلوه ثلاثةُ أوجه: أحدها - المنع، كما قدمنا، والفرق بين هذه الكفارات وكفارة اليمين أن الإحرام ليس سبباً خاصاً في الكفارة، وكذلك الصيام، بل الإحرامُ والصيام بالإضافة إلى الكفارات عند ارتكاب المحظورات بمثابة الإسلام في التزام الأحكام، والدليل عليه أن الكفارة في لسان الشرع منسوبة إلى اليمين قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وفي قوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ} إشعار بأن التكفير جائز كما (1) تحقق الحلف؛ فإنه عزّ من قائل لم يقل: " إذا حنثتم ". والوجه الثاني - أن تقديم الكفارة جائز في الإحرام والصيام، قياساً على كفارة اليمين.

_ (1) كما: بمعنى عندما.

والوجه الثالث - أن موجِب الكفارة إن كان بحيث يجوز الإقدام عليه لحاجةٍ، فتقديم الكفارة عليه جائز، وهذا بمثابة حلق الرأس لأجل الأذى، أو لبس المخيط للضرورة الملجئة إليه في برد شديد أو مكاوحة (1) قمال (2). وكان شيخي يقول: المذهب المعتمد تجويز التكفير قبل الحِنث بالمال، وذكر الخلافَ فيه إذا كان الحِنث محظوراً، والمذهب القطع بمنع تقديم الكفارة في الإحرام والصوم إلا إذا كان موجِبُ الكفارة سائغاً، ففيه الخلاف، وكان يقول: إذا جوزنا تقديم الكفارة في الإحرام مثلاً عند جواز الإقدام على موجِب الكفارة، فلو كانت الكفارة على التخيير لا يترتب الصوم فيها على المال، فعند ذلك يظهر تخريج الخلاف في تقديم الصوم أيضاً وكأنَّ منع تقديم الصوم في كفارة اليمين معلل بعلتين: إحداهما- أنه بدني، والثانية - أنه مترتب، فإذا فقد أحد المعنيين، ظهر جريان الخلاف، فهذا ما أردنا أن نذكره. 11734 - ولو جرح رجل رجلاً، وكان المجروح لما به (3)، أو لم يكن كذلك، ولكن اتفق سريان الجرح إلى زهوق الروح، فلو قدم الجارح الكفارةَ على زهوق الروح، فالذي قطع به الأصحاب تجويز ذلك؛ فإن الجرح سبب ظاهر، وقد نسميه

_ (1) كاوحه: قاتله (المعجم). (2) هـ 4: قتال. وهو تصحيف واضح. وقِمال: جمع قملة مثل نملة ونمال، ولم أر هذا الجمع منصوصاً في المعاجم. والله أعلم بالصواب. (3) هكذا تماماً في النسخ الثلاث، وهي كلمة بمعنى " محتضراً " وإخالها: " وكان المجروحُ منزولاً به " فقد عبر بها إمام الحرمين عن معنى الاحتضار، فقد روى البخاري حديثاً عن نافع أن ابن عمر ترك الجمعة، وذهب إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل -وكان بدرياً- لما بلغه ما به من مرضٍ؛ فعدّ إمامُ الحرمين ذلك من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة قائلاً: لأن ابن عمر كان يطَّيب للجمعة، فتركها وذهب إلى سعيد بن زيد بن عمرو لما بلغه " أنه منزولٌ به، هذا، وقد مرّ هذا اللفظ (لما به) بهذا الرسم تماماً عدة مراتٍ من أول ربع الجراح، ودائماً كان يأتي في هذا السياق مؤدياً هذا المعنى. فهل من المعقول أن يتصحف هذا اللفظ في هذه المواضع كلها، وفي أكثر من نسخة، ومن بينها نُسخ في غاية الصحة؟؟ أم أن للفظ بهذه الصورة قراءة صحيحة لم نلهم إياها؟ الله أعلم.

قتلاً، وقال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من خرج تقديم الكفارة على زهوق الروح على الخلاف الذي ذكرناه في تقديم الكفارة على السبب المحظور في الحنث، وهذا لا اتجاه له؛ فإن وقوع القتل ليس فعلاً مبتدأً يوصف بالحظر، وإنما يتعلق الحظر بالجرح الذي سبق الإقدام عليه، وقياس ما ذكره الشيخ أنه لو حلف: لا يقتل فلاناً، ثم جرحه، وقدّم تكفير اليمين على وقوع الزهوق، فيُخرَّج إجزْاء الكفارة على الوجهين، وهذا بعيد. وأحسن الطرق في ذلك ما كان يذكره شيخي قال رضي الله عنه: يجوز تقديم التكفير على زهوق الروح مذهباً واحداً إذا كان التكفير بالمال، وهو الإعتاق، وإن أراد تقديم الصوم، ففي المسألة وجهان مع جرياننا على أن الصوم لا يقدم على الحنث، وكان يبني الوجهين في التكفير بالصوم في مسألة الجَرْح على الخلاف الممهد في أن صفات الكفاءة إذا ثبتت بعد الجرح قبل زهوق الروح، فهل يجب القصاص؟ وقد مهدنا (1) ذلك في كتاب الجراح عند ذكرنا طريان الإسلام والحرية بعد الجرح قبل الزهوق، وهذا حسن متجه، ولا يبعد في مثل ذلك مذهبُ التبيّن عند وقوع الزهوق، حتى نقول: نتبين وجوبَ الكفارة قبل الزهوق. ومما يتصل بهذا المنتهى الظهارُ والعود، والذي رأيته للأصحاب أن الظهار والعود بمثابة اليمين والحنث في كل تفصيل، والأمر على ما ذكروه، والذي يحقق ذلك أن الكفارة منسوبة إلى الظهار، كما أنها منسوبة إلى اليمين. 11735 - ثم عماد المذهب بعد ذكر المسائل من طريق المعنى أن اليمين سبب خاص في إيجاب التكفير، والتكفير معزيٌّ إليها، كما أن الزكاة معزيّة إلى المال؛ فتقديم الكفارة على الحنث بعد اليمين كتقديم الزكاة على حولان الحول بعد انعقاد الحول، ولا يخفى أن التكفير قبل اليمين غيرُ معتدّ به، كما أن الزكاة قبل كمال النصاب، أو قبل ملك المال أصلاً غير معتدٍّ بها.

_ (1) في (هـ 4): ذكرنا.

11736 - وقد تفرقت مذاهب العلماء في الزكاة والكفارة، فجوز أبو حنيفة (1) تعجيلَ الزكاة، ومنع تقديم الكفارة على الحِنث وعكس مالكٌ (2) الأمرَ، فمنع تعجيل الزكاة، وحمل ما ورد فيه على استقراض الإمام من أرباب الأموال، وجوز تقديم التكفير للخبر الصحيح، وقد نقل الأثبات استسلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، وجوز الشافعي التقديم في البابين، ثم قال الفقهاء: من عجّل الزكاة، ثم تغيرت حال آخذها، فقد لا تقع الزكاة موقعها، والأمر في الكفارة على هذا النحو، فلا فرق بين البابين. ولا وجه لإعادة تلك التغايير، فإنها عويصة، وقد جرت على أحسن مساقٍ في كتاب الزكاة. ثم ذكر الشافعي باباً في الحلف بالطلاق على ألا يتزوّج على امرأته، وليس هذا من مقاصدنا، وأبان أنه إذا تزوج عليها وهي رجعية، كان كما لو تزوج عليها قبل الطلاق. ومقصود الباب مذكور في قواعد الطلاق. ...

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 307، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 246 مسألة 1350، المبسوط: 8/ 147، الهداية: 2/ 358. (2) للمالكية في المسألة -كما ذكر القاضي عبد الوهاب- روايتان، إحداهما الجواز، والأخرى المفع. انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 884 مسألة 1750، عيون المجالس له: 3/ 996، مسألة 699، القوانين الفقهية لابن جزي: 163، 164، الكافي لابن عبد البر: 198.

باب الإطعام في الكفارة

باب الإطعام في الكفارة 11737 - جرى الشافعي رضي الله عنه في كفارة اليمين على ترتيب ذِكْرِها في كتاب الله تعالى، وقد قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، الآية وكفارة اليمين مختصة بمزية لا توجد في غيرها من الكفارات، وهي الاشتمال على التخيير والترتيب؛ فإن الكفارات سوى هذه منقسمة: فمنها ما يبنى على التخيير، ومنها ما يبنى على الترتيب، وكفارة اليمين فيها تخيير؛ فإن الحالف يتخير بين الإطعام والكسوة والإعتاق، وفيها ترتيب؛ فإنه لا يعدل إلى الصيام ما لم يتحقق عجزه عن الخلال الثلاث، ثم وجد الشافعي الإطعام مبدوءاً به، وبعده الكسوة وبعدها الإعتاق، وبعد الخلال الثلاث الصوم على صيغة الترتيب؛ فخاض في الطعام، وأعاد مسائله، وقد استقصينا جميعها، فلا فرق إلا أن الأمداد عشرة هاهنا، وهي ستون في كفارة الظهار والوقاع، فلسنا نعيد شيئاً، وذكر بعد الكسوة الإعتاقَ، فاندفع فيما يُجزىء من الرقاب وفيما لا يجزىء منها، وقد قررنا جميع ذلك في الظهار، فلا نعيد شيئاً منها، وعقد بين الطعام والعتق باب الكِسوة، وعقد باباً في الصوم بعد الخلال الثلاث، ونحن نذكر الباب المعقود في الكسوة، ونتعدى بابَ العتق، ونذكر بعده باب الصوم، ثم نعود إلى ترتيب الأبواب والمسائل، إن شاء الله تعالى. ***

باب ما يجزىء من الكسوة في الكفارة

باب ما يجزىء من الكسوة في الكفارة قال الشافعي: " أقل ما يجزىء في الكِسوة كل ما وقع عليه اسم الكِسوة ... إلى آخره " (1). 11738 - الكِسوة إحدى الخلال الثلاث في كفارة اليمين، فإذا اختارها المكفر، فيجب التمليك لا محالة، ثم الإطعام مقدّر بالأمداد، والكِسوة لا تقدير فيها، ويستحيل التعرض للتقدير فيها؛ فإن المدّ في الطعام سِدادُ الرَّغيب، وكفاية المقتصد، ونهاية الزهيد، والكِسوة لا سبيل إلى ضبطها، ولما رأى الشافعي تقدير النفقة في النكاح، لم يقدّر الكسوة، فإذا امتنع التقدير، ولم يختلف العلماء في أنا لا نوجب لكل مسكين دَسْتَ (2) ثوب، [فلم يبق بعد ذلك إلا الاكتفاء بالاسم، فكل ما يحصُل اسم الكسوة به، فالغرضُ يتأدى به] (3) ويكفي ثوب واحد: قميصاً كان، أو سراويل، أو منديلاً، أو جبة، أو رِداءً، أو إزاراً؛ فإن من سلم شيئاً من ذلك إلى إنسان يقال: كساه عمامةً، أو رداءً أو كذلك في جميع ما ذكرنا. ثم لم يختلف أصحابنا في أنه لو تخير أطفالاً رُضعاً تواريهم الخرق، وسلم إلى قوّامهم [ما يكون كِسوة في حقوقهم تمليكاً، فذلك جائز، والفرضُ ساقط؛ فإن الاسم محقَّق، ولو أعطى الرجلَ التام] (4) ما لا يكون كِسوة في حقه، ولكنه كسوة في حق الطفل، فالذي ذكره القاضي أن ذلك يكفي، ولا يشترط أن يكون المملَّك بحيث يكتسى بما يتسلمه، فلو أعطى رجالاً كسوة أطفالٍ، جاز، ولا يؤاخذ بمراعاة حال

_ (1) ر. المختصر: 5/ 228. (2) الدست من الثياب ما يلبسه الإنسان، ويكفيه لتردده في حوائجه، والجمع: دسوت. (المصباح). (3) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4). (4) ما بين المعقفين لحق بهامش الأصل، استحالت قراءته، وأثبتناه من (هـ 4)، (ق).

من يعطيه، وهذا عنده كما إذا أطعم الرغيب مدّاً، وهو لا يستقل إلا بأمداد؛ فالمعتبر هاهنا أقلُّ الاسم في أقل من يُكسَى، والمعتبر ثَمَّ مقدّر [بالمد] (1) فأقل ما يُسمى كسوة بمثابة المد. وقطع شيخي وغيره بأن ذلك يختلف باختلاف الآخذين، فليكن المسلَّم إلى الآخذ كِسوة له، ليقال: إنه كسا عشرة، وهذا يعتضد بقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]، فأضاف الكسوة إلى من يُكسى، والذي يحقق ذلك أن الخرقة تواري ابنَ ساعة، ويبعد كل البعد أن يكتفي الكاسي بعشرِ خِرق يعطيها عشرةً من الرجال، وسنذكر تردّد الأصحاب في إجزاء التُّبَّان (2)، ولا يستقيم هذا الخلاف إلا بنسبة التّبان إلى الرجل الذي يأخذه، وإلا فالتُّبَّان يكسو الطفل الصغير، فقد تبين التردد فيما ذكرناه، والاحتمال فيه لائحٌ. ثم لا يشترط أن يكون الثوب مخيطاً في نفسه، ولكن لو أعطى خرقَة (3) كِرباسٍ يتأتى منها اتخاذ كسوة، كفى ذلك، وفيه سرٌّ، سنشير إليه في الفصل. 11739 - والكلام يقع بعد هذا في الجنس المعتبر، والعيب المانع من الإجزاء، والصور التي اختلف الأصحاب فيها. فأما الجنس، فيكفي كل ما يكتسى به، سواء كان رديء الجنس، أو فائق الجنس، أو متوسطاً، اتباعاً للاسم الذي هو أصل الباب. قال القاضي: لو قلنا: تعتبر الكُسوة الغالبة في أهل البلد، لم نبُعد، قياساً على الطعام؛ فإنا قدمنا ذكر هذا الوجه في الطعام، وهذا الذي ذكره متجه، والمذهب المشهور ما قدمناه. ولا فرق بين جنس وجنس، فالمتخذ من القطن، والكتان، والإبريسم، والخز، والقز، والصوف مجزىءٌ إذا كان يُكتَسى به، والكساء كسوة.

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) التُّبَّان: فُعّال شبه السراويل، وهي قصيرة إلى الركبة، أو ما فوقها (المعجم والمصباح). (3) هـ 4: "قطعة".

ومما يليق بذلك الدروع المسرودة، فهي ملبوسة، والمُحرم يلتزم الفدية بلبس الدرع، لأنه مُحيط بالبدن، فكان كالمَخيط، فلو ألبس مسكيناً درعاً وملّكه إياه، ففيه احتمال. والأظهر المنع؛ فإن هذا لا يسمى كُسوة، وإن كان يسمى ملبوساً، والإحرام مدار على اللبس واتباع هيئةٍ في الملبوس، والشرط تقرير كل بابٍ على أصله، والمتبع فيما نحن فيه اسم الكسوة. ولو أعطى قلنسوة، أو مِكْعَباً (1) وهو الشُّمُشْك، أو خفين، أو تُباناً، ففي المسائل وجهان، وسبب الاختلاف أن اللُّبس مطلقٌ في هذه الأشياء، ولا يطلق فيها الكُسوة، فهذا منشأ الخلاف، وإذا أعطى تِكّة (2)، أو مِنطقة، لم يجزئه لانعدام اسم الكسوة واللبس جميعاً، فكان المدار على هذا، فكل مكتسٍ لابس، فإذا تحققت الكُسوة فالوفاق، وإن لم تتحقق الكسوة ولا اللبس، فلا إجزاء وفاقاً، وإن كان (3) مطلق اللبس ولا مطلق الكسوة، ففيه الخلاف. واختلف أصحابنا في النعل على طريقين: فمنهم من ألحقه بالخف والمِكْعب، ومنهم من قطع بأنه لا يجزىء كالمِنطقة، والأشبه تخريجه على الخلاف، فإنه يقال: لبس فلان نعليه، كما يقال لبس خفيه. وقال مالك (4) ينبغي أن يُعطى كل إنسان ما يستر به عورته، وتجوز صلاته معه، فهذا هو الستر الواجب الشرعي، فاتجه حمل الكُسوة الشرعية عليه، وهذا قولٌ للشافعي حكاه البويطي عنه، ومن ضرورة التفريع على هذا القول الاختلاف على حسب اختلاف الآخذين، فنعتبر في كل آخذ ما يستر عورته وأبو حنيفة (5) أوجب

_ (1) المِكْعَب: وزان مقود: المداس، لا يبلغ الكعبين. وهو غير عربي. قاله الفيومي في (المصباح). (2) التِّكة: رباط السراويل، جمعها: تِكك. (3) كان بمعنى وجد؛ فهي تامة هنا. (4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 901 مسألة 1796، عيون المجالس: 3/ 1003 مسألة 706. (5) ر. مختصر الطحاوي: 306، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 246 مسألة 1349، الهداية: 2/ 358.

كسوة سابغة كالقميص والجبة، وما في معناهما. 11740 - فأما الكلام فيما يمنع الإجزاء من الصفات، فلا اعتبار بالعيوب المؤثرة في المالية التي يُثبت مثلها الردَّ بالعيب، وهذا كما أنا لا نعتبر إعتاق الرقاب في الكفارات أن تكون بريئة من العيوب المؤثرة في المالية، وإنما يعتبر ما يؤثر في العمل تأثيراً بيناً، كما تفصّل في موضعه، فاللائق بما نحن فيه النظر إلى ما يؤثر في الانتفاع؛ فإن الغرض انتفاع المكتسي بالكُسوة مع التمليك. فلو كان الثوب بالياً، أو موفياً على البلى، لم يجز؛ فإنه قد انسحق وامّحق، وسقط معظم منافعه، وكذلك الثوب المخرق بطول البلى، وإن كان قد انخرق طرف منه بجَذْبةٍ، والانتفاع بالثوب باقٍ قائمٌ، فلا منع، والثوبُ الغسيل إن كان متماسكاً قويّاً لم ينته إلى حدّ الانسحاق، فهو مجزىٌ، نصّ عليه الشافعي والمحققون، ولا يشترط أن يكون الثوب جديداً، ويمكن أن يعتبر بقاء معظم التمتع به، والأسلم أن نقول: ما لا يعد خَلَقاً، فهو المجزىء، فهذا هو المعتمد في الباب. وإن كان الثوب مرقعاً، فإن كان الترقيع للبلى، فلا إجزاء، وإن كانت الأرقعة متماسكة جديدة؛ فإن أطرافها لا تثبت على ثوب أُنهج (1) بالياً، وستتقطع مواضع الخياطة على قربٍ، وإن كان الترقيع لغرض آخر لا للبلى أجزأت الكسوة، ولو كسا مسكيناً ثوباً لطيفاً مهلهل النسج غير بالٍ في حينه، ولكن مثله إذا لبس لا يدوم إلا دوام الثوب البالي، فيظهر أن نقول: لا يجزىء؛ نظراً إلى الإمتاع والاستمتاع. فهذا بيان ما حضرنا، وخطر لنا في الكُسوة، والله أعلم وأحكم. ...

_ (1) أُنهج: من قولك: نهِج الثوب نَهَجاً: بلِيَ وأخلق، فهو نهِج، وأنهجه: أخلقه. (المعجم).

باب الصيام في كفارة الأيمان

باب الصيام في كفارة الأيمان قال: " ومن وجب عليه صوم ... إلى آخره " (1). 11741 - إذا عجز الحانث عن الخلال الثلاث المالية، وقد ذكرنا حد العجز، ومعتبره في كتاب الظهار؛ فإنه يصوم ثلاثة أيام بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهل يجب رعاية التتابُع فيها أم يجوز الإتيان بها مفرقة؟ فعلى قولين: قال في القديم: لا بد من رعاية التتابُع، وقال في الجديد: لا يشترط التتابُع، بل له أن يفرق الصيام في الأيام، وقيل: كان ابن مسعود يقرأ: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وهذه القراءة لم يصححها القراء، فلا تعويل عليها. وتوجيه القولين بعدها: من قال: لا يشترط التتابع، احتج بأن التتابع غيرُ مذكور في كتاب الله تعالى، فلا يجب إلا صيام ثلاثة أيام، ومن شرط التتابع، احتج بمسلك الشافعي في حمل المطلق على المقيد، فالصيام مطلق في هذه الآية مقيد بالتتابع في كفارة الظهار والقتل، والمطلق محمول على المقيد، ومن نصر القول الجديد أجاب بأن القضاء في الكتاب محمول على جواز التفريق (2)، وصوم الكفارة متردد بين مقيد بالتتابع وبين محمول على التفريق، فالوجه الاكتفاء بالاسم. ولناصر القول القديم أن يقول: حمل الكفارة [على الكفارة] (3) أولى من حملها على. القضاء؛ فإن القضاء تِلو (4) الأداء، وليس في الأداء تتابعٌ مستحق، وقد غلط

_ (1) ر. المختصر: 5/ 229. (2) إشارة إلى قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، والمعنى أن حمله على التتابع في الظهار ليس بأولى من حمله على آية القضاء. (3) زيادة من (هـ 4). (4) تِلو الأداء: أي تبعٌ له، وتِلْو كل شيء ما يتلوه ويتبعه. (المعجم).

مالك (1) لما أوجب التتابع في القضاء، مَصيراً إلى أن التتابع مرعيٌّ في الأداء، والقضاءُ تِلوه؛ لأن ما تخيله في الأداء تتابع الزمان، لا تتابع [معتبراً] (2) شرعاً؛ بدليل أن من أفسد اليومَ الأخير لم يفسد صومه فيما مضى. هذا بيان القولين. فإن لم نشترط التتابعَ، فلا كلام، والخِيَرةُ إلى الصائم، وإن شرطنا التتابع، فقد قدمنا في كتاب الظهار ما يُبطل التتابع قولاً واحداً، وما لا يبطله، وما اختلف الأصحاب فيه: كالمرض والسفر، ونحن نقول هاهنا: ما يقطع تتابع الشهرين فهو بأن يقطع تتابع الصيام في الأيام الثلاثة أولى؛ فإن إيقاع الأيام الثلاثة بعيدةً عن أسباب القطع ممكن، وإن كان قد يتعذر في الشهرين. وقد قطع الأصحاب بأن الحيض لا يقطع التتابع في الشهرين، واختلفوا في أنه هل يقطع التتابع في الأيام الثلاثة؛ والسبب في ذلك أنها تتمكن من تبعيد الأيامِ الثلاثة من نوبة حيضها؛ فإن لم تفعل، انتسبت إلى التقصير، والشهران لا يخلوان في الغالب في حق ذات الحيض من الحيض، ولعل الأصح أن الحيض يقطع التتابع؛ فإنها متمكنة من تخيّر أيامٍ لا يفرض فيها حيض، بأن تترك نوبتها من الحيض حتى تنقضي، ثم تصوم الثلاثةَ الأيام في مدّة لا يتوقع فيها معاودة الحيض. وقد يتجه أن نقول: الحيض على هذا التقدير والتصوير أولى بقطع التتابع من المرض، وإن كان الحيض يقطع تتابع الشهرين وفي المرض قولان؛ فإن المتبع المعاني لا الصور. ...

_ (1) التتابع في الصيام في كفارة اليمين مستحب وليس بواجب عند مالك (ر. المدونة: 2/ 43، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 902 مسألة 1800، حاشية العدوي: 2/ 23، الشرح الصغير: 2/ 214، حاشية الدسوقي: 2/ 133، الفواكه الدواني: 1/ 429). (2) في الأصل: لا تتابع معنى شرعاً. وكذلك كانت (هـ 4) ثم صوّبت إلى: " لا تتابع معتبراً شرعاً ".

باب الوصية بكفارة اليمين والزكاة

باب الوصية بكفارة اليمين والزكاة قال الشافعي: " من لزمه حق للمساكين في زكاةٍ أو كفارة ... إلى آخره " (1). 11742 - ذكر في صدر الباب اجتماع الديون في التركة، وما كان فيها لله تعالى، وما كان للآدمي، وقد قررنا ذلك في مواضع واستقصينا الأصول وتفاريعها في كتاب الوصايا، فلا نعيد شيئاً مما تقدم مقرراً، والذي رأيته لشيخي هاهنا، فأحببت نقله: أنَّا وإن ذكرنا ثلاثة أقوال في تقديم دَين الله تعالى على ديون الآدمي بعد الوفاة، فلا خلاف أن من ضرب القاضي عليه الحجرَ بالفلس، فديون الآدمي مقدمةٌ لا يزاحمها دين الله تعالى إذا كانت مرسلة غير متعلقة بالأعيان، كالكفارات والنذور المطلقة، وإنما قلنا ذلك؛ لأن ديون الله تعالى تقبل التأخير ما دام الإنسان في قيد الحياة، بخلاف ديون الآدميين، فإذا مات الإنسان، فلا تاخير في تأدية ديون الله، فتجري الأقوال في التقديم والتسوية، وهذا بيّنٌ. 11743 - ثم الذي نرى ذكره هاهنا وإن كان الظن الغالب أنا ذكرناه في الوصايا أن من مات وعليه كفارة -والتفريع على أنه لا حاجة إلى الوصية في تأديتها- فإن كانت الكفارة مرتبة مبدوءة بالعتق، فالوارث يعتق عن الميت حتماً، ويقع العتق عن الكفارة، وينصرف الولاء إلى المتوفى. وإن مات وعليه كفارة اليمين وفي التركة وفاء، فللوارث أن يطعم، وله أن يكسو، وهل له أن يعتق؟ فعلى وجهين: أصحهما - أن له ذلك، كما ذكرناه في الكفارة المرتبة التي لا تخير فيها، ثم الولاء للميت.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 230.

ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يعتق عنه؛ فإن الغرض يحصل، والحق يتأدى بالإطعام أو الكسوة، وليس يُعقب واحدٌ منهما ولاءً، وصرف الولاء إلى غير المعتِق وإلى غير الآذان في العتق بعيد، لا اتجاه له. ولو لم يخلف تركةً، فأراد الوارثُ في كفارة اليمين أن يُطعم أو يُعتق، فقد قال الأصحاب: الإطعام والكسوة من الوارث يقع الموقع، وفي الإعتاق خلاف كما ذكرناه، والأولى ترتيب الخلاف على ما إذا خلّف التركة؛ فإن التركة عُلقة قائمةٌ، حتى كأنها بقيةٌ من الحياة، ويتعلق بها من الطلباتِ ما كان يتعلق بالحي في حالة الحياة، وإذا لم تكن تركة، [كان] (1) الإعتاق من الوارث في حكم التبرع المحض. ولو كانت المسألة بحالها، فأطعم أجنبي عمن مات وعليه كفارة يمين، أو كسا عنه أو أعتق، فالترتيب المشهور إجراؤه، على عكس الوارث، فنقول: إن أعتق الأجنبي، لم يقع العتق عن الميت وجهاً واحداً؛ فإن أطعم عنه أو كسا، ففي وقوعه عنه وجهان، والفرق أن الوارث على الجملة له رتبة الخلافة، بخلاف الأجنبي، وفي العتق المزية التي أشرنا إليها، وهي استعقاب الولاء، وصرفُ الولاء إلى الغير من غير إذنه بعيد. قال صاحب التقريب: لا يمتنع أن يخرّج العتق في حق الأجنبي على الخلاف أيضاً ونُرتبه على الوارث، والدليل عليه أن الوارث والأجنبي يستويان في حالة الحياة في أن واحداً منهما لا ينفرد بإعتاق ولا إطعام عمن عليه الكفارة من غير إذنه. وقد ذهب طائفة من أصحابنا إلى ذكر خلافٍ في إطعام الوارث وكُسوته إذا لم يكن تركة؛ فإن الدين على الميت، فإذا لم يخلّف تركة، فالوارث كالأجنبي، وهذا الخلاف فقيه، وإن كان غريباً؛ فإن ما يطلق من خلافة الوراثة قد لا يتحصل إذا لم يكن مال، وإنما يتصرف الوارث إذا كانت تركة ليخلّص التركة، فإن استحقاقه يتعلق بعينها، فإذا لم يخلّف الميت شيئاً، فلا أثر للوراثة، وبالجملة إنه إذا لم يرث شيئاً للميت، ولم يجب عليه ما على الميت، فلا تعلق له.

_ (1) في الأصل: " نخال ".

وعلى هذا التردّد خرّج الأصحاب خلافاً في أن الوارث لو أدّى دين المورث وما كان خلف شيئاً، فهل لمستحق الدين أن يمتنع عن قبوله؟ هذا خارج على الخلاف الذي حكيناه. [ولو لم يخلف مالاً والتمس من وارثه أن يُعتق عنه، أو استدعى من أجنبي] (1) ذلك، ومات، فالذي أطلقه الأصحاب وقطعوا به أنه يصح إيقاع ما أوصى به كما يصح ذلك في حالة الحياة؛ فإن التماس هذه الأشياء بعد الوفاة بالوصاية لا يقطعه الموت، وما ينفذ على سبيل الوصاية في حكم الملحق بما يجري في حالة الحياة، والوصية تتمة معاملات الحياة، فهذا ما أردنا ذكره. 11744 - ومما [أراه] (2) متصلاً بذلك أن من مات وعليه صوم، وفرعنا على أن الولي يصوم عنه، فقد قال الأئمة: لو أوصى إلى أجنبي حتى يصوم عنه، صح ذلك، ويصير الأجنبي بالإذن بمثابة الوارث، ولو عجز عن الصوم في الحياة عجزاً لا يتوقع زواله، فالتمس من الغير أن يصوم عنه، فقد قال قائلون: بجواز ذلك؟ قياساً على الاستئجار في الحج؛ فإن النيابة لما تطرقت إلى الحج، جاز الاستئجار عليه بعد الموت، وجاز ذلك في الحياة عند العضب، فليكن الصوم كذلك. وقال قائلون: لا سبيل إلى ذلك في الصوم؛ فإن المعتمد في تجويزه خبرٌ رواه الرواة، وهو مقيّد بما بعد الموت. وقال شيخي أبو محمد: إذا جوّزنا للأجنبي أن يكفر عن الميت من غير إيصاء، فلا يمتنع أن يصوم عنه أيضاً من غير إيصاء، ولكن الصوم أبعدُ من وجهين: أحدهما - أنه بدني والقُرَبُ المالية تقبل ما لا تقبله القرب البدنية، وأيضا فإن الاعتماد على الخبر، وفيه: " من مات وعليه صوم صام عنه وليه ".

_ (1) ما بين المعقفين عبارة (هـ 4)، بما فيها من زيادة وتبديل. أما عبارة الأصل فقد كان فيها سقط، إذ جاءت هكذا: " ... الذي حكيناه، ولو أوصى بشيء لو لم يخلف ذلك ومات ... ". وقد جاءت (ق) تؤيد المثبت من (هـ 4). (2) في الأصل: " أردناه ".

ومما ذكره الأصحاب أن من عليه كفارة اليمين إذ أوصى بأن يُعْتَق عنه -ومعلوم أن الفرض يسقط بالطعام- فإذا زادت قيمة الرقبة على قيمة الطعام، فمن أصحابنا من قال: يتعين العتق، ولا يكون تبرعاً، وكذلك لو أعتق هو في مرض الموت؛ فإن العتق أحدُ ما يجب. ومنهم من قال: ما فيه من الزيادة تبرع، إذ من الممكن إسقاط الواجب بغيره، فإذا وقع التفريع على هذا، ففي كيفية اعتبار الفَضْلة من الثلث وجهان، فنقول أولاً: إن وفّى الثلث، فلا كلام، وإن ضاق الثلث، فإذ ذاك يبين الوجهان، فمن أصحابنا من قال: يعتبر خروج جميع قيمة العبد من الثلث، فإن خرجت، فلا كلام، وإن لم تخرج القيمة من الثلث، انتقلنا إلى الإطعام والكسوة، وعليه يدلى ظاهر النص، وهذا الظاهر خارج عن القياس. والوجه الثاني -وهو القياس- أنا نحط قيمة الطعام مثلاً من رأس المال، وننظر إلى المقدار الذي يزيد على قيمة الطعام إلى قيمة العبد، فيحسب ذلك من ثلث الباقي، فإن خرجت تلك الزيادة، أعتقنا العبد، وإن لم تخرج، انتقلنا إلى الإطعام، أو إلى الكسوة. وقد مهّدت هذه الأصول في كتاب الوصايا على أبلغ وجه في البيان. ونحن وإن كنا نجتنب المكرّرات جهدنا، فقد نقع في الإعادة بسببٍ، وهو أن لا نذكر مُضيَّ شيء، ونرى الأولى أن نذكر ما يتردد فيه. ***

باب كفارة يمين العبد

باب كفارة يمين العبد قال الشافعي: " ولا يجزىء العبدَ في الكفارة إلا الصوم ... إلى آخره " (1). 11745 - إذا حنث العبد ولزمته الكفارة، فيتصور منه الصيام، وأما التكفير بالمال، فإنه يترتب على أن العبد هل يملك بالتمليك، فإن قلنا: لا يملك، فلا يصح منه التكفير بالمال أصلاً، وإن قلنا: إنه يملك، فلو ملكه مولاه طعاماً أو كسوة، فلا يملك إخراجه في الكفارة دون إذن السّيد، فإن أذن في التكفير بالإطعام والكسوة، صح منه باتفاق الأصحاب؛ فإن تبرّعه بما ملَّكه مولاه نافذ بإذن المولى، والملك الذي يتهيأ فيه التبرع يُتصوّر أداء الفرض به على الوجه الذي يتصور التبرع به. ولو ملَّك عبده عبداً، وأذن له في أن يعتقه عن كفارته، فهل يصح منه التكفير بالعتق أم لا؟ هذا يستدعي تقديمَ أصلٍ وهو أنه لو ملَّك عبده عبداً، وأذن له في إعتاقه تبرعاً، فإذا أعتقه، فلا شك أن العتق ينفذ؛ فإن الحق لا يعدو السيدَ والعبدَ، وما حكم الولاء؟ ذكر الأصحاب قولين مشهورين: أحدهما - أن الولاء يكون للسيد في الحال والمآل؛ فإن ثبوت الولاء للعبد الرقيق محال، كما سنصفه. والقول الثاني - أن ولاء ذلك المعتَق موقوف: فإن عَتَق هذا العبدُ الذي أعتقه، فيكون ولاء ذلك المعتَق له تبيناً، وإن مات رقيقاً، فيكون ولاؤه لسيده. وذكر صاحب التقريب في المسألة قولاً غريباً أن الولاء يكون للعبد المعتِق في حال رِقِّه؛ فإذا لم نُبعد أن يثبت له ملك، لم نبعد أن يثبت له الولاء، وهذا وإن كان متجهاً على ظاهر القياس، فهو بعيد في الحكاية، وسبب بعده تعليلاً أن الولاء لو ثبت،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 230.

للزم، ويبعد أن يثبت للرقيق حقٌّ لازم لا يمكن قطعه، وليس هذا كالنكاح، فإن النكاح وضعه أن يلزم للعبد والولاء تبع الملك، فإذا كان الملك لا يلزم، فيبعد أن يلزم ما هو تابع للملك. فإذا ثبتت هذه المقدمة في الولاء، رجعنا إلى التكفير، فإن قلنا بالقول الغريب الذي حكاه صاحب التقريب، وهو أن الولاء يثبت للعبد الرقيق في حال رِقه، فإذا أذن له مولاه في إعتاق العبد الذي ملّكه عن كفارته، فإذا أعتقه، وقع عن الكفارة، ولا إشكال. وإن قلنا: الولاء موقوف، فمن أصحابنا من قال: يقع العتق عن كفارته ناجزاً في الحال وإن قضينا بوقف الولاء، هكذا حكاه الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب، وقال الصيدلاني: الوجه عندي أنا إذا حكمنا بوقف الولاء، فينبغي أن تكون الكفارة موقوفة أيضاً، فإن الإجزاء في هذه المسألة يتبع الولاء، ويبعد أن نقطع بالإجزاء مع التوقف في الولاء، وهذا الذي قاله من تلقاء نفسه واختاره لم يذكر القاضي غيرَه، وقطع به، ووجهه بيّن. ولو أعتق المكاتَب عن كفارته بإذن السيد على قولنا بنفوذ تبرعاته إذا صدرت عن إذن السيد، قال (1): فالذي ذكره الأصحاب أن ذمته تبرأ عن الكفارة، والذي عندي فيه أن الأمر موقوف؛ فإن المكاتب ربما يعجِز فيَرق، ثم إذا عاد رقيقاً، فيجب أن يكون الولاء موقوفاً، وإذا كان موقوفاً، وجب وقف الكفارة. هذا كلام الصيدلاني نقلاً واختياراً. وحكى الإمام شيخي قولاً غريباً أن العبد إذا أَعتق بإذن مولاه العبدَ الذي ملّكه إياه، ينفذ العتقُ والولاء للسيد، ويقع العتق عن كفارة العبد. 11746 - هذه طرق الأصحاب، وبعدها بحثٌ قريب: وهو أنا إذا حكمنا بأن الولاء للسيد، فالعتق عمّن؟ ينقدح فيه من قول الأصحاب وجهان: أحدهما - أن العتق يقع عن السيد، وكأن الملك ينقلب إليه، وينفذ العتق عنه، ولذلك انصرف

_ (1) أي الصيدلاني، كما سيصرح باسمه بعد قليل.

الولاء إليه، ولهذا قلنا: إن العتق لا يقع عن كفارة العبد. والوجه الثاني - أن العتق يقع عن العبد، ولكن يتعذر صرف الولاء إليه، ولا بُدّ من الولاء، فكان السيد أولى من يُصرف إليه الولاء، وهذا يتضح على القول الغريب الذي حكاه شيخي في أن العتق يقع عن كفارة العبد والولاء [للسيد] (1). ومما يُبحث عنه أن التردد الذي حكاه الصيدلاني على قول وقف الولاء في أن العتق يقع ناجزاً عن الكفارة أو يتوقف فيه إنما يظهر أثره في مثل كفارة الظهار، فإن تحليل المظاهَر عنها موقوف على براءة الذمة عن الكفارة، فإن نجّزنا الحكم أحللناها، وإن لم ننجز توقفنا في إحلالها حتى نتبين الأمر، ولا خلاص إن أراد أن يستحلها إلا الصيام. ومن لطيف ما نفرعه أن السيد إذا أذن لعبده في الإعتاق عن الكفارة المرتبة وقلنا العتق يقع عن كفارته في قولٍ من الأقوال التي قدمناها، فلو أراد العبد أن يصوم ولا يكفر بالمال، فهذا فيه احتمال عندنا؛ من جهة أن ملكه ضعيف، وليس العبد موسراً به، بدليل أن نفقته على زوجته نفقة المعسرين، وإن ملكه السيد مالاً جمّاً، وأذن له في صرفه فيما يشاء؛ إذ لا ثقة بإذن السيد، وله أن يرجع متى شاء، ويجوز أن يقال: ليس له أن يصوم مع التمكن من الإعتاق، والعلم عند الله تعالى. 11747 - وكل ما ذكرناه تفريع على قولٍ ضعيف، وهو أن العبد يملك بالتمليك. فإن فرعنا على الجديد وهو أنه لا يملك أصلاً، فلا يكفِّر إلا بالصيام، وفي صيامه تفريع لابد منه، فإن كان العبد أيِّداً، لا ينهكه الصوم، ولا ينقص عنه (2)، ولا يُعجزه عن القيام بخدمة السيد، فله أن يصوم متى شاء، ولا معترض عليه، فإن الصوم إذا كان لا يؤثر فيه بمثابة إدامة ذكر الله تعالى، أو قراءة القرآن في متصرفات أحواله، وأجمع أئمتنا على أن للعبد أن يتطوع بالصوم إذا كان لا يؤثر الصوم في رقبته وقوته، وإن كان الصوم يؤثر فيه، ويعجزه عن القيام بتمام الخدمة، نُظر: فإن كانت

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) كذا في النسختين. ولعلها: ولا ينقص قيمته. وعبارة الغزالي في البسيط: " إن كان قوياً لا يضر به الصوم ". وجاءتنا (ق) وفيها: " عينه " مكان عنه.

اليمين والحنث جميعاً بإذن السيد، فليس له منعه من الصوم، وحمله على تأخيره، وإن كانت الكفارة على التراخي، هذا هو المذهب الصحيح، ولو دخل عليه أول وقت الصلاة، فأراد إقامة الصلاة في أول وقتها، فهل له ذلك؟ في المسألة وجهان مشهوران، والفرق بين الحمل على تأخير الكفارة وبين محل الوجهين في الصلاة أن العمر محل الكفارة، وهو مجهول الآخر، فكان في تأخيرها غررٌ، ووقت الصلاة مضبوط. ومن أصحابنا من قال: يجوز للسيد حمل العبد على تأخير الصوم وإن كان الحلف والحنث صادرين عن إذنه، تخريجاً على أن للزوج أن يمنع زوجته عن حجة الإسلام على قول؛ لأن أداء الحج على التراخي، وحق الزوج ناجزٌ في الحال، وكان شيخي يقول: هذا القول وإن جرى في الحج موجهاً بما ذكرناه، فالوجه القطع بأن العبد لا يُحمل على تأخير الصوم في الكفارة إذا جرى الحلف والحنث بإذن السيد؛ لأن موجب الكفارة تعلّق بالمولى ووجوب الحج لا تعلق له بالزوج، ولا يمتنع أن يقال: لا تتم استطاعة الزوجة حتى يأذن الزوج لها، وهذا لا بأس به، وكل ذلك ناشىء من تردّد الأصحاب في أن من أخر الحج، ومات هل يأثم؟ وكيف يأثم ولو أخر الصلاة من أول الوقت إلى وسطه فاخترمته المنية، فهل يأثم؟ وكل ذلك مما مضى مقرراً في الكتب السابقة. وكنت أحب أن يقال في الكفارة: إنْ ظَاهَرَ العبدُ وعاد بإذن المولى، فليس له أن يمنعه من التكفير؛ لأن في منعه إضراراً به وإدامةً للتحريم، وإن فرض في كفارة اليمين ما ذكرناه، فقد يُخرّج فيه الوجه البعيد الذي ذكرناه في أن السيد يحمل عبده على تأخير الصوم. وما قدمناه من جواز الصوم تبرعاً أو فرضاً، حيث لا يؤثر الصوم في القيمة (1) والقوة، فهو في العبد، أما الأمة، فللسيّد أن يفطرها في صوم التبرع، وفي صوم الفرض إن لم يكن سبب وجوبه بإذنه، وهذا واضح.

_ (1) هـ 4: " الرقبة ".

لو حلف العبد وحنث بغير إذن المولى، وكان الصوم يؤثر، فالسيد يمنعه من الصوم، وإن فرضنا المسألة في الأمة، كان له أن يمنعها ويقضي مستَمْتَعه منها. ولو حلف العبد من غير إذن السيد، وحنث بإذنه، فهل له أن يمنعه من الصوم؟ فعلى وجهين مشهورين مُفرّعَيْن على أن اليمين والحنث لو كانا بالإذن، فلا يُمنع العبد من الصوم، والفرق لائح، ولو كانت اليمين بإذن السيد والحنث بغير إذنه، فالذي ذهب إليه المحققون أن للسيد أن يمنعه من الصوم إذا حنث، والسبب فيه أنه إذا حلف بإذن مولاه على الامتناع من دخول الدار، ودخل الدار من غير إذن، فالذي جاء به مبالغة في مخالفة المولى، فإنه أذن له في أن يمتنع عن الدخول، ويؤكد ذلك باليمين، فإذا دخل الدار مع اليمين، كان أبلغ مما إذا دخلها من غير يمين. ومن أصحابنا من قال: يجري الوجهان إذا كانت اليمين بإذن المولى، وإن لم يكن الحنث بإذنه؛ فإن اليمين إحدى سبَبَي الكفارة، فإذا صدرت عن إذن المولى، كانت كالسبب الآخر، وهو الحِنث، وقد ذكر الوجهين العراقيون، وصاحب التقريب. 11748 - وكل ما ذكرناه من تفريع التكفير بالمال والصوم مصوّر في حياة العبد، فلو حلف العبد، وحنث، ومات أو استوجب الكفارة بجهة أخرى، فقد قال الأصحاب: للسيد أن يُطعم ويكسوَ عن عبده بعد موته، وإن كان لا يجد إلى ذلك سبيلاً في حياته إذا فرعنا على أن العبد لا يملك بالتمليك، والسبب فيه أن التكفير عنه بالمال موقوف على دخول المال في ملكه، وخروجه عن ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعي هذا، فانا وإن كنا [نقدر للميت ملكاً، فلا تحقيق له، والميت أبعد خلق الله عن الملك، وكيف] (1) يتحقق له ملك، وهو في حكم المعدوم في أحكام الدنيا؟ ثم جاز التكفير عن الميت بعد موته على التفاصيل المقدمة، فالعبد والحر بعد الموت بمثابةٍ، هذا ما ذكره شيخي وهو الذي قطع به القاضي، وتحقيقُه أن العبد يخرج بالموت عن كونه عبداً، فلا معنى للنظر إلى التفاوت بين الحر والعبد بعد الموت.

_ (1) زيادة من (هـ 4).

هذا ظاهر المذهب، ويتطرق إليه احتمالٌ من أصلٍ نقدّمه، ثم نذكر وجه إشعاره بالاحتمال، فإذا التزم العبد كفارةً، والتفريع على أنه لا يملك بالتمليك، ولا يتصور منه التكفير بالمال، فلو أُعتق، وأراد أن يكفر بالمال -والتفريع على أن الاعتبار في صفة التكفير بحالة الوجوب- فالمذهب أنه لو أراد التكفير بالمال بعد العتق، أمكنه، فإن من لا يلتزم إلا البدل لو تكلف إخراج المبدل، كان مقبولاً منه، كما لو كان معسراً عند التزام الكفارة، ثم أيسر قبل أدائها، وفرعنا على أن الاعتبار بحالة الوجوب، فلو أدّى ما يليق بحال الموسرين أجزأه ذلك. ومن أصحابنا من قال: العبد لا يجزئه إلا الصوم؛ فإنا نسند حالة الأداء إلى حالة الالتزام، ولقد كان في حالة الالتزام بحيث لا يتصور منه التكفير بالمال بوجهٍ، فعلى هذا يظهر المصير إلى أن السيد لا يكفر عن عبده بعد موته بمالٍ يخرجه؛ فإن ما يعترض بعد الموت لا بدّ من تقدير استناده إلى حالة الحياة، وهذا الوجه (1) في هذا المقام ظاهر؛ نإن ما بعد الموت استدراك أمر مشرفٍ على الفوت، فيجب الالتفات إلى حالة الحياة. ثم فرع الأصحاب على الوجه الظاهر، وقالوا: إذا جوزنا للسيد أن يطعم ويكسو عن مملوكه بعد موته، فهل يجوز له أن يُعتق عنه، فعلى وجهين، وهذا التردد لمكان الولاء، وما فيه من الاضطراب للأصحاب، ثم المعتمد في السيد أنه في التصرف في عبده حالّ محل الوارث لما بينهما من العُلقة، وقد مضى لهذا نظائر في المسائل. ثم الذي يقتضيه الترتيب أن ينزل السيد في حق عبده الميت منزلة الوارث في حق صاحبه الذي لم يخلّف شيئاً، وقد قدمنا تفصيل المذهب في حق الذين لم يخلفوا شيئاً، ثم السيد أبعدُ عن الخلافة من الوارث، والعبد أبعد عن قبول التكفير من الميت المعسر، لما نبهنا عليه، وكل ذلك يقتضي ترتيب محالّ الخلاف في السيد [على] (2) أمثالها في الوارث.

_ (1) هـ 4: " وهذا الغرض ". (2) في الأصل: في.

فصل قال: " ولو حنث ونصفه عبد ونصفه حر ... إلى آخره " (1). 11749 - من بعضه حر وبعضه رقيق إذا خلص له مال بطريق المهايأة، أو القسمة، فمِلكُه تام فيما خلص له، وتصرفاته نافذة من غير احتياج إلى استئذان ومراجعة من يملك رقَّ بعضه، ولا معترض عليه في التبرع إن أراده؛ فإذا لزمته كفارة مرتبة، وأراد التكفير بالمال، فالمنصوص عليه للشافعي أنه يطعم ويكسو لكمال ملكه. وقال المزني (2): يجب ألا يصح منه إلا التكفيرُ بالصوم؛ لأنه لو كفر بالمال، وقع ذلك عن جملته؛ إذ يستحيل أن يختص لزومُ الكفارة ببعضه، والأداء على حسب اللزوم، فإذا كان اللزوم يكفي جملته من غير تبعيض، فالأداء بحسبه، فلو كفر بالمال، كان مخرِجاً عن بعضه الرقيق مالاً، ثم أكد هذا، فقال: إذا كنا لا نحتمل التبعيض بين أصلين، ونقول: لو أطعم الحر خمسةً، وكسا خمسة، أو أطعم خمسة، وأعتق نصف رقبة، لم يجزئه، فالتبعيض في المودِّي أولى بذلك. هذا مذهب المزني. وقد ذهب بعض أصحابنا إلى موافقته، وإلحاق مذهبه بالقاعدة، فانتظم خلاف؛ إذ المنصوص التكفير بالمال والمُخَرَّج وهو مذهب المزني أنه لا يجزئه التكفير بالمال. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 230. (2) ر. المختصر: 5/ 230.

باب جامع الأيمان

باب جامع الأيمان قال الشافعي: " وإذا كان في دار وحلف أن لا يسكنها ... إلى آخره " (1). 11750 - التصرف في الألفاظ ومقتضياتها ممّا تمهّد تحقيقه في كتاب الطلاق على وجوهٍ يكتفي الطالب بها، واليمين بالله تعالى في معنى اليمين بالطلاق والعَتاق في تعلّقها بالألفاظ، ورجُوعُنا في فحواها إلى اللسان، ثم إلى العرف، والذي يتجدّد في هذا الكتاب أن اليمين بالله تعالى إن تعلّق بحق الآدمي مثل أن يُفرضَ إيلاء، فلا فرق بينها وبين اليمين بالطلاق في المؤاخذة بالظاهر، وإجراء أحكام التديين في الباطن. وإن لم تكن اليمين متعلقة بحق الآدمي، وإنما حلف الرجل على الابتداء بالله تعالى على ماضٍ أو مستقبل في نفي أو إثبات، فلا يتحقق الفرق بين الظاهر والباطن مؤاخذةً وتدييناً، [فإن كل ما يُقبل] (2) في منازل التديين إذا أضمره الحالف، فيمينه منزلة عليه وباطن أمره وظاهره سواء. وإن أطلق اللفظ، ولم يضمر أمراً، فمسائل الأيمان مما يدار على هذا المقام، ثم يعترض فيه ما نصفه، وهو أنه إذا زعم أنه لم ينو شيئاً، بل أطلق اللفظ، فالقول في ذلك ينقسم: فإن ادّعى أنه كما لم ينو لم يطلع على معنى لفظه، فهذا لا حاصل له؛ إذ لا سبيل إلى إلحاق ما جاء به باللغو؛ فإن اللغو إنما يحتمل في كلمة يخرجها في أثناء الكلام على اعتيادٍ في الناس مطّرد: مثل أن يقول: لا والله، وبلى والله، وأما عقد يمين مع تجريد القصد إليه، وقد يكون هو الكلام أو هو المقصود من الكلام الّذي أجراه، فحمله على اللغو لا معنى له. فهاذا قال: لم أدر ما قلت، وصدقناه، حملنا

_ (1) ر. المختصر: 5/ 231. (2) في الأصل: " فإن كان ما يقبل ".

هذا على خطور المعنى له عند اللفظ، وذهوله عنه لتغاييرَ لحقته من هَيْج وسكون بعده، لا يجوز (1) لما جرى محمل إلا هذا؛ فإن العاقل الفاهم لمعنى اللفظ لا يقصد به إلا معناه إذا لم يضمر شيئاً سواه، فهذا ما أردنا تقديمه على مسائل الباب. وسنذكر إن شاء الله تعالى قاعدةً أخرى عظيمة الوقع ظاهرة الأثر في صدر بابٍ آخر بعد هذا مترجمٍ بجامع الأيمان أيضاً. وعندي أن من أحاط بالقاعدة، وعرف معنى اللفظ، اكتفى بما ذكرناه وتصدى لما يُسأل عنه من الألفاظ؛ فإن مسائل سائر الكتب تذكر للإيفاء بها على ضبط مقصود الكتاب إذا كان مقصوده فقهاً وحكماً، ولا مطمع في ضبط (2) ما يمكن تقديره من الألفاظ؛ فمسائل الكتب اللفظية تذكر لتمهيد معاني القواعِد والإيناس بها. 11751 - وقد عاد بنا الكلام إلى مسائل الباب: فإذا قال الحالف وهو في دارٍ: والله لا أسكن هذه الدّار؛ فإن فارقها على الفور والبدار، برّت يمينه، وإن سكنها مطمئناً إلى السكون، ولو في ساعة، حنث. واعتبر أبو حنيفة (3) فيما يحنث به السكون في مدة يوم وليلة، وأمثال هذه التحكمات تشعر [بضجر] (4) المتكلم بها في محاولة ضم نشر الكلام والتقريب فيه مع خروجه عن الضبط الحاصل. ولو خرج بنفسه، وخلّف الأهلين [والضِّنَّ] (5)، والأموال، برَّ؛ فإن اليمين معقودة على ألا يسكن، وقد فارق، ولو سكن، وأخرج المال، والأهلَ، فهو حانث، والتعويل عليه -سكن أو فارق- في البرّ والحنث، ولو قال: والله لا أسكن،

_ (1) هـ 4: " يكون ". (2) هـ 4: "ذكر". (3) ر. المبسوط: 8/ 162، مختصر الطحاوي: 308، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 267 مسألة 1376. (4) في الأصل: " بضم". (5) الضِّن: ما يضن به (المعجم)، والمراد هنا النفائس. وهي غير مقروءة في الأصل. وفي (هـ 4): " الضبن " ولم أجد لها وجهاً. وفي (ق): والصبي.

ثم قام يجمع أمتعته وشمَّر في نقلها، والانتقالِ معها، فالذي ذكر المراوزة أنه لا يحنث، والذي ذكره العراقيون القطعُ بتحنيثه، وقالوا: إن أراد البرّ، فليبتدر خارجاً، ولْيكل نقلَ الأمتعة إلى مستناب يثق به، وهذا نقلناه على ثبت وثقةٍ، واستقراءِ نُسَخٍ. ووجه ما ذكره العراقيون بيّن، ووجه ما قطع به المراوزة أن السكون (1) ليس الكون نفسه، وإنما هو ركون إلى الكون، أو تمهل وانحلال من غير تشمير للاشتغال بالانتقال، فإذا ابتدر النقلَ والانتقالَ سُمّي كائناً في الدار، ولم يُسمَّ ساكناً فيها، والدليل عليه أنه لو ابتدَرَ الخروج والمفارقة من صدر الدار الفيحاء، فقد يحتاج معها إلى خطوات، وهو معها كائن في الدار، ولا احتفال بها؛ فإنه لا يُسمى في تخطّيه ساكناً، ولا يكلف أيضاً خروجاً عن العادة في العدو والهرولة، ولا يقال: من حلف كذلك، فقد ربط برّه بمستحيل. ولو قال: والله لأخرجن في لمحة عين، وأراد تحقيق الوفاء بهذا، ثم لم يتمكن منه؛ فإنه يحنث، كما لو قال: لأصعدنّ السماء، فإذا لم يؤاخذ بهذه الدقائق، تبين أن اليمين منزلةٌ على ترك الرّكون إلى السكون، واستشهد الأئمة بما هو مبني على الفور، كالرد بالعيب، ثم من اطلع على عيب، فاشتغل برفع صاحبه إلى مجلس القاضي، فلا يعد مقصراً مؤخِّراً، كما بيناه في موضعه. وسرّ كلام المراوزة يُتلقى من الأصل الذي جعلناه قاعدة الباب؛ فإن الحالف لو زعم أنه نوى أمراً، فإن قوله منزل على ما نواه وما يتصور فيه التورية فيه متسع على النهاية، فإذا قال: لم أنو، فلا محمل له إلا أنه قصد أمراً، ثم ذَهِل عنه، والغالب أنه [لم يقصد] (2) إلا ما يقصد مثله في العرف، وتجويز ما لا يجري في التعارف لا حكم له؛ إذ لا نهاية للممكنات، فالوجه التنزيل على ما ذكرناه، وسيتضح هذا، إن شاء الله تعالى بالمعاودات وتكرير التقرير في المسائل، إن شاء الله.

_ (1) السكون: أي السَّكن في الدار. (2) في الأصل: " لا يقصد ".

فصل قال: " وإن حلف ألا يساكن فلاناً ... إلى آخره " (1). 11752 - ذكرنا اليمين المعقودة على السكون، والمساكنةُ قريبة المأخذ من السكون، فإذا قال: لا أساكن فلاناً، وكان معه في بيت، أو دارٍ على حقيقة المساكنة، فابتدر وفارق المكان، برّ، ولو شمّر ليفارق، فهو على التفصيل المذكور في الحلف على نفي السكون. ولو حلف لا يساكن فلاناً، فابتدر ذلك الإنسان وفارق، برّ الحالف بمفارقته، كما يبر بمفارقته في نفسه. والذي نزيده في هذا الفصل تفصيلُ القول في الأماكن ومعنى المساكنة فيها، فنبدأ بالخان وما فيه من البيوت: فإذا قال واحد ممن يسكن بيتاً من بيوت الخان: [والله لا أساكن فلاناً، وكان المذكور في اليمين ساكناً بيتاً من بيوت الخان] (2) فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه، جمعها صاحب التقريب: أحدها - أن الحالف إذا كان منفرداً ببيت عن الشخص الذي ذكره، وكان ذلك الشخص منفرداً ببيت، فلا حِنث؛ إذ لا مساكنة بينهما، واجتماع سكان الخان في الخان كاجتماع سكان المَحِلّة فيها، والدليل عليه أن الذي لا يساكن عدواً له في حجرة [أو دار، قد يسكن بيتاً] (3) في خان وممقوته في بيت آخر من ذلك الخان، فلا مساكنة إذاً. ومن أصحابنا من قال: الكائنان في بيتين من خانٍ متساكنان؛ فإن الضرورة تلجىء إلى الازدحام على المرافق، والبيوتُ في الخان كالأبنية في الدار. ومن أصحابنا من قال: إذا حلف وهو مع صاحبه المذكور في بيتٍ واحد، فيمينه تقتضي أن يفارق ذلك البيت؛ فإن انحاز إلى بيت آخر من الخان، لم يكن مساكناً.

_ (1) ر. المختصر: 231. (2) زيادة من (هـ 4). (3) في الأصل: " أو زاوية يسكن بيتاً ". وهو تصحيف مزج كلمتين في كلمة.

وإن أنشأ اليمين وهما في بيتين، فاليمين تقتضي الخروج من الخان، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يُحدث الحالف بعد يمينه أمراً مما ذكرناه، ثم اجتمعت المراوزة على أن الدار الواحدة إذا اشتملت على بيوتٍ، فليست بيوتها بمثابة بيوت الخان. 11753 - ولو قال: لا أساكن فلاناً، فاختص ببيت من دار، وصاحبُه ببيت آخر، فهما متساكنان وإن (1) لم نجعل سكان البيوت في الخان متساكنين، والتعويل على العرف في الموضعين. وذكر العراقيون وجهاً آخر أن بيوت الدار كبيوت الخان، وهذا بعيد، وإن كانت البيوت في الصورة كالبيوت، ولكن الأيمان محمولة على العرف. وكل هذه المسائل (2) مفروضة في الإطلاق. فإن نوى الحالف بنفي المساكنة ألا يساكنه في بيت من الدار، فاللفظ يحتمل، والحالف مصدَّق، والله مطلع على السرائر. وإن فرعنا على طريقة المراوزة، وهي الأصح في بيوت الدار، فلو كان في الدار حجرة، فانحاز الحالف إليها لمّا حلف وترك من ذكره في الدار، نظر: فإن لم تكن الحجرة مستبدّة بمرافقها، وكان لا يستغني ساكن الحجرة عن الارتفاق بمرافق الدار، فالحجرة في الدار بمثابة بيت من بيوت الدار، وإن كانت الحجرة مستقلة بمرافقها، وكان بابها إلى السكة، ولا ممرَّ منها على عَرْصة الدار، فإذا أوى الحالف إليها، فقد خرج عن المساكنة قطعاً. وإن كانت الحجرة منفردة بمرافقها كبيت الماء، والمطبخ، وما في معناهما، ولكن كان باب الحجرة لافظاً في الدار، وكان صاحب الحجرة لا يحتاج إلى شيء من الدار إلا المرور والطروق، فقد اختلف أصحابنا المراوزة في ذلك، فذهب المحققون إلى أنه ليس بمساكن والاشتراك في الممرِّ كاشتراك سكان الدور في الممر في السكة. ومنهم من قال: هذه مساكنة: فإن مثل هذه الحجرة تعد من الدار، كما تعد بيوتها منها.

_ (1) هـ 4: " ومن لم ". (2) هـ 4: " الأيمان ".

ولم يختلف أصحابنا أن الخان لو كان فيه حُجرٌ منفردة المرافق، ولكنْ مَمَرُّها على عرصة الخان، فلا مساكنة بين سكان الحُجَر، واشتراكهم في طروق الخان كالاشتراك في طروق السكة، والفرق بين الخان والدار يرجع إلى العرف في عَدِّ كل ساكن حجرة منفرداً بنفسه، والحجرة في الدار قد تعد من الدار بمحل البيت منها. ولو قال ساكن حجرة من خان: والله لا أساكن فلاناً، وكان ذلك المسمى ساكن حجرة أخرى، وكل حجرة منفردة بمرافقها؛ فإن كان اللفظ مطلقاً، فلا حِنث عند الأصحاب. وذهب بعض أصحابنا فيما حكاه القاضي إلى أنه إذا حلف وهو منفرد بالحجرة، فيبنغي أن يحدث بعد اليمين مفارقة، فيخرج من تلك الحجرة، ومن خِطة الخان، وهذا يخرج على الوجه المفصّل الذي حكيناه عن صاحب التقريب: إذْ قلنا: لو كان مع إنسان في بيت من الخان، فقال: والله لا أساكن فلاناً، فإذا خرج من ذلك البيت إلى بيت آخر، كفاه ذلك، ولو حلف وهو منفرد ببيت، فليزد مفارقةً، وهي أن يخرج من الخان. وهذا القائل يقول: لو كان في بيت وصاحبه في بيت آخر، والمرافق مشتركة، فلو انحاز إلى حجرة ذات مرافق [برَّ في يمينه؛ فإنه فارق المرافقَ والاشتراك فيها، ولو كان في حجرة ذات مرافق] (1) لما حلف، فلا بد من إحداث أمر آخر، وهو الخروج من الخان. وما ذكرناه في البيوت جارٍ على حدٍّ من الاعتدال، فأما إيجاب المفارقة وكلٌّ في حجرة منفردة بمرافقها، فلا أصل لهذا، وهو على نهاية الضعف. وحكى القاضي هذا الوجه في الدور التي أبوابها لافظةٌ في السكة، وقال: إذا حلف لا يساكن فلاناً، فصاحب الوجه الضعيف يقول: إن كان منفرداً بدارٍ لما حلف، فعليه أن يخرج من المحلة، وحق هذا الوجه أن لا يُحكى إلا للمبالغة في تضعيفه؛ فإن صاحبه يقول ما يقول واليمين مطلقة، وكون رجلين في دارين من سكة واحدة لا يعد مساكنة، إلا على تقييد، والمساكنة مطلقة في اليمين معرّاة عن النية. 11754 - وتمام الغرض في هذا يبين بصنفٍ آخر من الكلام، هو أن الرجل لو

_ (1) زيادة من (هـ 4).

قال: والله لا أساكن فلاناً، وكانا في بلدة واحدة لا يجمعها سكة ولا مَحِلَّة، وزعم أنه نوى نفي مساكنته في البلدة، فلا خلاف أن مطلق اللفظ لا يحمل على هذا، فإن نوى هذا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا ليس مساكنة، فإن نوى أمراً لا يطابق اللفظ، فالنية بمجردها لا تعمل عملاً، كما لو قال: لا أساكن فلاناً، وزعم أنه لا يساكنه في خراسان، أو في إقليم بعينه، والمعتبر في الباب أن ذلك لا يكون مساكنة، فإن نوى بذلك مساكنة، فهذه نيةٌ لا لفظ معها، فإن قلنا: تنعقد اليمين في البلدة اتباعاً للنية، فلا شكّ أنها تنعقد على المحلّة، وإن قلنا: لا تنعقد على البلدة، ففي المَحِلّة تردد وإن كانت مفتوحة، ثم السكة المنسدة يظهر القطع فيها باتباع النية مع الانفراد بالدار. هذا تفصيل القول في المساكنة. ومن تمام الكلام فيها أنه إذا قال: لا أساكن فلاناً، ثم شمّر لتأسيس جدار يميز النصف الذي يسكنه من الدار عن النصف الذي يسكنه صاحبه، فالظاهر أنه مساكن إلى اتفاق الجدار، والحنث يحصل، بخلاف التشمير لنقل الأمتعة [على الاعتياد فيه. وفي بعض التصانيف وجه أن الاشتغال بذلك ابتدار إليه بمثابة التشمير لنقل الأمتعة] (1)، وهذا بعيد لا أصل له؛ فإن أهل العرف يعدونه مساكناً في الحال متأهباً لقطع المساكنة إذا تهيأ له السبب. فصل قال: " ولو حلف لا يدخلها، فرقَى فوقها، لم يحنث ... إلى آخره " (2). 11755 - إذا حلف لا يدخل داراً إن كان خارجاً منها، فدخلها، حَنِث، وإن كان فيها لما حلف، فاستدام المقام، فالصحيح أنه لا يحنث؛ فإن استدامة الكون في الدار لا يُسمّى دخولاً، بخلاف ما لو قال: لا أسكن الدار، فاستدام المقام؛ فإن هذا السكونُ بعينه.

_ (1) زيادة من (هـ 4). (2) ر. المختصر: 5/ 231.

ولو قال: والله لا ألبس ثوباً، وكان لابسه لما حلف، فإن نزعه على الفور، لم يحنث وإن استدامه، حَنِث، والاستدامة في الثوب على قياس السكنى في الدار. ولو كان راكبَ دابّة، فقال: والله لا أركبها، فاستدام ركوبها، حَنِث وفاقاً، وعبر الأصحاب عن غرض الفصل في الفرق والجمع فقالوا: ما يعبّر عن استدامته بما يعبر به عن ابتدائه، فالاستدامة فيه كالابتداء في اليمين، وما لا يعبر عن استدامته بما يعبر به عن ابتدائه فليست الاستدامة فيه كالابتداء في البِرّ والحِنْث، وخرجوا على ذلك مسألة اللبس، والركوب، والدخول، فقالوا: يقال للابس الثوب: البسه إلى غروب الشمس، ويقال لراكب الدابة: اركبها إلى المنزل، أي استدم ركوبها، ولا يقال للكائن في الدار: ادخلها أي استدم الكون فيها، وأقرب من هذا أنه لا يقال للكائن في الدار: استدم دخولها، ويقال للراكب واللابس: استدم الركوب واللبس. ومن أصحابنا من قال: إذا قال الكائن في الدار: والله لا أدخلها، فأقام فيها، حَنِث، قياساً على اللبس والركوب، وهذا ضعيف جداً، ولا خلاف أن المتطهر لو قال: والله لا أتطهر، فلا يحنث باستدامة الطهارة واجتنابه الحدث. وسرّ هذا الفصل أن مقصود اللُّبس والركوب في الدوام كمقصودهما في الابتداء واللفظ صالح، فحمل اللفظ المطلق على المقصود العام؛ فإن الألفاظ إذا استقامت عُني بها في الإطلاق مقاصدُها العامة، وإذا قال الرجل: لا أدخل الدار، فليس يبعد أن يقال: مقصوده اجتناب الدار، وعن هذا تخيل صاحب الوجه البعيد أنه لو أقام، حَنِث، ولكن لفظ الدخول لا ينطبق على هذا المقصود، ومجرّد المقصود لا يكفي حتى ينطبق لفظ اليمين عليه، سيّما إذا كان اللفظ مطلقاً. نعم، إذا فرعنا على الأصح، [وهو أنه لا يحنث بالمقام إذا قال: لا أدخل واللفظ مطلق] (1) فلو نوى اجتناب الدار، فالأصح أنه يحنث بالمقام. ومن أصحابنا من قال: لا يحنث وإن نوى؛ لأن اللفظ إذا لم يطابق المقصود، تجردت النية، والنية المجردة لا تُلزم أمراً.

_ (1) زيادة من (هـ 4).

11756 - ولو قال: والله لا أدخل الدار، فرقى فوقها وانتهى إلى سطحها، ولم يدخل الدار؛ فإن كان السطح أجمَّ (1)، لم يحنث لأن هذا لا يُسمَّى داخلاً، وإن كان السطح محوطاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحنث؛ [فإنه على سطح الدار، وإن كان السطح مستَّراً] (2) والثاني - أنه يحنث؛ لأن السطح إذا كان محوطاً، فهو كِنٌّ من الدار، وقد يكون سور الدار من معظم الجوانب محيطاً بالعرصة المحضة من غير بناء، ولو كانت الحيطان مسقّفةٌ، فهذه غرف، وهي من الدار، فمن انتهى إليها، فقد دخل الدار. ولو كان السطح مستَّراً من جانب، فما أرى ذلك مؤثِّراً، ولو كان مستَّراً من جانبين، أو من ثلاثة جوانب، ففي هذا تردد، والعلم عند الله تعالى، والأصح أن الحاصل على السطح المحوط من جميع الجوانب لا يكون داخلاً، والتفريع على الضعيف ضعيف. ولو حلف على الخروج، فصعد السطح، فقد قال القاضي: إذا قلنا: الحاصل على السطح ليس داخلاً، فالذي رقى من الدار إلى السطح خارج في حكم البر والحِنث. وكان شيخي يقطع بأنه ليس بخارج، ويقول: الحاصل على السطح ليس داخلاً ولا خارجاً، وهذا متجه، وكان يشبه هذا بما لو قال: لا أخرج فأخرج بدنه والبعض في خِطَّة الدار، فليس خارجاً، ولو قال: لا أدخل، فأدخل بعض بدنه، والبعض خارج، فليس داخلاً، كذلك الحصول في السطح. 11757 - ولو قال: لا أدخل الدار، فدخل الدهليز، فالوجه أن نذكر قاعدة المذهب، ثم ننقل نصاً فيها، قال أصحابنا: إن دخل ما يقع وراء باب الدار، وكان لا يُسكن ووراءه منفذٌ إلى العرصةِ والأبنيةِ المسكونة، فالدِّهليز الذي يغلق الباب عليه من الدار، فمن دخله، فقد دخل الدار. ولو كان أمام الدار طاقٌ يسكن به من أراد، والباب عند منقطعه، فالحالف على

_ (1) أجمّ: أي بغير سُترة. (المعجم). (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

نفي الدخول هل يحنث بالحصول في هذا الطاق؟ فعلى وجهين. هكذا ذكره الأصحاب، وقالوا: الأظهر أنه لا يحنث؛ فإن الدار وراء الباب، ووجه من قال: يحنث أنه يدخل تحت اسم الدار إذا بيعت الدار. والذي أراه أن محل الخلاف الطِّيقان أمام أبواب العظماء، فأما الآزاج (1) التي تُخرَج قوابيلَ إلى الشارع، وليست من تربيع الدار، فالحصول فيها لا يكون حصولاً في الدار وجهاً واحداً، وكأن الطاق الذي يبنى أمام الدار من خِطة الدار، ولكنه مهيأ للأتباع الذين يشهدون، ولا يُحجبون (2)، وكأن ذلك الكِنَّ قطعةٌ مسلمة لا غلق عليها من الدار، ووراءها الدِّهليز، وهو فوق الطاق ودون العرصةِ، ومواضعِ السكون، وبعد ذلك مواضع السكون. هذا بيان المذهب، وقد نقل الأئمة عن الشافعي أنه قال: " إذا حلف لا يدخل داراً، فدخل الدِّهليز، لم يحنث " وحمل الأئمة هذا على الطاق أمام الباب، وليس يبعد عندنا أن يحمل هذا على الدِّهليز وراء الباب؛ فإن الإنسان قد يقول: دخلت الدِّهليز، ولم أدخل الدار، وليس في نص الشافعي تفصيل، ولكن ما رآه الأصحاب حملُ النص على الطاق، كما قدمناه. فصل قال: " وإن حلف لا يسكن بيتاً، وهو قَروي أو بَدوي، ولا نية له ... إلى آخره " (3). 11758 - هذا الفصل قطب الباب، وبه يتضح معظم الغرض، إن شاء الله تعالى. قال الشافعي: " إذا حلف لا يسكن بيتاً، فدخل بيتاً مبنياً مسقّفاً أو بيتاً مضروباً من شَعرٍ

_ (1) آزاج: جمع أَزَج، مثل سبب وأسباب، وتجمع أيضاً على أُزج، والأزج بناء مستطيل مقوس السقف. والقابول: سقيفة بين حائطين تحتها ممر نافذ، جمعها قوابيل. (المصباح والمعجم). (2) هـ 4: " يشهدون ويحجبون ". (3) ر. المختصر: 5/ 231.

أو غيره مطنَّباً (1)، حَنِث سواء كان بدوياً أو قروياً، إذا كان اللفظ مطلقاً، ولا نية للحالف " فدل كلامه على أن اسم البيت ينطلق على الخيام والأخبيةِ وبيوتِ الشعر والكِرباس انطلاقه على البيوت المبنية، واستشهد في بعض مجاري كلامه بقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا} [النحل: 80]، أراد البيوت التي تضرب من الأدَمِ، هذا كلام الشافعي، وبيان ظاهره، وبيان ادعائه أن اسم البيت ينطلق على هذه الأصناف. واضطرب أصحابنا بعد ذلك، وحاصل ما قالوه يحصره ما نصفه إن شاء الله تعالى، قالوا: إن كان الحالف بدوياً، فالأمر على ما ذكره الشافعي سواء حلف في البادية أو حلف في القرى والبلاد؛ فإنه لا يطلق لفظه إلا ويعنى به التعميم، ولا نشك أن اسم البيت في حقيقة اللغة ينطلق على جميع هذه الأجناس، فإذا أَطلق هذا الاسم من يليق به إطلاقَه على حقيقة اللسان، فمطلقُ لفظه محمول على موجَب اللغة، فأما القَروي إذا ذكر البيتَ، ففي المسألة ثلاثةُ أوجه: أحدها - أن لفظه محمول على البيت المبني؛ فإنه لا يعني في الغالب إلا ذلك، فيحمل مطلق لفظه على ما يغلب على الظن أنه المراد باللفظ. والوجه الثاني - أنه يحنَث بما يحنَث به البدوي؛ تعلقاً بموجب اللسان. والوجه الثالث - أنه يفرق بين أن يكون من قرية قريبة من البادية يطرقها البدويون، ويناطقونهم فيها، فإن كان كذلك، يحنث القروي، وإن كانت القرية بعيدة عن البادية، فالبيت من أهله محمول على المبني، والبدوي إذا قطن البلد، وأطال الثواء به، وصار يناطق أهل البلدة بما يتعارفونه، فحكمه حكم البلدي، والقروي إذا تبدّي، وصار يناطق أهل البادية بلغتها، فهو كالبدوي. هذا ما ذكره الأصحاب في ذلك. 11759 - ومن هذا المنتهى نضطر إلى ذكر أصلٍ ذكره المزني في بابٍ بعد هذا،

_ (1) مطنَّباً: الطُّنُبُ بضمتين، وبضم وسكون أيضاً: الحبلُ. وطنّب الخيمة ونحوها: جعل لها أطناباً وشدها بها. (المصباح، والمعجم).

وهو أنه قال: " من حلف لا يأكل اللحم، لم يحنث بلحم الحيتان، ومن حلف لا يأكل الرؤوس، لم يحنث بأكل رؤوس الحيتان والطيور ونحوها مما لا يفرد في العادة بالشيِّ والأكل " (1)، واسم الرأس في حقيقة اللسان ينطلق على رؤوس الحيتان والطيور، كما ينطلق اسم البيت على الخيام، والأخبية. قال الشيخ القفّال: سمعت الشيخ أبا زيد يقول: " لست أدري على ماذا بنى الشافعي مسائل الأيمان؟ فإن كان يتبع الاسم اللغوي، وجب أن يحنَث من يأكل رؤوس الطير والحيتان، وإن كان الاعتياد لا يجري بإفرادها بالاكل، وإن كان يبني المسائل على العرف، فأصحاب القرى لا يعدون الخيام بيوتاً. وقد قال الشافعي: لا فرق بين البدوي والقروي ". وقد حوم الصيدلاني على ما هو المقصود بعضَ التحويم، وإن لم يستكمل البيان، ونحن نسوق كلامه على وجهه، قال: " إذا كثر الشيء وتقاعد الاسم عنه، تبين أنه غير معني بالاسم في الوضع، وبيان ذلك أن لحوم الحيتان كثيرة في بلاد العرب، وهم لا يعنونها إذا ذكروا اللحم، فكان خروجها عن مطلق اسم اللحم غيرَ محمول على عزّة الوجود، بل هو محمول على أن اسمَ اللحم لم يوضع لها، وأما البيوت، فحيث تكثر الخيام والأخبية، فيفهم من إطلاق البيوت الخيامُ، فإذا ندرت في بقعة، فالاسم متناول، ولكن عدم البيوت والأخبية أو قلتها يخرجها عن القصد. هذا منتهى كلامه. وخرّج عليه خبزَ الرّز قائلاً: لو حلف في بلاد طبرستان: والله لا آكل الخبز، حنث بخبز الرّز، ولو عقد اليمين في بلادٍ غيرها على الخبز، فيبعد أن يعني خبز الرّز. هذا منتهى كلامه، وليس عرياً عن الفائدة وإن لم يشف الغليل. 11760 - والمقصودُ عندنا يبين ويتضح بأن نقول: ما لا يفهم من الاسم مع عموم وجوده كلحوم الحيتان، فيعلم أنه ليس معنيّاً، فلا يحمل عليه الاسم المطلق، وإن نواه الحالف، نزلت يمينه على نيته؛ فإن الرّب تعالى سماها لحماً، فقال عز وجل:

_ (1) ر. المختصر: 5/ 235.

{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] فهذا بين، فأما البيت، فهو في وضع اللغة حقيقةٌ في بيت الشعر وما في معناه، ومنه شبه الخليل بن أحمد (1) بيت الشِّعْر ببيت الشَّعَر وقطعه في العَروض على الأسباب والأوتاد، والفواصل والفواضل (2) المقرونة والمفروقة (3)، فشيوع البيت في الأخبية والخيام ظاهر في اللغة، وهو مأخوذ من بات يبيت، وهو الموضع الذي يبات فيه، فإذا تمهّد هذا في اللسان، فإذا أطلقه من يغلب منه إرادة بيت الشعر، فقد [اجتمع] (4) الوضعُ وغلبةُ الإرادة، فحمل مطلق اللفظ عليه. وإذا نطق القروي، فحكم اللسان ما ذكرناه، ولكن الغالب أنه يريد بالبيت البيوتَ المعروفة المبنية، فإن نواها، نزل لفظه على نيته، وإن أطلق اللفظ، انقدح فيه مسلكان: أحدهما - أن يقال: لا يطلق اللفظ إلا عن قصد، ولعله ذَهل عنه بعد ما صدر منه، والقصد اللائق به الكلامُ على المتعالَم المتعارف في المكان الذي هو ساكنه، فعلى هذا يحمل على بيوت المدر. والمسلك الثاني - أن يقال: إذا قال: لم يكن قصدٌ، فقد قصد إلى اللفظ، ولم يُنزله على شيء فأُخذ باللفظ ونحن إنما نُزيل وضعَ اللفظ بالقصد، فإذا لم يوجد منه قصد إلى ما يزيل اللفظ واللفظ صريح، كان مؤاخذاً باللفظ، وكأنه حلف على معنى اللفظ. ولو قال الرجل: والله لا آكل ما يسمّى تفاحاً، وكان لا يدري التفاح، انعقدت يمينه على ما يُسمّى تفاحاً، وعلى هذا إذا قال: لا آكل اللحم، فلحم الحيتان خارج، والتحقيق أنه لحم، ولكنه خرج عن عرف اللسان وأحَدٌ لا يترك العرفَ في اليمين، ولكن الكلام في أن المرعي عرف اللفظ، أو عرف اللاّفظ.

_ (1) الخليل بن أحمد الفراهيدي: إمام العربية، وواضع علم العروض، مذكور في الروضة، توفي بالبصرة سنة 170 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 177). (2) الفواضل هي الفواصل (كشاف اصطلاحات الفنون: باب الفاء فصل اللام). (3) لا يحتاج إلى شرح ما أراده الإمام من بيان وجه الشبه بين بيت الشَّعْر وبيث الشِّعر؛ فكل من لديه أدنى إلمام بمبادىء علم العروض يدرك ذلك. (4) في الأصل: " احتمل ".

ولو أردنا بسطاً، لَزدنا، وفيما ذكرناه مَقنَع للطالب الفطن. ولم أتعرّض للكلام فيما يضاهي اللحم من البيض وغيرها؛ فإنها بين أيدينا. ولستُ أجد بداً من ذكر طرف من الكلام في الرؤوس، فإذا حلف لا يأكل الرؤوس، لم يحنث برؤوس الطير، وفي تحنيثه برؤوس البقر والإبل ثم برؤوس الصيود وبرؤوس الحيتان إذا كانت تفرد بالشيّ كلام وتفصيلٌ سيأتي في الجامع الثاني، إن شاء الله تعالى. وهذا أشبه المسائل بالبيت. وإذا انتهينا إليها أعدنا طرفاً من فصل البيت، وحكمنا على نَصَفَةٍ وعَدْلٍ بين المسألتين، إن شاء الله. ولم يختلف أصحابنا أن الألفاظ المطلقة لا تحمل على المجازات في اللسان إذا لم يشتهر التجوّز اشتهار الحقيقة، فالبساط لا يحمل على الأرض، والوتد لا يحمل على الجبل، وإن سمى الله الأرض بساطاً والجبال أوتاداً. وقد انكشف في هذا الفصل معظم مشكلات الباب وتبين بالضبط الأخير الذي ذكرناه أنّ التردد يعود إلى التعلق بعادة اللافظ أو بعرف اللفظ عند أهله، وحكى أصحاب القفال عنه أنه كان يقول: لو عقد اليمين في فصل البيت بالفارسية، فقال- (اندرخانه تشوم)، فاليمين ينعقد والحالة هذه على البيوت المبنية دون الخيام والأخبية، وهذا حسن متجه؛ من قِبل أنا إن راعينا عرف اللفظ، فمقتضاه الاختصاص بالبيوت المبنية، وإن راعينا اللفظ، فاللفظ أعجمي لا يراد به الخيام إلاّ على استكراهٍ وتشبيهٍ بالبيوت المبنية. 11761 - ولو قال لا أدخل بيتاً، فدخل مسجداً مسقّفاً، أو دخل الكعبة، فالذي دخله على صورة البيت ولو فرض مسكناً أو مخزناً وهو على ما هو عليه يحنث، فإذا كان مسجداً، فالذي مال إليه جماهير الأصحاب أنه لا يحنث؛ فإن هذا لا يُعنى بالبيت المطلق، ولا يُسمّى بيتاً ما لم يُضف ولم يقل بيت الله تعالى، وهذا بمثابة ما لو عقد اليمين على الامتناع عن أكل الرأس، فرأس الطائر رأس، ولكن لا يُعْنَى بإطلاق الرأس حتى يضافَ، وقال بعض أصحابنا: يحنث داخلُ البيت وإن كان

مسجداً؛ لأنه كان يحنث قبل أن جُعل مسجداً، والتحبيس والصرف إلى جهة الخير لا يغير الاسم، وهذا التردّد لا يتحقق في رؤوس الطير؛ فإنها لا تعهد إلا وهي غير معنية بإطلاق الرؤوس. وما حكيناه من الظاهر والتردد يجري عندي في الحمام والبيت الذي فيه الرحى، فإنها بيوت من طريق الصورة، ولكنها اختصت بأسماء شاعت فيها، فصارت لا تراد بإطلاق اسم البيوت. فصل قال: " ولو حلف لا يأكل طعاماً اشتراه فلان ... إلى آخره " (1). 11762 - إذا حلف لا يأكل طعاماً اشتراه فلان، فورثه فلانٌ أو اتهبه، أو قبل الوصية فيه، فلا حِنث، ولو أسلم ذلك المعيّن في طعامٍ واستوفاه، فهذا طعام اشتراه فلان؛ فإن السلم صنف من البيوع، ولم يغلب عليه لقب السلم غلبةً تمنع اندراجه تحت مطلق الشراء، ولو كان باع فلان طعاماً وسلّمه، ثم رُدَّ عليه، فليس هذا مما اشتراه، ولو استقال البيعَ فأُقيل، فالطعام الذي ارتد إليه بالاستقالة ليس مما اشتراه، ولا يخرج هذا على القولين في أن الإقالة فسخ أو بيع؛ فإنا وإن حكمنا بكونها بيعاً، أردنا أنها من طريق الحكم بيعٌ، والأيمان تؤخذ من موجبات الألفاظ في عرف التفاهم، والمستقيل لا يُسمّى مشترياً. ولو قال: لا أدخل داراً اشترى بعضها فلان؛ فأخذ ذلك المعين شقصاً من تلك الدار بالشفعة، فلا يحنث الحالف بدخولها؛ فإن الأخذ بالشفعة لا يُسمّى شراء، وإن كان في معناه، ولو كان بين المعيّن وبين إنسانٍ طعامٌ مشترك فاستقسم، وتحصل على حصة معينة، فليس ما حصل له مما اشتراه، وإن جعلنا القسمة بيعاً حكماً. ولو كان لذلك الرجل المعين دَين على إنسان، فصالح عنه على طعام، فقد قال الصيدلاني: ليس ذلك الطعام مما اشتراه في حكم اليمين، فإن الصلح لا يسمّى

_ (1) ر. المختصر: 5/ 231.

شراءً، وهذا لست أراه كذلك؛ فإنه شراء على الحقيقة مشتمل على الإيجاب والقبول، وثمنه الدَّين الذي في ذمة البائع، وغلبة اسم الصلح عليه بمثابة غلبة السلم والصرف. ولو ملك ذلك المعين عن الاشتراك والتّولية، فالحاصل مشترىً عندي لا شك فيه؛ لأنه تملك اختياري مبني على الإيجاب والقبول، ولو أخذ طعاماً عن أجرة داره، فلست أراه مشترياً لبعد الإجارة وعوضها -في حكم اللسان والعرف- عن اسم البيع، وإن قال الشافعي: الإجارة صنف من البيوع. وقد يليق بهذا المنتهى ذكرُ شيئين: أحدهما - أن يكون المعين وكيلاً في شراء الطعام لغيره أو موكِّلاً غيره بالشراء، وقد يشتري شراء فاسداً، والقول في هذين النوعين مذكور في أثناء الباب، فأخرناه. 11763 - ولو قال: لا آكل طعاماً اشتراه فلان، فاشترك فلان وفلان في ابتياع الطعام أو اشترى ذلك المعين طعاماً ثم خلطه بطعام اشتراه غيره خلطاً يتعذر الميْز معه، فهاتان الصورتان استدَّ فيهما المحققون، وتخبط طوائف من الأصحاب، فنذكر ما لا يجوز، غيره، ثم نذكر وجوه الخبط. قال الشافعي وفقهاء أصحابه إذا اشترك فلان وفلان في الشراء، لم يحنث الحالف بالأكل، وإن أتى على جميع الطعام؛ فإنه لا يقال: إنه أكل طعاماً اشتراه فلان، بل لا ينص على جزء منه وإن قلّ قدره، فيقال: هذا مما اشتراه فلان، بل يقال في الكل والجزء: هذا طعام اشترى بعضه فلان، وموجب اليمين الامتناع عن طعام اشتراه فلان، فلا يكفي أن يقال: اشترى بعضه، وخالف أبو حنيفة (1)، فحنَّث الحالف بأكل جزء مما اشتراه فلان وفلان، وإن قل قدره، ووافق أنه إذا قال: لا أدخل داراً اشتراها فلان، فاشترك فلان وفلان في شرائها، لم يحنث الحالف بالدخول، ولا فرق، وإن تخيل الإنسان فرقاً ببوادر الوهم، [لم يستدّ] (2) له إذا تثبّت، هذا هو المذهب في هذه الصورة.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 259 مسألة 1363، المبسوط: 9/ 3، البد ائع: 3/ 57. (2) في النسختين: لم يستمر.

فأما الصورة الثانية وهي إذا انفرد فلان بالشراء، ثم خلطه، مثل أن يشتريَ دقيقاً ويخلطَه بدقيق الغير، فالذي يجب القطع به أن الحالف إن أكل من المختلط ما يعلم قطعاً أنه أتى على شيء مما اشتراه المعين في اليمين فيحنث؛ فإن فيما أكلهُ طعاماًً اشتراه فلان، وما ذكرناه من رعاية اليقين لا يقف على أن يأكل من الطعام المختلط مقداراً زائداً (1) على المقدار الذي اشتراه شريك فلان؛ فإن اليقين يحصل دون ذلك؛ إذ لو خلط صاعاً من دقيق كان اشتراه منفرداً بشرائه بصاعٍ من دقيق، وأنعم الخلط وقلّب، فقد يستيقن الحِنث بالحِفنة يتعاطاها، وهذا يختلف بالقلة والكثرة، وإنعام الخلط، ونحن نتبع اليقين، ولا يحنَث الحالف إلا به. 11764 - فإذا تبين المذهب في الصورتين، خضنا بعدهما في تخليط طوائفَ من الأصحاب. قال بعض المصنفين: إذا قال: لا آكل طعاماً اشتراه فلان، فاشترى فلان وفلان طعاماًً على الاشتراك، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - ما ذكرناه، ورأيناه المذهب، وهو أنه لا يحنث بأكل الجزء، ولا بأكل الكل. والوجه الثاني - أنه يحنث بأكل مقدارٍ قليل من ذلك المشترى، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، ولست أنكر دخول هذا الوجه تحت الإمكان المعتبر في مسائل البرّ والحنث في الأيمان، ولكنه ليس مذهبَ الشافعي، وليس ناقلُه معتَمَداً، وليس على مقامٍ يُقبل تخريجه. ووجهه -على بعده- اتباعُ المقصود مع أن اللفظ ليس نابياً عنه؛ فإن غرض الحالف الامتناعُ عما يثبت للمعيّن فيه شراء، وقد تحقق هذا المعنى. والوجه الثالث -وهو سخيف في الحقيقة- أنه إن أكل أكثر من النصف، حَنِث، وإن أكل النصف فما دونه، لم يحنَث؛ أخذاً من أنهما لو اقتسما، لأخَذَ كل واحد منهما نصفاً، وكان يجوز أن يكون المأكول واقعاً في حصة من لم يحلف عليه. وهذا هذيان، لا التفات إلى مثله، ثم هذا الرجل إذا حكى الأوجهَ الثلاثة، لم يذكر مثلها في الدار، ولم يتعرض لها، ولا وجه إلا القطع بما ذكره أبو حنيفة

_ (1) هـ 4: "شاملاً".

رضي الله عنه، وهو أنه لا يحنَث الحالف بدخول الدار التي اشتراها فلان وفلان إذا كانت اليمين معقودة على ذكر فلان وحده، فأما إذا اشترى فلان طعاماًً وخلطه بطعام آخر، فقد ذكر بعض الأصحاب في هذه الصورة أوجهاً: أوجهها وما يجب القطع به - ما قدمناه من اتباع اليقين، فإذا أكل مقداراً يستيقن أن فيه مما اشتراه فلان، حَنِث. والوجه الثاني - أنه لا يحنَث وإن أتى على الكل؛ فإن الاختلاط ينافي التعيين، واليمين معقودة على انتحاء طعامٍ اشتراه فلان بالأكل قصداً إليه، وهذا ممتنع في المختلط، وهو رَديءٌ، لا أصل له. والوجه الثالث - أنه يحنث إذا أكل أكثر مما اشتراه شريك فلان، وهذا إشارة إلى أن الاستيقان يحصل عند ذلك، ولا ينبغي أن نستجيز عدّ هذا من المذهب، مع تحقق اليقين دونه. فتحصّل في الصورتين: أنا نقول في مسألة الخلط: المتبع اليقين، وكل ما عداه غلط غير معتد به، ونقول في مسألة الاشتراك في الشراء: مذهب الشافعي أن الحالف لا يحنث وإن أكل الكل، وما سواه ليس بمذهب، ولكن ما حكي موافقاً لمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لو صح النقل فيه، ليس يبعد توجيهه، كما أشرنا إليه. ولو كان في يد إنسان تمرة، فسقطت واختلطت بصُبْرةٍ من التمر، فقد قال الأصحاب: إذا حلف الإنسان ألا يأكل تلك التمرة، لم يحنث حتى يأتي على جميع الصُّبرة، واثقاً بأنه لم يغادر منها تمرة، ولم ينسلّ من جملتها واحدة، حتى لو بقي تمرة واحدة، لم نحكم بأنه يحنث، وهذا بناه الأصحاب على طلب اليقين. وقد يعترض صورة يحصل اليقين فيها دون ذلك، وذلك بأن تقع التمرة في جانب من الصُّبْرة، ولا شك أنها لم تغص فيها، فإذا أخذ الحالف يلقط التمرة ويأكلها من الجانب الذي وقعت التمرة عليه، حتى استيقن أنه أتى عليها، فالمتبع اليقين لا غير.

فصل " إذا حلف لا يأكل مما طبخه فلان ... إلى آخره " (1). 11765 - فالطبخ هو الإيقاد تحت الآلة التي فيها الطبيخ، فلو هيّأ رجلٌ اللحمَ وقطّعه قِدداً، وصبّ الماء على قَدَرٍ في القِدْر، وجمع التوابل، وأخذ غيرُ هذا الشخص في الإيقاد، فالطابخ الموقدُ، هذا ما ذكره الأصحاب، وقد يتطرق إلى هذا تفصيل عندي فأقول: إن تُصورت المسألة بالصورة التي ذكرنا، ثم انفرد الموقد بالإيقاد، فكان لا يراجع في إيقاده جامعَ الأخلاط في القدر، فهو الطابخ حقاً، وإن جمع (2) الحاذق بالطبخ (3) العليم به، وجلس بالقرب، وكان يستخدم صبياً في الإيقاد على قِدْرٍ، وهو فيه يأمر ويزجر ويستقلّ ويستكثر، فليس من يتعاطى قَطْعَ الحطب مستقلاً بالإيقاد، فهذا فيه تردد، فقد يُعزى الطبخ إلى الأستاذ والحالة هذه، فلا يبعد أن يقال: الطابخ هو الحاضر الآمر. وقد صار بعض أصحابنا إلى قريب منه، وإن كان مأخوذاً من أصلٍ آخر، فقالوا: من حلف على الامتناع من فعلٍ وكان مثله لا يتعاطاه، وإنما يأمر به إذا أراده مترفعاً عن مباشرته، فإذا أمر ولم يباشر واليمين معقودة على إضافة الفعل إليه، ففيه كلام سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى. ولو قال: لا آكل مما طبخه فلان، وكان فلان وفلان يوقدان على اشتراك تحت القدر، فهذا خارج على الاشتراك في شراء الطعام، والمذهب القطع بأنه لا يحنث. ولو كانت المسألة بحالها، فأوقد المحلوف عليه حتى انتهى الطعام إلى حد يُسمى طبخاً، ثم انكفّ وجاء موقد آخر، وزاد الإيقاد، فتأثر الطبيخ مزيد تأثر، فالمذهب أنه يحنَث، فإنه تعاطى طعاماً طبخه فلان، وليس الطبخ على التصوير الذي ذكرناه على حكم الاشتراك.

_ (1) لم أصل إلى هذه العبارة في المختصر. (2) هـ 4: " حضر". (3) هـ 4: "بالطبع ".

ومن أصحابنا من ألحق هذا بالاشتراك في الطبخ من أول مرة إلى نهاية الطبخ، وهذا بعيد، فلو أوقد الأول فتسخن الماء، ولم يتأثر ما في القدر وانكفّ، فهذا ليس بشيء، فالطابخ من أتى بعده، وإذا فرعنا على المذهب، وقلنا: إذا طبخ الأول بعض الطبخ، وحصل الاسم، فيحصل الحِنث، فلو كان الحلف معقوداً على طبخ من أتى ثانياً، فهذا محتمل جداً، يجوز أن يقال: يحصل الحِنْث بطبخ الثاني أيضاً في حق من حلف عليه؛ فإن إيقاده مؤثر، والطعام به متأثر، ويجوز أن يقال: لا يحصل الحِنث في اليمين المعقودة على طبخ الثاني، فإن اسم الطبخ إذا حصل من الأول، فما يصدر من الثاني لا يُسمى طبخاً، بل يسمى استتماماً واستكمالاً. ولو قال: لا آكل مما طبخه فلان، وكان ذلك المعين يوقد وبالحضرة من يقطع له الخشبة ويناوله إياها، فلا أثر لهذا، والتعويل على إدخال قطع الحطب تحت القدر. فصل " ولو حلف لا يسكن دارَ فلان هذه فباعها ... إلى آخره " (1). 11766 - إذا حلف لا يسكن دار فلان، أو لا يدخلها، فاللفظ مطلق، فهو محمول على الدار التي يملكها فلان، فلو دخل داراً استأجرها فلان أو استعارها، أو أوصى له بمنفعتها لم يحنث، فإن الإضافة المطلقة مقتضاها الملك، ولو قال: لا أدخل مسكنَ فلان، ثم دخل الموضع الذي يسكنه بإعارة أو إجارة أو وصيّة، حَنِث، ولو قال من في يده الدار: هذه الدار مسكن فلان، فالذي يقتضيه قياس قول الأصحاب أنه لا يكون مقراً برقبة الدار لذلك الإنسان. فلو قال: لا أدخل دار فلان، فدخل داراً مملوكةً له، وهو لا يسكنها، حَنِث؛ تعويلاً على الملك. ولو قال: لا أدخل دار فلان، وكان لفلان دار مملوكة، فباعها، ثم دخلها الحالف، لم يحنث بناءً على ما ذكرناه، ولو قال: لا أدخل دار فلان هذه، فجمع بين الإضافة والإشارة، وكانت الدار إذ ذاك ملكَ فلان، فباعها،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 231.

وأزال ملكه عن رقبتها، فإذا دخلها الحالف بعد زوال الملك، فظاهر المذهب أنه يحنث تغليباً للإشارة. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه (1): لا يحنث تغليباً لاعتبار الإضافة، وخرّج بعض الأصحاب قولاً موافقاً لمذهب أبي حنيفة، ووجهه أنه اعتمد الإشارة والإضافة، فكأنه ربط اليمين بهما، فلا يحصل الحنث بأحدهما، وناصر المذهب يغلّب الإشارة، ويجعل الإضافة معها كالتأكيد الذي لا يُعتنى به؛ من جهة أن الإشارة إذا اعتمدت وحدها فهي لا تزول والإضافة تتبدل وتزول. وهذا الفصل مفروض في الإطلاق، فلو نوى الحالف اعتبارَ الملك والإشارة، فلفظه مُنزّل على نيته، ومسائل الأَيْمان مجراةٌ على الإطلاق؛ فإن جهات الاحتمال متسعة [إذا كنا نعتبر الظاهر] (2)، ونكتفي بما نكتفي به في التّديين، ومسائلُ الباب تُخرَّج على قواعدَ، فإذا كانت منويّة، اتبعنا النية [إذا كنا نجد بين اللفظ] (3) والنية ارتباطاً وإن كان على بعد، وإن لم يكن بين اللفظ وبين النية ارتباطٌ أصلاً، فلا تعويل على النية، وإن كان قد يطلق مثلُ ذلك اللفظ على بعد (4) في التجوز، وهذا كقول القائل: والله ما ذقت لفلانٍ ماءً، فهذا قد يستعمله المُبَالغ وغرضه أني لم أذق له طعاماً، فلو كان أكل طعامه ولم يشرب له ماء، لم يحنث؛ فإن حَمْلَ الماء على الطعام ميلٌ عن صريح اللفظ، وإزالةٌ لحقيقته، وإذا لم يكن من اللفظ بد، فلا سبيل إلى تعطيل أصله. وإن ذكر الحالف لفظاً له عرف عند أهل اللسان وعُرْفُ اللاّفظ خلافَه، فإن قصد تنزيله على عُرفه ينزل عليه، وإن لم يقصد تنزيله على عرفه، وتحقق أنه لم يقصد شيئاً، فهذا موضع التردد: فمن أصحابنا من اعتبر اللفظ وعُرفه، ومنهم من اعتبر

_ (1) وهو قول أبي يوسف أيضاً، وقولُ محمد وزفر كالشافعي، ر. المبسوط: 8/ 165، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 269 مسألة 1379. (2) في الأصل: " إذا كنا لا نعتبر الظاهر ". (3) زيادة من (هـ 4). (4) هـ 4: " إبعاد ".

اللافظ وعرفه، وميْلُ النص إلى اعتبار اللفظ إذا تحققنا أنه لم يكن للاّفظ قصد، وهذا غائصٌ حسن؛ لأنه لم يصرفه عن موضوعه بقصد، وليس هو من لغة الحالف، ولا سبيل إلى إبطال اللفظ، وعلى هذا أَلْزمنا المقرَّ بالدراهمِ الوازنةَ الخالصةَ، غير أنه إذا ادّعى تغيير اللفظ لم يقبل منه، ومن راعى عرف اللاّفظ نظر [إلى الملتزِم] (1) واللائقِ بحاله، وجعل كأن التلفظ منه لغته، ولفظ العرب يعتبر فيه عرف العرب، فكذلك لفظ هذا اللاّفِظ [ينبغي أن يعتبر فيه عرف اللاّفظ] (2) ولو اعتبر عرف غيره، لكان هو خارجاً عن طريق تخاطب أقرانه، وهذا يبعد، فلا يحمل على البعد إلا بقصد، وهذا فيه إذا أخبر أنه لم يقصد شيئاً. فلو قال: قصدت، ثم ذَهِلت، فالظاهر هاهنا اعتبار (3) عرف اللافظ؛ فإن الغالب أنه يخاطب على موجب العرف الغالب إذا كان يقصد إجراء الكلام على حد التفاهم بين بني جنسه، والأصحاب طردوا الخلاف في هذه الصورة أيضاً. وفي هذا بقية ستأتي في أول الجامع الثاني إن شاء الله تعالى. 11767 - ثم قال: " ولو حلف لا يدخلها، فانهدمت " (4). إذا حلف لا يدخل دارَ زيد، فانهدمت، وصارت فضاءً، فطرقها، لم يحنث عندنا؛ فإن الموضع الذي تخطَّى فيه لا يُسمَّى داراً، والمسألة مفروضة فيه إذا لم يُشر، فإن أشار، فسيأتي شرحه على إثر هذا، إن شاء الله تعالى. ولو خربت السقوف، وبقيت الجدران، أو انهار من الجدران أقدار وبقيت جراثيمُ شاخصة، فالذي يجب اعتماده في ذلك أن البقعة التي دخلها إن كان يقال فيها إنها دارٌ خربة، فيحنث الحالف، وإن قيل: كانت داراً، فلا حنث، وإن قيل هذه رسوم دار فلان، فلا حنث، فالمتبع في النفي والإثبات هذا. وقال أبو حنيفة يحنَث بطروق العرصة، وإن لم يبق شيء من الأطلال في مناقضاتٍ لهم، لا حاجة إليها.

_ (1) في الأصل: " نظراً إلى المسلتين ". (كذا). (2) زيادة من (هـ 4). (3) هـ 4: "اتباع ". (4) ر. المختصر: 5/ 232.

فصل قال: " ولو حلف لا يدخل من باب هذه الدار ... إلى آخره " (1). 11768 - الفصل يشتمل على صور نذكرها واحدة واحدة: فإن قال الحالف: لا أدخل هذا الباب من هذا الموضع، نظر: فإن قُلع البابُ، وفُتح موضعٌ آخر من جدار الدار، وعُلِّق الباب عليه، فلو دخل المنفذَ الجديد الذي عُلّق الباب المقلوع عليه، لم يحنث؛ فإنه قال: لا أدخل هذا الباب من هذا الموضع، فنص على تعيين الموضع، وعلق اليمين بالمنفذ المعين، [وتعرض] (2) للباب أيضاً. ولو دخل المنفذ الذي عينه بعد قلع الباب، فهل يحنث؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يحنث؛ لأن اسم الباب ينطلق على ما يُردّ ويفتح، ويقلع وينصب، والمنفذ مدخل عليه باب، فإذا علق اليمين على الباب والمدخل، ثم قلع الباب، وجب ألا يحنث بأحد الأمرين، واليمين متعلقة بهما. والثاني - يحنث، لأن المقصود هو التعرض للدّخول، والدخول هو الذي يليق بالمنفذ، ولو قال: لا أدخل هذا الباب مطلقاً، ولم يقل من هذا الموضع، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أن الاعتبار بالباب حتى لو قلع وعلّق على منفذ آخر، ودخل الحالف المنفذ الجديد الذي عليه الباب، حنث، ولو دخل المنفذ الأول الذي كان الباب معلقاً عليه، لم يحنث؛ فالمعتبر عند هذا القائل الباب نفسه. والوجه الثاني - أن الاعتبار بالمنفذ، فلو دخل المنفذ الأول، حنث وإن قلع الباب منه، ولو دخل المنفذ الثاني، لم يحنث، وإن كان الباب معلقاً عليه. والوجه الثالث - أنا نعتبر الباب والمنفذ جميعاً -إذا قال: لا أدخل هذا الباب- فلو قُلع الباب وعُلّق على منفذ آخر، لم يحنث؛ لأن الأول منفذ تعلقت اليمين به قد زايله

_ (1) ر. المختصر: 5/ 232. (2) في الأصل: " ويفرض ".

الباب، والثاني عليه باب، ولكن ليس المنفذ الأول، والحنث يحصل باجتماعهما. ولو قال: والله لا أدخل باب هذه الدار، ولم يُشر إلى المنفذ، ولا إلى الباب، ثم فَتحَ باباً جديداً غير الباب الموجود حالةَ اليمين، فهل يحنث بدخول الباب الجديد؟ فعلى وجهين، والمسألة مفروضة فيه إذا لم يُشر، وسبب الخلاف التردد في أن اليمين هل تنزل على المنفذ والباب الموجودين حالة اليمين. ولو قال: لا أدخل باب هذه الدار، فَرقى، وأتى من جهة السطح، ونزل من باب السطح، فهل يحنث؟ فعلى وجهين. وكل ما ذكرناه واليمين مطلقة. فأما إذا نوى المنفذ، وعين الدار، أو جهةً من الجهات التي ترددنا فيها، فيمينه منزلة على نيته. 11769 - ولو قال: لا أدخل مسكن فلان، فدخل مسكنه المستعار أو المستأجَر، حَنِث، كما تقدم، ولو دخل مسكنه الذي يأوي إليه، وكان مغصوباً، ففي تحنيثه وجهان: أحدهما - يحنث؛ لأنه دخل موضع سكونه. والثاني - لا يحنث؛ فإن المسكن إذا أضيف، وجب أن تكون سُكناه مستحقة للمضاف إليه، ومسوّغة له، فإضافةُ الرقبة في قوله: " دارَ فلان " تقتضي استحقاقَ الرقبة، وإضافةُ المسكن يقتضي استحقاقَ السكنى. ولو كانت له دار لا يسكنها، وقد قال الحالف ": لا أدخل مسكن فلان، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنه يحنث؛ لأن الدار رقبتها وسكناها مستحقتان للمضاف إليه. والثاني - لا يحنث، والمسكن من السكنى ولا سكنى للمضاف إليه في الدار. ومن أصحابنا من قال: إن سكنها في أقل زمان يتحقق اسم السكنى فيه، حَنِث الداخل، وإن لم يسكنها أصلاً لم يحنث.

فصل قال: " ولو حلف لا يلبس ثوباًً وهو رداء ... إلى آخره " (1) 11770 - إذا قال: لا ألبس ثوباًً، ثم لبس ثوباً أيَّ ثوبٍ كان، حَنِث، فإن اللُّبس مطلق، والثوب مطلق، ثم قال الأصحاب: إذا كان لفظ الحالف كذلك، فلو لبس شيئاً على الاعتياد فيه، أو لبس على خلاف الاعتياد في لبسه، حنث، والمتبع في هذا الفصل تحقق اسم اللّبس والثوب، ولا يتوقف الحِنث على وقوع اللُّبس على مقتضى الاعتياد في الثوب الذي لبسه، فلو كان لفظه كما ذكرناه، فاعتمد قميصاً، فاتزر به أو توشّحَ به، أو تَعَمَّمَ به، أو ارتدى، حنث، وإن كان القميص لا يُستعمل على هذه الجهات. ويجب أن يكون في هذا بحثٌ، فلو جمع القميص وطواه، أو لفّه ووضعه على رأسه، أو على عاتقه، فهذا حملٌ وليس بلُبس، وقد مضى في كتاب المناسك في إيجاب كشف الرأس فصولٌ، والوجه أن يتفطن الإنسان لتميز اللبس عن الستر، فرب سترٍ يوجب الفدية ولا يُسمى لُبساً، فالذي يضع قميصاً على رأسه مطوياً ساترٌ مفتدٍ وليس بلابسٍ في حكم اليمين المعقودة على اللُّبس، فإن قيل: المرتدي بالقميص ليس لابساً، وإنما هو ساتر بدنه، كالذي يضع الثوب المطوي على رأسه، قلنا: لو ارتدى بالقميص مثلاً، فالطاقة التي تلي بدنه لو كانت وحدها، لكان المرتدي بها لابساً، فاتصال طاقة [أخرى] (2) بها لا يخرجها عن اسم اللُّبس، والدليل عليه أنه يقال: ارتدى فلان بالقميص، والمرتدي لابسٌ، وكذلك المتزر لابسٌ، ولو فرش ثوباًً، ورقد عليه، لم يكن لابساً، ولو تدثر به، ففيه خلاف الأصحاب (3)، وهو محتمل.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 232. (2) زيادة من (هـ 4). (3) هـ 4: تردّد للأصحاب.

هذا إذا قال مطلقاً: لا ألبس ثوباًً، ولو قال: لا ألبس قميصاً، فأخذ قميصاً، وفتقه، وخاط من مفتوقه رداء، فهل يحنث؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يحنث؛ فإنه ليس قميصاً. ولو كانت صيغة اليمين كما ذكرنا، فأخذ قميصاً وارتدى به، فهذا فيه خلاف أيضاً؛ لأنه لما ذكر القميص أشعر ذلك بلبسه على هيئة القمصان، والقميص لا يلبس كذلك. ولو قال: لا ألبس هذا القميص، ثم فتقه، وخاط قَطْعه، واتخذه إزاراً أو رداءً، ففي المسألة وجهان مرتبان على ما لو قال: لا ألبس قميصاً ولم يُشر، وهذه الصورة أولى بالحِنث؛ من جهة أنه أشار إلى القميص، فقال: هذا القميص، وليس كما لو أطلق اسم القميص، ولم يخصص تعليق اليمين بمعين. ولو قال: لا ألبس هذا الثوبَ وكان قميصاً، ففتقَ وخاطَ، كما وصفنا، ثم لبس، فوجهان، وهذه الصورة أولى بالحنث من التي قبلها؛ لأنه قال: لا ألبس هذا الثوب، وليس في لفظه تعرض لذكر القميص، حتى يفهم منه لبس مخصوص يليق بالقميص، ولكن سبب الخلاف أنه أشار إلى الثوب وكان قميصاً. ولو قال: لا ألبس هذا القميص قميصاً، ثم غيّره، وأخرجه عن كونه قميصاً، فلا شك أنه لا يَحْنَث، ووجهه بيّن. ولو قال: لا ألبس هذا القميص قميصاً، فلم يغيّره وارتدى به، ففيه احتمال من جهة بقاء اسم القميص. 11771 - فإذا ثبتت هذه [الصور] (1) وتميز البعض منها عن البعض، فهي مع الإشارة مُدارة على أصلٍ، وهو أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا، ثم زالت التسمية بالتغيير، فكيف الحكم؟ فيه تردد مشهور للأصحاب نطلقه في المسائل، ثم نذكر ما يلتحق بها من الصور التي ذكرناها. فإذا قال: لا أكلم هذا وأشار إلى عبد، فَعَتَق، فكلمه، حنث.

_ (1) في النسختين: الصورة. وبمثلهما جاءت (ق). والأمر قريب.

وإن قال: لا أكلم هذا العبد، فَعَتَق، فكلمه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحنث لزوال اسم العبد، والثاني - يحنَث، لأن عين الشخص قد ارتبطت الإشارة بها، والإشارة لها غلبة وسلطان. وإذا قال: لا آكل لحم هذا، وأشار إلى سَخْلة، فكبرت وزايلها اسم السخلة، فأكله، حنث. وإذا قال: لا آكل لحم هذه السَّخْلَة، فكبرت، وزال الاسم، فأكل من لحمها، ففي الحنث وجهان. وإذا قال: لا آكل هذا وأشار إلى حِنْطة، [فإذا أكلها كما هي: قَضْماً (1) فالحنث حاصل وفاقاً، ولو قال: هذه الحنطة] (2) وغيّرها بالطَّحْن أو بالطحن والخبز، فوجهان. وإذا أشار إلى رطب فقال: لا آكل هذا، فصار تمراً، فأكله، حنث، وإن قال: هذا الرطب، فصار تمراً، فوجهان. وجمع بعض الأصحاب هذه المسائل، وذكر فيها ثلاثة أوجه: وجهان ذكرناهما، والثالث - أن التغير إن كان من جهة الخلقة من غير صنع آدمي كالسخلة تكبر والرطب يجف، فالحنث يحصل، ولا حكم للتغير، وإن كان زوال الاسم بصنعة آدمي كطحن الحنطة وخبزها، لم يحصل الحنث. ولو قال: لا أدخل هذا، وأشار إلى دارٍ، فانهدمت، وصارت فضاء، حنث بالطروق؛ لأنه لم [يذكر] (3) الدار، ولم يجر اسمها، ولو قال: لا أدخل هذه الدار، فصارت فضاء وطرقها، فالوجهان جاريان؛ لمكان الإشارة، وزوال التسمية، والذي ذكرناه خلافاً مع أبي حنيفة رضوان الله عليه فيه إذا قال: لا أدخل داراً، ولم يُشر، فإذا طرق عرصةً كانت داراً، لم يحنث؛ فإن تعويلَ اليمين على

_ (1) هنا كلمة غير مقروءة، صورتها هكذا: (عر ـما) انظر صورتها. (2) زيادة من (هـ 4). (3) في الأصل: " لم يدخل ".

التسمية المحضة، وقد زالت وقد ذكرنا في مسائل الثياب أنه لو قال: والله لا ألبس هذا الثوبَ، وكان قميصاً، ففتقه، وسواه رداءً وارتدى به أنه هل يحنث؟ والخلاف في هذه الصورة ضعيفٌ؛ لأنه لم يسمّ القميص، واقتصر على الإشارة. ولو أشار إلى سخلة فقال: لا آكل من لحم هذه، ولم يسمها سخلة، ثم كبرت وصارت كبشاً، يحنث بأكل لحمها، وإن زال الاسم، والسبب فيه أن التغير إذا كان من حيث الخِلقة، ورجع إلى ازدياد أجزاءٍ خلقها الله تعالى، أو إلى نقصان أجزاءٍ نقصها الله تعالى، فذاك التغير في نفسه ضعيف، وانضم إليه أنه لم يجر اسم الجنس، وإنما جرت الإشارة المحضة، وفي المسألة التي ذكرناها في الثوب إشارة ولم يسم القميص، ولكن التغيير بالفتق والرتق أقوى، والإشارة نزلت على الثوب بصفته، ومع هذا الأصحُّ- أنه يحنث إذا أشار ولم يسم، وإنما يظهر الخلاف إذا أشار وسمّى، فقال: لا ألبس هذا القميص، ثم فتق ورتق، وعلى هذا لو قال: لا أدخل هذا، وأشار إلى دار، ثم صارت فضاء، فهو كما لو قال: لا ألبس هذا الثوب وكان قميصاً فتخرق ثم سوّى منه رداءً، أو إزاراً، فهذا ما أردنا أن نذكره. 11772 - ومن تمام البيان في هذا الفصل أنه إذا قال: لا أدخل دار فلان هذه، فقد ذكرنا أن المذهب أن ملك فلان لو تبدل، فيحنث الحالف بالدخول، تغليباً للإشارة، فإن قيل: أشار وأضاف، وإذا قال: لا آكل من لحم هذه السخلة، فقد سمّى وأشار، فهلا جعلتم زوال الإضافة بمثابة زوال التسمية؟ قلنا: قد صار إلى هذا صائرون من أصحابنا وقالوا: زوال التسمية في كبر السخلة ونظائرها كزوال الإضافة، فيجري الخلاف في الأصلين والفرق عسير على التحقيق. ولو قال في البيع: بعتك هذه السخلة، وأشار إلى فرس، فقد أشار وغلط في التسمية، ففي صحة البيع وجهان، فمن اعتمد الإشارة، صححه، ومن اعتمد التسمية أفسد البيع، وهذا ذكرناه في مسائل البيع. ولو قال: لا آكل من لحم هذه البقرة، وأشار إلى سخلة، فالذي رأيت من دلالة كلام الأصحاب القطع بانعقاد اليمين وتحنيث الحالف بالأكل مما أشار إليه، وإن جعلنا المسألة على وجهين في صورة البيع في هذه الصورة، لأن علينا تعبدات في

تهذيب ألفاظ العقد، واليمين إذا عقدت على قضيةٍ، فلا يتطرق إليها في مثل هذا الموضع الانقسام إلى الصحة والفساد، ووضوح ذلك مغنٍ عن بسطه. 11773 - وألحق القاضي مسائلَ مستفادةً بآخر الفصل منها أنه قال: سئل القفال، وهو يتكلم على العوام (1) عمن حلف بطلاق زوجته لا يأكل البيض، فلقيه إنسان، وفي كُفه [شيء] (2) فقال: إن لم آكل مما في كم فلان، فامرأته طالق، وكان في كُمه بيض، فما الحيلة في ألا يقع طلاقه؟ فتفكر ولم يحضره الجواب، فلما ترك، قال المسعودي من تلامذته: الوجه جعل ذلك البيض الذي في كُم ذلك الرجل في القُبَيْطاء (3) ثم يأكله، ولا يقع الطلاق؛ لأنه عقد اليمين الثانية على الإبهام، واكتفى بالإشارة من غير تسمية؛ إذ قال: إن لم آكل مما في كُمه، فإذا جعلت البيض في القبيطاء، فقد أكل ما في كمه، ولا معوّل على تغير التسمية؛ فإنه أشار إلى ما في الكم، ولم يسمّ، وهذا بيّن. ومما ألحقه أنه إذا قال: لا ألبس ما غزلته فلانة، انصرف ذلك إلى ما غزلته في الماضي، فلو غزلت في المستقبل، لم يتعلق الحنث به، ويحنث بلبس ما نسج من غزلها الماضي، سواء غزلته للغير بأجرة، أو غزلته لنفسها، فالتعويل على الغزل لا غير، ولو حلف لا يلبس من غزلها، ولم يذكر فعلاً موضوعاً للماضي والمستقبل، فاسم الغزل ينطلق على ما غزلته، وعلى ما ستغزله في المستقبل، ولو قال: لا ألبس مما تغزله، انصرف هذا إلى المستقبل، ولم يدخل تحت اليمين ما غزلته بالزمان الماضي، وإذا قال: لا ألبس من غزلها، فلبس ثوباًً خيط بخيوط غزلتها، لم يحنث، هكذا قال القاضي، ووجهه بيّن؛ فإن الخيوط لا حظ لها من اللُّبس في الاسم. ولو كانت المسألة بحالها، فقال: لا ألبس من غزلها، فلبس ثوباًً لُحمته من

_ (1) يشير إلى أن مثل هذه الأيمان بالطلاق تكون من العوام والدهماء. (2) في الأصل: بيض. والمثبت من (هـ 4) و (ق). (3) القُبَّيطى: بضم القاف وفتح الباء مشددة، فيقصر، وتخفف، فيمدّ (القبيطاء) وهو نوع من الحلوى، ويسمى الناطف.

غزلها، وسَداه من غزل غيرها، أو على العكس، قال القاضي: لا يحنث، وذلك أن اسم الملبوس ينطلق على الثوب، وليس البعضُ يسمى ثوباًً على حيالِه، واللبس يتناول الثوب، فإنه لو التف بالغزل، لم يكن لابساً. وهذه المسألة فيها نظر: من جهة أنه يقال: لبس فلان من غزلها، وذِكْرُه الغزل من غير تعرض للثوب أصدق شاهدٍ في هذا. ولو قال: لا ألبس من غزل نِسوتي، فغزلن ونسج النّاسج، فالثوب من غزلهن، فلو قلنا: لا يحنث، كان بعيداً، وإذا قلنا: يحنث وهو الوجه، فواحدة منهن لم تهييء من غزلها ثوباً على حياله. نعم، لو قال: لا ألبس ثوباً من غزل المرأة، فإذا لبس ثوباًً فيه غزلها وغَزْلُ غيرها، فالوجه أن لا يحنث قطعاً، فإنه لم يلبس من غزلها ثوباًً. فصل قال: " ولو حلف لا يلبس ثوباًً منّ به فلان عليه ... إلى آخره " (1). 11774 - إذا حلف لا يلبس ثوب فلان، فاتّهبه، أو اشتراه، واللفظ مطلق، لم يحنث؛ فإنه ما لبس ثوب فلان، وإنما لبس ثوب نفسه إذا (2) ملكه. ولو قال: لا ألبس ثوباًً منّ به فلان عليّ فوهبه منه، فلا شك أنه يحنث بلبسه، فلو باعه بثوب آخر، ولبس الثوب الثاني، لم يحنث؛ فإن الملبوس ليس ممنوناً به، فلو باع فلان منه ثوباً مسامحةً، كأن يساوي مائة، فباعه منه بدرهم مثلاً، فإذا لبسه، لم يحنث؛ فإن المن لم يحصل بالثوب، وإنما حصل بالحط من ثمنه. ولو قال: لا ألبس مما وهب فلان، لم يحنث بما سيهبه بعد اليمين؛ لأن قوله: " وهب " للماضي لا غير وهو كما ذكرناه في قوله لا ألبس مما غزلت، والباب وقياسه بينان.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 232. (2) إذا: بمعنى (إذ).

فصل يجمع القول في الإكراه والنسيان الواقعين حالة الحنث 11775 - فنقول: عماد الحنث ثلاث صور، والمسائل بعدها ملحقة بها، فإذا حلف لا يدخل داراً، فحمل مكرهاً، وأدخل الدار، فالمذهب الذي قطع به المعتمدون أنه لا يحنث؛ لأن الذي جرى لا يُسمى دخولاً، وليس هذا من صور الإكراه، بل هو من باب عدم الحِنْث صورةً؛ إذ لا يُسمى ما وجد به دخولاً، وإنما هو إدخال، وينتظم النفي والإثبات فيه؛ فإنه يقال: فلان ما دخل بل أُدخل. وذكر صاحب التقريب عن بعض الأصحاب مسلكاً بعيداً في تخريج هذه الصورة على قولي الإكراه، واعتل هذا القائل بان قال: لو أَمَر حتى حُمل وأُدخل، حَنِث، فاستبان أن هذه الصورة ملحقة بالدخول مشياً في حالة الاختيار، وكل صفة تقتضي الحنث وحَلَّ اليمين لو صدرت عن اختيار، فإنها تقتضي الخروج على القولين لو اقترن بها الإكراه. وهذا الذي حكاه بعيد، وفيه غفلة عن مُدرك المعنى، وذلك أنه إذا أمر حتى حمل وأدخل، فهذا في الحقيقة ليس دخولاً، ولكن غلب في العرف والصورة هذه النظرُ إلى المقصود، وهو الحصول في الدار، وكثيراً ما يميل العرف الغالب إلى المقصود، فإذا حمل مكرهاً، فلا قصد له حتى نجعل الدخول في الدار مقصوده، ولم يوجد منه فعل، فاليمين في ظاهرها معقودة على الفعل، فالوجه القطع بما قطع الأصحاب به، وإذا حمل بإذنه، فهذا بمثابة ما لو ركب دابّة ودخل الموضع المحلوف عليه راكباً، فحركات الدّابة مضافة إلى الراكب، فلو حمل من غير أمره وأدخل، ولكنه كان قادراً على أن ينسلّ ويتراخى ويزجر الحامل، فسكت، فهذا فيه تردد ظاهر للأصحاب: ألحقه الأكثرون منهم بحالة الاختيار والأمر؛ فإن الحال يشعر برضاه، والمتبع صدور الحصول في الدار عن الرضا، ومن أصحابنا من ألحق هذه الصورة بما إذا حمل مكرهاً. هذه صورة.

11776 - الصورة الثانية - أن يقول: لا أدخل، ثم يحمل على الدخول، ويتحقق الإكراه -على ما مضى تفصيل الإكراه في كتاب الطلاق- فإذا دخل بنفسه مكرهاً واليمين مطلقة، ففي حصول الحنث قولان ذكرناهما في الطلاق. 11777 - الصورة الثالثة - أن يحلف، ثم ينسى اليمين، ويقدم على ما هو صورة الحِنث ناسياً ليمينه، ففي حصول الحِنث قولان تقدم ذكرهما، وللأصحاب خلاف في ترتيب الناسي على المكره: فمنهم من [يجعل] (1) الناسي بالحنث أولى لاختياره في المحلوف عليه، ومنهم من يجعل المكره بالحنث أولى [لذكره] (2) اليمين، وعموم قوله لا أدخل، وهذا مما تقدم أيضاً. 11778 - فإذا تمهدت هذه الصور ألحقنا بها مسائل، وهي مقصود الفصل، فلو قال: " والله لأشربن ماء هذه الإداوة غداً "، فأريق ذلك الماء قبل مجيء الغد من غير اختيار الحالف، فهل يحنث؟ ذكر الأصحاب قولين في الحنث، وقربوهما من المكره، وكان شيخي يقول: هذه الصورة أولى بألا يتحقق الحنث فيها من قِبل أن الشّرب في الغد -وقد أريق الماء في اليوم- غيرُ ممكن، والمكره على الدخول يتصوّر منه أن يمتنع من الدخول. فإن قيل: ما وجه تخريج القولين والحالة كما وصفتموها؟ قلنا: إذا قال: لا أدخل، فالبِرّ في ترك الدخول، فإذا [دخل، فقد] (3) تحقق عدم البرّ اسماً ولفظاً إلى أن يحكم الفقيه بما يقتضيه الحكم، وأما إذا قال: لأشربن غداً، فبرّه في مقتضى الاسم، وهو أن يشرب، فإذا لم يشرب، فلا برّ، فقد تحقق عدم الشرب، كما تحقق الدخول، فهذا هو الوجه. والذي ذكرناه سؤالاً يقتضي ترتيب القولين في مسألة الشرب على أصل القولين في الإكراه. ومما يتعلق بأصل القول في الإكراه أن اليمين يصح عقدها بما لا يدخل تحت اختيار

_ (1) في الأصل: " فعل ". (2) في الأصل: " لردّه ". (3) زيادة من (هـ 4).

الحالف، ولا يعد من فعله، كاليمين تُعلّقُ على طلوع الشمس وغروبها، هذا صحيح غير ممتنع. 11779 - ولو علّق اليمينَ بفعل الغير مثل أن يقول: والله لا يدخل فلانٌ الدارَ، ثم وجد منه الدخول مخالفاً للبر في اليمين، فاليمين تنحلّ، وتجب الكفارة، ولا فرق بين أن يكون ذلك الدخول على اختيارٍ من ذلك الشخص، أو كان مكرهاً فيه، فلا أثر للإكراه والاختيار في حق من لم يحلف، وإنما يقع الفصل بينهما إذا تعلّقت اليمين بفعل الحالف. هذا أصل متمهّد. وقد ذكرت في كتاب الطلاق مسائل فيه إذا جرى الحلف متصلاً بعلم من ذكر فعله، أو عدم فعله، وكان يتوقع أن يكفه اليمين، فإذا جرى إكراه في حق ذلك الشخص، والحالة هذه، ففي هذا تفصيل قدّمته، فلا أعيده، والذي ذكرناه فيه إذا لم يقصد الحالف أن يمنع ذلك الشخص بيمينه عن الفعل، وإنما أراد عقد اليمين على الإخبار عن وجودٍ أو عدمٍ في الغيب، وعداً (1) ذكره ثم أكده باليمين. وقد قال صاحب التقريب: لو حلف على غريمه، فقال: بالله لا يفارقني غريمي حتى أستوفي حقي منه، ثم فرّ الغريم ففارقه، قال: في المسألة قولان، واليمين معقودة على فعل الغير. وهذا مأخوذ على صاحب التقريب؛ من جهة أنه أطلق إجراء القولين، ولم يفصل، والوجه أن يقال: إذا لم يقصد منع الغريم، فالحنث يحصل إذا وُجدت المفارقة منه؛ حملاً لعقد اليمين على الوعد وتأكيده، وإن أراد أن يمنعه بما أسمعه من يمينه؛ فإذا فرّ كما ذكرناه، فهو في فراره مختار، والمفارقة موجودة على اختيار، فتخريج القولين والحالة هذه لا وجه له أيضاً، وإن قيل: قصده بالحلف أن يمنعه من ْمفارقته، فإذا فر وهو قادر على مساوقته، أو على ردِّه وضبطه، فالحنث يحصل أيضاً، قولاً واحداً.

_ (1) هـ 4: أو عدمٍ في الغيب، وهذا عد ذكره ثم أكده باليمين ".

وإن أفلت منه على وجهٍ لا يُنسب فيه إلى التقصير، فلا يبعد في هذا الطرف إجراء القولين إذا تخيلنا [مقصود] (1) اليمين منعه من المفارقة، وقد يجري مثل هذا في العرف، فللمسالة إذاً محامل: أحدها - عقد اليمين على الوعد، والآخر - عقد اليمين ليمتنع الغريم بسبب اليمين، واستقصاء هذا في مسائل الطلاق، والوجه القطع بالحنث، والصورة الأخيرة عقد اليمين والمراد منعه، ولو أطلق ولم يذكر محملاً، فاللفظ في الإطلاق محمول على الوعد لا غير. 11780 - ومن الصور التي نلحقها بما مهّدناه من الأصل، وهو من مسائل الكتاب أنه إذا قال: لا أسلم على زيد فلو سلم عليه في اختلاط الظلام، وهو ذاكر ليمينه، ولم يعلم أنه زيد، بل حسبه شخصاً آخر، ففي الحنث قولان مرتبان على ما لو نَسِيَ يمينه، وهذه الصورة -وهي إذا جهل زيداً عند تسليمه، وكان ذاكراً لليمين- أولى بالحنث، والدليل عليه أن من نَسِي الصوم، وأكل، لم يفطر، ومن كان يأكل ظاناً أنه في بقية من الليل، وهو ذاكر للصوم، أفطر على ظاهر المذهب، فرقاً بين أن يجهل الصوم على ذكر له وبين أن ينسى الصوم، فكذلك القول في الحنث. ولو سلم على قوم وزيدٌ فيهم، ولم يعلم أنه فيهم، وهو ذاكر ليمينه، ففي هذه الصورة قولان مرتبان على القولين فيه إذا سلم عليه قصداً، ظاناً أنه غير المحلوف عليه، والصورة الأخيرة أولى بألا يحنث فيها؛ لأنه لم يقصد زيداً بعينه، ولم يسلم عليه تعييناً. ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً، وهو فيه مع جماعة، ولم يعلم به الحالف، ففي الحنث قولان مرتبان على القولين في السلام، وهذه الصورة أولى بالحنث من نظيرتها في السلام؛ فإن دخول البيت فعل لا يقتضي التخصيص، والسلام قول ذو صيغة قابلة للتخصيص والتعميم. ولو قال: لا أسلم على فلان، فسلم على قومٍ والمحلوف عليه فيهم، وعلم أنه

_ (1) في الأصل: " معقود ".

فيهم، ولكنه استثناه بالنية، وقصد السلام على الباقين، فقد قال العراقيون: إنه لا يحنث، وقطعوا القول به، ووجهه بيِّن، لأنه وجه سلامه على من أراد منهم، واللفظ محتمل للتخصيص كما قدمناه، قال شيخي: في المسألة احتمال إذا لم يستثنه لفظاً؛ فإن مخاطبة جمعٍ بالسلام توجهاً إليهم في حكم النص في إرادتهم؛ فإنه إذا أشار [إلى عَبيد، وقال: هؤلاء] (1) لفلان، ثم زعم أني استثنيت واحداً منهم، فالوجه ألا يقبل ذلك منه، قال العراقيون: لو سلّم عليهم، مع علمه بأن المحلوف عليه فيهم، ولم يستثنه بالنية، ولا قصد إدراجه تحت عموم السلام، قالوا: في الحنث قولان: أحدهما - أنه لا يحنث؛ فان اللفظ يحتمل التعميم والتخصيص، وهذا ساقط على قياس طريقنا. والوجه القطع بأنه يحنث عند الإطلاق، إذا كان عالماً بصورة الحال، ولم يستثن لفظاً، ولا عقداً، واللفظ العام يجري على عمومه ما لم يُخصص، قال صاحب التقريب إذا حلف لا يسلم على فلان، فسلم على قومٍ، وهو فيهم، وعزله بالنية، لم يحنث، وهذا لعمري منقول الأصحاب وما قطعوا به، وفيه الاحتمال الذي أبداه شيخنا، وهو غير معتد به. 11781 - ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً فيه قوم (2)، وهو فيهم أيضاً، وعلم ذلك، ولكنه عزل المحلوف عليه بالنية، وقصد الدخول على غيره، فهل يكون هذا بمثابة ما لو عزل المحلوف عليه عن السلام في مسألة السلام؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه لا يكون كذلك، بل يحنث في مسألة الدخول؛ لأن الدخول فعل، فلا يتصور منه تخصيصه بواحد، أو بجمعٍ من الكائنين في البيت، والسلام لفظ معرض للتخصيص [والتعميم. والوجه الثاني - أن التخصيص] (3) ممكن بالقصد في مسألة الدخول أيضاً؛ إذ قد

_ (1) عبارة الأصل: " إذا أشار إلى عينه، وقال: هو لفلان ". والمثبت من (هـ 4) و (ق). (2) هـ 4: " فيه قوم وفيهم المعين ". (3) زيادة من (هـ 4).

ينتظم أن يقول الداخل إذا روجع: ما دخلت على هذا، ولم أقصده، بل (1) دخلت على هؤلاء المشايخ، فلا يمتنع هذا، والنيات إذا وَجَدَتْ مساغاً في الأيمان، فاحتمالها متسع. وفي هذه المسألة سِرٌّ، لا بد من التفطن له، وهو أنه في ابتداء العقد لو أراد بقوله: لا أدخل على فلان، أني لا أقصد الدخول عليه، ولا أقصده بالدخول، ثم اتفق دخوله على حسب ما صوره صاحب التقريب، فالوجه القطع بأنه لا يحنث؛ لأنه عقد اليمين على هذا الوجه، فاتبعنا عَقْده، وقصده؛ فإنا ذكرنا أن ما يتسع لقبول التديين، فهو مقبول في اليمين بالله تعالى، والذي ذكره صاحب التقريب فيه إذا أطلق يمينه، ولم يُخصصها بقصدٍ ثم وُجد منه هذا التخصيص عند الحنث، ولا تخصيص في عقده وحلفه الأول، فهذا ما أردنا ذكره. ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، ثم دخل البيت، وهو فيه عالماً بمكانه، وكان في البيت وحده، فعزله بنيّته، وقصد شغلاً آخر سوى الدخول عليه، ففي تحنيثه وجهان ذكرهما القاضي مبنيان على ما ذكرنا عن صاحب التقريب، وهذا يبُنى على أن التخصيص بالدخول هل يمكن في ذلك؟ والمسألة مُحتملة، وهذا كما إذا دخل البيت لشغل من حمل شيء أو وضع شيء وقصد ذلك، وعزل المحلوف عليه، أو قصد الدخول مع عزله، ليقعد أو يرقد، كل ذلك خارج على الخلاف. ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً، ولم يعلم أن فيه فلاناً، فظاهر المذهب أنه لا يحنث، والسبب فيه عدمُ قصده، وإن الدخول عند بعض الأصحاب مما يقبل التخصيص قصداً؛ فإذا انضمّ عدم علمه إلى تعرض هذا المقصود لقبول التخصيص، ظهر منه انتفاء الحنث، وقال الربيع: يحتمل أن يقال: سبيله كسبيل [الناسي] (2) ليمينه، وهذا تخريج صححه معظم الأصحاب، ووجهه بيّن.

_ (1) هـ 4: " إنما دخلت ". (2) في الأصل: " الباقين ".

فصل قال: " ولو حلف ليأكلن هذا الطعام غداً ... إلى آخره " (1). 11782 - مقصود هذا الفصل يتعلق بالأصول التي مهّدناها في الإكراه والنسيان، فإذا قال: لآكلن هذا الطعام غداً، فلا يخفى تصوير وجهِ البرّ، فلو فرض تلف الطعام، أو تلف الحالف، نظر: فإن جاء الغدُ والطعام باق، والحالف متمكن، فأخّر الأكلَ، فتلف الطعامُ، أو مات الحالف -وفي النهار بعدُ بقية- فظاهر المذهب القطع بتحنيثه؛ فإنه تمكن من تحقيق البرّ فأخّر. ومن أصحابنا من خرّج تلف الطعام وموت الحالف في أثناء الغد على خلاف الأصحاب في أن من أخّر الصلاة عن أول وقتها، ومات في أثناء الوقت، فهل يعصي، ووجه التشبيه أن الصلاة مؤقتة بوقت مُتّسع، والبرّ مؤقت أيضاً، فقرب مأخذ الكلام في المسألتين، والأصح عندنا القطع بالتحنيث، والصحيح الحكم بأنه لا يعصي بتأخير الصلاة إذا مات في أثناء الوقت، والفرق أن الأيْمان معتمدها اللفظ، والذي أخر عن أول وقت الإمكان يسمى من طريق اللفظ مخالفاً تاركاً للبرّ، والتأقيتُ في الصلاة مبناه على إثبات الفسحة والتخفيف، فاللائق به ألا نُعصِّي المؤخِّر. ولو تلف الطعام الذي حلف على أكله غداً قبل مجيء الغد، فقد ذكرنا إجراء الأصحاب القولين في ذلك؛ فإن حكمنا بأنه لا يحنث -وهو الأصح- فإن الحنث إنما يتجه عند تصوّر البرّ، واليمين ليست معقودة على وعد غيبي، وإنما المقصود بها تأكيد الإقدام على أمرٍ، فالوجه ألا يحنث إذا لم يتصوّر البرّ، وإن قلنا: يتعلق الحنث بهذه الصورة، فمتى يحنث؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه يحنث غداً، فإن اليمين مضافة إلى الغد، فكأن لا يمين قبله. والثاني - أنه يحنث في الحال؛ لأن البرّ صار مأيوساً منه؛ فلا معنى [للتوقف] (2)

_ (1) ر. المختصر: 5/ 232. (2) في الأصل: " التوقع ".

والحالة هذه، وقد ذكرنا هذا النوع مستقصىً في كتاب الطلاق، إذا علّق الرجل الطلاق بمستحيل قيّده بوقت منتظر، مثل أن يقول: إن لم أصعد السماء غداً، فعبدي حُر، أو امرأتي طالق، فهل يعجل الطلاق، أو العتاق في الحال؟ فيه خلاف مشهور، وهذا ذاك بعينه. التفريع: 11783 - إن حكمنا بأنه يحنث في الحال، فلا كلام، وإن أخرنا الحنث إلى الغد، فمتى يحنث غداً؟ فعلى وجهين آخرين: أحدهما - أنه يحنث كما (1) مَرّ وقت يسع الأكل، لو كان المأكول باقياً. والثاني - أنه لا يحنث ما لم تغرب الشمس من الغد؛ فإن الوقت أُثبت للاتساع في طلب البرّ، وهذا الوجه ضعيف في هذا المقام؛ فإنا إن أخرنا الحكم بالحنث إلى الغد، فسببه أنا نعتقد انعقاد اليمين في الغد، فأما انتظار غروب الشمس بناء على الفسحة، وقد فات الإمكان، فبعيد لا أصل له. 11784 - ولو قال: لآكلن هذا الطعام غداً، ثم إنه أكله في يومه؛ فإنا نحنّثه؛ فإنه المتسبّب إلى تفويت البرّ، ثم متى يحنث؟ فيه الخلاف الذي قدمناه. ولو أكل بعض الطعام وبقَّى بعضه، حَنِث أيضاً؛ لأن البرّ إنما يحصل بأكل جميع الطعام في الغد؛ فإذا تعذّر هذا باختياره، كان كما لو أكل الجميع (2). ولو قال قائل: إن كنتم تؤخرون الحنث إلى الغد، فلا تعتبروا بالأكل في اليوم، وإن كان عن اختيار، فإنه اختيار في غير الوقت المعتبر، قلنا: حقُ هذا السؤال أن يستمسك به في تضعيف ذلك الوجه، والمذهب الحكم بحصول الحنث في الحال، ثم فائدة الاختلاف في تعجيل الحنث وتأخيره النظر في صفة الحانث في التفريع على [أن] (3) الاعتبار بحالة الحنث في صفة الكفارة، أو بحالة الأداء، ولو صام وقد حكمنا بالحنث أجزأه، وإن لم نحكم، لم يجزئه؛ فإن الصوم لا يقدم على وجوبه.

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) أي أكل الجميع قبل الغد. (3) زيادة من (هـ 4).

فصل قال: " ولو حلف ليَقضينه حقه ... إلى آخره " (1). 11785 - إذا قال: لأقضين حقك غداً، فمات صاحب الحق قبل دخول الغد، فالبرّ ممكن بأن يؤدي ما عليه إلى ورثته، والمسألة فيه [إذا قال] (2) لأقضين حقك، فأما إذا قال: لأقضينّك حَقّك، فإذا مات، فقد عسر الأمر لكونه (3) علق القضاء بالمخاطب، ثم التفصيل فيه، كما تقدم في مسألة الأكل، فإذا قال: لأقضبن (4) حقك غداً، فمات الحالف قبل دخول الغد، ففد تعذّر منه القضاء، واليمين معقودة على فعله في القضاء، فقال الأصحاب: موت الحالف قبل الغد كفوت الطعام المحلوف عليه قبل الغد، ووجه التماثل بيّن، ولكن تصوير الحنث -وقد مات الحالف- أبعد، ولا خروج لهذا إلا على الخلاف في أن الحنث يتعجل أو يتأخر، فإن قلنا: يحصل الحنث غداً، فلا وجه لتحنيث ميت. وإن قلنا: يحصل الحنث في الحال، فإذ ذاك يجري الخلاف، والأصح في فوت الطعام وفوت الحالف قبل الغد ألاّ يحصل الحنث. 11786 - ثم ذكر صوراً في الاستثناء بيّنةً نرمز إليها: فإذا قال: لأقضينّك حقّك غداً إلا أن تشاء، فمعناه إلا أن تشاء تأخيره، فإذا جاء الغد وشاء تأخيره، لم يحنث بالتأخير، وإن لم يشأ، أو مات، وحصل اليأس من مشيئته، تحقق الحنثُ على التفاصيل المقدمة. ثم نَقل (5) عن الشافعي أنه قال: إذا قال: لأقضينّك حقّك إلا أن يشاء زيد، فمات

_ (1) ر. المختصر: 5/ 233. (2) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام ونظمه. (3) هـ 4: "لكنه". (4) في هـ 4: " لأقضينك". (5) ضبطت خطأ في الأصل بالضم (نُقل) والناقل هو المزني، والحكاية عنه. (انظر النقل وتغليط المزني في المختصر: 5/ 233).

زيد، لا يحنث، قال المزني: عَطْفُ هذه المسألة على المسألة المتقدمة غيرُ صحيح؛ فإن المسألة المتقدمة على هذه مفروضة في موت صاحب الحق قبل مجيء الغد، وقد قال: لأقضينّك حقّك غداً، فإذا مات قبل مجيء الغد، تعذّر الوفاء بالبرّ، وإذا قال: إلاّ أن يشاء زيد، فمات، فإنما يتعذر بموته المشيئة، فإذا تعذّر الاستثناء، اتجه البرّ والحنث، فالوجه أن نقول: إذا مات زيد، فقد زال بموته الاستثناء، فإن قَضى حقه غداً، بز، وإن لم يقض حَنِث. قلنا: هذا الذي ذكره المزني صحيح، لا يجوز غيره، ولكن لم نر هذا العطفَ في شيء من كتب الشافعي، والخلل في النقل، ووضع المسائل، وقيل: قال الشافعي: إذا مات زيد وصاحب الحق قبل مجيء الغد، فلا حنث، فحذف المزني ذكر صاحب الحق. فصل قال: " ولو حلف ليقضينّه عند رأس الهلال ... إلى آخره " (1). 11787 - قال الأصحاب: إذا قال: لأقضينّك حقّك عند رأس الهلال، فشرْطُ برّه أن يقضيه مع الاستهلال، فلو قدم، كان ساعياً في منع البرّ، فإن البرّ منوط بإيقاع القضاء مع الاستهلال، فإذا قدم، فقد فات البرّ، وإن أخر على اختياره، تحقق الحنث، فليقع مع أول جزء من الهلال، وهذه المسألة فيها انتشار من قِبل أن إيقاع القضاء مقترناً بأول جزء من الوقت الذي ذكره عسير، ومراعاة ذلك لا تفي بها القوة البشرية، فما الوجه والأمر كما ذكرناه؟ وعُسْر ضم النية إلى أول النهار تضمّن جَعْلَ جملة الليل وقتاً للنية، ولم يُكلّف الخلقُ إيقاعَ النية في وقت يعسر عليهم إيقاعها فيه، وقيل: لا يتأتى تمام الصوم إلا بأخذ طرف من الليل، كما لا يتأتى استيعاب الوجه إلا بأخذ أجزاء من الرأس. وهذا الذي تخطاه الأصحاب من أعسر مواقع الكلام، وأنا أقول فيه: عماد اليمين تنزيلها على العُرف، وإذا قال: لأقضين عند رأس الهلال، فالمعنيُّ به بذل المجهود

_ (1) ر. المختصر: 5/ 233.

في ضم القضاء، وذلك يتأتى بإحضار الحق عند مستحقه ومبادرة التأدية عند الاستهلال، فإذا فرض أدنى استئخار مع استفراغ الوسع، فما أرى ذلك حنثاً؛ فإن الناس لا يطلقون هذا، وهم يكلفون أنفسهم دركَ الأولية التي لا اطلاع على حقيقتها بالمُنّة البشرية، وإذا كنا نُنْزل اسمَ الرؤوس على الرؤوس المعتادة ونَحيد عن حقيقة اللغة، فما ذكرناه أولى في حكم العُرف، ولكن غاية الاحتياط ما ذكرناه من إحضار المال عند مستحقه ومراقبة الاستهلال، وإن لم نعن رؤية الهلال، فقد يَغُم الهلال على الناس، فيستكملون الشهر الماضي ثلاثين يوماً، فالمعني بالهلال أول جزء من الشهر، وهو أول جزء من الليل، ثم سبيله ما ذكرناه. وقد ذهب ذاهبون من العلماء إلى أنا نوسّع الأمرَ على الحالف الليلة ويومها، وهذا خارج عن الاعتدال، وقد لاح أنه قصد الضم، فهذا ما عندنا في ذلك. 11788 - ثم نقل المزني عن الشافعي أنه قال: " لو حلف لأقضينه عند رأس الهلال، أو إلى رأس الهلال " والجمع بين هاتين الجملتين مشكل؛ فإن ظاهر قوله: إلى رأس الهلال، إيقاع القضاء قبل رأس الهلال، ومعناه بسط الأداء على الأوقات المتقدمة على رأس الهلال وقوله: (عند) يقتضي الضم، والتقديمُ يفوّت البرّ. وقد تعرض المزني بعد نقل الجمع بين الكلمتين للاعتراض الذي ذكرناه، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فقال المحققون: إن كانت المسألتان مطلقتين، فلا شك أن الفقه ما ذكره المزني، وإن زعم أنه أراد بقوله: " إلى رأس الهلال " مع رأس الهلال، ففي قبول ذلك وجهان: أحدهما - أنه لا يقبل، فإنَّ (إلى) صريح في المدّ والبسط والتأقيت والحدّ، وهي مناقضة للضم والجمع. والثاني - أن ذلك مقبول منه؛ فإنَّ (إلى) لا يمتنع إطلاقها بمعنى الجمع إذا لم تكن قرينة، قال الله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] معناه مع الله وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] معناه مع أموالكم. وهذه الطريقة غير مرضيّة؛ فإن (إلى) محتملة لمعنى مع؛ فإذا نوى الحالف ذلك، فلا معنى للاختلاف في القبول؛ فإنا نكتفي في محامل الأيمان بالله تعالى بمواقع التديين في مسائل الطلاق والعتاق.

وقد ذكر بعض أصحابنا وجهاً أن مُطلَق هذا اللفظ محمولٌ على معنى (عند) لما ذكرنا، وقد أشار القاضي إلى هذا الوجه، وكل ذلك خبط، فالوجه القطع بالفرق بين المسألتين في الإطلاق، والمصيرُ إلى أنه لو نوى الجمع، نزلت يمينه على نيته، وما سوى ذلك وإن ذكره الأئمة، فلا وجه له. ومما يبلغ منّي المبلغ التّام استشعاري أن تجري الوجوه على نسق واحد، ويكثر فيها الهفوات وترك نقلها إخلال بالمبسوطات، وترك التنبيه على ما ذكرتُه خبط وتخليط. 11789 - ثم قال: ولو قال: " إلى حين، فهذا ليس بمعلوم " (1)، والأمر على ما قال، فإذا قال: لأقضين حقّك إلى حين، انبسط هذا على منتهى أمَد الإمكان من غير تحديد. ولو قال: إلى دهرٍ، أو إلى حِقَبٍ، أو إلى عصرٍ، أو إلى وقتٍ، فكل ذلك منبسط على الأبد وأقصى الأمد، وإنما يتحقق الحنث عند تحقق التعذر، وفي الفصل على ظهوره غائلةٌ، لا بد من التَّنْبيه لها، والتوصُّلِ إليها [مع أن إيضاح الغرض] (2) يحصل بسؤال وجواب: فإن قيل: قد ذكرتم في مسائل الطلاق أنه إذا قال الرجل لامرأته: إذا مضى حين، فأنت طالق، فإذا مضى أقل زمان قُضي بوقوع الطلاق، فإذا قال: لأقضينّ حقك إلى حين، وجب أن ينبسط القضاء على الحين الذي إذا انقضى وقع الطلاق بانقضائه في قوله: " إذا مضى حين، فأنت طالق " والدليل عليه أنه إذا قال: إذا مضى شهر، فأنت طالق، فيقع الطلاق إذا مضى شهر كامل، فلو قال: لأقضين حقك إلى شهر، انبسط القضاء على شهر، فَليَكُن القول [إلى] (3) حين على هذا النسق. وهذا مشكل جداً، ويمكن فرض لفظ المضي في اليمين بالله تعالى، فإذا قال:

_ (1) ر. المختصر: 5/ 233. (2) في الأصل: " مع اتضاح الغرض ". (3) في الأصل: " في ".

إذا مضى حينٌ، لأقضين حقك، فيجب القضاء بأن البرّ في إيقاع [القضاء] (1) بعد أدنى وقت، كما أن الطلاق يقع بعد أدنى وقت إذا قال: " إذا مضى حين، فأنت طالق " وليس ينقدح في هذا جواب يستقيم على موجَب اللّسان، إلا أن الأيْمان منزّلة على العرف، فإذا قال: لأقضين حقك إلى حين، اقتضى هذا فُسحةً من غير ضبط في النهاية، وإذا ثبتت فسحة عرفية من غير نهاية، [اقتضى] (2) ذلك أبد الأبد، والمعنيّ بالأبد مدّة البقاء، وتصوّر القضاء، ولو طلب طالب أن يحمل لفظ الطلاق على أمثال ذلك، لم يقبل منه، وللتعبد في صريح الطلاق أثر بيّن، فهذا ما نراه. ووراء هذا سؤالان: أحدهما - أنه إذا قال: إذا مضى حين لأقضين حقك، فمقتضى ما ذكرناه الفسحة بخلاف الطلاق، فإذا قال: والله لأقضين حقك إذا مضى حين، كان ذلك على الأبد، وهذا مما لا يجوز غيره، فقد اتضح الغرض في اليمين، وارتدّ الإشكال إلى الطلاق. فإن قيل: هلا قلتم: إذا قال: " إذا مضى حين، فأنت طالق " لا يقع الطلاق بأقل وقتٍ يمضي؟ قلنا: هذا الآن إشكال في الطلاق، والممكن في الانفصال عنه أن الطلاق إيقاع، والبرّ والحنث تحقيقُ موعد أو إخلاف موعد، وفي الطباع عدم القطع بالخلف ما أمكن محملٌ في التصديق، والطلاق إيقاع، فيعتمد أوائل الصفات، والمشكل في الطلاق أنه إذا قال: " إذا مضى دهرٌ، فأنت طالق "، يقع الطلاق بانقضاء أقل وقت، وهذا أمرٌ لا أهتدي إليه، وقد أبديت فيه خبطاً في كتاب الطلاق. فصل قال: " ولو حلف لا يشتري، فأمر غيره ... إلى آخره " (3). 11790 - إذا حلف لا يشتري، أو لا يتزوج، أو لا يطلق، أو لا يبيع، فلو وكل بهذه الأشياء، فتعاطاها الوكيل بإذنه، لم يحنث الموكِّل.

_ (1) في الأصل: الطلاق. (2) في الأصل: " انتظم ". (3) ر. المختصر: 5/ 233.

ولو قال: " لا أضرب فلاناً "، وكان ممّن يتعاطى مثلُه الضربَ، فأمر غيره حتى ضرب، لم يحنث، وإن كان محتشماً لا يتعاطى الضرب بنفسه، فأمر غيره حتى ضرب، فالنصّ، وما إليه مصير الأصحاب أنه لا يحنث، إذا كان اللفظ مطلقاً، وقال الربيع: إذا حصل الضرب بأمر من لا يتعاطى الضربَ، كان ذلك بمثابة صدور الضرب منه. وهذا وإن ألحق بالمذهب بعيدٌ، لا تعويل عليه، [ثم] (1) إنما يجري في الفعل الذي وصفناه وأمثاله، فأما العقود، فيتعاطاها العظماء والأماثل. ولو قال الرجل: لا أبني بيتاً، وكان لا يحسن البناء، أو لا أطين السطح، وهو ممن لا يُحسنه، فتخريج الربيع في أمثال هذه الصورة أظهر. ولو قال: لا أتزوج، فانتصب وكيلاً، وقبل نكاح امرأة لموكله، لم يحنث، وليس ما جاء به تزوّجاً منه، وإنما هو سفارة، والنكاح مضاف إلى الموكل، وسِرُّ الفصل أنه عقد اليمين على التزوج المطلق، ولا يصح من الوكيل بالتزوج مطلقُ لفظ التزوج حتى يضيفَه، وما لا يستقل إلا مضافاً لا يندرج تحت المطلق الذي لم يضف. والغرض من هذا يبينُ بصورتين، فإذا قال زيد: لا أتزوج، وقال عمرو لا أتزوج، ثم وكل زيد عمراً حتى يقبل له نكاح امرأة، فلا يحنث الموكل، ولا الوكيل، أما الموكِّل؛ فلأنه، لم يتعاط التزوّج، بل تزوّج الوكيلُ له، وأما الوكيل لم (2) يتزوج مطلقاً، فلم يحنث واحد منهما، وقد قطع الأصحاب بهذا في الطرق. 11791 - وذكر الصيدلاني هذا على هذا الوجه، فوافق الأصحابَ، ولكن وقع في كتابه ما يخالف هذا صريحاً، وأنا أذكره على وجهه، وأُنبه على الزَّلل فيه: قال: ولو قال: " والله لا أكلم امرأة تزوجها زيد، فقبل وكيل زيد له امرأةً، فكلمها الحالف، حنث ". هكذا قال، ثم أكّد وعَلَّل، وكرّر، وأنا أسوق معنى كلامه،

_ (1) في الأصل: " له ". (2) جواب أما بدون (الفاء)، واردٌ عند الإمام كثيراً، جرياً على لغة الكوفيين.

قال: المعني بالتزوج التسبب إلى تحصيل الزوجة، ولا أثر للتعاطي فيه، والموكِّل قد حصل على زوجةٍ إذا (1) قبل الوكيل النكاح له، ثم قال: التزوج في مجرى العرف بمثابة [التَملُّكِ] (2)، ولو قال: لا أكلم عبداً ملكه زيد، فوكل زيد وكيلاً حتى اشترى له عبداً، فإذا كلمه الحالف، حَنِث؛ بخلاف ما لو قال: لا أكلم عبداً اشتراه زيد، فإذا وكل وكيلاً حتى اشترى له عبداً، لم يحنث الحالف بمكالمته. هذا كلامه، وهو على القطع خطأ على المذهب، والأصحاب بأجمعهم [نصّوا] (3) على خلاف ذلك، وقَضَوْا بأنه إذا حلف لا يكلم امرأة تزوجها فلان، فوكل فلان من يقبل له نكاح امرأة، لم يحنث الحالف بمكالمتها، ولست أنكر أن ما ذكره الصيدلاني وجهٌ من الكلام، ولكنه مذهب أبي حنيفة (4) رضوان الله عليه؛ فإنه فصل بين لفظ التزوج ولفظ الشراء، فقال: التزوج في اليمين محمول على تحصيل الزوجة إما بتعاطي القبول، وإما بالتوكيل به إذا قبل الوكيل، بخلاف الشراء، والعجب أن الصيدلاني ذكر [بعد] (5) هذا الردّ على أبي حنيفة رضي الله عنه في التزوج، وجاء بما يناقض هذا الكلام، فلا اعتداد إذاً بما ذكرناه له، وهو هفوة أطلنا الكلام في بيانها، فإنا (مجموعه) في المذهب معتمد؛ فما يندر فيه من زَللٍ يوشك أن يُعتمد، فأبلغنا في التنبيه لذلك. 11792 - ولو قال: " والله لا أشتري " فاشترى له وكيله، لم يحنث وفاقاً، ولو قال الوكيل: والله لا أشتري، ثم توكل واشترى لموكله مطلقاً، ولم يسم الموكِّل، ولكنه نواه، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه يحنَث، وإن لم يملك ما اشترى، لأنه يُسمّى مشترياً، وقوله: " اشتريت " يناقض قوله: " والله لا أشتري " ويمينه مطلقة، وقوله في إنشاء العقد مطلق.

_ (1) إذا: بمعنى (إذ). (2) في الأصل: " الملك ". (3) في الأصل: " قضوا ". (4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 274 مسألة 1392، المبسوط: 9/ 9. (5) في الأصل: " بغتة ".

وذكر القاضي هذا الوجه كما ذكره الأصحاب، وذكر من طريق التخريج وجهاً آخر أنه لا يحنث؛ لأنه مستناب، وليس مشترياً لنفسه، والعقد ينصرف إلى موكله، فكان انصرافه إليه شرعاً بمثابة صرفه العقد إليه لفظاً. ولا شك أن الكلام مفروض في اليمين المطلقة، وهذا التردد في الوكالة بالشراء، وما في معناه من العقود التي لا يشترط ذكر الموكِّل فيها، والوكيل بالتزويج خارج عن ذلك؛ لأنه يسمي موكله لا محالة. نَعم، لو قال: " والله لا أزوج فلانة " ثم توكل وزوجها وكيلاً تزويجاً صحيحاً، حَنِث في يمينه؛ لأنه زوجها حقاً، والتزويج بالوكالة كالتزويج بالولاية في الصيغة وحكم الاسم، والوكيل بالتزويج بمثابة الوكيل بالبيع، وإنما يختلف البابان في الوكيل بالتزوج والوكيل بالشراء. فصل قال: " ولو حلف لا يفعل فعلين ... إلى آخره " (1). 11793 - قد تبين في مسائل الطلاق أن من علق الطلاق بشرطين فصاعداً، لم يقع الطلاق إلا باجتماع الصفات والشرائط، والسبب فيه أن الشرائط إذا عُقّبت بالجزاء، اقتضت صيغةُ الشرط ارتباط الجزاء بجميع ما تقدم شرطاً، وما يسميه الفقهاء تعليقاً هو الشرط بعينه. فإذا وضح هذا، رجعنا إلى غرضنا في اليمين، فإذا قال مشيراً إلى رغيفين: " والله لا آكلهما " أو صرّح، فقال: " لا آكل هذين الرّغيفين "، لم يحنث ما لم يأت عليهما جميعاً، لأنه علق يمينه على التثنية، فتعلّق البر والحنث بهما. ولو قال: والله لا آكل هذا الرغيف، وهذا الرغيف، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يحنث إلا بأكلهما، كَمَا لو عبر عنهما بصيغة التثنية قائلاً: لا آكل هذين الرغيفين. وهذا قد يعترض فيه إشكال من جهة أن المعطوف إذا ارتبط بفعلٍ صُدّر الكلام به،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 233.

كان صدر الكلام في حكم المستأنف مع المعطوف، فإذا (1) قال الرجل: رأيت زيداً وعمراً كان التقدير رأيت زيداً ورأيت عمراً، فإذا قال: والله لا آكل هذا الرّغيف، وهذا الرغيف، أو قال: والله لا آكل هذا الرغيف ولا أكلم زيداً، فالتقدير: والله لا آكل هذا الرغيف، والله لا أكلم زيداً، ولو كرر اليمين تحقيقاً، لانفردت كل يمين عن الأخرى، ولاستقلت كل واحدة بمعقودها ومقصودها، ثم ترتب عليه أنه يحنث بأحد المذكورين في اليمين المربوطة به، وليست صيغ الأيمان بمثابة صيغة الشرط، هذا هو السؤال، وأقصى ما ذكره الأصحاب أن الاسم المعطوف على الاسم بمثابة الاسمين المجموعين في صيغة التثنية، هذا وجه التنبيه، والإشكالُ قائم في المسألة، وما قطع به الأصحاب ما نقلته، والعلم عند الله تعالى. فصل قال: " ولو قال: والله لا أشرب ماء هذه الإداوة ... إلى آخره " (2). 11794 - إذا قال: لأشربن ماءَ هذه الإداوة، فالبر في شرب الكل، وإذا قال: لا أشرب ماء هذه الإداوة، لم يحنث إلا بالنزف، وشُربِ الكُلِّ، وإن قال: لأشربن من ماء هذه الإداوة، فالبر يحصل بشرب البعض؛ فإن (مِنْ) صريح في اقتضاء التبعيض، ولو قال: لأشربن ماء هذا النهر، فلا شك أن استيعاب ماء النهر بالشرب غير ممكن، فإذا كان لفظه مطلقاً على هذا الوجه، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: هذا عقد يمين على غير ممكن، ولا يتأتى طلب البرّ فيه، كما لو قال: لأصعدن السماء، هذا وجهٌ، وهذا القائل يقول: لو شرب من ماء النهر، لم يبرّ. ومن أصحابنا من قال: قوله لأشربن ماء النهر معناه لأَرِدَنَّه، ولأشربن من مائه، ومن شائع الكلام: فلانٌ [شرب] (3) الدِّجلة، معناه شرب منها.

_ (1) هـ 4: " فأما إذا قال ". (2) ر. المختصر: 5/ 234. (3) في الأصل: " يشرب ".

11795 - ثم جمع الأئمة فصولاً في الباب متماثلة قريبة المأخذ، ونحن نذكرها ونستعين بالله تعالى، فإذا قال: لأصعدن السماء، فقد قال محالاً، ولكن يلزمه الكفارة على الفور، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه يحكم بانعقاد يمينه، ثم يحكم بانحلالها، وسبب الانعقاد أنها معقودة على المستقبل، والله تعالى قادر على أن يُقدر عبده على الرُّقي في السماء، ولكنا أَيسنا من حصوله، فانعقدت اليمين بما قدمناه من انتظام اللفظ، وانتجز الحِنث لليأس من البرّ. وقال قائلون: تجب الكفارة، ولا نحكم بانعقاد اليمين؛ فإن سبب حَلِّها مقترن بها لو قُدّر حَلٌّ وعَقْد، وهذا القائل يقول: الكفارة إنما تلزم إذا حَنِث الحالف في اليمين المنعقدة على ممكن، لمخالفة المحلوف عليه الحلف، ومن قال: لأصعدن، فمعنى الحنث (1) قائم، والرجل منتسب إلى ترك التعظيم (2). ولو قال: " لأقتلنّ فلاناً "، وهو عالم بأنه ميت، فقد قال أصحابنا: هذا بمثابة ما لو قال: لأصعدن السماء، وبمثله لو قال: والله لأشربن ماء هذه الإداوة، ولم يكن فيها ماء، فقد اختلف أصحابنا (3) في المسألة: فمنهم من قال: اليمين لا تنعقد، بل تلغو، ولا تجب الكفارة، وليسَ كالحلف على الصعود؛ فإن في مقدور الله تعالى الإقدار على ذلك، وكذلك قتل الميت مقدور لله تعالى، بتقدير أن يحييه ليقتله الحالف، وأما شرب ماء الإداوة ولا ماء، فمستحيل كيف قدر. وذهب الأكثرون إلى أن الكفارة تلزم، ثم اختلفوا في أن اليمين هل تنعقد أم لا. 11796 - ولم يختلف الأصحاب في أن من قال: " والله ما قتلت وما فعلت " وكان قد فعل أن الكفارة تلزم، وهذه يمين الغموس، وليس من الحزم أن نسلم للخصم انتفاء الكفارة إذا قال: لأشربن ماء الإداوة بناء على أن الماء معدوم، ولو فتحنا هذا الباب، ونفينا الكفارة إذا كان المحلوف عليه بحيث يستحيل تصويره، فيلزم منه أن

_ (1) هـ 4: " الحلف ". (2) هـ 4: " التعاظم ". (3) هـ 4: "أئمتنا".

نقول: إذا قال الحالف على الماضي: " والله ما فعلت "، وكان فعل، لا يلزمه الكفارة؛ لأن ما فعله يستحيل أن يقدّر عدمه بعد وجوده، وليس ذلك من المقدور، فيجب انتفاء الكفارة. وقد أجمع الأصحاب على وجوب الكفارة في يمين الغموس. فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه وجوب الكفارة في يمين الغموس، ثم لا يتجه عندنا الحكم في الغموس بالانعقاد، فإنا إن كنا نمنع انعقاد عقد لاقترانه بما يحله، فالغموس في عينه خُلف، فيستحيل فرض الانعقاد فيه، ولكن وجوب الكفارة لا يتوقف عندنا على تقدير عَقْدٍ وحَل، كما قررناه في (الأساليب). وإذا حلف ليفعلن ما لا يستريب أنه ممتنع، ولكنّ وقوعَه ليس خارجاً عن قبيل المقدورات، فالكفارة تلزم، وفي الحكم بالانعقاد خلاف أشرتُ إليه، ومعظم الأصحاب على أن اليمين تنعقد، وتنحل، كما انعقدت على الفور، وهذا كقوله: لأصعدن السماء، أو لأقتلن فلاناً، وكان ميتاًً، وإن كان الحلف على محال ليس فيه إمكان، فالمذهب وجوب الكفارة، ثم لا يتجه الحكم بانعقاد اليمين بل يجب صرف وجوب الكفارة إلى مخالفة التعظيم -على حكم الخُلْف- لاسم الله تعالى المذكور تأكيداً على صيغة الحلف. ومن أصحابنا من لم يوجب الكفارة، لانحسام مسلك الإمكان من كل وجه. ولو قال: " والله لأصعدنّ السماء غداً " ففي تحنيثه في الحال خلاف مشهور بين الأصحاب، وقد قدمنا توجيه الخلاف بما فيه مقنع. ومن الصور المعترضة أنه لو قال: لأقتلن فلاناً، وكان يحسبه حياً، ثم تبيّن أنه كان ميتاً حالة الحلف، فقد قال الأئمة: في وجوب الكفارة قولان مأخوذان من تحنيث الجاهل والناسي، ووجهه أنه عَقَد اليمينَ وهو يعتقد الإمكان، فخرج الخلاف على ما قدمناه، وليس كما لو كان على علم من موته، فإنه يكون مجرداً قصده إلى عقد اليمين على ممتنع. ***

باب من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه

باب من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه قال الشافعي: " من حلف على غريمه ألا يفارقه ... إلى آخره " (1). 11797 - إذا حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفيَ حقَّه، فلا يخفى ما يتعلق من البر، والحنث بفعل الحالف إن فارقه مختاراً ذاكراً، أو ناسياً، أو مكرهاً، ولا يخفى الحكم لو اختُطف، وحُمل، وفرّق بينه وبين الغريم، وغرض الفصل الكلام فيه إذا كانت المفارقة (2) من الغريم المحلوف عليه، ولأصحابنا طريقان: فذهب الأكثرون إلى أن الغريم الذي ذكره الحالف لو فارق، لم يحنث الحالف؛ لأنه لم يعقد اليمين على فعل الغريم، وإنما عقد اليمين على فعل نفسه، ولم يوجد منه فعل في المفارقة، ثم صور الشافعي فرار الغريم وترك المسألة على العادة، فإن من يبغي ملازمة غريمه لا يترك غريمه يفارقه على اتئادٍ، وإنما تقع المفارقة فيه على هيئة الفرار، ولكن لو لم يتفق فرارٌ، وفارق الغريمُ على التؤدة، والحالف ماكث لا يبرح، فلا يحنث أيضاً على هذه الطريقة، لما ذكرنا من أنه لم يوجد منه فعل، ثم لا نظر إلى فرار الغريم، ولا إلى اتئاده، فإن فعله ليس محلوفاً عليه. هذه طريقة. وذكر صاحب التقريب، وبعض المصنفين أن الغريم إذا فارق مكان الحالف متمكناً من مساوقته، فمكث، ولم يساوقه، كان ذلك بمثابة فعله في الفراق؛ فإنّ ترك المصاحبة مفارقة، والشاهد لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام علق لزوم البيع بتفرق المتبايعين عن مجلس العقد، إذ قال: " ما لم يتفرقا " ثم لو فارق أحدهما المجلس، ومكث الثاني، كان ذلك تفرقاً منهما بمثابة ما لو أخذ كل واحد منهما صوباً، وافترقا بأبدانهما، ثم قال هؤلاء: هذا فيه إذا كان الحالف الناكث على استمكان واختيار،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 234. (2) من هنا بدأ خرمٌ في (هـ 4) حيث فقدت ورقة.

فتَرَكَ المساوقَة، فأما إذا فرّ غريمه، وعجز عن مساوقته، فهذا يُخرّجُ على قَوْلَي الإكراه. وهذه الطريقة مستهجنةٌ لا أصل لها، والمعتمد المسلكُ الأول، لما قدمناه. 11798 - ثم إذا فرعنا على الطريقة الأولى، فلو كان الحالف وغريمه يتماشيان مصطحبين، وصورة الحلف كما تقدم، فوقف الحالف، والغريم على سجيته في المشي، فقد نقل عن القاضي أنه يحنث بالوقوف في هذه الصورة، وليس كما لو كانا ساكنين في مكان، ففارق الغريمُ، واستدام الحالف السكونَ، وذلك لأن الحالف إذا سكن في المكان الذي كان فيه، فإنه ليس مستحدثاً صنفاً من الفعل يصير به منتسباً إلى الفراق. وإذا كانا يتماشيان، فوقف عن المشي، كان ذلك إحداثَ فعلٍ مؤثر في الفراق، فلا يبعد أن يسمّى فراقاً؛ فإن الواقف عن المشي قد يقول: كنت أماشي فلاناً، فوقفت، وفارقته، وقد لا يتحقق هذا فيه إذا كانا في مكان ساكنين فمشى أحدهما وسكن الثاني. وهذا عندنا تخييل لا حاصل له، ولا يجوز أن يكون بين وقوفه عن المشي، وبين استدامته السكون في المكان؛ [فرقٌ] (1)؛ فإنه في الموضعين [تارك] (2) مصاحبة الغريم مع التمكن منها. ومما نفرعه على الطريقة الأولى أنه لو قال: " لا أفترق أنا وأنت أو نفترق ". فعقد اليمين على هذه الصيغة، ولم يقل: لا أفارقك، فإذا فارق الحالفُ، حَنِث، وإن سكن الحالف، وفارق الغريم، ففي المسألة وجهان: أظهرهما -وهو الذي لا يتجه غيره- أن الحالف يحنث؛ لأنه عقد اليمين على فعليهما، إذ قال: لا نفترق، ومكثه مع مفارقة غريمه يسمى افتراقاً، وعليه يخرّج قول الرسول صلى الله عليه وسلم في خيار المجلس: " ما لم يتفرقا "، فيجتمع في هذه الصورة ارتباط المحلوف عليه بهما، وتمكن الحالف من المصاحبة، ويتسق لذلك انطلاق (3) اسم التفرق أو الافتراق.

_ (1) زيادة من المحقق. والحمد لله فقد صدقتنا (ق). (2) زيادة اقتضاها السياق. وقد صدقتنا (ق). (3) انتهى هنا الخرم الموجود في (هـ 4).

ومن أصحابنا من قال: لا يحنث إذا لم يكن الفراق من جهته، وهذا بعيد وإن كان مشهوراً في الحكاية؛ إذ لا خلاف أن هذا لا ينزل منزلة قول القائل: " والله لا نتناظر "؛ فإنه لو نزل هذه المنزلة، لاشترط في تحقيق الحنث أن يتفرقا بأبدانهما حتى يقال: على موجبه لو فارق الحالف، ومكث الغريم، لا يحنث؛ فإن قيل: إنه يحنث مذهباً واحداً، تبين بذلك انفصال التفرق والافتراق عن التناظر لو فُرِضَ محلوفاً عليه. هذا مقصود الفصل. 11799 - ثم وصل الأصحاب بذلك صُوراً تستند إلى الأصول المقدمة، فقالوا: إذا حلف لا يفارق غريمه، فقضى القاضي بفَلَس الغريم، وألزم الحالفَ مفارقته، فهذا يلتحق بوجود المحلوف عليه على صفة الإكراه، وفيه القولان، ولو فَلَّسه الحاكم، أو تحقق للحالف فَلَسُه، ورأى ملازمته محظورة، وما ألزمه القاضي مفارقته، فإذا فارقه، حَنِث، ولا نجعل علمَه بفَلَسه بمثابة ما لو أجبر على مفارقته. ولو حلف كما وصفنا، فاستوفى في ظاهر الحال حقّه، وكان دراهم، فتبيّن أنها مستحقة، أو خرجت زُيوفاً، فهذه مفارقة قبل استيفاء الحق؛ فإن كان عالماً، فهو حانث، وإن كان جاهلاً بحقيقة الحال، ففي المسألة قولان مأخوذان من الجهل والنسيان. ولو حلف لا يفارق حتى يستوفي حقه، فاعتاض عن حقه عوضاً وفارق، فقد نقل المزني عن الشافعي أن العوض الذي أخذه إن كان يساوي مقدار حقه، لم يحنث، ثم أخذ يعترض ويقول: أخذ عوض حقه ولم يأخذ حقَّه، واليمين معقودة على استيفاء الحق، وقد أجمع الأصحاب على أن المذهب ما ذكره المزني، والحالف يحنث، ثم اتفقوا على أن الخلل جاء من جهته، والشافعي حكى ما ذكره مذهباً لمالك (1)، ولم يقل به، ولم يصر إليه.

_ (1) ر. الإشراف: 2/ 891 مسألة 1768 و2/ 984 مسألة: 1996، عيون المجالس: 4/ 1595 مسألة 1123.

ولو أبرأ غريمه عن حقه، حنث بنفس الإبراء، وكذلك لو أبرأه عن بعض حقه، حنث وإن قل قدره، لتسببه إلى تفويت البرّ. 11800 - ثم قال: " لو حلف ليقضينه حقه غداً، فقضاه اليوم، حِنَث ... إلى آخره " (1). إذا حلف من عليه الحق ليقضينه غداً، ثم إنه ابتدر، وقضى في اليوم -واليمينُ مطلقة- حَنِث لتفويته البرَّ بتعجيله القضاء، وهذا بيّن، وكذلك لو قضى مما عليه بعضه، فالبر يفوت. ولو قال: لأقضين حق فلان غداً، فأبرأه مستحق الحق، والتفريع على الأصح - وهو أن الإبراء لا يفتقر إلى القبول- فقد تعذر البرّ في الغد على حكم الإكراه، فيخرج القولان، وإن قلنا: لا يصحُّ الإبراء ما لم يقبل المبرأ عنه، فقبل الحالف، حَنِث قولاً واحداً بتسببه إلى الحنث بسبب القبول، ولا معنى لتكثير الصور، بعد ذكر خاصية الباب. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 234.

باب من حلف على امرأته لا تخرج إلا بإذنه

باب من حلف على امرأته لا تخرج إلاّ بإذنه 11851 - مضمون هذا الباب من مسائل الطلاق، ولكن المزني وضعه في هذا الكتاب، وفي الباب مسألتان إحداهما- أنه إذا قال لامرأته: إن خرجت من الدار إلا بإذني أو بغير إذني، فأنت طالق، فلا يخفى حكم المسألة في البر والحنث، فلو أذن لها، فخرجت بالإذن، لم تطلق، ثم قال الشافعي: " إذا خرجت مرة بالإذن، انحلت اليمين على البرّ، فلو عادت، وخرجت مرة أخرى مراغِمةً، من غير استئذان، لم تطلق. وقال أبو حنيفة (1) رضي الله عنه: لا تنحل اليمين بخروجها الأول مع الإذن فيه، وهذا هو القياس؛ فإن اليمين إنما تنحل إذا جرت صورة الحنث، حيث لا يجد الطلاق نفاذاً، مثل أن يعلّق طلاق امرأته بدخول الدار، ثم يُبينها، ثم تدخل الدار بعد البينونة، وفي هذا خبط وتخليط، ذكرته في موضعه، فإذا خرجت بالإذن، فليس ما أتت به مُخالفة، فاليمين باقية في خروجها بغير الإذن، فإذا خرجت بغير الإذن، فهذا أول مخالفتها. وتوجيه مذهب الشافعي عسرٌ عندي، وحكى شيخي قولاً مُخرَّجاً مثلَ مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان يُفتي به، وَوَدِدتُ لو وجدتُ هذا القول في طرق الأصحاب، وهو على اتجاهه في القياس غريب، لم أره إلا لشيخي. 11802 - ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار لابسةَ حرير، فأنت طالق، فدخلتها ولا حرير عليها، لم تطلق فلو دخلت بعد ذلك، لابسةَ حرير، طلقت، هكذا ذكره الأصحاب، ثم طلبوا الفصل بين هذه المسألة، وبين ما إذا قال: إن دخلت الدار بغير إذني، فأنت طالق، ولا فرق عندنا قطعاً بين المسألتين؛ فإن الدخول في المسألة

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 322، المبسوط: 8/ 173.

الأولى إنما كان متعلقاً بالطلاق إذا كان موصوفاً بالمراغمة، فكأن الطلاق علق بالدخول وصفةٍ منضمّةٍ إليه، وهو بمثابة ما لو قال: إن دخلت الدار لابسةَ حريرٍ، فدخلتها ولا حرير، ثم دخلتها ثانية لابسةَ حريرٍ، وإذا لم يكن للشافعي نص في مسألة الحرير فأي حاجة (1) إلى تصويرها وتسليمها وتكلف فرق لا ينتظم قط. هذا أحد مقصودي الباب. 11803 - المقصود الثاني - أنه إذا قال: إن خرجت من الدار بغير إذني، فأنت طالق، ثم أذن لها، ولم تشعر، فخرجت على قصد المراغمة مثلاً غيرَ شاعرة بجريان الإذن من الزوج، فهذا عند المحققين يقرب مأخذه من بيع الوكيل ما وكل ببيعه، وقد عزله الموكِّل من حيث لا يدري، ولكنْ توجيه هذا الخلاف في اليمين على نسق آخر، والظاهر أنها لا تطلق؛ فإنها خرجت بعد الإذن. ومن أصحابنا من قال: إنها تطلق؛ فإن ظاهر اليمين منعها عن الاستبداد بالخروج والمراغمة به، وإذا لم يبلغها الإذن، فخروجها على نعت المراغمة وقصد المخالفة. هذا مأخذ الكلام. ويمكن أن يقال: هذا الخلاف يقرب مما إذا قال لها: إن خرجت، فأنت طالق، وظهر أنه قصد منعها من الخروج، فلو نسيت اليمين وخرجت، ففي وقوع الطلاق قولان. وقد ذكرتُ هذا وأمثاله في كتاب الطلاق، ووجه التشبيه أنها إذا خرجت ناسية، فليس خروجها على حكم المخالفة، ويمكن أن يقال: قصد الزوج بالطلاق أن يمنعها مما يدخل في وسعها، وليس يدخل في الوسع طرد النسيان. هذا منتهى المراد من ذلك. ...

_ (1) هـ 4: " فأي وجهٍ ".

باب من يعتق عليه من مماليكه إذا حنث

باب من يعتق عليه من مماليكه إذا حنث قال الشافعي: " من حلف يعتق ما يملك ... إلى آخره " (1). 11804 - إذا قال: مماليكي أحرار، دخل تحت لفظه العبيد، والإماء، والمدبرون، وأمهات الأولاد، والظاهر أن المكاتب لا يدخل، لما ثبت له من الانحياز والاستقلال بالنفس، وفي المسألة قول آخر أنه يَعتِق؛ لأنه مملوكٌ ما بقي عليه من النجم شيء، والمستولدة وإن ضعف الملك فيها، فاحتكام السيد (2) جارٍ عليها، وإنما ينحسم من تصرفاته فيها البيع والرهن. وإذا قال: عبيدي أحرار، لم يدخل الإماء على ظاهر المذهب، وهذا هو الذي يجب القطع به. وذهب ضعفة الأصحاب إلى إدخالهن؛ من جهة أن العبودية تشمل الإماء، ويسوغ أن يقول الرجل: استعبدتها، كما يسوغ أن يقول: استرققتها، وقد نطقت العرب بتسمية الأمة عبدة، وهذا وإن كان جارياً في فنه، فليس على مأخذ الأيمان، فإن الإماء [لا] (3) يُرَدْن في العرف بإطلاق اسم العبيد، والتعويل الأظهر في اليمين على غلبة العرف. ثم ذَكَر في الباب مسائل من عَوْد الحِنْث، ولَسْنا لها، وذكر فيه أنه لو قال لعبده: إن بعتك، فأنت حر أنه إذا باعه، عَتَق أخذاً من القول في خيار المجلس، وكل ذلك مما تمهد وتقرر في الأصول السابقة.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 235. (2) هـ 4: " فأحكام السيد جارية عليها ". (3) سقطت من الأصل.

فصل قال: ْ " ولو قال: إن زوّجتك، أو بعتك، فأنت حر ... إلى آخره " (1). 11805 - إذا عقد اليمين على عقدٍ وأطلق، فاليمين محمولة على العقد الصحيح، فلو قال: لا أبيع، أو لا أشتري، أو لا أتزوج، ثم صدرت منه صورة عقد من هذه العقود على الفساد، لم يحنث، فإن الفاسد ليس عقداً، وكذلك لو قال: " لأبيعن " لا يبرّ إلا بالبيع الصحيح، وهذا متفق عليه بين الأصحاب. ولو قال الزوج: لا أبيع مالَ زوجتي، أو قالت الزوجة ذلك في مال زوجها، ثم انفرد الحالف بالبيع من غير إذن، فلا شك في فساد البيع، ثم ما صار إليه الأصحاب أنه لا يتعلق به الحِنث؛ بناءً على ما مهدناه، وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهاً بعيداً أن الحنث يحصل، لأن أحد الزوجين قد يتبسط (2) في مال الثاني، فإذا أطلق اليمين على ما وصفناه، ظهر أنه عنى بذلك ترك الانبساط بالبيع، وإن كان على الفساد. وهذا بعيد، لا أصل له، ولا يسوغ خرمُ المذهب بمثله. ولو قال: والله لا أبيع مال فلان، فهذا محمول على البيع الصحيح، ولو قال: لا أبيع ماله بغير إذنه، فباعه بغير إذنه على الفساد، فالذي قطع به الأصحاب أنه لا يحنث، وصاحب التقريب يُجري الوجهَ الضعيفَ في ذلك؛ فإنه قد يظهر من غرض الحالف الانكفاف عن صورة التصرف من غير إذن. ولو قال: والله لا أبيع الخمر، فقد قال الأئمة: إذا قال: بعت هذه الخمر، لم يحنَث لأن البيع في اليمين محمول على الصحة، وبيع الخمر فاسد، ولو قال: لأبيعن الخمر، لم يبرّ بصورة البيع، فهو كما لو قال: لأصعدن السماء. وقال المزني: إذا قال: لا أبيع الخمر، حنث ببيعها؛ فإنه لا يقصد إلا الامتناع

_ (1) ر. المختصر: 5/ 235. (2) هـ 4: "يتسلط".

عن صورة البيع، وإلا فالخمر لا يصح بيعها، وهذا الذي ذكره منقاس متجه، ولا شك أن الوجه الضعيف الذي ذكرناه عن صاحب التقريب في بيع مال الغير يجري هاهنا؛ فإنه إذا قال: لا أبيع مال الغير بغير إذنه، فصاحب الوجه الضعيف يحمله على صورة البيع، وهذا في الخمر أوجه وأظهر. ولو قال: لا أشتري شراءً فاسداً، أو لا أبيع بيعاً فاسداً، فلا وجه عندنا، إلا القطع بأنه يحنث بصورة البيع والشراء، وإن جرت على الفساد؛ لأنا إن حملنا مطلق العقد على الصحيح، فمقيده بالفساد كيف يتوقع حمله على الصحيح، وإذا امتنع تقدير خلاف في هذا، فيظهر معه مذهب المزني في منع بيع الخمر (1). ...

_ (1) إلى هنا انتهت نسخة (هـ 4) وجاء في خاتمتها ما نصه: " آخر الجزء السادس والعشرين من نهاية المطلب ويتلُوه في الذي يليه بمشيئة الله تعالى: باب جامع الأيمان قال الشافعي إذا حلف ألا يأكل الرؤوس إلى آخره. الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله أجمعين. قوبل لجميعه وما قبله ".

باب جامع الأيمان [الثاني]

باب جامع الأيمان [الثاني] (1) قال الشافعي رضي الله عنه: " إذا حلف لا يأكل الرؤوس ... إلى آخره " (2). 11806 - إذا حلف لا يأكل الرؤوس، فالذي أطلقه الشافعي رضي الله عنه والأصحاب معه أنه لا يحنث بأكل رؤوس الطير والحيتان، وبناءُ الفصل على اتباع العرف، ومن قال: أكلت الرأس، أو لم آكله، لم يُفهم من مطلق كلامه التعرض لرؤوس الطير والحيتان، وسبب اطراد هذا العرفِ أن الناس في جميع البلاد لا يعتادون إفراد رؤوس الطير بالشيّ، أو الطبخ، أو الأكل، وإنما اتسق ما ذكرناه لاطراد العادة بأكل رؤوسٍ تفردُ بالشيّ والطبخ، فكان انتظام ما ذكرناه متلقى من [اعتياد] (3) أكل رؤوس على الإفراد، وعدم ذلك في رؤوس [الطير والحيتان] (4) فلا يُنكِر أحدٌ أن اسمَ الرأس ينطلق في صريح اللغة على رأس الطائر والحوت، ولكن لما لم يفرد بالأكل، لا يفرد بالذكر، والتعويل على العرف إذا غلب، وهذا هو المذهب. وذكر صاحب التقريب ما ذكرناه، وجعله معوّل المذهب، وحكى قولاً آخر أن اسم الرأس يحمل على رأس الطائر والحوت تمسكاً بحقيقة اللغة، وليس اسم الرأس مزالاً مماتاً (5) عما عدا النَّعم، ولكن ما اعتاد الناس إفراد رؤوس [غيرها] (6)، وهذا

_ (1) هكذا العنوان بنصه في "مختصر المزني " ومن هنا بدأ الاعتماد على نسخة وحيدة هي ت 6. والله المستعان. وأشرنا من قبل إلى أنّ جزءاً من نسخة أخرى جاءنا والكتاب ماثلٌ للطبع، فعارضنا نسخة الأصل عليها وهي التي رمزنا لها بـ (ق) وهي مستمرة إلى باب الامتناع عن اليمين. (2) ر. المختصر: 5/ 235. (3) في الأصل: " اعتبار ". (4) زيادة من (ق). (5) كذا تماماً (رسماً ونقطاً) ولعل المعنى: أن اسم الرأس ليس مزالاً، فلم يَمُت استعماله في غير رؤوس النعم. وهذا اللفظ (مماتا) ساقط من (ق). (6) في الأصل: رؤوس. والمثبت تصرف من المحقق. كنا قدرناها [رؤوسها] فجاءت (ق) باللفظ الساقط، فاعتمدناها.

لا يغير اللغة الشائعة الحقيقية. ولم أر هذا القول لغير صاحب التقريب، ولا عود إليه بعد ذلك. فإذا قال: لا آكل الرؤوس، حَنِث بأكل رؤوس الغنم، فإنه معتاد بكل مكان، وأطلق الشافعي التحنيث بأكل رؤوس البقر والإبل، وإنما بنى هذا على اعتياد طوائِفَ من الناس أكلَها في بعض البلاد. والذي يتحصل من هذا الفصل بعد حط القول الذي حكاه صاحب التقريب في جميع الرؤوس طرقٌ: أحدها - أن الحنث يحصل برؤوس النَّعم في جميع البقاع، ولا يحصل الحنث بغيرها. والثاني - حكاه صاحب التقريب أن الحنث لا يحصل إلا برؤوس الغنم؛ فإنها هي المفهومة من إطلاق الرؤوس المفردة على الإطلاق. والطريقة الثالثة -وهي أعدل الطرق- أن كل بقعة يُعتاد فيها إفراد رؤوس بالأكل، فمطلق اسم الرؤوس فيها محمول على ما يُعتاد في تلك البقعة، حتى لو اعتاد طائفةٌ أكلَ رؤوس الظباء وغيرِها من الصيود -حيث تكثر الصيود-، فإذا أطلق الحالفُ منهم اسم الرؤوس، دخل تحتها ما يعتادون إفراده بالأكل من تلك الرؤوس. هذا قولنا فيهم. فأما غيرهم من أهل البلاد والقرى إذا كانوا لا يعتادون إفراد تلك الرؤوس التي ذكرناها بالأكل؛ فاسم الرؤوس في أيمانهم هل يتناول تلك الرؤوس التي يعتاد أكلها أهل ناحية؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الاسم في حقهم لا يتناولها اعتباراً بعادتهم. والثاني - اسم الرؤوس في حق الكافة (1) يحمل في الإطلاق على الرؤوس التي يأكلها أهل ناحية. والترتيب للعراقيين، استاقوه كذلك، وهو حسن. والوجهان مأخوذان من الخلاف فيه إذا حلف القروي لا يدخل بيتاً، فدخل الخباء والخيام، ووجه التقريب لائح؛ فإن اسم البيت حقيقة في وضع اللسان للخيام والأخبية، وقد جرى بذلك عرفٌ على حسب اللسان، فإذا استعمل أقوام اسم البيت، وهم لا يساوون أهل اللسان في عرفهم، فينشأ الخلاف المقدم، كذلك اسم الرؤوس

_ (1) في (ق): "الله".

في أصل الوضع يتناول كل رأس، فإذا انضم إليه عرف أهل ناحية، التحق بإطلاق اسم البيت، فهذا بيان الطرق من جهة النقل. ولا بد من عطف البحث عليها. 11807 - أما من أدرج رؤوس النعم وأخرج ما سواها، فهذا محمول على اعتقاد هؤلاء أن رؤوس الإبل مأكولة في بعض البلاد، ورؤوس البقر أعم من رؤوس الإبل، ورؤوس الغنم يعتاد أكلها في طَبَقِ الأرض، فبنى هؤلاء المذهب على ما وجدوه في الاعتياد، ولم يتكلموا على التقدير. ومن قدّر أكل رؤوس الصيود، استوعب الكلام على الموجود والمقدر، وما عندنا أن أهل الطريقة الأولى ينكرون الكلام على هذا التقدير لو روجعوا فيه، وما حكاه صاحب التقريب من التخصيص برؤوس الغنم مخالفة، وكأنَّ صاحب [هذه] (1) الطريقة يعتبر العموم، ولا [يعتبر] (2) الحكم بما يندر من الأكل في رؤوس الإبل والبقر. ولو روجع هذا القائل في تقدير عموم الأكل في بعض النواحي، لم ينكر نزول الاسم على ما يعم أكله. والذي يختص هذا القائل به أنه لا يحكم على أهل البلاد بما يندر فيهم، وغير هؤلاء يقولون: إذا كان الشيء مفرداً مأكولاً -وإن كان لا يعم- كان بمثابة لحم الإبل بالإضافة إلى لحم الغنم في كثير من البلاد. وعلى الجملة لا معنى لاعتبار العموم، ورَجَع حاصلُ الكلام إلى المنهج الأعدل الذي ذكرناه للعراقيين في الخلاف والوفاق. 11808 - وإذا قال الحالف: " لا آكل اللحم "، لم يحنث بالحيتان، وإن كانت تعم؛ فإنها حيث تعم لا تسمى لحماً مطلقاً، فمأخذ الكلام فيها من الاسم لا من الاعتياد، وأما الرؤوس، فالاسم لجميعها حقيقة، ومأخذ الكلام فيها من اعتبار الإفراد حتى ينزل عليها مطلق اسم الرؤوس إفراداً.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " ولا يغيّر ". والمثبت تقدير من المحقق. ونحمد الله فقد صدقتنا نسخة (ق).

11809 - ومما يضاهي الرؤوسَ، البيض. قال الشافعي (1): إذا حلف لا يأكل البيض، حمل لفظه المطلق على كل بيض يزايل البائض: كبيض الدجاج، والوز، والبط، ونحوها وأراد إخراج بيض الحيتان؛ فإنها لا تُلقى مزايلةً، فتؤكل، وإنما توجد في بطونها، واسم البيض على الإطلاق لا يتناول بيضَ الحيتان، كما لا يتناول اسم اللحم عند الإطلاق الحيتان. ثم قال الأئمة: البيض التي لا تفرد بالأكل اعتياداً، وإن كانت تزايل البائض كبيض العصافير والحمام ونحوها، فهي بالنسبة إلى البيض التي يعتاد أكلها كرؤوس الطير بالإضافة إلى الرؤوس التي تفرد بالأكل اعتياداً، وإنما ذكر الشافعي مزايلة البيض البائضَ ليُخرج بيضَ الحيتان، لا ليدخل بيض العصافير، هذه الطريقة المرضية. وفي كلام بعض الأصحاب رمز إلى إجراء نص الشافعي على حقيقته في كل بيض يزايل بائضه، وهذا يضاهي طريقةَ صاحب التقريب في إدخاله جمنة الرؤوس تحت اسمها المطلق في الأيمان. فصل قال: " ولو حلف لا يشرب سويقاً، فأكله ... إلى آخره " (2). 11810 - مضمون هذا الفصل الكلام على الأكل والشرب والذوق. فإذا كان الحلف على الأكل، لم يقع الحنث بالشرب، وإذا كان على الشرب، لم يقع الحنث بالأكل. وإذا كان اللفظ الجاري شاملاً لهما، وقع الحِنث بالأكل والشرب. وبيان ذلك بالتفصيل: أن من قال: لا آكل السويق، فلو استفّه، حَنِث. وكذلك لو لتّه بسمن أو ماء، ولم ينته إلى الانمياع، وكان يتعاطاه أكلة أكلة، فهذا الأكل، ولو ماثه (3) وخلطه بالماء الكثير حتى انماع وتحسّاه شرباً، فهذا شرب، وليس بأكل،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 235. (2) ر. المختصر: 5/ 236. (3) ماثه: أذابه ومرسه بيده، وألانه. (المصباح، والمعجم).

والذي يتردد الرأي فيه أن يكون خاثراً يتأتى تعاطيه بالملاعق، ويتأتى تحسّيه على ثخونته، فكيف الوجه؟ هذا محتمل عندي: يجوز أن يقال: تحسّيه شربٌ في حكم البر والحنث، ويجوز أن يقال: يتناوله اسم الأكل والشرب جميعاًً. والإهالة (1) الخاثرة وإن كان تتحسى لا يبعد انطلاق اسم الأكل فيها، والعلم عند الله. ولو قال في يمينه: لا أطعم أو لا أتناول، عمّ ذلك الأكلَ والشربَ. ولو قال بالفارسية " نخورم " تناول الأكل والشرب. ولو قال: والله لا آكل، فإذا أدرك الطعم وازدرد منه المقدار الذي يزدرده الذائق، فهذا ليس أكلاً ولا شرباً، هذا ذكره القاضي الأصحاب. ولو حلف لا يذوق، فأدرك الطعم، ثم مجّ ما ذاقه ولفظه، بحيث لا يفطر الصائم، ففي حصول الحنث وجهان: أحدهما - لا يحصل؛ فإن الذوق لا يطلق حقيقة إلا عند وصول شيء نَزْرٍ إلى الباطن، فإذا مج، ولفظ، يقال: أدرك الطَّعْم، والأصح أنه ذائق وإن لم يزدرد. ولو قال: لا أذوق، فأكل وشرب، فالأصح أنه يحنث؛ فإنه ذاق وزاد، وأبعد بعض الأصحاب فيما نقله بعض المصنفين، وقال: لا يحنث إذا أكل وشرب؛ فإن اسم الذوق يستدعي اقتصاراً، فإذا استتم الإنسان أكلاً، لا يقال ذاق، وهذا [تخييل] (2) لا حاصل له. ولو قال: لا آكل السكر والفانيذ، فوضع سكرة أو فانيذة في فيه، وترك حتى ذاب، وابتلع الذائب؛ فالذي ذهب إليه الأكثرون أن هذا ليس بأكل؛ فإن الأكل إنما يجري فيما يمضغ ويردّد ويزدرد. ومن أصحابنا من قال: هو أكل، وهذا متجه؛ فإن الذي فعل ما وصفناه لا يقال: شرب السكر، ولو مضغ وازدرد الرضاض، فهو آكل، وإن مضغ حتى انماع بمضغه، ففيه الخلاف، والحنث هاهنا أولى لجريان المضغ.

_ (1) الإهالة (بالكسر): الشحم، والزيت، وكل ما يؤتدم به (المعجم). (2) في الأصل: تحصيل، والمثبت من تصرف المحقق، على ضوء المعهود من عبارات الإمام. والحمد لله فقد صدقتنا (ق).

ولو قال: لا آكل العنب والرمان، فاحتوى بفيه على المحلوف عليه ولم يزدرد من الثُّفْلِ شيئاً، فقد قال القاضي: لا يحنث، وفيه الاحتمال الذي ذكرته، في انمياع السكر والفانيذ؛ فإن من كان يمجّ الثُّفْلَ يسمى آكلاً للرمان والعنب، والمتبع في الأيمان خاصةً العرفُ والإطلاقُ [لا] (1) حقاًئقُ الصور. نعم، لو جمع ماء الرمان والعصير وشربهما، فليس أكلاً، ولو قال قائل: ليس المصّ شرباً، ولا آكلاً، كما أن الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، لكان ذلك قولاً، ولم يصر إليه أحد فيما أظنه. 11811 - وفيما قدمته من المسائل دقيقة، يجب التنبيه لها، وهي أن من قال: لا آكل، فالحنث يحصل بالقليل والكثير، وإذا كان كذلك، فالمقدار الذي يتجرعه الذائق، لم [يخرج] (2) عن الأكل والشرب مع قول الأصحاب؛ فإن الحنث يحصل بالقليل حصولَه بالكثير، وإذا جمع الجامع بين هذا وبين ما ذكره الأصحاب من أن ما يحصل به الذوق ليس حنثاً في الأكل، ولا في الشرب، تنشّأ (3) له بعد هذا التنبيه مسلكان: أحدهما - أن المقدار الذي هو على حد الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، وإنما يحصل الأكل والشرب بعد ذلك. ثم ينقسم إلى القلة والكثرة. والمسلك الثاني - أن يقال: الزائد على حد الذوق لا يعتبر فيه القصد، وهو أكل أو شرب، والقدر الذي يحصل الذوق به قد يختلف الأمر فيه بالقصد؛ فإن قصد الأكل ولم يَبغْ درك طعمه، فهو آكل أو شارب، وإن قصد به درك الطعم، فهو ذائق، وليس بآكل ولا شارب. فهذا هو الممكن عندنا في ذلك. فصل قال: " ولو حلف لا يأكل سمناً، فأكله بالخبز ... إلى آخره " (4). 11812 - إذا حلف لا يأكل سمناً، وكان ذائباً فتحسّاه، لم يحنث، لأنه شرب

_ (1) في الأصل: " إلا ". وقد صدقتنا (ق). (2) في الأصل: " خرج ". (3) تنشأ لحاجته: إذا نهض ومشى لها (المعجم) والمعنى هنا ظهر له بعد هذا التنبيه مسلكان. (4) ر. المختصر: 5/ 236.

وما أكل، وإن كان جامداً، فأكله على جموده، فهو آكل، ولا يشترط في اسم الأكل المضغُ والترديد، بل لو بلعه على جموده فهو أكل. ولو قال: لا آكل السمن، فأكله في العصيدة [أو] (1) الفالوذ، فهذا يستدعي تمهيدَ أصل يتضح به ما انتهينا إليه وأمثالِه، فنقول: من عقد اليمين على جنسٍ، فاختلط ذلك الجنس بغيره؛ فهذا يفرض على وجوه: أحدها - أن يختلط اختلاطاًً يصير مستهلكاً بحيث لا يظهر أثره في الحسّ، فإن كان كذلك، فلا يحصل الحنث، فإذا قال: لا آكل السمن، فاستعمل السمن في الدقيق والماء، وكان يُعَصِّد ويُلوي على النار، حتى لم يبق جرم السمن محسوساً، ولم يبق له أثر مدرك، فالحكم ما ذكرناه. ولو بقي أثره كالطَّعم واللون، ولكن استجد ذلك المختلط اسماً، وكان لا يفرد أركانه المختلطة بالاسم، ففي حصول الحنث وجهان، إذا كان يتحقق الأكل فيه، والحلف على الأكل، أو كان يتحقق الشرب فيه، والحلف على الشرب. ولو كان ما حلف عليه ممتازاً في الحسّ، كالسمن الممتاز عن العصيد، فإذا أكل العصيد والسمن معه، فالمذهب أنه يحنث. وحكى العراقيون عن الإصطخري أنه قال: لا يحنث؛ لأن الأكل إذا أضيف في صيغة اليمين إلى جنس، اقتضى إفرادَه بالأكل، وهذا ضعيف مردود عليه. ونقل القاضي والعراقيون عنه أنه لو حلف لا يأكل السمن، فأكله مع الخبز لا يحنث، وهذا على نهاية البعد، فإن السمن لا يؤكل إلا كذلك، ولا يُتَعاطى وحده فيُبلع، وقوله في أكل السمن بالخبز أبعدُ من قوله في أكل العصيد مع السمن الظاهر. ولو قال: والله لا آكل الخل، وكان يروغ اللقمة فيه، فهذا أكلٌ، وإن كان الخل مائعاً في نفسه، ولكن إذا تشربه الخبز تناوله اسمُ الأكل. ولو حلف لا يأكل الخل، فاتخذ منه مرقة وأكلها بالخبز، فقد نص الشافعي أنه لا يحنث في يمينه، وأطلق ذلك. ولم يفصّله، فصار معظم الأصحاب إلى أنه إن كان

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

طعمه ظاهراً في المرقة، فالحنث يحصل، قال صاحب التقريب: من أصحابنا من يجري على ظاهر النص، ويقول: لا يحنَث؛ لأن الاسم قد تغير باتخاذ المرقة، فلا يقال لمن أكل السّكباج (1): [إنه أكل] (2) الخل، بخلاف السمن المتميز الحائر على العصيد، وهذا ذكره صاحب التقريب وزيّفه، وفي المسألة احتمال على حال. فصل قال: " ولو حلف لا يأكل لحماًً، فأكل شحماً ... إلى آخره " (3). 11813 - إذا حلف لا يأكل لحماً، لم يحنث بأكل الشحم، نعني ما على الثِّرب، والمِعَى، والكُلى، ولا نعني سَمن اللحم. ولو حلف لا يأكل الشحم، لم يحنث بأكل اللحم الأحمر، ولو حلف لا يأكل اللحم، فأكل الأَلْية؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحنث، كما لا يحنث بأكل الشحم؛ فإن الألية تتميز عن اللحم تميّز الشحم. ولو قال: لا آكل الشحم، فأكل سَمْن اللحم، وهو ما يعلو اللحم الأحمر، وقد يوجد في خلله أيضاً، فهذا يستدعي بيانَ مقدمة: فإذا قال: لا آكل الشحم، هل يحنَث بأكل سمن اللحم؟ ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهين: أحدهما - أنه يحنث؛ فإنهما يقربان صورة وطعماً. والثاني -وهو الأصح- أنه لا يحنث؛ فإن اسم [الشحم] (4) لا ينطلق عليه عرفاً. ثم قال الشيخ: من أدرجَه تحت اسم الشحم يقول: لو قال: لا آكل اللحم، لم يحنث بأكل السمن. وهذا بعيد. وحكى الشيخ عن أبي زيد المروزي أنه قال: إن قال ذلك عربي، فالسمن في حقه شحم، وإن قاله أعجمي، فهو لحم، ثم لا يخفى التفصيل إذا اختلف عُرف أهل

_ (1) السكباج: بكسر السين لا غير: طعامٌ يعمل من اللحم والخل، مع توابل وأفاويه، أعجمي معرب (المعجم والمصباح). (2) زيادة من المحقق. (3) ر. المختصر: 5/ 236. (4) في الأصل: " اللحم ". والمثبت تقدير منا، وجاءت (ق) مثل الأصل.

اللسان، وأصحاب القرى والبلاد، وهذا فيه إذا استعمل القروي لغة العرب. فأما إذا عقد اليمين على الاسم الأعجمي للشحم، فقال: " بيه نخورم "، فهذا لا يتناول سمن اللحم. والأصحُّ من بين ذلك أن سمن اللحم جزء من اللحم، لا يتناوله اسم الشحم، فيرجع الخلاف إلى الأَلْية بالإضافة إلى اللحم، ولا تكون الألية شحماً على الطريقة المرضية. وسنام البعير فيه بمثابة الألية من الشاة، وليس كالشحم. ولو حلف لا يأكل لحماًً، فالمذهب أنه لا يحنث بأكل الكرش والأمعاء والكبد والطِّحال والرئة؛ فإن شيئاً من ذلك لا يسمى لحماً. وحكى الشيخ أبو علي عن الشيخ أبي زيد أنه حكى في هذه الأشياء كلِّها قولين عن ابن سريج: أحدهما - أنها بجملتها تُعدّ في حكم اللحم. وهذا غريب جداً، لم يحكه غيرُ الشيخ، ولم يتعرض في هذه الطريقة للشحم. وقد وجدت اتفاق الأصحاب على أن اللحم لا يتناول الشحم. وإذا حلف على اللحم وجرينا على ما هو المذهب في إخراج الأصناف التي ذكرناها عن اسم اللحم، فالحالف على اللحم هل يحنث بأكل القلب؟ فيه وجهان: أحدهما -وهو الذي ذكره الصيدلاني- أنه يحنث؛ فإن القلب لحم. والثاني -وهو الذي قطع به العراقيون- أنه لا يحنث بأكل القلب، كما لا يحنث بأكل الكبد؛ فإنه لا يسمى لحماًً، والمسألة محتملة، والكُلية عندي في معنى القلب، وقد قدمنا أن الكبد خارج عن اسم اللحم. 11814 - ولو حلف لا يأكل اللبن، حَنِث بالرايب، وإن صار قارصاً؛ فإن العرب تسميه لبناً تحقيقاً. ولو حلف على اللبن، فأكل الزُّبْد، فإنه لا يحنث على المذهب، وذهب بعض الأصحاب إلى أنه يحنث؛ لما في الزُّبد من الرغوة، وهذا ليس بشيء؛ فإن المتبع الاسم، كما قدمناه، ولو حلف على اللبن، لم يحنث بالسمن، ولو قال: لا آكل زُبداً، أو لا آكل سمناً، فأكل اللبن، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين، وهذا ليس بشيء، والوجه القطع بأنه لا يحنث.

ولو ذكر اللبن ثم تعاطى المَخيض الذي انتزع السمن منه، ففي المسألة وجهان، وسبب الخلاف أن العرب في بلادها تسمي المخيض لبناً، وتسمي اللبن -قبل أن يُمْخَضَ- الحليبَ، والصريف. ولو حلف لا يأكل الزُّبد، لم يحنث بالسمن، ولو حلف لا يأكل السمن، فالمذهب أنه لا يحنث بالزبد، وفيه وجه غير معتد به، ولو حلف لا يأكل السمن، لم يحنث بالأدهان. ولو عقد اليمين على الدّهن، فهل يحنث بالسمن؟ تردد فيه جواب القاضي، والمختار عندنا أنه لا يحنث. وإن قال بالفارسية: " روغن " تناول السمن والأدهان. 11815 - وإن حلف على الجوز [قال القاضي] (1) يحنث بجوزنا، ويحنث بالجوز الهندي، وإذا حلف على التمر، لم يحنث بالتمر الهندي- هكذا قال، وهو حسن؛ فإن اسم التمر لا يطلق فيه ما لم يضف إلى الهند، ولهذا اتجاه في الجوز الهندي أيضاً، ولكنه في التمر الهندي أظهر. والعرب لا تسمي التمر الهندي تمراً، وإنما تسميه [الحُمَر] (2)، فإن عورضنا بتسمية الجوز الهندي الرانج، فالعرب لا تعرف ذلك، وأنا أراه اسماً معرباً؛ وليس في الأبنية الأصلية ما يتركب من الراء والنون والجيم. ومما ذكره القاضي أنه إذا حلف لا يأكل لحم البقر، حَنِث بأكل بقر الوحش. ولو قال: لا أركب حماراً، فركب حمار الوحش، ذكر القاضي فيه تردداً، وليس يبعد إجراء هذا التردد في بقر الوحش. ثم قال: " ولو كتب إليه كتاباً أو أرسل إليه رسولاً ... إلى آخره " (3). 11816 - إذا حلف لا يكلم فلاناً، فرمز رمزاً مُفهماً، وأشار إشارة مفيدة، فقد ذكر الأصحاب في تحنيثه قولين: أحدهما -وهو المنصوص عليه في القديم- أنه

_ (1) زيادة من (ق). (2) في الأصل: " الجمر ". والتصويب من المعجم الوسيط. (3) ر. المختصر: 5/ 236.

يحنَث؛ لأن هذا كلامُ قومٍ، والعبارات دلالات كالإشارات، واحتج على ذلك باستثناء الرمز من الكلام في قوله تعالى في قصة زكريا عليه السلام. والقول الجديد أنه لا يحنث بالرمز؛ فإنه لا يسمى كلاماً، ومن فرّع مسائل الأيْمان على غير اتباع الاسم والعرف، فهو حائد عن وضع الكتاب، وإذا فرّعنا على الجديد، [فقد يتردد الفطن] (1) في إشارات الخُرس؛ من جهة أنا نقيم إشاراتهم مقام عبارات الناطقين، فيما يفتقر إلى النطق، وهذا مما [حذرت] (2) منه الآن؛ فإنه تمسك بالأحكام التي قد تبنى على الضرورات ومسيس الحاجات. والوجه القطع بأن الخرس إذا ترامزوا، لم يكن ذلك منهم كلاماًً، فإنما إشاراتهم خَلَفٌ عن العبارات، وعلى هذا إذا أشار الأخرس في الصلاة، فمن جعل الإشارة كلاماًً وحنَّث بها، فلا يبعد أن يقضي ببطلان صلاة الأخرس إذا باع في الصلاة، أو طلّق بالإشارة. والكتابةُ في جميع ما ذكرناه في معنى الإشارة؛ فإنها وإن كانت تُفهم، فليست كلاماًً، فيجري فيها القولان والتفصيل. وقال الأصحاب: المهاجرة التي حرّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين -وهي قطع المكالمة- لا تزول بالمكاتبة. ولو حلف ليهاجرن فلاناً، ثم كتب إليه، لم يحنث وفاقاً، وهذا بيّن للمتأمل. وإذا رمز إلى صاحبه، ففي قطع المهاجرة بالرمز تردد عندنا، والعلم عند الله. فإن قيل: من ألحق الكتابة بالكلام، كيف لا يقطع المهاجرةَ بها؟ قلنا: رب شيء يكون كلاماً، فلا يقطع المهاجرة، كالشتم والسب، وكل ما يوغر القلب بشيء من ذلك لا يقطع المهاجرة، وإن كان كلاماًً، ولو قال: لا أكلم فلاناً، فزجره على إثر اليمين، كان ذلك مكالمة مُحْنِثة. وقال أبو حنيفة (3) رضي الله عنه: إن اتصل الزجر

_ (1) في الأصل: " فهو تردد النظر ". والمثبت من (ق). (2) في الأصل: " صدرت " والمثبث من (ق). والمعنى أنه حذر من الحيد عن وضع الكتاب بأخذ أحكام الأيمان من غير اتباع الاسم والعرف، فقد أخذها من أحكام الضرورات. (3) لم نصل إلى قول أبي حنيفة في كتب الأحناف.

بالحلف، لم يقع الحِنث به، وإن انفصل عنه، حَنِث. ولو قال: لا أتكلم، فقرأ القرآن، أو سبّح، وهلّل، فقد قال الأصحاب: لا يحنث- وهذا ظاهر في قراءة القرآن، ولو قال: لا أتكلم، فأخذ يردد شعراً، كان ذلك كلاماً، ومذهب أبي حنيفة (1) رضي الله عنه أنه يحنث بالتسبيح والتهليل، وفيه احتمال، أخذاً مما ذكرناه من إنشاد الشعر وما في معناه. فصل قال: " ولو حلف لا يرى منكراً إلا رفعه إلى القاضي ... إلى آخره " (2). 11817 - إذا قال لا أرى منكراً إلا رفعته إلى فلان القاضي، فإذا رأى منكراً وأراد البر، فليرفعه إليه إذا تمكن، وإن أخر الرفع، ثم رفع إلى من عَيَّنَ مع اطراد الولاية، برّ في يمينه؛ فإنه ليس في لفظه ما يتضمن [تعقيب] (3) رؤية المنكر بالرفع، ولو تمكن من الرفع، ولم يرفع إلى من عَيَّنَ حتى مات [ذلك الشخص، يحنث حينئذٍ. ولو رأى المنكر ولم يتمكن من الرفع حتى مات] (4)، فقولان. ولو رأى وابتدر الرفع غير مؤخِّرٍ، فمات القاضي قبل انتهاء الرفع إليه، ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بأنه لا يحنث، ومن أحاط بما جمعناه في فصل الإكراه والنسيان، وذكرناه في ترتيب المسائل بعضِها على البعض، لم يخف عليه أمثالُ ما نحن فيه. ولو عُزل القاضي ورأى منكراً بعد عزله، فهل يتعلق البر برفعه إليه بعد العزل؟ إن كانت له نية في تخصيص الرفع بحالة القضاء أو في تعميم الرفع في الأحوال، فلا

_ (1) ر. المبسوط: 9/ 22، حاشية ابن عابدين: 3/ 104. (2) ر. المختصر: 5/ 236. (3) زيادة من المحقق، استئناساً بلفظ الغزالي في البسيط، حيث قال: " ... فإن أخره مع التمكن يوماً ثم رفعه، فقد حصل البر، إذ ليس في لفظه ما يوجب التعقيب " (البسيط: 6/ ورقة: 79 شمال). وقد صدقتنا (ق). (4) زيادة من نسخة (ق).

خلاف أن نيته متبعة. وإن كان لفظه مطلقاً، ففي المسألة قولان مأخوذان من تمييل (1) الشافعي قوله، فإنه قال: " إذا لم يكن له نية، خشيت أن يحنث "، يعني إذا لم يرفع بعد العزل، وهذا الاختلاف مأخوذ من الإشارة والوصف في قول القائل: [لا آكل] (2) لحم هذه السخلة، فإذا كبرت، ففي الأكل من لحمها الكلامُ المقدم. فإذا قال: إلى فلان القاضي، فتسميته بمثابة الإشارة، والقضاءُ وصفه. ولو قال: لا أرى منكراً إلا رفعته إلى قاضٍ، لم يتعين عليه قاضٍ، ولا أثر لموت من مات، وفوت من فات، ولو قال: لا أرى منكراً إلا رفعته إلى القاضي، فهل يتعين لهذا الشأن القاضي الذي في البلد وقتَ التلفظ؟ فعلى وجهين مذكورين في بعض التصانيف. وفي المسألة احتمال إذا كان اللفظ مطلقاً؛ من جهة اقتضاء الألف واللام التعريف، والتعريف يتردد بين صاحب الأمر المنتصب في المكان والزمان، وبين الجنس، وهذا أغلب وأوقع. وهو كقول القائل: القاضي لا يداهن، ولا يفضل خصماً على خصم، فليس المراد بهذا معيناً. ولكن المراد الكلام على جنس القضاة، ولو قال: " إلى فلان القاضي "، فعُزل، رأينا أن الرفع إليه بعد العزل لا يدخل تحت مطلق اليمين. فلو كان رأى منكراً في حالة قضائه، ولم يرفعه حتى عزل، فلو وُلّي بعد العزل، رفعه إليه؛ فإن الشخص [ذاتُ] (3) الشخص، والولاية محققة، على هذا إذا عُزل لا نقطع بالحنث، ونحن ننتظر أن يولَّى مرة ثانية. وإن قال: [أرفعه] (4) إلى القاضي، فلو مرّ القاضي بمنكر وعاينه، فهل يرفعه إليه؟ نُظر: فإن كان مع القاضي، فيبعد أن يقال: يرفعه إليه؛ فإنهما مشتركان في الاطلاع على المنكر، ولو رآه القاضي وحده، أو رفع إليه لا من جهة الحالف، فهل

_ (1) تمييل: أي عدم قطع؛ فإنه قال: " خشيت " وفي (ق) تمثيل. (2) في الأصل: " لا أكلم ". (3) في الأصل: " ذلك ". والمثبت من تصرف المحقق. (4) في الأصل: " ارفعوا ". وصدقتنا (ق).

يرفعه الحالف؟ فيه تردد للأصحاب: منهم من قال: يرفعه للبرّ. ومنهم من قال: لا معنى لرفعه؛ فإن معنى الرفع إعلامُه بما ليس عالماً به، ثم إن قلنا: يرفعه، فلا كلام، وبرّه في الرفع، وإن قلنا: لا ينفع رفعُه، فهذا مما تعذر البرّ فيه، فكأنه كما لو قال: لأشربنّ ماء هذه الإداوة، ولا ماء فيها. فصل قال: " ولو حلف ما له مالٌ ... إلى آخره " (1). 11818 - إذا حلف على المال انصرف إلى كل ما يتمول، ويتهيأ للتصرفات التي تستدعي الملك، وهل ينصرف لفظ المال إلى أمهات الأولاد والمكاتبين -واللفظ مطلق- فعلى ثلاثة أوجه: وجهان عامّان في النفي والإثبات. والثالث - أن المكاتب لا يدخل؛ لاستقلاله، وأم الولد تدخل، والمدبر عبد يعتق كسائر العبيد، وما ذكرناه في كتاب السرقة من سرقة أمهات الأولاد يدنو مما نحن فيه، وإن كان معتمدُ اليمين الاسمَ، وحكم المالية في السرقة معتبرٌ على نسق آخر. وأجمع الأصحاب في الطرق أن المنافع لا تندرج تحت مطلق اسم المال، فلو كان لا يملك إلا منافعَ بقعة استأجرها، فهي خارجة عن اسم المال، إلا أن تُعنى وتُنوى، [و] (2) إذا كان للحالف على المال شيءٌ موقوف عليه، فإن قلنا: لا يملك الموقوف عليه رقبةَ الوقف، فلا حِنث إذا قال [ما قال] (3). وإذا قلنا: الموقوف مِلكُ الموقوف عليه، فهذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه في أمهات الأولاد. والديون أموال وإن كانت على معسرين أو مماطلين، وهي بمثابة العبد الآبق، ولم يختلف الأصحاب في الآبق، وإن ترددوا في المكاتب، والعَوْد إلى الرق في المكاتب منتظر، حسب انتظار إياب الآبق. وردّد بعض الأصحاب الجواب في الدين المؤجل أخذاً من إبعاد بعض الناس في أن

_ (1) ر. المختصر: 5/ 237. (2) الواو زيادة اقتضاها السياق، وهي موجودة في (ق). (3) في الأصل: " إذا قال ما لو قال ".

الدين المؤجل هل يكون مملوكاً؟ وهذا هوس لا يعتدّ به. وكيف لا يكون المؤجل مملوكاً، وهو يثبت عوضاً في البيع مع استحالة تعرّيه عن العوض المملوك. ثم لا يختص المال عندنا بأموال الزكاة، ولْتدخل تحته جميع الأصناف، حتى الثياب التي على الحالف، وقال أبو حنيفة (1) رضي الله عنه: المال في اليمين محمول على الأموال الزكاتية، وربما يقول: إنه محمول على الدراهم والدنانير. فصل قال: " ولو حلف ليضربن عبده مائة سوط ... إلى آخره " (2). 11819 - إذا قال لعبده: " إن لم أضربك مائة سوط فأنت حرّ " فكيف الحكم فيه؟ هذا الفصل خارج عن قياس الكتاب بعضَ الخروج على ما سننبّه عليه في أثناء الكلام، فإذا حلف ليضربنه مائة خشبة، فيبرّ في يمينه بأن يضربه بشمراخ عليه مائة من القضبان، وإن كانت دِقاقاً، وهذا متفق عليه، والأصل المعتمد قوله تعالى في قصة أيوب عليه السلام- وكان حلف ليضربن امرأته مائة خشبة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]. واتفق العلماء على أن هذا معمول به في ملّتنا، والسبب فيه أن الملل لا تختلف في موجب الألفاظ، وفيما يقع برّاً وحنثاً، ثم تأكد ذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في المخدَج الذي خَبَث بامرأة؛ فإنه قال: " خذوا عثكالاً عليه مائة شمراخ، فاضربوه به " (3)، ولا يكاد يخفى أنا كنا لا نطلق القول على هذا الوجه لولا ما ثبت من التوقيف فيه، ولو لم نجد إلا حديث المُخْدَج، لما بنينا عليه أمر اليمين، فقد تأكد الغرض بقصة أيوب، كما ذكرناها. ثم إذا كان قال: لأضربن مائة خشبة، فالوضع لا يكفي، فإنه لا يسمى ضرباً،

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 307، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 255 مسألة: 1361. (2) ر. المختصر: 5/ 236. (3) سبق في حد الزنى.

ولا يشترط ضرباً يؤلم مثله ألماً [محتفلاً] (1) به، بل يكفي ما يسمى ضرباً. ثم إذا تحقق اسم الضرب، فلا بد من أدنى أثر، وإن كان محتملاً، ثم إن كانت القضبان منبسطة [فلاقت] (2) بجملتها الجلد إذا وقع الضرب بها، فقد حصل البرّ، وإن لقي البشرةَ بعضُها، ولم يتكابس الباقي عليها بحيث تثقل التي لاقت البشرة، فلا يحصل البِرُّ، وإذا تكابست القضبان العالية على التي لاقت البشرة، وثقَّلتها بعضَ التثقيل، ففيه خلاف مشهور بين الأصحاب: فذهب بعضهم إلى أن البِرَّ لا يحصل، لأن أدنى درجات الضرب أن [تلقى] (3) الآلةُ المضروبَ. وقال آخرون: يكفي التكابس، والتثقيل، وهذا القائل يستشهد بقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} والغالب أن قضبان الضِّغث لا تنبسط، فجريان الاكتفاء في الضرب بالضغث يدل دلالة ظاهرة على أن المماسّة في الجميع ليست شرطاً. ومما يجب التنبه له أنا أجرينا في أثناء الكلام ذكر مماسّة القضبان البشرة، ولم نعن بها حقيقة المماسّة، ولكن لو صادف الضربُ المضروبَ وبين القضبان والبشرة قميص أو ما في معناه، فالضرب يحصل على شرط أن [لا يمنع] (4) الحائل تأثر البشرة، وإن لم يعظم [أثره] (5). ومن حلف ليضربن رجلاً، فلا يشترط أن ينال موضعاً بارزاً منه، ولكن لو ضرب المحلوفَ عليه بيده أو بآلة، وتأثر المضروب، كفى ذلك، وإن كان بينه وبين ما يقع الضرب به حائل. 11820 - وإذا اكتفينا في مسألة الشمراخ بأن يَلْقَى البدنَ بعضُ القضبان، وينكبس البعض على ما لقي المضروب انكباس تثقيل، فوقع الضرب، وأشكل الأمر، فلم ندر أحصل الانكباس أم لا؟ وإن شرطنا المماسّة، لم ندر أحصل المماسةُ أم لا؟ فالذي

_ (1) في الأصل: " مختلفاً به ". وقد وافقتنا (ق) والحمد لله. (2) في الأصل: " فماتت ". (3) في الأصل: " لقى ". (4) في الأصل: " يمتنع ". وأيدتنا (ق). (5) زيادة من (ق).

نص عليه الشافعي (1) هاهنا أنه لا يحنث، ونص في مسائل الاستثناء على أنه لو قال: لا أدخل الدار إلا أن يشاء زيد، فمات زيد ولم يدر أشاء أم لا؟ وكان دخل الحالف: قال الشافعي: يحنث. واختلف أصحابنا على طريقين: منهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج والجامعُ الإشكال. ومنهم من أجرى النصين، وفرّق، فقال: إذا حصل الضرب، فالغالب الانكباس إن اكتفينا به، فوجدنا لوقوع المقصود أصلاً نتخذه مستنداً للظن، والتعويل في مسألة المشيئة على أن يشاء زيد، ولم يتحقق أنه شاء أم لم يشأ؟ والأصل عدم المشيئة، ولا مستند لما نظنُّ، [أما] (2) مسألة المشيئة، فقد استقصيناها في موضعها من كتاب الطلاق، وذكرنا حقيقتها. وأما هذه المسألة، فالنص فيها، [يقتضي] (3) أنا نبني الأمر على حصول المقصود، فالوجه عندنا أن يقع الضرب على حالة يغلب على الظن حصولُ المطلوب فيها، فلو لم يغلب على الظن، فيبعد اعتقاد البِرّ من غير ظن. ثم من جرى على النص، ولم يذكر قولاً آخر، لم يتوجه ما قاله بإسناد المقصود إلى ظاهر الضرب، وإنما يتوجه بظاهر كتاب الله تعالى إذا (4) قال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، فأثبت الضرب، ونفى الحنث؛ والمسألة مبنية على طرفٍ صالح من التخفيف والرخصة. وإذا كان المعتمد في ذلك الكتاب، فينبغي أن يقع الاقتصار على ما يُشعر به ظاهر الكتاب، فأما تعليل ذلك بالظن مع القطع بأن البر لا يتحصل في قياس الباب إلا بالقطع، فلا وجه له. فإن قيل: إن كان كذلك فلم اشترطتم غلبة الظن؟ قلنا: لا أقل منها، والضغث إذا تحقق الضرب به وقضبانه لدنة لينة المَهْصَر والمِعْطف، فيغلب على الظن -إذا كان ما جاء به الحالف ضرباً، ولم يكن إمساساً محضاً- أن المقصود يحصل إذا كانت الآلة

_ (1) ر. المختصر: 5/ 237. (2) في الأصل: " أنها ". (3) زيادة من (ق). (4) إذا: بمعنى إذ. وجاءت (ق) بـ (إذ).

مُتهيِّئة لما ذكرناه، [وكل] (1) هذا، ولفظ الحالف لأضربنه مائة خشبة. 11821 - فأما إذا قال: لأضربنه مائة سوط، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه لا يكفي -واللفظ ما ذكرناه- الشمراخ ذو القضبان الضعاف، فإنه لا يسمى سياطاً، وهذا بيّن. وذكر شيخي وجهاً آخر أن لفظ السياط ولفظ الخشبات لا يختلف، فإن السوط منه دقيقٌ ومنه متوسط، والباب مبني على التخفيف كما ذكرناه، وليس في معتمد الباب - وهو ظاهر الكتاب- ما يُشعر بالفصل بين لفظ الخشب والسوط. فإن اكتفينا بالشمراخ، فذاك، وإن لم نكتف واشترطنا ما يسمى سوطاً، فلو جمع مائة سوط، وضرب بها دفعة واحدة، كان هذا بمثابة الضرب بالشمراخ، حيث يكون اللفظ الخشبة، ثم يعود التفصيل في أنا هل نشترط الإمساس في جميع السياط -على ما فسّرناه- أم نكتفي بمماسة البعض وانكباس البعض على وجه يثقل؟ وكل هذا إذا قال: مائة خشبة، أو مائة سوط. 11822 - فلو قال: لأضربنه مائة ضربة، فقد قال الأصحاب: لا بد من الضربات المتوالية؛ فإن الرجل اعتنى بإضافة العدد إلى الضرب، فلتقع الضربات على الاعتياد فيها متوالية: الضربة بعد الضربة، حتى تنتجز الضربات المذكورة. وذكر العراقيون وجهين - حيث انتهى الكلام إليه: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه لو أوقع الضربات بالسياط معاً كفى. ثم كيف فرض الأمر، فلا يشترط الإبلاغ حتى يحصل الألم الناجع، ولا بد من أدنى أثر، وإن كان محتملاً حتى يتميز الضرب عن الإمساس المحض والوضع. ولو قال: لأضربن ضرباً شديداً، فلا بد من الإيلام الناجع، ثم لا حد يقف عنده في تحصيل البِرِّ، والرجوعُ إلى ما يسمى شديداً [في العرف] (2)، وهذا يختلف لا محالة باختلاف حال المضروب، والله أعلم. وهذا نجاز مقصود الفصل.

_ (1) في الأصل: " ولكل ". (2) زيادة من المحقق.

فصل قال: " ولو حلف لا يهب له هبة، فتصدق ... إلى آخره " (1). 11823 - إذا حلف على الهبة حنث بالرُّقبى والعُمْرى والنِّحلة والتصدق، وإن كان التصدق يمتاز عن الهبة التي ليست تصدقاً، ولكن لفظ الهبة يتناول التصدق في أصل اللسان. ولا يحنَثُ الحالف على الهبة بالعارية؛ لأنها ليست تمليكاً. وإن وقف على الشخص المذكور، ابتنى هذا على أن الوقف هل يتضمن تمليك الموقوف عليه رقبةَ الموقوف؟ فإن قلنا: لا يملك الموقوف عليه الرقبة، لم يحصل الحنث بالوقف، وإن قلنا: يملك الموقوف عليه رقبةَ الموقوف، فيقع الحنث بالوقف. وهذا فيه احتمال عندي ظاهر؛ من جهة أن الوقف (2) لا يسمى هبة في وضع اللسان وعرُفه، وإن تردد الفقهاء في أنه هل يقتضي تمليكاً أم لا؟ والمعتمد في الأيْمان العرف واللسان، فيجب (3) تخريج خلاف على قولنا يملك الموقوفُ عليه رقبةَ الوقف، وليس الوقف كالرقبى والعمرى؛ فإنها من الهبات تحقيقاً، وإن أُفردا بلقبين، وسبيلهما كسبيل اختصاص [ثمرة] (4) التفاح باسمها، وهذا لا يخرجها عن تناول اسم الثمار لها (5). والله أعلم.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 237. (2) في الأصل: " الواقف ". (3) المعنى أننا إذا قلنا: الموقوفُ عليه لا يملك رقبةَ العين الموقوفة، فلا يحنث قولاً واحداً. وأما على قولنا: بملك العين الموقوفة فيجب تخريج قولٍ آخر بعدم الحنث؛ لأن الوقف ليس هبة في وضع اللسان وعرفه. (4) زيادة من المحقق على ضوء السياق. (5) المعنى: أن الرقبى والعمرى من جنس الهبات، فلفظ الهبة يشملهما، كما أن لفظ الثمار يشمل التفاح، وإن أفرد باسم خاص.

وإذا حلف لا يهب، فوهب وقبِل المتهب، فهل يتوقف الحنث على الإقباض؟ اختلف أصحابنا فيه على ما حكاه القاضي: فقال بعضهم: يحنث؛ لأن اسم الهبة يتم بهذا القدر، وقال آخرون: لا حقيقة للهبة حتى يتصل بها القبض؛ لأن القبض هو الركن، وبه حصول المقصود، والألفاظ تعنى لمقاصدها. وقد ذكر العراقيون الخلاف على وجه آخر، فقالوا: إذا حصلت الهبة والقبول، فالذي جرى هبة في حكم الحنث والبر، بلا خلاف، وإنما التردد فيه إذا قال الحالف وهبت، فهل نقول: يحصل الحنث بمجرد قول الواهب قبل القبول؟ قالوا المذهب أن هذا ليس بهبة، وحكَوْا عن ابن سريج وجهاً أنه إذا قال: لا أهب، ثم وهب، حصل الحنث، وإن لم يقبل المتهب، مصيراً إلى أن الإنسان قد يخبر عما جرى، ويقول: وهبت لفلان، فلم يقبل مني، ولا شك أنهم يطردون هذا الخلاف في البيع وغيره من العقود المشتملة على الإيجاب والقبول. ولو قال: لا أهب، ثم أضاف الشخص المذكور، وقدم إليه الطعام؛ فإن لم يأكله، فلا حنث، وإن أكله، فهذا يخرج على أن الضيف هل يملك ما يأكله؟ إن قلنا: إنه لا يملكه، فالذي جرى ليس بهبة، وإن قلنا: إنه يملك، ففيه تردد واحتمال، من جهة حصول الملك من وجه، وبُعد ما جرى عن اسم الهبة من وجه، والوجهُ القطع بأن الحنث لا يحصل. 11824 - ولو كان المحلوف عليه التصدق مثل أن يقول: لا أتصدق، فلو وهب، ولم يقصد التصدق الذي يقع التقرب به، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يحنث؛ لأن الهبة لا تسمى صدقة، وإن كانت الصدقة تسمى هبة. ومن أصحابنا من قال: يحنث بالهبة؛ فإنها تمليك من غير عوض، وهي في الاسم قريبة المأخذ بالإضافة إلى الصدقة، وهذا لا وجه له، والوجه ألا يحنث بالهبة إذا كان المحلوف عليه الصدقة. واختار القاضي التحنيث بالهبة مصيراً إلى أن الهبة لا تخلو عن ثواب كالصدقة، وهذا الاختيار لا يليق بمنصبه مع القطع بتحليل الهبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريم الصدقة عليه.

11825 - ثم قال: " ولو حلف لا يركب دابة العبد ... إلى آخره " (1). إذا حلف لا يركب دابة العبد، وقلنا: يملك العبد بالتمليك، وكان ملّكه سيّده دابة، فيحصل الحنث بركوبها؛ فإن الإضافة متحققة، كما ذكرناها. وإن قلنا: لا يملك العبد بالتمليك، وكانت الدابة مختصة بالعبد، والعبدُ مختصٌّ بها، فالمذهب أن الحِنث لا يحصل بركوبها. ولا يخفى أن ذلك في اللفظ المطلق. فلو أراد الحالف بالإضافة التي ذكرناها إضافة الاختصاص، فلفظه منزل على نيته، وقد أكثرنا ترديد ذلك في المسائل، وغرضنا أن يقف الناظر على أن مسائل الأيمان مفروضة في الإطلاق، وإنما حكمنا بأن الحنث لا يحصل إذا كان اللفظ مطلقاً، من جهة أن الملك يتوقع لذلك الشخص على الجملة، إما بتقدير أن يَعْتِق، وإما بتقدير أن يكاتَب، وإذا كان كذلك، توقف حصول الحنث على الملك المنتظر. ولو قال: لا أركب سرج هذه الدابة أو لا أبيع جُلّها، وكان ما ذكره مضافاً إلى الدابة عن اعتيادٍ غالب وتخصيصٍ جارٍ، فيحصل الحنث إذا كان اللفظ مطلقاً؛ فإن الملك إذا لم يكن متصوراً، فالإضافة محمولة على الاختصاص الجاري. وهذا مستبين. فصل معقود فيما يسمى يمين اللجاج والغضب، ويسمى يمين الغَلَق (2) 11826 - وتصويره يستدعي ذكر تقاسيم: فما يلتزمه المرء ينقسم إلى ما يكون نذراً، وإلى ما لا يكون نذراً. والنذر ينقسم إلى ما يكون على طريق التبرّر والنُّسُك، وهو المعلّق بشرط، والالتزام معه في حكم

_ (1) ر. المختصر: 5/ 237. (2) يمين الغَلَق: أي يمين الغضب، قال بعض الفقهاء: سميت بذلك، لأن صاحبها أغلق على نفسه باباً في إقدام أو إحجام، وكأن ذلك مشبه بغلق الباب إذا أغلق، فإنه يمنع الداخل من الخروج، والخارج من الدخول، فلا يفتح إلا بالمفتاح، وغَلَقُ الباب جمعه أغلاق مثل سبب وأسباب (المصباح) وسيأتي قريباً شرح الإمام لهذا اللفظ.

الاستسعاف بالطّلِبة، أو الاستدفاع لبلية محذورة، وذلك كقول القائل: إن شفى الله مريضي، أو ردّ غائبي، أو رزقني ولداً، أو ما في معناه، فلله عليّ كذا، فإذا ذَكَر على هذا المعرض ما يصح التزامه، كما سيأتي مشروحاً في كتاب النذر، إن شاء الله عز وجل؛ فإنه يلزمه ما سماه، إذا تحقق ما سأله وطلبه، وهذا إذا قال: إن شفى الله مريضي، فعليّ صدقة لله. فإن لم يُضف ما التزمه إلى الله تعالى، فقد ذكر القاضي وجهين حكاهما: أحدهما - أنه نذر ملزم يجب فيه الوفاء بالمسمى، وهذا هو الأصح، لأنه لا يلتزم بالنذر إلا القربات، وأجناسُ القربات مُشعرة بوقوعها لله تعالى، فصار ذلك كالمصرح به. والوجه الثاني - أن الالتزام لا يصح، ما لم يُضَف الملتزَم إلى الله تعالى؛ فإن القربات إنما تصير قربات بالإضافة إلى الله تعالى لا بألقابها. والضرب الثاني - النذر المطلق الذي لا يُعلّق باستدفاع أو استسعافٍِ وسؤال، وهو أن يقول القائل: لله علي عتق رقبة، أو صدقة، أو غيرها، مما يلتزم. وفي هذا القسم قولان: أحدهما - أنه لا يلزمه شيء؛ فإنه تبرع، فلا يلزم بالالتزام، كما لو التزم أن يهب لزيد شيئاً، بخلاف الملتزَم في القسم الأول، فإنه مذكور عوضاً، وسيأتي شرح ذلك في كتاب النذور، إن شاء الله. ثم قال القاضي إذا قال: عليّ عتق رقبة، واقتصر على هذا القدر، ولم يضفه إلى الله تعالى، فلا يلزمه مذهباً واحداً، وإنما الوجهان في ترك الإضافة في نذر التبرّر. ولا وجه للقطع الذي ذكره؛ فإن النذر المطلق إذا جعلناه ملزماً بمثابة نذر التبرّر عند وجود الشرط، فإذا جرى الخلاف عند ترك الإضافة في نذر التبرّر، وجب لا محالة إجراء مثله في النذر المطلق. على أن الأصح عندنا أن الإضافة ليست مشروطة، وإنما يظهر الخلاف في الإضافة في نيّات (1) العبادات كما تقدم ذكره في أبواب النيات- وما ذكرناه كلام في النذر.

_ (1) في (ق): "باب".

فأما الغَلَق، فصورته أن يقول: إن دخلت الدار، فعليّ صدقة أو عتق، أو ما أراد مما يُلتزم بالنذر، وشرط تصوير الغلق أن يقصد بذكر الملتزَم منع نفسه من الإقدام أو الإحجام، على حسب صيغة اليمين، فإذا ذكر ما ذكر على حكم اليمين، ثم حنِث، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها -وهو المنصوص الظاهر- أنه يلتزم كفارة اليمين بالله تعالى إذا حنِث، ولا يلتزم الوفاء بالملتزَم، وقال الشافعي في بعض المواضع في المسألة قولان: أحدهما - أنه يلزم كفارة اليمين، وسكت عن القول الآخر، فقال الأصحاب: الظاهر أن القول المسكوت عنه إيجاب الوفاء، فحصل قولان. والقول الثالث - أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين المذكور الملتزَم، وهذا القول مأخوذ من لفظ الشافعي في مسألة من كتاب الإيلاء، وقد ذكرناها. فانتظم بما أشرنا إليه ثلاثة أقوال نوجهها على قدر الحاجة: من قال: الواجب كفارة اليمين، وهو مذهب عائشة وعطاء، فمعتمده أن وضع اليمين على ألا يلتزم الحالف ما صرح به؛ من جهة أنه لا يذكر الالتزام [تقرباً] (1)، وإنما يذكره ليمتنع بسببه أو [ليُقْدم] (2)، وحكم الشرع فيما هذا سبيله الكفارة، والملتزَم في اليمين بالله الامتناعُ أو الإقدام، ولا يجب واحد منهما عندنا. ومن أوجب الوفاء، احتج بأنه التزم أمراً يمكن التزامه، فإذا ألزمناه شيئاً، فالوفاء أقرب لازمٍ. ومن قال بالتخيير -وإليه ميل القاضي- احتج بتردد الصيغة بين اليمين والنذر، وهذا التقاوم يقتضي تردداً بين الأصلين، ونتيجتُه التخيير (3). 11827 - ثم سميت الصيغة بيمين اللِّجاج لجريانها غالباً حالة اللِّجاج، وسميت يمين الغَلَق، لأن صاحبها يُغلق على نفسه باباً في إقدام أو إحجام، ثم قد يختلط يمين الغَلق بنذر التبرّر في كثير من الصور، ويختلف ذلك بقصد القائل، ثم الحكم أنه إن

_ (1) في الأصل: " مقرّاً ". والمثبت من (ق). (2) في الأصل: ليجد. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق. عسى أن يكون هو الصواب. والعبارة: مطموسة في (ق). (3) عبارة (ق): " يقتضي تردداً بيّناً، ويتجه التخيير ".

قصد التبررَ، التزم الوفاء قولاً واحداً وكان ناذراً، ولم يكن حالفاً. وإن لم يقصد التقرب، ولكن قصد منع نفسه، فيكون حالفاً يمين الغَلَق، وفيه الأقوال الثلاثة. ثم أطنب القاضي في التصوير في ازدحام التبرر واليمين، وقال: المذكور ثلاثة أضرب: واجب، ومحظور، ومباح. فالواجب يتصور في إثباته التبرر والغلق مثل أن يقول: إن صليت الظهر، فعليّ كذا. هذا محتملٌ للتبرر، وتأويله: إن وفّقني الله لفعلها، فعليّ كذا، ويحتمل الغلق بأن يمتنع الرجل عن الصلاة، فيقول له القائل مثلاً: صلّها، فيقول في جوابه: إن صليتها، فعلي كذا. وأما إذا كان المذكور محظوراً، مثل أن يقول: إن لم أشرب الخمر، فعليّ كذا، فالتبرّر ممكن، وتأويله إن عصمني الله تعالى عن شربها، فعليّ كذا. ومحتمل للغَلَق على تقدير أن يقال له: لا تشربها اليوم. فيقول: إن لم أشربها اليوم، فعلي كذا. ولو قال: إن شربتها، فعليّ كذا، فلا يتصور التبرر في هذا القسم، والغَلَق متصوّر. وإن كان المذكور مباحاً تصور في نفيه وإثباته التبرر والغلق، ومثاله، أن يقول: إن أكلت هذا الرغيف، فعليّ كذا، واحتمال التبرر فيه إن شهَّاني الله وقوّاني، وأنعم بإدامة إمكاني، فعليّ كذا- والغلق لا شك في تصوره. وإن نفى، فقال: إن لم آكل هذا الرغيف، فعلي كذا- فالتبرر ممكن. وتأويله: إن وفقني الله لقهر النفس، وقلعها من نَهْمَة الأكل، فعليّ كذا. ولا حاجة إلى التكلف في تصوير الغلق. فهذا بيان يمين اللجاج والغضب. وكان شيخي يقول: [إذا قال] (1): إن دخلت مكة، فعليّ كذا، انقسم فيه إمكان التبرر والغلق، والغلق وجهه بين. وإن قال: إن دخلت نيسابور، فعليّ كذا، فهو غَلَق محض، وما ذكره القاضي [يقتضي] (2) تصوير التبرر في جملة المباحات، وكان شيخي يخصص التبرر بما يظهر كونه مقصوداً وحصوله على غرر، وقد وافقه على هذا طائفة من الأصحاب. وحاصل الطريقة أن لا تبرر في النِّعم المعتادة، كما أنا لا نستحب سجود الشكر

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. ثم وجدناها في (ق). (2) زيادة من (ق).

لها، وإن كانت نِعَماً، وما ذكره القاضي أفقه وأَوْقع. والمتبع في سجود الشكر التعبد، وقد وردَ خاصاً، فاتبعنا مورد الشرع، ونذرُ التبرر ورد مسترسلاً غير مختص، فالتعويل فيه على المقصود، فمهما (1) انتظم القصد إلى مقابلة نعمة [بشكر] (2)، فهو صورة التبرر. وإذا قال الرجل ابتداء: " مالي صدقة "، فالذي قطع به القاضي أن هذا لغوٌ من الكلام؛ لأنه ليس بالتزام، والصدقة جهة لا بد من إيقاعها، وهي التصدق والقبول، وكذلك إذا قال: مالي في سبيل الله، فهو لغو، وتعليله بما ذكرناه. وكان شيخي أبو محمد رحمه الله يذكر طريقتين: إحداهما- حمل ما ذكره على النذر المطلق. والثاني - تصحيح ذلك منه إيقاعاً، كما لو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، وهذا بعيد، ولا قياس على الضحية؛ فإن المتبع فيها أخبار وآثار، حتى انتهى الأمر إلى الاكتفاء بمخايل الأحوال كالإشعار والتقليد، فهذا ما أردناه. ولو قال: إن دخلت الدار فعبدي حر، فلا شك في حصول العَتاقة عند الدخول؛ فإن هذا تعليق على صفة. ولو قال: إن دخلت الدار، فمالي صدقة، فهذا لغو عند القاضي. وهو على طريقة شيخنا تعليق إيقاع في طريقة، أو غَلَق في طريقة، وفيما قدمناه إيضاح هذا. 11828 - وكان شيخي يتردد فيه إذا ذكر صاحب الغَلَق أجناساً من القُرَب؛ مثل أن يقول: إن دخلت الدار، فلله علي حج، وعتق، وصدقة، فربما كان يقول: إن فرعنا على قول الكفارة، عدّدناها بتعدد الأجناس، وهذا أبداه في معرض الاحتمال، ثم استقر جوابه على اتحاد الكفارة، وهو الذي يجب القطع به؛ فإنا إذا كنا لم نوجب الوفاء، فلا حاصل للنظر إلى الملتزَم تعدّدَ أو اتَّحَدَ، بل التعويل على الالتزام فيما يصح التزامه، ثم يُحاد عنه إلى الكفارة، وما قدمناه غير معتد به، ولا خلاف أنه لو ذكر حِجَجاً لم تتعدد الكفارة.

_ (1) مهما: بمعنى إذا. (2) في الأصل: تُشكرُ (بهذا النقط والضبط).

ومما نذكره متصلاً بهذا أنا إذا قلنا: الواجب الكفارة، فلو وفى هل يخرج عما عليه؟ ذكر الأصحاب وجهين: وهذا زلل عظيم؛ فإنه قول التخيير بعينه، فلا معنى لاعتقاد مزيد في التفريع على قول التخيير. فرع (1): 11829 - إذا قال: إن فعلت كذا، فعلى نذرٌ، نصّ الشافعي على أن عليه كفارة يمين، قال القاضي: عندي أن هذا يبتني على موجَب يمين الغَلَق، فإن قلنا: موجَبها الكفارة، فالجواب ما ذكره الشافعي. وإن قلنا: موجبه الوفاء، فيلزمه قُربة من القُرَب، وعليه تعيينها، وحق تلك القُرْبة أن تكون ملتزَمة بالنذر. ولو قال: إن فى خلت الدار، فعليّ يمين، اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو لغو، وهو الصحيح؛ فإنه لم يأت بنذر، ولا بصيغة اليمين، ومنهم من قال: عليه ما على الحالف إذا حنث، والوجه عندنا على هذه الطريقة أن يلحق هذا بالكنايات المحضة، ويُرجع إلى نيته وقصده. فإن قيل: ألستم ذكرتم أن الأيمان لا بد فيها من ذكر اسمٍ معظّم؟ قلنا: نعم، وإنما اتجه الخلاف هاهنا لتصريحه بالالتزام. ولو قال: إن دخلت الدار، فعليّ كفارة يمين، فإذا دخل الدار، لزمته كفارة يمين، ثم هي كفارة يمين أم وفاء؟ فعلى ما ذكرنا من الأقوال. فرع: 11830 - إذا قال: والله لا أصلي، فتحرّمَ بالصلاة، فالمذهب أنه يحنث بالتحرم، وإن بطلت الصلاة عليه. ومن أصحابنا من قال: لا يحنَث حتى يأتي بصلاة صحيحة، وأقلُّها ركعة، حتى لو صح تحرمه، أو صحت ركعات من صلاته، ثم أفسدها، فلا كفارة عليه. فإن فرعنا على هذا الوجه، فإذا تمت الصلاة على الصحة، فيحنث عند نجازها، أو يتبين أنه حنث بالتحرم؟ فعلى وجهين. وما ذكرناه في الصلاة يجري في الصوم إذا قال: لا أصوم وأصبحَ صائماً. ولو قال: والله لا أحج، وتحرم بالحج على الفساد- فالذي أراه أنه يحنث؛ فإن

_ (1) في (ق): " فصل ".

الحج الفاسد حج موصوف بالفساد، وهذا يناظر مذهب أبي حنيفة (1) رضي الله عنه في البيع الفاسد، فإنه اعتقده بيعاً وناط به الحنث والبر. فرع: 11831 - ولو قال: لا آكل الفاكهة، حنث بالرَّطْب منها واليابس، ويحنث بالعنب، والرمان، خلافاً لأبي حنيفة (2) رضي الله عنه، والفواكهُ اليابسة أراها أجناساً يُتفكه بها، ولا تستعمل أقواتاً، والعلم عند الله، ولو كان يتعاطى اللبوب، كلُبّ الفستق وما يعتاد التفكه به، فيه تردد عندنا، والقِثاءُ ليس من الفاكهة، وفي البطيخ تردد، حكاه الشيخ أبو علي عن الشيخ أبي زيد. والثمار لا تحمل إلا على الرَّطْب بخلاف الفاكهة. فرع: 11832 - إذا قال: والله لا أحمل خشبة، فحملها مع غيره، لم يحنث؛ فإنه شاركه ولم يستقل، ولو قال: لآكلن هذه الرمانة، فأكلها إلا حبة، لم يحنث، ولو قال: لآكلن هذا الرغيف، فخلف فتاتاً محسوساً، لم يحنث إذا كان لا يبعد جمعه والإتيان عليه في حق من يريد الاستيعاب، فأما الفتات التي لا يتأتى جمعها، ولا يَعتاد جمعَها من يريد الاستيعاب، فلا معتبر بها. وكان شيخي يقول: ما يمكن جمعه وإن عسر لا بد منه، وهذا فيه نظر، لأن صاحب الواقعة يسمى آكلاً للرغيف. فرع: 11833 - لو قال: لأُثنين على الله تعالى بأحسن الثناء، فلا بد أن يقول: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. فإن قال: لأحمدن الله بمجامع الحمد، فقد قيل: مجامع الحمد ما ذكره جبريل لآدم عليه السلام، إذ قال آدم: علمني مجامعَ الحمد، فقال: قل: " الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافىء مزيده " (3).

_ (1) ر. الاختيار: 4/ 75. (2) ر. مختصر الطحاوي: 320، الاختيار: 4/ 64. (3) حديث، قال آدم (لجبريل): علمني مجامع الحمد ... " قال عنه ابن الصلاح في مشكل الوسيط: ضعيف الإسناد غير متصل روّيناه عن محمد بن النضر، وقال الحافظ: وجدته عن ابن الصلاح في أماليه وهو مفصل (ر. مشكل الوسيط (بهامش الوسيط): 7/ 247)، التلخيص: 4/ 316 ح 2524).

فرع: 11834 - إذا قال لا آكل الرطب فأكل المصنَّف (1)، فنصفه رطب، ونصفه بُسر، فإذا أكله، حنث إلا على مذهب الإصطخري؛ فإنه لا يرى التحنيث بالخلط. فرع: 11835 - إذا حلف لا يأكل لحماً، فأكل لحم ميتة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يحنث، وهو القياس، فإن اسم اللحم ينطلق في حقيقة اللسان على لحم الميتة انطلاقه على لحم الذكيّة. والوجه الثاني - أنه لا يقع الاعتداد به؛ [من] (2) جهة أنه لا يُعنى ولا يقصد، ومطلق الألفاظ محمول على المقصود الذي يخطر للاّفظ، وهذا متلفِّت على الأصول الممهدة في التعلق بحقيقة اللسان، أو عرف اللافظ. ولو قال: لا آكل الميتة، وأكل السمك، ففي تحنيثه وجهان إذا كان اللفظ مطلقاً، ومأخذهما قريب مما ذكرناه الآن، فمن اعتبر موجَبَ الاسم، حَنَّث، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد ". ومن اعتبر تنزيل اللفظ على العرف [فالسمك لا يسمى ميتة] (3)، ولو اتبعنا حقيقة الموت، فالذكية ميتة أيضاً، ولا تعلق بما رويناه؛ فإنه عليه السلام، كان يتكلم بوجوه لا تنزل الأيمان عليها، والدليل عليه أنه سمى الكبد والطحال دمين، ومن حلف لا يأكل الدم، لم يحنث بأكل واحد منهما. فرع: 11836 - ومن حلف لا يشم الريحان، فأطلق لفظه فهو محمول على الريحان الفارسي المسمى الضَّيْمران، وهو " شاه اسْبَرَم ". ولو حلف لا يشم الورد، لم يحمل على الأزهار، وإنما يحمل على الورد المعروف. فلو قال: لا أشم البنفسج فشم دهن البنفسج فالوجه القطع بأنه لا يحنث، وإن أدرك رائحة البنفسج، فإن يمينه معقودة على شم البنفسج؛ وذكر صاحب التلخيص وجهاً أنه يحنث بشم دهن

_ (1) المصنف: يقال: صنف التمر إذا أدرك بعضُه دون بعض، ولوّن بعضه دون بعض. (المصباح). (2) في الأصل: " في ". (3) في الأصل: " والسمك لما يسمى ميتة ".

البنفسج، ولا سبيل إلى توجيه هذا بإدراك رائحة البنفسج، فإن من قال: لا أشم المسك، ثم أدرك ريحه العابق بثوبِ إنسان، لم يحنث، وقيل في توجيه ما ذكره إن الناس قد يسمون دهن البنفسج بنفسجاً، وهذا شيء لا يروج على مُحصِّل، ثم هذا الوجه مخصوص بدهن البنفسج من بين الأدهان. ***

باب النذور

باب (1) النذور 11837 - الأصل فيها قوله تعالى: ({يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]،. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " أوف بنذرك " (2) والنذرُ ملزِم إجماعاً، والملتزَم به لازم على الجملة، والخلاف في التفاصيل. ثم الذي يقتضيه الترتيب الذي وضعنا عليه الكُتب أن نقدم قواعدَ، منها منشأ المسائل، حتى إذا تمهدت، خُضنا بعد تمهيدها في المسائل. وأول ما رأينا الاعتناءَ به بيانُ ما يلتزم بالنذر، ولم يتعرض للاهتمام به، ومحاولة ضبطه غيرُ القاضي، وأجرى الأئمة الماضون كلاماًً دلّوا به على مقاصدهم، ولم يحرّروه، ونحن نستعين بالله ونذكر ما تحصل لنا من كلام الأئمة. كان شيخي يقول: إنما يُلتزم بالنذر ما له أصل في الوجوب الشرعي، كالصلاة والصوم، والصدقة والحج، وما لا أصل له في إيجاب الشرع لا يُفتَتَحُ بالنذر [التزامه] (3)، ثم كان يُعترض بالاعتكاف على هذا الأصل؛ فإنه ملتزم بالنذر وفاقاً، ولا أصل له في [الوجوب] (4) الشرعي، وكان يحكي في محاولة الجواب عنه أن الاعتكاف حصولٌ في بقعة مخصوصة، وهو يناظر الحصول بعرفة. والغرض من ذكر ذلك أنه ملتزم بالنذر إلحاقاً بإيجاب الشرع الحصولَ بعرفة. وهذا كلام لا ينتظم، وليس الاعتكاف مضاهياً للحصول بعرفة، فلا حاجة إلى

_ (1) في (ق): كتاب. (2) حديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " أوف بنذرك ". متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (البخاري: الاعتكاف، باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف، ثم أسلم، ح 2043، مسلم: الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم، ح 1656). (3) في الأصل: " والتزامه ". والمثبت من المحقق. ثم صدقتنا (ق). (4) في الأصل: " وجوب " (بدون الألف واللام).

تقدير هذا. وكان يقول: لا يُلْتزَم تجديد الوضوء بالنذر؛ من جهة أنه لا أصل لإيجاب الوضوء من غير حدث فلا يُلْتزَم، في كلامٍ لا حاجة إلى ذكره على وجهه. 11838 - والذي [أرى] (1) التعلُّقَ به في ضبط كلام الأصحاب الأولين منهم والمتأخرين أن أقول: العبادات المقصودة التي شرعت عباداتٍ، وتحقق اهتمام الشرع بتكليف الخلق إيقاعَها على حقيقة العبادة ملتزَمةٌ بالنذر، ولا حاجة إلى تقدير وقوعها في واجبات الشريعة، فُتُعْمد (2)، على أن الاعتكاف لا أصل له في واجبات الشريعة، ولكنه شرع عبادةً مقصودة، فاتجه التزامه بالنذر، ولا فقه تحت اشتراط وقوع مثل المنذور واجباً في الشريعة؛ فإن الملتزَم يثبت وجوبه ابتداء، فانتظم هذا الأصل؛ من غير احتياج إلى الاعتذار عن الاعتكاف بما لا يتجه. ثم هؤلاء يقولون: لو نذر الرجل عيادة مريض، أو زيارة قادمٍ، أو إفشاء السلام، فهذه الأشياء لا تلتزم بالنذور؛ فإنها لم تثبت عبادات، وإنما هي من القُربات التي إذا أخلص المرء فيها، وابتغى وجه الله، ارتجى ثواباً. ولسنا بعدُ في التزام التوجيه، وإنما [نحن] (3) في ضبط [المذهب] (4). [وأما] (5) المتأخرون؛ فإنهم ذهبوا إلى أن القربات بجملتها تلتزم بالنذر التزام العبادات؛ فإن ما أُثبت قربةً بمثابة ما أثبت عبادة، واستثنى القاضي من هذا المسلك، وقال: كلُّ قربة ملتزمةٌ بالنذر، إذا كان لا يفضي الأمر إلى إبطال رخصة، وبيانه أن من نذر أن يُتم الصلاة، ويصوم في السفر في رمضان، ثم أراد أن يَقْصُر، كان له ذلك، وإذا أراد أن يُفطر، فله أن يفطر، وإذا نذر المريض الذي يجوّز له الشرع الصلاة قاعداً -مع القدرة على القيام- أن يقوم، ويتكلف المشقة، فلا يلزمه الوفاء

_ (1) في الأصل: " أدنى " والمثبت من المحقق. والحمد لله فقد صدقتنا (ق). (2) كذا. والمعنى أنه لا حاجة لاشتراط وجوب العبادة حتى تُعْمَد وتُقْصَد بالنذر، بل كل عبادةٍ مشروعة يصح أن تُلتزَم بالنذر. (3) في الأصل و (ق): " نحرص ". (4) في الأصل: " المذاهب ". والحمد لله فقد صدقتنا (ق) فيما قدرناه. (5) في الأصل: " وإنما ".

به، وكذلك القول فيه إذا نذر أن يصوم مع المرض المبيح للفطر، وسبب ذلك أنا لو أَلزمنا النذر، لكان ذلك تعطيلاً للرخصة، ومصيراً إلى أن الواجب بالنذر يزيد على الواجب شرعاً، ومعلوم أن الصوم الذي هو ركن الإسلام يسوغ تركه بعذر المرض والسفر، فيبعد أن يزيد تأكد المنذور على ما هو ركن الإسلام. ومما يجب تأمله أن العبادات التي تُلتزم أصولها بالنذر لو فرض التزام صفات مستحبة فيها -ورد الشرع بالاستحثاث عليها- بالنذر، فالوجه القطع بأنها تُلتزم، وهذا بمثابة إطالة القيام، والركوع، والسجود، وإكثار قراءة القرآن، وإنما رأينا القطعَ بذلك؛ من جهة أنا رأينا نصَّ الشافعي دالاً على التزام المشي في الحج بالنذر، إذا حكمنا بأن المشي أفضلُ من الركوب، فإذا كانت هذه الصفة تلتزم، فكل صفة مستحبة في العبادات المفروضة ينبغي أن تُلتزم بالنذر، فلا يجوز أن يختلف الأصحاب في هذا. 11839 - ومما نذكره في ذلك التعرضُ لالتزام ما هو من فرائض الكفايات. قال صاحب التلخيص: من نذر لله الجهاد في جهةٍ عيّنها، وجب عليه الوفاء بنذره، والجهاد من فروض الكفايات، ولم يخالفه الأصحاب في تعيُّن الجهاد عليه على موجَب نذره. ولو نذر الرجل أن يصلي على ميت، فهذا فيه تردد، والأظهر أنها تتعين بالنذر قياساً على الجهاد. والذي تحصل لنا في هذا الفن أن كل فرض من فروض الكفايات تمسّ الحاجة في تأديته إلى بذل مال ومعاناة مشقة، وقطع شُقة، فيلتزم بالنذر، كالجهاد وتجهيز الموتى، وما في معناه، وما لا يتعلق بتأديته بذلٌ -قال- فهو على تردد. والأوجه ما ذكرناه. وإذا نذر الرجل أن يأمر بالمعروف، فهذا ملتحق بنذر الصلاة على الميت. ثم ظاهر كلام صاحب التلخيص أن الجهة التي عيّنها للجهاد تتعيّن، ولا يقوم الجهاد في جهة أخرى مقامَ الجهاد في تلك الجهة. وقد قال الشيخ أبو زيد: لا تتعين الجهة، بل عليه أن يجاهد، وليقع الجهاد في

أي جهة تفرض، ثم صرح بأن الجهة التي ينتهض لها لو كانت أقرب وأسهل، فلا بأس. والذي إليه ميل الشيخ أبي علي أن الجهة لا تتعين، ولكن إذا عيّن جهة، فلتكن الجهة التي أمّها مجاهداً قريبةً من الجهة التي عينها في المؤنة، ومكابدِة المشقة، وتكون مسافاتُ الجهاد كمسافات المواقيت في النسك، وقد ذكرنا أن الميقات لعينه لا يُعنى، وإنما [المطلوب] (1) مسافة الميقات. فانتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أوجه: أحدها - أن تلك الجهة تتعين، وهذا مذهب صاحب التلخيص. والثاني - أنها لا تتعين. ويخرج الناذر عن عهدة النذر بجهادٍ وإن قرب وسهل. والوجه [الثالث] (2) - أن تلك الجهة لا تتعين، ولكن لا يخرج الناذر عن موجَب نذره [إلا] (3) بالجهاد فيها أو في مثلها. وهذا منتهى ما أردنا أن نذكره نقلاً عن الأصحاب. 11840 - ونحن نذكر بعد ذلك ضبطاً وتقريباً يجمع مسالك الأصحاب، فنقول: الأعمال والأقوال ثلاثة أقسام: منها العبادات التي شرعت عبادات، وهي ملتزمة بالنذر وفاقاً. ومنها قربات لم يقع اعتناء الشرع بإثباتها على حقاًئق العبادات، كعيادة المريض وغيرها، وفيها خلاف الأولين والمتأخرين، والقسم الثالث - مباحات في وضع الشرع يتصوّر إيقاعها قربةً بالقصد والإخلاص، كالاكل على قصد التقوِّي على العبادة، والنوم على قصد طرد الغفوة حتى إذا أنشأ (4) في [جوف] (5) الليل، كان حاضر القلب

_ (1) في الأصل: " المكروه " والمثبت اختيار من المحقق، وهو بعينه لفظ الغزالي في البسيط، حيث قال: إذا نذر الجهاد في جهة، فهل تتعين تلك الجهة؟ قطع صاحب التلخيص بتعينها، وقال الشيخ أبو زيد: لا تتعين، بل له أن يجاهد فيها أو في جهة توازيها في المسافة وحاجة المؤنة، كما ذكرناه في مواقيت الحج، فإنها لا تراد لعينها، والمطلوب مثل مسافتها (ر. البسيط: 7 ورقة: 83 ظهر). والحمد لله، فقد جاءت (ق) مؤيدة لما اخترناه. (2) في الأصل: " الثاني ". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) أنشأ: أي تهجد، أخذاً من قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]. (5) في الأصل: " جوز ".

متيقظ النفس، فهذه الفنون لا تلتزم بالنذر بلا خلاف. والصفاتُ المحبوبة في العبادات تُلتزم بالنذر، إذا التُزمت مع الموصوف، مثل أن يقول: لله عليّ أن أحج ماشياً -إذا جعلنا المشيَ أفضلَ- وكذلك لو نذر صلاةً، وذكر تطويلها بالقراءة و [مدّ] (1) ركوعها وسجودها. فأما إذا التزم صفة في واجب شرعي كالمشي في حَجة الإسلام، أو تطويل الصلاة في المفروضة، ففي المسألة وجهان؛ لأن الصفة لا تستَقِلُّ بنفسها. وفرائض الكفايات منقسمة كما ذكرناها، وما كان يذكره شيخي من أن تجديد الوضوء لا يلتزم بالنذر، [لا وجه] (2) له؛ فإنه عبادة مقصودة، فالوجه القطع بأنه يلتزم بالنذر إلحاقاً له بالعبادات المحضة. ولو التزم بالنذر إقامةَ النوافل الراتبةِ، كركعتي الفجر والوتر وما أشبههما، فالظاهر عندنا أنها تلتزم بالنذر، كما يتعين فرض الكفاية بالنذر. ومن أصحابنا من لم يُلزمها؛ لأن الشارع أثبتها نوافلَ راتبةً، ولم يوجبها رخصةً، فإلزامها يخالف وضعَ الشرع فيها. والجماعة تلتزم بالنذر؛ فإنها من صفات العبادة. ولا يلتزم بالنذر انكفافٌ قط، حتى لو نذر ألا يفعل مكروهاً، لم يلزمه الوفاء بنذره. 11841 - هذا هو الإمكان في الضبط والتفصيل، ولم يبق إلا الرمز إلى توجيه طرق الأصحاب. أما ما صار إليه المتأخرون، فوجهه بيّن، وما ذهب إليه المتقدمون من تخصيص المنذورات بالعبادات [فتوجيهه] (3) ضعيف، وَيرِدُ عليه التزامُ الجهاد؛ فإنه لم يشرع شرع الصلاة والصوم، ولا نعرف خلافاً في أنه يُلتزَم بالنذر، كما حكيناه عن صاحب

_ (1) زيادة من (ق). (2) في الأصل: " ولا ". (3) في الأصل: " وتوجيهه ".

التلخيص، فإن منع مانعٌ ذلك، اطرد قياس اعتبار العبادات، وإلا، فلا جواب عن الجهاد. وقد يقول المتقدمون: عيادة المرضى لو كانت تلتزم بالنذر، فلا طريق في لزومها إلا التزام التقرب بها إلى الله، ثم يلزم من الحكم بذلك أن يجب على الناذر أن ينوي التقرب، [بالعيادة] (1)؛ إذ الأداء على حسب الالتزام، وفي هذا إلحاقها بالعبادات، ولا حاصل في هذا الكلام؛ فإن المتطوع بالعيادة إن أراد الثواب، قصد التقرب، فإذا التزم بالنذر، وجب ما كان متطوعاً به من الفعل والقصد. ثم الذي أراه في مذهب المتأخرين أن من عاد مريضاً، ولم يتفق منه إنشاءُ قصدٍ - ولعله ما كان ذاكراً للنذر- ففي خروجه عن موجَب النذر نظر، والله أعلم. وقد نجز ما أردنا ذكره فيما يلتزم بالنذر. 11842 - ثم مما نذكره في صدر الباب التقاسيم التي ذكرناها في مقدمة يمين الغَلق، فالنذر ينقسم قسمين: أحدهما - نذر التبرر، وقد سبق تفصيله، وهو مُلزِم إذا صادف ملتزَماً قولاً واحداً. والقسم الثاني - النذر المطلق، وهو الذي لا يرتبط بشرط نعمة، أو دفع بليّة، وفيه قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا يُلتزَم؛ فإنه تبرعٌ لا استناد له إلى واجب، وليس كالضمان؛ فإنه يستند إلى دين واجب، فبعُد الالتزام ابتداء، وليس كنذر التبرع؛ فإنه أثبت على صيغة الأعواض تشكّراً، فلم يبعُد وجوبه. 11843 - ثم نذكر بعد هذا أصلاً آخر: وهو بيان المقدار الملتزم بالنذر المطلق، ولسنا نلتزم الوفاء بتفصيل ذلك؛ فإن مسائل الباب [تفصّله] (2) ولكنا نمهد فيه قولاً كافياً، فإذا نذر الناذر، وأطلق الالتزامَ، وتسميةَ الملتزَم، فللشافعي قولان مأخوذان من معاني كلامه: أحدهما - أن المنذور المطلق يُنزَّل على أقل مراتب الواجب في قبيله، والقول الثاني - أن يُنزل على أقل ما يصح. وهذا هو الأصح، فمن نزّله على أقل مراتب الواجبات الشرعية تعلّق بتنزيل

_ (1) في الأصل: " فالعبادة ". وفي ق (بالفعل). والمثبت من تقدير المحقق. (2) في الأصل: " تفصيله ".

الواجب بالنذر منزلة الواجب بالشرع، فإنه بالواجبات أشبه. ومن سلك المسلك الثاني، اعتمد لفظ الناذر، واكتفى بأقل ما يصح في قبيل المنذور؛ فإن الزائد عليه لم يتحقق تناول اللفظ له؛ فإلزام الناذر ما لم يتناوله لفظه لا يتجه، فإذا نذر صلاة وأطلق، فيُلزمه القائلُ الأول ركعتين مع القيام، ويُلزمه القائلُ الثاني ركعة واحدة، ويصححها منه قاعداً مع القدرة على القيام؛ فإن الصلاة تصح على هذا الوجه. وإذا نذر صوماً، كفاه صوم يوم، وهل يلزمه [تبييت] (1) النية؟ إن نزلناه على أقل مفروض في الباب، فالتبييت واجب، وإن اكتفينا بما يصح، فلو أنشأ النية نهاراً، فعلى هذا القول وجهان مبنيّان على أن المتطوع بالصوم إذا نوى نهاراً، فهو صائم من وقت نيته، أم هو صائم من أول النهار؟ وفيه اختلاف قدمناه في كتاب الصيام. فإذا تجدد العهد بهذا، نظرنا في لفظ الناذر، فإن قال: لله عليّ صومٌ -والتفريع على تنزيل المنذور على أقل ما يصح- فإذا نوى نهاراً، صح -وإن جعلنا المتطوع صائماً من وقت النية- لأن الذي أتى به صوم. وإن قال: لله عليّ صوم يوم -وحكمنا بأن المتطوع صائم من أول النهار- فيصح منه أن ينوي نهاراً (2)، وإن قلنا: المتطوع صائم من وقت النية، فلا يخرج الناذر عن موجب نذره، ما لم يبيّت النية، فإنه التزم صوم يوم، ولا يتحقق على هذا الوجه صوم يوم إلا بنية منبسطة على اليوم، والنية لا تنعطف، فالوجه تقديمها على قياس الصوم المفروض شرعاً. ولو نذر صدقة، لم يخصصها بخمسة دراهم، ولا بنصف دينار، مصيراً إلى أن ذلك أقل الصدقات المفروضة، فإن الخلطاء قد يشتركون في نصاب واحد، فيجب على أحدهم أقل من الخمسة، فلا ضبط لمقدار الصدقة، وهي مُنَزَّلَة على أقل ما يتصدق به. ولم يختلف أصحابنا في أنه لا يتعين على ناذر الصدقة أن يتصدق بشيء

_ (1) في الأصل: " تثبيت ". (2) سيعرض الإمام هذه الصورة ثانيةً -بعد صفحات- ويقطع بأن النية نهاراً لا تكفي ولا يقع ما جاء به عن نذره صيام يوم.

من أجناس الأموال الزكاتية. وهذا يعضد القول الصحيح، وهو تنزيل المنذور على الأقل. ولو نذر اعتكافاً، فلسنا نجد لهذا أصلاً في واجبات الشريعة، فلا وجه في هذا القسم إلا القطع باتباع اللفظ وتنزيله على أقل المراتب، وقد ذكرنا خلافاً في كتاب الاعتكاف في أن [الحصول] (1) في المسجد مع النية هل يكون اعتكافاً شرعياً من غير فرض مكث؟ وإذا نذر الاعتكاف وفرعنا على أن الحصول في المسجد اعتكاف، فهذا فيه تردد عندي؛ لأنا إن اتبعنا اللفظ [فالاعتكاف] (2) مشعر بالمكث، فيحتمل أن نوجب المكث تعلقاً باللفظ، ويحتمل أن نجعل الاعتكاف في لفظ الناذر لفظاً شرعياً كالصلاة والصوم. ثم نكتفي فيه بما يصح في الشرع. وهذا منتهى المراد في هذا الأصل. وإذا بان ما يلتزم بالنذر والمقدار الذي يلزم بالألفاظ المطلقة، فنعود بعد هذا إلى ترتيب مسائل الباب. فصل قال الشافعي رضي الله عنه: " ومن نذر أن يمشي إلى بيت الله لزمه إن قدر على المشي ... إلى آخره " (3). 11844 - إذا نذر أن يحج ماشياً، أو يمشي حاجاً، فالحج ملتزم بالنذر، وهل يلتزم المشي وفاء بالنذر؟ في المسألة قولان مبنيان على أن الحج ماشياً أفضل أم راكباً؟ وفيه قولان ذكرناهما في المناسك. فإن قلنا: لا فضيلة في المشي، لم يُلتَزَم بالنذر. وإن قلنا: المشي أفضل، فيجب المشي وفاءً بالنذر، وعلى هذا الأصل خرّجنا التزام صفات العبادات. فإذا ألزمناه المشي، فلو ركب وحج، لم يخلُ: إما أن يكون معذوراً عاجزاً عن

_ (1) في الأصل: " الدخول ". والمثبت من (ق). (2) في الأصل: " بالاعتكاف ". (3) ر. المختصر: 5/ 238.

المشي، أو غيرَ معذور، فإن لم يكن عذر، فهل يقع الحج الذي أتى به عن النذر، وهل تبرأ ذمة الناذر؟ فعلى قولين: أحدهما - لم يحسب ما جاء به عن النذر؛ لأنه التزم حجاً موصوفاًً بصفة، فإذا لم يأت بالحج على تلك الصفة، لم يكن ما جاء به وفاء بالنذر، واللزوم باقٍ في الذمة، والحج يقع تطوعاً، ولا يتصور على مذهب الشافعي تطوع يسبق الفرضَ في الحج إلا في هذه الصورة على هذا القول. والقول الثاني - أن الحج يقع عن نذره، وهذا هو الذي ارتضاه معظم الأصحاب، ولكن الشافعي فرّع على القول الأول، وقال: لو مشى في بعض الطريق، وركب في البعض، قضى، ومشى فيما ركب، وركب فيما مشى، وسنذكر بيان هذا في موضعه إن شاء الله. وإنما كان غرضنا أن نبيّن تفريع الشافعي على هذا القول، هذا إذا لم يكن معذوراً. فإن كان معذوراً في ترك المشي، فحج راكباً، وقع الحج موقع النذر بلا خلاف، وبهذا يقوى أحد القولين في وقوع حج القادر راكباً عن جهة النذر. التفريع على القولين: 11845 - إن حكمنا بأن الحج لا يقع عن جهة النذر، فليس إلا القضاء. وإن حكمنا بأنه يقع عن جهة النذر، فهل يجب بسبب [ترك] (1) المشي فدية؟ حاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا تجب الفدية، وليس على الناذر إلا الانتساب إلى المعصية في ترك واجب المشي؛ فإن الفدية إنما تجب بترك أبعاض النسك المرتبة فيه، وليس المشي من الأبعاض. والوجه الثاني - أن الفدية تجب، وهو الأصح؛ لأن النذر ألحق المشي بالأبعاض لما وجب، ولم يكن ركناً، ولا معنى للبعض [المقابل] (2) بالفدية إلا هذا، ولو أوجبنا المشي، ثم أوقعنا الحج عن الناذر من غير فدية، لكان هذا إحباطاً للملتزَم بالنذر، فلا يتجه إلا القضاء والفدية.

_ (1) في الأصل: " ذلك ". والمثبت من (ق). (2) في الأصل: " القابل ".

والوجه الثالث - أنا نفصل بين المعذور وغيره، فلا نوجب على المعذور فدية؛ فإنه إنما يلتزم بالنذر على شرط الإمكان، وليس كالأبعاض المرتبة في النسك؛ فإن الشرع كما رتبها رتب أبدالها، وإن لم يكن معذوراً، لزمت الفدية، وقد روي أن أخت عقبة بن عامر نذرت لله تعالى أن تحج ماشية حافيةً غيرَ مختمرة، فجاء أخوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك. فقال عليه السلام: " مُرها، فلتركب، ولتختمر " (1)، ثم اختلفت الرواية، فروي أنه قال: " ولْتهدِ هدياً " (2)، وفي بعض الروايات الأمر بالركوب من غير تعرض للفدية، وحديثها محمول على العجز؛ فإن المرأة لا تستقل بالمشي في غالب الأمر، ولذلك قال رسول الله عليه السلام: " فلتركب ". 11846 - ومما نفرعه على قول وجوب المشي الكلامُ في أن الناذر متى يأخذ في المشي، ومتى يقطع المشي؟ فنقول: لو صرح بالتزام المشي من دُوَيْرَته إلى الفراغ من الحج، فهل يلزم المشيُ قبل الإحرام؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلتزم المشي؛ فإن هذا مشي في غير الحج، فلا يلتحق بصفات النسك، ومنهم من قال: يلزم الوفاء بالنذر في ذلك، والأجر على قدر النصب، وهذا له التفات على أن الأجير على الحج إذا مات في الطريق قبل الإحرام هل يستحق شيئاً من الأجرة؟ فإن قلنا: لا يلتزم الناذر المشيَ قبل الإحرام، فلا كلام. وإن قلنا: يلتزم المشي قبل الإحرام إذا صرح بالتزامه، فللأصحاب تصرف في لفظ الناذر. فلو قال: لله عليّ أن أحج ماشياً، أو قال: لله عليّ أن أمشي حاجاً -والتفريع على أن المشي قبل الإحرام يُلتَزَم لو وقع التصريح به- فما حكم هذين اللفظين؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: يأخذ في المشي من مخرجه من دُوَيْرَتِه؛ حملاً لكلامه على العادة؛ فإن

_ (1) حديث " أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية حافية غير مختمرة ... " أخرجه أبو داود: الأيمان والنذور، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، ح 3296، 3297، 3303، والبيهقي في الكبرى (10/ 80) والحديث في الصحيحين دون ذكر الاختمار والفدية (اللؤلؤ والمرجان: النذور، باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، ح 1065). (2) الأمر بالهدي ورد في إحدى روايات أبي داود (ح 3296).

من قال: حججت ماشياً يعني به المشي في جميع الطرق. ومن أصحابنا من قال: يلزمه المشي من وقت الإحرام. إذا قال: أمشي حاجاً أو أحج ماشياً، فإن المشي حالةٌ وصفةٌ في الحج، ولا حج قبل الإحرام. ومن أصحابنا من فرق بين أن يقول: أمشي حاجاً، وبين أن يقول: أحج ماشياً، فقال: إن قال: أمشي حاجاً، فيمشي من مخرجه إلى المنتهى الذي سنصفه؛ لأن هذا يقتضي أن يمشي في القصد إلى الحج، وإن قال: أحج ماشياً اقتضى هذا أن يكون ماشياً في حالة حجه. وهذا وجه ضعيف صادر عن الجهل بالعربية ومقتضى الألفاظ؛ فإنه لا فرق بين قول القائل: أمشي حاجاً وبين قوله: أحج ماشياً، واللفظان جميعاً يقتضيان اقتران الحج والمشي، فالوجه الاقتصار على الوجهين المقدمين: أحدهما - يتعلق باللفظ، والثاني - يتعلق بالمفهوم من هذا اللفظ في العرف الغالب. هذا قولنا في ابتداء المشي. فأما الكلام في انتهائه، فلأصحابنا فيه وجهان: أحدهما - أنه يستديم المشي إلى أن يتحلل [التحللين] (1)؛ فإنه في بقية الحج ما بقي من الإحرام عُلقة، وقد قال: أحج ماشياً. والوجه الثاني - أنه يترك المشي كما (2) تحلل [التحلل] (3) الأول؛ فإن اسم الحاج على الإطلاق يزول بأحد التحللين، وأيضاً تخف تكاليف النسك، ويدخل وقت الحَلْق والقَلْم، ولُبس المخيط. وإن نذر أن يعتمر ماشياً، فيستديم المشي إلى إتمام التحلل؛ فإن العمرة ليس فيها تحللان. 11847 - ومما نُلحقه بالفصل أنه لو شرع في الحج، ففاته الحج، فلا بد وأن يلقى البيت [بطواف وسعي] (4)، ثم كما (5) فات الحج، انصرف عن جهة نذره، وعلى

_ (1) في الأصل: " المتحللين ". (2) كما: بمعنى عندما. (3) في الأصل: " المتحلل ". (4) زيادة من (ق). (5) كما: بمعنى عندما.

الناذر حَجةٌ يأتي بها، وهل يجب على الحاج استدامةُ المشي في الحجة الفائتة إلى التحلل؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يجب؛ فإن مبنى الحج على أنه يدوم حكمُه فيما يُلتزم فيه، وإن فات أو فسد. والوجه الثاني -وهو الأقيس عندنا- أنه لا يجب استدامة المشي بعد الفوات؛ لأن المشي ليس بعضاً راتباً شرعاً من أبعاض الحج، وإنما لزم بسبب النذر، وقد انصرف الإحرام عن النذر، وليس الجاري فيه في إحرام منذور، ولو أفسد الحج، فالخلاف في استدامة الحج على نحو ما ذكرناه. 11848 - ومما يليق بإتمام المقصود أن من نذر المشي إذا ركب في البعض، ومشى في البعض، وفرّعنا على أنه يجب عليه حَجةٌ يُمَحِّض المشي فيها، فإذا اتفق الأمر على ما وصفنا، فظاهر النص أنه إذا قضى الحج، فله أن يركب حيث مشى، ويجب أن يمشي حيث ركب. وقد اختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: يجب تمحيض المشي، وهذا متجه؛ لأن الحج الأول لم يقع عن النذر؛ إذ لو وقع عنه، لم يجب إعادته، فهذا الحج الثاني هو المنذور، فليأت به على موجَب النذر. ويعسُر على هذا القائل تأويل النص. ومن أصحابنا من قال بظاهر النص، وكأن هذا القائل يصير إلى أن الحج الأول وقع عن النذر، ولكن يجب استدراك ما ترك من المشي، ولا يتأتى ذلك إلا في الحج- فعلى هذا يستقيم أن يبعّض المشيَ والركوبَ على الترتيب الذي اقتضاه النص- وهذا بعيد- وقد ذكرنا في كتاب الصلاة ما يناظر هذا في إيجابنا إقامةَ الصلاة في الوقت مع إيجابنا قضاءها، وقد حققت قريباً من ذلك في الصلاة المؤدّاة والمقضيّة. ولو قال: لله علي أن أحج راكباً- فإن قلنا: المشي أفضل من الركوب، فالركوب لا يلتزم وإن قضينا بأن الركوب أفضل من المشي، فالقول في التزام الركوب تفريعاً على هذا كالقول في التزام المشي، تفريعاً على أن المشي أفضل.

قال: " ومن نذر المشي إلى بيت الله ... إلى آخره " (1). 11849 - قد تقدم القول في نذر الحج إذا وقع التصريح به، وهذا الفصل [فيه] (2) إذا نذر إتيان مكة من غير تعرض للحج والعمرة، ونحن نرتب في ذلك قولاً على ما ينبغي. فنجدد العهد أولاً بالقولين في أن من أتى مكة من غير نذر، وأراد دخولها، فهل يلزمه أن يدخلَها محرماً، أم له أن يدخلها من غير إحرام؟ وقد ذكرنا في ذلك قولين في كتاب الحج، ومما نحتاج إليه في هذا الفصل اختلاف القول في أن المطلَقَ في النذر هل يتقيد بواجب الشريعة أم لا؟ وقد مهدنا هذا على القرب. ومما أرى تقديمَه -وهو مقصود في نفسه- تفصيل القول فيه إذا نذر أن يأتي مسجداً من المساجد سوى المسجد المحرم، قال العلماء: إذا أطلق النذرَ، [و] (3) عيّن مسجداً سوى المسجد المحرم؛ فإن كان المسجدُ الذي عيّنه غيرَ مسجد المدينة ومسجدِ القدس، فلا يلتزم بالنذر شيئاً أصلاً؛ فإنه ليس في قصد مسجد بعينه غيِر المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومشجد المدينة، ومسجد إيليا- قُربةٌ مقصودة، وما لا يكون عبادةً، ولا قربة مقصودةً، فهو غير ملتزَم بالنذر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا ومسجد إيليا " (4) أراد المسجد الأقصى، وكان شيخي يفتي بالمنع عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد، وربما كان يقول: يكره، وربما كان يقول: يحرم تعلّقاً بظاهر

_ (1) ر. المختصر: 5/ 23. (2) في الأصل: " منه ". (3) (الواو) زيادة اقتضاها إقامة العبارة والمعنيُّ بإطلاق النذر عدمُ تقييده بشيء آخر غير الإتيان. (4) حديث " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهما. ر. اللؤلؤ والمرجان: الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 2/ 287 ح882.

النهي. وقال الشيخ أبو علي: لا يحرم ولا يكره- ولكن أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القُربةَ المقصودةَ في قصد المساجد الثلاثة، وما عداها ليس في قصد أعيانها قربة، وهذا حسن لا يصح عندي غيره. فأما إذا نذر إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إتيان المسجد الأقصى، فهل يلتزم بالنذر الوفاءَ؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يلتزم؛ إذ لا يتعلق بالمسجدين نسك، فصارا كسائر المساجد. والثاني - أن النذر يلزم الوفاء في المسجدين؛ لأنهما مخصوصان من بين المساجد بمزيّة، كما سنبيّن شرحَها في التفريع، إن شاء الله؛ فأشبها المسجد الحرام. التفريع على القولين: 11850 - إن قلنا: لا يلتزم الناذر شيئاً، فلا كلام، وإن قلنا: يلتزم الوفاء بالنذر، فهل يلزمه أمر سوى إتيان [المسجد] (1)؟ فعلى وجهين: ذكرهما الشيخ أبو علي في الشرح: أحدهما - أنه يلتزم قربةً؛ فإن إتيان المسجد من غير قربة زائدة على الإتيان ليس قربة، ولا يستقل النذر ما لم يتعلق بالقربة. والوجه الثاني - أنه لا يلتزم شيئاً سوى الإتيان؛ فإنه لم يذكر غير الإتيان، فلا معنى لإلزامه ما لم يذكره، ولم يلتزمه، ومبنى النذر على الاقتصار على المذكور. التفريع: 11851 - إن حكمنا بأنه يجب ضم قربة من المسجد المأتيّ إلى إتيانه، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها - أنه تتعين الصلاة، فليصل الناذر في المسجد الذي أتاه صلاة صحيحة. ومن أصحابنا من قال: يعتكف فيه لحظة، ومنهم من قال: يتخير بين الصلاة والاعتكاف. وذكر الشيخ أبو علي في الذي أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاء بالنذر أنه لو زار قبر النبي عليه السلام -وهو في خِطة المسجد- وقال: كفاه ذلك؛ فإنه أتى بقربة، وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن زيارة قبر الرسول عليه السلام ليست من

_ (1) في الأصل: " المشي ". والمثبت من (ق).

خصائص المسجد، وليست قربة يعظم قدرها بالمسجد، ولكن اتفق كونها في المسجد. توجيه الأوجه وتفريعها: 11852 - أما من عيّن الصلاة، فمتعلقه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة في مسجدي هذا تعدل ألفَ صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيلياء تعدل ألفَ صلاة في غيره، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره" (1) فإذا كان إلزام النذر بسبب تميز المسجدين -وإنما ميّزهما الشارع بالصلاة- فينبغي أن تكون القُربة المضمومةُ إلى الإتيان صلاةً. ومَنْ عين الاعتكاف رآه آخصَّ القُرَب بالمسجد؛ فإن الصلاة تصح في غير المسجد، بل الأولى لمن يكون بالمدينة أن يتنفل في منزله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُرى متنفلاً في المسجد إلا في ثلاث ليالٍ [من رمضان] (2) فإنه صلى التراويح في المسجد، وكان سببُ ذلك اعتكافَه فيه. ومن خيّر بينهما جمع بين متعلقي الوجهين. 11853 - فأما التفريع: فالذي أراه أن الصلاة إذا أوجبناها، فلا تتقيد في هذا المقام بواجب الشرع قولاً واحداً، بل تكفي ركعة؛ فإن الصلاة ليست مقصودة بالنذر في هذا الموضع، ولا يمتنع أن تجري الصلاة مجرى الصلاة المنذورة؛ من جهة أنها وجبت، فلا تنحط عن أقل درجات الواجب.

_ (1) حديث " صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيلياء ... " قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: ما ذكره في فضيلة الصلاة في المساجد الثلاثة قد ساقه مساق حديث واحد، وهو هكذا بتمامه غير ثابت فيما نعلم. ا. هـ وقال الحافظ متعقباً: معناه في معجم الطبراني الكبير من حديث أبي الدرداء رفعه " الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة بمسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة " ورواه ابن عدي عن جابر، وإسناده ضعيف ا. هـ (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح- بهامش الوسيط: 7/ 278، التلخيص الحبير: 4/ 329 ح 2549). (2) زيادة من (ق).

وأما إذا أقام الشيخ (1) الزيارة مقام الصلاة والاعتكافَ، فقياسه أنه لو تصدق في مسجد المدينة، أو صام يوماًً أنه يخرج عن موجَب نذره، ويجوز أن يقال: الزيارة تنفصل عما ذكرناه لكون المزور في رقعة المسجد، فهو مختص من هذا الوجه. ومما نفرعه في نذر إتيان المسجدين أنا إذا قلنا: يكفي الإتيان المجرد، فليت شعري- ماذا يقول صاحب هذا الوجه إذا أتى باب المسجد وانصرف؟ فإن قال: يكفيه ذلك، فهذا بعيد؛ فإن إتيان المسجد والانصراف عنه على هذا الوجه ليس بقربة، ولا يبعد أن يُلحق بأصناف العبث، وإن قال هذا القائل: لا بد من دخول المسجد، فالدخول من غير قصد الاعتكاف ليس بقربة، وقد ورد النهي عن [إطراق] (2) المساجد من غير حاجة، وإن شرط ضمَّ الاعتكاف، فقد أبطل قاعدة مذهبه في الاقتصار على إتيان المسجد، وتبين بهذا الخبط فسادُ أصل الوجه- ولا يبقى إلا أن يقول صاحب هذا الوجه الضعيف: إتيان المسجد تقرب وتبرك، واستجلاب يُمن، وهذا نازل منزلة زيارة العلماء، وهذا بعيد. وإن تعلق بقصد الاعتكاف، فقد صرح بنقض مذهبه. ومما فرّعه الشيخ في الشرح أن قال: إذا أَلْزمنا إتيان المسجدَيْن بالندر، فلو نذر إتيان أحدهما ماشياً، ففي التزامه وجهان، بناهما الشيخ على التزام المشي قبل الميقات، ووجه البناء أن كلا المشيين وإن لم يقع في عبادة؛ فإنه واقع في القصد إلى بقعة معظمة. ولو نذر أن يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في مسجد إيلياء، فالذي قطع به المراوزة أن النذر مُلزِم قولاً واحداً؛ فإنه التزم قربة، وصرح بالتزامها، وضم إليها مزيّةً تُعظِّمُها، فكان ذلك كالتزام الجماعة في الصلاة المنذورة. وذكر العراقيون ما ذكرناه، وطريقة أخرى - وهي إجراء القولين في هذه الصورة. فهذا ما أردنا أن نذكره في سائر المساجد إذا نذر الناذر إتيانها.

_ (1) المراد الشيخ أبو علي، وقد مضى قوله هذا آنفاً. (2) في الأصل: " أطراف ".

11854 - ونحن بعد ذلك نذكر نذرَ إتيان الحرم. فنقول: إن حكمنا بأن إتيان الحرم من غير نذر يوجب نسكاً، وقلنا: المطلق في النذر يتقيد بواجب الشرع، فإذا نذر الناذر إتيانَ مكة أو إتيان الحرم، يلزمه أن يأتيَ الحرم ناسكاً بحج أو بعمرة، وإن قلنا: ليس على من يأتي مكةَ إحرام، أو قلنا: الملتزَم بالنذر لا يتقيد بواجب الشرع، فكيف حكم النذر في هاتين الصورتين؟ أما الصورة الأولى - وهي إذا وقع التفريع على أن من يأتي مكة لا إحرام عليه، فإذا نذر إتيان مكة، كان كما لو نذر إتيان مسجد المدينة، أو مسجد القدس، وقد مضى التفصيل فيه. ولكنا إن أوجبنا هاهنا الإتيان، وفرّعنا على ضم قُرْبة إلى الإتيان، فمن أصحابنا من قال: تلك القربة حج أو عمرة، فإنهما يختصان بالحرم، ومن أصحابنا من قال: تلك القربة الصلاة؛ تعلقاً بالحديث الذي رويناه، ومنهم من خيّر، ولا يتجه ذكر الاعتكاف على التعيين؛ لأنه لا يختص. وإن سلكنا مسلك الاختصاص، فالنسك أخص، ولو ذكر ذاكرٌ الطواف المجرد لم يبعد، والمخيِّر يخيِّر بين النسك، والاعتكاف، والطواف والصلاة. ولو عين بقعة من بقاع الحرم لا يتعلق به نسك كدار الخيزران ودار أبي جهل ونحوهما، فهو كما لو نذر إتيانَ مكة أو إتيانَ الحرم. ولو قال: لله علي أن آتي بيتَ الله تعالى، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلزمه شيء؛ لأن هذا الاسم لا يختص بالكعبة، وكل مسجد يشار إليه، فهو بيت الله. ومن أصحابنا من قال: يُحمل مطلقُه على الكعبة؛ لجريان العرف بإطلاقه والمراد به الكعبة، والأصح الأول. ولو نوى بذكر بيت الله الكعبةَ، نُزِّل لفظُه على نيته، وكلامنا في اللفظ المطلق. 11855 - ولو نذر إتيان عرفة، فالذي قطع به أئمتنا في الطرق أنه لا يلتزم بهذا شيئاً؛ فإن عرفة من الحل، وليس في إتيانها قُربة، وإنما الوقوف بها ركن من عبادة، فذِكْرُ مكان ذلك الركن لا يُلزم شيئاً.

وقال القاضي إن خطر له شهودُ عرفةَ يومَ عرفة، لزمه، كما لو نذر المشيَ إلى البيت الحرام، وإن لم يخطُِر له ذلك، لم يلزمه شيء. وقال في بعض أجوبته: يلزمه الحج إذا أطلق التزامَ إتيان عرفة، وجواباه مخالفان لما قاله الأصحاب. والذي يجب تحصيله أنه إن أراد التزامَ الحج، وعبّر عنه بشهود عرفة، لزمه ما نواه. وإن قصد الإتيان فحسب، أو قصد الإتيان، ولم يخطر له الحج، ولكن نوى الإتيان يومَ عرفة، فلا يلتزم شيئاً على مذهب جماهير الأصحاب. وللقاضي جواباه كما ذكرناه. [ولو لم] (1) يُرد بذكر يوم عرفة التزامَ الحج، ولكن اعتقد الوقوفَ في ذلك اليوم قُربة، [فالأمر] (2) على خلاف ما [ذكره] (3)؛ فإن الوقوف ممّن ليس مُحْرِماً لا قربة فيه. ثم اعتاد الفقهاء ذكر عبارات في إتيان الحرم، منها الإتيان، والمشي، والذهاب، وجميعها سواء. وإذا نذر أن يضرب بثوبه حَطِيم الكعبة، فهو بمثابة نَذْر إتيانها. 11856 - ومما يلتحق بالفصل أنا إذا أَلْزمنا إتيانَ مسجد المدينة، ثم فرعنا على أنه لا بد من ضم الصلاة، لو صورنا فيه إذا قال: لله علي أن أصلي في مسجد المدينة، فلو أراد أن يصلي في مسجد آخر من مساجد الدنيا سوى المسجد الحرام ومسجد إيليا، لم يخرج عن نذره؛ للحديث المنقول عن الرسول عليه السلام في ذلك. ولو التزم الصلاة في المسجد الحرام، فصلى في مسجد المدينة، لم يخرج عما عليه؛ للتفاوت البيّن المنقول فيه. ولو قال: لله عليّ صلاة في مسجد المدينة، فصلى في مسجد إيلياء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يخرج عما عليه؛ لاستوائهما في التعديل المروي عن المصطفى عليه السلام؛ فإنه قال: " صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في

_ (1) في الأصل: " ولم ". (2) في الأصل: "والأمر". (3) في الأصل: " ذكرناها. والمثبت من (ق).

مسجد إيليا تعدل ألف صلاة في غيره " ومن أصحابنا من لم يخرجه عن موجَب النذر؛ تعلُّقاً بالتعيين المذكور في النذر. ولو قال: أصلي في مسجد المدينة، فصلى في المسجد الحرام، فالأصح أنه يخرج عن النذر، وفيه شيء؛ أَخْذاً من الالتزام. ولو قال: أصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ألفَ صلاة [في مسجد آخر] (1)، لم يخرج عما عليه؛ فإن التفصيل الآيل إلى الصفة لا يقابله العدد، ولو نذر ألفَ صلاة، لم يخرج عن نذره بصلاة في مسجد المدينة. وفي بعض الأخبار: " صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة في المسجد الحرام " (2). وكان شيخي يقول: هذه الزيادة لم يصححها الأثبات، فلا تعويل عليها. فلو نذر صلاة في الكعبة، فصلى في أرجاء المسجد الحرام أجزأه ذلك، هذا ما كان يقول، والعلم عند الله. وهذا منتهى الكلام في نذر إتيان المساجد وما يتعلق به. فقال: " ولو نذر أن يُهدي متاعاً، لم يجزئه ... إلى آخره " (3). 11857 - معظم المقاصد في نذر الهدي الضحايا، وقد مضى في كتاب الضحايا، والمقدارُ الذي نذكره هاهنا أنه إذا نذر أن يسوقَ شاةً أو بدنة، أو ما يذكره إلى حرم الله

_ (1) زيادة أفدناها من (ق). (2) حديث: " صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة في المسجد " الحديث بغير هذه الزيادة التي قال فيها الإمام: " لم يصححها الأثبات " رواه ابن ماجه وأحمد من حديث جابر، والطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء. أما الزيادة فلم تصح فعلاً كما قال الإمام، بل ليس لها أصل كما قال الحافظ في التلخيص (ر. ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1406، وصحيح ابن ماجه للألباني: 1/ 236، المسند: 3/ 397، التلخيص: 4/ 329 - 331 ح 2549). (3) ر. المختصر: 5/ 239.

تعالى ويتقربَ به، فيجبُ الوفاء، ويلزمه تبليغُه مكة، ولا خلاف في التزام ذلك، وكل ما نذكره يؤكد التزام القربات، فإن الهدي في نفسه قُرْبة، وتبليغُه الحرمَ مزيّة، ثم إذا صرح كما ذكرناه، وبلَّغ يلزمه أن يذبح أو ينحر في الحرم، والأصح أنه يلزمه تفرقةُ اللحم ثَمَّ، فلو نقله من الحرم، وفرقه في موضعٍ آخر، لم يُجْزه. ومن أصحابنا من يقول: إذا نحر أو ذبح في الحرم، فلا حجر عليه، ولا حرج لو نقل اللحم إلى موضع آخر؛ فإن الذبح قُربة، وهو لم يقيد نذره بتفرقة اللحم، والأصحُّ الأولُ؛ فإن الذبح إنما يتقيد بالحرم حتى يكون اللحم المفرقُ على أهله غضاً طرياً، وإلا فلا أَرَبَ في اتخاذ الحرم مذابح ومجازر. وما ذكرناه فيه إذا ذكر لفظاً يُشعر بذكر قربة، كالضحية وما في معناها، فلو قال: لله علي أن أذبح بمكة [أو أنحر] (1) بمكة، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن هذا بمثابة نذر التضحية؛ لأن لفظ الذبح محفوف بالنذر من أحد جانبيه، والإضافة إلى مكة [من الجانب الآخر] (2)، وكل واحد منهما يشعر بالقربة، [فصار] (3) بمثابة ما لو ذكر لفظ التضحية. وقال بعض أصحابنا: لا يلتزم بهذا اللفظ شيئاً؛ فإنه لم يذكر عن الملتزَم عبارةً مشعرة بالقُربة، وإنما تثبت القربة بما هو عبارة عنها. فإن ألغينا اللفظ، فلا كلام، وإن أثبتناه، فهو بمثابة ما لو ذكر التضحية، أو غيرها مما يدل على القُربة، وقد مضى التفصيل فيه. 11858 - ولو قال: لله علي أن أضحي بشاة بنيسابور، وأفرق لحمها بها، فالنذر مُلزِم؛ فإن اللفظ صريح عن القربة، وهل يجب تفرقة اللحم بالبلدة التي عينها أم لا؟ فعلى قولين مأخوذين من تفرقة الصدقة ونقلِها، فإن لم نجوز نقل الصدقة، لم نجوز النقل عن البقعة المعينة؛ فإنا إن نظرنا إلى تنزيل المنذور على موجب الواجب في الشريعة، فالنقل ممتنع، وإن تمسكنا باللفظ، فاللفظ صريح في التخصيص.

_ (1) في الأصل: " وأنحر ". (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: " وصار ".

وإن جوزنا نقلَ الصدقة والنذرُ مخصوص لفظاً بأهل البلدة المعينة، ففي جواز النقل على هذا القول وجهان: أحدهما - أن النقل ممتنع، وإن جاز نقل الصدقة، تعلقاً باللفظ وموجبه، وليس في ألفاظ الشارع ما يخصص صدقة الرجل بأهل بقعة، والأخبار التي يتعلق بها من يمنع النقل عُرضةٌ للتأويل؛ إذ لو كانت نصوصاً، لوجب اتباعها، واللفظ القابلُ للتأويل إذا أوّله محقق، واعتضد في التأويل بالدليل، فيصير الظاهر مع ما ذكرناه كالمجمل، ولفظ الناذر في مسألتنا نص صريح غير قابل للتأويل. والوجه الثاني - أن النقل جائز؛ فإن المنذور يتعلق بحقوق الله تعالى، وليس لمن يلتزم حقوق الله تعالى تحكم فيه، والذي يعضد ذلك أنه لا قربة في تخصيص أهل بلدة، وما يبعد عن مسالك القربات، فذكره لغو في النذور- ولم يختلف الأصحاب في أن ما يقيد بالحرم يتقيد به؛ فإنه محل الهدايا، ونهايات القُصود في التقرب بالهدايا أن تبلغ الحرم، كما قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. فصار تبليغها وتفريقها على أهلها من الصفات التي تقتضي مزية في القربة. فيخرج منه أن التقييد وإن كان نصّاً لغو. ولو قال الرجل: لله علي أن أتصدق على زيد هذا، وكان فقيراً فتعيّنه يُخرَّجُ على تَعيُّن أهل البلدة. ثم مهما (1) أبطلنا تقييده، فقد يخطر للفقيه أن النذر يبطل، ويعارضه أن الشرط يبطل، والقُربة تثبت، وهذا يظهر في النذور جدّاً، ويجوز أن يقال: لا يثبت النذر، لا لفساده بفساد شرط مقترن به، ولكن لأن ما التزمه لم يلزمه، وهو لم يلتزم إلا التصدق على زيد أو على أهل البلدة التي عينها، فإن قلنا: لا تتعين البلدة لتفرقة اللحم، فلا تتعين لإراقة الدم فيه، بخلاف الحرم؛ فإن الشرع جعله منحر الهدايا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمنى: " هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر" (2).

_ (1) مهما: بمعنى: (إذا). (2) سبق هذا الحديث في الحدود.

وإن قلنا: تتعين البلدة لتفرقة اللحم إذا عينها -والمسألة مفروضة فيه إذا نص على تفرقة اللحم على أهل البلدة المعينة- فهل تتعين تلك البلدة لإراقة الدم بها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تتعين. والثاني - أنه لو أراق الدم بالقرب، ونقل اللحم غضاً طرياً، جاز، والترتيب جرى على حدّ ما ذكرناه في الحرم؛ فإن الذبح يتعين إيقاعه في الحرم إذا خصصه كما تقدم تفصيله. 11859 - ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بنيسابور، ولم يتعرض لتفرقة اللحم بها، وفرعنا على أنه لو قيد النذر بالتفرقة بتلك البلدة، لوجب الوفاء بموجب تقييده. فإذا أضاف التضحية إلى تلك البلدة، فهل تتضمن إضافةُ التضحية تفرقةَ اللحم على التخصيص؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يتضمن ذلك تخصيصَ أهل البلدة بالتفرقة، فعلى هذا هل تتعين البقعة للتضحية وإراقة الدم؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين، فإن قيل: كيف يثبت الضِّمن (1)، ولم يثبت اللفظ المصرِّح به؟ قلنا: لأن تفرقة اللحم على أهل بقعة مستندة إلى أصلٍ في الشريعة، والتضحية في غير الحرم لا أصل لها. ومن خصص التضحية، فلا محمل لتخصيصها إلا ابتغاء طراوة اللحم إذا فرقت. وإن صور مصور إخراجاً، ونقلاً على القرب، أجبنا عنه بقاعدة الحسم في أمثال ذلك. وكل ذلك تفريع على أن التضحية تُشعر بتعيين تفرقة اللحم. ومن أصحابنا من قال: لا تشعر إضافة التضحية بتخصيص تفرقة اللحم على أهل البقعة [لو] (2) فرعنا على أنه لو صرح بتخصيص البقعة باللحم، لم يتخصص، فتخصيص التضحية على هذا لا أثر له؛ إذ لا تعبد في البقعة، وليست متعيَّنة لتفرقة اللحم، وكل ذلك فيه إذا قال: أضحي بنيسابور. 11860 - فأما إذا قال: أذبح أو أنحر، ولم يذكر لفظة مشعرة بالقربة، فالذي صار إليه المعتبرون أنه لا يلزمه بهذا اللفظ شيء، وذكر العراقيون وجهاً أنه يلزمه ما يلزمه

_ (1) الضِّمن: المراد به تفرقة اللحم على أهل البقعة، مع أنه لم يصرح به. (2) في الأصل: " أو ".

لو ذكر التضحية، وهذا بعيد. ووجهه على بعده اتصال لفظ النذر به، وهو يقتضي القربة، فالمذكور بعده متقيد بلفظ النذر. 11861 - وإذا جمع الجامع هذا إلى ما ذكرناه من نذر الذبح والنحر في مكة من غير لفظ التضحية والهدي، ثبت عنده وجهان إذا فرضت المسألة في مكة: أحدهما - أنه لا يلزمه شيء. والثاني - يلزمه لعلتين: إحداهما - لفظ النذر، والأخرى - الإضافة إلى المكان المهيأ لهذا النوع، ثم إذا فرضت المسألة في تسمية بلدة أخرى مع لفظ الذبح، انتظم فيها وجهان مرتبان على الوجهين المذكورين في مكة، فإن قلنا: لا يلزم بالنذر وإن أضيف إلى مكة شيء، فلأن لا يلزم في غير مكة أولى، وإن قلنا: يلزم ثمَّ، ففي غير مكة وجهان. والفرق تعدد السبب الدّال على القربة في مسألة مكة واتحاد النذر في غيرها. فصل يجمع مسائل تتلقى من مقتضى ألفاظ الناذر في التضحية وما يليق بها 11862 - إذا قال: عليّ أن أضحي ببدَنة، فاسم البَدَنة في اللغة ينطلق على البعير، وجمعها البُدْن. قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] هذا حكم اللسان. ثم أقام الشرع بقرة مَقام بَدَنةٍ، وكدلك أقام سبعة من الغنم مقام بدنة، وهذا واضح في قواعدَ معروفةٍ، وأقربها إلينا أن البدنة تُجزىء عن سبعة، وكذلك البقرة، والشاة الواحدة تجزىء عن واحد، ولا تقبل الشركة، فالسبع من الغنم تَعْدِل فيما ذكرناه بدنة، كل شاة في معادلة سُبعها. فإذا نذر التضحية ببدنة، فهل له أن يقيم مقامها بقرة، أو سبعاً من الغنم؟ اختلف أئمة المذهب في ذلك، فأحسن ترتيب يجمع الغرض ويحويه أن نقول: إن لم يجد الناذر بدنة، فله العدول إلى بقرة، أو سبعٍ من الغنم، وإن وجد بدنة، ففي جواز العدول عنها إلى البقرة والسبع من الغنم قولان. وقد سبق ما يناظر ذلك في كتاب المناسك. توجيه القولين: من لم يجوز العدول عن البدنة استمسك باللفظ، ومن جوّز

العدول تعلّق بموجب الشرع في إقامة [البقرة] (1) والسَّبع من الغنم مقامَ البدنةِ. ومعظم الاختلاف في هذه المسائل يلتفت إلى أن النذر هل ينزل على موجب الشرع، أم يُتمسك فيه بمقتضى اللفظ؟ [هذه طريقة] (2) وأبعد بعض الأصحاب فقلبها، وقال: لا يعدل عن البدنة مع وجودها؛ فإن لم يجدها، ففي إجزاء البقرة والسبع من الغنم قولان، وهذا [غلوٌّ] (3) في التعلق باللفظ، وتشوف إلى منع إخراج الأبدال عما تعين بالنذر، كما يمتنع إخراج الأبدال عن الزكوات المتعينة بتنصيص الشارع، وهذا الذي نحن فيه اشترك فيه اتباع اللفظ، وموجَب الشرع، والالتفات على منع إخراج الأبدال. ولو قال: لله عليّ أن أتصدق بعشرة دراهم، لم يُقبل منه صنف آخر في المال على قياس منع الأبدال في الزكوات. ثم إذا جوزنا إخراجَ البقرة والسبعِ من الغنم، فلا يُرْعَى أن يكون المخرج على قيمة البدنة، كما لا ينظر إلى القيم في إخراج الجبرانات عند تفاوت الأسنان انخفاضاً وارتفاعاً. هذا هو المذهب. وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من اشترط أن تكون البقرةُ والسبع من الغنم على قيمة البدنة، وهذا ضعيف، لا أصل له. ثم فرع عليه فرعاً هو أضعف منه، فقال: إذا جوزنا إخراج البدل، وشرطنا رعاية التعديل في القيمة، فلو أخرج خمساً من الغنم تَعْدِل قيمتُها بدنةً، فهل يقبل؟ فعلى وجهين، وكذلك إن تُصوِّر هذا في شاة واحدة، والمصيرُ إلى أن الخمس أو الشاة الواحدة تجزىء عن بدنة بُعدٌ عظيمٌ عن القاعدة، ولولا عظم قدر الناقل -وهو صاحب التقريب- لما استجزت ذكر هذا، ويلزمه على المساق الذي ساقه أن يصير إلى إجزاء [المعيبة] (4) نظراً إلى القيمة، وهذا يجرّ أُموراً مضطربة، لا سبيل إلى احتمالها.

_ (1) في الأصل: " البدنة " وهو سبق قلم واضح. (2) زيادة من (ق). (3) في الأصل: " تعلق ". والحمد لله فقد صدقتنا (ق). (4) في الأصل: " المعينة ".

11863 - وكل ما ذكرناه فيه إذا ذكر البدنة في نذر التضحية، وسننعطف على هذا بذكر خلاف من [فنٍّ] (1) آخر: [فلو] (2) قال: لله عليّ أن أضحي ببعير، أو بشاة، أو بقرة؛ فالذي قطع به القاضي ومعظم المحققين أن مطلق اللفظ محمول على البعير المجزىء وهو الثنيُّ السليم عن العيوب المانعة من الإجزاء، وكذلك القول في البقرة التي سماها، والشاة. وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر، وهو أن اللفظ منزّل على الاسم، فلا يشترط السن ولا السلامة، نعم، لا يجزىء الحوار، والفصيل؛ لأنه لا يسمى بعيراً، ويجزىء الحِقّ، وابن اللبون، وابن مخاض، والمتبع في كل جنس الاسمُ؛ فلا يقبل العِجْلُ، والمذكور البقرة، كما لا تقبل السَّخلة والمذكور الشاة، وهذا مأخوذ من اتباع اللفظ، والمسلك الأوضح مأخوذ من موجب الشرع، وهو متأكد في هذا المقام بذكر التضحية، والتضحية لفظة شرعية مقتضاها أن تنزل على قواعدَ مرعيةٍ في الشريعة، ولو نذر صلاة، لم تقع منه بدَعْوة، نظراً إلى أصل الوضع في اللغة. وهذا التردد في ذكر البعير والبقرة والشاة. فأما إذا ذكر البدنة، وعبّر بالتضحية أو الإهداء، فالمذهب اعتبار حدود الشريعة في السن والسلامة؛ فإن اسم البدنة مشهور مستفيض بالقرابين، ويندر استعماله في غيرها، فلما ازداد التقييد بَعُدَ الخلاف. وذكر العراقيون في ذكر البدنة خلافاً أيضاً في اعتبار السن والسلامة، وهذا بعيد. والحاصل من مجموع ما ذكرناه ترتيبُ الخلاف في البعير والشاة على الخلاف في البدنة، أو جمعُ الكل وإجراءُ ثلاثةِ أوجه على ما لا يكاد يخفى. ويخرج بعد ما ذكرناه وجهٌ أن الحيوان المجزىء لا يلزم ما لم يَنُصَّ على صفاته المرعية في النذر المطلق، ولو نواها، كان كما لو صرح بذكرها، ولو قال: لله علي

_ (1) في الأصل: " في". (2) في الأصل: " ولو ".

هديٌ، فخروج هذا على أصل القولين ظاهرٌ بيّنٌ: من اعتبر اللفظ لم يوجب حيواناً مجزئاً في الضحايا؛ بل اكتفى بأقل المَنْح من أي جنس كان من أجناس الأموال، ومن اعتبر الشرعَ وحكمَه، أَلزم بمطلق هذا اللفظ شاةً؛ فإن أقلَّ اسم الهدي الشرعي يتناول شاةً على السن المعتبر والسلامةِ المشروطة. التفريع: 11864 - إن ألزمنا الناذر ما يجزىء في الضحايا، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه يجب تبليغه الحرم؛ فإن الضحايا في البلاد لا تسمى هدياً، والهديُ المطلق هو الذي مَحِلُّه الحرم، قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. وفي كلام بعض الأصحاب على هذا القول ما يشير إلى أنه لا يجب تبليغُ المنذور الحرمَ ما لم يقع التصريحُ به؛ فإن دماء الحيوانات هي الواجبةُ شرعاً، ولا يجب تبليغُها الحرم، وهذا وهم؛ فإنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع، والهدي ظاهر في ألفاظ الشرع في اقتضاء التبليغ إلى مكة. وإن لم نُلزم بلفظ الهدي حيواناً، واكتفينا بأقل المَنْح أخذاً من الهدية، فقد قطع الأصحاب على ذلك بأنه لا يجب تبليغُه مكةَ، وكان شيخي في دروسه يقطع بأنه يجب تبليغه مكةَ، وهذا تناقض. فأما إذا لم نعتبر جنس النَّعم في الهدي، فلأن لا نعتبر التبليغ -وهو تابع لجنس القرابين- أولى وأحرى، فلا [اعتداد] (1) بهذا إذاً. 11865 - ومما يليق بما نحن فيه أنه لو نذر أن يهدي ظبية، وصرح بتبليغها الحرم، وجب التبليغ، وهذا مما يجب العلمُ به على ثقة، فكل قُربة مالية التُزمت، وأضيفت إلى مكة، وجب تبليغها الحرمَ، ولا يختص ذلك بالقرابين. ثم قال المحققون: إذا ذكر ظبية، لم يذبحها، ولكن تصدق بها حيّة؛ فإن الذبح يَنْقُصُها، وليس في ذبحها قُربة، وكذلك القول فيما عدا جنس النَّعم من الحيوانات. وإذا قال: لله علي أن أهديَ بعيراً، وأوجبنا التبليغ، وجوزنا المعيب، فهل يكون كالظبية حتى لا يُنحر، بل يتصدق به حياً أم ينحر؟ فيه تردد للاصحاب: فمنهم من

_ (1) في الأصل: "اعتدال".

راعى الجنس؛ ورأى الذبح. وهذا رديء؛ ومنهم من قال: إذا كان لا يجزىء في الضحايا لنقصان شيء أو اتصافٍ بعيب مانع من الإجزاء، فهو كالظبية. ولو قال: لله علي أن أُهديَ هذا، وأشار إلى ثوب، أو غيره من صنوف المال، والتفريع على وجوب التبليغ- فإن كان ما ذكره شيئاً لا يُنقل، بيع، ونقلت قيمته إلى مكة، وتصدق بها، وإن كان ذلك الشيء منقولاً في نفسه، فإن عسر نقله، كحجر الرحا وما في معناه، فهو كالعقار، وإن كان ذلك الشيء مما ينقل مثله، فينقله ويتصدق به على أهل مكة. ولو كان ثوباًً يتأتى ستر الكعبة به، فالستر من جملة القربات، وفي اعتياد الناس ذلك في العُصر الخالية، وعدم النكير من علماء الشريعة ما يوضح ذلك، وفي بعض ألفاظ الرسول عليه السلام ما يدل عليه، وكذلك تطييبُ الكعبة من هذه الجملة. ولكن إن نوى من جَعَلَ الثوبَ هدياً ستْرَ البيت، نُزّل لفظه على نيته- وكذلك لو صرح بهذه الجهة، ولو نوى التصدق، فلا معدل عنه. ولو أطلق اللفظ، فالذي قطع به المحققون وجوبُ حمله على الصدقة، ومَنعْ العدول عنها؛ فإن الصدقة هي المفهومة من ظاهر لفظ الإهداء، وهي أصل القربات في الباب، فلا عدول عنها من غير لفظ أو قصد. وفي بعض التصانيف أن الثوبَ الصالحَ [للستر] (1) يحمل مطلق اللفظ فيه على الستر، وهذا كلام سخيف، لا أصل له، ولا اعتداد به. ثم إذا كان عيّن ثوباًً أو غيره من صنوف الأموال، وبلّغه مكة، فأراد بيعه، وتفرقة ثمنه، فالذي ذكره الأئمة -وهو قياس المذهب- أن بيعه يمتنع، لتعلق لفظ الإهداء بعينه، وإمكانِ التصدق به، ومصيرِ ما عيّنه بمثابة ما يعيّنه الشارع في الزكوات، وهذا كتعيين الضحايا، أو كتعيين إهداء حيوان ليس من قبيل النَّعم، ولو كان يعسر التصدق بعينه، ولا يتأتى جَمْعُ المساكين وتسليم المعين إليهم، فهو بمثابة ما لو فرض مثل ذلك في الزكوات، فلا معدل عن المعين.

_ (1) في الأصل: " التستر ".

وكل ما ذكرناه من الصرف إلى الستر عند اللفظ أو القصد، والصرف إلى الطِّيب، فهو يقوي مذهب المتأخرين في التزام القربات التي لم تشرع للعبادات، ولا جواب للمتقدمين عن هذه الفنون. ولو فرض تقييد اللفظ بتطييب مسجد المدينة أو مسجد إيلياء، أو مكان الصخرة، أو غيرهما من المساجد، فالأمر متردد عندنا: لا يمتنع ألا يلزمَ ما أشرنا إليه، ويختص ما ذكرناه بالمسجد الحرام، والكعبة، والعلم عند الله. 11866 - وذكر الشيخ في شرح التلخيص كلاماًً ظاهره أن من نذر الصوم بمكة يلزمه الصوم بها، ولو صام بغيرها، لم يُجْزه، وقد قرن بين الصلاة والصوم في هذا المعنى، وقد نص الأصحاب في الطرق على مخالفته في ذلك؛ فإن الأخبار والآثار إنما وردت في الصلاة، فلا مزيد عليها، والستر والتطييب ملحق بها. ولا خلاف أن التصدق إذا أضيف إليها، وجب الوفاء أخذاً من القرابين، فأما الصوم، فلم يَرِد فيه ثبتٌ، ثم من أوجب الوفاء بإقامة الصوم بمكة ترددوا في غيره من العبادات بعد استثناء ما استثنيناه، ولا يخفى أن الاعتكاف إذا أضيف إلى المسجد الحرام، تعين له؛ فإنا قد نعيّن بعض مساجد البلاد للاعتكاف إذا عيّنه الناذر. وقد نجز الغرض في هذا الفن. فصل قال: " ولو نذر عدَدَ صومٍ، صامه متفرقاً ومتتابعاً ... إلى آخره " (1). 11867 - لا خلاف أن الصيام يُلتزم بالنذر، ولو نذر صوم أيام، ولم يتعرض للتتابع، فهو بالخيار في الإتيان بها متتابعة أو متفرقة. وكذلك لو نذر صوماً إلى شهرٍ أو سنة، فإن شاء فرّق وإن شاء والى وتابع. ومن مقاصد هذا الفصل أن من عيّن يوماً [لصومه] (2) المنذور، فالمذهب الأصح

_ (1) ر. المختصر: 5/ 239. (2) في الأصل: " بصومه ".

أنه تتعين تلك الأوقات للصوم على حسب تعيينه، وقال بعض أصحابنا: تعيين الزمان في الصوم كتعيين المكان له، فإذا عيّن، لزمه الصومُ (1)، كما لو أطلق النذرَ من غير التعيين، وهذا الوجه -على بعده- منقاس، ذكره طوائفُ من أئمة المذهب، منهم الصيدلاني. ومن آثار الخلاف أنه إذا عيّن أن يصوم يوم الخميس، فأراد أن يصومَ يوماً قبله، فوقوعه عن النذر خارج [على] (2) الخلاف، وإن انتهى إلى ذلك اليوم، [ولم يصمه] (3)، فيلزمه صوم يوم بعده بلا خلاف، ثم هو أداء أم قضاء؟ فعلى ما ذكرناه في الخلاف. ولا خلاف أنا وإن عيّناه، فلو أوقع فيه قضاءً أو صومَ كفارة، صح، ولا يبلغ تعيينه مبلغاً ينافي صوماً غيرَه بخلاف تعيين أيام رمضان لصيامها، ولا يثبت في اليوم [المعين] (4) -تفريعاً على الأصح- خواصُّ صوم رمضان من الكفارة عند الإفطار بالوقاع، ووجوب الإمساك بعد الإفطار. ولو نذر صوم أيامٍ وقيدها بالتفريق، ففي التزام التفريق بالنذر وجهان بناهما بعض الأصحاب على اختلاف القول في أن التفريق بين الأيام الثلاثة والأيام السبعة في صوم التمتع هل يُستَحق شرعاً، وفيه خلاف ذكرته، والأولى عندنا تقريب الوجهين -في وجوب التفريق- من تردد الأصحاب في أن الأوقات هل تتعين للصيام إذا عُيّنت له؟ فإن قلنا: إنها تتعين، فلا يبعد حمل استحقاق التفريق على هذا الأصل، كما لو قال: لله علي صوم الأثانين، فلا شك أنه يأتي بالصوم على صفة التفرق. وهذا تكلف؛ فإن الذي يعيّن الأوقات [يجرد] (5) قصدَه إلى تعيينها، والذي يذكر

_ (1) لزمه الصوم: أي لزمه الصوم فقط، ولم يلزمه زمان ولا مكان، كما لو أطلق لفظه. (2) في الأصل: " عن ". (3) في الأصل: " لم يصمه ". (4) زيادة من (ق). (5) في الأصل: " مجرد".

التفريق ليس تعيين الأزمنة من باله وعزمه؛ ولذلك كان الأصح أن التفريق لا يُلتزَم، والأصح أن الأوقات تتعين إذا عيّنت. 11868 - ولو عيّن الناذر للصوم المنذور شهراً أو سنةً، وجرينا على الأصح في تعين الوقت، فالصوم يقع في الشهر تباعاً، لا لكون التتابع مستحَقاً في نفسه، ولكن تعيّن أيام الشهر يقتضي هذا المعنى لا محالة. ولو أفطر الناذر يوماًَ من الشهر لم يَفْسُد عليه ما مضى، والقول في هذا كالقول في تعين أيام رمضان لصيامها. ولو عين للصوم شهراً، وقضينا بتعيّنه، وضمّ إلى تعيينه ذكر التتابع، فقال: لله علي أن أصوم شهر شعبان من السنة الفلانية متتابعاً، فللأصحاب في ذكر التتابع وفي التعيين خلاف: فمنهم من يلغيه، ولا يُثبت حكمَه، ولا يُثبت إلا موجَبَ التعيين، ومنهم من يُثبت مقتضى التتابع قائلاً: لو أفطر في اليوم الأخير مثلاً، فسد عليه جميعُ ما تقدم، ولزمه القضاء على صفة التتابع، ولو التزم التتابع، ولزمه من غير تعيين، فقد ذكرنا ما يقطع التتابع، وما لا يقطعه، ومحلَّ الوفاق والخلاف في كتاب الظهار، والتتابع اللازم نذراً كالتتابع اللازم شرعاً. 11869 - ولو قال: لله عليّ أن أصوم سنة، لم يخل: إما أن يعينها، أو يطلقها، فإن عيّن، وفَّى، ولم يجب عليه أيام رمضان والعيدان، وأيام التشريق، وكفاه ما سوى هذه الأيام؛ فإن الشرع قد استثنى بعضَها للصوم، وبعضَها للفطر، وإذا طرأ على السنة المعيّنة عذرٌ يجوز الإفطار بسببه في أيام رمضان، كالمرض، والحيض، فله الإفطار. وفي لزوم القضاء خلاف، ذكره الإمام (1) وغيره. ومن أصحابنا من أوجب القضاءَ قياساً على الصوم المفروض شرعاً، وتنزيلاً للمنذور على المشروع، ومنهم من لم يوجِب القضاء، [وجعل] (2) هذه الأيام مستثناةً بالرخصة كأيام رمضان، حيث استثناه الشرع لجهة أخرى.

_ (1) الإمام: يعني به والده. (2) في الأصل: " وجهل ".

ولو سافر الناذر، فله الإفطار، والظاهر وجوبُ القضاء، بخلاف الأعذار المنافية للصوم، كالحيض أو المسوِّغة للفطر عن حاجة حاقّة كالمرض. ولو نذر صومَ سنة وأبهمها، ولم يعينها، صام اثني عشر شهراً بالأهلّة، فلو استفتح الصومَ من أول المحرم من سنةٍ، ثم تمادى إلى انقضاء السنة، وصام رمضان شرعاً، وأفطر في الأيام التي يُستحق الفطر فيها، فالذي قطع به الأصحاب أنه يلزمه أن يصوم في مقابلة شهر رمضان شهراً آخر، وفي مقام أيام الفطر أياماً؛ فإن تنكير السنة يقتضي إتمامَ الصيام. وذكر الصيدلاني أنه وإن نكّر السنةَ إذا استقبل سنة، وافتتح الصوم من المحرم إلى المحرم، كفاه ما أتى به. وهذا زللٌ وهفوة من هفوات الكتّاب. والممكن في توجيهه أن من فعل هذا يقال صام سنة، وهذا تكلف بعيدٌ لا أصل له. فصل قال: " ولو قال: لله علي أن أحج عامي هذا ... إلى آخره " (1). 11870 - إذا نذر حَجّةً وعيّن لها عاماً، فالقول في تعيين [العام] (2) لها وفاءً بالنذر، كالقول في تعيين اليوم للصوم. فإذا جرينا على المذهب الصحيح، ألزمناه إيقاع الحج في العام المعيّن وفاءً بالنذر؛ ولو حج قبل ذلك العام، لم يُعتَدَّ بما جاء به عن نذره، كما قررناه في الصوم، فلو صُدّ بعد الإحرام وتحلَّلَ أو امتنعَ عليه الإحرام لمكان [الصدّ] (3)، فالمنصوص عليه، وهو ظاهر المذهب أنه لا يلزمه قضاءُ الحج. وخرّج ابنُ سريج قولاً آخر أنه يلزمه القضاء، كما لو عيّن يوماًً للصوم المنذور، ثم طرأ فيه عذر، وهذا التخريج مع النص يقربان من الخلاف الذي ذكرناه في الأعذار الطارئة في أثناء السَّنَةِ المعيَّنةِ.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 239. (2) في الأصل: "اليوم ". (3) في الأصل: " الصيد ".

ولو امتنع عليه الحج للمرض، أو لعدم الاستطاعة، فقد خرّج أصحابُنا هذا على الخلاف أيضاً، وفرق فارقون بين الصد بالعدو وبين الامتناع بهذه الأسباب، وينتظم من الصد وغيرِه من الأعذار ثلاثُ طرق: أحدها - وجوب القضاء. والثاني - نفي القضاء. والثالث - الفصلُ بين الصد بالعدوّ، وبين غيره من المعاذير، والفارق أن للصدّ مزيدُ وقعٍ ليس لغيره، ولذلك اختص جواز التحلل به. فصل قال: " ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يَقْدَم فلانٌ ... إلى آخره " (1). 11871 - نُقدِّم على مقصود الفصل تفصيلَ المذهب في تبعيض الصوم بالنذر، فإذا أصبح الرجل صائماًً متطوعاً، ونذر إتمامَ الصوم في بقية اليوم، لزمه الوفاء بالنذر وفاقاً، ولو أصبح ممسكاً، وما نوى ليلاً، فالتطوع بالصوم ممكن منه بأن ينوي قبل الزوال أو بعده، على الخلاف المشهور في ذلك، فلو نذر أن يصوم [هذا اليومَ] (2) على هذا الوجه، وقيد النذرَ، ولم يُطلق التزام صوم يوم، فهل يلزمه الوفاء؟ فعلى قولين مأخوذين من تنزيل المنذور على واجب الشرع؛ فإن نزلناه عليه، لم يصحَّ النذرُ كذلك، وإن نزلناه على ما يصح -وإن لم يكن فرضاً- صح هذا ولزم. والذي أراه أن الأصحَّ اللزومُ؛ فإني صوّرت [النذرَ] (3) مقيَّداً، والقولان جاريان في لفظٍ مُطْلَقٍ على الصلاة التي تتردد بين الركعة والركعتين. ولو قال: لله علي أن أصليَ ركعة واحدة، فقد قال الأصحاب: لا يلزمه غيرها، وقالوا: لو قال: علي صلاة أقيمها قاعداً، يلزمه القيام إذا قيدنا المنذور بواجب الشرع، وتكلفوا فرقاً، ولا فرق؛ فيجب تنزيلها على الخلاف، وكيف لا يكون

_ (1) ر. المختصر: 5/ 239. (2) زيادة من المحقق على ضوء السياق، وأخذاً من عبارة الغزالي في البسيط. (3) في الأصل: " النية ". والمثبت من الشرح الكبير، حيث نقل الرافعي عبارة الإمام بنصها (الشرح الكبير: 12/ 372) ثم جاءت به (ق).

كذلك- وقد ذكرنا الخلاف في نذر الصوم نهاراً، حيث يجوز التطوع بالصوم، وهذا بالإضافة إلى الصوم الواجب شرعاً بمثابة الركعة إلى أقلِّ واجبٍ في الصلاة، وانتظم الصوم والصلاة على قضية. ولو قال: لله علي صومُ يومٍ، لم يكفه أن ينوي نهاراً لاسم اليوم-[وإن] (1) قلنا: المتطوع لو نوى نهاراً، انعطفت النية- فلا يقع الاكتفاء (2) بهذا، والمنذور يومٌ. [ولعِلّةِ] (3) مَنْعنا نذرَ صومِ بعضِ يوم، فلو قال: لله علي صومُ بعضِ يوم، فللأصحاب وجهان: أحدهما - أن النذر يلغو؛ فإنه [التزم] (4) ما لا يمكن الوفاء به. ومنهم من قال: يلزم صوم يوم كامل بنية مُبَيَّنة. ويُخرَّج على هذا أنه لو قال: لله علي أن أركع أو أسجد -والركوع الواحد لا يلتزم بالنذر- فهل يلزمه ما يلزم ناذر الصلاة؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه آنفاً. وكان شيخي يقطع بأن السجدة الفردة لا تلتزم بالنذر -وإن كان التالي يسجد- فإن السجدة الفردة من غير سبب ليست قربة على الرأي الظاهر كما قررته في كتاب الصلاة. فهذا ما أردنا تقديمه. 11872 - والآن نعود إلى مقصود الفصل: فإذا قال: لله علي أن أصوم يوم يَقْدَم (5)

_ (1) في الأصل: " فإن ". والمثبت من تصرّف المحقق، رعاية للسياق. (2) سبق أن عَرَضت هذه المسألة، وقال الإمام: يكفيه نية صوم هذا اليوم، ويقع عن نذره، مخالفاً ما قاله هنا. وقد سجل الغزالي ذلك في البسيط، حين عرض لهذه المسألة، حيث قال: " ولو قال: لله علي صوم يومٍ، فنوى نهاراً -والتفريع على تنزيل النذر على الممكن، لا على الواجب، وقلنا: إن الناوي نهاراً صائم من أول اليوم- فالقياس أنه يكفيه، كما ذكرنا من قبل. وقد ذكر الأمام هاهنا القطع بأنه لا يكفيه، وذكر في الفصل السابق أنه يكفيه، وأحدهما غلط لا محالة، أو فيه وجهان. والذي أظنه أنه يكفيه، والآخر بعيد، لأنه التزم صوم، وهذا صوم يوم، وإن جرت النية نهاراً " (ر. البسيط: الجزء السادس/ورقة 85 وجه). (3) في الأصل: " ولعل ". (4) في الأصل: "التزام". (5) يقدم: من باب تعب.

فلان، فإن قَدِم ليلاً، لم يلتزم شيئاً؛ لأنه قيد القدوم باليوم، وإن قدم نهاراً، فالوفاء بالنذر غيرُ ممكن في يوم القدوم مذهباًً واحداً. فإن قيل: هلاّ خرّجتموه على جواز تبعيض اليوم في نذر الصوم؟ قلنا: ما قدمناه فيه إذا خصص النذر ببعض اليوم، وهذه المسألة التي نحن فيها مفروضة فيه إذا سمى اليوم، فقال: يومَ يقَدُم فلان، فيلزم بموجب اللفظ صوم جميع اليوم، فإذا تعذر الوفاء في هذا اليوم، فلا يجب الإمساك أصلاً، ولو كان أصبح صائماًً متطوعاً، فلا يلزم إتمام الصوم؛ فإن ما يأتي به لا يقع وفاء، فلا وجه لإلزامه. وهل يجب قضاء يوم بسبب ما تعذر؟ في المسألة قولان مشهوران، ومأخذهما مما هو متفرِّع عليهما، وهو من باب التفاف الأصل بالفرع والفرع بالأصل- وذلك أنه إذا قدم نهاراً، فتقدير وقت الوجوب يعقب القدوم أم يستند إلى أول النهار؟ فيه قولان، وعليه يخرج الأصحاب الطلاق والعَتاق إذا عُلق بيوم القدوم. فإذا قال مالك العبد: أنت حر يوم يقدَم فلان، ثم باعه بكرةً، وقدِم فلان ضَحْوةً، فإن قلنا بالتقدم، حكمنا ببطلان البيع ومصادفته حراً، وإن حكمنا بالاستعقاب، فالبيع على نفوذه، والصفة لم تصادف محلاً (1)، وفرض ذلك في الطلاق ظاهر. ووجه بناء غرضنا من الصوم أننا إن أسندنا (2)، أوجبنا قضاء يوم؛ فإن يوم القدوم يوم تبيّنا استحقاق صومه بالنذر، وقد عسر أداؤه، فلزم قضاؤه. وإن لم نقل بالإسناد، فالقدوم يستعقب تقدير الوجوب، فكأن الناذر نذر إيقاع الصوم في بعض يوم، وذلك مستحيل لا يلتزم. هذا وجه البناء. فإن قيل: ذكرتم خلافاً بأن من نذر صوم نصف يوم هل يلزمه صومُ يوم تكميلاً لما بعّضه، وتنزيلاً للفظ البعض على الكل. قلنا: ذاك فيه إذا أطلق التزام صوم نصف يوم، وصوم نصف يوم صحيح مع نصفٍ آخر، وكان التكميل على هذا التأويل. فأما

_ (1) المراد بالصفة الصفة التي علق العتق عليها، وهي قدوم فلان، فحين وقعت الصفة لم تصادف محلّ العتق المعلق عليها، فلم يكن يملك الناذر عبداً يعتق. (2) أسندنا: أي حكمنا بأن الوجوب يستند إلى أول نهار القدوم.

إذا نذر صومَ يوم مُوقَعاً في بعض يوم، فهذا مستحيل، والمستحيل لا يُلتزَم، وليس [يُكمّل] (1)، وقد قال الأصحاب لو قال: لله علي أن أحج في هذه السنة، وقد بقي يومٌ، وهو على مائة فرسخ، فالنذر باطل، وإذا بطل هذا لِعُسْر التوصل، فلأن يبطل ما لا يتصور أولى. ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يقدَم فلان، وجرينا على مذهب الإسناد، فنوى صوم يوم، وبيت النية بناء على وعد كان [يثق به] (2) في مقدَم ذلك الشخص، ثم صدق الموعد؛ ففي صحة الصوم عن النذر وجهان: أحدهما - المنع لتردد النية. والثاني - الصحة للبناء على أصل مظنون، وقد ذكرنا لهذا نظيراً في صوم يوم الشك. فصل قال: " ولو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدَم فيه فلان أبداً ... إلى آخره " (3). 11873 - قال الأصحاب: غرض الفصل التزام صوم يوم معيّن من الأسبوع أبداً، فلا معنى للفرض في القدوم، فإذا قال: لله علي أن أصوم يوم الإثنين أبداً، لزمه الوفاء بنذره. والتفريع على التعيين ووجوب الوفاء به، فإن صُوّر هذا في يوم القدوم، [ساغ] (4)، فيلزم صوم ذلك اليوم من كل أسبوع في المستقبل، وفي يوم قدومه التفصيلُ الذي ذكرناه. ثم إن صادف اليومَ المعيَّنَ، عُذرٌ، ففي وجوب القضاء الخلافُ الذي ذكرته في اعتراض المعاذير في السنة المعيّنة.

_ (1) في الأصل: " تكميل ". (2) في الأصل: " بناء على وعدٍ كان منويه " وهو تصحيف واضح. والمثبت من مختصر العز بن عبد السلام. (3) ر. المختصر: 5/ 240. (4) في الأصل: " شاع ".

ولو صادف ذلك اليومَ يومُ حيضٍ، وما كان غلبت لها عادة في ذلك اليوم، ففيه الخلاف المقدم. ولو كانت تحيض عشرةَ أيام، فالمذهب أن ما يتعطل في نوبة حيضها لا يُلتزم قضاؤه، وإن كان الصوم في يوم الحيض مقضياً في رمضان؛ لأنه إذا غلب على الظن فساد يومٍ في نوبة، فهي في مفتتح أمرها لا تكون ملتزمةً لصوم اليومِ في تلك النوبة، ولو قدرناها ملتزمةً، لكانت ناذرةً صوم يوم من الحيض، وإذا نذرت المرأة صوم أيام الحيض، لم يلزمها قضاء. ومن أصحابنا من أوجب القضاء؛ لأن امتداد نوبة الحيض مظنون. ولو صادف اليومُ المعينُ يومَ العيد، ففي القضاء وجهان، وليس كما لو نذر الناذر صوم سنة معينة، فلا قضاء في مقابلة العيدين، وأيامِ التشريق، وأيامِ رمضان؛ لأن هذه الأيام تقع في السنة المعينة لا محالة؛ فهي مستثناة شرعاً، وموافقة اليوم المعين يوم عيد ليس مما يقع قطعاً. ومن لم يوجب القضاء قال: إذا وقع، فقد تبين أنه مما لا بد منه؛ فإن معلوم الله لا يتغير. قال الأصحاب: الأثانين الواقعة في رمضان لا يقضيها؛ [فإنها تقع] (1) لا محالة إلا الخامسة منها، [فإنه] (2) يقِع في كل شهر كلُّ يومٍ أربعَ مرات قطعاً، والخامس على التردد، وما يقع على التردد يُخرَّج على الخلاف. ولو نذر صوم الإثنين أبداً، ثم التزم بكفارة صوم شهرين متتابعين بعد النذر، فإذا أراد صوم الشهرين، جاز له ذلك، ووقع عما نوى، ويلزمه قضاء تلك الأيام الواقعة في الشهرين؛ فإنه أدخل على نفسه بعد النذر التزام الشهرين، ولم يكن هذا كالمعاذير التي تطرأ، ولو كان لزمه صوُم الشهرين من قبلُ، فنذر صوم الأثانين بعد ذلك، فالأصح أنه إذا صام الشهرين، لم يلزمه قضاءُ ما يقع في الشهرين من الأثانين

_ (1) في الأصل: " فإنها لا تقع ". (2) في الأصل: " فإنها ". والمثبت من (ق).

لا محالة، كما يقع منها في شهر رمضان، والجامع تقدم الوجوب على نذر صوم الأثانين. وأبعد بعض أصحابنا فأوجب القضاء، وإن تقدم وجوب الشهرين بخلاف رمضان، وتشوف إلى الفرق بين ما يجب بإيجاب الله تعالى، وبين ما يجب بفعل الناذر. وهذا ليس بشيء. فصل 11874 - إذا نذر صوم يوم العيد، لم يلزمه شيء، كما لو نذرت المرأة صوم أيام حيضها، فإن الصوم لا يلزمها. ومعتمد المذهب أن يوم العيد لا يقبل الصوم كأيام الحيض، والخلاف مع أبي حنيفة (1) رضي الله عنه مشهور. وفي [نذر] (2) صوم يوم الشك خلاف، وكذلك في نذر الصلوات في الساعات المكروهة، وقد تقدم ذلك كلُّه مع زوائدَ ومزايا. فرع: 11875 - من نذر صوم الدهر، لزمه الوفاء، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام الدهر، فلا صام " (3) محمول على صوم العيدين، وأيام التشريق وفاءً بالاستغراق، وهذا مُحَرَّمٌ. ثم إذا أفطر الناذر في يومٍ من غير عذر، لم يُتصور منه قضاؤه؛ فإن سائر الأيام مستحقة للنذر أداءً، فالوجه أن يبتدر، ويتصدق بمُدٍّ؛ فإن الصوم المنذور يقابَل بالفدية التي يقابل بها صوم رمضان على المذهب الظاهر. ولو أفطر يوماً بعذر، فلا قضاء، ولا فدية. كما لو أفطر في رمضان بعذر، ومات قبل التمكن من القضاء. ولو أفطر يوماًً من غير عذر، ثم نوى قضاء ذلك اليوم، فهل يصح -وإن كان

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 325، رؤوس المسائل: 522 مسألة: 381. (2) زيادة من (ق). (3) حديث " من صام الدهر فلا صام " متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (البخاري: الصيام، باب حق الأهل في الصوم، ح 1977، مسلم: الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، ح 1159).

الواجب غيرَ ما فعل-؟ الوجه أن يصح ثم يلزمه بدلُ ما تركه من الأداء في ذلك اليوم، المُدُّ الذي ذكرناه. ولو تمادى على هذا النسق، فلا يستفيد بهذا إلا تَرْكَ الواجب، والانتسابَ إلى المعصية، والتزامَ مُدٍّ في آخر الأمر. وإذا قلنا: يصوم عن الميت وليّه، فإذا أفطر يوماً عمداً، فهل يصوم عنه وليه في حياته؛ من جهة تعذر القضاء منه؟ الظاهر عندنا جواز ذلك، وهذا فيه احتمال؛ من جهة أنه قد يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له ويتصور تكلف القضاء عنه. فرع: 11876 - إذا نذر فعلاً مباحاً، لم يلتزمه، مثل أن يقول: " نذرت أن أدخل الدار "، ولكن هل يَلْتزِم الكفارةَ؟ قال القاضي: يلتزمها، وتعلق بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نذر وسمّى فعليه ما سمى، ومن نذر ولم يسمّ، فعليه كفارة يمين " (1). وهذا (2) غير صحيح عندنا. بل قوله نذرت [أن أدخل] (3) كناية في اليمين، كما ذكرته في موضعه، فإلحاق هذا بالأيمان مطلقاً لا وجه له، والخبرُ فيه إجمالٌ. وهو مردد بين الغَلَقِ وبين النذر. ولو نذر معصيةً مثل أن يقولَ في نذره: أشرب الخمر، أو تقول المرأة: أصوم أيام حيضي، فقد ذكر القاضي وجهين في ذلك، وقطع في المباحات بلزوم الكفارة، وهذا خبطٌ. والوجه تخريج ذلك على أن النذر هل يكون كناية في اليمين؟ ولا معنى لتخصيص المباحات عن المعاصي؛ فإن المباح لا يلتزم عينُه بالنذر. ومما يجب التنبه له أنا إذا حملنا هذا على اليمين، فالكفارة تقف على الحِنث، والقاضي ألزم الكفارة من غير حِنث؛ تمسكاً بالخبر، وقطع في المباح، وردّد الجواب في المحظور مَصيراً إلى أن لفظ النذر يناقض المعاصي، وقد رأيت لصاحب التقريب قولاً حكاه عن تخريج الربيع موافقاً لما ذكره القاضي، نقله وزيّفه.

_ (1) حديث " من نذر وسمّى فعليه ما سمّى ... " رواه البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً، وذكر أنه روي أيضاً عن ابن عباس موقوفاً (السنن الكبرى: 10/ 72). (2) " وهذا غير صحيح ": الإشارة إلى كلام القاضي، لا إلى الحديث. (3) في الأصل: أن لا أدخل.

ويخرج على ذلك ما إذا نذر أن يذبح ولده، فإنه نَذْرُ معصية، ففي الكفارة الترتيب الذي ذكرناه. وأبو حنيفة (1) رضي الله عنه يوجب على ناذر ذبح الولد ذبحَ شاة. فرع: 11877 - إذا قال: لله علي صوم، إن شاء الله- فقد قال القاضي: لا يلزمه بالنذر شيء. وهذا صحيح. ولو قال: لله علي صوم إن شاء زيد، فشاء زيد، قال القاضي: لا يلزمه شيء؛ فإن الناذر يجب أن يجزم النذر لله تعالى، فإذا ردد، لم يكن متقرباً. وهذا عندي خطأ؛ فإن تقديره إن شاء، فلله علي صوم، وهو بمثابة ما لو قال: إن قدم زيد، فلله علي كذا من صوم أو غيره. ...

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 316، رؤوس المسائل: 523 مسألة: 382، الغرة المنيفة: 186، الاختيار: 4/ 78.

كتاب أدب القضاء

كتاب أدب القضاء (1) 11878 - قال الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ... } [المائدة: 44 - 45 - 47]، وقال: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]. وقال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ ... } [الأنبياء: 78]، فهذه وأمثالها آيات مشتملةٌ على مخاطبة الأنبياء بالحكم كما خوطبوا بتبليغ الرسالة. وذم تعالى أقواماً يمتنعون عن الحكم، ومدح آخرين يأتونه مذعنين- فقال في الأولين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48]. وقال في المذعنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]. ومن هذا استحب بعض أصحابنا أن يقول المدعوّ إلى مجلس القاضي: سمعاً وطاعةً تأسياً بقوله تعالى؛ فإنه عز من قائل عدَّ هذا من سبيل المؤمنين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أحكم بالظاهر " (2).

_ (1) منذ باب جامع الأيمان لم يكن عندنا إلا نسخة وحيدة هي (ت 6)، وعليها استمر العمل في هذا الجزء إلى أن جاءتنا نسخة (ق) والكتاب ماثل للطبع، فكان لابد من مقابلتها، والحمد لله وافقتنا غالباً فيما قدرناه من تصويبات وتقديرات لما كان من خلل في هذه النسخة الوحيدة. وقد نبهنا على هذه الموافقة أحياناً. (2) حديث " إنما أحكم بالظاهر ... " قال الحافظ: هذا الحديث استنكره المزني فيما حكاه ابن كثير عنه في أدلة التنبيه ... وقد ثبت في تخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي سبب وقوع هذا الوهم من الفقهاء في جعلهم هذا حديثاً مرفوعاً، وأن الشافعي قال في كلام له: " وقد أمر الله نبيّه أن يحكم بالظاهر، والله متولي السرائر ". وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد. وفي الباب حديث عمر " إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى اله عليه وسلم وأن الوحي قد انقطع، وانما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ". أخرجه البخاري: الشهادات، باب =

وقال: " إنكم تختصمون إليّ " الحديث (1). والقيامُ بالقضاء بين المسلمين والانتصاف للمظلومين من الظالمين، وقطع الخصومة الناشبة بين المتلازِمَيْن من أركان الدين، والقيامُ به من أهم الفروض المنعوتة بالكفاية. ثم روى الأئمة أخباراً في الترغيب في القيام بفصل القضاء [وما فيه من مصلحة المسلمين] (2). والمنصب الأعلى من صاحب الولاية الإمامةُ والزعامةُ العامة، وقد خلا هذا المجموع الموضوع للاحتواء على جميع القواعد، ومعظم الفروع عن مبالغ عظيمة في أحكامِ الولايات؛ لانقباضنا عن الخوض في الإمامة؛ فإن الفقهاء لم يذكروها، وألموا بأطرافٍ منها على نهاية التقصير، وشرطُ خَوْضنا في فنٍّ أن نستتمه أو نوفي على التمام فيه (3). فمن أراد أحكام الإمامة، فليطلبها من مجموعاتنا (4) فيها.

_ =الشهداء العدول، ح 2641) وحديث أبي سعيد رفعه " إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس " رواه البخاري: المغازي، باب بعث علي وخالد إلى اليمن، ح 4351. ومسلم: الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، ح 1064. وحديث أم سلمة " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ". [وقد سبق تخريجه]. وحديث ابن عباس " لو كنت راجماً أحداً من غير بيّنة رجمتها " رواه مسلم: اللعان، ح 1497. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ (ر. التلخيص 4/ 352 ح 2605). (1) حديث " إنكم تختصمون إليّ ... " متفق عليه من حديث أم سلمة (البخاري: المظالم، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، ح 2458، مسلم: الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن والحجة، ح 1713). (2) في الأصل: " ومما فيه مصلحة المسلمين ". (3) يعتذر عن إخلاء هذا الكتاب من الكلام عن الإمامة، بأنه لا يريد أن ينحو نحو الفقهاء، فيذكر منها أطرافاً لا تفي ولا تكفي، فهذا ليس من دأبه. ومن ثَمّ أحال على كتابه الذي استتم فيه الحديث عن الإمامة والزعامة. ويعني به كتابه (الغياثي= غياث الأمم في التياث الظلم) وقد وفقنا الله لتحقيقه وإخراجه في صورة نرجو أن تكون على الصورة التي أرادها مؤلفه، أو أقرب ما يكون إليها. (4) مجموعاتنا: المراد مؤلفاتنا ويعني هنا كتاب (الغياثي) كما أشرنا في التعليق السابق، وما ذكره أيضاً في كتابه (الإرشاد) ولعلّ له كلاماً عن الإمامة في غير هذين من مؤلفاته التي لم تصلنا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَيومٌ واحد من إمام عادل أفضلُ من عبادة ستين سنة، وحدٌّ يقام في أرض بحقِّه أزكى من مطر أربعين خريفاً " (1). وقال صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله " (2) الحديث. وقال: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلّط عليه الإنفاقَ بالحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فعلَّمها الناس، وقضى بها " (3). وقال صلى الله عليه وسلم: " أتدرون مَن السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وإذا حكموا للناس حكموا لهم كحكمهم لأنفسهم " (4) إلى غير ذلك من الأخبار. 11879 - ووردت أخبار في التحذير من الخوض في التزام القضاء. قال صلى الله عليه وسلم: " من ولي القضاء، فكأنما ذبح من غير سكين " (5)

_ (1) حديث " ليوم واحد من إمام عادل ... " رواه الطبراني في الكبير والأوسط، قال في مجمع الزوائد: (وفيه سعد أبو غيلان الشيباني، وبقية رجاله ثقات " ا. هـ. وحسّن إسناده الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/ 157). وقال ابن الصلاح: "روي من حديث أبي سعيد الخدري، ولم أجد له إِسناداً ثابتاً، ولكن أحاديث القضاء يتساهل في أمرها". (ر. المعجم للطبراني: 11/ 267، ح 11932، والأوسط: 5/ 384، ح 4762، مجمع الزوائد: 5/ 197، مشكل الوسيط- بهامش الوسيط: 7/ 287، المقاصد الحسنة: 531، ح 858). (2) حديث " سبعة يظلهم الله ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (ر. اللؤلؤ والمرجان: الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، 1/ 216 ح 610). (3) حديث: " لا حسد إلا في اثنتين، رجلٌ آتاه الله مالاً فسلط عليه الإنفاق بالحق ... " متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه "رجلٌ أتاه الله مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق ... " (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 156 ح 467). (4) حديث "أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة ... " رواه أحمد، وأبو نعيم، من حديث عائشة (ر. المسند: 6/ 67، الحلية: 1/ 16، 2/ 187، التلخيص: 4/ 333 ح 2554). (5) حديث " من ولي القضاء فكأنما ذبح من غير سكين " رواه أصحاب السنن والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة، وله طرق، وقد صححه الحافظ في التلخيص (ر. أبو داود: الأقضية، باب في طلب القضاء، ح 3571، الترمذي: الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله=

قيل: معناه وقع في أمر عظيم، وقيل: تصدى لأمر لو وفى حقَّه، لأمات شهواته، وقهر نفسه عن الانبساط، وانكف عن المخالطة، فكأنه ذُبح من غير سكين. وقال علي رضي الله عنه في خطبته: يا أيها الناس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من أمير، ولا والٍ، ولا قاضٍ إلا يؤتى به يوم القيامة ويوقف على الصراط، فينشر له الملائكةُ سيرته، فإن كلان عدلاً، نجاه الله، وإن كان غير ذلك انتفض به الصراط انتفاضة حتى يصير ما بين كل عضوين من أعضائه مسيرة مائة عام، ثم ينخرق به الصراط، فلا يلقى قعر جهنم إلا بُحرّ وجهه وجبينه " (1). وقال عمر رضي الله عنه: " ما من أمير ولا والٍ إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، أطلقه عدلُه، أو أوثقه جورُه " (2). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن طلب الولاية. قال صلى الله

_ =عليه وسلم، ح 1325، النسائي في الكبرى: القضاء، باب التغليظ في الحكم، ح 5923 - 5926، ابن ماجه: الأحكام، باب في ذكر القضاة، ح 2308، الحاكم: 4/ 91، البيهقي: 10/ 96، التلخيص: 4/ 338 ح 2559). (1) خطبة علي رضي الله عنه لم نجد لها أثراً في كتب السنة، وإنما وجدناها في شرح أدب القاضي للخصاف (1/ 138) "أن صعصعة بن صوحان قال: خطبنا علي بذي قار ... ". والذي رأيناه في كتب السنة قريباً من هذا، ما روي عن عمر رضي الله عنه إذا كان يوم القيامة أتي بالوالي فقذف على جسر جهنم، فيأمر الله الجسر فينهض به انتهاضة يزول عنه كل عظم منه عن مكانه، ثم يأمر الله العظام فترجع إلى مكانها، فإن كان لله عز وجل مطيعاً أخذ بيده وأعطاه كفلين من رحمته، وإن كان عاصياً خرق به الجسر فهوى في جهنم سبعين عاماً". رواه أحمد بن منيع، وعبد بن حميد (ر. إتحاف الخيرة المهرة للبوصيري: 8/ 192، 193 ح 6727، 6728). (2) أثر عمر رضي الله عنه لم نصل إليه، والذي وجدناه، وهو قريب منه، حديث أبي هريرة مرفوعاً " ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً يده إلى عنقه، أطلقه الحق أو أوبقه الجور " رواه أحمد، والدارمي، وأبو يعلى، والبزار، والحاكم، والطبراني في الأوسط، والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (ر. أحمد: 2/ 431، الدارمي: السير باب التشديد في الإمارة، ح 2515، أبو يعلى: 11/ 443 ح 6570، البزار: 2/ 253 ح 1638، 1640، البيهقي: 3/ 129، 10/ 95، صحيح الجامع الصغير: 5696).

عليه وسلم: " من طلب القضاء وُكل إليه، ومن ولِّي من غير طلب ولا استعانة، بعث الله إليه ملكاً يرشده ويسدده " (1). وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: " لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أوتيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعنت عليها " (2). [وإنما] (3) قدمنا هذه الأخبار لمسيس الحاجة إليها فيما نصدر به الكتاب من طلب القضاء وتقليده وتقلّده، وللأصحاب فيه خبط لا أنزله منزلة اختلافهم في تفاصيل الأحكام. ولكن الفقيه إذا لم يكن وافر الحظ من الكليات وأحكام الإيالات، إذا انتهى إلى هذه المواقف تخبّط. 11880 - ونحن ننقل عيون ما ذكره الفقهاء، ثم نوضح المسلك الحق إن شاء الله. قال القاضي: إن كان في الناحية من هو أصلح للقضاء ممن يطلبه، فالطلب من الطالب حرام، ويكره للإمام أن يوليه القضاء، وإن ولاّه، انعقد، ويكره له التقلّد إن أمكنه أن [يتعذّل] (4) وينسلّ. ولو كان في الناحية من هو مثله يكره له طلب القضاء، وإن ولاّه الإمام، انعقد، والأولى ألا يتقلد.

_ (1) حديث " من طلب القضاء وكل إليه ... " رواه من حديث أنس أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط، والبزار (ر. أبو داود: الأقضية، باب في طلب القضاء والتسرع إليه، ح 3578، الترمذي: الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح 1323، 1324، ابن ماجه: أبواب الأحكام، باب ذكر القضاة، ح 2309، الحاكم: 4/ 92، الطبراني في الأوسط: 5955، التلخيص: 4/ 335، ضعيف الترمذي للألباني ح 223،222، الضعيفة للألباني 1154). (2) حديث عبد الرحمن بن سَمُرَة: " لا تسأل الإمارة ... " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، 2/ 241 ح 1197). (3) في الأصل: " وإن ". (4) في الأصل: " يتعدل ". والمثبت بالذال المعجمة، وهو ترجيح من المحقق، ومعناه أنه يتلوّم، ويلوم نفسه وينسحب من هذا التقليد. وفي لفظ الغزالي في (البسيط) يتعلّل. (المعجم والمصباح).

وإن لم يكن في الناحية أصلح منه، فلا كراهية في الطلب، بل يستحب أن يتعرض ويطلب، ولو لم يكن في الناحية من يصلح غيره، افترض عليه أن يتعرض، هذا منتهى كلامه. 11881 - وذكر العراقيون تفاصيل نستعملها في الطريقة المرضية، فنقول والله المستعان: التصدي للقضاء من فروض الكفايات، ولو فرض القيام به على حقه، كان في مرتبة الجهاد في سبيل الله؛ فإن الجهاد دعوة قهرية لتأسيس الإسلام بدءاً في أقوام، والقيامُ بمصالح المسلمين ضبطٌ لما تحصّل. والأمرُ الذي يُطلب ازدياده، فضبط الحاصل منه إذا قيس بالازدياد أعظمُ الركنين، والأجرُ على قدر النَّصَب، والدرجات العلا لا تنال بالهوينات. هذا كذلك. وموجب ما ذكرناه التعرض لهذا المنصب، ولكن يعارضه أن الاستمكان من مناصب الولايات يورط النفوس الزكية في الورطات، ويستخرج منها خفايا البليات، حتى كأنها على سكونها في الطيِّ ما لم تُنْشَر، ومن العصمة ما لا يُقْدَر، وهي تنطوي على الأموال والحكم في تصاريف الأحوال، والميل للصديق على العدوّ والتشوف إلى أغراض الانتقام في أدراج الأحكام، والسلامةُ عن جميع هذه الخلال مُعوزةٌ (1)، وواحدة منها تزعزع أركان الدين. 11882 - فإذا [تعارض] (2) هذان الأمران كما وصفنا، فسبيل الكلام بعد ذلك: أن الرجل إذا كان لا يصلح للأمر غيره، فإذا ولاّه الإمام ابتداءً، لم يحلّ له الامتناع، بل تعيّن عليه التقلُّد. ولو كان كذلك، ولم يولّه الإمام، لم يخل: إما أن يكون مشهوراً عند الإمام، [وإما] (3) أن يكون خاملَ الذكر، فإن كان خاملَ الذكر، ولم يصلح [للأمر] (4) غيره،

_ (1) معوزةٌ: أي نادرة. (2) في الأصل: " تعارضه ". (3) في الأصل: " أو إما ". (4) في الأصل: " الأمر ".

فحق عليه أن يُشهر أمرَ نفسه، ويبيّن محِلَّه من الصلاح للأمر، ولو مست الحاجة إلى الطلب، تعيّن عليه الطلب؛ فإنه لا يصلح غيره، وقد تعين (1) عليه، وفروض الأعيان لا تسقط باستشعارٍ يتعلق بالعواقب والمغيَّبات، بل حكم الله أن يتصدى لما تعين عليه، ثم حق عليه أن يراقب الله فيما لَه وعليه. وهذا كأحكام الإسلام، فالخلق منها على خطر، ولكنهم مدعوّون إلى المراشد مزجورون عن نقائضها، وكلٌّ ميسّر لما خلق له. هذا إذا كان لا يصلح غيره، ثم يتعين عليه الطلب، ويتعين على الإمام النَّصْب والتقليد. 11883 - وإن كان ثَمّ من يصلح للأمر، ولكنه أفضلهم وأصلحهم، فقد اضطرب أرباب الأصول في إمامة المفضول، وإذا منعناها مع القدرة على نصب الفاضل، فلو أراد الإمام أن ينصب قاضياً مع القدرة على نصب من هو أفضل عنه، ففيه تردُّدٌ للأصوليين. والذي ذهب إليه الأكثرون -وهو المختار- أن نصب المفضول في القضاء جائز، وإن منعناه في الإمامة؛ فإن نصب المفضول للإمامة مع القدرة على نصب الفاضل تفويتٌ لمزية فضل الفاضل على المسلمين، والنظر الكلي من الفاضل عظيم الغناء، وإذا نصب الإمام مفضولاً، ونظرُه من ورائه، وهو يرعاه بالعين الكالئة، فلا تفوت المزية، والعلم عند الله، والتفريع على جواز نصب المفضول للقضاء. فإن ابتدأ الإمام ونصب مفضولاً، فلا معترَض عليه. 11884 - وغرضنا الكلامُ في الطلب وقد تصدى لنا فاضل ومفضول، فنتكلم في طلب المفضول، ثم نتكلم في طلب الفاضل: أما المفضول إذا طلب القضاء، فقد قال القاضي: يحرم عليه الطلب، وهذا مع تصحيح نصب المفضول خطأ، وقد قال: يكره للإمام أن ينصبه، وحكم الطلب يُتلقى من حكم النَّصْب.

_ (1) تعين عليه: أي صار فرضُ الكفاية فرضَ عين بالنسبة له.

والقول الوجيز فيه: أنه إذا جاز النصب وصحّ، فطلبُ الجائز الصحيح كيف يحرم؟ فالوجه الاقتصار على كراهية الطلب مع [وجود] (1) الفاضل، وسيأتي في هذا [مزيد] (2) شرح عند ذكر استواء المناصب. وقد تبيَّن المقصود. 11885 - فأما الفاضل إذا طلب، فالقول في طلبه لا يستدّ إلا بعد ذكر استواء مناصب الرجال، فنقول: إذا تصدى للأمر طائفة متماثلون في الصلاح للأمر، فيقع الكلام في فصلين: أحدهما - في نصب الإمام من غير طلب، والآخر - في الطلب. فأما إذا نصب الإمام واحداً من المتماثلين، فلا يكره له التقلّد إلا إذا كان يغلب عليه استشعارُ الميل عن مواقف الشريعة، فإن كان كذلك، وتمكّن من مقابلة تقليد الإمام بعذرٍ، فلا شك أن الذي يقتضيه الدين الاجتنابُ، والسببُ فيه أن الأمر وإن كان عظيمَ القدر بالغَ الأجر، فالخطر أعظم، ومن تصدى له فرض كفاية، وكان يغلب على ظنه غررٌ ينال نفسَه، فحق عليه أن يجتنب. وبيانُ الفصل عند نجازه. وإن لم يغلب عليه استشعار المخالفة من نفسه، وقد قلده الإمام بدءاً من غير طلب منه، فينبغي أن يتقلد؛ جرياً على قول المصطفى عليه السلام: " إن أوتيتها عن غير مسألة، أُعنت عليها ". وذكر العراقيون وجهين في وجوب التقلّد عند تقليد الإمام، وهذا فيه إذا كان تقليده جازماً، فأما إذا كان على خِيَرة، فلا وجوب؛ فإن الشيء إنما يجب إذا أوجب الإمام القيامَ به، وجزم الأمرَ فيه، ثم الوجهان فيه إذا لم يستشعر من نفسه المخالفة، فإن استشعرها، فالحِذارُ ما وجد إليه سبيلاً. هذا قولنا في النَّصْب مع تساوي الدرجات. 11886 - فأما الطلب -وهذا أوان الكشف التام فيما سبق وبقي- فنقول: للطالب ثلاثة أحوال: إحداها - أن يعلم من نفسه اغتلامَ الشهوات وثورانَ القوى الغضبية والتشوّفَ إلى تعدي المواقف، فمثل هذا تشتد الكراهية في حقه في الطلب، وإن

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " مرية ".

قيل: أيرقى الكلام إلى التحريم؟ قلنا: إن كان يطلب ويُضمر ما ذكرناه، فالتحريم؛ فإنه طلب أمانةً مع قصد الخيانة، والمودَع إن قصد بقبض الوديعة الخيانةَ، فهو ضامن، ومن التقط لقطة، وهو يقصد [تغييبها] (1)، فهو ضامن لا يَتَوصَّل إلى تملكها وإن عرّفها. وإن طلب ولم يقصد الخيانة، وقصد أن يتوقَّى جهدَه، فالكراهيةُ، وليس كما لو كان يقتحم إلى فرض كفاية مخاوفَ محسوسةً كأُسدٍ ضارية أو ما في معانيها؛ فإن ما يتوقع من الأخلاق الرديئة لا ينتهي إلى ما يحسّ من أسباب التلف. هذه حالة. الحالة الثانية - ألا يحسَّ من نفسه هَيْجاً وسَرَفاً في الأخلاق، وما كان اختبر نفسه في مخامرة [الأمور] (2) العظيمة، فهو على خطر من أمره. فإذا أضمر التقوَى، فله حالتان: إحداهما - أن يكون فقيراً محارَفاً (3) يبغي كَفافاً من رزق يُدَرُّ عليه، فلا نطلق الكراهية والحالة هذه، وإن كان معه كفاف وبُلغة، وهو على غرر، ولم يغلب على ظنه الميل، فلا تشتد الكراهية، ولكنا نطلقها. الحالة الثالثة - أن يكون قد اختبر نفسه في عظائم الأمور ولم ينقِم هَيْجاً ومجاوزةَ حد، فهذا تصدَّى له منصب عظيم في فروض الكفايات، وظنٌّ غالب في اقتحام المخالفات، وهو في التقاسيم كلها مستقل بالأمر: فمن أصحابنا من يطلق الكراهية، [والرأي عندنا] (4) نَفْيُ الكراهية في هذا المقام، ثم إذا نفيناها، فهل يُستَحَب الطلب؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه يستحب؛ لأنه طلبُ تلبّسٍ بكفايةِ مُهمٍّ عظيم. ولولا عموم الأخبار في التحذير، لصححنا هذا الوجه، والعلم عند الله. فإن قيل: إذا كنتم تطلقون التحذير ولا تخصصون بشخص، فهذا يؤدي إلى

_ (1) في الأصل: " تعيينها ". (2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى. ثم جاءتنا بها (ق). (3) محارَفاً: بفتح الراء. هو الذي حورف كسبه، فميل به عنه، كتحريف الكلام يعدل به عن جهته. (المصباح). (4) في الأصل: " والثاني عنده " والمثبت تقدير منا، وجاءت (ق) لا تكاد تقرأ فيها هذه اللفظة.

انكفاف الناس قاطبة عن هذا الأمر المهم؛ فإنهم يتخاذلون ويتواكلون، فيتعطل الأمر؟ قلنا: لا مخافة من هذا، والمحذور التكالبُ على العمل، والازدحامُ عليه؛ فإن النفوس تستحث أربابها على طلب أسباب الاستعلاء، فمن حِكْمة الشرع تغليبُ التحذير، والجبلاتُ تغالبه، حتى يتوقع منه اعتدالٌ في الإقدام. وهذا يناظر من أصول الشرع [قولنا] (1): لا يجب على الزوج أن يستمتع، وإن قطعنا بأن الغرض الأظهر من النكاح إعفافُ الزوجين عن السفاح، وهذا فيها بمثابته في جانب الزوج، ولكن اكتفى الشرع في جانب الزوج باستدعاء الجبلّة بحكمةٍ بسيطة ذكرناها في موضعها. 11887 - وقد كنا أبهمنا قولاً في طلب الفاضل، وفيما ذكرناه بيانه، فإن كان يغلب على الظن أمنُه من العدوان، فالطلب أفضل له، ومزية الفضل تمحو الكراهية، وإن كان يعلم من نفسه التعدي والهيج، فالحِذار؛ فهذا لا يكافئه مطلوبٌ في الباب، ولا فرق في هذا المقام بينه وبين واحد، والمناصب مستوية، وإن لم يعرف من خُلقه محذوراً، ولم يختبر نفسه في العظائم، فالقول فيه كالقول في واحد مع استواء الرتب، إلا أن الكراهية إن أطلقناها، فهي أخف. وإن ذكرنا خلافاً، فهو على استواء الرتب. وقد انتجز القول في طلب القضاء وتقلُّده وتقليده، واستعمالنا ما ذكره الأصحاب حيث رأينا استعمالَه. فصل قال: " وأن يكون في غير المسجد لكثرة الغاشية ... إلى آخره " (2). 11888 - ظاهر ما نقله المزني أن التصدي للقضاء في المسجد لا يلتحق برتبة المكروه، ولكن الأَوْلى تركُه، وكلام الشافعي في مجموعاته ناص على الكراهية.

_ (1) في الأصل: " ما قلنا ". (2) ر. المختصر: 5/ 241.

قال في الكبير: " إذا كنت أكره القضاء في المسجد، فأنا لإقامة الحد في المسجد أكره ". والقول في إثبات الكراهية ونفيها مع المصير إلى أن الأولى غيرُ ما فيه الكلام مما يكثر فيه خبط الفقهاء، ولا يحيط به من لم يقف على مسالك التحقيق في ذلك من فن الأصول. ونحن نقول: كلُّ ما جُرّد إليه قصدٌ في النهي عنه، وثبت [أنه] (1) ليس نهيَ تحريم، فهو نهيُ كراهية. ثم المكروه له رتب، كما أن المندوب له رتب، وإنما نشأ الاضطراب من [سؤالٍ] (2) ونحن نؤخر الجواب عنه، وهو أن استغراق الأوقات بالخيرات مستحب، ولا يوصف ترك الاستغراق مع الإتيان بالمندوبات المشروعة بكونه مكروهاً، والسبب فيه أنه لم يرد نهيٌ مقصود عن ترك استغراق الأوقات. والتعويل في ثبوت الكراهية على ثبوت نهي على [فعلٍ] (3) من غير تحريم، كما أن التعويل في ثبوت التحريم على ثبوت نهي مقصود يجري على حقيقته. والتردد الذي في نص الشافعي في اتخاذ المساجد مجالسَ القضاء أتى مما ذكرناه؛ فإنه لم يرد في ذلك نهي مقصود، ولكن متعلَّق القضاء أمور ورد فيها النهي المقصود، كرفع الأصوات وإدخالِ الصبيان المساجدَ، ومنعِ النسوة الحُيَّض مع مسيس الحاجة إلى رفعهن إلى مجلس القضاء، فكان التردد لهذا. والأصح إطلاق الكراهية؛ فإن الأمور التي أشرنا إليها من أركان القضاء. ثم ما ذكرناه في اتخاذ المسجد مجلساً على اعتياد، فلو اتفق فصل قضيةٍ أو قضايا معدودة في [بعض] (4) الأيام من غير اعتياد، فلا بأس، وكثيراً ما كان يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومَحْمَلُه ما ذكرناه.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) في الأصل: " سؤاله ". (3) في الأصل: " فضل ". (4) زيادة من المحقق.

11889 - ثم قال: " لا حجاب دونه ... إلى آخره " (1). ذكر الصيدلاني وجهين في أن القاضي هل يتخذ حاجباً؟ ثم ذكر طريقين في محمل الوجهين: إحداهما - أنه إذا لم يجلس للحكم، فله ذلك، وإن جلس للقضاء فوجهان. والطريقة الثانية - عكس هذه، ولا معنى عندنا للخلاف في ذلك، ولكن إن كثرت الزحمة، وكانت المصلحة في اتخاذ حاجب ليمنع الزحمة، اتخذه، وإن كانت المصلحة على خلاف ذلك، اتبعها، وكذلك إذا استخلى بنفسه لحاجته الخاصة، فلا بأس لو أجلس بواباً، فلا مساغ للخلاف في ذلك. 11890 - قال: " وجلس في أرفق الأماكن ... إلى آخره " (2). ينبغي للقاضي أن يرتاد للقضاء موضعاً رفيقاً، إن كان في الصيف تخير ظلاً في مهبّ الرياح، وإن كان في الشتاء ارتاد كَنيفاً (3). وليكن المكان متسعاً لا يضيق من الخصوم والمتصلين بهم من غاشية المجلس. وإنما رأينا اختيارَ مكانٍ موافقٍ للزمان حتى لا تُسرع الملالةُ ولا تظهر بسببه المَضَرّةُ على القاضي والمرتفعين إليه. 11891 - ثم قال: " ومعقول في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقضي القاضي ... الخبر ". روى الشافعي رضي الله عنه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان " أو قال: " لا يحكم الحاكم " (5) شك الشافعي.

_ (1) ر. المختصر: السابق نفسه. (2) السابق نفسه. (3) كنيفاً: أي ساتراً. وفي بسيط الغزالي: " اختار كنّاً كنيناً " ثم جائتنا (ق) بعبارة البسيط. (4) في الأصل: " عبد الرحمن بن أبي بكر " والتصويب من كتب السنة. (5) حديث " لا يقضي القاضي وهو غضبان " رواه الشافعي كما قال الإمام (الأم: 6/ 199) وهو في الصحيحين (اللؤلؤ والمرجان: الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، ح 1119).

وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان " (1). والغرض من الفصل أن كل معنىً يورث مللاً، أو حدّة في الخُلق، أو خللاً في البصيرة مانعاً من التثبت والتأمل، وتوفية الاجتهاد حقَّه، فلا ينبغي أن يقضي القاضي وهو به، كالجوع، والعطش، والمرض، والغضب، والحزن البيّن، فإن احتد احتداداً لا يمنعه من [الاستداد] (2)، فإن كان احتداده لله تعالى، فهذا لا ينافي ما ذكرناه مع مَلْكه نفسه فيما يتعلق بحظِّه (3)، وذكر الأصحاب في ذلك تغير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير بن العوام، إذ ارتفع إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع جارٍ له في سقي بساتين من وادٍ بالحرّة، وكان بستان الزبير أعلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى جارك "، فقال: ذلك أن كان ابن عمته، فتغيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ في الحديث أنه قال ذلك ولوى شدقه، فقال صلى الله عليه وسلم: " اسق أرضك حتى يبلغ الماء الجَدْر، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك " (4). 11892 - ثم قال: " وأكره له الشراء والبيعَ ... إلى آخره " (5). لا ينبغي للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه: لأنه لو فعل، فربما يحابَى استحياء منه، أو طلباً لاستمالة قلبه ليميل في حكمه. ولهذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر -وكان تصدق بفرس- فرآه معروضاً على البيع، فأراد

_ (1) حديث " لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان " رواه الدارقطني (4/ 306)، والبيهقي: (10/ 105 - 106) والطبراني في الأوسط (ح 4600 - 5/ 305). قال الحافظ: " وفيه القاسم العمري، وهو متهم بالوضع" (ر. التلخيص: 4/ 347 ح 2584). (2) في الأصل: " الاستبداد". وهو تحريف واضح. (3) أي بحظ نفسه، فلا يكون غضبه ثأراً لنفسه، وانتقاماً لها. فيدفعه ذلك إلى الزلل. (4) حديث " خصومة الزبير مع جارٍ له في سقي بساتين وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو غضبان " متفق عليه، وتقدّم في إحياء الموات. (5) السابق نفسه.

شراءه: " لا تَعُد في صدقتك " (1). أراد أن المتصدَّق عليه ربما يستحيي فيحابي، فيكون كالراجع في مقدار مما تصدق به. وإن وكل القاضي وكيلاً، فينبغي ألا يكون وكيلُه معروفاً به لما ذكرناه. 11893 - ثم قال: " ولا أحب أن يتخلف عن الوليمة ... إلى آخره " (2). إجابة الداعي مسنونة، وفيها الأخبار التي رويناها في باب الوليمة من كتاب الصداق، والقاضي يجيب الداعي على شرط ألا يخصص بعض الدعاة عن بعض، فيورث التخصيصُ تهمةً في الميل وضعفاً في قلوب الذين لم يجبهم؛ فإنهم قد يرتفعون مع الذين أجابهم إلى مجلسه على انكسار في قلوبهم. ثم كما لا يخصص داعياً، فكذلك لا ينبغي أن يحضر مأدبة هُيّئت لأجله؛ فإن ذلك يورث المعنى المحذور. وكذلك لو دعي مع طائفة من المعتَبرين لا يشوبهم (3) من عامة الخلق أحد؛ فإن الداعي يبغي بما يفعله من ذلك الاستظهارَ والتجملَ بحضور القاضي دارَه، ولكن يشهد مأدبةً يشهدها من عامة الخلق من يبطل بسببه معنى التخصيص. 11894 - ثم قال: " فإذا بان له من أحد الخصمين لدَدٌ ... إلى آخره " (4). من أساء الأدب في مجلس الحكم أو جاوز الحد المشروع في الخصام وانتهى إلى اللدد، فالحاكم ينهاه، فإن عاد زَبَرَه، فإن أصر عليه عزّره، ويجري في ذلك على سجيّة الزوج في زجر امرأته على النشوز، كما قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34]، الآية.

_ (1) حديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: " لا تعد في صدقتك " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: الهبات، باب كراهة شراء الإنسان ما تصدّق به ممن تصدّق عليه، ح 1045، 1046). (2) السابق نفسه. (3) لا يشوبهم: أي لا يخالطهم. (4) السابق نفسه.

فصل قال: " ويشاور ... إلى آخره " (1). 11895 - المشورة مستحبة. وقد أثنى الله تعالى على أقوام يعتادودن ذلك. فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وأمر رسوله عليه السلام بالمشورة، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، قيل: جمع سياقُ الآية مكارمَ الأخلاق. ثم قال: " قال الحسن البصري: " إن كان صلى الله عليه وسلم من مشاورتهم لغنيّاً " (2)، ولكنه أراد أن يستنَّ به الحكامُ بعده ". والأمر على ما ذكره. ثم اندفع الشافعي لبيان الاجتهاد، وذكر مجامعَ من طُرقه، حتى انتهى إلى الرد على أصل الاستحسان، وتقسيم الأقيسة وذكر مدارك الأحكام، والفصل بين قياس المعنى، وقياس الشبه (3)، ولو خضنا في هذا المخاض، لكنّا حائدين عن شرط هذا المجموع الذي مبناه على ألا يخرج بالفقه فيه شيء إلا على قدر الحاجة، والذي أشار إليه معظم أصول الفقه، ولو طلبنا حقائقه، لزاد ما نأتي به على الفقه من كتاب أدب القاضي، ولو اقتصرنا على المبادىء، لم ننته إلى الحقائق، وهي المطلوبة من الأصول، فمن أرادها، طلبها من مجموعاتنا في الأصول موفقاً إن شاء الله. 11896 - ثم انتهى مساق كلام الشافعي إلى القول في نقض القضاء. وهذا مقصودٌ من هذا الكتاب، نضطر فيه إلى فضلِ بيان. وقد اضطرب أرباب المذاهب فيها، حتى انتهى الأمر إلى عدّ مسائلَ والطمعِ في حصرها، ولا يصدر هذا إلا عن قلة البصيرة، وعدم الاطلاع على أصل الفصل، ولا حاجة إلى ذكر ما ذُكر؛ فإن الكلام في هذا من محض الأصول، وإذا تولينا معانيها وما فيها، فقد تولّى القوسَ باريها (4).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 241. (2) هذا أيضاً من كلام الشافعي في المختصر. الموضع نفسه. (3) ذكر الشافعي ذلك موجزاً في الموضع السابق نفسه من المختصر. (4) إشارة إلى المثل المشهور.

فنقول: كل مسألة يتعلق القول فيها بالقطع، فمن حاد عن مُدرك الصواب نُقض عليه حكمه، وكل مسألة لا مستند لها من قاطع فإذا جرى حكم الحاكم فيها بمذهبٍ، وهو في محل التحري، ومساق الظن، فلا سبيل إلى نقض الحكم فيه، ثم حقيقة القول في هذا يستدعي الإحاطة بمدارك القطع، ولا طمع في الخوض فيها إلا على قدر الحاجة. فنقول: إذا خالف الحكمُ نصَّ الكتاب، أو نص السنة المنقولة قطعاً، أو إجماع الأمة، فلا شك في النقض. فإن خالف خبراً صحيحاً نقله الآحاد، أو خالف القياس الجلي، فقد يُفضي الأمر إلى النقض. والضابط فيه أن كل مسألة مبناها بعد الأصول الثلاثة التي ذكرناها يرجع إلى ترتيب الأدلة -والكلامُ [فيما يُقدَّم] (1) منها- فالمسألة قطعية، وهذا كاشتمال المسألة على خبر لا يُؤَوَّل، وقياسٍ في معارضته، كمسألة خيار المجلس، والمصراة، والعرايا، وإباحة الجنين إذا تذكى بذكاة الأم، وفي المسألة حديث أبي سعيد الخدري، فالقول فيها وفي أمثالها يؤول إلى مراتب الأدلة، فنحن نقدم الخبرَ، والخصمُ يقدم القياس غيرَ متشوّف إلى تأويل، ووجوب تقديم الخبر مقطوع به، وهو من جليّات مسائل الأصول. ومما نذكره عند هذا المنتهى أن من لا يرى تقديم القياس، ولكن يعتمد تأويلاً عند نفسه -وهو باطل عند الأصوليين- فلا مبالاة بتأويله، والمذهب المبني عليه باطل قطعاً. والقول في مراتب التأويلات جمعناه في كتاب من كتب الأصول (2)، وكل مسلك يختص به أصحاب الظاهر على القيَّاسين فالحكم بجنسه منقوض، وبحقٍّ قال حبرُ الأصول القاضي أبو بكر: إني لا أعدّهم من علماء الأمة، ولا أبالي بخلافهم ووفاقهم.

_ (1) في الأصل: " فيها يقدر " والمثبت من (ق). (2) بسط الإمام قضيةَ التأويل في كتابه البرهان في أصول الفقه، حيث عقد لذلك باباً باسم (باب التأويلات) (ر. البرهان: الفقرات- 424 - 486).

وصرح الشافعي بما [يتضمّن] (1) إبطالَ الحكم المستند إلى الاستحسان، والقولُ فيه: إن أصحاب الاستحسان ربما يُسندون ما يَرَوْنه إلى خبر، كمصيرهم إلى أن الناسي لا يُفطر الأكل؛ لخبر أبي هريرةَ فيه، وكلُّ مذهبٍ مستندٍ إلى خبر، فهو متلقى بالقبول، وعبارة صاحب المقالة عن هذا بالاستحسان على نهاية السخافة والغثاثة؛ فإن قبول الخبر لا محيد عنه، والاستحسانُ يشعر بتردد وميلٍ خفي إلى جانب (2). ومعظمُ قواعد الاستحسان استصلاح جلي أو خفي لا أصل له في الشريعة، ومعنى قول صاحب المقالة: الاستحسان مقدم على القياس: أن القياس الجاري على وفق قواعد الشريعة مؤخر عن استصلاحٍ لا أصل له في الشريعة. وقد عبّر الشافعي عن غور هذا الفصل بكلمات وجيزة، إذ قال: " من استحسن فقد شرَّع". 11897 - ومما يتعلق بغرضنا أن المسألة إذا كان مستندها في النفي والإثبات القياس من الجانبين، فإذا اتجه في أحدهما قياس جليّ تقضي قواطعُ الأصول به، وفي الجانب الآخر متعلَّق خفي، فالمسألة من مسائل النقض إذا صادف الحكم المدركَ الخفي، ويجمع هذا النوعَ أن الجانب الجلي يسترسل في أقيسة الشريعة، والجانب الخفي يستمسك بشواذَّ ونوادرَ، يتكلف صاحبه ربطَ الكلام بها، وينتظم له فن من التعقيد سببه شذوذُ متعلقاته، وهذا كحكمنا بأن المأذون له في التجارة يقتصر على النوع المأذون فيه؛ فإنه عبد مملوك يتصرف فيما ليس له بذن مالكِه ومالكِ رأس المال. وأبو حنيفة رضي الله عنه يبني مذهبه على أنه يتصرف لنفسه، وقد يعتضد بالعهدة، وغاية الكلام فيها تعقيد لا يناسب مسالك الأقيسة الجلية. ومما يجري النقض [به] (3) إذا تردد مذهبان بين موافقة قاعدة كلية وبين مجانبتها

_ (1) في الأصل: " يتضم". (2) كذا، بدون ذكر المضاف إليه، ولعلها: " إلى جانب التشهي أو الاستصلاح ". وجاءت (ق): " إلى جانبه ". (3) في الأصل: " بينه ".

والتزام [جزئها] (1) كمسألة المثقّل، ومعظم مسائل الحدود والغصوب. فإن قيل: ما من مسألة مبناها على القياس إلا ويشتمل أحد المذاهب فيها على قياسٍ مقدم في المرتبة، وقد ذكرتم أن ما يتعلق بترتيب الأدلة، فالنقض متسلط عليه. وتمام البيان في ذلك أنه إن تقاوم المسلكان وعرف الأصولي تقاومَهما، ثم حُكْم الله في تقاوم المآخذ بيّنٌ، فقد يكون تخييراً، وقد يكون تغليباً، إذا ثبت التغليب في الفن، فإذا لم يكن تقاوم، فلا تميّز إلا بالرتبة. ثم القواطع منها جلي، ومنها خفي يتوصل إليه بمزيد فكر. وعلى ذلك تجري المعقولات. قلنا: هذا الآن سرف ومُجاوزة حد، ويلزم منه جريان النقض في جميع المسائل، والقول المقرّب إلى الضبط أن الكلام إذا تعلق بالترجيح، فلا يكاد يُفضي إلى القطع، فقد يتعارض قياسان لا يَتَوصَّل الأصولي إلى إيقاعهما في مرتبتين لازدحام مسائل الفقه، وتداني الأقدام في ادعاء الجلاء والخفاء، وهذا يعرفه الفقيه. ولا ينفصل فيه أمر يقطع به الأصولي. وهذا القسم الذي إليه الانتهاء موضعُ تصويب المجتهدين على رأي، والحكم بأن المصيب واحد لا بعينه في رأي. ولو قال قائل: كل ما لا يتعين فيه مصيب، أو يصار فيه إلى تصويب المجتهدين، فلا يجري فيه نقض القضاء، لكان كلاماً مستقيماً راجعاً إلى ما اعتبرناه من ثبوت القطع وعدمه. 11898 - وقد ذكر الشافعي مسائل في نقض القضاء، فنذكرها تيمناً؛ قال: من فرّق بأكثر كلمات اللعان، وأقامها مقام الكل نقضتُ قضاءه. وقال: من حكم بأن امرأة المفقود إذا تربصت أربع سنين، واعتدت عدة الوفاة، نكحت، نقضتُ قضاءه، وإن قال به عمر.

_ (1) في الأصل: " جرمها ". والمثبت تصرف من المحقق، وفي عبارة الغزالي في (البسيط) ما يؤيده؛ إذ قال: " ما يتقاوم فيه قياس جزئي، وقانون كلي، فالحكم المخالف للقانون الكلي منقوض كحكمهم في مسألة المثقل، ومعظم مسائل الحدود والغصب " (ر. البسيط: الجزء السابع/ورقة 99 شمال).

وروي أن مَخْلدَ بن خُفَات ابتاع غلاماً واستغله زماناً فأراد أن يرده بالعيب، فقضى عليه عمر بن عبد العزيز برد العبد والغَلَّة، فروى عروةُ عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قضى في مثل ذلك أن الخراج بالضمان، فنقض عمر قضاءه (1). وقضى شريح في امرأة ماتت وخلفت زوجاً وابني عم أحدهما أخ للأم: بالنصف للزوج، وبالباقي لابن العم الذي هو أخ لأم، فأخبر به عليٌّ رضي الله عنه، فقال عليّ بالعبد الأبظر -أو قال بالعبد الأشط- والأبظر العظيم الشفتين، والأشط (2) معلوم، وكانت له شعرتان ممتدتان إلى سرته، فأُتي به. فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: كتاب الله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، فنقض علي قضاءه. وكتب عمر إلى أبي موسى لا يمنعك قضاء قضيتَه ثم راجعت نفسك، فهُديتَ الرشد أن تنقضه؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وقضى عمر في مسألة المشرّكة بإسقاط الأخ من الأب والأم بعد أن كان شرك، فقيل له: شرّكت في العام الأول، فقال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي (3). فلم ير مسألة المشتركة مما يجري النقض فيها لتعارض الاجتهاد. وهذا حق كما رآه. ثم روى الشافعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد وأصاب فله أجران " (4).

_ (1) أثر مخلد بن خُفاف: " أنه ابتاع غلاماً واستغله زماناً ... فقضى عليه عمر بن عبد العزيز برد العبد ... " رواه الشافعي (ترتيب المسند: 2/ 144 ح 482)، وأبو داود الطيالسي: ح 1464، والبيهقي في الكبرى 5/ 321، وفي معرفة السنن: 5/ 359 ح 3482. (2) الأشط: الجائر يقال: أشط في حكمه: جار. (المعجم). (3) ما أثبته الإمام هنا يخالف ما قاله في كتاب الفرائض، ويخالف المشهور في قضية المشرّكة، وهو أن عمر أسقط الإخوة للأب والأم، ثم عاد فشرّكهم لما روجع في العام بعده عندما قال له الأخ للأب والأم: هب أن أبانا كان حماراً. أفلا يزيدنا إلا قرباً. هذا وقد تابع الغزالي شيخه في الوسيط والبسيط، وقد استدرك عليه ابن الصلاح والحموي في تتبعهما لمشكلات الوسيط. (ر. الوسيط: 7/ 304) (4) حديث " من اجتهد وأصاب فله أجران ... " متفق عليه من حديث عمرو بن العاص، =

وقد أثنى الله تعالى على داود باجتهاده مع خطئه في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78] الآية، قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت أن الحكام قد هلكوا. ثم قال بعض العلماء: أجر المخطىء على مقابلة قصده في طلب الصواب، وقال آخرون: هو على مقابلة استداده في بعض النظر، والمخطىء في الغالب يستدّ أولاً، ثم يزورّ، والمسلك الأول أقرب؛ فإنه قد يحيد في أول نظره عن سنن الصواب، وهو مأجور بحكم الخبر المأثور، حملاً على قصد الثواب. ولو أخطأ القاضي، وتعيّن له الخطأ، فحق عليه أن يُتْبع خطأه بالنقض، ويستفرغ في استدراكه الجهد. ولو علم أنه أخطأ في قضيته، لكنها استبهمت عليه واختلطت بالأقضية، فيتعيّن عليه البحث، فإن بذل الجهد ولم يعثر، فلا عليه، وإذا كان [قبله مصروفٌ قضى به] (1). فليس عليه أن يتَّبع أقضيتَه، ولكن ما رفع منها إلى مجلسه وادُّعي فيها شططٌ، قضى فيها بموجَب الشرع، وسيأتي في الصارف والمصروف وصفات القضاة فصولٌ منتظمة في آخر الكتاب، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " وإذا تحاكم إليه أعجمي لا يعرف لسانه لم يقبل الترجمة عنه إلا بعدلَين ... إلى آخره " (2). 11899 - القاضي لا يتصور أن يكون أعجمياً؛ فإن الشرط أن يكون مجتهداً على المسلك الأصح، كما سيأتي إن شاء الله. ومن ضرورة ذلك أن يكون عليماً بلغة العرب، فإن الشريعة عربية. فإن كان أحدُ الخصمين أو كلاهما أعجمياً، والقاضي لا يعرف لسانهما، فلا بد من الرجوع إلى قول المترجم.

_ = وأبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد: فأصاب أو أخطأ، ح1118 (2/ 195)). (1) في الأصل: " وإذا كان مثله مصروف به ". (2) ر. المختصر: 5/ 242.

ثم نَجري على عادتنا في نقل ما ذكره المعتبرون من أئمة المذهب، ثم ننعطف على المنقول بالبحث. قال الأئمة في الطرق: لا بد من مترجمَيْن؛ فإنهما ينقلان أقوال المتداعِيَيْن إلى القاضي، فكانا بمثابة الشاهدَيْن. ولو كان بالقاضي وَقْر وطرش، وقد لا يسمع في مجلسه كلام المتداعِيَيْن الجالسَيْن [بدنو] (1) منه، فلا بد من المُسْمِع. 11900 - ثم اختلف الأصحاب في اشتراط العدد فيما ذكره القاضي، فقال بعضهم: لا بد من اثنين كالترجمان، والثاني يُكْتَفى بمُسمع واحد، لأنه لو غيّر المسمع بالزيادة والنقصان، لاعترض عليه الخصمان. فإن كان أحد الخصمين أصم، اكتفى بمسمع واحد على هذا الوجه؛ لأنه لو غيّر والقاضي سميع، لأنكر عليه القاضي، وإن كانوا كلهم -الخصمان والقاضي- صُمّاً، فلا بد من مسمعَين. وهذا كلام مختلط، فيجب أن نعتقد أن المترجم كالمُسْمِع قطعاً؛ فإن كل واحد منهما ناقلٌ للقاضي: أحدهما ينقل معنى اللفظ، والثاني ينقل اللفظَ بعينه، فلا معنى للقطع باشتراط العدد في الترجمان وترديد الخلاف في المسمع، بل الوجه أن نقول: إن كان الخصمان عارفين بالعربية لا يغيب عنهما مُدْرَكُها، ولكنهما لا يحسنان النظم؛ فهذا بمثابة ما لو كان الخصمان سميعين والقاضي أُطروشٌ (2)، والحكم في الصورتين أن القاضي إذا احتاج إلى التلقي من المتوسط بالترجمة أو الإسماع والخصمان مُدركان؛ فالوجه أنهما إذا أدركا ما جرى، [وقرّرا] (3) المترجِمَ، كفى مترجم واحد، وحق القاضي أن يعتمد تقريرهما، ولو استظهر بإشارتهما، فحسن. وأطلق الأصحاب ذكر الوجهين في هذا المقام التفاتاً إلى قاعدة التعبد بالعدد، وهذا لا وجه له.

_ (1) في الأصل: " بنده ". (2) الأطروش: الأطرش. (المعجم). (3) في الأصل: " وقرر ".

ولو كان القاضي والخصمان صماً، أو كان الخصمان أعجميين، وليس بالحضرة غيرُهم ومن يترجم أو يسمع فالوجه القطع باشتراط العدد. وذكر بعض أصحابنا وجهين في المُسمع، وهذا إن [اتجه] (1)، وجب إجراؤهما في المترجم، وإلا فلا فرق. ولو كانوا صماً، أو كان الخصمان أعجميين لا خبرة لهما بلسان القاضي، وكان بالحضرة عدول يسمعون، أو يعرفون لسان القاضي، ولغة الخصمين، فإذا ترجم المترجم، أو أسمع المسمع -والحالة هذه- فينقدح في هذه الصورة وجهان؛ من قبل أن الحضور لا تتعلق الخصومة بهم، والأظهر الاكتفاء بمترجم واحد، ومُسمِع واحد؛ فإن الذين شهدوا المجلس لو سمعوا تغييراً لأبدَوْا نكيراً. وعندي أن هذا الخلاف فيه إذا لم يكن الشهود موصَّين من القاضي بالإصغاء ومراقبة الحال، وهذا هو المسلك الحق. ولو كان القاضي سميعاً والخصمان أصمان، أو أحدهما، فلا بد من مسمع بينهما، فيكفي المسمع الواحد، والقاضي رقيب عليه. وكذلك القول في المترجم؛ فإن القاضي موصىً شرعاً بالمراقبة ومطالعة حقيقة الحال. 11901 - ثم ينشأ من هذا المنتهى أن الترجمة والإسماع ليسا على حقائق الشهادات، وإنما يجريان واسطتين بين قول الخَصْم ودَرْك القاضي، ولذلك اختلف التفصيل باختلاف الأحوال كما رتبناها. وعدد الشهود لا يختلف. ومن الدليل على ذلك أنهما في الخصومات المتعلقة بحقوق الآدميين يجريان من غير تقدم دعوى؛ فصار العدد حيث نرعاه استظهاراً أو شهادة؛ ولهذا قال الأئمة: إن اكتفينا بمترجم واحد، أو مُسْمِعٍ واحد، فلا يشترط لفظ الشهادة، فإن شرطنا العدد، ففي اشتراط لفظ الشهادة وجهان، وهذا لطيف؛ فإن النقل من غير قرينة تؤكد الثقة يقتضي الاستظهار بالعدد، والخروج عن رتبة الشهادة وما يُرعى فيها من تقدم

_ (1) في الأصل: " اتحد ".

الدعوى يوجب ألا يشترط لفظ الشهادة، ولا أعرف له نظيراً في الشريعة، والأوجه اشتراط لفظ الشهادة إذا اشترطنا العدد. وعلى الوجهين لا بد من اعتبار صفات الشهود بعد العدالة والثقة من الحرية وغيرها، فإذا اكتفينا بواحد، فلا يشترط لفظ الشهادة، وفي اشتراط الحرية خلاف يداني خلافَ الأصحاب في قول المخبر عن هلال رمضان. والأصح أن نُجريَ المترجمَ والمُسمعَ -إذا لم يُشترط العدد- مجرى الراوي (1). 11902 - فإذا أردنا نظم مجامع الكلام؛ فالمترجم والمسمع على ما قدمنا. وقطع الأصحاب باشتراط العدد في المقوّم إذا اتصل القضاء به؛ فإنه مَناطُ الإلزام، وهو أمس للّزوم وأخص به من الترجمة. ولا يشترط العدد في القائف تأسّياً بالحديث، وعليه معوّل القيافة. واختلف الأئمة في القاسم والخارص، فقال قائلون: هذا بمثابة الحاكم، فلا عدد، ومنهم من اشترط العدد، وهو القياس كالمقوّم، وليس يتجه بين المقوم والخارص فرق؛ فإن كل واحد منهما يبني قوله على التخمين والحَدْس مع الاستمساك ببصيرةٍ عنده. ولولا حديث عبدِ الله بن رواحة بالخرص، لقطعنا بإلحاق الخارص بالمقوّم، وفيه فقه خفي المُدرك- وهو أن الخرص لا يخلو من نوع مجازفة، فالحكم به يقع اتباعاً لمورد الشرع، ولو فرضنا خارصين، لبعُدَ اتفاقهما، وفيه تعطيل التعويل على الخرص، فيبقى بعد ذلك النظر إلى القسمة والتقويم. فنقول: إذا كان القسمة لا تستقل إلا بتقويم؛ فلا بد من اشتراط العدد، وإن كانت القسمة مرجعها إلى درك الأقدار المحسوسة، فهي من وجه كالتقويم، ومن وجه يُكتفى فيها بالواحد الخبير الموثوق به، فإنه ليس يشهد بشيء، وإنما يمهّد أمراً وينشئه، ولو كانت كالشهادة، لما قُبلت شهادة قسّام وإن كثروا؛ فإنهم عن أفعالهم يُخبرون. هذا تنزيل القول في هذه القواعد.

_ (1) أي في عدم اشتراط الحرية، والعدد.

فصل قال: " وإذا شهد الشهود عند القاضي، كتب حِلْيَة كلِّ رجل ... إلى آخره" (1). 11903 - مضمون الفصل من أقطاب القضاء وأركانه، ونحن بعون الله تعالى نأتي بالمقصود منقحاً مصححاً إن شاء الله، فنصدِّر الفصل قائلين: الاستزكاء (2) حق الله تعالى. وحقٌّ على القاضي أن يرعاه، ولا يقفَ وجوبَ رعايته وبذلَ المجهود فيه على طلب الخصم، وإذا أحاط علمُ القاضي بعدالة الشهود، لم يَحْتفل بطلب الخَصم الاستزكاء؛ فإن القضاء بظاهر العدالة من غير بحث عنها لا مساغ له، وعماد الشهادة تحصيل الثقة، وتغليب الظن بالصدق، وهذا لا يحصل إلا بقول العدل الرضا، ثم وراء الثقة تعبدات، مُدْرَكُها [توقيفات] (3) الشرع. وما ذكرناه يطرد في الأموال والعقوبات، وما يقل ويكثر. ولو قال المشهود عليه: الشهود عدول ولكنهم زلّوا في شهادتهم، فلا يكون التعديل منه إقراراً بالحق المدعى، وهل يقضي عليه القاضي بتعديله شهودَ الخَصم؟ ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أنه لا يقضي عليه بشهادتهم، بل يستزكيهم، لما حققناه [من] (4) أن الاستزكاء حق الله تعالى. والوجه الثاني - أنه يقضي عليه، وهو مذهب أبي حنيفة (5) رضي الله عنه؛ لأنه اعترف بما إذا ثبت، ثبت الحكم عليه؛ فوجب القضاء بموجَب اعترافه. ووراء ذلك لطيفة، وهي أن القاضي لو [عرفهم] (6) فَسَقَةً، لم يقض وجهاً

_ (1) ر. المختصر: 5/ 242. (2) الاستزكاء: طلب التزكية. (3) في الأصل: " توليفات " والمثبت من المحقق. وقد أكدته (ق). (4) في الأصل: " في ". (5) ر. مختصر الطحاوي: 328. (6) في الأصل: " عرَّفهم " بتشديد الراء.

واحداً، وإنما محل التردد فيه إذا لم يُحِط القاضي ببواطن أمور الشهود. 11904 - ومما نرى ذكره على الاتصال بهذا أن الشهود لو كانوا عدولاً أو زكّاهم المزكّون -كما سنصف إن شاء الله- فارتاب القاضي لنظرٍ له في الواقعة، وخيالٍ قد يُدركه الفطن. قال الشافعي: في هذه الحالة إذا ارتاب القاضي بحال الشهود، فرّقهم، ويسأل كلَّ واحد منهم على حدته: يسأله عن المكان الذي تحمَّلَ فيه الشهادة؛ والوقتِ الذي تحمَّل فيه الشهادة، وعمن كان معه. وهو في هذا كله يبغي الاستدلال على عورةٍ -إن كانت- وليس ما ذكرناه استظهاراً محبوباً، بل هو حتم. ثم ليس على الشهود أن يذكروا المكان والزمان، وإنما ينفع ما ذكرناه مع الأغبياء وذوي الغِرّة، فأما الفقهاء إذا روجعوا لم يزيدوا على إعادة الشهادة، ولو قالوا: لا نذكر الزمان والمكان، ولكنا نتحقق ما شهدنا به، فليس للقاضي -والحالة هذه- أن يجبرهم على التعرض لما ذكرناه، ولكن لو بقيت ريبة القاضي وازداد ارتياباً من إصرار الشهود على ترك ما يراجَعون فيه؛ فللقاضي أن يبحث عن جهات أخرى، فعساه يطَّلع على مطعن، فإن لم يكن، تحتم عليه إمضاء القضاء، مع انطوائه على الريبة لقيام البيّنة العادلة. فإن قيل: لو ابتدر القضاء والإمضاء؟ قلنا: لم ينفذ قضاؤه؛ فإن حقه ألا يقضي إلا بعد بذل المجهود في التبيّن وطلب غلبة الظن. فإذا وضح ذلك، فالبحث عند الارتياب من حق الله أيضاً، لا يتعلق بطلب الخصم، لما ذكرناه في أصل الاستزكاء. نعم، قد يكون قول الخصم سبباً في وقوع الريبة، فإذا وقعت، شمّر لإزالتها، طلبَ الخَصْم إزالتها، أو لم يطلب. فهذه مقدمة في أصل التزكية. 11905 - ثم إنا نذكر بعدها مراسمَ الحكم في الاستزكاء بكَتْب الرقاع إلى المزكين، فليأخذها الناظر على وجهها، والفقه وراءها، فمِنْ رَسْم القضاة أن يكتبوا إلى المزكي حِلْيَة الشهود، ويرفعوا في أنسابهم، ويذكروا أسماء آبائهم وأجدادهم،

[وأن] (1) الشاهد مولى فلان -إن كان عليه ولاء- ويذكر صناعتَه وسكنَه ومُصلاه إن كان يعتاد [أداء] (2) الصلاة في مسجد، ويذكر حلية المدعي والمدعَى عليه ونسبَهما، وما يؤدي إلى تفريعهما على النسق المذكور في الشاهد، ويذكر قدر المشهود به وحليتَه ونوعه. والمقصودُ من ذكر الخصمين والشهود إعلامُ المزكي، حتى إذا عرفهم بدون ما ذكرناه من المبالغات، فالغرض تعريفه ليكون على بصيرة من الواقعة وأصحابها والشهود فيها، ويُخفي عن كل واحد من المزكين ما كتب إلى صاحبه، ويُخفي عن الخصم الاستزكاء. 11906 - قال الشافعي: " المستحب أن يكون أصحاب مسائله جامعين للعفة في النفس والمطعم، وافري العقول، بُرآء من الشحناء ومماطلة الناس " (3). فمن أصحابنا من قال: أراد بأصحاب المسائل المزكِّين، وقال بعضهم: أراد الرسل الذين يحملون الرقاع إلى المزكين للبحث عن أحوال الشهود. قال: ينبغي أن يكون المزكون غيرَ مشهورين للناس بهذا المعنى؛ فإنهم لو شُهروا، فربما تتطرق إليهم الخديعة. ولا ينبغي أن يكونوا من أهل الأهواء، فإنهم ربما يعتقدون ضلالةَ عِصابةِ الحق [فيجرّحُونهم] (4) أو يتوقفون في تعديلهم، فهذه مراتب ذكرها الأصحاب للقضاة. 11907 - ونحن نذكر على الاتصال بها فقهَ الفصل، ثم ننعطف على هذه المراتب، ونذكر ما فيها من مستحب ومستحق، ومختلف فيه ومتفق عليه. والذي نبتديه الآن التعرض لبيان الاكتفاء بالكِتْبة (5)، أو اشتراط التصريح بالجرح

_ (1) في الأصل: " فإن ". (2) في الأصل: " أزمان ". (3) ر. المختصر: 5/ 242. (4) في الأصل: " فيخرجونهم ". (5) الكِتبة: الكتابة مصدر كتب، وتطلق الكِتبة على المكتوب.

والتزكية، ثم إذا نحن ذكرنا بعده اشتراطَ العدد في المزكين، [نذكر] (1) بعدها كيفية التزكية وشرطَها، والجرحَ ومعناه، ونصل به تعارضَ الجرح والتعديل، وبعد ذلك كله نعطِفُ البحثَ على المراسم. فأما الغرض الأول: فقد ذكر العراقيون طريقين في التزكية وما يقع به تعديل الشهود: إحداهما- لأبي إسحاق، وذلك أنه قال: لا يثبت التعديل ما لم يصرح المزكّيان بالتعديل أو الجرح، ولا تعويل على الرقاع وأجوبتها، ولا على أقوال الرسل المترددين بين القاضي وبينهم. وهذا قياس بيّن لا حاجة إلى إيضاحه. قالوا: وقال الإصطخري: إذا أخبر الرسلُ عن أقوال المزكّين، كفى. ولا يكلف حضور المزكّين في كل تعديل، ثم قال: لا يقع الاكتفاء بأجوبة الرقاع أصلاً، بل لا بد من تصريح رسولين بما سمعاه من قول المزكين، فيخبران عن كلِّ مُزَكٍّ، والقدرُ الذي احتمله الإصطخري الاكتفاءُ بأقوال الرسل، وإن كانوا في مقام الفروع، مع القدرة على السماع من الأصول، [وإنما] (2) احتُمِل هذا القدرُ حتى لا يشتهرَ المزكّون، ولا يكثر ترددهم، وزعم أن الذي يقتضيه مجلس القضاء هذا. والذي ذكرناه هو القول في اشتراط السماع من الأصول أم الاكتفاء بأقوال الرسل؟ 11908 - فأما العدد، فأحسن ترتيب فيه أن المزكِّي لا يخلو إما أن يكون مولّىً من جهة القاضي في البحث عن العدالة والجرح، ويكون حاكماً في هذا النوع، وإما أن يكون مستشهَداً في التزكية والجرح، فإن نصب القاضي حاكماً في التزكية والجرح، جاز ذلك. ويتفرع على صورة [كونه حاكماً] (3) أن له أن يراجع مَنْ رآه أهلاً للمراجعة في التزكية والجرح ويُصغي إلى الشهادة في هذا المقتضى ويحكم به بعد بذل الوسع في الاحتياط.

_ (1) في الأصل: " ونذكر ". (2) في الأصل: " وأما ". (3) زيادة اقتضاها السياق.

ويبتني على هذه الحالة أن قوله مقبول وحده؛ فإنه حاكم، وقول الحاكم مسموع في استمرار ولايته. فاما إذا لم يُنَصِّب حاكماً في التزكية، ولكن يراجعُ معيَّنين مراجعةَ الشهود، فعلى هذا يشترط العدد بلا خلاف؛ فإن عماد القضاء الجرحُ والتعديل، فلا بد من الاستظهار الأكمل فيه. ثم إذا اشترطنا العدد، وضممنا إليه اشتراط السماع من المزكين، فلا بد من لفظ الشهادة، وإن اكتفينا بقول الرسل، فقد ذكر صاحب التقريب على قياس مذهب الإصطخري وجهين في اشتراط لفظ الشهادة. وسببُ التردد ميلُ أقوال الرسل عن القاعدة في أنها مقبولة مع إمكان الوصول إلى الأصول، ولكن العدد لا بد منه وفاقاً، كعدد المترجِم حيث يُقطع باشتراطه، ثم يُتردد في لفظ الشهادة، كما ذكرناه في المترجم. 11909 - فأما الكلام في صفة التزكية والجرح: فالقول فيها يتعلق بمأخذهما، وكيفية العبارة عنهما. فأما مأخذهما، [فإن] (1) كان المرء يزكي بنفسه، ويشهد بناء على ما ظهر له، فلا يكفي النظرُ إلى ظاهر العدالة والبناءُ على تحسين الظن؛ فإن الشاهد لو اكتفى بظاهر العدالة، لما احتيج إليه، ولاكتفى القاضي بظاهر العدالة، فلا بد إذاً أن يكون الشاهد على العدالة خبيراً بباطن من يزكيه مخالطاً له في الأحوال التي يظهر فيها مكنون الأسرار، وتكون مخالطته في الأحوال التي وصفناها على امتدادٍ في الزمان. والأصل في ذلك ما روي أن رجلاً شهد عند عمر بن الخطاب، فقال: " أما إني لا أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك فأتني بمن يعرّفك، فجاء رجل فعدّله، فقال عمر رضي الله عنه: هل كنت جاراً له فتعرف إصباحه وإمساءه؟ فقال: لا، فقال: هل عاملته على الدينار والدرهم؟ وفيهما تعرف أمانات الرجل، فقال: لا. فقال: هل

_ (1) في الأصل: " بأن ".

صحبته في السفر؟ وفيه تمتحن أخلاق الرجال. قال: لا. قال: فإذاً أنت لا تعرفه، فائتني بمن يعرّفك " (1). والمعنى -مع الجوامع التي ذكرها عمر- أن الناس يخفون عوراتهم ويغطونها جهدهم، ولا يتحقق الاطلاع على نقاء السريرة، ولكن لا أقل من التوصل إلى ما يُغلِّب على الظن، وذلك يحصل بما ذكرناه من الخبرة الباطنة. وأما الجرح فمأخذه الاستيقان والعيان، أو ما جرى مجراه. هذا قولنا في مآخذ الجرح والتعديل. ومما يتصل بهذا أن المزكي إذا عدّل، فحقُّ القاضي أن يبحث عن علمه بباطنه بَحْثَ عمرَ في الأثر المروي. والسبب فيه أنه قد يعتقد جوازَ البناء على الظاهر والأخذَ بتحسين الظن؛ فإذا بحث القاضي أزال الشك ببحثه. وإن علم أن المزكي خبير بالتزكية عالم بأن التعويل على البواطن، وقد ألف ذلك منه [وراجعه فرآه خبيراً بصيراً] (2) غيرَ مكتفٍ بالظاهر، فإذا أطلق مثلُ هذا المزكي التعديلَ؛ فالأصح أن القاضي لا يحتاج إلى مراجعته في إسناد تزكيته إلى الباطن. ومن أصحابنا من شرط هذه المراجعة في كل تزكية؛ تمسكاً بأثر عمر؛ وهذا غير سديد، والأثر محمول على علم عمر بأن المعدِّل لم يكن خبيراً بمأخذ التعديل، وقد تحقق ذلك لما [راجعه] (3) كما روينا الأثر. 11910 - فأما لفظ التزكية، فإن قال المزكي: هو عدلٌ رضاً، لم يكفِ ذلك، حتى يقولَ: مقبولُ الشهادة؛ فإن العدل الرضا، قد يكون مغفلاً. نعم، تثبت العدالة بما قال، ثم يُستخبر بعد هذا عن الأسباب المانعة من قبول الشهادة، كما سنصفها إذا انعطفنا، إن شاء الله، على المراسم التي ذكرناها أولاً.

_ (1) أثر عمر رواه البيهقي في السنن الكبرى، والعقيلي في الضعفاء، والخطيب في الكفاية (ر. البيهقي: 10/ 125، الضعفاء للعقيلي: 3/ 454، تلخيص الحبير: 4/ 360 ح 2629). (2) في الأصل: " وراجعْتَه فيه خبيراً بصيراً ". (بهذا الضبط والنقط). (3) في الأصل: " راجع ".

[ومن] (1) عبارات المزكين، وهو من أبلغها وأوقعها: " عدلٌ عليَّ ولِيَ " وهذه العبارة شائعة على ممر الدهور، وقد يقدرها من كان مبتدئاً في سماعها مجملة. والأصحاب مجمعون على حملها على موجب ما يتفاهمون منها. هذا كيفية التعبير عن العدالة. فأما الجرح فلا يكفي الإطلاق فيه، ولا بدّ من التنصيص على سبب الجرح؛ فإن الناس مختلفون فيما يقع الجرح به، واتفق أئمة المذاهب لذلك على أنه لا بد من التصريح بسبب الجرح؛ فإن نسَبه إلى الزنا، فلا بد وأن يقول: رأيته يزني، أو سمعته يقر بالزنا، وهكذا القول في كل ما ينسبه إليه، فلا بد من التصريح فيه، والإضافة إلى الرؤية أو سماع الإقرار. ومن أصحابنا من قال: لا يشترط هذه المبالغة، بل يكفي ما ينبّه على ما يقع به الجرح لا محالة، وهذا خرّجه بعض العراقيين على طريقة الأصطخري؛ فإن مبناها على طرف من المسامحة، ووراء هذا سرٌّ، وهو أن المزكّيَيْن إذا صرحا بالنسبة إلى الزنا، ففي العلماء من يجعل الشاهدين على الزنا إذا لم يساعدهما شاهدان آخران قاذفين، فحقيقة هذا التردد تعود إلى من يجعل الشاهدين والثلاثة على الزنا قَذَفَةً، فهم مترددون في هذا المقام، فمنهم من يستثني مقام الجرح، ولا يجعل نسبة الزنا في هذا المقام قذفاً، والسبب فيه الحاجة، وأن المزكي مُراجَع مستخبَر، والقاذف من يبتدىء من غير مراجعة. ومن أصحابنا من يجعلهم قذفة لو صرحوا، إذا نقصوا عن عدد شهود الزنا، فعلى هذا لا يكلفون التصريح، ثم يجب احتمال ما يأتون به إذا عرّضوا، وحتى لا يقضى بتعرضهم لاستيجاب التعزير، وهذا تمهيد عذر المراجَع المستخبَر، وعليه يحمل قول الرسول عليه السلام " اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس " (2).

_ (1) في الأصل: " من " (بدون واو). (2) حديث " اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس " رواه الطبراني في الكبير والأوسط والصغير. قال الهيثمي في المجمع (1/ 149): " وإسناد الأوسط والصغير حسن، ورجاله موثقون واختلف في بعضهم اختلافاً لا يضر " ا. هـ. ورواه البيهقي في الكبرى (21080) وضعفه، ورواه ابن=

فهذا تمهيد القواعد في التزكية والجرح، ونحن نذكر بعدها فروعاً شذّت عن ضبط الأصول. فرع: 11911 - لا تثبت العدالة إلا باثنين، كما لا يثبت الجرح إلا باثنين. فلو عدّل اثنان وجرح اثنان، فالجرح أغلب؛ فإن الجارح ينص على ثابت، ومستند شهادة المعدلِّ انتفاءُ الجَرْح بظن غالب تلقاه من طول المخالطة والمعدِّلُ لا يكلَّف سبب التعديل؛ فإن أسباب العدالة لا تنضبط. ولو عدّل رجلان وجرح واحدٌ، فلا مبالاة بالجرح؛ فإن البينة لم تكمل بتعددها في الجرح، [وكمُل] (1) عددُ البينة في التعديل. قال أبو إسحاق المروزي: إذا عدل اثنان وجرح واحد، قال القاضي للمدعي: " زِدْ في شهودك ". وهذا إن كان استظهاراً منه غيرَ واجب، فهو محتمل، وإن كان حتماً؛ لم يخلُ إما أن يكتفي بشاهدٍ أو يشترط شاهدين. وعلى أي وجهٍ أدار، فلا وجه لما اختار، والظنُّ به أنه أراد الاستظهارَ، ولم يُلزم ما ذكره من الازدياد والاستكثار. فرع: 11912 - أجمع علماؤنا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والجرح، حتى إن علم أحدَهما بالمسلك الذي يعلم الشاهد به [بنى] (2) قضاءه على علمه -قالوا- وهذا متفق عليه. وإن اختلف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ ورأيت لبعض المحققين في هذا كلاماًً لطيفاً، وذلك أنه قال: إن علم القاضي الجرح، قضى بعلمه، ولم يبال بشهادة المعدِّلَيْن على التعديل، وإن ظهر عنده سببُ التعديل ظهوراً يجوز الشهادة به، فهل له أن يكتفي بعلمه أم يستزكي؟ فعلى وجهين، والأظهر ما قدمناه.

_ = أبي الدنيا في ذم الغيبة، وابن عدي في الكامل (2/ 260)، والعقيلي في الضعفاء (72). وانظر تخريجه بالتفصيل في سلسلة الضعيفة للألباني (2/ 52 ح 583، وقال: موضوع) وحاشية محقق الطبراني الكبير (19/ 418 ح 1010) وكشف الخفا (1/ 114 ح 305). (1) في الأصل: " وكمله ". (2) في الأصل: "مما " والمثبت من (ق).

فرع: 11913 - إذا توقف المزكون في التعديل، [توقف] (1) القاضي إذا لم يكن عنده علم، وليس للمزكي أن يجرح بفعل لم يعاينه، ولا بقولٍ لم يسمعه، والقول والفعل لا تجوز الشهادة عليهما بالتسامع، والجرح شهادة. نعم، يتوقف عن التعديل. وإذا توقف المزكون، توقف القاضي. ولو تحقق عند القاضي الفسقُ بالتسامع، ولم يشهد عنده شاهدان، فلو شهد معدلون على العدالة، فالرأي الذي يجب القطع به أنه لا يقضي بالشهادة؛ لأن ما تحققه أقلُّ مراتبه أن يقتضي توقفاً. والقاضي قد يتوقف لريبة، كما ذكرناه في صدر الفصل. فرع: 11914 - إذا قضى القاضي بعدالة شاهد، ثم شهد ذلك الشاهد في واقعة أخرى، فإن طالت المدة، وكان القاضي غيرَ خبير بحاله في المدة المتخللة، فهل للقاضي أن يقضي بشهاته؛ بناء على العدالة التي ثبتت في القضية الأولى؟ فعلى وجهين- ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقضي ويستصحب ما ظهر عنده إلى أن يثبت عنده جرح. والثاني - أنه لا يقضي إذا بعُد العهد بالبحث، فلا بد من استزكاء جديد، وهذا ما مال إليه جمهور الأصحاب. ووجهه أن الأحوال حُوّلٌ، والإنسان عرضةُ التغايير والحَدَثان، ويعز في الناس المقيمُ على الخير، المستقيمُ على طاعة الله تعالى، وهذا القائل يقول: ينبغي ألا يغفل القاضي المسألة عن صفة الشهود الذين ينتابون مجلسه للشهادة. ثم قال العراقيون: إذا راعينا البحث على الإدامة، فلو ترك البحث عمن ثبت عدالته عنده ثلاثة أيام كان ذلك محتملاً، وفحوى كلامهم إيجاب البحث وراء ثلاثة أيام. ولست أرى أن يتقدر ذلك، ولكن المرجع في قرب الزمان وبعده إلى العرف الغالب، فكل مدة يتوقع في مثلها طريان تغايير، فإذا خلت عن المسألة، فلا بد من تجديد البحث بعد هذه المدة عند إقامة الشهادة، ولا ضبط لذلك، ولا سبيل إلى تقدير، والرجوع إلى ما يغلب على ظن القاضي.

_ (1) في الأصل: " موقف ".

فرع: 11915 - في قبول تزكية الوالد ولدَه، والولدِ والدَه، وجهان: أحدهما - لا تقبل؛ فإنها شهادة بإثبات فضيلة، والثاني - تقبل؛ لأنه [لم يُثبت له حقّا] (1). وفي قضاء القاضي بشهادة ابنه للغير أو على الغير وجهان مأخوذان من المأخذ الذي ذكرناه؛ فإن القضاء بالشهادة حُكْمُه (2) بالتعديل. والأصح عندنا أنه يقضي بشهادة ابنه إذا عدَّله شاهدان، كما يقضي لابنه على خصمه إذا أقام البينة، فأما إذا عوّل في تعديل ابنه وتنفيذ القضاء بشهاته على علم نفسه، فهذا موضع التردد. وهو بمثابة الشاهد بتزكية ابنه. فرع: 11916 - ظهر اختلاف الأصحاب في أن المزكين إذا رجعوا عن التزكية بعد نفوذ القضاء هل يغرّمون غُرْم الشهود إذا رجعوا؟ وهذا الخلاف قريب من اختلاف القول في رجوع شهود الإحصان في الزنا. والجامع أن كل واحد من الشاهدين يتعرض لفضيلة، وإن لم يكن منها بد في نفوذ القضاء. فرع: 11917 - حق على القاضي أن يرتب المزكين والمترجمين، وإن كان بأُذنه وقر، فينبغي أن يرتب المُسمِع. ثم إن كان لا يترتب هؤلاء إلا بمُؤْنة، فقد ذكر أئمتنا وجهين في مؤَنهم: أحدهما - أنها على طالب الحق؛ فإن قيام هؤلاء يتعلق بحقه، والمترجِم هو الذي يتمم الدعوى في مجلس القضاء، وكذلك المسمع والمزكي يوضح البينة ويتمّمها. ومن أصحابنا من قال: ليس على المدعي ذلك، كما ليس عليه أن يبذل للقاضي شيئاً، وإن كان هو الناظر الأكبر وبنظره تتم المقاصد. ولو كان مستقلاً بمعرفة اللغات أو كان حادّ السمع أو مطلعاً على حال الشهود، لما احتاج إلى هؤلاء المزكّين. فإن أوجبنا المؤنة على طالب الحق، فعلى كلٍّ مقدارُ أجر المثل فيما يتعلق بحقه صومته.

_ (1) في الأصل: "لم يثبت أن حقاً". (2) حكمه بالتعديل: أي حكم منه بتعديل ابنه.

فرع: (1): 11918 - لا تقبل التزكية إلا من رجلين، وإن كان الشهود شاهدين على مال، وكذلك إذا شرطنا العدد في الترجمة، فلا بد من رجلين، وإن كانا يترجمان شهادةً في مال. وهذا بمثابة الشهادة على الوكالة في المال، فإنها مشروطة بالذكورة؛ نظراً إلى الوكالة في نفسها. فصل متصل بما نحن فيه. قال: " ويسأل عمن جَهِلَ [عدالته] سراً، اذا عُذل سأله تعديله علانية ... إلى آخره " (2). 11919 - إذا جرى التعديل سراً، وكان لا يُبعد القاضي أن يوافق اسمٌ اسماً ونسبٌ نسباً، فينبغي أن يطلب تعديل العلانية، ومعناه أن يكلف المزكي الإشارة إلى من عدّله، حتى يزول الرَّيْب. وما قدّمناه من التعديل سراً، لم نعن به الرقاعَ وأجوبتَها، وإنما عنينا اللفظ، ولو مست الحاجة بعد ذلك إلى الإشارة إلى الشاهد، فهذا هو الإعلان، وإن كان الأمر لا يتمّ إلا بالإعلان، فلا بأس لو اقتصر سراً على أجوبة الرقاع تعويلاً على طلب الإعلان، وهو ابتداء التزكية المعتبرة. ومن أسرار هذا الفصل أن اللَّبس لو كان لا يزول إلا بالإشارة، فلا بد منها، وإن كان يزول اللَّبس بالتسمية لاشتهار الشاهد باسمه، فليست الإشارة شرطاًً؛ فإن الإشارة إنما تشترط إلى مشهود عليه تعلقت الدعوى به أو إلى مشهود له- وهو الطالب، ولا يتحقق في التزكية هذا؛ فإن الشاهد ليس يدعي شيئاً حتى يَشهد المزكي له به، ولا يُدَّعَى عليه حق حتى يَشهد عليه.

_ (1) هذا الفرع بجملته كان لحقاً بهامش الأصل، من غير إشارة إلى مكانه من الصلب بين الفروع السابقة؛ فآثرنا إلحاقه بآخر الفصل. ثم جاءتنا (ق) والكتاب ماثل للطبع وقد وضعته قبل الفرع السابق والأمر قريب. (2) ر. المختصر: 5/ 243، وفي المختصر الذي بأيدينا: " عَدْله " مكان عدالته، واللفظة ساقطة من المخطوطة.

11920 - وإذا وضح هذا، فقد حان من هذا المنتهى أن ننعطف على المراسم التي قدمناها في صدر الفصل. فنقول: أولاً، لا يشك الفقيه في حسن تقديم الرقاع على الترتيب الذي ذكرناه؛ فان المرتَّب للتعديل والجرح [ربما] (1) يحتاج إلى البحث، وإطالة الفكر، وأحسن مسلك يمهِّد إمكان ذلك من غير شَهْر تطرق اللهم إلى المزكين ما ذكرناه. فقد قال سَوّار بن عبد الله (2): اثنان لم أُسبق إليهما، ولا يتركهما حاكم بعدي: المسألة في السر، ثم المسألة في العلانية، ولا يستريب فقيه أن ترتيب الرقاع ليس أمراً مستحَقاً، ولو اتفق الهجوم على السؤال قطعاً، لما امتنع، ثم إن كان عند المسؤول علم [أعربَ] (3) عما يراه، ولو لم يكن عنده علم، استمهل ونظر، غيرَ أن الأحسن ما قدّمناه. وقد يقول القائل: هذه المراسم لم تُعرف في زمن الخلفاء المهديّين. قلنا: أجل، ولكن كانت العدالة في الذين يشهدون غالبة. وأهل العصر برآء عن التعرض

_ (1) في الأصل: " ومما ". (2) سَوّار بن عبد الله، القاضي سَوّار بن عبد الله بن قدامة العنبري، البصري، قاضي أبي جعفر المنصور، ت 156 هـ. ولسَوّار هذا حفيدٌ بنفس الاسم، وقاضٍ أيضاً (سوّار بن عبد الله الفاضي المتوفى سنة 245 هـ). مما أدى إلى الخلط بينهما، كما وقع لابن الجوزي إذ نقل حكم سفيان الثوري على الجدّ بالتضعيف، فحكم به على الحفيد، وقد تعقبه الحافظ في تهذيب اللهذيب. والقول الذي نسبه إمام الحرمين لسَوّار، رأينا الخلات في نسبته إلى غير الجد، ففي الحاوي للماوردي، وشرح أدب القاضي للخصاف أن القائل هو ابنُ شبرمة (ت 144). قاله محيي هلال السرحان محقق أدب القضاء لابن أبي الدم. وقد راجعنا هذين المصدرين، فوجدنا الأمرَ كما قال. (ر. أخبار القضاة لوكيع: 2/ 55، مشاهير علماء الأمصار: رقم 1246، تاريخ الثقات للعجلي: 210، تهذيب اللهذيب: 4/ 269، أدب القضاء لابن أبي الدم: 2/ 398، أدب القضاء للماوردي: 2/ 15 فقرة 1869، شرح أدب القاضي للخصاف: 3/ 23). (3) في الأصل: " أعرف ".

للتهم. وما ذكره الأئمة من الترتيب لائق ببني الزمان، والماضون -وإن لم يفعلوا ما ذكرناه- مهّدوا لنا بَذْل الاحتياط على أحسن الإمكان في كل زمان. هذا قولنا في كَتْب الرقاع. والتعرضُ للمدعي والمدعَى عليه والشهود لأقصى غايات الإمكان في الإعلان ركنٌ عظيم: أما الشهود، فكيف يبحث المزكي عنهم إذا لم يعلمهم؟ أما المدعي، فلا بد من إعلامه أيضاً، وقد يستبين المزكي بينه وبين الشهود حالة توجب ردَّ شهادتهم له، من أبوة أو شركة في الواقعة، أو ما جرى هذا المجرى، مما سنصفه في كتاب الشهادات، إن شاء الله. وأما المدعَى عليه، فقد يدرك المزكي بين الشهود وبينه عداوة أو لدداً في خصومة يوجب مثلُها ردَّ الشهادة، فإن لم يقع التعرض لما ذكرناه، فالتعديل في الشهود يَثْبت، ولكن يبقى على القاضي نظرٌ فيما وراء التعديل من المعاني التي ذكرناها. ومما قدمناه في المراسم ذكر مقدار الحق، وفي هذا فقه، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذلك احتياط وليس باشتراط؛ فإن التعديل عندنا في اليسير والكبير على نسق واحد. وأبعد بعض أصحابنا فقال: لا يمتنع أن يزكي المزكي الشاهد في المقدار النزر، ويتوقف في المقدار الخطير؛ فإن المشهود به إذا عظُم خطره أَحْوَجَ إلى مزيد فكر. وهذا كتخصيصنا تغليظَ الأيمان بالأمور المُخْطرة والعظيمِ من المال، وهذا غير سديد، ولا لائقٍ بمعتبرنا الواضحِ وقياسِنا البيّن في طلب التعديل من الخبير ببواطن الشهود، وإذا كان كذلك؛ فلا معنى لاشتراط ذكر المدعَى. ولا يُنْكر كونُه احتياطاً. فهذا نجار القول في التزكية. وقد اشتمل ما ذكرناه على المراسم أولاً، وبعدها تمهيد الأصول، وبعدها استدراك ما لم يندرج تحت ضبط الأصول برسم الفروع، وبعدها البحث المميِّز بين الاحتياط وما لا بد منه.

فصل قال: " ولا ينبغي أن يتخذ كاتباً حتى يجمع أن يكون عدلاً عاقلاً ... إلى آخره " (1). 11921 - إذا اتخذ القاضي كاتباً، فينبغي أن يكون وافرَ العقل، عدلاً، ثقة، بعيداً عن الغباوة، نَزِهاً عن الطمع. قال الله تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وهذا يدل على أن التعرّض لطلب الولاية جائز إذا يوجد الطالب [الصالح] (2) لها. ثم نجري على الترتيب المقدم في طرد المراسم [وفي] (3) الانعطاف عليها بالبحث. 11922 - قال الشافعي: " ويتولى القاضي ضم الشهادات ... إلى آخره " (4). على القاضي أن يعقد محضراً لما يجري فيه بين الخصمين في مجلسه، ويُثبت فيه الدعوى والإنكارَ والبيّنةَ -إن كانت- ويثبت أسماءَ القوم، وإن احتاج أثبت حُلاهم (5)، ثم يجمع محاضرَ كلِّ يوم في إضبارة (6)، ثم يكتب عليها اليومَ، ويوضحُ التاريخَ، ثم يضم محاضرَ الأسبوع في قِمَطْر، ويكتب عليه ما يوضح التاريخَ، ولو ختم على كل إضبارة وقمطرٍ كان حسناً. ثم إذا اجتمعت محاضرُ شهر، جعلها في قمطرٍ كبير، ثم كذلك يفعل في السنة، ويجعلُها في خَريطة، ويحرص على التمييز. ويُثْبت في المحاضر نهايةَ التفصيل، وينبغي أن يتولى ذلك بنفسه، أو يُفعلَ بين

_ (1) ر. المختصر: 5/ 243. (2) في الأصل: " للصلاح ". (3) في الأصل: " في " (بدون الواو). (4) السابق نفسه. (5) حلاهم: نعتهم وصفتهم، وهي بالكسر أيضاً (القاموس المحيط، واللسان). (6) يقال: ضبر الكُتُب وغيرَها جمعها وجعلها إضبارة، والإضبارة الحُزمة من الصحف يضم بعضها إلى بعض، جمعها أضابير. (المعجم).

يديه، وحسنٌ أن يدفع نسخة إلى صاحب الحق؛ فإن فاتت نسخته، رجع إلى ما خُلّد في مجلس الحكم، وهان عليه الوصول إلى خريطة السنة، ثم إلى الشهر، ثم إلى الأسبوع، ثم إلى اليوم. هذا ذكر المراسم، ووجه الاحتياط فيها بيّن. وإن امتنع القاضي من الكِتْبة، وكان صاحبُ الحق يستدعيه، ويبغي التوثقَ بالسجل المكتوب؛ فهل يتعيّن على القاضي إجابته إلى ملتمسه؟ وهل له أن يمتنع عن الكِتْبة؟ فعلى وجهين- ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه لا يجب عليه الإجابة إلى الكِتْبة؛ فإنه لا تعويل على المكتوب، وإنما المعوّل على التذكُّر عند مسيس الحاجة، والثاني - أنه يجب إسعافُ الخَصم؛ فإن الخطوط وإن كان لا تُعتَمد فهي مذكِّراتٌ، وما كتَبْتَه تقيّد، وما أهملته تشرّد. ثم إذا أراد القاضي أن يكتب، فالكاغد من طالب الكِتْبة؛ فإنه الذي يبغيها، ولو أراد كَتْب المحضر، فإن كان يعرف الخصمين بأسمائهما وأنسابهما بين المحضرَ عليها، ولا بأس لو ضم إلى الأسماء والأنساب الحِلْيَة تأكيداً، وإن كان لا يعرف نسبهما واسمهما، فيكتب في المحضر حضر المجلس خصمٌ، وذكر أنه فلانُ بنُ فلانٍ، وادعى على من زعم أنه فلانُ بنُ فلانٍ، ويعوِّل على الحلية؛ فإنه ليس يعرف الاسم والنسب، هذا صيغة المحضر. وحكى العراقيون عن ابن خَيْران أنه لا يعقد المحضر مع الجهل بالأنساب والأسماء؛ فإن التعويل على الحِلْية، والحِلْية تحول، ولا تثبت. وهذا ليس بشيء، والمذهب ما قدمناه. ونشّأ الأئمة من فصل الكِتْبة خلافاً شهّروه في أن القاضي لو كان أمياً هل يجوز؟ فذهب الأكثرون إلى جواز ذلك، وكان سيد البشر صلى الله عليه وسلم أمياً، [وهذا] (1) يعتضد بما ذكرناه من ترك التعويل على الخطوط، كما سنوضحه من بعدُ. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يكون القاضي أمياً لكثرة الحاجة إلى الكِتْبة،

_ (1) في الأصل: " وهو ".

والنظر في المكتوب، وكل ما يظهر أثره ويتضمن نقصاً بيّناً، فيجب ألا يتصف القاضي به. وسنجمع في ذلك قولاً ضابطاً عند ذكرنا شرائطَ الولاة. فصل قال: " ولا يقبل من ذلك ولا مما وَجَدَ في ديوانه إلا ما حَفِظ ... إلى آخره" (1). 11923 - غرض الفصل بيان ما أجريناه من أن الخط لا معول عليه، وبيانُه في حق الشاهد أنه لو رأى خطَّ نفسه في تحمُّل الشهادة، ولم يتذكر تحمّله لها، فليس له اعتماد الخط في إقامة الشهادة، وكذلك القاضي إذا رأى خطَّه متضمناً إمضاء القضاء، فإن تذكره، جرى عليه، تعويلاً على الذكر دون الخط، وإن لم يذكره، توقف، وسنذكر في كتاب الدعاوى -إن شاء الله- أنه يجوز للإنسان الاعتماد على الخط في الحلف، وقد يسوغ أن يعتمد خط أبيه إذا كان معتمَداً عنده، ويبني عليه الحلف، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله. وإنما غرضنا الآن بيانُ حكم الشاهد والقاضي، وليس لواحد منهما أن يعتمد الخط، وكنا نراجع شيخَنا فيمن يتحمل الشهادة، ويثبتُها في ديوانٍ عنده، ثم يضعها حيث يقطع بأنه لا وصول إليه من جهة أحد، ويعلم على اضطرار أنه لا يُثبت في ذلك الديوانَ إلا ما تحققه، فإذا اطلع عليه، فكيف السبيل فيه؟ فربما كان يقول بعد تردد: هذا تذكر، وإنما نمنع اعتمادَ الخط إذا لم يجر مثلُ ما ذكرناه، فكأنّا نقول: صورةُ الخط لا تعتمد مع إمكان التزوير وتشبيه الخط بالخط. فأما إذا تحقق واضطر إلى الدَّرْك، جاز الاكتفاء بذلك. ورأينا الأصحاب في الطرق لا يسمحون بهذا، ويطردون اشتراط التذكر، وقيامَ الواقعةِ في وجدانِ النفس، وهذا على هذا الحد قد يحسم إقامةَ الشهادة، سيّما إذا

_ (1) ر. المختصر: 5/ 243.

[كثر] (1) الأشهاد، وازدحمت الخصوم، فهذا ما أردناه. ومما يليق بهذا المنتهى أن الشاهد لو نسي التحمل، فذكّره عدول، وقطعوا أقوالهم بتحمله، فإن تذكر لما ذُكِّر، عوّل على ذكره، لا على أقوال المذكّرين. والتذكير منصوص عليه في الكتاب، فقال عز من قائل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، وإن ذكِّر فلم يذكر، فلا حكم للتذكير، وهذا متفق عليه من الأصحاب. 11924 - وكذلك قالوا من عند آخرهم: لو قضى القاضي بأمرٍ، فروجع فيه، فلم يتذكّر قضاءه، فلا شك أنه لا يعوِّل على الخط، كما قدمنا ذكره، فلو شهد عنده عدلان على أنك قضيت لفلان بموجب خطك هذا، أو لم يتعرضا للخط، وشهدا على القضاء، فالقاضي لا يعوّل على شهاتهما؛ بل إن تذكّر واستيقن، فذاك، وإلا وقَفَ الأمرُ، وتوقف القاضي. ولو شهد الشاهدان بعد عزل هذا أو موته عند قاضٍ آخر، وقالا: نشهد أن فلاناً قضى لفلان، فيثبت القضاء على هذا الوجه. والسبب فيه أن الإنسان يطلب من نفسه اليقين، ولا يكتفي بالظاهر. ولا يثبت قوله في حق الغير إلا بطريق الظاهر، فكان كل مسلك مبنيّاً على الممكن فيه. فإن قيل: أليس الشيخ في الحديث يقول: " حدثني فلانٌ عني " إذا كان روى، ثم نسي ما روى، كما قال سهيل ابن أبي صالح: حدثني ربيعةُ عني أني حدثته عن أبي حديث القضاء بالشاهد واليمين. قلنا: للأصوليين كلام في هذا وتفصيلٌ، وقد شرحناه في مجموعات الأصول. ثم التعويل في الروايات على الثقة المحضة، ولهذا لا يشترط فيها العدد والحرية، والشهادات والبينات مبنية على أقصى الإمكان في كل باب؛ فلم يقع الاكتفاء فيما نحن فيه بخط ولا بشهادة الشهود.

_ (1) في الأصل: " كنى".

وقد اشتهر عن أبي يوسف (1) -رحمة الله عليه- التعويل على الخط وعلى شهادة الشهود بالقضاء عند ذلك القاضي. ثم قال الأئمة: إذا قال شاهدان للقاضي: قد قضيتَ لفلان، فإن تذكّر عوّل على تذكّره، وإن لم يتذكر، لم يتعرض للشهود بالتصديق ولا بنقيضه، فإنه إن صدقهما، كان قاضياً بموجَب قولهما، وإن أبدى مراءً، كان ذلك قادحاً في شهادتهما عند قاضٍ آخر، فلا يسوغ له أن يقدح ويسد بابَ الإثبات. ومما ذكره الفقهاء أن المحدِّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع كتاباً، وضبطه جهده، وكان ذلك الكتاب عنده، بحيث يعلم أنه لم يتسلط عليه أحد بالتغيير، فلما أراد روايته، لم يتذكر سماعه لأعيان تلك الأحاديث؛ فإنه ما كان حفظها ولا استظهرها حديثاً حديثاً، فالذي ذكره معظم الأصحاب أنه يجوز له التعويل على الكتاب، وقطْع الرواية [بما] (2) فيه تعويلاً على الثقة التي هي معتمد باب الرواية. وقال الصيدلاني: [سبيله سبيل الشهادة] (3)؛ فلا بد أن يتذكر عين ما يرويه على تفصيله، وإلا فلا يروي. وهذا تعمق [منه] (4) يخالف ما اتفق عليه علماء الأمصار. 11925 - ومما ذكره القاضي أن الخصم المحكوم له إذا ادعى على القاضي أنك قضيت لي، فرفعه إلى قاضٍ آخر، وأراد أن يحلّفه، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يملك ذلك. قال القاضي: يُبنى هذا على أن النكول مع اليمين المردودة يجري مجرى البينة، أو مجرى الإقرار؟ فإن قلنا: يجري مجرى البينة، فلا حكم لها؛ فإن البينة لو قامت، لم يقع بها حكم. وإن قلنا: يجري مجرى الإقرار، فيحلّف، وإذا نكل رُدّ، ثم يمين الرد ينزل منزلة إقراره.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 2329، المبسوط: 16/ 93، 94. (2) في الأصل: "مما". (3) في الأصل: " سبيله سبيل الرواية الشهادة " والمثبت من (ق). (4) في الأصل: "فيه".

وهذا الذي ذكره كلام مختلط، والظن أن الخلل من الناقل؛ فإنه ذكر أن قضاءه لا يثبت بالبيّنة، والمراد بذلك أنه لو شهد عنده عدلان بأنك قضيتَ، لم يثبت القضاء ما لم يتذكر، ويتصور إثبات القضاء بقامة البيّنة في مجلس قاضٍ آخر، وطريق البيان فيه أنه إن عُزل، فلا حكم لإقراره بالقضاء، كما سيأتي، ولو قامت بيّنة عند من هو القاضي بأنه قضى في زمن ولايته، نفذ الحكم. وإن كانت المسألة مفروضة فيه إذا كان قاضياً، فإن شهد شاهدان على قضائه في موضع ليس هو محل ولايته يثبت القضاء (1)، ولو انتهى القاضي إلى ذلك الموضع، لم يقبل إقراره بالقضاء. فإن صحّحنا قاضيين في بلدة وحُكْمُ كل واحد منهما نافذ فيها، فلو شهد شاهدان على قضاء القاضي عند القاضي الآخر؛ فهذا محل النظر. والظاهر أن البيّنة مسموعة، فلو أراد الخصم أن يحلّف هذا القاضي عند ذلك القاضي أنك قضيت، فالذي أراه أن القاضي (2) تكلّم في هذه الصورة. [وحكى] (3) عن الأصحاب أنه لا يحلف، وقال من عند نفسه: يجوز أن يحلف في مجلس القاضي الآخر. ثم التحليف ينبغي أن يقع على التذكر، فإن حلف: لا أذكر أني قضيت له، انقطع الكلام. وإن نكل، وحلف من يدعي القضاء، فقد يتخيّل أن يمين الرد كإقرار القاضي، وهذا بعيد. والوجه ما ذكر الأصحاب من أنه لا يحلّف؛ فإنه لا خصومة معه، وإنما قوله حجة كقول الشهود، فإذا لم تقم الحجة من جهته، فالتحليف لا أصل له. والله أعلم. ...

_ (1) أي بالبينة. وحكى الرافعي هذه المسألة عن الإمام، وزادها بسطاً. (ر. الشرح الكبير: 12/ 493). (2) المراد القاضي حسين. (3) في الأصل: " حكى " (بدون الواو).

باب كتاب القاضي إلى القاضي

باب كتاب القاضي إلى القاضي 11926 - مضمون الباب ومقصودُه بيانُ القضاء على الغائب وسماعِ الشهادة عليه، ثم يتصل بأطراف الكلام قواعدُ في القضاء على الحاضر، ويتعلق الكلام لا محالة بكيفية الدعوى، وأصولُ الدعاوى مستقصاةٌ في كتابها، ولكن القدر الذي يتصل الكلام به لو لم يُوفّر حقه من البيان، لاستبهم غرضُ الباب. والذي أراه من الترتيب أن أذكر الدعوى على الغائب والقضاءَ عليه وإقامةَ البيّنة، ثم أذكر طرفاً يقتضي البابُ ذكرَه من القضاء على الحاضر. فأما الكلام في القضاء على الغائب، فالدعوى عليه تنقسم قسمين: أحدهما - في دعوى شيء في الذمة، والأخر - دعوى عين من الأعيان. فأما إذا تعلقت الدعوى بموصوفٍ في الذمة كالنقدين، وذوات الأمثال، فالدعوى مسموعة، وشرطها أن تكون معلومة. والعبارة الوجيزةُ عن إعلام الدعوة المتعلقة بما في الذمة أن يشتمل على الإعلام المرْعي في السلم. وقد وضح طرق الإعلام في المسلَم فيه، والدراهمُ المطلقة في العقود محمولة على النقد الغالب، ولا يقع الاكتفاء في الدعوى بإطلاقها؛ كما لا يقع بإطلاقها لو كانت مسلماً فيها، وصححنا السلم في الدراهم، وليس يبعد الاكتفاء بالإطلاق في الدراهم إذا كانت مُسْلماً فيها؛ فإنها تثبت عوضاً، والمعاوضات منزلة على العادات. وقد رأيت في كلام الأصحاب أن إطلاق الدراهم رأسَ مال (1)، -والدراهم غالبةٌ- جائزٌ، ثم تُعيّن بالتسليم في المجلس. وإطلاق الدراهم، وهي مسلم فيها إن صح ذلك على وجهين، والدعوى لا تنزل على العادة، كما أن الإقرار بالدراهم لا ينزل على العادة؛ فإذاً المعتمد ما ذكرناه.

_ (1) رأسَ مالٍ: أي رأس مالٍ في السلم. هذا، وقد ضبطت في الأصل بالرفع (رأسُ مالٍ).

ثم قال العراقيون: لو شهد الشاهد بمجهول لا تقبل الشهادة بمثله، فالقاضي لا يرشده إلى الإعلام بالمساءلة والبحث؛ فإن هذا تلقينُ الحجة، ولو شبب المدعَى عليه بما يكاد أن يكون إقراراً لم ينبّهه القاضي، ولم ينهه، بل يتركه يسترسل في كلامه، ثم يقضي بموجَب قوله. 11927 - والمدعي إذا ذكر دعوى مجهولة لا يصح مثلها، فهل للقاضي أن يستفصل الصفات حتى يأتي بدعوى معلومة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يعرض له، بل يترك المدعي وشأنَه، فإن استتم الكلام مشتملاً على دعوى صحيحة، بنى عليها حكمها، وإن لم تصح دعواه، لم يقبلها. ومن أصحابنا من قال: له أن يستفسر، وإن كان الاستفسار يؤدي إلى إرشاده إلى إعلام الدعوى- فإذا ادعى عشرة دنانير على إنسان، وقال يلزمه تسليمها إليّ، فالقاضي يقول: أي الدنانير؟ نَيْسابورية، هَرَوية، عتيقة، مكسرة، صحاح، أم البعض مكسر والبعض صحاح، فلا يزال كذلك حتى يأتي المدعي بتمام الإعلام، أو يقول: لا أدري. وظاهر النص يميل إلى هذا الوجه، ووجهه أن الدعوى ليس بحجة، فالإرشاد فيها على صيغة الاستعلام غيرُ ضائر، ولا ينبغي أن يقول له القاضي: قل كذا وكذا، وكيف يقول ذلك، ولا علم عنده بصفة الدعوى، فإن انتهى الاستفصال إلى إزالة الإشكال، قرّت الدعوى، وإن وقف المدعي قبل تمام الإعلام، فالدعوى مجهولة مردودة. هذا قولنا في إعلام الدعوى، فإذا أعلمها المدعي، فلا تُسمع دعواه ما لم يجعلها خصاماً. وبيانه أنه لو قال: لي على فلان كذا، فهذا خبر، وليس بمخاصمة، وإنما تصير الدعوى مخاصمة، إذا قال: عليه كذا ويلزمه تسليمها إليّ، ثم تبيّن للقاضي أنه يبغي استيداءَها منه، ولو اقتصر على هذا القدر، ففيه نظر للفطن، يوضحه ما نذكره.

فلو قال بعد الإعلام: يلزمه أداؤه، وأنا أبغي أن يؤديه الآن، فهذا تمام الخصام بعد الإعلام، ولو لم يقل: إني طالب مطالِب، وقوله " يلزمه " فيه تردد، وقد اكتفى الأصحاب بقوله: " يلزمه أداؤه "؛ فإن الأداء لا يلزم إلا مع الطلب، وقد يقول الفقيه: من عليه دَين حالٌّ يلزمه أداؤه، وإن لم يطلبه صاحبه، وإنما يسقط وجوبُ الأداء برضا مستحق الحق بتأخيره، فينشأ من مجموع ما نبّهنا عليه ترددٌ بيّن في أنا هل نشترط التصريح بالطلب، وهذا محتمل [جداً] (1). 11928 - فإذا وضح الغرض من الدعوى، وهي متعلقة بالغائب، فإنّا في هذا القسم نتكلم: [فالدعوى] (2) المجردة على الغائب، لا خير فيها إذا لم يكن للمدعي بينة، وإنما تفرض الدعاوى على الغُيّب ممن يبغي إقامةَ البيّنة. فإذا فهمت الدعوى، فلا استقلال بعدُ، ولا استمكان من إقامة البينة حتى يدعي جحودَ الغائب، أو معنىً يَحِلّ محلّ الجحود، كما سنصفه، إن شاء الله. فإذا ادعى على الغائب، وزعم أنه جاحد، فلا حاجة به إلى إثبات جحوده، ولكن يكفيه ذكر الجحود متصلاً بالدعوى. هذا ما ذكره الصيدلاني وأئمة المذهب. ولو قال: لي على فلان الغائب ألفٌ، وهو معترفٌ به، ولكني أبغي أن أقيم بيّنةً استظهاراً بها [وأنتجزُ كتاباً، فعساه ينكر إذا أتيتُه] (3)، قالوا: لا تقبل البينة كذلك، فقد شرطوا دعوى الجحود، واتفقوا على أنه لا يكلف إثبات الجحود بالبيّنة. وكأنهم شرطوه لانتظام الدعوى والبيّنة؛ فإن الدعوى لا ترتبط بالبيّنة إلاّ على تقدير الجحود. وهذا من مشكلات الباب؛ فإنه إن ادعى جحودَه في الحال، فهذا محال؛ وكيف يدعي جحودَ من لا يعلم حياته، وإن كان يدعي جحوده لمَّا كان حاضراً، وقد مضت سنة، فالبينة في المآل لا ترتبط بجحودٍ ماضٍ، وعن هذا قال قائلون من

_ (1) في الأصل: " خلافاً " والمثبت من (ق). (2) في الأصل: " بالدعوى ". (3) ما بين المعقفين فيه كلمتان مصحفتان في الأصل (انظر صورة الجملة الكاملة). والمثبت تقدير من المحقق. والحمد لله جاءت بصحته (ق).

الأصحاب: لا تشترط دعوى الجحود، ويكفي أن يدعي ويُعلِم ويبغي إقامةَ البيّنة، ولا يتعرض للجحود ولا لنقيضه. وهذا متجه؛ فإنه إن كان مقراً، فلا مضادة، وإن كان منكراً، فالبينة قائمة في محلها، والقضاء على الغائب هُيّىء شرعاً لإثبات الحقوق على غررٍ، لا على تحقيق. والذي حكيته عن الأصحاب مبناه على دعوى جحود سابق، والبقاء على إصرار عليه؛ فإنه الظاهر ما لم يثبت نقيضه. وهذا وإن كان كذلك، فهو جحود منقضٍ، والذي عليه دوران المذهب أن المدعى عليه إذا كان حاضراً، فلا يشترط في إقامة البيّنة عليه إنكاره، بل يشترط عدم إقراره؛ فإنه لو سكت أقيمت البيّنة عليه. وقولنا: شرط قيام البيّنة عدمُ الإقرار [فيه] (1) طرفٌ من التوسع؛ فإن الإقرار يُغني عن البينة، فإذا بان الحقُّ بالإقرار، فلا معنى للتشاغل بالبينة، وحق على القاضي أن يراجع المدعى عليه عند صحة الدعوى، وسببه طلبُ إقراره؛ فإن ذلك إن أمكن، فهو أقرب، وحق على القاضي أن يسلك أقربَ الطرق في إيصال الحق إلى المستحِق، فإذاً البينة تقام عند عدم الإقرار، فإذا غاب الخصم، فعدم الوصول إلى إقراره بمثابة سكوت الخصم في الحضور. هذا قياس المذهب. وإن كان ميل الأصحاب إلى اشتراط دعوى الجحود. هذا معنى ذكر الجحود. فأما ما يحلّ محله، فهو بمثابة ما لو اشترى الرجل من رجل شيئاً، ووفّى الثمن، وغاب البائع، ثم استُحِقّت (2) العين المبيعة، وأُخذت، فللمشتري أن يقيم البينة على الغائب بقبض الثمن، ولا حاجة به إلى فرض الجحود؛ فإن إقدامه على بيع ما لا يملك كافٍ في معنى الجحود، وهذا الطرف لا مراء فيه، وإنما التردد في الطرف الأول. فإذا ترتبت الدعوى، ولاح الخصام، وظهر الغرض من التعرض للجحود، فإذا أراد المدعي أن يقيم بينة على الغائب أقامها، ثم يستفرغ القاضي الوسع في

_ (1) في الأصل: "منه". (2) استحقت: أي ظهر أنها حق لغير البائع، وأنه باع ما لا يملك.

الاستزكاء، والبحث الأكمل. حتى يغلب على ظنه أنه لم يبق للخصم الغائب مضطرباً، فإذا فعل ذلك، انقسم النظر بعده، فإن طلب المدعي القضاء بالبينة على الغائب، فلا بد من الإسعاف به، والقضاء على الغائب نافذ على شرائط سنصفها الآن، خلافاً لأبي حنيفة (1) رضي الله عنه. وحكى صاحب التقريب في مواضعَ من كتابه قولاً غريباً للشافعي في منع القضاء على الغائب، قال: رواه حرملة عنه. وهذا حكيناه ولا عَوْدَ إليه. 11929 - فإذا أراد القضاءَ على الغائب بالحق، فلا بد من تحليف المدعي، ثم يستظهر بالاحتياط التام في تحليفه: فيحلّفه: ما أبرأ عن حقه، ولا عن شيء منه، ولا أحد بأمره، ولا [استوفاه] (2) ولا شيئاً منه، ولا أحدٌ بأمره، ولا اعتاض عنه، ولا عن شيء منه، ولا أحدٌ بأمره. ولا أحال به ولا بشيء منه، ولا أحدٌ بأمره، وأنه يلزمه تسليمُ المدعَى إليه وأن شهوده شهدوا بالحق. فال القاضي رضي الله عنه: اختلف أصحابنا في أن هذه اليمين احتياط أم وجوب، فمنهم من قال: هي احتياط، فليقع القضاء بالوجوب تعويلاً على البينة، ثم إن ادعى الخصم عند الانتهاء إليه شيئاً مما تحالف المدعي عليه، فهو خصومة مستفتحة، وهذا حسن منقاس؛ فإن القضاء، وإن نفذ على الغائب، فليس المراد به أنه إذا بلغ كتاب القاضي إليه يُؤخذ بتلبيبه، ويُستأدى الحق منه من غير أن يُستنطق، بل القاضي المكتوبُ إليه يُحضره ويراجعه ولا يسد عليه بابَ الدعوى، كما سنصف إذا انتهينا إليه، هذا أحد الوجهين. والثاني - أن الاستحلاف حق، وهو ركن القضاء على الغائب؛ فإن القاضي يتمسك بكل ممكن يقدِّر تمسُّكَ الغائب به لو كان حاضراً. هذا وضع القضاء، وفيه فقه، وهو أن القضاء ينفذ بوجوبٍ ناجز، وكيف [يصح] (3) هذا مع إمكان الإبراء،

_ (1) ر. المبسوط: 17/ 39، رؤوس المسائل: 524 مسألة 283، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 386 مسألة 1531، طريقة الخلاف: 397 مسألة: 163، إيثار الانصاف: 351. (2) في الأصل: " استوفى ". (3) في الأصل: " يتضح ".

غير أنا لم نتعرض لهذا [والمدعى عليه] (1) حاضر؛ فإنه منطلق اللسان بالدعوى، فليدّع. وقد قال الأئمة: من ادعى على صبي أو مجنون، أو ميت، ولا نائب لهم، فإذا أقام البينة، فلا بد من التحليف، كما ذكرناه في القضاء على الغائب. والذي أراه أن التردد الذي ذكره القاضي في أن اليمين احتياط أم وجوب، لا يجري في هذه المنازل؛ فإنا نتوقع من المدعى عليه إذا انتهى كتاب القاضي إلى موضعه أن يدعي بنفسه، وهذا لا يتحقق في الصبي والمجنون والميت، وحكم نفوذ القضاء إيصال الحق إلى مستحقه. فإن فرّعنا في الغائب على الأصح -وهو اشتراط اليمين- فالتعرض لتصديق الشهود فيه بُعد عندنا، نعم قد نشترط على المدعي إذا كان يحلف مع شاهد واحدٍ أن يصدّق شاهده -على مذهبٍ- في يمينه (2)؛ وذاك سببه أن الشاهد الواحد ليس ببيّنة. والبيّنة في مسألتنا كاملة. فقد يعترض في التفريع على هذا الوجه الاكتفاءُ بتحليفه على أنه مستحق الحق الآن من غير بسط في ذكر [الجهات] (3). 11930 - ومما نرى وَصْلَه بهذا المنتهى من أمر التحليف أن مستحق الحق لو وكّل وكيلاً، فأتى موضع الخصم الغائب، وأثبت الوكالة بالخصومة وأقام البينة، فلو قال المدعى عليه: إن موكِّلك برأني، أو استوفى منه، فلا يلزمني تسليمُ ما أقمتَ البينةَ عليه ما لم يحلف موكلُك، والوكيل لا يتصور أن ينوب عن موكله بالحلف. قال القاضي رضي الله عنه: وقعت هذه الصورة بمرو في كتاب ورد من قاضي بخارى على قاضي مَرْو في إثبات وكالة بالخصومة، ثم انتهى الأمر إلى المسألة التي ذكرناها، فقال المدعى عليه ما وصفناه، وتوقف فقهاء مَرْو من الفريقين، فاستدرك

_ (1) في الأصل: " المدعى عليه " (بدون واو). (2) المعنى أن يَشتمل اليمين التي يحلفها المدَّعِي على تصديق شاهده، فيحلف أنه صادق في شهاته. (3) في الأصل: " الجهاد ".

عليهم الشيخ القفال، وقال: يقضى على المدعى عليه بموجب البينة. ثم إن كانت دعوى فلْيَسْعَ في توجيهها على الموكِّل. وهذا لا يستدرك بمبادىء النظر؛ فإن صاحب الحق لو كان حاضراً، وقد أقام البينة، وقضى القاضي بها، فلما أراد إلزام المدعى عليه قال: لقد أبرأني عن حقه، فلا يلزمه ما لم يفصل هذه الخصومة؛ فإن نكوله عن اليمين ممكن، فالوجه فصل هذه الخصومة الثانية، ثم النظر بعدها في مقتضى الحال، فإذا كان كذلك، فصِدْقُ المدعى عليه في مسألة الوكيل ممكن. ولو حضر مستحِق الحق، لَمَا كُلِّف توفيةَ الحق حتى يحلف المدعي أنه ما أبرأ، فكيف سبيل إلزام المدعى عليه توفية الحق في مسألة الوكيل، وهلا توقفنا؟ وسبيل الجواب أنا لو سلكنا هذا المسلك، لانقطعت الوسائل والذرائع إلى استيفاء الحقوق بطريق التوكيل والاستنابة، والوكيل لا يتمكن من الحلف ولا حكم ليمينه، فاستوفينا الحق في الحال، والمدعى عليه على دعواه في الإبراء. هذا منتهى الإمكان في ذلك. وفيه فضلة للناظر. 11931 - ونعود إلى ترتيب الخصومة بعد الفراغ عما اعترَضَ. فإذا قامت البينة، وحلف المدعي، واستدعى من القاضي الذي أقام البينة عنده أن يقضي له، فلا بد وأن يسعفه، ثم إذا قضى له، فيكتب كتاباً إلى القاضي الذي هو في المكان الذي به الخصم. والكلام الآن يتعلق بصورة الكتاب، ولا بد فيه من ذكر المراسم، ثم إن اشتمل الكلام على ما يُحْوِج إلى البحث، جرينا على عادتنا في الانعطاف. فإذا كان القاضي يكتب بقضاء مبرم، فإنه يكتب بعد تصدير الكتاب: " حضرني فلانُ بنُ فلانِ بنِ فلان " فيرفع في نسبه، ويذكر اسمه، واسم أبيه وجده، ويذكر حِلْيتَه، وصفاتِه، ومسكنَه وصنعتَه، وما يشتهر به، واليومَ الذي ادعى فيه من الشهر والسنة، ويقول: " وادعى على فلانِ بنِ فلانِ بنِ فلان " -فيجري في إعلامه على نهاية

الإمكان- كذا. وكذا، فيذكر الجنسَ المدّعَى والقدرَ، فأَصْغيتُ إلى دعواه، وأقام بينةً عادلةً، يجوز القضاء بمثلها، وحلّفته مع بينته، وطلب القضاء، فقضيت له بحقه، وطلب أن أكتب إليك هذا الكتاب؛ لتُحضر خصمه، وتلزمه الخروج عن حقه، فأجبته إلى ملتَمسه على موجَب الشرع، وُيعَنْوِن الكتابَ، ويختم عليه، ويَشهدُ عليه شاهدان، ويقرأ الكتاب على الشاهدين، ويكون قضاؤه بمرأى منهما ومسمع، ويعلمهما مضمونَ الكتاب، ويدفع إليهما نسخة ليطالعاها في الطريق؛ حتى لا يزلّ عن ذكرهما مقصودُ الكتاب. ثم مذهب كافة أصحابنا أن التعويل على ما شهد به الشاهدان والكتاب رسمٌ أو استظهار، فلو لم يكن عندهما علم بمضمون الكتاب، فالكتاب ضائع لا منفعة فيه. ولو قال القاضي الكاتب للشاهدين: هذا كتابي، ومضمونه قضائي، والختم ختمي، وقد أشهدتكما على ذلك، ولم يطلعهما على تفصيل القضاء، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن ذلك لا يُجدي ولا يفيد، فليقع التعويل على تحمل الشاهدين لتفصيل القضاء. وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا وقع الإشهاد مجملاً كما وصفناه، عمل المكتوب إليه بمضمون الكتاب؛ فإن الثقة تتم بماجمال الشهادة، والتفصيل يُتلقَّى من الكتاب. وهذا متروك عليه غيرُ معدود من المذهب. وإذا تحمل الشاهدان تفصيل القضاء، ثم ضل الكتاب، أو انمحى فلا تعويل عليه، والمكتوب إليه يعتمد شهادة الشاهدين، حتى قال الأصحاب: لو شهد الشاهدان على تفصيل في القضاء، ففكَّ المكتوبُ إليه الكتابَ، فوجد بين مضمون الكتاب وبين شهادة الشاهدين تفاوتاً واختلافاً، فلا مبالاة بالكتاب، وليقع الحكم بشهادة الشاهدين. ومما ذكره الأصحاب على هذا النسق، أن المكتوب إليه لا بد وأن تثبت عنده عدالة شاهدي الكتاب، فإن كان يعرفهما عدلين، وإلا استزكاهما. ولو كان كتب القاضي في الكتاب: إن الشاهدين حاملي كتابي عدلان من أهل الشهادة، فهذا لغو، لا فائدة فيه، فإن التعويل على الكتاب لا سبيل إليه؛ فالمعتمد

قولُ الشاهدين، فإن نقلا عن القاضي تعديلهما، فكأنهما في التحقيق يشهدان على عدالة أنفسهما، أو على تعديل الغير إياهما، وهذا محال غير منتظم. وقال الققال الشاشي: تثبت عدالة حاملَيْ الكتاب بتعديل القاضي الكاتب في كتابه، وهذا غلط باتفاق الأصحاب؛ فإن الإصطخري وإن عوّل على الكتاب، فمستند الكتاب شهادة عدلين على أن هذا الكتاب للقاضي، فإذا توقفنا في عدالة الشاهدين، فكيف يثبتُ الكتاب حتى يعوَّل على مضمونه؛ فإذاً هذا معدود من هفوات هذا الإمام. 11932 - وليس ما ذكرناه تمامَ الغرض، واستيفاءَ المقصود في بيان حقيقة القضاء المبرم على الغائب، لكن قد اعترضت مراسم وأوفينا على المسائل بعدها، فننعطف بالبحث على ما تقدم، ثم نفتتح المسائل، فأصل الكتاب رسمٌ، ولو ترك، فلا بأس. والتعويل على ما يتحمله الشاهدان، ثم إن اطلع شاهدان على تفصيل القضاء عند الإنشاء، فذاك، وإن جرى القضاء ثم أشهدهما القاضي على اعترافه بالقضاء المفصل، جاز ذلك، وهو واضح. وأما مذهب الإصطخري ومخالفة الأصحاب إياه، فالكلام فيه ليس بالهيّن، وأنا أقول: إن قال القاضي: هذا كتابي وختمي وقد أشهدتكما على ذلك؛ فإن كان الإصطخري يقول في هذا المقام: يُعوِّل المكتوبُ إليه على الكتاب، فهذا غلط لا شك فيه؛ فإن الكتاب لا يعوَّلُ عليه، والخط لا معتبر به. ولو قال القاضي: مشيراً إلى خط نفسه في سجلّ: هذا خطّي، وكان مضمونه تسجيلاً، فلا يكون هذا خطيّ اعترافاً منه بالقضاء، وإن كان الإصطخري لا يجيز هذا، بل يشترط أن يقول القاضي للشاهدين: مضمون هذا الكتاب قضائي وحكمي، وقد أشهدتكما على ذلك، ولم يتعرض لتفصيل القضاء، فهذا موضع النظر. ومذهب الإصطخري يتجه بعضَ الاتجاه إذا كانت الحالة هذه؛ لأن القاضي أقر بالقضاء؛ ولكنه لم يفصّله للشاهدين، وأحال تفصيلَه على الكتاب، والإقرارُ يثبت مع الإجمال، كيف وبيان مجمله محالٌ على كتابٍ أشار إليه القاضي.

ولو كتب كاتب إقراراً، أو كُتب عنه بإذنه، فأشار إلى مجموعه وقال: الإقرار المثبت في هذا الذِّكر (1) إقراري وأنا معترف بجميع ما أُثبت في هذه الأسطر، فالوجه عندنا ثبوت الإقرار وجواز تحمل الشهادة، ثم إذا أشار الشهود إلى الذِّكر، كان المشهود مؤاخذاً بتفصيل المكتوب فيه. فإذا قال القاضي أشهدتكما على قضائي وحكمي المكتوب في هذا الكتاب، فالوجه جواز ذلك. والذي حكاه معظم الأصحاب خلافه. فهذا مواقع البحث من المراسم التي ذكرناها. 11933 - ونحن بعد ذلك نخوض في المسائل وتفاصيلِ الأمر، بعد تمهيد قاعدةٍ: وهي أن القاضي إذا قضى بالبينة واليمين، وأبرم القضاء، فقد تم الأمر، ولا يتعلق بالمكتوب إليه إذا ثبت القضاء عنده عُلقة من الحكم، وإنما هو مستعان في إيصال حق ثابت إلى مستحقِه؛ وإذا بان أنه ليس إلى المكتوب إليه من الحكم الأول شيء، فيترتب على هذا أمور: منها - أن القاضي الكاتب لا يلزمه أن يفصّل البينةَ القائمةَ في أصل الخصومة، وليس عليه أن يرفع أسماءهم ويتشوَّفَ إلى إعلامهم، بل يكفيه أن يقول: قضيت لفلان بحجة شرعيةٍ تقتضي القضاء. ولو قال قائل: المكتوب إليه -إذا كانت البينة مبهمة- مقلِّد. قلنا: ليس مقلداً في الحكم؛ إذ ليس إليه من الحكم شيء، ولا بيان بعد الوضوح. 11934 - ومما يتعلق بما ذكرناه أن الكاتب (2) لو مات قبل انتهاء الكتاب، لم يضرّ موته؛ فإن الحكم منفَّذ، وهو مقيَّدٌ مؤزَّرٌ بتحمل شهادة الشهود، فإذاً كتاب القاضي وأقضيته تثبت بعد موته، وكذلك لو عُزل القاضي الكاتبُ، فالقضاء المبرَمُ باقٍ كما كان. ولو مات المكتوب إليه، فلا أثر لموته، ولكن إذا شهد الشاهد على قضاء القاضي الكاتب عند قاضٍ من قضاة المسلمين، فهذا قضاء ثابت من قاضٍ أُثبت عند قاضٍ

_ (1) الذِّكْر: الصك، يقال: هذا ذِكر الدَّيْن: أي صكه. (المعجم). (2) المراد القاضي الكاتب الذي قضى على الغائب.

آخر، فهل يلزمه إمضاؤه على موجَب الشرع، سواء كان إلى القاضي الثاني كتاب أو لم يكن؟ فقد ذكر صاحب التقريب عند ذلك أصلاً مقصوداً في نفسه، وبه يتهذب ما مهدناه، ونحن نذكره على وجهه، فنقول: 11935 - لو كان في جانبي بغداد قاضيان، وقد خُصت ولاية كل [شِقٍّ] (1) بقاضٍ، فهذا جائز لا إشكال فيه. فلو دخل أحدهما الجانبَ الثاني، فأخبره قاضي الجانبِ الثاني المنتقَلِ إليه بأني حكمت على فلان بكذا بحجةٍ قامت، فإذا رجعت إلى جانبك، فاستوفِ منه ما حكمتُ به عليه، فإذا رجع إلى جانبه، فقد قال الأصحاب: له أن يستوفي الحقَّ منه. وعندنا أن هذا مبني على أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ فإن جوزنا له ذلك، استوفى ذلك إذا رجع إلى جانبه، وإذا منعنا القضاء بالعلم، فليس له أن يستوفيَ؛ فإنه وإن تحقق من قول القاضي في ولايته، فهو في نفسه لم يكن في محل الولاية، فكان سماعه من القاضي في محل ولايته مفيداً له علماً. ولو دخل ذلك القاضي الذي هو المبرِمُ للحكم الجانب الآخر، وأخبر القاضي الذي في هذا الجانب بأني قضيتُ على فلانٍ، فلا يعوِّل قاضي هذا الجانب على ما سمع؛ فإنه قولٌ صدر من قاضٍ في غير محل ولايته، فلم يكن له حكم. ولو عَبَرَ هذا القاضي إلى الجانب الآخر، فسمع من قاضي الجانب الآخر -وهو في محل ولايته- إني سمعت بينةً على فلان، ووصفها، فإذا رجَعتَ إلى جانبك، فاقض بها عليه، فإنه لم أُبقِّ إلا القضاء؛ فإذا رجع السامع إلى جانب نفسه، لم يقض بتلك البينة؛ وذلك أن تنفيذ القضاء متعلق به، وقد سمع قولَ القاضي في مكانٍ لا ولاية له فيه، فلا حكم لذلك السماع، وهو بمثابة ما لو شهد عنده شهود في ذلك الجانب، ولا ولاية له فيه، فلا حكم لسماعه؛ فإن السماع في البينات إنما يصح من والٍ، وقول القاضي: سمعت على فلان بينة بمثابة بينة تقام. ومما يتعلق بذلك أن القاضي في الجانب الشرقي لو كتب إلى قاضي الجانب

_ (1) في الأصل: " بشيء " والمثبت من تقدير المحقق. والحمد لله فقد صدقتنا (ق).

الغربي، وهما قارّان في ولايتيهما بأني سمعت بينة على فلان، ووصفها على شرطها، فاقض بها، فإن كان ذلك بعد ما غاب الشهود أو ماتوا، فيقضي المكتوب إليه إذا شهد شاهدان على موجب الكتاب كما ذكرناه، وإن كانوا حضوراً بعدُ في البلدة -أعني شهود الخصومة- فالمكتوب إليه لا يقضي أصلاً، بالكتاب والشهادةِ على مضمونه؛ فإن استحضار الشهود سهل، وهم الأصل، وقول القاضي في حُكم شهادة الفرع على الأصل، فيستحضرهم القاضي، ويستعيد الشهادةَ، بأن تقام الخصومة في مجلسه من ابتدائها على شرطها، فهذا معنى الاستعادة. وكذلك لو كان سمع شهادةَ قوم، ولم يخض القضاءَ، وكتب إلى قاضٍ في بلدة أخرى، فاتفق أن الشهود كانوا صحبوا الكتاب، أو سبقوه، أو أتَوْا بعده على القرب قبل أن يُمضي المكتوبُ إليه القضاءَ؛ فإن المكتوب إليه يبتدىء الخصومة، ويستعيد الشهادة؛ لتمكنه من الوصول إلى قول الأصول، وسماعُ القاضي وكتابُه في حكم الفرع. ولو كان في جانبي بغداد قاضيان، كما صوّرنا، فسمع أحدُهما في جانبه بينة، وغاب الشهود أو ماتوا، ثم وقف كل واحد من القاضيين على طرف ولايته، لم ينفصل عنها، ونادى من سمع البينة الآخر: بأني سمعت شهادة فلان، وفلان، على فلان، وحلّفته على موجَب الشرع، فاقض بالبينة في جانبك، فيقضي ذلك القاضي؛ فإن كل واحد منهما كان في محل ولايته لما تناديا، فصحّ ذلك، ووقع الموقع. فإن قيل: إذا كان التنادي والإعلامُ في طرفي الولايتين ممكناً -على ما صورتموه- فإذا كتب أحدهما، وأشهد على كتابه، وكان قادراً على أن يشافه القاضي ويناديه، فهلاّ كان هذا ممنوعاً؛ لأن كتاب القاضي وشهادةَ الشهود على سماعه بمثابة الفرع للقاضي؟ وقوله في نفسه أصل، فكيف يقع القضاء بالفرع مع التمكن من الوصول إلى الأصل. ويخرج من موجَب هذا السؤال أن يتعين أن يُعلم أحدُ القاضيين الآخرَ بسبيل التنادي في طرفي الولايتين. وهذا وجه بيّن في القياس. ولكن الذي دل عليه كلام الأصحاب أنا لا نشترط ذلك؛ فإن فيه الغض من منصب

القاضي [وتكليفه] (1) ما لو تكلفه، لكان قريباً من خَرْم المروءة وحطها. وقد نقول: إذا مرض شهود الأصل قبِل القاضي شهادة الفروع، مع قدرته على أن يدور على مساكن الشهود المرضى، ويسمع منهم أصل الشهادة، ولكن لا نكلفه ذلك على تفصيلٍ سيأتي، إن شاء الله عز وجل. فهذا ما أردنا ذكره من أحكام القاضيين في الجانبين. 11936 - والغرض الأظهر التنبيه على ما جعلناه معتمد الكلام في أن القاضي إذا نفذ قضاؤه، فقد تم الأمر، ولم يبق على المكتوب إليه من القضاء عُلقة، وإنما بقي إعانة الخصم المستحِق على استيفاء الحق. فإن قيل: إن كان كذلك، فليكتب القاضي بعد إبرام القضاء إلى واحدٍ من عُرض الناس في البلدة التي فيها الخصم، وليأمره باستيفاء حق المستحق. قلنا: هذا الآن غفلة عن القواعد؛ فإن هذا لا يتأتى إلا بسماع شهادة شهود الكتاب، وهذا لا يصح إلا من قائمٍ بالقضاء، حتى لو [كان] (2) ذا ولاية وليس إليه القضاء، فلا يملك أيضاً استيفاء الحق؛ من حيث إنه لا يتوصل إلى سماع الشهادة، فلو وقف القاضي في شرقيّ بغداد على طرفِ ولايته، ونادى واليَ الغربي -وليس قاضياً - بأني قضيت على فلان ببينة أو إقرار، فاستوف ذلك الحق منه، فالوجه عندنا أن لا يستوفي أيضاً؛ فإنه ليس إليه سماع قول القاضي، كما ليس له سماع شهادة الشهود. ويتجه أن يستوفيَه؛ من جهة أن القضاة قد يستعينون بالولاة المرتبين باستيفاء الحقوق من الممتنعين. ولا خلاف أن القاضي في محل ولايته لو استعان بالوالي في ذلك المحل، لأعانه الوالي تعويلاً على قوله، وينقدح في ذلك فرقٌ؛ فإن القاضي إذا استعان بالوالي في محل ولايته، فحتم على الوالي أن يطيعه ويتبعه، فحكمه نافذ على الوالي، فإذا كان الوالي في غير ولايته، فلا حكم له عليه، وإنما هو إسماع وإبلاغ،

_ (1) في الأصل: " وتكليمه ". (2) في الأصل: كانت ".

وذلك الوالي ليس من أهل السماع، والمسألة على الجملة محتملة. وقد بان أن القضاء المبرم لم يبق منه إلا القيام بالاستيفاء ممن يتصور منه الوصول إليه كما أوضحناه. 11937 - ومما يتعلق بهذا القسم وهو قسم إبرام القضاء أن الخصم إذا ارتفع إلى مجلس القاضي، وادعى على زيدِ بنِ عمرو بنِ بكر حقاً، وذكر حِلْيَته، وصِفَتَه، وصناعتَه، ومسكنَه من بلد آخر، وأتى باقصى الإمكان في الإعلام والبيان، وأراد أن يقيم عليه بينة ليقضي القاضي بها على موجَب الشرع، وكان القاضي الذي رُفع الأمر إلى مجلسه لا يعرف ذلك الشخصَ مع الإطناب في الجهات التي ذكرناها، فكيف السبيل في هذا؟ ولو قضى القاضي على المسمَّى الموصوفِ، لكان قاضياً على من لم يعرفه. هذا من أصول الباب؛ فيجب الاهتمام بدرك معانيه، والإحاطة بما فيه، فنقول أولاً: القضاء نافذ على الوجه الذي صورناه، وإن كان القاضي لا يعلم المقضيَّ عليه؛ إذ لو شرطنا أن يكون القاضي عالماً به، لانحسم مسلك القضاء، على معظم الغُيّب، ولاختص بأقوام معدودين يعرفهم القاضي، وربما كان القاضي [لا يعرف] (1) من أهل بلدته إلا أقواماً محصورين. فإذا حصل التنبه لهذا، فالوجه أن يكتب القاضي ما يحصل الإعلام به في المحل الذي الخصم به، وذلك في أوساط الناس بذكر الاسم والارتفاع في النسب، والاعتماد على الحِلْية، وتعيين المسكن والصناعة، وذلك يُتلقَّى من قول الشهود، فينبغي أن ينتهي الإعلام إلى حدٍّ يغلب على الظن أن من وُصف بهذه الجهات لا يلتبس بغيره، ولو فرض مساوٍ مع ما ذكرناه من المبالغة، لكان من النوادر، فهذا ما يجب رعايته. ثم فائدة هذا الإبلاع أن يتوصل المكتوب إليه إلى تمييز المقضيّ عليه؛ فإن الحاجة تظهر ثَمَّ، وعدمُ علم القاضي الكاتب لا أثر له، نعم لو قصّر في الإعلام والضبط

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

بالصفات التي ذكرناها، مثل أن يقول: قضيت على محمدِ بنِ أحمدَ -فهذا لغوٌ؛ فإن التمييز لا يحصل به، وإذا لم يحصل التمييز به، فليس القضاء معتمداً، فكان لغواً مطَّرحاً. وسيكون لنا انعطاف على هذا بعد بيان ما هو الأصل. فنقول: إذا سمى وارتفع في النسب، وأبلغ في الإعلام وأبرم القضاء، ونقل كتابه مع شهود الكتاب، فإن رُفعَ الخَصمُ صاحبه إلى مجلس القضاء، واعترف بأني أنا المعيّن المسمّى الموصوف، فيقول له القاضي: فما قولك؟ فإن أقر بالحق، كلفه الإيفاء، وإن أنكر سُمِّعَ بيّنة الكتاب والشهودِ عليه، وألزمه الإيفاء. ولو قال: لست مسمّىً بهذا الاسم، ولا معيّناً بالكتاب، وليست الأسماء المذكورة أسماءَ آبائي وأجدادي، فعلى حامل الكتاب أن يثبت أنه مسمّىً بهذه الأسماء ببيّنة يقيمها، فإن فعل، اطرد القضاء عليه، وإن لم يجد بينة يقيمها على ما أنكره من الأسماء، تعطّل الأمر. فلو قال: أحلِّفُكَ على ما أنكرت، فله ذلك، فإن حلف انصرف القضاء عنه، وإن نكل، رُدت اليمين على حامل الكتاب، فإن حلف ثبت غرضُه، واطرد القضاء على المرفوع إلى مجلس القاضي المكتوب إليه. 11938 - ولو أنكر الخصم المرفوعُ الاسمَ، ولم يجد ناقلُ الكتاب بينةً، فطلب اليمين، فقال الخصم المرفوع: لا أحلف على نفي الاسم، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليمُ شيء إليك، فقد قال الصيدلاني: تقبل اليمين منه على هذا الوجه، ويُدْفَع القضاء، [ويشهد لهذا] (1) الأصلُ المعروف في ذلك، وهو أن الرجل إذا ادعى جهةً في الاستحقاًق على شخص، فلم يتعرض المدعَى عليه لها، واقتصر على قوله لا يلزمني تسليمُ شيء إليك. فهذا مقبول، واليمين بِحَسَبه مسموعةٌ، وهذا كالرجل يقول: أقرضتك ألفاً، وكان المدعى عليه اقترض الألف ولكن أداه، ولو اعترف بالأصل لا يقبل قوله في دعوى الأداء.

_ (1) ما بين المعقفين تقدير منا بناء على السياق، واستئناساً بعبارة الغزالي إذ قال: " قال الصيدلاني: له ذلك؛ بناء على الأصل المعروف وهو ... " (ر. البسيط: جزء 6 ورقة: 110 يمين).

[وقد يستحلفه المدعي] (1)، فيحلف، فللمدعى عليه ألا يتعرضَ للجهة، وسيأتي هذا ونظائره في الدعاوي، إن شاء الله، فبنى الصيدلاني على ذلك، وجوّز للخصم المرفوع أن يسلك هذا المسلك، ويحلف على نفي الحق. وهذا عندي خطأ؛ فإنه إنما يمتنع عن اليمين على نفي الاسم والنسب لثبوتهما، ولو ثبتا، فالحجة قائمة عليه، والقضاء مبرم، وليس كالدعوى المحضة في الإقراض؛ فإن الدعوى ليست حجةً، فأثبت الشرع للمدعَى عليه مسلكاً في الخصومة يوافق الحق عنده، ويضادّ مقصودَ المدعي، والمسألة محتملة مع ما ذكرناه. 11939 - ولو قال الخصم المرفوع: كل مذكور في هذا الكتاب فأنا موصوف به من الاسم والنسب وغيرهما، ولكن لست معنياً بالكتاب. ففي هذه البلدة من تجتمع فيه هذه الصفات- هذا محل الكلام. فإن كان القاضي الكاتب قد أبلغ في الإعلام إبلاغاً لائقاً بالمقصود -وحدُّه ما ذكرناه من ندور التوافق [فيه] (2) - فنقول للخصم: أثبت ذلك موافقاً، فإن فعل، وُقف القضاء، وقال المكتوب إليه للخصم: ارجع، وميّز خصمك؛ وأزِل اللبس، وإن لم يأت الخصم المرفوع بمن يساويه في جهات الإعلام، نفذ القضاء عليه. ومن هذا المنتهى ننعطف على ما قدّمناه: فلو كان القاضي أخلّ بما ينبغي أن يُرعى في الإعلام، مثل أن كان قضى على محمدِ بنِ أحمدَ -فقال الخصم المرفوع آخراً: أنا محمدُ بنُ أحمدَ، ولست معنياً بالكتاب، والبلاد مفعمة بمن يساويني في اسمي واسم أبي؛ فيقال للخصم: ارجع وميّز، ولا تُجشِّم الخصمَ المرفوعَ أن يُثبت هذا. ولو قال الخصم المرفوع: أنا المعنيُّ بالكتاب، وقد كذب الشهود عليّ، أو تحيّف القاضي في قضائه، فلم يبحث حق البحث، فالقضاء لا ينفذ على هذا الخصم؛ فإن الدعوى من غير إعلام لا ثَبَت لها، والشهادة من غير إعلام المشهود عليه لا صحة لها، ثم القضاء بعدها هذيان، وهو بمثابة القضاء على رجل تعويلاً على معرفة الخصم، وهذا ظاهر.

_ (1) في الأصل: " وقد يستحيل المدعي ". (2) في الأصل: " منه ".

ولكن إنما ذكرته لما صدّرتُ الفصلَ به من أن القاضي لو لم يكن عالماً بالمقضي عليه مع التناهي في الإعلام من الشهود، لجاز، فقد يظن الظان أن الإعلام إذا لم يحصل واعترف الخصم المرفوع بأنه المعني كفى، وليس الأمر كذلك؛ فإن القضاء ليس إنشاءَ أمر، وإنما هو إظهارُ أمرٍ على ترتيب الشرع، فإذا لم يكن على الترتيب المرعيّ، فهو لغو، لا مبالاة به، وقد اتضح هذا الأصل، وهو الإعلام، ووجهه وفائدته. ولو أقام الخصم المرفوعُ بعد تمام الإعلام بيّنة على مساواة ميت إياه في الصفات التي وصف بها، كفاه ذلك في صرف القضاء عن نفسه. وقد تم مقصودنا في قسم من قسم في الدعوى على الغائب- وهو ادعاءُ دَيْن على غائب، ووضعُ نفوذ القضاء به. 11940 - فأما إذا سمع القاضي البينة على الغائب، ولم يقض بها، وكتب إلى قاضي الناحية التي بها الخصم المشهود عليه: إني سمعت البينة، ووكلت القضاء إليك، فقد قال الأصحاب: يجوز ذلك، واتفقوا عليه في الطرق، وأبو حنيفة (1) رضي الله عنه وإن منع القضاء على الغائب جوّز هذا. وفيه إشكال نبيّنه. وهو أن سماع البينة تعلق من القاضي بركنٍ من أركان القضاء وعليه بعده نظرٌ، فإذا لم يقض، وأراد نقلَ البينة، فسبيل الواقعة كسبيل الشهادة على الشهادة، فكان يجب أن يَشْهدَ على شهادة الأصول شهودٌ يكونون فروعاً، على الشرط الذي سيأتي مشروحاً في الشهادة على الشهادة، إن شاء الله. ثم كان القاضي على ذلك شاهداً على شهادة الأصول، ولا تثبت بالشاهد الواحد شهادة الأصول، وهذا بيّن من هذا الوجه. قال القاضي: هذا الطرف غير منصوص عليه للشافعي، والقياس ألا يثبت بقول القاضي وحد شهادة شاهدين؛ إذ الشهادة على الشهادة لا تثبت بواحد. وهذا الذي ذكره القاضي ليس مذهباً ولا وجهاً مخرجاً، وإنما هو إبداء الإشكال

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 7/ 7.

وإيضاح وجهٍ في الاحتمال، والذي أجمع عليه الأصحاب ما قدمناه. ثم ما اعتمده الأصحاب أن قالوا: سماع البينة من القاضي حكم منه بقيام البينة، والحكم على مذهبنا ليس افتتاحَ أمر أو إنشاءَ شأن، وإنما هو إظهار ما تقرر ممن هو مطاع متبع إذا لم [حد] (1) عما أُثبت وشرح- فإذا حكم لزيد على عمرو، فمعناه: [ظهر وجوبُ] (2) حقٌّ لأحدهما على الثاني، والشرع ألزم اتباعه، كذلك إذا ظهرت البينة وأظهرها، كان ذلك حكماً منه في هذا الحكم. وفي هذا الوجه تمسك الأصحاب على أبي حنيفة (3) رضي الله عنه بسماع الشهادة على الغائب، وردوا عليه قولَه: أن سبيل ذلك سبيل نقل الشهادة، وقالوا: لو كان كذلك، لكان القاضي فرعاً، والشهود أصول، ولا تثبت شهادة الأصول بقول فرع واحد. ثم فيما أجراه الأصحاب من التفريعات ما يدل على أن سماع القاضي- وكتابُه على موجَب السماع- في حكم النقل، وفي التفريعات ما يدل على أنه حكم مبتوت. ونحن نفضّ المسائل على هذا التردد، ونستجيز إطلاق القول باختلاف الأصحاب في أن هذا حكم أو نقل؟ فإذا اقتضى هذان الأصلان حكمين، وصادفنا المسائل مختلفة في التفرع، ساغ الإطلاق [الذي] (4) ذكرناه. وإن أحببنا، قلنا: قضاءٌ مشوب بالنقل، أو نقلٌ فيه شَوْبُ القضاء. وأسدّ العبارات في ذلك أن نقول: هو قضاء بالنقل، وهذا يضاهي تردُّدَ الأصحاب في أن القاضي إذا زوّج المرأة في غيبة الولي القريب، وحضور البعيد، فهذا التزويج من القاضي نيابة عن القريب، أو هو على حكم الولاية؟ فيه تردد. والأصح أنه نيابة اقتضتها الولاية.

_ (1) في الأصل: " يجد ". (2) في الأصل: " ظهر أن وجوب ". (3) هذه المسألة سبقت الإشارة إلى مصادرها آنفاً. (4) في الأصل: " والذي ".

وإذا تمهّد هذا قلنا: الاكتفاء بالقاضي وحده في البيّنة يوضِّح شَوْب الولاية، وهذا متفق عليه. 11941 - وأجمع الأصحاب على أن القاضي إذا لم يقضِ، وضمَّن كتابه سماع الشهادة، فلا بد من ذكر الشهود وتعريفِهم. ولا يكفي أن يقول: سمعت بينة توجب الحكم. ولو كان هذا حكماً باتاً، لأوشك أن يجوز هذا، فلما قلنا: يجب ذكرُ تفصيلِ البينة وأسماءِ الشهودِ، على نهاية الإمكان والإعلام، فالسبب فيه نقل البينة إلى المكتوب إليه ليرى فيها رأيه، فإذاً هذان حكمان متعارضان: اتحاد القاضي، ووجوب نقل تفصيل البيّنة، ولمن يغلّب النقل أن يجيب عن الاتحاد ويقول: أقام الشرع القاضي -وهو شخص واحد- مقام شاهدين لرتبة الولاية، وهذا كإقامة الرجل مقام امرأتين لفضيلة الذكورة. ومن يغلّب الولاية يحمل تفصيل النقل على أمرٍ، وهو أن المكتوب إليه لا يقلِّد في مستند حكمه، وقد لا يرى القضاء ببيّنة يراها الكاتب، فامتنع الإبهام لذلك. وتردد أئمتنا فيما يخرج على التقديرين - فقالوا: لو كان في بلدة واحدة قاضيان -إن جاز ذلك على ما سنذكره في الفروع على أثر هذا- فلو سمع أحدهما شهادة شاهدين ولم يقض، والتقى بالقاضي الثاني وأخبره، وتمكن القاضي الثاني من استعادة الشهادة فإن قلنا: ما صدر من القاضي [لسامع] (1) حكم، فليس على القاضي الثاني استعادةٌ، وإن قلنا: سبيله سبيلُ النقل، فالقاضي فرعٌ إذاً، فإذا قَدَر القاضي الثاني على السماع من الأصول، لم يكتف من السماع من الفرع- وهذا هو الذي أجريناه مقطوعاً به فيما تقدم، وهو مختلَفٌ فيه كما ذكرناه الآن، وكأن القاضيين على الوجه الآخر يتعاونان على القضية الواحدة، فيسمع أحدهما البيّنة، ويقضي الثاني. فلو كان يجب على الثاني استعادة الشهادة، لبطل ما أشرنا إليه. ومما يؤكد أصلَ النقل أن القاضي الكاتب لو سمع ولم يعدّل، جاز، وهذا يكاد أن يكون نقلاً محضاً؛ فإنه لم يظهر كون ما سمعه بيّنة؛ ليقال إن هذا حكم، بل رجع

_ (1) في الأصل: " الثاني ".

ما صدر منه إلى السماع الحِسّي، ولا مزية في هذا للقاضي. ثم اتفق الأصحاب على أنه إن عدّل الشهودَ، وحكم بعد التهم، فهو سائغ، وإن فوّض النظر في العدالة والجرح إلى المكتوب إليه، فهو سائغ أيضاً، ولكن العادة جارية بأن يعدّل الكاتب؛ لأن الشهود قد يكونون من أهل بلدته، ولا يعرفهم المكتوب إليه، ولا المزكون المرتّبون في مجلسه، فالنقل من غير تعديل قريبٌ من التعطيل، ولكنا مع ذلك نجوّز تفويض التعديل إلى المكتوب إليه، على شرط الإبلاغ في الإعلام، بناء على أن أهلَ بلدة المكتوب إليه ربما يعرفون الشهود، ويتوصلون إلى الغرض بالسؤال والبحث. ثم الإعلام الذي كررناه مؤكّداً بالاسم، والرفع في النسب، وغيرهما من الأسباب، لم نَعْن بما ذكرناه فيه أن الأسباب مقصودة في أنفسها، بل الغرض الإعلام، فلو حصل الإعلام بالاسم المحض إذا كان الشاهد مذكوراً في البلاد بعيد الصِّيت، كفى ذلك. فإذا تبين هذا، فصفة الكتاب في نقل البينة تصديراً وسياقاً كصفة الكتاب في القضاء المبرَم، غير أن الكاتب الناقلَ يصف الواقعة موثقة بالإعلام على الوجوه المقدمة، فإذا انتهى إلى سماع البينة، أو تعديلها بعد السماع، قال: " ثم فوّضت القضاء إليك بهذه البينة المنقولة إلى مجلسك فانظر نظرك، [ورَهْ] (1) رأيك موفقاً مسدداً، إن شاء الله ". 11942 - فإن عيّن شخصاً، فمات المعيَّن الذي إليه الكتاب، لم يضر، ولم يؤثر في الواقعة، ورُفع الكتاب إلى غيره، كما ذكرناه في القسم الأول. فإن قيل: إن استقام في القسم الأول ما ذكرتموه، فقولكم تمّ القضاء، ولم تبق منه عُلقة، فهذا المعنى لا يتحقق إذا فَوَّض القضاء؟ قلنا: ما فعله إن كان حكماً، فيجب على حكام الأرض متابعتُه على وفق الشرع،

_ (1) في الأصل: ورأ. والمثبت من مختار الصحاح.

وإن كان ذلك نقلاً للشهادة، فالشهادة تنقل إلى كل قاضٍ، ولا معنى للتخصيص إذا كانت الحالة هذه. وما تشتمل عليه الكتب من التخصيص إقامة الرسوم. فهي غيرُ ضائرة، ولا قادحة، والدليل عليه أن التخصيص إنما يتخيّل من تولية واستنابة، وليس لهذا القاضي أن يولّيَ أحداً في غير مكان ولايته، ولا أن يستنيب بحكم الولاية. وقد غلط أبو حنيفة (1) -رضوان الله عليه وأرضاه- لما قال في نقل البينة إذا عيّن قاضياً، تعيّن، فلا يعرض الكتاب على غيره، ولو عُرض على غيره، لم يعمل به، وقال: إن أراد الخصم في ذلك تعميماً، فليكن في الكتاب " كتابي هذا إلى فلان القاضي، وإلى من يبلغه كتابي من قضاة المسلمين ". وهذا زلل بيّن، اقتضاه اعتقادُ الكتاب تفويضاً، أو تولية واستنابة، وذلك محال. وإذا انتجز الرجل كتاباً من حاكم مرو إلى حاكم نيسابور، فبدا لشهود الكتاب أن يقيموا بسَرَخْس، أو ينعطفوا إلى مرو (2)، فالمدعي بالخيار: إن شاء أشهد على شهاتهم جماعة يصحبونه في الطريق إلى نيسابور، وإن شاء أوصل الكتاب إلى حاكم سرخس، واستدعى منه القضاء بالبيّنة المنقولة إليه، ثم [ينتجز] (3) كتاباً منه إلى قاضي نيسابور. وهذا بعد تمهيد الأصول واضح. وقد ذكرنا أن الكتاب لا معول عليه، وإنما التعويل على قول شاهدي الكتاب، فليقع الاعتناء بهما وبشهاتهما وذكرهما. 11943 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن المدعي إذا نقل البينة، وقد حكم القاضي الكاتب بالتعديل، فلو قال الخصم عند الانتهاء إليه: شاهدا الأصل مجروحان، قلنا: أَبِنْ جرحَهما بشاهدين، فالقاضي الكاتب عدّل بناء على ظاهر الحال، وسوّغ

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 330، المبسوط: 16/ 96، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 389، مسألة 1435. (2) كذا ولعلها: إلى بلخ، أو نحوها. وإلا فالكتاب في المسألة من قاضي (مرو). (3) في الأصل: " يتجه ".

لكل من يطلع على جرح أن يثبته، فافعل، وإن استمهل في ذلك، فقد نمهله ثلاثة أيام. وسنذكر أصلاً لهذا في نظائر هذا. فإن قال: أتمكن من جرح الشهود إذا وردتُ البلدةَ التي بها القاضي الكاتب، وقد يُبدي في ذلك عذراً مُخيلاً؛ فإن أهل تلك الناحية أخبرُ ببواطن شهودها. فإن قال ذلك، لم يبالَ به؛ فإن الأمر يطول لو فعلنا هذا، والظن بالقاضي أنه لم يألُ جهداً ولم يقصر، ولو أمهلنا الخصم، لبطل أثر القضاء على الغائب. نعم، يقضي عليه المكتوب إليه، ويُلزمه الخروج عن عهدة الدعوى، ثم إن أمكنه إبداء جرحٍ إذا رجع إلى بلده، فليفعل. 11944 - ومن لطيف ما ينبه عليه -وهو ختام هذا الفصل- أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين على حاضر، ثم تبيّن أن الشاهدين كانا فاسقين حالة القضاء، ففي نقض القضاء قولان، سيأتي شرحهما، إن شاء الله. وإذا كان القضاء على غائب، فلو تبين كونُ الشاهدين مجروحين حالة القضاء، فلا خلاف في نقض القضاء، فإنا لو لم نقل ذلك، لجرّ هذا حَيْفاً على الغائب المقضي عليه. وإذا كان المقضي عليه حاضراً، فهو المقصر لما لم يبحث. ْوقد نجز القول في قسمٍ واحد من الدعوى المتعلقة بالغائب، وهو تفصيل القول في دعوى مالٍ في الذمة. 11945 - فأما إذا ادعى عيناً غائبة على غائب، فتلك العين لا تخلو إما أن تكون عقاراً أو منقولاً، فإن كان المدعى عقاراً، فقد أجمع الأصحاب على تصحيح الدعوى، ثم شرطوا المبالغة في الوصف، وذلك هيّن في العقار، وهو بذكر المَحِلة من البلدة، وذكر السِّكّة منها، فيذكر موقعَ الدار من السِّكة، وأنها الدارُ الأولى، أو غيرها، على يمين الداخل، أو على يساره، أو في صدر السكة، إن لم تكن نافذة، ثم التعرض للحدود، وينتهي الأمر إلى غايةٍ تفيد اليقين في التعيين. فإن ادعى داراً كذلك في يد غاصب، وزعم أنه اغتصبها منه، وأقام البينة على

ما يليق بموافقة دعواه، كما سيأتي شرح ذلك كلّه في مواضعها، إن شاء الله، فإذا صحت الدعوى كذلك، وقامت البيّنة على الوصف والتحديد، فإن استدعى المدعي القضاء بالبيّنة، أسعفه القاضي إذا صحت البينة، وقضى بالعين الغائبة، وكتب الكتاب على حسب ذلك. فإن قيل: كيف يقضي ببقعة ليست في محل ولايته؟ قلنا: هذا غفلة عن القضاء، فلئن كان يقضي على رجل ليس في ولايته، فليقض ببقعة ليست في محل ولايته. وعن هذا قال العلماء بحقائق للقضاء، وقضاء حاكم قريةٍ ينفذ قضاؤه في دائرة الآفاق، ويقضي على أهل الدنيا، ثم إذا ساغ القضاء على غائب، فالقضاء بالدار الغائبة قضاء على الغائب، والدار مقضي بها. ثم سرّ هذا الفصل أن الكتاب إذا انتهى إلى البلدة التي بها العقار، فالغالب أن الشهود على الدار لا يصحبون الكتابَ وإنما يصحب الكتابَ شهودُ الكتاب. فلو قال الخصم: لا تزيلوا يدي من غير إشارة إلى الدار، قلنا: يقين التعيين كالإشارة، فكأن الشهود على بُعْد الدار أشاروا إلى الدار، وهذا واضح بيّن. 1946 - فأما إذا كان المدعى منقولاً، فلا يخلو: إما أن يكون مملوكاً، أو غيره من العروض، [فإن] (1) كان المدعى عبداً أو أمة، ففي سماع البيّنة بالنعت والصفة والحلية قولان: أحدهما - أنها لا تُسمع؛ فإن الضبط في ذلك عسير، ومعتمد الشهود الإشارة في المنقولات، وليس ذلك كالعقار الذي يدرك فيه يقين التعيين. والقول الثاني - أن الشهادة تسمع بناء على نهاية الإعلام، كما سنصفه، إن شاء الله؛ لأن القضاء على الغائب وبالغائب مستند إلى الحاجة، وإلى إفضاء الامتناع عن القضاء إلى تعطيل الحقوق، وهذا مما يستوي فيه المنقول والعقار. التفريع: 11947 - إن حكمنا أن البينة مسموعة، فعمادها غاية الوصف؛ فينبغي أن ينتهي الوصف إلى مبلغٍ يحصل التمييز به، ويبعُد التوافق معه، وذلك في الغالب

_ (1) في الأصل: "وإن".

يحصل بنهاية الوصف، وذكر الشامة والعلامة -إن كانت- عظيمُ الغَناء في ذلك. ولم نر الاكتفاء بذكر أوصاف السَّلم والمدَّعى عينٌ، وإنما يُكتفى بأوصاف السلم إذا كان المدعى ديناً؛ فإنه لا تمييز في الديون، [ومقصود التمييز] (1) في الأعيان يخالف مقصودَ الإعلام في السلم؛ فإن الإعلام في السلم إذا أَفرط وتناهى، فقد ينتهى إلى عِزّة الوجود، وذلك ممتنعٌ في السلم؛ فإن شرط الموصوف في السلم أن يكون على حدٍّ لا يعجز وجود أمثاله في العادة، ومن ضرورة ذلك تركُ الإطناب؛ فإن الوصف عند أهل المعرفة معناه التخصيص، فإذا قلت " رجل " شاع هذا في جنس الرجال، وإذا قلت " طويل " اقتضى ذلك تخصيصاً، فلا تزال تزيدُ وصفاً ليزداد الموصوف اختصاصاً، وكلما يزيد الوصف قلّ الموصوف. والغرض من وصف العبد المدعى الوصول إلى تعيين شخص من بين جنس، فالعماد إذاً الإعلام الذي أوضحناه. ثم إذا جوزنا سماعَ البينة بالعبد على الوصف الذي ذكرناه، فهل يجوز القضاء به وهو غائب؟ فعلى قولين: أحدهما - يجوز القضاء، اعتماداً على الوصف، كما يجوز القضاء على الغائب تعويلاً على الإعلام. والقول الثاني -وهو الأصح- أنه لا يجوز تنفيذ القضاء به في الغَيْبة؛ فإن التمييز لا يكاد يتحقق، وليس كالمقضِيِّ عليه، فإن عماد تميزه النسبُ والارتفاعُ فيه، وهذا غير متصور في العبد، والوصف لا يبلغ مبلغاً يفيد التعيين. التفريع: 11948 - إن قلنا: لا يجوز القضاء به، والبينة مسموعة على الوصف والحلية، فكيف الطريق؟ وما وجه الوصول إلى الغرض؟ القول المشهور أن المدعي أو وكيله ينقل الكتاب مع شهود الكتاب، وهو مشتمل على أسماء شهود الأصل، والأوصاف مذكورة على الاستقصاء، فإن صادف القاضي المكتوبُ إليه عبداً على صفات الكتاب في يد المدعى عليه، جاء بذلك العبد، وقال للمدعي: أهذا

_ (1) في الأصل: "والمقصود التمييز".

العبد الذي تدعيه؟ فإذا قال: نعم، لم يقضِ به، فإنا نفرع على أن القضاء لا يعتمد إبرامُه الوصفَ. ولو جاز إسنادُ الإبرام إلى الوصف، لقضى القاضي الكاتبُ بالوصف والعبدُ غائب، فإذا لم يقض الكاتبُ ولا المكتوبُ إليه، فكيف الطريق؟ ظاهر النص، حيث انتهى التفريع إليه، أن القاضي يختم على رقبة هذا العبد ليكون أمانة من الإبدال، ويسلّمه إلى المدعي، ويأخذ منه كفيلاً ببدنه -يعني بدن المدعي- إذا صححنا كفالة الأبدان. ثم إن المدعي يرفع ذلك العبد إلى البلد الذي به [شهوده] (1)، فيستعيد القاضي شهاتهم على عين ذلك العبد، فإذا شهدوا، افتتح القضاء له بالملك فيه، ثم يبرأ المتكفِّل بالبدن. وحاصل القول يؤول إلى أن سماع البيّنة على الوصف في ابتداء الأمر لا يسلط القاضيَ الكاتبَ على القضاء ولا المكتوبَ إليه، ولكن يفيد إيجابَ نقلِ العبد وإحضارِه. ثم يترتب على ذلك كلِّه القضاءُ إن أشار الشهود إلى عين العبد، فلا فائدة في سماع البينة الأولى إلا النقلَ، كما ذكرناه. وما ذكرناه من الختمِ وأخذِ الكفيل احتياطٌ في الواقعة، فلو تركه القاضي المكتوبُ إليه، فترتيب القضاء ونظْمُه لا يختلف. ولكن اختلف أئمتنا في أن المكتوب إليه هل يكون تاركاً واجباً، أم يكون تاركاً احتياطاًً مؤكداً مأموراً به من غير إيجاب؟ وهذا الاختلاف أجرَوْه في كفالة البدن، وإيجاب كفالة البدن ضعيف. هذا قول. وفي المسألة قول آخر، وهو أن العبد لا يسلَّم إلى المدعي حتى يبتاعَه بثمنه -على تقدير أن الملك لو لم يثبت فيه، فيكون الثمن في ذمته، وهذا بيع مستند، ووقف (2) عظيمٌ ظاهر، ولكن أجريناه احتياطاً للمدعَى عليه، ثم نأخذ منه كفيلاً بالثمن، وينقل هو العبدَ إلى مكان الشهود على الترتيب المقدَّم، فان أشار الشهود إليه، بان فساد العقد، وظهر أنه ملك المدعي، وبرىء من الثمن، وبرىء الضامن، وإن لم يشر

_ (1) في الأصل: "شهود" والمثبت من (ق). (2) ووقف عظيم: أي وقف لعقد البيع. والشافعية لا يقولون بوقف العقود، ولكن احتمل هنا احتياطاً، كما قال الإمام.

الشهود، جرى البيع على اللزوم، وتوجهت الطّلبة عليه وعلى الضامن عنه بالثمن، فحصل في كيفية تسليم العبد إلى المدعي قولان، وقد ذهب إليهما علماء السلف. وما ذكرناه في العبد. 11949 - وأما إذا ادعى الرجل جارية فلا تسلّم الجارية إلى المدعي وإن رأينا تسليم العبد إليه؛ احتياطاًً للفرج، وهذا محتوم لا شك فيه- ولكن إن رأينا التسليم، فالوجه تسليمها إلى أمين في الرفقة. وإن قيل: " قد يكون المدعي أميناً "، [قلنا:] (1) لكنه يدعي الملك، وهو خصم، فلا سبيل إلى ائتمانه. وما ذكرناه من ضمان الثمن على قول البيع واجب المراعاة مذهباًً واحداً، بخلاف كفالة البدن على القول الأول؛ فإن فيها التردد المتقدم. 11950 - وقد حصل مما أجريناه قولان، أولاً - في سماع البينة، فإن لم يسمعها، فالدعوى لاغية؛ فإن الدعوى على الغائب لا حاصل لها إذا عسر إقامة البيّنة. ولنا على هذا انعطاف، نوضح فيه أمراً بِدْعاً هو سرّ الباب. والقول الثاني - أن البيّنة مسموعة، فعلى هذا قولان في أن القضاء هل يجوز تنفيذه؟ فإن نفذناه، وصادفنا على وصف الكتاب عبداً في يد [المدعى عليه] (2) متميزاً، سلمناه إلى المدعي ملكاً ظاهراً، وإن أرانا المدعى عليه على وصف الكتاب عبدين أو عبيداً، وقف القضاء، وقلنا للمدعي: ارجع وميّز. كما ذكرنا مثل ذلك في المدعى عليه إذا قضى القاضي الكاتبُ عليه. وإن قلنا: لا ينفذ القضاء عليه، والبيّنة مسموعة، [ففيما] (3) يفعل قولان ذكرناهما يجمعهما التوصل إلى إحضار العبد مكان الشهود، وفي كيفية ذلك القولان

_ (1) زيادة للإيضاح. (2) في الأصل: "المكتوب إليه" والمثبت تقدير منا؛ فالمكتوب إليه هو القاضي في بلدة الغائب المدعى عليه. ثم جاءت (ق) موافقة لعبارة الأصل. (3) في الأصل: "وفيما".

المذكوران، وكل ما ذكرناه في قسم المنقول مخصوص بالعبيد والإماء. 11951 - فأما إذا كان المدعى عَرْضاً من العروض ادعاه بعينه، وبالغ في وصفه، فقد يفرض فيه ما لا يتصور تمييزه بالوصف أبداً، وهو كادعاء أَذْرُع من كِرباس، فلا مطمع في انتهاء الوصف إلى مبلغ إفادة التمييز، ولا يقع القضاء قط بالعين، ولا يتصور تكليف النقل إلى مكان الشهود؛ إذ لا كرباس إلا ويساويه كرباس على شيوع الوجود، فالقضاء بالعين مأيوس منه، إذا كانت الحالة هكذا، فلا يبقى وجه إلا أن يدعيَ الكرباسَ، ويصفَه، ويذكرَ قيمتَه، ويردَّ دعواه إليها، ويقع سماع البينة بحسب ذلك، والشهود يشهدون، ومعوّلهم القيمة، وإن أطنبوا في الوصف [لا يتميز المدعَى] (1)، وإن كان يستحق في علم الله كرباساً معيناً، فهذا ملتبس لا وصول إليه، ولكن لا تعطيل. فالوجه ربط الخصومة بالمالية، ثم ينفذ القضاء بالثوب المشهود به والغرض ماليته، فإذا أُبرم القضاء ونُقل الكتاب إلى مكان الخَصم، فالمدعي لا يمكنه أن يكلفه بحكم القضاء إحضار كرباسه؛ فإن القضاء يعتمد التعيين ولكنه يُلزم قيمةَ الثوب. وقد قال الأصحاب في هذا المقام: يتعين ذكر القيمة؛ فإنها عماد القضاء كما بيّنا. فأما إذا ادعى عبداً، وجوزنا القضاءَ بعينه، أو سماعَ البينة، كما تفصّل من قبل، فقد ذكر بعض أصحابنا قيمة العبد في الإعلام، وهذا محتمل. والأظهر عندنا أنه لا يشترط ذلك إعلاماً؛ فان القيمة لاضبط لها في هذه المنازل، إذا كان المطلوب ربطَ القضاء بعين. 11952 - وهذا أوان الوفاء بالانعطاف على العبد حيث وعدنا، فإذا لم نر للقضاء بعين العبد وجهاً؛ ولم نجوز سماع البينة،. فقد قدمنا أن الدعوى لا معنى لها- وهذا فيه إذا أراد العينَ، فإن أراد أن لا تتعطل ماليته، فليعتمد قيمة العبد، ويربط دعواه بها، وإن وصف، فلا بأس، وتسمع الدعوى والبينة، وينفذ القضاء في المالية، كما ذكرنا في الكرباس.

_ (1) في الأصل: " لا التمييز والمدعى ".

ثم إذا كان المطلوب الماليةَ كما ذكرناه، فالاعتماد قطعاً على القيمة، والأوصاف إنما [يذكرها] (1) المدعي وشهوده لترتبط الدعوى بالقيمة، فلو قال: غصب مني ثوباًً قيمته عشرة، وليس يبغي الوصول إلى عينه، فالظاهر قبول الدعوى على هذا الوجه، فإن قيل: دعوى مجهولة بمجهول؟ قلنا: لا، بل المدَّعَى القيمة -فهي العماد- وهي معلومة، ويترتب عند ذلك القول في القيمة. أما العقار، فلا خلاف أنه لا يشترط فيه التعرض للقيمة؛ فإن المطلوب فيه العينُ، والوصول إلى التعيين ودركِ اليقين ممكن، وحيث لا مطمع في التعيين والتمييز، فالمعتمد القيمة، وإذا أثبتنا في العبد وما في معناه إمكانَ التمييز، وعوّلنا على الوصف، طمعاً في الوصول إلى العين، ففي ذكر القيمة وصفاً وإعلاماً خلاف، والأظهر عندنا أنه لا يشترط. ثم ما ذكرناه في العبد والأمة لا يختص بهما، بل كل ما تعذّر تميّزه بالوصف، فالتفصيل المذكور في العبد جارٍ فيه، كما لو ادعى فرساً، فإن تمييزه بالأوصاف الكلية، ثم بالشِّيات الخفية مما يُطمع فيه، وهو أبعد قليلاً من العبد، لأن التشابه في البهائم أغلب منه في الآدمي. فإذاً الأعيان الغائبة عقار، ولا خلاف في القضاء به، وعينٌ [لا يطمع] (2) في تميزها، والدعوى فيها ترجع إلى المالية، ومنقولات يطمع في تميزها بالوصف، وفيها الخبط وازدحام الخلاف، ثم إن رأينا التمييز متعذراً في هذا القسم، رددناه إلى المالية المذكورة في القسم الذي لا تميّز فيه. وقد انتجز الكلام في الدعوى على الغائب. وكنا ذكرنا في صدر الباب أن الكلام يقع في القضاء على الغائب وسماعِ البيّنة عليه وفي الحاضر. وقد انتجزت مجامع الكلام وأصوله في حق الغائب.

_ (1) في الأصل: " نذكره ". (2) ما بين المعقفين ذهبت به آفة البلل من أطراف السطور. وأثبتناه من عندنا على ضوء السياق. والله أعلم. والحمد لله فقد صدقتنا نسخة (ق).

11953 - ونحن نذكر الآن الدعوى على الحاضر على مقدار غرضنا، ولسنا نلتزم بيان جميعِ أحكام الدعوى على الحاضر؛ فإنا لو التزمنا ذلك، لذكرنا كتاب الدعاوي. وقد يلزمنا الآن شيئان: أحدهما - الكلام في حاضر في البلد غائبٍ عن مجلس القضاء، والآخر - بيان القول فيه إذا كان المدعى عليه حاضراً مجلس القضاء، ولكن المدعى عينٌ غائبة عن مجلس القضاء. فأما التفصيل في القضاء على الغائب عن مجلس القضاء مع الحضور في البلدة -فقد قال الأصحاب إن غيّب وجهه وتوارى، أو تعزز وامتنع، وعسُر إحضاره، نفذ القضاء عليه حَسَب نفوذه على الغائب، وهذا يجب أن يكون متفقاً عليه. فأمّا إذا لم يتعذر إحضاره، فهل يجوز سماع الدعوى عليه قبل حضوره، ثم سماع البينة؟ فعلى وجهين مشهورين ذكرهما الصيدلاني وغيره: أحدهما - أنه لا يجوز، ويتعين إحضاره وإقامةُ الشهادة في وجهه إن أمكن؛ فإنا وإن كنا لا نرى الإنكار عماداً وركناً في سماع البينة، فالغرض من الإحضار توقع الإقرار، وحقٌّ على القاضي أن يسلك أقرب الطرق وأَقْصدَها في فصل القضاء، والسبب فيه أنه لو طوّل، فقد يكون مؤخِّراً حقَّ مستحقٍّ مع القدرة على تعجيله، وهذا لا سبيل إليه. ثم هذا القائل يرد سماع البينة والدعوى؛ فإن كل ما يتعلق بعكس الترتيب المستحق في الخصومات آنذاك يُخرج البينة عن أن تكون مسموعة. والوجه الثاني - أن الدعوى مسموعة، والبينة مسموعة؛ فإن المدعى عليه إذا تعين وتميز، كفى، والبينة بيان، والمدعى عليه بيْن أن يقرّ أو ينكر حضر أو غاب. التفريع: 11954 - إن رددنا الدعوى والبينة، فليس إلا الإعداءُ على الخصم عند [السلطان] (1) وإحضارُه مجلسَ الحكم، ثم الخصومة تقام في وجهه. وإن حكمنا بسماع البينة مع القدرة على الإحضار، فالمذهب الذي يجب القطع به

_ (1) مكان كلمة مطموسة في الأصل، والمثبت على ضوء السياق، والاستئناس بعبارة الرافعي في الشرح الكبير: 12/ 513.

أن القضاء عليه لا يجوز؛ فإنه قد يعرف مطعناً في البينة يمنع به نفوذَ القضاء وهو حاضر، فالهجوم على تنفيذ القضاء محال؛ فإن القضاء يقع وراء كل احتياط ممكن، وليس هذا كالقضاء على الغائب؛ فإن حضوره غيرُ حاصل، ومراجعته في مطعن إن كان يعرفه غيرُ ممكنة، والحاجة ماسة، فنفذ القضاء، والمقضي عليه على حقه في التتبع إذا وجد مطعناً. هذا ما قطع به الصيدلاني، وهو الحق عندنا. ومن أصحابنا من جوّز القضاء على الحاضر الغائب عن مجلس الحكم؛ طرداً لقياس ظاهر في أن من تُسمع البينة عليه يجوز القضاء عليه، وهذا غفلة عن مسالك القضاء. ولو أحضر المدعي خصمَه مجلسَ الحكم، فهل يجوز سماع البينة عليه من غير مراجعته؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما الصيدلاني وغيره. ثم قال الأئمة: هذه الصورة أولى بامتناع سماع البينة، والفرق لائح. قال الصيدلاني: في هذه المسألة والتي تقدمت -وهي إذا كان في البلد، [ولم] (1) يحضر مجلس القضاء مع القدرة على إحضاره- ثلاثةُ أوجه: أحدها - أن البينة لا تسمع ما لم يراجع الخصم؛ فإن أقر، فذاك، وإن أنكر أو سكت، قامت البينة عليه. والوجه الثاني - أن البينةَ مسموعة من غير مراجعة في المسألتين. والوجه الثالث - أنا نفصل بين الصورتين، كما أشرنا إليه. ثم يبعد كل البعد إذا جوّزنا سماع البينة على الحاضر من غير مراجعته، أن يقضي عليه من حيث لا يشعر. هذا غرضنا في الحضور والغيبة في المدعَى عليه. 11955 - فأما القول في المدعى، فإن كان شيئاً في الذمة، فلا يخفى إعلامه، وإن كان يدعي على خصمه عيناً غصباً، أو وديعة، أو عارية، فهذا ينقسم إلى العقار وغيره، على حسب ما ذكرناه في أقسام الكلام في الغائب.

_ (1) في الأصل: "وإن".

فإن كان المدعى عقاراً، فالدعوى مسموعة، والاعتماد على الوصف والتحديد، وقد ذكرنا إمكانه، بل انتهاءه إلى اليقين، فإذا قامت بينة على دار معلومة من سكّة معلومة، فلم يبق في الإعلام شيء، ثم ينفذ القضاء بالدار من غير إشارة إليها، إذا استمكن الشهود من البيان التام، الذي لا يبقى معه لَبْس. وإن قال شهود المدعي: لسنا نستقلّ بحدود الدار، ولكنا نشير إليها، أو إلى الأرض -إن كان المدعى أرضاً- فلا بد -والحالة هذه- من التعيين في الشهادة. ثم إن حضر القاضي بنفسه، سمع الشهادة مع الإشارة والتعيين، وإن استخلف خليفة ليحضر البقعة، ويسمع الشهادة، جاز. وسأفصل القول في خلفاء القضاة، ومنازلِهم، وصفاتِهم بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. ثم من تمام البيان في ذلك أن المدعي إن وصف العقار وحدَّه في دعواه، وامتنع الشهود من ذكر الحدود، صحت الدعوى، ثم إذا وافق تعيينُ الشهود المدعى المحدود، حصل الغرض، وإن لم يستتم المدعي ذكر الحدود، وإعلام المدعى، فدعواه مجهولة، والدعوى المجهولة لا تسمع، ولا تعطيل في هذا، فليتعرف الحدود؛ فإنّ تعرُّفَها سهلٌ إذا كان المدعى حاضراً بالقرب. هذا قولنا في العقار. 11956 - فأما ما عداه من الأعيان المنقولة، فهي تنقسم حسب أقسامها في الغائب، فإن ذكر عبداً حاضراً في البلد، وادعاه على الوصف، فالذي نقدمه أنا على القول البعيد في الغائب إذا جوّزنا القضاء بالعبد الغائب -وهو قول ضعيف- أو جوّزنا سماع البينة على الوصف، على قولٍ ظاهر، فإذا كان العبد حاضراً، وأمكن إحضاره، فلا يجوز سماع البينة بالوصف أصلاً، وليس كسماع البينة على الخصم الحاضر في البلد قبل أن يحضر مجلس القضاء؛ لأن سماع البينة على الشخص مرتبط بعلم وتحقق، بخلاف العبد. وأنا أقول وراء ذلك: إنما يسمع القاضي البينة على الحاضر في البلد إذا كان يعرفه ويتعيّن له، فإن لم يكن كذلك، لم يسمع، بخلاف البينة على الغائب؛ فإن القاضي

يسمع البينة على الغائب، [وإن] (1) كانت نهايات التسمية والتَّحْلية [لا تُعرِّفه] (2) عنده؛ لأن المعتمد الأظهر في الغائب [تمييز] (3) المقضي عليه في مكانه عند إيصال الكتاب، وهذا في الحاضر في البلد لا يتحقق. نعم، لو تعيّن العبد المدعى للقاضي، فيجوز سماعُ البينةِ عليه -وإن لم يكن حاضراً في مجلس القضاء- وجهاً واحداً. والفقه فيه أن الخصم المتعيَّن إذا لم يحضر لسماع البينة، لم يمتنع لجهالة، وإنما امتنع لترك المسلك الأقرب، وهذا لا يتحقق في العبد المعين الذي يعرفه القاضي والشهود، وليس يبعد اشتراط الحضور فيه أيضاً؛ فإن الإشارة أوجز من الوصف، وأنفى للتهمة، فإذا كنا لا نسمع البينة بالوصف على عبدٍ لم يتعين للقاضي -[وغمرة] (4) الإشكال من هذا الموضع- فإن الدعوى على الوصف [مسموعة] (5) لا محالة؛ إذ لو لم نسمعها، ما قامت الخصومة، ثم ينبغي أن تكون معلومة على الحد الذي يتأتى الإعلام فيه، ثم يقول القاضي للخصم: ماذا تقول؟ فإن زعم أن العبد الذي ادعاه في يدي وهو مِلكي، فالقاضي يلزمه إحضاره حتى يسمع البينة على عينه إشارة إليه، فإن قيل: هذا تكليفه تصرفاً فيما هو ملكه في الظاهر. قلنا: ليكن كذلك، فليس تكليفه إحضارَ العبد بأبعدَ من تكليفه الحضور بنفسه، وقد يكون المدعي مبطلاً. هذا إذا قال: هذا الموصوف في يدي، ولو قال: هذا الذي وصفه ما ثبتت عليه يدي، فلا يمكننا أن نكلفه إحضاراً، فعند ذلك نقول للمدعي: إن كنت تبغي العبد، فأثبت بالحجة كون هذا الموصوف في يده. ثم للمدعي مسلكان: أحدهما - أن يقيم بينة على أن هذا العبد الموصوف رأيناه

_ (1) في الأصل: "فإن". (2) تقدير من المحقق مكان المطموس في أول السطر. والحمد لله فقد جاءت به نسخة (ق). (3) في الأصل: "يمين". وقد أفدنا هذه من "ق". (4) كذا قدرناها على ضوء أطراف الحروف التي بقيت بعد أن ذهب البلل بأطراف الورقة. ثم جاءتنا (ق) فأكدت صحة تقديرنا والحمد لله. (5) في الأصل: "مسموعاً".

في يده، ثم هذا يحصل على وجهين: أحدهما - أن يشهد شهود المدعي بذلك أيضاً، كما يشهدا بالملك له. والآخر - أن يشهد شاهدان على وجدان ذلك العبد في يده، [ولا] (1) علم عندهما بملك المدعي، فإن كان كما صورناه آخراً، فيثبت كون العبد الموصوف في يد المدعى عليه على الجملة وهذا القدرُ كافٍ في أن يقال له: أحضر هذا الموصوف ليعرف أن شهود الملك هل يشيرون إليه أم لا؟ وإن تعرض شهود الملك لذلك، لم تفد شهاتهم في الحال إثبات ملك المدعي، ولكنها تفيد تكليفَه الإحضارَ. ثم الشهادة المثبتة للملك تنشأ مقيّدةً بالإشارة. هذا مسلك واحد. والمسلك الآخر - ألا تكون له بينة على كون عبدٍ على الصفات المذكورة في يده، ففال: أحلّف المدعى عليه أن يده لم تثبت على عبد على هذا الوصف، فإن حلف، فذاك. وإن نكل؛ حلف المدعي وألزمه القاضي أن يحضره، فإن امتنع حبسه ليُحضر العبد الموصوف. وفي الكلام بقايا، وتمام البيان عند نجاز الفصل. 11957 - هذا إذا كان المدعى مما يمكن تمييزه بالوصف. فإن لم يكن كأذرع من كرباس- فلو قال المدعي لي في يد هذا عشرة أذرع من الكرباس، وأطنب في الوصف، فلا وصول إلى التمييز، ولا معنى لتكليف الخصم إحضارَ كرباس؛ فإنه لو قال: في يدي ألفُ ذراع من الجنس الذي ذكرتُه، [فليُحضِر] (2) منها أتمها، فهذا قسم لا يتصور فيه الوصول إلى العين، ولا [يكلّفُ] (3) إحضار العين، إلا أن يصادف المدعي عيناً في يد المدعى عليه فيدّعيها. هذا تفصيل بالغ. 1958 - والبيان بعدُ موقوف على معرفة شيئين: أحدهما - أنا حيث نُلزم الخصم

_ (1) في الأصل: " فلا ". (2) في الأصل: "فأحضر". (3) في الأصل: "ولا تكليف".

إحضار العين، ونحبسه لو امتنع، فقد يختلج في نفس الفقيه أن تلك العين ربما كانت تالفة، والجواب عن هذا سهل؛ فإن أمثال هذه الأمور تبنى على استصحاب البقاء، وعليه يتصرف الوكيل على ألف فرسخ من موكله، إلى غير هذا، مما يتسع الكلام فيه، فإن عظم وقع دوام الحبس على المحبوس، فالبينة لا تكذَّب، فإن كانت تلفت العين، فلينجُ بدعوى تلفها؛ فإن قوله مقبول في هذا. والفصل الثاني - أن المدعي إذا عسر عليه استحضارُ العين؛ بأن لا يجد بيّنة على كونها في يد المدعى عليه، ولما حلّفه، حلف، فسبيله أن يرد الدعوى إلى المالية إذا استشعر ذلك منه؛ فإن المالية ترجع إلى قياس ضمان الذمم، فتبقى مرتَبَطه في الحق على ما ذكرنا. ولو كان المدعي على تردُّدٍ في أن تلك العين في يد المدعى عليه أم فاتت في يده، فلو قال: أدعي عليه عيناً صفتها كذا أو قيمتها إن فاتت في يده، فقد اختلف الأصحاب في أن الدعوى هل تُسمع كذلك؟ فقال القيّاسون لا تسمع الدعوى على هذا الوجه؛ فإنها مترددة غير مجزومة. وقال قائلون: الدعوى تسمع كذلك؛ فإن الحالة ربما تكون كذلك. قال القاضي: اصطلح القضاة على سماع هذه الدعوى ورأَوْا في سماعها مصلحة. ثم إن سمعنا الدعوى على هذا الوجه، فلا كلام، وإن لم نسمعها، فالوجه رد الدعوى إلى المالية، كما وصفناها، ثم البيّنة لا تسمع على الوصف في هذا النوع، فإذا كانت الدعوى مالية سُمعت، فيصف الشهود [ويذكرون] (1) القيمة، وتتوجه الطلبة بمالية المدعى. وهذا أقصى ما في الوسع من بيان هذا الفصل. 11959 - ومن الأمور البينة التي يجب أن لا يُغفَل عنها، أنا إذا كلفنا المدعى عليه إحضار العين، فالتزم مؤونة إحضارها، فإن ثبت استحقاق المدعي، فالمؤونة على المُحضر، وإن لم يثبت استحقاق المدعي، فقد قال الأصحاب: يُغرّم المدعي مؤونة

_ (1) تقدير منا مكان بياض بالأصل. والحمد لله جاءت بصحته (ق).

النقل، ومؤونة الرد إلى المكان الذي كان المتاع فيه. وهذا فيه [أدنى نظر] (1) يَقْدُمُه شيء، وهو أن الخصم المستحضَر قد يناله كدٌّ في الحضور، وربما ينقطع به عملٌ مقابَلٌ بأجر، فهل نقول: إذا بان كونُ المدعي مبطلاً، يلتزم المستحضِر أجره؟ الذي نراه أنه لا يلتزم بهذا؛ فإن الغالب في استحضاره حقُّ القاضي، والدليل عليه أنه يستحضره من غير ثبوت حق عليه، هذا ما يجب القطع به؛ فإن مراتب الولايات لا تستتب إلا باحتمال أمثال هذا. فإذا بانت هذه المقدمة، فلست أبعد أن يكون إحضارُ المال منها؛ فإنها متعلقة بالإيالة وأسباب الولاية. [وهذا] (2) الاحتمال حسن بالغ، ولا آمن أن يكون التسامح في إحضار الخصم لقرب الزمان الذي لا يكون لمثله حظٌّ من الأجرة، وإن كان، فنزرٌ لا يحتفل به، وأقصى ما عَلَيَّ البينة والآراء السديدة، تشترك في النظر، والله المستعان. وقد كمل الغرض والبيان بعون الله وتوفيقه، وشذت مسائلُ وفصولٌ عن ضبط الأصول، ونحن نتداركها إن شاء الله، فنرسم المسائل فروعاً، ونعقد فيما يَتَفَصَّل فصولاً. فصل 11960 - كل حق تقبل فيه الشهادة على الشهادة يُقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، والأموال بجملتها كذلك. وما يختلف القول في قبول الشهادة على الشهادة فيه، فكتاب القاضي إلى القاضي يجري فيه على مثل ذلك الاختلاف، ففي القصاص قولان؛ وفي حدود الله قولان مرتبان، وسيأتي شرح ذلك في موضعه من كتاب الشهادات، إن شاء الله. والأصحاب شبّهوا شيئاً بشيء، وعندي أن كتاب القاضي إلى القاضي ليس مشبهاً

_ (1) ما بين المعقفين مما أفادتنا به (ق). (2) هكذا قدرناها على ضوء ما بقي من آثار الحروف. ثم هي مطموسة في (ق).

بالشهادة على الشهادة، بل هو عينها؛ فإن القضاء إذا كان مبرماً، فقول القاضي بمثابة الأصل، وشهود الكتاب فروعه. وإن سمع القاضي بينة، ولم يقض بها، فهذا بعينه نقل البيّنة. فصل 11961 - قد ذكرنا التفصيل في نصب قاضيين في شِقَّين من البلدة، ولو فرض نصب قاضيين في جميع البلدة بحيث ينفذ قضاء كل واحد منهما في البلدة بكمالها، ففي جواز ذلك وجهان - ذكرهما الشيخ أبو علي والقاضي: أحدهما - أن ذلك يجوز؛ فإن المحذور فيه اجتماع ولايتين وذلك متحقق في كل بلدة بها قاضي. فإن ولاية الإمام نافذة فيها مع ولايته. والوجه الثاني - أن ذلك ممتنع، لأنه يؤدي إلى تخيُّر الخصوم والتجاذب في الارتفاع إلى المجلسين إذا دُعي خصم من جهة القاضيين، ويغلب اختلافهما في الحُكمين؛ فيجر هذا نزاعاً دائماً، والمقصود من القضاء قطع النزاع. فان جوّزنا ذلك، فإذا سبق داعٍ من أحد المجلسين، فهو المجاب. وإن [توافى] (1) الداعيان، فليس أحدهما بالإجابة أولى من الثاني، فلا وإلا الإقراع، والجريان على موجب خروج القرعة. والذي أراه أنه إذا كان الإمام قي البلدة، وبها القاضي المرتب، فالمقدم داعي الإمام (2). وإذا منعنا اجتماع ولايتين -كما قدمنا- فلا يمتنع هذا، لما أشرنا إليه من تقديم الإمام عند تصور [التوافي] (3) من الداعيين، وكذلك القول في القاضي وخليفته، كما سنذكر تفصيلَ الخلفاء ومنازلَهم، إن شاء الله.

_ (1) في الأصل: " توانى " والمثبت تقديرٌ منا، فهو أقرب صورةً للمرسوم، وأوفق معنى للسياق، فمعنى توافى الداعيان أي جاءا معاًً. وهي بعينها ألفاظ الغزالي والرافعي والنووي في المسألة نفسها. وأخيراً جاءتنا (ق) لتؤكد صحة تقديرنا، فالحمد لله ملهم الصواب. (2) أي عندما يجىء الداعيان معاً. (3) في الأصل: "التواني".

وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا كان كل واحد من القاضيين نافذَ الحكم على الاستقلال. فأما إذا نَصب من إليه الأمر قاضيين على ألا ينفرد كل واحد منهما بالقضاء ما لم يوافقه الثاني، فهذا مردود؛ فلا مساغ له؛ فإن اختلاف المجتهدَيْن مطرد غالباً؛ فإذا كان لا ينفرد أحدهما بالقضاء أدّى هذا إلى توقف الخصومات وحيرةِ الخصوم، وأيضاً فإن تكليف المجتهد بعد تمام اجتهاده أن يقف أمره على رأي غيره محال لا وجه له. قال صاحب التقريب: إذا نصب من إليه الأمر قاضيين، ولم يصرح بأن كل واحد منهما يستقل بالقضاء أو يراجع صاحبه، فمطلق التولية يقتضي انفراد كل واحد منهما بالقضاء. ولو نصب المريض وصيّين وأطلق نصبهما، فمطلق نصبهما يقتضي ألا ينفرد واحد منهما بأمر دون صاحبه، وفرّقَ بأن قال: نَصْبُ الوصيين كذلك مع التصريح بتوافقهما جائز، فمطلق نصبهما يقتضي ارتباط أمرِ أحدهما بالثاني، ولا يجوز التصريح بنصب قاضيين على اشتراط توافقهما، فالمطلق محمول على ما يجوز، وهو الاستقلال. ومن أصحابنا من قال: إطلاق توصية رجلين يقتضي انفراد كل واحد منهما بالأمر، وإنما يراجع أحدهما صاحبه إذا تقيدت الوصاية باشتراط ذلك، وهذا لا أصل له، ولا اعتداد به. ومن أصحابنا من قال: نَصْبُ قاضيين في بلدة يقتضي ارتباط أمر أحدهما بالثاني، والتوليةُ على الفساد، ما لم تُقيَّد بانفراد كل واحد منهما بالأمر. وهذا الوجه في هذا النسق أمثل مما ذكرناه في الوصاية. فصل 11962 - إذا استحضر الرجلُ خصماً مجلسَ القضاء، فيجوز له أن يأبى عليه إن لم يعرف له حقاًً، فإن عرف له حقاً، فعليه توْفيتُه، ولا يلزمه حضورُ المجلس. هذا إذا كان المستحضِر [الخصمَ] (1) نفسَه.

_ (1) في الأصل: "للخصم".

وإذا استدعى الخصمُ من القاضي أن يستحضر الخصمَ له، أجابه القاضي، وأمر صاحبَه بالحضور، وإذا دعاه القاضي، وجبت عليه الإجابة، سواء كان عليه حق أو لم يكن. والقاضي يُعدي عليه [ولا يُشترط] (1) في الإعداء أن يُثبت الخصمُ حقَّه، فإنا قد نقول: إذا كان حاضراً، فلا سبيل إلى إثبات الحق قبل حضوره مجلس القضاء، فلو توقف إحضاره على ثبوت الحق، وتوقف ثبوت الحق على إحضاره، فكان ذلك دائرةً سادّةً بابَ إثبات الحقوق. ثم إنما يُعدي القاضي على الخصم [إذا كان ذلك على] (2) مسافة العَدْوَى، وهي أن يكون بمكان لو انطلق الرسول إليه بُكْرة، لأمكنه الذهاب والرجوع إلى منزله قبل أن يجنّ الليل، هذه مسافة العَدْوَى. فإن كانت المسافة أبعدَ من ذلك، [فلا يخلو] (3) إما أن يكون الخصم في موضع به قاضٍ أو لا يكون في الناحية التي هو بها قاضٍ، فإن كان [ثَمَّ] (4) قاضٍ فيكتب إليه بما يقتضيه الحال، على ما فصّلنا القول في كتاب القاضي إلى القاضي، وإن [لم يكن ثَمَّ] (5) قاضٍ، وكان ذلك المكان من ولاية القاضي، فالقاضي لا يُعدي عليه، ولا يستحضره أصلا من غير بيّنةٍ يقيمها الخصم؛ فإن المسافة إذا بعدت، عظم الإحضار من غير ثَبَت، وإذا أقام البينةَ، فإن أراد القضاء، قضى، وإن تعذر استيفاء الحق دون حضور الخصم، استحضره بعد قيام البينة من المسافة الزائدة على مسافة العدوى، وإن بعدت تلك المسافة، وبلغت مسافة [القصر] (6) وكانت من ولاية القاضي؛ فإنه يُحضره ولا يبالي به. والغرض مما ذكرناه أن القاضي يعدي في مسافة العدوى، من غير حُجة، فإذا

_ (1) تقدير منا مكان انمحاء بالأصل. (2) مكان كلمات انمحت من الأصل، والمثبت هنا وفي أمثاله تقدير منا. ونسجد لله شكراً، فقد صدقتنا (ق) في جميع ما قدرناه، فالحمد لله ملهم الصواب. (3) اختيار منا. (4) مكان بياض قدر كلمة. (5) تقدير من المحقق. (6) اختيار من المحقق مكان ما ذهب من أطراف الحروف.

زادت المسافة، فلا إعداء من غير حُجّة، وما ذكرناه متفق [عليه] (1) ذكره العراقيون وغيرُهم. ومما يجب التنبه له إذا كان في جانب من ولاية القاضي ناحيةٌ آهلة، فلا يجوز له إخلاؤها عن مُستخلَف، وذلك بأن يقيم بالقرب منها حاكماً بحيث يقع بين المستخلفين أو بين المستخلَف والقاضي مسافةُ العدوى. فرع: 11963 - إذا أقام الرجل بيّنته على خصمه الغائب، وجرى القضاء بها على الشرط المقدم، ووجد القاضي للغائبِ مالا في بلد القضاء، فإذا استدعى الخصم [تأدية] (2) حقه من ذلك المال، لزمه إسعافُه به. وهل يتعين عليه أن يأخذ منه كفيلاً بذلك المال؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - فَعَل ذلك لتقدير عود الخصم واستمكانه من مدفع. والوجه الثاني - أنه يستدعي منه كفيلاً، فإن أبى، لم يلزمه؛ فإن القضاء قد نفذ، وتوقع النقض والاستدراك يتطرق إلى كل قضاء، فلا معنى لإيجاب الكفيل والضمين. فرع: 11964 - إذا أقيمت بيّنة في مجلس القاضي، فغاب القاضي قبل القضاء بها، وخرج عن مكان ولايته، ثم عاد، فهل يبني القضاءَ على البيّنة التي سمعها، أم يستعيد البينة؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يستعيد؛ فإن الولاية كانت ثابتة له، وخروجه عن مكان ولايته لش بمثابة انعزاله. والوجه الثاني - أنه يستعيد، كما لو عُزل ووُلِّي ثانياً. ولا خلاف أن الأمر لو كان كذلك، لاستعاد البينة، واستجد سماعاً جديداً، كذلك إذا خرج من مكان ولايته، فقد انتهى إلى حالة لو أراد الحكم فيها لم يتمكن، وفي المسألة احتمال على الجملة. فرع: 11965 - إذا كان في مكان ولاية القاضي مالٌ ليتيم، وكان ذلك اليتيم غائباً خارجاً عن مكان ولاية هذا القاضي، فلو أراد القاضي أن ينصب قيّماً، وهذا المال

_ (1) اختيار من المحقق مكان ما ذهب من أطراف الحروف. (2) في الأصل: "بإذنه".

الموجود في مكان ولايته، فكيف حكمه؟ تردد القاضي في هذه المسألة، وقال: لست أبت فيها جواباً؛ فإنا لو جوّزنا نصب قيّم في هذا المال، فصار اليتيم مَوْليّاً عليه، وليس ذلك اليتيم في مكان ولاية هذا القاضي، فكيف يُدرجه ولايةَ نفسه؟ هذا وجه. ويجوز أن يقال: يملك هذا؛ فإنه يتصرف في مال الغُيّب المُطْلَقين؛ نظراً لهم، واستصلاحاً لأموالهم، وإن كان الغائب الخارج عن محل ولاية هذا القاضي ليس موليّاً عليه من جهة هذا القاضي. هكذا قال رضي الله عنه. والوجه عندنا أن يقال: النوع الذي يملكه القاضي من التصرف في مال الغُيَّب يجب أن يملكه في مال اليتيم؛ فإن خروج اليتيم عن ولايته كخروج الغائب المطلق، وتصرف القاضي في مال الغائب لا يسلّطه على بيعه في طلب الغبطة، وإنما يتصرف فيه إذا أشرف على الهلاك، وقد قدّمت في ذلك كلاماً بالغاً؛ ولعلي أعيد فيه تقريراً من بعدُ، فأما نصب قيّم في مال اليتيم ليتصرفَ فيه تصرف القَوَّام في الاستصلاح وتزكيةِ المال، فهذا زائد على ما ذكرناه من التصرف في مال الغائب، وفي هذا الزائد تردَّدَ القاضي، وهو لعمري محتمل. فرع: 11966 - لصاحب الأمر أن يولّي القضاء على الخصوص، بأن ينصب قاضياً في الأموال، وقاضياً في تزويج الأيامى، وله أن ينصب قاضياً في الرجال، وقاضياًً آخر في النساء، وإذا اختصم رجل وامرأة لم يفصل واحد منهما الخصومة، ولا بد من ثالث يولّى القضاء بين الرجال والنساء، وهذا مُعْترِضٌ، وموضع الاستقصاء بعد باب القسام، وعنده نذكر هذه القضايا في أحكام القضاة والمستخلَفين، والله المستعان. ***

باب القسام

باب القسام قال الشافعي رضي الله عنه: " ينبغي أن يُعْطى أجر القسام من بيت المال ... إلى آخره " (1). 11967 - الإمام كما لا يخلي نواحي الإسلام عن حُكام يقومون فيها باستيفاء الحقوق، وقطع الخصومات، فكذلك لا يخليها عن قُسّام؛ فإن الحاجة في الأملاك المشتركة ماسّة إليهم، وينبغي أن يُدرّ عليهم أرزاقاً كما يُدرّها على القضاة، حتى لا يأخذوا من أصحاب الأملاك أجوراً. هذا إذا كان في بيت المال متسع. فإن لم يكن في بيت المال مال، فأصحاب الأملاك المشتركة يستأجرون من يقسمها لهم، والاستئجار على القَسْم جائز. وقد ذكرنا في صدر كتاب الصداق ما يجوز الاستئجار فيه وما لا يجوز، وذكرنا في قَسْم الفيء والغنائم أرزاقَ الولاة ومصارفَ أموال بيت المال. 11968 - ثم القول في أن [القاسم] (2) الواحد هل يكفي أم لا بد من قاسمَيْن مما تقدم عند ذكرنا عدد المترجمين والمُسْمعين والمزكّين، [والذي نجدده] (3) الآن أنّا ذكرنا أن القاضي لو نصب حاكماً في التزكية، لجازَ، ثم من آثار ذلك الاكتفاء [بقاسم واحد] (4)، وقد ذكرنا أن القيمة لا تثبت إلا بمقوّمَيْن، وحكينا الخلاف في الخارص والقاسم.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 244. (2) مكان ما ذهب من أطراف السطور، والمثبت كما ترى ليس فروق نسخ، وإنما هو تقدير مكان الذاهب المخروم. والحمد لله جاءت (ق) مصدقة لنا في كل ما قدرناه. (3) مكان ما ذهب من أطراف السطور. (4) تقدير من المحقق مكان الذي ذهب من أطراف الحروف.

فلو قال [قائل: لو] (1) نصب الإمام حاكماً في التقويم، فهل يسوغ، وإن ساغ، فهل يُكْتَفى به على اتحاده على ما مهدناه [في] (1) المزكي؟ قلنا: هذا مشكل. وكذلك لو فرض مثلُه في القاسم، فإن كان المنصوب [للقسمة] (2) منصوباً ليشهد عنده مُقَوِّمان، فهذا سائغ، وكذلك المزكي إن نُصب ليشهد عنده العدول على الجرح والتعديل [على] (3) الشرائط المعلومة، فهذا جائز. فأما إن كان المنصوب للتقويم يُعوِّل على علم نفسه، على اجتهاده [وبصيرته] (3)، فما أرى ذلك جائزاً، وأطْرُد هذا في التزكية؛ فإن التزكية لا تستقل بنفسها ما لم تُنْهَ [إلى] (4) القاضي، وهو الذي يقضي بها. فإثبات اسم الحاكم للمزكي، والاكتفاء ببصيرته لا حاصل له إلا رد مزكيين [إلى] (4) واحد، وهذا غير محتمل فيما يشترط العدد فيه. وقد ذكرت في التزكية كلاماً فيه طرف من الإبهام وهذا إتمامه، فليجمع الناظر هذا إلى ما تقدم. ولو بنى القاضي الأمر على بصيرته في التزكية، لجاز ذلك، كما قدمناه، مذهباً واحداً، وإن اختلف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه. ولو كان القاضي خبيراً بمعرفة القيم، فأراد بناء الأمر على بصيرته في التقويم؛ فالذي تلقيته من كلام الأصحاب شيئان: أحدهما - أن ذلك لا يسوغ؛ فإن التقويم اجتهاد، وليس له في المجتهدات الاكتفاء ببصيرة نفسه، وإنما اختلاف القول في قضائه بالعلم واليقين المستدرك، والقضاء في العدالة مستثنى عن قياس الأبواب؛ لاتساع النظر في التعديل والجرح، وخروجهما عن الضبط، وليس التقويم كذلك؛ فإنه أمر قريبٌ من الضبط، والرجوع فيه إلى معرفة قِيَم الأمثال مع تداني الصفات.

_ (1) تقدير من المحقق مكان الذي ذهب من أطراف الحروف. (2) في الأصل: " للقيمة ". (3) اختيار من المحقق. (4) تقدير منا على ضوء السياق.

ومن أصحابنا من جعل علم القاضي بما يرجع إليه في القيم خارجاً على القولين في القضاء بالعلم. فهذا ما رأيت ذكره ملتحقاً بعدد القُسّام. وزاد صاحب التقريب طريقة أخرى، فقال: إن كان في الشركاء طفل أو مجنون، فلا بد من قاسمَيْن، وإن لم يكونا، فعلى قولين. وهذا ليس فقهاً متيناً، فإن ما يُرعى من العدد في البينات لا يختلف بأمثال ما ذكره هذا القائل. وقد انتهى ما أردناه من نصب القسام وإدرار الأرزاق عليهم من بيت المال إن كان فيه مال، وذكرنا ما يتعلق بالعدد. 11969 - ونحن بعد ذلك نذكر استئجار الملاك مَنْ يقسم الملك المشترك بينهم، فنقول: إن تفاوتت الحصص، ووُجد منهم الاستئجار على القسمة مطلقاً، فللأصحاب طريقان: منهم من قال: نقطع بأن أجرة القسّام مفضوضة على الملاك على أقدار الأقسام، فعلى صاحب النصف منها النصف، وعلى صاحب السدس السدس، وهكذا. ومنهم من قال: في كيفية توزيع الأجرة قولان: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أنها على رؤوس الشركاء بالسوية وإن تفاوتت حصصهم، فهؤلاء يَرَوْن أن القسمة، وأجرَ القاسم يجريان مجرى الشفعة عند ازدحام الشركاء في طلبها، وفي الشفعة القولان المشهوران في أنها تفضّ على الرؤوس، أو على حصص الأملاك؟ ومن سلك الطريقة الأولى فرّق بين أجرة القاسم وبين الشفعة؛ بأن قال: أجرة القاسم على مقابلة عمله. [وتردُّدُه] (1) في الحصة الكبرى، وعملُه إلى تحصيل الإفراز أكثر من تردده وعملِه في الحصة القليلة، والشفعة لدفع الضرر، ولا يكاد يظهر تفاوت في الضرر على حسب تفاوت الأملاك، وهذا يوجب الفرقَ بين البابين. [ولمن

_ (1) في الأصل: " ويرد به ".

يُجري] (1) القولين في أجرة القسام أن يقول: ما اعتمده الأصحاب (2) يقع [في] (3) مؤونة القسمة؛ فإذا كنا نفاوت في أجرة القسام، فقد تفاوت الغرض في أول مرتبة. وهذا يوجب تطبيق القولين على القولين (4). ولهذا قال أبو حنيفة (5) رضي الله عنه بأجرة القسّام على الرؤوس. وما ذكرناه من التردد فيه إذا استأجر الشركاء قاسماً أو قاسمين استئجاراً مطلقاً، وهذا بعينه يجري إذا كانت القسمة جَبْرية، وكان نصب القاسم من جهة القاضي، فالكلام في إلزام المُلاّك مؤونةَ القسمة على النسق الذي ذكرناه في الاستئجار المطلق. ولو عقد الملاّك عقوداً مع القاسم، فانفرد كل واحد باستئجار للعمل في نصيبه، فهذا على حكم التراضي، فإن استأجر القليلُ النصيبِ بأكثرَ، واستأجر صاحب الكثير بأقلَّ، فهو صحيح، لا غموض فيه. ولو تبرع القاسم على بعضهم، لم يَخْفَ دركُ مثل هذا. 11970 - ولكن لا بد من ذكر صورتين بعد هذا، إحداهما - أنهم لو عقدوا عقوداً معاً، وكانوا ثلاثاً، صحت العقود على ما وقع التراضي عليها، ولو عقد واحد من الثلاثة، ثم عقد الثاني، فالعقدان صحيحان، فإذا أراد الثالث أن يعقد إجارة في نصيبه، فهذا فيه إشكال يبرزه سؤال، وهو أنه التزم إفراز نصيبين، وهم ثلاثة، ومن

_ (1) في الأصل: " ولم يجر ". (2) أي في الطريقة الأولى. (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) ولمزيد الإيضاح نثبت هنا عبارةَ الغزالي في البسيط، وهذا نصها: "إذا استؤجر القسام مطلقاً بمالٍ معلوم، ففيه طريقان: منهم من قطع بأن الأجرة على قدر الحصص. ومنهم من قال: قولان. في القول الثاني تقسم على عدد الرؤوس، كما في الشفعة، والأول يفرق بأن تردد القسام وعمله في المساحة على الحصة الكثيرة يكثر. فيجاب عنه بأنه إذا كثرت مؤنته فقد كثرت ضرورة الشفعة لرفع ضرر المقاسمة، فينبغي أن يجريا مجرى واحداً، ولذلك قال أبو حنيفة: تقسم على عدد الرؤوس في المسألتين" (ر. البسيط: جزء 6/ورقة: 114 ش). (5) ر. مختصر الطحاوي: 331.

ضرورة إفراز نصيبين تميز نصيب الثالث، فكأن الأَوَّلين (1) استحقا عليه ما يؤدي إلى إفراز نصيب الثالث، فإذا أراد الثالث أن يبتدىء استئجاراً، فكأنه يبغي بهذا الاستئجار عملاً هو مستحَق لغيره، أو مستحق على الأجير من جهة غيره، هذا هو الإشكال. وقد أجاب القاضي عنه كما (2) وجه عليه بأن قال: لا بد في [إفراز] (3) النصيبين من عمل في النصيب الثالث [، كالمساحة] (4)، والتخطي لأجلها، وإثبات الأسماء، والقرعة، فيصح الاستئجار من الثالث على هذه الأعمال. وهذا الذي ذكره لا يَشفي الغليل ولا يدرأ الإشكال. وسبيل الجواب أن استئجار الأوّلَيْن لا يتم الغرض منه ما لم يستأجر الثالث؛ فإن هذا مفروض في غير الإجبار. وكيف يتأتى تمييز الحصتين إلا بالتصرف في حصة الثالث، فإن فرضنا التراضي (5)، فالامتناع للتصرف في ملك الغير من غير رضاه. وإن فرضنا [الإجبار] (6) من جهة السلطان، فهو يُنزل المؤونةَ عليهم على اجتماع. فالمشكل أنَّ انفراد كل واحد بالاستئجار بعيدٌ عن التصور؛ فإن القسمة من ضرورتها بسط العمل على الحصص، فكما أن المِلك قبل القسمة غير متميز، فعمل القسّام في القسمة غير متميز، فإن كان الشركاء على الاستئجار من غير تسامح، ووجدوا أجيراً يتبرع على أحد، فانفراد بعض الشركاء بالاستئجار محالٌ غير متصور. ولو قال بعض الشركاء: أنا أستأجر القسام، ورضي شريكه أو شركاؤه، فهو متبرع على شركائه، وقد أذن له شركاؤه أن يُعْمِل قاسماً، وليس هذا ما نريد. نعم، لو استأجروا قاسماً دفعة واحدة، وتفاوتوا في الملتزَم مع التساوي في الحصص، أو تفاوتوا على خلاف نسبة الحصص المتفاوتة، فهذا جائز؛ فإن عمله يستحق دفعة

_ (1) كذا. وهو صواب، فإذا تقدم المعدود تجوز الموافقة في التذكير والتأنيث. (2) كما: بمعنى عندما. (3) في الأصل: " إقرار". (4) في الأصل: " كالمساجد". (5) أي قسمة التراضي. (6) في الأصل: "الإخبار".

واحدة لهم، وكلٌّ قابلَ حظَّه من عمله بما أراد، فهذا سائغ لا منع فيه، وغايته حصول شيوعٍ في العمل المستحَق. فأما إذا [ترتبت] (1) العقود من غير تراضٍ ولا إجبار، فلا معنى له؛ فإن الأول يكون مستأجِراً على عمل يعم الأملاك، وليس إليه هذا، ولا يتصور أن يستحِق فيه مقدارَ عمله في حصته قبل أن يتمكن القاسم من العمل العام. ومن فهم هذا لم يعُدّ ما قدمناه إشكالاً، ورد الإشكال على هذا، ثم دفعه في التصوير، ويتحصل منه أن انفراد كل واحد بالاستئجار محال. وإن أذن أصحابه في انفراده نُظر: فإن أراد أن يستأجر ليغرم تمام الأجرة، فهذا متبرع عليهم، [موكَّل] (2) عنهم في الاستئجار، وإن أذن له في الانفراد، لا على هذا التقدير، فهو باطل. فصل فال: " وإذا تداعَوْا إلى القسم ... إلى آخره " (3). 11971 - إذا كان بين أقوام ملكٌ يمكن فرضُ القسمة [فيه] (4)، فإن تراضَوْا على القسمة، صحت القسمة، على ما سيأتي هذا في أثناء الباب، إن شاء الله. وإن طلب بعض الشركاء القسمةَ، وأبى آخرون، فقد يجبر على القسمة، وقد لا يجبر عليها. فإن كان الكلام مفروضاً في إفراز الحصص من ذوات الأمثال، فلا إشكال، والقسمة ممكنة، والممتنع عنها يُجبر عليها، فإن لم يكن المشترَك من ذوات الأمثال، ولكن كانت القسمة ممكنة، كالأراضي، والدور، وما في معناها، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب النظر إلى المقصود من الملك المشترك، فإن كان جنس ذلك المقصود يبقى في كل حصة، فهذا ملكٌ قابل للقسمة، والممتنع عنها مُجبر عليها،

_ (1) في الأصل: " ترتيب". (2) في الأصل: " فوكل ". (3) ر. المختصر: 5/ 244. (4) في الأصل: " فيها ".

وهذا كقَرَاحٍ (1) يزرع، ولو قسم، لأمكنت الزراعة في كل حصة، أو كمسكن مشترك، ولو قسم لتأتى السكون (2) في كل حصة. ويستبين الغرض بتصوير يقتضي ذلك، فإذا كان المشترك حماماً أو طاحونة، فقسمة الحمام ممكنة حِسّاً، ولو فرضت، لكانت كلُّ حصةٍ منتفعاً بها، بأن تتخذ مخزناً أو مسكناًً، ولكن يختلف جنسُ الانتفاع، فلا إجبار على القسمة، فإن القسمة تُبطل جنسَ المنفعة الكائنة حالةَ الشركة، هذا مذهب الجمهور. وقال قائلون من الأصحاب: إذا أمكنت منفعةٌ وإن خالفت الجنسَ الأول، فالإجبار على القسمة جارٍ، وهؤلاء يُجبِرون على قسمة الحمام والطاحونة، وهذا ذكره القاضي وغيره، ولم يذكره أحد إلا زيّفه، فلا عَوْد إليه. وللأصحاب تصرف في الطريقة المشهورة، ففالوا: الحمام الصغير لا يقبل القسمة؛ لأنه لو قسم، فكل حصة لا تكون حماماً، ولا يتأتى اتخاذها حماماً، بأن يفرض لها أسباب مجردة من أتون ومستوقد وغيرهما، فهذا تعطيل منفعة الحمام بالكلية. وإن كان الحمام كبيراً، وقد هيىّء على أتون واحد ومستوقد واحد، ومِرجل واحد، ولو قسم، أمكن اتخاذ حمام صغير من كل حصة بإحداث أسبابٍ لها، فهل هذا مما يقبل القسمة؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو غير قابل للقسمة؛ فإن كل حصة لا تكون حماماً، وقد كانت الجملة حماماً، وإمكان اتخاذ حمام استحداث منفعة بعد تعطل الأولى. 11972 - ومن تمام البيان في ذلك أن الدار إذا كانت مشتركة بين شريكين لأحدهما عُشرها، وللثاني تسعة أعشارها، وكان عُشر الدار لا يصلح للمسكن وتسعة الأعشار تصلح -لو ميّزت- للسكون، فلو جاء صاحب العُشر طالباً للقسمة، فالطريقة المشهورة أنه لا يجاب، لأنه متعنِّتٌ في طلبه ساعٍ في إبطال المنفعة من حصة نفسه،

_ (1) القراح: الأرض التي لا بناء ولا غراس بها. (2) السكون: المراد السكن، أي اتخاذها مسكناً.

وإنما [يُسْتَعَفُ] (1) الطالب إذا كان لطلبه وجه في تحصيل المنفعة، ثم قد لا يُنْظَر إلى الكثير [والقليل] (2)؛ فإن الإنسان قد يؤثر الانفراد بالقليل على الاشتراك في الكثير، فأما إذا كان الطلب يتعلق بالتعطيل، فلا إجابة. فأما إذا جاء صاحب الكثير مطالباً، فهل يجبر صاحب العشر؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجبر؛ لأن الطالب ينتفع إذا أجيب، وله أن لا يبالي بتعطل منفعة صاحب العشر، فإنه يقول: أُتيتَ من قلة نصيبك، وكان يتهيأ لك الانتفاع بضم نصيبي إلى نصيبك. هذا وجهٌ. والوجه الثاني - أنه لا يُجاب، لأنه يبغي تعطيل منفعة صاحبه، وليس له أن يضر بالغير، كما ليس له أن يطلب قسمة تضرّ به، هذه هي الطريقة المشهورة. قال العراقيون والقاضي: من أصحابنا من جعل في كل واحد منهما وجهين إذا طلب القسمة. أما إجراء الوجهين في حق صاحب الكثير، فعلى ما ذكرنا، وأما إجراؤهما في حق صاحب القليل، فمن جهة أنه يقول: لي أن أُبطل حق نفسي، وأنت لا تتضرر تضرراً معتبراً فما عليك، فأجبني ولا تشفق عليّ، فإنني مطلق في حصتي. وهذه الطريقة لا بأس بها. والأشهر الأول. 11973 - ثم بنى الأصحاب على الترديد الذي ذكروه أمرَ الشفعة. ففالوا: إن باع صاحب العشر نصيبه، وقلنا: لا يملك الاستقسام، فليس لصاحب التسعة الأعشار الشفعة؛ فإن المعوّل في إثبات الشفعة على توقع طلب القسمة من الدخيل الجديد، ولهذا لا تثبت الشفعة فيما لا ينقسم على القول الجديد. ولو باع صاحب الكثير نصيبه، فهل يثبت لصاحب العُشر الشفعة؟ هذا يخرج على الوجهين في أن صاحب الكثير هل يُجبِر على القسمة؟ فإن ملكناه الإجبار، فلصاحب

_ (1) كذا بالأصل (بزيادة التاء) استعف، ومن معاني هذه الزيادة المبالغة في معنى الفعل، فالمعنى يُسعفُ الطالب ويجاب إذا كان لطلبه وجه. (2) في الأصل: "والتقليل".

العُشر الشفعة؛ دفعاً لطلب القسمة، وإن لم نملّكه الإجبار، فلا شفعة لصاحب العشر، وكأن انقسام الدار على هذه الصفة يلحقها بما لا ينقسم على هذا الوجه من الجانبين. وإذا كنا نُتْبع الشفعةَ القسمةَ وطلبَها، وضممنا طريقة في القسمة إلى طريقة، انتظم من المجموع أوجه في الشفعة: أحدها - أنها لا تثبت لواحد من الشريكين، تفريعاً على أن واحدا منهما [لا يطلب] (1) القسمة. والثاني - أنه تثبت الشفعة لهما على البدل، تفريعاً على أن كل واحد منهما يطلب القسمة، فيجاب إليها، والثالث - أن الشفعة تثبت لصاحب القليل، ولا تثبت لصاحب الكثير، ولا يكاد يخفى خروج هذا الوجه على التفاصيل المقدمة في الإجابة إلى القسمة. 11974 - ومما نصوّره من هذا الجنس أن الدار لو كانت بين ستة، لواحد منهم نصفها، ولكل واحد من الباقين عُشرها، وكان العشر لا يصلح للسكون، فلو اجتمعوا -أعني أصحاب الأعشار- وطلبوا من صاحب النصف القسمة، أجيبوا. وهذا على تقدير رضاهم بالشيوع في النصف الذي يبقى لهم، وكذلك لو أراد صاحب النصف أن يميّز نصفه [من حصص شركائه] (2) على تقدير أن يبقى النصف شائعاً فيهم، فيجب أن يجاب. فلو بيع النصف، وأراد أصحاب الأعشار أن يأخذوه بالشفعة، والتفريع على أن صاحب كل عشر لو استقسم، لم يُجَب، ولو استقسم صاحب الكثير أجيب، فتخرج الشفعة على هذا المسلك، فنقول: لهم الشفعةُ في النصف طلباً لدرء القسمة من الدخيل، وإن باعوا حصصهم، فصاحب النصف يأخذها بالشفعة. والغرض أن نبين أن الشفعة لإمكان الاستقسام من الدخيل، فليتَّبع الناظر هذا الأصلَ في النفي والإثبات. 11975 - ثم المذهب الصحيح أن الحكم قد يختلف في تقسيط المؤنة في إجبار

_ (1) في الأصل: "لا يبطل". (2) في الأصل: "من حصص من شركائه".

الممتنع عن القسمة عليها بأن يكون واحد من الشركاء طفلاً أو لا يكون. وذكر صاحب التقريب والقاضي وجهاً ضعيفاً في الفرق: فإن كان الشركاء مطلَقَيْن بالغين، [فالحكم] (1) على ما ذكرناه، وإن كان الملك بين بالغ وطفل، فإن كانت الغبطة في القسمة، فابتداً قيّم الطفل، واستقسم، أجبر البالغ على القسمة، وقسطت المؤنة: إما على التسوية، وإما على قدر الملك بين الطفل والبالغ، ولو لم يكن في القسمة غبطة، فلا شك في أن القيّم لا يطلبها، ولو طلبها ردّ عليه القاضي. وإن طلب الشريك القسمة، لم يختلف أئمتنا في أنه يجاب، وإن كان في إجابته تنقيص لقيمة نصيب الطفل، ولكن الظاهر أن المؤنة تقسط على القياس الممهّد في الباب. [وفي ذلك وجه ضعيف] (2)، وهو أنا نقول [للبالغ] (3): المؤنة عليك إن أردت القسمة وحدك، وهذا ضعيف لا أصل له؛ إذ لو كان يستدّ المصير إلى هذا، لوجب أن يقال: لا يجاب طالب القسمة إليها، رعايةً لحق الطفل، حتى لا يتطرق إلى ملكه نقصان، وكان من الممكن أن يقال للبالغ: اصبر حتى يبلغ الطفل ويستقل، ثم اطلب القسمة، فلما لم يصر إليه أحد من الأصحاب، [وقطعوا] (4) بإثبات القسمة، وجب القطع [بفض] (5) مؤنة القسمة على الملكين؛ فإن القسمة إذا كانت جبرية، فالأمر فيها إلى الوالي، فكأنه موقعها عند الاستدعاء، وهو الذي يُنزل المؤنة على الأملاك. ثم من حكى الوجهَ الضعيفَ، اختلفوا فيه؛ فمنهم من حكاه حيث تنتقص قيمة حصة الصبي، ومنهم من علق الوجه بالطلب، ففال.: إذا ابتداً طلبَ القسمة البالغُ، فالمؤنة عليه. وإن لم يكن في القسمة ضرر على الطفل، وهذا على نهاية الضعف. ومنهم من حكى هذا الوجه الضعيف فيه إذا كانت القسمة مضرة بالطفل، وإن لم يكن من هذا الوجه بد، فيجب أن يكون محله هذه الحالة. وهو حيث يُحكَى ضعيف.

_ (1) في الأصل: "والحكم". (2) في الأصل: "وعند ذلك الوجه الضعيف". (3) في الأصل: "للبائع". (4) في الأصل: " وبلغوا " والمثبت من (ق). (5) في الأصل: "بعض".

فصل 11976 - نجمع في هذا الفصل تفصيلَ القول في أصناف الأموال، وتحقيقَ المذهب في ماهية القسمة إذا وقعت، على وجوهها المختلفة. فأما القول في أصناف الأموال، فنقول: لا يخفى أن ذوات الأمثال معرضة للقسمة الجبرية، فمن دعا من الشركاء إليها أُجبر صاحبه عليها. وإن لم يكن المال من ذوات الأمثال، فإن كانت القسمة تتأتى فيها بالتقدير، وكانت السهام تتعدَّل به من غير تقويم، ولا احتياج إلى ردٍّ -على ما سنصف الرد- فالقسمة الجبرية تجري في هذا، كقسمة المزارع والعَرْصات، إذا كانت لا تختلف قيم أطرافها، فسبيلها في مقصود القسمة كسبيل ذوات الأمثال، لإمكان التعديل بالقَدْر المحض. فلو قال قائل: لو كان غرض الشركاء مختلفاً في الجوانب، فكان يبغي بعضهم الجانب الشرقي لاتصاله بملكٍ له، فما القول فيه؟ قلنا: لا نظر إلى الأغراض، مع ما ذكرناه ولا يختلف بها حكم. [فلو] (1) مات الرجل، وخلف عبيداً بين الورثة، وأمكن أن تعدّل السهام من غير حاجة [إلى الرد، وذلك مثل] (2) أن يخلف ثلاثة أعبد بين ثلاثة بنين، قيمة كل عبد مائة، فجَعْلُ العبيد ثلاثةَ أسهم ممكن، فإذا دعا داعٍ إلى هذه القسمة، فهل يُجبر عليها من يشاركه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فالذي ذهب إليه الأكثرون الإجبارُ؛ فإنها قسمة معدلة، يترتب عليها [التفاصُل] (3) من غير ردّ، فصار [ذلك] (4) كأطراف الأرض. ومن أصحابنا من قال: لا إجبار؛ لأن العبيد متعددون، وليسوا في حكم الشيء

_ (1) في الأصل: "ولو". (2) في الأصل: " إلى الردة، ذلك مثل ". (3) في الأصل: "تترتب عليها التفاصيل". والمثبت تصرف من المحقق. (4) مكان كلمة ذهب بها البلل من أطراف الأسطر.

الواحد المشترك، ونحن وإن كنا لا نعتبر الأغراض في القسمة إذا لم ترجع إلى مقصودٍ مالي، [فإذا تفاحشت] (1)، تعين اعتبارها، وهي في الغالب ظاهرة في أعيان العبيد (2). هذا إذا أمكن تعديل القسمة مع استواء الرؤوس والعدد. فإن كان خلف الميّت بين ثلاثة بنين أربعة أعبد، قيمة عبد [مائة] (3) وقيمة عبد مائة، وقيمة عبدين مائة، فإذا أمكنت القسمة على هذا التقدير، ففي الإجبار عليها، في هذه الصورة وجهان مرتّبان على الأولى، وهذه أولى بألا يجبر عليها؛ لظهور التفاوت في العدد، وإذا ضممنا الأولى إلى هذه، [انتظم] (4) فيها ثلاثة أوجه. 11977 - ولو كان بين الشركاء حمّاماتٌ، أو طواحينُ، فكل واحد [منها] (5) لا ينقسم في نفسها، ولكن إذا أمكن التعديل بالقيمة بأن يجعل كل حمام سهماً، فالقول في الحمامات كالقول في العبيد، والخلاف في الإجبار كما مضى. وقال العراقيون: لا إجبار في الأبنية والبقاع على التصور الذي ذكرناه بخلاف العبيد، فرأوا تفاوتَ الأغراض في البقاع أوضح. 11978 - ومما ينبغي أن يفهمه الناظر في الفصل أن قسمةَ العبيد، وقسمةَ الحمامات على الصورة التي ذكرناها تسمى قسمة النقل والتعديل، فإذا أمكنت قسمة

_ (1) تقدير منا على ضوء ما بقي من خيالات وظلال لبعض الحروف. (2) المعنى أن الأغراض لا اعتبار بها إذا تساوت القيمة، ولكن قد تبلغ الأغراض مبلغاً به احتفال، وهذا كما يحدث أحياناً في أعيان العبيد، فقد يكون فيهم الكاتب، والحاسب، وصاحب الحرفة، وهي أغراض بها اعتبار، تجعل العبيد -عند هذا القائل- يلتحقون بما لا يقسم، فلا إجبار، فلا تكون القسمة إلا بالتراضي. (3) أثبتناها من بسيط الغزالي، فقد عرض الصورة نفسها، وفي الأصل ذهبت فيما ذهب من أطراف الحروف. (4) في الأصل: "لينتظم". (5) في الأصل: " منهما ".

شيء واحد سميت القسمة إفرازاً. وهذا اصطلاح لا فقه فيه، ولكن ذكرناه لنستعمله في المسائل. 11979 - ولو خلف الميت طاحوناً، وحماماً، وعبداً، فاختلفت الأجناس، وأمكن التعديل بجعل [كل] (1) صنفٍ سهماً، ففي الإجبار وجهان مرتّبان على ما إذا لم تختلف الأصناف، وهذه الصورة أبعد عن الإجبار. ومن ضم جميع هذه الصور نظم فيها وجوهاً لا يخفى طردها. والرابط الفقهي أن من أصحابنا من يعتبر التعديل وإمكانَه، ومنهم من يلتفت على الأغراض بعضَ الالتفات، ثم فيها التفاوت والترتّب والاختلاف [جارٍ] (2) بحسبها. ولو خلف قِطعاً من الأرض متميزة، وكانت كل قطعة قابلة للقسمة على انفرادها، فإن طلب الشركاء قسمة الإفراز في كل قطعة، تعيّنت الإجابة على الباقين، وإن طلب بعضهم قسمة التعديل، وهو جعل كل قطعة سهماً، فلا إجبار على التعديل، مع إمكان الإفراز، وهذه الصورة متفق عليها بين الأصحاب، ولذلك صوّرنا الطواحين والحمامات في القسم الأول لمّا أردنا الكلام في الأبنية على حسب ما يجري في العبيد. 11980 - ومما يتعلق بما نحن فيه صورة: نذكرها؛ وهي أنه إذا [خلف] (3) حماماً صغيراً وآخر كبيراً، ونحن نحتاج إلى سهمين، وكانا لا يعتدلان إلا بأن يجعل الحمام الصغير مع ثلث الحمام الكبير سهماً، ونجعل ثلثي الحمامِ الكبير سهماً، فالأصح أنه لا إجبار على هذا النوع؛ فإن القسمة كذلك لا تميِّز ولا تفْصل، بل تُبقى اشتراكاً؛ فلا إجبار عليها. وقال بعض أصحابنا: في الإجبار على هذا النوع خلاف، وهذا بعيد.

_ (1) في الأصل: " ذلك ". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق. (2) في الأصل: " وجاري ". (3) في الأصل: " خلفه ".

11981 - ومن أراد [جمع] (1) المسائل، وصورة الخلاف والوفاق قال: إذا أمكنت قسمة الإفراز في كل صنف، [فعليها] (2) الإجبار، ولا إجبار على تعديل الأصناف سهاماً، هذا متفق عليه. وإن أمكن النقل والتعديل في السهام، [ولم يمكن] (3) الإفراز في كل صنف، فالخلاف يجري على ترتب بحسب تفاوت الأغراض. وإن كانت القسمة النقلية تُبقي شركةً في صنف كالحمام الصغير والكبير، فهذا أبعد الصور عن الإجبار، مع جريان الخلاف عند بعض الأصحاب، وظاهر النص يميل إلى نفي الإجبار في القسمة المسماة النقل والتعديل. 11982 - هذا أحد مقصودي الفصل، وبعد نجازه شيء، وذلك أن الأصحاب أطلقوا قسمة الدور، وأجْرَوْا فيها قسمةَ الإفراز إجراءهم إياها في العرصات، وهذا فيه نظر؛ فإن الدّور تشتمل على أبنيةِ صُففٍ، وبيوت، وأروقةٍ، وهي ذوات أشكال مختلفة، والأغراض في السكون تتفاوت تفاوتاً بيناً، وهذا زائد على الأغراض النفسية التي تفرض في العبيد، بل هي راجعة إلى تفاوت المنافع، فكيف يُطْلَق الوفاق في الإجبار على قسمة الدور مع ما وصفناه؟ والوجه أن يقال: إن استوت الأبنية، فكان في شرقيّ الدار صُفّة وبيت، وكذلك في غربيّها، ويتأتَّى التعديل بتبعيض العرصة، فتشتمل كل حصة على مثل ما تشتمل عليه الحصة الأخرى من الأبنية، فيجوز أن يقال: يجري الإجبار على مثل هذه القسمة، ولا يختلف الأمر باختلاف الجهة، وليست الأبنية المتساويةُ والدار واحدة بمثابة دارين متقابلتين في سكة متساويتين في وضع الأبنية والأشكال؛ فإن ذلك يخرج على الخلاف، بخلاف أبنية الدار إذا تساوت. فأما إذا اختلفت أشكال الأبنية، فيتعين عندي قطعاً تخريج الخلاف في إجراء

_ (1) في الأصل: "جميع". (2) في الأصل: " فعليهما ". (3) في الأصل: " ولم يكن ".

القسمة فيها، لما أشرت إليه من تفاوت الأغراض واختلاف المنافع. 11983 - فأما الكلام في ماهية القسمة، فنقول: أولاً: اشتهر القولان في أن القسمة بيع، أو إفراز حق: أحدهما - أنها بيع، وكأن كلَّ واحد من الشريكين باع ما كان له فيما صار إلى صاحبه، بما كان لصاحبه فيما صار إليه، وهذا التقدير لا بدّ منه؛ فإن حق كل واحد كان شائعاً في جميع المال قبل القسمة، ولا محمل لاختصاص كل شريك إلا ما ذكرناه. والقول الثاني - هو إفراز حق، فكأن حق كل شريك لم يكن متعيناً قبل القسمة، فتعين بالقسمة، وهذا كالمال الثابت في الذمة، يتعين بالقبض، وإذا لم تكن العين المقبوضة ديناً، فلا نجعلها عوضاً عن الدين أيضاً؛ إذ لو قدرنا ذلك، لما صح قبض المسلَم فيه من جهة امتناع الاعتياض عنه، وإذا ثبت القولان مرسلين كذلك، فالمقصود تبيينُ محل القولين وتمييز صورٍ من الوفاق إن كانت. فنقول: إن كانت القسمة قسمة إفراز، وكانت بحيث يجبر عليها، ومن ضروراتها أن لا [يكون فيها] (1) ردٌّ، كما سنصفها الآن، فالقولان جاريان في مثل هذه القسمة. وإن أجْبرنا على قسمة النقل في الأعيان المنفصلة كالعبيد، فللأصحاب طريقان: أحدهما - القطع بأنها بيعٌ، لانفصال العين عن العين، وتمييز المشترك عن المشترك، فإذا جرى مع هذا تخصيصٌ يعتبر حمله على البيع. ومن أصحابنا من أجرى القولين واعتمد الإجبار على القسمة؛ فإن التفريع على إجراء الإجبار. وإن قلنا: لا إجبار على هذا النوع من القسمة، فلا بد وأن يكون صَدَرُها عن التراضي، فالمذهب الذي يجب القطع به أن القسمة إذا جرت، كانت بيعاً قولاً واحداً. وأبعد بعض الأصحاب، فأجرى القولين في ذلك أيضاً، وقال: نجريهما، ونقول في أحدهما: إفراز مشروط بالتراضي، كما أنا نقول: إن القسمة الجبرية بيعٌ جارٍ جبراً من غير تراضٍ، وإن لم نُبعد الإجبار على البيع، لم نُبعد الإفراز على التراضي.

_ (1) تقدير من المحقق مكان الذاهب من أطراف الأسطر.

ومن صور الفصل أن العرصة لو كانت مقسومة بين شريكين، وكانت القسمة تختلف بسبب قُرْبِ شقٍّ من الماء، وبُعْدِ الشق الآخر منه، فلا تتأتى القسمة تعويلاً على مجرد التقدير المساحي، بل لا بد من تعديل القيمة مع التفاوت في المقدار، فقد يقع النصف ثلثاً بالمساحة، والنصف الآخر ثلثين، فهل يجري القولان في هذه الصورة، أو لا يجري الإجبار فيها، والاحتياج إلى التفاوت في المقدار مع التعديل في القيمة لا يمنع الإجبار على القسمة، هكذا قال الأصحاب. ثم ترددوا في إجراء القولين، فأجراهما بعضهم، وقال قائلون: نقطع بأن القسمة تكون بيعاً؛ فإن التمييز مع اختلاف [الأقدار] (1) يبعد، فقد تنشّأ (2) تردد الأصحاب في القدر والقولين من أصولٍ منها الإجبار واشتراط الرضا، ومنها تعدد الأصناف والاتحاد، ومنها تفاوت الأقدار لاختلاف القيم. 11984 - وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يكن في القسمة رد، ومعنى الرد على الجملة أن لا يتأتى تعديل السهام إلا بأن يرد بعض الشركاء على البعض دراهم، أو ما يتواضعان عليه من عوض، وكانت السهام لا تتعدل دون ذلك، وهذا قد يتفق في الدور، ويتفق في العبيد وغيرها، فإذا كان بين رجلين عبدان قيمة أحدهما ألف وقيمة الثاني ستمائة، وإن أرادا أن يتفاصلا ويقطعا الشركة في العبدين، فلا وجه لهذا إلا أن يأخذ أحدهما العبد الذي يساوي ألفاً ويغرم لصاحبه مائتي درهم؛ حتى يعتدلا. فإذا كانت القسمة على هذه الصورة، فالكلام في ماهيتها فرعٌ للكلام في الإجبار عليها، قال الأصحاب: لا سبيل إلى الإجبار على بذل العوض أصلاً، وهل يجري الإجبار على القدر الذي لا حاجة فيه إلى ردّ؟ فيه اختلاف قدمناه، وذلك بأن نجعل العبد المساوي ستمائة سهماً، ونجعل ستمائة من العبد المساوي ألفا سهماً، ويبقى الشيوع في مقدار أربعمائة. وقد مضى أن الإجبار على مثل هذا هل يجري أم لا؟ فإذا تمهد هذا، قلنا بعده: أطلق الأصحاب القول بأن القسمة المشتملة على الرد

_ (1) في الأصل: "الإفراز". (2) كذا. والإمام استعمل هذا الفعل أكثر من مرة بهذه الصيغة من صيغ الزيادة، ومن معانيها التدريج، كأن التردد نشأ رويداً رويداً، وشيئاً فشيئاً.

بيعٌ، ولم يُفَصِّلوا، والذي نراه تنزيلُ هذا على ما قدمناه من الإجبار ونفيه، فنقول: القدر الذي يقابل العوضَ لا شك أنه مبيع وما يجري فيه بيع، ومن سمّى هذا القدر قسمة، فهو متجوّز أو غافل، فأما ما لا يقابله العوض المردود، فالوجه [بناؤه] (1) على الإجبار والتراضي، فإن قلنا: يجري الإجبار فيه، ففي ذلك المقدار قولان: الإفراز والبيع مذهباً واحداً، وإن قلنا: لا يجري الإجبار فيما وراء ذلك، ففي القسمة [المفتقرة] (2) إلى التراضي طريقان قدمنا ذكرهما، فليجريا هاهنا. وقد بطل إطلاق القول بالقطع بأن القسمة المشتملة على الرد بيع. وبان أن هذا التفصيل الذي ذكرناه لا بد منه، [ولم] (3) نذكره حتى رأينا في كلام الأئمة ما يدل عليه. 11985 - وكل ما ذكرناه بعدُ ليس على البيان الذي نطلبه، ونحن نختتمه بما يوضح الغرض؛ فنقول: إذا كانت القسمة جبرية، فالسهام تعدّل، والقرعة تعمل، كما سيأتي كيفيةُ القسمة وتمييز الحصص، ولا حاجة إلى لفظ، وإن قلنا: إن القسمة الجبرية بيعٌ، [فكان] (4) لا يمتنع أن يجبر كل واحد، على أن يقول: بعت مالي في نصيبك بمالِك في نصيبي، وهذا لم يشترطه أحد من الأصحاب. فأما القسمة التي لا إجبار عليها؛ فالتعويل فيها بعد التعديل على التراضي، فإن عُدِّلت السهام، وأُجريت القرعة، وقالوا: رضينا بهذه القسمة، وصدر الرضا منهم قبل التفصُّل والتميُّز، فهذا القدر كافٍ، ولا حاجة إلى إجراء لفظ البيع. ولو تراضَوْا بحكم القرعة قبل إخراجها، وليست القسمةُ جبريةً، ثم بدا لبعضهم، فرجع، بطل الرضا وفاقاً، ولا جبرَ. وإن استمروا على الرضا حتى خرجت القرعة، ولم يُحدثوا بعد خروجها رضاً، ففي المسألة وجهان: أصحهما - وهو الذي قطع به المراوزة أن ذلك الرضا لا حكم له، ولا بد من إحداث رضا بعد خروج القرعة. وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر، وهو أنهم إذا استمروا على الرضا حتى خرجت

_ (1) في الأصل: " بناء ". (2) في الأصل: " المفترقة ". (3) في الأصل: "ولا". (4) في الأصل: "وكان".

القرعة، لزمهم حكمها، كما لو أحدثوا رضاً بعد القرعة. ثم الذي وجدت في الطرق أنهم إذا أنشؤوا الرضا بعد القرعة، فلا حاجة إلى لفظ البيع، واختلفوا في أنا هل نشترط التلفظ بالقسمة؟ قال قائلون: لا بد من ذلك فليقولوا رضينا بهذه القسمة، أو ليذكروا عبارةً عن مقصود القسمة من التمييز والتفاصل وما أشبههما، ثمّ تشعر القسمة بمعنى البيع؛ من حيث تفيد اختصاص كلٍّ بحصة، وانقطاعَ حقه عن حصص الباقين. وقال قائلون: لا يشترط لفظ القسمة، بل يكفي أن يقولوا رضينا بهذا، ولا بد من لفظ يدل على الرضا، إذا كان صَدَرُ القسمة على التراضي. 11986 - ثم رتّب الأئمة على أن القسمة بيع أو إفراز مسائلَ من الربويات، تقدمت مشروحة في البيع، ويجمعها: [أن] (1) ما جاز بيع البعض منه بالبعض، فالقسمة جارية فيه، وما امتنع بيع البعض بالبعض، ففي إجراء القسمة فيه قولان مبنيان على أن القسمة بيع، أو إفراز حق، ولا حاجة إلى إعادة تلك المسائل. 11987 - ولو كان نصف الدار مملوكاً ونصفها مُحَبَّساً، فالقسمة فيها مبنية على القولين: إن جعلنا القسمة بيعاً، لم نجوّزه؛ لأن في تجويزها تجويز بيع الموقوف وإن قلنا: القسمةُ إفراز، فهي تجري في الموقوف والمملوك. وإن كانت الدار بجملتها موقوفة على أقوام، فأرادوا اقتسامها، لم تصح القسمة وإن حكمنا أن القسمة إفراز؛ لأن في إجرائها مخالفةَ شرط الواقف، وقد جرى التحبيس منه على الشيوع، والقسمة تغيّر وضعَ الوقف. فإن قيل: هذا يتحقق في إجراء القسمة بين المالك والموقوف عليه، قلنا: ذاك التغيير بمثابة تغيير الأملاك إذا كانت شائعة، فأُفرزت، فالإفراز تغيير لها، والمحذور تغيير شرط الواقف من الذين عليهم الوقف. وكان شيخي يقول: أبعد بعض الأصحاب، فأجرى القسمة في الموقوف عند مسيس الحاجة والإشرافِ على الخراب،

_ (1) تقدير من المحقق على ضوء ما بقي من ظلال وخيال (حرف النون).

فإذا ظهر هذا المعنى ولو تُرك الوقفُ فَوْضَى (1) بين الأرباب، لا نمحق، ونحن قد نجري القسمة لأجل الضرورة، وحيث يقتضي القياس منعَها، وعليه خرّجنا مسائلَ في كتاب الزكاة إذا اجتاحت الثمار جوائح واقتضت قطافاً قبل الأوان، ولو جففت، لما كانت منتفعاً بها، وإخراج العشر فيها قسمة، ونحن قد نجيزها، وإن منعنا قسمة الرطب، فالضرورة في الوقف تنزل هذه المنزلة. وهذا بعيد لا أصل له. فرع: 11988 - إذا كان بين اثنين لَبِنٌ (2) مشتركة، فإن كانت شُكِّلَت بقاِلب واحد، فقد أجراها القاضي مجرى المتماثلات في إجراء القسمة فيها جبراً، وإن تفاوتت الأشكال، لتفاوت القوالب، صارت كالعروض في قسمة التعديل والنقل، وخرجت عن قسمة الإفراز. وقد تمهدت الأصول. فصل في كيفية القسمة 11989 - القسمة في ذوات الأمثال بيّنة، والتعويل فيها على الوزن أو الكيل، فإن وقع التراضي على القسمة وزناً، وكان المقسوم من أموال الربا، وقد ورد التعبد بالكيل في بيع البعض منها بالبعض، فإذا أرادوا القسمة وزناً، خرج هذا على القولين في ماهية القسمة، فإن قلنا: القسمة بيع، فهي ممتنعة، لامتناع بيع البر بالبر وزناً بوزن. وإن قلنا: القسمة إفراز حق، فهي جائزة؛ فإن الوزن أَحْصر، وهو إلى تحصيل تمييز الأقدار أقرب. وإن كانت القسمة في الأراضي، فلا بد من المساحة، والتكسيرِ، بطريق الضرب، وإذا اختلفت حصص الشركاء، فكان لواحد النصف، ولواحد الثلث،

_ (1) فوضى: المراد: مشاعاً. (2) لَبِن: جمع لبنة. بفتح وكسر.

ولواحد السدس، فالساحة تُقَسَّم أسداساً، وتفرز بالتقدير المساحيّ على هذا الوجه؛ فإن النصيب الأقل لا يتميز إلا كذلك، وقد تمس الحاجة إلى التعديل بالقيمة، وترك اعتدال المقدار المساحي، فإذا تميزت الأقدار، وتعدلت بالقيمة، فالذي نص عليه الشافعي أنا نكتب أسامي الملاّك في الرقاع، وهم ثلاثة في الصورة التي ذكرناها، ثم تخرج الرقاع على الأجزاء المعينة كما سنفصله. ونصَّ في كتاب العتق على أن المريض إذا أعتق عبيداً لا يملك غيرَهم، واحتجنا إلى رد العتق إلى الثلث، فنكتب رقعة الرق ورقعة الحرية، ولم يذكر كِتْبة أسامي العبيد وأسامي الورثة، وقياس ذلك يقتضي في قسمة الساحة بين الشركاء أن يكتب على الرقاع أعيان الأجزاء المعدّلة، ثم تُخرَج إلى الأسماء؛ فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج: أحدهما - أنه يكتب أسماء العبيد في العتق، وأسماء الشركاء في قسمة الملك المشترك. والثاني - أنه يكتب أسماء الأجزاء هاهنا، والرق والحرية ثَمّ. ومن أصحابنا من قال: ليمست المسألة على قولين، ولكنا نقر النصين قرارهما، ونفرق فنقول: الوجه كِتْبة الحرية والرق إذا كنا نميز الوصية عن حق الورثة، فإن الحرية حق الله تعالى، وليس من حقوق العبيد، فإنهم لو أسقطوه، لم يسقط، فكانت كِتبة الحرية أولى، والعين المقسومة فى هذه المسألة ملك الشركاء حقيقة، فكِتْبة أسمائهم أولى. وقد اتفق الأصحاب أن هذا التردد في الأَوْلَى، ومن اختار مسلكاً [لم] (1) يمنع صحةَ الآخر إذا أفضى إلى مقصود التمييز، والتردُّدُ فيما هو الأَوْلَى. 11990 - والتفصيل في الكيفية نبتديه الآن: فإذا كتبنا أسماء المالكين فيما نحن فيه، وهم ثلاثة، فقد اختلف الأصحاب على ما ذكره العراقيون، وصاحب التقريب: فمن أصحابنا من قال: يكتب أسماء الثلاثة في ثلاث رقاع، وإن تفاوتت حصصهم، ومنهم من قال: يكتب اسم صاحب السدس في رقعة، ويكتب اسم صاحب الثلث في

_ (1) في الأصل: " لما ".

رقعتين، ويكتب اسم صاحب النصف في ثلاث رقاع، قال العراقيون: وهذا أصح؛ فإن من كثر نصيبه، فهو أولى بأن تصيبه القرعة لعظم حظه، وقد يكون له غرض في أن يخرج اسمه أولاً على طرف الدار، فإذا كثرت الرقاع باسمه قرب خروج الرقعة له. وقال صاحب التقريب: الصحيح الاكتفاء برقعة واحدة في حق كل واحد، ولا معنى لرعاية غرضه في طرف الدار؛ إذ ليس هو بالطرف أولى من صاحب السدس، ولو كان أولى بالطرف لكثرة نصيبه، لكان أولى بما يعيّنه من غير قرعة، والفقه ما ذكره صاحب التقريب. وقد تأملت كلام الأئمة فاستبنت أن منهم من يجعل هذا الخلاف موضوعاً فيما يجب؛ حتى لو ترك، لم يجز. والعراقيون يثبتون الرقاع على أقدار الأملاك، وصاحب التقريب يختار أن ذلك غير جائز، وكلٌّ [يُفسد] (1) القسمة إذا جرت على خلاف ما اختاره. وفي كلام الشيخ أبي علي ما يدل على تنزيلِ الخلاف على المستحب وتجويزِ الأمرين جميعاً. فإذا كتبنا أسماء المالكين، فيقول القاسم: أخرجوا على هذا الطرف، ويعين باختيار نفسه طرفاً، وليس ذلك تحكماً، والقرعة مَغيبة، فإن خرجت قرعة صاحب النصف، فله ذلك الجزء والثاني على التوالي، ويكفيه قرعةٌ واحدة، ولو لم نفعل ذلك، وأخرجنا له القرعة في كل سدس، فربما تفرقت أجزاؤه في الأسداس، ويتخلل فيها ملك صاحبيه، وهذا ضرر بيّن، لا غرض فيه للشركاء، فإن خرجت قرعة صاحب السدس، فله الجزء الرابع، ثم لا فائدة من إخراج القرعة الثالثة، بل الخامس والسادس لصاحب الثلث، وإن خرجت أولاً قرعة صاحب السدس، فله الجزء الأول من الطرف المعيّن، ثم يُخرج قرعةً أخرى، فإن خرجت قرعة صاحب الثلث، فله الثاني والثالث، ثم الباقي لصاحب النصف من غير قرعة. والغرض أن لا يتفرق ملك من له سهام. ولو كتبتَ الأجزاء وأخرجْتها باسم المالك، فقد يتطرق إليه [تغرير] (2)، ولكنه

_ (1) تقدير من المحقق بتوفيق من الله. وقد صدقتنا (ق) فلله الحمد والمنة. (2) في الأصل: " تعذير ". وكنا قدرناها " تحذير " والمثبت من (ق).

سائغ إذا أفاد المقصود، وسيق على وجهه، والمحذور منه أنك لو قلتَ: أخرج رقعةً باسم صاحب النصف، فلو خرجت رقعةُ القطعة الثالثة، [فالاحتساب] (1) من أي طرف -وتصويره ممكن من وجهين- فلو حسبناها في الشرقي، وفيها الطرف الأول، تواصل النصف، ولو حُسبت في الغربي، لخلّفت جزأين في الشرقي وجزءاً في الغربي، فينبغي أن يقطع هذا الخيار، بأن يشترط أن الحَسْب في الجانب الذي لا تتقطع الأجزاء فيه، فإذا وقع التوافق على هذا، فالحَسْب في الشرقي، ولا يخفى درك أمثال ذلك. 11991 - ثم أطنب الشافعي في تسوية الرقاع ثلاثاً، وذكر أنها تدرج في بنادق من طين، أو شمع حتى تبعدَ عن الاطلاع، وقال: تسوَّى البنادق، وتجفف، وتطرح في حِجْر من لم يشهد تفصيلَ الأمر، حتى يرجع الخروج إلى الوفاق المحض، من غير تخيل قصد في الإخراج، والتسويةُ إنما راعاها؛ لأن البندقة الكبيرة تسبق إلى اليد، وإذا فرض ذلك، تطرق إلى تحكيم اتفاق الخروج خلل، وكان شيخي يقول: لا نمنع إيجاب هذا؛ لما نبّهنا عليه. ويجوز أن يقال: إن أظهرناها، وقلنا [لمن] (2) يخرجها: لا فرق بين الصغار والكبار، فخذ على وفقاف ما عنّ لك -وهي بارزة- فلا أثر للصغر والكبر، وإن كان يطرحها في الحجر أو الكم، ويخرج ما يقع في يده، فيجوز أن يؤثر التفاوت، وحيث نسلّم تخيّل التفاوت، فاشتراط التسوية بعيد، والأولى عدّ هذا من الاحتياط، لا من الاشتراط. فصل قال: " وإذا استُحِقَّ بعضُ المقسوم ... إلى آخره " (3). 11992 - إذا جرت القسمةَ في الصورة على حقها، ثم تبين أن البعض من الملك المشترك مستَحقٌّ، فأحسن ترتيبٍ في هذا الفن للعراقيين، وقد فالوا: إذا استُحِق

_ (1) في الأصل: " بالاحتساب ". (2) في الأصل: " لم ". (3) ر. المختصر: 5/ 245.

شيء، فلا يخلو إما أن استحق عينٌ معيّنة في يد واحد من الشركاء بعد التفاصل، وكانت الشركة موضوعةً على التعديل والنقل، كما قدمنا تصويرها. أو استُحِق جزء مشاع مما في أيديهم، وكذلك يقع الاستحقاق في البعض إذا جرت القسمة في صنف واحد، غيرِ مشتمل على أشخاص متميزة. فإن استحق معين في حصة إنسان، أو استُحِق جميع حصته، فيبين لنا بطلان القسمة في حق الجميع؛ فتعاد القسمة بعد رد المستحَق. ثم قالوا في هذه الصورة: لو كانت القسمة قد جرت بين شريكين في أعيانٍ، فاستُحِق من يد أحدهما عين، واستُحِق من يد الآخر عين أيضاً، وهما متساويتان في القيمة، فلا تنقص القسمة في بقية ما في أيديهما؛ فإنهما استويا فيما استُحق وبقي، وهذا متجه حسن. وفي بعض الطرق ما يدل على بطلان القسمة في البقية، ووجهه بيّن أيضاً؛ فإن القسمة لم تنشأ على البقية أولاً، وقد تغير وضعها بالاستحقاق، فلا يمتنع الحكم ببطلانها. ولو كان الاستحقاقُ في جزءٍ شائع قبل أن يقتسما أرضاً قدّراها نصفين بينهما، ثم بان أن الثلث من الأرض مستَحَق لغيرهما، فلا شك في بطلان القسمة في المستَحَق، وهل تبطل في الباقي ليعاد بين الشركاء، أو يبقى نصيبُ كل واحد من الأَوّلَيْن منفصلاً عن نصيب الثاني، وللمستَحِق في كلِّ نصيبٍ شَركةٌ؟ ذكر العراقيون في ذلك قولين، وخرجوهما على تفريق الصفقة. ومن هذا التصرف يظهر ما ذكرناه في استحقاق عينين متساويتين من يدي الشريكين. هذا تفصيل الاستحقاق بعد القسمة. 11993 - ولو قسم الورثةُ التركةَ، ثم ظهر دين على الميت، أو وصيةٌ مطلقةٌ بعينٍ، قال العراقيون: إن قلنا: إن القسمة إفرازُ حقٍّ، فتصحُّ بشرط أن يقضوا الديون أو يُوفّوا الوصيةَ المستحقة. وإن قلنا: إن القسمة بيعٌ، ففي صحة القسمة قولان

مبنيان على أن الورثة لو باعوا التركة، وقد تعلق بها دين، فهل يصح بيعهم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يصح أصلاً، كما لا يصح بيع المرهون. والثاني - يصح إن قَضَوْا الدين من مال آخر. وهذا يبتني على تردد الأصحاب في أن تعلق الدين بالتركة هل يمنع الميراث أم لا؟ إن قلنا: يمنع، فالقسمة مردودة، والبيع باطل، وإن قلنا: لا يمنع الإرثَ فتعلقه كتعلق الدين بالمرهون، أو كتعلق الأرش برقبة الجاني. وفيه قولان: فإن قلنا: هو كتعلق الدين بالرهن، فالقسمة مردودة، والبيع باطل، وإن قلنا: هو كتعلق الأرش، ففي بيع العبد الجاني قولان. هذا [قولنا في] (1) البيع. وما ذكره العراقيون من تصحيح القسمة على قول الإفراز قولاً واحداً ليسوا مساعَدين عليه؛ فإن الإفراز تصرفٌ في متعلَّق الدين، فيظهر إفساده كالبيع، ولما ذكرناه التفاتٌ [عندي] (2) على أصلٍ، وهو أن المفلس لو تصرف في الأموال التي اطرد الحجر عليها، فنقطع ببطلان تصرفه، [أم نقفه] (2) قائلين: إن سقطت الديون، فقد نفذ التصرف، وإن بقيت، ومست الحاجة إلى تأديتها [من] (3) الأعيان أُدِّيت [منها] (4). فالوارث كالمحجور عليه المفلس، والمال كمال المحجور، والدين محصور. وإذا صححنا بيعَ العبد الجاني، فلم يؤدّ السيدُ الأرشَ، نُقض بيعه، فقد انتظم في التركة الفسادُ، [للقسمة] (5)، والصحةُ مع التعرض للنقض لو لم يؤدوا الدين، والوقف، حتى إن أَدَّوْا، تبيّنا الصحةَ، وإن لم يؤدوا، تبيّنا الفسادَ، وعدمَ الانعقاد، ثم إذا فُرضت القسمةُ مع الجهل، ثم بَدَا الدين، فالأمر على ما ذكرناه، ولو أنشأ القسمة على علمٍ، لم يختلف الحكم، وترتبت الأقوال [نازعةً] (6) إلى الأصول التي قدّمناها.

_ (1) ما بين المعقفين تقدير من المحقق على ضوء السياق. (2) المثبت من (ق) مكان كلمة لم يبق منها أثر يدلّ عليها. (3) مكان كلمة ذهبت تماماً وانمحى أثرها. والمثبت من (ق). (4) في الأصل: " فيها ". (5) اختيار من المحقق بناء على السياق. (6) في الأصل: " نازفة ".

فصل 11994 - إذا قُسم ملك مشترك بين الشركاء، ثم ادعى بعضهم أن القاسم غلط في التعديل وتحيّف عليه، فهل يقبل ذلك؟ نُظر: فإن كانت القسمة قسمة إجبار، [واتصلت] (1) بالحاكم، ونَصَبَ القاضي فيها قاسماً، أو قاسمين، ثم ادعى شريكٌ نقصاناً من حقه، [لم يُقْبل] (2) قوله فيه، وهو كما لو ادعى المحكوم عليه على القاضي أنه ظلمني، وقضى عليّ مبطلاً، فلا يقبل قوله، إلا أن يقيم بيّنة عادلة على ما يدعيه من الغلط على القاسم، فيقبل حينئذ. ولو لم تكن بينة، فدعواه على القاسم مردودة، ولو رام تحليفه لم يبالَ به، ولم يحلّف القاسم، كما لا يحلّف القاضي، والشاهد. هذا إذا كانت القسمة قسمةَ إجبار. فأما إذا كانت القسمة بحيث لا يجري فيها إجبارٌ، ولكن الشريكين نصبا قاسماً، وقسم عن رضاً منهما، ثم ادعى أحدهما حَيْفاً، قال العراقيون: إذا رضي الشريكان بابتداء القسمة، ثم رضيا بعد خروج القرعة رضاً جديداً، ثم ادعى أحدهما أنه قد نقص من حقه، فلا تُسمع دعواه، ولا تقبل بينتهُ؛ فإن أقصى ما فيه أن يكون منقوص النصيب، فإذا رضي لم ينفعه بعد ذلك شيء، وهو كالذي يشتري شيئاً [بما] (3) يحسبه ثمن المثل، ثم يتبيّن كونَه مغبوناً. هذا إذا أنشأ الرضا بعد خروج القرعة، فأما إذا رضيا بالقسمة عند إنشائها -وقلنا: يعتبر الرضا بعد خروج القرعة- ولم يجْر رضاً في آخر الأمر، فلا حكم لما جرى، والقسمة لم تثبت بعدُ، ومن أراد الرجوع، فله الرجوع، وإن لم يكن حيف، فما الظن إذا كان حيفٌ.

_ (1) المثبت مما أفادتنا به (ق). (2) تقدير من المحقق. (3) في الأصل: " فيمن ".

وإن قلنا: لا يعتبر الرضا بعد القرعة والتعيين، فإذا رضيا بالقسمة ابتداء، ثم ادعى أحدهم حيفاً بعد القرعة، فالوا: سبيل هذه الدعوى كسبيل دعوة الغلط في قسمة الإجبار. هذا ترتيبهم. وفيه نظر. أما قولهم: إذا تراضيا بعد القسمة، فلا رجوع إن كان محتملاً، فلا يجب أن يكون مقطوعاً به؛ فإن الرضا كان على تقدير التعديل والاستواء؛ فإذا بان خلاف ذلك، ظهر الحكم بفساد القسمة، فكأن الرضا مقيدٌ بشرط الاعتدال، وهذا كتقديرنا تقيُّدَ البيع بشرط السلامة. وهذا متجه. وما ذكروه في آخر الترتيب من أنا إذا لم نشترط إعادة الرضا آخراً، واكتفينا بالرضا الأول، فالقاسم يصير كالحاكم في قسمة الإجبار، فهذا أيضاً فيه نظر؛ فإن قاسم القاضي مولّىً أو شاهداً، والذي ينصبه الشريكان ليس في هذا المعنى، والمسألة محتملة. ولو لم ينصبا قاسماً أصلاً، ولكنهما اقتسما بينهما من غير قاسم، فلا بد في هذه الصورة من الرضا بعد القسمة؛ إذ لا متوسِّط بينهما، حتى يكون قَسْمه مستنداً لرضاهما. هذا هو الظاهر. وفيه احتمال على تقدير القسمة المنشأة مرضيّاً بها؛ فإنه لو توسطهما قاسم، فالتعويل على قسمته لا على عينه. 11995 - ومما يليق بتمام البيان في ذلك أنهما لو تفاضلا، وعلما تفاوتاً في القسمة، وتراضيا به على علم، فالذي يقتضيه كلام الأصحاب لزوم هذا، وفيه غائلة. والوجه أن نقول: إن قلنا: إن القسمة إفراز، فلا تصح القسمة إلا مع التعديل، وإن قلنا: القسمة بيع، فإذ ذاك يجوز أن تَلْزمَ بالرضا مع العلم، ثم يتضح عندي اشتراط لفظ البيع هاهنا؛ فإنا إنما نقيم لفظ القسمة مقام لفظ البيع إذا جرت حقيقةُ القسمة، وحقيقتُها التعادل، وهذا لطيفٌ حسن. 11996 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الشريكين إذا تناكرا فادعى أحدهما القسمة،

وأنكرها الثاني، فإن لم يكن متعلَّق بقاسم من جهة القاضي، فالقول قول النافي. وإن تعلقت بقاسم القاضي، فالرجوع إلى قول القاسم؛ فإنه حاكم، أو شاهد. فإذا ادعى الغلط على القاسم من جهة القاضي، ولم يجد بينة، فقد ذكرنا أن دعواه لا تسمع على القاسم، فلو قال: أحلّف شريكي؛ فإنه عالم بأنى منحوسُ [الحظ] (1)، فله تحليفه، فإن حلف، انقطعت الخصومة، وإن نكل، رد اليمين على المدعي، فإذا حلف يمين الرد، نُقضت القسمة، وأعيدت من الرأس. وإن ادعى على جمعٍ من الشركاء، فحلف بعضهم، ونكل بعضهم، قال الأئمة: تُرد اليمين بسبب نكول الناكلين، فإذا حلف، انتقضت القسمة في حق الناكلين. قال صاحب التقريب: إذا قلنا: يمين الرد كالبينة، فقد قال بعض الأصحاب: تنتقض القسمة في حق الكلّ: من حلف، ومن نكل، كما لو أقام بينة. وهذا سخيف، لا أصل له، فإن يمين الرد إنما يكون بينة في حق الناكل فحسب، فأما من حلف، فقد درأ يمينَ الرد عن نفسه، وهذا الوجه نقله صاحب التقريب، وبالغ في تزييفه، ولولا نقلُه لما ذكرناه. فصل 11997 - إذا كان في أيدي طائفة ملكٌ مشترك، فجاءوا إلى القاضي، والتمسوا منه أن ينصب قاسماً ليقسم الدار بينهم، فهل يجيبهم القاضي؟ إن كان ثبت ملكهم عند القاضي بطريق من الطرق، أجابهم، وإن لم يثبت ملكهم، فهل ينصب قاسماً؟ فعلى قولين: أحدهما - لا ينصبه؛ فإنه لم يتحقق عنده ملكهم، فالإقدام على القَسْم -وقد يكون الملك لغيرهم- تصرّفٌ قبل ثبوت موجِبه، ولو قسم بينهم، فربما يتعلقون به، ويعدُّونه حجةً في ثبوت الملك، وهم مبطلون. ولا حاجة إلى هذا، فإن القاضي يوضح: إني قسمتُ باستدعائهم، ولم يثبت عندي ملكُهم. والتعويل في توجيه هذا القول على ما قدمناه من أن القَسْم تصرفٌ، لم يثبت موجِبه.

_ (1) في الأصل: " الحق ". والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط. والحظ هنا بمعنى النصيب.

والقول الثاني -وهو الأصح- أنه يجيبهم إلى القسمة، ولا حاجة إلى إثبات الملك فيما هذا سبيله، بدليل من [أدخل] (1) إنساناً داره، أو أضاف القاضي، فكل ذلك جائز، وما زال الأتقياء الأبرار يعتادون مثل هذا، يأخذون الأمر على ظاهر اليد، وإن لم تقم عندهم حجج بالأملاك، ولا نعرف خلافاً أن من باع داراً في يده، وأشهد على البيع القاضيَ، أثبت القاضي إقراره، ولم يطالبه بتثبيت ملكه قبل البيع. وما ذكرناه من طلب القسمة فيه إذا جاءوا طالبين عن تراض منهم، فإذا جاء واحد مطالباً، وامتنع عليه [أصحابه] (2) ففي المسألة طريقان: أحدهما - أنه يجيب في هذه الحالة لقطع الخصومة، والطريقة الثانية - طَرْدُ القولين، وليس ينقدح عندي للامتناع عن القسمة وجهٌ. نعم، يجب القطع بجواز القسمة، كما استشهدنا به في جواز دخول الدار، فأما وجوب القسمة، ولم يثبت بعدُ عند القاضي ملكٌ، فهذا فيه تردد، من جهة أن لوجوب يجوز أن يستدعي موجِباً، فأما الجواز، فيكتفي بظاهر الحال. فصل 11998 - إذا تعذّرت القسمةُ في الملك المشترَك، فأقرب مسلك في الانتفاع المهايأة، فإن وقع التراضي عليها، فذاك، ثم هي مياومةٌ، أو مسانهةٌ، أو مشاهرةٌ، أو مسابعة، على ما يقع التوافق عليه، ولا إجبار على المهايأة في ظاهر المذهب. وذهب ابنُ سريج إلى الإجبار عليها؛ فإن قسمة الرقبة إذا تعذرت، فلو لم تجب المهايأة، لتعطلت المنافع، ومعتمد أهل المذهب أن المهايأة فيها تعجيلُ حق أحد الشريكين، وتأخير حق الثاني، بخلاف قسمة (3) الرقاب، فإن الحصص تنفصل دفعةً

_ (1) هكذا قدرناها على ضوء ما بقي من حرف اللام في آخر اللفظة. وعبارة الغزالي في البسيط تشهد لنا، حيث قال: " فيجوز القسمة باستدعائهم، كما يجوز للقاضي أن يدخل عليهم ضيفاً، ويأكل من طعامهم بقولهم " ا. هـ (ر. البسيط: جزء 6/ورقة: 116 ش) ثم جاءتنا (ق) موافقة لما قدرناه. (2) كذا قرأناها على ضوء ما بقي من ظلال الحروف. وأيدتنا (ق). (3) في الأصل: " قيمة " والمثبت تصرف من المحقق. وقد صدقتنا (وَ).

واحدة، فإن قلنا: لا تلزم المهايأة بالدعاء إليها، فلو جرت، فما مضى من النُّوَب لا تتبُّع لها. وإن كان الشركاء في ابتداء النوبة، فاستوفى واحد نوبة، فهل يجب إدارة هذه النوبة على الباقين حتى يستووا؟ فعلى وجهين، أقيسهما أنه لا يجب؛ فإن الوجوب لو ثبت، لكان مأخوذاً من تقابل المنافع بمعاوضة، أو طريقة مقرِّبة من المعاوضة، وهذا ممتنع في المنافع، فالوجه أن يغرَمَ هذا المستوفي حصص أصحابه من المنفعة، إذا امتنعوا عن الاستمرار على المهايأة. والوجه الثاني - أنه يجب إجراءُ نوبةٍ دارّة عليهم، ثم هم على خِيَرتهم بعدها، وهذا اختيار القاضي، ووجهه عندنا أنها لو جرت، فلا تتبع، فلا تخرج على مذهب التقاصّ، بل يرى ما جرى معاملة سديدة، عمل بها من مضى وبقي، فإذا استوفى واحد نوبة، وجب بحكم ذلك طردها إلى الآخِر. وإذا قلنا: لا إجبار على المهايأة، وقد تمانع الشركاء [نَكَداً] (1)، فأي شيء نفعل والحالة هذه؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يُتعرض لهم، ونترك الأملاك متعطِّلةً إلى أن يصطلحوا. والثاني - يباع الملك، ويقسم الثمن بينهم، وهذا لا أصل له، فلا أعدّه من المذهب، وإنما هو مذهبُ بعض السلف، ثم هذا إنما يجري إذا أداموا النزاع والمطالب، فإن تركوا، تركناهم. ...

_ (1) في الأصل: " بكذا ".

باب ما على القاضي في الخصوم والشهود

باب ما على القاضي في الخصوم والشهود قال الشافعي: "وينبغي للقاضي أن ينصف بين الخصمين في المدخل عليه للحكم ... إلى آخره" (1). 11999 - قال الأئمة: من تولى القضاء، فينبغي أن ينتجز الكتب (2) من الإمام، أو من والي الإقليم، ثم تثبت ولايته في الناحية التي [رشح لها بالاستفاضة] (3)، وهذا القدر كافٍ عند المحققين، والمشاهَد فيه سِيَرُ الأولين، والدليل الخاص فيه من جهة المعنى أن المُولِّي ذو الأمر، وليس للرَّعايا مطالبةٌ حتى يناط بحُججٍ خاصة، وأيضاً فاعتبار الحُجج عسر؛ فإنها لو ثبتت، فمن يقيمها، وعند من تقام؟ ثم قال قائلون: مجردُ الكتاب كافٍ، وهو يعتضد عند استمرار الإمرة، وامتداد اليد الباطشة، واشتهار أمور الولاية في مكانها بأن ذلك لا يجترىء عليه ذو عقل، وهو مع هذا معتضد برسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاته، فما كانوا يستصحبون إلا كتبَ الرسول، حتى اشتهرت قصة ذلك المتخرص الذي أتى قوماً، وزعم أنه [رسول] (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرَموه، وبَرّوه، ثم وفدوا على رسول الله عليه السلام، وأخبروه، فلعنه، وقال: " إذا رجعتم إليه، فاقتلوه، وما أراكم تدركونه " (5). فرجعوا وألْفَوْه حُمَمَه، وكانت أدركته صاعقة فاحترق، ووجه التعلق بالقصة أن الرسول عليه السلام لم ينكر عليهم، ولم يأمرهم باستظهارٍ في المستقبل، وعدّ ما جرى من التخرص نادرةً لعن بها صاحبها.

_ (1) ر. المختصر: 2/ 245. (2) كذا. والمراد كتاب التولية. (3) في الأصل: "وشح لها الاستفاضة". (4) في الأصل: " الرسول ". (5) حديث الرجل الذي ادعى أنّه رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سبق تخريجه.

والذي يجب ضبطه في هذا -بعد التأصيل- أن من صدر عن الحضرة العليا لولاية عظيمةٍ في ناحية متسعة الخِطة، فمثل هذا يستفيض الخبرُ عنه، فالاستفاضة كافية، وحكى العراقيون هذا واعتمدوه، ووجهاً آخر أنه لا بد من عدلين يُشيعان في أهل الناحية صَدَرَ [الولاية من الإمام] (1)، ثم ليسا شاهدين، ولكنهما مُسمعان، يُشيعان، عددُهما عددُ الشهود، لتعلق الأمر بما يخصّ الناسَ، ويعمهم، فكان شبيهاً بالشهادة من هذا الوجه، وإن لم يكنها في الاختصاص بمجلسٍ والتزام لفظ الشهادة، وهذا يناظر ما سيأتي في معنى التسامع في الأنساب، وهذا [معنى] (2) الاستفاضة. فإن جرى مثلُ هذا، ولم يستفض الخبر، والأليق بالحال الاستفاضة، فإذا ورد، ففي هذه الحالة نظر آخر، يجوز أن يقال: لا بد من الاستفاضة بناء على قطبٍ في الأصول، وهو أن الأمور العظيمة إذا جرت، فلا بد أن تشيع، فأقلُّ المراتب أن يُورِّثَ ذلك تردداً وخبلاً. ومن أصحابنا من اكتفى بكتاب [الوالي] (3) وهو عندي مشروط بظهور مخايل الصدق، وهو بيّن في خطوط الكتاب المشهورين وانشراح [الصدر] (3) به، فإن الخَوّان في مثل هذا على وفازٍ (4) من أمره. وقال قائلون: لا بد من شاهدين في هذا المقام، وهذا لا بأس به، والمراد بالشاهدين عدلان يُشيعان. وإذا استخلف القاضي حاكماً في قرية، فقد لا يستفيض مثل هذا، فلا تُشترط الاستفاضة، بل ينقدح فيه الكتاب أو شاهدان. وينبغي للذي يَقْدَم (5) أن يقدّم [كِتْبته] (6) إلى محل الولاية، ويتعرف عن أحوال

_ (1) في الأصل: "صدر الوالي". والزيادة والتعديل من المحقق. (2) في الأصل: " مع ". (3) مكان كلمة انمحت تماماً في نسخة الأصل. (4) وفاز: أي عجلة وقلق وعدم اطمئنان. (5) قدم البلدة يقدَم من باب تعب. (المصباح). (6) الكتبة والكتاب بمعنىً، ويطلقان على المكتوب. (المصباح). وهي في الأصل: كتبه. والمثبت تصرف من المحقق.

العدول والمزكين، وأركان القضاء، ويكتب إليهم: استعدوا، ويكون هذا من أسباب الاستفاضة، حتى لا يكون مَقدمه فجأة، إذ لو فاجأهم، وتفاوض الناس بالتشبيب بالتكذيب، سمُجَ الأمر، وانكسرت السَّوْرة (1). 12000 - وإذا دخل البلد وتصدى للقضاء، فينبغي أن يبداً بالتعرف عن أحوال المحبوسين، لا يقدّم على ذلك شغلاً، والسبب فيه أن الحبس عذاب، وإدامة العذاب على أقوام من غير تثبتٍ، لا سبيل إليه، وليس هذا من تعقب أحكام القاضي الأول. وقد ذكرنا أنه لا يتعقبها إلا أن تُرفع إليه، والنظر في حال المحبوسين ليس من ذلك، فإن الحبس كما ذكرناه عذاب ناجز مستمر، وقد يكون المحبوس مظلوماً، وقد يكون في المحبوسين من حبس تأديباً، وفيما مضى من الحبس كفاية، وتقديم ما ذكرناه حتمٌ وليس من الآداب، حتى قال الأصحاب: لا ينبغي أن ينظر في خصومةٍ تُرفع إلى مجلسه ما لم يفرّغ قلبه من هذا الفن. ثم يُحضر المحبوسين، فمن أقر منهم أنه محبوس بحق، ردّه إلى السجن، ومن ادعى أنه حبُس ظلماً، فالوجه أن يقول: من خصمك؟ فإذا ذكره، أحضره، وسأله، وأمره بأن يبتدىء الدعوى، وإقامة البينة، على ما لا يكاد يخفى ترتيب الخصومة. وإن قال: قد حَبَسه القاضي المصروف، فكان ذلك حكماً منه؛ وحكمه لا ينقض، قيل له (2): أَثْبِتْ حُكمَه بما تَثْبُتُ به أحكام القضاة. أما صورة الحبس ليس (3) حكماً، فإذا عجز الخصم عن إثبات حقٍّ يوجب الحبس، أطلقنا المحبوس، ولا تطويل بجعل هذا ابتداء خصومة. 12001 - قال القاضي رضي الله عنه: من قال من المحبوسين: حبست ظلماً، أطلقناه، وهذا الكلام حق، ولكنه خشن (4)، فالمعني بالإطلاق أن يخرج من

_ (1) السَّورة: القوّة، والحدّة، والبطشة. (المصباح). (2) قيل له: أي خصم المحبوس. (3) جواب أما بدون الفاء. (4) كذا. ولا أدري لها وجهاً. اللهم إلا إذا كانت على معنى مجازي. وفي (ق): " حسن ". لكن كيف تتفق مع الاستدراك؟ والله أعلم.

الحبس، ولكن لا يخلى سبيله حتى يحضر خصمه، وفي كلام القاضي ما يدل على أنه يخلّى سبيله، ولا يتشبث به، ولست أنكر اتجاه هذا في القياس؛ فإن التشبث به من الحبس، فإن ادعى مدّعٍ استعدى عليه. فإنا لا ندري أن ذلك القاضي حبسه بالحق أم لا، وحبس القضاة منقسم إلى حقٍّ، وظلم، وأدب، وحملٍ على تأدية حق، فيحصل مما بسطناه أن ما صار إليه الجماهير التشبث به إلى التفحص، من غير أن يرد إلى الحبس. والذي ذكره القاضي أنه يطلق، ثم خصمه يتبعه ويستعدي عليه. فإن فرّعنا على ما عليه الجماهير، قلنا: لو وجدنا محبوساً لا يعرف له خصماً، فكيف السبيل فيه؟ قال الأصحاب: يأمر القاضي من ينادي باسمه، ويقول: فلان بنُ فلانٍ محبوسٌ، فمن خصمه؟ فإن لم يظهر له خصم، أطلقه، إذا كان يقول: حبست بالظلم، أو كان يقول: لا أدري لم حُبست، ولا أعرف على نفسي حقاً يوجب حبسي. ثم قال الأصحاب: ينادي عليه إلى حد الإشاعة؛ فإن النفوس تتشوف إلى الطلب إن كان طالب، ثم ذكر الأصحاب أياماً. ولا يطاف به، وإنما يذكر اسمه على حد التعريف، وهو في ذلك لا يحبس ولا يخلَّى، بل يُنصب من يراقبه، ثم يطلق. وهل نأخذ منه كفيلاً ببدنه احتياطاً؟ ذكر صاحب التقريب فيه وجهين: أحدهما - أن عليه إعطاء كفيل، فإن امتنع، رددناه إلى الحبس، والثاني - ليس عليه ذلك، وهو الصحيح الذي قطع به الأئمة. ولو كان خصمه غائباً، وزعم المحبوس أنه مظلوم، ولو انتظرنا مطالبة الغائب، لطالت المدة، والمراقبةُ أخت الحبس، فهل يطلق والحالة هذه؟ ذكر بعض المصنفين في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يطلق، بل يكتب إلى الموضع الذي به الخصم، حتى يحرص [على] (1) إظهار حجته، فإن قصّر، أطلقناه. والثاني - أنه يطلق على الفور. وإذا قلنا: لا يطلق، عنينا به أنه يراقب، فأما الرد إلى الحبس، وإدامة العذاب، فلا سبيل إليه. وقد يرى الإنسان في مجموعات الأصحاب عبارات موهمة، ولكن ليثق بما

_ (1) في الأصل: " في ".

ذكرناه؛ فإنا لا نورد -إن شاء الله- في هذا المجموع إلا ما نتثبت فيه، ونرتبه على نَخْل كلام الأصحاب، وحذف المجازات. 12002 - فإذا انتجز نظره في ذلك تأمل أحوال الأمناء المنصوبين من جهة القاضي المصروف؛ ونظر فيهم، وفيما في أيديهم، فإن أمكنه في أثناء ذلك أن يفصل خصومة جديدة -من غير أن يتطرق إلى نظره فيما ذكرناه خللٌ- فليفعل، وإلا فالبداية بأحوال المحبوسين، وبعدها بأموال الأطقال في أيدي القُوّام والأوصياء الذين صدَرُهم عن القاضي. وإن استخلف حيث يجوز الاستخلاف في فصل الخصومات الجديدة وتعاطى بنفسه ما ذكرناه من المُهمَّيْن فجائز. 12003 - ثم اندفع الشافعي في بيان كيفية إدخال الخصمين ورعاية الإنصاف بينهما، فنقول: لا يأذن لأحدهما دون الآخر؛ فإن ذلك يكسر قلب المحجوب، ويُغَلِّب على ظنه الميلَ إلى خصمه، وإذا دخلا عليه، وسلّما، ردّ جواب سلاميهما، وإن سلّم أحدهما، فقد أفرط بعض الأصحاب، وقال: لا يردّ جوابه، بل يسكت؛ بناء على أنه وضع السلام في غير موضعه؛ فإن القاضي في شغل شاغل، ولا ينبغي أن يُسلَّم عليه وهو كذلك. هذا وجه. وإن أراد قال لخصمه: سلّم، ثم يرد جواب سلاميهما، وهذا عندي سرفٌ، وإن ذكره القاضي، فإنَّ رد جواب السلام محمولٌ على ابتداء أحدهما بالسلام، وهذا مما لا يخفى ولا يُظهر ميلاً. ثم يسوّي بينهما في المجلس ولا يرفع أحدَهما على الثاني، وإن كانا متفاضلين إذا كانا مسلمين، أو ذميين، فإن كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن يسوّي بينهما لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي سوّ بين الخصمين في مجلسك ولَحْظك " ويروى " آس بين الخصمين " (1). هذا أحد الوجهين.

_ (1) حديث " يا علي سوَّ بين الخصمين في مجلسك ولحظك " ويروى " آس بين الخصمين ".=

والوجه الثاني - أنه يرفع المسلم على الذمي؛ فإنه لو سوّى بينهما، كان ذلك نوعَ مهانة واستذلال، وروي أن علياً كانت له خصومة مع ذمِّي، فرفعه إلى شريح، فلما دخل عليه، قام له شريح، فقال رضي الله عنه: " هذا أول جَوْرك "، ثم أسند عليٌّ ظهره إلى الجدار، وقال: " أما أن خصمي لو كان مسلماً، لجلست بجنبه " (1). ويسوّي القاضي بينهما في النظر، فلا يخصص أحدهما بالنظر، بل يُطرق، ولا ينظر، أو ينظر إليهما، ولا يتبسم في وجه واحد، ويتعبّس في وجه الآخر، ويجتنب على الجملة ما يشعر بتخصيصه أحدَ الخصمين بمكرمة، أو إقبال. 12004 - ثم إذا جلسا إليه، فلا بأس أن يقول: من الطالب منكما، أو من المدعي؟ فإذا ادعى المدعي، وصحّت دعواه، على ما سيأتي تصحيحُ الدعوى في كتابها، إن شاء الله، ثم هل يطلب الجواب من الخصم من غير أن يطلبه المدعي؟ فيه وجهان: أصحهما - أنه يطلب؛ فإن قرينة الحال قاطعة بأن المدعي مطالِب بالجواب،

_ = الحديث بهذا اللفظ في مخاطبة الإمام علي رضي الله عنه لم نصل إليه، وإنما وجدناه في ذلك قوله رضي الله عنه " نهى النبي أن نضيف الخصم إلا وخصمه معه " رواه عبد الرزاق في مصنفه (15291) وإسحاق بن راهويه في مسنده (إتحاف الخيرة المهرة: 6730) والطبراني في الأوسط (3934) والبيهقي في الكبرى (10/ 137). أما اللفظ الذي ذكره الإمام فقد ورد في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري المشهور، وفيه "وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك" رواه الدارقطني (4/ 206، 207) والبيهقي (10/ 135) وفي المعرفة (7/ 366 رقم 5873). وفي حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليسوِّ بينهم في النظر والمجلس والإشارة" وفي رواية " فليعدل في لحظه وإشارته ومقعده " رواه الدارقطني 4/ 205، وأبو يعلى (5867) و (6924) والطبراني في الكبير (23/ 284). (1) أثر علي من وجه آخر وفيه عمر بن شمر عن جابر الجعفي وهما ضعيفان، وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: لم أجد له إسناداً يثبت. ا. هـ ملخصاً من التلخيص الحبير (ر. البيهقي: 10/ 136، التلخيص: 4/ 355 ح2610، مشكل الوسيط لابن الصلاح، بهامش الوسيط (7/ 313).ي رضي الله عنه رواه أبو أحمد الحاكم في الكنى في ترجمة أبي سمير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي وقال: منكر، وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال: لا يصح، ورواه البيهق

ولا معنى للتطويل ومعاودة المدعي. والثاني - أنه لا يطلب الجواب ما لم يلتمس المدعي؛ فإن هذا حق المدعي، فلا يطلب دونه طلبه، ثم إذا طلب الجواب، فلا يخلو المدعى عليه أن يقرّ أو ينكر، فإن أقر، ثبت الحق إذا كان الإقرار صحيحاً، ولا حاجة بأن يقول القاضي: قضيت بإقراره - على المذهب الأصح. وقال بعض أصحابنا: الإقرار كالبيّنة المعدَّلة، وهذا ليس بشيء؛ فإن وراء التعديل وقفات، وتوقُّع رَيْب، فلا بد من قطعها بإظهار القضاء. وإن أنكر المدعى عليه، فالأصح أن القاضي يقول للمدعي ألك بيّنة؟ ومن أصحابنا من قال: لا يقول ذلك، فإنه من باب تلقين الحجة، وهذا ليس بشيء؛ فإن المدعي قد لا يعرف ترتيب الخصومة، ويتحيّر عن دَهَشٍ، ففي السكوت عنه إبطال حقه. فلو قال المدعي: لا بيّنة لي حاضرة، ثم أقام بعد ذلك بيّنة، سُمعت وفاقاً. فإن قال: لا بيّنة لي، لا غائبة، ولا حاضرة، ثم أقام بينة، فهل تسمع منه؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا تسمع، تمسكاً بقوله، والثاني - أنها تسمع؛ فإنه قد لا يعلم أن له بينة، ولو قال: لا بيّنة لي، فهو كما لو قال: لا بينة لي حاضرة، ولا غائبة، مع تخيل ترتيب. ولو سكت المدعى عليه- فإن كان عن عيٍّ وحصر، روجع، وإن أصر، كان ذلك كالإنكار، وسيعود هذا في كتاب الدعوى إن شاء الله. 12005 - ثم قال الشافعي: " ولا ينبغي أن يُضيّفَ الخصم ... إلى آخره " (1). قرىء يُضيف بضم الياء، وقرىء يَضيف بفتحها، ومعناه لا ينزل على الخصم ضيفاً، وقد ذكرنا هذا في الولائم، وبالجملة يجتنب من هذا ما يجر تهمة، أو يظهر ميلاً إلى خصم.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 245.

فصل قال: " ولا يقبل هدية ... إلى آخره " (1). 12006 - المستحب للقاضي أن يسد باب قبول الهدايا جملة، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً في الصدقات يقال له: ابن اللُّتْبية، فرجع بسواد كثير، فكان يُخرج البعضَ، ويقول: هذا للمسلمين، ويُخرج البعضَ ويقول: هذا لي أُهدي إليّ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بال أقوام نستعملهم على بعض ما ولاّنا الله تعالى، فيرجع الراجع بمالٍ، ويقول: هذا لي أهدي إلي، وهذا للمسلمين، هلاّ جلس في خفش أمه، ينظر هل يهدى إليه أم لا " (2) والخفش البيت الصغير. وقصة عمر في رِجْل الجزور معروفة (3). ثم قال الأصحاب: ينظر إلى المُهدي، فإن كانت له خصومة، فلا يحلّ قبول الهدية منه، وعلى هذا يحمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هدايا الأمراء سحت " (4) فإن قبل، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يملكه، وهذا معنى التحريم، ومن أصحابنا من قال: يملكه؛ فإن الهبة صدرت من مطلق، وكذلك القبول، والتحريم محمول على التعرض لللهمة بالأمر الظاهر، فالمِلْك بالإضافة إلى التحريم كالصلاة في الدار المغصوبة. وهذا الخلاف يقرب من تردد الأصحاب في أن من دخل عليه وقت الصلاة في

_ (1) السابق نفسه. (2) حديث ابن اللتبية وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام نستعملهم ... " متفق عليه (البخاري: الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، ح 6636، مسلم: الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، ح1832) هذا، وفي كل ما رأيناه من روايات الحديث "بيت أمه" مكان " خفش أمه ". (3) قصة عمر مع الرجل الذي أهداه فخذ جزور رواها البيهقي في سننه الكبرى: 10/ 138. (4) حديث "هدايا العمال سحت" قال الحافظ في التلخيص: رواه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أنس (ر. التلخيص الحبير: 4/ 349 ح2590).

السفر ومعه من الماء ما يكفيه لوضوئه، فوهبه ممن لا يحتاج إليه لسقيه، فهل يملكه؟ وقد قدمنا ذكر ذلك في كتاب الطهارة. وإن لم يكن للمهدي خصومة، فلا يخلو: إما أن يكون من بلد ولايته، وإما ألا يكون من ولايته، فإن لم يكن من ولايته نظر: إن كان يهدي إليه قبل أن ولي؟ فقبول الهدية قريب، إذا (1) اجتمع عدم الخصومة، وأنه ليس من ولايته واعتاد الإهداء قديماً، والمستحب الامتناع، وإذا قبل، مَلَك، وإن كان لا يُهدي إليه من قبلُ ولا خصومة، وليس هو من ولايته، فيكره القبول، وإذا قبل، مَلَك. والأَوْلى أن يُثيب، فإن لم يفعل وضع الهدية في بيت المال، وإن كان من بلد ولايته، وكان يهدي قديماً، فلا كراهية، والمستحب الامتناع. ولا يخفى ما بعده، وإن كان لا يهدي قديماً، وهو من أهل ولايته، ولا خصومة له، اشتدت الكراهية، والذي عليه الجريان أنه لو قبل، مَلَك. وقال القفال في بعض طرقه: إذا حرمنا قبول الهدية، وهو إذا كانت مع الخصومة، فلا يحصل الملك بالقبول. وإذا لم يكن خصومة- ولكن كان الرجل من أهل ولايته وما كان يعتاد الإهداء، ففي حصول الملك وجهان. هكذا قال، وإذا أجرى الوجهين قال على أحدهما: يحرم قبول الهدية لا محالة. والطريقة المشهورة للأصحاب أن الهدية إذا لم تكن في حالة الخصومة، فهي متملكة، ولا يطلق إلا الكراهية. وإن كانت في حالة الخصومة، قطعنا بالتحريم. وفي حصول الملك وجهان. فصل قال: " وإذا حضر مسافرون ومقيمون ... إلى آخره " (2) 12007 - إذا ازدحم على مجلسه مسافرون ومقيمون، فإن قلّ المسافرون وهم على

_ (1) إذا: بمعنى إذ. (2) ر. المختصر: 5/ 245.

وِفاز، وربما ينقطعون عن الرفاق لو أُخروا، فالأصح أن القاضي لو أراد تقديم المسافرين، ورآه رأياً، فله ذلك. وكذلك إذا حضرت النساء مع الرجال وخفّ أمرهن، بحيث لا يظهر من تقديمهن أثر وضرر، فللقاضي أن يقدمهن حتى ينقضي انكشافهن، ويتميّزن عن الرجال. فإن كثر المسافرون والنساء، وكان معظم الضرر على الرجال وأهل الحضر، فلا تقديم، والأمر مردود إلى القرعة إن استَووْا، وإن سبق بعضهم، فالسبق لمن سبق، وليس له بحق السبق أو القرعة أن يدّعي على خصم، ثم بعده على آخر، وإنما يستفيد بهذا خصومة واحدة مع شخص واحد. ولو أراد أن يدعي على خصم واحد دعويين أو ثلاثة قال القاضي: يحتمل ذلك وجهين، ومنشؤهما من تردد في كلام الشافعي واختلافٍ في كيفية قرائته. قال: " لا يسمع منه في مجلس إلا في حكم واحد " قراً بعضهم إلا في حكمٍ واحد مع التنوين، وموجَب هذا ألا يزيد على خصومة واحدة، وإن اتحد المدعى عليه كما لو تعدد المدعى عليه، وهذا هو القياس، ومنهم من قراً إلا في حكمِ واحدٍ على الإضافة من غير تنوين، ولا يبعد أن يفهم منه فصل خصومات مع شخص واحد. هذا بعيد. ثم لا مزيد على الثلاث. وهذا فتح باب لا أصل له، فالوجه ألا يزاد على خصومة واحدة بحق السبق والقرعة. ومن أصحابنا من يقول: لا يقدَّم مسافر ولا امرأة، وليس إلا اتباع السبق أو القرعة. وإذا استبق طلبة العلم، نُظر: فإن كان ذلك العلم مما لا يجب تعليمه، فالخيار إلى المعلم، وإن كان مما يجب تعليمه الناس فلو خصص به أقواماً فيهم غُنية، فهل يجوز له ذلك؟ فعلى وجهين، والأولى المنع من التخصيص؛ فإنه لا يدري من المفلح ومن المتخرج، فليقصد التعميم وإن كان لا يتأتى الجمع في التعلق، فإن أقدار الطلبة يوجب أن يخصصوا بما يليق بمناصبهم، فعند ذلك يقع السبق أو القرعة.

12008 - ثم قال: " ينبغي للإمام أن يجعل مع رزق القاضي شيئاً لقراطيسه "، والمراد بذلك أن تهيأ للحُجج التي يخلدها في ديوان القضاء قراطيسُ، فإن لم يفعل، فالقاضي لا يخرجها، ولكن يقول للخصم: إن أردت أن يتأكد حقك، فائْت بقرطاس أُثبت ما ثبت عندي لك عليه، وأتذكر إذا رجعتُ إليه، فإن لم تُرد، فلا عليك. 12009 - ثم أعاد الشافعي فصلاً من القضاء على الغائب. وقد مضى مفصلاً على أحسن مساق، والذي نجدده ههنا أنا ذكرنا أن من توارى وامتنع، نفذ القضاء عليه نفوذَه على الغائب، وقد ذكر القاضي هذا وارتضاه. وذكر معه وجهاً آخر أن القضاء لا ينفذ عليه ما لم يحضر مجلس الحكم، ثم قال: وهذا الاختلاف يضاهي اختلافَ الأصحاب في أن الممتنع عن أداء الثمن مع القدرة، هل يكون كالمفلس المحجور عليه حتى يرجعَ البائع في عين المبيع إن وجده، ويفسخَ العقد؟ فيه وجهان. ولذلك نظائر. ولو كان الخصم مريضاً، فالوجه أن يستخلِف من يحضُره (1) ويقضي عليه. 12010 - فأما المخدّرة، فنتكلم في وصفها، ثم في حكمها، فأما وصفها: قال (2) قائلون من الأصحاب: هي التي لا تعتاد التبذل بالخروج للحوائج، وإن كانت تخرج إلى العزايا والزيارات، فهذا لا ينتهى إلى التبذل، ولا يناقض التخدير. قال القاضي: الذي عندي أن المخدَّرة هي التي لا تخرج لحوائجها، ولا تخرج للزيارة والعزايا على اعتيادٍ، فلو خرجت على تردُّدٍ، لم يبطل تخديرها. والمخدَّرة عندنا هي التي لا تخرج إلا لضرورة، هذا وصفها. فأما حكمها؛ فقال قائلون: يحضُرها المستخلَف أو القاضي بنفسه، ولا يكلفُها حضورَ مجلس القضاء. فإن التبرج إذا لم يكن من عادتها يُلحق بها ضرراً عظيماً يزيد على ما يَلحق المريض لو تكلف الحضور.

_ (1) أي يستخلف القاضىِ نائباً عه يذهب إلى المريض حيث هو، فيسمع منه، ويسأله على حسب ترتيب الدعوى، فيكون حضور نائب القاضي ومستخلَفه عنده كحضوره هو إلى القاضي. (2) جواب أما بدون الفاء.

وسنذكر في الشهادة على الشهادة التقريبَ المعتبرَ في المرض الذي يتخلف شاهد الأصل بسببه عن مجلس الحكم، إن شاء الله. وقد ذهب الشيخ الققال إلى أن المخدَّرة تحضر مجلس الحكم كالبَرْزة، فإنها إذا كانت محمولة على هذا المعنى، لم يقدح خروجها في تخدُّرها، وإنما يخالف حالَها اختيارُ البروز في غير حاجة، وهذا متجه في القياس، وإن كان معظم الأصحاب على مخالفته. 12011 - ولو كان المدعى عليه غائباً على مسافة العدوى، استعدى عليه الحاكم إذا طلب خصمُه، كما مضى، ولو كان على مسافة القصر، لم يكلفه الحضور بمجرد دعوى المدعي، ولو كان على مسافة قاصرةٍ عن مسافة القصر زائدةٍ على مسافة العدوى، فظاهر المذهب أنه لا يستحضره بمجرد الدعوى، ما لم يُقم الخصم بينة. ومن أصحابنا من قال: يُحضره بمجرد الدعوى، وهذا لم أذكره فيما سبق، فأعدته لهذا. والله أعلم. فرع: 12012 - إذا سبق إلى مجلس الحاكم رجلان، فابتدر أحدهما وادعى، فقال الثاني: بادرتَ بالدعوى، وكنت أنا المدعي، فالقاضي يقول له: اخرج عن عهدة الدعوى، ثم ادّع، ولو أنشآ دعويين معاً؛ فقد ذكر صاحب التقريب في ذلك مذاهب، حكاها عن العلماء، ولم يعزُها إلى الأصحاب فقال: منهم من قال: من كان له بيّنة منهما، فهو المدَّعي، ومنهم من قال: يقدِّم القاضي من شاء منهما، ومنهم من قال: يطردهما، حتى يتوافقا على من يبدأ بالدعوى، أو يسبق أحدهما في مجلس آخر، ومنهم من قال: يُقرع بينهما. قال العراقيون: مذهبنا أنه يقرع بينهما، والأمر عندنا على ما ذكروه، فلا يستدّ على قياسنا إلا الإقراع، وما سواه من المذاهب متروكةٌ على القائلين بها، غيرُ معدودة من المذهب إلا ما حكاه العراقيون. ***

ثم قال: " وإذا علم من رجل بإقراره أو بيقين أنه شهد بزورٍ ... إلى آخره " (1). 12013 - إذا ظهر للقاضي أن رجلاً شهد بزور، وتبين أنه اعتمد الكذب، ولم يكن ما جاء به عن عثرةٍ، ابتدره وعزّره على ما تقدمت مراتب التعزير، ثم ينبغي أن يبعثه إلى مجتمع الناس، كالمسجد الجامع وغيره، حتى يُنادَى عليه ويشاعَ عنه ما فعل، ويُحذر الناس من تحميله الشهادة. فصل قال المزني: " واختلف قوله في الخصم يقر عند القاضي ... إلى آخره " (2). 12014 - مضمون الفصل الكلامُ في أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ وفيه قولان للشافعي: أحدهما - أنه يقضي، قال في الرسالة: " وأقضي بعلمي، وهو أقوى من شاهدين، وبشاهدين، أو شاهدٍ وامرأتين، وهو أقوى من شاهد ويمين، وبشاهد ويمين، وهو أقوى من النكول ورد اليمين ". ووجه [هذا] (3) القول أن القاضي إذا كان يسند قضاءه إلى ظنون يستفيدها من قول الشهود، أو يمين المدعي، فلأن يُسندَه إلى يقين نفسه أولى. والقول الثاني - أنه لا يقضي بعلمه؛ لأن ذلك فتحُ بابٍ لتطرق التهم إلى القضاة، ولا يليق بقاعدة الإيالة فتحُ ذلك، فإن القاضي إذا قضى بعلمه، ولم يكن ممن يراجِع أو يستفصل، أوْغر ذلك الصدور [وأبهم] (4) الأمور، والتعرض لمثل ذلك محذور. وقال الربيع: كان الشافعي يرى القضاء بالعلم، وكان لا يبوح به لقضاة السوء. ثم إذا جوزنا له أن يقضى بعلمه، [فنعني] (5) بذلك ما يستيقنه لا ما يظنه، وإن

_ (1) ر. المختصر: 5/ 246. (2) ر. المختصر: 5/ 246. (3) زيادة اقتضاها السياق. ثم جاءت بها (ق). (4) في الأصل: "أوهم". (5) في الأصل: "فتعين".

غلب ظنه؛ فإن للظنون مآخذَ لا تسند إلى غيرها ثم لا فرق بين أن يعلم في مكان ولايته وزمانها، وبين العلم الذي يحصل له في غير مكان الولاية وزمانها، خلافاً لأبي حنيفة (1) رضي الله عنه، فإنه جوّز أن يقضي بعلمٍ يستفيده في مكان الولاية وزمانها دون غيره. والذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن القاضي يقضي بعلمه قولاً واحداً في تعديل الشهود، [كما] (2) قدمناه في فصل التزكية. وأبعد بعض الأصحاب، وقال: لا يفعل ذلك، بل يُسند الأمرَ إلى تزكية المزكين قياساً على غيره، وهذا القائل يقول: تعديله لا يستند إلى علم. فإذا كنا نمنع القضاء بما يستيقنه، كيف يجوزالحكم بما يظنه؟ ولم يختلف علماؤنا في أن القاضي يمتنع عن القضاء بناءً على علمه (3). وبيانه أنه إذا شهد شاهدان على زوجيّةٍ، وعلم القاضي أن بين المدعي بها وبين المرأة محرمية، فلا يبالي بشهادة الشهود. وكذا إذا شهد شهود على موت إنسان بتأريخ ذكروه، وعلم القاضي أنه كان حياً في ذلك الزمان، فلا يقضي بشهادة الشهود؛ فإنه إذا كان يتوقف في القضاء لريبة تلحق الشهود، فكيف يستجيز القضاء بها، وهو يستيقن الكذب عمداً منهم أو خطأ. ثم قال الأئمة: إذا امتنع، فحسنٌ أن يذكر ما عنده، وذلك أنفى للتهم. ثم اختلف طرق أئمتنا: فالذي ذهب إليه الأكثرون ترتيبٌ نسوقه. وذلك أنهم قالوا: القولان في القضاء بالعلم فيما يتعلق بالأموال، وألحقوا بذلك الأموالَ الثابتة لله كالزكوات، والقضاءُ بالعلم في العقوبات مرتب على الأموال، والأولى أن لا يقضي فيها بالعلم. ثم العقوبات تنقسم: فمنها ما هو لله، ومنها ما هو للآدميّ. والقضاء بما هو للآدمي أولى، ولا يخفى وجه الترتيب، فإن العقوبة الثابتة للآدمي بالإقرار لا تسقط بالرجوع، بخلاف العقوبة الواجبة لله تعالى. هذه طريقة.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 332، بدائع الصنائع: 7/ 7، حاشية ابن عابدين: 5/ 23. (2) زيادة من (ق). (3) الامتناع عن القضاء بناءً على علمه محل اتفاق، وإنما الخلاف هو في الحُكم بناء على علمه.

ومن أصحابنا من لم ير الترتيب، لأن العلم لا ترتب فيه. وإنما تترتب الظنون على حسب ترتب درجات المظنون. وهذا وإن كان متجهاً، فالطريقة المشهورة الترتيب. 12015 - ومن تمام القول في ذلك أن القاضي إذا سمع إقرار إنسان سرّاً، ثم إنه أبدى الإنكار جهراً، فهذا من صور القضاء بالعلم، ولو أقر في مجلس القضاء على رؤوس الأشهاد، فلا شك أنه يقضى بالإقرار، قولاً واحداً؛ فإن الإقرار في مجلس القضاء حجةٌ ظاهرة. وذكر بعض أصحابنا أن الإقرار الذي سمعه سراً يقضى به قولاً واحداً؛ لأنه حجة، وجملةُ مجالس القاضي بمثابة [مجلسه] (1) الذي يتصدى فيه للقضاء. وهذا بعيد، فالوجه التفصيل، فإنا إذا منعنا من القضاء بالعلم، فسببه توقِّي اللهم، وهذا يتحقق في الإقرار الجاري سراً. ومن تمام البيان في ذلك أنا إذا منعنا القضاء بالعلم، فهل يصير علم القاضي مع شاهد واحد بمثابة شاهد ينضم إلى شاهد؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما - أنه لا ينحط علمه عن شاهد. والثاني - وهو القياس- أنه لا أثر لعلمه، ولا اعتداد بعلمه؛ إذ لو اعتددنا به، لاقتصرنا عليه، وأيضاً؛ فإن اللهمة هي المجتنبة، وهي تظهر عند القضاء بالشاهد الواحد. فصل في التحكيم 12016 - إذا حكّم رجلان رجلاً، فهل ينفذ حكمُه بينهما في الأموال؟ فيه قولان، والنكاح مرتب عليه؛ وهو أولى بألا يجوز، والعقوبات مرتبة على النكاح؛ ولا يخفى وجه ترتيبه. واختلف الأصحاب في محل القولين: فمنهم من قال: إذا كان في البلد قاض، لم

_ (1) في الأصل: "مجلس".

يجز التحكيم قولاً واحداً، وإن لم يكن، ففي المسألة قولان. وقال آخرون: إن لم يكن في البلد قاض، جاز التحكيم قولاً واحداً، وإن كان في البلد قاض، ففي المسألة قولان. ومن أصحابنا من طرد القولين في الموضعين. والكلام في حقيقة هذا الفصل قد يتصل طرف منه بما لا يسوغ الخوض فيه، وهو إذا شغر الزمان عن إمام، فكيف الوجه في الأحكام المتعلقة بالولاة؟ ولا يليق ذكر ذلك بفن الفقه. وقد استقصينا ما فيه مَقْنع في الكتاب المترجم (بالغياثي) (1). 12017 - ثم يُشترط أن يكون المحكَّم ممن تقبل فتواه، ويضم إلى ذلك اشتراط حريته وذكورته، والقول الوجيز فيه أنا نشنرط أن يكون [بحيث] (2) يسوغ من صاحب الأمر أن ينصبه قاضياً. ثم لا بد في تحكيمه من رضا الخصمين، ونزولهما جميعاً على حكمه، فلو تعلّق [الحكم] (3) بثالث لم يصدر منه الرضا والتحكيم، فحكم المحكّم لا ينفذ عليه، ثم إذا رضي الخصماًن بحكمه ابتداء، فأنشأه، فهل نشترط استفتاح رضىً بعد الحكم؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه لا بد من ذلك، وبه يحصل الالتزام التام، ولو رضيا، ثم رجع أحدهما قبل أن يتم حكمه، لم ينفذ حكمه وفاقاً، وإنما الخلاف فيه إذا استمرا على الرضا حتى حكم، ولم يجددا رضاً. هذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: إذا رضيا أولاً، ثم لما خاض، رجع أحدهما، لم يؤثِّر رجوعُه، ونفذ الحكم، وهذا بعيد. ولو رضيا، ثم رجع أحدهما قبل أن ينشىء الخوضَ، فلا وجه إلا إبطالُ الحكم، وفيه شيء، ولا تخفى المراتب الثلاث التي أشرنا إليها، فليرتب الناظر البعض منها على البعض. 12018 - ولو تحاكم رجلان في دعوى قتل خطأ، فأقام المدعي بينة على دعواه،

_ (1) راجع كلام الإمام حيث يشير، فإنه كلام نفيس معجب، تجده في الفقرات من 551 إلى 563 من (الغياثي) وكان من فضل الله علينا أن أعاننا على تحقيقه وإخراجه في صورة بهيّة نالت إعجاب شيوخنا وأساتذتنا، فالحمد لله أولاً وآخراً. (2) زيادة اقتضاها السياق. ثم وجدناها في (ق). (3) في الأصل: " الحاكم ".

وحكم المحكّم، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في أن الدية هل تضرب على عاقلة المدعى عليه، والوجه عندي ألا تُضربَ عليهم؛ فإنه لم يوجد منهم الرضا بحكم المحكّم. ولو أقر المدعى عليه، لم تتحمل العاقلة ما أقرّ به، ما لم يصدّقوه، ثم المحكّم لا يهيء -على المذهب الظاهر- حَبْساً؛ فإنه إن فعل ذلك، فقد ضاهى القاضي؛ وليس إليه إلا إثبات الحكم فحسب. وأبعد بعض الأصحاب، فجوّز ما منعناه. وكان شيخي يقول: ليس إليه استيفاء العقوبات، وإنما إليه إثباتها؛ فإن إقامتها استقلالٌ عظيم وخرمٌ لأبهة الولاية. والصحيح عندنا ما ذكره، والعلم عند الله تعالى. فصل قال: " وأحب للإمام إذا ولّى القضاء رجلاً ... إلى آخره " (1). 12019 - الإمام إذا كان يولّي رجلاً القضاء، فينبغي أن يتخير من يصلح له، ويستجمع الشرائط المرعية، وهي: أن يكون مفتياً حراً ذكراً، ولم نذكر المجتهد؛ فإن الفاسق مجتهد، واجتهاده نافذ عليه فيما عليه وله، ولكن لا تقبل فتواه، والكلام في صفات الاجتهاد يطلب في الأصول، والذي أراه أن يضم إلى ما ذكرناه الكفايةُ اللائقة بالقضاء، وهي عبارة عن التشمير والاستقلال بالأمر، ومواتاةِ النفس على الجد فيما إليه، وهذا يضاهي من صفات الإمام النجدةَ. وهل يجوز أن يكون القاضي أمياً؟ فيه اختلاف ذكره العراقيون وقد أشرت إليه فيما تقدم. 12020 - ثم قال الشافعي: " إذا ولّى الإمام رجلاً القضاء، فالأولى أن يوليَه الاستخلاف، فإن الحاجة تمَسّ إليه في عوائقَ تطرأ ومرضاةٍ تعرض " (2). فإن نهاه عن الاستخلاف، لم يستخلف، ولم يخالف، ولو أطلق توليته، ولم يتعرض

_ (1) ر. المختصر: 5/ 246. (2) هذا معنى كلام الشافعي، وليس لفظه ومنطوقه.

للاستخلاف إذناً فيه، ولا نهياً عنه، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يستخلف؛ فإنه لم يفوض إليه الاستخلاف. والثاني - أنه يستخلف؛ فإنه والٍ، وليس مستناباً، وهذا متجه لولا الوفاق على أنه إذا نُهي لم يستخلف. والوجه الثالث -ذكره الإصطخري- وهو أن خِطة الولاية لو اتسعت بحيث لا يتأتى منه الاستقلالُ فيها بنفسه، فله الاستخلاف؛ فإن مطلقَ توليتِه في مثل هذه الخِطة يُشعر بذلك، وإن كان مستقلاً بما [فُوِّض] (1) إليه لم يستخلف، وقد ذكرنا لهذا نظيراً في توكيل الوكيل. ثم حيث يَستخلِف، إن أقام غيره مقام نفسه من التصدي لأركان القضاء، فيُشترط في خليفته من الاجتهاد [وغيره] (2) ما يُشترط فيه، وإن كان يستخلف في آحاد الأركان، فقد لا يُشترط الاجتهاد، بل يكتفى بالاستقلال بذلك الركن المفوض إليه، وهذا كاستخلافه من يحضر موضعاً [لتعيين الشهود بذلك] (3) الموضع، أو كنصبه حاكماً في التزكية، أو ما جرى هذا المجرى، والاجتهاد إنما يشترط فيمن يستقل بالحكم والإمضاء، وكان شيخي يجوّز قصور حكام النواحي عن الاجتهاد إذا لم يفوض إليهم إمضاءَ الحكم، وإنما فوّض إليهم سماعَ البيّنات، وهذا يُحْوِج إلى حظ صالح من الفقه. فصل في العزل وما يوجب الانعزال 12021 - إذا أراد الإمام أن يعزل قاضياً -مع صلاحه للقضاء- فإن رابه منه أمر، نفذ العزل -وإن لم يتحققه- إذا حصل الظن الغالب.

_ (1) في الأصل: " فرض ". (2) في الأصل: " وتخيره ". (3) في الأصل: " لتعين الشهود ". والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط، ونصها: " وإن فوّض إليه تعيين الشهود أو التزكية أو شغلاً معيناً من هذا الجنس فلا يشترط إلا هداية ذلك الفن ".

وإن لم يظن به إلا الخير، فقد قال الأصحاب: إن عزله بمن هو فوقه، نفذ العزل، وإن عزله بمن هو دونه في الصلاح للأمر، لم ينفذ العزل في ظاهر المذهب، وإن عزله بمن هو في مستواه، فعلى وجهين، هكذا رتبه القاضي. وإطلاق هذا الكلام على هذا النسق غفلة عما يُرعى في هذا الباب. فنقول أولاً: حقٌّ على الإمام ألا يُصدر شيئاً من أمور المسلمين إلا عن رأي ثاقب، ونظر في المصالح، وتأكُّدُ هذا المعنى على قدر الخطر فيما يأتي ويذر، فينبغي أن يوفي كلَّ شيء حظَّه من النظر، وهذا يطَّرد في العزل والتولية، فإن عزل شخصاً [بمن] (1) هو دونه لمصلحةٍ، وهي أن يرى الأصلح أولى لشغلٍ أهمَّ مما هو فيه، فهذا ينفذ، ويجب القطع به، ولا يسوغ تقدير خلافٍ فيه. وإن فُرض منه عزلٌ مطلق، فلا اعتراض عليه، إذا كان يتطرق إليه إمكان النظر، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف. وإن رددنا الكلام إليه في نفسه، وقلنا: يصدر عزلُه والياً عن نظرٍ، فهل ينفذ ذلك؟ فهذا مما تردد فيه بعض الناس المنتمين إلى الأصول. والذي أقطع به أنه ينفذ. ولكن يتعرض صاحب الأمر بترك الأصلح لخطر المأثم، ولو لم نقل هذا، لرددنا حكم من ولاّه ثانياً، وهذا يجر خبلاً عظيماً، ولست ألتزم الخوض فيه؛ فإنه من غمرات أحكام الإمامة. ولو عزل القاضي نفسه، انعزل، وهذا يتعلق أيضاً بطرفٍ عظيم من الإمامة، وخلعِ الإمام نفسَه، فلا نتعرض له، ونكتفي بالقدر الذي ذكرناه. 12022 - فأما القول فيما ينعزل به القاضي، فأجمعُ كلامٍ فيه أن نقول: كل طارىء عليه يمنع من ابتداء التولية فإنه يوجب انقطاع التصرف بالولاية، كنسيانٍ يطرأ، ويُخل بالاجتهاد، أو الجنون، وهذا لو فرض في الإمام لم نخض فيه أيضاً، وفي فسق الإمام كلام مُخْطِر. فأما فسق القاضي، فيوجب صرفَه، وهل ينعزل بنفسه؟ قطع فقهاؤنا المعتبرون بانعزاله من غير حاجة إلى إنشاء عزل، وقال بعض الأصوليين من علمائنا: لا ينعزل، بل يُعزل، وينفذ من أحكامه ما يوافق الشرع.

_ (1) في الأصل: " ممن ".

ثم إذا جُنّ القاضي، ثم استبلّ، فهل هو على القضاء؟ فيه اختلاف مشهور بين الفقهاء: منهم من قال: قد انعزل بالجنون، كالوكيل يجن، ومنهم من قال: إذا استبلّ، فهو على ما كان عليه؛ فإنه متصدٍّ للولاية؛ فلا يقاس بالاستنابة الضعيفة. والوجه الحكم بالانعزال؛ لأن تلك الولاية جائزة من جهة أنه يملك عزل نفسه. والإمام -على الرأي الظاهر- يعزله أيضاً. 12023 - ولو عزل الإمامُ القاضي؛ ففي انعزاله قبل بلوغ الخبر طريقان للأصحاب: منهم من قال: فيه قولان كالقولين في انعزال الوكيل قبل بلوغه خبر العزل. ومنهم من قال: لا ينعزل القاضي قبل بلوغ الخبر، قولاً واحداً؛ فإن الأمر في ذلك مُخطر، وتتبّع الأحكام التي أمضاها عسر، والأولى بالإمام أن يعلّق انعزاله ببلوغ الخبر، فيقول في كتابه: " إذا وقفتَ على كتابي، فأنت معزول ". ولو قال: " إذا قرأت كتابي، فأنت معزول " فلم يقرأه بنفسه، وقرىء عليه، قال الصيدلاني: ينعزل، وجهاً واحداً. وقد ذكرنا في مسائل الطلاق تفصيلاً في ذلك، فرامَ الفرق بينهما؛ صائراً إلى أن تفاصيلَ الصفات مرعيةٌ في تعليق الطلاق، فإن ذكرنا خلافاً في صورةٍ، فسببه هذا، وأمر العزل يُرعى فيه الإعلامُ، ولا يردّد على دقائق الصفات، فإنّ قَصْدَ الإمام هذا، والقصد أغلب من صيغة اللفظ. ولو راعى الإمام غير الإعلام في ذلك، لكان في مقام العابث. هذا كلامُه، وهو حسن، ولكن اتفق الأصحاب على التسوية بين هذا وبين الطلاق في الخلاف والوفاق. 12024 - ومما يتصل بهذا الفن أن القاضي إذا عُزل، أو انعزل، أو مات، وله مستخلفون، فكل من كان في أمرٍ جزئي لا يستقل، كمن يُصغي إلى شهادةٍ في خصومة معينة، فإنه ينعزل، ومن كان في أمر مستقل كمستخلَف بحكمٍ، أو قيّم في مال طفل، فحاصل ما ذكره الأصحاب في انعزال هؤلاء ثلاثة أوجه: أحدها - أنهم ينعزلون؛ فإنهم فروع من ولاّهم. والثاني - لا ينعزلون، فإنهم ولاة بأنفسهم.

والثالث - أن القاضي لو استخلفهم بالإذن، لم ينعزلوا، وكأنهم منصوبون من جهة الإمام، والقاضي واسطة في توليتهم. وإن ملّكنا القاضيَ الاستخلافَ من غير إذنٍ صريح فيه، فإذا انعزل، انعزل مستخلَفوه؛ فصلنهم تفرعوا عليه حقاً في هذه الصورة. وهذا التفصيل تخييل؛ فإنّا إذا ملّكناه الاستخلاف فصَدَرُه عن الإمام أيضاً. ولو مات الإمام، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب القطع بأنه لا ينعزل ولاتُه، بخلاف خلفاء القاضي، فإنا لو حكمنا بانعزالهم، لتفاقم الأمر وعظُم الخطب (1)، وشغَرَت الخِطة عن أحكام الحكام إلى أن يظهر إمامٌ، وتوليةٌ من جهته. ومن الفقهاء من طرد الخلاف في ولاة الإمام، وهذا بعيد. 12025 - ومما يليق بهذا المنتهى أن القاضي إذا عُزل، فلو قال: قد كنت قضيت لفلان، لم يُقبل قوله، كالوكيل إذا انعزل، ثم أقر بتصرفٍ قَبْل الانعزال، فقوله مردود، ولو قال القاضي في زمان الولاية: قد قضيت لفلانٍ مُخبراً، فقوله مقبول، كالوكيل يقر في زمان الوكالة، ولا يُحوَج القاضي إلى إثبات ما أخبر عنه ببيّنة -وإن منعنا القضاء بالعلم- وهذا متفق عليه؛ ولو أُحْوج إلى البينة، فعند من يقيمها؟! ولو شهد عدلان على قضاء القاضي بعد العزل: ثبت قضاؤه بالبينة، ولو شهد شاهد واحد، وانتصب القاضي المعزول شاهداً ثانياً على قضاء نفسه؛ فالذي ذهب إليه الأصحاب أن قوله مردود، وقال الأصطخري- فيما حكاه العراقيون: شهاته على قضاء نفسه مقبولة كشهادة المرضعة، فإنها تشهد على إرضاع نفسها، فتقبل شهاتها. فإن جرينا على ما هو المذهب، ورددنا شهاته [مع شاهدٍ] (2)، فقال: أشهد أنه قضى لفلان قاضٍ عدل ولم يسمّه، ففي قبول الشهادة على هذا الوجه وجهان- ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن ذلك ممتنع؛ فإن الظاهر أنه يعني نفسه ويشبّب بها [والثاني -

_ (1) بين السطور إشارة إلى أنه في نسخة أخرى: الخطر بدلاً من الخطب. (2) تقدير من المحقق على ضوء السياق بمساعدة ما بقي من خيالات الحروف. ونحمد الله فقد صدقتنا (ق).

يقبل؛ كما لو] (1) شهد عدلان -لم يقضيا قط- على قضاء قاضٍ، من غيرتسمية وتعيين، فظاهر المذهب قبول ذلك. فرع: 12026 - إذا ولّى الإمام رجلاً القضاءَ، وعزل من كان قبله، فجاء إلى مجلس القاضي [رجل] (2) وادعى أنه ارتشى منه، فالجديدُ يُعدي على المعزول، ويفصل الخصومةَ بينهما. فأما إذا ادّعى أنه ترك الصواب في خصومة، وقضى بشهادة عبدين، أو مُعْلِنين بالفسق، فهل يقبل القاضي الجديد هذه الدعوى؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يقبل، ولا يستحضر المعزول لذلك. وهذا ليس بشيء، والوجه القطع باستحضاره، والبحثُ عن حقيقة الحال، ثم إذا أحضره، ولم يُقِم المدعي بيّنةً، فقال: حلّف لي هذا القاضي، فهل يحلّفه؟ ذكروا فيه وجهين أيضاً؛ فإن أقصى درجات المعزول أن يكون مؤتمناً، والمؤتمن يحلّف. والثاني - لا يحلَّف، فإنه ليس يدعي عليه مالاً، وقد ذكر صاحب التقربب هذا الخلاف، وزاد، فقال: من أصحابنا من قال: الدعوى مسموعة على الإطلاق، ثم فرّع المذهب كما مضى. ومنهم من قال: لا تسمع الدعوى حتى يقول: أخذ مني المال ظلماً. والقول في ذلك [تمهد. ثم قد ذكرنا] (3) الرجوعَ عن الشهادة، وأنهم يُغرّمون إذا رجعوا، والقاضي إذا رجع هل يُغرّم؟ وسيأتي هذا في كتاب الشهادات، إن شاء الله. فصل قال: " وكل ما حكم به لنفسه ... إلى آخره " (4). 12027 - سيأتي أن شهادة الإنسان لولده مردودة، فقال الأصحاب: قضاؤه له بمثابة شهاته له.

_ (1) مكان كلمات انمحت تماماً، وقدرناها على ضوء السياق. وهي مطموسة في (ق). (2) اختيار من المحقق مكان كلمة ذهبت تماماً. ثم صدقتنا نسخة (ق). (3) في الأصل: " والقول في ذلك تم بذكرنا الرجوع عن الشهادة " والمثبت من تصرّف المحقق. ثم جاءت (ق) بمثل عبارة الأصل. (4) ر. المختصر: 5/ 246.

والأصح تفصيل ذلك، فنقول: قضاؤه له بعلمه مردود -وإن جوّزنا القضاء بالعلم - قياساً على الشهادة، فأما إذا قضى له ببيّنة، ففيه وجهان، وقضاء القاضي على عدوه كشهادته على عدوه، فالوجه عندنا الفصل بين القضاء بالعلم والقضاء بالبيّنة، على الترتيب الذي ذكرناه. ولو منعنا قضاء القاضي لولده، فلو سمع البيّنة له، وفوّض القضاء إلى غيره، ففي المسألة وجهان. هكذا رتّبه الأصحاب. والوجه عندي أن يقال: لا ينفذ تعديلُه البيّنةَ فيما يتعلق بولده، وكذلك إذا كان هو الناقل، فلا مساغ له وإن نقل الشهادة شاهدان عدلان عن الشاهدين الأصليين. فرع: 12028 - ذكر صاحب التقريب في أثناء كلامه أن القاضي الصارف إذا كان يحاسب الأمناء والأوصياء، فذكر بعضهم أن القاضي [المصروف] (1) فرض له أجراً من المال، فإن أقام على ذلك بيّنة، وكان ذلك قدرَ أجر مثله، وفّاه القاضي الصارف ذلك. وإن صدّقه القاضي المعزول، فلا حكم لتصديقه، كما تقدم ذلك. ولو ادعى أجراً كما وصفناه، ولم يُقِم بينةً، وكان الذي ادعاه أجر مثله، فهل يقبل قوله في ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - يُقبل، فيحلّفه ويوفّيه، ووجهه أن عمله متقوَّم، فلا ينبغي أن يُبْنَى الأمرُ على تضييعه، وهذا يلتفت على أن من استعمل غيره، ولم يذكر له أجراً، فهل يستحق إذا عمل الأجر؟ فيه خلاف مذكور. والوجه الثاني - أنه لا يقبل قوله حتى يقيم البيّنة. فرع: 12029 - إذا ادعى قوم حقوقاً على رجل، فذكر كل واحد ديناً، ووكلوا بحقوقهم وكيلاً واحداً ليخاصم عنهم، فإن لم يرضَوْا بأن يحلّفه يميناًً واحدة، فلا بد وأن يحلف في حق كل واحد منهم يميناً، وإن رضُوا بأن يحلّفه القاضي يميناً واحدة في حق جميعهم مشتملاً على نفي دعاويهم، فهل يقتصر القاضي على يمين واحدة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقتصر على يمين واحدة؛ فإن الأيمان حقوقُهم، فإذا رضوا، وجب القضاء على حكمهم.

_ (1) زيادة للإيضاح.

والوجه الثاني - أن ذلك لا يجوز؛ فإن الخصومات متعددة، واليمين جارية في كل خصومة، فالاكتفاء بيمين واحدة يُغيّر نَظْم الخصومات، وهذا بمثابة الاكتفاء بشاهد واحد، فالمدعَى عليه لو اكتفى (1) ولم يُقر، فليس للقاضي أن يقضي بشهادة الواحد، وكذلك القول في جملة أركان الخصومة واليمين منها، والله أعلم بالصواب. ...

_ (1) المعنى: لو رضي المدعى عليه أن يحكم عليه بشاهدٍ واحد، فلا يحق للقاضي أن يقضي عليه.

باب اختلاف الحكام والشهادات

باب اختلاف الحكام والشهادات قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ... إلى آخره " (1). 12030 - الإشهاد في البيوع وغيرها من العقود محثوث عليه، لقَطْع توقّع الجحود، وليس حتماً، فلا يجب الإشهاد إلا على عقد النكاح، وفي الرجعة قولان. وأوجب داود الإشهاد، واستدل عليه بأن قال: " أثبت الله الإشهادَ، وأثبت الرُّهنَ (2) المقبوضة، إذا تعذر الإشهاد بدلاً في الاحتياط عن الإشهاد " (3) ثم الرَّهنُ لا يجب وإن تعذّر الإشهاد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى بعضٌ دماءَ بعض وأموالَهم، ولكن البيّنة على المدير واليمين على من أنكر " (4)، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع أعرابياً فرساً، فجحد الأعرابي الثمن، بقول بعض المنافقين، وجعل يقول: ائت بشاهدك يا محمد إن كان لك شاهد، فشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خُزيمةُ بن ثابت الأنصاري فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لِم تشهد لي، ولم تحضر بيعنا؟ قال: إني أصدقك في أخبار السماء، أفلا

_ (1) ر. المختصر: 5/ 246. (2) الرُّهُن: بالضم جمع رهان (المصباح). (3) ر. المحلّى: 8/ 344. (4) حديث " لو أعطي الناس بدعاويهم .. " متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنه، ولفظه: " لو يُعطى الناس بدعواهم .. " (ر. اللؤلؤ والمرجان: الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه، ح 1113).

أصدقك على هذا الأعرابي؟ فقال له: أنت ذو الشهادتين " (1) فكان خزيمةُ بعد ذلك يشهد عند الخلفاء، فيقضون بشهاته وحده. وأصل الشهادة مُجمع عليه. ...

_ (1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم " بايع أعرابياً فرساً فجحد الأعرابي الثمن ... فشهد له خزيمة ... " رواه أبو داود، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي (ر. أبو داود: الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز أن يحكم به، ح 3607، المستدرك: 2/ 18، البيهقي: 10/ 146).

باب عدة الشهود وحيث لا يجوز النساء

باب عدّة الشهود وحيث لا يجوز النساء قال الشافعي رضي الله عنه: " دلّ الله على أن لا يجوز في الزنا أقلُّ من أربعة ... إلى آخره " (1). 12031 - قال الأئمة: القضايا على خمسة أضرب: المرتبة العليا منها يشترط فيها البيّنة الكاملة، [وهي] (2) أربعةٌ من الشهود الذكور، وهي الزنا، واللواطُ في معناه؛ إذا أوجبنا الحد فيه، وإن لم نوجب -على قول بعيد- فهل يشترط في ثبوته الأربعة؟ على قولين، قدمنا ذكرهما. قال الله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] وقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور: 13]، وقصة أبي بكرةَ مشهورة. ومقدار حاجتنا منها أن أبا بكرة كان في غرفةٍ له مع جماعةٍ منهم: نافع، ونُفَيع، وزياد، وكان المغيرة بن شعبة في غرفةٍ له بحذاء القوم، وكان أسبل ستراً، فهبّت ريحٌ، ورفعت الستر، فوقع بصر القوم عليه وهو جالس على بطن امرأةٍ [يخالطها] (3)، فجاء أبو بكرة والقوم معه إلى عمر، وشهد أبو بكرة ونافع ونفيع وجزموا شهاداتهم، فبقي زياد، واختلفت الرواية: فروي أن عمر قال له: " أرى وجه رجل أَرْيَحيّ لا يفضح الله على لسانه واحداً من أصحاب نبيّه عليه السلام، وفي بعض الروايات أنه أغلظ له القول، فقال: يا سَلْحَ (4) الغراب بم تشهد؟ فقال: رأيتُ نَفَساً يعلو، واستاً ينبو، ورأيتهما يضطربان في لحاف،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 246. (2) مكان كلمة انمحت تماماً. (3) في الأصل: " يخالط لها ". (4) ضبطت في الأصل: بكسر السين. والسَّلْح معروف.

ورجلاها على عاتقه كأنهما أذنا حمار وما رأيت أكثر من ذلك، فقال: الله أكبر، ودرأ الحد " (1). وللإمام أن يفعل مثلَ ذلك في حدود الله، فيسعى في الدرء جهده قبل ثبوته، ويشهد لذلك قصة ماعز، وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، وقال لمن حُمل إلى مجلسه بتهمة السرقة: " ما إخالك سرقت، الحديث " (2). والإقرار بالزنا لا يشترط فيه العدد، كما تقدم في موضعه، وهل يثبت بشهادة رجلين، أم لا بد من أربعة؟ فعلى قولين مشهورين تقدما. وليس للإنسان أن يشهد على الزنا بمخايل الأحوال وقرائنها، وإن غلبت على الظن، أو قربت من اليقين، بل يشهد إذا رأى ذلك منه في ذلك منها كالمِرْود في المُكْحُلَة، ثم لا بد من التصريح في لفظ الشهادة. كما سيأتي إن شاء الله هذا الفن في أثناء الكلام. وما ذكرناه كناياتٌ لا يكتفى بها من الشاهد على الزنا. 12032 - وهل يجوز للشهود تعمُّدُ النظر إلى سوءة الرجل والمرأة، ليشهدوا على الزنا، أم يحرم ذلك عليهم؟ وإنما يشهدون إذا وقع بصرهم على ذلك وفاقاً؟ ذكر العراقيون وجهين في ذلك: أحدهما - أنه يجوز تعمد النظر لإقامة الشهادة. والثاني - لا يجوز؛ فإنا مأمورون بالستر جهدنا، منهيون عن التجسس. وكل ما يقبل فيه شهادة النسوة على التجرد، وهو مما لا يطّلع عليه الرجال منهن غالباً، فهل للرجال تعمد النظر إلى تلك المواضع لتحمل الشهادة إذا مست الحاجة إليها؟ ذكروا في ذلك وجهين، ثم جمعوا تحمل الشهادة على الزنا إلى تحمل الشهادة [على] (3) بواطن النساء، وطردوا فيهما طريقين: قالوا: من أصحابنا من قال: لا يحل تعمد النظر لتحمل شهادة الزنا وجهاً واحداً، وفي جواز تعمد النظر إلى بواطن

_ (1) أثر عمر لما شهد عنده أبو بكرة ومن معه على المغيرة بن شعبة بالزنا، ورجوع زياد، أخرجه الطحاوي، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وصححه الألباني (ر. الطحاوي: 2/ 286 - 287، البيهقي: 8/ 234 - 235، إرواء الغليل: 28/ 28 - 30 ح 2361). (2) سبق هذا الحديث. (3) في الأصل: " إلى ".

المرأة للشهادة وجهان؛ فإن الحدود على الدرء. ومنهم من قلب الترتيب. ثم المعللون سلكوا مسلكين: فقال بعضهم: يجوز تعمد النظر إلى البواطن لتحمل الشهادة على النساء وجهاً واحداً، وفي التحمل لأجل الشهادة على الزنا وجهان. وقال قائلون: لا يجوز التعمد في البواطن لأجل الشهادة في غير الزنا مذهباً واحداً؛ لأن في النساء مَقْنعاً، فلا حاجة إلى الرجال، وفي النظر لأجل تحمل شهادة الزنا وجهان، هذا ما ذكروه. وقد نجزت مرتبةٌ على قدر الغرض، ولسنا نضمن استقصاءَ كل أصل. وإنما نبغي توطئة الأصول وتمهيدها. 12033 - المرتبة الثانية - لا يشترط فيها العدد الكامل-وهو الأربعة- بل يكفي عدلان، ولكن لا مدخل للنساء فيه. والقول في هذه المرتبة ينقسم، فمنه متفَق عليه بين العلماء، ومنه مختلف فيه. أما المتفق عليه، فما يتعلق بالعقوبات، فلا تثبت عقوبةٌ إلا بشهادة رجلين عدلين، كما سنصف الشهود بعد ذلك إن شاء الله، ولا فرق بين ما يثبت حقاً لله كحد الشرب، وقطع السرقة وحد القطّاع، وبين ما يثبت حقا للآدمي كالقصاص في النفس، واليد، وحد القذف. وأما المختلف فيه، فمذهب الشافعي أن كلَّ ما ليس بمال، وليس المقصود من إثباته المال، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا يَثْبُت إلا بعدلين ذكرين كالنكاح، يثبته الرجل عليها (1)، والرجعة، والطلاق، والظهار، والإيلاء، واللعان، فلا يثبت شيء منها إلا بما ذكرنا عندنا. وألحق الأئمة بذلك الوصاية، نعني نَصْبَ الوصيّ، وألحقوا به الوكالة، وإن كانت في مال، لأنهما ليسا بمال، بل يفيدان حقَّ التصرف، والمالُ لغير المتصرف، والإقرارُ بالاستيلاد من هذا القسم، إذا كانت تُثبت والسيدُ منكر، والإقرار بانقضاء العدة من ذلك.

_ (1) يثبته الرجل عليها: أي على الزوجة، كما صرح بذلك العز بن عبد السلام في اختصاره للنهاية.

وأبو حنيفة (1) رضي الله عنه يقول: ما سوى العقوبات يثبت بشهادة رجل وامرأتين. وسلك الشافعي مسلكاً حسناً يليق بمنصبه، فقال: مراتب الشهادات لا يتطرق إليها قياس، والغالب عليها التعبد والاتباع، وبينة الزنا ثابتة في نص القرآن، فاتبعناها، وليس للشهادة على القصاص ذكر في الكتاب والسنة، وإجازة شهادة النسوة ثابتة بالنص في الأموال في آية المداينات، والشهادة على الرجعة في كتاب الله مقيدة بذوي عدل، فكان القصاص عندنا ملتحقاً بالرجعة لا بالأموال. ثم قال: لا دليل في القصاص إلا اتجاهُ إلحاقه بالرجعة، فكيف يثبت بشهادة رجل وامرأتين، في كلام له رضي الله عنه ذكرناه في (الأساليب). 12034 - المرتبة الثالثة - فيما يثبت برجل وامرأتين، وهو المال، وكل ما يُعنى به المال وحقوقه. أما الأموال، فبيّنة، وما يؤول إلى المال، كالبيع، والشراء، فإن هذه العقود لا تَعْني إلا المالَ، والمعنيّ بها أحكامٌ تنتظم في الأموال، فيثبت بالشاهد والمرأتين البيعُ، والشراء، والإجارة، والعُروض، وإتلاف الأموال، والقتل خطأ، والجوائف، والسِّمْحاق دون المُوضِحة إذا لم يجر القصاص فيها، وفسوخ عقود الأموال، وحقوق الأموال كالخيار واشتراط الرهن، والرهنُ نفسه، والضمان، والإقرار بالمال، والإبراءُ عن الأموال، والحقوقُ وقبضُها. ومن جمللها قبضُ نجوم الكتابة إلا النجم الأخير؛ فإن المكاتَب إذا أراد إثبات إقباضه برجل وامرأتين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يثبت، لأنه إقباضُ مال. والثاني - لا يثبت، لأن قصد العتق ظاهر فيه، ووطء الشبهة يثبت إذا كان المقصود من إثباته مهر المثل، وتثبت طاعة المرأة لتستحق النفقة، ويثبت القتلُ لاستحقاق السَّلَب، وما في معنى ما ذكرنا لا يخفى مُدركه إذا فَهِم الإنسانُ المقاصدَ، والمرأة إذا أثبتت النكاحَ للمهر، ثبت المهر وإن لم يثبت النكاح، والوصية تثبت وإن لم تثبت الوصاية، والبيع يثبت، وإن لم يثبت التوكيل به.

_ (1) ر. المبسوط: 16/ 114، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 345 مسألة: 1476، طريقة الخلاف: 380 مسألة: 159، إيثار الإنصاف: 342.

وخرج شهود المال، وتعديلهم، فلا يثبت إلا بذَكَرين؛ فإن هذا ليس من موجِبات الأموال، بل هي إثبات صفات الشهود، ولا تختص فائدتها بواقعة؛ فإن من ثبتت عدالته في واقعة، تثبت في غيرها. والأصح أن الأجل من حقوق الأموال؛ فإن مقصوده سقوطُ المطالبة في مدة، وإذا كان الإبراء يثبت بالرجل والمرأتين، فلأن يثبت [سقوط] (1) المطالبة أولى. وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في إلحاق الأجل بالوكالة، وهذا أشاعه الخلافيون، ورمز إليه أئمة المذهب، ولا يصير إليه إلا ضعيف، لا يهتدي إلى مآخذ المذهب، وستأتي المسائل، والغرض الآن الإيناس بالأصول. 12035 - المرتبة الرابعة - ما يثبت بشهادة النسوة المتجردات، وهو كل ما لا يطلع عليه الرجال من النساء غالباً، إلا عن وفاق، كالولادة وعيوب البدن، ومن جملة ذلك الرضاع، فهذه الأشياء تثبت بشهادة أربع نسوة على شرائط الشهادة. وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: " الولادة -من جملتها- تثبت بشهادة القابلة وحدها -على تفصيلٍ له معروف- وما عداها لا يثبت إلا بشهادة رجل وامرأتين، أو رجلين ". وما يثبت بشهادة النسوة المتجردات يثبت بشهادة رجل وامرأتين ويثبت بشهادة رجلين. 12036 - المرتبة الخامسة -ما يثبت بشهادة ويمين- وفي هذا باب مقصود سيأتي من بعدُ، إن شاء الله- ولا تثبت الولادة وعيوب النساء بشاهد ويمين. فنقول: ما يثبت بشاهد وامرأتين يثبت بشاهد ويمين، إلا ما يتعلق ببواطن النساء، والسر فيه أن المتبع في الشاهد واليمين السُّنَّةُ، وإلا فالقضاء بشاهد واحد ويمين الطالب خارج عن القياس، وقد ورد في المال، فخصصناه به، والاكتفاء

_ (1) في الأصل: " بسقوط ". (2) ر. رؤوس المسائل: 529 مسألة: 388، المبسوط: 16/ 144، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 346 مسألة: 1477، الغرة المنيفة: 195.

بالنسوة فيما يتعلق بالنساء ليس لانحطاط خطر هذا الأمر، وإنما هو لتعذُّر اطلاع الرجال. ولو شهد على المال امرأتان، وأراد الطالب أن يحلف معهما، لم يَجُز عندنا، خلافاً لمالك (1) رحمة الله عليه. وسيأتي ذلك، إن شاء الله. وحيث جوزنا شهادة الرجل والمرأتين لم يتوقف ذلك على العجز عن إشهاد رجلين، هذا مما اتفق عليه أصحابنا والمفتون في الأمصار. وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] محمول على أن الأولى ألا يكلفن التبرج إلا عند مسيس الحاجة. فصل قال: " ولا يحيل حكمُ الحاكم الأمورَ عما هي عليه ... إلى آخره " (2). 12037 - أراد الرد على أبي حنيفة (3) رضي الله عنه؛ فإنه صار إلى أن القضاء إذا استند إلى شهادة الزور في العقود والحلول التي قد ينشئها القاضي بحكم الولاية، فإنه يتضمن تغيّر حكم الله في الباطن، ولا يخفى مذهبه في ذلك. ومذهبنا أن أحكام الله لا تحول بقضاء القضاة، فإن وافقتها لشهادة الصدق، فليس ثبوتها بالقضاء، وإنما يتعلق القضاء بالظاهر، وإن جرى القضاء على خلاف حكم الله، لم يزُل حكم الله، وإن كان ظاهرُ القضاء متبَعاً إلى التبيّن؛ قال رسول الله

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 965 مسألة 1947، عيون المسائل: 4/ 1566، مسألة 1104. (2) ر. المختصر: 5/ 247. (3) ر. مختصر الطحاوي: 350، المبسوط: 16/ 180، رؤوس المسائل: 285 مسألة: 387، البدائع: 7/ 15، شرح أدب القاضي للخصاف: 3/ 172، روضة القضاة للسمناني: 1/ 320، طريقة الخلاف للأسمندي: 382 مسألة: 160، إيثار الإنصاف: 344، الغرة المنيفة: 189. وفيها تجد أن الأمر كما قال إمام الحرمين، فيختصّ أبو حنيفة بهذا القول، ويخالفه محمد، وكذا أبو يوسف في قوله الثاني، بعد أن كان موافقاً له.

صلى الله عليه وسلم: " إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر " (1). وقيل: سئل أبو عاصم عن هذه المسألة وكان محمدياً في الفتوى والنظر، فالتُمس منه نُصْرةُ مذهب أبي حنيفة، فقال: لا أدري، قال محمد: القضاء لا يكوّن ما لم يكن (2).

_ (1) حديث " إنما أحكم بالظاهر .. " سبق تخريجه والكلام عليه. (2) هكذا العبارة بكلّ وضوح، رسماً ونقطاً. وأبو عاصم المراد هنا هو أبو عاصم العبّادي، الهروي، أحد فقهاء أصحابنا أصحاب الوجوه، ولد سنة خمس وسبعين وثلثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. وقد أشكل علينا الأمر، فما معنى كونه محمدياً في الفتوى والنظر؟ ومن محمد الذي يُنسب إليه؟! فمن المعلوم أنّه إذا أُطلق اسم (محمد) فالمراد به محمد بن الحسن الشيباني، وقد سبق في النهاية بهذا الإطلاق. فكيف يكون أبو عاصم، وهو من أعلام الأصحاب، محمدياً في الفتوى والنظر؟ ثم كيف يُلتمس منه نصرة مذهب أبي حنيفة؟ وقد راجعنا كتب الأحناف، فلم نجد لأبي عاصم ذكراً في هذه المسألة عندهم، وكذلك راجعنا كتب المذهب، وكتب الطبقات والتراجم فلم نر من نسب أبا عاصم إلى محمد في الفتوى والنظر. وكذلك لم نجد هذه الرواية في ترجمة أبي عاصم عند من يرْوون فرائد المسائل وغرائبها عن المترجم لهم، مثل السبكي، وغيره. ثم ما معنى قول أبي عاصم: " لا أدري، قال محمد: القضاء لا يكوِّن ما لم يكن ". هل يفهم من هذا أنه يقول برأي محمد في المسألة؟ ورأي محمد كما هو معروف يخالف أبا حنيفة، ويتفق معنا. أم أنه متوقف حقيقةً في المسألة؟ وهذا موضع احتمال ثم إننا وجدنا الرافعيَّ والنوويَّ حكيا عن أبي عاصم أنه يقول بقول أبي حنيفة، وذكرا معه البغوي أيضاً، هذا ما نستطيع قوله تعليقاً على هذه العبارة. انظر ما راجعناه من المصادر، من كتب الأحناف: المصادر المذكورة في الهامش قبل السابق، ومن كتب المذهب: الشرح الكبير: 12/ 484، الروضة: 11/ 152، التهذيب للبغوي: 8/ 221 - 223، البيان للعمراني: 13/ 413، حلية الفقهاء: 8/ 163، وكذا الوسيط، والمهذّب، والحاوي، وشروح المنهاج بحواشيها كالتحفة، والنهاية، والمغني، والمحلّي، وكذا شروح وحواشي المنهج، والرّوض، ومختصر خلافيات البيهقي: 5/ 141 مسألة: 355، والأنوار للأردبيلي: 2/ 634. ومن كتب الطبقات والتراجم: تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 249، طبقات السبكي: 4/ 104، الأسنوي: 2/ 190، ابن قاضي شهبة: 1/ 232، ابن هداية 161، ابن الملقن: 94، وفيات الأعيان: 4/ 214، سير أعلام النبلاء: 18/ 180، الوافي بالوفيات: 2/ 82، الأنساب: 8/ 336، مرآة الجنان: 3/ 82.

ومما يتعلق بأطراف المسألة، أن المسألة إذا كانت مجتهداً فيها، فقضى القاضي بمذهبٍ يسوغ القضاء به ولا يتجه تفريع أحكام الفقه، إلا [على أن المصيب (1)] واحد غير متعين -فالذي ذهب إليه جماهير الفقهاء أن حكم الله باطناً يثبت في المجتهدات على اتحادٍ إذا نفذ القضاء، ويصير المقضي به حكم الله ظاهراً وباطناًً، واستدلوا عليه بامتناع جواز نقض القضاء في المجتهدات. وذهب الأصوليون من الفقهاء إلى أن القاضي لا يغيّر حكمَ الله في الباطن، والأمر في المُصيب مبهم، كما كان، وهذا اختيار الأستاذ أبي إسحاق (2)، وكان من الغلاة في الرد على من قال بتصويب المجتهدين، ولا يتجه عندنا إلا هذا، واتباعُ القاضي بحق الولاية؛ إذ لولا وجوب الاتباع، لانفرد كلٌّ بمذهبه، ولتقطّعت الآراء على الشتات، بين النفي والإثبات، وعدمُ نقض القضاء محمول على الاستمرار على حكم الولاية ومرتبتها، ولولا ذلك، لما حصلت الثقة بالقضاء في مسألة. 12038 - وتمام البيان في هذا ما نذكره. فنقول: المقضي عليه في المجتَهَد فيه لا يجد محيصاً، وإن خالف القضاء مذهبَه، وهذا كقضاء الحنفي بشفعة الجوار على الشافعي، فأما إذا ادعى الشفعة بالجوار شافعي، أو ادعى التوريث بالرحم، [فإذا فرض القضاء له فمذهب الأستاذ وموافقيه] (3) لا يُحِل للشافعي ما قُضِيَ له به، بل لا يُحل له الإقدامَ على الطلب.

_ (1) في الأصل: " إلا أن المصير " والمثبت من (ق). (2) الأستاذ أبو إسحاق: أي الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، ت 418 هـ. فهذا هو الملقّب في كتب المذهب بالأستاذ، وتد تصحّف في (البيان) إلى أبي إسحاق المروزي: إبراهيم بن أحمد، ت 340 هـ. وهو خلاف ما عند النووي في الروضة، والبغوي في التهذيب، والرافعي في الشرح الكبير. (3) عبارة الأصل كانت هكذا: " فإذا فرض القضاء وعلى مذهب الأستاذ موافقته " فانظر ما فيها من خلل!! والمثبت هدانا الله إليه بعد أن طال وقوفنا أمام هذه العبارة لنحو يومين، نقلّبُ (البسيط) و (الوسيط) و (الروضة) و (الشرح الكبير) و (البيان) و (التهذيب) ولم يغن عنا ذلك شيئاً إلا ما ألهمنا الله إياه آخراً. والحمد لله رب العالمين. ونسجد لله شكراً، فقد جاءتنا (ق) موافقة لما أثبتناه. فالحمد لله ملهم الصواب.

ومن أصحابنا من قال: يَحِلّ، وهؤلاء هم الذين يزعمون أن حكم الحاكم يغيّر أحكام الباطن في المجتهدات، ويعيِّن المصيبَ، فإن قلنا بمذهب الفقهاء، فالإقدام على الدعوى مشكل استحلالاً؛ فإن الحقَّ إن كان يثبت عند القضاء، فما الذي يسوّغ الإقدام على الدعوى، وهذا فيه تردد غائص: يجوز أن يقال: لا يحل الإقدام على الدعوى، وإن اتفق وأفضى القضاء إلى تحصيل [المقصود] (1)، فيثبت الملك، ويجوز أن يقال: الشافعي إنما ينفي التوريث بالرحم إذا لم يكن قضاء، فإذا علم المدعي علماً ظاهراً أن القاضي يورث بالرحم، فالدعوى تسوغ؛ فإنها تشوفٌ إلى سبب التملك. والأستاذ كما لم يملِّك الشافعيَّ ما لا يعتقده والقاضي على مذهبه، هل يمنع المدعي عن الدعوى إذا كان دعواه تخالف مذهب القاضي، هذا محتمل متردد، والظاهر المأثور من سِيَر القضاة أنهم لا يتعرّضون لمذاهب الخصوم، والعلم عند الله. ثم عقد الشافعي باباً في شهادة النساء، وغرضه الرد على أبي حنيفة رضي الله عنه في مسألة القابلة. وقد مضى في ذلك ما أردناه. ...

_ (1) في الأصل: " بالمقصود ".

باب شهادة القاذف

باب شهادة القاذف قال الشافعي رضي الله عنه: " أمر الله تعالى أن يُضرَب القاذف ثمانين جلدة ... إلى آخره " (1). 12039 - القذف من موجبات الحدود، وكل ما يوجب الحدَّ كبيرةٌ، وكل كبيرة لا ترجع إلى العقد موجِبةٌ لرد الشهادة، فإذا قذف القاذف رُدت شهاتهُ قبل أن يُحَدَّ خلافاً لأبي حنيفة رضوان الله عليه. وإذا حُدّ، فشهاته مردودة، ولكنه إذا تاب -على ما سنصف توبته واستبراءَ حاله- قبلنا شهاته. وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: المحدود مردودُ الشهادة أبداً، والمسألة مشهورة معه. ثم الكلام يتعلق وراء هذا بتوبة القاذف: قال الشافعي: " توبة القاذف بإكذابه نفسَه "، وهذا اللفظ في ظاهره إشكال، وفي بيان المذهب تحصيل الغرض. فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن القاذف لا يكلّف أن يُكْذِبَ نفسه، إذ ربما يكون صادقاً في نسبة المقذوف إلى الزنا، فلو كلفناه أن يُكْذِبَ نفسه، لكان ذلك تكليفاً منا إياه أن يَكذب، وهذا محال. فالوجه أن يقولَ: أسأتُ فيما قلتُ، وما كنتُ محقاً، وقد تُبت عن الرجوع إلى مثله أبداً، ولا يصرح بتكذيب نفسه إلا أن يعلم أنه كان كاذباً. وهذا يَبْعُد علمه.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 248. (2) ر. مختصر الطحاوي: 266، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 328 مسألة رقم 2458، المبسوط: 16/ 125، رؤوس المسائل: 536 مسألة 394، طريقة الخلاف للأسمندي: 374، 375 مسألة 157، الغرة المنيفة: ص 193، إيثار الإنصاف: ص 346.

وهؤلاء حملوا قول الشافعي على ما سنصفه، وقالوا: القاذف في الغالب يقذف ويرى من نفسه أنه قال حقاً، وأظهر ماله إظهارَه، فيرجع ما أطلقه الشافعي من الإكذاب إلى هذا. فيقول: [قد كنت قلتُ، ما قلتُه] (1)، وقد كذبت وأبطلت فيما قدَّمت. وقال الإصطخري: لا بد وأن يُكذب نفسَه، وإن كان صادقاً. إنه عزّ من قائل قال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، فهذا لقب أثبته الشرع، فيُكْذِبُ القاذف على هذا التأويل نفسَه؛ فإن الشرع سماه كاذباً. وهذا بعيد لا أصل له، وهذه الآية مع آيٍ أُخَر وردت في قصة الإفك وتبرئة عائشة، وكانت مبرأة عما قذفها به المنافقون. هذا قولنا في توبة القاذف. 12040 - فأما القول في استبراء حاله بعد التوبة، فنقول أولاً: من قارف كبيرةً، وتاب لم نبتدر قبولَ شهاته وإن أظهر التوبة؛ فإنا لا نأمن -وهو فاسق- أن يكون ما أظهره هزءاً وعبثاً، أو إظهارَ توبة لغرض له، وهو مضمرٌ الإصرارَ على الغيّ، فلا بد من اختبار حاله بعد التوبة، وهذا هو الذي يسمى الاستبراء، فنتركه ونلقي إليه الأمر، ونراقبه في السر، حتى تظهر مخايلُ صدقه في التوبة؛ فإذ ذاك نحكم بعدالته. واختلف أصحابنا في مدة الاستبراء، فقال بعضهم: سنة؛ فإن لتكرار الفصول وجريانها مع الاستمرار على التوبة أثراً بيناً في إظهار نقاء السريرة مع حسن السيرة. وقال قائلون: يعتبر ستة أشهر، حكاه القاضي. وذهب المحققون إلى الرد على من يُقدِّر، ولفظ الشافعي: استبرأناه أشهراً، والأصح أن ذلك لا يتقدر بزمن، فكيف المطمع فيه، والتقدير لا يثبت إلا توقيفاً، فالوجه أن نقول: نوكل به من يراقبه في سرِّه وعلنه مدة، حتى تحصل غلبة الظن، وهذا يختلف -فيما أظن- باختلاف الرجال والأشخاص، فالرجل المكاتِم الذي

_ (1) عبارة الأصل: "قد كنت قلت لي وأنا أقول ما قلته".

لا يعتاد إعلان ضميره، وكان خُبْثه فيما يتعاطاه دفيناً، فالاحتياط في مثل هذا الشخص يطولُ أمده، فإن لم يكن للرجل غائلة، بل كان يعلن ما رآه، فهذا الرجل يسهُل استبراؤه، وتقرب مدته. فهذا ما أردنا بيانه في الاستبراء عن سائر الكبائر. 12041 - فأما إذا قذف وتاب على ما وصفنا توبته، فهل تقبل شهاته في الحال من غير استبراء، أم لا بد من استبراء فيه؟ اختلف نص الشافعي، واختلف أصحابنا على طرق: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يستبرأ قياساً على سائر الكبائر. والثاني - أنه لا يستبرأ؛ فإنا نجوّز أن يكون صادقاً، ولا محمل لسائر الكبائر، هذه طريقة. ومن أصحابنا من قال: النصان منزلان على حالين، فحيث قال: لا يستبرأ، أراد إذا جاء مجيءَ الشهود، فلم يوافقه الأصحاب (1) في إتمام الشهادة، وقلنا: إنه محدود، فإذا تاب -وحالته ما وصفناها- فلا استبراء؛ فإنه ما جاء مجيء القَذَفةِ، وإنما جاء شاهداً، وحيث قال: يستبرأ، أراد إذا جاء قاذفاً. ومن أصحابنا من نزل النصين على حالين من وجه آخر، فقالوا: إن كذّب نفسه صريحاً، فلا بد من استبرائه، فإن الكذب في عظائم الأمور من عظائم الذنوب، وإن لم يصرح بتكذيب نفسه، فلا حاجة إلى الاستبراء، هذا كلام الأصحاب. والوجه عندنا أن نقول: إذا صرح بتكذيب نفسه، فهذا يخرُج (2) على التفاصيل، وترديد الأقوال، بل يُقطع فيه بالاستبراء، وإذا جاء قاذفاً، ففي الاستبراء قولان، وإن جاء مجيء الشهود، ورأينا أن نُحِدَّه عند نقص العدد، فإذا تاب، ففي الاستبراء قولان مبنيان على ما إذا جاء قاذفاً، وهذه الصورة أولى بأن لا يشترط الاستبراء منها، وقد نجز الغرض في توبة القاذف واستبرائه بعد التوبة.

_ (1) الأصحاب: المراد هنا باقي الشهود على الزنا. (2) يخرج على التفاصيل: أي ليس من هذا الباب، ولا مجال فيه للترديد.

فرع: 12042 - إذا قذف وأقام بينة على الزنا، فلا شك أن الحد يندفع عنه، ولكن هل نرد شهاته حتى يتوب، أم نقول: صدّق نفسه بالبينة، فخرج عن كونه قاذفاً؟ فمن أصحابنا من قال: لا نردُّ شهاته، ولا نُحْوِجه إلى التوبة، ومنهم من قال: قذفُه يوجب رد الشهادة، وما كان له أن يقدم عليه، وإن صدّقه الشهود، والمسألة محتملة. ***

باب التحفظ في الشهادة

باب التحفظ في الشهادة قال الشافعي: قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. 12043 - قاعدة الباب أن الشهادات شرطها أن تُتَحمل عن علم ويقين، لا يعارضه مخامرةُ رَيْب، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، قال ابن عباس: " إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أشهد، فقال عليه السلام: أرأيت الشمس طالعة فقال نعم، فقال: على مثل هذا فاشهد، أو فاسكت " (2). ثم حقائق الأشياء والعلومُ بها تتلقى من حاسة السمع والبصر في تحمل الشهادات، والعقل المِلاك. أما الأفعال، فالأصل في تحمل الشهادة عليها البصر، ولسنا نعيد ذكر العقل؛ فإنه لا شك فيه، وهذا كالعلم بالجنايات، والاستهلاكات، ونحوها من الأفعال، فلا سبيل إلى تحمل الشهادة عليها إلا بالعِيان المتعلّق بها، [وبفاعليها] (3)؛ فإن الشهادة لا تنفع فيها (4) دون أن تُربَطَ بمن صدرت منه، ولا بد من البصر فيهما جميعاً. وأما إثبات الأقوال في مفاصل القضاء، فلا بد من السمع والبصر، أما السمع، فهو الأصل بالعلم بالمسموع، واختصاصها بالقائلين لا يدرك إلا بالبصر.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 249. (2) حديث ابن عباس " أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الشهادة، فقال: هل رأيت الشمس ... " رواه العقيلي في الضعفاء (4/ 70) وابن عدي في الكامل (6/ 207) والحاكم (4/ 98) وصححه وردّه الذهبي، ورواه البيهقي (10/ 156) وقال: لم يرو من وجه يعتمد عليه. (ر. التلخيص: 4/ 363 ح 2636، إرواء الغليل: 8/ 282 ح 2667). (3) في الأصل: " وبقاء عليها ". (4) أي في الأفعال.

وأما ما يعتمد السمع المجرد، وعبارة الأئمة فيه أنه يثبت بالتسامع، فقد ذكروا في هذا القسم ما يتفق عليه ويختلف فيه، فقالوا: النسب، والموت، والملك المطلق، تجوز الشهادة عليها بتسامع الأخبار، واختلف الأصحاب في الوقف، والنكاح، والولاء، وألحق العراقيون بالقسم المختلف فيه العتقَ اعتباراً بَالوقف، ففي هذه الأشياء وجهان: أظهرهما - أنه لا تجوز الشهادة عليها بالتسامع، وتظاهر الأخبار؛ لأن مشاهدة أسباب هذه الأشياء ممكنة، بخلاف النسب، والملك المطلق، والموت قد يقع في التقطعات والأسفار كذلك، وهذا غالب غير نادر. والوجه الثاني - أنه تجوز الشهادة عليها بالتسامع؛ لأنها إذا ثبتت، بقيت ودامت، وشهود المشاهدة قد يزولون، فالوجه أن يقال: سبيل الشهادة عليها بالتسامع، وهذا ينضم إلى أن هذه الأشياء تُشهد غالباً، وليس كالبيع والشراء والهبات، وما في معناها. هذا هو الأصل. وحكى القاضي أن من أصحابنا من ألحق الموت بالمختلف فيه، فإنه على الجملة مما يمكن فرض العِيان فيه، وهذا وإن كان منقاساً، فلا تعويل عليه؛ فإن موت الإنسان مما يشتهر، ويقع في الأفواه كالنسب، وعماد تحمل الشهادة هذا. 12044 - والمقدار الدي ذكرناه نقلُ مراسم المذهب، ولا بد من وراء ذلك من تمهيد أصل، حتى إذا نجز، خضنا في استقصاء الجوانب، حتى لا نُبقي مشكلاً فيما نظن. فنقول: عماد تحمل الشهادة: العلمُ، واليقينُ، وثلَجُ الصدر، كما ذكرناه في أول الباب. ولكن اعترض في مجاري الأحوال ما لا سبيل إلى درك اليقين فيه، والنزاع في مثله جائزٌ دائمُ الوقوع، ولا سبيل إلى تركه ناشباً بين الناس؛ فأثبت الشرع فيما لا يتصور فبه دركُ اليقين الشهادةَ [بالتسامع] (1)، وسوّغ بناءها على ظنٍّ غالب، ولولا ذلك، لدامت الخصومات. ومن جملة ما ذكرناه الملك، وهو مطلوبُ الخلق ومقصودُ الدنيا، ولا مستند له

_ (1) زيادة من المحقق.

إلى يقين، وإن تناهى المصوّر في التصوير، فلا انتهاء إلى العلم والمعرفة، ووضوح هذا يغني عن كشفه؛ فإن الأسباب التي تُحَسّ وتُعلم عن حسٍّ، كالشراء، والاتهاب لا تفيد العلم بالملك، فإن ملك المشتري مبني على ثبوت ملك البائع، ثم القول فيه كالقول في المشتري منه، وهكذا الكلام فيما يستفاد بالوراثة. ومن اصطاد صيداً، لم يأمن أنه كان مملوكاً، فأفلت من مالكه. وكما يُفرض هذا في الملك، فالانتساب إلى الآباء بهذه المثابة؛ فإنه لا مطمع في درك عِيانٍ فيه، ولا يتحقق العلم فيما لا يتصور فيه -عند تحمل الشهادة عليه- عيانٌ. ومما يتصل بذلك الإعسار؛ فإنه لا مُطَّلَع عليه، ولو لم يكن إلى إثباته طريق، لَتَحكَّم الحبسُ على المعسر من غير دَرْك منتهى. 12045 - فإذا وضح هذا، تعيّن تقديم الكلام في الملك المطلق، فننقل قولَ الأصحاب فيه أولاً: قال القاضي: لا تجوز الشهادة لإنسان بالملك بناء على مجرد يده، وإن دامت له؛ فإن الأيدي تنقسم، وتقع على أنحاءٍ وجهاتٍ مختلفة، فإن انضم إلى اليد تصرفُ ذي اليد، والمعنيُّ به تصرفُ الملاك، كالنقض والبناء، والرهن، والبيع، والفسخ بعده، فهذا هو المعنيُّ بتصرفات الملاك، حتى تردد بعض الأصحاب في أنه لو كان لا يعهد منه إلا الإجارة، فهل يقع الاكتفاء بهذا؟ فمنهم من قال: لا يقع الاكتفاء بها؛ فإن المكتري يُكري، فقد يكون مكترياً، وكذلك القول في الموصَى له بالمنفعة. وقال قائلون: إذا جرت منه الإجارة مرة واحدة، فالأمر كذلك، وأما إذا تكرر منه، وبان من مخايله تصرفُ الملاك فيه، فهذا كافٍ في الفن الذي [نعنيه] (1)، فإذا انضم تصرفُ الملاك -على ما وصفناه- إلى اليد، فقد قال القاضي: لا تجوز الشهادة على الملك، وإن اجتمعا حتى ينضمَّ إليهما تفاوض الناس بنسبة ذلك الشيء إلى ملك

_ (1) في الأصل: نعيّنه (بهذا الرسم والضبط).

ذي اليد المتصرف؛ إذ ذاك تسوغ الشهادة على الملك له. هذا كلامه، وقال بحسبه: اعتماد الشهادة في الملك المطلق على التسامع مجازٌ ممن أطلقه، فإنما المعني به أن ينضم إليه اليد، والتصرف، واليدُ والتصرف لا يفيدان تحمل الشهادة، حتى ينضم إليهما التسامع بالملك. والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن اليد إذا دامت، وانضم إليها تصرفُ الملاك، فيجوز اعتمادهما في تحمل الشهادة على الملك، وهذا -إلى أن نفصّله، ونذكر غوائلَه- مذهبٌ مشهور لا ينكره محصل. ووجهه أن الظن يغلِب باليد والتصرفِ، وقد يكون الرجل خاملَ الذكر لا يُشهر ما ينسب إليه، ويكون ما تحت يده مما يقلّ قدره، فيقع الاكتفاء باليد والتصرف، وحقُّ هذا أن يُلحق بقرينهِ ممّا لا يمكن الوصولُ إلى اليقين فيه. وأقرب ما يضاهيه الإعسار، ثم [لمن يحيط] (1) بباطن حال الإنسان أن يشهد بإعساره، وإن لم يستَفِض في الناس ذلك، تعويلاً على مخايلَ وأمورٍ لا يَخفى دَرْكُها، وإن كنا نجوّز مع ظهورها أن يكون الرجل مُكاتماً مُظهراً من نفسه ما يعلم الله منه خلافَه، ولكن تحمل الشهادة يعتمد مع ذلك ما أشرنا إليه. وكان شيخي يقول: اليد والتصرف يدلان على الملك مذهباً واحداً، واليد الدائمة بمجردها هل تدل على الملك؟ فعلى قولين، وأجرى هذا وغيرُه من الأصحاب في مسائلَ، ولست آمن صَدَرَ هذا من غير تثبت؛ فإني لم أر أحداً من الأصحاب غيرَ الإمام يذكر هذين القولين في اليد المجردة في كتاب الدعاوي والبينات، وإن أطلقوا القولين في اليد المجردة في سائر الكتب، فهو في الكلام المعترض الذي لا يقصد تفصيله، وقد بحثت عن كلام الأئمة وُسْعةَ جهدي، فلم أر أحداً منهم يعوّل على اليد المجردة، وإنما ذكروا اليدَ والتصرفَ معها لما أرادوا تفصيل الكلام في ذلك قصداً إليه. نعم، اليد المجردة تُقَوِّي في المخاصمة، [جَنْبة] (2) صاحب اليد، حتى

_ (1) في الأصل: " لم يحط ". (2) في الأصل: " حيث ". وكنا قدرناها (جانب) ثم جاءت (ق) وفيها (جَنْبة)، وكذلك استعملها الإمام فيما يستقبل من الكلام، وهي بمعنى (جانب).

يكون القول قوله مع يمينه إذا خلت الخصومة عن البينة. وإنما صار إلى دلالة اليد على الملك أبو حنيفة (1)، وبنى على ذلك ردَّ بينة صاحب اليد مصيراً منه إلى أن شهوده يعتمدون في ثبوت الملك له ظاهر يده، وهذا معلوم لنا، فلا تكون الشهادة مثبتة زيادة لا تدل اليد عليها، ونحن نقبل بيّنة صاحب اليد على ما سيأتي ذلك، وهو أصول الدعاوى إن شاء الله. فقد انتظم مما ذكرناه أن اليد بمجردها لا يجوز اعتمادها -وإن دامت- في الشهادة على الملك لصاحبها، والذي كان يحكيه شيخي مما لا أعتدّ به، ولا أعده من المذهب. وإذا انضم إلى اليد التصرف، وانضمّ [إليهما] (2) التسامع، فلا خلاف في جواز اعتماد هذه الأشياء للشهادة على الملك. وإذا وجدت اليد والتصرف من غير تسامع في الملك، فالذي ذهب إليه الجمهور جواز الشهادة على الملك، وذكر القاضي وطائفةٌ من المحققين أنه لا يجوز اعتمادُ ظاهر اليد والتصرف في الشهادة على الملك. ولو فرض التسامع بنسبة شيء ملكاً إلى شخص من غير يد وتصرف، فالذي قطع به القاضي، وهو قياس المراوزة أنه لا يجوز اعتماده في الشهادة على الملك. وفي كلام العراقيين ما يدل على جواز اعتماد التسامع في الملك المطلق -من غير يدٍ وتصرف - وهذا بعيد. وإن فرض له ثبوت، فهو نيه إذا لم يعارض هذا التسامعَ يدٌ وتصرفٌ من الغير. وهذا الذي ذكرناه مجامعُ المذهب، مع امتزاج النقل بمسلك البحث. 12046 - وتمام البيان فيه أن ما لا يكون مستيقناً، ومعتمده الظن، فنعلم علماً كلياً أنه لا يجوز الاجتزاء فيه بمبادىء الظنون، بل يجب بناء الأمر على بحثٍ يقرب من

_ (1) ر. رؤوس المسائل: 534 مسألة: 392، الغرة المنيفة: 191، إيثار الإنصاف: 352، طريقة الخلاف: 402 مسألة: 165. (2) في الأصل: "إليها".

استفراغ الوسع في مثله، من غير سرفٍ وتكلفِ أمرٍ يعد عسيراً في العُرف. هذا لا بد منه، ومن ضرورته اليد الدائمة، [والتصرفُ] (1) المشعرُ بالاستقلال. ثم شَرَطَ القاضي التسامعَ بالملك، واكتفى غيره بعدم الاعتراض، ومن يتصرف فيما يعرف [لغيره] (2) يُشهر [عنه] (3) العدوان والاستقلالُ من غير استحقاق؛ فإن النفوس مجبولة على البحث عن أمثال ذلك، والأملاكُ مضنون بها، فإذا اطّرد التصرف [فيها] (4) بغير حق أُشيع ذلك، وشُهِر ونُبّه المستحِق ليثور في طلب حقه، فإذا لم يحصل، غلب على الظن المِلكُ. ثم من أسرار هذا الفصل أن من يكتفي باليد والتصرف على الحد الذي ذكرناه، فالغالب -في العادة- أن يتفاوض الناس بنسبة الملك إذا كانت الحالة هذه، وإن كان لا يتفوه به أماثل الناس، أشاعه الجيران، ثم أهل المَحِلّة، وهذا العدد كاف في التسامع؛ فإذاً يندر اجتماع اليد والتصرف على الاطراد، مع انتفاء النكير، وعدم ظهور المعترض والطالِب، من غير تسامع بالملك وتفوهٍ به على حد ظهور اليد والتصرف، فكأن الخلاف يؤول إلى أن المعتمد في ذلك اليد والتصرف، أم هما مع التسامع معتبره؟ وإلا فحكم الاعتياد ما ذكرناه. فمن يعتمد الملكَ والتصرفَ يقول: تفاوض الناس بالملك منها، ومن يقول: التسامع معتبر، قال: إذا شاع التفاوض، فهذا إذا انتشر يثير المستحِق -لو كان- فيؤول اعتباره إلى عدم الإنكار والاعتراض، وبالجملة لا بد من المبالغة حتى تسوغ الشهادةُ على الملك، غير أن الأمارات التي تدل على الإعسار يختص بدركها أهلُ الباطن، والعلامةُ الدالة على الملك لا يختص بدركها من يخالط الرجلَ؛ فإنها على الظهور مبناها، وكل ما نبغي ظهورَه يستوي [فيه] (5) المخالط وغيرُه، والمعتمد في

_ (1) في الأصل: " فالتصرف ". (2) في الأصل: " بغيره ". (3) في الأصل: " عند ". (4) في الأصل: " منها ". (5) في الأصل: " منه ".

الإعسار الأمور الخفية التي يختص بدركها المخالطون، كالصبر على المضض سرّاً، والاستمرار على الإضاقة. والغالب أن [القادر] (1) لا يصابرها سرّاً، وإن أبدى على العلن مصابرتها، فيجب تنزيل كل شيء على حسب ما يليق به. هذا بيان القول في التسامع بالملك المطلق. 12047 - وقد حان أن نتكلم بعد هذا في حقيقة التسامع ومعناه؛ فإن الحاجة ماسة إليه في الأنساب؛ إذ لا مُدركَ لها إلا التسامع: فالذي ذكره القاضي وشيخي وغيرُهما أن التسامع هو الاستفاضة، والتلقي من مُسمِعين لا يتأتى حصرهم. وذكر العراقيون أنه يكفي في التسامع السماع من عدلين، فلو سمع رجل عدلين يقولان: فلان بنُ فلان، فيجوز التلقي منهما، وبتُّ الشهادة على النسب، ثم قالوا: ليس هذا شهادة على شهادة العدلين، بل هو بناء الشهادة على التسامع، حتى [لو لم يُذكر] (2) لفظ الشهادة، ولم يشهد السامع عنها، فللسامع أن يشهد النسب، وإذا شهد، لم يأت بشهاته على صيغة الشهادة على الشهادة، بل يأتي بها مبتوتة. وذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - اشتراط الاستفاضة، وقال: معناها أن يقول ذلك قوم لا يجوز منهم التواطؤ على الكذب في العادة، والوجه الثاني - أنه يكفي السماع من عدلين. وهذا الوجه- وهو الاكتفاء بالسماع من عدلين- وإن كان بعيداً عن قياسنا، فهو متجه عندي؛ من جهة أن التواتر إنما يفيد العلم إذا كان مستنداً إلى معاينة المخبرين، هذا لا بد منه، ويعرِفُ ذلك مَنْ تلقَّى أصول الفقه من مجموعاتنا. وهذا غير ممكن في الأنساب، فإنه لا مستند لها من عِيان. ثم الذي أراه أن من اشترط الاستفاضة، فربما يكتفي بالإشاعة من غير نكير؛ فإن

_ (1) في الأصل: " المكاتمة ". والمثبت من لفظ (البسيط). والمراد بالقادر غير المعسر إذا ادعى الإعسار، فهو لا يصابر الإضاقة والجوع سرّاً، ان كان يعالن بذلك، ولذا قلنا: لا يُعرف الإعسار إلا من المخالط. (2) في الأصل: " لو يذكر".

التواتر إذا كان لا يوجب العلم الباطن -وهو العلم حقاً- فالعماد (1) أمر يرجع إلى العادة في إثارة غلبات الظنون، وهذا يُكتفى فيه بالإشاعة، وعدم النكير. ثم إن العراقيين جاوزوا الحدَّ، وقالوا: لسنا نشترط السماعَ من شاهدين أيضاً، بل نكتفي بدون ذلك، فنقول: إذا رأى الرجل رجلاً، وفي يده صبي صغير، وهو يصرح باستلحاقه، فتجوز الشهادة على نسبه بمجرد ذلك، وكذلك لو قال لكبير: هذا ابني، وذلك الشخص ساكت لا يرد عليه، فتجوز الشهادة على النسب بذلك، وكذلك لو قال بالغٌ هذا أبي، وسكت ذلك الشخص، فتجوز الشهادة على النسب بينهما. وهذا في قياس الفقه خطاً صريح؛ فإن قول الشخص الواحد -من غير إشاعة- في حكم الدعوى، حيث ذكروه، ونحن وإن كنا نثبت نسب المنبوذ بالدِّعوة (2)، فيستحيل أن نجوّز اعتمادها للشهادة على النسب مطلقاً. نعم، يشهد الشاهد على الدِّعوة، ثم يقع الحكم بموجبها. فهذا ما أردنا ذكره في معنى التسامع. 12048 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن من أصحابنا من يُلحق الانتماء إلى الأم بالانتساب إلى الأب في جواز اعتماد التسامع. ومنهم من قال: الانتماء إلى الأم بطريق الولادة لا يثبت بتسامعٍ؛ فإن العِيان في الولادة ممكن، بخلاف الانتساب إلى الأب. وهذا الخلاف قريب المأخذ من تردد الأئمة في أن المرأة إذا ادعت مولوداً مجهولاً، فهل تثبت الأمومة بالدِّعوة المجردة، كما تثبت الأبوة بها، وسيأتي ذكر هذا في باب [القائف] (3)، إن شاء الله عز وجل. ثم قال الأئمة: الشهادة اعتماداً على التسامع إنما تفيد إذا كان صَدَرُها من بصير، فيقول: هذا ابن هذا، وقد يطلق المطلِق أن ما يُعتمد السماعُ، فالأعمى فيه كالبصير، وهذا ليس يصدر عن تثبت؛ فإن الأعمى لو قال: زيد هو ابن عمرو،

_ (1) العماد: أي المعتمد، والمطلوب لبناء الشهادة عليه. (2) الدِّعوة: بالكسر: ادعاء الولد (المصباح). (3) في الأصل: "القاذف".

فالزيود فيهم كثرة؛ فلا استقلال لشهادة العميان في ذلك، وإن كان معتمد الشهادة السماع. وقد ألطف الشيخ أبو علي في تصوير الشهادة من الأعمى فيما يثبت بالتسامع، فقال: لو أراد أن ينسب شخصاً إلى شخص، لم يجد إليه سبيلاً. نعم، لو قال: زيدٌ بنُ بكر بنُ عمرو قرشيٌّ، أو هو من بني فلان، فيثبت بشهادة الأعمى؛ فإنه نسبٌ لا يحتاج فيه إلى الإشارة. والمسألة فيه إذا كان المذكور مشهور النسب بآبائه وأجداده المعيّنين، وإنما المطلوب انتهاؤه إلى قبيلة عظيمة. هذا ما ذكره. 12049 - ثم ذكر الأصحاب مذهب مالك (1) في مصيره إلى أن [للأعمى] (2) أن يعتمد في تحمل الشهادة الصوتَ، إذا حصل له العلم المبتوت فيه، لأنه يميز الصوت تمييزاً لا شك فيه، واحتَجَّ عليه باعتماد الزوج في وطء زوجته، وتمييزها من الأجنبيات. وقال أصحابنا: وطء الزوجة من باب المعاملات، وهذا شهادة على الغير، وهو في حكم الولاية، وإن لم يكن ولاية، فلا يجوز التصدي لإثبات الأحكام على [البتات] (3) مع التردد، وما يتعلق بالمعاملات قد يُتَسامح فيه لمسيس الحاجات والضرورات، ولا حاجة في الشهادة؛ فإن في البصراء مُتّسعاً، والصوت يشبه الصوت. واختلف أصحابنا في شهادة الأعمى على المضبوط (4) حيث يَستيقن منه قولاً، وذلك مثل أن يتمسك الأعمى بإنسان فيضع ذلك الإنسان فَلْق فيه على صماخ أذنه ويقرّ، فإذا تعلق الأعمى به، وشهد عليه في مجلس القاضي، ففي سماع شهاته -

_ (1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 971 مسألة: 1960، عيون المجالس: 4/ 1546 مسألة 1087، القوانين الفقهية: 304، تبصرة الحكام: 2/ 87. (2) في الأصل: " الأعمى ". وهذا التعديل محاولة منا لإقامة العبارة بأدنى تغيير. (3) في الأصل: " الثاني " وفي (ق): " الناس ". (4) المضبوط: الإنسان الذي أمسك آخر به، وأحكم قبضته على أطرافه، بحيث لا يستطيع انفكاكاً ولا حراكاً.

والحالة هذه- وجهان مشهوران: قال القاضي: الأصح أنها تقبل، لما ذكرناه في حصول العلم واليقين، وهو المطلوب. ومنهم من قال: لا تقبل، فإن تصوير الضبط على التدقيق الذي ذكرناه عسر؛ فلا يجوز فتح هذا الباب. وقد تردد أئمتنا في رواية الأعمى، والأظهر منعُها إذا كان السماع في حال العمى، وقال قائلون: يجوز إذا حصلت الثقة الظاهرة، واستدل هؤلاء بأن عائشة كانت تروي وراء الستر، ومعظم الروايات عنها كذلك، والبصراء في هذا المقام كالعميان، وما ذكرناه فيه إذا كان يفرض التحمل في حال العمى. فأما إذا تحمل الشهادة بصيراً، وأداها ضريراً على نسب مشهور، [مثل] (1) أن يسمع إقراراً، ويرى المقر، ونسبُه مشهور لا نزاع فيه، فإذا عمي قال: أشهد أن فلانَ بنَ فلانٍ أقر، فشهادته مقبولة، خلافاً لأبي حنيفة (2) رضوان الله عليه. والأعمى لا يجوز أن يكون قاضياً، لأنه لا يميّز بين الشهود، والمدعي والمدعى عليه، فإن سمع الشهادة على واحد، ولم يبق إلا القضاء، فعمي، فقال: قضيت على فلان، فهل ينفذ حكمه في هذه القضية الخاصة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يثبت، وهو الذي صححه القاضي ولم ينقل غيرَه. ومنهم من قال: ينعزل بالعمى، ويمتنع عليه القضاء عموماً. ومن جملة ما يمتنع عليه تنفيذ تلك القضية. 12050 - ومن تمام الكلام في هذا الفصل أنا ذكرنا اختلاف الأصحاب بأن الشهادة على الوقف هل يجوز أن تعتمد التسامعَ، ثم الذي ذكره الصيدلاني والمحققون في الطرق أن الوجهين يجريان في الوقف على معيّن جريانَهما في الوقف على جهة عامة، كجهة الفقراء والمساكين وغيرهما، وكان شيخي يقول: الوجهان في الوقف على الجهات العامة، فأما الوقف على معيّن، فلا يجوز إسناد الشهادة فيه على التسامع. وهذا لا أعتدّ به؛ من جهة جريان الخلاف في النكاح، مع اختصاصها بشخصين

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) ر. مختصر الطحاوي: 332، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 336 مسألة 1467.

معينين، فالتعويل إذا على ما وجهنا به الوجهَ من دوام الوقف، وجريان العرف بإشاعته، وكذلك القول في النكاح وما يلتحق بالقسم المختلف فيه. 12051 - وذكر صاحب التقريب وجهين في المترجم الأعمى إذا كان القاضي يكلف أهل المجلس السكوتَ، حتى لا يتكلم إلا المدعي والمدعى عليه: أحدهما - أن ذلك لا يجوز؛ لأن الأعمى ليس من أهل نقل الأقوال، فلا نظر إلى تفاصيل الأحوال، وهذا قريب مما ذكرناه من مضبوط الأعمى، والوجه الثاني - أن ذلك مقبول؛ فإن الغرض نقل القول إلى القاضي بحيث لا يستريب في قصد نقل المترجم، وقد ذكرنا في كتاب النكاح وجهين بانعقاد النكاح بحضور أعميين، وذلك أن قلنا: تحملٌ لا يترتب عليه الأداء، وفي تجويزه خرمُ قاعدة المذهب، وإبطال مُعَوّله في أن الغرض من تحمل الشهادة على النكاح، إقامتُها عند مسيس الحاجة إليها. فصل متصل بما ذكرناه، والحاجة ماسة إلى درك معناه وفيه تبيين تحمل الشهادة من النسوان 12052 - فنقول: إذا تحمل الرجل الشهادة على عين إنسان، واعتمد صورته، ولم يُحِط علمُه بنسبه على حسب الإمكان فيه، فيقيم الشهادة على عينه، كما تحملها على عينه، فلو غاب، لم يُقِم الشهادةَ، وكذلك إذا مات. وقال الأصحاب: إن مات ومست الحاجة إلى إقامة الشهادة يُحضَر (1) مجلس الحكم، ويقيم الشهود الشهادة على عينه، ولو دفن ومست الحاجة إلى الشهادة، قال القاضي: لا ينبش بعد الدفن، وهذا فيه نظر، إذا اشتدت الحاجة، وقرب العهد، ولم ينته إلى التغير الذي يحيل المنظر، فإنا قد نرى النبش بحقوق الآدميين في كون الكفن غصوباً، كما قدمناه في كتاب الجنائز، والأظهر ما ذكره القاضي. وإذا تحمل الشهادةَ على عين إنسان، وعرف نسبه، فيشهد على عينه في حضرته،

_ (1) أي الميت الذي شهد على عينه.

ويعتمد النسبَ في غيبته، وإذا عرفه باسمه أحمد، وربما كان يثبته بذلك، فلا يشهد عليه باسمه واسم أبيه؛ فإنه لا يثبت عنده في انتسابه إلى أبيه، ويخرج منه أنه إذا كان لا يعرفه إلا باسمه، فقد لا تنفع الشهادة في غيبته، وإذا عرفه باسمه واسم أبيه: أحمد بن عبد الله، لم يشهد عليه باسمه واسم أبيه وجده؛ فإنه لا يثبت عنده في اسم الجد. قال القاضي: ورد كتاب من القاضي إلى الققال رحمه الله ليزوّج فلانة من خاطبها أحمدَ بنِ عبد الله، فكان ذلك الإنسان من جيران الشيخ، فقال رحمه الله: أنا لا أعرفك بأحمدَ بنِ عبد الله، وإنما أعرفك باسمك: أحمد، ولم يزوّج. فلو قال قائل: هل يجوز في مثل هذه الواقعة أن يسمع المكتوب إليه بينةً على أنه أحمدُ بنُ عبدِ الله؟ قلنا: لا؛ لأن الحاكم لم يفوّض إليه سماعَ البينة على النسب، ولو فوض إليه سماعَ البينة، فلا يسمع هكذا؛ فإن البينات على الأنساب لا يسمعها القضاة إلا في دعوى تتعلق بالنسب. 12053 - ومما يجب الاهتمام به الإحاطة بتحمل الشهادة على النساء، فلا يحل تحمل الشهادة على متنقِّبة، وقد جرت عادات بني الزمان بما نصفه في ذلك، ثم نوضح بطلانه. فمن عادة المتحملين أن يعتمدوا تعريف شاهد أو شاهدين يقولان: هذه فلانةُ بنتُ فلان، حتى يقعَ التعريفُ، والمتحملُ يتحمل، ثم يؤدي الشهادة جازمةً أن فلانةَ بنتَ فلان أقرت لفلان بكذا، وهذا لا مساغ له على قاعدة المذهب. فإذا كان المتحمل لا يعرف عينها، فكيف يشير إليها عند إقامة الشهادة، ولقد كانت متنقبة عند التحمل، وتعذَّرَ اعتمادُ النسب على ما ذكرناه. قال القاضي: أقرت امرأة بمالٍ في مجلسي، فطلب المقر له أن أسجل على إقرارها، وزعمت المقرة أنها بنتُ فلانِ بنِ فلان، وما كنتُ عرفتها بنسبها، فلم يسغ أن أقبل قولها في نسبها (1)، ولا أن أسمع بينةً على نسبها، من غير سبق الدعوى،

_ (1) لأن النسب لا يثبت بالإقرار.

فنصبت قيِّماً، فادعى عليها: على أبيها (1) مالاً، فلان بن فلان، فأنكرت أنها ابنته، فأقام الخصم البيّنةَ على أنها بنتُ فلانِ بنِ فلان، فسمعتُ البينة، وسجلت على إقرارها للأول؛ تعويلاً على النسب [الذي] (2) ثبت عندي. فقال له بعض المحصلين: هل يسوغ للقاضي مثل هذه الحيلة، وهي تلبيسٌ؟ قال: بلى (3)؛ قال صلى الله عليه وسلم لعامل خيبر في القصة المعروفة: " أوه!! عين الربا، لا تفعلوا هكذا، ولكن بيعوا الجَمْع بالدراهم، واشتروا بها الجنيب " (4). وقال تعالى في قصة أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44]، ويمينه مشهورة، فأبرّه الله تعالى بما ذكر. وهذا كلام ملتبس. والقاضي مصرح بأن له نصب القيّم ابتداء، واحتجاجُه بما ذكره دليل على اعتقاده أن ذلك مما يسوغ من القضاة ابتداؤه توصلاً إلى إثبات الغرض. ولست أرى الأمر كذلك؛ فإنّ نَصْب القاضي قيماً، وتكليفَه الدعوى عن غائب، أو عن جهة نفسه -وإن لم يفرض قيّماً- تلقينُ دعوى باطلة، والدعوى الباطلة كلا دعوى، فكيف يسوغ بناء الشهادة عليها؟ وأنّى يشبه هذا قصةَ عامل خيبر!! والذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعٌ صحيح، والقصود لا تُبطل العقود، وقصةُ أيوب مَحملها أن الضرب بالضِّغث وفاءٌ باليمين، إذا (5) اشتمل على قضبانٍ على العدد المذكور في اليمين. فالوجه أن يقال: إذا كان وكلاء المجلس (6) يتفطنون لمثل هذا، فلو نصبوا مدعياً

_ (1) المعنى أنه طالبها بدين على أبيها: فلان بن فلان -وتركتُه عندها- وهذا الاسم الذي ينسبها إليه اسمٌ مفترض، لا علاقة لها به، فتنكر بالضرورة، فيقيم الخصم البينة على نسبها، فيسجل القاضي إقرارها. (2) في (2) الأصل: " التي ". (3) بلى: بمعنى نعم، مع أنها في جواب الإثبات، وذلك جائز، وعليه شواهد من صحيح البخاري ومسلم، وقد تقدم هذا موضحاً مفصلاً. (4) سبق هذا الحديث في باب الربا. (5) إذا: بمعنى (إذ). (6) لم يسبق ذكر (وكلاء المجلس) ولا بيان لمن يعنيهم الإمام بذلك، بل عُني بتفسير (أصحاب=

في مثل ما ذكره، فليس للقاضي أن يتجسس ويبحث، ولكن عليه أن يصغي إلى الدعوى. ولو أقرت امرأة في مجلس القاضي، فقال المقَرّ له: هذه فلانة بنت فلان، وغرضي الإشهادُ على نسبها؛ فإن إقامة الشهادة على العين لا [تعتبر] (1) إذا غابت أو ماتت، فإن أقرت المرأة بالنسب فإقرارها يفسد ترتيبَ المقصود؛ فإن البينة إنما تُسمع مع الجحود، أو مع عدم الإقرار، فلو أنكرت النسب، فقد يظهر أن يقال: للمقَر له أن يثبت نسبها بالبينة، حتى تتأد الحجةُ والإشهاد. وفيه إشكال؛ فإن القاضي يقول: أقرت هذه التي ادعيتَ عليها، فطالِبْها إن كان الحق ناجزاً حالاً، فلو قال: أبغي تأكيد الحجة في المآل، فالقاضي يقول: ليس لك ذلك بعد ثبوت حقّك عِياناً، وإنما ترتبط الدعوى بالنسب إذا كان ثبوته يوجب طلَبَه، فالأمر كما ذكرناه، فقد يقال: لا حكم لإقرارها إن أثبتنا هذا المسلك؛ فإن نسبها لا يثبت بإقرارها، بل هي مدعية فيما جاءت به، فلو صح إجابة المدعي لغرض التسجيل وتأكيد الحجة، فقد يَسقُط أثر إقرارها. 12054 - وكل ما ذكرته جريان على ترتيبين في ذكر طرق الطلب، وإلا فالذي يجب القطع به أن المقَرَّ له لا يُثبت نسبها بالطريقة التي رددناها، ولكن يلتمس من القاضي أن يسجل على حليتها وصورتها. هذا أقصى الإمكان، ثم الحلية المجردة تنفع عند إعادة الشهادة مع لَبسٍ عظيم ذكرناه في حلية العبد؛ فإن الحلية إذا تجردت عن النسب كانت كحلية العبد الغائب، وقد تقدم القول فيها، فلا طريق إلا ما ذكره القاضي.

_ =مسائله) وخلاف الأصحاب فيما يقصده الشافعي بهذا اللفظ، ولم نجد هذا اللفظ (وكلاء المجلس) مفسراً عند الغزالي في البسيط، أو الرافعي في الشرح الكبير، أو النووي في الروضة، ولا في أدب القضاء عند ابن أبي الدم، ولا في غير هذه من المصادر التي بين أيدينا. اللهمّ إلا في كتاب روضة القضاة للسمناني، فقد قال: " ينبغي للقاضي أن يتخذ من الوكلاء الشيوخ والكهول " ثم ذكر صفاتهم التي ينبغي أن يتحلَّوا بها، ولكنه لم يبين مهامَّهم، وأعمالهم، والفرق بينهم وبين المستخلفين -إن كانوا- وبين أصحاب مسائله. (ر. روضة القضاة وطريق النجاة: 122). (1) غير مقروءة بالأصل.

ولكن الاستدراك عليه أن القاضي لا ينشىء ذلك، بل يُفرض صَدَره من الخصم أو وكلاء المجلس، هذا تمام ما أردنا أن نذكره في ذلك. فخرج من مجموع ما حصّلناه أن من أراد أن يتحمل الشهادة على امرأة، فينبغي أن يكشف وجهها، وينظر إليها، ثم في الإعادة يكشف وجهها ويشير إليها، ولا يلتبس الأمر عليه إذا غابت عند التحمل والإشارة. وقيل: ادُّعي في مجلس القاضي أبي عاصم على امرأة، وكان للمدعي شهود على عينها، فدعا القاضي بنسوة في قدها وقامتها ولباسها، ثم قال للشهود: ميّزوا التي تشهدون على عينها، فميّزوها، وألزمها الكشف عن وجهها بعد ذلك، فشهدوا على عينها، وكان ما قدمه احتياطاً للإقدام على الكشف، وهو أقصى الإمكان، ولا حرج - وإن كانت المرأة على نهاية الجمال- لمسيس الحاجة، وهذا كتكشفها للطبيب، وكالنظر إلى الفرج لتحمل الشهادة على حاجةٍ، أو على الزنا. وقيل: أشهد الشيخ القفال على امرأة جاءته مع شاهدين شهدا أنها فلانة، فأثبت الشيخ شهاته في الصك، فمست الحاجة إلى إقامة الشهادة، فلم يُقمها، فاعتُرض عليه، فقال: أَشْهد كما أُثبت، وكان هذا بعد عهد طويل، فأحضر الصكَّ، فإذا فيه أشهدني فلان وفلان على أنها فلانة، وأنها أقرت، ثم قال: كيف أشهد، والشاهدان في السوق وأنا فرعهما. فهذا الذي ذكرناه وأكّدناه بالصور لاشتداد الاهتمام به تامٌّ في إيضاح المذهب. ونحن نختتمه بسؤال وجواب: 12055 - فإن قال قائل: قد حكيتم عن العراقيين القطع بالاكتفاء بقول عدلين، وحكيتموه عن الشيخ أبي علي وجهاً، فهلا قلتم: تُتحمل الشهادة على عين امرأة ونسبها، ويعتمد في النسب قولُ عدلين: أنها فلانة بنتُ فلان ابن فلان، فيستتب له أن يشهد -تعويلاً على النسب- في الغَيْبة؟ قلنا: إذا شرطنا الاستفاضة، فهذا لا يتحقق، ولم يحكِ القاضي إلا اشتراط الاستفاضة. وإن صححنا ما ذكره العراقيون، ففي القلب اختلاج وتردد من هذا؛ من جهة أن العين إذا عوينت كرجل يشار إليه، يجوز أن يفرض ارتباط النسب به، فأما إذا

كانت متنقبة، أو وراء ستر، فقول عدلين على النسب في مثل هذه الصورة مشكلٌ، حتى يسوغ أن يبنى عليه إثبات إقرار منتسبة. نعم، لو كشفت عن وجهها وقال عدلان: هذه فلانة بنت فلان، فيثبت النسب، ولكن لا فائدة فيه؛ فإنه عند الإعادة يحتاج إلى رؤيتها، وفي الرؤية مَقْنع عن ذكر النسب. فإن لم يكن كذلك، فعلى ماذا نحمل معرفة العدلين بأن المتنقبة هي التي نسبوها؟ نعم، إن كانا مَحْرمين، أو كان أحدهما زوجاً والآخر مَحْرماً، فقد ينتظم في ذلك رأي، وبالجملة لا تفريع على الاكتفاء بقول عدلين في إثبات النسب؛ فإن قول العدلين سبيله سبيل الشهادة، وللشهادة شرائط، وإن جعلناه شهادة ووجد شرائطُ الشهادة على الشهادة، فينبغي أن يشهد السامع منهما على شهاته. هذا منتهى المراد. فصل قال: " وكذلك يحلف الرجل على ما يعلم بأحد هذه الوجوه ... إلى آخره" (1). 12056 - العلم المسوّغ للشهادة على الغير لا شك أنه يسوّغ للإنسان الحلف في حق نفسه، وقد تجوز اليمين حيث لا تجوز الشهادة، وذلك إذا رأى (روزنامج) (2) أبيه وكان عدلاً عنده، وفيها أنه له على فلانٍ كذا، فله أن يعتمد خطَّ أبيه، ويحلف [عليه] (3) بحيث [يدّعي باليمين] (4) مع الشاهد، والشهادة لا تكتفي بأمثال هذا، وسيأتي هذا في الأيمان مشروحاً من بعدُ، إن شاء الله. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 249. (2) الرزنامج: لفظ دخيل معناه كُتَيِّب يتضمن معرفة الأيام والشهور وطلوع الشمس والقمر على مدار السنة وإدارة صَرْف مرتبات أرباب المعاشات. (المعجم) وهي هنا بمعنى الدفتر والسجل. والعرب عند التعريب يقلبون (الجيم) هاءً مثل: فالوذج= فالوزة. فالرزنامة أصلها: الرزنامج بالفارسية. (3) في الأصل: " على ". (4) مكان كلمات انمحت حتى استحالت قراءتها.

باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة

باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة 12057 - قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] ... إلى آخره " (1). والكلام في الباب يشتمل على مقصودين: أحدهما - أن من تحمل الشهادة على شيء استشهد فيها، فإذا مست الحاجة إلى إقامة الشهادة، نُظر: فإن كان المقصود يتعطل لو لم يشهد، فحق عليه أن يشهد، وإن كان تحملَ الشهادة جمعٌ، والحقُّ يثبت ببعضهم، وهم عشرة مثلاً، فإذا دعا الخصم آحادهم إلى إقامة الشهادة، فامتنعوا، فلا شك أنهم يَحْرَجون، والمأثم يعمهم، وإذا ابتدأ، [فعين] (2) شاهدين، والتمس منهما إقامةَ ما تحملاه، فهل لهما أن يمتنعا؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لهما ذلك؛ فإن الحق يثبت بالباقين. والثاني - ليس لهما الامتناع؛ فإنا لو سوّغنا لهما ذلك، فقد يمتنع كل اثنين منهم يُدْعَيان إلى إقامة الشهادة، فهذا يؤدي إلى التعطيل. والوجهان مفروضان فيه إذا عيّن والباقون يرغبون، أو لم تبِن رغبتهم، ولا إباؤهم. ولعل الخلاف في إحدى الصورتين يترتب على الخلاف في الأخرى، ولو امتنعوا، فهو ما ذكرناه من تأثيم الجميع. ولو أشهد الرجل شاهدين، فلما استدعى منهما إثبات الشهادة وإقامتها، قال أحدهما: أشهد، وقال الثاني: " لست أشهد؛ فأحلِف معه "، فليس له ذلك، لم يختلف أصحابنا فيه، ولا تعويلَ على احتمالٍ يعنّ، مع نقلنا الوفاق على ثبت.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 249. (2) في الأصل: " معين ".

ولو أشهد المودَع شاهدين على الرد، فلما أراد إثباته بشهاتهما، قالا: لا نشهد، قم فاحلف، فليس لهما ذلك. وقد قال الأئمة: لم يرد على شيء من الكبائر الوعيدُ الواردُ على كتمان الشهادة؛ فإنه سبحانه قال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، قيل في التفسير؛ ومن يكتمها مسخ الله قلبه، وانتزع منه حلاوةَ الطاعة، والاستشعار (1) من ملابسة المعصية. وإن كان الشاهد غائباً، نُظر: إن كان على مسافة يؤويه الليلُ إلى منزله، لزمه أن يحضر ويؤدي الشهادة، قال الأصحاب: له أن يطلب مركوباً، ثم زادوا، فقالوا: له أن يطلب أجرة مركوب، ثم إن لم يركب، فلا عليه. قال القاضي: لا يحل أخذ الأجرة على إقامة الشهادة؛ فإنه التزمها لمَّا تحملها، فلزمه إيفاؤها، وإنما الأجرة على ما يناله من نَصَبِ المشي، وهذا مشكل عندي؛ فإن المشي إن لم يكن مستحَقاً، فليس عليه أن يمشي، وإن كان مستحَقاً، فأخْذ الأجرة على المستحَق بعيد. نعم، له أن يقول: اكفني المشقة بإحضار مركوب، وفيه أيضاً [مجالٌ للناظر] (2)؛ فإنه ورّط نفسه في ذلك، ولكن رأيت الطرق مشيرة إلى أن له أن يستدعي مركوباً، فهذا تمام التنبيه على الغرض. 12058 - ولو سمع رجلان إقرار رجل، ولم يُشهدْهما، فلهما أن يشهدا على إقراره، وهل يلزمهما ذلك؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يلزمهما، كما لو أُشهدا، ومنم من قال: لا يَلزمهما، بخلاف ما لو تحملا؛ فإن التحمل التزام، وكأنه بمثابة ضمان الأموال، أثبته الشرع مُلزماً، ومن يوجب إقامةَ الشهادة، فلا محمل له إلا الحِسبةُ في تدارك ما أشرف على الضياع، وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة (3) رضوان الله عليه حَسَب اختلافنا.

_ (1) المعنى: انتزع منه الأحساس بالخوف من ملابسة المعاصي، فتردّى فيها، والعياذ بالله. (2) في الأصل: " مجال الناظر ". (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 358 مسألة: 1491، مختصر الطحاوي: 336.

12059 - ولو كان الشاهد المتحمل على مسادة القصر، لم يلزمه الحضور، والشهادةُ على الشهادة أثبتت لمثل ذلك. وإن كان على مسافة فوق المعروفة بمسافة العدوى، ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان أجرينا مثلهما في الاستعداء على الخصم وسنجريهما في قبول شهادة الفروع عند غيبة الأصول. وقد نجز الغرض في هذا الطرف، ولم يبق إلا أنه لو أشهد شاهدين، فمات أحدُهما، فله أن يكلف الثانيَ إقامةَ الشهادة إذا كان الحلف مع الشاهد ممكناًً، وإن لم يكن ذلك ممكناً، فقد يجب إذا أمكنه إشهادَ شاهدٍ ثانٍ، ثم تكليفه الإقامة، وإن لم يكن في شهاته فائدة، فلا معنى لشهاته. 12060 - فأما القول في التحمل، فنقول: ما لا يصح دون الشهادة عليه، فإذا فرض الدعاء إلى تحمل الشهادة، فالقيام به من فروض الكفايات، حتى إذا امتنع الناس عن التحمل عمّهم الحرج، كما يعمهم في تعطيل كل فرض من فروض الكفايات، وهذا كالنكاح والإشهاد عليه. ولو عيّن من يريد الإشهاد رجلين، وفي غيرهما مَقْنع، فلا يَحْرَجان بالامتناع، وليس هذا كما لو امتنع من المتحملين شاهدان؛ حيث لا يتعطل الحق بامتناعهما، فإنا ذكرنا وجهين ثَمَّ، والفرق أن التحمل مسلك في الالتزام، كما قدمناه، وهذا لا يتحقق في ابتداء التحمل. هذا إذا كان الإشهاد على ما لا يصح دون الإشهاد، وفي تعطيله ضِرارٌ عظيم. 12061 - فأما الإشهاد على عقود الأموال، فهل نقول: تحمُّل الشهادة فيها من فروض الكفايات؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه ليس من فروض الكفايات؛ فإن أصل الإشهاد ليس يجب. والثاني - أنه من الفروض فإن الحاجات ماسة إلى تأكيد أسباب الملك بالشهادات. ثم للوجهين مستند من اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، قيل: أراد أن لا يأبى من تحمل الشهادة عن الأداء، وقيل: أراد الإباء عن التحمل، فنَهى عنه.

12062 - وأما كِتْبةُ الوثيقة، هل هي من فروض الكفايات كتحمل الشهادة؟ فعلى وجهين. وتوجيههما يقرب من توجيه الوجهين في التحمل؛ فإن الحاجات ماسَّة إلى تقييد الحُجج بالصكوك، ولا يخفى غَناؤها الظاهر في التذكير، وإن لم يكن عليها معوّل عند فرض النسيان. وهذا الاختلاف مأخوذ من اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]، قيل: هو محمول على فعل المجهول، وهو الذي يسمى: " فعل ما لم يسمّ فاعله "، فالمعنيُّ به -على هذا- لا يلحق ضرر بالكاتب، فعلى هذا لا يجب الكِتبة. ومنهم من قال: أراد أن الكاتب والشاهد لا يفعلان ما فيه ضرر ملتحق بالناس، فعلى هذا يجب الكِتبة فرضاً على الكفاية. ثم قال الأئمة: للكاتب طلبُ الأجرة، وإن قلنا: الكِتْبة فرض على الكفاية. وتحمل الشهادة ليس مما يستغرق به منفعةٌ متقومة، ولكن لو كلف المشي إلى موضع، فقد ألحقه الأصحاب بالكِتْبة، ثم حيث أوجبنا تحمل الشهادة لا نوجب (1) على المتحمل أن يمشي إلى موضع، فيتحملَ الشهادة به إلا أن يكون المُشهِدُ مريضاً لا يقدر على أن يأتي الشاهدَ ويشهده؛ فإذ ذاك يجبُ إذا لم تمس الحاجة إلى قطع مسافة، فإن مست الحاجة إليه فتفصيل القول في المسافات كتفصيل القول في الإقامة (2)، إلا أن التحمل فرض كفاية، والإقامة فرضُ عين، وهذا فيه إذا لم يجد المريض من يتحمل، ومكانه قريب من مكانه. ...

_ (1) ضبطت في الأصل: يُوجَب. (2) المراد إقامة الشهادة.

باب شرط الذين تقبل شهادتهم

باب شرط الذين تقبل شهادتهم قال الشافعي: " قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. 12063 - مقصود الباب ذكر الشرائط المرعية في الشهود ليكونوا من أهل الشهادة، وما نذكره كالمعاقد والتراجم، والتفاصيل بين أيدينا. فيشترط أن يكون الشاهد عاقلاً، فلا قول لمجنون، ويشترط أن يكون بالغاً، فشهادة الصبي مردودة عندنا، ويشترط أن يكون حراً، فشهادة العبد مردودة، وقد خالف في ذلك أحمد (2) وبعض السلف (3)، ونحن لا ننكر أن في الشهادة مشابهة بيّنة مع الولاية، والعبد ليس من أهل الولاية، والسبب فيه أن الاستقلال بالتحفظ، وإقامة أركان الشهادة، لا يتأتى ممن هو [مستغرَق] (4) المنفعة، كما لا يتأتى منه القيام بالولاية. والإسلام شرطٌ في الشاهد، فلا تقبل شهادة كافر بحال، لا على الكافر، ولا على المسلم، خلافاً لأبي حنيفة (5) رضوان الله عليه، واعتماده على أن الكافر يلي ابنته

_ (1) ر. المختصر: 5/ 249. (2) ر. رؤوس المسائل للعكبري: 6/ 1005 مسألة 2257، المغني لابن قدامة: 12/ 71، الإنصاف للمرداوي: 12/ 60. (3) بعض السلف: منهم -كما في المغني لابن قدامة- عروة بن الزبير، وشريح القاضي، وابن سيرين، وأبو ثور، وعثمان البتي (ر. المغنى: 12/ 71). (4) في الأصل: " يستغرق ". (5) ما رأيناه عند الأحناف أن الكفار تقبل شهادة بعضهم على بعض، ولكن لم نجد القول بقبول شهادة الكافر على المسلم، فيما رجعنا إليه من مصادر. (ر. مختصر الطحاوي: 335، المبسوط: 16/ 140، رؤوس المسائل: 529، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 340 مسألة: 1471، طريقة الخلاف: 373 مسألة 156، إيثار الإنصاف: 341).

الكافرة في نفسها ومالها، فظاهر المذهب ما قال (1). وقد ذكرنا الجواب عن الولاية. قال الحليمي: لا تثبت الولاية للكافر وتمسك بلفظ الشافعي في المختصر، فإنه قال في الكفار: " لا نزوجهم إلا بوليٍّ وشهود مسلمين " (2)، فصرف قوله " مسلمين " إلى الولي والشهود. واللفظ الذي ذكره لا يعارض قول الشافعي في المختصر: " وولي الكافرة كافر " (3). ويشترط في الشاهد العدالةُ -وسيأتي وصفها- وحفظُ المروءة، وهو مشروح بين أيدينا، ويشترط الذكورة في بعض الشهادات، وعدّ عادّون انتفاءَ التهمة، وكل ذلك جُملٌ ستفصّل، إن شاء الله. ...

_ (1) ما قال: المراد الشافعي، فإن الكلام في شرح قوله، وتمسكه بظاهر الآية الكريمة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. (2) ر. المختصر: 3/ 293. (3) ر. المختصر: 3/ 265.

باب الأقضية واليمين مع الشاهد

باب الأقضية واليمين مع الشاهد 12064 - روى الشافعي بإسناده عن عمرو بن دينار عن ابن عباس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، قال عمرو: وذلك في الأموال " (1). فذهب الشافعي رضي الله عنه أن القاضي يقضي بالشاهد الواحد الذكر، ويمين المدعي في الأموال، وما يُقْصد به المال. وكل ما لا يثبت إلا بشهادة رجلين لا يثبت بالشاهد واليمين، وقد يثبت بالشاهد والمرأتين ما لا يثبت بالشاهد واليمين، وهو عيوب النساء. والأصل اختصاص القضاء بالشاهد واليمين بالأموال وما يؤول إليها. 12065 - ثم قال الأصحاب: ينبغي أن تتقدم شهادة الشاهد الواحد واليمينُ تعقُبها، ولو تقدمت اليمين، لم يُعتدّ بها؛ فإن سبب قبولِ اليمين قوةُ جانب المدعي بالشاهد الواحد. ولم يختلف الأصحاب في أن المدعي يتعين عليه تصديق شاهده في يمينه، فيحلف على ثبوت ما يدعيه، وعلى أن شاهده صادق محق، وسبب اشتراط ذلك ارتباط اليمين بالشاهد؛ فإنهما جنسان مختلفان، ويصير ارتباط أحدهما بالثاني بمثابة اتحاد نوع البينة.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 250. وحديث ابن عباس رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والشافعي في الأم وقال: " وهذا الحديث ثابت عندنا عن رسول اله صلى الله عليه وسلم، الذي لا يرد أحد من أهل العلم مثله لو لم يكن فيها غيره، مع أن معه غيره مما يشُدُّه " (ر. الأم: 7/ 7، مسلم: الأقضية، باب القضاء باليمين مع الشاهد، ح 1712، أبو داود: الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، ح3608، 3609، النسائي في الكبرى: القضاء، باب الحكم باليمين مع الشاهد الواحد، ح6011، 6012، ابن ماجه: الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين، ح2370، التلخيص: 4/ 377 ح2670).

وإذا كان يشهد رجل وامرأتان، فلا ترتيب، فلو شهدت المرأتان [أولاً] (1)، جاز؛ فإن النوع متحد، والاختلاف في الذكورة والأنوثة لا يوجب الاختلاف في نوع الشهادة، ويمين المدعي وإن كانت حجة، فهي قوله، فلا بد من اعتضادها بتقدم الشهادة. 12066 - ثم قال العراقيون: ينبغي أن يعدَّل الشاهدُ قبل يمين المدعي، فيثني عليه المزكّي بقبول القول، وجواز الشهادة، ثم يحلف المدعي بعد التعديل، حتى لو جرى التعديل بعد يمينه، فلا يُعتدُّ باليمين، كما لو تقدمت اليمين على الشهادة، وهذا الذي ذكروه ظاهر؛ فإن قوة الجَنْبة (2) إنما تظهر إذا ظهرت عدالة الشاهد، فإذا أنشأ اليمين قبل ذلك، كانت اليمين مصادفةً حالةً لم تظهر فيها قوة الحالف. وقد يتطرق احتمالٌ؛ من جهة أن التعديل- وإن جرى بعد اليمين، فهو مستند إلى الشهادة المتقدمة، والظاهر ما قالوه. ولم أر أحداً من الأصحاب تضايق في تقديم تصديق الشاهد في اليمين على إثبات الحق، حتى يقال: الشرط أن يقول أولاً: بالله إن شاهدي هذا محق صادق، ولي على خصمي كذا، فلو عكس، فأثبت الحق أولاً، ثم صدق الشاهدَ، فلست أرى بذلك بأساً، فلينظر الناظر في هذا. 12067 - ثم إذا وقع القضاء، فللأصحاب اختلاف في أنه يحال القضاءُ على ماذا؟ فمنهم من قال: هو محال على الشاهد واليمينُ تأكيد وعَضَدٌ، فعلى هذا لو رجع الشاهد، ورأينا الرجوع عن الشهادة مثبتاً غُرما، اختص بالغرم الشاهد، ومن أصحابنا من قال: القضاء يحال على اليمين، كما يحال ثبوت المقصود على أيمان القسامة، وإن كانت تستدعي لوثاً، ومن أصحابنا من قال: القضاء محال على اليمين والشاهد. ويمكن أن يعلق تردد الأصحاب في هذا باختلاف ألفاظ الأخبار، ففي بعضها أنه

_ (1) زيادة من (ق). (2) الجَنْبة: من الشيء جانبه وناحيته. (المعجم). والمعنى: قوة جانب المدعي التي ترتب عليها قبول يمينه.

قضى باليمين مع الشاهد، وفي بعضها أنه قضى بالشاهد ويمين الطالب، وهذا يدل على إحالة القضاء عليهما. فإن أحلنا القضاء عليهما، فعلى الشاهد إذا رجع نصف الغرم، وإن أحلنا القضاء على اليمين، فقد قال الأصحاب: لا غرم على الشاهد إذا رجع؛ فإن القضاء لم يقع بشهاته، وهذا محتمل عندنا؛ لأن القضاء وإن وقع باليمين، فمنفِّذُها ومُجريها شهادةُ الشاهد، فيمكن أن يخرَّج في الشاهد الخلاف المذكور في المزكي إذا رجع عن التزكية. والعلم عند الله. فصل قال: " ولو أتى قوم بشاهدٍ أن لأبيهم على فلانٍ حقاً ... إلى آخره " (1). 12068 - الورثة إذا ادَّعَوْا ديناً لمورثهم، وأقاموا شاهداًً، إن حلف كل واحد منهم يميناً مع ذلك الشاهد، ثبت الدين، واستحقوه إرثاً، وإن نكلوا، لم يستحقوا، فإن حلف البعض، ونكل البعض، استحق الحالف نصيبه، دون الناكل، وفي ذلك كلام نذكره بعد انتظام الترتيب، إن شاء الله. ثم من نكل، فلو مات الناكل، فأراد وارثه أن يحلف مع الشاهد الأول [ليستحق] (2) حصةَ الناكل ميراثاً عنه، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فإنه لو حلف، لكان ذلك باستحقاق الخلافةِ والوراثةِ، وقد بطل حقُّ الناكل عن اليمين لنكوله، بدليل أنه لو أراد في حياته أن يعود إلى اليمين، لم يجد إليه سبيلاً، فلا يثبت لوارثه بالخلافة عنه ما أبطله على نفسه في حياته. ولو أراد وارث الناكل أن يقيم شاهداً آخر، ويحلف معه، أما الحلف، فلا معنى له بعد ما أبطله المورِّث الناكل، ولكن هذا الشاهد هل ينضم إلى الشاهد الذي أقامه الورثة في ابتداء الخصومة، حتى يقال: تمت البيّنة، فتُغني عن اليمين؟ هذا بمثابة

_ (1) ر. المختصر: 5/ 120. (2) في الأصل: "يستحق".

ما لو أقام المورِّث شاهداً في خصومةٍ، ومات، فأقام الوارث شاهداًً آخر. وهذا فيه احتمال من قِبل أن الوارث يحتاج إلى تجديد الدعوى، وما يأتي به في حكم خصومة جديدة، فلو قيل: لا بد من استعادة شهادة الشاهد الأول، لكان ممكناًً. ولو قيل: انتظام الخلافة [يوجب] (1) البناء على ما كان، لم يبعُد، ولذلك لو أقام الموروث الأول شاهداًً، ومات قبل أن يحلف أو ينكل، فأراد الوارث أن يحلف مع ذلك الشاهد، فهذا محتملٌ لما ذكرناه؛ من جهة أنه يحتاج إلى تجديد الدعوى، ويُخَرَّجُ فيه أن الورثة إذا أقاموا شاهداًً، وحلف بعضهم، ومات بعضهم قبل أن يحلف أو ينكُل، فوارثه هل يحلف؟ فيه التردد الذي ذكرته؛ من جهة احتياجه إلى ابتداء الدعوى، وسيأتي لهذا نظير في الفروع، إن شاء الله تعالى. فإن قيل إذا كنتم تقولون: لا يحلف الوارث، وإن لم ينكُل الموروث، فأي فائدة في فرض الكلام في النكول؟ قلنا: نكوله سدَّ بابَ اليمين على الوارث، وإن ابتدأ الدعوى وجددها، فليثبت الناظر هاهنا. وإذا لم يحلف ولم ينكُل، فلا يمتنع على الوارث [أن يجدد] (2) الدعوى والحلف. 12069 - فإن انقسم الورثة إلى حضورٍ وغُيّب، أو صغارٍ وكبار، أو مجانينَ وعقلاءَ، فإذا أقام العاقل البالغ شاهداًً وحلف معه، قُضي له بنصيبه، ووُقِف نصيبُ من يمتنع تحليفه، فإذا آب الغائب، وأفاق وبلغ المجنون والصبي، حلفوا، واستحقوا حصصهم، ولا حاجة بهم إلى استعادة الشهادة، وإن لم يقمها من يليهم (3)، والسبب فيه أن الشهادة متعلقة بالميراث وإثبات ملك الموروث، وذلك في حكم الخصلة الواحدة، فإذا ثبتت الشهادة في حق البعض، ثبتت في حق الجميع وإن

_ (1) في الأصل: " فوجب ". (2) في الأصل: " أنه يجرّد ". (3) أي الأوصياء القيّم.

لم يصدر الدعوى من الجميع، ولا [ممن] (1) ينوب عنهم، وليس كاليمين؛ فإن اليمين، وإن تعلقت بتصديق الشاهد وإثبات ملك الموروث، فمبنى اليمين في الشرع على اختصاص أثرها دفعاً ونفعاً [بالحالف] (2)، ولا يتصور أن يحلف الإنسان لغيره، فالشهادة (3) أبداً حكمها التعدّي. فإذا كان في الورثة مجنون، وكنا ننظر إفاقته ليحلف، فمات، فقد قال الأصحاب: يقوم وارثه مقامه، فيحلف ويستحق، وهذا من قولهم يدل على أن من لم يحلف، ولم ينكُل إذا مات، قام وارثه مقامه من غير استعادة الشهادة، وقد يتخيل فرق، والأصل هذا. ثم إذا كان في الورثة صبي وبالغ، أو حاضر وغائب، وأقام البالغ الحاضر الشاهدَ، وكان المدعَى عيناً في يد غاصب، وهي ميراث بزعم الورثة، فإذا حلف البالغ الحاضر، فهل نزيل يد المدعى عليه عن حصة الصبي والغائب، ونَقِفَها إلى زوال المانع؟ ذكر القاضي قولين في ذلك، وهذا فيه بُعد، والوجه ألا تزال يده عن حصة من لم يحلف؛ فإن الحجة في تلك الحصة ما تمت، فلا طريق عندنا إلا القطع بتقرير يده. ولو أوصى لشخصين بشيء، فادعى أحدهما، وأقام شاهداًً، وحلف مع شاهده، استحق نصيبه، ولا تزال يد المدعى عليه عن نصيب الموصى له الثاني، إذا كان غائباً ما لم يراجع، فكذلك القول في سائر الموادع. والفرق أن الموصى له يدعي الملك لنفسه، والوارث يُثبت الملك لموروثه، ثم الشرع ينقله إليه بالخلافة، وكل واحد من الموصى لهما منفرد بملكه وحقه، وإذا حضر الغائب في الوصية، لم تغنه الشهادة التي أقامها الحاضر، بل عليه افتتاحُ دعوى، وإقامةُ شاهد، فإن شهد له ذلك الأول، فذاك، وإلا طلب شاهداً آخر.

_ (1) في الأصل: " فيمن ". (2) في الأصل: " بالحلف ". (3) كذا: "فالشهادة" (بالفاء) مكان الواو، وهذا معهود في لغة الإمام ومعاصريه.

وهذا [لِما] (1) ذكرناه من انفصال إحدى الوصيتين عن الأخرى. وقد نجز الكلام في هذا الفن على الترتيب الذي ذكرناه. 12070 - وبقي كلامٌ رمزنا إليه في صدر الفصل، وهذا أوان الوفاء به. فإذا خلف الرجل وارثين، فادعيا ديناً لموروثهما، وشهد شاهد واحد، وحلف أحدهما مع الشاهد، وأثبتنا مقدار نصيبه، فقد قال الشافعي: يختص الحالف بحصته، لا يساهمه [فيه] (2) الناكل، ونصَّ في كتاب الصلح على أن رجلين لو ادعيا عيناً ميراثاً في يد رجل، وزعما أنهما ورثاها، فأقر المدعى عليه لأحدهما بالإرث في مقدار حصته وأنكر الثاني، قال: يثبت نصف العين المدعاة، ثم قال: صاحب المُقَرِّ له يشاركه ويساهمه في الذي يسلم، فإنهما اعترفا ابتداء بأن المال مشترك بينهما إرثاً، وهذا يخالف الصورة التي قدمناها في اليمين مع الشاهد. قال الإمام (3): في المسألتين طريقان: من أصحابنا من قال: افترقا؛ لأن المدعَى في أحدهما دين، وهي مسألة الشاهد واليمين، فاختص الحالف، فإن الذي قبضه ليس عيناً مستحقة بينهما، ولو كانت مسألة الإقرار في الدين، لكانت هكذا، ولكان المقر له ينفرد بما يسلم، لا يشاركه الآخر، ولو كانت مسألة الشاهد في عينٍ، لاشترك الناكل والحالف. وهذا بعيد. والطريقة الصحيحة- أن اختلاف المسألتين بسبب تعلق الاستحقاق في إحداهما باليمين مع الشاهد، فلو أثبتنا الشركة، لاستحق الناكل بيمين غيره، وهذا لا سبيل إليه مع إبطال حق نفسه بالنكول، وفي مسألة الإقرار ثبت ما ثبت بإقرار المدعى عليه، ثم ترتب على إقراره إقرار المقَرّ له بأن ما سلّم إرثٌ. وفي المسألة احتمال، كما ذكرناه.

_ (1) في الأصل: " كما ". (2) في الأصل: " منه " والضمير مذكر على معنى النصيب أو السهم ونحوه. (3) الإمام: يقصد به والده.

12071 - ولو ادعى الورثة ديناً أو عيناً، وكان منهم غائب وحاضر، فأقام الحاضر شاهدين، فيقضى للحاضر بنصيبه، فإن كان المدعى عيناً، انتُزع نصيبُ الغائب -قولاً واحداً- من يد المدعى عليه؛ فإن البينة تامة لا يمين فيها، وقد أثبتت الميراث، وإن كان المدعى ديناً فهل تستوفَى حصة الغائب- وقد قامت البيّنة؟ فعلى وجهين: أحدهما - تستوفى، كما تزال يد المدعى عليه عن العين. والثاني - لا تُستوفى. وهذا في الغائب. فإن كان مجنوناً أو صبياً استوفى السلطان حصتَهما بالولاية. وما ذكرناه في الغائب لا يختص بهذه الصورة، بل من أقر لغائب بعين، واعترف بأنه غصبها، أزال السلطان يدَه، وحفظَها للغائب، وإن أقر بدينٍ لغائب، فهل يستوفيها (1)؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه. ولو ادعى رجل أن فلاناً أوصى لي ولفلان الغائب بهذه الدار، وأقام شاهدين، فتثبت الوصية في حق هذا المقيم، ولا تثبت في حق الغائب، وإذا عاد استعاد الشهادة، أو أقام بينة أخرى. وما ذكرناه في الورثة من أصول الكتاب، وهو في ظاهر الأمر كالخارج عن قياس الأصول؛ من حيث إن الحاضر يُثبت ملك الغائب من غير ولاية ولا نيابة، وسبب ذلك أنه يثبت ملك الميت، ولكل واحد من الورثة هذا السلطان، ليتَوَصَّل إلى ملك نفسه، ثم إذا ثبت ملكُ الميت، عم الإرث. فصل قال: " وليس للغريم، ولا الموصى له ... إلى آخره " (2). 12072 - الورثة إذا ادّعَوْا ديناً للميت، وأقاموا شاهداًً، ونكلوا عن اليمين، وكان على الميت ديون [لغرماء] (3)، فهل لهم أن يحلفوا إذا نكل الورثة؟ فيه قولان،

_ (1) كذا يعود ضمير المؤنت على الدين. وهو وارد -بتأويلٍ- في فصيح الكلام الذي يحتج به. فلتقدّر هنا الدراهم أو الدنانير ونحوها. (2) ر. المختصر: 5/ 120. (3) في الأصل: "الغرماء".

وكذلك لو فرض ذلك في الوصية، وقد استقصيتُ هذا في كتاب القسامة في مسألة أم الولد على أبلغ وجه، فلم أر الإعادة. 12073 - ثم قال: " ولو أقام شاهداً أنه سرق له متاعاً ... إلى آخره " (1). وهذا أيضاًً مما ذكرناه في باب الشهادة على الجناية. والذي لا بد منه أن من قال: سرق فلان نصاباً من حرزه، وأقام على ذلك شاهداً وامرأتين، فالقطعُ لا يَثْبت، والمالُ يَثْبُت. ثم فرع الشافعي (2) عليه مسألةً، فقال: إذا قال الرجل: " إن كنتُ غصبتُ شيئاً، فأنتِ طالق "، وخاطب زوجتَه، فأقام [المدعي الخَصْمُ] (3) شاهداً وامرأتين، أو شاهداًً، وحلف معه، ثبت الغصب، ولم يُحكم بوقوع الطلاق؛ فإن الطلاق لا يثبت بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين. قال ابنُ سُرَيْج: لو قضى القاضي عليه بالغصب بالشاهد واليمين، أو بالشاهد والمرأتين أولاً، فقال المقضي عليه: " إن كنتُ غصبتُ، فامرأتي طالق "، فيُقضَى بوقوع الطلاق، بخلاف ما لو تقدم التعليق على نفوذ القضاء. وهذا أجراه الأصحاب كذلك. وحكى شيخي أن من أصحابنا من خالف ابنَ سريج، ولم يفرق بين أن يتقدم القضاء، أو يتأخر، فقال: لا يقع الطلاق في الصورتين؛ فإن التعليق وإن سبق، فالقضاء بعده قد أكد الأمر، فكان كالقضاء قبله. وهذا وإن كان متجهاً، فلم أره إلا لشيخي. قيل للقاضي: ولو قال لزوجته إن ولدت، فأنت طالق، فأقامت أربعة من القوابل على الولادة، فقال القاضي: لا يقع الطلاق؛ لما تقدم، ويثبت النسب؛ لأن الولادة تثبت، ثم الفراش يُلْحقُ النسب، وكذلك لو علّق طلاقها برؤية الهلال، وشهد واحد

_ (1) السابق نفسه. (2) ر. المختصر: 5/ 251. والكلام بلفظ مقارب لهذا، لا بعينه. (3) في الأصل: " مدعي الخصم ".

على رؤية الهلال، ورأينا الحكم بثبوت الهلال، لم يقع الطلاق بناء على ما مهدناه. فصل (1) قال: " ولو أقام شاهداً على جارية أنها له وابنها ولد منه ... إلى آخره " (2). 12074 - إذا كان في يد إنسان جاريةٌ وولدُها، وكان يسترقّهما، فجاء مدعٍ وادعى أن هذه الجارية أمُّ ولدي، وهذا ولدي منها، وأقام على ذلك شاهداًً، وحلف معه، فقد قال الشافعي فيما نقله المزني: تثبت أميةُ الولد، ولا يُقضى بحرية الولد على حكم دعواه، واعتل أن الحرية لا تثبت بالشاهد واليمين. ونقل المزني قولاً آخر: أنه يُقضى له بالولد منتسباً إليه، ويقع الحكم بالحرية، فقد ثبت قولان في الولد كما حكينا، وثبت القطع بأُمّية الولد، أما أُمّية الولد، فالثابت منها اختصاصه بها، وهذا في التحقيق ملكٌ، وعُلقة الاستيلاد تثبت بإقراره وراء اختصاصه بملك الجارية. فأما القولان في الولد، فتوجيههما: من قال: لا تثبت حرية الولد، احتج بأنه لم يدّع فيه ملكاً، بل أراد إثبات حريةٍ أصلية بشاهد ويمين، وهذا لا سبيل إليه (3). ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن الولد في دعواه جزء من الجارية، وقد ثبت الاستيلاد، فإذا اختص بالجارية على صفة أمية الولد، تعدى ذلك إلى الولد. وهذا بعيد في القياس؛ لأن الجارية وولدها شخصان ويفرض فيهما دَعْوَيَان. واختار المزني أقيس القولين، وهو أن حرية الولد لا تثبت، واحتج بمسألة نذكرها، ونبين تفصيل المذهب فيها، وهو أنه قال: لو كان في يد إنسان عبد على

_ (1) وضع الناسخ البسملة هنا قبل كلمة (فصل) مع أنها في وسط الصفحة، وليست أول كلام جديد. (2) ر. المختصر: 5/ 251. (3) لأن الحرية ليست مما يثبت بالشاهد واليمين.

زعمه يسترقّه، فقال مدعٍ: هذا العبد ملكي، قد [أعتقته] (1) بحق الملك، وأقام شاهداً وأراد الحلف معه، نقل المزني أن دعوى المدعي لا تثبت (2)، والعبد مقرٌّ في يد المدعى عليه، واحتج بالمسألة التي أوردها، ورجّح قائلاً: إذا كانت الدعوى [لا تُثبت العتق بقول المدعي] (3)، وإن كان ذلك العتق مترتباً على الملك، وكان العتق مسبوقاً -بزعم المدعي- بالملك الثابت للمدعي، ثم الملك والعتق مزدحمان على شخص واحد، فإذا لم تثبت دعواه لمكان العتق حالة الدعوى، فلأن لا تثبت الحرية الأصلية في الولد أولى (4). وقد اختلف أصحابنا في مسألة العتق والملك في العبد، فقال بعضهم: في ثبوت العتق قولان؛ من حيث إنه ترتب على الملك الذي ادعاه، كالقولين في حرية الولد؛ فإنها مترتبة على أمية الولد في الأم. ومن أصحابنا من قال: لا يثبت العتق في مسألة العبد، لأنه متشبَّثٌ بدعوى المدعي في تلك المسألة، ولدعوى من يدعي أمية الولد تعلقٌ بما يقبل فيه الشاهد واليمين ثم ذلك الاختصاص على ذلك الوجه يقتضي ولداً لا محالة. وهذا تكلف، والقياس القطُع في المسألتين بأن حرية الولد وعتق العبد لا يثبت. فصل قال: " ولو أقام شاهداً أن أباه تصدق عليه بهذه الدار ... إلى آخره " (5) 12075 - مضمون هذا الفصل مسألتان، ثم كل مسألة لها شُعب.

_ (1) في الأصل: " أعتقت". (2) وجه ذلك أنه اعترف بحريةٍ ناجزة في الحال، فلا عُلْقة له به. (3) عبارة الأصل: " لا تثبت ثبوت العتق بقول المدعي ". (4) وجه الأولوية عبر عنه الغزالي بقوله: " قال المزني: فإذا كانت الدعوى لا تثبت بحرية ناجزة مع ترتبها على ملكٍ سابق، فكيف تثبت الحجة في الولد ولم يمسّه ملك ولارق، وهو في الحال حرّ " (البسيط: جزء6/ورقة: 143 وجه). (5) ر. المختصر: 5/ 251.

الأولى- فيه إذا ادعى ثلاثةٌ معاً -مثلاً- داراً في يد إنسان، فقالوا: هذه الدار وقفها أبونا علينا، وكانت ملكَه إلى أن وقفها، ثم على أولادنا بعد انقراضنا، وذكروا مصرِفاً لا ينقطع من جهة الآخِر، فإذا أقاموا شاهداًً، وحلفوا معه، ثبت الوقف على الرأي الأظهر بالشاهد وأيمانهم. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: رقبة الوقف ملك الواقف، أو ملك الموقوف عليه، [فالوقف] (1) يثبت بالشاهد واليمين، والشاهد والمرأتين. وإذا قلنا: الملك في رقبة الوقف لله، فلا يثبت الوقف إلا بشاهدين عدلين. وهذه الطريقة مزيفة من وجهين: أحدهما - أن مقصودهم إثبات استحقاق المنفعة ملكاً لأنفسهم، فليقع التعويل على مقصود المدعي، والآخر - أنهم يختصون بالرقبة اختصاص من يدعي استيلاد الجارية، وهذا ليس بذاك؛ فإن المستولدة ملك المستولد، والوقف إنما يضاهي الاستيلاد على قولنا: الملك في الموقوف للموقوف عليه، والتفريع بعد هذا على أن الوقف يثبت بالشاهد واليمين. وقد فرضنا الوقف على الترتب كما صورنا المسألة، ثم نذكر ثلاث صور في هذه المسألة تبيّن [القواعد] (2) والأمهات، ونأتي بعدها بما يستوعب الغرض. 12076 - فإحدى المسائل أن يحلفوا ونقضي بثبوت الوقف، فإذا ماتوا، فهل يحلف البطنُ الثاني، أم يعوِّلون على أيمان الأولين؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم لا يحلفون، ويكتفون بثبوت الوقف بما مضى. والثاني - أنهم يحلفون، ولو أبَوْا، لم يثبت الوقف في حقوقهم. والقولان مأخوذان من أصلٍ، وهو أن البطن الثاني في الوقف المترتب يستحقون ما ينتهي إليهم من جهة الواقف، أم يتلقَّونه من جهة البطن الأول؟ فعلى قولين، وقد بنينا على ذلك مسائل في الوقف، فإن قلنا: التلقِّي من الواقف، فلا بد للبطن الثاني من الحلف، وكأنهم الأولون، وإن قلنا: إنهم يتلقون من البطن الأول، فلا

_ (1) في الأصل: " بالوقف ". (2) في الأصل: " للقواعد ".

يحلَّفون؛ لأن الأولين قد حلفوا، وسبيلهم سبيل الورثة، وما أثبته الموروث باليمين والشاهد، فإذا انتقل إلى الورثة، لم يحتاجوا إلى الحلف. هذه مسألة. 12077 - الثانية - إذا نكل الأولون، ولم يحلفوا مع الشاهد أصلاً، وماتوا، فلا خلاف أن البطن الثاني لا يستحقون شيئاً من غير يمين، ولكن لو أرادوا أن يحلفوا ويستحقوا؛ فهل لهم ذلك؟ فعلى قولين، ومأخذهما ومأخذ القولين الأولين [واحد] (1)، ولكن يختلف الترتيب. فإن قلنا: التلقِّي من الواقف، فيحلف البطن الثاني، وإن قلنا: من البطن الأول، فلا يحلفون؛ لأن الأولين أبطلوا حقوق الأيمان بالنكول، وما بطل عليهم لا يثبتُ لمن يُتَلَقَّى منهم، كما ذكرناه في الموروث وورثة الملك. ووجه اتحاد المأخذين أنا إن قدرنا التلقِّي من الواقف، فحلِفُ البطن الأول لا يكفي في حق البطن الثاني، وعلى هذا الأصل لو نكل الأولون، لم يبطل حق البطن الثاني، فليحلفوا وليأخذوا. وإن قلنا: التلقي من البطن الأول، فإذا لم يحلفوا ونكلوا، بطل حق البطن الثاني، وإذا حلفوا، لم يحتاجوا إلى الحلف. 12078 - الصورة الثالثة - فيه إذا حلف البعض، ونكل البعض، مثل أن يحلف واحد وينكل اثنان، أما حصة الحالف فثابتة له، ولا يثبت حق الناكلَيْن، بناء على الأصل الممهد في أن حلف الإنسان لا يُثبت لغيره حقاً، ثم تُترك حصة الناكلَيْن في يد المدعى عليه؛ فإنه لم تقم عليه حجة في ذلك المقدار، ثم إن مات الحالف، فأولاده معه كأولاد جميع الأولين لو حلفوا. وأولاد الناكلَيْن إذا ماتا كأولاد جميع الأولين إذا نكلوا، وإذا ضممنا الكلام، قلنا: ولد الحالف يستحق إذا حلف، وهل يستحق من غير حلف؟ فعلى القولين. وأولاد الناكلَيْن لا يستحقون من غير حلف، وهل يستحقون مع الحلف؟ [فعلى القولين] (2) المذكورين.

_ (1) انمحت تماماً من الأصل، وقدرناها على ضوء السياق. والحمد لله وافقتنا (ق). (2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وزاده المحقق إقامة للعبارة. وهو مطموس في (ق).

فهذا بيان الصور المشتملة على القواعد في هذه المسألة. 12079 - وألحق صاحب التقريب [صورة] (1) بما مهدناه، فقال: إذا حلف جميعهم مع الشاهد، ثم مات واحد منهم (2)، فيصرف نصيبه إلى صاحبيه بحكم شرط الواقف؛ فإن مقتضاه ألا يُصرف إلى البطن الثاني شيء ما بقي من البطن الأول أحد. ثم إذا كان يُصرف نصيبُ من مات إلى الباقيَيْن، وقد كانوا حلفوا معاً، فإذا أخذ [الباقي] (3) نصيبَ الميت، فهل يحتاج إلى أن يحلف مرة أخرى على نصيبه؟ هذا رَتَّبه على أن البطن الثاني هل يحلفون إذا انتهى الاستحقاق إليهم، وقد حلف البطن الأول. فإن قلنا: لا يحلفون، ويكتفون بحلف البطن الأول، فالذين بقوا لا يحلفون على ما أخذوه من نصيب من مات منهم، ونفْي الحلف أولى هاهنا. وإن قلنا: أهل البطن الثاني يحلفون، وإن حلف البطن الأول- فهل يحلف الباقون في مسألتنا، وقد حلفوا من قبل؟ فعلى وجهين: أحدهما - يحلفون، قياساً على البطن الثاني. والثاني - لا يحلفون، ولعله الظاهر؛ لأنهم قد حلفوا، وأقاموا الحجة التامة على الوقف وشرطه، فتجديد الحلف في حقهم في حكم إعادة اليمين، وأهل البطن الثاني ما حلفوا قط، فلو أخذوا من غير حلف، لكانوا آخذين بأيمان غيرهم، وهذا بيّن. 12080 - ونحن نذكر صورة خامسة (4) متعلقة بالمسألة الأولى، وننبّه فيها على تمام الغرض، فنقول: إذا حلف واحد من البطن الأول، ونكل اثنان، ووقع القضاء للحالف بنصيبه، فمات الحالف، وتصدت لأخذ نصيبه البطن الثاني والناكلان، فكيف السبيل؟ الوجه: التنبيه على مثار الإشكال أولاً، فنقول: إن صرفنا نصيب الحالف إلى

_ (1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق. (2) هذه هي الصورة الرابعة من صور المسألة الأولى. (3) في الأصل: "الثاني". والمراد: الباقي من البطن الأول. ثم جاءت (ق) موافقة لما قدرناه. (4) الرابعة هي التي حكاها عن صاحب التقريب.

الناكلَيْن، كان ذلك موافقاً لشرط الواقف؛ فإن موجبه أن لا يصرف إلى البطن الثاني شيء، ما بقي من البطن الأول أحد، ولكن قد أبطلا حقوقهما بالنكول، ولو صرفنا نصيب الحالف إلى البطن الثاني، لكان ذلك مخالفاً لشرط الواقف مع بقاء الناكلَيْن، فاختلف أصحابنا لما نبهنا عليه على ثلاثة أوجه: فقال بعضهم: يصرف نصيب الحالف إلى البطن الثاني؛ لأن الناكلَيْن أبطلا حقوقهما بالكلية، فصار ذلك منهما بمثابة موتهما، ولو ماتا، لم يجز الصرف إلى البطن الثاني، وهذا ضعيف؛ فإنه مخالفةٌ لشرط الواقف. والوجه الثاني - أن نصيب الحالف مصروف إلى الناكلَيْن وفاء بالشرط، وهما إن أبطلا حقهما المتلقَّى من الواقف، فهذا حق متجدد لهما بموت الحالف، فلا سبيل إلى إبطاله عليهما. ومن أصحابنا من قال: لا يصرف إلى الناكلَيْن، ولا إلى البطن الثاني، وقال: هذا المقدار تعذر مصرفه، لما نبهنا عليه من الإشكال في صدْر المسألة، فيصرف إلى أقرب الناس بالمُحَبِّس، وهذا مسلك لنا معروف: مهما (1) تعذر صرف شيء من الوقف إلى المصرف الذي شرطه الواقف بعد صحة الوقف. 12081 - ووراء ما ذكرناه تنبيهات في استكمال التفريع: أحدها: إن نصيب الناكلَين في أول الأمر متروك على المدعى عليه؛ فإنه لم تثبت فيه حجة، والاستحقاق تبع الحجة، وأما نصيب الحالف، وقد مات -في صورة الأوجه الثلاثة- فقد ثبتت عليه الحجة؛ فإنه حلف عليه في حياته، فلا سبيل إلى تركه بعد وفاته على المدعى عليه، وقد انتزع من يده بحكم وقفٍ لازم، فوقع التردد بعد ذلك في المصرف. ومما نذكره أنا إن صرفنا إلى الناكلَيْن، فهذا يخرج على التردد الذي ذكرناه في أنهم إذا حلفوا، ثم مات بعضهم، فهل يأخذ الباقون نصيب من مات من غير يمين؟

_ (1) مهما: بمعنى: إذا.

إن قلنا: لا بد من يمين، فللناكلَيْن أن يحلفا الآن على نصيب الحالف، وإن نكلا من قَبْل عن نصيب أنفسهماً، وإن قلنا: لا يحلف الباقون إذا مات حالف، فههنا يأخذ الناكلان ولا يحلفان. وقد يخطر للفقيه ترتيبٌ من جهة أنهما ما حلفا قط، فيمكن أن يكونا كأهل البطن الثاني في الترتيب. التفريع: إن قلنا يأخذان بلا يمين، فلا كلام، وإن قلنا يأخذان باليمين، فإن حلفا، فذاك، وإن نكلا، فقد تعذر الصرف إليهما، وزال هذا الوجه، وبقي النظر إلى البطن الثاني، وإلى أقرب الناس إلى المحبِّس. وإن قلنا بالصرف إلى البطن الثاني، فلا نخصص أوّلاً أولاد الحالف، بل لا فرق بين أولاده وأولاد الناكلَيْن، ثم يعود القولان في أنهم هل يُحَلَّفون أم يكتفون بما تقدم من اليمين؟ فإن قلنا: يكتفون، فلا كلام. وإن قلنا: يُحَلَّفون، فإن حلفوا، فلا كلام، وإن نكلوا، انقطع النظر عن الأول والثاني، وبقي وقفٌ تعذر مصرفه، فإن رأينا الصرف إلى أقرب الناس بالمحبّس، صرفنا إليهم، وهل يُحَلَّفون؟ فعلى ما ذكرنا من الخلاف: فإن قلنا: يحلّفون، فلم يَحْلِفوا، فهذا وقفٌ لا ندري له مصرفاً، وحكمة مستقصىً في كتاب الوقف، وقد بأن مقصود المسألة. وإذا انتهى طرف منها إلى فقدان مصرف الوقف، فلتقع الثقة بكمال البيان منه في كتاب الوقف. قال العراقيون: لو أقام الأولاد كما صورناه شاهداًً، وحلفوا معه، وكان شرط الواقف أن الوقف بعد انقراضهم على المساكين، فإذا انقرض الأولاد، فإن قلنا في المسائل المتقدمة: إن أهل البطن الثاني لا يُحَلَّفُون ويكتفون بما سبق، فيصرف الوقف إلى المساكين في هذه الصورة. وإن قلنا: أهل البطن الثاني لا بد وأن يُحَلّفوا، فلا يتصور تحليف المساكين مع خروجهم عن الضبط، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الوقف مصروف عنهم. والثاني - أنه مصروف إليهم. ووجه الوجه الأول قياس اشتراط اليمين، ووجه الثاني الضرورة في تعذر التحليف. فإن قلنا بالوجه الأول، فقد تعذر التحليف، فهذا وقف تعذر مصرفه، فيلتحق بأصله في الوقف، ويخرج وجهٌ في الصرف إلى أقرب الناس

بالمحبِّس، ووجهٌ في بطلان الوقف ورجوعِه ملكاً، ولا خوض في هذا بعد الإحالة على كتابه، وقد تمت مسألة بأطرافها. 12082 - المسألة الثانية - إذا قال الواقف: وقفتُ على أولادي وأولادهم، فذكر البطنَ الثاني جمعاً إلى البطن الأول، ولم يرتبهم، فهذه المسألة تتميز عن الأولى في أن الاستحقاق في الأولى على الترتيب، وهو في الثانية على الجمع، ولكن مقتضى الشرط أن الأولين لو لم يولد لهم، لانفردوا بالاستحقاق، وإذا ولد لواحد منهم أو لهم، أدخل من تجدد في الاستحقاق من وقت الولادة، حتى لو كانوا ثلاثة، فالوقف بينهم أثلاثاًً، فإذا ولد مولود، فله الربع، والوقف بينهم من وقت الولادة أرباعاً، هذا حكم الشرط. فلو أقام الأولون شاهداً، وحلفوا معه، استحقوا الوقف أثلاثاًً، فلو وجد ولدٌ، وقفنا رُبع الوقف من وقت ولادته، وأبقينا في يد الحالفين ثلاثة أرباع الوقف على الحكم الأول، ولا يصرف إلى الولد الجديد ذلك الربعُ الموقوفُ وجهاً واحداً، اكتفاء بأيمان الأولين. وليس كالمسائل السابقة في مسألة الترتيب؛ فإن كل صورة ذكرنا فيها خلافاً في اليمين، فهي مشتملة على الترتيب، فإنا نشترط في ثبوت الاستحقاق موتَ ميت، فينشاً منه -إذا حلف من تقدم- كلامٌ في أن من تجدد يأخذ بيمين من قبله بناء على أصلٍ، وهو أن البطن الثاني يتلقَّوْن من البطن الأول، أو من الواقف؟ فإن قلنا: يتلقون من الواقف، فليس إلا الحلف، وإن قلنا: يتلقون من البطن الأول، فلا يحلف كما لا يحلف الوارث، وقد خلف موروثَه في الأملاك. وهذا المعنى لا يتحقق حيث لا ترتيب، فإن الولد الجديد بمثابة الأولين إذا وجد، فلا ينقدح فيه إلا التلقي من الواقف، فلهذا وقفنا الربع إلى أن يبلغ، فيحلف، فإن حلف، صرفنا إليه ما وقفناه له، وإن نكل عن اليمين، فالمنصوص عليه للشافعي أن ما وقفناه له مردود على الأولين، فتعود القسمة أثلاثاً كما كانت، ويخرج هذا الجديد من البَيْن.

وقال المزني: الربعُ الموقوف لا يصرف إلى الأولين؛ فإنهم ليس يدعون، بل معترفون بأنه يُسْتَحق للولد الجديد بحكم اعترافهم، وقد تعذر الصرف إليه بسبب نكوله عن اليمين، فلا وجه للرد إلى الأولين، وهذا الذي ذكره لا يُنكِر اتجاهَه في القياس منصفٌ، ولا حاجة إلى الإطناب فيه. والمقدار الذي ذكره الأصحاب لنصرة النص ما حكَوْه عن ابن سريج؛ فإنه قال: كان الأولون مستحقين لجميع الوقف قبل وجود هذا المولود، فإذا وجد دخل استحقاقُه على الأولين دخولَ العَوْل، وكل استحقاق يبقى على استغراق، فهكذا يكون، ثم استحقاق العول موجَبُه الصرفُ إلى المستغرقين إذا تعذرت جهة العول. وهذا يناظر الديون والتركة [فإذا كانت التركة ألفاً] (1) والدين ألف، فهي مصروفة إلى الدين، فلو ظهر ألف آخر، فالتركة بينهما، فلو أسقط صاحب الدين الظاهر حقَّه، فصاحب الأول يستغرق التركة، وهذا كلام نظمه ابن سريج، ولا يتصور مصادمة معنى مذهب المزني به؛ فإن الاستحقاق ثبت في الربع للولد الجديد، ولا ينفع بعد هذا التقديراتُ والتلقيباتُ، والمزني يقول في مسألة الدّينين: إذا لم يحلف صاحبُ الدين الثاني لا يأخذ صاحب الدين الأول إلا ما يخصه. نعم، إذا أبطل الثاني دينَه بإبرائه، فالتركة تصرف إلى الأول. ومسألة الدَّينين فيه إذا اعترف الأول بثبوت حق الثاني، وقصّر الثاني في إثبات التركة لتكون متعلقاً لدينه، وأما إبطال الثاني دينه، فلا نظير له من الوقف؛ فإن النكول لا يُبطل الحق من الوقف، بدليل أن الناكل لو وجد بيّنة (2)، أقامها واستحق بها، ولو أقر المنكر [ثبت] (3) بإقراره ما فيه النزاع، والأولون معترفون بثبوت الوقف للرابع، وتقصيره لا يبطل إقرارهم، بل يؤاخذون به. 12083 - والوجه عندنا إلحاق مذهب المزني بالمذهب، واعتقادُه قولاً منقاساً

_ (1) زيادة من (ق). (2) أي شاهداًً ثانياً. (3) زيادة من (ق).

مخرجاً، ثم تفريع المزني أن الربع الذي لم يحلف عليه المولود إذا تعذر [صرفُه] (1) إلى الأولين لأنهم مؤاخذون بالأقرار، ولم يحلف الرابع ليأخذ، فهذا وقفٌ تعذر مصرفه، ثم هو محال على موضعه من كتاب الوقف. فلو قال قائل: هلا رددتم ذلك الربع إلى المدعى عليه؟ فإن التعذر جاء فيه من عدم الحجة، وكأن حجة الأولين لم تشمل هذا الربع عند وجود هذا المولود، وما تقاعدت الحجة عنه، فحكم الخصومة رده على الخصم. قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ إذ لو قيل به أولاً، لزم منه طرد ذلك في مسألة الترتيب إذا حلف الأولون ونكل البطن الثاني -على قولنا إنهم يحلفون- حتى يُردّ الوقف إلى المدعى عليه عند نكولهم، ولا قائل به. والسبب فيه أن يد المدعى عليه أزيلت بالحجة القائمة، وانقطع تعلقه، وما يطرأ بعد ذلك من باب تعذر الصرف على الاختصاص بمصارف الوقف، كذلك في المسألة الثانية أزيلت يد المدعى عليه قبل المولود الجديد، فلا يعود استحقاقه باختباطٍ واضطراب في مصارف الوقف. والقول الجامع فيه أنه إذا نكل البعضُ في أول مرتبة، فلا حجة في نصيبه، وحكم هذا تبقيةُ ذلك المقدار في يد المدعى عليه؛ إذ ما قامت عليه حجةٌ قط، فاستمر تعلقه، ومهما (2) أزيلت يده، فلا عود له إلى الطلب قط، ويؤول النظر إلى وقفٍ تعذر مصرفه. هذا ظاهر. ولست أنكر بقاء خلاجٍ في نفس الفقيه، ولكن ما ذكرتُه من أظهر كلام يجري في المسألة، ولست أعرف فيه خلافاًً. فرع على التصرف، في المسألة الأخيرة: 12084 - إذا قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي، وكان أولاد الصلب ثلاثة، فادَّعوا وأقاموا شاهداً، وحلفوا معه، وأزلنا يد المدعى عليه، وصرفنا الوقف إليهم أثلاثاً، فتجدد ولد، ووقفنا له الربع وغَلَّتَه، ومضت سنة كذلك، فمات من

_ (1) في الأصل: "صُرف". (بهذا الضبط). (2) مهما: بمعنى إذا.

أولاد الصلب واحد فيصير الموقوف للمولود ثلثاً من وقت موت ذلك الولد، فلو مضت سنة أخرى، فمات هذا المولود الجديد، فلا شك أن رقبة الوقف بين ولدي الصلب الآن نصفين. أما رَيْع السنتين، فنقول: رَيْع السنة الأولى حقُّه أن يصرف إلى أولاد الصلب: أعني الثلاثة، فإذا مات [الولد] (1)، فالرَّيع الموقوف للولَدين الباقيين، ولوارث الولد الثالث الذي مات، وأما رَيْعُ السنة الثانية، فيختص بالولدين الباقيين، فإنه حدث بعد موت الثالث، فلاحظ لورثته فيه. وهذا بيّن لا شك فيه. فرع: 12085 - إذا كان الوقف على الجمع كما ذكرنا، فولد ولدٌ، وقفنا له الربع، وقد حلف الأولون قبله، فإذا مات هذا المولود الجديد طفلاً، فحكم شرط الواقف رجوعُ ذلك إلى الأولين؛ فإن المزاحِم قد زال، وهل يحتاجون إلى يمين جديدة؟ هذا يخرج على الخلاف المقدم. إن فرّعنا على مذهب المزني؛ فإنه جعل الرابع أصلاً في الاستحقاق، وبمثابة أحد أولاد الصلب، فكان موته، ورجوع الربع بحكم الشرط إلى الأولين، بمثابة ما ذكرناه في مسألة الترتيب إذا حلف الأولون، ثم مات بعضهم، فهل يُحَلَّف الباقون؟ وإن فرّعنا على النص، لم نحوج أولاد الصلب إلى الحلف؛ فإن حكم النص إخراج الطارىء من البَيْن، وتقديره كأنه لم يكن. وكيف يستراب في هذا، ولو نكل وبقي هذا الرابع، فنصيبه مفضوضٌ على أولاد الصلب ويقدَّر كأن التجدد لم يكن. ثم عقد الشافعي باباً في ذكر الخلاف مع أبي حنيفة في الشاهد واليمين (2). والله أعلم. ...

_ (1) في النسختين: " المولود " والمثبت هو ما يَقتضيه السياق، فالمراد إذا مات الولد الصلبي، فالرّيع في السنة الأولى للصلبيين الباقيين ولورثة هذا الثالث. (2) ر. المختصر: 5/ 252.

باب موضع اليمين

باب موضع اليمين قال: " من ادعى مالاً فأقام عليه شاهداًً ... إلى آخره " (1). 12086 - مقصود الباب القول في تغليظ الأيمان بالمكان والزمان والألفاظ، فكل ما يعظم قدره كالدماء وما يلتحق بها مما لا يثبت بالشاهد واليمين، فالتغليظ في اليمين مشروع فيه، وما يثبت بالشاهد والمرأتين ينقسم إلى المال وحقوقه، وإلى عيوب النساء، فأما الأول، فينقسم إلى المال الكثير وإلى القليل، فأما القليل، فلا تغليظ فيه بالجهات الثلاث. وأما الكثير، فالتغليظ مشروع فيه. والكثير الذي يجري التغليظ فيه، عشرون ديناراً أو مائتا درهم، وما دون ذلك لا تغليظ فيه، والرجوع فيما ذكرناه إلى الآثار. روي عن عبد الرحمن بن عوف أنه مرّ برجل يحلَّف بين الركن والمقام، فقال: " أعلى دمٍ؟ فقالوا: لا، فقال: أعلى عُظْم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت " (2) وروي- أن يَبْهأ (3) الناس بهذا البيت. ومعناه: التهاون أيضاًً.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 254. (2) أثر عبد الرحمن بن عوف رواه البيهقي في السنن الكبرى: 10/ 176، وفي معرفة السنن والآثار: 7/ 414 رقم 5931. (3) يبهأ: بَهَأ به، يَبْهَأ بَهْأً، أَنِس به (المعجم). ومعنى الأنس به أي الاعتياد، والإلف الذي يُذهب المهابة ويؤدي إلى التهاون. وقد فسر البيهقي هذا اللفظ (يبهأ) قائلاً: "يبهأ الناس يعنى يأنسوا به، فتذهب هيبته من قلوبهم. قال أبو عبيد: يقال: بهأت بالشيء إذا أنست به"، وقد جاء هذا التفسير في (اللسان) مستشهداً بحديث عبد الرحمن بن عوف هذا.

فروى (1): العظيم من المال عشرون ديناراً، ولا يظن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدير من غير تثبت عندهم. فأما عيوب النساء، فأمرها خطير يلتحق بالنكاح وما في مرتبته، وإن كان يثبت بالشاهد والمرأتين؛ فإن سبب ذلك الضرورة الداعية إلى قبول شهادة النسوة المتجردات. ثم ترتب عليه إقامة رجل مقام امرأتين. ومما نذكره أن الوكالة في التصرف في مقدار نزرٍ من المال قياسها تغليظ اليمين فيها، لأنها لا تثبت برجل وامرأتين تعظيماً للولاية، وملك التصرف. وفي النفس من هذا شيء؛ فإن الوكالة في الدرهم خسيسة، وهي أخس من ملك الدرهم، فإن تصرف المالك أقوى من تصرف الوكلاء، وشرطُنا شاهدين في الوكالة لا يحمل على شرف الوكالة، وإنما يحمل على اتباع التعبدات في مراتب الشهادات، والتغليظ يتلقى من عظم قدر ما فيه الخصومة، فإذا كنا نغلظ ما يتعلق ببواطن النساء مع ثبوته بالشاهد والمرأتين، لم يبعد أن نخفف ما يتعلق بالوكالة، وإن كانت لا تثبت إلا بشاهدين. هذا قولنا فيما يجري التغليظ فيه. 12087 - ثم كيفية التغليظ بالمكان والزمان مضى ذكرهما في كتاب اللعان، والذي نذكره ههنا أن التغليظ بالمكان هل يُستحَق؟ فيه قولان لا يخفى توجيههما تعلقاً بالوجود من وجه، وحملاً على الاحتياط من وجه، ووجه التعلق بالوجود أنه لو لم يجب، لما جاز لما أشار إليه عبد الرحمن بن عوف من خشية التهاون. ثم قال الأصحاب: في تغليظ الأيمان على الكفار، نحلّفهم في كنائسهم وبيعهم، ولا نحلّف المجوسي في بيت النيران؛ فإنها ليست محترمة، وهذا وإن صار إليه الأصحاب مشكل، وقد قال صاحب التقريب: نحلفهم في بيوت النيران. ووجه ما قاله الأصحاب أن البيع والكنائس محترمة، فنسخت حرمتها، فلا يبعد الاستمساك بما كان، ولم يثبت احترام بيوت النيران في ملة من الملل.

_ (1) فروى: أي الشافعي (ر. المختصر: 5/ 254).

فأما التغليظ بالزمان، ففيه طريقان: منهم من لم يوجبه، قولاً واحداً. ومنهم من أجرى القولين فيه. وأما التغليظ باللفظ، فينقسم إلى تغليظٍ بالعدد كما ذكرنا في أيمان القسامة واللعان، وهذا مستحَق حيث يثبت، وتغليظ لا يرجع إلى العدد، قول الحالف " بالله الذي لا إله إلا هو " وهذا مرتب على الزمان، وهو أبعد الأركان الثلاثة عن الاستحقاق. وإذا جمعنا المكان والزمان واللفظ، انتظم فيها أقوال: أحدها - الاستحقاق في الكل. والثاني - الاحتياط في الكل. والثالث - الاستحقاق في المكان فحسب. والرابع - الاستحقاق في الزمان والمكان دون اللفظ. فرع: 12088 - إذا رأينا التغليظ بالمكان، واقتضى ذلك إحضار المرأة المسجد وتحليفها، فلو كانت مخدرة، قال العراقيون: لا يعصمها التخدير، ويجب عليها حضور المسجد وقطعوا بها، وقد قدمنا في التخدير كلاماً يوجب تطرق الاحتمال إلى ما ذكرناه الآن. فرع: 12089 - كل تغليظ رآه القاضي مستحَقاً، فيجب اتباع رأيه فيه؛ فإن المسائل مجتَهَد فيها، والامتناع عما رآه غير سائغ، والممتنع مجبَر على الطاعة، فإذا قال القاضي: قل " بالله "، فقال " بالرحمن "، كان هذا نكولاً؛ فإنَّ حَلِفه مربوطٌ بتحليف القاضي، والقاضي لم يحلّفه بالرحمن، فكان مبتدئاً فيه، هكذا وجدت الطرق. ولو قال: " قل بالله الذي لا إله إلا هو "، فقال: " بالله "، واقتصر، فهل يكون ناكلاً أم لا؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب. والوجه عندي أن نقول: إذا رأى القاضي التغليظ باللفظ مستحقاً، فالممتنع عنه ناكل، وإن لم ير القاضي التغليظ مستحقاً، فمخالفة القاضي فيما يراه احتياطاً هل يكون نكولاً؟ فعلى وجهين.

هذا مقصود الباب، وقد تركت مسائل فلم أُعدها، لأني ذكرتها في كتاب اللعان، والغرض الأخص بالباب نجمعه في فصلٍ. فصل 12090 - الخصومة الدائرة بين شخصين قد تكون مغلظة في أحد الشقين مخففة في الشق الثاني، وتصوير ذلك أن العبد إذا ادعى على مولاه إعتاقه إياه، فانكر المولى، فالقول قوله مع يمينه. فإذا رغب في اليمين نظرنا إلى قيمة العبد، فإن كانت قيمته عشرين ديناراً غُلّظت اليمين عليه. والتفريع على التغليظ. وإن كانت القيمة أقلَّ من عشرين ديناراً، لم تغلّظ، وإن نكل عن اليمين، رددنا اليمين على العبد، واليمينُ مغلظة عليه، قلّت قيمته أو كثرت، فإنه يبغي إثبات العتق وخطرُه عظيم، وكذلك إذا ادعى على مولاه الكتابة، والمولى ينكرها، فننظر إلى مقدار القيمة في جانب السيد، وإذا [رددنا] (1) اليمين على العبد غلّظناها، لأنه يبغي بإثبات الكتابة الاستقلال المنافي لحجر الرق المُفضي إلى العَتاقة. وذكر صاحب التقريب في هذا الفن وجهاً بعيداً، أنا إذا غلظنا اليمين من جانب، غلظناها من الجانب الثاني، حتى يتحد القياس في ترتيب الخصومة. وهذا وجه مزيف لا أصل له؛ إذ ليس المصير إلى هذا أولى من المصير إلى عكسه حتى يقال: إذا خَفَّت الخصومة في شيء كالملك، فالعتق زوال لذلك الملك الخفيف، فيجب تخفيفه، فالوجه الحكم في كل شيء بما يليق به. فرع: 12091 - قال العراقيون: إذا توجه على رجل يمين بمكة مثلاً، ورأى القاضي تغليظها بأن يحلّف المنكر بين الركن والمقام، فقال المدعى عليه: قد حلفت بالطلاق لا أحلف بين الركن والمقام، فنقول: إن حلف بالطلاق أنه لا يحلف يميناً مغلظة، وقلنا إن التغليظ ليس بواجب، فعلى القاضي أن يترك التغليظ ولا يحنّثه.

_ (1) في الأصل: "أردنا".

وإن قلنا التغليظ مستحَق، فلا يبالَى بيمينه ويغلّظ عليه ويحنّثه، وإن لم يرد الحنث فلينكُل. ولو قال: لا أحلف بين الركن والمقام، وقلنا: إن التغليظ مستحب، فلا يحنّثه بالتحليف بين الركن والمقام، وإن قلنا: التغليظ مستحق، وقد حلف لا يحلف بين الركن والمقام، فقد ذكروا في هذه الصورة قولين: أحدهما - أن القاضي يحلّفه بين الركن والمقام، ولا يُبالي بيمينه، والثاني - أن يحلّفه في جانب آخر من جوانب الكعبة؛ فإن جملة جوانبها محترمة، ويحصل التغليظ بها، ولا معنى لتحنيثه، هكذا ذكروه، ولا حاصل عندي لذكر الخلاف حيث انتَهَوْا إليه إلا على تردد في أن ما بين الركن والمقام هل يتعين في التغليظ، إذا كنا نعتبر التغليظ ونراه مستحقاً، فإن عيّنّا ذلك المكان، فالامتناع عنه امتناع عن مستحق، وإن لم نر ذلك متعيناً شرعاً، فلا معنى لتحنيثه، ويعود التفريع إلى قولنا: التغليظ مستحب غير مستحق. فصل قال: " ويحلف الرجل في حق نفسه فيما علمه على البتّ ... إلى آخره " (1). 12092 - الإنسان يحلف على فعل نفسه على البتّ، نفياً كان أو إثباتاً؛ فإن اطلاعه على ما ينفيه ويثبته في حق نفسه ممكن، فلتكن اليمين باتّة، وتصوير ذلك [هيّن] (2). وإذا تضمنت يمينه إثباتَ فعل الغير، فلتكن على البت أيضاًً، فإن وصوله إلى العلم بثبوت فعل الغير ممكن. ولهذا يتصور منه الشهادة عليه، فكانت اليمين على البت. فأما ما يتضمن نفيَ فعل الغير، فاليمين على [نفي] (3) العلم، مثل أن يدعي مدعٍ على أبيه مالاً، أو استقراضاً، فالوارث يحلف بالله لا يعلم ذلك، وسيعود هذا مرتباً في كتاب الدعاوي، إن شاء الله.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 254. (2) في الأصل: " بيمين " والمثبت من (ق). (3) زيادة من المحقق. والحمد لله على توفيقه، فقد وجدناها في نسخة (ق).

ولو ادُّعي على عبده جناية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يحلف على العلم؛ من جهة أنه يبغي بيمينه نفيَ جناية عبده، وهذا غيب لا يطلع عليه، فلتكن اليمين على العلم. والثاني - أن اليمين على البت؛ فإنّ فعلَ عبده بمثابة فعله، ويغلب اطلاعه على عبده، وقد ينسى فعلَ نفسه، وبنى الأصحاب الوجهين على أن أرش الجناية يتعلق بذمة العبد أو برقبته ورقِّه. وعلى هذا الأصل ابتنى مقدار ما يفدي به السيد عبدَه، فإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد، فهو المستقل بالالتزام، والرقبة مرتهنة، والسيد يحلف على نفي العلم، وإن قلنا: الأرش يتعلق بالرقبة، فعلى هذا العبدُ بمثابة يد السيد وأعضائه. والذي أراه (1) أنه يقتصر على نفي العلم، وإن لم يثبت للعبد ذمة. ولو انتشرت بهيمة في زرع إنسان على وجه يقتضي ذلك وجوبَ الضمان على صاحب البهيمة، فإذا أراد أن يحلف، فالقياس الذي مهدناه مأخوذاً من التعلق بالذمة، يقتضي أن يبتّ اليمين في هذه المسألة؛ فإن مالك البهيمة لا يضمن بفعل البهيمة، وإنما يضمن لتقصيره في حفظها، وهذا يتعلق بأحواله والتعلق برقبة العبد ليس محمولاً على تقصير السيد؛ فإن مبنى الانتفاع بالعبيد على إطلاقهم بخلاف البهائم. فصل " ولا تقبل منه اليمين إلا بعد أن يستحلفه الحاكم ... إلى آخره " (2). 12093 - إذا ادعى المدعي، وذكر أنه لا بيّنة له، فلو ابتدر المدعى عليه وحلف، لا يعتد بيمينه، ولو طلب المدعي اليمين، فابتدر المدعى عليه وحلف، لم يعتد بيمينه بلا خلاف، ولو طلب المدعي وعرَض القاضي، فهذا أوان الحلف.

_ (1) قال الرافعي، وأقره النووي: " أصح الوجهين أنه يحلف على البت؛ لأن عبده مالهُ، وفعله كفعل نفسه، ولذلك سمعنا الدعوى عليه ". (ر. الشرح الكبير: 13/ 196، والروضة: 12/ 35). (2) ر. المختصر: 5/ 255.

واستدل الأئمة على ذلك بما روي: " أن ركانة طلق امرأته ألبتة، وقال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم، والله ما أردتَ إلا واحدة؟ فحلف ركانة مرة أخرى " (1) فدلّ ذلك على أن اليمين التي ابتدرها قبل عرض رسول الله لم تكن معتداً بها، ولذلك استعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو قال المدعي: لا بينة لي، ولم يطلب اليمين، فإن كان ممن يجوز أن يجهل ترتيب الخصومة، فحقّ على القاضي أن يبيّن له أن حقَّه في التحليف، وذلك منوط [بخِبْرته] (2). وإن كان المدعي ممن لا يخفى عليه ذلك، وربما عُهد ممارساً للخصومات، دَرِباً بترتيبها [عليماً] (3) بأن اليمين تعرض إذا لم تكن للمدعي بيّنة، فالقاضي ماذا يصنع؟ أيصبر حتى يطلب المدعي تحليفَ الخصم؟ أو يقول له بعد قوله لا بينة لي: ماذا تريد؟ أو يهجُم على عرض اليمين اكتفاءً بقرينة الحال، وعلماً بأن المدعي لا يحمل خصمَه إلى مجلس الحكم ولا بيّنة له إلا وهو يبغي عرضَ اليمين عليه، فعساه يقر؟ فنقول: أما الاستبداد بالعرض، فلا سبيل إليه، والكلام في أنه يسكت عن المدعي أم يقول له ماذا تريد؟ هذا مما تردد فيه الأئمة. والقول فيه [قريب] (4). وهو من فنّ الأَوْلى في الأوان. وظهر اختلافُ الأصحاب في أن المدعي إذا ادعى هل تتوقف مطالبة المدعى عليه بالجواب على طلب المدعي، وفيه خلافٌ قدمناه. والسبب فيه أن العادات لا تختلف في طلب الجواب، وهي تختلف في عرض اليمين. ومما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أن قالوا: العبرة في الأيمان بعقيدة القاضي، ولا عبرة بعقيدة- الحالف وهذا فيه فضل نظر.

_ (1) سبق هذا الحديث في الطلاق. (2) في الأصل: " بخيرته "، والمثبت تقدير من المحقق. والحمد لله وافقتنا فيه (ق) (3) في الأصل: " عليها ". (4) في الأصل: " مرتب ". والمثبت من (ق).

12094 - قد قدمنا أن القاضي متبوع في قضائه، وأوضحنا [تعليله] (1)، وذكرنا أن الولايات لا تستمر (2) إلا بهذا مع اختلاف المذاهب. وقد ذكر صاحب التقريب أمراً بديعاً لم أره لغيره، وذلك أنه قال: القضاء ينفذ ظاهراً على العوام، وإن اختلفت مذاهبهم، فإن كان المقضي عليه مجتهداً، [وقد] (3) خالف مذهبه مذصبَ القاضي، فهل ينفذ قضاء القاضي عليه ظاهراً على خلافِ عقده؟ ذكر في ذلك وجهين: أحدهما - أنه ينفذ. وهو الذي قطع به الأصحاب. والثاني - أنه لا ينفذ؛ لأن المجتهد مستقل بنفسه في نظره، فليس له أن يتبع غيره، وليس للغير أن يستتبعه. وهذا عندي في حكم الهفوة التي لا يعتدّ بها، لأن القول به يؤدي إلى خرم منصب القضاة؛ على أنه مراغمة لما مضى عليه الأولون؛ فإن أقضية الخلفاء ومن بعدهم تنفذ على أئمة الدين؛ فلا وجه لهذا. وإنما الخلاف في الباطن كما ذكرناه. 12095 - ونعود بعد ذلك إلى إتمام المراد بما يليق، إذا ادّعى حنفي على شافعي شفعةَ الجوار، وكان القاضي يرى إثباتها، فإذا أنكر الشافعي الشفعة، لم يكن له أن يحلف بناء على اعتقاد نفسه لما مهدناه من أنه يجب اتباع القاضي؛ فلا يكون باراً في يمينه بالله لا يلزمه، بل هو كاذب فيها. وفي تعليق معتمدٍ عن القاضي أنه لو حلف مؤوِّلاً بانياً على عَقْد نفسه، حنث في الظاهر (4)، وهذا كلام خليٌّ عن التحصيل، والوجه أن نورِّك (5) الذنب فيه على المعلِّق؛ فإن لزوم الكفارة ليس مما يختلف فيه الظاهر والباطن (6). وكذلك إذا حلف

_ (1) في الأصل: " بعلله ". (2) كذا، وأكاد أجزم أن صوابها: " لا تستدّ ". أي لا تستقيم، فهذا اللفظ (تستدّ) يدور على لسان الإمام كثيراً. (3) في الأصل: " فقد ". (4) أي لا يحنث باطناً، فلا تجب الكفارة عليه، كما سيظهر واضحاً في الأسطر الآتية. (5) ورّك الذنب عليه أي حمّله إياه، وحمله عليه. (القاموس المحيط). (6) يريد الإمام -لأدبه العالي، وخلقه الجم- أن يقول: إن هذه الهفوة المنسوبة إلى القاضي=

الرجل يميناً فاجرة، وعقبها بالاستثناء بحيث يُسمع نفسه، فلا حكم للاستثناء أصلاً ظاهراً وباطناًً، وهذا مما اتفق الأصحاب عليه، ولولاه لما انتظم [مقصود] (1) في تحليف؛ فإن أحداً لا يعجز عن هذا. وقال القاضي: لا ينفعه الاستثناء في الظاهر، وينفعه فيما بينه وبين الله في وجوب الكفارة، وهذا كلام سخيف لما ذكرته، ومحل السؤال منه أنه لو أسمع القاضي الاستثناء، فلا خلاف أنه لا يعتدّ بيمينه، بل تُعاد، وقد يقول الفطن: لو كان الاستثناء في مفصل القضاء لا يُبطل اليمين، لما كان إظهاره مبطلاً، وهذا خيال ووهم؛ فإن القاضي طلب منه يميناًً جازمة، والذي جاء به ليست اليمين المطلوبة؛ فإعادة اليمين لهذا، وأيضاً فإن ما يقوله المرء في نفسه من غير أن يظهره لأهل المجلس، فهو الذي لا يبالَى به، ولا يقضى بأنه يغيّر أمراً في الظاهر والباطن، والعلم عند الله تعالى. فرع: 12096 - إذا ادعى ديناً مؤجلاً على إنسان، ففي سماع دعواه وجهان: أحدهما - أنها لا تسمع؛ فإن الدعوى إنما تتم وتنتظم إذا اتصلت بمطالبة المدعى عليه، ولا يتصور الطلب في الدين المؤجل قبل محل الأجل. والوجه الثاني - تُسمع الدعوى، لأنه يستفيد بها إثباتَ حقه، فقد يقرّ المدعى عليه، فيسجِّل على إقراره، وإذا ثبت الدين مؤجلاً، كان مالا معتدّاً له، ولو مات من عليه الدين، حل بموته. ومن أصحابنا من فَصَلَ بين أن يكون للمدعي بيّنة وبين ألا يكون، فقال: إن كانت له بينةٌ، سُمعت دعواه وبيّنته، ويستفيد به ثبوتَ الحق والأمنَ من ضياع البيّنة؛ فإن الشهود ربما لا يبقون إلى حلول الحق، وإذا لم يكن بينة، لم تسمع الدعوى، فحصلت ثلاثة أوجه. وإذا ادعت الجاريةُ على مولاها الاستيلادَ، فالمذهب القطع بأن دعواها مسموعة، وكذلك إذا ادعى العبد التدبيرَ، أو ادعى تعليقَ العتق بالصِّفة.

_ =ليست صحيحة في نسبتها، فقدر الرجل عنده أعظم من أن تكون منه هذه الزلّة، وانما الخطأ والزلل جاء من الناقل المعلّق عن القاضي، فلا يعقل عند الإمام إلا هذا. (1) في الأصل: " مقصوده ".

وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج هذه المسائل كلها على وجهين مأخوذين من دعوى الدَّيْن المؤجل؛ فإن غرض المملوك دعوى سبب يُفضي إلى خلاصه من الرق في ثاني الحال (1). وهذا غير سديد؛ فإن التعليق والتدبير والاستيلاد حقوق ثابتةٌ في الحال، يجوز تعليق الدعوى بها، وهذا يظهر جداً في الاستيلاد؛ فإنه يتنجّز به لو ثبت امتناعُ البيع والرهنِ، وفي دعوى التدبير فضل نظر، فأما إن جوّزنا الرجوع عن التدبير، فإنكار المولى يجوز أن يجعل رجوعاً، كما سيأتي، وإذا كان في تقدير الإنكار إبطال الدعوى، فلا معنى لتصبح الدعوى، وإن قلنا: لا يصح الرجوع عن التدبير، فيتجه حينئذ تصحيح الدعوى. فرع: 12097 - ذكر صاحب التقريب في تضاعيف كلامه في أثر قضاء القاضي ووجوب اتباعه حكماً متعلقاً بالفتوى، فقال: لو نكح رجل امرأة، ثم استفتيا مفتياً فأفتى لهما بفساد النكاح، والمسألة مجتهدٌ فيها، فهل تبين المرأة عن الرجل بفتوى المفتي؟ ذكر وجهين: أحدهما - أن المرأة لا تبين، وإن وقع الرضا بالفتوى، وإنما ينقطع النكاح بقضاء القاضي. والوجه الثاني - أن النكاح ينقطع؛ فإن اتباع الفتوى حتم على المقلِّد، وذكر وجهاً ثالثاً مفصلاً - فقال: إن صحَّحَ النكاح قاضٍ، لم يرتفع بالفتوى، وإن لم يتصل تصحيحه بقضاء قاض يرتفع بالفتوى، ولست أخوض في تفصيل ذلك، فإنه من أحكام الفتاوي، وهو من فن الأصول، وقد جمعت في الاجتهاد والفتوى كلاماً شافياً كافياً، فليطلبه مريده من مجموعنا فيه (2). ...

_ (1) في ثاني الحال: أي في المستقبل وليس الآن. (2) ينظر في هذا كتابي الاجتهاد والفتوى في كتابه البرهان في أصول الفقه: الفقرات: 1455 - 1551.

باب الامتناع من اليمين

باب الامتناع من اليمين قال: " وإذا كانت الدعوى غيرَ دمٍ في مالٍ، أحلف المدعى عليه، فإن حلف برىء ... إلى آخره " (1). 12098 - في اللفظ الذي نقله المزني خللٌ من وجهين: أحدهما - هو أنه قال: " إن كانت الدعوى غيرَ دم "، فأوهم أن الدعوى لو كانت في الدم لا يحلف المدَّعَى عليه، وليس كذلك. وأوهم أن لا مدخل لليمين في غير الأموال، والأمر على خلاف ذلك. 12099 - ومقصود الباب الكلام في شيئين: أحدهما - في النكول ورد اليمين، والثاني - فيما يجري التحليف فيه. فإذا توجهت اليمين على المدعى عليه، فلا يخلو إما أن يحلف أو لا يحلف، فإن حلف، تخلص عن الخصومة، ولم ينقطع الحق إن كان، ولو وجد المدعي بيّنة، أقامها، وقد صحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في ذلك: " البيّنة العادلة خيرٌ من اليمين الفاجرة " (2). وقال ابن أبي ليلى: لا تُسمع بيّنةُ المدعي بعد تحليف المدعَى عليه، والحق عنده يسقط بيمينه. وقال مالك (3) إن كانت البينة حاضرة في المجلس، لم تقبل بعد اليمين، وتعطلت. وإن كانت غائبة، فحلف المدعى عليه، قُبلت بينته إذا أحضرها.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 255. (2) خبر " البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة " بوّب له البيهقي في سننه وقال: روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشريح القاضي رحمه الله (السنن الكبرى: 10/ 182). (3) ر. الإشراف: 2/ 968 مسألة 1953، عيون المجال: 4/ 1580 مسألة 1116.

ولو قال المدعي: ليست لي بيّنة، ثم قال من بعدُ: وجدت بيّنةً عالمةً بحقي، وما كنت أدريها، تسمع البيّنة منه، ولا يمتنع سماعها بقوله: ليست لي بينة. ولو قال: ليست لي بينة لا حاضرة، ولا غائبة، ثم جاء بشهود، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تقبل. ولو أقام المدعي شاهدين عدلين عند إنكار خصمه، ثم قال: كذب شاهداي، وشهدا بباطل، فلا شك أن بينته تسقط بما صدر منه من التكذيب، وهل تبطل دعواه في الأصل؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - تبطل الدعوى حتى لو أراد أن يقيم بينة أخرى، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، وينزل تكذيبُه شهوده منزلةَ تكذيبه نفسه. وهذا الوجه ضعيف. والوجه الثاني - أنه لا تبطل دعواه؛ إذ من الممكن أن يقول أنا محق في دعواي، ولكنكما لم تحيطا بحقيقة الحال، فشهدتما بما لا تعلمان. وهذا واضح. ثم فرّع على هذا فقال: لو أن المدعي أقام بينة، كما ذكرنا، وأقام المدعى عليه شاهداً واحداً: أن المدعي قال: كذب شهودي، وشهدوا مبطلين، وأراد أن يحلف مع شاهده، فما حكمه؟ قال: إن قلنا: لو قال المدعي ذلك، سقط دعواه، فيُقبل ذلك من المدعى عليه؛ فإنه يستفيد بالشاهد واليمين إسقاطَ الدعوى، فصار كما لو أقام شاهداً وحلف معه أن [المدعي] (1) أبرأه، فهذا مقبول. وإن قلنا: اللفظةُ التي قدمناها لو صدرت من المدعي حقيقةً، لم تتضمن سقوط دعواه، فإذا أقام المدعى عليه شاهداًً، وأراد أن يحلف معه، والمدعي منكر للّفظ، فلا حكم لما يأتي به المدعى عليه من الشاهد واليمين؛ فإن الدعوى لا تسقط، والبينة لا تسقط أيضاًً، فإنه نقل طعناً من المدعي في البينة، وما يتضمن جرحاً وطعناً في الشهود لا يثبت بشاهد ويمين، وإن كان المشهود عليه مالاً. وكل ما ذكرناه متعلق بالبينة. 12100 - فلو لم يكن للمدعي بينة، فاليمين معروضة على المدعى عليه، فلا

_ (1) في الأصل: " المدعى عليه ".

يخلو: إما أن يُنكر، أو يسكت، فإن أجاب، وأنكر، عرض القاضي عليه اليمين باستدعاء المدعي، فإن نكل عن اليمين، لم يُقضَ عليه بنكوله. ثم قال العلماء: المستحب أن يعرض اليمين عليه ثلاث مرات، فإن اقتصر على مرة واحدة، فله الحكم بالنكول، ولسنا نعني بالحكم بالنكول أنه يثبت على الناكل ما ادعاه المدعي، ولكن فائدة الحكم بالنكول إثباتُه النكول، ليرتب عليه رد اليمين، كما سنصفه إن شاء الله. وهذه الأمور يعدها معظم الففهاء ظاهرة ويتخطَّوْنها من غير اهتمام بكشفها، ومعظم الغوائل فيها. 12101 - ونحن نقول -مستعينين بالله- النكول لا يثبت ما لم يقض القاضي به إذا لم يصرح المدعى عليه بأني ناكل عن اليمين. ثم ما ذكرناه من ترديد القاضي العرضَ على المدعى عليه أدبٌ مستحب في مراسم القضاء، فإن قضى القاضي بالنكول كما (1) ظهر له في العرضة الأولى، ثبت النكول، ثم لا يجوز له أن يقضي بالنكول ما لم يظهر له ذلك من المدَعى عليه، حتى لو كان يجوّز أن يكون امتناعه عن دهش، أو كان يُقدّر أنه لم يفهم عَرْض اليمين لغباوة وعدم إلفٍ بمراسم الخصومات، فليس له أن يقضي بنكوله، وإذا ظهر له امتناعه، فإن أكد بالتكرير، فحسنٌ، وإن أراد ألا يكرر، فلا عليه. ومما نستحسنه أن يُعلمه أنه يقضي بنكوله لو تمادى على امتناعه، فلو لم يُعلمه ذلك، وظهر له امتناعه، ولكن كان المدعى عليه لا يدري أن امتناعه مع القضاء [بنكوله] (2) يوجب ردّ اليمين، فهل للقاضي أن يقضي بنكوله ويردَّ، أم شرطُ القضاء بالنكول إعلامُه موجَب نكوله؟ هذا فيه احتمال ظاهر والأرجح أن قضاءه بالنكول ينفذ، [وإن لم يُعلمه] (3) حكمَ النكول.

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) زيادة من المحقق. (3) في الأصل: "وأن يعلمه".

وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يصرح بالنكول أو الامتناع عن اليمين. 12102 - فإن قال: نكلت، أو أنا ناكِل، أو لست أحلف، فالذي نراه أنه لا حاجة في هذا المقام إلى قضاء القاضي، وهو بمثابة ما لو أقر المدعى عليه بالحق، فلا يظهر بقضاء القاضي أثر عند الإقرار، وسنبين أثر ما ذكرناه في التفريع. 12103 - ثم قال الأصحاب: إنما يتحقق النكول إذا قال القاضي للمدعى عليه احلف بالله، فإذا امتنع، فإذ ذاك يقضي بالنكول، ولو قال له: أتحلف؟ فامتنع، فقد قال القاضي: لا حكم لهذا الامتناع، لأنه لم يأمره باليمين، بل استشاره فيها مستفهماً، وهذا فيه تدبر من جهة أن قول القاضي للمدعى عليه: " احلف " مشكلٌ؛ فإنه أمر، وتوجيه الأمر عليه بالحلف، فيه غموض، هذا وجه. والآخر أنه إذا قال: أتحلف، فلو ابتدر وحلف، فهل يعتد بيمينه، أم لا؟ هذا وجه التنبيه. وسبيل الكشف بعده أن قوله: " احلف " ليس أمراً جازماً، ولكنه إبانةُ وقت الحلف واليمين المعتد بها إن أرادها المدعى عليه، فإذا لم يحلف وامتنع، نفذ القضاء بنكوله، فأما قوله: " أتحلف "، فاستخبار، ولو ابتدر وحلف، لم يُعْتَدَّ بيمينه؛ فإن اليمين إنما يُعتدُّ بها إذا استحلف القاضي، والاستفهام ليس استحلافاً، ولكن إن قُدِّم الاستفهامُ، فهو حسن، ليكون الاستحلاف بعده على بصيرة. ونظمُ الكلام أنه يقول للمدعى عليه أتحلف؟ فإن قال: نعم. قال: قل " بالله "، ثم إذا ثبت نكوله، إما بقوله نكلت، أو بحكم الحاكم بنكوله، فلو قال بعد ذلك: أحلفُ، لا يبالَى به، وهذا أثر إثبات النكول. فإن قال: نكلت، أو قال القاضي: حكمتُ بنكولك، أو أقبل على المدعي، فقال: احلف، فلو أراد المدعى عليه أن يحلف، لم يُقبل منه بعد ما وصفنا. وقوله للمدعي: " احْلِف " قضاءٌ منه بالنكول، فلا يشترط في هذا المقام أكثرُ من ذلك. ولو أقبل على المدعي هامّاً بتحليفه يمينَ الرد، ولم يقل بعدُ " احلف " فأراد المدعى عليه أن يحلف، ففي المسألة وجهان، ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يحلف، لأنه لم يصرح بالنكول، ولم يأت القاضي بعدُ بما يكون حكماً بالنكول،

فوقت يمينه باقٍ. والوجه الثاني - أنه لا يحلف؛ فإن إقباله على المدعي إقدامٌ منه على تحليفه، ولا يقع هذا إلا بعد إثبات النكول. ولو جرى القضاء بنكوله أو صرح بكونه ناكلاً، فقد ذكرنا أنه لو أراد أن يحلف لم يمكَّن. فلو قال المدعي: رضيت بأن يحلف، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أن القاضي يحلِّفُ المدعَى عليه برضا المدعي؛ فإن الحق لا يعدوه، فإذا رضي، جرى القاضي على موجب رضاه. والوجه الثاني - أنه لا يُحلَّف، وإن رضي المدعي؛ فإن هذا تحليفٌ بعد النكول، والنكولُ يُبطل إمكانَ اليمين. ولكن ما ذكرناه فيه إذا أنكر المدعى عليه، ثم جرى في اليمين ما وصفناه، فأما إذا سكت ولم يُجب المدعي، فقال له القاضي: أجب، فليس بك بُكْم ولا صَمَم، فإن تمادى في سكوته، جُعل ذلك إنكاراً في حكم عرض اليمين، ثم يعرض اليمين، ويجعل التمادي على السكوت نكولاً عن اليمين، وهذا فيه إذا لم يظهر عنده سبب [مُسكت] (1). فقد انتجز الغرض المتعلق بهذا النوع. 12104 - فإن نكل المدعى عليه عن اليمين، رددنا اليمين على المدعي، فإن حلف، استحق دعواه، وإن نكل، فقد قال الأصحاب: نكول المدعي عن يمين الرد بمثابة يمين المدعى عليه، وهذا طرف من الكلام يجب صرفُ الاهتمام إليه، والوجه أن نسوق كلام الأصحاب على وجهه ثم [نحوِّم] (2) على الإشكال، ونحلّه شيئاً شيئاً بتوفيق الله تعالى. قال الأصحاب: إن قال المدعي -وقد رُدَّت اليمين عليه-: أمهلوني ريثما أطالع حسابي، أو أستفتي، وأتثبت في أمري، فإنه يُمهَل. ثم قالوا: لا تزيد مدة إمهاله على ثلاثة أيام. ولو قال المدعى عليه -لما عرضت عليه اليمين الأولى-: أمهلوني

_ (1) في الأصل: " فسكت ". (2) في الأصل: "نحرّم".

لأتدبر، وأراجع حسابي، كما ذكرناه في جانب المدعي، فلا يمهل أصلاً. وإذا ظهر امتناعه، كان ناكلاً، والفرق بينه وبين المدعي أن المدعى عليه مطالبٌ محمولٌ على الإقرار، أو اليمين، وليس صاحبَ خِيَرة، وأما المدعي، فليس محمولاً من جهة أحد، بل هو صاحب الحق؛ إن أراد قدمه، وإن أراد أخره. هذا قول الأصحاب. فقد حصل لنا من كلامهم أن نكول المدعي ممكن، وهو نازل منزلة حلف المدعى عليه، وثبت من كلامهم أنه إذا استمهل، أمهل. 12105 - ونحن نقول بعد ذلك: قد اعترض لنا تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد، وتصوير النكول عن يمين الرد، فنقول: إذا أقام المدعي شاهداًً، فكيف وجهُ نكوله؟ ومن يعرض عليه اليمين حتى ينكُل؟ وما المأخذ الفقهي الذي يربط النكول به؟ فنقول في إيضاح ذلك: إذا استعدى المدعي على خصمه، وأحضره مجلس الحكم وادعى، وأنكرالخصم، فإن أقام المدعي بيّنة، فذاك، وإن لم يقمها، فحقٌّ على القاضي أن يقول للمدعي: أحلّف خصمك إن أردت، وإلا فاقطع طلبتك عنه، واترك رفعه إلى مجلس الحكم، فإذا أقام شاهداًً واحداً، وتمكن من الحلف معه، فلم يحلف، فينتهي الأمر إلى ما ذكرناه من تحليف الخصم، وإلزام المدعي قطعَ الخصام، وإلا فهذا يؤدي إلى أن يرفع خصمه إلى مجلس القضاء في كل ساعة يتصدى القاضي فيها للقضاء، ولا يحلّفه، ولا يقيم بيّنة، ولا سبيل إلى تسويغ هذا. فخرج من مجموع ما ذكرناه أنه إذا أقام شاهداً، أبان له القاضي أنه لو حلف معه، ثبت حقه؛ فإن لم يحلف، أبان له أنك لو لم تحلِّف المدعَى عليه، منعتك من إعادته إلى مجلس الحكم، فهذا تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد. ولو قال المدعي: أمهلوني، أمهلناه كما يمهل المدعي في يمين الرد، فإن اليمين ليست محتومة عليه، وليس هو واقفاً موقف المحمولين في الخصومة، وإذا منعناه من إعادة خصمه إلى مجلس الحكم، فلا يُعيده في تلك الخصومة إلا أن يجد بينةً كاملة، فيُعيدُه ويقيمُها، فإنه لو وجد بينة بعد حلف المدعى عليه، فعل ذلك، وقد نجز الغرض في النكول عن اليمين مع الشاهد.

12106 - فأما تصوير النكول عن يمين الرد، ففيه مزيد إشكال؛ فإن المدعي إذا أقام شاهداً، فالمدعى عليه يقول: حلّفني أو احلف وخلصني، وهذا لا يتأتى في يمين الرد؛ فإن المدعى عليه نكل عن اليمين، فإن قال للمدعي: احلف أو انكُل، فالمدّعي يقول له: وأنت احلف أو أَقرّ، [ففي] (1) مسألة اليمين مع الشاهد، فالمدعى عليه متعرض ليمينٍ بحق، وفي مسألة الرد هو ناكل عن اليمين، غيرُ معذور في ترك الإقرار واليمين. هذا وجه من الإشكال. ولأجله قال بعض أصحابنا: لا يصير المدعي ناكلاً عن يمين الرد قط، إذا لم يصرح بالنكول، ولا ضبط لإمهاله بمدة، وسبيله في يمين الرد كسبيله في البينة يقيمها متى وجدها. وهذا قد يظهر على قولنا: " يمين الرد تنزل منزلة البينة "، وغالب ظني أني أجريت ذكر هذا فيما تقدم من الكتب. ولكن المذهب المشهور تصوير النكول عن يمين الرد من غير تصريح به، والسبب فيه أنا لو لم نفعل هذا، [لرفع] (2) خصمَه كلَّ يوم، والخصم ناكل، وهو لا يحلف يمين الرد، فلا يتفرغ القاضي من خصومته إلى شُغْلٍ، ولا يجوز أن يُفضي القضاء إلى مثل هذا، فيجب إذاً قطْع الخصومة، ومن ضرورة هذا أن نحكم بنكول المدعي إذا امتنع، ثم إن استمهل أمهلناه ثلاثة أيام بلا مزيد، وهي مدة ثابتة في قواعدَ من الشريعة، ومدة إمهال المرتد إذا رأينا إمهاله ثلاثةُ أيام، وهي مدةُ الخيار، ومقامُ المسافرين. ولو امتنع ولم يستمهِل [لا نمهله] (3) ثلاثةَ أيام ثم نقضي بالنكول، بل نعجل القضاءَ بالنكول إذا لم يُظهر عذراً. وقد تم ما أردناه من تصوير النكول باليمين مع الشاهد، وتصوير النكول عن يمين الرد على أبلغ وجه في البيان. ولو نكل المدعي عن يمين الرد، فقال: [إني] (4) نكلت، فحلّفوا خصمي، فلا

_ (1) في الأصل: " فهي ". (2) في الأصل: " لرجع ". والمعنى لرفع خصمه كل يومٍ إلى مجلس القضاء. (3) في الأصل: "لا نطرده" والمثبت من (ق). (4) في الأصل: " إن ".

نجيبه؛ فإن اليمين، انقطعت عن جانب المدعى عليه بنكوله، فلا عود إلى ما تحقق انقطاعه، ثم هذا لو قيل به، لأفضى إلى الدَّور، والغرض أن تنفصل الخصومة، لا أن تتسلسل. وقد عقد الشافعي باباً في النكول ورد اليمين، وغرضُه محاجَّة أبي حنيفة في قضائه بالنكول. وليس ذلك من شرطنا. فصل قال: " فإن قيل: كيف أحْلَفت في الحدود والطلاق ... إلى آخره " (1). 12107 - كنا ذكرنا إن الباب مشتمل على النكول والرد، وعلى ما يجرى التحليف فيه، وقد تم الغرض في أحد الفصلين، فأما ما يجري التحليف فيه، فكل ما تتعلق الدعوى به، وتقام البينة عليه، فاليمين جاريةٌ فيه، كالطلاق، والعَتاق، والفيئة في الإيلاء، والرجعة، والولاء، والنسب، والنكاح. وعند أبي حنيفة (2) لا تجري اليمين في هذه الأشياء، وقيل: بناء مذهبه على أن اليمين تُطلب بتقدير النكول، ثم القضاء يقع بالنكول، والنكولُ نازلٌ منزلة البذل والإباحة، ولا مدخل للبذل في هذه الأصول، وهذا كلام مضطربٌ، لا استناد له إلى قاعدة من قواعد الشريعة. ونحن اعتمدنا الدعوى، وسماعَ البينة، [فالعقوبات] (3) تتمحض حدوداً لله، لا تنتظم فيها الدّعوى، وإن كانت البينة تقوم على موجباتها، فلا جرم لا يجري التحليف فيها، والنكاح، والرجعة، والطلاق والعَتاق، والفيئة في الإيلاء، والولاء، والنسب، تجري الدعوى فيها، وتقوم البينة عليها. ومما يجب التثبّت فيه أن شهادة الحسبة تجري في الطلاق، والعَتاق، وإذا كان

_ (1) ر. المختصر: 5/ 255. (2) ر. مختصر الطحاوي: 333، طريقة الخلاف: 395 مسألة: 162، إيثار الإنصاف: 350. (3) في الأصل: "بالعقوبات".

كذلك، فلا ارتباط للبينة بالدعوى، ولكنا لسنا نعني دعوىً تقتضي البينة أو تقتضيها البينة، وإنما نعني أن الدعوى تنتظم فيها، وتصح، ثم التحليف يجري متعلقاً بما ذكرناه. إلا أن يؤدي إلى فساد حال. وبيان ذلك أن المشهود عليه لو ادعى على الشاهد تعمّد الكذب، فالدعوى منتظمة، ولو أقام بينة على إقرار الشاهد بذلك لسُمعت، ولكن لو أراد تحليف الشاهد، لم يجد إليه سبيلاً؛ فإن هذا يُطَرِّقُ إلى الشهود أمراً عظيماً لا يحتمل، وقد يرتدعون عن الشهادة لأجله، وكذلك لو ادعى الخصم على القاضي تحيُّفاً في القضاء، فالدعوى منتظمة، والبينة على شرطها مسموعة عند قاضٍ آخر. ولكن لا سبيل إلى تحليف القاضي في زمان ولايته. وإن عُزل، فقد قدمنا تفصيل المذهب في الدعاوي المسموعة على القاضي المصروف. ولو قذف رجل رجلاً، ثم ادعى عليه أنك زنيتَ، وأراد أن يحلّفه على ذلك، فقد قال الأصحاب: له أن يحلّفه؛ فإن حلف، استقر حد القذف على القاذف، وإن نكل، رددنا اليمين على القاذف، فإن حلف، لم يثبت الزنا بحلفه، ولكن يندفع حد القذف عن القاذف، فإذاً فائدة عرض اليمين ترجع وتؤول إلى دفع حد القذف، وهو من حقوق الآدميين. فرع: 12108 - إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة، ثم أقام شاهداً، وأراد أن يحلف مع شاهده، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا يكون له ذلك؛ لأنه نكل عن اليمين في هذه الواقعة. والثاني - له ذلك؛ لأن هذه اليمين غير تيك التي نكل عنها. وكذلك إذا أقام شاهداً واحداً، ونكل عن اليمين معه، فعرضنا اليمين على المدعى عليه، فنكل، فأراد المدعي أن يحلف يمين الرد، فقولان كما تقدم، وقد ذكرنا نظائر لذلك في كتاب القسامة، عند فرض النكول عنها، والرغبة في يمين الرد بعدها. وإذا اتضح الغرض، فالإيجاز أولى. ومما اشتهر في المسائل قولان استنبطهما الأصحاب من كلام الشافعي في أن يمين الرد بمثابة بينة تقام، أم هي بمثابة إقرار المدعى عليه؟ ولهما فوائدُ وآثارٌ

[سبقت] (1) في مواضعها، وسيأتي منها ما لم يأت. فرع: 12109 - إذا وكل في مجلس الحكم بحضرة القاضي من يخاصم عنه، صح التوكيل، وله أن يخاصمه، وإن وكّله في غير المجلس، فجاء وادَّعى أنه وكيل فلان، وأراد أن يقيمَ البينة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب ذاهبون إلى أن له أن يثبت الوكالة من غير إحضار الخصم، ثم إذا ثبتت، استعدى على الخصم، وأحضره، وابتدأ المخاصمة. قال القاضي: الذي عندي أنه لا تُسمع بيّنتُه هكذا، بل يُحضر الخصمَ، ويدعي عليه أني أستحق مخاصمتك بتوكيل فلان إياي، فيربط دعواه به، ويثبت الوكالة بالبينة، ووجه ذلك أن الوكالة حقُّ آدمي، فينبغي أن تُربط بخصم عند محاولة الإثبات. ثم قال القاضي في أثناء كلام له: الخصم إذا حضر مجلس الحكم، فالغالب أنه يقول لمن يوكله هذا وكيلي بالخصومة، ولا يخصصه؛ وحكم ذلك أنه ينتصب وكيلاً له في كل خصومة، غيرَ أن القضاة يرونه وكيلاً في تلك الخصومة في ذلك المجلس لا غير، وإنما بَنَوْا ذلك على ما علموه من عادات الخصماء على اطراد، ونزلوا اللفظ على المفهوم منه في التعارف. ثم قال: إذا أنكر الخصم الوكالة، ولم يُقم الوكيل بينة، فقال للقاضي: حلّفه: لا يَعْلَمُني وكيلاً في الخصومة معه، فالقاضي لا يحلّفه؛ لأن أكثر ما في الباب أن يقر بوكالته، ولو أقر بالوكالة، وقال: لا أخاصمه، فإني لا آمن أن ينكر الموكِّل وكالته، فأحتاج أن أستأنف الأمرَ معه، فله أن يقول ذلك، وهذا [كما] (2) لو ادعى أنه وكيل فلان في قبض ماله، فلو أقر من عليه الحق بالوكالة، لم يلزمه الدفع إليه للعلة التي ذكرناها. وإذا قال المدعَى عليه بعد ثبوت الوكالة: حلّفه أيها القاضي "ما عُزل أو لم يمت موكِّله"، فالقاضي يحلفه على نفي العلم.

_ (1) في الأصل: " ثبتت ". والمثبت من (ق). (2) زيادة من (ق).

فصل قال: " ولو قال: أَحْلفه: ما اشتريتُ هذه الدار ... إلى آخره " (1). 12110 - إذا ادعى على صاحب اليد في الدار، وقال قد بعتَ هذه الدارَ مني، والتمسَ من القاضي أن يحلّفه على نفي البيع منه، فالقاضي لا يجيبه؛ فإنه لم يدّع الملك في الحال، وما لم يدع ذلك، لم يكن مدَّعياً لاستحقاقٍ ناجز، وإنما يطالب القاضي الخصمَ بالجواب إذا توجهت عليه دعوى في استحقاق ناجزٍ، مع طلب الخروج من موجَب الدعوى، ولو قال: بعتَ مني واختصر، فلا يبعد أن يكون صادقاً، ولكن عادت الدار إلى ملك البائع، وهي مقرَّة على ملكه الآن. وإن قال المدعي: الدار التي في يده ملكي الآن، واشتريتها منه، فالدعوى مسموعة، ثم المدعَى عليه بالخيار: إن شاء، قال: ما بعتها منه، وإن شاء، لم يجبه على وفق الدعوى لفظاً ومعنىً، بل قال: لا يلزمني تسليمُ الدار إليه، والجواب على هذا الوجه مقبول. وكذلك إذا ادعى عليه أنه مزّق ثوبه، وعليه أرشُه، فلا يلزمه أن يقول: ما مزّقتُ، بل إن شاء قال: لا يلزمني غرامةُ الأرش له. وإنما يسوّغ الشرعُ مثلَ ذلك، لأنه ربما كان مزّقه، لكن بإذنه، ولو اعترف بالتمزيق وادعى الإذن، فربما يحلف صاحبُه. وذهب أبو يوسف إلى أنه يجب على المدعى عليه أن يجيب عن عين ما يذكره المدعي. ولو ادّعى المدّعي مثلَ ما ذكرناه؛ فأنكر المدعى عليه عينَ ما ادعاه، ثم لما عُرضت اليمين عليه أراد أن يحلف، لا يلزمه تسليم الدار، أو أرش التمزيق، ففي قبول اليمين على التأويل مع تقدم الإنكار على التصريح وجهان. وسيكون لنا إلى هذا الأصل عَوْدٌ في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 255.

فرع: 12111 - إذا رهن بدينٍ عليه شيئاً عند صاحب الحق، ثم إن الراهن ادّعى تلك العين على المرتهن؛ فإنه يحلف، لا يلزمه تسليمُ العين إليه؛ فإنه لو أقر بملكه، وادعى الرهن، لم يصدقه القاضي، وانتزعه من يده. وإذا ادعى المرتهن على الراهن الدَّينَ، فهو مُحق في دعواه، فلو كان الراهن لا [يأمن] (1) جحودَ المرتهن الرهنَ، فقد كان الشيخ القفال يقول: له أن يقول: أتدعي عليّ ألفاً بها رهنٌ عندك حتى أجيبك، أو تدعي ألفاً آخر؟ قال: لأنه لو أقر بالدين المطلق، فربما ينكر صاحبُه الرهنَ، ويستمسك بظاهر اليد، فيتضرر به الراهن. قال القاضي: لا يُقبل عندي من المدعى عليه ترديد القول والجواب على هذا الوجه؛ فإن القاضي لا يبحث عن جهة الوجوب، ولا يطلب منه أن يذكر سبب الاستحقاق، وللمدعى عليه مع بتّ الجواب حيلةٌ أخرى مستقيمة على قياس الأصول، وهي أن يجحد الحق إذا جحد المرتهنُ الرهنَ؛ وذلك لأن العين المرهونة تدخل في ضمان المرتهن بالجحد، فللراهن الذي عليه الحق أن يجحد ويمتنع من أداء ما عليه، إذا كانت قيمةُ المرهون قدرَ الدين (2). وكل من غصب عيناً من إنسان، وللغاصب على المغصوب منه دين، فللمغصوب منه أن يجحد حقه ويمنعه، مع اعتبار المساواة في القدر، كما وصفنا. فرع: 12112 - إذا ادعى على رجل مالاً، فقال المدعى عليه -بعد الإنكار-: قد حلفتني في هذه الدعوة مرةً أخرى، نظرنا: فإن ادعى أنه حلّفه في مجلس هذا القاضي، فالرجوع إليه، فإن تذكر [ما ادّعاه] (3) المدعى عليه مَنَع المدعي من تحليفه مرة أخرى، وإن لم يتذكر ما ادعاه المدعَى عليه من التحليف، فلا مبالاة بقوله، وتتوجه عليه اليمين.

_ (1) في الأصل: " يأمل "، والمثبت من تصرف المحقق. ثم وافقتنا (ق). (2) إلى هنا انتهت نسخة (ق)، وسيستمر العمل على نسخة وحيدة إلى أن نلتقي بنسخة (ت5) من أول باب الشهادة على الشهادة. (3) زيادة لاستقامة العبارة.

وإن ادعى المدعى عليه تحليف الخصم إياه عند قاضٍ آخر، فهل يسمع قول المدعى عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسمع هذا منه، لأن المدعي لو أقر به، لانتفع المدعى عليه، وتخلص من الخصومة. والثاني- لا تسمع، لأنه ليس بحقٍّ يدعيه. وقد ذكر الوجهين أبو سعيد الإصطخري، فإن قلنا: يُسمع، فإن كان للمدعى عليه بينة أقامها عليه، وتخلص من هذه الخصومة، وإن لم تكن له بينة، فالقول قول المدعي: يحلف بالله ما حلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف هو، وتخلص عن الخصومة. ولو قال المدعى عليه -والتفريع على سماع الدعوى في ذلك- أمهلوني لأقيم البينة، قال القاضي: القياس أن يمهل ثلاثةَ أيام، قياساً على الاستمهال في نظائر ذلك، قال: ولكني أقول: لا نمهله أكثر من يوم واحد؛ فإنه يشبه المراوغ المتعنت. وهذا الذي ذكره غير لائق [بفقهه] (1)، فإن القياس إن صح، فلا يدافع بمثل ذلك. نعم، يتجه أن نقول: لا نمهله أصلاً؛ لأن اليمين متوجهة عليه في أصل الخصومة، وهو يريد أن يدرأها باحتيال واستمهال، وليس كالمدعي إذا ردت عليه اليمين، فاستمهل؛ فإنه صاحب الحق، واليمين حجته، ولا طلبة عليه، وإنما الإشكال في أن المدعي كيف يصح نكوله عن يمين الرد، كما قدمنا ذكر ذلك، والمدعى عليه مطالب باليمين، وهو بما يذكره من إقامة البينة مدافع ليمينٍ توجهت عليه. فرع: 12113 - إذا ادعى رجل مالاً على رجل، وصحت دعواه فيه، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذه الدعوى، قال الإصطخري: هذه الدعوى مسموعة، وقال القفال: لا تسمع، وكان القفال يقول: إنما يستقيم هذا على أصل أبي حنيفة (2)، حيث يجوّز الصلح مع الإنكار، فأما على أصلنا، فلا يصح، لأنه ادعى الإبراء مما لم

_ (1) في الأصل: " بفقه ". (2) ر. مختصر الطحاوي: 98، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 195 مسألة: 1887، رؤوس المسائل: 315 مسألة 201، طريقة الخلاف للأسمندي: 428 مسألة 774.

يثبت إذا (1) قال: أبرأتني عن الدعوى. والدعوى تنقسم حقاً وباطلاً، فدعوى الإبراء عن الدعوى إنما هي دعوى في شيء غير صحيح. وعلى مذهب الأصطخري لو سمعنا هذه الدعوى، فنقول: يصح الإبراء عن الدعوى لو صدر من المدعي، فلو أقام المدعى عليه البينة على إبراء المدعي عن الدعوى، بطل حق المدعي، حتى لو أراد المدعي أن يقيم البينة على الحق، لم تقبل منه، وإن نكل المدعي عن اليمين، وحلف المدعى عليه على إبرائه، ثبت مقصوده، وانقطعت الدعوى. ولو ادعى مالاً وصحت (2) الدعوى، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذا المال، فهذا إقرار منه بالمدعَى؛ فإن الإبراء من ضرورته تقدم الحق عليه، فقد اعترف بالحق، وادعى على مستحِقه إسقاطَه، فيطالَب بإقراره، وله الدعوى. ثم في كلام القاضي ما يدل على أن المدعى عليه إذا ادعى إبراءً عن الحق، أو إيفاءً، فهو مطالب بالحق. يقال له: أدّ ما لزمك، ثم استفتح دعواك. وهذا لا أعرف له وجهاً. والأصحاب مجمعون على خلافه. وكيف يطالب المدعى عليه بإيفاء الحق، ودعواه مسموعة في الإيفاء، وفصلها ممكن في الحال بتحليف المدعي؟ نعم، لو ادعى الإبراءَ، وقال: لي بينة، فأمهلوني في إقامتها إياها، فلا نمهله الآن، ونقول: أدّ ما ثبت عليك، أو اقنع بتحليف صاحبك على نفي الإبراء، ثم أدّ، وإن كان لك بيّنة، فأقمها من بعدُ. ونحن نُتبع (3) الحكم، وله -إن صدق- أن يصابر الحبس أياماً معدودة ليحضر بيّنته. وهذه الصورة الآن تناظر مسألة وكيل الغائب في الحكم، فإذا حضر وكيلٌ، وأثبت حقاً لموكله على خصمه، فقال المدعى عليه: قد أبرأني موكلك، فنقول له:

_ (1) إذا: بمعنى " إذ ". (2) صحت الدعوى: أي صحت في نظمها وترتيبها، واستوفت شروط قبولها، وليس المراد ثبت المدَّعى به. (3) أي: نتبع الحكمَ البينة.

أدّ ما عليك، ثم إذا حضر الموكل، فادّع، واستدرك؛ فإنا لو لم نقل هذا، لأدى إلى تعطيل فائدة التوكيل على الغَيْبة. فصل 12114 - ذكر صاحب التلخيص مسائلَ في نوعين: أحدهما - في امتناع جريان التحليف، والثاني - في امتناع ردّ اليمين بعد النكول. فأما النوع الأول- فمن مسائله فيه، أن من نصب وصياً في تركته، فجاء إنسان، وادعى أنه قد أوصى له الميت بوصيةٍ؛ فإن أقام البينة، تثبت الوصية، وإن لم يُقم، وأراد أن يحلّف الوصيّ بالله لا يَعلم ذلك، فلا يجد إلى تحليفه سبيلاً، إذا لم يكن الوصي وارثاً. وهذا ظاهر؛ لأن الوصي لو أقر بالوصية، لم تثبت بقراره؛ فلا معنى لتحليفه، ولو كان الوصي وارثاً، فاليمين تتوجه عليه حينئذ بحق الوراثة. ومما ذكره مسألة الوكيل: إذا جاء رجل، وادعى أنه وكيل غائبٍ، ولا بينة له، فإن أراد أن يحلّف الخصمَ على نفي العلم بالتوكيل، فقد ذكرنا أنه ليس له ذلك، لأنه لو أقر بالتوكيل ولا بينة، فله أن يمتنع لما يتوقعه من إنكار الموكّل لأصل الوكالة. وألحق الأئمة بما ذكره تحليفَ الشاهد والقاضي (1)، وقد أوضحنا امتناع ذلك لما فيه من الفساد.

_ (1) هنا أمر عجب، وهو أن ما نسبه الإمام إلى صاحب التلخيص، وذكر أنه من مسائله ليس موجوداً في التلخيص المطبوع الذي بين أيدينا، وما قال: إن الأئمة ألحقوه بما ذكره صاحب التلخيص- فالأمر بالعكس هو الذي في التلخيص. وهاك نص كلام صاحب التلخيص، قال: "ويجب اليمين في كل حق لابن آدم إلا في أربعة مواضع: أحدها - القاضي، إذا ادعى رجل بعد العزل أنه حكم بباطلٍ أيام قضائه، وادعى عليه قيمة ما أتلف، فإن أقر القاضي، لزمه، وإن أنكر، فلا يمين. قاله نصاً. [ثانياً]- وكذلك الشاهد: إذا شهد على رجل بطلاق، أو عَتاق، أو غيره، فادعى المحكوم عليه أنه شهد بزور، وأراد قيمة ما أتلفت شهاته، فإن أقر، لزمه، وإن أنكر، فلا=

ومما ذكره أن من ادعى على إنسان شيئاً، فادعى المدعى عليه أنه صبي، وكان ما يقوله محتملاً، فالخصومة تقف، فلو قال المدعي: حلّفوه على الصبا، لم نحلّفه، لأن الصبيَّ لا يحلّف، وتحليفه ينافي قبولَ دعواه. 12115 - فأما المسائل التي ذكرها من النوع الثاني، وهي إذا امتنع رد اليمين بعد نكول الخصم، فمنها: أن الساعي إذا طلب الزكاة، فقال رب المال: قد أديتُها، فالقول قوله، فإن حلَّفناه، فنكل، فلا سبيل إلى رد اليمين على الساعي، ولا على المستحقين -ولا حصر لهم- فماذا نصنع والحالة هذه؟ فيه تفصيل قدمتُه في كتاب الزكاة، وأنا أعيد منه ما أظن أني لم أذكره، فأقول: من أصحابنا من ذهب إلى أن اليمين غيرُ مستحَقة على رب المال، فعلى هذا لا أثر لنكوله. ومنهم من قال: اليمين مستحَقة عليه، فإذا حلفناه، فنكل، ففي المسألة أوجه: أجدها- أنه يُقضى عليه بالنكول؛ فإن اليمين قد تعذَّر ردُّها (1)، والثاني - لا يقضى بالنكول؛ فإنه ممتنعٌ على أصل الشافعي، ولا سبيل إلى الرد، فيُحبَس المدعى عليه حتى يحلف أو يؤدي ما عليه ويُقر. وهذا بعيد عن قاعدة الشافعي؛ فإن الإجبار على التحليف إنما صار إليه أبو حنيفة في القسامة وغيرها. والوجه الثالث - أنا نفصل بين أن يكون رَبُّ المال على صورة المدعين، وبين أن

_ =يمين عليه. قلته تخريجاً على المسألة الأولى. [ثالثاً]- وكذلك لو ادعى عليه شيئاً في يده، فقال: هو لولدي الصغير، لم يحلَّف. [رابعاً]- وكذلك لو ادعى رجلان في امرأة، فأقرت أنها زُوّجتْ لأحدهما، لم تحلَّف للآخر " (ر. التلخيص: 645). هذه هي المسائل الأربع التي ذكرها التلخيص نصَّاً، وليس فيها واحدة من الثنتين اللتين نسبهما الإمام إليه. ولكن فيها الثنتين اللتين ذكر الإمام أن الأئمة ألحقوهما بما ذكره صاحب التلخيص. هذا وقد خالفنا منهجنا، فلم نكتف بالإشارة إلى الموضع من (التلخيص)، وأوردنا النص بكامله -محتملين الإطالة على كُره- تأكيداً للدعوى التي ادعيناها على الإمام. (1) هذا ما ذكره صاحب التلخيص: 646.

يكون نافياً على صورة المدعى عليه؛ فإن كان مثبتاً، مثل أن يقول: أدّيتُ الزكاة. 12116 - ومما أورده من هذا الجنس أن الذمي إذا ضربنا عليه الجزية، فلما انقضى نصف السنة، غاب عنّا، وعاد بعد انقضاء الحول مسلماً، وقال: قد أسلمت قبل انقضاء الحول، وفرّعنا على قولنا: إن الذمي إذا أسلم قبل انقضاء الحول، لم يلزمه شيء من الجزية لما مضى من الحول في الشرك، فإذا ادعى ذلك قُبل قوله؛ فإن ما يقوله ممكن، والأصل براءة الذمة، فنحلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، فلا سبيل إلى رد اليمين على أهل الفيء. ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يُقضى عليه بنكوله، فتلزمه الجزية (1). والثاني - لا يقضى عليه بالنكول، ولا سبيل إلى الرد، فلا يلزمه شيء. وهذا عندي إسقاط اليمين؛ فإنه يَنْكُل، فلا يلتزم شيئاً، ولا سبيل إلى حمله على اليمين. والوجه الثالث - أنه يحبس حتى يحلف أو يعترف [بما عليه] (2). ثم قيّد صاحب التلخيص هذه المسألة بالغَيْبة (3)، فقال: لو غاب ثم جرى ما جرى، وعاد مسلماً، فظاهر هذا يدل على أنه لو بقي بيننا، ولما انقضت السنة، صادفناه مسلماً، فادعى أنه قد أسلم قبل الحول، ولم يُخْبرنا، وكتمَ إسلامَه عنا، فلا يقبل قوله في هذه الصورة؛ إذ الظاهر أن من يسلم لا يكتم إسلامه في بلاد الإسلام؛ فلم يقبل قوله، والأصل عدم ما يدعيه، فتلزمه الجزية، إلا أن يقيم بيّنة. والذي أراه أنا لو ألزمناه في مسألة الغَيْبة الجزية إن لم يُقم بينة على إسلامه قبل انقضاء السنة، لم يكن ذلك بعيداً؛ فإن إسلامه في الغيبة وإن كان ممكناًً، فهو ثبوت أمر يناقض موجَبَ عقد ملزم؛ وقد قلنا: لو ادعى الموكّل عزْلَ الوكيل في الغيبة - تفريعاً على نفوذ عزله- فلا يقبل قوله ما لم يُقم البينة، وهذا أمثل من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها. 12117 - ومما ذكره صاحب التلخيص في ذلك أنا إذا أسرنا طائفةً من الكفار وأردنا

_ (1) هذه هي المسألة الثانية من مسائل صاحب التلخيص: 646. (2) في الأصل: " ما عليه ". (3) ر. التلخيص: الموضع السابق نفسه.

قتل مقاتلتهم، فقال واحد منهم: لست ببالغ، فالحكم أنا نكشف عن مؤتزره، فإن كان أَنْبت، حكمنا ببلوغه، وقتلناه في القتلى، فلو قال: قد داويتُ واستعجلت الإنبات، فحصل في غير حينه، فإن قلنا: الإنبات عين البلوغ، فلا فائدة لقوله، وقد استعجل سبب حتف نفسه، وإن جعلنا الإنباتَ علامةَ البلوغ، فنحلّفه في دعوى العلاج، فإن حلف، لم نقتله، وكان من الذُّرية (1)، وإن نكل عن اليمين، فقد نُقل نص الشافعي في أنه يقتل. وهذا قضاء بالنكول. وهذه المسألة فيها وقفات: منها - أنه قد ادعى الصبا، وتحليفُ من ادعى الصبا متناقض كما سبق ذكره. قال الشيخ (2): لكنا عولنا في تحليفه على ظاهر الإنبات، وإن كان هو يدعي الصبا، ولكن ظاهر الإنبات يكذبه، فحلّفناه. قال الشيخ: هذا مشكل مع هذا. ثم إذا حلّفناه، فنكل، فالنص ما ذكرناه. وفي المسألة وجه آخر أنه استعجل، وهذا فيه إشكال من وجه آخر، وذلك أنه إذا تحقق بلوغه، فيحتمل أن يقال: لا يقتل، بل يدام الحبس عليه حتى يحلف أو يقر بأني ما كنت استعجلت فيقتل؛ وذلك لأن البلوغ المتحقق لا يخرجه عن الذرية أمس، وهو لا يقتل لبلوغ [حالٍّ] (3)، وإنما يقتل لتبين بلوغه عند الأسر، هذا ما أردنا أن نذكره في ذلك. 12118 - ومما ذكره من هذا الجنس أن غلاماً يافعاً من الأولاد المرتزقة إذا عرض نفسه، وزعم أنه قد بلغ لنُثبت اسمَه في الديوان (4)، ونُجريَ له السهم، وكان صدقه محتملاً، قال: نحلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، لم يثبت له سهمُ المرتزقة. وقد تكلم الأصحاب في هذه المسألة على وجهين: أحدهما - أن منهم من قال: إذا ادعى البلوغ، صُدِّق، ورُجع إلى قوله، ولم نحلّفه؛ فإن الإمام إن قدره بالغاً، لم

_ (1) هذا ما اقتصر عليه صاحب التلخيص. (2) الشيخ: المراد هنا هو القفال، كما يظهر من عبارة الرافعي، والنووي. (ر. الشرح الكبير: 13/ 201، والروضة: 12/ 38). (3) في الأصل: "حاله". (4) هذه من مسائل التلخيص: ص 647.

يحتج إلى تحليفه، وإن قدّره صبياً، فلا حكم ليمينه، وقالوا: إن حلّفه، فنكل، فليس هذا من باب القضاء بالنكول -إن رأينا تحليفه- بل هو من باب عدم الحجة، فقد ادعى أمراً لا حجة معه فيه، واليمين في حقه في هذا المقام بمثابة البينة في حق المدعي، فإنه ليس يُدّعى عليه أمرٌ حتى يفرض نكوله ويطلبَ بعد نكوله الرد. هذا منتهى ما أورده صاحب التلخيص (1). 12119 - وألحق الأصحاب بما ذكره أن من مات، ولم يخلّف ورثةً خاصة، وورثه المسلمون، وكان له دين على إنسان، فادعاه منصوب السلطان، فأنكره، ولا بيّنة، فيحلِّفه، فلو نكل، فلا سبيل إلى الرد. وفي الممسألة وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يُقضى عليه بالنكول، بخلاف قياس الباب؛ لأنا حيث لا نقضي بالنكول، نجد مَردّاً بتحقيق اليمين، وهو يمين المدعي، فلا نبرم الحكمَ دون عرضها إذا أمكن ذلك، والنكول حيث لا رد منتهى الخصومة، فلا يبعد أن يُنسب صاحبُه إلى العناد، وقصْدِ دفْع (2) الحق والامتناع عنه. والوجه الثاني - أنه يحبس ليحلف، أو يُقر كما قدمناه، والفرق بين هذه الصورة وبين مسألة الزكاة أنه يجري في مسألة الزكاة وجهٌ أن الاستحلاف ليس مستحقاً، واليمين في الصورة التي ذكرناها الآن مستحقة على قياس الخصومات، فلم يخرّج أصحابنا وجهاً أنه يُترك إذا نكل، ولا يُقضى بالنكول ولا يحبس؛ فإن هذا إن قيل به، فحاصله إسقاط اليمين رأساً، وقد كان شيخي يذكر هذا الوجه في هذه المسألة، وهو أنا نخلّيه، ولا نقضي عليه، غير أنا نُعصِّيه لو عاند، وهذا لا حاصل له. ...

_ (1) بقيت مسألة أوردها صاحب التلخيص، ولم يذكرها الإمام، وهي بنصّها: " لو قال رب النخل: قد أحصيت مكيل ما أخذت، وهو كذا، وقد أخطأ الخارص، أو قال: أصابته جائحة، أو سرقة، صُدِّق، فإن اتهم حلّف، فإن نكل حكم عليه ". ا. هـ ثم قال: " قلتُه تخريجاً " ثم عقب قائلاً: وفي هذه المسائل قول آخر: أنه يحبس حتى يحلف، أو يعترف. (ر. التلخيص: 646). (2) دفع الحق: أي ردّه وعدم قبوله. وليس الدفع بمعنى الأداء كما هو متبادر في لساننا الآن.

نسأل الله تعالى حسن الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا، وهو ولي التوفيق. الإمام في نهاية المطلب

كتاب الشهادات وما دخله من الرسالة

كتاب الشهادات وما دخله من الرسالة قال الشافعي رضي الله عنه: " ليس من الناس أحد نعلمه إلا قليلاً يمحِّض الطاعةَ والمروءة، حتى لا يخلطهما بمعصيته، أو يمحِّض المعصية حتى لا يخلطها بشيء من الطاعة ... إلى آخره " (1). 12120 - المقصود من هذا الكتاب الكلامُ في عفة الشاهد ومروءته، واشتراط [توقّيه] (2) عن التهمة. وقد ذكرنا في باب مجامعَ الشرائط المرعية في الشهود، والغرضُ الآن مقصور على الأصول الثلاثة التي ذكرناها. ثم ذكر الشافعي في عقد الباب كلاماً، نقلنا بعضه، وبالجملة إذا كان اشتراط العصمة محالاً في قبول الشهادة، فيُفضي الكلامُ إلى انتشارٍ لا يستقل لضبطه إلا موفَّق في ذكر ما يقدح في الشهادة من الذنوب وفي ذكر ما لا يقدح. ولو (3) لم يكن فيه إلا التعرض للكبائر والصغائر، وقد تقطع علماء الأصول فيها، فلا يتأتى الخوض فيها، وفي أئمتنا من قال: لا صغيرة في الذنوب، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق، واستمسك فيه بما لا يُدَافَع، فقال: الذنب يعظم بعظم قدر من خولف فيه، فعلى هذا كل ذنب - وإن استصغره مقارفه كبيرة؛ من جهة أنه مخالفةٌ لأمر الله تعالى. والمروءة ونقيضها كيف تنضبط مع اختلاف الحالات والدرجات. والتهمة خارجة أيضاً عن الضبط.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 256. (2) في الأصل: " وقيه ". (3) جواب (لو) مفهوم من السياق.

ونحن نستفرغ الوسع في هذه الفصول ونبرأ من الحول والقوة، فنذكر أولاً ما قاله الأصحاب. قالوا: العفيف من لا يرتكب كبيرة، ولا يُصرّ على صغيرة، وصاحب المروءة هو الذي يصون نفسه عن الأدناس، ولا يَشينها عند الناس. وقيل: هو الذي يسير سيرة أشكاله من أهل عصره في زمانه ومكانه. وقيل: هو من يحفظ نفسه من فعلٍ يُسخر به لأجله، فالفقيه إذا لبس السلاح وزيّ السلطان، كان تاركاً للمروءة. والحمالون إذا تطلّسوا (1) كانوا تاركين للمروءة. فهذا ما ذكره الأصحاب، وما لم نذكره (2)، فهو من جنس ما ذكرناه. 12121 - والضبط عندنا في مقصود هذا الباب أهونُ من كل ضبط في محل انتشار، فنستعين بالله، ونقول: أما الذنوب فالمعتبر عندنا فيها أن يقال: كل ما يدلّ صَدرُه عن الشخص على استهانته بالدين، ولست أعني الاستهانة التي توجب التكفير، بل أعني استهانة تُنتجها غلبةُ النفس الأمّارة بالسوء؛ فإن من شأنها إذا [استغلبت] (3) على سُنَّةِ التقوى أن تهوّن الأمر، وقد تعتضد بعده [بالتوبة] (4) وبإظهار المطمع في الرحمة (5)، وبالجملة تتدرب وتتمرن على العصيان على استبشار من غير استشعارٍ وانكسار، فكل ما يُشعر بذلك - يوجب ردَّ الشهادة، وهو الكبيرة عندي في قاعدة الأصول. وما يحمل على فلتات النفس، وفترات (6) مراقبة التقوى، [وشأنُ] (7) مثله أن

_ (1) تطلَّس: لبس الطيلسان. وهو كالوشاح، يوضع على الكتف تجملاً، وهو غير مخيط، ويشبه ما تسميه العامة (الشال) (المعجم الوسيط). (2) أي: ما لم نذكره مما قاله الأصحاب، ففيما ذكرناه كفاية، وغَناء، وعوض عنه، فهو من جنسه. (3) في الأصل: " استغلب ". (4) في الأصل: " التوبة ". (5) المعنى أن النفس الأمارة بالسوء تهؤن المعصية، مستعينة بأن باب التوبة مفتوح ما لم يغرغر، وبأن رحمة الله واسعة. وهذا من مكر النفس بصاحبها. (6) فترات: من الفتور والضعف. (7) في الأصل: " وسار ".

يقترن بالتندم، [ولا يهنأ] (1) صاحبه بلذة في المعصية، بل يُنَغص عليه كلَّ لذة تنال نفسه في المعصية، ومن هذا يلتحق الإصرار -على ما يسمى صغائر- بالكبيرة، ويُخرَّج على ما مهدناه أن الموبقات لا تكون نوادر؛ فإنه لا يستجزىء عليها إلا جسور، سبقت طمأنينة نفسه إلى أمثالها، وإلى المعنى الذي ذكرناه أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ قال: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " (2). وقد ذكر بعض الأتقياء في هذا كلاماً واقعاً، فقال: معصية التقيّ كعثرة الجواد ونبوة الصارم، فإن دام العِثار، فعن ظَلْعٍ (3) وكلال، وإن دامت النَبوة فعن انفلال. 12122 - ونحن نتمم غرضنا في الشهادة، فنقول: إن كنا نطلب عدالةً ابتداءً، وظهر لنا ما يغلب على الظن استهانةً، فالجَرْحُ، [وإن] (4) ترددنا فالوقْف، وإن ظهر لنا تحرج وتعظيم للدين، فالتّعْديل. وإن تقدمت عدالة، فظهر نقيضها، فالجرح، وإن لم يظهر نقيضها، وطرأ تردد، فهذا موضع وقف القضاة، إذا رابهم أمر فيتحرجون، فإن لم يستبينوا واضطروا، قَضَوْا. فإن قيل: هلا توقفوا حتماً؟ قلنا: لأن العدالة الماضية تنفي استواء الظن؛ فإنه لا يليق بالعدل الرضا ما نحسبه، وهذا يرجع إلى أنه إذا قضى، فهو باقٍ على غلبة الظن في استصحاب العدالة. هذا قولنا في تقريب الضبط فيما يتعلق بالمخالفات. 12123 - فأما المروءة، فحقها أولاً أن تُفْصَلَ عن مقارفة الذنوب، وتُحصَرَ فيما لا يَحْرُم في نفسه، ولو أقدم عليه المقدِم، لم يأثم ولم يُعصَّ -وإن أطلقنا في بعض الأحوال الكراهية- على ما ستأتي المسائل، إن شاء الله. فالضابط في هذا الفصل يقرب من الضابط فيما تقدم، فكل انحلال عن عصام

_ (1) في الأصل: " ولا ينهى ". (2) سبق هذا الحديث في الحدود. (3) ظلْع: ظَلَع يظلَع ظلْعاً: عرج وغمز في مشيه، ثم صار الظلعْ علماً على الضعف والكلال. يقال: اربَع على ظلعك: أي ارفق بنفسك، وضعفك (المعجم). (4) في الأصل: " إن " (بدون الواو).

المروءة يُشعر بترك المبالاةِ والخروجِ عن التماسك، فهو يُسيء الظنون بالتحفظ في الشهادة. وفي هذا سرّ خفي، وهو أن من انحلّ كذلك، غلب على الظن انحلاله في المعاصي، وشهادةُ الزور منها، فرجع الرد في ترك المروءة إلى ظنٍّ غالب في ارتكاب المعصية، ومنه ما يغلّب على الظن خبلاً في العقل، فهذا هو المحذور ممن لا مروءة له. ومما يجب مراعاته في الباب أمور العادات، وهي من أعظم الأقطاب، وذلك جارٍ في الذنوب وترك المروءات. وبيانه أن اللعب بالنرد إن ثبت أنه ليس من الموبقات والكبائر، فإذا استعظمه أهل قُطر، فلا يُقدم عليه إلا جسور. وقد لا يستعظمه أهل ناحية، فيُعتبر في حق أهلها الإصرارُ. وأمور العادات غالبة في المروءات، حتى لو قيل: جملتها مرتبطة بالعادات، لم يكن بعيداً. فمن لبس من الفقهاء القَباء في هذه الديار يعد خارماً للمروءة، وقد يعتاد الفقهاء ذلك في بعض بلاد الشرق، فلا يُنسبون إلى خرم المروءة. وقد يعتاد السوقة ببغداد التحنك (1) والتطلّس، وذلك من عوامّ الناس خرق للمروءة في بلادنا. وألحق الأئمة بفصل المروءات الكلامَ في أصحاب الحرف الدنيّة كالدباغ، والكنّاس، والحجام، والمدلّك، فذكروا وجهين في قبول شهادتهم، وسبب ذلك أنهم على عادةٍ مستمرة فيما هم فيه، فلم يكونوا خارمين لعادةٍ من وجه، واختيارهم تلك الحرف يورث خرماً ودلالة على خسّة الجوهر، فكان هذا التردد مثاراً للخلاف. وذكر بعض الأصحاب [الحاكة] (2) وعدوهم من أهل الحرف الدنية، قال القفال: ليسوا عندي كذلك، فهم ينسجون غزلاً كما يخيط الخياط ثوباً منسوجاً، وهذا الذي ذكره حسن في فنه، ولكن يتطرق إلى الحاكة أمر نبهنا على تمهيده، وهو أن الناس

_ (1) التحنّك: طريقة في لبس العمامة، حيث يديرها من تحت حنكه، ولا يكتفي بأن يجعلها حول رأسه (القاموس). (2) في الأصل: " الحالة ".

متفقون على الإزراء بهؤلاء، وقد يجرون -في التعريض بالمساب والكلم المؤذية- النسبة إلى الحياكة، فإذا اطرد هذا في الناس، فاختيارها مع ظهور الذم بها يشعر بالخسّة التي يُشعر بها جملةُ الحرف الدنية، فهذا مما يجب التنبه له. ومما نذكره أن الرجل المعدودَ من المعتبرين والأماثل إذا كان تبذّل في نقل الماء والأطعمة إلى منزله، فإن كان ذلك عن ضِنّةٍ وشُح، فهو خسة خارمة للمروءة، وإن كان ذلك عن استكانة وتذلل، وإظهارِ خضوعٍ وتأسٍّ بالأولين، وتشوفٍ إلى شيم الأتقياء البُرآء من التكلف، فهذا لا يخرم المروءة، ولا يخفى مُدرك الفصل بين الحالتين. ويستبان ذلك في الرجلين، فليقع النظر في أمثال هذا ثم الحكم بحسبه. وألحق الأئمة بما ذكرناه اشتغالَ المرء عن مهماته بما هو مباح في قبيله، حتى يعدّ معطلاً لما يُهم، مشتغلاً بما لا يعنيه، فصاحب هذه الحالة ملتحق بتارك المروءة، وإن لم يكنه؛ لأنه في معناه؛ من حيث ينتسب إلى ترك المبالاة والانسلال عن العادات، وهو يتهدف لتغليب الظن بالجرأة على الزور والكذب، أو للخبل في العقل، كما قدمناه. ومن هذا وقع لأبي حنيفة (1) أن شهادة الفاسق بالغصب. والظلم إذا كان كبير النفس، آنفاً من الكذب -مقبولة؛ فإن فسقه لا يغلّب على القلب جرأته على الكذب، مع ما ظهر فيه من الأنفة، والاستنكاف عن كذبةٍ، وإن قَبِل دونها. والشافعي لم يثق بفاسق، وجعل عصامَ الأمر الدينَ، وقد [يعرض] (2) للظلمة في حميّات النفوس والعصبية إذا لم يَزَعْهُم دينٌ- الكذبُ. 12124 - ومما نلحقه بهذه الأصول ردَّ شهادة المغفل، فالعدل الرضا إذا غلبت غفلاته، واعترته في حالاته الفترات، فالشافعي يرد شهادته مجملةً، ويقبلها مفصلة إذا وصف المكان والزمان، وتأنق في ذكر الأوصاف. وهذا خارج على القاعدة؛ لأنه إذا أجمل الشهادة، فقد يظن به غفلة، وإذا فضلها -وهو عدل لا يظن به اعتماد

_ (1) ر. المبسوط: 16/ 131. (2) في الأصل: يفرض.

الكذب- فيبعد أن تنتظم له الدقائق في التفاصيل من غير تثبت وتحصيل. فيخرج مما ذكرناه أن الرد بالفسق، وترك المروءة، والغفلة، يؤول إلى أصلٍ واحد في غلبة الظن، فهذا نجاز تمهيد أصول الباب. وقد جرى بالغاً في البيان والانتظام. ونحن نعود بعده إلى مسائل الكتاب، ونقتصر على ذكرِ صورها، والمرامزِ إلى [تفاصيلها] (1) المُلْحقةِ لها بالأصول التي مهدناها، والله وليّ التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق. فصل قال: " ولا يقبل الشاهدَ حتى يثبت عنده أنه حر ... إلى آخره " (2). 12125 - هذا معترِض في الباب خارج عن المقاصد الثلاثة التي ذكرناها، ولكنه مقصود في نفسه، فالحرية لا بد من مراعاتها في الشاهد، ثم يجب طلبُ الباطن فيها، ولا يمكن ضبط اشتراط الحرية بالمروءة، مصيراً إلى أن العبيد [لا تستدّ] (3) لهم رعاية المروءة؛ فإن المعول في المروءة على العادات، والتبذل عادةٌ مطردة في المماليك لا تَشينُهم، وليسوا فيما بُلوا فيه كأصحاب الحرف الدنية؛ فإنهم مضطرون إلى تصريف السادة إياهم في جهات التبذّل. والدليل عليه أن تاركَ المروءة مردودُ الرواية، كما أنه مردودُ الشهادة، ورواية العبد مقبولة. فلا يستدّ من (4) ردّ شهادة العبيد إلا أمران: أحدهما - إجماع الخلفاء والقضاة على ترك طلب الشهادات من العبيد، مع كثرتهم، واشتهرت الروايات من المماليك.

_ (1) في الأصل: " تعاليها " (انظر صورتها). (2) ر. المختصر: 5/ 256. (3) في الأصل: " لا تستمرّ ". وهذا التصحيف تكرر مراراً، لأن العبارة تصح معه على نحوٍ ما، ولكن المعهود في لفظ الإمام (تستدّ) أي ثستقيم، وتثبت، والعبارة مع هذا اللفظ أصح وأقوم. (4) من: بمعنى (عن).

والآخر - أن الشهادة تقتضي قياماً بتحفُّظٍ عظيمٍ، واستبدادٍ بالنفس في طلب الاطلاع، وهذا لا يتأتى من العبد؛ فإن فرض فارض إذناً من السادة، فهو بمثابة ما لو فرض مثل ذلك في الولايات. ثم لا اكتفاء بالظاهر، فلتَثْبت حريةُ الشاهد ببينة أو بتسامع على استفاضة، أو بانتساب الرجل إلى أحرار فلو أراد القاضي أن يكتفي بالظاهر في ذلك، كان كما لو اكتفى بظاهر العدالة. فصل قال: " ولا تجوز شهادة جارّ إلى نفسه ... إلى آخره " (1). 12126 - هذا هو القطب الثالث، وهو. ردّ الشهادة بالتهمة، ولا يُدْرَكُ مقصدُ الفصل بالهوينا. وقد قال الشافعي في مواضع: " أقبل الشهادة، ولا أجعل للتهمة موضعاً ". ولا يمكن إنكار رد الشهادة بالتهمة في أصول الشريعة، فكيف الضبط، والطرفان منتشران؟ الوجه أن نذكر ما ذكره الأصحاب نقلاً، ثم نشمر للبحث. قالوا: لا تقبل شهادة جارٍّ إلى نفسه ولا دافعٍ عنها. ثم صوّروا الجرَّ، فقالوا: إذا شهد الرجل بأن فلاناً جرح موروثه، لا تقبل شهادته في حياة المجروح (2).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 256. (2) قوله: " لا تقبل شهادته (أي الوارث) في حياة المجروح (أي الموروث) " قلت: في هذه العبارة إيجاز شديد، يحتاج إلى تفصيل؛ وذلك لأن الإمام فصلها في باب الشهادة على الجناية. وتفصيل المسألة أن الجرح إذا اندمل، فتجوز شهادة الوارث بعد الاندمال -إذا لم يكن بينهما بَعْضية- فإنه ليس جارّاً لنفسه نفعاً، فإن المورّث يستحق الأرش بنفسه. ولكن إذا لم يندمل الجرح، فلا تقبل شهادة الوارث؛ لأن الموروث لو مات من سراية الجرح، لوجبت الدية للوارث، فهو إذاً جارّ لنفسه نفعاً. وكذا لو شهد بعد موت المجروح رجل أنه قتل مورّثه، فلا تقبل شهادته. (التهذيب =

وصوروا الدافع، فقالوا: إذا شهد شاهدان على أن فلاناً قتل فلاناً خطاً، فشهد عدلان من العاقلة على جرح (1) شهود القتل، فشهادة العاقلة مردودة، لأنهم يدفعون عن أنفسهم غُرم التحمل. هذا ما ذكره الأصحاب في الجرّ والدفع. ولست أتعرض بعدُ لضبط المذهب حتى استتم نقل المسائل المتعلقة بالتهمة. 12127 - قال رضي الله عنه: " ولا على الخصم، لأن الخصومة موضع عداوة ... إلى آخره " (2). قال أئمتنا: شهادة العدو على العدو مردودة؛ لمكان التهمة، وشهادته له مصلحة (3)، وعلى هذا بنى الأصحاب ردَّ شهادة الزوج مع ثلاثة من العدول على زنا زوجته، فإنها بزناها أوغرت صدر زوجها. والوجه في ذلك أنه ربما يرى منها مراودات وأمور تدل على الفجور، فيحمله ذلك على ما ذكرناه. وأهم ما نذكره في هذا الفصل معنى العداوة، فلا ينبغي أن تُفرضَ عداوة مترتبة على فسق لا يُظهر تأثير العداوة في الرد (4)، والعداوة التي نعنيها ونحكم بأنها توجب رد الشهادة من غير فسق هي العداوة الجبلّية أو المترتبة على سبب (قُدْرَتي) (5)،

_ = للبغوي: 7/ 259، والمنهاج: 13/ 308، 309، والبسيط للغزالي: جزء 7 ورقة: 124 ظهر، والشرح الكبير: 13/ 24). (1) واضح أن الجرح المشهود عليه هنا هو نقيض العدالة، وليس جرح السنان. (2) ر. المختصر: السابق نفسه. (3) كذا. ولعلها: " مقبولة " كما عبر بذلك في الفقرات الآتية. (4) المعنى أن العداوة التي تترتب على فسق أي بسبب الفسق، أو التي يرتكب بسببها ما يفسق به ليست هي المرادة هنا، فإن هذا الفسق يردّ الشهادة عموماً، وإنما المقصود هنا العداوة الجبليّة أو المترتبة على سبب طبعي. وعبارة الغزالي في البسيط توضح ذلك، إذ قال: " فإن كانت العداوة مترتبة على فسق، أوجب ردّ الشهادة عموماً " (الموضع السابق نفسه) وأما صاحب التهذيب، فقد عبّر عن ذلك قائلاً: " هذا إذا كانت العداوةِ ظاهرة بينهما، ولا يرتكب كل واحد منهما في عداوته ما يُفَسَّق به، فإن فعل في عداوته ما يُفسَّق به، فيكون مردود الشهادة له وعليه في حق كافة الناس " (ر. التهذيب: 8/ 277). (5) قُدْرَتي: كذا تماماً في الأصل، وفي إحدى مخطوطتي البسيط، وهذه اللفظة مستعملة في =

لا انتساب فيه إلى معصية؛ فإن كان الإنسان مع آخر بحيث يتمنى له كلَّ سوء [ويريد] (1) له كلَّ شر، ويحزن بمسرته، ويشمت بمصائبه، ولا فسق، فهذه العداوة توجب رد شهادته على عدوه. وقد لا يكون ذلك الإنسان عدواً، فالنظر إلى معاداة الشاهد إياه، وإن كانت العداوة مترتبة على فسق، فالشهادة مردودة عموما للناس وعليهم. ولم يختلف أصحابنا في أن الصداقة لا توجب رد الشهادة، ولو طرد الطارد القياس الذي يبتدره الوهم بجعل الصداقة ضد العداوة، وقال: شهادة الصديق للصديق مردودة. وهي عليه مقبولة، كما أن شهادة العدو مردودة، وهي له مقبولة، ولكن الفرق أن الصديق الصدوق إذا كان عدلاً لا يحب لصديقه إلا ما يحب لنفسه، والعدل الرضا لا يؤثر لنفسه إلا الخير، فالصداقة تحمل على طلب الخير [للصديق] (2)، والعداوة تحمل على طلب الشر للعدو. ولم يختلف العلماء في أن شهادة المخاصِم مردودة على المخاصَم، وشهادة المخاصَم ليست مردودة على المخاصِم، وسبب ذلك أن شهادة المخاصَم لو كانت مردودة على من يخاصمه، لصار ذلك ذريعة في إبطال كل شهادة، حتى يقال: كل من يهم بإقامة شهادة على شخص، فينشىء ذلك الشخص خصومة مع الذي يشهد، فيرد شهادته، فحسمنا هذا الباب. 12128 - ثم قال: " ولا لولد بنيه وولد بناته ... إلى آخره " (3).

_ = الفارسية بمعنى: طبعي جبلّي. وفي المخطوطة الأخرى للبسيط: (قديم) والله أعلم بالصواب، وإن كنت أرجح أنها (قُدْرَتي) وأن ما في المخطوطة الأخرى من البسيط تصرف من الناسخ، ولكن يبقى في النفس شيء من استخدام هذه الكلمة (العربية الأصل) من الإمام بهذه الطريقة، فإن ساغ استعمال ألفاظ غير عربية في أسماء الآلات والأشياء والحرف، وتصوير بعض المسائل على ألسنة الناس - فكيف يسوغ في هذه الجملة، والله سبحانه أعلم باللفظ الذي وضعه الإمام فعلاً. (1) في الأصل: " ويردّ ". (2) في الأصل: " بالصديق ". (3) ر. المختصر: السابق نفسه.

كل شخصين بينهما قرابة توجب النفقة عند فرض الإعسار في جانب واليسار في جانب، فشهادة أحدهما مردودة للثاني مقبولة عليه، هذا هو المذهب. وللشافعي رضي الله عنه قول في القديم أن شهادة كل واحد منهما مقبولة للثاني وعليه. وقال مالك (1) شهادة الوالد للولد لا تقبل. وشهادة الولد للوالد تقبل. ومذهب الشافعي في القديم قبول الشهادة من الجانبين. وكل قرابة لا توجب النفقة، لا تتضمن رد الشهادة. وأبو حنيفة (2) أوجب النفقة بالأخوة، وما في معناها، ولم يردّ الشهادة بها. أما شهادة الزوج لزوجته، وشهادة الزوجة لزوجها، فقد أجراها الأصحاب مجرى القول في القطع عند السرقة. ففي المسألة إذاً ثلاثة أقوال: أحدها - قبول الشهادة من الجانبين.

_ (1) بالبحث شبه المستقصي لكتب المالكية لم نجد من يقول بهذا الذي نسبه إمام الحرمين لمالك، ففي المدونة (4/ 80): " قال مالك: لا تجوز شهادة الأب لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه " ا. هـ ومثل هذا في الكافي: 461، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 972 مسألة: 1963، الشرح الصغير: 4/ 244، شرح الحطاب: 6/ 154، حاشية الدسوقي: 4/ 168، شرح زروق: 2/ 284، البهجة شرح التحفة: 1/ 96، شرح الخرشي: 7/ 179، منح الجليل لعليش: 8/ 398. بل أبعد من هذا، وجدنا من المالكية من يستنكر نسبة هذا القول إليهم ويعدّه وهماً من ناقله، ففي شرح الحطاب نقلاً عن المازري: " وذكر بعض متأخري الشافعية عن مالك قبول شهادة الولد لأبيه دون الأب لابنه، وهو حكاية مستنكرة عند المالكية وربما كانت وهماً من ناقلها " ا. هـ ومثله عند زروق. ولكن، يبدو أن ذلك كان معروفاً فعلاً منسوباً إلى الإمام مالك، فليس الشافعية وحدهم الذين نسبوا هذا القول إلى مالك، فقد وجدنا السرخسي في المبسوط يقول: " ويخالفنا في الولد والوالد مالك رحمه الله، فهو يجوز شهادة كل واحد منهما لصاحبه، بالقياس على شهادة كل واحد منهما على صاحبه " ا. هـ (المبسوط: 16/ 121). فلعله كان قولاً معروفاً عند المالكية، ثم هُجر واستنكروه، واستنكروا نسبته إليهم. والله أعلم. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 372 مسألة 1511، المبسوط: 16/ 122.

والثاني - ردها من الجانبين. والثالث - قبول شهادة الزوج لزوجته ورد شهادتها لزوجها، والفاصل أنها تستحق النفقة عليه، وهو لا يستحقها عليها، ولا شك أن هذا التردد في شهادة أحدهما للثاني، فأما شهادته عليه، فمقبولة إذا لم تكن عداوة، وكذلك شهادة الولد والوالد مقبولة من كل واحد منهما على صاحبه. وذكر العراقيون وصاحب التقريب اختلافاً في مسألةٍ وهي إذا شهد الابن على أبيه بما يوجب عليه عقوبة، فالذي ذهب إليه الأكثرون القبول، وهو جارٍ على القياس ولا تهمة. ويُحكَى عن بعض الأصحاب ردُّ شهادة الابن على أبيه فيما يوجب عقوبة، فإنها لو قبلت، لكان الابن سبباً في وجوب العقوبة على الأب، وهذا ممتنع، لأن الأب لا يستوجب القصاصَ وحدَّ القذف بالجناية على ابنه وقذفه، وهذا كلام ركيك، لا أصل له؛ فإن العقوبة التي تجب بشهادة الابن ليست واجبة له، وهذا هو الممتنع. هذه مسائل ذكرها الأصحاب في رد الشهادة بالتهمة. 12129 - وقد حان الآن أن نذكر في ذلك ضبطاً معنوياً، فنقول: ما يقتضيه قياس أصول الشريعة ألا ترد الشهادة من عدل لتخيّل تهمة؛ فإنه لا يُظَنُّ بمن ظهرت عدالته الميلُ إلى مظانّ التهم، ومن لا يُعدّلُه دينُه في مزالّ القدم ومواطن التهم فليس عدلاً، والاعتدال افتعال من العدالة، ومن يُزيغه طلبُ حظه، فحقه أن ترد شهادته على العموم، ولكن الذي [تمهّد] (1) في أصل الشرع أن الإنسان لا يثبت حق نفسه بقولٍ يصدر منه، وإن كان أعدل العدول، وليس رد ذلك للتهمة أيضاً؛ فإن الذي هو أعدل البرية ويهون في حقه بذلُ الآلاف في اقتناء المكرمات، وجلب الخيرات، إذا ادّعى درهماً، فيغلب على القلب صدقه، وتنتفي التهمة، ولكنَّ وضْعَ الشرع على أن الإنسان لا يُثبت بنفسه لنفسه حقاً، فإذا تضمَّنت شهادته جرّاً في مسألة جرح الموروث، فهي مردودة لا للتهمة، ولكن لأنه يشهد بجُرح هو مستحق أرشه.

_ (1) في الأصل: " نُمهّد " (بهذا الضبط).

وقد ذكرنا أنه لو شهد لموروثه في مرض موته بمالٍ، ولم يكن بينهما بعضية، فشهادته مقبولة؛ فإن الملك يثبت منبتّا لحيٍّ، بخلاف أرش الجرح؛ فإنه لا يثبت إلا حين يستحقه الشاهد. وأما صورة الدفع، فهي خارجة على ما مهدناه؛ فإن العاقلة يدفعون عن أنفسهم، فكان هذا في معنى شهادتهم لأنفسهم. ويخرّج على ذلك رد الشهادة بين قريبين بينهما عُلقة النفقة، فكأن كل واحد منهما يثبت لنفسه مالاً إليه مرجعه إذا احتاج، ولا غرض في أعيان الأموال إلا الرجوع إليها عند الحاجات. ولو رُددنا إلى الأصل الممهد، لما رَدَدْنا شهادةَ العدو على صاحبه، ولكن اعتمد الشافعي في هذا خبراً صحيحاً، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقبل شهادة خصم على خصم " (1)، فقال: إذا نظرنا، وجدنا العدو في معنى المخاصم، فإن الخصومة تتضمن عداوة في وضع الجبلة، وإن كان الخصم على الحق يدور. واعترف أبو حنيفة (2) برد شهادة الخصم، وأنكر اعتبار (3) العدوّ به. فهذا هو الذي يجب اعتماده في قاعدة التهمة، ومن ضمّ ما مهدناه في التهمة إلى ما ذكرناه في قاعدتي المعصية والمروءة، لم يخف عليه مُدرك الكلام في مسألة تتعلق بهذه الأصول. فصل قال: " ومن لا يُعرف بكثرة الغلط والغفلة ... إلى آخره " (4). 12130 - العدل المغفل ليس مردودَ الشهادة على الإطلاق، وليس مقبولها على

_ (1) خبر " لا تقبل شهادة خصم على خصم " قال الحافظ، بعد أن نقل كلام الإمام: ليس له إسناد صحيح، لكن له طرق يقوى بعضها ببعض. (ر. التلخيص: 4/ 374 ح 2662). (2) ر. المبسوط: 16/ 133. (3) اعتبار: بمعنى قياس. (4) ر. المختصر: 5/ 256.

الإطلاق، ولكن كل ما يَغْلِب على القلب غفلتُه فيه، فشهادته مردودة فيه، وذلك الشهادة المرسلة، فأما الشهادة المفصّلة إذا امتحناها، -والرجل عدل- فلم تضطرب، فهي مقبولة؛ إذ ليست الغفلة معنىً يقتضي الرد عموماً بخلاف الفسق. وهذا يناظر قول أئمة الحديث في إسماعيل بن عياش، فإنهم يقبلون ما يرويه عن الشاميين، ويتوقفون فيما يرويه عن غيرهم، لأنهم رأوا حفظه ثابتاً في رواياته عن الشاميين، ولعله كان أثبتها في عنفوان شبابه، فثبت حفظه. وكل ما يتعلق بتحقيق الثقة، فتستوي فيه الرواية والشهادة، ويترتب على هذا الأصل أمر ذكرناه قبلُ مرسلاً، ونحن نفصله الآن. 12131 - قال الشافعي: " القاضي إذا رابه أمر من الشهود فرّق مجالسهم، وسألهم عن الزمان والمكان ... إلى آخره ". ونحن نقول: إذا استشعر القاضي منهم غفلة، ورابه لذلك أمر، فإنه يطلب التفصيل لما أشرنا إليه في شهادة المغفل، فلو أَبَوْا أن (1) يذكروا التفصيل، وكان لقنهم ملقن الامتناع عن التفصيل، فالقاضي إن دامت ريبته، لم يقض بشهادتهم؛ بناء على ما ذكرناه. وإن لم يكن بالشهود غفلة، فشهدوا، وظن القاضي بهم غفلة؛ فإذا استفصلهم، ولم يفصّلوا، فعلى القاضي أن يبحث عن حالهم، فإذا تبين أنهم ليسوا مغفلين، قضى بشهادتهم المطلقة؛ ومعظم شهادات العوام يشوبها جهل وغرّة، وإن كانوا عدولاً، فيتعين الاستفصال، كما ذكرنا. وليس الاستفصال مقصوداً في نفسه، وإنما الغرض تبين [تثبتهم] (2) في الشهادة التي أقاموها، وهذا كشف سرٍّ يغتبط الفقيه به.

_ (1) هنا سقطت ورقة كاملة من الأصل، ووضع مكانها ورقة أخرى مقحمة لا علاقة لها بالسياق، بل وضعت مقلوبة، وبالبحث وجدناها أقحمت في مكان لاحق، لتحمل رقم 176 شمال، 177 يمين، وهى مقلوبة أيضاً. (2) كذا قرأنا بصعوبة بالغة على ضوء ما بقي من ظلال الحروف.

فصل قال: " ولا أرد شهادة الرجل من أهل الأهواء، إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقه بتصديقه وقبول يمينه ... إلى آخره " (1). 12132 - قال الفقهاء الذين [شَدَوْا] (2) طرفاً من الأصول: إذا كفّرنا المعتزلة، ومن شابههم من أهل الأهواء، رددنا شهادتهم، وإن ضلّلناهم، لم نرد شهادتهم، والقول في التكفير، والتبرؤ (3) ليس بالهين، وما ذكره الأصحاب من أن من يكفو تردّ شهادته صحيح، ونقل العراقيون أن الشافعي كفّر من قال بخلق القرآن، وهذا أهونُ بدعة ابتدعها المعتزلة. وكان شيخي ردّ شهادة الوقّاعين في أعراض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل المتعرضين [لعائشة] (4) قذفَةً مردودين، فإن منزلتها لا تنحط عن منزلة محصنةٍ من حرائر المسلمين، وقد سماها الله تعالى محصنة، فقال: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ ... } [النور: 23]. وأنا أقول: لا سبيل إلى تكفير المعتزلة ومن في معناهم من أهل الأهواء، وقد نص الشافعي في مجموعاته على قبول شهادتهم، وما نقل عنه من تكفيرهم، فهو محرّف، وظني الغالب أنه ناظر بعضهم، فألزمه الكفرَ عن حجاج، ولم يحكم بكفره، وإذا كان كذلك، فسبيلهم في الشهادة كسبيل غيرهم، فينظر إلى العدالة والثقة والمروءة، كما سبق تقريره. وقد قال الشافعي: النفسُ بقَوْلِ من يقول: " الكذب يوجب الخلود في النار " أوثق (5).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 256. (2) في الأصل: " شهدوا ". (3) في الأصل: " والتبرّي "، من تبرى، بالقصر. وهو مصدر قياسي. (4) تقدير منا مكان كلمة مطموسة تماماً. (5) المعنى أن من أهل الأهواء والبدع من يقول بأن الكذب شرك بالله يوجب الخلود في النار، فمثل هذا إذا شهد تكون النفس أوثق بشهادته، فبدعته أكبر رادعٍ له عن الكذب.

فهذا هو المذهب لا غير، وما حكيناه ليس خلافَ مذهبٍ، وإنما هو بناء على زللٍ في التكفير، ومثل هذا لا يعد مذهباً في الفقه. وما ذكره شيخي من ردّ شهادة القذفة يصح على قانون الفقه، وكان محمد بن إسماعيل البخاري يؤلف مخرّجه الصحيح في الروضة: بين المنبر والقبر، قال: " رويتُ عن ابن مُحَيْرِيز، فغلبتني عيناي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: تروي عن ابن مُحَيْريز وهو يطعن في أصحابي، -وكان خارجياً- قال محمد بن إسماعيل: قلت له: يا رسول الله، لكنه ثقة، فقال صلى الله عليه وسلم: صدقت إنه ثقة، فارْوِ عنه، فكنت أروي عنه بعد ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1). فصل قال: " واللاعب بالشِّطْرَنْج والحمام ... إلى آخره " (2). 12133 - أطلق كثير من أصحابنا الإباحة في اللعب بالشِّطْرَنجْ، وقال المحققون: إنه مكروه، وهذا هو الصحيح، ولا آمن أن الذين أطلقوا الإباحة أرادوا انتفاء التحريم؛ فإن التعرض للفصل بين المكروه والمباح مما أحدثه المتأخرون. ثم قال الأصحاب: لا يحرم ما لم تنضم إليه مُسابّةٌ أو تركُ صلاةٍ، وهذا كلام

_ (1) قصة البخاري وروايته عن ابن محيريز لم نصل إليها، كما لم نر من عدّ ابن محيريز من الخوارج رغم طول بحثنا، ومراجعتنا للمصادر الآتية: مقدمة الحافظ للفتح (هدي الساري)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (5/ 168) طبقات ابن سعد (7/ 447) حلية الأولياء (5/ 138 - 149) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 287) سير أعلام النبلاء (4/ 494) تذكرة الحفاظ (1/ 64) تهذيب التهذيب (6/ 32). وابن مُحيريز هو عبد الله بن محيريز بن جُنادة، من سادة التابعين، روى عن أبي سعيد الخدري، ومعاوية، وأبي مَحْذورة وغيرِهم من الصحابة، وروى عنه أبو قلابة والزهري وعبدُ الملك بن أبي محذورة، ومحمد بن يحيى بن حبان ومكحول الشامي وغيرهم. توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك، وقيل في خلافة عمر بن عبد العزيز. (2) ر. المختصر: 5/ 257.

غث؛ فإن المحرّم هو الترك والمسابّة، وقالوا: يحرم إذا قصد به القمار، وهذا أيضاً ليس بشيء؛ فإن القمار لا يلزم، والمحرم قصده وإلزامُه، والشطرنج في نفسه لا يتغير اللعب به. وقيل: كان سعيد بن جبير يلعب بالشِّطْرَنج استدباراً (1)، وما روي أن علياً رضي الله عنه مرّ بقومٍ يلعبون بالشطرنج، فقال: " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " (2) فهذا محمول على أنه رأى الشطرنج على صورة الفرس والفيل؛ فقال ما قال. وأما اللعب بالنرد من غير قمارٍ، فحرام على ظاهر المذهب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللاعب بالنرد كعابد الوثن " (3)، وقال: " من لعب بالنرد، فقد عصى أبا القاسم " (4) وقد روي " ملعون من لعب بالنردشير ". وحكى صاحب التقريب عن ابن خَيْران أن النرد كالشطرنج، وحكاه العراقيون عن أبي إسحاق المروزي. فإن لم يثبت في النرد الأخبار التي ذكرناها، فلا فرق. وقد أطلق الشافعي

_ (1) أثر سعيد بن جبير رواه الشافعي. قال المزني: سمعت الشافعي يقول: كان سعيد بن جبير يلعب بالشطرنج استدباراً، فقلت له: كيف يلعب بها استدباراً، قال: يوليها ظهره، ثم يقول: بأي شيء وقع، فيقول: بكذا، فيقول: أوقع عليه بكذا. (ر. المختصر: 5/ 257) وانظر: السنن الكبرى للبيهقي: 10/ 211، ومعرفة السنن والآثار: 7/ 431 ح 5956. (2) أثر علي بن أبي طالب رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، ورواه البيهقي في الكبرى، وفي معرفة السنن والآثار (ر. السنن الكبرى: 10/ 212، معرفة السنن والآثار: 7/ 231، التلخيص: 4/ 379 ح 2673، إرواء الغليل للألباني: 8/ 288 ح 2672، وقال: هذا الأثر لا يثبت عن علي). (3) حديث " اللاعب بالنرد كعابد الوثن " لم نقف عليه. (4) حديث " من لعب بالنرد فقد عصى أبا القاسم " رواه أبو داود، وابن ماجه، ومالك، وأحمد، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي، كلهم من حديث أبي موسى الأشعري ولفظه " من لعب النردشير فقد عصى الله ورسوله ". والحديث حسنه الألباني في الإرواء (ر. أبو داود: الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد، ح 4938، ابن ماجه: الأدب، باب اللعب بالنرد، ح 3762، الموطأ: 2/ 958، أحمد: 4/ 394، 397، 400، الحاكم: 1/ 50، البيهقي: 10/ 214، 215، التلخيص: 4/ 365 ح 2642، إرواء الغليل: 8/ 285 ح 2670).

لفظ الكراهية في النرد، ولا اعتداد بذلك؛ فإنه كثيراً ما يُطلق الكراهية، ويريد التحريم كما قال: " وأكره استعمال أواني الذهب والفضة " وأراد التحريم. وكان شيخي يجعل اللعب بالنرد من غير قمار صغيرة، ولا يرى الردّ بالمرّة حتى يفرض فيها إدمان وإصرار. وقال قائلون: الكرّة منه تفسّق. 12134 - وسأخرج هذا على الأصول التي سبق تمهيدها. فأقول: اللعب بالشطرنج بين أن يكون مباحاً أو مكروهاً، وعلى أي الوجهين قُدِّر لا يوجب ردَّ الشهادة لعينه، ثم يتطرق إليه وجهان: أحدهما - أن إظهاره قد يكون ترك مروءة من بعض الناس. والآخر - أن إدامة الاشتغال به تعطّل المهمات. وقد بيّنت ما يتلقى من كل أصلٍ من هذين الأصلين من الرد ونقيضه. والنرد إن ألحقناه بالشطرنج؛ فقد مضى حكمه، وإن حرّمناه، فمن أصحابنا من يراه كبيرة، ومنهم من يراه صغيرة، ولا يخفى أثرهما، وتفصيل القول فيهما، ويتصل بذلك كله ملاحظةُ الاعتياد، وقدرُ استقباح الناس في كل قطرٍ، على ما تمهّد. واللعب بالحمام لا يحرم، وذكر العراقيون وجهين في أنه هل يكره، وليس لأمثال هذا الخلاف وَقْعٌ عندي، ثم الكلام في ردّ الشهادة يضاهي الكلامَ في اللعب بالشطرنج. فصل قال: " ومن شرب عصير العنب ... إلى آخره " (1). 12135 - شرب الخمر المحرمة إجماعاً من الكبائر، ثم كل مسكرٍ حرام عند الشافعي، وخلاف أبي حنيفة في المثلّث، ونقيع الزبيب، وغيرهما لا يخفى، فمن تعاطى من أصحابنا (2) شيئاً منها رُدَّت شهادته. وقال الشافعي: " لو شرب الحنفي النبيذ، حددتُه، وقبلت شهادته " وقد ذكرنا

_ (1) ر. المختصر: 5/ 257. (2) عودة التسلسل الصحيح للترتيب بعد سدّ الخلل الذي كان.

خلافاً للأصحاب في الحد. وقال المزنى: كيف تحد من شرب قليلاً من نبيذ شديد، وتجوّز شهادته؟ فمن أصحابنا من قال: المزني يختار أنه لا يُحدّ كما لا يفسّق، ومنهم من قال: بل يَختار أنه يُفسّق كما يُحدّ، ومن أصحابنا من ذكر وجهاً في التفسيق أيضاً، فَخَرَجَ في الحد والفسق أوجه: أحدها - أنه لا يحدّ الحنفي ولا يفسّق. والثاني - أنه يحدّ ويفسّق. والثالث - أنه يحدّ ولا يفسّق. وهو النص. والشافعي يفسّقُ بشرب ما يعتقد تحريمه. فإن قلنا: يحد الحنفي، فالشفعوي أولى، ومن قال: لا يحدّ المحلِّل، فهل يحدّ المحرِّم؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يحد لشبهة مذهب المحللين، كما لا نوجب الحد على الواطىء في نكاح المتعة في ظاهر المذهب، وأما النكاح بغير ولي، فالصحيح أنه لا حدّ فيه، وأجرى بعض أصحابنا ذلك مجرى شرب النبيذ، وكل ذلك مما قرّرته في موضعه، وحظ كتاب الشهادة منه ما نبهت عليه، ولم أبسط القول في تمهيد أصول الباب إلا لأعطف عليها المسائل على إيجاز. فصل قال: " ولو كان يديم الغناء، ويغشاه المغنون ... إلى آخره " (1). 12136 - الفصل يشتمل على ما يتعلق السماع به من ضروب الغناء. والبداية في هذا الفن بتحريم المعازف والأوتار، وكلها حرام، وهي ذرائع إلى كبائر الذنوب. وفي اليراع وجهان. ولا يَحْرم ضربُ الدف إذا لم تكن عليه جلاجل، فإن كان، فوجهان. وكان شيخي يقطع بتحريم (الكوبة) (2)، ويقول: فيها أخبار مغلظة على

_ (1) ر. المختصر: 5/ 257. (2) الكوبة: الطبل الصغير المخصّر. (المصباح).

ضاربها، والمستمع إلى صوتها. وقد نص الشافعي أن من أوصى بطبل اللهو، فالوصية باطلة، ولا يعرف طبل لهو يلتحق بالمعازف -حتى تبطل الوصية بها- إلا (الكوبة)، ولست أرى الطبول الصغار التي تُهيأ لملاعب الصبيان محرَّمة؛ فإنها إن لم تلتحق بالطبول الكبار، فهي في معنى الدّف. ولم يتعرض القاضي (للكوبة)، ولو رددنا إلى مسلك المعنى، فهي في معنى الدف، ولست أرى فيها ما يقتضي تحريماً، إلا أن المُفْلِكِين (1) يعتادون ضربها، ويتولعون بها. والذي يقتضيه الرأي أن ما يصدر منه ألحان مستلذة تَهِيجُ الإنسان، وتستحثه على الشرب، ومجالسة إخوانه، فهو المحرّم، والمعازف والمزامير كذلك، وما ليس له صوت مستلذ، وإنما تنتحب (2) في [إيقاعات] (3) قد تطرب، فإن كانت لا تُلذ، فجميعها في معنى الدف، والكوبةُ في هذا المسلك كالدف، فإن صح فيها تحريم، حرّمناها، وإلا توقفنا فيها. والضرب بالصَّفَّاقَتَيْن (4) كان يحرمه، وهو مما يعتاده المخنثون، وفيه نظر عندي بيّنٌ؛ فإنه لم يرد فيه خبر، إن فرض ورود أخبار في الكوبة. واليراعُ الذي حكينا فيه الخلاف ليس هو المزمار الذي يسمى العراقي، ويضرب مع الأوتار، بل لا نشك في تحريمه. وقد روى الرواة: " أن ابن الزبير كانت له جوارٍ عَوَّادات، فدخل عليه ابن عمر وبالقرب منه عود، فقال له ابن الزبير: يا صاحب رسول الله ما هذا؟ فأخذه وتأمله، فقال: ميزانٌ شامي وأنا ابن عمر (5) " (6).

_ (1) المفلكين: بمعنى المدمنين المسرفين، يقال: أفلك الرجل في الأمر إذا لجّ فيه. (المعجم). (2) كذا. (3) في الأصل: " يقاعات ". (4) كذا. والمراد التصفيق باليدين؛ فلم نجد في كتاب أسماء الملاهي آلة تسمى (الصفاقتين). (5) أثر ابن الزبير مع ابن عمر (رضي الله عنهم) لم نقف عليه. (6) المعنى أن ابن الزبير يُشهد ابنَ عمر أن هذا العود ليس هو المزمار العراقي الذي لا يُشك في تحريمه، كما قال الإمام.

وكان شيخي يقول: الاستماع إلى الأوتار في رتبة الصغائر، [والإدمان] (1) فيه مفسّق، وما يندر منه لا يفسق. وقطع العراقيون ومعظم الأصحاب بأنه من الكبائر، وهذا يوضحه ما قدّمناه من اعتبار العادات؛ فإن كان ما نحن فيه مستقبحاً معدوداً من الفواحش في بعض البلدان، فالهجوم عليه خرمٌ بيّن، واستجراءٌ على ترك المروءة. وإن كان لا يعدّ من الفواحش في بعض البلاد؛ فإذ ذاك يقع النظر في أنه من الصغائر أم من الكبائر؟ فهذا قولنا في الألحان والأوتار. 12137 - وأما الغناء قولاً وسماعاً، فأجمعُ كلامٍ فيه وأحواه للمقصود قول الشافعي، إذ قال: الشعر كلامٌ، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، والأمر على ما ذَكر، فلا فرق بين أن يكون الكلام منظوماً أو منثوراً، فكل ما يحرم منثوره يحرم منظومه. ثم في الشعر وغرضِنا منه ما يُحوِجُ إلى مزيد فكر. ومسلكُ الأصحاب مضطرب فيه: فأما الأشعار التي ليس فيها من المنكر والخنا وفُحش المنطق، والخروجِ إلى حد الكذب، وإنما هي في وصف دِمنٍ وأطلال، وما في معانيها، فهي دواوين العرب، والمُكِبُّ على تحصيلها متوسل إلى حفظ اللغة، وبيان مناظم الكلام، وهو من أشرف العلوم، وكيف لا، وهي الذريعة إلى دَرْك الكتاب والسنة. ولو فرض ترنمُ مترنِّم بها في إنشادٍ، أو في صنع الحداء، فلا بأس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي إليها، ويطلب إنشادَها، وربما كان يستزيد ويستعيد، حتى رُوي أنه قال لشَرِيد: " أمعك من شعر أمية " (2)؛ فقال: نعم، فقال: هيهِ، فأنشدته بيتاً، فلم يزل يستزيد حتى بلغت مائة. وقال لابن رواحة:

_ (1) في الأصل: " فالإدمان ". (2) المراد أمية ابن أبي الصلت الشاعر الجاهلي، والشَّريد هو الشريد بن سويد الثقفي والقصة في الإصابة ساقها ابن حجر عند ترجمة الشريد، وذكر أنها من رواية مسلم وغيره (ر. مسلم: الشعر، باب في إنشاد الأشعار وبيان أشعر الكلم وذم الشعر، ح 2255، ابن ماجه: الأدب، باب الشعر، ح 3758، أحمد: 4/ 388، 389، 390، البيهقي: 10/ 226، المعجم الكبير للطبراني: 7/ 315 ح 7237، الأدب المفرد للبخاري: ح 799).

" حرّك بالقوم " (1) فاندفع يرتجز ويقول: اللهُمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا إلى آخر القطعة. ولا حاجة إلى الإطناب فيها على بيانه. وإنما النظر في خروج الشاعر إلى حد الكذب في وصفٍ، أو مدح وإطراء، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن منشىء هذا الفن كاذب، فهو كما لو كان يكذب على ندور أو اعتياد، [و] (2) قال الصيدلاني: هذا لا يلتحق بالكذب؛ فإن الكذب من يُخبر ويُري الكذبَ صدقاً، والشعر صناعة، وليس غرض الشاعر أن يُصدَّق في شعره، فليس إذاً من الكذابين. فمن سلك المسلك الأول، قال: النادر من هذا الفن محتمل غير مؤثر في رد الشهادة، والكثير منه يوجب ردَّها، وقياس ما ذكره الصيدلاني أنه لا فرق بين القليل والكثير منه؛ فإنه ليس خبراً محقَّقاً عن مُخبرٍ، وليس خارماً للمروءة إذا لم يتخذه الشاعر مكسباً، فإذاً لا كذبَ ولا خسّة، بل هو من الفضائل، ثم من الوسائل إلى تعلّم الشريعة. ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأَنْ يمتلىء جوفُ أحدكم قيحاً حتى يَرِيَه خيرٌ من أن يمتلىء شعراً " (3) قال أصحاب المعاني: هذا فيمن لا يحسن إلا الشعر، فأما إذا كان يحسن غيره، فليس يندرج تحت الخبر. وما ذكرناه مشروط بألا يهجو،

_ (1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لابن رواحة: حرّك بالقوم، رواه النسائي في سننه الكبرى من حديث قيس بن أبي حازم عن عمر، ومن حديث قيس عن ابن رواحة مرسلاً (المناقب، باب عبد الله بن رواحة، ح 8193، 8194) ورواه البيهقي في الكبرى (10/ 227) وفي المعرفة: 7/ 438 ح 5965 وانظر: التلخيص: 4/ 368 ح 2649. (2) زيادة من المحقق. (3) حديث: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً ... " بهذا اللفظ رواه البخاري من حديث ابن عمر: الأدب، باب ما يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن، ح 6154، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: " لأن يمتلىء جوف رجلٍ قيحاً يَرِيه خيرٌ من أن يمتلىء شعراً " (اللؤلؤ والمرجان: 3/ 78 ح 1455).

ولا يتعرض لعرضٍ، ولا يشبب بامرأة معيّنة، فإن [في] (1) ذلك هتكاً للستر. ولا يتطرق إلى العلم بالشعر ومنشئه ومنشده بعد التحرز مما ذكرناه إلا ترك المهمات من الأمور، فإن استوعب الأوقات بها، وترك ما يُهِمه، فقد يكون ذلك بمثابة خرق حجاب المروءة، وإن لم يكن مُضرباً عن مهماته، فلا ترد شهادته. فتنخّل من مجموع ما ذكرناه خلافُ الأصحاب في جوهر الشعر وأنه كذب إن اشتمل على ما ينتهي إلى الكذب، أم هو صناعة؟ فإن جعلناه بمثابة الكذب، فيجب أن نفصل بين ما يحكيه (2) وبين ما ينشئه، [فلا] (3) يُسْقِطُ الثقةَ بصدق لهجته. والكذب الذي يجري إذا قلّ وندر، لم يوجب ردَّ الشهادة، وإذا [كثر] (4) أشعر باعتياد الكذب، فإذ ذاك يتضمن ردَّ الشهادة. هذا قولنا في الكذب المقصود، فما الظن بما ليس مقصوداً كذباً، فيجب أن يُفْصَل بين القليل منه والكثير (5). وإن جرينا على أنه ليس من الكذب، فإذا لم يكن فيه إيذاء فيبعد تحريمه، وقد يتطرق إليه ما ذكرناه [من] (6) تَرك المهمات. وإن اكتسب الشاعر بشعره، التحق ذلك بما يخرم المروءة، وقد انتجز القول فيه. 12138 - وبقي بعده الغناء: فما يحرُم قوله، يحرُم سماعه، وما لا فلا. وإدمان الغناء قولاً وسَمْعاً يخرم مروءة الدين، ويُلحق الرجل بالهازلين. والرَّقْص ليس محرَم العين، وإنما هو حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يَخْرِم المروءة، كسائر أصناف اللّعب إذا كان على اختيار.

_ (1) زيادة من المحقق ليصحّ نصبُ " هتكاً ". (2) بين ما يحكيه: أي من الشعر، أي ترديده لشعر غيره، أي يكون منشداً لا منشئاً، فالحكم لا شك يختلف فيهما، فلا تسقط العدالة بالإنشاد. (3) في الأصل: " ولا ". (4) في الأصل: " كثرت ". (5) خلاصة المسألة: أنا إن اعتبرنا الشعر الذي ينتهي إلى الكذب كذباً -وليس صناعة- فيجب أن نفرق أولاً بين منشئه ومنشده، ثم نفرق ثانياً في منشئه بين القليل والكثير. (6) في الأصل: " ممن ".

فصل قال: " وإذا كان هكذا، كان تحسينُ الصوت بذكر الله والقرآن أولى ... إلى آخره " (1). 12139 - أراد بذلك أنه لما جاز الاستماع إلى الحُداء مع الترنم به، فلأن يجاز ذلك في ذكر الله وقراءة القرآن أولى، على شرط ألا ينتهي إلى التمطيط المغيِّر لنظم الكلام. وكان أبو موسى الأشعري حسنَ الترنم بالقرآن، وفيه قال المصطفى عليه السلام: " أُوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " (2) وقال عليه السلام: " ما أذن الله لشيء إذنَه لنبي حسن الترنم بالقرآن " (3). أراد بالقراءة، فلا منع إذاً. وفي بعض الأخبار " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " (4) وتفسير الحديث معروف مع اختلاف فيه، وأصح الوجوه في تأويل الحديث من لم يُغنه القرآن، ولم يقنعه في إيمانه، ولم يصدق بما فيه من وعدٍ ووعيد، فليس منا، وقيل من لم يرتح من قراءته وسماعه.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 257. (2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال عن أبي موسى " أوتي مزماراً من مزامير آل داود " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، 1/ 152 ح 456). (3) حديث " ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن 1/ 152 ح 455). (4) حديث " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " رواه البخاري، وأحمد من حديث أبي هريرة، ورواه أبو داود، وأحمد، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان من حديث سعد بن أبي وقاص (ر. البخاري: التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ... }، ح 7527، أحمد: 1/ 172، 175، 179، أبو داود: الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، ح 1470، ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في حسن الصوت بالقرآن، ح 1337، الحاكم: 1/ 569، 570، ابن حبان: ح 120، التلخيص: 4/ 369 ح 2652).

12140 - ثم قال: " ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ... إلى آخره " (1). وردت أخبار في النهي عن العصبية، وليس منها أن يحبّ الرجل قومَه، وإنما العصبية أن يبغض الرجل من ليس من قومه من غير سبب، وهي (2) توجب البغض. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال عليه السلام: " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً " (3). 12141 - ثم قال: " ويجوز شهادة ولد الزنا ... إلى آخره " (4). والأمر كما قال؛ فإن ذلك لا يسقط الثقة، والأوصاف المرعية موجودة. وقصد بهذا الرد على مالك (5)، فإنه رد شهادة ولد الزنا. 12142 - ثم قال: " والقروي على البدوي " (6). وأراد أن شهادة القروي مقبولة على البدوي، وكذلك شهادة البدوي على القروي، وقصد بذلك الرد على مالك (7) أيضاً. فصل 12143 - إذا شهد الصبي والمملوك والكافر ورُدّت شهاداتهم لما بهم، فلو صاروا إلى الكمال، فبلغ الصبي، وأسلم الكافر، وعَتَق العبد، فأعادوا تلك الشهادات، فهي مقبولة منهم وفاقاً.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 257. (2) وهي: أي العصبية. (3) حديث: " لا تحاسدوا ولا تباغضوا .. " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (اللؤلؤ والمرجان: 3/ 189 ح 1658). (4) ر. المختصر: 5/ 258. (5) ر. الإشراف: 2/ 975 مسألة 1969، عيون المسائل: 4/ 1560 مسألة: 1098. (6) ر. المختصر: الموضع السابق. (7) ر. الإشراف: 2/ 975 مسألة 1968، عيون المجالس: 4/ 1560، مسألة 1099، الشرح الصغير: 4/ 250.

12144 - وإن شهد الرجل، فردت شهادته لفسقه، ثم ظهرت عدالته وحسنت حالته وكان مقبول الشهادة في القضايا، فلو أعاد تلك الشهادة التي رُدّت بسبب الفسق، نُظر: فإن كان مستسرّاً بالفسق أولاً متعيّراً به لو نسب إليه، وقُذف به، فلا تقبل الشهادة المعادة باتفاق الأصحاب (1)، ووافق فيه أبو حنيفة (2)، ومتبعوه. ولو كان معلناً بالفسق لمّا شَهد، غير متعَيّرٍ بأن ينسب إليه، فردت شهادته، ثم ظهرت عدالته، فأعاد بعد العدالة تلك الشهادة، ففي قبولها وجهان: أحدهما - أنها مردودة، كما لو كان متعيراً بالفسق أول مرة. والثاني - أنها تقبل، كالشهادة المعادة بعد العتق، وتغير العتق من التغايير التي وصفناها. وأصحاب أبي حنيفة يزعمون أن سبب رد الشهادة المعادة أنها ردت، وجرى القضاء بردها أولاً، وشهادة الفاسق شهادة، بخلاف شهادة الصبي والمملوك والكافر؛ فإنها ألفاظ على صيغ الشهادة، وليست شهادة، ومعنى ردها إبانة أن ما جاؤوا به ليست شهادة، وليس كذلك الفاسق؛ فإنه شاهد، فإذا اتصل القضاء برد شهادته في قضية، لم تُعَد؛ إذ لو أعيدت، وقبلت، لكان قبولها نقضاً للقضاء السابق بالرد. وقد ذكرنا كلامهم هذا في مسائل الخلاف ونقضناه. والذي يدور في الخَلَد من هذه المسألة؛ أن رد الشهادة المعادة بعد ظهور العدالة ليس ينتظم فيه معنى صحيح عندي؛ فإني أوضحت أن رد الشهادة بالتهمة من العدل لا معنى له في مسلك القياس، فقد استثنى الخبر رد شهادة الخصم، وألحق الشافعي

_ (1) اتفق الأصحاب على ردّ شهادة الفاسق في هذه الحالة، حالة ما إذا كان مستسرّاً بالفسق، يخشى أن يعيّر به، فإذا ردّت شهادته، كان الردّ كاشفاً لفسقه، مظهراً لما يتعير به، فإذا تاب، وصلحت حاله، وصار مقبول الشهادة، فلو أراد إعادة الشهادة المردودة، لم تقبل، لأنه بمحل التهمة، تهمة من يريد أن يدفع عن نفسه عار الكذب، وينفي عنها التعيّر بالفسق السابق الذي ردّت به شهادته. وقد بسط النووي ذلك في الروضة، حين جعل من شروط قبول الشهادة " الانفكاك عن التهمة " ثم قال: " وللتهمة أصباب ... السبب السادس - أن يدفع عن نفسه عار الكذب " ثم ضرب الفاسق الذي ردّت شهادته مثلاً لذلك. (ر. الروضة: 11/ 234 - 241). (2) ر. مختصر الطحاوي: 333، المبسوط: 16/ 128.

شهادة العدو بشهادة الخصم، واستثنى الإجماعُ ردّ [الشهادة] (1) المعادة، وليس عند من يشتغل بمعاني الفقه معنى يترتب عليه ردُّ الشهادة المعادة. 12145 - ومما ينبغي أن يحاط به أن العبد المملوك إذا تصدى للشهادة، والقاضي علم برقِّه، فإنه يمنعه من إقامة الشهادة، وكذلك القول في الكافر والصبي، فأما الفاسق، فإن كان في أمره نظر، فلا شك أنه يصغي إلى شهادته، ثم يبحث عن حالته، فإن كان الشاهد معلناً بالفسق، فالذي كان يقطع به شيخي أن القاضي لا يصغي إلى شهادته؛ إذ يَقْبُح أن يُصغي القاضي إلى ثملٍ بيده قدح. وذهب بعض أئمتنا إلى أنه يصغي إلى شهادة المعلن، ثم يرد شهادته، وهذا بعيد عن قياسنا. ولو شهد السيد لمكاتَبه، فلا شك في رد الشهادة، فلو عَتَق المكاتَب، فأعاد السيد تلك الشهادة، ففي بعض التصانيف وجهان في قبول الشهادة المعادة: أحدهما - أنها مردودة كالشهادة المردودة بالفسق، إذا أعيدت بعد ظهور العدالة. والثاني - أنها مقبولة. والرد مخصوص بمسألة الفسق، وكأن القائل الأول ينظر إلى التعيّر بالرد الأول، ونسبة الشاهد إلى ترويج شهادته المعادة لما يُداخله من الغضاضة. وهذا قد يتحقق في رد شهادة السيد للمكاتب، ولما فيه من النظر، اختلف الأصحاب. ولو ردت شهادته للعداوة، ثم زالت العداوة الظاهرة، وصار يوالف من كان يعاديه، فإذا أعاد تلك الشهادة، ففي المسألة وجهان، وهذا قريبٌ مما تقدم؛ من جهة أن البحث يتسلط على العداوة، وليس في رد شهادة العدو ما يَسْينه. 12146 - فكأن المعتبر في الوفاق والخلاف أن الرد إذا كان بسببٍ ظاهر، وكان لا يعيِّر الردُّ المردودين، فإذا زالت الموانع، وأعيدت الشهادة، فالقطع بالقبول. وإن كان السبب الذي به الرد مجتَهَداً فيه، وكان مع ذلك معيِّراً، فالقطع بردّ الشهادة المعادة، وإن تطرق الاجتهاد ولا تعيُّرَ في الرد، ففي رد الشهادة المعادة وجهان، والفصل تقليدي، لا انتهاض لمعاني الفقه فيه.

_ (1) في الأصل: " شهادة المعادة ".

فصل 12147 - من تحمل الشهادة ظاهراً أداها كما تحملها، ومن سمع لفظاً، أو رأى فعلاً، وكان مختفياً عن القائل المشهود عليه، فالمذهب أن له إقامة الشهادة، بل عليه، ذلك إذا كان يتحمل الشهادة. وقال مالك (1): ليس له أن يقيم تلك الشهادة؛ فإن هذا التحمل من قبيل التدليس، واللائق بمحاسن الشريعة إبطالُه. وقيل: هذا قولٌ للشافعي، وهو مزيف غير معتد به. فرع: 12148 - ذكر بعض أصحابنا أن جلوس الرجال على فرش الحرير يوجب تفسيقهم، حتى قالوا: لو جلس شهود النكاح حالة العقد على فرش الديباج، لم ينعقد النكاح، بناء على أن النكاح لا ينعقد بشهادة الفسقة. وهذا لا أصل له، والذي صار إليه المحصلون أن هذا من الصغائر، وما يندر منه لا يوجب التفسيق. فصل قال: " ولو ترك ميت ابنين، فشهد أحدهما ... إلى آخره " (2). إذا مات رجل عن ابنين وتركة، [فاقتسماها] (3)، ثم أقر أحدهما بعينٍ في التركة

_ (1) ما نقله إمام الحرمين عن مالك، هو الذي كان شائعاً عند الخراسانيين ينقلونه عن مالك، قال صاحب البيان: " وقال مالك: إن كان المشهود عليه جلداً باطشاً لا يُمكن أن يخدع ليُقرَّ، صح تحمّل الشهادة عليه بذلك، وإن كان ضعيفاً يمكن أن يخدع بالإقرار، لم يصح تحمل الشهادة عليه ". هذا نَقْلُ أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: مذهب مالك أنه لا تقبل شهادة المختفي بكل حال. وهو قول الشافعي رحمه الله في القديم " انتهى بنصّه كلام العِمْراني في البيان. وما نسبه صاحب البيان للعراقيين هو الذي وجدناه في مصادر المالكية (ر. البيان للعمراني: 13/ 357، المدونة: 4/ 88، البهجة شرح التحفة: 1/ 99، حاشية الدسوقي: 4/ 175، الشرح الصغير: 4/ 249). (2) ر. المختصر: 5/ 2. (3) في الأصل: " فما يقسماها ".

لإنسان، وهي واقعة في حصته، وأنكر الابن الآخر استحقاقَ ذلك المقَر له، فلا خلاف أنه يجب على المقِر تسليمَ تلك العين إلى المقر له. وإن أقر أحدهما بدين، وأنكر الثاني، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يلزمه جميعُ المقر به في حقه بإقراره متعلقاً بما في يده من التركة، وهذا مذهب أبي حنيفة (1). والثاني - يلزمه نصفُ المقَرِّ به بإقراره متعلقاً بما في يده من التركة. فلو أقر أحدهما بألف درهم، وفي يده ألف درهم، فعلى القول الأول يلزمه جميعُ المقَرِّ به وتسليمُ الألف، أو مقداره من سائر ماله، وعلى القول الثاني يلزمه خمسمائة متعلقاً بما في يده. وتوجيه القولين مذكور في (الأساليب)، وقد أوضحنا فيها إشكالَ القول المنصور على أبي حنيفة. 12149 - ولو أقر أحدهما بوصية، نُظر: فإن أقر بعين للموصى له من جهة الوصية، وكانت تلك العين واقعةً في يده وحصتِه، فيلزمه تسليمُها إذا كان ثلث المال وافياً بها، لأنه معترف بكونها مستحقة على اللزوم للموصى له. ولو أقر له بثلث التركة شائعاً، فيلزمُه تسليم ثلث ما في يده لا غير. وإن أقر بوصيةٍ مرسلةٍ، ففي المسألة قولان: أحدهما - يلزمه جميعُ المقرّ به في حقه بإقراره متعلقاً بثلث ما في يده. والثاني - يلزمه نصف المقر به في حقه، متعلقاً بثلث ما في يده. فلو كان في يده ألف، وأقر بخمسمائة وصيةً، فعلى القول الأول يلزمه ثلث الألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثُلث. وعلى القول الثاني يلزمه مائتان وخمسون، وهو نصف الوصية، ولكن ثلث ما في يده وافٍ به. وإذا كان في يده ألف، وأقر بألف درهم وصية، استوى القولان؛ فإن الوصية إن قدّرناها ألفاً، فهو مردود إلى الثلث مما في يد المقر، وإن قدرناها خمسمائة فالجواب كذلك، فيخرج ثلث الألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث. ولسنا نخوض في

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء 4/ 208 مسألة 1903، المبسوط: 18/ 48، 19/ 39.

توجيه القولين، لأنا أحلناها على ما ذكرنا في (الأساليب) (والغُنية) (1) 12150 - ومما يتعلق بتفصيل المذهب في المسألة أن أحد الابنين إذا شهد للمُقَر له بالدين، وأراد المقَر له أن يحلف مع شاهده، أو أراد أن يضم إليه شاهداً آخر، فالذي ذكره المحققون من أصحابنا أن قبول شهادته يتفرع على القولين في إفراره لو أقر فإن قلنا: لو أقر، لم يلزمه في حصته إلا نصف المقر به، فإذا شهد، كانت شهادته مقبولة على الميت، وحكمها أنه يلزمه نصفُ المشهود به في حصته، ويلزم [صاحبَه] (2) النصفُ. فإن حكمنا بأنه لو أقر، لكان يلزمه التمام، فإذا شهد، فشهادته مردودة على صاحبه المنكر، وهي بمثابة ما لو أقر، وسبب ذلك أنا لو قبلنا شهادته، لكانت متضمنة دفعاً عن النفس (3)؛ فإن الإقرار بالجميع مع إنكار الثاني يُلزمه حكم [الجميع] (4) في حصته، فكأنه يطلب بشهادته أن يُلزم صاحبَه النصفَ. وعن أبي حنيفة (5) أنه قال: إن أقر أحدهما بالدين أولاً، ثم إنه شهد بعد إقراره، فشهادته مردودة؛ لأن الحق ثبت بالإقرار عليه، ثم رام دفعه بالشهادة. وإن شهد أولاً، قال: فشهادته مقبولة. ونحن خرّجنا شهادته من غير تقدم الإقرار على القولين كما تقدم الشرح [فيه] (6). فلو أقر أحدهما أولاً، ثم شهد، والتفريع على أن الإقرار لا يُلزم المُقر إلا

_ (1) (الأساليب) و (الغنية): اسمان لكتابين من كتب الإمام في الخلاف، ولما يظهر لأي منهما أثر في المكتبات والخزائن للآن. (2) في الأصل: " صاحب ". (3) المعنى أنه بإقراره حكمنا بأن عليه الجميعَ في حصته، فإذا قبلنا شهادته، ثبت الجميعُ على الميت الموروث، وبهذا يلزم صاحبَه نصفُ الدين المقر به -ونحن نفرع على أننا ألزمناه الدين المقر به كاملاً في حصته- فيكون بشهادته قد دفع عن نفسه نصف الواجب، فتردّ شهادته لذلك. (4) في الأصل: " المبيع ". وهو تصحيف. (5) لم نقف على قول أبي حنيفة كما نقله الإمام، وانظر المبسوط: 18/ 48. (6) في الأصل: " بنيه ". (كذا).

النصف، فالشهادة في النصف الثاني مقبولة على الابن المنكر، وإن فرّعنا على القول الثاني - وهو أن الإقرار يُلزم المقر التمامَ، فعلى هذا القول شهادته مردودة على أخيه المنكر، ولا فرق إذاً عندنا بين أن يبتدىء فيشهد وبين أن يقدم الإقرار ثم يشهد، فقبولُ الشهادة على المنكر وردُّها خارج على القولين. فإن قال قائل: إذا قذف رجلاً، ثم شهد عليه ثلاثةٌ، فشهادته بعد القذف مردودة (1)، ولو شهد ابتداء مع ثلاثةٍ على زناه، فشهادته على الزنا مقبولة، فهلا جعلتم الشهادة ردّاً منه عن نفسه فيما كان يلزمه لو قذف ولم يشهد، وما الفرق بين تقدم القذف وبين تقدم الإقرار؟ قلنا: هذا لا حاصل له، فإنه إذا قدم القذفَ، فقد التزم الحدَّ بالقذف، فإذا رام دفع العقوبة عن نفسه، كان دافعاً بشهادته على التحقيق، فرُدَّت، وإذا شهد ابتداء، فليس هو بشهادته دافعاً عن نفسه أمراً لا محيص له عنه؛ فإنه كان لا يجب عليه أن يشهد، والإخبارُ عن الدَّين لا بد منه في التركة، وهو بشهادته يؤدي واجباً عليه، فافترق الأمران افتراقاً ظاهراً. وقد ذكر صاحب التقريب في الإقرار بالوصية المرسلة طريقين: إحداهما - إجراء القولين على التفصيل المقدم، وقد ذكرناه. والثاني - القطعُ بأنه لا يلزم المقِرَّ إلا مقدارُ حصته قولاً وحداً. وأبو حنيفة (2) سلّم الوصية، وإن صار إلى أن المقِر بالدين يلتزم جميعَه في حصته. فما ذكره صاحب التقريب يوافق مذهب أبي حنيفة. وهذا ليس بشيء، ولا فرق بين الوصية والدين إلا أن الوصية وضعُها الحَسْبُ من الثلث، كما فصّلنا. والدين الثابت وضعُه إخراجُه من رأس المال، وأما الفرق، فلا اتجاه له. ...

_ (1) أي شهادته مع الثلاثة، ليكمل عِدّة شهود الزنا، فيبرأ من حد القذف. (2) ر. المبسوط: 19/ 39، 40.

باب الشهادة على الشهادة

باب (1) الشهادة على الشهادة 12151 - الكلام في الباب يتعلق بفصول: أحدها - فيما تجري فيه الشهادة على الشهادة. والثاني - في كيفية تحمل الشهادة على الشهادة. والثالث - في الطوارىء التي تطرأ على الأصول بعد تحمل الشهادة. والرابع - في عدد الفروع. والخامس - في [الأعذار] (2) التي يُكتفى عندها بشهادة الفروع. فأما الفصل الأول 12152 - فكل حق مالي لله وللآدميين، فإنه يثبت بالشهادة على الشهادة، وأما ما يتعلق بالعقوبات، فحاصل المذهب ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يثبت شيء من العقوبات بالشهادة على الشهادة؛ فإن مبناها على الدراء، وتضييق جهات [الإثبات] (3)، باشتراط احتياطٍ فيها قد يعسر مراعاتُه، فيترتب على عُسْره اندفاعُها، وعلى هذا القول يمتنع التوكيلُ باستيفاء القصاص في غيبة مستحقه؛ لأن الاستنابة في حكم البدل عن التعاطي، كما أن شهادة الفرع في حكم البدل عن شهادة الأصل.

_ (1) من هنا إلى آخر الكتاب صار عندنا نسخة مساعدة وهي (ت 5) نسأل ملهمَ الصواب أن يكون معنا دائماً، وإليه نلجأ ونبرأ من حولنا وقوّتنا، سبحانه لا حول ولا قوة إلا به. (2) في الأصل: " الأعداد ". (3) في الأصل: " الإتيان ".

والقول الثاني - إن العقوبات بجملتها تثبت بالشهادة على الشهادة، وهذا قول منقاس. والقول الثالث - إن القصاص يثبت بالشهادة على الشهادة، دون العقوبات التي تثبت لله. وهذا الفرقُ بين الحقّين في اختصاص حق الله المتعرض للسقوط، ولذلك يقبل فيها الرجوع عن الإقرار، بخلاف القصاص. والمنصوص عليه للشافعي في القصاص أنه يثبت بالشهادة على الشهادة. ومن أجرى فيه قولاً كما ذكرناه، فهو مُخَرّج. وحد القذف في مقصود الفصل جارٍ مجرى القصاص. ثم كتاب القاضي إلى القاضي في معنى الشهادة على الشهادة، سواء فرض تحمل الشهادة وإحالة القضاء على المكتوب إليه، أو فُرض القضاء من الكاتب وإحالة الاستيفاء إلى المكتوب إليه، فالأقوال خارجة، ولكن وجه خروجها أنا إن منعنا الشهادة على الشهادة، فلا معنى لسماع القاضي الشهادة على غائب، وإن فرضنا في القضاء. فلا شك أنه لا يفرض نفوذه؛ فإنه فرع سماع الشهادة، وإذا امتنع سماع الشهادة على الغائب، لم يتصور فصل القضاء. هذا قولنا فيما يجري فيه الشهادة على الشهادة. فأما الفصل الثاني 12153 - فقد قال الشاقعي رضي الله عنه: " وإذا سمع الرجلان الرجل يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم ... إلى آخره " (1). فنقول: إذا سمع الشاهد رجلاً يقول في غير مجلس القضاء: أشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يصر هذا السامع شاهداً على شهادته بهذا المقدار؛ فإن الإنسان قد يقول: أشهد على أن لفلان على فلان كذا، وهو يشير إلى عِدَةِ في منحةٍ يتعلق الوفاء بها بمكارم الأخلاق، وليس قوله هذا في مَفْصل القضاء، حتى يُحمل على تأدية

_ (1) ر. المختصر: 5/ 258.

الشهادة، وصرفِ القول إليها، ولا يُحمل إلا بثَبَتٍ، وهذا مما اتفق الأصحاب عليه. فإن قيل: إذا سمع الشاهد رجلاً يقول في غير مجلس القضاء: لفلان عليّ ألفُ درهم، فله أن يتحمل الشهادة على إقراره بالمبلغ المذكور، ومن الممكن أن يقال: أراد المقِر بقوله إشارة إلى عِدَةٍ (1) سبقت منه في عطية، وهو على مقتضى الوفاء بالمكارم ملتَزِم بتوفيتها وتصديقها، كما ذكرنا مثله في لفظ الشهادة، وهذا السؤال فيه إشكال، وفي الفرق بين الإقرار ولفظ الشهادة عُسْرٌ. وقد حكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا يجوز التحمل في الإقرار لاحتمال العِدَة، كما لا يجوز التحمل في الشهادة، فلا فرق عنده بينهما، ولا بد من قرينة تنضمّ إلى الإقرار، وتتضمن صرفَه نصّاً إلى الإخبار عن الاستحقاق، مثل أن يقول: " لفلان عليّ ألفٌ عن ضمانٍ أو ثمنٍ أو قيمةِ مُتْلَف "، كما لا بد من قرينة مع لفظ الشهادة حتى يصحَّ تحملُها. وهذا الذي ذكره المروزي في الإقرار بعيد جداً، وإن كان في التسوية بينه وبين الشهادة اتجاه في القياس. وما زال الناس يتحملون الشهادات على الأقارير المطلقة في الديون والأعيان (2)، فالوجه الفرق، وهو أن نقول: إذا قال القائل: أشهد أن لفلان على فلان كذا، فقد يُطِلق هذا وليس هو على حد التثبت التام والتحقيق الجازم. وإذا آل الأمر إلى إقامة الشهادة في مفصل القضاء، فإذ ذاك قد يتثبت، ولا يطلق ما كان يذكره في غير مفصل القضاء. فأما الإقرار الجازم، فلا يطلقه المرء إلا وهو على بصيرة فيه. هذا حكم العادة. فالوجه إذا أردنا الفرق، أن نُضرب عن التعرض للعِدَة، وتقدير الوفاء بها؛ فإن ذلك بعيد (3)، لا يحمل على مثله كلامٌ مطلق. ونردّ الفرق إلى ما ذكرناه من إمكان

_ (1) في الأصل: " عدّة ". بتشديد الدال، وهو خطأ، فهي من الوَعْد، وليس من العدد. (2) هنا خلل في ترتيب أوراق الأصل حيث وضعت ورقة في غير موضعها، بل وضعت مقلوبة، ولذا عدنا إلى ورقة 172 ي. (3) في ت 2: " تعبد ".

التوسع في قول الشاهد، وإحالة التثبت إلى مَفْصل القضاء، والإقرارُ لا يخرجه المرء على نفسه إلا وهو على نهاية التثبت فيه. هذا وجه الفرق. 12154 - ونعود فنقول: لو قال الشاهد: أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم، وأنا أشهدك على شهادتي هذه، أو أنت يا سامع، فاشهد على شهادتي هذه، فالشاهد يتحمل الشهادة على الشهادة. وإذا وقع التقييد الذي وصفناه، فهذا يسمى الاسترعاء، وهذا الذي أطلق الفقهاء أقوالهم بأن الاسترعاء لا بد منه في تحمل الشهادة على الشهادة، والاسترعاء استفعال من الرعاية، كأنه يقول للمتحمل: أقبل على رعاية شهادتي وتحمّلْها، وهذا المعنى يتأدى بألفاظ لا نحصرها، منها أن يقول: " أشهدك على شهادتي " ومنها أن يقول: " اشهد على شهادتي "، أو يقول: " إذا استُشْهدت على شهادتي، فقد أذنت لك في أن تشهد عليها ". ثم أجمع أصحابنا على أن الاسترعاء في عينه ليس شرطاً، بل إذا جرى لفظ الشهادة من شاهد الأصل على وجهٍ لا يحتمل إلا الشهادة، فيصير السامع فرعاً له، وإن لم يصدر من جهته أمر أو إذنٌ في تحمل الشهادة. وبيان ذلك أن من شهد عند القاضي، وكان بالحضرة سامعٌ لشهادته، ولم يتفق من القاضي القضاء بشهادته، فلمن سمعها أن يشهد على شهادته؛ فإنه أقامها فى مكان يُجرَّد فيها (1) قصدُ الشهادة، ولا يُفرَضُ فيها تردد، وهذا هو المطلوب. ولو أشهد شاهدُ الأصل زيداً على شهادته، وأجرى الاسترعاءَ على حسب ما قدمناه، وكان عمرو بالحضرة، فلعمرو أن يتحمل الشهادة، كما لزيد المسترعى أن يتحملها؛ فإنه لما استرعى زيداً، فقد تبين تجريدَه القصدَ في الشهادة، وهو المطلوب، فيتحملها عمرو وإن لم يتعلق الاسترعاءُ به؛ فإن الإشهاد على الشهادة ليس استنابةً من شاهد الأصل ولا توكيلاً، وإنما الغرض منه الحصول على الشهادة في حقها

_ (1) كذا في النسختين بضمير المؤنث، على قصد وتقدير القضية والدعوى، ونحوها.

مقصودة مجردة مرقّاة عن احتمال الكلام الذي قد يجريه الإنسان من غير تثبت. حتى قال الأصحاب: لو جرى تحكيم، وكان شاهد الأصل شهد في مجلس الحكم، فسمع شهادتَه من حضر، فله أن يشهد على شهادته، وللمحكَّم نفسِه أن يشهد على شهادته. فخرج من مجموع ما ذكرناه أن المطلوب تجريدُ الشهادة، وإيرادُها خارجةً عن توهّم التوسّع والتجوز، ثم هي متحمَّلة كسائر الأقوال والأفعال (1) التي يتحملها الشهود إذا رأوا أو سمعوا. 12155 - ولو قال شاهد الأصل " أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم من ثمن شراء أو أجرة إجارة أو جهةٍ أخرى من جهات اللزوم "، فهل للسامع أن يشهد على شهادته؟ من غير استرعاءٍ من جهته، ولا إقامةٍ منه لشهادته في مجلس قاضٍ أو محكّم. اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز تحمل الشهادة على شهادته لمجرد ما وصفناه، ومنهم من قال: يجوز تحمل الشهادة. توجيه الوجهين: من جوّز التحمل، احتج بأن شاهد الأصل لما نص على جهة اللزوم، فقد صرح، وأخرج كلامَه عن احتمال العِدَة. فينبغي أن يجوز التحملُ. ومن منع -وهو الأظهر- قال: إن زال احتمال الوفاء بالعِدَة بقي إمكان التجوز والتوسع، فإن الإنسان إنما يتثبت في مجلس القضاء أو في مجلس الاسترعاء. ومما ذكره الأصحاب أنه لو قال: أشهد أن لفلان على فلان كذا، وهذه شهادة أبتّها ولا أتمارى فيها، فهل يجوز التحمل بهذا المقدار؟ فيه وجهان قريبان مما قدمنا الآن، لأنه وإن قال: هذه شهادة مبتوتة عندي، فقد يتثبت في إقامتها عند مسيس الحاجة إليها. 12156 - ولم يختلف أصحابنا في أنه لا بد وأن يذكر لفظ الشهادة، حتى لو قال: أستيقن أن لفلان على فلان كذا، فاشهدوا على قولي، لم تجز الشهادة على شهادته، وهذا، كما أنا نشترط لفظ الشهادة في مفصل القضاء ولا نقيم غيرَه من الألفاظ

_ (1) هذا هو الوجه الثاني من الورقة المقلوبة وهو يحتل رقم 171 ش.

مقامه. حتى لو قال الشاهد في مجلس القضاء: أتيقن، أو أقطع، أو أعلم أن لفلان على فلان كذا، فلا يقبل القاضي شيئاً من ذلك حتى يأتي بلفظ الشهادة، ولا محمل لهذا إلا التعبد، وهو كالعدد، فإنه مرعي تعبداً. وأبعد بعض أصحابنا؛ فأقام اللفظ الصريح الذي لا تردد فيه مقام لفظ الشهادة، وهذا بعيد غيرُ معتد به. والمعنى الكلي في تعيين لفظٍ أنه إذا تبيّن تعيّنُه، لاح للناس أنه لا يؤتى به إلا إذا أريد غايةُ التثبت، فكأنه مخصوص بتحصيل هذا المقصود، ولو قام غيرُه مقامَه، لرجع الأمر إلى التلقّي من صيغ الألفاظ، وهي متعرضة للاحتمالات، وهذا وإن كان " يستدّ " (1)، فليس فيه إشعار بما يقتضي تعيينَ لفظ الشهادة، فلا محمل لتعيين ذلك اللفظ دون غيره إلا التعبد. 12157 - ثم لما ذكر الأصحاب وجه تحمل الشهادة على الشهادة، ذكروا كيفية إقامة الفرع الشهادةَ، وقالوا: الوجه أن يقول: " أشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وأذن لي أن أشهد إذا استشهدت، وأنا الآن أشهد على شهادته " فيحكي ما جرى على هذا الوجه. ولو كان تَحمَّلَ الشهادةَ لجريانها في مجلس القضاء، فالأولى أن يذكر ما جرى له على وجهه، وإنما رأينا حكايةَ الحال لما يتطرق (2) إلى ذلك من الإشكال، فقد يتحمل الإنسانُ الشهادة على شهادة الأصل، حيث لا يجوز له تحملها، كما سبق التفصيل في كيفية التحمل، وإذا تطرق رَيْبٌ، لم يدفعه إلا التفصيل الذي مهدناه. وإن قال الفرع: أشهد على شهادة فلان، ووصف شهادة فلان، [وكان] (3) عالماً بكيفية تحمل الشهادة، ووثق القاضي به، ورآه مستقلاً في مثل ذلك، فلو أراد أن يكتفي، جاز له ذلك، والغالب على الناس الجهلُ بتفاصيلِ التحملِ، وبحسب ذلك يتطرق الريبُ ويتحتم طلب التفصيل في معظم الناس. نعم، فيما ذكرناه طرف من

_ (1) في الأصل: " يستند ". والمثبت من (ت 5). (2) نعود من هنا إلى الموضع الذي تركناه من صفحات الأصل بعد أن استوعبنا الورقة المنقولة من مكانها. (3) في الأصل: " كان " (بدون الواو).

الإطناب يحصل الاستقلال دونه؛ فإنه إذا قال: " أشهدني فلان على شهادته "، أو قال لي: " اشهد على شهادتي " كفى هذا مع تفصيل شهادة الأصل، فإنها المقصودة. وقد نجز الغرض في الاسترعاء. فأما الفصل الثالث 12158 - فمضمونه الكلامُ فيما يطرأ على الأصول من موانع الشهادة بعد تحمل الفروع. فنقول أولاً: إذا تحمل الفروع الشهادة في حقها، ثم مات الأصول، قام الفروع بإقامة الشهادة، وإنما أثبت الشرع الشهادة على الشهادة؛ حتى تستمر (1) الحجة، وإن غاب شاهد الأصل، وغابت الحجة من جهته. وإن فسق الأصل قبل أن يقيم الفرع الشهادة، لم يُقمها الفرعُ، ولو أقامها، لم تُقبل منه؛ فإن الغرض من شهادة الفرع نقلُ شهادة الأصل، والتقدير كأن شاهد الأصل هو القائل، ولو أراد الأصل أن يقيم الشهادة على (2) فسقه، لم يقبل منه. وهذا يُحْوِجُ إلى مزيد معنىً، وهو أن الفسق إذا ظهر، أورث رَيْباً ظاهراً منعطِفاً على ما تقدم، ثم لا ضبط له في جهة التقدم، فيُحدِث (3) رَيْباً منعطفاً على تحمل الشهادة، هذا هو المعتمد فيما ذكرناه. ويلتحق بالفسق طريان العداوة على شاهد الأصل، فلو أظهر عداوة مع المشهود عليه، لم تقبل شهادة الفرع عليه، لما ذكرناه، فظهور العداوة يدلّ على غوائلَ سابقة، وضمائر مستكنَّة، وتقرير هذا في العداوة كما ذكرنا في الفسق. 12159 - وألحق أئمتنا الردةَ إذا طرأت على شاهد الأصل بالفسق والعداوةِ، ووجه

_ (1) ت 5: "تسمى". (2) على: بمعنى مع. (3) ت 5: " فيورث ".

التحاقها بهما يقرب مما ذكرناه؛ فإن الردة إذا هي ظهرت، دلت على خُبثٍ في العقد متقدم. وفي هذا المقام سؤال: وهو أن المقذوف إذا زنى بعد ما كان ظاهرُه الإحصانَ والعفةَ عن الزنا، فالنص أن الحد يسقط عن القاذف، إذا لم يتفق إقامته حتى جرى ما جرى، ولو ارتد المقذوف قبل إقامة الحد على القاذف، فالحد مقام عليه، وقد ذكرنا ترتيب المذهب واختلافَ الأصحاب في موضعه. ومقتضى النص الفرق بين طريان ما يناقض العفة وبين طريان الردة، وقد سوّينا بين الفسق وطريان الردة على شاهد الأصل، فما الوجه؟ قلنا: لا ننكر أن طلب الفرق بين الردة وطريان الزنا [في المقذوف] (1) عسر. ولكن الأصل ثَمَّ أنا لا نعتبر في تبرئة المقذوف طلبَ باطنه، ولا نقول: يتوقف إقامة الحد على القاذف على تزكية المزكّين للمقذوف عن الزنا، ووصفهِ بالعفةِ عنها، وأمورُ الشهادات على طلب البواطن، والتوقفُ فيها بالريب؛ فالأصل ممتاز عن الأصل، وطريان الردة في إيراث رَيْب منعطفٍ كطريان الفسق، وإذا استويا في هذا، فما ذكرناه [مستدٌّ] (2) على قاعدة الشهادة، فإن كان من إشكال، ففي مسألة القذف، ولسنا ننكر أنها تزداد إشكالاً، وما نحن فيه الآن من حكم الشهادة [مستدٌّ] (3) لا غموض فيه، والقياس ثَم أن طريان الزنا لا يؤثر، كما صار إليه المزني وطوائفُ من أصحابنا، لما حققناه من امتياز الأصل عن الأصل. 12160 - ولو جُنّ شاهد الأصل، فقد خرج بجنونه عن الشهادة، فهل يشهد الفرع تعويلاً على التحمل السابق؟ وكذلك لو عمي، وعسُر منه إقامة الشهادة، لافتقارها إلى الإشارة إلى المشهود عليه، فالذي يجب التنبه قبل الخوض في التفصيل، أن الجنون لا ينعطف على ما تقدم، وطريانه لا يورث ريباً في العقل مستنداً إلى حالة

_ (1) في الأصل: " والمقذوف ". (2) في النسختين: " مستمر ". (3) في الأصل، وفي (ت 5): " مستمر ". والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى: مستقيم لا غموض فيه.

تحمل الشهادة كالموت، والعمى بهذه المثابة. فالذي حصّلته من كلام شيخي وكلام الصيدلاني ثلاثة أوجه: أحدها - أن الفرع لا يشهد إذا طرأ الجنون أو العمى فإنهما مانعان يتوقع زوالهما، بخلاف الموت. والثاني -وهو المذهب- أن الفرع يشهد، كما لو مات الأصل، وإنما المحذور من الطوارىء اقتضاؤها رَيْباً منعطِفاً على حالة التحمل، وأما توقع الزوال في الطوارىء فلا خير فيه؛ فإن الفرع يشهد لغيبة الأصل ومرضه وإن كانا يزولان. والوجه الثالث - أن الفرع لا يشهد إذا جُنّ الأصل؛ لأن شهادته سقطت بالكلية، وليس سقوطها بالجنون كانتهائها بالموت، فكأن الفرع يخلف الميت، كما يخلف الوارث الموروث، وفَرْقٌ في قاعدة الفقه بين الانتهاء وبين الانقطاع. فأما إذا عمي الأصل، فيشهد الفرع؛ فإن العمى لم يخرجه عن كونه من أهل الشهادة على الجملة وإن لم يكن من أهل إقامة هذه الشهادة. وقد ذكر الصيدلاني هذا المعنى، ودلّ ذكره له على الفرق بين العمى والجنون. وتعلقه بهذا المعنى عُمْدَتي في إجراء هذه الوجوه. والأصح الذي يجب القطع به، ولا يحتمل قانون المذهب غيرَه، أن طريان العمى والجنون لا يقطعان شهادة الفرع كطريان الموت، وما عدا ذلك يُخبّط المذهب ويشوّش الأصل. فأما إذا أغمي على الأصل - وهو حاضر، فالفرع لا يشهد؛ فإن الإغماء إلى الزوال، فينتظر زواله. وإن كان غائباً، فأُخْبرنا بأنه أغمي عليه، فلا أثر له بحال، وهو بمثابة مرض يعرض ويزول. التفريع: 12161 - إن حكمنا بأن شهادة الفرع تنقطع بطريان الجنون والعمى، فلو أبصر الأصلُ بعد العمى، وأفاق عن الجنون، فالمذهب على هذا الوجه أنه لا بد من إعادة تحمل الشهادة، وكأن التحملَ الأولَ لم يكن؛ فإنا قضينا بالانقطاع، فصار هذا كما لو جُنَّ الموكِّل، وجرى الحكم بانعزال الوكيل، فإذا أفاق، لم تعد الوكالة.

ومن أصحابنا من قال: لا تنقطع شهادة الفرع بل يمتنع، فإذا زال الجنون والعمى، فشهادة الفرع مستمرة، وهذا ليس بشيء. والوجه الذي قبله - وإن كان قياساً، فلست أعتد به لضعف أصله. ولو فسق الأصل، وثبت أن الفرع لا يؤدي الشهادة قطعاً، فلو عاد الأصل إلى العدالة، واستبرأنا حاله، فهو على الشهادة الأصلية، والفرع لا يشهد تعويلاً على التحمل الأول؛ لأن الرَّيْبَ قد انعطف عليه؛ وذلك الريب لا يزول بزوال فسق الأصل؛ فإن العدالة إن كانت تقطع الفسق الطارىء، فلا تقطع الرَّيب المتقدم على الفسق؛ فالوجه أن يجدد تحملاً. وهذا هو الذي لا يجوز غيره. وأبعد بعض الأصحاب، فاكتفى بالتحمل الأول. ولا يعتد بمثل هذا؛ فإنه غفلة عن الأصل المعتبر، وغباوةٌ عن الدَّرْك. 12162 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن الفرع لو أقام الشهادة في مجلس القضاء، ونفذ القضاء بشهادته، ثم طرأت التغايير على الأصل، فلا نظر إلى ما يطرأ بعد نفوذ القضاء. ولو أقام الفرع الشهادة، ففسق الأصل قبل نفوذ القضاء بشهادة الفرع، فلا يقضي القاضي بشهادة الفرع، كما لو فسق الشاهد نفسُه قبل القضاء بشهادته، وتعليل ذلك بيّن، لا إشكال فيه. ولو شهد الفرع، فكذّبه الأصل قبل القضاء، لم يقْضِ القاضي بشهادة الفرع، وإن كان عدلاً رِضاً. ولو حضر الأصلُ قبل القضاء بشهادة الفرع، فلا خلاف أن القاضي لا يقضي بشهادة الفرع، ولكن يستحضر الأصلَ ليشهد، ولا يكتفي بأن يصدِّق الأصلُ الفرعَ، بل لا بد من إنشاء الشهادة من الأصل. ولو حضر شاهد الأصل بعد نفوذ القضاء بشهادة الفرع، فلا أثر لحضوره، ولو حضر بعد القضاء، وكذب الشاهدَ على شهادته، فلا يُلتفت إلى تكذيبه بعد إبرام القضاء.

ولو قامت بيّنه على أن الأصل كذّب الفرع قبل نفوذ القضاء؛ فالقضاء منقوض؛ فإن ما أثبتته البيّنة من تقدم تكذيب الأصل للفرع بمثابة ما يسمعه القاضي من تكذيبه إياه قبل القضاء، وليس القضاء عقداً [يبرم] (1) ويحلّ، والمعنيّ بالنقض تبيّن الأمر، وسقوط ما كان استناداً (2). وسيأتي إن شاء الله قولان في أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين، ثم قامت بينة على فسقهما حالة القضاء، فهل يُحكمُ بنقض القضاء أم لا؟ فإذا قامت بيّنة على أن الأصل كذّب الفرع قبل القضاء، فالقضاء منتقض، قولاً واحداً. وقد يعسر الفرق في ذلك، ونحن نعيد هذا الحكم من هذا الباب عند ذكرنا ثبوت الفسق مستنداً إلى القضاء، إن شاء الله عز وجل. وقد نجز الكلام فيما يطرأ على شهود الأصل من الطوارىء. فأما الفصل الرابع الكلام في العدد. ونذكر فيه الكلام في صفة الفروع. 12163 - فأما العدد: فقد قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهد رجلان على شهادة رجلين، فقد رأيت كثيراً من الحكام والمفتين يجيزه ... إلى آخره " (3). فنقول: إذا كان شاهدُ الأصل اثنين، فشهد شاهدان على شهادة أحدهما، وتحملاها، فلو تحملا شهادة الشاهد الثاني؛ فهل يثبت الشقان بشهادتهما؟ فعلى قولين: أحدهما -وهو الأقيس واختيار أبي حنيفة (4) - أنه يثبت. وهو اختيار المزني أيضاً. ووجهه أن العدلين شهادتهم بيّنة، فنقلهما شهادتين من شاهدين في

_ (1) في الأصل: " يرام "، وفي (ت 5): " يدام ". والمثبت من تصرف المحقق. (2) أي يسقط مستنداً إلى أصل كان موجوداً قبله يمنع صحته، فالاستناد واحد من طرق إثبات الأحكام، وقد بيناه من قبل، وأشرنا إليه مراراً. (3) ر. المختصر: 5/ 258. (4) ر. مختصر الطحاوي: 333، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 361 مسألة: 1496، المبسوط: 16/ 115.

خصومة واحدة، كنقلهما شهادات في خصومات. والقول الثاني - أنهما إذا تحملا شهادة أحد الشاهدين، لم يُنشئا غيرها، ولا بد من شاهدين آخرين على شهادة الشاهد الثاني؛ فإنهما قاما مقام أحد الشاهدين، فلا ينبغي أن يتعرضا للشق الآخر، فإن من احتيج إلى شهادته في إثبات شق شهادة، لم يثبت بشهادته الشق الآخر، كما لو شهد واحد على طريق الأصل، ثم أراد أن يشهد مع شاهد آخر على طريق الفرع على شهادة الثاني، فإن ذلك ممتنع. فإن قيل: لو شهد على شهادة أحد الشاهدين أربعة من الذكور العدول، ثم هم بأعيانهم شهدوا على شهادة الشاهد الثاني؛ فما ترون في ذلك؟ قلنا: إن فرّعنا على القول المختار للمزني، فلا إشكال في ثبوت شهادة الأصل؛ فإنا إذا أثبتنا ذلك بشاهدين، فلا امتناع في إثباته بأربعة، وإن فرّعنا على القول الآخر، وهو: أن من استقل بأحد الشقين لم ينتهض في الثاني - ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - لا تثبت شهادتهما بشهادة الأربعة على كل واحد منهما، فإنهم وإن كثروا، قائمون مقام شاهد واحد، فينبغي ألا يقوموا مقام الشاهد الآخر. والوجه الثاني - تثبت شهادتهما، كما لو شهد اثنان على أحدهما وشهد اثنان على الآخر، وهذا هو الذي لا يجوز غيره؛ فإنه إذا شهد أربعة على الشهادتين، فقد شهد على كل شهادة شاهدان. ولا خلاف أنه لو شهد شاهدان على إحدى الشهادتين، وشاهدان على الشهادة الأخرى، تثبت الشهادتان؛ فلا ضرر في تعرض الكل للشهادتين. فأما من شهد أصلاً، وشهد مع شاهد آخر على شهادة أصل آخر، فلا تثبت شهادة ذلك الأصل بهذه الطريقة؛ فإن ذلك الأصل الشاهدَ بنفسه، والشاهدَ على شهادة صاحبه، يريد أن يقوم بثلاثة أرباع الشهادة في محل النزاع. وهذا ممتنع لا سبيل إليه. 12164 - ومما يتفرع على هذه القاعدة، أنا إذا قلنا: الشهادة على الشهادة مسموعة في الزنا، فكيف السبيل إلى إثبات شهادات الشهود الأربعة على الزنا؟

هذا يبتني على أصلين: أحدهما - أن من يثبت به شق شهادة، هل يثبت به الشق الآخر؟ والثاني - أن الإقرار بالزنا، هل يثبت بشاهدين، أم لا بد من أربعة؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما. فإن قلنا: الإقرار بالزنا يثبت باثنين، فنقول: كل شاهد بمثابة إقرار بالزنا؛ فإنه قول يتضمن الخبر عن الزنا، فإذاً، إن اكتفينا باثنين، وقلنا: من ثبت به شق شهادة، ثبت به الشق الآخر، فتثبت شهادة الأصول الأربعة بشاهدين عدلين ينقلان شهادة كل واحد من الأربعة الأصول. وإن قلنا: من يثبت به شق شهادة، فلا يثبت به الشق الآخر، والإقرار يثبت باثنين، فلا بد من ثمانية، كل اثنين منهم ينقل شهادة واحد من الأصول. وإن قلنا: الإقرار بالزنا لا يثبت إلا بأربعة. ومن ثبت به شق يجوز أن يثبت به شق آخر، فلا بد من أربعة ينقلون شهادة الأصول. وإن قلنا: الإقرار لا يثبت إلا بأربعة، ومن ثبت به شق لا يثبت به شق آخر، فلا بد من ستةَ عشرَ، كل أربعة منهم ينقلون شهادة واحد من الشهود الأربعة، فينتظم إذاً أربعة أقاويل: أحدها - تثبت باثنين. والثاني - بأربعة. والثالث - بثمانية. والرابع - بستة عشر. فتجري الأقاويل على التضعيف الطبيعي من الأصلين المقدمين. ولو شهد على المال رجل وامرأتان، وأردنا إثباتَ شهادةِ الأصول بالفروع؛ فعلى قولٍ: يكفي اثنان ينقلان شهادةَ كل واحد من الرجل والمرأتين، وعلى قول: لا بد من ستة من العدول، ينقل كل اثنين منهم شهادة واحد من الرجل والمرأتين، ولا أحد في التفريغ على هذا القول يصير إلى الاكتفاء بأربعة؛ ذهاباً إلى أن المرأتين بمثابة

رجل، ثم يكفي في رجل عدلان. هذا ما لا مصير إليه. والنظر إلى عدد الأقوال والشهادات، وهي ثلاثة، فلينقل كلَّ قولٍ عدلان. هذا منتهى الغرض في عدد الفروع. 12165 - فأما الكلام في صفة الفروع؛ فلم يختلف أصحابنا في أن الفروع يجب أن يكونوا ذكوراً وإن كان المطلوب بالشهادة إثباتَ مال؛ لأن الفروع لا يتعرضون للمال. وإنما يتعرضون لنقل أقوال شهود الأصل، فتعين اعتبار الذكورة فيهم من كل وجه، من غير نظر إلى المطلوب بشهادة الأصول. وشهادة الأصول -فيما ذكرناه- تضاهي الوكالة على المال، فإنها لا تثبت إلا بعدلين، وإن كانت الوكالة متعلقة بالمال. فأما الفصل الخامس 12166 - فمضمونه ذكر الأعذار التي يتعذر بها الوصول إلى شهادة الأصول. فمنها: الغَيْبة. وهي مفصلة، فإن كان الأصول على مسافة العدوى، فلا تسمع شهادة الفروع، كما لو كان الأصول حضوراً، فإن كان الأصول على مسافة القصر، سمعنا شهادة الفروع وفاقاً. وإن كانوا فوق مسافة العدوى ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان، وقد أدرنا هذا الترتيب في أحكامٍ. 12167 - وأما مرض الأصول، مع كونهم في البلدة، فقد أطلق الأصحاب القول بأن للفروع أن يشهدوا. فنقول: أولاً - للأصل أن يتخلف عن مجلس القضاء بالمرض، ولسنا نشترط أن يكون بحيث لا يتأتى منه الحضور أصلاً، بل إذا كان يناله مشقة ظاهرة، لم يحضر. وكيف تقريب القول فيها؟ قال قائلون من أئمتنا: المرض الذي يَسوغ التخلف عن الجمعة لأجله يجوز تخلف شاهد الأصل بسببه، ولعلنا ذكرنا في ذلك تقريباً في كتاب الجمعة، ولا ينتهي الأمر إلى اعتبار خوفٍ على النفس، أو ازدياد في المرض يُرْقَبُ إفضاؤه إلى الخوف، وهذا

بمثابة قولنا في المرض الذي يجوز الإفطار به في نهار رمضان، وقد ذكرنا أنا لا نرعى فيما يجوز الإفطار به الخوفَ؛ لأنه قرينة السفر، كذلك لشاهد الأصل أن يمتنع لعذر السفر. فالذي يجب تحصيله أن ينال المريض مشقةٌ ظاهرة، وألمٌ مُقلق يعسر الاستقلال بحمله. هذا قولنا في المرض. وكل ما يجوز ترك الجمعة به من خوفٍ من غريم أو ما في معناه، فيجوز الامتناع عن الحضور بمثله. فإذا تمهّد ما ذكرناه، فقد أطلق الأصحاب أن الفروع يشهدون، وكان من الممكن أن يحضر القاضي مكان شاهد الأصل، ويُصغي إلى شهادته؛ ولكن لم أر أحداً من أصحابنا يُلزم ذلك، أو يُشبّب بذكر خلافٍ فيه، وكذلك لم يوجبوا أن يستخلف (1) من يحضر شاهدَ الأصل. وإذا وقفت القضية (2) على الإشارة إلى عينٍ، فعلى القاضي أن يَحْضُرَها (3 لتمييز الشهود، أو يستخلف من يحضرها 3) لذلك، والسبب فيه أن القضاء غير ممكن من غير تعيين، وفي ترك الحضور تعطيل الحكم. وامتناعُه عن سماع شهادة الفروع مع حضور الأصول من باب الاحتياط، وإلا إذا كان الفروع عدولاً، فتحصل الثقة بنقلهم، فلا نكلف القاضيَ الترددَ على الدورِ والمساكن، مع ما فيه من التبذل وحطّ منصب الولاية لمكان الاحتياط. ولا خلاف أن رواية الراوي مقبولةٌ، وشيخُه في البلد، وكل ما لم يثبت فيه توقيفٌ شرعي تعبدي يميّز الشهادة فيه عن الرواية، فلا يبعد في وجه الرأي التسويةُ بينهما. والقدر الثابت أن شهادة الفروع مقيدة بحال عذرٍ يطرأ على الأصل، فهذا منتهى الغرض في ذلك، لم يتعدّه حفظي ونظري.

_ (1) يستخلف: أي لا يجب على القاضي أن يستخلف نائباً عنه يحضر شاهدَ المريض ليسمع شهادته. (2) في (ت 5): " الفقيه ". (3) ما بين القوسين ساقط من (ت 5).

فرع: 12168 - شهود الفرع إذا عدّلوا الأصول؛ وكانوا من أهل التعديل، تثبت عدالة الأصول بتعديلهم، وتثبت الشهادة بنقلهم، وإن لم يشهد الفروع على تعديل الأصول، جاز، فتثبت عدالة الأصول بعلم القاضي أو بشهادة شهودٍ آخرين. وقال أبو حنيفة (1): لا تصح شهادة الفروع ما لم يعدّلوا أصولَهم، وهذا لا حاصل له؛ فإن عدالة الأصول ونقلَ شهادتهم أمران متغايران، لا يشترط اجتماعهما في حجة. وقد ذكرنا أن المدعي إذا كان يحلف مع شاهد، فحق عليه أن يصدق شاهده، وذاك لانتظام الشاهد واليمين، ولا يشترط ثَمَّ أيضاً أن يحلف على عدالته، بل يكفي أن يحلف على صدقه، وعدالة ذلك الشاهد تُتَلقى من تزكية المزكين، كما ذكرنا في شهادة الأصول مع شهادة الفروع، فلا فرق إذاً بين البابين فيما يتغلق بالتعديل، وإنما افتراقهما في إلزام المدعي تصديقَ شاهده، لأنه عارفٌ فيما زعم بصدقه، ويستحيل أن يُكلفَ الفروعُ تصديقَ شهود الأصل. ...

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 336، فتح القدير: 6/ 529.

باب الشهادة على الحدود

باب الشهادة على الحدود قال: " وإذا شهدوا على رجلٍ بالزنا ... إلى آخره " (1). 12169 - مقصود الفصل أن شهود الزنا لا بد وأن يتوخَّوْا بحقيقة الحال، ويذكروا إيلاجَْ الحشفة في الفرج، ولا تكفي المكاني (2)، وقد ذكرنا هذا في الحدود. وهل يشترط ذلك في الإقرار بالزنا؟ فيه خلاف مذكور في الحدود، ونفس ذكر الزنا من القاذف، قذفٌ صريح. فإذاً هذه ثلاث مراتب. وإنما لم نشترط التصريح في القذف؛ لأن الجناية على العرض تحصل بالنسبة إلى الزنا، ثم سيأتي في الدعاوى فصل فيما يُبيّن ويشترطُ فيه نهاية الكشف، وفيما يكتفى فيه بإطلاق الاسم، وثَمَّ نُعيد في التقاسيم ما ذكرناه الآن. قال: " ولو شهد أربعة، اثنان منهم ... إلى آخره (3) ". وهذا مما تكرر في الحدود، فإذا شهد اثنان على أنه زنى بفلانة في بيت عيّناه، وشهد آخران أنه زنى بها في بيت آخر، فلا يثبت الزنا، والكلام في أن الشهود قذفة أم لا؟ وكل ذلك مما مضى. ولو اختلفت الشهادات في تعيين زوايا بيت واحد، فلا يثبت الزنا عندنا خلافاً لأبي حنيفة (4).

_ (1) ر. المختصر: 5/ 259. (2) المكاني: أي الكنايات. (3) ر. المختصر: الموضع السابق نفسه. (4) ر. فتح القدير: 5/ 63. روضة القضاة للسمناني: 2/ 1298.

فصل قال: " ولو ادعى على رجل من أهل الجهالة ... إلى آخره " (1). 12170 - مقصود الفصل الكلامُ في تسبيب القاضي إلى درء الحد، قال صاحب التقريب: إذا رُفع إلى الإمام من يتهم بالسرقة أو غيرها من موجبات الحد، فللقاضي أن يعرّض بما يتضمن حملَ المرفوع إلى مجلسه على إنكار السرقة، حتى لا تثبت الحدود، وذلك ثابت في الحديث، فإنه عليه السلام قال للمرفوع إليه بتهمة السرقة: " ما إخالك سرقت " وفي بعض الألفاظ " أسرقت؟ قل لا! " (2) قال ذلك سراً. ثم قال صاحب التقريب: ينبغي أن يكون التعريض بما يُسقط الحد، ولا يجوز أن يكون التعريض بما يدرأ الغرم؛ فإن التعريض فيما يتعلق بالأموال غير سائغ. وهذا إذا لم يبتدر إلى الإقرار. فإن أقر صريحاً، فهل يعرّض بالرجوع عن الإقرار؟ الذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يعرّض؛ فإن الاحتيال (3) ينبغي أن يكون في منع الثبوت، فأما في السقوط بعد الثبوت فلا. ومن أصحابنا من قال: يجوز التعرض للرجوع عن الإقرار وتمسك بترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً بعد إقراره بالزنا في القصة المشهورة، وهذا غير صحيح؛ لأن الرسول عليه السلام كان يستريب في عقله؛ إذ رآه أشعث أغبر فردّده لذلك، وليس في قصته تشبيبٌ بتلقينه الرجوع عن الإقرار. ثم ظاهر ما ذكره الأصحاب أن المسوَّغ -قبل الثبوت وبعده على أحد الوجهين- التعريضُ، فأما التصريح فلا وجه له، وهو رفع لحجاب الهيبة، وتصريح بتعليم الكذب. فإذا كنا نُحرم التصريح بالخِطبة ونبيح التعريض بها، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 259. (2) سبق هذا الحديث في السرقة. (3) ت 5: " الاختيار ".

وإن صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع إلى مجلسه: (قل: لا!) فهذا يدل على جواز التصريح بالتلقين، وغالب ظني أن هذه الزيادة لم ينقلها الأثبات. قال صاحب التقريب: التعريض المتفق عليه قبل الثبوت، كما بيّنّا، وفي التعريض بعد الإقرار الوجهان، فلو قامت بيّنة بالزنا أو السرقة، فالتعريض المتعلق بما يُسقط الحد بعد قيام البيّنة -كدعوى الشركة أو الملك- فيه وجهان مرتّبان على التعريض، وقد ثبت الحد بالإقرار، وصورة البيّنة أولى بالمنع، والفرق لائح. والأصح -من كل ما ذكرناه- اختصاص التعريض بما قبل الثبوت. ثم ذلك التعريض جائز أو مستحب؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأئمة. فصل قال: " ولو شهد أنه سرق من هذا البيت كبْشاً ... إلى آخره " (1). 12171 - ذكر وجوهاً في اختلاف شهادة الشاهدين، وقد تقدم جميعها. منها: أنه لو شهد شاهد أنه سرق غدوة، وشهد الثاني أنه سرق بالعشي، فالشهادتان مختلفتان، كذلك إذا اختُلف في المكان، أو صفة المسروق، فقال أحدهما: سرق [كبشاً] (2) أسود، وقال الثاني: سرق [كبشاً] (2) أبيض، فلا تثبت السرقة. ولأبي حنيفة (3) خبط في الألوان، ونظر دقيق في السواد والبياض، والصفرة والحمرة، ولسنا للخوض فيها.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 259. (2) في نسخة الأصل " كِيِساً " بالياء والسين المهملة، ويبدو أنه تصحيف قديم، قال العمراني: " ومن أصحابنا من صحّف وقال: أراد الشافعي كيساً، وهذا خطأ، بل أراد كبشاً بالشين المعجمة، لأنه قال في الأم: " كبشاً أقرن " والحكم لا يختلف بالكبش والكيس، إلا أن الغالب من قيمة الكيس أنه لا يبلغ نصاباً " (ر. البيان: 13/ 81). (3) ر. المبسوط: 9/ 162، فتح القدير: 6/ 509.

12172 - ثم قال: " ولو شهد اثنان أنه سرق ثوب كذا ... إلى آخره " (1). صورة المسألة: أن يشهد اثنان أنه سرق ثوباً وصفاه، وقيمته ربع دينار، وشهد آخران أنه سرق ذلك الئوبَ بعينه، وأن قيمته أقل من ربع دينار؛ أما القطع؛ فلا يجب؛ فإن ما جرى من اختلاف البيّنتين في أن قيمة المسروق هل بلغت نصاباً؛ من أقوى ما تُدرأ به الحدود. وأما الغُرم، فلا يثبت عندنا إلا أقل القيمتين. وقال أبو حنيفة (2): يثبت أكثر القيمتين. واعتل بأن المكثر عرف زيادة خصلة، غفل عنها المقلل. قلنا: ربما عرف المقلل عيباً يوجب نقصان القيمة، غفل عنه المكثر، وهذا أولى؛ فإن الظاهر السلامة فربما بنى المكثر على ظاهر السلامة، واستدرك المقلل صفة خافية منقصة. ولو اتفقا على الصفات، وصرحا بأنه لم يستقل واحد منا بمعرفة صفة لم يدركها آخر، وردوا النزاع إلى القيمةِ نفسِها، فلا يجب عندنا إلا الأقل أيضاً، حملاً على براءة الذمة. فرع: 12173 - ذكره صاحب التلخيص (3): إذا ادعى الرجل ألفَ درهم على رجل، وأقام شاهداً أن له عليه ألفاً، وشهد شاهد آخر أن عليه ألفَ درهم قد قضاه، فلا يثبت في هذه الصورة الألف أصلاً؛ فإن الشاهد الثاني لما قال: عليه ألف ثم قضاه، فقد تناقض قوله، وكيف يكون عليه ألف وقد قضاه، ولكن الشاهد الذي جزم شهادته بالألف ولم يُناقِضْ [قولَه] (4) شهادتُه ثابتة، فلو أراد أن يحلف مع ذلك الشاهد، ويُثبت المال، جاز. وبمثله لو شهد أحدهما أنه أقر بألف، وقال الثاني: أقر بألف، لكنه قضاه، ففي هذه المسألة وجهان ذكرهما الصيدلاني وغيره:

_ (1) ر. المختصر: 5/ 259. (2) لم نصل إلى هذه المسألة، بهذا التصوير، في كتب الأحناف التي راجعناها. (3) ر. التلخيص: 652. (4) زيادة من (ت 5).

أحدهما - أنه يثبت الألف بشهادتهما، وقد يشهد شاهد واحد بالقضاء، فإن أراد الخصم أن يحلف معه ليُثبت القضاء بشاهد ويمين، جاز. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أنه لا يثبت بشهادتهما شيء، فإنهما لم يجتمعا على ثبوت الألف، وليس الغرض إثبات لفظ الإقرار، وإنما المقصود إثبات معناه. ولو شهد شاهدان أن عليه ألفاً، ثم قال أحدهما بعد يوم مثلاً، قبل أن يقضي القاضي بالبينة: قد كان المشهود عليه قضى الدين؛ فهذا رجوع منه عن شهادته، فلا يحكم الحاكم بالشهادة. ولو شهدا أن له عليه ألف درهم، ثم قال أحدهما قبل القضاء: قد قضى الألف بعد شهادتي؛ فهل يقضي القاضي بالدين؟ فعلى وجهين: أحدهما - يقضي به، ولا حكم لقوله المجرد: قد قضى، إلا أن يحلف الخصم المشهود عليه معه. والصورة التي تقدمت على هذه فيه إذا قال أحد الشاهدين: قد كان قضى الألف قبل لشهادتي، وتبيّنت ذلك، فيكون هذا رجوعاً كما قدمناه. ولو قال ابتداء: أقر فلان بألف، ثم قال أحدهما بعد ذلك، وقبل القضاء: قد قضى ما أقر به بعد لشهادتنا، فهل يقضي القاضي بثبوت الدين؟ في المسألة وجهان مرتّبان على الوجهين فيه إذا شهدا على الإقرار، وقال أحدهما: قد قضى، وهذه الصورة أولى بثبوت الدين فيها من صورة الاقتران، والفرق ظاهر. والله أعلم. ***

باب الرجوع عن الشهادة

باب الرجوع عن الشهادة قال: " الرجوع عن الشهادة ضربان ... إلى آخره " (1). 12174 - الكلام في الرجوع يتعلق بثلاثة فصول: أحدها - في الشهادة على موجبات العقوبات إذا فُرض الرجوع عنها. والثاني - في الرجوع عن الشهادة على ما لا مستدرك له، كالعَتاق والطلاق. والثالث - في الرجوع عن الشهادة على الأموال. فأما الفصل الأول 12175 - فهو مثل الشهادة على قتلى يوجب القصاص، أو زنىً يوجب الرجم، أو الجلد، ثم يفرض موت المجلود المحدود، ومن الفصل الشهادة على السرقة الموجبة للقطع. والذي يقتضيه الترتيب أن نذكر الرجوع قبل القضاء، ثم نذكر الرجوع بعد القضاء وقبل الاستيفاء، ثم نذكر الرجوع بعد الاستيفاء. فأما الرجوع قبل القضاء، فمبطلٌ للشهادة. والذي نذكر في هذا القسم، أنهم إذا شهدوا على الزنا، ثم رجعوا، فهم قذفة يحدون، فسقة يردون، ثم الكلام في [الاختبار] (2)، والاستبراء على ما نفصل. ولو قالوا كما (3) رجعوا عن شهاداتهم في الزنا وغيرِه: ما تعمدنا، ولكن

_ (1) ر. المختصر: 5/ 259. (2) في النسختين: " الاختيار ". (3) كما: بمعنى عندما. وهي في (ت 5): (لِمَا).

أخطأنا، فالذي صدر منهم لا يوجب جرحَهم في غير الشهادة على الزنا. فأما إذا رجع شهود الزنا، وقالوا: أخطأنا؛ فهل يكونون قذفة؟ قد ذكرنا أنه إذا نقص العدد، ففي كونهم قذفة قولان، فإذا كمل العدد في مسألتنا، وقالوا: أخطأنا، احتَمَل خلافاً، ولكنه مرتب على نقصان العدد؛ فإنه يتطرق إليهم الملام في ترك التحفظ والمبالغة فيه، وإن كان المتحفظ قد يغلط، وأما نقصان العدد، فلا يتجه فيه نسبة الشاهدين إلى ما يوجب لوماً، والامتناع من غيرهم، فإن قلنا: إنهم قذفة، فترد شهادتهم، وإن قلنا: لا حدّ عليهما، فلا تردّ شهادتهم. فرع: 12176 - لو شهد عند القاضي شاهدان، فيما نحن فيه أو في غيره من القضايا، ثم قالا للقاضي - قبل القضاء: توقف! حتى نتثبت في شهادتنا، فلا شك أنه يتوقف، فلو عادا، وقالا: تحققنا ونحن مصران على الشهادة، فهل يحكم؟ فعلى وجهين: أحدهما - يحكم؛ لأنهما لم يرجعا بل توقفا، ثم استمرا. والثاني - لا يحكم؛ لأن ما قالاه أورث ريبة في الشهادة. ولا خلاف أنهما لو رجعا، ثم عادا، فقالا: غلطنا في الرجوع، فلا يقبل منهما، فإن قلنا: إذا استمرا بعد التوقف، فللقاضي أن يقضي، فهل يكلفهما إنشاء الشهادة؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما. هذا في الرجوع قبل القضاء. 12177 - فأما إذا فرض رجوع الشهود بعد القضاء، وقبل الاستيفاء، فرجوع شهود المال في هذا الوقت لا يوجب نقض القضاء، بل يتمادى القاضي، ويُلزم المشهود عليه إيفاء ما ثبت عليه من المال. ولو كانت الشهادة فيما يوجب عقوبة، فإذا قضى القاضي بوجوب العقوبة، فرجع الشهود قبل استيفائها، ففي المسألة ثلاثة أوجه، ذكرها الشيخ أبو علي وغيره: أحد الوجوه - أن القاضي لا يستوفي العقوبة؛ فإنها حَرِيَّةٌ بالدرء، ويبعد أن يُريق القاضي دماً، ولا حجة على الاقتران بإراقته. والوجه الثاني - أنه يستوفي العقوبات؛ فإن الشهود رجعوا بعد القضاء، وما استحق استيفاؤه كالمستوفَى.

والثالث - أن ما يجب حقاً للآدمي لا يسقط كالقصاص وحدِّ القذف، وما يجب حقاً لله من العقوبات يسقط؛ فإن رجوع الشهود لا ينحط عن رجوع المقر، ومن أقر بموجب حدٍّ لله، ثم رجع، سقط الحد عنه، وهذا حسن متجه؛ إذ لا خلاف في الإقرار. ولو فسق الشهود قبل القضاء، أو بعد القضاء وقبل الاستيفاء، ففسقهم كرجوعهم في كل ما ذكرناه. 12178 - فأما إذا رجع الشهود بعد استيفاء العقوبات: [كأنْ] (1) شهدوا بالقصاص، فاقتُصَّ من المشهود عليه، أو شهدوا بالزنا على محصن، فرجم، أو على شخص بالسرقة، فقُطع، أو على بِكْر بالزنا فجُلِد ومات، فإذا رجعوا بعد وقوع العقوبات، فلهم أحوال في الرجوع: إحداها - أن يقولوا: تعمّدنا، وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، فيجب عليهم القَوَدُ، وعَقْد الباب أنهم بمثابة المباشرين للقتل، وكل ما لو باشره وحصل التلف به، وجب عليه القود، فإذا وقع التلف بموجَب شهادته، وجب عليه القود، خلافاً لأبي حنيفة (2). ولو قالوا أخطانأ (3)، وذكروا وجهاً، أو أطلقوا وصف الرجوع بالخطأ، فلا قصاص، وقد يرى القاضي تعزيرهم؛ من جهة ترك التحفظ، والغُرم يجب في مالهم؛ فإنه ثبت بإقرارهم، إلا أن تصدّقهم العاقلة، ففيه شيء سأنبه عليه، إن شاء الله. ولو قال بعضهم (4): تعمدت، وقال الباقون: أخطأنا، لم يجب القود على المعترف بالعمد؛ فإن القتل على حكم الأقارير وقع بعمدٍ وخطأ، ولا قصاص على العامد إذا كان شريكه مخطئاً، ولو قال كل واحد منهم: تعمدت وأخطأ أصحابي،

_ (1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 63 مسألة 1499، المبسوط: 16/ 178. (3) هذه هي الثانية من الحالات الثلاث. (4) هذه هي الحالة الثالثة.

ففي وجوب القصاص وجهان: أحدهما - لا يجب، لأن كل واحد أقر بقتلٍ على شركة خاطىء، ولم يقر بالعمد المحض. والثاني - يجب؛ لأن كل واحد منهم مقر بالعمد في حق نفسه، وإنما يدعي خطأ من شركائه، وقوله مقبول في حق نفسه مردود في حق شركائه. وإن قال القاضي: علمت كذبهم وتعمدت، فعليه القَوَدُ، قطع الأئمة به؛ فإن مقامه لا ينحط عن مقام شاهد. ولو رجع المزكّي عن تزكية الشهود، فقد ذكر أصحابنا في وجوب الغرم عليه وجهين، ثم ذكروا على أحد الوجهين في القصاص وجهين، وحاصل الكلام ثلاثة أوجه في الغرم. والقصاص، وهذا عندي مُحوِجٌ إلى فضل نظر. فإن قال المزكي: زكيتهم مع العلم بفسقهم وكذبهم، فهذا موضع خلاف للأصحاب. وإن قال: زكيتهم مع العلم بفسقهم، ولم أعلم كذبَهم، فقد قال الأصحاب: هذا كما لو زعم أني علمت كذبهم، وما ذكروه ظاهر، ولكن قد يتجه في القصاص ترتيبٌ لحالة على حالة، والأمر فيه قريب. 12179 - ومن أهم ما يجب الاعتناء به، أن الذي ادعى القصاص لو رجع عن دعواه، وأصرّ الشهود، فعليه الغُرم (1) والقود. وإن رجعوا كلهم (2) [والوليُّ] (3) هو الذي اقتص، فلا شك في وجوب القود عليه، وهل يجب القود على الشهود؟ فعلى وجهين - ذكرهما القاضي: أحدهما - لا قصاص على الشهود؛ فإن الولي قتل مختاراً، وليس في حكم المكره، والشهادات سبب، فهي بالإضافة إلى قتل الولي كالإمساك مع القتل. وهذا هو الذي بنينا عليه (الأساليب). والوجه الثاني - أن القصاص يجب على الشهود مع الولي؛ فإنهم من جملتهم تعاونوا على القتل، وكانوا كالمشتركين فيه. وليسوا كالقاتل والممسك؛ فإن الشهود

_ (1) ت 5: " الغرامة ". (2) كلّهم: أي الشهود والولي. (3) في الأصل: " أو الولي ".

هم الذين أكسبوا الوليَّ صفةَ المحق، ولولاهم، لما تصدى لذلك، وهذا ضعيف، والقياس الحق مع الوجه الأول (1). ثم إذا لم نوجب القصاص على الشهود، لم نلزمهم غرماً أيضاً، إذا آل الأمر إلى المال؛ تشبيهاً لهم بالممسكين، ومصيراً إلى أن مباشرة الولي على الاختيار تقطع أثر تسببهم. 12180 - ولو قال الشهود: تعمدنا الشهادة كاذبين، ولكن لم نعلم أنه يقتل بشهادتنا، فقد قال الأكثرون: لا قود عليهم. وهذا فيه نظر؛ فإن من ضرب شخصاً فمات، وكان ذلك الشخص مريضاً يُقصد قتلُه بمثل ذلك الضرب، فقال الضارب: لم أحسبه مريضاً، ولو كان صحيحاً، لكان الأغلب ألا يموت، فهل يجب القصاص والحالة هذه؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأصحاب. فإن قلنا بوجوب القصاص على الشهود في هذه الصورة، فلا كلام، وإن قلنا: لا قصاص عليهم؛ فقد قال الشافعي: عليهم الدية حالّةٌ في أموالهم في الصورة التي ذكرناها. قال صاحب التقريب: الوجه أن تكون الدية مؤجلة عليهم، لأنه بمثابة من يصدر منه القتلُ شبهَ عمد. وهذه المسألة تقرب مما لو قتل مسلماً في دار الحرب على توهم أنه مشرك، ففي وجوب الدية قولان. فإن أوجبناها، ففي ماله أو عاقلته؟ فعلى قولين، وقد مهدت هذا الفصل في كتاب الديات. 12181 - ومما يليق بتفريع هذا الفصل الكلامُ في شهود الزنا، وشهودِ الإحصان إذا فرض الرجوع منهم أو من بعضهم، ونحن نذكر في مبتدأ ذلك أصلين - ونفرعّ المسائل عليهما؛ أحدهما - أن شهود الإحصان إذا رجعوا، فهل يغرّمون؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يغرمون؛ فإنهم ما شهدوا على موجِب الحد؛ إذ موجِبه الزنا، والإحصان صفات كمال، وعلى نحو هذا اختلف الأصحاب في أنه لو شهد على تعليق

_ (1) هذا هو الأصح، قال النووي في زياداته: " قلت: لم يرجح الرافعي واحداً من الوجهين، بل حكى اختلاف الإمام والبغوي في الصحيح، والأصحُّ ما صححه الإمام، فهو الأصح نقلاً ودليلاً، والله أعلم " ا. هـ (ر. الروضة: 11/ 298، و (الشرح الكبير): 13/ 125) و (التهذيب: 7/ 347).

العتق بدخول الدار شاهدان، وشهد على الدخول آخران، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، فهل يجب على اللذين شهدوا على وجود (1) الصفة غرمٌ؟ فعلى وجهين. فإن قلنا: شهود الإحصان لا يغرمون إذا رجعوا، فلا كلام. وإن غرّمناهم، أوجبنا القصاص عليهم حيث يجب القصاص، ثم كم يغرّمون إذا رجعوا ورجع شهود الزنا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يغرمون نصف الدية، لأن لحدّ الزنا ركنين: الزنا، والإحصان. والثاني - عليهم ثلث الغرم، لأن الإحصان يثبت بشاهدين والزنا لا يثبت إلا بأربعة، فهم يقعون في مراتب الشهادات ثُلُثَ الشهود، هذا أحد الأصلين. والأصل الآخر - أنه إذا شهد على شيء عددٌ أكثر من العدد المشروط فيه، ثم رجع من زاد على العدد؛ فنقول أولاً: إن رجع كلهم، فالغرم مفضوض على جميعهم، ولا فرق بين أن يرجعوا بأجمعهم معاً، وبين أن يرجعوا واحداً واحداً، فإذا تكامل الرجوع، فالغرم على الجميع. فأما إذا رجع من الشهود من لا ينخرم به العدد المشروط، مثل أن يشهد خمسة على الزنا، أو ثلاثة على غيره، ثم رجع الزائد، وبقي العدد الذي به الاستقلال؛ فهل يجب على الراجع شيء في هذه الصورة؟ فعلى قولين: أحدهما - رواه البويطي، واختاره المزني أنه يُغَرَّم. والثاني - وهو [المشهور] (2) أنه لا يغرّم، وبه قال أبو حنيفة (3)، والتوجيه هيّن. وإذا ثبت الأصلان، خضنا بعدهما في تفريع المسائل. 12182 - فلو شهد أربعة على الزنا، واثنان سواهم على الإحصان، فلو رجع أحد شاهدي الإحصان، فإن قلنا: لا غرم، فلا كلام. وإن قلنا: يجب الضمان على شهود الإحصان إذا رجعوا بفرع النصف والثلث، فعلى الراجع على قول النصف ربع الغرم، وعلى قول الثلث سدس الغرم.

_ (1) ت 5: " وجوب ". (2) في الأصل: " المشروط "، والمثبت من (ت 5). (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 365 مسألة 1500، المبسوط: 16/ 187.

وإن رجع أحد شهود الزنا، فإن قلنا: يتعلق بهم ثلثا الغرم، فعلى الراجع سدس، وعلى القول الثاني عليه ثمن الغرم. ولو شهد أربعة على الزنا والإحصان جميعاً، ثم رجع أحدهم عن الإحصان والزنا جميعاً، فلا غرامة لأجل الإحصان على أحد القولين، لأنه قد بقي من يتعلق به ثبوت الإحصان، فأما لأجل الزنا، فيغرّم، وفي مقداره الخلاف الذي قدّمناه، فيغرّم سدساً أو ثمناً. فإن رجع ثلاثة وثبت واحد، فقد بطلت الشهادتان؛ فيغرمون على أحد الوجهين لأجل الإحصان ولأجل الزنا، ويخرج المقدار على ما تقدم: السدس -في حسابٍ- على كل واحد لأجل الزنا، و -في حسابٍ- الثمن. ولأجل الإحصان -إن غرّمنا به- ثلث الربع أو ثلث السدس؛ (1 لأنه لما رجع واحد من شهود الإحصان أوجبنا عليه في قولٍ الربعَ، وهو نصف النصف، فيُفَضُّ ذلك في هذه الصورة على ثلاثة: على كل واحد ثلثُ الربع، وأوجبنا في قولٍ نصفَ الثلث، وهو السدس، فيفض على ثلاثة: على كل واحد ثلثُ السدس 1). ولو شهد أربعة على الزنا، وشهد اثنان من هؤلاء الأربعة على الإحصان، ثم رجع أحد هذين اللذين شهدا على الأمرين، وقلنا بالضمان على شهود الإحصان، فعلى الراجع لأجل الإحصان ربع الغرم في وجه، وسدس الغرم في وجه، وأما لأجل الزنا، فثمن الغرم في وجه، فإن شهود الزنا أربعة، وسدس الغرم في وجه. ولو شهد ثمانية على الأمرين، ثم رجع أحدهم، فلا غرم عليه، على أشهر القولين، وكذلك لو رجع الثاني، والثالث، والرابع، وإن رجع الخامس - حينئذ، لا غرامة لأجل الإحصان على الوجه المشهور، ويغرم لأجل الزنا السدس في وجه، والثمن في وجه، وهذا المقدار على الخمسة بأجمعهم. وإن رجع [ستة] (2) وشهود (3) الإحصان ما انخرموا بعدُ، فعلى قولٍ عليهم ثلث

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 5). (2) في الأصل: " منه ". (3) ت 5: " فشهود الإحصان ".

الغرم يُفضّ على ستة، وعلى قولٍ رُبع الغرم. وإن رجع سبعة، فقد بطلت الشهادتان، ولا يخفى التفريع، وقد نجز الكلام في فصل واحد من الفصول الثلاثة. فأما الفصل الثاني 12183 - فمضمونه الشهادة على ما إذا نفذ القضاء به، لم يُستَدْرك، كالعتق والطلاق، فإذا رجع الشهود بعد نفوذ القضاء، غَرِموا القيمة في العتق، وقد مضى التفصيل فيما يغرمه شهود الطلاق في كتاب الرضاع، على أحسن وجه، وأبلغه في البيان. والذي لم نذكره ثَمَّ فَرْعٌ فرّعه ابنُ الحداد، وهو: إذا شهد رجلٌ وعشرُ نسوة على أن بين فلان والتي تحته بحكم الزوجية رضاعاً محرِّماً، وقضى القاضي بشهادتهم، وفرّق بينهما، فلو رجعوا عن الشهادة، فالقول في أنهم يغرّمون، وماذا يغرّمون، كالقول في شهود الطلاق، لا فرق بينهما في المغروم. وإنما غرضنا من هذا الفرع الكلام في كيفية فض المغروم على الرجال والنساء في شهادة الرضاع -وشهادة النسوة لا تتصور في الطلاق- فلهذا فرضنا في الشهادة على الرضاع -فنقدم على ذلك شهادة في المال، ونقول: إذا شهد رجل وأربع نسوة على مال، وقضى به القاضي، ورجعوا، وقلنا: إنهم يغرمون- كما سيأتي في الفصل الثالث - فالمذهب أنه يجب نصف الغرم على الرجل، ونصف الغرم على [النسوة] (1) كم كن وأيَّ عددٍ بلغن، فعلى الاثنتين النصف وعلى العشر فصاعداً النصفُ؛ فإن النسوة -وإن كثر عددهن- في محل رجل واحد، وذهب أبو حنيفة (2) إلى أن كل امرأتين بمثابة رجل. فاذا كانوا رجلاً وأربع نسوة، فعلى النسوة ثلثا الغرامة، وعلى الرجل الثلث، كأنهم ثلاثة من الرجال شهدوا ورجعوا.

_ (1) في الأصل: " النصف "، والمثبت من (ت 5). (2) ر. مختصر الطحاوي: 347، بدائع الصنائع: 6/ 287، 288، فتح القدير: 6/ 542.

قال الشيخ أبو علي: قد ذهب إلى هذا بعضُ أصحابنا، وهو بعيد فإذا ثبت ذلك، رجعنا إلى مسألتنا. فإذا شهد رجل وعشر نسوة على الرضاع، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، قال الشيخ - نعدّ الرجل بامرأتين في حساب الغرم، فإذا كن عشراً معهن رجل، فنقدّرهم اثني عشر، ونقسم الغرم اثني عشر سهماً، على الرجل سهمان وعلى كل امرأة سهم. وقد ذكرنا في الشهادة على المال أن المذهب أن نوجب نصف الغرم على النساء كَمْ كن، وفي الرضاع لا نقول ذلك. بل نعدّ الرجل بامرأتين، وامرأتين برجل، والفرق أن النساء أصلٌ في شهادة الرضاع، بدليل أن الرضاع يثبت بشهادتهن وحدهن، ولا يثبت المال بشهادة النسوة وحدهن، فالرجل في المال شطر البيّنة أبداً، وهو معدود في الرضاع بامرأتين على حسب عددهن، فهذا كلام فيه إذا رجع كلهم. فإما إذا رجع الرجل وست نسوة، فقد بقيت أربع من النسوة مُصرّات على الشهادة، فالمذهب الصحيح أنه لا يجب على الراجعين شيء؛ فإن الشهادة ما انخرمت. ومنهم من قال: يجب على الراجعين بقدر ما يخصهم لو رجع كلهم، فإذا رجع رجل وست نسوة، فيخصهم ثلثا الغرامة، فيلزمهم ذلك على الحساب الذي قدمناه. ولو رجع عن الشهادة رجل وسبع نسوة، فإن فرّعنا على القول الضعيف، فيجب على الراجعين من الغرم ما يخصهم لو رجع كلهم، وذلك تسعة أسهم من اثني عشر سهما من جميع المغروم، على الرجل سهمان من التسعة، وعلى كل واحدة سهم منها، وهذا ضعيف. والصحيح أنه يجب ربع الغرامة؛ فإن الشهادة قد انخرم ربعها، إذ بقيت ثلاث نسوة، فيقسم ربع الغرم على الرجل والسبع نسوة: على تسعة أسهم كما ذكرناه، فهذا هو الذي أردنا ذكره هاهنا. وتمهيد الأصول في المقدار المغروم المتوجه على الراجعين عن شهادة الطلاق قبل المسيس وبعده مذكور في كتاب الرضاع. فأما

الفصل الثالث 12184 - فمضمونه الكلامُ في الرجوع عن الشهادة بعد نفوذ القضاء فيما يفرض فيه مستدرك، وهو كالشهادة على الأموال. فإذا شهد شاهدان على أن الدار التي في يد زيد لعمرو، ونفذ القضاء بموجَب الشهادة، فإذا رجعا، فلا سبيل إلى نقض القضاء، وهل يغرمان للمشهود عليه قيمةَ الدار؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهما يغرمان. وهذا أقيس القولين؛ لأن الشهادة مسلكٌ لو فات بها شيء، وفرض الرجوع، ثبت الغرم، وكل جهة تثبت الغرم عند تحقق الفوات؛ فإنها تُثبت الغرم عند إثبات الحيلولة، والشهادة قد أَثبتت حيلولةً، فلتقتض غرماً. والقول الثاني - إن الغرم لا يجب؛ فإن التفويت لم يتحقق؛ إذ يتصور من المشهود عليه أن يعترف ويقرّ، ويرد الدار إلى المشهود عليه، وهذا لا يتحقق في الطلاق والعتاق؛ فإنهما بعد نفوذ القضاء بهما لا يتصور فيهما مستدرك، فكانا في معنى الإتلاف المحقق، وهذا القول يعسر توجيهه، ولكنه القول الجديد، ومأخذ القولين قريب من أصل القولين فيه إذا قال الرجل: غصبت هذه الدار من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلّمة إلى الأول، وهل يغرم للثاني قيمة الدار، من حيث تسبب بتقديم الإقرار للأول إلى إيقاع الحيلولة بين الثاني الذي قَرّ عليه إقراره وبين الدار؟ فعلى قولين. فرع: 12185 - إذا شهد شاهدان، ثم رجعا عن شهادتهما قبل نفوذ القضاء، فلا شك أن القاضي لا يقضي بشهادتهما بعد الرجوع، فإن قالا: تعمدنا الكذب، رُدت شهادتهما عموماً؛ فإن الشهادة ترد بما يورث رَيْباً في شهادة الزور، فإذا اعترفا بتعمد الكذب، فقد تعرضا لهدم منصبهما فيما هو عين المقصود بالشهادة، فإن تابا واستبرأنا أحوالهما، قبلنا شهادتهما في غير (1) تلك القضية، فإن قالا: ما كنا كذبنا، وإنما

_ (1) ت 5: " عين ".

أظهرنا دعوى الكذب لغرضٍ، قلنا: لا سبيل إلى قبول تلك الشهادة؛ فإنا إذا كنا لا نقبل الشهادة المعادة إذا كانت ردّت بسبب الفسق، فإذا ردّت بالاعتراف بتعمد الكذب، فلأن لا تُقبل أولى، فإن المؤاخذة بالقول الأول قائمة، لا سبيل إلى إزالتها. ***

باب علم الحاكم بحال من قضى بشهادته

باب علم الحاكم بحال من قضى بشهادته قال: " وإذا علم الحاكم أنه قضى بشهادة عبدين أو مشركين ... إلى آخره " (1). 12186 - إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين في ظاهر الحال، ثم تبيّن له أنهما مشركان أو عبدان أو صبيان، فالحكم منقوض، وقد أوضحنا أن المعنيّ بالنقض التبيّن، وإلا فليس القضاء أمراً يعقد ويحل. وذكر القاضي في صدر هذا الفصل أن القاضي لا يجوز له أن يصغي إلى قول المشركين، والعبيد، والصبيان إذا أحاط بحقيقة حالهم، وكذلك إذا كانوا فسقة -وقد تحقق القاضي ذلك- لم يُصغ إلى شهادتهم، وقد قدمت من قبل تردداً في ذلك. وقد تحصل لنا ما يجب الاستقرار عليه في الإصغاء إلى شهادة الفسقة. أما المعلنون بالفسق، فلا ينبغي أن يصغي القاضي إلى شهادتهم - إلا أن يصح مذهبٌ في قبول شهادة المعلنين، ويرى القاضي أن يصغي، فلا معترض عليه في مجتَهد. ولو أصغى إلى شهادة العبيد، ليقبلها على رأي أحمدَ (2)، وطوائفَ من أئمة السلف، فلا معتَرَضَ. وإن كان لا يقبل قطعاً -وسبب الرد ظاهر- فالوجه ألا يصغي كما لا يصغي إلى شهادة المشركين، والعبيد، والصبيان. وإن كان الفاسق مكاتماً، وكان القاضي عالماً بفسقه، فهذا موضع التردد؛ فإنه لو منعه من إقامة الشهادة، لكان ذلك هتكاً للستر، فالوجه أن يصغي ثم لا يَقْضي، والقياس ألا يصغي إلى من يعلم أنه مردود. والوجه أن يقدم النُّذُر إلى من يريد الإقدامَ على الشهادة من هؤلاء؛ حتى لا يتعرضوا، فإن فعلوا، فهم الذين هتكوا أستار أنفسهم.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 260. (2) ر. رؤوس المسائل الخلافية للعكبري: 6/ 1005، مسألة رقم: 2257، الإنصاف: 12/ 60، كشاف القناع: 6/ 426، شرح منتهى الإرادات: 3/ 550.

ولو قضى القاضي بشهادة رجلين، وبانا فاسقين، وتبين اقتران فسقهما بوقت القضاء، ففي المسألة قولان: أقيسهما - أن الحكم منقوض؛ لأنه بأن من الشهود ما لو عُلم حالةَ القضاء، لامتنع القضاء بشهادتهم، فاشبه الرق والكفر. 12187 - قال الشافعي: " شهادة العبد أقرب (1) من شهادة الفاسق؛ لأن ردّ شهادة الفاسق بالنص. قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وردُّ شهادة العبد بالتأويل (2)، ثم قال: " من العلماء من قبل شهادة العبد، وهو أحمد وغيره. ورد شهادة الفاسق متفق عليه " (3). فأما وجه القول الثاني، فعسرٌ، ولا يتجه فيه كلام، إلا أن نحوّم على ما ذكره أصحاب أبي حنيفة (4) من أن الفاسق من أهل الشهادة، بدليل مسألة الرد والشهادة المعادة، وهذا على بُعده عن مذهبنا لا متمسك فيه. ومن أصحابنا من قطع بأن الحكم يتبين انتقاضه إذا [استند] (5) الفسق، وحمل قول الشافعي حيث قال: " لا ينتقض " على فسق يظهر بعد القضاء على قرب العهد، ولكن لا يتبين استناده، فالحكم لا ينتقض؛ وإن كنا نظن أن ذلك الفسق مستند، وعليه تبيّنا فسق الأصول في باب الشهادة على الشهادة.

_ (1) عبارة الشافعي في الأم والمختصر نصّها: " بل القاضي بشهادة الفاسق أبين خطأ منه بشهادة العبد " (ر. الأم: 7/ 50، والمختصر: 5/ 260). (2) ر. المختصر: 5/ 260، وفي هذا تصرّف يسير، فليس هو بنص المختصر. (3) لم نصل إلى هذه العبارة في المختصر في هذا الموضع. (4) ر. بدائع الصنائع: 6/ 266، فتح القدير: 5/ 65، 6/ 456، تحفة الفقهاء: 3/ 363. في الأصل: " اشتبه "، والمثبت من (ت 5). والمعنى أن من أصحابنا من جعل في المسألة طريقة أخرى، وهي القطع يتبين نقض الحكم إذا كان الفسق مستنداً، بمعنى أنه ثبت وظهر معتمداً على أسباب توجب التفسيق كانت سابقة أو مقترنة بالقضاء. وجعل قول الشافعي: " لا ينتقض الحكم " محمولاً على الفسق الذي يظهر بعد القضاء، ولا يتبين استناده.

12188 - وقال الشافعي: " ولو أنفذ القاضي بشهادتهما ... إلى آخره " (1). إذا بان الشهود عبيداً، أو مشركين، أو فسقة على القول الصحيح، وحكمنا بانتقاض القضاء على معنى التبين، فإن كان المشهود به عينَ مالٍ، وأمكن استردادها، استردها، وردّها على المشهود عليه، فإن كانت فائتة، غرم المشهود له بدلَها إذا فاتت في يده، وسلّم القيمة إلى المشهود عليه، وإن لم نتمكن من المشهود له، فالقاضي يغرم للمشهود عليه، وفي محل الغرم قولان: أحدهما - يجب في ماله، والثاني - يجب في مال بيت المال، وهذا مما استقصيناه في بابه ضما إلى أحكام خطأ الولاة. ثم إذا غرم القاضي من ماله مثلاً، فهل يرجع على الشهود بما غرم؟ قال الأصحاب: إن بانوا فسقة، لم يرجع عليهما. وإن بانوا عبيداً أو مشركين، ففي الرجوع قولان: أحدهما - لا يرجع، كما لو بانوا فسقة. والثاني - يرجع. والفرق أن الفاسق مأمور بكتمان الفسق، مندوب إلى حفظ الستر على نفسه، إلى أن يوفقه الله للتوبة، والمشرك لا يُخفي الشرك، والعبد لا يُخفي الرق، وهما مأموران بإظهار الرق والكفر. فإن قلنا: يثبت الرجوع - فإن كان المرجوع عليه مشركاً ملتزماً للحكم بذمة أو عهد، فيرجع عليه بما غرِم في الحال. وإن بأن الشاهد عبداً، فحق الرجوع يتعلق بذمته أو برقبته؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يتعلق برقبته؛ فإن ما صدر منه في حكم الجناية. وأروشُ الجنايات تتعلق برقبة العبيد. والثاني - لا يتعلق برقبته؛ لأن العبد يبعد أن يعلق حقاً برقبة نفسه بقول يصدر منه، ولو أقر بجناية موجَبُها مال، لم يتعلق الضمان برقبته. وقطع الأصحاب في الطرق أن الشاهد لو بان صبياً، فلا رجوع عليه في ماله؛ فإن التقصير من القاضي، والصبا لا يخفى. وإن فَرَض متكلِّف صبياً مناهزاً شاطّ (2) القدّ قد طُرّ شاربه، فما ذكرناه لا يندفع

_ (1) ر. المختصر: 5/ 260. (2) شاطَّ القدّ: من ضط يشط شططاً وشطوطاً، من بابي ضرب وقتل، إذا بعد، وتجاوز، =

بهذه الصورة، وكان القاضي مؤاخذاً بالبحث عن هذا. وذكر شيخي في الصبي في مثل الصورة التي ذكرناها خلافاً، وهذا لا أعتدّ به، وكان لا يبعد عن القياس إثبات الرجوع على من بأن فاسقاً؛ فإنه إذا ساوى الفسقُ الكفرَ والرقَّ في انتقاض الحكم بسبب ظهوره، لا يبعد في القياس أن يثبت الرجوع عليه أيضاً. وهذا الذي ذكرناه بيان احتمال، وليس بمذهب. والذي اتفق عليه الأصحاب أنه لا رجوع على الفاسق. ومما يجب التنبّه له أن المشهود عليه إذا ثبت له تغريمُ القاضي، فليس يبعد عن القياس أن يغرِّم الشاهدَ، حتى يقال: هو بالخيار، إن أحب طالب الشاهد، وإن أحب طالب القاضي. وهذا أيضاً غير منقول من أئمة المذهب، ولكن في كلام الأصحاب ما يدل على هذا، والظاهر المنقول ما ذكرته، من توجيه الطلب على القاضي، ثم هو يرجع، كما فصّلنا. ...

_ = وأفرط، والمعنى المقصود هنا: أنه متجاوز القامة أو القوام المعتاد من مثل عمره (المصباح. والمعجم).

باب الشهادة على الوصية

باب الشهادة على الوصية قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهد أجنبيان أن فلاناً المتوفى أعتقه، وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبدٍ غيره أنه أعتقه، وهو الثلث في وصيته، فسواء، ويعتق من كل واحد منهما نصفه " (1). 12189 - هذا ما نقلوه من لفظ الشافعي. والرأي عندنا أن نقدم أصولاً على قدر مسيس الحاجة، ثم نعود إلى بيان مراد الشافعي، فنقول: إذا أعتق المريض عبيداً، وكان الثلث لا يفي بجميعهم، وقد أعتقهم معاً تنجيزاً، فمذهب الشافعي أنا نقرع بينهم، ولا نعتق من كل واحد منهم جزءاً؛ فضّاً للثلث على أقدار قيمهم، وسيأتي هذا مشروحاً، إن شاء الله. والقياس أن نعتق من كل عبدٍ مقداراً، ولكن ترك الشافعي القياسَ لحديث عمران بن حصين، كما سيأتي إيضاح ذلك، إن شاء الله. ولو أعتق في المرض عبداً، هو قدر الثلث، ثم أعتق بعده عبداً آخر، هو مقدار الثلث أيضاً، فنقدّم من قدّمه. ولا قرعةَ، وقد تعين السابق والمسبوق. وهذا في التبرع المنجّز في الحياة. ولو أوصى بعتق عبيد، وكان الثلث لا يفي بهم، ولم يوص بتقديم بعضهم، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: يقرع بينهم، كما لو أعتق عبيداً في مرض موته. وهذا هو المذهب المعتمد، وقد قطع به الصيدلاني، فقال: لا خلاف في المذهب في ذلك. وذكر بعض الأصحاب قولين - وأشار إليهما القاضي: أحدهما - القرعة قياساً على العبيد المجموعين في تنجيز الإعتاق في مرض الموت. والقول الثاني - أنا نوزعّ العتقَ

_ (1) ر. المختصر: 5/ 260.

ولا نقرع في الوصايا، وإنما الإقراع في المعتَقين في الحياة. وهذا القائل احتج بأن القياس التسويةُ بين العبيد في الحياة والممات جميعاً، وتخصيص البعض القرعة، وحرمان البعض خارج عن قصد المتبرع، وعن قياس الاستحقاق؛ فإن المعتق أثبت لكل واحد من العبيد حقاً في العَتاقة. غير أن الخبر مقدم على القياس، وإنما ورد الخبر في تنجيز العتق في الحياة؛ فبقّينا الوصية على القياس في اقتضاء التشريك، ورأينا بين العتق في الحياة وبين الوصية بالعتق فرقاً يقطع أحدَهما عن الثاني، ويُخرج الوصية عن كونها في معنى العتق المنجز، والفرق الذي نبديه ناشىء من عين المقصود. وبيانه أن القرعة تقتضي تكميل العتق لعبدٍ وتكميل الرق في عبد، وكأن للشرع غرضاً في رفع تبعّض الرق والحرية، وهذا لائق بحالة الحياة؛ فإن المريض لو أعتق بعضاً من عبد، وكان العبد بكماله خارجاً من الثلث، فعتقه الموجه على بعض العبد يسري إلى كماله؛ فلم يبعد التكميل في الحياة، والقرعة تنبني عليه، والتكميل بعد الموت ممتنع؛ فإنه لو أوصى بإعتاق بعضٍ من عبد، وكان الثلث وافياً بتمام العبد، فالعتق لا يسري من بعض العبد إلى كماله، فإذا جرت الوصية على القياس، وانقطعت عن مورد الخبر، [تعين] (1) قياس الاشتراك في الوصية حتى لا يحرم البعض. ثم من سلك هذا المسلك، لم يفصل بين أن يقع الإيصاء بعتق العبيد دفعة واحدة، وبين أن تترتب الوصايا، فالمترتب منها كالمجموع، والخلاف الذي ذكرناه جارٍ في صور الوصية. 12190 - فإذا تمهد ما ذكرناه، عُدنا بعده إلى شرح كلام الشافعي، وبيان اختلاف الناس فيه. ظاهر ما نقله المزني أنه إذا أعتق عبيداً، فيعتق من كل واحد بعضُه ولا يُقْرع، وهذا في ظاهره يخالف القانونَ وقاعدةَ المذهب، ولكن اختلف أصحابنا في أن كلام

_ (1) في النسختين: وتعين.

الشافعي مفروض في العتق المنخز أو في العتق الموصى به، ونحن نذكر التنجيز وحكمه، ونخرّج عليه التعرض لقسمة العتق وفضّه، ثم نذكر الوصية، ونختتم الكلام بتعلق الأصحاب في تنزيل كلام الشافعي على التنجيز والوصية، وما يُظهر كل فريق من فحوى كلامه ومنطوقه. فأما التنجيز، فإذا أعتق المريضُ عبدين، قيمةُ كل واحد منهما مقدار الثلث، نُظر؛ فإن أعتقهما معاً، لم يختلف الأصحاب في الإقراع. وهذا مورد نص الحديث الذي رواه عمران بن حصين. فأما إذا أعتق سالماً أولاً، ثم أعتق غانماً، وكان كل واحد منهما ثلثاً، فالمقدم عتق سالم، ولا مجال للإقراع، وإن أشكل الأمر، ولم ندر أيَّ العتقين وقع أولاً، وجوّزنا أن يكون وقوعُهما معاً، والتبس علينا التقدم والترتب والوقوعُ معاً؛ فإنا نقرع بينهما كما لو وقعا معاً. وإن علمنا تقدم أحدهما على الثاني، وأشكل علينا المتقدم والمتأخر، فالغرض من هذا الموضع يتبين بتجديد العهد بمثال من أصلٍ، وهو إذا عقدت جمعتان في بلدة لا يجوز عقد الجمعتين فيها، فلو وقعتا معاً، لم تصح واحدة منها، ولو تقدمت إحداهما، وتعينت، فهي الصحيحة، وعلى الذين أقاموا الثانية صلاةُ الظهر. وإن لم ندرِ أوقعتا معاً، أم تقدمت إحداهما، فهو كما لو وقعتا معاً. وأثر حكمنا بفساد الجمعتين أن نقول لهم - إن كان الوقت باقياً: اعقدوا الآن جمعة، فالذي مضى فاسد غيرُ منعقد (1) وإن سبقت إحداهما وأشكلت السابقة، فقولان: أحدهما - أنا نحكم بفسادهما، والثاني - أنا نحكم بصحة جمعة لا بعينها، وأثر ذلك أنا نأمر الجميع بأن يصلى الظهر، ولو أرادوا جمعة في الوقت، لم تقع الموقع. ولو تقدمت إحدى الجمعتين وتعينت، ثم التبست بعد التعيين، ففي المسألة

_ (1) عبارة (ت 5): " فاسد غير منعقد، وإن ترددنا، فلم ندر أوقعتا معاً، أو ترتبت إحداهما على الأخرى، فهو كما لو وقعتا معاً، وإن سبقت إحداهما ... إلخ " وهو تكرار واضح.

طريقتان: إحداهما - القطع بأنه انعقدت جمعة، والأخرى - جعل المسألة على قولين، وقد أجرينا مثلَ هذا الترتيب في نكاحين، عقدهما وليان على امرأة واحدة مع خاطبين، والمثال الواحد كافٍ. 12191 - فنعود إلى العتق، ونقول: إذا وقع العتقان في العبدين على صورة لو وقعت الجمعتان عليها، لحكمنا بفسادهما؛ أخذاً باجتماعهما، فنحكم في مثل هذه الصورة من العتق بالقرعة؛ أخذاً بوقوع العتقين معاً، ولو وقعا معاً، لحكمنا بالقرعة لا محالة. وحيث يختلف القول في صحة جمعة وفسادها، فنطرد القولين في العتقين إذا تُصوّرا بتلك الصورة، وذلك إذا استيقنا الترتيب، ولم ندرك اليقين (1)، ففي قولٍ نقرع إذا حكمنا بفساد الجمعتين، وإذا حكمنا بصحة جمعة لا بعينها، فنحكم بنفوذ عتق في عبد لا بعينه، ثم ليس أحدهما أولى به من الثاني، ولا جمعَ؛ فنُقرع، فنجعل (2) كأنهما يتداعيان عتقاً بينهما، كل واحد يدعيه بكماله، فنحكم بفض العتق عليهما، ونعتق من كل واحد منهما نصفه إذا كان كل واحد موازيا ثلثاً، هذا بيان هذه الصورة. والقيمتان [في] (3) جميعهما متساويتان، كلُّ قيمةٍ ثلث. 12192 - فأما إذا أعتق عبداً قيمته ثلث، وأعتق عبداً آخر قيمته سدس، ثم وقع الكلام في الجمع والترتيب، فإن وقعا معاً فليس إلا القرعة، فإن خرجت القرعة على الكثير القيمة، عتق، ورق القليل القيمة، وإن خرجت القرعة على القليل القيمة، عَتَق كله، وعَتَق من الكثير القيمة نصفُه، ورَقّ نصفُه. وإن صورنا صورة القولين؛ فإن أقرعنا، فالجواب ما ذكرنا، وإن أردنا التقسيط، فقد اختلف أصحابنا في كيفيته؛ فمنهم من قسط على الدعوى، وقال: الكثير القيمة يقول للقليل القيمة؛ نصفي يعتق في كل حساب، لا نزاع فيه، وإنما النزاع في نصفي

_ (1) ت 5: " التعين ". (2) سقطت من (ت 5). (3) زيدة من (ت 5).

الآخر؛ فأنا والقليل القيمة نزدحم وراء ذلك؛ فيقسم العتق بين نصفي الثاني وبين جميع القليل القيمة نصفين، فيعتق من القليل نصفه، ويعتق من الكثير ربع آخر، فيعتق ثلاثة أرباع الكثير القيمة ونصف القليل القيمة، وهذا وجه. ومن أصحابنا من سلك مسلكاً في قسمة العتق بينهما، فقال: الكثير القيمة ضِعف القليل القيمة، والقليل القيمة نصف الكثير القيمة؛ ويعتق منهما مقدار ثلث المال، فالكثير القيمة يقع مع القليل القيمة ثلثين، والقليل القيمة يقع مع الكثير القيمة ثلثاً، فيضرِبُ الكثيرُ بالثلث كلِّه، ويضرب القليلُ بنصف الثلث، فنوزِّع الثلث عليهما أثلاثاً، نصرف ثلثيه إلى الكثير القيمة ونصرف ثلثه إلى القليل القيمة، فيجب من ذلك أن يعتق الثلثان من الكثير، والثلث من القليل، وفي ذلك استكمال الثلث. وقد قال الأصحاب: لو تداعى رجلان وصيتين، فأقام أحدهما البينة أن الموصي أوصى له بكل ماله، وأقام الآخر البينة أنه أوصى له بثلث ماله، وأجاز الورثة الوصية في كل المال؛ فإنهما يقسمان المال بينهما على حساب العول، فإن أحدهما يضرب بثلاثة أثلاث المال، والثاني يضرب بثلثه، وحساب العول يقتضي أن يكون المال أرباعاً بينهما: ثلاثة أرباعه للموصى له بالكل، وربعه للموصى له بالثلث. ومذهب أبي حنيفة (1) أن المال يقسم بينهما على الدعوى، فيقول صاحب الجميع: الثلثان لا نزاع فيهما، فلْيُسلّما إليّ. ويبقى الثلث بيننا، أنا أدعيه وأنت تدعيه، فنُقَسِّم هذا الثلث بيننا نصفين، فيخلص لصاحب الجميع خمسةُ أسداس المال، ولصاحب الثلث سدسه، والأصحاب لم يذكروا هاهنا إلا مذهب العول، ورأوا مذهب التداعي لأبي حنيفة، وقد ذكرنا مذهب التداعي وجهاً لأصحابنا في مسألة عتق العبدين، وأحدهما ثلث والثاني سدس، ولا فرق قطعاً بين المسألتين. فيلزم من ذكر قسمة التداعي وجهاً ومذهباً لنا أن نطرد ذلك الوجهَ في الصورة التي ذكرناها آخراً في الوصية وأمثالها، حتى نجري التداعي مهما (2) اتجه إجراؤه.

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 9 المسألة: 2153، المبسوط: 27/ 148، بدائع الصنائع: 7/ 375، الفقه النافع للسمرقندي: 3/ 1412. (2) مهما: بمعنى إذا، وفي (ت 5): " ومهما ".

12193 - وكل ما ذكرناه طريقة واحدة للأصحاب؛ فإنهم قالوا: نصُّ الشافعي محمول على العتق في العبدين إذا نُجِّز في حالة الحياة والْتبس المتقدمُ والمتأخر. وقال هؤلاء: لو فرضنا الوصية بعتق عبدين بعد الموت، فليس فيهما إلا الإقراع، سواء جمع الموصي الوصيتين أو قدم إحداهما ذكرا على الأخرى من غير أن يوصي بمراعاة ترتيبه في تقديمه وتأخيره، وذلك لأن التفاوت في الذكر لا أثر له في الوصايا؛ إذ وقوع جميعها بعد الموت -وإن ترتبت في الذكر- فصارت الوصيتان بالعتق في العبدين بمثابة تنجيز العتق فيهما معاً في مرض الموت. هذه الطريقةُ المثلى. واستتمامه أنه لو أوصى بعتق عبدين وأوصى بتقديم أحدهما عند ضيق الثلث، فلا شك أنا نمتثل أمره، فإن أشكل الأمر، فلم ندرِ أنه أوصى بتقديم سالم أو بتقديم غانم، فيعود في هذه الصورة صورة الوفاق، والقولين في أنا نقرع أو نوزع، كما ذكرناه في العبدين المعتقين في الحياة إذا سبق أحدهما، وأشكل عين السابق. 12194 - ومن أصحابنا من قال: مسألة (السواد) (1) مفروضة في الوصية بعتق العبدين، ثم هؤلاء رأوا الشافعي وزع العتق على العبدين، فالتزموا التوزيع في الوصايا، وخصصوا القرعة بالعتق المنجز في الحياة، وقد قدمنا ذكر ذلك، ثم لم ينظروا إلى التقدم والتأخر، بل قالوا: [لو] (2) أوصى بعتق العبدين جمعاً في الذكر، وزعنا مقدار الثلث عليهما. وهذا مسلك ضعيف رمز إليه بعض الأصحاب، وصرح به القاضي نقلاً ثم زيّفه. 12195 - وقد انتجز حكم المسألة، وبقي تعلق كل فريق بلفظ الشافعي، ونحن ننقل لفظه على وجهه، ونذكر متعلَّق الأصحاب فيه (3)، قال: " لو شهد أجنبيان أن فلاناً المتوفى أعتقه، وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبد كيره أنه أعتقه، وهو الثلث في وصيته، عتق من كل واحد منهما نصفه ".

_ (1) السواد: هو مختصر المزني، كما ذكرنا ذلك مراراً، والمر اد المسألة التي ذكرها الإمام في أول الفصل. (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (3) ت 5: " منه ".

فمن قال من الأصحاب المسألة في تنجيز العتق رأى صريح اللفظ موافقاً له؛ فإن الشافعي قال: "أن فلاناً المتوفى أعتقه" وهذا صريح في التنجيز، ومن رأى حَمْلَ كلام الشافعي على الوصية حمل قولَه " أعتقه " على الوصية بالعتق، وقال: معناه أوصى بعتقه. واستدل على ذلك بأنه ذكر على الاتصال بهذه المسألة لفظَ الإعتاق، وصوّر الرجوع عنه، والرجوعُ عن الإعتاق المنجز غير ممكن من المعتِق، وقد قال: " لو شهد وارثان أنه رجع عن عتق الأول، وأعتق الآخر، [أجزتُ] (1) شهادتهما " فدل أن الحمل على الوصية أوجَه. هذا منتهى كلام الأصحاب في ذلك، مذهباً، وتصرفاً على اللفظ، وتنزيلاً لكلام الشافعي على التنجيز أو الوصية. فصل قال: " ولو شهد الوارثان أنه رجع عن عتق الأول ... إلى آخره " (2). 12196 - إذا شهد أجنبيان بأنه أوصى بعتق عبده غانم، وهو ثلث ماله، وشهد وارثان بأنه وصى بعتق عبده سالم، وكل واحد من العبدين ثلث، وشهد الوارثان أنه رجع عن الوصية لغانم - قال الشافعي والأصحاب معه: جازت شهادة الوارثين في الرجوع، ونفذ العتق في العبد الذي عيّناه. وتعليل ذلك أنهما ليسا يجران بهذه الشهادة نفعاً إلى أنفسهما في مالية، وإنما ينقلان الوصية من عين إلى عين؛ فإنه لو ثبتت الوصيتان، ولم يثبت رجوع، لكان للورثة ردهما إلى الثلث بمسلك يقتضيه الشرع، فلا تهمة إذاً، والوجه قبولُ شهادة الوارثَيْن في الرجوع عن إحدى الوصيتين. قال الشافعي: لا أنظر إلى الولاء، كأنه عرف من مذهب بعض الناس أنه لا يقبل شهادة الوارثين، إذ قد يكون لهما غرض في عين أحد العبدين، وقد يكون لهما غرض في ولاء أحدهما بأن كان كسوباً جمّاعاً، فيطمع الوارثان في حيازة ما يكتسبه إذا مات.

_ (1) في الأصل: " أجيزت "، والتصويب من نص المختصر. (2) ر. المختصر: 5/ 260.

ثم قال الشافعي: هذه أمور موهومة، لا يجوز رد الشهادة بأمثالها، إذا لم تكن تهمة في الحال ناجزة في مقدارٍ من المال. هذا بيان صورة. وهي إذا كان قيمة كل واحد من العبدين ثلثاً. 12197 - فأما إذا شهد أجنبيّان بأنه أوصى بعتق عبده سالم، وهو ثلث ماله، وشهد الوارثان بأنه أوصى بعتق عبده غانم، وهو سدس المال، وشهدا على رجوعه عن الوصية بعتق سالم، فلا شك أنهما جارّان في هذه الحالة؛ من قِبل أن الرجوع لو ثبت عن الوصية الأولى بشهادة أجنبيين مثلاً، لعادت الوصية إلى السدس، فإذا شهد الوارثان على ما يقتضي ذلك، فقد حطّا نصفَ الوصية من الثلث. 12198 - فإذا تبين هذا، فنذكر نص الشافعي أولاً، ثم نذكر تصرف الأصحاب. قال الشافعي: " يَعتِق العبدان جميعاً، أما القليل القيمة؛ فلإقرارهما بأنه المستحق للعتاقة، وأما الكثير القيمة؛ فلِردّ شهادتهما في الرجوع عن الوصية بعتقه؛ فيعتقان، وإن زاد العتقان على الثلث " (1). وهذا مشكل جداً؛ فإن غاية الأمر أن تثبت الوصيتان، ويبطل الرجوع عن الوصية الأولى. ولو اعترف الورثة بثبوت الوصيتين جميعاً، ولم يدعيا رجوعاً، لكُنا لا نزيد على الثلث، بل نقرع على الرأي الظاهر، ونقول إن خرجت القرعة على الكثير القيمة عتق، ورَقّ القليلُ القيمة. وإن خرجت القرعة على القليل القيمة عَتَقَ، وعَتق النصف من الكثير القيمة. فإذا رَدَدْنا شهادةَ الورثة على الرجوع، فكأن لا رجوع، هذا وجه الإشكال. وقد خرّج أصحابنا قولاً في المسألة مخالفاً للنص، وقالوا: نُقرع بين العبدين -كما وصفناه- إذا جرينا على الأصح، وهو الإقراع، وهذا قياسه بيّن، ولكنا نسوق كلام الأصحاب على وجهه، ثم نتعرض لمواقع البحث. قالوا: القولان -المنصوص منهما والمخرّج- مبنيان على أصلٍ، وهو أن من جمع

_ (1) ر. المختصر: 5/ 260، والكلام بألفاظ الشافعي ومعناه، وإن لم يكن بنظمه.

في شهادته بين ما يرد شهادته فيه، وبين ما يقبل شهادته فيه، فإذا ردّت شهادته فيما لو أفرده، لردت الشهادة فيه، هل ترد شهادته في المضموم إليه؟ فعلى قولين. وهذا أصل في الشهادات. ومن صوره أنه إذا شهد بمال مشترك بينه وبين شريكه، فشهادته فيما يدعيه لنفسه مردودة، وهل تقبل شهادته في حصة شريكه؟ فعلى قولين. فإذا تمهد هذا، وقد نعيده في مسائل الدعوى، إن شاء الله، قال الأصحاب بعده: الوارثان شهدا على الرجوع عن الوصية الأولى، وأثبتا الوصية بالسدس، وتطرقت التهمة في نصف العبد الكثير [القيمة] (1)؛ لأنهما أرادا إبطال الوصية في نصفٍ من غير تعويضٍ ونقلٍ، فكانا جارّين. فأما النصف الآخر من العبد فقد [عَوّضا] (2) عنه العبدَ القليل القيمة، فكان ذلك نقلاً؛ وقد ذكرنا أن تهمة النقل لا توجب رد الشهادة، لكنهما جمعا بين ما يرد لو أفرد، وبين ما يقبل، فإن رأينا رد الشهادة في الجميع، فالجواب ما ذكره الشافعي من الحكم بإعتاق الجبدين جميعاً، وإن رددنا الشهادة في البعض، وقبلنا في (3) البعض، فالجواب هو القول المخرج. وهذا التصرف مضطرِب من الأصحاب، لما ذكرناه في مقدمة المسألة من أن الشهادة، وإن ردت، فكأن الرجوع لم يثبت، وحصول (4) الوصيتين من غير رجوع عن إحداهما لا يوجب عتق العبدين، هذا وجه الإشكال، ولا يؤثر في هذا ردُّ الشهادة في الجميع أو تبعيض الرد، وتمام البيان وراء ذلك. 12199 - فالوجه عندنا أن يقال: يقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على الكثير القيمة، عَتَق العبدان، كما قال الشافعي؛ لأنا نبطل الرجوع، والقرعة اقتضت عتق الكثير القيمة، والوارثان يُقران للقليل بأنه العتيق، والعتق مستحق له، فالوجه حمل نص الشافعي على هذه الصورة.

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في النسختين: " عوضنا ". (3) ت 5: " من ". (4) ت 5: " وفضول ".

فلو خرجت القرعة على القليل القيمة؛ فإنه يَعتِق. ويجب أن يقال: لا يَعتِق من الكثير إلا نصفه؛ حملاً على أن لا رجوع، وقد حصل العتق في القليل القيمة على موجَب إقرار الورثة. فإذا حصل ما أقروا به، وبنينا الأمر على إبطال الرجوع، فهذا أقصى اللازم. فخرج منه أن ظاهر النص مشكلٌ والقول المخرَّجُ على الإطلاق باطل، والحق الذي لا يُدفع، ما ذكرناه. 12200 - فإن قال قائل: لو فرعت هذه المسألة على أن لا إقراع في الوصايا، وأن المتبع فيها القسمة. قلنا: نفرض هاتين الوصيتين (1) ولا رجوع، ولو كان كذلك يخرج وجهان في كيفية القسمة: أحدهما - القسمة على الدعوى، والثاني - القسمة على حساب العول، كما ذكرنا المسلكين في إعتاق العبدين - الكثير القيمة والقليل القيمة تنجيزاً. ثم إذا أجرينا مذهباً نرتضيه، فالوجه أن نقول بعده: يَعْتِق من الكثير ما يقتضيه الحساب، ويعتق تمام القليل القيمة أخذاً بالإقرار. وقد انكشف إشكال المسألة. 12201 - ونحن نستتم الكلام بذكر صورة، فنقول: لو شهد أجنبيان بأنه أعتق سالماً تنجيزاً وهو ثلث ماله، فكذبهما الورثة في الشهادة، وقالوا ما أعتق سالماً، وإنما أعتق غانماً، وهو ثلث ماله، فيعتق العبدان لا محالة؛ لأن تكذيب الورثة للشاهدين لا وجه له؛ فإنهما عدلان، والورثة [مؤاخذون] (2) بإقرارهم في غانم، فيعتق غانم لا محالة، ولا دفع لذلك، ويبقى سالم، والشاهدان مصدقان في إعتاقه. فلو قال قائل: هلا أقرعتم بينهما، حتى إن خرجت القرعة على غانم، ارتد عتق سالم، وينزل هذا منزلة ما لو قال الورثة: صدق الشاهدان، ولكنه أعتق مع سالم غانماً، ولو كان كذلك، لأقرعنا.

_ (1) ت 5: " الصورتين ". (2) في الأصل: " مجاحدون ".

قلنا: هذا السؤال يُحمل على تفصيل. فإن قال الورثة أعتق غانماً، وليس في إقرارهم وشهادة الشاهدين تاريخ، وأمكن وقوع العتقين في علم الله معاً، فقد يتجه الإقراع، وقد لا يتجه، كما سنصف. ولو اشتملت الواقعة على تاريخ، فشهد الأجنبيان على أنه أعتق سالماً يوم السبت، وقال الورثة: كذبا، لم يعتق سالماً، وإنما أعتق غانماً يوم الأحد، فإذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فلا إقراع، ويعتق العبدان، وحيث لا يقع التعرض لتأريخ، فالإقراع ممكن على ما خيّله السائل، ثم الجواب أن القرعة لو خرجت على عبد الورثة وهو غانم، لم يَعْتِق سالم، وإن خرجت على سالم، عَتَقَ العبدان بالقرعة والإقرار. هذا مسلك. وقد يقال: القرعة إنما تجري بين مشكلَيْن، فإذا كان غانم متعيَّناً للعتق لا محالة، فإدراجه في القرعة محال، وسيأتي لذلك نظائر في كتاب العتق، إن شاء الله. فيلزم منه إذا لم يقرع أن يعتِق العبدان جميعاً، غانم بحكم الإقرار، وسالم باستحالة التكذيب، فهذا منتهى الكلام ونجازه. فصل قال: " وقال في الشهادات في العتق والحدود إملاءً ... إلى آخره " (1). 12202 - العبد إذا ادعى على مولاه أنه أعتقه، وأقام شاهدين، واحتاج القاضي إلى مراجعة المزكين في تعديلهما، فلو سأل العبد أن يحال بينه وبين المولى حتى يتفق التعديل أو نقيضه؛ فقد قال الشافعي والأصحاب: يُجاب العبد إلى ذلك، وينفَق عليه من كسبه إن كان له كسب، ويُحفظ ما يفضُل من النفقة، فإن عُدّلت البينة، دُفع فاضل الكسب إلى العتيق، وإن جُرّحت البينة، رُد الفضل على المولى، وإن لم يكن له كسب أُنفق عليه من بيت المال، ثم إن [بان] (2) عتيقاً، [فهو] (3) فقير أنفقنا عليه،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 261. (2) في النسختين: " كان ". (3) في الأصل: " وفقيراًَ أنفقنا عليه "، و (ت 5): (فقيرٌ أنفقنا عليه) فالمثبت تصرف من =

وإن [بان] (1) رقيقاً، رجعنا على السيد بما أخرجناه. ولو لم يسأل العبد الوقفَ، ورأى القاضي ذلك من غير سؤاله، فله أن يفعله على الترتيب الذي ذكرناه. وإن كان الأمر متعلقاً بأَمةٍ، فحتمٌ على القاضي أن يفعل ذلك. ولو أقام شاهداً واحداً، وكان يأمل أن يشهد شاهد آخر، فقال للقاضي: حُلْ بيني وبينه حتى أقيم الشاهد الثاني، فهل يجاب إلى ذلك؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يجاب إليه، كما لو أتمّ العدد، وتخلفت التزكية؛ فإن التزكية لا بد منها، كما لا بد من العدد، والقول الثاني - أنه لا يُجاب؛ فإن الشاهد الواحد ليس بحجة، فلا مبالاة به، ولا يغيَّر الحكمُ به، وليس كما لو تخلفت التزكية؛ فإن التزكية إذا ثبتت، تبيّنا أن البينة كانت تمت، ونحن جاهلون بها، وليس كذلك الشاهد الواحد. 12203 - ومما يتعلق بهذا أن البينة لو قامت على استحقاق عينٍ، وتخلفت التزكية، فطلب مقيمُها أن تُزال يدُ المدعى عليه حتى لا يُضيِّع ولا يُغيِّب، فإن أمكن (2) الضياع والتغييب، أجيب المدعي، ووقفت العين؛ ولو شهد شاهد واحد، فقولان، كما ذكرناه في العتق. وإن كانت تلك العين عقاراً لا يتأتى تغييبه ولا يضيع، وقد قامت بينة وتخلفت التزكية، فللأصحاب طريقان: أحدهما - أنه يجاب، فيحال، والثاني - لا يُجاب؛ إذ لا غرض في إيقاع الحيلولة، ثم لا يخفى تخريج الشاهد الواحد على الترتيب الذي ذكرناه. وإذا أقام شاهدين على الدَّين، وتخلفت التزكية، وطلب أن يحجُر القاضي على المشهود عليه مخافة أن يضيّع ماله أو يحتال، فيُقِرَّ به لإنسان، فهل يُجاب المدعي والحالةُ هذه؟ اختلف أصحابنا: فقال الأكثرون: لا يُجاب، فإن الحجر ضرر عظيم في غير المشهود به، فلا سبيل إلى الإجابة إليه، ولا يتّجه عندنا إلا هذا. وقال

_ = المحقق على ضوء عبارة الغزالي في البسيط، حيث قال: " فهو فقير أنفقنا عليه من بيت مال المسلمين ". (1) في الأصل: " كان ". (2) ت 5: " أوجب ".

القاضي: إن كان يتوسم القاضي هذا في المشهود عليه بأن كان عرفه محتالاً خَصِيماً، فله أن يجيب، وإن لم يتوسم ذلك منه، لم يجب إليه، وهذا الذي ذكره من الحِكم التي لا نبني على أمثالها مسائلنا. وإذا ادعى على امرأة أنه تزوجها، وأقام شاهدين وتخلفت التزكية، [عزلنا] (1) المرأة ومنعناها من الانتشار، وفي الشاهد الواحد الخلاف. وذكر بعض أصحابنا وجها أنا [لا نعزلها] (2) إذا تخلفت التزكية بخلاف العبد؛ فإن الأصل في المرأة الحرية وتخلية السَّرْب (3). وهذا وجه ضعيف، والتمسك بالاحتياط للبُضع أولى. قال الصيدلاني: إذا رأينا تخليتها، فهل نأخذ منها كفيلاً ببدنها؟ فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التقريب. هكذا حكاه الصيدلاني. فصل قال: " وإذا قال لعبده: إن قُتلتُ، فأنت حرٌّ ... إلى آخره " (4). 12204 - إذا قال السيد لعبده: إن قُتلت فأنت حر، ثم قضى السيد نحبه، فشهد شاهدان أنه قُتل، وشهد شاهدان أنه مات حتف أنفه، فقد قال الشافعي: من جعل شاهدي القتل أولى، لأنها أثبتت زيادةَ علم -وهو قول أكثر المفتين- قال: عَتق العبد. ومن لم يجعل إحداهما أولى من الأخرى، قال: سقطت البينتان ولا عتق. فذكر قولين: أحدهما - ترجيح بينة القتل؛ من جهة اشتمالها على زيادة العلم؛ إذ

_ (1) في النسختين: عدّلنا، وهو تصحيف واضح، كما تصحفت في البسيط إلى: " عدلنا إلى المرأة "، والمثبت تقدير من المحقق، والحمد لله صدقتنا عبارة الرافعي، إذ قال: " وفى دعوى النكاح تعزل المرأة عند امرأة ثقة، وتمنع من الانتشار والخروج " (ر. الشرح الكبير: 13/ 54). (2) في النسختين: " لا نعدّلها ". (3) السَّرْب بفتح السين المشدّدة الطريق، ومنه يقال: خلِّ سَربه أي طريقه (المصباح والقاموس وفي المعجم الوسيط بكسر السين). (4) لم نصل إلى هذه العبارة في المختصر.

كل قتيل ميت، وليس كل ميت قتيلاً، فعلى هذا يَعتِق العبد. والقول الثاني - أن البيّنتين تتعارضان وتسقطان، ولا عتق، إذا حكمنا بالتهاتُر، وإن حكمنا باستعمال البينتين، فإحداهما تقتضي العتق. والأخرى تقتضي دوام الرق، فسيأتي أقوال استعمال البينتين. ويخرج [فيها] (1) قول القرعة بين البينتين، فإن خرجت عن بينة الموت رَقَّ العبد، وإن تكن الأخرى عَتق. ومن أقوال الاستعمال الوقفُ، وهذا لا يخرج هاهنا؛ فإنه لا منتهى له، وهو في التحقيق ضبط العبد، وتعطيل منفعته. وأما قول القسمة، فموجبه إن سبق إليه ذو مذهب أن يعتق النصف ويرق النصف. وفي مثل هذا كلام سيأتي مشروحاً في كتاب الدعاوي إن شاء الله تعالى. ومما ذكره الشافعي أنه لو قال لعبده سالم: " إن متُّ في شهر رمضان، فأنت حرّ " وقال لغانم: " إن مت في شوال، فأنت حرّ " ومات. وشهد لكل واحد شاهدان، فقد ذكر قولين: أحدهما - شاهدا الموت في رمضان أولى؛ لأن عندهما زيادة علم، وهو إثبات الموت في رمضان. والثاني - هما سواء. قال ابن سريج: بينة شوال أولى؛ لأنه قد يغمى عليه في رمضان، فيظن ظان أنه قد مات. فإن أمكن حمل الأمر على هذا، اقتضى ذلك ترجيحَ بينة شوال، ثم إن رجّحنا بينةً، قضينا بموجبها، ورددنا الأخرى، وإن حكمنا بتعارض البينتين وتساقطهما، فقد عتق أحد العبدين، وأشكل الأمر. ولو اتفق مثل ذلك، لم يخفَ الحكم في أن الرجوع إلى الورثة [أم] (2) كيف السبيل فيه؟ وهو بمثابة ما لو قال: إن كان الطائر غراباً، فسالم حرّ، وإن لم يكن غراباً، فغانم حرّ، ومر الطائر وأشكل الأمر، ومات المولى، وهذا مما تمهد في الطلاق. وغالب الظن أنه سيعود طرف منه في كتاب العتق إن شاء الله.

_ (1) في الأصل: " منها ". (2) زيادة من (ت 5).

فصل 12205 - شهادة الحسبة مقبولة في حدود الله. إذ لا مدّعي لها من الآدميين، وليست متعلقة بحظوظهم الخاصة. والمعني بشهادة الحسبة شهادةٌ من غير تقدم دعوى، والطلاق، والعتاق، وتحريم الرضاع يثبت بشهادة الحسبة، والوقف إن كان على جهة عامة يثبت بشهادة الحسبة، وإن كان على معيّنين، فإن قلنا: الملك في الرقبة لله تعالى - فالذي قطع به الصيدلاني أن شهادة الحسبة تقبل فيه من غير دعوى من الموقوف عليه، والذي ذهب إليه معظم الأصحاب خلاف ذلك؛ فإن الغالب على هذا الوقف حظوظٌ خاصة، متعلقة بأشخاص، فيبعد قبول شهادة الحسبة فيها. وتقبل شهادة الحسبة في الخلع ليثبت الفراق، لا ليثبت المال، ولا نقول: يثبت المال تبعاً إذا لم يفرض فيه دعوى، ولا يثبت [شراء] (1) الأب من غير دعوى، وإن كان عقَد عَتاقه، لأن المقصود منه التملك (2)، ثم العتق يترتب عليه، هكذا ذكره القاضي، وفي القلب منه شيء، وليس يبعد أن نقول: يثبت بشهادة الحسبة. والأوجه ما ذكره القاضي؛ فإن العوض رُكنٌ في المبيع، فلو أثبتناه، لأثبتنا العوض من غير دعوى، ولو أثبتنا العتق من غير مال، لكان إجحافاً، وليس كالخلع، فإن العوض غيرُ مقصود فيه، ولست أُبعد في الخلع ثبوتَ المال تبعاً، حتى لا يبطل حق الزوج بالكلية، ولا أبعد أن يثبت الطلاق ولا تثبت البينونة، كما لو خالع الرجل المحجورةَ بالسفه. ولو تقدم عبدان إلى القاضي، وقالا: أعتق السيد أحدنا، وأقاما البينة، قبلت البينة، وذلك لأن الدعوى وإن فسدت بالتردد، فالبينة مسموعة حِسْبةً مستغنية عن الدعوى.

_ (1) ت 5: " بشراء ". (2) المعنى أن عقد شراء الرجل لأبيه هل يثبت، بشهادة الحسبة؛ لأنه في حقيقته عقد عتاقة، فإن من اشترى أباه يعتق عليه، لا محالة.

وإذا شهد شاهدان أن المرأة ولدت الولد على فراش زوجها لستة أشهر فصاعداً، والزوج يقول: أتت به لأقل من ستة أشهر، قال الصيدلاني: تقبل البينة -وإن لم تدّع المرأة شيئاً- حسبةً. وذكر القاضي أن شهادة الحسبة لا تسمع في الأنساب، فإنها متعلقة بالحظوظ، وهذا يخالف ما ذكره الصيدلاني، والمسألة محتملة. ويخرج من مجموع ما ذكرناه أن ما يضاف إلى حق الله، فشهادة الحسبة فيها سائغة. وأعلى الدرجات في الحسبة ألا يفرض فيها دعوى. ومما يلتحق بها ماله تعلق بالحظوظ، ولكن حق الله غالب حتى لا يُدْرأ بالتراضي، كالعتق، وجهات التحريم، وهذه الأقسام من حيث ارتبطت بالحظوظ، اتجهت فيها الدعوى، والأنساب من حيث لا يتصور قطعها، وتأكَّد في الشرع تعظيمُها، ولكن عظمت الحظوظ فيها، فتردد الرأي كما ذكرنا. فرع: 12206 - إذا شهد للمدعي شاهدٌ على المدعى عليه أنه أخذ منه ثوباً قيمته دينار، وشهد شاهد آخر على أخذ ذلك الثوب، وقال قيمته نصف دينار، فإذا أراد المدعي أن يحلف مع شاهد الدينار، فهل يثبت الدينار؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يجوز له ذلك، كما لو شهد أحدهما أنه أخذ منه ديناراً، وشهد الثاني أنه أخذ منه نصف دينار، فله أن يحلف مع شاهد الدينار، ويطلبَه كاملاً. وكذلك إذا اختلفا في القيمة، والثاني ليس له إلا نصف دينار؛ فإن الشاهدين قد اختلفا في القيمة واجتمعا على ثوب واحد، وتناقض قولاهما فضعفت شهادة شاهد الدينار، ولم تصلح لتقوية جنبة المدعي، وليس كذلك إذا شهد أحدهما على أخذ دينار وشهد الثاني على أخذ نصف دينار، فإنه لا تناقض بين القولين. فرع: 12207 - إذا شهد شاهدان في عتق أو مال، ولم يعدّلا بعدُ، فللقاضي أن يوقع حيلولة إلى اتفاق التعديل، هذا هو المذهب الظاهر. وفيه شيء بعيد، لم أورده في القانونَ. ولو شهد شاهد واحد عَدْلٌ، ففي الوقف خلاف مشهور ذكرته؛ ولو كان ذلك

الشاهد مستوراً، ففي الوقف خلاف مرتب، وغرض الفرع أنا إذا وقفنا، والشاهد واحد، فلا نطيل الوقف، ولكن إن أتى بشاهد في مدة ثلاثة أيام، فذاك، وإن لم يأت بالشاهد الثاني في هذه المدة، رفعنا الحيلولة، ودفعنا المشهودَ به إلى المدعى عليه. فأما إذا شهد مستوران، وأوقعنا الحيلولة، فإنا نطيل الوقف، ولا نرفع الحيلولة، حتى تتحقق العدالة أو الجرح؛ فإن المدعي أتى بما عليه. والبحث على القاضي؛ فليس من الخصم تفريط؛ نعم على القاضي أن يجدّ ويستحث المزكي. فرع: 12208 - قال صاحب التقريب: لو اجتمع طائفة، فشهد اثنان منهم لاثنين منهم بوصية في تركة، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين بوصية في تلك التركة بعينها، قال الشافعي: لا تقبل شهادتهما، فإنهم متهمون. قال صاحب التقريب: كذلك لو كان لرجل ديون على طائفة من الغرماء، ولقوم عليهم ديون أيضاً، فتناوبوا في الشهادة على الصورة التي ذكرناها، فالشهادة مردودة. وعندي أن ما ذكره مشكل، والقياس القطع بقبول الشهادة، ومن أحكم الأصولَ، لم يخف عليه درك ما ذكرناه، ولم أر ما حكاه صاحب التقريب في شيء من الكتب. فرع: 12209 - قال صاحب التقريب: لا تقبل شهادة القسّام على القسمة، فإنه إنما يذكرها إذا انقضت. والقاسم بعد القسمة كالوكيل بعد العزل، وأيضاً فإن شهادته تتعلق بعين [فعله] (1)، وليس كشهادة المرضعة؛ فإن المقصود منها وصول اللبن إلى الجوف، لا صدر فعل من جهة المرضعة. فرع: 12210 - الأب هل يحبس في دين ولده؟ ما صار إليه معظم أئمتنا أنه لا يحبس، وكذلك القول في الجد والجدة والأم؛ فإنه لا يتوجه للابن عقوبة على أبيه، والحبس عقوبة، وهذا مذهب أبي حنيفة (2). وقال أبو زيد المروزي: من أصحابنا من قال إنه يحبس في دين ولده، قال: وهو

_ (1) في النسختين: فعل، والمثبت من تصرف المحقق. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 282 مسألة: 4/ 200.

القياس عندي؛ فإن الحبس ليس عقوبة مقصودة في نفسها، وإنما هو توسل إلى استيفاء حقٍّ. وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً - وهو اختيار صاحب التلخيص (1)، فقال: الأب يحبس في نفقة ولده إذا امتنع من الإنفاق عليه، ولا يحبس في غيره من الديون. ثم إذا قلنا: لا يحبس الأب، فلا سبيل إلى إبطال حق الولد، فمهما (2) أثبت الابن لأبيه مالاً، أخذه القاضي قهراً، وصرفه إلى دين الابن. ومما يداني ما نحن فيه، الاختلاف الذي قدمناه في أن العقوبة هل تثبت على الأب بشهادة الابن؟ واضطرب الأصحاب في أن الابن الجلاّد هل يقتل أباه حداً؟ والأصح أنه يقتله. والحبس من جملة ما ذكرناه أولى بالنفي. والله أعلم. ...

_ (1) ر. التلخيص: 655، 656. (2) فمهما: بمعنى: فإذا.

كتاب الدعوي والبينات

كتاب الدعوي والبينات 12211 - الأصل في الدعاوي (1) قوله صلى الله عليه وسلم: " لو أعطي الناس بدعاويهم، لادَّعى قوم دماء قوم وأموالَهم، لكن البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر " (2). وروي " واليمين على المدعى عليه ". وهذه قاعدة متفق عليها بين الأُمة، فإن وقع نزاع، فهو يؤول إلى نفس المدعي والمدعى عليه، على ما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله. واختلف العلماء في حد المدعي والمدعى عليه. فعند أبي حنيفة (3) المدعي من يُثبت الشيءَ لنفسه، والمدعى عليه من ينفيه عن غيره. وذكر أصحابنا جوابين في ذلك: أحدهما - أن المدعي من يدعي أمراً باطناً [خفيّاً] (4) والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً جلياً، والثاني أن المدعي من إذا سكت، يترك والسكوت، والمدعى عليه من إذا سكت، لم يترك. وأثر هذا التردد مأخوذ من قولين، والفرع والأصل متداخلان، كل واحد منهما ملتف بالثاني، فما ذكرناه إذاً أصل مأخوذ من ثمرته وفائدتِه، والقولان فيه إذا أسلم الزوجان قبل الدخول، فإن أسلما معاً، فهما على النكاح، وإن ترتبا في الإسلام، بطل النكاح، فلو اختلفا؛ فقالت المرأة: أسلم أحدنا قبل الآخر؛ وقال الزوج، بل أسلمنا معاً، ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول الرجل؛ فإن المرأة لو سكتت تركت، واستمر النكاح، فهي مدعية، والزوج لو سكت، لم يترك إذا ادعت المرأة.

_ (1) الدعوى: تجمع على دعاوَى، ودعاوٍ، مثل فتاوى وفتاوٍ (المصباح والمعجم). (2) حديث " لو أُعطي الناس بدعاويهم .. " سبق تخريجه في باب اختلاف الحكام والشهادات. (3) ر. بدائع الصنائع: 6/ 224، تحفة الفقهاء: 3/ 181، مختصر الطحاوي، الحاشية رقم (3) ص 351، روضة القضاء: 1/ 165، 166. (4) زيادة من (ت 5).

فعلى هذا القول " المدعي: من إذا سكت، يترك، والمدعى عليه من إذا سكت، لم يترك ". والقول الثاني - القول قول المرأة، لأنها تدعي أمراً ظاهراً، وهو ترتب الإسلام؛ فإن إسلامهما معاً يندر، ولا يتفق وقوعه، فعلى هذا؛ المدعي من يدعي أمراً باطناً، والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً. ثم أخذ الإصطخري هذا المسلك في الظهور والخفاء، فردّ دعاوى قبلها كافة الأصحاب، وقال: إذا ادعى رجل من السُّفَّل (1) معاملةَ رجل عظيم القدر في أمر يبعد وقوعه، قال: دعواه مردودة، وهذا كما إذا ادعى الرجل الخسيس أنه أقرض ملكاً مالاً، أو نكح ابنته، أو استأجره لسياسة دوابه، أو ما جرى هذا المجرى، فهذا مردود. والذي ذكره لا تعويل عليه، ولا يسوغ في الدين تشويش القواعد بأمثال هذه الوساوس، ومثل هذا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: " لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ... الحديث ". ووجه التعلق به أن الذي حاذره الرسول صلى الله عليه وسلم ثبوت الدعوى من غير صحة، وأما رد الدعاوي لرعونات الأنفس، فلا سبيل إليه، ثم ما ذكره الإصطخري ردُّ دعوى بظن، وإنما الذي كنا فيه تعيين المدعي والمدعى عليه، وذلك يتعلق بأمارات تغلب على الظنون. فإن قيل: المودع إذا ادعى رد الوديعة، فليس يدعي أمراً جلياً، فلِمَ جعلتم القول قوله، وأحللتموه محل المدعى عليه مذهباً واحداً. قلنا: إذا ضبطنا المدعى علية بمن لو سكت، لم يترك، لم ينخرم الضبط بمسألة المودَع. وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفياً، فسبيل تخريج المودع على ذلك أن الإيداع ائتمان، وحكم الأمانة ثابت شرعاً للمودَع ولا معترض على الشرع، فإذا أنكر المودع الردَّ، فكأنه يُضمِّنه، والأصل أن الأمانة الثابتة لا تزول، وهذا ظاهر الرد، وهو في دعوى التلف أظهر؛ فإن دعوى التلف مسموعة من الغاصب في الرأي الأظهر، وإذا ثبت التلف وحكم الوديعة الائتمان، فلا ضمان.

_ (1) السُّفَّل: جمع سافل (المعجم).

12212 - ولنا نظر وبحث في المدعي والمدعى عليه نذكره بعد نجاز قاعدةٍ نمهدها. فنقول: التداعي يفرض على ثلاثة أوجه: أحدها - أن يكون جارياً بين صاحب يد وبين من لا يد له، وصاحب اليد يسمى في اصطلاح الفقهاء الداخل، ومن لا يد له يسمى الخارج بالإضافة إلى الداخل. والوجه الثاني - فرض التداعي بين اثنين في عينٍ تحت أيديهما على الاشتراك. والثالث - فرض دعويين على التناقض من خارجين على صاحب يد، وذلك إذا ادعى رجلان ملكَ دار، كل واحد منهما يدعيها لنفسه. وإذا نحن مهدنا قواعد الكتاب في هذه الأقسام، كنا مقيمين رسمَنا في تمهيد قاعدة كل كتاب في أوله. [القسم الأول] (1) 12213 - فنبدأ بالتداعي من الداخل والخارج، فإذا ادعى رجل داراً هي في يد رجل، فأنكر صاحب اليد دعوى المدعي فالخارج في مقام المدعين، وصاحب اليد سماه الفقهاء مدعىً عليه، فالخصومة لا تخلو: إما أن تكون عريةً عن البينة، وإما أن تفرض فيها بيّنة، فإن لم تكن بينة، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه. وإنما صدقه الشرع لقوة جانبه، وظهورِ صدقه؛ إذ اليدُ عاضدة فلما رجَّحتْ جَنْبَتَه، قدمه الشرع، ثم لم يكتف باعتضاده باليد، بل ألزمه اليمينَ إن أراد دفعَ الدعوى، وصاحب اليد حيث لا بينة بمثابة المدعى عليه في الدين إذا كان ينكره، فالقول قوله لاستمساكه بأصل براءة الذمة، واليد عند المحصلين أظهر وأقوى، وأولى بالتقوية من الاستمساك ببراءة الذمة؛ فإن اليدَ علامةٌ على الاختصاص، إن لم تكن دالة على الملك بمجردها، وليس للمدعى عليه في الدين دلالة على براءة الذمة، وإنما تعلقه باستصحاب حال - وهو أوهى المتعلقات، إذا سُبرت الأمارات، وخُبرت العلامات.

_ (1) سمّى الإمام صورَ التداعي أوجهاً، وعاد وسماها أقساماً، فوضعنا هذا العنوان عملاً بما استقرّ عليه تلقيب الإمام.

ولسنا نخوض في صيغة يمين صاحب اليد؛ فإنا سنعقد في كيفية الأيمان فصلاً جامعاً، إن شاء الله. هذا إذا لم تكن بينة. 12214 - فإن اشتملت الخصومة على البينة، لم تخل إما أن يختص المدعي بالبينة، وإما أن يقيم صاحب اليد بينة أيضاً مع بينة المدعي، وإما أن يجد صاحب اليد بينة دون المدعي الخارج. فأما إذا أقام المدعي بينة، ولم يعارضه المدعى عليه، فالبينة مقضيّ بها، لا تعارضها يمين صاحب اليد؛ وذلك لأن اليمين وإن كانت حجة؛ فإنها تأتي من قِبل المدعى عليه، وهي قوله، وإن كان مؤكداً بذكر اسم الله تعالى، وبينة المدعي ثابتة من قِبل غيره، ولا حاجة إلى التكلف في تقرير هذا. ولو وجد (1) المدعى عليه بينة، وأراد إقامتها، نُظر: فإن حاول إقامتها قبل أن يقيم المدعي بينة، فالمذهب الظاهر أنها لا تُسمع منه؛ فإنا في فصل الخصومات نستمسك بأقرب الطرق وأهونِها، والتحليف أقرب من البينة المُحْوِجة إلى رد النظر إلى الجرح والتعديل، والقواعدِ المرعية في الشهادات، فلا حاجة إذاً إلى إقامة البينة. وخرّج ابن سريج قولاً آخر أن بيّنته مسموعة، فإنه لو لم يُقمها، يحلف، فينبغي أن يسوغ له إقامة البينة، ليستغني عن اليمين، وهذا كالمودَع إذا ادعى التلف أو الرد، فالقول قوله مع يمينه، فلو أراد أن يقيم البينة، جاز له ذلك، ليتسبب إلى إسقاط اليمين عن نفسه، وأيضاً فإن الحالف معرَّضٌ للتهمة. وقد تتطرق إليه المطاعن؛ والبينة العادلة تقطع التهم. فإن قيل: لم قطعتم بقبول بينة المودَع، وظاهر المذهب أن بينة صاحب اليد لا تُسمع قبل قيام بينة المدعي، فما الفرق؟ قلنا: الذي يقتضيه مقام صاحب اليد في الخصومة الإنكار والنفي، فأما دعوى الملك، فلا حاجة به إليه، وهو صاحب اليد، والمستقل بما تحويه يده، وأما المودَع وإن كان مؤتمناً، فهو في منصب المدعين إذا

_ (1) ت 5: " وجه ".

ادعى ابتداءَ ردِّ أو تجددَ تلفٍ، فإن الملك في الوديعة ثابت للمودِع، غير أن مقامه في الائتمان صدقه فيما هو مدعٍ فيه، والبينة تليق بحال المدعين، وهذا ظاهر لمن تأمل في الفرق بين القاعدتين. ولو أقام المدعي البينة العادلة، ولم يبق إلا طلب القضاء بموجبها، فللمدعى عليه الآن أن يقيم البينة على إثبات ملك نفسه فيما في يده. ولو أقام المدعي البينة، ولم تعدَّل بعدُ، فهل للمدعى عليه أن يقيم البينة قبل تعديل بينة المدعي، فعلى وجهين مرتبين على الخلاف المقدم فيه إذا أراد إقامة البتنة قبل أن يقيم المدعي البينة، ولا يخفى وجه الترتيب والفرق. 12215 - ولو لم تتوجه دعوى على إنسان، فاراد أن يقيم بينة على ما في يده ليسجل القاضي له بالملك، فالمذهب الذي عليه التعويل أن القاضي لا يُصغي إلى بينته على هذا الوجه؛ فإن البيّنة تسمع في خصومة، ولا خصومة في هذه الصورة. وأبعد بعض أصحابنا، فسوّغ سماع بينته للتسجيل له بالملك؛ فإن اليد المجردة لا تدل على الملك. 12216 - ونحن نذكر من هذا المنتهى ما وعدناه في تحقيق المدعي والمدعى عليه، فنقول: قد ذكر أصحابنا أن المدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً، وهذا الكلام فيه مجازفة وتساهل، فإن المدعي في حكم اللسان، بل في قضية المعقول من يطلب أمراً ويدعيه، والمدعى عليه من ترتبط الدعوى به، وهو ينكرها ويأباها، فيخرج [منه] (1) أن المدعى عليه لا يتصور أن يقيم البينة من وجه كونه مدعىً عليه؛ فإنه منكِر نافٍ، ولا تقوّم البينة على النفي. وهذا يتلقاه الفطن من فحوى الكلام النبوي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " معناه من نفى الدعوى ورُوي بدل " من أنكر " " واليمين على المدعى عليه "، فالمدعى عليه من أنكر.

_ (1) في الأصل: " فيه ".

ولكن إذا قامت بينة المدعي، فلصاحب اليد أن ينتصب مدعياً، فيكون مع الخارج متداعيين، ويقيم البينة من وجه ادّعائه للملك، ثم سيأتي الكلام في مقتضى البينتين. ومن ادُعي عليه دين، فليس له إلا مقام المنكرين؛ إذ لا يتمكن من إثبات، فلما تجرد فيه مقام المدعى عليه، لم تقم البينة. وأبو حنيفة لم يسمع بينة المدعى عليه بناء على مقامه، ولم يعلم أن الدعوى يتصور صدورها منه؛ فإن اليد لا تنافي نسبة الملك إلى نفسه. فآل حاصل الكلام: أن الشافعي أثبت لصاحب اليد مقام المدعين ليقيم البينة. فهذا القدر هو الذي يليق بهذا الموقف. وإذا أقام المدعي البينة وعُدلت، فالمدعى عليه إن وجد بينة أقامها، والمذهب الظاهر أنه يكفيه إقامة البينة على الملك المطلق كما أقامها المدعي. وذهب بعض الضعفة من أصحابنا إلى أن المدعي إذا أقام بيّنة على الملك المطلق، لم تسمع من المدعى عليه البينة على الملك المطلق، بل عليه أن يذكر سبب ملكه، ويجب أن تشتمل بينته عليه، وإنما قال هؤلاء ما قالوه لسؤالٍ ارتاعوا منه، لما قيل: بينة صاحب اليد تعتمد ظاهر يده، فكأنها لا تدل على أكثر مما تدل اليد عليه، فحسبوا الكلام واقعاً، وقالوا: يجب أن يقيم صاحب اليد بينةً، ويسند ملكه إلى سببٍ غير اليد. وهذا ليس بشيء، والمذهب القطع بأن ذلك ليس بشرط، ولو لم يحكِ القاضي هذا الوجه لما حكيته. 12217 - ثم إذا تعارضت البينتان من الخارج والداخل، فتحقيق القول فيهما يقتضي استعجالَ كلام من القسم الثالث، فإذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث، ادعاها كل واحد منهما لنفسه، وأقام على وفق دعواه شاهدين، ففي المسألة قولان في الأصل: أحدهما - أن البينتين تتهاتران وتسقطان، والقول الثاني - إنهما تستعملان. ثم في كيفية الاستعمال -على قول الاستعمال- ثلاثة أقوال: أحدها - القرعة. والثاني

- القسمة. والثالث - الوقف. وسيأتي تحقيق ذلك في القسم الثالث، إن شاء الله تعالى. فنقول في الخارج والداخل: إن حكمنا بتهاتر البينتين في حق المدعيين على ثالث، فهاهنا وجهان: أحدهما - سقوط البينتين على قياس التهاتر، فكأن لا بينة، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. والوجه الثاني - أنا لا نحكم بالتهاتر هاهنا، وإن حكمنا به ثَمَّ، فإن بينة صاحب اليد مترجحة بيده، وإنما يتحقق التساقط عند التساوي، فهذا ترجيح بينة على بينة، وهو كتقديمنا رواية كبير معظّم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على رواية [عدد] (1) من آحاد الصحابة. وإذا ادعى رجلان على ثالث، فلا ترجح لأحدهما على الثاني، هذا إذا فرّعنا على قول التهاتر. وإن فرّعنا في القسم الثالث على قول الاستعمال، فثم ثلاثة أقوال، لا يجري منها قولهٌ في الخارج والداخل، لا الوقف، ولا القرعة، ولا القسمة، وإنما يجري هاهنا هذا الترجيح باليد فحسب. غير أنا إذا فرعنا على قول القرعة، فمن خرجت له القرعة، فهل يحلف مع القرعة؟ فيه وجهان، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، فاختصاص الداخل باليد هل يكون كخروج القرعة؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: نُجري الوجهين في التحليف، كما أجريناهما في قول القرعة. ومنهم من قطع أن لا تحليف هاهنا، فإن هذا اختصاص ثابت، والقرعة وفاق، ولو أديرت لما ميّزت ظالماً من مظلوم؛ فيجب التثبت لأمرٍ الآن. وهو أنا نحلّف الداخل مع البينة في التفاريع على وجهين: قد نحلّفه على قول التهاتر لإسقاط البينتين، واعتقاد أن الخصومة خليّة عن البيّنة، وقد نحلّفه للترجيح. كما ذكرنا في تحليف من خرجت عليه القرعة.

_ (1) في النسختين " عدل " والمثبت من تصرف المحقق؛ فإن الصحابة كلهم عدول -رضي الله عنهم جميعاً- وللإمام في البرهان (فقرة 1203) كلام في مثل هذا المسلك من الترجيح بين الأدلة حيث قال: " الغالب على الظن أن الصِّدِّيق رضي الله عنه لو روى خبراً، وروى جمع على خلافه خبراً، لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق ".

ثم سرّ هذا الفصل أنه إذا كان يحلف لاعتقاد خلو الواقعة عن البينة، حلف على النفي، وإذا كان يحلف لترجيح بينته حلف على إثبات الملك، كما يحلف من خرجت له القرعة. ونقول بعد ذلك: بينة المدعى عليه في مسلك بعض الأئمة مُثبتةٌ له ملكاً، وعلى هذا الوجه انتهى التفريع إلى سماع بينته أولاً، وهي عند بعض الأئمة قادحة في بينة المدعي بالمعارضة والمناقضة، وليست [مفيدةً] (1) ملكاً. وقد انتهى هذا الطرف من الكلام، وحان أن نأخذ في طرف آخر من هذا القسم (2)، فنقول: 12218 - إذا أقام المدعي بينة عادلة، ولم يتمكن المدعى عليه من إقامة بينته، فأزال القاضي يده، وسلّم العين المدعاة إلى المدعي، فلو جاء المدعى عليه ببينته، وقال: أحضرت بينتي؛ فهل يسمعها؟ وكيف الطريق فيها؟ فعلى وجهين، ذكرهما القاضي، وقال: أظهرهما - أن البينة لا تُسمع، لأنا نفضنا يده، وأجرينا القضاء به، فلو قبلنا بينته، لكان ذلك نقضاً للقضاء السابق، إلا أن يقيم البينة على تملك من جهة المدعي، الذي هو صاحب اليد الآن. هذا وجه. وعليه بحث سنذكره. والوجه الثاني - نسمع بينته؛ لأنها تستند إلى يده ونقضي له، كما كان يقضى له لو أقام البينة ويده بعدُ قائمة دائمة؛ فإن يد المدعي ترتبت على يده في ظاهر الأمر. وهذان الوجهان مبهمان، ونحن نوضحهما بالبحث والتفريع. فأما الوجه الأول - الذي رآه القاضي أظهرَ الوجهين - ففيه شيء، وهو أنه قال: ينبغي أن يقيم بينةً على تلقي الملك من المدعي، وهذا فيه نظر؛ فإنه لو أقام بينة على تلقي الملك من سبب آخر، وجب قبول بينته. وإنما لا نقبل بينته إذا لم يذكر سبباً أصلاً، واقتصر على ادعاء الملك المطلق، فلا معنى لاشتراط التلقي من هذا المدعي، وحاصل هذا الوجه أن البينة المطلقة كانت تسمع من هذا الشخص في حال دوام يده، على المذهب الظاهر، وإذا أزيلت يده، فجاء ببيّنة مطلقة، فقد لا تُسمع، والبحث بعدُ قائم.

_ (1) في الأصل: " مفسدة ". (2) يعني القسمَ الأول من أقسام التداعي، وهو أن يجري بين صاحب يد ومن لا يدَ له، وُيعبّر عنه أيضاً بين الداخل والخارج.

فأما إذا فرّعنا على الوجه الثاني - فشرطُ (1) سماع بينة المدعى عليه -إن أراد الفوز بالاسترداد- أن يُسند ببينته الملكَ إلى حال قيام يده، ثم بديمومته له في حالة الدعوى. فلو أقام البينة على الملك المطلق حالة الدعوى، لم تفده هذه البينة تقديماً، وسلطنة في استرداد ما أخرج من يده، فلو لم تتعرض بينته [لإسنادٍ] (2)، وإنما تعرضت للملك بحالة الدعوى، فهذا رجل خارجي ابتدأ الدعوى وأقام بينة. 12219 - وننعطف من هذا المقام إلى إتمام البحث الذي وعدناه، فنقول: إن أقام بينة مستندة إلى حالة اليد، فهذه البينة هي التي ردّها الأولون؛ فإنا لو قبلناها، لنقضنا حكمنا، حتى لو ادعى ملكاً مطلقاً غيرَ مستند، فخارجيٌّ ادعى، والسبيل في فصل الخصومة بيّن، وانتظم من مجموع ذلك أن البينة المطلقة التي ليست مستندة مسموعة، على الوجهين، ولو كانت مستندة، فهي مردودة في الوجه الأول، مقبولة في الثاني مقدمة. هذا تمام الكشف في ذلك. ولو أقام المدعي بينة على الملك المطلق، وأقام صاحب اليد بينة على أن الدار ملكُه اشتراها من المدعي، فقد قال الصيدلاني: صاحب اليد أولى في هذه الصورة. وقال القاضي: إذا أقام صاحب اليد البينة على هذا الوجه، قلنا له: أقررت للمدعي بالملك، فسلّم إليه، ثم ادّع البيع ابتداء. وهذا الخلاف يرجع إلى أصل شبّب به القاضي مراراً، وصزح مراراً في الديون، وأوضح مراده في دعوى العين هاهنا. ونحن نذكر هذا الغرض موضَّحاً في الدين، ثم نقرره في دعوى العين، إن شاء الله. فأما الكلام في الدين؛ فإذا ادعى رجل ألف درهم على رجل، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذا الألف، فدعوى الإبراء منه إقرارٌ بأصل الحق، فلو أراد أن يُحلّف المدعي على نفي البراءة، فلا شك أن له ذلك؛ فإن دعوى الإبراء دعوى منتظمة مسموعة، وترتيب الخصومة إسعاف المدعي بتحليف المدعى عليه، ولكن لو قال

_ (1) ت 5: " فيشترط ". (2) في الأصل: " لاستناد "، والمثبت من (ت 5).

المدعى عليه (1)؛ قد اقررتَ بحقي، فأدّه وسلّمه إليّ، ثم ادعّ ما شئت. فقال المدعى عليه: لا تستحق قبض شيء ما لم تحلف على نفي البراءة، فإن استحقاقك موقوف على نفي البراءة. فالذي ذهب إليه الأصحاب أن المدعي لا يملك المطالبة بتوفية الحق ما لم يخرج عن عهدة دعوى الإبراء؛ بأن يحلف على نفيه. وقال القاضي: له أن يلزمه المال قائلاً: قد انتهت الخصومة الأولى بإقرارك، ولزمك توفية ما ثبت عليك، فوفّني حقي، ثم افتتح خصومة تريدها. ولا خلاف أن المخاصِم لو كان وكيلاً، وكان الموكِّل غائباً، فادعي خصم الوكيل أن موكّله قبض الحق منه، ولا سبيل إلى تحليف الوكيل، فالخصومة لا تتوقف إلى حضور الموكل من مكانه الشاسع. هذا وجه التردد في الدّين. فأما الكلام في دعوى العين، فإذا أراد المدعى عليه أن يقيم بينة على أنه اشتراها من المدعي، فللمدعي أن يقول عند القاضي: أزل يدك وردّ الدار إليّ، ثم ادّع الشراء وأثبته، وعلى هذا الأصل خرج جوابه. وعند الصيدلاني وغيرِه: إذا حضرت البينةُ لم نُزل يدَه، فإن استحقاق المدعي في الحال لا يتحقق مع تقدم شراءٍ منه، فهذا مقام يجب التنبه له. ولو قال المدعى عليه: اشتريت هذه الدارَ منك، وفرّعنا على ما ذكره الصيدلاني من أن بينة الشراء لو كانت حاضرةً، لسمعناها، ولا نبتدر يدَه بالإزالة. فعلى هذا لو قال: لا تزيلوا يدي وأمهلوني ثلاثة أيام لأقيم بينةً على الشراء، فلا نمهله بلا خلاف، إذا أقام المدعي بينة على الملك المطلق. 12220 - ومن الأصول الجلية التي لا تخفى على الشادين لو ذكرت لهم، وهى تثير في مجاري الكلام إشكالاً، أن من أقر لإنسان بملك مطلق، أو بملك مترتب على سبب، مثل أن يقول: كانت الدار ملكي، فبعتها من فلان بيعاً صحيحاً، فإذا صح الإقرار، فحكمه مستمر على طوال الأمد، ومهما ادعى المقر الملكَ في ذلك المقرّ

_ (1) المراد (المدّعي الأول) ولكن سمي مدَّعىً عليه، لأنه ادّعى عليه أنه أبرأه، فمن هنا صح قوله: " قال المدعى عليه: أقررتَ بحقي ".

به، قام إقراره حجة عليه، وكان مؤاخذاً به. وإن كان لا يمتنع أن يتجدد له الملك في ذلك المقَر به. ولولا هذا الأصل المتفق عليه، لما كان في الأقارير حجةٌ، ومتعلَّقٌ، على ما رآه الأولون، فإذاً مهما ادعى المقِر ملكاً، فدعواه مردودة، إلا أن يسنده إلى التلقي من المقَر له، أو يسنده إلى التلقي ممن تلقى منه. ولو ادعى رجل ملكاً في يد إنسان، وأقام بينة على ملك نفسه، ووقع القضاء بموجَب بينتِه له، فلو جاء المدعى عليه -بعد زوال يده، والقضاء بالملك للمدعي- وادعى أن هذه الدار ملكي، فقد تلقيت من كلام الأصحاب في هذا تردداً في أن دعواه المطلقة هل تسمع؟ وليقع الفرض فيه إذا لم تكن له بينة. فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الدعوى على الإطلاق مسموعة هاهنا بتأويل التلقي، وإن لم يذكره. ومنهم من قال: لا بد وأن يذكر في دعواه تلقي الملك ممن قامت له بينة، كما ذْكرناه في الإقرار، ومن سلك المسلك الأول فرّق بأن المقر مؤاخذ بحكم قول نفسه، والبينة لم تشهد إلا على الملك في الحال، فلم ينبسط أثرها على الاستقبال. وهذا الذي ذكرنا، في المدعى عليه. فأما إذا جاء أجنبي وادعى ملك الدار مطلقاً، فدعواه مسموعة، وإن قامت البينة بالملك للمدعي من قَبْلُ، وتلك البينة موجبها انتفاء الملك عن الناس كافة دون المدعي! فليتأمل الناظر هذا الموضع. فرع: 12221 - إذا أقام المدعي بينة، وقضى القاضي بها، ولم يُزِل بعدُ يدَ المدعى عليه حسّاً، ولكن قضى باستحقاق إزالتها، فلو أراد صاحب اليد أن يقيم بينة بعد نفوذ القضاء باستحقاق يده؛ فهذا مرتب على ما إذا أزال يده، ثم أراد أن يقيم البينة كما تقدم تفصيله، فإن قلنا: بينته مسموعة بعد إزالة يده حساً، فلأن تسمع حيث لم تزل يده بعدُ أولى. وإن قلنا: إذا أزيلت يده، لم تسمع بينته مستندة إلى يده، فهل تسمع إذا جرى القضاء ولم تزل اليد بعدُ؟ فعلى وجهين، والفرق لائح. وقد نجز مقدار غرضنا في القسم الأول (1).

_ (1) القسم الأول من أقسام التداعي.

[القسم الثاني] (1) 12222 - فأما إذا تعلق التداعي برجلين في عينِ تحت أيديهما، وذلك إذا تنازعا داراً في يدهما، فقال كل واحد منهما جميع الدار لي، فتنزيل المسألة من طريق التصوير أن كل واحد منهما مدعىً عليه في نصف الدار مدع في نصفها؛ فإن يد كل واحد منهما ثابتة على نصف الدار، فأول ما نذكره بعد التصوير أنه إذا لم يكن لهما بينة، فلا شك أنهما يتحالفان. ونص الشافعي في الكبير أنه يحلف كل واحد منهما على النفي. ولا يجمع في يمينه بين النفي والإثبات في أول الأمر، ونَصَّ في البيع على أن المتبايعين إذا تبايعا، وتنازعا، وتحالفا، يجمع كل واحد منهما بين النفي والإثبات؛ فاختلف أصحابنا: فمنهم من جعل في المسألتين قولين بالنقل والتخريج: أحدهما - أنه يجمع كل واحد في يمينه بين النفي والإثبات. والثاني - يحلف على النفي فيهما. ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وفرّق بأن قال: في البيع مُثبَتُه في ضِمْنِ منفيِّه ضرورةَ؛ لاتفاقهما على أن العقد واحد. وفي مسألة الدار ليس المثبت في ضمن المنفيّ، لأنه إذا نفى ما في يده عن صاحبه، لم يصر به مثبتاً ما في يد صاحبه لنفسه. وإن شئت عبرت عن هذا بعبارة أخرى، وقلت: في البيع ما هو مدعىً فيه غير ممتاز عما هو مدعىً عليه فيه؛ إذ العقد واحد. وفي مسألة الدار ما هو مدعىً فيه يمتاز عما هو مدعىً عليه فيه؛ فإن النصف الذي يدعيه غيرُ النصف الذي يُدّعى عليه. ومن هذا الموضع نقول: ما يتعلق بتحالف المتبايعين، فلسنا نخوضُ فيه؛ فإنه مستقصىَ في كتاب البيع. وإنما نذكر ما يتعلق بتنازع المتداعيين في الدار، وقد حصل طريقان: أحدهما - القطع بأنهما إذا تداعيا، لم نحلّف واحداً منهما ابتداء إلا على النفي، ثم سنفرع ما يؤدي إليه الكلام. والطريقة الثانية: أن المسألة على قولين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - إن كل واحد منهما يحلف على النفي والإثبات يجمع بينهما في يمين واحدة. والأصح القطع بالاقتصار على النفي.

_ (1) العنوان من وضع المحقق اتباعاً لتقسيم الإمام وتلقيبه.

التفريع عليه: 12223 - إذا أخذنا بالتحليف، وبدأنا بأحدهما باختيار القاضي، أو بالقرعة -وفيه اختلاف ذكرته في كتاب البيع- فيحلّفه على النفي فيما هو تحت يده، ينفي عنه دعوى صاحبه، ولا ينبغي أن ينفي ملكه عن جميع الدار؛ فإنه مدعٍ في نصفٍ، والمدعي لا يحلف على النفي، فإن حلف، ونفى دعوى صاحبه في النصف الذي في يده، وحلفناه صاحبه، فحلف على هذا الوجه، فَيُقَرُّ كل واحد على نصف الدار. وإن حلفنا الأول، فحلف على النفي وحلّفنا الثاني، فنكل، رددنا اليمين على الأول، فيحلف الآن على إثبات الملك في النصف الذي هو في يد صاحبه، وهذا مثار إشكال نوضحه بسؤال، ثم نستعين بالله ونجيب عنه. فإن قيل: كيف تخصص يمينه بالنصف الذي في يد صاحبه؟ وهذا على الشيوع لا يتصور التعيين فيه؟ فأي اختصاص ليمينه بأحد النصفين؟ وكيف يتميز نصف عن نصف؟ ثم كيف يستحق جميع الدار بيمينٍ على نصفها؟ ولو قلنا: يحلف على جميع الدار، لكان حالفاً على الإثبات فيما هو مدعىً عليه فيه؟ قلنا: يمين الرد تُثبت ما كان ينفيه المستحلَف لو حلف على النفي، فإذا لم يحلف ونكل (1)، جاء المردود عليه بإثبات ما كان ينفيه، ومعلوم أنه كان لا ينفي إلا النصف الذي هو صاحب اليد فيه؛ فيقع الرد في النصف؛ وتثبت الدار في يد المردود عليه على حكمين، نصفها بحكم الملك المتلقى من يمين الرد، وهي كَبيِّنةٍ أو إقرارٍ، ونصفها بحكم اليد المستقرة؛ فإنه حلف فيها نافياً دعوى صاحبه، فانقطع خصامه فيه، إلا أن يجد بينة. فإن قيل: لو وجد بينة فيما نكل فيه، لكان يقضى له أيضاً؟ قلنا: أولاً، ليس الأمر كذلك، فإنا إذا جعلنا يمين الرد بمثابة الإقرار من المدعى عليه، فقد نقول: لا نسمع بينة المدعى عليه، ثم هذا لا يقدح في غرضنا؛ فإن ما جرى فيه يمين الرد،

_ (1) ت 5: " إذا لم يحلف، ولكن جاء المردود عليه ... إلخ ".

فقد صار ملكاً، والخصومة بين الشخصين، والمراد به أنه صار ملكاً لهذا في حق ذاك. فإن قيل: إذا كان يحلف على النصف، فكيف صيغته؟ قلنا: يقول: بالله إن النصف الذي في يدك ملكي. وهذا على هذا الوجه متحقق، وكذلك يشتري الإنسان الجزء الشائع في يد إنسان، فإن الدار المشتركة بين شريكين إذا أراد أحدهما بيع نصيبه، فالمشتري يقول: اشتريت منك نصفك، فكما ينسب النصف إلى ملك الشريك، ينسب النصف إلى يد الشريك، وقد نطيل الكلام إذا أعضل شيء، وأعلمُ أنه لا يتبرم به طالب الحقيقة. ولو عرضنا اليمين على أحدهما أولاً، فنكل، وقد جرى التداعي بينهما، فنحلّف الثاني على النفي والإثبات جميعاً، وإذا نفى وأثبت وحلف عليهما، فقد أطلق الأصحاب أن الملك يثبت له في جميع الدار، وهذا إنما أطلقة من لم يغُصْ. والوجه أن نقول: يمين الرد تجري في نصف الدار على الإثبات، ويمين النفي تجري في نصفها، ولا حاجة فيما هو يمين الرد إلى استدعاء الخصم والتماسه، بل يكفي فيها نكوله، فأما يمين النفي في النصف الآخر، فلا سبيل إلى عرضها ما لم يطلبها الخصم؛ فإنها حقه؛ فتبين أن اليمين إن كانت واحدة يجب أن تكون مطلوبة من وجه، ويجوز ألا تطلب من وجه، كما نبهنا عليه. وإذا حصلت الإحاطة بما ذكرناه، فلو قال المردود عليه: بالله إن هذه الدار لي وليس لصاحبي هذا فيها حق ولا ملك، فلا يضر إضافة النفي والإثبات إلى جميع الدار؛ فإن اللفظ على هذا الوجه أجمع وأحوى للغرض. ولو أراد أن يقول: بالله إن النصف الذي في يد صاحبي لي، ولا حق له ولا ملك في النصف الذي هو في يدي، لكان جائزاً على الأصل الذي مهدناه. ثم إذا نكل الأول، وأردنا تحليف الثاني؛ أيكتفى بيمين واحدة، أم لا بد من يمينين؟ فعلى وجهين: أقيسهما - تعدد اليمين لتعدد المقصود وتغايرهما، بل لاختلافهما؛ فإنه في البعض مدعىً عليه، وفي البعض مردود عليه، وهما في التحقيق خصومتان.

ومن أصحابنا من قال: تكفي اليمين الواحدة إذا وقع التداعي بينهما على الجمع، وطلبُ الاختصار قاعدةُ فصل الخصومات. وقد نجز ما أردنا فيه إذا تداعيا داراً قارّة في أيديهما، ولا بينة في الخصومة. 12224 - فأما إذا كان في الواقعة بينة، فلا يخلو: إما أن يكون لأحدهما بينة، وإما أن يكون لكل واحد منهما بينة على وفق دعواه. فأما إذا كان لأحدهما بينة وأقامها، جرى القضاء بها، ولكن في المسألة شيء يجب التنبه له؛ وهو أن صاحب البينة قد أقامها في النصف الذي في يده ابتداء -قَبل أنْ قامت عليه بينة من المدعي- وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن بينة ذي اليد لا تسمع ابتداء إذا لم يكن للمدعي بينة. ثم قال القاضي: الأمر وإن كان كذلك، فقد شهدت له البينة بالنصف الذي يدعيه، وجرت البينة على الترتيب فيه. والنصف الثاني دخل في الشهادة على طريق التبع، فتساهل الأصحاب في قبولها، وهذا الذي ذكره فيه احتمال بيّن، فلا وجه لإتباع النصفِ النصفَ، وكل نصف مقصود في نفسه، [يجب رعاية قياس] (1) الخصومة فيه، ولعل المعنى الذي يسوّغ سماع البينة كما ذكره القاضي أن عبارة الشهود تضطرب لو خصصوا شهاداتهم بأحد النصفين [على] (2) التمييز مع تحقق الشيوع. وفي المسألة احتمال لائح (3). 12225 - وإن كان لكل واحد منهما بينة، فأقام كل بينتَه، لم تؤثر البينتان في تغيير ما كانا عليه قبل الخصام، بل كل واحد على نصف الدار، غير أنهما كانا على ظاهر اليد، وقد ثبت الملك لكل واحد منهما في النصف. قال القاضي: يجب أن يقال: من أقام البينةَ ابتداء منهما يقيم البينة في النصف الذي يدعي عليه مرة أخرى، بعد أن

_ (1) عبارة الأصل: " وكل نصفٍ مقصود في نفسه، يجوز غاية الخصومة فيه ". والمثبت عبارة (ت 5). (2) في الأصل: " مع ". والمثبت من (ت 5). (3) ت 5: " شائع ".

قامت بينة صاحبه عليه ثانياً؛ لأنه أقامها قبل الاحتياج إلى الدّفع، وهذا بناء منه على المذهب الظاهر في أن بينة صاحب اليد لا تسمع قبل مسيس الحاجة، وهو منْقدِح حسن لا بحث فيه، وقد انتجز مقدار الغرض في القسم الثاني. فأما القسم الثالث (1) 12226 - فمضمونه كلام، فيه إذا ادعى رجلان شيئاً في يد ثالث، ادعى كل واحد منهما لنفسه بكماله، وأقام كل واحد منهما بينة على حسب دعواه، ففي المسألة قولان في الأصل: أحدهما - أن البينتين تتساقطان وتتهاتران، والرجوع بعد سقوطهما إلى يمين المدعى عليه. والقول الثاني - أن البينتين تُستعملان. ثم إذا قلنا بالاستعمال، ففي كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها - أنا نقرع بين الخصمين، فمن خرجت له القرعة، قضينا له بما ادعاه، وخاب صاحبه، وعلى هذا القول هل يحلف من خرجت له القرعة ضماً لليمين إلى القرعة؟ فعلى قولين. والقول الثاني -من الأقوال الثلاثة- أن البينتين تستعملان بالوقف إلى أن يصطلحا. والثالث - أن المدعى يقسم بينهما نصفين، إذا كان المدعى قابلاً للقسمة. ولسنا نعني بقبول القسمة في هذا الباب قبول التبعيض ظاهراً؛ فإن المدعى لو كان عبداً أو دُرّةً مثلاً، فليس قابلاً للانقسام من طريق الحسّ والعِيان، ولكن المعنيّ بالانقسام في هذا الباب أن إضافة النصف إلى ملك كل واحد ممكن لا استحالة فيه مع الشيوع، فهذا هو المراد في قولنا: " إذا كان المدعى مما يتصور انقسامه ". ولا يخفى ما ذكرناه على الناظر، إن شاء الله. 12227 - وعلينا بعد هذا أن نتكلم في نوعين: أحدهما - في كلام الأصحاب في

_ (1) هنا وضع الإمام العنوان بنفسه ثالثاً للأول والثاني اللذين وضعناهما في سياقهما آنفاً. ونذكر أنه يعني -كما هو واضح- الثالث من صور التداعي الثلاث وهي: 1 - بين صاحب اليد (الداخل) ومن لا يد له (الخارج). 2 - بين رجلين في عينٍ تحت أيديهما كلٌّ يدعيها كاملة لنفسه. 3 - أن يدعي رَجُلان شيئاً في يد ثالث كلٌّ يدعيه لنفسه كاملاً.

محل القولين الأولين في التهاتر والاستعمال. وحاصل القول في هذا يستدعي ذكرَ ثلاثِ صور: إحداها - أنه إذا ادعى كل واحد الشيءَ على وجهٍ يمكن تقدير صدق البينتين على ذلك الوجه على الجملة، وإن كانتا على التناقض في المعنى، وذلك بأن يقال: لعل شخصاً مالكاً أوصى لزيد بجميع هذه الدار، وسمع شهودُه ذلك، وأوصى ذلك الشخص بجميع الدار للمدعي الآخر، وسمع شهودُه ذلك، وأقام كل واحد منهما شهودَه. ولم يَشْعر شهودُ زيد بالوصية لعمرو، ولا شهودُ عمرو بالوصية لزيد، فيقرب تأويل الصدق على هذا الوجه. هذه صورة. والصورة الثانية- أن تقع الشهادتان على وجه يبعد تأويل تصديقها، وهو مثل أن تشهد إحداهما لمقيمها بالشراء من شخص، وتشهد البينة الثانية لمقيمها بالشراء من ذلك الشخص مع اتحاد التاريخين، فتأويل الاجتماع على التصديق بعيد، وكذلك إذا أسند كلُّ بيّنةٍ الملكَ في البهيمة المدّعاة إلى وقوع نتاجها في ملك المدعي، والنتاج مما لا يتكرر (1)، فلا يحتمل صدق البينتين بوجه (2). والصورة الثالثة - أن تقع البينتان على التكاذب قطعاً من غير خيال. وذلك بأن تشهد إحداهما على قتل شخص في وقت وحزّ رقبته، وتشهد الأخرى على بقائه حياً متصرفاً في ذلك الوقت وبعده، ويقرب من هذا النتاجُ. والغرض أنهما إن تكاذبتا قطعاً، فمن أصحابنا من قطع بالتهاتر، ومنهم من أجرى القولين، وإن احتمل تأويلاً -كما ذكرناه في الوصية- فالقولان في التهاتر والاستعمال جاريان. فإن قيل: هلاّ قطع قاطعون بالاستعمال؟ قلنا: لم يقطع به أحد؛ لأن البينتين في ظاهرهما متناقضتان ولا تَرجُّح، وتعارضُ الظاهرين إذا لم يترجح أحدهما في الظهور والبعد عن التأويل كتعارض النصّين، والتأويل لا يتطرق إلى واحدة منهما. هذا وجهٌ في التصرف. والوجه الثاني - أن الأقوال الثلاثة في كيفية الاستعمال تجري حيث يمكن جريانها، وقد يتعذر جريان بعضها، فليكن إجراؤها على حسب التصور، وقد قال الأئمة: إن

_ (1) ت 5: " مما لا يتأبد ". (2) المراد نتاج عامٍ محدّد، فلا يحتمل الصدق أن يكون النتاج في يد كل منهما في الوقت نفسه.

كان المتنازَع نكاحاً في امرأة تنازعها رجلان، فلا شك أن قول القسمة لا يجري به. قالوا: كذلك لا يجري قول الوقف؛ فإن الاصطلاح في النكاح غيرُ (1) ممكن، ولا معنى لحبس المرأة أبداً، وأما القرعة: فقد تردد فيها الأصحاب: فذهب بعضهم إلى أن قول القرعة جارٍ، وذهب آخرون إلى أنه لا يجري، فإنا نمتنع عن إجراء القرعة في الطلاق إذا استبهم، فيجب الامتناع منها إذا وقع النزاع في استحلال البضع بالنكاح؛ فإذاً ينحسم أدوال الاستعمال بجملتها، فنضطر إلى القطع بالتهاتر. فلو كان المتنازَع عقدَ بيع، فقول القرعة جارٍ، وامتنع بعض أصحابنا عن إجراء قول الوقف بناء على أن البيع لا يقف، وهذه غفلة ظاهرة؛ فإن الوقف الذي نمنعه في البيع، إنما هو توقف العقد على وجود شرط قد تخلف عنه، فأما التوقف في الخصومات، فلا يمتنع فرضه في البيع. والغرض مما ذكرناه أن يتبين الناظر أن جريان أقوال القسمة لا يعم كل صورة. فإذا خضنا في المسائل أوضحنا هذا المقصود، إن شاء الله. 12228 - ثم إن المزني اختار لنفسه قولَ التهاتر، وارتضى للشافعي قول القسمة، أما اختياره لنفسه، فلا معترَض عليه فيه، وليس مساعَداً في اختيار قول القسمة للشافعي، وقد أبطله الشافعي في مواضع، وقال: من قال بالقسمة دخلت عليه شناعة (2)؛ فإنه ليس قاضياً بواحدة من البينتين. 12229 - وتوجيه الأقوال بعد ذلك على إيجاز: من قال بالتساقط؛ تعلق بالتضاد، واستشهد بتعارض أدلة الشريعة، ومن قال بالاستعمال تعلق باشتمال الخصومة على البينتين، ولا ننكر أن الأَوْجَهَ التهاترُ، ثم قول القرعة يوجّه بجريان القرعة في مواضع الإشكال، وقولُ القسمة يوجَّه باستواء المتداعيين، وتعلُّق كل واحد منهما بما لو انفرد به لقضي به، فالبينتان بمثابة الاشتراك في يده، وأعدل الأقوال في الاستعمال قول الوقف؛ فإن البينتين متفقتان على كون المدعى عليه مبطلاً، فبعُد

_ (1) سقطت من (ت 5). (2) هذا النوع الثاني من الكلام الذي فُهم من الكلام في الفقرة 12227.

إحباطهما، فاستعملنا البينتين في إزالة يد المدعى عليه، وعسُر إمضاؤهما على التفصيل بين المتداعيين، فأورثا إشكالاً بينهما، واقتضى ذلك التوقف إلى الاصطلاح. وقد انتهى ما أردناه في تمهيد أصول الكتاب، ونعود بعده إلى ترتيب المسائل. فصل قال: " وسواء أقام أحدهما شاهداً وامرأتين والآخر عشرة ... إلى آخره " (1). 11230 - إذا أقام أحد الخصمين شاهدين، وأقام الآخر رجلاً وامرأتين، لم تترجح إحدى البينتين على الأخرى باتفاق الأصحاب. فإن أقام أحدهما شاهدين، أو شاهداً وامرأتين، وأقام الآخر شاهداً وأراد أن يحلف معه؛ ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نرجح البيّنة التامة على الشاهد واليمين. وهذا هو الأصح؛ فإن الشاهدين إذا شهدا، كانت شهادتهما حجة مستقلةً، غيرَ آتية من قبل المدعي، ومن أراد أن يحلف مع شاهده، فحجته تتم بقولٍ من جهته. والقول الثاني - أن البينتين تتساويان، لأن كل واحدة بينةٌ، لو انفردت، لوقع القضاء بها. ولو أقام أحد الخصمين شاهدين، وأقام الثاني عشرة من الشهود، أو ثلاثة، فالمنصوص عليه في الجديد أنا لا نرجح بينة على بينة بعدد الشهود، وللشافعي قول في القديم أنا نرجح إحدى البينتين بمزيد العدد على الأخرى، وهذا ليس يبعد توجيهه، أما وجه القول الجديد، فهو أن كل بينة كاملةٍ مستقلة، والزيادة لا حاجة إليها، فوجودها وعدمُها بمنزلة. وهذا منطبق على قواعد الفقه. ووجه القول القديم أن الأصل الذي عليه التعويل الثقة. كما يعتبر ذلك في الروايات، ثم الترجيح يقع بكثرة الرواة في الرأي الظاهر؛ فليقع الترجيح بها في

_ (1) ر. المختصر: 5/ 261.

الشهادة، ولتكن الشهادة في ترجيح الثقة كالرواية في أصل الثقة. والقائل الأول يقول: التعبد في الشهادات أغلب، بدليل أن العدل الواحد قد يعدل في الثقة جمعاً في الرواية لاختصاصه بمزيد التثبت والورع، ولا تقوم الحجة بقول عدل واحد في الشهادات. وخرّج أصحابنا التفاوت في الورع والتثبت بين البينتين على وجهين، كما ذكرناه في التفاوت في العدد، وهذا قياس سديد كالرواية، فكانا في الجديد لا نلتفت إلى طرق الترجيح الجارية في الرواية، وفي القديم نتمسك بما يرجح الرواية. ثم إذا كانت كل بينة بحيث لو انفردت، لاستقلت، ولو شهد عدلان من جانب، وهما على المنصب الأعلى في الثقة والتثبت، وشهد في مناقضتهم عشرة مثلاً من أوساط العدول، فيتعادل الورع ومزية التثبت مع زيادة العدد، ويجب على القاضي أن ينظر بينهما نظر المجتهد بين خبرين يُرويان على هذا الوجه، إذا فرعنا على القديم. وأما إذا فرعنا على الجديد، فلا حاجة إلى هذا. وقد أطلق الأصحاب أقوالهم بأن الرجلين الشاهدين في معارضة الرجل والمرأتين، وليس يبعد عندي إذا فرّعنا على القديم أن نرجح الرجلين؛ بدليل أن من أقام رجلاً شاهداً وحلف معه في المال أمكنه ذلك، ولو أقام امرأتين وأراد أن يحلف معهما لم يجز. والذي بقي في الفصل فرضُ بيّنتين من خارج وداخل، مع اختصاص إحداهما بما يقع الترجيح به تفريعاً على القديم، فإذا فرعنا عليه نظرنا؛ فإن كان ما يوجب الترجيح في بينة صاحب اليد، فلا إشكال؛ فإن بينته رجحت باليد وغيرها، وإن كان في جانب الخارج كثرة في الشهود، أو اتصاف بمزية الورع، فقد اختلف أصحابنا -والتفريع على القديم- فمنهم من يحكم باستواء البينتين لاعتضاد إحداهما باليد، واختصاص الأخرى بالمزية التي ذكرناها. ومن أصحابنا من قدّم اليد على كل ترجيح؛ فإن اليد مشاهدةٌ محسوسة، والأسباب التي يقع الترجيح بها غايتها مزيد تغليب ظن في أمر لا يُحسّ، وذلك مفرع على الترجيح.

فصل قال: " وإن أراد الذي قامت عليه البينة أن يُحلّف صاحبه ... إلى آخره " (1). 12231 - إذا أقام المدعي بينةً على ثبوت استحقاقه، فأراد المدعى عليه أن يحلف معها، وقد شهدت البينة له، لم يُجَب المدعى عليه إلى ما يطلبه؛ ويقال له: قد بيّنت البينةُ ملكَه، فلا افتقارَ معها إلى يمينه على الملك. وإن قال المدعى عليه بعد قيام البينة: قد باع هذا مني، قلنا: ثبتت الخصومة الأولى بجهتها، وأنت تريد أن تبتدىء الدعوى، فلك أن تحلّف على نفي البيع صاحبَك. ولو قال المدعى عليه: أُحلِّف خصمي: " لا يعلم أن شهوده مجروحون "، فهل يجاب إلى ذلك؟ ذكر القاضي وجهين: أحدهما - أنه لا يسمع منه هذا؛ لأنه لم يدّع لنفسه حقاً، وإنما طعن في بينةٍ قد عُدّلت ظاهراً وباطناً، ومطعن الخصم غير مقبول إذا لم تقم حجة. ومن أصحابنا من قال: دعواه مسموعة، والمدعي مدعو إلى الحلف؛ من جهة أنه لو أقر لخصمه بما قال من جرح الشهود، فالخصم ينتفع بإقراره وتصديقه، وكلّ ما ينتفع به الخصم لو فرض الإقرار به، وجب سماع الدعوى فيه؛ فإن التحليف تلو الإقرار؛ إذ المقصود منه حمل المحلَّف على الإقرار إذا تورعّ عن اليمين. قال القاضي: يمكن أن يُبنى على هذا التردد أصل ضابط فيما يجري التحليف فيه، فيقال: حد ما يجري التحليف فيه ماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن حدّه أن يدعي حقاً، والثاني - يكفي أن يَدّعِي (2) ما لو أقر به الخصم، لنفع إذا كان لا يؤدي إلى فساد -احترازاً عن منع تحليف الشاهد والقاضي- فعلى هذا لو ادعى عيناً على إنسان،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 261. (2) ضبطت في الأصل: " يُدْعى ".

فقال المدعى عليه: [هو] (1) أقرّ لي بهذه العين، ولم يقل هي ملكي، بل اقتصر على دعوى الإقرار، فهل يقبل قوله؟ وهل يحلّف صاحبه على نفي الإقرار؟ فعلى الوجهين؛ فإن من ادعى إقراراً ليس يدعي لنفسه حقاً، ولكن لو أقر صاحبه بما ادعاه، لنفعه، فيخرج ذلك على الخلاف الذي ذكرناه. وكذلك المدعي في الابتداء، إذا لم يدّع استحقاقاً، ولكنه ادعى أن صاحبه أقر له بمال، فهل تقبل الدعوى ابتداء على هذا الوجه؟ فعلى الوجهين المقدمين. وكذلك إذا قذف، ثم ادعى على المقذوف أنه زنا، وطلب يمينَه، فهذا خارج على الوجهين. وكذلك إذا ادعى على إنسان مالاً، فقال المدعى عليه: قد حلّفني في هذه الدعوى مرة، فهل يقبل قوله؟ فعلى ما قدمنا من الوجهين. فانتظمت هذه المسائل على نسق واحد. فصل قال: " ولو ادعى أنه نكح امرأة، لم أقبل دعواه، حتى يقول نكحتها بولي وشاهدي عدل ورضاها ... إلى آخره " (2). 12232 - المنصوص عليه أن من ادعى نكاحاً مطلقاً، لم تسمع دعواه، حتى يفصّل أو يفسّر، وعماد التفصيل التعرض لثلاثة أركان: أحدها - الولي، والآخر - الشاهدان، والآخر - الرضا ممن يطلب منه الرضا. [وظاهر] (3) النص أن من ادعى شراء أو بيعاً، كفاه إطلاق الدعوى، ولم يلزمه تفسيره بالوجوه المرعية في الصحة. وخرّج بعض أصحابنا في النكاح قولاً من البيع، قالوا: تقبل الدعوى في النكاح مطلقة؛ من غير تعرض للتفسير.

_ (1) زيادة من (ت 5). (2) ر. المختصر: 5/ 261. (3) في الأصل: " فظاهر ".

توجيه القولين: من شرط التفسيرَ وجّه قوله بما اقتضاه الشرع في النكاح من رعاية أسباب التأكيد. ولذلك اشترط فيه الولي والشهود، ومن لم يشترط التفسير، اتجه له القياس علي البيع. ومن أصحابنا من قال: إن قال: هذه زوجتي، ولم يعلق دعواه بالعقد، سُمع مطلقاً، وإن ادعى الابتداء (1)، فلا بد من البيان، فحصل في النكاح ثلاثة أقوال: - اشتراط التفسير ابتداء ودواماً. - والاكتفاء بالإطلاق ابتداء ودواماً. - والفصل بينهما. ومن أصحابنا من خرّج في البيع قولاً من النكاح، واشترط فيه التفسير. 12233 - وإذا أردنا ترتيب الدعاوى، فدعوى القصاص على الإطلاق غير مسموعة بلا خلاف، حتى يفسّرها بذكر ما يُرعَى في موجِب القصاص. وإذا ادعى مالاً مطلقاً -ديناً أو عيناً- فلا يشترط التفسير، بلا خلاف. وفي النكاح نصٌّ وقولان مخرّجان، والنص في البيع قبول الدعوى المطلقة، وفيه تخريج. ثم إن شرطنا التفسير في النكاح، فمعناه التعرض للأصول الثلاثة: الولي، والشاهدين، والرضا. ولا يشترط التعرض لانتفاء المفسدات، مثل أن يقول: نكحتها وهي خلية عن الزوج والعدة والإحرام؛ فهذا وما في معناه لا يشترط التعرض له؛ لم يختلف أصحابنا فيه. وإذا شرطنا التفسير في البيع، ذَكَر أركان البيع، ولم يتعرض لانتفاء المفسدات، فيناظر الولي كون البائع من أهل العقد، ولا شهادة في البيع، والعماد فيه التعرض للرضا في قابل البيع، مع ذكر ثمن صحيح. وهذا قول ضعيف. وإذا لم يشترط التفسير، هل يشترط التقييد بالصحة؟ فعلى وجهين. والوجه

_ (1) أي ابتداء النكاح، بخلاف من ادعى دوامه.

عندي اشتراط التقييد بالصحة في النكاح؛ فإنها لفظة جامعة دالة على المقصود، وإذا شرطنا التفسير في الدعوى، فشرطنا على الشهود أن يفسّروا الشهادة. وإن لم نشترط ذلك في الدعوى، لم نشترط في الشهادة؛ فإن الشهادة تبين الدعوى، فكانت على حسبها، وهي مختصة بلفظ الشهادة تعبداً. ولو أقرت المرأة بالنكاح، فالأصح قبول إقرارها، وقد مضى ذلك مفصلاً في كتاب النكاح، والذي نذكره الآن أنا إذا اشترطنا التفسير في الدعوى، هل نشترط التفسير في الإقرار ليصح؟ المذهبُ أنا لا نشترط. ومن أصحابنا من شرط التفسير في الإقرار، وهذا يضاهي ما ذكرناه في الزنا؛ فإن شهود الزنا يتناهَوْن في التفسير، ولا يرعى في شهود القذف التفصيل. وهل يشترط في الإقرار بالزنا التفصيل؟ فعلى قولين. ونحن نعقد فصلاً متصلاً بما ذكرناه، ونبين به أصلاً كثير التداور في الدعاوي والبينات، فلنبين الأطراف، ونربطه بالنكاح. فصل 12234 - ظهر اختلاف الأصحاب في أن يمين الرد يُنرَّل منزلةَ البينة، أو ينزل منزلةَ إقرار المدعى عليه، ثم من الأصحاب من استعمل هذين القولين في غير وجهه. ونحن نرى أن نرسم ثلاثَ مراتبَ، تحوي كلُّ مرتبة ما يتعلق بها، ثم تنتصب معتبراً في المسائل، فنقول: إذا (1) ادعى الرجل على امرأة خلية أنها زوجتُه، فإن قلنا: إقرارها مقبول، فالدعوى مسموعة عليها؛ اعتباراً بكل مدّعىَ يصح الإقرار به، وإن قلنا: لو أقرت بالنكاح، لم يُقبل إقرارها، فهل تتوجه الدعوى عليها واليمين؟ فعلى قولين مبنين على أن اليمين المردودة كبيّنة، أم هي بمثابة الإقرار؟ فإن قلنا: هي بمثابة الإقرار، فلا تُحَلَّفُ المرأة؛ فإن غاية توقع الخصم أن تنكُل، ويحلف هو يمين الرد، ولو

_ (1) هذه هي المرتبة الأولى من المراتب الثلاث.

أفضت الخصومة إلى ذلك، لما ثبت غرض (1) المدعي. ْوإن قلنا: يمين الرد كالبينة، فتُحَلَّف المرأة، فإن حلفت، فذاك، وإن نكلت، ردت اليمين على المدعي، فيحلف ويثبت النكاح بيمينه، كما يثبت ببينة يقيمها، وهذان القولان جاريان على وجههما؛ فإنا إن رَدَدْنا (2) لرد الإقرار، فهو قياس بيّن، وإن قبلنا لمكان يمين الرد ونزولها منزلةَ البينة، فقد أحللنا يمين الرد محل البينة في حق المدعى عليه على الخصوص، ولم يتعده. وإذا ذكرنا المرتبتين بعد هذا، بأن أثرُ ما ذكرناه الآن. 12235 - ووراء ذلك بحثٌ، وهو أنا إذا رددنا إقرارها، فهلاّ رددنا إنكارها، لتكون مسلوبةَ العبارة: أقرت أو أنكرت، وهذا هو الذي يليق بمذهب الشافعي في سلب عبارة المرأة؟ قلنا: لا ينتهي الكلام إلى هذا الحد، والدليل عليه أن العبارة ليست متأصلة في الإنكار، ولذلك نقيم السكوتَ مقامه، وهذا لا ينحل انحلالاً فاحشاً أيضاً، فإنا نشترط أن تكون المرأة من أهل العبارة، حتى تنكر أو تسكت، فيقام سكوتُها مقامَ إنكارها. فإن قيل: هلا قلتم: يحلف المدعي وإن لم تحضر المرأة؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك، فلا بد من ارتباط اليمين بإنكارٍ من المرأة، أو من وكيل لها؛ فإن إرسال الدعوى [واليمين لا ينتظم (3) عليها]. والذي يغمض في هذا المقام أنا إذا قلنا: إقرار المرأة مردود، فلو حضرت وأقرت لما ادعى الرجل النكاح، فماذا نقول؟ وما أنكرت ليحلف المدعي (4)؟ وإقرارها لم يُثبت المقصود، ولو قلنا: ينحسم يمين الرد بإقرارها، لكان ذلك حيلة عظيمة في دفع المدعي عن إثبات ما يبغيه بيمين الرد، وهذه الحَيْرة جاءت من التفريع

_ (1) لأننا قلنا: يمين الردّ تقوم مقام الإقرار، فإذا نكلت، وحلف هو، فكانه أقر بنكاحها، ولا يثبت النكاح بهذا. (2) رَدَدْنا: أي ردَدْنا الدعوى ولم نسمعها بسبب ردّ إقرار المرأة، فإنها لو أقرت لا يثبت النكاح. (3) في الأصل: " واليمين عليها لا ينتظم " والمثبت من (ت 5). (4) ساقطة من (ت 5).

على أصلين ضعيفين: أحدهما - أن إقرار المرأة لا يُقبل، والآخر - أن يمين الرد كالبينة، ثم إذا دُفعنا إلى ذلك، فالوجه أن نجعل إقرارها كسكوتها (1)، ونحلّف المدعي إذا قلنا: يمين الرد بمثابة البينة. وقد نجز الكلام في هذه المرتبة، وانكشف القول عن خزيٍ عظيم، وهو ألا يثبت النكاح بإقرار المرأة، ويثبت بيمين المدعي ابتداء، والذي يحقق هذا أن المرأة لو أرادت أن تحلف، فلها ذلك. وحلفها [يقطع] (2) الخصومة، وعُرِض اليمين عليها مستقلاً (3)، ولو أقرت، كانت كما لو أنكرت ونكلت عن اليمين. 12236 - المرتبة الثانية - نفرضها في النكاح أيضاً ونفرعها على قبول إقرارها، ونقول: إذا ادعى نكاحَ المرأة رجلان، فأقرت لأحدهما، وقبلنا إقرارها، فلو ادعى الثاني عليها، فهذا قد فصلناه في كتاب النكاح، ونحن نُعيد -مما ذكرناه- ما تمسّ الحاجة إليه في نظم مقصود هذا الفصل، فنقول: ذهب بعض أصحابنا إلى أنها إذا أنكرت دعوى الثاني، ونكلت عن اليمين، وحلف هذا الثاني، ففي ثبوت النكاح في حقه وانبتات النكاح في حق الأول قولان مبنيان على أن يمين الرد بينة أم هي بمثابة إقرار الخصم؛ فإن جعلناها كالبينة، أثبتنا النكاح في حق الثاني. وهذا سرف عظيم؛ فإن يمين الرد إن جعلت كالبينة في حق المدعى عليه في أمرٍ لا يتعداه، فله وجهٌ على حالٍ، فأما تقديرها بينةً لإبطال حق الغير، فهذا على نهاية البعد. وهذا المسلك الذي حكيناه عن بعض الأصحاب مشهور في المسائل مُردَّدٌ في أصول: منها أنه إذا ادعى رجل على رجل قَتْلَ خطأ، فأنكر المدعى عليه، ثم نكل عن اليمين، وحلف المدعي يمين الرد، فالدية هل تضرب على العاقلة؟ خرّجوه على ما ذكرناه. وهو بعيد.

_ (1) وسكوتها كإنكارها. (2) في الأصل: " القطع ". (3) ت 5: " مستفاد ".

12237 - والمرتبة الثالثة -وهي أبعدها- ذكرها الشيخ في شرح الفروع، وقال: إذا ادعى رجل على امرأة- يحسبها خلية- نكاحاً، وجرينا على قبول إقرارها، فأنكرت ونكلت، ورددنا اليمين على الخصم، فحلف، فحكمنا بالنكاح، وسلمنا المرأة إلى الحالف فجاء مدعٍ وادعى نكاحها، وأقام على ذلك شاهدين عدلين، قال رضي الله عنه: إن قلنا: يمين الرد بمنزلة إقرار الخصم، فالبينة مقدمة في هذه الصورة، والمرأة مسلّمة إلى الذي أقام البينة، وإن قلنا: إن يمين الرد بمثابة البينة، قال: سبيلهما سبيل بينتين تعارضتا، فإن حكمنا بالتساقط، فهما على مجرد الدعوى منها، ولا يخفى تفصيل ذلك، وإن حكمنا باستعمال البينتين، فلا يجيء هاهنا إلا قول القرعة، والحكم بها. وهذا الذي ذكره على نهاية البعد؛ فإن من قال: يمين الرد بمثابة البينة، فإنما قدّر تقديراً حاصله أن يثبت بيمين الرد ما لا يثبت بالإقرار إذا ترتبت اليمين على إنكار من تصح عبارته على الجملة، ولا يصح إقراره، فجعل اليمين من الخصم حجة زائدة على الإقرار المجرد مما لا ينفذ إقراره. وإذا انتهى الأمر إلى تقديم قول المدعي ويمينه على شهادة عدلين يقيمها آخر، فقد بلغ مبلغاً لا يحتمل، وآل الأمر إلى تقديم قول الخصم المؤكد باليمين على شهادة العدول، وهذا بعيد لا سبيل إلى القول به. وإنما أوقَعْنا هذا الكلامَ في المرتبة الثالثة لسببيّة (1) أن هذا أبعد من الحكم بيمين الرد على ثالث لا تتعلق الخصومة به؛ فإن ذلك الثالث لم تصدر منه حجة، فيقال: تعارضت اليمين مع حجة. ونحن -فيما نظن- لا نُخلي تقديماً وتأخيراً وترتيباً في مساق الكلام عن غرض فقهي، لو تأمل الناظر، لاح له إن شاء الله عز وجل. فرع: 12238 - إذا ادعت المرأة عقدَ النكاح على الرجل، فإن ذكرت في دعواها صداقاً، أو نفقة في النكاح، وقصدت إثبات ما ذكرته من المال، فدعواها مقبولة فيما تقصده من المال. وإن لم تتعرض لذكر مال، ولكنها ادعت النكاح المجرد، فهل تُسمع دعواها في

_ (1) ت 5: " ليستبان ".

ذلك أم لا؟ ذكر صاحب التقريب والعراقيون وجهين: أحدهما - لا تسمع الدعوى؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا كان الزوج منكِراً للنكاح؛ فإنه لو أقر، لثبت النكاح بتقارّهما، فإذا أنكر، فأحد الوجهين أنه تلغو دعواها، ولو أرادت إقامةَ البينة على النكاح، لم تسمع منها؛ فإن النكاح حقه عليها، وله الدعوى فيه عليها؛ فيبعد انعكاس الترتيب في الدعوى. والذي يوضح ذلك أنه إذا أنكر كونَها منكوحة له، فتحرم عليه بذلك القول، فلا معنى لقبول دعواها والحالة هذه، ثم إذا لم نقبل دعواها، لم نسمع بينتها. والوجه الثاني - أنه تقبل دعواها؛ فإن لها حقوقاً في النكاح، والنكاح مشتمل عليها؛ فدعوى النكاح تتضمّن تلك الحقوق. ثم هذا القائل يقول: إذا أنكر الرجل أئه نكحها أصلاً، أو قال ليست منكوحة لي، وفسّر ذلك الإنكار بنفي أصل النكاح، أقامت المرأة البينة أنه نكحها نكاحاً صحيحاً، فيثبت النكاح. وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً. فقال: إن أنكر الزوج أصل النكاح والعقد، فلا تقام البينة عليه، وإن اعترف بالعقد ولكنه زعم أنه شغر من الولي، أو لم يَجْر بمحضر شاهدين، فأقامت المرأة البينة أن ذلك النكاح كان مستجمعاً لشرائط الصحة، فنقبل منها ونُثبت النكاح ونُثبت حقوقَها، ولها طلب القَسْم إن كان للزوج نسوة سواها. وهذا نقلٌ منا لما ذكره صاحب التقريب والعراقيون، والبحث وراء ذلك. 12239 - فنقول: أما الوجه الثالث، فلا خير فيه، فإنه إذا أنكر صحةَ النكاح، فلا أثر للاعتراف بصورة العقد، فليحذف هذا من البَيْن، ثم النظر بعد ذلك. فنقول: الكلام في المسألة يتعلق بثلاث منازل: إحداها - أن تدعي المرأة النكاح، فيسكت الرجل، ولا يبدي إنكاراً، ولا إقراراً، ففي سماع البينة والحالة هذه وجهان: [أحدهما - لا تسمع البينة] (1)؛ من جهة أنها لم تتعرض إلا للنكاح، وهي لا تستحق بالنكاح على زوجها مُستمتَعاً، ولم تتعرض لحقوقٍ مالية، حتى نقدرَها مقصودةً بالدعوى.

_ (1) زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين.

والوجه الثاني - أن البينة مسموعة؛ لأنها ذاتُ حظ في النكاح نفسه، وهو جامع لحقوق مالية، منها النفقة التي تَدِرُّ شيئاً شيئاً، ولو أفردتها بالدعوى، لاحتاجت كلَّ يوم إلى معاودة الدعوى، فإذا سمعنا دعواها في النكاح [وبَيَّنَتها] (1)، فيثبت أصل النفقة، وتستغني عن معاودة الدعوى. هذه منزلة. المنزلة الثانية - إذا أنكر الزوج أصل النكاح -والقول في هذه المرتبة يترتب على القول في الأولى- فإن قلنا: لا تسمع دعواها إذا سكت الزوج، فلا معنى لسماعها في هذه المرتبة، وإن قلنا: دعواها مسموعة في سكوت الزوج، فإذا أنكر هل تبطل الدعوى بعد ما سُمعت؟ فعلى وجهين مبنيين على قاعدة: وهي أن الزوج إذا أنكر النكاح، ثم اعترف به، فهل يقبل اعترافه، أم يمتنع عليه إثبات النكاح بعد تقديم إنكاره؟ وهذا مختلف فيه. وعندنا أن حقيقة الخلاف في قبول دعوى المرأة تتلقى من هذا. فإن حكمنا بأن اعترافه بعد إنكاره مقبول، وله إذا اعترف أن يغشاها، فالدعوى لا تبطل بإنكاره إذا سمعنا الدعوى في سكوته، وتترتب على الدعوى حقوقها المالية. وإن قلنا: لا يقبل اعترافه، فلا سبيل إلى إثبات النكاح عليه فيما يتعلق به، ولكن هل تثبت حقوقها المالية عليه؟ ففيه احتمال وتردد. وكل ذلك وراء قولنا: إنكار الزوج للنكاح، أو لشرط من شرائطه بمثابة الطلاق المُبين، كما قدمنا في ذلك نصَّ الشافعي حيث قال: " إذا قال الرجل: نكحت هذه الأمة، وأنا واجد لطَوْل حرة، قال: هذا طلاق مبين " وقد أوضحنا في الخلع خروجَ هذا النص عن قياس الأصول، ومسيس الحاجة إلى تأويله إن أمكن تأويله، ولا تفريع عليه. وما ذكرناه من التردد في الاعتراف بالنكاح بعد إنكاره لا يختص بالنكاح، بل كل من أنكر ملكاً وحقاً، ثم زعم أنه غلط في إنكاره، وعاد إلى ادعائه، ففيه الخلاف الذي ذكرناه.

_ (1) في الأصل: " ونثبتها ".

هذا تحقيق هذا الفصل (1). ومآل الكلام فيه رجع إلى تعلُّقِ دعوى المرأة في حالة السكوت بما ليست مستحقة فيه من وجه، وتعلُّقِ طرف منه في بعض الصور بإنكار الزوج، وتصوّر اعترافه بعده، وهذا يرجع إلى الكلام في بطلان الدعوى بعد سماعها. وتمام الكلام في هذا أنا إذا أثبتنا دعواها، فلها حقوقها المالية، ولا خلاص منها إلا بالطلاق، وأما طلب القَسْم، فإن لم نصوّر اعترافاً بعد إنكار، ولم نصححه، فطَلَبُ الزوج بالقَسْم محالٌ، وهي محرمة عليه. وإن قلنا: يتصور منه الاعتراف بعد الإنكار، ففي طلب القَسْم منه احتمال، مع إصراره على دعوى التحريم، وإن كنا نثبت الحقوق المالية. وقد انتجز الغرض. فصل 12240 - إذا ادعى الرجل الملك في عينٍ -هي في يد غيره- مطلقاً، وسمعنا دعواه، فشهدت البينة بالملك، وذكرت سببَ الملك، فقد قال القاضي: البينة مسموعة، وإن انفردت بذكر شيء لم تشتمل الدعوى عليه، وليس هذا كما لو ادعى ألفاً، وشهدت البينة له بألفين، فالألف الزائد لا يثبت. وفي ثبوت الألف المدعى وجهان، فإن لم نثُبته، ورَدَدْنا الشهادة فيه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في جَرْح الشهود حتى تُردَّ شهاداتهم على وجهٍ عموماً، وليس ذكر سبب الملك من هذا القبيل، فأصل الملك يثبت وفاقاً؛ فإن السبب ليس مقصوداً، وإنما هو كالتابع، والمقصود الملك، وقد وافقت البينة فيه الدعوى هكذا، وهو متجه، لم أر خلافاً فيه. وفي ثبوت السبب -الذي لم يتعرض المدعي له- نظرٌ، والأوجه أنه لا يثبت، حتى لو قال المدعي بعد قيام البينة: صدق (2) شهودي في ذكر السبب، قيل له: إن أردت

_ (1) انتهى الفصل، ولم يذكر المنزلة الثالثة من المنازل الثلاث التي وعد بها، ولكنه ذكرها في تضاعيف كلامه، وهي إذا اعترف الزوج بأصل العقد، وأنكر استيفاءه للشروط. (2) في (ت 5): " سقط شهودي ".

ثبوته، فأعِد الشهادة (1)، وهذا فيه تردد. ثم زاد القاضي فقال: لو ذكر المدعي سبباً في الملك، وشهدت البينة بالملك، وذكرت سبباً آخر، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أن البينة لا تُقبل، ولا يثبت الملك للتناقض البيّن بين الدعوى والشهادة. والوجه الثاني - أن البينة مقبولة؛ لأنها وافقت في أصل الملك، والسبب غير مقصود فلَغا ذكره. ولو ذكر المدعي سبباً للملك، وشهدت البينةُ بالملك المطلق، ثبت الملك، قَطَعَ به، وهو كذلك؛ إذ لا تناقض وقد شهدت البينة بالمقصود. ثم قال: " والأيمان في الدماء مخالفة لغيرها " وهذا من أحكام القسامة وقد تقصيناها في كتابها. 12241 - وقال: " والدعوى في الكفالة بالنفس ... إلى آخره " (2). قد تقدم الكلام في كفالة الأبدان، فإن أبطلناها، رددنا الدعوى فيها، وإن صححناها، فالدعوى فيها مسموعة، فإن أقام المدعي بينة على أن هذا تكفل ببدن خصمي فلان، ثبتت الكفالة، وإن لم تكن بينة، حلف خصمه، وإن نكل حلف، وألزمنا المدعى عليه حكم كفالة البدن. والغرض أن كفالة البدن إذا صحّحناها، فهي كسائر الحقوق المالية وغيرها مما تجري الدعوى واليمين وردها فيها. فصل قال: " ولو أقام بينة أنه أكراه بيتاً ... إلى آخره " (3). 12242 - المتكاريان إذا اختلفا، فقال المكري: أكريتك هذا البيت من هذه الدار بعشرة، وقال المكتري: بل اكتريت الدار كلها بعشرة، فإن كان لأحدهما بينة، حكمنا له بالبينة.

_ (1) المعنى أنه يعيد دعوى الملك والسبب، ويعيد الشهودُ شهادتهم بالملك والسبب، وذلك أن شهادتهم بالسبب قد جاءت قبل تقدم الدعوى به، ولا تقام الشهادة إلا على دعوى مسموعة. (2) ر. المختصر: 5/ 262. (3) ر. المختصر: 5/ 262.

وإن لم تكن بينة تحالفا وترادّا؛ فإنهما متعارضان اختلفا في مقدار المعقود عليه؛ فكانا كالمتبايعين. وإن كانا يقيمان بيّنتين -كلُّ واحد بينةً على موافقته- فإن قضينا بتهاتر البينتين، سقطتا، وكأَنْ لا بينة، فيتحالفان. وإن قلنا باستعمال البينتين، فقد ذكرنا ثلاثة أقوال في كيفية الاستعمال: أحدها - القرعة، والثاني - القسمة، والثالث - الوقف. ولا شك أن القسمة لا جريان لها، فإنها إنما تعقد حيث يدعي رجلان شيئاً، وكان كل واحد مدّعياً جميعَه، وذلك الشيء مما يتصور الاشتراك فيه، ففي مثل هذا الموضع تجري القسمة، فأما إذا كان التنازع في النفي والإثبات، كما نحن فيه - فإن المكتري يدعي الكراء في الدار، والمالك ينكر العقدَ فيما يزيد على البيت، فلا تتصور القسمة بين النافي والمثبت. وقول الوقف لا يجري أيضاً؛ فإن في المصير إليه تعطل المنفعة، وهي المقصودة بالدعوى، فيبقى قول القرعة. وللأصحاب بعد [التنبيه لما] (1) ذكرناه مسلكان - أحطت بهما من مرامزهم، وتفريعاتهم: منهم من قال: الاختلاف في كيفية الاستعمال في الجميع من باب التردد في الأَوْلى، فإذا اجتمعت جهاتُ إمكان الاستعمال في الجميع، اختار كل فريق مسلكاً، وهؤلاء يقولون: إن امتنع المختار، جوزتُ التمسك في الاستعمال بما بقي. هذا مسلك، فإذاً نعول عليه وإن رأينا القسمة أو الوقف - فإذا تعذرا، نختار القرعة. ومن أصحابنا من سلك مسلكاً آخر، فجعل كل ما يختار في كيفية الاستعمال متعيناً، حتى لا يجوز فرض غيره، فلا جرم إذا تعذر ما نختاره، حكم بتعذر الاستعمال، وإن كان ما صار إليه الباقون جارياً من طريق الإمكان، فالرجوع إلى التهاتر؛ فإن الاستعمال إذا عسُر، لم يبق إلا التناقض. وهذا الذي ذكرناه نوضحه فيما نحن فيه، فإذا عسرت القسمة، وامتنع الوقف، وأمكنت القرعة، فمن جعل الاختلاف عند إمكان جميع الجهات راجعاً إلى الأَوْلى،

_ (1) في الأصل: " البينة بما " وفي (ت 5): " التنبه لما " والتصرف من المحقق.

تمسك بالقرعة، وإن كان لا يراها عند إمكان غيرها، ولم يحكم بالتهاتر. ومن قدر الاختلاف على الوجه الآخر، فالقرعة عنده فاسدة، وإن لم يَبق غيرها. 12243 - ومما يجب التنبه له أن المتعاقدين إذا اختلفا وتحالفا، فلم يصر أحد من الأصحاب إلى إجراء القرعة بينهما. وهذا يُبطل قولَ القرعة، ويستأصله من أصله؛ فإنَّ تعارض اليمينين كتعارض البينتين، ولا ينقدح فرق بينهما به مبالاة. وبالجملة ما تثبت القرعة إلا في أصلين: أحدهما - في التعيين مع الاستواء في الأغراض المقصودة، وفرض التنافس في الأعيان؛ إذ لا سبيل غيرها أو التحكم، وهذا كالإقراع في تعيين الحصص بعد تميزها على الاعتدال؛ فإن أصحاب الحصص إذا تنافسوا (1) في الأعيان لم ينقدح في تنافسهم إلا تحكم السلطان، أو القرعة، والتحكم يوغر الصدور، ثم صدَرُه عما يقع للسلطان وفاقاً، وهو في معنى القرعة، فكانت القرعة أقطع للشغب، وأحسم لغائلة التحكم؛ وقد تأكدت القرعة في هذا المقام بالأخبار المستفيضة في قَسْم الغنائم. والتحق بهذا استباق الخصوم، وطلبة العلوم، وتقديم البعض على البعض (2). هذا أحد المقامين. والثاني - القرعة في العتق، وهو غير مستدرك بطريق النظر، ولا معتمد فيه إلا الخبر، ثم [استدّ] (3) الشرع على إبطال القرعة في أصولٍ عظيمة، يتحقق الإشكال فيها، وتمس الحاجة إلى التمييز، كالطلاق وغيره، فاضطررنا إلى الاقتصار على مورد الخبر. فأما إجراء القرعة في حرمان مدّعٍ وتثبيت الحق بكليته للآخر من غير تثبت، فأمر عظيم، سيّما وقد لاح على القرب بطلانه في التحالف، فالوجه إذاً في مسألتنا وفي كل مسألة إبطال قول القرعة، حتى إذا لم يبق غيره، تعين الرجوع إلى التهاتر.

_ (1) ت 5: " تنازعوا ". (2) يشير إلى تقديم القاضي للخصوم في الإذن بالدخول والبدء في الخصومة وأنها من مواقع القرعة ملتحقة بمورد الخبر، ومثل ذلك ازدحام طلبة العلوم. (3) في النسختين: " استمر ". وهو تصحيف تكرر كثيراً لذات اللفظ، واستدّ بمعنى استقام واطرد.

ومن أصحابنا من قال في المسألة التي نحن فيها بيّنة المكتري أولى؛ لأنها تشهد بالزيادة. وهذا كلام سخيف، وأول ما يلزم عليه أن يقال: إذا لم تكن بينة، وتحالفا، يقع القضاء لمن يدّعي الزيادة، ثم البينة إنما ترجح بالزيادة، إذا كانت الزيادة في ظهور الصدق، لا في المشهود به. 12244 - ثم ذكر ابن سريج صورة أخرى في التنازع في الكراء. فقال: إذا قال المكري: أكريتك هذا البيت بعشرين، وقال المكتري: بل اكتريت جملة الدار بعشرة، فإن قلنا بالتهاتر، لم يخف التفريع، ورجعا إلى الاختلاف في مقدار المعقود عليه. وإن قلنا بالاستعمال، فقول القرعة على ضعفه جارٍ. قال ابن سريج: أجرى بعض الأصحاب قولاً آخر في الاستعمال يضاهي القسمة، وليس بقسمة، فقال: لو ادعى المكري زيادة في الأجرة، ونقصاناً في المستأجَر، وادعى المكتري زيادة في المستأجَر ونقصاناً في الأجرة، فنجمع بين القولين ونثبت الإجارة في الدار أخذاً بقول المكتري، ونلزمه عشرين درهماً أخذاً بقول المكري، ونقول: الدار بعشرين. قال ابن سريج: هذا ليس بشيء؛ فإنه خروج عن مقتضى البينتين جميعاً. والأمر على ما قال. وعزُّ الفقه وشرفُه في الاقتصار على مسالكه مع التزام الجواب عن كل واقعة، فإذا فتح الإنسان أبواب الوساوس، تباعدت مذاهبه تباعداً يضله عن سواء الطريق، فحق مثل هذا ألا يتمارَى في بطلانه. فصل [قال]: " ولو ادعى داراً في يدي رجل، فقال له: ليست بملكٍ لي، وهي لفلان ... إلى آخره " (1). 12245 - هذا الفصل غمرة الكتاب، وكم فيه للفقهاء من اضطراب، وجيئةٍ وذهاب، وسبب ذلك أنه أصلٌ بنفسه، يجب أن يصرف إليه الاهتمام على الوجه الذي يصرف إلى الأصول.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 262.

فإذا ادعى رجل داراً في يد رجل، فقال المدعى عليه: ليست الدار لي؛ فأول ما يجب ربط الدَّرَكِ به استدراكُ مقصود الفصل، فنقول: مقصود صاحب اليد بنفي الاستحقاق عن نفسه أن يصرف الخصومة عن نفسه؛ حتى لا يُحلَّف، هذا هو الغرض، ولم يجر لهذا ذكر، فكان أصلاً مستأنفاً. ونحن نقول: لا يخلو المدعى عليه إما أن يقر بالدار لمعيّن متميز، وإما أن لا يعترف بها لمعيّن. ثم القول في القسم الثاني ينقسم، فقد ينفي عن نفسه ولا يثبت أحداً وقد يذكر مجهولاً. فليقع البداية بما إذا أقر لمعين، وهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يقر لحاضر يمكن مراجعته. والثاني - أن يقر لغائب. فإن أقر لحاضر، وقال: هذه الدار لفلان، فهذا إقرار صدر من ذي يد، وحكمه القبول في ظاهر الأمر. فأول ما يبتديه القاضي أن يحضر المقر له ويراجعه، فإن حضر وصدّق المُقِر، فقد استقر الإقرار، وانصرفت الخصومة من الأول إلى هذا المقَرّ له؛ فإنّ الأول ليس يدعي لنفسه حقاً، والخصومة إنما تدور بين متنازعين، فقد خرج الأول عن الخصام في عين الدار. فلو قال المدعي: حلّفوه لي حتى إن نكل عن اليمين، حلفتُ، وألزمته قيمة الدار، ونزّلته منزلة ما لو أقر لي بعد الإقرار للأول، ولو فعل ذلك، لالتزم القيمة بانتسابه إلى إيقاع الحيلولة بيني وبين حقي بإقراره الأول. فنقول: هذا يبنى على القولين فيمن قال: غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، وسلمنا الدار إلى زيد لتقدم الإقرار له، فهل يُغرَّم المقِر للثاني قيمةَ الدار؟ فعلى قولين مشهورين: فإن قلنا: لا يغرم للثاني شيئاً، فلا فائدة في تحليفه؛ فإن العين فاتت، والقيمةُ لا مطمع فيها، والمقصود لا يعدوهما. وإن قلنا: لو أقر للثاني بعد الأول، لغُرّم القيمة، فنحلّفه رجاء أن يقر (1)، وإن نكل، فيمين الرجل تُثبت ما يثبته الإقرار. فإذا رأينا تحليفه، فإن حلف تخلّص؛ وإن نكل وحلف المدعي غرّمه القيمة.

_ (1) أي يقرّ للثاني، فيكون كمن قال: هذه الدار لزيد، لا بل هي لعمرو.

قال قائلون من أصحابنا: هذا يخرج على أن يمين الرد تنزل منزلة الإقرار أو منزلة البينة: فإن نزلناها منزلة الإقرار، ففائدتها التزام المدعى عليه القيمة. وإن قلنا: يمين الرد كالبيّنة، فمن الأصحاب من رأى استرداد الدار من المقرّ له الأول، كما لو أقام المدعى البينة، وهذا يقع في المنزلة الثانية من المنازل التي ذكرناها في يمين الرد، فإنا حكمنا بها على ثالث. ومن أصحابنا من قال: لا نزيل يد المقر له الأول، ولكن نقتصر على إلزام المدعى عليه القيمة؛ فإن العين فائتة، فالرجوع إلى قيمتها. ثم فرّع بعض المتكلفين على الوجه الضعيف شيئاً نوضح بطلانه؛ وقال: إذا استرددنا الدار من الأول، فهل يغرم المدعى عليه للأول قيمة الدار، فإنه يقول له: لو حلفتَ يميناً صادقة، لما استُردّت الدار من يدي، فقد صار نكولك سبباً في إزالة يدي، فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يغرِّمه شيئاً، وهو الأصح؛ لأنه يقول: لا يلزمني أن أحلف لك، وعلى أن لا أقر لغيرك إذا رأيتُك مستحِقاً. والثاني - يلزمه أن يغرم له القيمة؛ فإن الدار انتزعت من يده بسببه؛ والسبب يوجب الضمان كمباشرة الإتلاف. هذا كله إذا أحضرنا المُقَر له فصدق المقر. 12246 - فأما إذا أحضرناه، فكذب المقِر؛ فقد ذكر الأصحاب أوجهاً: أضعفها - أن الدار تسلم إلى المدعي؛ فإن صاحب اليد ليس يدعيها لنفسه، وكذلك المقر له، فيجب تسليمها إلى من يدعيها لنفسه، وهذا باطل، فإن تسليم الدار إليه من غير بينة، ولا إقرار، ولا ظاهر يد - محالٌ. والوجه الثاني - أن الإمام يحفظ الدار إلى أن يتبتن أمرُها، ويزيلُ يدَ المقِر عنها، فإن كان للمدعي بينة، أقامها، واستحق الدار، وإن لم تكن له بينة، حفظها إلى أن يتبين أمرَها. ولو أراد المدعي تحليفَ المقر ليغرمه القيمةَ، لو نكل، وحلف هو، ففيه الخلاف المقدم. ومن أصحابنا من قال: ترد الدار إلى المقِر؛ فإنه أقر لمن عيّنه. فرد المقَرّ له إقراره فارتد المُقَرّ به إليه.

فعلى هذا لو أراد المدعي أن يحلِّفه، فكيف السبيل، وما الوجه؟ هذا لا يتبين إلا بإيضاح أصلٍ، وهو أن المُقِرّ لو أراد الرجوع عن إقراره والمقَر له مصدق، لم يجد إلى ذلك سبيلاً. ولو كذّب المقَر له المقِر، ثم بدا له، فصدقه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يُقبل ذلك، حتى يجدد المقِر إقراراً آخر، وهو الذي ذكره القاضي؛ فإن الإقرار الأول ارتد، وبطل بالتكذيب، فلا بد من إقرار جديد. والوجه الثاني - أنه مهما (1) صدّقه، زال أثر التكذيب، واستقر الإقرار. وهذا ينشأ من أصلٍ، وهو أن التوكيل بالتصرف إن لم يشترط فيه القبول، فيشترط عدم الرد، فلو رد، بطل، ولا بد من توكيلٍ جديد إن أراد أن يتصرف، وسبب ذلك أن التوكيل عقد يتطرق إليه الفسخ والاستمرار، والإقرار من وجهٍ يشبه الوكالة، ولا يشبهه من وجه؛ لأنه ليس عقداً، وإنما هو إخبار، ويجوز فرض التصديق فيه بعد التكذيب. وحاصل القول أن من أقر لغيره، وصح الإقرار، لم يملك الرجوع؛ لأنه برجوعه يُبطل حق غيره، وإذا قال قولاً يتضمن انتفاء ملكه، ثم رجع وقوله الأول لم يُثبت لغيره حقاً، ففي رجوعه عنه التردُّدُ الذي ذكرناه. ومما نذكره الآن أنا إن أزلنا يد المقر، فقد قطعنا سلطانه بالكلية، حتى لو أراد الرجوع عن إقراره، لم يجد إليه سبيلاً، وإن بقّينا الدار تحت يده، فأراد الرجوع عن إقراره، هل يقبل رجوعه والمقر له مكذّب؛ إن قلنا: لو عاد المقر له إلى التصديق، لم يقبل ذلك منه، فلو كذب هذا المقِر نفسَه، لم يقبل منه؛ فإنه نفى الملك عن نفسه، فلا يقبل منه نقيضُ ذلك [كالمقر له] (2) وإن قلنا: المقَر له لو صدّق المُقِرَّ بعد التكذيب، قُبل منه، فالمقِر لو كذَّب نفسه -والمقر له مصرّ على التكذيب، أو مات عليه، وأيس من تصديقه- ففي رجوع المقِر الترددُ الذي ذكرناه. وإن قبلنا رجوع المقِر، فرجع، فقال المُقَر له: صدقت في إقرارك الأول، وكذبت في رجوعك، فهذا فيه تردد، وظاهر قول القاضي أنه لا مبالاة بقول المقر له.

_ (1) مهما: بمعنى إذا. (2) في الأصل: " المقر له ".

فإذا تبين ما ذكرناه، بنينا عليه الغرض قائلين: إن حكمنا بقبول رجوع المقر، فلا شك أنا نقبل منه الإقرار للمدعي إذا كُذِّب في الإقرار الأول، فعلى هذا يحلّفه المدعي رجاء أن ينكُل، فيحلفَ المدعي ويستحق الدار. فإن يمين الرد كبيّنة أو كإقرار. وإن قلنا: لا يقبل رجوعه عن الإقرار، فالدار ليست بحكمه، وهي بمثابة ما لو انتزعها القاضي من يده. هذا كله فيه إذا أقر لحاضر. 12247 - فإذا أقر لغائب؛ فتعسر مراجعته، ويتعذر وقفُ الخصومة، فلا يخلو المقر إما أن يقيم بينةً أن الدار التي في يدي لفلان -على ما سنوضح وجه إقامتها- أو لا يقيم بيّنة. فإن لم يُقم على ذلك بينة، ولكنه أقر بها لغائب، فلا يخلو المدعي إما أن يكون معه بينة، على إثبات الملك لنفسه، أو لا يكون معه بيّنة. فإن لم يكن معه بينة، فالذي قطع به العراقيون أن الخصومة في رقبة الدار موقوفة إلى أن يحضر الغائب. ولو قال المدعي: أحلّف المدعى عليه الذي هو صاحب اليد لا يلزمه تسليمُ الدار إليّ، فإن نكل، حلفت، وأخذت الدار، قال العراقيون: ليس له ذلك ألبتة؛ فإنه أقر للغائب، وإقراره مقبولٌ لظاهر يده، فلا يصير نكوله بعد ذلك مع رد اليمين سبباً في تسليم الدار إلى المدعي، غيرَ أنه لو أراد تحليفه، حتى إذا نكل وحلف المدعي عند نكوله، غرّمه القيمة، فهل [يكون] (1) له ذلك؟ فيه الخلاف المقدم. وقال شيخي أبو محمد وبعضُ المصنفين: إذا لم يُقم المدعى عليه بينة أن الدار للغائب، ولم يكن للمدعي بينة، فقال المدعي: حلّفوه؛ فإنا نحلّفه: " بالله لا يلزمه تسليمُ الدار إليه "، فإن نكل، رددنا اليمين على المدعي، فإذا حلف، سلمنا الدارَ إليه، فإنا لو لم نقل هذا، لدفع كل من ادُّعي عليه شيء الخصومةَ عن نفسه بأن يقر لغائب لا يرجى وصولُه وإيابُه. ثم قال هؤلاء: لو رجع الغائب، فهو على حجته. فإن صدّق المقِرَّ، فالدار

_ (1) زيادة من (ت 5).

مردودة إليه، ثم يستفتح الخصومة بين المدعي وبينه. وهذا تباينٌ ظاهر في الطرق. والقياس الذي لا يجوز غيره ما ذكره العراقيون. هذا كله إذا لم يُقم المدعى عليه بينة، ولم يكن للمدعي بينة. 12248 - فأما إذا أقام المدعي بينة، ولم يكن للمدعى عليه بينة أن الملك للغائب، فلا شك أنا نقضي بموجب البينة للمدّعي، وقطع شيخي ومن وافقه بأن هذا قضاء على الحاضر، وهو صاحب اليد، وهذا مستقيم على طريقهم. وذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أن ذلك قضاء على الغائب. والثاني - أنه قضاء على الحاضر، وفائدة قولنا أنه قضاء على الغائب أن القضاء لا يتم بالبيّنة، حتى يحلف مُقيمُ البينة، على ما ذكرنا تفصيلَ ذلك [في القضاء] (1) على الغائب. وهذا الوجه الأخير هو الذي يوافق مذهبَ العراقيين، وليس لقولهم: هذا قضاء على الحاضر وجه. وما من فريق إلا ولهم خرجات عن القياس في أطراف هذه المسألة، ونحن ننبّه على ما ينقاس، وعلى ما يخرج عن القياس، وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يُقم المقِر بينةً على أن ما في يده لفلان الغائب. 12249 - فأما إذا أقر للغائب، كما صورنا، وأقام بينةً على أن ما في يده للمقَرّ له الغائب، فكيف السبيل؟ الوجه أن نفرض الكلام فيه إذا لم يكن للمدعي بينة، ثم نذكر ما إذا كانت له بينة. فأما إذا لم تكن بينة، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدهما - أن بينته لا تسمع إذا لم يُثْبت وكالة نفسه عن ذلك الغائب؛ فإن إقامته البينة لملك غيره من غير استنابة وتوكيل خصومة عنه، والخصومة عنه من غير توكيل كالتصرف في أمواله من غير توكيله، فإن أثبث وكالة عنه، فسنذكر ذلك على أثر هذا، إن شاء الله. فبيّنته إذاً مردودة عند هؤلاء. ويعود التفريع إلى ما قدّمناه، وهو إذا لم تكن بينةٌ أصلاً، وهذا اختيار شيخي.

_ (1) زيادة من (ت 5).

والوجه الثاني -وهو مختار المحققين، المحيطين بسرّ هذا الفصل وخاصيته- أن البينة مسموعةٌ، وليس المراد بسماعها أنه يقع بها القضاء للغائب، ولكن لا طريق لمن في يده ملك غيره إلى أن يصرف الخصومة عن نفسه إلا هذا، وليس من الممكن أن يقيم بينة على أن الدار ليست له، وإذا أضافت البينةُ الملكَ إلى الغائب، حصل بذلك غرضُ صاحب اليد، وانصرفت الخصومة عنه، فالطريق في دفع الحلف هذا. ثم سنوضح أن تلك البينة لا تُثبت ملك الغائب على التحقيق، فعلى هذا لو أراد المدعي أن يحلّف صاحب اليد؛ طامعاً في أن ينكُل، ويحلف هو يمينَ الرد، ويستردَّ الدارَ، لم يمكنه. وتمام هذا الفصل موقوف على نجازه. والوجه الثالث - أنه إن أقام البينة على أن الدار لفلان الغائب، وهي في يده وديعة أو عارية، فالبينة تُسمع، والخصومة تنصرف عنه في رقبة الدار، فأما إذا لم يذكر لنفسه متعلقاً من إيداع أو إعارة، فلا تُسمع البينة. وهذا اختيار القاضي، وليس يليق هذا بمنصبه؛ فإن السرّ المتبع ما ذكرناه من انصراف الخصومة عنه، ولكن لا وصول إليه إلا ببينة تثبت الملك، والمقصودُ من إثبات الملك للغائب النفي وقطع العلائق. والوديعة لا تُثبت للمودعَ (1) حقَّ المخاصمة، فلا معنى لاشتراط ادعائها، فإن كانت المسألة على ما وصفناها وسمعنا البينة، فهذه بينة تُسمع، وإن لم تكن للمدعي بينة، وبهذا يتضح أنها ليست ببينة، وإنما الغرض صرف الخصومة إلى الغائب. وكل ما ذكرناه فيه إذا لم تكن للمدعي بينة. 12250 - فأما إذا كان للمدعي بينة فأقامها، فبيّنته مقدمة (2)، ويقع القضاء بها، ولكن القضاء على حاضر أم على غائب؟ قال العراقيون: القضاء على الغائب، إذا أقام صاحبُ اليد بينة على أن الملك للغائب، وفائدته تحليف المدعي مع بينته. ثم لا تعارِضُ بينةُ صاحبُ اليد بينةَ المدعي؛ لأنها ليست بينة على الحقيقة، وإذا قضينا للمدعي، وكتبنا له السجل، أثبتنا في السجل مجرى الحال، وقلنا فيه: إذا

_ (1) ضبطت خطأ في (ت 5): " المودع "، (بكسر الدال). (2) ساقطة من (ت 5).

رجع الغائب، فهو على حجته، وهو صاحب اليد، فمهما رجع، رددنا الدار إلى يده، وسمعنا بينته، ثم هو في حضوره يعيد البينة إمّا تيك أو أخرى، ولا يقع الاكتفاء بإقامة صاحب اليد؛ فإنه ما أقامها له وعنه، وإنما أقامها ليصرف الخصومة عن نفسه. وقد ذكرنا فيما تقدم أن من ادعى داراً في يد رجل، وأقام بينة، وقضي له بالبينة، وأزيلت يد المدعى عليه، ثم وجد المدعى عليه بينة، فهل ترد الدار إلى يده، ونقدره صاحب اليد، على ما تفصّل في تأسيس الكتاب. وهاهنا إذا حضر الغائب، وأعاد البينة، فلا خلاف أنه صاحب اليد، وبينته مقدمة؛ فإنه كان معذوراً بغيبته، إذ جرى القضاء عليه، وحصل بإقامة صاحب اليد الشهودَ عُلقةٌ على حال، وتنبيهٌ على ارتقاب عوده. فخرج من مجموعه ما ذكرناه. ولو لم يُقم المدعى عليه بينة على أن الملك للغائب، وأقام المدعي بينة، وحلف معها، ووقع القضاء له، فإذا رجع الغائب وأراد إقامةَ البينة، فهو صاحب اليد، كما ذكرناه، لإقرار المدعى عليه له في ابتداء الخصومة، ولكون الغيبة عذراً له. 12251 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المدعى عليه لو أقام بينة على أن ما في يده لفلان الغائب، وقلنا: البينة مسموعة لصرف الخصومة، فلو لم تكن للمدعي بينة، فقال أحلّف صاحب اليد لينكُل، فأحلف، فأغرمه القيمة، [لم يكن له ذلك، مذهبا واحداً] (1)؛ لأن الخصومة قد انصرفت عنه بسبب إقامة البينة. ولو لم يُقم بينة على أن ما في يده لفلان، فأراد أن يحلفه، فقد سبق الكلام فيه، وهو موضع اختلاف العراقيين وغيرهم، وذلك الاختلاف في رقبة الدار: ففي الأصحاب من قال: يستفيد المدعي بيمين الرد الدارَ. ومن أبى ذلك من العراقيين ذكروا خلافاً في أنه هل يحلّفه لينكل؛ فيحلف، فيغرِّمه القيمةَ؟ فعلى الخلاف المقدم المذكور فيه إذا أقر لحاضر وصدقه ذلك الحاضر. نعم، لو عاد ذلك الغائب، وأقام البينة على ملك نفسه، أو وقع الإقرار لحاضر، ثم لما دارت الخصومة بين المدعي والمقر له، أقام المقر له بينة على ملكه، فلا يملك المدعي تحليفَ المقِر ليغرِّمه؛

_ (1) عبارة الأصل: لم يكن ذلك مذهباً، والمثبت من (ت 5).

فإن الملك استقل للمقر له بالبينة، فخرج إقرار المقر عن كونه مقتضياً حيلولة، ولا مبالاة باقتضاء إقراره له ما يرجح بينته، إذا كانت الإحالة على البينة. ومن تمام الكلام في ذلك أن المدعى عليه لو أقر للغائب، وأثبت وكالة عنه، ثم أقام البينة بأن الملك للغائب، وهو موكلي، قدّمنا هذه البينة، ونُطنا بها القضاء؛ فإنها بينة مقامة في حقها، مقدَّمةٌ على بيّنة المدعي الخارج. وقد انتهى كُثْر المقصود من ذلك. وبقي الكلام في طرفٍ هو التتمة. فلو قال المدعى عليه: الدار لفلان الغائب، وهي رهن في يدعب، أو مستأجرة، فقد ادعى لنفسه حقاً، لو ثبت، لاستحق به مدافعةَ المدعي ومنْعَه، فمن لا يسمع البينة فيما تقدم من غير وكالة، ففي سماع البينة في هذه الصورة وجهان. والعراقيون سمعوا البينة من غير وكالة، ولا ادعاءِ حقٍّ، ولكنهم قالوا: لا محالة، بينة المدعي مقدمة، فلما فرضوا دعوى الرهن والإجارة، وبَنَوْا عليه تصوير إقامة البينة على أن الدار لفلان، وقد أجّرها من صاحب اليد أو رهنها، فإذا أقام بينةً كذلك، وأقام المدعي بينة، ذكروا وجهين: أحدهما - تُقدم بينة صاحب اليد؛ فإن لها تعلقاً بحقه، ويثبت الملك للغائب، لتعلق الملك بحق الحاضر، حتي لا يحتاجَ إلى إعادة البينة إذا حضر. حكى العراقيون هذا الوجه عن أبي إسحاق وضعّفوه. والوجه الثاني - أنه لا يثبت ملكُ الغائب، ويثبت ملك المدعي، ولا يثبت الرهن والإجارة؛ فإنهما يتبعان ثبوتَ الملك للغائب، وثبوتَ الملك له يتبع إذنَه وتوكيله. وقد انتجز الكلام في الطرف الأعظم. وهو إذا أقر صاحب اليد لمعين، حاضراً كان أو غائباً. 12252 - فأما إذا نفى الملكَ عن نفسه ولم يُضِفْه إلى معروف معين، فهذا يتصَوَّرُ على وجوه: أحدها - أن يقول: " ليس هذا بملكٍ لي "، فلا تنصرف الخصومة عنه بهذا، ولا تندفع عنه اليمين، فإن أقام المدعي بينة، قُضي له بها على الحاضر، وإن لم تجر بينة، فله أن يحلّف صاحب اليد، فإن حلف تخلص، وإن نكل حلف المدعي واستحق دعواه. هذا هو المذهب الظاهر.

ومن أصحابنا من قال: إذا قال: " ليس هذا لي " ينزع القاضي [العينَ] (1) من يده، ويقول للمدعي: هذا مال ضائع، فإن كانت لك بينة، فأقمها. والصحيح أن القاضي لا ينتزع من يده إذا لم يضف الملك إلى مُقَرّ له، ولا تنصرف الخصومة عنه. ثم من قال: للقاضي أن ينزع ملكَ العين من يده، يجوّز للمدعي أن يحلّف المدعى عليه ليغرمه القيمة على أحد القولين. فإن قال المدعى عليه: هذه الدار لرجل، ولا أسميه، فالحكم فيه كما إذا قال: ليس لي، واقتصر عليه. وإن قال: الدار لرجل لا أعرفه، وقد أُنسيتُ اسمَه وعينَه، فالاختلاف جارٍ في هذه الصورة، غير أن انتزاع القاضي العين من يده على الحكم الذي ذكرناه أَوْجَه في هذه الصورة منه في الصورتين المتقدمتين. 12253 - ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو أقر لمجهول، أو قال: ليس لي، ثم قال: كذبت فيما [قلتُ] (2)، والملك لي، فهل يقبل قوله الثاني؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وهو بعينه الخلاف الذي قدمناه فيه إذا أقر لحاضر، وكذّبه المُقَرّ له، ورجع المقِر عن إقراره، وقد قدمنا ذلك مفصلاً. 12254 - ومما يتصل بهذه الجملة أن المدعى عليه لو أقر لصبي أو مجنون، فإقراره مقبول، والخصومة في رقبة الدار تنصرف عن المدعى عليه، ثم يخاصم المدعي قيم الطفل، وإذا آل الأمر إلى اليمين، وقفت الخصومة إلى بلوغ الطفل، وهل يحلّف صاحب اليد ليغرّمه؟ فيه الخلاف المقدم. وإن قال المدعى عليه: هذه الدار وقفٌ على ولدي، أو على الفقراء، أجري الحكم بالوقف لإقراره، وفي تحليفه لتغريمه القيمةَ الخلافُ المقدم، وإن أقام المدعي بينة، قُضي له بها على التفصيل الماضي. وإنما يجري الخلاف في التحليف والتغريم إذا أقر بالوقف على ولده؛ فإن التدارك

_ (1) زيادة من المحقق. (2) في الأصل: " نقلت "، والمثبت من (ت 5).

ممكن، وإن أقر بالوقف على المساكين، فالتدارك فيه ممكن أيضاً بقيام البينة، فكيف فرض الأمر فالخلاف جارٍ. وقد نجز الفصل على أبلغ وجه في البيان. والله المستعان. فصل ذكر الشافعي فصلاً يتعلق بالتواريخ في الدعاوي المتعلقة بالأملاك أو بالأيدي، فرأيت تأخيره إلى باب معقود في هذا المقصود (1). ثم قال: " ولو أقام بينة أنه غصبه إياها ... إلى آخره " (2). 12255 - إذا ادعى رجلان عيناً في يد إنسان، فأقام أحدهما بينة على أنه غصبها منه، وأقام الآخر بينة على أنه أقر بها له، فبينة الغصب مقدمة؛ فإن الغصب إذا ثبت، بطل الإقرار. وهذا بيّن. ثم إذا رددنا الدار إلى مدعي الغصب، فليس لمدعي الإقرار أن يغرمه شيئاً، فإنه يقول: انتُزِعَت الدارُ من يدي قهراً، وإنما يخرج القولان في الغرم إذا كانت الحيلولة محالة على إقرار سابق، ثم يُفرض بعده إقرارٌ لاحق. ثم ذكر بعد ذلك فصلاً في تقاسيم الأيمان، وأنها متى تكون على البتّ، ومتى تكون على نفي العلم، وقد ذكرنا هذا فيما سبق (3)، وغالب ظني أنه يعود إن شاء الله في بقية مسائل الكتاب، والحاجة ماسة إليه. والله أعلم. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 262. ونُذَكِّر هنا بمذهب الإمام أنه يسير على ترتيب (المختصر) ملتزماً إياه، فإذا خالفه، نبه على ذلك. (2) ر. المختصر: 5/ 262. (3) ينبه هنا إلى أنه لم يلتزم ترتيب المختصر في ذكر هذه المسائل في هذا الموضع، حيث أوردها من قبل.

باب الدعوى في الميراث

باب الدعوى في الميراث قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو هلك نصراني، له ابنان مسلم ونصراني ... إلى آخره " (1). 12256 - إذا مات رجل وخلّف ابنا نصرانياً، وابنا مسلماً، فاختلفا، فقال النصراني: مات نصرانياً، فلي ميراثه، وقال الئاني: بل مات مسلماً، فلي ميراثه، فلا يخلو إما أن يكون قد عُرف دين المتوفى من قبل، أو لم يعرف له دين، فإن اشتهر بالتنصر، ثم تداعيا، فإن أقام أحدهما بينة دون الثاني، قُضي له بالبينة. فإن لم تكن لهما بينة، وقد عُرف المتوفى بالتنصر، فالقول قول النصراني؛ لأن الأصل دوام ما كان عليه، ومن يدعي الإسلام يدّعي أمراً جديداً، والأصل عدمه. ولو كانت المسألة كذلك، فأقام كل واحد منهما بينة، فبينة الابن المسلم مقدمة؛ فإن بينته ناقلةٌ مختصة بمزيد علم، وبينة التنصر مستندة إلى استصحاب ما كان عليه، وهذا فيه إذا كانت البينتان مطلقتين، فشهدت إحداهما بأنه مات مسلماً، وشهدت الأخرى بأنه مات نصرانياً، وتقديم البينة الناقلة على البينة المستديمة أصل ممهد في البينات. فلو شهدت بينة بأن فلاناً أصدق امرأته هذه الدار، وشهدت بينة لابنه بأنه ورثها من أبيه، فبينة الإصداق مقدمة؛ لأنها ناقلة، وبينة الإرث لا تصادمها إلا من جهة التعرض لنفي الإصداق، وهذا لا ثباتَ له. وكذلك إذا شهدت بينة لواحد بالشراء، وشهدت بينة للابن بالميراث من ذلك الشخص الذي شهدت البينة الأولى بالشراء منه، فبينة الشراء مقدمة. هذا إذا كانت البينتان مطلقتين.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 262.

فأما إذا كانتا مقيدتين: مثل أن تشهد بينة الإسلام بأنه نطق بالإسلام، ومات عقيبه، وشهدت بينة التنصر أنه نطق بكلمة التنصر ومات عقيبها، فهما متناقضتان في هذه الصورة، فتخرج المسألة على قولي التهاتر (1). فإن قلنا: إن البينتين تتهاتران، فيجعل كانهما لم تكونا، ولو لم تكن بينة، لكان الأصل بقاء التنصر، وإن قلنا باستعمال البينتين، ففي الاستعمال الأقوال الثلاثة، وهي بجملتها جارية في هذه الصورة، أما القرعة، والوقف، فلا شك في جريانهما، والقسمة جارية عند المعتبرين من الأصحاب. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا يُخرَّج قول القسمة. فإن النزاع آيل إلى الميراث، ويستحيل انقسام الميراث بين مسلم وكافر، وليس كما لو ادعى رجلان داراً عن شراء على صاحب يد؛ فإن قول القسمة عند قيام البينتين يجري؛ فإن الانقسام في الشراء ممكن، ولا يتصور الانقسام في الميراث بين المسلم والكافر. وهذا الذي ذكره غيرُ معتد به؛ فإن قول القسمة لا يعتمدُ إلا إمكان الشركة في الجنس المدعى، فأما الجهات، فلا نظر إليها؛ فإن القسمة إنما تجري لاستواء المتداعيين في متعلقيهما، وليس أحدهما أولى من الثاني، والتعطيل عند هذا القائل لا سبيل إليه، وليست القسمة لتخيلنا ثبوت استحقاقهما على الانقسام؛ ولم أذكر هذا الوجه لضعفه عند تمهيد الأصول. وكل هذا فيه إذا عُرف أصل دينه. ثم جرى الخلاف كما وصفنا. 12257 - فأما إذا لم يعرف أصلُ دينه، ولكن ادعى أحد الابنين -وهو المسلم منهما- أنه كان مسلماً ومات على الإسلام، وادعى النصراني منهما أنه كان نصرانياً، وأقاما بينتين، فهما متناقضتان، والتفصيل فيه كما قدمنا في التهاتر والاستعمال. ولو لم تكن معهما بينة، ولم يسبق في المتوفى دين يستصحب، فليس أحدهما أولى من الثاني؛ إذ لو أقاما بينتين موافقتين لدعوييهما، لما ترجحت إحدى البينتين على الأخرى، فإذا كانت لا تترجّح بينة على بينة، فلا تترجح دعوى على دعوى،

_ (1) أي قولي التهاتر والاستعمال.

والنسب ثابت من المتوفى، فسبيلهما في التركة كسبيل متداعيين في دار هي في أيديهما، وقد مضى التفصيل فيه، ويخرج منه أن التركة في أيديهما. وقد ذكر القاضي أنا ننظر إلى اليد: فإن كانت التركة في يد أحدهما، فالقول قوله مع يمينه، وهذا وهم وزلل من الناقل عنه؛ فمانهما إذا اعترفا بأن المال الذي فيه النزاع تركة، فلا حكم لصورة اليد، وما كان تركة فسبيله مع الإشكال تساوي الاثنين فيه. ومما يجب التنبه له أن أحد الابنين إذا كان مسلماً وقال: لم يزل أبي مسلماً، ومات على ما كان عليه، فمن ضرورة هذا أن ينسب أخاه إلى الردة، فإن ولد المسلم مسلم، ولكن قوله مردود على أخيه فيما يتعلق بدينه. وأبعد بعض أصحابنا، فقوّى بينة الإسلام بقوة الدار، وصدق مدعي الإسلام مع يمينه لهذا المعنى، وهذا هوسٌ لا أصل له؛ فإن الدار إنما تؤثر في طفل يُلفَى في دار الإسلام بلا أب. 12258 - ومما نُلحقه بهذا أنه إذا قامت بينتان في الإسلام والكفر ولم تترجح إحداهما، وجرى القضاء بالتهاتر أو الاستعمال، فالشخص المتوفى يغسل ويصلى عليه، نصّ عليه الشافعي، وشبّهه في هذا الحكم بمسلمين اختلطوا بمشركين، وأردنا الصلاة، فإنا نصلي على المسلمين بالنية (1)؛ وهذا الاستشهاد إيناسٌ لا حاجة إليه، والمعتمد في الصلاة استناد الإسلام إلى [بيّنة] (2) وليس في الصلاة نزاع، ولا يموت ميت فيقطع له بالإيمان في الموافاة، ولست أنكر تردداً من طريق الاحتمال، سيّما إذا كان الرجل معروفاً بالتنصر، وقد تعارضت بينتان في الكلمة التي بها الاختتام. ولكن النص هذا، ولم أر في الطرق ما يخالفه. ومن لطيف ما يجب التنبه له أن المتوفى إذا كان معروفاً بالتنصر، والبينتان مطلقتان، فقد ذكرنا أن بينة الإسلام مقدمة؛ لأنها ناقلة، ولو لم نَفرِض بينتين، فالقول قول المتنصر، فنُرجِّحُ بينةَ من لا نصدقه لو لم تكن بينة، وذلك لفقه واضح،

_ (1) عبارة الشافعي في المختصر: " وإنما صُلي عليه بالإشكال، كما يصلى عليه لو اختلط بمسلمين موتى ". (2) في الأصل: " نيته " والمثبت من (ت 5).

وهو أن النقل دعوى، والاستصحابُ مقام المدعى عليه. ثم إذا أقاما بينتين، فبينة الناقل تشتمل على مزيد علم، لا تصادمها بينة المستصحِب إلا بالنفي، والشهادة على النفي مردودة. فصل قال: " ولو كانت دار في يد أخوين مسلمين ... إلى آخره " (1). 12259 - صورة المسألة: مسلم له ابنان مسلم ونصراني، فمات، فلا يخفى أن الميراث للمسلم، فإن أسلم النصراني قبل موت الأب، فالميراث بينهما، فلو اختلفا، فقال الابن المسلمُ: أسلمتَ بعد موت الأب؛ فلا حظّ لك في الميراث. وقال هو: بل أسلمتُ قبل موته، فالاختلاف بينهما على هذا الوجه بمثابة اختلاف الزوجين في الرجعة وانقضاء العدة. ونحن نسوق الترتيب هاهنا في عرض المسألة، فنقول: لا يخلو إما أن يتفقا على وقت الإسلام، وهما مختلفان في وقت الموت، أو يختلفان في وقت الإسلام، ويتفقان على وقت الموت. فإن اتفقا على وقت الإسلام، واختلفا في وقت الموت، بأن يحصل الوفاق على أنه أسلم في رمضان، وقال الابن المسلم: مات أبونا في شعبان، فأسلمتَ بعد موته، فلا شيء لك من التركة، وقال الآخر: بل مات أبي في شوال، فإن كان لأحدهما بينة، وقع الحكم ببينته، وإن لم يكن لأحدهما بينة، فالقول قول الابن الذي كان نصرانياً؛ لأنه أنكر الموت في شعبان واستصحب الحياة، والأصل بقاؤها. فإن أقام كل واحد منهما بينة على وَفْق دعواه، فقد قال القاضي والأصحاب: بينة المسلم أولى؛ لأن معها زيادةَ علم تنقل من دوام الحياة، والميت في شعبان ميت في شوال. وهذا فيه كلام؛ فإن الذي كان نصرانياً يثبت الحياة في شعبان، والحياة صفة ثابتة

_ (1) ر. المختصر: 5/ 263.

ترتبط الشهادة بها على استيقان كالممات، فلئن تعرضت بينةٌ لثبوت الموت في وقتٍ ناقضته البينة الأخرى بوصفٍ ثابت لا يرجع إلى نفي إلا من جهة رجوع الأخرى إلى النفي، فبينة الحياة تنفي الموتَ من جهة اعتقاب الضدين واقتضاء ثبوت أحدهما نفي الثاني، وهذا يشمل الجانبين، فلست أدري لترجيح بينة على بينة وجهاً. وليس كما قدمناه في ابنين أحدهما مستقر على التنصر، والثاني مسلم، وكان أبوهما مشهوراً بالتنصر، فلو أقام النصراني بينة على أنه مات نصرانياً، وأقام المسلم بينة على أنه مات مسلماً، فبينة الإسلام ناقلة؛ من جهة أن بينة التنصر يتجه حملها على استصحابها حكم الدين الذي كان المتوفى مشهوراً به، وأما الشهادة على الحياة، فلا يسوغ حملها على أن الشهود اعتمدوا استصحاب الحال، وشهدوا بالحياة، بل محملها أنهم عاينوه حياً، فشهدوا. 12260 - ولو اتفقا على وقت الموت، واختلفا في وقت الإسلام، بأن اتفقا على أنه مات في رمضان، وقال المسلم منهما لصاحبه: أسلمتَ في شوال، فلا شيء لك، وقال ذلك المخاطَب: بل أسلمت أنا في شعبان، فالميراث بيننا، فإن كان لأحدهما بينة، حكم ببينته، وإن لم يكن لهما بينة، فالقول قول الابن المسلم، إذ الأصل بقاء الكفر. وإن أقام كل واحد منهما بينة على وفق دعواه، فبينة النصراني أولى، لأنها ناقلة، ولها زيادة علم. وهذا متجه؛ فإن بينة المسلم قد تبنى على دوام كفر الآخر، فالبينة الناقلة أولى من المستندة إلى الدوام. 12261 - ولو مات وخلف زوجةً مسلمة، وأخاً مسلماً، وابنين كافرين، فتنازعوا، فإن عُرف أصلُ دين المتوفى، فالقول قول من يبقِّي الأصل، وإن لم يعرف أصل دينه، فإن أقام أحدهما بينةً، حُكم بالبينة. وإن أقام الفريقان بينتين، فهما متعارضتان، وإن لم يكن لهما بينة، فالتركة بين الفريقين. قال القاضي: إن كانت في أيديهم، فالاشتراك. وإن كان في يد أحد الفريقين، فاليد له. وهذا عندنا غير صحيح، مع الاعتراف بأنه تركة، كما قدمنا تقريره.

ثم إذا انتهى التفريع إلى القسمة، فالنصف للابنين والنصف للزوجة والأخ؛ فإن الفريقين مختلفان، فإن ورث الابنان لم يرث الفريق الآخر، وإن ورثت الزوجة والأخ لم يرث الابنان، ثم ما يسلم إلى الزوجة والأخ المسلمين، فالربع للزوجة، والباقي للأخ؛ فإن الابن الكافر لا يحجب المسلم كما لا يرث. 12262 - ولو مات وخلف ابنين مسلمين، وأبوين كافرين، فقال الابنان: مات مسلماً، وقال الأبوان: بل كافراً -ولا بينة- فقد ذكر القاضي وجهين، وقرّبهما من تقابل الأصلين: أحدهما - القول قول الابنين لظاهر الدار، والوجه الثاني - القول قول الأبوين؛ لأنهما إذا كانا كافرين، فالأصل أن الابن المتوفى مثلهما؛ فإن الأصل يستتبع الفرع؛ وهذا فيه إذا كان أصل دين المتوفى متنازعاً فيه. وفي هذا أدنى نظر وتأنّق، فليقع فرض المسألة فيه إذا لم يسلّم الابنان المسلمان كون الأبوين كافرين أصليين، فإن ذلك لو ثبت، فلا شك في كفر الابن أولاً في الأصل، وإنما يثبت إسلامه طارئاً [بنسب] (1) أو إنشاء إسلام، وإذا كان كذلك، فمستصحِب أصل الكفر أولى، إذا لم تكن بينة، وهذا واضح. فصل قال: "ولو أقام رجل بينة أن أباه هلك، وترك هذه الدارَ ميراثاً ... إلى آخره" (2). 12263 - مضمون هذا الفصل صرفُ التركة إلى من ثبت كونه وارثاً، مع التثبت في أنه لا وارث للمتوفى غير من أثبت الوراثة، ثم إذا تمهد هذا الأصلُ، ذكرنا ما يليق به من الدعوى. فإذا أقام رجلٌ بيّنةً أن أباه مات، وخلَّفه وارثاً، وقال الشهود: لم نعلم له وارثاً سواه، نُظر: فإن كانوا من أهل الخبرة الباطنة بحاله، بحيث علموا سفره وحضره،

_ (1) في النسختين: " بسبب " والمثبت تقديرٌ من المحقق، رعاية للسياق والمعنى. (2) ر. المختصر: 5/ 263.

ومغيبه، ومشهده، واطّلعوا على بواطن أمره، وشُعبِ نسبه وتزوجه، ففي مثل هذه الحالة يسلِّم القاضي ميراثه أجمع إلى الابن الذي فرضنا كلامنا فيه، ولا يطالبه بكفيل -مع قيام البينة- إجماعاً، ثم اتفق الأصحاب على أنه يكفي في ذلك شاهدان عدلان من أهل الخبرة الباطنة. وذكر بعض المصنفين (1) أنه لا بد من ثلاثة يشهدون، وذكر هذا الوجهَ أيضاً في إثبات الإعسار، واعتلَّ بأن الشهادة في البابين مستندُها النفيُ، فبعدت الإحاطة بالمقصود. وهذا الذي ذكره لا أصل له، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب، لا هاهنا ولا في الإعسار، فإن ذكر هذا اشتراطاً، فخطأٌ صريح، وإن ذكره احتياطاً، فالأمر أقرب. ثم اشترط الأصحابُ كونَ الشهود من أهل الخبرة الباطنة، وهو صحيح، ولكن إذا ذَكَر عدلان أنهما خبرا باطنَه، اعتمد القاضي شهادتهما في ذكر الخبرة، كما يعتمد شهادتهما في أصل الواقعة، ثم إذا لم يذكرا كونهما خبيرين، نُظر: فإن عرف القاضي أنهما مخالطان للمتوفى سفراً وحضراً، لم يستبْحث، وإن لم يعلم ذلك، راجعهما، وأبان لهما أن الشهادة في الباب تعتمد الخبرة، وتستند إليها لا غير، فإذا ذكرا أنهما خبيران بالباطن، قُبل حينئذ شهادتهما، ثم إذا قالا مع إظهار الخبرة: لا نعرف له وارثاً غير هذا، كفى. وإن قالا: لا وارث له غيره، قُبل ذلك، مع ما فيه من المجازفة، وحُمل على الممكن في الباب من الاحتياط. 12264 - ولو مات الرجل، وخلّف زوجة، وثبتت زوجيتُه عند القاضي، وأشكل هل له زوجة سواها؟ فقد قال الأئمة: يدفع إليها في الحال من غير تربص المقدارَ المستيقن لها، وهو ربع الثُّمن عائلاً بأقصى ما يتصور من العول، وهو بيّن في الفرائض؛ فإنه لا سبيل إلى منع المستيقَن، ولا مزيد عليه في الحال، مع اطراد الإشكال، والمسألة مفروضة فيه (2)، ثم إذا بأن الورثة واحتجنا إلى أن نزيدها، زدناها.

_ (1) بعض المصنفين: سبق مراراً القول إنه يقصد به (أبا القاسم الفوارني). (2) فيه: أي في الإشكال.

ولو ثبت للمتوفى ابنٌ وارث، ولكن لم تقم بينة على أنه لا وارث سواه، فلا يصرف القاضي إليه شيئاً من الميراث، حتى يبحث عن حقيقة الحال، ويبعث إلى المواضع التي توهَّم (1) مصيرَه إليها، ويأمر من ينادي في كل قطر انتشر إليه، بأن فلاناً مات، فهل تعرفون له وارثاً؛ فإنا على قسمة ميراثه، [فما لم يَخْبُر ولم يبحث] (2) -والبحث ليس خارجاً عن الإمكان ولكن قد يتمادى فيه زمان- فلا يصرف إلى الابن شيئاً، فإنه ليس له [نصيب] (3) مقدر، وليس للممكن بين عدد المزاحمين ضبط، بخلاف الزوجة وكل صاحب فرض. ولو خلّف المتوفى أمّا، فيدفع إليها السدس عائلاً على أقصى الإمكان في تصوير الإعالة، وللزوج أيضاً الربع العائل، وهذا مطرد في كل صاحب فرض يتصور ضبط أقل نصيبه، وكان ممن يرث لا محالة، ولا يحجب عن أصل الاستحقاق. 12265 - ولو توقف القاضي في أمر الابن، أو الأخ، أو غيرهما من العصبات، فبحثَ، وخبرَ، وبالغ في الاحتياط، فلم يَبِن وارثٌ سوى من ظهر، فيصرف التركة إلى من ظهر، وهل يأخذ منه كفيلاً بما أخذه؟ في المسألة قولان: أحدهما - يأخذ كفيلاً، تتمةً للاحتياط، وإن كانت هذه الكفالة لمجهولٍ بمجهول، ولكنا قد نحتمل مثلَ ذلك في منازل الاحتياط، كما ذكرناه في ضمان العهدة؛ والذي اختاره [العراقيون] (4) أنه لا يطالب بضمين، والاحتياطُ على ما وصفناه بالبحث كافٍ؛ إذ لا خلاف أنه لو شهد شاهدان من أهل الخبرة، سُلّم المال على مقتضى شهادتهما من غير ضمين، وإنما التردد فيه إذا كان القاضي هو الذي يبحث ويخبُر. ثم قال الأئمة: لو كانت المسألة مفروضة في الابن، فهو يرث لا محالة، ولا يحجبه شخص حجباً كلياً، وترتيب الكلام فيه ما ذكرناه في الخبرة، والبينة

_ (1) أي توهّم القاضي وتوقع أنه صار إليه. (2) في الأصل: " فما لم يخبره لم يبحث ". وفي نسخة ت 5: " فما لم يجر ولم يبحث " والمثبت تصرف بالجمع بين النسختين. (3) زيادة من المحقق. (4) في الأصل: " القياسون ".

[الخابرة] (1)، وترتيب القول في الضمان. فأما إذا كانت المسألة مفروضة في الأخ، وكل من يتصور أن يحجب عن أصل الميراث، فإن قامت بينة ذات خبرة، وقالت: لا نعلم له وارثاً بعد الخبرة الباطنة سوى هذا الأخ، سُلّم الميراث إليه من غير ضمين، فإن لم يكن بينةٌ على هذا الوجه، واحتاج القاضي إلى الخبرة، فإذا خبر، فهل يدفع الميراث إليه؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يَدْفع؛ فإن الخبرة إذا حصلت، فهي أقصى الإمكان. وشهادة الشاهدين الخبيرين بزعمهما لا تفيد إلا غلبة الظن أيضاً، والوجه الثاني - أنه لا يسلم إليه شيئاً حتى يأتي بشاهدين خبيرين. وهذا الوجه ضعيف، والابن الذي لا يحجب عن أصل الميراث بمثابة الأخ؛ لأنه وإن كان لا يحجب، فمقدار ما يستحقه مجهول، ثم إذا كان التعويل على خبرة القاضي، فَخَبَر، وفرّعنا على الأصح، وهو أنه يسلِّم إلى الأخ بعد الخبرة، فقد قطع القاضي بأنه لا يدفع إليه إلا بضمين مذهباً واحداً بخلاف الابن. والفارقُ أن الأخ يُفرض حجبه عن أصل الميراث. ومن أصحابنا من أجرى القولين في استحقاق الضمين (2) على الأخ، وهذا منقاس متجه. 12266 - وإذا كان في المسألة صاحب فرض، فلا كفيل في القدر المستيقن، إذا كان لا يفرض الحجب عنه؛ فأما تسليم تمام الفرض، فموقوف على الخبرة، فإن قامت بينة خابرة، حكمنا بها، وجرينا على مقتضاها، ولا كفيل، وإن كان الأمر مردوداً إلى خبرة القاضي، والمسألة في الزوجة مثلاً، وهي بين ربع كامل وبين ربع ثُمنٍ عائل، فإذا ظهر بالخبرة أنه لا زوجة سواها، ولا ولد في الفريضة، فقد ذكر العراقيون وصاحب التقريب وجهين في توفير نصيبها عليها بعد البحث، وهذان الوجهان كالوجهين في أن الأخ هل يصرف إليه بعد البحث شيء أم يتوقف إلى أن يقيم بينةً خابرة. ولو شهدت بينة أن هذا ابن المتوفى ووارثه، وخبرنا، فلم نجد سواه؛ صرفنا

_ (1) في النسختين: " الجائزة "، والمثبت من المحقق. (2) ت 5: " القسمين ".

الميراث إليه. ولو شهد شاهدان على البنوة، ولم يذكروا كونه وارثا، وبحثنا، فلم نجد له وارثاً سواه، صرفنا الميراث إليه، إذا لم يكن حاجب وصفي. ولو فرض هذا في الأخ، وسكت الشهود عن كونه وارثاً وبحثنا، ففي الصرف إليه خلافٌ ذكرناه، قال العراقيون: إذا سكت الشهود عن وراثة الأخ، لم نسلّم إليه شيئاً بعد الخبرة وجهاً واحداً؛ فإن سكوتهم عن الوراثة يورث رَيْباً، ويشعر بأنهم يعرفون له حاجباً، وهذا ليس بشيء؛ فإنه حكم بتوهمٍ لا أصل له، والوجه أن يخبر القاضي، ثم يخرج الوجهان كما قدمناه. هذا منتهى المراد في ذلك. 12267 - ومما ذكره الأئمة أن قالوا: لو كان لامرأةٍ زوجٌ، وابن، وأخ، فماتت المرأة، ومات الابن، وتنازع الزوج -أب الابن- والأخ- خال الابن- فقال الأخ: مات الابن أولاً، وعاد شيء من ماله إلى أمه، ثم ماتت، فالميراث بيني وبينك أيها الزوج، وقال الزوج: لا، بل ماتت الأم أولاً، فورثها ابني، وحجبك يا أخ، ثم مات الابن فالميراث كله لي -ولم يكن لواحد منهما بينة- فإن عسُر دَرْك تاريخ الموتين، وأيس من الاطلاع عليه، فهذا من عمى الموت، فلا نورث ميتاً عن ميت، ومال الابن لأبيه وهو الزوج، ومال المرأة بين الزوج والأخ، وإن كان يتوقع الاطلاع على التاريخ، توقفنا لنبحث. ثم الكلام يتصل بأقوال العلماء في ميراث الغرقى، حيث يتفق اليأس، أو يبقى مطمع، وقد فصلنا ذلك في الفرائض. 12268 - ثم ذكر الشافعي صورة في الدعوى، قال: إذا جاء مدعٍ، وادعى على صاحب يد في الدار، وقال: إن أبي مات، وخلف الدار التي في يدك، وهي لي ولأخي الغائب، وأقام بينة عادلة خابرة، حُكم ببينته، وقضي للحاضر بنصيبه من الدار، وانتزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه، ويؤاجر له، فإذا رجع دُفع إليه نصيبه وما حصل من الكراء، ولا حاجة إلى إعادة البينة، ولا إلى دعوى من جهته. ولو ادعى المدعي أن الدار التي هي في يد المدعى عليه له ولفلان الغائب، وقال: اشتريناها، وأقام بينة عادلة، فيقضى له بنصيبه، ولا ينزع نصيب الغائب من جهته،

وإذا رجع الغائب، احتاج إلى الدعوى وإقامة البينة ليُقضى له بنصيبه، والفرق أنه إذا ادعى الإرث، فحاصل دعواه إثبات الإرث للوارث، وإذا ثبت له الملك، لم ينقسم، ولم يتبعض، وأما إذا كانت الدعوى عن جهة شراء، فقد ادعى لنفسه ولصاحبه سببين، ولم يكن وكيلاً من جهة صاحبه. فكانت دعواه المتعلقة بصاحبه مردودة. وهذا بيّن. ***

باب الدعوى في وقت قبل وقت

باب الدعوى في وقت قبل وقت قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان العبد في يدي رجل، فأقام رجل بينة أنه له منذ سنتين ... إلى آخره " (1). 12269 - إذا كان في يد رجل عبد، فجاء خارجيان، وأقام كل واحد منهما بينة أن العبد له، نُظر؛ فإن كانت البينتان مطلقتين، أو مؤرختين تاريخاً واحداً، فهما بينتان متعارضتان، وقد سيق الحكم فيهما في إبانة التهاتر والاستعمال. وإن كانت إحدى البينتين أسبق تاريخاً، وكانت الأخرى أحدث تاريخاً، واستويا في شهادة كل بينة لمقيمها بالملك في الحال، ففي المسألة قولان: أحدهما - هما سواء؛ لأن المقصود التعرض للملك في الحالة الراهنة، وقد استوتا في ذلك، فلا أثر بعد ذلك للتقدم والتأخر. والقول الثاني - أن البينة المشتملة على تقدم التاريخ ترجح، وهذا مذهب المزني وأبي حنيفة (2)، واحتج المزني بأن اليد إذا كان يرجح بها، فكذلك وجب الترجيح بتقدم التاريخ، واحتج أيضاً بأن قال: إذا كانت البينتان في بهيمة، وشهدت إحداهما لمقيمها بأولية النتاج في الملك، فتلك البينة مقدمة، وسبب تقدمها اختصاصها بتقدم التاريخ، فقال الأصحاب: ليس التاريخ كاليد؛ فإن اليد علامةٌ محسوسة ناجزة تدل لو تفردت، وأما النتاج الذي استشهد به، فقد قال الأصحاب أجمعون: القولان جاريان في البينتين وإن اختصت إحداهما بذكر النتاج، فلا فرق. ولو فرضت بينتان مؤرختان في نكاح امرأة، فالقولان جاريان في تقدم التي سبقت، كما ذكرناه في الأموال، وإن كانت إحدى البينتين مؤرخة، والبينة الثانية

_ (1) ر. المختصر: 5/ 264. (2) ر. مختصر الطحاوي: 352.

مطلقة، إن قلنا: لا ترجيح بسبق التاريخ، فهما سواء، وإن قلنا: ترجح البينة بسبق التاريخ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن المؤرخة مقدمة؛ فإن المطلقة ليست تتعرض إلا لملك الحال، بخلاف الأخرى، فإنها تعرضت للحال ولما تقدم، وهذا الوجه متجه. والوجه الثاني - أنهما سواء؛ لأن المطلقة لو استفْسرناها، فربما تؤرخ بأكثر مما أرخت المؤرخة، وكل ما ذكرناه في الخارجيين. 12270 - فأما إذا فرضنا الكلام في بينة الخارجي، وصاحب اليد، نُظر: فإن كانت بينة صاحب اليد أسبق تاريخاً، فقد اجتمع لها ترجيحان، وإن كانت بينة الخارجي أسبق تاريخاً، فإن قلنا: لا يرجّح بسبق التاريخ، فبينة صاحب اليد مرجحة بيده. وإن قلنا ترجح البينة بسبق التاريخ، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنا نرجح بينة الخارجي؛ لأنها اشتملت على ما اشتملت عليه اليد مع مزيد في التاريخ. والثاني - بينة صاحب اليد أولى؛ لأن اليد علامةٌ محسوسة. والثالث - أنهما سواء، فيتعارض السبق واليد. وإن كانت المسألة في الخارج والداخل، وإحدى البينتين مطلقة، فإن كانت بينة صاحب اليد مؤرخة، فهي المرجحة. وإن كانت بينة الخارجي مؤرخة، وبينة صاحب اليد مطلقة، -إن قلنا في الخارجين هما سواء- فبينة صاحب اليد مرجحة بيده، وإن قلنا في المسألة الأولى: المؤرخةُ أَولى من المطلقة إذا كانا خارجين، فتعود الأوجه الثلاثة في هذه الصورة. 12271 - وقد كنا أحلنا فصلاً متعلقاً بالتاريخ إلى هذا الباب، ونحن نذكره الآن، فنقول: دارٌ في يد إنسان، فجاء آخر وادّعى الملك فيها، وأقام بينة على أن هذه الدار كانت ملكاً للمدعي أمس، واقتصرت على ذلك، فالمنصوص عليه في الجديد أن البينة مردودة؛ فإنها لم تتعرض لإثبات الملك في الحال. وقال في القديم: تسمع البينة، ويقضى بالملك للمدعي، إلا أن يُثبت المدعى عليه تلقياً منه، أو يقيم بينة مطلقة على الملك في الحال. توجيه القولين: وجه القول الجديد أن البينة لم تتعرض لما هو المطلوب، وهو

ملك الحال؛ فلا أثر لها، ولست أعرف خلافاً أن المدعي إذا لم يتعرض لدعوى الملك في الحال، بل اقتصر على إضافة الملك إلى ما مضى، فدعواه مردودة، فإذا كان الخصام يثبت بدعوى الملك في الحال، فلتكن البينة على ما هو المطلوب بالدعوى. ووجه القول القديم أن الملك إذا ثبت فيما سبق، فالأصل بقاؤه ودوامه، إلى أن يقطعه قاطع، أو يعارضه معارض، وهذان القولان يقربان من القولين في اختلاف البينتين في التاريخ، مع تعرضهما لإثبات الملك في الحال. فإن لم نرجح بسبق التاريخ، فلا أثر للاقتصار على الملك السابق، وإن رجحنا بتقدم التاريخ، فإذ ذاك يجري القولان الجديد والقديم عند فرض الاقتصار على الملك السابق، وما ذكرناه من القولين في الشهادة على الملك السابق من غير تعرض لملك الحال يجريان فيه إذا أقام المدعي بينة على أن الدار كانت في يد هذا المدعي أمس ولا يعرض للحال. وفي الجديد لا حكم للبينة. وفي القديم يحكم بها، وتثبت اليد للمدعي، وندير الخصومة على هذا الموجب. هذا أصل الفصل. وفيه غائلةٌ اضطرب فيها المنقول من كلام القاضي، ونحن بعون الله نذكر ما يجب تحصيله. 12272 - فنقول: أولاً، إذا علم الشاهد سبب ملكٍ الإنسان، وكان بحيث يجوز أن يسند الشهادة بالملك إليه، فإذا استُشهد الشاهدُ على الملك بعد ذلك السبب بزمان، وما عَرف الشاهدُ انقطاع ملكه، فقد أطلق الأصحاب أن له أن يشهد له بالملك في الزمان الذي استشهد فيه؛ بناء على استصحاب الملك ودوامه. هذا ما ذكروه. ولم أر الأصحاب يشترطون في ذلك خبرة باطنة مقترنة باستمرار الزمان يطلع بها الشاهد على ظهور دوام الملك، والسبب فيه أن الخبرة وإن كانت باطنة، فليس المعنيّ بها ألا يفارق الشاهد صاحبه في لحظة وتطريفةٍ، أو في يوم أو أيام؛ فإن هذا لو شرطناه لعسُر الأمر، وإذا كان كذلك، فإذا انقطع الشاهد عن صاحبه يوماً مثلاً، فليس يتعذر زوال ملكه فيه ببيع، أو ما في معناه من جهات الإزالة، وليس ما قدرناه أمراً نادارً بعيداً، فلو اشترطنا للشاهد شيئاً سوى استصحاب الحال، لعسرت الشهادة على

الأملاك الناجزة إذا تطاول الزمن، وهذا هو الذي تلقيناه من كلام الأصحاب. وليس يبعد -وإن كان المعول على ما ذكرناه- أن يُشترط نوع من البحث عن مجاري الأحوال يفيد غلبة الظن في دوام الملك، إذا أراد الشاهد تنجيز الشهادة على الملك الواقع في الحال، وهذا البحث، وإن كان لا ينتهى إلى الاطلاع على مجاري الأحوال في السرّ، ولكن ترك الممكن فيه لا يليق بمنصب الشهادة. هذا وجهٌ في الاحتمال. ثم ما ذكره الأصحاب أن من أحاط بسبب الملك على ظاهر الظن -إذ لا يُتصور درك اليقين في إثبات الأملاك- فإذا ثبت الممكن من اليد والتصرف، على ما قدمنا شرح ذلك، ثم دام الأمر بحيث يجوز له أن يبتّ الشهادة على الملك الناجز، كما ذكرناه الآن، فلو ذكر السبب السابق، وذكر في مجلس القضاء من استمرار الأحوال ما يسوّغ له الشهادة على تنجز الملك، ولكنه لم يشهد، قال الأصحاب: لا يثبت الملك في الحال، وإن كان يجوز للشاهد جزمُ الشهادة؛ وشبهوا هذا بما لو قال الشاهد على الرضاع: رأيت الرضيع التقم الثدي، وكان يحرك اللهاة ويمتص، إلى غير ذلك من المخايل، فلا يكون شاهداً على الرضاع، وإن كان يجوز أن يشهد على الرضاع مما عاين. والسبب فيه أنه إذا لم يشهد على الرضاع، أورث ذلك رَيْباً في الأمر، وظناً غالباً بأن الشاهد غيرُ واثق، ولذلك لم يجزم الشهادة على الرضاع، كذلك إذا ذكر السبب المتقدم، ولم يجزم الشهادة على الملك في الحال، جرّ ذلك تردداً من الشاهد وريباً، هذا ما ذكره شيخي وصاحب التقريب وغيرهما. وقال القاضي: إذا شهد على السبب المتقدم، وقال: لم أعلم زوال ملكه بعد ذلك، كان هذا بمثابة جزمه الشهادة بالملك، والسبب فيه أن انتفاء الزوال مما لا يطلع عليه، ولا مستند للشهادة على الملك في ذلك إلا عدمُ العلم، وبناء الأمر على الاستمرار، وهذا كقول الشاهد: لا أعلم له مالاً، ولا أعلم للمتوفى وارثاً سوى هذا، وإذا حصلت الشهادة كذلك، كفت وأغنت؛ فإن الاطلاع غير ممكن، وليس كذكر العلامات في الرضاع، فإن وراءها أحوالاً يدركها العِيان، ولا يحيط بها الوصف فالعبارة عنها إنما هي القطع بوصول اللبن إلى الجوف.

ثم القاضي في طريقه ذَكَر تفصيلاً دقيق المُدرك، فقال: إذا قال الشاهد: أشهد على ما كان من السبب، ولست أعلم ما يخالفه، فهذا كافٍ. ولو قال: لستُ أدري أكان أو لم يكن، وأبدى هذا إبداءَ مرتاب متشكك غيرِ معتضدٍ باستصحاب الحال، فهذا [يخرم] (1) الشهادة، والفصلُ بين أن يبدي رَيْباً وبين أن يبدي استمراراً، ويعبر عنه بأني لا أدري زوالاً [مستبينٌ] (2) للفطن، هذا تردد الأصحاب. وهو من الأصول التي يعظم وقعها في العلم والجهل. ويخرج من كلام القاضي أن البينة لو شهدت على الملك أمس، ولم تتعرض لما يُشعر بالاستمرار والدوام، ولم يقل: " ولا أعلم زوالاً "، ولم يبدِ رَيْباً، فهذا يلتحق بالقولين، ولا يكون شهادة بالملك الناجز. 12273 - ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن البينة لو تحملت الشهادة على إقرار مؤرخ بتاريخٍ في ملك أو يدٍ، ثم فرض تنازع بين المقِر والمقَرّ له، فإذا شهدت البينة على الإقرار السابق، فمعلوم أنها ليست متعرضة لاستحقاق المقر له في الحال، وقد ذكرنا قولين فيه إذا شهدت البينة على الملك في الزمان الماضي، وبيّنا أن الأصح أن البينة مردودة غير مفيدة؛ فإن الخصام ناجز، وتاريخ الملك مقدم، وهذا بعينه يجري في تقدم الإقرار؛ فإن المقر بالملك قد يتلقى الملك بسبب من الأسباب. وقد ذكر صاحب التقريب في الإقرار طريقين، وشفى الغليل بذكرهما، وقال: من أصحابنا من جعل الإقرار المتقدم حجة باتّة على المقر في مستقبل الزمان، وهذا ما إليه مصير معظم الأصحاب وأقضية القضاة. ولولا ذلك لما كانت في الإشهاد على الأقارير فائدة، والحجة تسقط بمضي ساعة. ومن أصحابنا من قال: الإقرار السابق إذا ثبت، فهو بمثابة شهادة الشهود على الملك فيما سبق من الزمان، وهذا وإن كان منقاساً، فالذي أعتقده فيه أنه خرق لما اتفق عليه الأولون. والقول به مسبوق بالإجماع، وإن اختار القاضي هذه الطريقة الأخيرة ونقلتها عن صاحب التقريب عضداً

_ (1) في الأصل: " يحزم " بالحاء والزاي المحجمة. وت 5: " يجزم " بالجيم والزاي المعجمتين، وكلاهما خطأ واضح. والمثبت من عمل المحقق. (2) في الأصل: " فبيّن ". وت 5: " متبين ". والمثبت تصرّف من المحقق.

وتأييداً، وهو بمثابة التمسك بقياس جزئي في مصادمة قاعدة كلية. 12274 - ومما يتصل بذلك أن المدعي إذا أقام بينة على أن صاحب اليد باع الدار التي في يده منِّي، وذكر تاريخاً متقدماً على وقت الدعوى، فالذي قطع به الأصحاب أنه يُقْضى له بالملك، وإن كان البيع متقدماً على وقت الدعوى، ولا يتصور إلا كذلك، ومن ذكر طريقةً في إجراء القولين في الإقرار المتقدم؛ فإنه يُجْريها هاهنا؛ فإن البينة إذا تعرضت للشراء، فقد ذكرت سبباً في الملك سابقاً، فكان كما لو ذكرت الملك مضافاً إلى زمانٍ تَقَدَّمَ، وهذا وإن كان منقاساً، فلا سبيل إلى الاجتراء على ذكر خلاف فيه. 12275 - والذي ينتظم بعد تقريرنا طرقَ الأصحاب أن الملك المطلقَ مستندٌ إلى طرفٍ من العماية؛ فإن نُجّز، ثبت، وإن أضيف إلى ما سبق، ففيه التردد جديداً وقديماً، والإقرار ينقل قطعاً، وكذلك الشراء من الخصم، فالوجه دوام اقتضائه إلى أن يتبين انقطاعه؛ فإنا إذا وجدنا أصلاً مستيقناً، ولا مطمع في العلم بالدوام، كفى المستيقَن، ولم يزل أثره حتى ينقطع. وهذا الذي ذكرناه فيه إذا ثبت الإقرار مطلقاً ممّن يخاصم، أو ثبت الشراء منه. قال صاحب التقريب: إذا جرينا على ما به الفتوى وعليه العمل، وقلنا: إذا ثبت الإقرار، أو نفس البيع، فهو حجة أبداً على المقر والبائع، فعلى هذا لو ادعى رجل شيئاً في يد رجل، ولم يسبق من المدعى عليه إقرار مطلق، ولا بيع، فقال المدعى عليه في الخصومة للمدعي: " كانت الدار ملكك أمس " فهل يكون هذا كما لو شهدت بينة على أن الدار كانت ملك المدعي أمس، أم يكون هذا الإقرار بمثابة إقرار مطلق تشهد به البينة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه كشهادة البينة على الملك المتقدم؛ فإن الإقرار بالملك المتقدم كالبينة على الملك المتقدم. والثاني - أن الإقرار بالملك المتقدم كالشهادة على الإقرار المتقدم، ولا نهاية للطف هذا التفصيل. ومما أوصي به المنتهي إليه أن يتثبّت في مضمون هذا الفصل؛ فإنه مما يعم به البلوى، وهو جلي في نفسه، خفي على معظم من ينتسب إلى الفقه.

فصل 12276 - البينة إذا شهدت على الملك في الحال، فمن ضرورتها أن يتضمن تقدم الملك على الوقت الذي تقع الشهادة فيه ساعة لطيفة؛ فإنها لا تنشىء إيقاعاً للملك وإنما تُخبر، وإذا حصل الملك مُخبَراً عنه في الحال، فلا بد من ارتباطه بمتقدم، بحيث يتصور انتقال الملك فيه بسبب من الأسباب، ثم هذا التقدم الذي ذكرناه يقع الاكتفاء فيه بلحظة لا تقدّر، ولا تُميّز بالحس، حتى لو ادعى شاة، وأقام على دعواه بينة، وكانت قد نُتجت تلك الشاة قبيل تلك الساعة، فلا يقضى له بالنتاج، فتبين بهذا أن هذا التقدم الذي قدرناه ليس زماناً محققاً محسوساً، ومسألة النتاج شاهدة في ذلك، منبهة على الغرض. وإن أقام المدعي بينةً، فعلقت الشاة ووضعت الحمل قبل تعديل البينة، ثم عُدِّلت البينة، فالنتاج للمدعي؛ فإن التعديل يستند إلى وقت قيام الشهادة، وهذا بين. ومما أجراه الأصحاب على الاتصال بذلك أن قالوا: من ادّعى دابّة حاملاً، وأقام البينة على دعواه، ولم يتعرض لذكر الحمل، فيثبت ملكه في الدابة وحَملِها، كما لو اشتراها؛ فإن الملك يثبت في الحمل، وإن لم يجر ذكره حالة التعاقد. ولو أشار إلى شجرة مثمرة، وثمرتُها باديةٌ، فادعاها باسم الشجرة، وأشار إليها، وشهدت البينة على حسب الدعوى، فالشجرة تصير مستحقة دون الثمرة؛ فإن الثمرة ليست من أجرام الشجرة، ولذلك لا تتبعها في البيع المطلق بخلاف الحَمْل. وهذا الذي ذكره الأصحاب في الثمرة مستقيم بيّن، وما ذكروه في الحمل ظاهرٌ قياساً على البيع. وقد يتطرق إلى الحمل في الدعوى والبينة احتمالٌ على بعد؛ فإن الملك يُفرض متبعّضاً في البهيمة وحملها بالوصية، فلا يمتنع أن يدعي البهيمة، ويستثني حملها في دعواه، وأما استتباعُ البهيمةِ الحملَ في البيع، فذاك لأمر يتعلق بمقتضى العقد، فلذلك لا يصح بيع البهيمة دون ولدها على المذهب الظاهر، والاستثناء في الدعوى والإقرار جائز.

وهذا الذي ذكرناه كلام معترض. وغرض الفصل ما ذكرناه أولاً من أن البينة لا تقتضي إسناد الملك إلى ما تقدم من الأزمان انبساطاً عليها، وإنما تقتضي تقدماً من طريق التقدير، كما نبهنا عليه. 12277 - والمراد بعد ذكر ذلك ذكرُ مشكلةٍ عظيمةِ الوقع مجانبةٍ لمسلك القياس، وهي أن من اشترى عيناً من الأعيان -داراً أو غيرَها- وتمادى الزمن، ثم جاء مدّعٍ، وادعى ملكَ تلك العين في يد المشتري، وأقام البينةَ، وانتزع العين من يده، قال الأصحاب: يرجع المشتري بالثمن على البائع. قال القاضي: هذا في غاية الإشكال؛ من جهة أن البينة القائمة على الملك لا تتضمن استناد الملك إلى زمان يوصف ويشار إليه، ولا تقتضي إلا ملك الحال، وتقديراً في التقدم كما ذكرناه، فكيف يملك المشتري الرجوع على البائع مع إمكان ثبوت الملك للمدعي تلقياً من هذا المشتري؟ ثم قال القاضي: يحتمل أن نقول: لا يرجع المشتري بالثمن على البائع -والحالة كما وصفناها- بناء على ما قررناه من أن البينة لا تقتضي استناد الملك إلى زمان متقدم مشارٍ إليه. فعلى هذا يختص رجوع المشتري على البائع بما إذا أسندت البينةُ (1) الاستحقاق إلى حالة البيع؛ فإذ ذاك نَتبين أن البيع صادف مستحَقّاً. وجريان هذا ليس بالنادر في البينات التي يثبت بها الاستحقاق. وهذا الذي ذكره القاضي لا دفع له من طريق القياس، لكنه قال: أجمع أصحابنا من عند آخرهم على خلاف ما قلتُه. ثم الممكن في توجيه ما ذكره الأصحاب أن يقال: إذا لم تتجدد حالة من جهة المشتري، والبينة العادلة مصدَّقةٌ في الشرع، فإذا تحقق أن المشتري لم يزُل ملكُه المستفاد بالشراء إلى هذا المدعي، والبينة لا يظن بها إلا الصدق، ولا محمل لصدقها إلا استناد الاستحقاق إلى ما تقدم، فلهذا ثبت له الرجوع، والذي يُعضِّد ذلك أن الإنسان يطلب دوامَ الملك بالشراء، فإذا لم يدم له، كان ذلك محمولاً على خلل حالة البيع، فلا يبقى بعد هذا، إلا أن البائع يقول للمشتري: لعلك أزلت

_ (1) ت 5: " المرأة ".

ملكك إلى المدعي، فقامت عليك البينة، فكيف ترجع عليّ، وما ذكرته ممكن. وهذا إنما يتم بأن يقال: [هل للبائع] (1) أن يدعي ذلك؟ فالوجه أن يقال: لا تمتنع عليه الدعوى فيه. والقول قول المشتري، والإشكال مع هذا قائم؛ فإن البائع يقول: كيف ترجع عليّ بالإمكان؟ وسبيل الجواب [في الإشكال] (2) الذي ذكرناه هو أن المشتري لا يمكنه أن يُثبت عدم تصرف نفسه، والبينة لا تشهد هزلاً، ولو لم يثبت الرجوع، لما حصلت الثقة بالعهدة. فأثبت الشرع الرجوع لذلك، وصحح ضمان العهدة خارجاً عن القياس لتوثيق البيع. هذا غاية الأمر. ومن عرف شيئاً على حقيقته لم يبق عليه مطلب بعده. ثم زاد الأصحاب فقالوا: لو اشترى شيئاً، ووهبه وسلّمه فاستُحِق الموهوبُ ببينة مطلقة، وانتُزِع من يد الموهوب له، فللمشتري الرجوع بالثمن على البائع، وإن لم يطرأ الاستحقاق على ظاهر ملكه، وهذا لا إشكال فيه -إن ثبت الأصل- المقدم؛ فإن الاستحقاق إذا ثبت، بطلت الهبة. وكأنّ الاستحقاق طارىء على يد الواهب. فليس في هذا التفريع إشكال، وإنما الإشكال في الأصل. ولو باع ما اشترى من إنسان، فثبت الاستحقاق في يد المشتري الثاني. فإنه يرجع على المشتري الأول، ثم المشتري الأول يرجع على البائع الأول. ...

_ (1) في الأصل: " على البائع ". والمثبت من (ت 5). (2) في الأصل: " وسبيل الجواب المقدار الذي ذكرنا، وهو أن المشتري ". وفي (ت 5): " وسبيل الجواب في الإمكان الذي ذكرنا وهو أن المشتري ". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى والأحكام الفقهية. والله أعلم.

باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة

باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا أقام أحدهما البينة أنه اشترى هذه الدار ... إلى آخره " (1). 12278 - مضمون الباب مسائل أخذها الشافعي من كتب أصحاب أبي حنيفة، وخرّجها على قياس مذهبه، فأودعها المزني هذا الباب. والمسألة الأولى منها صورتها: أن يأتي خارجيان، وتداعيا داراً في يد إنسان، وأقام كل واحد منهما بينة أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد، ونقد له الثمن، ووفّاه إياه كَمَلاً، مثل أن يقول أحدهما: اشتريت هذه الدار منك بمائة، فسقتها إليك، وقال الآخر: اشتريتها منك بمائتين، ووفّيتك الثمن، وأقام كل واحد منهما بينةً على وفق دعواه. قال الأئمة: إن كانت البينتان مؤرّختين، واشتملت إحداهما على تقدمٍ في التاريخ، فالحكمُ بها، لأنه إذا صح الشراء المتقدم، وثبت في الزمان السابق، فالشراء الثاني بعده مردود؛ فإن الشراء الأول يثبت بالبينة على صاحب الدار في زمانٍ لا معارضة فيه لتلك البينة، وقد ذكرنا أن الشراء من الخصم إذا ثبت متقدماً، جرى الحكم به، ولسنا نفرعّ هذه المسائل إلا على هذا الأصل. وإن كانت البينتان مؤرَّختين بتاريخٍ واحد، مصرِّحتين بالتنصيص على وقتٍ واحد، فهما متعارضتان فتتساقطتان على قول التهاتر، فكأَنْ لا بينة، ويحلف المدعى عليه لكل واحد منهما، كما سنصف ذلك، إن شاء الله. وهما مستعملتان على القول الثاني. ثم في كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة: أحدها - قول القرعة. ومعناها أن من

_ (1) ر. المختصر: 5/ 264.

خرجت له القرعة من الخصمين، سُلِّمت الدار إليه، وقد ثبت توفيره الثمن، والثاني يستردّ الثمن؛ فإن بينته شهدت له بالشراء والتوفير، ثم جرت القرعة في محل التنازع، وهو ملك الدار، فلزم استعمال البينة في توفير الثمن. وأما قول الوقف - فمعناه إخراج الدار من يد المدعى عليه، ووقفها بين المدعيين إلى أن يصطلحا، ومن حُكْم الوقف أن يُسترد منه الثمنان، ويعدّلا على يد إنسان حتى ينفصل الأمر. وأما قول القسمة - فمعناه أن الدار تقسم بين المدعيين نصفين، ويرجع كل واحد منهما بنصف الثمن الذي شهدت بينته على توفيته وتوفيره، هذا معنى القسمة. ثم يتفرع عليه أنه يثبت الخيار لكل واحد منهما؛ من جهة أنه لم يسلم له تمام المبيع، وتبعُّضُ المعقود عليه يُثبت الخيارَ. 12279 - هذا كلام على الجملة، وقد فصله القاضي، فقال: إذا صرفنا النصف إلى أحد المشتريين، فرضي به، ولم يفسخ، ورجع بنصف الثمن، ثم لما عرضنا النصف على الثاني أراد الفسخ، فله ذلك، ويطالِب بتمام الثمن. فلو قال الأول: كنتم لا تسلمون إليّ النصف الثاني لمكان صاحبي، الآن قد فسخ، سلّموا إليّ ذلك النصف أيضاً، وأردّ ما استرددته من الثمن، قال القاضي: لا يُجاب إلى ذلك، فإنه رضي بالنصف، وجرى القضاء به، فلا نُغيِّر ما مضى. ثم قال: لو عرضنا النصف على أحدهما، فاتفق أن الذي بدأنا به فَسخَ، فقال الثاني: ادفعوا إليّ الدار بتمامها، فهل يُجاب إلى ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يجاب إليه لزوال المنازع في رقبة الدار، وإنما كنا نقسم لاستوائهما في الطلب، والتمسك بالحجة، والآن قد انقطع حق أحدهما، فيجب تسليم الدار إلى الثاني. والوجه الثاني - أنا لا نسلّم إليه إلا النصف؛ فإن مقتضى قول القسمة هذا، فلا مزيد على مقتضى القسمة. والذي أراه أن الترتيب على عكس هذا، فإن فسخ من فاتحناه، سلمنا الدار إلى الثاني وجهاً واحداً، لأن القسمة ليست معنيّة بعينها، وإنما هي للاستواء في الطلب

والحجة، وقيام النزاع، فإذا زال، وجب التسليم إلى المُطالِب، فإن رضي أول من فاتحناه بالنصف، وفسخ الثاني، ففي رد النصف إلى الأول وجهان؛ فإن الأول رضي بالنصف لتقدير نزاع الثاني، فإذا زال، فطلبه قائم. ثم لا يخفى أن الفاسخ يرجع بتمام الثمن، والذي يسلم له كل الدار، فهو مستوفٍ كمالَ حقه، ومن سُلّم له النصف، فهو راجع إلى نصف الثمن. وحكى العراقيون قولاً عن الربيع أنا إذا لم نُسقط البينتين، حكمنا بانفساخ العقدين في حق المدَّعِيين؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، والدار تبقى في يد المدعى عليه، ونُلزمه رد الثمنين، وهذا أثر استعمال البينتين، ثم قال العراقيون: هذا من تخريجه، وهو مزيف لا أصل له؛ فإنا إذا استعملنا البينتين، فلا معنى لرفع حكمهما فيما هو المقصود بهما. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البينتان مؤرختين بتاريخ واحد. 12280 - فأما إذا كانت البينتان مطلقتين في الشراء، والتفريعُ على قول التهاتر إذا تحقق التناقض، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة: فمنهم من قال: لا نحكم بالتهاتر؛ فإن صدق البينتين ممكن. فلعل أحدهما اشترى، ثم عادت الدار إلى ملك المدعى عليه، فاشتراها الثاني، فعلى هذا يمكن تقدير الصدق في البينتين، والثاني - أنهما تتهاتران لتعذر تقديم إحداهما على الأخرى، فلا ينفع تقدير صدقهما مع تعذر إمضائهما، وصاحب قول التهاتر يرى القرعةَ، والقسمةَ، والوقفَ متعلقةً (1) بموجب البينتين جميعاً، فإن قلنا بالتهاتر، فتسقط البينتان وكأنْ لا بينة. وإن لم نحكم بالتهاتر، فعلى هذا الوجه وجهان: أحدهما - أنا لا نُجري الأقوال الثلاثة التي يُجريها من يقول باستعمال البينتين. والوجه الثاني - أنا نلزم المدعى عليه رد الثمنين؛ فإن هذا لا تناقض فيه بين البينتين، ونسقط البينتين في رقبة الدار. وهذا على التحقيق تهاتر من وجه، واستعمالٌ من وجه، وهو فقيهٌ، لا ينقدح عند المحصلين غيره.

_ (1) ت 5: " منعقدة ".

ومما نذكره في هذه الصورة -وهي إذا كانت البينتان مطلقتين- أنا إذا فرعنا على أقولاً (1) الاستعمال، فقد أجرى الأصحاب الأقوالَ الثلاثة على ما فصّلناها. وكان شيخي يقول: لا أجري قولَ القرعة؛ فإنّ صدق البينتين ممكن، وإنما نُجري قول القرعة لتمييز الكاذبة من الصادقة، فإذا أمكن صدقهما، فلا معنى للقرعة. وهذا وهمٌ وزلل؛ لأن القرعة لا تميز الصادقة من الكاذبة، بل قد تخرج بفوز الكاذب، وإنما إجراء القرعة لتمييز شخصين مستويين ظاهراً في سبب الاستحقاق. والله يتولى السرائر. فصل قال: " وإذا أقام بينة أنه اشترى هذا الثوب من فلان ... إلى آخره " (2). 12281 - صورة المسألة أن نقول: دارٌ في يد ثالث، فجاء رجلان، وادعى أحدهما أن الدار له، وزعم أنه اشتراها من زيد، وكانت ملكَه إلى أن باع، وادعى الآخر الدار لنفسه، وزعم أنه اشتراها من عمرو [وهي] (3) ملكه، وأقام كلُّ واحد منهما بينة على حسب دعواه، فالبينتان متعارضتان، ولا يخفى التفصيل والتفريع، وغرض هذا الفصل أنهما إذا ربطا دعوى الملك بالشراء من شخصين، فلا بد وأن يُثبتا ملكَ البائع منهما حالة العقد؛ فإن صورة الشراء لا توجب الملك ما لم يكن صَدَرُها من مالك. ولو ادعى رجل داراً في يد رجل، فقال: بعتَها مني، فلا يشترط أن يقول: بعتَها وأنت تملكها؛ فإن بيعه يقطع سلطانه، وهو مؤاخذ بحكمه وموجبه، فلا حاجة إلى إثبات ملكه، فأما إذا كان المدعي يسند ملكه إلى شخص آخر غير صاحب اليد، فلا بد وأن يثبت ملكه المتقدم على البيع. وهذا مقبول منه. وإن لم يكن مستناباً من جهة البائع في إثبات ملكه؛ لأنه يبغي بهذا تصحيح الشراء، فكان كالذي يريد إثبات ملك نفسه.

_ (1) زيادة من (ت 5). (2) ر. المختصر: 5/ 264. (3) في النسختين: " وهو ".

ولو أقام بينة على الشراء من الشخص الذي عيّنه، ولم يتعرض للملك، ثم أقام بينة أخرى على ملك ذلك البائع، قال القاضي: يجوز ذلك، ولا فرق بين أن تشهد بينة واحدة على الأمرين وبين أن تشهد بينتان عليهما، وهذا صحيح؛ فإن البينة الشاهدة على ملك البائع. وإن لم تتعرض للشراء، فالغرض به تصحيح الشراء، فلا فرق بين أن تتعدد البينة وبين أن تتّحد. فصل قال: " ولو كان الثوب في يد رجل، فأقام رجلان كل واحد منهما البينةَ أنه ثوبُه، باعه ... إلى آخره " (1). 12282 - صورة المسألة: ثوب في يد واحد، ادعى رجلان - كل واحد منهما أنه باع منه ذلك الثوب الذي في يده بألف درهم، وعليه ثمنه، وأقام كل واحد بينةً على وفق دعواه. هذه صورة المسألة، ومقصودها يؤول إلى دعوى الثمن، والعين مسلّمة إلى صاحب اليد، فنقول: إذا كانت البينتان مطلقتين، فقال معظم الأصحاب: لا تتهاتر البينتان، قولاً واحداً، ولكل واحد منهما تمامُ الثمن الذي ادعاه؛ فإنَّ صدق البينتين ممكن؛ بتقدير عقدين يتخللهما انتقال الملك إلى الثاني من المدعيين، ثم يُفرض بعد ذلك البيع منه. هذه طريقة. ومن أصحابنا من حكم بتهاتر البينتين. وقد ذكرنا قبل ذلك ادعاء الخارجيين في الشراء، وهذه المسألة مفروضة في البيع، وتقدير التصحيح في العقدين ممكن في الصورتين. ولكن الأصحاب أجرَوْا طريقين في مسألة [ادّعاء] (2) الشراء كما مضى. وميلُهم الأظهر في مسألة البيع -وهي التي نحن فيها- استعمالُ البينتين. وإن كان من الأصحاب من يُجري قول التهاتر.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 264. (2) في الأصل: " إنشاء ". والمثبت من (ت 5).

وفرّق المحققون بين المسألتين بأن قالوا: المطلوب في هذه المسألة الأخيرة الثمن المتعلق بالذمة، والذمة متسعةٌ للثمنين، وإن أمكن ثبوتهما، ثبتا، والنزاع في مسألة الشراء متعلق بالبيع، وهو عين لا تتسع لتحصيل غرضيهما وتحقيق دعوييهما. ومن أجرى قول التهاتر في المسألة التي نحن فيها؛ احتج بأنهما ما ادعيا دَيْنين في الذمة مطلقاً، وإنما أسنداه إلى عقدٍ، وذلك العقد مرتبط بعين واحدة. والتفريع على الأصح، وهو الاستعمال، وهذا فيه دقيقة، وهي أنا إن طرَّقْنا قول التهاتر إلى الواقعة، فموجب التهاتر سقوط البينتين، حتى كأنهما لم تكونا، وإن لم نُجر التهاتر أصلاً، فليس ينقدح إلا إثبات الثمنين، وإن أجرينا التهاتر، وأردنا أن نفرعّ على قول الاستعمال؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نثبت الثمنين، ولا تخرج الأقوال الثلاثة، فينتظم قولان: أحدهما - سقوط الثمنين، حتى كأنْ لا بينة، والثاني - ثبوت الثمنين. والوجه الثاني - أنا نُجري الأقوالَ الثلاثة على قول الاستعمال: أحدها - القرعة، فيفوز بالثمن من تخرج قرعته، ويخيب الثاني، والثاني - نقف الخصومة. والثالث - نَقْسم؛ فنصرف إلى كل واحد نصف الثمن الذي يدعيه. وهذه الطريقة -وإن ذكرها الأئمة- ليست بالمرضية، والوجهُ القطع بإثبات الثمنين لا غير، إذا كانت البينتان مطلقتين. 12283 - وتكلف أصحابنا تصوير وقوع البينتين على وجه التناقض، فصوروا وقوع مخبر البينتين متعلقاً بوقت واحد، بحيث نعلم أن ذلك التعيين يضيق عن وقوع واقعين، فإذا تأرخت البينتان بتأريخ واحد -على أقصى ما يمكن فرضه من تحقيق التضييق- فالبينتان متكافئتان، مثل أن تتعرض كل واحدة لتأقيت لفظ الشراء عند بدوّ أول قرصة (1) الشمس، ثم أجروا في هذه الحالة قولي التهاتر والاستعمال، وتفريع الأقوال الثلاثة في كيفية الاستعمال. ثم ذكروا اعتراضَ المزني في البينتين المطلقتين

_ (1) كذا. ولعل لها وجهاً.

في هذه الصورة، ومصيرَه إلى ثبوت الثمنين. فلم يعتذروا (1) عنه لتوجهه إلا بأن قالوا: صورةُ قولي التهاتر والاستعمال في تأريخ البينتين بتأريخ واحد. وهذا وإن أمكن ذكره فتصويره واقعة يفتى فيها عسيرٌ عندي؛ فإنّ رد الأمر إلى وقت، لا يتصور [فيه] (2) [ترتب] (3) كلمتين ممّا لا يدخل دَرْكُه تحتَ القوة البشرية. نعم، يمكن ذكره، كما يقال: فعلٌ واحد، ووقت واحد لا ينقسم، وجوهر فرد لا يتجزأ، كل ذلك لا يمتنع [فيها] (4) الذكر والنفي والإثبات، ولكن لا يُحَسّ في مطّرد العادة قط. ولو تُصوّر هذا، لتصوّر أن يقال: إذا قامت بينةٌ على رجل بإقرارٍ مضافٍ [إلى وقتٍ] (5) معين على أقصى ما يمكن التصوير فيه، فمِنْ دَفْع هذه البينة أن يقول المشهود عليه: كنتُ أُسبّح في الوقت الذي عيّنته بينةُ (6) الإقرار، ولا يجتمع قولان في وقت، فيقيم البينةَ على ذلك، فيكون قادحاً في بينة الإقرار. نعم، لأصحابنا تردد في شيء نشير إليه، وهو أنهم قالوا: إذا شهدت بينةٌ على قول أو فعل، وعينت للمخبر عنه وقتاً معيناً، وشهدت بينة أخرى في ذلك الوقت بعينه على عدم ذلك الفعل وانتفاء ذلك القول، فهذه شهادة على النفي، ولكنْ هي على وجه يمكن تقدير العلم فيها بالنفي. وقد اختلف أصحابنا في قبول مثلِ ذلك. فالذي ذهب إليه الأكثرون أن البينة مردودة لتعلقها بالنفي، ومبنى الشهادة على التعرض للإثبات. ومنهم من سمع مثلَ هذه إذا أمكن إسنادها إلى علم. وقد يعضد هذا القائل ما صار إليه بربط الشهادة بما يناقض القول والفعل، بأن يقول الشاهد: كان ساكناً في

_ (1) ت 5: " يعترضوا ". (2) كذا في النسختين: " فيها ". وهي على معنى الصورة، أو اللحظة. (3) في الأصل: " ترقب ". (4) في الأصل: " منه ". (5) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين. (6) ت 5: " وبينته الإقرار ".

ذلك الوقت عن الفعل، أو ساكتاً عن القول، والسكون والسكوت يضادان الفعل والقول. 12284 - فإذا تبين ما ذكرناه، رجعنا بعده إلى تأرخ البينتين بتأريخ واحد في مسألة الشراء. فنقول: الوقت الواحد لا يتعين، فإن تلقي الأصحاب التناقض من العلم بانتفاء أحد القولين، كما حكينا خلاف الأصحاب فيه، فهذا مما يتصور وقوعه، ثم تربط كلُّ بينة شهادتَها بإثبات ما تذكر ونفي ما عداه في ذلك الوقت؛ فإن القولين يتضادان كما يتضاد السكوت والقول، ومراقبة الإنسان ليعلم أنه ليس قائلاً داخلٌ في الإمكان، سيما إذا كان القول المدعى مُظهَراً متعلقاً بمخاطَب يحضر. ودرك حضوره كدرك غيبته. فهذا وجه تصوير التناقض. فصل قال: " ولو أقام رجل بينةً أنه اشترى منه هذا العبد ... إلى آخره " (1). إذا كان في يد إنسان عبد، فجاء رجل، وادعى أن المولى باع ذلك العبدَ منه، وادعى العبدُ أن مولاه أعتقه، وأقام كل واحد بينة على وفق دعواه، فإن تأرخت البينتان، وتعرضت كل واحدة منهما لذكر تاريخ، نُظر، فإن تقدم أحد التاريخين وتأخر الثاني، نفذ ما تأرخ بالتاريخ المتقدم. وإن عيّنت البينتان وقتاً واحداً -وإمكان تصويره على ما ذكرناه على القرب- فالبينتان متعارضتان، فإن حكمنا بتساقطهما، فكأنْ لا بينة، والقول قول صاحب اليد في العبد مع يمينه، ولا يخفى حكم الحلف، والنكول، والرد، وإن حكمنا بالاستعمال، جرت الأقوال الثلاثة: القرعة، وقد اممدها صاحب التقريب، لاشتمال الواقعة على العتق -وهو مورد الخبر في القرعة- والوقفُ جارٍ، ولا يخفى تصويره، والقسمة جارية أيضاً، فيحكم لمن يدعي الابتياع بالملك في نصفه، ويحكم بالحرية في نصف العبد.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 265.

ثم الذي ذهب إليه الأصحاب أن المحكوم عليه بالعتق صاحب اليد، فإذا نفذ الحكم عليه بالعتق في نصف العبد، وكان موسراً، لم نقض بسريان العتق إلى النصف الآخر المحكوم به لمدعي الشراء؛ لأن هذا عتق ثابت قهراً، وإنما يسري العتق إذا اقترن باختيار المعتِق. وذكر العراقيون في ذلك قولين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أن العتق يسري إذا كان صاحب اليد موسراً، فيكمل العتق في العبد، ويغرم صاحب اليد لمدعي الشراء قيمةَ النصف. ووجه هذا القول أن البينة كما (1) شهدت بإعتاق هذا العبد، شهدت باختياره في الإعتاق؛ فيجب الحكم عليه بموجب الاختيار، وهذا متجه، والمسألة محتملة. ثم اعترض المزني وقال يجب تقديم بينة العتق؛ لأن العبد ادعى العتقَ، وهو في يد نفسه، فكان مع من يدعي شراءه بمثابة متداعيين وأحدهما صاحب اليد، فالعبد إذاً كالداخل ومدعي الشراء كالخارج. وهذا الذي ذكره مزيف؛ فإن العبد في يد مولاه، ولا يد له على نفسه، وإنما تثبت له اليد على نفسه إذا عَتَق، فكأنه في التحقيق يدعي يداً والخصم ينكره. 12285 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البينتان مؤرختين على التضييق في التعيين، فأما إذا كانتا مطلقتين، فقد أجراهما الأصحاب على التهاتر والاستعمال؛ فإن العتق ينافي نفوذُه نفوذَ الشراء، والشراء لو ثبت - نافى نفوذَ العتق، ولو صور مصوّرٌ تقدم الشراء وعَوْد الملك، ثم توجيه العتق، فهذا تكلف لا فائدة فيه؛ فإن من يدعي الشراء يدّعي دوام ملكه، وما ذكرناه من التصوير ينافي ذلك، وهذا بيّن. ومن أصحابنا من قال: إذا أردنا إجراء قول التهاتر، فيجب التعرض لاشتمال البينتين على تاريخ واحد، كما ذكرنا ذلك في النظائر السابقة. وإذا نبهنا على مثل ذلك، كفى، وقد تكرر مثله في نظائره.

_ (1) كما: بمعنى عندما.

فصل قال: " ولا أقبل أن هذه الجارية بنت أمته ... إلى آخره " (1). 12286 - هذا الفصل قد تخبط الأصحاب فيه، واشتهر كلامهم في الطرق، وحاد معظمهم عن المسلك الحق حَيْداً يُلحق ما قالوا بالوهم والزلل الذي لا يجوز عدّ مثله من المذهب، ولكن لو تركنا ما اشتهر ذكره نقلاً، لكان ذلك إخلالاً بالنقل، فالوجه أن نأتي بما ذكروه على وجهه، ثم نطرد بعد نجازه الحقّ الذي لا يجوز غيره. فنقول: إذا كان في يد إنسان جارية، فجاء مدعٍ، وأقام بيّنةً على أن هذه الجارية بنتُ أمته، ولدتْها في ملكه، أو علقت [بها] (2) في ملكه، قالوا: نحكم للمدعي بملك هذه الجارية. وإن أقام بينةً على أنها بنتُ أمته، واقتصرت البينة على ذلك، لم تسمع البينة في الجديد. وخرّج الأصحاب فيه قولاً أن البينة مسموعة، والملكُ يثبت للمدعي في الجارية المدّعاة، وهذا خرّجوه من القول القديم فيه إذا أقام المدعي بينة على أن ما يدّعيه كان ملكاً له بالأمس؛ لأن قوله: " هذه بنت أمتي " يتضمن إثبات الملك حالة الولادة، وقد تقدمت؛ فقيل لهؤلاء: الجارية قد تلد ولداً ليس ملكاً لرب الجارية، فلم يزيدوا في الجواب على أن قالوا: الظاهر أن البنت إذا كانت مملوكة، فهو ملك مالك الأم، ونحن نكتفي بالظواهر في الأملاك. وكل ما ذكرناه تخليط لا حاصل له، ولا اعتماد عليه. 12287 - والمسلك الحق أن نقول: إذا كان في يد رجل وصيف أو وصيفة (3)،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 265. (2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين. (3) الوصيف والوصيفة: الغلام والفتاة دون المراهقة.

فجاء مدعٍ، وقال: هذا ولد أمتي. واقتصر على ذلك، فلا نقبل دعواه، ولا نسمع بينة على هذا المقدار؛ فإنه لم يدّع ملكاً وحقاً، إذ قد تلد أمتُه في غير ملكه، وفي غير يده، على معنى أن أمتي ولدته قبل أن ملكتُ أمتي، وقبل أن تثبت يدي عليها. ولو قال: ولدته أمتي في ملكي، فقوله " في ملكي " محتمل، فإن أراد به ولدته والولد في ملكي؛ فقد ادعى ملكَ الولد، ولكن لم يدّع ملكَ الولد الآن، وإنما ادعى ملكَه حالة الولادة، فإذا أقام على ذلك بينة، ولم تتعرض البينة لملك الحال، فهذا يخرج على القولين في ملك أمس، ولا فرق. وإن قال: ولدته جاريتي في ملكي، وفسّر ذلك بكون الجارية مملوكة له عند الولادة، فنقول: قد تكون الجارية مملوكة له، والولد لغيره، ويتصور ذلك في الوصية، وقد يكون الولد حراً، فليس فيما ذكره دعوى ملك (1) في الولد، ولكنه ادعى حصول الولد في يده، ثم ادعى يدأ في زمان سابق، فيجري فيه القولان في دعوى اليد السابقة كما جريا في الملك. وقد يخطُر في هذا المقام أنه إذا ادعى الملك في أمها، أو هو (2) ثابت له بلا نزاع، فينبغي أن يلتحق ذلك بما إذا ادعى جاريةً حاملاً، فإنه يكون مدعياً بحملها أيضاً، وهذا فقيه، ولكن ذكرنا فيه احتمالاَّ، وهذه الصورة تتميز عن تيك من جهة أنه أفرد الولد بالدعوى في هذه المسألة. وفي التي تقدمت وجّه الدعوى على الأم، فتبع الولد. ثم ليس تخلو المسألة عن ادعاء الملك فيما مضى، وإن ادعى الملك في الحال أغنانا عن كل هذا التفصيل، واعتمدنا دعواه في الملك الناجز. فهذا تحصيل القول في هذه المسألة. ومن اطلع عليه لم يسترب في أن ما عداه وهم.

_ (1) ت 5: " ملكية ". (2) ت 5: " وهو ".

فصل قال: " ولو كان في يديه صبي صغير يقول هو عبدي، فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم ... إلى آخره " (1). 12288 - إذا كان في يد الإنسان شخصٌ بالغ، وكان يصرِّفه كما يشاء، ويستصغره استصغار العبيد، على وجهٍ يغلِّب على الظن أن الأحرار لا يُستصغرون كذلك، فإذا قال: هو ملكي، وقال ذلك الشخص: أنا حر أصلي، فالقول قول ذلك الشخص، لم يختلف الأصحاب فيه، وإن تداولته الأيدي، وجرى عليه البيع والشراء؛ لأن ظاهر الدار الحرية، والأصل في الناس الحرية، ومن يدعيها، فهو مستمسك بالأصل والظاهر. فإن قيل: أليس تصرف المُلاّك مع استمرار ظاهر اليد دلالة على الملك؟ وقد اجتمعا في هذه المسألة. قلنا: إنما تدلّ اليد والتصرف على تعيين المالك، مع كون الشيء مملوكاً، فيظهر من اختصاص الإنسان باليد والتصرف، وعدمِ النكير عليه تعيّنُه من بين الناس، وليس ْمع من يدّعي الملك فيه أصل يعتضد به. فأما أصل الملك، فلا يثبت بظاهر التصرف، وعند ذلك قال الأصحاب: إذا اجتمع الظاهر والأصل، فالتعويل على الأصل، فلئن قيل: الحر لا يصرّف كذلك، قلنا: قد ينقاد الخادم للمخدوم بما ينقاد بمثله العبيد؛ فلا تعويل على ذلك. فإن قيل: أليس ينفذ تصرفه وإن لم يُبد ذلك الشخص إقراراً بالرق؟ قلنا: ذهب بعض أصحابنا إلى اشتراط الإقرار بالملك، وكان شيخي يميل إليه في الفتوى. ونحن نذكر في ذلك أصلاً، فنقول: لا يشترط في نفوذ التصرف فيما الأصل فيه الملك المقدارُ الذي يدل على الملك؛ فإن دلالة الملك لا تثبت إلا بدوام اليد وتصرفاتٍ، مع فرض انتشارٍ وعدم إنكار، وقد يشترط مع ذلك شيوعُ تفاوض الناس

_ (1) ر. المختصر: 5/ 265.

بنسبته إلى ملكه. وهذا لا يشترط في الحكم بنفوذ تصرف المتصرف ظاهراً؛ فإن من فاجأناه يبيع شيئاً من يده، نفذنا بيعه، وكأنّ (1) المكتفى به في تنفيذ البيع يدُ الداخل في الدعاوى، ومن صادفنا شيئاً في يده حالة الدعوى عليه، جعلنا القول قوله مع يمينه. فإذا تبيّن ذلك عُدنا إلى ما نحن فيه، فنقول: يد الدعوى لا ثبات لها إذا كان الشخص يدعي الحرية الأصلية، فلو تصرف، فلا مستند لتصرفه؛ وعن هذا شرط شارطون إقرار ذلك الشخص بالرق. ومن أصحابنا من لم يشترط، وإن كان لو أظهر الحرية ودعواها، لكان القول قوله. وكل ذلك في شخص لم نعهده صغيراً في يد إنسان. 12289 - فأما إذا رأينا صغيراً في يد إنسان، [وكان] (2) يدعي رقه ويستعبده، فقوله مقبول إذا لم يكن للصبي نطق (3)، فالحكم بالرق نافذ في الظاهر، واليد ثابتة، وهذا فيه إذا كان لا يعقل عَقْلَ مثله، فإن بلغ مبلغ التمييز، وعقل عَقْلَ مثله، وادعى أنه حر، ذكر أصحابنا وجهين في قبول قوله: أحدهما - أنه لا يقبل؛ إذ لا حكم لقول الصبي، والثاني - يقبل؛ لأنه قال ما قال عن فهم، وهو خير كله ليس فيه توقع ضرار، وأصل الناس على الحرية، وهو ظاهر الدار. قال القفال: الوجهان مأخوذان من إسلام الصبي؛ من جهة أن الحرية لا ضرر فيها في أصل الوضع، وإن كان يتعلق بها التزامات، فكان ادعاؤه الحرية بمثابة إخباره عن الإسلام، ثم جرى الوجهان مأخوذين من قول الشافعي؛ فإنه قال: " فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم " فمن أصحابنا من قال: أراد إذا لم يدّع الحرية. ومنهم من قال: أراد أنه كالثوب من جهة أنه لا كلام له شرعاً، كما أن الثوب لا كلام له حساًَ. التفريع على الوجهين: إن قلنا: " لا يقبلُ قولُه "، وكان لا يعقل عقل مثله، فبلغ، وادعى أنه حر الأصل، فهل يقبل قوله الآن؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا

_ (1) ت 5: " فكان له المكتفى به ". (2) في الأصل: " فكان ". (3) عبارة (ت 5): " إذا لم يكن للصبي نفوذ الحكم فالرق نافذ ".

يقبل؛ لأنا حكمنا بالرق وثبوت الملك، فلا ننقض حكمَنا السابق. والثاني - يقبل، وهو القياس. وبنى الأصحاب هذا على ما إذا حكمنا بإسلام الصبي تبعاً للسابي، أو الدار، أو الإسلام الطارىء من أحد الأبوين، فإذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو مسلم ارتد، أو كافر أصلي؟ فعلى قولين، ذكرناهما على أبلغ وجه في البيان في كتاب اللقيط. ومما يليق بتمام البيان فيه أنه إذا كان يصرِّف الصغيرَ، ولا يدّعي رقَّه، ولم يتصرف فيه تصرفاً يستدعي الملك: فمن أصحابنا من قال: لا يُحكم برقه، والحالة هذه. حتى إذا بلغ وادعى الحرية قُبل مذهباً واحداً، وهذا متجه. ومنهم من قال: هذا بمثابة ما لو ادعى الرق، أو تصرف تصرفاً يستدعي الملك. فصل قال: " وإذا كانت الدار في يدي رجل لا يدعيها ... إلى آخره " (1). 12290 - إذا كان في يد رجل دار، فجاء إنسان وادعى أن نصف تلك الدار له، وجاء آخر وادعى أن كلّ الدار له، وصاحب اليد ساكت، وأقام كل واحد من المدعيين بينة على وفق دعواه، فبينة صاحب الكل في النصف لا معارِض لها، فقد نُطلق ونقول: يثبت له النصف، والبينتان متعارضتان في النصف الثاني، فإن قلنا: بالتساقط، سقطت بينة صاحب الكل في النصف، وهل تثبت في النصف الثاني، فعلى قولين مبنيين على أن الشهادة إذا رُدّ بعضها، فهل يُردّ باقيها؟ إذا كان الباقي بحيث لو انفرد بالذكر، لقبلت البينة فيه، وفي ذلك قولان أجرينا ذكرهما. فإن قلنا: لا تتبعض البينة، وإذا بطل بعضها، بطل كلها، فتسقط بينة صاحب الكل في الكل. وإن قلنا بالتبعيض، سقطت بينته في النصف، وسقطت بينة صاحبه، وخلص لصاحب الكل النصفُ. وإن قلنا باستعمال البينتين، خرجت الأقوال. فإن قلنا بالقرعة، أقرع بينهما، فإن

_ (1) ر. المختصر: 5/ 265.

خرجت القرعة لصاحب النصف، قضي له بالنصف وقضي لصاحب الكل بالنصف. وإن خرجت قرعة صاحب الكل، قضي له بجملة الدار. وإن قلنا بالوقف، سلم النصف لصاحب الكل، ووقف النصف إلى أن يصطلحا. وإن قلنا بالقسمة، سُلم النصف كما ذكرنا، وقُسم النصف الآخر بينهما، فيحصل لصاحب الكل ثلاثة أرباع الدار، وفي يد صاحب النصف ربع الدار. فرع: 12291 - إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث، وأقام كل واحد منهما بينة، فأقر المدعى عليه لأحدهما بعد قيام البينتين، فقد اختلف أصحابنا على وجهين: فمنهم من قال: لا حكم لإقراره؛ فإن يده تناهى ضعفها، فلا حكم لإقراره بعد استحقاق إزالتها. ومنهم من قال: تترجح بينة المقر له، وهذا تفريع على استعمال البينتين؛ فإنا إذا قلنا بالتهاتر والتساقط، فلا بينة في الواقعة، واليد قائمة والإقرار صادر عن يد ثابتة، فجرى الحكم بها، فأما إذا قلنا بالاستعمال، فمن أصحابنا من يجعل الإقرار ترجيحاً، فيصير المقَرّ له بمثابة. صاحب يد. ومنهم من يقول: سقط سلطان المدعى عليه بعد قيام البينتين، واستحق انتزاع الدار من يده على حكم الوقف، أو القرعة، أو القسمة، فلا تُغيّر هذه الأحكام بإقراره. فأما إذا ادعيا، فأقر لأحدهما قبل أن يقيمَ البينة، فقد صار المقر له صاحبَ يد، وانصرفت الخصومة إليه، وهذا بعينه هو الذي تقدم ذكره إذا أقر المدعى عليه لحاضر فصدّقه المقر له. فصل قال: "وإذا كانت الدار في يد ثلاثة، وادعى أحدهما النصف ... إلى آخره" (1). 12292 - إذا صادفنا داراً في أيدي ثلاثة، فادعى واحد نصفها، وواحد ثلثها، وواحد سدسها، وأقام كل واحد بينةً على وفق دعواه، أما صاحب الثلث، فيقضى له

_ (1) ر. المختصر: 5/ 265.

بالثلث، فإنه ادعى المقدار الذي تثبت يده عليه، وأما صاحب السدس، فيثبت له السدس لا شك فيه؛ فإنه أقل مما تثبت يده عليه، وأما صاحب النصف، فيسلم له الثلث لا محالة لاجتماع يده وبينته، ويبقى الكلام في سدس هو (1) يتفرد بدعواه. فإن أقر الذي يدعي السدس أن السدس الآخر الذي في يده لصاحب النصف، فيخلص له النصف، وإن أنكر صاحب السدس ذلك، وزعم أنه لغائب في يده مثلاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك السدس يسلّم لمدعي النصف؛ فإنه قد أقام البينة عليه، وما عارضت بينته في ذلك بينة. والوجه الثاني - أنه يأخذ نصف السدس؛ فإنه ادعى سدساً مشاعاً في الدار، وليس يدعي على صاحب السدس جميع ذلك السدس، وإنما يدعيه على صاحب الثلث والسدس، ودعواه فيما هو في يد صاحب الثلث مردودة، فإن فيه البينة واليد، فيبقى نصف السدس الآخر، وهو في يد صاحب السدس لا يدعيه لنفسه، فيسلِّم للمدعي نصفَ السدس، وهذا حسن. ذكره صاحب التقريب والعراقيون. فرع: 12293 - إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث وقال كل واحد منهما: غصبتَ هذه الدار مني، فلو أقر المدعى عليه لأحدهما وعيّنه، فقد مضى القول في هذا مستقصىً. وغرض الفرع أن صاحب اليد إذا قال: الدار لأحدكما، ولا أدري ممن غصبتها منكما، فأول ما نذكره في ذلك أن الدار تخرج من يده، وبمثله لو قال: الدار في يدي لواحد من الناس، غصبتها منه، ولم يعين أحداً، فهل يُخرج القاضي الدارَ من يده أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يُخرجها من يده ويحفظها كما يحفظ كلَّ مال ضائع. والثاني - لا يخرج الدار من يده، ولا حكم لإقراره على هذا الوجه. فعلى هذا؛ لو أقر وأبهم، ثم قال: غلطت! فهل يقبل رجوعه؟ فعلى وجهين -مأخوذين من الخلاف في إزالة يده- فإن لم نر إزالة يده، فلا حكم لإقراره، ولا أثر لرجوعه، وكأنه لم يقر، وإن قلنا: تزال يده، فلا يقبل رجوعه، فالرجوع إذاً بين أن

_ (1) ت 5: " وهو ".

يلغو من حيث لا حاجة إليه، وبين أن لا يقبل لتأكد الإقرار. وإذا قال المدعى عليه في مسألتنا: غصبتُ الدار من أحدكما، ثم رام رجوعاً عن أصل الإقرار، لم يقبل منه ذلك، والفرق أن المقر له منحصر، والطلب متوجه منهما، وإذا طالباه، فقد طالبه من أقر له، فلا يتصور والحالة هذه الرجوع. وقد ذكرنا أن الدار تخرج من يده وجهاً واحداً، ثم تتوجه الدعوى منهما عليه، وكل واحد يخاصمه وحده، ويقول: غصبت مني، ويطالبه باليمين، وهي على البتّ أم على نفي العلم؟ ذكر الشيخ أبو علي في ذلك قولين مبنيين على أنه لو نكل عن اليمين في حقهما، فهل يغرم لكل واحد منهما نصفَ القيمة، وفيه القولان المشهوران. فإن قلنا: إنه يغرَم، فيحلف على البت؛ فإنه يمين ينفي بها فعل نفسه، والنكول عنها يثبت مالاً عليه، فيطالبه كل واحد بأن يحلف: ما غصبت منك قطعاً، فإن نكل، رُدَّت اليمين على خصمه. وإن قلنا: إنه وإن نكل عن اليمين وحلفا، لا يلتزم شيئاً، فلا يطالب بيمين البتّ، بل يحلف على نفي العلم، كما لو كان في يد الرجل وديعة، فقال: لست أدري أنها وديعة لزيد أو لعمرو، فيحلف على [نفي] (1) العلم، وقد ذكرتُ مسألة الوديعة في كتابها، والجامعُ أن الغاصب ليس يغرَم على وجهٍ كما لا يغرم المودَع، ثم المودَع لا يحلف على البت، فكذلك الغاصب في مسألتنا. هذه طريقة. ويتجه عندنا أن يطالَب بالقطع في اليمين، ثم لو نكل، لم يلزمه شيء، لأنه يحلف على فعل نفسه، فلتكن يمينه على [البتّ] (2). وإذا كان النكول لا يُلزمه شيئاً، ولا يثبت عليه مرجعاً، فلا ينبغي أن يترك قياس الأيمان (3) من غير غرض.

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين. (2) في النسختين: على نفي العلم وهو مخالف للسياق، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى، واستئناساً بما في البسيط للغزالي، وبما في مختصر العز بن عبد السلام. (3) لأن قياس الأيمان أن من حلف على فعل نفسه، حلف على البت، وعبارة العز بن عبد السلام توضح ذلك إذ قال: "وقال الإمام: يحلف على البت -وإن قلنا لا يغرم- طرداً لقاعدة =

12294 - ولكن يدخل في هذا شيء سننبه عليه في آخر الفرع. فلو عُرضت اليمين عليه، فحلف في حقهما جميعاًعلى البت، وقد سبق منه الإقرار لأحدهما مجملاً، فَحَلِفُه على البت في حقهما لا يبطل إقرارَه الأول، وتكون الدار موقوفة للمدعيَيْن. وهذا مشكل؛ فإنه لو حلف على البتّ في حق الأول، يجب أن يكون هذا تعييناً منه للثاني؛ وهذا لا يتجه فيه جواب؛ فإن من أبهم، ثم عيّن، قُبل التعيين منه، وكان تعيينه بعد (1) الإبهام غير منافٍ لما تقدم، والمتردّد إذا تثبت، لم يبعد ذلك، فالوجه القطع بما ذكرناه. فإن قال قائل: إذا كنا نلزمه الغرم لو لم يحلف على البت، فهو مدفوع إلى الحلف، قلنا: هذا أغمض من الأول، فإنا إذا حملناه على البتّ، فقد أمرناه بأن يحلف كاذباً، وتكليف اليمين الفاجرة لا وجه له. ثم إذا كان يرى أني أحلف حتى لا أغرم، أو كنا نعرض عليه، ونبين له ذلك، فهذا في حكم التواضع والتواطؤ على صورة اليمين، وليس ذلك على الصيغ المعلومة في الأيمان، فالوجه أن نفرعّ على أنه يحلف على نفي العلم، ثم نقول: إذا حلف كذلك، فالدار موقوفة بين الخصمين. واختلف أصحابنا في كيفية الوقف؛ فمنهم من قال: موقوفة إلى أن يصطلحا على تراضٍ، ولا تقسم الدار بينهما نصفين، بخلاف ما لو تنازعا داراً -والدار في أيديهما- وتحالفا، فيثبت لكل واحد منهما نصفُ الدار في يده، والفرق أن كل واحد منهما مستمسك بيده في نصف الدار، وهاهنا لم تثبت اليد لواحد منهما. ومن أصحابنا من قال: الدار بينهما بمثابة الدار في يدي رجلين إذا تداعياها وتحالفا؛ فإن الحق لا يعدوهما، فهو كما لو كانت الدار في أيديهما، ثم لا فرق بين أن يحلف المدعى عليه وبين أن ينكُل ويحلفا أو ينكلا.

_ = الأيمان، وإن قلنا: يغرم، حلف لكل واحد على البت: أي ما غصبت منك" (ر. الغاية في اختصار النهاية: 5/ 375 مخطوطة مرقمة الصفحات). (1) ت 5: " قبل الإيهام ". وهو سبق قلم.

ومهما استوت الخصومة، وهما متساويان، فما ذكرناه من التردد قائم في كيفية الوقف، وإذا قامت بينتان متضادتان على عين، إذا رأينا استعمالَهما، ففي كيفية الاستعمال الأقوال: أحدها - القرعة. فلم يُجْر أحد من الأصحاب القرعة في التحالف في الدار، ولا فيما نحن فيه، مع عموم القرعة وجريانها في كل خصومة، والسبب فيه أن القرعة إنما أجراها من رآها عند التمسك بنهاية الحجة، وليس وراء البينة حجة تُرقب، فإذا عسُر فصل الخصومة معها، اتجهت القرعة، واليمين ليست نهاية الحجة، إذ نَرقُب البينةَ بعدها. وهذا الذي ذكرناه خيالٌ؛ فإن أصل القول بالقرعة باطل، والقول الثاني في الاستعمال القسمةُ، والثالث الوقفُ. وعندي أن ما ذكرناه من التردد في أن هذا بينهما على حكم القسمة، أو على حكم الوقف إلى الاصطلاح، هو القولان القسمة والوقف، فكأنّ التحالف في المال المتنازع يخرج فيه قولُ القسمة والوقف، ولا يخرج فيه قول القرعة. وإذا تنازعا والدار في أيديهما، فليس ما ذكرناه قسمة، ولكن قررنا كلَّ واحد على ما في يده. هذا ما أردناه. فرع: 12295 - إذا ادعى رجل على رجل جاريةً في يده، وأنكر المدعى عليه، فحلفناه، فنكل، فرددنا اليمين على المدعي، فحلف يمينَ الرد، وسلمنا الجارية إليه، فوطئها وأحبلها وأتت منه بولد، ولحقه الولد في ظاهر الأمر، ثم قال بعد ذلك: قد كذبت في دعواي ويميني، والجارية ليست لي! قال الأصحاب: لا سبيل إلى رد الجارية على المدعى عليه؛ فإنه قد ثبت ظاهراً كونها مستولدة، وثبت أيضاً حرية الولد، فلا يقبل قوله في إبطال الاستيلاد، وإبطال حرية الولد، ولكن يغرم للمدعى عليه قيمةَ الجارية وقيمةَ الولد؛ فإنه فوّت الرد فيهما بسببٍ لا مُستدرك له ويحرم عليه وطء هذه وقِربانها على حكم الاستيلاد، ويلتزم مهر مثلها أيضاً. قال الشيخ: هذا إذا ادعت الجارية ثبوت الاستيلاد، أو لم تدّعه، ولم تنفه. فأما إذا كذّب المدعي نفسه، كما ذكرناه، ووافقته الجارية، وقالت: إنما أنا

ملك المدعى عليه، ولم يثبت الاستيلاد فيّ، فهل تُردُّ الجاريةُ على المدعَى عليه؟ ذكر الشيخ فيه وجهين: أحدهما - نردها؛ فإن الحق لا يعدو المدعي والجارية وقد أقر، وهذا لا أصل له. والوجه الثاني -وهو الذي يجب القطع به- أن الاستيلاد لا يزول؛ من جهة أنه لزم وتأكدت عُلقة الحرية، فلا سبيل لهما إلى إبطالها، وأما الولد، فالحرية فيه لا ترتد (1) وفاقاً. فرع: 12296 - قال الشيخ (2): من اشترى داراً، وقبضها، فجاء إنسان وادعاها، وأقام البينةَ عليها، وانتزع الدار من يد المشتري، لما ثبت استحقاقُه، فهل يرجع المشتري بالثمن على البائع؟ نُظر: فإن لم يقل المشتري الدار لي، وكانت لمن باعها مني، ولكنه ردد قولَه، ولم يصرح بذلك، فإذا ثبت الاستحقاقُ، رجع إلى البائع، ولو قال صريحاً: هذه الدار لي، ملكتُها، فهذا إقرار منه للبائع بالملك، فإذا قامت عليه البينة، فهل يرجع بالثمن؟ ذكر (3) وجهين: أحدهما - لا يرجع؛ لأنه يؤاخذ بإقراره، وكان يمكنه أن لا يصرح بادعاء الملك، والثاني - أنه يرجع، فإنه أقر لظاهر الحال، فلما قامت البينة جُعل كأن الإقرار لم يكن. وكان شيخي يقطع بهذا، وإليه ميل المفتين. 12297 - ثم قال الشيخ: لو اشترى جاريةً بالغة، فادعت في يده أنها حرة الأصل، ولم يثبت عليها الرق بإقرارها، ولا ببينة تشهد، ولم تُعهد مسترقَّة في الصغر، فالقول قولها. وهذا مما مهدناه. فإذا ادعت الحريةَ وصدقناها مع يمينها، فالمشتري هل يرجع بقيمتها على البائع؟ نظر؛ فإن لم يصرح بكونها مملوكة عند التفاوض في الخصومة، فيرجع بثمنها على البائع، وإن قال في الخصومة: أنت مملوكة، ثم حلفتْ، قال: فلا يرجع على [البائع] (4) لإقراره بالملك، وقطع القول به.

_ (1) ت 5: " لا تزيل ". (2) الشيخ: المراد الشيخ أبو علي السنجي، وهو المراد غالباً إذا أطلقه الإمام. (3) ت 5: " ذكروا "، والذي ذكر هو الشيخ أبو علي. (4) في الأصل: " المشتري ". وهو سبق قلمٍ واضح.

ولا فرق عندنا بين هذه المسألة وبين مسألة المشتري؛ والفرق إن أمكن، فوجهه أن من اشترى داراً من يد إنسان، فالظاهر الملك، والإقرار بالملك مبني على هذا الظاهر، وصاحبه مقر بالملك بناء على الظاهر، فعُذِر إذا بأن خلاف الظاهر، وقُبل منه قوله: إنما أقررت لأني ظننت أن البائع مالك بحكم يده وتصرفه، فأما في الجارية، فلا ظاهر يعتمد في ثبوت رقها، فإذا قال المشتري: إنها رقيقة حُمل ذلك على تثبت منه، لا على الظاهر. ولا بأس بهذا الفرق، والأولى إجراء الخلاف في المسألتين. فصل 12298 - ذكر الشيخ في شرح الفروع مسائل، سبق بعضها في الوصايا، ولكنا نعيدها للزوائد فيها. فمنها: أن رجلاً لو مات وخفف ابناً لا وارث له سواه، وخلف عبداً قيمته ألف، لم يخلف سواه، فجاء إنسان وادعى أن أباه أوصى له بثلث ماله، وجاء آخر، وادعى أن له على أبيه ألف درهم، فصدّقهما معاً، ولم يقدّم أحدهما في التصديق على الثاني. قال ابن الحداد ومعظم الأئمة في هذه المسألة: صاحب الدَّيْن يضرب في العبد بألف درهم، وصاحب الوصية يضرب فيه بثُلث الألف، فنزيد على الألف ثُلثَه عولاً، فيصير الثلث ربعاً، ويقسم العبد بين الوصية والدين أرباعاً. فإن قيل: أليس الدينُ مقدماً على الوصية؟ قلنا: نعم هو كذلك، ولكن الدين ثبت بإقرار الوارث، والوصية ثبتت بإقراره، والمسألة مفروضة فيه إذا كان صاحب الوصية يكذّب مدعي الدين ومستحق الدين يكذّب مدّعي الوصية. وحكى الشيخ وجهاً غريباً، أنه إذا صدقهما جميعاً، فيصرف تمام العبد إلى الدين وتسقط الوصية. وهذا غريب. والمذهب ما قدمناه؛ إذ لا خلاف أنه لو أقر بالوصية أولاً، ثم أقر بالدين بعد ذلك، وتكاذب صاحب الوصية والدين فالوصية بكمالها

تثبت للمقر له، لما ذكرناه، من أن جهة (1) ثبوت الوصية والدين الإقرارُ، والإقرار السابق يتضمن ثبوت الوصية بكمالها، وصاحب الوصية مكذِّب لصاحب الدين، فقدِّمت الوصية، ثم يصرف الثلثان إلى الدين. ولو أقر بالدين أولاً، ثم أقر بالوصية، فالوصية مردودة، والدين متقدم؛ لأنه مقدم شرعاً، وقد قدّمه المقر ذكراً، وإنما التردد الذي ذكرناه فيه إذا أقر بهما معاً من غير فرض تقدم وتأخر، هذا ما ذكره الأصحاب. ثم في المسألة بقيةٌ، وذلك أنا نقول: إذا قدم الإقرارَ بالوصية، ثم أقر بالدين، فقد ذكرنا أن الثلث بكماله يصرف إلى الوصية، فإذا أقر بالدين صرف الثلثان إلى الدين لمكان تأخر الإقرار به عن الإقرار بالوصية. ثم صاحب الدين يقول له: لو أقررت لي بالدين أولاً، لكنت أستحق تمام الألف، وإن أخرت الإقرار لي، وقدّمت عليّ الوصية صرتَ بتأخير إقراري مفوّتاً عليّ ثلث الألف، فاغرم لي ما انتقص من حقِّي. هذا يخرج -فيما ذكره الشيخ أبو علي- على القولين المكررين في أن الإقرار إذا تضمن إيقاعَ حيلولة بين إنسان وبين حقه، فهل يجب على المقِر المنتسب إلى إيقاع الحيلولة ضمان؟ فيه القولان. ولو أراد التخلص منه، فينبغي أن يقدم ما يجب تقديمه، وهو الدين. وكذلك لو أقر بهما معاً، فيخرج القولان، ويلتزم على أحدهما لصاحب الدين تتمة الألف؛ من جهة أنه لو أقر بالدين أولاً، لوصل مستحِق الدين إلى كمال حقه، وليس لصاحب الوصية أن يطالب الوارث، ويقول: كان من حقك أن تقدم الإقرار بحقي، وإنما قلنا: لا يغرم للوصية شيئاً إذا أخر ذكر الوصية؛ فقد وضعها حيث وضعها الشرع، فلا يلزمه شيء، وإنما التزم لصاحب الدين على أحد الوجهين لتأخيره الإقرار، وكان حقه أن يقدمه، ويسعى في تنزيل الدين منزلته. 12299 - ومما ذكره ابن الحداد من هذا القبيل أنه لو مات وخلف ابناً وارثاً دون غيره، فجاء عبد، وقال: أعتقني أبوك في مرضه، وهو ثلث ماله [فصدّقه] (2)، فجاء

_ (1) سقطت من (ت 5). (2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، وقد سقطت من النسختين.

عبد آخر وزعم أنه أعتقه في مرضه أيضاً، وقيمته مقدار الثلث، كما تقدم، فصدقه الوارث. قال: أما العبد الأول فيعتَق على كل حال، ولكن يقرع بينه وبين العبد الثاني. فإن خرجت القرعة لمن جاء أولاً، ثبت عتقه ورقَّ الثاني، وإن خرجت القرعة على الثاني، عُتقا جميعاً، فيعتق الأول بحكم الإقرار ويعتق الثاني بحكم القرعة، هكذا قال، وقطع به الشيخ في الشرح. وحقيقة الجواب أنه لو ثبت العتق في العبدين جميعاً معاً، لكنا نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، عَتَق، إذا كان كل واحد منهما مقدار الثلث، فالقرعة إذاً توجب هذا المعنى، فإذا خرجت القرعة على العبد الثاني، عَتَق بحكم القرعة، ولا مرد لعتق العبد الأول؛ فإن الوارث جرد الإقرار فيه، فلا يقبل منه مسلك يتضمن نفيَ ذلك العتق، هذا تعليل ما ذكره ابن الحداد. ولو جاء العبدان، فادعى كل واحد منهما إعتاق السيد إياهما فأقر الوارث لهما معاً، وكان كل واحد منهما ثلثاً، فلا يعتِق إلا مقدارُ الثلث، والمذهب أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة عَتَق، ورق الثاني. ومن أصحابنا من قال: يَعْتِق من كل واحد منهما نصفُه. وهذا بعيد عن مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإن من أعتق عبيداً في مرض موته لا مال له غيرهم، وجب الإقراع بينهم، فإقرار الوارث ينبغي أن ينزل منزلة إنشاء العتق. والوجه الثاني - أنا نعتق من كل عبد نصفه؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر. وحكم الإقرار اللزوم. فقد لزم لكل واحد حق العتق؟ فلا معنى لإخراج أحدهما عن الاستحقاق. وهذا يوجب فضَّ العتق عليهما إلى استيعاب الثلث، ولهذا قلنا: إذا قدم الإقرار لأحدهما، ثم أقر للثاني يقدم المقر له بالاستحقاق، ولم يقبل الإقرار للثاني على وجه يوجب التسوية بينه وبين الأول. 12300 - ومما ذكره أنه لو ادعى رجل أن أباه أوصى له بثلث ماله، فصدقه هذا الوارث، فجاء آخر وادعى أنه أوصى له بالثلث، فصدّقه، وكان كل واحد منهما ينكر

وصية صاحبه، فيسلّم الثلث كَمَلاً إلى الأول؛ جرياً على القياس الذي مهدناه؛ لأنه أقر له أولاً. وقد ذكرنا أنه لو قدم الإقرار بالوصية، وأخر الإقرار بالدين، أكملت الوصية لتأخر الإقرار بالدين عن الوصية. وهذا أولى من وصية تقدم على وصية. 12301 - ولو خلَّف المتوفى عبداً قيمته ألف، فقال العبد: أعتقني أبوك في صحته، وقال رجل: لي على أبيك ألف درهم دين، فصدقهما معاً، فالذي صار إليه الأئمة أنه يعتِق نصفُه، ويصرف نصفه إلى الدين إذا وقع الإقرار بهما معاً. وذكر بعض أصحابنا وجهاً غريباً أنه يعتق كله، ويسقط الدين؛ فإنه إذا ثبت العتق في الصحة، فهو مقدم على الدين، فينفذ العتق، ويسقط الدين. وهذا ليس بشيء؛ فإن هذه المسألة فيه إذا كان صاحب الدين يكذّب دعوى العتق، فأما إذا اعترف به وبجريانه في حالة الصحة، فلا إشكال في المسألة. 12302 - ولو خلف ابناً وألف درهم، فجاء رجل وادعى دين ألف، فصدّقه الابن، ثم جاء آخر وادعى دين ألف، وأقام على ذلك بينة، وكذّب الأول في دعواه، فالتركة بجملتها تسلّم إلى الثاني وليس للأول منها شيء؛ فإن البينة في حق الثاني مقدمة على الإقرار في حق الأول، والمسألة مفروضة فيه إذا أنكر الثاني دين الأول. ولو كانت المسألة بحالها، فجاء واحد، وادعى وصية له بالثلث، فصدّقه الوارث، ثم جاء آخر، وادعى الوصية بالثلث، وأقام على ذلك بينة، وأنكر الوصية الأولى، فيسلم إلى الثاني الثلث بكماله، ثم إذا سُلّم الثلث، فالأول يقول للوارث: قد أقررت لي بثلث جميع المال، وهذا الآخر أخذ الثلث بشهادة زور، [وأنت] (1) معترف بكونه مبطلاً، والمسألة مفروضة هاهنا (2)، فاصرف إليّ ثلث الثلثين، وقدِّر ما أخذه من ادعى الوصية تالفاً من التركة، فالوارث يجيبه إلى ما قاله؛ فإنه أقر له بثلث شائع في جميع المال، وقد فات ثلثه من التركة، فله ثلث الباقي.

_ (1) في الأصل: " وأنه "، والمثبت من (ت 5). (2) أي مفروضة في تكذيب الوارث للمدعي الثاني.

فرع: 12303 - إذا كان الرجل قيّماً في مال يتيم، أو وصياً بنصب أبيه، ثم هذا القيم نصبه الإمام قاضي البلد، وهو على الوصاية، فظهر مالٌ لأب الطفل، وشهد عند القاضي شاهدان أن لأب الطفل مالاً معلوماً عند فلان، قال ابن الحداد: لا يقضي به القاضي؛ فإنه خصم (1) لليتيم مطالب بماله، فيبعد أن يكون مخاصماً عنه قاضياً له. وهذا كما أنه لما كان خصماً في حق نفسه، فلا يتصور منه أن يقضي لنفسه أصلاً، فإذا لم يمكنه أن يقضي لليتيم، رفع الأمر إلى الإمام، وادعى هو بنفسه لليتيم. وأقام البينة ليقضي بها الإمام. وإن رفع الأمر إلى بعض من استخلفه من الحكام، ففي جواز ذلك وجهان، وكذلك القول فيما يرفعه من شُغل نفسه إلى من استخلفه. وهذا الخلاف في مستخلف القاضي. فأما الإمام [لو عنّ له] (2) شُغل، فلا بد من الارتفاع إلى من استخلفه؛ فإنه لا طريق غيره، وقد صح أن علياً ارتفع إلى مجلس شريح في قصص معروفة، قضى في بعضها له، وفي بعضها عليه. قال الشيخ أبو علي: قال شيخي -يعني القفال- الوصي إذا نُصب قاضياً، فله أن يقضي لليتيم؛ فإن القاضي يلي أموال اليتامى، ثم لا يمنعه ذلك من القضاء لهم، فكذلك في هذه الصورة، وهذا كما أنه يقضي لسائر الأيتام الذين هم في حياطته وولايته، والذي قاله القفال متجه في القياس. ...

_ (1) الخصم: المخاصم، والمعنى أنه مخاصم عن اليتيم ولمصلحته، وليس المراد خصيمه. (2) في الأصل: " لو عدّله ".

باب القافة ودعوى الولد

باب القافة ودعوى الولد 12304 - بيّن الشافعي رضي الله عنه فيما قدمه من الأبواب حكمَ الدعاوى في الأموال، وبين في هذا الباب حكمَ الدعاوى في الأنساب. فإذا اشترك رجلان في طهر امرأة بوطء شبهة أو بوطء حلال ووطء شبهة، فأتت بولد يحتمل أن يكون لكل واحد منهما وادعياه، أو ادعيا لقيطاً مجهول النسب، فلا سبيل إلى إلحاقه بهما جميعاً، ولا يتصور أن يكون للمولود أبوان، ولكن نُري الولدَ القائفَ، فإن ألحقه بأحدهما، لحقه، على ما سنذكر تفصيل ذلك، إن شاء الله. [وترتيب الباب] (1) أن نذكر الطرق التي يثبت بها الاشتراك والتساوي في الدِّعوة (2)، ثم نذكر من هو من أهل الدِّعوة، ثم نذكر القائف وما يرعى فيه، وحقيقة القيافة، ثم نختتم الباب بما إذا لم نجد القائف. 12305 - فأما الكلام في الفصل الأول، فقد قال الأئمة: إذا وطىء الرجل [جاريته] (3) واعترف بالوطء، ثم وطئها غيره بشبهة في ذلك الطهر بعينه، فأتت بولد لزمان يمكن أن يكون من كل واحد منهما: السيد والواطىء بالشبهة، فنري الولدَ القائفَ. 12306 - ولو وطىء الجاريةَ مالكُها، أو مالكُ بعضها، أو واطىءٌ بشبهة، ثم حاضت، فلما انقضت الحيضة، وطئها ثانٍ، وجاءت بولد لزمان يمكن أن يكون لكل واحد منهما من حيث الزمان، فالولد ملتحق بالثاني؛ فإنّ وطء الأول استعقب استبراءً

_ (1) في الأصل: " ومن هذا الباب ". والمثبت من (ت 5). (2) الدِّعوة: بكسر الدال المشدّدة، وآخرها تاء مربوطة: هي ادعاء النسب خاصة. وقد سبق بيان ذلك أكثر من مرة، وإنما كررناه لطول العهد به. (3) في النسخين: جارية. والمثبت من تصرّف المحقق.

بحيضة، والولد في ملك اليمين لا يلحق بمجرد الإمكان؛ إذ السيد لو وطىء جارية نفسه، وأقر بوطئها، ثم ادعى أنه استبرأها بعد الوطء، فإذا أتت بولد، لم يلحقه ما لم يستلحقه، فالولد إذاً في المسألة التي نحن فيها ملحق بالثاني منتفٍ عن الأول، سواء ادعاه الأول أو لم يدعه. وهذا فيه أدنى نظر، إذا كان يدعيه الأول؛ فإن السيد إذا وطىء أمته، ثم حاضت، وأتت بولد، لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من الوطء المتقدم على الحيضة -بتقدير جريان الدم في زمن الحمل- فيجب أن يلحق الولدُ السيدَ، وإنما يؤثر طريان الحيضة في أن الولد لا يلحقه من غير استلحاق، فإذا فرضنا تخلل الحيضة بين الوطء الأول وبين الوطء من الثاني، ثم استلحق الأول وادعى، واستلحق الثاني، فلا يبعد أن يقال: نري الولدَ القائفَ، وظاهر كلام الأئمة يختص بالثاني من غير إلحاق قائف، وفي المسألة احتمال. ولا خلاف أن من أبان امرأته، فنكحت، وأتت بعد النكاح بولد لزمان يحتمل أن يكون من الثاني، ويحتمل أن يكون من الزوج الأول، فهو ملتحق بالزوج الثاني، من غير دِعوةٍ، منتفٍ عن الأول، وإن ادعى؛ فإن الفراش الثاني قاطع لأثر الفراش الأول فيما ذكرناه. 12307 - ولو وطىء رجل امرأةً حرة بشبهة، من غير نكاح صحيح ولا فاسد، ولكن غلط إليها، وهي خلية عن الزوج، فحاضت، ثم وطئها رجل آخر بالشبهة بعد حيضة، فوقع الوطء الثاني في طهرٍ ثانٍ، وأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون من كل واحد منهما جميعاً، قال الأصحاب: هو ملتحق بالثاني منتفٍ عن الأول، كما ذكرناه في ملك اليمين سواء؛ فإنّ وطء الغلط من غير نكاح في الحرة بمثابة وطء المملوكة فيما قدمناه في ملك اليمين. هكذا ذكر شيخنا، وادعى الوفاق فيه. وليس ما ذكره خالياً عن احتمال؛ فإن وطء الشبهة في اقتضاء العدة التامة -والموطوءة حرة- بمثابة الوطء الحلال في النكاح، والله أعلم. 12308 - ولو كانت المرأة في حبالة زوجية صحيحة، فوطئها الزوج، وحاضت، ثم وطئها واطىء بشبهة، أو لم يثبت من الزوج حقيقة وطء، بل وجد إمكان وطء،

ففي هذه الصورة إذا أتت بولد -يمكن أن يكون من كل واحد منهما- فنُري الولدَ القائفَ وفاقاً. ولا معتبر بما تخلل من الاستبراء بالحيضة؛ لأنا نعتبر في إلحاق النسب بالزوج في النكاح مجردَ الإمكان، والحيضة لا تقطع الإمكان أصلاً. فلا أثر لها في حق الزوج. ولو وطىء الزوجة واطىء بشبهة أولاً، وحاضت بعد وطئه إياها، ثم أتت بولد لزمان يحتمل أن يكون منهما، فيكون ملحقاً بالزوج منفياً عن الواطىء بالشبهة، إن صح ما قدمناه من تأثير الحيض في وطء الشبهة، فإنا إن اقتصرنا على الإمكان في حق الزوج، فلسنا نقتصر على الطريقة التي مهدناها في حق الواطىء بالشبهة. 12309 - ولو نكح الرجل امرأةً نكاحاً فاسداً، فوطئها، وحاضت، ووطئها آخر بشبهة غالطاً، والزمان محتمل، ذكر الإمام (1) في هذه المسألة وجهين: أحدهما - أن حكم النكاح الفاسد حكم النكاح الصحيح، والولد ملحق فيه بالإمكان، [كما يلحق في النكاح الصحيح] (2)؛ فعلى هذا لو تخللت حيضة، وأتت بولد، فنريه القائفَ بينهما. ولو لم نتحقق من الناكح وطئاً، فنكتفي بإمكان الوطءِ في جانبه. ولو أنكر الناكح على الفساد الوطءَ، فلا أثر لإنكاره على هذا الوجه. والوجه الثاني - أن نكاح الشبهة في حق الناكح لا يُثبت نسباً بالإمكان المجرد؛ فعلى هذا سبيل الناكح كسبيل الواطىء بالشبهة غلطاً، ولا بد من تصوير الوطء، والتفصيل في تخلل الحيض كالتفصيل في وطأة الغالط. 12310 - فانتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثُ مراتب: إحداها - وطأة الغالط. وقد ألحقها شيخي وطائفة من الأئمة بالوطء في ملك اليمين، وأثبتوا لتخلل الحيض أثراً، ولا شك أن الاعتراف بالوطء لا بد منه. وأما المرتبة الثانية - فالنكاح الصحيحُ، والإمكانُ المجرد كافٍ في حق الزوج، ولا أثر في حقه لتخلل الحيضة.

_ (1) الإمام: يعني والده الشيخ أبا محمد. (2) في الأصل: " كما لا يلحق في النكاح الصحيح "، والعبارة صحيحة في (ت 5).

وأما إذا جرى نكاح على الفساد (1)، ففيه الخلاف. من أصحابنا من ألحقه في النسب (2) وأمرِه بالنكاح الصحيح، ومنهم من شرط فيه جريان الوطء، ثم رده في الترتيب إلى وطأة الغالط. وهذه المراتب مسبوقة بما ذكرناه في الوطء في ملك اليمين مع تصور الغلط، ولا خلاف في إلحاق الولد بالزوج الثاني، وقَطْعه عن الأول إذا أمكن أن يكون من الثاني، وإن احتمل أن يكون من الأول، سواء ادعاه الأول، أو لم يدعه، وليت شعري ماذا نقول إذا نفاه الثاني باللعان، واستلحقه الأول؟ فقد انقطع في ظاهر الأمر حكم اللحوق في النكاح الثاني، والاحتمال قائم في حق الأول، فالذي يقتضيه الرأي عندي أنه لا يلتحق بالأول، وإن كان يدعيه؛ لأن الملاعن لو استلحق المنتفي بعد اللعان، لحقه، وفي إلحاقنا إياه بالأول قطعُ هذا المعنى، وهذا فيه إذا كان الأول يستلحقه بحكم الإمكان السابق المستند إلى النكاح الأول. فأما إذا كان يدعي وطء شبهة، فيظهر من هذا أصل آخر، وهو أن من ادعى وطء شبهة في النكاح، وصاحب النكاح ينكره، وأخذ مدعي الوطء في الدِّعوة وإسنادها إلى وطٍ يدعيه، فكيف السبيل فيه؟ إن قلنا: الرجوع إلى قول صاحب الدِّعوة، فهذا يخرم نسب الفراش، ويجر خبالاً عظيماً على الأنساب، وإن لم نقل ذلك، أَحْوجنا الواطىءَ إلى إثبات الوطء بالبينة؛ فإنّ اعتراف الزوج به لا يؤثر (3) فيما نراه، ولا أثر لاعترافها بالوطء. والمرعيّ حق الولد. وهذا أمر مشتبه. فليتأمله الناظر. وعندي أن الذي أجراه الأصحاب من غير تعرض لما ذكرناه في وطء ثبت بطريق ثبوته، وشهدت البينة عليه، وإنعام النظر في هذه المسألة موكول إلى الفقيه الموثوق بنظره. ولو تداعى رجلان نسب لقيطٍ مجهولِ النسب، فهذا من صور القيافة، والغالب الذي لا يُتمارى فيه في تصرف القائف هذا.

_ (1) هذه هي المرتبة الثالثة. (2) ت 5: " بالنسب ". (3) ت 5: " لائق فيما نراه ".

وقد نجز مقدار مرادنا في هذا الفصل، ولا شك أني ذكرت في كتاب اللعان أطرافاً من هذا، ولا مَعاب في الإعادة إذا دعت إليها حاجة. 12311 - فأما القول فيمن هو من أهل الاستلحاق والدِّعوة - وقد مضى ذلك في كتاب اللعان، فالمسلم والكافر سيّان في الاستلحاق، والمتبع في الباب الإمكانُ في المنبوذ المجهول. وإن وقع الفرض في وطء الشبهة، فلا فرق بين الكافر والمسلم. وأما المعتَق وعليه الولاء إذا استلحق مولوداً، والعبد الرقيق إذا استلحق، فالذي تحصل لنا من قول أئمة المذهب (1) ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنه لا دِعوة لواحد منهما؛ لأن في إلحاق النسب قطع الإرث بالولاء، فلا يقبل، والحالة هذه. والثاني -وهو القياس- أن النسب يلحق (2) بهما إذا استلحقاه. والوجه الثالث - الفرق بين المعتَق والرقيق، فالمعتَق لا يلحقه؛ لأنه يهجم بالاستلحاق على الولاء الكائن، والولاء موهوم في الرقيق، والأصل اطراد الرق، فكان الرقيق أولى بالاستلحاق -على هذا الترتيب في الوجه الثالث- من المعتَق. وهذا (3) الذي ذكرناه في الدِّعوة المجردة. فأما إذا فرض نكاح من معتَق أو رقيق، فالنسب يلحقهما بإجماع الأمة، كما يلحق الحر. وإذا صح منهما وطء شبهة، فيجب أن يلحقهما النسب على القياس المقدم في وطأة الغالط الحر. 12312 - وإذا ادعت امرأة مولوداً مجهولاً، وهي خلية، ففي الولادة بالدّعوة خلافٌ، قدمته في اللعان. من أصحابنا من لم يثبت لها دِعوة، لأن الولادة مما يمكن إثباتُه بالبينة، وإنما يلحق النسب الرجل بالدِّعوة المجردة لامتناع إقامة البينة على سبب النسب في حقه.

_ (1) ت 5: " الأئمة المذهبيين ". (2) ت 5: "يلحقهما". (3) ت 5: " وهو الذي ".

ومن أصحابنا من أثبت للمرأة الدِّعوة، ولا خلاف أنها إذا كانت ذات زوج، فادعت ولادةَ مولود، وأنكر الزوج ولادتها، وقال: هذا استعرتيه أو لقطتيه، وما ولدتيه (1)، فالقول قول الزوج. وهذا الأصل معروف مذكور في اللعان، ولكن إذا أنكر الزوج الولادة، ولم تُقم المرأة بينة، فهل يلحقها الولد؟ فيه خلاف مرتب على الخلية. وينتظم من الخلية وذات الزوج ثلاثة أوجه: أحدها - أن الولد لا يلحقها إذا كانت ذات زوج، ويلحقها إذا كانت خلية (2)، وقد انتهى القول في ذلك. 12313 - فأما الكلام في القائف، فهذا مشهور من بني مدلج وحديث مُجَزِّز (3) المُدْلجي في أسامة وزيد معروف (4). ثم قال العراقيون: ليست القيافة محكوماً بها على كل من ينتسب إلى هذه القبيلة، بل يجوز أن يخلوَ مُدلجي عن القيافة؛ فإن ذلك إن كان علماً يُتلقف، فيختص به حملتُه، وإن كان أمراً مستفاداً من إلهام، فلا يجب إثباته على العموم، وإذا قال المدلجي: أنا عارف بالقيافة، فلا سبيل إلى تصديقه. 12314 - ولا وجه إلا ما ذكره الشيخ أبو حامد، فإنه قال: لا يقبل قول القائف إلا بعد أن يجرّب ويختبر، وسبيله أن نريَه ولداً بين نسوة، ليست واحدة منهن أمه، فإذا لم يلحق الولد بواحدة أريناه مع نسوة فيهن أم المولود، فإذا ألحقه بأمه، عرفنا به معرفتَه. ثم قال الشيخ أبو حامد: لا نكتفي أن نجرّبه مرة واحدة، بل نجرّب ثلاث

_ (1) سبق بيان أن إثبات الياء في هذه الصورة صحيحٌ فصيحٌ وعليه شواهد من الحديث النبوي الشريف. (2) لم يذكر الوجهان الأول والثاني، لأنهما مفهومان من الكلام. (3) في النسختين محرز بالحاء المهملة مع تأكيد الإهمال بعلامته المعروفة في كليهما. (4) حديث مجزز المدلجي في القيافة متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 3555، مسلم: الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، ح 1459).

مرات، ورأى ذلك حتماً، ولم يجعله احتياطاً. ولو أريناه المولود بين نسوة ليس فيهن أمه، فلم يلحق، فأريناه في نسوة ليس فيهن أمه أيضاً فلم يُلحق، وكررنا هذا النوع عليه، [فاستدّ] (1) في عدم الإلحاق، ثم ألحق بالأم، فلست أدري أن ما تقدم من درك [استداده] (2) هل يكتفى به، أم لا بد من تكرر الإلحاق منه (3)؟ والذي يجب أن يكون عقَد المذهب ومعتبرَه أن يَظهرَ حذقُه وتهدّيه، ويبعد حمل ما صدر منه على وفاق، ويجب أن نتناهى في الاحتياط؛ حتى لا يكون القائف مطّلعاً من قبل بعِيان أو تسامع. وما ذكرناه من التجربة المحتومة مخصوصة بالنسوة؛ فإن الولاد فيهن مستيقن، ولست أدري هل يقع الاكتفاء بأن نريَه ولداً مشهور النسب بين رجال ليس فيهم أبوه؟ والأظهر تخصيص التجربة بالنساء كما ذكرناه. ثم إذا تبيّنا معرفته، فلا شك أن نشترط عقله وبلوغه وورعه. والقائف الواحد كافٍ، والشاهد فيه حديث مجزِّز المدلجي، وفي اشتراط الحرية مذهبان: أصحهما - الاشتراط، وتنزيلُ القائف منزلة الحاكم، وليت شعري هل يُقبل إلحاق المرأة القائفة؟ إن لم نشترط الحرية. 12315 - وقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن القيافة هل تختص ببني مدلج أو تتعداهم؟ فمنهم من زعم أنه مختص بهم، وهؤلاء اعتمدوا الاقتصار على مورد الشرع؛ فإن القيافة احتكام على أمرِ مُخطر، ومعوّلها التخمين، وكم من حاذق منهم يغلط، فالوجه ما ذكرناه. وما زال أهل هذه القبيلة يراجَعون، وعصر الصحابة يطفح بذوي الفطن، فالوجه الاختصار عليهم.

_ (1) في الأصل: " فاستبد "، وفي ت 5: " فاستدعى ". والمثبت تصرف من المحقق. (2) في الأصل: " استبداده "، والمثبت من (ت 5). (3) ت 5: " أم لا بد من تكرر الإلحاق به منه ".

ومن أصحابنا من لم يخصص ذلك بهم، واعتبر هذا المستدرك بكل ما يستدرك فيما يُعلم ويُظن، وعبّر الأئمة عن هذا فقالوا: القيافة خاصَّة فيهم، أم هي علم يتعلم ثم يُحْكَم بطول الدُّربة، كالعلوم التعليمية والتجريبية؟ ثم تصرف العراقيون، فقالوا: لا شك أنهم يعتمدون أشباهاً جلية وخفية: الجليةُ كالخلق والصور، والخفية كالشمائل التي لا تنتظم فيها عبارة، ثم قالوا: إذا كانت القيافة علماً من العلوم مستنداً إلى أعلام، فلو ظهر للذي يُلحق بالشبه تشابه في الخلق الجلية مع شخصٍ، ومشابهة في الشمائل الخفية مع شخص، فيعتمد ظواهر الخلق، أو الشمائل الخفية؟ فعلى وجهين. [فأما] (1) من يعتمد المسلك الجلي، فتوجيهه بين، ومن يعتمد الشمائل فمعتمده أن الخلق لو كان عليها معول، لعم تشبه الولد بالوالد في الصورة، وليس كذلك، فأما الشمائل فلا بد من التشابه فيها في حق من يتفطن لها غالباً. والله أعلم. ولا ينبغي عندنا أن ينتهي الفقيه إلى أن يتصرف في علم القيافة. ومما نلحقه بذلك، أنا إذا جرّبنا القائف في مولود، فأصبناه مصيباً فيه، فلا نكرر عليه التجربة في كل مولود، وهذا كحكمنا بكون الكلب معلماً، إذا ثبت، لم نحتج إلى إعادة التجربة كل مرة، بل هو على حكم التعليم إلى أن يتبين خلافه. هذا منتهى ما أردناه في صفات القائف. 12316 - فإذا وجدنا قائفاً على الشرط، فلا مَعْدل عنه. وإن لم نجد قائفاً، أو وجدناه فتحيرّ، أو جربناه فغلط، أو كان القائف غائباً -على ما سأصف الغيبة- فيقف الأمر، ونتوقف إلى أن يبلغ الطفل ونأمره بالانتساب. ثم الذي فهمته من كلام الأصحاب أن هذا المولود يعتمد ميلَ نفسه وحنينها، معتقداً أن النفوس مجبولة على الميل إلى الوالدين، وليس له أن يختار واحداً عن وفاق، هذا ما وجدته. حتى قال شيخي: لو امتنع بعد البلوغ عن الاختيار، حبسه القاضي.

_ (1) في الأصل: " وأما ". والمثبت من (ت 5).

ولست أرى الأمر كذلك (1)، بل هذا مناقضٌ لقولنا: لا يختار تشهياً؛ فإن الإجبار يليق بهذا الفن من الاختيار، وهذا كحبسنا من أسلم على عشر نسوة ليختار أربعاً منهن، ولا يمكن أن نحكم على النفوس بأنها تميل إلى آبائها ميلاً جلياً (2) لا بد منه؛ حتى لا يخلو شخص عن وجدانه ودركه من نفسه، ولست أشك أن هذا لا يعم النفوس مع الجهل والتباس الحال. فأما إذا ألف الرجل أباه وتربّى في حجره، فذاك إلف وتقليد، وإنّا في التعويل على ما يندر من الميل على تردد، ولا متبع فيه إلا الشرع والتوقيف. ثم إذا اختار المولود أحدهما، وقع الحكم به، وأرى له محملاً جلياً في قواعد الشريعة، وهو تقارّ المستلحِق والمستلحَق على النسب، ولو استلحق الرجل نسب بالغٍ، فلا يلحقه نسبه ما لم يوافقه، هذا من ذلك الفن، يل هو هو بعينه. وما قدمناه من النزوع إلى نوازع النفس كلام فيما يعتمده المختار، وإلا فالحكم الظاهر المنوط بالاختيار متلقى مما ذكرته. ولو بلغ الصبي مبلغ التمييز، ولم ينته إلى مظنة التكليف فهل يختار؟ وهل لاختياره حكم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يخيّر ليختار، إذا لم يكن قائف، كما يُخَيَّر المولودُ المميز بين أبويه في الحضانة. والوجه الثاني - أنا نصبر إلى أن يبلغ؛ فإن أمر النسب خطير، وليس كالحضانة؛ فإنها مطلوبة في الصغر، ولو أخر أمرها، فيقع الكلام بعد انقضائها؛ على أنا اعتمدنا فيها الخبر والأثر. 12317 - وقد أجرينا ذكر غيبة القائف، والذي يجمب الرجوع إليه عندنا في هذا أن يقال: الاختيار في حكم البدل عن القيافة، فنعتبر في غيبة القائف ما نعتبره في غيبة شهود الأصل عند استشهاد الفروع. 12318 - ووراء ذلك غائلة ننبه عليها الآن، ونقدم أصلاً مقصوداً، فنقول: الولد

_ (1) كذلك: الإشارة إلى أن الاختيار عند البلوغ يكلون عن جبلّةٍ وطبيعة، لا يخلو منها إنسان، حتى لا يمكن أن يكون اختياره عن وفاق. (2) كذا في النسختين، وأراها جبلِّياً، والله أعلم.

الذي ألحقه فراش النكاح لا يؤثر فيه قيافةٌ، ولا انتسابٌ يخالف حكم الفراش، بل لا ينتفي ولد ألحقه الفراش إلا باللعان. ولو صادفنا صبياً صغيراً في يد إنسان، وكان يستلحقه، ولا نعرف فراشاً نُسند الولدَ إليه، فالنسب يلحق بظاهر اليد مع الانتساب، حتى لو جاء إنسان واستلحقه، فلا حكم لاستلحاقه. ولو دعانا إلى الاحتكام إلى القائف، لم نجبه، وهذا رأيته متفقاً عليه بين الأصحاب. ولو بلغ الطفل فانتفى ممن كان يستلحقه وهو تحت يده في صباه، فهل يقبل انتفاؤه عنه؟ فعلى وجهين مشهورين بناهما الأصحاب على ما إذا حكمنا لطفل بالإسلام تبعاً، فبلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو مرتد أو كافر أصلي؟ فعلى قولين، ووجه البناء لائح. وذكرنا في ادعاء الحرية بعد البلوغ مثلَ هذا الخلاف. ثم ذكر الأصحاب في هذا المنتهى مسألة، فنذكرها، ثم نعود إلى ما نبهنا عليه، قالوا: إذا كان في يده صبي، وهو يدعي نسبه، ويزعم أن زوجته أتت به، والزوجة تنكر ولادته، فالنسب يلحق وإن أنكرت، فلو جاء خارجي وادعى نسبه، وزوجة الخارجي تزعم أنها ولدته على فراش الخارجي، أما الأبوة، فثابتةٌ لمن الطفل في يده. واختلف أصحابنا وراء ذلك في الأمّ: فقال قائلون: هو ابن صاحب اليد وابن زوجة الخارجي، فلا منافاة، ولعله وطئها بشبهة، وهذا إذا جعلنا للمرأة دِعْوة. ومن أصحابنا من قال: هو ملحق بالذي في يده، وبزوجته وإن أنكرته. ومن أصحابنا من قال: الأبوة تثبت لصاحب اليد، ولا قائف في ذلك، ونُري الولدَ القائفَ بين زوجته وزوجة الخارجي. 12319 - ونحن نعود بعد ذلك إلى ما أردناه، فنقول: إذا وقفنا أمرَ المولود الذي تداعاه رجلان، لما لم نجد القائف، وانتظرنا بلوغ المولود واختيارَه، فلو بلغ، فحضر قائف قبل اختياره، فالرجوع إلى اختياره أم إلى إلحاق القائف؟ أولاً - لا خلاف أنه لو لم يختر، ألحقه القائف، وإذا اختار ووافق اختيارُه إلحاقَ القائف، فلا إشكال.

وإن اختار أحدَهما وألحقه القائف بالثاني، فهذا موضع النظر؛ من جهة أن القيافة تليق بحالة الصغر؛ إذ لو ادعى رجل نسب بالغ، وهو ينكر، فاستشهد المدعي بقائف، فلا يجوز أن يكون قولُ القائف حجةً في هذا المقام، والمستلحَق المدعى بالغ مستقل، وادعاء الرجل نسبه كادعائه مالَه، ولكن إنما ترددنا في المسألة الأولى؛ لأن الولد في حكم النسب كابنٍ في أيديهما، وتثبت عُلقة النسب، بل حقيقة النسب من أحدهما؛ فإن هذا إذا بلغ لا بد وأن يختار أحدهما، إلا على وجه بعيد، في أن الطفل لو بلغ ونفى النسب أنه ينتفي أخذاً من الإسلام والتبعية فيه. فإذا جرينا على الصحيح، فالنسب ثابت من أحدهما، وقد اختار، وقال القائف خلاف اختياره، وهذا محتمل جداً، وفي أثر عن عمر ما يرشد إلى مسلك في هذه المسألة؛ فإنه أرى الولدَ القائفَ أولاً، فلم يأت القائف بما يرضيه في قصة مشهورة (1)، فأدب القائفَ، ثم قال للمولود: والِ من شئت، وأراد الانتساب. فيمكن أن يكون ذلك بعد البلوغ. ويظهر أن يكون في الصغر. فإن ابتداء الدّعوة لو كان بعد البلوغ، فلا قائف، كما مهدته فيما تقدم - والعلم عند الله. وقد تناهى التنبيه (2)، وإنعام النظر موكول إلى نظر الفقيه. ثم عقد باباً (3) وذكر فيه استلحاق الكافر والعبد وطرفاً من أحكام إسلام الطفل بالتبعية، أما ما يتعلق بالاستلحاق، فقد ذكرناه، وأما أمر التبعية بالإسلام فقد استقصيناه في كتاب اللقيط. ...

_ (1) أثر عمر في القيافة رواه الشافعي والبيهقي، قال الحافظ: بسندٍ صحيح إلى عروة، وعروة عن عمر منقطع (ر. السنن الكبرى: 10/ 263، ومعرفة السنن والآثار: ح 6000، والتلخيص: 4/ 287 ح 2695). (2) ت 5: " الشبه ". (3) يشير إلى أبواب ومسائل في المختصر، وكأنه ينبه إلى مخالفته الترتيب في إيرادها.

باب متاع البيت، يختلف فيه الزوجان

باب متاع البيت، يختلف فيه الزوجان قال: " وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت ... إلى آخره " (1). 12320 - إذا كانا يسكنان بيتاً فيه أمتعة، فاختلفا فيها، فاليد في الأمتعة لهما جميعاً، ولا فرق بين أن يكون ذلك المتاع مما يصلح للرجال كالأسلحة والأقبية (2) وملابس الرجال، أو يصلح للنساء كالحلي والمغازل وأوعيتها، فجملتها تحت اليدين، خلافاً لأبي حنيفة (3). ولا خلاف أنه إذا تنازع دبّاغ وعطار في جلدٍ وفأرة مسك (4)، فاليد فيهما لهما، ولو تنازع رجلان دابةً: أحدهما ركبها، والآخر متعلق بلجامها، أو تنازعا ثوباً: أحدهما لابسه، والآخر متعلق بذيله، فالمذهب الأصح أن اليد للراكب، واللابس، لاختصاصه التام، وإن كان التعلق باللجام لو انفرد ولا راكب، فالدابة في يد المتعلق باللجام، وقال أبو إسحاق -في الراكب والمتعلق واللابس والمتشبث بالذيل- اليد لهما. وهذا بعيد لا تعويل عليه. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 266. (2) جمع قَباء. نوع من لباس الأعاجم. (3) ر. مختصر الطحاوي: 228، رؤوس المسائل: 549 مسألة 405، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 345 مسألة: 838. (4) يضربُ اختلاف العطار والدباغ مثلاً يؤكد به اختلاف الزوجين في متاع البيت، فكما أن الجلد من شأن الدباغ، وفأرة المسك من اختصاص العطار، إلا أن هذا لم يمنع أن تكون اليد لهما باتفاق، فكذا اختلاف الزوجين.

باب أخذ الرجل حقه ممن يمنعه

باب أخذ الرجل حقه ممن يمنعه 12321 - إذا كان للرجل دين على إنسان وكان من عليه الدين مليئاً وفياً، لم يظهر منه امتناعٌ عن أداء ما عليه، فليس لصاحب الحق أن يأخذ ماله، ولو أخذه، لم يملكه، ولا فرق بين أن يكون من جنس حقه، أو من غير جنس حقه. وإن كان من عليه الحق مُقراً مليئاً، ولكن كان مماطلاً، فليرفعه إلى القاضي، وليس له مع التمكن من ذلك أن يأخذ مالَه. وإن امتنع عليه رفْعُه، أو غَيّب عنه وجهَه، وتعذر عليه الوصول إلى حقه، فإذا ظفر، نظر: فإن ظفر بجنس حقه؛ فله أن يأخذه، وإذا قصد أخذه عن حقه ملكه. فأما إذا ظفر بغير جنس حقه، فهل يأخذه؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يأخذه، وهو مذهب أبي حنيفة (1). والثاني - أنه يأخذه، واستدل الشافعي عليه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " (2). ولم يفصل بين أن تظفر بجنس النفقة أو بغير جنسها. ثم أبو حنيفةَ جوّز أخذ الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم، ونحن نجري القولين في ذلك إذا تحقق اختلاف الجنس. ولو كان حقه دراهمَ صحيحة، فوجد مكسرة؛ فإن رضي بها أخذها قولاً واحداً. وإن كان حقه دراهم مكسرة، فوجد دراهم صحيحة، فلا يأخذها بحقه، ولا يتصور اعتياض مع التفاضل (3)، ولا مسلك إلا بيع الدراهم بالدنانير مثلاً، وصرف الدنانير إلى نوع حقه من الدراهم، فإذا كانت صورة المسألة هكذا، فالظافر بالدراهم كالظافر

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 358. (2) حديث " خذي ما يكفيك " سبق تخريجه. (3) لأن الاعتياض مع التفاضل ربا، بل يبيع بالدنانير، ويشتري بها الدراهم المكسرة.

بغير جنس حقه على الأصح؛ فإنه لا يتوصل إلى حقه إلا ببيعتين، فهي أبعد عن ثوب يظفر به. ومن أصحابنا من ألحقه بالظفر بجنس حقه. وفائدة ذلك القطع بجواز الأخذ، ثم لا طريق إلى التملك، ولا وجه إلا ما ذكرناه. 12322 - وإن ظفر بغير جنس حقه وقلنا: له أخذه، فهل يبيعه بنفسه؟ فعلى وجهين: أظهرهما في النقل - أنه لا يبيعه بنفسه، بل يرفعه إلى القاضي ليبيعه، ثم القاضي لا يبيع مُعوِّلاً على قوله، بل يبني الأمر على علمٍ. ومن أصحابنا من جوّز للظافر أن يبيع بنفسه، على شرط الاحتياط، وهذا لائق بغرض الباب؛ فإنه ربما يعجز عن تقرير الحال في مجلس القضاء؛ فإنه قد لا يجد بينة في إثبات دَيْنه، وإن وجدها، فقد يعجز عن إثبات كون هذه العين ملكاً لمن عليه الدين، وإنما أُثبت التسلُّطُ لصاحب الحق ليصل إلى حقه المتعذر. ثم إذا قلنا: للظافر أن يبيعه بنفسه، فقد قال الأئمة: يبيعه بنقد البلد -وإن كان حقه بُرّاً أو شعيراً- ثم يصرف نقدَ البلد إلى حقه، ويجري في ذلك مجرى الوكيل بالبيع المطلق. هكذا ذكره القاضي، وفيه إشكال؛ فإن من عليه الحق، إذا تمكن من بيع ثوبه بالبر، فليس له أن يطوّل ببيعه بالدراهم إذا لم يكن له غرض مالي، وأيضاً فإن وجد الدراهم الصحيحة، وحقه المكسرة، يبيع الدراهم الصحيحة بالدنانير، وإن لم تكن الدنانير غالبة. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الضرورة تدعو إليه. وقد ذهب طائفة من محققينا إلى أنه لو أراد البيع بجنس حقه، جاز، وهذا متجه حسن. ثم إذا أخذ ثوباً عن حقه، فليس له أن يستعمله، وإنما له حق البيع فحسب، ولو تلف في يده، تلف من ضمانه. هكذا قال الأصحاب. وليس كما لو دفع من عليه الحق إلى مستحق الحق ثوباً ليبيعه، ويصرف ثمنه إلى نفسه، فلو تلف في يده، لم يضمنه. والفرق أن مالك الثوب ائتمنه في ذلك الثوب، والآخذ الظافر مستقل بنفسه.

12323 - فلو أخذ أكثر من حقه مع إمكان ألا يأخذ لم يجُز. والضمان لا شك فيه. ولو لم يجد إلا ما يزيد على مقدار حقه، مثل أن يظفر بسيف يسوى (1) مائة، وحقه خمسون، فله أن يأخذه، ولكن هل تدخل الزيادة في ضمانه؟ فعلى وجهين: أحدهما - تدخل كالأصل، والثاني - لا تدخل في ضمانه؛ لأنه لم يأخذه لحق نفسه، وله أخذه. 12324 - ولو كان لا يتوصل إلى حقه إلا بنقب جدار، فقد قال القاضي: له النقب وإخراج ما يأخذ منه حقه من الحرز، ولا يضمن أرش النقض الحاصل بالنقب؛ فإن من جاز له أن يأخذ شيئاً، جاز له التوصل بالطريق الممكن، ومن استحق شيئاً، استحق الوصول إليه. 12325 - ولو أخذ ثوباً قيمتُه عشرة وحقه عشرة، فبقي الثوب في يده، حتى بلغت قيمته عشرين، فتلك الزيادة محسوبة عليه، لا شك فيه، وإن انتقصت قيمة الثوب، نُظر: فإن لم يتوان حتى انتقصت القيمة، لم يُحسب عليه النقصان، وإن توانى في البيع حتى انتقصت القيمة، فالنقصان محسوب عليه. هكذا ذكره القاضي. ولو غصب عيناً من إنسان، وظفر المغصوب منه بعينٍ للغاصب، والامتناعُ قائم، فله أن يأخذها، فيبيعَها، وينتفعَ بقيمتها، كما لو أبق العبد المغصوب؛ فإن الغاصبَ يغرَم القيمةَ للمغصوب منه، وما ذكرناه مأخوذ من هذا الأصل. ثم إذا رد الغاصبُ العينَ المغصوبة، فيرد الظافر قيمةَ العين. فإذاً ظاهر المذهب أن الظافر لا يبيع بنفسه، وبيعُه مخرج عند بعض الأصحاب، قال الصيدلاني: لم يحكه القفال. 12326 - ثم من جوّز للظافر أن يبيع، فلو أراد أن يتملك عين ما ظفر به، فالذي ذكره أئمة المذهب أنه لا يتملك، وأبعد بعض الأصحاب فذكر وجهاً أنه يتملك بقدر

_ (1) يسوَى: أي يساوي: وهي من سوي يسوى من باب تعب، وهي لغة قليلة (المصباح).

الحق، وهذا بعيد غير معتد به. ولهذا أخّرته عن تفصيل الباب. ولو أخذ العين وحبسها، وقصّر في بيعها، حتى نقصت القيمة، فقد ذكرنا أن النقصان محسوب عليه، وهذا فيه إذا باع واستوفى، فأما إذا ردّ العين، فحقه بجُمامه؛ إذ الغاصب لا يضمن نقصان القيمة عند رد العين، فما الظن بما نحن فيه؟ 12327 - ولو كان لإنسان على إنسان دين، وعليه لذلك الشخص دين، فالقول في ذلك يتعلق بالتقاصّ (1)، وكان شيخي يستقصيه في كتاب الكتابة، ونحن نتيمن بالجريان على ترتيبه إن شاء الله، والقدر الذي يليق بهذا الموضع أن من عليه حقه لو جحده، وقلنا: لا تقاصّ إلا بالرضا، فهل له أن يجحد ما عليه؟ فعلى وجهين: على قولنا لو ظفر بغير جنس حقه، لأخذه، ولعل القياس أن له أن يجحده. والعلم عند الله تعالى. فصل وجدنا في مجموع القاضي في الدعوى وأدب القضاء مسائلَ تتعلق بالمراسم، وليست عريةً عن الفقه، فرأيتُ إثباتَها مسائلَ. مسألة 12328 - إذا دفع رجل إلى آخرَ عشرةَ أمناء فَيْلَج (2) ليطبخه، ويضرِب منها الإبريسم، فإذا طُبخ، رجع إلى خمسة أمناء، والإبريسم منه مَنْ، فجحد المدفوع إليه، ولم يدر المدعي أن الفيلج على الهيئة الأولى باقية، فيدعيها عشرةَ أمناء، أم هي مطبوخة، فيدعيها خمسةَ أمناء، أم حصل الإبريسم مناً، أو تلف في يده، فيغرم القيمة، وسببُ الضمان لم يثبت إلا عند الجحود، والتفريع على أن لا ضمان على الأجير المشترك.

_ (1) ت 5: " بالنقصان ". (2) أمناء: جمع (مناً) مثل سبب وأسباب. وهو مكيال يكال به السمن وغيره، وقيل: مكيلته أي ملؤه يزن رطلين، والتثنية منوان. وفي لغة تميم (منّ) بالتشديد، والجمع أمنان، والتثنية منان على لفظه. أما (الفيلج) وزان زينب، فهو ما يتخذ منه القز، وهو معرّب، والأصل (فيلق)، ومنهم من يورده على أصله " المصباح ".

فإن وصف المدعي الحالَ ونوعّ الدعوى، فقال: عليك عشرة من كذا، أو خمسةٌ من كذا، أو منٌّ مِنْ كذا، أو القيمةُ إن أتلفت، فهل تقبل الدعوة مميّلة (1) على هذه الصيغة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قبلها، وحلّف المدعى عليه على جميعها، قال القاضي: اصطلح القضاة على سماع هذه الدعوى. فمن أصحابنا من قال: لا تسمع الدعوى متميلة، ولكن ينبغي أن تفرد (2) هذه الدعاوي ويحلَّف المدعى عليه على آحادها. وهذا جارٍ على القياس، ولكن فيه إشكال، وهو أن المدعى عليه لو نَكل عن اليمين، فلا يتأتى للمدعي الإقدامُ على يمين الرد؛ لأنه إذا ادعى عشرة أمناء فَيْلَج، فكيف يحلف؟ وربما طبخه، أو ضربه إبريسم، والذي يدل عليه كلام القاضي أن للمدعي أن يعتمد نكولَه، فيحلف ويستند إلى نكوله، وهذا حسن. وهو كما لو ادعى المودَع تلفَ الوديعة، وحلَّفناه، فنكل، فللمودِع أن يحلف تعويلاً على نكول المودَع. وهذا أصل ضابط. فنقول: إن كان المردود عليه عالماً بما يحلف عليه، مثل أن ينكُل المودَع عن اليمين على الرد (3)، وعلم المودِع أنه لم يرد، فيحلف يمين الرد (4)، وإن ادعى التلف ولم يقطع المودع بالتلف، فهل له أن يعتمد نكولَه ويحلف، كما يعتمد الوارث خطَّ أبيه المعتمد في الروزنامج، ويحلف؟ فعلى وجهين - وهذه المسألة خارجة على ذلك. وقد مضى لهذا نظير في دعوى العين على الضامن أو القيمة. ويلتحق بهذا أنه إذا دفع ثوباً إلى دلال ليبيع الثوبَ بعشرة دراهم؛ وجحد الدلال الثوبَ، فصاحب الثوب يدعي الثوب، أو الثمن، أو القيمة؟ فهو على ما ذكرناه. مسألة 12329 - إذا ادعى عشرة دنانير على إنسان، فقال المدعى عليه: لا تلزمني العشرة، قال (5)؛ ليس للقاضي أن يقول: لا تلزمك العشرة، ولا شيء منها. ولو

_ (1) ت 5: "متميلة". (2) ت 5: " تقرر ". (3) على الردّ: أي على ردّه الوديعة. (4) يمين الردّ: أي اليمين المردودة من المدعي. (5) القائل هو القاضي الحسين، فعن مجموعه ينقل هذه المسائل.

قال ذلك، كان فضولاً؛ فإن إنكاره انطبق على مضادة الدعوى، فإن المدعي أثبت في دعواه عشرة، والمدعى عليه أنكر العشرة، ثم قال القاضي: إذا آل الأمر إلى تحليفه، حلّفه لا تلزمه العشرة ولا شيء منها. وهذا الذي ذكره في التحليف مستقيم، والذي ذكره أولاً من الاكتفاء بإنكاره عشرة [وهمٌ] (1) عظيم، وما بناه عليه من انطباق الجحود على مضادة الدعوة فزللٌ بيّن؛ فإن (2) من ادعى عشرة، فقد ادعى استحقاق أجزاء العشرة ذرة ذرة، وإذا قال المدعى عليه: لا تلزمني العشرة، فمن الممكن أن العشرة لا تلزمه، وتلزمه العشرة إلا حبة، فنَفْي العدد ليس نفيا لآحادها، وليس ما ذكرناه تأويلاً، بل القول متردد فيما دون العشرة، وليس فيما دون العشرة ذكر في إنكاره، وهي مثبتة في الدعوى، فالإنكار ليس بتامٍّ، فكأنه لم ينكر إلا أقل جزء من العشرة، فإذا لم يتم الإنكار، فلا نأخذ في التحليف؛ فإن امتنع عن المزيد على هذا القدر، فهو في حكم الساكت عما دونه، وقد مضى تفصيلُ السكوت وتقديرُه إنكاراً ثم نكولاً، هذا هو الذي لا يجوز غيره. والظن بالقاضي أنه لا يخالف فيما ذكرناه. وإنما صوّبى المسألة في اقتصاره على نفي العشرة، وامتناعه عن ذكر ما دونها، فإن حلّفناه لا تلزمه العشرة، ولا شيء منها، فإن نكل، رددنا اليمين على المدعي، فيحلف ويستحق، وإن حلف المدعى عليه، انتهت الخصومة في هذا الفن. فإن حلف لا تلزمه عشرة، وامتنع عن الحلف على نفي ما دون العشرة، فيحلف المدعي على ما يقل عن العشرة بأقل القليل؛ فإنه نكل عما دون العشرة، والعشرة إلا حبة دون العشرة، وهذا في نهاية اللطف. فإن قال قائل: من يلزمه دينار، فقوله: لا تلزمني العشرة سديد، ومن تلزمه تسعة، فقوله لا تلزمني العشرة سديد، فلم جعلتموه ناكلاً عن عشرة إلا أقلَّ القليل؟

_ (1) في الأصل: " دراهم " مكان لفظ " وهم " وهو تصحيف طريف، والتصويب من (ت 5). (2) ت 5: " فأما ".

قلنا: لأنه امتنع عن الحلف عن كل (1) ما دون العشرة. مسألة 12330 - إذا ادعى داراً في يد رجل، وقال: إنها ملكي وأنت مبطل في استيلائك، وعليك ردُّها على، فقال المدعَى عليه: لا يلزمني تسليم هذه الدار إليك، فأقام المدعي بيّنة أن الدار ملكُه، ولم تتعرض البينة لأكثر من إثبات الملك للمدعي. قال القاضي: يثبت الملك ويكفي ثبوته. ويقال للمدعى عليه: إن أثبتّ استحقاقاً من إيجار، أو ارتهان، فادّع، وأثبت. وإلا فحكم الملك استبداد المالك باسترداد الملك من يدك. وهذا فيه للنظر مجال؛ فإن البينة لم تشهد إلا على الملك، والملك لا ينافي استحقاقَ يد المدعى عليه، فلم تقم البينة على وجه يوجب إزالةَ يده. وهذا عندي يقرب مأخذه من أن المالك وصاحب اليد إذا تنازعا في الإعارة والإجارة، فالقول قول منْ؟ وهذا قدمته في موضعه مفصلاً، فإن جعلنا القول قولَ المالك، فيكفي ثبوت الملك هاهنا، ثم باب الدعوى مفتوح لصاحب اليد، والقول قول المالك، وإن جعلنا القول قولَ صاحب اليد، فلا تُزال يده ما لم تتعرض البينة لكون صاحب اليد مبطلاً. مسألة 12331 - أجرى القاضي في أثناء الكلام شيئاً مستفاداً، قد يتوقف الناظر في ابتدائه، ولا تعلق له بالدعاوي والأقضية، قال: إذا غصب رجل أُمَّ ولدٍ، فهي مضمونة باليد عندنا، وهذا سديد، لا إشكالَ فيه على المذهب، فلو أَبِقت من يد الغاصب؛ غَرِم الغاصب القيمةَ. فإذا غرمها، ثم مات السيد المغصوب منه، عَتَقَت المستولدة، ووجب ردُّ قيمتها من تركة المولى؛ لأن الرق صار مستهلكاً بحكم الموت عليه. وكذلك إذا غصب عبداً فأبق، وغرم القيمةَ، ثم إن المغصوب منه أعتق العبد في

_ (1) ت 5: " وعن كل ما دون العشرة ".

[إباقه] (1)، فيلزمه ردُّ القيمة، لأنه بإعتاقه إياه، صار في حكم المسترِدّ له. وإن قطع جانٍ يدَ أمِّ الولد، وغرم الأرش، ثم مات السيد، وعَتَقَت المستولدة، فلا يُرد الأرش على الجاني، لأنه بدل الطرف الفائت. والعتق لا ينعكس عليه. مسألة: 12332 - إذا ادعت امرأة على رجل، وقالت: تزوجتني بخمسين ديناراً، فاعترف الزوج بالنكاح، ولكنه قال: ما قبلتُ نكاحَك بخمسين، فإنكاره منطبق على مضادة دعواها. والوجه أن نذكر غائلة المسألة وإشكالَها، ثم نخوض في الجواب عنها. فنقول: إذا أنكر الزوج، وحلف، فكأنه شبَّبَ بأن المهر أقلُّ من الخمسين، ولكنه لم يذكر المقدار، والمرأة إذا اعتقدت أن الزوج قبل الخمسين لو نزلت عن ذلك، كانت كاذبة، فأين الوقوف، وكيف السبيل، وليس للمهر أقل حتى ننتهي إليه ونثبته على قطع، ونرد الخصام إلى الزائد؟ وليس هذا كما لو ادعى رجل على رجل عشرة، ولم يذكر أنها ثمن عبد، فإذا حلف المدعى عليه على نفي العشرة، ولم ينف ما دونها، فالمدعي يمكنه أن يحلف على ما دونها؛ فإن الدعوى المرسلة تقبل التبعيض، والمرأة في مسألتنا ادعت قبولاً في الخمسين، فلو ذكرت ما دون الخمسين، فيكون هذا منها دعوى عقد آخر، فإن تفطّنت لهذا، وادعت خمسين ديناراً من غير أن تنسبها إلى قبولٍ في عقد، فهذا هو الذي قدمناه في ادعاء العشرة وإنكارها. وإن ربطت دعواها بالقبول كما ذكرنا، فقد قال القاضي: الوجه أن يفرض القاضي لها مهرَ مثلها، ويقدّر كأنها مفوِّضةٌ؛ فإن الزوج إذا امتنع عن ذكر مسمى، فليس بين النكاح المشتمل على المسمى، وبين التفويض رتبة، ولا يمكننا أن نُلزم الزوجَ ذكرَ مسمّى من غير طلب من المرأة، وتعريةُ النكاح عن المهر لا سبيل إليه، ولا وجه لإثبات الأقل؛ فإنه لا ضبط له، فيفرض القاضي لها مهرَ مثلها، وهذا إذا كان مهرُ مثلها خمسين أو أقلَّ منه، فإن كان كثر، فليس لها إلا الخمسون.

_ (1) في الأصل: " إيابه ".

وهذا لا يليق مثله بقياس مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإنه لا يركب إلا متن جادّة الشريعة ولا يميل مثل هذا الميل. فإن قيل: ما الوجه؟ قلنا: أولاً، ليس يعظم تعطل حق إذا لم تقم عليه حجة، ومعظم الحقوق المجحودة بهذه المثابة، فطريقها أن تدعي خمسين ديناراً من جهة المهر، إن أرادت أن تذكر الجهةَ من غير أن تضيف الخمسين إلى القبول، ومن غير أن تذكر أنها كلُّ المسمى. فإن حلف الزوج: لا يلزمه الخمسون، ونكل عن الحلف على نفي ما دون الخمسين، حلفت المرأة واستحقت الخمسين إلا أقلَّ القليل. والمشكل في المسألة أن الزوج لو أراد أن يحلف على نفي الخمسين وكل جزء منه (1)، فلا يتصور هذا إلا بتقدير البراءة أو الأداء، فلا يقبل قوله حينئذٍ، وليس كما لو ادعى رجل ديناً مطلقاً، فقال المدعى عليه: لا يلزمني، فإن هذا كما يحتمل البراءة يحتمل نفي أصل الدين، ونفيُ أصل الدين ممكن، ونفي أصل المهر لا يمكن، إلا على مذهب التفويض. فإذا حلف على نفي المهر، تعيّن التفويض، فيفرض القاضي لها مهر المثل -لا وجه غيره- فيحصل به إثبات المهر، والجريان على موجب يمين الزوج. هذا منتهى القول. وهو الذي عناه القاضي، ولكن لا بد من إجراء المسألة إلى هذا الحد، ولا يجوز ابتدار الفرض بقوله: ما قبلت بخمسين، ويجوز أن يقال: القول قول الزوج في أن لا مسمى؛ فإن الأصلَ عدمُ التسمية، ثم الشرع يحكم بما يرى في النكاح الخالي عن المهر ذكراً. مسألة: 12333 - إذا صححنا كفالة البدن، فطلب المدعي من المدعى عليه كفيلاً قبل أن يقيم البينة، وذكر أني أبغي كفيلاً إلى أن أشمِّر لإقامة البينة، وأجمع الشهودَ، فقد جرى رسم القضاة بحمل المدعى عليه على إعطاء الكفيل، وهذا غير واجب باتفاق الأصحاب؛ فإنه لم يَثْبت للمدعي بعدُ حقٌ. وإن أقام بينة على دين في ذمة المدعى عليه، ولم يُعدَّل شهودُه، فقد قال

_ (1) منه: على معنى العدد، أو المبلغ.

القاضي: له طلب الكفيل هاهنا؛ فإن حبسه قبل التعديل لأداء الدين محال؛ فإن الحبس عذاب، وتخليته -وقد يغيّب وجهه- لا وجه له، فتكليفه بذلُ كفيلٍ يضاهي إخراجنا العين المدعاة من يده إن كانت الدعوى في عين (1)، فإن أعطى الكفيل، فذاك، وإلا حبسناه لمنع الكفيل، لا لمنع الدين. فإن قيل: البينة قبل التعديل كما لا توجب الدين، يجب أن لا توجب الكفيل. قلنا: البينة لا توجب الكفيل، ولكن الحالة توجب الكفيل. مسألة: 12334 - إذا ادعى قصاصاً على عبد، استحضره، وادعى عليه، ولا تعلق للدعوى بالمولى. وإن ادعى أرش جناية، قال القاضي: يستحضر المولى؛ فإن الخصومة مالية؛ وحق المال في العبد للمولى. ولو أراد استحضار (2) العبد على قولنا: له ذمة في الجناية، فله ذلك. ولو قُبِل الدعوى (3)، تعلّق بالعبد - إن قلنا للعبد في الجناية ذمة. ثم إن جعلنا يمين الرد إقراراً (4)، لم يتعلق برقبته شيء لو نكل عن اليمين، وحلف المدعي، وإن جعلنا يمين الرد بمثابة البينة، فيثبت الأرش في ذمته، ولا يتعلق

_ (1) ت 5: " إن كانت الدعوى عين ". (2) استحضار العبد: أي طلب إحضاره وتوجيه الدعوى إليه، لا إلى السيد، وهذا طبعاً لا يكون إلا على القول بأن العبد له ذمة تتعلق بها الحقوق، كما وضح من عبارة المؤلف. (3) أي لو قبلت الدعوى على العبد، تعلّق المدعي به، وطلب القاضي الإجابة من العبد، وهي إما إنكار، أو سكوت، أو إقرار، كما هو ترتيب الدعاوى. (4) فيما إذا أنكر العبد، وطلب القاضي منه اليمين، فنكل عنها العبد، فردّ القاضي اليمين إلى المدعي، فحلف المدعي يمين الردّ، تتردّد منزلتها بين الإقرار من المدعى عليه، وبين البينة يقيمها المدعي، فإن جعلناها إقراراً، لا يتعلق برقبة العبد شيء، لأن العبد ليس من أهل الإقرار، والرقبة حق السيد. وإن جعلنا اليمين المردودة بمنزلة البينة، فيتعلق الأرش بذمة العبد، فإن المسألة كلَّها مفروضة على قولنا. إن للعبد ذمة، ولا ثقبل الدعوى عليه إلا على هذا التقدير. ثم هو إثبات للأرش في ذمة العبد يُتبع به إذا عَتَق، فليس شيئاً حالاً ناجزاً.

برقبته، على ظاهر المذهب، وفيه الوجه البعيد أنه يتعلق برقبته، وإن [اقتضى] (1) ذلك حكماً على ثالث (2)، فهذا احتمالٌ على بُعْد، ولا تعويلَ عليه؛ فإن توجيه الدعوى على السيد ممكن، وذلك الوجه البعيد إنما يجري إذا عسُر توجيه الدعوى على الثالث (3). مسألة: 12335 - ذكر في أثناء الكلام أن من أخذ فأساً مسبَّلاً على المسلمين، فتلف في يده من غير تقصير، فلا ضمان عليه، فإنه بمثابة الموصى له بالمنفعة، إذا تلفت العين في يده. وكذلك لو وضع دِنّاً على باب داره، وسبّل، ورتب كيزاناً، وسبّلها، فتلف كوزٌ في يد شارب من غير تقصير، فالأمر على ما رسمناه في نفي الضمان. ...

_ (1) في الأصل: " اقتصر "، والمثبت من (ت 5). (2) صورة الحكم على ثالث: هي أن الدعوى على العبد، فإذا أنكر، ونكل عن اليمين، وردت اليمين على المدعي، فحلف، وجعلناها بمنزلة البينة، فيثبت الأرسْ على العبد متعلقاً بذمته، كما سبق. وفي وجهٍ بعيد، يتعلّق برقبته، وهنا يكون الحكم على ثالث غيرِ المدعي والمدعى عليه، ونعني به السيد؛ لأن رقبة العبد ملكُ السيد، فإذا علقنا الأرش بها، فقد علقناه بمال السيد، ونكون بهذا قد حكمنا على ثالث (السيد). (3) راجع هذه المسألة -إن شئت- في الشرح الكبير: 13/ 187، 188، وفي الروضة: 12/ 30، 31.

[كتاب العتق]

[كتاب العتق] (1) باب عتق الشريك في الصحة والمرض والوصايا قال الشافعي رضي الله عنه: " من أعتق شركاً له في عبد، وكان له مال ... إلى آخره" (2). 12336 - العتق نافذ، وأصول الشرع: الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ شاهدةٌ عليه. والقول فيه ينقسم إلى ما يتعلق بالتصرف في صيغ الألفاظ، ومسائل العتق في هذا كمسائل الطلاق، وإلى ما يختص العتق به كالسراية إلى ملك الغير، وجريان القرعة فيه وانحصاره في الثلث من المريض (3)، وتعلق أحكام التركة به. (وكتابُ العتق) (4) معقود لذكر خصائصه، ولما رأى الشافعي سريانه إلى ملك الغير من أظهر خصائصه، صدر الكتاب به. 12337 - فنقول: العتق ينقسم إلى ما يوجه على شَخْصٍ، وإلى ما يوجه على شِقْص، فمن أعتق شَخْصاً، فإن كان مملوكاً له، لا حقّ لأحد فيه، وكان هو

_ (1) العنوان من وضع المحقق جرياً على ترتيب كتب المذهب التي بُنيت على (نهاية المطلب) مثل بسيط الغزالي ووسيطه ووجيزه، والأكثر من ذلك أن الإمام وضع باقي قضايا العتق تحت عنوان كُتب، فسيأتي (كتاب التدبير) و (كتاب المكاتب) و (كتاب عتق أمهات الأولاد) أولى من كل ذلك أن الإمامَ بعد أسطرٍ سماه (كتاب العتق). (2) ر. المختصر: 5/ 267. (3) ت 5: " من المديون ". (4) تأمَّل! سماه (كتاب العتق).

مطلقاً (1)، نفذ عتقُه، وإن لم يكن مملوكاً له، فلا شك أنه لا يعتِق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم " (2). ونقل النقلة عن ابن أبي ليلى أن من أعتق عبد غيره وكان موسراً، نفذ عتقه، وغرم قيمة العبد لمالكه، قياساً على نفوذ العتق في الشقص المملوك للشريك. ولو قال لعبد الغير: أنت حر، فهذا القول مردود في الحال، ولكن لو ملكه يوماً من الدهر، حُكِم بعتقه، وحُمل قوله السابق " أنت حرٌّ " على الإقرار بحرّيته، ومن أقر بحرّية عبد ثم ملكه، كان مؤاخذاً بموجب إقراره. وفي هذا لطيفة، وهي أن المالك إذا قال لعبده: أنت حر، فهذا إنشاء عتق منه، وإن كان اللفظ على صيغة الإقرار، وهو كقول الزوج لزوجته: أنت طالق. فكان قول المالك: " أنت حرٌّ " متضمناً إنشاء تحرير، وهذا مما اعتضد اللفظ فيه بغلبة الاستعمال، وانضم إليه أنه لو كان مقراً، لكان مؤاخذاً بإقراره، فجعل هذا إنشاءً. فإذا قال لعبد الغير: " أنت حرٌّ "، فلا مساغ لإنشاء التحرير، فنفذ اللفظ إقراراً، وكذلك لو قال لعبد الغير: " قد أعتقتك ". قال القاضي: قد يؤكد معنى المضي إذا انضم إلى الصيغة التي تسمى الفعل الماضي، فكان ذلك إقراراً بالحرية، كما لو قال: أنت حر. وفحوى كلامه دالة على أنه لو قال: " أعتقتك "، لم يكن ذلك إقراراً، وإن كانت الصيغة في أصل الوضع للإخبار عما مضى، ولا فصل عندي بين قوله: " أعتقتك " وبين قوله: " قد أعتقتك "، فإنه إن ترجح أحدهما على الثاني في تأكيد، لم ينته ذاك

_ (1) مطلقاً: أي غيرَ محجور. (2) حديث " لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم " رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد، والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الترمذي: " حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب ". وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح. (ر. أبو داود: الطلاق، باب في الطلاق قبل النكاح، ح 2190، الترمذي: الطلاق، باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح، ح 1181، المسند: 11/ 48 ح 6780 (طبعة شاكر) البيهقي: 7/ 318، نصب الراية: 3/ 278).

إلى إلحاق أحدهما بالصريح الذي لا يقبل فيه تفسير القائل، فالوجه أن يراجَع، ويقال: ماذا أردتََ؟ أهزلاً قصدتَ في إنشاء العتق، أم أقررت؟ ثم نحكم على موجب قوله، وإن لم يفسر، تركناه، فلا طلبة عليه. فأما إذا قال: " أنت حر "، فالظاهر حمل هذا على الإقرار؛ فإنه صفة، ولولا قرينة الاستعمال على الشيوع حيث يمكن الإنشاء، لحملناه على الإقرار. ولو ملك جارية وكانت حاملاً بولد مملوكٍ لغيره، فإذا أعتق الجاريةَ مالكُها، لم يَسْرِ عتقُها إلى الجنين سراية عتق من شقص إلى شقص، فكذلك إذا أعتق مالك الجنين الولدَ نفذ العتق، ووقف عليه. وقال أبو حنيفة (1): إعتاق الأم يسري إلى الجنين هذا في توجيه العتق على شخص. 12338 - فأما إن أعتق شقصاً، فلا يخلو إما أن يعتق شقصاً من عبده الخالص، أو يعتق شقصاً من عبد مشترك بينه وبين غيره، فإن أعتق شقصاً من عبده الخالص، عَتَق كلُّه، سواء كان له مال غيره، أو لم يكن، وفي كيفية وقوع العتق وجهان: أحدهما - أن العتق يرد على الجزء الذي سماه، ثم يسري إلى الباقي، فيحصل العتق مترتباً، ولا يتخللهما زمان يفرض فيه نقل الملك؛ فإن الملك كائن. والوجه الثاني - يقع العتق دفعةً واحدة، وقوله أعتقت نصفك عبارة عن عتق الكل، فكأنه قال: "أعتقتك". هذا إذا وجّه العتق على جزء شائع. فأما إذا وجّهه على جزء معين، فالعتق يحصل في الجميع عند الشافعي؛ وترتيب المذهب في الأجزاء إذا أضيف العتق إليها كترتيب المذهب في إضافة الطلاق. ثم إذا حكمنا بعتق العبد -وقد وجه المولى العتقَ على جزء معين منه، ففي كيفية نفوذ العتق وجهان مرتّبان على الوجهين في إضافة العتق إلى الجزء الشائع، والصورة الأخيرة أولى بأن يقال فيها: يقع العتق دفعة واحدة، غيرَ نازل على الجزء المعين، مع

_ (1) ر. الاختيار: 4/ 22.

تقدير السراية منه. والفرق أن الجزء المعين لا يتصور انفراده بالحرية، بخلاف الجزء الشائع. والطلاق إذا أضيف إلى الجزء الشائع- فهو في ترتيب المذهب كالعتق، يضاف إلى الجزء المعين، فإنه كما لا يقف العتق على الجزء المعين لا يقف الطلاق على الجزء الشائع. 12339 - التفريع على الوجهين في الجزء المعين. إذا قال لعبده: إن دخلتَ الدار، فخنصرك حر، فقطعت خنصره، ثم دخل. إن قلنا: ينزل العتق على الجزء، ثم يسري منه، لم يحصل العتق بدخول الدار؛ لفقد المحل الذي يضيف العتق إليه. وإن قلنا: هو عبارة عن إعتاق الجميع، فلا أثر لانعدام الخنصر، وكأنه قال له: إن دخلت الدار، فأنت حر. ولو قال لعبده: " يدك حر " -ولا يد له- فقد اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: في نفوذ العتق وجهان مبنيان على ما ذكرناه من حلول العتق وسريانه، أو توجهه على الجميع، فإن سلكنا مسلك السريان بعد الحلول على الجزء المسمى، فلا يحصل العتق، وإن حكمنا بأن سبيل ذلك سبيل توجيه العتق على الجميع، حصل العتق، وكأنه قال له: أنت حر. ومن أصحابنا من قطع بأن العتق لا ينفذ في هذه الصورة؛ فإن العَتاق من طريق اللفظ لم يصادف محلاً نطقاً وذكراً، حتى يقال: إنه عبارة عن الجميع، وهذه الطريقة أَفْقه. وكل ما ذكرناه في العَتاق فلا شك في جريانه في الطلاق، ولولا إقامة الرسم في تصدير الكتاب بالتقاسيم وترتيبها بذكر [تراجم] (1) الأحكام، لاقتصرنا على الإحالة على مسائل الطلاق في ذلك؛ فإنا استقصينا هذه المسائل. ثم هذا كله إذا كان العبد خالصاً، فأضيف العتق إلى بعضه. 12340 - فأما إذا كان العبد مشتركاً، فأضاف أحدُ الشريكين العتقَ إلى جزئه، نُظر: فإن سمى نصيب شريكٍ، ووجه العتقَ عليه، لغا لفظه، ولم ينفذ العتق

_ (1) في الأصل: " تزاحُم " بهذا الضبط والنقط، والمثبت من (ت 5).

[وذلك] (1) إذا قال لشريكه: نصيبك في هذا العبد حر، أو أعتقتُ نصيبك، وليتحفظ الإنسان حتى لا يقع في الإقرار بعتق نصيب صاحبه، وليختر لفظة في الإنشاء لا يُتمارى فيها. فأما إذا قال: أعتقت نصيبي منك، فيعتِق نصيبُه، وسنذكر حكمَ السراية. وإن قال لعبده، وهو يملك نصفه: " أعتقت نصفك "، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العتق ينصرف إلى نصفه المملوك؛ فإن الإنسان لا يُعتق إلا ملكَ نفسه، فيحمل مطلقُ لفظه على ذلك. والوجه الثاني - أنه ينصرف إلى نصف العبد شائعاً؛ فإنه لم يخصصه بملك نفسه، فعلى هذا يَعْتِق نصفُ نصيب المعتِق، وهو ربع العبد، ثم يسري لا محالة إلى ما بقي من نصيبه، سواء كان موسراً أو معسراً، وإلى نصيب صاحبه إن كان موسراً. ولا يكاد يظهر لهذا فائدة، إلا أن يفرض تعليق عَتاقٍ أو طلاق في ذلك، بأن يقول: إن أعتقت نصفي من هذا العبد فامرأته طالق، فماذا قال: نصفك حر، وصرفنا ذلك إلى نصفه المملوك، فيقع الطلاق المعلق بإعتاقه ما يملكه من هذا العبد، وعلى الوجه الثاني لا يقع؛ فإنه لم يعتق منه ما يملكه، بل أعتق بعضه، وسرى العتق إلى باقيه، وهذه التقريرات تهذب مأخذ الفقه، وإن كانت قليلةَ الجدوى في النفي والإثبات. وإذا باع نصف العبد المشترك، نُظر إلى لفظه، فإن قال: بعت نصفي من هذا العبد، [أو نصيبي] (2)، وكانا عالمين بمقداره، نزل (3) على ما يملكه. وإن قال: بعت النصف من هذا العبد، ولم يضفه إلى ملكه، جرى الوجهان: أحدهما - أن البيع ينصرف إلى نصفه المملوك، وهو كما لو قال: بعت نصفي من هذا العبد، والثاني - ينصرف إلى نصف العبد شائعاً، فعلى هذا لم يصح البيع في نصف ذلك النصف، لمصادفة ملك الشريك، ويجري في نصف النصف قولا تفريق الصفقة.

_ (1) في الأصل: " في ذلك "، والمثبت من (ت 5). (2) في النسختين: " ونصيبي " والمثبت تصرف من المحقق. (3) في الأصل: " فنزل ". والمثبت من (ت 5).

ولو أقر أحد الشريكين بنصف العبد المشترك لإنسان، قال الأصحاب: يخرج في الإقرار الوجهان المذكوران في البيع، فإن حصرنا لفظه على ملكه؛ فقد أقر بما كنا نعرفه (1) له، وإن [أشعنا] (2) اللفظ، فقد أقر بنصف نصيبه، ونصف نصيب صاحبه. وقال أبو حنيفة (3): النصف المطلق في البيع مختص بملك البائع، حملاً على أن الإنسان لا يبيع إلا ما يملك، فأما الإقرار، فمحمول على الإشاعة؛ فإن الإقرار إخبار، ولا يمتنع أن يخبر الإنسان بما يتعلق بملك غيره. ولا بأس بهذا الفرق، ولو استعملناه، فرتبنا الإقرار على البيع، لم يضر. 12341 - فإذا تمهد ما ذكرناه، عُدنا إلى ترتيب العتق. فإذا أعتق الرجل نصيبه من العبد المشترك، نفذ عتقه فيه، ثم ننظر: فإن كان معسراً وقف العتقُ على نصيبه، ولم يقوّم عليه نصيب شريكه، وإن كان موسراً، سرى العتقُ إلى نصيب شريكه. وفي وقت السراية ثلاثةُ أقوال: أحدها - أنه يسري عاجلاً متصلاً باللفظ. والثاني - أنه لا يسري إلا عند أداء القيمة إلى الشريك، والثالث - أن الأمر موقوف، فإن أدّى القيمة، تبينّا سريان العتق متصلاً باللفظ، وإن لم يؤدِّ، فظاهر الرق في نصيب الشريك مستدام. توجيه الأقوال: من عجّل السراية، قال: الإعتاق مع ما يترتب عليه من السراية في حكم الإتلاف، والقيمة تجب بسبب التلف، فماذا ألزمنا الشريك المعتِق قيمةَ نصيب صاحبه، أشعر ذلك بتنفيذنا العتق. ومن قال بأن العتق لا يحصل إلا عند أداء القيمة، احتج بأن قال: لا يعتق نصيب شريكه عليه إلا بتقدير نقل الملك إليه، فهذا إذاً تملُّكٌ قهري على الغير بعوض، فينبغي أن يتوقف على سَوْق العوض كالتملك بالشفعة. ومن قال بالوقف، نَظَر إلى العتق واستحالةِ استئخار نفوذه إذا كان ينفذ، وإلى حق

_ (1) ت 5: "نملكه". (2) في النسختين: " أشبعنا ". (3) لم نقف على قول أبي حنيفة في هذه المسألة.

الشريك، وامتناع إحباطه نقداً وإحالته على الذمة، فرأى الوقفَ وسطاً بين هذين. 12342 - ثم مذهبنا أن عتق المعسر لا ينفذ في نصيب صاحبه، وإنما يسري عتق المتمكن من أداء قيمة نصيب الشريك. وليس يمتنع في العبد المشترك عتقُ البعض وبقاءُ الرق في البعض، وإنما يبعد ذلك على اختلافٍ في ضرب الرق ابتداءً على البعض مع بقاء الحرية الأصلية في البعض، ونحن نذكر في ذلك صوراً: منها - أنه إذا كان بين المسلم والذمي عبد مشترك، فأعتقاه، والعبد كافر، فنقض المعتَق (1) العهد، والتحق بدار الحرب، فَسُبي، فلا يُسترق نصيبُ المسلم، وفي استرقاق نصيب الذمي وجهان؛ لأن معتِقَه لا يزيد عليه، ولو التحق هو بدار الحرب، لاسترققناه إذا رأينا ذلك؛ فإذاً هذا الخلاف ليس من أثر التبعيض، بل هو في تردد الأصحاب في أن معتَق الذمي هل يسترق؟ والإمام إذا أسر جماعة من الرجال فأراد أن يَرِقَّ بعضَ واحد منهم، ويترك بعضه على الحرية -إن لم يكن فيه مصلحة- لم يجز، ولو فعل على خلاف المصلحة، فقال: أرققتُ نصفك، فأمره محمول على المصلحة على الظاهر، ولكنا نجري ما نجريه في حقه، وإذا لم نصحح إرقاق البعض، فقد أشار الأصحاب إلى وجهين: فقال بعضهم: إرقاقُ البعض منهم إرقاقٌ للكل، والمسألة مفروضة فيه إذا كان في إرقاق جميعه مصلحة. ومن أصحابنا من قال: يلغو لفظُه، ولا يَرِق منه شيء. وإن رأى الإمام في إرقاقِ بعضه وجهاً من المصلحة. حتى يجدّ في الاكتساب لنصفه الحر، فهل يجوز له أن يُرق (2) بعضَه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجوز ذلك، كما يتبعض الرق والحرية في العبد المشترك إذا كان المعتق معسراً، فإذا جاز ورود الحرية على بعض الرقيق، جاز ورود الرق على بعض الحرية. والوجه الثاني - لا يجوز؛ فإن أحكام الحرية والرق متناقضة، فينبغي ألا يختار التبعيضَ فيها، وعِتقُ المعسر لا سبيل إلى رده، ولا سبيل إلى تنفيذه في نصيب شريكه، فأما ضرب ابتداء

_ (1) سقطت من (ت 5). (2) رَقّ: من باب ضرب، يتعدى بنفسه، وبالهمزة.

الرق على الاختيار، فمن باب اختيار تصرفٍ يجر عُسراً، وهذا يقرب من الاختلاف الذي يأتي مفصلاً في مكاتبة بعض العبد إن شاء الله تعالى. 12343 - ومن صور التبعيض أن الجارية المشتركة بين الشريكين، إذا أولدها الشريك المعسر، فالاستيلاد يقف على نصيبه وقوفَ العتق، أما الولد، ففيه اختلاف قولٍ. أحد القولين - أنه حر كلُّه؛ حتى لا تتبعض الحرية والرق في الابتداء. والثاني - أن النصف منه حر، والنصف رقيق، وهذا الوجه أوجه في هذه الصورة؛ فإن هذا أمر قهري، لا تعلق له بالاختيار، وقد اشتمل ما ذكرناه على ذكر الفرق بين المعسر والموسر في العتق. 12344 - ثم نذكر في اليسار أمرين: أحدهما - أن الاعتبار في يسار المعتق، بكلّ ما يجب إخراجه إلى دَيْن الآدمي، ولا يعتبر في هذا يسارُ الكفارة المترتِّبة، حتى لو كان للمعتِق عبدٌ مستغرَقٌ بخدمته، فهو موسر به في تسرية عتقه، وإن لم نعتبره في اليسار المرعي في الكفارة المترتّبة. هذا أحد ما أردناه. والثاني - أن الاعتبار بحالة الإعتاق؛ فإن كان المعتق موسراً إذ ذاك، ثبت العتق أو استحقاقه، وإن لم يكن حالةَ الإعتاق موسراً، واستفاد بعد ذلك يساراً، فلا حكم له، وقد استقر تبعُّض الرق والحرية. ولو ظن ظان أنا إذا فرعنا على تأخير السراية، وحكمنا بأن العتق يحصل مع الأداء، فلو استفاد مالاً وأدّى، عتق نصيب صاحبه، قيل له: لا سبيل إلى ذلك؛ فإنا على هذا القول وإن أخرنا السراية، أثبتنا استحقاقها، كما سيأتي إيضاح ذلك. فإذا لم يثبت الاستحقاق عند الإعتاق، لم يطرأ من بعدُ بطريان اليسار، وإن كنا في قولٍ نعتبر في الكفارة المرتبة حالةَ الأداء، ولكن ذاك تردّدٌ في كيفية ما سبق وجوبه. 12345 - ومما نذكره متصلاً بهذا أن الشريك إذا أعتق نصيبه، وكان يملك ما يفي بقيمة نصيب صاحبه، غيرَ أنه كان عليه من الدين مثلُ ما يملك أو أكثر، فهل يسري العتق؟ فعلى قولين مأخوذين من القولين في أن الدين هل يمنع تعلقَ الزكاة بالعين؟ والجامع أن العتق حق الله، وهو متعلق بحظ الآدمي في الخلاص، فكان في معنى

الزكاة، وهذا ذكرته احتمالاً في بعض المجموعات، ثم ألفيته منصوصا للشيخ أبي علي في منقولات. ولو كان الشريك موسراً ببعض قيمة النصيب دون البعض، ففي المسألة وجهان - ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أن العتق يسري بمقداره، والثاني - أنه لا يسري من العتق شيء، ويقف على ملك المعتِق، والأوجه الأول؛ فإنا نتبع السرايةَ اليسارَ، ووجه الثاني -على بعده- أن السريان من حيث يقتضي نقلَ الملك إلى المعتِق يشابه استحقاق الشقص المشفوع بالشفعة، ولو أراد الشفيع أن يأخذ البعض من الشقص المبيع. ويترك البعض، لم يجد إليه سبيلاً. 12346 - ومما نرى تمهيده أنا إذا عجلنا السراية، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن الملك ينتقل في فصيب الشريك إلى المعتِق، ثم يَعتِق عليه، ويثبت الولاء، ولا يتصور أن يسري العتقُ في ملك الشريك من غير تقدير نقل، ثم ما صار إليه الأصحاب أن نقل الملك والعتق -على قول التعجيل- (1) يقعان في وقتين، وإن كانا لا يدركان بالحس. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: يحصل نقل الملك والعتق معاً من غير ترتب، ولما قيل له: هذا جمعُ النقيضين، قال: لا يبعد هذا في الأحكام، وإنما يمتنع اجتماع المتضادات المحسوسة، وطرد مذهبه في شراء الرجل أباه، ومن يعتِق عليه، وقال: يحصل الملك والعتق معاً. وهذا كلام سخيف، متروك عليه، وباطل قطعاً. 12347 - فإن قيل: ذكرتم حكم العتق في العبدِ الخالص، والعبدِ المشترك على الجملة، وأغفلتم إعتاقَ المالك جاريتَه الحبلى، والحمل لمالك الجارية، وكذلك إعتاقَه الحمل، والأم مملوكة له. قلنا: أما إذا أعتق الجاريةَ، فالعتق يسري إلى الجنين مذهبأ واحداً. وإن وجّه العتقَ على الحمل، نفذ العتق فيه، وما ذكره الأصحاب أن العتق يقف عليه،

_ (1) ت 5: " قول العتق ".

ولا يتعدى من الجنين إلى الأم، فتعتِق الأم، كما يعتق الجنين بعتق الأم، وهذا غريب في الحكاية، وإن أمكن توجيهه. ثم اختار المزني أصحَّ الأقوال، وهو قول تعجيل السراية، وسلك مسلكين: أحدهما - التعلق بنصوص الشافعي في مواضع من الكتب (1)، والآخر الاستشهاد بالأحكام، ومعظم ما يستشهد به مفرع من الشافعي على قول تعجيل السراية، وأما استشهاده بنصوص الشافعي، وقطعِه القول في مواضع من كتبه، فهذا على مذهبه في أن الشافعي إذا قطع قولاً في موضع، كان ذلك تركاً منه للقولين. 12348 - وفي هذا دقيقة لا بد من التنبه لها، وهي أن الشافعي إذا نص على قولين، فكأنه لم يذكر لنفسه مذهباً، وإنما ردّدَ، ولو انتهى نظره نهايته، لجزم القولَ، ولا مذهب لمتردِّد. نعم، إن كان ينقدح مذهب ثالث، فإعراضه عنه مذهب. ثم إن قطع قوله بعد القولين، فيجب القطع بأن مذهبه ما قطع به، وما كان يتردد فيه ينتهى إليه ويقف (2). وإن تقدم قطعُه، ثم قطع بعده بخلافه، فهو رجوع، واستحداث مذهب. وإن قطع بمذهب، ثم ذكر بعده قولين، فقد ترك المذهب، وعاد إلى التردد. وإن نُقلت عنه نصوص مختلفة من غير تأريخ، فلا وجه للاستشهاد بالبعض منها. غير أن المزني يستشهد بكثرة النصوص، وهذا لا متعلق فيه. 12349 - ثم ذكر المزني جملاً من الأحكام المتفرعة على الأقوال، ونقل جواب الشافعي فيها على ما يقتضيه تعجيل السراية، ونحن نتتبع تلك الأحكامَ ونذكر المذهبَ فيها، والجوابُ عن تعلق المزني لا يخرج عن قسمين: أحدهما - اعتذار عما يذكره إن اتجه، والآخر - حملُ كلامه على التفريع على قول تعجيل السراية.

_ (1) ت 5: " الكتاب ". (2) عبارة الأصل: " ويقف عليه "، ولفظة: (عليه) ساقطة من (ت 5)، ولعلها: ويقف عنده. أي لا يقطع.

فمما تعلق به أن قال: قال الشافعي: إذا مات المعتِق الموسر، فقيمة نصيب الشريك تؤخذ من تركته بعد موته، وهذا لا خلاف فيه على الأقوال. ووجه الجواب عنه على قول تأخير العتق إلى الأداء، أن العتق صار مستحقاً في نصيب صاحبه، فصار هذا الاستحقاق موجِباً للقيمة، ثم أَخْذ القيمة من تركته، وإن كان يحصل العتق بعد موته ليس بدعاً، وهو محمول على قاعدة تقدم السبب في الحياة، ومن الأصول أن من قدم سبباً في حياته، وترتب عليه تلفٌ بعد موته، فالضمان يتعلق بتركته. هذا إذا مات المعتِق. وإن [مات] (1) العبد الذي أعتق الشريك نصيبه من قبل أداء القيمة -والتفريع على تأخير السراية إلى وقت الأداء- فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - لا تلزم القيمة؛ فإن السراية قد فاتت؛ إذْ عِتْقُ العبد بعد موته محال؛ فتقديم العتق على أداء القيمة يخالف القول الذي نفرع عليه [وبمثل] (2) هذا الحكم فإن المكاتب إذا مات، تنفسخ الكتابة، ويموت رقيقاً. والوجه الثاني - أنه يجب على المعتِق قيمةُ نصيب شريكه، ثم نتبين أن العتق حصل قبيل موته، وهذا يضاهي مذهب أبي حنيفة (3) في مصيره إلى أن المكاتب إذا خلف وفاء أُدّي النجم مما خلّفه، ويتبين أنه عَتَق قُبَيْل موته. ومما احتج به المزني أن قال: نَصَّ على أن أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة -وهو موسر- سرى الاستيلادُ إلى نصيب الثاني في الحال. قلنا: هذا جوابٌ على أحد القولين -وهو تعجيل السراية- فالاستيلاد كالإعتاق، فإن عجلنا، فالجواب ما نقله المزني، وإن رأينا تأخير نفوذ العتق إلى أداء القيمة، فالاستيلاد بمثابته، وقولُ الوقف جارٍ فيه. ثم من أصحابنا من يرى الاستيلاد أولى بالتعجيل؛ لأنه مترتب على فعلٍ لا مردّ له، ومنهم من يرى العتق أولى؛ لأنه تحقيق وتنجيز، والاستيلاد فيه عُلْقة العتاقة، ومنهم من سوى بينهما.

_ (1) في الأصل: " كان ". (2) في الأصل: " بمثل " (بدون الواو). (3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 431 مسألة: 2125.

ثم نقول في الاستيلاد: إن كان الشريك المولدُ موسراً، ثبت الاستيلاد في نصيبه، ثم في وقت سريانه إلى نصيب الشريك الأقوالُ؛ فإن أخرنا نفوذ الاستيلاد، فنقول: الولد حر لا محالة، ويجب على المستولد نصفُ قيمته لشريكه، كما يجب عليه نصف قيمة الجارية. وإن قلنا: تتعجل السراية -تفريعاً على الصّحيح- ففي وقت نفوذ الاستيلاد خلافٌ، ذكرناه في استيلاد الأب جاريةَ الابن: فمن أصحابنا من يقول بنقل الملك إلى المستولد قبيل العلوق، فعلى هذا يصادف الوطءُ ملكَه، فلا يلتزم لشريكه شيئاً (1). ومنهم من قال: يُنقل الملك في نصيب الشريك بعد العلوق، فيثبت العلوق على مقتضى الشركة. وقد قدمنا استقصاءَ هذا في استيلاد الأب، وكشفنا ما فيه من إشكال بطريق البحث، ومقدار غرضنا منه الآن التردد في أن الاستيلاد إذا تعجل، وقطعنا بحصول الحرية في الولد، فهل يغرَم المستولد لشريكه في مقابلة الولد شيئاً؟ وإن أخرنا، فلا شك في حصول الحرية في الولد، ولكنا نقطع بتغريم المستولد نصفَ قيمة الولد، وإذا كان المستولد معسراً، ففي انعقاد الولد على التبعض في الحرية وجهان ذكرناهما. ثم ذكر الأصحاب متصلاً بالاستيلاد أن المستولد لو كان معسراً، ووقف الاستيلاد على نصيبه، ولو استولد الثاني أيضاً، لثبت الاستيلاد في نصيبه أيضاً، فتصير المستولدة مشتركة بينهما على حكم الاستيلاد، فلو فرض يسار بعد ذلك لأحدهما، فأعتق الموسر نصيبه من أم الولد، فقد قال قائلون من أصحابنا: العتق يسري إلى نصيب الشريك الثاني، ويجب غُرْم (2) الثاني. قال القاضي: هذا خطأ؛ لأن قضية السراية نقل الملك من شخص إلى شخص، وأم الولد غير قابلة لنقل الملك. وإذا امتنع نقل الملك، امتنع تصوير السراية.

_ (1) أي في الولد. (2) ويجب غرم الثاني: " غُرم " بمعنى المغروم؛ أي يجب أن يغرم للثاني نصيبه.

12350 - ومما احتج به المزني أن قال: إذا قال أحد الشريكين للثاني: قد أعتقتَ نصيبك وأنت موسر، فنحكم بعتق نصيب المدعي، لأنه أقرّ به وهو مؤاخذٌ بإقراره، فدل أن العتق حصل بنفس اللفظ، ولو كان يعتق بأداء القيمة، لم نحكم بعتق نصيب المقر، لأنه لم يأخذ قيمة نصيبه بعدُ. قلنا: لا يشك الفقيه في أن هذا تفريع على قول تعجيل السراية، والجواب فيه أنا إن حكمنا بالتعجيل، وقع الحكم بالعتق في نصيب الشريك المدعي، والقول قول المدعى عليه، فإن حلف أنه لم يُعتِق نصيبَ نفسه، تَخَلَّص، وإن نكل، حلف المدعي، واستحق عليه القيمةَ لنصيبه، ثم إذا حلف المدعي يمين الرد وألزمنا المدعى عليه القيمة، فهل يقع الحكم بالعتق في نصيب المدعى عليه؟ قال المحققون: لا نحكم بالعتق في نصيبه؛ فإن الدعوى إنما توجهت عليه بسبب تغريمه القيمة؛ وإلا فالدعوى على الإنسان بإعتاق ملكه مردودة، وهي بمثابة ما لو ادعى رجل على مالك عبد أنه أعتقه، فلا تسمع الدعوى، ولا معنى لها. نعم، لو كان هذا المدعي شاهداً، وانضم إليه آخر، وعُدّلا، حُكم بالعتق لشهادة الحسبة. وإنما نسمع الدعوى من العبد نفسه لما له في العتق من الحظ واستفادة الخلاص، وإنما تقبل دعوى الشريك لطلب القيمة، وَرَدُّ اليمين لا يثبت غير القيمة. وأبعد بعض من لا خبرة له وقضى بنفوذ العتق في نصيب الشريك المدعى عليه بيمين الرد؛ تبعاً لارتباط دعوى القيمة به، ولا مساغ للقيمة إلا من جهة تقدير السراية، ولا سراية ما لم يُقَدَّرْ نفوذُ العتق من الشريك في نصيبه. ثم إذا حكمنا على قول التعجيل بنفوذ العتق في نصيب المدعي، فولاء ذلك النصيب موقوف؛ لأن المدعي يزعم أنه لشريكه، وشريكه ينفيه؛ فبقي الولاء موقوفاً، وسيأتي القول في وقف الولاء في مثل ذلك. ثم قال المزني: لو ادعى الشريك المدعى عليه على صاحبه مثل ذلك، عَتَقَ العبدُ، وكان الولاء له، وبيان ذلك: أنه إذا ادعى كل واحد من الشريكين على صاحبه أنه أعتق نصيبه -والتفريع على قول التعجيل- فينفذ الحكم بعتق العبد ونقول: كل

واحد من الشريكين يزعم أن [شِرْكه] (1) عتق على صاحبه، وصاحبه ينكره، فصار كلُّ واحد مؤاخذاً بموجب إقراره. وأما قوله: " وولاؤه له " فهو خطأ؛ فإن الولاء موقوف ليس يدعيه واحد من الشريكين. وإذا كان كذلك، فلا وجه إلا وقف الولاء، وهذا لا شك فيه. وإن اعترف أحدهما بعتق نصيبه، تغير وضع المسألة، وإذ ذاك يكون الولاء للمعترف. وكل هذا تفريع على تعجيل السراية. 12351 - ومما ذكره المزني، أن أحد الشريكين إذا قال لصاحبه: مهما (2) أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حر، والمخاطب المقول له موسر، فإذا أعتق عَتَقَ الكل عليه، ويلزمه قيمةُ نصيب القائل موسراً كان أو معسراً. قلنا: هذا جواب على التعجيل، كما سنوضحه، إن شاء الله. فأما إذا قلنا: [تحصُل] (3) السراية عند أداء القيمة، لم يَعْتِق الكلُّ على المعتقِ، بل عَتَقَ نصيبه عليه، وعَتَقَ نصيبُ المعلِّق عليه عند بعض أصحابنا. وتحصيل القول في ذلك يقتضي تقديمَ أصلٍ، وهو أنا إذا رأينا تأخير السراية إلى حصول الأداء، فنصيب الشريك رقيق قبل أداء القيمة. فلو أعتق ذلك الشريك نصيبَ نفسه، إنشاءً قبل وصول القيمة إليه من جهة شريكه، ففي نفوذ عتقه وجهان على هذا القول: أحدهما - أنه ينفذ لمصادفة الملك، والثاني - أنه لا ينفذ؛ لكونه محلاً لاستحقاق نفوذ السراية فيه من جهة الشريك، وهذا يصادف (4) نظائر معروفة، منها: إعتاق الراهن المرهون، ثم إن لم ينفذ العتقُ من الشريك إنشاءً، فلا كلام، وإن نفذناه، ففي تنفيذ البيع فيه وجهان ذكرهما القاضي. وكان شيخي يقطع بأن البيع لا ينفذ فيه، وإن تردد المذهب في نفوذ الإعتاق إنشاء

_ (1) في النسختين: " شريكه " وهو تصحيف واضح. والمثبت تقدير من المحقق. والشِّرْك أي النصيب. (2) مهما: بمعنى إذا. (3) في الأصل: " تحصيل ". (4) أي يضاهي نظائر معروفة.

كالمرهون وما يناظره، بخلاف العبد الجاني إذا تعلق الأرش برقبته فإن القول مختلف في نفوذ بيع السيد في رقبته قبل إيصال الفداء إلى مستحقه. وإذا نحن نفذنا بيع الشريك في مسألتنا، نشأ من هذا سرٌّ في المذهب، لا بدّ من التنبه له، وهو أنا إن جرينا على أنه لا ينفذ عتق الشريك، فلا شك أنه لا ينفذ على هذا بيعُه، فقيمة الحصة مستحقة على الشريك المعتِق، لما اقتضاه إعتاقه من الحجر على ملك الشريك، والحيلولة توجب الغرم في مثل هذا المقام. فترتب على ذلك أن الذي لم يُعتق يطالِب الشريكَ بالقيمة، وإذا قلنا: ينفذ عتق الشريك، ولا ينفذ بيعه، فالمطالبة بالقيمة تامة أيضاً؛ لاطراد الحجر في المنع من البيع. وإن جرينا على أنه ينفذ عتقُ الشريك في نصيبه وبيعُه، فلا حجر عليه إذاً؛ ويجب لا محالة أن يقال: لا يملك مطالبةَ شريكه المعتِق بالقيمة؛ فإن إعتاقه لم يستعقب السراية ولا الحجر، والشريك الذي لم يُعتِق بحكمه في تصرفاته، فيبقى (1) أن المعتِق إن بذل القيمة، حصل السراية، وهو في بذلها مختار، ويكون بِمنزلة الشفيع في بذل العوض: إن بذله مَلَك الشقصَ المشفوع، وإن لم يبذله، فلا طِلبَة عليه من مشتري الشقص. وهذا يخبّط المذهب، ويقطع نظامه، ومنه يبين أن تنفيذ بيعه لا وجه له، ثم إن قلنا: ينفذ بيعه، فلو باع، وأَلْزَم البيع من جهة نفسه، فأراد الشريك المعتِق أن يتتبّع بيعه بالنقض، ويبذل القيمة، كما يملك الشفيع نقضَ بيع المشتري لو باع الشقص المشترى، فكيف الوجه في ذلك؟ هذا فيه احتمال وتردد؛ لأنا إذا نزلنا الشريك المعتِق منزلة الشفيع، فقد أثبتنا له حقَّ إثبات العتق في نصيب صاحبه، فإذا جرى بيعٌ [لو حُكِم بلزومه] (2)، لامتنع حق الشريك المعتِق، لوجب أن يملك الشريك النقض. وهذا الآن ينتهي إلى خبال وفساد، فالوجه: القطع بأن بيع الشريك لا ينفذ. ثم يبتني عليه أنه يملك مطالبة المعتق بقيمة النصيب؛ لمكان الحجر الحاصل في ملكه.

_ (1) ت 5: "فينبغي". (2) في الأصل: " أو حكم بلزومه ".

12352 - فإذا ثبت ما ذكرناه من الخلاف في نفوذ عتق الشريك الثاني بعد إعتاق الأول، فنعود بعد هذا إلى غرض المسألة، ونقول: إذا قال أحد الشريكين: إذا (1) أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حر، فهذا نفرّعه على قولَي التعجيل والتأخير: أما التفريع على التعجيل، فإذا جرى هذا التعليق من أحد الشريكين، فقال لصاحبه: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حرٍ، فإذا أعتق المخاطَب نصيبه عَتَق عليه العبد إنشاء وسراية (2)، ولم يعتق نصيب المعلِّق بحكم التعليق، فإن قوله: " فنصيبي حر " يقتضي التعقيب، فإذا أعتق المقول له، فالسراية من حكم لفظه، فتغلِبُ السرايةُ حصولَ عتق المعلِّق في نصيب نفسه بحكم التعليق السابق. وهذا مما اتفق الأصحاب عليه إذا فرعنا على قول التعجيل. فإن قيل: هلا كان عتق المعلِّق أولى بالنفوذ؛ فإنه يوافق وقت السريان؟ وهذا السؤال يقوَى بما مهدناه من أن الملك ينتقل إلى المعتِق، ثم يترتب عليه السريان، فلا بدّ من وقوع العتق بالسريان مترتباً على النقل، والعتق المعلَّق يلاقي وقت نقل الملك، ولأجل هذا السؤال قال المروزي: يحصل العتق متصلاً بإعتاق الشريك غيرَ مترتب، وهذا لا يُنجْيه من السؤال وغائلته؛ فإن الترتّب [على نقل الملك إن رُفع من البين،] (3) بقي مصادمةُ العتق المعلَّق للعتق بالسراية، وهذا كافٍ في إشكال السؤال. ثم سبيل الجواب في هذا أن نقول: العتق المعلق مرتب على نفوذ عتق الشريك ترتيباً اختيارياً، وحصول العتق على طريق السراية، يترتب على نفوذ العتق ترتباً

_ (1) أعاد المسألة بنصها واضعاً (إذا) مكان (مهما) مما يؤكد صحة تقديرنا في استعماله (مهما) بمعنى (إذا). (2) إنشاءً في نصيبه، وسراية في نصيب شريكه. (3) عبارة الأصل: " فإن الترتب يحط نقل الملك أو رفع من البين ... إلخ " والمثبت عبارة (ت 5). والمعنى أننا لو قلنا بقول أبي إسحاق المروزي، أي بحصول العتق متصلاً غير مترتب على نقل الملك، فهذا لا ينجي من السؤال، لأننا لو رفعنا من البَيْن تقدير نقل الملك، فسيبقى مصادمةُ العتق المعلِّق للعتق بالسراية. هذا معنى العبارة، والله أعلى وأعلم.

حكمياً، والترتب الحكمي أغلب؛ لأنه لا يقع (1) على وقتين محسوسين، فَيُفْصَل أحدُهما عن الثاني، وإنما هو تقدير لا يدركه الحس، وترتيب العتق بالفاء تصرفٌ مقتضاه تقسيم الوقت تعقيباً وترتيباً. وهذا لا يشفي الغليل إذا كان لا ينفصل العتق المعلق عن إعتاق الشريك بفاصل زماني، فلا شك في اجتماع وقت السراية والعتق المعلق، وإذا فرضنا لنقل الملك زماناً، ولنفوذ العتق بعده زماناً، اقتضى هذا استئخار عتق السراية عن العتق المعلق من طريق الزمان. فلا خروج عن السؤال إلا بأن نقول: العتق المعلق يصادف ملكاً [مستحَقَّ] (2) الإزالة، وقد ذكرنا وجهين على قول التأخير في أن الشريك الثاني إذا أعتق نصيبه هل ينفذ عتقه؟ فإذا فرّعنا على أنه لا ينفذ عتقه، لم يبق إشكال في تغليب السراية على قول التعجيل، وإنما السؤال على الوجه الثاني - وهو إذا قلنا: ينفذ عتق الشريك الثاني في نصيبه بعد تقدم عتق الأول، فعلى هذا تغلّب السراية على قول التعجيل أيضاً. والسبب فيه أن الملك الذي يستحق نقله بالسراية مختطف مستوفًى منتزع عن إمكان التصرف على وجه لا تبقى فيه خِيَرةٌ للمختار، فلما عظم هذا الاستحقاق، اتّحد المذهب في امتناع نفوذ عتق المعلِّق، ونحن إذا نفذنا عتق الراهن، فهو لتغليبنا العتق على حق المرتهن؛ لما يختص الملك [به] (3) من السلطان ولهذا لا ينفذ بيعه، وهاهنا إذا كان الملك مستحقاً للمعتق بسريان العتق، امتنع نفوذ عتق المعلِّق فيه. فكأنا نتخيل مراتب نقسط عليها أقدار الفقه: فعتق الراهن -إن نفذ- فسببه أن العتق أقوى من حق الاستيثاق، وعتق الشريك الثاني -على تأخير السراية- أولى بألا ينفذ؛ لأن الحق الثابت في ملكه على اللزوم سببه عتقٌ أيضاً. وإذا فرعنا على قول التعجيل، فالملك مختطفٌ من البين، حتى كأن لا ملك، وعتق المعلِّق محمول على اختياره، وهذا هو الممكن في ذلك.

_ (1) ت 5: " لأنه يقع ". (2) في الأصل: " يستحق ". والمثبت من (ت 5). (3) في الأصل: " فيه ". وعبارة (ت 5): " لما يخصّص به الملك من السلطان ".

12353 - ولو قال أحد الشريكين للثاني: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حر قبل نصيبك -فهذه المسألة تدور على مذهب الدَّور الذي سبق إليه ابن الحداد. ووجهه أن الشريك المخاطب المقول له إذا أعتق- فلو نفذنا عتقه، لنفذ على صاحب اللفظ عتقُ المعلِّق قبل إعتاقه، وإذا نفذ عتق المعلق قبل إعتاقه سرى، وإذا سرى، لم ينفذ إعتاق الشريك، وإذا لم ينفذ إعتاقه، لم ينفذ العتق المعلَّق؛ ففي تنفيذ إعتاقه ردُّ إعتاقه. وعلى هذا المذهب إذا قال مالك العبد له: مهما أعتقتك فأنت حر قبله، لم ينفذ عتقه، وقد ذكرنا نظير ذلك في الطلاق، وذكرنا مذهب قطع مذهب الدور، واخترناه، فلا نعيده. ومن سلك في رد الدور مسلك الاستبعاد، فالدور في هذه المسألة أبعد، لأنه يؤدي إلى الحجر على الغير في ملكه، وهو أبعد من تصرف المرء في حقه. ونحن إذا قطعنا الدور، لم نلتفت على هذا الاستبعاد، بل نقطعه بأن الشرط في نظم الكلام وضعه أن يتحقق، ثم ننظر في الجزاء، فإن امتنع، منع، فأما تخيل المنع في الشرط، فلا سبيل إليه لا لفظاً ولا شرعاً، ولسنا نطيل بالإعادة. ويلزم على مذهب الدور امتناعُ التصرف من الجانبين، لو صدر التعليق من كل واحد منهما، ثم يجب طرد هذا في جميع التصرفات حتى إذا قال كل واحد منهما لصاحبه: مهما بعت نصيبك، فنصيبي حر قبل بيعك، فلا ينفذ البيع، [ثم] (1) لا ينفذ العتق، فإنه موقوف على بيع صحيح، وصحة البيع ممتنعة، وبمثل هذا يستبين المنصفُ بطلانَ المصير إلى الدور اللفظي. وكل ما ذكرناه على قول التعجيل. 12354 - فإن فرعنا على التأخير - وقد قال لشريكه: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حر، فهذا مخرج على الوجهين في أن الشريك الثاني هل ينفذ عتقه؟ وقد مضى. ولو قال على هذا القول: فنصيبي حر قبل إعتاقك -وفرعنا على أن عتق الثاني لا ينفذ بعد عتق الأول- دارت المسألة أيضاً؛ فإنا إذا قدمنا العتق المعلَّق، صادف إعتاق الثاني ملكاً مستحَقاً، ثم هكذا إلى منتهى الدور.

_ (1) في الأصل: " فإنا لا ننفذ العتق ".

12355 - وفرع صاحب التقريب على قول التأخير مسألةً في التصرف، فقال: إذا أعتق أحد الشريكين نصيبَه من الجارية المشتركة، وقلنا: لا يسري العتق قبل الأداء، فلو وطىء الشريك الثاني الجارية، فهل يلتزم المهر؟ أما نصف المهر، فيلزمه في مقابلة النصف الحر، وليقع الفرض في وطءٍ محترم (1)، أو في تصوير الضبط والإكراه، فأما النصف الثاني من المهر - فقد ذكر صاحب التقريب فيه وجهين: أحدهما -أنه لا يلزم، لأن وطأه صادف ملكاً في ذلك النصف- وهذا هو الذي لا يجوز غيره. وليس هو من قبيل التصرفات التي يمتنع بها جريان العتق، حتى يجري الاختلاف فيها. والوجه الثاني - أنه يجب عليه في مقابلة ملكه نصفُ المهر للشريك، وهذا بعيد، ولكن الممكن في تخريجه أن الملك وإن كان ثابتاً للواطىء، فهو مستحقَّ الانقلاب إلى المعتِق، فصار كأنه منقلب إليه. وهذا يناظر وجهاً ضعيفاً في أن البيع إذا كان فيه شرط خيار (2) وقلنا: الملك للبائع، فلو وطئت الجارية بشبهة، ثم أفضى العقد إلى اللزوم، فقد قال بعض أصحابنا: المهر للمشتري؛ نظراً إلى مصير الملك إليه في المآل، كذلك هذا الملك يصير إلى المعتق في المآل. ثم لو قال قائل: هلا صرفتم هذا النصف من المهر إلى المعتقة أيضاً؛ فإن هذا الملك إلى الزوال. قلنا: لا ننكر احتمال هذا، أما صاحب التقريب، فقد أثبته للشريك المعتِق، ووجهه أن الملك ينقلب إليه، ثم يترتب العتق، ولا يمكن توجيه هذا إلا بهذا الطريق. فيجوز أن يقال: إذا كان ملك الواطىء لا يدرأ المهر عنه؛ لأنه مستحقَّ الانقلاب، فالملك الذي نقدّره للمعتق أولى بأن يكون مستحقَّ الانقلاب، فإنه في حكم الحاصل الزائل، فيتجه صرف هذا النصف إليها أيضاً. ويخرج من هذا أنا إن أثبتنا المهر في مقابلة النصف المملوك، فيجب ألا ينجز

_ (1) ت 5: " محتوم ". (2) ت 5: " خلاف ".

إلزامه، بل نُثبته عند حصول السراية، حتى لو ماتت الجارية -وفرعنا على أن السريان لا يتصور بعد موتها- فلا مهر على الواطىء في مقابلة النصف الذي كان مملوكاً له، واستمر الملك فيه -وهذا كله تفريع على وجهٍ لا أصل له. وإذا جرينا على العادة في طلب النهاية- ونحن نفرع على ضعيف، أفضى التفريع إلى أمور بديعة. 12356 - ثم قال المزني: " وسواء كان بين مُسلمَيْن أو كافرَيْن أو مسلم وكافر " وأراد بذلك أن العبد إذا كان مشتركاً بين كافر ومسلم، فأعتق الكافر نصيبه، وقلنا: لا يصح من الكافر شراءُ العبد المسلم -وكان العبد مسلماً- فعلى هذا هل يُقوّم عليه نصيب الشريك؟ في المسألة وجهان، وهو بمثابة شرائه أباه المسلم، وقد قدمنا الخلاف فيه. والنقل بالسراية -على قول التعجيل- أولى بالصحة من شراء العبد، فإن ذلك عقد اختيار، والنقل يحصل اضطراراً إذا عجلنا السراية، فكان أولى بالنفوذ. نعم، إذا فرعنا على قول التأخير، فبذْلُه القيمة ليعتِق نصيبُ صاحبه يضاهي شراءه من يعتق عليه مع فرق أيضاً، فإن هذا البذل واجب لو قلنا بالسراية، وشراء الأب لا يجب. ثم فرض المزني عبداً مسلماً بين كافر ومسلم، وما ذكرناه من ترتيب المذهب في السريان ومنعه إنما نشأ من إسلام العبد، وما نشأ فيه من إسلام الشريك، ولكنه صوَّر عبداً مسلماً بين مسلم وكافر ليبني عليه أن المسلم لو أعتق، نفذ عتقه في نصيب الكافر، والكافر إذا أعتق، لم ينفذ عتقه على وجهٍ لبعض الأصحاب، وهذا لم يأت به المزني ليحتج به، وإنما أجراه في عُرض الكلام. 12357 - ومما تعلق به أن قال: إذا أعتق الشريك الموسر وألزمناه قيمة نصيب صاحبه، فالاعتبار في القيمة بيوم الإعتاق، لا بيوم التقويم، فدلّ أن العتق يتنجز باللفظ. وهذا الذي ذكره فرّعه الأصحاب على القولين في التعجيل والتأخير، فنقول: إن عجلنا السراية، فلا شك أنا نعتبر قيمة يوم الإعتاق؛ فإن إتلاف ملك الشريك يحصل

متصلاً باللفظ، فإن أخرنا تحصيل العتق إلى وقت الأداء، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: تعتبر قيمة يوم الأداء. فإن التلف يحصل حينئذ، فيجب اعتبار قيمة يوم التلف. والوجه الثاني - أنا نعتبر قيمة يوم الإعتاق؛ فإن الحجر على الملك حصل في ذلك اليوم. وفي بعض التصانيف وجه ثالث، هو الصواب - وهو أنا نعتبر أقصى القيم من يوم العتق إلى يوم الأداء؛ فإن الإعتاق سببٌ متصل إلى الإفضاء إلى التلف، فيجب أن يكون بمثابة جراحة العبد، ومن جرح عبداً، ثم مات بعد زمان، اعتبرنا قيمته أقصى ما يكون من يوم الجرح إلى يوم التلف، وكذلك من غصب عبداً، وتلف في يده، ألزمناه أقصى القيم؛ لأننا نُنْزل الغصب منه بمنزلة التسبب إلى التلف. هذا ما ذكره الأصحاب، ولا بد من بحث فيه. أما إيجاب الأقصى، فمصرِّحٌ بالغرض، لا بحث فيه، وأما من قال: يُعتبر يوم الإعتاق، فمعناه عندي إدخال يوم الإعتاق في الاعتبار، وإلا فلا وجه لإنكار اعتبار القيمة بعده، لما قدمناه. وقد ينقدح -على بُعْده- أن يقال: صار الملك كالمهلَك يومئذ فلا يعتبر ازدياد بعده. وهذا يلتفت على ما حكيناه في المهر. وأما من اعتبر يومَ أداء القيمة، فلا اتجاه له إلا على مذهب من لا يمنع العتق والبيع، فيكون بذل القيمة يومَ الأداء كبذل الثمن المسمى من الشفيع، وكأن الاعتياض يجري يوم البذل، والقيمة يومئذ ممثلة بالثمن. 12358 - ثم قال الشافعي: " وإن كان معسراً، عَتَقَ نصيبه، وكان الشريك على ملكه ... إلى آخره " (1). أراد بذلك أن العتق إذا وقف على نصيب المُعْسر، فالشخص يستقل بموجب الحرية في بعضه، وعليه حكمُ الرق في بعضه. ولعلي أجمع في آخر العتق ما يحضرني من أحكام مَن بعضه رقيق وبعضه حر.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 268.

فصل قال: "ولو أعتق شريكان، لأحدهما النصف، وللآخر السدس ... إلى آخره" (1). 12359 - صورة المسألة: عبد بين ثلاثة، لواحد نصفه، ولواحد ثلثه، ولآخر سدسه، فأعتق صاحب النصف والسدس نصيبهما، ووقع العتقان معاً، وتصوير الاجتماع أن يتلفظا معاً أو يوكلا وكيلاً بإعتاق نصيبهما حتى يعبر عنهما بعبارة واحدة، فإذا نفذ العتقان معاً، وكانا موسرين -والتفريع على قول التعجيل- فيسري العتقان إلى الثلث الباقي؛ وفي كيفية التقويم على صاحب النصف والسدس قولان: أحدهما - يُقوَّم عليهما على عدد الرؤوس بالتسوية، ولا نظر إلى اختلاف الملكين. والثاني - أن التقويم يقع عليهما على قدر الأملاك، فيغرم صاحب النصف ثلاثة أرباع قيمة الثلث، ويغرم صاحب السدس ربعَها، ونَقْلُ الملك والولاء يقعان على هذه النسبة. والقولان يبتنيان على أن الشفعة على عدد الرؤوس، أم على قدر الأنصباء. هذا هو المسلك المرضي. وقال بعض أصحابنا نقطع بالتقويم على عدد الرؤوس هاهنا؛ لأن سبيل التقويم فيما نحن فيه كسبيل تغريم الجناة الأرش إذا سرت الجراحات. ثم اختلاف الجراحات في الصورة لا يوجب تفاوتاً، حتى لو جَرَحَ أحدُ الجارحين مائةَ جراحة، وجرح الثاني جراحةً واحدة، وسرت الجراحات إلى الزهوق، فالدية نصفان بينهما. وهذا ليس بذاك؛ فإن سراية الجراحات صورةٌ وعِيان. وقد يغمض مبلغ آثار السرايات، وقدرُ وقعها، وصُوَرُ الجراح لم تقتل؛ فإنها لم تكن مذفِّفة (2)، فلما غمض الأمر، وزعنا على الرؤوس، والسراية فيما نحن فيه حكم، والحكم محال على الشرع، فينبغي أن نثبته على موجب القياس في الشرع.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 269. (2) ت 5: " مذافة ".

فصل قال: " ولو اختلفا في قيمة العبد، فيها قولان ... إلى آخره " (1). 12360 - إذا اختلف المعتِق وشريكه في قيمة العبد، وتعذر معرفتها بأن مات العبد، وتقادم العهد، وعسر الرجوع إلى اعتبار صورته وصفته؛ فإذا اختلفا في القيمة على الإطلاق، ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول المعتِق؛ لأنه الغارم كما في ضمان الإتلافات، وهذا اختيار المزني. والقول الثاني - القول قول صاحب النصيب؛ فإنه يُستَحَقّ عليه ملكُه بعوض، فيجب أن يخرج ملكه من يده بحكم قوله. والأَوْلى عندنا بناء القولين على أنه إذا اشترى الرجل عبدين، وتلف أحدهما في يده، وأراد أن يردَّ الثاني بالعيب، وجوزنا تفريق الصفقة في الرد، فلو اختلفا، فقال المشتري: كان قيمةُ العبد التالف خمسمائة، وقيمة الباقي ألفاً، فرُدَّ عليّ ثلثي الثمن، والبائع يقول: بل قيمة التالف ألف، فلا أرد إلا نصف الثمن، فالقول قول من؟ في المسألة قولان. وهذا البناء ليس كما نؤثره؛ فإن تلك القيمة ليست قيمة مغرومة، والقيمة فيما نحن فيه مغرومة، فالأصل أن يكون القول قولُ الغارم، فلا وجه إلا الاقتصار على توجيه القولين بما يمكن. 12361 - ثم قال: "ولو قال: هو خباز، وقال الغارم ليس كذلك ... إلى آخره" (2). وهذا من تتمة القول في الاختلاف في القيمة. فإذا مات العبد -والرجوع إليه- فقال المغروم له: كان العبد خبازاً، أو كاتباً، وأنكر الغارم ذلك، فقد ذكر العراقيون فيه طريقين: قالوا: من أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول الغارم، والثاني - القول قول الطالب، والقولان مبنيان على أنهما إذا اختلفا في

_ (1) ر. المختصر: 5/ 269. (2) ر. المختصر: 5/ 269.

مبلغ القيمة اختلافاً مطلقاً، فالقول قول من؟ وذلك لأن من يدعي مزيداً في القيمة، فلا بد وأن يكون مدعياً لزيادة صفة، أو زيادة رغبة، فإن صُدّق ثَمَّ، وجب أن يُصَدَّق فيما نحن فيه. قالوا: ومن أصحابنا من قال: القول قول الغارم في نفي الصفة الزائدة التي يدعيها الطالب؛ فإن الأصل عدمُها. ولو ادعى الغارم نقيصةً تنتقص القيمة بسببها، وأنكر الطالب تلك النقيصة، نظر: فإن قال الغارم: كان العبد سليماً في أصل الخلقة، لكن عاب قبل أن أعتق نصيبي منه، فهل يصدَّق هذا الذي يدعي طريان النقصان؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يصدق مع يمينه؛ فإن الأصل براءة ذمته، والقول الثاني - أنه يصدق الطالب مع يمينه؛ لأن الأصل بقاءُ السلامة، قال أئمتنا: هذا من تقابل الأصلين، فإن الأصل من جانبٍ براءةُ الذمة، فبعُد شَغْلُها من غير ثَبَتٍ، والأصل في الجانب الثاني بقاءُ العبد على سلامته، فَبَعُدَ ادعاء النقصان من غير ثَبَت. وهذا أوقع صورة تذكر في تقابل الأصلين. 12362 - ولا ينبغي أن يعتقد الإنسان أن المعنيّ بتقابل الأصلين تعارضهما على وزن (1) واحد في الترجيح؛ فإن هذا كلام متناقض إذا كنا نُفتي لا محالة بأحد القولين، ونُلحق المسألة بالمجتَهَدَات التي يتعين على المجتهد فيها تقديم ظن على ظن، وحسِب بعضُ الناس من شيوع هذا اللقب أن الأصلين متعارضان تحقيقاً، ولو تحقق ذلك، لسقط المذهبان، وهذا يستحيل المصير إليه، ولو سمى مُسمٍّ كل قولين بهذا الاسم، لم يمتنع؛ من جهة أن من يُجري القولين لا يبتّ جواباً، ولا يعيّن مذهباً، بل يقول إني متردد، والأمران متقابلان عندي، وتقابلهما حملني على التردد، ومن أدى اجتهادُه إلى أحدهما، فلا تقابل عنده، وقد ظهر الترجيح لديه، غير أن مسائلَ معدودة جرت على صورة واحدة، وعلى قضية في التشابه، فسماها الفقهاء باسمٍ لتمييز ذلك النوع عما عداها في التبويب والترتيب.

_ (1) ت 5: " قدر واحد ".

وهذا كقولهم إذا غاب العبد وانقطع الخبر، فهل يجب على المَوْلى إخراجُ فطرته؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجب تغليبا لبراءة الذمة، والثاني - يجب لاعتقاد الحياة، وكذلك إذا أعتقه مالكه عن ظهارٍ، فهل تبرأ ذمته في الحال، فعلى ما ذكرناه: في قولٍ نقول: الأصل اشتغال الذمة، فلا براءة إلا بثت، وفي قولٍ: الأصل بقاء العبد، فلا حكم بالموت والفوت إلا بثبت، فهذا هو المسلك، ولا معنى لإكثار الأمثلة بعد وضوح المقصود. نعم، مِن حكم تقابل الأصلين أن يَدِقّ النظرُ في محاولة ترجيح جانب على جانب. ولو لم يسلِّم الغارم السلامةَ الخِلْقية، بل قال: خلق أكمه، أو بِفَرْد عينٍ، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الغارم مصدق، فإنه لم يسلم أصلاً حتى يُنسبَ بعد تسليمه إلى زواله، وقال العراقيون: في هذه الصورة قولان مبنيان على القولين فيه إذا اختلفا في مقدار القيمة مطلقاً، فإنا إذا صدقنا من يدعي الزيادة، فليس معه أصل في دعوى الزيادة. ومع هذا أجرينا قولاً في تصديق الطالب، ولا فرق بين أن يدعي مزيداً مطلقاً لا يستند إلى أصل، وبين أن يدعي مزيداً في أصل الخلقة، بل هذا أقرب؛ فإن سلامة الخلقة معتادة؛ والكمه نادر، وادعاءُ الزيادة المطلقة ليس فيها استناد إلى اعتياد. وليتّخذ الفقيه هذا الفصل معتبره إن كان يبغي أن تتميز له صور تقابل الأصلين عن غيرها، فالقولان في الاختلاف المطلق في مقدار القيمة ليسا من تقابل الأصلين، بل أصح القولين تصديق الغارم. والقول الثاني موجه باعتبار قول من يُزال ملكه بعوض. وهذا ضعيف؛ لأن هذا الكلام كالمشير إلى تراضي المعاوضات، والملك يزول بسبب القهر، فهو من فن الإتلاف. وإذا رجع النزاع إلى ادعاء نقص بعد تسليم السلامة، فهذا من صور تقابل الأصلين؛ إذ أصل براءة الذمة يعارض أصلَ السلامة، (1 وإذا لم يسلم الغارم السلامة 1)، فهذا يَخْرُج عن قالب تقابل الأصلين، فإن الغارم لم يسلم أصلَ السلامة، وإن تكلف متكلف، وقال: الأصل في الناس السلامة، كان مبعداً، ومن

_ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت 5).

أجرى القولين ألحقهما بالاختلاف في أصل القيمة مع ترجيحٍ نبهنا عليه، فكل صورة مما ذكرناه يظهر فيها توجيه، فليس من تقابل الأصلين، وإذا تدانى المأخذان ودق الترجيح، وتمسك كل قائل باستصحاب أصل، فذاك هو الذي يسمى تقابل الأصلين. فهذا منتهى ما ذكرناه. فصل قال: " وإذا أعتق شركاً له في مرضه الذي مات فيه ... إلى آخره " (1). 12363 - ثلث مال المريض في تبرعاته ينزل منزلة مال الصحيح، فإذا أعتق المريض شقصاً له من عبد، إن كان في ثلثه وفاءٌ بالقيمة، سرى العتق إلى الباقي، سواء كان العبد خالصاً له أو كان مشتَركاً. ولو كان في الثلث وفاءٌ ببعض ما بقي، ففيه التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم. ولو أوصى أن يعتق عنه بعضٌ من عبد، لم يقوّم عليه الباقي، وإن خرج من ثلثه؛ فإنه عِتْقٌ واقع بعد الموت، والموت يزيل الملك، ويُلحق الميت بالمعسرين، والثلث وإن كان محل وصاياه، فذاك لو أوصى بما يستغرق الثلث؛ وإذا لم يفعل، فحق الورثة مقدَّم مغلّب، ولو كان له شقص من عبد فأوصى أن يعتق عنه ذلك الشقص، ويسري العتق في باقيه من ثلثه، وكان الثلث وافياً، فلا خير في هذه الوصية؛ فإن الملك يزول بالموت، كما ذكرناه، وإذا زال الملك، فلا سريان له، والوصية إنما تنفذ بأمر يبتدىء بعد الموت، أو بأمر تُعلق وقوعه بالموت، والسراية لا تنشأ ولا تُعلق، والموت يزيل الملك، فيمتنع السريان، فإن أراد تكميل العتق أوصى بأن يُشتَرى نصيبُ صاحبه ويعتَق. فرع: 12364 - وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع في أثناء الكلام، أن أحد الشريكين إذا أعتق نصيبه، وقلنا: إن نصيب شريكه لا يَعْتِق إلا مع أداء القيمة، وقلنا: المعتِق مطالب بالقيمة، ولا ينفذ تصرف شريكه في نصيب نفسه لكونه مستحقاً

_ (1) ر. المختصر: 5/ 269.

للسراية، فلو تلف مالُ الشريك، وصار معسراً، قال رضي الله عنه: ينطلق الحجر عن الشريك في حصته، ويتصرف فيها بما شاء، لأن شريكه قد أعسر، ولو كان معسراً ابتداء، لما أثر العتق في حصة الشريك، فكذلك إذا طرأ الإعسار، والتفريع على ما ذكرنا. ثم قال: فلو أيسر الشريك، ووجد ما يفي بنصيب صاحبه، فلا يقوّم عليه نصيب الشريك بعد ذلك؛ فإن الطَّلِبةَ قد انقطعت عنه بتخلل إعساره، وارتفع حق العتق عن نصيب صاحبه، فلا يعود بعود المال. هكذا قال رضي الله عنه. ويتطرق الاحتمال إلى موضعين من كلامه: أحدهما - أنه قال: انطلق الحجر بطريان الإعسار، والظاهر ما قال؛ فإن هذا القول مبني على رعاية حق الشريك، ولذلك فَصَلْنا بين أن يكون المعتق موسراً وبين أن يكون معسراً. ووجه تطرق الاحتمال مع ظهور ما قال أن عُلقة العتق تثبت، فيجوز أن يظن لزومها، وأما ما ذكر من أنه إذا عاد اليسار، لم يعُد حق العتق، ففيه احتمال. وهو أظهر؛ لأن علقة العَتاقة تثبت أولاً، فلئن طرأ عسر، فقد زال. والعلم عند الله. ***

باب في عتق العبيد، لا يخرجون من الثلث

باب في عتق العبيد، لا يخرجون من الثلث قال: " ولو أعتق رجل ستة مملوكين ... إلى آخره " (1). 12365 - إنما فرض الشافعي الكلام في ستة مملوكين تيمناً بفرض المسألة في مورد خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عِمران بن حُصين في الحديث المشهور. وغرض الباب أن من أعتق في مرض موته عبيداً لا مال له غيرُهم؛ وردَّ الورثةُ ما يزيد على الثلث، فمذهب الشافعي أنا نُقرع بين العبيد، ونُعْتِق مقدارَ الثلث منهم، مع طلب التكميل جهدَنا، حتى إذا أَعتق ثلاثةَ أعبد لا مال له غيرُهم، وكانت قِيَمُهم متساوية، فنُعِتق بالقرعة واحداً، ونرد اثنين، كما سنذكر كيفيةَ الإقراع. وهذا مائل عن مقتضى القياس؛ فإن المريض لما أعتق العبيد، فقد أثبت لكل واحد منهم حقاً في العَتاقة نصاً، وإرقاقُ اثنين حرمانٌ لهما، والعتقُ من أعظم حقوق المعتَق، فإنه يملّكه نفسه، ويخلّصه من أسر الرق، والذي يقتضيه القياس أن نُعتق من كل واحد منهم ثُلثَه، ولكن قدم الشافعيُّ النصَّ الصريح على القياس؛ فإن عمران بنَ حصين روى أن رجلاً أعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم، فَجرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أجزاء وأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة (2). فمعتمد المذهب الخبرُ إذاً، وكأنا نفهم من غرض الشرع طلبَ تكميل الحرية. ولو قال المريض -والعبيد ثلاثة كما وصفناهم في استواء القيم- واحد منكم حر، فَنُعتِق واحداً، على ما سيأتي تفصيل ذلك. 12366 - ولو قال: الثلث من كل واحد منكم حر، فهذا تنصيص على قصد التبعيض، وقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة على وجهين، فقال قائلون: إذا

_ (1) ر. المختصر: 5/ 269. (2) سبق هذا الحديث.

صرح على هذا الوجه بقصد التبعيض، وجب اتباعه، وتنزيل العتق على حسب لفظه. وقال آخرون: هذا بمثابة ما لو قال: أعتقتكم، فإن العبيد كانوا خُلَّصاً له، ومن ملك عبداً خالصاً، فأعتق جزءاً منه، عَتَقَ كلُّه، ولا تعويل على لفظه في التبعيض، مع تنزيل الشرع ذكرَ الأشقاص في العبيد الخُلَّص منزلةَ ذكر الأشخاص. ولو قال لعبيده: ثُلثكم حر، فقد أطلق الأصحاب القول بالإقراع في هذه الصورة؛ من حيث لم يصرح بقصد التبعيض. وقد ينتظم قول من يقول: الواحد ثُلث الثلاثة، وهذا إذا لم يفسِّر هذا اللفظَ بإعتاق الثلث من كل عبد؛ فإن فسّره به، فهو كما لو صرح، وقد مضى الخلاف فيه، وإن بقي اللفظ مبهماً، فالقرعة مقطوع بها، فقد تبين وضع الباب. وأما أبو حنيفة (1)، فإنه قال: إذا أعتق العبيد الثلاثة، عتق من كل واحد منهم ثلثه، ويستسعى في قيمة ثلثين، ولا قرعة بحال. وقدم القياس الذي نبهنا عليه على الخبر الناص على [رأيه] (2) في المسائل المشتملة على الخبر وطرفٍ من النظر. ثم لم يستمسك بالقياس أيضاً، بل قال: لو قال المريض لعبيدٍ: أحدكم حر، يَعْتِقُ من كل واحد ثلثُه، ويُسْتَسْعى من البقيه، فلا هو تمسك بالخبر، ولا وفّى القياس حقه. فإذا تمهد ما ذكرناه فكيفية الإقراع ذكره الشافعي في باب مفرد. ...

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 382، المبسوط: 29/ 71، رؤوس المسائل: 541 مسألة: 399. (2) في الأصل: " دابر ".

باب كيفية القرعة بين المماليك وغيرهم

باب كيفية القرعة بين المماليك وغيرهم قال الشافعي: " أحب القرعة إليّ وأبعدُها من الحَيْف ... إلى آخره " (1). 12367 - أصل القرعة واجب عند الشافعي إذا أعتق المريض عبيداً، ولا يقوم غيرُ القرعة مقامَها، حتى لو فرض مراجعةُ شخصٍ لا غرض له في تعيين عبد لإرقاق أو إعتاق، فأطلق من يعتِق أو يرِق، فلا أثر لهذا، ولو فرض تعليقُ الأمرِ بنوعٍ من أنواع الغرر سوى القرعة، كتوقُّعِ طائرٍ لا يتصور الإحاطة به، أو ما جرى هذا المَجْرَى من أنواع الخطر، فلا حكم لذلك، والمتبع الإقراعُ الذي نص عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم. ثم الغرض تحكيم القرعة، على وجه لا يبقى فيه خيال المواطأة، والتسبب، ولسنا نضبط وجهاً من القرعة، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب: " أحب القرعة عندي وأبعدها عن الحيف رقاعٌ صغار ... إلى آخره ". وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قسمة بعض الغنائم بالإقراع بالنَّوى، وروي: أنه أمر في بعضها بالإقراع بالبعر (2). 12368 - ثم مقصود الباب وإن كان لا يزيد على ما ذكرناه، ففيه أصول منقسمة: بعضها احتياط، وبعضُها واجب، فلا ينبغي أن يستهان بها، ونحن نذكر ما نرى ذِكْرَه، وغرضُنا مقصورٌ على تمييز الاحتياط عما يجب. فأول ما نذكره أنه إذا تهيأ تجزئةُ العبيد ثلاثةَ أجزاء - ففي الإقراع مسلكان: أحدهما -

_ (1) ر. المختصر: 5/ 269. (2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم أمر في قسمة بعض الغنائم بالإقراع بالنّوى، وروي أنه أمر في بعضها بالإقراع بالبعر" قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: " لا أعرف له صحة، والله أعلم " (ر. مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 7/ 477، التلخيص: 4/ 391 ح 2703).

أن تُكتَب أسامي العبيد في الرقاع: سالم، وغانم، ومبشر، ثم يقال: أخرج على الحرية اسماً، فإذا أخرج اسمُ عبد عَتَقَ ورَقَّ الباقيان. والمسلك الثاني - أن يكتب الرق والحرية على عدد الأجزاء: الحرية في واحدة، والرق في اثنتين، ثم يقال: أخرج على اسم فلان، فإن خرجت الحرية عَتَقَ ورَقَّ الآخران، وإن خرج الرق عليه رَقَّ، وأخرجنا أخرى، فإن خرج الرق أيضاً، تعين الثالث للحرية، ورق الأولان، وإن خرجت الحرية، عَتَقَ هذا، ورَقَّ الأول والثالث. وكِتبةُ الأسامي هاهنا أصوب؛ لأنها أقرب إلى فصل الأمر وأيسر؛ لأنا إذا كتبنا أسامي العبيد، نتخلص بالقرعة الأولى إذا كانوا ثلاثة، وإذا كتبنا الرق والحرية، فربما نحتاج في بعض الصور إلى الإقراع مرتين، وقد ذكرنا هذا في باب القسام، وذكرنا تردد الأصحاب، ثم أوضحنا الاتفاق على تجويز الأمرين، ورددنا الكلام إلى الأَوْلى، فقد ثبت في هذا المقام أنا لا نوجب أحد المسلكين. 12369 - والذي يتعلق بما يجب أنا إذا كنا نُعتِق عبداً ونُرق عبدين، ورأينا كِتبة الرق والحرية، فقد قال الأصحاب: الرق ضعف العتق، فيجب أن تكون الرقاع على هذه النسبة، فنكتبُ للحرية رقعةَّ وَللرق رقعتين؛ لتكون الرقاع على نسبة المطلوب في الكثرة والقلة؛ فإن ما يكثر، فهو حَرِيٌّ بأن يسبق إلى اليد، وفي كلام الأصحاب ما يدل على استحقاق ذلك. ومنهم من يقول هذا استصواب، وإلا فتكفي رقعة في الحرية، وأخرى في الرق، ثم يقال: أخرج إحداهما على هذا، فإن خرجت الحرية، انفصل الأمر. ولكن إن خرج الرق احتجنا إلى إدراج الرقعة في البندقة مرة أخرى، والأَوْجَه أن هذا احتياط، ولا بد في الوجهين -كُتِبَت (1) أسماء العبيد، أو الرق والحرية- من تحكُّمٍ ممن يُرجع إليه، فإنه يقول: أخرج على هذا. فلو قال الآخرون: ينبغي أن يخرج على أسمائنا، فإن الذي يبدأ به فقد عُرّض

_ (1) ت 5: " ثبتت ".

للحرية، وكذلك إن كتبت الأسماء، فقال من إليه الرجوع: أخرج اسماً على الحرية، فهذا تحكُّم، فهلا قال: أخرج اسماً على الرق. فلو نازع فيه الورثة، وطلبوا الإخراج على الرق، وطلب العبد الإخراج على الحرية، فهذا مما لم يتعرض له الأصحاب، وفيه غائلة، فلا يمتنع أن يقال -لقطع الميل، وحَسْم التحكم إن كتب الرق. والحرية- أَقْرع أولاً بين العبيد، حتى يتعين من يُعرض على الرق والحرية، ثم إذا تعين واحد، أخرج على اسمه الرق أو الحرية. فهذا وجه. والآخر أن يكتب للرق رقعتان وللحرية رقعة، ثم يلقي إنسان لم يكن في الأمر إلى كل عبد رقعة، فهذا تحكيم القرعة في حقه. فأما إذا قيل: أخرج باسم هذا، فقد قدّم، والتنافس في التقديم والتأخير تميز في القرعة، فهذا ما أردنا التنبيه عليه. والأصحاب لم يذكروا هذا لا في وجوبٍ ولا في استصوابٍ. 12370 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن العبيد إذا أمكن تجزئتهم ثلاثةَ أجزاء والغرض تمييز الثلث عن الثلثين، فلا معدل عن هذا الضرب من التجزئة. وإن كانوا على عدد وتفاوت في القيمة، بحيث لا يتأتى تجزئتُهم ثلاثةَ أجزاء، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يجوز تجزئتهم على غير التثليث، فيجزؤون على ما يسهل ويقرب، كما سنصف، فإن كانوا سبعة، وكان الأيسر أن نجزئهم سبعة أجزاء، فعلنا، وفي الثمانية نفعل الأيسر ونجزّئهم ثمانية أجزاء، ونكتب ثماني رقاع، وإن سهل تجزئتهم أربعة أجزاء، فعلنا وجمعنا في كل جزء اسمَ عبدين. ثم إذا خَرَجَت قرعةُ عبدين للحرية، أُعتقا، وأعدنا القرعة بين الباقين على ما يتيسر حتى نستوظف الثلث. والقول الثاني - أنه لا يجوز إلا التثليث، أو مقاربةُ التثليث، على أقصى الإمكان؛ لأن القصد إعتاق الثلث، ففي السبعة نجعل اثنين جزءاً، واثنين جزءاً، وثلاثة جزءاً، إذا كان هذا أقرب. وفي الثمانية نجعل ثلاثةً في قرعة، وثلاثةً في قرعة، واثنين في

قرعة، ونعوّل في هذا التقريب تعديلَ القِيَم، فقد يقتضي الحال جعلَ عبدين في قرعة وعبيد في قرعة. ثم على القول الأول إن جعلنا الثمانية أرباعاً، فعَتِق اثنان، أعدنا القرعة بين الستة، وجعلنا كل اثنين في قرعة، فإذا خرج اسم اثنين، فنعيد القرعة بينهما إذا كانت القيم متساوية، فمن خرجت عليه قرعة الحرية منهما عَتَق منه تكملةُ الثلث، وهو ثلثاه. ثم ما ذكره القاضي أن هذا الاختلاف في الاستصواب، وما ذكره الصيدلاني أن القولين في استحقاق هذا، ثم التقريب من الثلث مجوّز على القولين. فأما التجزئة على الأيسر من غير مراعاة التقريب من التثليث ففيه القولان، والوجه عندنا القطع بأن هذا تردُّدٌ في الأصوب، لا فى الاستحقاق. ولو أعتق عبدين لا مال له غيرُهما، فلا وجه إلا أن نجعلهما سهمين، فمن خرج عليه سهمُ الحرية، عَتَقَ منه مقدار ثلث التركة، وهذا باب يتبرم بالتطويل فيه كل محقق، وغرض الباب ما نبهنا عليه. 12371 - ثم قال: " وإن كان عليه دين يحيط ببعض رقيقه ... إلى آخره " (1). إذا كان في التركة دينٌ وعِتقٌ، فالمطلوب ثلاثة أشياء: الدينُ، والعتقُ، وحقُّ الورثة، والكلام مفروض فيه إذا لم يكن الدين مستغرقاً، فإنه إذا استغرق، بطل به العتق، وحق الورثة. ثم قال الأئمة: إذا لم يكن الدَّيْن مستغرقاً، أقرعنا بين الدَّيْن والتركة أولاً، فنميز الدين ما يخرج عليه القرعة، والدين وإن كان مقدماً على حق الورثة، فالقرعة إذا ميّزت شيئاً للتركة -وفيها العتق وحق الورثة- فمن ضرورتها أن تميز الدين، فإن أحد السهمين إذا تعين لجهة، تعين الآخر للجهة الأخرى إذا تعينت جهتان. فإن قيل: هلا قدمتم الدين تحكماً؟ قلنا: لا غرض في هذا، ولا سبيل إلى إبطال العتق من غير غرض.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 270.

ثم لو كان الدين ثلثاً مثلاً، والعتق مقداراً يخرج من الثلث بعد الدين، فأردنا أن نثُبتَ ثلاثَ رقاع: واحدة للدين، وواحدة للعتق، وواحدة للورثة، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - أنه يجوز؛ فإنه لا ينتقص بما نفعله حقٌّ. والثاني -وهو الأصح- أنه لا يجوز؛ لأن قرعة العتق ربما تخرج أولاً، فإن لم نحكم بها، فقرعة باطلة، وإن حكمنا بها، فقد نفذنا الوصية، والدينُ بعدُ قائم، وهذا لا وجه له. ثم الذي نراه في ذلك أنا إذا فرّعنا على الوجه الصحيح بين الدَّين والتركة، فخرجت قرعة الدين على عبدٍ، وكان فيه غُنية، فلا ينبغي أن نُقرع للعتق ما لم نؤدِّ الدين؛ فإن الدين لا يزول بتعين مالٍ له؛ بدليل أن ما يُعيَّن له لو تلف قبل التسليم، انعكس الدين على ما بقي من التركة، فلا وصية ولا ميراث ما بقي من الدين درهم. ولو قيل: نُخرج القرعةَ على الحرية، ثم لا يقع الحكم على البت إلى تأدية الدين، فهذا فيه نظر؛ فإنها قرعة لا نفاذ لها، ووضع القرعة ألا تنشأ إلا في وقت ينفصل بها الأمر. وهذا التردد في مضمون هذا الفصل دائر على [الوجوب] (1)، لا على الاستصواب. وهذا سر الباب. وهو تمييز الاحتياط عن الاشتراط. 12372 - ثم قال: " فإن ظهر عليه دين بعد ذلك ... إلى آخره " (2). إذا أعتقنا واحداً بالقرعة، ولم ندر أن في التركة ديناً، ثم ظهر دين فإن كان مستغرقاً، فالعتق مردود، وإن لم يكن مستغرقاً، وكان تأدية الدين ممكناً مع تنفيذ العتق، فهل تُنْقَضُ القرعة؟ وهل تُردُّ الحرية؟ في المسألة قولان، وهذا بعينه هو الذي مهدناه في باب القسام، إذا (3) قلنا: إذا جرت قسمةٌ ثم ظهر دين، فالقسمة هل يتبين انتقاضها؟ أم يمكن تقريرها؟ وقد سبق تمهيد هذا، وسيأتي في فروع ابن الحداد كلام جامعٌ فيما يَنْفُذ من التصرفات في التركة مع الدين، وفيما يمتنع نفوذه.

_ (1) في الأصل: " الوجوه "، والمثبت من (ت 5). (2) ر. المختصر: 5/ 270. (3) إذا: بمعنى " إذ ".

12373 - ثم قال: " فإن أعتقت ثلثاً وأوقفت ثلثين بالقرعة، ثم ظهر له مال ... إلى آخره " (1). إذا أعتق عبيداً، وكنا نحسب أنه لا مال له غيرهم، فأعتقنا واحداً وأرققنا اثنين على ما يقتضيه التثليث، وقيمة كل عبد مائة، فلو ظهر له مائة درهم، أعدنا القرعة بين اللذين أرققناهما، وقد مضى العتق فيمن أعتقناه، فمن خرجت عليه القرعة مِن العبدين، حكمنا بعتق ثلثه، وإن ظهر له مائتا درهم، أعتقنا من أحد العبدين ثلثيه، وإن ظهر له ثلاثمائة درهم، أعتقنا كله مع ما أعتقنا أولاً، ولا يخفى هذا. ثم اندفع الأصحاب في مسائل دورية تتعلق بالكسب، وزيادة القيمة ونقصانها، وقد جمعنا في كتاب الوصايا ما لا يُحْوِجُ إلى الإعادة، وجمعنا ما يتعلق بالحساب من مسائل الفقه في موضع واحد، فليتأملها من يريدها. والله أعلم. فصل 12374 - إذا أعتق عبداً لا مال له سواه في مرض موته، فمات المعتَق قبل موت المعتِق، فهذا مما ذكرته في أثناء دَوْر الوصايا، ولكني أعيده لمزيدٍ فقهيّ، فأقول: حاصل ما ذكره الأصحاب في ذلك ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنا نحكم بأنه مات حراً كله، لأنه ليس يبقى هاهنا شيء، ولو كان على الرق، لما كان موروثاً؛ إذ مات قبل موت المورِّث، لأن حق الوراثة إنما يثبت فيما يخلّفه المتوفى. والوجه الثاني - أنه مات رقيقاً كله، لأنه إنما يخرج بالوصية مثل نصف ما يبقى للورثة، والعتق في المرض وصية، وإذا كان لا يبقى للورثة شيء لا ينفذ من العتق شيء. وقال القفال: يموت ثلثه حراً، وثلثاه رقيقاً؛ لأنه لو عاش، عاش على الرق والحرية، فإذا مات مات عليهما. وإذا أعتق في المرض عبداً، وله مال سواه، فمات المعتَق قبل موت المعتِق، قال

_ (1) ر. المختصر: 5/ 270.

جماهير الأصحاب: لا يحسب ذلك العتق من الثلث، حتى يزاحم أرباب الوصايا، بل نجعل كأن ذلك العبد لم يكن؛ لأن الوصية إنما تتحقق بالموت، فإذا لم يبق إلى الموت، لم يدخل في حساب، وهذا مذهب من يقول في المسألة الأولى إذا أعتق عبداً لا مال له سواه ومات قبل مولاه، فهو حر كله، أو رقيق كله، فأما على طريقة الشيخ (1) فحكمه بعد ما مات كحكمه لو بقي حياً، فعلى هذا يُحسب من الثلث، ويُزاحِم أرباب الوصايا. ولو وهب عبداً، وأقبضه، فتلف في يد المتهب قبل موت الواهب، ولم يكن للواهب مال غيره، فتلفه في يده بمثابة ما لو أعتقه ومات قبل موت المولى؛ فإن الهبة تبرع كالعتق، ولو وهبه وسلّمه وله مال غيره، فتلف في يد المتهب، فهو كما لو أعتقه، وله مال غيره، فتلف، فالتلف بعد تمام الهبة في الصورتين، حيث لا مالٌ غيُر الموهوب، وحيث يثبت مالٌ غيرُه بمثابة الإعتاق. ولو وهب العبدَ وسلمه، فأتلفه الموهوب، فهو كما لو كان باقياً، حتى إن كان سواه مال، حسب الموهوب من الثلث، وإن لم تخرج قيمته من الثلث يجب عليه أن يغرم للورثة ما يزيد على الثلث. فإن قيل: هلا جعلتم التلف في يده بمثابة إتلافه؟ قلنا: إذا تلف في يده، فقد تلف لا على جهة الضمان، فإن الهبة ليست مضمّنة، والإتلاف مضمِّن على كل حال. وهذا فيه نظر للمفكر؛ فإنا إذا كنا على وجه نحسب المعتَق الذي مات قبل موت المولى من الثلث، يجب طرد ذلك الموهوب الذي مات في يد الموهوب له قبل موت المَوْلى، ثم إذا حسبنا من الثلث، فمعناه أن الثلث لو ضاق عن احتماله، فالزائد على الثلث يكون باقياً في يده لغيره، وإن كان على حكم الهبة، فهو بمثابة ما لو وهب الغاصب العينَ المغصوبةَ وقبضها الموهوب له على ظن أن الواهب مالك، فإذا تبين

_ (1) الشيخ: المراد به هنا: القفال.

بخلاف ذلك، فقد نقول -على قول صحيح- يستقر الضمان على الموهوب له، ثم إن قطع تبعة الضمان في التلف، جاز ذلك في الإتلاف. الدليل عليه أن الواهب في [حياته] (1) لا يطالب الموهوب منه، سواء تلف في يده، أو أتلفه، فقد تبين وجه التردد في المسألة. 12375 - ولو أعتق ثلاثةَ أعبد، قيمةُ كل واحد مائة، فمات واحد منهم قبل موت المعتِق، فالذي أطلقه الفقهاء والدَّوريّون أنا ندرج الميت في القرعة؛ حتى لو خرجت القرعة على الميت، بان أنه مات حراً. وهذه المسألة تناقض المسألة الأولى؛ فإنا بنينا كلامنا فيما تقدم على أن الميت كالفائت؛ من حيث إنه لا يبقى للورثة لو قُدّر رقيقاً؛ فالذي يقتضيه القياس أن نقول: إذا مات واحد من العبيد الذين أعتقهم، أخرجناه من البَيْن على قياسنا في العبد الواحد، وجعلنا كأنه أعتق عبدين لا مال له سواهما، أو له مال غيرهما، ومن رام فرقاً في ذلك لم يجده. نعم، لو أعتق عبيداً، ثم نقصت قيمة واحد منهم، فلا شك أنا ندرجه في القرعة، فلو خرجت القرعة عليه، فالمقطوع به للأصحاب أن ذلك النقصان غير محتفل به؛ فإن القرعة إذا اقتضت حرية في شخص، فالحر لا تنتقص قيمته، وهذا مما استقصينا القول فيه في قاعدة الدور، والمسألة من غمراته. ولو أعتق ثلاثة أعبد وجرينا على ما ذكره الأصحاب في إدخال الميت في القرعة، وقد مات منهم عبد قبل موت المولى، فالحكم ما قدمنا. وإن قتل، فخرجت القرعة على المقتول، فعلى القاتل الدية لورثته، فإنا تبيّنا أن القتل صادف حراً، وإن خرجت قرعة الحرية على أحد الحيين عَتَقَ، وعلى قاتل العبد القيمة، والقيمة تركة. 12376 - ومما ذكره الأصحاب أنه إذا أعتق ثلاثة أعبد كما ذكرناه، لا مال له غيرهم ومات المريض، ثم مات أحد العبيد بعد موته - قال الأصحاب: إن حصل

_ (1) في الأصل: " في حقوقه ". والمثبت من (ت 5).

الموت ويد الوارث غيرُ واصلة إلى التركة، وكان مَحُولاً (1) دون العبيد، لم يحسب الميت عليه، حتى إذا وقعت القرعة على أحد الحيين عتق ثلثاه؛ فإنه لم يَسْلَم للورثة ما فات، فإن خرجت القرعة على الذي مات، فهو الحر، والعبدان الباقيان الثلثان. فإن قتل أحد العبيد بعد موت المعتق، فقيمته معتبرة قائمة مقام [العبد] (2)، فإن خرجت القرعة على الميت، حكم بعتقه (3)، وعلى القاتل الدية. فإن مات واحد منهم كما ذكرناه، والتركة في يد الوارث، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أنه غير محسوب على الوارث، كما إذا تلف والتركة خارجة عن يد الوارث، حتى إذا خرجت القرعة على أحد الحيّين، عَتَق ثلثاه فحسب، وذلك لأن الحيلولة الشرعية واقعة من حيث إنه ممنوع من التصرف فيهم قبل تفصيل الأمر وإخراج سهم العتق. والوجه الثاني - أن الميت محسوب على الورثة، لأنه تلف في أيديهم، وهذه المسألة مما يجب الاعتناء بأطرافها والاستمداد فيها بما ذكرناه في صور الدَّوْر عند فرض النقصان في قيمة العبد. ولم نغادر نحن شيئاً من البيان والتنبيه. ولكن الأمر على ما وصفناه. فصل قال: " ولو قال في مرضه: سالم حر، وغانم حر ... إلى آخره " (4). 12377 - التبرعات المنجزة في مرض الموت يقدم الأسبق منها، فالأسبق، حتى إذا أعتق عبيداً على الترتيب، كلُّ واحدٍ ثُلثُ ماله، عَتَقَ الأول منهم، وَرَقَّ الباقيان، ولا قرعة، وإنما تجرى القرعة إذا أعتقهم جمعاً.

_ (1) أي كانت هناك حيلولة بين الورثة والعبيد، فلم يَفُت العبد الذي مات وهو تحت يده. (2) في النسختين: " العبيد ". (3) ت 5: " فلم نعتِقُه "؟ (بهذا الرسم وهذا الضبط). (4) ر. المختصر: 5/ 271.

ثم ما ذكرناه جارٍ في جميع التبرعات إذا انتهت نهاياتها. فلو أعتق، ثم حابَى، فالعتق مقدم، ولو حابى، ثم أعتق، فالمحاباة مقدمة، ولو وهب وسلم، ثم أعتق، فالهبة مقدمة؛ طرداً للقياس في جميع التبرعات. ولو وهب ولم يسلم، ثم حابى، فالمحاباة مقدمة، ولا اعتبار بالهبة من غير إقباض، ولأبي حنيفة تفصيل في المحاباة والعتق، لسنا له بعد ما أوضحنا مذهبنا. ثم قد أجرينا في مسائل الطلاق (1) وغيرها أموراً متفرعة على هذه القاعدة. فلو قال: سالم حر، وغانم حر، فقد قدم سالماً في إيقاع العتق به، ولا نظر إلى أن الواو لا تُرتّب، وهو كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق؛ فإنه لا تلحقها إلا الطلقة الأولى. ولو أوصى بإعتاق سالم بعد موته، ثم أوصى بعد ذلك بإعتاق غانم، وجرت إحدى الوصيتين بعد الأخرى من طريق الزمان؛ فإذا ضاق الثلث، أدخلنا جميع العبيد في القرعة، ولا حكم للتقدم والتأخر في الوصايا، والسبب فيه أن الموت يجمع الوصايا، وإنما تنفذ عند الموت، فلا حكم لترتيب ذكرها والموت جامعها إلا أن يصرح باعتبار التقديم في بعضها، كما مهدنا ذلك في الوصايا. واختلف أصحابنا في صورةٍ، وهي أنه لو دبّر عبداً، وأوصى بإنشاء عتق عبد آخر بعد موته، فالتدبير يقتضي وقوعَ العتق في المدبر بالموت من غير إيقاع، والعتق الموصى بإنشائه يستأخر وقوعه عن الموت لا محالة، فهل يقدم عتقُ المدبر على العتق الموصى به؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - أنا نقدم عتق المدبر فيما نبهنا عليه، ولعل الأصح أن لا تقديمَ؛ فإن العتق الموصَى به يصير مستحقاً بالموت، فليقع التعويل على الاستحقاق، لا على الإنشاء. وليت شعري ماذا يقول صاحب الوجه الأول فيه إذا قال: أعتقوا يوم موتي عبداً، وأعتقوا بعد موتي بشهر عبداً، والعلم عند الله.

_ (1) ت 5: " مسائل الرقاب ".

فصل قال: " ولو قال لعشرة أعبد: أحدكم حر ... إلى آخره " (1). 12378 - إجمال العتق بين عبيد بمثابة إجمال الطلاق بين نسوة، وقد قدمنا مسائل إبهام الطلاق في بابٍ من كتاب الطلاق، وأتينا فيه بما يجب، ولكنا نظن أن ذكر إبهام العتق [لا يضرّ، والتزام الإعادة] (2) لتوقع مزيد إفادةٍ أولى. فنقول: إذا أعتق عبداً من عبيد، فقال: أحدكم حرْ، لم يخلُ إما أن يُطلق ولا ينوي أحدَهم بالقلب، أو ينوي بالقلب واحداً منهم، فإن نوى واحداً منهم عَتَقَ ما نواه، وكان المعيّن بالنية كالمعين لفظاً، ثم ننظر. فإن أبهم، ثم عيّن، وزعم أن من عينه ذكراً، هو الذي نواه عقداً، فإن صدقه العبيد، فلا كلام، وإن كذّبوه، فالقول قوله مع يمينه؛ فإن النية عاملةٌ وفاقاً، والرجوع في تفصيل النية إلى الناوي، وهذا أصل ممهد. وإن نكل عن اليمين، حلف من يدعي أنه عناه، وعَتَق الأول بإقراره، والثاني بنكوله وردِّ اليمين، ولسنا نتعدى هذا الحد، فنقع في المعادات قطعاً. 12379 - ولو أبهم العتقَ، وجب عليه البيان؛ حتى إذا امتنع منه، حُمل عليه بالحبس، وهذا عندي فيه إذا لم يعيِّن بقلبه أحداً، وكان تعيينه موكولاً إلى مشيئته، فإذا امتنع، صار كالذي يسلمُ على نسوة زائدات على العدد الإسلامي؛ فإنه مجبر على أن يعين عددَ الإسلام. ولو قال: عيَّنت بقلبي واحداً من العبيد، وهو على ذُكري، فهو مجبر أيضاً، وإن قال: عينت بقلبي، ثم أُنسيت من عينته حالةَ اللفظ، فهل يحبس والحالة هذه؟ هذا فيه احتمال. والذي أطلقه الأصحاب الحبس. وعندي أني ذكرت ذلك في مسائل إبهام الطلاق.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 271. (2) في الأصل: " لا يورد التزام الإعادة ". والمثبت من (ت 5).

ولو أبهم العتق بين جاريتين، ثم وطىء إحداهما، فإن كان عيّن بقلبه واحدة منهما، فلا يكون الوطء بياناً؛ لأن المعتقة معلومة له، فلا أثر للوطء في التعيين، فإن زعم أن الموطوءة هي التي لم أردها بالعتق، صُدّق لقوله لا للوطء، فإن قال: عنيت بالعتق التي وطئتها، فقد وطىء حرة، ولا يخفى الحكم. وإذا نوى بالقلب كما ذكرناه، فالوارث يقوم مقامه في البيان، كما ذكرنا بناء على سماعه منه، وهذا فيه إذا عين بقلبه، ولو قال الورثة: لا نعلم، وقد سمعناه يقول: عيّنْت بقلبي، فليس إلا الوقف إلى البيان. ولو لم يعين بقلبه أحداً، بل أطلق إبهام العتق، فإليه التعيين، ثم التعيين إلى إرادته، وليس هذا من البيان في شيء، ولو عين واحداً، لم يكن للباقين منازعته، والدعوى عليه، وهذا واضح. 12380 - ثم إذا عيّن واحداً وكان الإعتاق مطلقاً، لا نية معه، فالعتق يقع يومَ اللفظ أو يوم التعيين؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقع يومَ اللفظ؛ فإن العتق يستدعي لفظاً يقع به؛ بدليل أنه لو أطلق ولم يعين بقلبه، ثم عين من بعدُ بقلبه، لم يؤثر تعيين القلب إذا تأخر عن اللفظ، فدلّ أن اللفظ لا بدّ منه. والوجه الثاني - يقع العتق [يوم اللفظ ويتبيّن المحلّ يومَ التعيين] (1). وعبر الأئمة عن الوجهين، فقالوا: نقول في وجهٍ، العَتاق واقع في عين (2)، ونقول في وجهٍ، هو ملتزم في الذمة مستحَقُّ الإيقاع في واحد من هؤلاء، فعلى هذا يقع يومَ التعيين. ولو أبهم العتقَ بين عبدين، ولم يعين بقلبه، فإذا مات أحدهما، فهل له تعيين العتق في الميت؟ فهذا يخرج على الوجهين: إن قلنا: العتق يقع يوم التعيين، فلا سبيل إلى ذلك؛ لأن الميت لا يقبل العتق، فعلى هذا يتعين له من بقي، ولا حاجة إلى لفظه.

_ (1) عبارة الأصل: " يقع العتق بيوم اللفظ، ويبيّنُ اليومَ يومَ التعيين ". بهذا الرسم وبهذا الضبط، والمثبت عبارة (ت 5). (2) ت 5: " في غيره ".

وإن قلنا: العتق وقع باللفظ، فتعيين الميت له جائز؛ فإنه مستند إلى ما قبل الموت، والتعيين بيان. 12381 - وإذا أبهم العتقَ بين جاريتين من غير نية بالقلب، ثم وطىء إحداهما، فهل يحصل بالوطء التعيين؟ فعلى وجهين: وهما جاريان في إبهام الطلاق من غير تعيين بالقلب، وأبو حنيفة (1) يفصل بين إبهام العتاق وإبهام الطلاق، فيجعل الوطء [تعييناً] (2) للطلاق، ولا يجعله تعييناً للعَتاق، ولا فصل عندنا في إجراء الوجهين. ثم إن جعلنا الوطء تعييناً، فلو استمتع فيما دون الفرج، أو قبّل، أو لمس بالشهوة، فهل يقع التعيين بهذه الجهات من الاستمتاعات؟ فعلى وجهين مرتبين على الوطء. ثم إن جعلنا هذه الضروب تعييناً، فهل نجعل الاستخدام تعييناً للملوكة؟ فعلى وجهين مرتبين على الاستمتاع. هكذا ذكره القاضي. وهذا يوجب لا محالة طردَ الخلاف في أن الاستخدام هل يكون فسخاً أو إجازة في زمان الخيار، وكان قَرَعَ مسامعي هذا التردد من الخلافيين، حتى وجدته مصرَّحاً به للقاضي. 12382 - وإذا كان العتق المبهم مطلقاً، لم يقترن به تعيين القلب، فلو مات المبهِم قبل البيان، فالورثة هل يقومون مقامه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم يخلفونه في البيان والتعيين؛ لأن ذلك كان من حق المبهِم في حياته، وهو متعلق بالأموال، فيخلفه الوارث فيه. والقول الثاني - أن الوارث لا يقوم مقامه؛ فإن التعيين في حكم تكميل اللفظ، فينبغي أن يصدر من المتلفظ بالعتق لا غير، والقولان يقربان مما ذكرناه في أن التعيين إيقاعٌ أو بيان مستبد (3)، فإن جعلناه إيقاعاً، فقد قال القاضي: يقوم الوارث فيه مقام الموروث، فإنه يوقع العتق عن الموروث بأمره أو بتأدية كفارة عنه.

_ (1) ر. بدائع الصنائع: 4/ 103، 104، تحفة الفقهاء: 3/ 393، طريقة الخلاف: 155 مسألة: 65، إيثار الإنصاف: 2/ 393. (2) في الأصل: " تبييناً "، والمثبت من (ت 5). (3) ت 5: "مستند".

وإن قلنا: هو التزام، والتعيين ليس إيقاعاً، فالوارث لا يقوم مقامه. ْوهذا عندنا بالعكس أولى؛ فإنا إن جعلناه إيقاعاً، فهو تتمة اللفظ، ولا يجوز أن ينقسم لفظ في الإيقاع بين شخصين، ولا حاجة عندي إلى هذا البناء. ولو قيل: يجري القولان على المسلكين، لم يبعد، وهما مستقلان بالتوجيه من غير بناء. ثم إن أقمنا الورثة مقامه في التعيين، فلا كلام، وإن لم نُقمهم مقامه، فلا طريق إلا الإقراع، فمن خرجت عليه قرعة الحرية نزلت القرعة منزلة التعيين. ***

باب عتق من يعتق بالملك

باب عتق من يعتق بالملك قال: " من ملك أحداً من آبائه وأمهاته ... إلى آخره " (1). 12383 - من ملك أباه أو ولده أو أمه، عَتَقَ عليه، وهذا لا يتعلق بكل قرابة، بل كل شخصين بينهما بعضية، فهذا المعنى جارٍ بينهما، فالأصل يعتِق على الفرع، والفرع على الأصل، ولا يختص بذلك قريبٌ عن بعيد، ولا وارثٌ عمن لا يرث، والتعويل على البعضية، ورب حكم يتعلق بالوالد والولد، ثم يضطرب الأصحاب في أن غير الوالد هل يقوم مقام الوالد، كالرجوع في الهبة على ما تقدم في موضعه، وليس هذا الذي نحن فيه محل توقع الخلاف أصلاً، بل العتق جارٍ بالبعضية، كما يجري استحقاقُ النفقة متعلقاً بها، ولا يَعْتِق قريبٌ على قريب إذا وقعا حاشية من عمود النسب، فلا يعتِق أخ على أخ؛ طرداً لذلك في جميع القرابات الذين لا بعضية بينهم، وخلاف أبي حنيفة (2) في ذلك مشهور. فصل قال: " ومن ملك شقصاً من أحد منهم بغير الميراث ... إلى آخره " (3). 12384 - إذا ملك الرجل شقصاً من عمودي نسبه عَتَقَ عليه، ولا ننظر إلى جهة حصول المِلك. ومقصود الفصل الكلامُ في أن العتق هل يسري؟ وضبط المذهب في النفي

_ (1) ر. المختصر: 5/ 271. (2) ر. رؤوس المسائل: 539 مسألة: 397، طريقة الخلاف: 144 مسألة: 60، إيثار الإنصاف: 182، الغرة المنيفة: 165، حاشية ابن عابدين: 5/ 64. (3) ر. المختصر: 5/ 271.

والإثبات: أنه إن ملك الشقص مِلْكَ اكتساب واختيار، وكان الملك مقصوداً في تلك الجهة، فإذا حصل العتق فيه، والمتملك موسرٌ، سرى العتق من ذلك الشقص إلى الباقي. فإذا اشترى، أو اتهب، أو أوصي له، فقبل، سرى العتقُ إذا كان موسراً. وإن حصل الملك في ذلك الشقص لجهةٍ ضرورية كالإرث، عتق ما ملك، ولم يقوّم عليه الباقي، باتفاق الأصحاب. وإن أُوصي له ببعض أبيه، ومات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول، فِمن الأصول الممهدة في الوصايا أنا نقيم وارث الموصى له مقام الموصى له في القبول عنه، ومن الألفاظ الجامعة في ذلك أن قبول الوارث ينزل منزلة قبول الموروث الموصى له، والقول في ذلك يليق بقاعدة عظيمة من الوصايا سبقت على أبلغ وجه من البيان في موضعها، ولكنا نذكر مقدار غرضنا الآن من هذا الفصل. فنقول: إذا مات الموصى له قبل القبول، وقد أُوصي له ببعض أبيه، فإن قبل الوارثُ، فإن كان في ثلث الموصى له وفاء بقيمة الباقي، قوّم عليه، لما ذكرناه من تنزيل قبول الوارث منزلة قبوله، ويصير كأنه تولى القبول بنفسه. وفي هذا وقفة على المتأمل؛ من جهة أن القبول حصل من غير اختيارٍ إلى (1) الموصى له، وقد ذكرنا أن الملك إذا حصل في شقصٍ، لا على جهة الاختيار، فلا تقويم ولا سراية، ولكن الأصحاب ذكروا ما قدمناه، وقطعوا القول به لما أشرنا إليه. وإنما يحسن فرض هذه المسألة، حيث يعتق ذلك الشقص على الميت، ولا يعتق على وارثه، مثل أن يوصى له ببعض [ابنه] (2) وأخوه وارثه، فإذا مات، ولم يقبل، وقبل أخوه، فالأمر على ما ذكرناه نقلاً واحتمالاً. ولو أُوصي للرجل بقسطٍ ممن لا يَعتِق عليه، ولكن كان يَعتِق على وارثه، وذلك بأن يوصى له ببعضٍ من ابن أخيه، وأخوه وارث، فمات ولم يقبل، ثم قبل أخوه وهو

_ (1) ت 5: " من غير اختيار الموصى له ". (2) في (ت 5): " ببعض أبيه ".

الوارث، فلا شك أن ذلك القدر يعتق، وفي تقويم الباقي على هذا الوجه وجهان: أحدهما - يقوّم، لأنه اختار تملكه، وتسبّب إليه. فصار كما لو اشترى أو اتهب، أو قبل وصيةً كانت له. والوجه الثاني - أنه لا يقوّم عليه؛ لأن قبوله يدخله في ملك موروثه، ثم ينتقل الملك إليه إرثاً، فلا يتجرد القصد. ولو باع الرجل بعضَ ابن أخيه بثوبٍ، ثم مات، وأخوه وارثه، والثوب في التركة، فلو ردّ مشتري الشقص ما اشتراه بعيب وجده، واسترد الثوبَ، عَتَقَ ذلك القدرُ، ولا يقوّم الباقي عليه، لأن هذا الشقص ارتد إلى ملكه ضرورة. ولو أن هذا الوارث اطلع على عيبٍ بالثوب، فرده، وعاد إليه الشقص من ابنه، وعتق عليه، ففي تقويم الباقي عليه وجهان: أحدهما - أنه يقوم عليه لتسببه إلى ملك الشقص بطريق الرد. والثاني - أنه لا يعتق عليه، لأن مقصوده ردُّ الثوب، وعين المسترد ليس مقصوداً، بدليل أن الرد في الثوب يجري، والمستَردُّ تالف، ثم الرجوع إلى قيمته. فهذا إذاً من الصنف الذي قدمناه. وإذا مَلك المكاتب بعض ابن مولاه، أو بعض أبيه، فلو عجّز المكاتَب نفسه، عاد ذلك القدر إلى المولى، وعتق عليه، ولا يقوّم عليه الباقي، وإن عجّزه السيد، ففي تقويم الباقي عليه وجهان: أحدهما - يُقوّم عليه لاختياره، والثاني - لا يقوّم، لأن قصده التعجيز، وعودُ ذلك القدر يحصل ضمناً. فقد تمهد محل الوفاق والخلاف في ذلك. فصل قال: " وإن ورث منه شقصاً .... إلى آخره " (1) 12385 - المريض إذا ورث شقصاً ممن يعتق عليه، وهو في مرض موته، فهل نقول: العتق فيما ملكه من ثلثه؟ في المسألة وجهان:

_ (1) ر. المختصر: 5/ 271.

أحدهما - أنه من ثلثه، لأنه عتقٌ ترتب على حصول الملك في مرض الموت، فأشبه ما لو اتهب المريض عبداً، ثم أعتقه، فالعتق من ثلثه -وإن كان استفاده بتبرع عليه-. والوجه الثاني - أن العتق في الشقص الموروث لا يكون محسوباً من الثلث لعلتين: إحداهما - أنه ملك حصل بغير اختيار، والعتق فيه ضروري حيث يحصل، فهو خارج عن قبيل التبرعات، بل هو عتق مستحق شرعاً في ملكٍ ثابتٍ شرعاً، هذا أحد المعنيين. والمعنى الثاني - أنه ملك لم يَبْذُل في مقابلته عوضاً. ولو اتهب من يعتق عليه، أو قَبِله وصيةً، وهو في مرض موته، فالعتق هل يحسب من ثلثه؟ في المسألة وجهان مرَتبان على الوجهين فيما يحصل إرثاً، فإن قلنا: ما حصل إرثاً، فالعتق فيه محسوب من الثلث، فلأن يحسب ما نحن فيه من الثلث أولى. وإن قلنا في الموروث: إنه لا يحسب من الثلث، فهاهنا وجهان مبنيان على المعنيين. ولا يخفى وجه التلقي منهما. 12386 - ومما ينبني على ذلك أنه لو ورث ابنه في مرضه، ثم مات المريض، فهل يرثه الابن الذي عَتَقَ عليه؟ هذا يخرج على الخلاف الذي قدمناه في أن العتق الحاصل بهذه الجهة هل يكون محسوباً من الثلث أم لا؟ فإن قلنا: لا يحسب من الثلث، ورثه الابن، وإن قلنا: العتق محسوب من الثلث، لم يرث، لأن العتق وقع وصية له، فلو ورّثناه، لاقتضى ذلك ردّ الوصية، وفي ردها إرقاقه وإخراجه عن كونه وارثاً. وإذا ورث ابنَه أو أباه، كما صورناه، ولا مال له سواه، فكم يعتق منه؟ في المسألة وجهان: إن قلنا: إنه من الثلث، عَتَقَ ثلثُه، ورق ثلثاهْ للورثة، وإن قلنا: هو من رأس المال، عتق كله. فإن قيل: لم تذكروا خلافاً فيه إذا اتهب عبداً في مرضه وأعتقه؟ قلنا: لأن ذاك تبرع منشأ على الاختيار في ملكٍ حاصل، ولو ورث عبداً وأنشأ إعتاقه في مرضه، فلا

خلاف أيضاً في احتسابه من الثلث، ولا خفاء بذلك. ولو ورث في مرضه أباه وعليه ديون مستغرِقه، فهل يعتِق عليه؟ إن قلنا: هو محسوب من الثلث، لم ينفذ العتق، وإن قلنا: العتق محسوب من رأس المال، نفذ، ولم ينافه الدين. ولو اشترى المريض أباه، وعليه ديون مستغرِقة بثمن المثل، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يصح الشراء، ولا يعتِق عليه، بل يباع في دينه؛ فإنه من أهل التملك؛ فصح تملكه، وامتنع العتق لمكان الدين، والوجه الثاني - أنه لا يصح الشراء أصلا؛ فإن شراء الأب عقدُ عَتاقة، فإذا لم يمكن تحصيل العَتاقة، وجب إبطال العقد. وإذا لم يكن على المريض دين، فاشترى من يعتِق عليه، فالعتق يحصل من ثلثه، ولا يرث الأبُ في هذه الصورة؛ فإن العتق يقعُ وصيةً، وجهاً واحداً، وهذا إذا اشتراه بألف وقيمته ألف، فالأمر على ما ذكرناه، وإن اشتراه بخمسمائة، وقيمته ألف، فالمحاباة ليس في مقابلتها إخراج مال، فذلك القدر من المشترى ينزل منزلة ما لو اتهب من يعتق عليه في مرضه، وقد ذكرنا في أنه هل يحسب من الثلث وجهين، والمقدار الذي يقابل العوض يحسب من الثلث. فصل قال: " وإن وُهب لصبي من يعتق عليه ... إلى آخره " (1). 12387 - وإذا وُهب من الصبي أبوه، أو أُوصي له به، هل يقبله القيم؟ نظر: إن كان الصبي معسراً، قبله القيّم، كسوباً كان الأب أو زَمِناً، ثم إذا أيسر، أنفق عليه، وتوقُّع اليسار للطفل لا يمنع القبولَ عليه، وهل يجب عليه أن يقبله عليه حيث يجوز؟ هذا فيه تردد، وسبب تخيل وجوب القبول تحصيل غرض الولد في خلاص الأب، وقد يكون الولاء أيضاً مقصوداً، كما سيأتي التفصيل فيه، إن شاء الله.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 271.

مسائل وفروع

وإن كان الابن موسراً، نظر: فإن كان الأب كسوباً قَبله، وإن كان زمناً، لم يقبله، لأن الطفل يتضرر بالتزام النفقة، والأمر كذلك - وإَن اتسع مال الطفل، فلا ينبغي أن نرتاع من التهاويل العريَّة عن التحصيل. وإذا وُهب من الطفل بعضُ أبيه، والطفل معسر، قبله القيم كسوباً، كان الأب أو زمناً، ويَعْتِق عليه ذلك القدرُ؛ إذ لا تضرر بوجه، وإن كان الطفل موسراً والأب كسوب، فهل يقبل القيم بعضَه؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يقبل؛ إذ لو قبله، لاحتجنا إلى تقويم الباقي عليه؛ فيتضرر، والثاني - يقبله، ويعتق عليه ذلك القدر، ولا يقوّم عليه الباقي، فيصح مالا ضرر فيه، ويُمنع ما يتضرر به. ولو كان الأب زمناً والطفل موسراً، فلا يصح قبوله له، ولا أحد يصير إلى أنه يصح القبول، ثم لا تجب النفقة، فإن دفع (1) النفقة لا سبيل إليه، وعتق بعض الأب قد ينفك عن التقويم في بعض الصور. مسائل وفروع 12388 - مسألة: إذا أعتق الحملَ في البطن، وكان ملكاً له، نفذ. ولو كانت الأمة حائلا، فقال: كل ولد تلدينه، فهو حر، فعلقت بولد وولدته، ففي المسألة وجهان، وهذا يقرب من تعليق العبد الطلقةَ الثالثة في حالة الرق، وقد ذكرنا هذا في كتاب الطلاق. ولو قال: أول ولد تلدينه حر، والتفريع على تصحيح التعليق فيما يتجرد العلوق به، فإذا ولدت ميتاً، ثم حيّاً، انحلت اليمين بالأول، ولم يعتِق الثاني عندنا، خلافاً لأيي حنيفة (2)، والمسألة مشهورة معه. 12389 - مسألة: إذا قال لعبده - وهو أصغر سناً منه: " أنت ابني " إن كان بالغاً، فصدقه، ثبت النسب، وعَتَقَ، وإن كذبه، عَتَقَ، والقولُ قولُ العبد في نفي النسب.

_ (1) دفع النفقة: المراد ردّ وجوبها والتزامها، وليس الدفعُ بمعنى الأداء مراداً هنا. (2) ر. طريقة الخلاف: 150، مسألة: 63، إيثار الإنصاف: 185، الغرة المنيفة: 167.

وإن كان صغيراً مجهول النسب، عَتَق، وثبت النسب. وإن كان مثلَه في السن أو على حدٍّ لا يُتَصوَّر أن يكون ابنَه، لغا لفظُه، ولم يعتِق، فإنه قال محالاً، خلافا لأبي حنيفة (1)، فإنه حكم بالعتق. ولو قال لعبده - وهو معروف النسب لغيره: " أنت ابني " فالنسب لا يلحقه، وفي حصول العتق وجهان: أحدهما - لا يحصل؛ فإنه تبعُ النسب، والثاني - يحصل؛ لأن النسب ممكن، وهو مؤاخذ بإقرار نفسه في العتق، وإن رُد قوله في النسب. ولو قال لزوجته: " أنتِ بنتي " فالقول في حصول الفراق والنسب كالقول في حصول العتق. فصل 12390 - العتق يجري فيه الصريح والكناية، فصريحه الإعتاق، والتحرير، وفي فك الرقبة وجهان: أحدهما أنه صريح لجريان ذكره في الكتاب، فإنه تعالى قال: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13]، وهذا الخلاف يرجع إلى أن ما جرى ذكره مرةً في الكتاب، هل يلتحق بالصريح؟ ونظيره الاختلاف في أن لفظ الإمساك هل هو صريح في الرجعة؟ ولفظ المفاداة هل هو صريح في الخُلع؟ وفيهما وجهان. وأما الكنايات، فكل لفظ يتضمن إزالةَ الملك، ويشعر بها، فهو كناية، كقوله: لا ملك لي عليك، ولا سلطان، ولا سبيل. وكقوله: أزلت ملكي عنك، أو أزلت يدي، أو حرَّمتُك، أو طلقتك، أو لا سلطان لي عليك، أو لا سبيل، وما شاكل هذا، ولا حصر عندنا لكنايات العَتاق، كما لا حصر لكنايات الطلاق. ولو قال لعبده: " يا مولايَ "، ونوى العتق عَتَقَ؛ إذا هو لفظ يطلق على المعتَق، فإن المعتَق يسمى المولى الأسفل، واللفظ كناية لا تعمل إلا بالنية؛ فإنه مشترَكٌ بين معان: يراد به ابن العم، والناصر، والمولى الأعلى. وإذا قال لعبده: " يا سيدي " قال القاضي: لم يَعْتِق -وإن نوى- فإنه من السؤدد،

_ (1) ر. طريقة الخلاف: 146، مسألة: 61، إيثار الإنصاف: 184، الغرة المنيفة: 165.

وليس فيه ما يقتضي العتقَ، والذي نراه أنه كناية. فإن السيد يراد به المالك، فسيد الدار مالكها، وإذا كان كذلك فاللفظ صالح لكونه كناية، ولو قال لأمته: " يا كَدْبانو " (1) - فقد قال القاضي: لا تَعتق وإن نوى. وليس الأمر كذلك عندنا؛ فإنه في معنى لفظ السيد. ولو سميت المرأة حُرّة -قبل جريان الرق عليها- فلما رَقَّتْ قال لها مولاها: يا حرة، وقصد نداءها باسمها قبل أن رَقَّت، فقد قطع القاضي بأن ذلك لا يقبل منه، ويحكم بالعتق؛ فإن اللفظ صريح في الإعتاق، وفيه دقيقة، وهي أنها سميت حرة، إذا كانت حرة، فكانت الحرةُ لها صفةً غالبةً عليها ملتحقة بالألقاب، والرق إذا طرأ يمحق اسمها. وسمعت شيخي غير مّرة يقول: لا تَعتق الأمةُ إذا ناداها باسمها القديم، وعندي أن هذه المسألة منزلة على مرتبة بين المرتبتين. وقد ذكرنا مسائل الطلاق وقلنا فيها: منها ما لا يعمل اللفظُ فيه إلا بالنية، ومنها ما يعمل اللفظ فيه من غير نية، ولو نوى ما ينافي الوقوع دُيِّن، ومنها ما لو نوى ما ينافي الوقوع قُبِل ظاهرا، وإن كان مطلقُ اللفظ يعمل، فإذا قال لهذه الأمة: يا حرة، ولم يخطر له تسميتها باسمها القديم، فتعتق لا شك فيه. وإن نوى تسميتها، فالظاهر عندنا أنه يقبل، ومن أحكم ما مهدناه في كتاب الطلاق عَرَفَ قدْر هذا الكلام. ولو قال لعبده: " يا آزاد مَرْد " (2) عَتَقَ، وإن قصد بذلك أمراً غير الحرية دُيّن، ولو قال لعبد الغير: " يا آزاد مرد "، ثم ملكه يوماً، عَتَق عليه بحكم إقراره. ولو كان اسم امرأة (طالق)، فقال لها زوجها: يا طالق - قال القاضي: طُلّقت، وهذا على قياس تسمية الأمة باسمها القديم إذا كانت تدعى حرّة، والخلاف فيه على ما تقدم. ولو قال السيد: أنا أريد أن أسمي أمتي هذه حرة تلقيباً، فإذا قال بعد ذلك: "يا

_ (1) كلمة فارسية معناها: سيدة البيت. (2) تعبير فارسي معناه: أيها الرجل الحر.

فروع لابن الحداد تتعلق بالعتق والوصايا

حرة"، فحصول العتق ينشأ من الأصل الذي ذكرناه الآن، ومن أصل آخر، وهو أن الرجل إذا غيرّ موجب اللغة بمواطأة ومواضعة، فهل يؤاخذ بموجب اللغة؟ فيه كلام استقصيته في مسألة السر والعلانية، وذكرت طرفاً منه في مسائل الطلاق. فروع لابن الحداد تتعلق بالعتق والوصايا وقد أجرى الشيخ أبو علي في إثباتها فوائد، فنستعين بالله في جميع ما نأتي ونذر. فرع: 12391 - عبد مشترك بين شريكين، قيمته عشرون ديناراً، فجاء أجنبي يملك عشرة دنانير لا غير، فقال لأحد الشريكين: أعتق نصيبك عني بعشرة، فأعتقه عنه، وقع العتق عن المستدعي، وهل يسري العتق إلى النصيب الثاني؟ نُظر: فإن التمس العتق بعين الدنانير ووقع العتقُ عنه، لم يسر؛ لأنه ببذل الدنانير صار معسراً. ولو قال: أعتق نصيبك عني بعشرة، والتزمها في ذمته، ولم يعيّن دنانيره، ففي سراية العتق وجهان مبنيان على أن الدين هل ينافي اليسار المعتبر في سريان العتق؟ وقد قدمت الاختلاف في ذلك، وبنيته على أن الدين هل يمنع تعلق الزكاة بالعين؟ وإذا وضح الغرض، اكتفينا. فرع: 12392 - ذكر الشيخ في مقدمة مسألةٍ لابن الحداد أصولاً تَمَسُّ الحاجةُ إليها، وإن أنا فرقتها فيما تقدم، فَجَمْعُها الآن مستفاد، فنقول: إذا مات، وخلف عبداً، وورثةً، ودينا مستغرِقاً للتركة، فإذا أعتق الوارث العبد قبل قضاء الدين؛ قال الشيخ: إن قلنا: الدين يمنع الميراث، لم ينفذ العتق، وهذا على ضعفه مشهور، وكأنا نقول: لا يملك الوارث التركة ما بقي من الدين شيء، ثم لا يتجه لنا أن نقول: التركة ملكٌ لا مالك لها، بل نقول على هذا: هي مُقَرَّة على ملك الميت، ولا مطمع في إضافة الملك فيها إلى مستحِق الدين. وإن فرعنا على أن التركة ملك الوارث وإن استغرقها الدين، فإذا أعتق الوارث عبداً في التركة، قال: إن كان معسراً لا يمكنه أن يؤديَ الدينَ من ماله، فلا ينفذُ عتقُه قولاً واحداً، هكذا قال، واعتلّ بأن فيه إسقاطَ متعلَّق الدين، وكان شيخي يجعل عتق الوارث بمثابة عتق الراهن، وفيه قول أن عتقه ينفذ، وإن كان معسراً، والأوجه

ما ذكره الشيخ؛ فإن حق الوثيقة طرأ على ملكٍ تام للراهن، ثم دام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة، وهي مشروطة بتقديم حق الميت. وعن هذا تخيل بعض الفقهاء أن الدين يمنع الإرث. ولو كان الوارث المعتق موسراً، فهل ينفذ عتقه؟ فعلى قولين، ذكرهما: أحدهما أنه ينفذ ويلزم. والثاني - أن العتق موقوف، فإن وصل الدين إلى مستحقه، بأن أن العتق نفذ مع لفظ الإعتاق، وإلا فالرق باقٍ، فإن أدى الوارثُ الدينَ، فالأمر على ما ذكرناه، وإلا بِيع العبد في الدين. 12393 - ثم من كلامه أنا إذا نفذنا العتق، نقلنا الدين بالغا ما بلغ إلى ذمة الوارث، إذا كانت التركة ثمن العبد، ولستُ أرى الأمر كذلك، فالدين لا يتحول إلى ذمة الوارث قطّ، بل هو بالإعتاق متلفٌ للعبد، فلا يلتزم إلا أقلَّ الأمرين من الدين وقيمةِ العبد. 12394 - ثم قال: لو باع الوارث التركة، وفيها دين: إن كان البائع معسراً، لم ينفذ بيعه ألبتة، وإن كان موسراً، ففي المسألة ثلاثة أوجه - نسوقها على وجهها: أحدها - أن البيع باطل إلا أن يعقده ابتداءً برضا الغريم، فيصح حينئذ. والوجه الثاني - أن البيع صحيح، ويلزم، ولا سبيل إلى نقضه، وفي التفريع على هذا كلام نذكره. والوجه الثالث - أن البيع منعقد. ولزومه موقوف، فإن أدى الدين، لزم البيع. وإن لم يؤد الدين، فللغريم فسخ البيع. هذا ما ذكره. وفيه بحث من أوجه: منها، أن شيخي كان يقول: التركة مع الدين كرقبة العبد الجاني مع الأرش، ثم في بيع السيد العبد الجاني قولان، أحدهما - أنه لا يصح، والثاني - أنه يصح. وهو عرضة الفسخ، كما قررناه في موضعه، ثم لا فصل بين أن يكون البائع موسراً أو معسراً، فيخرج على هذا القياس قول في نفوذ بيع المعسر. وأنا أقول: تنزيل التركة منزلَة العبد الجاني بعيد؛ لما حققته الآن من الفرق بين المرهون والتركة، ولكن لتنفيذ بيع المعسر خروج حسن إذا قلنا: لا يلزم، وهو كبيع

المفلس المحجور عليه مالَه، وقد أجرينا في بيعه قولاً على الوقف، فلا مانع من خروجه هاهنا. 12395 - ومما نذكره أن الشيخ قال - مفرعاً على أن بيع الوارث ينفذ ويلزم: يجب صرف الثمن إلى الغرماء، ثم قال: إذا سلّم المشتري الثمنَ إلى الوارث، وتلف في يده، فللغرماء أن يطالبوا المشتري بالثمن؛ فإن كان من حقه أن يسلمه إليهم، فإذا لم يفعل، توجهت الطلبة عليه، وفي كلامه ما يدل على أنهم يطالبون الوارث بالثمن، فإن تعذر، رجعوا على المشتري. والوجه عندي القطع بأنهم لا يطالبون المشتري، فإنا إذا ألزمنا بيع الوارث، فبيعه بمثابة إعتاقه، فإذا أعتق، فلا عوض للعتق، ولا مستدرك له إذا نفذ، فالوجه إن صح لزوم البيع - تنزيلُه منزلة العتق، ولكن جاء الخلل من ضعف قول من قال: " يلزمُ بيعُ الوارث ". وهذا لا وجه له؛ فإنا لم نُلزم بيعَ المولى في العبد الجاني مع ضعف تعلق الأرش بالرقبة، فكيف نُلزم البيع هاهنا؟ ثم يدخل على الشيخ فقهٌ لطيف، وهو أن الثَّمن إذا كان مستحقاً للغرماء، فما وجه الفرق بين أن يكون الوارث معسراً أو موسراً، فإن صح هذا، اتجه في تنفيذ بيع المعسر احتمال بيّن لا يتوجه مثله، في إعتاقه؛ فإنه لا عوض في الإعتاق. 12396 - عاد بنا الكلام إلى [فروع] (1) ابن الحداد. قال: لو زوّج الرجل أمته من عبدٍ لإنسان، وقبض مهرها، وأتلفه، ومات، والزوج لم يدخل بعدُ بها، فلما مات سيدها، أعتقها الوارث، قال ابن الحداد: نفذ عتقه فيها. وهل يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؟ لا يخلو: إما أن يكون الوارث معسراً أو موسراً، فإن كان معسراً، فلا خيار لها؛ فمانا لو خيّرناها، وفسخت قبل الدخول، لوجب ردّ مهرها، وذلك دَيْن، وإذا تحقق الدين، لم ينفذ عتق الوارث المعسر، وإذا رَقَّت، فلا خيار لها، ففي إثبات الخيار ردُّه.

_ (1) في النسختين: " فرع ". ولعل ما أثبتناه أوفق للسياق.

وإن كان المعِتق موسراً، قال: إن قلنا: ينفذ عتقه مع الدين، فإذا أعتقها، نفذ، ولها الخيار، وإذا فسخت، رجع مهرها دَيْناً، ثم يطالَب به المعتِق، إن كانت القيمة مثل المهر أو أكثر، فيطالب بالمهر، وإن كان مهرها أكثر، فإنما تتوجه الطَّلِبةُ بقدر قيمة الجارية. وهذا هو الذي لا يجوز غيره؛ لأنه لم [يفوّت] (1) إلا رقبتها. وإن لم ينفذ العتق، لم يخف الحكم. فرع: 12397 - إذا مات رجل وخلف ابناً وثلاثة من العبيد، قيمة كل واحد مائة، فقال الابن قد أعتق أبي هذا العبدَ في مرضه، وأشار إلى واحد منهم، ثم أشار إلى الأول وإلى عبد آخر من الثلاثة وقال: أعتق أبي هذين معاً، أو هذا وهذا معاً، ثم أشار إلى الثلاثة وقال: أعتق أبي هؤلاء بكلمة واحدة، أو معاً ولا وارث سواه. فإن الأول يعتق على بهل حال، فإنه قدّمه ذكراً في الإقرار، وقد سبق أصل ذلك في كتاب الدعوى. ثم نقرع بين الأول والثاني، فإن خرجت القرعة للأول، فهو الحر بعدُ لا غير، وإن خرجت القرعة على الثاني عَتَق، وعتَقَ العبد الأول معه، فإن موجب إقراره للثاني أن الثاني يستحق أن يُقْرَعَ بينه وبين الأول. ثم نقرع بين الأول والثاني والثالث، فإن خرجت القرعة على الثالث عَتَق، ولو خرجت القرعة على الثاني، وثانياً على الثالث عَتَقوا كلهم، وإن خرجت القرعتان جميعاً على الأول لم يعتق غيرُه، وإن خرجت قرعة على الثاني وخرجت القرعة الثانية على الأول عتق الأول والثاني، ورَقّ الثالث، وإن خرجت القرعة الأولى على الأول، والثانية على الثالث، عتق الأول والثالث، ورق الثاني. ولو تَفاوتت قِيَمُ العبيد والمسألة بحالها، فكانت قيمة الذي أقر بعتقه أولاً مائة، وقيمة الثاني مائتان، وقيمة الثالث ثلاثمائة، فأما الأول، فحر بكل حال، وهو أقل من الثلث، ثم يُقْرع بين الأول والثاني، فإن خرجت القرعة على الثاني عَتَق كله؛ لأنه في نفسه لا يزيد على الثلث، وقد أقر بعتق الأول، فعتق للسبق بالإقرار، وإن خرجت

_ (1) في الأصل: " يفرق ". والمثبت من (ت 5).

القرعة على الأول، عَتَق، وعَتَق من الثاني نصفُه؛ فإن الثلث إنما يكمل بذلك؛ إذ ثلث جميع المال مائتان. ثم يقرع بينهما وبين الثالث، فإن خرجت القرعة على الثاني، فلا يعتق الثالث، ولا يعتق من الثاني إلا ما عَتَق قبلُ؛ فإنه ليس في موجَب إقراره تغييرُ العتق في الثاني بقرعتين، وسنوضح ذلك في أثناء المسألة. إن خرجت القرعة على العبد الثالث، عَتَقَ منه ثلثاه، وهذا موجَبُ إقراره مع القرعة، وإن خرجت القرعة على العبد الأول، فنعيد بين الثاني والثالث، فإن الثلث لم يصر مستوعباً بالأول. فإن خرجت القرعة في الكرّة الثانية على الثاني، فيرق العبد الثالث لا محالة، ولا يحدث بهذه القرعة في العبد الثاني شيء، فإنه قد أخذ حظه من القرعة، فإن عتق كلُّه بالقرعة الأولى، فذاك، وإن عتق نصفه مع الأول، وكمل الثلث، فلا مزيد في إعتاقه أصلاً، ولا تُغيَّر قضيةُ تلك القرعة؛ فإن إقراره لا يتضمن تغييرَه لحكم العِتق في الثاني بقرعة أخرى، وإن أعدنا القرعةَ بين الثاني والثالث مرةً أخرى، فخرجت على الثالث، فيعتِق منه الثلث، فإن ثلثه إذا ضُمّ إلى الأول، كَمُلَ به الثلث، فثلث الثالث مثلُ نصف الثاني. 12398 - وفي هذه المسألة بحث من وجهين: أحدهما - أنا قلنا: إذا عتق من الثاني نصفه لمَّا أقرعنا بينه وبين الأول، فذلك عند خروج القرعة على الأول، وتكميلُنا الثلث من الثاني بالقرعة لم يفده شيئاً، وهو بحكم الإقرار يستحق الاندراج تحت قرعتين الأولى مع الأول، والثانية معهم، فلئن خاب في القرعة الأولى، ولم ينله العتق بكماله، وإنما عتق نصفه بحق التكميل، فينبغي ألا يبعد أن يكمل العتق فيه بسبب القرعة الثانية، والدليل عليه شيئان: أحدهما - لما قال أَعتقكم جميعاً، فقد أقر له إقراراً موجبه أنه لا يبعد عتق الثاني بكماله بحكم القرعة، ثم أثبت له حقَّ القرعة مرتين، فلئن خاب في واحدة، فليدخل في الأخرى. والثاني: أن قيمة العبيد إذا كانت متساوية، فأقرعنا بين الأول والثاني وخاب

الثاني، فلا يبعد أن يخيب في الأولى ويصيبَ العتقَ في الثانية، فكذلك إذا اختلفت القيم، وهذا متجه لا إشكال فيه. وفي المسألة بحث لمزيد بيان، فنقول: إذا أقرعنا بين المائة والمائتين، فخرجت القرعة على الأول، فحكمه أن يعتق الأول بالإقرار، ويعتِقَ نصفُ الثاني بالتكميل، فإذا أقرعنا مرة ثانية بين الثلاثة، فخرجت القرعة على الأول أيضاً، فكيف السبيل والثلث لا يكمل بالأول؟ فإن قيل: ما هذا وقد كملتم الثلثَ؟ قلنا: لم نُثبت في حق الثالث شيئاً والقرعة تثبت للثالث حقَّ تكميل الثلث منه إذا خرجت القرعة على الأول، فكيف السبيل؟ الوجه ما قدمناه من إعادة القرعة بين الثالث لنكون وفينا حق الثالث، فإن خرجت القرعة على الثالث، أعتقنا منه ثُلثَه، وإن خرجت القرعة على الثاني، فهذا موضع النظر. أما ما حكيناه عن الأصحاب، فهو أنه لا يَعتِقُ من الثاني إلا ما عَتَق. وهذا مستقيم لا خلاف فيه؛ لأن الثاني لا يستحق إلا قرعتين، وقد عتق نصفه بحق التكميل في القرعة الأولى، وأدرجناه عند إقراعنا بين الثلاثة، فاستوفى التعرض للخطر بين قرعتين فلا يستحق بحكم الإقرار موجبَ قرعة ثالثة، ولكن القرعة بين الثاني والثالث لرجاء أن يعتق شيء من الثالث، فإن لم يعِتق، فقد نفذ الحكم، وتم، ولا مزيد على الثلث، والموضع الذي أبدينا الخلاف فيه إذا خرجت القرعة الثانية المضروبة بين الثلاثة على الثاني، فالذي ذكروه أنه لا يزاد له شيء، وهذا غير سديد؛ فإنه يستحق بالقرعة الثانية تعرضَ جميعه للعتق بحكم القرعة، إذ قد أقر له الوارث بقرعتين، كما ذكرناه في المسألة الأولى إذا استوت القيم. 12399 - ثم ذكر ابن الحداد صورة أغمضَ مما تقدم، فقال: لو مات وخلّف ثلاثة من البنين وثلاثة من العبيد قِيَمُهم متساوية، فقال واحد من البنين: أعتق أبي هذا العبدَ. وقال الابن الثاني: أعتق العبد الذي عينّه أخي، وأعتق معه هذا الآخر في كلمة واحدة. وقال الابن الثالث: أعتقهما وأعتق الثالث معهما في كلمة واحدة. فأما الثلث من العبد الأول، فعتيق بكل حال، فإن الابن الأول أقر بعتقه ولم

يشرّكه مع غيره، فإقراره مقبول في ثلث ذلك العبد، فعَتَق ثلثُه من غير إقراع، ثم نقرع بين العبد الأول والثاني، لإقرار الابن الثاني، فإن خرجت القرعة على العبد الأول، عتق منه ثلثٌ آخر؛ فإن هذا الابن يزعم أن جميعه حر بقضية القرعة والإقرار، فقبل قوله في حصته، وإنما حصته الثلث، وإن خرجت القرعة على العبد الثاني، عَتَق ثلثه وهو قدر حصة هذا الابن منه. ثم نقرع بين العبيد الثلاثة لإقرار الابن الثالث، فمن خرجت عليه القرعة من العبيد يعتق منه ثلث، فإن خرج على الأول عتق ثلثه، وكذلك إن خرج على الثاني، أو على الثالث. وحاصل القول أنه إن خرجت القرعتان فيها جميعاً على الأول، كمل فيه العتق، ورَقَّ العبدان، وإن خرجتا جميعاً على العبد الثاني، عتَقَ ثلثاه، وثلثُ العبد الأول، ورَقَّ ثلثا الأول، وثلثُ الثاني، وتمام الثالث، وإن خرجت قرعة على الثاني وأخرى على الثالث، عتق من كل عبد ثُلُثه. وهذا إذا كانت قيمهم متساوية. 12400 - فأما إذا تفاوتت والمسألة بحالها في الأقارير، لكن كان قيمة العبد الأول، مائة، وقيمة العبد الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلاثمائة، فيعتِق من الأول ثلُثُه، كما قدمناه، ثم نُقرع بين الأول والثاني بسبب إقرار الابن الثاني، فإن خرجت القرعة على الثاني، عتق ثُلثُه؛ فإن قيمته مائتان، وهو ثلث المال، وهذا الابن يزعم أن جميعه حر، فقُبل قوله في حصته، وهو الثلث، وإن خرجت القرعة على العبد الأول، عتق منه ثلث آخر، وعَتَق من الثاني سدسه، وإنما ذاك لأنه يزعم أن الأول بكماله أعتق بهذه القرعة، ونصفٌ من العبد الثاني تكملة الثلث، فعتق من تمام الأول ثلثه، وعتق من نصف الثاني ثلث النصف وهو السدس. والغرض ينكشف بسؤال وجواب عندنا، فإن قيل: الابن الثاني يُقر بأن العبد الأول بحكم القرعة حر بكماله، والنصف حرٌّ من الثاني، فلينفذ إقراره في مقدار ملكه من الثاني، ويُردّ في الزائد. وموجب هذا أن يعتق ثلث الثاني. فإن إقرار المرء في مقدار ملكه مقبول.

قلنا: أقر بالعتق في النصف شائعاً في الحصص، فالنصف المقرّ به يستحيل أن يُحصَر ثلثاه في ملكه بل يشاع، وحصته منه ثلثه، وثلث النصف السدس، فإن قيل: هلا خرج هذا على الخلاف فيه إذا أقر أحد الشريكين في الدار بنصفها لإنسان، فإن من الأصحاب من قال: الإقرار ينحصر على ما كان قبل الإقرار؟ فهلا، قلتم على هذا: الابن الثاني مؤاخذ بموجب إقراره فيما هو ملكه؟ قلنا: لم يتعرض الابن الثاني إلاّ لما يوجب القرعة على التركة والميراث، وحقه الشيوع، فيجب الوفاء بالإشاعة، فهذا منتهى البيان. والرأي بعده مشترك بين الفقهاء. ثم نقرع بين العبيد الثلاثة بسبب إقرار الابن الثالث، فإن خرجت القرعة على الثالث، عَتَقَ منه تُسعاه، فإنه يزعم أنه عتق منه على الشيوع ثلثاه وهو مائتان. وهذا مقدار الثلث، فقُبل قولُه مع القرعة في حصته، وحصتُه من ثلثه تسعاه، وإن خرجت القرعة على الثاني عَتَق منه ثلثه؛ فإنه يزعم أن جميعه حر، فقُبل قوله في حصته وإن خرجت القرعة على الأول عَتَق منه ثلثه، ثم تُعاد القرعة مرة أخرى بين الثاني والثالث لتعتق حصتُه من تمام الثلث، فإن خرجت على الثاني عتق منه سدسه، وإن خرجت على الثالث عَتَق منه تُسعه؛ فإنه يزعم أن لابد من إعتَاق قدر مائة أخرى مع الأول، فيعتق من مائة ثلثها، وهو حصته منها. هذا كلام الأصحاب مع البحث الممكن فيه. فرع: 12401 - قال ابن الحداد: إذا قال أحد الشريكين في العبد: إن دخلتَ الدار، فنصيبي منك حر، وقال الثاني بعد أيام: إن دخلتَ تلك الدار -وعَيَّنَ الدارَ التي عينها الأول- فنصيبي منك حر، فدخل الدارَ - عَتَقَ نصيبُ كل واحد منهما على مالكه، ولا سراية؛ فإن العتق في النصيبين وقعا معاً، ولا معتبر لتباين التعليقين. ثم قال الشيخ في أثناء كلامه: قال ابن سريج: لو قال لعبده سالم: مهما (1) أعتقتُ غانماً، فأنت حر مع عتقه، ثم أعتق غانماً في مرض موته، وهو ثلث ماله،

_ (1) مهما: بمعنى: " إذا ".

فيكون عِتقُ غانم مبدّأ (1) على عتق سالم عند ضيق الثلث، وإن كان قد قال لسالم: فأنت حر مع عتقه؛ وذلك لأنه جعل عتق غانم شرطاً في عتق سالم، والمشروط لا يقع إلا بعد الشرط، وقد يقع العتق مرتباً، فيقدم الأول منهما. وقد ذكر الأصحاب عن صاحب التقريب: أنه إذا أعتق نصيَبه، لم يسر عتقُه، وعَتَقَ نصيبُ الثاني (2) بتعليقه السابق، وقد خالفه الأصحاب في هذا. فقالوا: عِتْقُ الشريك يسري، ولا يقع العتق المعلّق، فانتظم وجهان في مسألة الشريكين: أحدهما - اعتبار قول المعلِّق في الاجتماع، وذلك ينافي السراية. والثاني - أن العتق يترتب في المعنى، فهو كما لو قال: مهما أعتقتَ نصيبَك، فنصيبي حر، وهذا التردد يوجب اختلافاً في مسألة سالم وغانم، حتى يقال: يحتمل أن نحكم بوقوع العتق فيهما ظاهراً معاً، ويكون كما لو أعتقهما في مرضه، فيقرع بينهما. وفي المسألة غائلة وبكشفها نكشف الغرض، فنقول: إذا أعتق الرجل في مرضه عبيداً لا مال له غيرهم، فعتقه في المرض وصيةٌ محسوبة من الثلث، والوصية الزائدة إذا ردّت، ففيها قولان: أحدهما - أنها ثبتت، ثم ردت، والثاني - أنها إذا خُصرت، تبين أنها (3) لم ينفذ غيرُ ما بان. ومما يجب التنبه له أن من علّق عتقاً على عتقٍ، فمذهب الشافعي أن العتق الذي هو صفة، لا يقنع فيه باللفظ، بل لابد من عتق صحيح، وكذلك القول في البيع وغيره من العقود، وقد قررنا هذا في كتاب الأيمان. فإذا تبين هذا، رجعنا إلى الغرض. فإن اعتقدنا الجمع تمسكاً باللغة (4)، وهو مقتضى الصيغة، فلا نعول على الشرط والمشروط؛ فإن التعليقات تحتمل تقديم المشروط على الشرط؛ فإن الرجل إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق قبل دخولك بشهر، ثم مضت أشهر،

_ (1) مبدّأ: أي مُقدّم ومُفَضَّل (المعجم). (2) في النسختين: " شريك الثاني ". (3) كذا. وضمير الحال والشأن يعود على الوصية. والله أعلم. (4) يعني قوله: " مع عتقه ".

ودخلت، وقع الطلاق قبل الدخول بشهر، ولكن النظر فيما نبهنا عليه. فإن قلنا: " العتق ينفذ في الجميع ثم يرد "، صحت المسألة، ونجعل كأنه أعتق العبدين، فإن خرجت القرعة على سالم، عتق، إذ قد كان عَتَقَ غانم، فتحققت الصفة (1) ثم رُدّ. وإن قلنا: " ما (2) يرد تبين أنه لم ينفذ "، فتعضل المسألة: بأن القرعة لو خرجت على سالم، وعتقه مشروط بعتق غانم، ونحن تبيّنا أن غانماً لم يعتِق، فكيف يعتق سالم، وعتقه معلّق غير منجّز؟ وهذا يوجب الدور، فيرتد -لو صح هذا القياس- عتقُ غانم؛ لأن القرعة لم تخرج عليه، ويرتد عتق سالم للدور، وهذا يجز خبلاً عظيماً، وهو أن يعتق الرجل عبدين، فتجري حالة في القرعة تقضي ارتداد العتق فيهما. وفي المسألة خبط آخر، وهو أن القرعة لو خرجت على غانم، نفذ العتق فيه، ولو خرجت على سالم، دارت المسألة، فالظن بالأئمة أنهم ما قدّموا العتق في غانم مع التصريح بالجمع إلا لهذا؛ فإن العتق في سالم يوجب القرعة، والقرعة تدير المسألة، وتُبطل العتقين، والعتق في غانم يصحح العتق في الثلث، فذكروا تعيّن غانم لهذا المعنى. وقياس الدور مع الوفاء بالجمع أن يقال: لو خرجت القرعة على غانم عتق، ولو خرجت على سالم، لم يعتق غانم ولا سالم. وهذا نهاية النظر في المسألة. فرع: 12402 - إذا كان بين رجلين عبد مشترك لكل واحد منهما نصفه، فطار طائر، فقال أحدهما: إن كان غراباً، فنصيبي حر، وقال الآخر: إن كان حماماً، فنصيبي حر، ثم أشكل الطير، فلا يعتق نصيب واحد منهما؛ فإن الطائر قد لا يكون غراباً ولا حماماً. ولو قال أحدهما: إن كان غراباً فنصيبي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً،

_ (1) تحققت الصفة: أي العتق المعلّق عليه، وهو عتق غانم. (2) (ما) اسم موصول.

فنصيبي حر، فلا يحكم بعتق واحد منهما في ظاهر الحكم إذا كانا معسرين؛ فإن نصيبهما كعبدين، ولا سريان، ولكن نعلم باطناً أنه قد عَتَقَ نصيبُ أحدهما. ولكن لو اشترى أحدهما نصيب صاحبه فنحكم الآن بأن نصف العبد حر، ولكن لا سريان والفرضُ في المعسر. ولو جاء ثالث، واشترى النصيبين جميعاً، فيصح الشراء، ولكن إذا اجتمع النصيبان في يده حكم بعتق النصف، وتعليل ذلك بيّن. ثم قال القفال: لا يرد ما اشتراه عليهما ولا على واحد منهما؛ فإن كل واحد منهما يزعم أن نصيبه مملوك، والمشتري يزعم أن النصف منه حر. وحكى الشيخ عن بعض الأصحاب أن المشتري إذا لم يعلم ما جرى لهما من التعليق، واشترى نصيبهما، ثم تبين له ذلك، فله الرد عليهما جميعاً، ويجعل الاطلاع على ذلك سبباً مثبتاً للخيار. وهذا هَوَسٌ. ولا ينبغي أن يعدّ مثله من المذهب؛ لأنا لو جوّزنا له الرد، لعاد كل واحد من الشريكين إلى نصيبه، وزال العتق المحكوم به. هذا كله إذا كانا معسرين. فأما إذا كانا موسرين والمسألة كما صورناها في النفي والإثبات، فنحكم بعتق جميع العبد؛ تفريعاً على قول تعجيل السراية، فإن كل واحد منهما يُقرّ بأنه قد عتق نصيبُه، إما بإنشائه، وإما بسراية العتق من نصيب صاحبه إلى نصيبه. فإن ادعى كل واحد على صاحبه قيمةَ نصيبه وتحالفا، فلا يستحق في ظاهر الحكم واحد على صاحبه شيئاً. وإن فرعنا على أن السراية لا تتعجل، لم نحكم بعتق نصيب واحد منهما. فرع: 12403 - إذا خلف ثلاثة من البنين، وكان في أيديهم جاريةٌ وولدُها، فادعى أحدهم أن هذه الجارية أمُّ ولد أبينا والولد ولدها منه، وهو أخونا، وزعم الثاني أن الجارية أمُّ ولدي، وهذا ولدي منها، وادعى الثالث أن الجارية مملوكةٌ لي وولدها رقيقي وعبدي، وأيديهم ثابتة عليها.

فنقول (1): أما نسب المولود، فيثبت ممن ادعى أنه ولده؛ تفريعاً على أن نسب الرقيق يستلحق إذا كان مجهول الحال والنسب، ومن قال منهم: إنه أخونا، فلا نقبل قوله؛ فإنه يقر بالنسب على أبيه، فلا يلتحق النسب، ما لم يُجْمع الورثةُ عليه، كما مضى في الأقارير. فإن قيل: من يدعي ملكَ الولد ويقول: هو رقيقي واليد ثابتة له على ثلث الولد، فينبغي أن يثبت ملكُه فيه، فيكون مدعي النسب من نفسه مستلحقاً نسب مملوك. قلنا: قد نبهنا على هذا، فإن فرعنا على أن المملوك يُستلحق، فأمر النسب على ما ذكرنا، وإن قلنا: نسب المملوك لا يستلحق، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه لا يلحق لمكان الرق في البعض. والثاني - يلحق لأن الرق لم يعمه، والنسب لا يتبعض. وهو إلى الثبوت أقرب، وهذا القائل يقول: لو كان بعض الشخص رقيقاً وبعضه حراً، واستلحق مستلحقٌ نسبَه، لحقه، وهذا ليس بشيء، والقياس رد الدِّعوة ببعض الرق إذا فرعنا على ردها عند تمام الرق (2). 12404 - ثم نتكلم بعد ذلك في الجارية وحكم الولد، ونذكر حكم التحالف فيه، ثم حكم الغرامة. أما الولد فحرّ كله، هكذا قالوا، لأن أحدهم زعم أنه أخوهم، وهذا يقتضي حريته، ويده ثابتة على ثلث الولد، فإقراره مقبول فيه، والذي زعم أنه ولده منها، فيقبل إقراره فيما هو تحت يده، ثم قد أقر هذا الشخص بأنه قد استولد هذه الجارية، فيجعل ذلك بمثابة ما لو استولد أحد الشريكين الجارية [المشتركة] (3)، ولو تحقق ذلك، كان الولد حراً، وليقع الفرض فيه إذا كان موسراً، فإذا تُصور منه إنشاء الاستيلاد، ثم يترتب حكم حرية الولد، فيقبل الإقرار [منه] (4) فيما يتصور إنشاؤه،

_ (1) النظر في هذه المسألة إلى عدة أحكام: 1 - نسب الولد 2 - وحريته 3 - وحرية الأم وثبوت أميهّ الولد 4 - والتحالف، 5 - والغرم. فتقرأ المسألة في ضوء هذه الشُّعب من الأحكام. (2) انتهى هنا الكلام على نسب المولود، وأنه بين أن يلحق الابن الثاني أو لا يلحق. (3) في الأصل: " المشتراة "، والمثبت من (ت 5). (4) زيادة من المحقق حيث سقطت من الأصل، وفي ت 5: (فيه) مكان (منه).

وهذا ليس خالياً عن الاحتمال؛ لأن الإقرار إنما يقبل فيما يجوز إنشاؤه، (1 لا فيما يتصور إنشاؤه 1). ويجوز تخريج هذه المسألة على خلافٍ في أن المحجور السفيه لو أقر بإتلاف مالٍ هل يقبل إقراره أم لا (2)؟ فيه وجهان، ذكرناهما في موضعهما (3). ثم يقع الكلام بعد هذا في التحالف، ثم في الغرم، والقول في التحالف ينبني على المقدار الذي تثبت يد كل واحد عليه، وقد اختلف أصحابنا فيه، فذهب أكثرهم إلى أن يد كل واحد من الثلاثة تثبت على ثلث الجارية والولد، ثم يقع الكلام بعد هذا في التحالف والغرم، ووجه هذا بيّن. ومن أئمتنا من قال: من قال منهم: إن الجارية أمُّ ولد أبي، فلا يد له على شيء من الجارية وولدها؛ فإنه ذكر أن الجارية أم ولد أبي، وقد عَتَقَتْ بزعمه بموت أبيهم، وليس يدعي عتقاً صادراً منه، وقوله مردود في ذلك؛ فإن أمية الولد تابعةٌ لثبوت نسب الولد، ونسب الولد لا يثبت بقوله، ولكنه مؤاخذ بإقرار نفسه؛ فإنه ليس يدعي لنفسه فيها شيئاً، فلم تبق له يدٌ لإعراضه (4)، ولم يُقبل قوله لاستناد أمية الولد إلى النسب الذي لم يثبت. والأصح الوجه الأول؛ فإن يده ثابتة حسّاً، وقد اعترف بالحرية فيما تثبت يده

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 5). (2) عبر الغزالي في البسيط عن ذلك بعبارة، ربما كانت أكثر وضوحاً، إذ قال: " فأما أمية الولد، فتثبت بإقراره، لأنه شريك، ولو أنشأ الاستيلاد، لنفذ، وسرى، فيقبل إقرار من له أهلية الإنشاء، ويحتمل أن يقال: لا يحل له الإنشاء، ولكن يتصوّر منه، وفي قبول مثله خلاف في السفيه المحجور عليه إذا أقر بإتلاف مال الغير أنه هل يقبل ". (البسيط: جزء (6) ص 379 - مخطوطة مرقمة الصفحات). (3) إلى هنا انتهى الكلام عن حكم حرية الولد، وهو الحكم الثاني من الأحكام التي في ثنايا هذه المسألة، وقد قطع بحريّة الولد. (4) وجه هذا الوجه القائل بأن يده لا تثبت على شيء هو إقراره، وإعراضه، وعدم مطالبته، وليس إثبات أمية الولد، فإنها تابعة لثبوت نسب الولد من أبيه، وقد رأينا أنه لم يثبت. هذا توجيه هذا الوجه، وهو ليس الأصح كما قال الإمام، بل الأصح أن يده ثابتة حساً على الثلث من الولد والجارية.

عليه صورةً، وحقيقةُ هذا الخلاف ترجع إلى أنا إذا رَدَدْنا قولَه في النسب، فهل يقبل قوله في أمية الولد حتى يُحكم بالعتق فيه؛ فإن قبلنا قوله في الحرية، فالثلث حُكم فيه بالحرية ليده، ويبقى في يد كل واحد من الباقيين ثلثٌ، وإن لم نقبل قوله في الحرية، قبلناه في سقوط حقه ويده، فتصير الجارية في يد الباقيَيْن نصفين؛ ولم يبق للذي قال: " إنها أم ولد أبي " يدٌ ولا تعلّق. هذا ما ذكره الأئمة. وفي القلب منه بقية، فإنا (1) إذا رددنا إقراره، فينبغي أن يبقى الثلث من الجارية على حكم يده وملكه، وإن كان لا يدعيه لنفسه، والدليل عليه أن (2 أحد الابنين إذا أقر بابن ثالث لأبيه، ورددنا إقراره بالنسب، فلا يستحق المقر له شيئاً من ميراث الأب، ولا 2) يقال: على المقِر منهما أن يسلم شيئاً مما في يده إلى المقر له، بل يبقى على حقيقة ملكه. وهذا القياس يقتضي لا مجالة أن يبقى ثلث الجارية في يده، وإن ادعى حريتها، فهذا ما أردنا التنبيه عليه في ذلك. 12405 - ثم نرجع إلى ترتيب الكلام، فنقول: يحلف من يدعي الملك، و [من يدعي] (3) الاستيلاد في حق نفسه، وينفي كل واحد [منهما] (4) ما يدعيه صاحبه (5)، على القياس الذي ذكرناه في الدعاوي. قالوا: ولا يحلف من يدعي أمية الولد لأبيه؛ فإنه ليس يدعي لنفسه شيئاً، وإنما ينفي كلُّ واحدٍ دعوى صاحبه إذا كان يدعي لنفسه شيئاً.

_ (1) ت 5: " فأما ". (2) ما بين القوسين سقط من (ت 5). (3) ما بين المعقفين زيادة من المحقق لإيضاح العبارة، والمعنى أن التحالفَ يكون بين الابن الثاني الذي يدعي أن الجارية مستولدته، وأن الولد ولده منها = والابن الثالث الذي يدعي أنها جاريته والولد رقيقه منها. أما الابن الأول الذي يقول: إنها مستولدة أبينا، فهو لا يدعي شيئاً، ولذا لا يحلف. (4) في الأصل: " منهم " والمثبت من (ت 5). (5) فيحلف من يدعي الاستيلاد نافياً أنها مملوكة لمن يدعي الرق، ويحلف من يدعي الملك نافياً أنها مستولدة من يدعي الاستيلاد، فكل منهما مدَّعٍ فيما في يد صاحبه، مدعىً عليه فيما في يده.

فإذا حلفا -والتفريع على ثبوت الاستيلاد عاجلاً، ونفوذِ إقراره- فيلتزم لصاحبه ثلث قيمة الجارية (1)، فإن يده تثبت على الثلث ملكاً، وتأكدت باليمين، ثم [سرَّينا] (2) فيه استيلاد من يدعي الاستيلاد لنفسه، فيلزمه قيمةُ الثلث لصاحبه (3). فأما إذا قلنا: لا يدَ لمن ادعى أميةَ الولد لأبيه، والجارية نصفان بين الأخوين، فيغرم من ادعى لنفسه الاستيلاد نصفَ القيمة لصاحبه. وإن قلنا: يعتِق الثلثُ بإقرار من ادعى أمية الولد، فلا نغرمه شيئاً؛ [فإنه لم يضف الاستيلاد إلى نفسه، وإنما أضاف إلى أبيه، فلا يلتزم هو بسبب استيلاد أبيه شيئاً] (4)، ولا يقبل إقراره على أبيه في إلزام غرم، فهذا منتهى ما ذكره الأئمة. فرع: 12406 - إذا كان للرجل جاريةٌ حامل بغلام وجارية، فقال: إن ولدت أولاً غلاماً، فهو حر، وإن ولدت أولاً جارية فأنت أيتها الأمة حرة، فإن ولدت أولاً غلاماَّ، [عَتَقَ] (5) الغلام، ورقّت الأمة والجاريةُ في بطنها. وإن ولدت جارية أولاً، عَتَقَت الأمة، وعَتَقَ الغلام أيضاً؛ فإن الأم إذا عتقت، عتق الجنين في بطنها، أما الجارية التي ولدتها، فلا شك أنها لا تعتِق؛ لأنه لم يوجه

_ (1) يلزمه الثلث من الجارية والولد لإقراره بأنه فوت عليه نصيبه بالاستيلاد. (2) في الأصل: (تبرَّينا) بهذا الرسم والضبط، وفي ت 5: غير واضحة، وأقرب ما تكون إلى ما في الأصل، ولكن بدون نقط وضبط. وأجزم صادقاً -إن شاء الله- أن هذا الخلل في نسخة الأصل جاء من أحد القراء المبتدئين، ودليلي على ذلك أن ناسخ هذه النسخة على درجة من العلم، يستحيل معها أن يقع في هذا الوهم الغليظ، وقد ظهر علمه بأكثر من دليل، أيسرها أنه يُشكل المشكل بصورة تقطع بأنه فاهم لما ينسخ، ثم إن هذه الكلمة الغريبة عن السياق والمعنى (تبرّينا) فيها أثر ريشة غير ريشة الناسخ الأصيل. (3) علل الأئمة ذلك بإقراره أنه فوت على صاحبه نصيبه بالاستيلاد -كما قلنا- ويلزم من هذا التعليل أنه قد سلّم لمدعي الرق بأن له نصيباً في الجارية من ميراث أو غيره، وإلا، فلا يلزم من قوله: " مستولدتي " كونها مشتركة من قبل، فلا بد من ملاحظة هذا المعنى في تصوير المسألة. (ر. الشرح الكبير: 13/ 377، والروضة: 12/ 162). (4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 5). (5) في الأصل: " فأعتق ".

العتق عليها، والأم إنما تعتِق أيضاً بعد انفصالها، فلا يلحق الجاريةَ عتق على وجه التبعية. فخرج مما ذكرناه أن الجارية لا تعتِق في حسابٍ أصلاً، والغلام يعتق كيف فرض الأمر؛ فإنه إن خرج أولاً عَتَق، وإن خرجت الجارية، عتق تبعاً للأم، والأم قد تعتق وقد لا تعتق. فلو خرج الولدان على ترتب، وأشكل الأمر، فلم ندر كيف كان الخروج - فأما الغلام فيعتِق لا محالة، والجارية رقيقة قطعاً، وأمر الأم مشكل، فإن خرج الغلام أولاً، فهي رقيقة، وإن خرجت الجارية أولاً، فهي حرة. وقد أشكل الأمر. قال ابن الحداد: نقرع بين الغلام وبين الأم. فإن خرجت القرعة على الأم، عَتَقَت، والغلام حرّ لا يدرأ حريتَه شيء. وإن خرجت القرعة على الغلام، رقّت. وسبب القرعة أن الغلام إن خرج أولاً، فهي رقيقة، وإن لم يخرج أولاً، وخرجت الجارية، فالأم حرة، فعِتْق الأم يتعلق بخروج الغلام، فخرجت القرعة على هذا التقدير. وقد وافقه بعض الأصحاب فيما قال. والذي ذهب الأكثرون إليه أن القرعة لا معنى لها في هذه الصورة؛ فإن القرعة إنما تجري إذا تردد العتق بين شخصين رُدّد العتق بينهما قصداً وأشكل الأمر، وليس الأمر كذلك في هذه المسألة؛ فإن الغلام لم يُجعل في معارضة الجارية، فالوجه أن نقول: الجارية رقيقة والغلام حر. والجارية أشكل أمرها. فالأصل بقاء الرق فيها. فرع: 12407 - ذكره الشيخ من وقائع نيسابور قديماً، وهو أنه إذا كان بين يدي السيد غلامان سالم وغانم، فقال: أحدكما حر، ثم غاب سالم وبقي غانم بين يديه، فوقف بجنبه غلام اسمه مبشر، فقال لغانم ومبشر: أحدكما حر، ثم مات قبل البيان، فكيف السبيل فيه؟ قال الأستاذ أبو إسحاق في جواب المسألة: نقرع في هذه المسألة بين سالم وغانم، فإن خرجت القرعة على سالم -وهو الذي غاب- فيعتِق، ثم نعيد القرعة مرة أخرى بين غانم ومبشر، فعلى أيهما خرجت القرعة، حكمنا بعتقه، فيعتِق عبدان.

وإن خرجت القرعة الأولى على غانم، رقّ سالم، ولم نعد القرعة مرة أخرى؛ فإن القرعة عينت غانماً للحرية، فلما قال له ولمبشر: أحدكما حر، فغانم هو الحر منهما، وتحقيق ذلك أن خروج القرعة بمثابة بيان المالك. ولو قال السيد: أردت غانما في الدّفعتين، لم يَعِتق غيره. وقال أبو الحسن الماسَرْجِسِي: إذا خرجت القرعة الأولى على غانم، عتق ورق سالم، ثم نعيد القرعة مرة أخرى بين غانم ومبشر، فإن خرجت على غانم، رق مبشر، وإن خرج على مبشر عتق وغانم حر. كما تقدم ذكره، ففائدة إعادة القرعة توقُّع عتق مبشر. والذي ذكره الماسَرْجِسِي أفقه وأغوص، وذلك أن غانماً إن عتق، فلا يمتنع أنه أراد بقوله الثاني -لمّا أبهم العتقَ- إعتاق مبشر، فإذا كان ذلك ممكناً، فالقرعة تجري حيث يتصور الإبهام، وكثيراً ما تجري القرعة بين من نستبقي (1) حريته، وبين من يشكل علينا رقه، وهذا واضح من هذا الوجه. فرع: 12408 - نقدم على مسألة ذكرها ابن الحداد [تذكيراً بأصولٍ] (2): أحدها - أنه لو أبهم العتق بين أمتين ولم يعين بقلبه، ثم وطىء إحداهما، فهل يكون الوطء تعييناً في الموطوءة للرق؟ فعلى وجهين، تقدم ذكرهما. ومما تقدم أنه لو كان في ملكه أربع من الإماء، فقال: إذا وطئت واحدة منكن، فواحدة منكن حرة، فإذا وطىء واحدة، فتعتِق واحدة، ولكن هل تدخل الموطوءة في إبهام العتق؟ أم لا؟ هذا يبتني على أن الوطء هل يكون تعييناً أم لا؛ فإن قلنا: لا يكون تعييناً، فتدخل الموطوءة في إبهام العتق. وإن قلنا: يكون الوطء تعييناً للموطوءة في الملك، فأول الوطء لا يتضمن التعيين أصلاً؛ فإنه ذكر الوطء وعلق عليه العتق المبهم، وهذا في التحقيق يُخرج أول الوطء عن كونه تعيينا للملك.

_ (1) كذا في النسختين، ولعل الأَوْلى: " نستيقن ". (2) في النسختين: " تذكير أصولٍ "، والمثبت تقدير من المحقق.

وقد يقول الرجل لأمته إذا وطئتك فأنت حرة، وهذا واضح، فلو وطىء وغيّب الحشفة، ثم نزع، فالموطوءة تدخل في الإبهام. ولو وطىء واستدام -والتفريع على أن الوطء يتضمن تعييناً لو تقدم الإبهام عليه، مثل أن يقول لأمتيه إحداكما حرة، ثم وطىء واحدة منهما- فتتعين الأخرى للعتق. فإذا قال للإماء الأربع: إذا وطئت واحدة منكن، فواحدة حرة، فوطىء واستدام، وقد وضح أن ابتداء الوطء لا ينافي العتق في هذه الصورة. فإذا استدام، فهل يتضمن الاستدامة إخراج الموطوءة عن العتق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تخرج عن إبهام العتق؛ فإن الاستدامة تدل على أنه يبغي استبقاءها، والثاني - أنها لا تخرج عن إبهام العتق بالاستدامة؛ فإن استدامة الوطء حكمها حكم ابتدائه، وقد ذكرنا أن ابتداء الوطء لا يخرجها عن إبهام العتق. وهذا يقرب من اختلافٍ ذكرناه فيما تقدم، وهو أن الرجل إذا قال لأمته: إذا وطئتك فأنت حرة، فوطئها، فلو وطىء، لم يلتزم مهراً إذا نزع كما (1) غيّب، ولو استدام، فهل يلتزم بالاستدامة مهرها؟ فعلى وجهين. وقد ذكرنا نظير ذلك في كتاب الإيلاء، فيه إذا قال لامرأته: إذا وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً. وهذا الاختلاف في المهر مما تمس الحاجة إليه. 12409 - عدنا إلى مسألة ابن الحداد. قال: إذا كان له أربع من الإماء، فقال: كلما وطئت واحدة منكن، فواحدة منكن حرة، ثم وطىء واحدة، وثانية، وثالثة، فقوله " كلما " يتضمن تكرير العتق، وقد وطىء ثلاثاً منهن، فاقتضى ذلك تكرير العتق ثلاث مرات. فإن فرعنا على أن الوطء يتضمن التعيين للملك -وقلنا: الاستدامة تتضمن التعيين أيضاً، والمسألة مفروضة فيه إذا استدام الوطء في كل واحدة- فالجواب على هذا أنه يتعين للعتق الأولى والثانية والرابعة وترق الثالثة. وبيانه أنه لما وطىء الأولى، فقد وقع عتق، وخرجت الأولى عن كونها معينة؛ فإنها تعينت للملك بالاستدامة، وخرجت الثانية والثالثة عن ذلك العتق أيضاً، فتعينت

_ (1) كما: بمعنى عندما.

الرابعة وعَتَقت، ولما وطىء الثانية، وقع عتق آخر، وخرج عنه الثانية لدوام الوطء فيها وتردد العتق بين الأولى والثالثة، ولكن لما وطىء الثالثة، خرجت عن كونها معينة بذلك العتق فتعينت الأولى وعَتَقت، ولما وطىء الثالثة، وقع عتق آخر، ولم يصادف الرابعة والأولى فإنهما قد عَتَقَا من قبل، وخرجت الثالثة عن كونها معينة، فعتقت الثانية. هذا إذا قلنا الوطء تعيين واستدامة تعيين. فأما إذا قلنا: الوطء بعد العتق تعيين، واستدامته ليست بتعيين -وعليه فَرَّع ابن الحداد- فنقول: لما وطىء الأولى، وقع عتق مبهم بين الأربع، ثم لم يعد إلى وطء الأولى، ولم يطأ الرابعة، فيخرج عن ذلك العتق بين الثانية والثالثة؛ فإنه وطئهما بعد العتق الأول. فإذاً ذلك العتق بين الأولى والرابعة، فيقرع بينهما، فإن خرجت القرعة على الرابعة، عتقت، ثم لما وطىء الثانية، وقع عتق آخر، ولا حظ فيه للرابعة؛ فإنها قد عتقت بالقرعة، ولا حظ فيه [للثالثة] (1) فإنها وطئت بعده، فهو متردد بين الأولى والثانية، فيقرع بينهما، فمن خرجت القرعة عليه منهما، عَتَقَت، ثم لما وطىء الثالثة وقع بوطئها عتق جديد، لا حظ فيه للرابعة، ولمن عَتَقَت من الأولى والثانية، فإن عتقت الأولى، أقرعنا بين الثانية والثالثة. وإن عتقت الثانية، أقرعنا الآن بين الثالثة والأولى، ولا تدخل من عتقت في القرعة؛ ما دمنا نتمكن من الإقراع بين اثنتين لم تتعين واحدة منهما للحرية؛ والسبب فيه أنه لا بد من تحصيل العتق في ثلاث منهن؛ فإن اللفظ يقتضي ذلك صريحاً، ولو أدخلنا عتيقة في [القرعة] (2)، لم يتحصل هذا المعنى. ولو خرجت القرعة الأولى التي ضربناها بين الأولى والرابعة على الأولى، عتقت، ولما وطىء الثانية، دار العتق بينها وبين الرابعة، والثالثة خارجة من هذا العتق، فإنها موطوءة بعد ذلك، فنقرع بين الثانية والرابعة، فإن خرجت القرعة على الثانية، عتقت، ولما وطىء الثالثة دار العتق بينها وبين الرابعة، فنقرع بينهما، فإن خرجت

_ (1) في الأصل: " للثانية ". (2) في الأصل: " الحرية ".

القرعة على الثالثة، عتقت، ورقّت الرابعة، ولا يخفى القياس بعد تمهيد الأصول، إن شاء الله. وهذا إن قلنا: الاستدامة لا تكون تعييناً، والوطء بعد الإبهام تعيين. 12410 - فأما إذا قلنا: الوطء لا يكون تعييناً أصلاً، فقد وقع بين الإماء الأربع العتق ثلاث مرات، فعَتِق ثلاثٌ منهن، فكيف السبيل في القرعة والتمييز؟ المذهب الصحيح الذي عليه التعويل أن يقرع بينهن على ترتيب في دفعات، فنقول: لما وطىء الأولى، وقع عتق، فيقرع لذلك بين الأربع بسهم عتق وثلاثة أسهم رقّ، والوطء لا يتضمن تعييناً. فإن خرجت القرعة على الرابعة عَتَقَت، ولا مهر، فإنها ليست موطوءة، وإن خرجت القرعة الأولى على الأولى، فقد بأن أنها عَتَقت بابتداء الوطء، فإن قلنا: استدامة الوطء يوجب المهر، فلها مهرها بسبب الاستدامة، وإن قلنا: لا مهر لها بسبب الاستدامة، فلا تستحق شيئاً. وإن خرجت القرعة الأولى على الثانية، أو على الثالثة، فتستحق المهر؛ فإنا تبينا أنها عتقت قبل أن وطئها السيد بالعتق الواقع بوطء الأولى، والوطء بعد العتق يوجب المهر، ثم إذا عتقت واحدة من الأربعة بالقرعة الأولى، فيقرع مرة ثانية بسهم عتق وسهمي رقّ. فإن كانت الأولى قد عتقت بالقرعة الأولى، فيقرع بين الثانية والثالثة والرابعة، فإن خرجت القرعة على الرابعة، عَتَقَت ولا مهر لها؛ فإنها لم توطأ. وإن خرجت القرعة الثانية على الثالثة، عتقت، وفي استحقاق المهر وجهان مأخوذان من أن استدامة الوطء هل توجب المهر، ثم نقرع مرة أخرى بين الثالثة والرابعة بسهم عتق وسهم رق. فإن خرجت القرعة على الرابعة، فلا مهر، وإن خرجت على الثالثة، فعلى وجهين لما ذكرناه من الاستدامة. وحقيقة هذا أن المهر يجب بالوطء بعد العتق، وفي الاستدامة وجهان، ثم تبين العتق بالقرعة، وتبين بحسبه أمر المهر على ما يقتضيه القياس. فإن عتقت الثانية بالقرعة الأولى، فقد وُطئت بعد العتق، وإن خرجت القرعة الأولى على الأولى، فيخرج وجهان في أن الاستدامة هل توجب المهر، ولا يبيّن أمرَ المهر إلا ترتيبُ القرعة على هذا الوجه الذي ذكرناه.

12411 - وقال بعض أصحابنا يقرع بين الإماء دفعة واحدة بثلاثة أسهم حرية وسهم رق، فتعتق ثلاث منهن، وتَرِق واحدة، فلو خرج سهم الرق على واحدة أولاً رَقَّت، وعَتَقَت الثلاث الباقيات. وهذا وإن كان يميز العتق، فالمصير إليه يجر لَبْساً في المهر، فإنه إذا عتقت ثلاث منهن، فكيف ابتداء الوطء واستدامته؟ وبماذا يعلم من تستحق المهر وجهاً واحداً، ومن تخرج المسألة فيه على وجهين من الاستدامة؟ وهذا اللبس يتحقق إذا قلنا: الاستدامة لا توجب المهر، ثم يلتبس عليه الأمر، فإن قلنا: الاستدامة توجب المهر، فتصح القرعة على هذا الوجه، ولكل موطوءة عَتَقت مهرُها، فأما إذا قلنا: الاستدامة لا توجب المهر، فلا تصح القرعة على هذا الوجه قطعاً. 12412 - وإنما يتم الغرض في ذلك بأن نذكر صورة أخرى، فنقول: إذا وطىء الأربع، والمسألة كما صورناها، فلا شك أنهن يعتقن جميعاً، ولا حاجة إلى القرعة لأجل العتق، ولكن أمر المهر مشكل، ولا يتبين أمره إلا بأن يُقرع بينهن بسهم عتق وثلاثة أسهم رق، فإن خرجت الحرية على الأولى، ففي استحقاق المهر وجهان؛ لمكان الاستدامة. وإن خرجت القرعة على الثانية، فلها مهرها، فإنا عرفنا أنها عَتَقَت أولاً ثم وُطئت، وهكذا القياس، والضابط فيه أنا نرتب القرعة على التفصيل المقدم، فمن بان بالقرعة أنها عَتَقت بوطئها، ففيها وجهان مأخوذان من الاستدامة، وإن عتقت، ثم جرى الوطء بعد العتق فيها، فيجب المهر وجهاً واحداً، فإن تقدم وطء واحدة ثم أبانت القرعة العتقَ بعد وطئها، فلا مهر لها وجهاً واحداً. هذا ترتيب القول في أمر المهر لا ينقدح غيره. وإن عتقن بجملتهن إذا جرى الوطء مرتبا على ما ذكرناه، فإن قيل: إذا وطىء ثلاثاً منهن كما تقدم تصويره، فهلا أقرعتم بينهن معاً، ثم تقرعون على الترتيب مرة أخرى لمكان المهر، كما فعلتم ذلك فيهن إذا عتقن جميعاً في الصورة الأخيرة؟ قلنا: أنشانا القرعة في المسألة الأخيرة لأجل المهر مرة واحدة. ولو أقرعنا فيه إذا وطىء ثلاثاً منهن دفعة واحدة من غير ترتيب بثلاثة أسهم حُرية وسهم رق، ثم عُدنا

فأقرعنا على الترتيب مرة أخرى، فربما تتناقض القرعتان، فلا ينتظم الأمر أصلاً، فلا وجه إلا الترتيب أول مرة. فإن قيل: في المسألة الأخيرة أقرعتم للمهر، وهذا لا سبيل إليه؛ فإن القرعة إنما شرعت في العتق، فأما إذا أشكل من تستحق مهراً، فتمييز ذلك بالقرعة بعيد. قلنا: العتق وإن حصل فيهن فالقرعة تُبيّن الترتيب في وقوع العتق، ثم يترتب عليه أمر المهر، فلم تنشأ القرعة للمهر، وإنما اعتمدنا بها ترتيب العَتاق، وإذا تطرقت القرعة إلى أصله، تطرقت إلى ترتيبه، ثم المهر يَتْبع الترتيبَ. هذا بيان المسألة على أبلغ وجه في الإمكان. فرع: 12413 - إذا قال: أعتق عبدك هذا عني، ولك علي مائةُ درهم، فإذا قال: أعتقتُه عنك، نفذ العتق عن المستدعي، ولزمه العوض المسمى، ولا يشترط في ثبوت العوض أن يعيد المعتِقُ ذكرَ العوض؛ فإن الجواب مرتب على السؤال، والسؤال كالمُعاد في الجواب، وهذا قد تمهد في المعاوضات، وغرض الفرع شيء وراء هذا. فلو قال: أعتق عبدك (1) هذا عني بمائة، فقال: أعتقته، ولم يقل: أعتقته عنك، وقع العتق عن المستدعي، وثبت العوض، وإن لم يضفه إلى المستدعي؛ لما قررنا من حمل الجواب على الخطاب. ومما يعرض في هذه الصورة أن المجيب لو قال: أعتقتُه، ثم زعم أنه أراد إعتاقه عن نفسه، فالذي أراه أن ذلك مقبول منه؛ فإن لفظه لا ينافي قصده في ذلك، والعبد ملكُه، فخرج من ذلك أنه إن أطلق ولم يقصد شيئاً، فهو محمول على موافقة الخطاب، وإن صرفه إلى نفسه، وجب تصديقه فيه. ولو قال: أعتق عبدك بمائة، فإذا أعتقه، لم يقع العتقُ عن المستدعي، وفي استحقاق العوض وجهان مشهوران (2) ذكرناهما في كتاب الظهار.

_ (1) ت 5: " عبدي ". وهو سبق قلم. (2) أصحهما يلزم العوض.

ولو قال: أعتق أم ولدك عني ولك مائة، فأعتقها، فلا شك أن العتق لا يقع عن المستدعي؛ فإن وقوع العتق يستدعي لا محالة تقديرَ نقل الملك إلى المستدعي، وهذا غير ممكن في أم الولد. ولكن المذهب أن العتق ينفذ في المستولدة، ولا يثبت العوض؛ فإنه قيّد استحقاق العوض بوقوع العتق عنه (1). وذكر الشيخ وجهاً غريباً أن العتق لا ينفذ؛ فإنه إنما أعتقها على استحقاق العوض، فإذا لم يَسْلم العوض، لم ينفذ العتق، وهذا خطأ غيرُ معتد به؛ فإن من أعتق عبداً عن كفارته، وكان بحيث لا يجزىء عن الكفارة، فالعتق ينفذ، وإن لم تبرأ الذمة عن الكفارة (2). ولو قال: أعتق أم ولدك، ولك مائة، ولم يقل: أعتقها عني، فالذي قطع به الأئمة أنه يستحق العوض، كما ذكرناه في العبد القن إذا قال: أعتقه، ولم يقل: عني، [وكما ذكرناه أيضاً في اختلاع الأجنبي إذا قال: طلّق زوجتك وعليّ ألف، فإنه يلزم الألف. ونقل وجهاً آخر -في أم الولد- أنه لا يلزم العوض] (3) وهذا غريب جدّاً (4).

_ (1) " وقيل يستحق العوض، ويُلْغى قولُه: عنّي، ويجعل باقي الكلام افتداء " قاله النووي في الروضة: 8/ 292. (2) خالف الغزالي إمامه في ذلك فقال معقباً على هذا بعد أن نقله عن الإمام: " وعندي أن هذا الوجه متجه، ويجري في مسألة الكفارة أيضاً؛ بناء على أن من حاول في تصرفه محالاً، يلغى أصل كلامه، والقدر المحال، كما إذا قال: اشتريته لزيد، وزيد لم يأذن له، لم يقع عن زيد، وهل يقع عن المشتري؟ وجهان. وكذلك إذا قال: أعتقت عن زيد، فلا يبعد أن يؤاخذ ببعض كلامه ويلغى الباقي، بل هو منقاس ". (ر. البسيط: ج 6 صفحة رقم 381 مخطوطة مرقمة الصفحات). وأقول: لم يحك هذا الوجه القائل بعدم وقوع العتق -فيما رأينا- غير إمام الحرمين والغزالي في البسيط، فلم أره في (البيان) للعمراني، ولا في الروضة للنووي، ولا في الشرح الكبير للرافعي، ولا في التهذيب للبغوي، مع عرضهم للمسألة، وقطعهم بنفوذ العتق، وذكرهم أن المذهب عدم استحقاق العوض، أو الأصح عدم استحقاقه. (3) ما بين المعقفين زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، حيث سقطت من النسختين، وزادها المحقق على ضوء السياق والسباق، مع الاستعانة بألفاظ وعبارات المصادر التي عرضت المسألة. (4) لم يذكر النووي هذا الوجه، واكتفى بقوله: "وإذا قال: أعتق مستولدتك على ألف، =

ثم أشار إلى الفرق فقال: أم الولد مملوكة تضمن باليد، فلا يتحقق فيها معنى الفداء والتخليص بخلاف الزوجة؛ فإن المالية لا تتحقق فيها، وهذا ليس بشيء (1). فرع: 12414 - إذا كان بين شريكين جارية مشتركة، وكانت حاملاً بولد رقيق مشترك بينهما، فقال أحد الشريكين: نصفي من الجنين حر، فأتت بولد لزمان يعلم أنه كان موجوداً يوم الإعتاق، نُظر: فإن انفصل حياً، حكمنا بأنه حر: إعتاقاً وسراية، وعلى المعتِق قيمةُ نصفه لشريكه. وكل ذلك تفريع على تعجيل السراية. ثم اتفق الأصحاب على أنا نعتبر قيمةَ يوم انفصاله حياً؛ فإن العتق وإن تقدم على هذه الحالة، فلا يمكن اعتبار حالة متقدمة على وقت الانفصال، وهذا أصل ممهد. ولو انفصل الجنين ميتاً، نُظر: فإن انفصل من غير جناية جانٍ، فلا ضمان على المعتِق، وإن انفصل بجناية جانٍ، فعليه غرةُ عبدٍ أو أمة، كما لا يخفى تفصيل الغرة. وإنما أوجبنا الغرة؛ لأن الجنين حر مسلم، ثم يجب على المعتِق لشريكه نصف عشر قيمة الأم؛ نظراً إلى قيمة الجنين المملوك، وإنما يلزم المعتِق القيمةُ مع تقدير استمرار الرق والملك. وهذا واضح. قال القفال فيما حكاه الشيخ: هذا فيه إذا كان عشر قيمة الأم مثلَ الغرة أو أقلَّ، فيلتزم نصف العشر في مقابلة نصيب صاحبه من الجنين، فأما إذا كان عشرُ القيمة أكثر

_ = فأعتقها، نفذ العتق، وثبت الألف، وكان ذلك افتداءً من المستدعي، كاختلاع الأجنبي" (ر. الروضة: 8/ 292). وكذا البغوي في التهذيب ذكر المسألة عرضاً في كفارة الظهار، ولم يذكر إلا أن العوض يستحق (ر. التهذيب: 6/ 173) وأما الغزالي فذكر هذا الوجه في البسيط ووصفه بأنه غريب -كما وصفه إمام الحرمين- ولم يذكره في الوسيط. (1) حقاً إن هذا الفرق ليس بشيء، فليس هناك من ناحية الافتداء والتخليص فرق بين الزوجة وأم الولد، وإنما الفرق بين الزوجة وأم الولد من جانب وبين العبد القن من جانب آخر، والمعنى أنه لو قال: أعتق عبدك ولك عليّ ألف، عتق العبدُ، ولزمه الألف، هذا هو المذهب، وفيه وجه أنه ينفذ العتق، ولا يلزم العوض، وهذا الوجه يخرج في العبد والأمة ولا يخرج في أم الولد واختلاع الزوجة، والفرق أنه يمكن شراء العبد أو الأمة وإعتاقهما، فلا تتعين هذه الطريقة لتخليصهما، بخلاف الزوجة والمستولدة، إذا احتيج إلى فدائهما وتخليصهما.

من الغرة، فلا يلتزم لصاحبه إلا نصف الغرة، فإن سبب وجوب الضمان (1) الغرةُ بدليل أنه لو انفصل من غير جناية، لم يجب شيء من الضمان، فينبغي أن يُعتبر مقدارُ الغرة كما اعتبرنا أصلها. قال الشيخ أبو علي: الوجه ألا ننظر إلى مقدار الغرة ونسبة عُشر قيمة الأم إليه، بل نقول: يلتزم نصفَ عُشر قيمةِ الأم بالغاً ما بلغ؛ فإن انفصاله مضموناً بمثابة انفصاله حياً، والدليل عليه أن الغرة الواجبة يستحقها وارث الجنين، وقد لا يستحق المعتق منه شيئاً، ومع هذا ألزمناه الغرم، وإنما كان يجب مراعاة المناسبة بين الغرمين لو كان الواجب بالجناية للمعتِق، فإذا كان يغرَم بعتقه وليس له من الغرة شيء، فيلتزم نصفَ عشر القيمة من غير التفات إلى المقدار والتساوي والتفاوت. فرع: 12415 - إذا قال مالك عبدين: أحدكما حر على ألف درهم، فقالا جميعاً: قبلنا، معناه قبل كل واحد منا ألف درهم؛ فإنهما لو قبلا ألفاً على معنى التوزيع، لم يعتق واحد منهما؛ فإنه علّق عتق أحدهما بقبول أحدهما ألف درهم، فإذا قال كل واحد منهما: قبلت الألف، فقد تحقق متعلَّق العتق، فوجب الحكم بنفوذه على الإبهام. ثم لو مات المولى، وقلنا: لا يقوم الوارث في البيان مقامه، أو لم يكن له وارث معين، فنُقرع بينهما. فمن خرجت عليه القرعة، ألزمناه. وفيما نُلزمه وجهان: أصحهما - أنه نُلزمه قيمةَ رقبة نفسه، فإن القبول جرى في مقابلة إيجاب مبهم. ولا تصح المعاوضة على هذه الصفة، ولكن نفذ العتق لتحقق الصفة، فالرجوع إلى قيمة الرقبة الفائتة بالعتق. وحكى الشيخ وجهاً آخر أن من تعيّنه القرعة، فعليه الألف المسمى، ويقبل المسمى الترديد، كما قَبِل العتقُ في نفوذه ذلك اتباعاً لعوض العتق، وهذا بعيد لا اعتداد به.

_ (1) سبب وجوب الضمان الغرة: المراد ضمان الشريك لشريكه، فلو لم توجد الغرة -كأن انفصل ميتاً بغير جناية- فلا ضمان على الشريك. هذا معنى كون الغرة سبباً في الضمان.

فرع: 12416 - إذا شهد شاهدان على أن فلاناً أوصى بعتق هذا العبد، وعيّنا عبداً، ونفذ القضاء بشهادتهما، وشهد شاهدان على أنه أوصى بعتق عبد آخر، وكل واحد منهما يعدل ثلثَ التركة، ثم رجع الشاهدان الأولان، فالقضاء لا ينقض بعد نفوذه، ويقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على العبد الأول، التزم الراجعان قيمة [ثلث] (1) التركة لرجوعهما، فإن الذي جرى منهما تفويت لا يتوقع له مستدرك، فيوجب الضمان مذهباً واحداً. ثم إذا اتفق ما وصفتُه، فالتركة متوفرة على الورثة من غير نقصان، وإن كانت إحدى البينتين مصرة على شهادتهما؛ فإن القرعة عينت العبد الأول واقتضى الشرع تغريم الراجعَيْن. وإن خرجت القرعة على العبد الثاني، وشهوده مصرون، عتق ذلك العبد، ولم يغرم الراجعان شيئاً؛ فإن القرعة لم تُفض إلى عتق من شهدا عليه، وسلم الرق فيه للورثة. فرع: 12417 - عبد مشترك بين ثلاثة، فشهد اثنان منهم على الثالث بأنه أعتق نصيبه، [وكان موسراً] (2)، فالمذهب ردُّ شهادتهما، والتفريع على تعجيل السراية، وإنما رددنا شهادتهما، لأن موجبها أن يغرَمَ الشريكُ لهما قيمةَ نصيبهما، وهما مثبتان لأنفسهما استحقاقاً. وذكر الشيخ وجهاً بعيداً أن عتق الثالث يثبت في نصيبه، ولكنا لا نُلزمه قيمةَ نصيب الشاهدين، فتقبل الشهادة في العتق، ونردُّها في مكان التهمة. وهذا ليس بشيء؛ فإن الشهادة إذا كان وضعها اقتضاء التهمة، فينبغي أن ترد، ثم إن رددنا شهادتهما على ظاهر المذهب، فالعتق نافذ في نصيبهما مؤاخذة بالإقرار؛ فإن الشهادة وإن ردّت على الثالث لمكان التهمة، فهما مؤاخذان بإقرارهما قطعاً. وإن قلنا: العتق لا يتعجل سرايته قبل غرامة القيمة، فحينئذ لا يعتِق نصيبهما،

_ (1) زيادة اقتضاها السياق، وسقطت من النسختين. (2) في النسختين: " وكانا موسرين ".

ولكن المذهب الظاهر أنه يمتنع عليهما التصرفُ في نصيبهما بموجب إقرارهما بناء على ما قدمناه في تفريع سريان العتق. فرع: 12418 - إذا شهد شاهدان أن هذا الشريك أعتق نصيبه من العبد المشترك، وكان موسراً، ونفذ القضاء بشهادتهما؛ فلو رجعا، فلا مردّ للقضاء، فإن فرّعنا على تعجيل السراية، فلا شك أنهما يغرمان قيمةَ نصيب من شهدا على إنشائه العتق؛ فإن هذا لا مردّ ولا استدراك له، فقطعنا بالغرم. فأما قيمة نصيب الشريك، فقد وجبت بالشهادة كما ذكرنا. فإذا رجعا، فهل يغرمان تلك القيمة؟ هذا يخرج على القولين. والسبب فيه أن الشريك الذي أثبتنا السراية في نصيبه ربما يقر لشريكه، ويكذب الشاهدين، ويرد القيمة، فالاستدراك (1) موهوم (2)، فخرجت المسألة في الغرم على قولين. ولو شهد شاهدان على أحد الشريكين بأنه أعتق نصيبه من العبد وشهد شاهدان آخران أن الشريك الثاني أعتق نصيبه من العبد ولم يتعرض واحد لتاريخ، فيحكم الحاكم بنفوذ العتق في جميع العبد لا محالة، ولا يمكننا أن نقضي بسراية؛ إذ لا تاريخ في تقدم أو تأخر، وليس أحدهما بأن نقدره مُنشئاً ابتداء أولى من الثاني، فلو رجع الشهود بأجمعهم عن الشهادة بعد نفوذ القضاء، وهم أربعة، فيغرم كل واحد منهم ربع قيمة العبد لمن شهد عليه، وتعليله بيّن. وحكى الشيخ وجهاً آخر أنه لا يَغرم واحدٌ منهم شيئاً لجواز أن نقدر تقدماً في أحد العتقين وسرايته إلى الثاني، فتكون بيّنة الإعتاق شاهدة على الإعتاق بعد السريان. ولو وقع كذلك تحقيقاً، لما وجب على شهود الإعتاق بعد السريان شيء. ثم هذا الاحتمال لا يختص بجانب، بل يجري في الجانبين جميعاً، والأصل براءة الذمة، فيجب أن ينفى الغرم. وهذا وجه بعيد لا أصل له. فإن الراجع مؤاخذ بموجب قوله، وهو معترف

_ (1) ت 5: " فالاشتراك فيه موهوم ". (2) موهوم: بمعنى محتمل.

بالرجوع عن الشهادة على إنشاء العتق، فليلزمه الغرم على موجَب رجوعه، ولا ينبغي أن ندعي له تأويلاً هو لا يدعيه لنفسه، وأيضاً فإن فوات العبد قد تحقق قطعاً بشهاداتهم، وليس البعض أولى من البعض، فالوجه تغريمهم، كما ذهب إليه الأكثرون، لا وجه غيره. فرع: 12419 - إذا شهد شاهدان أنه أعتق سالماً في مرضه - وهو ثلث ماله، وقال الوارث: قد أعتق غانماً -وهو ثلث ماله- ولم يتعرض لتكذيب الشاهدين، فقد ثبت العتق في سالم وغانم في ظاهر الحال، فنقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على غانم الذي أقر له الوارث، عتق، وعتق سالم، فإنا لو رَدَدْنا عتق سالم، لكنا قد تسببنا إلى رد العتق المشهود عليه بسبب إقرار الوارث، ولا سبيل إلى هذا، ولو لم يكن إقرار الوارث، لعَتَق سالمٌ قطعاً، ولو خرجت القرعة على سالم، فعتقه محكوم به، ولكن يرق غانم؛ لأن الوارث اعترف بعتقه في المرض وذلك يوجب القرعة، فمقتضى إقراره تعريضُ غانمٍ للقرعة، فأما أن يعتِق لا محالة، فلا. فرع: 12420 - ذكر الشيخ في مقدمة مسألة في الغرور زوائد، نذكرها ثم نذكر المسألة قال: إذا غُر الرجل بأمة في النكاح، واعتقد حريتها، وولدت على غرور ولداً، فهو حر، ثم يغرم المغرور لسيد الأمة قيمة الولد إذا انفصل حياًً. وهذا مشهور. وقال الشيخ: القياس ألا يغرم شيئاً، لأن الولد خلق حراً، فلم يثبت فيه رق ثم تسبب إلى إزالة الرق، وإنما يجب الغرم لمالك الرق إذا فرضت جناية فيما ثبت ملكه فيه. ثم قال: وهذا فلا (1) وقع له. والإجماع بخلافه، فأوضح أن الذي ذكره ليس بتخريج، [وإنما هو إبداء قياس] (2) واحتمالٌ غيرُ مقولٍ به.

_ (1) كذا في النسختين (فلا) بالفاء. ووضعُ الفاء مكان الواو معهودٌ في لسان الإمام وكل معاصريه من الأئمة والمؤلفين. (2) في الأصل: قلنا: " هو إيداء قياس ... إلخ " والمثبت من (ت 5).

ثم أجرى في أثناء المسألة أن من قال من أصحابنا: لا يغرم المغرور شيئاً، فتفريعه كذا، وهذا يوهم أن ما ذكره وجه، ولست أثق بهذا، وقد انعقد الإجماع على خلافه، وجرى به قضاء عمر رضي الله عنه (1). وقد ذكر الشيخ في صدر المسألة أن هذا قياسٌ غير معمول به والإجماع على خلافه. ومما زاده أن قال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الولد يمسّه الرق، ثم يعتِق بسبب الغرور، وهذا غريب جداً، لم أره لغيره، فلا أعدّه من المذهب. 12421 - ثم نرجع إلى صورة المسألة: قال ابن الحداد: إذا غُرّ الرجل بأمة وجاء الولد على الغرور حراً كما ذكرنا، فلو بان أن الجارية كانت لأب المغرور، فالمذهب أنه يغرم قيمةَ الولد جرياً على قياس الغرور. ولو نكح جارية أبيه على علمٍ، لكان الولد يعتِق على الجد، وإذا جرى الغرور على جهلٍ من المغرور بأن الجارية لأبيه، فالغرم واجب. وقد حكى الشيخ وجهاً أنه لا يجب الغرم، فإن تقدير الرق في الولد مما لا ينتفع به الأب. فإنه يعتق عليه لا محالة. فإذاً لم يفته بسبب الغرور رقٌّ ينتفع به، وهذا ينبه على أمر آخر، وهو أن الابن إذا نكح جاريةَ أبيه، فقد ذكرنا أن الرق لا يبقى في الولد، وإن كان الابن عالماً، فظاهر كلام الأئمة أنه لو كان كذلك، لقلنا: ينعقد رقيقاً، ثم يعتِق على الجد، وهذا كما لو اشترى أو اتهب من يعتق عليه، فالملك يحصل، ثم يترتب عليه العتق. فوجود الولد من جاريته سبب في تملك الولد، فليحصل الملك فيه ثم يعتق. وهذا فيه أدنى احتمال؛ فإن انعقاد الولد حراً ليس بدعاً، ويستحيل شراء لا يفيد ملكاً، وكذلك الإرث وغيرهما من أسباب الملك، ولا يستحيل علوقٌ على الحرية.

_ (1) أثر عمر عزاه الحافظ إلى البيهقي من حديث الشافعي عن مالك (ر. التلخيص: 4/ 391 ح 2706).

فلو قيل: لا ينعقد الولد إلا حراً، لم يبعد. والله أعلم. فرع: 12422 - إذا كان في ملك المريض ثلاثة آلاف درهم، فاشترى في مرض موته عبداً قيمته ألف درهم، بألفي درهم، فقد حابى بثلث ماله، فلو أعتق ذلك العبد الذي اشتراه، فقد قال ابنُ الحداد: نُظر فيه؛ فإن لم يوفر الثمن حتى يعتق قال: نفذ العتق، وردت المحاباة، ولزم البيع في العبد بثمن المثل. وإن وفّر الثمن، لزمت المحاباة، ورددنا العتق. وقد جمع ابن الحداد بين غلطات فاحشة، فنذكر المذهب الحق ثم نذكر وجوه خطئه، فنقول: المحاباة لازمة؛ لأنها على مقدار الثلث والعتقُ مردود؛ فإنه وقع بعدها، ولا فرق بين أن يقع العتق بعد التوفير أو قبله؛ فإن المحاباة لا يتوقف لزومها حيث تلزم على إقباض وتسليم، وقد ثبت فيها التقدم. وأما غلطاته، فمن وجوه: منها أنه فرق بين أن يوفر الثمن وبين أن لا يوفر، ومنها أنه ألزم البيع بمقدار ثمن المثل، وهذا ليس بشيء؛ فإن البائع لا يرضى بهذا، وهو يقول: إذا لم يسلم لي الثمن المسمى، فسخت العقد، فلا وجه لما قال أصلاً. قال الشيخ: اتفقت له زلاّت في مسائل الكتاب، ولم تتفق زلة أفحش مما ذكرناه في هذه المسألة، إذ لا إشكال ولا خيال فيها. فرع: 12423 - جارية مشتركةٌ بين شريكين زوجاها من ابن أحدهما، قال ابن الحداد: إذا ولدت، عتق نصف الولد على الأب، ويبقى نصفه رقيقاًً، ولا يسري العتق؛ فإن السريان إنما يثبت إذا كان التسبّب إلى العتق مختاراً، كما مهدنا ذلك في بابه، ولم يوجد اختيار من الأب، فوقف العتق على النصف ولم يسرِ، فالولد نصفه رقيق ونصفه حر. قال الشيخ: رأيت لبعض من شرح الفروع شيئاً لا أصل له، وهو أنه قال: إنما لا يسري لأن نصف الولد ينعقد حراً، ولا نقول: ينعقد الكل رقيقاًً، ثم يعتِق نصفه. والحرية الأصلية لا تسري وإنما يسري العتق الوارد على الرق في بعض الولد. وقد أشرت إلى إظهار ذلك احتمالاً فيما تقدم.

ثم قال الشيخ: هذا خطأ. والمقطوع به أن الولد ينعقد جميعه رقيقاًً، ثم يَعْتِق نصفه على الأب، وتعليل عدم السريان بما ذكرناه من سقوط الاختيار في تحصيل الملك، ولا نظر إلى كون التزويج صادراً عن الرضا؛ فإن وقوع الوطء وجريان العلوق بعده لا يتعلق باختيار المزوّج. والله أعلم. ***

باب الولاء

باب الولاء 12424 - من عَتَق في ملكه مملوك فولاء ذلك العتيق لمن حصل العتق في ملكه، ولا فرق بين أن يحصل الملك اختياراً، وبين أن يقع شرعاً ضرورة من غير اختيار. فإذا أعتق الرجل مملوكه، أو اشترى من يعتِق عليه، فَعَتَقَ، فالولاء يثبت له، وكذلك إذا ورث من يعتق عليه وعَتَق، يثبت الولاء. والأصل في الولاء السنة والإجماع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". وفي بعض الروايات: " لا يباع، ولا يورث، ولا يوهب " (1). وقال صلى الله عليه وسلم: " الولاء لمن أعتق " (2). والولاء أثر نعمة أنعمها المعتِق على المعتَق، فكأنَّ حقيقته ترجع إلى انتساب المنعَم عليه إلى المنعِم، ثم ذلك الانتساب يثبت أحكاماً، كما سيأتي شرحها، إن شاء الله في تفاصيل الباب. ومما يعهد في الشريعة أن اجتماع أحكام قد يعبر عنها بعبارة تجمعها كالبيع؛ فإنه عبارة عن اجتماع قضايا وأحكام، وليس العقد في التحقيق زائداً عليها. ثم يسمى ثبوتها عقداً، ويسمى رفعها فسخاً، كذلك الولاء في الحقيقة انتسابٌ لازم، سببه نعمةُ العتق، ثم تعلق بذلك الانتساب أحكامٌ، والعبارة عن مجموعها الولاء.

_ (1) حديث " الولاء لحمة كلحمة النسب " رواه الشافعي، وابن حبان، والبيهقي من حديث ابن عمر (ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/ 72، 73، صحيح ابن حبان: 7/ 220، السنن الكبرى: 10/ 292، التلخيص: 4/ 392 ح 2708). (2) حديث " الولاء لمن أعتق " متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: العتق، باب بيع الولاء وهبته، ح 2536، مسلم: العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 1504).

وليس الولاء حقاً مملوكاً؛ إذ لو كان كذلك، لأمكن حطُّه وإسقاطُه كسائر الحقوق الثابتة للآدمي، وإنما هو كالنسب الذي لا يتصور إسقاطه، وقد دل قول الرسول عليه السلام على ما ذكرناه في ذلك؛ إذ قال: " الولاء لحمة كلحمة النسب " معناه أنه انتساب كالنسب. وقال: " مولى القوم منهم " (1). وقال: " سلمان منا أهل البيت " (2). وقد قال كثير من أئمتنا من أوصى لبني فلان بشيء دخل الموالي فيهم، وقالوا: الصدقة كما تحرم على بني هاشم وبني المطلب، تحرم على مواليهم. وعلى هذا الأصل امتنع نفي الولاء بالشرط. فمن أعتق عبداً وشرط ألا يكون له ولاء، لم ينتف كما لا تنتفي الأنساب بعد ثبوتها. 12425 - ثم الكلام في الباب يتعلق بأصلين: أحدهما - في الجهات التي يثبت الولاء بها. والثاني - في أحكام الولاء. فليقع البداية بجهات الولاء، ويجب أن يكون للناظر فضل اعتناء بهذا الباب؛ فإنه مزلة الأقدام، وقد كثر فيه غلطاتُ الكبار، ونحن لا نألوا في الكشف والبيان جهدنا -إن شاء الله عز وجل- وهو ولي التأييد بمنّه ولطفه. فنقول: الولاء يثبت بمباشرة العتق، وهو أقوى الجهات. ويثبت بغيره أيضاً.

_ (1) حديث " مولى القوم منهم " رواه أصحاب السنن، وابن حبان من حديث أبي رافع (ر. أبو داود: الزكاة، باب الصدقة على بني هاشم، ح 1650، الترمذي: الزكاة، باب ما جاء في كراهية الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ومواليه، ح 657، النسائي: الزكاة، باب مولى القوم منهم، ح 2612، ابن حبان: 5/ 124 ح 3282، التلخيص: 4/ 393 ح 2711). (2) حديث " سلمان منا آل البيت " رواه ابن سعد في الطبقات (4/ 82، 7/ 318) والطبراني في الكيير (6/ 260) والحاكم (3/ 598) والبيهقي في الدلائل (3/ 418) من حديث عمرو بن عوف مرفوعاً. قال الألباني: ضعيف جداً، وقد صح عن علي رضي الله عنه موقوفاً من طرق، رواه ابن أبي شيبة (12/ 148 ح 1238)، وابن سعد (2/ 346، 4/ 85)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 187). (ر. سلسلة الضعيفة للألباني: 8/ 176 - 181 ح 3704، ضعيف الجامع الصغير: 3272).

فأما ولاء المباشرة: فهو الثابت لمن حصل العتق في ملكه. فأما غيرُه من الجهات، فمن استحق ولاءَ شخص بالإعتاق، أو حصولِ العتق فيه، فلو أعتق ذلك العتيق عبداً، فلا شك أنه أولى بولائه، فإن ولاءه عليه بالمباشرة. ولكن لو مات المعتِق، فيثبت للمعتِق الأول ولاءُ معتَقِ معتَقه. على ترتيبِ سيأتي وصفه -إن شاء الله عز وجل- عند ذكر أحكام الولاء. فمعتَق المعتَق منتسب إليه بولاء المباشرة. وهو منتسب إلى المعتِق الأول بانتسابه إلى معتِقه. فهذه جهة. والجهة الأخرى الولادة، فولد المعتَق عليه حكم الولاء لمعتِق الوالد. فخرج مما ذكرناه أن الولاء يثبت حكمه بجهتين أخريين. إحداهما: معتَق المعتَق، والثانية: ولد المعتَق. ثم لا يختص بولد صلبه، بل يطّرد ويجري على أحفاده، كما سنوضح ذلك بالتفصيل -ولا يتأتى الهجوم على المشكلات إلا قليلاً قليلاً- ثم كما يثبت الولاء على ولد المعتَق يثبت الولاء على ولد المعتَقة، وثبوته على ولد المعتَقة أقرب إلى درك الفهم من ثبوته على ولد المعتَق؛ فإن ولادة المعتَقة محسوسة، والانتساب إلى المعتَق حكمٌ غير محسوس ولا مستيقن. 12426 - وينشأ (1) من هذا المنتهى الكلامُ في جر الولاء، ونحن بعون الله نوضح ما فيه. فنقول: إذا نكح معتَقٌ معتقَةً، فأتت بولدٍ، فهو متردد بين أبويه ولادةً وانتساباً، والولاء يثبت على الولد. واتفق العلماء على أن الولاء على الولد بين المعتَق والمعتَقة لموالي المعتَق، ولا يثبت الولاء لموالي الأم، وهذا يؤكد ما ذكرناه في قاعدة الباب من أن الولاء انتساب؛ فإن النسب إلى الآباء، فكان انتساب الولاء إلى الأب أولى، ثم ينتسب إلى معتَق الأب منه، ولم يصر أحد إلى كون الولاء مشتركاً بين مولى الأب ومولى الأم.

_ (1) في هامش نسخة الأصل كلمة: (وتبينا) مع علامة لحق بعد كلمة: (وينشأ) ولم أعرف لها موضعاً.

ثم نخوض من هذا الموضع في تفصيل جر الولاء، فنقول: إذا نكح مملوكٌ معتَقةً، فأتت بولد، فهو حر بمثابة الأم، ويثبت عليه الولاء لموالي الأم، ولا يثبت الولاء لمالك الأب؛ فإنه لا ولاء له عليه، فكيف يثبت له الولاء على ولده؟ وإنما قلنا كذلك، لأن الولاء انتساب إلى المنعِم بالعتق، ولم يتحقق ذلك في جانب الأب، ثم لو أعتق السيد العبدَ، ثبت له ولاءُ المباشرة عليه، وانجرّ الولاء على ولده إلى معتِق الأب من معتِق الأم، وهذا أصدق في تقوية جانب الأب في انتساب الولاء؛ فإن الولاء الثابت المحكوم بثبوته لمولى الأم ينقطع عنه، ويثبت لمعتِق الأب. ومما يجب الإحاطة به في هذا المقام أن الولد لو مات والأب رقيق بعدُ، فورثه مولى الأم، ثم عَتَقَ الأبُ، فذلك الميراث المحكوم به لا ينتقض، بل هو مقر على ما جرى الحكم، والسرّ فيه أن الولاء إذا انجرّ، فليس المعنيّ بانجراره أنا نتبين من طريق الاستناد أن الولاء لم يزل في جانب الأب؛ ولكن المراد به أنه ينقطع من وقت عتق الأب عن مولى الأم، وينجز إلى مولى الأب. ولو نكح معتَق معتَقة، فأتت بولد، فنفاه المعتَق باللعان، فإن انتفى نسبه، فلا ولاء عليه لمولى الزوج؛ فإن [الولاء] (1) يتبع النسب، فلو مات ذلك الولد، صرفنا ميراثه إلى مولى الأم. ولو كذب الزوج نفسه، واستلحق النسبَ الذي كان نفاه باللعان، لحقه النسب، ثم ينقطع الميراث عن مولى الأم؛ فإن هذا بابه الإسناد والتبيّن، وهذا واضح لا خفاء به، فوضح أن سبب (2) الجر يقطع ولاء الولد عن موالي الأم، ولا يستند ذلك إلى متقدم سابق. ومما نذكره في أصل الجر أن المعتَق لو نكح أمة، فأولاده منها أرقاء، فلو أعتقهم مالكهم، ثبت له الولاء بمباشرة العتق، وولاء المباشرة لا يثبت لغير المعتِق، ولا ينجر إلى جانب الأم أصلاً، وإنما ينجر ولاءٌ ثبت عن تعدي الولاء من الأم إلى الولد. وهذا متفق عليه.

_ (1) في الأصل: " انتسابه "، وفي ت 5 غير مقروءة، والمثبت من المحقق. (2) ت 5: " نسب الحر " مكان " سبب الجز ".

ولو نكح معتَقٌ حرة أصلية، لا ولاء عليها، فأتت بولد، فالمذهب الذي يجب القطع به أن الولاء يثبت عليه لموالي الأب نظراً إلى الأب، وهو معتَق. والدليل عليه أن الأب لو كان رقيقاً، والأم معتَقة، ثبت الولاء بسبب كون الأم معتقة، وإن لم يكن في جانب الأب الرقيق ولاء، فكذلك إذا كان على الأب ولاء، ثبت الولاء على الأب. وإن كانت الأم حرة، لا ولاء عليها، نظراً إلى الانتساب. والذي يوضح ذلك أن ولد المعتَق من معتَقة يثبت الولاء عليه، وإن لم يمسّه رق قط؛ نظراً إلى الولاء على الأب. ولو نكح حر لا ولاء عليه معتقةً، وأتت منه بولد، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أن الولاء لا يثبت؛ فإن جانب الأب لا ولاء فيه، وهو حر مستقل، والنسب إليه؛ فينبغي أن يكون بمثابة أبيه في انتفاء الولاء عنه، وليس كما لو كان رقيقاًً؛ فإنه يتصور الولاء عليه إذا أعتق. والوجه الثاني أن الولاء يثبت على الولد لمولى الأم؛ فإنها معتقة، وقد امتنع إثبات الولاء في جانب الأب. والوجه الثالث - أنه ينظر إلى الزوج، فإن كان حراً ظاهراً وباطناً -وهو الذي لا يتمارى في حريته- فلا ولاء على الولد، وإن كان ظاهر الحرية لا اطلاع على باطن أمره، كالذي يحكم له بالحرية لظاهر الدار، أو للبناء على أن الأصل في الناس الحرية، فالولاء يثبت على الولد لمولى الأم لضعف الحرية في الأب. وقد ذكر شيخي أبو محمد في المعتَق إذا نكح حرة لا ولاء عليها أن الولد لا ولاء عليه عند بعض أصحابنا. وهذا ليس بشيء ولست أعتد به، ولذلك ذكرته آخراً وأخرته عن ترتيب المذهب. 12427 - ومما يتعلق بقاعدة الكلام في الجرّ أن العبد إذا نكح معتقة، وولدت منه ولداً، فهو حر، يثبت عليه الولاء لموالي الأم، ولو اشترى هذا الولدُ -لما استقل- أباه المملوك، وعتق عليه، فالذي يقتضيه قياس الجرّ أن ينجر ولاؤه إلى جانب الأب؛ فإنه قد عَتَق. ولكن ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا ينجرّ الولاء في هذه الصورة عن مولى الأم؛ فإنه لو انجر، لثبت لمعتِق الأب. ومعتِق الأب هو الابن. فيلزم منه

أن ينجر إليه ولاؤه، فيصير مولى نفسه، أو ينجر ويزول وكلاهما بعيد، فإن الولاء لا يزال بعد ثبوته أصلاً. وقال ابن سريج ينجرّ الولاء عن موالي الأم، فينقطع ويصير الولد بمثابة من لا ولاء عليه أصلاً. وهذا بعيد (1) لا تفريع عليه. 12428 - ومن الأسرار التي بالغفلة عنها يستبهم الباب على طالبه أنا إذا كنا نجرّ الولاء إلى جانب الأب، فلسنا نعني بذلك أن الولاء يثبت للأب، ثم يثبت منه لمولاه ومعتِقه، ولكن لا يثبت الولاء على الولد إلا للأب، ولا نقول: المعتَق إذا كان له ولد، فله ولاؤه، وليس كالمعتِق إذا أعتق عبداً؛ فإن ولاءه لمعتِقه، ثم بعده لمعتِق المعتَق، والدليل على ذلك أن الابن من المعتَقة إذا اشترى أباه المملوك، فالولاء لا ينجر عن مولى الأم على الظاهر، ولا نقول ينجر إلى الوالد ولا ينجر منه إلى [الولد] (2). ولا يستغني الناظر في مسائل هذه عن تفكر وردٍّ إلى النظر والتدبر. 12429 - ومما ذكره الأئمة في أصول الجر أن المملوك لو نكح معتقة، وولدت، وقلنا: الولاء لمولى الأم لا محالة، والزوج عبد، فلو كان أبوه الذي هو جد المولود عبداً أيضاً، فلو اشترى إنسان جده وأعتقه، فهل ينجرّ الولاء إلى معتِق الجد؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - ينجر إليه؛ فإن الجد أصل المولود من قبل أبيه، وقد حصل العتق فيه. والثاني - أنه لا ينجر الولاء بإعتاق الجد؛ فإن الأب باق رقيق، والعتق فيه ممكن، فلو قلنا: لو أُعتق الأب، انجر من معتق الجد إلى معتق الأب، فهذا ولاء مجرور غير مستقر، وهو بعيد، وإن قلنا: لا ينجر من معتق الجد إلى معتق الأب، فهو بعيد، فالوجه أن نقول: لا ينجر إلى معتِق الجد أصلاً. والأصح [الوجه] (3) الأول. وهو أنه ينجر إلى معتق الجد، ثم ينجر منه إلى معتق الأب.

_ (1) خالف الغزالي إمامه في ذلك، إذ قال: " واستبعاد هذا من ابن سريج؛ يبعد عندي، فإنه صار أولى بنفسه من غيره، فيستفيد قطع ولاء موالي الأم عن نفسه " (ر. البسيط: الجزء السادس، صفحة رقم 384 - مخطوطة مرقمة الصفحات). (2) في الأصل: " المولى ". والمثبت من (ت 5). (3) زيادة من (ت 5).

والذي تحققتُه من مذهب الأئمة أن الأب لو مات رقيقاًً، فأعتق معتق الجدَّ أبَ الأب، فينجر الولاء من مولى الأم إلى معتِق الجد وجهاً واحداً؛ فإنه يستقر، ولا يتوقع فيه بعد ذلك انجرار. 12430 - فهذه قاعدة المذهب في جر الولاء، ومنشؤها من قولنا: جانب الأب أولى من جانب الأم، وقد تقرر بمجموع ما ذكرناه أن الولاء يثبت لمعتِق المعتَق، ويثبت على ولد المعتَق والمعتَقة، ثم تفصيل الجر على ما تمهد. ومما يليق بتمام القول فيه أن ولد المعتَق إذا صرفنا ولاءه إلى مولى الأب، فلو أعتق هذا الولدُ عبداً، فله ولاء المباشرة عليه، فلو مات هذا الولد، ولم يخلف عصبة سوى معتِق أبيه، ثم مات معتَقه، فميراثه لمعتِق الأب. وفائدة ذلك أن معتَق المعتَق قد ينتهي انتسابه إلى المعتِق الأول، كذلك معتَق ولد المعتَق ينتهي إلى معتِق الأب الذي أثبتنا له ولد الولد، فيلتف النسب بالولاء في جهة الانتماء والولاء بالنسب [إذا] (1) افتتحنا الكلام في الأحكام. وإنما غرضنا الآن إيضاح جهات الولاء وإحكام قواعدها [ثم إنها تتهذب] (2) بالفروع وإكثار الصور المعقَّدة. والله ولي الإعانة بمنّه ولطفه. فرع في جر الولاء: 12431 - إذا تزوج عبد بأمة، فما يحصل من الأولاد رقيق، فلو وُلد ولا رقيق، فاعتقه مالكه، وهو مالك الأم، فيثبت له عليه ولاء المباشرة، وهذا لا يتصور انجراره، كما قدمنا ذكره وتمهيدَه، ولا يثبت عليه ولاء السراية، والمراد به أنه لا يثبت مع ولاء المباشرة ولاء بسبب ولاء الأم أو بسبب ولاء الأب عند جريان العتق عليهما أو على أحدهما، بل لا يتصور فيه -وقد مسّه الرق والعتق- أن يثبت عليه ولاء من غير جهة المباشرة، ولا يتصور أن نبين غوامض الباب إلا عند نجازه بجميع مسائله.

_ (1) في النسختين: " وإذا ". (2) عبارة الأصل: " ثم أتمها في أنها تتهذب ... إلخ ".

فإذا أُعتق الأم والأب، فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت عتقهما، فالولاء لمعتق الأم، لأنا نتيقن أنه علق رقيقاً، ثم عَتَق بإعتاق الأم، فولاؤه ولاء المباشرة، لا ينجرّ أصلاً، فإن من ثبت عليه ولاء المباشرة، لم يلحقه ولاء السراية. وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من عتقها، نُظر: فإن كان الزوج يفترشها، فالولاء عليه لمولى الأب، والأمر محمول على أن العلوق حصل بعد عتق الأم، فقد خلق حراً، وما مسه الرق، فثبت عليه ولاء السراية على الترتيب المقدم. فإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من يوم عتق الأم، ولأقل من أربع سنين، وكان الزوج لا يفترشها، ففي المسألة قولان، بناء على أنه لو أوصى لحمل عَمْرةَ من زيد بشيءٍ، فإن أتت بولد لأقلَّ من ستة أشهر، استحق الوصية؛ فإنا تحققنا كونه موجوداً يوم الوصية، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر، وكان الزوج يفترشها بعد الوصية، فيستحق أيضاً؛ فإنه ولد عمرةَ من زيد، ولا يضر أن يوجد بعد الوصية، وإن كان لا يفترشها، وقد زادت المدة على ستة أشهر، فالصحيح أنه يستحق؛ لأن النسب ملتحق، فهو ولد عمرة من زيد. وذكر الربيع قولاً أنه لا يستحق، لأنا لم نتحقق كونه من زيد، والنسب لا يبنى [إلا] (1) على التحقق (2). والمسألة تصور على وجه آخر. وهو أنه لو أوصى للحمل الموجود، فإن أتت به لأقلَّ من ستة أشهر، صحت الوصية له، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر وكان الزوج يفترشها بعد الوصية، فلا تثبت الوصية، لأنا نحيل العلوق على الافتراش الواقع بعد الوصية، ولو كان الزوج لا يفترشها، فأتت بولد، ففي استحقاق الوصية قولان. وقد ذكرنا ذلك مستقصىً في كتاب الوصايا، عند ذكرنا الوصية للحمل، والوصية بالحمل.

_ (1) زيادة من (ت 5). (2) جملة " والنسب لا يبنى على التحقيق " في موضع الردّ على قول الربيع، وعبارة الغزالي هنا: " لكن النسب يثبت بالاحتمال، والولاء لا ينتفي بالاحتمال " (ر. البسيط: الموضع السابق).

وقدر غرضنا الآن بناء الصورة التي ذكرناها في الجر على هذه القاعدة، وإن كان في نفس الفقيه بقية مما ذكرنا، فليصبر إلى نجاز الباب؛ فإن انحل الإشكال الذي يخطر له، فذاك، وإلا فالأغلب أنه من تساهله في تأمل ما نرسمه في الباب، فليرجع وليتأمل. والله وليّ توفيق الطالبين بمنه وكرمه. وقد حان الآن أن نذكر أحكام الولاء في فصل. فصل 12432 - يتعلق بالولاء ثلاثة أحكام: الميراث، والولاية في التزويج، وضرْب العقل، وإذا نحن أوضحنا الميراث، كفى وظهر منه غيره. فنقول: إذا مات المعتَق، نُظر: فإن خلف عصبة نسيباً، فلا يخلص الميراث إلى الولاء أصلاً، وإن لم يكن له عصبةٌ نسيبٌ، وكان في ورثته أصحاب فرائض تستغرق الميراث، فلا ينتهي الميراث إلى عصبة النسب، فما الظن بالولاء؟ وإن لم يكن له عصبةٌ نسيبٌ، ولا فرائض، أو أفضلت الفرائض شيئاً، فهو للمعتِق المباشر للعتق كما قدمنا، فإن كان المعتِق قد مات قبل موت المعتَق، فالميراث مصروف إلى عصبات المعتِق، وقد مضى ترتيب القول في عصبات المعتِق في الفرائض، ولكنا نعيده لنتمكن من الكشف في الأطراف التي لم ينته إليها الشرح في الفرائض. ونصدِّر ما نريد الخوضَ فيه بتمهيد أصلٍ، وهو أن عصبة المعتِق لا يرثون الولاء كما يرثون الأملاكَ وحقوقها، وإنما يرثون بالولاء بانتسابهم إلى المعتِق بجهةٍ تقتضي العصوبة المحضة، توجب توريثهم. والدليل على أنهم لا يرثون الولاء، أن الولاء لو كان موروثاً، لاقتضى القياس أن يستوي في استحقاقه بالإرث الرجال والنساء كسائر الحقوق، ومن الدليل عليه أن المعتِق لو مات مسلماً، وخلف ابنا مسلماً، وابنا نصرانياً، ثم أسلم النصراني ومات المعتَق، فالابنان يستويان في ميراث المعتَق؛ لأنهما حالة موته من أهل استحقاق

الميراث، ولو كان الولاء موروثاً، لوجب أن يقال: لما مات المعتِق المسلم، وخلف ابنين أحدهما كافر = إنه يختص بإرث الولاء المسلمُ منهما، ثم كان يجب أن يقال: إسلام الكافر بعد الموت لا يرد استحقاقه؛ فإن من لم يكن وارثاً حالة الموت لكفره، لم (1) يصر وارثاً بعد إسلامه. ومن الدليل على ذلك أن المعتِق لو مات، وخلف ابنين، ثم مات أحد الابنين عن ابن، ثم مات المعتَق بعد ذلك، فالميراث لابن المعتِق، وليس لابن الابن منه شيء، ولو كان الولاء موروثاً، لوجب أن يُرَدَّ نصيب أحد الابنين لما مات إلى ابنه، وهذا يوجب توريثه من المعتَق مع عمه. وليس الأمر كذلك؛ فإنه يختص بالإرث العمُّ. وهو المعنيّ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " الولاء للكُبْر " (2). وسيزداد هذا الفصل وضوحاً بالتفصيل. 1433 - فإذا ثبت ذلك، خضنا في ترتيب عصبات المعتِق. فإذا مات المعتَق، ولا عصبةَ له من جهة النسب، ولا صاحبَ فرض، وكان المعتِق قد مات قبله، فلا نصرف إلى الذين هم أصحاب فرائض المعتِق شيئاً، وكذلك لا نصرف إلى الذين لا تتمحض العصوبة فيهم شيئاً. وهم الذين يصيرون عصبة بغيرهم. فإذا وجدنا [ابنَ المعتِق وبنتَه] (3)، فميراث المعتَق بجملته لابن المعتِق، وليس لبنت المعتِق شيء، وإن كانت البنت عصبة مع الابن في التوريث بالنسب، وهذا متفق عليه. وإذا كان في المسألة ابنُ المعتِق وأبوه، اختص بالميراث الابن؛ فإن الأب صاحب

_ (1) عبارة (ت 5): " ثم لم يصرف وارثاً بعد إسلامه ". (2) حديث " الولاء للكبر " رواه البيهقي عن عمر وعثمان من طريق سعيد بن المسيب، ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم " أن عمر، وعليّاً، وزيد بن ثابت كانوا يجعلون الولاء للكبر " (ر. السنن الكبرى: 10/ 303، مصنف عبد الرزاق 9/ 30 ح 16238، التلخيص: 4/ 395 ح 2720). (3) في النسختين: ابن ابن المعتق وبنته.

فرض مع الابن، وكذلك ابنُ الابن مع الأب: الميراث لابن الابن دون الأب. وإن لم يكن ابن ولا ابن ابن، فالميراث لأب المعتِق، ثم تترتب العصبات حسب ترتبهم في الميراث بالنسب. ويخالف ترتيبُ العصبات في الولاء ترتيبَهم في النسب في أمور: منها: أن الجدّ يقاسم الإخوة في النسب؛ وفي الجد مع الإخوة في التوريث بالولاء قولان ذكرناهما، فلا نعيدهما. ومنها أن الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب إذا اجتمعا مع الجدّ، فمذهب زيد في النسب المعادّة، ولا تجري المعادّة في الولاء أصلاً، بل يسقط الأخ من الأب؛ وذلك لأنا في المعادّة قد نعتبر فرضاً، ولا يتصور اعتباره في الولاء بحال. فإن لم نجد عصبةً نسيباً للمعتِق، فالميراث لمعتِق المعتِق، فإن لم يكن، فلعصبات معتِق المعتِق، فإن لم نجدهم، فلمعتِق معتِق المعتِق، ثم هكذا إلى حيث ينتهى. 12434 - فإن قيل: هلا تورثون معتِق عصبةَ المعتِق؟ قلنا: لا ميراث لمعتق عصبات المعتِق، إلا أن تكون العصبة أباً، فمعتِقه يرث المعتَقَ؛ وهذا بعينه هو الذي مهدناه عند ذكرنا سراية الولاية. ونوضح هذا بالمثال، فنقول: زيد أعتق سالماً، فوُلد لسالمٍ ولد اسمه عبد الله، فأعتق عبدُ الله عبداً، ثم مات المعتِق عبد الله، ومات أبوه سالم، وبقي معتِق أبيه زيد، ثم مات المعتَق، ورثه زيد؛ لأنه لما ثبتت له النعمة على سالم: أبِ المعتِق، ورث بولائه، وقد ذكرنا أن الولاء يسري إلى ولد المعتَق، وعبّر الأئمة بعبارة جامعة عمن يرث من عصبات المعتِق، وأجرَوْا عليه (1) المسائل، فقالوا: " يرث المعتَق بولاء المعتِق ذكرٌ يكون عصبة للمعتِق، لو مات المعتِق يوم موت المعتَق على البدل "، وعلى هذا تخرج المسائل التي لا يبتدرها فهم المبتدىء.

_ (1) كذا في النسختين (عليه) بضمير المذكر، على معنى " الأصل " وسيأتي بعد قليل تسميته هذه العبارة (أصلاً).

فلو مات المعتِق، وخلف أباً وابناً، ثم مات المعتَق، ورثه الابن دون الأب؛ لأن المعتَق لو كان هو الميت الآن، لكان العصبة ابنه دون الأب. وكذلك يخرّج الابن والبنت؛ فإن البنت ليست عصبة ذكراً، وليست عصوبتها بنفسها. ولو مات المعتِق عن ابنين مسلم وكافر، فأسلم الكافر، ثم مات المعتَق، ورثاه، أعني المسلم والذي أسلم بعد موت الأب؛ لأن الأب المعتِق لو مات يوم موت المعتَق، لكان الابنان جميعاً يرثانه بالعصوبة المحضة. ولو اشترى أخ وأخت أباهما، وعَتَقَ عليهما، ثم الأب اشترى عبداً وأعتقه، فمات الأب، ثم مات المعتَق، ورثه الأخ دون الأخت، وليس يرثه الأخ بالولاء، وإنما يرثه بعصوبة المعتِق بالنسب، وهو يخرج على العبارة الضابطة، لأن المعتِق لو مات في هذه الحالة، لكان عصبته الابن دون البنت. فإن قيل: أليس الابن والبنت اشتركا في شراء الأب، وثبت لهما الولاء عليه معاً؟ قلنا: نعم، ولكن الابن عصبة بالنسب، وقد ذكرنا أن عصوبة النسب مقدمة على عصوبة الولاء، وما دمنا نجد للمعتَق عصبة نسيباً، لا نصرف إلى معتِقه شيئاً، قيل: هذه المسألة غلط فيها أربعمائة قاضٍ، فضلاً عن غيرهم، وهي واضحة. ومن غلط، قال: الميراث بين الأخ والأخت، لأنهما مشتركان في ولاء الأب. وإذا ماتت امرأة عن ابنٍ، وأخٍ، وزوج، ولها معتَق، فمات المعتَق، ورثه الابن لا غير؛ لأنها لو ماتت الآن، كان هو العصبة. ولو مات رجل عن ثلاثة بنين، وله معتَق، فمات أحدهم عن ابنٍ، والثاني عن أربعة بنين، والثالث عن خمسة بنين، ثم مات المعتَق ورثوه كلهم اعتباراً بالتسوية؛ فإن المعتِق لو مات الآن، لكانوا جميعاً عصبة له يقسمون ماله أعشاراً. 12435 - ومما يخرّج على هذا الأصل أنه إذا كان لرجل ثلاثة من البنين، اثنان من امرأة وواحدٌ من أخرى، فمات، ثم اشترى أحد الأخوين من أب وأم -وأولاد الأب والأم يسمّون الأعيان، وأولاد الأب يسمَّوْن العلات- فإذا اشترى أحد العينين عبداً

وأعتقه، فمات، ورثه أخوه العَيْن، وصار قائماً بالولاء، فلو مات عن أخيه العَلّة، وعن ابن، فماله لابنه، والولاء لأخيه العَلّة. فإن قال الابن: أنا قد أحرزت مال أبي، فأُحرز الولاءَ أيضاً، قلنا: لا، فإن الولاء لا يورث، بل يورث به، فالعَلَّة يتقدم على ابن العين (1). ولو مات المعتِق -أحد العينين- وخلف ابن عَيْن وعَلَّة - وهو أخوه من أب، فهو العصبة دون ابن العين. وهذه المسألة بعينها وقعت في زمن عثمان رضي الله عنه: كان لهشام بن أبي العاص ثلاثة من البنين: اثنان من امرأة، وواحدة من أخرى، فاشترى أحد العينين عبداً، وأعتقه، ومات، وأخذ مالهَ أخوه العين، ثم مات عن ابن، فتنازع هو وأخ العلة في الولاء، فقضى به عثمان للعلَّة. وقيل هذا هو المعني بما ورد: "أن الولاء للكُبْر"، وليس المراد كبر السن وإنما هو كبر الدرجة، ومن هو أقرب وأولى بالعصوبة. 12436 - ومما ذكره أبو حامد المروزي في عصبات الولاء أنه إذا كان للمعتَق ابنا عم أحدهما أخ لأم، فإن سبيل التوريث في النسب أن نقول: للذي هو أخ لأم سدس المال. والباقي بينهما. قال أبو حامد: إذا وقعا في الولاء، فابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ جميع المال. وهذا لم يُر إلا له، وهو غلط عند المحققين؛ فإن أخوة الأم لا توجب قوةً في عصوبة النسب، فكيف توجب قوةً في الولاء، والوجه الذي لا يجوز غيره استواء ابني العم، وسقوط أثر أخوة الأم. والمذهب الصحيح أن الأخ من الأب والأم في الولاء مقدم على الأخ من الأب، كما أنه مقدم عليه في التوريث بالنسب. وقال بعض الأصحاب: هما سواء؛ فإن أخوة الأم لو انفردت، لم يعلق بها استحقاق بالولاء، فينبغي ألا تكون مؤثرة في تقوية العصوبة. وهذا وإن كان منقاساً، فهو بعيد في الحكاية، والأصح تقديم الأخ من

_ (1) لأن المعروف في ترتيب العصبات أن (الأخ لأب) يتقدم على (ابن الأخ الشقيق).

الأب والأم على الأخ من الأب في عصوبة الولاء، وإنما اشتهر القولان في اجتماع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب في ولاية التزويج. هذا ترتيب المذهب في عصبات الولاء، أعدنا منه ما رأينا إعادته. 12437 - ووراء ذلك أمر يجب الاعتناء به، وهو أن المعتَق لو مات، وخلف معتِق أب مُعتِقه (1) -وهو الذي صورناه في أثناء المسألة- فلو انفرد هذا، لاستحق ميراث المعتَق؛ فإنه لما أعتق أبَ المعتِق، ثبت له الولاء على المعتِق بالسراية، لا بالمباشرة، فلما أعتق ذلك الابن عبداً، انتسب المعتَق إليه، وانتسب هو إلى أبيه، والأب معتَق المعتِق الأول، وقد ذكرنا أن الولاء انتساب، فقد ينتظم الانتساب من الولاء المحض، كمعتِق المعتَق ومعتِق معتِق المعتَق. وإن نظمنا الكلام من الطرف الآخر، قلنا: معتِق معتِق المعتَق ابن المعتِق، وقد ينتظم من الولاء والنسب مثل معتِق أب المعتِق وإن عكست، قلت: معتَق ابن المعتَق. والولاء ينتظم مع من هو ابن المعتِق كما ينتظم مع المعتِق. وكل هذا مما مهدناه من قبل. وبالجملة للولاء حكم السراية في جهتين، في جهة الأولاد وفي جهة معتِق المعتِق ثم يتركب مُعتِق ابن وابنُ معتِق، وإذا فُهم ذلك، لم يبق وراءه إلا النظر في التقديم والتأخير. فلو مات المعتَق وله معتِق أب المعتِق ومعتِق المعتِق، فلا شك أن معتق معتقه أولى به؛ فإنه يستحق ولاء معتَقه بالمباشرة ومعتِق أبيه يستحق حكم ولاية السراية التي تقدم شرحها، ومن انتهى إلى هذا الموضع لم يخف عليه قوة ولاء المباشرة واستئخار ولاية السراية عنه؛ ولهذا لم ينجرّ ولاء المباشرة وانجر ولاء السراية. 12438 - فلو كان في المسألة معتِق أب المعتِق ومعتِق معتِق المعتِق، فهذا موضع التأمل؛ فإن المعتق البعيد العالي ليس له على المعتِق الأخير ولاء مباشرة. وإنما انتظم الأمر بينهما بجهات من الولاء، لم يصدر العتق فيها عن المعتق العالي، فقد يقول ذو الفطنة: معتِق أب المعتِق أقرب، وهو يتوصل إليه بالسراية الوِلادية، ومعتق معتق

_ (1) سقطت من (ت 5).

المعتق يتوصل إلى المعتق الأخير بالسراية المستفادة من جهة تعاقب جهات الولاء. فيجب أن ينظر إلى الأقرب، ومعتق أب المعتق أقرب من المعتق العالي البعيد. وهذا غلط ذكرناه تنبيهاً، ووجهه أن المعتِق الأخير شخص واحد، فرضنا اتصال معتقين به، أحدهما - معتِق أبيه. والثاني - معتق معتِق معتِقه، وإذا كان كذلك فقد مسّ المعتِق الأخير رق، ثم عتق، وثبت عليه ولاء مباشرة، وإذا كان عليه ولاء مباشرة، فلا يتصور أن ينجرّ ولاؤه إلى معتق أبيه، فلا نظر -والحالة هذه- إلى البعد والقرب. ومعظم مسائل الولاء تعقيدات يحلّها الفكر القويمُ وإحكامُ الأصول، وهي شبيهة بمعاياة الفرائض، وقد يستهين المحقق بمعاياة الفرائض لوضوح أصولها، وتكثير مسائل الولاء حتمٌ، فبها التدرّب، وبتكريرها طرداً من الأعلى إلى الأسفل، وعكساً من الأسفل إلى الأعلى يحصل الإلف بوضع ألباب؛ وإلا فلم يبق من الباب قولٌ في جهة الولاء، ولا في حكمه، ولا فيمن يقدم ويؤخر. نعم، بقي طرف يسمى سهمَ الدور، وأنا أرى أن نذكر من هذا المنتهى إلى افتتاح القول في الدور مسائلَ متوسطة، ثم بعدها سهمَ الدور، وينتجز الباب عليه. مسألة: قال: " ولا ترث النساء الولاء، ولا يرثن بالولاء إلا من أعتقن ... إلى آخره " (1). 12439 - قوله: " لا ترث النساء الولاءَ " يوهم أن الرجال يرثونه، وليس كذلك، فالولاء لا يورث، بل يورث به، وغرض المسألة أن المرأة لا تكون عصبةً للمعتَق عن نسب بينها وبينه عصوبة يستحق به الإرث بالولاء؛ فإنها إن كانت عصبةً، فبغيرها، والعصوبة إذا كانت مستفادة من الغير، لم يتعلق بها توريث بالولاء. فأما إذا أعتقت المرأةُ عبداً، أو أمة، كانت بمثابة الرجل إذا أعتق، فترث عتيقها حيث يرثه الرجل المعتِق، وكذلك معتَق معتَقها كمعتَق معتَق الرجل، وكذلك ولدُ

_ (1) ر. المختصر: 5/ 272.

معتَقها منها كولد معتَق الرجل منه؛ فقد ساوت المرأة الرجلَ في ولاء المباشرة، وفي جهتي ولاء السراية. ولو أعتقت امرأةٌ عبداً، وأعتق رجل أمة، ونكح المعتَق المعتَقة، فأتت بولد، فولاؤه لمعتِقَةِ الزوج لا لمعتِق الزوجة. ثم ينعقد من هذا مسألة فيها تثبت، وهي أن ابن المعتَق عليه ولاء السراية، وكذلك ابن ابنه وإن تسفّل إذا كان الإدلاء بمحض الذكور. ولو كان للمعتَق أحفاد إناث، فلا يبتدرنّ الفقيهُ الجوابَ؛ فإن البنت الأولى منتسبة إلى المعتَق، فلا فرق بينها وبين الابن، إذ الذكر والأنثى أبوهما المعتَق، وأما بنت البنت، فإنها تنتسب إلى البنت العالية بالولادة ونسبها الحقيقي إلى أبيها، فانظر مَنْ أبوها وأخرجه من الأصول، فإن كان أبوها معتَقاً لشخص، فهي بين معتَقة ومعتَق، فولاؤها لموالي أبيها، وإن كان أبوها مملوكاً، فولاؤها ينتظم إلى المعتَق الذي هو جدها، وإن كان أبوها حرّ الأصل، فوجهان: أحدهما - لا ولاء عليها، والثاني - أن الولاء عليها لموالي الأم كما قدمنا. وليس في هذه المسألة زيادة، ولكن لا بد منها؛ إذ بها الدربة وتهذيب الأصول. مسألة: 12440 - إذا اشترت المرأة أباها، عَتَقَ الأب عليها، وثبت لها الولاء على أبيها، على وجه المباشرة، فلو أن الأب بعد ما عَتَقَ اشترى عبداً وأعتقه، فقد ثبت له ولاء المباشرة على معتَقه، وللبنت حقُّ سراية الولاء على معتَقه، ولكن صاحب المباشرة مقدمٌ ما بقي، فلو مات الأب، وخلف مالاً وترك البنت وابن عم أو غيره من عصبات النسب، فللبنت نصف ميراث أبيها والباقي للعصبة؛ فإن عصوبة النسب مقدمة على جهة الولاء، [ولو لم] (1) يخلف الأب سوى البنت، أخذت نصف المال بالنسب ونصفه بالولاء. ولو مات أبوها وخلّف عمّاً والبنت، فقد بان ميراثه.

_ (1) في الأصل: " ولم يخلف ". والمثبت من (ت 5).

فلو مات معتَقه، ولم يخلف من خواص ورثته أحداً، وإنما خلف عمَّ معتِقه وابنتَه التي أعتقته، فالميراث كله لعم المعتِق، فإن عصبة المعتِق أولى من معتِق المعتَق. ومما يتعلق بهذه المسألة أن ابناً وبنتاً لو اشتركا، فاشتريا أباهما نصفين، عتق عليهما، وثبت لكل واحد عليه نصف الولاء، فلو اشترى الأب عبداً وأعتقه، ثم مات الأب، فميراثه بيّن، فلو مات معتَقُه ولم يخلف سوى ابن المعتِق وابنته، فهما مشتركان في الولاء، ولكن الميراث لابن المعتِق، لا لأجل الولاء، ولكن لأنه عصبةُ المعتِق من جهة النسب. فإذا أخذ الابنُ ميراثه كما ذكرناه، فلو مات الابن وخلف أخته، فلها نصف ميراثه بالأخوة، ولها من الباقي نصفه؛ فإنها لما اشترت نصف أبيها، عتق عليها نصفه، وثبت لها ولاء السراية على نصف ابنه، وكذلك الابن ثبت له ولاء السراية على نصف أخته. فلما مات الابن في مسألتنا، أخذت نصف ميراثه بالأخوة، وأخذت من النصف الباقي نصفه. فيخلص لها ثلاثة أرباع الميراث، ويصرف الباقي إلى بيت المال. ولو مات الأب، ثم مات الابن، ثم مات معتَق الأب ولم يخلف سوى بنت المعتق، فلها نصف ميراثه بثبوت الولاء على نصف الأب، ولها من النصف الآخر نصفه لثبوت ولاء السراية على نصف الأخ؛ وكان يستحق لو كان باقياً، فيسلّم لها ثلاثة الأرباع (1). وهذا هيّن. مسألة: 12441 - إذا اشترى الرجل جاريتين كانتا أجنبيتين من المشتري، ولكنهما كانتا أختين لأب وأم، فلما اشتراهما أعتقهما، فقد ثبت له الولاء عليهما لمباشرة الإعتاق فيهما، فلو اشترتا أباهما، وعتق عليهما، فلكل واحدة الولاء على نصف أبيها، ولا يثبت لواحدة منهما الولاء على صاحبتها بسبب ثبوت الولاء على الأب؛ لأن الولاء قد ثبت عليهما للأجنبي بمباشرة الإعتاق، والولاء الثابت بهذه

_ (1) لأنها في النصف الذي ملكته عن الأب معتِق المعتِق (أي نصف المعتق) وفي النصف الآخر معتق أب المعتق. (بولاء السراية على نصف الأخ).

الجهة لا يتحوّل، فإذا مات أبوهما، فلهما ثلثا ميراثه بالنسب، والباقي بالولاء الثابت لهما عليه؛ إذ لا عصبة للأب غيرهما. فلو ماتت إحداهما بعد ذلك، فللأخت نصف ميراثها بالأخوة، والنصف الباقي لمعتِقها، إذا لم يكن لها عصبةٌ بنسب. ولو كانتا ولدي معتقه من أب رقيق، ثم اشترتا أباهما، فيثبت لهما الولاء على الأب، ويثبت لكل واحدة الولاءُ على نصف أختها؛ فإن الولاء إذا ثبت على الأب، ثبت على أولاده، وانجر من جانب الأم إذا لم يكن الولاء على الأولاد بمباشرة الإعتاق. ثم لا يخفى بيان التوريث بعد ذلك. مسألة: 12442 - أختان حرتان لم تعتقا مباشرة، كان أبواهما رقيقين -وتصوير ذلك هيّن بغرور- إذا اشترت إحداهما أباهما، واشترت الأخرى أمهما، فقد ثبت لكل واحدة منهما ولاء المباشرة على من اشترت، ويثبت الجرّ من أحد الجانبين، فولاء التي اشترت أمها ينجر إلى التي اشترت أباها؛ فإن من ثبت له الولاء على الأب، انجر إليه ولاء أولاده من موالي الأم. فأما التي اشترت الأم، فالمنصوص أن ولاء صاحبتها، وهي التي اشترت الأب للتي اشترت الأم؛ لأن التي اشترت الأب جرّت ولاء أختها بسبب إعتاقها الأب. فلو جرت ولاء نفسها على القياس، لكانت مولاة نفسها، أو لانقطع الولاء، وكلاهما محال؛ فتعذّر الجر. وإذا تعذر، بقي ولاؤها لموالي الأم، وأختها مولاة الأم؛ فصارت كل واحدة من الأختين مولاة الأخرى. وقد يتصور شخصان كل واحد منهما مولى صاحبه من أعلى ومن أسفل، وسنذكر لذلك أمثلة. وقال ابن سريج في مسألة الأختين: ولاء مشترية الأب لا يكون لمشترية الأم، بل تجر ولاء نفسها، ويرتفع الولاء عنها، وتصير بمثابة مَنْ لا ولاء عليه لأحد. وقد قدمنا هذا بعينه في تمهيد أصول الولاء. فإذا وضح أمر الولاء، هان ترتيب الإرث، فنقول: إذا مات الأب، فميراثه مقسوم بينهما، فلهما الثلثان - أعني البنتين، وباقي ميراثه للتي اشترته بالولاء، وإذا ماتت الأم فثلثا الميراث لهما. وباقي ميراثها للتي اشترتها.

ثم إذا ماتت إحداهما بعد ذلك، نُظر: فإن ماتت التي اشترت الأم، فنصف ميراثها للأخت بالأخوة، وباقي الميراث مصروف إليها بالولاء؛ فإنها جرت ولاءها بإعتاق الأب. وإن ماتت التي اشترت الأب، فنصف ميراثها لأختها بالأخوة، والنص أن الباقي يصرف إليها بالولاء لتعذر الجر. هذا هو النص. وابن سريج يزعم أنه لا يصرف إليها الباقي؛ فإنه لا ولاء على التي اشترت أباها، فيصرف الباقي إلى بيت المال. مسألة: 12443 - رجل حر، وأبواه حران ما مسّ أحداً منهم الرق، وأَبَوَا أبيه مملوكان، وأبو أمه مملوك، وأم أمه معتقَة، فالولاء ثابت لمولى أم الأم، وهذا بيّن من مقتضى الأصول؛ فإن جدته معتقة عليها ولاء مباشرة، وبنتها عليها ولاء السراية، والرجل الذي فيه الكلام ابنها. وهذا يجري إذا قلنا: إذا تزوج حر بمعتقة، ثبت الولاء على الأولاد لموالي الأم، فليقع التفريع على هذا الوجه. فإذا أُعتق أبو الأم -فإنا صورناه مملوكاً- انجر الولاء إلى مواليه، فإذا [أُعتقت] (1) أم الأب، انجر الولاء إلى مولاها، فإذا أعتق أبو الأب، انجر الولاء إلى مولاه، ويستقر حينئذ. فأما الجر الأول فبين؛ فإن الولاء كان ثبت لمولى الأم على ابنتها، فإذا أُعتق أبو البنت، انجر الولاء إلى جانب الأب، وكل ذلك تردّدٌ في [ولاء] (2) أم الرجل الذي نتكلم فيه: كان لموالي أمها، ثم صار لموالي أبي الأم، فإذا أُعتقت أم أبي الرجل - وقد كان ولاء الرجل لموالي أمه، ثم انجر إلى موالي أبي أمه، فإذا أُعتقت أم أبي الرجل- ثبت الولاء على أبي الرجل بالسراية، فكان ولاء الرجل الذي فيه الكلام بجانب أبيه أولى، فإذا أُعتق أبو أبي الرجل، كان الولاء بجانب أبي الرجل أولى، فتردد الولاء كذلك، وهذا واضح أخذاً من الأصول.

_ (1) في النسختين: " أُعتق " (بدون تأنيث الفعل). وسيتكرر الفعل مرتين في الأسطر الباقية من المسألة. (2) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.

مسألة: 12444 - أب وابن اشتريا عبداً وأعتقاه، فمات المعتَق، فالميراث بينهما نصفان، فلو مات الأب عن ابن آخر سوى الابن المشتري، ثم مات المعتَق، كان نصف المال للابن المشتري بولاء المباشرة، والنصف الباقي بينهما لأنهما عصبات الأب وهو مستحق نصف الولاء. فلو مات الابن المشتري عن ابنٍ، وكان الأب مات عن ابنٍ، ثم مات المعتَق، كان للابن الذي هو ابن المشتري نصف المال بولاء أبيه، ولغيره النصف الثاني بولاء أبيه. ولا شيء لهذا الحافد بولاء جده؛ لأن الابن يتقدم على ابن الابن، وعلى هذا فقِس. مسألة: 12445 - ابنة اشترت أباها، فمات الأب، ورثت نصف المال بالنسب، والباقي بالولاء. (1 ولو اشترت بنتان أباهما، وعَتَقَ عليهما، ثم مات، فلهما الثلثان، والباقي بالولاء 1). فإذا اشترى الأب عبداً، وأعتقه، ومات الأب، ثم مات المعتَق ورثتاه، لأنه عتيق عتيقهما. ولو اشترت إحدى البنتين مع أبيها أخاها من الأب، والأب معسر عَتَق عليه النصف، فلو أعتقت هي النصف الآخر، ثم مات الأب، كان المال بين الأولاد وهم بنتان وابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو مات الأخ بعد ذلك، أخذتا الثلثين بالنسب، وللمعتقة نصف الباقي بولاء ثبت لها، والباقي لبيت المال، إلا أن يصادف عصبة. مسألة: 12446 - وهي غمرة (2) الولاء، وفيها الدَّوْرُ. وصورتها: أختان اشترتا

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 5). (2) في الأصل: " عمرة " بالعين المهملة بدون ضبط، وفي ت 5: عُمرَة: بالعين المهملة، مع ضم العين وفتح الراء. والنسختان خاليتان -تقريباً- من علامات الإهمال بالرموز والحروف، اعتماداً على النقط. وهي -بالعين المهملة المفتوحة- كل ما يوضع على الرأس من عمامة ونحوها، فيكون المعنى هي تمام الكتاب وزينتُه وكماله. والمثبت تقدير من المحقق، وهي -بالغين المعجمة- بمعنى الشدة، وجمعها غمرات. (ر. المعجم. والمصباح).

أمّهما، وعتقت الأم عليهما، ثم إن الأم بعد ما عتقت، شاركت أجنبياً، واشتريا أبا الأختين، وأعتقاه، فيثبت الولاء لهما نصفين على الأب، ثم يثبت لهما ولاء الأختين نصفين؛ فإن من ثبت له الولاء على شخص، ثبت له الولاء على أولاده. وولاء الأب، يجر ولاء الأولاد من الأم، فيثبت للأجنبي نصف ولاء كل واحدة من الأختين، وكذلك يثبت للأم نصف الولاء على كل واحدة منهما. هذا قاعدة التصوير. 12447 - ثم شعّب ابن الحداد في التقديم والتأخير في تصوير الموت مما ذكرناه أربع صور: إحداها: أن تموت الأم، ثم الأب، ثم إحدى الأختين. فنقول: أما الأم لما ماتت، فلبنتيها الثلثان، من مالها بالنسب، ولهما بقية مالها بالولاء؛ فإنهما اشترتاها، وعتقت عليهما. ثم لما مات الأب، فترثان الثلثين من مال الأب بالنسب، وما بقي فنصفه للأجنبي الذي شارك الأم في شراء الأب، لأن له نصف ولائه، والنصف من الباقي (1) للبنتين؛ فإن نصف الولاء لأمهما، وهما استحقتا ولاء أمهما، فإذا لم تكن حية ورثتا ولاء معتَقها، إذالم يكن لها عصبة نسب. فخرج منه أن الأب لما مات، فالثلثان للبنتين، والباقي بين الأجنبي وبينهما، نصفه للأجنبي ونصفه لهما. ثم لما ماتت إحداهما بعد موت الأب، فللأخت من ميراثها النصف بالأخوة، فبقي النصف. فنقول: نصفه الباقي للأجنبي؛ لأنه لما ثبت له الولاء على نصف الأب، ثبت له الولاء على نصف ولده، فله نصف ما بقي إذاً، وأما الباقي - وهو الربع فلو كانت الأم باقية، لأخذته؛ فإن لها نصف ولاء كل بنت، كما للأجنبي ذلك، فإذا كانت ماتت، فيأخذ ذلك في القياس من يستحق ولاء الأم، وولاء الأم ثابت للأخت الحية والميتة نصفين، فنقول: نصف الربع الباقي للأخت الحية بالولاء، والباقي -

_ (1) أي الباقي بعد الثلثين.

وهو الثمن - للميتة لو كانت حية، فإذا كانت ميتة، فالقياس أن يكون ذلك لمن يرجع ولاء الميتة إليه، وولاء الميتة يرجع إلى الأجنبي والأم، ثم قدر ولاء الأم يرجع إلى الحية والميتة، ثم قدر ولاء الميتة من الأم يرجع إلى الأجنبي والأم، فيدور سهم لا ينقطع، ولا ينفصل أثره. فاختلف أصحابنا في هذا السهم، فالذي اختاره ابن الحداد بأنه يوضع في بيت المال، ويكون ميراثاً للمسلمين. فإنه عَسُر صرفه إلى جهة الولاء بسبب الدور، فكأنْ لا ولاء له في ذلك القدر. وهذا مزيّف؛ فإن الولاء ثابت، ونسبة الدور معلومة، فيجب تنزيل الدائر على تلك النسبة. ثم الكلام يقع بعد ذلك في سهم الدور ثم في النسبة التي يقسّم سهم الدور عليها. فإن قيل: ما قدر سهم الدور في كل مسألة يتفق فيها الدور؟ قلنا: ما أمكن صرفه إلى الأحياء، فلا دَوْرَ فيه، وما يرجع استحقاقه إلى ميت، ثم يدور منه إلى حي، وذلك الميت، فإذا انتهى الأمر إلى سهم ذلك الميت الذي لو قسم، لرجع سهمٌ إليه، فهو سهم [الدّور] (1) فإن قيل: كم سهم الدور في المسألة التي نحن فيها؟ قلنا: هو ثُمن جميع المال مع إدخال نصف الأخت في الحساب. هذا سهم الدور. فإن قيل: فما النسبة التي يقسمون سهم الدور عليها؟ قال الشيخ أبو علي: يقسم كل الميراث بين الأخت الحية، وبين الأجنبي على سبعة أسهم. للأخت منها خمسة، وللأجنبي سهمان. قال: وطريقة معرفة ذلك أنه لما وقع في المسألة ثُمن، قدرنا المسألة ابتداء من ثمانية، وصرفنا إلى الأخت أربعة بحق النصف. ثم صرفنا من الباقي سهمين إلى الأجنبي، وسهما إلى الأخت الحية، فحصل للأخت خمسة، وللأجنبي سهمان. وبقي سهم هو سهم الدور، فنفضُّه على السهام السبعة. وهذا خطأ صريح؛ فإن ضَم ما تستحقه الأخت بالنسب إلى حساب الولاء،

_ (1) زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين.

لا وجه له، [وفضّ] (1) ما يؤخذ بالولاء على ما يؤخذ بالنسب غير مستقيم. وليس هذا مما يخفى بأوائل الفكر، فالوجه أن نفرد النصف، فلا ندخله في حساب الولاء، ولا نعطف عليه شيئاً من حساب الولاء، وننظر في الباقي، فنجد نصف الباقي مصروفاًً إلى الأجنبي، والنصف الآخر من الباقي مصروفاً إلى الأم، ثم منها إلى البنتين، ثم سهم واحدة -وهو مبتدأ الدور- يرجع نصفه إلى الأجنبي ونصفه إلى الأم. فنستبين من هذه الإدارة أن المال بين الأجنبي وبين الأخت الحية أثلاثاً، هكذا تجري نسبة القسمة. فنحتاج إلى عدد له نصف، ولنصفه ثلث، وهو ستة، فنصرف إلى الأخت ثلاثة بالأخوة، وسهماً مما بقي، ونصرف سهمين إلى الأجنبي، فيحصل للأخت أربعة من ستة، وللأجنبي سهمان. 12448 - الصورة الثانية: أن تموت -في المسألة التي صورناها- إحدى الأختين، والأبوان حيّان، [ثم] (2) تموت الأم. فنقول: البنت لما ماتت، صرف ميراثها إلى أبويها، للأم الثلث والباقي للأب؛ والأخت (3) محجوبة. ثم لما ماتت الأم، فنصف ميراثها للبنت بالنسب، والنصف من الباقي لها أيضاً، فإن ولاء الأم ثبت للبنتين، لكل واحدة نصفه. فأما الباقي فللأب؛ فإن نصف الولاء للبنت الميتة، والأب عصبة للميتة، ولا دور في هذه المسألة، ولا نصوّر فيها زوجية بين الأب والأم. 12449 - الصورة الثالثة - أن يموت الأب أولاً، ثم إحدى البنتين، ثم الأم، فنقول: لما مات الأب، فالثلثان للبنتين، والباقي للأجنبي والأم؛ فإن ولاء الأب لها. ولما توفيت إحدى الأختين فقد خلفت أختا وأما، فللأم الثلث، وللأخت النصف، والباقي بين الأجنبي والأم؛ فإن ولاء الأخت الميتة ثبت لها بثبوت الولاء على أبيها.

_ (1) في الأصل: " في فض ". والمثبت من (ت 5). (2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. (3) المراد بالأخت البنت الثانية، فهي أخت البنت التي ماتت.

فلما ماتت الأم وخلفت بنتاً، فلها النصف بالميراث، ولها أيضاً نصف ما بقي؛ فإن نصف ولاء الأم لها. والنصف الثاني من الولاء حق البنت الأخرى لو كانت حية، فإذا كانت ميتة، فيرجع إلى من ولاء الميتة له، وولاء الميتة للأجنبي والأم الميتة، فأما الأجنبي فيأخذ مما بقي نصفَه، فيبقى الثُمن من الجملة إذا حُسب، وهذا في التقدير حق الأم الميتة، وهو سهم الدور، فتخرج المسألة فيه على الترتيب الذي ذكرناه. وقد ذكر ابن الحداد في هذه الصورة شيئاً غلط [فيه،] (1) فقال: للبنت الحية إذا ماتت الأم النصف، ولها نصف ما بقي. وللأجنبي نصف ما بقي -وهو الثُمن. ثم قال: وللبنت الحية النصف من هذا الثُمن الباقي مرة أخرى، ثم يوضع الباقي في بيت المال. قال القفال: هذا غلط؛ فإن سهم الدور [هو] (2) الثمن الذي آل إلى استحقاق الأم الميتة- فلو جاز أن تعطى البنت للحية [منهما] (3) نصف الثمن، فينبغي أن يدفع إلى الأجنبي مرة أخرى، وليست مرة أخرى أَولى من مرتين، ثم هذا على فساده خلاف ما ذكر في المسألة الأولى؛ فإنه لم يقطع في تلك المسألة إلا سهم الدور. 12450 - والصورة الرابعة - -والمسألة كما وصفناها- تموت البنتان وأبواهما حيان، فميراثهما مصروف إليهما كما ذكرنا، فلو مات الأب بعدهما، فميراثه مصروف إلى الأجنبي والأم نصفين؛ إذ قد ثبت لهما الولاء عليه كذلك؛ فلما ماتت الأم، فنصف ميراثها للأجنبي؛ فإنه قد ثبت للأجنبي نصف ولاء بنتيها. وقد ثبت لبنتيها عليها الولاء، ويوضع الباقي في بيت المال. وقد نجز الكلام في الولاء تأصيلاً وحكماً وتفصيلاً وضبطاً وتدريباً بالمسائل. والله المشكور. ...

_ (1) في النسختين: " فيها ". (2) في الأصل: " وهو ". والمثبت من (ت 5). (3) في النسختين: " منها ".

كتاب التدبير

كتاب التدبير 12451 - التدبير في وضع الشريعة اسم لتعليق العتق بالموت. كقول الرجل لعبده: أنت حر بعد موتي، أو أنت حر دُبُرَ موتي. وهذا اللفظ شائع في اللسان في إرادة ذلك، فما زالت العرب تعرف التدبير، وتنطق به وتعتاده. والتدبير في الأمر هو النظر في عواقبه وأدباره وما يُفضي إليه منتهاه؛ وأصل التدبير متفق عليه. والذي يجب تقعيده في صدر الكتاب بيان اللفظ، ثم بيان حكمه على الجملة، ثم بيان حقيقته إذا أضيف إلى عقود العَتاقة: 12452 - فأما الكلام في اللفظ، فإذا قال لعبده: دبّرتك أو أنت مدبر، أو إذا مت فأنت حر، أو محرر، أو عتيق، على حسب اختلاف العبارات عن العتق، فهذه الألفاظ [هي] (1) المستعملة. ثم النص أنه إذا قال لعبده: دبرتك، فهذا صريحٌ مغنٍ عن النية ومزيد تقييد في اللفظ، وإذا قاله السيد، وأطلقه، كان مقتضاه وقوعَ العتق عند الموت. ولو قال لعبده " كاتبتك " وذكر النجوم، فالنص أن مجرد لفظ الكتابة ليس صريحاً في موضوع العقد، حتى يقولَ معه: فإذا أديت النجوم، فأنت حر، فإن لم يقله، فَلْيَنْوِه بالقلب. قال العراقيون: اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج: أحدهما - أن التدبير والكتابة كلاهما صريحان، وتوجيه ذلك

_ (1) في الأصل: " من ".

في التدبير ظاهر، ووجهه في الكتابة أن لفظها اشتهر في الشرع اشتهار البيع والهبة وغيرهما من العقود. والقول الثاني - أن التدبير والكتابة كنايتان في العقدين؛ لأنهما لا يستعملان إلا مع التقييد بالتعرض للحرية في منتهى الأمر، فلئن غلب اللفظ، فإنما غلب كذلك. والطريقة الثانية: أن لفظ التدبير صريح مستغنٍ عن النية، ولفظ الكتابة كناية على ما اقتضاه النصان. وهذا هو الذي قطع به المراوزة، ولم يذكروا طريقة القولين، والفرق أن التدبير لم يزل مستعملاً على الإشاعة في الجاهلية، ثم ورد الشرع موافقاً لمقتضاه من غير تغيير في أصل المعنى، فتطابق فيه عرف اللسان والشرع. أما الكتابة، فلم تكن مستعملة، ولم يشع في الشريعة شيوع الألفاظ المنقولة إلى عرف الشريعة، وكانوا قد يطلقونها في مخارجة المماليك وما يقدّرون عليهم من الوظائف، وإذا أرادوا صرفها إلى مقصود الكتابة، تعرضوا للحرية. وما ذكرناه من تردد العراقيين في لفظ التدبير. فأما إذا قال: " إذا مت فأنت حر "، فهذا تصريح بالمقصود، لا شك فيه. وفي لفظ التدبير مسائل، ستأتي على ترتيب الكتاب (1) إن شاء الله. والذي ذكرناه في حكم التمهيد. 12453 - فأما حكم التدبير، فالمدبَّر يعتِق عند موت المدبِّر إن وفَّى ثلثه، وإن ضاق الثلث عن احتماله، عَتَق منه مقدار الثلث من غير مزيد، ولو لم يخلف غير العبد عَتَقَ ثلثه، ورق للورثة ثلثاه. وقد يخطر للفطن في هذا شيء. وهو أنه إذا لم يخلف غير العبد، وحكمنا بعتق ثلثه، والباقي للورثة ثلثاه بالجزئيّة، ولكن التبعيض يعيّب العبد، فلا يبلغ ثلثاه ثلثي ثمنه لو بيع كله، فكأنا لم نبق للورثة ثلثي التركة من طريق المالية، وإنما دخل عليهم هذا النقصان بسبب الوصية. ولو قيل: يبقى للورثة من جزئية العبد ما يساوي ثمنه لو بيع كله، فإذ ذاك تتحقق

_ (1) ت 5: " المكان ".

التجزئة المقصودة في المالية. ولكن هذا غير معتبر باتفاق الأصحاب، بل باتفاق العلماء، ويجري مثلُ ما ذكرناه في الوصية بثلث العبد وثلث الدار، فكان ما ينتقص بالجزئية من رأس المال تعلقاً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " إن الله أعطاكم ثلث أموالكم "، ثم لو حططنا الوصية، لكان ذلك على القطع أقل من الثلث بالجزئية والمالية، فكان هذا محتملاً وفاقاً. ثم إذا تبيّن احتسابُ عتق المدبر من الثلث، فلا شك أن الدَّين مقوم عليه؛ وِبالجملة عتقُ المدبر ينفذ نفوذ الوصايا قدراً ومحلاً، ثم مذهب الشافعي أن التدبير لا يمنع السيد عن شيء من التصرفات التي كانت مسوغة له قبل التدبير، فله البيع، والهبة، والرهن وغيرها من أنواع التصرفات. وسر المذهب أن التدبير ليس عقدَ عَتاقة، حتى يفرض مقصوداً في نفسه مُوقِعاً حكماً ناجزاً إلى وقوع منتهى المقصود، بخلاف الكتابة؛ فإنها توقع حيلولة في الحال من جانب السيد، وآية ذلك أن الكتابة لو جرت في الصحة، لزمت واحتسب العتق المترتب عليها من رأس المال، فلو جرت في مرض الموت، كانت إذ ذاك تبرعاً محسوباً من الثلث. وأما التدبير فسواء قُدّر صدوره من الصحيح أو المريض، فالعتق الواقع به عند الموت محسوب من الثلث، وهذا جارٍ في قياس مذهب الشافعي، لا يميل المذهب فيه عما ذكرنا، إلا أن الشافعي قال: لو أصدق الرجل امرأته عبداً، فدبّرته، ثم طلقها قبل المسيس، لم يرتد إليه النصف منه، بل يرجع إلى نصف القيمة. وهذا لا يخرم القاعدة التي ذكرناها؛ فإنا ذكرنا أن التدبير لا يؤثر في منع التصرفات التي كانت تسوغ قبل التدبير، وارتداد نصف العبد ليس مأخوذاً من تصرف ينشئه مالكٌ، ولكن تشطر الصداق [بدْع] (1) في جهات انتقاض الأملاك؛ من حيث إنه ليس فسخاً، والمرأة متسلطة على التصرف في جميع الصداق قبل الطلاق، فلا يقف شيء من تصرفاتها على تأكد النكاح بالمسيس، فلما تحقق الشافعي ذلك، لم ير أن

_ (1) في الأصل: " نوع ". والمثبت من (ت 5).

يبطل على المرأة غرضها في عين الصداق وعَوّض الزوجَ عنها نصف القيمة، حتى قال: لو زادت عين الصداق زيادة متصلة، فللمرأة الاستمساك بالعين، وغرامة نصف القيمة، فقد أتى هذا من خاصيةٍ في الصداق، وهذا إلى خبط عظيم للأصحاب تقصيناه في موضعه. هذا مقدار غرضنا في حكم التدبير ومقصوده. 12454 - فأما القول في حقيقة التدبير إذا نُسب إلى سائر التصرفات، فقد قال الأئمة: للشافعي قولان - في أن التدبير وصية أو تعليق عتق بصفة؟ أحد القولين - أنه وصية، وإليه ميل المزني، ووجهه أن مقصوده يقع بعد الموت، قياساً على سائر الوصايا، ولو كان في حقائق التعليق، لانقطع بالموت، ولبعُد أن يتعلق بالموت؛ فإن الرجل إذا قال لعبده: إذا دخلت الدار، فأنت حر، فدخل الدار بعد موت المعلق، لم يعتق، وإن وفّى الثلث. والقول الثاني - أنه تعليق. ووجهه أن حكم الألفاظ يؤخذ من صيغها في التقسيم الأولي، والمعنيّ بالتعليق ربط العتق بصفة ماضية أو مرتقبة، والتدبير بهذه المثابة، والوصية تنشأ إيقاعاً بعد الموت لو يفرض فيها قبول، والتدبير بخلاف ذلك. ثم على القولين لا يمتنع من تصرفات المولى شيء، وإنما فائدة القولين أنا إن جعلنا التدبير وصية، فيصح الرجوع عنه من غير تصرف، قياساً على الرجوع عن الوصايا. ثم في تفصيل ما يكون رجوعاً عن الوصايا باب في كتابها. وإن قلنا: التدبير تعليق، فلا يمتنع فيه تصرف أيضاً، والمدبر كالعبد المعلق عتقه بالصفة، ولكن لو أراد الرجوعَ عن التدبير من غير تصرف في عين المدبر، لم يصح ذلك منه، كما لو أراد معلِّق العتق بالصفة أن يرجع عن التعليق، ويرد الأمر إلى ما كان قبل التعليق، فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، فهذا ما رأينا تقعيده وتمهيده في أصل الكتاب. 12455 - ثم قسم الأئمة التدبير إلى المطلق والمقيد. فالتدبير المطلق هو ما يقتضي حصولَ العتق بموت المدبِّر مطلقاً، من غير

تخصيص. ثم للشرع حكمُه بالحصر في الثلث، فإذا قال: دبّرتك أو إذا مت فأنت حر، فهذا تدبير مطلق. والمقيد ما يتضمن تخصيصاً، مثل أن يقول: إن مت من مرضي هذا، أو إن قتلت، أو إن مت بحتف أنفي، فأنت حر. فهذه تقييدات ضمها إلى الموت، ثم الحكم عندنا لا يختلف بالتقييد والإطلاق، وكذلك تردد القول في حقيقة التدبير، وأنه وصية أو تعليق لا يختلف بالإطلاق والتقييد. وقد يجوز أن يقال: تدبير المرأة العبد المُصْدَق إن كان مطلقاً يؤثر في منع الارتداد إلى الزوج عند الطلاق، وإن قيّدته، فقد أخرجت التدبير عن مقتضى إطلاقه، ولم تأت به مقصوداً في نفسه على المعتاد فيه، فسبيلها كسبيل المعلِّق أو الموصي. وغالب الظن أني أشرت إلى ذلك في الصداق. والأمر فيه قريب. 12456 - ثم قال الشافعي: " فإذا قال الرجل لعبده: أنت مدبر متى دخلت الدار ... إلى آخره " (1). التدبير مقتضاه ما ذكرناه، فإن عُلق، تعلّق، ومقتضى تعليقه أن يقول: إن دخلت الدار، فأنت مدبر، وإنما ساغ هذا لأنه بين أن يكون وصية أو تعليقاً، فإن كان وصية فالوصية قابلة للتعليق، وإن كان تعليقاً، فالتعليق جارٍ في التعليق. فإن السيد إذا قال لعبده: إن دخلت الدار، فأنت حر إذا كلمتَ زيداً، فهذا صحيح، وحاصله تعليق العتق بصفتين. ثم إذا علق التدبير بصفة في حياة المدبِّر، فوجدت الصفة، حصل التدبير، والتحق بالتدبير المطلق إن كان يختلف بهذا غرض. فصل قال: " ولا يعتق في مالٍ غائب حتى يحضر ... إلى آخره " (2). 12457 - صورة المسألة: إذا كان الثلث وافياً بقيمة المدبر، ولكن مات السيد،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 272. (2) ر. المختصر: 5/ 272.

ولم يحضر من ماله غيرُ المدبر، وكان سائر ماله غائباً غيبة يُحتفل بها، فلا يُقْضى بتكميل العتق في المدبر؛ فإن هذا تنجيزُ الوصية، وإضافةُ حقوق الورثة إلى مالٍ قد يحول بينهم وبينه خطر، ووضع الشرع ألا تنفذ الوصية في مقدار حتى يَسْلَمَ للورثة ضعفه، ولكن هل يحكم بأنه يُعتق من المدبر ثلثُه وينتظر في تكميل العتق حضورُ المال الغائب؟ نص الشافعي على أنه لا يعتق من المدبر شيء في الحال، واختلف أصحابنا: فمنهم من قال بظاهر النص، ووجهه أنا لو حكمنا بتنفيذ العتق في جزء فيه، لأدّى هذا إلى تحيّفٍ على الورثة؛ فإنا إذا عجلنا العتق في ثلث المدبر، ولم نطلق يد الورثة في ثلثيه، كان ذلك تعجيلاً للوصية مع تأخير حق الورثة، ولا سبيل إلى ذلك، وليس كما لو لم يخلّف إلا العبد المدبر؛ فإنا نعتق الثلث، ونرق الثلثين، ونطلق فيهما حق الورثة. ومن أصحابنا من قال: يعتِق الثلثُ في الحال؛ فإنه لا توقف فيه، ويستحيل تأخير الوصية فيما يستيقن نفوذها فيه، وأيضاً غيبة المال ينبغي أن لا تزيد على عدم المال، ولو لم يخلف إلا المدبر، لنفذنا العتق في الثلث. فانتظم في المسألة إذاً قول منصوص، وآخر مخرج. 12458 - ثم بنى الأصحاب على ذلك مسألة، وهي أن رجلاً لو مات عن ابنين، ولم يخلّف شيئاً من الأعيان، إلا أن له ألفَ درهم على أحد الابنين، فالذي يقتضيه قياس القسمة أن يبرأ من عليه الدين من الابنين عن نصف الدين. وقد اختلف أصحابنا في ذلك على وجهين مبنيين على القولين اللذين ذكرناهما الآن: أحدهما - أنه لا يبرأ عن شيء مما عليه؛ فإنا لو حكمنا ببراءته عن جزء، لكان مختصاً بحقه قبل أن يتوفر على شريكه مثلُ ما برِىء عنه، وإيجاب التسوية بينهما ينافي ما ذكرناه. ومنهم من قال: يبرأ عن حصته؛ فإنه يملك مقداراً منه، ويستحيل أن يملك على نفسه ديناً، وإن قيل: إنه لا يملك (1)، فيجب أن لا يملك شريكه عليه شيئاً، وهذا

_ (1) أي يبقى على ملك الميت.

يؤدي إلى تعلق التركة من غير إجراء ملك فيها، ومذهب الشافعي لا يحتمل هذا الفن. 12459 - ثم حكى الصيدلاني عن صاحب التقريب تفريعاً، ونحن نسوقه على وجهه، ثم نبحث عنه. قال صاحب التقريب حكاية عن ابن سريج: إذا مات المولى، وخلف المدبَّر ومالاً، يخرج المدبر معه عن ثلث التركة، ولكن لم يحضر إلا المدبر -كما صورناه- قال ابن سريج: لو أعتق الورثة هذا العبد واستكمل العتق فيه، ثم حضر المال -والتفريع على النص في أنه لا يعتق من المدبر الحاضر شيء- فإذا أعتقه الورثة، قال: ينفذ العتق عن الورثة، وينصرف الولاء فيه إليهم، فلو حضر المال، لم يتغير ما حكمنا به من قبل؛ فإنا نفذنا العتق عن الورثة، فلا نصرفه عنهم، فإذا كان كذلك، فالولاء لهم. ثم قال الصيدلاني: يُخَرَّج في المسألة وجهٌ آخر: أن الولاء للميت تخريجاً على أن الوارث إذا أجاز الوصية، فإجازته تنفيذ للوصية وليس بابتداء عطية؛ فيكون الولاء للميت. هذا مساق ما حكاه، ولم يردّ عليه، وهو في نهاية الإشكال؛ بل ما أرى له وجهاً في الصحة؛ فإن التدبير لا سبيل إلى ردّه بسبب غيبة المال، وإعتاق الورثة عن أنفسهم ردٌّ للتدبير، ويتضح هذا بصرف الولاء إلى الورثة، ثم عتق التدبير لو نفذ، فلا حاجة لإنشائه، فلا وجه إذاً إلا التوقف إلى عَوْد المال؛ فإن تحقق عودُه، فالوجه أن نقول: نتبيّن نفوذَ العتق عند الموت؛ إذ لا سبيل إلى تنفيذه بعد الموت، وإن تلف المال، نتبيّن نفوذَ العتق في ثلثه عن جهة التدبير، فإذا كان أنشأ الورثة إعتاقاً (1)، فنتبين أيضاً -عند تلف المال- نفوذ إعتاقهم عن أنفسهم في الثلثين. وإنما التباس المسألة في (2) شيء، وهو أن المال الغائب إذا حضر، فالتعذر الذي كان أمس لا نتبين زوالَه، والقدرة على المال في الحال لا تعطف قدرة على ما مضى،

_ (1) ساقطة من (ت 5). (2) ت 5: " من شيء ".

فلو قلنا: يتبين وقوع العتق حالة الموت، لكنا نفذنا العتق مع تحقق التعذر في الثلثين، فإن احتملنا هذا، فالجواب ما قدمناه، وإن ترددنا فيه، فموجبه حصول العتق يوم القدرة. ثم وإن قلنا بذلك، فتصرّف الورثة قبل هذا يجب أن يكون مردوداً؛ فإن العتق وإن لم ينفذ، فهو موقوف، وما استحق عن جهة الوصية لا ينفذ فيه تصرف الورثة، وإن لم تتم الوصية بعدُ، والدليل عليه أن من أوصى بوصية يفي الثلث بها لإنسان، وقلنا ملك الموصَى [له] (1) يتوقف على قبوله، فلو تصرف الوارث في الموصى به قبل القبول، لم ينفذ تصرفهم وإن كان قبول الموصى له متردداً، وكان ردّه (2) ممكناً. ومما يتصل بذلك أن المدبِّر إذا مات وخلف العبد المدبر وتركةً يفي ثلثها بقيمة العبد لولا دين مستغرِق، فلا يحكم بنفوذ العتق ما لم يبرأ من الدين، فلو مرت أيام من موت المولى، فأبرأ مستحق الدين، فنتبين عتق المدبر عند الموت استناداً، أم نحكم بأنه يتنجز من وقت سقوط الدين؟ هذا فيه التردد الذي ذكرناه، والأظهر في هذه الصورة أن لا يستند العتق، بل يتنجز من وقت سقوط الدين. فصل قال: " ولو قال: إن شئتَ، فأنت حرّ متى ما متّ ... إلى آخره " (3). 12460 - إذا قال لعبده: أنت حر إن شئت، فالمذهب الذي عليه التعويل -وهو مقتضى النصوص- أن هذا يستدعي مشيئةً عاجلة، وكذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت. وذكر صاحب التقريب والشيخُ أبو علي أن هذا تعليق مجرد، لا يقتضي وجودَ الصفة (4) في الحال، وهو كقوله: أنتَ حر إن دخلتَ الدار، أو أنتِ طالق إن كلمت

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. وقد سقطت من النسختين. (2) ردّه: أي ردّ الوصية وعدم قبولها. (3) ر. المختصر: 5/ 272. (4) الصفة: المراد المشيئة، كما صرح بدلك الغزالي في البسيط.

فلاناًً، وإنما يقتضي الخطاب تعجيلَ الجواب فيما يتعلق بالمعاوضات. وهذا الوجه غريب (1)، وإن كان منقاساً؛ إذْ أقصى (2) ما قيل في تعليل تعجيل المشيئة: إن ذلك يقتضي تمليكَها أمرها، أو تمليكَ العبد أمره، فيلتحق هذا بتمليك الإنسان الشيء في معاوضة أو تبرع. وهذا ضعيف، ثم (3) لو قال الرجل لامرأته: ملكتك نفسك، أو طلقي نفسك، ففي اقتضاء ذلك تعجيلَ الجواب قولان ذكرناهما. وإذا قال لعبده: أنت مدبر إن شئت، أو دبرتك إن شئت، فلا بد من المشيئة، ثم القول في التعجيل والتأخير على ما ذكرناه. ولو قال: أنت مدبر متى شئت، فهذا لا يشترط فيه تعجيل الجواب، ولكن لو مات المولى، فشاء بعد موته، فالذي أراه أن الموت يقطع هذا التعليق، وهو كما لو قال لعبده: إن دخلتَ الدار، فأنت حر، فمات السيد، ثم دخل الدار، لم يَعتِق، كذلك التدبير أمر يتممه المولى في حياته تنجيزاً، وقد يعلّقه، فتتحقق الصفة في حياته. ولو قال: إذا مت، فأنت حر إن شئت، فهذا اللفظ فيه تردد، يحتمل أن يقال: معناه إن شئت بعد موتي، ويحتمل أن يقال: يطلب مشيئته في الحال، كما لو قال: دبرتك إن شئت، أو أنت مدبر إن شئت، فإذا تردد اللفظ بين هذين المعنيين، رجعنا إلى نيته، فإن قال: أردت تعليق التدبير بمشيئته في الحياة، فالرجوع إلى قوله، ثم يشترط تعجيل المشيئة، أم يجوز تأخيرها؟ فيه الكلام الذي قدمناه. وإن قال: أردت تأخير المشيئة إلى ما بعد الموت، فقوله مقبول، ثم لا أثر للمشيئة في حياة المولى. وإن قال: أطلقت اللفظ، ولم أرد به شيئاً، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه:

_ (1) أي غريب في الحكاية. (2) تعليل لصحة القياس، ببيان ضعف تعليل من قال بالتعجيل للمشيئة، مع قوله: إن المذهب الذي عليه التعويل هو التعجيل. (3) استمرار لبيان ضعف تعليل القول بالتعجيل، حيث لا يقطع بتعجيل الجواب فيمن ملكها أمرها صراحة.

أحدها - أنه لا يحكم بالعتق أصلاً، حتى يشاء في حياته، ويشاء بعد الموت؛ فإن اللفظ متردد بين المعنيين جميعاً، فما لم يتحققا، لم تحصل الثقة بالعتق. ومن أصحابنا من قال: مطلق ذلك محمول على المشيئة بعد الموت، وهو الذي صححه العراقيون؛ فإنه لما قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، فقد ذكر المشيئة بعد وقت الحرية، فلتقع بعد الموت. ومن أصحابنا من قال: يحمل اللفظ المطلق على المشيئة في الحال، وهذا متجه، لا بعد فيه؛ فإن قول القائل أنت حر بعد موتي عبارة عن قوله دبرتك، ولو قال: دبرتك إن شئت، فالمشيئة مطلوبة في حالة الحياة. 12461 - وقد نشأ من هذا المنتهى إشكال في شيء، وهو أن الرجل لو قال لعبده: إن رأيت عيناً، فأنت حر، والعين لفظ مشترك بين مسميات: منها العين الباصرة، وعين الماء، وعين الركبة، والدينار، وأحد الأخوين من أب وأم، فلو رأى العبد شيئاً مسمىً بالعين، فهل يعتق إذا لم يعين المعلِّق مسمىً بقلبه؟ والتفريع في مسألتنا على أن العبد لا يعتق ما لم يشأ في الحياة، وبعد الموت هذا فيه تردد. والوجه: الحكم بأن الحرية تحصل في مسألة العين وما في معناها إذا رأى مسمىً واحداً ينطلق عليه اسم [العين] (1)، وهذا يُضعف -فيما نرى- الوجه الأول (2) في المشيئة. ومن تمام الكلام في المسألة أنه إذا قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم أنه أراد المشيئة بعد الموت، فلا خلاف بين الأصحاب أنا لا نشترط وصل المشيئة بالموت، ولكن لو انفصلت، جاز؛ فإنها إذا استأخرت عن الخطاب، ووجب وقوعها بعد الموت، فلا معنى لاشتراط اتصالها بالموت، وليست جواباً، والدليل عليه أن قبول الوصية في معنى قبول الهبة والبيع، ثم لما وقع بعد الموت، لم يشترط اتصاله بالموت. ولو قال: إذا متُّ، فشئتَ، فأنت حر، فهذه الصيغة تقتضي وقوع المشيئة بعد الموت؛ فإنه ذكر الموت وعقّبه بالمشيئة، واختلف أصحابنا في أنا هل نشترط -

_ (1) في الأصل: " العتق " وهو سبق قلم من الناسخ. (2) المراد الوجه الأول من الوجوه الثلاثة في مسألة إطلاق المشيئة التي تقدمت آنفاً.

والصيغة هذه- أن تتصل المشيئة بالموت: فمنهم من قال: لا يشترط ذلك، كما لو قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم أنه أراد إيقاع المشيئة بعد الموت. والوجه الثاني - أنه لا بد من اتصال المشيئة بالموت إذا قال: إذا مت فشئتَ؛ لأن العطف إذا وقع بالفاء، اقتضى ذلك تعقيباً، ومن ضرورة التعقيب الاتصال. وقد ذكر الوجهين القاضي. والذي أراه أنهما يجريان فيه إذا قال: إن دخلتِ الدار، فكلمتِ زيداً، فأنت طالق، فلو كلمته على الاتصال، طلقت، ولو انفصل التكليم عن دخول الدار انفصالاً معتداً به، ففي وقوع الطلاق وجهان. فصل قال: " ولو قال شريكان في عبد: متى متنا، فأنت حر ... إلى آخره " (1). 12462 - إذا كان بين رجلين عبد مشترك، فقالا له: إذا متنا، فأنت حر. فإذا مات أحدهما، لم يعتِق أصلاً؛ فإن كل واحد منهما علق عتق نصيبه بموته وموت شريكه، فلا يحصل العتق بموت أحدهما، وكل عتق أو طلاق علّق بوصفين، لم يقع بأحدهما، كما لو قال لعبده: إذا دخلتَ الدار، وكلمتَ زيداً، فأنت حر. فلا تحصل الحرية ما لم يوجد الشرطان: الدخول والكلام؛ فإذا مات أحد الشريكين، فللذي لم يمت بيع نصيبه؛ (2 فإن ملكه باقٍ كما كان، وغايته أن يكون مدبراً، أو معلق العتق، والتصرف نافذ في كل واحد منهما. وأما الذي مات، فلا يجوز لورثته بيع نصيبه 2)، وإن لم يعتِق بعدُ؛ لأن الوصية انعقدت في نصيبه بموته، غير أن نفوذها معلَّق بمعنىً يحدث من بعدُ، وكل وصية تثبت بالموت، ونفوذها موقوف على معنىً (3) منتظر، فالوارث لا يملك قطعها، وإن لم يوجد ذلك المعنى المنتظر.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 272. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت 5). (3) سقطت من (ت 5).

وهذا كما إذا أوصى لواحدٍ بمال -والثلث وافٍ به- ومات الموصي، فنفوذ الوصية موقوف على قبول الموصى له، ثم الوارث لا يملك إبطال الوصية قبل القبول، وعلى هذا الأصل إذا قال لعبده: إذا متُّ، ودخلتَ الدار، فأنت حر، فإذا مات، لم يملك الورثة بيعه على هذا القياس الذي مهدناه، والتحقيق فيه أنه يصير بالموت مستحق العتاقة لو دخل الدار. ولو قال المالك لعبده: إن دخلتَ الدار، فأنت حر، لم يمتنع عليه التصرف بسبب التعليق، وإن كان التعليق لا يتأتى رفعه مع دوام الملك، ولكن معنى التعليق: أن المالك يقول: أنا على سلطاني ما لم يدخل، فإذا وقع التعليق بعد الموت، فليس للوارث أن يقطع عليه ما بناه، وهذا يقرب من العارية والوصية بالمنفعة، فمن أعارَ مَلك الرجوع في العارية. وإذا قال: أعيروا من فلان بعد موتي داري شهراً، لزم تنفيذ أمره، ولا يملك الوارث الرجوع، وإلا فالوصية بالمنفعة على صورة العارية. هذا منتهى ما جرى به الفكر. وليس يخلو تعليق عتق العبد بالدخول بعد الموت عن احتمالٍ (1) من طريق المعنى، وقد رمز إليه القاضي، فإن كان لهذا (2) ثبات، فيلزم طرده في مسألة الشريكين، بل هو أولى؛ من جهة أنه ينتظر في عتقه موت الشريك الآخر، وليس ارتقابه مما يستغرب، وليس من الحزم إفساد قاعدة المذهب بمثل هذا، فالأصل ما ذكرناه (3). ومما يتصل بذلك أن الشريكين إذا قالا: إذا متنا، فأنت حر، فليس واحد منهما مدبراً في الحال، بل كل واحد معلِّق. فإذا مات أحدهما، فقد صار الشريك الثاني بحيث يعتِق نصيبُه بموته؛ فيثبت لنصيبه الآن حكم التدبير، كما تقدم مقتضى التدبير وموجب التعليق.

_ (1) أي عن احتمال جواز الورثة بيعه. (2) أي هذا الاحتمال. (3) أي ما ذكرناه من عدم جواز تصرف الوارث بعد موت الشريك.

فصل (1) قال: " ولو قال سيد المدبر: قد رجعت ... إلى آخره " (2). 12463 - مضمون هذا الفصل قد سبق في تمهيد أصول الكتاب عند ذكرنا حقيقة التدبير، والقول الوجيز فيه أنا إن جعلنا التدبير وصيةً، فالرجوع عنه ممكن، وكل ما يكون رجوعاً عن الوصية، فهو رجوع عن التدبير إلا في واحدٍ (3) نرمز إليه الآن ونستقصيه في باب بعد هذا، إن شاء الله. وذلك أن من أوصى لإنسان بجاريةٍ، ثم استولدها، أو وطئها، ولم يعزل، فنجعله راجعاً، وهذا الفن لا يكون رجوعاً عن التدبير؛ لما سنوضحه من بعدُ. وإن قلنا: التدبير تعليق، فالرجوع عنه غير ممكن مع استمرار الملك، فإن باع المولى، جاز له ذلك، فلو عاد إليه، ففي عَوْد التدبير من الكلام ما في عَوْد الحنث في اليمين المعقودة على الطلاق أو العتَاق. فإذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم أبانها، ثم نكحها، ففي وقوع الطلاق قولان، لو دخلَتْ الدار في النكاح الثاني، وكذلك لو علّق عتق عبده، ثم باعه، وعاد إلى ملكه، ففي عود الحنث القولان المشهوران. وإذا عاد المدبَّر إلى ملك المولى بعد الزوال، فهو بمثابة ما لو باع العبد المعلَّق عتقُه، ثم عاد. فصل قال: " وجناية المدبر كجناية العبد ... إلى آخره " (4). 12464 - إذا جنى [المدبّر] (5) تعلَّقَ الأرش برقبته، والسيد بالخيار بين فدائه

_ (1) من هنا بدأ سقط من نسخة (ت 5) نحو ورقتين، وسننبه عند انتهائه إن شاء الله. (2) ر. المختصر: 5/ 272. (3) كذا بدون موصوف لـ (واحد) ولعلّ التقدير: " في تصرف واحد ". (4) ر. المختصر: 5/ 273. (5) زيادة اقتضاها إيضاح العبارة.

وتسليمه للبيع، ولا اختصاص للمدبر بمزية في هذا الحكم، مع الحكم بأن [المولى] (1) يبيعه من غير جناية. والذي يتعلق بهذا الفصل أنه إن بيع، ثم عاد، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في عَوْد التدبير على قول التعليق، وقد ذكرناهما. ولو جنى المدبر، ولم يتفق فداؤه ولا بيعه في الجناية حتى مات السيد، وكان التركة يفي ثلثها بالفداء، وقيمة الرقبة بعد الفداء؛ فقد ذكر العراقيون طريقةً وذكر صاحب التقريب أخرى. فنسوقهما ثم نذكر ما فيهما. قال العراقيون: هذا يخرّج على القولين في أن العبد إذا جنى، وتعلق الأرش برقبته، فأعتقه سيده، فهل ينفذ فيه عتقه؟ وفيه قولان. قالوا: فإذا مات السيد، والمدبرُ جانٍ، فيخرّج على هذين القولين. فإن قلنا: ينفذ إنشاء العتق في الجاني، فإذا مات السيد والمدبر جانٍ، فيعتق المدبر، ويجب فداؤه. وإن قلنا: لا ينفذ إعتاق الجاني، فإذا مات السيد، لم يعتِق المدبر، والورثة بالخيار عند اتساع التركة، فإن فَدَوه، عَتَقَ، وإن سلّموه للبيع، كان لهم ذلك، وإن أدى إلى إبطال العتق واتسع الثلث. هذا طريق العراقيين. فأما صاحب التقريب، فإنه قطع جوابه بأنه يجب على الورثة تحصيل العتق فيه إذا وفى الثلث بالفداء، بقيمة الرقبة، من غير فصلٍ وبناءٍ على إعتاق الجاني. والذي ذكره العراقيون أمثل وأحسن. ومما ذكره الأئمة أن المدبرة لو جنت، وأراد السيد بيعها في الجناية، وكان لها ولد صغير -قد (2) حكمنا بتعدي التدبير [إليه] (3) على قولٍ، كما سيأتي من بعدُ إن شاء الله- فإذا منعنا التفريق بين الأم والولد في البيع، فلو بعنا الولد، كان ذلك تسبباً إلى إبطال التدبير فيه؛ والجناية إنما وجدت من أمه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نبيع الولد مع الأم ولا نفرق. والثاني - أن نبيع الأم دون الولد؛ استبقاءً للتدبير في الولد،

_ (1) في الأصل: " مولى ". (2) جملة " قد حكمنا بتعدي التدبير إليه على قولٍ " في محل صفة لـ " ولدٍ صغير ". (3) زيادة من المحقق حيث سقطت من الأصل، وما زلنا في موضع السقط من (ت 5).

ويجوز التفريق بين الوالدة وولدها في هذه الصورة للضرورة. وعلى نحو هذا اختلف أئمتنا في أن من رهن جارية دون ولدها الصغير، ومست الحاجة إلى بيع الجارية في الدَّين، فيجب في وجبما بيع الولد معها، ويجوز في وجه بيعها دون الولد، ولا يحرم التفريق في هذه الصورة للضرورة الداعية إليه، وقد ذكرنا هذا في كتاب الرهون. فصل قال: " ولو أن سيده ارتد ... إلى آخره " (1). 12465 - إذا دبر عبداً، ثم ارتد المولى، فاختلاف الأقوال في زوال ملكه معروف، وقد أوضحناها في كتاب [المرتدّ] (2) توجيهاً وتفريعاً. ونحن نقول هاهنا: إن قلنا: لا يزول ملك المرتد بالردة، فالتدبير يبقى. وإن قلنا: يزول ملكه، فلو عاد إلى الإسلام، فيعود ملكه، وهل يعود التدبير؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فقال بعضهم: هذا بمثابة ما لو باع المدبَّر، ثم عاد إلى ملكه، وقد مضى التفصيل فيه. ومن أصحابنا من قال: يعود التدبير عَوْدَ الملك، فإن الملك عاد لأن الزوال لم يكن زوالَ انبتات؛ إذ لو كان زوال انبتات، لما عاد بالإسلام. وهذا بمثابة العصير يشتد، والغرض من صب العصير الخل، فإذا استحالت الخمر خلاًّ، فالملك قائم كما كان، ولو رهن عصيراً، فاستحال خمراً، ثم استحالت الخمر خلاًّ، فالخل مرهون، ونجعل كان تخلّل الشدة لم يكن، وهذا قد قررناه في كتاب الرهون. وكذلكَ لو رهن شاة، فماتت، فيخرج إهابُها عن الاتصاف بكونه مرهوناً؛ فإن إهاب الميتة نجس العين، فإذا دبغ الجلد، فالرهن قائم، وإن لم يجدد بعد الدباغ، وقد ذكرنا محل الخلاف والوفاق في ذلك في كتاب الرهن.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 273. والعبارة هنا بمعنى ما في المختصر، لا بلفظه. (2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، ثم أقول: إن الإمام سماه هناك (باب المرتد).

وقال قائلون: لئن زال ملك المرتد، فإذا عاد، فنجعل كأنه لم يزل، والتدبير مطرد، كما ذكرناه في العصير والجلد في حكم الرهن. ومما يتصل بذلك أنا إذا قلنا: التدبير لا يزول، والملك لا يزول، فلو قتل على الردة، أو مات عليها فماله فيء، فإن وفى الثلث، نفذ عتق المدبر. فإن قيل: إنما يفرض الثلث حيث يفرض الورثة، والمرتد ليس موروثاً؟ قلنا: نعم. ولكن ماله مصروف إلى جهة مستحِقه، فلا فرق بين أن يكون إرثاً وبين أن لا يكون إرثاً، والتدبير قد أنشأه في إسلامه، وثبت استحقاق العتاقة في ثلثه، فلئن شقي بالردة ومات عليها، فذلك الاستحقاق لا يزول. ولو أنشأ المرتد التدبير في حالة الردة، فإن قلنا: لا ملك له، فتدبيره مردود، وإن قلنا: ملكه غير زائل، وقد يفرض عليه ضرب حجر من جهة القاضي، كما ذكرناه في كتاب أهل الردة، فإن دبر قبل الحجر، نفذ تدبيره، وإن دبر بعد الحجر، فهو كالمفلس يدبِّر أو يُعتِق، وقد ذكرنا تصرفاتِه في كتاب التفليس. فصل. قال الشافعي: " ولو قال لعبده: متى قدم فلان، فأنت حر ... إلى آخره " (1). 12466 - مضمون الفصل أن السيد إذا علق عتق عبده في حالة الصحة، ثم وجدت الصفة في حالة المرض، فالعتق محسوب من الثلث، أم هو نافذ من رأس المال؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الاعتبار بحالة التعليق، وقد كان صحيحاً فيها، فالعتق من رأس المال، كما لو نجَّز العتقَ في الصحة. والثاني - أن الاعتبار بحالة وقوع العتق؛ فإن زوال الملك يحصل يومئذ. وعلى هذا النحو اختلف الأصحاب في أن من علق طلاق امرأته في حالة الصحة، ووجدت الصفة في مرض موت المعلَّق، فهل نجعله فارّاً (2)؛ فيه الوجهان المذكوران.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 273. (2) أي فارّاً من الميراث.

وعن هذا الأصل اختلف الأصحاب في أن شاهدين لو شهدا على تعليق العَتاق بصفة، وشهد آخران على وجود الصفة، وجرى القضاء بنفوذ العتق، ثم رجع الشهود بعد القضاء، فمن أصحابنا من قال: يجب الغرم عليهم بأجمعهم، ومنهم من قال: يختص بالغرم شهود التعليق، وليس على شهود الصفة شيء؛ فإن التعليق هو الموقع للعَتَاق، [وأما] (1) الصفةُ محلُّ وقوعه، فهي بمثابة المحل، والتعليق بمثابة العلّة، والحكم للعلة. وكذلك جرى اختلاف القول في أن شهود الإحصان والزنا إذا رجعوا بعد نفوذ القضاء وإقامة الحد، فالغرم على من؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه على شهود الزنا، والثاني - أنه على شهود الزنا والإحصان جميعاً، وقد ذكرنا هذا في باب الرجوع عن الشهادة. فإن قيل: من قال من الأصحاب: الاعتبار بحالة وقوع العتق، ولهذا يحتسب من الثلث، فلو قال قائل على هذا: إذا رجع شهود التعليق وشهود الطلاق، فهلا أوجبتم الغرم على شهود الصفة (2) فحسب، كما أنكم اعتبرتم الصفة الواقعة في مرض الموت، وجعلتم كأن العتق أنشىء في مرض الموت. قلنا: هذا السؤال متجه، والجواب عنه عسر. ولكن لم يصر أحد من الأصحاب إلى أن شهود الصفة يختصون بالغرم، فهذا مما يجب فهمه وتعدّيه، والاقتصار على ما قطع به الأصحاب (3). فصل 12467 - إذا ادعى العبد على سيده أنه دبره، فهل تسمع دعواه؛ ظاهر النص هاهنا أن الدعوى مسموعة، وهذا مشكل؛ لأن المدبَّر لا يستحق في الحال على مولاه شيئاً، وعماد الدعوى أن يستحق المدعي على المدعى عليه حقاً في الحال يملك

_ (1) في الأصل: " وفي الصفة ". (2) أي الصفة التي علق الطلاق عليها. (3) إلى هنا انتهى السقط الموجود في (ت 5).

المطالبةَ به، وليس يملك المدبَّر على مولاه شيئاً في الحالة الراهنة، وقد نص الشافعي على أن صاحب الدين المؤجل لو أراد أن يدعيَه على المدعى عليه، لم يكن له ذلك، والتدبير كالدين المؤجل؛ من حيث إنه لا يثبت في الحال طلبه، ولكن التدبير عُلقة تُفضي إلى العتق في المآل، كما أن الدين المؤجل إذا انقضى أجله، توجهت الطلبة به، فاتفق الأصحاب على إجراء الخلاف في المسألتين، وإن لم يكن في الحال طلبٌ ناجز. ثم هذا الذي أطلقناه منتظم في الدَّيْن المؤجل، وفيه غموض في التدبير من وجهين: أحدهما - أن السيد إذا أنكر -على قولنا بإثبات الرجوع فيه مع استمرار الملك- فهل يكون إنكاره بمثابة الرجوع؟ فنذكر هذا الطرف. ونقول: إن لم نثبت الرجوع، فلا سؤال من هذه الجهة، وإن أثبتناه، فهاهنا مسائل، نذكرها ونوضح تباينها واتفاقها: فإذا ادعت المرأة على زوجها طلاقاً رجعياً، فأنكره، لم يكن إنكاره له رجعةً فيه؛ لأن الرجعة في حكم عقد مبتدأ مفيد لِحلٍّ جديد، ورَفْع تحريم واقعٍ، فلا يكون نفي موجَبه متضمناً إنشاءه. هذا متفق عليه. ولو ادعى رجل على رجل آخرَ بيعاً فيه خيار للمدعى عليه، فأنكره فإنكاره له لا يكون فسخاً منه للبيع، وسينعطف على هذا ضرب من الاحتمال. فأما إذا ادعى رجل وصيةً على الموصي، أو ادعى العبد عليه تدبيره، أو ادعى الوكيل على رجل أنه وكَّله، فأنكر هؤلاء الوصية، والتدبير، والتوكيل، فهل يكون إنكارهم رفعاً منهم لما ادُّعي عليهم؟ حاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أن هذه العقود بجملتها تنفسخ لو كانت ثبتت في علم الله تعالى؛ فإنها معرضة ليفسخ والرفع من جهة المدعى عليه. ولو قال الموكل -بعد ثبوت التوكيل لوكيله-: لست وكيلي، وجب القطع بالخروج عن كونه وكيلاً، وفي قوله: ما وكلتك أمس هذا المعنى الذي ذكرناه؛ فإنه إذا لم يكن وكيله أمس، فليس الآن؛ وهذا جارٍ في الوصية والتدبير. والوجه الثاني - أن هذه العقود لا تنفسخ بالإنكار؛ فإن الإنكار إخبار عن ماضٍ

لا تعلق له بالحال، فإذا كان كذباً، لم يؤثر في رفع العقود، والدليل عليه أن إنكار الأصل موجبه استحالة الرفع، فإن ما لم يقع لا يرفع، فنفي الأصل مع الرفع ضدان. والوجه الثالث - أن الوكالة ترتفع من بينهما، ولا يرتفع التدبير والوصية؛ فإنهما عقدان يتعلق مقصودهما بغرضين ظاهرين لغير المنكر، فلم نجعل الإنكار فيهما رفعاً، وأما التوكيل، فالغرض الأظهر منه يرجع إلى الموكِّل، فإذا أنكر التوكيل، انقطعت الوكالة. فإذا لاح ما ذكرناه، وجرى الحكم بكون الإنكار قطعاً للوصية والتدبير، فليس يبعد توجيه احتمالٍ إلى البيع الذي فيه خيار للمنكر، ولكنه بعيد. 12468 - فإذا ثبت هذا الأصلُ، عدنا إلى غرض الفصل: فإن لم نجعل الإنكار رجوعاً، فالقول في سماع الدعوى في التدبير والوصية والوكالة على التردد الذي ذكرناه. والأوجه ردُّ الدعوى، وقبولُها في الدين المؤجل أقربُ؛ لأنه حق، وكيف لا؟ ونحن نكتفي به ركنا في عقد المعاوضة. وإن حكمنا بأن الإنكار يكون رجوعاً في الأصول التي ذكرناها، فالذي ذكره الأئمة أن الدعوى لا تسمع على ذلك. وهذا فيه نظر؛ فإن الدعوى إن كانت منساغة في الأصل، فليست مبنية على إنكار المدعى عليه لا محالة، فربما يقرّ، وربما يسكت ولا يقرّ ولا ينكر، فليس يمتنع (1) إجراء الخلاف، ثم المصير إلى أنه إذا أنكر، انقطعت الدعوى، والدعوى في أصلها فيها ضعيفة. ومما يتم به البيان أن شهادة الحسبة في الطلاق والعتَاق مسموعتان -كما مهدناه في كتاب الدعاوي- وهل تسمع شهادة الحسبة على التدبير؟ هذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه في قبول الدعوى. فإن لم نقبلها لتحليف المدعى عليه، فلا نصغي إلى شهادة الحسبة من غير دعوى، فرد شهادة الحسبة أولى من ردّ الدعوى، فإن محل

_ (1) سقطت من (ت 5).

الحسبة فيه إذا ثبت لله حق وهو مجحود، فينتهض من يشهد محتسباً في إثبات حق مجحود. وقد ينقدح للفقيه فصلٌ بين شهادة الحسبة في غيبة المشهود عليه وبين الشهادة في حضوره، حتى يقال: الشهادة في الغيبة أولى بالقبول؛ من جهة تقدير مماتٍ أو فوات. وهذا بالحسبة أَلْيقُ، ولهذا. جوّز بعضُ الأصحاب استرجاعَ العين المغصوبة حسبةً في غيبة المغصوب منه، ولا ينبغي أن يجوز بحضرته مع قدرته على الاسترجاع أو الأمرِ به. والأصح أن دعوى الاستيلاد مقبولة؛ فإنها تتضمن -لو ثبتت- عُلقةَ ناجزة لازمة. ومن أصحابنا من ذكر خلافاً في دعوى الاستيلاد من غير مسيس حاجة إليها، وإن باع المستولِد أم الولد؛ فإذ ذاك لا خلاف في قبول الدعوى وشهادة الحسبة. ***

باب وطء المدبرة

باب وطء المدبرة 12469 - وطء المدبرة جائز، وإذا استولدها المولى، فلا خفاء بثبوت الاستيلاد، ولا يبقى للتدبير أثر؛ فإن أمية الولد تُحصِّل العَتاقة على اللزوم، ولكن من طريق التقدير لا يكون الاستيلاد مناقضاً للتدبير؛ فإنه يوافق مقصودَه، ويؤكدُه. وليس مساق الكلام في هذا كقولنا: الاستيلاد لا ينافي الكتابة؛ فإن المكاتبة إذا استولدها السيد، وعتقت بموت مولاها، استتبعت الكسب والولد، وهذا من آثار الكتابة، وليس يبقى لعتق التدبير خاصية، حتى يقال: إنها باقية (1) مع الاستيلاد، وليس من الفقه أن يقال: العتق معلل بعلتين، فإن خبط الأصوليين في هذا عظيم، ولسنا له الآن. نعم، إذا أوصى رجل بجاريته لإنسان، ثم استولدها، فهذا رجوع عن الوصية لمضادة الاستيلاد مقصود الوصية للغير، ولو وطئها ولم يعزل، فقد نجعل ذلك رجوعاً عن الوصية. ولو وطىء المولى المدبَّرة ولم يعزل -والتفريع على أن الرجوع ممكن في التدبير بناء على أنه وصية- فلا يكون الوطء رجوعاً عن التدبير؛ فإن المنتظر منه العلوق؛ ولا منافاة بين مقتضاه وبين مقصود التدبير، فمن هذا الوجه تفترق الوصية والتدبير في مقدمة الاستيلاد. ولو دبّر عبداً، ثم كاتبه -والتفريع على أن التدبير وصية- فهل تكون المكاتبة رجوعاً عن الوصية؟ فعلى قولين، نقلهما صاحب التقريب، ومنشأ التردد أن مقصود الكتابة العتُق أيضاً، ويخرج عندنا على هذا التردد ما لو علّق المولى عتق المدبر بصفة، وقد أطلق الأصحاب كون ذلك رجوعاً عن الوصية للغير. وقد ذكرت حكم الرجوع في موضعه.

_ (1) ت 5: " كافية ".

وذكر الشيخ أبو علي أمراً بدعاً لا يليق به، فقال: إذا جعلنا التدبير وصية، فلو وَهَبَ المدبَّرَ ولم يسلِّم، كان راجعاً عن التدبير، وهذا منقاس، قال: وإن قلنا: التدبير تعليق، فهل تكون الهبة من غير إقباض إبطالاً للتدبير؟ فعلى وجهين. ولست أعرف لهذا الاختلاف وجهاً، ولا طريق إلا القطع بأن الهبة بمجردها لا تُبطل التدبير. نعم، إذا اتصلت الهبة بالإقباض -فإن قلنا: الملك يحصل عند التسليم- فعنده ينقطع التدبير، وإن قلنا: نتبين استناد الملك إلى حالة الهبة، فهل نتبين استناد انقطاع التدبير؛ هذا فيه تردد. وكذلك لو فرض بيع على شرط الخيار، وجعلناه مزيلاً للملك، فهل يبطل التدبير به قبل لزوم البيع؟ فيه تردد. وأثر ذلك في أنا إن قلنا: إذا زال الملك على وجه اللزوم، وعاد، فالتدبير منقطع، فلو زال على الجواز، ثم عاد، فهل نحكم بانقطاع التدبير؟ فيه تردد بيّن. يجوز أن يقال: ينقطع لزوال الملك، ويجوز أن يقال: لا ينقطع كالطلاق الرجعي إذا تداركته الرجعة، فإن الأيمان لا تنقطع، والعلم عند الله. وقد نجز هذا الغرض. 12470 - ونحن نأخذ بعده في تفصيل المذهب في ولد المدبرة. فنقول: إذا أتت المدبرة بولد بعد التدبير عن نكاحٍ أو سفاحٍ، وتبين حصول العلوق به بعد التدبير، فهل يثبت لولدها حكم التدبير؟ فعلى قولين منصوصين: أحدهما - لا يثبت، وهو القياس؛ فإن التدبير عرضةُ الرجوع في قولٍ، وهو بصدد الإبطال بالبيع في قولٍ، وما لا يلزم أو يتطرق إليه إمكان الرفع، فقياس المذهب فيه ألا يتعدى من الأم إلى الولد، اعتباراً بالرهن؛ فإنه لا يتعدى إلى الولد، وليس كولد المستولدة؛ فإن الاستيلاد لازمٌ، لا دفع له. والقول الثاني - أنه يثبت التدبير للولد، تشبيهاً بالاستيلاد؛ فإن كل واحد منهما يتضمن العَتاقة عند الموت. وبنى أصحابنا القولين على أن التدبير وصيةٌ أو تعليق، فإن قلنا: إنه وصية، لم يتعد إلى الولد، وإن قلنا: إنه تعليق، تعدى.

وهذا ليس بشيء؛ فإن الأئمة نقلوا قولين في أن تعليق عتق الأمة بالصفة هل يتعدى إلى الولد الذي تَعْلق به بعد التعليق؟ فمختار الأئمة طرد القولين، سواء قلنا: التدبير وصية أو تعليق. وكان شيخي يقول: إذا أوصى الرجل بجارية، فعلقت بمولود بعد الوصية، الظاهرُ القطعُ بأن الوصية لا تتعدى إلى الولد، إذا حصل العلوق في حياة الموصي، ويمكن إجراء القولين كما ذكرناه في التدبير، والأظهر القطع؛ فإن الشافعي إنما ردد قوله في ولد المدبرة على مذهب التشبيه بالمستولدة، وهذا التشبيه يختص بعقد العَتاقة. 12471 - التفريع على أصل القولين في ولد المدبرة: إن قلنا: يتعدى التدبير إلى الولد الحادث من بعدُ، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتعدى التدبير إليه، فلو كانت الجارية حاملاً لمّا (1) دبرها، فهل يثبت التدبير في ولدها الموجود حالة توجيه التدبير عليها؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه يتعدى، لا للسريان، ولكن لاشتمال اللفظ على الحمل. ومن أصحابنا من قال: لا يتعدى، ولم أرَ خلافاً أنه لو أعتقها وفي بطنها جنين، ثبت العتق في الجنين. ثم إذا قلنا: يثبت التدبير في الجنين، ولا يثبت فيما يحدث العلوق به من بعدُ، فلو أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت التدبير، فقد بان أنه كان موجوداً، وإن أتت به لأكثرَ من ستة أشهر -والتفريع على أن التدبير لا يتعدى إلى الولد الحادث بعد التدبير- فعند ذلك نُفَصِّل بين أن يكون لها من يفترشها بعد التدبير: بأن كانت مزوّجة، وبين ألا يفترشها بعد التدبير مفترش. والعهد قريب بهذا التفصيل في جر الولاء، والقول هاهنا كالقول ثَمَّ. ثم إذا أثبتنا للولد حكمَ التدبير، فلا خلاف أن الأم لو ماتت قبل موت المَوْلى، لم يبطل التدبير في ولدها، ويعتِق الولد بموت المولى على حسب ما كانت الأم تعتِق لو

_ (1) ت 5: " كما ". وهي بمعنى عندما.

بقيت، ولو باع الأم أو رجع عن التدبير فيها -على قول الرجوع- بقي التدبير (1) في الولد، وهذا يحقق أن التدبير تأصّل في الولد. 12472 - ومما يتصل بهذا المنتهى ما ذكره ابنُ الحداد في مسائلَ أتى بها بدداً من الكتب، قال: إذا مات السيد، وخلف تركةً، ومدبّرةً، وولدَها، وكان الثلث يفي بأحدهما دون الثاني - قال ابن الحداد: يقرع بين الأم والولد، كما لو دبّر عبدين، وقال بعض أصحابنا: يقسم العتق بينهما؛ فإنا لو أقرعنا، فقد تخرج القرعة على الولد، وترِق الأم، وهي الأصل، ومنها تعدى التدبير؛ فإن الولد لم يُدبّر، فيبعد أن ترِق ويعتِق الولد. وهذا ليس بشيء. والوجه ما قاله ابن الحداد؛ فإن التدبير إذا ثبت، فلا نظر بعد ثبوته إلى ذلك، ولو صح هذا المعنى، لوجب أن يقال: تعتق الأم لا محالة، فإن بقي وفاء بالولد، فذاك، وإلا حُكم برقه، ولا قائل بذلك، وكذلك لا نعرف خلافاً أن المدبرة لو ماتت قبل موت المولى، فقد ماتت رقيقة، والتدبير لا ينقطع في الولد، فالأصل ما ذكره ابن الحداد. 12473 - ثم فرع الشافعي على قول جريان التدبير، وقال: لو اختلف المولى والمدبَّرة، فقال المولى: هذا الولد ولدتيه (2) قبل التدبير، فهو منّي وقالت: ولدته بعد التدبير، فالقول قول المولى؛ لأن الأصل بقاء ملكه على ولد أمته. وكذلك لو وقع هذا الاختلاف بينها وبين الوارث بعد موت المولى، فالقول قول الوارث. وقد يتصور الخلاف بين الوارث وبين المدبرة على قولنا: لا يسري التدبير إلى الولد. وبيان تصويره أن الوارث لو قال: ولدتِ هذا الولد قبل موت المولى، فكان رقيقاًً، وقالت: بل ولدته بعد موته، فهو حر؛ فإن الحرة قط لا تلد رقيقاًً؛ فإنها وإن كانت حاملاً برقيق، فإذا عتَقَت عَتَق ولدها في بطنها؛ فإذا فرض النزاع كذلك،

_ (1) ت 5: " ففي التدبير ". (2) كذا في النسختين بإثبات الياء، وهي لغةٌ، وعليها جاء في حديث البخاري ومسلم قول ابن مسعود: " لئن كنت قرأتيه، فقد وجدتيه " (ر. البخاري ح 9539، ومسلم: 2125).

فالقول قول الوارث؛ جرياً على الأصل الذي ذكرناه. فإن قيل: إذا انفصل، وكان الثلث لا يفي بها وبولدها، فكيف تحكمون بعتق الولد؟ قلنا: إذا خرجت قيمتها وهي حامل من الثلث، لم نعتبر قيمة الولد بعد الانفصال. 12474 - ومما يتم به البيان أنه إذا علّق عتقَ جاريته بدخول الدار، فأتت بولد، وقلنا: يتعدى التعليقُ إليه - فالذي ذكره الأصحاب أن الأم إذا دخلت الدارَ، وعَتقَت، عَتَق ولدُها، وإن لم يدخل الدار. فقَضَوْا بأن الولد يعتِق، بما تعتق به الأم. وكان شيخي أبو محمد يقول: [معنى] (1) تعدِّي التعليق إلى الولد، أن الولد لو دخل، عَتَق، فأما أن يعتِق بعتق الأم، فلا. وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فليس بعيداً في التوجيه؛ فإن الأصحاب إنما قالوا ما قالوه عن المدبَّرة إذا مات عنها مولاها ولها ولد، فإنهما يعتِقان، ولكن لا اختصاص للموت بالأم، بل مات المولى عنهما. ولو ماتت الأم أولاً، ثم مات المولى، لعَتَق الولد، فموت المولى عنهما كموته عن عبدين دبرهما. فأما إذا سرّينا التعليق، [وقلنا] (2): يعتق الولد بدخول الأم الدار، مع انتفاء الدخول عنه، فهذا تسرية عتق، وليس بتسرية التعليق. والله أعلم. ...

_ (1) في النسختين: " متى " والمثبت تصرف من المحقق. (2) في النسختين: " قلنا " بدون الواو.

باب تدبير النصارى

باب تدبير النصارى 12475 - تدبير الذمي المعاهد والحربي جائز، وإعتاقهم عبيدَهم نافذٌ؛ فإن هذا من تصرفات المُلاّك في الأملاك، والملك ثابت لهم. ثم ذكر أن الذمي لو دبّر عبداً، ونقض العهد، فله حمل مدبَّره الكافر؛ فإنه رقيق، وهو عرضة تصرفات المولى؛ ولو كاتب عبداً ثم أراد حمله، لم يجد إليه سبيلاً. ولو أسلم مدبَّر الكافر، فهل نبيعه عليه؟ فعلى قولين: أحدهما - يباع؛ فإنه قابل للبيع؛ فلا يدام عليه رق الكافر، مع القدرة على إزالته. والثاني - أنه يحال بينه وبينه على رجاء أن يعتِق؛ فإن إدامة هذا له أغبط عليه من بيعه لمسلم. فرع (1): 12476 - إذا كان للرجل جاريةٌ حامل بولد رقيق، فدبّر حملها دونها، صح ذلك، ولو دبرهما جميعاً، ثم رجع عن التدبير فيها، بقي التدبير في الولد، وهل يصح الرجوع عن التدبير في الحمل إذا كنا نجوز الرجوع؟ فعلى وجهين: أصحهما - أن ذلك ممكن؛ فإنا وإن كنا نسرّي التدبير إلى الولد، فلا يبعد الرجوع عن التدبير فيه مع إبقائه في الأم. هذا هو المذهب. ومن أصحابنا من امتنع من تصوير الرجوع في الولد -وهو حملٌ- مع إبقاء التدبير في الأم، وهذا هَوَسٌ غيرُ معتد به، ولا خلاف أن ذلك جائز على قول الرجوع بعد انفصال الولد. فلو دبر الجنينَ دون الأم، ثم باع الأم، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه إن قصد الرجوع عن تدبير الولد، صح البيع في الأم والولد، وإن لم ينوِ الرجوع عن تدبير الولد، فلا يصح البيع في الولد، ثم إذا لم يصح فيه، لم يصح في

_ (1) هذا الفرع سقط من (ت 5).

الأم على الرأي الأصح فيه إذا باع جارية حبلى بولد حر، وهذا اختيار صاحب التقريب، لم يحك غيره. والوجه الثاني - أنه يصح البيع في الأم والولد، وإن لم ينو رجوعاً وهذا هو القياس، ومنشأ الخلاف عندي من شيء وهو أن البيع هل يتناول الحمل حتى يقابل بقسط من الثمن؛ فإن قلنا: يتناوله، صح البيع؛ وإن قلنا: لا يتناوله، ثار منه التردد. فرع: 12478 - عبد مشترك بين شريكين دبر أحدهما نصيبه، فالمذهب أن التدبير لا يسري إلى نصيب الشريك. وذكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهين في سريان التدبير: أظهرهما - أنه لا يسري. والثاني - أنه يسري، ويقوَّم على الشريك المدبِّر نصيبُ صاحبه على قياس سراية العتق. وهذا رديء لا أعرف له توجيهاً. ولو كان العبد خالصاً، فدبر سيدُه نصفَه، فإن قلنا: يسري التدبير إلى نصيب الشريك، فلا شك في سريانه إلى عبده الخالص. وإن قلنا: لا يسري ثَمَّ، فلا يسري هاهنا. فرع: 12479 - إذا دبر الرجل نصيبه من العبد المشترك، وقلنا: لا يسري التدبير، فلو أعتق صاحبُه نصيب نفسه، فهل يسري عتقه إلى نصيب المدبِّر؟ ذكر الإمام والعراقيون والشيخ قولين: أحدهما - أنه يسري، وهو القياس. والثاني - لا يسري لحق المدبِّر (1)؛ فإن السراية من ضرورتها نقل الملك، وهذا عندي شديد الشبه بالطلاق قبل المسيس، وقد دبرت المرأةُ العبدَ المصْدَق، فإن ذلك الارتداد قهري [كهذا] (2)، ولكن نقل الملك لتسرية العتق أقوى لسلطان العتق. ثم إن قلنا: لا يسري، فلو رجع المولى عن التدبير، فهل يسري الآن؟ قال

_ (1) عبارة الغزالي: " لأن السيد استحق العتق عن نفسه بالتدبير، فلا ينتقل إلى غيره (أي شريكه) قهراً " (ر. البسيط: ج 6 ورقة: 402). (2) في الأصل: " هكذا ". وت 5: " لهذا ". والمثبت من تصرف المحقق.

الأصحاب: لا يسري؛ فإنه قد امتنع السريان حالة العتق، فلا يسري بعده، وهذا كما لو أعتق وهو معسر، ثم أيسر. وحكى شيخي وجهاً: أنه يسري؛ فإنا منعنا السراية لرجاء العتق بسبب التدبير، فإذا زال التدبير سرّينا، ثم ذكر على هذا الوجه وجهين: أحدهما - أنا نسرّي كما (1) زال التدبير. والثاني - نتبين السريان مستنداً إلى العتق. 12480 - ثم عقد الشافعي باب في تدبير الصبي (2) المميز وتدبيرُه كوصيته، وإن لم نجعل التدبير وصية، وفي وصيته قولان ذكرناهما في كتاب الوصايا. فإن قيل: إذا جعلتم التدبير تعليقاً، فلم تصححونه منه، والتعليق منه باطل؟ قلنا: لأنه تعليق في معنى الوصية؛ إذ العتق يحصل به بعد الموت. ...

_ (1) كما: بمعنى عندما. (2) ر. المختصر: 5/ 274.

كتاب المكاتب

كتَابُ المُكاتَبِ 12481 - الأصل في الكتابة: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33]. والأخبار والآثار في الكتابة قريبة مَن حد الاستفاضة، والإجماع منعقد عليها. وقيل: اشتقاق الكتابة من الكَتْب، وهو الضم، يقال: كتبتُ البغلَةَ إذا جمعت بين شُفريها بحلقة، وكَتبتُ القِربة إذا خرزتها، وضممت أحدَ شقيها إلى الآخر، وسميت الكتابة كتابة لما فيها من ضم الحروف والكلم ونظمها، والكتيبة سميت كتيبة لانضمام بعض الناس إلى البعض، فالكتابة سميت كتابة لانضمام بعض النجوم منها إلى البعض. 12482 - ثم أصل الكتابة خارج عن قياس العقود والمعاملات من وجوه: منها - أنها معاملة مشتملةٌ على العوض دائرةٌ بين السيد وعبده. وهذا بدع في الأصول. ومنها: أنه يقابل عبده المملوك بما يُحصِّله العبدُ كسباً، وكسبُ العبد للمولى، فالعوض والمعوّض صادران عن ملكه. ومنها: أن المكاتَب على منزلةٍ بين الرق المحقق وبين العتق، فليس له استقلال الأحرار، ولا انقياد المماليك، وينشأ منه خروج تصرفاته على التردد بين الاستقلال ونقيضه، ثم ينتهي الأمر إلى معاملته السيدَ، وانتظام الطلب بينهما، واستحقاق كل واحد على صاحبه، ثم يثبت للمكاتب ملكٌ، وقياس المذهب الجديد أن المملوك لا يملك، ثم يعتِق ويتبعه ما فضل من كسبه. فأصل الكتابة إذاً خارج عن وضع قياس العقود، فرأى الشافعي الاتباع في الأصل، وتنزيلَ الكتابة على مورد الشرع، ولذلك رأى التنجيم فيها حتماً؛ فإنه لم يُلفِ كتابة

فيما بلغه من آثار الأولين إلا مشتملة على التنجيم، وأوجب الإيتاء بناء على ذلك أيضاً. 12483 - ثم العقود مبناها على المصالح، وأقدار الأغراض، وذلك بيّن في كل عقد، فلسنا نطيل الكلام بذكر وجوه المصالح فيها. ثم مما يجب التفطن له في تمهيد ما ذكرناه أن ما يُفسد عقداً، قد يقع شرطاً في عقد، وهذا بمثابة قولنا: المعقود عليه في البيع يجب أن يكون موجوداً، والإجارة كما (1) أجيزت للحاجة والمصلحة، فهي لا تَرِد إلا على منافع معدومة، ثم الإعلام شرطٌ في الإجارة، إما بالمدة وإما بذكر ملتمسٍ معلومٍ، كخياطة الثوب ونحوها. ومقصود النكاح لا يثبت إلا مجهولاً ممدوداً على أمد العمر، والتأقيت يفسده، كما أن التأبيد يفسد الإجارة؛ لأن اللائق بكل عقد ما أثبت فيه: إما تأقيتٌ أو تأبيد؛ وصحت الجعالة مع ظهور الجهالة فيها لمسيس الحاجة، حتى لا يُشترط في بعض صورها قبول وتعيين مخاطب؛ فيقول الجاعل: من رد عبدي، فله عليّ كذا. ثم جرت هذه العقود على حاجاتٍ حاقّة، تكاد تعم، والحاجةُ إذا عمت، كانت كالضرورة، وتغلب فيها الضرورةُ الحقيقية؛ ثم أثبت الشرع معاملةً لا تظهر الحاجة فيها ظهورها في القواعد التي ذكرناها، ولكنها تتعلق بالاتساع في المعيشة، وتحصيل الزوائد والفوائد، كالقراض في تحصيل الأرباح، ثم أثبت الشرع فيه أمراً بدعاً لتحصيل الربح، وأثبت عوض عمل العامل جزءاً من الربح، ليكون ذلك تحريضاً له على بذل الجد في الاسترباح. والكتابة من وراء ذلك؛ فإن العبد يستفرغُ الوسع، ويتناهى في تحصيل الأكساب إذا كوتب. والعتق محثوث عليه على الجملة، والرق من أظهر آثار القهر والسطوة، فرأى الشرع إثباتَ معاملة يحصل بها التقرب إلى الله تعالى بالعتق؛ فإن الكسب يُمْلَكُ من العبد مِلْكَه (2)، ثم لا يحصل الغرض بتعجيل العتق واتّباع معسر لا مال له؛ فإن

_ (1) كما: بمعنى (عندما)، وهي في ت 5: (لمّا). (2) المعنى أن الكسب من العبد، أي اكتسابه، يملكه منه مِلْك رقبته، أي كما تملك رقبته، ثم =

الرغبات تتقاعد عن ذلك؛ فكانت المكاتبة معاملة [تحقق] (1) الغرض الذي أشرنا إليه. 12484 - وكل عقد لم يعهد له نظير في العقود، فلا ينبغي أن يقال: لا يعقل معناه؛ فإن وضعه ومقصودَ الشرع منه معقول، ولكن لو رُدّ الأمر إلى نظرنا، لم نستنبط من قياس العقود وضعَ ما أحدثه الشرع لمقصود جديد، وإذا عقلنا معناه وخاصيته في مقصوده، تصرفنا بما فهمناه في تفصيل ذلك العقد، حتى نجيز ما يتوفر المقصود عليه، ونفسد ما يتخلف المقصود عنه. وننظم في هذه المسالك أقيسة فقهية وأخرى شبهيّة وننوّعها إلى جلية وخفية، ولذلك تتسع مسائلُ كتابٍ، [فتبلغ] (2) آلافاً، وموضع النص منها معدود محدود، وليس لنا أن نفتتح مصالح، ونبني بحسبها عقوداً؛ فإن ما نتخيل من جهات المصالح لا نهاية لها، وقواعد الشرع مضبوطة، وإن فرضت مصلحة شبيهة بالمصلحة المعتبرة في الشرع، فقد نجوّز القياس فيها بطريق التشبيه إذا ظهر، وهذا مقام يجب أن يتأنق القائسُ فيه، ويحاذر البعدَ عن الاتباع، ولا يجري بالخَطْو الوساع. هذا الشافعي لما رأى المساقاة قريبة من القراض، ورام أن ينظم بينهما تشبيهاً، لم يهجم على قياس المساقاة على القراض، بل استمسك بالحديث في المساقاة، ثم لما رام التعلُّقَ بالمعنى، قال: ليس للقراض ثبتٌ في الحديث، ولم يُجمع الأصحاب عليه إلا عمّا ظهر لهم في المساقاة - في كلام طويل وفيناه حقه من [التقرير] (3) في الخلاف (4).

_ = بعقد الكتابة الذي هو عقد عتاقة، متقرب به إلى الله، تصير أكساب العبد ملكاً له يؤديها نجوماً يعتق بأدائها. (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (2) في الأصل: " تبلغ "، والمثبت من (ت 5). (3) في الأصل: " التقريب "، والمثبت من (ت 5). (4) هنا خرم في (ت 5). نحو عشر ورقات كاملة، وأعتقد أنها كراسة كاملة -الكراسة عشر ورقات- سقطت من الأصل الذي كتبت عنه نسخة (ت 5)، فإن الخرم ليس يبدأ من رأس الصفحة ونهايتها، مما يشهد بأن السقط كان من الأصل المنقول عنه.

12485 - ثم إنا نستعين بالله فنقول: وضع الكتابة على الاتباع، فلذلك وجب فيها التنجيمُ، والإيتاء، كما سيأتي إن شاء الله. ثم انتظمت الكتابة معاوضة حقيقية بعد ما احتُمل [معاوضة] (1) الملك بالملك، ولم تصح على عين، لأنها ملك يُحصَّل للسيد، والكتابة للتحريض على تحصيل الكسب، واقتضى ذلك تسليطَه على الكسب على الاستقلال، على شرط ضرب الحجر عليه في التبرع، فقد يكتسب ويَضَعُ (2)، وابتنى على هذا معاملته للسيد؛ فإن عليه أداء النجوم، وله طلب النجم منه، فكان كل عوض في معاملة بهذه المثابة، ثم لو أعتقه السيد برىء؛ لأنا احتملنا عوضَ الكتابة لتحصيل العتق، فإذا حصل العتق، ارتدت النجوم، ولو أبرأ عن النجوم، حصل العتق على قياس المعاوضة؛ فإن استيفاء العوض والإبراء عنه بمثابة، وتعليق العتق بتأدية النجوم ضِمْنٌ (3)؛ فإذا قال: إن أديت، فأنت حر، لم يكن هذا تعليقاً محضاً، بل هو تعبير عن مقصود الكتابة ومآلها، وإلا فالكتابة في صحتها على حكم المعاوضة. وإن فسدت الكتابةُ، فالعتق لا يفسد تعليقُه، وهو المقصود في تصحيح (4) الكتابة؛ ولولاه، لفسدت الكتابة، نظراً إلى مقاصد العقود، فانتظار هذا المقصود يُثبت للكتابة الفاسدة -في بعض قضاياها- حكمَ الصحة؛ حتى يستقل العبد، والكتابة جائزة؛ لأنه لم تتوفر عليها شرائط الصحة، فإذا حصل العتق، غلب عند حصوله مضاهاة الخلع؛ فإنه إذ ذاك عتق بعوض فاسد، فيثبت الرجوع إلى قيمة العبد، وهذا يناظر الرجوع إلى مهر المثل في الخلع الفاسد. ثم الكتابة جائزة -وإن صحت- من جانب العبد؛ فإن السيد لا يخسر بتعجيزه (5)

_ (1) في الأصل: " معاملة "، والمثبث تصرف من المحقق. (2) ويضع: أىِ يضع المستحقَّ له عمن يعاملهم، ويُبرئهم عما يجب عليهم، تبرعاً منه. (3) ضمنٌ: أي في مطاوي كلام العقد ودلالاته، فهو في حقيقته عقد معاوضة، وإن علق العتق على أداء النجوم. (4) كذا. ولعلها في صحيح الكتابة. (5) أي تعجيز العبد نفسه عن النجوم، وعوده إلى كمال الرق.

نفسَه، وهي لازمة -إذا صحت- من جانب السيد، حتى يثق العبد، [فيكتسب] (1). ْهذا وضع الكتاب، وتمهيد قاعدتها. ثم مسائل الكتاب تنعطف على هذه الأصول، وتتبين بها، والأصول تنبسط بالمسائل. 12486 - ونعود بعد ذلك إلى ترتيب المسائل، فنقول: إذا دعا العبد مولاه إلى المكاتبة، وكان كسوباً، مائلاً إلى الخير، فإجابته إلى الكتابة مستحبة، والأصل فيه قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، ولا تجب الإجابة خلافاً لداود (2) وطائفةٍ من السلف. قال صاحب التقريب: ردد الشافعي جوابه في هذا في بعض مصنفاته، ولم يُبعد القولَ بوجوب الإجابة. ثم حكى قولاً مرسلاً للشافعي على هذا النحو، وعضده ببناء الشافعي أصل الكتابة على الاتباع، وقد أوجب الإيتاء تعويلاً على قوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ} [النور: 33]، وذلك معطوف على قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33]. وهذا غريب، لم أره لغيره، ولست أعتد به، وذلك أن الصيغة ليست ممتنعة عن الحمل على الندب، ولو حملناها على الإيجاب، لبطل أثر الملك، واحتكام الملاك، ولزوم اطراد الرق، فليس يليق بوضع الشرع إيجاب إنشاء الكتابة، ولا يمتنع أن يكون الإيتاء موجَباً لعقد الكتابة بعد اختيار الإقدام عليها؛ ومثل هذا لا يحيط به إلا مَنْ يألف مسالكنا في الأصول. 12487 - ولو لم يكن العبد كسوباً ولا أميناً، فلا تستحب مكاتبته؛ فإنه يجرّ بالاستقلال خبالاً، ثم قد يعجّز نفسه آخراً، ولو عَتَق، لكان كلاًّ على المسلمين. قال العراقيون: إن لم يكن كسوباً، وكان رشيداً ذا خير، ففي استحباب مكاتبته وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه لا تستحب، وهو الذي قطع به المراوزة لما

_ (1) تقدير من المحقق مكان كلمة استحالت قراءتها. (2) ر. المحلى: 9/ 222.

أشرنا إليه [من] (1) أنه إذا لم يكن كسوباً، صار وبالاً بعد العتق يتكفف الوجوه. والثاني - أنه تستحب إجابته؛ فإن أرباب الزكوات إذا رأوا رُشدَه وخيرَه، رغبوا في تخيّره لصرف سهم المكاتبين إليه، وهذا الوجه يعتضد بظاهر قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]؛ فإنه ليس في سياق الآية التعرض للكسب. فأما إذا كان غير رشيد، وكان كسوباً، فلم ير أحد استحبابَ كتابته؛ لأن من لا يوثق به، فلا تعويل على معاقدته. وهذا الفصل على ظهوره يستدعي مزيد كشف؛ فإن الإعتاق قُربةٌ في العبد، كيف فرض العبد محبوبٌ. وما ذكر من مصير العبد كلاًّ، لا تعويل عليه؛ فإن تنجيز العتق محبوب مع ذلك، فالتعويل على أنا لا نستحب للعبد المكاتبة؛ فإن الكتابة لا تنجز العتق، وإذا لم يكن أمانة وقوة، فيبعد رجاء العتق بطريق الكتابة، ولا يندب السيد إلى إيقاع الحيلولة بين نفسه وملكه من غير ظهور الرجاء في العتق. فهذا هو الأصل. 12488 - ثم ذكر الشافعي في بعض مجموعاته لفظة، ننقلها لغرض، قال: " أما أنا، فلا أمتنع -إن شاء الله- من كتابة عبد جمع القوة والأمانة " وظني أن ما حكاه صاحب التقريب مأخوذ من هذا، فإن كان كذلك، فلا وجه له؛ فإن الشافعي قال هذا بإيثاره في حق نفسه الخروجَ عن الخلاف، وابتدار الأحب والأفضل، وهذا كقوله: لو كنت أنا الواجد، لخمست القليل والكثير، ولو وجدت تجارة، لخمستها، وقال: أما أنا، فلا أَقْصر فيما دون ثلاثة أيام، وإن كان القصر مباحاً لي. ومثل ذلك كثير. فصل قال: " ولا يكون الابتغاء من الأطفال والمجانين ... إلى آخره " (2). 12489 - كتابةُ الطفل باطلة، وكذلك كتابة المجنون، وتيمن الشافعي في ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33]، وقال: لا يكون الابتغاء من

_ (1) في الأصل: " في ". (2) ر. المختصر: 5/ 274.

الأطفال والمجانين، أراد لا حكم لابتغائهم. وهذه المسألة مأخوذة من بطلان عبارة الطفل والمجنون في العقود، والمعوّل في صحة العقد المفتقر إلى الإيجاب والقبول على صحة العبارة من الموجِب والقابِل. وقال أبو حنيفة (1): كتابة الصغير الذي لا يعقِل عقلَ مثله جائزة، وهذا بناء منه على تصحيح تصرف العبد الصغير إذا كان بإذن المولى، والسيدُ بإيجاب الكتابة له آذنٌ في القبول، وعندنا عبارة الطفل كعبارة المجنون. فإن قيل: هلا ربطتم صحة العقد بعبارة الطفل المميز، كما أوقعتم الطلاق بقبول السفيهة المحجور عليها إذا خالعها زوجها؟ قلت: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن السفه لا يبطل العبارة بالكلية. فإن قيل: ذكرتم اختلافاً في أن الزوج إذا قال لزوجته الصغيرة: أنت طالق إن شئت، فقالت: " شئت "، هل يقع الطلاق بعبارتها؟ قلنا: من ذكر ذلك الخلاف في المشيئة، لم يذكره في لفظ العقد؛ فإن العقود متضمّنها إلزامٌ، وعبارة الصبي بعيدة عن هذا المعنى، وقول القائل: شئتُ إذا صدر عن فهم يسمى مشيئة. ثم مع تسليم ذلك كلِّه إذا قال للسفيهة: " أنت طالق على ألف "، فقالت: قبلت، لم يثبت الخلع، ووقع الطلاق رجعياً، والكتابة إذا لم يثبت فيها مقتضى إلزام والتزام، فلا وقع لها، والطلاق ينقسم إلى الرجعي والبائن. فخرج من مجموع ما ذكرناه أن كتابة الصغير باطلة، لا يثبت لها حكم الكتابة الفاسدة، على ما سنجمع أحكام الكتابة الفاسدة، إن شاء الله، ولكن إن قال المولى: إن أديتَ كذا، فأنتَ حُرٌّ، فوجدت الصفة، قضينا بوقوع الحرية لوجود الصفة، ثم لا يرجع المولى [بقيمته عليه] (2)، بخلاف ما إذا فسدت الكتابة الجارية مع العبد العاقل البالغ لما ذكرناه من انتفاء الكتابة بالكلية وتمحُّض التعليق. وفي النفس شيء من قوله: " إن أديت " فإن هذا أداء من حيث الصورة، وإن كان لا يتصور فيه التمليك، أم كيف السبيل فيه؟ وقد ذكرنا أن قول الرجل لامرأته: "إن

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 384، حاشية ابن عابدين: 5/ 60. (2) في الأصل: " بقيمتها عليها " ولم يسبق في الكلام إشارة فرض المسألة في جارية.

أعطيتني ألفاً، فأنت طالق" يقتضي إعطاء مع إمكان التمليك، وسنأتي في هذا بما يكشف الغطاء في فصل الكتابة الفاسدة، إن شاء الله عز وجل. فصل قال: " وما جاز بين المسلمين في البيع والإجارة ... إلى آخره " (1). 12490 - كل ما جاز أن يكون عوضاً في البيع والإجارة والنكاح، جاز أن يكون عوضاً في الكتابة، إذا كان موصوفاً في الذمة منجماً، وهذا يستند إلى ما مهدناه. فإذا التزمنا الاتباعَ، وسوّغنا معاملة الرجل ملكه بملكه للحاجة التي أومأنا إليها، فلا حاجة بعد تمهيد هذا إلى مخالفة قياس المعاوضات، فيجب أن نرعى فيها من الإعلام ما نرعاه في عقود المعاوضات. ثم تختص الكتابة بكون عوضها واقعاً في الذمة؛ لأن العبد لا يملك عيناً، وما في يده من الأعيان لمولاه، أو لأجنبي، ولا يصح إيراده الكتابة عليها. فإن قيل: كسبه -لو اطرد الرق- لمولاه. قلنا: غيرَ أن الكتابة تملكه الكسب، ولا تملكه الكتابة عيناً من أعيان مال السيد؛ فليكن عوضُ الكتابة موصوفاً في الذمة بمثابة المُسلَم فيه إن كان عَرْضاً، وإن كان نقداً غالباً أغنت العادة عن ذكر الأوصاف، كصنيعها في المعاوضات، وأثبت أبو حنيفة (2) العبد المطلق عوضاً، أو صرفه إلى عبد وسط. فصل قال: " ولا يجوز على أقل من نجمين ... إلى آخره " (3). 12491 - التأجيل ركن في الكتابة عند الشافعي رضي الله عنه، وكذلك التنجيم؛ فلا تصح المكاتبة إلا على نجمين فصاعداً، ومعتمد المذهب الاتباعُ، ولم يثبت عن

_ (1) ر. المختصر: 5/ 274. (2) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 62. (3) ر. المختصر: 5/ 274.

الأولين تعرية الكتابة عن التأجيل [والتنجيم] (1). وقال أبو حنيفة (2): الأجل يشترط في السلم لابتنائه على جرّ مرفقٍ موفور، وزعم أن الحلول ينافيه، ثم جوز الكتابة الحالّة ومبناها على المواساة لا غير. وتعلق بعض أصحابنا بتحقق عجز المكاتب عن تأدية العوض لو كان حالاًّ (3). ولست أعتمد ذلك في الخلاف، ولكني أذكره لربط مسائلَ مذهبية بطرده وعكسه. قال أئمتنا: العبد إذا قبل الكتابة، فلا يتصور له مع حصول القبول ملكٌ عتيد (4) يِتهيأ تأدية العوض فيه، ففرض أصحاب أبي حنيفة مسائلَ نذكرها ونذكر المذهب فيها. فإن قيل: لو أوصى إنسان له بمال قبل الكتابة، فمات الموصي قبل جريان الكتابة أو فرض إنشاء هبة؟ قلنا: كل ذلك بعد قبول الكتابة (5)، ولو قبل الوصية والهبة قبل قبول الكتابة، لم يصح قبوله على مذهبٍ، ويصح على وجه، ويقع الملك للمولى، وإن فرض القبول بعد قبول الكتابة، فيكون العوض لازماً قبل تمام قبول الوصية، ولا مال ولا تمكن في تلك الحالة. فإن قيل: لو كاتبه على مقدار من الملح وهما على [مَمْلحة] (6)، فيقبل الكتابة ويسلِّم الملح. قلنا: لا يملك الملح ما لم يأخذه، فالأخذ بمثابة قبول الوصية فيما قدمنا.

_ (1) في الأصل: " والتنجيز " والمثبت من تصرف المحقق رعاية للسياق. (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 411 مسألة 2097، رؤوس المسائل: 545 مسألة 204، مختصر الطحاوي: 384، المبسوط: 8/ 3، حاشية ابن عابدين: 5/ 60. (3) أي جعل علة اشتراط التأجيل في الكتابة عجز المكاتب عن الأداء العاجل، فإنه لا ملك له عند الكتابة. (4) عتيد أي حاضر مهيأ. (5) المعنى أن كل ذلك لا يمكن أن يقع للعبد ملكه قبل قبول الكتابة، كما سيظهر من التفصيل بعده مباشرة. (6) في الأصل: " مصلحة ".

فإن قيل: لو كان نصفه حراً وقد حصل له مال بنصفه الحر، فكاتب مالك الرق في نصفه النصف المملوك كتابة حالّة؟ قلنا: اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من جوّز هذا لتمكنه من تأدية النجم، واقتران القدرة والملك بالعقد، ومن أصحابنا من منع ذلك. والذي يستقيم على تحقيق الأصول المنع؛ فإنا لا نعتمد ما ذكره الأصحاب من تحقق العجز في أول الحال، بل التعويل عندنا في اشتراط [التأجيل] (1) الاتباعُ، وهذا يطرد في الصور، فلا تجوز الكتابة إلا على حسب ما عُهدت عليه. فإن قيل: لو كاتب عبدَه على نجمين بينهما لحظة، وكل نجم مالٌ جم، ويبعد الاستمكان من مثله في مثل ذلك الزمان، فما الجواب؟ قلنا: أما من اعتمد اقتران العجز، فقد طردوا وجهين في هذه الصورة: أحدهما - الجواز لتصور الإمكان، ثم إن لم يتفق، فأصل التعجيز ممهّد. ومن أصحابنا من لم يصحح ذلك؛ لأن ما يندر الاقتدار عليه، فهو في عقود المعاوضات كالمعجوز عنه، ولهذا بَطَل السلمُ فيما يعزّ وجوده بطلانَه فيما يُستيقن عدمه. وهذا لا أصل له مع الاتفاق على مبايعة المعسر الذي لا يملك شيئاً، مع إثبات ثمن قد لا يستقل به ذوو الثروة والغِنَى، وقد سمعت شيخي في بعض مجالس الإفادة يحكي وجهاً في فساد البيع، إذا كان الثمن زائداً على قيمة المبيع؛ فإن القيمة إن كانت مثلَ الثمن، أمكن صرف المبيع إلى الثمن. وهذا بعيد لا أصل له، وإن نحن اتبعنا مورد الشرع، ولم نتمسك باقتران العجز، أمكن إجراء الوجهين: فأحدهما - على اتباع صورة التنجيم والتأجيل (2). والثاني - أن ذلك ممتنع؛ فإنا وإن اتبعنا، فلا ننكر فهم معنى المواساة؛ وإذا بعُد الإمكان، بطلت المواساة، وهذا يناظر اختلافَ القول في إلحاق المحارم بالأجنبيات في اللمس الناقض للطهارة.

_ (1) في الأصل: " التعجيل " وهو سبق قلم واضح. (2) أي يجوز العقد لأنه جرى على الاتباع في وجود صورة التنجيم والتأجيل.

وقد ذكر القاضي وجهين فيه إذا أسلم إلى مكاتَب عقب قبول الكتابة سلماً حالاًّ، وهذا بعينه هو الذي ذكره شيخي رضي الله عنه في البيع من المعسِر، ولكن بين المسلم فيه والثمن فرق على حال؛ ولذلك امتنع الاعتياض عن المسلم فيه، [وفي] (1) الاعتياض عن الثمن قولان، فالإسلام إلى المعسِر كالإسلام إلى المكاتب على أثر قبول الكتابة، فأما الثمن، فيحتمل ما لا يحتمله المسلم فيه، ولهذا ذهب معظم الأصحاب إلى أن انقطاع جنس الملتزم ثمناً لا يوجب انفساخ العقد، وفي انقطاع المسلم فيه قولان. وذهب المحققون إلى التسوية بين الثمن والمسلم فيه في جميع ذلك، وهذا يخرج حَسَناً (2) على إثبات حق الفسخ للبائع إذا أفلس المشتري بالثمن. 12492 - ثم قال الشافعي: " ولو كاتبه على مائة دينار موصوفة الوزن والعين إلى عشر سنين ... إلى آخره " (3). مقصود الشافعي قطعُ وَهْم من يتوهم منعَ المزيد على نجمين، فالنجمان هما الأقل، ولا منتهى لما يجوز من المزيد على التراضي، ولا يشترط اتفاق النجوم في القدر، ولا استواء الأزمنة المتخللة. ثم قال الشافعي: " ولا يَعتِق حتى يقول في الكتابة: إذا أديت، فأنت حر ... إلى آخره " (4). هذا ما قدمناه في أول التدبير، فالنص أن لفظ التدبير صريح في موضوعه، ولفظ الكتابة ليس صريحاً حتى يقترن بالتصريح بتعليق الحرية على أداء النجوم. وقد ذكرت اختلافَ الطرق في النقل والتخريج، وتنزيلَ النصين منزلتهما والفرقَ

_ (1) في الأصل: " وعن " والمثبت من تصرف المحقق. (2) كذا في الأصل. ويمكن أن تقرأ " حيناً ". وعبارة الغزالي في هذا الموضع: " ومن المحققين من رأى التسوية بين الثمن والمسلم فيه في جميع الأحكام وهو متأيّد بمذهب الشافعي في إثبات الفسخ بسبب الإفلاس بالثمن " (ر. البسيط: 6/ورقة: 199 يمين). (3) ر. المختصر: 5/ 274. (4) ر. المختصر: 5/ 274.

بينهما، والذي نذكره الآن أن هذا التعليق ليس تعليقاً على الحقيقة، وإنما هو نطق بمضمون العقد على الغالب؛ إذ لو كان تعليقاً، لما حصل العتق إلا بالأداء، وإنما الغرض إزالة التردد في لفظ الكتابة، ولهذا قال الأصحاب: النية كافية من غير لفظ، ولو كان التعليق مقصوداً، لبعد حصوله بالنية في ظاهر الحكم. هذا ما أردنا التنبيه عليه. فصل قال "ولا بأس أن يكاتبه على خدمة شهر ودينار بعد الشهر ... إلى آخره" (1). 12493 - صورة المسألة أن يكاتب عبده على أن يخدمه شهراً، ويؤدي بعد الشهر ديناراً، قال الشافعي: الكتابة على هذا الوجه جائزة؛ فإن منافع المكاتب بعد انعقاد الكتابة بحكم المكاتَب (2)، فإذا وقع الشرط على صرف مقدارٍ منها إلى عوض الكتابة، ساغ ذلك. وهذه المسألة تهذب الأصل الذي قدمناه في اشتراط التأجيل، أو التنجيم؛ فإن منفعة المكاتب متصلة بقبول الكتابة، ولا أَجَلَ فيها؛ والمدة المذكورة تثبت لتأديتها على حسب وجودها شيئاً فشيئاً، وإلا فاستحقاق المنفعة ثبت حالاًّ، وهذا يوضح أن شيئاً من عوض الكتابة إذا أمكن ثبوته مع التمكن من أدائه، فلا امتناع في حلوله، وإنما نشترط التأجيل في الأعواض التي نستيقن اقتران العجز عنها بعقد الكتابة، وهذا لا يتحقق في منافع المكاتب. ولو فرض استئخار المنفعة المشروطة عوضاً عن وقت قبول العقد، لما صح العقد؛ فإنّ إضافة العقد اللازم إلى وقت منتظر للمنافع غير جائزة عندنا، ولهذا امتنع إجارة الدار الشهرَ الذي سيأتي، فالمنفعة إذاً لا تثبت عوضاً في الكتابة إلا متصلة، ثم استئخار أدائها على حسب التصور في وجودها، ولكن هذا إنما يتحقق في النجم

_ (1) ر. المختصر: 5/ 275. (2) أي صارت منافعه ملكاً له.

الأول، ولا بد من فرض نجمٍ ثانٍ؛ فإن [التنجيم] (1) ركن الكتابة، ومن ضرورة محل النجم الثاني أن يتأخر. [و] (2) النجم الأول يجوز أن يكون حالاً في منفعة المكاتب لا غير؛ فإن الإمكان يتحقق فيها مع القبول، والنجم الثاني يتأجل لا محالة؛ فإنه لا يتحقق تعدد النجم إلا بتخلل فاصل زماني. ثم لفظ الشافعي في المسألة قد يوهم وجوب تأجيل الدينار، بحيث يحل بعد انقضاء الشهر المذكور وقتاً للمنافع. وقد سبق هذا إلى فهم أبي إسحاق المروزي واعتقده مذهباً، وشرطَ انفصال محل الدينار عن منقرض الشهر ولو بلحظة، وخالفه كافة الأصحاب؛ فلم يشترطوا ذلك، وقالوا: لو كاتب عبده على منفعة شهر ودينار بعد القبول بيومٍ أو بلحظة جاز؛ فإن محل المنافع الساعة المتصلة بالقبول، وطوال الشهر لاستيفاء ما ثبت استحقاقه، فإذا انفصل محل الدينار عما بعد العقد بألطف ساعة، فقد تحقق التنجيم (3). ولو أردنا أن نصور حلول نجم المنفعة [بعد] (4) حلول الدينار، لم يصح ذلك؛ فإن المنافع إذا انفصل استحقاقها عن العقد، كانت الإضافة إلى زمان منتظر، وهذا ما لا سبيل إليه. ولو قال: كاتبتك على خدمة شهر، ثم زعم أن الخدمة من كل عشرة أيام من الشهر نجمٌ، لم يصح ذلك؛ فإن المنافع لو لم تستحق دفعة واحدة نجماً واحداً، لكان النجم الثاني مستحقاً على تقدير الإضافة إلى زمان منتظر، وقد يخرج في ذلك وجه إذا وقع التصريح بهذا التفصيل، وهذا الوجه مبني على ما إذا آجر الرجل داره من إنسان، ثم قال: إذا انقضت مدة الإجارة الأولى، فقد أجرتك شهراً آخر، ففي أصحابنا من

_ (1) في الأصل: التنجيز، والمثبت تصرف من المحقق رعاية للمعنى الذي لا يستقيم إلا به. (2) الواو زيادة من المحقق لاستقامة الكلام. (3) المعنى أن محل النجم الثاني -الذي هو الدينار- تأخر عن محل النجم الأول -الذي هو المنفعة- حيث يحل النجم الأول بعد القبول متصلاً به، فالعبرة بحلول النجم الأول وليس بانتهائه، ولذا أجاز الأصحاب أداء الدينار بعد العقد بيومٍ أو ساعة، فذلك متأخر عن حلول النجم الأول كما ترى. (4) في الأصل: " بغير "، والمثبت من المحقق إقامة للعبارة، وتصويباً لهذا التصحيف.

يصحح ذلك، إذا اتحد المستأجر، واتصل مبتدأ الإجارة الثانية بمنقرض مدة الإجارة الأولى. وهذا الوجه بعيد، ويخرج مثله فيما ذكرناه من الكتابة، والأصح المنع في الموضعين. ولو كاتبه على خدمة شهر، وخدمة شهر آخر بعد الشهر الأول بعشرة أيام، فسدت الكتابة، لإضافة الاستحقاق إلى زمان منتظر في الشهر الثاني. ولو أعتق عبده على أن يخدمه شهراً؛ فقبل، عتق في الحال؛ فإنه علق العتق ونجَّزه على قبول الخدمة، فإذا قبلها عَتَق، ثم عليه الوفاء؛ فإن الوفاء ممكن، فإن تعذرت الخدمة في الشهر كله، فالعتق لا مستدرك له، والرجوع إلى قيمة الأجرة، أو إلى قيمة العبد؟ فعلى القولين المذكورين في بدل الخلع، وفي الصداق المسمى إذا فرض فيهما التلف قبل التسليم. فصل [قال]: " وإن كاتبه على أن باعه شيئاً لم يجز ... إلى آخره " (1). 12494 - إذا شرط في عقد الكتابة أن يبتاع المكاتب منه شيئاً، فسدت الكتابة، وهذا من باب شرط عقد في عقد. [فلو] (2) قال: كاتبتك، وبعت منك هذا العبد بألف، ونجّمه على الشرط المعلوم في الكتابة، فقال العبد: قبلتُ الكتابةَ والبيعَ، أو قال: قبلت البيعَ والكتابةَ، أو قال: قبلتهما، فللأصحاب طريقان في المسألة: ذهب الأكثرون إلى أن البيع لا ينعقد قولاً واحداً، وفي الكتابة قولان، مبنيان على القولين في الصفقة المشتملة على بيع ما يجوز وبيع ما لا يجوز: فإن قلنا: لا يصح البيع فيما يجوز إذا اقترن بما لا يجوز بيعه، فلا تصح الكتابة في مسألتنا، وإن صححنا العقد ثَمَّ فيما يجوز، صحت الكتابة ها هنا، ولا حاجة إلى البناء على القولين في الصفقة التي تجمع

_ (1) ر. المختصر: 5/ 275. (2) في الأصل: " ولو ".

عقدين مختلفين كالإجارة والبيع؛ فإن ذلك الفن من التفريع فيه إذا صح إفرادُ كلِّ عقدٍ بالصحة، ومنشأ القولين من اختلاف المقصودين، وهذا المعنى وإن تحقق في البيع والكتابة، فلا حاجة إليه مع حكمنا بفساد البيع، فالوجه إلحاقه ببيع عبد مغصوب وعبد مملوك. ثم السبب في بطلان البيع أن أحد شقيه يقع لا محالة قبل انعقاد الكتابة، وذلك باطل؛ فإن الرقيق لا يخاطب بالبيع وإيجابه. ثم تمام التفريع على هذه الطريقة أنا إن أفسدنا الكتابة، فسيأتي شرح الكتابة الفاسدة؛ وإن صححنا الكتابة، فهي مُجازةٌ بجميع الألف المذكور ثمناً ونجماً، أم هي مجازة بقسط من الألف؟ فعلى قولين: أصحهما - أنها مجازة بقسط، فالألف أُثبت ثمناً ونجماً، فلا يجوز تغيير موجب اللفظ. والقول الثاني -وهو فاسدٌ، لا اتجاه له مع اشتهاره- أن الألف بجملته يثبت عوضاً في الكتابة، ونجعل كان العبدَ وبيعَه لم يُذكرا، وهذا القول مشهور في تفريق الصفقة. هذه طريقةُ جمهور الأئمة. ثم التوزيع إذا قلنا به، فمعناه تقويم المكاتب، وتقويم العبد المبيع، ودرك المبلغين، ثم توزيع الألف عليهما، وإسقاط ما يقابل قيمة المبيع، [وتقرير] (1) ما يقابل قيمة العبد. ومن (2) أصحابنا من شبب بذكر خلاف في صحة البيع، واستشهد بمسألة في الرهن، وهي أن الرجل إذا قال: اشتريت عبدك هذا بألف، ورهنتك بالألف داري، فقال المخاطب: بعت وارتهنت، فالنص في الرهن دليل على صحة الرهن، وإن جرى أحد شقي الرهن قبل انعقاد البيع. وهذا القائل يطبق تصوير البيع مع الكتابة على تصور الرهن مع البيع، وقد ذكرنا كيفية تصوير الرهن مع البيع، وأوضحنا تفصيل المذهب فيه، فالبيع مع الكتابة كالرهن مع البيع، فإن سلكنا هذا المسلك، وحكمنا بصحة البيع، فينتظم بعد هذا التقدير تخريج الكتابة والبيع جميعاً على تفريق الصفقة فيه إذا اشتملت على عقدين

_ (1) في الأصل: " وتقدير ". (2) هذه هي الطريقة الثانية.

مختلفي الحكم كالإجارة والبيع، ولا يتأتى هذا المسلك في الرهن والبيع؛ فإن الرهن تابعٌ للبيع، ومؤكد للعوض فيه، فلا يجري مع البيع مجرى عقدين تشتمل عليهما صفقة؛ ولذلك يصح اشتراط الرهن في البيع، ولا يصح اشتراط البيع في الكتابة، وعن هذا المسلك قال المحققون: البيع يبطل [في] (1) مسألتنا، قولاً واحداً. والرهن يصح وإن اقترن بالبيع؛ لأنه من مصلحة البيع، وهو من توابعه. فهذا حاصل القول في هذه المسألة، وبيان طريقي الأصحاب، والأصح الطريقة الأولى. 12495 - ثم قال: "ولو كاتبه على مائة دينار يؤديها في عشر سنين ... إلى آخره" (2). الكتابة فاسدة على هذه الصفة لأن محل الأنجم مجهول، فينبغي أن يبين وقت حلول كل نجم من كل سنة، والقول في إعلام الآجال ابتداءً وانتهاءً مذكور في كتاب السلم وغيره، فلسنا لإعادة صور الوفاق والخلاف منهما في النفي والإثبات. فصل قال: " ولو كاتب ثلاثة كتابة واحدة على مائة منجمة ... إلى آخره " (3). 12496 - صورة المسألة أن يكاتب ثلاثة أو أربعة من عبيده على مالٍ واحد، وأجّله ونجّمه، وأعلم المحلّ، ولكن لم يبين حصة كل واحد من العبيد، بل قابلهم بالإيجاب، وذكر المال، فقبلوه من غير تفصيل وتوزيع، فالمنصوص عليه صحة الكتابة. ونص على أنه إذا اشترى أربعة أعبد أو ما شئت من العدد من أربعة أشخاص، فالبيع فاسد. ونص على أنه إذا نكح نسوة وأصدقهن صدقة واحدة، ففي فساد التسمية

_ (1) في الأصل: " من ". (2) ر. المختصر: 5/ 275. (3) ر. المختصر: 5/ 275.

قولان، ونص أيضاً على قولين في فساد بدل الخلع إذا قوبل به نسوة من غير توزيع. فالنص في البيع على الفساد، وفي الكتابة على الصحة، وفي الخلع والصداق قولان. فاختلف أصحابنا على طرق: فمنهم من ضرب النصوص بعضها ببعض، وأجرى في البيع والكتابة قولين، وهذه الطريقة هي المنقاسة الصحيحة؛ فإن إعلام الثمن في البيع، والعوض في الكتابة مرعيٌّ معتبرٌ على قضية واحدة، فإذا جرى في الصداق وبدل الخلع قولان؛ فالوجه جريانهما في البيع والكتابة. ثم توجيه القولين في المسائل: من قال بالفساد، احتج بأن قال: لم يخص واحداً في العقود بمقدار ما يخصه؛ فكانت حصة كل واحد مجهولة، وجهالة العوض فيما يشترط إعلام العوض فيه مفسد. ومن قال بالصحة؛ احتج بأن الجملة معلومة في مقابلة الجملة، والوصول إلى التفصيل ممكن بطريق التوزيع، فوجب الحكم بالصحة، كما لو قال: بعتك هذا العبد بما اشتريته، وكانا عالمين بالثمن المسمى في عقد المرابح، ثم قال على ربح " ده يازده " (1) فالعقد صحيح. وإن كان يحتاج في إعلام ما يلزم المشترى إلى حساب وجمع وضم، هذه طريقة. 12497 - ومن أصحابنا من أجرى النصوص على ظواهرها (2)، وفرّق بأن قال: البيع حريٌّ بالفساد؛ فإن العوض فيه آكد حكماً، بدليل أن فساده يُفسد البيعَ ويبطل المقصود منه، وفساد الصداق وبدل الخلع لا يفسدان المقصود منهما، وأما الكتابة، فإنها تنفصل عن الخلع والصداق من وجه آخر، وهو أن العبيد جميعهم ملك المولى، فكان صدورهم بالإضافة إلى جانب السيد عن ملك واحد. وهذا تخييل لا حاصل له؛ فإن العبيد إذا قبلوا الكتابة، فهم متفرقون في شق

_ (1) ده يازده: كلمة فارسية تشبه أن تكون مصطلحاً من مصطلحات السوق والتجارة، ومعناها: بعتك بالثمن المعروف الذي اشتريت به بزيادة 10%، وذلك أن كلمة (ده) تعني عشرة، وكلمة (يازده) تعني أحد عشر. (2) هذه هي الطريقة الثانية.

القبول، والعقود متعددة بالإضافة إليهم، وإذا صححنا الكتابة، فالعقد في كل واحد منفرد بحكمه، كما سنوضح تفصيله في التفريع، إن شاء الله تعالى. وما ذكره هذا القائل من كون العوض ركناً في عقد المعاوضة لا يفيد حاصلاً فيما هو مطلوب المسألة؛ فإن الجهالة تُفسد الصداقَ وبدلَ الخلع كما تفسد البيعَ، وكذلك القول في الكتابة، فلا خير في تخييلات لا تفضي إلى الفقه المطلوب مع استواء الأصول في اشتراط الإعلام، فهذا حاصل ما ذكره الأصحاب في أصل المذهب. 12498 - ثم اشتملت الطرق على ما أتبرّم بنقل مثله، فقال قائلون: البيع فاسد، والكتابة خارجة على القولين، وقال آخرون: الكتابة صحيحة، قولاً واحداً، والبيع خارج على القولين (1). وكل ما يذكر في ذلك منشؤه مسلكان: أحدهما - التسوية بين المسالك، وهو الوجه لا غير، والثاني - اعتقاد الفَرْق بين البيع وبين بدل الخلع والصداق، مع الميل إلى أن البيع أولى بالفساد، واعتقاد الفرق بين الكتابة وغيرها، مع الميل إلى تصحيح الكتابة. ثم إذا فرعنا على فساد الكتابة، فسيأتي على الاتصال بهذا الفصل بيان حكم الكتابة الفاسدة، وإن صححنا الكتابة، ففي كيفية توزيع العوض المسمى على المكاتبين قولان، ذكرهما الصيدلاني: أظهرهما -وهو الذي قطع به معظم الأئمة- أنه يوزع المسمى على أقدار القيم، حتى لو كانت قيمة الواحد مائة، وقيمة الآخر مائتين، وقيمة الثالث ثلاثمائة، فعلى من قيمته مائة السدس، وعلى من قيمته مائتان الثلث من العوض المسمى، وعلى من قيمته ثلاثمائة النصف. والقول الثاني - أن العوض موزع على عدد الرؤوس من غير نظر إلى تفاوت القيم، وهو ضعيف، ولكن نقله الصيدلاني، وهو موثوق به، ووافقه القاضي في النقل، ثم طردا حكاية هذا القول في الصداق وبدل الخلع، فأما البيع، فلم يتعرضا له، ويبعد كل البعد التوزيع على رؤوس الباعة من غير نظر إلى قيم عبيدهم، وإن طرد القول

_ (1) هذان هما الطريقة الثالثة والرابعة.

الضعيف في البيع طارد، لم يبعُد، لو صح هذا القول، ولكنه مما يجب القطع بفساده. وينشأ من هذا أنا إن كنا نعتقد أن التوزيع على الرؤوس، فيجب أن نقطع بصحة هذه العقود لارتفاع الجهالة، وإن حكمنا بالتوزيع على القيم، فعند ذلك تختلف الأقوال، ونجري الطرق على ما رسمناها، ولا عود إلى هذا القول. ولا تفريع عليه. 12499 - ثم أول ما نفرعه بعد تمهيد الأصل أنا إذا صححنا الكتابة، فكل مكاتب مخاطب بمقدار حصته من غير مزيد، وإذا أدى واحد منهم حصته عَتَق، وقال أبو حنيفة (1): لا يعتق واحد منهم ما بقي على الواحد منهم درهم. واعتقد أن عتق جميعهم يحصل معاً، وذهب في هذا مذهب التعليق المحض؛ فإن المولى قال لهم: إذا أديتم، فأنتم أحرار. وهذا ذهول عن وضع الكتابة الصحيحة، وقد ذكرنا أن التعليق غيرُ معتبر في مقتضى الكتابة الصحيحة، ودللنا عليه بأنه لو قال -والمكاتب واحد بعد ذكر النجوم- إذا أديتها، فأنت حر، لم يتوقف العتق على الأداء، بل قد يحصل بالإبراء عن نجوم الكتابة، فإذا كنا لا نرعى حقيقة الأداء والمكاتب واحد مع التصريح بتعليق العتق بالأداء، فكيف نرعى ذلك في تعدد المكاتبين. فإذا وضح أن واحداً منهم لا يخاطَب بما على أصحابه، ولا يطالب إلا بحصته، فلو جاؤوا عند محِلّ النجم بمقدار من المال وأَدَّوْه، ثم اختلفوا: فقال بعضهم -وهو القليل القيمة- أدينا ما أدينا على عدد الرؤوس، وقال الكثير القيمة: بل أديناه على أقدار القيم، وكانت أملاكنا في المؤدى ثابتة على هذا النسق، فقد حكى بعض المصنفين نصين مختلفين في ذلك: أحدهما - أنه يُصدق من يدعي التسوية مع يمينه (2). والثاني - أن المصدّق منهم من يدعي التوزيع على أقدار القيم، ثم في هذا

_ (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 413 مسألة: 2100. (2) وعلة ذلك اشتمال أيديهم على ما أدَّوْه، فالقول قول صاحب اليد.

التصنيف أن الأصحاب اختلفوا: فمنهم من أجرى في ذلك قولين، ومنهم من نزّل النصين على حالين. قال: إن كان هذا الاختلاف في النجم الأخير، ولو صدّقنا (1) القليل القيمة، [لكان] (2) له شيء مما أداه يحتاج المولى إلى رده، [فلا] (3) يُصدق من يدعي التسوية؛ فإن ظاهر الأداء يدل على اعتقاد الوجوب فيه، وعلى هذا ينزل النص الذي يقتضي تصديق من يدعي التوزيع على أقدار القيم. وحيث قال: يُصدق مدعي التسوية، أراد إذا كان ذلك في أوساط النجوم أو في أوائلها، بحيث لو فضَل عن مقدار النجم الحالّ فاضل في حق القليل القيمة، فهو محمول على تعجيل مقدارٍ من النجم المنتظر، والذي ارتضاه الأئمة تصديق من يدعي التسوية قطعاً للقول، ولم يعرفوا اختلاف النص، واستمسكوا بما يجب القطع بأنه أصل الباب. وقالوا: المسألة مفروضة فيه إذا جاءوا بالنجم وأيديهم ثابتة عليه، فظاهر اليد في التداعي يقتضي استواءهم في الأيدي قطعاً. وهذا يقتضي تصديقَ من يدعي التسوية، فيجب إجراء هذا. ولست أُنكر اتجاه خيال في النجم الأخير إذا كان يفضل -لو حملنا على التسوية في حق القليل القيمة- فاضل ويحتاج إلى استرداده. والعلم عند الله. 12500 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو أدى البعض من هؤلاء النجمَ عن البعض، فهذا على التحقيق تبرع منه، وسنذكر أن تبرع المكاتب إن انفرد به مردود، وإن صدر عن إذن السيد، ففيه قولان، [و] (4) سيأتي استقصاء ذلك، فإن كنا نصحح التبرع بإذن المولى، فإذا أتى واحد منهم بما ليس عليه، وأداه ذاكراً أن هذا عن أصحابي، فقبول السيد فيه بمثابة إذنه في التبرع على الأصح، وأبعد بعض أصحابنا، فاشترط سوى ظاهر القبض إذناً، وهذا ليس بشيء. فإن فرعنا على بطلان التبرع -وإن صدر عن إذن المولى- فإذا أدى البعضُ الدينَ

_ (1) عبارة الأصل: " ولو صدقنا صاحب القليل القيمة " وظني أنه لا محل لكلمة (صاحب). (2) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (3) في الأصل: ولا. (4) الواو زيادة من المحقق.

[عن] (1) البعض، ثم اتفق أن المؤدي عتق، قبل أن يسترد ما أداه من المولى -تفريعاً على رد التبرع وإن أذن المولى فيه- فالذي نص عليه الشافعي أنه لا يملك الرجوع بعد العتق، ونص على أن المولى لو جنى على المكاتب، فعفا المكاتب، وأبطلنا العفو على مذهب ردّ التبرع، فلو عتق المجني عليه العافي قبل قبض الأرش، فإن له مطالبة السيد بالأرش بعد العتق، فحصل قولان: أحدهما - أن تبرعه مردود وإن عتق؛ لأن الحجر عليه كان ثابتاً حالة التصرف؛ فيجب رد التصرف من غير نظر إلى ما تُفضي إليه العاقبة، والقول الثاني - أن التبرع ينفذ إذا اتصل بالعتق؛ فإن الحجر كان لحق الله في العتق، وقد حصل العتق. والصحيح عندنا بناء هذين القولين على تصرفات المفلس في اطراد الحجر عليه؛ فإنا نقول: إن مست حاجة المضاربة إلى نقضها (2) نقضناها، فإن أُبرىء وانفك الحجر، ففي نفوذ التصرفات التي جرت في حالة الحجر قولان، وقول الصحة خارج على الوقف، فالمكاتب فيما نحن فيه يخرج تبرعه على هذه القاعدة. ثم الذي اقتضاه النص، وأطبق عليه الأصحاب أن المؤدي عن أصحابه إذا استرد من المولى -لما تبين له الفساد- ثم عَتَق، فالعتق مسبوق بانتقاض التبرع، فالانعطاف على ما [مضى] (3) محال، وكذلك القول في العفو عن أرش الجناية إذا نقضه العافي وطالب بالأرش واستوفاه، وكأنا على قول الوقف، إنما نقف الأمر إذا لم ينقض التبرع، وجريان القولين فيه إذا لم يتفق نقضٌ، ولو طالب العافي بالأرش بناء على فساد العفو، أو طالب المؤدي عن أصحابه برد ما أدى عنهم، ولم يتفق تغريم في الأرش ولا استرداد، فهذا فيه احتمال مأخوذ من فحوى كلام الأصحاب. 12501 - ثم قال: " ولا يجوز أن يتحمل بعضهم عن بعض الكتابة ... إلى آخره " (4).

_ (1) في الأصل: " على ". (2) أي تصرفات المفلس. (3) في الأصل: " يقضي ". (4) ر. المختصر: 5/ 275.

هذا متصل بمكاتبة العبيد في عُقدة (1)، ومضمون الفصل من وجه لا يختص بتلك الصورة، فنقول: ضمان مال الكتابة لا يجوز، وقد فصّلنا ذلك في كتاب الضمان، وكذلك لا يصح الرهن به، والسبب فيه أنه ليس مستقراً، وليس آيلاً إلى الاستقرار، وضمان الثمن في زمان الخيار في البيع صحيحٌ؛ لأنه مُفضٍ إلى القرار في عقد موضوعه للزوم. قال القاضي: كما لا يجوز ضمان نجم الكتابة، فكذلك لا يجوز الاستبدال عنه؛ فإن الاستبدال أعظم وقعاً من الضمان، [بدليل تعليل أن ضمان المسلم فيه صحيح] (2) والاعتياض عنه باطل، فالاستبدال يقتضي مزيداً في الاستقرار لا يقتضيه الضمان. فإذا بطل الضمان لعدم القرار بطل الاستبدال. ولو كاتب جمعاً من العبيد، وشرط أن يضمن البعض منهم عن البعض، فالمنصوص عليه أن الكتابة فاسدة، ووجهه بيّن؛ فإن الضمان فاسد؛ فإذا [فسد شَرْطُه تفسد الكتابة بالشرط الفاسد] (3). وقال مالك (4): يصح الشرط والعقد، وأضيف مذهبه إلى الشافعي قولاً في القديم. والممكن في توجيهه أن هذا الضمان من مصلحة هذا العقد الذي وصفناه، إذا أراد المولى ارتباط بعض المكاتبين بالبعض، ونحن قد نمنع ضماناً على قياس، ثم نجيزه لمصلحة العقد، وهذا بمثابة إفساده ضمان المجهول، والضمان عن المجهول، ثم صححنا ضمان الدَّرَك مع اشتماله على الجهالتين لمسيس الحاجة إليه في تأكيد مقصود العقود. وهذا بعيد، لا معول عليه. وقد نجز الغرض في مكاتبة العبيد (5).

_ (1) أي في عقدٍ واحد. (2) عبارة الأصل: " بدليل تعليل أن الضمان المسلم فيه صحيح " والتعديل بالحذف وغيره من عمل المحقق. (3) عبارة الأصل: " فإذا فسدت شرطه ثم تفسد الكتابة بالشرط الفاسد ". (4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 1000 مسألة 2034. (5) إلى هنا انتهى الخرم الموجود في نسخة (ت 5).

فصل قال: " ولو كاتب عبداً كتابة فاسدة، فأدى عُتق ... إلى آخره " (1). 12502 - مقصود الفصل بيانُ حكم الكتابة الفاسدة، وأول ما يجب افتتاحه تصوير الكتابة الفاسدة: والقولُ الكلي فيه أن الكتابة إذا صدرت إيجاباً وقبولاً ممن يصح عبارته، وظهور اشتمال الكتابة على قصد المالية، ولكنها لم تكن مستجمعة لشرائط الصحة، فهي الكتابة الفاسدة. ثم من أحكامها أن المكاتب لو أدى ما شرط عليه، عَتَق، واستتبع الكسبَ والولدَ، فتنزل الكتابة الفاسدة منزلة الصحيحة فيما ذكرناه. وعند ذلك يتضح تمييز الفاسد في هذا النوع عن الفاسد في سائر العقود؛ فإن الكتابة الفاسدة أفضت إلى تحصيل مقصود الكتابة الصحيحة وخاصّيتها، أما المقصود، فالعتق، والخاصية استتباع الكسب والولد. وسبب [هذا] (2) ما نبهنا عليه في صدر الكتاب عند تمهيد القواعد، حيث قلنا: إن العتق إذا كان يحصل لا محالة عند فرض الأداء، والكتابةُ إنما تصح لأجل العتق. وإلا فقياسها بالنسبة إلى قياس الأصول الفساد، فإذا كنا نصمحح صحيحها ذريعة إلى العتق، ثم حصل العتق في الفاسدة، فلا يبعد أن يثبت حكمُ الصحة لتتم الذريعة. 12503 - ثم تمتاز الكتابة الفاسدة عن الصحيحة من وجوه: منها - أن الكتابة الصحيحة لازمة من جانب المولى، ما لم يَعْجِز المكاتَب، أو يُبْدِ امتناعاً، كما سيأتي إن شاء الله، والكتابة الفاسدة جائزة في حق المولى، فمهما (3) أراد فَسَخَها، وأثرُ فسخِه أن العتق لا يحصل بعد فسخها بصورة أداء النجم المسمى، وهذا قد يغمض تعليله؛ فإنا إن حصلنا العتق بطريق التعليق، ففسخ التعليق ممتنع، وإن بنينا الأمر

_ (1) ر. المختصر: 5/ 275. (2) زيادة من (ت 5). (3) مهما: بمعنى: (إذا).

على الجواز، فقد خرمنا التعليق، وتنعطف المسألة على نفسها، ولكن الممكن في ذلك ما قررناه في الأسلوب (1) وغيره من أن هذا تعليق في ضمن معاوضة، وكأن الحاصل يؤول إلى أن التعليق غيرُ مبتوت، والمعلِّق يقول: إن أديت، فأنت حر، ما لم أرجع؛ والعتق على هذا التقدير معلق بصفتين: إحداهما - الأداء، والأخرى - عدم الرجوع، ولسنا نطيل ذكر هذا، وقد استقصيناه في الخلاف على أقصى الإمكان. ثم يترتب على ما ذكرنا أن السيد إذا مات في الكتابة الفاسدة، قبل حصول العتق، فالكتابة تنفسخ بموته، والأداء من الورثة (2) لا يُثبت العتق، [ولا] (3) حاجة إلى تعليل ذلك [بجواز] (4) الكتابة، والبناءِ على أن العقد الجائز ينفسخ بالموت، بل المعتمد أن العتق يحصل بالصفة، وقد قال المولى: إن أديت إليّ فأنت حر، أو " إن أديت " مطلقاً، والمطلق محمول على الأداء في حياة المعلِّق، وهذا سبيل جُملة التعليقات الصادرة من الأحياء؛ فإنها محمولة على مأ يوجد في حياة المعلِّق. قال الشافعي في التعبير عن هذا المعنى: " إذا مات السيد المكاتِب كتابة فاسدة، فجاء العبد بالنجم المشروط، لم يحصل العتق؛ لأن الوارث ليس هو القائل: " إن أديت فأنت حر " (5). أما موت المكاتَب، فلا يغمض أمره، وسنذكر أن موته في الكتابة الصحيحة يوجب انفساخ العقد، فما الظن بالفاسدة. 12504 - ومن خصائص الكتابة الفاسدة أن المكاتب إذا أدى النجم المشروط

_ (1) الأسلوب: المراد به كتاب الإمام في الخلاف، المسمى بالأساليب، وسمي بذلك لأنه ينتقل من مسألة إلى مسألة بقوله: أسلوب آخر من كذا. وهو من كتبه المفقودة التي لما يعثر على أثره بعد. (2) أي إلى الورثة. (3) في الأصل: " فلا ". (4) في الأصل: " لجواز " والمثبت من (ت 5). (5) ر. المختصر: 5/ 275. والعبارة هنا فيها شيء من التصرف، وليست بألفاظ المختصر.

وعتق، فما أداه مردود عليه، والرجوع بقيمة رقبته عليه بعد حصول العتاقة، فالسيد والمكاتب بعد حصول العتاقة يترادّان، فإن كان ما قبضه المولى من جنس قيمة العبد، فقد تجري أقوال التقاص، كما ستأتي مشروحة إن شاء الله. ثم ما ذكرناه من التراجع في هذا الطرف يضاهي الرجوع إلى مهر المثل، ورد العوض المقبوض في الخلع، فإن قيل: الخلع صحيح والبدل فاسد، والكتابة فاسدة في نفسها، قلنا: العتق نافذ هاهنا أيضاً، وتعليقه صحيح، فيصح تعليق العتق بالعوض الفاسد، ولا فرق، غير أن الخلع ثَمَّ إذا تم، نجز، ولا مستدرك، والكتابة لو انعقدت على الصحة، لم ينتجز فيها الغرض؛ وهي قابلة للفسخ بعد الصحة، فالوضعان مختلفان في البابين. والسبب في ذلك أن الكتابة تستدعي مَهَلاً وانشغالاً بالكسب، وهو عرضة للرفع، ومثل ذلك لا يتصور في الخلع. 12505 - ثم الذي يجب البوح به أن الكتابة الفاسدة تُسلِّط العبد على الاستقلال بالكسب، وهذا معنى قول الأصحاب: إذا عَتَق، تبعه الكسب. أي ما حصّله من الكسب استحقه على اللزوم عند وقوع العتق، وترتب على هذا لا محالة سقوط النفقة عن المولى، كما في الكتابة الصحيحة، فاستقلاله بنفسه يعارض (1) سقوطَ نفقته عن مولاه، وهذا واضح في معناه. وذكر الأصحاب استتباعَ الأولاد، كما ذكرناه في الكسب، وقال الشيخ أبو علي: رأيت للشيخ أبي زيد أن المكاتب كتابة فاسدة في استتباع الأولاد بمثابة المدبر والمعلَّق عتقه بصفة، وقد ذكرنا قولين في أن التدبير هل يتعدى من الأم إلى الولد، وهذا في ظاهر الأمر له اتجاه؛ فإن الكتابة الفاسدة إنما يحصل العتق فيها من جهة التعليق، فإذا كان يجري في ولد المعلَّق قولان، لزم جريانهما في المكاتب كتابة فاسدة. وقد يعتضد هذا بأن الأولاد ما قيل فيهم: " أنتم أحرار إذا أدى أبوكم النجم "، وهذا يناظر ما حكيناه من قول الشافعي بعد موت السيد: إن الوارث ليس هو القائل: " إن أديت، فأنت حر ".

_ (1) يعارض: أي يقابل.

وهذا عندنا ذهاب عن سر المذهب في أولاد المكاتب؛ فإنا لا نحكم بعتق ولد المكاتب كتابة صحيحة إلا على مذهب استتباع الأكساب؛ فإن ولد المكاتب من جاريته بمثابة كسبه، غير أنه لا يبيعه، فإذا عَتَق المكاتَب واستتبع الكسبَ، استتبع ولدَه، وإذا استتبعه في زمان استقرار عتقه، عَتَق عليه، فإذا كان هذا مأخذ القول في ولد المكاتب -ثم الكسب يتبع المكاتب في الكتابة الفاسدة- فيلزم لا محالة أن يتبعه الولد، ويعتِق عليه، وسيأتي شرح هذا في أولاد المكاتبين (1). ولم أر أحداً من الأصحاب تشبث بمنع استتباع الكسب في الكتابة الفاسدة. ويترتب على استتباع الكسب أمران لا بد منهما: أحدهما - سقوط النفقة عن المولى كما قدمناه. والثاني - أن المكاتَب كتابةً فاسدة يعامِل المولى معاملة المكاتَب كتابة صحيحة، هذا من ضرورة استقلاله بنفسه. وذكر الأئمة الخلاف في حكمين متعلقين [بالاستقلال] (2): أحدهما - أن المكاتب كتابة صحيحة يسافر إن أراد الاستقلال، والمكاتب كتابة فاسدة هل يسافر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يسافر لاستقلاله بالكسب. والثاني - لا يسافر؛ فإن الخروج عن ضبط السيد بالكلية -والكتابة ليست لازمة في حقه- بعيدٌ، فإن أذن، لم يخفَ الحكم، وقد يملك العبد نوعاً من الاستقلال بالكسب، ثم لا يسافر كالعبد الناكح بإذن مولاه؛ فإنه يصرف أكسابه إلى المهر ومؤن النكاح، ولا يسافر. 12506 - ومما اختلف الأصحاب فيه أن سهماً من الصدقة مصروف إلى المكاتبين على الصحة، وهل يجوز صرفه إلى المكاتب كتابة فاسدة؟ فعلى وجهين، ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يجوز؛ بناء على استقلال المكاتب بالكسب؛ توصلاً إلى تحصيل العتق، والصدقاتُ من جهةٍ توصله إلى تحصيل العتق. والوجه الثاني - أنه لا تصرف الصدقة إليه؛ لأن الجهة غيرُ لازمة من جانب السيد، فلا تقع الثقة بقبض المكاتب.

_ (1) من هنا بدأ خرم جديد في (ت 5) يقدّر بحجم كراسة كاملة من الأصل الذي أخذت عنه نسخة (ت 5). (2) في الأصل: " بالاستقرار " وأُراها سبق قلم.

12507 - ومما يتعلق بأحكام الكتابة الفاسدة أن الشافعي قال: من أعتق المكاتب كتابة صحيحةً عن كفارته، لم يقع العتق عن جهة الكفارة. وهذا مشهور من المذهب، ولو أعتق المكاتَب كتابة فاسدة عن كفارته، فالذي كنا ننقله مطلقاً، أن العتق ينصرف إلى كفارةِ المعتِق، وقد حكى الشيخ أبو علي قَطْع القول بهذا عن نص الشافعي؛ فحصلت الثقة التامة. ثم قال الشيخ أبو علي: مهما (1) أعتق السيد المكاتب كتابة فاسدة، نفذ إعتاقه، وكان ذلك فسخاً منه للكتابة وقطعاً لها، حتى لا يستتبع كسباً ولا ولداً؛ فإنا لو قلنا: يتبعه الكسب والولد، لكان العتق منصرفاً إلى جهة الكتابة، ويستحيل على المذهب براءة الذمة بالإعتاق عن الكفارة مع وقوع العتق عن جهة الكتابة، فالوجه حمل العتق على فسخ الكتابة الفاسدة ورفعها. والذي يحقق ما ذكره أن الكتابة الفاسدة عند حصول العَتَاقة تلتحق بالكتابة الصحيحة في لزوم الاستتباع، ويفارقها ما ذكرناه من الجواز، فلو استتبع الكسبَ مع انصراف العتق إلى الكفارة، للزم مثل ذلك في الكتابة الصحيحة لا محالة. قال الشيخ: لما خطر لي ما ذكرته في الكتابة الفاسدة من أن الكسب والولد لا يتبعان عند الإعتاق، عرضت ذلك على الشيخ القفال، فاستحسنه، وأقرني عليه، ولم ير غيره. وهذا نجاز الحكم في ذلك، وفي جنون المولى في الكتابة الفاسدة، وجنون المكاتب فصلٌ ذكره الشافعي على الاتصال بهذا. فصل قال: "ولو لم يمت السيد ولكن حُجر عليه أو غُلب على عقله ... إلى آخره" (2). 12508 - مضمون الفصل الكلام في الجنون إذا طرأ على الكتابة. فلا تخلو الكتابة

_ (1) مهما: بمعنى (إذا). (2) ر. المختصر: 5/ 275.

إما أن تكون صحيحة أو فاسدة، فإن كانت صحيحة، فلا شك أنها لا تفسخ بالجنون، فإن جُن المولى، فالكتابة لازمة من جهته، فلا يؤثر الجنون في رفعها، وإن جن المكاتب، فالكتابة وإن كانت جائزة من جانبه، فهي مُفضية إلى اللزوم، والبيع في زمان الخيار لا ينفسخ بطريان الجنون على المتعاقدَيْن، أو على أحدهما؛ لإفضاء البيع إلى اللزوم. ولكن يترتب على الجنون الطارىء في الكتابة ما نصفه، فنقول: إن قبض المولى في حال الجنون النجمَ، لم يصح قبضُه، ولم يترتب عليه العتق؛ فإنه لا يصح القبض منه، ولو تلف في يده ما أقبضه المكاتَب، فلا ضمان؛ فإن المكاتَب هو الذي ضيّع المال بوضعه في يد مجنون، ولو قبض القيّم النجمَ، تعلق الحكم بقبضه، وترتب على النجم الأخير حصولُ العَتاقة. وإن سلّم المكاتب إلى المولى المجنون، فله أن يسترده منه؛ فإن حصوله في يده لم يُفده أمراً، بل هو متعرض للتَّوى (1) والضياع. ولو جُن المكاتَب والمولى عاقل مستقل بقبض النجم من المجنون، قال الأصحاب: القبض صحيح، وعوّل المحققون في تعليل ذلك على أن قبض النجم مستحَق، ولو أخذه المولى من غير إقباضٍ من المكاتب، لوقع القبض موقعه، فوجود الإقباض وعدمِه من المكاتب بمنزلة. وهذا يحتاج إلى فضل بيان: فإن عسُر على السيد الوصولُ إلى حقه إلا من جهة قبض ما يصادِف، فله ذلك، وإن أمكنه مراجعةُ من ينصبه القاضي ناظراً للمكاتَب، فلا وجه لاستبداده بالقبض عندنا، ولو استبد، لم يصح، وإذا كان لا يصح استبداده، فلو أقبض المجنونُ، لم يكن لإقباضه حكم، وفي كلام القاضي وغيره ما يدل على أن المولى يقبض النجم من غير فرض قيّم؛ ولعل الأئمة أثبتوا للمولى في هذا المقام حقَّ القيام بما يُحصِّل العتاقة (2)، وهذا بعيد إن ظنه ظان. ولا وجه إلا

_ (1) التوى: الهلاك. (2) عبارة الغزالي في البسيط: " وكأن الأصحاب رأوا كون السيد ولياً له؛ فلم يحوجوه إلى القاضي ".

ما ذكرناه من مراجعة القاضي، أو نصب قيم من جهته. وهذا كله في طريان الجنون على الكتابة الصحيحة. 12509 - فأما إذا كانت الكتابة فاسدة، وفرض طريان الجنون عليها، فظاهر كلام الشافعي في الجنون الطارىء على المولى أنه يتضمن انفساخ الكتابة كالموت، وقد ذكرنا أن موت المولى يوجب انفساخ الكتابة الفاسدة، وظاهر ما نقله على الاتصال بذلك أن المكاتَب لو جُنّ والكتابةُ فاسدة، لم تنفسخ الكتابة بجنونه، وهذان النصان متعاقبان على التضاد في سطر واحد من غير تنبيهٍ على التردد، واختلاف القول فيه، وهذا مشكل في نظم الكلام جداً. والرأي أن نذكر المذهب في هذا، ثم نتكلم على النص، فنقول: إذا طرأ الجنون على أحدهما في الكتابة الفاسدة، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أن الكتابة لا تنفسخ، وهذا هو الأقيس والأصح؛ فإن الكتابة الفاسدة وإن كانت جائزة، فمصيرها إلى اللزوم، كما ذكرناه في البيع في زمان الخيار. والوجه الثاني - أن الكتابة تنفسخ بطريان الجنون إما على السيد وإما على المكاتب، فإنها جائزة من الطرفين، والعتق لا يحصل بها، وإنما يحصل بجهة التعليق. والوجه الثالث - أن الكتابة تنفسخ بجنون المولى، ولا تنفسخ بجنون المكاتب، وهذا ظاهر النص (1)، فإن الكتابة الصحيحة جائزة في جانبه، ثم لا تنفسخ الكتابة الصحيحة بجنونه. هذا تصرف الأصحاب في المذهب. فأما الكلام على النص؛ فللأصحاب فيه طريقان: منهم من قال: النص محمول على الكتابة الصحيحة، ووجه الفرق بين المولى والمكاتب عند هذا القائل أن المولى لو قبض في جنونه، لم يصح القبض منه، كما قدمناه، ولو فرض الجنون من المكاتَب، فقبْضُ المولى منه صحيح. وهذا قد فصلناه. وما ذكره هؤلاء مستقيم في المذهب. ولكنه بعيد عن نظم اللفظ؛ فإن الشافعي

_ (1) هنا لحق في هامش الأصل غير مقروء كاملاً، ونصّه: " ووجهه أن الجواز في جانب المكاتب لا مبالاة بوضع القلم " ا. هـ.

عطف هذا على أحكام الكتابة الفاسدة، فذكر الموتَ في الكتابة الفاسدة، ورتّب عليه الجنون، فبعُد حمل الجنون على ما جرى في الكتابة الصحيحة، فلا محمل للنص إلا الحكم بانفساخ الكتابة الفاسدة إذا طرأ الجنون على المولى بخلاف ما إذا طرأ الجنون على المكاتب، وهذا أحد الوجوه، والفرق عسير. 12510 - ومن تمام الكلام في ذلك أنا إذا حكمنا بانفساخ الكتابة على معنى أن العبد لا يستقل إذا أفاق بكسبه، فلو أدى ما شُرط عليه، ففي حصول العتق وجهان ذكرهما الأصحاب: أحدهما - أن العتق لا يحصل؛ فإن التعليق في الكتابة الفاسدة تبعٌ للكتابة وحكمها، فإذا زالت قضية الكتابة، تبع زوالَها زوالُ التعليق، كما لو فسخ السيد أو المكاتب الكتابة من غير فرض جنون؛ فإن الأصحاب مجمعون على أن الكتابة الفاسدة إذا فسخت، لم يحصل العتق بالأداء بعد فسخها. ومن أصحابنا من قال: يحصل العتق بالأداء بعد ارتفاع مقتضى الكتابة؛ فإن التعليق قائم، وليس كما لو فسخ؛ فإن فسخه يتضمن رفع التعليق؛ إذ حاصل التعليق في الكتابة الفاسدة تعليق على صفتين: إحداهما - الأداء. والأخرى - عدم الرجوع. وإذا زالت الكتابة بالجنون، لم يحصل فيه الرجوع عن التعليق. وهذا خيالٌ لا حاصل وراءه؛ فإن ما ذكرناه في التعليق على عدم الرجوع ضِمْن يحكم الفقيه به، وقد لا يهجس في نفس المولى، [وهذا الحكم يزول بالجنون. فإن قلنا: العتق لا ينفذ، فلا كلام] (1)، وإن قلنا: العتق ينفذ، فالوجه القطع بأنه لا تراجع، فإن التراجع يتلقى من مالية الكتابة الفاسدة، وقد زالت، فبقي التعليق المحض. ومن أصحابنا من أثبت الرجوع على العبد بالقيمة، ومساقُه أن يتبعه الكسب، وهذا في حكم [البناء] (2) على ما مضى في الحكم بارتفاع الكتابة الفاسدة، فإنا إذا

_ (1) عبارة الأصل هكذا: " وهذا الحكم يزول بالجنون إن كان يزول، إن قلنا: العتق لا ينفذ، فلا كلام " والتعديل بالحذف والإضافة من عمل المحقق. (2) في الأصل: " الندم ".

أبقينا فيها اتباع الكسب والرجوعَ بالقيمة -والعتقُ قد حصل- فلم نرفع من الكتابة الفاسدة شيئاً. 12511 - ثم نقل المزني لفظاً عن الشافعي، فقال: قال الشافعي: " ولو كان العبد مخبولاً، عَتَق بأداء الكتابة، ولا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء " (1). فظاهر ما نقله أن العبد كان مخبولاً وقت العقد. وروى الربيع هذه الصورة بهذه اللفظة، وقال: يتراجعان بالقيمة، وهذا يتضمن كونَ الكتابة الجارية مع المجنون كتابة فاسدة يتعلق بها التراجع عند حصول العتق، وهذا على نهاية الإشكال؛ فإن المجنون لا عبارة له؛ وإذا لفظَ، فلا حكم للفظه، وقبوله لا يثبت قضيةً في [المعاوضة] (2)، لا على الصحة ولا على الفساد. وقد ذكرنا أن الكتابة الفاسدة هي التي تجري بين شخصين هما من أهل العبارة، ويتخلف عن العقد شرط من شرائط الصحة، أو يشترط فيه زائد مفسد، أو يفسد عوضُها، فأما إذا كان تعلق العقد بلفظ مجنون، فيستحيل أن يكون للفظه حكم. وقد أوضحنا أن الكتابة الفاسدة تضاهي الكتابة الصحيحة في كثيرٍ من المقاصد، ولو أطلق الفقيه الصحةَ في تلك المقاصد، لم يكن لفظه حائداً عن سَنَن الصواب، [فالعتق] (3) يحصل صحيحاً، والاستتباع يقع صحيحاًً، [والاستقلال] (4) يثبت كذلك على صفة الصحة. فهذه أحكام صحيحة، فكيف يقتضيها لفظُ مجنون؟ نعم، لو حصل العتق بتعليق المولى، فليس ذلك بدعاً، ولكن النص الذي نقله الربيع صريح في إثبات الأحكام، نقله الصيدلاني، والعراقيون، وكلُّ موثوق به في المذهب، والذي نقله المزني على مخالفة منقول الربيع. قال ابن سريج، فيما نقله الصيدلاني: والصحيح ما نقله الربيع، وقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله المزني.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 275. (2) في الأصل: " المقاوضة ". (3) في الأصل: " بالعتق ". (4) في الأصل: " والاستقبال ".

ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان. وقد ظهر عندنا أن ابن سُريج لم يصحح ما رواه الربيع فقهاً، ولكنه [رآه] (1) أوثق في النقل. والمزني نقل ما [يستدّ] (2) في الفقه، فتبين أهل [العناية] (3) بالنقل أن ما نقله الربيع أصح، وما يستدّ على القياس -حتى لا يسوغ غيره- ما ذكره المزني. 12512 - ثم أجمع الأصحاب النقلة منهم والفقهاء أن الكتابة إذا جرت مع الصبي المميز، فهي تعليق محض، لا يتعلق بعقباها تراجع، ولا يثبت لها حكم من أحكام الكتابة الفاسدة. ثم أخذ متكلفون -فيما نقله الصيدلاني- في الفرق بين الجنون والصبا، ورأوا الجنون عارضاً متعرضاً للزوال، والصبا أصل الفطرة. ومن انتهى إلى هذا الحد، فقد خرج خروجاً لا يستحق فيه [المناطقة] (4)؛ مع ما تمهد في الشرع من سقوط أقوال المجانين، وللصبي أقوالٌ تصح وفاقاً، وفي عباراته في العقود اختلاف العلماء، ولا شك في صحة عقله، وانتظام كلامه (5). وإنما أكثرت في ذلك ليثق الناظر إذا انتهى إليه بما نقلته. ثم اعلم أن الشادي في الفقه لا يستريب في ميل منقول الربيع عن قاعدة الفقه. وقال بعض أصحابنا: ما نقله الربيع محمول على الجنون الطارىء على كتابة فاسدة، وما نقله المزني محمول على الجنون المقترن بالعقد، وهذا الكلام منتظم في وضعه، ولكنه مخالف لما نقله الربيع نصاً.

_ (1) في الأصل: " رواه ". (2) في الأصل: " يستبدّ ". والمثبت من المحقق، ومعنى يستدّ: أي يستقيم، كما فسرناها مراراً. (3) في الأصل: " العبارة ". (4) في الأصل: " الماطقة ". (5) أي أنه أولى من المجنون بقبول لفظه، وهو بهذا يردّ قولَ من يحاول توجيه نقل الربيع بجعله الصبا أسوأ حالاً من الجنون، لينقض بذلك توجيه نقل المزني بإبطال عبارة الصبي اتفاقاً، وما ينبني عليه من إبطال عبارة المجنون بطريق الأولى.

فصل قال: " ولو كاتبه كتابة صحيحة، فمات السيد، وله وارثان ... إلى آخره" (1). فصل 12513 - صدْرُ هذا الفصل في منازعةٍ مفروضة بين عبدٍ يدعي الكتابة، وبين وارثين، ولا بد من تمهيد [أصل] (2) في مقدمة الفصل، ثم نرجع بعده إلى مقصود الفصل. فنقول: إذا كاتب الرجل عبداً ومات، وخلّفه مكاتباً، وترك ابنين معترفين بالكتابة، فهذا يتعلّق بأطراف الكلام في مكاتبة بعض العبد، وسيأتي فيها باب معقود، [ولو لم] (3) نلتزم الجريان على ترتيب (السواد)، لأخرنا هذا الفصل إلى ذاك الباب؛ لانعطافه في جوانبه على مضمون ذلك الباب، ولكن نتبع الترتيب، ومسلكَ الشارحين، ثم ما نرى إضافته إلى ذلك الباب، أضفناه، فنقول: العبد مكاتب بإقرار الوارثَيْن، وغرضنا من هذه الصور أن أحد الابنين [لو أعتق نصيبه من المكاتب] (4)، نفذ عتقه إجماعاً (5). ولو أبرأه أحد الابنين عن حصته من

_ (1) ر. المختصر: 5/ 275. (2) في الأصل: " فصل ". (3) في الأصل: " ولم ". (4) في الأصل: " لو أعتق فأبرأه نصيبه من المكاتب " وتعديل العبارة بالحذف من عمل المحقق؛ فإن الإبراء سيأتي بعد هذا مباشرة. (5) إجماعاً: المراد إجماع الأصحاب من حملة مذهبنا. ثم لم يستمر هذا الإجماع من الأصحاب، فقد ذهب البغوي (ت 516 هـ) إلى أن الأصح أنه لا يعتق بإعتاق أحد الابنين الوارثين، ونص عبارته: "إذا أبرأ أحد الابنين عن نصيبه، أو أعتق نصيبه، أو استوفى النجوم بإذن الآخر -وقلنا: يستبد به- وجب أن يكون في عتق نصيبه قولان: أصحهما - لا يعتِق نصيبه -وعليه يدل النص- بل يوقف، فإن الشافعي رضي الله عنه قال: " فأعتق أحدهما نصيبه، فهو برىء عن نصيبه " [المختصر: 5/ 275]، ولم يقل عَتَق نصيبه، ثم ذكر -أي المزني- قوله: وقال في موضع آخر: " يعتق نصفه عجز أو لم يعجز " ففيه دليل على أن أحد الابنين إذا أبرأ عن نصيبه أو أعتق نصيبه، لا يعتق على أحد القولين، بل =

النجوم برىء، وعَتَقت حصته المبرىء عندنا خلافاً لأبي حنيفة (1)؛ فإنه لم يحكم بالعتق ما بقي عليه درهم، ووافق في نفوذ العتق فيه، فأما إذا استوفى أحد الابنين [بأداء] (2) حصته من النجوم، فتصوير الاستيفاء لا يتأتى شرحه الآن، فنضيف هذا الطرف إلى الباب الذي سيأتي في كتابة بعض العبد، إن شاء الله. فإذا ثبت نفوذ العتق - إذا صرح به أحدهما - وثبت من مذهبنا نفوذُه بالإبراء، كما ذكرناه، فهل نحكم بسريان العتق إلى نصيب الابن الذي لم يُعتق ولم يُبرىء؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يسري؛ لأن العتق ينفُذ على حكم الكتابة، وكأن المعتِق هو المورِّث (3)، والوارث نائب عنه، وصدَرُه عمن هو في مرتبة الخلافة والنيابة. والقول الثاني - أن العتق يسري إلى نصيب الابن الذي لم يبرىء، ولم يُعتق؛ لأن المكاتب مملوك للورثة إلى أن يَعتِق، وعتقُ المعتِق صادرٌ عن ملكه، والخلافةُ تقتضي نزول الوارث في ملك رقبة المكاتب منزلة الموروث، ثم العتق اقتضاؤه الملك، والدليل على ثبوت الملك أن من زوّج ابنته من مكاتبه، ثم مات قبل عتق المكاتب، فالزوجة ترث شيئاً من رقبة الزوج، وينفسخ النكاح بذلك؛ ولولا حصول الملك في رقبة المكاتب للمولى، لما انفسخ النكاح. ثم قال القاضي: الأَوْلى بناء القولين على أن الدَّين هل يمنع حصول الملك للورثة في عين التركة، وقد مهدنا هذا على بيان شافٍ، فالمكاتب [مستحَق] (4) العَتَاقة في

_ = يكون موقوفاً .. " (ر. التهذيب: 8/ 435). وقد أشار الرافعي إلى كلام البغوي قائلاً: " وقال صاحب (التهذيب): " قضية سياق (المختصر) حصول قولين في عتق أحد الابنين نصيبه: أحدهما - العتق، وأصحهما - المنع، بل يوقف ... إلخ " (ر. الشرح الكبير: 13/ 491)، وانظر أيضاً (روضة الطالبين: 12/ 241). (1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 424 مسألة 2116. (2) في الأصل: " فأبرأه " والمثبت من المحقق، بناء على السياق. (3) والمعنى أن العتق لا يسري، لأنه ينفذ على حكم الكتابة، والذي كاتب العبدَ هو المورّث، فالابن الوارث يعتق نيابة عنه، فكأن المعتق في الحقيقة هو الميت، والميت لا ذمة ولا ملك له، فهو معسرٌ، فكيف يسري عتقه. (4) في الأصل: " يستحق ".

حكم [المستغرَق] (1) باستحقاق العتق، فيجري قولان في أن الورثة هل يملكون رقبة المكاتب، كما جريا في أنهم هل يملكون أعيان التركة مع تعلق الدين بها؟ ثم قال القاضي: إذا منعنا سريان عتق أحد الابنين، فلا اتجاه لذلك إلا على نفي الملك، وصرفِ العتق إلى حكم النيابة (2)، وهذا القياس يقتضي ألا ينفسخ نكاحُ بنت السيد مع المكاتب (3)، ورأى هذا التخريجَ واقعاً في القياس، ثم قال: إنه مخالف للنص، وما أطبق عليه الأصحاب، فَردَّ نظره إلى بيان احتمالٍ في مسلك القياس. وما ذكره متجه حسن، لو قلنا: إذا كاتب الشريكان عبداً، ثم أعتق أحدهما نصيبه، فالعتق يسري، وقد رأيت الطرقَ متفقةً على ذلك، إلا شيئاً غريباً سأذكره في أثناء الفصل، حيث أرى ذكره. فإذا كنا نقطع بتسرية عتق أحد الشريكين، وإن كان العتق لو سرى متعدياً إلى جزء من مكاتَب، ثم ذكرنا قولين في سريان عتق أحد الابنين، فلا محمل لترديد القول إلا التردد في أن الورثة هل يملكون رقبةَ المكاتب؟ فإن قيل: كيف يستقيم هذا، وقد نفذتم عتقَ الوارث وما استنيب في العتق، وإنما نفذ عتقه لصَدرِه عن ملكه. قلنا: إذا لم يملك الوارث رقبة المكاتب، ورّثناه نجوم الكتابة، فإن أبرأ، فالإبراء يتضمن العتق، ولا نظر إلى بقاء بعض النجوم عليه للذي لم يبرئه؛ فإن المبرىء أسقط جميع ما يملك، فكان بمثابة المولى إذا أبرأ عن جميع النجوم. فإن اعترض في هذا المنتهى السؤال عن استيفاء أحد الابنين حظّه، فهذا قد أحلناه

_ (1) في الأصل: " المتفرق "، والمثبت من تصرف المحقق. (2) المعنى أن الوارث لا يملك رقبة المكاتب، وإنما يرث نجوم الكتابة، فإذا أعتق، تضمن عتقه الإبراء عن نجوم الكتابة -كما سيبين ذلك بعد سطور- فكانه أعتق أو أبرأ - يتصرف في الكتابة نيابة عن مورثه، وليس عن تصرفه فيما يملك. (3) لأنها لم تملك جزءاً من زوجها المكاتب، لأنا نفرع على نفي ملك الوارث للمكاتب، وإنما عتقه له بحكم النيابة عن المورّث. هذا كلام القاضي.

مرّةً (1)، ونحن [نجدد] (2) إحالته؛ فإن في تصوير انفراد أحدهما باستيفاء حصته عُسْراً، سيأتي كشفه، إن شاء الله. فإن قيل: ما ذكرتموه في الإبراء، فما وجه تنفيذ عتقه؟ قلنا: وجه نفوذه تضمنه الإبراء، والإبراء يقتضي العتق. 12514 - فإذا تبين القولان في سريان العتق، فالتفريع عليهما: إن قلنا: لا يسري، فقد حصل العتق في مقدار حصته، ويتعلق بهذا الآن الحكم في الولاء، وأنا أرى تأخيره، ونستوفي تفريع السراية نفياً وإثباتاً، ثم أنعطف على بيان الولاء في الصور، وأسوق ما يتعلق به حتى يُلفى منتظماً غيرَ مبدّد في أثناء المسائل. ثم إذا لم يسر العتق، بقي الابن الثاني على حصته في الكتابة. وإن حكمنا بأنه يسري عتقُ أحد الابنين إلى نصيب الثاني، فمتى يسري، وكيف وجه السريان؟ 12515 - نقدم على هذا أصلاً، وهو أن الشريكين في العبد إذا كاتباه معاً، ثم أعتق أحدهما نصيبه، نفذ العتق، وسرى إلى نصيب صاحبه، قطع الأئمة بذلك، ثم في وقت السريان قولان في الشريكين: أحدهما - أنه لا يسري العتقُ في الحالة الراهنة؛ فإن في تسريته إبطال الكتابة، ولكنا ننتظر ما سيكون، فإن رق ذلك القدرُ، ولم [تَجْرِ] (3) الكتابة إلى منتهاها، فإذ ذاك يسري عتق الشريك وإن استمرت الكتابة، وأفضت إلى العتق، فلا سريان. والقول الثاني - إنّ عتق أحد الشريكين يسري في الحال. وليقع التفريع على قول تعجيل السراية، وهذا القول موجه بمقتضى السراية؛ فإن

_ (1) سبق أن أحاله في أوائل الفصل حيث قال: " ... فتصوير الاستيفاء لا يتأتى شرحه الآن، فنضيف هذا الطرف إلى الباب الذي سيأتي في كتابة بعض العبد - إن شاء الله" وهو هنا يجدد إحالته. (2) في الأصل: " نحذر " هكذا تماماً رسماً ونقطاً (انظر صورتها)، والمثبت من عمل المحقق. (3) في الأصل: " تحبّر " هكذا تماماً، رسماً، ونقطاً، وتشديداً.

العتق الساري مقطوع به، فلا يجوز أن يكون مقتضاه في السراية متأخراً على خلاف القياس. التفريع: إن حكمنا بأن العتق لا يسري ما لم يرِقّ نصيب الشريك، فالسريان على هذا القول لا يصادف كتابةً ولا ينقضها، فإن شرط نفوذ السراية على هذا القول تقدم ارتفاع الكتابة. وإن رأينا أن نسرّي العتق في الحال، فهل تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، أم يسري العتق في نصيب الشريك على حكم الكتابة، من غير تقدير انفساخ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الكتابة تنفسخ، ويترتب السريان على الانفساخ. والثاني - لا تنفسخ الكتابة، بل يسري العتق ويجري، ونصيب الشريك مُقَر على حكم الكتابة. 12516 - ونعود إلى إعتاق أحد الابنين الوارثين المكاتَبَ، ونقول: إن نفذنا سراية العتق، فمتى يسري؟ فعلى قولين كما ذكرناه في عتق أحد الشريكين حَذْوَ القُذَّة بالقُذّة، ثم أحد القولين أن العتق لا يسري ما لم يرِق نصيب الابن الثاني. والقول الثاني - أنه يسري في الحال، ثم في انفساخ الكتابة في نصيب الابن الوجهان المذكوران في مسألة الشريكين. 12517 - ونحن من هذا الموضع ننعطف على ما تقدم لبيان حكم الولاء، فإن قلنا: لا يسري عتق الابن، بل يقتصر على مقدار حصته في رقبة المكاتب، فالنصيب الثاني مكاتب لا محالة، فإن عتق ذلك النصيب بأداء النجوم، أو بإبراء، أو إعتاق، فالولاء في رقبة المكاتب للميت لا غير، ثم يرث الابنان بولاء الأب، كما مهدناه في قاعدة الولاء، هذا إذا عتق نصيب الثاني أيضاً. فأما إذا رقّ نصيب الثاني -والتفريع على عدم السريان- فقد انفسخت الكتابة في المقدار الذي رَقَّ، وذكر الأصحاب وجهين في أن الولاء في النصف الذي عَتَق مصروف إلى من؟ فمن أصحابنا من قال: هو للمبرىء من الابنين، لا حظ فيه للذي رق نصيبه، ومنهم من قال: هو مصروف إليهما. وهذا الذي نقلناه عن الأصحاب كلام مبهم لا بد من كشفه، فنقول: إذا انفسخت

الكتابة في نصيب أحد الابنين بأن رَقَّ لما عجز، فهل نقضي بالانفساخ في نصيب المبرىء منهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نحكم بانفساخها في ذلك النصيب أيضاً. والثاني - لا نحكم. وهذا إشكاله أعظم مما قدمناه؛ فإن العتق إذا نفذ على حكم الكتابة، أو بسبب الإبراء، فلا سبيل إلى استدراك ما نفذ، ولو قلنا: نتبين أن العتق صادف ملكَ المعتِق، والرقَّ المستحق له، لكان هذا خرماً عظيماً للقاعدة، وتبيُّناً في غير موضعه، فإن كل ما نتبيّنه من الأحكام، فلا بد وأن نتبين له فيما مضى مقتضياً، ولم يظهر لنا مقتضٍ [آخِراً] (1) يوجب تبين انفساخ الكتابة. [وإنما يجري ذلك في الكتابة] (2) ما لم يكن التبعيض بين الوارثين؛ فإن مبنى الكتابة في حياة السيد على نفوذ العتق، أو على ارتداد الجميع رقيقاًً، وكأنّ الإبراء عن بعض النجوم لا يوجب تحصيل شيء من العتق، والآن لما انقسم المكاتب بين الوارثَيْن، فيعتِق، ثم يضاف إلى أحدهما بإبرائه عن نصيب نفسه في النجوم، وهذا لا بد من احتماله، وقد يموت والكتابة منشأة في المرض، فيضيق الثلث، ويرق بعض المكاتب، فهذه التغايير لا بد من احتمالها. فالوجه عندنا القطع بأن الكتابة لا يتبين انفساخها في نصيب من أبرأ من قبل أو أعتق، وإذا كان كذلك فالذي رَقَّ يخلص لأحد الابنين؛ إذ لو رددنا ذاك ميراثاً بينهما، [لجرّ] (3) ذلك محالاً؛ من قِبل أن الذي أبرأ عن نصيبه كان إبراؤه بمثابة استيفائه حقه، فيستحيل أن يستوفي أحدهما على الخصوص حقه من النجوم، ثم يشارك صاحبه فيما يرق. فقد تحصل مما ذكرناه أن الرقيق مختص بالذي رق عليه، والعتق نافذ عن جهة

_ (1) في الأصل: " أجزاء ". (2) ما بين المعقفين مكان كلمة استحالت قراءتها، فقد رسمت هكذا: " نجرّد في الكتابة " (انظر صورتها) والمعنى أن تقدير الفسخ في الكتابة بعد أداء نصف النجوم -أو أقل أو أكثر- والعجز عن أداء الباقي، إنما يجري هذا الفسخ، ويكر راجعاً على ما أدّى من النجوم، إذا لم يوجد التبعيض بين الوارثين، كما بسطها الإمام. (3) في الأصل: " يجر " والمثبت من المحقق.

الكتابة في الذي عَتَق، وإذا كان كذلك، فيجب نسبة الولاء إلى الميت، وقد أوضحنا في قاعدة الولاء أنه لا يورث بل يورث به، وإذا كان كذلك، فالوارث بالولاء من ينتسب بالعصوبة إلى من له الولاء، والابنان جميعاً متساويان في جهة العصوبة من المولى. ولكن وإن كان كذلك، فللأصحاب خلاف. فمنهم من يجري على القياس الذي نبهنا عليه؛ وقال: الابنان: من رق نصيبه ومن أبرأ مشتركان في الإرث بالولاء، وهذا إنما يُخرَّجُ على قولنا: مَن بعضه حر وبعضه رقيق موروث، وفيه الاختلاف والتفصيل الطويل المذكور في الفرائض. فتحصّل مما ذكرناه أن الحكم بانفساخ الكتابة في الذي عتق محال، ويجب صرف الولاء فيه إلى الميت، ثم الأصح بعده أنهما يشتركان في الاستفادة بذلك الولاء [إن حصلت] (1) استفادة. ومن أصحابنا من قال: يختص بتلك الاستفادة المبرىء؛ فإنا وإن كنا لا نورّث الولاء، فيبعد أن يكون أحد الابنين مستوفياً حقه من الرقبة رقاً، ومشاركاً للثاني في فائدة الولاء، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فمبناه على استبعاد محض لا حاصل له. 12518 - ومما يتعلق بهذا المنتهى أن أحدهما إذا أبرأ -كما صورناه- ولم يتبين في النصيب الثاني بعدُ انقلابٌ إلى الرق، أو جريانٌ إلى العتق، فمن رأى في المسألة الأولى -وهي إذا رق نصيب أحدهما- أن يشتركا في فائدة الولاء، فلا شك أنه يحكم بهذا في هذه الصورة، ومن خصص المبرىء في الصورة الأولى بفائدة الولاء، فهاهنا ماذا يصنع؟ هذا فيه تردد عظيم. وقد ذكر القاضي وجهين هاهنا، وليس ذلك على تثبت، والوقف بهذا المقام ألْيَقُ: فإن عَتَق النصيبُ الثاني على حكم الكتابة، فالولاء مشترك، يعني الاستواء في فائدته، وإن رَقّ النصيب الثاني، فقد مضى الحكم فيه، وتبين اختلافُ الأصحاب

_ (1) في الأصل: " أن نصوّب " كذا رسماً ونقطاً، وتشديداً.

ووجههُ، ولا يتجه عندنا إلا هذا، ولا فائدة في غيره؛ فإنا لا نعقل فيما نحن فيه فائدةً للولاء إلا الإرث -إذا قلنا به في الشخص المبعض- وإنما مجرى الإرث إذا مات الشخص الذي فيه نتكلم، وإذا مات في أثناء الأمر، انفسخت الكتابة في نصفه الثاني، ووقع القضاء بتحقق الرق فيه، فيعود الكلام لا محالة إلى صورة جريان الرق في أحد النصيبين. فهذا تمام الكشف في ذلك. وجميع ما ذكرنا تفريع على أن العتق لا يسري. 12519 - فإن حكمنا بأن العتقَ يسري، فقد ذكرنا في وقت السراية قولين: فإن قلنا: لا يسري العتقُ ما لم يرِقَّ النصيب الثاني، فلا شك أنه إذا رَقّ، ثم عتق بحكم السريان، فالولاء فيما رق للابن المعتِق، أو المبرىء؛ فإن الكتابة انفسخت في ذلك النصيب، وقدرنا نقل الملك فيه إلى المعتق، ثم نفذنا العتق عليه، فله فيه ولاء المباشرة، وأما الولاء في النصف الذي عتق على حكم الكتابة، فيجب القطع بانصرافه إلى المتوفى، ولا يَتَخَيّلُ انفساخَ الكتابة فيه تبيّناً من هو على بصيرة في درك حقيقة هذا الفصل. ثم يعود خلاف الأصحاب في أن المعتق هل يختص بفائدة الولاء في ذلك النصف، أم يشترك الابنان فيها؟ والأصح اشتراكهما، لما ذكرناه من فصل الانتساب بالعصوبة، وفيه الوجه الآخر. فأما إذا قلنا: يسري عتقُ المبرىء، أو المعتِق في الحالة الراهنة، فقد ظهر خلاف الأصحاب في أن الكتابة هل تنفسخ فيما يسري العتق فيه؟ فمنهم من قال: إنها تنفسخ، فعلى هذا يرِقّ ذلك النصف، ثم ننقل الملك فيه، ثم نعتقه على المعتِق، ويعود التفريع إلى القول الأول، وهو إذا رأينا انتظار الرق، فرَقَّ، ثم سرى، وأمرُ الولاء على ما مضى في ذلك القسم. فإن قيل: كيف يتجه فسخ الكتابة، ولا سبيل إلى التسبب إلى فسخها من جهة السادة، ما لم يَعجِز المكاتَب؟ قلنا: إنما يقرب احتمال ذلك لمكان حصول العتق، وإذا حصل العتق، فهو

مقصود الكتابة، فكأنا على هذا الوجه لا نمنع فسخ الكتابة بجهة الإعتاق عن غير الكتابة. وهذا غير سديد، فقد يلزم عليه الحكم بأن إعتاقَ سيدِ المكاتب ابتداءً يوجب فسخَ الكتابة، ثم يجب احتماله لتحصيل مقصود الكتابة. وقد ينقدح الانفصال عن هذا بأن يقال: الإعتاق تصرف في مقصود الكتابة بالتعجيل، فلا يتضمن فسخاً، والسريان من ضرورته نقل الملك، ورقبة المكاتب لا تقبل الملك مع اطراد الكتابة، والسريان لا بد منه، فنضطر إلى نقض الكتابة لتتصور السراية. هذا إذا قلنا: تنفسخ في ذلك النصيب. فأما إذا قلنا: لا تنفسخ الكتابة، ويسري عتق المبرىء على حكم الكتابة، فهذا قد يتطرق إليه السؤال؛ فإن السراية من ضرورتها نقلُ الملك إلى من عليه السريان، والمكاتب لا يقبل نقل الملك؛ وقد يُجاب عن هذا بأن كل فعل لا يؤدي إلى فسخ الكتابة، فهو محتمل، وإنما الممتنع تقدير فسخ الكتابة، وسنذكر قولاً قديماً في تصحيح بيع المكاتب على تقدير بقاء الكتابة واطرادها، حتى كأن البيع وارد على النجوم. وهذا مما سيأتي شرحه، إن شاء الله تعالى. 12520 - فأما تفريع الولاء على قولنا: إن الكتابة لا تنفسخ مع سريان العتق، فالمذهب الذي يجب القطع به صرفُ الولاء إلى الميت، ثم اشتراك الابنين في فائدة الولاء، ولا يجوز إجراء خلاف؛ فإن الكتابة لم تتبعض بقاء وارتفاعاً، بل حصل العتق في الجميع على حكمها. هذا ما أردنا أن نذكره في الولاء. 12521 - ثم مهما حكمنا بانفساخ الكتابة، فلا شك أن قضاياها تزول، ويظهر أمر هذا في الصورة الأخيرة؛ فإذا قلنا: يسري العتق بتقدير رد ذلك النصيب إلى الرق، وفسخ الكتابة، فلا يستتبع مَنْ عَتَقَ الكسبَ والولدَ في النصيب الذي رفعنا الكتابة فيه. هذا لا بد منه. فلو قال قائل: إذا قدَّرنا رقّاً في ذلك النصيب، فما يخص ذلك النصيب من

الكسب والولد لمن؟ أهو لمن يسري عتقه، أم هو للثاني الذي لم يبرىء ولم يُعتِق؟ قلنا: هو للذي لم يبرىء ولم يُعتق؛ فإنا نقدر الرق أولاً، ثم نقدر نقله، وإذا تقدم الرق -وإن لم يكن له زمان محسوس- ثم يترتب عليه النقل، فما يقتضيه الرق لمن حصل الرق في حقه. وقد تم ما نريد في ذلك. وقد حكينا اتفاق الطرق على أن الشريكين في العبد إذا كاتباه، ثم أعتق أحدهما نصيبه، سرى عتقه، وإنما تردد القول في وقت السريان، وحكينا اختلاف القول في الوارِثَيْن في أَنَّ عتقَ أحدهما هل يسري، كما مضى، وهذا هو المذهب المعتمد. وحكى صاحب التقريب قولاً بعيداً -أراه مخرجاً- في أن عتق أحد الشريكين في العبد لا يسري؛ فإنا لو سرّيناه في الحال، لتضمن نقضاً للكتابة، وهذا بعيد، وإن توقفنا إلى انقلاب ذلك النصف رقيقاًً، فهذه سراية بعيدة؛ فإن السريان إذا امتنع حالة الإعتاق لم يجر بعده، والدليل عليه أن من أعتق حصته من العبد المشترك وكان معسراً، ثم أيسر من بعدُ، فالسراية التي رددناها بالإعسار المقترن بالإعتاق، لا ننفِّذْها باليسار الطارىء، فخرج من ذلك تعذر السراية. كيف فرض الأمر. وهذا متجه في القياس، ولكنه ليس بالمذهب، فلا اعتبار به، ولذلك لم أذكره في أثناء المسائل، فأخرته إلى نجاز ترتيب المذهب. وقد تم الآن ما أردنا ذكره في إعتاق أحد الورثة، وأحلنا على الباب المنتظر ما وجبت إحالته. 12522 - ومما يجب ختم الفصل به أن أحدهما إذا حُمل على قبض نصيبه من النجوم إجباراً عليه -حيث يتصور ذلك، كما سيأتي- فالعتق إذا حصل بهذه الجهة لا سريان له بلا خلاف؛ فإن هذا عتق حصل بسببٍ لا اختيار فيه، وإذا كان كذلك، فلا سريان، والحالة هذه؛ ولذلك قلنا: من ورث البعض ممن يعتق عليه، وعَتَق عليه، لم يسر العتق إلى الباقي، وإن كان الوارث موسراً، فهذا تمام المراد. 12523 - ونعود بعده إلى مقصود الفصل، فنقول: إذا مات رجل وخلف ابنين

وعبداً، فادعى العبد عليهما أن أباهما كاتبه؛ فإن صدقاه، فالأمر على ما قدمناه. وإن كذباه، فالقول قولُهما مع اليمين، يحلفان بالله لا يعلمان أن أباهما قد كاتبه، فإن حلفا، انتهت الخصومة إذا لم تكن بينة، وإن نكلا عن اليمين، حلف العبد، وحُكم بالكتابة. وإن أراد العبد إثبات الكتابة بالبينة، فلا يخفى أنا نُحْوِجُه إلى إقامة شهادة عدلين؛ فإنه يبغي مقصودَ العتاقة، وليس يطلب مالية، فلا يثبت مقصوده إلا بعدلين. وإن صدّقه أحدُ الابنين، وكذبه الآخر، فنصيب المصدِّق مكاتَب، والقول قول المكذب في نصيبه مع اليمين؛ فإن نكل وحلف العبد يمين الرد حُكم بالكتابة في الجميع، وإن حلف، فنصيبه قنُّ، فيستكسب العبدُ، فما يحصل من أكسابه يدفع نصفه إلى المكذِّب بحكم الرق، والنصفُ يبقى في يده يدفعه إلى المصدِّق عند حلول النجم، فيعتِق به، ثم هذا العتق لا يسري قطعاً؛ فإنه مرتب على [أداءٍ] (1) قهري لا يجد المصدق محيصاً، وقد ذكرنا أن الأمر إذا كان كذلك، فلا سريان. فأما إذا أعتقه المصدق، أو أبرأه عن حصته، ففي سريان العتق الخلافُ المقدم، ورأى الأصحاب السريانَ هاهنا أقرب وأولى؛ لأن من يسري عليه معترف بالرق، فكانت السراية محتملة على موجب قوله. وليس هذا ترتيباً معتداً به، ولكن إن كان العبد مكاتباً في علم الله تعالى، فالأمر في تسرية العتق على ما قدمناه، وإن سُئلنا عن حكم الظاهر، فمن كذب يظهر مؤاخذاً بموجب إقراره وهو المعني بالترتيب. وهاهنا أمر يجب التنبه له، وهو أن المصدِّق إذا أبرأ ولم يُعتق، فالمكذب ينكر حصولَ العتق في نصيب المصدق المبرىء؛ فإن الإبراء في [القن] (2) لا معنى له، وعلى موجب تكذيبه يجب ألا يسري العتق إلى نصيبه، ولكن الاختلاف مع هذا قائم؛ فإن المصدِّق قولُه مقبولٌ في نصيبه، فإذا أتى بما يقتضي العتق، فالسريان بعده

_ (1) في الأصل: " آداب ". والمثبت من المحقق. (2) في الأصل: العين. والمثبت تقديرٌ منا.

أمر قهري لا يُربط بالرضا. نعم، إذا أعتق المصدِّق، فيجب القطع بمؤاخذة المكذب بعتق نصيبه إذا سرَّينا عاجلاً، لأنه معترف بأن نصيبه قد عتق. وهذا نجاز الفصل. 12524 - وقد قال الصيدلاني إذا ادعى العبد الكتابة، فصدقه أحدهما وكذبه الثاني، فشهد المصدِّق بالكتابة، وانضم إليه شاهد آخر، قال: تثبت الكتابة، وقُبل شهادة أحد الوارِثَيْن على الثاني. وهذا مشكل؛ فإنه بشهادته يثبت لنفسه حقوقاً -في الكتابة أو النجوم- موروثةً، فإطلاق القول بقبول شهادةٍ بعقدٍ عوضه للشاهد محال، وإن فرضت شهادته بعد الإبراء، فيتصور له أغراض في السراية إن سرّينا، فقبولى الشهادة مطلقاً بعد الإبراء لا وجه له، نعم يجب تخريجه على نفي السراية حتى إذا لم يكن للوارث الشاهد غرض ينسب إلى جر، فإذ ذاك تقبل شهادته. فصل قال: " والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ... إلى آخره " (1). 12525 - إذا كاتب الشخص عبداً خالصاً على نجوم، ثم قبض معظمها، لم يعتِق من العبد شيء في مقابلة ما استوفى من النجوم. هذا مذهب معظم العلماء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " (2). وعن علي رضي الله عنه أنه كان يوزع العَتاقة على النجوم، ويحكم بأنه يحصل من

_ (1) ر. المختصر: 5/ 276. (2) حديث: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال النسائي: هذا حديث منكر. وذكر الحافظ عن الشافعي قوله: " لا أعلم أحداً روى هذا إلا عمرو بن شعيب. ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبته، وعلى هذا فتيا المفتين " ا. هـ. والحديث رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر موقوفاً، ورواه ابن قانع عنه مرفوعاً، وأعلّه (ر. أبو داود: العتق باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت، ح 3926، 3927، النسائي في الكبرى: ح 25026، 25027، الحاكم: 2/ 218، التلخيص: 4/ 398 ح 2728، 2729).

العتق مقدارُ ما قبض من النجوم على نسبة الجزئية، حتى إن جرى القبض في نصف النجوم، حصل العتق في نصف المكاتب (1)، ولا قائل بهذا المذهب الآن. وما ذكرناه من تبعض العتق في الوارثَيْن سببه تعدد الشخصين، وسنعود إليه في باب تبعيض الكتابة. 12526 - ثم ذكر الشافعي أن المكاتب كتابةً صحيحة إذا مات قبل العتق، انفسخت الكتابة بموته. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة (2): إن خلّف وفاء، أُديت النجوم منه، والمسألة مشهورة في الخلاف، ومعتمد المذهب أن رقبة المكاتَب موَرِدُ العتق قبل القبض (3). فصل قال: " فإن جاء بالنجم، فقال السيد: هو حرام ... إلى آخره " (4). 12527 - إذا أتى المكاتب بالنجم، فقال السيد هو حرام، وامتنع عن قبوله، أُجبر على القبول إلا أن يبرىء؛ فإن القول قولُ المكاتب في ملك ما في يده، وهذا بيّن. ثم إن ذكر السيد لذلك المال مستحِقاً، أجبرناه على قبوله، ثم نؤاخذه بالإقرار بعد القبض، ونلزمه أن يسلمه إلى المقَر له. وإن لم يعيِّن (5) مستحِقاً، واقتصر على قوله: هو حرام، وأجبرناه على قبوله، فالمذهب أنه لا ينتزع من يده، لأنه [لم يعترف به لمتعين] (6). ومن أصحابنا من قال: ينتزعه الحاكم من يده، ويضعه في بيت المال.

_ (1) أثر علي رواه النسائي في الكبرى (العتق: باب ذكر المكاتب يؤدي بعض كتابته، ح 5003)، والبيهقي (10/ 326). (2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 431 مسألة 2125، رؤوس المسائل: 546 مسألة 403، المبسوط: 7/ 216، طريقة الخلاف: 177 مسألة: 70. (3) إلى هنا انتهى الخرم والسقط الذي أشرنا إليه من قبل في نسخة (ت 5). (4) ر. المختصر: 5/ 276. (5) ت 5: "يعتق". (6) في الأصل: " لو لم يعترف به، لتعين " والمثبت من (ت 5).

فإن قلنا: لا ينتزع من يده، فلو كذب نفسه، وقال: صدق المكاتَب في ادعاء الملك، وإنما ناكدته فيما قلتُ، فالمذهب أن ذلك مقبول منه، وتصرفه نافذ، بحسبه. وإن قلنا: الحاكم يزيل يده؛ فالظاهر أنه لو كذّب نفسه، لم يقبل منه. 12528 - ومما يليق بهذا الفصل أن المكاتب لو جاء بالنجم عند محله، فالسيد مجبر على قبوله: كما قدمناه، ولو امتنع عن القبول ولم يبرىء، قَبَضَ القاضي عنه. ولو جاء بالنجم قبل محله، ولم يكن للسيد غرضٌ في الامتناع عن القبول، فهو مُجبر على القبول، واختلف القول في سائر ديون المعاملات إذا كانت مؤجلة، فأتى بها من عليه الدين قبل المَحِل، فهل يجبر مستحق الدين على قبوله؟ فيه قولان تقدم ذكرهما في الأصول التي سبقت، ونجمُ الكتابة مما يقطع القول فيه بالإجبار على القبول، فقد رُوي: " أن سيرين كان مملوكاً لأنس بن مالك، فكاتبه على مال عظيم، فجاء بآخر النجوم معجلاً له على محله، فأبى أنس أن يأخذ إلا يوم المحل، فرفعه إلى عمر، وقال: إنه يريد أن أموت فيأخذ مالي وولدي، فقال عمر: تأخذه، أو أضعه في بيت المال، فأخذه أنس وعتق سيرين " (1). ومعنى قول عمر أضعه في بيت المال، أحفظه عليك وأقبضه عنك قهراً، ولم يُرد أنه يصير مالاً للمسلمين. وعلى هذا لو غاب السيد، فجاء المكاتب بالنجم قبل محله إلى الحاكم، قبلَه الحاكم عن الغائب، وحكم بعتق المكاتب. وهذا كله إذا لم يكن على السيد ضرر في أخذ المعجل؛ فإن كان عليه ضرر في القبول، لم يجبره على القبول مذهباً واحداً، وذلك أن يكون الوقت وقتَ نهب وغارة، ولو قبل، خاف النهب، فلا يكلفه التعرض للضرر، اتفق الأصحاب عليه، وإنما يُجبر على القبول تشوّفاً إلى تحصيل العتق إذا لم يكن على القابض ضرر، ولو كان له غرض في ألا يقبل، ولم يكن عليه ضرر، فالغرض لا مبالاة به، وحديث أنس شاهد فيه.

_ (1) أثر سيرين رواه البيهقي في الكبرى (10/ 334، 335).

ثم النجم الذي يأتي به - لا فرق بين أن يكون آخر النجم الذي يتعلق العتق بتأديته، وبين أن يكون أول نجم أو نجماً متوسطاً. فإن لكل نجم أثراً في تحصيل العتاقة. ولو كان على إنسان دينٌ به رهن، والدين مؤجل، فأتى الراهن بالدين قبل المحل، فله غرض ظاهر في تعجيل الدين، لينفك الرهن، فقد قطع القاضي بأن مستحِق الدين يجبر على القبول إذا لم يكن عليه ضرر، كما يجبر السيد على قبول النجم قبل محله. ولم أر في ذلك خلافاًً في الطرق. فصل قال: " وليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده ... إلى آخره " (1). 12529 - اتفق الأصحاب على أن المكاتب لا يتزوج إلا بماذن سيده، لأنه يتعرض في النكاح لغُرم المهر والنفقة، وهذا يتعلق بكسبه، وليست يده مطلقة في إكسابه حتى يصرفها إلى ما يشاء من مآربه، وإذا أذن له المولى في التزوج، ففي انعقاد نكاحه بإذن المولى قولان مبنيان على أن تبرعاته هل تَنْفُذ بإذن المولى؛ وفي ذلك قولان سيأتي شرحهما، مع استقصاء ما يكون تبرعاً من المكاتب وما لا يكون تبرعاً. وذهب بعضر المحققين إلى أن نكاحه يصح بإذن المولى قولاً واحداً؛ فإنه يتعلق بحاجته، وإنما القولان في هباته وتبرعاته التي لا تتعلق بحاجاته، وهذه طريقة حسنة، والطريقة المشهورة طريقة القولين. وقد نص الشافعي على أن المكاتبة لا تختلع نفسها بإذن مولاها، وذهب جمهور الأصحاب إلى أن هذا جواب من الشافعي على أحد القولين في أن المكاتب لا يتبرع بإذن المولى، وإلا فلا فرق. وأشار بعض الأصحاب إلى القطع بأنه لا يصح منها أن تختلع وإن أذن المولى، وهذا وإن ذكره الصيدلاني، فليس له وجه، أعني أن قطع القول لا وجه له، ولم يصر

_ (1) ر. المختصر: 5/ 276.

أحد من الأصحاب إلى إلحاق اختلاعها بنكاح العبد، من جهة أنه يعدّ من حاجاتها، وهذا لا قائل به. وأما المكاتبة هل تُزوّج؟ قال القفال - فيما حكاه القاضي عنه: لا تُزوَّج المكاتبة بحال قولاً واحداً، لأنها غيرُ مالكة للإذن، وإذنها لا بد منه، فصارت في تزويجها كالصغيرة. وهذا غير مرضي، والذي ذهب إليه الجمهور أن تزويج المكاتبة بإذن المولى يُخَرّجُ على تزوج المكاتب بإذن المولى، فإن تزويجها من حاجاتها، كما أن تزوّج العبد من حاجته، بل إذا تزوجت المكاتبة، استحقت النفقةَ والمهرَ، وإذا تزوج المكاتب التزم المهر والنفقة. ثم قال القاضي: الأظهر أنها تُزَوّج لما ذكرناه، ولفقهٍ آخر: وهو أنها بالنكاح لا يلزمها أن تُسلِّم نفسَها إلى الزوج تسليم الحرة، حتى يُقدَّرَ الزوجُ شاغلاً عن الاكتساب، بل سبيلها وسبيل. الزوج معها كسبيل الأمة إذا زوجها مولاها، لأنها محتاجة إلى الاكتساب، فمنفعتُها مستثناة كمنفعة الرقيقة. وهذا في نهاية الحسن، فإن ظن ظان أنها إذا تزوجت، وصحّ ذلك، فقد التزمت التسليم التام، قيل: هلاّ لزم مثل هذا في تزويج السيد أمته؟ فلا وجه إلا ما ذكره القاضي. 12530 - ثم تكلم الأصحاب في أن المكاتب هل يتسرّى جارية من جواريه؟ وهذا خارج على التبرعات. فليس له أن يتسرّى بغير إذن السيد، وفي التسرّي بالإذن القولان. ثم ذكر الأصحاب ثبوت الاستيلاد، وطرفاً من أحكام الولد، ولا ينبغي أن نخوض في هذا الآن البتة؛ فإنا سنجمع أحكام الأولاد في باب إن شاء الله، ونذكر ولدَ المكاتب والمكاتبة. ثم نذكر أميّة الولد حتى نذكر تلك الفصول المتناسبة في موضع واحد.

فصل (1) قال: " ويجبر السيد على أن يضع من كتابته شيئاً ... إلى آخره " (2). 12531 - مذهب الشافعي أنه يجب على المولى أن يؤتي المكاتبَ شيئاً. فالإيتاء مستحَق. وقال أبو حنيفة (3): هو مستحب. ومعتمد الشافعي ظاهر قوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33]، وأشار رضي الله عنه إلى الآثار، وهي المعتمدة عندنا في تأسيس الكتابة، ووضعِ أصلها، ولم يكاتِب أحد إلا وضع من مكاتبه شيئاً، أو آتاه شيئاً، وعن ابن عمر أنه كاتب عبداً له على خمسة وثلاثين ألفَ درهم، ووضع منه خمسةُ آلاف درهم (4)، فقد شبه الشافعي الإيتاء بالمتعة في مجاري كلامه، وإنما ذكرنا هذا لأن الحاجة قد تمسّ إليه في تفصيل المذهب. وأول ما تذكره بعد ثبوت الأصل، اختلافٌ في أن الأصل في الإيتاء إعطاء شيء أو حطُّ شيء من النجوم؟ فمنهم من قال: الأصل الحط؛ فإن الغرض من الإيتاء الإعانة، وهي تحصل بالحط ناجزاً. ومنهم من قال: الأصل بذل شيء له. تعلقاً بظاهر قوله: {وَآَتُوهُمْ} ثم قالوا: أثر هذا الخلاف ماذا؟ ولا خلاف أن الغرض [يحصل] (5) بكل واحد منهما. فقيل: من آثار الخلاف أن المكاتب كتابة فاسدة إذا عتق، ففي استحقاقه شيئاً على

_ (1) من هنا بدأ سقط آخر من نسخة (ت 5) استغرق هذا الفصل والفصول الثلاثة التالية، وهو نحو خمس ورقات من ورقات (ت 5)، ولكنها ليست من بداية الصفحات ونهاياتها. (2) ر. المختصر: 5/ 276. (3) ر. مختصر الطحاوي: 384، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 412 مسألة: 2099، المبسوط: 7/ 206، رؤوس المسائل: 547 مسألة 404. (4) أثر ابن عمر رواه مالك في الموطأ، والبيهقي (ر. الموطأ: 2/ 788، البيهقي: 10/ 330، التلخيص: 4/ 440 ح 2735). (5) في الأصل: " يسقط ".

المولى وجهان، فإن قلنا: الأصل الحط، لم يستحق؛ فإنه لا نجم على المكاتب كتابة فاسدة، حتى يجب حطُّ شيء. فإذا لم يثبت الأصل، لم يثبت [البدل] (1)، وإن قلنا: الأصل الإعطاء والبذل، فلا يمتنع إيجاب شيء على المولى تشبيهاً للكتابة الفاسدة بالكتابة الصحيحة؛ فإنها شابهتها في معظم المقاصد، ثم إذا أوجبنا إعطاء شيء ومن موجب الكتابة الفاسدة استحقاق السيد قيمةَ الرقبة، فلو حط من قيمة الرقبة، كفى ذلك عن جهة الإيتاء؛ فإنا وإن جعلنا الأصل الإعطاء، فالإبراء يحل محله، وهذا إبراء عما وجب بسبب الكتابة الفاسدة. وإذا أعتق الرجل عبده على مال أو باعه من نفسه -كما سنفصل سائر عقود العتاقة من بعد، إن شاء الله- فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنا لا نوجب الإيتاء في غير الكتابة، وإنما ظهر تردد الأصحاب في إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة، فأما ما عداها من عقود العتاقة، فلا يجب الإيتاء فيها. وحكى شيخي عن بعض الأصحاب المصير إلى وجوب الإيتاء في كل عقد عَتاقة فيه عوض، ولا خلاف أن من أعتق عبده من غير عوض لم يلتزم شيئاً، وإن كنا قد نوجب المتعة لكل مطلقة على قول بعيد، فالعتق المنجز لا ينزل منزلة الطلاق. 12532 - ثم إنا بعد هذا نتكلم في فصول: منها - وقتُ وجوب الإيتاء، ومنها - الكلام في مقداره، ومنها - الكلام في جنسه. فأما القول في وقت الوجوب، فالذي ظهر لنا من كلام الأصحاب، فيه مسلكان: أحدهما - أن الإيتاء يجب لحصول (2) العتق، ولكنا نستحب تقديمه عليه حتى يستعين المكاتَب به، ووجه ذلك أن المكاتب إذا عَتَق، فهو بمثابة الزوج (3) تُطَلَّق. وما يؤتيه المولى بُلْغةٌ يضطرب فيها العتيق إلى أن يكتسب مزيداً؛ فإن الغالب أنه يستفرغ ما في يده في النجوم.

_ (1) في الأصل: " البذل ". (2) أي لوقت حصول العتق. (3) كذا: (الزوج) بدون علامة التأنيث، وهي اللغة الفصحى التي جاء بها القرآن، ولكن الفقهاء جَرَوْا على إثبات علامة التأنيث في كتابي النكاح والفرائض خاصة منعاً للبس.

والمسلك الثاني للأصحاب - أن الإيتاء يجب قبل العتق، وهذا يعتضد بظاهر القرآن، فإنه تعالى قال: {فَكَاتِبُوهُمْ ... {وَآَتُوهُمْ} [النور: 33]، وقد يظهر للناظر أن المقصود الظاهر من الإيتاء الإعانة إما بإعطاء شيء وإما بتخفيفٍ بالحط. ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إيجاب الإيتاء وقت العقد على التضييق، حتى تتوجه الطَّلِبةُ به قبل الانتهاء إلى النجم الأخير. [هذا قولنا] (1) في وقت وجوب الإيتاء. 12533 - فأما الكلام فيما يتادى به واجب الإيتاء، فقد قال طوائف من الأئمة: يكفي منه ما يتموّل أو يجوز أن يكون عوضاً، فإن زاد، فهو تكرم وذهب ذاهبون إلى أنه لا يقع الاكتفاء بأقل ما يتمول، ومتعلق الأولين أنه [لم يُرَ] (2) في الشرع توقيف يرشد إلى تقدير أو تقريب، أما التقدير، فبين، وأما التقريب، فمثل ما اقتضاه ظاهر قوله تعالى: {مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]. فتلقى العلماء من المعروف التوسط بين التقليل والتكثير، كما مضى مشروحاً في بابه. والإيتاء ليس مقدراً ولا مقيداً بما يقتضي تقريباً، فإنه تعالى قال: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33]، ومقتضى {مِن} التبعيض، وإذا نظمنا معناه، كان التقدير (وآتوهم بعض ما آتاكم الله) واسم البعض ينطلق على القليل والكثير. ومن تمسك بالمسلك الثاني: احتج بأن الإيتاء مأمور به لغرضٍ لا يخرج من (3) الإعانة وتمهيد بُلغة بعد العتق، ومن أنكر ذلك من مقصود الشارع، فهو جاحد، والحبة فما دونها لا تسدّ مسدّاً في إعانة، ولا في بلغة، وليس هذا كالمهر؛ فإن الغرض من إثباته أن [لا] (4) يثبت البضع مجرداً عن مقابل، وهذا يتحقق بما يصح أن يكون عوضاً. فإن اعتبرنا أقل ما يتمول، فلا إشكال يختص بما نحن فيه، وقد ذكرت في مواضع معنى ما يتمول، ومن اعتبر الغرض، فالأوجه معنى الإعانة، وهذا يختلف

_ (1) في الأصل: " هذا قوله ". (2) في الأصل: " لم يزل ". (3) (من): بمعنى: (عن). (4) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.

بقلة النجم وكثرته، فإن الحاجة إلى الإعانة تختلف باختلاف المَبالغ، ومن راعى بلغةً بعد العتق، فقد يخطر له تنزيل تلك البلغة منزلة المتعة، ولست أرى ذلك معتبراً، -وإن كنا قد نلتفت إلى المتعة- فإنا لو اعتبرنا ذلك في التفصيل، للزمنا إيجابُ الإيتاء في العتق المنجّز. [ثم إذا راعينا الغرض، فلا ندري لذلك مردّاً يُرجع إليه إلا أن يجتهد القاضي] (1) عند فرض نزاع، ولا معدل عن هذا إذا تُصور اختلاف بين السيد والعبد. فإن قيل: فالقاضي إلى ماذا يرجع مع العلم [بأن] (2) الاحتكام لا سبيل إليه، قلنا: يرجع إلى ما له أثر في الإعانة، وعدمُه يورث تضييقاً أو كلفة. وهذا يختلف بقدر النجم وقوة العبد، وإن غيرنا العبارة قلنا: المقدار الذي يفرض العجزُ بفقدانه، ويترتب التعجيز عليه هو المُغني المؤثر، ثم مستند النظر فيه حدسٌ وتخمين، والمعلوم منه أن المكاتب على عشرة آلاف في سنتين لا يغني عنه حط المائة شيئاً، فما نستيقن أنه لا وقع له لا يكفي، وما نستيقن له وقعاً كافٍ، وما نتردد فيه فقدر التردد محتمل يتعارض فيه بقاء الإيتاء وبراءة ذمة المولى، ويلتحق بأطراف تقابل الأصلين. والذي نستيقن وَقْعَه يشتمل على زيادة قطعاً. هذا منتهى الإمكان في ذكر المقدار. 12534 - فأما الكلام في الجنس، فإن حط من نجمٍ، جاز، وإن أعطى من عين ما أخذ جاز، وإن أعطى من مالٍ آخر غيرِ مجانس لما أخذ، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين فيه: أحدهما - أنه يتعين الإعطاء من عين ما أخذ؛ تعلقاً بقوله تعالى: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور: 33]، وهذا محمول عندنا على النجوم، وهي من مال الله في هذه الآية. ثم قال الشيخ أبو علي: لو آتى من غير جنس النجم، لمِ يعتد به، وشبّه هذا بإخراج الدراهم من الدنانير في الزكاة، من حيث إن الإيتاء قُربة تثْبتُ تعبداً، وهي أبعد

_ (1) عبارة الأصل: " ثم إذا راعينا الغرض، فلا ندري ذلك يرجع إليه إلى أن يجتهد القاضي " وهي كما ترى غير مستقيمة، والمثبت من تصرف المحقق؛ إقامةً للعبارة، ورعاية للسياق. (2) في الأصل: " فإن ".

عن المعني من الزكوات (1)؛ إذ يتعلق بها سدّ الخلات، وهو معنىً كلّي تدركه العقول [بمباديها] (2)، ثم غير الجنس لا يجري فيها. ووجدت في كلام بعض الأئمة ما يدل على أن غير الجنس يجزىء، لأن هذا ملتحق بالمعاملات، فلا يُنحى به نحو العبادات. ثم ما أراه أن ما ذكر الشيخ وحكى الوفاق فيه معناه أن السيد لو جاء به لم يجبر المكاتب على قبوله، فأما إذا قبله المكاتب، واعتاض عن حقه، جاز ذلك. وقد نقول: إذا منعنا نقل الصدقة وانحصر المستحقون أن لهم أن يعتاضوا عروضاً عن حقوقهم. 12535 - ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا لم يبق من النجوم إلا المقدارُ الذي لو حطه أو أعطاه، لكان كافياً، فقد قال الأئمة: لا يَسْقُط ذلك المقدارُ، فإنا وإن جعلنا الحط أصلاً، فللمولى أن يؤتي بدلاً عنه، هكذا ذكر الأئمة. وقالوا: يرفعه المكاتب إلى الحاكم حتى يرى رأيه، ويفصلَ الأمر في ذلك؛ وإن امتنع أجبره على منهاج الحق. وإن جعلنا الإيتاء أصلاً، فقد قال القاضي: إذا بقي على العبد المقدارُ الذي لا اكتفاء بدونه، ولم يجده العبد، فللمولى أن يعجّزه، ثم في تعجيزه إياه، وعوده رقيقاً سقوطُ الإيتاء، وارتفاع العقد من أصله؛ وهذا عندي غيرُ صحيح؛ فإن المكاتب إن وجب عليه ما بقي، فعلى السيد مثله، ونحن قد نقول في مثل هذا بالتقاصّ، وأيضاً - فإن الإيتاء إنما شرع حتى لا يَعْجِز العبدُ بهذه البقية، وإذا شهد أخصُّ مقاصد الحكم في أمرٍ، لم تَسُغ مخالفتُه. فقد انتظم أنا إن جعلنا الأصل الحط، فلا تعجيز، وإن جعلنا الأصل الإيتاء، فقد نقل عن القاضي التعجيز، وهو عندي وهم من الناقل. والوجه ما ذكرته، ويبعد كل

_ (1) أي أن الإيتاء في النجوم أقرب إلى التعبد، وأبعد عن التعليل من الزكوات، فكان تعين الإعطاء من عين ما أخذ لهذا. (2) مكان كلمة تعذرت قراءتها، حيث رسمت هكذا " بماديها ". (انظر صورتها).

البعد أن ينتهي التفريع التقديري الآيل إلى اللفظ إلى منتهى يناط به إثباتُ تعجيز ونفي تعجيز. 12536 - ثم قال الشافعي: " ولو مات المولى بعد قبض جميع النجوم قبل الإيتاء، استحق العبد في تركته ... إلى آخره " (1). الوجه أن نذكر فقه الفصل، وما لا يجوز اعتقاد خلافه في قاعدة المذهب، ثم نذكر النص، والإشكال في فحواه، واضطراب الأصحاب بحسبه. فأما ما يجب التعويل عليه، وهو أن الإيتاء حق مستحق، إذا عتق المكاتب بتأدية جميع النجوم، صار ما يستحقه ديناً، فإذا مات المولى قُدِّم ما يستحقه العتيق على الوصايا وحقوق الورثة كسائر الديون، وإن كثرت الديون، ضارب المكاتَب أصحاب الديون. فإذا تبين هذا - فقد قال الشافعي فيما نقله المزني: " حاصّ المكاتَب الذي عتق أهلَ الوصايا " (2)، وهذا يُشكِل، لما نبهنا عليه، واضطربَ رأي الأصحاب في هذا النص اضطراباً جرّ خبالاً عن أصل المذهب. فحكى العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أن واجب الإيتاء في مرتبة الوصايا، والديونُ مقدمة عليه؛ فإن الإيتاء مكرُمة وإن وجبت، وقال الشيخ أبو حامد: الوجوب في الإيتاء ضعيف، ورمز إلى ضعف متعلق المذهب في ذلك. وهو غير سديد مع وجوب الإيتاء، والأصول لا تصَادم بأمثال هذا، ولو قدّمنا ديناً على دين، فقد نجد له نظيراً، فأما إيقاع الإيتاء في مرتبة الوصايا، فلا اتجاه له، ولا شك أن هذا القائل يقول: إذا ضاق الثلث، فلا مزيد، وهذا على نهاية البعد. والوجه الثاني للعراقيين - أن ما يراه القاضي باجتهاده، فالقول فيه أن المتمول منه دين، والزائد عليه -وإن أوجبناه- في رتبة الوصايا، وهذا كقولنا فيمن أوصى

_ (1) ر. المختصر: 5/ 276. وعبارة المختصر بنصها: " ولو مات السيد، وقد قبض جميع نجوم الكتابة، حاصَّ المكاتب بالذي له أهل الدين والوصايا ". (2) ر. المختصر: السابق نفسه: العبارة ذاتها.

بإحجاج رجل عنه من بلده وكان حَجُّ الإسلام دينا عليه، فمقدار أجر العمل من الميقات دينٌ، والزائد عليه وصية. وهذا أيضاً ليس بشيء، فإن القاضي إذا أثبت واجباً، فليكن ديناً، وليس له أن يزيد على مقدار الواجب، ولا ينبغي للفقيه أن يحيد عن المسلك المستقيم ويُصغي إلى التخييلات، فالمذهب المقطوع به ما ذكرناه. وتأويل النص أن المولى لو كان قدَّر مبلغاً في الإيتاء، ورأيناه أكثر من قدر الكفاية، فالزائد على قدر الكفاية في رتبة الوصايا، وفرض هذا فيه أولى من إضافته إلى القاضي. ومما يجب أن يعتقده من ينتحل مذهب الإمام المطلبي أنه يبني فرعه على أصول الشريعة، وقد صح في منصوصاته أنه قال: إذا بلغكم عني مذهب، وصح عندكم خبر على مخالفته، فاعلموا أن مذهبي موجَبُ الخبر، والظن به أنه لو زل قلم ناسخ عنه عن أصلِ أنّ مذهبه موجَبُ الأصل، وما نُقل محمول على تحريف أو غفلة. فصل قال: " وليس لولي اليتيم أن يكاتب عبده ... إلى آخره " (1). 12537 - ليس لمن يلي أمر الطفل، قريباً كان، أو قيماً، أو قاضياً، أن يكاتب مملوكَ الطفل؛ فإن المكاتبة في حكم التبرع المحض؛ من حيث إنها إعتاق الرقبة بكسبٍ، لو اطرد الملك، لكان ملكاً للطفل. وعند أبي حنيفة (2) لولي الطفل أن يكاتب عبده. وليست الكتابة في معنى بيع مال الطفل نسيئة من مليء وفيّ على شرط الغبطة، مع الاستيثاق، كما تقدم في كتاب البيوع؛ فإن ذلك يعد مجلبةً للمال، ومكسبةً فيه، بخلاف المكاتبة، وسأذكر في تبرعات المكاتب قولاً جامعاً، فيما نعتبر في كل تبرع، ثم في حق كل واحد.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 276. (2) ر. مختضر اختلاف العلماء: 4/ 415 مسألة: 2104.

12538 - ثم قال: " ولو اختلف السيد والمكاتب تحالفا ... إلى آخره " (1). ولو اختلفا في قدر النجوم وجنسها، أو في مقدار الأصل، تحالفا، ثم إن جرى ذلك قبل العتق، انفسخت الكتابة، أو فسخت، وينقلبُ المكاتب إلى الرق، ويخلص للسيد ما قبضه. وقد يفرض الاختلاف بعد حصول الوفاق على الحرية، وذلك بأن يدعي السيد الكتابة بألفين، وقال العبد: بل كانت بألف، وكان قد سلم إلى سيده ألفين، وزعم أنه سلم أحدهما عن مال الكتابة، وسلّم الآخر وديعة، وقال السيد: بل سلمتَهما عن جهة الكتابة، فالعتق متفق عليه لا مرد له، وموجَب الانفساخ أن يرد المولى الألفين، ويرجع على العبد بقيمته. فصل قال: " ولو مات العبد، فقال سيده: قد أدى إليّ كتابته ... إلى آخره " (2). 12539 - إذا تزوج المكاتب معتَقَةً، فأتت منه بأولادٍ، فلا شك أنهم أحرار، لأن الحرة لا تلد إلا حراً، وعليهم الولاء لمولى الأم، فإذا عتق المكاتب، انجر ولاء الأولاد إلى معتِقه، فلو مات المكاتَب واختلف السيد وموالي الأم، فقال السيد عَتَق مكاتَبي قبل أن مات، وانجر إليّ ولاء الأولاد، وقال موالي الأم: بل مات رقيقاًً، والولاء على الأولاد مستدام لنا، فالقول قول موالي الأم؛ فإن الأصل استمرار الولاء، وبقاء الرق في المكاتب إلى الموت. فصل قال: " ولو قال: استوفيت مالي على أحد مكاتَبيَّ، أقرع بينهما ... إلى آخره " (3). 12540 - إذا كاتب عبداً في صحته، ثم اعترف في مرض موته بأنه قبض منه

_ (1) ر. المختصر: 5/ 276. (2) ر. المختصر: 5/ 276. (3) ر. المختصر: 5/ 276.

النجوم، فإقراره مقبول والحكم به نافذ؛ فإنه أقر بما لو أنشأه في مرض الموت يصح منه، وإقراره للمكاتب في معنى الإقرار للأجنبي، وليس كالإقرار للوارث. 12541 - ولو كان كاتب عبدين في صحته، ثم قال: استوفيت مالي على أحدهما، فهذه المسألة لا اختصاص لها بالمرض والإقرار فيه، وحكمها أنه إذا أَبهم الإقرارَ، كان مطالباً بالبيان، مرفوعاً إلى مجلس القاضي، كما تمهد ذلك في نظائر هذه المسألة في إبهام الطلاق والعتق، فلو أبهمَ ثم عيّنَ، وقال: إني استوفيت نجومَ هذا، فيعتق الذي عيّنه، ولا تنقطع الطّلبة من جهة الآخر، فأقله أن يدّعي عليه، ولتكن دعواه: " إنك استوفيت نجومي "، فإذا ادعى كذلك، فالقول قوله (1) مع يمينه وبقي (2) الاستيفاء، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، رُدت اليمين على المكاتب، فإن حلف، حكمنا بعتقه، وقد عَتَق الأول بالإقرار. ولو قال المكاتب الثاني: عنيتني بالإقرار الذي أبهمته، فالأصح أن دعواه مردودة على هذا الوجه؛ فإنه ليس يدعي حقاً ثابتاً، وإنما يدعي إخباراً، قد يكون صدقاً، وقد يكون كذباً، ولا اختصاص لما ذكرناه بهذه المسألة، بل لو ادعى إنسان على أحد، وقال: قد أقررتَ لي بألف، فالذي ذهب إليه المحققون أن الدعوى على هذا الوجه لا تسمع؛ فإنه لم يدع لنفسه حقاً. نعم، لو ادعى ألفاً، وأقام بينة على إقرار المدعى عليه بالألف، لكان ذلك منتظماً مفيداً يحصّل الغرض. ولو مات هذا الذي أَبهم إقراره قبل البيان، طالبنا الورثة بالبيان. ولكن اليمين المتوجهة عليهم عند التداعي تكون على نفي العلم، فإذا حلفوا لا يدرون من عيّن موروثهم من المكاتبَيْن، انقطعت الخصومة عنهم. ثم في المسألة قولان في أنا هل نقرع بين المكاتَبين؟ أشهرهما - أنا نقرع بينهما (3)، والقول الثاني - أنا لا نقرع، حكاه الصيدلاني (4).

_ (1) قوله: أي السيد. (2) (وبقي): أي إذا حلف المولى تستمر الكتابة ويبقى استيفاء النجوم. (3) لأنه عتقٌ استبهم، والقرعة وردت في العتق. (4) لأنه دين استبهم، ولا قرعة في هذا.

توجيه القولين: من منع الإقراع احتج بأنه لو كان له غريمان، وهو يستحق على كل واحد منهما مقداراً من الدين، فقال: استوفيت ما كان لي على أحدهما ومات قبل البيان، ولم يبين الورثة، فلا إقراع، فالإقرار باستيفاء النجوم بهذه المثابة. ومن أقرع، احتج بأن قال: المطلوب العَتاقة، والاستيفاء يقع ضمناً، والقرعة تجري في استبهام العتق. فإن جرينا على إجراء القرعة -وهو الأصح- هان التفريع، وإن فرّعنا على أن القرعة لا تجري، فالذي يقتضيه ظاهر القياس الوقفُ إلى اصطلاحٍ، أو بيانٍ، أو قيامِ بينة. وقد ينقدح في التفريع على هذا القولِ الضعيف أن يقول الوارث: قد امتنع المكاتبان جميعاً، وإنما العتيق أحدهما بحكم إقرار المولى، والامتناع يثبت حق الفسخ، فلو قال: فسخت الكتابة فيكما، لم يمتنع نفوذ الفسخ في الكتابة الثانية في علم الله تعالى، وجاز أن يقال: هذا بمثابة ما لو قال من له حق التعجيز: للمكاتَبِ وعبدٍ قنٍّ معه أو حُرٍّ: عجزتكما، فالتعجيز ينفذ على من يقبل التعجيز، ويلغو في الآخر، ثم ترتب على ذلك أن أحدهما (1) حر، والثاني رقيق، وقد استبهم الأمر، فيقرع (2) بينهما. وفي أصل المسألة غائلة عظيمة، وهي أن من أعتق عبداً من عبدين على التبيين، ثم استبهم الأمر، فلا يقرع، وإنما الإقراع في موضعين: أحدهما - أن المريض إذا استوعب التركة بالإعتاق، واقتضى الشرعُ إرقاقَ بعض العبيد وإعتاقَ بعضهم، فهذا أصل القرعة ومحلها، وفيه ورد حديث عمران، والمحل الثاني للقرعة أن يبهم السيد الإعتاق، ولا يعين بقلبه ويموت، فالإقراع يعمل إذا لم يَقُم الوارثُ مقام الموروث، على ما فصلناه في بابه. فأما إذا تعيّن العتق وقوعاً، ثم استبهم، فلا جريان للقرعة، والحالة هذه،

_ (1) أحد المكاتبين في أصل المسألة، وليس في المثال المضروب لبيان إلغاء العبارة فيما لا تصح فيه. (2) أي أن الوارث فسخ الكتابة فيهما، وأحدهما لا بعيانه حرٌّ بإقرار المورّث، فيقرع الوارث بينهما.

ولا انفصال عن هذا السؤال، لا بتخريجه على أصلٍ قدمناه، وهو أن المريض إذا أعتق عبداً، ثم عبداً، وتحققنا التقدم، واستبهم عينُ المتقدم، ففي الإقراع قولان، قدمنا ذكرهما، وبنيناهما على نظيرهما في الجمعة والنكاح، وهما جاريان حيث نعلم المتعيّن ونيئَس من الوصول إلى دركه. فنعود بعد هذا التنبيه إلى المسألة ونقول: من أجرى القرعة، فهو مفرع على أحد القولين، ومن منع القرعة لأجل أن القرعة لا تجري في الاستيفاء، فلو صح التعجيز كما صورناه، التحق هذا بالقولين في أن القرعة هل تجري في مثل هذا المقام [وهذا نهاية] (1) كشف المسألة. 12542 - ثم قال: " ولو ادعى أنه دفع، أُنظر يوماً ... إلى آخره " (2). إذا ادعى المكاتب أنه سلّم النجوم، وأنكر السيد، فالقول قول السيد، فإن قال المكاتب: إن لي بينة، أنظرناه يوماً، فإن استزاد، فمنتهى مدة الانتظار ثلاثة أيام، فإن لم يقم بينة، ولم يؤذ النجم عجّزه المولى، ثم يكفيه إقامةُ شاهدٍ وامرأتين؛ فإنه يبغي إثبات تسليم مال. ولو كان يريد إثبات تسليم النجم الأخير الذي يستعقب أداؤه العتقَ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنّه لا بد من عدلين، ولا يقبل شاهد وامرأتان؛ فإن المقصود والأغلب في النجم الأخير إثبات العَتاقة، وهذا قد سبق في كتاب الشهادات موضحاً. فصل قال: " ولو أدى كتابته، فعتق، وكان عَرْضاً ... إلى آخره " (3). 12543 - نجم الكتابة لا يكون إلا ديناً، وكل دين ثبت في عقد، فاستوفاه مستحقه، ولم يجده على النعت المستحَق، ردّه، ولا يرتد العقد برّه، ولكنه يعود

_ (1) زيادة اقتضاها السياق. (2) ر. المختصر: 5/ 276. (3) ر. المختصر: 5/ 276.

إلى طلب حقه، ثم إن كان ما قبضه من غير جنس حقه، فالرضا به لا أثر له، وهو على حقه، وما قبضه لم [يملكه] (1)، إلا أن يعتاض عن حقه ما قبضه، حيث يجوز الاعتياض. ولو كان ما قبضه من جنس حقه، ولكن كان به عيبٌ، فإن رضي به، استمر الملك فيه، وإن رده، وأراد حقه الموصوفَ، فهل نقول: جرى ملكه فيما قبضه، ثم انتقض بالرد، أم نقول -إذا رد- تبيّنا أنه لم يملكه؟ فعلى قولين بنينا عليهما مسائلَ في البيع: منها - أن عقد التصارف لو ورد على الذمة، ثم جرى التسليم والتسلُّم في المجلس، وحصل الافتراق بعد ذلك، فوجد أحدهما بما قبضه عيباً، وردّه، فإن قلنا: ملك ما قبض، فالعقد (2) صحيح؛ فإن التفرق كان على ملك العوضين. وإن قلنا: نتبين أنه لم يملكه، فالعقد فاسد؛ فإن المتعاقدين تفرقا قبل التقابض. ومما يبتني على هذا الأصل أن من أسلم في جاريةٍ، ثم قبض الجاريةَ، فلم يجدها على الصفات المذكورة؛ إن رضي بها، استمر العقد، وإن ردها، فالعقد قائم، وهو يطلب الجارية التي يستحقها، ولكن هل يجب على المسلَم إليه استبراء الجارية التي رُدت عليه؟ فعلى القولين: فإن قلنا: ملكها قابضها، ثم زال الملك، استبرأها المسلَم إليه، وإن قلنا: لم يملكها، فالمسلم إليه لا يستبرئها؛ وقد تبين استمرار ملكه فيها. ومما نُجريه في اطراد هذا الأصل -قبل الخوض في مقصود الفصل- أن من قبض موصوفاً -كما ذكرنا- ولم يكن على الصفات المشروطة، ورضي به، فمتى يحصل ملكه؟ هذا بعينه ما قدمناه، ففي قولٍ يحصل الملك عند الرضا، وفي قول يحصل الملك بالقبض، ويتأكد بالرضا. وتتمة الكلام في ذلك أن من اشترى عيناً وقبضها، واطلع على عيب قديم بها، فحق الرد فيها على الفور، كما ذكرناه في كتاب البيع. وإذا قبض موصوفاً في الذمة، ولم يكن على كمال الصفة، واطلع على ذلك، فإن قلنا: إنه لا يملك بالقبض ما لم

_ (1) في الأصل: " يملك ". (2) ت 5: " فالملك ".

يرض، فلا شك أن معنى الفور لا يتحقق، بل الملك موقوف على الرضا متى كان، وإن قلنا: يحصل الملك بالقبض، فاطلع على النقص، فيجوز أن يقال: حق الرد على الفور، والأوجه أنه ليس على الفور، وإن حكمنا بحصول الملك بالقبض؛ لأنه ليس معقوداً عليه، وإنما يثبت الفور فيما يؤدي رفعه إلى رفع العقد محاماة على بقاء العقد. فهذا مقدار غرضنا في مقدمة الفصل. 12544 - ونحن نعود بعده إلى الغرض، ونقول: إذا قبض السيد النجم الأخير مثلاً، ولم يكن على الصفة المطلوبة، والمجلس جامع، ولو فرض الرضا والتساهل، لاستمر الملك، ونفذ العتق، فلا يخلو إما أن يرضى وإما أن يبغي الرد، فإن رضي، حصل العتق. واختلف الأصحاب في وقت حصوله، فمنهم من قال: يحصل العتق عند الرضا، ومنهم من قال: يحصل العتق بالقبض، ولا يعسر على الفطن تلقي هذا مما مهدناه. وإن [كان] (1) اطلع وأراد الرد والاستبدال، فهل نحكم بحصول العتق، أم كيف السبيل؟ هذا يبتني على القولين المذكورين في أنا هل نحكم بحصول الملك بالقبض، ثم نقضي بانتقاضه في المقبوض الموصوف، فإن قلنا: لا نحكم بالملك، بل نتبين أنه لم يحصل أصلاً. فإن قلنا: نتبين أن الملك لم يحصل (2)، فالعتق غير حاصل، وإن قلنا: ارتد العتق، كان توسعاً وتساهلاً في الكلام، بل لم يحصل أصلاً. والمعنيّ برده الحكمُ بانتفائه أصلاً، وهذا متجه بيّن. وإن قلنا: يحصل الملك في المقبوض، فلا ينسدّ على المولى باب الرد باتفاق الأصحاب، ولكن اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إذا ردّ، تبيّنا أن العتق لم يحصل. وهذا هو الذي لا يستقيم على قاعدة المذهب غيره؛ فإن العتق لو حصل، لامتنع ارتداده؛ إذ ليس هو من التصرفات التي يتطرق النقض إليها. فإن قيل: إذا حكمتم بالملك في المقبوض، فلِم لَم تقضوا بنفوذ العتق؟ قلنا:

_ (1) زيادة من (ت 5). (2) كذا في النسختين، وكأني بالجملتين، تغني إحداهما عن الأخرى، فالتكرار فيهما واضح.

لأن العتق يحصل في الكتابة الصحيحة بقضية المعاوضة، والعتق مقابَل بملكٍ لازم متأكد، لا يتطرق إليه إمكان الرفع والقطع، فإذا ردّ، تبينا أن العوض على مقتضى العقد لم يَجْر فيه ملك، والعتق لا يكتفى في حصوله بجريان ملك جائز على عوض ناقص. ومن أصحابنا من قال: ينفذ العتق على الجواز، كما حصل الملك في العوض على الجواز، فإن حصل الرضا، لزم الملك والعتق، وإن اتفق الردُّ، ارتد العتق بعد نفوذه، وهذا ضعيف لا أصل له، ولكن حكاه القاضي وزيّفه، وقد نجد له نظيراً في تفريعات العتق في العبد المشترى في زمان الخيار، ولا أحد يصير إلى تنفيذ العتق على اللزوم. ومما يتصل بهذا الفصل أن القابض لو تلف ما قبضه، ثم اطلع على ما كان به من نقص، فإن رضي به، فقد قال الصيدلاني: ينفذ العتق، فإن لم يرض به وأراد الرجوع إلى الأرش، فنتبين أن العتق لم ينفذ. هكذا قال الأئمة، حتى إن فرض عجز عن تأدية الأرش، فللمولى أن يعجّز المكاتب به، كما يعجزه بالعجز عن مقدارٍ من النجوم. 12545 - وفي هذا مزيد بحث يستدعي تقديمَ أصل في ذلك. فنقول: من اشترى عيناً وتلفت في يده، واطلع على عيب، فالرضا والإغضاء إبراءٌ عن حق ثابت أم لا؟ ما دلّ عليه فحوى (1) كلام الأئمة أنه لا حاجة إلى إنشاء الإبراء، والرضا كافٍ، وتعليله أن الأرش في حكم العوض عن حق الرد، ثم حق الرد يكفي في [سقوطه] (2) الرضا، فليكن الأرش بمثابته، وإن طلب الأرشَ، تقرر حقه، ثم لا يسقط ما لم يسقطه، ولا يخفى أن طلب الأرش ليس على الفور، وإنما الفور في الرد. فإذا تبين هذا في العين المبيعة المقبوضة إذا تلفت، فلو كان المقبوض عينَ ملتزم في الذمة، فإذا فات في يد القابض، فالذي ذكره الأئمة أنه إن رضي، استمر العتق، ولا إشكال.

_ (1) ت 5: " مجرى ". (2) في الأصل: " سقوط ".

ومتى يحصل العتق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحصل عند الرضا. والثاني - أنا نتبين حصوله مستنداً إلى القبض، وهذا يناظر ما قدمناه من الرضا بالعيب عند بقاء العين، وإن لم يرض وطلب الأرش، تبين أن العتق لم يحصل، وقد يخرج الوجه الضعيف الذي حكيناه في أن العتق يحصل، ثم يرتد. فإذا تمهد هذا، فالكلام بعده في الأرش، وقد اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: الأرش نقصان العين المقبوضة، حتى إن كان النقصان عُشراً، رجع بمثل عُشر ما قبض. ومن أصحابنا من قال: الأرش هو الرجوع بمثل نسبة ذلك النقص من الجانب الثاني. فإن كان عُشراً رجع بعُشر قيمة العبد، وهذا قياس الأروش في المعاوضات، كما مهدناه في كتاب البيع على الاستقصاء. هذا ما ذكره الأصحاب. فنوجّه الوجهين الأخيرين، ثم نذكر إشكالاً وجواباً عنه: أما من أثبت الرجوع بجزء من قيمة العبد، فوجهه الجريان على قياس الأرش في البيع وغيره من المعاوضات. ومن لم يسلك هذا المسلك قال: المقبوض عن ملتزم ليس ينتصب ركناً، ولذلك لا يرتد العقد برده، فلا يسترد في مقابلة نقصه [جزءاً] (1) من العوض، كما لا يسترد المعوَّضَ إذا كان [باقياً] (2) عند ردّ العوض المعين. وأما الإشكال، فلو قيل: إيجابُ جزء زائد في المقدار في مقابلة الصفة المعدومة تغييرٌ لتقدير العوض، وإن رجعنا في جزء من قيمة رقبة المكاتب، فهذا لا يليق بالكتابة الصحيحة؛ فإن الرجوع بقيمة الرقبة إنما يثبت عند فساد الكتابة، وتمام ذلك أنه لو قيل: يغرم هذا الذي قبض النجم مثلَ ما قبضه (3)، ويطالب بالمسمى الموصوف، لكان أمثل مما قدمنا ذكره، سيّما إذا قلنا: القبض لا يملِّك ما لم يثبت الرضا، ثم قلنا: إذا ثبت الرضا، حصل الملك عنده. ولم يتعرض أحد من

_ (1) في الأصل: " مجزوءاً "، والمثبت من (ت 5). (2) في الأصل: " نافياً ". (3) أي يرد السيد ما قبضه من بدل النجم، ويطالب بالنجم السليم. كما عبر بذلك العز بن عبد السلام.

الأصحاب لذلك. ولعلهم رأَوْا أن التلف إذا اتصل بالمقبوض، جرى الملكُ فيه لا محالة، وإنما يجري القولان إذا كانت العين قائمة. ثم على هذا ذكروا وجهين في الأرش، كما قدمنا ذكرهما، وما وجهنا به كلام الأصحاب ليس بقاطع، والاحتمال الذي ذكرناه باقٍ، وهو يجري في قبض كل موصوف، فأما ما ذكرناه من الإشكال في الوجهين الذين ذكرهما الأصحاب، فلا يخفى الانفصال عنه: أما الزيادة في المقدار على وجهٍ، ففي مقابلة نقصان الصفة، وأما تقدير قيمة جزء من العبد، فهو على مذهب فوات المعوَّض، ويكثر نظير ذلك في المعاوضات. وقد نجز الغرض، وتم النقل والتنبيه على وجوه الإشكال. 12546 - ونحن نأخذ بعد هذا في فصلٍ يقرب مأخذه مما ذكرناه، فنقول: إذا قبض السيد النجمَ، فخرج مستحَقاً، وتبين أنه لم يكن للمكاتَب، فلا شك أن المقبوض مردود، والعتق غير حاصل؛ فإن حصوله موقوف على ثبوت الملك في المقبوض؛ والمستحَق لا يملكه القابض. وفي ذلك نظر وبحث، فنبيّنه في أثناء الكلام. ولو قال المولى لعبده: أنت حر على ألف درهم، فقال: قبلت، ثم جاء بألف مغصوب، فالعتق قد وقع بالقبول، وطلبُ الألف بعد وقوع الحرية، وكذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق على ألف، فإذا قبلت وكانت مُطْلَقة (1)، وقع الطلاق، وهذا في الكتابة لا يتحقق؛ فإن القبول فيه لا يفيد العتاقة، بل لا بد من رعاية أحكام وقضايا، وبعد جميعها العتاقةُ. ولو قال لمكاتَبه كتابة فاسدة: إن أديت ألفاً، فأنات حر، فلو جاء بألف مغصوب، فهل تحصل الحرية؟ فعلى قولين، وقد ذكرنا في نظير ذلك من الطلاق أن الرجل إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق، فجاءت بألف مغصوب، ففي وقوع الطلاق الخلاف، كما تقدم في الخلع.

_ (1) مطلقة: أي غير محجورة.

وسبب الخلاف أن الإعطاء من وجه يقتضي تمليكاً، فينبغي أن يكون الألف المعطى (1 بحيث يتصور من المعطي تمليكه، ولا يقتضي تمليكاً من وجه آخر؛ فإن المعطى 1) في الطلاق وفي الكتابة الفاسدة مسترد (2)، ويجب الرجوع إلى غيره (3) عند قرار الغرم. فإذا كان كذلك، فلا أثر لكون الألف المُحضَر مما يتأتى التمليك فيه. والضابط في الفصل أن الخلع إذا كان وارداً على التزام شيء في الذمة، اكتفي بالقبول الآتي جواباً عن الإيجاب، والطلاقُ يقع بالقبول نفسه، ولا أثر لكون الدراهم مغصوبة أو مستحقة، وإذا كان الخلع مُورداً على الإعطاء، مثل أن يقول: " إن أعطيتني "، فهل يشترط كون الدراهم مملوكة؟ فيه الاختلاف، ونظير ذلك من الكتابة، الكتابةُ الفاسدة؛ فإن عمادها التعليق، ووجهه أن يقول المولى للمكاتب: إن أعطيتَ كذا، فأنت حر، فتقع الكتابة على فسادها مناظِرة للخلع الوارد على الإعطاء، وإن صحت الكتابة، فمن ضرورتها ورودها على الذمة، فهي في الظاهر تناظر الخلع الوارد على الذمة، ولكنها تفارقه؛ من جهة أن الفراق يتعلق في الخلع بالقبول، ثم طلبُ العوض يقع وراء البينونة، والعتق لا يقع في الكتابة بالقبول، بل يقع بحصول الغرض في العوض على مقتضى المعاوضة، لا على اعتبار تحقيق التعليق. وهذا تفصيل هذه المسألة. 12547 - ثم موجب ما ذكرناه [في] (4) الكتابة الصحيحة أن العوض المقبوض إذا خرج فيها مستحَقاً، فلا وجه للحكم بحصول العتق، وإن نحن أجرينا الحكم به ظاهراً، فالباطن مخالف للظاهر، وإذا ظهر الباطن، تبينا أن لا عتق ظاهراً، وزال ما كنا نظنه، وليس هذا كالرضا بالعيب؛ فإنه ممكن، واستقرار العوض به مُتصوّر.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 5). (2) وذلك لأن فساد العوض في الخلع، وفساد الكتابة، يقرب عليه ردّ المقبوض عوضاً، والرجوع إلى مهر المثل في الخلع، وإلى قيمة العبد في الكتابة. (3) غيره: أي مهر المثل، وقيمة العبد، كما أشرنا في التعليق السابق. (4) في الأصل: " من ".

وإنما أطلت الكلام في تفصيل هذه المسائل على ظهورها، لأن كلام الأصحاب يُلفى مختلفاً. وصاحب التقريب ينقل نصوصاً، بعضها في الكتابة الصحيحة، وبعضها في الفاسدة، وهي تعتمد التعليق، كالخلع الوارد على الإعطاء، فليردّ (1) المطلعُ على النصوص المختلفة تلك النصوصَ على التفاصيل التي ذكرناها، فلا وجه غيرها قطعاً. ثم تمام الكلام أن المولى إذا قبض ما حسبه عوضاً، وقال بحسبه للمكاتب: قد عَتَقت، أو أنت حر، فإذا خرج المقبوض مستحَقاً، فقال المكاتب: أنت مؤاخذ بإقرارك، وقد قلت: إنك حر، فكيف السبيل في هذا؟ قلنا: القول في ذلك مبني على ما أجريناه في الدعاوى على قربٍ من العهد، فإذا اشترى الرجل عبداً وقبضه، فنُوزع فيه، فقال للمدّعي: لا يلزمني تسليم العبد إليك، فأقام المدعي بيّنة على استحقاقه؛ وتبين بطلانُ الشراء بحسبها، فللمشتري الرجوع بالثمن على البائع، وبمثله لو قال المشتري في أثناء النزاع: هذا العبد ملكي، ثم أفضت الخصومة إلى ثبوت استحقاق المدعي بالبينة؛ فلما أراد المشتري الرجوع بالثمن على البائع، قال البائع: قد أقررت بكون العبد ملكاً لك، ومن ضرورة إقرارك هذا -وقد تلقيت الملك مني- أن تكون معترفاً بأنه كان ملكي إلى أن بعتُه، فلا تملك الرجوع عليّ، ففي ذلك مذهبان: أظهرهما -وبه الفتوى- أنه يملك الرجوع، فإن قوله العبد ملكي مبني على ظاهر الحال، فإذا بيّنت البينةُ استحقاقَ المدعي، وزال الظاهر [المظنون] (2)، فيزول بزواله قولُ المشتري. ومن أصحابنا من قال: لا يملك الرجوع على البائع. 12548 - عاد بنا الكلام إلى ما نحن فيه، فإذا قال المولى: قد عَتَقْتَ أو أنت حرّ، فهذا مأخوذ مما ذكرناه، فمن أجرى قوله على الظاهر، أبطل أثره عند زوال الظاهر [المظنون] (2)، ولم نر مؤاخذته بموجب قوله، وهذا هو الذي نص عليه الشافعي.

_ (1) ت 5: " فلينزل ". (2) في النسختين: " المضمون ".

ومن قال في مسألة الشراء والنزاع فيه: إن المشتري لا يملك الرجوع على البائع عند ثبوت الاستحقاق، فلا شك أنه لا يدرأ الحرية، وإن ثبت الاستحقاق في المقبوض، ويرى مؤاخذة المولى بقوله؛ من جهة أنه كان مستغنياً عن التلفظ بما ذكر، مع تجويزه خروج ما قبضه مستحقاً. 12549 - وقد أورد الصيدلاني -على أنه لا يؤاخذ بموجب لفظه إذا جرى الاستحقاق في مقبوضه (1) - فرعاً في الطلاق، ننقله على وجهه ونبين اختلاله: وذلك أنه قال: إذا قالت المرأة لزوجها: أطلقتني؟ فقال الزوج: نعم، فهذا إقرار منه بالطلاق ظاهراً، فلو قال بعد ذلك: كنتُ أطلقتُ لفظاً حسبته مقتضياً لوقوع الطلاق، فأجريت إقراري بحسبه، ثم راجعت العلماء فأفتَوْني بأنه لم يكن طلاقاً، قال: هذا مقبول من الزوج، وقد وجدته كذلك في بعض المصنفات. وفيما نقله الصيدلاني مزيد تأكيد؛ فإنه قال: إذا قال القائل للزوج: طلقتَ امرأتك؟ فقال: نعم طلقتها، ثم ادعى ما وصفناه، فالقول قوله. وعندي أن هذا وهم وغلط؛ فإن الإقرار جرى مقصودًا بصريح الطلاق، فقبول خلافه حملاً على ظن يدعيه، ويتعارض فيه صدقه وكذبه، محال. ولو فتحنا هذا الباب، لما استقر إقرار بمقَرّ به، وليس هذا كما ذكرناه من إطلاق السيد لفظ الحرية على أثر قبض النجوم؛ فإنه محمولٌ ظاهراً على الإخبار عما يقتضيه القبض، فإذا انتقض القبض، تبعه القول المحمول عليه، على المسلك الظاهر، وليس هذا كما لو سئل الزوج عن الطلاق مطلقاً، من غير إشارة إلى واقعةٍ، ولفظةٍ فأقر المسؤول بالطلاق على الإطلاق، ثم رام فيه تأويلاً وحملاً على ظن ادعاه في لفظ خاص ذكره، ولم يقع السؤال عنه، فلا وجه إذاً إلا القطع بالمؤاخذة في مسألة الطلاق. ولو قال في الكتابة: حرّرتُكَ، أو أعتقتك، وهو يبغي بذلك تحقيق الغرض، لو فرض استحقاق في المقبوض، كالذي يضم سبباً إلى سبب، طالباً تأكيداً، فهذا لا مردّ له، والمولى مؤاخذ به، وإن خرج العوض مستحَقة.

_ (1) من هنا بدأ السقط مجدداً في (ت 5) وهو نحو خمس ورقات.

فصل قال: " ولو عجز أو مات وعليه ديون بُدىء بها على السيد ... إلى آخره " (1). 12550 - هذا الفصل نجمع فيه تفصيل المذهب في الديون المجتمعة على المكاتب: عن معاملة، أو جناية، أو نجم كتابة، ونوضح ما نقدّم منها وما نؤخر وننظم اختلاف طرق الأصحاب بعون الله تعالى. ومقصود الفصل كثيرُ التداور في مسائل الكتاب شديدُ المخامرة لها، فإذا أوضحناه، زالت عنا مؤنةٌ عظيمةٌ، فنذكر أولاً ديونَ السيد إذا انفردت، ثم ننعطف على اجتماع ديون الغير مع دين السيد. فأما السيد إذا اجتمع له على مكاتبه نجومُ الكتابة، وأرشُ جنايةٍ كانت صدرت منه على السيد، أو على ماله؛ فإن كان الذي في يد المكاتب وافياً بالديون كلها، فلا إشكال، والمكاتب يوفّر حقوق السيد عليه، فلو أدى نجوم الكتابة أولاً، ورضي السيد بتقديمها فيعتِق بأداء النجوم لا محالة، وهل يبقى عليه أرشُ الجناية؟ هذا يُبنى على أن القِنَّ إذا جنى، وتعلّق الأرش برقبته، ثم عتق، فهل يطالب بالأرش، أو بالفاضل منه عن الفداء؟ فيه اختلاف قدمنا ذكره وبنيناه على أن العبد هل له ذمة في الجناية أم لا؟ هذا قولنا في الرقيق. فأما المكاتَب إذا عتق، ففي بقاء الأرش عليه مسلكان: أحدهما - التخريج على القولين المذكورين في القِنّ. والثاني -وهو الأصح- أن الأرش لا يسقط مذهباً واحداً، فإنه عند ثبوته، اقتضى توجيه الطَّلِبة به على المكاتَب على حسب توجيه الطَّلِبة في ديون المعاملة، فإذا عَتَق، دامت المطالبة، وليس ذلك كما ذكرناه في القن؛ فإنه لم يطالب في استمرار الرق عليه. هذا إذا رضي السيد بتقديم نجوم الكتابة. ولو كان الذي في يد المكاتب بحيث لا يفي بالنجم والأرش جميعاً، فقد ذكر

_ (1) ر. المختصر: 5/ 276.

الصيدلاني في ذلك طريقاً - نحن نطرده على وجهه، وذلك أنه قال: إذا كان الذي في يده وافياً بالنجوم، ولم يكن وافياً بها وبالأروش جميعاً، فلو أراد المولى -وقد تحقق ذلك-[أن يعجِّز] (1) المكاتب؛ بناء منه على علمه بقصور ما في يده عن النجوم والأرش، فليس له تعجيزه، ولكن له أن يقول: أطالبك بدين الجناية أولاً، ولا أقبل منك شيئاً من مال الكتابة، حتى توفر عليّ الأرش كَمَلاً، فإذا استوفى منه أرش الجناية، فلم يبق في يده شيء، أو قَصَرَ ما في يده عن النجم المستحَق الحال، فيعجّزُ السيد حينئذ. فإن قيل: هلا قلتم أن الخِيَرة إلى المكاتَب في تسليم ما في يده، فله أن يقول: أبدأ بتأدية النجوم، وعلى السيد موافقته فيما يبغيه من [إيفاء] (2) النجوم؛ بناء على ما سبق تمهيده من أن المكاتب إذا جاء بالنجم قبل محِلّه، فيتعين على السيد قبوله؟ قلنا: إنما يجبر السيد على القبول، إذا لم يكن عليه ضرر في قبول النجم قبل المحِلّ، ولو كلفنا السيد فيما نحن فيه قبول النجوم قبل أرش الجناية، لعتق المكاتب، ثم لا يجد السيد مرجعاً على مفلس في أرش الجناية، ففي هذا إسقاط حقه. هذا كلامه. 12551 - ثم فرعّ على هذا، وقال: لو أدى المكاتب ما في يده إلى سيده مطلقاً، ولم يتعرض واحد منهما للجهة، فإذا قال المكاتب: نويت به أداء النجوم، وأنكر السيد ذلك، فقد قال الصيدلاني حكايةً عن القفال: إن القول في ذلك قول المكاتب مع يمينه، أنه قصد ذلك، كما لو كان على الحرّ نوعان من الدين، فأدى أحدَهما مطلقاً، ثم زعم أنه أراد به الدينَ الذي به الرهن، ورام فكاكه، فقوله مقبول. هكذا حكاه من قول القفال. ثم قال الصيدلاني: القياس عندي في مسألة المكاتب، إذا أطلق الأداء أن القول قول السيد أني قبضته عن الأرش، بخلاف سائر الديون؛ فإن الاختيار في هذه الصورة

_ (1) في الأصل: " أن تعجيز ". والتصويب من المحقق. (2) في الأصل: " إبقاء ".

إلى السيد في قبض ما شاء، فينبغي أن يكون القول قوله، وهذا حسن بناء على ما تقدم. وحقيقة القول فيه أن العبد لو نوى بأدائه النجومَ، والسيد نوى القبضَ عن جهة الأرش، وأقر كل واحد منهم بصورة الحال من غير نزاع، فالذي ذكره القفال يقتضي أن يقع عما يراه المكاتب، وهو النجم؛ فإنا وإن جوّزنا للسيد المطالبةَ بالأرش ابتداء، والامتناعَ عن قبول غيره، فإذا كان الأداء مطلقاً، فالعبرة بقصد المؤدِّي، وما ذكره الصيدلاني يقتضي أن يكون المؤدى يقع على حسب قصد السيد القابض، والعبرة بقصده في القبض، لا بقصد المؤدِّي. فعلى موجب ذلك قال القفال: القول قول المكاتب في الإطلاق. وقال الصيدلاني: القول قول السيد، فإذا صدّق كل واحد صاحبه فيما نواه، وحصل التقارّ عليه، فمذهب القفال الرجوعُ إلى نية المكاتب المؤدِّي، وما اختاره الصيدلاني الرجوع إلى نية السيد القابض، وكل ما ذكرته محكي الصيدلاني وطريقه. وذهب غيره من الأئمة في أصل الكلام إلى أنه مهما (1) علم السيد أن الذي في يد المكاتب قاصر عن الأرش والنجم على الاجتماع، وتحقق ذلك، فله تعجيزه وردُّه إلى الرق، ولا يتوقف جواز التعجيز على أن يأخذ ما في يده عن الأرش. وهذا متوجه عندي جداً؛ فإنه لو طالبه بالدينين معاً، لكان له ذلك، ثم هو يعجِز لا محالة في قسطٍ من النجوم، وإذا كانت الطَّلِبة يمكن توجيهها بالدينين، ثم من ضرورة ذلك العجز، فينبغي أن يملك التعجيز؛ بناء على طلبهما جمعاً، وعدمِ وفاء ذات اليد بهما، فأما تكليف السيد أن يطالب بالأرش أولاً، ثم يطلب النجوم بعده، فلا وجه له، مع تصوير المطالبة بهما، فهذا مقدار غرضنا الآن في ديون المولى. 12552 - فأما إذا ثبتت عليه ديونُ الأجانب، وعلى المكاتب بقيةُ النجوم، فنقول: إذا اجتمع عليه النجم، ودين المعاملة للأجنبي، ودين جناية للأجنبي أيضاً، وليس للسيد إلا النجم، فحسب، فإن كان الذي في يد المكاتب يفي بجميع ما عليه،

_ (1) مهما: بمعنى إذا.

فلا إشكال، وإن كان لا يفي بجميعها، بل ضاق عنها، نُظِر: فإن لم يحجر القاضي عليه، وكان المكاتب مطلقاً، فأراد أن يقدم ديناً من الديون، فله ذلك، كما يكون ذلك للحر المعسر، الذي أحاطت به الديون، ولا حجر بعدُ، وليس هذا من التبرعات، حتى يمتنعَ على المكاتب؛ فإن تقديم دين على دين ليس بتبرعٍ إجماعاً. ولو اجتمع غرماء المكاتب، واستدعَوْا من القاضي أن يحجر عليه -ولسنا نعني بالحجر ردّه إلى الرق، وإنما نعني تَفْليسه ليصرف ما في يده إلى غرمائه، على موجب الشرع، ويقصُر يده عن التقديم والتأخير- فإذا اتفق ذلك، وحجر القاضي عليه، فقد قال الشافعي: " إن لم يعجّز المكاتب -على ما سنذكر التفصيل في تعجيزه على أثر هذا إن شاء الله- وقد اجتمع عليه الأرشُ، والنجم، ودين المعاملة، فيقسم ما في يده بالسوية، لا يقدَّم دين على دين، والتقسيط على أقدار الديون ". هذا هو النص. والذي صار إليه معظم الأصحاب أن دين المعاملة للأجنبي مقدم على النجم، وعلى أرش الجناية -إن ثبت الأرش للأجنبي- فإنه يتعلق دين المعاملة بما في يده، ولا متعلق له سواه أصلاً، ولأرش الجناية متعلق آخر، وهو الرقبة، وكذلك حق السيد عند العجز يتعلق بالرقبة، فإن المكاتب يرتد رقيقاًً، فصاحب دين المعاملة مقدم. ثم أرش الجناية على الأجنبي مقدم على النجم أيضاً؛ فإن أرش الجناية ألزمُ، والنجم بعرض السقوط مهما (1) شاء المكاتب، وأيضاً فإن أرش الجناية على الأجنبي أقوى من حق مالك الرقبة؛ فإن العبد إذا جنى بِيع في الجناية، إن لم يَفْده السيد. فهذا ما ذكره الأصحاب. وقد حكى صاحب التقريب هذا. ثم قال صاحب التقريب: الأصح عندي الجريان على ظاهر النص، وهو أن ما في يده يقسم على النجم، والأرش، ودين المعاملة، على أقدارها ومبالغها؛ فإن جميع الديون متعلقة بما في يده، بدليل أن كل واحد لو

_ (1) مهما: بمعنى إذا.

انفرد، لتعلق به، والجناية إنما تتعلق بالرقبة إذا لم يكن في يده كسب؛ فينبغي أن يتضاربوا. هذا اختيار صاحب التقريب. وهو ظاهر النص، وفيما حكاه العراقيون، إشعار بمصير بعض الأصحاب إلى موافقة النص، كما حكيناه، وسنذكر في التعجيز كلاماً على الاتصال. 12553 - وإذا عجّز المكاتب نفسه، فلا شك في سقوط النجم بالتعجيز، فإذا بقي في يده من كسبه شيء، وعليه دين معاملة، وأرش جناية على أجنبي، فالذي صار إليه الأئمة، أن دين المعاملة أولى بذلك الشيء الذي في يده، إذا كان لا يفي إلا بأحدهما؛ فإنه لا تعلق لدين المعاملة سواه؛ وأرش الجناية يتعلق بالرقبة؛ فلا يسقط بتقديم دين المعاملة. وذكر صاحب التقريب في هذه الحالة أن المكاتب إذا عجّز نفسه، فالذي في يده مقسوم على أهل الجنايات، ودينُ المعاملة يتأخر عن أرش الجناية، واحتج بأن قال: دينُ المعاملة ثبت بالمراضاة، فكان مؤخراً عَن الدين الثابت قهراً، من غير رضا المجني عليه؛ فإنا نقول لأصحاب ديون المعاملات، قد رضيتم بذمته، وعلمتم حاله وماله، فكنتم مؤاخذين بحكم ضعف الدين، وأرشُ الجناية لم يثبت بالرضا، وله تعلق بما في اليد مقدم. وهذا قاله صاحب التقريب صريحاً (1)، وهو غريب، لم أرَه لغيره، ومقتضى هذا أنهم لو ازدحموا ولم يعجّزوه، وقلنا بتقديم بعض الديون على بعض، أن دين الجناية يقدم على دين المعاملة، لما ذكره من قوة دين الجناية. والذي ذكره الأصحاب تقديم دين المعاملة، وما ذكره صاحب التقريب فرضه في الكسب الباقي بعد التعجيز، فأما قبل التعجيز، فلم يحكِ إلا مسلكين: أحدهما - أنهم يتضاربون بالسوية، وهو ظاهر النص، والثاني - أن دين المعاملة مقدم، وقياسه يقتضي تقديم دين الجناية [بعد] (2) التعجيز، وإن لم يقله.

_ (1) كذا، ولعلها: تخريجاً. (2) في الأصل: " قبل "، والمثبت من المحقق رعاية للسياق.

فأنتظم بعد التعجيز نقلاً وحكاية أن النجوم تسقط لا محالة، وكذلك ديون معاملة السيد، وفيما بقي عليه من ديون معاملةٍ لأجنبي، وأرش جناية على أجنبي أوجه: أحدها -وهو ما مال إليه معظم الأصحاب- أن دين المعاملة مقدم، والثاني - وهو الذي ذكره صاحب التقريب -أن أرش الجناية مقدم- وحكى شيخي وجهاً ثالثاً- أنهما سواء. وكل ذلك في التعلق بما صادفناه من كسبه بعد التعجيز، والوجه الثالث الذي حكاه شيخي رأيته في طرق العراق، وكان شيخي يقول: لا يصح عندي غيره. 12554 - ولو مات المكاتَب، فقد رق بالموت، فإن كان خلف كسباً، وعليه دينُ معاملة لأجنبي، وأرشُ جناية -والتفريع على مذهب الجمهور في أن دين المعاملة مقدم في الحياة بعد التعجيز- فعلى هذا؛ إذا مات، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن دين المعاملة أولى استصحاباً لهذا التقديم في حالة الحياة، والوجه الثاني - أنهما سواء. وذلك لأن لكل واحد منهما تعلقاً بالكسب، وكنا نؤخر أرش الجناية في التعلق بالكسب لتعلقه بالرقبة، وقد فاتت الرقبة بالموت، فاستويا، وإن جمعنا اختيار صاحب التقريب إلى ما ذكرنا جرى وجهٌ ثالث في أن أرش الجناية مقدم. وإنما غرضنا بالتصوير فيما بعد الموت التنبيهُ على الفرق الذي ذكرناه، وتخريج وجهين بعد الموت. وإن قطعنا على مذهب الجمهور بأحدهما في حالة الحياة. 12555 - ومن تمام البيان في هذا الفصل شيئان: أحدهما - بيان من له حق التعجيز، فنقول: السيد له حق التعجيز لأجل النجوم، ولو جنى على سيده، فضاق ما في يده عن الأرش والنجوم، فهل للسيد حق التعجيز؟ قد ذكرت هذا ونقلت طريقة الصيدلاني، ومسلكَ غيره، ودينُ معاملة السيد في هذا المعنى كأرش الجناية عليه، هذا في السيد. فأما الأجانب، فنقول: إذا جنى على أجنبي، وضاق ما في يده عن أرش الجناية، فقد قال الأصحاب: للأجنبي حقُّ تعجيزه، لتباع رقبته في جنايته، وأطلق الأصحاب ذلك، وظاهر قولهم أنه يعجِّزه بنفسه من غير قاضٍ، ولا يبعد عندنا أن

يقال: يرفعه إلى القاضي [ليفسخ] (1)؛ فإنه ليس هو العاقد، فانفراده بالفسخ بعيد. ثم لو همّ بتعجيزه، فأراد السيد أن يفديه، فهذا فيه احتمال ظاهر، متلقى من قول الأصحاب؛ من جهة أن السيد إنما يفدي إذا تعلق الأرش بالرقبة، وهذا لا يتحقق ما دامت الكتابة، وليس السيد في المكاتبة بمثابة مولى المستولدة، حتى يُجعل بالكتابة مانعاً، كما جُعل مولى المستولدة بالاستيلاد مانعاً. هذا وجه. ويجوز أن يقال: له أن يفديه؛ فإنه رقيقه، وقد يكون له غرض في تتميم العتاقة فيه. والظاهر أن الفداء لا يجب قبوله ما دامت الكتابة. ولو ثبت دين المعاملة لأجنبي، فقد قال الصيدلاني وغيره: ليس له التعجيز بسبب دين المعاملة؛ فإنه لا يستفيد بالتعجيز شيئاً؛ إذ لا يتعلق حقه إلا بالكسب قبل التعجيز وبعده، والمجني عليه يستفيد بالتعجيز تعلقَ حقه بالرقبة، فهذا أحد الشيئين. والثاني - أنه إذا اجتمع على المكاتب ديون الأجانب من الجهات التي قدمناها، فكلها مقدمة على النجوم في الرأي الظاهر، فلو كان للسيد على مكاتبه ديونُ معاملة؛ فقد قال بعض الأصحاب: يضارب بها ديون المعاملات للأجانب، وإن لم يضارب بالنجم؛ فإن دين المعاملة للسيد إذا سقط، لم يستبدل عنه، والنجمُ إذا سقط، عاد السيد إلى الرقبة. وقال بعض أصحابنا: لا يضارب السيد بدين المعاملة إذا قلنا: لا يضارب بالنجم؛ فإن ديون السيد عرضة للسقوط بالتعجيز، بخلاف ديون الأجانب. فهذا تمام المراد، ونهاية الكشف في ديون المكاتب في حالاته: في الحياة، والممات، وما قبل التعجيز، وبعده. 12556 - ثم حكى صاحب التقريب في أثناء الكلام شيئاً غريباً، لم أوثر حكايته في ترتيب المذهب، ولم أر تركَ ما حكاه إمام عظيم، قال رضي الله عنه: إذا ثبت لأجنبي

_ (1) في الأصل: " لينفسخ ". والمعنى يفسخ القاضي عقدَ الكتابة، فالأجنبيُّ ليس هو العاقد حتى ينفرد بالفسخ.

دين معاملة على مكاتب، ثم ارتفعت الكتابة بالتعجيز، وليس ثمَّ كسبٌ، فالمذهب المقطوع به أن دين المعاملة لا يتعلق برقبة المكاتب كدين الجناية، قال صاحب التقريب: من أصحابنا من صار إلى ذلك. ثم قال: ولست أعرف له وجهاً، وما حكاه مجانب لمذهب الشافعي وقياسِه، ولا نعرف خلافاً بين الأصحاب في أن ديون معاملات العبد المأذون لا تتعلق برقبته إذا زادت الديون على ما في يده، فإن سلم صاحب الوجه الغريب ذلك، لم نجد فرقاً، وإن طرد مذهبه في هذه الصورة، كان تاركاً لأصل المذهب. وأبو حنيفة (1) يحكم بتعلق ديون المعاملة برقبة المأذون. والله أعلم (2). ...

_ (1) سبقت هذه المسألة في كتاب المأذون. (2) إلى هنا انتهى الخرم الذي أشرنا إليه في نسخة (ت 5).

باب كتابة بعض عبد، والشريكين في العبد يكاتبانه

باب كتابة بعض عبد، والشريكين في العبد يكاتبانه قال: " ولا يجوز أن يكاتب بعض عبد إلا أن يكون باقيه حراً ... إلى آخر الباب " (1). 12557 - الكلام في مضمون الباب يتعلق بفصول: أولها - [الفصل الأول] القول في ذكر مواضع الوفاق والخلاف في مكاتبة بعضٍ من شخص، فنقول: من نصفه حر، ونصفه عبد، إذا كاتبه مالك رقه في نصفه الرقيق، صحت الكتابة، بلا خلاف، فإن غرض الكتابة استقلالُ المكاتب، وهذا المعنى يحصل فيمن ذكرناه؛ فإنه يستفيد الاستقلال في نصفه الرقيق، وله حقيقة الاستقلال في نصفه الحر. وإذا كان بين رجلين عبد مشترك، فكاتباه جميعاً على نجوم، ولم يختلفا في مقدار النجوم، والآجال، بل أثبتاها على استواء في النصيبين، فهذا صحيح وفاقاً، ولم نعن بالاستواء أن يكونا مستويين في الحصتين، بل إذا كان أحدهما مالكَ ثلثه والثاني مالكَ ثلثيه لم يؤثر ذلك. ولكن ينبغي أن يكون لصاحب الثلث ثلث النجوم المذكورة والآجال لا تختلف، فهذا ما أردنا بالاستواء. ولو أراد أحد الشريكين أن يكاتب نصيبه، ولم يكاتب الثاني، فإن جرى ذلك بإذن الشريك، ففي صحة المكاتبة قولان منصوصان: أحد القولين - أنها صحيحة، اعتباراً بالعتق، والتعليق، والتدبير؛ فإن هذه التصرفات مقصودُها العَتاقة، ثم جرت في

_ (1) ر. المَختصر: 5/ 276. والعبارة في الأصل: " ولا يجوز أن يكاتب عبداً إلا أن يكون باقيه حراً " والتصويب من نص المختصر.

بعضها جريانَها في الكل، فلتكن الكتابة كذلك، وأيضاً؛ فإنه يستقل في نصفه استقلالَ من عَتَق نصفُه، فإذا كان لا يمتنع عتقُ البعض، وجب ألا يمتنعَ عقدُ العَتاقة في البعض. والقول الثاني - أن الكتابة فاسدة. فإنه لا يملك المسافرة، وهي إحدى جهات الاستقلال، وتتعلق بها جهة ظاهرة في المكاسب، وأيضاً فإن صرف الصدقة إليه لا يجوز، فإن ما يأخذه إذا لم تكن مهايأة ينبسط على نصفيه، وذلك مستحيل في النصف الرقيق. فقد ذكرنا صورتين في صحة الكتابة قولاً واحداً، ونصصنا على الصورة التي أجرى الشافعي قولين فيها. 12558 - ونحن نذكر بعد ذلك صوراً تردد فيها طرق الأصحاب: منها - أن من ملك عبداً خالصاً، فكاتب بعضه؛ فالذي ذهب إليه الأكثرون وهو ظاهر النص أن الكتابة فاسدة، لما أشرنا إليه من نقصان الاستقلال، والسيد مقتدر هاهنا على الإكمال؛ فإن العبد خالص. وذكر بعض أصحابنا وجهاً مخرجاً في تصحيح الكتابة قياساً على التدبير والتعليق، ثم هذا يعتضد بحصول الاستقلال في ذلك المقدار، ونحن لا نشترط فيه دَرْكَ الكمال. ومن الصور - أن أحد الشريكين إذا كاتب نصيبه من غير إذن صاحبه، فالذي ذهب إليه الأكثرون فسادُ الكتابة في هذه الصورة، وتخصيصُ القولين بما إذا فرض من أحد الشريكين عقد الكتابة بإذن صاحبه، وذهب طائفة من المحققين إلى تخريج القولين في هذه الصورة؛ وهذا منقدح؛ من جهة أن إذن الشريك لا يغيّر قضيةَ الكتابة في النصف، ولا يتضمن تكميل الاستقلال؛ حتى يقال: إذن الشريك تسليط له على المسافرة، أو يتضمن تجويزَ صرف الصدقة إليه؛ فإذا كان إذنه لا يؤثر في مقتضى الكتابة، فلا يبقى إلا تخيل تضرر الشريك إذا فرض نفوذ العتق، وهذا لا حاصل له مع نفوذ عتق الشريك.

وإن قيل: العتق المجرد له سلطان، والكتابة تتعرض للفساد والصحة، ثم للاستمرار والنقض، فلا يكاد يتضح بهذا فرق؛ فالتخريج في الكتابة بغير إذن الشريك أوضح من التخريج في كتابة بعض العبد الخالص للمكاتب. ومن الصور التي نذكرها - أن الشريكين إذا كاتبا معاً على الصحة والاستواء، فلو عجز المكاتب، فارقّه أحد الشريكين، وأراد الثاني أن يُنظره إلى ميسرةٍ ومقدرة، فقد اختلف أصحابنا على ثلاث طرق: فقال بعضهم: تنفسخ الكتابة في نصيب المُنْظِر قولاً واحداً. وقد أورد المزني هذه المسألة واستشهد بها في نصرة منع الكتابة في صورة القولين، ووجه هذه الطريقة أن الإرقاق يرد الشريك الذي رام التعجيز إلى حقيقة الملك، ونقض ما جرى الإذن به، أو التوافق عليه، فكان صاحبه في الإنظار كمن يكاتب نصيبه من غير إذن الشريك. وقد قطع الشافعي جوابه بهذا ونص على القولين فيه إذا كاتب أحد الشريكين نصيبه بإذن شريكه. ومن أصحابنا من قال: نصيب من يريد الإنظار يبقى على القولين، فإن التوافق على الكتابة رضاً من كل واحد بما يصنعه صاحبه، وإذا وقع الرضا به، فهو رضاً بتمام أحكامه، ومن أحكامه جواز الإنظار عند العجز. ومن أصحابنا من ذكر طريقة ثالثة - وهي أن الكتابة تبقى في حق المنظر قولاً واحداً، وهذا التبعض محتمل في الانتهاء، وإن كنا لا نحتمله في الابتداء؛ لأن دوام العقود أقوى من ابتدائها، وهذا وإن أمكن توجيهه؛ من جهة أن الشرائط لا تُرعى في الدوام، وإنما تعتبر في ابتداء العقود، والطريقة غريبة مخالفة للنص. ومما نذكره متصلاً بهذا: أن من مات، وخلف مكاتباً ووارثَيْن، فعجَز المكاتبُ، فارق أحدُهما نصيبه، وأراد الثاني إنظاره، فما ذكرناه من الطرق يجري في حق الوارث المُنظِر، ولعل الانفساخ أظهر في الوارثَيْن؛ لأن الكتابة جرت على جميع العبد ابتداء، فيبعد بقاؤها على البعض انتهاء. ووجه تخريج الطرق أن الكتابة بعد الموت بين الوارثَيْن بمثابة كتابةٍ تصدر من

شريكين، ولذلك يعتق نصيب أحد الابنين بإبرائه عن حصت من العموم، وهذا حكم حدث بعد موت المولى لتعدد الورثة، ولو أعتق أحد الوارثَيْن نصيبَه، وقلنا: لا يسري عتقه، فلو رق نصيبُ الثاني، ولم يُنظره، فهذا لا يعطف الفسخَ على ما عتق على حكم الكتابة؛ فإن العتق لا يُستدرك، وإذا نفذ على جهةٍ لم نغيّر الجهة. ومما يتعلق بالكلام في هذا الفصل: أن العبد إذا كان مشتركاً بين الشريكين مناصفةً، فلو كاتبه أحدهما في نصيبه على ألف، وكاتبه الثاني على ألفين، أو غايرا بين نجوم الكتابة، أو لم تنشأ الكتابة معاً، فكل ذلك يخرّج على القولين، وإنما يتفق على صحة الكتابة، إذا حصل الاستواء في النجم مقداراً، وتأجيلاً، وحصل الإنشاء معاً، ولو أنشآ على الاختلاف معاً، فقبل المكاتب، فهذا بمثابة ما لو انفرد أحدهما بمكاتبة نصيبه بإذن شريكه؛ فإن الشريك وطّن النفس على الكتابة، فلم يبق له حق مُتخَيَّل يُرعى فيه إذنه. هذا نجاز الكلام في الفصل الأول، وقد وضح فيه ما يصح ويفسد، وما يختلف فيه في إيراد الكتابة على البعض من العبد. الفصل الثاني 12559 - فيه إذا كاتب الشريكان العبد على الصحة حيث يمطع بها، والمقصود بيان كيفية الأداء إلى الشريكين، فنقول: ينبغي أن لا يسلّم إلى واحد حصته من نجمٍ، حتى يسلّم حصة الثاني إليه، فإذا وفّر الحصتين من النجوم على الجمع والاقتران، حصل العتق، ولو أراد أن يقدم أحدهما بحصته لم يكن له ذلك من غير إذن من يؤخِّرُه، وليس هذا كالديون المجتمعة على معسرٍ لم يُحْجَر عليه؛ فإنه قبل الحجر يقدم من يشاء، والمريض في مرض موته يقدم [من غرمائه] (1) من يشاء. أما الشريكان في المكاتب، فحقهما يتعلق بكسبه، ولكل واحد منهما حقُّ الملك

_ (1) في الأصل: " من غير ما به "، والمثبت من (ت 5).

في الكسب، والمكاتب بينهما كعبد مشترك بين شريكين، ولو سلم المكاتب إلى أحدهما تمام حصته من غير إذن صاحبه، لم يعتق منه شيء؛ لأن أداءه لا يصح، ونزيد، فنقول: لو سلّم إلى أحدهما تمام النجوم، فالمذهب أنه لا يعتق منه شيء، ولو سلّم الكل إلى أحدهما وقال له: وكلتك بتسليم حصة شريكك مما قبضت، فلا يَعْتِق منه شيء، والسبب فيه أن الشريك لم يملك ما لم يسلم إليه، ويستحيل أن يملك القابض شيئاً ما لم يملك شريكُه مثلَه. هذا هو المذهب المعتمد. وحكى العراقيون وجهاً بعيداً أنه إذا سلّم إليه التمامَ عَتَق منه نصيب القابض، ووجّهوا هذا بأن قالوا: لا يجب عليه أن يرفع يده إلا عن نصف ما قبض، فليقع الحكم باستقرار ملكه في حصته. وهذا ليس بشيء؛ فإن الأصحاب مجمعون على أنه لا يحصل للقابض ملك في شيء مما قبض، حتى يحصل لصاحبه الملك، ولا ينفع مع هذا تلبيسٌ [برفع] (1) اليد -إذا كان الملك يحصل عند رفع اليد- فليقع النظر إلى حالة حصول الملك. ولو وكل أحد الشريكين صاحبه بأن يقبض حصته من النجوم، ثم جاء المكاتب بالنجوم وسلمها إلى الشريك الوكيل، فيحصل العتق، ويجري ملك الشريكين في المقبوض. ولو أذن أحد الشريكين للمكاتب في تقديم شريكه، فجرى على إذنه، ووفّر على الشريك حصته، ففي صحة الأداء قولان. واختلف أصحابنا في أصلهما: فمنهم من قال: هما مبنيان على القولين في مكاتبة أحد الشريكين بإذن صاحبه، فالإذن في التبعيض آخراً كالإذن في التبعيض أولاً. ومن أصحابنا من قال: أصل القولين تبرع المكاتب إذا جرى بإذن السيد، وهذا البناء أوضح وأفقه. فإذا لم يصح التبرع بالإذن، فلا يحصل الملك، وإذا لم يحصل الملك، لم يترتب العتق. وكل ما ذكرناه في الكتابة الصحيحة.

_ (1) في الأصل: " لرفع ". والمثبت من (ت 5).

12560 - فأما إذا فسدت الكتابة بوجه من الوجوه التي ذكرناها، فالعتق يحصل على الجملة، ويثبت التراجع بين المقبوض والقيمة، على ما تمهد ذكره في أحكام الكتابة الفاسدة. وإن كاتب الشريكان على الفساد وجاء المكاتب إلى أحدهما ووفر عليه نصيبه، فالذي جاء به لا يتأتى التمليك في كله، فهو كما لو جاء المكاتب بمغصوب وقبضه السيد، وفي حصول العتق قولان، قدمنا ذكرهما، وسبب جريان القولين اعتمادُ الكتابة الفاسدة الصفةَ (1)، وقد ذكرنا أصل هذا وتفصيله مستقصى فيما سبق. وإذا كاتب أحد الشريكين نصيبه حيث يُقطع في بعض الطرق بالفساد لو كاتب مالك العبد بعضه وحكمنا بالفساد، فإذا وجدت الصفة، حصل العتق. واستتباع الكسب بحسبه، وجرى فيه التراجع. وهذا لا يضر ذكره على وضوحه. الفصل الثالث 12561 - مقصوده السراية، فنقول: إذا كاتب الشريكان العبد وصحت الكتابة، فلو أبرأ أحدهما عن حصته، أو أعتق حصته، سرى العتق إلى نصيب صاحبه على مذهب الأصحاب. وقال صاحب التقريب: ذهب بعض أصحابنا إلى أن العتق لا يسري؛ فإن الباقي منه مكاتب، والمكاتب لا يقبل نقلَ الملك، وإن أجزنا السراية يبطل نظمُ المذهب في السراية. وقد قدمنا هذا وزيّفناه، وبنينا المذهب على القطع بتسرية عتق أحد الشريكين، وإجراءِ القولين في تسرية عتق أحد الوارثَيْن؛ من حيث إن ذلك تصرف من الوارث في مُكَاتَب الميت، وقد شببنا فيه بأن الملك لا ينتقل إلى الورثة في رقبة المكاتب على قول، فالبناء إذاً على سريان عتق الشريك، إذا حصل عتق حصته بالإبراء أو الإعتاق. فإن قيل: لو قبض أحدُهما حصتَه، وعتق نصيبُه، فهل يسري العتق الحاصل بجهة

_ (1) الصفة: المراد الصفة المعلق عليها، وهي في الكتابة الفاسدة الأداءُ.

الأداء، قلنا: هذا مُرتَّبٌ على صحة الأداء، وقد ذكرنا تفصيلاً طويلاً في قبض أحد الشريكين، وأوضحنا أن ذلك لو لم يكن بإذن الشريك، لم يصح أصلاً، فإن فرضنا تقديمه بإذن الشريك، ونفذنا ذلك، فيعتق حينئذ نصيبه، وإذا عتق سرى. ْفإن قيل: هلا قلتم: لا يسري العتق؛ فإنه مجبر على قبول ما يسلّمه المكاتب إليه، وإذا حصل العتق بسبب لا اختيار فيه، فالوجه ألا يسري، كما إذا ورث الرجل النصف من أبيه، وعتق عليه؛ فإن العتق لا يسري إلى الباقي. قلنا: الأداء وإن كان يقترن به الإجبار على القبض، فالسيد بالمكاتبة جر هذا إلى نفسه، فكان كالمختار فيه وهو كما لو قال أحد الشريكين للعبد المشترك: إذا طلعت الشمس، فنصيبي منك حُر، فإذا طلعت عَتَق نصيبه، وسرى كذلك. نعم، لو مات المولى وخلّف وارثَيْن، وصححنا على حسب ما ذكرنا تخصيص أحدهما بحصته، فإذا قبض حصته بإذن صاحبه وعتق، لم يسرِ قولاً واحداً؛ فإنه مجبر على القبض، والكتابة لم تصدر منه، فلا جَرَمَ لم يسر عليه. ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن أحدهما إذا قبض حيث يصح القبض، وعتق نصيبه، فإن سرّينا، فلا كلام، وإن لم نُسرِّ، لم تنفسخ الكتابة في الباقي، ولا يخرج هذا على القياس الذي ذكرناه فيه إذا أرَقَّه أحدُهما وأَنْظر الثاني؛ فإن صاحب الإرقاق متمسك بملكه، وضرر التبعيض ينجرُّ عليه، وهذا لا يتحقق فيه إذا عتق نصيب أحدهما، فإنه لا يبقى لمن عَتق نصيبه تعلُّق. وأيضاً؛ فإنا نصحح [عتق] (1) من نصفه حر ابتداءً، فجرى التبعيض على هذا الوجه اتتهاء، وهذا واضح لا خفاء به. الفصل الرابع في الإقرار والإنكار 12562 - فلو ادعى العبد المشترك على الشريكين أنهما كاتباه، فإن أقام البينة، فلا كلام، والبينةُ شاهدان عدلان؛ فإن مقصود الكتابة العتقُ، وصفةُ البينة تُتلقَّى من المقصود، وفصل هذه الخصومة بيّن.

_ (1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، وسقطت من النسختين.

ولو كاتباه جميعاً، واعترفا بالكتابة، فقال المكاتب وَفَّرت عليكما حصتكما، فصدقه أحدهما دون الآخر، فنصيب الجاحد رقيق إذا حلف أنه ما قبض، ونصيب المُقِر عتيق بحكم إقراره، ثم الجاحد بالخيار: إن شاء، رجع على صاحبه بنصف ما اعترف بقبضه؛ فإنه يقول: قد اعترفتَ بقبض هذا المقدار، فو بيننا، وإن أراد أن يطالب المكاتب بتمام نصيبه، فله ذلك؛ فإنه يقول: وضعتَ الحق في غير موضعه، وأنا على طلب حقي منك بكماله. فإن ناصف صاحبَه، وأخذ منه نصف ما قبضه، فيأخذ من المكاتب باقي حقه [ليتم له نصف النجوم ثم المقرّ لا يرجع على المكاتب بشيء] (1)؛ لأن المكاتب يقول له: ظلمك الشريك، بأن أخذ نصف ما في يدك، فلا ترجع على غير من ظلمك، وإن رجع [بجميع] (2) حقه على المكاتب، لم يرجع المكاتب على المقر بشيء أيضاً للعلة التي ذكرناها؛ فإن الشريك المقِر يقول للمكاتب: أنت مظلوم من جهة شريكي، فلا ترجع عليّ بما ظلمك به غيري. وهذا بيّن. ولكن يتصل به كلام في السراية، وهو أن الذي اعترف بقبض حصته ينفذ العتق في حصته، فهل يسري هذا العتق إلى نصيب صاحبه؟ اختلف نص الشافعي. وذكر الأصحاب مسألتين، ونصين مختلفين، والذي تحصّل لنا قولان في السراية: أحدهما - أن العتق يسري لحصوله في حصة المقر، فصار كما لو أنشأ أو أبرأ. والثاني - لا يحصل السريان؛ فإنا إنما حكمنا بالعتق في حصة المقر تمسكاً بإقراره، وهو أقر بعتق النصيبين، [ولو نفذ] (3) العتق في نصيب الشريك، لما كان للسريان معنى، فليس في إقراره ما يوجب السراية عليه، ولا ينبغي أن يزيد على موجب إقراره، فعلى هذا يقف العتق على حصته، ويبقى الحكم ببقاء الرق في حصة الشريك.

_ (1) عبارة الأصل: " ليتم له نصف النجوم عن المقر، ثم لا يرجع على المكاتب بشيء " والمثبت عبارة (ت 5). (2) في الأصل: " فجميع ". والمثبت من (ت 5). (3) في الأصل: " ولم يُفد ".

فرع: 12563 - إذا أذن أحد الشريكين للمكاتب في تقديم صاحبه بحصته، وجوّزنا ذلك، فإذا وفّر عليه نصيبه، وكان بيده وفاءٌ بحصة الآخر، فكيف الحكم فيه؟ ولو عجز عن أداء حصة الآخر، فكيف الوجه؟ فنبدأ بما إذا عجز، فقد قال الأصحاب: للشريك الآذن أن يناصف صاحبه فيما قبض، لأن ما قبضه كسبُ عبدهما، وما تبرع الآذنُ بتمليكٍ، وإنما تبرع بتقديمٍ، فلا يخلص المقبوض للقابض بالإذن في التقديم، وسنبين نتيجة هذا في التفريع. وقال ابن سريج: لا يستردّ الآن مما في يد القابض شيئاً؛ فإن القابض يقول: لما قدمتني، فقد رضيتَ بوقوع حقك من النجم في ذمته، فجرى ملكي جرياناً لا يُنْقَض، فهذا فيه فقه. التفريع: إن فرّعنا على مذهب ابن سريج، عتق نصيب القابض، وفي السراية من التفصيل ما قدمنا. وإن قلنا: للشريك الآذن أن يأخذ نصف ما في يد القابض، فنتبيّن أنه لم يعتق منه شيء، فإن واحداً منهما لم يقبض حصته، فيخرج منه أن العتق موقوف. وبهذا الفرع يتهذب ما قدمناه مجملاً في الأصول. هذا إذا عجز، وقد أدى حصته بالإذن. فأما إذا كان في يده وفاء بحصة الآن، فالذي رأيت للأصحاب القطعُ بأنه لا يسري العتق، بل يؤدي حصةَ الآخر، وذلك لأن الإذن إنما جرى بالتقديم، ومن ضرورة التقديم توفير نصيب الآخر مع الإمكان، واتساع الوفاء. وهذا حسن فقيه. فخرج منه أن قبض أحد الشريكين نصيبَه على وجه يُسَرِّي إلى نصيب صاحبه عسِر التصور، وإنما يجري على مذهب ابن سريج في صورة العجز، وقد يجري فيه إذا عجز المكاتب، وأرقه أحدهما، وأنظره الثاني، وصححنا ذلك، فيكون نصفه مكاتباً ونصفه رقيقاًً، وأكسابه منقسمة، فإذا وفّر على المنُظِر حصته، وأدى بحق الرق مثله إلى الشريك، فيعتق نصيبُ المنظِر، ويسري كما قدمناه. ولو كاتب أحد الشريكين نصيبه بإذن الثاني، وصححنا ذلك، فيتصور أن يتوفر

عليه النجم، مع توفير مثله على الشريك، ثم يحصل العتق، كما قدمناه ويسري. فرع: 12564 - قد ذكرنا أن المكاتَب بعضُه لا يأخذ الصدقة، هذا ما نقله الجمهور. ورأيت في بعض كلام الأصحاب ما يدل على جواز أخذ (1) الصدقة، وما قيل من وجوب انقسام المقبوض على المكاتب والرقيق لا يتجه، بل يجوز أن يقال: يختص ذاك بالقدر المكاتب منه، فإن ذاك لا يجوز أن يكون كسبَ رقيق. وقد تفصل الباب بما فيه تأصيلاً وتفصيلاً. ...

_ (1) ت 5: " بعض الصدقة ".

باب ولد المكاتبة

باب ولد المكاتبة قال الشافعي: " ولد المكاتبة موقوت ... إلى آخره " (1). 12565 - نجمع في هذا الفصل تفصيلَ القول في ولد المكاتبة، وولد المكاتب. فأما ولد المكاتبة، فنبدأ به، ونقول: إذا أتت المكاتبة بولد من زناً أو نكاح، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه قِنٌّ للسيد لا تسري إليه الكتابة. والقول الثاني - إن الكتابة تسري إليه، على ما سنفصله في التفريع. والقولان في ولد المكاتبة، كالقولين في ولد المدبَرَّة، غيرَ أن حكم ولد المكاتبة يخالف حكم ولد المدبرة وولدَ أم الولد، فإن موت الأم في الكتابة يوجب رقَّ الولد؛ لأنه كان لحقها في حق عقد، [وإذا ماتت، ارتفع العقد وماتت قناً] (2)، وموت المدبَّرةِ وأمِّ الولد لا يوجب بطلانَ الحق في الولد. وولدُ المكاتبة يخالف ولدَ المدبرةِ وولدَ أم الولد في شيء آخر، وهو أن عتق المكاتبة يوجب عتقَ الولد، وإذا أعتق السيد المدبرة، أو أم الولد، لم يعتِق الولدُ، بل لا يعتقان إلا بإعتاق السيد إياهما أو بموته، والسبب في ذلك أن إعتاق المكاتبة يُحَصِّل عتقَها على حكم (3) الكتابة، وهذا قد يتجه مثله في المستولدة، ولكن الأمر على ما وصفناه. فنعود إلى التفريع على القولين: فإن قلنا: الكتابة لا تسري إلى ولد المكاتبة، فهو رقيق قِنٌّ للسيد، كسائر مماليكه، لا يتبع الأم في العتق. وإن قلنا: الكتابة تسري إلى الولد، فلسنا نعني به

_ (1) ر. المختصر: 5/ 278. (2) في الأصل: " وإذا مات ارتفع العقد، ومات قناً ". والمثبت من (ت 5). (3) ت 5: " على حسب الكتابة ".

أنه مكاتب في نفسه مطالَبٌ بالنجوم، ولكن المَعْنِيّ به أن الأم إذا عَتَقَتْ على حكم الكتابة، عَتَق ولدها. ثم على هذا القول حق الملك في الولد قبل اتفاق العَتاقة لمن؟ فعلى قولين آخرين: أحدهما - أن حق الملك فيه للسيد، وإن كان قد يعتق بعتق الأم، والقول الثاني - إن حق الملك فيه للأم. 12566 - وأهم ما نذكر في التفريع على هذين القولين الأخيرين ثلاثة أشياء: أحدها - حكم كسب الولد. والثاني - حكم النفقة. والثالث - حكم إعتاقه إنشاءً. فأما الكسب، فنقول: إن قلنا: حق الملك فيه للسيد، فالصحيح على هذا أن الكسب لا يصرف إلى السيد، ولا يصرف إلى المكاتبة، ولكن يوقف كسب الولد؛ فإن عتقت الأم وعتق الولد تبعاً، تبعه كسبُه، فيصرف الكسب إذ ذاك إلى الولد. وإن رق الولد، لمّا رقت الأم، فيصرف الكسب إلى السيد حينئذ. ووجه هذا، أنا وإن جعلنا حق الملك في الولد للسيد، فليس للسيد أن يتصرف في الولد بالبيع وغيره، بل يتوقف فيه إلى أن يتبين أنه يعتِق أو يرِق، فليكن كسبه بمثابة نفسه. وذكر العراقيون قولاً آخر بعيداً أن كسبه يصرف إلى السيد عاجلاً من غير توقف، وهذا ضعيف جداً حكَوْه وزيّفوه، والقياس تنزيل كسبه منزلَة رقبته، فإذا لم ينفذ تصرف المولى في رقبته، لم ينفذ تصرفه في كسبه، هذا كله إذا فرعنا على أن حق الملك في الولد للمولى. وإن قلنا: إن حق الملك فيه للأم المكاتبة، فعلى هذا القول يصرف كسبه إلى المكاتبة يوماً يوماً من غير توقف؛ لتستعين به في الكتابة، وتتصرف فيه بما تتصرف في سائر مالها، وهذا اتفاق على هذا القول. ولو عتقت وعتق الولد وفي يده بعض كسبه، فهو للأم، وليس للولد أصلاً، وكسب ولدها بمثابة كسب عبيدها. 12567 - ومما فرّعه الأئمة أن قالوا: إذا قلنا كسب الولد موقوف -تفريعاً على أن

حق الملك للمولى- فإن عتق، صرف إلى الولد، كما مضى. فعلى هذا لو فرض الرق في الأم، فلا يخلو: إما أن تُعجِّز نفسها، (1 وتُبطلَ الكتابةَ من غير عجز، وإما أن تَعْجِز، ويضيقَ كسبها. فإن أرقت نفسها 1)، وفسخت الكتابة من غير عجز، فتعود رقيقةً، ويعود ولدها رقيقاً للسيد، والكسبُ الموقوف للسيد. ولو قال الولد عند ذلك: قد أبطلت أمي حقَّها، ولستُ أبطل أنا حقي فأؤدي نجومَ أمي من كسبي لتعتِق، حتى إذا عَتَقتْ عَتَقتُ، فليس للولد ذلك؛ إذ لا اختيار له في العتق، وتأديةِ النجوم، وإنما هو تابع لعتق الأم ورقها، والاختيار في الإرقاق لها؛ فلا يُلتفت إلى قول الابن: " أؤدي عنها "؛ فإن النجوم ليست مضروبة عليه، وما وظفت النجوم عليه، فكيف يتصور أن يؤدي إذا أَرَقَّت الأم نفسَها اختياراً مع القدرة. فأما إذا عَجَزَتْ عن أداء النجوم، وللولد كسبٌ موقوف، فهل لها على هذا القول أن تأخذ من كسب ولدها الموقوف وتستعينَ به على أداء النجوم؟ فعلى قولين: ذكرهما العراقيون: أحدهما - ليس لها ذلك؛ إذ لا حق لها في الكسب على هذا القول، وإنما هو للسيد، أو حق الولد لو عتق. والقول الثاني - لها أن تأخذه قهراً إذا عجزت؛ فإن الأولى للولد ذلك، إذ لو عجزت لرَقّت ورَقّ الولد، وصار كسبه للسيد، ولو استعانت بالكسب، لعتقت وعتق، وربما يبقى له فضل كسب. [والأصح] (2) أنه ليس لها أن تستعين بكسب الولد؛ فإن ما نذكره تفريع على أن حق الملك للمولى، فإذا كان الكسب موقوفاً عن المولى، وجب أن يكون موقوفاً عن الأم. هذا كله كلام في الكسب. 12568 - فأما النفقة: فالترتيب المستحسن فيه للعراقيين. قالوا: إن قلنا: إن كسب الولد للأم، فهو مصروف إليها من غير توقف، فالنفقة على الأم وإن لم يكن

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 5). (2) في الأصل: " فالأصح ".

كسب، ولو كان كسبٌ فالخِيَرةُ إليها: إن شاءت، أنفقت من كسبه، وإن شاءت، أنفقت من سائر مالها. وإن قلنا: إن الكسب مصروف إلى السيد في الحال من غير توقف فيه -وهو القول الضعيف الذي حكيناه- فالنفقة على السيد على كل حال، سواء كان للولد كسب أو لم يكن. وإن قلنا: إن كسبه يوقف، فإن كان له كسب، فهو مصروف إلى نفقته على قدر الحاجة قولاً واحداً، فما فضل عن نفقته، فيوقف حينئذ، وهذا متفق عليه، على هذا القول، لا يسوغ فرض خلاف فيه، ولو لم يكن له كسب أصلاً، أو كان كسبه لا يفي بنفقته، فنفقته في هذه الصورة إذا لم يكن كسب، أو الزائد على الكسب على من؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها على السيد؛ فإنا إنما نقف كسبه على قولنا: إن حق الملك فيه للسيد، فعليه النفقة؛ إذ حق الملك له. والوجه الثاني - أن النفقة لا تكون على السيد؛ إذ من الإجحاف [به] (1) ألا يُصرفَ إليه الكسبُ عاجلاً لو كان كسبٌ، وتلزمه النفقة، فعلى هذا تكون النفقة في بيت المال، وهذا ضعيف جداً، وقد نجز القول في النفقة متعلقاً بالكسب مفرعاً عليه. فأما الفصل (2) الثالث وهو إعتاق الولد 12569 - فهذا رتّبه العراقيون على ما قدمناه في الكسب. فقالوا: إن قلنا: الكسب يصرف إلى السيد من الوقت من غير توقف، فإذا أعتقه، نفذ عتقه فيه؛ فإن حق الملك له في رقبته وكسبه جميعاً. وإن قلنا: إن كسبه مصروف إلى الأم، فلا ينفذ عتق السيد فيه؛ فإنا إنما نصرف الكسب إلى الأم إذا جعلنا حق الملك للأم، فالولد بمثابة سائر أكسابها. وإن قلنا: كسب الولد موقوف، وقلنا لو عجزت الأم، لم تستعن به أصلاً، فينفذ

_ (1) في الأصل: " فيه ". والمثبت من (ت 5). (2) لم يعنون الإمام لهذه القضايا الثلاث من قبل بالفصول، وإنما قال: نتكلم في ثلاثة أشياء: 1 - كسب الولد 2 - نفقته 3 - إعتاقه.

عتق السيد في الولد؛ فإنا على وقف الكسب نجعل حق الملك في الولد للسيد، ولا حقّ للأم في رقبته، ولا في كسبه. وإن قلنا: إن الكسب يوقف، ولكن لو عجزت الأم، فلها الاستعانة به، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - وهو ما قطع به العراقيون أنه لا ينفذ عتق السيد في الولد؛ فإن للأم حقاً في كسبه على الجملة؛ وفي تنفيذ عتقه قطعُ حقها من كسبه، عند تقدير العجز. والوجه الثاني - أن عتق المولى ينفذ؛ فإنا نفرعّ على أن حق الملك في الولد للمولى. 12570 - فإذا تمهدت هذه الفصول الثلاثة - الكسب والنفقة والإعتاق، فمما نفرعه بعدها على القولين، الكلام في أروش الجناية على الولد، فإذا جنى جانٍ عليه، لم يخل: إما أن يجني على طرفه، أو يقتله، فإن كانت الجناية على الطرف، لم تنته إلى القتل، فتفصيل المذهب في أرش الجناية كتفصيل المذهب في كسبه حرفاً حرفاً، وقد سبق. وإن قتله الجاني، فلا يتأتى في هذه الصورة وقفُ قيمته؛ فإنا إنما نقف كسبه، وأروش أطرافه لتوقع عتقه في ثاني حاله، فإذا قُتل لم يتحقق هذا، ولكن في قيمته قولان: أحدهما - إنها للسيد. فيصرف إليه من غير وقف. والثاني - أنها للمكاتبة، فيصرف إليها، لتتصرف فيها بما تتصرف به في سائر مالها. وذكر الصيدلاني وجهاً أنه إذا قُتل ولدها، فالقيمة مصروفة إلى السيد قولاً واحداً؛ لأن القتل والهلاك قطع أثر الكتابة في الولد، فعاد التفريع إلى قولنا: إن ولدها رقيق قن للسيد. وهذا غير سديد، والصحيح إجراء القولين؛ فإن ولدها في قولٍ بمثابة عبد اشترته، غير أنها [لا تبيعه] (1). فلا وجه لقطع القول بصرف القيمة إلى السيد. وقد نجز منتهى غرضنا في ولد المكاتبة.

_ (1) في الأصل: " لا تتبعه ". والمثبت من (ت 5).

12571 - فأما المكاتب إذا استولد جارية، فأتت منه بولد، فلا خلاف أن الولد يتبعه، يعتِق بعتقه، ويرِق برقه، ولا يُخَرَّج فيه قولٌ أنه رقيق للسيد، وليس كولد المكاتبة، والفرق أن هذا الولد ولدته أمتُه المحكوم بأنها ملكُ المكاتب، فيقدَّر كأنها أتت به من نكاح أو سفاح، فيكون حقُّ الملك للمكاتب، وولد [المكاتبة] (1) من نفسها، وهي ما ملكت نفسها، ولو ملكت نفسها، لعَتَقَت. ثم إنا نقول في ولد المكاتب من أمته: حق الملك فيه للمكاتب قطعاً، ولو اكتسب، فلا يوقف كسبه، بل يصرف إلى المكاتَب؛ ليعمل به ما يعمل بسائر أكساب نفسه وعبيده، تعجيلاً من غير وقف، وهذا واضح بعد ما وقعت الإحاطة بما ذكرناه من أن ولد المكاتب من جاريته في حق الملك كولد جاريته من نكاح أو زناً، غير أنه لا يبيع ولدَ نفسه، فيعتق بعتقه ويرِق برقه، ولو عَتَقَ المكاتب وتبعه ولده في العتق، فصادف في يد ولده فضلَ كسب، كان قد اكتسبه في الكتابة، فهو مصروف إلى الوالد، لا حظ فيه للولد، ولو كان يُصرف إلى الولد إذا عتق، لوُقف له، وهذا لا شك فيه. ويترتب على ما ذكرنا أن نفقة الولد على المكاتب على كل حال، والجملة أنه بمثابة سائر عبيده، غير أنه يبيع عبيدَه، ولا يبيع ولده، ولا ينفذ فيه عتقُ السيد، كما لا ينفذ عتقه في عبيد المكاتب، وهذا لا خفاء به. 12572 - وقد ذكر العراقيون مسألة في الجناية، واضطربوا فيها، ونحن ننقل كلامهم على وجهه، قالوا: لو جنى الولد جناية، فتعلقت برقبته، إن كان له كسب، كان له (2) أن يفديه من كسبه، وإن لم يكن له كسب، باعه في الجناية. وهذا عندنا غلط ظاهر، وزلة تُفضي إلى هدم أصل المذهب. والذي قطع به المراوزة أنه لا يملك فداء ولده، وإن كان في كسب ولده ما يفي بالفداء؛ فإن الفداء في معنى الشراء، ولم يختلف الأصحاب في أنه لو صادف ولده

_ (1) في الأصل: " المكاتب ". والمثبت من (ت 5). (2) الضمير يعود على الأب المكاتب.

رقيقاً، لم يكن له أن يشتريه؛ فإنه يبذل في شرائه مالاً يملك التصرف [فيه ولا يملك التصرف] (1) في رقبة ولده، فهذا يلتحق بتبرعه، وما ذكروه من جواز الفداء في كسب الولد لا خير فيه، فإن كسب الولد التحق بسائر أموال المكاتب، من جهة أنه يتصرف فيه تصرفه في سائر ماله. ثم قال العراقيون: إذا جنى ولد المكاتب، ولا كسب، وأراد بيعه في الجناية، فله أن يبيع كله، وإن كانت قيمته تزيد على الأرش، ثم قالوا: يبيعه ويصرف قدر الأرش إلى المجني عليه ويأخذ الباقي، وهذا خطأ أيضاً. والذي قطع به أئمتنا المراوزة أنه لا يباع [منه] (2) إلا بقدر الجناية؛ إذ لولا الجناية، لما جاز بيع شيء منه، فليقع البيع على قدر الجناية، وهذا كما أن المرهون إذا جنى، فإنه يباع منه بقدر الجناية، فقد اختلف أجوبة العراقيين في الجناية من ولد المكاتب. واستدوا (3) في كل ما قدمناه من القواعد. وهذا نجاز الكلام في ولد المكاتبة والمكاتب. 12573 - ونحن نختتم ما قدمناه بذكر تحقيقٍ. فنقول: أما ولد المكاتبة، فمأخذ اختلاف القول فيه في الأصول من اختلاف القول في ولد المدبرة؛ من جهة أن الكتابة عرضة للرفع كالتدبير، وليست هي مالكةً لنفسها، حتى يكون ولدها مستفاداً من

_ (1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، وفي (ت 5): " فإنه يبذل في شرائه ما لا يملك بالتصرف في ولد رقبته ". هذا وقد استأنسنا في تعديل العبارة، بصياغة الغزالي في البسيط، حيث قال: " ... فليس له أن يفديه وإن كان للولد كسب، لأنه لا يتصرف في رقبة الولد، ويتصرف في الكسب، فيكون كشرائه" (ر. البسيط: 6 ص 442 مخطوطة مرقمة الصفحات). وكذلك بعبارة العزّ بن عبد السلام، فقد قال: " ولا خلاف أن المكاتب والمكاتبة لا يشتريان ولدهما، فإنه إبدال ما يجوز التصرف فيه بما لا يقبل التصرف، فإذا جنى ولد المكاتب، لم يملك فداءه، لأن فداءه كشرائه " (الغاية في اختصار النهاية: 5/ورقة: 454 ش). (2) في الأصل: " فيه "، والمثبت من (ت 5). (3) كذا في النسختين " استدّوا " أي استقاموا، والمعنى أنهم استدوا في كل ما تقدم من القواعد غير هذه.

ملكها. وولد المكاتب من جاريته في حكم أكساب المكاتب، وإلا فلا وجه لإتباعه إياه في العتق والرق؛ فإن صفة الولد في الرق والحرية تُتَلَقَّى من صفة الأم، والأم رقيقة، فكان ولدها في معناها، غير أن المكاتَب لا يقدر على بيعه. وقد خرج مما ذكرناه أن الولد لا يكون مكاتباً على التحقيق؛ إذ لا يتعلق به طَلِبةٌ في النجم، وخرج مما مهدناه أن المكاتب لا يشتري ولده (1)، وكذلك المكاتبة لا تشتري ولدَها، لِما أشرنا إليه من أن هذا بذل مال، هو عرضة التصرف في مقابلة ما لا يتأتى التصرف فيه. نعم، لو قبلا الوصيةَ بالولد، أو هبةَ الولد، صح ذلك، ثم يمتنع بيعُه، ولكنهما ينتفعان بكسبه وبأروش الجناية عليه، وسيأتي في هذا فضل بيان عند خوضنا في تبرعات المكاتب. وخرج مما ذكرناه أن قول العلماء ولد المكاتَب مكاتبٌ عليه محمولٌ على أنه يعتق بعتقه ويرِق برقه، فأما أن تثبت له حقيقة الكتابة فلا. 12574 - ومما نختتم به الفصل - القولُ في أمية الولد، فنقول: المكاتب إذا أحبل جارية من جواريه بإذن السيد، أو من غير إذنه، فحكم الولد ما قدمناه، فأما الأم، فهل تصير أمّ ولدٍ له؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها لا تصير أم ولد؛ لأن الاستيلاد إنما يثبت إذا علقت الأمةُ بولد حر، وهذه علقت بولد رقيق، فهي كسائر الجواري، يتصرف فيها بالبيع، وغيره من الجهات المُنَفَّذة، ئم إذا لم يثبت الاستيلاد في الحال، فلو عَتَق المكاتب، وتلك الجارية في يده، فلا تصير الآن أم ولد أيضاً؛ فإنها علقت برقيق، فصار كما لو نكح الحر أمة، فولدت منه ولداً رقيقاًً، ثم اشتراه الزوج، فلا تصير أم ولد له. والقول الثاني - أنها تصير أم ولد، فيثبت لها في الحال من الحرمة ما يثبت للولد، فلا يبيعها، ولو عَتَق المكاتب، استقر الاستيلاد فيها، ولو رق وعجز، رقَّت أم الولد، وحرمتها لا تزيد على حرمة الولد.

_ (1) ت 5: " لا يسري أم ولده ".

فرع: 12575 - إذا استولد المكاتب جارية من جواريه، وقلنا: لا تصير الجارية أم ولد، فلو عتق المكاتب، وولدت الجارية ولداً آخر بعد العتق بزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به بعد العتق، ويحتمل أن يكون في حال الكتابة؛ فإن أقر بوطءٍ بعد العتق يمكن ترتيبُ العلوق عليه، تثبت أميةُ الولد على الاستقرار، وإن لم يوجد من المكاتب إقرار بوطء بعد العتق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها لا تصير أمَّ ولد؛ فإن الولادة التي سبقت في الكتابة، لم يثبت لها حكم أصلاً، وقد ارتفعت الكتابة بالعتق، ولم يثبت إقرار جديد بالوطء بعد تغير الحكم بالعتق. والثاني - تصيرُ أمَّ ولدٍ له؛ فإن الولد يَلحق المكاتَب، وهذه وإن لم تصر أمَّ الولد بما جرى في الكتابة، فقد صارت فراشاً له، فإذا أتت بولد بعد العتق، وقد صارت مفترشة حقيقة وحسّاً بما مضى، فيلحقه الولد، وتصير أم ولد بعد العتق. وقد ذكرنا نظائر لذلك في كتاب العِدد، إذا اشترى الحر زوجته الأمة، وأتت بولد بعد ارتفاع النكاح لزمان يحتمل أن يكون العلوق به في ملك اليمين، ولم يوجد منه إقرار بالوطء في ملك اليمين. ***

باب المكاتبة بين اثنين يطؤها أحدهما أو كلاهما

باب المكاتبة بين اثنين يطؤها أحدهما أو كلاهما قال: " وإذا وطئها أحدهما، فلم تحبل ... إلى آخره " (1). 12576 - المكاتبة المشتركة بين اثنين، إذا وطئها أحدهما - فلا يخلو إما أن يتصل الوطء بالإحبال، وإما أن يعرى عن الإحبال. فإن لم يُحبلها، التزم مهر المثل لها، وسلمه إليها، فكان من جملة أكسابها. وإن أحبلها، نُظر: فإن كان معسراً، فيصير نصيبه أم ولد، ولا منافاة بين أمية الولد والكتابة، وسنبين أن مكاتبة أم الولد ابتداءً صحيحة، ثم لا سريان؛ لكونه معسراً، وفي الولد قولان حكاهما الصيدلاني: أحدهما - أن النصف منه حر، والنصف رقيق؛ فإن الوطء المُعْلِق صادف مشتركة، وانتفى السريان، فكما اقتصرت أمية الولد على النصف، وجب اقتصار الحرية على نصف الولد. والقول الثاني - أن الولد يعلق حراً؛ فإن الرق لا يتبعض ابتداءً، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم مع نظائرَ وأمثلةٍ. ثم إن حكما بتبعيض الحرية، فالنصف الرقيق سبيله سبيل ما لو كان جميع الولد رقيقاً، وقد مضى التفصيل في ولد المكاتبة، فإنه رقيق، [وتسري] (2) الكتابة إليه، إلى آخر التفصيل. وأما النصف الذي وقع الحكم بحريته، فإن قلنا: ولد المكاتبة من زنا أو نكاح رقيق للمولى، فهذا النصف الذي انعقد حراً لا يضمن الواطىء قيمتَه؛ فإنه لو كان رقيقاًً، لكان له، وإن قلنا: لو كان رقيقاً، لسرت الكتابة إليه، فإذا انعقد حراً، فَمَنْع الرق بمثابة إتلاف الرقيق، وقد تقدم التفصيل في أن ولد المكاتبة إذا قتله أجنبي،

_ (1) ر. المختصر: 5/ 278. (2) في الأصل: " إذ تسري ".

فقيمته لمن؛ فإن قلنا: القيمة للمولى، فلا قيمة في مسألتنا على المولى في النصف الذي انعقد حراً، وإن قلنا: القيمة للمكاتبة، غرم لها نصفَ القيمة، ومنعْ الرق كالإتلاف. ولو حكمنا بأن الولد حر كله، فالقول في النصف، كما مضى، والنصف الآخر لا شك أنه يجب على الواطىء قيمته، والكلام في أنه يصرف إلى المكاتبة أو إلى الشريك، ولكن الواطىء معسر، فيقع ذلك النصف في ذمته إلى أن يجد. هذا كله إذا كان الواطىء معسراً. فأما إذا كان الواطىء المعْلِق موسراً: أما الولد، فلا خلاف أن الولد يعلق حراً؛ لأنا نعلّق بهذا الوطء الاستيلاد في الجارية، وإنما الخلاف في وقت السريان، وكل وطء يتعلق به أمية الولد عاجلاً أو آجلاً، فالولد يكون حراً، لا محالة. وقد يعلق الولد حراً إذا جرى الوطء بشبهة في ملك الغير، ولا يثبت الاستيلاد في الجارية (1)، وقد نقول: لا يثبت أيضاً إذا ملك الموطوءة، فإذا تعلقت حرمة (2) الاستيلاد بالوطء، فلا يخفى أن الولد يعلق حراً. ثم أول ما نذكره إذا كان المُعْلِق موسراً، تفصيل القول في وقت سريان الاستيلاد، فنقول: إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من المكاتب، ففي سريان العتق -والمعتق موسر- قولان: أحدهما - أنه يتنجز في الحال. والثاني - أنه يتأخر إلى عجز المكاتب في باقيه. وقد مضى هذا مفصلاً. 12577 - ونعود بعد تجديد العهد إلى الاستيلاد. وقد اختلف أصحابنا في وقت سريانه على طريقين: فمنهم من قال: في الاستيلاد ووقت سريانه قولان كالقولين في العتق. ومنهم من قطع بتأخر سريان الاستيلاد إلى عجز المكاتبة في باقيها ورقها، وهذا ظاهر النص؛ فإن الشافعي قطع جوابه بتأخير سريان الاستيلاد، وردّد القول في العتق.

_ (1) ت 5: " ولا يثبت الاستيلاد في الحال ". (2) كذا في النسختين " حرمة الاستيلاد " وهي بمعنى حقيقة الاستيلاد.

والفرق أن تسرية العتق في الحال يقتضي نقلَ الملك، ونقلُ الملك في المكاتب في ظاهر القياس يتضمن فسخ الكتابة، كما ذكرنا طرق الأصحاب في ذلك، ولكنا نحتمل هذا -في قولٍ- من جهة أن الكتابة إن كانت تزول، فالعتق الناجز يخلفُها، فلو قلنا: يثبت الاستيلاد ناجزاً، لاقتضى سريانُه نقلَ الملك في حصة الشريك إلى المستولد، وهذا يتضمن لا محالة رفعَ الكتابة على الطريقة الظاهرة، فلو صرنا إليه، لكنا رافعين للكتابة بأمية الولد، وأمية الولد ليست تنجيز عتق، وإنما هي توقع عتق، والكتابة لازمة من جهة المولى، فلا يسوغ رفعها من غير أن يخلفها عتقٌ ناجز. فإن قال من أجرى القولين: أمية الولد أثبتُ (1) من الكتابة؛ فإن الكتابة عرضةُ الفسخ بخلاف الاستيلاد، قيل له: الأمر كذلك، ولكن حصول المقصود مربوط بالموت، وأداءُ النجوم أقرب إلى التوقع من الموت في شخص، والبقاء في شخص، وقد يُظن ذلك ثم ينعكس الأمر. هذا قولنا في الاستيلاد ووقت سريانه. 12578 - فأما الكلام في قيمة الولد: فإن جرينا على المسلك الأصح، وقلنا: يتأخر سريانُ العتق إلى العجز في الباقي، فالكلام ينقسم في شطري -الولد- وإن كان كله حراً- أما النصف الذي يقابل حصةَ المستولد، فقد جرى فيه منعُ الرق. فإن قلنا: حقُّ الملك للمكاتبة في ولدها، فلا شك أن السيدَ المستولدَ يغرَم لها نصفَ القيمة ناجزاً. وعلى هذا لا توقف في النصف الثاني؛ فإن حق الولد -على القول الذي نفرع عليه- للمكاتبة، والكتابة بعدُ قائمة؛ فإن النصف الذي ثبت الاستيلاد فيه لم ترتفع الكتابة عنه، ولم يَجْرِ الاستيلاد في النصف الآخر، فليغرَم تمامَ القيمة لها. وإن قلنا: ولد المكاتبة رقيق، فلا يغرم المستولد على مقابلة حصته شيئاً، ويغرم في الحال قيمة النصف الآخر لشريكه، وسريان الاستيلاد منتظر.

_ (1) ت 5: " أمية الولد من الكتابة " (سقطت كلمة " أثبت ").

ومن أحاط بما قدمناه في ولد المكاتبة، لم يخف عليه تخريج هذه المسائل على ما تقدم. ولا شك أن ما نذكره فيه إذا انفصل الولد حياًً، هذا هو التفصيل البين المفرّع على تأخير سريان الاستيلاد. فإن قلنا على الطريقة البعيدة: ينفذ الاستيلاد في الحال، ثم قلنا: تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، للاحتياج إلى نقل الملك، فلا شك أنا على ذلك نقول: بقيت الكتابة في نصفه منهما، وانفسخت الكتابة في النصف الذي كان لشريكه، وخَلَفَت الكتابةَ أميةُ الولد. فأما قيمة الولد، فالكلام يقع في شقي الولد، فأما النصف الذي يقابل نصيب المستولد، فهو مخرج على أن الحق في ولد المكاتبة لمن؟ وأما النصف الآخر الذي حكمنا بانفساخ الكتابة، فالقول فيما يقابل ذلك النصف -وقد انفسخت الكتابة فيه- مأخوذ من استيلاد أحد الشريكين الجارية القِنَّة -والتفريع على تعجيل السريان- فالولد حر. وفي قيمة الولد قولان: أحدهما - أنها لا تجب. والثاني - أنه يجب نصف قيمة الولد للشريك، وهذا مبني على أن العلوق على الحرية هل يقترن بنقل الملك، أم يقع بعده، أم يتقدم على النقل؟ وكل هذا مما مضى. ومن انتهى من هذا الكتاب إلى هذا الموضع وطلب الإحاطة بما فيه، لم تخف عليه أمثال ذلك. هذا تمام البيان. 12579 - وقد خلط الصيدلاني هذا الفصل، وأتى بكلام متهافت، وأنا أرى نقلَ كلامه بلفظه، ثم نتتبعه. قال: "والولد حر ثابت النسب، وينظر في قيمة الولد، فإن جاءت به قبل أن عجزت، فنصف قيمة الولد واجب عليه، وإن جاءت به بعد أن عجزت وأدى القيمة، فلا يلزمه من قيمة الولد شيء، وإن جاءت به بعد أن عجزت، وقبل أن أدى القيمة - فإن قلنا: السراية تقع يوم الإحبال في سائر المواضع -وهاهنا يوم التعجيز- فلا

يلزمه من قيمة الولد شيء، وإن قلنا: يوم أداء القيمة، غرم نصف قيمة الولد". ْهذا لفظ الصيدلاني في كتابه. وهو خطأ صريح. ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخف عليه أن ما سواه غلط، ومعنى ما ذكره أن الولد حر لا محالة، وهذا سديد، ثم قال: " فإن جاءت به قبل (1) أن عجزت "، أراد إن ولدته، فنصف قيمة الولد واجب على المستولد. وأين هذا من التفصيل المطلوب في قيمة الولد: وأنها للمكاتبة، أو للمولى، وما وجه الاقتصار على نصف القيمة؟ ثم قال: إن جاءت به بعد العجز وأداء القيمة عند السريان، فلا يلزمه من قيمة الولد شيء - أراد بذلك أنها إذا عجزت في باقيها ورقت، وربما فرض عجزها في النصف الذي يثبت الاستيلاد فيه ابتداء، فإذا أتت بالولد وهي مستولدة، وقد زالت الكتابة بالتعجيز، فقد تحقق الولاد في ملكه، والاعتبار بحالة الولادة؛ ولهذا قلنا لو انفصل الولد ميتاً، لم يجب الضمان، فإذا وقعت الولادة في حالة خلوصها له، فلا ضمان أصلاً. هذا ما فهمتُه من كلامه، وانقدح لي من توجيهه، وهو ليس بشيء؛ فإنا ذكرنا في قيمة الولد عند جريان الاستيلاد من أحد الشريكين في الجارية المشتركة قولين: أحدهما - أنه يجب مقدار حصة الشريك من القيمة، وهذا مبني على تقدم العلوق على انتقال الملك، ثم الولادة تقع بعد هذا الحكم، وبعد الانتقال بأشهر، وكذلك الأب إذا استولد جارية الابن، وأوجبنا عليه قيمة الولد على قولٍ، فهو جارٍ على القياس الذي ذكرناه في الجاربة المشتركة، وإن كانت الولادة تقع بعد انتقال الملك. وذاك الذي خيّلنا به من تشبيه انفصال الولد في ملكه بانفصاله ميتاً ليس بشيء؛ فإن الحرية إذا تحققنا تقدمها؛ ثم علمنا حياة الولد -والحر وإن انفصل في حالة كون الأم مملوكة- فلا حق في الحر لمالك الأم، وإذا انفصل الولد ميتاً، فلم تتحقق حياته، فكان [كالعديم] (2) الذي لا حكم له في موجب الغرم، فلم يتحصل مما ذكره شيء.

_ (1) ت 5: " بعد ". (2) في الأصل: " كالغريم " والمثبت من (ت 5).

وباقي كلامه مختبط؛ فإنه بناه على ما ذكرناه، ولا يلتبس على من شدا طرفاً من الفقه أن المسلك الحق في ترتيب المذهب ما قدمناه، وما عداه خبط وخيال. 12580 - ومن تمام الكلام في هذا الفصل أنا رأينا الاستيلاد وسريانه أولى بالتأخير من العتق، والذي ذهب إليه [معظمُ المرتبين] (1) أن أحد الشريكين إذا أعتق الجارية المشتركة، ففي سريان العتق الأقوالُ المعروفة. ولو استولدها، وقلنا: العتق يتعجل سريانه، فالاستيلاد أولى بالتعجيل. ومن أصحابنا من قال: لا فرق. وقد ذكرنا في هذا الفصل أن الاستيلاد أولى بالتأخير من العتق. والفرق بين القاعدتين أن الاستيلاد في الرقيقة القنة يصادف ملكاً يقبل النقل، بخلاف ما إذا جرى في المكاتبة. ثم احتملنا تعجيل سريان العتق في المكاتبة على قولٍ؛ لأن العتق يعجل مقصود الكتابة، والاستيلاد توقع المقصود، وهذا على ظهوره لا يضر ذكره (2). فصل قال: " فإن وطئاها ... إلى آخره " (3). 12581 - قد ذكرنا في الفصل المتقدم وطء أحد الشريكين إذا عَرِيَ عن الاستيلاد، أو أفضى إليه، وهذا فيه إذا وطئاها جميعاً، فإن لم يثبت استيلاد، فعلى كل واحد منهما مهرُ مثلِ المكاتبة لها؛ فإن المهر عوضُ منفعة البضع، فهو مصروف إليها، فإن لم يتفق منهما غرم المهرين حتى ماتت المكاتبة، وجرى الحكم برقها، أو لم يغرما حتى عجَّزت نفسَها، فإن استوى مقدار المهرين، جرى بين الشريكين التقاص، وسنذكره مفصلاً على القرب، إن شاء الله، وإن تفاوت المقدار بسبب تفاوت الزمان، واختلاف صفة الموطوءة فيما يلحقها من التغايير، لم يَخْفَ التفصيلُ.

_ (1) زيادة من (ت 5). (2) من هنا بدأ خرم جديد في (ت 5) استغرق فصلاً بتمامه من أوله إلى آخره. (3) ر. المختصر: 5/ 278.

ولو وطئا وأتت بولد، وأمكن أن يكون منهما على البدل، فحكم النسب لا يخفى، فإن ادعياه، أَرَيْنا الولدَ القائفَ، وإنما غرضُنا من الفصل بيانُ الاستيلاد والغُرم، وليقع الغرض فيه إذا كانا موسرين، وادعى كلُّ واحد منهما أن الولدَ ولدُه، والجارية أمُّ ولده، فإذا تنازعا كذلك، وأَرَيْنا الولدَ القائفَ، فألحقه القائفُ بأحدهما، التحق النسب، وقدّرنا كأنه المنفرد بالاستيلاد، ويصير قول القائف حجةً في الواقعة؛ فإن النسب إذا ثبت، فلا شك أن الولد ولدها، فإذا انتسب إلى أحدهما، فهي أم ولده، وهذا بمثابة إثباتنا الولادة في النكاح بشهادة نسوةٍ [والفراش] (1) يلحق النسب، وإن كان النسب لا يثبت بشهادة النسوة المجردات. ولو فرضنا هذه المسألة في الرقيقةِ القِنة، لكان ذلك أقربَ إلى إيضاح الغرض، حتى لا نحتاج إلى تأخير الاستيلاد وفرض العجز، فليقع الكلام في الرقيقة، والحكم ما ذكرناه من نفوذ الاستيلاد، ولحوق الولد. ثم إذا نفذنا استيلادَه، فلا يغرَم لشريكه قيمةَ نصيبه؛ لأنه ادعى أن الجارية مستولدتُه، وهو مؤاخذ بموجَب إقراره، ولو صح ما قاله، لما وجب على شريكه غُرم، هذا إذا وجدنا القائف. فأما إذا لم نجد وعسُر الأمر، والمتداعيان موسران، فنحكم بثبوت الاستيلاد في نصف كل واحد منهما، فيعم الاستيلادُ الجاريةَ، ولكن يضاف إلى كل شريك نصفُ الاستيلاد، والسبب فيه أنهما مستويان، وليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني، ويدُ كل واحدٍ ثابتة على النصف، والملكُ مترتب على [اليد] (2)، وليس أحدهما أولى بالسراية من الثاني. فالوجه عند إشكال النسب ما ذكرناه، ثم لا تراجُعَ بينهما لما نبهنا عليه. ولو أقرا بالوطأين، ولم يتعرضا للتداعي في الولد [بل] (3) سكتا عنه (4)، فالولد

_ (1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق، فهي في الأصل: " الفراش " بدون (واو). (2) في الأصل: " السيد ". (3) زيادة اقتضاها السياق. (4) المعنى أنهما لم يتنازعا الاستيلاد، بل سكتا.

نُري القائفَ، فإذا ألحقه بأحدهما، التحق به، وثبت الاستيلادُ وسريانُه في حقه، ثم يلزمه أن يغرَمَ لصاحبه قيمةَ نصيبه، والأمر في الولد على ما ذكرناه في الجارية المشتركة إذا انفرد أحدهما بوطئها واستيلادها، والغرض من هذه الصورة أن قول القائف، اقتضى ذلك كلَّه، ولم يوجد من الشريك إقرارٌ ينافي الغرم، فجرى الأمر على ما وصفناه. ومما يتعلق بهذا الفصل، أنا إذا لم نجد القائفَ، راجعنا الولد بعد بلوغه، كما تفصل في موضعه، فإذا التحق بأحدهما لحقه. فليت شعري: ماذا نقول في الغرم، والشريكان ساكتان؟ أنثبته بقول الولد، كما أثبتناه بقول القائف؟ أو نقول لا يثبت الغرم بقول الولد؟ هذا فيه احتمال وتردد بيّن، والأصحابُ وإن لم يصرحوا به، ففي قواعد كلامهم ما يشير إلى التردد. وكل ما ذكرناه فيه إذا كانا موسرين. فأما إذا كانا معسرين، فلا سريان في الاستيلاد، فإذا تردد الولد بينهما، ثم فرض إلحاقٌ من القائف، لم يخفَ التفريع، فيثبت الاستيلاد في حصة من لحقه النسب، ولا سريان، ويثبت الاستيلاد في نصيب الثاني لإقراره، وإذا وضحت الأصول، وتكررت الفروع، لم يكن في إعادتها معنى. فصل قال: " ولو ادعى كل واحد منهما أن ولده وُلد قبل صاحبه ... إلى آخره " (1). 12582 - صورة المسألة: أن تأتي الجارية بولدين من الشريكين، والتحق بكل واحد منهما ولد، فقال كل واحد منهما: ولَدَتْ مني هذا الولد قبلَ أن وَلَدَتْ منك الولدَ الذي لك، والولدان متقاربان في السن، وأشكل الأمرُ، فالاستيلاد ثابت، ولا ندري أن الجارية أُتمُ ولد مَن منهما؟ وليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني، والفرض في القِنة، والشريكان موسران، والتفريع على تعجيل السراية، ثم هما

_ (1) ر. المختصر: 5/ 279.

جميعاً مؤاخذان بالإنفاق عليها، فإذا مات أحدهما، عَتَقَ نصفُها في ظاهر الحكم؛ فإن كل واحد منهما مؤاخذ بإقراره فيما هو تحت ملكه ويده، ولو ماتا، عَتَقَت ظاهراً وباطناً، وولاؤها موقوف؛ فإنا لا ندري من المعتِق منهما. ولو كانا معسرين وجرى ما وصفناه وماتا، فلا شك أنها تعتِق، ولكن لا إشكال في الولاء (1)، فيثبت لكل واحد نصفُ الولاء. وحكى الربيع في المعسَرَيْن، حيث انتهى التصوير إليه أن الولاء موقوف. وهذا غلطٌ بإجماع الأصحاب، لا يعد مثله من المذهب، وذلك بيّن. وإنما نذكر أمثاله حتى نوضح وجهَ الزلل فيه. والله أعلم. ...

_ (1) ت 5: " الإشكال في الولاء ".

باب تعجيل الكتابة

باب تعجيل الكتابة 12583 - مضمون الباب شيئان: أحدهما - القول في تعجيل المكاتَب النجمَ، وهذا مما قدمناه، ولكنا نزيد فضلَ تفصيل حتى لا يَعْرَى البابُ عن مزيد: فإذا عجل المكاتبُ النجمَ قبل حلوله، تعين على السيد قبولُه، إذا لم يكن على السيد في قبوله ضرر، وقد فصلنا هذا فيما مضى، والذي نَزِيدُه أن ابتداء الكتابة لو كان في زمان نهب وغارة، ثم استمرت تلك الحالة، فجاء المكاتَب بالنجم، فقال السيد: لا أقبله للضرر، وقال المكاتَب: لقد كانت هذه الحالةُ مقترنةً بالعقد، ولم يتجدد أمر لم يكن، ففي هذه الصورة وجهان للأصحاب: أحدهما - أن السيد لا يُجبر على قبول النجم المعجَّل. والثاني - أنه مُجبر عليه؛ لاستواء الحال. فصل قال: " ولو عَجّل بعضَ الكتابة على أن يبرئه من الباقي ... إلى آخره " (1). 12584 - صورة المسألة: أن السيد إذا استدعى من المكاتب أن يُعجِّل له نجماً، فقال المكاتب: أُعجل لك بشرط أن تَحُطَّ عني بعضَ النجم، فقد نقل المزني في هذا ترديداً في النص، وجعل المسألة على القولين في أن الإبراء هل يصح على هذا الوجه [، وهل يصح الأداء] (2) على هذا الوجه؟ وقد ذهب المحققون من الأصحاب إلى تغليط المزني ونسبتِه إلى الوهم والزلل؛ فإن الإبراء المعلَّقَ بالشرط باطلٌ، وتعجيلُ أداء النجم -إذا عُلق بشرطٍ- غيرُ صحيح، وليس هذا مما يجوز التماري فيه. وذهب الأكثرون إلى حمل كلام الشافعي على غير الشرط، وقالوا: المسألة

_ (1) ر. المختصر: 5/ 280. (2) في الأصل: مكان بين المعقفين " قبل الأداء ".

مفروضة فيه إذا عجّل المكاتب، فتفضّل السيد من تلقاء نفسه وأبرأ عن مقدارٍ، فأما إذا جرى الشرط على حقيقته، فليس إلا الفساد، فإن جرى الإبراء معلَّقاً بشرط التعجيل، فسد، والدَّينُ بكماله باقٍ، وإن عجل المكاتَب الأداءَ، وشرطَ الإبراء، فأداؤه باطل. ولست أستجيز أن أنقلَ جملةَ ما اختلف الأصحاب فيه في هذا الفصل؛ فإني لست أرى فيه مزيد فقه، ولا كلاماً مُخيلاً تَمَسُّ الحاجةُ إلى نقله ليعتمد، هذا مضمون الباب. 12585 - ثم نقل الأصحاب عن الشافعي شيئاً، إذا أفسدنا الأداء المشروط وهو مذكور في (السواد) قال: " إن أراد أن يَسْلَم له مقدارٌ من النجم، فليقل للمكاتَب: عجِّز نفسك وأنا أُعتقك على المقدار الذي أبغيه منك " (1). وهذا الذي ذكره الشافعي مشكل، فإنه إذا عجّز نفسه، انقلب إلى السيد جميع ما في يده، فمن أي موضع يؤدي المشروط أولاً؛ ثم السيد بعد جريان التعجيز يستبد بجميع ما في يده، وتنقلب رقبته إليه رقيقاًً، ولا يلزمه الوفاء بإعتاقه على مال، فذلك العوض يقع في ذمته، وقد فاز السيد بجميع ما كان منسوباً إلى مِلْكه قبل التعجيز، فكيف ينتصبُ هذا ذريعة إلى تحصيل التعجيل، مع تحقيق غرض المكاتَب في التخفيف عنه في مقدارٍ من النجم، وهذا استئصالُ جميعِ ما في يده مع إلزامه مزيداً في ذمته. ووراء ما ذكرناه نوعان من الإشكال آخران: أحدهما - أن غرض المكاتَب استتباعُ أكسابه وأولاده، وإذا عجّز نفسَه، وانقطعت المكاتبة، لم يتبعه الكسب والولد بعد انقطاعها. هذا وجه. والوجه الثاني - نورده جواباً عن سؤال، قال صاحب التقريب: إن أراد المكاتب أن يثق بموعد السيد، لم يُسعفه بما قال، حتى يقول المولى: إذا عجَّزت نفسك، ثم أعطيتني ألفاً، فأنت حر، فتحصل الثقة بعد حصول التعليق.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 280. والذي نقله الإمام هنا ليس لفظ المختصر، بل بمعناه.

وهذا فيه نظر؛ من جهة أن تعليق العتق بالأداء يقع إنشاؤه في حالة استمرار الكتابة، وما لم ترتفع الكتابة، لم يصح إثبات عقد عَتاقة آخر على مال، فكأنه أوقع تعليق عقد في وقت لا يملك إنشاءه، ومن مذهب الشافعي أن ما لا يصح تنجيزُه في وقت لا يصلح تعليقُه فيه، وهذه أمور مضطربة، لا يشك الفقيه في خروجها عن ضبط المذهب على أي وجه قُدِّر، ثم إن جُوِّز مثلُ هذا التعليق، تعويلاً على استمرار الملك، فكيف الجواب عن استتباع الكسب والولد. وقد قال شيخي أبو محمد رضي الله عنه: من أصحابنا من قال: إذا أدى بعد التعجيز ما شرط عليه، استتبع الكسبَ والولدَ، فإن هذا شرطٌ جرى في كتابةٍ لتحصيل غرض المولى. وهذا عندي لا مساغ له، وهو هدمُ أصل المذهب، وإثبات ما لا يليق مثلُه بقاعدة الشافعي، وإن لم يكن من مثل هذا بدٌ؛ رعايةً لغرض المولى والمكاتب، فما ذكره المزني من نقل قولٍ في صحة الأداء والشرط أمثلُ من هذا، ولا خير في شيء منه. والوجه أن يقال: في نقل ذلك خلل، أو بادرةٌ صدرت من غير فكر من ناقلٍ على قياس مذهب الشافعي. والله أعلم. ثم المعلَّقُ عتقه بالأداء إذا أدى ما لا يملك، ففيه كلام طويل وتفصيل، ثم عاقِبتُه أن يغرم قيمةَ نفسه، ويفوزَ السيد بما يأتي به من حساب ارتداد الأكساب إليه بسبب تعجيز المكاتب نفسه، وبالجملة هذا سوء تدبير العبد. ***

باب بيع المكاتب وشرائه

باب بيع المكاتب وشرائه (1) قال: " وبيعُ المكاتَب وشراؤه ... إلى آخره " (2). 12586 - مقصودُ الباب ضبطُ المذهب فيما ينفذ من معاملات المكاتَب، وفيما لا يصح منه الاستقلال به، ولو فعله بإذن المولى، ففيه قولان. فنقول: بيعُه بثمن المثل من غير أجلٍ نافذٌ، وشراؤه إذا لم يتضمن التزامَ غَبْن، صحيحٌ، وانفرادُه بما هو تبرع من المريض محسوب من الثلث مردودٌ، وإذا تبرع بإذن السيد، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن تصرفه ينفذ؛ فإن الحق لا يعدوهما. والثاني - أنه لا ينفذ؛ لأن المكاتب باستقلاله خرج عن التعرض لإذن المولى، فضعف من هذا الوجه إذنُه، وامتنع انفراده بالتبرع؛ فانتظم من ذلك انحسام التبرع عليه؛ فإن الإذن إنما يقع الموقع ممن يملك الاحتكام، وليس السيد كذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة (3). ثم ألحق الأصحاب بما يمتنع على المكاتب التسري؛ بما فيه من الإفضاء إلى الإعلاق، وتعريض الموطوءة لخطر الطَّلْق، وهذا بمثابة منعنا الراهنَ من وطء الجارية المرهونة. وكان شيخي لا يُبعد إجراءَ الوجهين في وطء الجارية يُؤْمَنُ حَبَلُها. وهذا غير مرضيٍّ -وإن أجرى الأصحاب هذين الوجهين في الراهن والمرهونة- من جهة أن المكاتب عبدٌ، وهو بالوطء يتصرف في نفسه بما يوهي القوة ويُضعف المُنَّة، ولا ضبط يُتخذ مرجوعاً للمذهب فيما يجوز من ذلك ويمتنع، والوجه الحسم، وإن أراد التسري بالإذن، ففيه الخلاف المذكور، كما تقدم في جميع التبرعات.

_ (1) ت 5: " باب نكاح المكاتب وشرائه ". (2) ر. المختصر: 5/ 280. (3) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 63، الفتاوى الهندية: 5/ 6.

12587 - ومما ألحقه الأصحاب بقبيل التبرع البيعُ نسيئة من المليء الوفى، وإن فُرض تأكيد الثمن بوثيقة الرهون، وهذا فيه بعض الغموض؛ فإن مثل هذا مما نجوّزه للقيّم، أو للأب، في مال الطفل مع شدة العناية بالنظر له، ورعايةِ نهاية الغبطة. والذي أراه أن هذا لا يُخَرَّجُ على قانون المذهب في منع الوكيل المطلق عن البيع نسيئة؛ فإنا نُدير أطراف تلك المسألةِ على العادة إذا اطردت، وعليها إذا اضطربت، والمالك للأمر هو الموكِّل، وليس المكاتَب متصرفاً للسيد، حتى يُحمَلَ تصرفُه على ما يقترن بالإذن المطلق من العادات، ولكن الوجه فيه أن رفع اليد عن المبيع غررٌ في الحال، والكسبُ حقُّ السيد، وإنما أثبت الشرع للمكاتب التصرفَ فيه على شرط ألا يركب غرراً ناجزاً، ورفعُ اليد عن المبيع غرر، وفيه تحقيق للضرر على ارتقاب فائدةٍ في العاقبة، وهذا تصرف من المكاتب في الكسب، حقُّه أن يكون للمولى بما يقطع السلطان عنه في الحال، ويستبدل عن النقد وعداً قد يُخلف. وليس تصرفه كتصرف الولي في مال الطفل؛ فإنه محمول على ما يعدّ مصلحة، والبيع الموصوف يُعدُّ مصلحةً، والمكاتب لم ينصبه الشرع ناظراً، والكسب في الحقيقة ليس له؛ فلينحصر تصرفه على أمر ناجز يكون ذريعةً إلى تحصيل العتق، والدليل عليه أن المريض إذا باع نسيئة طال نظر الفقيه في اعتبار تصرفه من الثلث، على تفاصيلَ قدمناها في الوصايا، والسبب فيه أنه في الثلثين متصرفٌ في حق الورثة، فلم ينصبه الشرع ناظراً لهم، فهذا تحقيق ما أردناه. والذي أراه القطعُ بأنه يبيع العَرْضَ بالعَرْض؛ إذ لا [غرر] (1) والمالية هي المرعية، بخلاف الوكيل؛ فإن أمره مفارقٌ لأمر المكاتَب، والمريض ينفذ منه بيع العَرْض إذا عريت الصفقة عن غبينة. 12588 - وأما إذا أراد أن ينكح، فلا شك أن النكاح يجر إليه مؤناً، ويُلزمه في الحال المهر، وليس مستبدِلاً عنه مالاً على الحقيقة، ولكن الحاجة قد تمسّ، فاضطرب أصحابنا: فمنهم من نزّل نكاحه منزلةَ التبرعات في الاستقلالِ، والصدورِ

_ (1) في الأصل: " غرض " وفي (ت 5): " عرض ".

عن الإذن، وهذا هو القياس المعتمد. ومنهم من قطع القول بصحة النكاح، إذا صدر عن إذن المولى؛ للحاجة التي أشرنا إليها. وهذا ليس بشيء؛ من وجوه: منها - أن أحداً من الأصحاب لم يُطلق انفرادَه بالنكاح، ولو تحقق التعويل على الحاجة، لوجب إلحاق نكاحه بأكله وشربه حتى يستبدَّ به، ولم يصر إلى هذا أحد. والآخر - أن التسري يلزم إخراجُه على قياس النكاح، وإن كان فيه تعريضُ الجارية لخطر الطَّلْق. والآخر - أن مدة الكتابة متناهية، فلا يبعد تكليفُه الصبرَ، وارتقابَ الخلاص من الرق. وأما تزويج المكاتبة، فالنظر فيه على وجه آخر، فإنه ليس من التبرع، حتى يُلحقَ بما قدمناه، ولكن عَسُر مُدرك تصحيحه؛ من جهة أنها لا تستقل، والسيد لا يليها، وليس مالكَها المستقل؛ فمن هذا الوجه التحق تزويجها في ظاهر الأمر بتزوج المكاتب، وإن بَعُد المأخذان، وإنما يتشابهان في ظاهر الحال (1)، ومن الأصحاب من يقطع بالمنع، لما نبّهنا عليه. 12589 - ومما ذكره الأصحاب أن المكاتب إذا باع بنقدٍ لم يبدأ بالتسليم للمبيع؛ فإن هذا رفعُ اليد من (2) المال على غرر، فكان في معنى البيع نسيئة. واختلف أصحابنا في أن المكاتب هل يُسْلمُ في أجناس الأموال على شرط الغبطة؟ فمنع منه الأكثرون، على القياس الممهد؛ فإن مقتضى السَّلَم تسليمُ رأس المال في المجلس، وانتظار المسلَم فيه بعده، سيّما إذا كان السلَم مؤجلاً، وجوّز بعض أصحابنا السلَم، وهذا هوسٌ مع منع البيع نسيئة، وكنا نود لو وُجد مذهب في تجويز البيع نسيئة، لما قدّرنا فيه من الغبطة، فإذا لم نجده، وجب طرد قياس الباب، ولم أر هذا القياس إلا في بعض التصانيف، ولست أعتدّ به. ولا يهبُ المكاتب بالثواب المجهول، وإن كنا قد نصحح الهبةَ كذلك من الحر المطلَق، والسبب فيه أن من العلماء من يُنزل الهبة بالثواب المجهول -إذا صحت-

_ (1) ت 5: " في ظاهر الخلاف ". (2) (مِن): بمعنى (عن).

على ما يسمى ثواباً، وقد يجري بهذا حكم حاكم، وأيضاً فلا وصول إلى استحقاق الثواب إلا بتسليم الموهوب أولاً، وهذا لا نسوّغه. ولو وهب بثواب معلومٍ على شرط الغبطة، فإن قلنا: هذه الهبةُ بيعٌ، ولا يشترط في إثبات الملك فيها الإقباض (1)، فهي مُجْراةٌ على قياس البيع، وإن شرطنا الإقباض، ففيها من النظر ما ذكرناه مع سؤالٍ، وهو أن من شرط الإقباض لا يوجبه، فلا يمتنع أن يصحح الهبةَ، وَيمْنعَ من الابتداء بالإقباض، حتى يسبق قبض العوض، وهذا لا يبعد عن وجه الرأي، وليس كالبيع نسيئة؛ فإن موجَبَه وجوبُ تسليم المبيع قبل القبض في الثمن. 12590 - فإن قيل: ذكرتم هذه المسائل المرسلة، فهل من ضابط؟ قلنا: الأصل المتبع فيها ألا يرفع يدَه عن جزء من كسبه، لا بتبرع، ولا بركوب خطر، ويحصر تصرفه على ما لا يزيل يدَه عن عوضِ ما يُخرجه من غير قبول حطيطة وغبن لا يتساهل في مثله طلابُ الأموال؛ فإن الكسب في الحقيقة للمولى، وإنما ملّكه الشرع التبسط فيه على شرط الاقتصار على ما ذكرناه. وكان شيخي رضي الله عنه يقول: لا يُحلّ له أن يتبسط في الملابس والمآكل، ولا نكلفه أيضاً الإقتار المفرط، بل ليكن ما أشرنا إليه لائقاً بحاله، من غير سرف ولا تقتير. 12591 - ومما نذكره أن هباتِه وتبرعاتِه إذا صدرت عن إذن المولى، خرجت على القولين في سائر التبرعات. [ولو أذن له المزني في إعتاق عبد من عبيده، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من خرَّج ذلك على القولين في سائر التبرعات] (2)، ومنهم من قطع برد العتق لمكان الولاء، ولو قدر العتق، لاضطرب الرأي في الولاء، على ما سنصفه الآن في التفريع.

_ (1) عبارة (ت 5): " فإن قلنا: هذا بيع، ولا نشترط الهبة في إثبات الملك فيها الإقباض ". (2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 5).

فإن حكمنا بأن العتق مردود وإن صدر عن الإذن، فلا كلام. وإن نفذنا العتق: ففي الولاء قولان مشهوران: أحدهما - أن الولاء يكون لسيد المكاتب؛ فإن إثباته للمكاتب محال، وهو رقيقٌ بعدُ، وتعليق الولاء ووقفُه إلى أن يَبينَ أمرُه في المستقبل بعيد، (1 وتعرية العتق عن الولاء لا وجه له. وإذا كنا نجعل ولاء المكاتب للمولى إذا عَتق 1)، فلا يبعد أن نجعل ولاءَ معتَقه للمولى أيضاً. هذا قول. والقول الثاني - أن الولاء موقوف؛ فإنْ عَتَقَ المكاتب، فولاء معتَقه له، وإن رقَّ فالولاء موقوف بعدُ؛ فإنا نرتجي عتقه بعد العجز من أوجه، فإن مات رقيقاًً فيكون الولاء حينئذ لسيده. وهذا فيه بعضُ النظر، فلا يمتنع أن نقول: إذا رق المكاتب، فولاء معتقه لمولاه من غير أن نرتقب عتقاً آخر، فإنا نتبين إذا رق أن تصرفه على حكم استقلال الكتابة قد انقطع، فإن فُرض عتقه بعد الرق من وجه آخر، لم يتعلق ما تقدم في حال الكتابة بهذا العتق الواقع بعد انفساخ الكتابة. والله أعلم. وذكر صاحب التقريب في الولاء أنا إذا نفذنا العتق، وقلنا: الولاء للسيد في الحال، فلو عتق المكاتب، فهل ينجر الولاء إليه من سيده؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا ينجر، وهو القياس. [وجرّ الولاء ليس أمراً منقاساً] (2)، والواجب اتباعُ موضع الإجماع فيه، ومحل الوفاق جرّ ولاء السراية من موالي الأم إلى موالي الأب، إذا فرض إعتاق الأب، فأما الجر من السيد إلى المكاتب بعد العتق، فليس في معنى ما ذكرنا. والوجه الثاني - أنا نجر؛ لأنا أثبتنا الولاء للسيد إثباتَ ضرورة؛ من حيث لم نجد بداً من إثباته، ولم نجد من نضيف الولاء إليه غيرَ السيد، فإذا عتق المكاتب، جررنا إليه؛ فإنه المباشر، وقد انتهى إلى حالةٍ يُتَصَّور منه إنشاء الإعتاق فيها، واستحقاق الولاية.

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 5). (2) عبارة الأصل: " وهو أن جر الولاء ليس أمراً منقاساً "، والمثبت من عبارة (ت 5).

وحقيقةُ الجرِّ صرفُ الولاء إلى جهةٍ قوية بعد ثبوته لجهة دونَها في القوة. 12592 - ومما يتعلق بتفصيل القول في ولاء معتِق المكاتَب، أنا إذا حكمنا بكونه موقوفاً، فلو مات معتَق المكاتب قبل عتق المكاتب، ولم يخلّف من يتقدم على المولى، فما حكم ميراثه؟ قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنا نقف إلى أن نتبين أمرَ الولاء. والثاني - أنا نصرفه إلى بيت المال، وذلك لأن المكاتب لو عَتَق مثلاً، فإنا نُثبت له الولاء الآن، ولا نُسند ثبوتَه إلى ما تقدم، هذا لا شك فيه إذا فُرض عتقه، وإنما يتردد نظر الفقيه إذا مات المكاتب رقيقاً، وأثبتنا الولاء للسيد، فقد يظن الظان أنا نتبين ثبوت الولاء حالة الإعتاق، ويعارضه ألا نقول ذلك مصيراً إلى أن استقلال المكاتب في حالة الكتابة ينافي ثبوت الولاء للمولى، فيجب صرف الولاء إليه من وقت موته رقيقاًً على التفاصيل التي ذكرناها، وهذا فيه احتمال بيّن، وكأن الولاء معلق، وليس على قياس الموقوفات التي يستند الأمر فيها إلى ماضٍ على طريق التبين، وإذا كان كذلك، فالوجه صرف الميراث الناجز إلى بيت المال. وعن اضطراب القول في الولاء ذهب ذاهبون من الأصحاب إلى قطع القول بأن العتق لا ينفذ من المكاتب قولاً واحداً -وإن أذن المولى-. ومما نذكره من حكم الولاء أن المكاتب إذا عَتَقَ، فولاؤه لمولاه، لم يختلف الأصحاب فيه. ولو باع السيد عبدَه من نفسه بمالٍ في الذمة، وصححنا هذه المعاملة، على ما سيأتي شرحها في فروع الكتابة، عند ذكرنا عقودَ العتاقة إن شاء الله، فيعتق العبد إذا قبل البيع، والأصح أن ولاءه لمولاه؛ قياساً على ولاء المكاتب. ومن أصحابنا من قال: لا ولاء عليه، فإنه يملك بالابتياع نفسَه، ويعتق على نفسه، فلو ثبت الولاء، لثبت له. وهذا محال، فالوجه نفي الولاء في هذه المعاملة. ولا خلاف أن من اشترى من يعتق عليه، فالولاء للمشتري؛ فإن الولاء ترتب على ملكه، وهذا القائل يفرق بين شراء العبد نفسه وبين الكتابة، ويقول: موضوع الكتابة

على تحصيل العتق بملك السيد، فكان هو المعتِق في الحقيقة، وليس كذلك بيع العبد من نفسه؛ فإن العوض يقع في الذمة يؤديه بعد الحرية، وسيأتي شرح الكلام في بيع السيد عبدَه من نفسه، وإنما ذَكَرْنا هذا المقدارَ لأجل الولاء. فرع (1): 12593 - إذا كاتب المكاتب عبداً من عبيده، فهذا من تبرعاته، فيمكن أن يُلحَق بهباته، ويمكن أن يلحق بتنجيز العتق في ترتيب المذهب، ثم إن صححنا منه الكتابة بالإذن، نظرنا، فإن عتق المكاتب الأول، ثم عَتَق الثاني، فولاء المكاتب الثاني للمكاتب الأول، وإن عتق المكاتب الثاني قبل الأول؛ ففي ولائه القولان المذكوران. فرع: 12594 - لا يشتري المكاتب من يعتِق عليه مستقلاً؛ فإن هذا بذل مالٍ في مقابلة ما لا يملك التصرفَ فيه، فإن جرى ذلك بإذن المولى، فهو بمثابة سائر التبرعات. ولو وُهب للمكاتَب من يعتق عليه، أو أوصي له به، فقبل: نُظر. فإن كان زمِناً غير كسوب، لم يصح انفراده بالقبول، لأنه يستجرّ بهذا القبول مؤناً إلى نفسه، وليس فيما يفعله غرضٌ مالي، وإن كان الموهوب كسوباً، بحيث يفي كسبُه بمؤنه؛ فقد قال الأصحاب: يصح منه القبول؛ فإنه ليس باذلاً مالاً، ولا جارّاً إلى نفسه مؤنةً. ثم إذا قَبِلَ، فمَرِض المقبولُ في يده، فلا بد من الإنفاق عليه من المال الذي في يده؛ إذ لا سبيل إلى قطع ما ألزمناه وحكمنا بثبوته. وقد حكى الشيخ أبو علي عن أبي إسحاق المروزي أنه جوّز للمكاتب أن يشتريَ أباه بذن مولاه قولاً واحداً إذا كان كسوباً؛ قد يستفيد من كسبه مالاً جماً، وفيه صلة الرحم. وهذا فاسد لا أصل له. ثم إذا اتهب المكاتب أباه الكسوب، أو قبل الوصيةَ فيه، وصححناه على التفصيل المقدم، فلا يجوز للمكاتب أن يبيعه.

_ (1) سقط من (ت 5) هذا الفرع والفروع التي تليه وفصلان بعدها.

وحكى الشيخ أبو علي عن ابن أبي هريرة أنه يصح من المكاتب بيع أبيه وولده، وهذا غريب، لم أره إلا للشيخ في شرح الفروع، ولا يجوز الاعتداد بذلك، وفيه هدمُ أصلٍ عظيم في المذهب، وهو تكاتب الولد (1) -على ما تقدم التفصيل فيه- ولو صح هذا للزم على قياسه تجويز بيع الولد الذي تأتي به جاريته منه، فإن طرده كان خارقاً للإجماع، وإن لم يطرده كان ناقضاً لمذهبه. ومما يتصل بذلك أنه إذا جُوّز للمكاتب بيع أبيه وولده، فينبغي ألا يُمنع الشراء فيهما؛ فإنهما ينزلان منزلة سائر العبيد، وهذا تخليط لا سبيل إلى التزامه. ولو اتهب نصف ما يعتق عليه، ثم عَتَق المكاتب، فيعتِق عليه ذلك النصفُ الذي ملكه، وهل يسري الآن إلى النصف الثاني؟ قال ابن الحداد: يسري العتق إلى النصف الثاني إن كان المكاتَب موسراً يوم العتق، فإنه يملك نصفه قصداً، فاقتضى ذلك السراية، وقال القفال: لا يسري العتق. فإن السراية لم تثبت ابتداء، فلا تثبت بعدها. قال الشيخ أبو علي: الصحيح ما قاله ابن الحداد، فإن السراية ما تأخرت عن العتق، ولكن العتق حصل يوم العتق للمكاتب. فرع: 12595 - ظهر اختلاف الأصحاب في أن العبد إذا وُهِب له شيء، فقَبِله من غير إذن سيده، فهل يصح منه قبوله؟ فعلى وجهين سبق ذكرهما في مواضع، وإذا صح قبوله، دخل ما قبله في ملك السيد، فلو وُهب للعبد أَبُ سيده، فإن كان السيد فقيراً بحيث لا يلزمه نفقَةُ القريب، فقبِل العبد الهبة -والتفريع على تصحيح قبوله للهبة- فيدخل أب السيد في ملك السيد، ويعتق عليه. وإن كان السيد موسراً، وكان أبوه القن كسوباً بحيث لا تجب نفقته -والتفريع على صحة قبول الهبة- فيصح، ويدخل في ملك السيد، ويعتِق عليه. ولو كان الأب زمِناً بحيث لو عَتَق على ابنه الموسر، لاستوجب النفقة بالقرابة. فإذا قبله العبد منفرداً بالقبول، فلا يصح منه القبول؛ لأن فيه إضراراً بالسيد، ولو قبل

_ (1) يشير إلى أن ولد المكاتب -على المذهب- يتبع أباه في عقد الكتابة، ويعتق بعتقه. هذا معنى قوله: " تكاتب الولد ".

العبد نصفَ أبيه وسيدُه موسر والأبُ بحيث لا تلزم نفقتُه، فهل يصح القبول تفريعاً على تصحيح قبول الهبة؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - يصح ويعتق على السيد النصفُ، ولا يسري العتق؛ فإنه لم يدخل في ملكه بقصده، فصار كما لو ورث نصفَ أبيه. والوجه الثاني - أنه لا يصح قبولُ العبد نصفَ أب سيده، فإنه لو صح، لعتق على السيد، ولسرى؛ فإن قبول العبد كقبول السيد. وهذا ضعيف في القياس. قال الشيخ: تفصيل القول في قبول العبد بعضَ من يعتق على سيده، كتفصيل القول في أن وليَّ الطفل هل يقبل له نصفَ أبيه، والطفلُ موسرٌ، فعلى وجهين: أحدهما - يقبله، إذا كان لا تجب نفقتُه ولا يسري، والثاني - لا يصح قبوله أصلاً. فرع: 12596 - المكاتب إذا اشترى أبَ سيده، صح ذلك منه؛ فإنه لا ضرار على المكاتب، ولا نقصَ، فلو أنه باعه بابن سيده، ثم عاد المكاتَب رقيقاًً فابن السيد يَعتِق على السيد، لا شك فيه. فلو أنه وجد بابنه عيباً قديماً، فلا يرده، فإنا حكمنا بعتقه عليه، ولكن يثبت له الرجوع بالأرش، والأرش قسط من الثمن، فإذا كان العيب ينقص من قيمة ابنه عُشراً، فله أن يرجع بعشر [أبيه] (1)، وهو الثمن، ثم إذا رجع بعُشر [أبيه] (1) أرشاً، فذلك العشر يعتق عليه. وهل يسري العتق إلى الباقي؟ قال الشيخ: إن كان المكاتَب هو الذي عجّز نفسَه ولم يكن للسيد فيه اختيار، فيعتِق عليه عُشر أبيه أرشاً، ولا يسري العتق أصلاً؛ فإنه لم يوجد من السيد في ذلك قصد، ولو أن السيد عجّز المكاتَبَ، ثم حكمنا بعتق العُشر، فهل يسري؟ فعلى وجهين سبق لهما نظائر. والذي يتم بيان الفرع به أنه إذا عتق الابن على السيد، وثبت له الرجوع بقسطٍ من أبيه أرشاً -كما قدمنا- فهل ينقلب إليه ذلك الأرش قهراً، أم لا بد من اختياره فيه، حتى لو لم يُرِدْه، لم يرجع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينقلب إليه من غير اختياره ويعتق عليه، وهذا اختيار الشيخ أبي علي. والثاني - أنه لا ينقلب إليه من غير

_ (1) في الأصل: " ابنه ".

اختياره. وقد ذكرت طرفاً من ذلك في خروج النجم المقبوض معيباً فيما تقدم من الفصول. فإن قلنا: ينقلب قسطٌ من الأب من غير اختيارٍ، والسيدُ هو المعجّز، فعلى وجهين. وإن قلنا: لا بد من اختياره في استرجاع الأرش، فالظاهر السريان في هذه الحالة. فرع في بقية تصرفات المكاتب: 12597 - اختلف القول في أن المكاتب هل يسافر من غير إذن مولاه؟ فيما حكاه صاحب التقريب والعراقيون: أحد القولين - أنه لا يسافر؛ إذ لو سافر يخرج عن مراقبة السيد، وانسلّ عن حكم ضبطه بالكلية. وهذا سرفٌ ومجاوزة حد. والقول الثاني -وهو القياس- أنه يسافر، لِما له من حق الاستقلال، وإذا قلنا: له الانفراد بنفسه ومسكنه في البلد، لم يغادر من الضبط شيئاً؛ فإن العبد المخلّى قد يخرج ويسافر، ثم قال العراقيون: اختلف أصحابنا في محل القولين، فمنهم من خصصهما بالسفر الطويل، وقطع القول بجواز السفر القصير، وهو القاصر عن مسافة القصر، ومنهم من طرد القولين في السفر الطويل والقصير. فرع: 12598 - قد ذكرنا قولين في نفوذ تبرعات المكاتب بإذن المولى، وكان شيخي يقول: لو وهب المكاتب لمولاه شيئاً، صح قولاً واحداً، ولم يخرج على القولين. وذكر العراقيون في ذلك طريقين: إحداهما - ما ذكره شيخي. والأخرى - طرد القولين، وهو القياس. ويتجه القطع بمسألة لا خلاف فيها، وهي أن المكاتب لو عجّل ديناً مؤجلاً عليه لأجنبي، لكان متبرعاً، فإن استقل، لم يجز، وإن كان بإذن السيد، فقولان، و [أما] (1) تعجيلُ المكاتب للسيد النجم، فيصح مذهباً واحداً، ولا فرق في ذلك بين النجم الأخير والنجم الأول، وقد ينقدح في ذلك فرق ظاهر، والمسألة على الجملة -أعني الهبة من السيد- محتملة، كما نبهنا عليه.

_ (1) زيادة من المحقق.

فصل 12599 - للمكاتب أن يعامل مولاه كما يعامل الأجانب، فيبايعه ويشاريه، ويأخذ الشفعة من مولاه، ويأخذ المولى الشفعة منه، ولو ثبت- له دين على المولى، وثبت للمولى دين عليه، فيتصل هذا الفصل من هذا الموضع بالتقاصّ؛ وقد أحلنا استقصاءه على هذا الكتاب، ونحن نخوض الآن فيه، ونستعين بالله تعالى، وهو خير معين، فنقول: في غير المكاتب والمولى، إذا ثبت لزيد على عمرو دينٌ، وثبت لعمرو على زيد مثلُه، واتحد الجنس والنوع، وكان الدينان حالّين، ففي التقاصّ أربعة أقوال، نص الشافعي عليها في كتب متفرقة: أحدها - أن التقاص لا يقع، ولو رجعنا به، لم يصح أيضاً؛ فإنه إبدال دين بدين، وهو لو صح على حقائق المعاوضة، وبيع الدين بالدين ممتنع. والقول الثاني - أن التقاص يصح إذا تراضيا به، ويسقط الدينان، ولا يكون ذلك معاوضة محضة، ولكنه إسقاط دين بإزاء دين، وهو قريب الشبه من الحوالة؛ فإنها ليست معاوضة محضة وإن كان فيها معنى التقابل. والقول الثالث - أن التقاص يثبت إذا دعا إليه أحدهما، وإن أبى الثاني، وهذا بمثابة ما لو دعا أحد الشريكين إلى قسمة الدار القابلة للقسمة؛ فإن الثاني مجبر على الإجابة، كذلك القول في التقاص. والقول الرابع - أن الدينين إذا تساويا: قدراً، ونوعاً، وحلولاً، تساقطا من غير احتياج إلى فرض رضاً من أحد الجانبين؛ وذلك لأن أحدهما لو طلب عين ما طلب منه لكان ذلك في حكم العبث الذي لا يجزىء ولا يفيد، والمعاملات الشرعية مبنية على الإفادة. قال صاحب التقريب: التقاص على الاختلاف الذي ذكرناه يجري في الدراهم والدنانير إذا اتحد النوع، وهل يجري في غيرهما من ذوات الأمثال؟ فعلى وجهين،

وسبب الاختلاف أن ما عدا النقدين قد يظهر التفاوت فيه بعضَ الظهور، ولو أجرينا التقاص في ذوات الأمثال -وهو الأصح- فهل يجري التقاص بين عَرْضين موصوفين في الذمة على قضية واحدة؟ هذا أولاً يستند إلى أن التقاص ليس معاوضةً محضة؛ إذ لو كان معاوضة، لامتنع إجراؤه في المسلم فيه، والعَرْضُ إنما يثبت في الذمة مسلماً فيه أو حالاً محله، وقد ذكرنا في الحوالة على السلم والحوالة به تفصيلاً، والتقاص عندي أبعد من المعاوضة من الحوالة، فإن التقاص تساقط ليس فيه إيفاء واستيفاء. فإذا حصل التنبيه لما ذكرناه ففي التقاص بين العَرْضَين المتساويين نعتاً ووصفاً وجهان، مرتبان على الوجهين في ذوات الأمثال. ولا تقاص بين مؤجل وحالّ، ولا بين مكسر وصحاح، وإن فرض منهما تسامح، فليس هذا من التقاص في شيء، وإنما يقع تعاوضاً لو وقع، وذلك ممنوع في الدينين. ولو فرضنا دينين مؤجلين، فهل يجري التقاص بينهما، ولا طلبة في واحد منهما؟ هذا فيه احتمال عندي، والأوجه إجراء ثلاثة أقوال. فأما القول الرابع -وهو التساقط من غير رضاً- فلست أرى له وجهاً، والأجل عتيد والمَهَل كائن، وليس يبعد جريان هذا القول أيضاً. وقد نجز ما أردناه في حقيقة التقاص. فصل " ولا يكفِّر في شيء من الكفارات إلا بالصوم ... إلى آخره " (1). 12600 - لا يستقل المكاتب بالتكفير بالمال، كما لا يستقل العبد القن بالتكفير بالمال، وإن ملّكه المولى، وفرّعنا على أن العبد يملك، فلو أذن المولى في التكفير بالإطعام والكُسوة، نفذ ذلك من الرقيق المملَّك على القول القديم، أما المكاتب، فهل يكفِّر بالمال إذا أذن المولى؟ فعلى قولين مبنيين على تبرعاته.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 280.

فإن قيل: هلا رأيتم التكفير بالمال ديناً على المكاتب حتى يؤديَه من غير مراجعة؟ قلنا: هو في ماله كالمعسر، ولذلك لا يتبرع -كما قدمناه- مستقلاً بنفسه. ثم ذكر الصيدلاني طريقةً، فقال: إذا قلنا: العبد لا يملك، فالمكاتَب لا يكفِّر بالمال -وإن أذن المولى- قولاً واحداً، وإن قلنا: العبد يملك؛ فإذا ملّكه المولى، وأذن له في التكفير، كفر، والمكاتَب هل يكفِّر بالإذن؟ فعلى قولين، وهذا فيه فقه؛ من جهة أنا وإن حكمنا للمكاتب بالملك، فهو ملك ضرورة، وكأنه على ترتيب الرقيق فيما يتعلق بالتبرعات، حتى يقالَ: إذا قلنا: الرقيق لا يملك، فالمكاتب لا يتبرع قولاً واحداً، وإذا قلنا: الرقيق يملك، فحينئذ في المكاتب القولان. وهذه الطريقة غير مرضية؛ فإن القولين في تنفيذ تبرع المكاتب وردّه منصوصان في الجديد، وما ذكره الصيدلاني يقتضي تفرعهما على القديم، فلا وجه إلا أن يقال: المكاتب من أهل الملك على الجملة، بخلاف القن. وفي تبرعاته قولان، سواء قلنا: يملك القن أو قلنا: لا يملك. فإنا وإن منعنا تمليك القن، فلسنا ننكر ثبوت الملك للمكاتب. ثم في (السواد) مسائل تقدم ذكر جميعها، فلا نعيد منها شيئاً (1). فصل قال: " وبيع نجومه مفسوخ ... إلى آخره " (2). 12601 - المنصوص عليه في الجديد أن بيعَ رقبة المكاتَب فاسدٌ، ونص في القديم على جواز بيعه. توجيه القولين: من منع البيعَ احتج بأن الكتابة لازمة من جهة السيد، فبيعه إياه لا يخلو: إما أن يرفع استحقاق العَتاقة، فإن كان كذلك، فهذا انفراد منه برفع حقٍّ لازم بجهة البيع، ومن أجار إعتاق الراهن، لم يُجز بيعه، وإن بقيت الكتابة، فيجب

_ (1) إلى هنا انتهى الخرم الذي أشرنا إليه من (ت 5) منذ عدة صفحات. (2) ر. المختصر: 5/ 280.

رد البيع؛ فإن استحقاق العَتاقة يمنع البيع، كحرمة الاستيلاد. ووجه القول القديم أن المكاتب ينتقل إلى الورثة مملوكاً إرثاً، فلا يمتنع بيعه على هذا النحو. وهذا مدخول؛ فإن الإرث بابه أوسع، وهو يجري فيما لا يصح البيع فيه، إذ طريقه طريقُ الخلافة، وتنزيلُ الوارث منزلةَ الموروث، حتى كأن الحكم مستدام والمستحِق متبدِّل. التفريع: 12602 - إن منعنا البيع، فلا كلام، وإن جوّزناه، فمعناه أنه في حق المشتري بمثابته في حق البائع قبل البيع، فيملك رقبته مكاتباً، ويستحق مطالبتَه، ومعتمد هذا القول حديثُ بريرة، فإنها جاءت إلى عائشة تستعين في كتابتها، فقالت رضي الله عنها: " إن شاء أهلك، صببت لهم ثمنك، وأعتقتك "، فرجعت إلى سادتها، ثم عادت وقالت: إن أهلي أبَوْا أن يبيعوني إلا أن يكون الولاء لهم، فأخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: " اشتري واشترطي لهم الولاء ". ثم أصبح خطيباً، فقال: " ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من شرط شرطاً ليس في كتاب الله، فهو باطل. كتاب الله أحق وشرطه أوثق. والولاء لمن أعتق " (1). وفي الحديث إشكال إن صح. فإنه عليه السلام قال لعائشة: " اشترطي "، ثم أبان أن لا حكم لشرطها، وهذا يكاد يكون تغريراً، والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن خائنة الأعين، فضلاً عما يضاهي التلبيس. ْثم المشكل في التفريع على القديم أمر الولاء، فإنا لم نقطع الكتابة، ولم نفسخها، بل شبهنا انتقال الملك في المكاتب إلى المشتري بانتقاله إلى الوارث، ثم إذا عتق المكاتب على حكم الكتابة بعد موت المولى، فالولاء للمولى، وهذا في الشراء متردد مشكل؛ فإن الوارث خلف الموروث في استبقاء الأمر كما كان، والمشتري بخلاف ذلك، وحديث بريرة -إن صح- شاهد على أن الولاء للمشتري،

_ (1) حديث بريرة واستعانتها بعائشة في كتابتها، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. البخاري: الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، ح 456، مسلم: العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 1504).

فالأمر في الولاء متردد، والظاهر أنه للمشتري. ولو كان عقد الكتابة فاسداً، فبيعه مع العلم بفساد الكتابة صحيح، وهو فسخٌ للكتابة. وإن ظن البائع أن الكتابة صحيحة، فباعه على اعتقاد الصحة [أو وصى به] (1) على هذا الاعتقاد، فحاصل ما ذكره الأصحاب في البيع والوصية ثلاثةُ أقوال: أحدها - الصحة فيهما؛ فإن الظن لا يغير موجَبَ الحقيقة، والكتابةُ الفاسدة لا تمنع التصرف. والقول الثاني - أنهما يفسدان، نظراً إلى موجَب العقد، وهذا يقرب من بيع الإنسان مالَ أبيه على ظن بقائه وهو حالةَ البيع ميتٌ في علم الله، والقول الثالث - أن الوصية صحيحة، والبيع مردود؛ فإن الوصايا تثبت مقترنة بالأغرار والأخطار، والبيع لا يحتملها، هذا في بيع المكاتب. 12603 - فأما بيع نجوم الكتابة: فقد منعه الأصحاب؛ من جهة أنها ليست لازمة، وللمكاتب أن يسقطها متى شاء، والبيع يستدعي ملكاً ثابتاً، فإذا كان لا يصح بيع المبيع قبل القبض، لبقائه في ضمان البائع، فبيع النجم -وهو غير متصف باللزوم- أولى بالامتناع. وخرّج ابن سريج قولاً في جواز بيع النجوم إذا جوزنا بيع الديون، وفي بيعها قولان، تقدم شرحهما. 12604 - قال الأئمة: الاستبدال عن النجوم يخرج على بيع النجوم، فإن جوزنا بيعها، جوزنا الاستبدال عنها، وإن لم نجوّز بيعها؛ ففي الاستبدال عنها وجهان، والمذهب الذي عليه التعويل منعُ ضمان النجوم، وهذا يؤكد منع (2) الاستبدال، وإنما يترتب الاستبدال على البيع؛ من جهة جواز الاستبدال عن الديون اللازمة قولاً واحداً،

_ (1) في الأصل: " إذا وصى به "، وفي ت 5: " وأوصى به ". والمثبت من كلام العز بن عبد السلام. (ر. الغاية في اختصار النهاية: 5/ 459 - مخطوطة مرقمة الصفحات). (2) سقطت من (ت 5).

مع اختلاف القول في بيعها. وسبب ذلك أن المبيع مقصود ملكاً وتوفية، وما يستبدل عنه، فالمقصود عوضه، وسقوط المستبدل عنه. فإن جرينا على المذهب، ومنعنا بيع النجوم، فلو قبض المشتري النجومَ بتسليط البائع إياه على قبضها؛ ظاناً أنه يقبضها لنفسه، فهل يَعتِق المكاتب بقبضه إياها؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يعتق. لأنه سُلِّط من جهة سيد المكاتب على قبضها، فكان بمثابة الوكيل. والقول الثاني - أنه لا يعتِق؛ لأنه قبضها لنفسه، ولم يقبل الوكالة، بل لم يعمل بها، ونحن إن لم نشترط القبول في الوكالة، اشترطنا العمل بموجبها؛ فإن قلنا: يعتِق المكاتب، انقطعت الطَّلِبةُ عنه، وعلى المشتري رد ما قبض بعينه إلى البائع، وإن قلنا: لا يعتِق المكاتب، فبائع النجوم يطالب المكاتب بالنجوم، وهو يسترد من المشتري ما قبضه منه. فإن قيل: قد ذكر بعض الفقهاء أن بيع المكاتب إذا صححناه، فمقصوده آيل إلى بيع النجوم، فكيف الوجه في ذلك؟ قلنا: المبيع في القديم رقبة المكاتب. والنجوم ثابتة تبعاً، ولا يرعى بين ثمن العبد وبين نجوم الكتابة تعبدات الربا. ***

باب كتابة النصراني

باب كتابة النصراني 12605 - الذمي والحربي إذا كاتب عبده على شرط الإسلام (1)، فإذا أدّى، حصل العتق، ولكن لو قهر الحربيُّ مكاتَبه الكافرَ، انقلب رقيقاً (2)، فلا يقع الحكم بلزوم الكتابة في حقه، وإذا كان يرِقّ الحرُّ الكافرُ بالقهر، فعُلْقة العتاقة في المكاتب تزول بالقهر. وإن كانت الكتابة فاسدة على موجب الشرع: مثل أن تُفرض بخمر أو خنزير، فإن حصل قبض العوض بكماله في الشرك، نفذ العتقُ، ولا مراجعةَ بعد الإسلام، وانقطعت الطلبة. ولو جرى الإقباض في معظم العوض، واتصلت الكتابة بالإسلام، أو بالتزام الأحكام، والنزول على حكم حكام الإسلام، فإذا جرى القبضُ في البقية بعد ذلك، رجع المولى على العبد بقيمته، ولا حكم لما جرى القبضُ فيه من قبل، ولا نوزِّع القيمةَ على المقبوض قبل الإسلام والالتزام وعلى ما جرى الإقباضُ فيه في الإسلام؛ حتى يسقط ما يقابل المقبوض في الشرك، نظراً إلى ما لو جرى قبض الكل في الشرك. والسبب فيه أن النجوم في الكتابة لا تثبت لها حقيقة العوضية إلا عند التمام؛ إذ لو

_ (1) أي على شروط الكتابة الصحيحة في الإسلام. (2) يشير بقهر مكاتَبه إلى أن عقد المكاتبة -الذي في أصله اللزوم من جهة السيد- ليس لازماً من جهة السيد الحربي؛ فإنه لا يلتزم الأحكام، ودارُهم دار قهرِ ومغالبة، يُسترق فيها الحر بالقهر والغلبة، فما بال المكاتب، بل لو غلب العبد سيده، وقهره، لاسترقه، وصار هو السيد. هذا معنى هذه العبارة من كلام الإمام. وقد صرح بما قلناه الرافعي حين قال: " ثم لو قهره السيد بعد ما كاتبه، ارتفعت الكتابة، وصار قناً، ولو قهر المكاتب سيدَه، صار حرّاً، وصار السيدُ عبداً؛ لأن الدار دار قهر، ولذلك لو قهر الحر حراً هناك ملكه، بخلاف ما لو دخل السيد والمكاتب دار الإسلام بأمان، ثم قهر أحدهما الآخر لا يملكه؛ لأن الدار دار حق وإنصاف " (ر. الشرح الكبير: 13/ 465).

فُرض عجزٌ في المكاتبة الصحيحة، بأن أن ما قبض من قبلُ لم يكن عوضاً؛ وإنما [كان] (1) كسبَ رِقٍّ مستَحَقٍّ لمالك الرق، فإذا تم القبضُ [عَتَق] (2) الكلُّ من غير تبعيض عوض، فلم يقبل التقسيط، والأعواض إجراؤها على حكم العوضية في المعاوضات، فانتظم فيها التوزيع. وهذا مما ذكرناه في كتاب النكاح وغيره. 12606 - ثم قال: " فإن أسلم العبد ... إلى آخره " (3). إذا أسلم العبدُ الكافرُ تحت يد الذمي، حملناه على بيعه، فإن أبى، بعناه عليه، فإن كاتبه، فهل تسقط الطَّلِبةُ بالكتابة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تسقط، وتفسخ الكتابة، ويباعُ العبدُ؛ فإن الفسخ ممكن بخلاف أمية الولد، والثاني - ننكف عنه؛ فإن الكتابة توجب استقلالَ المكاتب، وانقطاعَ سلطان المالك، وهي أجدى على العبد من حيث تُفضي إلى عتقه. ولو كاتب الكافر عبدَه الكافرَ، فأسلم المكاتَب، فهذا يُبنى على ما قدمناه: فإن قلنا: الكتابةُ بعد الإسلام [تقطع] (4) الاعتراض على المولى، وتوجب الاكتفاء بها، فالإسلام إذا طرأ على المكاتَب، لم يؤثر. وإن قلنا: لا يُكتفَى في العبد المسلم بأن كاتبه مالكه. فإذا طرأ الإسلام على المكاتب، فهل تنفسخ الكتابة، ونبيعه؟ أم نديم الكتابة؟ فعلى وجهين، والفرق قوة الدوام. ولو أسلم عبدُ الكافر، فطالبناه بالبيع؛ فدبّره، لم نكتف بذلك؛ فإن سلطانه باقٍ. وإن دبر عبدَه الكافر، فأسلم، فهل نبيعه، أم نستبقي التدبير؟ ونضرب الحيلولة بينه وبين مولاه، كما نفعل ذلك في المستولدة، فعلى وجهين: أصحهما -على القياس- أنه يباع؛ فإن المدبر رقيق في جميع أحكامه. والذي يقتضيه القياس أن يباع على الكافر ما يصح بيعه. والله أعلم. ...

_ (1) في الأصل: " بان ". والمثبت من (ت 5). (2) في النسختين: " قبل " ولم أر لها وجهاً؛ فكان هذا المثبت منا. (3) ر. المختصر: 5/ 281. (4) في الأصل: " لا تقطع ". والمثبت من (ت 5).

باب كتابة الحربي

باب كتابة الحربي 12607 - المعاهد أو الذمي إذا كاتب عبداً، ثم نقض العهد، ورام الالتحاقَ بدار الحرب، فللمكاتب أن يمتنع عن الخروج معه؛ لأن عقد الكتابة يقتضي هذا، ومما يجب التنبه له أن هذا العبد وإن كان كافراً، فله الامتناع، لأنه تعلق بذمة دار الإسلام، فنقره على موجَب الإسلام، ونجعل السيد معه، وإن جمعهما الكفر، بمثابة السيد المسلم إذا أراد المسافرة بمكاتبه، ورام المكاتَب التخلفَ عنه. ثم ذكر الشافعي حكمَ المعاهد يُودِع عندنا، ويلتحق بدار الحرب فيموت، أو يسبى ويرِق، فكيف سبيل أمواله؟ وقد استقصينا هذا على أبلغ وجه وأحسنه، في كتاب السير. 1608 - ثم عقد بابا في كتابة المرتد (1)، وكتابتُه خارجة على أقوال الملك، وهي بمثابة تصرفاته، وقد ذكرناها، وذُكر الحجر عليه على قول بقاء ملكه، فلا خفاء بشيء من مضمونه. ...

_ (1) ر. المختصر: 5/ 282.

باب جناية المكاتب على سيده

باب جناية المكاتب على سيده 12609 - ذكر المزني أحكام جناية المكاتب وأحكام الجناية عليه في أبواب، ولو نظم جميعَها في تقسيمٍ، لكان أضبط، ولكنا نتيمن بالجريان على مراسمه. أما إذا جنى على سيده جنايةَ قصاص، وجب القصاص، وإن جنى عليه، أو على ماله، فهو مطالب بالأرش، كما لو جنى على أجنبي، وغَمْرةُ هذه الأبواب التعرضُ لاجتماع النجم، وديون المعاملة، وأروش الجناية للسيد والأجانب، وقد استقصينا هذا. ومما نزيده أن المكاتب إذا جنى على سيده، أو على أجنبي، فبكم يطالب إذا كان أرشُ الجناية أكثرَ من قيمته؟ فعلى قولين، ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يطالَب بتمام الأرش؛ فإنه فيما يطالب به -ما دامت الكتابة- كالحرّ، والأرش لا يتعلق برقبته ما استمرت الكتابة. والقول الثاني - أنه لا يطالب إلا بمقدار قيمة رقبته إذا زاد الأرش عليها؛ لأنه يملك تعجيز نفسه، وإذا فعل، فلا مرجع إلا إلى رقبته. هذا فيه إذا كان هو الجاني. فأما إذا جنى عبدٌ من عبيده، فأراد أن يفديه، وكان الأرش أكثر من قيمته، فليس له أن يفديه بالأرش -وإن قلنا: الحر يفدي عبده بالأرش بالغاً ما بلغ -والسبب فيه أن الحر لا يلزمه الفداء. نعم، لو أراد الفداء، فأحد القولين أنه يفديه بالأرش التام، وإن أبى سلّمه للبيع. فنقول: للمكاتب: ليس لك أن تفديه إذا قلنا: الفداء بالأرش التام، بل سلِّمه ليباع؛ فإنّ بذل الزيادة تبرعٌ، وهو ممنوع منه. ولو قال: أبذل مقدار القيمة، فاتركوه، ولا تبيعوه -والتفريع على أن الفداء بالأرش- لم يُجَب إلى ما يبغيه.

12610 - ولو جنى المكاتَب على سيده جناية توجب مالاً، فأعتقه السيد، نُظر: فإن لم يكن في يده شيء، فقد قال الأصحاب: سقط الأرش؛ فإن السيد هو الذي أزال ملك الرقبة، وكانت متعلَّقاً للأرش؛ إذ لا مال غيرُ الرقبة، ويتطرق إلى هذا احتمال؛ أخذاً من استقلال المكاتَب ما دامت الكتابة والأرش متعلق بالذمة، والمملوك القن لو جنى على مولاه، فأعتقه، فلا خلاف أنه لا يستحق عليه شيئاً؛ فإن المولى لا يستحق في ذمة العبد شيئاً إذا كان قناً، حتى يفرض اتباعه به، بخلاف المكاتب؛ فإنا أوضحنا فيه احتمالاً على بعد. ولو أعتق السيد المكاتبَ الجانيَ عليه وفي يده شيء، فهل يتعلق أرش الجناية بما في يده؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعلق؛ فإن الأرش لا يتعلق إلا بالرقبة عند ارتفاع الكتابة. والوجه الثاني - أنه يتعلق بما في يده، وفوات الرقبة بالعتق كفواتها بالموت، ولو مات المكاتب بعد ما جنى على سيده، وخلف وفاء، فقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في ذلك. ولو جنى المكاتب على أجنبي، ثم عَتَق بأداء النجوم، فلا يلتزم السيد فداءه بسبب حصول العتق؛ فإن الكتابة تقدمت على الجناية، والأداء حصل. مترتباً على الكتابة السابقة، ولو أعتق السيدُ المكاتبَ بعد الجناية أو أبرأه، فيصيرُ ملتزماً للجناية، فإن هذا اختيار منه لإزالة الرق بعد الجناية، فصار كما لو جنى رقيقه فأعتقه؛ فإنه يصير بالإعتاق ملتزماً لأقل الأمرين. 12611 - ولو جنى ابن المكاتب، لم يفده؛ فإنه إنما يفدي من يملك شراءه، والفداء بمنزلة الشراء، ولا يملك شراء من يعتق عليه؛ لأنه لا يملك بيعَه إذا ملكه. ولو جنى ابنُه على عبده، فهل يملك بيعَه؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يملك بيعَه، وهو الصحيح؛ فإنه لا يثبت في رقبته مالٌ؛ لأنه عبده، والأصل منع بيع الابن. والثاني - أنه يملك بيعه إذا (1) كان الأرش على قدر الرقبة؛ لأن

_ (1) ت 5: " وإذا ".

عبد المكاتب إذا قتل عبده، لم يتعلق بالعبد القاتل شيء، إلا (1) القصاص على ما سنصفه؛ فإنه كان قبل الجناية يملك بيعه واقتناءه، وهو على ما كان عليه. والابن كان لا يباع قبل الجناية، فيجوز أن تفيد الجنايةُ بيعَه. 12612 - ولو قتَل عبدٌ للمكاتب عبداً آخر قَتْلَ قصاص [أو قتل عبدٌ لأجنبي عبداً للمكاتب قَتْل قصاص] (2) فالذي أطلقه الأصحاب أنه يثبت للمكاتَب حق الاقتصاص، وإن كان فيه [إسقاطُ] (3) المالية. وخرّج الربيع قولاً، أنه لا قصاص للمكاتَب، إذا لم يُرد السيد ذلك، بل عليه أخذ الأرش؛ رعايةً لحق المولى في استبقاء المالية، وهذا مردود متروك عليه، وقد أجرى الربيع قوله هذا في قتل عبد المكاتب عبداً آخر، وفي قتل عبد لأجنبي [عَبْده] (4)، وفي بعض التصانيف تخصيص هذا التخريج بما إذا قتل عبد لأجنبي عَبْده. وهذا التخصيص لا أصل (5) له، والأئمة نقلوا التخريج على العموم. 12613 - ولو جنى السيد على يد مكاتبه، فأبانها، وقلنا: يجوز طلب الأرش قبل الاندمال -وفيه قولان ذكرناهما في الديات- فإذا كان ذلك الأرش على مقدار النجم، وكان من جنسه، وفرّعنا على وقوع التقاص من غير تراضٍ مثلاً، أو شرطنا التراضي، وتراضيا، حصل العتق، فلو سرت الجراحة، وأدت إلى الهلاك، وجب على السيد الجاني الديةُ الكاملة. فإن قيل: الدية إبل، ولا يجري التقاص بين الإبل والدراهم، وقد بأن آخراً أن الواجب الإبل، فكيف حكمتم بالعتق، وهلاّ تبينتم أن لا عتق لبطلان التقاص؟ قلنا: إذا أوجبنا الأرش، أجرينا الملك فيه، فإذا بان آخراً وجوب الدية، نقضنا الملك بعد ثبوته، ولا نتبيّن أنه لم يقع الملك في الأرش المبني على الرق ودوامه.

_ (1) ت 5: إذ القصاص. (2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 5). (3) في الأصل: " إثبات المالية ". والمثبت من (ت 5). (4) في الأصل: " عنده ". والمثبت من (ت 5). (5) ت 5: " لا أثر له ".

وهذا بمثابة ما لو أبق العبد المغصوب [وغَرم] (1) الغاصب للمغصوب منه قيمته، ثم عاد العبد فالغاصب يرده، ويسترد القيمة، ويكون ذلك نقضاً للملك في القيمة، لا رفعاً له من أصله، فالتقاص يبتني على هذه القاعدة، ويترتب العتق عليه، ثم إذا وجبت الدية، فلا مردّ للعتق. ثم أعاد الأصحاب فصولاً في الجنايات، لم أرَ ذكر شيء منها. وقد أتيت على كل ما رأيت فيه فائدة من أبواب الجنايات. ثم ذكر المزني أبواباً في إعتاق السيد المكاتب في مرض موته. وفي إنشاء المريض الكتابة، وفي وصيته بالكتابة، وقد أتيت على هذه الأبواب فقهاً وحساباً في كتاب الوصايا، ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفس، ومهدت الأصول، ونظمت المسائل تترى، " وعند الصباح يحمد القوم السرى " (2). ثم ذكر باباً في موت سيد المكاتب، ولست أرى فيه مزيداً. ...

_ (1) في الأصل: " غرم ". (والواو) زيادة من (ت 5). (2) مثل سائر (ر. الأمثال، لأبي عبيد: 170).

باب عجز المكاتب

باب عجز المكاتب 12614 - قال الأئمة: الكتابة جائزة من جانب المكاتب، مهما (1) أراد فسخها، سواء كان قادراً على أداء النجوم أو عجز عنها. وذكر العراقيون طريقةَ تخالف طريقةَ المراوزة، فقالوا: لا ينشىء المكاتَب فسخَ الكتابة، ولكن له الامتناع عن أداء النجوم مع القدرة، ثم إذا امتنع، فللسيد الفسخ، إذا لم تصل يده إلى النجوم، وهذا كرّروه مراراً، وصرحوا به. وهذا بعيد؛ فإن الامتناع عن أداء النجوم مع أنه لا يملك الفسخ كيف يسوغ؟ وما ذكروه على الحقيقة عكسُ الصواب؛ فإنهم ألزموا الكتابة في جانبه، وجوزوا له ألا يفي (2) بها. وهذا كلام متناقض، والذي به العمل والفتوى أن المكاتب يفسخ الكتابة متى شاء، وما ذكروه يداني مذهب أبي حنيفة (3). فأما السيد، فالكتابة في جانبه لازمة لا يملك فسخها، إلا إذا حل النجم، وعجز المكاتب، أو امتنع، فيثبت له حقُّ الفسخ، ويتصف العقد بالجواز في هذه الحالة من الجانبين. فلو حلّ النجم، فاستنظر المكاتبُ، لم يَلْزمه إنظارُه إلا ريثما يخرج النجم من مخزن، أو دكان، ولو كان ماله غائباً، عجّزه المولى، ولم يَلْزمْه الإنظار. فأما إذا كان المكاتب غائباً بنفسه، وحل النجم، فالمذهب أن للسيد أن يعجِّزه بنفسه، ولا حاجة لرفع ذلك إلى حاكم، وذكر العراقيون هذا وصححوه، وحكَوْا وجهاً آخر - أنه يجب رفع الواقعة إلى مجلس الحاكم؛ فإنه نائب عن كل غائب، ثم

_ (1) مهما: بمعنى (إذا). (2) ت 5: " أن يفي ". (3) ر. الفتاوى الهندية: 5/ 17.

مهما (1) رفع السيد الأمر إلى القاضي واستدعى منه أن ينشىء الفسخَ، فالقاضي لا يجيبه، ما لم يتحقق عنده الأمر من حلول النجم، وظهورِ الامتناع، أو العجزِ، ولو فسخ السيد بنفسه، لكفاه ذلك. وليس هذا حقاً ثابتاً على الفور، فلو أخره أياماً، ثم فسخ، جاز له الفسخ، ولو أنظره ثم بدا له، جاز له الفسخ. 12615 - ومما يجب التنبه له أن المكاتب لو امتنع عن أداء النجوم، وقدر السيد على رفعه واستيداء النجم منه، ولكن آثر الفسخ لما امتنع المكاتب، فكيف الوجه؟ وهذا غمرة الباب، والغرض منه يبين بذكر أصلٍ بيّن، وهو أن من عليه الدين إذا امتنع وقدر المرتهن على استيفاء الدين منه، فليس له مبادرة بيع الرهن، وإن لم يكن له رهن، فليس له أخذُ غير جنس حقه، نعم إذا تحقق التعذر، ففيه الكلام. رجعنا إلى غرضنا، فإن ما قدمناه قد قررناه في موضعه، فنقول: لا يجب على العبد أداءُ النجم، فلا يتأتى توجيهُ الطّلبة عليه، وهذا واضح على طريق العراقيين، وهو على طريقنا بيّن؛ فإنَّ طلب الجائز (2) حملاً على تحصيل المطلوب محال، ولهذا لا يطالَب المشتري بالثمن في زمان الخيار، وإذا كان كذلك، فلا يتوقف الفسخ على تعذر الاستيفاء، بل إذا لم يوفِّ المكاتَب، فسخَ السيد. ولو حل النجم، فجاء المكاتَب، فأنظره المولى، وخرج المكاتبُ بإذنه، فلو أراد الفسخَ كما (3) بدا له، لم يكن له ذلك. نعم، يُعلمه أنه ندم على ما قدم، ثم على المكاتب أن يسرع الكرة، فإن أخر بحيث يقال: قصّر، فللسيد الفسخ حينئذ. وهذا الطرف يضاهي عَوْد الشفيع على قول الفور للطلب، كما قدرناه في موضعه. 12616 - فلو جن المكاتب، وقلنا لا تنفسخ الكتابة على الرأي الظاهر، فإن عرف السلطان له مالاً -وقد حلّ النجم- أداه عنه.

_ (1) مهما: بمعنى: إذا. (2) ت 5: " الجاني ". (3) كما: بمعنى (عندما).

وهذا فيه تأمل على الفطن؛ لأنه في حكم ولاية على مملوك، ولو كان مفيقاً ربما كان يفسخ، [أو لا يؤثر الأداء] (1). ولو لم يصادف القاضي له مالاً، فإن فسخ السيد بنفسه، فلا كلام، وإن أفاق، وأقام بينة على أنه كان قد أدى، حكمنا ببيّنته، وتبيّنا فساد التعجيز. ولو أفاق، وعرفنا أنه كان له مال؛ إذ عجّزه السيد، نُظر: فإن كان له مال في يد السيد، فالتعجيز مردود، وإن كان له مال لا يعرفه السيد، فالتعجيز نافذ بناء على قاعدة الباب، والسر الذي كشفناه في مأخذ الكلام في التعجيز. ولو حل النجم، وفي يد المكاتب عَرْضٌ، والنجم من نقد البلد، فإن تأتى بيع العَرْض على الفور (2)، [لم يكن] (3) للسيد أن يفسخ. وإن كان ذلك العرض كاسداً، ولا يتأتى بيعه إلا بعد زمان، فظاهر ما ذكره الصيدلاني أن السيد لا يفسخ، ولست أرى الأمر كذلك، لما مهدته من أن المكاتب إذا لم يأت بالنجم، فهو المقصر، ويثبت للسيد عنده سلطان التعجيز، وقيمة العرض غائبة، فيتجه أن نجعلها كمالٍ غائب. والعلم عند الله تعالى. فرع: 12617 - المولى إذا استسخر المكاتب مدةً، فموجب الواقعة أن يغرم له أجرة مثله في تلك المدة، (4 فإذا حل النجم، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يعجزه إن لم يكن معه وفاء؛ فإن المدة 4) التي استخدمه فيها عَوَّضه عنها، وقيمةُ المتلفِ تخلُف المتلفَ. وهذا هو القياس. والقول الثاني - أنه يلزمه أن يُنظره في مثل تلك المدة؛ فإنه ربما كان يتفق له في مدة الاستسخار تحصيلُ النجم، ولا يمكن سد باب التعجيز، فأقصى الإمكان أن يمهل مثلَ تلك المدة؛ فإنه لم يفته إلا ظنٌّ فيعوّضه عنه فسحةً للظن، تضاهي الفسحة الأولى. ثم إذا أمهله على هذا القول، لم يستردَّ الأجرة؛ فإن الأجرة بدلُ متلف، وهذه

_ (1) في الأصل: " إذ لا يؤثر الأداء "، وفي (ت 5): " أو لا يؤثر الإباء ". (2) ت 5: " الغرر ". (3) في الأصل: " ولم يكن ". (4) ما بين القوسين ساقط من (ت 5).

الفسحة لمقابلة ظن بظن. وما دامت الكتابة قائمة، فليست المنافع للسيد، حتى يقال: هذا جمعُ عوضين عليه، أحدهما: الأجرة والثاني: الإمهال. والأقيس القول الأول. وقد ذكرنا لهذا نظائر في كتاب النكاح إذا استخدم السيد العبد، وامتنع عليه الاكتسابُ للمهر والنفقة، وهذا تشابه في المأخذ. ثم تفريع كل أصل على حسب ما يليق به. ولو حبس غاصبٌ المكاتَبَ، وقلنا: إن حبسه المولى، لأمهله، فهل يمهله المولى؛ ذكر العراقيون على هذا القول وجهين. ومساق هذا يلزمهم أن يقولوا: لو مَرض لجرى هذا الخلاف أيضاً، وهذا بُعدٌ عظيم عن سَنَنِ المذهب، يجر خبالاً لا يرتضيه المحصل، ولكل أصل مأخذ، والفقيه من يحوّم عليه. وقد ذكرنا مأخذَ التعجيز ومقتضاه مصرِّح ببطلان ما قالوه، وقد يلزمهم أن يقولوا: إذا كسد عملُ المكاتب، ولم يكن منه تقصير، أو لم تتفق الصدقات، فإنه يمهل وهذا خُرْقٌ لا ينتهى إلى ارتكابه فقيه. والله أعلم. ***

باب الوصية بالمكاتب والوصية له

باب الوصية بالمكاتَب والوصية له قال: " وإذا أوصى به لرجل وعَجَز قبل الموت ... إلى آخره " (1). 12618 - إذا أوصى برقبة المكاتب لإنسان، وأطلق الوصية، ولم يقيدها بعجز المكاتب وانقلابه إلى الرق، فالوصية باطلة، حتى لو عجز المكاتب ورَقَّ قبل موت الموصي، فلا ننفذها عند موته، كما لو أوصى بعبد إنسان، ولم يعلق الوصية بدخولها في ملكه؛ فإن الوصية تبطل. ولو قال: إن ملكت هذا العبدَ، فقد أوصيت به لفلان، أو قال: إن عجز مكاتبي هذا، فقد أوصيت به لفلان، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أقيسها - بطلان الوصية اعتباراً بحالة التعليق، وقياساً على ما لو قال إن ملكت هذا العبد، فهو حر، وإن نكحت هذه المرأة، فهي طالق. والوجه الثاني - أن الوصية تصح؛ فإنها تقبل ما لا يقبل غيرُها، ووقت نفوذها وقت زوال ملك الموصي، يعني أنها تنفذ عند موت الموصي، وهو وقت انقطاع الملك. والوجه الثالث - أن الوصية تصح في المكاتب، إذا تقيدت بعجزه وَرِقِّه؛ من جهة أنها تعتمد في الحال ملكاً، ولا تصح الوصيةُ المضافة إلى ملك الغير، وإن تقيدت بتقدير ملك الموصي؛ فإنها لم تعتمد ملكاً في الحال. ولا فقه في هذا الوجه. وكل هذا مما أجرينا ذكره في تعليق الطلاق قبل الملك، ولم يخل كتاب الوصايا عنه أيضاً.

_ (1) ر. المختصر: 5/ 285.

فصل قال: " ولو قال: ضعوا عنه أكثر ما بقي عليه ... إلى آخره " (1). 12619 - الوصية بنجوم الكتابة جائزة إذا خرجت من الثلث، فإذا صحت الوصية، وأداها إلى الموصى له عَتَق. وإن خرج بعضها من الثلث أدى ذلك القدر إلى الموصى له، وأدى الزيادة إلى الورثة، ويعتِق. فإن عجز، فقال الموصى له: أُنظره حتى يجدَ، وقال الوارث أعجّزه، ثم في تعجيزه رده إلى الرق، وسقوط جميع النجوم، فللوارث أن يعجزه، وإن أدى تعجيزه إياه إلى بطلان الوصية، وتعليل ذلك بيّنٌ، وليس إلى الموصى له تعجيزه في هذا المقام إذا لم يعجِّزه الوارث. ولو كان أوصى برقبة المكاتب على تقدير عجزه، وصححنا الوصية، ثم إنه عجز بعد موت السيد، فقال الوارث: أُنظره، لم يكن له ذلك، بل يُعجَّز وتُسلّم رقبته إلى الموصى له، وإنما يتعاطى ذلك القاضي إذا تحققت الواقعة في مجلسه. ولو قال: ضعوا عن هذا المكاتب أكثرَ ما بقي عليه، ووفى الثلثُ واتسع، فالورثة يضعون عنه أكثر من نصف النجوم، ولو بزيادة حبة؛ فإن هذا أكثر ما عليه. والمسألة فيه إذا لم يكن أدى شيئاً، وعلة ما ذكرناه أن الوصايا تنزل على أقل موجب اللفظ، والنصف وأدنى زيادة ينطلق عليه اسم الأكثر، وإن زاد الورثة على ما ذكرناه وبلّغوا الزيادة دراهم فصاعداً، فقد قال الصيدلاني: كل ما يضعونه محمول على الوصية. ولا يكون ذلك منهم ابتداءَ تبرع؛ فإن اسم الأكثر، كما يمكن تنزيله على النصف وأدنى زيادة، فهو محتمل لما يزيد على هذا المبلغ، فإلى الورثة أن يحملوا اللفظ على محتملاته، ولهم تنزيلُه على أقل معانيه. وهذا الذي ذكره مأخوذ عليه؛ فما يزيد على الأقل المجزىء، فهو تفضل من الورثة على الابتداء، إذ لو اقتصروا على الأقل المجزىء، لقيل: لم ينقصوا من

_ (1) ر. المختصر: 5/ 285.

الوصية شيئاً، وإن كان الثلث متسعاً لأضعاف الوصية، وليس إلى الورثة تكثير الوصية وتقليلها، وإنما المستحق بها ما يجوز الاقتصار عليه، وهذا الذي ذكرناه يجري في كل وصية مرسلة لا تتقدر لفظاً بمقدار. ولو قال: ضعوا عن المكاتب أكثر مما عليه، فمقتضى هذا اللفظ أن يوضع عنه الكل وزيادة. ولفظ الزيادة لغو، فوضعنا الكل، وألغينا الزيادة. ولو قال: ضعوا عن مكاتبي ما شاء من الكتابة، فشاء الكل؛ لم نضعه، بل نبقي شيئاً وإن قلّ، لأنه قال: " من الكتابة "، وهذا يقتضي التبعيض. ولو قال: ضعوا عنه ما شاء، ولم يقل من الكتابة، فشاء الكل، والثلث متسع، فهل نضع الكل عنه؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا نضع عنه؛ فإنه لا تبعيض في اللفظ. والثاني - لا بد من تبقية شيء؛ فإنه لو أراد الكل، لقال: ضعوا عنه الكل إذا شاء. فرع: 12620 - إذا حل النجم على المكاتب، فجاء متبرع وأدى النجم عن مكاتَبه، فالسيد لا يلزمه قبوله؛ قياساً على مثل ذلك في جميع الديون، ولو قبله السيد، فهل يقع عن المكاتَب إذا كان ذلك بغير إذن المكاتب؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين أحدهما - أنه لا يقع عن المكاتب، وليس كالرجل يتطوع بأداء دين غيره بغير إذن من عليه؛ وذلك أن الكتابة الصحيحة -وإن كانت على حكم المعاوضة، وغلبت المعاوضة فيها- فلا بد من رعاية طرف من الاختصاص، والتعلّق بحكم التعليق، ولا تعلّق للعبد بهذا الأجنبي، ولم يرتبط به أيضاً إذن من المكاتب، فلا أثر لأدائه إذا كانت الحالة هذه. والوجه الثاني -وهو القياس- أن العتق يحصل إذا قبل السيد؛ اعتباراً بجميع الديون. وإذا حكمنا بالعتق عند الإبراء عن النجوم -وإن كان معلقاً على أدائها- لم نبق للتعليق أثراً أصلاً (1). فرع: 12621 - إذا جُن المكاتب، وحل النجم، وعجَّزه السيدُ، وكان ينفق عليه

_ (1) من هنا بدأ خرم آخر في نسخة (ت 5) بقدر ورقتين من قياس النسخة نفسها.

بعد التعجيز إنفاقَه على المماليك، فأفاق المجنون، وأقام البينة على أنه كان أدى النجم، فهل يرجع بما أنفقه؟ قال العراقيون: لا يرجع بما أنفقه؛ فإنه في حكم المتبرع. ولو ادعى أنه جهل الأداء أو نسيه، وأنفق على تقدير الرق -فالذي قاله ممكن- فهل يملك الرجوع بما أنفق -والحالة هذه-؟ فعلى وجهين، والذي قطع به أئمتنا أنه لا يرجع؛ فإن إنفاقه عليه مطلقاً فمَحْمَلُه الظاهرُ التبرعُ لا غير. [من عقود العتاقة التي تردد فيها الأصحاب] (1) 12622 - ذكر الشيخ أبو علي في [شرح] (2) التلخيص ما يشكل من عقود العتاقة، ويتعلق به تردد الأصحاب. فمما ذكره أن السيد إذا قال لعبده: بعتك من نفسك بألف درهم، فقال: قبلت، فالمذهب الصحيح أن العقد يصح، ويَعتِق العبدُ بالقبول، والألف يقع في ذمته، وخرّج الربيع قولاً أن ذلك لا يصح ويلغو، ولا يترتب عليه عتق، ولا حكم له أصلاً؛ [فإنه لا يعامل رقيقه بالبيع المحقق] (3)، وهذا وإن كان له وجه في القياس، فهو مزيف مردود، غير معدود من متن المذهب. فإذا فرعنا على الأصح -وهو الصحة- فإذا ابتاع نفسه، فالوجهُ تنزيل ذلك منزلة ما لو اشترى الإنسان من يعتِق عليه حتى يخرَّجَ الكلامُ، فإن خيار المجلس هل يثبت؟ وهل يصح فيه شرط الخيار؟ وقد ذكرنا هذا في شراء الإنسان قريبه. وحكى الشيخ أن الأصحاب خرّجوا عتق العبد على ما إذا اشترى الإنسان عبداً، ثم أعتقه في زمان الخيار. وهذا ذكره ما دام في المجلس، وهو تفريع منه على أضعف

_ (1) هذا العنوان من وضع المحقق. (2) زيادة اقتضاها تصويب الجملة؛ فإن الشيخ أبا علي صاحب شرح التلخيص، وليس التلخيص. (3) عبارة الأصل: " فإنه لما قبل رقيقه بالبيع المحقق ". والمثبت من المحقق، رعاية للسياق، واستئناساً بما قاله الغزالي في البسيط، والرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة. وقد حاولنا -كدأبنا- أن نؤدي المعنى بأقل تغييرٍ ممكن في اللفظ الموجود بالأصل.

الوجهين في شراء الرجل من يعتِق عليه، وهو منسوب إلى أبي بكر الأُودَني، فإنه أثبت خيار المجلس في شراء الرجل مَنْ يعتق عليه. وبالجملة شراء العبد نفسه أقرب إلى مقصود العَتاقة من شراء الرجل من يعتِق [عليه] (1). 12623 - ولو قال السيد لعبده: أنت حر على ألف درهم، فقال العبد: قبلته، صح ذلك، ونفذ العتق في الحال، وهو بماثبة ما لو قال الزوج لزوجته: أنت طالق على ألف، فقبلته. فأما إذا قال لعبده: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حر، أو إن أديت ألفاً، فأنت حر، فإذا أحضر ألفاً، فهذا -أولاً- فيه غموض؛ من جهة أنه لا يأتي بألف هو له؛ إذ لا ملك للعبد، ويقع هذا فيما إذا قال الرجل لزوجته: إن أعطيتني ألفاً، فأتت بألف مغصوب. ولكن نفرع على العتق، ونقول بعده: ما سبيل هذه المعاملة وكيف تنزيلها؟ ذكر الشيخ ثلاثه أوجه: أحدها - أن حكمه حكم الكتابة الفاسدة في التراجع: رداً ورجوعاً إلى القيمة، ثم يتبع الكسب. والوجه الثاني - أنه لا يتبعه الكسب والولد، ولكن نغرمه قيمتَه. والوجه الثالث - أنه لا نغرمه قيمتَه أيضاً. وفي وضع هذا الكلام اضطراب لا بد من كشفه، ونحن نقول: الكسب والولد الحاصلان قبل هذا التعليق لا يتبعان بلا خلاف، وإنما هذا التردد فيما حصل بعد التعليق من كسبٍ أو ولد، وكأن حاصل الكلام فيه يرجع إلى أن هذا اللفظ من السيد هل يكون كتابة فاسدة؛ فإن جعلناه كتابة فاسدة، يقع ما بعده من كسب وولد كما ذكرناه من كتابة فاسدة. ومن الأصحاب من لم يجعله كتابة فاسدة، ثم هؤلاء اختلفوا: فقال بعضهم: تعليق محضٌ، لا يتضمن الرجوع بالقيمة أيضاً. وقال آخرون - لا بد من ثبوت

_ (1) زيادة اقتضاها السياق.

مسائل مشتتة لابن الحداد

الرجوع عليه بالقيمة، كما لو قال الزوج لزوجته: إن أعطيتني ألفاً، فأعطته مغصوباً؛ فإنه يرجع عليها عند وقوع الطلاق، والقائل الأول يقول: كانت المرأة من أهل الالتزام لما خوطبت، بخلاف العبد القن، فحُملت المعاملة مع العبد على التعليق المحض. وقد نجزت مسائل السواد في الكتاب. واتفق أن ابن الحداد بعد نجاز ترتيب الكتب ذكر مسائل [من مولَّداته أشتاتاً] (1)، وعطفها على الكتب من غير ترتيب، ولو أوردها في مواضعها، لكان ذلك أولى، ولكن إذا لم يتفق، فنحن نأتي بما نعلم أنه لم يَسبق له ذكرٌ أو تردُّدٌ فيه، فإن اتفقت إعادة، لم تضر، وهي أولى من الإخلال. مسائل مشتتة لابن الحداد فروع في البيع: 12624 - منها - إذا اشترى جاريةً مزوّجة، وشرط أن تكون بكراً، فلو خرجت ثيباً، ففي ثبوت الخيار له وجهان: أحدهما - أنه لا خيار له؛ فإن بُضع الجارية مستحَقٌّ للزوج، لا حظ للمشتري فيه، فلا يتخلف عنه بالثيابة غرض، والوجه الثاني - أنه يثبت له الخيار؛ فإن الثيابة نقصٌ بالإضافة إلى البكارة، وقد يتوقع موت الزوج أو تطليقه إياها قبل الافتضاض. فرع: 12625 - إذا اشترى الرجل جاريةً، وكانت وضعت قبل البيع ولداً، ووضعت بعد البيع ولداً، لأقل من ستة أشهر من انفصال الولد الأول، فنعلم أنهما حمل واحد، فظاهر نص الشافعي أن الولد من البائع، وهذا خلاف القياس؛ فإن الجارية وإن ولدت في يد البائع أحد التوأمين، فالثاني مجتن حالة البيع متصل، فينبغي أن يتناولَه العقدُ، ولا أثر في هذا المقام لكونهما توأمين. قال الشيخ أبو علي: كان الشيخ الخِضري يحكي قولين في المسألة، أحدهما - ما

_ (1) في الأصل: " من مولداتها شتاتاً " والمثبت من المحقق، فقد سبق للإمام أن عقد فصلاً بعنوان مسائل من مولدات ابن الحداد.

نسبناه إلى النص. والثاني - ما رأيناه الصواب الذي لا يسوغ غيره، ثم إذا حكمنا بأن الحمل للبائع، فيجب أن نحكم بفساد البيع في الأم على ظاهر المذهب، كما لو باع جارية حاملاً بولد [منه و] (1) كما لو باع جاريةً حاملاً فاستثنى. فرع: 12626 - إذا اشترى الرجل جارية، فأتت الجارية بولد فقال المشتري: ولدت هذا الولد بعد الشراء، وقال البائع: بل ولدته قبل البيع، فهذه المسألة كتبها الحليمي إلى الشيخ أبي زبد يستفتيه فيها، فأجاب بأن القول قول البائع؛ فإن الأصل ثبوت ملكه في الحمل، والأصل عدم البيع في وقت الولادة، هكذا حكاه الشيخ أبو علي، ولم يزد عليه. فرع: 12627 - إذا باع رجل عبداً بثوب، ثم إن من أخذ الثوب فصّله وقطعه، فوجد الثاني بالعبد عيباً قديماً، فله ردُّه بالعيب، ثم إذا ردّه، فقد حكى الشيخ وجهين: أحدهما - أنه يسترد الثوب مقطوعاً، ويسترد أرش النقص، وهذا هو القياس؛ فإن الثوب لو تلف في يد آخذه، ثم رد عليه [عبده] (2) بالعيب، لكان يغرم تمام القيمة عند تلف الثوب، فكذلك يجب أن يغرم أرش النقص مع رد الثوب، وليس هذا كما لو تعيّب المبيع في يد البائع؛ فإنا نقول للمشتري: إما أن تفسخ البيع، أو ترضى به معيباً، وليس لك طلب الأرش، وذلك لأن المبيع غير مضمون على البائع بالقيمة. ولو تلف المبيع قبل القبض، لم يغرم قيمته؛ فلما لم يكن المبيع مضموناً عليه بالقيمة لو تلف، لم يكن بعضه مضموناً عليه بالأرش. والوجه الثاني - أنه إذا رد العبدَ، وصادف الثوب مقطوعاً معيباً، فهو بالخيار: إن شاء رضي بالثوب معيباً، واسترده من غير أرش، وإن شاء ترك الثوبَ، ورجع بقيمته غيرَ معيب؛ فإن اختار الثوب، فلا أرش له. قال الشيخ رضي الله عنه: اشتهر من كلام الأصحاب أن المتبايعين إذا تحالفا،

_ (1) كلمة " منه " مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. و" الواو " زيادة من المحقق. (انظر صورة عبارة الأصل). (2) في الأصل: " عَرْضه ".

وكان عاب المعقود عليه في يد أحدهما، فإنهما يترادان، ويُرجَع على من نقص العوض في يده بأرش النقص عند التفاسخ، ولا فرق بين هذه المسألة وبين مسألة العبد والثوب. فإن طرد صاحبُ الوجه الثاني مذهبَه في مسألة التحالف، كان ذلك قُرْباً من خرق الإجماع، وإن سلّمه، بطل هذا الوجه في المعيب أيضاً، وشبب الشيخ أبو علي بإجراء الخلاف في مسألة التحالف. فروع في الوكالة 12628 - أحدها - إذا وكّل إنساناً ببيع متاعه مطلقاً، فباعه وشرط الخيارَ للمشتري وحده، أو لنفسه، وللمشتري، فالبيع باطل؛ فإن الوكيل المطلق لا يبيع عندنا بأجلٍ؛ لما فيه من تأخر الطلب، والخيار شرّ من الأجل؛ فإنه يمنع الملكَ، أو لزومَ الملك. ولو باع وشرط الخيار لنفسه، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما - يصح؛ فإن الخيار للبائع مزيدُ حق، وليس يقتضي جوازاً في جانب المشتري. والوجه الثاني - أنه لا يصح؛ لأن الوكيل أثبت مزيداً لا يقتضيه مطلقُ البيع، ولو صح الشرط، لثبت للوكيل الخيار، وهذا حق أثبته لنفسه من غير إذن موكله. ولو وكّله بشراء عبد، فاشتراه بثمن مثله مؤجلاً، وكان ذلك المبلغ بحيث لو قدر نقداً، لما كان المشتري مغبوناً؛ ففي صحة الشراء عن الموكِّل خلاف، والأصح الصحة؛ فإن الأجل في هذه الصورة زيادةٌ محضة. ومن منع انصراف الشراء إلى الموكل، احتج بأن التوكيل المطلق بالبيع والشراء يجب تنزيله على ما ينزل العقد عليه إذا كان مطلقاً، والعقد المطلق لا يقتضي أجلاً. فرع: 12629 - إذا وكل رجلاً ببيع شيء، ولم يصرح بتوكيله بقبض الثمن، فهل له قبضُ الثمن بمطلق الوكالة؟ فعلى وجهين مشهورين، وليس للوكيل تسليم المبيع قبل قبض الثمن، فلو سلم المشتري الثمنَ إلى الموكل، فالوكيل يسلم المبيعَ لا محالة، ولفظ التسليم مستعار في هذه الصورة؛ فإن المشتري إذا وفر الثمن، فله الاستقلال بأخذ المبيع من غير تسليمٍ من البائع.

فرع (1): 12630 - إذا قال لرجل: وكِّل فلاناًً بأن يبيع ثوبي، فهذا المخاطَب موكّل بالتوكيل، وليس له أن يبيع؛ فإنه لم يفوِّض إليه البيعَ، فإذا وكل المأمورُ وكيلاً، فالوكيل بالبيع وكيل الموكِّل الأول، وليس وكيلاً للوكيل؛ حتى لو أراد عزله، لم يملكه، وإنما يعزله الموكِّل الأول، والسبب فيه أنه وكّل الأول بأن يوكل، وقد وكل، وتم ما فُوِّض إليه وانقضى تصرفه. [فمآله العزل] (2). وهو كما لو وكل رجلاً ببيع متاع، فإذا باعه، لم يكن له بعد البيع نقضُ البيع، وبمثله لو وكل رجلاً، وجوز له أن يستنيب ويوكل في البيع المفوض إليه، فإذا فعل ذلك، فالوكيل الثاني وكيل صاحب المتاع أم هو وكيل الوكيل الأول؟ فعلى وجهين، وفائدة ذلك أن الوكيل الأول -على أحد الوجهين- يعزل الوكيل الثاني، وكأنا نجعل الثاني فرعاً للأول، والفرق بين هذه الصورة والأولى؛ أن الوكيل الأول إذا كان موكلاً بالبيع، فوكل من يبيع، فسلطان الوكيل الأول باقٍ في البيع لو أراده، فما انقضى تصرفه، بخلاف المسألة الأولى. مسألة في الإقرار بالنسب 12631 - قد ذكرنا من مذهب الشافعي أن من مات، فأقر بعضُ ورثته المناسبين بوارث، لم يثبت النسب، حتى يتفق الورثة. وذلك بيّن ممهّدٌ في موضعه. فلو أقر الكافة إلا زوجاً، أو زوجة، فالمذهب الأصح أن النسب لا يثبت حتى يوافق الزوج، أو الزوجة، فإنهما من الورثة، وجملة الورثة ينزلون منزلةَ الموروث؛ فإقرار جميعهم بمثابة إقرار الموروث في حقوقه. وحكى الشيخ وجهاً ثانياً أن النسب يثبت وإن أنكره أحد الزوجين، لأنهما ليسا من أهل النسب، وإن كانا من جملة الورثة، والأصح الأول. ولو مات رجل، وخلف بنتاً، فأقرت بابن لموروثها، لم يثبت نسبه؛ فإن البنت ليست مستغرقة للميراث، بل نصف الميراث لها، والباقي مصروف إلى المسلمين.

_ (1) من هنا عادت نسخة (ت 5) بعد انتهاء الخرم الذي أشرنا إليه آنفاً. (2) في النسختين: " فما له والعزل " والمثبت من تقدير المحقق.

مسائل في المواريث

فلو أقرت بنسب ابنٍ وساعدها على الإقرار الإمامُ، فقد ذكر الشيخ وجهين: أحدهما - أن النسب يثبت بموافقة الإمام، وهو لسان أهل الإسلام، فكأنهم أقروا مع البنت. والوجه الثاني -وهو الذي لا يجوز غيره- أن النسب لا يثبت؛ فإن الإمام في حكم النائب، وإقرار النائب في هذا المقام لا ينفع؛ فإن من خلف ولدين أحدُهما طفل، فاعترف البالغ منهما بنسب ابن ثالث، وساعده قيّم الطفل، لم يثبت النسب حتى يبلغ الطفل، فينظر: أيساعِد في الإقرار، أم يخالِف، فإذا خلف بنتاً في ظاهر الحال - فلو جاء ابن وادعى أنه للمتوفى، فإقرار البنت لا يكفي؛ لأنها ليست مستغرِقة، ولو فرضنا إنكارها، فقد قال الشيخ: إذا أنكرت، لم تحلّف؛ فإنا لو حلّفناها ونكلت، ورددنا اليمين، فلا حكم لما يجري من ذلك. وعندنا أن يمين الرد لو جعلناها بمثابة البينة، فيتجه تحليفها رجاء أن تنكُل، فترد اليمين، ويتنزل حلف المردود عليه منزلة بينة تقوم على النسب، وهذا ضعيف؛ من قِبل أن القضاء بالنسب لا يقع على البنت، وإنما يقع على الميت، وقد ذكرنا أن يمين الرد لا تنزل منزلة البينة في حق غير المستحلف (1). مسائل في المواريث 12632 - إحداها - إذا مات رجل وخلّف ابني عم، أحدهما أخ لأم؛ فالمذهب المشهور للشافعي أنا نفرض سدس المال للذي هو أخ لأم، والباقي نقسم بينهم للعصوبة. وقال عمرُ، وابنُ مسعود (2): يدفع تمام المال إلى الذي هو أخ لأم، ويقوى تعصيبه بزيادة القرابة، قياساً على الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب. قال الشيخ رضي الله عنه: من أصحابنا من خرج للشافعي قولاً مثل مذهب عمر

_ (1) بدأ سقط آخر من (ت 5) وهو نحو ثلاث ورقات من قياس النسخة ذاتها. (2) مذهب عمر وابن مسعود رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي (ر. مصنف عبد الرزاق 10/ 249، 287، 288، مصنف ابن أبي شيبة: 2/ 180، 181، السنن الكبرى: 6/ 255، موسوعة فقه عمر: ص 46، موسوعة فقه ابن مسعود: ص 70).

وابن مسعود، وهذا غريب غيرُ معتد به. ولو كان للمعتِق ابنا عم أحدهما أخ لأم، فللشافعي قولان - هكذا قال الشيخ: أحدهما - أن أخوة الأم تَسقُط، ولا يبقى لها أثر، وإذا سقطت بقي ابنا عم المعتق، فالميراث نصفان بينهما. والقول الثاني - أن ابن العم الذي هو أخ من الأم أولى بالميراث ويسقط الآخر. وهذا القول مذكور في عصبات الولاء. قال ابن الحداد: لو خلف المتوفى بنتاً وابني عم، أحدهما أخ لأم: فللبنت النصف. وباقي المال للذي هو أخ لأم. قال: وليس هذا تفريعاً على مذهب ابن مسعود. وهذا جواب ابن الحداد. وقد اختلف أصحابنا في ذلك. فقال قائلون: للبنت النصف والباقي بين ابني العم، لأن أخوة الأم صارت محجوبةً بالبنت، وصارت كأنها لم تكن، فقُسم باقي المال بينهما، ومن أصحابنا من قال: الصحيح ما قاله ابن الحداد؛ فإن أخوة الأم لم يمكن التوريث بها مع البنت، فلما تعذر استعمالها في التوريث بها وحدها، أعملناها في الترجيح، وتقوية العصوبة. وهذا الخلاف بعينه هو الذي ذكرناه في ابني عم المعتق إذا كان أحدهما أخاً لأم. والجامع أن الأخوة محققة في المسألتين، وامتنع إعمالها في الولاء وحدها لاستحالة التوريث [بها] (1)، والبنت في المسألة التي كنا فيها حجبت أخوة الأم، فأنتظم قولان في الصورتين. مسألة: 12633 - إذا اجتمع في الشخص قرابتان، يحل في الإسلام التسبب المؤدي إلى جمعهما، فيجوز التوريث بهما جميعاً، وذلك مثل أن يكون ابن العم أخاً من أم. فأما إذا اجتمع في الشخص قرابتان لا يحل التسبب المفضي إليهما في الإسلام، وإنما يجتمعان بسبب شبهة وغلط في الإسلام، ويتصور اجتماعهما على خلاف الملة، كما يقدّر بين المجوسيين؛ فإذا اجتمعت قرابتان كذلك، فيقع التوريث عند

_ (1) في الأصل: " بهما ".

الشافعي رضي الله عنه بأقربهما، ويسقط أضعفهما، ولا يقع التوريث بهما جميعاً. وذهب ابن سريج إلى التوريث بالقرابتين في بعض الصور، على ما سنصفه في أثناء الكلام. فلو وطىء المجوسي ابنته، فولدت بنتاً، فهذه البنت الصغرى بنت الكبرى وأختها من أبيها، فإنها ولد أبيها. فلو ماتت الكبرى، ولم تخلّف سوى بنتها التي هي أختها من أبيها، فقد اجتمع فيها البنوة والأخوة، فمذهب الشافعي أنها ترث بالبنوة، ولا ترث بالأخوة أصلاً. فلها نصف الميراث بالبنوة. وقال ابن سريج -في هذه الصورة- إنها ترث بالقرابتين، فلها النصف بكونها بنتاً، والباقي لها بكونها أختا (1). وحقيقة أصله: أنه إذا اجتمع قرابتان، كل واحدة منهما لو انفردت، لاقتضت فرضاً مقدراً، فإذا اجتمعتا، لم يقع التوريث إلا بإحداهما، وهي أقواهما، ولا سبيل إلى الجمع بين فرضين. وإن كانت إحدى القرابتين بحيث تقتضي فرضاً والأخرى تعصيباً، فيثبت التوريث بالفرض والتعصيب جميعاً، فعلى هذا لو ماتت الصغرى في الصورة التي قدمناها، ولم تخلف إلا أمها وهي أختها من الأب أيضاً، فلا نورثها إلا بكونها أماً؛ فإن الأمومة أقوى، ولا ترث بالأخوة؛ لأنها لو ورثت بها، لاجتمع لها فرضان. 12634 - فإذا تمهد ما ذكرناه، فنذكر صوراً لابن الحداد في ذلك: فإذا وطىء المجوسي بنته، فولدت بنتاً، ثم هو بعينه وطىء البنت الصغرى، فولدت ابناً، فماتت البنت الصغرى أم الغلام، ثم مات الابن، فنقول: لما ماتت البنت، فقد خلفت أبوين وابناً، فللأبوين السدسان، والباقي للابن. فلما مات الابن، فقد خلف أباً وجدة: هي أم الأم، وهي أيضاً بعينها أخت الابن المتوفى،

_ (1) استحقت بالأخوة -على مذهب ابن سريج- باعتبار الأخت عصبة مع البنت، وهذا أصل ابن سريج الذي سيأتي بيانه الآن، وأنه يجوز الجمع بين الفرض والتعصيب، ولا يجوّز الجمع بين فرضين.

فللجدة السدس، والباقي للأب، ولا ترث الجدة بكونها أختاً؛ فإن الأب يسقط الأخت، فورثت بالجدودة المحضة. ولو كانت الصورة كما ذكرناها، ولكن مات الأب أولاً، ثم مات الابن، وبقيت البنتان: فأما الأب لما مات، فقد خلف ابناً وبنتين، فالمال بينهم: للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا توريث إلا بهذه الجهة. فلما مات الابن، فقد خلف أما هي أخت -وهي الصغرى- وجدة -وهي أخت أيضاً- وهي الكبرى؛ فأما الأم، فترث بالأمومة الثلث، ولا ترث بالأخوة، وأما الجدة، فلا ترث بالجدودة؛ فإن الأم تُسقط أمَّ الأم، ولكنها ترث بالأخوة، فللأم الثلث، وللجدة بالأخوة النصف، والباقي لبيت المال، هذا جواب ابن الحداد، وافقه الأئمة فيه. وبمثله، لو مات الأب أولاً، ثم ماتت البنت الصغرى -أم الغلام- ثم مات الغلام، فنذكر ميراث الغلام -فهو المقصود- ونقول: قد خلّف الغلام جدة، هي أخت من الأب، قال الشيخ: ذكر ابن اللبان (1) في هذه المسألة وجهين: أحدهما - أنا نورثها بالأخوة، فتأخذ نصف الميراث؛ فإن نصيبها بالأخوة أكثر. والثاني - أنا نورثها بالجدودة سدساً، وهو الصحيح، لأن الجدودة أقوى بدليل أن الجدة أم الأم لا يحجبها الأب، ولا أحد من الأولاد، والأخ يسقطه هؤلاء، فلا نعتبر الكثرة، وإنما نعتبر القوة. مسألة في قسم الصدقات 12635 - إذا دفع من عليه الزكاةُ شيئاً من سهم ابن السبيل إلى إنسان ليسافر، ولم تكن له أُهبة، فورث مالاً، أو اتهبه، أو أُوصي له به، فقبله قبل أن يسافر، فالذي أخذه يردُّه؛ فإنه أخذه لحاجته وقد زالت. والسفر أمر متوقّع في ثاني الحال. ولو دَفَع إلى فقيرٍ أو مسكين شيئاً من الصدقة، فاستغنى بعد ذلك بمالٍ أصابه، فلا

_ (1) ابن اللبان: محمد بن عبد الله بن الحسن، الإمام أبو الحسين بن اللَّبَّان، البصري الشافعي. إمام عصره في الفرائض وقسمة التركات، توفي ببغداد سنة 402 هـ. (طبقات السبكي: 4/ 154، العبادي: 100، الشيرازي: 99، الإسنوي: 2/ 362، وتاريخ بغداد: 5/ 472).

يرد ما أخذه؛ فإنه استحقه بوصف قائمٍ متحقَّق، فزواله لا يوجب الرد، وابن السبيل استحق لاْمر سيكون منه في الثاني، ولو أخذ ليسافر، ثم بدا له، فعليه ردُّ ما أخذه مذهباً واحداً. وما ذكرناه في ابن السبيل يجري في الغازي، فلو أخذ ليخرج غازياً، فلم يخرج، ردّ ما أخذ. قال الشيخ: لو سلمنا إلى ابن السبيل شيئاً، فخرج وعاد، وقد فضلت فضلة مما أخذه مع انقضاء وطره في سفره، فيلزمه ردُّ الفاضل، والغازي لو خرج وعاد مع فضلة، فلا يردها، هكذا قال الشيخ؛ فإن خروجه يرجع إلى مصلحة المسلمين، فكأنه كالمستأجر في خَرْجَته، وهذا لا يتحقق في ابن السبيل. ولو دفع شيئاً إلى الغارم، فأبرأه مستحق الدين، فهل يستردُّ منه ما دفعه إليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسترد كما يسترد من ابن السبيل. والثاني - لا يسترد، كما لا يسترد من الفقير إذا استغنى بعد الأخذ. وعلى حسب ذلك اختلفوا في أنا إذا سلمنا إلى المكاتب شيئاً من سهم الرقاب، فأعتقه سيده، فهل نسترد منه ما أخذه من الصدقة؛ فعلى وجهين. ومما ذكره الشيخ أنه لو كان الدين مؤجلاً على الغارم أو المكاتب، فهل يجوز صرف الصدقة إليهما، فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - لا يجوز؛ فإنهما غير مطالَبَيْن. والثاني - يجوز لثبوت الدين؛ فإن عين المطالبة لا تشترط؛ إذ الفقير لا يطالب بالدين. والثالث - أنه يصرف إلى الغارم، دون المكاتب؛ فإن المكاتب مهما شاء عجّز نفسه، وهذا الوجه الثالث بالعكس أولى، فإن ما ذكرناه يتحقق في النجم الحالّ أيضاً؛ فالوجه أن نقول: المؤجل في حق المكاتب كالحالّ؛ فإنه لو جاء بالنجم قبل حلوله لأجبر السيد على قبوله، مذهباً واحداً. مسألة من النكاح 12636 - إذا ادعى الرجل على أبِ بنتٍ أنه زوّج منه بنته، فلا تخلو البنت: إما أن تكون ثيباً وقت الدعوى أو بكراً، فإن كانت بكراً، لم يخل إما أن تكون صغيرة أو

كبيرة، فإن كانت صغيرة بكراً، فلا يخلو الأب المدعى عليه إما أن يقر بأنه زوجها أو ينكر، فإن أقر للمدّعي، فيقبل إقراره، ويثبت النكاح؛ فإنه لو أنشأ تزويجها، لنفذ، فإذا تصور منه الإنشاء، قُبل منه الإقرار. ولو أنكر، وقال: ما زوّجتها أصلاً، فتتوجه عليه اليمين، فإن حلف، انتفى النكاح، وإن نكل ردت اليمين على المدعي، فإن حلف، ثبت النكاح. 12637 - ثم فرعّ الشيخ على ذلك. وقال: لو ادعى أجنبي على الأب: أنك بعت مني هذا العبدَ من مال طفلك، فإن أقرّ به، قُبل إقراره اعتباراً بالإنشاء، فإذا ثبت أنه يصح منه [الإنشاء، يصح منه] (1) الإقرار. فلو أنكر البيعَ، قال الشيخ: يحلّفه المدعي، كما ذكرناه في النكاح، ويجري حكم الرد والنكول على القياس المتقدم. ثم قال الشيخ: كان يجري بيني وبين الشيخ القفال كلام، فقال: الأب لا يحلّف في هذه الصورة إذا تعلقت الخصومة بمال الطفل، ولكن يوقف الأمر حتى يبلغ الطفل ويحلف أو ينكل؛ فإن اليمين لا تدخلها النيابة؛ وهذه اليمين متعلقة بحق الطفل، قال الشيخ: الوجه عندي القطع بأنه يحلف اعتباراً بالإقرار، فيتخذ قبول الإقرار أصلاً في جواز التحليف عند الإنكار؛ وقياس ما ذكره القفال أن لا يحلّف الأب في التزويج أيضاً؛ إذ لا فرق. وهذا فيه بُعْد. ولو اختلف الأب ومن اشترى منه شيئاً من مال الطفل في مقدار الثمن، تحالفا عند الشيخ، وقياس ما ذكره القفال أن لا يتحالفا. هذا كله إذا كانت البنت صغيرة بكراً. 12638 - فأما إذا كانت بالغة بكراً، فادعى على الأب تزويجها منه، فإن أقر بتزويجها، قبل إقراره عليها -وإن أنكرت هي- فإنه يملك إجبارها، فيملك الإقرار بها. ولو أنكر الأب، فهل يحلّفه المدعي؟ قال الشيخ: اختلف أصحابنا في ذلك:

_ (1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

مسائل في الجراح

منهم من قال: إنه يحلّف الأب، كما يحففه لو كانت صغيرة بكراً؛ إذ الإجبار والإقرار يجريان في الصورتين، والتحليف مأخوذ من قبول الإقرار. وهذا ما أجاب به ابن الحداد. فعلى هذا: إذا حلف الأب، لم يخفَ حكمه، ولو نكل وحلف هو يمين الرد، ثبت النكاح. ولو حلف الأب، فله أن يدعي على البنت بعد سقوط الدعوى عن الأب بالحلف؛ فإن أقرت، قُبل إقرارها على الصحيح، وإن أنكرت، حلّفها، فإن نكلت، حلف يمين الرد، وثبت النكاح، وإن كان حلف الأب، فلا يقدح ذلك في يمينه المبنية على نكولها، ولو حلفت، سقط حقه حينئذ لاجتماع حلف الأب والبنت. والوجه الثاني - في الأصل أنه ليس للمدعي تحليف الأب، وإن كان يُقبل إقراره؛ فإنه قادر على تحليف المرأة البالغة، فهي باليمين أولى. هذا كله إذا كانت المرأة بكراً. فأما إذا كانت ثيباً، فادعى على الأب تزويجها، فليس له تحليف الأب؛ فإنه لو أقر، لم يُقبل إقراره، إذ لو أنشأ تزويجها في صغرها ثيباً، لم ينفذ، والإقرار معتبر بالإنشاء. مسائل في الجراح 12639 - منها - مسألة نقول في مقدمتها: من قطع طرف رجل، فطلب المجني عليه الأرش، ففيه اختلاف النصوص، والأقوال، وطرق الأصحاب. ولو طلب القصاص، فالمذهب أن له ذلك. وحكى الشيخ أن من أصحابنا من جعل في القصاص قولين، وهذا بعيد، لا أعرف له وجهاً. ومما نذكره في المقدمة: أن الرجل لو قطع يدي رجل، فمات المظلومُ، ثم قطع وليُّه يدي الجاني، فاندمل، فأرادوا طلب المال في النفس، فليس لهم ذلك؛ فإنهم قد استَوْفَوْا ما يقابل ديةَ النفس، وهذا معلوم في أصول المذهب.

ولو قطعت امرأة يدي رجل، فمات المظلوم، فقطع الولي يديها، ثم أراد المطالبة بمال، قال: في المسألة وجهان: أحدهما - لا يجب شيء من المال؛ فإن يديها في مقابلة نفسها، ولو ماتت، لكان نفسها بنفسه، فكذلك يداها تقعان في مقابلة دية الرجل، فلا مطالبة بالمال بعد قطع يديها. والوجه الثاني - أنه يجب عليها نصفُ دية الرجل؛ فإن الولي استوفى ما يقابل نصف دية الرجل، فتبقى الطلبة في نصف الدية. رجعنا بعد ذلك إلى مسألة ابن الحداد، قال: لو قطع رجل يدي رجل، فاندملت الجراحة ظاهراً، فقطع المجني عليه إحدى يدي الظالم قصاصاً، وأخذ أرشَ الأخرى، ثم انتقضت جراحة المظلوم، وسرت إلى نفسه، والظالم باقٍ، فليس لورثة المظلوم طلبةٌ على الجاني في قصاص ولا دية، أما سقوط القصاص في النفس، فسببه أن في إتلاف النفس إتلاف الطرف، وقد عفا عنه؛ إذ أخذ الأرش، ولا دية أيضاً؛ فإنه قد استوفى ما يقابل ديةً كاملة. وهو القصاص في يدٍ والأرش في الأخرى. 12640 - ثم ذكر ابن الحداد صورة أخرى، فقال: لو قطع يدي رجل ظلماً، فاندملت جراحةُ المظلوم حقيقةً، ثم إنه قطع إحدى يدي الظالم قصاصاًً، وأخذ أرش اليد الأخرى، ثم سرت يد الظالم إلى نفسه ومات، قال: لا يسترد ورثة الظالم من المظلوم أرش اليد الذي أخذه أصلاً. قال الشيخ: هذا يخرّج على قولين مبنيين على أن الطرف إذا فات بسراية القصاص، فالسراية في الأطراف هل يقع بها القصاص؟ فعلى قولين سبق ذكرهما في الأصول: أحدهما - أن السراية في الأطراف لا يقع بها القصاص، كما لا يجب بها [الدية] (1) والثاني - يقع بها القصاص. فإن قلنا: لا يقع بها القصاص، فالجواب ما قاله ابن الحداد؛ فإن المظلوم اقتص عن يد واحدة، ثم سرى القصاص إلى النفس، وفي موت النفس ضياع الطرف، ولا مبالاة به. وإن قلنا: السراية في الطرف يقع بها القصاص، فنقول: قد استوفى

_ (1) في الأصل: " القصاص ".

طرفاً وسرى إلى الطرف الآخر، فإنه لما مات، فقد فات ذلك الطرف، فوقع القصاص في الطرفين قطعاً وسراية، فعليه حينئذ أن يرد ما أخذه من الأرش. والصحيح من القولين ما فرعّ عليه ابن الحداد (1). مسألة أخرى من الجراح 12641 - إذا قطع عبد يد عبد، واستوجب القصاص، ثم إن المظلوم عَتَق، وسرت الجراحة إلى نفسه، فعلى العبد الظالم القصاص في النفس والطرف، وحق القصاص في الطرف يثبت للسيد؛ فإنّ قطعَ اليد اتفق في ملكه، وحقُّ القصاص في النفس يثبت لورثته الأحرار؛ فإنه هلك حراً. فلو أن السيد استوفى القصاص من طرف العبد الظالم، فمات الظالم منه، فقد وقع النفس بالنفس؛ فإن الظالم مات بعد موت المظلوم بالقصاص. وهذا حسن. وقد يخطر للفقيه فيه إشكال؛ من جهة أن السيد المقتص من الطرف لا حقَّ له في قصاص النفس، ومن له الحق في النفس، لم يستوف القصاص في الطرف. ولكن لا وجه إلا ما ذكرناه؛ فإن النفس فاتت بطريق القصاص، وكأن السيد وإن لم يملك القصاص في النفس، ملك ما هو استيفاء للنفس، ونحن قد نصرف إليه من دية هذا الذي مات حراً جزءاً، وإن كان مالك الرق لا يستحق بدل الحرية، وهذا حسن بالغ، لا وجه غيره. ولو أن ورثته الأحرار عفَوْا عن القصاص في النفس، قبل أن يستوفي السيد القصاص في الطرف، قال الشيخ: سألت القفال عنه. فقال: ينبغي أن يسقط القصاص في الطرف أيضاً؛ فإن ورثته الأحرار، ثبت لهم إتلافُ الأطراف باستيفاء النفس، فلهم من هذا الوجه شركة في الطرف، فإذا عَفَوْا عن النفس، وجب أن يسقط القصاص في الطرف. قال الشيخ: القياس عندي أن السيد له حق الاقتصاص في الطرف؛ فإن ذلك ثبت

_ (1) إلى هنا انتهى السقط الأخير من نسخة (ت 5).

مسائل من السير

له مقصوداً، ولا خلاف أنه لو أراد استيفاء الطرف، لم يحتج إلى استئمار ورثته الأحرار، ولو كانت لهم شركة معتبرة، لوجب استئذانهم. مسألة من الحدود 12642 - قال رضي الله عنه: العبرة في الحدود وصفتُها ومبالغُها بوقت الوجوب، وبيانه أن الحر [الذمي] (1) إذا زنى، ورضي بحكمنا، فحكمنا عليه بالرجم؛ إذ كان محصناً، فلو أفلت، ونقض العهد، ولحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وأَرَقَّه الإمام، فإنا نرجمه رقيقاً بالزنا السابق، وهذا على أن الحد لا يسقط بالهرب؛ فمانَّ نقض العهد زائد على الهرب. ولو قذف ذمِّيٌّ مسلماً محصناً، واستوجب بقذفه ثمانين جلدة، ثم نقض العهد، واستُرِق؛ فإنا نحده ثمانين جلدة، وإن كان حدُّ الرقيق أربعين جلدة. مسائل من السير 12643 - منها: إذا أسر الإمام رجالاً من الكفار، فأسلم بعضُهم، فالأصح أنه يبقى له الخيار فيمن أسلم بين المن، والفداء، والاسترقاق، ولا شك في سقوط القتل. ومن أصحابنا من قال: من أسلم، فقد رَقَّ، وهذا ظاهر النص؛ فإن الشافعي رضي الله عنه قال: " لو أسلموا بعد الإسار رَقّوا " وقد أوضحنا [هذا] (2) في الأصول. فلو قبل أسيرٌ الجزيةَ بعد الإسار، وكان كتابياً، ففي تحريم قتله وجهان مشهوران: فإن قلنا: لا يحرم قتله، تخير الإمام بين خمسة أشياء: إن شاء منّ، أو فادى، وإن شاء قتل، أو استرق، أو قبل الجزية. وإن قلنا: يحرم قتله بقبول الجزية، فقد قال الشيخ: إن حكمنا بأن من أسلم

_ (1) زيادة من (ت 5). (2) زيادة من المحقق.

رَق، فهذا هل يرق بقبول الجزية؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرِق، كما لو أسلم، وهذا ضعيف، لا اتجاه له. مسألة أخرى من السير 12644 - إذا نكح المسلم حربية، فهل تسبى زوجته؟ فعلى وجهين مشهورين. تقدم ذكرهما: فلو نكح مسلم حربية، وقلنا: إنها تسترق، فسُبيت واسترقت، فلا يخلو، إما أن تكون مدخولاً بها أو لا تكون، فإن لم تكن مدخولاً بها، فكما (1) رقت، ارتفع النكاح لمعنيين: أحدهما - أنه ارتفع (2) ملكها عن نفسها، فلأن يرتفع حق الزوج عنها أولى، وأيضاً، فإنها صارت أمةً كتابية، فلا يدوم النكاح عليها. ولو كانت مدخولاً بها، فَرَقَّت لما سبيت، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: ارتفع النكاح، وانبت من غير توقف، حتى لو عَتَقَت بعد ذلك، والعدة باقية، أو أسلمت، فلا حكم لشيء من ذلك. ومن أصحابنا من قال: إذا اتفق العتق والإسلام قبل انقضاء العدة، فالنكاح قائم، كما لو ارتد أحد الزوجين بعد الدخول، فعلى هذا إذا عَتَقَت وأسلمت في العدة، دام النكاح؛ فإنها عادت حرة مسلمة. وإن عتقت في العدة، ولم تُسلم، فكذلك؛ فإنها حرة كتابية، والتصوير فيه إذا كانت يهودية أو نصرانية لا محالة. ولو أسلمت في العدة، وثبتت رقيقة، فإن كان الزوج ممن يحل له نكاح الإماء، دام نكاحه عليها، وإن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء، فهل يحل له استدامة النكاح على الأمة المسلمة؛ ذكر الشيخ وجهين في هذا المنتهى: أحدهما - ليس له ذلك، والثاني - له الاستدامة، وهو الصحيح إذا فرّعنا على هذا الوجه. وقد أطلق الأصحابُ القولَ بأن الزوج إذا اشترى زوجته الأمة، انبت النكاح، حتى لو أعتقها في زمان العدة، لم نتبين دوامَ النكاح. وما ذكره الشيخ من الاختلاف في

_ (1) فكما: بمعنى: فعندما. (2) سقطت من (ت 5)، فعبارتها: أنه ملكها عن نفسها.

تغير حال المسبيّة قد يُطرِّق احتمالا إلى شراء الزوجة، ولكن لا سبيل إلى مخالفة ما اتفق الأصحاب عليه. فإن قيل: لا معنى لهذه المسألة؛ فإن الزوجة إذا ملكا الزوج، فلا عدة، قلنا: العدة ثابتة، لو فرض تزويجها من الغير. 12645 - ثم أجرى الشيخ في أثناء الكلام أن الحربية إذا وطئها مسلم، وعلقت منه بولد مسلم، فإذا سبيت، وجرى الرق عليها، فلا يجري الرق على حملها، ثم لا تباع ما دامت حاملاً بالولد الحر على القياس المعلوم، وإذا وَضَعت، جاز بيعها، ولا يكون ذلك تفريقاً بين الأم والولد؛ فإن قولي التفريق فيه إذا كان الولد رقيقاً، بحيث يتصور بيعه مع الأم، فإذا بيعت الأم وحدها، كان على قولين، فأما إذا كان الولد حراً، فلم يصر أحد من الأصحاب إلى منع بيع الأم حتى يستقل الولد. ومما جرى في أثناء الكلام زلل وقع لابن الحداد؛ فإنه قال: لو أن المسلم سُبي ولده الصغير، فالحكم كذا وكذا، وهذا غلط؛ فإن المسلم ولده الصغير مسلم، فلا يتصور أن يغنم. مسألة أخرى من السير 12646 - نقول في مقدمتها: ما يغنمه المسلم بالقتال مخموس، وأهل الذمة إذا قاتلوا أهل الحرب منفردين، لا مسلم معهم، فما يغنمونه لا يخمس، بل ينفردون به، وحكى الشيخ وفاق الأصحاب فيه، وسببه أن الخمس يصرف إلى تدارك خلاّتٍ عامة في المسلمين، على ما لا يخفى مَصرِف الخُمس، وذلك من الجهات الغالبة، والذمي لا يكلَّف القيامَ بسدّ خلات المسلمين في الجهة العامة، ولذلك لا تضرب الزكاة عليه، وإن كانت الكفارة قد تجب عليه. فإذا ثبت هذا، فلو خرج مسلم وذمي، وغنما، فهل يخمس المغنوم بجملته، أم يخمّس نصيب المسلم دون نصيب الذمي؟ فعلى وجهين، ذكرهما الشيخ. وهذا فيه اختلاط، والكشف فيه أن يقال: ما ذكره مأخوذ من أصل مضى تمهيده في قَسْم الفيء والغنيمة، وهو أن الذمي حقُّه الرضخ، وهو دون السهم، ثم الرضخ

في حقه، وفي حق صبيان المسلمين من أي موضع يؤخذ؟ فيه اختلاف أوضحته في موضعه: من أصحابنا من قال: الرضخ من سهم المصالح، فعلى هذا: لا حق لصاحب رضخٍ في مغنم، حتى لو كان في الجند مسلم واحد، والباقون أهل ذمة، فلا حظ لهم في شيء من المغنم، وإنما المغنم للمسلم وجهة الخمس (1). وهذا الوجه مائل عن القاعدة وإن كان مشهوراً. والصحيح أن أصحاب الرضخ يستحقون من المغنم. ثم اختلف الأصحاب بعد ذلك: فمنهم من قال: يؤخذ الرضخ من رأس المغنم قبل التخميس، وكأنه كالمؤنة تلحق المغنمَ، بمثابة نقل المغانم إلى المكان الذي تتأتَى القسمة فيه. ومنهم من قال: يخرج الخمس من جملة المغنم، ثم يزدحم أصحاب الرضح وأصحاب السهام في الأربعة الأخماس. فما ذكره الشيخ من أن نصيب الذمي هل يخمس؟ هو بعينه الاختلاف الذي ذكرناه في أن التخميس بعد الرضخ أو قبله. ولو غنم طائفة من الصبيان بالقتال، فلا خلاف أنه مخموس، فإنا إذا كنا نوجب الزكاة في أموالهم، فلا يبعد أن يُخَمَّس ما يغنمون. مسألة أخرى من السير 12647 - نقول في مقدمتها: إذا قهر أهل الحرب بعضهم بعضاً، فالمقهور يصير مملوكاً للقاهر، ولو كان للحربي عبد، فقهر العبدُ مولاه، عتَقَ العبد، وصار السيد رقيقاً له، ولا يكفي في ذلك قصدُ القهر، بل لا بد من صورة القهر، ثم لا بد من قص الاستعباد. ثم لو قهر حربي رجلاً حربياً، مَلَكه، والمسلم لو أسر حربياً [لم يُجرِ] (2) الرقَّ عليه، حتى يَرِقَّه الإمام أو نائبه، وسبب ذلك أن في أسير الكفار اجتهاداً في خصال،

_ (1) ثم يأخذ أصحاب الرضخ من سهم المصالح، وهو أحد الأسهم التي يقسم إليها الخمس. (2) في النسختين: " لم يجز ".

ولا يتحقق مؤاخذة الحربي بها، فتعين قهره للرق. ثم قال الأصحاب: إذا قهر حربي حربياً، لم يُشترط قصدُ الإرقاق، بل يكفي صورة القهر. وهذا فيه نظر عندي؛ فإن القهر قد يجري استخداماً، فلا يتميز قهر الرق إلا بقصد الارقاق. رجعنا إلى مقصود المسألة، فنقول: إذا باع الحربي زوجته من مسلم، فإن لم يقهرها، لم يصح البيع؛ فإن التملك (1) إنما يجري بالقهر، وإلا فبيع الحرة باطل، والتراضي لا يصححه. وكذلك لو قهر ابنه، وباعه من مسلم، فهل يصح ذلك، أم لا؛ إن لم يكن قهرٌ، فلا. وإن قهره، فهل نقول: إنه يعتق عليه، فلا يستقر له عليه ملك؛ فعلى وجهين: أحدهما -وبه أجاب الشيخ أبو زيد- أنه يصح (2) منه بيعُ ولده إن قهره، ولا يعتِق عليه؛ لأن القهر سبب الملك، وإذا دام القهر، فقد دام السبب، فإن تخيلنا عتقاً على الأب، فالقهر يزيل العتق، بل دوامه يمنع حصولَه. والوجه الثاني - أنه لا يجوز له بيع ولده، ولا يبقى له عليه ملك، وهذا اختيار ابن الحداد. والمسألة من المسائل التي أرسلها الحَليمي إلى الشيغ أبي زيد يستفتيه فيها. وإن فرعنا على ما اختاره ابن الحداد، فيتجه أن نقول: لا يملك الأب ابنه بالقهر، لاقتران السبب المقتضي للعتق بالقهر. فلو قال قائل: فامنعوا شراء الأب ابنه، لما ذكرتموه! قلنا: إنما جاز ذلك ذريعةً إلى تخليصه من الرق، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من امتناع جريان الرق بالقهر. وكل ما ذكرناه في الأب إذا قهر ابنَه، يجري في الابن إذا قهر أباه. مسألة أخرى من السير 12648 - إذا وقع طائفة من رجال الكفار في الأسر، فقد ذكرنا أن صاحب الأمر

_ (1) ت 5: " الملك ". (2) ت 5: " لم يصح ".

يتخير فيهم بين القتل، والمن، والفداء، والإرقاق. فلو لم يُمضِ فيهم رأيه، فابتدر مسلم، وقتل واحداً منهم، فقد أساء، وللإمام تعزيره، ولا يستوجب شيئاً؛ فإنه قتل كافراً لا أمان له، ولم يجر الرق عليه، ولا يلتزم بمنع الرق ضماناً، بخلاف ولد الغرور؛ فإن الرق يجري لولا الغرور، والرق لا يتعين في الأسير. ولو أسلم واحد منهم، فقتله مسلم حر، فإن قلنا: من أسلم رَق، فلا قصاص على الحر، وإن قلنا: لا يرِق بالإسلام، فيجب القصاص على قاتله؛ فإنه قتل حراً مسلماً. وفي هذا أدنى نظر؛ من جهة أنه يجوز إرقاقه، فكأنه مستحق الإرقاق، ولكن لا التفات إلى هذا؛ فإن القتل يخرجه عن إمكان ذلك، والاعتبار بصفته حالة القتل. مسألة أخرى 12649 - قد ذكرنا في القواعد من كتاب السير أن المعاهد إذا أودع عندنا أموالاً، ثم التحق بدار الحرب، فيبقى على تفصيل عُلقة الأمان في ماله، ثم قال الأصحاب: له أن يعود ليأخذ مالَه من غير أن نجدد له أماناً. قال الشيخ: الذي أراه أنه لا يفعل ذلك، ولو فعله، اغتلناه في نفسه؛ لأن أمانه في نفسه قد انتقض، فلا بد من تجديد ذلك. وإنما رسمت هذه المسألة لحكاية هذا، وإلا فالمسألة مستقصاة بجوانبها. ثم قال الشيخ: لا أعرف خلافاً أن المسلم لو دخل دار الحرب، فسلم إليه حربي بضاعةً، ثم أراد الحربي أن يبيع البضاعة، ويدخل دار الإسلام من غير أمان، لم يكن له ذلك، ولو فعل اغتيل في نفسه. هكذا قال. وفي المسألة احتمال على طريقة الأصحاب. ... وقد نجزت المسائل المشتتة التي ذكرها ابن الحداد في آخر المولَّدات، وقد أعدت فيها أشياء كثيرة، ولم أُخلها عن زوائد وفوائد.

[فصل] (1) 12650 - وأنا أذكر الآن فصلاً ذكره صاحب التلخيص (2)، وجمع فيه مسائل يفترق فيها الحر والعبد، وأنا أذكر منها ما أرى فيه مزيداً. فمما ذكره أن العبد إذا نذر لله حجاً، فهل يُلزمه النذرُ شيئاً؟ تردد فيه، واختلف الأصحاب: فمنهم من قال: لا يلزمه بالنذر شيء في الحال، ولا في المآل إذا عتق، وليس كنذر الصوم والصلاة؛ فإنه يُتَصَوَّر الوفاء بهما في الرق. والمذهبُ صحةُ النذر في الحج، فعلى هذا، لو وفى بنذره في رقه، فهل يبرأ، أم لا يبرأ ما لم يعتق؟ فعلى أوجهٍ: أحدها - أنه يبرأ؛ لأن الأداء لا يمتنع وقوعه في وقت الالتزام؛ فإذا لم ينافِ الرقُّ الالتزامَ، لم يناف الأداء. والوجه الثاني - أن أداءه لا يصح في الرق، كما لا يصح منه حجةُ الإسلام في الرق. والوجه الثالث -وهو الذي ذكره صاحب التلخيص ولم يذكر غيره- أنه إن حج بذن مولاه، برئت ذمته (3)، فإن حج دون إذنه، لم تبرأ ذمته، وهذا ساقط لا أصل له. 12651 - ومما ذكره في أحكام العبد؛ أن العبد لا يجوز أن يكون وكيلاً في التزويج للولي (4). وفيه وجه ذكرناه في النكاح أنه يجوز. وهل يصح أن يكون وكيلاً في قبول نكاح الغير؟ إن كان بإذن السيد جاز؛ فإنه من أهل التزوج لنفسه، فلا يمتنع وكالته في هذا الشق. وإن قبل النكاح بغير إذن السيد، فقد قال أبو زيد: يجوز ذلك؛ إذ لا عهدة فيه، وقال القفال: لا يصح منه هذا دون إذن السيد، كما لا يصح منه قبول النكاح لنفسه.

_ (1) العنوان من عمل المحقق، أخذاً من عبارة الإمام الآتية. (2) ر. التلخيص: 675. (3) ر. التلخيص: 676. (4) السابق نفسه.

ولا خلاف أنه يجوز أن يكون وكيلاً في تطليق زوجة الغير، وهذا بسبب جواز انفراده بتطليق زوجته من غير مراجعة المولى. 12652 - ومما ذكره في أحكام العبد ضمانُه (1)، فنقول: إذا ضمن مالاً، لم يخلُ: إما أن يضمن بإذن السيد، أو بغير إذنه، فإن ضمن بغير إذنه، لم يصح ضمانه على المذهب المشهور. وفيه وجه آخر، ذكره ابن سُريج أنه يصح الضمان منه، ويتعلق المضمون بذمته يُتبع به إذا عَتَق، والأصح فساد الضمان، وأنه لا يلتزم شيئاً في الحال ولا في المآل. ولو ضمن بإذن السيد، صح، ثم ننظر، فإن لم يكن مأذوناً له في التجارة، صح ضمانه، وبماذا يتعلق المضمون؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: يتعلق بكسبه، وهو الأصح، كما لو نكح بإذن سيده؛ فإن المهر والمؤن تتعلق بكسبه. ومنهم من قال: يتعلق المضمون بذمته -وإن كان الضمان بإذن السيد- يتبع إذا عتق؛ إذ لا مال له في الرق، وليس الضمان من حاجاته، بخلاف النكاح. وذكر الشيخ وجهاً ثالثاً: أن دَيْن الضمان يتعلق برقبته، وهذا مزيف، ولولا تصريحه به لما حكيته. هذا إذا لم يكن مأذوناً (2)، فإن كان مأذوناً، وفي يده شيء، فلا يخلو إما أن يكون عليه دين، وإما ألا يكون، فإن لم يكن دين؛ فيصح الضمان، وفي وجهٍ يتعلق بذمته، ومعناه معلوم، وفي وجه بعيد يتعلق برقبته، وفي وجه يتعلق بكسبه، فعلى هذا: يتعلق بما سيكسبه من ربح، وهل يتعلق بما في يده من المال؟ فعلى وجهين ذكرناهما في النكاح. وإن كان عليه دين، نُظر؛ فإن كان مستغرِقاً، فيصح الضمان، ويتعلق بالذمة في وجه، وبالرقبة في وجه، وبالكسب في وجه، والدين السابق هل يقدم على دين الضمان؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - يقدم الدين المتقدم. والثاني -

_ (1) السابق: 677. (2) أي في التجارة.

أنهما سواء، [كديني] (1) معاملة أحدهما متقدم والثاني متأخر. وكل ذلك قبل الحجر عليه. 12653 - ومما ذكره في أحكام العبيد: قبول الهبة (2). فلو قبل العبد هبةً بغير إذن المولى، ففي صحته وجهان مشهوران: فإن قلنا: يصح، دخل الموهوب في ملك السيد قهراً، وهل للسيد رده بعد ما قبله العبد؟ فعلى وجهين ذكرهما: أحدهما - له رده، فإن قلنا بذلك، فنقول: انقطع ملك السيد من وقت رده، أو يتبين لنا أنه لم يدخل في ملكه؟ فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التلخيص (3). ويظهر أثرهما فيه إذا كان الموهوب عبداً، وقد أهلّ هلال شوال بين قبول العبد ورد السيد، [ففي] (4) وجوب زكاة الفطر على (5) الذي ردّه الخلاف (6). ووجه التبيين في التحقيق يكاد يكون على وقف الهبة على إذنه، ولكن من جوّز الرد، لم يشترط القبول. 12654 - ومما ذكره (7): أنه لو وكل السيد عبده حتى يؤاجر نفسه، صح، ولو وكله حتى يبيع نفسه، المذهب أنه يصح. ومن أصحابنا من قال: لا يصح، ولا وجه له. ولو وكّله أجنبي بأن يشتري نفسه من سيده (8)، فالأصح الجواز. ومن أصحابنا من منعه.

_ (1) في الأصل: " كدين " والمثبت من (ت 5). (2) ر. التلخيص: 677. (3) السابق نفسه. (4) في النسختين: " وفي " والمثبث من تصرف المحقق. (5) (على) بمعنى (عن). (6) مبنى الخلاف على تحقق الملك للسيد وانقطاعه بالرد، فتجب زكاة فطرة العبد المردود، وإذا قلنا: تبين أن الملك لم يحصل للسيد، فلا تجب الفطرة حينئذِ. (7) السابق نفسه. (8) السابق نفسه.

فهذا ما رأيت ذكره من كلام صاحب التلخيص. وكنت وعدت أن أجمع أحكام مَنْ بعضه رقيق وبعضه حر. ثم بدا لي، ولم أر الإطالة [بالتكرير] (1)؛ فإن أحكامه جرت على الاستقصاء في الكتب. والله الموفّق للصواب. ...

_ (1) مزيدة من (ت 5).

كتاب عتق أمهات الأولاد

كتاب عتق أمهات الأولاد قال الشافعي: "وإذا وطىء أمته، فولدت ما يبين أنه من خلق الآدمي ... إلى آخره" (1). 12655 - معظم مسائل هذا الباب مكرر في الكتب من غير إحالة، ونحن لا نعيد مما جرى ذكره مستقصى شيئاً، ونقتصر على ما يليق بتمهيد القاعدة، ونذكر من المسائل ما لم يسبق ذكره، أو لم نستقصِ جوانبَه. فإذا أولدَ الرجل جاريتَه، وانتسب الولدُ إليه، كما تمهد وجه انتساب أولاد الإماء إلى السادة، فالمذهب الذي يجب القطع به ثبوتُ حرمة العَتاقة استحقاقاً على وجه لا يفرض زوالُها، ثم حُكْمُ الاستيلاد على الجملة أنه يمتنع بيع المستولدة، وإذا مات مولاها، عتقت عتقاً مستحقاً، مقدماً على حقوق الغرماء، فضلاً عن الوصايا، وحقوق الورثة، وهذه الحرمة المتأكدة تنزل منزلة الاستهلاك الحكمي الذي لا يفرض له مستدرك. ولو استولد المريض جاريته في مرض الموت، تأكدت الحرمة غيرَ محتسبة من الثلث، وكان (2 استيلاده كاستيلاد الصحيح المطلق، وهذا يحقق كون 2) الاستيلاد استهلاكاً حكمياً. هذا هو الأصل، وبه الفتوى، واتفق عليه علماء الصحابة في زمن عمرَ وعثمانَ، ثم رأى عليُّ في زمانه بيعَ المستولدة، وقال: " اتفق رأي ورأي عمر على أن أمهات الأولاد لا يُبَعْن، وأنا الآن أرى أن يُبَعْن ". فقال عبيدةُ السلماني: "يا أمير المؤمنين:

_ (1) ر. المختصر: 5/ 286. (2) ما بين القوسين سقط من (ت 5).

رأيك في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة" (1). واشتهر من نقل الأثبات إضافُة قولٍ إلى الشافعي في جواز بيع أمهات الأولاد، نص عليه في القديم، وهو في حكم المرجوع عنه، فلا عمل به، ولا فتوى عليه. وسنذكر في خاتمة الباب اختلافاً في الأخبار والآثار، ونعلِّق بها سببَ اختلاف القول، وإنما لم نقدمها ليكون اختتام الكتاب بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن رُمنا التفريع على القول القديم؛ فللأئمة طريقان: قال صاحب التقريب، والشيخ أبو علي، وطوائف من أئمة المذهب: من جوّز بيع أم الولد، قضى بأنها رقيقة، ولا حكم للاستيلاد فيها، ولكنها اشتملت على الولد، ثم نَفَضَتْه، وقالوا: إذا مات المولى، لم تعتِق، ولا يفيدها الولدُ استحقاقَ العَتاقة في الحياة، ولا حصولَها عند الممات، وليست كالمدبرة؛ فإن عتقها معلق بالموت، والشرع صحح ذلك التعليق. [و] (2) قال شيخي والصيدلاني ومعظم حملة المذهب: المستولدة تعتِق بموت المولى، ولكن لا يمتنع بيعُها في حياة المولى. ثم لعلّ هؤلاء يقولون: تحصيل العَتاقة من رأس المال، ولا يمتنع أن يكون كعتق المدبر، ولا ثَبَتَ عندنا في هذا الطرف من طريق النقل. 12656 - ومما نذكره في تمهيد القول في الاستيلاد أنا إذا منعنا بيعَ المستولدة، فلو قضى قاضٍ ببيعها، فقد ذكر الأئمة اختلافاً في أن قضاءه هل ينفذ، أم هو منقوض؟ وهذا التردد بناه الشيخ أبو علي على مسألة أصولية في الإجماع، وذلك أن العلماء اعتقدوا حصولَ إجماع الصحابة في مَنْع بيع المستولدة، ولكن كان خلافُ عليٍّ قبل

_ (1) أثر علي رضي الله عنه رواه عبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في الكبرى، قال الحافظ عن إسناد عبد الرزاق: وهذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد. (ر. مصنف عبد الرزاق: 7/ 291 ح 13224، البيهقي: 10/ 343، 348، التلخيص: 4/ 403)، وسيق كلام عبيدة السلماني على نحو آخر سيأتي قريباً. (2) الواو زيادة من (ت 5).

انقراض العصر، وقد اختلف الأصوليون في أنا هل نشترط في تحقق الإجماع انقراض العصر؟ فمن لم يشترطه، نقَضَ القضاءَ بالبيع، وقدره حائداً عن مسلك القطع، ومن شَرَطَ في انعقاد الإجماع انقراضَ العصر رأى المسألةَ مظنونةً، والقضاء لا ينتقض في مظان الظنون. ومما نستكمل به، ما ذكرناه في تأكد حرمة الاستيلاد على القول الصحيح أنه لو شهد على إقرار السيد بالاستيلاد شاهدان، وجرى القضاء بشهادتهما، ثم رجعا؛ قال الشيخ أبو علي: لا يغرمان شيئاً؛ فإنهما لم يُفسدا المالية، ولم يحققا العتق في الحال، وإنما امتنع البيع بشهادتهما، هكذا قال، وقطع بذلك قوله، ولست أدري ماذا يقول إذا مات المولى، وفات الملك بسبب الشهادة؟ والذي نراه أن الغرم يجب في هذه الحالة، ثم يغرم الشهود [للذين] (1) كانت الرقبة تصرف إليهم لولا الاستيلاد، إذا كانت تلك الجهة في الاستلحاق قائمة بعد الموت؛ إذ الشهادة على الاستيلاد لا تنحط عن الشهادة على تعليق العتق. ولو شهد شاهدان عليه (2)، ووجدت الصفة، وجرى القضاء بالشهادة، فعلى شهود التعليق الغرم، ثم لا يُغَرَّمون قبل وجود الصفة. ولو فرق فارق بين التعليق وبين الاستيلاد، وقال: لا يمتنع بالتعليق المجرد قبل وجود الصفة شيء من التصرفات، ويمتنع بالاستيلاد البيعُ، والرهنُ، والتمكنُ من الاعتياض، وهذا إيقاع حيلولة بين المالك وبين التصرفات، فينبغي أن يتضمن التغريمَ، كما لو أبق العبد من يد الغاصب؛ فإن الغرم يجب، وإن كان لا يمتنع على المغصوب منه ضروب من التصرفات في الآبق كالعتق، وقد يتوصل بإعتاقه إلى إبراء ذمته عن الكفارة. قلنا: لا اغترار بهذا، والمستولدة على حقيقة الملك، وامتناع البيع لا يتقوّم، والغاصب يغرم، لأنه في عهدة ضمان يده إلى عَوْد الملك إلى مستحقه.

_ (1) في النسختين: " الذين ". والمثبت من تصرف المحقق. (2) عليه: أي على التعليق.

12657 - وقد نجز ما أردنا ذكره في تأسيس الاستيلاد، ثم الكلام بعد هذا يقع في فصولٍ: منها - انتساب الولد، وقد مضى، ومنها - صفة الولد، فإن كان تَخَلَّقَ، حصل الاستيلاد بانفصاله، وإن لم يتخلق، فقد مضى القول فيه مستقصى، ونقلنا النصوص في انقضاء العدة، ولزوم الغُرّة، وحصول أمية الولد. وذكرنا اختلاف الطرق، فلا عود ولا إعادة. ومنها - التفصيل في الجهات التي يحصل العلوق بها، فنقول: من نكح أمة، فعلقت منه في النكاح، فالولد رقيق، فلو ملك الأمَّ، لم تصر أمَّ ولدٍ عندنا، خلافاًً لأبي حنيفة (1)، وعماد المذهب أن أمية الولد تتبع حريةَ المولود، فإذا كان علوق المولود على الرق، فلا تتعلق به حرمة الاستيلاد. ولو وطىء جاريةً بشبهة: حسبها مملوكته، فالولد حر، ولا شك أن الاستيلاد لا يثبت في الحال لمصادفته ملكَ الغير، فلو ملكها الواطىء، ففي حصول الاستيلاد عند ملكها قولان مشهوران للشافعي رضي الله عنه: أحدهما - أنها لا تصير (2) مستولدة لوقوع العلوق في ملك الغير، ولو كان هذا العلوق يثبت أمية الولد، لما بَعُد (3) أن يقتضيها على الفور إذا كان المولِّد (4) موسراً، وكنا ننقل الملك إليه، كصنيعنا في تسرية العتاقة على القول الأصح، إذا فرعنا على التعجيل، فإذا لم نفعل ذلك، فلا أثر للعلوق فيها في المآل، كما لا أثر له في الحال. والقول الثاني - أن الحرمة تثبت إذا ملكها، لحرمة الحرية في الولد، وهذه العُلقة [تتشبّه] (5) باقتضاء البعضيةِ العتقَ عند حصول الملك، فالأب يعتِق على ابنه، والابن يعتِق على أبيه.

_ (1) ر. مختصر الطحاوي: 377، المبسوط: 7/ 154، تبيين الحقائق: 3/ 104، الاختيار: 4/ 33. (2) في ت 5: " أنها تصير ". (3) ت 5: " أبعد ". (4) في الأصل: " الولد ". والمثبت من (ت 5). (5) في الأصل: (تُنشئيه) بهذا الرسم، والنقط، والضبط، بل بوضع الهمزة على الياء، ولم نر همزة غيرها في النسخة كلها. والمثبت من (ت 5).

12658 - وإذا أردنا ضبطَ المذهب، أثبتنا ثلاث رتب: إحداها - حصولُ العلوق في الملك، وهذا يستعقب حرمةَ الاستيلاد. والثانيةُ - حصول العلوق على الرق، وهذا لا يثبت الاستيلاد ولا يُفضي إليه، ولو اشترى ولده وأمّه، عَتَقَ الولد، والأم رقيقة، أجمع الأصحاب عليه. وإن حصل العلوق على الحرية، ولم يصادف الإعلاقُ الملكَ، فهذه المرتبة الثالثة. وفيها القولان، وهذا لا يتم إلا بذكر صورة: فإذا غُرّ الرجل بحرية أمةٍ، وعلقت منه على الغرور بولدٍ حر، فلو ملك الأم: فهذا موضع التردد، فلا يمتنع طرد القولين بحصول العلوق في الولد على الحرية، والأفقه عندنا القطع بأنه أمية الولد لا تثبت بحصول العلوق في النكاح، ومقتضاه لولا الظن، رق الولد، فالغرور مقصور على المولود في نكاح الغرور. فإذا وطىء جارية الغير، وحسبها جاريَته، فالظن شامل للأم والولد. ومن أحاط بمسالك الكلام، استبان ضعفَ القول بحصول الاستيلاد في وطء الشبهة، فلا ينبغي أن يلحق به صورة الغرور. 12659 - ومما يتعلق بأصول الباب الكلامُ في أولاد المستولدة، فنقول: إذا أتت أم الولد بولدٍ من سفاح أو نكاح -إن صححناه- فولدها بمثابتها: لا يباع، ولا يرهن، ويَعتِق بموت السيد، كما تعتق الأم، ولو أُعتقت الأم، لم يعتِق الولد، فإن ولدها يعتق بما تعتِق به، ولا يعتِق بعتقها، فالمستولدة وولدها كمستولدتين وليس (1) هذا كحكمنا بعتق ولد المكاتب إذا عتق المكاتب؛ فإنه تبع المكاتب تبعية الأكساب. ولو ماتت المستولدة، فقد فات العتق [فيها] (2)، وهو منتظر في ولدها، بناء على ما قدمناه من أن الولد يعتِق بما تعتِق الأم به. وإذا فرّعنا على أن الموطوءة بالشبهة إذا ملكها الواطىء، صارت أمَّ ولد، فلو كانت أتت بأولاد على الرق قبل أن ملكها، ثم إن الواطىء اشتراها، واشترى

_ (1) ت 5: " هذا لحكمنا " بدون (وليس). (2) في الأصل: " منها ". والمثبت من (ت 5).

أولادها، وقلنا: إنها أم ولد، فلا خلاف أن أولادها، لا تثبت لهم حرمة الاستيلاد؛ فإن حرمة الاستيلاد تثبت بعد الملك، ولا تنعطف، والأولاد حصلوا على الرق المحقق، قبل ملك الأم. فلو اشتراها، وهي حامل بولد رقيق، فهذا وضع النظر: يجوز أن يقال: تَعدِّي الحرمة إلى الولد يخرّج على القولين في تعدي حرمة التدبير إلى الولد. وفي كلام الصيدلاني رمز إلى ذلك، ووجهه أن هذا ولد لم يحصل العلوق به بعد الاستيلاد، ويتجه عندنا القطع بتعدية حرمة الاستيلاد لوجهين: أحدهما - أن الحرمة تأكدت فيها تأكداً لا يرفع، والولد متصل، والتدبير عرضة الارتفاع. ثم قد ذكرنا -في التدبير (1) - ترتيب المذهب في الولد المتصل حالة التدبير، وفي الولد الذي يحصل العلوق به بعد التدبير. فهذا تمام البيان في ذلك. 12660 - ومما يتعلق بأصول الباب: التصرفُ في المستولدة، أما جنايتها والجناية عليها، فمما مضى مستقصىً؛ والوصية لها قدمناها في الوصايا، والقسامة (2). ْوأما ما يملكه المولى؛ فلا يمتنع عليه الوطء والاستخدام والإجارة. وفي التزويج ثلاثة أقوال: أصحها - جواز التزويج، فإنه يستحلها بالملك، وله مهرها إذا وطئت، فيزوجها قهراً تزويجَ الرقيقة، وهذا اختيار المزني، وهو القياس الحق. والقول الثاني - أنها لا تزوّج إلا برضاها؛ فإنها مستحَقَّة العتاقة، والتزويج لو ثبت، للزم إذا عتَقَت، وهذا تصرلث عليها بعد العتاقة المستحقة؛ فعلى هذا: لو رضيت، صح النكاح؛ فإن الحق لا يعدوهما. والقول الثالث - أن النكاح لا يصح -وإن رضيت- فإنه لا حق لها في استقلال الحرية قبل حصولها، فلا حكم لإذنها، ولا سبيل إلى إثبات النكاح قهراً عليها، وهي

_ (1) عبارة ت 5: " وقد ذكرنا ترتيب المذهب في الولد المتصل في التدبير ". (2) سقط من (ت 5): والقسامة.

إلى الحرية مصيرها، ولمصيرها إليها أثر بيّن؛ فلأجله امتنع بيعها بخلاف الذي عُلِّق عتقُها. هذا بيان الأقوال. قال الشيخ أبو علي: إذا قلنا: لا يزوجها السيد، فهل يزوجها القاضي؟ فعلى وجهين. وهذا حائد بالمرة عن السَّنن؛ فإن القاضي لا مجال له في التصرف في الأملاك، ثم محل الوجهين فيه إذا رضي المولى، ورضيت المستولدة، فإذ ذاك ذهب ذاهبون إلى أن القاضي يزوج بالولاية العامة عند (1 رضاها، كما يزوّج المجنونة عند مسيس الحاجة، غير أنا قد لا نراعي ثمَّ رضا الإخوة، وها هنا لا بد من رعاية 1) رضاهما، أما السيد، فلأن له حق الوطء (2)، وأما المستولدة، فلو لم نَرعْ رضاها، لأجبرها مولاها، وهذا وإن نزلناه على ما ذكرناه، فلا أصل له، ولا مدخل للقاضي في مثل ذلك قطعاً. ومما يُذكر في الباب: القولُ في أم ولد الكافر إذا أسلمت، فلا شك أنها تحرم ولا تعتق، بل يحال بينها وبين مولاها؛ وقد مضى ذلك على الاستقصاء في مواضع. فصل 12661 - قد قدمنا في صدر الباب تباين المذاهب واختلافَ قول الشافعي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد. وسببُ التردد اختلافُ الأخبار والآثار. ونحن نذكر منها ما فيها مَقنع من مسموعاتنا. أخبرنا الشيخ أبو سعد (3) عبدُ الرحمن بنُ الحسن الحافظ رحمه الله، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر العدل الدارقطني قال: أخبرنا محمدُ بنُ إسماعيل الفارسي

_ (1) ما بين القوسين سقط من (ت 5). (2) عبارة الرافعي: " لأن المهر له " (الشرح الكبير: 13/ 588). (3) في (ت 5): " أبو سعيد ". وأبو سعد، عبد الرحمن بن الحسن هو الإمام الحافظ الحجة، المشهور بابن عَلِيك النيسابوري، روى عن الدارقطني وأبي بكر بن شاذان وخَلْق، وحدّث عنه أبو القاسم القشيري وإمام الحرمين. توفي سنة 431 هـ (ر. سير أعلام النبلاء: 17/ 509. ولضبط اللقب انظر: الإكمال: 6/ 262، وتبصير المنتبه: 3/ 966).

قال: أخبرنا أحمدُ بنُ محمدِ بنِ الحجاج ابنِ رِشْدِين، قال: أخبرنا يونسُ بنُ عبد الرحيم العسقلاني، قال: وسمعه مني أحمدُ بنُ حنبل - حدثني رِشْدِين بنُ سعيد المَهْري، قال: أخبرنا طلحة بن أبي سعيد، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن يعقوب ابن أبي الأشج، عن بشر بن سعيد، عن خوات بن جبير: " أن رجلاً أوصى إليه، وكان فيما ترك أمُّ ولد له وامرأةٌ حرة، فوقع بين المرأة وبين أم الولد بعضُ الشيء (1) فأرسلت إليها الحرة، لتباعَنَّ رقبتك يا لَكْعاء، فرفع ذلك خواتُ بنُ جبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع، وأمر بها، فأعتقت " (2). أخبرنا الشيخ أبو سعد قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا ابن مبشر، قال: أخبرنا أحمدُ بنُ سنان، قال: حدثنا يزيدُ بنُ هارون، قال أخبرنا شَرِيكُ عن الحسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولدت منه أمتُه، فهي حرة من بعد موته " (3). أخبرنا الشيخ أبو سعد قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا عمرُ بنُ أحمدَ الجوهري، قال: أخبرنا إبراهيم بنُ الحسن الهمذاني قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الجعفري، قال: أخبرنا عبد الله بنُ سلمة عن حسين بنِ عبد الله بنِ عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أم إبراهيم أعتقها ولدها " (4).

_ (1) في (ت 5): الشَّر، والمثبت من نص الحديث، وهو ما في نسخة الأصل. (2) حديث خوات بن جبير رواه الدارقطني، والبيهقي، وفي إسناده رِشْدِين بنُ سعد، نقل في التعليق المغني الاختلاف فيه (ر. الدارقطنىِ ومعه التعليق المغني: 4/ 133 ح 28، البيهقي: 10/ 345). (3) حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولدت منه أمته ... " رواه أحمد وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي. وفيه الحسين بن عبد الله الهاشمي، قال عنه الحافظ: هو ضعيف جداً. وقال: والصحيح أنه من قول ابن عمر. (ر. أحمد: 1/ 317، ابن ماجه: العتق، باب أمهات الأولاد، ح 2515، الدارقطني: 4/ 130 ح 17، الحاكم: 2/ 19، البيهقي: 10/ 346، 347، التلخيص: 4/ 401 ح 2738، 2739، ضعيف ابن ماجه للألباني: ح 547). (4) حديث " أم إبراهيم أعتقها ولدها " رواه ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وقد ضعفه =

أخبرنا الشيخ أبو سعد، قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن بشر، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: " كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ، لا يرى بذلك بأساً " (1). وعن عطاء عن جابر قال: " بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر، نهانا، فأنتهينا (2) ". أخبرنا الإمام ركن الإسلام والدي أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسين (3) القطان، قال: أخبرنا عبد الله ابن جعفر، قال أخبرنا يعقوب بن سفيان (4)، قال حدثني سعيد بن عفير قال حدثني عطاف بن خالد، عن عبد الأعلى ابن أبي فروة عن ابن شهاب -في قصة ذكرها- قال ابنُ شهاب: قلت لعبد الملك بنِ مروان: سمعت سعيدَ بن المسيب يذكر: "أن عمر بن الخطاب أمر

_ = الحافظ بالحسين بن عبد الله (ر. ابن ماجه: العتق باب أمهات الأولاد، ح 2516، الدارقطني: 4/ 131 ح 22، البيهقي: 10/ 346، التلخيص: 4/ 401، 402 ح 2740، ضعيف ابن ماجه للألباني: ح 548). (1) حديث أبي الزبير عن جابر " كنا نبيع سرارينا ... " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وصححه الألباني (ر. أحمد: 3/ 321، النسائي في الكبرى: العتق، باب في أم الولد، ح 5039، 5040، ابن ماجه: العتق، باب أمهات الأولاد، ح 2517، الدارقطني 4/ 135 ح 37، البيهقي: 10/ 348، التلخيص: 4/ 402 ح 2742، إرواء الغليل: 6/ 189). (2) حديث عطاء عن جابر " بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ... " رواه أبو داود، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه الألباني (ر. أبو داود: العتق، باب في عتق أمهات الأولاد، ح 3954، ابن حبان: 4308، 4309، مستدرك الحاكم: 2/ 19، البيهقي: 10/ 347، التلخيص: 4/ 402 ح 2742، إرواء الغليل: 6/ 189 ح 1777). (3) وكنيته أبو الحسين، فهو أبو الحسين محمد بن الحسين بن الفضل القطان ت 415 هـ (سير أعلام النبلاء: 17/ 332). (4) إلى هنا انتهى الموجود من نسخة الأصل حيث ذهب من آخرها مقدار ورقة إلا قليلاً، والمثبت بدءاً من هنا من (ت 5) من منتصف لوحة 210 ش.

بأمهات الأولاد أن يقوّمن في أموال أبنائهن بقيمة عدل، ثم يعتقن، فمكث بذلك صدراً (1) من خلافته، ثم توفي رجل من قريش كان له ابن أم ولد، قد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمر ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر: ما فعلت يا بن أخي بأمك؟ قال: قد فعلت يا أمير المؤمنين خيراً حين خيّرني إخوتي بين أن يسترقّوا أمي أو يخرجوني من ميراثي من أبي، فكان ميراثي من أبي أهون عليّ من أن تُسترقّ أمي. قال عمر: أو لستُ إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل؟ [ما أتراءى رأياً، أو آمر بشيء إلا قلتم فيه!! ثم قام فجلس على المنبر، فاجتمع إليه الناس، حتى إذا رضي جماعتَهم، قال: يأيها الناس، إني كنت أمرتُ في أمهات الأولاد بأمرٍ قد علمتموه، ثم قد حدث لي رأي غير ذلك] (2) فأيما امرىءٍ كانت عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات، فهي حرة لا سبيل عليها " (3). وروى الحسن الزعفراني تلميذُ الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وقدس روحه، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن عامر، عن عبيدة السلماني، قال: قال علي رضي الله عنه: " استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد، فرأيت أنا وهو أنها عتيقة، فقضى بها عمرُ حياتَه، وعثمانُ بعده، فلما وَليتُ أنا رأيت أن أرقهن ". قال: فأخبرني محمد بن سيرين أنه سأل عبيدة عن ذلك، فقال: أيهما أحب إليك؟ قال: " رأي عمر وعلي أحب إليّ من رأي علي حين أدرك الاختلاف " (4).

_ (1) رقم المخطوط هنا لنسخة (ت 5) حيث انقطعت نسخة الأصل. (2) ما بين المعقفين زيادة من السنن الكبرى. (3) حديث عمر في منع بيع أمهات الأولاد، رواه البيهقي بهذه السياقة بعينها، بهذه الألفاظ ذاتها، لم يخرم منها حرفاً واحداً. (ر. السنن الكبرى: 10/ 343). (4) حديث علي ورجوعه عن منع بيع أمهات الأولاد، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، على نحو ما ساقه الإمام حرفاً بحرف، ورواه عبد الرزاق في مصنفه على نحو آخر: حيث جاء فيه: " قال عبيدة: فقلت له (أي لعلي رضي الله عنه): " فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة -أو قال في الفتنة- قال: فضحك علي " (ر. السنن الكبرى: 10/ 343، ومصنف عبد الرزاق: 7/ 291). ورواه البيهقي على نحو ما ساقه عبد الرزاق أيضاً. (الكبرى: 10/ 348). وقد أشرنا =

12662 - الكلام على تأليف الروايات، وتلفيقها، وتنزيلها على مأخذ الشريعة وتطبيقها، فنقول: ليس في قضايا الأخبار منعُ بيع أمهات الأولاد، وقوله عليه السلام: " أعتقها ولدها "، مُزالُ الظاهر مؤولٌ، ومعناه استحقاق العَتاقة عند الممات. وهذا [لا يشهد] (1) بمنع البيع في الحياة، ولكن متضمن الأحاديث حصول الحرية عند حلول المنية مقدمة على الديون والمواريث والوصية. وهذه القضية في المعاني الكلية تميز المستولدةَ عن المدبرة، والمعلَّقِ عتقُها بالصفات المرعية، وإذا تقدم العتقُ على الأسباب جُمَع، آذن ذلك بامتناع الانقطاع بالابتياع وغيره من مقتضيات الارتفاع. وأما حديث جابر فليس فيه صدور بيع أمهات الأولاد عن تقرير المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر أربعين سنة، ولا نرى بذلك بأساً، حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، فتركناها. هذا هو الممكن. وفي النفس بقايا من الإشكال لأجلها اختلف قولُ الشافعي رضي الله عنه، ثم أجاب في كتبه الجديدة في خمسةَ عشرَ موضعاً بمنع البيع، واعتمد إضرابَ علماء الأمصار عن المصير إلى مذهب من يجبز البيعَ، والقولُ في ذلك يتبلق بمسألة أصولية، وهي أن العلماء إذا اتفقوا بعد الاختلاف، فهل نقضي بانعقاد الإجماع؟ وتحقيقُ ذلك يطلب من مجموعاتنا في الأصول. فإن قيل: هلا تلقيتم ذلك من اشتراط انقراض العصر في انعقاد الإجماع؟ قلنا: [لا يستدّ] (2) هذا مع قول جابر كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر. تم الكتاب بحمد الله وتوفيقه.

_ = إليه آنفاً، وقد صحح الألباني الحديث في الإرواء: 6/ 189، 190، ح 1778. (1) في المخطوطة -وهي وحيدة- " لا يشع ". (2) في نسخة (ت 5)، وهي الوحيدة في هذا الموضع: لا يستمر. والمثبت من تصرف المحقق.

الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. حسبنا الله ونعم الوكيل. ... يقول محققه العبد الفقير إلى رحمة ربه، الراجي عفوه ورضوانه: الحمد لله، له الحمد كله، والشكر كله، سبحانه جل جلاله، لا حول ولا قوة إلا به، أنعم علينا وحقق أملنا، وأمدنا بعونه وقوته، فانتهينا من قراءة هذا الكتاب الجليل وتحقيقه بعد عملٍ دائب استمر أكثر من عشرين عاماً، وكان الفراغ منه في وقت السحر، من الليلة الثالثة من ليالي العشر الأواخر من رمضان المعظم وهي الليلة التي صبحها الخميس الثالث والعشرين من شهر رمضان لسنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وذلك بمدينة الدوحة عاصمة دولة قطر حماها الله وكلَّ بلاد المسلمين، وطهرها وكل جزيرة العرب، وكل دار الإسلام من رجس الكافرين الخائنين، وكل الكائدين الماكرين، وأعاد المسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وردّ لهم مجدهم الغارب، وعزّهم الضائع، وجعل الصولة لهم على عدوهم، وطهر المسجد الأقصى من دنس الصهاينة، وأعاد الأرض المباركة حوله لأهلها طاهرة مطهرة، ظافرة منصورة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وهو نعم المولى ونعم النصير.

الكتاب من غير فهرس كنز مغلق، فاقرأ الفهرس قبل كل شيء شيخ العربية شيخنا العلامة محمود محمد شاكر (أبو فهر)

فلو كان الأمر بيدي، لمنعت تداول أي كتاب بدون أن تصنع له الفهارس العلمية المناسبة، صغر هذا الكتاب أو كبر، محققاً أو مؤلفاً، عدا القصص والمسرحيات. عبد العظيم الديب إن إصدار أي كتاب بدون فهارس تحليلية يعتبر جناية على الكتاب وعلى القارئ. الدكتور عبد المجيد دياب من كتاب: تحقيق التراث العربي، منهجه وتطوره

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين. وبعد: فهذه كلمات عن الفهرسة والفهارس، نقدمها بين يدي هذا المجلد، وهي كلمات ثلاث موجزة: الأولى - عن نشأة الفهارس وعناية أمتنا بها. الثانية - عن قيمة الفهارس العلمية وضرورتها. الثالثة - عن عملنا في صناعة فهارس النهاية.

-1 - تاريخ الفهارس وعناية أمتنا بها رأى الناس أول ما رأَوْا الفهارس العلمية في مطبوعات المستشرقين المحققة، حيث وجدوهم يُلحقون الكتب بألوانٍ وأفانين من الفهارس مرتبةً على حروف المعجم، فمن فهرس للأعلام، ومن فهرس للشعراء، ومن فهرس للقبائل، ومن فهرس للأسانيد، ومن فهرس للألفاظ التي فسّرها المؤلف ... إلى غير ذلك بحسب ما يليق بكل كتاب. رأى الراؤون ذلك، فظن منهم كثيرون أن هذا أمرٌ عن بِدْع المستشرقين، أو (إبداعهم) -كما يحلو لهم التعبير بذلك- حتى وقع في وهم الكثيرين -وبعضهم من أهل العلم- أن صناعة الفهارس شيء لم يعرفه علماؤنا وأئمتنا. وهذا خطأ كبير، ووهم غليظ، أوقعهم فيه خضوعهم وخنوعهم لكل ما يجيء من الغرب؛ فإن صروف الزمان التي أزرت بنا، وجعلتنا في ذيل الأمم، جعلت الكثيرين منا -للأسف- مقهورين مهزومين، عيونهم على الغرب البازغ دائماً، يَعْمَون عما كان من أُمتنا وأئمتنا في أيام ازدهار حضارتنا، أيام أن كان لنا القيادة والريادة للبشرية نحو ألف عام. نعم، سبقت أمتنا إلى الترتيب المعجمي (الألفبائي) سبقاً بعيداً؛ "فإن أول معجم هجائي إنجليزي لم يظهر إلا في القرن السابع عشر، ولم يكن معجماً بالمعنى المعروف، إنما كان مجموعة كلمات صعبة دراسية، وأول معجم لطيني (1) (لاتيني) ظهر في أوربة كان في القرن الثالث عشر أو بعده" (2).

_ (1) يرى شيخنا العلامة الشيخ أحمد شاكر أن هذا هو الرسم الصحيح لكلمة (لاتيني). (2) عن مقدمة الشيخ أحمد شاكر لسنن الترمذي: 46.

سبقُ المسلمين إلى الفهارس وابتكارهم لها تجلى سبقُ المسلمين إلى الفهارس واختراعهم لها في مجالات ثلاثة هي: 1 - معاجم اللغة. 2 - كتب الحديث. 3 - كتب الطبقات والرجال. ... 1 - ففي مجال اللغة: رأينا إمام اللغة والعربية مخترعَ علم العروض، الخليل بنَ أحمد الفراهيدي في أواسط القرن الثاني الهجري يؤلف كتاب (العين) مرتباً على حروف المعجم، ولكنه رتب حروفَ المعجم ترتيباً عجيباً يليق بعبقريته؛ إذ رتب الحروفَ بحسب مخارجها من أقصى الحلق، وصنع معجمه الذي سُمي كتاب (العين) لأنه الحرف الذي بدأه به؛ فهو الحرف الذي يخرج من أقصى الحلق (1). وتتابع العلماء بعد الخليل، فوضعوا كتب اللغة على حروف المعجم ولكن بترتيب (ألفباء)؛ إذ وجدوا أن ترتيب الحروف على ما صنع الخليل فيه عنت وإرهاق، لا يتقنه إلا من كان مثل الخليل ... وكلهم اعتبر أصل الكلمة، بعد نفي الزوائد عنها، ثم رتبوا: فمنهم من رتب على أوئل الكلمات، فبدأ بما أوله همزة، ثم باء وهكذا، وذلك كصنيع ابن دُريد المتوفى 321هـ في كتابه (جمهرة اللغة)، والفارابي أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم المتوفى 350 هـ في كتابه، أو معجمه (ديوان الأدب). والزمخشري، أبي القاسم، جار الله، محمود بن عمر المتوفى 538 هـ في معجمه الفذ الذي لم ينسج على منواله ناسج: (أساس البلاغة).

_ (1) اقرأ قصة هذا الكتاب كاملة وما قيل في كيفية ابتكاره وبنائه في مقدمة الشيخ شاكر نفسها ص 47.

ويدخل في هذا الباب أيضاً صنيع أبي بكر محمد بن عُزير السجستاني المتوفى 330 هـ في كتابه (غريب القرآن). وأيضاً ما صنعه الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المتوفى 502هـ في كتابه (المفردات في غريب القرآن). وأما من رتب معجمه على أواخر الكلمات فمشهورون منهم: الجوهري، أبو نصر، إسماعيلُ بنُ حماد، المتوفى 398هـ في كتابه؛ (تاج اللغة وصحاح العربية) ويشتهر بـ (صحاح الجوهري). ومثله ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل محمدُ بنُ المكرَّم المتوفى 711هـ في معجمه الشهير (لسان العرب). وكذلك الفيروزآبادي مجد الدين أبو الطاهر محمدُ بنُ يعقوب المتوفى 817هـ في معجمه المعروف (القاموس المحيط). ومما يستحق أن يذكر هنا أن الفيروزآبادي سمى كتابه (القاموس المحيط)، فوقع في الأوهام أن القاموس هو المعجم، وصار كثيرون يعبرون عن المعاجم: بقولهم (القواميس) وهذا وهم غليظ، جاء من تسمية الفيروزآبادي لمعجمه بالقاموس، مع أنه يقول في مقدمته "وأسميته القاموس المحيط" لأنه البحر العظيم، وكلمة (القاموس) معناها البحر. فكأنه سمى معجمه: (البحر المحيط). * ويمكن أن يلحق بهذه الأعمال في مجال اللغة معاجم البلدان والمواضع، مثل (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) للبكري، أبو عبيد، عبد الله بن عبد العزيز، المتوفى 487هـ. ومثل (معجم البلدان) لياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله، ياقوت بنُ عبد الله، الحموي الرومي. المتوفى 626هـ.

2 - في مجال الحديث: مبكراً منذ القرن الأول، وقبل الإذن بتدوين الحديث (1) بدأ تدوين الأطراف، وقد جمع العلامة المحدّث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله - عشرةَ نصوص شافية كافية شاهدة بالسبق المبكر إلى تدوين الأطراف، نكتفي منها بشاهد واحد: "جاء في سنن الدارمي: 1/ 99 في (باب من لم ير كتابة الحديث) قولُ الإمام الدارمي: أخبرنا إسماعيلُ بنُ أبان، حدثنا ابنُ إدريس، عن ابن عون، قال: رأيت حمادَ بنَ أبي سليمان الكوفي التابعي المتوفى سنة 120هـ شيخُ الإمام أبي حنيفة- يكتب عن إبراهيم (2) فقال له إبراهيم: ألم أنهك -يعني عن كتابة الحديث-؟! قال: إنما هي أطراف". فهذا نص ناطق مبين يشهد بأن كتابة الأطراف بدأت في القرن الأول؛ فقد كتب حمادُ بنُ أبي سليمان أطرافاً عن إبراهيم النخَعي المتوفى سنة 96هـ على حين كان دأبهم النهي عن كتابة الحديث في تلك الحقبة. وقد عقب العلامة أبو غدة على هذه النصوص قائلاً: "فهذه عشرةُ نصوص -وغيرها كثير- تُفيد أقدمية كتابة الأطراف، التي هي نوع من الفهرسة، وتفيد شيوعَها وانتشارها في ذلك العهد القديم بينهم، وقد كانت في القرن الأول والثاني من الهجرة عملاً خاصاً جزئياً، يقوم به المحدّث لنفسه، ليستذكر به الأحاديث. ثم غدا هذا العمل في القرن [الثالث] (3) الهجري وما بعده من القرون المتأخرة

_ (1) كان شيوخ الحديث وحملته ينهَوْن تلاميذهم الذين يحضرون مجلس السماع عن اصطحاب أدوات الكتابة، ويحذورنهم من كتابة الحديث؛ لئلا ينصرفوا عن الحفظ والاعتماد على الذاكرة؛ حيث كانوا يَرَوْن الحفظَ أدقَّ وأضبطَ من الكتابة، ولكنهم مبكراً أذنوا بتدوين الأطراف، إلى أن أذنوا بتدوين الحديث في مطلع القرن الثاني أو قبله بقليل. (2) هو إبرهيم النَّخَعي، الكوفي، التابعي المتوفى سنة 96هـ. (3) في الأصل: "الرابع" وأظنه سبق قلم، كما هو ظاهر من السياق، وكما سترى في التأريخ والاستشهاد بعمل من توفي سنة 401هـ.

عِلماً قائماً بنفسه، وأُلفت فيه تآليف كثيرة (1) ". ثم ساق الشيخ أمثلة ونماذج لهذه الأطراف التي نَضِجت وصارت علماً قائماً بنفسه فذكر منها -ناقلاً عن (الرسالة المستطرفة لبيان كتب السنة المشرّفة) -: * (أطراف الصحيحين): لأبي مسعود، إبراهيم بن محمد بن عُبيد الدمشقي الحافظ المتوفى 401هـ، ولأبي محمد خَلف بن محمد بن علي بن حمدون الواسطي المتوفى 401هـ، ولأبي نُعيم الأصبهاني المتوفى سنة 430هـ، وللحافظ ابن حجر المتوفى 852هـ. * (أطراف الكتب الخمسة)، وهي البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي - لأبي العباس، أحمد بن ثابت بن محمد الطَّرقي الأصبهاني الحافظ المتوفى بعد سنة 520هـ. * (أطراف الكتب الستة)، وهي الخمسة المتقدمة، ومعها كتاب سنن ابن ماجة، لمحمد بن طاهر المقدسي المتوفى 742هـ، وقد اختصره الحافظ الذهبي المتوفى 748هـ. * (أطراف الكتب الستة) أيضاً للحافظ بن حمزة الحسيني الدمشقي المتوفى 765هـ، وهو المسمّى: (الكشاف في معرفة الأطراف). * وكتاب (الإشراف على معرفة الأطراف)، أي أطراف السنن الأربعة، لأبي القاسم بن عساكر المتوفى سنة 571هـ. وكتاب (الإشراف على الأطراف) أيضاً، لسراج الدين، عمر بن علي، الأندلسي، ثم المصري القاهري، المعروف بابن الملقن -شيخ الحافظ بن حجر- المتوفى 804هـ. * في (أطراف الكتب العشرة) للحافظ بن حجر، وهو المسمى إتحاف المهرة بأطراف

_ (1) من تتمة رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة) استخرجها الشيخ من مقدمة شيخه الشيخ أحمد شاكر لتحقيق سنن الترمذي، وعلق عليها، وأتمها بنحوٍ من نصفها. انظر الصفحات من 87 - 90.

العشرة، وهي الموطأ، ومسند الشافعي، ومسند أحمد، ومسند الدارمي، وصحيح ابن خزيمة، ومنتقى ابن الجارود، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، ومستخرج أبي عوانة، وشرح معاني الآثار، وسنن الدارقطني. وإنما زاد العدد واحداً، لأن صحيح ابن خزيمة لم يوجد منه إلا قدر رُبعه. وذكر أمثلة كثيرة نشُير إليها مجرد إشارة؛ طلباً للإيجاز، منها: أطراف مسند الإمام أحمد لابن حجر، وأطراف الأحاديث المختارة للضياء المقدسي، لابن حجر أيضاً، وأطراف الفردوس له أيضاً. وأطراف المسانيد العشرة للكناني البوصيري، أحمد بن محمد الكناني المتوفى بالقاهرة سنة 840هـ. وتحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للمزي (مطبوعة متداولة)، ومثلها (ذخائر المواريث) لعبد الغني النابلسي الدمشقي المتوفى 1141هـ (1). فهذه نماذج حية شاهدة ناطقة بسبق المسلمين إلى ابتكار الفهرسة، والترتيب على حروف المعجم. بابةٌ أخرى في صنع فهارس الأحاديث: يقول العلامة المحدث الشيخ أحمد شاكر، بعد أن ذكر طرفاً من جهود المسلمين في ابتكار فهارس الأطراف، قال: "ولم يكتف العلماء بهذا أيضاً، فاخترع الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ نوعاً آخر من الفهارس لكتب الحديث، رتب الأحاديث فيه على حروف المعجم، باعتبار أوائل اللفظ النبوي الكريم، وعمل في ذلك كتباً كثيرة أشهرها (الجامع الكبير) أو (جمع الجوامع) والجامع الصغير .... ومنذ بضع عشرات السنين صنع محمد الشريف بن مصطفى النوقادي من علماء

_ (1) السابق نفسه من 91 - 94، واقرأ أيضاً الرسالة المستطرفة: 167 وما بعدها.

الآستانة، كتابين هما (مفتاح صحيح البخاري)، و (مفتاح صحيح مسلم) فرغ من تأليفهما سنة 1312هـ ... " (1). عمل ابن الأثير: الإمام مجد الدين، أبو السعادات، المبارك بن محمد -أحد الكَمَلة الثلاثة أبناء الأثير- صاحب (النهاية في غريب الحديث) المتوفى 606هـ. هذا الإمام الجليل ألف كتابه (جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم) الذي جمع فيه بين البخاري، ومسلم، والموطأ، وأبي داود، والترمذي، والنسائي. وقد تفنن في ترتيبه، وأبدع في تبويبه. اختراعه لفهرسة الألفاظ: وجد ابن الأثير أن جملة كبيرة من الأحاديث لا يخلص معناها، لتدخل في باب معين تطلب منه، فاخترع لها فهرسة أخرى، وطريقة للدلالة عليها، وهي طريقة الفهرسة على الألفاظ، يستهدي الطالب للحديث بمعرفة اللفظ المشهور فيه، فيطلبه في حرفه ومادته. كان ذلك قبل ثمانية قرون من عمل المستشرقين (للمعجم المفهرس لألفاظ الحديث). وقد وفَّى أخونا وصديقنا وشيخنا الشيخ أبو غدة وصفَ عمل ابن الأثير، وشرحه، وذكر نماذج له، وبين قيمته في تتمته لرسالة (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة) التي أشرنا إليها آنفاً" (2)، فارجع إليها تفد علماً غزيراً. 3 - كتب الرجال والطبقات: وهذا جانب آخر تجلى فيه سبق المسلمين إلى ابتكار الفهرسة والترتيب على حروف

_ (1) ر. مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي: 59، 60 بتصرف يسير. (2) اقرأ الصفحات من 76 - 87 من الرسالة المذكورة.

المعجم، وقد كان هذا مبكراً جداً، فأقدم كتاب معروف في رجال الحديث مرتب على الحروف صنعه الإمام البخاري المتوفى سنة 256هـ، وهو كتاب (الضعفاء الصغير) وهو مطبوع على الحجر طبعة قديمة (1). وبعده (كتاب الضعفاء والمتروكين) للنسائي المتوفى 303هـ. ثم ألف العلماء ما لا حصر له من الكتب في التراجم على اختلاف أنحائها ومراميها، مرتبة على حروف المعجم، وأول من عُني بذلك علماء الحديث، فقد صنعوا ما لم يصنعه أحد، ووصلوا إلى ما لم يصل إليه أحد. وها هي كتب رجال الحديث وضعت على معنى الفهارس؛ فإنك تجدهم يذكرون الراوي المترجم، ويذكرون أين روايته من الكتب، أي تقع في أي كتاب، واخترعوا لذلك رموزاً تؤدي هذا بإيجاز عبقري، فمن وُضع أمام اسمه (ع) معناها أن له رواية في جميع الكتب الستة، ومن وضع أمام اسمه (4) معناه أن روايته في السنن الأربعة، وهكذا. بل إنهم يذكرون موضع حديث الراوي من الكتاب الذي روى فيه إذا لم يكن للراوي إلا حديث أو حديثان، مما يدلك على أنهم يتشوّفون للفهرسة، ولكن قلة الأدوات والآلات والإمكانات لم تسمح بغير ذلك القدر، فلم تكن الطباعة معروفة بعدُ، وكان الكاغد باهظ الثمن، وكانوا يصنعون الأقلام والأحبار لأنفسهم (1). ابن الأثير الثاني: وفي هذا الباب أعني فهرسة الأعلام، وجدنا إبداعاً يستحق التنويه لواحدٍ آخر من الكَمَلة الثلاثة أبناء الأثير، وهو عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد المتوفى 630 هـ؛ فقد ألف كتابه الشهير (أُسد الغابة في معرفة الصحابة) ورتبه على حروف المعجم، ولكن المعجب في العمل هو شرحه لمنهجه في الترتيب، فقد جاء في مقدمته قوله:

_ (1) اقرأ تفصيلاً لهذا في مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي من ص 53 - 58.

"أما ترتيبه ووضعه (أي كتاب أسد الغابة) فإني جعلته على حروف (أ. ب. ت. ث)، ولزمت في الاسم الحرفَ الأول والثاني والثالث، وكذلك أيضاً في اسم الأب والجد، ومَن بعدهما، والقبائل أيضاً، مثاله: إنني أقدم (أبان) على (إبراهيم)؛ لأن ما بعد الباء في (أبان) ألف، وما بعدها في (إبراهيم) راء، وأقدم إبراهيم بن الحارث على إبراهيم بن خلاد، لأن (الحارث) بحاء مهملة و (خلاد) بخاء معجمة، وأقدم (أبان العبدي) على (أبان المحاربي). وكذلك أيضاً فعلت في التعبيد (يعني فيما بُدىء بعبد من الأسماء) فإني ألزم الحرف الأول بعد (عبد) وكذلك في الكنى، فإني ألزم الترتيب في الاسم الذي بعد (أبو)؛ فإني أقدم (أبا داود) على (أبي رافع). وكذلك في الولاء فإني أقدم (أسود مولى زيد) على (أسود مولى عمرو). وإذا ذكر الصحابي ولم يُنسب إلى أبٍ بل نسب إلى قبيلة، فإني أجعل القبيلة بمنزلة الأب، مثاله: (زيد الأنصاري) أقدمه على (زيد القرشي)، ولزمت الحروف في جميع أسماء القبائل .... ". ثم ذكر شيئاً من الخلاف بينه وبين من سبقه قائلاً: "وقد رأيت جماعة من المحدِّثين إذا وضعوا كتاباً على الحروف يجعلون الاسم الذي أوله (لا) مثل (لاحِق) و (لاهز) في بابٍ مفرد عن حرف اللام، وجعلوه قبل (الياء)، فجعلته أنا من حرف اللام، في باب اللام مع الألف، فهو أصح وأجود ... إلخ " (1). هذا المنهج الواضح المفصل الذي وضعه ابنُ الأثير في مقدمة كتابه، والتزمه بكل دقة شاهدٌ من الشواهد الكثيرة الناطقة بسبق المسلمين وابتكارهم في مجال الفهارس. * وأبلغ من ذلك أيضاً أنهم عرفوا نظام الإحالات، تجد هذا عند النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) ففي باب الكنى والألقاب، يذكر بعضها قائلاً:

_ (1) اقرأ منهجه كاملاً في مقدمة (أسد الغابة ص 5 - 8).

سبق فيمن اسمه كذا، وتجده أيضاً عند ابن حجر العسقلاني في (تهذيب التهذيب) في المجلد الخاص بالكنى. وأكثرَ العلماءُ من تأليف كتب الرجال والأعلام المرتبة على حروف المعجم حتى بلغت حداً يفوق الحصر، ويكفي أن ترى بين يديك اثنين وثلاثين مجلداً (32 مجلداً) لمؤلِّفٍ واحد، هو ابن حجر العسقلاني هي: [الإصابة في تمييز الصحابة + تهذيب التهذيب + تقريب التهذيب + لسان الميزان + الدرر الكامنة + تعجيل المنفعة]. 4 - في مجال القوائم البيبلوجرافية: لم يقتصر ابتكار المسلمين وسبقهم إلى الفهرسة على مجال اللغة، والحديث، والتراجم والأعلام، بل كان ذلك في مجال الفهارس البيبلوجرافية، أو ما يسمى (بالضبط البيبلوجرافي) فها هو كتاب (الفهرست) لابن النديم المتوفى سنة 380هـ (على أرجح الأقوال). فهذا الكتاب فهرسة علميةٌ دقيقة، وبتعبير عصرنا نشرةُ إحصاءٍ بيبلوجرافي للمؤلفات التي صدرت حتى زمان المؤلف. ومن الطريف أنه سمى كتابه: (الفهرست). أي أن المسلمين ابتكروا (الفهارس) بلفظها، ومعناها. *- ويدخل في هذا الباب ما تواترت به الأخبار عن فهارس الخزانات الكبرى مثل دار الحكمة في بغداد، والقاهرة، ومكتبة قرطبة، تلك الفهارس التي كانت تبلغ عشرات المجلدات. لماذا هذه المجالات دون غيرها: ولسائل أن يسأل: هذه الجهود التي وضعتموها، وعرّفتم بها ألوانٌ من الفهارس المعجمة لا شك في ذلك، ولكن لماذا اقتصرت هذه الجهود على معاجم اللغة والرجال، وكتب الحديث؟ ولماذا لم نجد فهارس لكتب الفنون الأخرى؟ والجواب أن الابتكارات والاختراعات تكون دائماً بقدر الحاجة، بل هي دائماً بنت

الحاجة، فالحاجة أم الاختراع، كما يقولون!، وأنت ترى أن مفردات اللغة، وأسماء المواضع والبلدان، وكذلك أسماء الأعلام والرجال ليست مما يُحفظ -عادة- وتنشط الذاكرة إلى احتوائه، والاستمتاعِ بحفظه، ولذلك كانت الحاجة ماسة لتدوينه وترتيبه، لتيسيره وتقريبه. أما متن الحديث، فإنه وإن كان من أعز وأحب ما يُحفظ وتنشط له الذاكرة، إلا أنه منذ نهاية القرن الأول، ومطلع القرن الثاني، اتسعت الرواية، وكثر الرواة، فاحتيج إلى تدوين الحديث وفهرسته لتيسير مراجعته، وتحرير الفرق بين رواية ورواية، فظاهروا الحفظ بالكتابة والفهرسة، بعد أن ظلوا يَنْهون عنها طول القرن الأول. أما العلوم والفنون الأخرى، فلم ينشطوا لفهرستها اكتفاءً بالحفظ واحتواء الذاكرة عليها، فقد كانت صدورهم بحق أوعيةَ العلم، وكانت أخبارهم في ذلك عجباً من العجب. ولولا أننا أدركنا من مشايخنا من يملك مثل هذه الحافظة اللاقطة، لقلنا: إن أخبارهم هذه -في الحفظ- مبالغات مدعاة لا يقبلها عقل. لكنا أدركنا بعضاً من مشايخنا يملك مثل هذه الذاكرة الحافظة اللاقطة، منهم شيخنا الجليل، (الشيخ محمد أبو زهرة) فقد رأيناه يجلس لمناقشة الأطروحات الجامعية، وليس بيده ورقة، وليس أمامه نسخة من الأطروحة، ويأخذ في المناقشة فيحدد -من ذاكرته- للطالب الصفحة والسطر، والعبارة موضع المناقشة والمراجعة. وأحياناً لا يهتدي الطالب -لارتباكه- إلى الموضع الذي أشار إليه الشيخ، فيرفع رأسه ناظراً للشيخ بما معناه أن الشيخ قد يكون وهم في تحديد الموضع، فيأتيه صوت الشيخ متصنعاً الحدة: يا بني دقق النظر وأعد القراءة، العبارة أمام عينيك في السطر رقم كذا!! ويعاود الطالب النظر، فيكون الأمر كما قال الشيخ!!! لولا هذه النماذج التي أدركناها ورأيناها بأعيننا، لَرَدَدْنا أخبار أئمتنا الماضين، وقلنا: إن هذا من المستحيل عقلاً!! فكيف يستطيع إنسان أن يحيط بعشرات المجلدات، ويحفظها في ذاكرته؟ ويستعيدها، وكأنها بمرأى منه أمام عينيه. نعود فنقول: من أجل هذا لم يحتاجوا إلى فهرسة فنٍّ غير الفنون التي أشرنا إليها.

اعتراف وإنصاف: ونحب في ختام هذا الفصل أن نؤكد أننا لا نبخس المستشرقين حقهم، ولا ننكر جهدهم، فإذا كان المسلمون الأجداد قد سبقوا إلى الفهارس، فابتكروها، وصنعوا منها هذه الألوان والأفانين، على ضآلة إمكاناتهم، وقلة آلاتهم، وبساطة أدواتهم- إذا كان الأجداد قد فعلوا هذا، فإن الأحفاد قد قعدوا عن متابعة أجدادهم، والنسج على منوالهم، حتى سبقهم المستشرقون. نعم، أخذ المستشرقون فكرة الفهارس عن المسلمين الأولين، فهم -لا شك- قد اطلعوا على ما وصفناه لك من هذه الآثار؛ فبَنَوا عليها، وزادوا فيها، وتفننوا في ألوانها وأصنافها، فهذا فهرس للأعلام، وذاك للمواضع والبلدان، وآخر للفرق والطوائف، و ... و ... وألحقوا ذلك بما ينشرون من كل كتاب. وأعانهم على ذلك أمران: الأول - ظهور المطبعة، ووفرة الآلات والأدوات. والثاني - أنهم يعملون في ظل مؤسسات، تكفل لهم كل عون، وتقدم كل مساعدة، وهم يعملون كفريق متكامل متعاون، لا يشغلهم إلا العمل الفني وحده، أما تدبير المصادر والمراجع، وتصوير المخطوطات، وإعداد الأدوات، وشؤون الإدارة والطباعة والنشر فكل ذلك لهم مكفول، ووراءهم أجهزة تعمل بغاية الدقة، والتنظيم والتخطيط لتوفر لهم كل ما يساعد على إنجاز أعمالهم. ويكفيك مثالاً على ذلك "أن المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي تعاقبت عليه جماعاتهم لمدة ثلاث وخمسين سنة" (1). ولكن سبقهم هذا لم يدم طويلاً، فقد لحق بهم وبزَّهم أعلام المحققين: مثل أحمد زكي باشا شيخ العروبة، وأحمد تيمور باشا، وآخرون. خلاصة القول: أننا نقول بقول الشيخ أحمد شاكر: إن للمسلمين فضل السبق

_ (1) ر. رسالة تصحيح الكتب: 86.

والابتكار، وللمستشرقين فضل التفنن، والتأنق، والتنويع والاستكثار، أو بنص عبارة الشيخ شاكر: "الشرق دائماً ابتكار وإنشاء، والغرب دائماً تقليد وتنظيم" (1). ولا نقول بقول العلامة الشيخ أبي غُدة: "ليس للمستشرقين إلا الاختلاس أو الاقتباس" (2). ولأخينا العلامة المرحوم الدكتور محمود الطناحي، نظر جيد في عمل المستشرقين، وتقييم متوازن لجهودهم، في كتابه الفذ: (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي)، فاقرأه تفد خيراً كثيراً (3). ...

_ (1) مقدمة الشيخ أحمد شاكر لسنن الترمذي: 46. (2) رسالة: تصحيح الكتب 42 تعليق رقم 1 بهامشها. (3) من ص206 إلى 283.

-2 - قيمة الفهارس العلمية وضرورتها إهمال الفهارس ومسخها: ما كان من المناسب ولا اللائق أن نتكلم عن ضرورة الفهارس، وأن نبين قيمتها لولا ما رأيناه شائعاً من إهمال شأنها، وعدم الاهتمام بها في كثير من الكتب التي تصدر من المطابع الآن. حتى فهرس المحتويات: حتى هذا الفهرس الوحيد الذي لا ينكر أحد فائدته، ولا يماري مجنون ولا عاقل في قيمته، حتى هذا الفهرس أصابه الإهمال والمسخ، فأصبحت ترى كتباً تخرج من المطابع زاهية مذهبة، تحمل أسماء ذات ألقاب، ونجد فهرس المحتويات، قد أصابه المسخ والخسف، فاقتصر على الأبواب والفصول، فجاء لا يسمن ولا يغني من جوع، والكتاب مليء بالمسائل والقضايا، والخلافيات، والمُعْوِصات، التي تحتاج إلى ما يرشد إليها، ويدل على موضعها. بل الأدهى من ذلك أن كُتباً تراثية صدرت من عشرات السنين، وبها فهرس مفصل للمحتويات، يكشف إلن حدٍّ بعيد عن مسائل الكتاب وفروعه، وييسّر التعامل معه والاستفادة منه، ثم صدرت منه طبعات خَلُوب تخطف الأبصار بتذهيبها وبريقها، ثم تجدها لم تحسن الاستفادة بفهرس الطبعة القديمة. وأقرب مثالٍ لذلك كتاب (روضة الطالبين) للإمام النووي، فقد كنت أراجع فيه كثيراً من المسائل أثناء العمل في تحقيق (النهاية)، حيث تحوي الروضة أقوال إمام الحرمين في كل صفحاتها تقريباً، وقد تعذر التعامل مع الطبعة الجديدة، ولقيت العنت كله، بسبب قصور الفهرس، فعُدت إلى الطبعة القديمة، ومن عجبٍ أني وجدتها -مع

وفاء فهرسها- هي الأصح نصاً، والأقوم عبارة، والأبعد عن التصحيف والتحريف. * والسر في إهمال الفهرس أن كثيراً من الناس للأسف يعدونه تكملة أو حلية، بل فضلة يمكن أن يستغنى عنها. ومن أجل ذلك يتركونه لعمال المطبعة، يصنعونه كيفما اتفق، على حين أن صياغة الفهرس عمل علمي يقوم به المحقق أو المؤلف بعد قراءة الكتاب صفحة صفحة؛ ليحسن التعبير عن مضمونها، ويكشف عن مكنونها في ألفاظٍ قليلة، واضحة مبينة. ثم ينسق ذلك في صورة تبين الأصل، وفروعه بمجرد النظر إليه؛ فصناعة الفهرس عمل علمي ليس بالهين، يقوم به المحقق أو المؤلف، أو من هو قادر على الفهم والتعبير، أعني فهمَ نص الكتاب، والتعبير عما فهم. ومما لا أنساه أنني أنفقت وقتاً ثميناً وبذلت جهداً مضنياً في صناعة فهرس المحتويات لكتاب (الغياثي): وهو يقع في مجلد لطيف؛ قلت في مقدمته: "لقد أجهدني هذا الفهرسُ لياليَ وأياماً، حتى جاء صورة واضحة للكتاب، ييسِّر المعنى الذي يريده الباحث بالتحديد، وعسى أن يكون التوفيق حليفنا". * ولو دققت النظر في فهرس (المجموع شرح المهذب) للنووي -الطبعة القديمة- لرأيت كيف عُني العلماء الذين أشرفوا على هذه الطبعة بصناعة هذا الفهرس، وكيف أحسنوا تفصيله، وأجادوا ترتيبه وتبويبه، فجاء معيناً للباحث، ودليلاً للطالب، يشهد لصانعه بأنه يعرف غايةً لما يصنع، ويعرف كيف يصل إليها. كانت هذه الطبعة منذ أكثر من ثمانين عاماً، فماذا جرى؟ وما بال حالنا اليوم؟ قارن فهرس هذه الطبعة من المجموع بفهرس (فتح العزيز للرافعي) التي صدرت في أيامنا هذه!! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو وحده المستعان على كل بليِّة. الفهارس العلمية: إذا كان هذا هو حال فهرس المحتويات، فما بال مجموعة الفهارس، التي عرفت باسم الفهارس العلمية، أو الفهارس الفنية؟ إن هذه الفهارس برغم أن جذورها وبذورها كانت عند أئمتنا منذ أكثر من ثمانمائة

عام، وأن الرعيل الأول من المحققين في العصر الحديث اهتم بها، وأخذ في صناعتها بصورة كاملة منذ 1914 م، وبرغم كل الدعوات والنداءات من أئمة الفن، فن التحقيق - نجد كثيراً من الناس لا يعرف لهذه الفهارس قيمتها، ولا يدرك فائدتها. وتقديري أن هذا يرجع إلى قصورٍ في مناهج التعليم، التي تخلو من التدريب العملي على البحث، وتترك من يقدر له أن يكون من أهل البحث أن يشق طريقه في الصخر بأظافره، ويظل يضرب يمنة ويسرة بالمحاولة والخطأ، حتى يصل إن قدر له أن يصل. * أذكر عندما خرج كتاب (البرهان في أصول الفقه) أن ضمَّنَا مجلس من أهل العلم، وكان الثناء على تحقيقه موضوعَ الحديث، إلا أن أحد كرام الحاضرين -وهو في منزلة شيوخي- سألني بصوتٍ عالٍ: ما معنى هذه الفهارس والصفحات الكثيرة في آخر الكتاب؟ ما قيمة أن أعرف أن القاضي الباقلاني تكرر في (البرهان) مائة مرة؟ ولمنزلة الشيخ ومكانته لم أشأ أن أردَّ، أو بالتحديد لم أستطع أن أجيبه، فأنا من جيل يعرف للشيوخ منزلتهم، ويقدرهم ويهابهم. لم أستطع أن أنصِّب نفسي معلِّماً للشيخ الجليل، فأقول له: إن قيمة هذا الفهرس أنه يأخذ بيدك، ويضع أصبعك على كل ما نقله إمام الحرمين عن القاضي الباقلاني، وتعرف فيما وافقه وفيما خالفه. ثم تجد بين يديك نصوص (القاضي) وهي مفقودة، لم تصل إلينا بعد. ثم نعرف جذور الأفكار وأصولها، فما نقرؤه في كتاب فلانٍ وفلان، من المتأخرين، نعرف مصدره. ثم قد نصحح شيئاً من الأوهام في النقل، فقد نجد فيما نقله إمام الحرمين في البرهان ما يخالف بعضَ ما هو منسوب للباقلاني في كتب المتأخرين. لم أستطع أن أقول ذلك، وهو بعضٌ مما يقال عن قيمة الفهارس العلمية وفوائدها. * وشيخنا هذا ليس وحده بل بعض أهل الفضل من المشتغلين بالتحقيق، ولهم فيه باع، قد يغفل أحياناً عن قيمة الفهارس، فقد عارض قولي أحدهم ذات يوم -مع أنه من

أهل الصناعة- قائلاً: إن النشر الإلكتروني الآن، أغنى عن الفهارس، فلم يعد لها كبير فائدة. وهذا لا شك كلام لا ثبات له، فالباحث في الشبكة الإلكترونية ينطلق من شيء يعرفه، ويسأل عنه، ومعه مفتاح، أو كما يسمونه مدخل يدخل به، أو منه. والفهرس من الوسائل التي تضع في يد الباحث هذه المداخل، وإلا فكيف يعرف الباحث أن مؤلف هذا الكتاب تميز بمعجم خاص من الألفاظ، وباستعمالات غير مألوفة من الأساليب؟ من أين يعرف الباحث في الشبكة الإلكترونية هذا، ما لم يبذل المحقق جهده في صناعة مثل هذه الفهارس، ويضعها بين يدي الباحث أولاً؟ * وإذا كان هذا رأيَ بعض الشيوخ وأهل الصناعة في الفهارس، فما بالك بغيرهم؟ الناشرون والفهارس: يتضجر الناشرون من الفهارس أحياناً، يعرف ذلك من مارس التعامل معهم، وأشار إلى شيء من ذلك العلامة الشيخ أحمد شاكر (1)، وأخونا العلامة النابغة الدكتور محمود الطناحي -رحمه الله ونور ضريحه- فقد قال في مقدمة الجزء الخاص بالفهارس من الطبعة الثانية لطبقات السبكي: " ... وقد صدرت الطبعة الأولى وقرين كل جزءٍ فهارسه ... وقد صنعنا هذا الصنيع لأمرين: الأول - خشية أن يصيبنا الكلال والوهن، فلا نستطيع بعد ظهور الكتاب في أجزائه العشرة أن نتُم عملنا بإصدار فهارسه مجمعة. الثاني- أن يُحجم الناشر وقتها عن إصدار جزء ضخم مكلِّفٍ للفهارس العامة خشية عدم رواجه " اهـ. الناشرون معذورون: الناشر مهما كان من أهل العلم، أو الذين يعرفون للعلم قيمته، فهو في النهاية تاجر محترف -وهذا ليس عيباً- والتجارة تعتمد على دورة رأس المال ومدى سرعتها، فأن يسجن الناشر رأس ماله في كتابٍ يطبعه، وينتظر مدة شهر أو شهرين، أو أكثر في انتظار

_ (1) مقدمة سنن الترمذي: 44.

إعداد الفهارس الفنية وطباعتها، فهذا أمرٌ ضد طبيعة الأشياء في نظره (1)، وشيء لا يحتمله إلا أولو العزم الذين يستعدون للتضحية في سبيل العلم. نداء ورجاء: ومن هنا أنادي وأرجو الجهات والمؤسسات الرسميةَ التي تعمل في مجال الثقافة والعلم، وإحياء التراث أن تنظر في صيغةٍ ووسيلةٍ ما لدعم الناشرين، ولو كان ذلك بالإنفاق على طباعة الكتاب التراثي، في صورة قرض للناشر إلى أن تتم طباعة الكتاب، ويبدأ عرضه في الأسواق، أو بالوعد بشراء كمية مناسبة دفعة واحدة بسعرٍ مُجْزٍ تَرُدّ للناشر قدراً صالحاً من رأسماله فور ظهور الكتاب. وأهل المال والإدارة، لا شك يعرفون من الوسائل أكثر وأفضل من هذا الذي نقول. فإذا تم شيء من هذا، فهناك من الناشرين من هو من أهل العلم، وعندها سيرحب بالعمل على نشر الفهارس، ولن يتبرم بها. قيمة الفهارس وفائدتها: كتب العلم -أي فن كان من فنونه- كنزٌ مغلق، بعبارة شيوخنا، وهي (مكنز) من مكانز المعلومات بعبارة المختصين في أوعية المعلومات، والخبراء في المعلوماتية ونظم المعلومات، ومفتاح ذلك هو الفهارس. فالفهارس العلمية بألوانها المختلفة هي التي تدلك على هذه الكنوز المخبوءة في تضاعيف هذه الكتب، "ذلك أن كتب التراث متداخلة الأسباب، متشابكة الأطراف وقلما تجد كتاباً منها مقتصراً على فنٍّ بعينه، دون الولوج إلى بعض الفنون الأخرى؛

_ (1) لقد ظهر كتاب (الوسيط) للغزالي في طبعة جيدة محققة متقنة، أضاف المحققان إلى حواشيها أربعة مؤلفات مخطوطة بها تعليقات واستدراكات لأربعة من الأئمة الكبار: ابن الصلاح، والنووي، والحموي، وابن أبي الدم، فأعلى ذلك من شأن هذه الطبعة، وقد قال المحققان في المقدمة: إنهما صنعا فهارس فنية للكتاب، ولكنا لم نرها مع مجلدات الكتاب السبعة، نرجو ألا يكون هذا من تبرّم الناشر بالفهارس.

لدواعي الاستطراد والمناسبة، وهذا يؤدي إلى أن نجد الشيء في غير مظانه" (1). فأنت تجد كتاباً مثل (معجم البلدان) لياقوت حوى كثيراً من الفنون، ففيه من التراجم، وأسماء الكتب، والأخبار، والوقائع، والأيام، والأشعار، والنوادر، والأساطير، وغير ذلك. وانظر إلى كتابٍ مثل طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، ففيه من نوادر الفنون والعلوم ما قد لا يوجد في غيرها: من أصول الدين، وأصول الفقه، والفقه، والتفسير، والحديث وعلومه، والتاريخ والجغرافيا، وغيرها. وقد شغل فهرس مسائل الفنون في كتاب الطبقات هذا قريباً من مائة صفحة، حصراً لعناوين المسائل فقط. فهل كان الباحث بمستطيعٍ الوصول إليها لولا هذا الفهرس الذي صنعه المحققان، ثم إن جملة هذه المسائل من النوادر والأوابد غير المتداولة والمعروفة. * ولا يسبقن إلى الوهم أن هذا أمر تختص به كتب الطبقات والمعاجم ونحوها، ولا يوجد في كتب الفن الواحد ككتب التفسير، وكتب النحو، والفقه، ففي كتب التفسير نحوٌ كثير، وفقه كثير، وشعر كثير، وفنون أخرى، مثل القراءات، واللغة، والمغازي، والأخبار، وفي كتب الفقه: نحوٌ، ولغة، وأصول، وقواعد، وضوابط، وكتبٌ ومؤلفات. * بل لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن الفهارس ليست ضرورية لكتب التراث وحدها، بل لكل كتابٍ يؤلف، صغر حجمه أو كبر، وإن كنتَ في شك من ذلك، فانظر في كتاب العلامة الطناحي (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) وتأمل فهارسه، لترى كيف تضيء لك مسائله، وتنثر لين يديك لآلئه ودررَه. ومما يستحق أن يذكر هنا أني أفدت شخصياً من هذه الفهارس، حين كنت أدون

_ (1) من كلام المرحوم العلامة الدكتور الطناحي، في مقدمته لفهارس الشعر واللغة لكتاب (غريب الحديث) لأبي عبيد، مقال في مجلة (البحث العلمي والتراث الإسلامي) -كلية الشريعة- جامعة أم القرى سنة 1401هـ ص 577.

بيانات أحد المراجع المطبوعة قديماً، والتي سطا عليها الساطون، وأخفوا بيانات النشرة التي صوروا عنها، فقرأت الخاتمة، ومنها عرفت الناشر وتاريخ النشر، ولكني لم أعرف المكان، ما دلني عليه إلا فهرس المطابع في هذا الكتاب. وانظر في كتاب شيخنا العلامة عبد السلام هارون (تحقيق النصوص ونشرها) وهو رسالة لطيفة لا تزيد عن مائة صفحة، ولكنه ألحقها بفهارس علمية مبتكرة، فتأمل أي فوائد تفيدها". * ولقد أشار المرحوم العلامة الطناحي إلى بعض فوائد الفهارس قائلاً: "وأستطيع أن أوجز بعض الفوائد التي يجنيها الباحث من الفهارس فيما يلي: أولاً - معرفة المدى الزمني الذي عاشته كتب التراث، وذلك يظهر من فهرسة الكتب المذكورة أسماؤها في داخل الكتاب. وتأمل أسماء الكتب ودواوين الشعراء التي ذكرها البغدادي المتوفى 1093هـ في مقدمة (الخِزانة) وفي أثنائها، وكذلك الكتب التي أوردها المرتضي الرَّبيدي المتوفى سنة 1205هـ في (تاج العروس) (1). وسيصحح هذا كثيراً من المعلومات والمقولات التي سادت وذاعت، كالقول بأن معظم كتب التراث قد ضاع أيام فتنة التتار في القرن السابع. وإذا كان هذا صحيحاً، فإنه صحيح أيضاً أن كثيراً من الكتب قد ضاعت بسبب غفلة المسلمين. ثانياً - ضم النظير إلى نظيره، وبخاصة في الموسوعات، وسيؤدي هذا إلى اكتشاف بعض الأخطاء وتصحيحها. ثالثاً - جمع آراء العلماء المنثورة في ثنايا الكتب، والتي لا يجمعها كتاب واحد، كأن نجمع آراء نحوي من النحاة من المطوّلات، (كالهمع) (والأشباه والنظائر) للسيوطي، و (خزانة الأدب) و (شرح شواهد الشافية) و (شرح شواهد المغني) للبغدادي.

_ (1) ومثل هذا الكتب التي ذكرها النووي المتوفى 676هـ في (المجموع)، والتي ذكرها التقي السبكي المتوفى 756هـ في أول تكملته للمجموع، وفي أثنائه، والتي ذكرها السيوطي المتوفى 911هـ في كتبه، ومنها (المزهر) و (الإتقان). عبد العظيم.

رابعاً - جمع شعر الشعراء الذين ليس لهم دواوين، ونسبة الشعر المجهول النسبة، فإذا أضيف إلى ذلك ذكر بحر البيت، أمكن معرفة أكثر البحور دوراناً على ألسنة الشعراء. خامساً - جمع نصوص بعض الكتب المفقودة، وهناك بعض الكتب المطولة، تنقل نصوصاً كثيرة من هذه المفقودات، ويحضرني الآن من هذه المطولات: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وكثير من تصانيف السيوطي كالإتقان، والمزهر، والأشباه والنظائر النحوية، وكتب البغدادي السابقة، وتاج العروس للزبيدي. سادساً - يفيد فهرس اللغة في حصر بعض الألفاظ التي لم ترد في المعاجم المتداولة، وقد جاء شيء من هذا في (مجالس ثعلب) ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس [راجع فهارسها] كذلك يفيد مثل هذا الفهرس اللغوي في نسبة الشعر الذي اختلفت قوافيه، أو لم تعرف قوافيه، حين يكون معك صدر البيت فقط، فإذا فهرست اللغة التي في البيت، اهتدي إليه في يسر وسهولة. وأيضاً يفيد هذا الفهرس في توثيق كلام أئمة اللغة، وأذكر من تجاربي في هذا المجال: أني كنت ألتمس مرة كلاماً لأبي العباس ثعلب، فلم أجده في (مجالسه)، ولا في (فصيحه) ثم كان أن وجدته في شرحه لديوان زهير بن أبي سُلمى. وما دلني على هذا إلا فهرس اللغة الذي صنعه مشايخ دار الكتب المصرية الفضلاء، رحمهم الله ورضي عنهم. هذا ما يحضرني الآن، ولا شك أن هناك فوائد أخرى كثيرة للفهارس، تدرك بالحاجة والممارسة، والتتبّع" (1) اهـ. وإذا كان هذا ما رآه العلامة الطناحي من موقعه في قلب علوم اللغة، فإننا نستطيع أن نضيف إليه في مجال الفقه ما يأتي: سابعاً - جمع فقه السلف من الصحابة، والتابعين، والأئمة الذين لم تدون

_ (1) من مقال في مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي -كلية الشريعة- جامعة أم القرى سنة 1401هـ ص: 579، 580.

مذاهبهم، والفقهاء الذين لم تعرف لهم كتب مدونة بأسمائهم. وقد ظهرت مجموعات لفقه بعض الصحابة والتابعين مثل فقه عمر وفقه ابن عباس، وفقه ابن مسعود، وفقه عبد الله بن عمر، وفقه إبراهيم النخعي، ومن بعدهم مثل فقه الأوزاعي، ولكن يظل ذلك في حاجة إلى مراجعة، وتكميل، ولا يكون ذلك إلا بفهرسة كتب الفقه، وعرض ما في هذه الفهارس على ما في هذه المدونات. ثامناً - جمع المسائل الخلافية، وتصنيفها وتبويبها، ووضعها في صعيد واحد بين يدي الباحثين. ثم مقارنتها بما هو مذكور في كتب الخلاف، فما هو بين أيدينا من هذه الكتب الخلافية لا يحوي كل هذه المسائل. تاسعاً - يفيد فهرس المسائل الخلافية في أمرٍ آخر، رأيناه في كتابنا هذا، حيث يحكي عن المخالفين قولاً أو رأياً لا نجده في كتبهم المشهورة والموجودة بين أيدينا، بل قد نجد عكسَ الحكم المحكي عنهم. مما يفتح المجال أمام البحث لتفسير ذلك. عاشراً - تفيد فهرسة كتب الفقه -للمتقدمين والمتأخرين- في معرفة فقه الأئمة الذين نسمع بكتبهم، ولم نرها، كما تفيد تصحيح هذه النقول بمقارنتها بعضها ببعض. حادي عشر - تفيد فهرسة الكتب الفقهية فهرسة تحليلية في معرفة التطوّر الفقهي، فكلما ارتقينا إلى القرون المتقدمة، ونشرنا نصوص أئمتها، وعرفنا مصادرهم، أمكننا أن نتتبع جذور المسائل والأحكام الفقهية، ونعلم مَنْ أخذ عمن، ونعرف الأقوال المهجورة، ونبحث عن أدلتها، ووجه ضعفها، ولماذا هُجرت؟ ثاني عشر - مما يفيده فهرس الكتب بالإضافة إلى ما ذكر، أنه يؤكد أو ينفي صحة نسبة كتابٍ ما إلى هذا الإمام أو ذاك. وبالنسبة لي لقد أكدت نسبة بعض مؤلفات إمام الحرمين من فهارس بعض الكتب التراثية، أذكر منها على سبيل المثال: أني أكدت أن لإمام الحرمين تفسيراً للقرآن الكريم بواسطة فهرس الكتب لكتاب (الإتقان) للسيوطي، فقد ذكره السيوطي، ونقل عنه. ثالث عشر - وهو من البدائه، أعني به سهولة الدلالة على مضامين الكتاب وفوائده، وهذا أمر قد ينظر إليه ناظرٌ باستخفاف، ولكن: "لا يعرف الشوق إلا من يكابده"،

"ومن ذاق عرف" فلو كانت هناك فهارس لمجموع النووي، والروضة، والشرح الكبير للرافعي، لو كان هناك فهارس لهذه الكتب -التي كانت مراجع أصيلة لتحقيق هذا الكتاب- لخففت كثيراً من العناء الذي لقيناه أثناء البحث فيها عن النقول عن إمام الحرمين، وتدقيق الأعلام، وأسماء الكتب، بل وضبط المسائل. ولقد خففت شيئاً من هذه المعاناة حين قمتُ بما يشبه الفهرس، إذ تتبعت الأعلام الواردة في هذه الكتب وميزتُها وأظهرت مكانها بلونٍ فاقع من ذلك (الماركر) الفسفوري وكذلك ميزت كل موضع ذكر فيه إمام الحرمين بلونٍ آخر، مما خفف بعض المعاناة، وساعد نوعاً ما في الوصول إلى المراد. وانظر إلى ما كان من العلامة الطناحي حين كان يحقق (الغريبين) للهروي، واحتاج إلى مراجعة (غريب الحديث) لأبي عبيد، فما تيسّر له ذلك إلا بعد أن تجشم صنع (فهرسٍ للألفاظ والمواد اللغوية) لهذا الكتاب (1). صناعة الفهارس في ميزان العمل العلمي: يظن بعض من لم يتمرس بالبحث، ويتدرب على استخدام وسائله وأدواته، ومنها الفهارس العلمية- أن صناعة الفهارس هي مجرد جمع وترتيب، ولا تتصل بالعمل العلمي، ولا تمت إليه بسبب، ولكن من له أدنى تأمل يدرك أن هذا عمل علمي جاد، فصناعة الفهارس في حقيقة أمرها تحليلٌ للنص المفهرس، ولا يكون هذا التحليل إلا بعد فهمٍ عميق للنص -أي الكتاب- المراد فهرسته، فهمٍ يدرك مراميه، ويحيط بمغزاه، ويتذوّق لغته، ويفقه منهجه ... عندها يستطيع أن يصنع فهارسه. ْ ويدلك على هذا ما يكون من التفنن في الفهارس وابتكار أنواعها، مما يشهد بفقه مضمون الكتاب المفهرس، وإحاطة المحقق به. ويتحدث شيخنا العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عن صناعة الفهارس، وأنها ضرب من التأليف، فيقول: "هذا العمل فيه بَذْلُ جهد كبير، وتحمل مشقاتٍ كثيرة؛ فقد صار نوعاً من أنواع التأليف، والإتقان فيه صعبٌ وعَسِر، ويحتاج إلى حَبْس النفس عليه

_ (1) من معنى كلامه في المقال الذي أشرنا إليه في التعليق السابق.

مدة طويلة، ولذا يتردد طالب العلم بين الإقدام عليه، لتقريبه المطلوب بيسر وسهولة، والإحجام عنه لما يأكل من الذهن والزمن ... " (1). أما أخونا العلامة الطناحي، فيقول: "لو كان لي من الأمر شيء، في الدراسات العليا بالجامعات العربية، لجعلتُ موضوع الماجستير والدكتوراه فهرسة كتاب من كتب التراث، فهرسة تفصيلية كاشفة. وسوف يكون هذا العمل مجدياً على الطالب، وعلى الدراسات العليا نفسها، بدلاً من الموضوعات التي تهرّأت واستُهلكت، وأصبحنا بها ندور حول أنفسنا. فإذا فُهرست كتب كل فن من فنون التراث على هذا النحو الكاشف الجامع، أمكن لنا أن نقدم صورة حقيقية لفكرنا العربي الإسلامي، بدلاً من أن نُغرق في مدحه ببلاهة، أو نُسرف في ذمه بجهل." (2). ثم في مقام آخر يغضب غضبة مُضرية على الذين يجهلون قيمة الفهارس؛ فيردّونها على صاحبها؛ ولا يقبلونها سنداً للترقية في السلك (الأكاديمي) الجامعي، فيقول: "وأمر عجيب، وهو ما سمعناه أخيراً، من أن لجان الترقيات، في بعض الجامعات العربية، وقد رفضت -ضمن ما قدم لها من أعمال- فهرسةً علميةً لفنٍّ من فنون التراث، من داخل كتاب كبير، من أمهات الكتب، بحجة أن الفهرسة عملٌ آليٌّ ميكانيكي، لا يمثل جهداً علمياً! ". فيغضبه هذا التصرّف أشد الغضب، فيقول ثائراً: "وأستطيع أن أردّ هذا القولَ وأمحقه، لولا الغم الذي أطبق على القلب من سماع هذا الكلام العجيب". وقد مر بك في أثناء الحديث عن أعمال المستشرقين، أنهم قد عُنوا بفهرسة كتب التراث، عناية فائقة، وأن من ذلك فهرسَ أمالي أبي علي القالي، الذي صنعه

_ (1) ر. الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة: 352. (2) من مقالٍ له بمجلة (البحث العلمي والتراث الإسلامي) سبقت الإشارة إليه آنفاً (ص580).

المستشرقان الكبيران (بيفان) و (كرنكو)، فهل يجرؤ أحد على وصف عمل المستشرقين بأنه آلي ميكانيكي؟ ثم أفضى هذا العبث كلُّه، إلى أمر أشدَّ نُكراً، وهو: "أن التحقيق لا يكوِّن شخصية علمية". هكذا يقولونه بدون تقييد، أو وصف، أو استثناء، ومعنى هذا بوضوح أن دارساً مسكيناً توفَّر على موضوع مستهلك، فأكثر فيه الثرثرة، وقَمَشَ له عِلماً من هنا، وسلخ له علماً من هناك، ثم انتهى به إلى نتائج هزيلة شائهة، يَفْضُل رجلاً مثل عبد السلام هارون، الذي قضى من عمره خمسين عاماً أخرج فيها كنوزاً، وأضاء صفحاتٍ مشرقةً من تراثنا العظيم! اللهم إنا نستدفع بك البلايا، ونسألك أن تهوّن علينا المصائب والنوائب" (1) انتهى بنصه. وهذا كلامٌ واضح مبين يدرك من لديه أدنى درجة من تذوق الأسلوب والبلاغة أيَّ مرارة يعانيها الطناحي، وأيَّ ألمٍ يمزقه، وأي غضب يفور بداخله على هؤلاء الذين ينكرون قيمة الفهارس، ويجهلون قيمة التحقيق، وكان قد قال قبلاً: "إن التحقيق عمل من الأعمال العلمية، جيده جيد، ورديئه رديء". علماء أعلام صناعتهم الفهارس: لو كانت صناعة الفهارس عملاً ميكانيكاً آلياً -كما يقول ذلك الذين لا يعرفون- لما شغل بها علماء أعلام أنفسهم، ولتركوها لأتباعهم، ولما نسبوها إلى أنفسهم، ولما تمدّحوا بها. فمن هؤلاء الأعلام الذين ارتادوا هذا الطريق، ووطؤوه العلامة أحمد زكي باشا، شيخ العروبة (1284 - 1353هـ - 1867 - 1934م) وهو أول من عُني بهذا الفن حين حقق (كتاب الأصنام) لابن الكلبي، نشرته دار الكتب المصرية 1924م، وهو كتاب لم

_ (1) ر. مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي 281، 282.

يصل إلى مائة وخمسين صفحة، ومع ذلك صنع له فهارس علمية مبتكرة، وأتبعه بكتاب (أنساب الخيل) في سنة 1931م، وهو في حجم الكتاب الأول، وصنع له فهارس علمية أيضاً. ومن هؤلاء الأعلام العلامة أحمد باشا تيمور (1288 - 1348هـ - 1871 - 1930م) الذي صنع فهارس شافية كافية (لِِخزانة الأدب) للبغدادي، وقد سمى هذه الفهارس اسماً طريفاً ظريفاً هو: (مفتاح الخزانة) وتشمل هذه الفهارس اثني عشر فناً من فنون العلوم المبثوثة في الخِزانة. وقد أضاف العلامة عبد العزيز الميمني إلى (مفتاح الخزانة) فهرساً آخر للكتب التي أوردها البغدادي في الخزانة، وسمى هذا الفهرس (إقليد الخزانة). وتفنن العلماء في صنع الفهارس العلمية القائمة على فقه ما في الكتاب المحقق واستكناه أسراره. فمن ذلك فهارس طبقات فحول الشعراء لابن سلام، وفهارس مسائل اللغة والنحو في تفسير أبي جعفر الطبري. من صنع شيخنا أبي فهر شيخ العربية محمود محمد شاكر برد الله مضجعه. وفهارس كتاب (الحيوان)، وكتاب (البيان) وهما للجاحظ من صنع شيخنا عبد السلام هارون ويقول أخونا العلامة الطناحي عن فهارس كتاب (الحيوان): "وهي إلى الطراقة والابتكار ما هي". وفهارس سمط اللآلي للعلامة عبد العزيز الميمني. وفهارس شواهد سيبويه لعلامة الشام الشيخ محمد راتب النفاخ. وفهارس كتاب سيبويه لفضيلة الشيخ العلامة محمد عبد الخالق عضيمة، "وهو فهرس جامع، دخل به الشيخ كل دروب سيبويه" على حد تعبير العلامة الطناحي. وفهارس طبقات الشافعية الكبرى للسبكي التي صنعها العالمان الجليلان محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، وهي فهارس جامعة نافعهَ، أجزل الله مثوبتهما على ما قدما وأجادا وأفادا.

ماذا بعد: كان المأمول بعد هذه الجهود الرائدة، وما تلاها من أعمالٍ علمية جادة، أن تنضج صناعة الفهارس، وتتضح مناهج التحقيق، وألا يخرج كتاب بغير فهارس، ولكن للأسف عم الفساد وطم، وكما قال شيخنا أبو غدة: "كُسر سياج العلم، فغدا كل متفرج على كتب الحديث محدثاً، وكل مشتم لشمَّةٍ من العلم عالماً محققاً، واندلقت الكتب الغُثاء من المطابع، واختلط الجيد بالرديء، والضار بالنافع. فإنا لله" اهـ (1). وأخيراً نقول: مع كثرة هذا الغثاء الذي شكا منه الشيخ العلامة أبو غدة، ومع قولهم: إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، مع كل هذا ستظل الأعمال الجادة -وهي ليست بالقليلة- علامات على الطريق. ولقد حاولت منذ سنوات أن أصنع شيئاً لوقف هذا البلاء، وكاتبت علماء كباراً، أصحابَ رأي وقرار، واقترحت عليهم الإعداد لمؤتمر علمي ينظر في قضية التراث، تراث الأمة، ويضع الضوابط للعمل في إحيائه، ويبحث في وسائلَ قانونية وإجرائية للضرب على أيدي العابثين بالتراث؛ فإن دار نشرٍ واحدة عبثت بمئات الكتب الأمهات، وأخرجتها تحت أسماء غِلْمة لا يعرفون كيف يقرؤون صفحة واحدة فيها. مكنت هؤلاء الغِلمة من العبث بالحواشي والتعليقات والفهارس التي أضنى محققون كبار، وعلماء أعلام أنفسهم في وضعها. أقول: حاولت ذلك منذ سنوات، ولم يتم ما أردنا؛ فإلى أن يتم ذلك ندعو الناشرين الجادين أن يعلموا أن صناعة النشر علمٌ، وأن العلم عندنا دين وعبادة، فلينظروا ماذا ينشرون وكيف ينشرون. تنبيه: وهناك أمر لا بدّ من التنبيه إليه، وهو أن بعض أهل العلم قرأ كلمةً للشيخ أبي غدة على غير وجهها، وحملها على غير محملها، وذلك حين قال الشيخ "وقد ترددت كثيراً

_ (1) من تعليقه على رسالة (تصحيح الكتب وصنع الفهارس ص 41).

في صنع فهارس هذا الكتاب (1)، نظراً لما يذهب من الوقت في تأليف فهارسه وضبطها وإتقانها ... ، فقد أخذ مني صُنع هذه الفهارس وضبطها ... ومقابلتها بالكتاب أكثر من ثلاثة أشهر -مع بعض أعمال صغرى خفيفة- فتمنيت لو كنت صرفت ذلك الزمن في خدمة كتابٍ آخر، ولكن ما كل الأماني تُرتضى! ". فظن أن الشيخ قد ندم على إنفاق هذه المدة في صنع هذه الفهارس، وأن الأولى، أو الأصوب، كان إنفاق هذا الوقت في خدمة كتاب آخر، ولكن هذه قراءة غير صحيحة لعبارة الشيخ؛ فالشيخ يقول: "وما كل الأماني تُرتضى" أي هناك ما يتمناه المرء، وتنازعه إليه نفسه، ولكنه ليس مقبولاً، ولا مرضياً. وربما ساعد على هذا الفهم الخاطىء تعليقُ الشيخ أبي غدة على عبارة العلامة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد؛ إذ قال: "وصدق الشيخ" أي صدقه في جوابه للأستاذ فؤاد سيد عندما سأله: لماذا لا تهتم بفهرسة ما تنشر يا مولانا؟ فأجاب: أمن أجل خمسةَ عشرَ مستشرقاً أُضيِّع وقتاً هو أولى بأن يُصرف إلى تحقيق كتاب جديد؟ " فعلّق الشيخ أبو غدة قائلاً: "وقد صدق الشيخ؛ فإنها -أي الفهارس- تذهب بالوقت الثمين، ولا يشعر به القارىء" انتهى ولكن الشيخ أبا غدة -في الواقع- يُصدّق الشيخَ (محمد محيي الدين عبد الحميد) في "أن الفهارس تأكل الوقت الثمين، ولا يشعر به القارىء" ولكنه لم يوافقه على منهجه في ترك الفهرسة. وقد قطع الشيخ أبو غدة هذا الوهمَ في فهم كلمته، بما كان من عمله حتى وفاته، فلم يخرج له كتاب من غير فهارس علمية شافية كافية، ليس الكتب التراثية فقط بل حتى كتبه المؤلفة مثل كتاب (تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي). بل إن العلامة الطناحي الذي نقل عبارة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد عن الفهارس هو الذي قال عنه في كتابه نفسه: "على أن الشيخ محيي الدين لم يهمل الفهارس بمرة، فقد صنع فهرساً جامعاً لألفاظ

_ (1) يقصد كتاب (الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء)، لابن عبد البر.

كتاب (جواهر الألفاظ) لقدامة بن جعفر، وفَهْرسَ شواهد كل كتب النحو والبلاغة التي أخرجها، وشواهد (شرح الحماسة) للتبريزي منسوقة على حروف الهجاء. كما أنه صنع فهارس جيدة لكتاب وفيات الأعيان، شملت: فهرس التراجم بإحالاتها، وفهرس الطبقات الزمنية: علماء كل قرن على حدة، وفهرس الطبقات العلمية: الخلفاء والوزراء، القضاة، وسائر علماء كل فنٍّ وعلم، وفهرس الألفاظ التي نص ابن خلكان على ضبطها، أو شرح معناها، وسماه (فهرس التقييدات). وهذا من أنفع الفهارس؛ لأن لابن خلكان كَلَفاً وعناية بضبط الأعلام والأنساب والبلدان، يذكره في آخر الترجمة" (1). ...

_ (1) مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي الإسلامي: 73، 74.

-3 - عملنا في فهارس النهاية الفهارس -كما أثبتنا- عملٌ علمي، فمثلها مثل كل عمل جيدُه جيد، ورديئه رديء، فليست صناعة الفهرس مجرد جمعٍ آلي، ورص كلمات، ولكنه عمل وراءه فكرٌ، وخُطة، وله هدف محدّد وغاية، و"الإتقان فيه صعب وعَسِر" على حد ما قاله الشيخ أبو غدة فيما نقلناه عنه آنفاً. وأعتقد أن الذي يعصم من الخلل في هذا الميدان أن يسأل صانع الفهرس نفسَه: لماذا هذا الفهرس؟ فإذا عرف الغاية التي يتغياها، استطاع أن يسلك الطريق التي توصله إلى تلك الغاية. ولذلك تعجب إذا وجدت محققاً فاضلاً صنع فهرساً للأعلام في مائة وخمسين صفحة كاملة، رتبه على حروف المعجم، وقال عن منهجه في هذا الفهرس: إنه ضم إلى الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب "بعضَ التراجم طالما تذكر في كتب فقه الشافعية، ولو من المتأخرين من غير إشارة إلى ذلك". وقال أيضاً: "وضعت ترجمة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أول التراجم طلباً لليمن والبركة، واتباعاً لسلفنا الصالح". وقال أيضاً: "فاتني بعض التراجم التي لم أقف على ذكرها" ولم يحددها لنا، ولم يذكر لنا كيف بحث عنها، وأين، لنتابع البحث إذا استطعنا. إذاً هو قد جمع بين الأعلام الذين في كتابه، وزاد عليهم غيرَهم من المتقدمين على المؤلف والمتأخرين عنه. ثم انظر كيف صنع هذا الفهرس!! لقد شغل الصفحات المائة والخمسين بترجمة هؤلاء الأعلام مرتبين على حروف المعجم. وانتهى الأمر.

لم ندرِ ما علاقة ذلك بالكتاب المحقق؟ فلم يذكر لنا في أي صفحة جاء هذا العلم؟ ولماذا جاء؟ وماذا أخذ عنه المؤلف؟ ومدى اعتماده لقوله أو مخالفته له؟ وفي أي الأبواب كثر اعتماده له وأخذه عنه. كل ذلك مما يدلك عليه فهرس الأعلام. لكن فهرسنا المطول هذا لا يدلنا على شيء من ذلك، فقط يعرّفنا بتراجم هؤلاء الأعلام، أعلام المذهب الذين ذكروا في الكتاب وغيرهم. والترجمة للأعلام عمل علمي -لا شك- لكن أهذا موضعه؟ ولمن نقدمه؟ إن الباحث في كتابك أيها المحقق الفاضل، إما أن تسعفه بترجمة موجزة في حاشية الكتاب، لمن يحتاج إلى التعريف به من الأعلام، وإما أن تتركه وكتب الطبقات والتراجم، ومثل هذا الباحث لا يعجز عن الوصول إليها، وليس في حاجة إلى من يدله عليها. إن هذا في حقيقته ليس فهرساً للأعلام، ولكنه غير ذلك، أو أكبر من ذلك، إنه كتاب لطيف بعنوان (من أعلام المذهب الشافعي، وبعضٌ من غيرهم). وفهرس الكتب أيضاً: والذي حدث في فهرس الأعلام حدث مثله في فهرس (الكتب) حيث صنع المحقق الفاضل فهرساً سماه (فهرس موارد المؤلف) وذكر تحته أسماء الكتب الواردة في نص المؤلف، وعرف بها تعريفاً جيداً. وانتهى الأمر. لقد ضن علينا المحقق الكريم بذكر المواضع التي ورد فيها كل كتابٍ من هذه الكتب؛ لنعرف ماذا أخذ منه المؤلف، ولنراجع النصوص والنقول التي نقلها المؤلف عن هذه الكتب، ونصحح بعضها من بعض، ونقضي على ما في مثل هذه النقول من تصحيف وتحريف، ولو كانت المواضع التي ذُكر فيها (نهاية المطلب) محددة محصورة، لأعانتني كثيراً في تقويم نص النهاية، أو تقويم نقل المؤلف.

* وفي كتابٍ آخر (1) أجاد فيه المحقق أيّما إجادة، وصنع له فهارس مبتكرة، تشهد بفقهه للكتاب، وإدراكه روحه وسره، وبلغت الفهارس التي صنعها ستة وعشرين فهرساً، ومع كل تلك الإجادة، وذلك النجاح، إذا به يفاجئنا في أول فهرس الأعلام بقوله: "وقد أسقطنا منه أسماء المترجمين" سبحان الله!! لماذا تسقط أسماء المترجمين من فهرس الأعلام؟ إن فهرس الأعلام يدلنا على مدى دوران العَلَم في الكتاب، والمترجمون في كتاب الطبقات هم أعلام الأعلام، فلماذا نضن عليهم أن يذكروا في فهرس الأعلام؟ أليسوا هم الأولى بأن تعرف مواضع دورانهم في الكتاب، أساتذة وشيوخاً، أو تلامذة وناشئين، أو أصحاب كتب مؤثرين، أو متأثرين؟!! وهناك من يصنع فهرس الأعلام على النمط السليم الصحيح، ولكنه يكتفي بذكر رقم الصفحة التي ترجم للعلم فيها فقط دون غيرها من كل الصفحات التي ورد فيها العلم، يفعل ذلك عن عمد قائلاً: "اكتفيت بذكر الصفحة التي ترجمت فيها للعلم لأدلك على موضع الترجمة" يا سبحان الله!! وكأن الباحث يعجزه أن يمد يده لأي كتاب من كتب الطبقات أو التراجم ليقرأ فيه ترجمة العلم الذي يحتاج إلى ترجمته. هذه بعض ملاحظات، لم نرد بها -علم الله- ذكر المعايب، فلا يتتبع المعايب إلا معيب، ولكنا أردنا أن نبرهن على صدق المعيار الذي وضعناه للإجادة في عمل الفهارس، وهو: أن يسأل صانع الفهرس نفسه: لماذا هذا الفهرس. عن فهارس النهاية: طالت صحبتنا لهذا الكتاب، وطال انقطاعنا ل [، على نحو ما وصفناه في موضع آخر من خطبة الكتاب، فأحطنا به -فيما نقدِّر- وعرفنا مسالكه ودروبه، وأدركنا أسراره، ومراميه، وتفتحت لنا -بحمد الله- مغاليقه، ولانت لنا مُعْوِصاتُه، ولذا وضحت أمام أعيننا أنواعُ فهارسه، فكان منها ما استطعنا إنجازه، ومنها ما ضاق عنه الوقت، وقصر عنه الجهد، فلم نستطع القيام به، ولكننا أحببنا أن نعرف بها، عسى أن يَنْهد لها باحث، أو يتخذ أحد الدراسين واحداً منها أطروحةً لدرجة علمية]

_ (1) هو كتاب طبقات الشافعية للإسنوي، تحقيق الدكتور عبد الله الجبوري.

فمن هذه الفهارس: 1 - فهرس القواعد الأصولية. 2 - فهرس القواعد والضوابط الفقهية. 3 - فهرس المسائل التي أعلن إمامُ الحرمين خلافه للأصحاب فيها. 4 - فهرس المسائل التي تمنى الإمام أن لو كان المذهب فيها مثل المذاهب المخالفة. 5 - فهرس المسائل التي نقل فيها الإمام عن المذاهب المخالفة أقوالاً غير الموجود في مصادرهم المتاحة الآن. 6 - فهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين والده. فهذه جملة من الفهارس أعجلنا الوقت، وقعد بنا الجهد -مع معوقات أخرى- عن الوفاء بها، وبعض هذه الفهارس قد تعد مسائله على أصابع اليد الواحدة، ولكن ليس بالكثرة تقاس قيمة الفهارس. أذكر أنني صنعت فيما صنعت (للبرهان) ثلاثة فهارس، هي: فهرس للمسائل التي خالف فيها الإمامَ الشافعي، والثاني للمسائل التي خالف فيها الإمام أبا الحسن الأشعري، والثالث للمسائل التي خالف فيها أبا بكر الباقلاني، وجميع الفهارس الثلاثة قد لا يزيد عدد صفحاتها عن عدد أصابع اليد الواحدة. ولكن هذه الفهارس الثلاثة بالذات وقعت عند العلماء موقعاً حسناً، وأثنَوْا على هذا العمل، وقدّروه بما لم أكن أتوقع بعضَه؛ وذلك أن الباحث وهو يقلب في البرهان عن قضية أصولية يكن مشغولاً بها غير ملتفتٍ إلى غيرها، فحتى لو وقع على مسألة مما خالف فيه إمام الحرمين الشافعي أو الأشعري أو الباقلاني لن يقف عندها، ولن يلتفت إليها، فهو ليس لها الآن. أما أن يضعها المحقق في فهرس خاص أمام عينه، ويضع أصبعه عليها، فهذا يجعلها بمرأى منه دائماً، ويدفعه إلى بحثها والإحاطة بها، إن كانت تقع في اهتماماته. * ومثل هذه الفهارس الثلاثة فهرس الوقائع والأيام الذي صنعته ضمن فهارس الغياثي، فلم أكن أريد أن أصنعه، وما كان لازماً للكتاب، فالكتاب ليس به من الوقائع

والأيام ما يحتاج إلى ضبط وفهرسة، ولكني صنعته من أجل وقعةٍ واحدة، هي موقعة (ملاذ كرد) تلك الموقعة التي لا تقل خطراً في تاريخ الإسلام عن موقعة اليرموك، وفتح القسطنطينية، ولكنها مغيَّبة تماماً عن مناهجنا الدراسية، فقلما تجد من يعرف عنها خبراً حتى من مدرسي التاريخ في مدارسنا المتوسطة والثانوية وأخشى أن أقول في جامعاتنا، من أجل هذه الموقعة، وإبرازها، والتعريف بها، صنعتُ هذا الفهرس الذي لا يتجاوز بضعة أسطر. ... نعود إلى صنعنا لفهارس النهاية، وما كان من جهدٍ وصلنا فيه الليل بالنهار، فهذا العمل كما قال الشيخ أبو غدة رحمه الله، "فيه بذل جهد كبير، وتحمل مشقاتٍ كثيرة، يأكل الذهن والزمن في معاناة ضبط الأسماء، وتمييزها، وتصنيفها، وعدم تعددها، أو تداخلها سهواً أَو خطأ" (1). وحقاً لقد أضنانا العمل في ضبط الأسماء وتمييزها، وعانينا من ذلك كثيراً، ذلك أن الإمام يذكر العلم مرة باسمه، ومرة بكنيته، ومرة بلقبه، والألقاب تتشابه، والكنى تتشابه، بل حتى الأسماء قد تتشابه. ولقد حاولنا أن نصل -بالمتابعة والمقارنة- إلى اصطلاح الإمام في إيراده الأعلام، وحدّدنا ذلك وضبطناه بصورة قاطعة. ولكن الإمام لا يفتأ يخالف هذا المصطلح الذي دققناه، ووصلنا إليه بعد لأْي وعناء، ومثال ذلك أنه إذا قال (الشيخ) مطلقاً، فمراده الشيخ أبو علي السنجي، ولكنه يخالف ذلك أحياناً، مثلما تجده في الجزء الخامس ص 310 حيث أطلق لفظ الشيخ مريداً به والده، وما عرفنا ذلك إلا من السياق. وأحياناً كان يطلق (الشيخ) ويريد به القفال. ومن هنا كان علينا أن نراجع مواضع الأعلام موضعاً موضعاً، وننظر في السياق على ما "يأكل ذلك من الجهد والزمن".

_ (1) الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء - تحقيق الشيخ أبي غدة: 352.

ولقد عبرت عن هذا العناء الدكتورة بنت الشاطىء، حين صنعت فهرساً للأعلام لمقدمة ابن الصلاح، حيث قالت: "أعترف أنني لم أقدّر حدود جهدي وطاقتي حين استجبت لرغبة زميل كريم ... في فهرسة أعلام النص المحقق لمقدمة ابن الصلاح ... " (1). فبهذا الأسلوب الأدبي تصور عناءها في صنع فهرس الأعلام، وأنه كان فوق حدود جهدها وطاقتها. ومثل ذلك عانيناه في فهرس الكتب. وإذا كان شيخنا العلامة أبو غدة قد سلخ نحو ثلاثة أشهر في فهرسة (الانتقاء) وهو في مجلد لطيف لا يزيد عن نصف مجلد من النهاية إلا قليلاً، فماذا نقول نحن أمام هذا الكتاب الكريم الذي يقع في عشرين مجلداً. ... * ثم إننا قد ابتكرنا فهرساً جديداً -لم نره من قبل في أي كتابٍ- وهو فهرس الكلمات التي تحتمل أكثر من قراءة في المخطوط، فقد صورنا قدراً صالحاً من هذه الكلمات، وألحقناها بالمجلد الذي وردت فيه -وليس في مجلد الفهارس- لتكون تحت نظر القارىء، ولتُقرأ في سياقها. وغرضنا من ذلك أمران: أ- أن نشُرك الكرام القارئين معنا في تقويم النص، آملين أن يُلهم أحدُهم قراءة صحيحة لهذه الكلمات. ب- أن نؤكد معنىً خطيراً، وهو حرمةُ النصوص التراثية، وعدم الجرأة على اقتحامها، وقراءتها، كيفما اتفق. وننبه أن هذا الفهرس ليس في كل المجلدات، وإنما هو في المجلدات التي حققت عن نسخة وحيدة، أو اتفقت النسخ الموجودة على هذا الرسم غير المقروء تماماً بالنسبة لنا.

_ (1) مقدمة ابن الصلاح: 995.

وقد يبدو للبعض أن الكلمات المصورة في هذا الفهرس قليلة، ولا تستحق هذا العناء وهذا التنويه!! ولكننا نكرر أن إصلاح كلمة واحدة، وقراءتها قراءة صحيحة يستحق كل هذا الجهد وزيادة، وفي تراث أئمتنا أن منهم من كان يشد الرحال، ويقطع المسافات من أجل تصويب لفظة، أداء لأمانة الرواية، والنقل عن الأئمة. * ومن الفهارس التي نظنها مبتكرة أيضاً: فهرس المسائل الملقبات فهذه المسائل مبثوثة في ثنايا أبواب الفقه، يصعب الوصول إليها عند إرادة الرجوع لها، مع أنها -في جملتها- تعتبر أصولاً، وقواعد يقايس عليها الفقهاء، ويضبطون بها الأحكام. وقد اشتهرت المسائل الملقبات في علم الفرائض، أما الجديد في هذا الفهرس، فهو ذلك القدر الصالح من المسائل الملقبات في غير الفرائض، وحصرها، والدلالة إلى موضعها في أبواب الفقه وقضاياه. * أما فهرس: (المسائل الفقهية التي جاءت في أبوابٍ لا تكشف تراجمها عنها) هذا الفهرس أقرب إلى محاولة التكشيف، لتيسير الدلالة على المسائل التي ترد في غير مظانها -وما أكثر ذلك في كتب الفقه بعامة، وكتب المتقدمين بصفة خاصة- ولا يحتاج إيضاح ذلك إلى كلام. * لم نفهرس للطوائف والجماعات؛ لأنها إما متكررة بكثرة في كل صفحة تقريبا، فلا معنى لحصرها في الفهرس، وذلك مثل: (الأصحاب) و (الأئمة) و (المراوزة) و (العراقيون). وإما لا يتعلق بها معنىً أو حكم يتصل بالفقه، والبعض الذي يتعلق به حكم فقهي مثل (أهل الذمة) و (المرتدين) يسهل الوصول إلى معرفة الحكم المراد لهم عن طريق فهرس المحتويات.

* وكذلك لم نفهرس الأماكن، فهي في جملتها لا يتعلق بها حكم فقهي، بل تذكر للتمثيل فقط، مثل: استأجر دابة من مَرْو إلى بَلْخ. والقليل الذي يتعلق به حكم فقهي مثل حكم من يلوذ بالحرم هرباً من قصاصٍ أو حد يمكن الوصول إليه أيضاً عن طريق فهرس المحتويات. * تكشيف نهاية المطلب: كان وما زال أملنا أن يُصنع لهذا الكتاب كشافات تحليلية مرتبة ألفبائياً، تجمع ما تفرق من مسائله، وتوزَّع بين أبوابه وفصوله، فأنت تجد مسائل من الرهن تعالج في أبواب الصداق، وأبواب الوصية، ومسائل العتق والكتابة، والغصب وهكذا، ولا منجى من ذلك إلا بتكشيف كتب الفقه. إن تكشيف هذا الكتاب -وغيره من أمهات كتب الفقه- سيفتح أمام الدراسات الفقهية والإسلامية بعامة فتحاً جديداً. إن العقبات التي تحول بين علماء القانون، والاقتصاد، والاجتماع، والتربية، وعلماء البيئة وغيرهم -إن العقبات التي تحول بين هؤلاء والاستفادة من تراثنا الفقهي ترجع بالدرجة الأولى إلى عدم ترتيب المعلومات ترتيباً يسهل معه استرجاعها. ومنذ ما يزيد على نصف قرن (في الخمسينات والستينات من القرن الماضي) تنبه علماء أجلاء إلى قضية تقريب التراث الفقهي للباحثين، عن طريق التكشيف والفهرسة، كان ذلك في (دمشق) الفيحاء عندما بدأت المحاولات لعمل موسوعة فقهية، وتكونت لجنة لذلك برئاسة المرحوم المجاهد الدكتور مصطفى السباعي، ثم في أيام الوحدة مع مصر برئاسة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، ولم تستمر تلك الجهود للأسف، وكان مما أسفرت عنه تكشيف الفقه الظاهري، وصدر في مجلد باسم (معجم فقه ابن حزم الظاهري) وهو عمل علمي جليل، حبذا لو استمر النسج على منواله لكل كتب الفقه. ثم انتقل الاهتمام بأمر الموسوعة إلى مصر (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية)، ولكن الأمور سارت ببطء، فتصدّت للمهمة (دولة الكويت) فأحسنت وأجادت وسبقت، ويعنينا في هذا المقام ما قامت به لجنة الموسوعة من تكشيف لمجموعة من

الكتب التي تمثل المذاهب المختلفة، ففي الفقه الشافعي: شرح المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة. وفي الفقه الحنفي: حاشية ابن عابدين. وفي الفقه المالكي: جواهر الإكليل شرح مختصر خليل. وفي الفقه الحنبلي: المغني لابن قدامة. وأضافت في الفقه الحنفي: فتح القدير للكمال بن الهمام. وزادت في الفقه المالكي: حاشية الزرقاني. كانت تأمل وزارة الأوقاف -وهي القائمة على الموسوعة وأعمال الفهرسة هذه- أن تفهرس نحو مائة كتاب بحيث يتكون من تلك الكشافات كشافٌ شامل لمصطلحات الفقه الإسلامي، ويصير هذا الكشاف متاحاً لمراكز البحث والدراسات في أنحاء العالم الإسلامي. وقد تطور هذا المشروع، وبذلك فيه جهود لسنا للتعريف بها ووصفها هنا. لا نحاول أمراً بدعاً: كل ما أردناه من ذلك أن نقول: إن فهرسة كتب الفقه وتكشيفها أمرٌ متفق على ضرورته من عقلاء الأمة، وقادة الرأي فيها، وحملة الفقه والغيورين عليه، فلم يعد هناك مجال للمراء في ذلك بل الذي نراه أن هناك تراخياً وتراجعاً في هذا المجال، فقد كان من المنتظر والطبيعي أن تثمر هذه الجهود الرائدة منذ نصف قرن توجهاً عاماً، وذوقاً عاماً، يقضي بعدم السماح بخروج كتاب وتداوله من غير أن تصنع له الفهارس والكشافات اللائقة به، وأن يرفض الناشرون ذلك، ويرونه شيئاً لا يليق بهم. بل إنني أتمنى أن تزيد (كشافات نهاية المطلب) أمراً آخر، وهو أن تعالج من قبل مختصين في علوم: القانون، والاقتصاد، والاجتماع، والبيئة، وعلم النفس والتربية ... وغيرها، حتى تأتي كشافات كافية شافية تحقق الأمل الذي نرجوه في إتاحة الفقه الإسلامي وتيسير التعامل معه للعلماء في جميع فروع المعرفة.

إن الأمة تشهد الآن صحوة إسلامية واعدة، وعلماء الفقه أعجز من أن يقودوها وحدهم، بل ليس من الصواب أن يقودوها وحدهم، إن عالم القانوني المدني والجنائي والدستوري، وعالم الاقتصاد، وعالم البيئة وعالم التربية كل هؤلاء -وغيرهم- الآن يحاولون بَجدْع الأنف استمداد معارفهم من تراثنا الفقهي بدلاً من استمداده من مصادر الغرب، ونظرياته، ولكن يحول بينهم صعوبة، بل تعذر الوصول إلى ما يريدونه من كتبٍ هي في حدِّ ذاته صعبة المراس حتى على أصحابها الذين يعيشون في ظلها طوال أعمارهم. ولا منجى من هذا الانفصام النكد بين الفقه الإسلامي وأصحاب العلوم الأخرى إلا بالفهرسة الواعية والتكشيف الكامل لأمهات كتب الفقه. فإذا تم ذلك نكون قد جَسَرْنا الفجوة -التي صُنعت بنا أو لنا- بين علماء الأمة، فجعلت هؤلاء علماء (دين) لا يعرفون من علوم الدنيا شيئاً، وهؤلاء علماء يعرفون الدنيا ولا يعرفون من أمر الدين شيئاً. إذا تم ما ندعو إليه يعود لنا الطبيب الفقيه كابن رشد، ونعود نرى ما نقرؤه في ترجمة أئمتنا حين يعددون العلوم التي أحاط بها المترجَم، ثم يقولون: وعلمه الذي عُرف به كذا، وتعود كل العلوم والمعارف إسلامية كما كانت. ويتكرر ما رأيناه من براعة إمام الحرمين في الجبر والمقابلة، وما حكاه في النهاية عن الإمام أبي منصور البغدادي، والإمام عبد الرحيم أبي نصر القشيري. وإلى الله الملجأ ومنه العون. ... بقي أمر آخر لا بد من الإشارة إليه، وهو أننا بذلنا جهداً ووقتاً في تقسيم الكتاب كله إلى فقرات مرقمة على نية أن تبنى فهارسه على الأرقام، لا على الصفحات، لما لذلك من توفير للجهد عند إعادة الطبعات، ولما ييسّره للباحثين عند مراجعة بحثٍ ما مع اختلاف الطبعات، وهذا ما جرينا عليه في الكتب التي أخرجناها لإمام الحرمين: (البرهان) و (الغياثي) و (الدرة المضية).

كانت هذه نيتنا، وكان هذا أملنا، ولكن ردّنا عن ذلك هذا السطو العريان على الكتب المحققة، وكتُبنا من بينها، فقد سطا الساطون على (البرهان) و (الغياثي) وأفادوا من الفهرسة على الفقرات، فقدرنا أن ذلك يحرمهم شيئاً ما من الجهد المسروق، وليس لنا إلا أن نضرع إلى الله سبحانه أن يأخذهم بما يستحقون، وأن يجعلهم نكالاً ومثالاً، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. ***

من الفهارس

فهرس فقه الصحابة رضوان الله عليهم المسألة ... الصحابي رضي الله عنه ... الجزء والصفحة الطهارة - في المصحف لا يمسه إلا طاهر سعد بن أبي وقاص ... 1/ 97 - في استعمال الماء المشمس عمر ... 1/ 18 - في الوضوء من آنية المشركين عمر ... 1/ 44 - الاستتار بالراحلة يرفع تحريم استقبال القبلة ببول أو غائط ابن عمر ... 1/ 103 - النوم في عينه ليس بحدث كيف فرض أبو موسى الأشعري ... 1/ 122 - في المسح على الجبيرة علي ... 1/ 209 - في التيمم في الحضر ابن عمر ... 1/ 216 - في إيجاب التصدق على من أتى امرأته في الحيض ابن عباس ... 1/ 317، 12/ 390 - من أتى حائضاً فعليه عتق رقبة عمر ... 12/ 390

الصلاة - في استحباب تعجيل الصلاة لأول وقتها أبو بكر ... 2/ 66 - في صلاة النافلة على الراحلة علي ... 2/ 71 - فيمن به رمد لا يصلي مضطجعاً عائشة، أبو هريرة ... 2/ 221 - في العفو عن النزر اليسير الخارج من البثرة ابن عمر ... 2/ 296 - في العفو عما يبقى من أثر اللون بعد غسل النجاسة عائشة ... 2/ 300، 303 - في الوتر قبل النوم أبو بكر 2/ 360 - في الوتر بعد النوم عمر 2/ 361 - في نقض الوتر ابن عمر 2/ 361 - القنوت في الوتر في النصف الأخير من رمضان - في القنوت قبل الركوع علي، ابن مسعود، ابن عباس - في القنوت بعد الركوع علي ... 2/ 363 - في إمامة المرأة للنساء، ومكان وقوفها منهن عائشة، أم سلمة ... 2/ 384، 422

- في جواز الاقتداء بالمنفرد الذي لم ينو الإمامة أبو بكر، عمر ... 2/ 386 - في التبليغ وراء الإمام أبو بكر ... 2/ 386 - في موقف الإمام لو كان يصلي معه رجلان ابن مسعود ... 2/ 398 - في النهي عن اقتداء المرأة في بيتها بالإمام في المسجد عائشة ... 2/ 413 - المسافر يقصر ما دام في السفر ابن عمر ... 2/ 435 - في ترك حضور الجمعة بعذر القيام على مريض يحتضر ابن عمر ... 2/ 517 - في تفريق الوضوء لعذر ابن عمر ... 2/ 545 - في الأذانين للجمعة عثمان ... 2/ 546 - في كيفية صلاة الإمام بالطائفتين في صلاة المغرب في الخوف علي ... 2/ 577 - في ترك الاستقبال في صلاة الخوف عند الالتحام ابن عمر ... 2/ 590 - في منع الصبيان من لبس الحرير عمر ... 2/ 607 - في التكبيرات أدبار الصلوات في الأضحى عمر، علي، ابن مسعود، ابن عمر، ابن عباس ... 2/ 619

- في عدد التكبيرات في صلاة العيد ابن مسعود ... 2/ 619 - في منع النساء من الخروج إلى صلاة الجماعة عائشة ... 2/ 620 - الزوجة تغسل زوجها الميت عائشة ... 3/ 11 - الزوجة أولى من الرجال المحارم في غسل زوجها عائشة ... 3/ 11 - والزوج يغسل زوجته علي ... 3/ 12 - في أقل الكفن أبو بكر ... 3/ 21 - كراهية استعمال المسك في الكفن ابن عمر ... 3/ 24 - المشي أمام الجنازة أفضل للمشيعين أبو بكر، عمر، عثمان، ابن عمر ... 3/ 44 - يقف الإمام في مقابلة صدر الرجل، وعجيزة المرأة أنس ... 3/ 52 - تكبيرات الجنازة أربع أبو بكر، عمر، الحسن، الحسين، صهيب، أنس ... 3/ 55 - التكبير على البدري سبعاً، والصحابي غير البدري خمساً، وغيرهم أربعاً علي ... 3/ 55 - الجهر بالفاتحة في صلاة الجنازة بقصد التعليم ابن عباس ... 3/ 56

- النهي عن ندب الميت خالد بن الوليد ... 3/ 72 - في البكاء على الميت عمر، عائشة، ابن عمر، ابن عباس ... 3/ 74 الزكاة - في السن التي تؤخذ في الغنم عمر ... 3/ 122 - إخراج صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين ابن عمر ... 3/ 172 - وجوب العشر في الورس أبو بكر ... 3/ 255 - في زكاة الحلي عمر، عائشة، ابن مسعود، ابن عمر، عبد الله بن عمرو، جابر ... 3/ 281 - في وجوب زكاة التجارة عمر ... 3/ 293 الصيام - يثبت هلال رمضان بشهادة شاهد واحد ابن عمر ... 4/ 12 - لكل أهل بلد رؤيتهم ابن عباس ... 4/ 18 - يجوز للصائم أن يؤخر غسل الجنابة إلى الصباح عائشة ... 4/ 20 - جواز الفطر بالاجتهاد في آخر النهار مع إمكان إدراك عمرو ... 4/ 21

- من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء ابن عمر ... 4/ 29 - في الفدية على الحامل لو أفطرت خوفاً على جنينها ابن عباس ... 4/ 43 - ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين ابن عباس ... 4/ 78 الحج - توقيت ذات عرق لأهل المشرق عمر ... 4/ 207 - يهل المحرم إذا انبعثت به راحلته ابن عمر ... 4/ 215 - في استعمال الطيب قبل الإحرام عائشة ... 4/ 217 - الإشعار والتقليد يعتبر إحراماً ابن عباس ... 4/ 220 - جواز إحالة الإحرام على إحرام الغير؛ بأن يقول: أحرمت كإحرام فلان علي ... 4/ 223 - في الاقتصار على صيغة التلبية الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص ... 4/ 239 - في جواز الاغتسال للمحرم ابن عباس والمسور بن مخرمة ... 4/ 275 - في تقبيل الحجر عمر ... 4/ 288 - في الرمل في الطواف عمر ... 4/ 291

- يحرم على المحرم بأن يأكل من الصيد الذي اصطاده الحلال من أجله عثمان ... 4/ 408 - في ضمان الأشجار الحَرَمية إذا عُضِدت ابن الزبير ... 4/ 418 - في سلب ثياب من اصطاد في حرم المدينة سعد بن أبي وقاص ... 4/ 419 - في جزاء الحمامة عمر، عثمان، ابن عباس، ابن عمر ... 4/ 422 - في جزاء الجرادة عمر، ابن عباس ... 4/ 422 البيوع - النهي عن بيع اللحم بالحيوان أبو بكر ... 5/ 107 - النهي عن بيع الطعام قبل أن يكتال ابن عباس ... 5/ 172 - في بيع الحيوان بشرط البراءة عثمان ... 5/ 281 - في جواز المسافرة بمال اليتيم في البحر عائشة ... 5/ 461 السلم - في جواز السلم، والاستشهاد عليه بآية المداينة ابن عباس ... 6/ 5 - في حكم التسعير عمر ... 6/ 63

الرهن - في منع بيع أو رهن أراضي سواد العراق عمر ... 6/ 128 التفليس - في الحجر على المفلس لأجل غرمائه عمر ... 6/ 303 الصلح - الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حلالاً عمر ... 6/ 447 المساقاة - المخابرة عقد فاسد ابن عمر ... 8/ 6 الهبات - في اشتراط القبض في الهبة أبو بكر ... 8/ 412 اللقطة - نفقة اللقيط على بيت المال عمر ... 8/ 502 الفرائض - تفسير الكلالة ابن عباس ... 9/ 6 - توريث ذوي الأرحام زيد، علي وابن مسعود وابن عباس ... 9/ 20

- ميراث المسلم من الكافر معاذ ... 9/ 21 - ميراث من نصفه حر ونصفه عبد علي وابن مسعود ... 9/ 23 - يرث الموتى بعضهم من بعض عمر، وابن مسعود ... 9/ 27 - المحروم من الميراث لا يحجُب حجب الحرمان، ويحجُب حجب النقصان ابن مسعود ... 9/ 30 - أولاد الأم يرثون مع الأب والجد ابن عباس ... 9/ 34 - الاختلاف في تفسير الكلالة بين زيد وابن عباس ... 9/ 34 - التوقف في تفسير الكلالة عمر ... 9/ 35 - توريث أم الأب مع وجود الأب ابن مسعود ... 9/ 36 - الخلاف في نصيب الأم في مسألة الأبوين وأحد الزوجين ابن عباس ... 9/ 39 - للبنتين النصف فقط رواية عن ابن عباس ... 9/ 42 - ابن الابن لا يعصب بنات الابن في درجته إذا استغرق بنات الصلب الثلثين، بل يسقطن ابن مسعود ... 9/ 48 - بنات الابن لهن السدس مع البنت الصلبية الواحدة إذا انفردن، فإذا كان معهن ابن ابن في درجتهن، فلهن الأضّر من السدس، والتعصيب عبد الله بن مسعود ... 9/ 48

- الأخوات لأب يسقطن باستغراق الشقيقتين للثلثين فلا يعصبهن الأخ لأب ابن مسعود ... 9/ 62 - الأخوات لأب لهن السدس مع الشقيقة الواحدة إذا انفردن عمن يعصبهن، فإذا كان معهن من يعصبهن، فلهن الأضّر من السدس والمقاسمة ابن مسعود ... 9/ 62 - الأخوات الشقيقات ولأب لا يعصبن بالبنات ابن عباس ... 9/ 64، 65 - الخلاف في الجدات الوارثات علي وزيد، وابن عباس ... 9/ 72، 73 - الجدة من جهة الأم ترث ميراث الأم (رواية شاذة) ابن عباس ... 9/ 76 - الخلاف في حجب الجدة البعدى بالقربى إذا لم تكن مدلية بها علي وابن عباس وزيد ... 9/ 77 - الخلاف في حجب الجدات اللائي من قبل الأب بالأب علي وزيد، وعمر وابن مسعود ... 9/ 78 - الأخ لأم إذا كان ابن عم، فهو يتقدم على ابن العم الذي لي أخاً لأم كما يتقدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب ابن مسعود ... 9/ 86 - من مسائل ميراث الإخوة لأم عمر، ابن مسعود ... 19/ 477 - إذا كان ابن العم أخاً لأم، فله السدس بأخوة الأم، ثم يقاسم أبناء العم بالعصوبة زيد ... 9/ 87 - ابن العم من الأب إذا كان أخاً لأم يقدم على ابن العم من الأب والأم ابن مسعود ... 9/ 88

- ابن العم من الأب والأم يُسقط ابنَ العم من الأب، فلو كان أخاً لأم، فليس له إلا السدس بأخوة الأم زيد ... 9/ 88 - الجد لا يحجب الإخوة والأخوات من الأب والأم، ومن الأب زيد ... 9/ 94 - في المسألتين المعروفتين: زوج وأب وأم، أو زوجة وأب وأم للأم ثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين، فإذا كان في المسألة جد مكان الأب فللأم ثلث الكل وخالف في ذلك عمر فجعل الحد أباً عمر ... 9/ 94 - الجد يحجب جميع الإخوة والأخوات أبو بكر الصديق، ومعاذ، وابن عباس، وجابر، وعبادة بن الصامت أبي بن كعب وأبو الدرداء، وعبد الله بن الزبير وأبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين وعائشة ... 9/ 97 - الإخوة والأخوات من الأب والأم ومن الأب يرثون مع الجد علي، وزيد، وابن عباس وابن مسعود، وعن عمر وعثمان روايتان ... 9/ 97 - طريقة علي رضي الله عنه في توريث الإخوة مع الجد علي ... 9/ 98 - رواية شاذة عن علي يجعل الجد أباً ويُسقط الإخوة علي ... 9/ 100 - طريقة زيد في توريث الجد مع الإخوة زيد ... 9/ 101، 102 - المسألة الأكدرية (من طريقة زيد) زيد ... 9/ 102

- رواية شاذة عن زيد في المسألة الأكدرية زيد ... 9/ 103 - طريقة ابن مسعود في توريث الجد مع الإخوة ابن مسعود ... 9/ 104 - رواية شاذة عن ابن مسعود في مسألة من مسائل الجد مع الإخوة ابن مسعود ... 9/ 105 - طريقة عمر في توريث الجد مع الإخوة واختلاف الروايات عنه عمر ... 9/ 105، 106 - طريقة عثمان واختلاف الروايات عنه عثمان ... 9/ 107، 108 - مسائل المعادّة زيد وعلي وابن مسعود ... 9/ 123 إلى 131 - القول بالعول عمر، وعلي، وزيد والعباس، ومعاذ، وابن مسعود ... 9/ 137 - إبطال العول ابن عباس ... 9/ 138 - الأصول التي تعول علي وزيد وعمر وابن مسعود ... 9/ 143 - خلاف معاذ في عول بعض الأصول معاذ ... 9/ 143 - خلاف ابن مسعود في عول الأربعة والعشرين ابن مسعود ... 9/ 143 - الخلاف في توريث مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق زيد، وعلي وابن مسعود ... 9/ 152

- المسألة المشرّكة والخلاف فيها زيد، وعلي، وعمر 9/ 183 - جعل الأم عصبة في ميراث من لا أب له (ولد الزنا وولد الملاعنة) ابن مسعود ... 9/ 187 - الخلاف في التوريث بجهات القرابة المتعددة التي لا يجوز التسبب إلى تحصيلها، ولا تفرض إلا بوطء الشبهة علي، وابن مسعود وزيد ... 9/ 189 - الردّ ومذاهب الصحابة فيه زيد، وأبو بكر وعبد الله بن الزبير وعمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود ... 9/ 192 - الخلاف في كيفية الرد عند القائلين به علي، وابن عباس وابن مسعود ... 9/ 193، 194 - رواية شاذة عن عثمان يقول فيها بالرد على الزوجين عثمان ... 9/ 193 - الخلاف في توريث ذوي الأرحام أبو بكر، وعثمان وزيد، وعبد الله ابن الزبير وعلي، وابن عباس، وابن مسعود ومعاذ، وأبو عبيدة. وأبو الدرداء، وعائشة، وعمر ... 9/ 198، 199 - الخلاف بين من يورث ذوي الأرحام في توريثهم مع مولى النعمة وعصبته ابن عباس، معاذ، أبو عبيدة، ابن مسعود ... 9/ 199، 200 - المورثون لذوي الأرحام اختلفوا في طريقة التوريث على طرق: منها طريقة أهل التنزيل علي، وابن مسعود ... 9/ 200 - ميراث الخنثى علي ... 9/ 305

- اشتراط صراخ الحمل مع انفصاله حياً يُعزى إلى ابن عباس ... 9/ 328 - عدم حجب بني الإخوة بالجد وتوريثهم معه (رواية شاذة) عن علي ... 9/ 355 - روايات أخرى شاذة في كيفية توريث الجد مع الإخوة وغيرها عن علي ... 9/ 355، 356 - روايات شاذة في ميراث البنتين النصف، وغير ذلك ابن عباس ... 9/ 356، 357 - روايات شاذة في توريث أم الأب مع الأب، وغير ذلك ابن مسعود ... 9/ 357 - رواية شاذة في جرّ الولاء زيد بن ثابت ... 9/ 357 - من المسائل الملقبات: مختصرة زيد وتسعينيته زيد ... 9/ 359، 360 - من المسائل الملقبات مربعات ابن مسعود ابن مسعود ... 9/ 360 الوصايا - يستحب أن تنقص الوصية عن الثلث علي ... 10/ 6 - صحة وصية الصبي المميز عمر، عثمان، ابن عمر ... 11/ 297 - لا تجوز وصية الصبي ولا تدبيره ابن عباس ... 11/ 298 - حد الجوار أربعون داراً عائشة ... 11/ 318

- في قبول إشارة الأخرس في الوصية عثمان ... 15/ 24 الفيء والغنيمة - في ترك التفضيل بالمناقب والمآثر في قسمة الفاضل من أربعة أخماس الفيء أبو بكر ... 11/ 518 - في التفضيل بالمناقب والمآثر عند قسمة ما يفضل من أربعة أخماس الفيء عمر ... 11/ 518 - فى الفرض للصغير من أولاد المرتزقة، فطيماً كان أو رضيعاً عمر ... 11/ 520 - الأعطية للمرتزقة من الديوان تكون مسانهة عمر ... 11/ 520 قسم الصدقات - صدقات الأموال الباطنة تُسلّم إلى الخليفة لتفريقها أبو بكر، عمر ... 11/ 534 - صدقات الأموال الباطنة يتولى ملاكها تفريقها عثمان ... 11/ 534 - في عدم جواز نقل الصدقة معاذ ... 11/ 535 - للوالي أن يأخذ من سهم المصالح أبو بكر، عمر ... 11/ 550 النكاح - في الترغيب في النكاح عمر، معاذ ... 12/ 26 - العبد لا ينكح إلا اثنتين الخلفاء الراشدون وعبد الرحمن بن عوف ... 12/ 85

- الصلاح في الخاطب يجبر عدم الكفاءة في النسب عمر ... 12/ 156 - للعبد أن يتسرى بإذن مولاه ابن عمر ... 12/ 218 - الأم لا تحرم إلا بالدخول بالبنت، والبنت لا تحرم إلا بالدخول بالأم علي ... 12/ 223 - الأم إن ماتت قبل الدخول، حرمت الربيبة زيد بن ثابت ... 12/ 224 - النهي عن الجمع بين الأم وابنتها في ملك اليمين عمر ... 12/ 227 - كراهية نكاح الكافرة الذمية ابن عمر ... 12/ 243 - في تحريم نكاح المتعة علي ... 12/ 400 - في إباحة نكاح المتعة ابن عباس ... 12/ 400، 16/ 173، 17/ 207 - لو ظهر بالمرأة عيب فللزوج أن يرجع بما غرمه على الولي المزوج عمر ... 12/ 417 - في تأجيل العنين سنة عمر ... 12/ 480 الصداق - عدم استحباب المغالاة في المهور عمر ... 13/ 9

- في استحقاق المفوضة للمهر إذا مات عنها زوجها قبل الدخول علي، ابن مسعود ... 13/ 105، 106 - الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ابن عباس ... 13/ 149 - الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج علي ... 13/ 150 - إجابة الدعوة إلى الطعام من الصائم وامتناعه عن الأكل ابن عمر ... 13/ 190 - في حكم التصوير ابن عباس ... 13/ 190 - معنى قوله تعالى: (إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحًا): إن يُرد الحكمان إصلاحاً عمر ... 13/ 281 الخلع - الخلع طلاق عمر، عثمان، علي ... 13/ 293 - الخلع فسخ وليس بطلاق ابن عباس ... 13/ 292، 293 الطلاق - في الرجل يخير امرأته، فتختار نفسها، أو تختاره عمر، علي، عائشة، ابن مسعود، ابن عباس، زيد، ابن عمر ... 14/ 86 - طلاق السكران لا يقع عثمان، ابن عباس ... 14/ 168 - في توريث المبتوتة عثمان ... 14/ 231

- في عدد ما يملك العبد من الطلاق عمر ... 15/ 198 اللعان - في تغليظ الحلف بالزمان عمر ... 15/ 51 العدة - في عدة من ارتفعت حيضتها عمر، علي، عثمان، ابن مسعود، زيد ... 15/ 195، 160 - عدة من طلقها زوجها في الغيبة، أو مات عنها ولم تعلم علي ... 15/ 196 - في عدة الأمة عمر ... 15/ 198 - في عدة الوفاة للأمة عبد الله بن عمرو بن العاص ... 15/ 205 - في انقضاء عدة الحامل بوضع حملها عمر ... 15/ 206 - في المقصود بالفاحشة في قوله تعالى: (إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ابن عباس ... 15/ 211 - الرجعية تعتد في بيت زوجها عائشة ... 15/ 212 - المنكوحة على الفساد في العدة محرّمة على الناكح أبداً عمر ... 15/ 283 - امرأة المفقود تتربص أربع سنين، ثم تعتد بعدة الوفاة عمر ... 15/ 287، 18/ 474

- فيما لو تزوجت امرأة المفقود، ثم عاد الزوج الأول عمر ... 15/ 289 الرضاع - في إثبات حرمة الرضاع في لبن الفحل ابن عباس ... 15/ 343 - الحرمة لا تثبت في جانب الفحل عائشة، عبد الله بن عمرو، ابن الزبير ... 15/ 343 - حرمة الرضاع تثبت بخمس رضعات عائشة ... 15/ 349 الحضانة - في تخيير الصبي المميز بين أبيه وأمه في الحضانة عمر ... 15/ 546 النفقات - في ضرب الخراج على المملوك الزبير، عثمان ... 15/ 575 الجراح - الوالد لا يقتل بولده عمر ... 16/ 22 - في ضم شيء من الدية إلى القصاص في قتل الرجل المرأة أو العكس علي ... 16/ 31 - في قتل الجماعة بالواحد عمر ... 16/ 33 الديات - في توريث أحد الزوجين من دية صاحبه عمر ... 16/ 143

- في تغليظ الدية بالقتل في البلد الحرام في الشهر الحرام ابن عباس ... 16/ 314 - في تغليظ الدية بالقتل في الحرم عثمان ... 16/ 316 - في تقويم الإبل بالدنانير أو الدراهم عمر ... 16/ 322 - في دية المجوسي عمر ... 16/ 324 - في أروش الأصابع عمر ... 16/ 400 - فيما يجب في الترقوة، وفي الضلع عمر ... 16/ 428 - فيما يجب في العين القائمة زيد بن ثابت ... 16/ 429 - فيما على الإمام لو أفضى تهديده أو تعزيره إلى الهلاك علي، عبد الرحمن بن عوف ... 16/ 452، 17/ 339 - فيما لو تردى جماعة في بئر مترتبين كلٌّ يجذب الثاني علي ... 16/ 583 الجنايات - إطلاق لفظ الردة على مانعي الزكاة عائشة ... 17/ 136 - في حكم قتال مانعي الزكاة أبو بكر، عمر ... 17/ 137

- البغاة لا يتبع مدبرهم، ولا يُذفف جريحهم علي ... 17/ 142 - في استتابة المرتد ثلاثة أيام عمر ... 17/ 164 - في قتل الساحر والساحرة عمر، أم سلمة ... 17/ 170 الحدود - في رجم الزاني المحصن عمر ... 17/ 179 - في عقوبة اللواط ابن الزبير ... 17/ 197 - في كيفية تنفيذ عقوبة اللواط أبو بكر، علي ... 17/ 197 السرقة - في نصاب السرقة علي ... 17/ 223 - في القطع بسرقة الفواكه عثمان ... 17/ 224 - في قطع يد العبد الآبق ابن عمر ... 17/ 255 - في عقوبة قطاع الطريق ابن عباس ... 17/ 297 الأشربة - في حد شارب الخمر أبو بكر، عمر، عثمان، علي ... 17/ 332

- في الاستسلام للصائل لو كان مسلماً عثمان ... 17/ 368 السير - في الأكل من طعام المغنم في أرض الحرب ابن عمر ... 17/ 435 - في جواز الأمان مع الجهل بتفصيل عدد المؤمَّنين عمر ... 17/ 486 - في إعراض الغانمين عن حصتهم من المغنم قبل القسمة عمر ... 17/ 511 - في الخراج المضروب على الأراضي التي فتحت عنوة، ووقفت على المسلمين عمر ... 17/ 536 - في حكم إقامة المسلم بين المشركين علي ... 17/ 538 الجزية - في أخذ الجزية من المجوس علي ... 18/ 8 - في اعتبار الدراهم في الجزية عمر ... 18/ 18 - لا تؤخذ الجزية من النساء عمر ... 18/ 22 - في إجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب عمر ... 18/ 60 - في أخذ العُشر من المعاهد إذا دخل بلاد الإسلام تاجراً عمر ... 18/ 66

- على الذمي نصف العشر إذا دخل أرض الحجاز تاجراً عمر ... 18/ 67 - فى تضعيف الصدقة (الجزية) على نصارى العرب عمر ... 18/ 69 الضحايا - فى النهى عن الشرقاء والخرقاء فى الأضحية علي ... 18/ 169 - للمضحي أن يأكل من أضحيته علي ... 18/ 198 الأطعمة - في أكل القنفذ ابن عمر ... 18/ 213 - في النهي عن كسب الحجام عثمان ... 18/ 216 الأيمان - في معنى لغو اليمين عائشة ... 18/ 411 - في لزوم كفارة اليمين إذا حنث في يمين الغَلَق عائشة ... 18/ 411 القضاء - المزَكّي إذا عدّل الشاهد فللقاضي مراجعته في التعديل عمر ... 18/ 485 - في المسلم هل يجلس بجنب الذمي في مجلس القضاء؟ علي ... 18/ 573

- في تغليظ الأيمان بالمكان عبد الرحمن بن عوف ... 18/ 648 الشهادات - في حكم اللعب بالشطرنج علي ... 19/ 20 العتق - من غُرّ بحريةِ أمةٍ، فنكحها وأتت منه بولد، فالولد حر ويجب على المغرور قيمته لسيد الأمة عمر ... 19/ 280 - من مسائل الإرث بالولاء عثمان ... 19/ 295 المكاتب - فيما لو جاء المكاتب بالنجم قبل محله عمر ... 19/ 380 عتق أمهات الأولاد - في بيع أمهات الأولاد عمر، عثمان، علي ... 14/ 530، 19/ 497، 505 ***

فهرس فقه السلف رحمهم الله تعالى

فهرس فقه السلف رحمهم الله تعالى المسألة ... صاحبها ... الجزء والصفحة الطهارة - في طهارة جلد الميتة بالدباغ الزهري، الأوزاعي، أبو ثور ... 1/ 23 - من أحدث وأجنب لزمه الوضوء والغسل أبو ثور ... 1/ 86، 150 - يجب مسح الأيدي في التيمم إلى الآباط الزهري ... 1/ 158 - المتيمم إذا وجد الماء خارج الصلاة، فلا يبطل تيممه ما لم يحدث أبو سلمة بن عبد الرحمن ... 1/ 173 - التيمم يرفع الحدث أبو سلمة بن عبد الرحمن ... 1/ 173 - لو تيمم وصلى، ثم وجد الماء في الوقت، لزمه إعادة الصلاة طاووس بن كيسان ... 1/ 174 - في أكثر الحيض وأقله عطاء، أبو عبد الله الزبيري ... 1/ 320 الصلاة -في حكم الأذان عطاء ... 2/ 37 - في تعدد سجود السهو بتعدد السهو ابن أبي ليلى 2/ 277

- الاقتداء يصح في الأماكن كلها، إذا كان المأموم يقف على حالات الإمام عطاء ... 2/ 402 - في العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة عمر بن عبد العزيز ... 2/ 481 الزكاة - في التخيير فيما وراء المائة والعشرين بين استفرار الفريضة، واستئنافها ابن جرير ... 3/ 93 الحج - يجب في أخذ الشعرة درهم، وفي الشعرتين درهمان عطاء ... 4/ 270 - في السعي بين الصفا والمروة أربع عشرة مرة ابن جرير ... 4/ 304 البيع - يصح البيع بشرط نفي خيار المجلس مسلم بن خالد الزنجي ... 5/ 17 - يحلف البائع على نفي العلم بالعيب، وليس على نفي العيب ابن أبي ليلى ... 5/ 250 - من مسائل المحاطة في البيع ابن أبي ليلى ... 5/ 295 الرهن - في جواز إعارة الجواري عطاء ... 6/ 123 - منافع الرهن من حق المرتهن إسحاق بن راهويه ... 6/ 243

الإقرار - فيما لو أقر أحد الوراثين بابن ثالث للمتوفى وأنكر الوارث الثاني ابن أبي ليلى ... 7/ 119 الشفعة - إذا كان الثمن سلعة فالشفيع يأخذ بقيمة الشقص ابن أبي ليلى ... 7/ 340 الإجارة - فيما لو اختلف مالك الثوب والخياط في ثوبٍ ابن أبي ليلى ... 8/ 178 الفرائض - عدم توارث الكفار المختلفين في الدين شريح والأوزاعي ... 9/ 21 - قتل الخطأ لا يوجب الحرمان عثمان البتي ... 9/ 24 - الأب لا يحجب جدّة بحال سليمان بن يسار وسعيد بن المسيب والحسن، وابن سيرين ... 9/ 78 - في زوجة وأم وأب للأم ثلث الكل ابن سيرين ... 9/ 95 - الجد يحجب جميع الإخوة والأخوات الحسن وطاووس، والزهري وعطاء، وأبو ثور ... 9/ 97 - الإخوة والأخوات من الأب والأم ومن الأب يرثون مع الجد الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى ... 9/ 97 - المسألة الأكدرية (يُفرض فيها للأخت مع الجد) الأوزاعي والثوري ... 9/ 103

- القول بالعول الأوزاعي والثوري ... 9/ 138 - القول بتوريث من بعضه رقيق والإرث منه الشعبي، وعطاء وأبو ثور ... 9/ 192 - المذاهب في الرّد أبو ثور، وسفيان الثوري وشريك ... 9/ 192 - الخلاف في ميراث ذوي الأرحام سعيد بن المسيب، والزهري والأوزاعي، وأبو ثور وعلماء المدينة وإسحاق وعمر بن عبد العزيز ... 9/ 198 - المورثون لذوي الأرحام اختلفوا في طريقة توريثهم على طُرق: منها طريقة التنزيل ومن أهلها الشعبي وشريك، وابن أبي ليلى، والثوري، ونُعيم بن حماد والقاسم بن سلام، ويحى بن آدم ... 9/ 200 - تقديم ذوي الأرحام على المعتِق وعصبته شريح، وعطاء، وإسحاق ... 9/ 200 - في صورة من ميراث الخنثى الأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، ونعيم، ويحيى بن آدم، والعنبري ... 9/ 307 - في ميراث المبتوتة ابن أبي ليلى ... 14/ 232 الوصايا - في وجوب الوصية بالثلث عطاء ... 10/ 6 - وجوب الوصية بثلث الثلث للأجانب، وبثلثي الثلث للأقارب غير الوارثين عطاء ... 10/ 6

- في الوصية بمثل نصيب الابن شَريك، الحسن بن زياد اللؤلؤي ... 10/ 17 - فيما لو أوصى لمولاه، فأطلق الاسم أبو ثور ... 11/ 317 - في حد الجوار الزهري ... 11/ 318 - فيما لو أوصى بثلث شيء بعينه، فاستُحِق ثلثاه أبو ثور - وزفر ... 11/ 320 - فيما لو أوصى لأرامل بني فلان الشعبي - وإسحاق بن راهويه ... 11/ 320 قسم الفيء والغنيمة - في إثبات السهم لفرسين مع اتحاد الفارس الأوزاعي ... 11/ 480 النكاح - في تقدير الصداق بنصاب السرقة ابن شبرمة ... 13/ 8 - الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج ابن المسيب، ابن جريج ... 13/ 150 الظهار - في تفسير العود في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} الزهري، سفيان الثوري ... 14/ 504 الرضاع - الحرمة لا تثبت في لبن الفحل علقمة، إسماعيل بن علية، الأصم ... 15/ 343

- في إثبات الحرمة بثلاث رضعات ابن أبي ليلى ... - في إثبات الحرمة بلبن البهائم عطاء ... 15/ 361 قتال أهل البغي - في ضمان ما تتلفه إحدى الطائفتين على الأخرى الزهري ... 17/ 134 السرقة - في نصاب القطع في السرقة النخعي، أبو ثور، ابن شُبرمة ... 17/ 222 السير - حكم ما يفضل من أطعمة المغنم الأوزاعي ... 17/ 442 - حكم المبارزة الحسن البصري ... 17/ 533 - فيما لو سمح الكفار للأسير بأن يخرج إلى دار الإسلام ثم يرجع إليهم، فهل يلزمه الوفاء بذلك؟ الزهري، الأوزاعي ... 17/ 539 الصيد والذبائح - في إباحة الضفدع والسرطان ابن أبي ليلى ... 18/ 160 الأيمان - فيما يلزم من الحنث في يمين الغَلَق عطاء ... 18/ 411

القضاء والشهادات - في السؤال عن الشهود في السر سوار بن عبد الله ... 18/ 491 - في سماع بينة المدعي بعد تحليف المدعى عليه ابن أبي ليلى ... 18/ 658 - في اللعب بالشطرنج سعيد بن جبير ... 19/ 20 العتق - من أعتق عبد غيره وكان موسراً، نفذ عتقه ابن أبي ليلى ... 19/ 202 ***

- فيمن ابتدأ المسح على الخفين في الإقامة، ثم سافر ... 1/ 288 - في أقل الحيض وأكثره ... 1/ 319 - في صلاة المستحاضة وحكم المبادرة بها بعد الفراغ من الوضوء ... 1/ 324 - فيما ترد إليه المعتادة من أدوار حيضها ... 1/ 345 - في حكم النقاء المتخلل بين الدماء إذا تقطع النقاء والدم ... 1/ 412 مسائل الصلاة - في وقت الظهر والعصر ... 2/ 9 - في الحائض تطهر في آخر وقت العصر بمقدار لا يسع ركعة تامة ... 2/ 27 - في الحائض إذا طهرت في العصر، فهل تصير مدركة للظهر ... 2/ 29 - في سقوط الصلاة بالإغماء ... 2/ 34 - في الترجيع في الأذان ... 2/ 41 - في الأذان والإقامة للفائتة ... 2/ 52 - في إفراد الإقامة ... 2/ 59 - في تنفل الماشي ... 2/ 82 - في الصلاة إلى بقعة الكعبة فيما لو انهدمت (حماها الله) دون وجود شيء شاخص ... 2/ 90 - فيمن اجتهد في القبلة، ثم تبين له خطؤه بعد الفراغ من الصلاة ... 2/ 97 - في الصبي يبلغ أثناء الصلاة، أو في وقتها بعد الفراغ منها ... 2/ 108، 521 - في تقديم النية على تكبيرة الإحرام ... 2/ 115 - في وقت قيام المأمومين للصلاة وتسويتهم للصفوف، ووقت تكبير ... 2/ 136 - في جهر الإمام والمأمومين بالتأمين ... 2/ 150 - في قراءة الفاتحة في الركعتين الأُخريين ... 2/ 153 - في أول ما يقع من المصلي على الأرض عند السجود ... 2/ 163 - في كيفية الجلوس في التشهدين ... 2/ 174 - في حكم التشهد الأخير ... 2/ 177 - في أكمل التشهد ... 2/ 178

- في ترتيب قضاء الفوائت ... 2/ 188 - فيما يعفى عنه في انكشاف العورة ... 2/ 193 - في سبق الحدث في الصلاة من غير قصد ... 2/ 196 - في الأحداث التي يجوز البناء عليها ... 2/ 197 - في محل البناء على من سبقه الحدث ... 2/ 198 - من سبقه الحدث في ركن، فإن أراد البناء لزمه العود إلى ذلك الركن ... 2/ 199 - فيما لو قصد المصلي قراءة القرآن، والإفهام ... 2/ 202 - في قراءة القرآن بالعجمية في الصلاة ... 2/ 202 - فيمن تكلم في الصلاة ناسياً ... 2/ 203 - فيما يدركه المسبوق من صلاة إمامه، هل هو أولها أم آخرها؟ ... 2/ 209 - في الصلوات التي تستحب إعادتها في جماعة فيما لو صلاها المصلي منفرداً ثم أدرك جماعة ... 2/ 211 - فيمن يقدر على القيام ولكن لا يقدر على الركوع والسجود ... 2/ 214 - في صلاة المومئ العاجز عن القعود ... 2/ 216 - في سقوط الصلاة عمن عجز عن الإيماء ... 2/ 219 - في حكم سجود التلاوة ... 2/ 228 - في مواضع سجدات التلاوة ... 2/ 228 - في سجود التلاوة للمصلي -منفرداً أو إماماً- إذا سمع قراءة قارئ في غير الصلاة ... 2/ 230 - في المرتد هل عليه قضاء ما ترك من الصلوات ... 2/ 234 - فيما على من يشك في صلاته ... 2/ 236 - في محل سجود السهو ... 2/ 239 - فيمن سلم ثم أراد السجود للسهو، فلو أحدث هل تبطل صلاته؟ ... 2/ 243 - في القائم إذا هوى ساجداً، هل يحصل الركوع في ممرّه وهويه؟ ... 2/ 253 - فيما على من سها عن سجدة أو أكثر منها ... 2/ 258

- في سجود السهو على من ترك القنوت في الوتر ... 2/ 264 - في سجود السهو على من ترك مقتضاه عمداً ... 2/ 265 - في سجود السهو على من أسر في الجهرية، أو جهر في السرية ... 2/ 270 - في سجود السهو على من ترك التكبيرات الزائدة في صلاة العيد ... 2/ 270 - في حكم صلاة من يصلي خلف جنب وهو لا يعلم ... 2/ 289 - في قدر ما يعفى عنه من النجاسات إذا أصابت الثوب أو البدن ... 2/ 295 - في نجاسة المثلّث المسكر ... 2/ 304 - في نجاسة ذرق الحمام ... 2/ 307 - في تطهير الأرض بالمكاثرة ... 2/ 321 - في رماد العين النجسة ... 2/ 323 - في دخول الجنب المسجد عابراً ... 2/ 333 - فيمن دخل المسجد وصادف الإمام في فريضة الصبح، فهل يصلي سنة الفجر؟ ... 2/ 342 - في قضاء النوافل التابعة للفريضة ... 2/ 344 - فيمن أوتر قبل العشاء ... 2/ 362 - في موضع القنوت هل هو قبل الركوع أم بعده؟ ... 2/ 362 - في اقتدأء المفترض بمتنفل والمتنفل بمفترض ... 2/ 373 - في إمامة المرأة للنساء ... 2/ 383 - في دخول المرأة في صلاة الرجل من غير نية لإمامتها ... 2/ 384 - فيما لو وقفت شابة بجنب الإمام واقتدت ... 2/ 385 - فيمن يقتدي بعد عقد الصلاة على الانفراد ... 2/ 288 - فيما لو ساوق المأموم الإمام في التكبير ... 2/ 394 - القصر في السفر رخصة أم عزيمة؟ ... 2/ 423 - في استخلاف الإمام إذا سبقه الحدث ... 2/ 506 - في أقل الخطبة ... 2/ 537 - في الكلام أثناء خطبة الجمعة ... 2/ 548

- في صلاة تحية المسجد لمن دخل والإمام في الخطبة ... 2/ 556 - في عقد جمعتين في البلدة الواحدة ... 2/ 558 - في إقامة الظهر في جماعة لمن تخلف عن الجمعة بعذر ... 2/ 563 - في كيفية التكبيرات في أدبار الصلوات في الأضحى ... 2/ 624 - في صلاة الكسوف في الأوقات المكروهة ... 2/ 635 - في استحباب الجماعة لصلاة خسوف القمر ... 2/ 644 - في استحباب الخطبة في الخسوفين ... 2/ 644 - في حكم تارك الصلاة من غير عذر ... 2/ 651 - في كيفية صلاة العاري ... 1/ 205 - في الصلاة التي لو أقيمت على صفة لوجب فضاؤها، فهل تؤدى في الوقت أصلاً ... 1/ 210 مسائل الجنائز - في غسل الزوج زوجته ... 3/ 12 - في غسل الشهيد إذا كان جنباً ... 3/ 36 - في الصلاة على الميت إذا لم نجد إلا بعض أعضائه ... 3/ 40 - فيمن هو أولى بالصلاة على الميت ... 3/ 45 - في كيفية وضع الجنائز للصلاة عليها فيما لو اجتمعت ... 3/ 49 - في موقف الإمام من الجنازة ... 3/ 51 - في الصلاة على الميت في المسجد ... 3/ 52 - في رفع اليدين في تكبيرات الجنازة ... 3/ 55 - فيما يفعله المسبوق في صلاة الجنازة إذا سبقه الإمام ببعض التكبير ... 3/ 62 - في كيفية إدخال الميت القبر ... 3/ 69 مسائل الزكاة - في استئناف الفريضة في زكاة الإبل وراء المائة والعشرين ... 3/ 93 - في العفو عن الأوقاص ... 3/ 101 - في وجوب أداء الزكاة هل على الفور أم التراخي؟ ... 3/ 104 - في سقوط الزكاة إذا تلف المال الزكاتي ... 3/ 104

- فيمن رأى الهلال وحده، فردت شهادته، فصام منفرداً، ثم جامع، فهل تلزمه الكفارة ... 4/ 19 - فيما يوجب الكفارة في الفطر في رمضان ... 4/ 36 - في وجوب الكفارة على المرأة إذا طاوعت ... 4/ 37 - في تعدد الكفارة بتعدد الوقاع في رمضان ... 4/ 40، 254 - في وجوب الإمساك على من أفطر للسفر ثم أقام، أو أفطر للمرض ثم زال ما به ... 4/ 55 - في سقوط الكفارة عمن جامع مع مقيماً، ثم سافر ... 4/ 59 - في إفساد الصوم فيما لو بلع طرفاً من خيط، وطرف منه بارز ... 4/ 63 - في الصبي يبلغ أثناء الصوم ... 2/ 109 - في الاعتكاف هل يصح بغير صوم؟ ... 4/ 80 - في الردة هل تفسد الاعتكاف ... 4/ 112 - فيمن نذر اعتكاف شهر، أو أيام، ولم يتعرض للتتابع، فهل يلزمه رعاية التتابع؟ ... 4/ 115 مسائل الحج - في لزوم تحصيل الحج بطريق الاستنابة لمن عجز عن توليه بنفسه ... 4/ 133 - فيمن حج، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، هل يلزمه إعادة الحج؟ ... 4/ 143 - فيمن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه ... 4/ 144 - في المرأة إذا عدمت محرماً، أو زوجاً، وباقي صفات الاستطاعة ثابتة، فلو ماتت، فهل يستقر الحج في ذمتها؟ ... 4/ 154 - فيمن مات ولم يحج، فإن لم يوصِ به، فهل يحج عنه؟ ... 4/ 155 - في حكم العمرة ... 4/ 167 - في دم التمتع هل هو دم جبران أم نسك؟ ... 4/ 171 - في المقصود بحاضري المسجد الحرام ... 4/ 172 - في دم التمتع، هل يتأقت بأيام النحر ... 4/ 194 - في صيام الأيام الثلاثة قبل الشروع في الحج ... 4/ 196 - في قضاء صيام الأيام الثلاثة بعد الحج ... 4/ 199

- في وقت الإحرام ... 4/ 215 - في التطيب قبل الإحرام ... 4/ 217 - في انعقاد الإحرام بمجرد النية ... 4/ 220 - في إقامة سوق الهدي مقام التلبية ... 4/ 192، 220 - فيما لو تطيب المحرم ناسياً ... 4/ 266 - في كفارة الحلق على العاصي ... 4/ 272 - في المحرم إذا حلق شعر الحلال ... 4/ 272 - في اشتراط الطهارة للطواف ... 4/ 279 - في السعي بين الصفا والمروة، هل هو ركن أم واجب ... 4/ 302 - في وجوب الفدية على من يتدارك الرمي ... 4/ 330 - في حكم من جامع امرأته بعد الوقوف بعرفة ... 4/ 343 - فيمن أفسد الحج هل يلزمه في القضاء أن يحرم من المسافة التي أحرم منها في الأداء ... 4/ 344 - فيمن أهل بحجتين ... 4/ 366 - في الاستئجار على الحج ... 4/ 367 - في الدلالة على الصيد ... 4/ 398 - في حكم ما ذبحه المحرم من الصيد ... 4/ 407 - في الصوم هل له مدخل في جزاء صيد الحرم ... 4/ 414 - فيما لو أدخل الحرم صيداً مملوكاً، فهل يتحرم الصيد بالحرم؟ ... 4/ 416 - فيما يباح للمحرم قتله ... 4/ 425 - فيما على القارن إذا قتل صيداً ... 4/ 426 - جزاء الاشتراك في الصيد ... 4/ 426 - في العبد يحرم بإذن سيده، هل للسيد أن يمنعه من المضي في إحرامه؟ ... 4/ 440 - في العبد إذا أحرم بغير إذن سيده، فهل يقع التحليل بفعل من السيد؟ ... 4/ 442

مسائل البيع - في بيع الغائب وما يشترط لتصحيحه ... 5/ 9 - في جواز بيع الحفنة بالحفنتين ... 5/ 72 - في بيع مُدّي عجوة ودرهم بمدين ... 5/ 78 - في تخصيص اشتراط التقابض في المجلس بالنقدين ... 5/ 95 - في إسلام الشيء في جنسه ... 5/ 96 - في شرط تبقية الثمار فيما لو أفردت بالبيع (في بيع الثمار على الأشجار بشرط التبقية) ... 5/ 146 - فيما لو بعث المستحق مكياله إلى المستحق عليه حتى يملأه، فإذا ملأه، فهل يصير هذا إقباضاً؟ (في صورة من صور التقابض المكيلات) ... 5/ 191 - في الرد بالعيب بعد حصول الزوائد المنفصلة ... 5/ 218، 259 - فيمن يملك الزوائد المتجددة إذا تجددت في يد البائع ... 5/ 219 - في المشتريين للشيء صفقة هل لأحدهما أن ينفرد بالرد؟ ... 5/ 221 - في اعتياد الزنا من العبد، هل يعتبر عيباً يُردّ به؟ ... 5/ 229 - في اعتبار البَخَر، والبول في الفراش عيباً في العبيد ... 5/ 229 - فيما لو اشترى عبداً على أنه كافر، فخرج مسلماًً ... 5/ 248 - في خيار المجلس ... 5/ 289 - في صورة من صور بيع المرابحة، وما على البائع أن يذكره في العقد ... 5/ 293 - في المقدار المحطوط فيما لو قال: بعتك بما اشتريت، وهو مائة بحطِّ "ده يازده" ... 5/ 294 - في بيع الوكيل من ابنه أو أبيه ... 5/ 305 - في جواز البيع بالغبن الفاحش ... 5/ 305 - فيما لو اشترى عبدين، وباع أحدهما مرابحة بحصته من الثمن على التقسيط العدل ... 5/ 306 - في شراء الشيء بأقل مما باع ... 5/ 311 - في جريان التحالف عند فرض الاختلاف في الزوائد التي تثبت بالشرط ... 5/ 334

- في جريان التحالف، عند الاختلاف بعد هلاك السلعة ... 5/ 338 - في البيع بشرط العتق ... 5/ 377 - في البيع الفاسد المتصل بالقبض هل يفيد الملك؟ ... 3/ 211، 383 - في بيع مال الغير ... 5/ 407 - فيمن اشترى شيئاً وقصد به شخصاً ... 5/ 407 - فيمن اشترى قطيعاً من الغنم مشار إليه كل رأس بدرهم ... 5/ 429 - في توكيل المسلم ذمياً بشراء خمر له ... 5/ 430 - في المعاطاة هل تكون بيعاً؟ ... 5/ 432 - في الزيادة في الثمن والمثمن بعد لزوم العقد ... 5/ 456، 7/ 405 - في تصرفات الصبي في المال بإذن وليه ... 5/ 464 - في المأذون له في التجارة، يتصرف لنفسه، أم لمولاه؟ ... 5/ 467 - في المأذون إذا علقنا ديونه بذمته، فلو باعه سيده، فهل يثبت خيار الفسخ للمشتري؟ ... 5/ 470 - في عهدة العقود التي يعقدها المأذون ... 5/ 472 - في تعلق ديون معاملة المأذون برقبته ... 5/ 477 - في مؤاجرة المأذون نفسه ... 5/ 477 - فيما لو أذن السيد لعبده في نوع من التجارة، هل يصير مأذوناً في غيره ... 5/ 477 - في سكوت السيد، هل يعد إذناً في التجارة ... 5/ 477 - في انقطاع الإذن في التجارة بإباق العبد المأذون ... 5/ 478 - في المأذون هل له أن يأذن لعبده ... 5/ 478 - في المأذون هل له اتخاذ الدعوة وجمع المجهزين ... 5/ 478 - في المأذون إذا ركبته الديون، هل يزول ملك السيد عن المال الذي في يده ... 5/ 478 - فيما لو احتطب المأذون أو اصطاد، هل ينضم ما حصله إلى رأس المال؟ ... 5/ 478 - في المأذون إذا ركبته الديون، هل له أن يعامل سيده ... 5/ 479 - في المأذون يشتري أبا سيده أو ابنه بمطلق الإذن في التجارة ... 5/ 479

- في معاملة العبد إذا ادعى الإذن في التجارة دون بينة تفوم على دعواه ... 5/ 479 - في معاملة المأذون إذا زعم أن سيده حجر عليه، وقال السيد: لم أحجر عليه ... 5/ 480 - فيما لو أذن السيد للمأذون أن يأذن للعبد الذي في يده للتجارة ثم أراد أراد أن يحجر على العبد الثاني ... 5/ 480 - في إقرار المأذون بدين لأبيه أو ابنه ... 5/ 480 - في إقرار المأذون أن المال الذي في يده مغصوب، أو وديعة ... 5/ 480 - في إقرار العبد بما يوجب العقوبة ... 5/ 486 - في إقرار العبد على الأعيان القائمة في يد السيد ... 5/ 487 - فى بيع السِّرجين ... 5/ 496 مسائل السَّلَم - في السلم في المنقطع ... 6/ 8 - في التصرف في رأس المال في السلم قبل القبض بالاستبدال ... 6/ 14 - في سَلَم الحال ... 6/ 16 - في جهالة رأس المال في السلم إذا كان مكيلاً أو موزوناً ... 6/ 18 - في الفلوس إذا كسدت ... 6/ 22 - في استقراض الحيوان ... 3/ 172 مسائل الرهن - في رهن المشاع ... 6/ 82 - في إجارة الرهن ... 6/ 89 - فيما لو رهن دارين وقبض إحداهما، فهل التي جرى فيها القبض مرهونة بجميع الدين؟ ... 6/ 103 - فيما لو باع الراهن الرهن بإذنٍ مطلقٍ من المرتهن، فهل يكون الثمن رهناً؟ ... 6/ 124 - في زيادة الدين في الرهن ... 6/ 132 - في انتفاع الراهن بالمرهون ... 6/ 243

مسائل التفليس - في فسخ البيع بعد تسليم المبيع إذا أفلس المشتري ... 6/ 306 - في بيع العروض والسلع في الديون ... 6/ 409 - في البينة على الإعسار، متى يصغي إليها القاضي؟ ... 6/ 421 مسائل الصلح - في الصلح مع الإنكار ... 6/ 461، 18/ 670 - في إشراع الجناح في الشارع، هل لآحاد الناس المخاصمة فيه ومنعه؟ ... 6/ 464 مسائل الحوالة - في اشتراط رضا المحال عليه ... 6/ 513 مسائل الإقرار - فيما لو قال: له علي كذا درهماً، أو كذا كذا درهماً، أو كذا وكذا درهماً ... 7/ 68 - في الشهادة المطلقة على الإكراه هل تقبل؟ ... 7/ 99 - في تقديم البينة في الإكراه على الشهادة على الإقرار ... 7/ 99 - فيما لو أقرّ أحد الوارثين بابن ثالث للمتوفى، وأنكر الوارث الثاني ... 7/ 109، 120 - في تكرير الإقرار ... 14/ 465 مسائل العارية - في ضمان العارية ... 7/ 138 - في إعارة الدراهم والدنانير ... 7/ 140 - فيما لو غرس المستعير أو بنى، فهل للمعير -لو أراد الرجوع- القلع مجاناً؟ ... 7/ 162 مسائل الغصب - في تملّك الغاصب العبدَ الآبق فيما لو بذل قيمته لمالكه في إباقه ... 7/ 182، 269 - فيما إذا غصب عبداً، ثم جنى عليه، فإذا غرم قيمته الكاملة، فهل يملكه؟ ... 7/ 191 - فيما لو غصب ثوباً فشقّه طولاً ... 7/ 191 - فيما لو وطىء الغاصب جارية، وهو عالم بالتحريم، فأحبلها ... 7/ 207

- في ضمان منافع الغصب ... 7/ 231 - في غصب العقار والدور ... 7/ 231 - فيما لو غصب ساجة وأدرجها في بنائه ... 7/ 273، 11/ 236 - فيما لو فتح باب قفص، أو حل الرباط عن طائر، فطار، فهل يجب الضمان؟ ... 7/ 282 - في إراقة المسلم خمر الذمي ... 7/ 295 مسائل الشفعة - في الشفعة بالجوار ... 7/ 306 - في الشفعة في الصداق، وبدل الخلع، والصلح عن الدم، والإجارة ... 7/ 341 - الشفعة تستحق على عدد الرؤوس أم على أقدار الأنصباء؟ ... 7/ 349 - في تقديم الشريك على الجار في الشفعة ... 7/ 352 - في الشفعة هل هي موروثة ... 7/ 354 - في دار مشتركة بين رجلين، باع أحدهما جزءاً من نصيبه صفقة، ثم باع باقي نصيبه صفقة أخرى ... 7/ 356 - في المشتري يغرس أو يبني بعد جريان القسمة، فهل للشفيع قلع غراسه وبنائه مجاناً؟ ... 7/ 371 - فيما لو أقر البائع ببيع الشقص، وأنكر المشتري الشراء، فهل تثبت الشفعه؟ ... 7/ 391 مسائل المساقاة - فى جواز المساقاة ... 8/ 5 مسائل الإجارة - فىِ استئجار الزوجة على إرضاع ولد الزوج منها، أو من غيرها ... 8/ 80 - في فسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين ... 8/ 89، 118 - في فسخ الإجارة بالمعاذير ... 8/ 94، 201 - في إجارة العين لزمان مستقبل يتراخى عن العقد ... 8/ 97 - في الاستنابة تبرعاً وإجارة في الدابة والثوب ... 8/ 103 - في انفساخ الإجارة بعتق العبد المستأجر ... 8/ 118

- في إجارة المشاع ... 8/ 121 - فيما لو آجر ما استأجر بأكثر ... 8/ 121 - في ضمان الأجير المشترك ... 8/ 160 - في إيجاب الضمان على من اكترى دابةً فضربها أو كبح لجامها -على المعتاد- فهلكت ... 8/ 163 - في إيجاب الضمان على المعلم أو المؤدب إذا أفضى تأديبه إلى إهلاك الصبي ... 8/ 173 - في اختلاف الأجير والمستأجر ... 8/ 178 - في العيب في الدار المستأجرة لو استدعى عمارةً أو ترميماً ... 8/ 189 - في الأجرة في الإجارة الفاسدة ... 8/ 258 مسائل إحياء الموات - في الذمي إذا أحيا مواتاً في بلاد الإسلام ... 8/ 285 - في توقف حصول الملك بالإحياء على إذن الإمام وإقطاعه ... 8/ 285، 297 مسائل العطايا والحبس (الوقف) - فيما لو كان المقصود من الوقف تمليك الفوائد والمنافع ... 8/ 341 - في لزوم الوقف، هل يتوقف على إقباضه للموقوف عليه وتسليمه إليه؟ ... 8/ 372 مسائل الهبات - في حصول الملك للمتهب فيما لو قبض الهبة من غير إقباض ولا إذن ... 8/ 410 - في هبة المشاع ... 8/ 411 مسائل اللقطة - في الإشهاد على الالتقاط ... 8/ 490 مسائل الجعالة - في الجعل على رد الآبق ... 8/ 501 مسائل التقاط المنبوذ - في صحة إسلام الصبي المميز ... 8/ 520

- فى ردة الصبي ... 8/ 523 مسائل الفرائض - في قتل الصبي والمجنون، والقتل بالسبب، هل يوجب حرمان الميراث ... 9/ 24 - في ميراث المرتد ... 9/ 149 - في مسألة المشرّكة أو الحِمارية ... 9/ 183 - في ميراث ولد الملاعنة ... 9/ 187 - في الرد على ذوي السهام إن لم يكن في المسألة عصبة ... 9/ 192 - في توريث ذوي الأرحام ... 9/ 198 - في كيفية توريث الخنثى ... 9/ 306 - في ميراث الحمل والعدد الذي يوقف عنده ... 9/ 331 - في توريث المبتوتة ... 14/ 231 مسائل الوصايا - في الوصية بجميع المال لمن لا وارث له ... 10/ 10 - في الوصية بالنصيب ... 10/ 15 - فيمن يوصي بسهم من ماله ... 11/ 61 - في الوصايا إذا زادت بجملتها على الثلث، وكان في آحادها ما يزيد على الثلث أيضاً ... 11/ 71 - فيما لو كانت إحدى الوصيتين بكل المال، وأخرى بثلثه ... 11/ 81 - في الوصية بالمنافع، هل هي في معنى الإعارة ... 11/ 126 - فيمن مات ولم يحج، ولم يوصِ بأن يحج عنه ... 11/ 184 - فيما لو أوصى لأهل رجل ... 11/ 312 - فيما لو أوصى لأختانه ... 11/ 313 - فى الوصية للمولى ... 11/ 317 - في الوصية للجيران ... 11/ 318

- فيما لو مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل رد الوصية أو قبولها، فهل ينتقل خيار الرد والقبول إلى ورثة الموصى له ... 3/ 390، 11/ 219 - في وصية الذمي بما يكون قربة عندهم معصية عندنا، كعمارة الكنائس ... 11/ 297 - فيما لو أوصى لكل ثيب من بني فلان ... 11/ 321 - فيما لو قيل له: أوصيتَ لفلان؟ فقال: لا أدري، فهل هذا رجوعٌ ... 11/ 329 - في ما لو أوصى بثوب مفصلٍ غير مخيط ثم إنه خاطه ... 11/ 338 - في الوصايا هل تنزل منزلة الولاية ... 11/ 350 - فيما لو نصّب عبده وصيّاً على أطفاله ... 11/ 350 - في المكاتب هل يكون وصيّاً ... 11/ 351 - في وجوب الوفاء بالوصاية إذا قبلها الوصي ... 11/ 354 - في استقلال أحد الوصيين بالتصرف ... 11/ 358 مسائل الوديعة - في المسافرة بالوديعة ... 11/ 377 - فيما لو ادعى رجلان وديعة وادعيا علم المودع، فإن أنكر فهل يمينه الواحدة تكفيه في حقهما؟ ... 11/ 429 - في ضمان المودع إذا تعدى في الوديعة ... 7/ 154 مسائل الفيء والغنيمة - فيما لو دخل أرض الحرب بفرس فنفق قبل القتال ... 11/ 446، 481 مسائل قسم الصدقات - في الأموال الظاهرة هل يجب صرف زكواتها إلى الولاة أم يفرقها الملاك؟ ... 11/ 533 - في المقصود بابن السبيل ... 11/ 559 مسائل النكاح - في النكاح بغير ولي ... 12/ 39 - في إجبار البكر البالغة على النكاح ... 12/ 45 - في ولاية الفاسق في النكاح ... 12/ 49

- في انعقاد النكاح بشهادة فاسقين ... 12/ 49 - في انعقاد النكاح بشهادة رجل وامرأتين ... 12/ 49 - في انعقاد نكاح مسلم على كافرة بشهادة ذميين ... 12/ 53 - في إجبار السيد عبده البالغ العاقل على النكاح ... 12/ 553 - في انعقاد النكاح بحضور شاهدين لا يفهمان عقد النكاح ... 2/ 553 - في ولي المرأة يزوجها من نفسه بأمرها ... 12/ 142 - في تزويج الأب ابنته الصغيرة السليمة ممن به عيب من العيوب ... 12/ 159 - في وجوب المهر على الأب إذا وطىء جارية ابنه وأحبلها ... 12/ 196 - في وقت انتقال الملك للأب في جارية ابنه، فيما لو وطئها الأب فأحبلها، وحكمنا بثبوت الاستيلاد ... 12/ 201 - في وجوب إعفاف الابن الموسر أباه المحتاج ... 12/ 207 - في جارية الابن تصير أم ولد للأب إذا حبلت منه في النكاح ... 12/ 217 - في الكافر يسلم وتحته خمس نسوة ... 12/ 282 - في الكافر يسلم وتحته أختان ... 12/ 283 - في أثر اختلاف الدار في قطع النكاح بين الزوجين إذا أسلم أحدهما ... 12/ 285 - في تعلق حرمة المصاهرة بالنظر إلى الفرج ... 12/ 239 - أثر الزنا في تحريم المصاهرة ... 12/ 240 - في نكاح المرأة في عدة أختها من بينونة ... 12/ 186 - في انفساخ النكاح بردة الزوجين معاً ... 12/ 369 - في ارتفاع النكاح بالردة، طلاق أم فسخ؟ ... 12/ 371 - في التغرير بحرية المرأة وأثره في صحة النكاح ... 12/ 432 - في الولد المنعقد في زمان الغرور، هل يغرم المغرور قيمته اعتباراً بيوم أم يوم الخصومة؟ ... 12/ 436 - في فسخ النكاح بالعيوب في المرأة ... 12/ 460 - في الفرقة بسبب العنة، هل هي كفراق الإيلاء، أم الجبّ؟ ... 12/ 485

- في الخنثى إذا كان يبول بالمسلكين، فهل تعتبر قلة البول وكثرته علامةً تثبت بها الذكورة أو الأنوثة؟ ... 12/ 500 - في الإحصان الموجب للرجم ... 12/ 501 - في تقدير الصداق ... 13/ 8 - فيما لو كان الصداق عملاً يعمله الزوج مما يجوز الاستئجار على مثله ... 13/ 16 - في تزويج ابنته بأقل مهر المثل ... 13/ 99 - فيما إذا انعقد النكاح بمهر المثل عند اتفاق تسمية فاسدة، فهل يتشطر مهر المثل لو طلقت قبل المسيس؟ ... 13/ 122 - إذا جرى في نكاح التفويض فرض فهل يتشطر المفروض لو طلقت قبل المسيس؟ ... 13/ 123 - في تمليك الولي الإبراء عن صداق وليته ... 13/ 151 - فيما لو مكنت قبل أن يتوفر عليها صداقها ثم أرادت الامتناع بعد جريان الوطء ... 13/ 176 - في الخلوة هل تقرر المهر؟ ... 13/ 178، 15/ 193، 194 - هل يلزم الزوج أن يبيت عند زوجته ... 13/ 226 - في القسم بين البكر والثيب ... 13/ 259 - في قضاء أيام السفر للمخلفات ... 13/ 263 مسائل الخلع - في الخلع فسخ أم طلاق ... 13/ 292 - في المختلعة هل يلحقها طلاق في عدة البينونة ... 13/ 310 - فيما يهدم الزوج من الطلاق وما لا يهدم ... 13/ 312 - في تعليق الطلاق قبل النكاح ... 13/ 322 - فيما لو قالت: طلقني ولك ألف ... 13/ 340 - في الفرق في جريان التبعيض بين صلة (الباء) و (على) في ألفاظ المستدعية للطلاق ... 13/ 392 - فيما لو قالت طلقني واحدة على ألف فقال: أنتِ طالق ثلاثاً ... 13/ 402 - فيما لو اختلعت نفسها في مرض الموت ... 13/ 493

- في الخلع هل يبرء ذمة الزوج عند المهر ... 13/ 496 - في الخلع على خمر أو خنزير ... 13/ 496 - في الخلع على مالٍ مؤجل على الحصاد والدياس ... 13/ 496 - في الخلع على ما في كفها ... 13/ 497 مسائل الطلاق - في تحريم الجمع بين الطلقتين، والثلاث ... 14/ 12 - في وقت وقوع الطلاق على الحائض فيما لو قال: أنت طالق للسُّنَّة ... 14/ 24 - في الصريح من ألفاظ الطلاق ... 14/ 58 - في إعمال الكنايات في الطلاق، مع قرائن الأحوال، وقرينة السؤال ... 14/ 66، 5/ 393 - في الإعتاق بلفظ الطلاق ... 14/ 68 - في نفي الرجعة بالكنايات، أو بشرط القطع ... 14/ 711 - في اعتبار الوطء رجعة في الطلاق الرجعي ... 14/ 74، 344 - في أن مدة المجلس وإن طالت صالحة للقبول وإن تأخر عن الإيجاب ... 14/ 76 - في إيقاع طلاق المفوضة وان لم تنوِ إذا نوى الزوج ... 14/ 86 - فيما لو قال: أنتِ طالق، ونوى عدداً ... 14/ 91 - إذا قال: أنت بائن، ونوى ثنتين ... 14/ 95 - في لفظ التحريم هل يكون يميناً؟ ... 14/ 102 - في وقت وقوع الطلاق فيما لو قال: أنتِ طالق في يوم كذا ... 14/ 110 - في العدة بالشهور فيما لو انكسر الشهر الأول ... 14/ 115، 15/ 173 - فيما لو علّق الطلاق بالضرب أو بقدوم شخص ثم أسند الطلاق إلى شهر قبل الصفة المذكورة ... 14/ 122 - (إنّ) و (إذا) في الطلاق يحملان على التراخي ... 14/ 129 - في اليمين هل تحرم الحلال؟ ... 14/ 141 - في طلاق السكران ... 14/ 168 - فيما لو قال لغير المدخول بها: أنتِ طالق طلقة قبلها طلقةٌ، أو بعد طلقة ... 14/ 182

- فيما لو قال: زوجتك نصف ابنتي، فهل يصح النكاح بذكر الجزء من المنكوحة ... 14/ 203 - فيما لو جرى تعليق الطلاق في الصحة، ووجدت الصفة في المرض فهل يعتبر الزوج فاراً ... 14/ 238 - في جعل الغضب قرينة على الطلاق عند التلفظ بالكناية ... 14/ 254 - فيما لو طلقها واحدة أو اثنتين، فعادت إليه بعد زوج، فهل تعود بثلاث طلقات؟ ... 14/ 275 - فيما لو قال: إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً، فهل تقع الطلقة المنجزة؟ ... 14/ 284 - في تعليق الطلاق بالدهر ... 14/ 326 - في المعتبر في عدد الطلاق إذا اختلف الزوجان في الرق والحرية، المرأة أم الرجل؟ ... 14/ 336 - في إباحة الوطء في الطلاق الرجعي ... 14/ 343 - في حصول الرجعة بالنظر إلى الفرج، أو باللمس بالشهوة ... 14/ 344 - في ثبوت الرجعة بالخلوة ... 14/ 369 مسائل الإيلاء - في وقت وقوع الفراق في الإيلاء ... 14/ 257، 384 - في الفيئة، هل تحرم باليمين على الامتناع منها ... 14/ 389 - في تقييد المشيئة بالمجلس فيما لو علق الإيلاء بمشيئتها ... 14/ 430 - في مدة الإيلاء، هل يشترط أن تكون زائدة على الأربعة أشهر؟ ... 14/ 443 - في الطلاق الواقع بعد انقضاء المدة، بائن أم رجعي؟ ... 14/ 443 - في مدة إيلاء العبد ... 14/ 444 - في اختصاص الإيلاء باليمين بالله ... 14/ 461 - في الطلاق أو الإيلاء قبل النكاح، أو العتاق قبل الملك ... 14/ 470 مسائل الظهار - فى ظهار الذمى ... 14/ 461، 472 - في معنى العود ... 14/ 505

- في الجماع ليلاً فيمن يكفّر بالصوم ... 14/ 507 - في الوطء قبل الإطعام ... 14/ 509 - في إجزاء الرقبة الكافرة في الكفارة ... 14/ 524 - في عتق المكاتب عن الكفارة ... 14/ 529 - في عتق من إذا اشتراه عتق عليه ... 14/ 532 - في إجزاء الرقبة الناقصة في الكفارة ... 14/ 554 - فيمن شرع في الصوم ثم أيسر، فهل ينتقل إلى الإعتاق ... 14/ 569 - فيما لو كرر الإطعام على مسكين واحدٍ، فهل يجزئه عن إطعام ستين مسكيناً ... 14/ 573 مسائل اللعان - في أن اللعان من موجبات القذف ... 15/ 6 - في اللعان شهادة أم يمين؟ ... 15/ 7 - فيمن هو من أهل اللعان ... 15/ 8 - في إلحاق النسب فيما لو قطعنا بامتناع العلوق من الزوج لعدم إمكان الالتقاء ... 15/ 16 - في لعان الأخرس ... 15/ 23 - في حد القذف هل هو حق لله تعالى أم للآدمي؟ ... 15/ 35، 99، 17/ 217 - في تعلق فرقة اللعان بقضاء القاضي ... 14/ 257، 15/ 54 - في كَلِم اللعان، هل يقوم معظمه مقام الكل؟ ... 15/ 56 - في تأبيد الحرمة بفرقة اللعان ... 15/ 60 - في اللعان بالحمل ... 15/ 67 - في وقت نفي الولد باللعان ... 15/ 70 - فيما لو أراد استلحاق الولد بعد اللعان والفرقة ... 15/ 85 - فيما لو قالت للرجل: يا زانية، فهل تكون قاذفة؟ ... 15/ 91 - لو قال لها: زنيت وأنتِ أمة، أو مشركة، فهل يكون قاذفاً؟ ... 15/ 96 - في سقوط الحد عنهما فيما لو قال: يا زانية، فقالت: بل أنت زان ... 15/ 99 - في تأبّد سقوط الحصانة عن الزاني وإن تاب وأناب وظهرت عدالته ... 15/ 106

- في شهادة الرجل على زنا زوجته ... 15/ 121 - في لحوق النسب بالمولى لو اعترف بوطء جاريته، وأتت الجارية بالولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من الوطء ... 15/ 133 مسائل العدة - في معنى القُرء ... 15/ 144 - في عدة زوجة الصبي لو مات عنها وهي حامل ... 15/ 170 - فيما لو أقرت بانقضاء العدة، وصدقناها، ثم أتت بولدٍ لزمان يحتمل أن يكون العلوق به في النكاح، فهل يلحق الولد ... 15/ 192 - فيما لو خالع امرأته، ثم جدد عليها النكاح في أثناء العدة، ثم طلقها قبل الدخول، فهل تبني على بقية العدة أم تستأنف؟ ... 15/ 200 - فيما لو أذن لزوجته في الانتقال إلى مسكن آخر، ثم طلقها، فهل تعتد بالمسكن الذي صادفها الطلاق فيه، أم بالمسكن الذي فيه أمتعتها؟ ... 15/ 231 - في وجوب الإحداد على الذمية والصغيرة والمجنونة ... 15/ 246 - في مدة المفقود ... 15/ 288 - في عدة أم الولد ... 15/ 298 - فيما لو وطء جاريته ثم أراد أن يزوجها من غير استبراء ... 15/ 302، 320 مسائل الرضاع - في حد الرضاع المحرِّم ... 15/ 347 - في اللبن المخلوط بالماء ... 15/ 357 - في لبن المرأة الميتة ... 15/ 361 - فيما يجب على المرأة التي تفسد النكاح بإرضاع الزوجة الصغيرة ... 15/ 364 - في إثبات الرضاع بشهادة النساء المتجردات ... 15/ 407 مسائل النفقات - في مقدار النفقة ... 15/ 419 - في توقف استقرار النفقة ديناً في الذمة على قضاء القاضي ... 15/ 450

- في القرابة المقتضية للنفقة ... 15/ 512 - في الأحق بحضانة الولد أو البنت عند سن التمييز ... 15/ 545 مسائل الجراح - في قيمة العبد إذا جاوزت الدية ... 16/ 31 - في اختصاص العمد بما يجرح ويشق ... 16/ 39 - في وجوب القصاص على شريك الأب فيما لو اشترك في قتل الابن ... 16/ 78 - في اختلاف حال الرمي والوقوع ... 16/ 92 - فيما يلزمه إذا جرح عبداً قليل القيمة، فعتق وسرت الجراحة إلى النفس ... 16/ 104 - في وجوب القصاص على المكرَه ... 16/ 115 - في الولي الكبير هل يقتص دون الصغير، أم ينتظر بلوغه ... 16/ 143 - في سراية القصاص، مضمونة أم مهدرة؟ ... 16/ 163 - فيما لو قطع يد المجني عليه من مفصل الكوع، وجاء آخر وقطع الساعد من المرفق، فلو مات المجني عليه، فعلى من يجب القصاص؟ ... 16/ 174 - فيما لو كانت يد المجني عليه ناقصة بإصبع، ويد الجاني كاملة ... 16/ 220 - في القصاص في قطع ذكر الخصي ... 16/ 255 - في إيجاب كمال الدية في قطع ذكر الخصي ... 16/ 255 - في استيفاء القصاص في الحرم ... 16/ 306 مسائل الديات - في أخذ الدية من قاتل العمد ... 16/ 137 - في دية العمد، مؤجلة أم معجلة؟ ... 16/ 309 - في الفصل بين إفضاء الزوجة، وإفضاء الأجنبية ... 16/ 415 - في الواجب في الشعور ... 16/ 427 - في دية الكتابي ... 16/ 438 - في الفارسين يصطدمان ... 16/ 468 - في الجاني هل يدخل في العقل؟ ... 16/ 505

- في التسوية بين القريب والبعيد في عاقلة الجاني ... 16/ 507 - في دخول أهل الديوان في العاقلة وإن لم يجمعهم بالجاني نسب أو ولاء ... 16/ 508 - في ابتداء الأجل في الدية، هل يكون من وقت الموت أم من وقت قضاء القاضي؟ ... 16/ 509 - في ضرب العقل على الفقراء في دية الخطأ وشبه العمد ... 16/ 513 - في مقدار ما تحمله العاقلة ... 16/ 527 - في المولى الأسفل هل يتحمل العقل عن المولى الأعلى ... 16/ 540 - في الحائط المائل إذا وقع على إنسان ... 16/ 572 - في الجناية على الجنين ... 16/ 597 مسائل القسامة - في اشتراط تعيين المدعى عليه في القسامة ... 17/ 19 - في اشتراط وجود الجراحة في ثبوت القسامة ... 17/ 23 - في الكفارة في قتل العمد ... 17/ 86 مسائل البغاة - في ضمان الفئة الباغية ما تتلفه على الفئة العادلة ... 17/ 133 - في البغاة هل يتبع مدبرهم، ويذفف جريحهم ... 17/ 142 - في أسير البغاة ... 17/ 146 - في الصلاة على قتيل البغاة ... 17/ 158 مسائل الردّة - في ردة المرأة ... 17/ 160 - في الحكم بسلام الكافر فيما لو صلى على هيئة صلاة المسلمين ... 17/ 174 - في سبي أولاد المرتدين وذريتهم ... 17/ 175 - في الردة هل تحبط سوابق الأعمال؟ ... 2/ 112، 143 مسائل الحدود - في حضور الوالي، أو شهود الزنا الرجم ... 17/ 185 - في عدد مرات الإقرار بالزنا ... 17/ 186

- في إقرار الأخرس بالزنا ... 17/ 189 - في درء الحد بعقود النكاح الباطلة ... 17/ 208 - في الاستئجار على الزنا ... 17/ 208 - في إقامة الحد على المرأة العاقلة إذا مكنت مجنوناً ... 17/ 208 - في رفع الإثم مع وجوب الحد على من يأتي إمرأةً يحسبها زوجته ... 17/ 208 - فيما لو اختلف شهود الزنا في تعيين زوايا مكان واحد ... 17/ 208، 19/ 51 - فيما لو أقرّ أنه زنى بجارية فلان، فلو جاء المالك وقال: كنت بعته الجارية، فهل يسقط الحد بهذا ... 17/ 273 مسائل السرقة - في نصاب القطع ... 17/ 222 - في القطع بسرقة الفواكه الرطبة ... 17/ 225 - في القطع بسرقة المملوكات التي أصلها الإباحة ... 17/ 225 - في الحرز في قطار الإبل ... 17/ 230 - فيما لو نقب أحدهما الحرز وأخرج الثاني المتاع فهل على الناقب قطع؟ ... 17/ 232 - فيما لو ألقى المتاع خارج الحرز ولم يأخذه هو ولا معينه وردؤه، فهل يجب القطع بهذا؟ ... 17/ 235 - فيما لو سرق ثوباً وشقّه في الحرز طولاً أو عرضاً ... 17/ 245 - فيما لو وهب المالك المسروق من السارق بعد تمام السرقة ... 17/ 246 - في تكرر القطع بتكرر السرقة في العين الواحدة ... 17/ 269 - في إقرار العبد بسرقةٍ موجبة للقطع ... 17/ 282 - في اجتماع القطع والضمان ... 17/ 285 - في القطع بسرقة المصحف ... 17/ 295 - فيما لو سرق ما يجب القطع بسرقته مع ما لا قطع فيه ... 17/ 295 - فيما لو أقر أحدهما أنه سرق ثوباً قيمته ربع دينار، وأقر الآخر أن قيمته سدس دينار ... 17/ 296، 19/ 54

- في المرأة إذا قطعت الطريق فهل تستوجب الحد ... 17/ 302 - في عقوبة قاطع الطريق فيما لو أخذ نصاباً يستوجب القطع، وقتل ... 17/ 304 - في قاطع الطريق، هل يُغسل ويُصلى عليه؟ ... 17/ 306 مسائل الأشربة - ما هي الخمر؟ ... 17/ 325 - في حكم الختان ... 17/ 355 - في ضرب الرأس عند الجلد ... 17/ 359 مسائل صول الفحل - في الضمان من قتل البهيمة فيما لو صالت ولم يتأت دفعها إلا بالقتل ... 17/ 366 - في صيال الصبي والمجنون ... 17/ 366 مسائل السير - في قتل الرهبان والشيوخ والزمنى والعسفاء ... 17/ 463 - في لزوم الحد على من يأتي بما يوجب الحد في دار الحرب ... 17/ 488 - فيما لو أسلم الحربي في دار الحرب، ولم يهاجر، فقتله مسلم عامداً في دار الحرب ... 17/ 488 - في تمليك الكفار ما أحرزوه من أموال المسلمين في دار الحرب ... 17/ 490 - فيمن أسلم من أهل الحرب في دار الحرب قبل الفتح، هل يُغنم ماله، أو تسبى زوجته، أو يرق الجنين في بطنها ... 17/ 504 - في بيع عقار مكة ... 17/ 506 - في سقوط الدين عن المسترَق ... 17/ 524 - في التفريق بين الأم وولدها في البيع ... 17/ 530 - في سواد العراق، هل فتح صلحاً أم عنوة؟ ... 17/ 537 مسائل الجزية - في التفريق بين الغني والفقير والمتوسط في الجزية ... 18/ 19 - في سقوط الجزية عن الذمي بتداخل السنين ... 18/ 31

مسائل الصيد والذبائح - في أكل الكلب من الصيد ... 18/ 112 - في التسمية عند الذبح ... 18/ 113 - في فريسة الكلب إذا ماتت تحته ضغطاً ... 18/ 150 - في أكل السمك الطافي ... 18/ 157 مسائل الضحايا - في القدر المانع من الإجزاء في المقطوع من الأذن ... 18/ 170 - في قطع الأوداج عند الذبح ... 18/ 180 - في حكم العقيقة ... 18/ 205 مسائل الأطعمة - فيما لو لم نجد في الحيوان ثبتاً في التحريم والتحليل، فهل الأصل فيه الإباحة أم التحريم؟ ... 18/ 210 مسائل السبق والرمي - في بدل العوض في المسابقة هل يلزم بالعقد ... 18/ 229 مسائل الأيمان - فى اليمين التى يكفر عنها ... 18/ 291 - إذا قال: أقسمتُ، أو أقسم، وأضمر ذكر الله تعالى ... 18/ 296 - في اليمين هل تحرّم ما ليس محرّماً ... 18/ 302 - في تقديم كفارة اليمين على الحنث ... 18/ 302، 312 - في يمين الكافر ... 18/ 303 - في الحلف بأن يكون يهودياً إن فعل كذا ... 18/ 303 - في إيجاب الكفارة في اليمين الغموس ... 18/ 304 - حلف لا يبيع، فباع بيعاً فاسداً، فهل يحنث؟ ... 12/ 69 - فيما يجزئ من الكسوة في الكفارة ... 18/ 316

- فيما يحنث به من حلف لا يسكن هذه الدار ... 18/ 332 - فيمن حلف لا يأكل طعاماً اشتراه فلان، فأكل من طعام اشتراه فلان وآخر معه ... 18/ 346 - فيمن حلف لا يدخل دار فلان هذه، فباعها فلان، فدخلها الحالف ... 18/ 351 - فيمن حلف لا يدخل دار فلان، فانهدمت وصارت فضاء، فطرقها ... 18/ 352 - فيمن حلف لا يفعل شيئاً فأمر غيره ففعل ... 18/ 375 - فيمن حلف على امرأته لا تخرج إلا بإذنه ... 18/ 384 - فيمن حلف ألا يتكلم فقرأ القرآن، أو سبح وهلل ... 18/ 400 - في المال في اليمين هل يختص بالأموال الزكاتية ... 18/ 403 - فيمن حلف لا يأكل الفاكهة فأكل العنب أو الرمان ... 18/ 415 - فيمن نذر صوم يوم العيد ... 18/ 454 - فيمن نذر أن يذبح ولده ... 18/ 456 مسائل القضاء - في ترك القاضي الاستزكاء فيما لو قام المشهود عليه بتعديل شهود الخصم ... 18/ 480 - في التعويل على الخط أو شهادة الشهود عند النسيان ... 18/ 497 - في القضاء على الغائب ... 7/ 451، 18/ 503 - في موت القاضي الكاتب أو المكتوب إليه ... 18/ 519 - في أجرة القسّام ... 18/ 542 - في قضاء القاضي بعلمه في غير مكان ولايته أو زمانها ... 18/ 581 - فيما يثبت بشهادة رجل وامرأتين ... 18/ 597 - في شهادة النساء في الولادة ونحوها مما لا يطلع عليه الرجال ... 18/ 598 - في قضاء القاضي هل ينفذ ظاهراً وباطناً ... 18/ 599 - في شهادة المحدود في القذف ... 18/ 603 - في دلالة اليد بمجردها على الملك ... 18/ 611 - في تقديم بينة الخارج على بينة ذي اليد ... 18/ 611 - في قبول شهادة الأعمى ... 18/ 616

- في الشهادة على قول المقر دون أن يُشهدهما ... 18/ 624 - في قبول شهادة الكافر ... 18/ 627 - فيما يجري التحليف فيه ... 18/ 665 مسائل الشهادات - في شهادة الفاسق ... 17/ 342، 19/ 9، 68 - في شهادة الأخ لأخيه ... 19/ 14 - في إقرار بعض الورثة بدين وإنكار الآخرين ... 19/ 32 - في العدد الذي يقبل في الشهود على شهادة غيرهم ... 19/ 45 - في شهادة الفروع إذا لم يعدلوا الأصول ... 19/ 50 - فيما على الشهود إذا رجعوا بعد استيفاء العقوبات ... 19/ 58 - فيما لو شهد عدد أكبر من العدد المشروط، ثم رجع من زاد على العدد ... 19/ 61 - فيما لو شهد رجل وأربع نسوة على مال، ثم رجعوا، فكيف يُفض المغروم عليهم؟ ... 19/ 63 - فيما لو أقام أحدهما البينة أن الموصي أوصى له بجميع ماله، وأقام الآخر البينة أنه أوصى له بثلث ماله ... 19/ 75 - في حبس الأب في دين ولده ... 19/ 87 مسائل الدعاوى والبينات - في حد المدعي والمدعى عليه ... 19/ 89 - في المقدّم من البينتين لو كانت إحداهما أسبق تاريخاً، والأخرى أحدث تاريخاً ... 19/ 144 - في متاع البيت يختلف فيه الزوجان ... 19/ 189 - في صاحب الحق لو ظفر بغير جنس حقه، فهل يأخذه لو كان من عليه الحق ممتنعاً ... 19/ 190 مسائل العتق - فيما لو ملك جارية حاملاً بجنين مملوك لغيره، فلو أعتق الجارية فهل يسري عتقها إلى الجنين ... 19/ 203

- في المكاتب يموت ويترك وفاءً ... 19/ 211، 379 - فيمن أعتق في مرض موته عبيداً لا مال له غيرهم ... 19/ 229 - فيما لو أبهم العتق بين جاريتين، ثم وطىء إحداهما، فهل يعد الوطء تعييناً؟ ... 19/ 242 - في العتاق قبل الملك ... 14/ 470 - في عتق الأخ إذا ملكه أخوه ... 19/ 244 - فيما لو قال لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر، فولدت ميتاً، ثم حياً ... 19/ 249 - فيما لو قال لعبده والعبد في مثل سنه أو أكبر منه: أنت ابني ... 19/ 250 - في مكاتبة الصغير ... 19/ 341 - في العبد المطلق يكون عوضاً في الكتابة ... 19/ 342 - في الكتابة الحالة ... 19/ 343 - في كتابة العبيد على مال واحد ... 19/ 353 - في مكاتب بين رجلين أعتقه أحدهما ... 19/ 368 - في إجبار المولى على أن يضع عن عبده شيئاً من كتابته ... 19/ 383 - في ولي الطفل هل له أن يكاتب عبده؟ ... 19/ 389 - في المكاتب يتبرع بإذن السيد ... 19/ 441 - في فسخ الكتابة من المكاتب ... 19/ 464 - في ثبوت الاستيلاد فيما لو حصل العلوق على الرق ... 19/ 500 ***

المسائل الخلافية مع المالكية

المسائل الخلافية مع المالكية المسألة ... الجزء والصفحة مسائل الطهارة - فيما يطهر من الجلد بعد الدباغ ... 1/ 29 - في وجوب استيعاب الرأس بالمسح ... 1/ 82 - في الموالاة في الوضوء ... 1/ 91 - في قراءة الحائض للقرآن ... 1/ 99 - في نقض الوضوء بالنوم الثقيل ... 1/ 123 - في اشتراط القصد لنقض الوضوء بلمس المرأة ... 1/ 127 - في إيجاب الدلك في الغسل ... 1/ 153 - في محل التيمم من البدن ... 1/ 159 - في حكم صلاة العاري ... 1/ 207 - في حكم الماء المستعمل في الطهارة ... 1/ 231 - فيما ينجس من الماء ... 1/ 254 - في جواز المسح على الخف المتخرق ما دام متماسكاً ... 1/ 294 - في وجوب الاستظهار على المردودة إلى التمييز إذا تغيّر دمها القوي إلى الضعيف ... 1/ 340 مسائل الصلاة - في الاشتراك في وقت الظهر والعصر ... 2/ 9 - في الترجيع في الأذان ... 2/ 41 - في إفراد الإقامة ... 2/ 85 - في قراءة الفاتحة للمأموم ... 2/ 139

- في كيفية الجلوس في التشهدين ... 2/ 174 - في الكلام الذي يبطل الصلاة ... 2/ 200 - في عدد سجدات التلاوة ... 2/ 229 - في محل سجود السهو ... 2/ 239 - في الصلاة خلف إمام جنب ونحوه ... 2/ 289 - فيمن تذكر وعلم ما به من نجاسة بعد التحلل من الصلاة ... 2/ 296 - في تقدم موقف المأموم على الإمام ... 2/ 400 - فيما يجب رعايته في الموقف بين الإمام والمأموم ليصح الاقتداء ... 2/ 402 - في كيفية صلاة الخوف ... 2/ 573 - تسنيم القبور أولى أم تسطيحها ... 3/ 207 مسائل الزكاة - في إمكان الأداء هل هو شرط وجوب أم شرط ضمان؟ ... 3/ 107 - فيما يؤخذ في زكاة الغنم ... 3/ 117 - في وجوب الزكاة في الضال، والمغصوب، والمجحود ... 3/ 140 - في زكاة الخلطة ... 3/ 155 - في تعجيل الزكاة قبل الحول ... 3/ 173، 18/ 312 - في إخراج الذهب عن الورق، والورق عن الذهب ... 3/ 203 - في المبادلة في النعم بقصد قطع الحول والفرار من الزكاة ... 3/ 211 - في ضم الشعير والسلت إلى الحنطة لتكميل النصاب ... 3/ 260 - فيما لو نقص الوزن في نصاب الوَرِق نقصاناً يسيراً ... 3/ 273 - في إيجاب زكاة التجارة ... 3/ 293 مسائل الصوم - في الاكتفاء بنية واحدة في أول الشهر ... 4/ 5 - في الكفارة العظمى، هل تجب بغير الجماع؟ ... 4/ 36 - في اشتراط التتابع في قضاء ما فات من رمضان ... 4/ 68

مسائل الحج - فيمن قدر على المشي ولم يجد راحلة، فهل يلزمه الحج ماشياً؟ ... 4/ 128، 17/ 414 - في الاستنابة في حال الحياة لمن عجز عن تعاطي الحج بنفسه ... 4/ 133 - في المقصود بحاضري المسجد الحرام ... 4/ 172 - في الدم الواجب على القارن ... 4/ 184 - في الاستظلال بظلال المخيمات ... 4/ 242 - في المنغمس في الماء هل يعتبر في حكم الساتر رأسه ... 4/ 244 - في الإفاضة من عرفة قبل الغروب ... 4/ 311 - في إفساد الحج بالمباشرة إذا اتصل بها الإنزال ... 4/ 347 مسائل البيوع - في تسليم المبيع في زمان الخيار إلى المشتري، هل يعد إجازة من البائع ... 5/ 54 - فيما لو كان عنده مائة درهم صحاح، وأراد مكانها مائة وعشرين درهماً مكسرة فاشترى بالمائة سلعةً، ثم اشترى بالسلعة المائة والعشرين المكسرة ... 5/ 100 - في بيع اللحم بالحيوان ... 5/ 109 - في امتناع البائع من تسليم الجارية للمشتري حتى تستبرئ ... 5/ 287 - في بيع الصُّبرة جزافاً بالدراهم ... 5/ 396 - هل يملك المقرض استرجاع القرض في الحال؟ ... 5/ 444 مسائل الرهن - في لزوم الرهن دون القبض ... 6/ 78 - فيما لو اختلف الراهن والمرتهن في مقدار الرهن، فالقول قول من؟ ... 6/ 233 مسائل التفليس - في إثبات الرجوع إلى عين المبيع بعد وفاة المشتري، وفي حال حياته إذا أفلس ... 6/ 310 - فيما لو أراد مستحق الدين المؤجل منعَ من عليه الدين من السفر حتى يعطيه كفيلاً بالدين أو رهناً ... 6/ 428

مسائل الحجر - في الغبن، هل يُثبت حقَّ الفسخ؟ ... 6/ 442 مسائل الصلح - فيما لو تنازعا جداراً، هل ينظر إلى من له الدواخل والخوارج ومعاقد القُمط؟ ... 6/ 481 مسائل الغصب - فيما يجب في الجناية على أطراف العبد ... 7/ 172 - في وجوب الضمان على من فتح قفصاً عن طائر، فطار ... 7/ 282 مسائل الشفعة - فيما لو اشترى شقصاً فيه الشفعة بثمن مؤجل، فهل يسلم إليه الشقص؟ ... 7/ 345 - فيما لو اشترى شقصاً ومنقولاً، فهل للشفيع أن يأخذ المنقول ... 7/ 388 مسائل المساقاة والمزارعة - فيما لو شرط مع الأعمال المستحقة في المعاملة ما ليس مستحقاً ... 8/ 25 - فيما لو جرت المساقاة مطلقة، فهل يدخل الغلمان تبعاً ... 8/ 26 - في نفقة العبيد والأجراء فيما لو أطلق العقد ... 8/ 30 - في كراء الأرض بمقدار مما تنبته ... 8/ 219 مسائل الهبات - في اشتراط القبض في الهبة ... 8/ 412 مسائل التقاط المنبوذ - في التفريق في قبول الدعوة بين من لا يعيش له ولد، ومن يعيش له ولد ... 8/ 548 مسائل الفرائض والوصايا - في قتل الخطأ هل يوجب حرمان الميراث؟ ... 9/ 24 - فيمن ترث من الجدات ... 9/ 73 - في ميراث الخنثى ... 9/ 306

- فيما لو نفى الولد باللعان، ثم لما مات أكذب نفسه واستلحقه، فهل يلحقه ويرثه؟ ... 9/ 345 - في الوصية بنصيب ابنه، أو بمثل نصيب ابنه ... 10/ 17 - في الوصية بنصيب أحد الابنين ... 10/ 18 - فيما لو أوصى بجعل ثلث ماله في الرقاب ... 11/ 178 - في المنكوحة في المرض، هل ترث ... 11/ 273 - في تفسير الآل فيما لو أوصى لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 11/ 311 - في الوصية للمولى ... 11/ 317 مسائل الوديعة - فيما لو شرط ألا يرقد على الصندوق الذي فيه الوديعة، فرقد ... 11/ 424 - فيما يصدق فيه المودع من ادعاء التلف، والتفريق بين السبب الخفي، والسبب الجلي ... 14/ 277 مسائل النكاح - في النكاح بغير ولي ... 12/ 39 - في الوصي، هل يجوز له أن يزوج البكر ... 12/ 42 - فيما لو أذنت لوليين فزوجاها، ثم عُلِم المتقدم من العقدين بعد دخول الزوج الثاني، فأي العقدين يثبت؟ ... 12/ 25 - في اعتبار الحِجْر في تحريم الربيبة ... 12/ 224 - في كراهية نكاح الذمية ... 12/ 243 - في جواز أن يجمع العبد بين أربع ... 12/ 185 - في فساد النكاح بفساد التسمية في الصداق ... 13/ 6، 147 - في تقدير الصداق ... 13/ 8 - في توقف ملك جميع الصداق على الدخول ... 13/ 28 - في القَسْم بين الحرة والأمة ... 13/ 231 مسائل الطلاق - فيما لو أجرى معنى الطلاق جزماً على قلبه من غير لفظ ... 14/ 34

- فيما لو علق الطلاق بأجل آت لا محالة، فهل يقع منجّزاً ... 14/ 109 - في ميراث المبتوتة في المرض ... 14/ 232 - في الشك في عدد الطلاق ... 14/ 242 - في حصول الرجعة بالوطء ... 14/ 344 - في الإشهاد على الرجعة ... 14/ 353 - فيما لو راجع امرأته فلم تعلم حتى تزوجت، فهل لدخول الزوج الثاني بها أثر في الحكم ... 14/ 356 - فيما لو وطئها الثاني وطئًا محرماً مثل أن يطأها حائضاً أو صائمة فهل تحل للأول؟ ... 14/ 378 مسائل الإيلاء - في تعليق الإيلاء بمشيئة المرأة ... 14/ 430 - في أجل العبد في الإيلاء ... 14/ 444 مسائل الظهار - فى دخول الإيلاء على الظهار ... 14/ 489 - في معنى العَوْد ... 14/ 505 مسائل اللعان - في اختصاص اللعان ببعض صيغ القذف ... 15/ 9 - في لعان الرجل عن أم ولده ... 15/ 47 - في التحاق الكناية بالقذف الصريح ... 15/ 71 - في اشتراط الاستبراء بعد الوطء لنفي الولد باللعان ... 15/ 103 - في التعريض بالقذف ... 15/ 117 مسائل العدة - في عدة المتوفى عنها إن كانت ممن تحيض ... 15/ 207 - في تأبيد تحريم الزانية على الزاني ... 15/ 284

مسائل النفقات - في عودة حق الحضانة للأم إذا طلقت بعد أن فقدته بالنكاح ... 15/ 543 - فيما لو أنكرت المرأة قبض النفقة وادعى الزوج تسليمها، فالقول قول من؟ ... 15/ 458 مسائل الجنايات - في القصاص من الأب بقتل ولده ... 16/ 21 - في قتل الجماعة بالواحد ... 16/ 34 - فيما لو كانت الجناية الأولى تفضي إلى الهلاك بطريق السراية لكن التذفيف حصل بجناية ثانٍ ... 16/ 69 - في اشتراك العامد والمخطئ في القتل ... 16/ 77 - في القصاص من الذابح دون الممسك ... 16/ 126 مسائل الديات - في دية الشفتين ... 16/ 356 - في دية عين الأعور ... 16/ 407 - في دية الكتابي ... 16/ 438 - ما تحمله العاقلة من أروش الأطراف ... 16/ 534 مسائل القسامة - فيما لو قال المقتول: خذوا فلاناً بدمي فإنه قاتلي ... 17/ 29 مسائل الردة - في قبول توبة الزنديق ... 17/ 163 مسائل الحدود - في رجوع الزاني عن الإقرار دون ذكر سبب ... 17/ 186 - في نصاب السرقة ... 17/ 222 - في القطع على المشتركَيْن في إخراج النصاب ... 17/ 245 - في قطع العبد لو سرق في إباقه ... 17/ 255

- في الفصل في عقوبة قاطع الطريق بين الشاب والشيخ ... 17/ 298 - في القتل تعزيراً ... 17/ 364 مسائل الصيد والذبائح - إذا رمى بسهمه على صيد بعينه، فأصاب غيره ... 18/ 119 - في ذكاة البهيمة الإنسية لو شردت ... 18/ 130 - في قطع الأوداج عند الذبح ... 18/ 180 مسائل الأيمان - فيما يجزئ من الكسوة في الكفارة ... 18/ 316 - في التتابع في الصيام في كفارة اليمين ... 18/ 319 - فيما لو حلف لا يفارق حتى يستوفي حقه، فاعتاض عن حقه عوضاً وفارق ... 18/ 382 مسائل القضاء والشهادات - في قبول شهادة امرأتين مع اليمين في الأموال ... 18/ 599 - في قبول شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت ... 18/ 615 - فيما لو كانت له بينة حاضرة، فعدل إلى يمين المدعى عليه، ثم أراد إقامتها بعد اليمين ... 18/ 658 - في شهادة الوالد للولد، والولد للوالد ... 19/ 14 - في شهادة ولد الزنا ... 19/ 28 - في شهادة القروي على البدوي، والبدوي على القروي ... 19/ 28 - في شهادة المختفي عن المشهود عليه ... 19/ 31 مسائل العتق - فيما لو كاتب جمعاً من العبيد وشرط أن يضمن البعض منهم عن بعض ... 19/ 356 ***

فهرس المسائل الخلافية مع الحنابلة

فهرس المسائل الخلافية مع الحنابلة المسألة ... الجزء والصفحة مسائل الطهارة - في طهارة جلد الميتة بالدباغ ... 1/ 21 - في نقض الوضوء بمس الذكر بظهر الكف وبطنه ... 1/ 131 - في الوضوء من أكل لحم الجزور ... 1/ 136 - في ابتداء مدة المسح على الخفين ... 1/ 288 - في طهارة أبوال، وأرواث الحيوانات المأكولة ... 2/ 305 مسائل الصلاة - في آخر وقت المغرب ... 2/ 14 - في وجوب الذكر في الركوع2/ 158 - في حكم التشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ... 2/ 249، 254، 265 - في حكم صلاة الجماعة ... 2/ 364 - في صلاة المأمومين قعوداً خلف الإمام القاعد ... 2/ 371 - في عدد مرات الركوع في كل ركعة من صلاة الخسوف ... 2/ 637 - حكم تارك الصلاة من غير عذر ... 2/ 651 مسائل الجنائز - في موقف الإمام من الجنازة ... 3/ 51 مسائل الصيام - فيمن أصبح صائماً مقيماً ثم سافر، هل يجوز له الفطر بطريان السفر؟ ... 4/ 52، 58

مسائل الرهن - في منافع الرهن، هل هي للراهن أم للمرتهن ... 6/ 243 مسائل التفليس - في المفلس هل عليه أن يؤاجر نفسه ويكتسب لأجل الدين؟ ... 6/ 407 مسائل الفرائض - في حجب الجدات بالأب ... 9/ 78 - في توريث ذوي الأرحام ... 9/ 198 - في الرد على ذوي السهام إن لم يكن في المسألة عصبة ... 9/ 192 مسائل النكاح - في الإحرام، هل يمنع من الرجعة ... 12/ 407 مسائل الديات - في تحمل العاقلة ما جنى الرجل على نفسه ... 16/ 538 مسائل الأطعمة - في كسب الحجام ... 18/ 216 مسائل القضاء - في قبول شهادة العبد ... 18/ 627، 19/ 67 ***

المسائل الخلافية مع الظاهرية

المسائل الخلافية مع الظاهرية المسألة ... الجزء والصفحة مسائل الطهارة - في تخصيص تحريم استعمال آنية الذهب والفضة بجهة الأكل والشرب ... 1/ 39 - في تعيين الأحجار في الاستنجاء ... 1/ 105 - في تحريم الاستنجاء باليمنى ... 1/ 114 مسائل الصلاة - في حكم صلاة الجماعة، وكونها شرطاً لصحة الصلاة ... 2/ 364 مسائل الزكاة - في أخذ الماخض في الزكاة ... 3/ 129 - في النصاب في المعشرات ... 3/ 229 - في نفي زكاة التجارة ... 3/ 293 مسائل الصيام - فيمن أفطر في آخر النهار، ثم تبين أن الشمس لم تغرب، فهل يعذر بالغلط ... 4/ 20 - في الصوم في السفر ... 2/ 423، 4/ 50 - في الإفطار بعذر المرض في الصوم المفروض ... 1/ 196 مسائل الحج - في القارن هل عليه دم ... 4/ 184 - في انعقاد الإحرام فيما لو ذكر التلبية حاكياً أو معلماً وقصد غرضاً غير الإحرام ... 4/ 220 - ضمان الصيد يختص بالعامد ... 4/ 397

مسائل البيع - في إقرار العبد بما يوجب القصاص في النفس، أو القطع في الطرف ... 5/ 486 مسائل النكاح - في تزويج الثيب نفسها دون ولي ... 12/ 39 مسائل الظهار - في جواز عتق الرقبة المعيبة في الكفارة ... 14/ 553 مسائل العدة - في عدة الأمة ... 15/ 197 مسائل الرضاع - في حدّ الرضاع المحرِّم ... 15/ 348 مسائل الحدود - القطع في السرقة يتعلق بالقليل والكثير ولا نصاب له ... 17/ 222 - تقطع اليد من المنكب ... 17/ 263 - في عقوبة قاطع الطريق ... 17/ 298 مسائل الأطعمة - في حكم العقيقة ... 8/ 205 مسائل القضاء - في وجوب الإشهاد في البيوع ... 18/ 592 مسائل العتق - في وجوب إجابة السيد دعوة العبد إلى الكتابة ... 18/ 339 ***

فهرس مسائل فقهية لا تقع تحت أبواب الفقه المعروفة المسألة ... اسم الكتاب والباب ... الجزء والصفحة الخنثى وأحكامه كتاب الطهارة: باب الأحداث فصل في لمس بشرة الخنثى ... 1/ 132 كتاب الفرائض: باب الخناثى وكيفية ميراثهم ... 9/ 304 كتاب الجراح، فصل لو قطع رجل ذكر خنثى مشكل ... 16/ 129 حكم وصل الشعر كتاب الصلاة: باب الصلاة بالنجاسة ... 2/ 316 حكم التطريف وتحمير الوجه كتاب الصلاة: باب الصلاة بالنجاسة ... 2/ 317 حكم لبس الحرير والذهب كتاب الصلاة: باب ما له لبسه وما ليس له لبسه ... 2/ 604 حكم لبس الجلود كتاب الصلاة: باب ما له لبسه وما ليس له لبسه ... 2/ 608 حكم استعمال لفظ الصلاة والسلام مع غير الأنبياء كتاب الزكاة، باب ما يقول إذا أخذ الصدقة ... 3/ 371 حكم رفع الصوت في المساجد كتاب الحج: باب الإحرام والتلبية ... 4/ 240 حكم لعب الأطفال بالجوز كتاب البيع: باب الخراج بالضمان والرد بالعيب ... 5/ 263 حكم شراء الكافر المصحف والدفاتر التي فيها أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب البيع: باب النهي عن بيع الغرور ... 5/ 429

بيع آلات الملاهي والمعازف كتاب البيع: باب بيع الكلاب ... 5/ 496 كتاب الصداق: باب الوليمة والنثر ... 13/ 190 بيع الصور والتماثيل وتكسيرها كتاب البيع: باب بيع الكلاب ... 5/ 496 كتاب الصداق: باب الوليمة والنثر ... 13/ 190 حكم تخليل الخمر وطهارتها ونجاستها كتاب الرهن، فصل في تخليل الخمر ... 6/ 155 مسائل في أحكام الشارع (الطريق) كتاب الصلح ... 6/ 464 تكسير آلات الملاهي والمعازف كتاب الغصب ... 7/ 293 كسر الصليب وإراقة خمور أهل الذمة كتاب الغصب ... 7/ 293، 295 بيان ما يحصل به الإسلام، مع بيان أحكام التبعية في الإسلام كتاب اللقطة: باب التقاط المنبوذ ... 8/ 519 خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول كتاب النكاح ... 12/ 5 حكم النظر بين الرجل والرجل، والمرأة والمرأة، والمرأة والرجل كتاب النكاح: باب ما جاء في الترغيب في النكاح ... 12/ 29 حكم السوم على السوم كتاب النكاح: باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ... 12/ 274 من أحكام الغيبة كتاب النكاح: باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ... 12/ 278

حكم استرقاق العربي، وهل يجوز كتاب النكاح: باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ... 12/ 276 ما يجوز الاستئجار عليه وما لا يجوز كتاب الصداق: باب الجعل والإجارة كتاب السير: باب من له عذر بالضعف والضرورة ... 17/ 425 حكم الاستئجار على الأذان، والإمامة في الصلاة كتاب الصداق، باب الجعل والإجارة ... 13/ 12، 15 حكم الاستئجار على التدريس كتاب الصداق، باب الجعل والإجارة ... 13/ 13 حكم التصوير كتاب الصداق: باب الوليمة والنثر ... 13/ 190 حكم الستائر وفرش الحرير كتاب الصداق: باب الوليمة والنثر ... 13/ 191 ما يتعلق بالكتابة من الأحكام كتاب الطلاق، باب ما يقع من الطلاق وما لا يقع ... 14/ 75 حكم اعتبار الشهور العجمية في الآجال المطلقة في عقود الإسلام كتاب الطلاق، باب الطلاق بالوقت ... 14/ 114 حكم الإكراه على الردّة كتاب الطلاق، باب الطلاق بالوقت وطلاق المكره ... 14/ 160 حكم الإكراه على العقود المختلفة (البيع، الهبة، الإجارة، الأيمان ... ) كتاب الطلاق، باب الطلاق بالوقت وطلاق المكره ... 14/ 160 حكم تصرفات السكران كتاب الطلاق، باب الطلاق بالوقت وطلاق المكره ... 14/ 168 أحكام الذين لم تبلغهم الدعوة كتاب الديات: باب أسنان الخطأ وتقويمها وديات النفوس والجراح ... 16/ 439

السحر: حقيقته، وحكم تعلمه، والقتل به كتاب القسامة: باب الحكم في الساحر والساحرة ... 17/ 120 حكم العَيْن والقتل بها كتاب القسامة: باب الحكم في الساحر والساحرة ... 17/ 122 حكم العلاج والعمليات الجراحية (قطع السلعة) كتاب الأشربة: باب حد الخمر ... 17/ 350 حكم الختان والقضايا المتعلقة به كتاب الأشربة: باب حد الخمر ... 17/ 354 حكم استئذان الوالدين في السفر لطلب العلم كتاب السير: باب من له عذر بالضعف والضرورة ... 17/ 404 حكم تعلم العلوم كتاب السير: باب من له عذر بالضعف والضرورة حكم ردّ السلام كتاب السير: باب من له عذر بالضعف والضرورة ... 17/ 419 حكم الضيافة وحق الضيف كتاب الجزية: باب الجزية على أهل الكتاب ... 18/ 20 أحكام الضيافة وما يتعلق بها كتاب الصداق: باب الوليمة والنثر ... 13/ 194 نواقض الإيمان: ما يكفر به المسلم كتاب الجزية: باب الجزية على أهل الكتاب ... 18/ 46 حكم اللعب بالشطرنج والنردشير والحمام كتاب الشهادات، فصل في اللعب بالشطرنج، ... 19/ 19 حكم الغناء أداء وسماعاً كتاب الشهادات، فصل في السماع ... 19/ 22

حكم الرقص كتاب الشهادات، فصل في السماع ... 19/ 26 حكم العصبية ومعناها كتاب الشهادات، فصل في مفهوم العصبية ... 19/ 28 حكم الجلوس على فرش الحرير كتاب الشهادات، فرع في جلوس الرجال على فرش الحرير ... 19/ 31 ... فَائِدَة لم يلتزم النووي ترتيب (الشرح الكبير) عندما لخصه في كتابه (روضة الطالبين) حيث نقل كتاب الأضحية والعقيقة والصيد والذبائح وكتاب الأطعمة، وكتاب النذور إلى آخر كتاب الحج، وقبل البيوع. ***

فهرس المسائل الملقبات في الفقه المسألة ... الجزء والصفحة مسألة الأب: في اختلاع الأب ابنته الصبية ... 13/ 424، 426 مسألة الاختلاط: في اختلاط الزوائد المتجددة بالمبيع الذي كان موجوداً ... 5/ 119، 150 مسألة الاستخلاف: في الجمعة ... 2/ 503 مسألة الانفضاض: في الجمعة ... 2/ 482 مسألة التخيير والاختيار: في تفويض الطلاق إلى الزوجة ... 14/ 86 مسألة الجرح والشين: (لو جرحه فشان وجهه) في الجراح ... 15/ 432 وفي الديات ... 16/ 547 مسألة الجَمَّال: (وتسمى أيضاً مسألة هرب الجمَّال) في الإجارة ... 8/ 151 وفي المساقاة ... 8/ 39 وفي التقاط المنبوذ ... 8/ 509 وفي النفقات ... 15/ 520 وفي العدة ... 15/ 244 مسألة الجوع: (إذا حبسه ومنعه من الطعام والشراب، فهلك) في الجراح ... 15/ 59

وفي الوديعة ... 11/ 414 * مسألة الجزاف = مسألة القبض جزافاً مسألة الحبر والوراق: (استأجر وراقاً للكتابة، فهل يدخل الحبر في مطلق الاستئجار) في الإجارة ... 8/ 80، 163 وفي المزارعة ... 8/ 223 مسألة الحجر والبئر: (احتفر بئراً في محل عدوان، ونصب ناصبٌ حجراً، فتعقل المار بالحجر وتردى في البئر) في الجراح ... 16/ 576، 579 مسألة الحرير: (إن دخلتِ الدار لابسةَ حرير فأنت طالق ... ) والمسألة في الطلاق، ولكنها مذكورة في الأيمان ... 18/ 384 مسألة الحمل على الدابة ومسيرها في السرقة ... 17/ 236 مسألة الدجاجة واللؤلؤة: في الإيلاء ... 14/ 453 والغصب ... 7/ 297 ووردت في الحج باسم (الدجاجة والدرة) ... 4/ 229 مسألة الدهشة في القصاص والحد: في الجراح ... 16/ 273 والسرقة ... 17/ 266 مسألة الرؤيا: (رؤيا القفال وإجابته للمسألة) في النكاح ... 12/ 76 وفي الصداق ... 13/ 214، 216 مسألة الزحام: (لو زُحم المصلي على السجود) في الجمعة ... 2/ 487

وفي الصلاة، باب استقبال القبلة ... 2/ 75 مسألة السفينة: (شحن سفينته بطعام واقتصد، فجاء إنسان ووضع فيها عِدلاً، فغرقت) في الجراح ... 16/ 58 وفي الرضاع ... 15/ 386 مسألة الشاهق والقاد: (أُلقي من شاهق فتلقاه رجل واقف بسيفه فقدّه) في الجراح ... 16/ 51 وفي الديات ... 16/ 579 مسألة شهود الزوايا: (الشهادة على الزنا) في الحدود ... 17/ 208 وفي الشهادات ... 19/ 51 مسألة الطائر: (الغراب) (إن كان الطائر غراباً، فامرأتي طالق ... ) في الطلاق ... 14/ 244، 266، 268، 270، 273 وفي النكاح ... 12/ 132 وفي الرضاع ... 15/ 132 وفي العتق (تعليق العتق بكون الطائر غراباً) ... 14/ 245، 19/ 261 مسألة العلج: (في دلالته على القلعة) في السير ... 17/ 429، 477 مسألة العنقود: (في بيع عناقيد العنب إذا استحالت أجوافها إلى الشدة والحبات متصلة بالعساليج) في الرهن ... 6/ 159، 160 مسألة العفونة: (الحنطة العفنة) (غصب حنطة وتركها في مكان ندي حتى تعفنت) في الغصب ... 7/ 192، 193

المشتركة (1) (وتسمى أيضاً الحمارية) ... 9/ 183، 60 المعادة ... 9/ 123، 359 ... مسألة القبضر جزافاً: في البيع ... 5/ 185، 187، 189 * مسألة القدّ = مسألة الشاهق والقاد مسألة كراء العُقَب: (تناوب وتعقاب الراكبين دابَّةَ الركوب) في الإجارة ... 8/ 98، 121، 146 مسألة الكسر: (لو رمى صيداً فكسره) في الصيد والذبائح ... 18/ 115، 133، 143 مسألة مهر السر والعلانية: (التواطؤ على لفظ مع ذكر آخر في العلن) في البيع ... 5/ 144 وفي الصداق ... 13/ 81، 355 مسألة النَّعل: (اشترى دابة وأنعلها، ثم اطلع على عيب قديم ... ) في البيع ... 5/ 120، 137، 223، 241 وفي الغصب ... 7/ 254 وفي الصداق ... 13/ 73 الهارونية: (نسبة لهارون الرشيد في قصة له مع أبي يوسف، ومضمونها التسبب إلى إسقاط الاستبراء) في العدة ... 15/ 18 * - مسألة هرب الجمّال = مسألة الجمال مسألة الولادة: (في تعليق الطلاق بالولادة) ... 14/ 209 ...

_ (1) اكتفى الإمام بهذين اللقبين، وللمسألة ألقاب أخرى مثل: الحجرية واليمّية.

فهرس اللغة

فهرس اللغة الألفاظ التي استعملها الإمام في معانٍ غير موجودة في المعاجم المعروفة. (لم نستقصي المواضع التي وردت فيها هذه الألفاظ، مكتفين ببعضها وبخاصة المواضع التي كانت موضع التعليق). اللفظ ... الجزء والصفحة - ارتكاب - ارتكب - مرتكب - يرتكب (من مواقف المناظر) ... (4/ 300)، (5/ 6)، (12/ 119)، (13/ 445)، (14/ 223) البين (بمعنى الوسط بين الشيئين) (2/ 431)، (5/ 307)، (6/ 190)، (8/ 516)، (19/ 163)، (13/ 269) الرقبة (بمعنى الحنطة الرديئة) 16/ 12 الساحل (بمعنى الماء وليس اليابسة) 16/ 47 السواد (بمعنى الأصل أو المتن) (1/ 4)، (4/ 185)، (5/ 173، 183، 385)، (6/ 218)، (11/ 58) - قُدْرتي (بمعنى جِبلِّي) 19/ 12 - كما (بمعنى عندما) 1/ 289 ***

فهرس معجم النهاية (الألفاظ المفسرة)

فهرس معجم النهاية (الألفاظ المفسرة) لماذا هذا الفهرس؟ هذا الفهرس للكلمات الغريبة أو المفسرة ليس تزيّداً ولا نافلة، وإنما له أهداف نتغياها من ورائه. منها: 1 - أن يكون أداة في يد العاملين بالتراث، الباحثين في النصوص القديمة لتحقيقها ونشرها، أو لدراستها، فيضع أمامهم هذه الألفاظ لتساعد على قراءة ما يستغلق من النصوص المخطوطة إذا وردت فيها مصحفة أو محرفة أو غير منقوطة، كما يساعد على معرفة معناها في سياقها حينما يغمض ذلك. 2 - ثم هو أيضاً يضع بين يدي الباحثين في فنون اللغة وتطورها معجم ذلك العصر، وطرفاً من ألفاظه. 3 - أبقينا في هذا الفهرس الألفاظ التي استعملها الإمام في معانٍ غير موجودة بالمعاجم، فهي أيضاً من الألفاظ المفسّرة. 4 - وأيضاً يساعد الباحثين الذين يصنفون في معاجم الفنون المختلفة فمن يعمل على جمع ألفاظ الفقهاء وتصنيفها يجد هذا سهلاً ميسوراً بين يديه. 5 - وأيضاً يفيد في ضبط ألفاظ قد تغيب عن الأذهان ويشيع الخطأ في ضبطها. 6 - ثم هو يساعد على إشاعة ألفاظٍ ومعانٍ من لغة أئمتنا، فيربط لغة الباحثين المعاصرين بلغة التراث؛ فيقربها إليهم. صناعة هذا الفهرس هذا الفهرس يحوي كلمات قد يراها البعض أنها ليست غريبة ولا مكان لها في هذا المجال، ولكنا نقول: إن هذه الكلمات احتاجت إلى التفسير بسبب ما تعلّق بها من صلات ولواحق، أو بسبب السياق، من أجل ذلك كان لها مكان بين ما سميناه بالألفاظ المفسَّرة.

* عند ترتيب هذا الفهرس وقفنا طويلاً نوازن بين منهجين: أحدهما - تجريد الكلمات والترتيب على المواد الأصلية. والثاني - الإبقاء على الكلمة كما هي، بما فيها من لواحق وزوائد، وترتيبها ألفبائياً على ما هي عليه. وقد آثرنا المنهج الثاني لما فيه من التيسير والتقريب، فالذي يقرأ الفهرس يرى الكلمة في صيغتها المستعملة فعلاً، ويصل إلى ما يريد من أقصر طريق. مع علمنا بأن هذا المنهج سيؤدي إلى تكرار بعض المواد، فمثلاً: (ارتكب، يرتكب، مرتكب، ارتكاب، ركوبه) فهذه مادة واحدة ستتكرر في خمسة مواضع، على حين لو اخترنا المنهج الأول لجاءت مرة واحدة في (ركب). وهناك سبب آخر جعلنا نؤثر المنهج الثاني، ذلك أن الكلمات التي جاءت غرابتها من السياق، يخرجها التجريد عن صيغتها وطبيعتها. ولنا سلفٌ في اتباع هذا المنهج -عدم التجريد- في معجم ألفاظ كتاب (تحرير ألفاظ التنبيه للإمام النووي) لعبد الغني الدقر، و (أنيس الفقهاء للقونوي) للدكتور أحمد عبد الرازق الكبيسي. * بعض الكلمات لم يكن من الممكن معرفة وجه وضعها في هذا الفهرس بدون إضافة، أو شرح، أو مكفل أحياناً نضعها بين قوسين، مثل: حديدة (الخافضة). الغذاء (صغار السخال). ***

فهرس معجم النهاية حرف الألف آدمة (جمع أديم) ... 3/ 593 الآراب ... 2/ 163 آزاج (جمع أزج) ... 18/ 340 آسده (هيّجه) ... 18/ 104 الآفاقي ... 2/ 446 - 4/ 174 آمة ... 15/ 234 آوَرْد (فارسية معناها: ميدان الحرب) ... 18/ 268 أبان (من المباينة والانفصال) ... 12/ 23 أُبَّق (جمع آبِق) ... 13/ 465 ابتهر ... 18/ 130 الأَبِد (الصيد الأَبِد) ... 18/ 130 أبرّت ... 7/ 487 - 16/ 605 الأبظر (العبد الأبظر) ... 18/ 475 الأتون ... 7/ 409 أتُوني ... 6/ 409 أَثِق بثمنه (اتخذ ثمنه (أي الرهن) وثيقةً) ... 6/ 202 الأجاجين (جمع إجَّانة) ... 5/ 126 الإجَّانة (وعاء) ... 1/ 239 اجتلاف ... 5/ 119 أَجَدَّ الشيء ... 5/ 499 الإجراء (بمعنى الجري) ... 5/ 142

أَجَمّ (سطْحٌ أَجَم) ... 18/ 339 إحباطاً ... 11/ 139 احتزّ ... 11/ 452 الأحوِرة (جمع حُوار) ... 15/ 496 اختزل الوديعة (خانها) ... 8/ 448 اختزله الأخثاء (جمع الخِثْي: ما يرمي به البقر أو الفيل من بطنه) ... 5/ 496 الأخدع (عِرْق) ... 17/ 358 الأخِر ... 6/ 383 الأَخَرة ... 4/ 147 - 10/ 454 الأَخْشم ... 16/ 355 أخَصَّه به ... 17/ 509 الأخلاف (جمع خِلف) ... 5/ 207 أخلت ... 16/ 345 الأَدَرة (داء) ... 1/ 119، 144 الأديم ... 1/ 22 الأذكار فوضى ... 4/ 289 أذواد ... 2/ 335 ارتعاص ... 16/ 39 ارتكاب الخلافيين ... 13/ 445 ارتكبه ... 4/ 300 الأرحبية (من إبل اليمن) ... 3/ 126 الأرز (الصاروج: مسحوق يستخدم للتنظيف) ... 8/ 193 أَرْشاق (رميات) ... 18/ 241

أرض حَرّة ... 8/ 335 ارْفَضّ (انفض) ... 17/ 143 إرقال الوَدِيّ ... 8/ 426 إرقَال الشجر ... 6/ 360 الأرنبة (أرنبة الأنف) ... 6/ 435 - 16/ 381 إرهاق (اضطرار) ... 7/ 161، 322 الإرهاق إليه ... 17/ 183 إزار سخيف ... 2/ 332 الأَزَج ... 6/ 481 الأُزُر (للحوائط) ... 13/ 190 الأَزْم ... 1/ 49 الازورار ... 4/ 90، 101 الأسئلة والإلزامات (مصطلح) ... 5/ 472 الإستار ... 1/ 256 استبداده ... 4/ 127 استبلّ ... 7/ 195 - 10/ 394 - 13/ 241 - 14/ 555 - 15/ 454 استد ... 5/ 98 - 12/ 415، 489 الاستداد ... 2/ 592 - 17/ 230 استدّت ... 15/ 391، 494 استرمَّت ... 6/ 494 الاستزكاء ... 18/ 480 الاستزلال ... 8/ 283 الاستفراق ... 1/ 138 - 2/ 149 - 14/ 441 الاستقصَّات ... 10/ 32، 52

استقل (استقل المريض: نهض وقام) ... 7/ 195 الاستلام ... 4/ 287 الاستناد (مصطلح) ... 1/ 499 - 5/ 99 - 14/ 44 استنان ... 1/ 272 استنتر من بوله ... 1/ 102 الاستيداء ... 6/ 418 - 11/ 442 استيفاز ... 1/ 296 الأُسْر ... 1/ 323، 119 - 4/ 88 - 16/ 415 أُسْري على كتابهم (رُفع) ... 12/ 245 الأَسْفاط (جمع سَفَط) ... 7/ 461 الإِسْكَة ... 16/ 413 الإسناد (مصطلح) ... 10/ 462 - 13/ 281 الأُسوة (المثل) ... 6/ 315 الأَسْود الكمد ... 15/ 249 الأَشَط (العَبْد الأَشَط) ... 18/ 475 أَشَفّ (أفضل وأتم) ... 13/ 121 أشفى (قارَب) ... 17/ 327 الإشلاء ... 6/ 204 - 16/ 61 الأصلخ ... 14/ 556 أَصَم (عدد أصم) ... 10/ 43 الإضافات (مصطلح) ... 12/ 458 أضافهم عليه (جعلهم ضيوفاً) ... 17/ 438 إِضْبَارة ... 18/ 493 أطْبَاء (جمع طُبي: حلمة الضرع) ... 17/ 329 الأُطْرُوش (الأطرش) ... 18/ 477

أطّأ الله الإسلام (ثبّت) ... 4/ 291 أطنّه ... 16/ 22 - 17/ 460 اعتاص (الأمر) ... 1/ 133 - 6/ 365 الاعتبار (القياس) ... 4/ 109، 133 - 10/ 30، 168 - 14/ 528 - 19/ 16 اعتبرتم (قستم) ... 16/ 218، 423 اعتدّ الشيء (أحضره وأعدّه) ... 3/ 7 اعتراض النشابة ... 18/ 111 اعترف القومَ (عرف حقيقتهم) ... 17/ 346 اعتماد (قصد) ... 16/ 559 الإعداء (النصرة) ... 12/ 382 الإعدام (الفقر المعدِم) ... 7/ 133 أعصرت (الفتاة) ... 12/ 128 الإعواص ... 14/ 571 اغتلم ... 12/ 260 اغتلم البحر ... 4/ 151 الأغلاق ... 5/ 126 الأغلوطة ... 10/ 95 الإغماض (غَمَض المكان) ... 16/ 365 أَغْوَص (أدقّ وأبعد) ... 11/ 87 افتصد المريض ... 4/ 65 أفرك السنبل ... 3/ 175 الإفضاء ... 13/ 177 الأقبية (جمع قباء) ... 19/ 189 اقتصاده (توسطه) ... 3/ 125، 250

الأقرحة (جمع قَراح) ... 6/ 263 أقطع (بمعنى قَطَع) ... 7/ 232 أقطفت الثمار ... 5/ 111 الأَكْبس ... 1/ 70 اكْتَنَّت ... 16/ 577 الأكحل (عِرق) ... 16/ 191 الإكداء ... 8/ 195 الأَكَرَة (الحُرّاث) ... 2/ 425 الأَكلة (داء) ... 17/ 266 الأكهب ... 15/ 249 الأكولة (بمعنى ليست سائمة) ... 3/ 154 الألايا ... 15/ 133 إلباس (إشكال) ... 6/ 365 الالتفاق ... 4/ 247 الإلزام (مصطلح) ... 6/ 466 ألطف ... 1/ 246 أُمُّ الرأس ... 16/ 188 أُمُّ حُبين (حشرة) ... 4/ 399 - 18/ 212 امتنَاع (مَنَعة وشوكة) ... 17/ 138 أمّت ... 15/ 237 أَمّه (شجّه) ... 4/ 64 أَمْناء ... 6/ 51 - 19/ 193 أَمَخَّ العظم ... 5/ 105 انبتر ... 16/ 395 انتوت ... 18/ 10

الأنداء (جمع ندى) ... 4/ 368 أنشأ (بمعنى تهجَّد) ... 18/ 421 أُنُف (رياضٌ أُنُف) ... 8/ 318 الانفصال (مصطلح) ... 4/ 345، 395 - 15/ 294 الانفلال ... 2/ 573 - 17/ 489 انفَلَّ ... 11/ 477 أنقى البُرُّ ... 3/ 175 الانكفاء ... 13/ 264 انملس ... 16/ 581 أُنْهِج الثوبُ (بلي وأخلق) ... 18/ 317 الإهاب ... 3/ 293 الإهالة ... 18/ 393 أهل السواد ... 2/ 612 أهل التبرج ... 2/ 381 أَوْجر ... 14/ 169 أَوْجَرت المريض ... 4/ 28 أَوْحى (أسرع) ... 16/ 178، 179، 207 أَوَدَهم (اعوجاجهم) ... 17/ 394 أوركت الإبل ... 6/ 45 أوعى جَدْعَه ... 16/ 326 الأوقاص ... 3/ 77 أَوْهَب (دام) ... 6/ 264 الإيالة ... 8/ 509 - 12/ 384 - 16/ 439 الإيالة الكبيرة ... 3/ 114 - 7/ 410 إيالي ... 2/ 519

إيتاء الزروع ... 17/ 382 الإيساد (الإغراء والتهيج) ... 4/ 414 - 18/ 108 الإيصاء ... 11/ 246 إيلياء (موضع) ... 4/ 97 الأيمة ... 15/ 159 الأَيِّد ... 4/ 128 حرف الباء البازل (من الإبل) ... 5/ 450 الباسَلِيق (عِرق) ... 16/ 191 الباضعة ... 16/ 187 الباغ ... 5/ 128 الباقلاء ... 3/ 255 الباكور ... 6/ 34 البَت (كساء) ... 6/ 360 - 7/ 247 - 8/ 211 البَتِّة ... 14/ 62 البَتْلة ... 14/ 62 بثّ الصدقات ... 11/ 544 البَثْق ... 6/ 510 البُختي (من الإبل) ... 7/ 274 البخر ... 5/ 229 البَخْرَاء ... 12/ 409 البخيقة (الشاة البخيقة) ... 18/ 166 البَدُّ (النصيب) ... 9/ 329 بَدَر (بدرت سنه) ... 1/ 329 بدل (بمعنى مثل وقدر) ... 10/ 580

بَدْو (ظهور) ... 1/ 294 - 3/ 176 - 5/ 166 - 6/ 388 البذاء (من الكلام) ... 13/ 276 البَذْر (بمعنى المبذور) ... 7/ 28 البذرقة (الجماعة تتقدم القافلة للحماية) ... 17/ 492 البراجم ... 13/ 389 البراح ... 10/ 183 البَرام (جمع بُرْمة) ... 8/ 305 البَرْبَط ... 7/ 293 بَرْتَاب (فارسية معناها: الإبعاد في الرمي) ... 18/ 281 البُرُد (جمع بريد) ... 11/ 42 البُرَّة ... 8/ 138 البَرَق (الدهشة والفزع) ... 12/ 483 البَرني (تمر) ... 3/ 237 بَزْر القز ... 7/ 28 البَزْغ ... 6/ 254 بَسْ (فارسية بمعنى حَسْب) ... 14/ 291 البُستوقة (إناء) ... 5/ 396 - 8/ 156 بشعة (بمعنى كريهة الطَّعْم) ... 2/ 464 بطن مرّ (موضع) ... 8/ 102 بعاقبةٍ (بمعنى أخيراً) ... 10/ 426 بَقَل وجه الغلام ... 17/ 342 البقور (جمع بقرة) ... 8/ 164 بَكِيّ ... 5/ 207 البَلْخَش (من الجواهر) ... 8/ 320 البُلغة ... 4/ 149

البَنْج ... 14/ 173 بُنَيات الطرق ... 6/ 472 البين ... 2/ 431 - 5/ 307 - 6/ 190 - 9/ 163 - 13/ 269 حرف التاء تأتى للأمر ... 1/ 171 تأثله ... 5/ 42 تاخم الموضع ... 4/ 152 تأزير (تأسيس) ... 4/ 282 تأزيز البيت (بمعنى تأسيس) ... 4/ 282 التأليف (بمعنى التحويل إلى آلاف) ... 10/ 524 التأنق ... 3/ 233 تأنق في الشيء ... 1/ 169 التأتِّي ... 11/ 465 تبادوا ... 11/ 499 تبازى (في مشيته) ... 4/ 291 التّبَّان ... 1/ 123 - 3/ 24 - 18/ 315 التبرج (بمعنى النشوز) ... 15/ 294 تبهره (الأشعة) ... 4/ 12 التبيُّن (مصطلح) ... 1/ 499 - 3/ 181 - 5/ 199 - 13/ 28 - 14/ 44 - 17/ 478 تتايع ... 17/ 332 تَتَبَتَّر ... 2/ 556 تتحرَّف (تصير حروفاً) ... 16/ 360 تَتَدَرْدَر ... 17/ 145

تترأَم ... 8/ 203 تثوّب ... 1/ 48 التجاير (من التجارة) ... 7/ 438، 476 - 18/ 63 تجايره (من التجارة) ... 1/ 167 تجشم ... 15/ 11 التجهيز (على الجريح) ... 16/ 39 تحبط ... 6/ 344 التحنك ... 19/ 8 التخريط ... 6/ 51، 59 التخمير ... 1/ 230 التخوم ... 8/ 323 التديين ... 14/ 32 تربيةٌ (زيادة وتنمية) ... 18/ 50 التِّرَسَة (جمع تُرس) ... 17/ 456 تُرقل ... 7/ 304 - 13/ 55 ترمق ... 6/ 253 الترهات ... 2/ 500 تَزْجِية ... 13/ 244 تزعّم ... 17/ 447 تُزَن برِيْبة ... 15/ 230، 548 تستبلّ ... 13/ 177 تستدّ ... 19/ 10، 366 تشاكل (تشابه) ... 13/ 142 تشبيب ... 12/ 123 - 16/ 193 تصريف الجريد ... 8/ 23

تطفلت (الشمسُ) ... 2/ 337 تَطَلّس (لبس الطيلسان) ... 19/ 6 تطلّق (انطلق) ... 4/ 413 تُعارَض (بمعنى تقابل) ... 11/ 36 التعاسيف ... 2/ 79 - 4/ 210 - 6/ 472 تعديل (تقدير) ... 17/ 334 تُعَضَّى (تُجعل أعضاء) ... 18/ 206 تعلّق الوَدِيِّ ... 8/ 58 تعلَّت المرأةُ عن العدة ... 12/ 280 التعيير ... 16/ 379 التغايير ... 4/ 216 تغليس ... 4/ 333 تَفْرَكُه (تبغضه) ... 13/ 258 التفزي ... 15/ 251 تفصّى ... 12/ 304 التفصي ... 2/ 173 التَّفِلَة ... 14/ 235 تفلت المرأة ... 4/ 219، 259 التِّكّة ... 18/ 316 التكريب ... 8/ 137 تكوعت يده ... 18/ 60 تُلاجّه (من اللجاجة) ... 14/ 315 تلافّ (من الالتفاف) ... 16/ 191 التلافي ... 2/ 500 تِلْو ... 5/ 240

تلو الدعوى ... 6/ 414 التمر العَلِك ... 3/ 230 تموّه ... 3/ 265 تناصف الخلق ... 6/ 58 تنحسم الأقوال (بمعنى تمتنع) ... 8/ 552 تُندر (تسقط) ... 17/ 373 تُندره (تظهره وتبرزه) ... 16/ 188 تنفُش ... 15/ 67 التهاتُر ... 5/ 339 - 7/ 338 - 11/ 369 - 15/ 21 تَهَمْلج ... 8/ 128 التودّع ... 2/ 431 - 13/ 263، 267 التوديج ... 6/ 254 التوسيط (وسّطه: قطعه نصفين) ... 16/ 38 توقيح الدابة ... 17/ 437 التوليه ... 6/ 163 التَّوى ... 5/ 145 - 10/ 282، 305، 435 - 19/ 362 حرف الثاء ثاب (صار ثيباً) ... 17/ 323 ثَبَت (حُجّة) ... 3/ 277 ثبّج الكلام ... 4/ 64 ثبّطه ... 2/ 436 الثجير ... 6/ 158 الثَّرْب ... 14/ 185 ثغْر الإسلام (بمعنى عاصمة الإسلام) ... 17/ 398 الثُّفَّاء (نبات) ... 3/ 255

ثُقَب ... 5/ 241 ثَقِفَ (الخل) ... 2/ 325 الثلط ... 1/ 117 ثمرةُ السياط ... 17/ 357 الثُّنيا (الاستثناء) ... 12/ 341 ثوب مجسد ... 1/ 333 الثياب التوزيّة ... 5/ 14 حرف الجيم الجائفة ... 16/ 189 الجادّة ... 6/ 428 الجاسية ... 18/ 169 الجانِقِين ... 16/ 480 الجاوَرْس ... 5/ 74 الجَبَّانة ... 2/ 480، 612 الجديدان ... 15/ 436 الجَرّ (جمع جرة) ... 1/ 44 الجراثيم (بمعنى الأجرام والأجسام) ... 16/ 308 جَرَد العناقيد ... 7/ 284 جِرم ... 4/ 65 الجُرموق ... 1/ 297 الجروخ (من أدوات الحرب) ... 18/ 233 الجَرِين ... 3/ 176 الجزة ... 5/ 123 جَزْع ... 2/ 427 الجِزَى (جمع جزية) ... 17/ 130 - 18/ 7

جُعْرُور (نوع من تمر) ... 3/ 237 جَفَلى (الدعوة العامة) ... 13/ 196 الجِلال (جمع جُل) ... 4/ 447 الجِلْفة ... 16/ 44 - 18/ 110 الجَلْق ... 1/ 82 جليب (بمعنى مجلوب) ... 17/ 180 جُمام ... 3/ 234 - 18/ 105 جَمَّة البئر ... 5/ 129 - 8/ 330 الجَنبَة ... 18/ 630 الجَنَن (الساتر) ... 17/ 456 الجَنيب (من التمر) ... 5/ 101 الجَنيبة (الفرس الجنيبة) ... 11/ 454 جهوذروى (كلمة فارسية) ... 14/ 323 الجُوَارِشْنات ... 6/ 46 الجُوالق ... 7/ 311 الجَوْزَق ... 6/ 48 الجيل ... 3/ 63 - 18/ 79، 267 حرف الحاء الحارصة ... 16/ 187 حاش القوم الصيد ... 18/ 114 حاقد (معدن حاقد) ... 8/ 327 الحِبالة (بمعنى رباط الزوجية) ... 11/ 314 حبالته ... 12/ 258 حَبطَ ... 5/ 247 حَبَطاً ... 6/ 321

حبل العاتق ... 2/ 330 الحِجال (جمع حَجَلة) ... 13/ 5 الحَجَفة ... 2/ 592 الحد (بمعنى الحدة والقوة) ... 2/ 225 - 17/ 231 الحدارة في الحنطة ... 3/ 230 - 6/ 35 حِدثان ... 4/ 280 - 14/ 234 حديدة (الخافضة) ... 1/ 142 الحذف (بمعنى القطع) ... 6/ 22 حَذَف (بمعنى رمى وأطلق) ... 16/ 345 حذف الشيء (أسقطه) ... 3/ 165 الحُرديّ ... 16/ 562 الحرز ... 7/ 444 الحَرَض ... 16/ 370 الحرمة (الاحترام) ... 6/ 122 حزر الشيء ... 4/ 413 الحزّ ... 16/ 39 حساب الخطأين ... 10/ 69 الحُسْبَان (سهام صغار) ... 11/ 176 - 18/ 272 الحَسَكة ... 12/ 448 - 16/ 46 حسماً ... 13/ 257 الحُِشوة: ... 16/ 39، 70 - 18/ 182 حُشوة الإنسان ... 14/ 185 الحُلاَّن ... 4/ 399 - 18/ 212 حُلاهم (صفتهم) ... 18/ 493 حَلْقى (دعاء) ... 4/ 296

حِلَّة (أهل حل: حضر) ... 11/ 539 الحمأ ... 6/ 510 الحِمِرّ (الشدة) ... 18/ 104، 248 الحممة ... 1/ 106 حُمى الدِّق ... 7/ 194 الحَميل ... 6/ 7، 220 الحميم ... 3/ 13 الحَنوط ... 3/ 34 حُوَط ... 18/ 52 حيوان (حياة) ... 16/ 594 حرف الخاء خاض الماء ... 2/ 558 الخان ... 6/ 503 - 7/ 233 خبط (البعير الأرض) ... 7/ 297 الخَبَط (أوراق الشجر) ... 18/ 158 خَبْطاً ... 6/ 321 الخَبَل ... 16/ 219 خثر ... 7/ 272 خديج الساقين ... 7/ 244 الخُرْبتين ... 12/ 393 الخَرْبَق (نبات) ... 6/ 50 الخُرْزتين ... 12/ 393 خُرْق (حمق) ... 1/ 157 - 4/ 163 - 6/ 422 الخرقاء (الشاة الخرقاء) ... 3/ 126 - 16/ 252 خَرَم (بمعنى قَطَع) ... 16/ 260

الخريطة ... 4/ 252 خريطة الدماغ ... 4/ 64 الخُزُوز (جمع خَزّ) ... 6/ 46 الخِشاش ... 8/ 138 الخصّيص ... 4/ 108 الخَضل (الأحمر الخضل) ... 15/ 249 الخط (المساحة) ... 16/ 560 الخِطة ... 4/ 213 - 7/ 308 الخُطة ... 4/ 253 الخَفَش ... 16/ 350 خلٌّ ثقيف ... 5/ 82 الخِلاف (شجر) ... 5/ 115 الخُلْف ... 12/ 272 الخَلْف من الكلام (الرديء) ... 12/ 118 الخَلِفات ... 3/ 129 الخَلِفَة ... 15/ 68 الخَلِيَّة ... 14/ 64 الخمر النيِّئة ... 17/ 213 خَمْل ... 5/ 246 خَمِيس (ثوب) ... 11/ 512 الخميلة ... 1/ 316، 442 الخنا ... 14/ 323 الخَوى (الجوع) ... 4/ 10 خوى في سجوده ... 2/ 168 خيّار الخُلف ... 5/ 6

الخِيَرة ... 7/ 329 حرف الدال دارّة ... 11/ 533 - 12/ 146 الدامية ... 16/ 187 الدانق ... 11/ 12 الدِّبس ... 5/ 81 الدَّساتج (جمع دَسْتَجة) ... 4/ 260 الدَّسْت (من الثياب) ... 3/ 400 - 18/ 314 الدِّعوة ... 8/ 547 - 15/ 133 - 16/ 29 - 18/ 641 - 19/ 178 الدِّق (داء) ... 11/ 344 الدُّلدُل (حيوان) ... 18/ 211 الدِّمَن ... 6/ 471 الدَّنَف ... 14/ 448 الدِّنْية ... 11/ 304 الدَّينية ... 4/ 147 درائه (مصدر بمعنى دَرْئه) ... 8/ 90 دَرِب (ماهر) ... 13/ 490 دَرْب السِّكَة ... 17/ 243 دَرَراً ... 11/ 550 دَرْك ... 2/ 25 - 4/ 21 دُرُوز مستقيمة (جمع دَرْز: خياطة) ... 13/ 26 دِقّ مصر ... 17/ 257 دِقّ النَظَر ... 13/ 8 الدكان ... 4/ 282

دَمِث المكان ... 1/ 102 دمَّلَ الأرض ... 5/ 497 دُمِّلَت الأرضُ ... 18/ 214 دِنْية (قريب لاصق) ... 15/ 535 الدهاقنة ... 8/ 11 الدهليز ... 6/ 504 دهن البان ... 7/ 270 دورق ... 7/ 271 الدوري (الحساب الدوري) ... 4/ 157 دُيّ (ملك أمر دِينه) ... 14/ 68 حرف الذال ذَئِر النساءُ ... 13/ 274 الذُّحول ... 17/ 215 ذراع القيء ... 2/ 197 الذَّرَب (داء) ... 2/ 307 - 17/ 297 الذِّكْر (الصَّكّ) ... 18/ 508 ذكت الريح ... 2/ 301 حرف الراء الرَّازخ (الفرس الرازخ) ... 11/ 480 - 18/ 231 رأس الردم (موضع) ... 4/ 277 الراعوفة ... 17/ 120 الرانج ... 5/ 421 الرُبّ ... 6/ 371 - 7/ 371 الرُّبَّى (من الغنم) ... 3/ 122

الرَّبعْ ... 6/ 56 الرِّحْلة (وضع الرحل على البعير) ... 8/ 151 رجعاً (بمعنى مرجعاً) ... 8/ 44 الرجيع ... 1/ 242 رَخْواً ... 2/ 14 الرخيم ... 2/ 42 الردم (موضع) ... 4/ 277 الرَّزَاح (فرس رَزَاح) ... 17/ 426 الرزنامج ... 18/ 622 الرَّصَد ... 4/ 149 الرُّضَاض ... 7/ 294 رَضْراض ... 4/ 321 الرَّعْظ ... 6/ 59 الرَّغيب (النَّهِم) ... 13/ 414 رفض ... 2/ 122 رَفَق ... 3/ 353 رِفْق الطروق (لا يمنع من سهولة المرور) ... 17/ 383 الرَّقَبَة (الحنطة الرديئة) ... 16/ 12 رقبة المعدن ... 8/ 321 رَقّه (ضرب عليه الرق) ... 17/ 434 رِكْز (صوت خفي) ... 18/ 179 رَمَح ... 7/ 297 الرَّمَكَة (الفرس الرَّمَكَة) ... 12/ 433 - 18/ 218 رهق الشيءُ (حان أوانه) ... 8/ 33 رهقه (غشيه) ... 1/ 172

الرُهُن (جمع رهن) ... 18/ 592 الروايا (جمع راوية) ... 4/ 361 الروحاء (موضع) ... 4/ 126، 240 رياض (بمعنى رياضة) ... 10/ 252 رياط (جمع رَيْطة) ... 17/ 256 الريطة (من الثياب) ... 3/ 22 حرف الزاي زُبيَة (حفرة) ... 16/ 565 الزَّبِيل (وعاء) ... 4/ 242 الزِّلِّية ... 15/ 440 الزَّمانة (داء) ... 4/ 133 - 11/ 128 .. زَنَأتِ ... 14/ 321 زَهَقَ السهمُ ... 18/ 261 زواريق ... 2/ 74 حرف السين الساباط ... 6/ 464 السابلة ... 6/ 470 الساجة ... 11/ 236 الساجور ... 2/ 330 الساحل (بمعنى الماء) ... 16/ 47 السالفة (جانب العنق) ... 4/ 437 السِّبت ... 6/ 61 سَبْحة ... 8/ 309 سَبْخة ... 8/ 309 سَبط (الشعر) ... 5/ 230

السَّبَق (المال المخرج في السباق) ... 18/ 234 سترة الثدي (جلدته) ... 16/ 410 السُّجوف ... 13/ 190 سَحَلَت (صبَّت) ... 14/ 148 السِِّختيان (جلد) ... 1/ 22 سخيف (ضعيف) ... 11/ 11 السِّداد من العيش ... 11/ 540 سَرارة الجادّة ... 18/ 54 سَرَارَة الشارع ... 16/ 569 السَّرَب (بيت في الأرض) ... 7/ 308 السَّرْب (الطريق) ... 19/ 83 السرطان (حيوان) ... 17/ 329 السِّرقين ... 5/ 496 السرمد ... 8/ 343 السُّرى ... 8/ 145 السَّغَب ... 17/ 329 السفاتج ... 7/ 439 السَّفْر (المسافر، للواحد والجمع) ... 8/ 490 السُّفْرَة (طعام المسافر) ... 8/ 140 سُفِعَ (في رأسه مأموماً) ... 5/ 30 سَكَّاء (صغيرة الأذن) ... 18/ 171 السِّكْبَاج (طعام) ... 18/ 396 السِّكة ... 3/ 276 سُكُون (بمعنى السَكَن في الدار) ... 6/ 484، 499 - 7/ 308 - 86، 221، 292، 397 - 18/ 333، 545

سكونه (بمعنى سكنه) ... 2/ 419، 426 السَّلى ... 15/ 145 السِّلْعة (غُدّة) ... 1/ 78 - 13/ 56 سِلْقي (نسبة إلى السِّلق) ... 6/ 60، 218 السِّلام (الحجارة) ... 4/ 287 السلك (الخيط) ... 2/ 303 - 5/ 276 السِّمحاق ... 16/ 188 السَّمْك (الارتفاع) ... 11/ 421، 18/ 53 سُمْك شَعيرة ... 16/ 192 السُّنْبُل: الناردين (نبات) ... 4/ 262 السَّنَة (الخصب) ... 8/ 43 السن الشاغية ... 16/ 421 السن المثغورة ... 16/ 357 سِنْخ السِّن ... 16/ 357 سَنَفري فيها فريّنا ... 14/ 127 سهم غَرْب ... 16/ 151 السواد ... 1/ 4 - 4/ 185 - 5/ 173، 183، 385 - 6/ 218 - 9/ 31 - 11/ 58 - 13/ 327، 350 - 14/ 143، 427 - 15/ 97 السَّورة ... 18/ 570 سَوْرة الجوع ... 15/ 355 حرف الشين الشاء ... 3/ 79 الشادي ... 12/ 24 شاطّ القَدّ ... 19/ 69

شاله (رفعه) ... 8/ 133 شايله ... 2/ 331 شبَّب ... 4/ 437 الشَّبر ... 6/ 56 الشَّبَه (من المعادن) ... 11/ 17 الشث ... 1/ 21 الشِّحنة ... 4/ 151 الشخص ... 2/ 8، 67، 192 الشراسيف (جمع شُرسوف) ... 14/ 236 - 16/ 70 الشَّرَج (عُرا العيبة والخباء) ... 1/ 296 الشَّرَع (السواء) ... 6/ 255، 471 - 8/ 300 - 16/ 560 شَرْع (طريق) ... 17/ 539 شِرْعة ... 4/ 289 الشرقاء (من الغنم) ... 3/ 126 شِرْك ... 6/ 357 الشَّرقاء (الشاة الشرقاء) ... 16/ 252 الشِّرك (النصيب) ... 9/ 49 الشِّعْب (الكسر) ... 1/ 41، 172 الشَّعَث ... 4/ 219 الشُّقْدُف ... 8/ 127 الشَّنار ... 12/ 97 الشَهْد ... 5/ 91 - 6/ 39 الشطارة ... 4/ 292 الشكاير ... 6/ 506 الشيات (جمع شية) ... 6/ 43

شَيْله (رفعه) ... 17/ 358 حرف الصاد الصَّبَب ... 1/ 270 الصبر (كحل أصفر اللون) ... 15/ 251 صَدَر (مصدر بمعنى صدور) ... 2/ 507 - 4/ 267 - 5/ 108، 335 - 6/ 222 - 11/ 184، 275، 409، 500، 502 - 14/ 224 - 15/ 246 - 17/ 393 - 18/ 87 صَدَره (صدوره) ... 8/ 52 - 12/ 96، 430، 510 صدفة الأذن ... 1/ 83 الصُّدغ ... 17/ 447 الصِّرار ... 5/ 420 الصّرّارة (حشرة أو طائر) ... 18/ 213 الصَّرْم ... 1/ 22 - 5/ 390 الصُّرُود ... 5/ 143 الصَّرُورة ... 4/ 145 الصَّعْو (صغار العصافير) ... 18/ 212 الصُّفر (النحاس الأصفر) ... 5/ 496 - 6/ 505 الصَّقَر (قُطارة الرطب) ... 13/ 71 الصِِّماخ ... 1/ 83 الصُّوَى (جمع صُوّة) ... 8/ 145 الصَّيحاني (تمر) ... 5/ 79 صَغْو ... 4/ 78 - 8/ 237 صُفَف (جمع صُفَّة) ... 6/ 503 الصفيّ (من المغنم) ... 12/ 16 صَلْى (الفَرَس جاء ثانياً) ... 18/ 238

صنجة الثمن ... 7/ 11 صَوْب (مطر) ... 3/ 37 صِير الباب ... 17/ 375 الصَّيِّت ... 2/ 60 حرف الضاد الضائن ... 5/ 104 ضَبَطَه ... 4/ 28 ضَبَطَها ... 12/ 231 - 14/ 438 الضَّربان (بمعنى النكاح) ... 12/ 500 ضَرْمة (نافخ ضَرْمة: جَمرة) ... 17/ 537 الضَّمَن (الضمان) ... 13/ 374 ضِمن الضرع ... 5/ 417 ضَمِنَة (مصابة بعاهة) ... 16/ 623 الضّنّ (ما يُضَنُّ به) ... 18/ 332 الضِّنى (المرض المثقل) ... 14/ 448 الضِّياع ... 7/ 335 الضئضئ ... 17/ 144 ضِيْفة النيل ... 8/ 234 ضيق العطن ... 6/ 501 - 7/ 501 الضيمران ... 4/ 260 حرف الطاء طَبَس (موضع) ... 14/ 55 طبل العطارين (وعاء) ... 11/ 172 طرد الشك ... 4/ 228 طريان ... 15/ 163

الطُّرَّة ... 2/ 166 الطِّست ... 1/ 246 طِفْل (للأنثى) ... 12/ 354 طلاق الحجر عنه ... 10/ 446 الطُّلى ... 12/ 385 الطِّلى ... 6/ 44 الطَّلِبَة (المطلوب) ... 2/ 560 طلع ... 19/ 7 الطّلق (حجر) ... 4/ 322 طُلِقَت المرأة ... 1/ 446 - 11/ 345 الطَّوْل ... 4/ 132 الطَّوى ... 4/ 10 طوى البئَر ... 5/ 500 الطَّيّان ... 5/ 68 حرف الظاء الظرف (وعاء) ... 1/ 255 ظَلْع (ضعف) ... 19/ 7 حرف العين عاب الشيءُ ... 6/ 223 العادية (اليد المعتدية) ... 7/ 230 عاص الكلامُ ... 4/ 111 عاطت المرأةُ ... 14/ 172 العَبْر ... 5/ 260 عَبْرة (دمعة) ... 13/ 185 عِبْرة (تقدير) ... 3/ 243

عَبِق به الطيب ... 1/ 163 - 4/ 263 العتّابية (نوع من الثياب) ... 6/ 46 العتيد (المهيّأ) ... 1/ 169 عتيداً ... 7/ 440 العتيدة (الحاضرة والمُعدّة) ... 3/ 276 - 312 - 13/ 52 - 15/ 100، 16/ 480 العِجان ... 1/ 130 - 16/ 43، 338 عُجُز (جمع عجوز) ... 2/ 566 العِدّ ... 2/ 646 - 5/ 129 - 8/ 233 العِدْل ... 15/ 386 العدوى (مسافة العدوى) ... 6/ 242 عَذَبة اللسان ... 4/ 65 - 16/ 362 العِذْيَوْط ... 12/ 409 العَراقي (حوافي البئر) ... 1/ 260 العَرَامة ... 5/ 464 - 8/ 173 - 13/ 185 العُرّة ... 18/ 214 عرّج بالمكان ... 8/ 316 - 15/ 235 عرَّجوا ... 2/ 434 العرصة ... 7/ 369 عَرصة الدار ... 5/ 21 عَرْصَته الفيحاء ... 4/ 111 العَرْض ... 6/ 391 عُرْض الاعتدال ... 6/ 58 عُرْض الناس (عامتهم) ... 18/ 234 عرّف القومُ (وقفوا بعرفات) ... 4/ 334

العَرَفي ... 2/ 466 - 4/ 314 عَرَق (وعاء) ... 4/ 40 العَرَم ... 13/ 276 العَرِم ... 2/ 96 العُرُوض (جمع عُرْض) ... 4/ 17 العِزاز ... 1/ 102 عُزْبة (مصدر العَزَب) ... 12/ 498 العزّة (الإعواز) ... 16/ 322، 323 عساليج ... 6/ 159 عَسَلان الرمح ... 4/ 289 عَضَبه ... 4/ 133 عَضُد (مُعين) ... 7/ 225 العُفْرة ... 2/ 168 العَفْص ... 1/ 26 عُفوصة ... 5/ 147 عقارب (مسائل معقربة) ... 2/ 443 العَقَب ... 6/ 59 العُقَب (جمع عُقْبة: نوبة) ... 8/ 98، 121 عَقْد (اعتقاد) ... 12/ 382 - 15/ 110 العُقر (مهر الموطوءة بشبهة) ... 6/ 246 - 8/ 576 عُقر الباب ... 15/ 133 العقرات (جمع عقّار: دواء) ... 17/ 436 عَقْرى (دعاء) ... 4/ 296 العَقْصَاء ... 18/ 172 العقود (الاعتقادات) ... 17/ 83

عَقِيب ... 2/ 262 عَكْرَة (رجعة) ... 11/ 503 العِلْك ... 4/ 65 العماد (المعتمد) ... 18/ 614 العَمْر ... 4/ 65 العَمْرة (كل ما يغطى به الرأس) ... 1/ 360 - 5/ 343 - 16/ 327 عَمْرة أحكام الإيالة ... 17/ 344 العمور (جمع عَمْر: لحم بين الأسنان) ... 16/ 357 العنت ... 4/ 132 عَنَزَة ... 2/ 225 العنقاء ... 6/ 56 العُهدة (وثيقة البيع) ... 18/ 242 عوصاء ... 17/ 343 عَوّادة (جارية عوادة) ... 12/ 424 العياء (العجز) ... 8/ 101 حرف الغين غائص الكعبين ... 7/ 244 الغالية (طِيب) ... 3/ 276 غَبَنِها ... 5/ 111 الغبينة ... 5/ 18 الغث (نبت) ... 5/ 420 الغُدران ... 1/ 18 الغِذاء (صغار السخال) ... 3/ 122 الغرائر الحبلية ... 8/ 135 الغِرار (حد السيف) ... 17/ 364

الغُرَّة من اللجام ... 11/ 457 غَزَر (مصدر بمعنى غزارة) ... 5/ 21 الغُضْرُوف ... 1/ 105 الغِطْرِيفية (الدراهم الغِطْريفية) ... 7/ 442 الغَلْصَمة ... 4/ 64 الغُلُف ... 5/ 150 الغَلْوة (الغاية في الرمي) ... 2/ 403 - 18/ 281 غمرة ... 19/ 302 الغُمرة ... 5/ 343 غمرة من الماء ... 16/ 50 الغميزة ... 12/ 99 غَناء (كفاية) ... 11/ 517 الغوالي (من الطيب) ... 1/ 43 - 4/ 262 غور ... 11/ 86 الغِيار (علامة أهل الذمة) ... 18/ 42 حرف الفاء فِئام ... 17/ 179 فاتحته الحمى ... 17/ 329 فاحت الدار ... 4/ 111 الفأرة (للمسك) ... 1/ 252 فأرة المسك ... 4/ 265 فَارِكة (من الفِركة: البغضة بين الزوجين) ... 14/ 431 فاعتبروا (فقيسوا) ... 10/ 445 الفانيذ ... 5/ 82 الفِتر ... 1/ 262

فترات (من الفتور) ... 17/ 227 فِجَّة (رطوبة فِجَّة) ... 5/ 160 فَجْرَة ... 5/ 56 الفَدَّان (المِحراث) ... 8/ 217، 294 الفِرصاد (شجر) ... 4/ 417 - 5/ 219 - 6/ 250 - 8/ 8 فُرصة من المسك ... 1/ 155 الفِسْكِل (الفرس يجيء أخيراً) ... 18/ 235 الفشل (التراخي) ... 2/ 356 الفِصاد ... 16/ 191 الفُصْلان (جمع فصيل من الإبل) ... 15/ 496 فضّ ... 2/ 378 - 6/ 167 - 10/ 272 - 11/ 93، 529 - 12/ 131، 352 - 13/ 85، 238 - 14/ 193، 195 الفِضْلة ... 5/ 14 فُغُرات (جمع فُغْرة) ... 15/ 389 فَقُهَ نَفْسُه ... 14/ 287 فَقير (بئر قريبة القعر) ... 17/ 6 فليعتبر (عبر: قاس) ... 1/ 271 فنون الأزمنة ... 3/ 100 الفواضل (الفواصل) ... 18/ 343 فوضى (شائعة) ... 3/ 148، 342 - 11/ 498 - 13/ 186 - 18/ 557 الفُوْق: من السهم ... 18/ 261 الفَيْلَج ... 7/ 28 - 19/ 193 الفيوج (جمع فيج: رسول) ... 11/ 42

حرف القاف القابلين (بمعنى الدائنين) ... 5/ 470 القابول ... 18/ 340 القُبَّيْطِي (نوع من الحلوى) ... 18/ 359 قَبيعة السيف ... 17/ 374 قِحَام (جمع قَحْمَة) ... 13/ 55 قَحام ... 7/ 304 القحف ... 4/ 64 - 16/ 329 القَحَل ... 16/ 425 قَدَح الطبيبُ العين (أخرج الماء الأبيض) ... 16/ 385 قَدَر (الشيءَ بالشيء) ... 6/ 319 القدرة (من آلات الزرع) ... 7/ 137 قُدْرتي (جِبِلِّي) ... 19/ 12 القِدَيَيْن (مثنى قِدى: قَدْر) ... 6/ 55 القَرَاح (الأرض الخالية) ... 1/ 28 - 8/ 71، 221، 18/ 454 القَرَسْطون ... 5/ 68 القِرْط (نبات) ... 5/ 123 القِرطالة ... 5/ 395 القرطق (لباس) ... 17/ 445 القرعات (قَرَع السهمُ: أصاب) ... 18/ 241 قِرْف ... 1/ 26 القَرَم ... 15/ 515 القَرَن ... 4/ 107 قِسي الحسبان ... 11/ 176 القِصَارة ... 6/ 360

القصر (بمعنى التقصير) ... 10/ 39 القَصِيل ... 3/ 257 - 5/ 150، 420 القَضِيم (العلف) ... 13/ 72 قُطْر (ناحية) ... 4/ 211، 242 - 8/ 317، 325 قَطَرَه من فرسه (ألقاه وصرعه) ... 11/ 452 قطع فلاناً بالحجة ... 3/ 234 القَفيز ... 10/ 404 قَلَت ... 4/ 150 القَلَح ... 1/ 47 قلقاً وضينها ... 4/ 315 القَمَحْدْوة ... 16/ 148 القُمقُمة (وعاء) ... 8/ 140 القَنَى (جمع قناة) ... 7/ 305 القِنْيَة ... 13/ 265 القهرمان (وكيل الملك) ... 8/ 28 القوابيل (جمع قابول) ... 16/ 566 القير (القار) ... 8/ 305 القَيْض ... 1/ 37 - 2/ 327 - 6/ 159 القِيفال (عِرْق في الذراع) ... 16/ 191 القَيْنة ... 12/ 424 حرف الكاف كالَحَه (واجهه بالخصومة) ... 17/ 534 كاوحه ... 18/ 310 كَبْسُ البئرِ ... 7/ 235 الكتاب (المكاتبة) ... 10/ 446

الكِتْبَة ... 14/ 73 - 15/ 23 - 18/ 482، 569 الكَتَد ... 18/ 249 الكَثَر (في النخيل) ... 17/ 286 كُثْر الجيش ... 11/ 498، 461 كُثْره ... 14/ 215 كَداء (موضع) ... 4/ 276 الكُدْس ... 7/ 300 الكُدْية ... 8/ 195 كُراع الغميم (موضع) ... 4/ 53 الكِرباس ... 5/ 12 كَرَج الشيء ... 5/ 246 كُرَّين: مثنى كُر (مكيال) ... 5/ 202 الكُرْسُف ... 1/ 326 - 5/ 111 كَرَع ... 1/ 242 كُرَيْب ... 4/ 18 الكُسْب (في الدهن) ... 3/ 257 الكَسْر (النزر اليسير) ... 17/ 442 الكَشْك ... 5/ 74 الكَفاف من العيش ... 11/ 540 الكَلَب (داء) ... 5/ 494 كما (بمعنى عندما) ... 1/ 289، 11/ 204 كَمِدَ اللونُ ... 2/ 604 كملاً (بمعنى كامل) ... 6/ 166 الكُندوج ... 17/ 235 كِنّاً كنيناً ... 18/ 468

الكنيسة (الهودج) ... 6/ 464 كنيف (ساتر) ... 18/ 468 الكُوَارة ... 5/ 406 الكوبة ... 10/ 179 - 19/ 22 كَوْر عمامته ... 2/ 166 الكَوَعَ ... 14/ 554 كَوْن (وجود) ... 17/ 489، 453 الكُوَّات (جمع كَوَّة) ... 6/ 467 حرف اللام لا أَنْدَه سرْبَك ... 14/ 65 لا تُبرّ ... 15/ 344 لا نبتديه (لا نبتدعه) ... 10/ 450 لاطئة ... 2/ 90 لافظ ... 2/ 401 لأْمَتَه ... 4/ 77 اللَّبأ ... 5/ 91 - 6/ 47 - 15/ 295 لَبَّبَه ... 12/ 245 اللَّببَيْن (ما يُشد على صدر الدابة) ... 11/ 457 اللَبِن ... 2/ 324 - 18/ 557 اللطيم (من الخيل) ... 6/ 43 لَكْعَاء ... 12/ 34 لم نُعنّ ... 10/ 52 حرف الميم مئوف (من أصابته آفة) ... 7/ 240 - 8/ 176 ماثه ... 18/ 392

الماح ... 6/ 50 الماخض ... 3/ 122 المارد ... 6/ 310 المارن ... 13/ 177 الماش ... 3/ 255 المأكمتين ... 16/ 204 المأموم (المقصود) ... 11/ 500 ماهية ... 6/ 466 الماورد ... 6/ 48 مأووف ... 16/ 343 مبتَذِلة ... 2/ 385 مُبدَّأ ... 19/ 260 المُبرْسَم ... 1/ 236 - 2/ 301 المتكرّه ... 16/ 431 المتن (من الأرض) ... 6/ 471 المتناهدان ... 3/ 148 مثبَّج ... 6/ 437 - 10/ 337 - 14/ 90، 333 المَثْعَب ... 18/ 153 المثلّث (شراب) ... 2/ 303 مُجَيديَّة (من الإبل) ... 3/ 126 مُحارَف (فقير مُحَارَف) ... 18/ 465 مُحْبَط ... 2/ 122 المُحّ ... 6/ 50 المُحَدَّة عنه (بمعنى الممنوعة منه في الإحداد) ... 15/ 246 المَحْل (انقطاع المطر) ... 8/ 229

محنة (اختبار) ... 14/ 340 مَحْواة (أرض مَحْواة: كثيرة الحيات) ... 7/ 171 المخانق (القلائد) ... 3/ 283 مخروم (بمعنى مشقوق) ... 16/ 250 المِخْضَب (إناء) ... 3/ 7 مَخِضت المرأة ... 6/ 219 مُخطر (من أَخْطر: دخل في الخطر) ... 8/ 291 - 12/ 430 مُخطرة ... 17/ 328، 352 المخيض ... 3/ 416 - 5/ 91 مخيلة ... 1/ 24 مَدّ البصرة ... 8/ 235 المدر ... 1/ 107 المُدَفَّف (المُذّفَّف) ... 11/ 451 المدقوقين (المصابين بحُمّى الدِّق) ... 17/ 329 مَذِرَة ... 7/ 247 المذفِّف ... 16/ 38 المذنَّب (من ثمار النخيل) ... 5/ 164 البَرْزَة (المرأة البَرْزَة) ... 2/ 318 المَرازِب (جمع مِرْزَبَّة) ... 17/ 241 المرازيب ... 16/ 564 المراصد ... 4/ 149 المُرْتاح (الفرس الخامس من خيل الحلبة) ... 18/ 236 المُرْتَب (أرتبه: أثبته) ... 3/ 35 المَرْتَك ... 15/ 443 مرتكب ... 1/ 4

مردّاً ... 2/ 313 المِرَّتين (مثنى مِرّة: من أخلاط البدن) ... 14/ 186 مُرِّي (إدام) ... 6/ 151 المُرْفَق ... 6/ 16 - 11/ 481 المرقد ... 2/ 78 المرقشيتا (حجر) ... 4/ 322 مركب الفرس (الركابان) ... 11/ 456 المِرْكن (وعاء) ... 1/ 264 المَرَه (داء في العين) ... 15/ 250 المز ... 6/ 151 مُزْوَرّ ... 5/ 370 مزويّ ... 12/ 429 مسافة العدوى ... 6/ 242 المُسامتة ... 4/ 211 مُسانهة ... 11/ 520 مُسبَّل ... 6/ 470 المُسْبِق (من يعطي السَبَق) ... 18/ 240 المُسْبقَين (اللذان يخرجان السَبَق) ... 18/ 237 المُستَام ... 3/ 183 - 5/ 58 مُستدّة ... 16/ 240، 393، 402، 433 المُستلقي (في كيفية حَمْل الرَّحْل) ... 8/ 151 المُسْتَنَصّ ... 11/ 555 المسرمد ... 8/ 343 المُسُوح (جمع مِسْح: ثوب) ... 5/ 14 المَشابِه (جمع شَبَه) ... 4/ 426

المُشَاشَة ... 5/ 105 المَشْرَع (ورود الماء) ... 3/ 147 المَصْل ... 3/ 416 - 5/ 87 المُصَلِّي (الفرس يأتي ثانياً) ... 18/ المُصْمَت ... 16/ 337 مصمَّم الرأس ... 4/ 265 المُصَنَّف (من التمر) ... 18/ 416 المضبوط (ضبطه: أمسكه) ... 18/ 615 مضبوطاً (موثقّاً مكرهاً) ... 17/ 251 المُضَرَّبة (كساء) ... 3/ 26 المُضْطَرِب (السائل المضطرب: الذي يدور ... على الناس) ... 11/ 541 المطامير ... 2/ 25 - 4/ 34 مُطْلَق (غير محجور) ... 7/ 15 - 17/ 351، 517 مُطَنَّب (لبيتِ الشَعَر) ... 18/ 341 المِطْهَرة (إناء) ... 8/ 140 المعارف (بمعنى الأعراف: جمع عُرف) ... 15/ 350 المعاليق (في السَّرْج) ... 11/ 457 المعاياة ... 2/ 382 - 9/ 54 المعدِن ... 3/ 353 - 4/ 391 - 8/ 306، 321 مَعْدِنه (بمعنى أساسه ومنبعه) ... 15/ 20 المعرَّف (اسم مكان من عرّف: أقام بعرفة) ... 4/ 378 المُعَرِّي (المُخَلِّص) ... 17/ 143 مُعْرضاً (أي متوسعاً في الدَّين) ... 6/ 303 المعضوب ... 11/ 129 مُعَطِّلة (بمعنى ملاحدة) ... 16/ 438

مُعْمِراً (مُلتَزِماً) ... 17/ 362 مُعْوزة (نادرة) ... 18/ 462 مغابنه ... 1/ 153 مغافصة ... 1/ 71 مَغْرِبة خبرٍ: مَغْرَبة (الراء مفتوحة ومكسورة) ... 17/ 164 مُغرِب ... 6/ 56 المغنيسيا (حجر) ... 4/ 322 مغيبة ... 4/ 382 مفضوض ... 3/ 322 - 10/ 269 مفطور ... 15/ 94 المُفلِكين ... 19/ 23 مُفْند ... 19/ 23 المِقَة (العشق) ... 13/ 245 مُقْطَرة (جعلها قِطاراً) ... 2/ 77 المُقْل (شجر) ... 8/ 8 مقيم (بمعنى موجِد) ... 10/ 31 المكافحة ... 11/ 489 المكاني (الكنايات) ... 19/ 51 المكالحة ... 11/ 499 المكاوحة ... 4/ 427 - 17/ 371 المكبوب (في كيفية حَمْل الرَّحْل) ... 8/ 151 مُكَرّبة (أرض مكرّبة) ... 7/ 240 مِكْعَب (مداس) ... 18/ 316 مُكَلْثم الوجه ... 7/ 243 مَكِنَاتها ... 18/ 206

الممرورين ... 1/ 196 المَمْهور ... 7/ 311 المَن (وزن) ... 3/ 229 منازل (مراحل الطريق) ... 5/ 21، 142 مناسب (قريب من النسب) ... 16/ 552 المناسب (النسيب) ... 3/ 48 المنتَجِع ... 8/ 292 المنتقر ... 1/ 14 المَنسِم ... 4/ 307 المنشدون (للضالة) ... 8/ 454 المِنْطَقة ... 4/ 275 - 11/ 456 المُنَقِّلة ... 16/ 188 المهايأة ... 6/ 486 المَهْربَّة ... (من أبل اليمن) 3/ 126 مهجِّرا (مبكراً) ... 2/ 340 مهما (بمعنى إذا) ... 14/ 54 المَهْن (الخدمة) ... 3/ 376 مَهْيَم (كلمة للاستفهام) ... 13/ 187 المَوَتان ... 3/ 29 - 6/ 65 موجوء ... 16/ 260 المورَّب ... 1/ 69 الموسَّط (الذي قُدّ نصفين من وسطه) ... 16/ 70 المُوْضِحة ... 10/ 490 الموميا ... 5/ 503 - 8/ 305 موهوم ... 19/ 278

مِيْزَ ... 5/ 81 ميشانية (نسبة إلى ميشة: موضع) ... 6/ 35 المِيْل (عود الكحل) ... 16/ 328 الميناء ... 4/ 321 حرف النون نادر (بارز) ... 3/ 354 نادر الرِّدف ... 7/ 243 النازِك (رمح) ... 11/ 176 - 18/ 233 ناكَرَه ... 6/ 28 الناووس (مقبرة النصارى، واستعملها الإمام لمقبرة المجوس) ... 18/ 52 الناوية (التي تتحول من مكان إلى آخر) ... 16/ 320 نبذة (ناحية) ... 6/ 441 النّبعة (شجر) ... 6/ 62 نجا الأوراق ... 7/ 284 النجوم (جمع نجم: قسط) ... 7/ 530 نَدَب (أثر الجرح) ... 17/ 416 ندّ البعير ... 4/ 312 النَّدرة (قطعة من الذهب والفضة) ... 3/ 352 نذِروا (علموا) ... 8/ 5 نَرِمّ ... 6/ 323 النَّزْع (نَزَع في القوس: مدَّها) ... 18/ 260 نزقان ... 14/ 217 النَّزَل (الفائدة) ... 7/ -8/ 359 - 10/ 35، 324 - 13/ 164 - 18/ 250

النَّشْز ... 2/ 60 نصاب السكين ... 4/ 63 - 16/ 577 نصب ... 8/ 244 نضّ العَرْض ... 3/ 304 نضطرب (بمعنى نتخاوض ونتفاوض) ... 12/ 325 نعتبر (نقيس) ... 16/ 343 - 17/ 442 النعش ... 3/ 26 النُّغاشِي ... 2/ 283 النفار ... 18/ 233 نَفَضّ ... 1/ 427 النَفَضّ ... 17/ 442 النَّفَّاطة ... 12/ 310 نَفَق الفرس (بمعنى نفوق) ... 11/ 481 نفوذ السهم ... 18/ 260، 261 نَقَرى (الدعوة الخاصة) ... 13/ 196 النقيع (موضع) ... 4/ 420 - 287 نَكادته (قِلّته) ... 13/ 413 النكد (العناد) ... 5/ 379 - 6/ 346 - 14/ 454 نَكَل (جَبُن) ... 12/ 488 النَّكهَة ... 1/ 49 النموذارات ... 4/ 17 النُّقْرة ... 3/ 89، 274 النُّقّاد (الصيارف) ... 7/ 233 ننفصل (مصطلح) ... 4/ 345 النَّيْل (ما يستخرج من المعدن) ... 8/ 38

نُهِكت أبدانهم ... 4/ 238 نورّك (ورّك الذنب عليه: حمّله) ... 18/ 655 النيزك (رمح) ... 11/ 176 نِيْقَة ... 18/ 261 حرف الهاء الهادي (العُنُق) ... 18/ 249 هُتكة (فضيحة) ... 3/ 40 الهَجْم ... 10/ 460 الهَرْ ... 15/ 166 الهرير (من أصوات الكلب) ... 18/ 109 الهزل ... 3/ 130 الهَمْلَجة ... 18/ 250 الهِم ... 4/ 62 - 8/ 147 هِمّة (امرأة همة) 12/ 258 الهِميان ... 4/ 275 - 11/ 454 الهِنْدِبة (نبات) ... 3/ 266 هِينَته ... 2/ 566 هينمة ... 2/ 152 حرف الواو واجد (غني) ... 17/ 431 وادي مُحَسِّر ... 4/ 315 وارد الأرنبة ... 7/ 243 الوامِقة ... 14/ 431 الوبيص ... 4/ 217 - 5/ 422 الوتح ... 15/ 431

الوَتَرَة (الحاجز بين المنخرين) ... 16/ 351 الوَثْء ... 1/ 202 الوَجْبَة (السقطة) ... 18/ 150 الوجوب (الموت) ... 3/ 72 الوَدِيّ (صغار الفسيل) ... 7/ 375 - 8/ 54 وَرِق ... 3/ 273 - 13/ 202 الوَضَح ... 1/ 19 - 5/ 254 وَضع ... 10/ 235، 248، 251 وُضِعَ (اصطُلح) ... 6/ 498 الوَضين ... 4/ 315 الوَطِيس ... 18/ 100 وِفاز (عجلة) ... 2/ 252 - 18/ 569، 176 وَفَر ... 3/ 182 وفَّر العمل (أكمله) ... 18/ 253 الوقر ... 1/ 255 الوَكَع ... 14/ 554 وَكَف ... 4/ 78 وَكيسة ... 12/ 262 وِلاء ... 1/ 381، 422 الوَنيم ... 2/ 295 حرف الياء يبذرقه (يحرسه) ... 4/ 150 - 17/ 492 يُبِرّ (يغلب) ... 15/ 10 يَبَرّ (يزيد) ... 17/ 384 يُبْضِع العبد ... 12/ 423

يبطل (يضيع) ... 12/ 128 يَبْهَأ ... 18/ 648 يتأبّى ... 16/ 318 يتزجى به ... 6/ 84 يتعذّل ... 18/ 461 يتمارى ... 3/ 105 يتمطى ... 18/ 248 يُجِدّ (يستحدث) ... 17/ 47 يَجُدُّ العقلَ ... 14/ 170 يَحُل (يُبطِل) ... 17/ 500 يُخيل (من الإخالة: مصطلح) ... 10/ 461 يرتكب المسائل ... 5/ 6 - 14/ 223 يرخي دابته ... 2/ 73 يرفده ... 11/ 532 يُرمَق ... 3/ 415 يرهَق (بمعنى حمله على ما لا يطيق) ... 15/ 72 يرهَق المرأة (بمعنى يقيم معها) ... 15/ 456 يروّغ (اللقمة) ... 15/ 571 يُزجي ... 2/ 499 يستبل ... 17/ 190 يستد ... 1/ 9، 119، 198، 272 - 6/ 157، 504 - 8/ 94 - 11/ 466 يستقرئ ... 14/ 55 يسوى (يساوي) ... 18/ 192 يُسَيِّبَهُم ... 17/ 307

يشارفه ... 8/ 46، 474 يشتار العسل ... 3/ 256 - 5/ 85 يشرفون (يتطلعون) ... 11/ 526 يشهر ... 3/ 215 يشوب ... 18/ 470 يصطلموا ... 11/ 470 يَضْبِر الفرسُ ... 18/ 248 يضطرب (من المضطَرب: المجال والسعة) ... 11/ 323 يضطرب المذهب (بمعنى يختلف) ... 16/ 642 يعارض (بمعنى ويساوي) ... 10/ 463 - 19/ 359 يعتد (يصير حاضراً معدّاً) ... 8/ 484 يعرّج ... 2/ 462 يعكُر عليه ... 17/ 450 يَعْكرون عكرة ... 11/ 464 يَعيب الشيءُ ... 5/ 137 يغتلم ... 18/ 29 يَغُمّ (يغطي) ... 8/ 134 يفض ... 3/ 404 يَفْطُر الجلد ... 17/ 357 يُقصِد (أقصده: طعنه) ... 2/ 593 يقطر (يسيل) ... 2/ 313 يلتامون ... 17/ 143 يمعَس ... 5/ 127 يَنبتر ... 1/ 93 - 13/ 244 يُنبِط ... 8/ 293

ينبهر ... 2/ 619 ينبهر به ... 4/ 239 ينتجر ... 3/ 120 ينحون (يقصدون) ... 11/ 500 ينفصل (مصطلح جدلي) ... 15/ 294 ينهري ... 18/ 167 يهدُر ... 16/ 478، 480، 485، 207 يهِرُّ (الكلب) ... 18/ 109 يوحي (يسرع) ... 17/ 305 يورّك ... 14/ 244 يوفي (أوفى على المكان: أشرف عليه) ... 8/ 289 يوم القَرّ ... 4/ 317 ***

فهرس الظواهر اللغوية التي رأيناها في النهاية

فهرس الظواهر اللغوية التي رأيناها في النهاية أ- الاستعمالات على غير المعهود الشائع في قواعد اللغة العربية 1 - إثبات ياء المخاطبة في نحو: أنت قلتيه ورميتيه، ومثال ذلك قوله في كتاب اللعان: "إذا قال الزوج لزوجته: ما ولدت هذا الولد بل استعرتيه أو التقطتيه". 2 - حذف النون من الفعل المضارع المرفوع تخفيفاً، وذلك قوله في كتاب الوصايا: "وقد يخرجوها إذا دقَّ الحساب من الكسور ... إلخ". فالمشهور المعروف (يخرجونها) بإثبات (نون الرفع)، ولكن الحذف سائغ وعليه شواهد، من النثر والنظم. 3 - حذف الفاء في جواب (أما) على غير المعهود المألوف. 4 - حذف حرف العطف في مثل قوله في كتاب الطلاق: "ولو قال رجل لامرأته: أنت طالق لرضا فلان، زعم أنه أراد بما قال تعليلاً، وقع الطلاق ناجزاً". 5 - رفع المستثنى في كلامٍ تام موجب. 6 - إعادة الضمير مذكراً على مؤنث، ومؤنثاً على مذكر. ب- ألفاظ يستعملها الإمام على غير أوزانها المعهودة، وصيغها المعروفة - ثَبت مكان ثبوت. - حَدَث مكان حدوث. - صَدَر مكان صدور. - نَفَذ مكان نفوذ. - نَفَر مكان نفور. - نفق (الدابة) مكان نفوق. * غَزَر مكان غزارة.

ج- أداوت استعملها الإمام على غير المعهود في استعمالها

ضَمَن مكان ضمان. * بَدْو مكان بُدُوّاً (مصدر لـ (بدا) يبدو، بمعنى ظهر). * سكُون مكان سَكَن (بمعنى السكن في الدار). نسوق مكان نَسَق. * طريان مكان طرآن (وقد خطّأه النووي في ذلك، انظر: 15/ 163). * بقور: جمع بقرة. عقود: جمع عقد. أُبَّق: جمع آبق. عقرات: جمع عَقَّار. ج- أداوت استعملها الإمام على غير المعهود في استعمالها 1 - (إذْ) بمعنى: إذا ... (1/ 176)، (3/ 416) 2 - (إذا) بمعنى: ... إذْ (4/ 363)، (7/ 446)، (8/ 38)، (10/ 107) 3 - (ثمَّ) للقريب ... (17/ 93) 4 - (ما) للعاقل ... (3/ 40)، (5/ 165)، (10/ 285) 5 - (مهما) بمعنى: ... إذا (14/ 54) 6 - إنابة حروف الجر بعضها عن بعض، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: - إلى بمعنى في ... (3/ 125) - الباء بمعنى في ... (12/ 89) - على بمعنى عن ... (17/ 162)، (10/ 441) - على بمعنى مع ... (1/ 340) - عن بمعنى على ... (17/ 465) - عن بمعنى في ... (15/ 127) - عن بمعنى من ... (5/ 303)

د- أساليب استعملها الإمام على غير المعهود

- في بمعنى من ... (11/ 502) (13/ 448) - من بمعنى على ... (17/ 372) - من بمعنى في ... (7/ 95) د- أساليب استعملها الإمام على غير المعهود 1 - (بلى) بمعنى نعم في جواب الكلام الموجب 2 - تكرار (بين) مع الاسم الظاهر 3 - دخول الباء على غير المتروك ***

فهرس الأبيات وأنصاف الأبيات

فهرس الأبيات وأنصاف الأبيات (1) * قليل الأَلايا حافظٌ ليمينه ... وإن بدرت منه الأَلِيَّةُ برّت ... 14/ 383 * نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا ... 4/ 238 * بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد ... 8/ 366 * اللهم إن العيش عيش الآخرَة ... فارحم الأنصار والمهاجرَهْ ... 4/ 238 * فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر ... 12/ 279 * هذي الأرامل قد قضيتَ حاجتَها ... فمن لحاجة هذا الأَرمل الذكر ... 11/ 320 * اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا ... 19/ 25 * تعدو إليك قلقاً وَضِينُها ... معترضاً في بطنها جنينها مخالفاً دينَ النصارى دينُها ... 4/ 315 أنصاف الأبيات وبات شيخُ العيال يَصْطلب ... 17/ 305 وليس وراء الله للمرء مذهب ... 18/ 97 وارْقَ إلى الخيرات زَنْاً في الجبل ... 15/ 93 لِما ضاع فيها من قُروء نسائكا ... 15/ 145 ...

_ (1) الفهرس خاص بالأبيات الواردة في صلب الكتاب دون الحواشي والمقدمات.

فهرس الحكم والأمثال والأقوال المأثورة

فهرس الحكم والأمثال والأقوال المأثورة (1) - أبعد من رجوع اللبن إلى الضرع ... 17/ 418 - ألقى فلان عصاه ... 12/ 279 - التلقُّف في الصغر كالنقش في الحجر ... 15/ 545 - تولى القوسَ باريها ... 18/ 471 - ربّ ساعٍ لقاعد ... 3/ 242 - ركوب الحمار ذل، وركوب الخيل عز ... 18/ 55 - عند الصباح يَحْمَد القومُ السُّرى ... - عنقاء مُغرب ... 6/ 56 - فَرَّجتِها يا خُصَيْلة ... 9/ 304 - القتل أنفى للقتل ... 16/ 6 - كل الصيد في جوف الفرا ... 9/ 249 - كالمهدِّر في العُنَّة ... 12/ 479 - لا تقاس الملائكة بالحدادين ... 17/ 177 - لا يسبق السيلُ المطرَ ... 2/ 276 - ما كتبتَهُ تقيَّد وما أهملْتَهُ تشرَّد ... 18/ 494 ...

_ (1) الفهرس خاص بالحكم والأمثال المذكورة في صلب الكتاب دون الحواشي والمقدمات.

أبحاث وفوائد من تعليقات المحقق

أبحاث وفوائد من تعليقات المحقق التزاماً بمنهجنا في التحقيق لن تجد في هذا الكتاب تعليقاً إلا كان ضرورياً لإضاءة النص وإقامته. وقد رأينا أن نفهرس هنا لأهم الفوائد والبحوث التي جاءت في هذه التعليقات. - حول تخطئة إمام الحرمين فيما ورد في بعض النسخ من أن أم سليم جدة أنس ... 1/ 146 - رد ما ذاع من نفي عثمان لأبي ذر (رضي الله عنهما) إلى الربذة ... 1/ 193 - النووي وابن الصلاح يتعقبان إمام الحرمين، والحافظ ابن حجر يتعقبهما متعجباً من صنيعهما ... 2/ 21 - مذهب أهل الحديث في اصطلاح الخراسانيين يُقصد به مذهب الشافعية ... 2/ 57 - تعليق حول زيادة المحقق للفظة اتفقت النسخ كلها (وهي خمس في هذا الموضع) على إسقاطها، وبعد ذلك تأتي في نسخة جديدة تؤيد المحقق ... 2/ 359 - دفع تحامل على إمام الحرمين غير مبرر ولا معقول في تكليم النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلةَ ابن أبي الحقيق ... 2/ 551 - المعنيُّ بقول إمام الحرمين: بعض المصنفين، وبعض التصانيف ... 2/ 577 - تصحّف اسم (ابن جرير) إلى (ابن خيران) في جميع نسخ النهاية وانتقال هذا التصحيف إلى الإمام الغزالي أيضاً ... 3/ 93 - تعليق حول لفظ (السواد) وأن المراد به (مختصر المزني) ... 5/ 183 - تنبيه إلى عمق نظرة أئمتنا الإنسانية في قضية تفهم خطأً وينبز بها الفقه والفقهاء ... 7/ 72 - تنبيه يتعلق بلفظة في صحيح البخاري وردت في إحدى الطبعات ... 8/ 288 - بحث حول ما ادعي من إحدى الخصائص للنبي - صلى الله عليه وسلم - في النكاح ... 12/ 8 - تصحيف في لقب أحد أعلام المذهب، وفائدة في ضبط العلم المختوم بويه ... 12/ 32 - بيان المقصود بقول إمام الحرمين: قدوتنا في الأصول ... 12/ 103

- تعليق حول المراد بالمعطلة في عبارة للإمام ... 12/ 244 - تعليق مطول حول مفهوم مصطلح (الارتكاب) الذي تكرر في كلام الإمام ... 13/ 445 - بحث مطول حول توكيل الذمي في تزويج مسلمة، ومخالفة المحقق لما ورد في النسخ ... 13/ 471 - ردٌّ لسياقة إمام الحرمين لقصة تحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مارية القبطية على نفسه ... 14/ 99 - تعليق حول إسقاط النسخ [لا] النافية في عبارة للإمام ... 14/ 551 - رد لما قد يفهم من أن المحرم ممن يسجد للصنم ليس فعل السجود وإنما قصد التعظيم والتقرّب ... 15/ 247، 17/ 162 - إنكار لما ورد في بعض النسخ من أن عبارة "القتل أنفى للقتل" من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبحث مفصل حول القضية ... 16/ 6 - بحث لتأكيد اسم أحد أعلام المذهب تصحف اسمه على الإمام الرافعي في نقله عن النهاية ... 16/ 315 - نسبة قول لمالك لم نجده في مصادر السادة المالكية ... 16/ 356، 19/ 14 - نسبة قول إلى الظاهرية، وابن حزم ينسبه إلى الخوارج ... 17/ 263 - بحث حول ما وقع للحافظ في التلخيص من نقل حكمٍ على حديث إلى حديث آخر ... 18/ 5 ***

فهرس مصادر التحقيق

فهرس مصادر التحقيق كتب التفسير وعلوم القرآن 1 - أحكام القرآن: أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص؛ تحقيق محمد الصادق قمحاوي. - القاهرة: دار المصحف، (د. ت). 2 - أحكام القرآن: أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي؛ تحقيق علي محمد البيجاوي. - بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 3 - أحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي؛ كتب هوامشه عبد الغني عبد الخالق. - بيروت: دار الكتب العلمية [طبعة مصورة عن طبعة عزت العطار الحسيني، 1371هـ - 1952. 4 - التسهيل لعلوم التنزيل: محمد بن أحمد بن جزي الكلبي. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1393هـ - 1973. 5 - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل القرآن): أبو جعفر محمد بن جرير الطبري؛ تحقيق محمود محمد شاكر، وأحمد محمد شاكر. - القاهرة: دار المعارف، (د. ت). 6 - تفسير القرآن العظيم: إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي. - بيروت: دار إحياء الكتب العربية، (د. ت). 7 - تفسير مجاهد: أبو الحجاج مجاهد بن جبر المخزومي؛ تحقيق عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتي. - الدوحة: 1396هـ 1976. -[طبع على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني]. 8 - تفسير المنار: السيد محمد رشيد رضا. - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972.

9 - الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت). 10 - حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي المسماة (عناية القاضي وكفاية الراضي): أحمد بن محمد، شهاب الدين الخفاجي. - بيروت: دار صادر، (د. ت) 11 - الدُر المنثور في النفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي. - بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 12 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: الألوسي البغدادي. - بيروت، دار إحياء التراث العربي، (د. ت). -[طبعة مصورة عن الطبعة المنيرية]. 13 - الكشاف عن حقائق الننزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: أبو القاسم جار الله محمود بن حجر الزمخشري الخوارزمي. - بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 14 - النُكت والعيون (تفسير الماوردي): أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي؛ تحقيق خضر محمد خضر. - الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1402هـ - 1982. كتب الحديث والآثار 15 - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري؛ تحقيق أبي عبد الرحمن عادل بن سعد، وأبي إسحاق السيد بن محمود بن إسماعيل. - الرياض: مكتبة الرشد، 1419هـ - 1998. 16 - اختلاف الحديث: محمد بن إدريس الشافعي (مطبوع بهامش الأم، الجزء السابع). - القاهرة: كتاب الشعب 1388هـ - 1968م. 17 - إرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه: إسماعيل بن كثير الدمشقي؛ تحقيق بهجة يوسف حمد أبو الطيب. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1416هـ - 1996. 18 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: محمد ناصر الدين الألباني؛ إشراف محمد زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1399هـ - 1979.

19 - أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: محمد بن السيد درويش الحوت؛ عني بطبعه ونشره عبد الله إبراهيم الأنصاري. - (الدوحة): (إدارة الشؤون الدينية)، (د. ت). 20 - تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي: أبو العلي محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري؛ صححه عبد الوهاب عبد اللطيف، وعبد الرحمن محمد عثمان. - ط3. - بيروت: دار الفكر، 1399هـ - 1979. -[طبعة مصورة عن الطبعة الهندية، 1359هـ]. 21 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: جمال الدين أبي الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي؛ صححه وعلق عليه عبد الصمد شرف الدين. - بومباي (الهند): الدار القيمة، 1384هـ - 1965. 22 - تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب: ابن كثير؛ تحقيق عبد الغني بن حميد بن محمود الكبيسي. - مكة المكرمة: دار حراء للنشر، 1406هـ. 23 - التحقيق في أحاديث التحقيق: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي؛ تحقيق أبي عاصم حسن بن عباس بن قطب. - القاهرة: الفاروق الحديثة، 1422هـ - 2001. 24 - تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني: أبو محمد عبد الله بن يحيى بن أبي بكر الغساني؛ تحقيق أشرف عبد المقصود. - الرياض: دار عالم الكتب، 1411هـ - 1991. 25 - تخريج أحاديث اللمع في أصول الفقه: عبد الله بن محمد الصديقي الغماري الحسني؛ تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشلي. - بيروت: عالم الكتب، 1405هـ - 1984. 26 - تذكرة الموضوعات: محمد طاهر بن علي الهندي. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1343هـ.

27 - ترتيب مسند الشافعي: ترتيب محمد عابد السندي، تصحيح السيد يوسف علي الزواوي الحسني، والسيد عزت العطار الحسيني. - بيروت: دار الكتب العلمية، [طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية 1370هـ - 1951]. 28 - التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل: صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ. - الرياض: دار العاصمة، 1417هـ - 1996. 29 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852 هـ؛ تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني المدني. - المدينة المنورة: (د. ن)، 1384هـ - 1964. طبعة أخرى: تحقيق أبو عاصم حسن بن عباس بن قطب. - جدة: مؤسسة قرطبة، 1416هـ - 1995. 30 - تلخيص مستدرك الحاكم: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. -[مطبوع بهامش مستدرك الحاكم]. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 31 - تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث: عبد الرحمن بن علي بن محمد بن عمر الشيباني الشافعي الأثري. - مكة المكرمة: دار الباز للطباعة، 1401هـ - 1981. 32 - تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق: شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي؛ تحقيق عامر حسن صبري. - العين (الإمارات): المكتبة الحديثة، 1409هـ - 1989. ْ33 - الجامع الأزهر في حديث النبي الأنور: الحافظ المناوي. - القاهرة: المركز العربي للبحث والنشر، 1400هـ - 1980. 34 - جمع الجوامع (الجامع الكبير): جلال الدين عبد الرحمن السيوطي. - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، (د. ت). -[نسخة مصورة عن مخطوطة]. 35 - خلاصة البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير: سراج الدين عمر بن علي الملقن. - الرياض: مكتبة الرشد. - 1410هـ - 1989.

36 - دلائل النبوة: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي؛ تحقيق عبد المعطي قلعجي. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1405هـ - 1985. 37 - سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام: محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1410هـ - 1990. 38 - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: محمد ناصر الدين الألباني. - بيروت: المكتب الإسلامي، (د. ت). 39 - سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السيئ في الأمة: محمد ناصر الدين الألباني. - بيروت: المكتب الإسلامي، الرياض: مكتبة المعارف، (د. ت). 40 - سنن الترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة؛ تحقيق أحمد شاكر. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401هـ - 1981. 41 - سنن الدارقطني: علي بن عمر الدارقطني ت 385هـ؛ تصحيح عبد الله هاشم يماني. - القاهرة: دار المحاسن - (ومعه التعليق المغني على سنن الدارقطني). 42 - سنن الدارمي: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401هـ - 1981. 43 - سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401هـ - 1981. * طبعة أخرى: تحقيق محمد عوامة. - جدة: دار القبلة، 1419هـ - 1998. 44 - سنن سعيد بن منصور: تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1405هـ - 1985. 45 - السنن الصغير: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي؛ تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي. - كراتشي: منشورات جامعة الدراسات الإسلامية، 1410هـ - 1989. 46 - السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. - بيروت: دار المعرفة. -[مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية- حيدر أباد، 1344هـ].

47 - السنن الكبرى: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق حسن عبد المنعم شلبي بإشراف شعيب الأرناؤوط. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1421هـ - 2001. 48 - سنن ابن ماجة: أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401هـ - 1981. 49 - سنن النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي؛ بشرح جلال الدين السيوطي؛ وحاشية السندي. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401هـ - 1981. 50 - شرح السنة: أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي ت 516هـ؛ تحقيق شعيب الأرناؤوط، ومحمد زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1390هـ - 1971. 51 - شرح صحيح مسلم: محيي الدين يحيى بن شرف النووي المُري. - القاهرة: المطبعة المصرية ومكتبتها، (د. ت). 52 - شرح معاني الآثار: أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي؛ تحقيق محمد زهري النجار. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1399هـ - 1979. 53 - صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري ت 256هـ. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401هـ - 1981. 54 - صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير): محمد ناصر الدين الألباني؛ تحقيق زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1406هـ - 1986. 55 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان: تحقيق شعيب الأرناؤوط. - ط 3. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1418هـ - 1997. 56 - صحيح ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة؛ تحقيق محمد مصطفى الأعظمي. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1395هـ - 1975. 57 - صحيح سنن الترمذي (باختصار السند): محمد ناصر الدين الألباني؛ تحقيق زهير الشاويش. - الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1408هـ - 1988.

58 - صحيح سنن أبي داود: محمد ناصر الدين الألباني؛ تعليق زهير الشاويش. - الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1409هـ - 1989. 59 - صحيح سنن ابن ماجة: محمد ناصر الدين الألباني. - بيروت: توزيع المكتب الإسلامي، 1407هـ - 1986. 60 - صحيح سنن النسائي: صحح أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني؛ تعليق زهير الشاويش. - الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1409هـ - 1989. 61 - صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401هـ - 1981. 62 - ضعيف الجامع الصغير وزياداته: محمد ناصر الدين الألباني. - ط 3. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1410هـ - 1990. 63 - ضعيف سنن الترمذي: محمد ناصر الدين الألباني؛ إشراف زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1411هـ - 1991. 64 - ضعيف سنن أبي داود: محمد ناصر الدين الألباني؛ إشراف زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1412هـ - 1991. 65 - ضعيف سنن ابن ماجة: محمد ناصر الدين الألباني؛ إشراف زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1408هـ - 1988. 66 - ضعيف سنن النسائي: محمد ناصر الدين الألباني؛ إشراف زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1411هـ - 1990. 67 - طريق الرشد إلى تخريج أحاديث بداية ابن رشد: عبد اللطيف بن إبراهيم آل عبد اللطيف. - المدينة المنورة: الجامعة الإسلامية، 1397هـ. 68 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: عبد الرحمن بن علي بن الجوزي؛ تحقيق إرشاد الحق الأثري. - فيصل آباد (باكستان): إدارة العلوم الأثرية، (د. ت). 69 - العلل الواردة في الأحاديث النبوية: أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني؛ تحقيق محفوظ عبد الرحمن السلفي. - الرياض: دار طيبة، 1405هـ.

70 - عون المعبود شرح سنن أبي داود: أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي؛ تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. - المدينة المنورة: المكتبة السلفية، 1388هـ - 1968. 71 - فتح الباري شرح صحيح البخاري: الحافظ ابن حجر، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني ثم المصري، الشافعي ت 852هـ؛ بإشراف محب الدين الخطيب، وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. - بيروت: دار المعرفة (مصورة عن طبعة المطبعة السلفية بالقاهرة) (د. ت). 72 - فهارس تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر العسقلاني: إعداد يوسف عبد الرحمن المرعشلي. - بيروت: دار المعرفة، 1406هـ - 1986. 73 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: محمد بن علي الشوكاني؛ تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني. - مكة المكرمة: دار الباز، (د. ت). 74 - فيض القدير شرح الجامع الصغير: عبد الرؤوف المناوي ت 1031هـ. - بيروت: دار المعرفة، 1391هـ - 1972. 75 - الكشاف الموضوعي لأحاديث صحيح البخاري: محيي الدين عطية. - واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1401هـ - 1981. 76 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي؛ تصحيح أحمد القلاش. - ط 2. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1403هـ - 1983. 77 - كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (الخصائص الكبرى): أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبي بكر السيوطي. - بيروت: دار الكتب العلمية، (د. ت). 78 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علاء الدين علي المتقي الهندي البرهان فوري؛ ضبطه بكري حياني؛ وضع فهارسه صفوة السقا. - ط 5. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1405هـ - 1985.

79 - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي. - بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 80 - اللؤلؤ المصنوع في الأحاديث التي حكم عليها النووي في المجموع: أبو عبد الله محمد بن شومان بن أحمد الرملي. - الدمام (السعودية): دار رمادي للنشر، 1417هـ - 1996. 81 - اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: جمعه محمد فؤاد عبد الباقي؛ راجعه عبد الستار أبو غدة. - الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1397هـ - 1977. * طبعة أخرى: القاهرة: دار الحديث، (د. ت). 82 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي. - ط 2. - بيروت: دار الكتاب، 1967. 83 - مختصر سنن أبي داود: الحافظ المنذري؛ تحقيق أحمد شاكر، ومحمد حامد الفقي. - مصر: مطبعة أنصار السنة المحمدية، 1367هـ. 84 - مختصر صحيح البخاري: محمد ناصر الدين الألباني. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1404هـ - 1984. 85 - مختصر صحيح مسلم: للحافظ المنذري؛ تحقيق محمد ناصر الدين الألباني. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1397هـ - 1977. 86 - مختصر المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: محمد بن عبد الباقي الزرقاني؛ تحقيق محمد بن لطفي الصباغ. - الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1401هـ - 1981. 87 - المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ت 405هـ. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 88 - مسند أحمد بن حنبل: أحمد بن محمد حنبل الشيباني. - إسطنبول: دار الدعوة، 1402هـ - 1982. * طبعة أخرى: تحقيق أحمد شاكر. - القاهرة: دار المعارف، 1392هـ - 1972.

89 - مسند الإمام الشافعي. - القاهرة: دار الريان للتراث، 1408هـ - 1987. 90 - مسند أبي عوانة: أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرائني. - بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 91 - مسند أبي يعلى الموصلي: تحقيق حسين سليم أسد. - دمشق: دار الثقافة العربية، 1412هـ - 1992. 92 - مشكاة المصابيح: محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي؛ تحقيق محمد ناصر الدين الألباني. - ط3. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1405هـ - 1985. 93 - المصنف: أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني؛ تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1403هـ - 1983. 94 - المصنف في الأحاديث الآثار: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي العبسي؛ تحقيق عامر العمري الأعظمي. - بومباي (الهند): الدار السلفية، (د. ت). 95 - المصنوع في معرفة الحديث الموضوع: علي القاري الهروي المكي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة. - بيروت: مكتب المطبوعات الإسلامية، 1389هـ - 1969. 96 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني؛ تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. - بيروت: دار المعرفة، 1391هـ - 1971. 97 - المعجم الأوسط: أبو القاسم سليمان بن أحمد اللَّخمي الطبراني، تحقيق محمود الطحان. - الرياض: مكتبة المعارف، 1405هـ - 1985. 98 - المعجم الكبير: أبو القاسم سليمان بن أحمد اللَّخمي الطبراني؛ تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. - ط2 - . - بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت). 99 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: رتبه ونظمه لفيف من المستشرقين. - نشره أ. ي. ونسنك. - ليدن: مكتبة بريل، 1936. 100 - معرفة السنن والآثار: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي؛ تحقيق سيد كسروي حسن. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1412هـ - 1991.

10 - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي؛ تحقيق عبد الله محمد الصديق. - مكة المكرمة: دار الباز، (د. ت). 102 - المنتقى: ابن الجارود، تحقيق لجنة من العلماء. - بيروت: دار القلم، 1407هـ - 1987. 103 - منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود: أحمد عبد الرحمن البنا. - القاهرة: المطبعة المنيرية، 1372هـ. 104 - موسوعة الحديث الشريف (الكتب الستة في مجلد واحد): إشراف صالح بن عبد العزيز آل الشيخ. - الرياض: دار السلام للنشر والتوزيع، 1420هـ - 1999. 105 - الموضوعات: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي ت 957هـ؛ تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. - المدينة المنورة: المكتبة السلفية، 1386هـ - 1966. 06 - الموطّأ: مالك بن أنس ت 179هـ. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401هـ - 1981. 107 - نصب الراية لأحاديث الهداية (مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي): أبو محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي ت 762هـ. - ط 2. - جوهانسبرج (جنوب إفريقيا): المجلس العلمي، 1393هـ. 108 - نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار: شرح محمد بن علي بن محمد الشوكاني ت 1250هـ. - بيروت: دار الجليل، 1973. 109 - الهداية في تخريج أحاديث البداية (بداية المجتهد لابن رشد): أحمد بن محمد بن الصديق الغماري. - بيروت: عالم الكتب، 1407هـ - 1987.

كتب الفقه والخلاف 110 - اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري؛ تصحيح وتعليق أبو الوفا الأفغاني. - حيدر آباد الدكن (الهند): لجنة إحياء المعارف العثمانية، مطبعة الوفاء، 1357هـ. 111 - اختلاف الفقهاء: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. - بيروت: دار الكتب العلمية، (د. ت). 112 - الاختيار لتعليل المختار: عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي. - بيروت: دار المعرفة، 1395هـ - 1975. 113 - أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه: أبو عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري ت 643هـ؛ تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب. - القاهرة: مكتبة الخانجي، 1413هـ - 1992. 114 - أدب القاضي: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي؛ تحقيق محيي هلال السرحان. - بغداد: رئاسة ديوان الأوقاف، مطبعة الإرشاد، 1391هـ - 1971. 115 - أدب القضاء: أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الحموي المعروف بابن أبي الدم؛ تحقيق محي هلال السرحان. - بغداد: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة الإرشاد، 1404هـ - 1984. * طبعة أخرى: تحقيق محمد الزحيلي. - دمشق: دار الفكر، 1402هـ - 1982. 116 - أسنى المطالب شرح روض الطالب: أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي. - (د. م): دار الكتاب الإسلامي، (د. ت). - (مصورة). 117 - الإشراف على نكت مسائل الخلاف: القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي؛ تحقيق الحبيب بن طاهر. - بيروت: دار ابن حزم، 1420هـ - 1999. 118 - الاصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة: تحقيق نايف بن نافع العمري. - القاهرة: دار المنار، 1412هـ - 1992.

119 - إعلام الساجد بأحكام المساجد: محمد بن عبد الله الزركشي ت 794هـ؛ تحقيق الشيخ أبو الوفا مصطفى المراغي. - دولة الإمارات: وزارة الشؤون الإسلامية (عن طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، 1397هـ). 120 - الأم: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي؛ وبهامشه مختصر المزني. - القاهرة: كتاب الشعب، 1388هـ - 1968. - طبعة أخرى: بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 121 - الأموال: أبو عبيد القاسم بن سلام؛ تحقيق محمد خليل هراس. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1406هـ. 122 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي؛ تصحيح وتحقيق محمد حامد الفقي. - القاهرة: مكتبة السنة المحمدية، 1374هـ - 1955. 123 - الأنوار لأعمال الأبرار: يوسف الأردبيلي. - ومعه حاشية الحاج إبراهيم، وحاشية الكمثرى. - القاهرة: مطبعة المدني، 1389هـ - 1969. 124 - إيثار الإنصاف في آثار الخلاف: سبط بن الجوزي؛ تحقيق ناصر العلي الناصر الخليفي. - القاهرة: دار السلام، 1408هـ 1987. 125 - إيضاح الأغاليط الموجودة بالوسيط: ابن أبي الدم إبراهيم بن عبد الله [مطبوع بهامش الوسيط]. - القاهرة: دار السلام، 1417هـ - 1997. 126 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق: زين الدين ابن نجيم الحنفي [وبهامشه حاشية ابن عابدين المسماة منحة الخالق على البحر الرائق]. - القاهرة: دار الكتاب الإسلامي. -[مصورة عن طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر: 1333هـ]. 127 - بحر المذهب: أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الرُّوياني؛ تحقيق أحمد عزو عناية. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1423هـ - 2002. 128 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1402هـ - 1982.

129 - بداية المجتهد: محمد بن أحمد بن رشد القرطبي. - بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 130 - البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير: ابن الملقن سراج الدين عمر بن علي الأنصاري؛ تحقيق مجدي بن السيد بن أمين، وآخرون. - الرياض: دار الهجرة، 1425هـ - 2004. 131 - البرق اللماع فيما في المغني من اتفاق وافتراق وإجماع: إعداد: عبد الله عمر البارودي. - بيروت: دار الجنان، 1406هـ - 1986. 132 - البسيط في المذهب: حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي (مخطوط) منه صورة بمكتبتنا. 133 - بُلغة السالك لأقرب المسالك: أحمد الصاوي. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 134 - البهجة في شرح التحفة (تحفة الحكام لابن عاصم): أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي. - ط 3. - بيروت: دار المعرفة، 1397هـ - 1977. 135 - البيان: أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العِمراني؛ تحقيق قاسم محمد النوري. - جدة: دار المنهاج، 1421هـ - 2000. 136 - التاج والإكليل لمختصر خليل: المواق أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري. - ط 3. - بيروت: دار الفكر، 1412هـ - 1992. -[مطبوع بهامش شرح الحطاب المسمى مواهب الجليل]. 137 - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن فرحون اليعمري. - بيروت: دار الكتب العلمية، (د. ت). -[مصورة عن طبعة المطبعة العامرة الشرفية- مصر، 1301هـ]. 1381 - - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وبهامشه حاشية الشلبي: عثمان بن علي الزيلعي. - القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، (د. ت). -[مصورة عن طبعة المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، 1313هـ].

139 - تحفة الفقهاء: علاء الدين محمد السمرقندي؛ تحقيق محمد زكي عبد البر. - الدوحة: إدارة إحياء التراث الإسلامي، (د. ت). 140 - التسهيل (تسهيل المسالك إلى هداية السالك إلى مذهب الإمام مالك): مبارك بن علي بن حمد الإحسائي المالكي؛ حققه عبد الحميد بن مبارك آل الشيخ مبارك. - السعودية: مكتبة الإمام الشافعي، 1416هـ - 1995. 141 - تقويم النظر في مسائل خلافية ذائعة، ونبذ مذهبية نافعة، ويليه كتاب المنير في الفرائض: أبو شجاع محمد بن علي بن شعيب بن الدهان؛ تحقيق صالح بن ناصر بن صالح الخزيم. - الرياض: مكتبة الرشد، 1422هـ - 2001. 142 - تكملة فتح القدير المسماة (نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار): شمس الدين أحمد بن قودر المعروف بقاضي زاده أفندي. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت). -[مصورة عن الطبعة الميمنية بالقاهرة، 1319هـ]. 143 - التلخيص: أبو العباس أحمد بن أبي أحمد ابن القاص الطبري؛ تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض. - (د. م): مكتبة نزار مصطفى الباز، (د. ت). 144 - التنقيح في شرح الوسيط: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي ت 676هـ[مطبوع بهامش الوسيط]. - القاهرة: دار السلام، 1417هـ - 1997. 145 - التهذيب في فقه الإمام الشافعي: أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفرّاء البغوي؛ تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ - 1997. 146 - تهذيب المدونة: أبو سعيد البراذعي خلف بن أبي القاسم الأزدي؛ محمد الأمين ولد محمد سالم ابن الشيخ. - دبي: دار البحوث للدراسات وإحياء التراث، 1420هـ - 1999. 147 - تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك على منهج العدل والإنصاف في شرح مسائل الخلاف: أبو الحجاج يوسف بن دوناس الفندلاوي؛ دراسة وتحقيق أحمد بن محمد البوشيخي. - الرباط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1419هـ - 1998.

148 - الجامع الصغير: محمد بن الحسن الشيباني، مع شرحه (النافع الكبير) لعبد الحي اللكنوي. - بيروت: عالم الكتب، 1406هـ - 1986. 149 - جواهر الإكليل: شرح مختصر خليل: صالح عبد السميع الآبي الأزهري. - القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، (د. ت). 150 - حاشية إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين: السيد البكري بن السيد محمد شطا الدمياطي. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 151 - حاشية البجيرمي على الخطيب (تحفة الحبيب على شرح الخطيب): سليمان بن عمر بن محمد البجيرمي. - بيروت: دار الفكر، 1401هـ - 1981. 152 - حاشية البجيرمي على المنهج (التجريد لنفع العبيد): سليمان بن عمر بن محمد البجيرمي. - القاهرة: مكتبة مصطفى البابي الحلبي، 1369هـ - 1950. 153 - حاشية الجمل على شرح المنهج: سليمان الجمل. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 154 - حاشية ابن حمدون على شرح ميارة الصغير على منظومة ابن عاشر: محمد الطالب بن حمدون بن الحاج. - القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، (د. ت). 155 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: محمد عرفة الدسوقي، ومعه تقريرات الشيخ عليش. - القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، (د. ت). 156 - حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل: محمد بن أحمد بن محمد الرهوني. - بيروت: دار الفكر، 1398هـ - 1978. -[مصورة عن طبعة المطبعة الأميرية ببولاق 1306هـ]. 157 - حاشية الطحطاوي على الدر المختار: السيد أحمد الطحطاوي. - بيروت: دار المعرفة، 1395هـ. -[طبعة مصورة]. 158 - حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار): ابن عابدين. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت).

159 - حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد القيرواني. - بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 160 - حاشيتي قليوبي وعميرة على شرح المنهاج. - القاهرة: عيسى البابي الحلبي، (د. ت). 161 - الحاوي الكبير: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي؛ تحقيق علي محمد معوض وآخر. - مكة المكرمة: مكتبة الباز، 1414هـ. 162 - حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء: أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي القفال؛ تحقيق ياسين أحمد إبراهيم درادكه. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1400هـ - 1980. 163 - حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج: أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي. -[طبعة مصورة عن الطبعة الميمنية بمصر، 1315]. 164 - الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478هـ؛ تحقيق عبد العظيم محمود الديب. - الدوحة: إدارة إحياء التراث الإسلامي، 1406هـ - 1986. 165 - الرسالة: الإمام محمد بن إدريس الشافعي ت 204؛ تحقيق وشرح العلامة المحدث أحمد شاكر. - القاهرة: مكتبة دار التراث، 1399هـ - 1979. 166 - رؤوس المسائل (المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية): أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري؛ تحقيق عبد الله نذير أحمد. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1407هـ - 1987. 167 - رؤوس المسائل الخلافية بين جمهور الفقهاء: أبو المواهب الحسين بن محمد العكبري الحنبلي؛ تحقيق خالد سعد الخشلان، وناصر سعود السلامة. - الرياض: دار إشبيليا، 1421هـ - 2001. 168 - روضة الطالبين: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي 676هـ. - بيروت: المكتب الإسلامي، (د. ت). -[على نفقة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني].

169 - روضة القضاة وطريق النجاة: أبو القاسم علي بن محمد بن أحمد الرحبي السمناني؛ تحقيق صلاح الدين الناهي. - بيروت: مؤسسة الرسالة؛ عمان: دار الفرقان، (د. ت). 170 - زاد المعاد في هدى خير العباد: ابن قيم الجوزية؛ تحقيق شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1399هـ - 1979. 171 - شرح أدب القاضي للخصاف: حسام الدين عمر بن عبد العزيز بن مازة البخاري (الصدر الشهيد)؛ تحقيق محيي هلال السرحان. - بغداد: مطبعة الإرشاد، 1397هـ - 1977. -[مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - العراق]. 172 - شرح الحطاب (المسمى مواهب الجليل لشرح مختصر خليل): محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب المغربي. - ط 3. - بيروت: دار الفكر، 1402هـ - 1992. 173 - شرح الخرُشي على مختصر سيدي خليل: محمد بن عبد الله بن علي الخرشي، (معه حاشية العدوي). - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 174 - شرح زروق على رسالة ابن أبي زيد: أحمد بن محمد البرنسي الفاسي المعروف بزروق، (بهامشه شرح الرسالة لقاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي). - بيروت: دار الفكر، 1402هـ 1982. 175 - الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك: أحمد بن محمد بن أحمد الدردير، بهامشه حاشية الصاوي؛ خرّج أحاديثه وفهرسه مصطفى كمال وصفي. - القاهرة: دار المعارف، (د. ت). 176 - شرح العناية على الهداية: أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي [مطبوع بهامش شرح فتح القدير لابن الهُمام]. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت). -[مصورة عن الطبعة الميمنية، 1319هـ]. 177 - الشرح الكبير (العزيز شرح الوجيز): أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني [مطبوع بهامش شرح المهذب للنووي]. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). -[طبعة مصورة عن طبعة شركة العلماء].

* طبعة أخرى: تحقيق علي معوّض، وآخر. - بيروت دار الكتب العلمية، 1417هـ 1997. 178 - شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني: محمد بن أحمد السرخسي؛ تحقيق صلاح الدين المنجد، وعبد العزيز أحمد. - القاهرة: معهد المخطوطات، (د. ت). 179 - شرح مشكل الوسيط: أبو عمرو عثمان بن الصلاح ت 643هـ[مطبوع بهامش الوسيط]. - القاهرة: دار السلام، 1417هـ -1997. 180 - شرح مشكلات الوسيط: موفق الدين حمزة بن يوسف الحموي [مطبوع بهامش الوسيط]. - القاهرة: دار السلام، 1417هـ -1997. 181 - شرح منتهى الإرادات: منصور بن يونس البهوتي. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 182 - صفوة المذهب من نهاية المطلب: ابن أبي عصرون عبد الله بن محمد بن هبة الله (مخطوط) منه صورة بمكتبتنا. 183 - طريقة الخلاف في الفقه بين الأئمة الأسلاف: محمد بن عبد الحميد الأسمندي؛ تحقيق محمد زكي عبد البر. - القاهرة: دار التراث، (د. ت). 184 - عيون المجالس: القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي؛ تحقيق امباي كيباكاه. - الرياض: مكتبة الرشد، 1421هـ - 2000. 185 - الغاية في اختصار النهاية: العز بن عبد السلام (مخطوط) منه صورة بمكتبتنا 186 - الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: سراج الدين أبو حفص عمر الغزنوي؛ تقديم وتعليق محمد زاهد بن الحسن الكوثري. - بيروت: الإمام أبي حنيفة، 1370هـ - 1950. 187 - الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم): إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني؛ تحقيق عبد العظيم الديب. - ط 2. - المنصورة: دار الوفاء، 1401هـ. -[مصورة عن طبعة الشؤون الدينية بدولة قطر].

188 - الفتاوى الهندية المسماة (الفتاوى العالمكيرية) وبهامشه فتاوى قاضيخان. - بيروت: دار إحياء التراث العربي. -[مصورة عن طبعة دار الطباعة العامرة ببولاق، 1311هـ]. 189 - الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني: أحمد بن عبد المنعم بن صيام الدمنهوري؛ تحقيق عبد الله محمد الطيار، وعبد العزيز الحجيلان. - الرياض: دار العاصمة، 1415هـ. 190 - فتح القدير (شرح الهداية): ابن الهمام الحنفي محمد بن عبد الواحد السيواسي. - القاهرة: مكتبة مصطفى البابي الحلبي، (د. ت). * طبعة أخرى: بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت)،-[مصورة عن الطبعة الميمنية، 1319هـ]. 191 - فتاوى ومسائل ابن الصلاح: جمع تلميذه كمال الدين إسحق بن أحمد بن عثمان المغربي؛ تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي. - بيروت: دار المعرفة، 1406هـ - 1986. - (ومعه أدب المفتي والمستفتي). 192 - الفروع: أبو عبد الله محمد بن مفلح المقدسي؛ مراجعة عبد الستار أحمد فراج. - ط 4. - بيروت: عالم الكتب، 1405هـ - 1985. -[مصورة عن الطبعة الثانية: مطبعة دار مصر]. - (ويليه تصحيح الفروع للإمام المرداوي). 193 - فقه الإمام أبي ثور: سعدي حسين علي جبر. - عمان: دار الفرقان؛ بيروت: مؤسسة الرسالة، 1403هـ - 1983. 194 - فقه الإمام الأوزاعي: عبد الله محمد الجبوري. - بغداد: مطبعة الإرشاد، 1397هـ - 1977. 195 - فقه الزكاة: يوسف القرضاوي. - ط2. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1397هـ - 1977. 196 - فقه عمر بن الخطاب موازناً بفقه أشهر المجتهدين: روبعي بن راجح الرحيلي. - مكة المكرمة: جامعة أم القرى- مركز البحث العلمي، 1403هـ.

197 - الفقه النافع: أبو القاسم محمد بن يوسف الحسني السمرقندي؛ تحقيق إبراهيم محمد العبود. - الرياض: مكتبة العبيكان، 1421هـ - 2000. 198 - فهرس جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (أعمال موسوعية مساعدة رقم 5). - الكويت: وزارة الأوقاف، 1403هـ - 1983. 199 - فهرس حاشية ابن عابدين (أعمال موسوعية مساعدة رقم 1). - الكويت: وزارة الأوقاف، 1400هـ - 1980. 20 - فهرس فتح القدير شرح الهداية (أعمال موسوعية مساعدة رقم 7). - الكويت: وزارة الأوقاف، 1407هـ - 1986. 201 - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: أحمد بن غنيم النفراوي. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 202 - قانون التأويل: أبو بكر محمد بن عبد الله العربي الإشبيلي؛ تحقيق محمد السليماني. - جدة: دار القبلة الإسلامية، 1406هـ - 1986. 203 - القوانين الفقهية: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن جُزى الكلبي. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1409هـ - 1989. 204 - الكافي: موفق الدين بن قدامة المقدسي. - ط 4. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1405هـ - 1985. 205 - الكافي في فقه أهل المدينة المالكي: أبو عمرو يوسف بن عبد الله بن عبد البر. - ط 2. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1413هـ - 1992. 206 - كتاب الأصل (المعروف بالمبسوط): أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني؛ تعليق أبو الوفاء الأفغاني. - بيروت: عالم الكتب، (د. ت). 207 - كتاب التبصرة في ترتيب أبواب للتمييز بين الاحتياط والوسوسة على مذهب الإمام الشافعي: أبو محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني الشافعي (والد إمام الحرمين)؛ تحقيق محمد بن عبد العزيز بن عبد الله السديس. - القاهرة: مؤسسة قرطبة، 1413هـ - 1993.

208 - كتاب الخراج: القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم. - بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 209 - كشاف القناع عن متن الإقناع: منصور بن يونس البهوتي؛ راجعه وعلق عليه هلال مصيلحي مصطفي هلال. - بيروت: دار الفكر، 1402هـ - 1982. 210 - الكفاية على الهداية: جلال الدين الخوارزمي الكرلاني [مطبوع بهامش فتح القدير لابن الهُمام]. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت). -[مصورة عن الطبعة الميمنية بالقاهرة، 1319هـ]. 211 - اللباب في شرح الكتاب: عبد الغني الغنيصي الميداني. - بيروت: المكتبة العلمية، (د. ت). 212 - المبدع في شرح المقنع: برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1394هـ - 1974. 213 - المبسوط: أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي. - بيروت: دار المعرفة، 1406هـ - 1986. 214 - متن القدوري: أبو الحسين أحمد بن محمد القدوري البغدادي. - ط 3. - القاهرة: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1377هـ - 1957. 215 - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر:. عبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بداماد. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت). -[مصورة عن طبعة المطبعة العامرة]. 216 - المجموع شرح المهذب: أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي ت 676هـ[بهامشه الشرح الكبير، وتلخيص الحبير]. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). -[طبعة مصورة عن طبعة شركة العلماء]. 217 - المُحلى: أبو محمد بن علي بن أحمد بن سعيد بن حزم؛ تحقيق أحمد محمد شاكر. - القاهرة: مكتبة الجمهورية العربية، 1387هـ - 1967.

218 - مختصر اختلاف العلماء: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي؛ اختصار أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي؛ تحقيق عبد الله نذير أحمد. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1416هـ - 1995. 219 - مختصر خلافيات البيهقي: أحمد بن فرح اللخمي الإشبيلي الشافعي؛ تحقيق ذياب عبد الكريم ذياب عقل. - الرياض: مكتبة الرشد، 1417هـ -1997. 220 - ختصر الطحاوي: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي؛ تصحيح أبو الوفا الأفغاني. - حيدر آباد (الهند): لجنة إحياء المعارف النعمانية، (د. ت). 221 - مختصر المزني: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني [مطبوع بهامش كتاب الأم للشافعي]. - القاهرة: كتاب الشعب، 1388هـ - 1968. * طبعة أخرى: بيروت: دار المعرفة، (د. ت). 222 - المدونة الكبرى: مالك بن أنس. - بيروت: دار الفكر، 1411هـ - 1991. 223 - المسائل الحموية (أجوبة البارزي على أسئلة الحموي): هبة الله بن عبد الرحيم البارزي؛ تحقيق محمد سرحان النمر. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1425هـ - 2004. 224 - معلمة الفقه المالكي: عبد العزيز بن عبد الله. - (د. م): دار الغرب الإسلامي، 1403هـ - 1983. 225 - المعونة على مذهب عالم المدينة: القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي؛ تحقيق حميش عبد الحق. - مكة المكرمة: مكتبة نزار مصطفى الباز، (د. ت). 226 - المغني: لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي؛ ويليه الشرح الكبير: لأبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1392هـ - 1972. * طبعة أخرى: بيروت: دار الكفر، الأولى 1404هـ - 1984 (طبعة مرقمة المسائل طبقاً للمعجم الصادر عن وزارة الأوقاف في الكويت).

227 - منار السبيل في شرح الدليل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: إبراهيم بن محمد بن سالم ضويان ت 1353هـ؛ تحقيق زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، (د. ت). 228 - المنتقى شرح الموطأ: أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي. - ط2. - القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، (د. ت). -[مصورة عن الطبعة الأولى بمطبعة السعادة: مصر، 1332هـ]. 229 - المنثور في القواعد: بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي الشافعي ت 794هـ، تحقيق تيسير فائق أحمد محمود. - الكويت: وزارة الأوقاف، 1402هـ - 1982. 230 - منح الجليل شرح مختصر سيدي خليل: محمد عليش. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 231 - المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد: منصور بن يونس البهوتي؛ تحقيق عبد الله محمد المطلق. - الدوحة: إدارة إحياء التراث الإسلامي، (د. ت). 232 - موسوعة تقريب فقه ابن حزم الظاهري: تصنيف وإعداد محمد المنتصر الكتاني، الفهارس أشرف بن عبد المقصود بن عبد الرحيم. - القاهرة: مكتبة السنة، 1414هـ-1994. 233 - موسوعة فقه إبراهيم النخعي: محمد رواس قلعه جي. - مكة المكرمة: جامعة الملك عبد العزيز - مركز البحث العلمي، 1399هـ - 1979. 234 - موسوعة فقه أبي بكر الصديق: محمد رواس قلعه جي. - بيروت: دار النفائس، الأولى 1403هـ - 1983. 235 - موسوعة فقه عائشة أم المؤمنين: سعيد فايز الدخيل، مراجعة محمد رواس قلعه جي. - بيروت: دار النفائس، 1409هـ - 1989م. 236 - موسوعة فقه عبد الله بن عمر: محمد رواس قلعه جي. - بيروت: دار النفائس، 1406هـ - 1986.

237 - موسوعة فقه عبد الله بن مسعود: محمد رواس قلعه جي. - مكة المكرمة: جامعة الملك عبد العزيز - مركز البحث العلمي، 1404هـ - 1984. 238 - موسوعة فقه عثمان بن عفان: محمد رواس قلعه جي. - مكة المكرمة: جامعة الملك عبد العزيز - مركز البحث العلمي، 1404هـ - 1983. 239 - موسوعة فقه عمر بن الخطاب: محمد رواس قلعه جي. - الكويت: مكتبة الفلاح، 1401هـ - 1981. 240 - الموسوعة الفقهية. - الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1400هـ - 1980. 241 - نكت المسائل: أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي؛ تحقيق ياسين بن ناصر الخطيب. - بيروت: عالم الكتب، 1418هـ - 1998. 242 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي ت 1004هـ. - بيروت: دار الفكر، 1404هـ - 1984. - (ومعه حاشيتا الشبراملسي والمغربي). 243 - النهاية: أبو عبد الله محمد ولي الدين البصير؛ تحقيق جماعة من علماء الأزهر بإشراف محمد علي النجار - القاهرة: مطبعة حجازي، (د. ت). 244 - الهداية شرح بداية المبتدي: أبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني المرغيناني. - القاهرة: مكتبة مصطفى الحلبي، (د. ت). - طبعة أخرى: بهامش شرح فتح القدير. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت). -[مصورة عن الطبعة الميمنية بالقاهرة، 1319هـ]. 245 - الوجيز في فقه الإمام الشافعي: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي. - بيروت: دار المعرفة، 1399هـ - 1979. [طبعة مصورة]. 246 - الوسيط في المذهب: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي؛ تحقيق أحمد محمود إبراهيم، ومحمد محمد تامر. - القاهرة: دار السلام، 1417هـ -1997.

كتب أصول الفقه 247 - إحكام الفصول في الأصول: أبو الوليد الباجي؛ تحقيق عبد المجيد تركي. - بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1986. 248 - الإحكام في أصول الأحكام: سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي الآمدي ت 631هـ. - القاهرة: مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، 1387هـ - 1968. 249 - الأشباه والنظائر: تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي ت 771هـ؛ تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وآخر. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1411هـ - 1991. 250 - الأشباه والنظائر: ابن الوكيل محمد بن عمر بن مكي بن المرحِّل؛ تحقيق أحمد بن محمد العنقري. - الرياض: مكتبة الرشد، 1413هـ - 1993. 251 - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي. - القاهرة: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي، (د. ت). 252 - أصول الفقه: محمد الخضري بك. - ط 6. - القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1389هـ - 1969. 253 - إعلام الموقعين عن رب العالمين: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية ت 751هـ)؛ مراجعة وتعليق طه عبد الرؤوف سعد. - القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1968. 254 - البرهان في أصول الفقه: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478هـ؛ تحقيق عبد العظيم الديب. - الدوحة: الشؤون الدينية، 1399. * ط 3. - المنصورة: دار الوفاء، 1412هـ - 1992. 255 - التبصرة في أصول الفقه: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي ت 476هـ؛ شرح وتحقيق محمد حسن هيتو. - دمشق: دار الفكر، 1980. 256 - التلخيص في أصول الفقه: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478هـ؛ تحقيق عبد الله جولم البيلي، وشبير أحمد العمري. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1996.

257 - شرح الكوكب المنير: ابن النجار محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي؛ تحقيق محمد الزحيلي، ونزيه حماد. - مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1400هـ - 1980. 258 - شرح اللمع: أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي ت 476هـ؛ تحقيق عبد المجيد تركي. - بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1408هـ - 1988. 259 - المستصفى من علم الأصول: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي ت 505هـ[ومعه فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت]. - طبعة مصورة عن المطبعة الأميرية ببولاق، 1322هـ. 260 - المسودة (في أصول الفقه): ابن تيمية أبو العباس أحمد بن عبد الحليم. - القاهرة: مطبعة المدني، 1964. 261 - المعتمد في أصول الفقه: أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي؛ تحقيق محمد حميد الله. - دمشق: (د. ن)، 1384هـ - 1964. 262 - المنخول من تعليقات الأصول: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي؛ تحقيق محمد حسن هيتو. - دمشق: دار الفكر، 1980. كتب الطبقات والتراجم 263 - أخبار أبي حنيفة وأصحابه: أبو عبد الله حسين بن علي الصيمري. - حيدر آباد (الهند): لجنة إحياء المعارف النعمانية، 1394هـ - 1974. 264 - أسد الغابة في معرفة الصحابة: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني (ابن الأثير). - (د. م): المكتبة الإسلامية، (د. ت). 265 - الإصابة في تمييز الصحابة: الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. - بيروت: دار صادر. -[طبعة مصورة عن مطبعة دار السعادة: القاهرة، 1328]. 266 - إعجام الأعلام: محمود مصطفى. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1403هـ - 1983.

267 - الأعلام (قاموس تراجم): خير الدين الزركلي. - ط4. - بيروت: دار العلم للملايين، 1979. 268 - أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام: عمر رضا كحالة. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1409هـ - 1989. 269 - الإكمال: الأمير الحافظ ابن ماكولا؛ تصحيح وتعليق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي. - ط2. القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، 1993. -[مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية: حيدر آباد الدكن (الهند)]. 270 - الإمام الشافعي حياته وعصره - آراؤه وفقهه: محمد أبو زهرة. - القاهرة: دار الفكر العربي، 1367هـ - 1948. 271 - الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد: أحمد نحراوي عبد السلام الإندونيسي. - القاهرة: مكتبة الشباب، 1408هـ - 1988. 272 - الأنساب: أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني وآخر. - بيروت: محمد أمين دمج، 1400هـ - 1980. 273 - الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: أبوعمر يوسف بن عبد البر الأندلسي، اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة. - حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، 1417هـ -1997. 274 - البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي ت 774هـ. - بيروت: مكتبة المعارف، 1974. 275 - تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب: محمد زاهد الكوثري. - القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، (د. ت). 276 - تاريخ بغداد: أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي. - بيروت: دار الكتاب العربي، (طبعة مصورة عن طبعة دائرة المعارف النعمانية بحيدر أباد الدكن- الهند).

277 - تاريخ خليفة بن خياط: تحقيق أكرم ضياء العمري. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1397هـ - 1977. 278 - تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم: أبو المحاسن المفضل بن محمد بن مسفر التنوخي المعري؛ تحقيق عبد الفتاح الحلو. - (د. م): إدارة الثقافة والنشر بالجامعة، 1401هـ - 1981. 279 - تاج التراجم: أبو الفداء قاسم بن قُطْلُوبُغَا؛ تحقيق محمد خير رمضان يوسف. - دمشق: دار القلم، 1413هـ - 1992. 280 - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني؛ تحقيق محمد علي النجار. - مكة المكرمة: المكتبة التجارية (مصطفى أحمد الباز)، (د. ت). -[مصورة عن طبعة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر]. 281 - تجريد أسماء الصحابة: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي؛ تصحيح صالحة عبد الحكيم شرف الدين. - الهند: شرف الدين الكتبي، 1389هـ - 1969. 282 - تذكرة الحفاظ: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي؛ عناية عبد الرحمن بن يحيى المعلمي. - بيروت: دار الفكر العربي، (د. ت). -[مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية]. 283 - ترتيب الأعلام على الأعوام: خير الدين الزركلي؛ رتبه وعلق عليه زهير ظاظا. - بيروت: دار الأرقم، (د. ت). 284 - ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك: القاضي عياض؛ تحقيق أحمد بكير محمود. - بيروت: دار مكتبة الحياة، 1387هـ - 1967. 285 - تعريف الخلف برجال السلف: أبو القاسم محمد الحفناوي. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1402هـ - 1982. 286 - تقريب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني؛ تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. - بيروت: دار المعرفة، 1395هـ - 1975.

287 - تكملة معجم المؤلفين: محمد خير رمضان يوسف. - بيروت: دار ابن حزم، 1418هـ -1997. 288 - تهذيب الأسماء واللغات: أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي ت 676هـ؛ تحقيق شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية. - بيروت: دار الكتب العلمية، (د. ت). -[طبعة مصورة]. 289 - تهذيب التهذيب: الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852هـ. - بيروت: دار صادر، (د. ت). -[مصورة عن الطبعة الأولي بدائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1325هـ] 290 - تهذيب اللغة: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري؛ تحقيق عبد السلام هارون، ومحمد علي النجار. - القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، 1384هـ - 1964. 291 - توضيح المشتبه: ابن ناصر الدين محمد بن عبد الله بن محمد القيسي الدمشقي؛ تحقيق محمد نعيم العرقسوسي. - ط2. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1414هـ - 1993. 292 - الجواهر المضية في طبقات الحنفية: عبد القادر بن محمد بن أبي الوفا القرشي؛ تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو. - القاهرة: هجر للطباعة والنشر، 1413هـ - 1993. 293 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. - ط2. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1387هـ - 1967. 294 - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب: عبد القادر بن عمر البغدادي؛ تحقيق عبد السلام هارون. - القاهرة: مكتبة الخانجي، (د. ت). 295 - خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: المولى محمد المحبي. - (طبعة مصورة عن طبعة المطبعة الوهبيه بالقاهرة، 1284هـ).

296 - الدليل الشافي على المنهل الصافي: أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي؛ تحقيق فهيم محمد شلتوت. - مكة المكرمة: جامعة أم القرى - مركز البحث العلمي، 399هـ - 1979. 297 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. - بيروت: دار الجيل، (د. ت). 298 - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب: ابن فرحون؛ تحقيق الأحمدي أبو النور. - القاهرة: دار التراث، 1976. 299 - سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748هـ؛ إشراف شعيب الأرناؤوط. - بيروت مؤسسة الرسالة، 1403هـ - 1983. 300 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب: أبو الفلاح عبد الحي ابن العماد الحنبلي؛ تحقيق لجنة إحياء التراث العربي. - بيروت: دار الآفاق الجديدة، (د. ت). 301 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى: القاضي عياض. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 302 - صفة الصفوة: أبو الفرج ابن الجوزي؛ تحقيق وتعليق محمود فاخوري. - بيروت: دار المعرفة، 1399هـ - 1979. 303 - طبقات الحفاظ: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي؛ تحقيق علي محمد عمر. - القاهرة: مكتبة وهبة، 1393هـ - 1973. 304 - طبقات الشافعية: ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر ت 774هـ؛ تحقيق عبد الحفيظ منصور. - بيروت: دار المدار الإسلامي، 2004. 305 - طبقات الشافعية: ابن هداية الله الحسيني ت 1014هـ؛ تحقيق عادل نويهض. - بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1971. 306 - طبقات الشافعية: الإسنوي، جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي ت 772هـ؛ تحقيق عبد الله الجبوري. - بغداد: رئاسة ديوان الأوقاف، 1391هـ.

307 - طبقات الشافعية الكبرى: السبكي، أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي ت 771هـ؛ تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود محمد الطناحي. - القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1385هـ - 1966. - القاهرة: هجر للطباعة والنشر والتوزيع، 1413هـ - 1992. 308 - طبقات الفقهاء: أبو إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي ت 476هـ؛ تحقيق إحسان عباس. - بيروت: دار الرائد العربي، 1401هـ، 1981. 309 - طبقات الفقهاء الشافعية: ابن قاضي شهبة، أبو بكر بن أحمد بن محمد الأسدي الدمشقي ت 851هـ؛ تحقيق علي محمد عمر. - القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، (د. ت). 310 - طبقات الفقهاء الشافعية: ابن الصلاح أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري ت 643هـ؛ تحقيق محيي الدين علي نجيب. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1413هـ - 1992. 311 - طبقات الفقهاء الشافعية: أبو عاصم محمد بن أحمد العبادي ت 458هـ. - ليدن: (د. ن)، 1964. 312 - طبقات فقهاء اليمن: عمر بن علي بن سمرة الجعدي؛ تحقيق فؤاد سيد. - بيروت: دار القلم، (د. ت). 313 - الطبقات الكبرى: ابن سعد. - بيروت: دار صادر، (د. ت). 314 - طبقات المفسرين: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي؛ تحقيق علي محمد عمر. - القاهرة: مكتبة وهبة، 1396هـ - 1976. 315 - طبقات المفسرين: محمد بن علي بن أحمد الداودي؛ تحقيق علي محمد عمر. - القاهرة: مكتبة وهبة، 1392هـ - 1972. 316 - طبقات النحويين واللغويين: أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي؛ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. - القاهرة: دار المعارف، (د. ت). 317 - العقد المذهب في طبقات حملة المذهب: ابن الملقن، أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الأندلسي الشافعي ت 804هـ. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1417هـ -1997.

318 - عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان: محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي الشافعي. - حيدر آباد (الهند): لجنة إحياء المعارف النعمانية، 1394هـ - 1974. 319 - فتوح البلدان: أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري. - بيروت: مكتبة الهلال، 1403هـ - 1983. 320 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية: أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي؛ تصحيح وتعليق محمد بدر الدين أبو فراس النعساني. - القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، (د. ت). 321 - فوات الوفيات والذيل عليها: محمد بن شاكر الكتبي؛ تحقيق إحسان عباس. - بيروت: دار صادر، (د. ت). 322 - الكامل في التاريخ: أبو الحسن علي بن محمد الشيباني المعروف بابن الأثير. - بيروت: دار صادر، 1402هـ - 1982. 323 - الكامل في ضعفاء الرجال: أبو أحمد عبد الله بن عدي. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 324 - كتاب التقاط الدرر: محمد بن الطيب القادري؛ تحقيق هاشم العلوي القاسمي. - بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1403هـ - 1983. 325 - كتاب الطبقات: أبو عمرو خليفة بن خياط شباب العصفري؛ تحقيق أكرم ضياء العمري. - الرياض: دار طيبة، 1387هـ - 1967. 326 - كتاب مشاهير علماء الأمصار: محمد بن حبان البستي. - بيروت: دار الكتب العلمية، (د. ت). 327 - كتاب نسب قريش: أبو عبد الله المصعب بن عبد الله المصعب الزبيري؛ تحقيق إ. ليفي بروفنسال. - القاهرة: دار المعارف، 1982. 328 - اللباب في تهذيب الأنساب: عز الدين بن الأثير. - بيروت: دار صادر، 1400هـ - 1980.

329 - لسان الميزان: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. - بيروت: الأعلمي، 1390هـ - 1971. 330 - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين: أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي، تحقيق محمود إبراهيم زايد. - ط 2. - (د. م): (د. ن)، 1402هـ. 331 - معجم البلدان: أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي. - بيروت: دار الكتاب العربي، (د. ت). 332 - معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع: أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي، تحقيق مصطفى السقا. - بيروت: عالم الكتب، 1403هـ - 1983. 333 - المغازي: الواقدي محمد بن عمر بن واقد، تحقيق المستشرق مارسدن جونسن. - بيروت: عالم الكتب، 1966. 334 - المغني في ضبط أسماء الرجال: محمد طاهر بن علي الهندي. - باكستان: دار نشر الكتب الإسلامية، 1393هـ - 1973. 335 - مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق وتعليق محمد زاهد الكوثري، وأبو الوفا الأفغاني. - حيدر آباد الدكن (الهند): لجنة إحياء المعارف النعمانية، (د. ت). 336 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي. - بيروت: دار المعرفة، 1382هـ - 1963. 337 - نهاية البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل بن كثير؛ تحقيق إسماعيل بن محمد الأنصاري. - القاهرة: المكتبة القيمة، (د. ت). 338 - الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ت 764هـ، تحقيق هلموت ريتر وآخرون. - شتوتغارت: فرانز شتايز: جمعية المستشرقين الألمان، سلسلة النشرات الإسلامية، 1381هـ/1418هـ - 1962/ 1997.

339 - الوفا بأحوال المصطفى: أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله الجوزي؛ تحقيق مصطفى عبد الواحد. - القاهرة: دار الكتب الحديثة، 1386هـ - 1966. 340 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان ت 1681هـ؛ تحقيق إحسان عباس. - بيروت: دار الثقافة، (د. ت). كتب اللغة والغريب والمصطلحات 34 - أساس البلاغة: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري. - بيروت: دار صادر، 1965. 342 - الإعراب عن قواعد الأعراب: ابن هشام الأنصاري؛ تحقيق علي فودة نيل. - الرياض: جامعة الرياض - عمادة شؤون المكتبات، 1401هـ - 1981. 343 - أغلاط الضعفاء من أهل الفقه: ابن برّي عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي. - (د. م): جامعة الملك عبد العزيز- مجلة البحث العلمي، ع3 1400هـ - 1980 (ص 353 - 365). 344 - أنيس الفقهاء: قاسم القونوي؛ تحقيق أحمد بن عبد الرزاق الكبيسي. - جدة: دار الوفاء، 1407هـ - 1987. 345 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: ابن هشام الأنصاري؛ تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. - ط 6. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1980. 346 - تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضى الزبيدي. - بيروت: مكتبة الحياة، (د. ت). -[مصورة عن الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية- مصر: 1306هـ]. 347 - تثقيف اللسان وتلقيح الجنان: ابن مكي الصقلي أبو حفص عمر بن خلف؛ تحقيق عبد العزيز مطر. - القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1425هـ - 2004. 348 - تحرير ألفاظ التنبيه: محيي الدين يحيى بن شرف النووي؛ تحقيق عبد الغني الدقر. - دمشق: دار القلم، 1408هـ - 1988.

349 - التعريفات الفقهية (مطبوع ضمن خمس رسائل تحت عنوان: قواعد الفقه): محمد عميم الإحسان البركتي. - كراتشي: الصَّدف ببلشر، 1407هـ - 1986. -[سلسلة مطبوعات لجنة النقابة والنشر والتأليف]. 350 - التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية: الحسن بن محمد بن الحسن الصّنعاني؛ تحقيق عبد العليم الطحاوي. - القاهرة: مطبعة دار الكتب، 1970. 351 - الجامع الصغير في علم النحو: أبو عبد الله محمد بن شرف الزبيري؛ تحقيق محمد هلال. - طرابلس (ليبيا): كلية الدعوة الإسلامية، 1986. 352 - جمهرة اللغة: ابن دريد أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي. - مصورة عن طبعة دائرة المعارف النعمانية: حيدر آباد الدكن، (د. ت). 353 - حلية الفقهاء: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي؛ تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي. - بيروت: الشركة المتحدة للتوزيع، 1403هـ - 1983. 354 - الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: أبو منصور محمد بن أحمد بن طلحة بن نوح الأزهري؛ تحقيق محمد جبر الألفي. - الكويت: وزارة الأوقاف، 1399هـ - 1979. 355 - شرح ابن عقيل: عبد الله بن عقيل العقيلي الهمداني المصري؛ تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. - القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1384هـ - 1964. 356 - شرح المفصل: ابن يعيش موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش. - بيروت: عالم الكتب، (د. ت). 357 - شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: أبو عبد الله محمد بن مالك الطائي الأندلسي ت 672هـ؛ تحقيق طه محسن. - بغداد: وزارة الأوقاف العراقية، 1405هـ - 1985. 358 - طِلْبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية: نجم الدين بن حفص النسفي؛ تحقيق خليل الميس. - بيروت: دار القلم، 1406هـ - 1986. 359 - غريب الحديث: ابن قُتيبة عبد الله بن مسلم؛ تحقيق عبد الله الجبوري. - بغداد: وزارة الأوقاف العراقية، 1977.

360 - غريب الحديث: أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي، تحقيق سليمان بن إبراهيم بن محمد العابد. - مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1405هـ - 1985. 361 - غريب الحديث: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البُستي، تحقيق عبد الكريم العزباوي. - مكة المكرمة: جامعة أم القرى - مركز البحث العلمي، 1402هـ - 1982. 362 - غريب الحديث: أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1396هـ - 1976. -[طبعة مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية]. 363 - فقه اللغة وسر العربية: أبو منصور الثعالبي، تحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الإبياري، وعبد الحفيظ شلبي. - ط 3. - بيروت: دار الفكر، (د. ت). 364 - القاموس المحيط: محمد بن يعقوب اليروزآبادي. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1406هـ - 1986. 365 - كتاب الأمثال: أبو عبيد القاسم بن سلام، تحقيق عبد المجيد قطامش. - مكة المكرمة: جامعة الملك عبد العزيز- مركز البحث العلمي، 1400هـ - 1980. 366 - كتاب التعريفات: علي بن محمد بن علي الجرجاني، تحقيق إبراهيم الإبياري. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1413هـ - 1992. 367 - الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية): أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، تحقيق عدنان درويش، وآخر. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1412هـ - 1992. 368 - لسان العرب المحيط: ابن منظور؛ أعاد بناءه يوسف خياط، نديم مرعشلي. - بيروت: دار لسان العرب، (د. ت). 369 - مجمع الأمثال: أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني؛ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. - القاهرة: عيسى البابي الحلبي، 1398هـ - 1978.

370 - المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث: أبو موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى الأصفهاني؛ تحقيق عبد الكريم الغرباوي. - مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1406هـ - 1986. 371 - مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي. - القاهرة: دار المعارف، 1976. 372 - المخصص: ابن سِيدَه علي بن إسماعيل الأندلسي. - بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت). -[طبعة مصورة]. 373 - المشوق المعلَم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم: أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري، تحقيق ياسين محمد السواس. - مكة المكرمة: جامعة أم القرى - مركز البحث العلمي، 1403هـ - 1983. 374 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي. - بيروت: المكتبة العلمية، (د. ت). 375 - معجم الألفاظ الفارسية المعربة: السيد أدّي شير. - بيروت: مكتبة لبنان، 1980. 376 - معجم الأمثال العربية: جمع وترتيب رياض عبد الحميد مراد. - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، 1407هـ - 1986. 377 - المعجم الذهبي (فارسي- عربي): محمد التونجي. - بيروت: دار العلم للملايين، 1969. 378 - المعجم الفلسفي (مصطلحات الفلاسفة). - القاهرة: مجمع اللغة العربية، 1399هـ - 1979. 379 - معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم: أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني، تحقيق نديم مرعشلي. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1392هـ - 1972.

380 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي. - القاهرة: دار الكتب الحديثة، 1378هـ - 1958. 381 - المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية؛ إخراج إبراهيم أنيس، وآخرون. - ط2. - القاهرة: دار المعارف، 1392هـ - 1972. 382 - المُعَرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم: أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي؛ تحقيق أحمد محمد شاكر. - ط 3. - القاهرة: دار الكتب المصرية، 1416هـ - 1995. 383 - المغرب في ترتيب المعرب: أبو الفتح ناصر بن عبد السيد بن علي المطرزي الخوارزمي. - بيروت: دار الكتاب العربي، (د. ت). 384 - المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء: ابن باطيش عماد الدين أبو المجد إسماعيل بن أبي البركات؛ تحقيق مصطفى عبد الحفيظ سالم. - مكة المكرمة: المكتبة التجارية، 1411هـ - 1991. 385 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري ت 761هـ؛ تحقيق مازن المبارك، وآخر. - بيروت: دار الفكر، 1979. 386 - موسوعة اصطلاحات العلوم الإسلامية (كشاف اصطلاحات الفنون): محمد أعلى بن علي التهانوي المولوي. - بيروت: دار خياط، 1966. -[مصورة عن طبعة قديمة 1378هـ - 1860م]. 387 - النحو الوافي: عباس حسن. - ط 3. - القاهرة: دار المعارف، (د. ت). 388 - نظام الغريب في اللغة: عيسى بن إبراهيم بن محمد الربعي. - بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، 1407هـ - 1987. 389 - النهاية في غريب الحديث والأثر: أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري؛ تحقيق محمود الطناحي، وطاهر أحمد الزاوي. - بيروت: دار الفكر، 1399هـ.

كتب متنوعة 390 - الابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج: أحمد بن أبي بكر بن سُمَيط العلوي الحضرمي ت 1343هـ. - القاهرة: مطبعة لجنة البيان العربي، 1380هـ - 1961. 391 - الإرشاد:: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني؛ تحقيق محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم. - القاهرة: مكتبة الخانجي، 1369هـ - 1950. 392 - إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون: إسماعيل باشا البغدادي. - إسطنبول: وكالة المعارف الجليلة، 1955. 393 - تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان؛ مترجم بإشراف محمود فهمي حجازي. - القاهرة: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، من 1992 - 1999. 394 - تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين؛ ترجمة محمود فهمي حجازي؛ مراجعة عرفة مصطفى. - مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1403هـ - 1983. 395 - تاريخ التشريع الإسلامي: محمد الخضري بك. - بيروت: دار الفكر، 1387هـ - 1967. 396 - تاريخ المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة. - القاهرة: دار الفكر العربي، (د. ت). 397 - تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة: أحمد شاكر؛ تعليق عبد الفتاح أبو غدة. - حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، 1414هـ - 1993. 398 - رسالة الآداب في علم آداب البحث والمناظرة: محمد محيي الدين عبد الحميد. - ط 3. - القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1361هـ - 1942. 1399 - فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد: محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن السلمي المناوي الشافعي ت 747هـ؛ تحقيق أبي عبد الله محمد بن الحسن بن إسماعيل. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1415هـ - 1995.

400 - الفهرست: أبو الفرج محمد بن إسحاق بن النديم؛ تحقيق ودراسة شعبان خليفة، وآخر. - القاهرة: دار العربي، 1991. 401 - الفوائد المدنية في بيان اختلاف العلماء من الشافعية: محمد بن سليمان الكردي المدني ت 1194هـ؛ تصحيح وضبط محمد علي بن حسين المالكي. - القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1357هـ - 1938. 402 - الفوائد المكية (ضمن مجموعة سبعة كتب مفيدة): السيد علوي بن أحمد السقاف ت 1335هـ. - القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، (د. ت). 403 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله القسطنطيني كاتب جلبي، مؤرخ تركي متعرب ت 1066هـ. - استانبول: وكالة المعارف الجليلة، 1943م. 404 - مقالات الكوثري: محمد زاهد الكوثري. - القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، 1414هـ - 1994. 405 - مقدمة مرشد الأنام لبرّ أُم الإمام (في مجلدين كبيرين) (مصنف ضخم في طبقات علماء المذهب حتى القرن الثالث عشر، وفي كتب المذهب ومصطلحاته، ومقدمات العلم والتعلم): أحمد بك الحسيني ت 1332هـ. -[منه صورة بمكتبتنا]. 406 - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: على سامي النشار. - ط 7. - القاهرة: دار المعارف، 1977. 407 - هدية العارفين بأسماء المؤلفين وآثار المصنفين: إسماعيل باشا البغدادي. - استانبول: وكالة المعارف الجليلة، 1955. ***

وختاما

وختاماً والآن ونحن نضع القلم بعد جهدٍ جهيد استمر نحو أربع سنوات في تصحيح تجارب (بروفات) الطباعة، والمراجعات التي لم تنقطع، ثم صناعة ما تيسّر من الفهارس، بعد هذا كله نجد أنفسنا عاجزين عن شكر أنعم الله التي أفاضها علينا جل وعلا، فَيَقْصُر دونها كلُّ حمدٍ وثناء، سبحانه جل جلاله، فما بقي إلا أن ندعوه ما بقينا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واللهم أَحْسن خاتمتنا وعاقبتنا، واجعل خير أيامنا يوم لقائك، واجعل خير أعمالنا خواتيمها. * كما نزجي الشكر جزيلاً إلى دار المنهاج ممثلة في صاحبها ابننا عمر سالم باجخيف، وفي الأبناء العاملين في مكتبها بدمشق بقيادة ابننا محمد غسان عزقول، جزاهم الله خير الجزاء، ووقانا وإياهم الخلل والزلل. * وأتمثل ثانية بمام الحرمين، فأدعو الله بما دعاه به: "اللهم قَيِّضّ لنا منصفين ينظرون في هذا المجموع" * وأرجو من العلماء والباحثين أن يتفضلوا علينا بإرسال ما يرونه من ملاحظات أو تصويبات؛ فقد أبى الله العصمةَ لغير كتابه، وأن يكون ذلك على صندوق البريد رقم 17291 الدوحة، أو بالتليفون: 4831813 الدوحة أو بالفاكس 4831380 الدوحة. أو بالبريد الإلكتروني A.DIB * وكيف أضع القلم ولا أبكي (بغداد)!!! (بغداد) بناء المنصور، وحاضرة الرشيد، والمأمون، والمعتصم، ودار أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد، وأحمد، وإسحاق، بغداد، حاضرة الدنيا، بغداد دار السلام، مضى عليها اليوم أربعُ سنين بالتمام وهي في قبضة تتار العصر، وقد تأخر سيفُ الدين قُطز، فلم يظهر بعدُ لينتقم لشرف الأمة، ويغسل عارها، والأدهى من ذلك أن شبح الفتنة الطائفية يُطل برأسه، ليفرق الأمة، ويذهب ريحها!!

فإلى الله المشتكى، وإليه الملجأ، وهو المستعان على كل بلية. ادعو الله، وَجِدُّوا في الدعاء عسى أن يكون في الداعين من لو أقسم على الله، لأبره؛ فتنزاح الغمة، وتنكشف الكربة. اللهم إنا نبرأ من حولنا وقوتنا، ونلوذ بحولك وقوتك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك. وكتب الفقير إلى لطف مولاه عبد العظيم محمود الديب الدوحة - ضُحى يوم الأحد 20 ربيع الأول 1428هـ 8 أبريل 2007م

§1/1